بحر المذهب للروياني

الروياني، عبد الواحد

بحر المذهب في فروع مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه تأليف الشيخ الإمام أبي المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الرُّوياني المتوفي سنة 502 هـ تحقيق طارق فتحي السيد الجزء الأول دار الكتب العلمية بيروت - لبنان

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ صلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم الحمد لله الذي هدانا لدينه، وأكرمنا بشريعة نبيه محمد المصطفي صلى الله عليه وسلم وجعلنا من المتمسكين، والمتبعين لها، والمتفقهين فيها، ونسأله أن ينفعنا بما علمنا منها، وأن يرزقنا العمل بها، والنصيحة للمسلمين فيها، وأن نصلي أولًا وأخرًا على عبده ورسوله وخيرته من بين خلقه، وعلى آله وأصحابه الراشدين. وبعد: لما كثر تصانيفي في الخلاف والمذهب مطولًا ومختصرًا، وجدت فوائد جمة عن الأئمة -رضي الله عنهم - أحببت أن أجمع كلامي في آخر عمري في كتاب واحد يسهل عليَّ معرفة ما قيد فيها، وأعتمد على الأصح منها وسميته: "بحر المذهب" راجيًا من الله تعالى الذكر الجميل، والثواب الجزيل، إنه نعم المولى ونعم النصير.

[المقدمة]

[المقدمة] فصل الأصل من فضل العلم والعلماء قوله تعالى: لنبيه صلى الله عليه وسلم {وَقُل رَّبَ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وقوله تعالى: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائمًا بالقسط} [آل عمران: 18]. وروى أبو الدرداء - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سلك طريقًا يطلب به علمًا سلك الله به طريقًا من طرق الجنة، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضًا لطالب العلم، وإن العالم يستغفر له من في السموات ومن في الأرض حتى الحيتان في جوف الماء، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب، [2 أ/ 1] وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظ وافرِ ". ومعنى قوله: (لتضع أجنحتها) يعني: بالتواضع والخضوع تعظيمًا لحقه وتوقيرًا. وقوله تعالى: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 15]، وقوله تعالى {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ اَلذَُلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء: 14]، وقيل: وضع الجناح هنا معناه الكف عن الطيران للنزول عنده. وقيل: معناه بسط الجناح وفرشه لطالب العلم لتحمله عليه فيبلغه حيث يقصده من البقاع في طلبه، ومعناه المعرفة وتيسير السعي له في طلب العلم. وأيضًا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يشفع يوم القيامة ثلاثة الأنبياء، ثم العلماء، ثم الشهداء". وأيضًا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم". وقال فضيل بن عياض رحمه الله في معناه: "كل عمل كان عليك فرضًا فطلب علمه عليه فرض، وما لم يكن العمل به عليك فرضًا فليس طلب علمه عليك بواجب". وقال صلى الله عليه وسلم: "اطلبوا العلم ولو في الصين". وأيضًا روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم

قال: "من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة". وهذا في العلم الذي يلزمه تعليمه إياه ويتعين عليه فرضه. وأيضًا روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال: كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء ورسوله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في حال [2 ب/ 1] الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأومأ إلى فيه، فقال: "أكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق". فإن قيل: روى المطلب بن عبد الله بن حنطب، أن زيد بن ثابت دخل على معاوية فسأله عن حديث، فأخبره، فأمر إنسانًا فكتبه، فقال له زيد بن ثابت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أن لا نكتب شيئًا من حديثه فمحاه. قيل: يحتمل أن يكون النهي متقدمًا وآخر الأمرين الإباحة. وقيل: إنما نهى أن يكتب الحديث مع القرآن في صحيفة واحدة لئلا يختلط به فيشتبه على القارئ وهذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أمته بالتبليغ، وقال: "ليبلغ الشاهد الغائب". وروى زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نضر الله أمر أسمع منا حديثًا فحفظه حتى يبلغه، فرب حامل فقه ليس بفقيه". فإذا لم يقيدوا ما يسمعونه بالكتابة يتعذر التبليغ فلا يؤمن من ذهاب العلم، لأن النسيان من طبع أكثر البشر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لرجل شكا إليه سوء الحفظ: "استعن بيمينك" وقوله: (نضر الله): معناه: الدعاء بالنضاره وهي النعمة والبهجة، ويقال: نضر الله بالتخفيف والتثقيل، وأجودهما [3 أ/ 1] التخفيف، وفي هذا الخبر بيان أن الفقه هو الاستنباط، والاستدراك لمعاني الكلام، وفي ضمنه وجوب النفقة والحث على استنباط معاني الحديث. فإذا تقرر هذا، فاعلم أن العلم كبير والعمر قصير، فالأولى لمن طلب العلم بعد التوحيد أن يشتغل بالأحسن منه والأولى، وهو التفقه في الدين، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين". وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لفقيه واحد أشد على الشيطان من ألف عابد".

ثم اعلم أن أفضل الفقهاء فقهًا وأحسنهم ترتيبًا ونظمًا الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي -رضي الله عنه حكي عنه أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام قبل حُلمي، فقال له: "يا غلام" قلت: لبيك يا رسول الله، فقال: "من أنت"؟ قلت: من رهطك يا رسول الله، فقال: "ادنُ مني"، فدنوت فأخذ شيئًا من ريقه ففتحت فمي، فأمره على لساني وفمي وشفتي، فما أذكر أني لحنت بعد ذلك في حديث ولا شعر". وحكي عن تلميذه أبي إبراهيم المزني أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام، فسألته عن الشافعي -رحمه الله - فقال: من أراد محبتي وسنتي فعليه بمحمد بن إدريس الشافعي، فإنه قال: "الأئمة من قريش". وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: "قدموا قريشًا ولا تقدموها، وتعلموا [3 ب/ 1] منها ولا تعلموها". قال المزني: أي لا تفاخروها. وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: "من رأى رجلًا من قريش أفضل ممن رأى رجلين من غيره". وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: "لا تسبوا قريشًا، فإن عالمها يملأ طبق الأرض علمًا". وهذا متعين في الشافعي رحمه الله. وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم في هذا: "البيان تبع لقريشٍ فمسلمهم تبع لمسلمهم، وكافرهم تبع لكافرهم". ولم نجد في الأئمة المشهورين قرشيًا سارت منه الكتب في الأقطار، واستظهرها الكبار وأدوجها إلى الصغار غير الشافعي رضي الله عنه، فلهذا اتبعناه وسلكنا مذهبه، وأيضًا فإنه جمع من العلم ما لم يجمعه غيره من الأئمة، فإن مالكًا والأوزاعي والثوري وغيرهم لهم قدم في الآثار ومعناهم ضعيف. وأبو حنيفة والعراقيون لهم قدم في المعاني وأثرهم ضعيف. والشافعي جمع الآثار والمعاني، فإنه لما قدم العراق سمى ناصر السنة والحديث، ولا يقول بتخصيص العلة لقوة معانيه بخلاف غيره، وصنف في الأصول وبني عليها الفروع فتكون أحوط، وانفرد لمعرفة اللغة وأيام العرب، فإنه عربي الدار واللسان. وحكي عن بعضهم أنه قال: تلقى شيئًا من غرائب كلام الشافعي -رحمه الله - على الرياشي شيء قدر ما كف بصره، فقال: هذا من كلام مَنْ؟ فقلنا: هذا من كلام الشافعي فقال: نعم، سمعت الأصمعي يقول: قرأت ديوان

الهذليين على فتى من قريش، يقال [4 أ/ 1] له: محمد بن إدريس الشافعي. وأيضًا الشافعي -رحمه الله -أكثر احتياطًا في الطهارات، وشرائط العبادات، والأنكحة، والبياعات تمسكًا بالسنة، وذلك معروف في بيان مذهبه فكان أولى من غيره. وقال الربيع: سئل الشافعي -رحمه الله -عن مسألة، فقال: يروى فيها كذا وكذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له السائل: يا أبا عبد الله، تقول به؟ فرأيت الشافعي أرعد وانتفض، فقال: يا هذا أي أرض تقلني وأي سماء تظلني إذا رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثًا فلم يقل به نعم على السمع والبصر، نعم على السمع والبصر. وقال أحمد: كان الشافعي إذا ثبت عنه الخبر قلده. وأيضًا عن ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف، فهو يجتمع مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هو محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف. والمطلب هو أخو هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم وله قربى برسول الله صلى الله عليه وسلم من قبل جداته، فإن أم [4 ب/ 1] عبد يزيد هي الشفاء بنت هاشم بن عبد مناف وأم السائب بن عبيد الشفاء بنت أرقم بن نضلة بن هاشم بن عبد مناف، وأمها خليدة بنت أسد بن هاشم، وكان لجده الأعلى وهو المطلب فضيلة بتربية عبد المطلب، وبذلك سمي عبد المطلب، وكان بنو المطلب مع بني هاشم متناصرين، فإن بقية عبد مناف وهم بنو عبد شمس وبنو نوفل انفردوا عنهم وأدخل النبي صلى الله عليه وسلم بني المطلب مع بني هاشم في سهم ذوي القربى دون غيرهم. وقال: "نحن وبنو المطلب هكذا -وشبك بين أصابعه -إنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام". وكان السائب جد الشافعي -رحمه الله -قد أسر يوم بدر، وكان صاحب راية بني هاشم ففدى نفسه ثم أسلم. وكان ابنه شافع لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مترعرع رئيل مراهق، وإليه نسب الشافعي -رحمه الله -وكانت أم الشافعي أزدية. واعلم أنه ولد بغزة قرية من قرى الشام قريبة من بيت المقدس، فمكث فيها سنتين ثم حمل إلى مكة فنشأ بها وتعلم العلم، ثم دخل العراق سنة سبع وسبعين ومائة، وأقام بها سنتين، وصنف كتابه القديم وسماء "كتاب الحجة"، ثم عاد فأقام بها مدة، ثم دخل بغداد فأقام هناك أشهرًا، ولم يصنف شيئًا، ثم خرج إلى مصر فأقام بها إلى أن تغمده الله برحمته، وصنف الكتب الجديدة هناك، ودفن بمصر، وكان له ابنان، اسم كل [5 أ/ 1] واحد منهما محمد، مات أحدهما بمصر سنة إحدى وثلاثين ومائتين، ومات الآخر بالجزيرة وولي القضاء بها وكان مسنًا، يروي عن سفيان بن عينية، وكان مولده سنة خمسين ومائة، ومات ليلة الجمعة بعد العشاء الآخرة، وقد صلى المغرب ودفن يوم الجمعة آخر يوم من رجب سنة أربع ومائتين. قال الربيع: انصرفنا من جنازة الشافعي، فرأينا هلال شعبان، وكان عمره أربعًا

وخمسين سنة، وقيل: مات يوم الجمعة قبل الصلاة، ودفن في ذلك اليوم بعد العصر، والأول أصح. فرواة كتبة القديمة أحمد بن حنبل، والحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني والحسين الكرابيسي، وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي. قال الزعفراني: ما ذهبت إلى الشافعي مجلسًا قط إلا وجدت أحمد بن حنبل فيه. ورواة كتبه الجديدة أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيي المزني توفي بمصر ودفن يوم الخميس سلخ ربيع الأول من سنة أربع وستين ومائتين. وأبو محمد الربيع بن سليمان المرادي صاحب الأم. وأبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي. وأبو حفص حرملة بن يحيى. ويونس بن عبد الأعلى. والربيع بن سليمان الجيزي. وعبد الله بن الزبير الحميدي المكي. ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكيم المصري، ثم أحتسب المزني أفقه تلامذة الشافعي وأزهدهم وأحفظهم لكتبه وعلمه، بأن اختصر من علمه كتابًا سماه: "الجامع الكبير"، ثم اختصر منه "الجامع المختصر"، الذي [5 ب/ 1] يتداوله أصحاب الشافعي ويتدارسونه، ولم يترك شيئًا من أصول مسائل الفقه وفروعها إلا وقد أتى عليه بحسن الاختصار والنظم، وربما يأتي في خطين أو ثلاثة ما أتى به الشافعي في أوراق، ومكث في جمع هذا الكتاب نيفًا وعشرين سنة، وما اعترض فيه باعتراض ولا اختار قولًا على غيره إلا بعد ما صلى ركعتين واستخار الله تعالى فيه. وقال الإمام القفال - رحمه الله -: من ضبط هذا المختصر حق ضبطه وتدبره لم يشذ عليه شيء من أصول مذهب الشافعي في الفقه، وقال ابن سريج -رحمه الله -: هذا المختصر. لم يقيض، وأنشد فيه: يضيق فؤادي منذ عشرين حجة وصيقل ذهني والمفرج عن همي عزيز على مثلي إعارة مثله لما فيه من علم لطيف ومن نظم جميع لأصناف العلوم بأسرها ... فأخلق به أن لا يفارق فصل في وجوه اعتراضات المعترض على أول كلامه فإن قال قائل: لِمَ ترك المزني -رحمه الله تعالى - حمد الله تعالى والثناء عليه في أول هذا الكتاب؟! وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر" وروى: "أقطع"، فإن كان ذا بال كان من حقه أن يحمد الله تعالى، وإن لم يكن ذا بال فحقه أن يترك ولا يشتغل به؟ قلنا عنه أجوبة: أحدهما: أنه ندب إلى حمد الله تعالى في ابتدائه بلسانه دون كتبه ببنانه، والظن بالمزني أنه قال ذلك لأنه كان يصلي ركعتين عند تصنيف كل باب، وقد قال صلى الله عليه وسلم: [6 أ/ 1]

"لا تظنوا بالمؤمن إلا خيرًا". والدليل على صحة هذا أنا نجد هذا الكتاب يتداوله العلماء وقبلوه، ولم يصر أبترًا ولا أقطعًا، يدل على أن المزني كان قد امتثل أمره صلى الله عليه وسلم. الثاني: أن المراد بحمد الله ذكرًا لله تعالى، وقد روي: "لم يبدأ فيه بذكر الله فهو أبتر". رواه الأوزاعي. وقد ذكرا لله عز وجل بأحسن الذكر، وهو قوله: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} فإنها أفضل آيات القرآن. الثالث: القصد بالتحميد ذكر الله تعالى، ويقوم بعض الذكر مقام البعض كما قال صلى الله وعليه وسلم: "يقول الله تعالى: {من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين}. فكذلك هاهنا تقوم التسمية مقامه. الرابع: المزني اقتدى برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، وذلك أنه اكتفي في كتبه إلى الملوك ودعوته إياهم إلى الإسلام بالتسمية، وكذلك كتب الصلح التي كتبها هو ومن بعده من الصحابة لأهل البلاد، ولا التحميد. الخامس: أنه وجد له في بعض النسخ خطبة قال فيها: الحمد لله الذي لا شريك له في ملكه، ولا مثل له، الذي هو كما وصف نفسه، فوق ما يصف خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، فحذف ذلك بعض الناقلين. والسادس: أراد بالخبر الخطبة؛ لأن أعرابيًا خطب فترك التحميد، فقال النبي [6 ب/ 1] صلى الله عليه وسلم هذا، والذي يدل على هذا أن أول ما أنزل من كتاب الله تعالى قوله: {اقْرَا بِاَسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1]، وقيل: {يَأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} [المدثر: 1]، وليس في ابتدائها حمد الله تعالى. والسابع: أن المزني ناقل ما هو مبتدي، ورواة الحديث لا يؤاخذون بأن لا يذكروا حمدًا وثناء كلما بدأو بالزاوية. فإن قيل: فإذًا هذا السلوك يلزم الشافعي؛ لأنه صنف كتبًا لم يبدأ فيها بحمد الله. قيل: كتبه كلها كتاب واحد، وهو كتاب الفقه، وقد حمد الله تعالى في أول هذا الكتاب بأحسن تحميد، فقال: الحمد لله الذي خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون الحمد لله الذي مؤدى بشكر نعمة من نعمه إلا بنعمة منه توجب على مؤدي شكر ما مضى نعمة بأدائه نعمة حادثة يجب عليه شكره بها، ولا يبلغ الواصفون عنه عظمته الذي هو كما وصف نفسه، وفوق ما يصفه به خلقه، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، إلى أن قال: وصلى الله على محمد عدد ما ذكر الذاكرون، وسها عن ذكره الغافلون. ورؤى الشافعي -رحمه الله - في المنام

فقيل له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي بالصلاة التي صليتها على النبي صلى الله عليه وسلم في أول كتاب "الرسالة". وقيل: الخبر موقوف على أبي هريرة ورفعه قرة بن عبد الرحمن وهو ضعيف [7 أ/ 1]. فإن قيل: لِمَ قال اختصرت قبل أن يختصر؟ ومن قال فعلت ولم يفعل فهو كاذب. قلنا: يحتمل أنه صنف الكتاب ثم كتب هذا الفصل وصدره بهذا. والثاني: أنه قد يرد اللفظ على صيغة الماضي ويراد به المستقبل، كقوله تعالى: {وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ} [الأعراف: 44]، وقوله تعالى: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ} [النحل: 1] وقوله تعالى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [الكهف: 99] ونحو ذلك، فمعنى قوله: (اختصرت) أي سأختصر. والثالث: يجوز أن يعبر به عن شروعه فيه كما يكتب الرجل في صدر كتابه كتبت، أي: افتتحت الكتاب، أو لعزمه على ذلك، ويجري ذلك مجرى العلم بوجوده، كقوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30]. وقوله تعالى: {إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف:36]، ولكونه خبرًا عند وجود ما يختصره بلا خبرًا في حال الكتابة. فإن قيل: لم تمدح بالاختصار والأحسن بسط الكلام وشرحه، والاختصار مذموم؟ قيل: الاختصار محمود عادة وشرعًا، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أوتيت جوامع الكلم واختصر العلم اختصارًا" وقد أعجز الله تعالى العرب بقوله: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، فإن أقل لفظًا وأجمع معنى من قولهم: القتل أنفي للقتل. وقال في صفة الجنة: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} [الزخرف: 71] ويجوز ذلك. وقال علي بن أبي طالب، والحسن بن علي - رضي الله عنهما -"خير الكلام ما قل ودلّ [7 ب/ 1]، ولم يطل فيمل"، ويروى هذا مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وفيه نظر. وأما العادة فهي أن الكلام إذا طال مل الطالبون والسامعون، وإذا قل كثرة الرغبة وتاقت إليه النفوس. فإن قيل: لم شرط الاختصار ثم الحال في مواضع؟ قلنا: شرط اختصار كلام الشافعي، وإنما الحال كلام نفسه، ثم الحكم للأغلب، والأغلب منه مختصر، ولأن للإطالة موضعًا تحمد فيه، ولذلك لم يكن جميع كتاب الله مختصرًا. وقد قال الخليل بن أحمد: نختصر الكتاب ليحفظ، ونبسطه ليفهم. وأما معنى الاختصار فهو إيجاز اللفظ من غير إخلال بالمعنى، واشتقاقه من الجمع، ولهذا سمى المخصرة لاجتماع المتكئ عليها والحاضر لاجتماع البدن عليها، فكأنه يجمع معنى الكثير في القليل من اللفظ. وقيل: الاختصار هو ما دل قليلة على كثيرة

وقيل: هو رد الكثير إلى القليل، وفي القليل معنى الكثير. وقال المزني: هو إيجاز اللفظ مع إبقاء المعنى. وقيل: هو إيجاز من غير إخلال معنى بالمعنى. وقيل: هو تقليل المباني مع تكثير المعاني. وقيل: هو جمع المعنى الكثير تحت اللفظ القصير. وقيل: هو حذف الفضول مع استبقاء الأصول والأول أولى. فإن [8 أ/ 1] قيل: لما قال هذا وهي كلمة يشار بها إلى حاضر، وهو لم يصنف الكتاب بعد؟ قيل: جوابه ما سبق، وأيضًا يجوز أن يشار إلى حاضر العين كما قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ: 35} [المرسلات: 35]، وقوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} [الصافات: 21] الآية. فإن قيل: لِمَ قال: من علم الشافعي وعلم الرجل صفته، ولا يمكن اختصار الصفة كالسمع والبصر وغيره، هذا لو كان الشافعي حيًا فكيف بعد موته؟. قيل: أراد بالعلم المعلوم ومعلومه مسائله والاختصار فيها ممكن، ويجوز أن يسمى المعلوم علمًا، كما يقال: هذا الدرهم ضرب للأمير، أي مضروبة ويقال: هذا قدرة الله، أي مقدوره، وهذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم ويراد به مقوله: ويقال في الدعاء: اللهم اغفر علمك، أي معلومك والثاني: أنه أراد به من كتبه ومنصوصاته، ويجوز أن يعبر عن الكتاب بالعلم، قال الله تعالى: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا} [الأنعام: 148] أي من كتاب. وقال ابن عباس، رضي الله عنه: من يشتري لي علمًا بدرهمين. فإن قيل: لم قال: ومن معنى قوله، والاختصار من المعنى لا يمكن إذ يصير الكلام به غير معقول، وإنما يمكن من الاختصار بالألفاظ مع توفير المعنى؟ قيل: أراد اختصرت من معاني، فقوله: واختصرت من عدة معاني على ذكر معنى واحد، ويجوز أن يراد بالمعنى المعاني، كما قال تعالى: {وَالْعَصْرِ إنَّ الإنسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 1 - 2]، أي الناس بدليل أنه قال: {إلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 3]. والثاني: أراد اقتصرت [8 ب/ 1] على ذكر معنى تعم مسائل كثيرة، وهذا اختصار المعنى في الحقيقة. والثالث: أنه أراد بالمعنى الدليل كما يقال: ما معناك في هذا وما دليلك عليه؟ وهذا قريب من الأول. والرابع: معناه على معنى قوله، أي خرجت المسائل في كتاب الحوالة والضمان وغيرهما على قياس مذهبه فيما لم أجد فيه نصًا، ويوضع من مكان عالي، قال الله تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا} [الأنبياء: 77]، أي على القوم الذين كذبوا. وقيل: أراد من قوله: ربما هو في معناه، وسماه معنى قوله لأنه مثله في المعنى. فإن قيل: لم قال: لأقربه على من أراده، وإنما يقال قربته منه وإليه، ومن أراد تقريب شيء إلى فهم يقول: قربت عليه، كما يقال سهلت عليه. ويقال

لمن أراد سفرًا: قرب الله عليك الخطا، أي: سهل، ومعناه غرض في هذا الاختصار للتسهيل على ما أراد هذا الكتاب، ويعبر عن التسهيل بالتقريب؛ لأن كل قريب سهل، ولك بعيد صعب. فإن قيل: قد قال مع إعلامية نهيه عن تقلده وهو كلام يحمل معنيين. أحدهما: مع إعلامي يريد الكتاب نهي الشافعي عن أن يقلدوا ويقلد غيره، فتكون التاء كناية عن اسم المزني، والهاء الأولى راجع إلى مريد الكتاب، والهاء الثانية راجع إلى الشافعي، ولم يبين المزني مراده، فكيف يدعي التقريب والتسهيل قلنا: إذا احتمل الكلام معنيين صحيحين لا يلزم البيان، بل يجوز تركه بحاله [9 أ/ 1] لتكثير الفائدة، كما في ألفاظ القرآن، وكلا المعنيين صحيح هاهنا، وهو منه بسط لعذره في اعتراضات، اعترض بها على الشافعي في تضاعيف هذا الكتاب، فكأنه يقول: إن كنت اعترضت على الشافعي في تصانيف هذا الكتاب ورددت عليه شيئًا، فليس ذلك مني خلافًا له، بل هو الذي أمرني به، والمعنى الأول أصح. فإن قيل: لم قال: لينظر فيه لدينه ويحتاط لنفسه، والأولى والاحتياط في التقليد ليسلم المقلد عن مخاطرة الخطأ والصواب فيه؟ قيل: الأولى والاحتياط في الاجتهاد؛ لأن المجتهد يقدم على الأمر على علم، والمقلد يقدم عليه على جهل، قيل: هذا بيان للعلة في النهي عن التقليد، يعني إنما نهى عن التقليد ليستقصى طالب العلم في تعرف وجوه الأحكام ودلائلها، ثم ينظر فيها لدينه ويحتاط. وقوله: (وبالله التوفيق): بيان أن الأمور كلها تجري بمشيئة الله تعالى وقضائه وقدره. وقيل: التوفيق ضد الخذلان، وهو تسهيل طريق الخير وسد طريق الشر، يعن بعون الله بتيسير ما فصلت، ويتم ما نويت. وقيل: هو درك الأسباب مع موافقة الصواب. وقيل: هو الرجوع في الخبر من غير استعداد له. وقيل: توفيق المتعلم أربعة: ذكار القريحة، استواء الطبيعة، وشدة العناية، ومعلم ذو نصيحة. فصل التقليد: قبول قول الغير بلا حجة، واشتقاقه من التلاوة كأنك قلدته عهدة ذلك القول من صواب وخطأ [9 ب/ 1] كالعلاقة في عنقه. والعلوم ضربان. أحدهما: ما لا يسوغ فيه التقليد، وهو الأحكام العقلية، من معرفة الله وتوحيده وتصديق رسله، ويلزم فيه الرجوع إلى الدليل، وقد ذم الله تعالى من قلد في ذلك، فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} [البقرة: 170]، فبين أن من يجوز عليه الخطأ والضلال لا يجوز تقليده. وقال أيضًا حكاية عن الكفار: {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] ونحو ذلك. وكان طريق معرفة العقل والناس كلهم في العقل سواء، فلا

يجوز لأحد منهم تقليد غيره كالبصراء في القبلة، ولهذا خاطب الله تعالى جميع المكلفين وقال {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21]. وقال عبيد الله بن الحسن العنبري: يجوز فيه التقليد، ونسب هذا إلى أحمد بن حنبل، ولا يصح عنه عندي. وعلى هذا من العلوم ما أنفع فيه التقليد أصلًا، وهو ما ثبت في شرعنا بأخبار التواتر، كالصلاة والصيام والزكاة والحج، لأنه وقع العلم بها ضرورة بتواتر الأخبار. العلم الثاني: ما يسوغ فيه التقليد، وهو من أحكام الدين من الحلال والحرام، وقدر الزكاة، وأحكام الصلاة والصيام ونحو ذلك. والناس فيه ضربان: عالم، وعامي. فالعامي يجوز له تقليد العالم في كل هذا. وقال بعض المتكلمين: لا يجوز حتى يعرف علة الحكم، وهذا غلط؛ لقوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] ولأنا لو ألزمناه ذلك لشق [10 أ/ 1] واحتاج إلى الانقطاع عن المعيشة بتعلم ذلك، وهذا لا يجوز فأما العالم: فلا يخلو من أحد أمرين؛ إما أن يكون الوقت واسعًا أو ضيقًا فإن كان واسعًا لا يجوز التقليد بل عليه الاجتهاد. وقال مالك، وأحمد، وإسحاق: يجوز له التقليد. وقال محمد: يُقلد من هو أعلم منه ولا يقلد من هو مثله. وقال أبو حنيفة: يجوز قضاء العامي، ويجوز له أن يقلد غيره عند الحكم، ولذلك لو كان عالمًا ولكنه يتكاسل عن الاجتهاد والنظر، يقلد ويحكم، وهذا غلط؛ لأن معه آلة يتوصل بها إلى حكم الحادثة، فلا يجوز له التقليد كما في العقليات. والدليل على بطلان قول محمد خاصة، أن من لا يقلد من هو مثله لم يقلد من هو فوقه، كما في القبلة، وهذا لأنه يجوز أن يخطئ من يعتقد أنه أعلم في الدليل وهو يصيب ذلك. وإن كان الوقت ضيقًا فعامة أصحابنا على أنه لا يجوز له التقليد أيضًا، وهو ظاهر قول الشافعي فيؤدي تلك العبادة في الحال كلما أمكن، ثم يجتهد ويعيد. وقال ابن سريج: إذا نزلت نازلة وضاق زمنها وخقت فوت الواجب، عليَّ فيها أن أقلد من هو في مثل حالي، وهذا غلط، لأن الاجتهاد شرط في صحة هذه العبادة، كالطهارة شرط في صحة الصلاة، ولا يختلف ذلك بخوف فوتها وعدم الخوف كذلك هذا. فإن قيل: أليس قلد الشافعي زيد بن حارئة - رضي الله عنهما - في الفرائض [10 أب 1]، وقلد عثمان بن عفان - رضي الله عنه - في بيع الحيوان بشرط البراءة وقال: تقليدًا لعثمان بن عفان - رضي الله عنه - وقلد في قبول خبر الواحد؟ قلنا: وافق رأيه رأي زيد في الفرائض وما قلده، واستأنس بقول عثمان -رضي الله عنه - في مسالة بيع الحيوان بشرط البراءة؛ لأنه ذكر الدليل، يقال: والحيوان يفارق ما سواه لأنه يفتدى بالصحة والسقم، وقلما يبرأ من عيب يخفي أو يظهر. ومن أصحابنا من قال: قام الدليل على وجوب قبول قول الصحابي فلا يسمى تقليدًا كقول الرسول صلى الله عليه وسلم: إذا قبلناه لا يسمى تقليدًا؛ لأنه لا يتوهم الشرفيه. وقيل: يسمى تقليدًا، ولكنه تقليد جائز بل واجب، لكونه معصومًا وأما خبر الواحد: فيجوز تقليد المخبر به إذا كان ظاهر الصدق؛ لأنه لا

يقع التسليم لقوله ذلك، فعد الاجتهاد في عدالته، فصار قوله مقبولًا، وهذا اختيار ابن أبي هريرة، وهذا لا يصح؛ لأن عدالة المخبر لا تدل على صحة الخبر، كما لا يكون عدالة العالم دليلًا على صحة فتياه، وإنما الدليل ما اختص بالقول المقول لا ما اختص بالقائل من عدالة وصدق. فإذا تقرر هذا، نعني بالعالم هو الذي لا يجوز له التقليد من بلغ رتبة الاجتهاد، وهو من عرف الكتاب والسنة وأقاويل الصحابة وآثار السلف وإجماع الأمة [11 أ/ 1] واختلافهم والعربية والاستنباط بالقياس، ونعني به أن يعرف من كل واحد من هذه العلوم معظمه، لا أن يأتي على جميعه؛ لأنه لا يمكن، ومن لم يبلغ هذه الرتبة لا يحل له أن يفتي، بل يحكي الحكاية فيقول: قال فلان كذا، أو يعرف فإنه يفتي على مذهب فلان، فحينئذ يجوز أن يطلق الجواب إطلاقًا. وقيل: من يجوز تقليده أربعة أصناف؛ النبي صلى الله عليه وسلم، لأن ما أمر به أو نهى عنه لا يسأل عن دليله، وهذه صفة الدليل، ويجب تقليده فيما أمر لقوله تعالى: {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]، وهذا أصح من قول من قال: لا يسمى تقليدًا لقياس الدليل على صدقه. الثاني: المخبرون عن الرسول صلى الله عليه وسلم على ما ذكرنا من تقليد أخبار الواحد. الثالث: المجمعون على حكم، فتقليدهم فيما أجمعوا يجب. الرابع: الصحابة، فتقليدهم يختلف على حسب اختلافهم فيما قالوه على ما سنذكر إن شاء الله. فرع اختلف أصحابنا في أن النبي صلى الله عليه وسلم هل يأمر باجتهاد أم لا؟ على وجهين أحدها: يجوز له ذلك، لأن للاجتهاد فضيلة تقتضي الثواب، فجاز له صلى الله عليه وسلم. والثاني: لا يجوز له لقوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4]. فرع أخر اختلف أصحابنا في أن لأهل الاجتهاد في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجتهد، أو يلزمه [11 ب/ 1] سؤاله على ثلاثة أوجه: أحدها: يجوز لقول معاذ رضي الله عنه: "أجتهد رأيي"، فلم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: لا يجوز؛ لأن النص ممكن في عصره بسؤاله. والثالث: يجوز لمن بعد منه دون من قرب للتعذر على البعيد الرجوع إلى النص، ولا يتعذر ذلك على القريب. فرع آخر لو علم العامة حكم الحادثة ودليلها، وأراد أن يفتى به لغير ما فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجوز لأنه وصل إلى العلم به بمثل وصول العالم إليه. والثاني: لا يجوز وهو الأصح؛ لأنه قد يكون هناك دلالة تعارضها هي أقوى منها.

والثالث: إن كان الدليل نصًا من كتاب أو سنة جاز، وإن كان نظرًا أو استنباطًا لم يجز. فرع آخر لا يجوز العمل بخر الواحد إلا بعد ثبوت عدالته، وقال أبو حنيفة إذا علم إسلامه جاز العمل بخبره وقبول شهادته من غير سؤال عن عدالته، وهذا غلط؛ لأنه كما لا يجوز خبر من جهل إسلامه لا يجوز خبر من جهل عدالته. فرع آخر لا يجوز للمخبر أن يروي إلا عن أحد أمرين؛ إما أن يسمع لفظ من أخبره، وإما أن يقرأه عليه فيتعرف به، فأما بالإجازة فلا يجوز أن يروي عنه، ومن أصحاب الحديث من أجاز الرواية بالإجازة، ومنهم من قال: إن كان الإجازة بشيء معين، وإن كانت عامة لا يجوز. وقيل: إن دفع المحدث الكتاب من يده، وقال: أجزت لك هذا، جاز أن يرويه وإلا فلا [12 أ/ 1] يجوز، وكل هذا عند الفقهاء غلط؛ لأن ما في الكتاب مجهول، ويكون فيه الصحيح الفاسد، ولو صحت الإجازة لبطلت الرحلة، ولا ستغني الناس عن معاناة السماع. فرع آخر إذا سمع على ما ذكرنا من الوجهين وكتبه جاز أن يرويه إذا كان قد وثق به وعرف خطه، إن لم يكن حافظًا لما يرويه ولا ذاكرًا له. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يروي عن خطه وإن عرفه، إلا أن يذكره ويحفظه، كما لا يجوز أن يشهد بمعرفة خطه حتى يذكر ما شهد به، وهذا غلط؛ لأن المسلمين عملوا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها كتابه إلى عمرو بن حزم، ومنها الصحفية التي أخذها أبو بكر الصديق من قراب سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم في نصب الزكوات. وروى أنس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قيدوا العلم بالكتاب". فلولا أن الرجوع إليه عند النسيان جائز لم يكن لتقيده بالخط فائدة، ولأنه لما جاز أن يروي عن سماع صوت المحدث وإن لم يره لزخمة أو ذهاب بصره بخلاف الشهادة، جاز أن يروي من خطه الموثوق به بخلاف الشهادة. فرع آخر إذا أراد العامي أن يقلد العالم هل عليه الاجتهاد في أعيان أهل العلم؟ قال ابن سريج: عليه ذلك؛ لأنه لا يشق فيطلب الأعلم والأوثق بقول الثقات والسؤال، فإن استويا قلد الاثنين؛ لأنه أقرب إلى الإصابة [12 ب/ 1] لطول الممارسة. وقال غيره من أصحابنا وهو الأصح: لا يلزمه ذلك، ويقلد من شاء من العلماء المشهورين بالعلم،

كما لا يلزمه الاجتهاد في طلب الدليل، ولأن كل واحد منهم هو من أهل الاجتهاد، فكان له إتباعه ولا يلزمه الأخذ بالأحوط، كما لا يلزمه الأخذ بما أجمعوا عليه، مثل أن يمتنع من بيع المكيل متفاضلًا. وقد قال الشافعي في الأعمى، كل من دله من المسلمين على القبلة ويتبعه إتباعه ولم يأمر بالاجتهاد وفي الأوثق، ولأن في خبر العسيف قال والد الزاني: فسألت رجلًا من أهل العلم وهناك رسول الله صلى الله عليه وسلم هو أعلم الكل ولم ينكر عليه. فرع آخر استفتى عالمين فأفتياه بجواب متفق عمل عليه بلا إشكال، فإن أفتياه بجوابين مختلفين، فعلى قول ابن سريع يجتهد في الأوثق والأدين، وعلى قول غيره من أصحابنا فيه أوجه: أحدها: يعمل بقول من شاء منهما وهو الأصح؛ لأنه يجوز قبول قول كل واحد منهما على الانفراد. والثاني: يأخذ بأغلظ القولين احتياطًا، وهذا غلط؛ لقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ} [المائدة: 6]. والثالث: يأخذ بالاثنين والأخف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنفية السمحة السهلة" وهذا أيضًا غلط؛ لأن هذا صفة لجهة الشريعة؛ لأن في أحكامها ما يشق على المحكوم عليه مثل ما يحتسبه المحرم، والغسل في شدة البرد، ومثل ذلك. [13 أ/ 1] والرابع: أن يتبع آمنهم عنده، فإن استويا قلد أيهما شاء، لأن الشافعي قال في القبلة: إن اختلفوا على الأعمى تبع آمنهم وأبصرهم ويفارق قبل السؤال حيث لا يلزمه الاجتهاد، بخلاف ما قاله ابن سريج، لأن في الاجتهاد في أعيانهم مشقة، وليس في الرجوع إلى الأوثق في نفسه مشقة بعد السؤال، ومن قال بالأول أجاب عن هذا، وقال: هذا يفارق استقبال القبلة؛ لأنه قد يكون له في إتباع أحدهما هاهنا غرض، ولا غرض في استقبال القبلة، ولا شك في القبلة في إتباع الأوثق. والخامس: أنه يأخذ بقول الأول لأنه لزمه حين سأله، وهذا أيضًا ضعيف. فرع آخر إذا قلد مرة في حادثة ثم نزلت مرة أخرى، فإن تيقن أنه أفتاه عن نص لا يحتمل التأويل لا يلزمه السؤال ثانيًا بلا إشكال، وإن لم يعلم هذا ففيه وجهان: أحدها: يلزمه السؤال لجواز تغير اجتهاده وهو الأصح، واختاره القفال. والثاني: لا يلزمه لأنه عرف حكم الحادثة، والظاهر بقاء رأي المفتى عليه، وهو كالوجهين فيمن صلى الظهر إلى جهة باجتهاده ثم حضرته العصر، هل يعمل على

اجتهاده الأول؟ وجهان. وهذا عندي إذا مضت مدة من الفتوى الأولى يجوز تغير الاجتهاد فيها غالبًا، فإن كان الوقت قريبًا لا يلزمه الاستفتاء ثانيًا. فرع آخر إذا أراد العامي أن يقلد مفتيًا كالشافعي وأبي حنيفة ومالك، ففيه وجهان. أحدهما: لا يجوز؛ لأنه [13 أ/ 1] الآن ليس هو من أهل الاجتهاد، كمن تجدد فسقه بعد عدالته لا يبقى حكم عدالته وهو القياس. والثاني: يجوز وهو اختيار كثير من أصحابنا؛ لأن الموثق لا يؤثر فيما قبله من شروط الاجتهاد، فلا يؤثر فيه، كما لو شهد بشهادة ثم مات، فإنه يحكم بشهادته. فرع آخر لو لم يعرف المستفتي لغة المفتي أجزأه ترجمان واحد، لأنه خبر، ولو بعث بمسألته رسولًا إلى فقيه فأفتاه مطلقًا، فنقل الرسول إليه الجواب وهو عدل، جاز له قبوله كما يجوزن فنزل خبر الرسول صلى الله عليه وسلم من واحد، ولو بعث رفعه إليه فأجابه بالخط جاز له أن يعمل عليه أيضًا. فرع آخر لو استفتى العامي فقيهًا فلم تسكن نفسه إلى فتياه ففيه وجهان: أحدها: أنه يلزمه أن يسأل ثانيًا وثالثًا حتى يصير عددًا تسكن نفسه إلى فتياهم. والثاني: لا يلزمه، ويجوز له الاقتصار على قبوله؛ لأنه ليس نفور نفسه شبهة ولا سكونها حجة. فصل في الإجماع إذا قال علماء الصحابة قولًا فهو حجة مقطوع بها، وهكذا لو قال واحد مهم قولًا وانتشر في الباقين فصوبوه، ومن خالفه يكون كمن خالف نص الكتاب والسنة. وقال النظام والإمامية: لا تكون حجة ويجوز مخالفتهم، وهذا غلط لقوله تعالى: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115] الآية، فأوعد على ترك [14 أ/ 1] إتباع سبيل المؤمنين كما أوعد على مشاققة الرسول، فدل على أن إتباعهم واجب. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تجتمع أمتي على الضلالة". وقال أيضًا صلى الله عليه وسلم: "أنتم شهداء الله في الأرض، فما رأيتموه حسنًا فهو عند الله حسن". وهكذا إجماع سائر العلماء: في سائر الأعصار حجة لا تحل مخالفتهم، وإنما يعتبر إجماع من هو من أهل الحل والعقد لا من سمى عالمًا. وذكر بعض أصحابنا بخراسان أنه يعتبر إجماع معظمهم لا كلهم؛ ولأنه يشق وهذا لا يصح؛ لأن

عندنا خلاف الواحد يعد مخالفًان فربما يخالف ذلك الواحد ولا يشق ذلك؛ لأن الإمام يكتب إلى الأقطار وينقل من قولهم فيه. وقال داود: إجماع غير الصحابة لا يكون حجة، وهذا غلط؛ لأنه اتفاق أهل العصر من العلماء على حكم الحادثة، فكان حجة كإجماع الصحابة. فإذا تقرر هذا فلا ينعقد الإجماع إلا عن أصل من كتاب أو سنة، ولو انعقد عن قياس هل يكون حجة مقطوعة؟ قال عامة أصحابنا، وهو المذهب: أنه حجة مقطوعة. وقال داود، وابن جرير الطبري من أصحابنا: لا تكون حجة، وهذا غلط؛ لأن القياس دليل من دلائل الله تعالى منعقد عنه الإجماع، كالكتاب والسنة والإجماع المنعقد عن السنة مثل ما روي أن امرأة أتت عمر بن الخطاب -رضي الله عنه -تطلب ميراثها من دية زوجها فاستشار أصحابه، فقام حمل بن مالك من التابعة، وقال: أشهد أن رسول الله [14 ب/ 1] صلى الله عليه وسلم ورث امرأة أشيم الضبائي في دية زوجها، فأجمعوا على ذلك، والإجماع المنعقد عن القياس مثل قول الصحابة في إمامة أبي بكر الصديق -رضي الله عنه -رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا فنحن نرضاه لدنيانا، يعني الإمامة في الصلاة حين قدمه للصلاة. ثم أعلم أن الإجماع ضربان: أحدهما: ما علم من دين الرسول صلى الله عليه وسلم ضرورة، كوجوب الصلاة والصيام وتحريم الربا ونحو ذلك، فيجب الانقياد له من غير اعتبار الإجماع فيه. والثاني: ما لا يعلم ضرورة، وذلك على ضربين: أحدها: ما استدل الخاصة والعامة في معرفة حكمه، كأعداد الركعات، ومواقيت الصلوات، وستر العورة، وتحريم بنت البنت، فهذا يعتبر فيه إجماع العلماء، وهل يعتبر إجماع العامة معهم فيه، ولولا وفائهم عليه ما بثت إجماعًا؟ فيه وجهان: أحدها: يعتبر، ولولاه ما ثبت إجماعهم لاشتراكهم والعلماء في العلم به. والثاني وهو صحيح: لا يعتبر، لأن الإجماع إنما يصح إذا وقع عن نظر واجتهاد، والعامة ليسوا من أهل الاجتهاد، فلم يكونوا من أهل الإجماع، وأيضًا خلافهم لا يؤثر فلا يعتبر إجماعهم. والضرب الثاني بما اختص العلماء بمعرفة حكمه دون العامة، كنصب الزكوات، وتحريم نكاح المرأة على عمتها وعلى خالتها، فيعتبر فيه إجماع العلماء من أهل الاجتهاد ومن العامة، وهل يراعى فيه إجماع غير الفقهاء من المتكلمين؟ وجهان [15 أ/ 1] أحدها: يراعى ويؤثر؛ لأن الفقهاء هم أقوم بمعرفة الأحكام وأكثر حفظًا للفروع، وأكثر ارتباطًا بالفقه. فرع لا يشترط انقراض العصر فيما ذكرنا من الإجماع، بل القصد الإجماع في الحال، فإن رجع أحدهم عنه لا يقبل رجوعه، بل يكون قوله الأول مع قول الآخرين حجة

عليه، كما هو حجة على غيره. ومن أصحابنا من قال: يشترط فيه انقراض العصر، وهذا غلط؛ لأن من كان قوله حجة لم يشترط موته في صحته، كالرسول صلى الله عليه وسلم. فرع آخر إذا قال واحد من الصحابة قولًا وانتشر في الباقين، وهم من بني قائل به وساكت عن الخلاف فيه، فذلك ضربان: أحدها: أن يظهر الرضا من الساكت كما ظهر النطق من القائل، فهذا إجماع لا يجوز خلافه. والثاني: أن لا يظهر من الساكت الرضا ولا الكراهة، فهو حجة مقطوع بها، وهل يكون إجماعًا؟ فيه قولان وقيل وجهان: أحدهما: يكون إجماعًا، وهو قول الأكثرين؛ لأنهم لا يغضون عن المنكر، ولا يسكتون عليه، ولو كان فيهم مخالف لتبعته الدواعي على إظهار خلافه؛ لأنه لا يجوز كتم الشريعة. الثاني: لا يكون إجماعًا؛ لأن الشافعي - رضي الله عنه - قال: "لا ننسب إلى ساكت قول". وهذا اختلاف في الأعم؛ لأنه لا خلاف أنه حجة يجب إتباعه ويحرم مخالفته قطعًا. وقال داود وجماعة من المتكلمين: [15 ب/ 1] لا يكون حجة، وهذا غلط؛ لأنه يؤدي إلى خلو العصر عن معرفة الحق في الحادثة بخطأ المتكلم وسكوت غيره، وهذا محال. فرع آخر يشترط في هذا الذي ذكرنا انقراض العصر عليه حتى يحكم بموته حجة قطعًا أو إجماعًا ما فإنه إن رجع أحدهم يصح رجوعه ويعد خلافه خلافًا. ومن أصحابنا من قال: لا يشترط فيه انقراض العصر كما في الإجماع السابق، وهذا لا يصح؛ لأنه لا يجوز أن يكون في التفكير والتروي، ويؤدي اجتهادهم إلى الخلاف، فإذا انقرضوا ولم يخالفوا انقطع هذا الوهم، وإن ظهر هذا القول من الإمام أو الحاكم، لا يفتات عليه ولا يجوز الاعتراض عليه، والأدب في السكوت عنهن وتفارق الفتيات؛ لأن إظهار الخلاف فيه ليس بافتيات، وهذا هو اختيار ابن أبي هريرة. وقال الأكثرون من أصحابنا بالعراق: لا فرق بين الإمام وغيره في ذلك، وقد نقل عنهم إظهار الخلاف على الإمام، فخالفوا أبا بكر - رضي الله عنه - في الخبر، وعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - في المشركة وغير ذلك. وأظهر ابن عباس رضي الله عنهما - الخلاف في القول بعد موت عمر، مع أنا اعتبرنا في هذا انقراض العصر، ومحاباة الإمام أو الحاكم يختص بمجلس حكمه دون غيره، وهذا أصح عندي، فعلى هذا القول يصير بمنزلة قوله وحده، هل يترك به القياس؟ قولان: قال أبو إسحاق بعكس هذا، فقال: إن كان قياس لم يكن إجماعًا، وإن كان حكمًا كان انتشاره [16 أ/ 1] منهم وسكوتهم عن الخلاف فيه دليل الإجماع أن الحكم لا يكون إلا من مشورة قطعًا ومطالعة، وبعد نظر ومباحثة.

فرع آخر إذا قال واحد من الصحابة قولًا لم ينشر في الباقين، أو انتشر في نفر منهم دون الكل، ولم ينقل عن أحد منهم خلافه لا يكون إجماعًا، وهل يكون حجة؟ فيه قولان: أحدهما: قاله في "القديم"، وهو قول مالك، وأبي حنيفة: أنه يكون حجة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم". والثاني: قاله في "الجديد": لا يكون حجة؛ لأنه يجوز عليه الخطأ في اجتهاده كالتابعي إذا قال قولًا ولم ينتشر في التابعين لا يكون حجة بالإجماع. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما جاء عن الله فهو الحق، وما جاء عني فهو السنة، وما جاء عن أصحابي فهو سعة" ولأن القياس حجة شرعية فيترك به قول الصحابة كالسنة. ومن أصحابنا من قال القولان: إذا لم يكن معه قياس أصلًا. فأما إذا كان مع قوله قياس ضعيف فقوله مقدم على القياس القوي، وهذا اختيار القفال وجماعة، وهو ضعيف عندي؛ لأنه لا يجب الرجوع إلى قول الصحابي بانفراده، ويجب الرجوع إلى القياس القوي والضعيف من التباس ساقط إذا خالفه القوي، فلا ينبغي إذا اجتمع ضعيفان أن يتناويا القوي، وهذا كالخبرين الضعيفين لا يعارضان خبر الواحد القوي. وحكي عن [16 ب/ 1] أبي الحسن الكرخي أنه قال: يكون حجة جارية مجرى القول المنتشر، وهو خطأ ظاهر. فإذا قلنا بقوله الجديد كان قوله كقول أحد الفقهاء، مثل الشافعي، وأبي حنيفة، ومالك فيجوز للشافعي مخالفته، ويترك له القياس، وهل يخص بقوله العموم؟ فيه وجهان: أحدهما: يخص لأنه إذا خص بالقياس فلأن يخص بقوله أولى. والثاني: لا يجوز، لأنه يترك قول نفسه بالعموم فلا يخص به العموم. وقال القفال: هل يخص به العموم؟ قولان بناء على القولين الأولين، والذي تقدم هو الأصح. فرع آخر إذا اختلفت الصحابة على قولين، فإن لم يكن فيهم إمام ينظر، فإن كانوا في العدد سواء فهما سواء، وإن اختلف العدد فهل يرجح العدد؟ فعلى قول الجديد لا يرجح ويعود إلى ما يوجبه الدليل ويقتضيه الاجتهاد. وعلى قوله القديم يرجح به كما في الأخبار يرجح بكثرة الرواة، وإن كان فيهم إمام. فإن كانوا في العدد سواء فالتي فيها الإمام هل تكون أولى؟ قولان: أحدها: يكون

أولى قاله في القديم. وقال في "الجديد": لا يكون أولى فإن اختلف العدد وكان الإمام مع الأقل فعلى كلا القولين هما سواء. فرع آخر لو اتفقت الفرقتان في العدد، وفي إحداهما أبو بكر وعمر -رضي الله عنهما -وفي الآخرى عثمان وعلي -رضي الله عنهما، فعلى قوله القديم فيه وجهان: أحدهما: يرجح قول أبي بكر وعمر على غيرهما لقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين [17 أ/ 1] من بعدي أبي بكر وعمر". والثاني: سواء لاستواء العدد وعدة الأئمة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم". وذكر الشافعي في "القديم" أنه يقدم أبي بكر، وعمر، وعثمان ولم يذكر عليًا -رضي الله عنه -فمن أصحابنا من قال فيما ذكر تنبيه عليّ وهو الصحيح. ومنهم من قال: يرجح قول الثلاثة لأنهم كانوا في دار الهجرة والصحابة متوافرون عندهم فينشر القول بينهم، وعلي - رضي الله عنه - انتقل إلى الكوفة وتفرق عنه كثير من الصحابة وهذا ليس بشيء. فرع آخر من عاصر الصحابة من التابعين وهو مجتهد يعتبر وفاته في صحة الإجماع ومن أصحابنا من قال: لا يعتبر، وهذا غلط؛ لأنه من أهل الاجتهاد وعند الحادثة، فيعتبر وفاته فيه كالواحد من الصحابة، ومن عاصر الصحابة وهو حبس عند إجماعهم، ويعقل عقل مثله، إلا أنه لم يبلغ رتبة الاجتهاد، ثم بلغ رتبة الاجتهاد فخالفهم هل يعد خلافه خلافًا للمذهب أنه لا يعد، لأن من لم يكن من أهل الاجتهادة فهو كالمعدوم والعامي. وقال القفال: فيه وجهان: أحدهما هذا. والثاني يعد خلافًا، لأن ابن عباس - رضي الله عنه -خالف الصحابة في القول، ويوم جرت مسألة القول كان قد بلغ رتبة الاجتهاد، فإنه قيل له: هلا قلت ذلك في زمان عمر؟ فقال: كان رجلًا مهيبًا فهبته. فرع آخر إذا اختلفت [17 ب/ 1] الصحابة على قولين، ثم أجمع التابعون على أحدهما هل يصير إجماعًا وقد يقع حكم الخلاف السابق؟ وجهان. قال أكثر أصحابنا وهو الصحيح: أنه لا يصير إجماعًا؛ لأن الموت لا يبطل القول، والتابعين لو كانوا موجودين في عصر الصحابة، وكانوا أحد القولين لم يضر الآخرين شيئًا، كذلك إذا

ماتوا. وقال ابن خيران، والقفال الشاشي وأكثر أصحاب أبي حيفة: يصير إجماعًا لأنه إجماع علماء أهل عصر، فكان حجة كإجماع الصحابة. فرع آخر إذا أجمعت الصحابة على قولين لم يجز للتابعين إحداث قول ثالث وقال بعض المتكلمين: يجوز، وبه قال أصحاب أبي حنيفة، وهذا غلط، لأن اختلافهم على القولين إجماع على إبطال كل قول سواهما. فرع آخر إذا قال الصحابة قولًا يخالف القياس لا يُحمل على التوفيق بالشك، ولهذا لا يصير حجة على من هو في زمانه من الصحابة بخلاف ما لو رفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصل في الإشارة إلى الأدلة المذكورة في كتاب المزني وجملة ما ذكر فيه من الأدلة الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس، والاستدلال، واستصحاب الحال، والاجتماع يكون بلفظ الكتاب والسنة وفحواهما نصًا كان ظاهرًا أو عامًا، فالنص كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية. والعموم كقوله [18 أ/ 1] تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] والظاهر كقوله تعالى: {وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ} [النور: 33]، ظاهرة الوجوب. وكذلك قوله تعالى: {وَلَا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]، ظاهره كتحريم. ولو عارض النص عموم أو ظاهر قدم النص، ولذلك إن عارضه فقياس، وإن عارضه مثله كان المتأخر ناسخًا للمتقدم، فإن لم يعلم المتأخر طلب بينهما الترجيح، فيقدم الأرجح، والعموم والظاهر إذا عارضهما القياس خُص العموم وصرف الظاهر إلى المحتمل عند أكثر أصحابنا. وأما الفحوى فهو التنبيه ودليل الخطابن فالتنبيه كقوله تعالى: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الإسراء: 23] نبه على نهيه عن الضرب، ودليل الخطاب كقوله صلى الله عليه وسلم: "في سائمة الغنم زكاة". فدل على انه لا زكاة في المعلوفة. وأما القياس فيشتمل على أصل، وفرع، وعلة، وحكم، وذلك مثل قولنا في الرمان، إنه مطعوم جنس، فلا يجوز بيع بعضه ببعض متفاضلًا كالبر، والعلة قولنا: معلوم جنس، وهي ذات وصفين، وقد يكون أوصافها أكثر من ذلك أو أقل، والأصل البر؛ لأنه ثبت حكمه بنص النبي صلى الله عليه وسلم، والفرع الرمان، وهو المحكوم فيه، والحكم تحريم البيع متفاضلًا، والاستدلال يكون بوجوه كثيرة، منها أن يتبين فساد قول المخالفين،

فيستدل بذلك على صحة قوله، أو يكون مذهبه أشبه من مذهب خصمه من إلحاق العبد بالبهيمة في أحكام؛ لأنه بها أشبه. واستصحاب الحال [18 ب/ 1] يكون بأن الأصل بدله الذمة، ويكون باستصحاب حال الإجماع في قول بعض أصحابنا، مثل أن يحتج بأن المتيمم إذا رأى الماء في صلاته لم يخرج منها، ولا تبطل صلاته؛ لأن الإجماع حاصل قبل رؤية الماء أنها صحيحة، فمن ادعى بطلانها يحتاج إلى دليل ومنهم من أبى ذلك وقال: الإجماع قد زال برؤية الماء، فلا يستدل ببقاء حكمه.

كتاب الطهارة

كتاب الطهارة فإن قيل: لم بدأ بهذا الكتاب دون سائر الكتب؟ قلنا: هذا السؤال محال؛ لأنه ما من كتاب يبدأ به إلا ويتوجه عليه هذا السؤال. ثم أنه إنما بدأ به لأنه تأمل أحكام الشرع فوجدها قسمين، عبادات ومعاملات، فقدم العبادات لوجوبها على العباد من غيرها، ثم رتب العبادات على ما رتبها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما روى ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمس؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلًا". فكان أول الشرائع ذكرًا في هذا الخبر بعد ذكر الشهادتين هو الصلاة، غير أن الصلاة تفتقر إلى الطهارة لا تصح إلا بها، كما قال صلى الله عليه وسلم: "مفتاح الصلاة الطهور". فلهذا افتتح بها بالطهارة وعقبها بالصلاة وغيرها من العبادات كما في [19 أ/ 1] الخبر. فإن قيل: لم قال باب الطهارة ولم يأت فيه بأحكام الطهارة، وهي الوضوء والغسل؟ قيل: إنه بين فيه الماء الذي يتطهر به، والماء الذي لا يتطهر به وهو من حكم الطهارة أيضًا، أو نقول: مراده كتاب الطهارة أو أبوب الطهارة، ويجوز أن يعبر عن الكتاب بالباب، لأن الفقه كله كالكتاب الواحد، وكل نوع منه كتاب وباب منه، ولأن الشافعي ذكر في تصنيفه كتاب الطهارة ثم ذكر باب ما تجزئ به الطهارة، ثم افتتح بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية ثم قال: والغسل إنما يكون في العادة بالماء هو ما خلقه الله ثم ذكر قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، وهذا أحسن، ولكن قال المزني: اختصر على ما ذكر أخيرًا. فإن قيل: لم قال: قال الشافعي: قال الله تعالى والقولين لا يستدلان طريق صحبة التواتر والإجماع؟ قلنا: أراد أن الشافعي أحتج به، ولو لم يذكر الشافعي لظن أن المزني هو المحتج به. فإذا تقرر هذا، وذكر قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48] قوله عليه الصلاة والسلام في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميته" والأصل في طهارة الماء

وتطهيره هذه الآية. وقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11] وأراد بالسماء السحاب، وسمي سماء لسموه وارتفاعه. والطهور يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: الطاهر لقوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] [19 ب/ 1] يعني طاهرًا. والثاني: الطاهر في نفسه المطهر لغيره، فهو اسم متعدٍ، وهو المراد به هاهنا لقوله تعالى في آية أخرى: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} [الأنفال: 11]. والثالث: ماء يتطهر به كالفطور ما يفطر به، والسحور ما يتسحر به. وقال أبو حنيفة، والأصم، وأبو بكر بن أبي داود: المراد به الطاهر، وهو اسم لازم غير معتد، وفائدة الخلاف أنه لا يجوز التطهير بغير الماء لرفع الحدث ولرفع الخبث عندنا، وعند أبي حنيفة يجوز رفع الخبث بغير الماء، وهذا غلط؛ لأنه لم سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التوضأ بماء البحر، قال: "هو الطهور ماؤه" فنقلوا منه أنه يتطهر به لأنه طاهر، ولأن أهل اللغة يطلقون اسم الطهور على ما يوجد فيه التطهير، يقولون: ماء طهور، وتراب طهور، ولا يقولون خل طهور، ولا زيت طهور. فدل على ما قلناه. وقال مالك وأصحاب الظاهر: الطهور هو ما يتكرر منه الطهر، حتى لا يحكم لكما بالاستعمال، كما يقال: صبور شكور أي يتكرر منه الصبر والشكر. وأما الخبر الذي ذكره هو مختصر مما رواه الشافعي بإسناده عن أبي هريرة: أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن نركب أرماثًا لنا في البحر، ونحمل معنا القليل من الماء لشفاهنا، فإن توضأنا به عطشنا، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال النبي [20 أ/ 1] صلى الله عليه وسلم "هو الطهور ماؤه الحل مييته" والأرماث: هي خشب يضم بعضها إلى بعض ويركب عليها في البحر. وفي رواية: "إن العركي قال: يا رسول الله، إنا نركب" والعركي: هو الصياد. وقال الشافعي: "هذا الحديث هو نصف علم الطهارة". فإن قيل: لو قال نعم كفاه، فما الفائدة في تطويل الكلام؟ قيل: لأنهم سألوه عن حال الضرورة، فلو قال: نعم لم يستفيدوا من ذلك حكمه في حال الرفاهية، فأخبر أنه طهور بكل حالٍ. فإن قيل: وكيف أجاب عن الميتة ولم يسئل عنها؟ قيل: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ناصب الشرع، فله أن يبتدئ البيان من غير سؤال، غير أنه لما رآهم يجهلون أمر الماء مع الآية الظاهرة عرف أنهم ... بطهارة ميتة وحلها مع قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، أجهل، فأجاب عما سألوا، وعما عرف أنهم يجهلونه، وهذا كما روي أن أعرابيًا أساء الصلاة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "توضأ كما أمرك الله"؟ ثم علمه

الصلاة، لأنه لما رآه بجهل أمر الصلاة مع أنها تقام ظاهرة يرى بعضهم صلاة بعض، عرف أنه الوضوء مع أن الناس يفعلونه في بيوتهم وخلواتهم أجهل. مسألة: قال "فَكُلُّ ماءٍ مِنْ بَحْرٍ عَذْبٍ أّوْ مَالِحٍ". الفصل وهذا كما قال، نقل المزني ثلاثة أقسام من المياه: الأول: ما يجوز التطهر به من غير كراهية. والثاني: ما يكره التطهر به من حيث الطب، وهو ماء الشمس، والثالث: ما لا يجوز التطهر [20 ب/ 1] به وهو إذا خالطه ماء يغلبه، وبدأ في القسم الأول بماء البحر، فيجوز التوضأ به عند جمهور العلماء، وروي عن ابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أنهما منعا الوضوء به، وقالا: التيمم أحب إلينا منه. وروي أن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال لما سئل عنه: بحر ثم نار ثم بحر ثم نار، فذكر سبعة ماء بحر وسبعة أنوار. وقال سعيد بن المسيب: إن كان واجدًا لماء آخر لم يجز التوضأ به، وإن كان عادمًا جاز، وهذا غلط للآية التي ذكرناها. وماء البحر هو ما نزل من السماء أيام نوح صلى الله عليه وسلم، والخبر الذي ذكرناه. وروى أبو هريرة -رضي الله عنه -أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يطهره البحر فلا طهره الله". وروى: "من لم يطهره ماء البحر". وأما ما ذكره ابن عمر وعبد الله بن عمرو فلا معنى تحته، وقد قال القفال: أجمعت الأمة على جواز التوضأ. فتأويلي ما روي عنهما أن المسافر المحوجة إلى التيمم هي أحب إلينا من ركوب البحر، ولم يصح عنهما المنع من التوضأ به وقيل: إنهما قالا: يكره ذلك، وعندنا لا يكره ذلك. وأما اللفظ الآخر: أراد من ركب البحر أعان على نفسه، وأراد به بحور جهنم، وأن بحور الدنيا تصير يوم القيامة نيرانًا، كما قال تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] أي ستسجر وتجعل نيرانًا. فإذا تقرر هذا، قال: "عَذْبٍ أَوْ مَالِحٍ" وهذا صحيح يجوز التوضأ بهما لقوله تعالى: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} [فاطر: 12] [21 أ/ 1] وقال ابن عباس - رضي الله عنه - في تفسيره: هما بحران يتوضأ بأيهما شئت. يعني بالعذب أو المالح، ولأنهما صفتان خلقت الماء عليهما فلا يضر التطهر. فإن قيل: قوله: "مالح" خطأ؛ لأنه يقال: ماء مالح ولا يقال مالح إلا لما خرج الملح فيه، ولذلك لا يجوز التوضيء به، وقيل: قوله: "مالح" جائز في اللغة، قال عمر بن أبي ربيعة:

وَلَوْ تَفَلَتْ فِي الْبَحْرِ مَالحٌ ... لأَصْبَحَ مَاءُ الْبَحْرِ مِنْ رِيقَهَا عَذْبَا ثم قال: "أو بئر" وهذا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم "توضأ من بئر بضاعة"، ثم قال: "أو سماء" وأراد به ماء المطر، وسمي سماء لأنه يمطر من السماء وهو السحاب ثم قال: "أَوْ بَرَدٍ أَوْ ثَلْجٍ" قيل: فيه خلل؛ لأن الشافعي قال: "أَوْ ثَلْجِ أُذِيب"، ونقل المزني ذلك، وهذا لا يصح؛ لأن هذا معطوف على قوله: "فَكُلَّ مَاءٍ مِنْ بَرَدٍ أَوْ ثَلْجٍ". فإذا تقرر هذا، فلا شك في جواز التوضئ بالماء الذائب منها، لأنه ماء منعقد في الحقيقة، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: "اللهم اغسلني بالثلج والبرد". فرع لو أخذ الثلج أو البرد وأمره على وجهه على هيئته، فإن كان الهواء حرًا يذوب ويسيل عليه جاز، وأن لا يجري عليه لا يجوز. وقال الأوزاعي: يجوز، وهذا غلط؛ لأنه مأمور بالغسل وهذا ليس بغسل، ولو مسح به رأسه جاز لأنه يذوب منه شيء بحرارة الرأس وإن قل، يكفي ذلك. فرع آخر لو كان الثلج في إمراره على الأعضاء يذوب [21 ب/ 1] عليها، ثم يجري ماؤه عليها، ففيه وجهان: أحدها: يجوز والثاني: لا يجوز؛ لأنه بعد ملاقاة الأعضاء يصير جاريًا، والأول أظهر عندي. فرع آخر الماء الذي ينعقد منه الملح لجوهر في الماء دون التربة، كأعين الملح الذي ينبع ماء مائعًا ويصير لجوهره ملحًا جامدًا. قال جمهور أصحابنا، وهو المذهب: يجوز التوضئ به؛ لأنه ماء حقيقة، ولا يضر جموده كما يقول في الجليد والبرد. وقال بعض أصحابنا، وهو اختيار الإمام أبي سهل الصعلوكي: لا يجوز التوضأ به؛ لأنه جنس آخر غير الماء كالنفط والقير، ولأنه يخالف طبعه طبع الماء، فإن الماء يتجمد في الشتاء ويذوب في الصيف، وهذا الماء يتجمد في الصيف. ثم قال: "مُسَخَّنٍ وَغَيْرِ مُسَخَّنٍ فَسَوَاءٌ". وهذا صحيح عندنا لا يكره التوضئ بالماء المسخن. وحكي عن مجاهد أنه قال: يكره ذلك، وهذا غلط؛ لما روى ابن عباس- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حمامًا بالجحفة وهو محرم. وروي عن شريك بن عبد الله أنه قال: أجنبت وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فجمعت حجارة وسخنت ماء وتغسلت، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فلم ينكر علَّي.

وقال أنس رضي الله عنه: كان يسخن لرسول الله صلى الله عليه وسلم الماء في القمقم ثم يتوضأ به للصلاة. وروي عن عمر- رضي الله عنه- أنه كان يغتسل بالماء الحميم. وروي عن زيد بن أسلم، أنه قال: كنا نسخن لعمر بن الخطاب [22 أ/ 1]- رضي الله عنه - الماء في قمقم، وكان يغتسل منه ويتوضأ. وحكي عن أحمد أنه كان يكره الماء المسخن بالنجاسة؛ لأنه لا يؤمن حصول نجاسة فيه، وهذا غلط؛ لأن وجود النجاسة لا يوجب الكراهة كالماء في الصلاة. مسألة: قال: "وَلَا أَكْرَهُ المَاَء المُشَمَّسَ إِلَّا مِنْ جِهَةِ الطّبّ". الفصل وهذا كما قال ما أخذ المزني بالنقل، لأن لفظ الشافعي: "وَلَا أَكْرَهُ المَاَء المُشَمَّس" وقد كرهه كاره من جهة الطب، فميز بين الفقه والطب، ولفظ المزني: "إِلَّا مِنْ جِهَةِ الطّبّ" يخلط أحدهما بالآخر، فإذا تقرر هذا قال أصحابنا: الماء المشمس هو على ضربين: أحدها: ما قصد بالشمس، فإن لم يقصد كماء المصانع والغدران والأنهار والبحور لا يكدره التوضئ به، لأنه لا يمكن الإحتراز منه، ولا يؤثر فيه الشمس أيضًا لكثرته، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة توضئوا من ماء الحياض بين مكة والمدينة وكان ماؤها مشمسًا وإن قصد بتشميسه في إناء أو نحوه فإنه يكره التوضئ به شرعًا خلافًا لأبي حنيفة وأحمد، فإنهما قالا: لا يكره ذلك، وهذا غلط؛ لما روى مالك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: دخل علَّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سخنت له ماءًا في الشمس فقال: "لا تفعلي هذا يا حميراء فإنه يورث البرص". وروى الضحاك عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اغتسل بماء مشمس فأصابه [22 ب/ 1] وضح فلا يلومن إلا نفسه". وروى جابر أن عمر بن الخطاب كره ذلك، وقال: إنه يورث البرص. ومن أصحابنا من قال: لا يكره كما قال أبو حنيفة؛ لأن الشافعي قال: "لَا أَكْرَهُ" ثم

ذكر الطب على وجه الحكاية، والطب المذكور فيه غير صحيح، ومدار الخبر على وهب القرشي وهو ضعيف، وهذا الوجه ضعيف عند أصحابنا. فإن قيل: كيف يصح هذا الخبر، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى"؟ قلنا: أراد العدوى من إنسان إلى إنسان، بأن يجالسه أو يخالطه، فأما الضرر المتولد من مأكول أو مشروب، أو استعمال شيء في يده، فليس هو من العدوى. فرع تأثير الشمس في مياه الأواني تارة يكون بالحر وتارة بزوال برده، والكراهة في الحالين سواء، وإن لم تؤثر الشمس فيه فإنه لا يكره. فرع آخر لا فرق في الآنيتين أن يقصد بشمسيه أولًا. قال بعض أصحابنا: المكروه هو ما قصد بشمسيه، وهذا غلط؛ لأنه معنى النهي وهو أنه يورث البرص لا يختص بالقصد وعدمه. فرع آخر لا فرق فيه بين بلاد تهامة والحجاز وبين سائر البلاد. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا في البلاد الحارة إذا شمس في آنية الصفر فيعلوه شيء مثل الهب فذاك يضر، وفي غيره لا يكره، وهذا غلط لعموم الخبر. فرع آخر لو حمي بالشمس ثم برد ففيه وجهان: أحدها: أنه يكره لثبوت الحكم فيه قبل البرد [23 أ/ 1]. والثاني: لا يكره؛ لأن معنى الكراهة هو الإبل الحما وقد زال. وفيه وجه ثالث أنه يدفع فيه إلى عدول الأطباء، فإن قالوا بعد برده أنه يورث البرص يكره كره، وإلا فلا يكره، وهذا لا وجه له؛ لأن الأحكام الشرعية لا تثبت بغير أهل الاجتهاد في الشرعية، ولأن من الأطباء من ينكر أنه يورث البرص، فلا يرجع إلى قولهم فيه. فرع آخر استعمال الماء المشمس فيما لا يلاقى الجسد من غسل ثوب أو إزالة نجاسة عن أرض لا يكره، ولو استعمله في طعام فإن كان يبقى مائعًا فيه كالمرق يكره، وإن كان لا يبقى مائعًا فيه كالدقيق المعجون به أو الأرز المطبوخ فيه لم يكره. فرع آخر لو توضأ به جاز مع الكراهة؛ لأن المنع ليس لمعنى في الماء، فهو كما لو توضأ من ماء في إناء ذهب يجوز. فرع آخر لا يكره الوضوء والغسل بماء زمزم، وقال أحمد في رواية: إنه يكره، واحتج بما روي ... قال: سمعت العباس بن عبد المطلب- رضي الله عنه- قائمًا عند زمزم يقول:

لا أحله لمغتسل ولكنه لشارب حل وبل. وهذا غلط لظاهر الآية، ولأن الناس كلهم يتوضؤون به في الأعصار، ولكونه نابعًا من عين شريفة لا يمنع الوضوء به كعين سُلْوَان. وأما قول العباس: يحتمل أنه قال لضيق الماء في وقته لعينه وكثرة الشاربين. فرع آخر قال بعض أصحابنا: يكره التوضؤ بالماء الحار الشديد والبارد المفرد؛ لأنه لا يمكنه إسباغ الوضوء به. مسألة: قال: "وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ مَاِء وَرْدٍ أَوْ شَجَرٍ". الفصل [23 ب/ 1] وهذا كما قال: هذا هو القسم الثالث من مسائل الباب وقوله: "وَمَا عَدَا ذَلِكَ" أي وما جاوز ما ذكرنا من القسمين، ثم فسره بقوله: "مِنْ مَاِء وَرْدٍ" يريد به الماء المعتصر من الورد. وقوله: "أَوْ شَجَرٍ" أراد المعتصر من الشجر، أو ما ينزل عنها إذا قطعت رطبة. وقوله: "أَوْ عَرَقٍ" قرئ بثلاث قراءات، بفتح العين والراء وبكسر العين وتسكين الراء، وبفتح العين وتسكين الراء. فأما الأولى: فهو الرشح من الآدمي وغيره من الحيوانات لا يجوز التوضئ به، وقد يحصل من العرق ما يمكن التوضئ به بمكة في البيت الحرام عند اجتماع الناس في الموسم، بحيث لو كان هناك ميزاب يسيل منه، وهذا بعيد عندي. وأما القراءة الثانية: فهو الماء الذي يسيل من أصل الشجر إذا قطع، وهو في شجر الكرم والجوز، والخلاف في وقت الربيع. وقيل: هو عرق يكون على جنب البعير، وذلك أن العرب يعطشون البعير ثم يرونه بالماء عند الأسفار الشاسعة التي يخشى فيها إعواز الماء، فإذا ألحقهم العطش يقطعون ذلك العرق فيسيل منه الماء. وقال بعض أصحابنا: هذا لا يصح؛ لأن الشافعي لم يتعرض للماء النجس في هذا الباب وهذا ماء نجس. وأما القراءة الثالثة: فهو ماء الكروش، وذلك أن العرب كانت إذا أرادت قطع المفاوز عطشوا الإبل ثم أوردوها الماء، فتحمل الماء في كروشها فإذا عدموا الماء نحروها واعتصروا كروشها وشربوا وهذا أظهر، لأنها [24 أ/ 1] الشجر تقدم ذكره. والشافعي قال في "الأم": "ولو اكتظ كرشًا فعصره لم يجز التوضئ به". والاقتظاظ: هو مشتق من غلظ الماء؛ لأن ماء الكرش يكون غليظًا، وذكر المحاملي- رحمه الله- في تصنيفه: أنه لا يجوز التوضئ به وإن كان طاهرًا، وهذا سهو منه؛ لأنه لا شك في نجاسته.

فرع قال بعض أصحابنا بخراسان: كل رشح الحيوان مثل الماء أو غيره من المائعات إذا أغليت فارتفع من غليانها بخارًا وتولد منها رشح، فظاهر لفظ الشافعي يقتضي أنه لا يجوز التطهر به، لأنه يسمى عرقًا، وهذا غير صحيح عندي في الماء؛ لأن الماء إذا غلى فرشحه يكون ماء حقيقة، وينقص منه بقدره، فهو ماء مطلق يجوز التطهر به. مسألة: قال: "أَوْ مَاِء زَعْفَرَاٍن، أَوْ عُصْفُرٍ، أَوْ نَبِيٍذ، أَوْ مَاِء بُلَّ فِيِه خُبْزٌ". الفصل إلى آخره، وهذا كما قال، قد تقدم الكلام في النبيذ، والمراد به الماء الذي ينبذ فيه التمر أو الزبيب حتى يتحرى فيه، فإن كان حلوًا غير مسكر فهو طاهر لا يجوز التطهر به. وقيل: إن تحرى فيه يجوز التطهر به، وإن كان مسكرًا فهو نجس لا يجوز شربه ولا التطهر به أصلًا، ويجب الحد بشربه وبه قال مالك، وأحمد، وأبو يوسف، وهو رواية عن أبي حنيفة إلا في النجاسة والحد وروي عن أبي حنيفة رواية أخرى أنه يتوضأ به ويتيمم معه، وبه قال محمد. وروي عنه رواية ثالثة وهي الأشهر، أنه [24 ب/ 1] يجوز التوضأ به إذا طبخ واشتد عند عدم الماء في السفر، واحتج بخبر عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أنه قال: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، فقال له: يا عبد الله أمعك ماء؟ فقلت: لا، ولكن معي إداوة فيها نبيذ التمر، فأخذه وتوضأ به، وقال: "تمرة طيبة وماء طهور". قلنا: رواية مظعون، فإن صح نحمله على الماء الذي نبذ فيه التميرات لسلب ملوحة الماء على عادة العرب، ولم يتغير بعد بدليل أنه قال: "شجرة طيبة وماء طهور". فأفردهما بالذكر. فأما الماء الذي بل فيه خبز فإنه أراد به إذا تفتت فيه وتهرى. فإن قيل: ذلك لا بأس به وإن تغير به أدنى شيء. وقوله: "حَتَّى يُضَاَف إلى مَا خَالَطَهُ وَخَرَجَ مِنْهُ فَلَا يَجُوُز التَّطَهُّرُ بِهِ" وعلى هذا عامة النسخ. وفي بعضها: "أَوْ خَرَجَ مِنْهُ" بالألف، ومقتضى الكلام عند حذف الألف أن ماء الورد يجوز الوضوء به ما لم يخالطه زعفران أو غيره، وهذا من مواضع الإشكال، فمعناه حتى يضاف إلى ما خالطه إن كانت الإضافة إلى المخالطة، وحتى يضاف إلى ما خرج منه إن كان الإضافة إلى الأصل الذي يعتصر الماء منه، فتقدير الكلام إثبات الألف وإن لم تكن في عامة النسخ. فإذا تقرر هذا قال أصحابنا: الماء ضربان؛ مطلق ومضاف. فالمطلق هو ما استجمع أوصافه الثلاثة اللون، والطعم، والرائحة، يجوز التطهر به.

والمضاف على سبعة أضرب [25 أ/ 1]: مضاف إلى صفة تزايله كالماء السخن ونحوه وقد ذكرناه. ومضاف إلى صفة لا تزايله كالماء المستعمل فهو طاهر غير طهور. ومضاف إلى وعائه كالكوز والجرة. ومضاف إلى قراره كماء البئر والنهر يجوز التطهر به. ومضاف إلى ما خرج منه كماء الورد لا يجوز التطهر به. ومضاف إلى ما جاوره من غير مخالطة كماء العود اليابس والعنبر، نص في "الأم" على جواز التوضئ به. وروى البويطي: وإن ظهرت رائحته، لأنه تغير مجاورة لا مخالطة، فصار كما لو تروح الماء بجيفة على شط نهر فإنه يجوز التوضئ به. وروى البويطي في مختصره: أنه لا يجوز التوضئ به، فقال: وإذا وقع في الماء الطاهر زعفران ومسك أو عنبر، أو عصفر، أو دهن فغلب لونها أو طعمها أو ريحها لا يتوضأ به. فقيل: في المسألة قولان، وقيل: المسألة على قول واحد. وتأويل ما ذكره البويطي إذا اختلط به ومضاف إلى ما خالطه، مثل الزعفران والعصفر والدقيق، فينظر فإن لم يغير له وصفًا فالتطهر به جائز، وإن غير له وصفًا من لون أو طعم أو ريح لا يجوز التطهر به كما في تغير النجاسة، وهو اختيار ابن سريج، وبه قال مالك وأحمد، وإسحاق. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إنما لا يجوز التوضئ به لو أصاب الماء بحال تضاف إليه، فإن تهرى فيه وامتزج، فأما إذا ظهر لونه أو طعمه أو ريحه، ولا يضاف إليه الماء، فإنه يجوز التوضئ [25 ب/ 1] به في المذهب المشهور، وهذا أصح. وحكي عن الشافعي أنه قال: "يعتبر ذهاب الأوصاف الثلاثة جميعًا، لأن القليل من ماء الورد يغير الرائحة، والقليل من الخل يغير طعم ولا يزيل إطلاق الاسم. وقيل: أصل المسألة أن الثوب إذا غسل من الخمر فبقي رائحتها هل يبقى حكم؟ قولان. وقال أبو حنيفة: يجوز التوضئ به بكل حال ما لم يسلب وقته، ووافقنا في ماء الباقلا المغلي أنه لا يجوز التوضئ به فيقيس عليه وحكي عن الزهري أنه قال: الماء الذي بل فيه خبز يجوز التوضئ به سواء غيره أم لم يغيره. وكان أبو بكر الرازي يقول: إذا وقع فيه زعفران أو عصفر وصار بحيث يصنع به الثوب لا يجوز التوضأ به. فرع لو طبخ الأرز أو الحمص بالماء، فإن انخَّل في الماء لا يجوز التطهر به، وإن لم ينحل ولا تغير به بالماء، فإنه يجوز التطهر به. وإن تغير به الماء من غير انحلال أجزائه فيه وجهان: أحدهما: يجوز التطهر به كما لو تغير بلا انحلال من غير طبخ. والثاني: لا يجوز؛ لأنه بالطبخ صار مرقًا ذكره في "الحاوي".

فرع لو تغير الماء بالشمع يجوز استعماله كما لو تغير بدهن، ولو تغير بشحم أذيب فيه بالنار، فيه وجهان: أحدها: يجوز استعماله، لأن الشحم دهن. والثاني: لا يجوز؛ لأن مخالطة الشحم للماء يحوله مرقًا. قال في "الحاوي": وعلى هذا المني إذا وقع في الماء كان طاهرًا، فلو غير الماء فيه وجهان: أحدها: لا يجوز استعماله [26 أ/ 1] كما لو تغير بمائع غير المني. والثاني: يجوز استعماله لأنه لا يكاد ينماع في الماء كالدهن، وهذا تفريع بعيد. فرع آخر إذا وقع الكافور في الماء فتغير به، وهذا لأن الكثير يخالط الماء والقليل لا يخالط بالرائحة رائحة مجاورة. وقال أبو حامد: هذا لا يصح، والمذهب أنه لا يجوز التطهر به لأن الشافعي قال في "الأم": "ولو صب فيه مسكًا أو ذريرة أو شيئًا ينماع فيه فظهر فيه ريحه لا يتوضأ به" والكافور ينماع فيه، وهو في معنى المسك. وقيل: الكافور نوعان: نوع فيه دسومة فيتفتت فيه ولا ينماع ويرسب فتاته في الماء، فهذا لا يضر، ونوع ينماع فيه فإن كثر بحيث لو كان له نوع نظم عليه حتى يضاف إليه الماء لا يجوز التوضأ به. وهو اختيار القفال، والصحيح عندي الأول؛ لأن له رائحة زكية فالقليل تغير الماء الكثير مجاورة، ولهذا قال الشافعي في غسل الميت: "ويجعل في كل ماء قراح كافورًا" فدل أنه لا يضره. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان بناء على ما لو بقي رائحة الخمر في الأرض بعد غسلها، هل تطهر؟ قولان فإن قلنا: لا حكم للرائحة هناك فلا يضر هنا. فرع آخر إذا وقع في الماء قطرات أو بان، فتغيرت رائحته، قال في "الأم": "لا يمنع التوضأ به" وقال بعده بقليل: "لا يجوز التوضأ به، لأن يخالطه". قال أصحابنا: ليست المسألة على قولين، وإنما هي على اختلاف حالين، والقطران على ضربين؛ ضرب لا يختلط [26 ب/ 1] بالماء ويقف عليه، وهو نوع منه كالدهن يعلو الماء فلا يمنع التوضأ به؛ لأن به تغير المجاورة. وضرب يختلط بالماء فيمنع التوضأ به إذا غلبه. وقال القاضي الطبري: ننحى فيه قول البويطي فيكون فيه قولان. فرع آخر إذا وقع فيه أوراق الشجر فتغير بها قال الشافعي: "يجوز استعمال به" قال أبو إسحاق: لأنه

تغير بالمجاورة فلا يضره. وقال غيره: لا، لأنه يمكن حفظ الماء منها. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: لا يضر الماء وهو الأصح. والثاني: يضره. والثالث: إن كان خريفيًا لا يضره، وإن كان ربيعيًا فإنه يزيل طهوريته. والفرق من وجهين: أحدهما: أنه يخرج من الربيعي رطوبة تختلط بالماء بخلاف الخريفي، فإنها يابسة كالخشب. والثاني: أن الربيعي قلما يتأثر من الشجر فيمكن صون الماء عنه بخلاف الخريفي، ولو تغير بالثمار فإنه يزيلها لطهورته بلا خلاف. فرع آخر لو كان ورق الشجر مرقوقًا ناعمًا بغير الماء لم يجز استعماله؛ لأنه تغير مخالطة، وقال أبو حامد: يجوز استعماله كما لو كان صحيحًا، وهذا غلط؛ لأن تغيره مجاورة بخلاف هذا. ذكره صاحب "الحاوي". فرع آخر إذا تغير الماء بالملح وغلب عليه، لا يجوز التوضأ به؛ لأنه معدن وهذا هو المذهب، وقال بعض أصحابنا: فيه ثلاثة أوجه: أحدها: هذا. والثاني: لا يزيل الطهورية بحاٍل، وهو اختيار القفال؛ لأن الملح هو [27 أ/ 1] ما في الأصل. والثالث: وهو اختيار أبي حامد: إن كان ملح حجر يزيل الطهورية، وإن كان ملح جمد مثل أن يرسل الماء في أرض محالة فتصير ملحًا لا يزيل الطهورية، لأن به ماء يتغير بمجاورة الأرض. فرع آخر لو قال: وقع في الماء ما لا يغيره كماء الورد المنقطع الرائحة، وماء الشجر، وعرق الآدمين، وهذا يبعد لأنه لابد من أن يتفرد عنه بطعم، فإن اتفق ذلك فمن أصحابنا من قال: يعتبر الغالب منها بالكثرة كما في الماء المستعمل، فإن كان الغالب الماء فإنه يجوز التطهر به، وإن كان الماء مغلوبًا فلا يجوز التطهر به. ومن أصحابنا من قال- وهو اختيار القفال- لا يراعى هذا، بل ينظر فإن خالطه قذر لو كان له رائحة أو لون غلب عليه وصيره مثل نفسه، فإنه يزيل طهوريته وإلا فلا يزيل، وهذا حسن. فإن قيل: الأشياء تختلف في ذلك فبأيها تعتبر؟ قيل: يعتبر بما هو للأشبه. فرع آخر لو خالطه التراب أو غيره، فإن صار نجسًا بطبعه فلا يجوز التطهر به وإن كان جاريًا بطبعه ولكن تغير طعمه ولونه يجوز التطهر به؛ لأنه قرار الماء والماء لا ينفك عنه غالبًا. وقيل: لأنه طهور في نفسه فلا يزيل الطهور به. والعلة الأولى هي أصح؛ لأنه

لو تغير بالأوراق والطحلب فإنه يجوز التطهر به. وإن لم يتغير فطهور. وقال في الحاوي. فيه قولان: أحدها: لا يجوز، لأنه [27 ب/ 1] مذرور. وهذا بعيد عندي. وقال في حرملة: لو كان الماء يجري على حجر الكحل والنورة فتغير صفته منه يجوز التوضئ به؛ لأنه قراره. ولو أخذ حجر النورة فسحقه وطرحه فيه لا يجوز التوضئ به؛ لأن تغيره بصنعة آدم ويمكن الاحتراز منه وعلى قياس هذا لو جفف أوراق الشجر وسحقه وطرحه في الماء فغيره لا يجوز التوضئ به وقال: لو أخذ ترابًا فطرحه في الماء فكوره لا يمنع التوضئ به؛ لأن هذا لم يغير عن أصل خلقته، وهو يوافق الماء في الطهورية حتى لو غيره عن أصل خلقته. فإن طبخ الطين ودقه فطرحه في الماء لا يجوز التوضئ به. وقال شيخنا الإمام ناصر- رحمه الله-: فيه وجهان؛ المنصوص ما ذكرنا، والوجهان غلط، ولو تغير الماء بطول المكث في المكان أو تغير لحيائه يجوز التوطئ به، نص عليه في البويطي و"الأم". فرع آخر لو كان معه من الماء ما لا يكفيه لطهارته، فكمله بمائع استهلك فيه كماء الورد والعرق، قال صاحب "الإفصاح": لا يجوز التوضئ به؛ لأنه يقطع أنه غسل بعض الأعضاء بغير ماء، وقال الشيخ أبو حامد: غلط فيه؛ لأنه استهلك فيه فسقط حكمه، إلا أنه لو كان معه من الماء وفق الكفاية مرة مرة فصب عليه رطلًا من ماء ورد فاستهلك فيه، فإنه يجوز التوضئ بكله، وإن كنا نقطع بأنه غسل بعض أعضاء الطهارة بغير الماء، ولأن صاحب "الإفصاح" قال: لو خالطه ولم [28 أ/ 1] يغيره فتوضأ به ونفي منه بقدر المائع جاز؛ لأنه لم يتوضأ بغير الماء، وهذا لا يصح؛ لأن الذي استعمله بعضه ماء وبعضه مائع، والذي نفي كذلك. ولا يجوز أن يكون الذي نفي هو المائع خاصة. فرع آخر إذا أصاب أسفل الخف نجاسة فدلكه بالأرض، قال في "القديم" إذا لم يبق إلا الأثر الذي لا يخرجه إلا الماء صار معفوًا عنه، ويجوز له أن يصلي معه. وقال في "الجديد": لا يجزيه إلا أن يغسله، ولا شك أنه لا يطهر بذلك. وجه الأول وهو قول أبي حنيفة قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أصاب خف أحدكم أذى فليدلكه بالأرض" وروى أبو هريرة- رضي الله عنه- أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "إذا وطئ الرجل بخفه أو نعله نجاسة يطهره بالتراب". وجه القول الثاني: وهو الصحيح أنه لباس

باب الآنية

نجس فلا يزول حكم نجاسته بالدلك كالثوب. فرع آخر لو أكلت الهرة فارة ثم ولغت في الماء القليل تنجس الماء؛ لأّنا تحققنا نجاسة فمها. ومن أصحابنا من قال: لا ينجس؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "إنها من الطوافين عليكم والطوافات". ولأن الاحتراز منه لا يمكن، وهذا خلاف النص، وإن غابت ثم عادت فشربت؟ فيه وجهان: أحدها: ينجس؛ لأن الأصل نجاسة فمها. والثاني: لا ينجس؛ لجواز أنها وافت في ماء كثبر، فطهر فمها، والأصل طهارة الماء، وهذا إن احتمل ذلك، وقد قال في مختصر البويطي: [28 ب/ 1] لا بأس بفضل الهرة والسباع والدجاج والطيور، إلا أن يكون في مناقير الطيور وأفواه السباع نجاسة، ويكون الماء أقل من خمس قرب فلا يجوز الوضوء به، وهذا يدل على أن سؤرها لا يكره، وعند أبي حنيفة يكره سؤر الهرة وإن لم ينجس، وهذا غلط؛ لما روى داود بن صالح التمار عن أمه، قالت: أرسلتني مولاتي بهريسة إلى عائشة -رضي الله عنها - فوجدتها تصلي، فأشارت إليَّ أن ضيعها، وعندها نسوة، فجاءت هرة فأكلت منها، فلما انصرفت عائشة قالت النساء: كلن وابقين موضع فم الهرة، ثم أكلت عائشة من حيث أكلت الهرة، ثم قالت: إن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "إنها ليست بنجسة، إنها من الطوافين عليكم". وقد رأيت رسول الله صلي الله عليه وسلم يتوضأ بفضل الهرة. فرع آخر كل ما يدفع الحدث لا يجوز إزالة النجاسة به على ما ذكرنا خلافاً لأبي حنيفة. وبقولنا قال محمد، وأحمد، وإسحاق، ومحمد بن الحسن وروي عن أبي يوسف أنه قال: إن كانت النجاسة على البدن لا تجوز إلا بالماء، وإن كانت على غيره فإنها تجوز بغير الماء، وهذا غلط، لأنه لا فرق في القياس بينهما. واعلم أن الشافعي عبر في هذا الباب بعبارة التطهر به حولها، ومنعا لأنها عبادة جامعة للوضوء وإزالة النجاسة عن البدن والثوب وغيرهما. باب الآنية [29 أ/ 1] مسألة: قال: (ويتوضأ في جلود الميتة إذ دبغت). وهذا كما قال: وروى في ترجمة هذا الباب: باب في الآنية، وروى باب الآنية وهو الأشهر. والقصد من هذا الباب بعد ذكر المياه التي يجوز التطهر بها والتي لا يجوز، ذكر الأواني الطاهرة التي يجوز منها التطهر، والتي لا يجوز؛ لأن الغالب من

المياه التي يتطهر بها أنها تكون في الأواني. وجملته: أن الأواني الطاهرة يجوز التطهر من الماء الذي فيها، ولا يجوز التطهر من الماء الذي في الأواني النجسة، ومن الأواني الطاهرة ما ينهى عن استعمالها مع جواز التطهر من مائها. فإذا تقرر هذا، فقوله: "ويتوضأ في جلود الميتة إذ دبغت" أراد به ميتة كانت طاهرة في حال الحياة، فنجست بالموت؛ لأن الحوت لا ينجس بالموت ولا يحتاج في جلده إلى الدباغ، والكلب نجس في حال الحياة فلا يؤثر في تطهير جلده الدباغ. وفيما نقله المزني خلل؛ لأن هذا لفظ عام وعطف عليه الخبر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "أيما إهاب دبغ فقد طهر". وهو عام، يدخل تحته السباع وغيرها. ثم عطف عليه فقال: " وَكَذَلِكَ جُلُودُ مَا لاَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ السَّبَاعِ". وهذا لا يحسن، ألا ترى أنه لو قال قائل: جميع الجلود تطهر بالدباغ، وكذلك جلود السباع كان لغوأً، وإنما ذكر الشافعي في أول الباب خبر شاة ميمونة وهو أنه صلي الله عليه وسلم [29 ب/ 1] مر بشاة ميتة لميمونة، وروي لمولاة ميمونة، فقال: "هلا انتفعتم يإهابها؟ " فقيل: إنها ميتة، فقال: "أيما إهاب دبغ فقد طهر". وروي أنه قال: "أليس في الشب والقرظ ما يطهره". وروي أنه قال: "إنما حرم عن الميتة أكلها". ثم عطف عليه، فقال: " وَكَذَلِكَ جُلُودُ مَا لاَ يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنَ السَّبَاعِ " ويحسن عطف العام على الخاص كما فعل الشافعي ولا يحسن عطف الخاص على العام كما فعل المزني. وقوله: "ويتوضأ في جلود الميتة" ومعناه بالماء الذي في جلود الميتة. واعلم أن الميتات كلها نجسة إلا خمسة؛ الحوت، والجراد، والصيد إذا مات في يد المعلم من غير عقر في قول، والآدمي في قول، والجنين إذا خرج ميتاً بعد ذكاة أمه. واختلف الناس في جلود الميتات على سبعة مذاهب: فذهب الشافعي إلى أن جلود الميتات تنجس بالموت كما ينجس لحمها، إلا أنه يطهر بالدباغ جلد كل حيوان كان طاهراً في حياته ظاهراً وباطناً، ويجوز الصلاة معه وعليه، ويجوز استعماله في الأشياء الرطبة واليابسة، وكل حيوان نجس في حال حياته كالكلب والخنزير وما توالد منهما،

أو من أحدهما لا يطهر جلده بالدباغ أصلاً وبه قال علي، وابن مسعود - رضي الله عنهما - وذكر ابن القطان وجهان، الجلد لا ينجس بالموت، وإنما الزهومة فيه تصير نجسة فيؤمر بالدباغ لزوالها كما يغسل من النجاسة، وهذا [30 أ/ 1] ليس بشيء؛ لأن كل جزء تحله الحياة تنجس بالموت. وأما جلد الآدمي هل ليطهر بالدباغ؟ فيه وجهان. إذا قلنا إنه ينجس بالموت في أضعف القولين، وقيل: إنه لا يتأتى فيه الدباغ، وقال أبو حنيفة: يظهر جلد الكل بالدباغ إلا جلد الخنزير والإنسان. ثم منهم من قال: عين الخنزير نجس في حال الحياة كمذهبنا. ومنهم من قال: عينيه طاهرة كعين الكلب، إلا أن جلده لا يقبل الدباغ؛ لأنه نبت الشعر في جلده من لحمه. وقال أبو يوسف: يطهر جلد الخنزير أيضاً، وبه قال داود. وروى هذا عن أبى حنيفة. وقال مالك: يطهر ظاهر الجلد دون باطنه فيجوز الصلاة عليه ولا يجوز الصلاة فيه، ويجوز استعماله في الأشياء اليابسة دون الرطبة، إلا الماء فإنه عنده لا ينجس الماء إلا بالتغير. وقال الأوزاعي، وأبو ثور، وإسحاق: يطهر جلد ما يؤكل لحمه بالدباغ دون ما لا يؤكل. وقال أحمد: لا يطهر جلد الميتة بحالٍ في رواية، وبه قال عمر وابن عمر، وعائشة - رضي الله عنهم-، وروى هذا عن مالك أيضاً. وقال ابن المنذر: كان الزهري ينكر الدباغ، وقال: ينتفع بجلود الميتة على كل حال ما وسع الناس فيه قولا الزهري، ثم داود، ثم أبو حنيفة، ثم مالك، ثم الأوزاعي، ثم أحمد، والدليل على بطلان قول أبي حنيفة أن الكلب حيوان نجس العين فلا يطهر جلده بالدباغ كالخنزير. وقول الشافعي [30 ب/ 1]: لأنهما نجسان وهما حيان إشارة إلى الدليل. وهو أن الدباغ معالجة فتزيل النجاسة العارضة دون الأصلية، ونجاسة الكلب هي أصلية فلا ترتفع بالدباغ كما لا ترتفع بالحياة. والدليل على بطلان قول أبي يوسف أن الحياة هي أقوى من الدباغ، والحياة لا تطهر جلد الخنزير فالدباغ أولى أن لا يطهره. والدليل على بطلان قول مالك ظاهر ما ذكرنا من الخبر. وروى عن سودة بنت زمعة - رضي الله عنها - أنها قالت: ماتت شاة لنا، فأخذنا إهابها ودبغنا. وجعلنا منه قربة ننبذ فيها إلى أن صارت شناً. ومعنى ننبذ فيها: أي نطرح التميرات في الماء الذي فيها حتى نسكب ملوحته وتصير حلوى. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: توضأ رسول الله صلي الله عليه وسلم من قربة قيل له: إنها ميتة، فقال: "إن دباغها

يذهب رجسها أو نجسها وخبثها". ولأنه جلد يجوز الصلاة على قلبه ووجهيه، فيجوز الصلاة معه أصله جلد المزكي المأكول واحتج مالك أنه جامد نجس فلا ينقلب طاهراً. قلنا: يبطل بظاهر، ثم تأثير الدباغ في باطنه كهو في ظاهر فيستوي حكمها. والدليل على بطلان قول الأوزاعي عموم الخبر، والاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، ولأنه حيوان طاهر العين فأشبه المأكول، واحتج بان الزكاة أقوى من الدباغ ولا تؤثر الزكاة إلا فيما يؤكل بالدباغ أولى، ولأنه حيوان لا يطهر [31 أ/ 1] جلده بالزكاة فلا يطهر بالدباغ كالكلب. قلنا: الدباغ أقوى؛ لأنه يرفع النجاسة المحققة والزكاة ترفع النجاسة، وإنما افترقا لأنه يقصد بالزكاة اللحم، فإذا لم ينج اللحم لا يطهر الجلد بالدباغ، يقصد الجلد لا غير فيرده إلى حالة الحياة من الطهارة. والدليل على بطلان قول أحمد الخبر الذي ذكرناه، واحتج بما روي عن عبد الله بن عكيم أنه قال: كتب إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل موته بشهران: "لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب". وروي: "لا تنتفعوا من الميتة بشيء". ولأنه جزء من الميتة فلا يظهر بالدباغ كاللحم، لأنه تنجس بالموت فلا يطهر بالدباغ كجلد الكلب. قلنا: أما الخبر فمضطرب مرسل، وخبرنا مسند أخرجه مسلم في الصحيح، ثم أراد به قبل الدباغ؛ لأنه يسمى إهاباً قبل الدباغ وبعده يسمى أديماً أو صوفاً. فإن قيل: خبرنا ورد قبل موته بشهر فهو متأخر؟ وأما اللحم فلا يؤثر فيه الدباغ ولا يغيره عن حالته، بل يفسده بخلاف الجلد. وأما الكلب فجلده لمنجس بالموت. بل كان نجساً قبله بخلاف هذا. والدليل على بطلان قول الزهري الخبر الذي ذكرنا؛ لأنه جعل الدباغ شرح في طهارة الجلد. وروت عائشة - رضي الله عنها "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يستمتع [31 ب/ 1] بجلود الميتة إذا دبغت". واحتج بخبر شاه ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر فيه الدباغ، وقال: "إنما حرم من الميتة أكلها". قيل: روينا لفظ الدباغ، وروي: "فدبغوه وانتفعوا به"والناس أولى، وقوله: "إنما

حرم أكلها": تحريماً لا يرتفع وتحريم الجلد يرتفع. قالوا: لو كان نجساً لم يطهر بالدباغ؟ قيل: يجوز أن يكون الشيء نجس العين وينقلب طاهراً كالخمر يصير خلاً. فإذا تقرر هذا فالكلام الآن في ثلاثة فصول: أحدها: فيما يدبغ به الجلد. والثاني: في جواز بيعه. والثالث: في جواز أكله. فأما ما يدبغ به الجلد: فيجوز أن يدبغ بما كانت العرب يدبغون به من القرظ والشب هكذا في الخبر. قال أصحابنا: والشب أفصح، وروي ذلك وهو شيء يشبه الزاج وقيل: الشت بثلاث نقط، هو شجر من الطعم لا يعلم هل يدبغ به أم لا؟ والقرظ: ورق شجرة تنبت بتهامة يدبغ به الجلد. ويجوز أيضاً بكل ما يقوم مقامها من العفص وقشور الرمان، وما أشبه ذلك مما ينشف الفضول ويزيل الرطوبة حتى لا يفسد بورود الماء عليه. وفي خبر ميمونة -رضي الله عنها - ذكر القرظ والشب، وقال قي خبر آخر: "ويطهرها الماء والقرظ". فصار تنبيها على ما يقوم مقامها. ومن أصحابنا من قال: يعتبر فيه ثلاثة أوصاف؛ أن ينشف فضوله الظاهرة، ورطوبته الباطنة، وأن يطيب الرائحة [32 أ/ 1]، وأن يبقي على حالته بعد الاستعمال. فلا يفسد بورود الماء عليه مدة. ومن أصحابنا عن زاد وصفاً رابعاً، فقال: وأن ينقل اسمه من الإهاب إلي الأديم والشت. وقال الشافعي: "ولا يجوز بالتراب ولا بالملح" وهذا صحيح؛ لأنه لا يصلحه على ما ذكرنا، وكذلك الشمس لا تطهره. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: يطهرها التتريب والشمس؛ لأنها تجففه وتنشف فضوله، وهذا غلط؛ لأنه لا يأمن الفساد، ومتى لحقه بالماء عاد إلي حاله. وذكر بعض أصحاب أبي حنيفة أنه إنما يطهره ذلك إذا عملت فيه عمل الدباغ على ما ذكرنا. وقد قال أصحابنا: إن كان الرماد ونحوه يصلحه يجوز به الدباغ أيضاً، ثم إذا دبغ الجلد وأحكمه، قال أبو إسحاق: لا يطهر حتى يغسل بالماء القراح ليطهر ما جاوره من النجاسة؛ لأن ما لاقاه نجس به. وقال بعض أصحابنا: يطهر بالدباغ ولا يحتاج إلي الماء، وهو ظاهر السنة، ولأن العين انقلبت فصارت طاهرة كالخمر يصير خلاً. وبه قال صاحب "التلخيص" كل نجاسة لا يجزئ في تطهيرها إلا الماء إلا الاستنجاء والدباغ، والأول أصح وأقيس. فرع ما يتناثر من الجلد من أجزاء والدباغ هل يكون نجساً؟ فإن قلنا: يجب غسل الجلد وهو المذهب، فهو نجس، وإن قلنا: لا يجب غسل الجلد فتلك الأجزاء طاهرة؛ لأن نجاستها لنجاسة الجلد، فإذا زالت نجاسة الجلد حكم بطهارتها كما يحكم بطهارة المزر إذا انقلب خلاً.

فرع آخر [32 ب/ 1] قال في "الأم": "لو دبغ وترك عليه شعر فيما بين الماء الشعرة نجس الماء، وإن كان الماء في باطنه والشعر على ظاهره لم ينجس الماء. قال صاحب "الإفصاح": وهذا يدل على أن جلد الميتة إذا دبغ بماء نجس طهر. وقال القاضي الطبري: هذا لا يجيء على مذهب الشافعي، وتأويله: أنه غسل باطنه بالماء القراح، ثم جعل فيه الماء، وإذا دبغ بشيء نجس يحتاج إلى الماء القراح بلا خلاف. وقال بعض أصحابنا: بخراسان: هل يطهر به؟ وجهان. وهذا لا وجه له؛ لأنه يؤدي إلى أن لا سبيل إلى تطهيره؛ لأنه لا يمكن رده غير مدبوغ، والصحيح أنه يطهر ويغسل بالماء بعده. فرع آخر جلد ميتة الغير ودبغة فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون ملكاً لربه. والثاني: يكون ملكاً لدابغه. والثالث: إن كان رب الجلد رفع يده، فإن ألقاه فأخذه الدابغ كان ملكاً للدابغ، وإن لم يكن قد رفع يده كان لربه. وأما الفصل الثاني: وهو الكلام في جواز بيعه: فلا خلاف أنه لا يجوز بيعه قبل الدباغ. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال يجوز بيعه؛ لأنه يمكن تطهيره ولا يصح عنه، بل هو قول بعض السلف وهو ربيعة، وهو غلط؛ لقوله صلي الله عليه وسلم: "إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه". وهذا الجلد محرم قبل الدباغ. وقال: أصحابنا: يجوز استعماله في اليابسات ويجوز هبته على سبيل نقل اليد والوصية به أيضاً على سبيل [33 أ/ 1] التمليك. وأما بيعه بعد الدباغ، قال في "القديم": لا يجوز، وبه قال مالك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في شاة ميمونة: "هلا أخذتم إهابها فانتفعتم به". فخص الانتفاع فلا يحل ثمنه. وقال في "الجديد" وهو الصحيح، وبه قال كافة العلماء: يجوز بيعه؛ لأنه طاهر منتفع به ليس في بيعه إبطال حقه، فجاز بيعه كالزكاة، فأما ما ذكر فلا يصح؛ لأن بيعه من جملة الانتفاع به، وعلى هذا أصل هل يجوز إجارته؟ وجهان كالكلب. وقيل يجوز إجارته وهبته والوصية به قولاً واحداً، وإنما القولان في بيعه ورهنه. وأما الفصل الثالث وهو الكلام في جواز أكله: قال أصحابنا بالعراق: وإن كان جلد حيوان لا يؤكل لا يجوز أكله قولاً واحداً؟ لأنه لا يحل بالزكاة مع أنها أقوى، فلأن لا يحل بالدباغ أولى، وإن كان جلد حيوان يؤكل فيه قولان. قال في "القديم": لا يحل أكله وهو الصحيح؛ لأنه جلد طاهر من حيران مأكول، فأشبه المزكي وأما الخبر فقد روى: "إنما حرم من الميتة لحمها".

وقيل: إنما بني قوله في "القديم" على أن باطن الجلد لا يطهر بالدباغ، وهذا ليس بشيء. وقال بعض أصحابنا بالعراق: قوله القديم أصح؛ لأن الدباغ لو أفاد الإباحة لم تصح فيما يوكل لحمه كالمزكاة. وقال القفال [33 ب/ 1]: القولان في جميع الجلود ما يؤكل لحمه وما لا يؤكل؛ لأنه طاهر لا حرمة له ولا يتضرر بأكله، وهذا أقيس. وذكره ابن كج رحمه الله تعالى. مسألة: قال: "وَلاَ يَطْهَرُ بالدِّبَاغِ إِلاَّ الإِهَابُ وَحْدَه". وهذا كما قال، أراد به: ولا يطهر من الميتة بالدباغ إلا الجلد والمشبعة التي فيها الولد إذا انفصلت من الحيوان يكون نجساً ولا يطهر بحال، فأما الصوف والشعر والريش والقرن والعظم قلا يطهر بحالٍ، وهو ظاهر المذهب. ذكره القاضي أبو حامد في جامعه، وقال الشيخ أبو حامد، وأبو إسحاق: فيها قولان: أحدها: أنها طاهرة كالخشب وهذا ليس بصحيح. وأما الصوف والشعر والريش، فالنص هاهنا، وهو رواية الربيع وحرملة والبويطي أن فيها حياة وتنجس بالموت ولا تطهر بحالٍ وهو ظاهر المذهب. وروى ربيع بن سليمان الجيزي عن الشافعي أن الشعر تابع للجلد يطهر بطهارته وينجس بنجاسته، فإذا دبغ الجلد طهر تبع الشعر وهذا لا يصح؛ لأن الدباغ لا يؤثر في الشعر ولا يصلحه، بل يمزقه فلم يقر طهارته بللحم بخلاف الجلد. وروى إبراهيم البليدي عن المزني عن الشافعي أنه رجع من تنجيس شعر بني آدم فمن أصحابنا من قال: هذا لكرامة الآدميين، وحكمه مقصور على شعورهم، وهذا [34 أ/ 1] هو الصحيح. ومنهم من قال: هذا لأنه اعتقد أنه لا وقع في الشعر، فهو قول في جميع الشعور. فعلى هذا حصل أربعة أقوال: أحدها: الكل طاهر إلا شعر الكلب والخنزير، ولا روح فيها وبه قال أبو حنيفة، والثوري، ومالك، وأحمد، وإسحاق، والمزني. وقال أبو حنيفة في شعر الكلب مثله، وفي شعر الخنزير روايتان عنه، وقال مثل هذا في العظم والسن والقرن وخالفه فيها مالك، وأحمد، وإسحاق والمزني ووجه هذا القول أنه لا يحسن ولا يألم. والقول الثاني: فيه روح والكل نجس إلا ما يؤخذ من الحيوان المأكول ني حياته أو بعد ذكاته لا جزء من حيوان ينمو بحياته فينجس بنجاسة موته كسائر الأجزاء. وبه قال عطاء والحسن، والأوزاعي والليث بن سعد. وحكي عن حماد أن فيه روحاً وينجس لموته، ولكنه يطهر بالغسل. وروي نحوه عن الحسن، والأوزاعي، ومالك، والليث، ووافقونا في العظم أنه لا يطهر بحالٍ. والثالث: الجلد على ماذكرنا، وبه قال مالك. والرابع: أنه شعر بني آدم هو مخصوص بالطهارة للكرامة وما عداه نجس إلا ما ذكرناه. ومن أصحابنا من قال: تنجس بالموت ولا رفع فيه كاليد الشلاء لا روح فيها،

وتنجس بموت الحيوان لاتصالها به وهو ضعيف. فإذا تقرر هذا، فعلى المذهب المشهور الحيوان على ثلاثة أضرب، نجس، وطاهر يؤكل لحمه، وطاهر لا يؤكل لحمه، فالنجس ما كان [34 ب/ 1] نجساً في حال حياته، فلا سبيل إلى طهارة شعره. وأما ما يؤكل لحمه فشعره طاهر إذا جز وحلق، وإذا زكى، فلو نتف أو قطع بضعة لحم منه وعليها صوف أو شعر لا نص فيه. واختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: إنه نجس لأنه غير مأذون فيه. ومنهم من قال: إنه طاهر وهو كالذبح بسكين، قال: يفيد الإباحة مع الكراهة والتحريم وتنجس شعره في موضع واحد، وهو إذا مات حتف أنفه. وأما ما لا يؤكل لحمه من الطاهر كالبغل والحمار ونحوها فشعره طاهر في موضع واحد، وهو ما دام قائماً عليه في حياته، فإن جز منه أو حلق أو مات حتف أنفه أو قتل أو ذبح نجس، فإن دبغ الجلد فهو يطهر الشعر تبعاً، فهو على ما ذكرنا من القولين. وأما شعر بني آدم قال بعض أصحابنا: الآدمي هل ينجس بالموت؟ قولان، والصحيح أنه لا ينجس؛ لأنه يؤمر بغسله تعباً فإن قلنا: لا ينجس بالموت فشعره وشعر ما لا يؤكل لحمه واحد. وقيل في شعره قول واحد إنه طاهر، لأنه صح رجوعه فيه. وأما شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم إن قلنا شعر غيره من الآدميين طاهر فشعره أولى. وإن قلنا: ذاك نجس ففي شعره وجهان. قال أبو جعفر الترمذي وجماعة: هو طاهر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حلق رأسه فرق شعره على أصحابه، ولو كان نجساً [35 أ/ 1] منه كالدم والبول. وقال بعض أصحابنا بخراسان: في بوله ودمه وجهان أيضاً؛ لأن ابن الزبير حسا دمه تبركاً ولم ينكر عليه. وروي أن أبا طيبة شرب دمه. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دفع محاجمه إلى علي - رضي الله عنه -، فقال: "واره حيث لا يراه أحد" فشرب دمه وقال: واريته حيث لا يراه أحد، فقال: "لعلك شربتها". فقال: نعم. فلم ينكر عليه. وروي أنه أم أيمن شربت بوله فقال: عليه الصلاة والسلام: "لا ينجع بطنك" وهذا بعيد. وقد روي أنه نهى أبا طيبة عن مثله وقال: "حرم الله جسمك على النار". وروي عن سالم بن أبي سالم الحجام، قال: حجمت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما وليث المحجمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم شربته، فقلت: يارسول الله شربته، فقال: "ويحك يا سالم، أما علمت أن الدم كله حرام، لا تعد".

فرع الوسخ الذي ينفصل عن الآدمي في الحمام حكمه حكم ميتة الآدمي نجس يعفي عن قليله؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه كدم البراغيث، وفسر بعض أصحابنا القليل بالشعرة والشعرتين، وقال: إذا وقع في الماء القليل فإنه يعفي عنه، ذكره أهل العراق. وفيه نظر؛ لأن العفو عن يسير النجاسة لا يكون في الماء؛ لأنه يتعدى وينتشر بخلاف الثوب. فإذا تقرر هذا، قال الشافعي: "وَلَوْ كَانَ الصَّوفُ وَالْشَّعْرُ وَالْرَّيشُ [35 ب/ 1] لاَ يَمُوتِ بِمَوْتِ ذَوَاتِ الرُّوحِ، أَوْ كَانَ يَطْهُرُ بِالدَّبَاغِ لَكَانَ ذَلِكَ في قَرْنِ الْمَيْتَةِ وَسَبيِّهَا، وَجَازَ في عَظْمِهَا، لأَنَّه قَبْلَ الدِّباغِ وبَعْدَهُ سَوَاءُ". وقصد به الرد على مالك لا على أبي حنيفة، وكان الشافعي شك في مذهبه فلم يتيقن أنه يقول: لا ينجس الأشياء البادية بالموت أصلاً، أو يقول: تنجس ولكنها تطهر بالدباغ فألزمه الدليل على .... فقال: إن زعمت أنها لا تنجس بالموت فهلا قلت ذلك في السن والعظم والقرن، وإن زعمت أنها تنجس ثم تطهر بالدباغ، فهلا قلت ذلك في هذه الثلاثة أيضاً؛ لأن هذه الأشياء الستة قبل الدباغ وبعده سواء، لا تأثير للدباغ فيها كتأثيره في الجلد. ومن أصحابنا من قال: إنه قصد به الرد على أبي حنيفة ومالك، وتقديره: ولو كان الصوف والشعر والريش لا يموت بموت ذات الروح، كما قال أبو حنيفة، أو كان يطهر بالدباغ كما قال مالك، كان س في قرن الميتة وسيما دليل على أبي حنيفة، إلا أنه لا يسلم ذلك، فننقل الكلام إليه، واحتج بقوله تعالى: {قَالَ مَن يُحْيِي اَلَعِظَامَ وهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]. وقوله: وكان في عظمها دليل على مالك والأول أصح. وعلى هذا قوله: "وجاز في عظمها".لم يقتصر فيه على مجرد العطف كما اقتصر في السن تحسيناً للعبادة، ولا معنى له غيره، فتقديره: لكان ذلك قي قرن الميتة وسنها وعظمها. فرع إذا ماتت شاة وفي ضرعها [36 أ/ 1] لبن كان نجساً لا يحل شربه. وقال أبو حنيفة، وداود: يحل شربه؛ لأن السحابة لما فتحوا المدائن أكلوا الجبن، وهو يعمل بالأنفحة، وهي تؤخذ من صغار المعز فهي بمنزلة اللبن، وذبح المجوس بمنزلة موت الحيوان، وهذا غلط؛ لأنه مائع غير الماء، وفي وعاء نجس فكان نجساً، كما لو حلب في إناء نجس ولا علم لنا بما ذكروه عن الصحابة. فرع آخر إذا ماتت دجاجة وفي جوفها بيضة، فإن كانت رخوة ضعيفة فهي كاللبن، وإن كانت

قوية وصلبة قشرها فهي طاهرة، كما لو وقعت البيضة في ماء نجس. وقال بعض أصحابنا: فيها ثلاثة أوجه: أحدها: طاهرة لأن فيها جمودة والثاني: أنها نجسة وإن تصلبت، وحكام ابن المنذر عن علي -رضي الله عنه - وعلل بأنها ميتة. وروي ذلك عن ابن مسعود أيضاً. وقيل: اختاره الشافعي مرة، والثالث: التفصيل على ما ذكرناه، وهو المذهب؛ لأن البيضة مودعة في الحيوان لا تحلها الحياة والموت، ولو تفرخت هذه البيضة كان الفرخ طاهراً بلا خلاف. فرع البيضة لذا صارت مذرة واختلطت الصفرة بالبياض طاهرة وحكمها حكم اللحم إذا نتن. فرع آخر إذا انفصلت البيضة من الدجاجة ففي بللها وجهان أحدهما: أنه ظاهر كالمنى، والثاني: أنه نجس وهو الظاهر وهكذا الوجهان في البلل الخارج تبع الحمل. فرع آخر إذا ماتت الظبية وفيها فارة مسك تنجس الفارة [36 ب / 1] وجهاً واحداً بخلان البيض لأن للبيض نماء بعد موت الدجاجة وليس لفارة المسك نما. فرع آخر المرة العفرة نجسة لأنها غذاء يغير إلى النساء. فرع آخر أنفحة السخلة المذبوحة إذا لم تكن شربت إلا اللبن طاهرة؛ لأنها وإن كانت غذاء متغير فما تغير إلى الفساد، فإن ماتت فهي نجسة. فرع آخر البلغم عند الشافعي طاهر. وحكي عن المزني أنه قال: هو نجس. وهذا غلط؛ لقوله صلى الله عليه وسلم -رضي الله عنه -: "ما نحامنك ودموع عينيك إلا سواء". ولأنه يخرج من الرأس أو من الحلق والصدر فكان طاهراً كالمخاط. فرع آخر الماء الذي يسيل في النوم طاهر وإن كان متغير الرائحة كاللعاب، وإن علم أنه خرج من المعدة لمرض أو علة، ويعرف ذلك بالنتن فهو نجس. فرع آخر لو رأى شعراً فلم يعلم أنه من شعر مأكول أو غير مأكول، فيه وجهان بناء على أن أصول الأشياء هل هي على الخطر أو على الإباحة؟ ولو علم أنه شعر مأكول ولا يدرى هل أخذ في حياته أو بعد موته؟ فهو طاهر ذكره بعض أصحابنا ويحتمل وجهاً آخر.

فرع آخر لو باع جلد الميتة بعد الدباغ وعليه شعر، وقلنا شعره نجس، فإن باع الجلد وحده دون شعره يجوز، وإن باع مع شعره ففي الشعر لا يجوز، وفي الجلد قولان بناء على جواز تفريق الصفقة، وإن باعه مطلقاً فيه [37 أ/ 1] وجهان: أحدهما: أنه لا يدخل الشعار في البقع لأنه غير مقصود، ولا يصح فيه البيع فيصح بقع الجلد. والثاني: يدخل في البيع لاتصاله بالمبيع، فيكون كما لو قال: يقبل مع الشعر. فرع آخر إذا عمل من الجلد المنجوس حوض فطرح فيه ماء، فإن كان دون قلتين صار نجساً، وإن بلغ قلتين فأكثر فالماء طاهر والإناء نجس، ويجوز التوضاء منه إذا كان الوضوء لا ينقصه عن القلتين. مسألة: قال: "وَلاَ بِدُهْن في عَظْمِ فيلٍ" وهذا كما قال. قرئ هذا بثلاث قراءات بتشديد الدال والهاء، وبتشديد الدال وتخفيف الهاء، وبتخفيف الدال وتشديد الهاء والمعنى واحد، وأراد به أنه لا يستعمل دهن في عظم فيل لنجاسته؛ لأن الفيل لا يؤكل لحمه. وقال مالك: إذا ذكيِّ الفيل فعظمه طاهر؛ لأن الفيل عنده مأكول. وإن مات فعظمه نجس؛ لأن العظم يحله الموت. قال النخعي: طهارة العاج خرطه، فإذا خرطا صار طاهراً. وقال الليث: إذا طبخ حتى خرج دهنه كان طاهراً. وقال أبو حنيفة: لا ينجس كما قال في سائر العظام. واحتج الشافعي - رحمه الله - بكراهته من عمر - رضي الله عنه- لذلك، وهذه كراهة تحريم؛ لأن العاج هو ألطف من أن تعافه النفس حتى تكرهه كراهه تنزيه، إلا أنهم كانوا يعدلون عن لفظة التحريم إلى لفظة الكرامة احتراماً للشريعة؛ لأن الله تعالى قال: {ولا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وهَذَا حَرَامٌ} [النحل: 116] [37 ب/ 1] ويجوز أن يعبر عن التحريم بالكراهة، قال الله تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الإسراء: 38] أي محرماً. فإن قيل: روي أن في جهاز فاطمة -رضي الله عنها سوار من عاج؟ قيل: إنه كان من عظم بعير، وقيل: من زبل، وهو عظم سمكة في البحر وسمي عاجاً لبياضه. فإذا نقرر هذا فلو اتخذ مشطاً لا يجوز أن يمشط به إذا كان أحدهما رطباً، فإن كان المشط والشعر مايتتين، قال في "البويطي": يكره الانتفاع في شيء تمسه يده، وإن كانت تمسه يابسة فلا تنجسه. وإن أراد أن يجعل فيه الدهن للاستصباح أو الاستعمال في غير أبدان المتعبدين، فالصحيح من المذهب أنه جائز.

مسألة: قال: (فَأَمَّا جِلْدُ كُلُ مُذَكِيِّ يُؤْكَل لَحْمَهُ فَلاَ بَاسَ بِالْوضُوءِ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يُدْبَغْ". وهذا كما قال، الحيوان على ضربين: أحدها: يحل أكله، فإذا ذبح فلحمه وجلده طاهر، ويجوز استعمال جلده وحوله حوضاً للماء قبل دباغه ما لم يصبه دم أو ورث، فإن أصابه ذلك غسله. والثاني: ما لا يحل أكله فذبحه وموته سواء، نص عليه في "الأم" ولم ينقله المزني. وقال مالك وأبو حنيفة: يطهر كله بالذبح إلا الخنزير والإنسان وهذا غلط؛ لأن المقصود بالذكاة إباحة اللحم عرفاً وشرعاً، وهذه الذكاة لا تفيد المقصود، فلا يفيد البائع. مسألة: قال: "وَلاَ أكْرَهُ مَنَ الآنيَةِ إِلاَّ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَّ". وهذا كما قال. أراد به ولا أكرم من الآنية الطاهرة شيئاً [38 أ/ 1] إلا الذهب والفضة، فإني أكرههما من حيث الاستعمال لا من حيث التطهير خاصة فإذا تقرر هذا فالأواني على ضربين: متحدة من جنس الأثمان، ومتحدة من غير جنس الأثمان. فأما المتحدة من جنس الأثمان: وهي آنية الذهب والفضة لا يحل استعمالها بحالٍ في شيء من الأشياء. وقال في كتاب الزعفراني من القديم لا يحل ذلك كراهة وتنزيها لا تحريماً؛ لأن الغرض بذلك تركه التشبه بالأعاجم والخيلاء وإغاظة الفقراء، وذلك لا يقتضي التحريم، وهذا غلط لما روت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الذي يشرب في آنية الفضة إنما يجرجر في جوفه نار جهنم". وروي "نار جهنم" بالرفع، فمعنى الرفع كأنه قال: إنما يصون نار جهنم، والجرجرة هي الصوت، ومعناه تلقى في جوفه نار جهنم حتى يسمع صوته يقال: جرجر فلان الماء في حلقه إذا تجرعه جرعاً متتابعاً يسمع له صوت، والجرجرة في حكاية ذلك الصوت، وهذا وعيد يقتضي التحريم، ومعنى النصب كأنه يقول: إنما يجرجر نار جهنم، فيكون جرجر على هذا المعنى مضاعف جر، وهو أن هذا الفعل يكون سبباً لعذابه في نار جهنم، وهذا كما قال تعالى: {إنَّمَا يَاكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10] وقال داود: يحرم الشرب منها فقط؛ لأن الخبر ورد في الشرب وهذا غلط، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تشربوا في آنية الذهب ولا الفضة، ولا تلبسوا الحرير [38 ب/ 1] والديباج، فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة". آخر هذا الخبر يدل على أن التحريم عام في الشرب وغيره وروى حذيفة أيضاً أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الأكل والشرب تنبيهاً على غيرهما، فإن خالف وأكل فالأكل محرم والمأكول حلال. ومن أراد أن

يتوقى المعصية فيها فليخرج الطعام منها ثم يأكله إن شاء. كما حكي أن فرقد السيخي والحسن البصري - رحمهما الله - حضرا وليمة فقدم إليهما طعام في إناء فضة، فقبض فرقد يده عن الأكل منه، فأخذ الحسن الإناء وكبه على الخوان، وقال: كُل الآن إن شئت. وهكذا لو توضأ منها فالوضوء صحيح، وإن كان الفعل محرماً: لأن المنع لم يكن في الماء خلافاً لداود. وأما اتخاذها هل يحل؟ قيل: فيه قولان، وقبل وجهان والأصح أنه لا يحل كالملاهي، وعلى هذا لا يضمن بالكسر ولا يستحق الأجرة باتخاذها وأما المتخذة من غير جنس الأثمان فضربان: ثمين وغير ثمين. فإن لم يكن ثميناً كآنية النحاس والرصاص والفخار والزجاج، فكلها مباح. وقالت عائشة: "كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من تور من شبة". وإن كان ثميناً كان لصنعه فيها كالمخروط عن الزجاج فهو مباح كلبس الثوب الكتان النفيس، وإن كان لنفاسة جوهره مثل البلور والياقوت والعقيق فيه قولان. في حرملة: حرام لأن فيه سرفاً وخيلاء. وقال في "الأم" ونقله المزني: أنه مباح [39 أ/ 1] وهو المشهور. آنية من غير جنس الأثمان فأشبه المخروط من الزجاج؛ لأن السرف فيه غير ظاهر؛ لأنه لا يعرفه إلا الخواص من الناس، فلا يخاف افتتان العوام. وقال القفال: هذا مبني على أن تحريم آنية الذهب والفضة لأعيانها، أو لمعنى فيهما. قال في الحديث: تحرم لأعيانهما كأحكام كثيرة اختصت بالذهب والفضة دون غيرهما. وقال في القديم: يحرم لمعنى الخيلاء والفتنة فعلى القول الأول لا تحرم آنية التور نحوه، وعلى القول الثاني تحرم. قال: وعلى هذا لو اتخذها من ذهب وغشاها بالرصاص. فإن اعتبرنا عين الذهب فهو حرام، وإن اعتبرنا عين الذهب فهو حرام، وإن اعتبرنا المغني فهو حلال. قال: ولو اتخذها من رصاص وموهها بالذهب، فإن اعتبرنا المعنى فلا تحل، وإن اعتبرنا العين حل. فرع في الأواني المتخذة من الطيب الرفيع كالعود المرتفع والكافور المصاعد والمعجون من المسك والعنبر وجهان مخرجان، وفي غير المرتفع من المسك والصندل وجه واحد يجوز استعماله. مسألة: قال: "وَأَكْرَهُ الْمُضَبَّبَّ بِالْفِضَّةِ لَئِلاَّ يَكُونَ شَارِباً عَلَى فِضَّةِ". وهذا كما قال المضبب أن يكون جزءاً من أجزاء الإناء فضة، واختلف أصحابنا في هذه المسالة. قال القفال: التضبيب على شفة الإناء لم يحبز استعماله في الشرب، وأن

كان في غيرها يجوز؛ لأنه لا يكون شارباً على فضة، ويروى هذا عن مالك. وقال غيره: لا فرق بين أن يكون في شفته [39 ب/ 1] أو في غيرها. وقول الشافعي: "لئلا يكون شاربا على فضة" يريد من إناء فيه فضة. ثم من أصحابنا من قال: هذه كراهة تنزيه بخلاف آنية الذهب والفضة؛ لأنه قال: "ولا أكره من الأواني إلا الذهب والفضة". وأراد بتلك الكراهة التحريم فخرج منها المضبب. والصحيح أنه على التحريم. وقوله: " وَلاَ أَكْرَهُ مِنَ الأَوَانِيِ إِلاَّ الْذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ" قصد به بيان جنس الأواني المحرمة والمباحة، فلا يدل على ما قاله القائل الأول. ثم المضيب على أربعة أضرب: يسير للحاجة كحلقة القصعة وشعيرة السكينة، وضبة القصف فهذا مباح. وروى أنه كان الرسول الله صلى الله عليه وسلم قصعة فيها سلسلة من فضة. ومعنى قولنا: "للحاجة": أنها في موضع الحاجة، وإن قام غير الضبة مقامها ني ذلك وقيل: لغير حاجة فلا يحرم لعلته، ويكره لعدم الحاجة إليه وهو مراد الشافعي هنا، وكثير الحاجة مثل أن يتشقق الإناء فتكثر فيه الضبات، فيكسره لكثرته ولا يحرم للحاجة، وكثير لغير حاجة فهر حرام. وقال أبو حنيفة: لا يحرم وإن كان جميع الإناء مضبب. واحتج بأنه إناء جاوره فضة فلا يحرم استعماله، كما لو أخذ الإناء بكفه وفيها خاتم، وهذا غلط، لما روى عبد الله بن عمر -رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شرب من إناء الذهب والفضة أو إناء فيه شيء من ذلك فإنما يجرجر ني جوفه نار جهنم". ولأن [40 أ/ 1] سرفاً وخيلاء كما في إناء الذهب، ومن أصحابنا من ذكر قولاً آخر في الكثير لحاجة، وفي القليل لغير حاجا إنها حرام. فرع لو ضبب في الإناء دراهم أو دنانير وشرب منه لم يكره، فإن أثبتها عليه بالمسامير فهي كالضبات سواء. ولو شرب بكفه ماء وفي إصبعه خاتم فضة فلا بأس. مسألة: قال: "وَلاَ بَاسَ بِالْوُضُوءِ مِنْ مَاءِ مُشْرِكِ". الفصل وهذا كما قال. أراد به أنه لا يكرم للحدث أن يتوضأ من ماء مالكه مشرك. وكذلك لا يكره التوضاء بما فضل عن وضوء المشرك ما لم يعلم النجاسة فيه. وجملته أن أواني المشركين وثيابهم هي على ثلاثة أضرب يتحقق طهارتها، مثل إن اشتراه ولم يستعمله فلا يحرم استعماله وضرب يتحقق نجاسته فهذا يحرم استعماله. وضرب يحتمل أمرين ولا يعلم حاله. فالأصل الطهارة سواء كانوا يتدينون النجاسة كالمجوس يدينون الغسل

ببول البقر، والبراهمة من الهند يتدينون استعمال الأبوال كلها. أو لا يتدينون ذلك كاليهود والنصارى فيجوز استعمالها، نص عليه في الإملاء، وحرملة، لما روى الشافعي -رحمه الله- أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- توضأ من ماء قي جرة نصرانية. وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ من مزادة مشركة وقال أحمد وإسحاق: لا يجوز استعمال ثيابهم وأوانيهم إلا بعد الغسل؛ لقوله تعالى: {إنَّمَا المُشْرِكُونَ نَجَسٌ} [التوبة: 28]، وهذا غلط لما ذكرنا، [40 ب/ 1] والمراد بالآية نجاسة قلوبهم ومعتقداتهم لا نجاسة أبدانهم. فإذا تقرر هذا. قال في "القديم": "لا أكره استعمال آنية الماء وأكره سائر الأوان" لأن الماء يرد على آنية الماء مرة بعد مرة ويطهرها، والثياب المستعملة كلها مكروهه، والسرويلات أشد كراهة؛ لأنها أقرب إلى محل النجاسة من الثوب. وذكر بعض أصحابنا أن الشافعي قال: "وأحب أن لا تستعمل أوانيهم إلا بعد الغسل، إلا أن أواني الماء هي أخف حالاً" وهذا يدل على أن في آنية الماء نوع كراهة، والصحيح ما ذكرنا. وقال أبو إسحاق: إن كانوا لا يدينون استعمال النجاسة فإن الأصل النجاسة فلا يجوز استعمال ثيابهم وأوانيهم إلا بعد الغسل، إلا آنية الماء فإنها على الطهارة لورود الماء عليها. ومن أصحابنا من قال: إن كانوا يدينون لا يلزم اجتنابهم، ولكن لا يعتقدون العبادة في استعمالها كالدهرية والزنادقة يجوز استعمال ثيابهم لأن الأصل الطهارة، ويكره لخوف النجاسة. وإن كانوا يعتقدون العبادة في استعمالها يجوز استعمال مياههم ويكره. وأما ثيابهم: فإن لم يلبسوا كثيراً يجوز استعمالها. وإن كثر لباسهم لها فيه وجهان. قال أبو إسحاق: لا يجوز؛ لأن الظاهر نجاستها [41 أ/ 1]. وقال ابن أبي هريرة: يجوز مع الكراهة؛ لأن الأصل الطهارة. وقال القفال: فيه قولان مخرجان قياساً على ما قال الشافعي في تراب المقرة المنبوشة إذا صلى عليه ولم يشاهد فيه نجاسة فيه قولان: أحدها: يجوز بناء على أصل الطهارة. والثاني: لا يجوز بناء على الغالب. وكذلك القولان في وحل الطريق إذا أصاب الثوب والغالب نجاسته. وروى أو ثعلبة الخشني، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل: إنا نأتي دار قوم من المشركين يشربون الخمر ويأكلون الخنازير، فنطبخ قي قدورهم ونأكل في أوانيهم. فقال: " واستغنوا عنها ما استطعتم، فإن لم تجدوا غيرها فأرخصوها بالماء فإن الماء طهور" وهذا يدل على تغليب الطاهر على الأصل. فرع قال بعض أصحابنا: الماء الذي يتقاطر من المزاريب، هل يباح استعماله إذا لم

باب السواك

يعلم يقين الطهارة؟ وجهان. لأن الغالب على السطوح النجاسة والأصل طهارة الماء فيقابل الأصلان. فرع أخر لا باس أن توقد عظام الميتة تحت القدور ويطبخ بها، ويؤكل ما فيها. ولو سجر التنور بالسرقين هل ينجس التنور بالدخان؟ فيه وجهان: أحدهما: ينجس. والثاني: لا ينجس، كبخار المعدة لا ينجس الفم. فإذا قلنا: إنه ينجس، فينبغي أن يكسح بمكسحة جافة، ثم يلزق به الخبز لو استصبح بزيت نجس، ففي دخانه وجهان. فإذا قلنا: إنه نجس هل يعفي عنه؟ وجهان: أحدهما [41 ب/ 1]: يعض للمشقة. والثاني: لا يعفي؛ لأن نجاستها نادرة والتحرر ممكن، والأصح الأول، وعندي أنه طاهر والله أعلم. باب السواك مسألة: قال:"وَأُحِبُّ السِّوَاكَ للصَّلوَاتِ". الفصل وهذا كما قال. لما فرع ش ذكر المياه والأواني، بدأ بذكر أحكام الوضوء، وقدمها على أحكام الغسل؛ لأنه أكثر فروعاً، ثم بدأ في أمر الوضوء بباب السواك لأنه يندب إليه في الوضوء وفي غيره. وجملته: أن السواك سنة مستحبة. وقال: أراد أهل الظاهر هو واجب عند كل صلاة، لكن تركه لا يقدح في الصلاة وقال إسحاق: السواك واجب، فإن تركه عامداً يبطل الصلاة. وهذا غلط لما احتج به الشافعي، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"، قال: ولو كان واجباً لأمرهم به شق أو لم يشق. وفي بعض النسخ: "أو لم يشقق" والأصل في استحبابه أخبار كثيرة منها هذا، وأيضاً فقد روت عائشة - رضي الله عنها - قالت: و"كان السواك من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل القلم من لدن الكاتب" وروى أبو أيوب الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أربع من سنن المرسلين؛ الحناء، والسواك، والتعطر والنكاح" وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طهروا أفواهكم لقراءة القرآن" يعني بالسواك.

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "السواك مطهرة للفم، مرضاة [42 أ/ 1] للرب، مثراة للمال، مطردة للشيطان". وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة بسواك أفضل من سبعين صلاة بغير سواك" وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم: "أوصاني جبريل عليه السلام بالسواك حض خفت أن يدرني". وروى أنه قال: "استاكوا ولا تأتوني قلحا" والقلم صفرة الأسنان وروي أنه صلى الله عليه وسلم "كان إذا قام من الليل شوص فاه بالسواك" قال أبو عبيد: الشوص هو الغسل والمص مثله. وروى عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال" في السواك عشر خصال: مطهرة للفم، مرضاة للرب، مسخطة للشيطان، مفرحة للملائكة، مذهب الجفر، ويجلو البصر، ويشد اللثة، ويطيب الفم، ويقطع البلغم، ويزيد في الحسنات". وهو من السنة ويستحب في خمسة أحوال عند القيام من النوم، وعند الوضوء للصلاة، وعند القيام للصلاة، وعند قراءة القرآن، وعند تغير الفم. والفم يتغير في أربعة أحوال عند كثرة الكلام، وعند طول السكوت، وعند شدة الجوع، وعند أكل الأشياء المريحة كالبصل والثوم. وقول الشافعي: "والأزم" قيل: أراد طول السكوت. وقيل: فرط الجوع، وهذا أصح، لأن عمر - رضي الله عنه - قال للحارث بن كلدة وكان طبيب العرب ما الداء؟ قال: الأكل. قال: فما الدواء؟ قال: الأزم - يعني به الجوع من الحمية، وفيما نقل المزني خلل عن ثلاثة أوجه: أحدها: نقل [42 ب/ 1] واجب السواك للصلاة عند كل حال تغير فيها الفم، وهو خلاف المذهب، فكان من حقه أن يزيد واو فيقول: وعند كل حال. والثاني: نقل "وكل ما يغير الفم" وفي نسخة: "كل ما يغير الفم"، ولفظ الشافعي: "وأكل ما يغير الفم"، فصحف الأكل بالكل، وهذا توهم أنه إذا تغير فمه عند الصوم بالخلود يستاك، وهذا ليس بمذهب، وفيما قاله الشافعي احتراز عن هذا. والثالث: أنه نقل الخبر وعطف عليه: "ولو كان واجباً"، والشافعي قال: "وليس

بواجب" ولو كان واجباً بذكر المذهب ثم اشتغل بالاستهلال، وحذف المزني المذهب، والأحسن ما ذكره الشافعي. فإذا تقرر هذا، فهو مستحب في كل الأوقات إلا للصائم، ثم بعد الزوال خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: لا يكره له ذلك يعد الزوال أيضاً وهو في ثلاثة أحوال أشد استحباباً للصلوات والاستيقاظ من النوم. قالت عائشة - رضي الله عنها -: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رقد ليلاً أو نهاراً ثم استيقظ استاك". والحالة الثالثة عند تغير الفم. فإذا تقرر هذا، قال الشافعي: "وأحب أن لا يستاك بخشبة يابسة لجرح الفم ولا بخشبة رطبة لا تنفي، ولكن يستاك بخشبة يابسة قد لينت بالماء حتى تزيل الصفرة ولا تجرح". قال: "وبأي شيء استاك مما يقلع الصفرة [43 أ/ 1] ويزيل الوسخ جائز". ولا فرق بين العود والخرقة والخشب، فإن اقتصر على إصبعه لم يجزه، لأنه لا ينفي؛ وعندي أنه إذا كان إصبعه خشناً كما يكون للعمال يقوم مقام السواك. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال" "الأصابع تجزئ عن السواك" ويمرر السواك على أطراف أسنانه وكراسي أضراسه ليجلو جميعاً من الصفرة، ويمره على سقف حلقه إمراراً خفيفاً ليزيل الخلوف عنه، ويستاك على عرض الفم، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم: كان يستاك عرضاً. وروي أنه قال صلى الله عليه وسلم: "استاكوا عرضاً، وادهنوا غباً، واكتحلوا وتراً"، وإنما قال: "وادهنوا غباً" لما فيه من دون الثوب، ولهذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كثرة الأرقاء، وقال أبو عبيد: هو كثرة التدهين. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ادهنوا يذهب البؤس عنكم والبسوا تظهر نعمة الله عليكم، وأحسنوا إلى مواليكم فإنه أكبت لعدوكم". فرع يستحب من يبدأ في السواك بجانبه الأيمن، لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيامن في كل شيء حتى في سواكه وظهور وانتقاله. فرع آخر يستحب أن يستاك بالأراك لما روى أبو خيرة "أن النبي صلى اله عليه وسلم كان يستاك بالأراك" فإن تعذر استاك بعراجين النخل، فإن لم يكن استاك بما يجده. فرع لا يعد السواك من [43 ب/ 1] سنن الوضوء، بل هو سنة بنفسه. وقيل: فيه وجه آخر أنه من سنن الوضوء وليس بشيء.

باب نية للوضوء

فرع جلاء أسنانه بالحديد أو يردها بالبرد مكروه؛ لأنه يذيب الأسنان، ويقضي إلى تكسيرها، ولأنها تخشن فتتراكب الصفرة والخلوف قيها، ولذلك "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشرة والمتوشرة". وهي التي تبرد أسنانها بالمبرد. فرع آخر قال أصحابنا: يستحب أن يقلم الأظفار، ويغسل البراجم، ويقص الشارب، وينتف الإبط، ويحلق العانة؛ لما روت عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عشر من الفطرة: قص الشارب، وإعفاء اللحية، والسواك، والاستنشاق بالماء، وقلم الأظفار، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتفاص الماء" يعني الاستنجاء: قال الراوي: ونسيت العاشرة، إلا أن تكون المضمضة والاستنشاق، ولم يذكر إعفاء اللحية، وزاد: والختان. وقال: والانتضاح بدل الانتفاص. وقوله: من الفطرة: أي من السنة. يعني من سنن الأنبياء الذين أمرنا أن نقتدي بهم في قوله تعالي: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] وأول من أمر بها إبراهيم صلى الله عليه وسلم وذلك قوله تعالى: {وإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124]، وكان من زي الكثيرين قص اللحى وتوفير الشارب، فندب صلى الله عليه وسلم إلى مخالفتهم في الزي والهيئة [43 أ/ 1] وغسل البراجم بتنظيف المواضع التي تتسخ ويجتمع فيها الوسخ. وأصل البراجم العقد التي تكون في ظهور الأصابع. وانتقاص الماء للاستنجاء به، وكذلك الانتضاح وأصله من النضج وهو الماء القليل. فرع آخر قال بعض أصحابنا: يستحب أن يقول: عند ابتداء السواك: اللهم بيض به أسناني وشد به لثتي، وأثبت بها لهاتي، وباراك لي فيه يا أرحم الراحمين. باب نية للوضوء مسألة: قال: "وَلاَ يُجْزِئُ طَهَارَةُ مِنْ غُسْلِ، وَلاَ وُضُوءِ وَلاَ تَيَمُّمِ إِلاَّ بِنَّيِة". وهذا كما قال. اعلم أن أول فرائض الوضوء النية، فبدأ المزني بباب النية، ثم عقبه باب الأفعال، ومعنى النية عزيمة القلب، وهو أن يقصد بقلبه أن يكون فعله الذي يباشره لله تعالى فرضاً أو تطوعاً. فإذا تقرر هذا، فكل طهارة من حدث تفتقر إلى النية سواء في ذلك الكبرى، كالغسل، والصغرى كالوضوء. وسواء كان بالمائع أو الجامد كالتيمم. وبه قال ربيعة، ومالك والليث، وأحمد وإسحاق. وروي ذلك عن على - رضي الله عنه - وقال

الحسن بن صالح بن حي والأوزاعي في رواية، وزفر: أنه لا يفتقر شيء منها إلى النية. وقال أبو حنيفة، والثوري: يجوز الوضوء والغسل بغير نية، ولا يجوز التيمم إلا بنية، وهي رواية [44 ب/ 1] عن الأوزاعي واحتج الشافعي على أبي حنيفة بقولة: وهما طهارتان - يعني الوضوء والتيمم -وأراد عن حدث، فكيف يفترقان في وجوب النية في إحداها دون الأخرى. والدليل على الخاص قول الحسن بن صالح قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى وقوله صلى الله عليه وسلم: "الوضوء شطر الإيمان". وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الطهور نصف الإيمان والصوم نصف الصبر". وروى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأ الرجل كما أمر ذهب الإثم من سمعه وبصره ويديه ورجليه". وروي أن عثمان -رضي الله عنه - كان قاعداً يتطهر فمسح ماء من فيه ثم ضحك، فقال: ألا تسألوني مم ضحكت؟ فقالوا: مما ضحكت يا أمير المؤمنين؟ فقال: بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم قاعد في مقعدي هذا يتطهر، فقال: "ما من عبد يتطهر إلا كانت خطاياه أسرع انحداراً من طهوره". فهذه الأخبار كلها تدل على أن الوضوء عبادة، والعبادة تفتقر إلى النية. وقيل في تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: "الوضوء شطر الإيمان" أي شطر الصلاة، لقوله تعالى: {ومَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، أي صلاتكم، والصلاة لا تستغني عن النية، فكذلك الوضوء. واحتجوا بقوله تعالى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] [45 أ/ 1] الآية، ولم يذكر النية، بينا هذه الآن هي حجتنا؛ لأنها تقتضى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ} للصلاة، كقولك: إذا سافرت فتزود، معناه للسفر. حكي عن ابن سريج أنه قال: إزالة النجاسة تفتقر إلى النية، ... بخلاف قول الشافعي: وهما طهارتان. وقيل: إنه اختيار الإمام سهل الصعلوكي، وعندي أنه لا تصح هذه الحكاية عنهما، وعلى ما ذكرنا لو توضأ الكافر أو اغتسل ناوياً، ثم أسلم لا يجوز له أن يؤدي به قرضاً خلافاً لأبي حنيفة؛ لأنه ليس من أهل النية عندنا. وقال في "الحاوي": فيه وجه آخر يجوز له أن يؤدي به فرضاً؛ لأنه أصح قصداً من الصبي، وذكر المزني في "المنثور" أن طهارة الصبي ناقصة إذا بلغ إعادة الوضوء والغسل.

فرع المرتد إذا اغتسل في ردته، ظاهر المذهب أنه لا يجوز. وقال في "الحاوي": هل يجوز؟ فيه وجهان. فرع آخر لو كانت الذمية حائضاً فانقطع دمها فاغتسلت ثم أسلمت، المذهب أنها لا تصلي بهذا الغسل أيضاً؛ وقال أبو بكر الفارسي من أصحابنا: لها أن تصلي؛ لأنه صح غسلها في حق الوطء حتى يحل للزوج وطئها، فصح غسلها في حق الصلاة أيضاً، وهذا غلط؛ لأنها مأمورة بالغسل بحق الزوج، وصح غسلها في حق الوطء لا بحق الله تعالي، وإنما صح لأجل الوطء للضرورة. فرع آخر لو أن الذمية اغتسلت ولم تنو أنه للحيض. قال بعض أصحابنا: لا يحل وطئها كالمسلمة إذا لم تنو، فصح غسلها بنيتها لموضع الحاجة [45 ب/ 1] وهذا كما يصح من الذمي العتق عن الكفارة بنية، ولو لم يبق لا يجوز عن الكفارة. قال هذا القائل: ولا يصح ما قال أصحابنا يصح غسلها في حق الآدمي دون حق الله تعالى؛ لأن الآدمي لا حق له في الغسل، بل حقه في الوطء، والوطن من شرط إباحته حصول الغسل بحق الله تعالى. وقال بعض أصحابنا: يجوز وطئها إذا اغتسلت بغير نية للضرورة، كما يقول في المجنونة المسلمة. وهذا أقيس عندي. فرع آخر لو أسلمت بعد الغسل هل يجوز وطئها؟ الظاهر أنه لا يحل، لأن الضرورة زالت. وقيل: فيه وجهان. وقيل: هل يجوز لها أن تصلي؟ وجهان بناء على هذين الوجهين. فرع آخر لو ارتدت بعد الدخول ثم اغتسلت من الحيض لا يصح غسلها أصلاً؛ لأنه لا يباح وطئها أصلاً، ويحتمل وجهين على ما ذكرنا عن صاحب "الحاوي". فرع آخر المجنونة المسلمة إذا اغتسلت من الحيض دل وطئها به للضرورة، ولا يصح غسلها في حق الصلاة. وقيل: هل لها أن تصلي بذلك الغسل؟ وجهان ما قلتا في الذمية إذا أسلمت. فرع آخر لو غسل الزوج امرأته المجنونة لا يفتقر الزوج إلى النية، لأن غسلها ني حق نفسه ولو لم يرد إصابتها لها وجب غسلها. ويفارق الميت في أحد الوجهين يفتقر إلى نية

الغاسل؛ لأنه يستحق تعبد الله تعالى. ومن أصحابنا من قال: يغسلها زوجها وينوي استباحة [46 أ/ 1] الاستمتاع. ثم إذا عقلت هل تصلي به؟ وجهان، وفيه نظر. فرع آخر المسلمة إذا اغتسلت من الحيض بنية إباحة الاستمتاع، هل يباح وطئها؟ قال بعض أصحابنا: فيه وجهان بخلاف الذمية؛ لأنها تقدر على الغسل للأمرين فلا تحتاج حاجة إلى التبعيض. وعندي انه يحل وطئها ويحل لها أن تصلي به أيضاً تنوي استباحته ما لا يستباح إلا بالغسل، فصارت كالجنب تغتسل بنية الله في المسجد يجوز لها أن تصلي به. ولعل القائل الأول أراد به إذا نوت استباحة الاستمتاع فقط وتفت استباحة غيره. فإذا تقرر هذا فالكلام في النية في ثلاث فصول: في محلها، وموضعها، وصفتها. فأما محلها فهو القلب، لقوله تعالى {ومَا أُمِرُوا إلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] والإخلاص بالقلب، فإن نوى بقلبه وتلفظ بلسانه فهو الكمال. وإن نوفي بقلبه ولم يتلفظ بلسانه جاز. وإن تلفظ بلسانه ولم ينو بقلبه لم يجز؛ لأنه لم يأت بها في محلها، فصار كما لو نوى بقلبه قراءة الفاتحة ونفكرها ولم يتلفظ بها لا يجوز. وإن نوى بقلبه وتلفظ بلسانه غير ما نواه فإنه يجوز ويلغي ما تلفظ به. وقال أبو عبد الله الزبيري من أصحابنا: النية هي اعتقاد بالقلب وذكر باللسان ليظهر بلسانه ما اعتقده بقلبه، فيكون على كمال من نبتا وثقة من اعتقاده، فلا يجوز حتى ينوي ويتلفظ. وأما موضعها: فلها موضعان: استحباب، ووجوب: [46 ب/ 1] فأما الاستحباب: فهو أن ينوي مع ابتداء طهارته عند غسل اليدين ويستديم ذكرها إلى آخرها حتى تشمل نيته الفرائض والسنن. وقال أبو حامد يستدعها إلى أن يغسل شيئاً من محل الفرض، والأول أصح. وقال القفال: النية أن ينوي مرتين؛ مرة عند غسل البدن، ومرة عند غسل الوجه وهذا أحسن. وأما الوجوب: فهو أن ينوي مع غسل جزء من محل الفرض وهو الوجه. فرع لو نوى في الابتداء واستدام إلى غسل الوجه، فقد أتى بالسنة، ولو عرّبت نيته قبل البدأة بغسل الوجه. فإن عزيت قبل المضمضة والاستنشاق لا يجوز؛ لأن غسل اليدين ليس من أفعال الوضوء الراتبة، وإنما أمر بهما لخوف النجاسة على ما ورد في الخبر. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان، والأظهر أنه يجوز؛ لأن الصحيح أنه يحتسب ابتداء الوضوء من غسل اليدين، وهذا غير صحيح عندي. وقال هذا القائل: لو نوى مع الاستنجاء أو السواك ثم غربت نيته قبل غسل اليدين، فيه وجهان بناء على أنه من جملة الوضوء أم لا؟ وهذا ليس بشيء.

فرع آخر لو كان ناوياً عند المضمضة ثم عزيت نيته، فإن غسل شيئاً من ظاهر الوجه عند المضمضة أجزأه؛ لأن نيته قارنت الواجب. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز؛ لأنه لم يقصد غسل الوجه. ويلزمه غسل ذلك القدر مرة أخرى، وهذا ليس بشيء وإن لم يكن غسل ... الوجه ففيه وجهان [47 أ/ 1] أحدها: لا يجوز وهو الصحيح؛ لأنه لم يقارن النية بعد الواجب. والثاني: يجوز لأنها قارنت ما هو من وظائف الوضوء وروايته، وهذا اختيار القفال. فرع آخر لو نوى عند غسل الوجه، هل يكون فاعلاً سنة المضمضة والاستنشاق؟ من أصحابنا من قال: لا يكون فاعلاً للسنة ولا يجوز فصلها؛ لأنها غربت عن النية. ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان: أحدهما هذا. والثاني يكون فاعلاً للنية؛ لأنها من جملة طهارته وقد أتى بالنية لها في محلها. وأما في غسل الجناية إذا نوى في أول جزء منه فغسله يجوز؛ لأن كل ما سرى منه يكون فرضاً. وأما صفتها: فإن نوى رفع الحدث أو الطهارة من الحدث جاز. ولو نوى استباحة فعل من الأفعال، فالأفعال هي على ثلاثة أضرب: عنها ما تجب له الطهارة. ومنها ما لا تجب له الطهارة ولا تستحب. ومنها ما يستحب له الطهارة ولا يجب. فما يجب له الطهارة كصلاة الفرض، والنافلة، وصلاة الجنازة، وسجود التلاوة والشكر وحمل المصحف. فإذا نوى بها فعل شيء من هذه الأشياء ارتفع حدثه وجاز له إذ جمع الصلوات بها؛ لأنه يتضمن ذلك رفع الحدث. وأما ما لا يجب له الطهارة ولا يستحب كالأكل والشرب، واللباس والطيب، ولقاء السلطان وزيارة الوالدين. فإذا نوى واحد منها لم يرتفع حدثه. وأما ما يستحب له الطهارة ولا تجب كقراءة القرآن، والقعود [47 ب/ 1] في المسجد. وسماع الفقه والحديث، والأذان، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة وزيارة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا نوى واحده منها هل يرتفع حدثه؟ فيه وجهان: أحدهما - وهو قول الأكثرين-:لا يرتفع حدثه، لأنه أمر يباح من غير طهارة. والثاني: يرتفع حدثه؛ لأن الأفضل أن يكون على الطهارة. فإذا قصد فقد نوى رفع الحدث، وهذا اختيار بعض مشايخ خراسان. والأول أصح عندي. وقول الشافعي: " أَوْ لِقِرَاءَةِ مُصْحَفِ" أراد مماساً للمصحف، وقيل: أراد حمل المصحف، فعبر عنه بالقراءة؛ لأن أكثر ما يحمل المصحف لقراءته.

وأما الغسل للجنابة فينقسم أيضاً هذه الأقسام الثلاثة، إلا أنه مما يستحب له الوضوء يجب له غسل الجنابة، مثل قراءة القرآن، والليث في المسجد، فإذا نواه بالغسل ضح وجهاً واحداً، وإن نوى غسل الجنابة أو رفع الحدث عن جميع بدنه أجزأه (0) ولو نوى في غسله الاحتباس في المسجد، أو نوى به الحدث في الوضوء هل يرتفع حدثه؟ وجهان؛ لأن الغسل والوضوء لهذا هو مستحب غير واجب. فرع لو كان جنباً فاغتسل ينوي بنية الجمعة. قال أكثر أصحابنا: لا يجزيه عن الوضوء؛ لأن قصد التنظف به لا ينافي حصول الطهارة به لصلاة الجمعة؛ لأن من لا يريده [48 أ/ 1] للصلاة فلا يستحب له. وقد قال صلى الله عليه وسلم في يوم الجمعة: "من توضأ فيها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل". فدل أن الغسل ينوب مناب الوضوء. فرع لو نوى بوضوئه، طهارة مطلقة. قال في "البويطي" يجوز، وهو اختيار القاضي الإمام أبى الحسن صاحب "الحاوي"، لأن الطهارة ترفع الحدث. وقال سائر أصحابنا: لا يجوز، ومعناه نوى طهارة من الحدث، وقصده أن يبين أنه يجزيه وإن لم ينو به فعل الصلاة. فرع أخر لو توضأ المحدث ينوي تجديد الطهارة، هل يرتفع حدثه؟ فيه وجهان: أحدها: يرتفع لأن نيته تضمنته. والثاني: لا يرتفع، لأنه قصد به التطوع ولا يتضمن رفع الحدث، وهو المذهب. فرع آخر لو نسي الجناية فاغتسل بنية رفع الحدث الأصغر أجزأه في أعضاء وضوئه، وهو الوجه، واليدين، والرجلان؛ لأن غسل هذه الأعضاء واجب فيهما. وفيه وجه آخر لا يجزئه أصلاً؛ لأنه لم ينو الجناية. فرع أخر لو نسي الجناية فنرى رفع الحدث مطلقاً، فالجواب ما ذكرنا وفيه وجه آخر يجوز غسله تاماً؛ لأن الجناية حدث. وقال في "الحاوي": لو أصابته الجناية وحدها فنوى رفع الحدث ولم يقل الأكبر يجوز؛ لأن نيته تنصرف إلى حدثه الذي هو فيه. ولو كان به حدثان أصغر وأكبر فاغتسل ونوى ذلك، فلو قلنا: يسقط الأصغر بالأكبر فيجزيه عن حدثه [48 ب/ 1] الأكبر. وإن قلنا: لا يسقط لا يجزيه عن واحد منهما لامتيازها وإن إطلاق النية يقتضي التشريك بينهما. ولو قيل: يجزيه عن الحدث الأصغر لأنه أخفهما كان مذهباً.

فرع آخر لو نوى المحدث رفع الحدث الأكبر يجوز؛ لأنه يجوز أن يرتفع الأدنى بالأعلى، وإن كان لا يرفع الأعلى بالأدنى. وكذلك نوى رفع الجنابة وقيل: فيه هنا وجه آخر لا يجوز؛ لأنه نوى غير ما عليه وهو ضعيف. فرع أخر لو نوى رفع حدث الغائط فكان حدثه بولاً يجوز. ومن أصحابنا من قال: إن غلط فيه يجوز، وإن تعمد ذلك ففيه وجهان: أحدها: يصح كما لو كان غالطاً. والثاني: لا يصح، لأنه نوى ما لبس عليه وهو غير معذور. فرع آخر لو أحدث أحداثاً ونوى رفع واحد منها ولم ينو رفع الباقي، فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يرتفع جميعها وهو الأظهر؛ لأن الأحداث تتداخل، فإذا ارتفع واحداً ارتفع الكل. والثاني: لا يرتفع؛ لأنه لا ينو رفع جميع الأحداث. والثالث: على وجه آخر، وهو أنه إن نوى آخر الأحداث ارتفع جميعها؛ لأنها تداخلت فيها بعدها. وإن كان أولها لم يرتفع ما بعده وهذا غريب. [49 أ/ 1] فرع آخر لو نفي الباقي وقال: لا أرفع الأحداث الباقية يجئ فيه الأوجه الثلاثة، وعندي أنه لا يجوز وضوءه لأنه ناقص في النية، فصار كما لو قال: أرفع الحدث ولا أرفع. فرع آخر لو نوى أن يستبح به صلاة الظهر دون غيرها، فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وهو المذهب يصلي ما شاء من الصلوات؛ لأن الصلاة إلى عينها لا يستبحها إلا بعد رفع الحدث، فإذا ارتفع حدثه جاز أن يصلي ما شاء، ولأن هذا إبطال للطهارة بعد صحتها من غير حدث، وهذا لا يجوز. والثاني: لا يصح وضوءه ونتيه باطلة؛ لأنه إذا لم يرتفع حدثه لغيرها لم يرتفع لها. والثالث: يرتفع حدثه للظهر وحدها؛ لأن الطهارة قد تصح لصلاة واحدة، وهي طهارة المستحاضة. ذكره ابن سريج، وهو أضعف الوجوه. فرع آخر قال في "الأم" لو وضأه غيره وهو ناو يجوز؛ لأن الفعل لا يعتبر فيه، ولهذا لو جرى عليه المطر وهو ناوٍ فإنه يجوز. وقال داود: لا يجوز، وهو غلط لما ذكرناه.

فرع آخر إذا فرق النية على أعضائه، مثل إن نوى رفع الحدث عند يديه ونحو ذلك، فيه وجهان: أحدها: لا يجوز لأنها جنابة واحدة فأشبهت الصلاة. والثاني: يجوز لأن تغيير النية في أثنائها لا يبطل حكم ما فعل منها، ويكون فيه تبعيض النية. فرع آخر لو نوى قطع الطهارة بعد الفراغ منها لم ينقطع؛ لأن الحدث قد ارتفع فلا تعود إلا بوجوب سبب [49 أ/ 1] وإن نوى قطعها في أثنائها ففيه وجهان: أحدهما: تبطل طهارته كما لو نوى قطع الصلاة في أثنائها. والثاني: لا تبطل ما مضى، وهو الأصح. كما لو نسي النية ونوى التبرد تنقطع النية ولا تبطل ما مضى، وتفارق الصلاة؛ لأنه متى انقطعت نيتها بطلت، فعلى هذا إذا عاد ونوى فإن لم يتطاول الفصل بنى على طهارته وأتمها، وإن تطاول الفصل كان على القولين في الموالاة هل تجب أم لا؟ فرع آخر لو توضأ رجل من حدث فأغفل مسح رأسه، ثم توضأ ثانياً وعنده أنه على طهر ونوى به نجز ذلك الوضوء، فلما فرغ منه ذكر أنه نسي من الوضوء الأول مسح الرأس، قال: من اتخذ أولًا يجزيه الوضوء الثاني، وعليه أن يعيد مسح رأسه وغسل رجليه وهو الصحيح، واختاره القاضي الطبري؛ لأن تجديد الوضوء يستحب مع زوال الحدث فهو لا يتضمن رفع الحدث، فإذا نواه لا يرتفع به الحدث، كما لو كان جنبًا فنسى الجنابة واغتسل للجمعة لم يجزه عن الجنابة. ومن أصحابنا من قال: يجزيه مسح الرأس من الوضوء الثاني، ونية تجديد الوضوء تقوم مقام نية رفع الحدث؛ لأن معنى التجديد أنه مثل الأول، فإذا لم يرفع الحدث لا يكون تجديدًا، وهذا اختيار جماعة من أصحابنا. قال هذا القائل: ولا يشبه هذا إذا نسي سجدة من الصلاة ثم سجد للقرآن لم يجزه عن سجدة [50 أ/ 1] في الصلاة في أصح الوجهين؛ لأنه واقع في موضعه هو التلاوة وبقاء سجود الصلاة لم يمنع من صحته بخلاف هذا. فرع آخر لو أن جنبًا اغتسل فأغفل لمعة من جسده، ثم اغتسل بعده للجمعة، ثم تذكر أنه كان نسي لمعة في غسل الجنابة يلزمه إعادتها؛ لأن الغسل للجمعة لا يجوز عن غسل الجنابة. فرع آخر لو ترك لمعة من وجهه في المرة الأولى من وضوء المفروض ولم يعلم، ثم غسلها بنية المرة الثانية أو الثالثة. قال القفال: فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن النفل لا يغني عن. الفرض. والثاني: يجوز؛ لأن نيته اشتملت في الابتداء على أن ما يغسله أول

مرة فهو فرض، وما يغسله مرة ثانية فهو سنة، وغسله للموضع المتروك هو أول غسل يجزي عن الفرض بخلاف نية التجديد، فإنه لم يوجد نية الفرض أصلًا وهذا أصح. فرع آخر لو شك هل احتلم أم أحدث؟ وكان من قبل على يقين الطهارة، فالأصل الطهارة، إلا أنه يؤمر بالتطهير، احتياطًا، فلو تطهر ثم بان أنه كان محدثًا هل يجزيه أم يجب الإعادة؟ وجهان. ذكره القفال. فرع آخر قال ابن الحداد: لو توضأ وترك لمعة بوجهة، ثم نسى أن يكون قد تطهر يتوضأ، وعنده أنه محدث، فصارت تلك اللمعة مغسولة في المرة الثانية صحت صلاته بلا خلاف. وكذلك لو كان هذا في غسل الجنابة؛ لأنه نوى في الوضوء الثاني رفع الحدث، وهذا [51 أ/ 1] عندي إذا كان ذاكراً للنية وقت غسل تلك اللمعة. فرع آخر قال ابن الحداد: لو غسل الجنب جميع بدنه بنية رفع الجنابة إلا قدميه، ثم غسل قدميه بنية رفع الحدث يصلح؛ لأن غسل القدمين في الحدث لا يجوز؛ لأن في غسل الحدث مسح، والمسح لا يجوز مع الجنابة. فرع آخر لو نوى في ابتداء الوضوء رفع الحدث والتبرد والتنظف أجزأه، نص عليه في "البويطي". ومن أصحابنا من قال: لا يجزيه؛ لأنه شرك بين الفرض وغيره، وهذا غلط؛ لأن كل معنى يقتضيه الفعل فنيته فيه لا تضره. كما لو جمع بين الفرض وتحية المسجد لا يضره؛ لأنه يحصل بالفرض تحية المسجد وإن لم ينوها، وبمثله لو نوى في ركعتي الصبح ركعة سنة الصبح لم يجز؛ لأنه لو لم ينو ذلك لم يحصل له، ولذلك لو أدرك الإمام في الركوع فكبر ينوي به الافتتاح وتكبير الركوع لا يجوز. فرع آخر قاله الإمام جدي: لو أجنبت امرأة من بنات تسع، فنوت في غسلها رفع حدث الحيض هل يجوز؟ وجهان، والأصح جوازه. فرع آخر ذكره والدي الإمام - رحمه الله - لو توضأ ونوى أن يؤدي به صلاة لا يدركها بهذا الوضوء أصلًا، مثل إن توضأ في رجب لصلاة العيد هل يجوز أن يؤدي به سائر الصلوات؟ قياس المذهب أنه يجوز؛ [51 أ/ ا] لأنه نوى أداء ما لا يستباح إلا بالوضوء.

فرع آخر لو نوى رفع حدث يوجد بعد وضوء لا يجوز؛ لأن الوضوء يرفع الحدث السابق دون المتأخر. وقال جدي الإمام - رحمه الله-: يجوز، وهو ظاهر النص؛ لأنه قال: "لو توضأ مع ريح ثم علم أن حدثه بول يجوز وضوءه" وهذا لا يصح عندي؛ لأن في هذا النص نوى رفع الحدث في الحال بخلاف ذاك. فرع آخر لا يجوز في التيمم أن ينوي رفع الحدث؛ لأنه لا يرفع الحدث بل ينوي استباحة الصلاة. وقال ابن سريج: يجوز أن ينوي به رفع الحدث؛ لأنه يرفع الحدث في حق هذه الصلاة. فرع آخر المستحاضة لا تنوي رفع الحدث في طهارتها، بل تنوي استباحة الصلاة. قال القفال: ويستحب أن تجمع فتنوي استباحة رفع الحدث. وقال الإمام أبو عبد الله الخضري من أصحابنا: يجب أن تجمع بين نية رفع الحدث وبين استباحة الصلاة، فتكون رافعة للحدث السابق ومستبيحة للحدث اللاحق. فر ع آخر قال الإصطخري: "لو أجنب الكافر ثم أسلم سقط حكم الجنابة بإسلامه، لأن الإسلام يجب ما قبله". والمرتد لو أجنب ثم أسلم لا يسقط كالصلاة لا تسقط عنه بالردة، ولم يوافقه سائر أصحابنا على هذا. مسألة: قال: "وَإِنْ نُوَى يَتَوَضَّأَ ثُمْ عَزَبَتْ نِيَتُه" الفصل وهذا كما قال: قوله: يتوضأ: أي توضأ بعض الوضوء؛ لأن الغروب بعد الكمال لا يضر، وأراد به أن [51 ب/ 1] استصحاب النية إلى آخر الطهارة لا يجب لأن فيه مشتقة، ولكن تجب استدامة حكمها، فلا يجوز له أن يغير نيته إلى شيء آخر، فإن غير نيته إلى التبرد أو التنظف عند غسل الرجلين مثلًا، فإن كان ذاكرًا للنية الأولى يحتسب غسل الرجلين، ويلزمه أن يعيد ذلك بنية رفع الحدث، فإن لم يطل الفصل من علته، وإن طال فيه قولان بناء على تفريق الوضوء. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان: أحدها: هذا والثاني: لا يضره. كما لو كان ذاكرًا للنية الأولى؛ لأن النية العازبة كالمذكورة، وهذا لا يصح؛ لأن العقل من الفاعل لا يقع إلا لغرض، فإذا عزبت نيته لا يمكن إضافته إلا إلى الغرض

باب سنة الوضوء

الأول فجوزنا. وإذا نوى به التبرد واستقل بعرضه فلا يضاف إلى الأول. فرع لو كان يتوضأ على طرف نهر فنوى وغسل بعض الأعضاء، ثم زلق رجله ووصل الماء إلى جميع الأعضاء هل يتم وضوءه؟ وجهان كما لو غسل الباقي بنية التبرد دون رفع أصل النية لأن الماء وصل إلى أعضاء الطهارة بعد إيصال النية بأولها ولا يقصد النية. باب سنة الوضوء قال: أخُبَرنَا سُفْيَانُ عن الزهري وذَكَرَ الْخَبر. ثُم قَالَ: "فإذا قَامَ الرَّجُلُ إلى الصَّلاَةِ مِنْ نَوٍْم أَوْ كَانَ غَيْرَ مُتَوَضَّيءٍ فَأٌحبّ أَنْ يُسَمَّيَ [52 أ/ 1] الله". وهذا كما قال. القصد بيان أفعال الوضوء والسنة والطريقة في الحقيقة، فكأنه عبر عن كيفية الوضوء سنته، والخبر ورد على عادة العرب أنهم كانوا يستنجون بالأحجار لعزة الماء، ثم ينام أحدهم في إزار فيعرق فتصيب يده موضع الاستنجاء ربما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا استيقظ أحدكم من نومه فال يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا، فإن لا يدري أين باتت يده". وجملته أن الوضوء يشتمل على ثلاثة أفعال: واجبات، ومسنونات، وهيئات فالواجبات: ما كان شرطًا لا يتم الضوء إلا به. والمسنونات: هو ما كان راتبًا في الوضوء وليس بشرط. والهيات: ما هو دون ذلك. فأول الأفعال التسمية في ابتدائه، وهو أن يقول: بسم الله. وهي مستحبة غير واجبة، فإن سها عنها سماها متى ذكرها قبل أن يكمل الوضوء، نص عليه في "الأم". وإن ذكرها بعد إتمام الوضوء فقد فات محلها فلا نأتي بها. وحكي عن الشيخ أبي حامد أنه قال: التسمية هي هيئة لا سنة؛ لأن السنة ما كان نأتي بها. وحكي عن الشيخ أبي حامد أنه قال: التسمية هي هيئة لا سنة؛ لأن السنة ما كان في أفعالها الراتبة، والهيئة ما تهيأ بها لعقل العبادة. وهكذا يقول في غسل اليد من قبل الوجه، وهذه ممانعة في العبادة مع تسليم المعنى. وقال إسحاق وأحمد في رواية: التسمية واجبة، فإن تركها عمدًا بطل وضوءه. واحتج بقوله [52 أ/ 1] صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لمن لا وضوء له، ولا وضوء لمن لم يذكر اسم الله تعالى عليه". وهذا غلط لقوله تعالى:"إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ" [المائدة:6] الآية، ولم يذكر التسمية.

وروى ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ وذكر اسم الله عليه كان طهوراً لجميع بدنه، ومن توضأ ولم يذكر اسم الله عليه كان طهورًا لأعضاء وضوءه". ومعنى هذا الطهارة من الذنوب؛ لأن رفع الحدث لا يتبعض، فدل أن التسمية موضوع الفضيلة، ولأنها عبادة لا يشترط الذكر في أثنائها فلا يشترط في أولها كالصوم. وأما خبرهم فنحمله على نفي الفضيلة والكمال، أو أراد بالذكر النية؛ لأن محل الذكر القلب، وحكي عن داود أنه قال: هي واجبة ولا يجوز وضوءه وإن تركها ناسيًا، وهو غلط أيضًا لما ذكرنا. مسألة: قال:" ثُمَّ يُفْرغٌ مِن إِنَائِهِ على يَدَيْهِ وَيَغْسِلهُمَا ثَلاَثًا". وهذا كما قال إذا سمى الله تعالى يستحب له أن يغسل يديه ثلاثًا؛ لأن عثمان وعليًا وعبد الله بن زيد - رضي الله عنهم - وصفوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلهم غسل كفيه ثلاثًا، وهذا ليس بواجب، سواء قام من النوم أو لم يقم. وقيل: يستحب أن يقول إذا قام من النوم: "الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا وإليه النشور". لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول ذلك. وقال [53 أ/ 1] الحسن البصري: هو واجب لأجل النجاسة، فإن غمس يده في الإناء قبل غسلها أراق الماء؛ لأن النبي صلى الله عليه أمر به لأجل النجاسة، فصار حكمًا بحصول النجاسة. وقال داود: هو واجب تعبدًا، فإن لم يفعل وأخل يده في الإناء صار الماء مهجورًا ولا ينجس؛ لأن الماء عنده لا ينجس ما لم يتغير. وحكي أصحاب داود عنه أنه قال: إن من قام الليل لا يجوز له غسل اليد في الإناء حتى يغسلها، ولا أقول إن غسل اليد واجب؛ لأنه لو صب الماء في يده وتوضأ به ولم يغسل يده جاز، فإن غمس يده في الماء لا يغسل الماء. وقال أحمد في رواية: إن قام من نوم الليل وجب عليه أن يغسل يديه ثلاثًا، فإن غمسها في الإناء قبل ذلك أراق الماء، وإن قام من نوم النهار أو لم يقم من النوم لا يجب، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم "فإنه لا يدري أين باتت يده"، والبيوتة بالليل دون النهار، وهذا غلط لقوله تعالى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ} [المائدة:6] الآية، ولم يذكر غسل الكفين ثلاثًا. وقال زيد بن أسلم: معناه: إذا قمتم إلى الصلاة من نوم، ولأن غسل اليد إن كان لخوف النجاسة فبالشك لا تجب؛ لأن الأصل الطهارة وإن كان للتعبد فقد وجب غسلهما في الوضوء إلى المرفقين، فلا يجب تكراره كغسل سائر الأعضاء، والخبر هو محمول على الاستحباب بدليل أنه قال: "فإن لا يدري أين [ب 53/ 1] باتت يده"، وهذا أمر موهوم فكان الاحتياط.

إذا تقرر هذا، فإن لم يكن قام من النوم وتيقن طهارة اليدين فله أن يغسلهما في الإناء، وإن قام من النوم أو كان شاكًا في طهارته فالمستحب أن يفرغ من الإناء على يديه، ولا يدخلهما في الإناء خوفًا من النجاسة، وإن لم يكن مستنجيًا بالأحجار، فلا يخلو البدن من نثره، فربما يحكها ويسيل منها شيء ينجس يده، فإن غمسها في الإناء لا ينجس الماء؛ لأن الأصل الطهارة. وإن تيقن نجاسة اليد فغمسها في الإناء، فإن كان أقل من قلتين تنجس، وإن كان قلتين لا ينجس ما لم يتغير. وقال في "الحاوي": هكذا ذكره الشيخ أبو حامد، والصحيح من المذهب وبه قال جماعة أصحابنا: أن القائم من النوم وغيره سواء في هذا، فلا يغمسان إلا بعد غسلهما، لأنهما لما استويا في سنة الغسل، وإن ورد النص في القائم من النوم استويا في تقديم الغسل على الغمس، وهذا لأن حكم السنة يثبت مع زوال السبب كما يثبت سنة الرمل في الطواف مع زوال السبب وهو مراءاة المشركين، وهذا غريب ثم إن كان يتوضأ من إناء فإن كان نقلته على يده تركه على يساره وقلبه عن يمينه، وإن كان يعرف منه وغرف الماء بيمينه لأنه أمكن. واعلم بأن أبا هريرة - رضي الله عنه - لما روى هذا الخبر قال له أعرابي من أشجع من أصحاب عبد الله بن مسعود - رضي الله عنهم - إذا جئنا مهراسكم كيف نصنع؟ فقال: أعوذ [54 أ/ 1] بالله من شرَّك. والمهراس حجر كانوا يتوضؤون منه بالمدينة لا يمكن أن يقع على اليد إلا بإدخال اليد، وكانت الصحابة يتوضؤون منه. قال أصحابنا في مثل هذا الموضع: يرفع الماء بفيه ويغسل يديه، أو يأخذ الماء بطرف ثوبه النظيف ويغسل يديه بما ينال منه أو يستعين بغيره. مسألة: قال: "ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ اليُمْنَى في الإِنَاءِ فَيَغْرِفُ غَرْفَةً لِفِيهِ وَأَنْفِهِ". وهذا كما قال: استجب الشافعي إدخال يده اليمنى؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحب التيمن في كل شيء، ثم قال: فَيَغْرٍفُ غَرْفَةً" وهي بفتح الغين مصدر غرف يغرف، وبضم الغين اسم للماء الذي يكون في كفه. والكلام الآن في فصلين أحدهما: في حكمهما. فأما حكمهما يفيد أن المضمضة والاستنشاق في الوضوء وغسل الجنابة. وبقه قال مالك، وربيعة، والزهري، والأوزاعي. وقال عطاء، وابن أبي ليلى، وإسحاق، وأحمد في رواية: هما واجبتان. وقال أبو ثور، وداود، وأحمد في رواية: الاستنشاق فيهما دون المضمضة. وقال أبو حنيفة، والثوري: هما واجبتان في الجنابة دون الوضوء. واحتجوا بما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المضمضمة والاستنشاق للجنب ثلاثًا فريضة". واحتج أبو ثور بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للقيط بن صبرة: "بالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا". وهذا غلط

لقوله صلى الله عليه وسلم: "عشر من الفطرة"، وعد منها المضمضة والاستنشاق. وقال [ب 54/ 1] صلى الله عليه وسلم لأم سلمة - رضي الله عنها: "يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من الماء، ثم تفيضي عليك الماء، فإذا أنت قد طهرت" وبإفاضة الماء على رأسها لا تحصل المضمضة والاستنشاق. وروى ابن عباس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المضمضة والاستنشاق سنة، والأذنان من الرأس". وروى أبو هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت بالوضوء فوضأني جبريل صلى الله عليه وسلم فرض الوضوء، وسننت أنا فيه الاستنجاء والمضمضة والاستنشاق، وغسل الأذنين، وتخليل اللحية، ومسح القفا" وهو إسباغ الوضوء. وأما خبره الأول قال الدارقطني - رحمه الله -: وهم فيه من وصله وهو مرسل يرويه سليمان بن موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم هو محمول على تأكيد استجابة. وأما الخبر الثاني: فرواه بركة الحلبي وهو كذاب ومتروك. والظاهر لأنها لا تجب ثلاثًا أن الفرض محمول على التقدير. وأما الخبر الآخر: فمحمول على الاستحباب. وأما كيفيتها: فالكلام فيهما على فصلين: أحدهما في الجائز والثاني: في الأفضل. فأما الجائز: فهو أن يوصل الماء إلى الفم والأنف ثلاثًا بغرفة أو غرفتين، أو أكثر. فأما الأفضل: ظاهر ما نقل هاهنا وهو المنصوص في "الأم" أنه، يجمع بينهما بغرفة واحدة. وقال في "البويطي": "ومن تمضمض واستنشق من غرفة واحدة أجزأه، وتفرقهما أحب إلى" فالمسألة على قولين: أحدهما: الجمع بينهما أفضل، ووجهه ما روي [55 أ/ 1] عبد خير، عن علي - رضي الله عنه- أنه وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمضمض مع الاستنشاق بماء واحد، ولأنه أقل لإضاعة الماء وأبعد عن الإسراف، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن في الوضوء سرفًا ولو كنت على شاطئ". والثاني: تفريقهما أفضل وهو الأصح، ووجه ما روى عن عثمان - رضي الله عنه - أنه وصف وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا هو، وروى طلحة بن مصرف عن أبيه عن جده أنه قال: دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يتوضأ والماء يسيل من وجهه ولحيته على صدره،

فرأيته يفصل بين المضمضة والاستنشاق. ولأن الفصل بينهما أشبه بأعمال الوضوء في سائر الأعضاء، وأقرب إلى النظافة وأمكن، ويحمل رواية علي - رضي الله عنه - على الجواز. فإذا قلنا بالأول، قال القفال وساعده بعض أصحابنا: الجمع أن يغرف غرفة واحدة فيتمضمض منها ثلاثًا، ثم يستنشق ثلاثًا بالبقية، قال: وهو ظاهر كلام الشافعي. وقال أبو حامد، وهو اختيار أبي يعقوب الأبيوردي: الجمع أن يغرف ثلاثا غرفات يجمع بكل واحدة بين المضمضة والاستنشاق ويقدم المضمضة، وهذا أصح، [55 ب/ 1] لأنه أمكن. وقيل: الجمع أن يأتي بهما في حالة واحدة ولا يقدم المضمضة على الاستنشاق، وهذا ضعيف. وإذا قلنا بالقول الثاني، قال أبو حامد: التفريق أن يغرف غرفة يتمضمض منها ثلاثًا، ثم يغرف غرفة أخرى يستنشق منها ثلاثًا. وقال القاضي أبو حامد: يغرف ثلاث غرفات للمضمضة وثلاث غرفات للاستنشاق، والأول هو ظاهر كلام الشافعي. وقيل. الاستنشاق على هذا القول وليس بشيء. فرع المستحب في المضمضة أن يأخذ الماء بفيه ويديره في فيه ثم يمجه، وفي الاستنشاق أن يأخذ بأنفه ويمده بنفسه إلى خياشيمه ثم ينثره، لما روى عمرو بن عبسة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما منكم من أحد يغرف وضوءه ثم يستنشق وينثر إلا جرت خطايا فيه وأنفه وخياشيمه مع الماء". قال الشافعي: "وَيُبْلِغُ خَيَاشِيمَهُ الْمَاءَ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ صَائِمًا". وأراد بالخياشيم أصول الأنف وهي العظام التي في الأنف، ويبلغ الماء إليه أو إلى ما دونه ويسمي إلا في حالة الصوم، فإنه يرفق فيها ولا يبالغ لئلا يسبق الماء إلى دماغه فيوجب الفطر؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للقيط بن صبرة: "أسبغ الوضوء، وخلل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا". فرع قال الشافعي في "الأم": استحب إدخال الماء في العينين ولا أبلغ به تأكيد [56 أ/ 1] المضمضة والاستنشاق. قال أصحابنا: هو من هيئات الوضوء؛ لأنه روي عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه كان يفعله، وهو دون المضمضة والاستنشاق. لأنه

روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يرو عنه إدخال الماء في العينين؛ لأن الفم والأنف يتغيران فيزيل الماء تغيرهما، والعين لا تتغير، وظاهر النص أنه يستحب ولكنه دون استحباب المضمضة، ومن أصحابنا من قال: لا يستحب ولا يغسله، لأنه لم ينقل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قولًا ولا فعلًا وهو يؤدي إلى الضرر، وهذا هو اختيار أكثر أصحابنا. وقال صاحب "الحاوي": "لا يجب ولا يبين". وهل يستحب؟ قال أبو حامد: يستحب للنص في "الأم". وقال غيره: لا يستحب وهذا أصح؛ لأنه ما لا يبين لا يستحب، وفعل ابن عمر لا يدل عليه إذ لم يفعله رضي الله عنه. مسألة: قال: "ثُمَّ يَغْرِفُ المَاءَ بِيَدَيْهِ فَيَغْسِلُ وَجْهَهُ ثَلاَثًا". الفصل وهذا كما قال. الماء بيديه لأنه ربما يتعذر غسل الوجه كله بغرفة ويغترفها بيد واحدة، وليس شرط؛ لأنه إن أمكن ذلك جاز. وغسل الوجه هو أول أركان الطهارة من الأفعال، لقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، وحد الوجه ما بين منابت شعر الرأس إلى الذقن وهو مجمع اللحيين طولًا، ومن وتد الأذن إلى وتد الأذن عرضًا. والاعتبار في منبت شعر الرأس بغالب خلقة الإنسان، ولابد على الأقرع - وهو الذي نزل شعر رأسه إلى [56 ب/ 1] جبهته - ولا أصلع - وهو الذي انحسر شعره عن مقدم رأسه - ولا يجوز للأقرع الاقتصار على ما دون منابت شعر الرأس إلى أصول الأذنين ومنتهى اللحيين والذقن، وفميا نقل المزني خلل من ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه قال: من منابت شعر رأسه، والشافعي قال: من دون منابت. والثاني: قال: إلى ما أقبل من وجهه وذقنه، وأراد بالإقبال ما لم يتعطف من ظاهر لحيته وذقنه لحد الوجه بالوجه، والشيء لا يحد بنفسه. والثالث: أنه قال: ومنتهى اللحية، وهذا يفيد أنه يغسل إلى منتهاها، ومنتهاها الحلق ولا يجب ذلك. فإذا تقرر هذا فالجبهة موضع السجود، والجبينان هما العظمتان الناتئان في جانبي الجبهة وهما من الوجه. والصدغان هو الشعر المحازي لرأس الأذن، وما نزل منه إلى ابتداء العذار وهما من الرأس. وقال في "الحاوي": فيه ثلاثة أوجه: أحدها وهو قياس قول ابن سريج: هما من الوجه بحصول المواجهة بهما. والثاني وهو قياس أبي إسحاق: هما من الرأس لاتصال شعرهما بشعر الرأس.

والثالث: وهو قول الجمهور: ما استعلى من الصدغين عن الأذنين من الرأس، وما انحدر عن الأذنين من الوجه؛ لأن الوجه محدود بالأذنين، وهذا أصح عندي. وقال في "البويطي": لو كان أمرد غسل صدغيه، وإن كان ملتحيًا أمر الماء على الصدغ إلى الأذن. قال [57 أ/ 1] أصحابنا: أراد بالصدغ ها هنا العذار، وهو الخط الممتد من الصدغ على العظم الذي يحاذي وتد الأذن بينه وبين وتد الأذن بياض، فيلزمه إفاضة الماء على العذارين وغسل ما تحتهما، وكذلك على الذقن، وعلى العنفقة وهو الشعر الذي على الشفة لاستواء المقفلة والمنشلة". فالمقفلة هي العنفقة، والمنشلة ما تحت الخاتم، والنوعيان ويستحب غسلهما مع الوجه لأنهما في سمت الناصية، والناصية من الرأس. وتسمى أيضًا الحالجة، يقال: رجل أحلج على هذا المعنى، وأما موضع التحذيف وهو الشعر النابت في أعالي الجبهة، وهو ما بين سبيط الرأس ومنحدر الوجه يؤخذ بالحفاف والتحذيف. وقد يعبر عنه بأنه الشعر الداخل إلى الجبينين من جانبي الوجه ما بين العذار والنزعة وفيه وجهان. قال أبو إسحاق: من الرأس؛ لأنه يتصل نباته بشعر الرأس، والله تعالى فرق بين الرأس والوجه بنبات الشعر. ومن قال بهذا قال: حد الوجه من منابت شعر الرأس ليخرج منه موضع التحذيف. وقال ابن سريج، وابن أبي هريرة: هو من الوجه لحصول المواجهة به في منحدر الوجه، وأن العادة فيه التحذيف، وقد جعله الناس بالعرف وجهًا وأنه شعر من بياض الوجه [57 ب/ 1] كالحاجب. ومن قال: هذا حد الوجه، يقال: من قصاص الشعر إلى الذقن ليدخل فيه موضع الحذيف، وهذا اختيار صاحب: "الحاوي"، والمشهور عند عامة أصحابنا الوجه الأول، والاعتبار في التسمية بأهل اللغة، وأهل اللغة لم يجعلوه من الوجه. وقال أبو إسحاق في شرح نص الشافعي في "الإملاء" إنه من الرأس، وحكاه الإمام القاضي طاهر الطبري - رحمه الله - وحكى عن مالك أنه قال: لا يجب غسل العذار ولا البياض الذي بين الأذن والوجه، وهذا غلط؛ لأنه ينطلق عليه اسم الوجه. وقال أبو يوسف: يجب على الأمرد غسله دون اللحى؛ لأن الشعر حصل حائلًا بينه وبين الوجه، وهذا غلط؛ لأن أحدًا من أهل اللغة لم يذكره مع الوجه في حده ولا تقع المواجهة به، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم مسح أذنيه ولم يغسلها مع الوجه، واحتج الزهري بقوله صلى الله عليه وسلم: "سجد وجهي للذي خلقه، وشق سمعه وبصره" فأضاف السمع إليه كما أضاف

البصر. قلنا: عبر بالوجه عن الجملة لقوله تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إلاَّ وجْهَهُ} [القصص: 88]، أو ذكره مجازًا على معنى أنه يجاوره، والعرب تسمي النتوء باسم ما جاوره مجازًا. فرع قال بعض أصحابنا بخراسان: [58 أ/ 1] لو نبت الشعر على جبهته غسل من منجرف الرأس، ولو نبت على بعض جبهته دون بعض كالأغم ففيه وجهان: أحدهما: يغسل من المنبت وهو الأصح. والثاني: من منحرف الرأس، وهذا لا يصح عندي، والمذهب في حد ما يجب غسله ما ذكرنا في كل حال. فرع آخر روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه كان لا يسن الماء على وجهه ولا يشنه. والسن بغير إعجام هو صب الماء. والشن بالإعجام هو تفريق الماء قال أصحابنا: يستحب أن لا يفعل ذلك. مسألة: قال: "فَإِنْ كَانَ أَمْرَدَ غَسْلَ بَشَرَةِ وَجْهِهِ كُلُّهَا". وهذا كما قال. ذكر الشافعي في "الأم" أربع مسائل نقل المزني الأولى والرابعة، وترك الثانية والثالثة. فالأولى: إذا لم يكن على وجهه شعر، بأن يكون أمرد أو أثط يلزمه غسل بشرة وجهه كلها، والغسل هو إمرار الماء على المحل المغسول زائدًا على إمرار البلل فإن ذلك مسح. والثانية: أن يكون له لحية حقيقة لا تستر ما تحتها من البشرة يغسلها وما تحتها. والثالثة: أن يكون بعضها كثيفًا وبعضها خفيفًا، والكثيف هو الذي لا يمكن رؤية البشرة تحتها. وقيل: الكثيف وغسل ما تحت الخفيف وتخليله، ويستحب تخليل الكثيف أيضًا. والرابعة: وهي التي نقلها المزني مع الأولى، وهي أن تكون اللحية كلها كثيفة يجب إفاضة الماء على ما قابل حد [58 ب/ 1] الوجه قولًا واحدًا. ويستحب تخليل اللحية ولا يجب لما روى أنس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاءني جبريل عليه السلام فقال: يا محمد خلل لحيتك بالماء عند الطهور" وروي: "خلل لحيتك إذا توضأت للصلاة". وقال المزني، وأبو حامد، وابن جريج: يجب إيصال الماء إلى ما تحت بشرته كما

في الجنابة وكما في شعر الحاجبين، وهذا غلط؛ لما روى ابن عباس - رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فغرف غرفة غسل بها وجهه". وبغرفة واحدة لا يصل الماء إلى بشرة وجهه، فإنه كان كثير اللحية. قال على بن أبي طالب - رضي الله عنه - في وصفه: "كان عظيم الهامة عظيم اللحية" ويفارق الجنابة لأنها لا تتعلق بجميع البدن، ولا يتكرر فلا يشق إيصال الماء إلى ما تحته بخلاف هذا، وأما شعر الحاجبين، فإنه لا يكثر غالبًا. وقال أبو حنيفة في الشعر المحاذي لمحل الغرض يجب مسحه. وفي رواية أخرى: يجب مسح ربعه، وبه قال أبو يوسف في رواية: وروي عن أبي يوسف: يسقط عن البشرة ولا يتعلق بالشعر، وهذه رواية شاذة عن أبي حنيفة أيضًا. احتج أبو حنيفة بأن الغرض إذا تعلق بالشعر كان مسحًا كما في الرأس، وهذا غلط لقوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] واللحية من الوجه، بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلًا غطى لحيته في الصلاة، فقال: "اكشف وجهك فإن اللحية من الوجه". [59 أ/ 1] ويفارق شعر الرأس، لأن فرض البشرة تحت المسح، فانتقل إلى الشعر على صفته، فينبغي أن ينتقل من البشرة في الوجه إلى الشعر على صفته. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يخلل لحيته ويدلك عارضه بعد الدلك". وقال أنس: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا توضأ أخذ كفًا من ماء فأدخله تحت حنكه يخلل به لحيته، وقال: "هكذا أمرني ربي". وقال إسحاق: لو تركه عامدًا أعاد الصلاة. وحكي ذلك عن أبي ثور. وقال أصحابنا: يستحب له أن يمسح مآقيه بسبابتيه؛ لأنه قد يجتمع فيمها كحل أو رمض فيزول بذلك ويصل الماء إليهما، لما روى أبو أمامة "أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثًا ومسح مرة واحدة، وكان يمسح المآفين". فرع لو أفاض الماء على شعر لحيته ثم حلقه أو نتفه لا يبطل وضوءه. وقال ابن جرير: يبطل، كما لو نزع الخفين بعد المسح، وهذا غلط؛ لأن الشعر من جملة الخلقة، فزواله لا يوجب غسل ما تحت الجلد، ويفارق الخف لأنه كان بدلًا ولم يكن أصلًا، فبطل حكم المسح عليه بظهور الأصل.

فرع آخر ذكر الشافعي الشعور التي يجب إيصال الماء إلى ما تحتها في الوجه، وهي خمسة: العنفقة، والحاجبان، والشاربان، والعذاران، وأهداب العينين؛ لأن الشعر فيهما خفيف لا مشقة في إيصال الماء إلى ما تحتها، وفي الشارب أمر الشرع بتخفيفه. قال القفال في العنفقة: إن كانت [59 ب/ 1] منفصلة عن اللحية فهي كالحاجب والشارب، وإن كانت متصلة بها كثيفة ففيه وجهان؛ أصحهما أن حكمها حكم اللحية الكثيفة يغسل ظاهرها. والثاني: يلزمه غسل ما تحتها. قال: وبناء الوجهين على اختلاف المعنى في الحاجب والشارب. فإن قلنا: العلة هناك أن المغسول من الوجه محيط به، وإليه أشار في "الأم" لا يوجد هاهنا. وإن قلنا: العلة هناك أن الغالب أنه لا يكثر يوجد هاهنا، وما تقدم أصح. فرع قال في "حرملة": لو نبتت للمرأة لحية وجب عليها إيصال الماء إلى البشرة التي تحتها وإن كانت كثيفة؛ لأنها نادرة فأشبه شعر الذراعين إذا كان كثيفًا. مسألة: قال: "ثُمَّ يَغْسِلُ ذِرَاعَهُ اليُمْنَى إلى المِرْفَقِ". وهذا كما قال. أراد بالذراع اليد من رؤوس الأصابع إلى المرفق، وهو مفصل الساعد والعضد، وغسل اليدين فرض على هذا الوجه، ويدخل المرفقين في فرض الغسل، ويستحب أن يزيد حتى يغسل العضد. وقال زفر، وأبو بكر بن داود: لا يجب غسل المرفقين؛ لأن الحد لا يدخل في المحدود، كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، وهذا غلط؛ لأن اسم اليد إذا أطلق يقتضي اليد إلى الإبط؛ لأن الله تعالى لما أطلق اليد في التيمم مسحت الصحابة أيديهم إلى الإباط لكن الله تعالى استثنى ما عدا المرفقين: " إلَى المَرَافِقِ " [المائدة:6] أي مع المرافق، كقوله تعالى: {مَنْ أَنصَارِي إلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] أي مع الله [160 أ/ 1]، وقوله تعالى: {ولا تَاكُلُوا أَمْوَالَهُمْ} [النساء:2]، أي: مع أموالكم. وقوله تعالى: {ويَزِدْكُمْ قُوَّةً إلَى قُوَّتِكُمْ} [هود: 52]، أي: مع قوتكم. وحكي أبو إسحاق المروزي عن المبرد أنه قال: إذا كان الحد من جنس المحدود دخل فيه، كما قال: يغسل هذا الثوب من هذا الطرف إلى هذا الطرف. وقد روى جابر - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله كان إذا توضأ أدار الماء على مرفقيه. وهذا من فعله خرج مخرج البيان لمجمل الأمر. وإذا بدأ باليمنى وقدمها على اليسرى استحبابًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توضأتم

فابدءوا بميامنكم". وقوله: "ثلاثًا ثلاثًا" يرجع إلى اليدين لا إلى المرفقين خاصة. وفي المرفق لغتان؛ مرفق بكسر الميم وفتح الفاء، ومرفق بفتح الميم وكسر الفاء. مسألة: قال: فإن كَانَ أقْطَعَ الْيَدَيْنِ غسل مَا بَقِيَ مِنْهُمَا إِلَى الْمِرْفَقَيِنِ". وهذا كما قال. به ذكرنا الواجب إذا كان سليم اليدين، وأما الأقطع ففيه ثلاث مسائل: إحداها: أن يكون أقطع اليدين من الكوعين، وهو المراد بع غسل ما بقي، وقد يعبر عن الكفين باليدين. قال الله تعالى: {والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وأراد الكشف إلى الكوع، وكذلك لذا كان أقطع من نصف الذراع غسل ما بقي. والثانية: أن يكون أقطع اليدين من فوق المرفقين، فلا فرض عليه، ويستحب أن يغسل ما بقي من العضد إلى المنكب لأنه موضع التحجيل وإسباغ [60 ب/ 1] الوضوء، وظاهر من ذكرها هنا أنه استحبه الأقطع خاصة، وأصحابنا قالوا: يستحب للصحيح أيضًا، لأنه من جملة إسباغ الوضوء وقد روي أن أبا هريرة - رضي الله عنه - كان يغسل العضدين مع الذراعين والساقين مع القدمين، ويقول: أحب أن أطيل غرتي. وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه استحب غسله. وأنكر ابن داود على الشافعي هذا الاستحباب وهو غلط؛ لما ذكرنا. وقيل: تطويل الغرة هو أن يغسل بعض مقدمة الرأس مع الوجه، وتطويل التحجيل هو أن يغسل بعض العضد مع المرفق وبعض الساق مع القدم. والثالثة: أن يكون أقطع اليدين مع المرفقين. فقال المزني: إنه لا فرض عليه. فمن أصحابنا من قال: غلط المزني في النقل. وقد قال الشافعي في رواية الربيع: "وإن كان أقطع اليدين من فوق المرفقين فلا فرض عليه". وهذا هو المذهب. ومن أصحابنا من قال: معنى رواية المزني من المرفقين أي مع المرفقين فهي موافقة لرواية الربيع. وقال الإمام أبو محمد الجويني - رحمه الله -: قد وجدت هذه اللفظة للشافعي في "القديم" فلا يجوز تغليط المزني. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان بتاء على القولين في مائية المرفقين. أحدهما: أن المرفق هو طرف عظم الزند الذي على طرف عظم الذراع، فعلى هذا إذا قطع من هذا المفصل سقط الغرض، وهو رواية المزني. [61 أ/ 1] والثاني: المرفق اسم لمجموع طرفي العظمين، فعلى هذا قد بقي أحد الطرفين فيلزمه غسله، وهي بداية الربيع.

ومنهم من قال: المرفق هو مجموع طرفي العظمين قولًا واحدًا، والقولان في أن المرفق هل يجب غسله تبعًا للذراعين، أو قصد أحدهما يجب غسله تبعًا للذراع ليقع به استيعاب غسل الذراع، وهذا كغسل الوجه لا يمكن إلا بغسل شيء من الرأس، فعلى هذا إذا قطع من هذا المفصل سقط فرض الغسل ليسقط المتبوع. والثاني: يلزمه غسل المرفق قصدًا كالذراع، فعلى هذا لا يسقط غسل ذلك. فرع قال في "البويطي": لو توضأ ثم قطعت يده لم يجب غسل ما ظهر غسله، فإن أحث بعد ذلك وجب غسل ما ظهر من يده بالقطع؛ لأنه صار ظاهرًا وكذلك إذا توضأ ثم قلم أظفاره لم يجب عليه غسل الموضع الذي قلمه، ولو كان مثقوب الكف يرى الضوء من الجانب الآخر يلزمه إيصال الماء إليه. ولو كان إصبع زائدة يلزمه غسلها في الوضوء. فرع لو خلق له كفان في ذراع يلزمه غسلهما في الوضوء وتقطع في السرقة إحداهما؛ لأن الطهارة مبنية على الاحتياط والحد يسقط بالشبهات، ولو خرجت في وجهه أو ذراعه سلعة فإنه يلزمه غسلها. فرع آخر لو خلق [61 ب/ 1] له يدان ينظر، إن كانت في الطول سواء غسلهما، وإن كانت إحداهما ناقصة غسل الكاملة إلى المرفقين، ثم ينظر في الناقصة، فإن كانت على محل الفرض كالكوع والساعد فإنه يلزم غسل كلها، وإن كانت على غير محل الفرض، مثل أن خُلعت على العضد والمنكب نُظر، فإن قصرت عن مجاراة الفرض فلا فرض عليه، وإن حاذى شيء منها محل الفرض فعليه غسل ما حاذى محل الفرض منها؛ لأنها قد تحاذي محل الفرض. وهذا اختيار أبي حامد. وقال بعض أصحابنا: لا يجب غسلها؛ لأن أصلها في غير محل الفرض، واسم اليد يقع على ما لو كانت قصيرة ولم تبلغ محل الفرض ولا يجب غسلها وهذا هو أقرب عندي. فرع آخر لو سقطت جلدة من ذراعه وتدلت يلزمه غسلها، وإن سقطت من ذراعه والتحمت بذراعه يلزمه غسلها أيضًا وإن كان بعضها يلزمه إدخال الماء تحتها لأن سقطت من عضه والتحمت بذراعه يلزمه غسل ما التحم بذراعه دون ما على عضده، ولا يجب غسل ما تحتها وتكشيطها بلا إشكال. وإن نابت من الذراع لم يجب غسلها وإن سقطت من الذراع وانعطفت على العضد والتحمت، ولم تبن من الذراع، فإنه يلزم غسلها، وما كان على محل الفرض من الذراع ولا يجب غسل ما جاوزه؛ لأنه لما التحمت بالعضد

صار حكمها حكمه. وإن كانت يد نابت لا يجب غسلها. وإن قطع من الذراع جلدة بالقطع [62 أ/ 1] إلى العضد فتركها متدلية لم يجب غسلها؛ لأنها من العضد فإن قطعت من العضد إلى الذراع وتركها متدلية من الذراع وجب غسلها جميعًا، والفرق بينه وبين اليد حيث قلنا: إذا حاذى محل الفرض غسله بخلاف هذا؛ لأن اسم اليد يطلق عليه بخلاف هذا. فرع آخر إذا لم يجد الأقطع من يوضئه إلَّا بإجرة مثله فإنه يلزمه أن يتأجر كما يلزمه شراء الماء فإن لم يجد من لم يجد ماًء ولا ترابًا. ذكره القاضي أبو حامد. فرع آخر إذا طالبت أظافره حتى خرجت عن حد يده، فهل يجب غسل ما خرج عن محل الفرض؟ من أصحابنا من قال: فيه قولان كاللحية المسترسلة ومن أصحابنا من قال: يجب غسلها قولًا واحدًا وهو الصحيح؛ لأنه نادر لا يشق غسلها. مسألة: قال: "ثْمَّ يَمْسَحُ رأُسَهُ ثَلاَثًا". الفصل وهذا كما قال: مسح الرأس هو الثالث من أعمال فرائض الوضوء واختلف العلماء في قدر الواجب منه، فعندنا الواجب هو ما يقع عليه اسم المسح ولا يتقدر بشيء. وبه قال عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - وهو قول الأوزاعي، والثوري، وداود. وعن أبي حنيفة ثلاث روايات: أحدها الربع. والثانية قدر الناصية. والثالثة قد ثلاث أصابع، وقيل [62 ب/ 1]: كل هذا يرجع إلى الربع، وعليه يقولون. وحكي عن أبي يوسف نصف الرأس. وقال مالك: يجب مسح جميع الرأس، فإن ترك أكثر من ثلاث شعرات عامدًا لا يجوز، فإن وقال غيره من أصحابه: إن ترك شيئًا بغير قصد جاز. وقال المزني: يجب مسح كله من غير تفصيل، وبه قال أحمد في رواية، وعنه رواية أخرى يجب مسح أكثره. فإن ترك الثلث فما دونه أجزأه واحتجوا بقوله تعالى: {وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6]، وهذا يقتضي مسح جميعه وهذا غلط؛ لأن الله تعالى قال: {بِرُءُوسِكُمْ}، والياء للتبعيض فيما يستقل الكلام بدونه، كما يقال: مسحت يدي برأس اليتيم أو بالمنديل، ويراد به البعض، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته، وعلى عمامته، والناصية دون الربع، فإنها ما بين النزعتين. واحتجوا بأنه عضو يجب استيعابه كالوجه في التيمم قلنا:

الفرق أن التيمم بدل من الغسل في محل الغسل، فحذى به حذوه، وهذا ليس ببدل شيء يجب تقديره به، فجاز فيه ما يقع عليه الاسم. وأما المسنون فهو أن يستوعب جميع الرأس بالمسح بلا خلاف. وكيفيته أن يأخذ الماء بيديه ويرسلها لينزل الماء عنها، ثم يضع يديه على مقدم رأسه ويضع طرف سبابته على طرف [163 أ/ 1] سبابته الأخرى، ويجعل إبهاميه على الصدغين، ثم يذهب بهما إلى قفاه ثم يردهما إلى الموضع الذي بدأ منه؛ لأن بعض شعر الرأس مقبل وبعضه مدبر على القفا، فإذا اذهب بهما إلى قفاه مسح الوجه الأعلى من الشعور على القفا دون الباطن منه، فإذا ردهما إلى المكان الذي بدأت انقلبت الشعور ظهرًا لبطن، وحصل به مسح الكل، وإذا فعل هكذا حصلت مسحة واحدة. ولو بدأ بالمسح من جانب آخر جاز، وهذا لما روى عبد الله بن زيد الأنصاري في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مسج رأسه بيديه أقبل بهما وأدبر، بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى فقاه ثم درهما إلى المكان الذي بدأ منه". وقد قال الشافعي: "فَيَمْسَحَ جَمِيعَ رَاسِهِ وَصَدْغَيْهِ". فمن قال من أصحابنا: إن الصدغان من الرأس، قال: إنما أمر به لاستيعاب مسح كل الرأس. ومن قال هما من الوجه، قال: أمر بمسحهما وإن لم يكونا منه ليصير بالمجاوزة إليهما مستوفيًا لجميع الرأس. وقال بعض أصحابنا: قوله: "وصَدْغَيْهِ" فهو من المشكلات؛ لأن الصدغين من حد الوجه يجب غسلهما من الوجه وأدخلهما هنا في مسح الرأس، وهذا الإشكال قد ارتفع بما ذكرنا. وقال القفال: هذا الذي ذكره الشافعي هو إذا كان في شعره أدنى طول، فأما المحلوق أو صاحب الذؤابة [63 ب/ 1] فلا فائدة في رد اليد إلى الوضع الذي بدأ منه، ولو رد لا يحصل به مسحة ثانية، بل يحتاج الثانية إلى ماء جديد فلا يحصل بهذا الرد تعميم ولا تثليث والمستحب أن يكرر هذا. قلنا: كل مرة بماء جديد وبه قال أنس - رضي الله عنه - والأوزعي، والثوري. وقال أبو حنيفة: يمسح مرة واحدة ولا سنة في الزيادة. وبه قال مالك، وأحمد، وأبو ثور. وربما يقوله إنه بدعة. وقال ابن سيرين: يمسح مرتين. وهذا غلط لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ وغسل أعضاءه ثلاثًا ومسح برأسه ثلاثًا" وعن عثمان، وعلي - رضي الله عنهما - وروايتنا أولى لأنها زائدة. وقال بعض أصحابنا: في الرأس فرض وسنتان وهيئة، فالفرض ما ذكرنا، والسنتان

هما الاستيعاب والتكرار، والهيئة هي أن يبدأ بمقدم الرأس ويجعل إبهاميه على صدغيه، ويلصق رأس إحدى سبابتيه بالأخرى ثم يقبل يديه على ما ذكرنا. فرع لو غسل رأسه بدل المسح جاز وقام ذلك الغسل مقام المسح؛ لأنه مسح وزيادة، وقيل: فيه وجهان وليس بشيء. فرع آخر لو مسح أقل من ثلاث شعرات يجوز؛ لأنه أقل ما يقع عليه الاسم. وقال ابن أبي أحمد: لا يجوز أقل من ثلاث شعرات كما في الحلق والحج، وهذا غير صحيح. فرع آخر لو مسح شعرة واحدة، فالمعروف عندنا أنه إن وقع عليه الاسم جاز. وقال في "الحاوي" فيه وجهان: أحدهما: [162 أ/ 1] يجوز وبه قال سفيان. والثاني قاله البصريون من أصحابنا: لا يجوز لتعذر ذلك في الإمكان إلا بمشقة. قال صاحب "الحاوي": والذي هو أولى بالحق عندي أنه لا يتقدر أقله إلا بثلاث شعرات ولا بما دونها، وأنه يعتبر مسح أقله بأن يمسح أقل شيء من أصبعه على أقل شيء من رأسه، فيكون هو الأقل الذي يجوز دونه، لأنه أقل من يقتصر عليه في العرف وما دونه خارج عن الرأس ولم يمسح، فإن وضع ورفع، أو قطر على رأسه قطرة من الماء ووقفت في المحل ولم تسل ولم تنشتر، قال أهل العراق: يجوز. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان أحدهما: يجوز وهو الأقيس. والثاني: لا يجوز وهو اختيار القفال؛ لأن هذا يسمى مسًا لا مسحًا. وعلى هذا قال: إذا مسحت المرأة فوق خمارها فنشف البلل إلى رأسها أو شعرها، الذي تحت الخمار، فإن لم تحرك خمارها حتى ينتقل البلل من موضع آخر لا يجوز. ولو أمرت الخمار المبلول على الرأس جاز ولو أمرت اليد على الوقاية لم يجز، لأن المسح لم يحصل. فرع آخر لو كان أصلع أو محلوق الرأس مسح أي موضع شاء من بشرة رأسه. وإن كان على رأسه شعر مسح أي موضع شاء من شعره. فإن أوصل الماء إلى بشرة رأسه، ولم يمسح على شعره لم يجز؛ لأن الفرض انتقل إلى الشعر الساتر؛ لأن الرأس هو اسم لما ترأس وعلا، وهكذا ذكره جمهور أصحابنا، وهو اختيار أبي حامد. وقال بعض أصحابنا: إنما يتصور هذا أن يمسح أصول الشعر دون أعلاه، فإن كان تحت الشعر بشرة لا شعر عليها كان المسح عليها كا لو كانت مكشوفة. وأطلق بعض

أصحابنا بخراسان أنه يجوز؛ لأن البشرة أصل، وإن كان بعض رأسه محلوقًا وبعضه غير محلوق، إن شاء مسح المحلوق، وإن شاء مسح الشعر. وإن مسح على الصدغين أو النزعتين جاز على ما ذكرنا. ولو مسح على شعره ثم حلقه لم يبطل حكمه خلافًا لابن جرير. فرع آخر لو كان له جمة فمسح على ما سقط عن منابت شعر رأسه لم يجز. وهكذا لو رد المسترسل فعقده على رأسه ثم مسح على المعقود لم يجز. ولو مسح على الشعر الذي على منابت الرأس ولكنه أزيل عن منبته لم يجز؛ لأنه حينئذ شعر على غير منبته فهو كالعمامة، نص عليه في "الأم". واختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من أخذ بظاهره وقال: إذا مسح على أصل النبات جاز. وإن مسح على ما انحط من منبته لا يجوز، وإن كان تحته بشرة الرأس. وهذا هو اختيار القاضي الطبري، وقال أبو حامد: المذهب أنه يجوز؛ لأنه مسح على ما لم ينزل عن الرأس وإن زال عن منبته. وأراد الشافعي بما ذكر في "الأم" إذا كانت له طرة فردها [65 أ/ 1] فوضعها على رأسه ثم مسح عليها لا يجوز، والدليل على هذا أنه قال في "الأم": وقد أزيل عن منبته بل زال بنفسه، هذا أقيس وأصح عندي. فرع آخر قال الشافعي رحمه الله: "لو كان على رأسه عمامة أحب أن يمسح على العمامة مع الرأس، فإن تركه لم يضر"، وهذا لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح بناصيته وعلى عمامته، فإن اقتصر على مسح العمامة دون الرأس لم يجز. وقال الأوزاعي، وأحمد، والثوري، وداود، وابن جرير، ومحمد بن نصر المروزي: يجوز، إلا أن أحمد، والأوزاعي قالا: يحتاج أن يلبسهما على الطهارة كالخفين. وحكي عن أحمد أنه قال: يجوز إلا أن يكون تحت الحنك. واحتجوا بما روى أبو عبيد بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الحسين بالمسح على المشاوز والنساخين" والمشاوز هي العمائم. والنساخين: هي الخفاف. ولأنه عضٌو فدخل له في التيمم فيجوز المسح على سائره كالرجل وهذا غلط؛ لأن الله تعالى قال: {وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة:6] والعمائم لا تسمى رأسًا، ولأنه عضو لا يلحق السنة في إيصال الماء إليه غالبًا فلا يجوز الاقتصار فيه على حائله كاليدين، ولا يجوز أن يمسح على القفازين. وأما خبرهم: قلنا: أراد أن يمسحوا وعليهم المشاوز أو أمر بالمسح على العمامة

بعد أداء فرض المسح على الناصية تشبهًا بمن يعم الرأس بالمسح ليعلم [65 ب/ 1] أن التعميم سنة. وقيل: في أنه مسح على عمامته أراد والعمامة على رأسه فمسح على ناصيته ليعلم أن الاستيعاب لا يجب، إذ لا يمكن الاستيعاب في الغالب من دون رفع العمامة. وقيل: دخل البلل منها إلى الرأس وليس كالمسح على الخفين؛ لأنه رخصة لا يعدى بها موضعها، ولا مجال فيه للقياس إذ الحاجة ماسة إلى لبس واستدامتها،، وفي نزعه مشقة ولا مشقة في تنحية العمامة عن مقدم الرأس. مسألة: قال: "ويمسح أُذُنَيْهِ ظَاهِرهُمَا وَبَاطِنَهُمَا بمَاٍء جَدِيٍد ثَلاَثًا" وهذا كما قال. حكم الأذنين منفرد عن الرأس وعن الوجه، فيأخذ لهما ماًء جديدًا يمسح به ظاهرهما وباطنهما ولا يجب مسحهما؛ لأن الله تعالى لم يذكره، وروي ذلك عن ابن عمر - رضي الله عنه - وهما من الرأس، ويستحب أن يأخذ لهما ماًء جديدًا، وبه قال أحمد فوافقنا في الحكم دون الاسم. وروي عن أحمد: هما من الرأس ويجب مسحهما على الرواية التي توجب استيعاب الرأس، ويجزيه إن مسحهما بماء الرأس. وروي القفال عن مالك أنهما من الوجه يمسحان بالماء الذي يغسل به الوجه. وقال أبو حنيفة: هما من الرأس يمسحان بماء الرأس، وبه قال الأوزاعي. وروي ذلك عن ابن عباس، وعطاء، والحسن البصري، وقال الشعبي، والحسن بن صالح: يغسل ما قبل منهما مع الوجه ويمسح ما أدبر منهما على الرأس. وروي هذا [66 أ/ 1] عن علي رضي الله عنه، وبه قال إسحاق في رواية، وعنه رواية أخرى: مسح الأذنين واجب. واحتجوا بما روي أبو أمامة الباهلي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأذنان من الرأس". وروي ابن عباس رضي الله عنهما: "أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه وأذنيه مسحة واحدة". وهذا غلط لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح رأسه وأخذ ماًء جديدًا. وروي: "وأمسك مسبحتيه لأذنيه" وأراد بقوله: "الأذنان من الرأس" أنهما لا يغسلان مع الوجه، بل يمسحان كما يمسح الرأس. فإذا تقرر هذا فلا يعتبر عندنا أن يكون الأخذ لهما جديدًا، فإنه لو أخذ الماء لمسح رأسه ومسح رأسه ببعض يده، وأمسك بعضها لمسح الأذنين، فمسح سبابتيه باطنهما وإبهاميه ظاهرهما. وروي هذا عن ابن عمر، والحسن، وعطاء - رضي الله عنهم-: أن السنة أن يدخل إصبعيه في صماخي أذنيه لتحصل المبالغة، وهل يأخذ لهما ماًء جديدًا. حكي البويطي عن الشافعي أنه سن ذلك، فيكون إدخال الإصبعين في الصماخين بماء جديد سنة مؤكدة على مسح الأذنين. ذكره في "الأم" أيضًا، وهو اختيار القاضي

الطبري. وهذا لأن الصماخ في الأذن كالفم والأنف في الوجه وهما يفردان بالماء كذلك هذا. وذكر بعض أصحابنا في كيفية أن يضع إبهامه على ظاهر الأذن ويمرها نحو العلو، ويمسح باطن الأذن بالمسبحة ويدخل [66 أ/ 1] خنصره في صماخي الأذن وهذا حسن يتحقق به هذا القول. وقال البغداديون من أصحابنا: يدخل إصبعيه في الصماخين بماء أذنيه، ويكون ذلك من جملة مسح الأذنين ولا يكون سنه زائدة، فإن ترك مسح الأذنين لم يعد بعد القراع من الوضوء وإن قدم مسح الأذنين على مسح الرأس جاز على سنة مسح الأذن، وإن ترك المستحب من تقديم مسح الرأس عليه كما لو قدم الاستنشاق على المضمضة جاز. وقال في "الحاوي" هي يجب الترتيب في المسنونات؟ وجهان: أحدهما: يجب، فإن نكس فلا يعتد بالسنة ما قدمه، فإذا قدم المضمضة على غسل الكفين أو الاستنشاق على المضمضة لا يحتسب، وكذلك لو قدم مسح الأذنين على مسح الرأس. والثاني: لا يجب ويحتسب لأنها لما كانت مسنونة فالترتيب مسنون أيضًا. ويستحب أن يمسحهما ثلاثًا هكذا خلافًا لأبي حنيفة. وحكي عن ابن سريج أنه كان يغسلهما ثلاثًا مع الوجه ويمسحهما ثلاثًا مع الرأس، ويمسحهما بماء جديد ثلاثًا احتياطًا. فرع هل يستحب البدء باليمين فيهما؟ قال جدي الإمام - رحمه الله -: فيه وجهان، والظاهر أنه لا يستحب ذلك لإمكان الجمع بينهما، حتى لو كان أقطع اليد يستحب ذلك. وقيل: السنة أن يطهر الأذنان في حالة واحدة وليس في أعضاء الوضوء عضوان السنة فيهما هذا إلا هذا. مسألة: قال: "ثُمَّ يَغْسِلُ [67 أ/ 1] رِجْلَيْهِ ثَلاَثًا". الفصل وهذا كما قال. غسل الرجلين فرض، وهو الفرض الرابع من الأفعال، وبه قال جمهور العلماء. وقال الشيعة من الإمامين: يجب مسحهما إلى الكعبين، ولا يجوز الغسل، وربما لا يحدون بالكعبين. وقال داود، وأهل الظاهر: يجمع بينهما. وقال ابن جرير: هو مخير بين الغسل والمسح، واحتجوا بقوله تعالى: {وأَرْجُلَكُمْ إلَى الكَعْبَيْنِ} [المائدة:6] بعطف الأرجل على الرؤوس كما عطف الأيدي على الأوجه. وروي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: "عضوان مغسولان وعضوان ممسوحان". ولأنه عضو لا مدخل له في التيمم فجاز مسحه كالرأس، وهذا غلط لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم. توضأ مرة

مرة، وقال: "هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به" وفيه غسل الرجلين. وروي أن عثمان وعليًا، وعبد الله بن زيد، والربيع بنت معوذ - رضي الله عنهم - وصفوا وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم فغسلوا أرجلهم. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقبل الله صلاة أحدكم حتى يضع الطهور مواضعه، فيغسل وجهه، ثم يديه، ثم يمسح برأسه، ثم يغسل رجليه". وروي أن قومًا توضئوا فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم أعقابهم تلوح جفافًا، فقال "ويل للأعقاب من النار". وروي أنه قال "خللوها قبل أن تخللها". يعني في أصابع الرجل. ومن جوز المسح [67 ب/ 1] لم ير التخليل، ولأنه، عضو محدود في كتاب الله تعالى كاليد، ويعني به أنه قال: {إلَى المَرَافِقِ} [المائدة:6] كما قال: {إلَى الكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]، وأما الآية فإنها قرئت بالنصب فيكون معطوفًا على الأيدي. وقد روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قرأ بالنصب، وقال: هو من القديم والمؤخر. وقرأ ابن عباس بالنصب، وقال: رجع إلى الغسل، وكذلك مجاهد، وعروة. وأما القراءة الأخرى، فقد قال سيبويه، والأخفش وغيرهما: إن جرَّهما بالجوار لا بحكم العطف، كما تقول العرب: حجر ضب خرب، أو قد يذكر الاسمان والفعل الموصل بهما يصلح لأحدهما، كقول الشاعر: ويزججن الحواجب والعيونا أي وكحلن العيون، يدل عليه أن المسح لو كان في كتاب الله تعالى لكان الاتفاق فيه والاختلاف في الغسل، واتفقنا على جواز الغسل. وقال أبو علي الفارسي: قراءة الجر وإن كانت عطفًا على الرؤوس فالمراد بها الغسل؛ لأن العرب تسمي خفيف الغسل مسحًا، ولهذا فإنهم يقولون: تمسحت للصلاة يريدون به الغسل، فلما حد ذلك بالكعبين دل أنه أراد به الغسل، أو يقول: أراد به

مسح الرجل في حالة مخصوصة وهي حالة لبس الخف. وأما قول علي - رضي الله عنه - أراد به إذا لبس الخف، لما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه مسح على الخف وقال: "لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره، ولكني رأيت رسول اله [68 أ/ 1] صلى الله عليه وسلم مسح على ظاهر خفيه خطوطًا بالأصابع". ومن رأي المسح على الخفين لا يرى مسح الرجلين. وروي الحارث عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: "اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمركم". فإذا تقرر هذا يجب غسل الرجلين مع الكعبين خلافًا لزفر كما قال في المرفق وقد مضى الكلام عليه. مسألة: قال: "وَالْكَعْبَانِ وَهُمَا الْعَظْمَتَانِ النَّاتِئَانِ". الفصل وهذا كما قال: عندنا الكعبان وهما العظمان النائتان من جانبي القدمين، وهما مجمع مفصل الساق والقدم. وقال محمد: الكعب هو موضع الشراك على ظهر القدم، وبه قالت الإمامية، ويحكى هذا عن أبي يوسف وقيل عنهم أنهم قالوا: في كل رجل كعب واحدة وهي عظم مستقر في وسط القدم، وهذا غلط؛ لأن الله تعالى قال: {إلَى الكَعْبَيْنِ} [المائدة:6]، فلو كان في كل رجل كعب واحدة لقال إلى الكعاب كما قال: {إلَى المَرَافِقِ} [المائدة:6]، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تراصوا بينكم في الصلاة لا يتخللكم الشيطان". قال الراوي: ففعلنا حتى أن كعب أحدنا، تمس كعب صاحبه، وهذا إنما يكون إذا كان الكعب ما ذكرنا. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن سليم - رضي الله عنه -: "ارفع إزارك إلى نصف الساق، فإن أبيت فإلى الكعبين". فدل أن الكعبين أسفل الساق لا ما قالوا من ظاهر القدم. وقال الزبيري من أصحابنا [68 ب/ 1]: الكعب في لغة العرب ما قاله محمد، ولكن الشافعي عدل عنه بالشرع، ولقد أخطأ؛ لأن الكعب ما وصفه الشافعي في اللغة، حكي عن قريش كلهم، ولا يختلف لسانهم أن الكعب اسم للناتئ بين الساق والقدم، ولسانهم أولى من لسان أهل اليمن، لأن القرآن نزل بلسانهم وذلك لغة أهل اليمن،

ولأن الاشتقاق يدل عليه. وذاك أنه لما اسم استدار وعلا، وكذكل قالوا: كعب ثدي الجارية إذا استدار وعلا، ويقال: جارية كاعب إذا نهد ثديها. وسميت الكعبة كعبة لا ستدارتها، وهذا فيما ذكره الشافعي. فإن قيل في البهائم في كل رجل كعب واحد فكذلك في الآدمي. قلنا: خلقة الآدمي هي خلاف خلقه البهيمة؛ لأن كعب البهيمة فوق ساقها وكعب الآدمي هو دون الساق. مسألة: قال: "وَيُخَلَّلُ بَيْنَ أَصَابِعْهُمَا". وهذا كما قال. إذا علم وصول الماء إلى أصابع الرجلين يستحب له التخليل، ولو كانت أصابعه متناضة متلاصقة يجب إيصال الماء إلى ما بينها، فإن التصق بعضها ببعض لا يجب الجرح والخرق. وقال الشافعي: "ليس عليه أن يفتق ما كان مرتوقًا" ولا يسن هذا بحال والأصل فيه خبر لقيط بن صبرة. قال أصحابنا: ويبدأ في تخليل أصابعه باليمني من خنصره إلى إبهامه [69 أ/ 1] ثم اليسرى من إبهماه إلى خنصره ليكون تخليلها نسقًا على الولاء. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كان يخلل بخنصره اليسرى من أسفل الرجل". ثم قال الشافعي: "وَذَلِكَ أَكْمَلُ الْوُضُوءِ إِنْ شَاءَ الله". وإنما استثني لأن الكمال إنما يكون بالإتيان بجميع ما جاءت به السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعل بعض السنة غربت عنه فلم يستحب قطع القول. وقيل: إنما استثني لأنه لم يذكر إدخال الماء في العينين في الجديد، وذكره في القديم على ما ذكرناه، فخشي ذاك. وقيل: هذا يعود إلى ما ندب إلى فعله في المستقبل، وتقديره: فتوضأ كذلك إن شاء الله. فإذا تقرر هذا ذكر الشافعي بعد مسح الأذنين غسل الرجلين ولم يذكر مسح العنق، وهذا يدل على أن مسح العنق غير ثابت عنه. وقال أصحابنا بخراسان: هو سنة بماء جديد وإن لم يرد فيه خبره. وذكره ابن أبي أحمد في "المفتاح". وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: "يمسحه مع الرأس". قلت: رأيته في تصنيف الشيخ أبى الحسن أحمد بن فارس بن زكريا "بإسناده عن فليح بن سليمان، عن نافع، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ ومسح يديه على عنقه وقي الغل يوم القيامة". وهذا صحيح إن شاء الله، وقيل: إنما لم يذكر [69 ب/ 1] الشافعي مسح العنق لأنه غير مقصود بالمسح، بل هو تابع للقفا في المسح، والقفا تابع للرأس لتطويل الغرة. مسألة: قال: "وَأحب أن يمر الماء على ما سقط من اللحية عن الوجه".

الفصل وهذا كمان قال. قال أصحابنا: لم يقل الشافعي: وأحب بل قال ويمر؛ لأنه إذا لم يجز على أحد القولين أن لا يغسله لا يحسن أن يقول واجب, والحكم في الشعر الساقط عن حد الوجه طولًا, والخارج عنه عرضًا نحو الأذنين أنه يستحب أن يقبض الماء عليه, وهل يجب؟ نص في "الأم" على قولين: أحدهما: يجب وهو التصحيح؛ لأنه شعر نابت على بشرة الوجه فيجب إيصال الماء إليه كالشعر الذي يقابل حد الوجه. والثاني: لا يجب, وبه قال أبو حنيفة, ومالك, وهو اختيار المزني؛ لأنه شعر ليس تحته بشرة الوجه كالصدغ, ولا خلاف أنه يستحب تخليله ولا يجب غسله. وذكر الزبيري في كتابه فيه قولان: أحدهما: يجب غسله. والثاني يجب إفاضة الماء عليه وهذا غلط. واحتج المزني على اختياره بأن الشافعي لم يجعل ما سقط عن منابت شعر الرأس من الرأس في حكم الغسل. قلنا: الرواية من الرأس؛ لأنه لو حضر المحرم من طرف ذؤابته أجزأه عن الحلق, والفرق هاهنا في الطهارة هو أن الرأس [70 أ/ 1] اسم لا ترأس وعلا, وما سقط من الشعر ليس بعال فلا يجوز المسح عليه, والوجه اسم لما يواجه واللحية مما تواجه [70 أ/ 1] بها فوجب غسلها مع البشرة, ولأن الاحتياط معناه في موضعين فلا يجوز المسح هناك احتياطًا, ونوجب إمرار الماء عليه هاهنا احتياطًا. فرع قال أصحابنا: المستحب لمن فرغ من الوضوء لأن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله, لما روى عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من توضأ فأحسن وضوءه ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدًا عبده ورسوله صادقًا من قلبه فُتح له ثمانية أبواب الجنة, فدخل من أي باب شاء" وقيل: يرفع بصره إلى السماء ثم يقول هذا, ويصلي ركعتين مقبلًا عليها بقلبه ثم يستغفر الله تعالى عند فراغه, فقد روي في الخبر ذلك. ويستحب أيضًا أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك, أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك, لما روى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من توضأ- وقال هذا- كتب في رق ثم طبع بطابع فلم يكسر إلى يوم القيامة". ويستحب أن يقول أيضًا: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين.

فرع آخر قال أبو علي في الإفصاح: يستحب أن لا ينفض يديه لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم [70 ب/ 14] أنه قال: "إذا توضأتم فلا تنفضوا أيديكم". وقال: ولا يكره ذلك لما روت ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم: "اغتسل وجعل ينفض يديه". فرع أخر إذا فرغ من وضوءه فالمستحب أن لا ينشف آثار الوضوء من الماء, وكذلك في الغسل, ولا خلاف أنه يجوز ذلك, وهل يكره ذلك؟ اختلفت الصحابة فيه على ثلاثة أقوال: فروي عن أنس- رضي الله عنه- أنه قال: لا بأس به في الطهارتين. وبه قال مالك, والثوري, ووجهه ما روي عن قيس بن سعد - رضي الله عنه- قال: "أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعنا له غسلًا فاغتسل, فأتينه بملحفة ورسية فالتحف بها, فكأني أرى أثر الورس على عكنه، وروى أصحابنا بخراسان: "على كتفيه" وهو مُصًحَّف عندي. وروى أنه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خرقة ينشف أعضاء وضوءه بها وروي أنس أنه كان يتمسح بها. وروى أبو هريرة, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من توضأ فتمسح بثوب نظيف فلا بأس, ومن لم يفعل فهو أفضل" لأن الوضوء يوزن مع سائر الأعمال يوم القيامة. وروي عن علي - رضي الله عنه- أنه قال: يكره ذلك فيهما, وبه قال ابن أبي ليلي, ووجهه ما روي عن ميمونة - رضي الله عنها- قالت دخل عليَّ رسول الله صلي الله عليه وسلم, فوضعت له الوضوء فتوضأ, فأتيته بمنديل يده ورده. وروى ابن المنذر [71 أ/ 1] بإسناده عن ابن عباس عن ميمونة هذا الخبر في الغسل فلم يأخذه وجعل ينفض يديه. وقيل: إن الماء يسبح على الأعضاء ما دام عليها. وروي عن أبي عباس - رضي الله عنهما- أنه قال: لا بأس به في الغسل ويكره في الوضوء جمعًا بين الخبرين. وروي عن جابر أنه قال: "إذا توضأت فلا تتمرك". قال أصحابنا: لا نص فيه للشافعي, والذي يقتضيه المذهب أنه يستحب له أن لا ينشف, وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بأصحابه ثم تركهم ومضى, فاغتسل وعاد ورأسه

يقطر من الماء. ولكنه لا يكره لما روي أن عثمان, وأنس, والحسين بن علي, وبشر بن أبي مسعود - رضي الله عنهم- كانوا يأخذون المناديل, ويحتمل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يأخذ لاستغنائه عنه فنشف أصحابه. وقال بعض أصحبنا بخراسان: هل يستحب التمسح بالخرقة؟ فيه وجهان وهذا ليس بشيء. فرع آخر قال أصحابنا: ويستحب إذا كان في يديه خاتم أن يحركه مع علمه بوصول الماء إلى ما تحته إلا أن يكون الخاتم واسعًا فلا يحتاج إلى التحريك, لما روى أبو رافع - رضي الله عنه: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ حرك خاتمه في إصبعه". فرع آخر قال الشافعي: "وأحب أن لا يستعين في وضوءه بأحد ويتولاه بنفسه". لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ, فأراد بعض أصحابه أن يصب عليه الماء, فقال "أنا [71 ت/ 1] لا أستعين على وضوئي بأحد". فإن استعان بمن يصب الماء على يديه جاز, ولا بأس به, ويقيمه على يساره لأنه أمكن له من الماء وأحسن في الأدب لما روى عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه- أنه قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته فتبعته بالماء, فلما فرغ سكبت الماء على يديه, فغسل وجهه ويديه, ومسح برأسه وعلى خفيه. وروي أن أسامة, والربيع بنت معوذ صبا على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال بعض أصحابنا بخراسان: يكره الاستعانة بالغير إلا لعذر, وإنما استعان بالمغيرة لثقل ثيابه عليه, أو لأنه كان في السفر فأراد أن لا يتأخر عن الرفقة تعليمًا للحزم والاحتياط. فرع إذا شك بعد الفراغ من طهارته هل مسح رأسه أم لا؟ قال أبو حامد: هي كالصلاة لا يؤثر فيها الشك بعد الفراغ منها. فقيل له: فهذا يؤدي إلى الدخول في الصلاة بطهارة مشكوك فيها؟ فقال: يجوز ذلك كما لا شك هل أحدث أم لا؟ ومن أصحابنا من قال: لا يجوز له الدخول في الصلاة, وشكه بعد الفراغ منها

كشكه قبل الفراغ منها؛ لأن جواز الشروع في الصلاة يفتقر إلى تقديم الطهارة عليه, فما لم يتيقن وجوبه لا يجوز له فعلها, كمسافر إذا أراد الجمع فصلى صلاة الظهر في وقته ثم شك هل ترك منها فرضًا لم يجز له أداء العصر بعده جمعًا؛ لأن جواز العصر في الوقت [72 أ/ 1] الظهر يقتضي إلى تقديم صلاة الظهر عليها بنية الجمع, فما لم يتيقن ذلك لا يجوز الجمع, ويفارق ما ذكره في الصلاة لأنها مقصورة بنفسها؛ لا أنها شرط لجواز غيرها بها, ولهذا وجود الماء بعد الفراغ من التيمم كوجوده قبل الفراغ منه. وعلى هذا لو خطب يوم الجمعة, ثم شك هل ترى منها فرضًا لا يجوز له أداء الجمعة ما لم يتيقن إتمامها, ولأن الفراغ من الطهارة شروع فيها في الحقيقة؛ لأنه ينفي حكمها ويبطل بالحدث, فصار كالشك في أثناء الصلاة, وهذا أصح عندي. ومن أصحابنا من قال: إن كان الوقت قريبًا أعاد الصلاة وأتممها, وكلاهما ليس بشيء. ورأيت بعض أصحابنا قالوا: إذا سلم ثم شك هل ترك بعض الركعات فيه قولان: أحدها: قال في "القديم": لا يضر؛ لأن الأصل أنه يقضي في الصلاة على السلامة. والثاني: قاله في "الجديد": يلزمه الإتمام, فإن كان قريبًا بني, وإن كان بعيدًا استأنف؛ لأن الأصل اشتغال ذمته بالصلاة فلا يسقط الفرض إلا بيقين, وهذا غريب. وإن عرض الشك في الوضوء وهو الصلاة, سمعت الإمام جدي يقول: يتمها ولا يصلي صلاة ثانية إلا بعد إزالة الشك قياسًا على المتيمم يرى الماء في صلاته فيمضي فيها. ويحتمل على قياس ما ذكرنا أنه يلزمه الخروج منها وإزالة [72 ب/ 1] الشك واستئناف الصلاة. فرع وروى أبو هريرة - رضي الله عنه- قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتغطية الوضوء, وإبكاء السقاء , وهذا مستحب لأنه أحوط له, وإذا توضأ من إناء جعله عن يمينه وأخذ منه الماء؛ لأن ذلك أمكن له. فرع آخر إذا توضأ وعلى يده حناء؛ فإن كان عين الحناء باقيًا لم يزل لم يجز الوضوء, بل عليه أن يزيله, فإن لم يبق إلا اللون لم يضر, وإن قطر على بعض أعضائه شيء له جسد مثل شحم ذائب جمد عليه أو شمع أو دهن سندروس, لم يجز وإن كان دهنًا مانعًا فزال وزاب الدسم فمسَّ الماء بشرته ولكن لم يثبت عليه جاز الوضوء؛ لأن ثبوت الماء على العضو ليس بشرط, وقيل غير هذا وليس بشيء. فرع آخر تجديد الوضوء مستحب لقوله صلى الله عليه وسلم: "من جدد وضوءًا على وضوء جدد الله له نورًا

يوم القيامة". قال أصحابنا: إنما يستحب ذلك إذا أدى به فرضًا لا يستحب, وإن كان قد أدى به نقلًا إلا أن يكون قد غسل أعضاءه في الوضوء مرة أراد فضيلة التكرار فيستحب ذلك, وهذا لأن المنقول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تجديده للفرائض دون النفل. قلت: ويحتمل أنه إذا أدى به نفلًا يسحب أيضًا؛ لأنه ظهر تأثير الوضوء السابق في [73 أ/ 1] أداء فعل لا يجوز إلا بالوضوء. ثم رأيت عن بعض أصحابنا أنه قال: إذا صلى به نافلة فيه وجهان, هل يستحب تجديده لصلاة أخرى له؟ لا. ولو سجد للتلاوة أو الشكر لا يستحب التجديد وجهًا واحدًا، ولا يكره لو فعل؛ لأنه أدى ماله تحليل وتحريم, ولو لم يفعل شيئًا يكره التجديد. وهكذا لو توضأ وقرأ القرآن عن المصحف, أو اغتسل الجنب وقرأ القرآن عن ظهر القلب ثم أراد التجديد يكره؛ لأنه لم يؤد به ماله تحليل وتحريم. فرع آخر لو خُلق لرجل قد مات في رجل واحدة, فإن كانت دون الكعب فإن يلزم غسلهما بكل حال, وإن كانت إحداهما فوق كعب الأخرى, فالقدر الذي حاذي الكعب إذا سفل منها غسله والباقي لا يجب, كما ذكرنا في اليدين على عضد واحد. مسألة: قال: "وَإِنْ غَسَل وَجْهًهُ مَرَّةً". الفصل وهذا كما قال. القصد به بيان أول الوضوء, وهو أن يغسل وجهه مرة, وذراعيه مرة, ويمسح ببعض رأسه مرة قدر ما يسمى مسحًا. قال القفال: ولو كان بعض شعرة, ويغسل رجليه. وذكر في تضاعيف هذا الفصل أن المسح على الشعر المجاوز عن حد الرأس لا يجوز, وأن النوعين من الرأس. وقال: "وَعَمَ بِكُلِّ مَرَّةٍ مَا غَسَل". أي استوعب محل غسله المحل المغسول من هذه الأعضاء, ليعلم وجوب التعميم [73 ب/ 1]. ثم رجع إلى غسل الرجلين, ولا يضر اعتراض هذا الكلام في الوسط. فإذا تقرر هذا قال أصحابنا: جملة فرائض الوضوء على قوله الجديد سنة؛ النية, وغسل الوجه واليدين, ومسح بعض الرأس, وغسل الرجلين, والترتيب. وعلى قوله القديم سبع, فزاد فيها الموالاة, ومن أصحابنا من قال ثمانية, والثامن هو الماء الطاهر. والسنة عشر, خمس قبل الوجه: التسمية, وغسل الكفين, والمضمضة, والاستنشاق, والمبالغة فيهما. وخمس بعد الوجه وهي البدأة باليمين, واستيعاب

الرأس بالمسح, ومسح الأذنين, وإدخال السبابتين في صماخي الأذنين بماء جديد, والتخليل في اللحية وأصابع الرجلين. ومن أصحابنا من ذكر السواك قبل الوجه, وهو اختبار ابن سريج فجعله سننًا, وزاد ابن أبي أحمد مسح العنق فجعله سننًا, وقيل بدل مسح العنق يطول الغرة, وذكر بعض أصحابنا التكرار في جملة السنة. وقيل: الوضوء مشتمل على الواجبات, والسنن, والفضيلة [74 أ/ 1]، والهيئات. فهي أربع، وهي: إدخال الماء في العينين، وتطويل الغرة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين من آثار الوضوء, فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل". والختم بالشهادتين والدعاء في كل عضو يغسله, وهو ما روي في الأخبار فيقول في ابتدائه: بسم الله, والحمد لله الذي جعل الماء طهورًا. وفي غسل الكفين: اللهم أحفظ يدي من معاصيك جلها. وفي المضمضة: اللهم أجر على لساني الصدق, والصواب أن يقول: اللهم اسقني من حوض نبيك كأسًا لا أظمأ بعده, وفي الاستنشاق: اللهم لا تحرمني رائحة جناتك ونعمك. وفي الوجه: اللهم بيض وجهي يوم تبيض وجوه وتسود وجوه. وفي اليد اليمنى: اللهم أعطني كتابي بيميني, وحاسبني حسابًا يسيرًا. وفي اليد اليسر: الله لا تعطني كتابي بشمالي ومن رواء ظهري. وفي مسح الرأس: اللهم أحفظ رأسي وما حوي, وبطني وما وعى, أو يقول: اللهم أظلني تحت عرشك يوم لا ظل إلا ظلك. أو يقول: اللهم حرم شعري وبشرتي على النار. وفي مسح الأذنين: اللهم اجعلني من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه وفي مسح العنق: اللهم أعتق رقبتي من النار والمظالم. وفي الرجلين: اللهم ثبت قدمي على الصراط يوم تزل الأقدام, أو يقول: اللهم أجزني على الصراط, ولا تجعلني [74 ب/ 1] ممن يتردى في النار. وقيل: الهيئات الخمس, والخامسة البدأة بالوجه بأعلاه, وفي اليدين بالكفين, وفي الرأس بمقدمه، وفي الرجلين بأطراف أصابعه: وقيل: إن صب عليه غيره الماء فإنه يبتدأ بالكعبين إلى الأطراف هيئة. وقيل: غسل الكفين والتسمة من الهيئات أيضًا وما تقدم أصح. فإذا تقرر هذا احتج الشافعي رحمه الله بعد هذا على الاختصار على بمرة مرة جائز؛ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ مرة مرة, وقال: " هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به, ثم توضأ مرتين مرتين, وقال: " من توضأ مرتين أتاه الله أجره مرتين" ثم توضأ ثلاثًا ثلاثًا وقال: "هذا وضوئي ووضوء الأنبياء قبلي, ووضوء خليلي إبراهيم".

وأن التثنية والتثليث مستحب؛ لأنه قال: "من توضأ مرتين أتاه الله أجره مرتين" أي يضعف أجره. وأن التثليث سنة, وعادته دعاؤه للأنبياء قبله. والشافعي قال: "والمرتان فضيلة, والثلاث سنة" وإنما قدم الفضيلة علة السنة؛ لأنه لة أخر الفضيلة لظن ظان أن كلما زاد على الثلاث كان أفضل, فأخر السنة ليعلم أنه لا يجوز مجاوزة السنة. وقال الشافعي في " الأم": " لا أحب أن يزيد على ذلك" فإن زاد لم يضره. حكاه القاضي الطبري. وقيل (75 أ/ 1): قال في "الأم": تكره الزيادة. فإن فعل لم يأثم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ومن زاد هذا فقد أساء". رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وأراد بقوله: أساء أي خالف السنة. وقوله: ظلم يعني جاوز الحد؛ لأن الظلم مجاوزة الحد ووضع الشيء في غير موضعه, ولم يرد به أنه يأثم. وروي: "ممن زاد أو نقص" الخبر. واختار أبو حامد أنه لا يكره, لأنه زيادة عمل وبر, والأصح أنه يكره, وقيل: يحرم وليس بشيء. وحكي عن مالك أنه قال: لا معنى للتكرار, والمرة الواحدة هي الأفضل, وهذا غير صحيح عنه عندي. وحكي عن ابن أبي ليلى أنه قال: التكرار واجب, وهو غلط ظاهر, بدليل ما روينا من الخبر .. ثم أعلم أن هذا كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم أفعالاً مختلفة في أحوال شتى, وهذا هو الأقرب, ويحتمل أنه كان منه في حالة واحدة على طريق التعليم؛ لأن مثل هذا بدعة إذا لم يكن على وجه التعليم, فإن من توضأ يكره له أن يتوضأ ثانيًا قبل أن يصلي بوضوئه صلاة, وقبل أن يحدث. ثم قال الشافعي: وفي أتركه أن يتمضمض ويستنشق ويمسح أذنيه ترك للسنة", ولم يرد به الزجر حتى يسمى تارك السنة, ولكن أراد به أن هذه الأشياء مسنونة لا مرفوضة, ثم قال: "وليس الأذنان من الوجه فيغسلان ولا من الرأسي (76 ب/ 1) فيجزي مسحه عليهما فهما سنة على حيالهما" وقصد به الرد على مالك حيث قال: هما من الوجه يمسحان بالبلل الذي غسل به الوجه. والرد على أبي حنيفة حيث قال: هما في الرأس, فقال الشافعي: لو كانتا من الوجه لغسلنا مع الوجه, ولو كانتا من الرأس لأجزأ المسح عليهما من الرأس. وأخل المزني في عبارته من وجهين: أحدهما: أن اللفظ الشافعي محتمل مشتمل على بيان المذهب وبيان الدليل, ولفظ المزني يعطي بيان المذهب ولا يعطي بيان الدليل. والثاني: أنه قال: فيغتسلان, وجواب التفي بالفاء يكون منصوبًا, وعلامة النصب في التثنية سقوط النون, فكان من حقه أن يقول: وليست الأذنان من الوجه فيغتسلا, بإسقاط النون ومن أصحابنا من يعتذر له بأنه يجوز إثبات النون في هذا الموضع, كما

قال الله تعالى: {ولا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} (المرسلات:36) ثم احتج بأنه لما لم يكن على ما فوق الأذنين مما يليهما, يريد به البياض المتصل بهما فوقهما من الرأس ولا على ما وراءها مما يلي منابت شعر الرأس إلى الأذنين, ولا على ما يليهما إلى العنق يريد به البياض الذي هو تحت الأذنين مما يلي العنق مسح, يعني مع الرأس (76 أ/ 1) مع كون هذه أقرب إلى الرأس, فلأن لا يكون على الأذنين مسح مع كونهما أبعد من الرأس خلقة واسمًا أولى, فإن منعوا وقالوا: ذلك البياض الذي فوق الأذنين من الرأس, قلنا: هو محال, لأنا نعرف حد الرأس من غيره بنبات الشعر في العرف والعادة, وهذا الموضع لا ينبت عليه الشعر كالجبهة والقفا, فلا يكون من الرأس. ثم احتج المزني, لو كانتا من الرأس أجزأ من حج حلقهما عن تقصير الرأس- يعني أن من فرغ من أعمال العمرة, وأراد أن يتحلل عليه أن يحلق رأسه أو يقصر. فلو كان على أذنيه شعر فحلقه عن تقصير الرأس لم يجزئه بالإجماع. وإن أكمل به رفع الرأس عندهم, فإن المشروع عندهم الربع أو تقصيره وهذا احتجاج صحيح. وربما يمنع بعض المتأخرين منهم فيعتمد على ما اعتمد عليه الشافعي أولاً, وهو أنه لا يجزئ مسحه عن مسح الرأس, وهذا لا شك فيه. ثم قال: "وَالْفَرقُ بَيْنَ مَا يُجْزِئُ مِنْ مَسْحِ بَعْضِ الرَّأَسِ, وَلاَ يُجْزِئُ إلاَّ مَسْحُ كُلَّ الْوَجْه فَي الْتَّيِمُّمِ". الفصل وقصد به الرد على مالك على ما تقدم بيانه, وقد ذكرنا الفرق بين مسح الوجه في التيمم, ومسح الرأس في الوضوء لا يدخل على الفرق الذي ذكرنا, المسح على الخفين لا يلزم استيعابه لأنه ليس ببدل غسل الرجل, بل هو رخصة وتخفيف, فاستيعابه مخرجه عن موضوعه ليس هو ببدل في محل أصله, بل هو سائر الأصل بخلاف مسح (76 ب/ 1) الوجه في التيمم. مسألة: قال: "وَإِنْ فَرَّقَ وُضُوءَهُ وَغُسْلَهُ أَجْزَأَهُ". الفصل وهذا كما قال: تفريق الطهارة وهو يسير وكثير, فاليسير لا يؤثر فيها, وفي الكثير قولان قال في "القديم": يبطلها ويجب استئنافها كما في الصلاة. وبه قال قتادة, ومالك, والليث, والأوزاعي, وأحمد. وروي عن أحمد أنه قال في الغسل: لا يبطله. ووجه هذا ما روي عن عمرو- رضي الله عنه- أنه رأى رجلاً توضأ وترك في قدمه موضع

ظفر, فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة. وروي عن بعض أصحابنا بخراسان أن رجلاً صلى وعلى ظهر قدمه لمعة قدر درهم لم تصبها الماء, فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعادة الوضوء والصلاة. وقال في "الجديد": لا يبطلها وهو الصحيح وبه قال أبو حنيفة, والثوري, والحسن, والنخعي, وعطاء, وطاووس, وسعيد بن المسيب -رضي الله عنهم-. وهذا لأن كل عبارة جاز تفريق النية على أبغاضها جاز تفريق أبغاضها كالزكاة. واحتج الشافعي- رحمة الله- على هذا بابن عمر- رضي الله عنهما- وذلك أنه توضأ فدعي إلى جنازة, فقام بعد مسح رأسه وهو لابس خفيه حتى أتى المصلى, ثم دعا بماء فمسح على خفيه, ثم صلى على الجنازة قال الشافعي: وما بين سوق المدينة والمصلي مسفة يجف أعضاء الطهارة في أدنى منها. ولم ينكر عليه (77 أ/ 1) أحد. فإذا تقرر هذا فحد التفريق الكثير أن يجف العضو الذي غسله مع اعتدال الهواء والحال, كان اشتد الجر والريح فسارع الجفاف. وإن كثر البرد والمطر تباطأ الجفاف فلا يعتبر ذلك, والاعتبار في ذلك بين كل عضو لا بأول الطهارة وآخرها. فإذا غسل وجهه ويديه, ثم مسح برأسه قبل أن يجف الماء على يديه جاز, وإن جف الماء على وجهه. وقيل: فيه قولان: أحدهما: هذا. والثاني: يعتبر فيه عرف, فإذا حصل زمانًا طويلاً خرج عن العرف في طاهرات الناس صار مفرطًا. واختلف أسحابنا في محل القولين, فمنهم من قال: القولان إذا لم يكن عذر, فإن كان عذرًا مثل نفاذ الماء وطلبه ثانيًا أو انكسار الكوز, أو انقلاب الماء, أو الهرب من ظالم لا تبطل طهارته قولاً واحدًا, وهذا هو اختيار القفال, وبه قال مالك, والليث. وقيل: إنه نص في "الأم" على هذا الفرق, وأومئ في "الأم" إليه. وهذا لأنه جوز في الصلاة التفريق بعذر سبق الحدث في قوله القديم, فالطهارة أولى. ومن أصحابنا من قال: لا فرق بينهما. فرع إذا جوزنا التفريق هل يلزمه تجديد النية؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه, لأن النية الأولى انقطعت وبطل حكمها, ولأن النية تراد لتمييز العادة من العبادة, وإذا طال الفصل لا يتميز إلا بالنية. وهذا اختيار أبي حامد. والثاني: لا يلزمه ذلك, وهو الأظهر, واختاره (77 ب/ 1) القاضي الطبري, لأنه لم يقطع حكم النية الأولى, ولأن التفريق إذا كان لم يقطع حجك النية كنا في الحج. فرع آخر التفريق في التيمم كحكمه في الوضوء. وقال صاحب "الحاوي": قال جمهور أصحابنا: التفريق الكبير يبطل التيمم قولاً واحدًا والفرق بينه وبين الوضوء, أن تعجيل التيمم للصلاة هو مستحق, فإنه لا يجوز قبل دخول وقت الصلاة وتعجيل الوضوء غير

مستحق, وكذلك التفريق في الغسل كحكمه في الوضوء. وقال صاحب" التلخيص": يجوز تفريق الغسل قولاً واحدًا. وهذا ليس بشيء, وذكرناه عن أحمد. مسألة: قال: "وَإِنْ بَدَأَ بِذِراعَيْه قَبْلَ وَجْهِهِ رَجَعَ إَلَى ذِرَاعَيْهِ". الفصل وهذا كما قال: الترتيب شرط في الوضوء والتيمم هو أن يبدأ فيغسل وجهه ثم يديه ثم يمسح برأسه ثم يغسل رجليه, وبه قال ابن عباس, وقتادة, وأحمد, وإسحاق, وأبو عبيد, وأبو ثور, وروي هذا عن علي - رضي الله عنه- في رواية, وقال أبو حنيفة: لا يلزم الترتيب فيهما, وبه قال ابن مسعود, وسعيد بن المسيب, والحسن وعطاء, والزهري, والنخعي, ومكحول, والاوزاعي, ومالك, وهو رواية عن علي- رضي الله عنه- واحتج الشافعي عليهم بالآية وهي قوله تعالى: {فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ} (المائدة:6) الآية وأشار إلى أن الواو في العطف توجب الترتيب, واحتج بأن الله تعالى قال: {إنَّ الصَّفَا والْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ "78 أ/ 1"اللهِ} (البقرة:158) فبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفا وقال: "نبدأ بما بدأ الله به"، والبداية بالصفا ثم بالمروة واجبة حتى لو بدأ بالمروة لم يحتسب مشيه إلى الصفا فكذلك ها هنا البداية بغسل الوجه واجبة. فإذا تقرر هذا فلو غسل ذراعيه أولاً ثم غسل وجهه ينظر فإن كان ذاكرًا للنية عند غسل وجهه ويغسل ذراعيه وهو مراد الشافعي بقوله" رجع إلى ذراعيه فغسلهما حتى يكونا بعد وجهه" وإن لم يكن ذاكرًا للنية الأولى عند غسل الوجه استأنف غسله مع النية, وقوله: فإن صلى فالوضوء على غير ولا رجع فبني على الوضوء وأعاد الصلاة دليل على جواز تفريق الوضوء فإذا لم يجز يلزم الاستنشاق ها هنا لأنه طال الفصل بالصلاة. فرع لو نسي في الوضوء لا يجوز وضوءه قولاً واحدًا, وحكي ابن أبى أحمد قولاً أخر عن"القديم" أنه يجوز وليس بمشهور. وقيل: القولان فيه بناء على القولين فمن نسى قراءة الفاتحة في الصلاة, هل يجوز؟ قولان, وهذا بيس بشيء. فرع آخر لو غسل أعضاء أعضاؤه أربعة اثنين دفعة واحدة معًا لم يجز, لأن الترتيب لم يحصل. ولو اغتسل المحدث بدل الوضوء فيه وجهان ذكرهما ابن سريج. أحدهما: يجوز لأنه يجوز عن الحدث الأعلى فلأن يجوز عن الحدث الأصغر (78 ب/ 1) أولى. والثاني: لا يجوز وهو الأصح, لأن الغسل غير الواجب فلا يسقط ترتيبًا واجبًا

ويفارق الجنب المحدث, لأن حكم الحدث سقط بالجنابة فقط ولا ترتيب فيه. فرع آخر لو انغمس المحدث في ماء ونوى الوضوء فمكث ساعة يترتب الماء على أعضائه جاز, وإن لم يمكث ساعة لا يجوز. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان والأصح أنه لا يشترط المكث لأنه لما انغمس في الماء ترتب في ألطف الأزمنة وما تقدم أصح في هذا. فرع آخر لو أحدث ثم أجنب, قال أبو إسحاق: يغتسل ويسقط الوضوء والترتيب نص عليه الشافعي في "الأم". وقال ابن أبي هريرة: فيه ثلاثة أوجه إحداهما: هذا, والثاني: يدخل الوضوء في الغسل دون الترتيب, فيلزمه أن يرتب أعضاء وضوءه, ثم يغسل الباقي وهذا لأنه يفرد الوضوء بالترتيب وفي غسل الأعضاء يشتركان فيه فتدخلا فيه دون الترتيب. والثالث: يلزمه الوضوء والغسل ولا يدخل أحدهما في الآخر لأنهما عبادتان مختلفتان فعلاً وحكمًا, والأول أصح, وترتيب الوضوء يسقط بالغسل كترتيب العمرة تسقط بالحج, والعمرة تخالف الحج وتدخل في ألج, وقيل فيه وجه رابع أنه يدخل الوضوء في الغسل ولكنه يحتاج أن ينو بهما كما ينوي الحج والعمرة, وأما إذا أجنب (79 أ/ 1) ولم يحدث ويتصور ذلك إذا لف على فرجه خرقة وأولج من غير أن يمس جزءًا من بدنها يلزمه الغسل وحده من غير ترتيب وجهًا واحدًا, ولو أجنب أولاً ولم يحدث على ما ذكرنا ثم أحدث. قال ابن سريج: الحكم فيه كما لو أحدث ثم أجنب, ومن أصحابنا من قال: لا حكم للحدث ها هنا وجهًا واحدًا, والفرق أن الحدث متقدم لما طرأ على أعضاء طاهرة ثبت حكمه, وهذا المتأخر طرأ على أعضاء غير طاهرة فسقط حكمه, وأيضًا الصغرى لا تدخل على الكبرى كما لا يصح إدخال العمرة على الحج في أحد القولين, ويصح أو قال: الحج على العمرة قولاً واحدًا. فرع آخر لو أجنب الرجل فغسل بعض بدنه ولم يغسل من أعضاء وضوءه شيئًا ما بقي من بدنه عن الجنابة ويجزيه من غير ترتيب على المذهب المنصوص, ولو غسل أعضاء وضوءه ثم أحدث قبل أن يغسل الباقي من بدنه قال أكثر أصحابها: يغسل الباقي من بدنه عن الجنابة ويتوضأ للحدث مرتبًا لا يجزيه أحدهما دون الآخر. وقال بعض أصحابنا بخراسان: يغسل الباقي من بدنه لأن الحدث لا حكم له ما

دامت الجنابة باقية كما لو أجنب, ثم أحدث قبل غسل شيء من بدنه, ولو غسل بدنه إلا رجليه, ثم أحدث فعلي قول من يقول: لا حكم للحدث مع بقاء الجنابة يغسل رجليه وبكفيه, وعلى قول سائر (79 ب/ 1) أصحابهما: يغسل أعضاء الوضوء غير الرجلين من الحدث على الترتيب, ولا تأثير للحدث في الرجلين, فلو قدم غسلهما على الأعضاء الثلاثة جاز, وهذا في الحقيقة هو وضوء ليس فيه غسل الرجلين كما ذكرنا. مسألة: قال: "وإن قدم يسرى يديه قبل اليمنى أجزأه". وهذا هو كما قال: الترتيب بين اليمنى واليسرى هو مستحب غير واجب خلافًا للشيعة, وروي ذلك عن أحمد, والدليل عليه قوله تعالى: (وأيديكم) (المائدة:6) يذكرهما دفعة واحدة ولأنهما كالعضو الواحد لا ترتيب فيه, وقال علي- رضي الله عنه- "ما أبالي بدأت بيميني أو بشمالي إذا أكملت الوضوء". مسألة: قال: " ولا يحمل المصحف ولا يمسه إلا طاهرًا". وهذا كما قال: وأراد بالمصحف ما كتب فيه كلام تعالى وهو القرآن. ولا يجوز للمحدث والجنب والحائض والنفساء مسه ولا حمله, وبه قال جماعة العلماء, وقال الحكم, وداود: يجوز لهم مسه وحمله, وهذا غلط لقوله تعالى: {لا يمسه إلا المطهرون} [الواقعة: 79] فإن قيل: أراد به اللوح المحفوظ لا يمسه إلا الملائكة, قيل: لا يحتمل هذا لأنه قال بعده: {تنزيل من رب العالمين} (الواقعة:8) , ولأن الملائكة لا يكونون إلا مطهرين, فدل أنه أراد به المطهرين من الآدميين الذين يتكلفون الطهارة بعد الحدث. وروي أنا النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتاب عمرو بن حزم- رضي الله عنه-: " لا تمس القرآن (80 أ/ 1) إلا وأنت على طهر" , وقال عبد الله بن أبي بكر كان في كتاب عمرو بن حزم الذي كتبت له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه إلى نجران: "أن لا يمس القرآن إلا الطهر " وروي: " لا يمس القرآن إلا طاهر". وروي عن معاذ- رضي الله عنه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في عهده حين بعثه: "إلى اليمن أن لا يمس القرآن إلا طاهر". فرع لا يجوز حمله بعلاقة ولا خريطة, وقال أبو حنيفة: يجوز, وحكاه ابن المنذر عن الحكم, وحماد, والحسن, وعطاء, وأحمد, كما يجوز حمله في جملة الرحل والأمتعة وهذا غلط, لأنه مكلف قاصد إلى حمله من غير ضرورة فلم يجز له كما لو

حمله بغير علاقة, ولأن الحمل أكثر من المس فكان أولي بالمنع, وأما حمله في جملة الأمتعة بغير مقصود, وإنما يمنع منه إذا كان قصدًا, وكما أنه لا يجوز حمل ورقه من جملته, ويجوز حمل كتاب الفقه, وإن كان فيه آيات من القرآن, لأنه لم يقصد الكتاب للقرآن. وروى ابن عمر- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو ثم كتب إليهم في كتابه: " بسم الله الرحمن الرحيم {قل يأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم} " (آل عمران:64) الآية. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجه آخر أنه لا يجوز حمله أصلاً, وإن كان في جملة المتاع (80 ب/ 1) لأنه حامل للمصحف وهو الأقيس. فرع آخر لا فرق في المس عندنا بين مس المكتوب منه, وبين ما هو منسوب إليه من قبله وظرفه وحواشيه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: وصندوقه المتخذ له. وهذا عندي أنه يريد به عند الحمل, فإن مش الصندوق دون المصحف لا يجوز. وقال أبو حنيفة: له أن يمس ما عدا كوضع الكتابة. وهذا غلط لأنه جزء من المصحف كالمكتوب. فرع آخر الدراهم التي عليها القرآن, قال أصحابنا: فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لهم حملها في الرق إذا كتب فيه شيء من القرآن. والثاني: يجوز لأنهم لا يقصدون بحملها ومسها من القرآن حمل المال ولا فرق بين أن يكون فيها {قل هو الله أحد} (الصمد:1) أو غير ذلك. وقال صاحب "الحاوي": إن كان لا يتداولها الناس كثيرًا ولا هم يتعاملون بها غالبًا كالتي عليها سورة الإخلاص لا يجوز حملها لأن الحرمة للمكتوب من القرآن, وإن كان يتداولها الناس كثيرًا ويتعاملون بها غالبًا, هل يجوز لهم حملها فيه وجهان, أحدهما: يجوز للمشقة الغالبة. والثاني: لا يجوز وهو اختيار من أبي هريرة, وهذا أحوط عندي والأول أقيس. فرع لو كان القرآن مكتوبًا على طعام مأكول هل يحرم مسه فيه وجهان.

فرع آخر هل يجوز مس كتاب المزني ونحوه الذي (81 أ/ 1) فيه آيات من القرآن؟ قيل: وجهان وجه واحد أنه يجوز وهو الأصح. فرع آخر الثياب التي كتب على ظهرها- أي من القرآن- قال أصحابنا فيه وجهان, وقيل: فيه وجه واحد أنه يجوز, لأن المقصود غيره وهو كالبيت الذي نقش عليه القرآن يجوز مسه. وقال صاحب "الحاوي":لا يجوز لهم لبسها وجهًا واحدًا لأن الكتابة كلها قرآن والمقصود بلبسها التبرك بما عليها من القرآن. فرع آخر لو تصفح أوراقه بخشبة فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنه غير مباشر له ولا الحامل له والخشبة بائنة منه وهو الأصح. والثاني: لا يجوز, لأن الخشبة منسوبة إليه وهو الأظهر عند أصحابنا بخراسان. وقال بعض أصحابنا: يجوز وجهًا واحدًا لما ذكرنا من العلة, ولو تصفح بكمه الملفوف على يده لم يجزه وجهًا واحدًا لأنه لا يمس لكمه واضع ليده عليه. فرع لو كتب وهو محدث غير حامل له كان وضع اللوح على الأرض ولا يمسه إلا رأس قلمه, فإنه يجوز لكن كتابته بأكثر من تلاوته وللمحدث لأن يتلو القرآن وإن كان جنبًا ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز كالتلاوة. والثاني: يجوز لأن التلاوة أغلط من الكتابة, لأن المصلي لو كتب الفاتحة لا يجوز عن تلاوتها فجاز للجنب أن يكتب القرآن, وإن لم يتناوله, هكذا ذكره صاحب (الحاوي) وسائر أصحابنا لم يفرقوا (81 ب/ 1) بين المحدث والجنب, وقالوا: فيها وجهان. فرع آخر هل يجوز للصبيان مس المصحف من غير طهارة؟ فيه وجهان. أحدهما: يجوز لموضع الحاجة والضرورة, وإنه لا تكليف عليهم ولا يمكن حفظ طهارتهم. والثاني: لا يجوز, ويمنعون منه كالبالغ, وهذا أحوط والأول أصح, وأما الطفل الذي لا يميز له يمنع منه مسه لأنه لا يؤمن تكربته. فرع قال بعض أصحابنا: لا يمنع الصبي من مس اللوح في المكتب؛ لأن فيه مشقة

[وهل] يمنع البالغ من مس اللوح الذي كتب عليه القرآن في حال حدثه؟ وجهان: أحدهما: لا يمنع لأنه كتب لغرض وهو التعليم ولهذا المجيء كل الوقت. والثاني: أنه يمنع وهو الأصح عندي ولا شك أنه يكره ذلك. فرع آخر هو يجوز له مس تفسير القرآن؟ قال أصحابنا: إن كان القرآن المتلو منه أكثر من تفسيره لا يجوز, وإن كان التفسير أكثر من القرآن المتلو ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز تغليبًا لحرمة القرآن. والثاني: يجوز اعتبارًا بالأغلب, ومن أصحابنا من قال: إن كان القرآن مكتوبًا بخط غليظ والتفسير بخط أدق منه فحكمه حكم المصحف, وإن كان مكتوبًا بخط واحد فإنه يكره ولا يحرم؛ لأنه ليس القصد منه كتب القرآن ككتب الفقه التي فيها آيات القرآن, وكذلك يكره له مس (82 أ/ 1) كتب أخبار رسول الله ولا يحرم. فرع لو كان على بدنه نجاسة فأراد أن يحمل المصحف بعضوه الذي لا نجاسة عليه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه ممنوع من الصلاة وهو اختيار الصميري من أصحابنا. والثاني: وهو الأصح أنه يجوز لأن النجاسة لا تتعدى إلى غير ما هي عليه بخلاف الحدث, ولو أراد أن يمسه بيده النجسة فلا إشكال أنه لا يجوز. فرع آخر لو أراد حفل التوراة والإنجيل أو سهمًا. قال بعض أصحابنا: لا يجوز ذلك للحرمة. وقال جمهور أصحابنا: يجوز لأنها منسوخة فقصرت حرمتها عن حرمة القرآن ولأنها مبدلة, قال الله تعالى: (يسمعون كلام الله ثم يحرفونه) (البقرة:75) والمبدل لا حرمة له. فرع آخر لو استباح واحد منهم فعل الصلاة إما بالطهارة بالماء عند وجوده أو بالتيمم عن عدمه ارتفع هذا المنع كما في الصلاة, ولو لم يجد ماءً ولا ترابًا, حكي في أحد القولين: ولا يمسه, ولا يحمله لأنه لا ضرورة إليه. مسألة: قال: " ولا يمنع من قراءة القرآن إلا جنبًا". وهذا كما قال في نسخة: إلا الجنب. فالمنصوب نصبه على الحال, أي لا يمتنع إلا في حال الجنابة, وأراد المرفوع لا يمتنع عن قراءة القرآن إلا شخص جنب, وأراد قراءة القرآن عن ظهر القلب من غير المس لا يحرم إلا على الجنب, وظاهره يقتضي أن

لا تمتنع (82 ب/ 1) الحائض ولا النفساء, وحكي هذا القول عن الشافعي رواه أبو ثور, وقال ابن المنذر قال الشافعي في (القديم) هذا, واختلف أصحابنا فيه على وجهين, فمنهم من قال: فيه قولان, ومنهم من قال: قول واحد أنها لا تقرأ كالجنب, زهو قوله الجديد لما روى ابن عمر- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يقرأ الجنب ولا الحائض شيئًا من القرآن " وما ذكره ابن المنذر عن القديم لا نعرفه, وأبو ثور قال: جوز أبو عبد الله للحائض والنفساء قراءة القرآن وأراد به مالك لأن كنيته أبو عبد الله فهذا هو الصحيح لأن الجنابة هي أخف من الحيض, فإن امتنع منه الجنب فالحائض أولى واحتج مالك بأن الحيض والنفساء يمتد ويطول فيؤدي إلى نسيان القراءة بخلاف الحدث, وربما تكون معلمة فيتعطل كسبها بذلك, قيل: يمكنها أن تتفكر فيه بقلبها ولا تحرك لسانها لئلا تنسى وتنظر في المصحف, ويقلب غيرها أوراقه. وقال داود: يقرءون ما شاءوا به, قال ابن المنذر: روي أنه سئل سعيد بن المسيب: أيقرأ الجنب؟ فقال: نعم, أليس هو في جوفه, وقال ابن عباس: يقرأ ورده, وهو جنب, وروى نحو قولنا عن عمرو وعلي، والحسن, والنخاعي والزهري, وقتادة- رضي الله عنهم- وقال أبو حنيفة, وأحمد يقرأ دون الآية, وقال مالك (81 أ/ 1) في الجنب: يقرأ آيات يسيرة, وقال الأوزعي: لا يقرأ الجنب إلا آية الركوب والنزول (سبحان الذي سخر لنا هذا) (الزخرف:13) الآية, وقال تعالى: " ربي أنزلني منزلاً مباركًا " (المؤمنون: 29) الآية. واحتج داود بأن وجوب الطهارة لا تمنع القراءة أصل وجوبها عن الحدث الأصغر. قلنا: حكم الحدث اخف ويتكرر فيشق عليه المنع بخلاف الجنابة, وهذا غلط لما روى عن علي- رضي الله عنه- أنه قال: أن النبي صلي الله عليه وسلم (لم يكن يحجبه عن قراءة القرآن شيء سوى الجنابة). ذكره أبو داود وروى لم يكن بحجزه. وقال علي- رضي الله عنه- أيضًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ القرآن بكل حال, فإذا كانت الجنابة فلا ولا حرف, وقال عمرو بن حزم: كتب إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تقرأ القرآن إلا طاهرًا) وأراد طاهرًا من الجنابة. فرع هل يجوز قراءة القرآن وفمه نجس, قال والدي- رحمه الله- يحتمل وجهين: أحدهما: لا يجوز للحرمة كما لا يجوز مس المصحف ويده نجسة. والثاني: يجوز ويكره كما يجوز قراءته محدثاً.

باب الاستطابة

فرع آخر لو قال: بسم الله أو الحمد لله. فإن قصدت به قراءة القرآن لا يجوز ويأثم, وإن كان قصده التبرك, أو افتتاح الأمر عند العطاس أو الأكل, أو ابتداء الغسل يجوز ومن أصحابنا من قال: لا يسن للجنب التسمية في ابتداء الغسل, وان كان يقصد به التبرك (83 ب/ 1) لأنه نظمه نظم القرآن, ويحرم عليه القرآن, ولهم أن يذكروا الله تعالى وتسبيحًا وتهليلاً وتحميدًا. قالت عائشة-رضي الله عنها- لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك ذكر الله تعالى على كل أحيانه , والمراد به ما ذكرناه. فرع آخر العادم لماء والتراب وهو جنب يؤمر بالصلاة تشبهًا في أحد القولين ولا يزيد على قراءة الفاتحة من القرآن لأنه لا يحتاج إلى قراءة الزيادة. وقال بعض أصحابنا: فيه وجهان. أحدهما: هذا, والثاني: لا يقرأ يل يأتي بالأذكار بدل القرآن كما لو كان عاجزًا بأنه لا يحسن القرآن؛ لأنه عاجزًا أيضًا لعقد الطهارة. فرع أخر الكافر لا يمنع من سماع القرآن لقوله تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فآجره حتى يسمع كلام الل} (التوبة:6) وهل يمنع من التعلم؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يمنع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب آيات القرآن إلى الكفار. والثاني: يمنع لأنه لا يؤمن منهم إلا استهزاء في الخلوة, بخلاف السماعة. باب الاستطابة قال: أخبرنا سفيان بن عيينة وذكر الخبر. وهذا كما قال أعلم أن الاستطابة والإستجمار والاستنجاء معناها واحد, وهو إزالة عين الغائط والبول من مخرجهما المعتاد إلا أن الاستجمار عبارة عن إزالته بالأحجار دون الماء لأنه مستو من الجمار وهي الحجارة. وقد قال (84 أ/ 1) صلي الله عليه وسلم "من استجمر فليوتر ومن فعل فقد أحسن ومن لا فلا حرج" أي من استعمل الحجر فيه فليجهله وترًا فإنه جعله شفعًا فلا حرج.

وأما الإستطابةً والاستنجاء بعير فكل واحد منهما عن تنقية مخرج البول والغائط بالماء والأحجار معًا، لأن الإستطابةً مشتقةً من الطيب؛ فكأنه بهذا القول يطيب ذلك الموضع، والاستنجاء مشتق من النجو هو القطع، يقال: نجوت الشجرةَ واستنجيتها إذًا كأنه قطع الأذى عن نفسه بالماء أو الحجارة، وقال القتييي: هو مأخوذ من النجوةً وهي ما ارتفع من! لأرض؛ لأن من أراد قضاء الحاجة استتر بها والأول أصح. فإذا تقرر هكذا. فالأصل في الاستنجاء الخبر الذي ذكره الشافعي، وهو ما رواه أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما أنا لكم مثل الوالد فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط فلا يستقبل القبلةَ ولا يستدبرها لغائط ولا بول وليستنجِ بثلاثةَ أحجار" ونهى عن الروث والرمةً وإنما قال: أنا لكم مثل الوالد أرقع الحشمةً بينهم ربينه حين أراد ذكر ما يحتشم منه، وقيل: إنما قال ذلك تثبيتها على أن كل والد أن يعلم ولده ما يحتاج إليه من أمر دينه كما علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آمته أمر دينهم. وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "علموا أولادكم الطهارة [84 ب/ 1] والصلاةً وهم أبناء سبع، واضربوهم عليها وهم أأبناء عشر؛ وقوله: فإذا ذهب أحدكم إلى الغائط: أراد به الموضع المطمئن من الأرض وكان أهل المدينةَ إذ ذاك يقضون حوائجهم في الصحاري فيأتون الموضح المطمئن فيها؛ يستترون به عن الأبصار فأمرهم أن لا يستقبلوا القبلةً لقضاء حوائجهم من الغائط، وهو ي يخرج من الإنسان، سمي باسم ذلك الموضع الذي يقضي حاجته فيه. فإذا تقرر هذا لا يجوز عند استقبال القبلةً ولا استدبارها لغائط ولا بول في الصحراء ولا في فضاء من الأرض، ويجوز في البيوت والبنيان أن يجلسوا كيف شاءوا، وبه. قال العباس ابن عبد المطلب، وعبد الله بن عمر، وعائشة - رضي الله عنها - ومالك، وإسحاق، وأحمد في رواية. وقال أبو حنيفة: لا يجوز ذلك في البنيان أيضًا، وبه قال أبو أيوب الأنصاري؛ والنخعي، والثوري، وأبو ثور، وأحمد في رواية، وروي عن أبي حنيفةً روايةً أخرى يجوز فيها الاستدبار. وقال عروةً بن الزبير، وربيعةً: يجوز كل ذلك فيهما، وبه قال داود، واحتج الشافعي على جواز ذلك في البنيان لما روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: ظهرت على إجار لحفصة - رضي الله عنها فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا في بيت من بيوت حفصةً على لبنتين مستقبلًا بيت المقدس، ومن اشمل [85 أ/] بيت المقدس في المدينةً بعد استدبار الكعبةً يدل على جواز ذلك في البنيان. والإجار سطح أحيط به حائط من جوانبه والأولى من هذا ما روي عن عائشةً -

رضي الله عنها - قالت؛ ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومًا يكرهون استقبال القبلةً بفروجهم فقال: "أوقد فعلوها استقبلوا بمقعدتي في القبلةً". ولأن في الصحارى معنيين: أحدها: احترام القبلةً. والثاني: أنه قال ما يخلو عن مصل من جني آو ملك أو إنس فيقع المصلي على عورته ولا يوجد كلا المعنيين معًا في البنيان. وروي عن ابن عمر - رضي الله عنه - أنه كان على بعير" في صحراء فزل وأبرك بعيره بين يديه وأرسل ذيله من ورائه وقعد يبول مستقبلًا القبلةً فقيل له: أليس قد نهي عن ذلك فقال ذلك إذا لم يكن بينك وبين القبلة ساتر. واحتجوا بما روى أبو أيوب الأنصاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أتيتم الغائط فلا تتقبلوا القبلةً لغائط ولا بول ولكن شرقوا أر غربوا" فقدمنا الشام فوجدنا مرا حيض قد بنيت قبل القبلةً فكنا ننحرف عنها ونستغفر الله - عز وجل - قلنا: نحمل الخبر على الصحراء. وقول أبي أيوب يعارضه قول ابن عمر - رضي الله عنهما - فإن قيل فما تأويل ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن استقبال القبلتين [58 ب/] قلنا: له تأويلان أحدها: أنه نهى عن استقبال بيت المقدس حين كان قبلتهم ثم نهى عن استقبال الكعبةً لما صارت قبلةً فجمع الراوي ما فرقه النبي - صلى الله عليه وسلم - في وقتين. والثاني: أراد بالمدينةً نهى عن استقبال الكعبةً واستقبال بيت المقدس؛ لأنه يصير مستدبر الكعبةً ولا يجوز استقبالها ولا استدبارها وسمى بيت المقدس قبلةً؛ لأنها كانت قبلةً على عادةَ العرب في استصحاب الاسم بعد زوال المعنى، ولهذا فإنهم يسمون البالغ يتيمًا. فرع قال أصحابنا: استقبال ست المقدس واستدباره للغائط يكره لأنه كان قبلة ولا يحرم النسخ. فرع أخر قال أصحابنا إذا جلس في الصحراء للغائط إلي ما يستره من جبل أو دابةً أو دار هل يغلب حكم الصحراء في المنع أو يغلب حكم السترةً في الجواز؟ وجهان: احدهم: يغلب الستر لوجود الاستتار. وقد قال ابن عمر - رضي الله عنه - والثاني: يغلب حكم المكان؛ لأن القضاء فيه أغلب، وعلى هذا لو كان من مصرين خراب قد صار قضاء كالصحراء وجهان: أحدها: يعتبر صفة المكان. والثاني: بقيةَ حكم المكان.

فرع آخر قال أصحابنا: يجب أن لا يكون البناء أقل من مؤخرةَ الرجل وهو قريب من ذراع عندي، ويشترط قرب البناء منه، فإن كان حوله جدران متباعدةً لا يجوز، ولو كان في الصحراء وهذه أو شيء [86 ا/ 1] يستره جرى ذلك مجرى البنيان. مسالة: قال: "وإن جاء من الغائط أو خرج من ذكرهِ أو دبرهِ شيء" الفصل وهذا كما قال. عبر الشافعي بلفظ القرآن؛ لأن الله تعالى قال: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ} [النساء: (43)] وجملته أي الاستنجاء واجب عنده. إما بالماء أو بالأحجار، فإن لم يستنج وصلى لم تجز صلاتهِ. وبهِ قال أحمد، وإسحاق، وداود، ومالك في رواية. وقال أبو حنيفة: الاستنجاء مستحب وليس بواجب، وهو رواية عن مالك، وبه قال المزني، وعلى هذا قاس أبو حنيفةَ النجاسةً في الثوب والبدن فجوز الصلاةً معها إذا كان قدر درهم يغلي، يريد بذلك الواسع، ولم يجوز إذا كان أكثر وقال: لو جازت النجاسةً في محل الاستنجاء قدر الدرهم لا يجوز في إزالته إلا المائع. واحتج الشافعي عليه بالخبر الذي ذكرنا، وأيضًا فقد روي أن بعض المشركين قالوا لسلمان الفارسي - رضي الله عنه - إن صاحبكم يعلمكم كل شيء حتى الخراءةَ قال: أجل إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستقبل القبلةً أو ندبرها لغائط أو بول وأن نستنجي بأيماننا، وأن نستخم بدون ثلاثةَ أحجار ليس فيها رجح "ولا عظيم. وروى بأن أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[86 ب/ 1] قال: "لا يكفي أحدكم دون ثلاثةً أحجار يستنجي بها". فإذا تقرر هذا الكلام في فصلين: أحدها: في الجواز. والثاني: في الأفضل فأما الأفضل. هو أن لجمع بين الماء والأحجار، فيستعمل أولًا الأحجار، ثم الماء، لأن الله تعالى: أثنى على أهل قباء فقال تعالى {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} {التوبة:08} فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -:"ما هذه الطهارة التي أثنى الله عليكم بها؟ فقالوا: نحن نستنجي بالأحجار ثم نتبعها الماء فقادت عليكم به" ولأنه إذا فعل كذا يكون ألطف وأنقى وأحوط، وهذا هو معنى انتفاص الماء الذي في الخبر، وقيل: وضع الماء من الليل وتغطيته مسنون. وأما الواجب فهو آن يقتصر على الماء أو الأحجار، والأفضل أن يقتصر على الماء، فإنه يزيل العين والأثر

بخلاف الأحجار، فإن اقتصر على الأحجار مع وجود الماء جان للخبر الذي ذكرناه خلافًا للزيديةً والهاشميةً. وروى أبو أمامه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يطهر المؤمن ثلاثةَ أحجار، والماء أطهر". وروي عن خزيمةً بن ثابت قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإستطابةً فقال: "ثلاثةَ أحجار ليس فيها رجيع". وروي عن عائشةً - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قعد لحاجتهِ فجاء عمر بماء فوقف وراءه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[87 أ/ ا] ما معك يا عمر؟ فقال: ماء نتوضأ به قال: إ لم أومر, بالماء كلما توضأت، ولو فعلت ذلك صار سنة". ومن الناس من كره الاستنجاء بالماء لأنه طعام وهذا لا يستوي بالحكايةً. فإذا تقرر هذا فالاقتصار على الأحجار إنما يجوز بشرطين أحدها: أن يأتي بثلاثةً أحجار. والثاني: أن يحصل الإنقاء فإن أنقاه بحجرين يلزمه استعمال الثالث, وإن لم ينق بثلاثةً أحجار يلزمه أن يزيد حتى ينقى، وإذا جاوز الثلاث فالمستحب أن يقطع على الوتر كما ذكرنا من الخبر. وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وقال مالك وداود: الواجب هو الإنقاء فقط ولا يشترط فيه العدد. وعند أبي حنيفةَ. يستحب الاستنجاء. وفي الاستحباب لا بد عن العدد، وهذا غلط لما ذكرنا من الخبر. وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: "خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصبيحةَ ليلةً الجن وقال: ائتني بثلاثةَ أحجار فأتيته بحجرين وروثه فرس، فألقى الروثةَ وقال: لا هذا ركس أبغني ثالثا، أي أعني على طلبه - وقوله ركس أي رجيع، رد من الطهارةً إلى حال النجاسةً يقال: ركست الرجل إذا نكسته في الشر. واحتج مالك إن المقصود هو الإنقاء؛ لأنه لو لم يحصل بثلاثةَ أحجار تلزمه الزبالةً، قيل عليه: أقضي الأمرين من العدد أو الإنقاء، ويوجد نظيره في مواضع كثيرة. واحتجوا بأن العدد في الاستنجاء بالماء لا يعتبر كذلك [87 ب/ ا] في الاستنجاء بالأحجار. قيل: الفرق أنه يحصل بالماء حقيقةً الطهارةً فلا يعتبر فيه العدد، وبالأحجار يحصل التخفيف، والطهارة، فيعتبر فيها العدد احتياطًا، وهذا كانقضاء العدةَ إن كان بوضع الحمل لا يراعى العدد، وإن كان بالإقراء يعتبر بالعدد، فإذا تقرر هذا فالخارج من الآدمي ضربان:

أحدهما: يوجب الغسل وهو المني والحيض والولد فلا يعتبر منه الاستنجاء لأن عليه غسل جميع البدن. والثاني: يوجب الوضوء وهو علي ضربين معتاد ونادر، فإن كان معتادًا فعز ضربين ريح وغير ريح، فإن كان ريحًا فلا استنجاء عليه به، وإن كان عينًا كالغائط والبول فيجب الاستنجاء منه ويجوز فيه الأحجار على ما ذكرنا، وإن كان نادرًا فعلى ضربين رطب ويابس، فالرطب هو الدم والقيح والصديد يحب الاستنجاء منه قولًا واحدًا، وهل يجوز الاقتصار فيه على الأحجار؟ قولان: أحدها: لا يجوز إلا الماء نص عليه في "الأم" وقوله ها هنا: أو خرج من ذكره أو دبره شيء أي ما هو معتاد، وهذا لأنه نادر لا يتكرر فلا يبق عليه استعمال الماء فيه. والثاني: يجوز فيه الاقتصار على الأحجار نص عليه في حرملةً؛ لأنه نجس خارج من محل الحدث فأشبه المعتاد والأول أظهر. وإن كان يابسًا كالحصاةً والنواةً والدود نظر فإن كان عليه رطوبةً [88 أ/] يلزمه الاستنجاء قولًا واحدًا. لم تكن رطوبةً فهل يجب الاستنجاء؟ قولان: أحدها: لا يجب، وهو اختيار المزني لأنه كالريح. والثاني: يجب؛ لأنه لا يعري عن الرطوبة، وإن لم يشاهد كالبعرةً اليابسةً، وقيل في البعرةً اليابسةً التي لا بلل فيها حكمها حكم الحصاةً أيضًا، فإذا أوجبنا الاستنجاء هل تجزئ الأحجار؟ على ما ذكرنا من القولين. وقال القفال: إذا أوجبنا الاستنجاء ها هنا تجزئ الأحجار قولًا واحدًا؛ لأن النجاسة التي يتوهمها معتادةً وهذا عندي على ما قال - رحمه الله. وقال بعض أصحابنا بخراسان: القولان بناء على أن الاعتبار بالخارج أو المخرج. فإن اعتبرنا الخارج لا تجزئ الأحجار، وإن اعتبرنا المخرج تجزئ الأحجار، ومن أصحابنا من قال: هذا إذا خرج المعتاد متلوثًا بغير المعتاد. فآما إذا خرج غير المعتاد خالصًا فلا تجزئ الأحجار قولًا واحدًا، والصحيح أن لا فرق. فإذا تقرر هذا يحرز الاستنجاء بالأحجار وبما في معنى الأحجار من الآجر والخشب والخرقة، وإن ورد النص الظاهر بالأحجار. وقال داود: لا يجوز الاستنجاء بغير الأحجار. وحكي ذلك عن زفر وهو رواية عن أحمد، وهذا غلط لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الروث والرمةً؛ لأن تخصيصها [88 ب/] بالنهي تنبيه على جوازه بغير ما - وروى الدارقطني بإسناده عن طاووس عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قضى أحدكم حاجته فليستنج بثلاثةً أحجار، أو ثلاثةَ أعواد، أو ثلاث حثيات من تراب"، أو يقول: غير الأحجار في معناها فقسنا عليها. وإنما ذكر الأحجار في الخبر المشهور؛ لأنها أكثر وجودًا.

فإن قيل: أليس في رمي الجمار لا يقوم غير الأحجار مقام الأحجار فكذلك هنا؟ قلنا: ذاك غير معقول المعنى وهو الإنقاء أو تخفيف النجاسةً وهذا يوجد في غير الأحجار. فإذا تقرر هذا فخذ ما يجوز به الاستنجاء. قال بعض أصحابنا: هو أن يكون طاهرًا منقيًا لا حرمةً له، ولا متصلًا; بحيوان، ومعنى التقى أنه يزيل العين حتى لا يبقى إلا. أثرًا لاصقًا لا يخرجه إلا الماء. وقال: أهل خراسان: هو أن يكون طاهرًا منشفًا لا حرمةً له. وقيل: يدل المنشف أن يكون قالعًا. وقيل: أن يكون جامدًا طاهرًا منقيًا غير مطعوم، وهذا أصح بالجامد لا بد منه؛ لأنه لو استنجى بغير الماء من المائعات كماء الورد ونحوه لا يجوز، ولو غسل الحجر النجس والماء عليه فأتم لا يجوز به الاستنجاء؛ لأنه يزيد تنجيسًا ولا يزيل شيئًا وإن كان نديًا زال عنه رطوبة الماء. ولم يجف بعده فهل يجوز استعماله؟ وجهان: أحدهما: لا يجوز لبقاء النداوةً. والثاني: يجوز لذهاب [89 أ/] الرطوبة وقيل: يختلف بقلة النداوةً وكثرتها فأن كانت النداوةً قليلةً فإنه يجوز، والطاهر لابد منه؛ لأنه لو استنجى بروث، أو عظم ميتة، أو حجر نجس لا يجوز فإن خالف وفعل لم يقع مرع الاستنجاء. وقال أبو حنيفة: يقع موقعه من حيث الاستحباب، وهذا غلط للخير الذي ذكرناه، نم إذا نجس هذا المحل بنجاسةً أخرى. هل يجوز أم يقتصر فيها على الحجر؟ فال بعض أصحابنا: يجوز؛ لأن هذه النجاسةً صارت تبعًا للنجاسةً الأولى وحصلت من حكمها، والصحيح أنة لا يجوز؛ لأن المحل نجس بغير الخارج منه، فهو كما لو استنجى بالماء ثم نجس ذلك المجل بنجس. غير الذي خرج منه لا يجوز الاستنجاء فيه بالحجر، كذلك ها هنا. وأما المنقي فلا بد منه، أو هو أن يكون؛ خشنًا، فإن كان أملس كالقارورة، والجحر الصماء، والسيف الصقيل، والزجاج والصفر، والرصاص لا يجوز الاستنجاء به لأنه لا ينقي العين بل يزيد المكان تلوثًا، وكذلك كل ما لا ينقي لنعومته كالخز والحرير، وللينه كالطين والشمع، أو لضعفه ورخاوته كالفحم لا يجوز الاستنجاء به، وعلى هذا الكاغد أن كان على صقالته لم يجز الاستنجاء به وإن كان برنكس جاز، وكذلك أوراق الشجر، فإن خالف واستنجي به ينظر، فإن لم يبل النجاسةً إلى محل آخر جاز وإلا فلا يجوز وهذا معنى المنشف، لأن الأملس والشيء [89 أ/] المبل لا ينشف. وأما كونه غير مطعوم لا يدمنه ويريد بالمطعوم ما كان طعامًا لنا كالخبر والتمر ونحوه، وما كان طعامًا لإخواننا من الجن كالعظم، فلا يجوز الاستنجاء به بحال طاهرًا كان أو غير طاهر، قالعًا فإن تكون رمةً وهو العظم أو غير قالع، لأن غير الطاهر نجس والطاهر أملس أو مأكول وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال لرويفع بن ثابت الأنصاري: يا رويفع

لعل الحياةَ ستطل بك فأخبر الناس أن من استنجى بعظم أو رجيع فهو بريء من محمد". وقال أبو حنيفة: يجوز الاستنجاء بالعظم طاهرًا كله أو نجسًا من حيث الاستحباب. وقال مالك: يجوز بالطاهر منه فقط. وقيل في معنى الرجيع السرقين سمي به لرجوعه عن الطهارةً إلى النجاسةً. وقيل للرجيع: الحجر الذي قد استنجى به مرةً فإنه إذا أراد أن يستنجي به ثانيًا رجع إليه. وروي أن الجن قالت: يا رسول الله مر أمتك أن لا يستنجوا بالعظم والروث، فإن العظم زادنا والروث علف دوابنا. وقال أبو حنيفة: يجوز بالمأكول أيضًا كالماء المروب, وبه قال مالك، وهذا غلط لأنه نجاسةً سببها المأكول فلا تزال المأكول، وتفارق الماء؛ لأنه تدفع النجاسةً عن نفسه بخلاف هذا. وقيل: حد مما يجوز به الاستنجاء أن يكون جامدًا طاهرًا قالعًا للنجاسةً عن محترم ولا [90 أ/ 1] مخلف، وفيه احتراز عن التراب إذا لم يجوز به الاستنجاء في أحد القولين؛ لأنه يخلف على المحل جزءًا منه. لو استنجي بيده، أو بعقبه، أو بذنب حيوان، أو عضو من أعضائه أو صوف على ظهره، قال بعض أصحابنا: يجوز لأنه جامد طاهر منقي غير مطعوم، وهذا هو اختيار أبي حامد وجماعةً. وقال بعضهم: لا يجوز وهو اختيار القاضي الطبري وجماعةً؛ لأنه إذا لم يجز بالطعام والعظم للنهي، وإن كان يحصل يهما الإنقاء، فلأن لا يجوز بما له حرمةً أولى، ولأن الرخصةً لا تتعلق بالمنهي. وقيل: إن استنجي بيد نفسه لا يجوز، وإن استنجي بيد غيره يجوز، كالسجود على يد نفسه لا يجوز، وعلى يد غيره يجوز، وهذا يحكى عن أبي حامد، ولا معنى لهذا الفرق، ولا لهذا القياس. فرع أخر لو استنجى بالذهب، أو الفضةَ، أو حجارةً الحرم من أصحابنا من قال لا يجوز كالمأكول للحرمةً. والثاني: يجوز لأن لماء زمزم حرمةٌ تمنع من الاستنجاء، ولو استنجى به فإنه يجوز بالإجماع. فرع الاستنجاء باللحم لا يجوز لأنه يؤكل بعد عمد، ولو استنجى بحيوان فيه وجهان، والصحيح جوازه لأنه غير مأكول، ويحرم أكله حيًا. بخلاف اللحم الني، وهذا إذا لم يكن فيه من النعومةً واللين ما يمنع الإزالة.

فرع آخر اليقطين يؤكل رطبًا ولا يؤكل يابسًا فلا يجوز الاستنجاء به رطبًا ويجوز [90 ب/ ا] يابسًا، ويجوز الاستنجاء بنوى الثمار المأكولةً، ويجوز بقشر الرمان، وهكذا لو استنجى برمانةً حبها فيها جاز؛ لأن المباشرةً في الاستنجاء. كانت بقشرها وهو غير مأكول. فرع لو كان قشره قد يؤكل رطبًا ويابسًا كالبطيخ لا يجوز بحال، وإن كان قشره يؤكل رطبًا ولا يؤكل يابسًا كاللوز والباقلاء يجوز يابسًا ولا يجوز رطبًا. فرع آخر كلما تأكله البهائم والآدميون. فإن كان أكل الآدميين له أكثر فلا يجوز الاستنجاء به. وإن استويا فيه مخرجان من اختلاف أصحابنا في ثبوت الدنيا فيه. فرع آخر لو استنجى بالمصحف أو بكتاب الفقه والأخبار هل تقع الموقع؟ فيه وجهان بناء على ما ذكرنا من الخبرين، ولا شك أنه يعصي به إن كان عالمًا بل ويكفر للاستهزاء به. أو قيل في الاستنجاء بالخبز مع العصيان وجهان وليس بشيء. فرع لو جعل الثلاثةً من ثلاثةً أصناف أجناس خشب وخرق وحجر فاستنجى به أجزأه، ولو استنجي بالخرقة مرة لا يجوز أن يستنجي بالوجه الآخر منها؛ لأنه يصل هذا النحو إلى الوجه الأخر مصير الكل نجسًا، ولو لف بعض الخرقةً على بعض حتى صارت النجاةَ الأولى من دون عليها من الخرقةَ أجزأه. فرع أخر نص الشافعي على جواز الاستنجاء بالآجر قال أصحابنا [91 ب/ ا] هذا: على عادةً الناس في عصره بمصر والحجاز، فإنهم كانوا لا يخلطون السرقين بترابه بل كانوا يخلطوا به البن والرماد، وكذا أهل العراق في الأول لم يكونوا يخلطون الروث، والآن يخلطون الروث فعلى هذا لا يجوز الاستنجاء به إليهم. ومن أصحابنا من قال: علم الشافعي بطرح الرقين فيه ولكنه أجازه؛ لأن النار تحرق الرقين فلا تبقي منه شيء، فإذا غسل الآجر بعده طهر ظاهره ويجوز الاستنجاء به حينئذ. وإن كسره لا يجوز الاستنجاء بظاهر موضع الكسر حتى يغسله أيضًا؛ لأن النار تأتي على الرقين الباطن فتخرقه أيضًا. وقال أبو حامد: لا يجوز بموضع الكسر أصلًا، وأراد واش أعلم إذا لم يحترق الرقين الذي على ظاهر موضح الكسر. فرع آخر لو استنجى بالتراب. قال في "البويطي": لا أكره الاستنجاء باللبان، ولا بورق

الشجر، ولا بالتراب. قال أصحابنا: أراد به المدر الصلب الذي تتهيأ إزالة النجاسةُ به، فإن كان متناثرًا لا يجوز؛ لأنه لا يقني النجاسةً بل يلتصق بعض التراب بالنجاسةً. ومن أصحابنا من قال: يجوز بكل تراب والأول أصح. فرع آخر قال من رواية الربيع: يجوز الاستنجاء بالفحم وروي، يجوز الاستنجاء بالمقاييس. وقال في روايةَ "البويطي": لا يجوز بالحممةُ فقيل قولان والصحيح أنه على [91 ب/ ا] حالين: فإن كان صلبًا بحيث لا يلتصق بشرته من السواد إلا قدر ما يلتصق من المدر يجوز. وإن كان رخوًا لا يجوز. وروى ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الاستنجاء بالحممة. فرع لو بقي ما لا يزول بالحج، ولكن يزول بالخرقةً وصفات الخرق ظاهر مذهب الشافعي. وبه قال عامةُ أصحابنا يلزمه إزالته لأنه يمكن أزالته بعين الماء، وفيه وجه آخر لا يلزمه إزالته؛ لأنه لما كان فرصةً سقط بالأحجار لؤمه آنفًا ما يزول بالأحجار. هكذا ذكره صاحب الحاوي وعندي الصحيح الوجه الثاني وهو المذهب؛ لأن الأحجار هي الأصل في الاستنجاء على ما ورد به الشرع وجرت به العادةً. مسألة: قال: "ولا تستنجي بحجر قد مسح به مرةً إلا أن يكون قد ظهر بالماء" وهذا كما قال معناه طهر بالماء وجف بعد بطهارته؛ لأنه قيد بالماء ونص في الإملاء على أنه إذا زال الأثر بالشمس يطهر من غير غسل. وبه قال أبو حنيفةَ، والأصح الأول فإذا قلنا بقول الإملاء. فلو جف بالظل حتى زال. الأثر قولان أيضًا، وكذلك القولان في أرض نجسة جنت بالشمس أو بالظل، وقيل: إنه مرتب. فإن قلنا بالشمس لا تطهر فبالظل أولى. [92 أ/] وإن قلنا بالنص يطهر يفي الظل قولان. فإن قيل: أليس كره الشافعي أن يرمي بحجر قد رمي به مرة، فلم لا يكره ها هنا؟ قيل: لأنه قد قيل: إن ما يقبل منه يرفع، وها لم يقبل منه يترك هناك، فكره الرمي كغير المقبول، وها هنا القصد إزالةُ النجاسةَ يحجر طاهر، وقد وجد ذلك. فإن قيل: أليس لو شهد بحق ثم أعاد الشهادة فإنما لا. تقبل فكذلك لا يجوز إعادة الاستنجاء الحجر الأول. قيل: الفرق. هو أن القصد من الشهادة أن يغلب على الظن صدق الشهود في شهادتهم وبالتكرار لا يحصل عليه الظن، وها هنا القصد ما ذكرنا فافترقا. فإن قيل: أليس بالماء المستعمل لا يجوز التطهر فكيف جاز بالحجر المستعمل؟ قلنا: لأن الماء قد؛ أزال مانعًا من الصلاةً بخلاف الحجر.

فرع لو شك هل استنجي به مرة أم لا. قال في "الأم": كرهت له أن يستنجي بهَ، فإن استنجى أجزأه لأن الأصل الطهارة. فرع إذا استنجى بحجر ولم يتلوث بالنجاسةً ثم أراد أن يستنجى به ثانيًا ففيه وجهان: أحدها: لا يجوز كالتراب المستعمل في التيمم. والثاني: يجوز كالدواء المستعمل في دفع الجلد يستعمل في غيره، وليس كالماء المستعمل؛ لأنه أزال الحدث عن البدن والتراب في التيمم أزال حكمه في الحال، أو الحجر لا يزيل النجاسةً تحقيقًا، فإذا [92 أ/] كان حكم النجاسةً ثابت للمحل لم ينتقل الحكم إلى الحجر. مسألةً: قال: "والاستنجاء من البول هو كالاستنجاء من الخلاء"). وهذا كما قال أراد به أن يجب من البول ويقيم ساعةُ تم ينشر ذكره ثلاثًا قبل الاستنجاء بيده اليسرى، وهو أن يضع إصبعه على ابتداء مجرى بوله، وهو من عند حلقة الدبر ثم يسلت المجرى بتلك الأصبع إلى رأس الذكر. وهذا لما روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا بال أحدكم فلينتر ذكره ثلاث مرات" والنتر هو الدلك الشديد - وقيل: يمسك الذكر بيده اليسرى ويضع أصبع يده اليمنى على ابتداء المجرى، فإذا انتهى إلى الذكر نشر الذكر باليسرى، وهذا أمكن حكاه الساجي. والأصل في هذا ما روي آن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تنزهوا من البول، فإن عامةُ عذاب القبر منه، وروي أبو هريرة أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم - قال "عذاب القبر من البول والنميمة فإياكم وذلك". روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمةَ، وأما الآخر فكان لا يستنزه من البول" وروى: "لا يتنزه" فإن استنجى بعد انقطاعه ولم ينشر جاز، لأن الظاهر أن بوله قد انقطع. وحكي بن الحسن بن صالح أن البول يخرج [92 أ/] ما لم يغسل بالماء، فإذا غسل انقطع ويكون الماء كالجسم له. وقال الأوزاعي: من أشفق أن يكون في إحليله شيء من

البول فليمش خطوة أو خطوتين فإنه ستنزل ما أشفق منه، وهذا عندي حسن مستحب. فرع قال أصحابنا: يكره أن يحشو الإحليل بقطنةٍ؛ لأنه لم يعقل بين الصحابة وفيه تشديد. مسألة: قال: "ويستنجي بشماله" وهذا كما قال: يكره الاستنجاء باليمين للخبر الذي ذكرنا ين سلمان الفارس. رضي الله عنه - وقالت عائشةٌ وحفصةٌ - رضي الله عنها: كان يمين رسول الله- صلى الله عليه وسلم - لطعامه وشرابه وثيابه، ويساره للاستنجاء وغيره من الأذى وروى أنه قال: "إن الشيطان يأكل بيساره ويستنجي بيمينه فكلوا باليمين واستنجوا باليسار " وروي أبو قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"إذا بال أحدكم فلا يمس ذكره بيمينه وإذا خلا فلا يستنجى بيمينه" قال أصحابنا: ويستحب أن يستعين بيمينه في شيء من الاستنجاء، فإن كان يستنجي من الغائط أخذ الحجر بشماله واستنجى به، وإن كان يستنجي من البول فإن كان الحجر كبيرًا أو جدارًا أخذ الذكر بشمالهِ وآمر عليه في ثلاثةُ مواضع، ولا يمر مرتين على موضع واحد، فإن فعل فإنه لا يجزي إلا الماء. وإن كان الحجر صغيرًا فإن أمكن أن يجعله بين [93 أ/] عقبيهِ وأمر ذكره عليه فعل، وإن لم يمكنه أخذ الحجر بيمينه والقضيب بيساره ثم يمره على الحجر، ولا يمر الحجر على الغضون ولا يحرك اليمين لئلا يكون مستنجيًا باليمين، وهذا لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهىَ عن مس الذكر بيمينه" ومن أصحابنا من قال: الأولى أن يأخذ بيساره الحجر لأنها المقصود بالاستنجاء، ويكون ذكره بيمناه. فعلى هذا الوجه ينبغي أن يمسح الحجر على ذكره هكذا ذكره صاحب "الحاوي" والأول أصح وأظهر وان كان يستنجي بالماء صب الماء بيمينه ومسحه بيساره، وإن كان أقطع اليسرى أو كان بها عِلةً استنجى بيمينه للضرورة. فرع لو بال وجف لا يستنجى بالحجر، ولو تغوط وجف ثم استنجى بالحجر. قال أصحابنا: لا يجوز لأن الحجر لا يزيل النجاسةً الجامدةُ، والأصح أن يقال:

إن كان يقلعها الحجر جاز وإلا فلا يجوز إلا الماء. فرع إذا استنجى من الغائط بالماء ما يقع له العلم بزوال النجاسةُ عينًا وأثرًا، فإن شم من أصبعه اليسرى الوسطى رائحةُ النجاسةُ هل يكون دليلًا على بقاء النجاسةً في محل الاستنجاء؟ وجهان: أحدها: يدل على بقائها، ولا يسقط فرص الاستنجاء؛ لأن ذلك يكون لتعديها من محل الاستنجاء فعلى هذا يكون المستنجي مندوبًا إلى ثم أصبعه. والثاني [94/ 1]: أنه لا يدل على بقاء النجاسةَ هناك؛ لأن بقاء النجاسةَ في عضو لا يدل على بقائها في غيره. فعلى هذا لا يكون المستنجي لأجل الاستنجاء مندوبًا إلى شم أصبعه. ذكره ني الحاوي. فرع آخر قال أصحابنا: شرط من يستنجى بالحجر أنه لا يقوم عن موضع الغائط؛ لأن بالقيام تنطبق الآليتان فتنقل النجاسةً من مكان إلى مكان. مسألة: قال: "وإن استطاب بما يقوم مقام الحجارة" الفصل إلى قوله: "مًا لَم يَعُدُ الْمُجرج، وهذا كما قال: ذكرنا ما يجوز به الاستنجاء والكلام الآن في الموضع الذي يجوز استعمال الأحجار فيه، والذي لا يجوز بالذي نقل المزني أن الحجارة تجوز ما لم يعد المخرج - أي ما لم تجاوز. فإن عدد المخرج لا يجوز إلا الماء. ونقل عن القديم أنه يجوز إذا لم ينتشر فرق العادةَ في ذلك الموضع وحوله. ونقل الريح وذكره في "لأم" وحرملةُ يجوز ما لم يخرج إلى ظاهر الآليتين. وفيه ثلاث مسائل: إحداها: إذا لم يعد المخرج بحالٍ أو عداه ولكن انتشر حول حلقة الدبر على المادةُ ولم يرد أجزأه الحجارةً قولًا واحدًا، نص عليه في جميع كتبه، وغلط المزني فيما نقله، ولا يعرف الشافعي ذلك، ولعله سقط عن المزني قوله وحوله، وأراد وحوله فتركه اختصارًا, وذكر في "البويطي": يجوز الاستنجاء بالأحجار ما لم يعد الشرح، وهو أيضًا غلط، وأراد وحوله أيضًا وهذا لأن [(94) ب/] وصول النجاسةً إلى هذا الموضع يكثر ويتكرر، ولا يتصور أن لا يتعدى المخرج فيشق فيه استعمال الماء، وعلى هذا لو تقاطر إليه بعد الانفصال عنه لا يجوز فيه إلا الماء، وإن كان قريبًا من المخرج بحيث يشير إليه في العادةً ثم إن أمكنه غسل ذلك المتقاطر والاستنجاء بالأحجار في موضع

(الخروج) فعل، وإن لم يمكنه ذلك لتقاربها واتصال أحدهما بالآخر لا يجوز في كله إلا الماء. والثانيةُ: أن يزيد على ذلك إلى ما بين الآليتين ولم يظهر على الآليتين هل تجزيه الحجارة؟ قولان: أحدها: يجزيه لأن قوت المهاجرين كان النمر وهو يلين الطبع فتصل النجاسةً غالبًا إلى هذا الموضع، وكانوا يستنجون بالأحجار. والثاني: لا يجوز لأنه نادر وأراد بما ذكر في "الأم" وحرملة ما فسره في القديم وهذا أقيس. والأول ظاهر المذهب. والثالثةُ: أن يظهر على الآليتين فلا يجوز فما ظهر على الآليتين إلا الماء قولًا واحدًا، وفيما يظن على القولين اللذين ذكرناهما هكذا أطلق أصحابنا، وهذا عندي إن أمكن الفصل بين ما. يغسل وبين ما يستعمل فيه الحجر ويبعد ذلك أومن أصحابنا من قال: في المسألةً ثلاث أقوال تجعل رواية. المزني قولًا وما قل في "القديم" قولا ثانيًا .. وما قال في "الأم" قولًا ثالثًا، وهذا ليس بشيء وأما البول قال أبو إسحاق في "الشرح"، إذا جاوز البول مخرجه حتى رجع على الذكر أو [5 أ/] أسفله لم يطهره إلا الماء، وليس الذكر كالدبر، لأن ما يخرج من الدبر لا بد من أن ينتشر، وما يخرج من الذكر لا ينتشر. وهكذا ذكر "البويطي" فقيل قول واحد في هذه المسألةً. وقال القاضي الطبري: رأيت في "الأم" قال:.إذا انتشر البول إلى ما أقبل على الثقب أجزأه الاستنجاء، فإن جاوز ذلك الموضع لم يجز فيما جاوز إلا الماء. وهذا قول آخر. وقال بعض أصحابنا: فيه ثلاث مسائل: إن انتشر قدر العادةً جاز فيه استعمال الأحجار، وإن جاوز موضع القطع إلى باطن الذكر أو ظاهره أو جنبيه لم يجز فيه استعمال الأحجار. وإن جاوز المعتاد ولكن لم يخرج عن موضع القطع فيه قولان أو هذا غير صحيح لما ذكرنا من النص. فصل في كيفية الاستنجاء اعلم أن الواجب أن يستنجي بثلاثةَ أحجار يعم بكل حجر منها المحل. فإن بقي شيء زاد حتى ينقي. وقد روى سهل بن سعد الساعدي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يفي أحدكم إذا قضى حاجته أن يستنجي بثلاثةَ أحجار حجران للصفحتين وحجر للمسربةَ". وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقبل بحجر ويدبر بحجر ويطلق الثالث" واختلف أصحابنا

في هذا على وجهين. قال أبو إسحاق: صورته أن يأخذ حجرًا ويضعف على مقدم صفحته المنى ثم يذهب به إلى آخرها، ثم يضع الثاني على مؤخر صفحته اليسرى، ثم يمره إلى آخرها، [95 ب/ ا] ثم يضع الثالث على الصفحتين فيمسحهما معًا به. وقال ابن أبي مريرةُ: يضع الأول على مقدم صفحته اليمنى ثم يذهب به إلى آخرها، ويديره إلى مؤخر صفحته اليسرى ثم يذهب به إلى آخرها، حتى يرجع إلى الموضع الذي بدأ منه، ثم يضع الثاني على مقدم صفحته اليسرى ثم يذهب به إلى آخرها، ويديره إلى مؤخر اليمنى، ثم يمره إلى آخرها حتى يرجع إلى الموضع الذي بدأ منه، ثم يطلق بالثالث على الصفحتين معًا، وهذا أصح؛ لأن العدد المعتبر في إزالة النجاسةً من شرطه أن يعم المكان بكل مرةً كما قلنا في عدد غسل الإناء، ولوغ الكلب، وعلى ما قال أبو إسحاق لا يوجد هذا، وعلى هذا ينبغي آن يدير الدم الذي يستنجي به في يده قليلًا حتى لا تصيب النجاسة موضعا أخر بل كما يصبب متجافي عن البدن. فرع قال الشافعي والبكر والثيب في الاستنجاء سواء. قال أصحابنا: أما في الغائط فالرجل والمرأة سواء فلا إشكال. وأما في البول إن كانت بكرًا ففرجها سدود وفيه ثقبتان، ثقبه للبول في أعلا فرجها كالإحليل، وثقبه في أسفل الفرج وهر مدخل الذكر ومخرج الحيض والولد. فإذا اقتضت انشقت الثقبةُ التي يخرج منها الحيض وتصير ثيبًا، فالبول يخرج من البكر في أعلا فرجها ولا يدخل في فرجها شيء منه، فالحجارةً تجزيها. وأما الثيب [96 ب/ ا] فربما ينزل البول إلى فرجها - يعني موضع الحيض - فإن علمت أنه لم يزل فهي كالبكر، وإن علمت أنه ينزل في فرجها فلابد من غسل ما أصابه البول من فرجها. وأطلق أصحابنا أنه لا يجوز لها الاستنجاء بالأحجار، لأن الغالب أن البرد ينزل في مدخل الذكر ويتاحشَ. وقيل نص الشافعي في "الأم" أن لها أن تستنجي بالأحجار لأن منفذ البول لم يتغير بزوال البكارة فإذا أرادت أن تغسل هذا الموضع قال الشافعي: فإذا أرادت أن تغسل هذا الموضع من دم الحيض أو البول لا يجزيها إذا لم تكن عذراء إلا إدخال الماء في فرجها وشبهه الشافعي بما بين الأصابع، وظاهره أنه لا يبطل صومها به ويجزيها إذا كانت عذراء ما دون العذرةً. قال أصحابنا: وإنما يجب إيصال الماء إلى الموضع الذي يظهر عند جلوسها وقيامها فأما ما عدا ذلك فهو في حكم الباطن ويبطل الصوم بوصول الواصل إليه فلا يكلفا إيصال الماء إليه. فرع آخر لا يحوز للخُنثىَ أن يستنجى بالحجر إلا من الغائط. فأما في المبالين فلا يجوز الماء ما دام مشكلًا لأن القبل أحدهما والآخر العضو الزائد ففي حال الإشكال يقع الاستنجاء في العضو الزائد فلا يجوز.

مسألةُ: قال: "والفرق بين أن يستطيب بيمينه فيجزئ وبالعظم فلا يجزئ" وهذا كما قال الاستنجاء باليمين يكره ولكن لو فعل جاز. وقال [96 ب/ ا] داود: لا يجوز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سوى بينه وبين الاستنجاء بالعظم في النهي، وهذا غلط، والفرق ما ذكره الشافعي؛ وهو أن النهى هناك لا لمعنى يعود إلى الآلة لأن الآلة صالحة للاستنجاء وهو الحجر الذي في يده اليمنى وإنما النهي لمعنى الأدب فجاز، وفي العظم النهي لمعنى في الآلة فلا يجوز، وهذا كالوضوء لا يجوز بالماء النجس ولكنه يجوز بالماء في الإناء المغصوب وكذلك لا يجوز الذي بسن أو ظفر ويجوز بسكين مغصوب، وإن أثم بغصبه. فإن قيل: أليس لو توضأ بالماء المغصوب يجوز فلم يجوز بالعظم إذا أنقى؟ قيل: لأن الاستنجاء بالجامد رخصةً للمشقةً فإذا كان محرمًا لم تحصل الرخصة، كسفر المعصية لا يترخص به بخلاف ذلك. وقول المزني والعظم ليس بطاهر غلط، وإنما قال الشافعي: والعظم ليس بنظيف. ومعناه أنه لا يخلو عن دسومةً وزهومةً فلا ينظف؛ لأن من العظم ما هو طاهر بمظهر. وقيل: إنه تعلل من المزني للعظم النجس. مسألة: قال: "وَلَا بَأسَ بِالْجِلِد الْمَدْبُوغِ أنْ يُسْتَطَابَ بِهِ" وهذا كما قال: الجلد على ضربين جلد طاهر وجلد نجس فأما النجس فلا يجوز الاستنجاء بلا إشكال. وأما الطاهر فعلى ضربين أحدها: أن يكون مدبوغًا والثاني: [97 أ/ 1] أن يكون غير مدبوغ، فإن كان مدبوغًا ففيه قولان: أحدها: يجوز الاستنجاء به سواء كان جلدها يؤكل لحمه أو ما لا يؤكل، وهو الأصح نص عليه في "الأم" كأنه إن كان لينًا فهو كالخرقةً، وإن كان خشنًا فهو كالحجر. والثاني: لا يجوز نص عليه في حرملةٍ لأنه كالعظم وقد الشاة فتؤكل بجلدها، وهذا لا يصح، لأنه لا يقعد الأكل في العادة فلا يعد مأكولًا، وهذا في جلد الميتةً بعد الدباغ: إن قلنا: يجوز بيعه يجوز الاستنجاء به قولًا واحدًا، وإن قلنا: لا يجوز بيعه فهل يجوز الاستنجاء به؟ ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز وهو اختيار ابن أبي هريرة؛ لأنه لما جعل في حكم الميتةً في تحريم البيع كذلك في تحريم الاستنجاء. والثاني: يجوز وهذا لا يصح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "هلا أخذوا أهابها قد بغوه فانتفعوا به" وهذا هو من جملةً الانتفاع به بخلاف البيع. ومن أصحابنا من قال هذا على اختلاف حالين بالذي قال يجوز إذا كان قديمًا يابسًا والذي قال لا يجوز هو إذا كان طريًا لينًا وقيل: الذي قال يجوز أراد به ظاهر الجلد وخارجه؛ لأنه خارج عن حال

اللحم لخشونتهِ وغلظهِ. والذي قال: لا يجوز أراد به باطن الجلد وداخله لأنه باللحم أشبه، وهذا ليس بالشيء، وإن لم يكن مدبوغًا ولكنه جلد مذكاةً فيه قولان قال في "الأم" وحرملةً لا يجوز الاستنجاء به [97 ب/ 1] وهو أشبه الأشياء بالعظم، ولأنه طبعه طبع اللحم وهذا هو الصحيح. وقال في "البويطي": يجوز. ومن أصحابنا: من قال: لا يجوز قولًا واحدًا، وأراد بما قال في "البويطي" بعد الدباغ؛ لأنه أطلق وبعد الدباغ يجوز قولًا واحدًا. وآما الجانب الذي يلي الصوف أو الشعر فلا إشكال أنه يجوز؛ لأنه يبقى وليس بطعام. فرع لو احترق العظم بالنار حتى ذهبت سهركته ولزوجته وخرج عن حاله، كان ميتًا لا يجوز لأنه نجس، وإن كان مذكى ففيه وجهان: أحدهما: يجوز الاستنجاء به لأن النار قد أحالته عن حاله فصارت كالدباغةً قيل الجلد المزكي كما كان عليه إلى حال يجوز الاستنجاء به. والثاني: لا يجوز لأنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الرمةً - والرمةً هي اسم البالي - فلا فرق بين أن يصير باليًا بالنار، والفرق بين النار في العظم وبين الدباغةً في الجلد، أن الدباغةً تنقل الجلد إلى حالةً زائدةً، فأفادت حمًا زائدًا، والنار تنقل العظم إلى حالةً ناقصةً فكان, أولى أن يصير حكمه ناقصًا ذكره في "الحاوي". مسالة: قال "وَإنْ اسْتَطَابَ بِحَجَرٍ لهُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ كَانَ كَثلَاثةِ أَحْجَارٍ". وهذا كما قال إذا استنجي بحجر له ثلاثة أحرف ومسح بكل حرف مسحة جاز، والعدد المشروط في الاستنجاء ليس [98 أ/ 1] عدد الأحجار؛ بل عدد المسحات بالمواضع الطاهرة. وقوله: إذا بقي أراد أن لا تصل النجاسةً من حرف إلى حرف آخر. وقال داود، وأهد الظاهر: لا يجوز ولا بد من عدد الثلاث، فقال الشافعي: أرأيت لو استنجى بثلاثةً مواضع من جبل أما يجزيه؟ وقد روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قضى أحدكم حاجته فليمسح بثلاث مسحات" ولأن القصد قلع النجاسةَ مع العدد. وقد وجد ذلك فإذا تقرر هذا فالمستحب آن يمح بثلاثةً أحجار متفرقةً نص عليه. مسألةً: قال: "وَلَا يُجزِي أن يَسْتَطيبَ بِعَظْمٍ وَلا نَجِس". وهذا كما قال: روى نجِس بكسر الجيم- وروى: نجَس بالفتح ومن روى بالفتح جعله صفة للعظم، فمعناه لا يجزي أن يستطيب بعظم وليس بنجس ومن روى الفتح جعله ابتداء نهى عن الاستنجاء بالنجاسةَ. وقد ذكرنا ما قيل فيه.

فرع لو تغوط آو بال ثم توضأ قبل الاستنجاء جاز وضوءه، وكان الاستنجاء باقيًا عليه. فإن أحب اقتصر إلى الماء أو على الحجارةَ، ويتوقى أن لا تمس يده قبله أو دبره، فإنه يلف على يده خرقةً، فإنه إن مسه بطل وضوءه نص عليه في "البويطي" وغيره ولو تيمم قال الاستنجاء في "الأم" "والبويطي": لا يجوز وقال الربيع: فيه قول آخر أنه يجوز. واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال- فيه قولان: أحدها: لا يحوز وهو المشهور؛ لأن التيمم لا يرفع الحدث وإنما يبح [98 ب/ 1] الصلاة، فإذا فعله على وجه لا يستبيح به الصلاة لم يجز كما لو تيمم قبل دخول وقت الصلاةً بخلاف الوضوء، وأيضًا إذا تيمم يلزمه طلب ما يستنجى به، ولا يتعين له الحجر بل الماء والحجر، فإذا قد وجب عليه طلب الماء فبطل التيمم بوجوب طلب الماء، وهذا لا يوجد في الوضوء. والثاني: يجوز قياسًا على الوضوء، وهذا اختيار القاضي الطبري قال: وهذا أقيس، وليس على القول الآخر دليل يصح عندي. وقال صاحب "الإفصاح": في الوضوء والتيمم قولان. وحكي المزني في المشهور عن الشافعي أن الوضوء قبل الاستنجاء لا يجوز، ووجهه أن خروج الحدث هو الوجب فلا يصح فعله مع بقاء موجبه، ألا ترى أنه لا يصح الغسل من الحيضةً مع اتصاله. ومن أصحابنا من قال: هذا الذي ذكره المزني لا يعرف للشافعي والمسألة على قول واحد في الوضوء أنه يجوز وهو الصحيح، وقيل: في التيمم قول واحد ولا يجوز، وما ذكره الربيع فمن كتبه وتخريجه. فرع آخر لو كانت النجاسةً على بدنه سوى موضع الاستنجاء. قال بعض أصحابنا قول واحد هاهنا يجوز الضوء والتيمم قبل غسله، والفرق أن التيمم لا يستباح به الصلاة من هذه النجاسةً فصح فعله مع وجودها بخلاف نجاسةُ النجو، أو يقول خروج النجاسةً من محل [99 أ/ 1] الاستنجاء ينتقض الطير فبقاء النجاسةَ عليه يمنع صحة التيمم بخلاف خروج النجاسةَ من غير موضعها وهذا هو اختيار صاحب الإفصاح. وقال غيره: فيه وجهان: أحدها: لا يجوز تيممه وهو الأقيس. وقيل: نص عليه في "الأم" والفرق ضعيف. والثاني: يجوز على ما ذكرنا. فرع آخر لو تيمم ثم حدث على بدنه نجاسةً قال بعض أصحابنا: هل يبطل تيممه فيه وجهان كما لو تيمم ثم ارتد لأن النجاسةَ تمنع الصلاةً كالردةُ.

فصل في آداب الخلاء أعلم أنها أحد وعشرون أدبًا أحد عشر منها يختص بمكان الاستنجاء وغيره يختص بالمستنجي في نفسه، أما في مكان الاستنجاء فالأبعاد عن أبصار الناس إلى حيث لا يراه أحد، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد قضاء حاجته أبعد المذهب. وروي أنه كان يذهب بحاجته إلى المعمس وهي على ميل من المدينة. وثاني: أن يستتر بستره لئلا يراه مارا ما بربوة أو شجرة أو في وهذه فإن لم يجد جمع رملا وجلس خلفه لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحدثوا في القزع فإنه مأوى الخافين" والفزع الموضع الذي لا بنيان فيه، وهو مأخوذ من فزع الناس الذي لا شعر فيه، وقوله: مأوي الخافين: مأوى الجن سموا خافين لاستخفائهم [99 ب/ 1]، وفي البنيان لا يحتاج إلى هذا؛ لأن موضع الخلاء مهيأ مستور. الثالث: أن يتوفي مهاب الريح لأنها ترده عليه. والرابع: أن يرتاد لبوله أرضًا لينة رمالًا أو ترابًا فإن لم يجد دق الأرض بشيء حتى يلين فلا يترشش عليه لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا أراد أحدكم أن يبول فليرتد لبوله". وروي لأنه كان يرتاد لبوله كما يرتاد أحدكم منزله. وقال أبو موسي الأشعري: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأراد أن يبول فأتى دمثًا في أصل جدار وبال ثم قال هذا والدمث: المكان السهل الذي يتخذ فيه البول فلا يرتد على البائل وقوله: فليرتد: أي ليطلب وليتحرك والأشبه أن ذلك الجدار غير مملوك لأحد لأنه لا يجوز ذلك في ملك أحد. والخامس أن يتوقى البول في ثقب أو سرب أو شقاق لما روى عبد الله بن سرخس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن البول في حجر. ولأنه لا يأمن أن يخرج منه حيوان يلسع ذكره. وحكى أن سعد بن عبادة بال في حجر بالشام فاستلقى ميتًا فسمع الجن تنوح عليه بالمدينة: نحن قتلنا سيد الخزرج سعد بن عبادة ... رميناه بسهمين فلم تُخط فؤاده والسادس: أن يتوفي الجدار وقوارع الطرق والمواضع [100/ أ] التي يجلس فيها الناس أو تنولها السيارة لئلا يتأذوا بها، وهذا لما روى معاذ بن جبل أن البني صلى الله عليه وسلم قال: "اتقوا الملاعن الثلاثة البراز في الموارد، وهي طرق الماء وقارعة الطريق، والظل". وروى أبو هريرة أن النبي قال:"اتقوا اللعانين" قيل: وما

اللعانان يا رسول الله قال:" (الذي) يتخلى في طريق الناس أو ظلهم". وأراد بالظل مستظل الناس الذي اتخذوه مقبلًا. والسابع: أن لا يبول في مساقط البحار تحت الأشجار المثمرة فتنجس ويكره ذلك. والثامن: أن يتوفي في القبور أو قريبًا منها لحرمة أهلها. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من جلس على قبر يبول عليه أو يتغوط عليه فكأنما جلس على جمرة". والتاسع: أن لا يبول في الماء القليل الجاري لا يغتسل به طهورًا ومشروبًا، ولا يبول في الماء الراكد. والعاشر: يستحب أن لا يستقبل فرجه الشمس والقمر. فإن خالف لا يأثم. والحادي عشر: يكره له أن يبول في موضع ويتوضأ فيه لما روى عبد الله بن معقل أن النبي قال:" لا يبولن أحدكم في مستحمه ثم يتوضأ فإن غلبة الوسواس منه. وأما الآداب التي في نفسه فعشرة: أحدها: أن ينزع الخاتم قبل دخوله ويضعه إذا كان عليه أسم الله تعالى روى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم [100 ب/ 1] اتخذ خاتمًا فكان إذا دخل الخلاء وضعه. وإنما وضعه لأنه كان عليه أسم الله تعالى محمد سطر ورسول سطر والله سطر. قال أصحابنا: ويستحب أن يفارق الدينار والدرهم لأن فيه أسم الله تعالى كالخاتم. وروت عائشة-رضي الله عتها- أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء وضع خاتمه أو يحوله من يساره إلى يمينه. وبه قال بعض أصحابنا وروى: أنه كان يلبس خاتمه في يساره فإذا أراد أن يستنجس حوله من يساره إلى يمينه. والثاني: أن يقدم رجله اليسرى عند دخوله ويؤخر اليمنى ويقدم اليمنى عند خروجه منه، فإن الموضع الشريف يقدم اليمنى وهذا موضع خسيس. والثالث: أن يقول عند دخوله بسم الله اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث لقوله صلى الله عليه وسلم:" إن هذه الحشوش محتضرة فإذا أحدكم الخلاء فليقل: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث" وأراد أن تحضرها الشياطين وتترصدها بالأذى والفساد؛

لأنها مواضع يهجر فيها ذكر الله تعالى. قال أبو عبيد: الخبث: الشر والخبائث: هم الشياطين. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ستر ما بين عورات أمتي وأعين الجن إن يقول أحدكم إذا دخل الخلاء: بسم الله". وروي أنه كان يقول إذا دخل: بسم الله، اللهم إني أعوذ بك من الخبث [101/ أ] والخبائث والرجس والنجس الخبيث المخبث الشيطان الرجيم. وعن بعض السلف أنه قال: عند الاستنجاء: اللهم أجعلني من الذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين، وهذا يحمل في غير الكنيف أن لا يكون مكروهًا، ويقول عند خروجه: غفرانك الحمد لله الذي أفنى طعمه وأبقى في جسدي منفعته، وأخرج عن ي فقالت عائشة -رضي الله عنها- كان رسوب الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من الغائط قال: غفرانك. والغفران مصدر كالمغفرة، وفيه إضمار الطلب والمسألة كأنه يقول: اللهم إني أسألك غفرانك. وروى طاوس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا خرج أحدكم من الخلاء فليقل الحمد لله الذي أذهب عني ما يؤذيني وأميك عليَّ ما ينفعني". والرابع: أن لا يكشف عورته حتى يدنو من الأرض لما روى عن رسول الله صلى الله عليه السلام قال:" إذا قضى أحدكم حاجته فلا يكشف ثوبه حتى يدنو من الأرض". والخامس: أن يعتد على رجله اليسرى وينصب اليمنى عند قعوده عن الخلاء ويضم أحد فخذيه إلى الآخر. روى في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه فعل هكذا وقال سراقة بن مالك: علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتينا الخلاء أن نتوكأ على اليسرى. والسادس: يستجب له أن [101 ب/ 1] لا يبول قائمًا ويجلس لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه"نهى عن البول في الهواء". وروى عن عمر-رضي الله عنه- أنه قال: من الجفاء أن تبول وأنت قائم. وروى مسلم عن ابن مسعود-رضي الله عنه- وقال عمر-رضي الله عنه- ما بلت قائمًا منذ أسلمت. فإن قيل: فما تأويل ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال

قائمًا. ورواه حذيفة قلنا: البساطة: هي ملقى التراب، والقمام ونحوه ولعلع لم يجد للقعود مكانًا فاضطر إلى القيام. وقيل: أنه كان برجله جرح فلم يتمكن من القعود معه. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم بال قائمًا من جرح كان بمأبضه. المأبض: هو ما تحت الركبة من كل حيوان. وروي عن الشافعي-رضي الله عنه أنه قال: كان العرب تستشفي لوجع الصلب بالبول قائمًا. فلعله كان به إذ ذاك وجع القلب والله أعلم. وهذا الآن المعتاد من فعله أنه كان يبول قائمًا وهو المستحسن في العادات لئلا يترشش عليه، فإن قيل: فما تأويل ما روى عن عمر-رضي الله عنه- أنه بال قائمًا. وقال: البول قائمًا أحسن للدبر؟ قلنا: أرد إذا تفاج قاعدًا استرخت مقعدته، وإذا كان قائمًا كان أحسن لها. ولعل هذا كان منه لعذر بدليل ما ذكرنا. والسابع: أن ينثر ذكره ثلاثًا بعد أن يتنحنح لتخرج بقايا بوله من ذكره على ما ذكرنا [102/ أ] وأن لا يمس ذكره بيمينه. والثامن: أن يغض بصره وطرفه ولا يكلم أحد لقوله صلى الله عليه وسلم في رواية أبي سعيد الخدري: لا يخرج الرجلان يضربان الغائط كاشفين عورتهما يتحدثان، فإن الله عز وجل يمقت على ذلك. يقال: ضربت الأرض إذا أبيت الخلاء وضربت في الأرض إذا سافرت. والتاسع: يكره له أن يرد السلام لما روى عن المهاجر بن قنفد أنه سلم وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبول فلم يرد عليه حتى توضأ رد عليه. ويكره له أن يشمت عاطسًا، أو يحمد الله إذا عطس، أو يذكر الله عز وجل أو يقول: مثل ما يقول المؤذن، لما روى في حديث الهاجر بن قنفذٍ أنه قال: "إني كرهت أن أذكر الله عز وجل إلا على طهر" ويجوز أن يذكر الله تعالى في نفسه لما روى أن موسى عليه الصلاة والسلام قال: يا رب متى أذكرك فقال الله تعالى: اذكروني على كل حال قال يا رب ربما أكوم في موضع استحى فيه من ذكرك فقال: أذكرني في نفسك. والعاشر: يستحب له أن لا يطيل الجلوس على الخلاء. قال لقمان، عليه السلام: طول القعود على الحاجة ينجع منه الكبد، ويأخذ منه الناسور، فاقعد هوينًا وأخرج وقبل. والحادي عشر: يغطى رأسه عند الخلاء لما روي"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل الخلاء

باب الحدث

غطى رأسه". وقال أبو بكر [102 ب/ 1] الصديق-رضي الله عنه- إني لأدخل الكنيف أغطي رأسي حياء من ربي عز وجل. فرع قال بعض أصحابنا: يكره أن يقولك أهرقت الماء لقوله صلى الله عليه وسلم"لا يقولن أحدكم أهرقت الماء ولمن ليقل أبول" فرع آخر قال بعض أصحابنا: يدلك يده بالأرض عند غسل موضع الاستنجاء من الدير لما روى أنه صلى الله عليه وسلم فعل ذلك. ويأخذ حفنة من ماء فينصح بما فرجه وداخل إزاره بعد ذلك لما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لعلي-رضي الله عنه-:" انصح فرجك" وفعله هو وقال:" أمرني به جبريل- عليه السلام. فرع قال أصحابنا: لا بأس أن يبول في الإناء لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان له قدح من عيدان يبول فيه بالليل يوضع تحت سريره. وروي أنه كان له فخارة يبول فيها بالليل تحت سريره. باب الحدث مسألة: قال:"وّالَّذِي يُجِبُ الوُضُوءَ الْغَائِط وَالْبِوْلُ". الفصل وهذا كما قال: موجبات الوضوء أربعة أشياء لا خلاف بيننا وبين أبي حنيفة في هذا العدد، إلا إنه في اثنين. فأما المتفق فالخارج من إحدى مخرجي الحدث القبل والدبر. والثاني: الغلبة على العقل. وأما اللذان يختلف فيهما: فعندنا ملامسة النساء ومس الذكر، عندهم [103/ أ] الخارج النجس من غير السبيلين والقهقهة في الصلاة، وسيأتي شرحهما إن شاء الله. فإذا تقرر هذا فالخارج من السبيلين أو أحدهما ببعض الوضوء نادرًا كان أو معتادًا، ريحًا كان أو غنيًا من قبل كان الربح أو دبر، عامدًا كان أو ساهيًا وعلى أي حال. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: لا يلزم الوضوء بالريح الخارج من قبل المرأة إلا أن

تكون موضأة، وهذا غلط قياسًا على الخارج من الدبر. وقال مالك: أو وضوء في غير المعتاد من القيح والدم والصديد والمذي إذا استدام، ووافقنا في الاستحاضة أنه ينقص الوضوء. وقال ربيعة: لا وضوء في دم الاستحاضة أيضًا. وروى هذا غير مالك وهذا أغلط؛ لأنه خارج من المخرج المعتاد للحدث فأشبه البول. وروى عن على-رضي الله عنه- أنه قال: كنت رجلًا مذاء فاستحييت أن أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكان ابنته مني فأنفذت إليه المقداد بن الأسود فقال: مره فلينضح فرجه بالماء ثم يتوضأ فإن كان فحل مذاء. وروى عن علي-رضي الله عنه- أنه قال: كنت أكثر الغسل من المذي حتى تشقق ظهري فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" إنما يكفيك أن تنضح على فرجك وتتوضأ وضوءك للصلاة" فإن قيل: كون الخارج غير معتاد لكون المحل غير معتاد، بأن خرج من ينفك أو فرج أو فم وذلك [103 ب/ 1] لا يوجب الوضوء كذل هذا. قلنا: النادر إذا خرج لا ينفك عن شيء يسير من المعتاد، وإن كان أدنى بلل، وذلك القدر كاف لبطلان الوضوء. وقال داوود: لا يجب بالدود والدم خاصة وهو غلط أيضًا لما ذكرناه. والمذي: ماء رقيق يخرج عند الشهوة يكون على رأس الذكر ريحًا. والودي: ماء ثخين يخرج بعد البول متقطعًا كدرًا وهما نجسات، ولو أدخل قطنة أو سمسمة في إحليله أو سارًا وهو الميل ثم أخرجه انتقضت الطهارة بخروجه على كل حال سواء اختلط بغيره أو لا. فرع لو أطلعت دودة رأسها من أحد ولم ينفصل حتى رجعت، هل يجب الوضوء؟ وجهان: أحدهما: يجب لأن ما طلع صار خارجًا وهو الأظهر عندي. والثاني: لا يجب لأن الخارج لم ينفصل. فرع آخر لو انسد المخرج المعتاد وانفتح للبول أو النجو موضع آخر. قال الشافعي في حرملة: إن كان دون المعتدة انتقض الوضوء بالخارج منه، وإن كان فوقها لم ينتقض. وقال في موضع: ينتقض الوضوء وأطلق. قال أصحابنا: الحكم فيه أنه إن كان دون المعدة ينتقض الوضوء قولًا واحدًا؛ لأن الله تعالى قال: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ} [المائدة: 6] ولم يفصل، ولأن الله تعالى أجرى العادة أنه لا بد لكل أحد من موضع يخرج منه البول والغائط، فإذا انسد الأصل وانفتح موضع آخر [104/ أ] صار الثاني هو المعتاد، فانتقص الوضوء بالخارج منه، وإن كان فوق المعدة فيه قولان. أحدهما: ينتقض الوضوء لما ذكرناه. والثاني: لا ينتقض نص عليه في حرملة.

وهو اختيار المزني، لأن الغائط هو الذي أحالته المعدة، وهذا بمنزلة القيء، ولو لم ينسد المعتاد ولكن انفتح موضع آخر والأصلي بحاله، فالمذهب المشهور أنه ينتقض بخروج الخارج منه؛ لأن الشافعي شرط انسداد المخرج ومن أصحابنا من قال: إن كان دون المعدة فيه قولان مخرجان. أحدهما: لا ينتقض لأن المعتاد باق، وهذا الجائفة لا ينتقض الوضوء بما يخرج منها. والثاني: ينتقض لتكرار خروج المعتاد منه فيصير كالمحل المعتاد. وإن كان فوق المعدة فهو مبني على القولين إذا كان الأصلي منسدًا، فإن قلنا هناك لا ينتقض فههنا أولى. وإن قلنا هناك: ينتقض فههنا وجهان. فرع آخر إذا قلنا: ينتقض الوضوء بخروج الخارج منه، هل ينتقض الوضوء بمسه؟ فيه وجهان: أحدهما: ينتقض لأنه مخرج معتاد للحدث الأصلي. والثاني: لا ينتقض لأنه لا يسمى فرجًا ولا ذكرًا، والخبر ورد بذلك وهل يجوز الاقتصار فيه على الأحجار عند الاستنجاء؟ وجهان: أحدهما: يجوز لأنه مخرج للحدث. والثاني: لا يجوز لأنه نادر والاستنجاء بالحجر في الموضع المعتاد [104 ب/ 1] للخبر. قال أصحابنا: وهل يجب الغسل بالإيلاج؟ فيه وجهان أيضًا: أحدهما: لا يجب لأنه ليس بفرج حقيقة. والثاني: يجب في حكم الفرج. فرع آخر لو نام عليه ملصقًا بالأرض هل يكون كالنائم قاعدًا في سقوط الوضوء عنه؟ وجهان إذا قلنا: ينتقض الوضوء بالخارج منه. فرع الرطوبة التي تخرج من المعدة نجسة وحكي عنه أبي حنيفة ومحمد: أنها طاهرة لأنها من جنس البلغم وهذا غلط. لأن المعدة نجسة فما يخرج منها نجس كالقيء والبلغم يخرج من الصدر لا من المعدة. مسألة: قال:" وّالْنَّوْم مُضْطَجِعًا وقَائِمًا ورَاكِعًا وسَاجِدًا" الفصل وهذا كما قال: النوم على ثلاثة أضرب. أحدهما: أن ينام زائلًا عن مستوى الجلوس في غير الصلاة إما مضطجعًا، أو متكئًا، أو مكبوبًا، أو مستلقيًا فكل ذلك يوجب الوضوء سواء تحقق أنه خرج منه أو لم يتحقق. وروى عن أبي موسى الأشعري، وأبس مجلز وحميد الأعرج، وعمرو بن دينار-رضي الله عنهم- أنهم قالوا: لا ينتقض الوضوء به حتى يتحقق خروج الخارج منه، وبه قالت الإمامية. واحتجوا بأن النوم ليس بحدث فلا ينتقض الوضوء بالشك. وهذا غلط

لما روى علي بن أبي طالب-رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" العينان وكاء السه، فإذا نامت العينان استطلق الوكاء، فمن نام فليتوضأ" وأراد [105/ 1] باستطلاق الوكاء: خروج الحدث والنائم في الغالب، ولأن الظاهر من النائم خروج الحدث، ويجوز النفل عن الأصل، فالظاهر كما أن الأصل براءة الذمة ويجوز سلفها بقول الشاهدين وخبر الواحد، ولو نام قائمًا قال في"الأم" يجب الوضوء وقال في"البويطي": إذا نام قائمًا فزالت قدماء عن موضع قيامه فعليه الوضوء بظاهرة أنه إذا لم تول قدماء لا يجب الوضوء، فمن أصحابنا من قال فيه قولان، وقيل: قول واحد: ينتقض، وما قاله في"البويطي": أراد أنه يمكن منه النوم حتى زالت قدماء، ولم برد به مفهومه، وهذا هو الصحيح. والنوم الثاني أن ينام زائلًا عن مستوى الجلوس في الصلاة إما راكعًا أو ساجدًا أو قائمًا. اختلف قول الشافعي فيه قال في"القديم": لا ينتقض الوضوء؛ لأنه يشق على المتهجدين، وبه قال في مالك، وابن المبارك والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا نام العبد في سجوده باهى الله الملائكة فيقول: انظروا إلى عبدي روحه عندي وجسده بيدي" فدل على أنه لا يبطل سجوده به. وقال في "الجديد": ينتقض الوضوء وهو الصحيح للخير الذي ذكرناه، والقصد بإخبارهم مدحه على الاجتهاد ومكابدة النوم، بدليل أن النائم لا يمدح على الفعل ولا يذم. وقال أبو حنيفة: ولا وضوء على من نام على حالة من أحوال الصلاة في حال الاختبار [105 ب/ 1]، سواء كان في الصلاة أو في غير الصلاة. واحتج بما روى ابن عباس-رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا وضوء على من نام قائمًا أو راكعًا أو ساجدًا، إنما الوضوء على من نام مضطجعًا فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله" قلنا هذا لا يصح، لأن رواية أبو خالد الدلاني، عن قتادة، عن أبي العالية، عن ابن العباس، ولم يسمع قتادة من أبي العالية إلا أربعة أحاديث، وليس هذا منها، وأبوا العالية ضعف، أو تحمله على النعاس بدليل العلو وهي أنه قال:"فإنه إذا اضطجع استرخت مفاصله" والساجد تسترخي مفاصله. وحكى عن أحمد أنه قال: إن كان يسيرًا لا ينتقض وضوءه، وإن كثر ينتقض وضوءه". وكذلك قال في نوم القاعد. ووافقنا في المضطجع أنه ينتقض قليلًا كان أو كثيرًا فيقيس عليه. والثالث: أن ينام جالسًا معتدًا على الأرض بإليتيه فلا ينتقض الوضوء قليلًا كان أو كثيرًا، متربعًا كان أو غير متربع قولًا واحدًا.

وقال أبو إسحاق: فيه قولان، ولا يعرف للشافعي هذا القول الآخر، إلا أنه قال: لا يبين لي أن أوجب الوضوء عليه فقد مرض القول. وقال: لو صرنا إلى النظر كان إذا غلب عليه النوم توضأ أي حالاته كان، وهذا ليس بقول آخر؛ لأنه لم برجع إلى النظر، بل رجع إلى الخبر. وقيل في"البويطي": ومن نام جالسًا أو قائمًا حتى رأى [106 أ/ 1] رؤيا وجب عليه الوضوء، وهذا يصدق ما قاله أبو إسحاق: لا يمكن أن يجمل على ما لو لم يكن معتمدًا على الأرض بإليتيه، ولا فرق عندنا بين أن يكون مستندًا أو غير مستند. وقال أبو حنيفة: إن كان مستندًا ينظر، فإن كان يسقط لو رفع المسند انتقض وضوءه. وإلا فلا، وهذا غلط؛ لأن الاعتبار بتمكنه على محل الجدث، وقد وجد. وقال مالك: إن كان يسيرًا لا ينقص، وإن كان كثيرًا ينقص. وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق، وقال المزني: النوم يوجب الوضوء بكل حال. وبه قال أبو عبيد وحكي هذا عن إسحاق. وهذا غلط لما روي عمرو بن شعيب، عن أبيه، وعن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على من نام جالسًا وضوء حتى يضع جنبه". وروى أيضًا أنه: قال"من نام قاعدًا فلا وضوء عليه، ومن نام على جنبه فعلية الوضوء" وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المسجد فوضع يده على حذيفة وكان نائمًا فانتبه فقال: يا رسول الله أفي هذا وضوء؟ فقال:"لا، أن تضع جنبيك على الأرض" ولأنه ليس هو يحدث في نفسه وإنما ينتقض الوضوء بتوهم خروج الخارج غالبًا، فإذا كان محفوظًا عنه بالتمكن على محل الحدث لا ينقص الوضوء كالقليل منه. فرع قال في"الأم": "والنوم الذي يوجب الوضوء الغلبة على العقل كائنا ذلك ما كان قليلًا [106 ب/ 1] أو كثيرًا، فأما ما لا يغلب على عقل مثل النعاس أو حدث من النفس بحيث لا يخفي عليه كلام من يتكلم بحضرته لا يجب به الوضوء. وقال فيه: لو شك هل نام أم لا، وخطر بباله شيء لا يدري أنه رؤيا أو حديث نفس فهو غير نائم حتى يستيقن النوم، ولو استيقن الرؤيا ولم يستيقن النوم فهو نائم، وعليه الوضوء؛ لأن الرؤيا لا تكون إلا في النوم. فرع آخر لو نام قاعدًا متمكنًا ثم زال عن مستوى جلوسه انتقص وضوءه إن انتبه بعدما سقط، وإن انتبه عند زواله عنه مستوى جلوسه لا ينتقص وكذلك إن كان زواله عن مستوى جلوسه بيديه وانتباهه معًا لا ينتقص.

فرع لو جلس على إليتيه رافعًا لركبتيه مجتبيًا عليهما فيه وجهان. أحدهما: لا ينتقص كالمتربع. والثاني: ينتقص وضوءه لأنها جلسه لا تحفظ الأرض سبيله من خروج الخارج. وقال بعض لأصحابنا: ينظر، فإن كان النائم على هذه الحالة نحيف البدن بعروق الإلية انتقص وضوءه؛ لأن السبيل لا يكون محفوظًا، وإ، كان لحم البدن يتطبق إليتاه، على الأرض في هذه الحالة لا ينقض وضوءه؛ لأن السبيل يكون محفوظًا. وعلى هذا قال أصحابنا: لو كان الرجل مهزولا فنام قاعدًا على العظم ولم يتمكن مقعده من الأرض ينتقص وضوءه لهذا المعنى. فرع قال بعض أصحابنا: [107 أ/ 1] إذا قلنا: إذا نام في الصلاة لا ينتقص وضوءه لحرمة الصلاة، أو نام مضطجعًا وكان يصلي في فرضه مضطجعًا، أو قعد للتشهد الأول مفترشًا فنام، فهل يبطل وضوءه؟ قولان. وهذا غريب مسألة: قال:"وَالْغَلَبَةُ عَلَى الْعَقْلِ بِحُنُونٍ أِوْ مَرَضٍ" الفصل وهذا كما قال: الغلبة على العقل بجنون أو مرض أو إغماء أو سكر ينتقص الوضوء بكل حال؛ لأنه أبلغ حالًا من النائم، فإن النائم إذا نبه ينتبه، وإذا حرك تحرك، وإذا ضرب تألم لخلاف هذا. قال الشافعي في"حرملة": قد قيل: قل ما يغمى على الإنسان إلا وينزل، فإن صح هذا اغتسل، وإن لم يصح توضأ. وقال في"الأم": قد قيل ماجُن الإنسان إلا أَنزل، فإن كان هكذا اغتسل المجنون للإنزال. وإن شك فيه أحببت له أن يغتسل احتياطًا. قال أصحابنا: أراد به إن كان زوال العقل ينزل غالبًا اغتسل أنزل أو لم ينزل، وتعلق الغسل بزوال العقل كما يقول في النائم إذا نام زائلًا عن مستوى الجلوس تعلق بعض الطهر بعين النوم، وإن قيل: قد ينزل وقد لا ينزل كان زوال عقله في باب الغسل بمنزلة النون قاعدًا في باب الوضوء، إن أنزل يلزمه الغسل، وإن لم ينزل فلا غسل عليه وجوبًا، ويستحب كما يستحب الوضوء في نوم القعود. ذكره أبو حامد وجماعة. وقال ابن المنذر: أجمع العلماء على وجوب الوضوء [107 ب/ 1] على المغمى عليه، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل من الإغماء، وأجمعوا أنه لا يجب الغسل به. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إنه إذا زال عقله بالسكر لم ينتقص وضوءه؛ لأنه كالصاحي في الأحكام وعلى هذا هل ينعزل وكيله؟ وجهان. وهذا ليس بشيء.

مسألة: قال:"وَملاَمَسَةُ الرَّجلِ الْمَرأَةَ". الفصل وهذا كما قال: اختلف العلماء في الملامسة فقال الشافعي:"إذا لمس الرجل امرأة وأفضى شيء من جسده إلى شيء من جسدها من غير حائل انتقض وضوءه، سواء مسهما بيده أو برجله، أو بشهوة أو بغير شهوة، عامدًا كان أو ناسيًا". وبه قال ابن عمرو، وابن مسعود، والزهري، وربيعة، وزيد بن أسلم، ومحكول، والأوزاعي، وحكي عن الأوزاعي أنه إن مسها بيده أو بأحد أعضاء وضوءه انتقص، وإن مسها بغيرها لا ينتقص. وقال مالك، والليث، وأحمد، وإسحاق، والنخعي، والشعبي، والحكم، وحماد والثوري في رواية إن مسها بشهوة انتقص وضوءه، وإن كان بغير شهوة لم ينتقص. وقال مالك والليث: إن لمسها بشهوة من وراء حائل رقيق انتقص أيضًا، واراه عن الشافعي بقوله:"والملامسة أن يفضي بشيء منه إلى جسدها لا حائل بينهما". وقال ربيعة: ينتقص الوضوء بالملامسة بكل حال سواء كان الحائل صفيقًا أو رقيقًا. [108 أ/ 1] وقال عطاء: إن لمس امرأة تحرم عليه انتقص وضوءه، وأن لمس من تحل له لم ينتقص وضوءه. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: لا ينتقص الوضوء بلمس النسا أصلًا إلا أن يتجردا أو يتعانقا، ويضع فرجه على فرجها، وينقش لما أي يجد هزة للشهوة في نفسه. وبه قال ابن عباس، وطاوس، والحسن، وهو رواية عن الثوري، وعطاء إلا أنهم لم يذكروا التجرد والتعانق. وقال محمد: لا وضوء في التجرد والتعانق أيضًا ما لم يرد بللًا، وهذا أقيس من قول أبي حنيفة. وقال داود: إن قصد لمسها انتقص، وإن لم يقصد لم ينتقص. وبه قال الثوري في رواية، وبعض أصحابنا جعلوا هذا قولًا مخرجًا للشافعي من قوله:" لا وضوء في لمس ذوات المحارم" لأنه لا شهوة في هذا اللمس، وهذا لا يصح عندي. والدليل على بطلان قول الكل وقوله تعالي: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] وهذا الاسم يقع على كل لمس يحصل به التقاء السرتين، ولم يفصل بين أن يكون بشهوة أو بغير شهوة، أو بقصد أو بغير قصد، أو بأحد أعضاء وضوءه أو بغيره. فأن قبل: أليس في الإحرام يفرق بين اللمس بشهوة أو غير شهوة في وجوب الفدية، فكذلك ههنا وجب أن يفرق؟ قلنا هناك نهى عن الاستمتاع والترفه، وذلك يفترق بالشهوة وعدمها، ونقض الطهارة لا يتعلق بالاستمتاع، فلا تفرق فيه بين أن يكون بشهوة أو غير شهوة. واحتج [108 ب/ 1] أبو حنيفة بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قبل عائشة-رضي الله عنها- صلى ولم يتوضأ. قلنا: يجوز أن يكون مع الحائل، أو كان مخصوصًا بذلك.

ونحتج على مالك في اللمس مع الحائل بشهوة فنقول: لا يسمى مسًا مع الحائل، أو كان مخصوصًا بدليل أنه لو حلف لا يلمس امرأة فهي مع الحائل لا يحنث، أو يقيس على الحائل الصفيق. فرع لو لمس امرأة لا يحل له الاستمتاع بها بحال لذوات المحارم مثل الأم والأخت، نص في"حرملة" على قولين: أحدهما: ينتقص وضوءه، وهو ظاهر قوله في"الجديد" و"القديم؛ لأنها من جنس من يقصد بالشهوة، والظاهر قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] ولم يفصل. والثاني: لا ينتقض وهو الأصح؛ لأنها ليس لمحل الشهوة شرعًا فأشبهت الرجل، ولا فرق بين الأم والأخت من الرضاع أو من النسب، ذكره القاضي أبو علي البندنيجي نصًا. ومن أصحابنا من فرق فقال: إذا كان محرمًا له بالسبب ينتقص وضوءه قولًا واحدًا، ولا وجه لهذا عندي. فرع لو لمس صغيرة أجنبية لا تشتهي، أو عجوزًا كبيرة أجنبية لا تشتهي لا نص فيه للشافعي. وقال أصحابنا: فيه قولان مخرجان بناء على ذوات المحارم. ومن أصحابنا من قال قول واحد في العجوز: أنه ينتقض الوضوء لأنها محل الوطء ولكل ساقطة لاقطة. فرع إذا لمس صغائر [109 أ/ 1] المحارم والعجائز منهم اللاتي لا يشتهين في العادة، فإن قلنا في الكبائر: لا ينتقص الوضوء فها هنا أولى، وإن قلنا هناك ينتقص فها هنا قولان مخرجان. فرع لو لمس امرأة ميتة، أو لمست المرأة رجلًا ميتًا ينتقض الوضوء؛ لأن كل لمس لو كان بين حيين نقض الطهر، فكذلك إذا كان بين حي وميت كالتقاء الختانين. ومن أصحابنا من قال: ينبغي أن يجري ذلك مجري الكبائر والصغائر اللاتي لا يشتهين فلا ينتقص الوضوء بلمسها في قول مخرج، وهذا صحيح لأن الميتة ليست محل الشهوة ولا تشتهي غالبًا. فرع آخر إذا لمس يدًا مقطوعة أو عضوًا منها لم ينتقص وضوءه؛ لأنه لا يدخل في قوله تعالى: {َوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء:43] ولا يسمى لامس امرأة، وخرج عن أن سكون محلًا للشهوة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان كالوجهين فيمن مس ذكرًا مقطوعًا، وهذا لا يصح. والفرق أن أسم الذكر يقع على المقطوع، والنبي صلى الله عليه وسلم علق الوضوء بمس

الذكر، وههنا أسم النساء لا يقع على اليد المقطوعة وعلى هذا قالوا: هل يجوز النظر إلى الذكر المقطوع أو يد المرأة المقطوعة أو شعرها المقطوع؟ فيه وجهان. فرع إذا لمس امرأة ينتقض طهر اللامس وهل ينتقص طهر الملموس؟ فيه قولان. أحدهما: ينتقص وهو المنصوص في عامة كتبه؛ لأنه لمس يشتركان في [109 ب/ 1] الالتذاذ به، فينتقص طهرها كالتقاء الختانين. والثاني: لا ينتقص. قاله في حرملة؛ لأنه لمس ينقص الطهارة الصغرى فينتقص طهر دون الملموس، كمس لا ينتقص الوضوء في حق الممسوس قولًا واحدًا. ومن قال بالأول فرق بأن الملامسة مفاعلة، فإذا اجري بين اثنين فكل واحد ملامس، وههنا لا يسمى الممسوس ملسًا والفتوى عندي أنه لا ينتقص طهر الممسوس؛ لأنه لا يسمى لامسًا. وقد روى عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: افتقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفراش فقمت اطلبه فوقعت يدي على أخمص قدمه في السجود، فلما فرغ من صلاته قال لها"أتاك شيطانك" فلو انتقص طهره لقطع صلاته. فرع لو لمس شعرها نص في"الأم" أنه لا ينتقص وضوءه سواء كان بشهوة أو غير شهوة، ولو احتاط فتوضأ كان أحل إليَّ. قال أصحابنا: وكذلك لو لمس بشرتها بشعره، وكذلك لو لمس سنها أو ظفرها أو لمسها بسنه أو بظفره، هذا لأنه لا لذة في لمسها غالبًا، ولا ينبغي بلمسها للشهوة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان، ولا معنى له مع النص، وقيل: فيه قولان وهذا أيضًا غير صحيح. وقال ربيعة، ومالك: لا ينتقص الوضوء بلمسها إن كان بشهوة [110 أ/ 1]. فرع لو لم يدر أمس بشرتها أو شعرها ينتقص الوضوء؛ لأن الأصل بقاء الطهارة. فرع لو كان صغيرًا أو مستحسنًا أمرد فلمسه رجل. قال الأصطخري: ينتقص وضوءه؛ لأنه تميل إليه الشهوات وخالفه سائر أصحابنا. مسألة: قال:"وَمَسُّ الْفَرْجِ بِبَطْنِ الْكَفَّ"

الفصل وهذا كما قال. اختلف العلماء في مس الفرج عل ينتقص الوضوء؟ فعند الشافعي إذا مس ذكره ببطن كفه، أو لمست المرأة فرجها ببطن كفها انتقص الوضوء. وبه قال عمرو بن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وأبو هريرة، وابن عباس، وعائشة، وعطاء، وسعيد بن المسيب، وأبان بن عثمان، وعروة بن الزبير، وسليمان بن سيار، والزهري، والليث، ومجاهد، ومالك، وأحمد، وإسحاق، والأوزاعي- رضوان الله عليهم أجمعين- وعن مالك رواية أخرى يعتبر في مسه الشهوة. قال أبو حنيفة: لا ينتقص الوضوء يمسه، وبه قال علي بن أبي طالب وابن مسعود وعمار بن ياسر، وحذيفة، وعمران بن حصين، وأبو الدرداء، والحسن، وقتادة، والثوري، وربيعة. وهو راوية عن سعد بن أبي وقاص، وراية عن ابن عباس-رضي الله عنهم أجمعين, واحتجوا بما روى عن طلق بن علي إنه قال: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء رجل كأنه بدوي فقال: يا نبي الله ما ترى في مس الرجل ذكره بعدما يتوضأ؟ فقال:" ها هو إلا مضغة منه أو بضعة منه" [110 ب/ 1] وهذا غلط لما روي عن عروة بن الزبير قال: "دخلت على مروان فتذاكرنا نواقض الوضوء فقال مروان: أخبرتني بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا مس أحدكم ذكره فليتوضأ". قال عروة: فلقيت بسرة بعد ذلك فصدقته. وروى هذا الخبر بضعة عشر نفسًا من الصحابة وعمل بها أصحاب الحديث. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" ويل للذين يمسون فروجهم ويصلون ولا يتوضوؤن" فقالت عائشة: هذا الرجال أفرأيت النساء. فقال: إذا مست المرأة فرجه توضأت. وأما خبر طلق بن علي، قال أبو حاتم، وأبو زرعة الرازيان: رواية قيس بن طلق وهو ضعيف، ثم إن خبرنا متأخر وناقل عن العادة، وفيه احتياط فكان أولى. فرع بطن الكف ما بين الأظفار والزند، فإن مسه برؤوس البنان يبطل وضوءه على الصحيح من المذهب. ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان وهو ضعيف. فرع آخر لو مسه بخلال الأصابع لا يبطل وضوءه نص عليه في"الأم" وقيل: فيه وجهان،

ولا معنى له، وكذلك لو مس بحرف يده لا وضوء نص عليه في"البويطي". وقال أبو العياض من أصحابنا: إن مسه بما بين أصبعيه مستقبلًا لعانته بطن كفه ينتقص وضوءه، وإن كان مستقبلًا فطاهر كفه لا ينتقص مراعاة للأغلب في مقاربة الباطن، وهذا لا وجه له لاستواء المعنى في [111 أ/ 1] الحالين. فرع لو مسه بظاهر الكف أو ظاهر أصابعه لا ينتقص وضوءه، وبه قال جماعة العلماء. وقال الأوزاعي: إن مسه بأحد أعضاءه وضوءه ينتقص. وقال عطاء والأوزاعي، وأحمد في رواية: ينتقص وضوءه إذا مسه بظاهر الكف أو ظاهر أصابعه، وكذلك إن مسه بساعده؛ لأن ذلك من جملة يده. وحكة هذا عن مالك، وهذا غلط لقوله صلى الله عليه وسلم:"إذا أفض أحدكم بيده إلى ذكره ليس بينه وبينه حائل فليتوضأ" والإفضاء لا يكون إلا ببطن الكف، تقول العرب: أفضيت بيدي إلى الأرض ساجدًا على هذا المعنى. فرع آخر لو مس أنثييه أو إليتيه فلا وضوء عليه، وكذلك أو مس ما بين الدبر والذكر. وروى عن عروة أنه يجب بمس الأنثيين والعانة، وهذا غلط لقوله صلى الله عليه وسلم"ومن أمضى بيده على ذكره فليتوضأ" فخص الذكر، ولأنه ليس لمخرج الحدث فأشبه فخده. واحتج بما روي قال:" من مس ذكره أو أنثييه أو رفغيه فليتوضأ" قلنا: قال أصحاب الحديث: هذا ليس من قول النبي صلى الله عليه وسلم وإنما هو من قول عروة أدرجه بعض الرواة. وقال هشام بن عروة: قال عروة: إذا مس رفغه أو أنثييه أو ذكره فليتوضأ. فرع آخر لو مس ذكر غيره يلزمه الوضوء كما لو مس ذكره نفسه. وقال داود: لا يلزم غلا مش ذكر نفسه [111 ب/ 1]؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم خص ذلك، وهذا غلط؛ لأن هتك الحرمة هناك أكثر لولا حاجة به إليه. وقد روت بسرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الوضوء من مس الذكر ومس الفرج". فرع آخر لو مس ذكر الصغير انتقض وضوءه. وروي عن الزهري، والأوزاعي، ومالك: لا وضوء فيه، وروي عن أحمد أيضًا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مس زبيبة الحسن ولم

يتوضأ. ولأنه يجوز مسه والنظر إليه فلا ينتقض الوضوء بمسه، وهذا غلط لعموم الخبر الذي ذكرناه"، ولأنه ذكر آدمي فأشبه ذكر الكبير، والخبر الذي ذكروه يحتمل أنه كان من وراء حائل، مع أنه لم يصح الخبر على الوجه الذي ذكروا. فرع آخر لو مس ذكر الميت انتقض وضوءه نص عليه. وحكي عن إسحاق أنه لا ينتقض، وهذا غلط للخبر، ولأنه ينتقض في الحي فينتقض في الميت كالجماع واللمس. فرع آخر لو مس الذكر بباطن أصبعه الزائدة انتقض وضوءه. وقال صاحب الإفصاح: يحتمل أن لا ينتقض وضوءه لأنه الخبر ينصرف إلى اليد المعهودة فلا طلاق، وهذا غلط لأنه من جملة اليد بدليل وجوب غسله في الوضوء. فرع آخر لو مس بيد شلاء ففيه وجهان، وكذلك لو مس ذكرًا أشل بيد صحيحه أو مسدودًا لا يخرج منه شيء، ففيه وجهان بناء على الوجهين [112 أ/ 1] فيمن مس ذكرًا مقطوعًا؛ أحدهما: أن ينتقض وضوءه اعتبارًا بالاسم. والثاني: لا ينتقض وضوءه لفقد المعنى وهو وجود اللذة غالبًا. وقال بعض أصحابنا: ليس ذكر الحي الأشل بأخف من ذكر الميت، ففي ذكر الميت وجه مخرج أنه لا ينتقض وضوءه. وبه قال مالك. فرع آخر لو كان له أصبع زائدة لا على سنن البنان. قيل: فيه وجهان، والصحيح أنه لا ينتقض وضوءه بالمس به أصلًا. لو مس ذكرًا زائدًا إن كانا عاملين ينتقض الوضوء بمس كل واحد منهما، وإن كان أحدهما عاملًا دون الآخر فإنه ينتقض لمس العامل دون غيره. ذكره أصحابنا بخراسان. فرع آخر لوجب ذكره من أصله فمس موضع القطع. قال أصحابنا: ينتقض وضوءه، ويحتمل عندي وجهًا آخر أنه لا ينتقض وهو القياس. فرع آخر لو مسه من غير قصد انتقض وضوءه. وحكي عن مالك: أنه لا ينتقض وهو غلط للخبر.

فرع آخر لو مست المرأة فرجها انتقض وضوءها، وكذلك إن مسه الرجل وذلك في المحارم. وقال مالك: لا ينتقص. وهذا غلط لما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إذا سمت إحداكن فرجها فلتتوضأ". فرع آخر لو مس الدبر وهي الحلقة نفسها دون ما حولها انتقض الوضوء. وقال ابن أبي أحمد: لم يوجب [112 ب/ 1] الشافعي في"القديم" من مس الدبر. فمن أصحابنا من رد هذه الرواية، ومنهم من قبلها وقال: فيه قولان. وقال مالك داود: لا ينتقض وضوءه وهذا غلط؛ لأنه مخرج معتاد للحدث فأشبه القيد. وقد روى أن النبي صلى الله عليه سلم قال:"أيما رجل مس فرجه فليتوضأ" وظاهره أنه أراد به دبره، قالوا: لا يقصد مسه ولا يفضى مسه إلى خروج خارج، فأشبه سائر الأعضاء. قلنا: باطل بذكر الميت والأشل. واعلم أن المزني نقل: "وَسَوَاءٌ كَانَ الْفَرْجُ قُبُلًا أَوْدُبُرًا أَوْ مَسُّ الْحَلْقَةِ نَفْسِهَا مِنْ الدُّبُرِ". وفيه أشكال وذلك انه لا ينتقض الوضوء إلا بمس الحافة، وهذا العطف يوهم خلاف هذا المذهب، فيتناول قوله" سواء كان الفرح قبلًا أو دبرًا أو مس الحلقة على الجمع، ومعناه لو جمع في المس بين مس مس الحلقة وما حواليها، أو اقتصر على مس الحلقة نفسها انتقص الطهر. وفائدة العطف يشبه الاستدلال؛ لأن الدبر اسم شامل للإليتين وغيرهما، وقد ذكر في نسخة: وسواء كان الفرج قبلًا أو دبرًا، إذ ليس الحلقة نفسها وهذا اللفظ يزيل الإشكال. فرع لو مس بذكره دبر غبره. قال بعض أصحابنا بالعراق: قياس المذهب أنه ينتقض وضوءه؛ لأنه مسه بآلة مسه، وهذا لا يصح عندي؛ لأن الاعتماد فيه على الخبر ولم يرد في هذا [113 أ/ 1] الموضع. فرع لو مس ذكر بهيمة لا ينتقض وضوءه. وروى ابن عبد الحكم، عن الشافعي أنه ينتقض وضوءه، ورد عامة أصحابنا هذه الرواية، فقيل: قولان: أحدها: ينتقض

وضوءه كما يجب الغسل بالإيلاج في فرجها. والثاني: لا ينتقض وضوءه وهو الأصح؛ لأنه لا حزمة لها ولا يعيد عليها في الستر والكفين والذقن. وقيل: قول واحد أنه لا ينتقض وضوءه. فرع آخر إذا قلنا لا ينتقض وضوءه. بلمس فرج البهيمة. قال بعض أصحابنا: لو أدخل يده في باطن فرجها هل ينتقض وضوءه؟ وجهان أحدها: ينتقض لأن للباطن من الحرمة ما ليس للظاهر. والثاني: لا ينتقص وضوءه وهو الأصح، ذكر بعض أصحابنا بخراسان: لا وجه للوجه الأول في الحقيقة. قال عطاء: إن مس فرج البهيمة المأكولة انتقض الوضوء وإلا فلا. وقال الليث: ينتقض الوضوء بمس فرجها على الإطلاق لقوله (صلي الله عليه وسلم) "الوضوء من مس الفرج" ولم يفصل قلنا: هذا اللفظ غير معروف، أو مطلق هذا الاسم لا ينصرف إلى البهيمة في العادة. وقال أبو إسحاق: لما لم ينتقض الوضوء بلمس الأنثى من البهائم لا ينتقض بمس فرجها. فصل في الخناثى الخنثى الذي له ذكر الرجال وفرج النساء. أحدهما أصلي [113 ب/] والثاني: خلقة زائدة، فإن كان ذكرَا فالذكر أصل والفرج خلقة زائدة، وإن كان أنثى فالفرج أصل، والذكر خلقة زائدة، فإذا مس ذكره أو فرجه أو مس ذلك غيره فالأصل في الطهارة البناء على الأصل. فمتى تيقن الطهارة لم تزل بالشك. وإن مس الخنثى ذكر نفسه لا ينتقض وضوءه بجواز أن يكون أنثى مس من نفسه خلقة زائدة، وإن مس فرج نفسه لم ينتقض أيضًا لجواز أن يكون ذكرًا وهو ثقبة زائدة، وإن مسها معًا من نفسه انتقض وضوءه؛ لأنه لا ينفك عن مس ذكرًا وحلقة زائدة من امرأة. فإن مس فرجه لم ينتقض وضوءه بجواز أن يكون قد مس من رجل خلقة زائدة. وإن مسته امرأة نُظر، فإن مست فرجه انتقض وضوءها لأنه لا يخلو عن مس فرج امرأة، أو مس حلقة زائدة من رجل، وإن مست ذكره لم ينتقض لجواز أن يكون مست من امرأة خلقة زائدة، وإن مس خنثى من خنثى نُظر، فإن مس ذكره لم ينتقض لجواز أن يكونا أنثيين فمست من امرأة خلقة زائدة، وإن مس فرجه لا ينتقض أيضًا لجواز أن يكون مس رجل من رجل خلقة زائدة، وإن مسهما معًا انتقص وضوءه؛ لأنه لا ينفك من مس ذكر أو فرج، وإن مس أحدهما ذكر الآخر، ومس الآخر فرج الآخر انتقض طهر [114 أ/ 1] أحدهما قطعًا لا يعنيه، لأنه إن كانا ذكرين فقد مس ذكرًا، وإن كانا أنثيين فقد مس فرجاً، وإن كانا ذكراً وأنثى فقد مس رجل امرأة، فلا بد من أن ينتفض طهر أحدهما، قطعًا لا بعينه ولكن لا يحكم ينقض طهر واحد منهما، ولكل واحد منهما، ولكل واحد منهما أن يصلي وحده، لأن الأصل الطهارة وهو يشك أنه هل انتقض طهره أم لا، وهذا كما لو شاهد نفسان طائرًا. فقال أحدها:

إن كان غرابًا فامرأتي طالق. وقال الآخر: إن لم يكن غرابًا فعبدي حر، فطار ولم يُعلم، فكل واحد منهما على أصل ملكه. فصل قال بعض أصحابنا بخراسان: لو مس أحدهما قبليه وصلى ثم توضأ ومس قبله الآخر وصلى فقد صلى إحدى صلاتين يغير طهارة، فهل يلزمه إعادة الصلاتين؟ وجهان. والأصح أنه لا يلزمه لأنهما حادثتان ولم يتعين الخطأ، فهي كمسألة الحالفين في الطير. وهذا عندي خطأ والمسألة على وجه واحد أنه يلزمه إعادتهما، كمن تيقن أنه نسى سجدة من إحدى الصلاتين فإنه يلزمه إعادتهما في مسألة الحلف الخطأ في شخصين وهاهنا الخطأ وقع لشخص واحد. مسألة: قال: " وَكُلٌّ مَا خَرَجَ مِنْ قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ" الفصل وأراد به الرد على مالك على ما ذكرنا، ثم قال:" وَلَا اسْتنجَاءَ عَلَى مَنْ نَامَ أَوْ خَرَجَ مِنْهُ رِيحٌ" وهذا إشارة [114 ب/ 1] إلى أن الاستنجاء لا يجب إلا بخروج عين يتوهم منها تلويث للمخرج خلافًا للشيعة، ثم قصد المزني بعد هذا أن يتكلم في المسألة الخلافية، وينقل ما اعتمد عليه الشافعي من الحجج، فبدأ بمسألة النوم قاعدًا. ونقل في حجة الشافعي عن أنس- رضي الله عنه- أما أصحاب رسول الله (صلي الله عليه وسلم) كانوا ينتظرون العشاء فينامون. قال الشافعي: أحسبه أنه قال: فعودًا ينامون، وهذا هو الأليق بهم في انتظارهم خروج رسول الله (صلي الله عليه وسلم). في المسجد، وروى من غير شك،" فينامون قعودًا حتى تخفق رؤوسهم" والظاهر أن مثل هذا لا يخفي على رسول الله (صلي الله عليه وسلم). وروي عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنه كان ينام قاعدًا ويصل ولا يتوضأ، ولم ينكر عليه أحد. ثم تكلم المزني فقال: قال الشافعي:" لَوْ صِرْنَا إِلَي النَّظَرِ كَانَ إِذَا غَلَبَ عَلَيْهِ النَّوْمُ تَوَضَّأَ بِأَّيَّ حَالاَتِهِ كَانَ" كأن أراد أن النوم في القياس هو كالإغماء يوجب الوضوء في أي حال كان، ثم عارض خبر الشافعي بالخبر وأثر الشافعي بالأثر، حتى يجب الرجوع، إلي النظر الذي ذكره الشافعي فأورد خبر صفوان بن عسال المرادي أن النبي (صلي الله عليه وسلم) " كان يأمرنا إذا كنا مسافرين أو سفري لا مع خفافنا ثلاثة أيام ولياليهن إلا من جنابة لكن عن بول أو غائط أو نوم". وروى: لا من جنابة ومعناهما متقارب [115 أ/ 1] قوله: مسافرين أو سفري شك في الملفوظ به من هذين اللفظين وقوله: سفري جمع مسافر. فاحتج منه بأنه قرن النوم بالبول والغائط، وينتقض الوضوء بالبول والغائط على كل حال، فكذلك بالنوم على كل حال. ثم أيد ذلك، فقال:" ولو

اختلف حدث النوم لاختلف حدث الغائط، وإنه لو كان فيه تفصيل لأبانه (صلي الله عليه وسلم) كما أبان في أكل الناسي أنه لا يفطر الصائم. ثم ذكر خبر آخر وهو قوله (صلي الله عليه السلام) "العينان وكاء السه"، الخبر، ثم قال في معارضة الأثر أثر عائشة وأبي هريرة أنهما قائلا:" من استجمع نومًا فعليه الوضوء مضطجعًا كان أو قاعدًا". ثم أيدهما بما روي عن الخن ثم رجع إلى النظر. وقال هو في معنى من أغمي عليه فلزمه الوضوء على كل حال، فكذلك هذا. والجواب عنه أن يقول: أما خبر صفوان فالقصد به بيان جواز المسح على الخفين في الوضوء دون الغسيل لا غير، فلا يعارض به خبر أنس- رضي الله عنه- الذي قصد أن نوم القاعد لا يوجب الوضوء. وأما الخبر الآخر فهو حجة عليه؛ لأنه أشار إلى أن النوم حدث لأنه مس خروج الحدث من مخرجه، وهذا لا يوجد في القاعد، إذ لو خرج به غالبًا. وأما الأثر عن عائشة وأبي هريرة نحمله على القاعد غير المتمكن، بدليل أثرنا فيكون جمعا بينهما [115 ب/ 1]. وأما الإغماء فقد بينا الفرق بينه وبين النوم فيما تقدم. وأما الحدث فلأن عينه ناقض بظاهر الكتاب والأخبار بخلاف النوم، ثم عقب الكلام في النوم بالكلام بالملامسة. وقد ذكرنا الخلاف فيها. واحتج الشافعي بالآية فإنه تعالى قرن الملامسة بالنوم والغائط، ثم أيد بقول ابن عمر- رضي الله عنه- قُبلة الرجل لامرأته ومسها بيده من الملامسة، وهذا التعريف بالألف واللام إشارة إلى الملامسة في الآية، خلاف ما روى أبو حنيفة عن ابن عباس- رضي الله عنهما- أن المراد به الجامعة، ثم قال: وعن ابن مسعود- رضي الله عنه- قريب من معنى قول ابن عمر- رضي الله عنه- وإنما ترك ذكر لفظه لشياعه فيه وهو أنه روى عن ابن مسعود- رضي الله عنه- أنه قال: أيهز أحدكم امرأته هز البكر ثم لا يتوضأ، عليه الوضوء، ثم ذكر الكلام في مس الذكر. واحتج بخبر بسرة ينت صفوان وقد ذكرنا، ثم قال: وقاس الدبر بالفرج مع ما روى عن عائشة- رضي الله عنها- إذا مست المرأة فرجها توضأت، وأنكر أصحابنا على المزني هذه العبارة. وقالوا: اسم الفرج فيقع على الدبر فلا يصح قوله: وقاس الدبر بالفرج. وإنما يصح أن لو قال: وقاس الدبر بالذكر والقبل. وأيضاً ذكر حديثه عائشة في الفرج ولا يجوز أن يؤيد الأصل بالأثر؛ لأن الأصل يكون متفقا عليه [116 أ/ 1]، وإنما يؤيد الفرع المقيس بالأثر، وإنما يصح هذا بما روي عن عائشة: إذا مست المرأة دبرها توضأت. ولم ينقل ذلك. ومن أصحابنا من قال: يمكن تصحيح عبارته بأنه أراد وقاس الدبر بعلة الفرج فكأنه قال: أحد الفرجين كالذكر ثم بين تعليق الحكم بصفة الفن وبحديث عائشة- رضي الله عنها- ثم أن أصحاب الظاهر ينكرون قياس المسكوت عنه في الشرع على المنصوص عليه ههنا وسلموا في تقويم نصيب الشريك الذي لم يعتق على الشريك المؤسر قياس الأمة على العبد. وإن ورد الخبر في العبد فاحتج عليه الشافعي قاله هناك.

مسألة: قال:" وَمَا كَانَ مِنْ سِوَى ذَلِكَ مِنْ قَيئٍ أَوْ رُعَافٍ" الفصل وهذا كما قال: عندنا جميع ما يخرج من غير السبيلين من القيء والرعاف ودم الفصد والحجامة لا ينقص الوضوء قليلًا كان أو كثيرًا. وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وعبد الله بن أبي أوفي، وعائشة، وجابر، وسعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وعطاء، وطاوس، وسالم بن عبد الله بن عمر، ومكحول، وربيعة، ومالك. وقال أبو حنيفة: إن كان طاهرًا فلا وضوء، وإن كان نجسًا ينقض الوضوء، إلا أنه فصل في القيء فقال: إن كان ملأ الفم فإنه ينقض الوضوء، وإن كان أقل لا ينقص الوضوء. وقال في الرعاف: إن سأل ينقص [116 ب/ 1] الوضوء، وإن لم يسل لا ينقص. رقال فيمن بصق دمًا ت إن كان الغالب الدم نقض الوضوء وإلا فلا ينقض. وبه قال الثوري: والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، إلا أن أحمد قال: إن كان الدم قطرة أو قطرتين فلا وضوء. وروى عنه أنه قال:" إن خرج قدر ما يعفي عن غسله وهو قدر الشبر لا ينقص الوضوء". وقال ابن أبي ليلى: ينقص الوضوء قليلًا كان أو كثيرًا. وروى ذلك عن عمر، وعلي وابن سيرين، وعطاء، وزفر- رضي الله عنهم- واحتجوا بما روي عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي (صلي الله عليه وسلم) قال:" من قاء أو قلس فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته ما لم يتكلم واحتج الشافعي عليهم بالأثر والنظر. أما الأثر فما روى أن ابن عمر- رضي الله عنه- عصر بترة بوجهه فخرج منها دم فدلكه بين إصبعيه، ثم قام إلي الصلاة ولم يغسل يده. وروى عن ابن عباس- رضي الله عنه- أنه قال اغسل عنك أثر المحاجم وحسبك. وروى عن ابن المسيب أنه رعف فمسح أنفه بصوفه ثم صلى، عن القاسم ليس على المحتجم وضوء. وهذا الذى ذكر ابن المسيب والقاسم استئناس وإلا فلا حجة لأنهما من التابعين. وإنما الحجة في أقوال الصحابة وأفعالهم. وقد روى الشيخ القفال، عن الشيخ أبي زيد بإسناده، عن ابن عباس- رضي الله عنه [117 أ/ 1]- إيجاب الوضوء من الحجامة والرعاف وذهب بعض أصحابه إلى وجوب الغسل من

الحجامة فأنكره وقال: اغسل أثر المحاجم عنك وحسبك فلا دليل فيه للشافعي. وروي في هذا الباب ما هو أولى من كل هذا، وهو ما روى الدارقطني بإسناده عن أنس- رضي الله عنه- أن النبي (صلي الله عليه وسلم) " احتجم ولم يزد على غسل محاجمه وصلي ولم يتوضأ". وأما النظر فقوله: كما وضوء في الحبشاء المتغير بخلاف مخرج الحدث فإنه سوى فيه بين النجو والريح. وقيل: أراد بالحبشاء المتغير القيء دون ملء الفم، وأما خبرهم قلنا: القلس هو الريق الحامض يخرج من الحلق فلا وضوء فيه عندهم. وقيل: إنه مرسل يرويه ابن أبي مليكة مرسلًا، أو يحمل على الاستحباب، أو على غسل ما أصابه بدليل ما ذكرنا. مسألة: قال: "وَلَيْسَ فِي قَهْقَّهَةِ المُصْلَّي وَلَا فِيمَا مَسَّتِ النَّارُ وُضُوءٌ" وهذا كما قال: القهقهة لا توجب الوضوء يحال عندنا. وبه قال جابر، وأبو موسي الأشعري، وعطاء، والزهري، وعروة، والقام، ومحكول، ومالك، وأحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة: يجب الوضوء بالقهقهة في الصلاة. ويه قال الشعبي، والنخعي، والثوري، والحسن، والأوزاعي، في رواية. واحتجوا بما روى أبو العالية أن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) كان يصلي فتردي [117 ب/ 1] أعمى في بئر، فضحك طوائف من القوم فأمر رسول الله (صلي الله عليه وسلم). الذين ضحكوا بإعادة الوضوء والصلاة. وهذا غلط لما روى جابر- رضي الله عنه- أن النبي (صلي الله عليه وسلم) قال: "تعاد الصلاة من القهقهة ولا يعاد الوضوء" وروى أنه قال (صلي الله عليه وسلم):" الضاحك في الصلاة والمتكلم سواء" وأما الخبر الذي ذكره فهو مرسل ضعيف؛ لأن الله تعالى وصف الصحابة بقوله {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح:29 [فكيف يضحكون. وفي موضع تردى الأعمى في البئر وهو موضح الرحمة، أو نحمله على الاستحباب. وقال بعض أصحابنا: يستحب ذلك لرقع الخلاف والجناية الصادرة منه. وأما الكلاف فلا ينقص الوضوء بحال حسنة وقبيحة مثل القذف والكبائر من المعاصي تنقص الوضوء. واحتجوا بقوله (صلي الله عليه وسلم): "خمس يفطرن الصائم وتنقض الوضوء وهي الغيبة، والنميمة، والكذب، والنظر بشهوة، واليمين الفاجرة". قلنا: أراد به نفي الثواب والأجر، بدليل قوله (صلي الله عليه وسلم): "لا وضوء إلا

من حدث". وقال بعض أصحابنا: يستجب الوضوء منها، لما روي عن ابن مسعود- رضي الله عنه- أنه قال: لأن أتوضأ من الكلمة الخبيثة أحب إليَّ من أن أتوضأ من الطعام الطيب. وقالت عائشة:] 118 أ/ أ]- رضي الله عنها- يتوضأ أحدكم من الطعام الطيب ولا يتوضأ من الكلمة العوراء. وقال (صلي الله عليه وسلم) " من غضب فليتوضأ". وقال أيضًا:" من حلف باللات والعزى فعليه الوضوء. وقال ابن عبا س- رضي الله عنه- والحدث حدثان حدث اللسان، وحدث الفرج، وأشدهما حدث اللسان: وقيل: الأشبه من كلام هؤلاء أنهم أرادوا غسل الفم وجده، ولا وضوء في المأكول والمشروب سواء مسته النار أم لم تمسه، وسواء كان لحم الإبل أو غيره. وبه قال جماعة الصحابة والعلماء، وقال أبو موسى الأشعري، وزيد بن ثابت، وأنس، وابن عمر، وأبو هريرة، وأبو طلحة، وعائشة، وعمر بن عبد العزيز، وأبو قلابة، وأبو مجلز، والزهري، والحسن- رضي الله عنه- يجب الوضوء بأكل ما مست النار. وحكى هذا عن داود أيضًا، واحتجوا بما روى عن رسول الله (صلي الله عليه وسلم) أنه قال:" توضؤا مما مست النار ومما غيرته النار" وهذا غلط لما روى جابر- رضي الله عنه-. قال: كان آخر الآمرين من رسول الله (صلي الله عليه وسلم) " ترك الوضوء مما مست النار ". وهذا يدل على نسخ مأ رووه. وروي عن سعيد بن غفلة قال: كنا عند عمر- رضي الله عنه- وعنده علي- رضي الله عنه- نأتي بحفات مشبعة بلحم جزور [118 ب/ 1 [فأكلا وآكلنا، ثم قاما إلى الصلاة فصليا ولم يتوضيا، فلما قضيا الصلاة أتيتهما فقلت: لقد أكلتما طعامًا كنتما إذا أصبتما منه توضأتما، فقالا: سمعنا رسول الله يقول:" لا ينقص وضوء المسلم طعام قد أحل الله آكله". ولأنه مها يغتذي به فأشبه الفاكهة. وقال أحمد، وإسحاق: يجب الوضوء من أكل لحم الجزور خاصة. وحكاه ابن أبي أحمد، عن الشافعي أنه قال في القديم. واحتج بما روى أن النبي. سئل: أيتوضأ من لحوم الغنم؟ فقالت: لا فقيل: أيتوضأ من لحم الإبل؟ فقال: نعم. وهذا غلط لما روى ابن

عباس- رضي الله عنه- أن النبي (صلي الله عليه وسلم) قال:" الوضوء مما يخرج لا مما يدخل" وأما خبرهم: قلنا نحمله على غسل اليد وهو ظاهر لأن الوضوء إذا أضيف إلى الطعام اقتضى غسل اليد لما روى أن النبي (صلي الله عليه وسلم) "كان يأمر بالوضوء قبل الطعام وبعده". وروى أنه قال (صلي الله عليه وسلم) " الوضوء قبل الطعام ينفي الفقر ويعده ينفي اللحم". وإنما فرق بين لحم الغنم، ولحم الإبل؛ لأنه يندب إلى غسل اليد من لحم الجزور أكثر مما يندب إليه من لحم الغنم لثقل رائحته وزهومته. وقال أصحابنا: المأكول على ثلاثة أضرب: طاهر لا ريح له كالخبر والتمر واللبن، إن شاء غسل اليد منه وإن شاء [199 أ/ 1] لم يغسل، وطاهر له رائحة كالبصل والثوم واللحم يستحب أن يغسل يده منه كالمسكر والميتة إذا أكلها عند الضرورة فيجب غسل اليد منه، وكل موضع أصابه من جده فإن صلى قبله غسله أعاد الصلاة. مسألة: قال:" وَكُلَ مَا أأَوْجَبَ الْوُضًوءَ فَهُوَ بالْعَمْدِ وَالْسَّهْوِ سَوَاءٌ". وهذا كما قال: كل ماء ينقض الوضوء فعمده وسهوه سواء، قصد به الرد على مالك في اللمس والمس من غير قصد، والأصل في ذلك ما روى أن النبي (صلي الله عليه والسلام) أوجب الوضوء من المدّى، وهو بخرج من غير قصد، ولأنه لو احتلم يلزمه الغسل وهو بغير قصد واختيار، فدل على أنه لا يعتبر فيه الفصل. مسألة: قال:" وَمَنْ اسْتَيْقَنَ الطَّهَارَةَ ثُمَّ شَكَّ في الْحَدَثِ". الفصل وهكذا كما قال: إذا تيقن الطهر ثم شك في الحدث، أو تيقن الحدث ثم شك في الطهر بنى على اليقين، سواء لحقه الشك بعد الدخول في الصلاة أو بعد الدخول فيها، وأصله ما روى أن النبي (صلي الله عليه وسلم) قال:" إن الشيطان يأتي أحدكم وهو في صلاته فينفخ بين إليتيه ويقول: أحدثت، فلا تنصرني حتى تسمع صوتًا أو تشم ريحًا". وقال مالك: يلزمه الوضوء بكل حال. وقال الحسن: إن كان الشك في الصلاة مضي في صلاته، وإن كان الشك قبل صلاته فإنه يلزمه الوضوء. قيل: هو قول مالك ولا يصح، وهذا غلط؛ لأنه يبقى حالة [199 ب/ 1] فلا يزيلها الشك إلى ضدها، كما لو تيقن الحدث ثم شك في الطهر، ونفيس على ما لو كان الشك في بناء الصلاة. واحتج بأن هذا الشك يرجع إلى جواز صلاته، فكأنه شك أن إحرام صلاته هل صح أم لا؟ قيل: اليقين السابق أولي من هذا الشك، كما لو شك في طهارة الماء فإنه ببني على أصل الطهارة.

فرع قال صاحب" التلخيص" لا يزول اليقين بالشك في الطهارة إلا في مسألة، وهي أن يقول: توضأت وأحدثت ولا أدري أيهما قد مت؟ فقال له: قدم وهمك على الأمرين، فإن كنت محدثًا قبل هذين الأمرين فأنت الآن متطهر، وإن كنت متطهر فأنت الآن محدث. وهذا في الخشفة بناء على اليقين أيضًا لا على الشك، ووجهه أنه إذا كان قبل هذين الأمرين محدثًا بعد عرف أن طهره رفع أن طهره رفع ذلك الحدث، ثم شك هل وجد حدثًا؟ رفع ذلك الطهر أم لا والأصل عدمه. وفي عكسه إذا كان قبل هذين الأمرين متطهر فقد عرف إن حدثه رفع طهره، ثم شك هل وجد طهر رفع ذلك الحدث أم لا؟ والأصل عدمه، وهذا كما لو أقام رجل البينة أن فلانا استوفي منه جميع حقه وأبرأه، ثم أقام المشهود عليه بالقبض. بينة أن المشهود له أقر له بألف، لم يثبت عليه لجواز أن يكون ذلك قبل الاستيفاء. ومن أصحابنا من قال: يتعارض هذان العارضان ويرجع إلى الأصل المتقدم [120/ 1]، فإن] كان] قبل هذين الأمرين طاهرًا فهو الآن طاهر، وإن كان محدثًا فهو الآن محدث. ومن أصحابنا من قال: عليه الوضوء هاهنا احتياطًا للصلاة. وهذا اختيار أبي حامد وجماعة، وهذا لأنه لم يتيقنهما وشك في السابق منهما استوت حالتهما، فصار الوضوء مشكوكًا فيه، ولا يجوز أن يصلي بطهارة مشكوكًا فيها، وما ذكره القائل الأول لا يقوى ظن الطهارة؛ لأنه قد تيقن حصول حدث بعد ذلك الحدث الأول، وشك في أن الطهارة تأخرت عنه بإزالته أم لا، فصارت الطهارة مشكوكًا فيها، فإن قال: عرفت قبل هاتين الحالين حدثًا وطهارة، ولا أدري أيهما كان أولًا؟ اعتبرنا ما كان مستقبل هاتين الحالتين الأوليتين، فإن عرق الطهارة من نفسه قبلهما جاز له أن يصلي الآن، وإن عرف الحدث قبلهما لم يكن له أن يصلي الآن ما لم يتطهر، فجواب هذه المسألة هو بعكس ما ذكرنا، وهما سواء في المعنى إذا تأملت. وهذا هو على قول ابن أبي أحمد، فإن قيل: ترك الشافعي الأصل المتيقن في مسائل منها: ما قال: لو كان له عبد غائب لا يعرف حياته فأعتقه عن الكفارة لم يجز، والأمل بقاؤه وجواز عتقه عنها. ونال في الجمعة: إذا شك هل خرج الوقت أم لا لم تجز الجمعة، والأصل بقاء الوقت. وقال: لو شك في انضاء مدة المسح لا يجوز المسح، والأصل بقاء المدة [120 ب/ 1]. وقال: لو رأى أن ظبيًا بال في غدير، ثم عاد إلى ذلك الغدير فوجد ماء متغيرًا، ولا يدري أبنفسه تغير أم ببوله لا يجوز التوضيء به، والأصل الطهارة. قلنا: أما الأول فقد تقابل هناك أصلان حساب العبد واشتغال ذمته بالكفارة، فلا تبرأ ذمته إلا باليقين. وأما الثاني: فالأصل في الفرض الظهر والجمعة عارض يجوز بشرائط، فإذا شككنا في شرطه بنينا على أصل الفرض وهو الطهر. وعلى هذا قال يعض أصحابنا: إذا رفع الشك في ذهاب وقت الجمعة في أثناء الصلاة لا يتمها جمعة على قياس المذهب. وأما الثالث: فالأصل وجوب غسل الرجلين والمسح جوز رخصة شرط فلا بد من

باب ما يوجب الغسل

وجود شرطه باليقين. وأما الرابع بعد تيقن النجاسة فيه، والظاهر أن التغير منها، فلهذا لا يجوز به الطهر. باب ما يوجب الغسل قال: أَخْيَرَنَا الْثَّقَةُ وَذَكَرَ الْخَبر. وهذا كما قال: الغُسل بضم الغين هو الاغتسال، وهو غسل جميع البدن. والأشياء التي توجبا الغسل هي أربعة. شيئان منهما تختص بهما النساء: الطهر من الحيض، والطهر من النفاس، وشيئان تشترك فيهما الرجال والنساء وهو الموت يوجب غسل بدن الميت. والمخاطب به [121 أ/ 1] من علم من الأحياء والثاني: الجنابة. وقيل ما يوجب الغسل خمسة: التقاء الختانين، وخروج المني، ودم الحيض، والنفاس، وخروج الولد. وقيل: أربعة: دم الحيض والنفاس واحد، وخروج المني والولد واحد، لأن المرأة يلزمها الغسل بخروج الولد، لأنه مخلوق من مائها ومائه فيكون بخروجه خروج مائها، وهذا أشبه مما تقدم. وقيل: ستة، والسادس: الموت. والأول أحسن لأن في قولنا: والجنابة يدخل التقاء الختانين، وخروج المني، وخروج الولد، فإذا تقرر هذا فالتقاء الختانين هو عبارة عن تغييب الحشفة في الفرج سواء كان الفرج قبلًا أو دبرًا، وإذا لم يتصور التقاء الختانين إلا في القبلة. وختان الرجل: هو الموضع الذي يقطع منه جلدة القلقة، وختان المرأة يقطع نواتها والتقاء الختانين أن يتحاذيا وأن يتضاما، وإنما يتحاذيان إذا غلب حشفته في فرجها لأن شفرتها محيطات بثلاثة أشياء: ثقبة في أسفل الفرج وهي مدخل الذكر ومخرج الحيض والولد، وثقبة أخرى فوق هذه مثل إحليل الذكر وهو مخرج البول لا غير. والثالثة فوق ثقبة البول موضع ختانها، وهناك جلدة رقيقة قائمة مثل عرف الديك، فقطع هذه الجلدة هو ختانها. فإذا [121 ب/1] قطعت شوهد موضع قطع تلك الجلدة كالنوا ة، فإذا غابت الحشفة حاذى ختانه ختانها وهو مراد الشافعي بما ذكر. وزاد المزني لهذا بيانا في آخر الباب، وفي بعض النسخ لم يكتب ذلك أصلًا، لأن في بيان الشافعي. ما يغني عنه فلا فائدة فيه؟ فإذا تقرر هذا، فمتى حصل ذلك يجب الغسل أنزل أو لم ينزل، صغيرة كانت أو كبيرة حية كانت أو ميتة، متلذذًا كان أو غير متلذذ, وكذلك إن كانت هي التي أدخلت ذلك منه في فرجها باختياره أو بغير اختياره، قائمًا كان أو غير قائم. وفرج البهيمة ودبرها في ذلك كفرج الآدمية ودبرها، وفيما عدا هذا من المباشرة لا يجب الغسل، مثل إن. ألصق ختانه بختانها إذا أولج في فيها، أو بين فخذيها، أو غيب تصف الحشفة، أو استمنى ولم ينزل. قال في (الأم) لأن الكف ليس بفرج. وبهذا قال جمهور الصحابة والفقهاء.

وروى عن زيد بن ثابت، وأبي سعيد الخدري، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وزيد بن أرقم أنهم قالوا: لا يجب الغسل به حتى ينزل، وقيل إنهم رجعوا عن ذلك حين روى عن عمر - رض الله عنه - أنه قال: من خالف في ذلك جعلته نكالًا. وقال داود: لا يجب الغسل به. واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم ((الماء من الماء)). أي صب الماء] 122 ب/1] على البدن لا يجب إلا بإنزال الماء. وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ومن جامع ولم يمن فلا غسل عليه" روا أبو سعيد الخدري، وروي عن عثمان - رضي الله عنه - أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا إذا جامعنا ولم ننزل أن نجدد الوضوء وروى عن أبي بن كعب - رضي الله عنه - أنه قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم وبباب رجل من الأنصار. فدعاه فخرج بعد ساعة ورأسه تقطر ماء فقال له: لعلنا أعجلناك قال: نعم، فقال: إذا جامعت فأقحطت - يعني لم تنزل- فعليك تجديد الوضوء. وهذا مأخوذ من القحط وهو انقطاع المطر؛ ولأنها. مباشرة خلت عن الإنزال فأشبهت المباشرة فيما دون الفرج، وهذا غلط لما روي الشافعي عن عائشة - رضي الله عنها - من رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلًا وقولًا أما الفعل فتمام الخبر ما روى عن أبي موس الأشعري - رضي الله عنه - أنه قال: اشتد على اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المسالة فأتيت باب عائشة فاستأذنت عليها فأذنت لي فقلت؛ يا أم المؤمنين لقد اشتد على اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة استحي أن أسئلك عنها فقالت: ما لا تستحي من أمك غسلا تستحي [ب 122/ 1] مني فإني أمكم فقلت: بم يجب الغسل فقالت: ((إذا التقى الختانان وجب الغسل فعلته أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاغتسلنا)). وأما القول فما روى القاسم بن محمد بإسناده عن عائشة آن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا التقى الختانان وجب الغسل)). وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قعد بين شعبها الأربع وألصق الختان بالختان فقد وجب الغسل أنزل أو لم ينزل)). قال الأزهري: أراد شعبتا شفريها، ولأن الله تعالى قال (وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا)] النساء:43]. قال الشافعي: والجنابة عند العرب هي الجماع وإن لم يكن معها الماء الدافق، ولأنه حكم يتعلق بالجماع فلا يقف على الإنزال لوجوب الحد وكمال المهر. وأما خبرهم قال ابن عباس - رضي الله عنه - وإنما قال صلى الله عليه وسلم ((الماء من الماء)) في

الاحتلام. وقيل: كان هذا في ابتداء الإسلام. ثم فسخ بدليل ما روى عن سهل بن سعيد أنه قال: حدثني أبي بن كعب أن ذلك رخصة رخص فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الإسلام، ثم أمر بالاغتسال بعدها، أو يقول: منطوقه لم ينسخ ومفهومه نسخ؛ لأنه وجوب الغسل فإنزال الماء باقي. وأما قياسه على ما دون الفرج لا يصح؛ لأنه لا يتعلق به شيء من الأحكام [123 أ/1]، وها هنا يتعلق أبه الحد والكفارة، والتحليل الرفع; الأول والإحصان، رفاد العبادات. إ وقال أبو حنيفة: إذا أتى بهيمة أو ميتة فلا غسل مالم ينزل، وهذا غلط؛ لأنه إيلاج فرج في فرج فأشبه فرج الأدمية الحية، وعلى هذا قال أصحابنا في بحر البصرة سمكة لها فرج كفرج النساء يولج فيها سفهاء الملاحين، فإن كان هكذا فيلزم الغسل بالإيلاج فيها فرع إذا وطئ ميتة قد ذكرنا أنه يلزمه الغسل، وتفسد به العبادات، وتجب به الكفارة، ولا يلزم به المهر إن كان شبهه م ولا حد إن كانت زوجته للشبهة، وإن كانت أجنبيه هل يلزمه الحد لأنه بمحض تحريمه وهل يعاد غسلها؟ قال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان والصحيج عندي أنه يعاد. فرع آخر إذا جامع المجبوب امرأة أن تغيب مقدار الحشفة يلزمه المغسل إلا بلا غسل عليه. فرع لو أولج في دبر. خنثى مشكل يلزمه الغسل، وإن أولج. في فرجه فلا غسل، ولا وضوء عليه، لجواز أن يكون خلقة زائدة من الرجل، وإن. أولج خنثى في دبر خنثى فلا غسل على: واحد منهما؛ لأنا لا نعلم أن الواطئ رجل، وعلى المولج فيه الوضوء بخروج الخارج منه. فرع لو لف على ذكره خرقة وأولج فيه ففيه وجهان: أحدها: يلزمه الغسل كما لو كان الذكر [123 ب/1] مستورا بالجلدة. والثان: وهو الصحيح واختاره الإمام الحناطي لا يلزمه الغسل؛ لأنه يصير مولجًا في خرقة، ولأن ذلك. مانع من وصول اللذة. وقال أبو الفياض من أصحابنا: وهو اختيار القاضي الإمام الحسن - رحمه الله - إن كانت الخرقة رقيقة لينة لا تمنع اللذة، فإنه يلزمه الغسل، وعنى هذا الخلاف هل يفسد به الحج أم لا؟ فرع آخر لو استدخلت ذكرا مقطوعًا هل يلزمها الغسل؟ وجهان بناء على الوجهين في مس الذكر المقطوع، ويجب عليها الغسل باستدخال ذكر الميت والبهيمة بلا خلاف بين أصحابنا

مسألة [قال]: ((وإن أنزل الماء الدافق معتمدًا أو نائمًا)) الفصل وهذا كما قال: الغسل يجب على الرجل بخروج المني منه سواء كان في حال نومه، أو في حال يقظته، عامدًا أو غير عامد؛ بشهوة أو بغير شهوة للخبر الذي ذكرنا، وكذلك يجب الغسل على المرأة به، لما روي أن أم سليم أم أنس بن مالك - رضي الله عنهما قالت: يا رسول الله هل على إحدانا غسل إذا هي احتلمت؟ فقالت أم سلمة: فضحك رسول الله، فضحكت النساء أو تحتلم المرأة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم ((تربت يمينك فيم يشبه الرجل أخواله إذا ثم قالت: إذا غلب ماء الرجل ماء المرأة كان الشبه للأعمام، وإذا غلب ماء المرأة ماء الرجل كان الشبه للأخوال. ثم قال لأم سليم: ((نعم إذا رأت الماء)) [124 أ/1 [. وقال أبو حنيفة: إذا خرج من غير شهوة لمرضى أو برد لا يلزمه الغسل وبه قال مالك، وأحمد، وهذا غلط لظاهر الخبر، ولأنه مني خرج من مخرجه المعتاد فاشبه إذا خرج شهوة. فإذا تقرر هذا فإن صفة ماء الرجل ثخين أبيض له رائحة كرائحة الطلع، أو عجين الدقيق، رطبا ورائحة الييض يابسًا، وقد يتغير لعلة فيخرج رقيقًا أصفر، أو يجهد نفه قي الجماع فيتلون إلى حمرة كماء اللحم، نعرف بالرائحة أبدًا، وبأنه يورث اللذة عند خروجه، نعقبه فترة الأول، وهذا أظهر دلائله. وماء المرأة أصفر رقيق ورائحته مثل رائحة مني الرجل، وقيل: الماء يشبه رائحته رائحة الطلع، لأن النخلة خلقت من طينة فضلت من التربة التي خلق منها آدم عليه السلام ولهذا قال: ((أكرموا عماتكم)) وهي النخيل. والمني مشدد لا غير، وإنما سمى منيًا لأنه يمني - أي يراق، وسمى منيًا بهذا الاسم لما يراق بها من الدماء. يقال: مني الرجل وأمنى، والمذي يشدد يخفف والتخفيف أكثر، يقال: مذي وأمذى. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((في السوعاء الوضوء)) قال الإمام أبو سليمان الخطابي في غريب الحديث أراد به المذى، والودي مخفف يقال: ودى الرجل ولا يقال: أودى. فرع لو أنزلت المرأة المنى إلى فرجها، فإن كانت بكرًا فلا غسل، وإن كانت ثيبًا. يلزمها الغسل [(124) ب/]؛ لأنه يلزمها تطهير داخله في الاستنجاء فجرى مجرى عضو الظاهر

ذكره في ((الحاوي)). الفرع لو انكسر صلب رجل فخرج منه المني دون الذكر، ففيه وجهان، وهذا إذا: كان منيًا مستحكمًا. فرع لو استدخلت مني الرجل ثم ألقته من فرجها فإنه لا يلزمها الغسل. وقال الحسن البصري: يلزمها الغسل كما لو أنزلت ماء نفسها. قال القفال: وهو وجه لأصحابنا، وهذا غلط؛ لأنه ليس من مائها فأشبه إذا استدخلت دواء فألقته. فرع إذا جامعها فاغتسلت ثم خرج مني الرجل من فرجها. قال أصحابنا: يلزمها الوضوء ولا غسل، وصورته أن تكون صغيرة. لا ماء لها، أو علمت المرأة أنها لم تنزل، فإن أنزلت عقيب الإيلاج وفارقها، فإن كان, الزمان امتد فالغالب أن منيها اختلط بمني الرجل فيلزمه الغسل ثانيًا. فرع آخر إذا انتقل المني عن ظهره وثم يطهر لا يلزمه الغسل. وقال أحمد: يلزمه الغسل؛ لان الشهوة قد حصلت، وهذا غلط لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لعلي- رضي الله عنه ((إذا أفضحت الماء فاغتسل))، والفضح: ظهوره. ولا ما تتعلق به الطهارة يعتبر طهوره كالبول ونحوه، وما ذكره من الشهوة لا نسلم اعتبارها، ثم الشهوة لا تعلم إلا بخروجه. فرع آخر إذا أمذى لا يجب عليه الوضوء [125 أ/1] وغسل موضع المذي. وقال أحمد: يلزمه غسل الذكر والأنثيين، وحكى عن مالك أنه يلزمه غسل الذكر لما روى في خبر علي - رضي الله عنه - حين سأل المقداد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المذي فقال: ((يغسل ذكره وأنثييه ويتوضأ)). وهذا غلط لما روينا أنه قال: ينضح على فرجه ويتوضأ، ولأن هذا خارج لا يوجب غسل جمع البدن فلا يوجب غسل مالم يصبه من الذكر كالبول. وأما خبرهم فإنه تفرد بروايته هشام بن عروة نحمله على الاستحباب. فرع آخر لو رأى في النوم أنه يحتلم ولم ير في ثوبه آثره فلا غسل عليه، نص عليه في

((الأم)) فقال فيه: فإن وجد في ثوبه منيًا ولا يعلم أنه منه أو من غيره فلا غسل عليه. قال أصحابنا: وهذا مثل أن ينام في الثوب هو وغيره ممن يمني أو ينام إلى جنبه من يمني، وإن كان الثوب لا ينام فيه غيره فوجد فهو منه يقينًا فعليه الغسل، ويقضي الصلاة لأقرب نومة نامها، والاحتياط أن يقضي الصلوات من الوقت، الذي لا يشك أن الاحتلام كان بعده. وقال الشافعي في المسألة الأولى، يستحب له أن يغتسل، وهذا حكم من رأى بثوبه نجاسة ولا يدري متى أصابته. فرع آخر لو شك مما خرج منه فلا يدري انه مني أو مذي، فإن كان توضأ وصلى في ثوب آخر ولم يغتسل [125 ب/1] جازت صلاته، وإن اغتسل وصلى في هذا الثوب ولم يغسل ثوبه جاز أيضًا لاحتمال أنه مني، فإن غسل الثوب وتوضأ وصلى فيه يجوز أيضًا لاحتمال أنه كان مذيًا. قال القفال: وهل يجب الترتيب في هذا الوضوء؟ وجهان. وكان يقول: لو أدخل خنثى ذكره في دبر رجل فعلى المفعول به أحد أمرين، إما وضوء مرتب أو غسل، فلا يجب الترتيب في هذا الوضوء؛ لأنه مشكوك فيه، ثم رجع عن هذا فالذهب وجوب الترتيب، فإن لم يغتسل وصلى في هذا الثوب قبل غسله بعدما توضا لا تجوز صلاته؛ لأنه ترك يقين الطهارة من غسل أو غسل ذلك الثوب هكذا ذكر عامة أصحابنا. وهذا لأنه مخير بين أن يجعله منيًا فيجب الغسل منه فقط، أو يجعله مذيًا فيجب الوضوء منه وغسل الثوب منه لاحتمال الأمرين احتمالًا واحدا- وقال بعض أصحابنا: يلزمه الوضوء فقط فلا غسل للشك، ولا يلزمه غسل الثوب بجواز, أن يكون منيًا، ففيه شك أيضا ذكره في ((الحاوي)) وقطع بهذا. وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي، رحمه الله-: عندي أنه يجب أن يتوضأ مرتبًا ويغسل سائر بدنه ويغسل الثوب منه؛ لأنا إن جعلناه منيا أو جنبًا غسل ما زاد على أعضاء الوضوء بالشك والأصل عدمه، وإن جعلناه مذيًا أو جنيًا غسل الثوب والترتيب] 126 أ/1] في الوضوء بالشك، والأصل أعدمه وليس أحد الأصلين أولى من الأخر، ولا سبيل إلى إسقاط حكمها؛ لأن الذمة قد اشتغلت بغرض الطهارة والصلاة والتخيير لا يجوز؛ لأنه إذا جعله مذيًا لم يأمن، أو يكون منيًا فلم يغتسل له، فإن حوله منيًا لم يأمن أن يكون مذيًا ولم يغسل الثوب منه ولم يرتب الوضوء منه، فوجب أن يجمع بينهما لسقط الفرض بيقين وهذا أحسن، ولكن الأصح عندي الأول، وذلك أنه إذا اختار أحد الأمرين وفعل فقد صار الثاني مشكوكًا في وجوبه، والأصل أن لا وجوب فلا يكلف ذلك اعتبارًا لليقين لا يزال بالشك.

فرع أخر قال في ((البويطي)): يكره للجنب أن ينام حتى يتوضأ لما روى أن عمر - رضي الله عنه- قال: يا رسول الله أيرقد أحدنا وهو جنب؟ قال: ((نعم إذا توضأ أحدكم فليرقد) وروى: ((اغسل ذكرك وتوضأ ثم نم)) وقال صاحب الإفصاح: إذا أراد أن يأكل أو يشرب أو يطأ يتوضأ أيضًا لانه يستحب هذا للحائض لأن الوضوء لا يؤثر في حدثها ويؤثر في حدث الجنابة لأنه تحققه إيزيله عن أعضاء الوضوء وهو نظر ما. روى أن النبي صلى الله عليه وسلم لرد السلام)) مع وجود الماء. فرع أخر ذات الجفاف هل يلزمها الغسل؟ وهي أن تلد ولا ترى الدم فد ذكرنا أنه يجب، وبه قال مالك، وقيل: فيه وجهان: أحدهما: لا يجب الغسل وهو قول [(126) ب/ [أبي حنيفة؛ لأنه جامد كالحصاة. والثاني: يجب وهو الصحيح، فإن خرج منها ولد فاغتسلت ثم ولدت آخر أعادت الغسل للولد الثاني، فعلى هذا هل تغتسل حال وضعها أو بعد مضي ساعة وجهان بناء على أن أول النفاس محدود بساعة أم لا؟ وعلى هذا لو كانت الولادة في رمضان هل يبطل صومها؟ فإن قلنا: لا غسل عليها فهي على صومها، وإن قلنا: يلزمها الغسل بطل صومها، ذكره صاحب ((الحاوي)) وعندي أنه لا يبطل صومها بكل حال قال: لأنها مغلوب عليها كالأخت لأم. وقيل: يجب الغسل على الرجل بشيئين وعلى المرأة بخمسة أشياء التقاء الختاتين وإنزال الماء وخروج دم الحيض والنفاس والولد. قال: ((وقبل البول وبعده سواء)) وهذا كما قال قصد به الرد على مالك، لأنه قال: إذا اغتسل الرجل عند خروج المني مرة ثم خرج منه المني مرة أخرى، فإن كان ذلك قبل البول فهو من بقية المني الأول في قضيبه فلا غسل عليه ثانيًا، فإن كان بعد البول فهو مني جديد يلزمه الغسل ثانيًا. وقال صاحب ((الحاوي)) هذا مذهب الأوزاعي وعند مالك والثوري لا يلزمه إعادة الغسل بعد الإنزال الثانى قبل البول وبعده؛ لأنه بقية المنى الأول الذي اغتسل له وسببهما واحد. وبه قال أبو يوسف وأحمد وإسحاق، وقال أبو حنيفة: إن كان [127 أ/1] قبل البول يلزمه الغسل؛ لأنه بقية ما خرج بشهوة وبعد البول إذا خرج فلا غسل عليه؛ لأنه خرج بغير شهوة. وحكى هذا عن الأوزاعي، وعندنا يلزمه الغسل بكل

حال؛ لأن موجب الغسل الإنزال وهو ظهور المني وقد وجد ذلك. فرع قال في ((الأم)): ((وإذا أسلم الكافر أحببت له أن يغتسل ويحلق شعره، فإن لم يفعل ولم يكن جنبًا أجزأه أن يتوضأ ويصلي)) وإن كان قد أجنب واغتسل ثم أسلم فعليه أن يغتسل، وغسله في حال شركه لا يجزيه؛ لأن من شرطه النية، والكافر لا نية له، ومن أصحابنا من قال: يصح غسله في حال كفره ولا تجب عليه الإعادة؛ لأن الشافعي - رحمه الله - نص على أن الذمية إذا اغتسلت من الحيض يحل للزوج وطئها. وقد تقدم الكلام فيه. وقال مالك وأحمد، وأبو ثور، وابن المنذر،: يلزم الغسل بإسلامه وأن لم يكن جنبا. واحتجوا بما روى: أن كافرا اسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الق عنك شعر الكفر واغتسل". وروى أن قيس بن عاصم، وثمامه بن اثال: اسلما فأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغسل وهذا غلط لان العدد الكثير من الكفار اسلموا ولم يأمرهم بالغسل ولو أمر لنقل نقلا ظاهرا، ويحمل الأمر لجماعه معدودين على الاستحباب؛ ولأن الإسلام عباده ليس من شرطها الغسل، فلا يجب لها [127/ ب [الغسل كالجمعة. فرع أخر لو توضأ أو تيمم ثم ارتد عن الإسلام ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: ببطلان وبه قال أحمد؛ لان الردة إذا صادفت عباده أبطلتها وكل عباده تبطل بالحدث تبطل بالردة الصلاة. والثاني: لا يبطلان؛ لأن الطهارة لا تبطل بالحدث، والردة ليست بحدث، ولأن غسلها من الحيض لا يبطل بردتها، بدليل أن لو أسلمت لا يحرو وطئها حتى يغتسل فكذلك هذا، وجب أن لا يبطل، وهذا أقيس، وتفارق الصلاة لأنها لا تبطل بعد الفراغ منها بالردة، وتبطل بالردة فيها لبطلان النية. فان قيل: أليس الوضوء يبطل بعد الفراغ منه بالحدث فينبغي أن يبطل بالردة في هذه الحالة. وقلنا: لا نقول الوضوء بطل ويفسد بما يحدث، بل يقول: صار محدثا فيحتاج إلى طهارة لهذا الحدث، بدليل أن الجنب إذا تيمم ثم احدث وجب عليه التيمم فلا يحرم عليه قراءه القران، فلو بطل تيممه السابق تحرم عليه القراءة. والوجه الثالث: وهو ظاهر المذهب أنه يبطل التيمم دون الوضوء؛ لأن الوضوء يرفع الحدث فلا يبطل إلا بالحدث، وبالتيمم تستباح الصلاة والردة تمنع استباحتها فبطل بها.

باب غسل الجنابة

مسألة [قال]: "وتغتسل الحائض إذا طهرت والنفساء إذا ارتفع دمها ". وهذا كما قال قد قيل لا معنى لتغييره العادة في الحائض والنفساء، إلا النجسين وقيل هو [128 أ / 1 [إشارة إلى أن دم النفاس لا يتقدر أوله بمنى ارتفع بعد الولادة، وأن قيل يلزمها الغسل، وفي الحائض إذا ارتفع قبل تمام يوم لا يكون حيضا ولا يلزمها به الغسل حتى تطهر بعد تمام أقل المدة، ومع هذا لو قال: تغتسل الحائض والنفساء إذا طهرتا صح أيضًا، فإذا تقرر هذا فالغسل من الحيض يجب بخروجه، وفعل الغسل يجب بانقطاعه كظهور البول، فإنه موجب الوضوء وانقطاعه موجب فعله. وقيل: فيه وجهان: أحدهما: يجب بخروجه وهو المذهب. والثاني: يجب بانقطاعه وهو اختيار كثير من مشايخ خراسان والصحيح ما ذكرنا. فرع لو أصابتها جناية ثم حاضت قبل الاغتسال فلا غسل عليها وهي حائض، فإذا انقطع أجزأها غسل واحد لهما، وكذلك لو احتلمت وهى حائض. ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا: إن للحائض قراءة القرآن تغتسل هي للقراءة وهذا ليس شيء. باب غسل الجنابة مسألة: قال الشافعي: ((يبدأ الجنب فيغسل يديه ثلاثًا قبل إدخالهما في الإناء)) الفصل وهذا كما قال الكلام في غسل الجناية في شيئين، أحدها: في الأفضل. والثاني: في الواجب. فأما الأفضل فالمستحب أنه يبدأ فيسمى الله تعالى وينوي، ولم يذكر الشافعي هذا ها هنا اكتفاء بما ذكر في الوضوء، ثم يغسل يديه قبل إدخالهما الإناء ثلاثًا، ثم يصب الماء بيمينه] 128 ب/1] على شماله فيغسل أسافله من الأذى في موضع الاستنجاء وغيره، ثم يتمضمض ويستنشق ثلاثًا ثلاثًا، ويتوضأ وضوءه للصلاة، ثم يدخل أصابعه العشر في الإناء ويأخذ الماء بها فيشرب أصول شعره من رأسه ولحيته، ثم يحثو على رأسه ثلاث حثيات من ماء، وهو أن يأخذ الماء بكفيه ويحثيه على رأسه مرة ثم مرة ثم مرة، حتى ينحدر كل مرة إلى جسده، ثم أفاض الماء على جسده وأمر يده على جسده حتى يصل الماء إلى شعره وبشره. قال أصحابنا: ويفيض الماء على شقه الأيمن أولًا، ثم على شقه الأيسر وهذا أحسن، وقيل كماله في عشرة أشياء: النية واستدامتها إلى إفاضة الماء على جسده,

والثاني: التسمية, والثالث: غسل كفيه قبل إدخالهما في الإناء, والرابع: غسل ما به من النجاسة فالأذى. أراد بالنجاسة. المذي وبالأذى: المني, والخامس: يتوضأ كامًلا. والسادس: يخلل بيد أصابعه أصول شعر رأسه ولحيته, والسابع: بحثي على رأسه ثلاث حثيات من ماء, والثامن: يبدأ بإفاضة الماء على شقه الأيمن ثم الأيسر والتاسع: الدلك, والعاشر: إيصال الماء إلى جميع شعره وبشره. فظاهر ما قال في " الجديد": أنه يقدم غسل الرجلين على إفاضة لماء على رأسه وهو رواية عائشة, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعل هكذا, وهذا هو المذهب. وقال في "البويطي" [129 أ/ 1]: يؤخر غسل الرجلين وينجي عن المكان ثم يغسل رجليه في الآخر. وبه قال أبو حنيفة وهو رواية ابن عباس عن خالته ميمونة أن النبي صلى الله عليه وسلم: "اغتسل في بيتها هكذا, قالت: ثم تحول عن مكانه فغسل قدميه وكلاهما جائز بلا أشكال. وأما الواجب: فشيئان: النية, وإيصال الماء إلى جميع البشرة والشعر. قال في "الأم": "وعليه أن يغسل أذنيه ظاهرهما وباطنهما ويدخل الماء فيما ظهر من الصماخ وليس عليه أن يدخل الماء فيما بطن منه" وليس عليه إدخال الماء في العينين لأنهما باطنان بالجفون, فأعلم أن ههنا شيئان آخران يختلفان باختلاف الحال: أحدهما: غسل النجاسة, فإن كانت يجب غسلها وإلا لا يجب. والثاني: وضوءه للصلاة, فإن لم يكن أحدث, مثل أن ابتدأ الإنزال بالنظر أو الاستنجاء فلا يلزمه الوضوء, وكان مسنونًا في غسله لا فرضًا, وإن كان أحدث قبل الجنابة فيه ثلاثة أوجه معروفة. فإذا قلنا بين الوضوء والغسل فالأولى أن يقدم الوضوء على الغسل, ولو ترك شعرة لم يصبها الماء لا يجوز غسله. وحكى عن أبي حنيفة أنه يجوز غسله. ذكره صاحب"الحاوي" وهذا غلط لقوله صلى الله عليه وسلم:"تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة" والسنة في الغسل: سنة التسمية وغسل الكفين وتخليل الشعر [129 ب/ 1] وإفاضة الماء على الرأس ثلاثًا والبداية الميامن في الدلك. مسألة: قال: "فإن ترك إمرار يديه على جسده فلا يضره". وهذا كما قال: قصد به الرد على مالك فإنه يقول: يجب إسرار اليد إلى حيث ينال, وبه قال المزني, واحتج بأنه لا يقال: اغتسل إلا لمن دلك نفسه. وهذا غلط لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم سلمة. وقد سألت عن غسل الجناية: "إنما يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات من ماء ثم تفيضي الماء على سائر جسدك فإذًا أنت قد طهرت"

ولم يأمر بالدلك. وقال الشافعي:"وفي إفاضة النبي صلى الله عليه وسلمعلى جلده دليل أنه إن لم يدلكه أجزأه". وهذا إشارة إلى الخبر الذي روى أنه صلى الله عليه وسلم سئل ن الاغتسال من الجنابة. فقال: "أما أنا فأحثي على رأسي ثلاث حثيات, من ماء, فإذا أنا قد طهرت" ولميذكر الدلك. واحتج الشافعي أيضًا بقوله صلى الله عليه وسلم للمتيمم:"إذا وجدت الماء فأمسسه جلدك" ولم يأمر بالدلك. وتمام الخبر ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في بعض الأسفار فصلى جماعة, ثم رأى رجلاً معزولاً عن القوم لم يصل معهم, فقال له: ما لك لم تصل معنا؟ فقال: أصابتني جنابة ولم أجد ماء فقال النبي صلى الله عليه وسلم [130 أ/ 1] " التراب كافيك ولو لم تجد الماء عشر حجج, فإذا وجدت الماء فأمسسه جلدك" ثم بعد ذلك وجد الماء فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: "خذ الماء فاغتسل" ولم يأمره بالوضوء ولا بالدلك وأما قوله: أنه لا يقال: اغتسل إلا لمن دلك, فلنا: لا نسلم ويقال: غسل الإناء من ولوغ الكلب, وغسل يده وإن لم تمر يده فكذلك هذا. وفي هذا الخبر الذي ذكرنا دليل على أن الوضوء فيه لا يجب خلافًا لأبي ثور وداود, وهو معنى قوله: وفي أمره الجنب المتيممم إذا وجد الماء اغتسل ولم يأمره بوضوء دليل على أن الوضوء ليس بفرض. مسألة: قال: "فإن ترك الوضوء للجنابة والمضمضة والاستنشاق" فقد أساء ويجزيه ويستأنف المضمضة والاستنشاق. وهذا كما قال. وقصد به الرد على أبي حنيفة وأبي ثور, وقد ذكرنا مذهبهما, ثم أنه قال: ويستأنف المضمضة والاستنشاق" ولم يقل ويستأنف الوضوء لأمرين: أحدهما: أن الشافعي عرف الخلاف في وجوب المضمضة والاستنشاق, فندب إليهما الاحتياط في الخروج من الخلاف, ولم يعرف مثل ذلك في الوضوء؛ لأن أبا ثور إنما ظهر مذهبه بعد الشافعي. والثاني: أن سائر الأعضاء سوى الفم والأنف صارت مغسولة في جملة الاغتسال, فلا معنى لاستئناف غسلها بعد الفراغ بخلاف الفم والأنف, ولأنهما عضوان يتغيران عند طول العهد بالماء فأمر باستئنافها لهذا المعنى, ثم احتج على أبي حنيفة خاصة فقال: "وقد فرض الله غسل الوجه من الحدث كما فرض غسله مع سائر البدن من الجنابة" فإذا لم تجب [130 ب/ 1] المضمضة والاستنشاق في

الوضوء كذلك في الجنابة, وهذا قياس الغسل على الوجه بعلة أنه طهارة فرض فيها غسل الوجه من الحدث. مسألة: قال: "والمرأة في غسلها كالرجل". وهذا كما قال. ذكر الشافعي بعد غسل الرجل غسل المرأة وذكر في غسلها زيادة, وهب أنها تحتاج من غمر ضفائرها أكثر ما يحتاج الرجل. أعني الرجل الذي لا ضفائر له. فأما إذا كان له ضفائر أو لحية طويلة كثيفة فحكمه حكمها, ولابد من اتصال الماء في الجنابة إلى أصول شعرهما. والضفائر والدواب واحد, وهو أن تضفر شعر رأسها- والصفر: هو الفتل-ثم فيه ثلاثة مسائل:- إحداهما: أن يكون الشعر خفيفًا والضفر سهلاً لا يمنع وصول الماء إلى كل الشعر والبشرة التي تحنه, فلا يحتاج إلى نقض ضفائرها ويجزيها أن تغمرها بقدر ما ترى أن قد وصل الماء إليها. وحكى عن النخعي أنه قال: يلزم نقضها على كل حال. وهذا غلط لما روى عن أم سلمة- رضي الله عنها- أنها قالت: يا رسول الله إني امرأة أشد ضفر رأسي أفأنفضه للغسل من الجنابة فقال: "لا يكفيك أن تحثي على رأسك ثلاث حثيات" الخبر. والثانية: أن يكون كثيفًا والضفائر قوية ملبدة لا يصل الماء إلى باطنها إلا بنقضها, فإنه يلزمها نقضها وغسلها. وحكى عن مالك أنه قال: "لا يلزمها ذلك [131 أ/ 1] ويجوز غسلها, وإن لم يصل الماء إلى داخل الضفائر. واحتج بما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يضر المرأة الجنب ولا الحائض أن لا تنقض شعرها إذا أصاب الماء شؤون الرأس" وروى شؤن الرأس الشك من الراوي وشؤن الرأس أعلاه وأيضًا خبر أم سلمة الذي ذكرنا قلنا: إنما ذكر ذلك على غالب الحال أنه يصل الماء إليها دون النقص بدليل قوله صلى الله عليه وسلم "تحت كل شعرة جنابة" الخبر والثالثة: أن يكون الشعر محشوًا فتكون كالضفائر, فإن كان ثخينًا يمنع وصول الماء فعليه إزالته وتسريحه حتى يزول الحائل ثم يصل الماء إليها, وإن كان الحشو رقيقًا مثل الدهن ونحوه, فإن ذلك لا يمنع وصول الماء إليه فلا يلزمه نقضه وتسريحه, وإن كان الشعر طويلاً فعليه لطوله نص عليه في"الأم". وحكي عن أحمد أنه قال: "الحائض تنفض شعرها بخلاف الجنب لما روى أن

النبي صلى الله عليه وسلم قال للحائض: "خذي ماءك وسدرك وأمشطي" وقال لأم سلمة: "أفيضي الماء" وهذا غلط لأنه موضع من البدن فاستوي فيه غسل الحائض والجنب كسائر الأعضاء, وليس بين الخبرين اختلاف؛ لأن ذلك على الاستحباب بدليل أن السدر والمشط لا يجب, وأم سلمة سألته عن الجواز [131 ب/]. فرع لو كان في شعرها عقد كان جدي- رحمه الله - يفتي أنه لا يجوز الغسل حتى تقطع تلك العقد وتغسل. وإن كان قد صلى يلزمه إعادة الصلاة ورأيت في تصنيف الإمام أن أبي محمد الحويني أنه لا يلزمه قطعها ويجوز الغسل, وهو الأصح عندي؛ لأن تلك العقدة لا يتوهم انحلالها, فهي كالتصاق الأصبع بالأصبع والتحامه, ولأن الماء يتخلل الشعر عند إصابة الماء. فرع آخر إذا كان مقطوع الأذن والشفتين هل يجب غسل ما ظهر بالقطع في الجنابة والوضوء؟ وجهان: أحدهما: لا يجب لأن إيصال الماء إلى بعض الموضع كان ممكنًا قبل القطع, ولم يوجب لكونه باطنًا بأصل الخلقة فلم يجب بعد القطع أيضًا. والثاني: يجب, لأن الموضع تغير عما كان وصار ظاهرًا, وعندي هذا هو المذهب والوجه الأول خطأ. فرع آخر إذا لم يكن مجنونًا هل يلزم إيصال الماء في الجنابة إلى ما تحت القلفة وجهان: أحدهما: يجب لأن تلك الجلدة هي مستحقة الإزالة. والثاني: لا يجب لأن الجلدة هي في حكم الغسل لم يجعلها كالمعدوم, ولهذا لو غسل الباطن وترك الظاهر لا يجزيه, فإذا تعلق الغسل بظاهرها فما تحتها باطن بأصل الخلقة فلم يجب إيصال الماء إليه. والأول أصح عندي. فرع آخر قال بعض أصحابنا: يجب على الثيب غسل الباطن [132 أ/ 1] الفرج في غسل الحيض, لأن الدم نجاسة أجنبية يمكن إزالتها, وأما في غسل الجنابة إن قلنا رطوبة الفرج نجسة فلا يجب, لأن الغسل لا يفيد فائدة. وإن قلنا: الرطوبة طاهرة ففيه وجهان: أحدهما: لا يجب لأن الموضع باطن بأصل الخلقة. والثاني: يجب لأن الموضع تغير عما كان وصار ظاهرًا, وعلى هذا يلزمها أن تغسل

القذر الذي يظهر من باطن فرجها إذا قعدت على رجليها, مثل ما تقعد لقضاء الحاجة, وما زاد لا يجب لأنه بقي باطنًا كما كان. فرع آخر هل يجب على السيد أن يشتري الماء للوضوء والغسل من الحيض والجنابة؟ وجهان أحدهما: تجب لزكاة الفطر, والثاني: لا يجب لأن له بدلاً وهو التيمم, وفي الزوجة قيل حكمها حكم المملوك وقيل: لا تلزمه لغسل الحيض والنفاس, لأنه من مؤنة التسليم, أو لا يمكنها التسليم إلا بذلك. والتسليم واجب عليها فيلزمها مؤنته [132 ب/ 1]. مسألة: قال: ولما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغسل من الحيض قال:"خذي فرصة من مسكٍ. الفصل وهذا كما قال تمام الخبر [أن] امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغسل من الحيض فعلمها ثم قال في الآخر: "خذي فرصة من مسك فتطهري بها" فقالت: كيف أتطهر بها فاستحيي منها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعرض عنها وقال: "سبحان الله, تطهري بها". وروى: "ويلك تطهري بها" قالت عائشة: فاجتذبتها وعرفتها الذي أراد فقلت: تتبعي بها أثر الدم. قال الشافعي: هذا زيادة في غسلها من الحيض على الغسل من الجنابة, وهو مستحب لإزالة الرائحة الكريهة, وإنما توصل هذا إلى الموضع الذي يجب عليها إيصال الماء إليه من باطن فرجها ولا يجب ذلك. وروى: "فرصة ممسكة": يريد قطنة ملطخة بالمسك مطيبة بها. وروي: "جدي فرصة فتمسكي بما" يعني تطيبي بها من المسك. والفرصة هي القطعة من كل شيء. وقيل: هو التمسك باليد. وقال أبو عمرو: فرصة أبو عمرو: فرصة من مسك: هي المسك المعجون بالمسك يكون عند نساء المدينة, فإذا كان فيها مسك سميت فرصة بالفاء مكسورة, وإن لم يكن فيها مسك سميت سكيكة. وقال أبو عبيدة: إنما هو فرصة من مسك بالقاف مضمومة [133 أ/ 1] وفتح الميم: أي قطعة من جلد لتنقي آثار الدم والرواية المشهورة ما ذكرنا. فإن كانت رواية أبي عبيدة صحيحة لم يمتنع أن يجمع بين الأمرين, فيكون الجلد لتتبع الدم وإبقاء آثاره, والمقصود من المسك أن به رائحة الدم فتعمل لذة الدفع, وقيل: المقصود أنه يسرع إلى علوق الولد, فإن عدمت المسك فمن قال بالأول قال: يستعمل خلقة في طيب الرائحة, ومن قال بالثاني قال: يستعمل ما يقوم في إسراع العلوق من القسط والأظفار, وهل هو قبل الغسل أو بعده, من

قال بالأول قال بعده, ومن قال بالثاني أمر فبله, ثم قال في"المختصر" قال الشافعي: فإن لم يجد مسكًا وطيبًا أي غيره من الطيب. وقيل: قرئ فطينًا- يعني أن لم يكن مسك ولا غيره من الطيب فيستعمل الطين فإن لم يجد فالماء كاف أي يكفي في التطهير ولا حاجة إلى غيره. قال أصحابنا: ونظيره الصائم يفطر بالتمر استحبابًا, فإن لم يجد فبحلاوة سوى التمر, فإن لم يجد فالماء كافٍ. وقيل: الطين بالنون لا يصح؛ لأن الشافعي بينه في "الأم" فقال: " فإن لم يكن مسك فطيب ما كان إتباعًا للسنة ولم يذكر الطين ولو لم يفعل ما ذكرنا وانغمست في ماء برأ وأتى الماء على شعرها وبشرتها أجزأها. فرع قال في "البويطي": وأكره للجنب أن يغتسل [133 ب/ 1] في البئر معينة كانت أو دائمة, وفي الماء الراكد قليلاً أو كثيرًا والبول فيه, لما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يبولن أحدكم في الماء الراكد ثم يغتسل فيه" ولو وقف تحت مطر حتى أتى الماء على شعره وبشره أجزأه, وإن كان ذا غضون في رأسه أو جسده فعليه أن يغلغل الماء في غضونه حتى يدخلها. مسألة: قال: "وما بدأ به الرجل والمرأة في الغسل أجزأهما". وهذا كما قال: أراد به أنه لا ترتيب في الغسل بخلاف الوضوء لأنه جملة واحدة بخلاف الوضوء. وقال بعض أصحابنا: إنما يستحق أن يبدأ برأسه. وقال إسحاق: تجب البدأة في الغسل بأعلاه البدن. مسألة: قال: وإن أدخل الجنب أو الحائض أيديهما في الإناء ولا نجاسة فيهما لم يضره". وهذا كما قال أعضاء المحدث والجنب والحائض هي طاهرة, لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة- رضي الله عنها- "أنا وليني الخمرة من المسجد" فقالت: أنا حائض فقال: "ليست حيضتك في يدك". وروى أنها كانت تغسل رأس رسول الله صلى عليه وسلم وهي حائض. وروي عن أبي ذر- رضي الله عنه- قال: لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جنب فسلم علي

وأراد أن يصافحني فقبضت عنه يدي وذهبت فاغتسلت [134 أ/ 1] ثم أتيته فقلت: يا رسول الله ما منعني من مصافحتك إلا إني كنت جنبًا. فقال: "ليست الجنابة في اليد أما علمت أن المؤمنين إذا تصافحا تحاتت ذنوبهما كما يتحات ورق الشجر". وهذا إذا أدخل يده ليعرف حرارة الماء وبرودته, فإن أدخلها فيه بنية الغسل الواجب وأخرج, فإنه يصير الماء مستعملاً لا يصلح الطهور. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: إن أدخل رجله في ماء قليل نجس الماء, وكذلك في ماء ثان, فإن أدخلهما في ثالث لم ينجس, ولو أدخل يده لم ينجس لأنه يحتاج إلى إدخال يده دون رجله. وحكي هذا عن أبي يوسف وهو الأصح, وهو غلط؛ لأنه لا فرق بين اليد والرجل في حكم النجاسة. فرع لو نجس بدون الجنب كله فاغتسل غسلاً واحدًا طهر من نجاسته, وهل يطهر من جنابته؟ وجهان: أحدهما: طهر لأن الماء لاقاهما في حالة واحدة, وليس ارتفاع أحدهما أولى من الآخر. والثاني: لا يطهر حتى يغتسل ثانيًا لأن ماء الغسل الأول صار بملاقاة النجاسة مستعملاً فيها, وما استعمل في النجاسة لم يرتفع بع حدث الجنابة. فرع لو قلب الجنب الماء على رأسه وظهره نجاسة فأزالها. فإن قلنا: إن الماء المستعمل في الحدث يصلح لإزالة النجاسة نحكم بطهارة المحل, ولكن لابد [134 ب/ 1] من غسل ذلك الموضع كرة أخرى للجنابة في أحد الوجهين؛ لأنهما فرضان مختلفان. وإن قلنا: الماء المستعمل في الحدث لا يصلح لإزالة النجاسة فهل نحكم بطهارة الموضع؟ وجهان: أحدهما: نحكم به لأن الماء قائم على المحل, وإنما يثبت له صفة الاستعمال بعد الانفصال. والثاني: لا نحكم به, لأنا لا نجعل الماء مستعملاً في حكم الجنابة للحاجة, فإنا لو قلنا بخلافه لاحتاج كل جزء من بدنه إلى ماء جديد, وهذه طهارة أخرى, فيكون الماء مستعملاً في حكمها, فعلى هذا لابد وأن يغسل الموضع عن النجاسة ثم يغسلها مرة أخرى عن الجنابة؛ لأن بقاء النجاسة على الموضع يمنع ارتفاع الجنابة عنه بالماء الأول. فرع آخر لو أدخل يده في إناء بنية الغسل من الجنابة ليقلب الماء على رأسه, فالمذهب أن الجنابة ترتفع عن يده ويصير الماء في الإناء مستعملاً, والذي على اليد

باب فضل الجنب وغيره

غير مستعمل, فإن قلب على رأسه لم ترتفع الجنابة؛ لأنه انفصل عن اليد فصار مستعملاً, وفيه وجه آخر أنه لا يصير الماء مستعملاً لأنه لا يقصد بإدخال اليد فيه غسل اليد من طريق العادة, بل يجعل يده آلة لنقل الماء على رأسه فيصير كمن أدخل يمينه في الإناء قاصدًا أن يكون يمينه آلة يقلب الماء بها على رأسه, لا يصير الماء مستعملاً فعلى هذا لا تصير اليد [135 أ/ 1] مغسولة إلا أن بمفردها أو يمر عليها الذي قلب منه على رأسه, وهكذا الحكم في الحدث إذا أدخل يده في الإناء بعد غسل الوجه. باب فضل الجنب وغيره قال: أخبرنا مالك وذكر الخبر. وهذا كما قال: اعلم أن هذا الباب يشتمل على مسألتين: إحداها: جواز التوضئ بفضل وضوء الغير, وهو على ضربين؛ مستعمل, وغير مستعمل فالمستعمل له باب يأتي, وأما ما فضل في الإناء فهو طاهر يجوز التوضئ به, سواء فضل عن الرجل أو عن المرأة, ويجوز لكل واحد منهما أن يتوضأ بفضل صاحبه, ولا فرق بين فضل الوضوء وبين فضل الغسل. وروي عن أحمد أنه قال: "لا يجوز أن يتوضأ الرجل بفضل وضوء المرأة إذا خلت به" وبه قال إسحاق, وعنه رواية أخرى أنه يكره ذلك, وذكر أصحابنا بخراسان عنه أنه قال: يجوز لكل واحد منهما استعمال ما فضل في الحالة التي تستعمله, حتى لو أن جنبيين يغتسلان من إناء واحد جاز. فأما إذا استعملت وبقي البعض لا يجوز للرجل استعماله بعد ذلك, وروى الكراهة عن الحسن, وسعيد بن المسيب, وروى عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنه قال: لا يكره فضل وضوءهما إلا أن تكون جنبًا أو حائضًا, فإنها إذا [135 ب/ 1] خلت به قال: لا تقر به. وحكي عن الشعبي والنخعي أنهما قالا: لا يجوز استعماله بحال, واحتج أحمد بما روى الحكم بن عمرو, أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يتوضأ الرجل بفضل طهور المرأة. وهذا غلط لما روى ابن عباس عن ميمونة قالت: أجنبت فاغتسلت في جفنة, ففضلت فيها فضلة, فجاء النبي صلى الله عليه وسلم يغتسل منه, فقلت: إني اغتسلت منه, فقال: "الماء ليس عليه جنابة" واغتسل منه. وروي عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنه قال: كان الرجال والنساء يتوضؤون في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد. وأراد ما روى أنه كان إذ على ذاك على رأس المنبر حجر محفور مثل المهراس يجعل فيه الماء ويتطهر منه الرجال والنساء قبل نزول آية الحجاب. وروي من الجنابة كان يقول: "ابقي لي وأنا أقول:

أبقي لي" وكان صورة الحال أنه كان بينهما سترة وتصل يد كل واحد منهما إلى الإناء. واحتج الشافعي في أول هذا الباب بحديث أنس بن مالك وتمامة أنه قال أذن بلال يومًا, فرجع رجال إلى دورهم وبقي رجال في المسجد لا يأوون إلى أهل, فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء يعني [136 أ/ 1] إناء فجعلوا يشربون إليه فقال: "ما لهم" فقيل: لا ماء معهم, فوضع يده في الإناء حتى رأيته يثني أصابعه من ضيق الإناء, وقال لهم: "هلموا إلى الوضوء المبارك" فرأيت الماء ينبع من تحت أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى توضأ الناس من عند آخرهم فقيل له: كم كانوا؟ فقالوا: ما بين السبعين إلى ثمانين. ومعلوم أنهم توضئوا واحدًا بعد واحد, فحصل وضوء بعضهم من فضل بعض. وأما الخبر الذي احتج به, قال محمد بن إسماعيل البخاري: هذا الخبر لا يصح وهو موقوف, ومن رفعه فقد أخطأ, ثم يحتمل أنه كان فسخ بخبرنا بدليل أن ميمونة قالت: فقلت: "إني قد اغتسلت منه" وهذا يدل على مقدم النهي, أو يحمل على ما استعملته, وسأل عن أعضائها, ثم ذكر الشافعي الأخبار الدالة على أن بدن الحائض طاهر, فلا يجوز أن يصير الماء الفاضل عنها مهجورًا. والمسألة الثانية: أنه لا حد لأقل ما يجوز التوضئ به والغسل من الماء. وقال في"الأم": أقل ما يكفي فيما أمر بغسله أن يأخذ الماء ثم يجزيه عليه والمستحب أن لا ينقص في غسله عن صاع, وفي وضوئه عن مد, فإن أمكن بدون ذلك جاز فقد يرفق بالقليل فيكفي ويخرق بالقليل فلا يكفي ويختلف ذلك باختلاف الأبدان".وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع. وروي عن [136 ب/ 1] جابر- رضي الله عنه- أنه سئل عن الغسل فقال: يكفيك صاع. فقال رجل: ما يكفيني, فقال جابر: قد كان يكفي من كان خيرًا منك وأوفر منك شعرًا. وروي البخاري عن عائشة رضي الله عنها- أنها قالت: "كنت اغتسل أنا ورسوله الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد من قدح يقال له الفرق". قال الشافعي في "الأم" والفرق ثلاثة آصع [يكون ستة عشر رطلاً، وحكي عن محمد أنه قال: لا يمكن المغتسل أن يعم

باب التيمم

جميع بدنه بما] قل عن صاع, ولا المتوضئ أن يسبغ أعضاء وضوءه بأقل من مد. ويحكى هذا عن أبي حنيفة. وهذا غلط لما روى عن عبد الله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بثلثي مد وقالت أم عمار: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بإناء فيه ثلثا مد فتوضأ به. وروى أنه كان يتوضأ بما لا يبل الثري من تحته، وهذا إشارة إلى رفقه واستغلاله. وروى أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بنصف مد. وروى عن عبد الرحمن بن أبي لبيئة سمع سعيد بن المسيب, ورجل من أهل العراق يسأله عما يكفي الإنسان من غسل الجنابة, فقال سعيد: إن لي نورًا يسع مدين من ماء أو نحو ذلك, فأغتسل به فيكفيني مني فضل, فقال الرجل: إني لأستنثر أتمضمض بمدين من الماء, فقال له سعيد: فما تأمرني إن [137 أ/ 1] كان الشيطان يلعب بك؟ فقال الرجل: فكم يكفيني؟ فإني رجل كما ترى عظيم, فقال له سعيد: ثلاثة أمداد. فقال: إن ثلاثة أمداد قليل, فقال له سعيد: فصاع, فقل سعيد: إن لي لركوة وقدحًا ما يسع إلا نصف مد أو نحوه, ثم أبول فأتوضأ منه وأفضل فضلاً, فقال عبد الرحمن: فذكرت هذا الحديث الذي سمعته من سعيد بن المسيب لسليمان بن يسار فقال لي سليمان: وأنا مثل ذلك, فذكرت ذلك لأبي عبيدة بن عمار وياسر فقالوا: هكذا سمعنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال بعض أصحابنا: صاع الجنابة ثمانية أرطال وثلث, والمد رطل وثلث. باب التيمم قال: قال الله تعالى: {وإن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنكُم مِّنَ الغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [النساء:43] الآية. وهذا كما قال, وجملة ذلك أن التيمم في اللغة: هو القصد فقال: تيممت ثلاثًا: أي قصدته, وكان ابن مسعود- رضي الله عنه- يقرأ فأتوا صعيدًا طيبًا. وقال الشافعي: في "الأم": ولا ينفع اسم الصعيد إلا على تراب ذي غبار. وقال بعض المفسرين: يقع على التراب وعلى وجه الأرض, وعلى الطريق, والأول أشبه؛ لأن أهل التفسير قالوا في قوله تعالى: {فتصبح صعيدًا [137 ب/ 1] زلقًا} [الكهف: 40] أي ترابًا أملس وقوله: {طيبًا} أي طاهرًا, وقال سفيان: أراد حلالاً, والأول أشبه, والأصل في التيمم ما روى عن عائشة- رضي الله عنها- قالت: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فافتقدت عقدًا لي من جزع ظفار, فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحتبس على ليلته لأطلب عقدي, فاحتبس فأصبح الناس على غير ماء وليس معهم ماء, فأتوا أبا بكر يشكونني فدخل علي ابو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم نائم ورأسه في حجر فقال: يا لكاع حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم

فأوحى إليه فلما سرى عنه الوحي تلا هذه الآية قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ} إلى قوله {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء:43] الآية فخرج يقرأ على الناس: فتيمموا وصلوا. وجعلوا يهنون أبا بكر, ويقولون: ما أعظم بركتكم يا آل أبي بكر ما نزلت بكم نازلة إلا كان للمسلمين فيها فسحة. واعلم أن التيمم في الشرع: هو عبارة عما جعل بدلاً عن الوضوء, والغسل وهو مسح الوجه واليدين بالتراب, وسمي تيممًا لأن القصد فيه إلى التراب شرط، ولا خلاف بين الأمة في جواز التيمم في الجملة, وأنه [138 أ/ 1] يستوي فيه الجنب والمحدث, وأنه على الوجه واليدين وحدهما, إلا أنهم اختلفوا في مقدار ما يلزمه من مسح اليدين, فقال مالك: تمسح اليدين إلى الكوعين. وبه قال ابن مسعود, وابن عباس, وعكرمة, ومكحول, والأوزاعي, وأحمد, وإسحاق, وداود, وابن جرير الطبري. ورواه أصحابنا عن علي- رضي الله عنه- وقالوا: لا يصح عن مالك هذا المذهب. وحكي عن الشافعي أنه قال في "القديم" رواه أبو ثور, وقال أصابنا: منصوصة في:"القديم كله" خلاف هذا, ولا يصح هذا غير الشافعي فالمسألة على قول واحد, وقيل فيه قولان وليس بشيء. وقال الزعفراني: جعله الشافعي في "القديم" موقوفًا على صحة حديث عمار, وهو أنه قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك على الأرض فتمسح بهما وجهك وكفيك". وقد روى عنه خلافه ويديه إلى المرفقين والزيادة أولى. وقال الزهري: يمسح يديه إلى الإبطين والمنكبين وقال ابن سيرين: يضرب ثلاثة ضربات ضربة لوجهه, وضربة لكفيه, وضربة لذراعيه. وروى عن الأوزاعي, وسعيد بن المسيب, وأحمد، وإسحاق: يضرب ضربة واحدة لوجهه, وكفيه. وعندنا يضرب ضربة لوجهه, وضربة لليدين إلى المرفقين وبه قال عمرو ابن عمر, وجابر, وعلي في رواية- رضي الله عنهم- والحسن [138 ب/ 1] ولبشعبي, والليث, والثوري, وأبو حنيفة, وأصحابه. والدليل عليه ما روى أبو أمامة الباهلي- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التيمم ضربتان للوجه, وضربة لليدين إلى المرفقين". وروي أنه صلى الله عليه وسلم تيمم فمسح وجهه وذراعيه. ولأنه طهارة عن حدث فيتقدر فرض اليدين فيها إلى المرفقين, كالوضوء, أو عضو له مدخل في التيمم

فيؤتى به على ما يؤتى في الوضوء ظاهرًا كالوجه. وقال الشافعي: ومعقول إذا كان بدًلا من الوضوء على الوجه واليدين, أن يؤتى بالتيمم على ما يؤتى بالوضوء عليه, أي: هو بدل على محل الفرص من الوجه واليدين, بخلاف المسح على الخفين فإنه على سائر المحل, لا على نفس المحل. واحتجوا بما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم "تيمم فمسح وجهه وكفيه" ولأن مطلق اليد منصرف إلى الكوع, بدليل قوله تعالي: {فاقطعوا أيديهما} [المائدة:38] وقوله صلى الله عليه وسلم: "في اليدين الدية" فأراد إلى الكوع. قلنا: أراد به اليدين إلى المرفقين, والعرب تسمى الشيء باسم بعضه. وأما القياس فلا يصح لأن ها هنا, تقدم ذكر المرفقين في الوضوء, وأطلق في التيمم, فيحمل المطلق على المقيد, أو بين رسول الله صلى الله عليه وسلم مقداره هنا وفي السرقة قدر بالكوع, وفي الدية الحكم للأصابع والكف تابع بخلاف هذا, [139 أ/ 1] ثم قياس العبادة على العبادة, والطهارة على الطهارة أولى لأنها أقرب وأحوط. واحتج الزهري بما روى عن عمار بن ياسر أنه لما نزلت آية التيمم ضربوا أيديهم في أرض ومسحوا وجوههم وأيديهم إلى المناكب. وهذا لا يصح لأن هذا فعلهم وخبرنا قول النبي صلى الله عليه وسلم, فكان أولي أو صار ذلك منسوخًا بخبرنا. مسألة: قال: "والتيمم أن يضرب بيديه على الصعيد". الفصل وهذا كما قال. والكلام الآية في الممسوح به وما يجوز به التيمم, واختلف الناس فيه على ستة مذاهب, فقال الشافعي: لا يجوز التيمم إلا بالتراب. فأما بغيره من النورة والزرنيخ والكحل والرمل الذي هو دقاق الحجر لا يجوز. وبه قال أحمد, وداود. وقال أبو حنيفة: يجوز التيمم بكل ما هو من جنس الأرض من التراب والكحل والزرنيخ والصعيد وجه الأرض, ولا يجوز بسحالة الذهب والفضة والنحاس. قال: وليس من شرط التيمم أن تعلق باليد شيء حتى لو ضرب يده على صخرة صماء فإنه يجوز, وبه قال مالك, وخالفه في ذلك أبو يوسف, ومحمد, وعندنا لابد وأن تعلق باليد منه غبار, وقال مالك: يجوز التيمم بالأرض وبكل ما يتصل بها سواء كان من جنسها أو من غير جنسها, حتى أنه يجوز بالذريرة ونحو ذلك, هكذا روى عنه أبو حامد, وروي عنه مثل قول أبي حنيفة [139 أ/ 1] إلا أنه زاد فقال: يجوز بالثلج, وقال الثوري, والأوزاعي: يجوز التيمم بالأرض وبكل ما عليها سواء كان متصلاً بها أو غير متصل كالبلح ونحوه. وقال أبو يوسف: يجوز بالتراب والرمل خاصة. وقال ابن عباس- رضي الله عنه- "لا يجوز إلا بالتراب العذب تراب الحرث" وبه قال إسحاق ابن راهوية وهذا كله غلط لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "جعلت لي الأرض مسجدًا وترابها طهورًا " فخص

التراب, ولأنه ليس بأصل خلقة البشر فأشبه سحالة الذهب, والدليل على إسحاق أن النبي صلى الله عليه وسلم: "تيمم من أرض المدينة وهي أرض سبخة". واحتجوا بما روي أبو هريرة- رضي الله عنه- أن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إنا نكون بأرض الرمل, فتصيبنا الجنابة والحيض والنفاس, ولا نجد أربعة أشهر أو خمسة أشهر, فقال النبي صلى الله عليه وسلم"عليكم بالأرض" قلنا: رواه المثنى من صباح وهو ضعيف ثم يحمله على رمل يخالطه تراب؛ لأن العرب لا يقيمون في أرض لا نبات فيها, والرمل لا ينب إلا ومعه التراب. فإذا تقرر هذا, فقد ذكر الشافعي أنواع التراب التي يجوز التيمم بها. فقال: " من كل أرض سبخها ومدرها وبطحائها" والسبخ أرض ملح لا تنبت. والمدر: هو ما جف من طين التراب طيب منبت, والبطحاء: السهل [140 أ/ 1] من الأرض من مجاري وسيول. وهذا إذا كان هناك تراب تعلق باليد غباره, فإنه لم يكن دق ذلك المكان بشيء حتى يصير ترابًا تعلق باليد غباره. وقال في "الأم": "والبطحاء الغليظة والدقيقة لا يجوز التيمم" بها وأراد به الصلبة التي لا تراب فيها. وأما الدليل: قال في"الأم": "والكثيب الغليظ لا يقع عليه اسم الصعيد فإن تيمم به جاز" فمن أصحابنا من قال في جواز التيمم بالرمل قولان. قال ابن أحمد, ومنهم من قال وهو الصحيح: لا يجوز التيمم به قةلاً واحدًا كما قال في "الأم". وأراد بما قال في "القديم": إذا خالطه تراب ولم يكن دقاق الحجر خالصًا, ويجوز بتراب الحمأة, والحمأة: المتغيرة الرائحة, وهي طين خلق منتنًا, فإذا جفت وسحقت فإنه يصير ترابًا, ولا يجوز بالطين الرطب لعدم غباره. وحكي ابن وهب عن مالك أنه يجوز بناء على أن استعمال التراب في العضو لا يشترط عنده, وربنا يوافقه أبو حنيفة. قال الشافعي في "الأم": ولا يتيمم بالسبخة الثرية وهي الندية بالماء, وهي بالثاء المثلثة, تقول العرب: التقى الثريان إذا التقاء ماء السماء, وماء الأرض. وقال الشيخ أبو حامد في المدرس التربة أو الندية, وهو مصحف وهذا لأنها كالطين لا غبار لها, فإن لم يجد غيره استجفه على بعض أداته وجسده, فإذا جف حثه ثم تيمم به, فإن خاف فوت الوقت. قال الشافعي: صلى, ثم [140 ب/ 1] إذا جف الطين تيمم وأعاد الصلاة, ولا يعتد بصلاة صلاها بلا وضوء ولا تيمم وروى عكرمة, عن ابن عباس- رضي الله عنه- أنه سئل عن رجل في طين لا يستطيع أن يخرج منه فقال: يأخذ من الطين فيطلى به بعض جسده فإذا جف تيمم به.

فرع قال في "الأم": وإذا أحال التراب لصنعه فقلبه عن أن يقع عليه اسم صعيد فتيمم به لم يجز, مثل الفضة يريد بها النورة, أو يجعل أجرًا أو فخارًا فيدق ونحو هذا, ولو خرط المرمر حتى يكون غبارًا لم يجز التيمم به, وكذلك القوارير تسحق واللؤلؤ وغيره, والمسك والكافور كذلك, فإن دق الكذان فتيمم به لم يجز, وهو حجر رجو يصير بالدق كالتراب. فرع آخر الجص إن كان محرقًا لم يجز التيمم بترابه؛ لأن النار غيرته, وإن لم يكن محرقًا فإنه يجوز, وكذلك الاسفيداج إذا كان له غبار, إلا أن يكون معدنًا في الأرض وليس منها, فلا يجوز, ولا يجوز بالرخام والملح بحال ذكره في "الحاوي". فرع آخر الطين الأرمني الصلب الذي يؤكل للدواء يتيمم بترابه جاز. قال بعض أصحابنا: أراد به إذا لم يطبخ, فإن كان مطبوخًا لا يجوز, وكذلك الطين الذي يحمل من خراسان ويؤكل تسفهًا إن لم يكن مطبوخًا يجوز التيمم بترابه, وإن كان مطبوخًا, قال بعض أصحابنا: لا يجوز التيمم [141 أ/ 1] بترابه؛ لأنه دخلته الصنعة فهو كالأجر. وقال المحققون من أصحابنا: يجوز التيمم بترابه وإن كان مطبوخًا, لأن اسم الطين والتراب لم يزل عنه, وهذا هو الصحيح. وقطع القاضي الطبري به, ويجوز التيمم من الأرض الأحمر, والأسود والأصفر, والأبيض. فرع آخر لو ضرب يده على بعض ثيابه فعلق منه غبار جاز تيممه, ولا فرق بين الأرض والثوب في ذلك. وقال أبو يوسف: لا يجوز. وحكى هذا عن مالك, وهو وجه بعض أصحابنا. وهذا غلط لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب بيده على حائط من حيطان المدينة وتيمم. فدل أنه لا يشترط ضربه على الأرض, ولأن المقصود: هو التراب الذي تعلق بيده, وقد حصل. فرع آخر لو وضع وجهه على التراب ومعكه فيه ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز, لأنه مأمور بالمسح. والمسح يكون باليد. والثاني: يجوز, لأن القصد وجد والآلة لا يعتبر, وهذا أصح عندي ونص عليه فيه الآية.

فرع آخر لو أخذ الغبار من مهب الريح ومسح به وجهه ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأن القصد وجد, والتعبد في الأخذ والاستعمال لا في المحل الذي يؤخذ منه التراب. والثاني: لا يجوز لأنه لو جاز بالتراب الذي يأخذه من الهواء لكان إذا وصل إليه بالوقوف مع النية من مهب الريح يكفي, والأول أصح عندي. فرع لو ضرب بيده على ظهر حيوان [141 ب/ 1] فإن كان طاهر العين يجوز, وإن كان كلبَا فإن علم أنه أصابه وهو يابس يجوز, وإن كان علم أنه كان رطبًا لا يجوز, وإن لم يعلم الحال, وفيه وجهان: أحدهما: يجوز, لأن الأصل طهارة التراب. والثاني: لا يجوز, لأن الظاهر إن ما صحبه نجس, والأول أصح عندي. فرع آخر لو ضرب على بشرة امرأة، فإن كان التراب كثيرًا يمنع وصول يده إلى بشرتها جاز, وإن كان قليلاً فأخذ التراب لوجهه صح, ثم أخذ التراب ليديه بطل مسح الوجه؛ لأن لمسها حدث, وإن حصل في الأول اصطكاك البشرتين لا يجوز التيمم أصلاً؛ لأن الحدث طرئ بعد القصد إلى التراب فلا يصح التيمم به. فرع لا يجوز التيمم بتراب نجس, ولا فرق بين أن يكون النجس كثيرًا والتراب يسيرًا, أو النجس يسيرًا والتراب كثيرًا, وليس كالماء الكثير, لأن للماء قوة في دفع النجاسة. وحكي عن داود أنه قال: إن غير رائحة الماء لم يجز, وإن لم يغير جاز, واعتبره بالماء وهذا غلط لقوله تعالى: {فتيمموا صعيدًا طيبًا} [النساء: 43] ولم يرد به ما يستطاب لأنه لا يستطاب, فثبت أنه أراد الطاهر الحلال. فرع آخر قال في "الأم": "ولا يتيمم بتراب المقابر لاختلاطه بصديد الموتى ولحومهم" وجملة هذا أن المقبرة, إن كانت منبوشة قد يكرر نبشها فلا يجوز التيمم بترابها لما ذكر من العلة, وإن لم [142 أ/ 1] يكن تكرر نبشها فإنه يجوز التيمم بترابها, إن شك فيها ففيه وجهان بناء على القولين في الصلاة فيها إذا كانت مشكوكًا فيها: أحدها: لا يجوز لأن الظاهر نبشها, والثاني: يجوز, لأن الأصل الطهارة.

فرع آخر قال في "الأم": لو أصابته نجاسة ذائبة فطهارته بأن يصب عليه الماء حتى يغمره وظاهر هذا أنه لا يطهر بالشمس ومرور الزمان, وقد ذكرنا فيما تقدم قوًلا آخر, فمن أصحابنا من قال فيه قولان, ومنهم من قال: إنه لا يطهر قولاً واحدًا, وتأويل ما قال في "الإملاء" أنه إذا مضت السنون وجاءت الأمطار عليها, وهذا لأن قوله لا يختلف في النار أنها لا تطهر, فكيف الشمس وهذا التأويل لا يساعد لفظ الإملاء. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: فتطهر فيصلي عليها ولا يتيمم بترابها وهذه مناقضة. فرع لو اختلط بالتراب دقيق أو رماد أو غير ذلك من الطاهرات, فإن كان كثيرًا غلب على التراب وغير لونه أو طعمه أو ريحه فلا يجوز التيمم به, وإن كان مغلوبًا ولم تغير من التراب شيئًا. قال عامة أصحابنا: لا يجوز التيمم به, وهو ظاهر نصه. وقال أبو إسحاق: يجوز التيمم به كالماء إذا خالطه طاهر ولم يغيره, وهذا لا يصح, والفرق أن الدقيق إذا أصاب موضعًا يمنع وصول التراب إليه, والمانع غير الماء إذا أصاب موضعًا لا يمنع [142 ب/ 1] وصول الماء إليه فافترقا, ولهذا لا ينجس الماء الكثير بوقوع النجاسة فيه بخلاف التراب. فرع آخر لو اختلط التراب بماء الورد فتغيرت رائحته به ثم جف يجوز التيمم به, لأن بالجفاف عدم ماء الورد ونفي رائحة المجاورة. ذكره القاضي الطبري وهو على ما قاله صحيح. فرع آخر التيمم بتراب مستعمل, هل يجوز, قال أصحابنا: ينظر فيه, فإن تيمم من بقعة واحدة هو وغيره يجوز بلا إشكال, لأن ما أبقى لم يزل يتيمم به فهو كبقية الماء في الإناء. وأما ما يسقط فهو من أعضاؤه ويتناثر منه, فالمنصوص في "الأم" أنه مستعمل وهو اختيار القفال وجماعة. وقال بعض أصحابنا: هذا غير مستعمل فيجوز التيمم به, لأن المستعمل هو الباقي على العضو. وأما الساقط فإنه لم يلاق العضو, وإنما لاقى ما لاقى العضو, وقيل: فيه وجهان ولا معنى له مع النص الذي ذكرنا, ولفظه في "الأم", وإن علق بيديه شيء كثير فمسح به وجهه لم يجز أن يأخذ ما على وجهه فيمسح به ذراعيه. وقال أصحاب أبي حنيفة: يجوز استعمال المستعمل من التراب؛ لأنه لا يرفع الحدث. بخلاف الماء. وهذا غلط, لأنه ارتفع به المنع من الصلاة, فأدى به فرض الطهارة, فلا يجوز أداء الفرض به ثانيًا.

فرع آخر قال في "الأم": "ولو أخذ التراب من رأسه أو غير ذلك من بدنه فأمره على وجهه جاز؛ لأنه غير [143 أ/ 1] مستعمل كما لو أخذ من ثوبه. مسألة: قال: " وينوي بالتيمم الفريضة". وهذا كما قال النية هي شرط صحة التيمم, وينوي استباحة الصلاة على ذكرنا, ثم إن نوى استباحة النوافل يصلي ما شاء منهما بخلاف الفرائض؛ لأن الفرائض محصورة, فالأمر بالتيمم لكل واحدة منها لا يؤدي إلى المشقة, والنوافل غير محصورة بالأمر التيمم لكل واحدة منها يؤدي إلى المشقة, وإلى أن يترك الناس النوافل. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قول مخرج أنه لا يصح التيمم لاستباحة النفل أصلاً؛ لأنه لا ضرورة إليه, وقال الشافعي: "وينوي بالتيمم الفريضة" ومعناه فريضة الصلاة, وهذا هو نظير المغصوب إذا استأجر رجلاً لحجة التطوع, هل يجوز؟ فيه قولان, ولا يجوز له أداء شيء من الفرائص به؛ لأن النوافل لا تستبيح الفريضة قولاً واحدًا. وقال أصحابنا بخراسان: فيه قولان أحدهما: هذا, والثاني: نص عليه في الإملاء يجوز له أداء الفريضة به, ذكره أبو يعقوب الأبيوردي, ولم يذكر أصحابنا بالعراق هذا النص أصلاً. فرع لو نوى به أداء صلاة فريضة وعينها يجوز له أن يؤديها, وما شاء من النوافل، وفيه وجه أنه لا يجوز أداء النوافل بها وليس بشيء. فرع آخر هل له أن ينتفل قبل أداء الفريضة. قال في " الأم" له ذلك وقال في "البويطي" [143 ب/ 1]: لا يتنفل قبلها ويتنفل بعدها, وبه قال مالك وأحمد, لأن التابع لا يسبق المتبوع, كالعصر لا تسبق الظهر عند الجميع في وقت الظهر, وهذا غلط, لأنها تتبعها في الاستبحة لا في الفعل, ولو كانت تتبع في الفعل لوجب أن يكون عقيب الفريضة خاصة, ولأن ركعتي الفجر تسبق صلاة الصبح وهي تابعة؛ فانتفض ما قاله: ولو نوى به أداء الفريضة والنافلة يجوز له أن يتنفل قبل الفريضة وبعدها قولاً واحدًا. فرع آخر لو نوى به رفع الحدث أو الطهارة عن الحدث فيه وجهان: أحدهما: لا يصح؛ لأنه يرفع الحدث وهو الأظهر. والثاني: يصح, لأن نية رفع الحدث تتضمن استباحة والتيمم مبيح الصلاة, وإن لم يرفع الحدث.

وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: التيمم يرفع الحدث كالوضوء فتجوز هذه النية. فرع آخر لو نوى به استباحة الصلاة مطلقًا فإنه يستبيح النوافل، ويستبيح به أيضًا المصحف، وقراءة القرآن، ووطء الحائض؛ لأن النافلة هي أكد من كلها. وبه قال مالك، وأحمد، ومن أصحابنا من قال هذا إذا قلنا يصح التيمم لصلاة النفل، فإن قلنا لا يصح التيمم لها، فيه وجهان بناء على ما لو نذر أن يصلي كم يلزمه من الصلاة؟ فيه قولان: أحدها: يلزمه ركعتان لأنه أقل من الفرض. والثاني: [144 أ/ 1] يلزمه ركعة، لأنه أقل ما يتقرب به، فإن حملنا على ركعتين يصح تيممه، وإن حملنا على ركعة لا يصح تيممه، لأنا حملناه على التطوع وذلك لا يصح ههنا، ولو نوى مس المصحف، أو نوى به الجنب قراءة القرآن يصلي به فرضًا، لأنه لم يقصره، وهل يجوز له أن يصلي به النفل؟ فيه وجهان: أحدها: يجزيه، لأن النفل لا يفتقر إلى تعيين النية له. الثاني: لا يجزيه، لأن نفل الصلاة هو أوكد بما يتيمم له، فلا يستبحه بالتيمم لما هو أخف منه ويستبيح به ما نوى. ومن أصحابنا من قال: التيمم لمس المصحف وحمله يجوز إن كان محتاجًا إليه، فإن لم يكن معه في السفر من يحمله، وإن لم يكن محتاجًا إليه، هل يجوز؟ فيه وجهان والمشهور جوازه. وعند أبي حنيفة: إذا تيمم بنية الصلاة مطلقًا أو مس المصحف يجوز له أن يصلي به الفرض أيضًا، وهو قول مخرج لنا. فرع آخر لو نوى به أداء صلاة فريضة ولم يعينها، نص الشافعي أنه يجوز، لأنه قال: "وينوي بالتيمم الفريضة "ولم يشترط التعيين. وقال في "البويطي ": لو تيمم ونوى لمكتوبتين لم تجز إلا الصلاة واحدة، فلو كان التعيين شرطًا لم يجزه لواحدة منهما لأنها لا تتعين. وقال في "الأم " [144 ب/ 1]: لو تيمم لصلاتي فرضي وصلاهما صحت الأولى دون الثانية. ومن أصحابنا من قال: يلزمه التعيين وهو اختيار أبي إسحاق؛ لأنه لما وجب نية الفرض وجب التعيين كالصلاة، وهذا غلط لأن الأحداث الموجبة للطهارة لا تحتاج إلى تعيينها، لأن الجنب لو نسى الجنابة فتيمم للحدث يجوز، فلم يفتقر إلى تعيين المستباح أيضًا، ويخالف الصلاة لأنها تحتاج إلى تعيين الفرض من النزر، فاحتاجت إلى تعيين الفعل، فعلى هذا إذا نوى صلاة. بعينها له أن يصلي غيرها. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا تيمم لمكتوبتين لا يجوز التيمم أصلًا لشيء منها وجهًا واحدًا، وهو خلاف النص الذي ذكرنا وليس بشيء. فرع آخر لو نوى تيممه تيممًا فرضًا هل يصح تيممه؟ قال القفال: فيه وجهان:

أحدهما: يجوز لظاهر قوله: وينوي بالتيمم الفريضة. والثاني: لا يجوز وتأويل اللفظ: وينوي بالتيمم الصلاة المفروضة. وقيل: لم يقل الشافعي ذه اللفظة، وإنما قالها المزني. فإذا قلنا: يجوز فكأنه لم يزد على استباحة أقل الأمرين، وهو النفل، وهل يصلي به الفرض على ما ذكرنا. فرع آخر قال ابن الحداد: لو تيمم للفائتة فلم يصلها حتى دخل وقت الفريضة له أن يصلي صلاة الوقت به، وهذا إذا قلنا: لا يجب تعيين النية. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز؛ لأنه يؤدي إلى [145 أ/ 1] التيمم للفريضة قبل دخول وقتها، وعندنا لا يجوز ذلك، ويمكن أن يجاب، فإنه تيمم للفريضة قبل دخول وقتها فقد تيمم وهو مستغن عن التيمم لها فلا يجوز، وههنا كان محتاجًا إلى التيمم للفريضة الفائتة، فجاز أداء فريضة أخرى به. فرع آخر قال ابن الحداد: ولو تيمم لصلاة الفريضة بعد دخول وقتها ثم تذكرنا فائتة، فأراد أن يؤديها به فإنه يجوز أيضًا. قال القفال: هذا صحيح والصحيح في الفرع الذي تقدمه ما قال ابن الحداد أيضًا، ولا معنى للوجه الآخر، ولا يصح الفرق بين المسألتين؛ لأن الفائتة قبل التذكر كصلاة الوقت قبل دخول الوقت، بدليل أنه لا يجوز التيمم للفائتة قبل التذكر، كما لا يجوز التيمم مثل دخول الوقت لصلاة الوقت، فكما جاز أداء الفائتة إذا تذكرها بتيمم نوى به فريضة الوقت، جاز أداء صلاة الوقت بتيمم نوى به صلاة الفائتة قبل وقت الحاضرة ولا فرق. فرع آخر لو تيمم للفريضة بعد دخول وقتها ثم نذر الصلاة ففي جواز أدائها بذلك التيمم بدلًا من المنوية وجهان: أحدهما: لا يجوز لأنه سبق وقت النذر. والثاني: يجوز وأصله ما ذكر أصحابنا فيمن تيمم لصلاة الفائتة فقبل أن يصليها دخل وقت الحاضرة، هل له أداؤها بذلك التيمم؟ وجهان. فرع آخر لو ضرب يده على التراب ليمسح به [145 ب/ 1] وجهه، فقبل أن يصلي إلى وجهه أحدث، ثم مسح وجهه بذلك التراب لا يصح، لأن القصد إلى التراب هو كالنية، فلا يجوز أن يتقدمه بخلاف ما لو أخذها من الماء ليغسل به وجهه، ثم أحدث، ثم غسل به وجهه جاز، لأن القصد إلى الماء لا يجب، ذكره الإمام الحسين رحمه الله. فرع آخر لو كانت يده ملطخة بالدم وجف ذلك على يده، فضرب يده على التراب ومسح به

وجهه جاز، لأن التراب (طاهر) لم يخلطه بنجاسة. فرع آخر نية الجنب، والمحدث، والحائض، والنفساء في التيمم سواء، ولو تيمم قبل البلوغ ينوي به صلاة الفريضة، ثم بلغ هل يصلي به الفريضة؟ قال أهل العراق: لا يجوز له أن يصلي به الفريضة؛ لأنه غير ملتزم الفرض قبل بلوغه، وقال القفال: فيه وجهان. مسألة: قال: "وَالتَّيمُّم أَنْ يَضْرِبَ بِيَدَيْهِ عَلَى التُّرَابِ ". الفصل وهذا كما قال. الكلام الآن في كيفية التيمم، وفيه فصلان: أحدهما: في الجائز. والثاني: في الأفضل. فأما الجائز فهو أن يمر التراب على موضع الغسل من وجهه ويديه إلى المرفقين إلا البشرة التي هي تحت الشعر، فإنه لا يجب إمرار التراب عليها، ويجزيه إمرار التراب على ذلك الشعر بخلاف الوضوء، لأن ذلك يشق، والمامور في المسح لا الغسل، ولا فرق في بين الضربة والضربتين والثلاث، ولا بين أن يضرب [146 أ/ 1] بإحدى يديه أو بإحدى رجليه مثلًا، أو بغير ذلك من بدنه أو يدني وجهه من الأرض، لأن الواجب هو إيصال الطهور إلى مواضعه نص عليه في "الأم ". قال أصحابنا: وعلى هذا لو أخذ التراب بخشبة وأمرها على العضوين يجوز ولو يممه غيره نص في "الأم "أنه يجوز. وقال ابن أبي أحمد في. "التخليص": لا يجوز تحريجًا، وهذا غلط لأنه يجوز أن يوضئه غيره فكذلك التيمم. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان وهو غلط، ولو كان أقطع اليدين فلم يجد من ييممه، فإن قدر على أن يلوث خديه بالتراب، أو يأخذ برجله ويمسح به وجهه فعل وأجزأه، فإن لم يقدر عليه لوث منه ما قدر وصلى، وأعاد متى قدر على وضوء أو تيمم؛ لأنه عذر نادر. وأما لأفضل فالمستحب بعد النية والتسمية أن يضرب ضربتين، ضربة للوجه وضربة لليدين، ويستحب أن لا يزيد على ضربتين، ووصف الشافعي كيف يمكن مسح الوجه واليدين بضربتين في "الأم "وفيما نقله المزني، فالذي قال في "الأم "هو أن يضرب ضربة ويمسح بها وجهه، ثم يضرب ضربة أخرى ويضع ظهر كفه اليمنى في بطن كفه اليسرى فيمرها على ظهور أصابع يده اليمنى والإبهام معرض، فإذا انتهى إلى الكوع قبض بأصابعه وبطن كفه على ظهر الذراع، وبإبهامه على بطن الذراع فيمرها على هيئتها على أن يدخل المرفق في المسح، فإن [146 ب/ 1] بقي شيء من يده لم يمر عليه لغلظ ساعد أو غير ذلك أمر يده عليه قبل أن ينفصل إحدى اليدين عن

الأخرى، ليكون استعماله واحدًا، ثم يصنع بالأخرى مثل ما صنع باليمنى ويجزيه، والذي نقله المزني وهو الصحيح أن يضرب على التراب ضربة للوجه، ثم يضرب ضربة ويمسح ذراعه اليمنى واليسرى، فيضع كفه اليسرى على ظهر كفه اليمنى وأصابعها، وإنا قال: يضع كفه اليسرى ولم يقل يضع كفه اليمنى؛ لأن اليسرى هي العاملة في اليمنى، وأصحابنا يقولون: يضع ظهور أصابعه اليمنى على بطون أصابعه اليسرى والإبهام، وهو مراد الشافعي، وإنما يضع بطون أصابع كفه اليسرى على ظهور أصابع كفه اليمنى، لأنه يحتاج إلى التراب الذي على باطن راحته اليسرى لبطن ذراعه اليمنى، ثم يمرها على ظهر ذراعه اليمنى إلى مرفقه، ثم يدير كفه إلى باطن الذراع، ثم يقبل بها إلى كوعه وبطن غبهامه اليسرى بحاله، ثم يمره على شيء فيمره على ظاهر إبهامه، فإن بقي موضع لم يمر التراب عليه أمر يده عليه قبل أن يفصل عن يده اليمنى، فإذا فعل ذلك فقط سقط فرض يده اليمنى وفرض بطن كفه اليسرى، ثم يصنع بيده اليسرى ما صنعه باليمنى ويسمح إحدى الراحتين بالأخرى، ويخلل أصابعهما حتى إن بقي موضع لم يصل إليه التراب أو وصل [147 أ/ 1] إليه. الكوع: هو العظم الناتئ الذي يلي الإبهام. والكرسوع: هو العظم الناتئ الذي يلي الجانب الآخر الذي فيه الخنصر. ومن أصحابنا من قال: يبدأ في التيمم بأسفل وجهه ثم يستعلى لأن الماء في الوضوء إذا استعلى به تحدر بطبعه، فعم جميع وجهه، والتراب لا يجري على الوجه إلا بإمراره باليد، فيبدأ بأسفل وجهه ليقل ما يحصل في أعلاه من الغبار ليكون أحمد وأسلم لعينه، وعامة الأصحاب لم يفرقوا هكذا، وإنما لم يؤمر بمسح الرأس والرجلين فيه؛ لأن في مسح الرأس بالتراب مضاهاة لأرباب المصائب، والرجلان لا تخلوا التراب منما في السفر غالبًا. فرع مسح إحدى الراحتين بالأخرى هل يجب أو يستحب؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: يستحب ولا يجب؛ لأنه حين ضرب يديه على الأرض في المرة الثانية وصل الطهور إلى محله بقصده، والنية موجودة، والوقت وقت أداء فرضه لفراغه عما قبله، فلا وجه لأن لا يسقط فرضه، إلا أنا أبحنا أن نمسح بذلك التراب ذراعه الأخرى للحاجة، ولم يجعله مستعملًا أو لا يمكنه أن يمسح الذراع من يد بكف اليد بخلاف الماء، فإنه يمكنه أن يقلب من كفه على ذراع تلك اليد، فقلنا: لا يجوز أن يستعمل ما رفع الحدث عن كفه في اليد الأخرى، ومنهم من قال: يجب لأنه حين ضرب يده [147 ب/ 1] على الأرض لم يؤد به فرض الكف، إذ لو أدى لصار التراب مستعملًا، فلا يصلح لاستعماله في يده الأخرى، لأنه لابد من انفصال الغبار عن اليد، والطهور إذا وصل إلى العضو وسقط به الفرض والفضل كان مستعملًا لا محالة، فحكمنا ببقاء فرض الكف حتى لا يكون التراب مستعملًا حين يمسح به ذراعه، وبمسح الذارع لا يسقط الفرض في الكف؛ لأنه آلة في العمل فيمسح إحدى الراحتين في الأخرى بعد الفراغ

من مسح (الذراعين) ببقية الغبرة الباقية عليها وسقط الفرض. وعلل القفال مهنا فقال: يجب لأنه مسح بهما غيرهما. فأما مسحهما فإنه لم يقصده، فالآن يمسح كل واحد منهما بصاحبه ليحصل القصد، وقيل في تعليله: الماء الحار بطبعه فيصل إذا جرى إلى جميع العضو، والتراب جامد لا يكاد يصل إلى تكاسير العضو إلا بإمراره، والأول أصح، وعلى هذا إذا وصل التراب إلى ما بين الأصابع هل يستحب التخليل أو يجب على هذين الوجهين. فإن قيل: أليس قلتم أنه إذا وضع يده على الأرض سقط عنهما بذلك الفرض، فصار ما في يديه من التراب مستعملًا، فكيف بمسح بإحداهما الأخرى وعندكم نقل الماء من إحدى اليدين إلى الأخرة لا يجوز؟ قلنا: كما ذكرنا من الضرورة فصار النقل ها هنا من إحدى اليدين إلى الأخرى بمنزلة [148 أ/ 1] نقل الماء في العضو الواحد من بعضه إلى بعض، أو يقول عندنا: إن اليدان تجريان مجرى العضو الواحد، وإنما لم يجز نقل الماء في الوضوء لأجل انفصاله، وها هنا لا يوجد الإنفصال، والعلة الأولى هي أصح. فرع آخر قال في "الأم ": وإذا كان التراب دفعًا فعلق بيده شيء كثير فلا بأس أن ينفض يده. قال أصحابنا: والأصل في ذلك ما روى أسلع- رضي الله عنه- قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنا جنب، فنزلت آية التيمم فقال: "يكفيك هذا "فضرب بكفيه الأرض ثم نفضهما ثم مسح بهما وجهه، ثم أمر على لحيته، ثم أعادهما إلى الأرض فمسح بهما الأرض، ثم دلك إحداهما بالأخرى، ثم مسح ذراعيه ظاهرهما وباطنهما. فرع آخر لا يجب إيصال التراب إلى ما تحت الحاجبين والعذارين والشارب ومن أصحابنا من قال: يجب ذلك، وهذا غلط لأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على ضربة للوجه، وبذلك لا يمكن إيصال التراب إلى باطن هذه الشعور. فرع آخر قال الشافعي ها هنا: يضرب يديه على الأرض. وقال في موضع آخر: يضع يده، وليست المسألة على قولين، فالذي قال: يضرب إذا كان التراب خشنا لا يعلق باليد بالوضع، والذي قال: يضع وإذا علق التراب به. فرع آخر لو وقف في مهب الريح وأحضر النية وعمد الريح فسفت عليه [148 ب/ 1] التراب.

اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: لا يجوز تيممه لأن الشافعي قال في "الأم ": ولو سفت الريح عليه ترابًا فعمه فأمرها على وجهه لم يجزه لأنه لم يأخذه لوجهه، وإن أخذ من رأسه فمسح به وجهه جاز لأنه أخذ التراب لوجهه. وقال بعض أصحابنا: يجوز ذلك إذا أمر يده على وجهه. قاله القاضي أبو حامد وما ذكر الشافعي إذ لم يقصد الريح ولم ينو فحصل للتراب عليه ثم أمر يده، فأما إذا قصد الوقوف أو نوى وأمر يده فقد حصل المقصود فيجوز، وعامة الأصحاب على أنه لا يجوز، وهو اختيار صاحب الإفصاح، وابن أبي أحمد، وحملوا كلام الشافعي على ظاهره، ولو لم تمر يده عليه ولكنه نوى وتحقق أنه عمه، ظاهر المذهب أنه لا يجوز، ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان: أحدها: يجوز وهو اختيار الإمام الحليمي، والقاضي الطبري؛ لأنه أوصل غيره الراب إلى وجهه مع حضور نيته، فجاز كما لو يممه غيره، وكما نقول في الضوء: إذا وقف تحت المطر حتى جرى الماء على أعضائه يجوز، وهذا هو الصحيح عندي. ورأيت بعض أصحابنا حكى هذا عن الشافعي أنه قال في "القديم ": ومن قال بالقول علل بأنه يتقرر إيصال التراب إلى تمامه من غير مسح بخلاف الماء؛ لأنه يجري. وعلل أيضًا بأنه إذا لم تمر اليد لا يسمى مسحًا، والأمر ورد بالمسح، وهذا [149 أ/ 1] لا يصح؛ لأن جوابنا هذا إذا تيقن وصول التراب إلى كل محل الفرص، وقد يعلم الإنسان من نفسه ضرورة واسم المسح لا يراعى، ألا ترى أن الله تعالى قال: {وامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] ولو قطر عليه من المطر يجوز، ولم يوجد اسم المسح فدل على أن المعتبر وصول الطهور إلى محل الفرض، وقد وجد ذلك فيجوز. فرع قال بعض أصحابنا بخراسان: لو أخذ التراب من الوجه ثم أعاده إلى الوجه ومسحه به مع النية وجهان، وكذلك لو نقل التراب من يده إلى وجهه فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأنه نقل من محل الفرض. والثاني: يجوز لأنه حصل القصد والنية، وهذا أصح. والوجه الأول ليس بشيء. فإذا تقرر، هذا قال بعض أصحابنا بخراسان: هذا التدقيق والترتيب الذي ذكره المزني عن الشافعي في وصف التيمم لا يجب ولا يبين، فإنه لو أخذ بكفه ترابًا فمسح يده به أو بعضها، ثم أخذ كفًا آخر فمسح الباقي جاز، ولكن ذكره جوابًا لما قال مالك أنه ورد الخبر ضربة للوجه وضربة لليدين، وبالضربة الواحدة لا يمكن المسح إلى المرفقين، فدل أنه لليدين إلى الكوعين، فأراد الشافعي أن يبين كيف يمكنه بضربة واحدة مسح اليدين إلى المرفقين. وقال أيضًا: إنما أمر يوضع كفه اليسرى على ظهر كفه اليمنى ولم يأمر بوضع كفه اليمنى على بطن كفه اليسرى [149 ب/ 1]؛ لأنه يحتاج في التيمم إلى نقل التراب إلى المحل الممسوح، ولا يجوز

على ظاهر المذهب نقل الموضع الممسوح إلى التراب، بخلاف الوضوء فإنه يجري فيه كل واحد منهما؛ لأنه لم يؤمر فيه مع النية بالقصد بخلاف التيمم، والقصد نقل التراب إلى المحل الممسوح، وهذا خلاف ما ذكرنا في النص، وهو غير صحيح؛ لأن القصد يوجد في كلا الموضعين من غير إشكال فلا يتعين بهذا الفرق. وقد بينا لماذا أمر بوضع كفه اليسرى على ظهر كفه اليمنى. وقال القفال: نقل المزني في الضربة الأولى: ويفرق أصابعه وصوبه على ذلك جميع أصحابنا، وعندي أنه غلط في النقل، ولم يذكر الشافعي ذلك في المرة الأولى بل ذكره في المرة الثانية؛ لأنه بها يخلل بين أصابعه ولا يحتاج إليه في الضربة الأولى. قال: ولو فرقه في الضربة الأولى لم يجز تيممه؛ لأن الغبار الأول تعلق بما بين الأصابع، ويمنع وصول الثاني إلى ما بين الأصابع في المرة الثانية، فإذا خلل أصابعه يصير ما بينهما ممسوحًا بغبار أخذه في الضربة الأولى، ومن شرط الغبار الذي تمسح به اليد أن يقصد أخذه بعد الفراغ من مسح الوجه. وقال غيره من أصحابنا: لو فرق أصابعه في الضربة الأولى لم يضره؛ لأنه إذا مسح وجهه بالضربة الأولى تبقى بين أصابعه تراب غير مستعمل، فإذا مسح [150 أ/ 1] به جاز، وهذا هو القياس. وقيل: فيه وجهان، ولا يجوز هذا الإطلاق عندي. مسألة: قال: "وَإنْ أَبْقَى شَيْئََا مَمَّاَ كَانَّ يَمُرُّ عَلَيهِ فِي الْوُضُوءِ حَتَّى ضَلَّى أعاد ". وهذا كما قال: إذا تيمم وصلى، ثم علم أنه ترك موضعًا من ظاهر وجهه أو يديه لم يمر عليه التراب، فصلاته باطلة قليلًا كان أو كثيرًا، فإن كان المتروك من الوجه، فإن مسح اليدين لا يعتد به، فإن كان الوقت قريبًا أمر التراب على الموضع المتروك من الوجه ومسح اليدين وأعاد الصلاة، وإن تطاول هل يستأنف التيمم أو يبنى؟ على ما ذكرنا من القولين، وإن كان من اليدين فإن كان قريبًا أمر التراب على الموضع المتروك وإن تطاول فعلى ما ذكرنا. وهذا لأن الترتيب فيه شرط، ولو بدأ فمسح يديه، ثم مسح وجهه لم يجز مسح اليدين، ومسح الوجه يجوز إن لم يكن عرفت نيته عند مسح الوجه. وروى الحسن بن زياد، عن أبي حنيفة أنه قال: إذا مسح أكثر الوجه لأنه يشق استيعاب الوجه بضربة واحدةن وربما يقولون: إن كان قدر الربع جاز، وربما يقدرون بقدر درهم، وهذا غلط؛ لأن أكثر اوضوء لا يقوم مقام الكل كما في الوضوء، وإن قدم يسرى يديه على اليمنى أجزأه كما ذكرنا في الوضوء، وإن كان أقطع اليدين ففيه المسائل التي ذكرناها في الوضوء. ويستحب أن يمر [150 ب/ 1] التراب على المنكبين إذا كان أقطع من المنكبيين، وعلى العضدين إذا كان أقطع من فوق المرفقين كما قلنا في الوضوء.

فرع تجديد التيمم لا يستحب ويتصور ذلك في موضعين: أحدهما: أن يتيمم ويصلي فريضة ولم يبرح عن موضعه وقلنا: لا يجب الطلب في التيمم الثاني، فأراد أن يحدد كصلاة النقل فلا يستحب؛ لأن في تشويه للخلقة. فأما إذا قلنا: إن الطلب واجب للتيمم الثاني بطل تيممه الأول، ثم أراد تجديد التيمم لصلاة النقل لا يستحب ذلك. فرع آخر تطويل الغرة فيه والتحجيل لم يرد به الخبر. وقد قال أصحابنا: يستحب فيه تطويل التحجيل لأن عند الزهري يجب مسح اليد إلى الإبط فيخرج به عن الخلاف. مسألة: قال: "فَلَوْ نَسِيَ الْجَنَابَةَ فَتَيَّمَم للْحَدَثِ أَجْزَأَهُ". وهذا كما قال: يجوز للجنب إذا عدم الماء أن يتيمم. وبه قال جماعة من الصحابة والفقهاء، وقال عمر، وابن مسعود- رضي الله عنهما-: لا يجوز التيمم وتؤخر الصلاة حتى يغتسل ويقضي. وبه قال النخعي. وقد روى رجوعهما عنه، وهو الصحيح، والدليل على هذا ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر "الصعيد الطيب وضوء المسلم ولو لم يجد الماء عشر حجج ". وروى عن عمار- رضي الله عنه- أنه قال: أجنبت أنا وعمر بن الخطابن فتمعكت [151 أ/ 1] أنا في التراب وصليت، وعمر- رضي الله عنه- لم يصل، فرجعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنما يكفيك هكذا" وعلم التيمم ولو كان جنبًا من الجماع، فظاهر المذهب أن ذكره نجس ويلزمه أن يغسل ذكره بالماء، فإن لم يكن معه هذا القدر من الماء تيمم وصلى وأعاد الصلاة. وقد قال الشافعي في "الأم "والرجل المسافر الذي لا ماء معه والمعزب في الإبل أن يجامع أهله ويجزيه التيمم إذا غسل ما أصاب ذكره، وغسلت المرأة ما أصاب فرجها، وهذا نص فيما ذكرنا. والمعزب: هو المنفرد برعيها. ومن أصحابنا من قال: ذكره طاهر ورطوبة فرج المرأة طاهرة. وذكر في الحاوي أن الشافعي قال في بعض كتبه: أنها طاهرة كالمنى ورأيت بعض أصحابنا احتج على طهارتها لما روي عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: "كنت أفرك المني من ثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة " ومنيه كان من الجماع في الغالب؛ لأنه لا يجوز عليه الاحتلام وهذا حسن، والمشهور ما تقدم. ومن أصحابنا من قال: "إن الرطوبة وإن كانت طاهرة كالعادة أن يخرج منه المذي أو

لا إذا ابتدأ بالوطئ فتنجس به وهذا عندي ضعيف. فإذا تقرر هذا رجعنا إلى المسألة فنقول: إنه [151 ب/ 1] إذا نسي الجنابة وتيمم للفريضة معتقدًا أنه محدث ثم تذكر الجنابة صح تيممه؛ لأن التيمم من الحدث ومن الجنابة واحد، وهو على الوجه واليدين، وكل شيئين طهارتهما واحدة، فالخطأ من أحدهما إلى الآخر لا يمنع صحة الطهارة، كما لو توضأ وهو يعتقد أن حدثه بولًا فكان ريحًا، أو اغتسلت من جنابة وكانت فساء يجوز بالإجماع، ويخالف هذا إذا أعتق رقبة عن الظهار وكان عليه رقبة عن الجماع في صوم رمضان لا يجوز، وعليه أن يعتق رقبة أخرى عن الجماع في صوم رمضان؛ لأنهما مقصودان بأنفسهما فلا يعذر في بالخطأ. وقيل: ما ذكره المزني من العلة لم يقلها الشافعي؛ لأنه لو صحت هذه العلة لوجب أن يقال: إذا قضى العصى ثم بان أن فاتته الظهر فإنه يجوز؛ لأنه لو تذكر الظهر لم يكن عليه أكثر من أربع ركعات، ولا يجوز أن يقال ذلك، وكذلك في مسألة العتق وجب أن يجوز، والعلة عند الشافعي هي أن التيمم لا يرفع الحدث فلا معنى لنية الحدث الذي يتيمم عنه فيه، وإنما يحتاج أن ينوي استباحة الصلاة، فإذا نواها صح ولا يضره الغلط فيما يتيمم عنه؛ لأن أكثر ما فيه أن يجعل ما غلط فيه، كأنه لم ينوه، فتبقى معه نية استباحة الصلاة وهي كافية له، وبهذا فارق ما لم نوى المقتدي [152 أ/ 1] بالإمام الإقتداء بزيد، ثم بان أن إمامه عمر، ولم يجز لأن عليه نية الإقتداء جملة، فإذا غلط جعل كأنه لم ينو الإقتداء بهذا الإمام، وكذلك لو غلط في نية الصلاة على الجنازة، فنوى أن الميت رجل فإذا هو امرأة أو امرأة فإذا هو رجل لا يجوز؛ لأن عليه نية الصلاة على الميت جملة، فإذا أخطأ صار كأنه لم ينو، وههنا ليس عليه فيه الحدث الذي يتيمم عنه أصلًا فلا يضره الغلط فيه، كما لا يضر الغلط في النوم في الصلاة. وأما الوضوء والغسل يرفعان الحدث فيجوز فيهما نية رفع الحدث دون استباحة الصلاة، وفيه استباحة الصلاة، وقد رفع الحدث وإحدى النيتين تتضمن الأخرى فيصير بنية إحداهما ناويًا للأخرى لا محالة، فلا يضر الغلط فيما نواه من الحدث. فإذا تقرر هذا ذكر المزني فصلين مشكلين، ونحن نفصل أحدهما عن الآخر، فالأول قوله: ليس على المحدث عندي معرفة أي الأحداث كان منه، وإنما عليه أن يتطهر للحدث. قصد به الرد على ربيعة أستاذ مالك، حيث قال: لو أخطأ في الجنس الواحد من نوع إلى نوع جاز، كالحائض تنوي غسل الجنابة، والبائل ينوي حدث الغائط؛ لأن الغسل هو الواجب في الموضعين، أو الوضوء. فقال المزني: كما لا يضر الخطأ من النوع [152 ب/ 1] إلى النوع وجب أن لا يضرب الخطأ من الجنس إلى الجنس، ونهاية هذا الفصل إلى قوله: ولا يقول بهذا أحد نعلمه. ثم ابتدأ الفصل الثاني فقال: ولو كان الوضوء يحتاج إلى النية كما يتوضأ له قصد به الرد على مالك حيث قال: تعيين الحدث شرط في صحة الوضوء من غير غلط يقع فيه، حتى لو نوى الوضوء عن البول وحدثه ريح لم يجز.

قال المزني: لو توضأ لصلاة الجنازة أو الناقلة جاز أداء الفريضة بها, وإن لم يعينها فكذلك التعيين في الطرف الثاني لا يلزم فاعتبر, ما يتوضأ عنه ما يتوضأ له. هكذا حكى أصحابنا بخراسان عن مالك. وقيل: مذهب اختيار الربيع والبويطي. وقال أصحابنا بالعراق: مذهب مالك وأحمد مثل ما ذكرنا عن ربيعة. وذكر بعض أصحابه أنه لو وافقنا عند النسيان وإنما الخلاف إذا ذكر الجنابة والحدث فنوى استباحة لأجل الحدث ففيه عن مالك روايتان, وقيل قول المزني في أثناء الكلام وإنما عليه أن يتطهر للحدث يحتمل أنه أراد أن التيمم يرفع الحدث وهذا يخالف قول الشافعي, وإن لم يكن هذا مراده لا يكون مخالفًا وقوله: إنما عليه أن يتطهر من الحدث أن أراد في الوضوء فهو مصيب في الجواب فخطئ في الاستدلال, وإن أراد في التيمم [135 أ/1] فهو مخطئ في الجواب والاستدلال؛ لأنه لا يجوز في التيمم أن ينوي رفع الحدث, وإن جاز ذلك في الوضوء. مسألة: قال: "وإذا وجد الماء بعد التيمم اغتسل". الفصل وهذا كما قال: إذا تيمم ثم وجد الماء يلزمه استعماله, ويجوز له أن يصلي بذلك التيمم. وروى هذا عن أبي موسى الأشعري- رضي الله عنه, واحتجوا بأنه وجد المبدل بعد الفراغ من البدل فلا يؤثر, كما لو وجد العتق بعد الصوم في الكفارة, وهذا غلط لقوله صلى الله عليه وسلم للجنب المتيمم"إذا وجدت الماء فأمسه جلدك" ولأن التيمم لا يراد لنفسه, بل يراد للصلاة, وهو بدل فإذا قدر على الأصل قبل الشروع في المقصود لزمه العود إلى الأصل, وبهذا فارق ما قاس عليه, ولو وجد الماء بعد الشروع في تكبيرة الافتتاح قبل فراغه منها بطل تيممه أيضًا, ويلزمه العود إلى الماء, ولو فرغ من الصلاة ثم وجد الماء لا يلومه إعادة الصلاة التي صلاها بالتيمم في الوقت, وفي غير الوقت. وقال طاووس وحده: يلزمه الإعادة. وروى عنه أنه قال: لا يعيب في الوقت, وهذا غلط لما روى أن رجلين كانا في سفر, فعندما الماء وتيممًا وصليًا, ثم وجدوا أحدهما الصلاة ولم يعد الآخر, ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرا له [153 ب/1] , فقال للذي لم يعد: "أصبت السنة أجزأتك صلاتك" وقال للذي أعاد لك أجران". وروى عن ابن عمر-رضي الله عنه- أنه تيمم بالمربد وصلى العصر, ثم دخل المدينة والشمس مرتفعة بعد ولم يعد الصلاة. ولأنه فرغ من المقصود بالبدل ثم وجد الأصل فلا إعادة. كالمرأة تفرغ من العدة بالشهور ثم ترك الأقراء, أو يقيس على ما بعد خروج الوقت. قال أصحابنا: ولا يستحب له الإعادة في هذه المسألة أيضًا,

كما لا يجب, ولو وجد الماء بعد الشروع في الصلاة قبل الخروج منها بنى على صلاته, ولا يلزمه الخروج, وبه قال مالك, وأحمد في رواية, وأبو ثور وداود, وقال أبو حنيفة والثوري, وهي رواية عن أحمد: تبطل صلاته, وهو اختيار المزني وابن سريج, إلا أن أبا حنيفة يقول: لو كان في صلاة الجنازة أو العيدين, أو كان سؤر الحمار لا تبطل صلاته, ولم يوافقه غيره من الأئمة في هذا. وقال الأوزاعي: يمضي في صلاته وتكون نافلة, ثم يتوضأ ويعيدها. واحتج المزني بما جملته يرجع إلى فعلين: أحدهما: أنه قاس وجود الماء للتيمم على الحدث. والثاني: قاس على وجود الحيض في المعتدة بالشهور قبل تمام العدة بالشهور. وأشار في أثناء كلامه إلى القياس على ما لو وجد الماء قبل الشروع في الصلاة, [154 أ/1] وأشار في آخر كلامه إلى أن هذا المذهب تخريج مستقيم على قول الشافعي, ويساعده ابن سريج فخرج قولاً على مذهب الشافعي مثل أبي حنيفة, وأصل تخريجه أن الشافعي قال في المستحاضة ينقطع دمها في خلال صلاتها: أنها تخرج وتتطهر ولا تبنى فجعل المسألتين على قولين نقلاً وتخريجًا, والجواب أن يقول: أما الحدث فالفرق أنه ينقض الطهر بكل حال. وأما وجود الماء فليس هو تناقض لتطهر بكل حال, ألا ترى أنه يجد ماء مودعًا عنده ولم يؤذن له باستعماله ولا يبطل تيممه, ولذلك إذا احتاج العطش فكذلك هاهنا لا يبطل لئلا يبطل عليه ما مضى من الصلاة, فإنه يلزم مراعاة حرمة الصلاة, وبهذا فارق قبل الشروع في الصلاة. وأما العدة قلنا: هناك لا نقول تبطل بل يحتسب بما مضى قرأ, ثم تؤمر بإتمام العدة, ولأن وزان العدة أن ترى الدم بعد الفراغ من الشهور قبل أن تنكح, ووزان العدة من مسألتنا أن لو زالت الماء قبل الشروع في الصلاة. وأما مسألة المستحاضة فالفرق على الصحيح من المذهب أنها أحدثت أحداثًا, غير أنها مقدرة لاتصال دمها, فإذا انقطع الدم قدرت على إزالة حدثها فلا تجوز صلاتها, وهذا التيمم لم يحدث [154 ب/1] في صلاته حدثًا جديدًا, وليس فيه أكثر من أنه وجد الماء فيجعل كأنه لم يجد الماء لمانع الصلاة كما قلنا في سائر الموانع. فإذا تقرر هذا قال أصحابنا: الأفضل أن يخرج منها ويتوضأ للخروج من الخلاف. ولأن الشافعي نص على أنه إذا وجد الرقبة في الكفارة في أثناء الصوم والأفضل له أن يعتق فكذلك هاهنا الأفضل أن يرجع إلى الأصل, ومن أصحابنا من قال: يلزمه المضي فيها ولا يجوز له قطعها أي يكره, وهذا اختيار القفال, وتعلق هذا القائل بما قال في "البويطي": إذا رأى الماء في صلاته فليمض على صلاته ولا إعادة عليه. وهذا لا يصح لأن الشافعي استحب لمن دخل في الصلاة منفردًا ثم رأى جماعة أن يخرج منها ويصلي مع الجماعة, استحب لمن دخل في الصلاة منفردًا ثم رأى جماعة أن يخرج منها ويصلى مع الجماعة, فالخروج هاهنا للطهارة أولى, وما قال في "البويطي": أراد يجوز ذلك, وقد نص في "الأم" فقال: كان له أن يتمها وليس عليه أن يقطع الصلاة فلم يوجب ذلك عليه. وقال القاضي الحسين- رحمه الله:- لا يجوز له إبطال الصلاة وجهًا واحدًا, وهل

يستحب له أن يجعل صلاته فعلاً فيسلم عن ركعتين؟ وجهان: أحدهما: أنه يستحب ذلك: كرجل افتتح الصلاة منفردًا ثم أدرك جماعة, فإنه يسلم عن ركعتين ويكون نفلاً. والثاني: لا يستحب لأنها انعقدت [155 أ/1] فرضًا فلا يجوز له ترك صفة الفرضية, ويخالف هذا مسألة الجماعة؛ لأن هناك لو فرغ منفردًا ثم أدرك الجماعة يستحب له الإعادة ولو فرغ من الصلاة بالتيمم ثم وجد الماء لا يستحب له الإعادة. فرع إذا رأى الماء في المكتوبة ومضى في صلاته وسلم لا يجوز له أن يتنفل بذلك التيمم؛ لأن وجود الماء في الصلاة منع حكم التيمم فيما عدا الصلاة التي هو فيها, فإذا خرج منها لم يكن ليتممه حكم, فإن كان الماء باقيًا استعمله, وإن كان قد تلف إلى أن فرغ من الصلاة أعاد التيمم, ولا يجوز له افتتاح بعد رؤية الماء, هكذا ذكر جماعة أهل العلم من العراق, وهو اختيار القاضي الطبري. وفرع والدي الإمام على هذا, وقال: إذا أراد أن يسلم لا يسلم تسليمتين بل يقتصر على تسليمة واحدة؛ لأنه عاد إلى حكم الحدث بعد الخروج منها, ولو أحدث بعد التسليمة الأولى لا يأتي بالتسليمة الثانية, وليس على أصلنا مسألة يقتصر فيها على تسليمة واحدة غير هذه, ولو كان عليه سجود السهو فنسي لا يسجد, وإن كان الوقت قريبًا. وهذا عندي حسن, ولكن يمكن أن يقال: وإن سلم تسليمة ثانية فلا يأس؛ لأنها من تتمة الصلاة, وإنما يخاطب بهذا في الافتتاح. والله أعلم. وقال القفال وجماعة [155 ب/1] إن علم بتلف الماء قبل فراغه من الصلاة فهو كما لم يجد أصلاً, فله أن يصلي النوافل, وإن لم يعلم بتبلغه حتى خرج من الصلاة, ثم علم فإنه لا يصلي بذلك التيمم صلاة النفل, كما لو تلف الماء بعد الفراغ من الصلاة. وهذا أقيس وأصح, وهذا لأن هذا الماء لم يلزمه استعماله لهذه الصلاة, ولا قدر على استعماله لغيرها, فينبغي أن لا يبطل تيممه, ولهذا لو مر به ركب في الصلاة, ففرغ منها وقد ذهب الركب, فإنه يجوز له أن يصلي النافلة, وإن كان توجه الطلب يمنع ابتداء الصلاة بالتيمم, وإن منع القائل الأول منع بعيد والله علم. فرع آخر لو رأى الماء في صلاة النافلة, فإن كان نوى أن يصلي عددًا معلومًا كان له إتمامها, وإن كان أحرم مطلقًا. قال الشافعي في "الأم": كان عليه أن يصلي ركعتين ولا يزيد عليها لأن إحرامه المطلق يضمن ركعتين. قال أصحابنا: وعلى قوله القديم: فيمن نذر صلاة مطلقًا يكفيه ركعة لا يزيدها على ركعة.

فرع آخر قال أصحابنا: لو تيمم في الحضر لعدم الماء ثم رأى الماء بطل سهمه وصلاته؛ لأنه يلزمه الإعادة بوجود الماء, وقد وجد الماء فيلزمه الاشتغال بالإعادة. وكذلك لو تيمم وعليه نجاسة, ثم رأى الماء في الصلاة بطلت صلاته؛ لأنه لا يعتد بها, وتلزمه الإعادة, وفيه [156 أ/1] وجه آخر: لا إعادة ولا يلزمه الخروج منها برؤية الماء. فرع آخر قال بعض أصحابنا بخراسان: لو وجد الماء في خلال الطواف إن قلنا: لا يجوز تفريقه, وإن قلنا: يجوز تفريقه توضأ, وبن وقل ما يتصور هذا؛ لأن الطواف يكون في الحضر, وقل ما يعدم فيه الماء, وهذا ليس بشيء, ويلزمه العود إلى الماء والاستئناف؛ لأنه لا يحتسب ما مضى بالتيمم وتلزمه الإعادة بكل حال. فرع آخر لو كان في سفر معصية فعدم الماء فلزمه أن يقيم ويصلي, فإذا صلى هل تلزمه الإعادة؟ فيه وجهان: أحدهما: تلزمه الإعادة لأن سقوط الفرض بالتيمم هي رخصة تتعلق بالسفر, والسفر معصية فلا يجوز أن يتعلق به رخصة. والثاني: لا تلزمه الإعادة, لأنا لما أوجبنا عليه ذلك صار عزيمة فلا إعادة عليه والأول أصح, وعلى هذا لو رأى في صلاته يلزمه الخروج منها لا يعتد بها. فرع آخر إذا دخل في صلاة النقل بنية مطلقة, وقد صلى ركعتين, وقام إلى الثالثة ثم رأى الماء. قال القاضي الطبري: عندي يتمم هذه الركعة ويسلم؛ لأن الركعة الواحدة لا تتبعض وهو على ما قال. فرع آخر قال في "التلخيص": لو وجد الماء في صلاته المقصورة, ثم نوى الإتمام أو المقام بطلت صلاته وتيممه؛ لأن تيممه صح لركعتين من غير زيادة, والآن زادت [156 ب/1] بهذه النية. وقال بعض أصحابنا: تتم صلاته ولا تبطل, لأن تيممه صحيح لأدائها تامة ومقصورة ذكره في"الحاوي". ولو نوى المقام فيها أو الإتمام ثم وجد الماء مضى في صلاته وأتمها بلا خلاف. ومن أصحابنا من قال: إذا افتتحها بالتيمم ثم نوى الإقامة يمضي في صلاته ويعيد؛ لأن الإقامة لو قاربت ابتداء الصلاة منعت للاحتساب بها في حق المتيمم, فكذلك إذا طرأت؛ لأن الصلاة لم يتبعض حكمها.

فرع لو رعف في صلاته بطلت صلاته بالرعاف , ويلزمه أن يطلب الماء, ويغسل الدم, فإن طلب ولم يجده أو وجد قدر ما يغسله فقط. قال الشافعي في"الأم": استأنف التيمم؛ لأن فرض الطلب المتوجه أبطل التيمم. وكذلك لو تيمم ثم رفقة أو ركبًا ظن أن معهم ماء, أو رأى بئرًا أن فيها ماء, فلما تأمل لم يجد الماء فإنه يلزمه إعادة التيمم. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه ذلك بناء على أصله أن طلب الماء غير واجب, وعلى هذا قال القفال: لو رأى الماء ودونه سبع, فإن رآهما معًا أو عرف مكان السبع قبل رؤية الماء فتيممه باق, وإن رأى الماء أولاً ثم عرف السبع والحائل بطل تيممه؛ لأن الطلب قد توجه عليه, وكذلك لو رأى ماء في قعر بئر ولا رشاد معه ولا دلو, فإن علم به وهو عالم بأنه لا آلة معه [157 أ/1] لا يبطل تيممه, وإن رآه وعنده أي آلة النزح فلم يكن أعاد التيمم. مسألة: قال: "ولا يجمع بالتيمم بين صلاتي فرضٍ". وهذا كما قال عندنا لا يجوز أن يصلي بتيمم واحد صلاتي فرض, بل يجب التيمم بكل فريضة, وطلب الماء أيضًا, فيطلب الماء أولاً ثم إذا عدمه تيمم ويصلي, ثم يطلب الماء فإذا عدمه يتيمم ويصلي, ثم يطلب الماء فإذا عدمه يتيمم ويصلي الصلاة الثانية, ولا فرق بين أن يكونا مؤقتتين أو فائتتين أو مؤقتة وفاتنة, وكذلك لا فرق بين أن يكونا منذورتين أو شرعيتين, أو إحداهما منذورة والأخرى شرعية, ولا فرق بين أن يريد الجمع بينهما في وقت إحداهما أو لا يريد الجمع, وبه قال علي, وابن عمر, وابن عباس, والنخعي, وقتادة , وربيعة, ومالك, والأوزاعي, والليث- رضي الله عنهم- قال أبو حنيفة: يجوز أداء الفرائض به إلى أن يحدث, وبه قال الحسن, وسعيد بن المسيب, والثوري, وداود, والمزني, وابن المنذر. وقال أبو ثور: يؤدي الفرائض في وقت الصلاة التي تيمم لها, ولا يؤدي في وقت آخر. وقال أحمد: يجمع بين الفوائت بتيمم واحد, ولا يجمع بين ما أتى وقتين. وهو قريب من قول أبي ثور. وهذا كله غلط لما روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال: من السنة ألا تصلي بالتيمم [157 ب/1] إلا صلاة واحدة, ثم يتيمم للأخرى. وهذا يقتضي سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وقال علي- رضي الله عنه- "التيمم عند كل صلاة" فإذا تقرر هذا قال أبو إسحاق: لا يجوز الجمع بين الصلاتين بجنس التيمم أصلاً لظاهر قول الشافعي, ولا يجمع بالتيمم بين صلاتي فرض, وهذا لأنه تفتقر الصلاة الثانية إلى تيمم ثانٍ, ويفتقر التيمم الثاني إلى طلب ثان, والطلب يقطع الجمع؛ لأن من شرطه الموالاة, ولم يذكر في كتاب "الحاوي" غير هذا. وقال عامة أصحابنا: يجوز الجمع

بينهما بجنس التيمم, وقد نص عليه في "الأم" وهو الصحيح, وقصد الشافعي لا يؤدي بهما تيمم واحد. كما قال أبو حنيفة: ولا يؤدي إلى قطع الموالاة لأنا لا نأمره في الصلاة الثانية بالاستقصاء في الطلب كما نأمره في الأولى, بل يكفيه من الطلب أن ينظر يمنة ويسرة هل يرى أحدًا أو أثرًا, ثم يتيمم بضربتين. وهذا كما نأمره بالإقامة للصلاة الثانية ولا يقع بها الفصل والتراخي, وهذا لأن كل هذا من مصلحة الجمع فلا يؤثر فيه, فإن قيل: هلا سقط فرض الطلب الثاني ولا يطع في الماء؟ قلنا: قال في"الأم": لا ييئس منه بكل حال, فقد يطلع الركب والسبيل. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يجب الطلب الثاني؟ وجهان: أحدهما: لا يجب لأنه [158 أ/1] لا يفيد, والثاني: يجب تعبدًا, وهكذا لو كان في بادية لا يوجد الماء في مثلها غالبًا, هل يجب الطلب؟ وجهان, وهذا خلاف المنصوص, وعندي أنه إذا تحقق ذلك تبينًا لا يلزمه الطلب, لأنه عبث, وقد يتحقق عدمه بأن يخبره جماعة عدول: أنا طلبنا الماء فلم نجده, وقيل: لو أمر غيره. حتى طلب له الماء فلم يجد, هل يباح له التيمم؟ وجهان مبنيان على ما لو أمر غيره أن ييممه هل يجوز؟ وجهان. وكذلك لو طلب الماء فلم يجب فتيمم وصلى, ثم دخل عليه وقت فريضة أخرى وهو في موضعه, ولم تحدث الأمارة تدل على الماء, هل يجب الطلب؟ وجهان. وقال القفال: هل يجوز الجمع بين صلاة منذورة وصلاة شرعية؟ قولان بناء على القولين في المنذورة, هل يسلك بها مسلك ما ورد به الشرع أو يسلك بها مسلك النوافل؟ ففيه قولان: وهل تجوز المنذورة قاعدًا مع القدرة على القيام؟ قولان مخرجان. وأصل القولين أنه يجب. بمطلق النذر أقل ما هو واجب بأصل الشرع, أو ما يقع عليه اسم الصلاة, قولان. وكذلك لو نذر عتق رقبة هل يجوز الذمة فيه؟ قولان. وكذلك الحج المنذور هل يخرج من رأس المال أو من الثلث إذا أوصى به؟ قولان. فإذا تقرر هذا ففي لفظ المزني إشكال, وذلك أنه قال: [158 ب/1] ويحدث لكل فريضة طلبًا للماء وتيمًا بعد الطلب الأول, وفيه تقديم وتأخير, أي ويحدث بكل فريضة طلبًا للماء بعد الطلب الأول ويتمها فيعقب كل بطلب, وكل طلب بتيمم. واحتج الشافعي على أبي حنيفة بظاهر الآية, وهو أن الله تبارك وتعالى أمر كل قائم إلى الصلاة بالتيمم, فإن قيل: لا يصح هذا الاستدلال لأنه رتب التيمم على الوضوء, ولا يلزمه الوضوء لكل صلاة. قيل: ظاهر الآية يوجب ذلك في الوضوء أيضًا, إلا أنه روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتوضأ لكل صلاة إلى يوم حنين, فجمع يومئذ بين صلوات بوضوء واحد, فسأله عمر- رضي الله عنه- عن ذلك متعجبًا فقال صلى الله عليه وسلم: "عمدًا فعلت يا عمر" أي ليعلموا أنه يجوز, فبهذا تركنا ظاهره, واحتج بقول ابن عباس على ما

ذكرنا وهو أعرف بمعنى الآية من غيره. فرع الجمع بين طوافين مفروضين بتيمم واحد لا يجوز, وكذلك بين طواف فرض, وصلاة فرض, ويتصور ذلك في المريض والجريح, وهل يجوز الجمع بين صلاة الفريضة, وركعتي الطواف بتيمم واحد؟ قولان بناء على أن ركعتي الطواف فريضة أم لا؟ وفيه قولان. فرع لو نسي صلاة واحدة من صلوات يوم وليلة ولا يعرف عنها, يلزمه أن يعيد خمس صلوات [159 أ/1] حتى يؤدي المنسية بيقين, وهل يلزمه أن يتيمم لكل واحدة منها؟ اختلف أصحابنا فيه, فقال عامتهم: يجزيه تيمم واحد وهو الصحيح؛ لأن الواجب منها واحدة في الحقيقة, فإذا فرغ من كلها سقط عنه الفرض بواحدة منها. ومن أصحابنا من قال: يلزمه أن يتيمم لكل واحدة منها؛ لأن كلها صارت فرضًا عليه, ويحتاج أن ينوي في كل واحدة أنها فريضة, وهو اختيار أبي عبد الله الخضري, وعلى هذا لو كان محبوسًا أو مربوطًا على خشبة فصلى بالتيمم, ثم خلى نأمره بالقضاء, فهب يعيد التيمم؟ وفيه وجهان. وكذلك لو صلى في بيته منفردًا بالتيمم ثم أدرك الجماعة فأراد الإعادة, ففي قول بعض أصحابنا بخراسان يعيد بنية السنة, وعلى هذا يعيد التيمم الأول, وفي قول يعيد بنية الفرض ففي جوازه بالتيمم الأول وجهان. فرع لو نسي صلاتين من صلوات يوم وليلة ولا يعرف عينهما, فإن قلنا بالوجه الضعيف يلزمه أن يتيمم لكل صلاة منها فهاهنا أولى, وإن قلنا بالوجه الصحيح هاهنا بالخيار إن شاء صلى خمس صلوات ويتيمم لكل واحدة منها, وإن شاء يتمم فصلى به الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة وأيهما فعل, فقد أدى الصلاتين المتروكتين بتيممين, في الأول قلد الصلاة وكثرة التيمم, وفي الثاني [159 ب/1] كثرة الصلاة وقلة التيمم, فالأول ذكره صاحب التلخيص والثاني والثاني ذكره ابن الحداد. وأدى بالتيمم الأول الظهر والعصر والمغرب والعشاء ثم تيمم فصلى الصبح والظهر والعصر والمغرب لم يجز, لاحتمال أن عليه العشاء مع إحدى الصلوات الثلاث التي بين الصبح والعشاء, فأدى بالتيمم الأول إحدى الثلاث فلم يجزه العشاء به, وبالتيمم الثاني لم يعد العشاء, فإن أراد أن يجوز فليصل العشاء بهذا التيمم الثاني, وعلى هذا لو بدأ فأدى العشاء ثم المغرب, ثم العصر, ثم الظهر, ثم تيمم فصلى المغرب, ثم العصر ثم الظهر, ثم الصبح جاز, وإن بدأ بالمغرب إلى الصبح ثم تيمم وصلى العشاء إلى الظهر لم يجز, إلا أن يعيد الصبح بهذا التيمم كما ذكرنا في العشاء.

فرع آخر لو نسي صلاتين من صلوات يومين وليلتين ولا يعلم عينهما فإن كانا مختلفتين فهي: بالوجه الضعيف يلزمه أن يصلي عشر صلوات بعشر تيممات, وإن قلنا: بالآخر يصلي خمس صلوات بتيمم واحد, ثم يصلي خمس صلوات بتيمم, فيكون مؤديًا إحداهما بالتيمم الأول ومؤديًا للثانية بالتيمم الثاني. قال القفال: فإن قال: أريد ان أصلي صلاتين بكل تيمم فكيف أصنع؟ [160 أ/1] قلنا: إن أديت بينهم ظهرين وتيمم عصرين هكذا لم يجز, لكن إن خالفت فأديت بتيمم ظهرًا وعصرًا, ثم يتيمم عصرًا ومغربًا, ثم يتيمم مغربًا وعشاء, ثم يتيمم عشاء وصبحًا. ثميتيمم صبحًا وظهرًا جاز, إلا أنه تطويل الأمر على تعاينه, إذ يكفيه عشر صلوات تيمم, والآن يؤديها بخمس تيممات, وإن تيقن أن عليه صلاتين ولا يعلم هل هما مختلفتان أو متفقتان, يلزمه أن يأخذ بأسوأ الحالين وأغلظهما, وهو أن يكونا متفقتين على ما بيناه. فرع لو اشتبه الأمر على حاج, فلم يدر أن أترك صلاة فرض؟ أو طواف فرض, إن كان عليه يأتي بالطواف وبالخمس صلوات بتيمم واحد, وهذا على الوجه الصحيح, وعلى الوجه الآخر بتيمم ست تيممات. مسألة: قال: "ويصلي بعد الفريضة النوافل وعلى الجانئز ويقرأ في المصحف". الفصل وهذا كما قال به. ذكرنا أنه يصلي بتيمم واحد مع الفريضة ما شاء من النوافل, ومن أصحابنا من قال: إنما يجوز أن يتنفل به ما دام وقت الفريضة باقيًا, فإذا خرج الوقت لا يجوز أداء النوافل به, وهذا غير صحيح, وهكذا يجوز أن يقرأ في المصحف, ويستحب سجود القرآن, لأنه نافلة وأما إذا أراد أن يصلي به صلاة الجنازة. قال أصحابنا: إن لن يتعين عليه فهي بمنزلة النوافل يجوز أدائها [160 ب/1] به وأن تعينت عليه, قال أبو إسحاق لا يلزمه تجديد التيمم لها؛ لأنها ليست من فرائض الأعيان وهو المذهب الشافعي, ومن أصحابنا من قال: يلزمه تجديد التيمم لها, لأنها لما تعينت عليه صارت من فرائض الأعيان, وهذا أقيس. وقول الشافعي محمول على الغالب, وهو أنها لم تتعين عليه, وهذا اختيار الشيخ أبي حامد, والأول أصح لأنه ليس لها مرتبة فرائض الأعيان, ولا يصير بمنزلتها, وإن تعينت عليه لأنها, وإن لم تتعين فبالفعل تتعين وتقع فرضًا, ينبغي أن لا يجوز أداؤها به أصلاً لهذا المعنى.

فرع لو حضرت جنازتان في سفر وليس هناك من يسقط الفرض غيره فعدم الماء يصلي عليهما بتيمم واحد على قول أبي إسحاق, وعلى قول غيره يحتاج إلى التيممين فلا يجوز أن يصلي عليهما دفعة واحدة, ولا يجوز أن يتيمم تيممين, ثم يصلي عليهما صلاة واحدة , لأنه يكون بمنزلة التيمم الواحد بل يتيمم ويصلي على إحداهما ثم يتيمم ويصلي على الأخرى. فرع هل يجوز الصلاة على الجنازة قاعدًا مع القدرة على القيام؟ ومن أصحابنا من قال: فيه قولان بناءًا على هذا الذي ذكرنا فيما تقدم, ومن أصحابنا من قال: لا يجوز قولاً واحدًا. وينص عليه الشافعي. وكذلك لا يجوز أداؤها على الراحلة؛ لأن معظم [161 أ/1] الركن فيها القيام, فإذا ترك القيام لم يبق شيء بخلاف ما لو أداها بالتيمم الأول. فرع لو تيمم لجنازة تعينت عليه وصلى عليها, لم يجز أن يصلي به مكتوبة قولاً واحدًا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن قلنا: إذا تيمم للنفل يؤدي به الفريضة فما هذا أولى, وإن قلنا: لا يؤدي به الفريضة فهاهنا وجهان, والفرق أن صلاة الجنازة من جنس الفرائض فكان حكمها أوقى بخلاف النافلة, ولو تيمم لنافلة قال في"البويطي" له أن يصاي على الجنازة وهذا على ما ذكرنا من الاختلاف. فرع آخر التيمم لا يرفع الحدث, وحكي عن داود وبعض أصحاب مالك أنه يرفع الحدث, وهذا غلط لأن الجنب إذا تيمم ثم وجد الماء يغتسل ويتوضأ فثبت بقاء الحدث الأول. فرع آخر يجوز للمتيمم أن يصلي بالمتوضئ. وقال محمد: لا يجوز, وروى هذا عن علي -رضي الله عنه- وهذا غلط لأن من جاز أن يكون إمامًا للمتيمم جاز أن يكون إمامًا للمتوضئ كالمنصوص. مسألة: قال: "فإن تيمم بزرنيخ أو بنورة". الفصل وهذا كما قال قصد به الرد على أبي حنيفة، وقد ذكرنا ما قيل فيه، ووافقنا أبو حنيفة في الذريرة أنه لا يجوز التيمم بها.

باب جامع المتيمم والعذر فيه

باب جامع المتيمم والعذر فيه مسألة: قال: ((ويسن للمسافر أن لا يتيمم إلا بعد دخول [161 ب/ 1] وقت الصلاة)). الفصل وهذا كما يقال: لا يجوز التيمم إلا بوجود خمس شرائط متفق عليها، وسادس مختلف فيه بين أصحابنا. فأما المتفق عليها فدخول الوقت، وطلب الماء بعد الدخول، ووجود العذر من سفر أو مرض أو غيرهما، والنية للمكتوبة. وأما المختلف فيه فتعيين النية. وقال ابن أبي أحمد: فرض التيمم ستة: طلب الماء، والنية للمكتوبة، والقصد إلى التراب، ومسح الوجه واليدين، والترتيب. وعندي كلاهما غير صحيح، لأنه يخلط الشرائط بالأركان، والأولى أن يقال شرائط التيمم هي أربعة: دخول الوقت، وطلب الماء، وإعوازه بعد الطلب، ووجود العذر على ما ذكرنا، وإن كان التيمم ... النذر على الوصف الذي ذكرنا، ومسح الوجه واليدين، والترتيب، والقصد إلى التراب، وقيل هي خمسة ويدل القصد إلى التراب، التراب الظاهر ذكره في الحاوي، وفي ((القديم)): زاد الموالاة فيكون ستة، وأما سنة التيمم قال أصحابنا: شيئان التسمية والبدأة باليمين، وعندي أنها ثلاث، والثالثة: تخليل الأصابع ومسح إحدى الراحتين على الأخرى على ما تقدم بيانه، ويكره فيه التكرار، فإذا تقرر هذا فاعلم أنه لا يجوز التيمم لفريضة الوقت قبل دخول وقتها، وبه قال مالك، وأحمد، وداود، وقال الزهري: لا يجوز التيمم لها حتى يخاف فوت الوقت [162 أ/ 1] ولا يصلي به حتى يتضيق وقتها ويخاف الفوت أيضاً. وقال أبو حنيفة: يجوز التيمم لها قبل الوقت كالوضوء. واحتج الشافعي عليه بظاهر قوله تعالى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ} إلى قوله {لَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا} [المائدة: 6] والقيام إلى الصلاة إنما يكون بعد دخول الوقت. فرع قال بعض أصحابنا بخراسان: وقت التيمم لصلاة الخسوف عند الخسوف، ولصلاة الاستسقاء عند خروج الناس إلى الصحراء، ولصلاة الجنازة إذا غسل الميت، ولتحية المسجد بعد دخول المسجد، وقيل: عند دخول المسجد، ولصلاة العيدين عند الدخول فيها وللسنن الراتبة، بعد حضورها، وقيل: هل يجوز لصلاة بعد الموت قبل غسله؟ وجهان: أحدها: يجوز لأنها قد وجبت بالموت. والثاني: لا يجوز لأنه لا يستبيح فعلها قبل الغسل، وفي هذا عندي نظر، لأنه إذا تيمم لصلاة النافلة مطلقاً يجوز أن يؤدي هذه الصلوات إلا صلاة الجنازة، فإن فيها كلاماً يشترط في صحة أدائها بالتيمم قبل دخول وقتها.

فرع قال في ((البويطي)): لو تمم لنافلة في الوقت الذي نهي عن الصلاة فيه لم يجزه ذلك، ولا إعادة عليه، وأراد به أنه إذا تيمم في الوقت المنهي عن صلاة النفل فيه، ثم صلى به النفل بعد ذلك الوقت لا يجزيه، وذلك لأنه يجري مجرى التيمم للفريضة قبل دخول [162 ب/ 1] وقتها، وهذا إذا كانت النافلة لا سبب لها، وفيها وجهان، وهذا غلط. فرع آخر لو تيمم للنفل في غير وقت الكراهية لا يبطل تيممه لأن التيمم صح والوقت في الجملة قابل للصلاة. فرع آخر لو لم يتذكر الفائتة فقال: أتيمم لفائتة إن تذكرها؟ أصلها به لا يجوز أداؤها به إذا ذكرها على ما ذكرنا، أن وقتها عند التذكر لقوله (صلى الله عليه وسلم) ((من نسي صلاة أو نام عنها فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها)). فرع آخر لو تيمم في أول الوقت، ثم صلى في آخر الوقت نص في ((البويطي)) أنه يجوز، لأنه تيمم في وقت لكنه فعل الصلاة به. وهكذا لو ذهب الوقت فصلاها قضاء به يجوز، لأن التيم قد صح فلا يزول حكمه إلا بحدث أو فعل الصلاة. قال أصحابنا: فإن سار بعد تيممه إلى موضع آخر، أو حدث ركب يجوز أن يكون معهم ماء احتاج إلى موضع آخر، أو حدث ركب يجوز أن يكون معهم ماء احتاج إلى تجديد الطلب وإعادة التيمم. وقال بعض أصحابنا، وهو اختيار ابن سريج، والأصطخري: يلزمه أن لا يؤخر الصلاة بعد التيمم إلا بقدر الأذان والإقامة ومستويات فريضته، فإن أخرها عن ذلك حتى تراخى به الزمان بطل تيممه، كطهارة المستحاضة يلزمها تعجيل الصلاة عقيب طهارتها، والأول أصح وهو المنصوص على ما ذكرنا، وتفارق المستحاضة، لأن حدثها يتوارى عقيب طهارتها. بخلاف المتيمم [163 أ/ 1]. وأما طلب الماء فلابد منه ولا يصح تيممه إلا بعد طلبه. وقال أبو حنيفة: لا يحتاج إلى الطلب، ويجوز تيممه، لأنه غير عالم بوجود الماء بحضرته، وهذا غلط لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة] ولا يقال لم يجد إلا بعد الطلب والعدم. فرع لا يصح طلب الماء إلا بعد دخول وقت الصلاة، فإن طلب قبل دخول وقتها لم يعتد

به، وعليه استئناف الطلب بعد دخول وقتها، إلا أن يكون على ثقة من أن الأمر على ما شاهده ولم يتغير ولم يطرأ من يسئله عن الماء، فلا يلزمه العود عليه، لأنه بعد دخول الوقت عالم بعدم الماء حواليه فلم يحتج إلى طلبه، ذكره القاضي الطبري. وهذا يؤكد اختياري مما تقدم من المسألة. وقال بعض أصحابنا: هذا إنما يكون إذا كان ناظراً إلى مواضع الطلب ولم يتجدد فيها شيء، فأما إذا غابت مواضع الطلب عنه يجوز أن يكون تجدد فيها حدوث الماء، فيحتاج إلى الطلب، فإن قيل: إذا طلب بعد دخول وقت الصلاة، ولم يتيمم عقيبه جاز أن يتيمم بعد ذلك، ولا يلزمه إعادة الطلب، وإن كان التجدد مجوزاً قلنا: إذا طلب في وقت الطلب لم يلزمه إعادة الطلب إلا أن يعلم تجدد أمر، لأنا لو كلفناه ذلك أدى إلى [163 ب/ 1] المشقة، وإذا طلب قبل وفيه كلف إعادته لتفريطه في تقديم الطلب على الحاجة، وهذا أحسن والأقيس ما ذكرت. فرع اعلم أن الطلب يكون بوجهين: أحدها: بالمسألة والاستخبار عمن يظن أن عنده علماً بمياه ذلك الموضع، أو عنده ماء يبذله له. والثاني: بالتفتيش والنظر، فيبدأ بتفتيش رحله إن لم يكن عنده علم بأنه لا ماء فيه، ثم ينظر يميناً وشمالاً ووراءه وأمامه إن لم يكن دون نظره حائل من جبل أو غيره، وإن كان دون نظره حائل من جبل أو غيره سار إلى ذلك الموضع حتى يزول عنه الحائل، ثم نظر حواليه على ما بينا. فرع لو ظهرت قافلة كبيرة إلى متى تطلب الماء؟ فيه وجهان: أحدها: إلى أن يبقى من الوقت مقدار الفعل. والثاني: إلى أن يبقى قدر ما يصلى ركعة، لأن الصلاة لا تكون قضاء، ولا يأثم بتأخيره في هذا القدر. فرع آخر لو سأل رفيقه فدله على ماء قريب يلزمه قصده بثلاث شرائط، أحدها: أن لا ينقطع عن أصحابه. والثاني: أن لا يخاف منه القصد على نفسه ولا على رحلة في القافلة. والثالث: أن لا يخاف فوت وقت الصلاة، فإن خاف على نفسه أو رحله في القافلة. والثالث: أن لا يخاف فوت وقت الصلاة، فإن خاف على نفسه أو رحله أو خاف خروج الوقت، أو كان أصحابه أن لا ينتظرونه [164 أ/ 1] فله أن يتيمم في الحال. فرع آخر لو كان هناك بئر ولكن لا جبل معه، فإن أمكنه أن يوصل إلى الماء ثيابا يشد بعضها إلى بعض لزمه ذلك، لأنه يصل إليه من غير مشقة، وإن كان الماء بعيداً، وفي قصده مشقة لا يلزمه قصده، وإنما يلزمه قصده إذا كان قريباً في العادة، وقال في ((البويطي)) تؤخر الصلاة إلى آخر الوقت، فإن صلى في أوله، ثم وجد ماء يوصله إلى الماء من

الرشا ونحوه في آخر الوقت أحببت أن يعيد الصلاة. فرع آخر لو كان يقدر على نزول البئر بأمر ليس عليه فيه خوف نزلها، فإن خاف على نفسه من ذلك تيمم، وكذلك إن قدر عليه بحفر ذراع أو ذراعين من غير تعب شديد فإنه يلزمه. فرع لو كان لا يقدر على ماء البئر إلا ببل ثوب توكس قيمته إن بله، فإن نقص من ثمنه تعديله بقدر ثمن الماء لزمه أن يبله فيه، وإن نقص أكثر لم يلزمه، ومن أصحابنا من قال: إن كان النقص بقدر أجرة الدلو والحبل يلزمه، وإلا فلا يلزمه، وهكذا لو كان معه عمامة يحتاج إلى شقها بنصفين ليصل إلى الماء. فرع آخر لو لم يصل إلى الماء لعذر أو سبع كان هذا بمنزلة عدمه، ولو ركب البحر ولا ماء في المركب [164 ب/ 1] ولا يقدر على الاستقاء لاضطرابه، أو ليس معه حبل يأخذ به الماء منه تيمم وصلى ولا يعيد، لأنه غير قادر نص عليه في ((الأم)). فرع آخر لو وصل المسافر إلى جب ماء في الطريق لا يتوضأ منه، لأن صاحبه وضعه للشرب لا للوضوء منه ذكره أصحابنا. فرع آخر لو كان هناك مسلم أو ذمي أو بهيمة تحتاج إلى الماء، فإنه يترك الماء له ويتيمم، لأنه محرم، ولو كان هناك مرتد، أو حربي، أو كان عقور لا يترك الماء له بل يتوضأ به، لأنه مباح للإهلال. فرع آخر لو كان يعلم أنه يحتاج إلى الماء غداً لا يلزمه استعماله في وضوءه، وإن كان يرجو وجود الماء في غده ولا يتحقق وجهان: أحدهما: لا يلزمه استعماله لأن الأصل عدم وقدم لا يجده، ويحتاج إلى الماء ليشربه فحاجته مقدمة على العبادة. والثاني: يلزمه استعماله لأن الظاهر وجود الماء في مكان تعهد فيه الماء، ولو كان معه ماء يحتاج إلى بيعه للنفقة، فإنه يبيعه ويتيمم. وأما إعواز الماء بعد الطلب يشترط بلا إشكال، وإعوازه عدمه ويعزوه، ويقال: رجل معوز إذا لم يكن له شيء، وأما العذر

فلا بد منه، والعذر عذران سفر ومرض، فالمرض يأتي حكمه. وأما السفر فيجوز التيمم فيه [165 أ/ 1] طويلاً كان أو قصيراً، حتى لو خرج إلى بعض السواد إلى صنيعة له فعدم الماء في الطريق فله التيمم والصلاة، ولا إعادة عليه، وذكر هذا في ((البويطي)) ثم قال: وقد قيل: إنه لا يتيمم إلا في سفر تقصر فيه الصلاة، فمن أصحابنا من قال: أراد به قول بعض الناس، وليس هذا بقول آخر للشافعي، ومنهم من قال: فيه قولان، والصحيح الأول، لأنه يعدم الماء في مثل هذا الموضع غالباً فأشبه السفر الطويل، وليس كالفطر والقصر، لأنه يراعى فيهما المشقة وهي في السفر الطويل دون القصير غالباً بخلاف هذا. واحتج الشافعي فيه بظاهر القرآن وبابن عمر. وأما ظاهر القرآن فمعلوم وهو قوله تعالى: {وإن كُنتُم مَّرضي أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلى قوله {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] ولم يفصل. وأما ابن عمر- رضي الله عنه- فتمام الخبر ما روي أنه انصرف من قرية يقال لها حرف قريب من المدينة فبلغ موضعاً مشرفاً على المدينة يقال له: مربد، فدخل وقت العصر فطلب الماء للوضوء فلم يجد، فجعل يتيمم، فقال له نافع مولاه: أتيمم وهو ذي تنظر إليك جدران المدينة فقال: أو .... حتى أبلغها، وتيمم وصلى، ثم دخل المدينة والشمس حية بيضاء فلم يعد الصلاة، وقال القفال: في الحقيقة لا يتعلق التيمم [165 ب/ 1] بالسفر، بل يتعلق بعدم الماء في الموضع الذي يعدم فيه غالباً، فإن الرجل لو أقام في مفازة يعدم الماء فيها غالباً وطالت إقامته له التيم ولا يعيد، وفي مثله ورد الخبر، وهو ما روي عن أبي ذر- رضي الله عنه- قال: كنت بالربذة، فكنت أفقد الماء أياماً، فقلت: هلك أبو ذر، فأتيت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فذكرت له فقال: ((التراب كافيك ولو لم تجد الماء عشر سنين)) وفي مسنده لو بلغ المسافر مصراً فنفذ فيه الماء فتيمم وصلى تلزمه الإعادة، وهذا صحيح كما ذكره، ولكن يجوز أن يحال به على السفر على حكم العادة الغالبة. وقال والدي الإمام- رحمه الله: يحتمل وجهاً آخر أن يقال: لا تلزم الإعادة على هذا المسافر في المصر، لأن حكمه حكم من هو في المفازة في القصر والفطر، ورأيت بعض أصحابنا يقول فيه وجهان، وقيل: جملة الأحكام المتعلقة بالسفر هي ثلاثة أضرب، ضرب يجوز في السفر الطويل والقصير وهو التيمم، والصلاة على الراحلة، وأكل الميتة عند الضرورة. وضرب لا يجوز إلا في السفر الطويل وهو الفطر، والقصر، والمستبيح ثلاثة أيام. وضرب فيه قولان وهو الجمع بين الصلاتين. وذكر بعد أصحابنا بخراسان: أن الصحيح من القولين في الصلاة على الراحلة أنه لا يجوز إلا في السفر الطويل، [166 أ/ 1] وهذا غلط والمشهور خلافه. فرع لو عدم الماء في الموضع الذي لا يعدم في مثله غالباً كالمصر، مثل أن يحبس فلا

يصل إلى الماء، أو غار عينها وانقطع الماء فدخل عليه وقت الصلاة يتيمم ويصلي، فإذا قدر على الماء توضأ به وأعاد. وبه قال محمد، وحكاه الطحاوي، عن أبي حنيفة، وأبي يوسف وقال زفر: لا يصلي أصلاً، وهو رواية عن أبي حنيفة، وقال مالك: يتيمم ويصلي ولا إعادة عليه، وبه قال الثوري، والأوزاعي، والمزني، واختاره الطحاوي. وقيل: إنه قول مخرج، والدليل على أنه يتيمم ويصلي أنه لا يمكنه استعمال الماء مع احتمال الضرر. وأما الإعادة إنما وجبت لأنه يندر فلا تشق الإعادة بخلاف المرض فإنه يعم، فشق الإعادة فاسقطناها، فإن قيل: الخائف من سبع إذا صلى مومئاً لا تلزمه الإعادة عندكم، وهذا غدر نادر لا يدوم. قيل: هذا خائف وحبس الخوف عام فلهذا أسقطنا الإعادة. فرع آخر لو عدم الماء والتراب، فإن يكون محبوساً في موضع لا يجدهما أو كان يجد تراباً نجساً، فإن أمكن أن ينفض رجله وثيابه ويجمع منه التراب الطاهر فعل، وإن لم يمكن فإنه يصلي على حسب حاله ويعيد. نص عليه في الجديد، وبه قال أبو يوسف، ومحمد، والليث، وأحمد، وقال في القديم: يعجبني أن يصلي حتى لا يخلى [166 ب/ 1] الوقت من فعل الصلاة فلم يقطع القول فيه. قال أصحابنا: فيه قولان لأن أحدها: ما ذكرنا. والثاني: لا يصلي ويحرم عليه ذلك ويقضي إذا قدر على الطهارة. وبه قال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي. وقال بعض أصحابنا: يأمره أن يصلي قولاً واحداً، وهل يستحب القضاء أو يستحق؟ قولان، وقال مالك: لا تجب عليه الصلاة فلا يصلي ولا يقضي، كالحائض. وبه قال داود، وقال أحمد: يلزمه أن يصلي ولا إعادة عليه، وذكر بعض أصحابنا بخراسان: أن هذا قول مخرج للشافعي وهو غلط، والدليل على أنه يصلي ما روي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) بعث أسيد بن حضر وأناساً معه لطلب قلادة أصابتها عائشة- رضي الله عنها- فحضرت الصلاة، فصلوا بغير وضوء، فأتوا النبي (صلى الله عليه وسلم) يذكروا له ذلك، فنزلت آية التيمم، ولم ينكر (صلى الله عليه وسلم) ذلك، فإن قيل: فلم يأمره بالإعادة؟ قلنا: الإعادة على التراخي، ولم تدع الحاجة أغلى بيانها ويجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة، واحتج مالك: بأنه غير مأمور بها مع حدثه في وقتها فلا قضاء عليه كالحائض، قلنا: الحيض هو عذر عام فأسقط للقضاء كالإغماء، وهو عذر نادر فأشبه الحيض في حق [167 أ/ 1] الصوم لا يسقط القضاء، ويقيس على فقد السترة فإنه لا يمنع وجوب الصلاة. فرع لو وجد الماء وخاف الهلاك من البرد لو اغتسل، فإن أمكنه تسخين الماء لم يجز له التيمم، وإن لم يمكنه لعدم النار، أو لأن الرفقة لا ينتظرونه، فإن كان معه خرق وقطن يمكن أن يغسل عضواً ويدثره ويدفيه فعل، وإن لم يمكنه ذلك يتيمم ويصلي، فإن كان

ذلك في الحضر أعاد الصلاة وإن كان في السفر قال في ((الأم)): يعيد لأنه نادر، وقال في ((البويطي)): قد قيل لا يعيد، لأن عذر البرد يقع عاماً في السفر، فحصل قولان في السفر. وقال أبو حنيفة: لا يعيد بحال سواء كان في الحضر أو في السفر، واحتج بما روى عمرو بن العاص قال: احتملت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت وصليت بأصحابي الصبح، فذكتر ذلك للنبي (صلى الله عليه وسلم) فقال: ((يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب)) فقلت: إن سمعت الله تعالى يقول: {ولا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29] فضحك النبي (صلى الله عليه وسلم) ولم يقل لي شيئاً. فدل أنه لا يجب القضاء، لأنه لم يأمره به، وهذا غلط لما ذكرنا أنه نادر، ولا حجة في الخبر، لأنه يحتمل أنه [167 ب/ 1] أخر بيان القضاء إلى وقت الحاجة، فإنه ليس على الفور، ويحتمل أنه علم علمه بوجوب القضاء فلم يذكر ذلك. مسألة: قال: ((ولا يتيمم من مرض في شتاء ولا صيف إلا من به فرح له غور)). الفصل وهذا كما قال: المرض هو العذر الثاني في إباحة التيمم لقوله تعالى: {وإن كُنتُم مَّرضي أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [النساء: 43] إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] فأجاز التيمم للمرض. قال أصحابنا: الأمراض على ثلاثة أضرب، ضرب يخاف منه التلف إما على نفسه، أو على العضو الذي كانت العلة به، أو يخاف منه المرض المخوف كالجراحات والجدري، فيجوز له التيمم قولاً واحداً. وحكي عن طاوس، وعطاء أنهما قالا: لا يجوز له التيمم بل عليه استعمال الماء، وهذا غلط روي عن جابر- رضي الله عنه- قال: كنا في سفر فأصاب رجلان منا حجر [في رأسه] فشجه فاحتلم، فسأل الناس هل تجدون لي رخصة في التيمم؟ فقالوا: لا رخصة مع وجود الماء، فاغتسل فمات، وروي: فكن من البرد ومات، فبلغ ذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فقال: ((قتلوه قتلهم الله، هلا سألوا أو لم يعلموا، بإنما شفاء العي السؤال، كان يكفيه أن يتيمم ويعصب رأسه بخرقة ويمسح عليها ويغسل باقي جسده)) والمرض الثاني [168 أ/ 1] أن لا يخاف التلف ولا الضرر منه باستعمال الماء

كالصداع والحمى فلا يجوز له التيمم بسببه. وحكي عن مالك، وداود أنهما لا يجوز التيمم لكل مرض لظاهر قوله تعالى: {وإن كُنتُم مَّرضي} [النساء: 43] الآية ولم يفصل، وهذا غلط لقوله (صلى الله عليه وسلم): ((لا يقبل الله صلاة أمرئ حتى يضع الطهور مواضعه)) الخبر فهذا عموم يعارض عمومه، لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: ((الحمى من فيح جهنم فأبردوها بالماء فجعل شفاء الحمى الماء، فلا يكون ذلك عذراً في قول استعماله، ولأنه واجد للماء ولا يخاف الضرر من استعماله، فلا يجوز له التيمم، كما لو كان به وجع السن والمرض الثالث: أن لا يخاف منه التلف، ولكنه يخاف للزيادة في العلة أو تباطؤ البرء، قال في ((الإملاء)) و ((البويطي)) و ((القديم)): يجوز له التيمم، فظاهر ما قاله في ((الأم)) أنه لا يجوز له التيمم إلا أن يخاف التلف، فاختلف أصحابنا فيه على طرق أحدها: يجوز له التيمم قولاً واحداً، لأنه يلحقه الضرر البين باستعمال الماء، ويخاف من زيادة العلة زيادة الوجع المؤدي إلى التلف، وهذا اختيار ابن سريج، والأصطخري، وهو الصحيح عندي، ونصه في ((الأم)) متأول على أنه أراج بالمرض المخوف خوف الزيادة. والطريق الثاني: وهو الذي عليه عامة أصحابنا، واختاره أبو إسحاق المسألة على قولين: أحدها: [168 ب/ 1] لا يتيمم له، وبه قال عطاء، والحسن، وأحمد، لأن ابن عباس- رضي الله عنه- قال في تفسير الآية: إذا كانت بالرجل جراحة في سبيل الله أو قرح أو جدري فيجنب، ويخاف أن يقتل فيموت بينهم بالصعيد. والثاني: يتيمم له، وبه قال أبو حنيفة، ومالك لقوله تعالى: {وإن كُنتُم مَّرضي} [النساء: 43] فعم ولم يخص، وما ذكر عن ابن عباس فليس بتفسير، بدليل أن من كان به جرح في غير سبيل الله- عز وجل- جاز له التيمم بالإجماع، ولأن في ترك الصوم والقيام في الصلاة لا يشترط خوف التلف فكذلك ها هنا. والطريق الثالث: لا يجوز له التيم قولاً واحداً، وما قال في الإملاء، أراد به إذا يخاف زيادة يتولد منها التلف، وقد صرح في ((الأم)) فقال: لا لشين ولا لإبطاء برء، هذا لا أنه لا يجوز له التيمم للعطش إلا عند خوف التلف، كذلك ههنا، وهذا لا يصح، لأن بعض أصحابنا قولوا: إذا لم يحف التلف من التعطش بل خاف الألم والضر الشديد به فإنه يجوز له التيم في أحد الوجهين. فرع لو خاف منه الشين والشلل، قد قيل: فيه قولان، وقيل: لا يتيمم له قولاً واحداً، وقال ابن سريج، والأصطخري: يتيمم له قولاً واحداً، لأن ضرر هذا متأبد وهو

الصحيح عندي، وقال أبو الفياض، يتيم في الشلل دون الشين، لأن في الشلل [169 أ/ 1] إبطال العضو، وفي الشين فتحه، ويحتمل أن يقال في الشلل قول وحد يتيم له، وفي الشين قولان، وهذا إذا كان الشين كثيراً مثل أن يسود أكثر وجهه وتشوه خلقته، فإن كان يسيراً مثل أثر الجدري وأثر الجراحة اليسيرة فلا يجوز له ترك الماء قولاً واحداً. وقال بعض أصحابنا بخرسان: إن خاف الشين على مكان الجراحة لا يترك الماء قولاً واحداً. والقولان إذا خاف الشين في غير مكان الجراحة، والصحيح أنه لا فرق. فرع آخر لو خاف شدة الضنى، والضنى هو المرض المدنف الذي يلزم صاحبه الفراس ويضنيه. قيل: فيه قولان، قال في ((الجديد)) لا يتيمم له. وقال في ((القديم)) يتيمم له. وهذا أقيس وأصح عندي. وقيل: قول واحد أنه لا يتيمم له، والذي قال ((القديم)): أراد به الضنى المؤدي إلى التلف. فرع آخر لو لم يعلم هل يستضر من استعمال الماء أم لا؟ رجع إلى قول العدل، ولا يحتاج إلى شاهدين، لأن طريقة الخبر إذا تعذر الرجوع ليس له التيمم ذكره أبو علي السنجي. فرع آخر لو كان الطبيب فاسقاً فقال: هذا المرض مخوف يباح له التيمم مع وجود الماء، هل يقبل قوله؟ ظاهر مذهب الشافعي أنه لا يقبل قوله. وقال بعض أصحابنا: فيه وجهان: أحدها: يعتمد على قوله، لأن هذا هو من [169 ب/ 1] جنس المعاملات وقول الفاسق مقبول فيه، كالقصاب الفاسق إذا قال: هذا اللحم مذكى، أو هذا المال لفلان، أو أنا وكيله في البيع، فإنه يعتمد على قوله، والثاني: لا يعتمد على قوله فرع لو كان الطبيب صبياً مراهقاً، ظاهر المذهب أنه لا يعتمد على قوله. وقال بعض أصحابنا: فيه وجهان على نه هل تقبل دلالته على القبلة، وفيه قولان وهذا غير مشهور. فرع لو تيمم ثم ظن أن جرحه برء فلما رفع الساتر لم يبرأ لم يلزمه إعادة التيمم، وليس كمن لزمه طلب الماء، ثم لم يجد فإنه يلزمه إعادة التيمم، لأن طلب الماء شرط وطلب البرء غير واجب. وله أن يتيمم إلى أن يعرف البرء، وقيل: فيه وجهان، وكذلك لو توهم الاندمال فيه وجهان، ذكره بعض أصحابنا بخراسان وهو ضعيف.

مسألة: قال: "وَإِنْ كَانَ فِي بَعضَ جَسَدِهِ دُونَ بَعْضِ غُسْل مَا لاَ ضَرَرَ عَلَيْهِ وَتَيَمٌمَ". الفصل وهذا كما قال: إذا كان جراحات وأصابته جناية ولم يتمكن من الغسل التام، أو كان محدثاً على بعض أعضائه طهارته جراحات لا يتمكن من غسلها، فالمنصوص أنه يغسل الصحيح ويتيمم عن الجريح على الوجه واليدين. وبه قال عامة أصحابنا. وقال أبو إسحاق: يحتمل ن يخرج هذا [170 أ/1] على القولين اللذين ذكرهما الشافعي فيمن وجد من الماء ما يكفيه لبعض أعضائه، هل يلزمه استعماله؟ قولان لأنه لا يقوى الفرق بينهما. هكذا ذكره القاضي أبو حامد. وقال سائر أصحابنا: لم يذكر الشافعي في مسألتنا إلا قولاً واحداً، فلا يجوز إثبات قول آخر، والفرق أن ههنا هو واجد لما يرفع حدثه، وإذا عدم بعض الماء لا يجد ما يرفع حدثه، ولأن هناك العجز في الآلة لا في بدنه فتجعل القدرة على البعض كالا قدرة، وها هنا العجز، وهو في المحل دون الآلة، فيؤمر بالقدر الذي يمكن، كمقطوع اليد من لكوع بغسل الباقي، وهذا كالخير إذا لم يجد في كفارة اليمين بعض الطعام انتقل إلى الصوم وليس عليه إلا طعام، وإن كان بعضه رقيقاً، وبعضه حراً وهو مالك لجميع ما يلزمه من الطعام، لم يجز له الانتقال إلى الصوم فكذلك ها هنا. وقال أبو حنيفة: إن كان أكثر البدن صحيحاً يلزمه غسل الصحيح ولا يلزمه التيمم، وإن كان أكثره جريحاً يتيمم ولا يغسل منه شيئاً ولا يجمع بين الغسل والتيمم بحالٍ. فإذا تقرر هذا ترتيب عليه في التيمم وغسل ما قدر عليه، فإن شاء قدم التيمم وإن شاء آخرة، فإذا ٍ [170 ب/1] وجد من الماء ما لا يكفيه وقلنا: يلزمه استعماله، فإن يلزمه تقديم استعماله ليصير عادماً للماء ثم يتيمم، والفرق ن ذلك التيمم لعدم الماء فمما لم يعدم الماء لا يجوز له التيمم، وهذا التيمم للعجز والعجز موجود قبل غسل الصحيح، فجاز قبل غسله. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان أحدها: يلزم الترتيب فيهما. والثاني: ما ذكرنا من الفرق وهذا ليس بشيء. فإذا تقرر هذا، فإن كان جنباً فهو بالخيار في تقديم ما شاء منهما لأنه لا ترتيب في الغسل من الجنابة، وإن كان محدثاً نظر إلى موضوع الجرح، فإن كان في غير أعضاء الوضوء يعرضه الوضوء، ولا حاجة معه إلى التراب، وإن كان في أعضاء الوضوء وجب الترتيب، كما لو قدر على غسل الكل لا ينتقل إلى عضو قبل إسقاط فرض ما قبله فعليه استعمال الماء في الصحيح والتراب في القريح، فإن كان في الوجه مثلاً قدم

مسحه بالتراب مع اليد، ثم غسل ما بعده بالماء، وإنما بدأ الشافعي بالتيمم ها هنا ليزيل بعد الغسل التراب عن وجهه، وإن كان في اليدين قدم غسل الوجه، ثم إذا فرغ تيمم على الوجه واليدين لليدين، ثم يغسل ما قدر من اليدين، لأنه لا يجوز المسح على الرأس قبل إسقاط فرض اليدين، ولو كان الجرح على رأسه ورجليه ولا يمكن [171 أ/1] مسح جزء من رأسه يغسل وجهه ويديه، ثم يتيمم في وجهه ويديه للرأس والرجلين، ولا يجوز أن يقدم التيمم لمراعاة الترتيب، وبهذا قال جمهور أصحابنا، وهو المذهب، ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان: أحدهما: هذا والثاني: له أن يؤخر التيمم إن شاء، وأن يقدم إن شاء، وأن يأتي به في حلال المغسول إن شاء، لأنه فرض بنفسه ينفرد عن الوضوء، وإنما يراعى الترتيب في عبادة واحدة، فأما في عبادتين فلا يراعى كما لو فاتته صلاتان يرتب كل واحدة منهما ولا يرتب إحداهما على الأخرى. وهذا هو اختيار أبي على الستجي- رحمة الله - ولم يساعده سائر أصحابنا على هذا، وقال جدي- رحمه الله-: يغسل وجهه ويممه ولا يلزمه كمال التيمم، وكذلك في اليد، وعلل بأن كل عضو منفرد بنفسه واختار هذا، وعندي أنه لا وجه لهذا الاختيار. فإذا تقرر هذا، فلو أمكنه أن يغسل رأسه ولا يصيب القرح الذي في وجهه، بأن يستلقى أو يقنع رأسه فإنه يلزمه غسله، لأنه يقدر على غسله من غير ضرر يلحقه، وإن قدر على غسل ما حوالي القرحة فإنه يلزمه غسلها، وإن خاف إذا صب الماء عليه أن يتفش إلى القرح. قال في "الأم": أمسه الماء إمساساً [171 ب/1] لا يفيض وأجزاء. فأقام المسح مقام الغسل، وحكم بجوازه للعذر، قال أصحابنا: حكم بجوازه مع التيمم، لأن التيمم ينوب عن جميع الغسل إذا تعذر، فالآن ينوب عن صفة الغسل وهي إفاضة الماء أولى إذا عجز عنها وقدر على المسح، وإن كان القروح في ظهره ولا يضبطه. قال في "الأم": إن كان من يضبطه برؤيته أمره بغسل الصحيح، وكذلك إن كان عمى ولا يضبط هذا في شاء من بدنه يلزمه أن بغسل الصحيح من بدنه، فإن لم يكن هناك أحد يصليان بالتيمم بعد غسل ما قدر عليه، والتيمم على الوجه واليدين، ثم يعيدان عند القدرة كما قلنا في الأقطع، وكذلك المريض إذا لم يقدر على من يوضئه وهناك ماء، ولو كانت له أفواه مفتحة على موضوع التيمم أمر التراب على ما انفتح منها لأنه لا ضرر عليها من التراب. وقد صار ظاهراً. فرع لو توضأ وتيمم للجرح ثم برأ الجرح حقيقة يغسل ما برأ، ثم يعيد غسل ما بعده على الترتيب، لأن جواز ذلك كان للعذر، وقد ارتفع العذر. وقال بعض أصحابنا: هل يلزمه الاستئناف أو يكفي غسل ذلك الموضوع؟ قولان بناء على ما لو نزع الخف هل يعيد الوضوء أو يكفيه غسل الرجلين؟ قولان، وهذا لا يصح لأن هناك لا يؤدي إلى ترك [172 أ/1] الترتيب. بخلاف ها هنا فلا معنى فيه للقولين.

فرع آخر لو كان الجرح على وجهه ويديه ورأسه بحيث لا يقدر على مسح شيء منه أصلاً ورجله يغسل ما قدر من وجهه ويتيمم لباقيه، ثم يغسل ما قدر من يديه ويتيمم للباقي، ثم يتيمم لمسح الرأس، ثم يغسل ما قدر من رجليه، ويتيمم لما بقي فيحتاج إلى أربع تيممات كما ذكرنا من مراعاة الترتيب، ثم إذا دخل وقت صلاة أخرى عاد حكم الحدث في حق الفريضة الثانية فيعيد التيممات ويراعى الترتيب، ولا يلزمه إعادة ما غسل من الوجه، ويلزم إعادة ما بعده. فإن قيل: أليس التيمم يقع على جميع الأعضاء الأربعة ويسقط به الفرض دفعة واحدة من غير مراعاة الترتيب، .... ويكفيه تيمم واحد. كما قال أبو علي- رحمه الله، قيل: إذا وقع عن جملة الوضوء كان الحكم له دون أعضاء الوضوء، وههنا ينوب عن بعضها، ويفعل بعضها فعتبر فيما يفعل من ذلك الترتيب. مسألة: قال: "وَإِنْ كَانَ عَلَى قُرْحِهِ دًمُ يَخَافُ غُسْلَهُ تَيَمٌمَ وَصَلَ وَأَعَادَ" وفي نسخة: "وإن كان على قروحه". وهذا كما قال: إذا كان على قرحه دم يخاف عسله وهو جنب ومحدث، ولكن الجرح كان على بعض أعضاء وضوءه، ولولا الخوف لم تجزه الصلاة دون غسله ذلك يتيمم [172 ب/1]، لترك غسل بعض أعضاء الطهارة للعذر، ثم عليه إعادة الصلاة، لأنه صلاها مع نجاسة لا يعفى عن غسل مثلها. والتيمم إنما يكون بدلاً عن الغسل في طهارة الحدث لا في طهارة النجس. وقال أبو حنيفة: يصلي بالتيمم ولا يعيد. وبه قال المزني، وقد قال ابن خيران: للشافعي قول في القديم أنه يلزمه الإعادة. وسائر أصحابنا قالوا: هذا قول الربيع والمزني، فالمسألة على قول واحد أنه يعيد لأنه عذر نادر لا يدوم. فرع لو كان عليه نجاسة ولا ماء معه لا يتيمم لأجل النجاسة، وروى عن أحمد أنه قال: يتيمم لها، لأن إزالة النجاسة إحدى الطهارتين فينوب عنها التيمم كالطهارة من الحدث، وهذا غلط لأن التراب لو ناب عن الماء لكان يقع في محله كالاستنجاء، والوضوء. فرع آخر لو كان محدثاً وعلى بدنه نجاسة ومعه ما يكفيه لأحدهما يقدم إزالة النجاسة. قال أحمد: يقدم إزالة الحدث، وهذه ول مسألة خالف فيها أبو حنيفة أستاذه حماداً، وهو

غلط، لأن الماء إذا استعمله في إزالة النجاسة ثم تيمم يصلي طاهراً من النجاسة بالماء، ومتيمماً عن الحدث ولا يلزمه إعادة الصلاة، وإذا استعمله في الحدث يصلي مع النجاسة ولا ينوب عنها التيمم وتلزمه الإعادة، فكل ما قلناه [173 أ/1] أولى. فرع آخر هل يجوز أن يتيمم لحدثه قبل استعمال الماء في نجاسته؟ وجهان: أحدهما: يجوز، لأنهما طهارتان مختلفتان عن شيئين فلا تكون إحداهما بالتقديم أولى، وهذا أصح. والثاني: لا يجوز، لأن التيمم إذا لم يستبح به الصلاة كان باطلاً، وإذا تقدم مع بقاء النجاسة لا تستباح به الصلاة، وهذا غلط، لأن المقروح يقدم التيمم على الماء، وإن كان لا يستبيح به الصلاة. مسألة:)) وَإِذًا كَانَ في الْمِصْرِ في خًشً، أَو مَوْضَعٍ نَجِسٍ، أًوْ كَانَ مَرْبٌوطاً عَلَى خَشَبَةٍ صًلَّى يُومِاءُ وًيًعُيدُ إِذَا قَدَرَ)) وهذا كما قال الحش: هو البستان من النخيل كان الناس يأتونه للغائط والبول، فلما حدثت هذه الكنف استعاروا هذا الاسم، وحملته أنه إذا حبس الإنسان في موضع نجس وهو متطهر فدخل عليه وقت الصلاة ومعه ما يستر به عورته، يستر عورته ويحرم بالصلاة ويأتي بالقيام والقراءة والركوع، فإذا أراد أن يسجد فإنه يدنى رأسه من الأرض إلى أقصى ما يقدر عليه ولا يضع جبهته وأنفه ولا يديه ولا ركبتيه على الموضع النجس، فإذا بلغ التشهد فإنه يتشهد قائماَ، ولا يجوز له أن يجلس للتشهد على الموضع النجس. وقد روى عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم [173 ب/1] قال: ((إذا لم يقدر أحدكم على الأرض، وإذا كنتم في طين وقصب أو مؤوا إيمان)). وروي ن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصلاة في الرداغ والقصبا فقال: ((إذا لم يستطيع أحدكم أن يسجد فليوماء إيماء)). ومن أصحابنا من قال: يكون على رجليه عند التشهد بحيث لا يكون على الأرض منه إلا رجلاه، ةهذا هو أصوب عندي. ومن أصحابنا من قال: إنه يسجد على الموضع النجس كما يسجد على الموضع الطاهر، وقول الشافعي: صلى يوماء يرجع إلى مسألة المربوط؛ لأنه لا يقدر على أكثر من الإيماء. فأما المحبوس في الحش فلا، وهذا لأن السجود ركن من أركان الصلاة، والطهارة شرط من شرائطها، فلا يجوز له ترك الركن المقدور لعدم الشرط، وهذا خلاف ظاهر النص، ألا ووجهه أن فرض الصلاة قد يسقط مع ترك السجود والركوع إلى الإيماء، ولا يسقط مع مباشرة النجاسة.

وذكر بعض أصحابنا ما يدل على أنه يضع أعضاء السجود على النجاسة ويدنى جبهته إلى الأرض، وهذا أيضاً غلط. وحكى الطحاوي، عن أبي حنيفة أنه لا يصلي صلاً، وقال صاحب ((الحاوي)): عندنا هل يصلي واجباً أو استحباباً؟ قولان: أحدهما: قال في ((القديم)) وإملاء)): يصلي استحباباً [147 أ/1]. والثاني: قاله في ((الجديد)). وفي ((الأم)): يصلي واجباً ولا شك أنه يحل له أن يصلي بحرمة الوقت وهذا غريب. فرع إذا صلى هكذا، قال بعض أصحابنا: هل يلزمه إعادة الصلاة؟ قولان. قال في ((القديم)): لا تلزمه الإعادة. ومن أصحابنا من قال: يلزمه إعادتها قولاً واحداً خلافاً للمزني، ولا يصح القول الآخر عن القديم، وهذا لأنه نادر لا يدم فلا تسقط الإعادة. فرع آخر إذا أعادها. ماذا يكون فرضه؟ قال في ((الأم)) الثانية فرضه لأنه لا يعتد بالأولى، وإنما أمرته بها لأنه يقدر على الصلاة بحال فلا أدري ن يمر به وقت الصلاة ولا يصلي كيف أمكنه. وقال في ((الإملاء)): كلتاهما فرضه لأنه لا يعتد بالأولى وإنما أقرته بها لأنه يقدر على الصلاة بحال فلا أرى أن يمر به وقت صلاة ولا يصلي كيف أمكنه وقال في الإملاء: كلتاهما فرضه لأنه أتي ببعض الأفعال في الأولى وباقيها في الثانية، والله تعالى يحتسب له بهما؛ لأن فعلهما كان فرضاً متوجهاً عليه. وهذا اختيار بعض مشايخنا. وقال في ((القدم)): الأولى في فرضه، والثاني سنة، وهذا هو غير قول المزني، وخرج أبو إسحاق قولاً رابعاً أن الله تعالى يحتسب له بأيهما شاء، وإنما خرجه من قول الشافعي في ((القديم)) إذا صلى من [174 ب/1] لا عذر له الظهر يوم الجمعة، ثم حضر الجامع وصلى الجمعة يحتسب الله تعالى له بأيتها شاء فحصل أرعة أقوال، والمشهور الأول، ومن بصر قول الإملاء قال: هذا الذي خرجه أبو إسحاق لا يصح؛ لأنه وجب عليه أن يسقط فرضه بالجمعة ولم يأمره بهما، وها هنا أمر بهما فيجب ن يكونا فرضين. فرع آخر لو قدر على شيء طاهر يبسطه على الموضع النحس سوى ما يستر به عورته يلزمه أن يبسطه، ويصلي عليه حتى لو قدر على أن يفرش تراباً طاهراً يلزمه أن يفرشه ويصلي عليه ولا إعادة. وقال بعض أصحابنا بخراسان لو كان على بدنه ثوب طاهر يستر العورة فإنه ينزعه ويبسطه، ويصلي عارياً لتكون صلاته على موضع طاهر في أحد الوجهتين. وهذا هو

خلاف المذهب المشهور. وأما المربوط على خشية. فإنه يأتي بما قدر عليه ويوماء بما لا يقدر عليه، والذي يقدر عليه التكبير والقراءة والتشهد ويلزمه الإعادة، وهكذا الأسير يمنع والمستكره، ومن حيل بينه وبين تأدية الصلاة صلى كما قدر جالساً ومومئاً وأعادها إذا قدر. نص عليه في ((الأم))، وقال القفال: إن كان المربوط مستقبل القبلة لا إعادة، وإن كان إلى غير القبلة فإنه تلزمه [175 أ/1] الإعادة، وهكذا الغريق يتعلق بعود ويصلي بالإيماء، وذكره ابن أبي أحمد في ((التلخيص)) وهو خلاف النص المشهور، وقيل: هل يعيد الغريق؟ قولان على الإطلاق، وفي المريض إذا لم يجد من يوجهه إلى القبلة صلى كيف قدر وهل يعيد؟ قولان كالغريق، وقيل: قول واحد أنه يعيد؛ لأنه يندر في حقة ذلك في الغالب. مسألة: قال: ((وَلَوْ أَلْصَقَ عَلَى مَوْضِع التَّيمٌمِ لُصُوقاً نَزَعَ اللٌصُوقَ وَأَعَادَ)). وهذا كما قال. اختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة فمنهم من قال: صورتها ألا يكون القرح على موضع التيمم فألصق عليه لصوقاً يمنع إيصال التراب إلى البشرة، مثل الكاغد أو القطنة، ولا يخاف من نزعه الضرر ولكن يخاف من إمرار المء على ما تحته؛ ولا يخاف من إمرار التراب عليه إذ لاضرر منه، يلزمه غسل ما قدر عليه ويتيمم على الوجه واليدين، وبنزع اللصوق وهو التراب عليه ويصلى ولا يعيد الصلاة. وقوله: وأعاد: أراد إعادة اللصوق على موضعه. ومن أصحابنا من قال: صورتها أنه يخاف من نزعه الضرر لإيصال الغبار إلى ما تحته يتيمم فوق اللصوق، ويكون حكمه حكم الجبيره يمسح عليه ويعيد الصلاة إذا قدر. ونص عليه في ((القديم)) فقال: يمسح على اللصوق إذا لم يكن نزعه وقوله أعاد: أي أعاد [ب 175/ 1] الصلاة إذا برأ وقدر على نزعه، وهذا على القول الذي يقول: إن صاحب الجبائر يعيد الصلاة وهذا أولى؛ أن الشافعي يتكلم في الأحكام وإعادة اللصوق إلى موضعه ليس بحكم بل هو تدبير للجريح. مسألة: قال: ((وَلاَ يَعْدُو بِالْجَبَائِرِ مَوْضِعِ الْكَسْرِ)). وهذا كما قال: الجبائر هي ألواح من الخشب، أو من الصب تربط على العظم المكسر من الساق أو الساعد لتنجبر، واحدتها جبيرة وجبارة، وجملته أنه إذا انكسر عضواً من أعضائه وأراد شد الجبائر عليه شدها على الطهارة، كالخفين يلبسهما على الطهارة إذا أراد المسح عليها، ولا يعدوا بالجبائر موضع الكسر وحوله الذي لا يمكن الجبر إلا بوضعها عليه، وفيما نقله المزني خلل؛ لأنه لم يقل وحوله، والشافعي كان قد قال ذلك، وقيل: هذا مراد المزني وإن لم ينقل ذلك، واللفظ محتمل فلا خلل فيه، ثم إذا وضعها كذلك فدخل وقت الصلاة وقد أحدث، فإن لم يخف من حلها ضرراً

لزمه حلها، وإن خاف من حالها ضرراً مسح على الجبائر جنباً كان أو محدثاً في كيفية المسح. أحدهما: يستوعبها بالمسح؛ لأنه مسح أقيم مقام الغسل للحجز لا على وجه الرخصة، فأشبه مسح التيمم، فعم العضو الذي يكون فيه. والثاني: يكفي ما يقع عليه الاسم وهو الأظهر؛ لأنه مسح بالماء كمسح الرأس والخفين [176 أ/1]، أو مسح على حائل منفصل كمسح الخف، ولا يكون مقدراً بمدة قولاً واحداً، بل يمسح إلى أن يبرأ ويقدر على حلها؛ لأن الحاجة تدعو إلى هذا المسح من غير تأقيت، بخلاف المسح على الخفين، ولهذا فرق في المسح على الخفين بين الحدث الأصغر والحدث الأكبر وهي الجنابة بخلاف هذا. وذكر بعض أصحابنا بخراسان وجهاً أنه يتقدر بيوم وليلة كمسح الخف وليس بشيء، وإذا تطهر ومسح عليها بالماء ففي التيمم للقدر الذي لم يصل الماء إليه قولان: أحدهما: قاله في ((القديم)) ونقله المزني أنه لا يحتاج إليه؛ لأنه مسح على حائل دون العضو، فاقتصر عليه كالمسح على الخف. والثاني: لا بد من التيمم نص عليه في ((الأم)) لأنه ترك إيصال الماء إلى العضو بخوف التلف، فلزمه التيمم كالجريح، ولأن الكثير يجوز أن يكون كالماسح، على الخفين، فيكفيه المسح، ويحتمل أن يكون كالجريح فيكون فرضه التيمم فجمعنا بينهما احتياطاً. ومن أصحابنا من قال: يُنظر، فإن كان تحت الجبيرة جراحة لو كانت ظاهرة لا يلزمه غسلها للخوف فإنه يلزمه التيمم، وإن لم يكن ذلك لا يلزمه التيمم، وهذا هو اختيار بعض مشايخ خراسان، فإن قلنا: لا يتيمم عليه أجرأة المسح بالماء من الحدث إلى الحدث كالمسح على الرأس. فإذا قلنا: يلزمه التيمم يلزمه أن يحدث لكل فريضة يتيممها؛ أنه لا يجمع بتيمم واحد بين صلاتي فرض، وليس عليه [176 ب/1] غسل الصحيح بكل صلاة، ولا إعادة المسح ما لم يحدث وعلى الترتيب على ما بيننا، وهو أن لا ينتقل إلى عضو حتى يسقط فرض ما قبله، فإن كان الكسر في نفه لم يغسل اليدين حتى يسقط فرض الوجه بغسل الصحيح، والمسح على الجبيرة بالماء والتيمم على الظاهر ولحائل واليدين، ثم ينتقل إلى اليدين، وإن كان الكسر في اليد غسل وجهه ويديه على الإمكان، ويمسح على الجبيرة ويتيمم، ثم ينتقل إلى مسح الرس، وإن كانت جبائر يرفع جبائر إحدى يديه لا يلزمه رفع الجبائر عن اليد الأخرى، بخلاف ما إذا نزع أحد الخفين فإنه يلزمه نزع الخف الآخر؛ لأنه قد يتصور في يد واحدة على الانفراد. بخلاف المسح على الخف بأنه لا يتصور في إحدى الرجلين مع وجودهما. فإذا تقرر هذا وصلى على هذه الطهارة هل يلزمه إعادة الصلاة؟ قال الشافعي: إن صح حديث على- رضي الله عنه- أنه انكسر إحدى زنديه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسح على الجبائر)) قلت به، يعني لم يأمره بإعادة الصلاة، فإن صح قطعت القول به، وهذا

مما (استخير) الله تعالى فرأى كلا القولين محتمل، ولكل واحد وجه، وهذا من الشافعي دليل على مسألة في الأصول، وهو أن السكوت وعدم النقل دليل على عدم الحكم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم [177 أ/1] سكت عن الإعادة فجعله دليلاً على نفي وجوب الإعادة. واختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: إن صح الخبر فلا إعادة قولاً واحداً، وإن لم يصح فعلى قولين، والخبر لم يصح لأنه رواه أبو خالد عمرو بن خالد الواسطي، عن زيد بن علي بن الحسين بن على عن آبائه، عن علي- رضي الله عنه، قال أحمد، ويحي بن معين، وإسحاق، وأبو زرعة وغيرهم: أبو خالد هذا ضعيف يضع الحديث، وكان كذاباً، وزيد عن أبائه مرسل. ومن أصحابنا من قال: صح الخبر ولم يصح فيه قولان، والطريق الأول هو أصح، ووجه قولنا يلزمه الإعادة أنه ترك غسل العضو لعذر نادر غير متصل، فصار كما لو ترك غسل الغسل ناسياً ووجه قولنا لا تلزمه الإعادة وهو الصحيح عندي؛ حديث جابر- رضي الله عنه- في الذي أصابته الشجة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما كان يكفيه أن يتيمم)) ويعصب على جرحه خرقة ويمسح عليها ويغسل سائر بدنه. ولم يذكر الإعادة وكان الفرص بذلك البيان، وإذا ثبت ها هنا أنه إعادة ثبت في مسألتنا، وأما قول القائل الأول: إنه نادر، قلنا: ليس كذلك لأنه يقع في الغالب، ومن جملة الأمراض، وهذا كله إذا وضعها على طهر، فأما إذا وضعها على غير طهر يلزمه نزعها إن لم يخف [177 ب/1] التلف، وإن خاف التلف لا يلزمه نزعها. وقال الشافعي في ((الأم)): لم يسمح عليها، ولم يرد به أنه لا يجوز له المسح، بل يلزمه المسح، ولكن أراد به أنه لا يسمح مسحاً يعتد به في سقوط الفرض بحيث لا تلزمه الإعادة بقول واحد تلزمه الإعادة. ومن أصحابنا من قال: هل تلزمه الإعادة ها هنا أيضاً؟ قولان، لأن الشافعي قال: وإن خاف الكسير غير متوضاء التلف إذا ألقيت الجبائر ففيها قولان، وهذا غلط. وهو بخلاف ما توهم هذا القائل؛ لأن معنى قوله: غير متوضاء أي وقت الحاجة إلى المسيح غير متوضاء، وكان الوضع على الوضوء ثم أحدث، والدليل على هذا هو أن هذا اللفظ منقول عن الجديد، وفي الجديد لزوم الإعادة إذا وضعها على غير طهر قولاً واحداً، وكذلك إذا عدا بالجبائر موضع الحاجة فإنه يلزمه إعادة الصلاة قولاً واحداً. ومن أصحابنا من قال: إن لم تضع على طهر أعاد، في ((الجديد)) قولاً واحداً، وفي ((القديم)) قولان، وإن وضع على طهر ففي الجديد قولان، وفي القديم: لا يعيد قولاً واحداً، ووجه قول القديم في سقوط الإعادة، وإن كان الوضع من غير طهر [178 أ/1] أنه يجوز هذا المسح للعجز والضرورة لا للرخصة، فلا يشترط وجود شرط الجواز وهو الطهر، بخلاف المسح على الخفين. وهذا يحكى عن أحمد في رواية، ولا يصح عن الشافعي أصلاً.

فرع لو كانت الجبائر على موضع التيمم، فإن قلنا: يكفيه المسح بالماء مسح وأجزأه، وإن قلنا: يحتاج إلى التيمم معه يمسح بالماء ويتيمم ويمسح بالتراب على الجبائر، وتلزمه الإعادة للصلاة قولاً واحداً، لأن الجبائر لا يجزاء مسحها عن التيمم، ولا يكون بدلاً عن بدل، ذكره القاضي الطبري. وسائر أصحابنا لم يفصلوا هكذا، وهو على ما ذكر رحمه الله، وحكم اللصوق حكم الجبائر إذا جعلناه كالجبائر على ما تقدم ذكره، وهكذا لو وضع على جرحه دواء لا يقلع حتى يندمل، كالعلك والصمغ يكون كاللصوق والجبائر. فإذا تقرر هذا، اختار المزني من القولين أنه لا تلزمه الإعادة، وقاس على ذلك جميع المسائل التي قدمناه ذكر بعضها، واحتج بأربعة مسائل: إحداها: المستحاضة: فإن الحدث والنجاسة بها موجودة ولا تلزمها الإعادة. والثانية: المستأنف يصلي إيماء ولا يعيد. والثالثة: العريان يصلي ولا يعيد. والرابعة: من معه ماء ويخاف العطش يتيمم ولا يعيد، ثم قال: كما جعلنا الماء الموجود في حق العطشان كالمعدوم كذلك [178 ب/1] الدم على الجراحة يجعل كالمعدوم في جواز الصلاة عند إزالته، والجواب عن الكل أن يقول الأعذار قسمان، قسم هو عام، وقسم هو نادر. فالعام مثل العري والمرض الذي يعجزه عن القيام والقعود، وخوف العطش في السفر، والمسابقة، فإن الناس كثيراً يمرضون وفيهم فقراء لا يجدون ما يستر العورة، ويضطرون إلى مقاتلة الأعداء، والأسفار، فلا تجب الإعادة في شيء من ذلك. وأما النادر فقسمان: قسم إذا وقع دام كالاستحاضة فلا تجب الإعادة، وكذلك سلس البول، لأنٌا لو لزمنا الإعادة أدى إلى مشقة عظيمة، والأمر إذا ضاق في الشرع واتسع. وقسم إذا وقع لا يدوم كالدم على الجرح يخاف غسله, والحبس في الجيش وغير ذلك, فلا تسقط الإعادة؛ لأنه لا يؤدي إلى المشنقة عامة لقلة الصلوات التي تأمره بإعادتها ومسألة الجبيرة من أصحابنا من ألحقها بالنادر الذي يدوم, ومنهم من ألحقها بالذي لا يدوم, ثم ناقص المزني بأعذار نادرة تجب الإعادة معها: منها: لو أقعده عذر عن القيام في الصلاة يصلي قاعداً تلزمه الإعادة. ومنها: لو حيل بينه وبين الماء في البلد, والماء موجود فتيمم وصلى أعاد, وكذلك من لم يجد ماء ولا تراباً [179 أ/ 1] يصلي ويعيد. فرع ذكره والدي الإمام - رحمه الله:- وهو إذا منع الرجل التوضئ إلا متكوسا ولا ماء غيره هل يتيمم؟ قولان, وذلك أنه يتمكن من تحصيل طهارة الوجه فقط, فهو كما

لو وجد ما لا يكفيه لوضوءه, هل يلزمه استعماله؟ فيه قولان, ولا تلزمه إعادة الصلاة إذا أمتثل المأمور به على القولين. مسألة: قال: ((ولا يتيمم صحيح في مصرٍ لمكتوبةٍ ولا لجنازةٍ)). وهذا كما قال لا يجوز للصحيح المقيم أن يتيمم مع وجود الماء بخوف فوت صلاة, سواء كانت صلاة بجنازة أو صلاة العيدين أو غيرها. وبه قال مالك, واحمد, وأبو ثور, وقال الشعبي, وابن جرير, وداود: و ((لا تفتقر صلاة الجنازة إلى الطهارة أصلاً لأنها دعاء للميت, وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم)) , وهذا غلط لقوله تعالى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] الآية, وهي صلاة بدليل قوله تعالى: {ولا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] ولأنها عبادة تفتح بالتكبير يلزم فيها استقبال القبلة تفتقر إلى الطهارة كسائر الصلوات. قال أبو حنيفة, والثوري, والأوزاعي, والليث: إنه يجوز التيمم لها مع وجود الماء إذا خاف فوتها, واحتج الشافعي عليه بأنه لو جاز ذلك لجاز لفوت صلاة الجمعة؛ لأنها أكد, فإذا لم يجز التيمم عند وجود [179 ب/ 1] الماء لخوف فوت الأوكد, فلان لا يجوز لخوف فوت الضعف أولى, فإن قيل: الجمعة لا تفوت إلا بدل وهو الظهر, فإن الظهر بدل عنها, وصلاة الجنازة تفوت لا بدل. قيل: لا يسلم؛ لأن عندنا يصلي على القبر فلا يفوت, ثم أبدى الشافعي الحجة بما روى, عن ابن عمر- رضي الله عنه- أنه كان لا يصلي على جنازة إلا متوضئاً. وهذا ليس بإخبار عن ابن عمر, ولكنه إشارة إلى الخبر الذي رويناه في تفريق الوضوء, وهو أنه أتى المصلى والجنازة موضوعة فدعا بماء ومسح على خفية, ثم صلى, فلو جاز أداء هذه الصلاة بالتيمم مع وجود الماء كان الأشبه أن لا يؤخر ابن عمر الصلاة, إلا أن يؤتى بماء بعد نهي عن تأخير الصلاة عليها بعد ما وضعت, وإنما خص ابن عمر بالرواية عنه لهذا المعنى أيضًا. وقد روى عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يصلى على الجنازة إلا بوضوء)). مسألة: قال: ((فإن كان معه في السفر من الماء ما لا يغسله للجنابة غسل أي بدنه شاء)). الفصل وهذا كما قال, إذا كان في السفر فأجنب ووجد من الماء ما يكفيه لغسل بعض بدنه, أو أحدث ووجد من الماء ما يكفيه لبعض أعضاء وضوءه, ففيه قولان: أحدها:

[(179) أ/ 1] أنه يلزمه استعمال الماء وهو الصحيح, وبه قال عطاء, ومالك, والحسن بن صالح بن حي, ويعمر بن راشد, وهذا لأنه شرط من شرائط الصلاة, فإذا قدر بعضه يلزمه إتيانه كستر العورة وإزالة النجاسة. والثاني: يستحب له استعماله ولا يجب, بل يقتصر على التيمم نص عليه في ((الإملاء)) والقديم. وبه قال أبو حنيفة والثوري, والأوزاعي, وداود, والمزني وروي ذلك عن الزهري. وحكي عن أحمد أنه قال: الجنب يستعمل الماء ويتيمم, والمحدث يتيمم فقط, ومن أصحاب أحمد من يقول المحدث كالجنب أيضا. وروى عن الحسن أنه قال: إذا كان معه من الماء ما يغسل به وجهه ويديه غسلهما ولا يتيمم؛ لأنه قادر على غسل محل التيمم. وروى مثله عن عطاء, وزاد عليه فقال: إذا وجد من الماء ما يغسل به غسله, ومسح كفيه بالتراب, واحتج المزني على اختياره بان كل أصل له بدل وجود بعضه كلا وجود لوجود بغض الرقبة في الكفارة كلا وجود, والجواب عن هذا نص الكتاب فرق بينهما, قال الله تعالى في الكفارة {َمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} [النساء: 92] يعني من لم يجد رقبة وبغض الرقبة لا يسمى رقبة, وها هنا قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] وبعض الماء يسمى ماء فلا يجوز له التيمم مع وجوده, وأيضا إعتاق نصف الرقبة بعد صوم [180/ 1] شهرين لا يفيد, لا في هذه الكفارة ولا في غيرها, وههنا يفيد ما يستعمل من الماء؛ لأنه إذا وجد ماء آخر فإنه يتيمم به وضوءه ويستبيح به, وبما تقدم الصلاة المستقبلة, فلهذا فرقنا بينهما, ولا يصح ما قاله الحسن لأن غسل الوجه واليدين بعض الطهارة, وبعض الطهارة لا ينوب مناب جميعها. فإذا تقرر هذا, فإن قلنا: يستحب استعماله, فإن كان جنبًا غسل رأسه وتيمم, وإن كان محدثا غسل وجهه وتيمم, وإن قلنا: يلزمه استعماله, فإن كان جنباً غسل أي موضوع شاء من يديه ثم تيمم؛ لأنه لا ترتيب فيه, ولكن قال بعض أصحابنا: يستحب أن يبدأ بأعاليه من رأسه وما يليه, وإن كان محدثا يلزمه الترتيب, فيغسل وجهه ثم يديه حتى يفنى الماء الذي معه, وقبل استعمال هذا لا يجوز له التيمم, نص عليه في ((الأم)). ومن أصحابنا من قال: أصل القولين في هذه المسألة تفريق الوضوء, فإن جوزنا تفريق الوضوء يلزمه استعماله؛ لأنه يرجو وجود ما بعد ذلك فيغسل باقي بعض أعضائه, فإن لم يجوز التفريق لا يلزمه استعماله, ومن أصحابنا من قال: هما قولان بأنفسهما وهو الأصح؛ لأن تفريق الوضوء بالعذر يجوز قولاً واحداً, وههنا هو معذور فيجب أن يلزمه استعماله قولاً واحداً.

فرع لو وجد من الماء ما لا يكفي لوضوءه ولا يجد التراب. قال أصحابنا: يلزمه استعمال [أ 181/ 1] الموجود قولاً واحداً؛ لأنه لا يقدر على البدل الكامل ها هنا بخلاف غير هذا الموضوع ويفارق بعض الرقبة لا يلزمه إعتاقه, وإن لم يقدر على الصوم؛ لأن الكفارة ليست على الفور فلا يخاف فوتها, فنأمره بالتأخير بخلاف الصلاة فأمرناه أن يأتي بالمقدور, ويحتمل عندي أن يقال: يجعل كأنه لا يجد ماء ولا ترابا؛ لأن هذا القدر من الماء لا يرفع حدثه. فرع لو وجد من التراب ما يكفي لوجهه وحده فيه وجهان: أحدهما: يلزمه استعماله؛ لأن التراب لا بدل له كما لو قدر على بعض ستر العورة. والثاني: لا يلزمه استعماله؛ لأن الطهر لا يتم باستعمال الموجود وليس للمعدوم بدل يأتي به حتى يسقط عنه فرض الطلب, فيكون حاله ما يستعمل القدر الموجود من التراب مخاطبا بطلب ما يستعمله في طهارته, والتيمم مع وجوب طلب الطهور لا يجوز. فرع آخر لو تيمم من الحدث لعدم الماء, ثم وجد من الماء ما يكفيه لبعض أعضاء وضوءه هل يبطل تيممه؟ قولان, وكذلك لو تيمم عن الجنابة وصلى صلاة الفريضة, ثم وجد من الماء ما يكفيه لبعض بدنه, هل يبطل تيممه؟ قولان. وكذلك لو تيمم عن الجنابة وصلى صلاة الفريضة ثم وجد من الماء ما يكفيه لبعض بدنه هل يبطل تيممه؟ قولان فإذا قلنا: فإذا قلنا: لا يبطل يصلي ما شاء من النوافل بالتيمم السابق, وإذا [181 ب/ 1] قلنا: يبطل لزمه استعماله ثم يتيمم تيمماً أخر, ثم يصلي به فريضة وما شاء من النوافل. فرع آخر لو أجنب رجل واغتسل وبقي لمعة على غير أعضاء الوضوء لم يغسلها, ثم أحدث وتيمم, ثم وجد من الماء ما يكفيه لغسل تلك اللمعة ولا يكفيه للوضوء, فإنه يغسل به تلك اللمعة, وهل يعيد عن الحدث؟ على هذين قولين, فإن قلنا: يلزمه استعماله في الابتداء أعاد التيمم ها هنا, وإلا فلا يعيد, وإنما يعيد التيمم على القول الأول؛ لأن تيممه كان بدلاً عن وضوءه وباقي غسله, فلما وجد الماء انتقض في حقه؛ لأنه ليس لذلك الماء اختصاص بأحدهما دون الآخر, غير أنه أتم غسله ونفى الحدث وقد بطل التيمم في حقه فيعيد, وعلى القول الأخر ذلك الماء القليل اختص بإتمام الغسل به إذا لم يكن كافياً للوضوء فلا يبطل التيمم في حق الوضوء.

فرع آخر لو أجنب رجل ولم يجد الماء فتيمم وصلى فريضة واحدة ثم أحدث لم يجز له أن ينتقل لأجل الحدث, ولو وجد من الماء ما يكفيه لأعضاء وضوءه ولا يكفيه لجميع بدنه. قال ابن سريج: إذا قلنا لا يجب استعماله لو توضأ بهذا الماء ارتفع حدثه, وله أن ينتقل من غير تيمم؛ لأن التيمم الذي فعله للجنابة باق لم يزل حكمه, وغنما حصل المنع بالحدث. فإذا توضأ زال حكمه فجاز [182 أ/ 1] له أن ينتقل, وليس له أن يصلي به فريضة أخرى؛ لأن هذا الوضوء لا ينوب عن الجنابة, وقد يصلي فريضة واحدة بالتيمم وهو بمنزلة جنب تيمم وصلى به فريضة, ثم إصابته نجاسة يجب غسلها, فحرم عليه فعل النوافل, ثم غسل النجاسة زال المنع وعاد إلى حالته الأولى في استباحة النفل دون الفرض, كذلك هاهنا, وليس على أصلنا وضوء نستبيح به النوافل دون الفريضة إلا في هذا الموضوع, فإن لم يتوضأ به وأراد أن يتيمم جاز على هذا القول, ثم نوى بالتيمم الفريضة يصليها والنوافل معها, وإن نوى به النافلة يصح ويستبيحها دون الفريضة؛ لأنه يجوز أن يستبيح بهذا التيمم الفريضة والنافلة فجاز أن يستبيح به النافلة وحدها. وقال القاضي الطبري: لا يصح تيممه عندي للنافلة؛ لأنه يقدر على الوضوء لها فلا يستبحها بالتيمم, ويفارق التيمم الفريضة لأنه ينوب عن الجنابة, وإذا تيمم للنافلة ناب تيممه عن الوضوء, فإن قيل: إذا لم يستبيح الفريضة بالوضوء فكيف يستبيحها بالتيمم؟ قيل: لأن الوضوء يزيل منع الحدث فقط, والتيمم يزيل منع الجنابة والحدث, ألا ترى أنه لو لم يحدث وتيمم استباح الفريضة, ولو وجد هذا القدر من الماء فتوضأ به لم يستبح الفريضة, ولو كانت المسألة بحالها ما حدث [182 ب/1] قبل الفرض, ثم توضأ بهذا القدر من الماء. قال والدي الإمام- رحمه الله: هل أن يصلي به الفرض؟ يحتمل على وجهين, والأظهر جوازه, وإن كانت المسألة بحالها فدخل وقت العصر قبل الحدث هل له أن ينتقل؟ وجهان: أحدهما: له ذلك, والثاني: ليس له ذلك, لأنه عاد بدخول وقت فريضة أخرى إلى معناه الأول, وإن قلنا: إنه يلزمه استعمال ما لا يكفيه من الماء فإن تيممه قد بطل بوجود الماء القليل, فيلزمه استعماله ولو توضأ به لا ينتقل ما لم يتيمم. فرع لو أجنب ولم يجد الماء فتيمم استباح الصلاة, وقراءة القرآن وجميع ما يستبيحه بالغسل, فإن أحدث الصغر لم يجز له أن يصلي ولا أن يمس المصحف, ويجوز له أن يقرأ القرآن ويمكث في المسجد, لأن التيمم ها هنا ناب عن الغسل, وهذا الحدث لا يبطل الغسل فلا يبطل ما ناب عنه, ولهذا أن يستبيح الزوج وطئ الحائض بالتيمم والمباشرة بتقدم الوطء, وذلك هو حدث يوجب الوضوء, فلو أبطل تيممها لم يجز الوطئ أصلا.

فرع لو تيممت الحائض بعد انقطاع دمها فوطئها زوجها أراد وطئها ثانيا, هل يجوز بالتيمم الأول؟ وجهان: أحدها: يجوز لأنه قد ارتفع حدث الحيض بالتيمم الأول. والثاني: لا يجوز كما لا يصلي فريضة أخرى إلا بتيمم جديد. ذكره في ((الحاوي)) وغيره والأول [183 أ/ 1] أصح عندي, وهو المذهب, ولو عدمت الماء والتراب لم يحل وطئها لعدم الطهارة ولا ضرورة بخلاف الصلاة. فرع المقيمة إذا عدمت الماء بعد انقطاع حيضها فتيممت حل وطئها, وغن لم تحسب صلاتها لأن الفعال لا تكون بشرط الفضاء بخلاف العبادات. فرع آخر لو وجد الماء بعد التيمم وهو يحتاج إليه لعطش قال في ((الأم)) كان كالعادم. وهذا أصل, وهو أن كل ما منع ابتداء التيمم منع استدامته, وما لا يمنع الابتداء لا يمنع الاستدامة. فرع آخر ذكره والدي- رحمه الله- إذا عدم الجنب الماء فتيمم ليقرأ القرآن, فشرع في القراءة ثم رأى الماء, فإن لم يكن نوى عند الأخذ في القراءة فقرأ قدراً محصوراً من القرآن يلزمه قطع القراءة, وإن كان قدر محصور هل له إتمامها؟ يحتمل وجهين: أحدهما: أن له الإتمام كما نوى صلاة النفل عدداً له إتمامها. والثاني: يلزمه القطع؛ لأن القراءة لا ترتبط بعضها ببعض بخلاف الصلاة, وهذا هو الأصح عندي, ولا وجه للوجه الأول, ولو كان في نصف الآية ليس له إتمامها عندي؛ لأنه يمكن قطعها ويثاب على القدر المقروء قليلاً كان أو كثيراً. فرع ذمية تحت مسلم اغتسلت من حيضها ثم أسلمت, هل يجوز للزوج وطئها قبل الاغتسال في الإسلام؟ قال والدي- رحمه الله- يحتمل وجهين: أحدهما: يجوز, وهو قلنا طهارة الكافرة ترفع [183 ب/ 1] الحدث. والثاني: لا يجوز وهو الأصح عندي. فرع آخر لو كان ماء الميت لا يكفيه لغسل جميع بدنه, ففي احد القولين يستعمل فيه ثم يتيمم

لما بقي. والثاني: يقتصر فيه على التيمم, فعلى هذا لو استعمله في الميت فإنه يضمن قيمته لوارثه؛ لأنه استهلك من ماله ما لا حاجة به إليه. مسألة: قال: ((وأحب تعجيل التيمم لاستحبابي تعجيل الصلاة)). وهذا كما قال أراد بالتعجيل الأداء في وقت الصلاة يجوز له أن يصلي بالتيمم في أول وقتها, سواء طمع في وجوده قبل خروج وقتها أو لم يطمع. وأما الفضل ينظر, فإن لم يطمع فيه في آخر وقتها فالأفضل التقديم, فإن طمع ووفق إليه لخبرته بالمكان ومعرفته بالماء فالأفضل التأخير؛ وإن وقف بين الأمرين ففيها قولان. قال في ((الأم)): الأفضل تعجيلها. وقال في ((الإملاء)): الأفضل تأخيرها, وبه قال أحمد, والثوري, وهو اختيار عامة أهل العلم, ووجه هذا ما روى الحارث عن علي- رضي الله عنه- أنه قال في الجنب لا يجد الماء: يتلوم ما بينه وبين آخر الوقت, فإن وجد الماء وإلا تيمم, ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أبردوا بالظهر فإن شدة الحر من فيح جهنم)) فأمر بالتأخير لئلا يقدح في الخشوع, فلأن يجوز التأخير لإدراك الطهارة بالماء أولى, ووجه القول الأول للأخبار المروية في هذا الباب, مثل قوله صلى الله عليه وسلم [184 أ/ 1] ((أفضل الأعمال عند الله الصلاة أول وقتها)). ولأنه ترك فضيلة محققة لأمر مظنون فلم يستحب ذلك, وأحتج المزني بهذا, فقال: التعجيل أولى لأن السنة أن نصلي ما بين أول الوقت وآخره. يريد به النصف الأول من الوقت وهو خبر ما بين أول كل شيء وآخره, فما لم يبلغ النصف فهو في حد الأول, وما جاوز النصف فهو في حد الآخر, ثم قال: فما كان أعظم لأجره في أداء الصلاة بالوضوء فالتيمم مثله. أي لما كانت الصلاة بالوضوء في أول الوقت أفضل كذلك بالتيمم في الجماعة أفضل, ويمكن أن يجاب عن هذا, فإن يقال: فرق بين الوضوء وبين هذا, وذلك أن ها هنا نرجو وجود الأصل وأداء الصلاة بأكمل الطهارتين والأصل بخلاف ذلك. وأما الصلاة جماعة إنما كانت أفضل بالتيمم؛ لأنه ليس في ترك الجماعة. رجاء وجود الماء والوصول إلى فضل الوضوء الذي هو الأصل بخلاف ها هنا, حتى لو رجا بترك وجود الماء يتركها. وقال الطحاوي: عن أبي حنيفة راويتان إحداهما: التأخير أفضل والثانية: أن كان على طمع من الماء فالتأخير أفضل, وإن كان لا يطمع فالتقديم أفضل, وإنما يتصور الخلاف معه في الصلوات التي توافقنا أن تعجيلها بالوضوء أفضل, مثل الظهر [184 ب/ 1] في الشتاء, والعصر يوم الغيم وروي عن مالك أنه قال: يتيمم في وسط الوقت لا يؤخره جداً ولا يعجله.

وقال بعض أصحابنا بخراسان: إنما قال الشافعي تأخيرها أفضل لأنه يحترز بالتأخير عما لو .... مع الصلاة في أول الوقت بالتيمم, ولو تيقن وجود الماء آخر الوقت لا يجوز له أن يصلي بالتيمم في أول الوقت بالتيمم, وإن تيقن وجود الماء في آخره؛ لأن الله تعالى قال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} ولم يعرف. فرع لو لم يكن في أول الوقت جماعة ونرجو وجود الجماعة في آخر الوقت, هل يستحب له تأخيرها؟ قال بعض أصحابنا: فيه وجهان بناء على القولين, هكذا ذكره القاضي الطبري, وقال القاضي أبو علي البندنيجي: قال في ((الأم)) التقديم أفضل, وقال في ((الإملاء)): إن التأخير أفضل, وفي هذا عندي نظر. فرع قال بعض أصحابنا بخراسان: لو كان بقربه ماء وهو يخاف فوت الصلاة لو اشتغل بالتوضئ به, نص الشافعي: أنه لا يجوز له التيمم, وكذلك قال في ((العراة)) إذا كان بينهم ثوب يتداولونه فخاف بعضهم فوت الصلاة لو صبر حتى تنتهي غليه النوبة, ولا يصلي عارياً. وكذلك قال في الدلو: إذا كان هناك جماعة ينزحون الماء وخاف فوت الصلاة إلى إنهاء النوبة إليه, أن يصبر ولا يتيمم. وقال في جماعة في السفينة [185 أ/ 1] إذا كان فيها موضع واحد يمكن أن يصلي فيه قائما, وهناك جماعة وخاف أن يفوته الوقت لو صبر حتى تنتهي إليه النوبة صلى قاعداً, ولم نأمره بالصبر فعسر الفرق على أصحابنا, وجعلوا في الكل قولين نقلاً وتخريجاً, ومن أصحابنا من فرق بأن أمر القيام أسهل من غيره ففرقنا. قالوا: أيضا: لو كان الماء بحضرته بعيداً عنه ولا يخاف فوت الصلاة ولا الانقطاع عن الرفقة لو توضأ به, نص الشافعي أنه يباح له التيمم. ونص أنه إذا الماء بين يديه يصل إليه في آخر الوقت فإنه يباح له التيمم في أول الوقت, فمن أصحابنا من قال: في كلتي المسألتين قولان, ومنهم من أجرى على الظاهر, وفرق بأنه إذا كان الماء بحضرته عن يمينه أو يساره فتلك البقعة منسربه إليه, فلا يجوز له التيمم بخلاف ما إذا كان بين يديه يصل إليه في آخر الوقت. مسألة: قال: ((فإن لم يجد الماء ثم علم أنه كان في رحله ماء أعاد)). وهذا كما قال. في هذه العبارة خلل من جهة المزني؛ لأنه لا يقال لمن كان في رحله ماء أنه لم يجد الماء؛ لأنه واحد إلا أنه ناس أو غير عالم, وإنما قال الشافعي: ((فإن تيمم وصلى, ثم علم أنه كان في رحله ماء أعاد)) وصورة المسألة أنه نسي الماء ويتصور ذلك في موضعين: أحدهما: [185 ب/ 1] إذا يفتش رحله اعتقاداً منه لا ماء فيه, وطلب الماء في

غير الرحل ولم يجد وتيمم وصلى, ثم علم انه كان في الرحل ماء, أو كان قد فتش رحله فرأى شيئاً ظن أنه ليس بماء, ثم علم أنه كان ماء. قال في عامة كتبه: يلزمه إعادة الصلاة. وقال أبو ثور: سألت أبا عبد الله عن هذه المسألة فقال: لا إعادة عليه, واختلف أصحابنا فيه على طريقين, فمنهم من قال: يعيد قولاً واحدً, وقول أبي ثور يحتمل أنه أراد بأبي عبد الله مالكاً, أو أحمد بن حنبل, أو أراد إذا وضع غيره الماء في رحله بعد تفتيشه وهو لا يعلم, وهذا التأويل أصح؛ لأنه لم يلق مالكاً ولا يروى عن أحمد شيئاً, ومنهم من قال, وهو اختيار أبي إسحاق: في المسألة قولان. أحدها: لا إعادة وهو نحو ما قال في ((القديم)) إذا نسي قراءة الفاتحة في الصلاة أجزأته. وبه قال أبو حنيفة, ومحمد ومالك في رواية. والثاني: يلزمه الإعادة وهو الصحيح, وبه قال أحمد: وأبو يوسف؛ لأنها طهارة تجب عليه مع الذكر فلا يسقط بالنسيان كأصل الطهارة, ومن أصحابنا من قال: إذا وضع غيره الماء في رحله وهو لم يعلم هل تلزمه الإعادة؟ قولان. والصحيح أنه على قول واحد الإعادة في هذا على ما صورنا, وإن لم يكن فتش رحله واعتقد أنه لا ماء معه. فيه وكان [186 أ/ 1] غيره قد وضع فيه ماء ثم علم, فهذا هو موضع احتمال القولين؛ لأنه لو يفتشه لوحده فصار مفرطاً بترك التفتيش ولو ضل الماء في رحله فتيمم وصلى تلزمه الإعادة قولاً واحداً, والقولان إذا نسي الماء في رحله, ذكره القفال. ولو قام لقضاء الحاجة فضل رحلة فيما بين الرحال, فطلبه فلم يجد فنأمره أن يصلي بالتيمم, وهل تلزمه إعادة الصلاة إذا وجده؟ لم يذكر في ((الأم)) إعادة الصلاة, بل قال: تيمم وصلى, وجاز فمن أصحابنا من قال في هذا أيضاً قولان: أحدها: يلزمه الإعادة؛ لأنه غير عادم وهذا عذر نادر, والثاني: لا تلزمه الإعادة لأنه غير منسوب إلى التفريط في طلب الماء بخلاف الناسي فإنه فرط في طلبه في رحله. ومن أصحابنا من قال: لا تلزمه الإعادة قولاً واحداً, وهذا اختيار القفال, وهو الصحيح. ولو ضل هو عن القافلة فلا إعادة بلا إشكال, ولو علم أنه كان بجنبه بئر قريبة يقدر على مائها قال في ((الأم)): لا إعادة عليه ولو أعاد جاز احتياطاً, وقال في ((البويطي)): إن وجد بئراً بقربه أو بركة فيها ماء يبلغه الطلب تلزمه إعادة الصلاة. ثم قال ((البويطي)) قال الربيع: قال الشافعي: إن كان قد طلب الماء فلا إعادة, وهو اصح القولين. وجملته أنه إذا علم بالبئر؛ فإن كان عالماً بها ثم نسيها فهو كما لو [186 ب/ 1] نسي الماء في رحله, وإن لم يكن عالماً بها قط فقد قيل قولان, وقيل: وهو الأصح المسألة على حالين فالذي قال في ((البويطي)): إذا كانت عليها علامات طاهرة فتواني في طلبها تلزمه الإعادة, والذي قال في ((الأم)): إذا لم يكن عليها علامات ظاهرة ولم يتقدم علمه بها, ويفارق الماء في رحله, لأنه كلف في أمر نفسه الإحاطة وفي غيره الظاهر.

فرع لو كان معه ماء فأراقه وشربه من غير حاجة منه إليه, وتيمم وصلى هل يجب عليه الإعادة؟ فإن كان أراقه قبل دخول وقت الصلاة لم تلزمه الإعادة قولاً واحداً, وإن كان بعد دخول وقت الصلاة فقد تمضي وأثم, وهل تلزمه إعادة الصلاة؟ وجهان أحدها: لا يلزمه وهو الأصح؛ لأنه عدم الماء في السفر وأن يمضي بالإراقة فهو كما لو قطع رجل نفسه وصلى قاعداً, فإنه يجوز والثاني: تلزمه الإعادة لأنه ترك الوضوء به مع القدرة, ولاشك أنه يلزمه التيمم وأداء الصلاة, وإذا قلنا بهذا, كم تلزمه الإعادة؟ فيه وجهان: أحدها: لصلاة واحدة. والثاني: يلزمه إعادة الصلوات التي كان يؤديها غالباً عادته بتلك الطهارة لو تطهر به. ذكره بعض أصحابنا بخراسان, وقال القفال: إن أراقه لفرض قبل أن يشربه, وإن كان متلذذاً به من غير حاجة أو غسل [187 أ/ 1] ثوبه تنظيفاً أو شك في طهارته فخاف لو توضأ به أن تظهر له نجاسته, فيحتاج إلى غسل ثوبه وبدنه فاحتاط بإراقته فلا إعادة قولاً واحداً, وهذا بخلاف ما تقدم, وذاك أصح لأنه لا يلحقه المشقة بترك التلذذ فلا يكون عذراً. فرع آخر إذا قلنا: يلزمه إعادة الصلاة لا يعيدها في وقتها؛ لأنه لو صح القضاء بالتيمم لصح الأداء, ولكن تؤخر حتى يجد الماء أو ينتهي إلى حالة تصح صلاته فيها بالتيمم فيعيد ما أو جبنا عليه إعادتها. فرع آخر لو وجب عتق رقبة في كفارة, ومعه رقبة لا يحتاج إليها فقبلها, فإن قلنا: الاعتبار في الكفارة بحالة الوجوب أو بأغلظ الحالين كانت الرقبة في ذمته, وإن قلنا: الاعتبار بحالة الأداء يحتمل وجهين: أحدها: يصوم, والثاني: الرقبة في ذمته, لأنه مفرط في إتلافها كما لو أراق الماء وصلى بالتيمم تلزمه الإعادة. فرع آخر لو كان في السفر, وهناك ملح يخاف لو اشتغل بإذابته تفوته الصلاة, له أن يصلي بالتيمم ولا إعادة للعجز, وهذا عذر عام, ولو قدر على أن يمسح به الرأس هل يلزمه ذلك؟ نبني على القولين فيمن وجد مالا يكفيه لوضوئه, فإن قلنا: لا يلزمه استعماله يكفيه التيمم ها هنا, وإن قلنا: يلزمه استعماله يحتمل وجهين: أحدهما: لا يلزمه مسح الرأس ها هنا؛ لأن (187 ب/1) شرط جوازه غير موجود, وهو طهارة الوجه واليدين, والثاني: يلزمه تيممان لاعتبار الترتيب. فرع آخر إذا كان لابسًا للخفين في السفر على الطهارة, وهو معه ما يكفيه لوجهه ويديه ومسح رأسه فقط ومعه ثلج يابس يمسح به الخفين, ولا يمكنه إذابته فعليه الوضوء,

ومسح الخفين به قولًا واحدًا؛ لأنه يمكنه تحصيل وضوءه من غير ضرر, فإن كان قد بقي من وقت المسح ما ينقص لا محالة قبل الفراغ من صلاته عادت المسألة إلى قولين. أحدهما: يكفيه التيمم, والثاني: يغسل الأعضاء الثلاثة ثم يتيمم وهذا كما يقول, إذا لم يبق من وقت الجمعة مقدار إمكان فعلها فإنه يجوز له أن يصلي الظهر, ويحتمل أن يقال بنزع الخف, ثم تعود المسألة إلى القولين, ولا يجوز له افتتاح الصلاة بالتيمم وغسل ما قدر عليه ما لم يخرج الخف من حال جواز المسح عليه, والدليل عليه أنه لو أراد الوضوء لمس المصحف لم يجز ما لم يمسح على الخف لبقاء هذا القدر من وقت المسح ما جوزنا طهارته الآن يفعلها في ثلاثة أعضاء والتيمم معه, لكانت هذه الطهارة صالحة لأداء الفريضة بها غير صالحة لمس المصحف, وهذا بحال ذكره والدي الإمام (رحمه الله) وهذا حسن (188 أ/1) مليح. مسألة: قال (وإن وجده بثمن في موضعه) الفصل وهذا كما قال إذا لم يجد ماء مباحًا ولا في ملكه ماء ووجده مع غيره نظر, فإن بذله بغير بدل قال في (الأم): يلزمه قبوله ولا يجزيه التيمم. ويفارق هذا إذا أوجبت عليه كفارة, فوهب له إنسان رقبة لم يلزمه قبولها, وكذلك لو بذل له إنسان ثمن الماء لا يلزمه قبوله, والفرق لا منه في قبول الماء, إذ أصله على الإباحة بخلاف ذاك, وعلى هذا لو أعاره دلوًا يستقي به الماء فإنه يلزمه قبوله, ولو وهب منه دلو لا يلزمه قبوله. وقال في (الحاوي): لو كان لو كان ثمن الماء يلزمه قبوله عارية, وإن كان أكثر من ثمن الماء هل يلزمه استعارته؟ وجهان: أحدها: لا يلزمه لأن العارية مضمونه, والثاني: يلزمه لأن الظاهر سلامة العارية وإمكان ردها بأن لم يبذل له الماء, نص الشافعي في (البويطي): أنه لا يلزمه أن يسأله فإن تيمم وصلى قبل المسألة تلزمه الإعادة, ولأنه لا منة عليه فيه فتلزمه المسألة بخلاف الرقبة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل تلزمه الإعادة وجهان وهو خلاف النص, فإن سأله فلم يبذله ليس له مكابرته عليه, وإن كان فاضلًا عن حاجته بخلاف ما لو اضطر إلى طعامه, وهو فاضل عنه فلم يبذله له مكابرته (188 ب/1) عليه, لأن الطعام لا بدل له يرجع إليه بخلاف الوضوء فيمكنه أن يتيمم ويصلي ولا إعادة, وكذلك لو اضطر إلى لباسه لستر عورته وهو فاضل عنه لا يكابره إذا امتنع من بذله, لأنه يمكنه أن يصلي عريانًا ويجوز, ومن أصحابنا من ذكر وجهًا أنه لا يلزمه سؤال الماء كما في بذل الطاعة في الحج وهو ضعيف. وقال بعض أصحابنا في الفرقان هل يلزمه أن يستأجر الستر؟ وجهان, وهل يلزمه

قبول هبة الستر؟ وجهان أيضًا, وإن بذله بيعًا يلزمه شراؤه, بثلاث شرائط أحدهما: أن يجده بثمن مثله فلا يلزمه شراؤه بالزيادة, وإن كانت يسيرة, وقال أبو حنيفة: إن كانت الزيادة يسيرة بتغابن الناس بمثله يلزمه شراؤه وإلا فلا. وذكر القاضي الإمام الحسين (رحمه الله) أنه إن كانت الزيادة بحيث لو غبن الوكيل بذلك القدر لا ينكر عليه يلزمه شراؤه لأنه لا يستضر بها, وهذا غلط لأن وجوده بأكثر من ثمن مثله كلا وجود كالرقبة في الكفارة, وكما لو كانت الزيادة (189/ 1) كثيرة, ثم اختلف أصحابنا في تفسير ثمن مثله في موضعه, فقال أبو إسحاق: يراعي ثمن المثل عرفًا وعادة على مرور الزمان في ذلك المكان, ولا يراعي الوقت, فإنه يختلف باختلاف الأوقات, فإن كان في هذا الوقت خرج عن العرف وضاق الماء لم يلزمه شراؤه, وإن كان ثمن مثله في هذا الوقت إذا لم يكن ثمن مثله غالبًا فيما نص من الأوقات العامة, ومنهم من قال: يعتبر ثمن مثله في وقت ذلك وهو ضعيف ومنهم من قال: أراد بثمن المثل أجرة نقل ناقلة من معدنه إلى موضعه؛ لأن الماء أصله على الإباحة ولا ثمن له وهو ضعيف أيضًا. والشرط الثاني: أن يكون واجدًا لثمنه, فإن يكن واجدًا له ويباع منه بالدين في ذمته لا يلزمه شراؤه, نص عليه في كتبه ولا يلزمه استقراض المال لشرائه, ولو كان له ماء في بلده ويرد بيعه بثمن يأخذه منه في بلده يلزمه شراؤه, ويؤدي ثمنه في أهله نص عليه في (البويطي)؛ لأنه صار قادرًا على الماء في الحال من غير ضرر, ولو بيع بثمن مؤجل هنا بزيادة تزاد بسبب التأجيل في العادة. قال بعض أصحابنا بخراسان: يلزمه شراؤه أيضًا؛ لأن ذلك ثمن مثله ولا ضرر عليه, وإن كان يحتاج إلى رشاء ودلو ويقدر على (189 ب/1) شرائهما بثمن مثله يلزمه شراؤهما أيضًا. والشرط الثالث: أن لا يكون محتاجًا إلى ثمنه لقوته في طريقه, فإن كان يحتاج إليه لا يلزمه شراؤه ويتيمم ويصلي, فإن قيل: أليس قلتم أنه إذا لم يجد الرقبة في كفارة الظهار إلا بزيادة على ثمن مثلها ليس له الانتقال إلى الصوم, بل يلزمه الصبر حتى يجدها بثمن مثلها, فقالوا: لا يتيمم هنا أيضًا, قلنا: الفرق أن الرقبة في الذمة غير مؤقتة, ولو أراد تأخيرها من غير عذر كان له فلا حاجة به إلى الانتقال إلى الصوم, وهنا حاجة إلى التيمم لضيق الوقت وخوف الفوات فألزمناه, فإن قيل: فينبغي أن يؤخرها إلى آخر الوقت, قلنا: تفوته فضيلة أول الوقت بأمر مشكوك فيه فلم يلزمه تأخيرها بخلاف الرقبة. فرع لو وهب له الماء فلم يقبل وتيمم وصلى, فإن كان الماء الموهوب له موجودًا في يد واهبة حتى تيمم وصلى تلزمه الإعادة, وإن كان الماء معدومًا حين تيمم وصلى هل

تلزمه الإعادة؟ وجهان, قال الإصطخري: تلزمه الإعادة لأنه كان قادرًا على الماء, وقال أبو إسحاق: لا إعادة للعجز في حال تيممه. فرع آخر لو اضطر غيره إلى الماء الذي معه وهو غير مضطر يلزمه دفعه إليه بقيمة مثله, فإن لم يدفع فللمضطر مكابرته عليه (190 أ/1) وإن أبي أثقل على نفسه, ولا فرق بين أن يكون هذا المضطر واجدًا للغنيمة أو غير واجد, فإن كانا مضطرين فلا يجوز له مكابرته, فإن كابره فهو ظالم ودمه هدر, ودم صاحب الماء مضمون كما لو كانا غير مضطرين, وإن احتاج إلى الوضوء فصاحب الماء أولى, ولا يجوز له دفعه إلى صاحبه ولا لصاحبه أخذه منه, فإن دفع وتيمم هذا الدافع نظر, فإن كان قد استعمله الموهوب له صح تيمم الواهب, وهل تلزمه إعادة الصلاة؟ قال أبو إسحاق: فيه وجهان كما لو أراق الماء عمدًا بعد دخول وقت الصلاة, وقال القفال: لا إعادة قولًا واحدًا لأن له غرضًا فيه, ومن له أدنى غرض في إزالة الماء من يده فهو معذور, ولا ضمان على الموهوب له, وإن كانت الهبة فاسدة لأن الهبة الفاسدة هي كالصحيحة في باب الضمان. مسألة: قال: (ولو كان مع رجل ماء فأجنب رجل وطهرت امرأة من حيض ومات رجل). الفصل وهذا كما قال إذا اجتمع في السفر جنب وحائض انقطع دمها ولم تغتسل وميت يحتاج أنه يغسل وهناك ما قال الشافعي: الميت أحبهم إلى أن يجودوا بالماء عليه, وفي بعض النسخ: أن يجود, أي يجود صاحب الماء بالماء عليه, ويتيمم الحيان لأنهما يقدرا على الماء, (190 ب/1) أي في ثاني الحال, والميت إذا دفن لم يقدر على غسله, قال أصحابنا: إنما يكون الميت أولى بوجود ثلاث شرائط: أحدهما: أن يكون الماء لغيرهم أو مباحًا غير مملوك لأحد. والثاني: أن لا يكون الماء كافيًا بل يكفي لأحدهم. والثالث: أن لا يكون على أحد الحيين نجاسة, فأما إذا كان الماء كفاية الكل استعملوه, وإن كان الماء مملوكًا لواحد منهم نظر, فإن كان مملوكًا للميت فهو أحقهم به لما ذكرناه, ولأنه ملكه فكان هو أولى به. قال أبو إسحاق: فإن غسل الميت بالماء وفضل منه فضلة فالفاضل لوارثه, وليس لهما أن يتطهرا به, فإن تطهرا به فعليهما الضمان, وإن احتاج إليه الحيان للعطش شربها ويمماه وأديا ثمنه لوارثه, لأنه لو كان حيًا لزمه بذله لهما بالثمن, ومراعاة حياة الحي

أولى من مراعاة غسل الميت, ثم اختلف أصحابنا في تفسير الثمن في هذا الموضع؛ لأن الماء هو من ذوات الأمثال, منهم من قال: ثمنه مثله لا قيمته, ومنهم من قال, وهو الأصح: أنهم إن ردوا في الموضع الذي شربوا فيه لا يلزم إلا المثل, وإن ردوا في غير ذلك الموضع فعليهم قيمة التي كانت في موضع الإتلاف, وهو المراد بالثمن, وعلى هذا جميع ذوات الأمثال إذا أتلف ثم غرن في غير موضع الإتلاف تلزمه القيمة كذلك (191 أ/1) ها هنا, وهذا لأنه لا قيمة للماء في البلد. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن غرم في غير موضع ولكن للماء قيمة في ذلك الموضع يلزم المثل, وإن كان أقل قيمة منه يوم الإتلاف؛ لأن نقصان قيمة المثل لا يؤثر في الحكم, وإن غرم في موضع لا قيمة فيه للماء أصلًا تلزمه القيمة وهذا حسن, ثم إذا أدى قيمة الماء ثم عادوا يومًا إلى موضع الإتلاف فهل للوارث رد القيمة والمطالبة بالمثل؟ وجهان بناء على ما لو أتلف شيئًا من ذوات الأمثال, بعد المثل, وانتقل إلى القيمة ثم وجد المثل, هل له رد القيمة والمطالبة بالمثل؟ وجهان, وإن كان الماء لأحد الحيين, فمن أصحابنا من قال: يلزمه أن يقدم الميت به ويأخذ ثمنه من مال الميت, وهذا لا يعرف للشافعي بل مالكه أحق به, ولا يجب عليه بذله لطهارة غيره, ولا يجوز, فإن بذله لغيره ببذل أو غير بذل, وتيمم وصلى, فقد ذكرنا حكمة, وإن كان على أحد الحيين نجاسة. قال أبو إسحاق: إن قلنا: يقول المزني يصلي بالتيمم ولا إعادة عليه فالميت أولى به أيضًا, وإن قلنا: تلزمه الإعادة فيه وجهان: أحدهما: الميت أولى؛ لأن الشافعي قال: الميت أولى والغالب أن الحائض لا تخلو من النجاسة, ولأنه خاتمة طهارته فهو أولى. والثاني: أن من عليه النجاسة هو (191 ب/1) أولى؛ لأنه في النجاسة لا يرجع إلى بدل, وفي غسل الميت يمكن أن الرجوع إلى بدل, فعلى هذا ييممونه ويدفنونه؛ والأول أصح. وقال أبو حنيفة: الحي أولى بكل حال, وهذا غلط لما ذكرناه من العلة. فرع لو اجتمع حائض وجنب وهناك ماء مباح يكفي لأحدهما, فيه وجهان: قال أبو إسحاق: الجنب أولى؛ لأن غسله ثبت بالنص, وغسل الحائض بالاجتهاد وأخبار الآحاد, والثاني وهو الأصح: أن الحائض أولى؛ لأن الحائض لا تعرى من النجاسة وحكمها أغلظ, فإنه يحرم وطئها, وغسل الحائض تثبت بالإجماع فقام مقام النص وبطلت العلة التي ذكرها القائل الأول. وقال القفال: فيه وجه ثالث هما سواء فيقرع بينهما, وقال بعد أصحابنا بخراسان: إن قلنا الحائض لا تقرأ القرآن فهي أولى؛ لأن حالها أشد, وإن قلنا: تقرأ فهما سواء, لأن الحائض لا تمر بالمسجد خلاف الجنب فيقرع بينهما.

فرع آخر لو كان هناك جنب ومحدث, وهناك ما يكفي المحدث لوضوئه ولا يكفي الجنب لغسله فالمحدث أولى, لأن حدث المحدث يرتفع حدث الجنب به؛ ولأن المحدث إذا انفرد بهذا الماء يلزمه استعماله قولًا واحدًا, والجنب لو انفرد به فيه قولان, وإن كان يكفي الجنب ولا يفضل عنه ويكفي (92 أ/1) المحدث ويفضل ما يغسل به بعض أعضائه ففيه ثلاثة أوجه: أحدهما: الجنب أولى لأنه يستبيح به ما لا يستبيح به المحدث. والثاني: المحدث أولى لأنه يرتفع به حدث وبعض حدث الجنب وهذا على القول الذي يقول: إذا وجد من الماء ما لا يكفيه يلزمه استعماله فأما إذا قلنا: لا يلزمه استعماله فالجنب أولى. والثالث: يقرع بينهما إن كان مباحًا, وإن كان مع رجل يدفع إلى أيهما شاء. فرع آخر إذا انقطع دم الحائض فعدمت الماء وتيممت وحل للزوج وطئها ثم أحدثت فله وطئها بالتيمم أولًا, فإن رأت الماء انتقض تيممها ورجعت إلى حكم حدث الحائض, فلا يجوز وطئها حتى تغتسل أو تتيمم إن هلك الماء. فرع إذا اجتمع جنب وميت والماء يكفي لأحدهما وهو مباح فالميت أولى, فإن أراد الجنب أن يتيمم قبل غسل الميت يحتمل أن يقال: يجوز لأن الميت صار أحق بهذا الماء فكان في حقه كالمعدوم, فإن تيمم وهو عازم على ترك غسل الميت بذلك الماء يحتمل أن يقال: إنه يصح تيممه, لأن الاستحقاق الثابت للميت لا يزول بعزمه, فإن كان الماء ملكًا للجنب فهو أحق به من الميت, ثم حكم الميت الآن في تيممه قبل اغتسال الجنب بالماء مثل (192 ب/1) حكم الجنب هناك في تيممه قبل غسل الميت, ذكره والدي الإمام - رحمه الله-. فرع لو أراد الجمع فصلى الظهر في وقته بنية الجمع, ثم تيمم للعصر فقبل شروعه فيه دخل وقت العصر, هل له أداء العصر بذلك التيمم؟ قال والدي (رحمه الله): ينبغي أن لا يجوز؛ لأن أداء العصر, وإن كان عقيبة فلا يجوز جمعًا, وإنما جعل وقت الظهر وقتًا لتيمم العصر إذا جاز الجمع عقيبة, فإذا لم يجز ذلك صار كما لو تيمم للظهر قبل وقته, ثم دخل وقته عقيبة لا يجوز, ولو أراد الجمع بينهما في وقت العصر صح التيمم للظهر قبل دخول وقت العصر أيضًا؛ لأن الوقت هو وقت الظهر, ولو تيمم للعصر لم يصح لأن وقته يدخل بعد ذلك, وهل يصح عن الظهر؟ وجهان

باب ما يفسد الماء

أحدهما: لا يصح, والثاني: يصح وهو الأشهر. فرع العادم للماء إذا تيمم قبل الاجتهاد في القبلة هل يجوز؟ وجهان أحدهما: لا يجوز والثاني: يجوز, وهذا بناء على ما لو تيمم وعليه نجاسة هل يجوز؟ وجهان ذكره والدي (رحمه الله). فرع آخر لو كان عليه قضاء الصلاة وهو عادم للماء والتراب, هل يلزمه القضاء على الفور؟ في هذه الحالة إذا كان الفوات بغير عذر. قال والدي (رحمه الله): عندي أنه لا يلزمه القضاء؛ لأنه لو ألزمناه ذلك ويحتاج (193 أ/1) إلى الإعادة أدى إلى لزومه ثانيًا وثالثًا وما لا يتناهى, ويفارق الأداء لقوته وإيجابه لئلا يخلو الوقت عن فعل الصلاة على الإمكان. قال: وهل له أن يقضي في هذه الحالة؟ وجهان. فرع لو تيمم لصلاة العصر وعنده أن الوقت لم يدخل وكان وقتها داخلًا, هل يصح تيممه لأداء الفرض؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح, لأن التيمم عبادة لا تصح قبل الوقت فلا تصح مع اعتقاد بعد دخوله كالصلاة. والثاني: يصح وبطلان الصلاة لا يدل على بطلان التيمم, ألا ترى أنه لو تيمم قبل الوقت مع علمه بذلك جاز أداء النافلة به, وإن كان نوى به فرض الوقت والأول وأصح. باب ما يفسد الماء مسألة: قال: (وإذا وقع في الإناء نقطة خمر). الفصل إلى أن قال: (فسد الماء) وهذا كما قال: أعلم أن فساد الماء في هذا الموضع هو أن لا يصلح التطهر به, إما لنجاسة, أو لكونه مستعملًا, والمقصود ذكر مفسدات الماء في الجملة فأما القدر الذي يفسد والذي لا يفسد, فإن بيانه في الباب الذي بعده, ثم إنه افتتح الباب بقوله: (وإذا وقع في الإناء نقطة خمر) يعني في الإناء الذي فيه ماء الطهارة نقطة خمر, فأراد بالنقطة (193 ب/1) القطرة اليسيرة, وإنما ذكر الإناء لأن العادة أنه يكون فيه ماء قليل, ومراده بيان حكم الماء القليل, وجملته أنه إذا وقع في الماء القليل نجاسة من غائط أو بول, أو خمر, أو دم, أو قيح, أو صديد يُنظر, فإن كانت قدرًا يدركها الطرف نجس الماء, وكذلك في الثوب إلا في الدم والقيح

والصديد, فإنه (يعفى) عن اليسير منها في الثوب, وإن كانت قدرًا لا يدركها الطرف لقلته فقال المزني: ما يدركها الطرف فقد فسد الماء, فمفهومه أنه إذا لم يدركها الطرف لا يفسد الماء, وقال في (الإملاء): فإن أصاب الثوب غائط, أو بول, أو خمر, أو تيقنه, أدركه الطرف, أو لم يدركه نجسه. وقال في موضع آخر: إذا وقع ذباب على بول أو خلاء رقيق, ثم وقع على الثوب غسل موضعه, واختلف أصحابنا في المسألة على خمس طرق: إحداهما: يحكم بنجاستهما قولًا واحدًا؛ لأنه نص في الثوب على ما ذكرنا, فالماء أولى لأن الثوب أحسن حالًا في النجاسة من الماء؛ لأنه يعفي عن دم البراغيث فيه دون الماء, وليس له نص في الماء, وما نقله المزني ليس لكلامه دليل خطاب حتى يؤخذ به, وأيضًا إنما قال مما يدركها الطرف لتتحقق حصول النجاسة, فإن تحقق من دون إدراك الطرف ثبت حكم النجاسة أيضًا (194 أ/1). والثانية: لا ينجس الماء ولا الثوب قولًا واحدًا, ذكره ابن سلمه, أما الماء فبدليل كلامه, وأما الثوب فلأنه أولى وهو أحسن حالًا من الماء, وقوله في (الإملاء): أدركه الطرف أو لم يدركه: معناه أنه لم يدرك في موضع وقوعه ولكن أدركه الطرف حين وثب إلى الثوب. والثالثة: في الماء والثوب قولان: أحدهما: لا ينجسان؛ لأنه لا يمك الاحتراز منها في الغالب كأثر الاستنجاء دم البراغيث, والثاني: تنجسان لتحقق وصول النجاسة التي لا يعفى عنها إليهما. والرابعة: الثوب تنجس بنص قوله: (والماء لا ينجس) بدليل, والفرق أن للماء قوة في رفع النجاسات عند الكثرة بخلاف الثوب, وقيل: هذا ظاهر المذهب وهو الصحيح. والخامسة: على عكس هذا, وهو أن الماء تنجس دون الثوب؛ لأن الناس لا يحترزون من قضاء الحاجات في الصحاري, والغالب فيها أن الذباب يقع على النجاسة الرطبة, ثم يقع على الثوب ولا يدركها الطرف ويشق الاحتراز منها, فعفي عنها فيه كما عفي فيه عن قدر دم البراغيث, بخلاف الماء فإنه يمكن صونه عن النجاسات بتخمير الأواني وتغطيتها, وأيضًا فإنه إذا طارت الذبابة فالغالب أن رجلها تجف في الهواء, فإذا وقعت على الثوب ورجلها جاف (194 ب/1) لم تضر الثوب بخلاف الماء, فإنه يرطب رجلها فيؤثر فيه, وعلى هذا لو كان الثوب رطبًا فإنه تنجس الثوب, وعلى العلة التي قبلها لا ينجس وهذا حسن, ولكنه خلاف نص الشافعي, وعلى هذا قال بعض أصحابنا بخراسان: غلط المزني في قوله: مما يدركها الطرف في الماء, فإن الشافعي شرك ذلك في الثوب لا في الماء, وهذا خلاف صريح النص الذي ذكرناه وهو الصحيح.

مسألة: قال: (وإن توضأ رجل ثم جمع وضوءه في إناء نظيف ثم توضأ به هو أو غيره لم يجز). وهذا كما قال: الماء المستعمل هو على ثلاثة اضرب؛ مستعمل في رفع الحدث, ومستعمل في البدن, ومستعمل في غير الحدث والندب. فأما المستعمل في رفع الحدث فهو الماء الذي توضأ به المحدث, أو اغتسل به الجنب, أو الحائض, فالماء طاهر لأنه لاقى موضعًا طاهرًا, وهو هو مطهر؟ المشهور أنه غير مطهر. وبه قال عمر, وابن عباس (رضي الله عنهما) والاوزاعي والثوري, والليث, وأحمد. وروي ذلك, عن مال, وأبي حنيفة, وقال أبو ثور: سألت أبا عبد الله عن الماء المستعمل هل هو طهور؟ فتوقف فيه, وقال عيسى بن أبان, قال الشافعي: هو طاهر مطهر. واختلف أصحابنا فيه على طريقين, فمنهم من قال: هو غير مطهر قولًا واحدًا ورد رواية (195 أ/1) ابن أبان, وقال: لا أجد مذهب صاحبي من المخالف وقيل: غلط عيسى في هذا لأنه سمع الشافعي يقول: الاستعمال لا يؤثر, وأراد في طهارته لا في طهوريته, فظن أنه لا يؤثر في طهوريته ومنهم من قال: عيسى هذا ثقة, وإن كان مخالفًا فالمسألة على قولين: أحدهما: ما ذكرنا وهو الصحيح؛ لأنه أدى به الفرض فلا يؤدي به الفرض ثانيًا, كما لو أعتق عبده من الكفارة لا يقدر على عتقه ثانيًا. والثاني: هو طاهر مطهر, وبه قال الحسن, والنخعي, وعطاء بن أبي رباح والزهري, ومكحول, وأبو ثور, وداود, وأهل الظاهر, وهو راوية عن مالك. واحتجوا بما روت ربيع أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مسح رأسه بفضل ما كان في يده , ولأن هذا ماء طاهر لاقى جسمًا طاهرًا فأشبه إذا لاقى ثوبًا, وهذا غلط, والخبر محمول على أنه كان ترك المسحة الثانية, وفي الثوب لم يزد العبادة بخلاف ها هنا, وروى ابن المنذر, عن علي, وابن عمر, وأبي أمامه (رضي الله عنهم) أنهم قالوا فيمن نسي مسح رأسه: إذا وجد بللًا في لحيته أجزأه أن يمسح رأسه بذلك البلل, وهو اختيار ابن المنذر, وروى الحسن بن زياد, عن أبي حنيفة: أنه نجس, وبه قال أبو يوسف, واحتج الشافعي عليه بأن النبي (صلى الله عليه وسلم) (195 ب/1) توضأ ولا يشك أن من بلل الوضوء ما يصيب ثيابه, ولا نعلمه غسله, ثم انفصل عن سؤال مالك, فإنه قال: إذا لم يكن لم لا يتوضأ ثانية؟ وما الفرق بين أن يغسل ثوبًا طاهرًا أو بدنًا طاهرًا, وقد يتوجه هذا السؤال من وجهة أبي يوسف على العكس, فقال الشافعي: ولا يتوضأ به لأن على الناس تعبدًا في أنفسهم بالطهارة من غير نجاسة, وليس على ثوب أو أرض تعبد.

فإذا قلنا: إنه طاهر غير مطهر, فإن كان أقل من قلتين فغير مطهر قولًا واحدًا, وإن بلغ قلتين فالمنصوص في (الأم) أنه طاهر غير مطهر, وذكره المزني في جامعة الكبير أيضًا؛ لأنه إذا لم تؤثر فيه النجاسة فلأن لا يؤثر فيه الاستعمال أولى, ولأنه إذا كان كثيرًا في الابتداء لا يصير مستعملًا, فإذا كثر من بعد ذلك حكمه, وقال القفال: فيه وجهان, أحدهما: هذا, والثاني: هو مستعمل كما كان ولا يعود طهورًا؛ لأن كونه مستعملًا فيه والكثرة لا تسلبه صفته بل تكثر صفته بكثرته, فهو كماء الزعفران إذا كثر لا يعود طهورًا. وقيل: هذا اختيار القفال, وهو خلاف نص الشافعي, وإذا قلنا: إنه غير مطهر, أو كان أقل من قلتين, هل يجوز غسل النجاسة به؟ المذهب أنه لا يجوز؛ لأنه مائع يجوز لا يرفع الحدث فلا يرفع (196 أ/1) الخبث كماء الورد, وقال أبو القاسم الأنماطي أستاذ ابن سريج, وابن خيران: يجوز لأن للماء قوتين إزالة النجاسة وإزالة الحدث, وقد زالت إحداهما وبقيت الأخرى, وهذا باطل بما أزيل به النجاسة لا يزال به الحدث الأصغر, ولا يقال له قوتان كذلك ها هنا, وهكذا في العكس منه إذا استعمل الماء في إزالة النجاسة, وقلنا: إنه طاهر غير مطهر هل يجوز استعماله في إزالة الحدث على هذا بخلاف. وأما المستعمل في الندب: وهو ما غسل به يديه قبل إدخالهما في الإناء أو تمضمض به, أو استنشق أو استعمل في المرة الثانية, والثالثة في الوضوء في تجديد الوضوء, أو في غسل يوم الجمعة ونحو ذلك, قال ابن سريج: فيه وجهان: أحدها: أنه طاهر مطهر, لأنه لم يؤد به الفرض مرة, وإليه أشار الشافعي حيث قال: لأنه أدى به الفرض مرة وهو الأصح, والثاني: أنه مستعمل طاهر غير مطهر, لأنه استعمل في التعبد في الجملة, وإلى هذا أشار الشافعي في قوله: لأن على الناس تعبدًا في أنفسهم, وقوله: لأنه أدى به الفرض مرة, من قول المزني, ولم يقله الشافعي, وبه قال أبو حنيفة, وإليه يميل القفال. وأما المستعمل في غير الندب والحدث بالماء الذي يتبرد به أو يتنظف أو غسل به الثوب فهو طاهر مطهر بلا خلاف. فرع لو اغتسلت الكافرة (196 ب/1) من الحيض لاستباحة وطئ المسلم هل يصير الماء مستعملَا فيه وجهان: أحدهما: يصير مستعملًا لأنها أدت طهارة مأمورًا بها بهذا الماء. والثاني: لا يصير مستعملًا, لأنها لم تؤد به عبادة, وهذا أظهر, ولا خلاف أنها لو اغتسلت لا من الحيض أو النفاس لا يصير مستعملًا. فرع لو اغتسل المحدث رأسه ففيما سقط عن رأسه من الماء وجهان حكاهما ابن أبي هريرة.

أحدهما: أنه لا يكون مستعملًا, لأن المستحق في الرأس مسحه بالبلل الباقي عليه فلم يصر الباقي الفاضل من غسله مستعملًا فيه. والثاني: يكون مستعملَا, لأنه زاد على الكفاية كما لو كان يكفيه لوضوئه مد فاستعمل صاعًا صار الصاع مستعملًا, وإن كان بعضه مكتفيًا. فرع آخر الجنب إذا اغتسل هل يصير الماء بانتقاله عن العضو إلى صدره مستعملًا؟ وجهان: أحدها: يصير مستعملًا فلا ترتفع جنابة العضو الذي انتقل إليه, والثاني, وهو الأصح: لا يصير مستعملًا حتى ينفصل عن جميع الجسد, لأن بدن الجنب هو كالعضو الواحد من أعضاء المحدث, ولهذا لا ترتيب فيه بخلاف أعضاء المحدث ذكره في (الحاوي). فرع آخر لو دخل الجنب في الماء لطلب الدلو لا يطهر الجنب ولا يفسد الماء, وإنما يحكم للماء بحكم الاستعمال إذا نوى وصح غسله, وهكذا لو (197 أ/1) أدخل يده في الماء القليل في الإناء ثم أخرجه. فرع آخر لو نوى رفع الجبانة وانغمس ف ماء, فإن كان الماء قلين ولم ينقص منه شيء حتى خرج عنه لم تزل طهوريته وزالت جنابته, لأنه كما لاقي أول جزء منه الماء صار مستعملًا, ثم انغمس في ماء يستعمل, والمنصوص للشافعي في رواية الربيع أنه يصير مستعملًا وتزول جنابته, لأن الماء لا يصير مستعملًا بأول الملاقاة, بل يصير مستعملًا بالانفصال عنه, كما لو صب الماء على رأسه, لا يقال يصير مستعملًا بملاقاته أول جزء من رأسه حتى إذا أنحدر إلى الوجه لا تزول جنابة الوجه, كذلك ها هنا, ورجع الخضري إلى هذا, وعلى هذا لو صب الماء على رأسه وانفصل منه إلى البطن بحيث لم يمر على وجهه فكما انفصل عن رأسه صار مستعملًا. فرع آخر لو نزل الجنب في الماء الذي هو دون القلتين إلى سرته ثم نوى رفع الجناية, ترتفع الجناية عن كل ما تحت الماء من بدنه, وأما ما هو فوق الماء إن أخذ الماء بيده وصب الانفصال, وإن غاص في الماء بباقي بدنه, قال بعض أصحابنا: فيه وجهان. فرع آخر لو شرع رجلان في ماء دون القلتين بلا نية ثم نويا رفع الجبانة, فإن نويا تحت الماء

دفعة (197 ب/1) واحدة ارتفع جنابتهما, وصار مستعملاً, وإن شرعًا مع النية دفعة واحدة ارتفعت الجناية عن أول جزء وصل إلى الماء من بدن كل منهما وصار مستعملًا ولا ترتفع الجبانة عن باقي أعضائها, لأن الماء كالمنفصل من بدن كل واحد منهما في حق صاحبه. فرع آخر لو اغتسل الجنب مرة في ماء قليل كان الماء الأول مستعملًا, والثاني: مطهرًا, لأن تكرار الثلاث مأثور في الوضوء والنجاسة, وغير مأثور في غسل الجنابة, ففي الموضع المأثور في أحد الوجهين يصير مستعملًا دون غيره, ذكره في (الحاوي) ويحتمل وجهان آخر, لأن التكرار فيه مندوب في قول بعض أصحابنا. مسألة: (إذا ولع الكلب في الإناء فقد نجس الماء). وهذا كما قال: الكلام في الكلب في فصول ف نجاسة عينه, وفي نجاسة سوره وفي وجوب غسل الإناء من ولوغه وكيفية العدد في غسله, فأما نجاسة عينه, فعندنا هو نجس العين خلافًا لأبي حنيفة, وقال مالك: الكلب والخنزير طاهران لوجود المياه فيهما, وبه قال داود. وأما نجاسة سؤره فعندما أنه إذا ولغ في ماء قليل, أو طعام من لبن أو خل أو غيرهما تنجس ويلزم إراقته, وغسل الإناء (198 أ/1) منه, وبه قال ابن عباس, أبو هريرة, وعروة بن الزبير (رضي الله عنه) , وأبو حنيفة, وأحمد, وإسحاق, وأبو ثور, وأبو عبيد, وقال الزهري, ومالك, وداود هو طاهر يجوز التطهر به, وإن ولغ في طعام لا ينجس ولا يحرم أكله, اختاره ابن المنذر لكن يغسل منه الإناء تعبدًا. وروى هذا عن الأوزاعي, وهذا غلط لقوله (صلى الله عليه وسلم): (إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليهرقه وليغسله سبع مرات) فأمر بالإراقة وعندهم لا تجب الإراقة. ورى أبو هريرة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب فيه أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب). ولأنه إذا وجب غسله لحدوث حادث تكون لنجاسته لا للتعبد, واحتجوا بقوله تعالى: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] الآية, قلنا: هذا مما يطعمه طاعم وكلامنا في الإناء, ونجاسة الماء

الذي فيه, ثم هذا في السنة إن لم يكن في الكتاب. واحتجوا بقوله تعالى: {فَكُلُوا مما أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} ولم يأمر بغسل الموضع الذي أصابه فم الكلب, قلنا: أراد به صيد الكلاب, وقوله مكبلين أراد به المعلمين ثم ليس فيه دليل على أن ذلك الموضع لا ينجس, كما أنه لم يأمر بغسل الصيد عن الدم, ولا شك أن دمه نجس على أن من أصحابنا من قال: موضع النص (198 ب/1) وإن كان نجسًا لا يجب غسله, بل يكون معفوًا عنه, لأنه لا يمكن الاحتراز منه, وظاهر المذهب أنه كسائر المواضع التي يصيبها فم الكلب, واحتجوا بما روى جابر (رضي الله عنه) قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عن الحياض بين مكة والمدينة تردها السباع والكلاب فقال: لها ما شربت في بطونها ولنا ما أبقت شرابًا وطهورًا, قلنا: نحمله على الماء الكثير بدليل ما ذكرنا. واحتجوا بأنه حيوان فكان طاهر السور كالشاة قيل: يجوز اقتناؤها إعجابًا بها وتفاخرًا بخلاف الكلب بدليل قوله (صلى الله عليه وسلم): (من اقتنى كلبًا إلا كلب صيد أو ماشيه نقص من أجره كل يوم قيراطان) , ولأن مالكًا وافقنا في أنه لا يجوز بيع الكلب ولم يرحم ذلك لحرمته, لأنه لا حرمة للكلب, ولا لعدم المنفعة, لأن منفعته كاملة, فدل أنه إنما حرم لنجاسته بخلاف الشاة, ولأنه لم يرد الأمر بالغسل من الولوغ هناك بخلاف ها هنا. وأما العدد فعندنا يجب غسل الإناء من ولوغه سبع مرات, إحداهن بالتراب, وبه قال ابن عباس, وأبو هريرة, وعروة, وطاووس (رضي الله عنهم) وقبل: إنه قول الأوزاعي وقول مالك, ومن أصحاب مالك من يقول: يعتبر ذلك استحبابًا, وبه قال أحمد في أصح الروايتين عنه, وعنه رواية أخرى (199 أ/1) أنه يجب غسله ثماني مرات سبع مرات بالماء وواحد بالتراب منفردًا, وبه قال الحسين, وقال أبو حنيفة: يغسل مرة, وروى ثلاثًا. واحتجوا بما روى عبد الله بن معقل أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (إذا ولغ الكلب في الإناء فاغسلوه سبع مرات والثامنة عفروه بالتراب). وروى أولاهن بالتراب ويحمل, ما روا على أنه أراد إذا نسي التراب في إحدى الغسلات السبع يلزمه الإتيان بالثامنة, بدليل خبرنا أو عد التراب ثامنة, وإن كان يوجد مع أحد السبع؛ لأنه جنس آخر. وقال أبو حنيفة: لا يعتبر فيه العدد, بل يلزمه أن يغسل حتى يغلب على ظنه طهارته من النجاسة, واحتجوا بما روى الأعرج, عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال في الكلب يلغ في الإناء: (يغسله ثلاثًا أو خمسًا أو سبعًا). قلنا رواية عبد الوهاب بن الضحاك, وهو ضعيف, ثم يحتمل هذا

التخيير, ويحتمل الشك من الراوي فيجب التوقف فيه ويعمل بخبرنا. فرع الأفضل أن يكون التراب في الغسلة الأولى ليرد الماء عليه بعده فينظفه من التراب, نص عليه في حرملة, وورد في الخبر ذلك, وفي أي الغسلات كان التراب أجزأه لقوله (صلى الله عليه وسلم) (إحداهن بالتراب). فرع كيفية الغسل بالتراب أن يخلط التراب بالماء في إحدى الغسلات (199 ب/1) , لا أن يقتصر على الدلك بالتراب, ولا يجب الدلك باليد في وسط الإناء, ولا فرق بين أن يصب الماء على التراب أو التراب في الماء حتى يتكرر. فرع قال في الحاوي: اختلف أصحابنا في أنه يكفي ما يقع عليه اسم التراب قل أو كثر أو يلزمه أن يستوعب به محل الولوغ على وجهين, أحدهما: ما يقع عليه الاسم المطلق الخبر, والثاني: يلزمه استيعابه لأنه ليس بعض المواضع أولى من بعض وهذا هو المشهور عندي والوجه الأول غريب. فرع قال الشافعي: والماء الذي ولغ فيه الكلب وعليه أن يهريقه, فمن أصحابنا من قال: يجب إراقته ويحرم الانتفاع به للخبر, وقال جمهور أصحابنا: لا تجب إراقته بل يستحب ولا يحرم الانتفاع به في وجه مخصوص وقوله (صلى الله عليه وسلم): (فليهرقه) ليتوصل بالإراقة إلى غسله لوجوب استهلاكه. فرع آخر قال بعض أصحابنا بخراسان: لو خلط التراب بخل أو ماء ورد ثم غسل به هل يجزي عن التراب؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز وهو الأصح؛ لأن الخل ليس بطهور. والثاني: يجوز؛ لأن التراب هو المقصود, وكذلك لو كان التراب نجسًا ففيه وجهان, والأصح أنه لا يجوز, ولا معنى لهذا عندي مع ما ذكرنا من النص الصريح. فرع آخر جميع أجزاء الكلب كفمه (200 أ/1) وكذا روثه ودمه, وقال أبو حنيفة: إذا أصاب سائر بدنه الماء لا ينجس روثه قال مالك وداود: وبنيا على أصلهما أن الكلب

طاهر, وإنما يغسل الإناء من ولوغه صار تنبيهًا على ما أصاب بيده ورجله؛ لأن الولوغ يكثر منه ويشق الاحتراز منه بخلاف سائر أعضائه, ومن أصحابنا من ذكر وجهًا أنه يختص السبع بالولوغ؛ لأنه غير معقول المعنى, والنص فيه ورد فكيفي الغسل مرة من مس أعضائه ودمه وبوله, وهذا ليس بشيء. فرع آخر يجب غسل الثوب من دم الكلب سبع مرات على ظاهر المذهب, فلو لم تزل عينه إلا ثلاث غسلات فالمرة الأولى هي محسوبة عن السبع, وفي الثانية والثالثة وجهان: أحدهما: لا تحتسب عن السبع, بل يجب غسل المحل بعد زوال عين الدم ست مرات. والثاني: يحتسب من السبع كالمرة الأولى. فرع آخر لو ولغ كلبان في إناء آخر أجزاء أن يغسل سبع مرات إحداهم بالتراب, نص عليه في حرملة, ومن أصحابنا من قال: فيغسل على عدد الكلاب لكل كلب سبع مرات, كما قال الشافعي: إذا بال واحد يصب عليه ذنوب من ماء, وإن بال اثنان يصب ذنوبان, وهذا ليس بتخريج صحيح؛ لأن ولوغ الكلب الثاني بمنزلة تكرير ولوغ الكلب الواحد, ولو كرر الكلب الواحد الولوغ يكفي (200 ب/1) سبع مرات, فكذلك إذا كثر عدد الكلاب يكفي سبع مرات, وفي البول ذكره الشافعي تقريبًا في التطهير لا تحديدًا, والبول يكثر بكثرة البائل والنجاسة ها هنا لا تزيد. وقال الإصطخري: يغسل لكل ولوغ سبعًا, فإن ولغ كلب واحد عشرًا غسل سبعين مرة, ذكره في (الحاوي). وقال: في المسألة ثلاثة أوجه وهذا خطأ فاحش لأن النجاسة لم تزد يستحيل أن تزيد الإزالة. فرع آخر لو غسل الإناء من ولوغه مرة, ثم وقع في نقطة خمر, أو دم غسله ستًا وطهر؛ لأنه غسل النجاستين معًا جميعًا نص عليه في حرملة. فرع لو وقع هذا في ماء قليل نجسه, ولو وقع في ماء كثير قدر قلتين فصاعدًا لم ينجسه, وهل يطهر به الإناء؟ فيه أوجه: أحدهما: يطهر ولا يحتاج إلى التراب؛ لأنه صار إلى حالة لو ولغ فيه في تلك الحالة لم ينجس, ولأن القصد بالعدد مكاثرة الإناء بالماء وها هنا حصلت المكاثرة, وهذا إذا أقمنا الماء مقام التراب.

والثاني: تكون غسلة واحدة, وست مرات إحداهم بالتراب لظاهر الخبر, وهذا اعتبار ابن الحداد. والثالث: يكفي التراب بعد هذا. والرابع: ذكره أصحابنا بخراسان: يُنظر, فإن أصاب فم الكلب نفس الإناء فهو غسلة واحدة, وإن أصاب الماء ثم نجس الإناء تتبعًا للماء فإنه يطهر تبعًا للماء أيضًا (201 أ/1) وعلى هذا لو كان إناء كبيرًا ولغ فيه الكلب فصب عليه ماء حتى تم به قلتان هل يطهر على هذا الخلاف؟ فرع آخر لو غسله ثمان مرات هل تقوم الغسلة الثامنة بالماء مقام التراب؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: يقوم مقامه؛ لأن القصد التطهر والماء أبلغ, وهو اختيار أبي إسحاق. والثاني: لا يقوم مقامه؛ لأنه مأمور بعين التراب فلا يجوز غيره, ولأن قصد النبي (صلى الله عليه وسلم) تقوية الماء بالتراب والجمع في غسلة بينهما, والتراب مع الماء ينقي ما لا ينقيه تكرار الماء. والثالث: إذا كان التراب موجودًا لا يقوم مقامه, وإن كان معدومًا يقوم مقامه للعذر, وهذا كله إذا قلنا غير التراب من الأشنان والنخالة تقوم مقامه. فرع لو صب الغسلة السابعة في الإناء وغلغل فيه ولم يصب عليه هل يطهر؟ وجهان كالوجهين في الثوب النجس إذا لم يعصر من الغسالة. فرع لو أصاب فم الكلب أرضًا فغسلت سبعًا أو جرى عليها الماء سبعًا هل يحتاج إلى تراب أجنبي؟ وجهان, والأصح أنه لا يحتاج؛ لأن نفس الأرض تراب ولم يذكر القفال غيره. فرع آخر لو أدخل الكلب رأسه في الإناء ولم يعلم أنه ولغ فيه, فإن أخرج رأسه يابسًا فالماء على طهارته, وإن كان رطبًا فيه وجهان: (201 ب/1) أحدهما: يحكم بنجاسته؛ لأن الماء لا ينجس بالشك, ويحتمل أن تكون تلك الرطوبة من لعابه أو ولوغه في غيره. فرع لو ولغ في إناء في طعام جامد يلقى منه ما أصابه فمه وينتفع بالباقي, كما لو ماتت الفأرة في السمن وهو جامد, ولو ولغ في ماء قليل, أو طعام فأصاب ذلك الماء أو الطعام ثوبًا أو إناء آخر, وجب غسله سبع مرات إحداهن بالتراب. فرع إذا بلغ الماء قلتين فتغير بالنجاسة, ثم ولغ فيه الكب, ثم أصاب منه ثوب إنسان,

قال القاضي الحسين (رحمه الله): يلزمه غسله سبع مرات إحداهن بالتراب؛ لأن لعاب الكلب مازج ذلك الثوب النجس والماء المتغير بالنجاسة, كالخل الذي يقع فيه النجاسة وإن لم يتغير. مسألة: قال: (وإن كان في بحر لا يجد فيه ترابًا فغسله بما يقوم مقام التراب في التنظيف مثل أشنان أو نحالة أو ما أشبهه ففيه قولان). الفصل وهذا كما قال المأمور في غسل الولوغ بالتراب, فإن غسله بغير التراب كالأشنان, أو النخالة, أو الصابون, هل يجوز؟ فيه قولان, أحدهما: يجوز ويقوم ذلك مقام التراب, وهو اختيار المزني؛ لأن المقصود منه التطهير عن النجاسة, والصابون هو أبلغ في التطهير من التراب, ولأنه إزالة نجاسة بجامد فلا يتعين ذلك الجامد كالاستنجاء والدباغ. والثاني: لا يجوز لأنه طهارة أمر فيها بالتراب (202 أ/1) تعبدًا فلا يقوم غيره مقامه كالتيمم, ومعنى التعبد أنه أمر بغسله سبعًا والنجاسة تزول مرة واحدة, ولأنه أحد الطهورين في ولوغ الكلب فلا يقوم غيره مقامه كالماء, وهذا طاهر المذهب. والجواب عما ذكر المزني أن المقصود من الاستنجاء تخفيف النجاسة, ومن الدباغ تنشيف فضول الجلد, فالمعنى والمقصود معلوم فقام غير المنصوص مقام المنصوص. وها هنا الأمر بالتراب غير معقول المعنى فأشبه التراب في التيمم. فإذا تقرر هذا, اختلف أصحابنا في موضع القولين, فمنهم من قال: القولان إذا كان عادمًا للتراب, فإن كان واجدًا للتراب لا يجوز قولًا واحدًا؛ لأن الشافعي قال: فإن كان في بحر لا يجد ترابًا, وهذا هو الظاهر. ومنهم من قال وهو الأصح: فيه قولان سواء كان واجدًا للتراب أو عادمًا له, وإنما صور الشافعي في البحر, لأن الغالب عدم التراب فيه, وإن كان واجدًا لا يتكلف غيره. فرع قال القفال: لو كان ثوبًا, فإن قلنا في الإناء أنه يقوم الأشنان مقام التراب, ففي الثوب أولى, وإن قلنا: لا يقوم ففي الثوب وجهان؛ لأن التراب يفسد الثوب, ويصلح الإناء, والأطهر عند عامة أصحابنا أنه لا فرق بين الثوب وغيره. مسألة: قال: ويغسل الإناء من النجاسة سوى ذلك ثلاثًا أحب إلى وهذا كما قال: المستحب أن يغسل من غير (202 ب/1) الكلب والخنزير ثلاث مرات, والواجب أن يكاثرها بالماء حتى يزول لونها ورائحتها ولا يشترط العدد, وقال أبو حنيفة: يجب غسله ثلاث مرات إذا كانت النجاسة حكيمة غير مرئية. وقال أحمد: يجب غسله سبعًا إذا أصاب الإناء لولوغ الكلب سواء, وهكذا لو

أصابت غير الإناء [إلا] في الأرض إذا أصابتها فإنه قال: لا يجب العدد فيها, وربما يقول بعض أصحابه: إنه لا يشترط التراب غير الولوغ, واحتج بأن الخبر الوارد في الولوغ تنبيه على غيره؛ لأن نجاسة الكلب أخف لأنه مختلف فيها, وهذا غلط لما روي عن ابن عمر (رضي الله عنه) قال: كانت الصلاة خمسين, والغسل من الجنابة سبع مرات, والغسل من البول سبع مرات, فلم يزل رسول الله (صلى الله عليه وسلم) حتى جعلت الصلاة خمسًا, والغسل من الجنابة مرة, والغسل من البول مرة, وقياسه على الكلب مخالف للنص, ثم نجاسة الكلب حكيمة لا يلزم غسل المحل, واحتج عليه الشافعي بما روى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال لأسماء في دم الحيض (حثيه ثم أقرضيه ثم غسليه بالماء ثم صلى فيه) ولم يعتبر العدد. مسألة: قال: (وما مس الكلب والخنزير الماء (203 أ/1) من أبدانها نحبه وإن لم يكن فيهما قذر) وهذا كما قال: أراد وإن لم يكن فيهما قدر سواهما لأن عينيهما نجاسة, وهذا لأن النص على الولوغ تنبيه على سائر الأعضاء على ما ذكرنا. مسألة: قال: واحتج بأن الخنزير أسوأ حالًا من الكلب الفصل وهذا كما قال: نص في (الجديد) أن الخنزير نجس يغسل من ولوغة سبعًا كالكلب, وحكى ابن أبي أحمد, عن الشافعي قولًا في (القديم) أنه يغسل من ولوغ الخنزير مرة, فمن أصحابنا من أنكر هذا, وقال: وهم ابن أبي أحمد فيما قال: قال أبو ثور: قال الشافعي في (القديم)؛ يغسل من ولوغ الخنزير, وأطلق لم يذكر العدد, وهذا خطأ؛ لأنه ذكر العدد في موضع آخر, وأراد بالإطلاق السبع, وقيل: هو ثقة في الرواية فالمسألة على قولين: أحدهما: يغسل مرة لأن الكلب مألوف, فخص بزيادة تغليظ كالخمر لما كانت مألوفة خصت بوجوب الحد بشربها وينسب هذا القول إلى مالك ولا يصح عنه. والثاني: يلزمه غسل سبع مرات, لأن النص في الكلب تنبيه على الخنزير, لأنه أسوأ حالًا, لأن الكلب محرم نصًا ولا يجوز إقتناؤه أصلًا بخلاف فإنه مختلف في جواز أكله وحكم المتولد بين الكلب والذئب حكم الكلب في هذا الحكم (203 ب/1). فصل يشتمل على فروع النجاسة إذا أصابت ثوبًا أو غيره يغسله بالماء عن المحل, فيه ثلاث مسائل:

(إحداها): أن ينفصل الماء متغيرًا بالنجاسة فهو نجس بلا خلاف, سواء طهر المحل به أو لم يطهر, لأن النجاسة غلبته. والثانية: أن ينفصل عنه غير متغير ولم يطهر المحل بعد, فالمذهب أنه نجس, لأن الماء إذا ورد على النجاسة إما أن يغلبها أو تغلبه, فإن غلبها وجب أن يزيلها, فلما لم يزلها دل على أنها غلبته, وقال بعض أصحابنا: فيه وجهان: أحدها: هذا, والثاني: أنه طاهر, لأن الماء الذي يزد على النجاسة بمنزلة الماء الكثير الذي تزد النجاسة عليه فلا تنجس إلا بالتغير. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إنه روي هذا عن الشافعي في (القديم). والثالثة: أن ينفصل عنه غير متغير والمحل قد طهر, فالمذهب المنصوص أنه طاهر, وبه قال جماعة أصحابنا, لأن البلة الباقية في الثوب هي طاهرة, فالمنفصل منه طاهر أيضًا. وقال أبو القاسم الأنماطي: هو نجس, وبه قال أبو حنيفة: فعلى هذا العبارة عنه أن حكم الماء بعد الاستعمال حكم المحل المغسول قبل أن يغسل, إذا قلنا بالمذهب, قال القفال: لأصحابنا عبارتان, أحدها: أن حكم الماء بعد الغسل حكم الماء قبل الغسل؟ فعلى هذا غسالة (204 أ/1) كل مغسول هي طاهرة وهو عين القول القديم, والثانية: أن حكم الماء بعد الغسل حكم المحل بعد الغسل, فعلى هذا غسالة عين الكلب والخنزير طاهرة, والغسالة في المرة السابعة من ولوغ الكلب والخنزير طاهرة أيضًا, وما قبلها نجس, وعلى هذا لو نجس الماء بولوغ الكلب فأصاب الثوب منه نجس وغسل سبع مرات كما يغسل الإناء سبعًا, فإن غسله مرة ففي هذا الماء وجهان: أحدهما: طاهر, لأنه انفصل غير متغير, والمذهب أنه نجس, فلو أصاب الثوب من هذه الغسالة نجس الثوب وبماذا يطهر, اختلف أصحابنا فيه, فمنهم من قال: يغسل بعد هذا سبعًا إحداهن بالتراب, لا أن تكون الغسلة الأولى بتراب فيغسل ستًا بلا تراب, وعلى هذا أبدًا, فإن بقي من غسلات الإناء خمس غسل خمسًا, ولو بقي واحدة غسل واحدة, وإن أصاب من السابعة لا المحل المغسول قبل الغسل, فيغسل من المرة الأولى سبع مرات إحداهن بالتراب, ومن الثانية ست مرات إحداهن بالتراب, إن لم يكن غسل المرة الأولى بالتراب, ومن السابعة يغسل مرة, ومن أصحابنا من قال: يغسل مرة واحدة لكل خال, لأن كل مرة قد أخذت سبع النجاسة فيغسل منها مرة, فاعتبر هذا القائل ما زال من النجاسة بالغسل دون (204 ب/1) ما بقي. فرع لو جمع ماء الغسلات السبع في إناء هل يكون نجسًا؟ فإن قلنا: ماء الغسلات كلها طاهرة فلا مسألة, فإن قلنا: الجميع نجس إلا ماء الغسلة السابعة فيه وجهان: أحدهما: الجميع نجس, لأن ماء الغسلة الأولى إلى السابعة نجس, وماء الغسلة السابعة طاهر, فإذا جمع ولم يبلغ قلتين وجب أن يكون نجسًا وهو الصحيح, والثاني:

أنه طاهر, لأن الجميع بمنزلة الماء الذي أزيل به النجاسة وقد انفصل غير متغير فطهر المحل, وهذا خطأ بيَّن. فرع آخر قال ابن سريج: وهكذا لو غسل به ثوب من نجاسة فانفصل متغيرات ثم غسله مرة أخرى فانفصل غير متغير, ثم جمع الماءان فزال التغير فيه وجهان: فرع لو أصاب الثوب نجاسة فغسله مرة وعصره في إجانة وإنفصل عنه غير متغير بعد طهارة المحل, ثم غسله مرة أخرى وعصره في إجانة أخرى, ثم غسله مرة أخرى وعصره في إجابة أخرى, ثم غسله مرة أخرى وعصره في إجانة أخرى فالماء الذي في الإجانة الأولى طاهر غير مطهر, وفي الثانية والثالثة وجهان, لأنه مستعمل في طهارة مندوب إليها, وفي الرابعة طاهر مطهر قولًا واحدًا, فلو جمعت هذه المياه كلها, فإن قلنا: الأوسطان كالرابع فالكل طاهر مطهر, لأن الأول تغير مغلوبًا, وإن قلنا الأوسطان كالأول فالكل طاهر (205 أ/1) غير مطهر, لأن الرابع يصير مغلوبًا. فرع لو غمس الثوب النجس في إناء نجسه, ولو غمسه في إناء آخر نجسه أيضًا, ولا يطهر بحال إلا أن يغمسه في قلتين من الماء أو يورد الماء عليه, وهذا هو المذهب الذي لا يجوز غيره, ومن أصحابنا من غلط, وقال: إنما تنجس به إذا لم يقصد إزالة النجاسة, فإن قصد ذلك لا ينجس ويطهر الثوب, وهذا ليس بشيء, لأنه لا اعتبار بالقصد بدليل أنه يطهر بقصد الصبي والمجنون, وإن لم يكن لهما قصد, وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: إذا فعل هذا ثلاث يطهر في المرة الثالثة وهو قول أبي يوسف. فرع آخر لو كان ثوبًا نجسًا فأخده بإحدى يديه وصب عليه بيده الأخرى ماء ترابًا, وترك تحته إناء فنزل الماء في ذلك الإناء, قال إبن سريج: أساء في جميع ذلك في الإناء إلا أنه طاهر, لأن الثوب قد طهر به, ويفارق هذا الثوب إذا صب عليه الماء ولم يعصره لا يطهر على أحد الوجهين, لأن الماء لم يفارق محل النجاسة وها هنا فارق. فرع آخر لو غسل نصف الثوب النجس كله وطهر هذا النصف الذي غسله عند أصحابنا, وقال إبن القاضي في التلخيص , لو غسل بعض الثوب كله في جفنه, ثم عاد إلى ما بقي فغسله لم يجز حتي يغسل الثوب كله دفعة واحدة, وأراد به إذا طرح بعض ذلك (205 ب/ 1) الثوب في جفنه ثم صب عليه الماء فلا يطهر, لأن البعض الذي لم يصبه الماء هو وارد على الماء الذي في الجفنة, والنجس إذا ورد على الماء القليل نجسه, وإذا نجس الماء نجس الثوب الذي هو فيه, وصورة مسألتنا غير هذه الصورة, ومن

أصحابنا من قال: علة إبن القاضي في ذلك أن النصف الأول لما غسله طهر, ثم نجس بما جاوره من النجاسة, ثم إذا غسل النصف الثاني يطهر إيضًا, إلا أنه تنجس بما جاوزه من النجاسة وهو النصف الأول المغسول, وعلى هذا يظهر الخلاف بين أصحابنا في ذلك, وهذا غلط, لأم الجزء الذي يجاور اليابس ينجس والباقي لا ينجس لما روي أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال في الفأرة, تقع في السمن الجامد: قوروها وما حولها. وعلى ما قاله ابن القاضي تنجس جميع السمن بالتعدي من جزء إلى آخر وبعض أصحابنا بخراسان اطلقوا, وقالوا: الصحيح ما قاله صاحب التلخيص, ولم يفصلوا ما ذكرنا من التفصيل, ولا شك أنه على هذا التفصيل. فرع آخر إذا غسل الثوب عن النجاسة, ثم وقعت عليه نجاسة في الحال, هل يجب غسل كلها أو غسل موضع النجاسة؟ قال بعض أصحابنا: فيه وجهان لأنه ينشر, وعلى هذا لو خرز الخف بشعر الخنزير يصير نجسًا, لأنه لا يمكن إلا بالرطوبة فلو غسل هل يحكم (206 أ/ 1) بطهارة ظاهره؟ وجهان: أحداهما: لا يطهر لأنه لا يمكن تطهير كله, والرطوبة تتعدى. والثاني: يطهر, ويجوز أن يصلي عليه, ولو غرف رجله لا نحكم بنجاسته, ولا تتعدى النجاسة من ثقب النعل إلى الجزء المغسول, وهذا هو الصحيح عندي, واختاره الإمام القاضي الحسين -رحمه الله- فرع آخر قال بعض أصحابنا: إذا طبخ اللحم بماء نجس فإنه يصير نجسًا, والطريق في تطهيره أن يطبخ بالماء الطاهر مرة أخرى حتى يصل الماء في الكرة الثانية إلى كل موضع وصل الماء إليه في المرة الأولى فيطهره, وعندي أنه لا يطهر, وسمعت بعض أصحابنا يقول: لابد من أن يجفف ثم يغسل حتى يصل الماء إلى باطنه فيطهر به كالأجر النجس بما لا عين له. فرع آخر العجين بالماء النجس لا يصير بالخبز طاهرًا, والطريق في تطهيره أن يقلب عليه الماء حتى ينفد ويخرج من الجانب الآخر, كما قلنا في الأجر النجس, وعلى ما ذكرنا عن بعض أصحابنا يلزمه أن يجففه أولًا ثم يصب عليه الماء هكذا. فرع آخر لو كان ثوبًا نجسًا فوضعه في طست, وصب عليه ماء حتى غمره, ثم عصره, فالثوب طاهر بلا خلاف, وإن لم يعصره ففيه وجهان: أحدهما: يطهر الثوب لأنه كأثره بالماء وغمره, فوجب أن يطهر كما لو بال رجل على الأرض قصب عليه ماء غمره فإنه يطهره.

والثاني: (206 ب/1) لا يطهر, لأن غسل الثوب من البول في العادة بأن يغمره الماء ويعصره حتى ينزل الماء عن محل النجاسة فيعتبر ذلك, وبه قال أبو حنيفة: وفي الأرض ضرورة فجوزنا الأول أصح, فرع آخر لو كان إناء فيه ماء نجس أو بول, فقلب ما فيه ثم صب الماء في الإناء حتي كاثره وغمره طهر, وإن لم يقلب البول منه, ولكنه صبه فوق البول أو الماء ما كاثر به هل يطهر؟ فيه وجهان: أحدها: يطهر كما قلنا في الأرض والبئر وهو ظاهر المذهب. والثاني: أنه لا يطهر, لأن في العادة يقلب ما في الإناء ثم يغسل بخلاف البئر فإنه لا يمكن أن تقلب, ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الكلب يلغ في الإناء: فليغرقه ثم ليغسله سبع مرات. فرع آخر لو كان على ثوبه نجاسة فغسلها وبقي بونها ولا يخرجه الماء حكم بطهارته نص عليه في (الأم) , ومن أصحابنا من قال: يلزمه أن يستعين بعين الماء من الأشنان أو الصابون, فإن تعذر إزالته هل يحكم بطهارة الثوب أو بالعفو مع النجاسة؟ وجهان, وليس كلون الحناء النجس, لأنه لون الصبغ وهذا لون النجاسة, والصحيح عندي ما تقدم, لما روى أبو هريرة (رضي الله عنه) أن خولة بنت يسار قالت: يا رسول الله أرأيت إن بقى أثر الدم, فقال: الماء (207 أ/1) يكفيك ولا يضرك أثره. وقالت عائشة - رضي الله عنها- كنا نغسل الدم من الثوب فيبقى فيه أثره فنلطخه بالحناء ونصلي فيه. فرع آخر لو بقيت الرائحة, فإن لم يكن لتلك النجاسة رائحة زكية لم يطهر المحل وبقاء الريح دليل على بقاء العين, وإن كان له رائحة زكية كالخمر وبول المبرسم فيه وجهان: أحدها: لا يطهر, والثاني: يطهر وهو الأظهر, لاأنه قد تذهب العين وتبقي الرائحة, كخمر يخرج من بيت فتبقي رائحتها أياما للمجاورة, وفيه قيل قولان. فرع آخر لو بل خضابًا بنجاسة من خمر أو غيرها, فإن كان لون النجاسة باقيًا فالمحل المخضوب نجس لا يطهر حتى يذهب ذلك اللون, وإن لم يكن لون النجاسة باقيًا, ولكن بقي لون الخضاب فيه وجهان: أحدها: نجس, لأن الخضاب صار نجسًا, ويدل بقاء لونه على بقاء النجاسة, والثاني: طاهر, لأن نجاسة الخضاب هي نجاسة مجاورة,

وهذا اللون لون عرض الخضاب لا تحله النجاسة, وإذا قلنا بالأول لا ليزمه طبق اللحية, بل يمكن حتى يتصل لونه لأنه يزول لا محالة, ثم أعاد الصلاة, وإن كان على بدن, فإن كان يزول كالحناء فعلى ما ذكرنا, وإن كان لا يزول كالوشم بالنيل, فإن أمن التلف في كشطه فإنه يلزمه كشطه بخلاف الشعر, لأن ذلك يجوز (207 ب/1) , وإن كان يخاف التلف من كشطه فإن كان يجزه أكرهه على الخضاب به وأقره, وأن كان هو المختضب فهل يجب إزالته؟ وجهان مخرجان من الوجهين في واحد العظم النجس إذا خاف التلف من نزعه. مسألة: قال: (واحتج في جواز الوضوء بفضل ما سوى الكلب والخنزير عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) أنه سئل أنتوضأ بما أفضلت الحمر؟ قال: نعم وبما أفضلت السباع كلها). وهذا كما قال: الحيوانات ما عدا الكلب والخنزير وما توالد منهما أو من أحدهما طاهرة الذات والسؤر والعرق, سواء كان مما يؤكل أو مما لا يؤكل, من البغل, والحمار, وحشرات الأرض, وجوراح الطير, والأسد,. والذئب, وبه قال عمر, وعمرو بن العاص, وأبو هريرة, ومالك (رضي الله عنهم) وقال أبو حنيفة: الأسأر على أربعة أضرب, ضرب نجس وهو سؤر الكلب والخنزير والسباع كلها, وضرب مكروه, وهو حشرات الأرض وجوارح الطير والهر, وضرب مشكوك فيه, وهو سؤر الحمار والبغل, وضرب طاهر غير مكروه وهو سؤر كل حيوان يؤكل لحمه, وحكي عن أحمد أنه قال: كل حيوان يؤكل لحمه فسؤره طاهر وكذلك حشرات الأرض والهر, وفي السباع روايتان, إحداهما (208 أ/1) طاهر, والثانية: نجس, وكذلك في البغل والحمار روايتان أصحهما أنه نجس, والثانية مشكوك فيه. واحتجوا بما روي عن ابن عمر (رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم) سئل عن المياه تكون بأرض الفلاة تمر بها السباع والذئاب فقال: إذا كان الماء قلتين لم ينجسه شيء ولأن لبثه نجس فكذلك سؤره وهكذا غلط للخبر الذي ذكرنا واحتج الشفعي بحديث أبي قتاة في الهرة أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: إنها ليست بنجسة , وعامة ما روي عن كبشة بنت كعب امرأة أبي قتادة (رضي الله عنها) أن أبا قتادة دخل فسكبت له وضوءًا, فجاءت هرة شربت منه, فأصغى لها الإناء حتى شربت, قالت كبشة: فرآني أنظر إليه فقال: أتعجبين يا بنت أخي؟ فقلت: نعم فقال: إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال: إنها ليست بنجسه إنها من الطوافين عليكم والطوافات.

وروي أنه قال: كنت أسكب الوضوء لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) فدنت الهرة, فأصغى لها الإناء فشربت, ثم قال هذا, فذلم لطهارة سؤرها بطهارة عينها, وقد ثبت ان ما سوى الكلب والخنزير طاهرة الأعيان, فاقتضى ذلك أن تكون طاهرة الأسار, وقد جعل الشافعي هذا الاستدلال بعينه علة في المسألة, فقال: ولعاب (208 ب/1) الدواب وعرقها قياسًا على بني آدم, واحتج أيضٌا بقوله (صلى الله عليه وسلم): إذا سقط الذباب في الإناء فاملقوه, وتمام الخبر فإن في أحد جناحيه داء, وفي الآخرة دواء, وإنه تقدم الداء , وروي: فإن في أحد جناحيه سمًا, وفي الآخر شفاء, ووجه الاستدلال منه ما أشار إليه الشافعي من بعد, وهو أن الذباب لما أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بمقله في الإناء دل على أنه ليس في الأحياء نجاسة إلا فيما وصفنا. وروى أبو هريرة -رضي الله عنه- أن النبي (صلى الله عليه وسلم) كان يأتي أهل بيت من الأنصار فيدخل عليهم, وكان بقربهم أهل بيت لا يدخل عليهم, فشق ذلك عليهم قالوا: يا رسول الله تدخل على بيت فلان ولا تدخل علينا, فقال: إن في بيتكم كلبًا فقالوا: يا رسول الله فإن في البيت الذي تدخل عليهم سنورًا فقال: إن السنور سبع وهذا إشارة إلى أنه ليس بنجس كسائر السباع. وروي عن جابر بن سمرة قال: رجع رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من جنازة أي الدحداح على فرس عري , والعري في غير ابن آدم هو كالعريان في ابن آدم, ووجه الدليل أنه لا يخلو عن العرق في حر الحجاز, فإن ثبت طهارة عرقه من غير كراهية كذلك سؤره, ولا حجة في (209 أ/1) خبرهم, لأن الكلاب والخنازير هي داخلة في اسم السباع, ولأن الغالب أن السباع إذا ورت الماء بالت فيه وراثت, فلهذا أجاب بما أجاب. وأما اللبن قال جمهور أصحابنا: لا خلاف أنه يحرم شربه, وهل هو طاهر؟ فيه وجهان, أحدها: هو طاهر كاللعب, وهو اختبار الأصطخري, والثاني: وهو الصحيح المنصوص أنه نجس, لأن اللبن معتبر باللحم فيما لا يمنع من أكله لحرمته, واللعاب لا يعتبر بتحريم الأكل بدليل سباع الطير والحشرات, ولهذا إن جوارح الطير بيضها نجس وسؤرها طاهر, قال ابن القطان من أصحابنا: هل يحل شربه؟ وجهان أحدها: ما ذكرنا, والثاني: يحل لأن الحمار كان مباح اللحم واللبن فورد الشرع بتحريم اللحم, ولم يرد النص في لبنه, وهذا ليس بشيء, والدليل على أن سؤر الهرة لا يكره خلاف قول أبي حنيفة, ما روى أن هرة أكلت من هريسة بين يدي عائشة (رضي الله عنها) ثم أكلت عائشة من حيث أكلت الهرة, وقالت إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ثم أكلت عائشة من حيث أكلت الهرة, وقالت إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال (إنها ليست

بنجسه) وقد رأت رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يتوضأ بفضلها, فإن قيل: هي تأكل النجاسات؟ قيل: والنصراني يشرب الخمر ولا يكره سؤره. مسألة: قال: (وغمس الذباب في الإناء ليس (209 ب/1) يقتله) الفصل إلى أن قال: " فإن مات ذباب أو خنفاء أو نحوهما في الماء نجسه" وهذا كما قال أراد به أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذباب: "فامقلوه" فأمر بمقل الذباب في الإناء ولم يرد به قتله فإن قتله تنجس الماء أو الطعام, والمقصود من هذا بيان ما يموت من الماء أو في غيره من الحيوان, وجملته أن الحيوان على ضربين نجس, وطاهر, فالنجس الذي ذكرنا حكمه, وأما الطاهر فضربان, أحدها: ما يحل أكله بعد موته كالسمك والجراد, سواء كانت له نفس سائلة, كالسمك الكبار, أو لا نفس له سائلة لا ينجس الماء لا في حياته ولا بعد وفاته, ولا ينجس هو بالموت, والثاني: ما يحرم بالموت وهو على ضريين, ماله نفس سائلة وما لا نفس له سائلة, فما له نفس سائلة هو على ضريين آدمي وغير آدمي, فالآدمي هل ينجس بموته؟ قولان فإذا قلنا: ينجس فمات في قليل من الماء ينجسه إلا فلا, أما غير الآدمي فإنه ينجس بموته وينجس الماء قولًا واحدًا. وأما ما لا نفس له سائلة فهو على ضربين, ما يخلق من نفس الشيء كدود الخل, والماء, والجبن, والبق, وما خلق لا من نفسه كالذباب, والزنابير, والعقارب, والأوزاغ ونحو ذلك, فبالموت ينجس كله, ثم ينظر فيه مإن مات فما خلق منه كان (210 أ/1) معفوًا عنه قولًا واحدًا, وإن نقل عنه إلى غيره فالحكم فيه ومما لم يخلق منه سواء, فهل ينجس به ذلك؟ فيه قولان: أحدها: قال في القديم: لا ينجسه, وهو اختبار المزني وكافة العلماء, وهو الأصح عندي للخبر الذي به ذكرنا في الذياب إذا وقع في الطعام, وروى سلمان الفارسي - رضي الله عنه - أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قال له (يا سلمان كل طعام وشراب وقعت فيه دابة ليس لها دم فهو حلال أكله وشربه والوضوء منه) , ولأنه يشق الإحتراز منه فعفى عنه, والثاني: أنه ينجسه قال في (الجديد): وهو ظاهر المذهب, قال إبن المنذر: لا أعرف أحدًا قال ذلك غير الشافعي, وقال القاضي الطبري: وهذا هو قول محمد بن المنكدر, ويحيى بن أبي كثير, ووجهه أنه حييوان لا يحل أكله لا لحرمته فكان نجسًا بعد موته كالذي له نفس سائلة, وإذا ثبت نجاسته ثبت أنه ينجس به الماء القليل. وقال القفال: القولان في أنها هل تنجس بالموت وهل تنجس أيضًا وهذا أقيس وعلى هذا في روثه هل هو طاهر؟ وجهان, وقال أهل العراق: هذا مذهب مالك أنها

لا تنجس ويحل أكلها, ولا خلاف بين أصحابنا أن كلها تنجس بالموت أكلها حرام. فرع الحية والوزغ هل هي ذات نفس سائله؟ قال الدراكي وأبو حامد: (210 ب/1) هي ذات نفس سائلة, وقال أبو الفياض, وأبو القاسم الضميري: ليست بذات نفس سائلة. فرع أما إذا مات في الماء غير الحوت مما يكون عيشه في الماء, إن قلنا: إنه لا يحل أكله لا ينجسه, وكلب الماء وخنزيره والسلحفاة والسرطان والحية طاهر يؤكل في أحد القولين, ذكره بعض أصحابنا: وهذا في الحية غريب. فرع الصفدع يحل أكله قولًا واحدًا, ولكنه لا دم فيه فهل ينجس الماء القليل إذا مات؟ فيه؟ قولان, وهل ينجس في نفسه؟ فيه طريقان على ما ذكرنا. وقال بعض أصحابنا: الضفدع دم سائل ينجس الماء قولًا واحدًا, وقال أبو حنيفة: لا ينجس الماء شيء يكون عيشه في الماء قياسًا علي السمك, وهذا غلط, لأنه حيوان له دم سائل فأشبه البري. فرع إذا قلنا لا ينجسه فوقع فيه كثير حتى غير أحد أوصافه لونه أو طعمه أو ريحه, حكى أبو حفص عمر بن أبي العباس عن أبيه في وجهين: أحدها: نجسه, لأنه تغير بالنجاسة ويمكن الإحتراز منه, والثاني, وهو الأقيس: لا ينجسه لأنه لو نجسه إذًا غيره ينجسه من غير تغيير, لأن في الماء القليل لا يعتبر التغيير. فرع آخر قال أصحابنا: بخراسان: في دود القز إذا مات هل ينجس؟ قولان, وكذلك القولان في بزره وروثه, وفائدة القولين جواز (211 أ/1) الصلاة معه, وجواز بيعه ووجوب ضمانه إذا أبلغه, والسم القاتل إن كان من نبات فهو طاهر, وإن كان من الحية فنجس وكذلك الترياق, إن كان فيه لحم الحية فهو نجس. فرع آخر البهيمة إذا تناولت الحب وخرج منها بعينه, قال أصحابها: إن كانت صلابته باقية بحيث لو زرع نبت لم تكن عينه نجسة ويجب غسل ظاهره, كما لو ابتلع النوى وخرج منه, وإن لم تبق صلابته كان نجسًا. فرع دم الحوت هل هو نجس، أو طاهر؟ وجهان: أحدهما: وهو ظاهر أنه نجس، ولكن مع هذا يحل أكله ميتًا، كما لو طعن صيدًا

باب الماء الذي ينجس والذي لا ينجس

ولم يخرج منه إلا دم قليل قبل أن يصل إليه الذاع حل أكله، وإن بقى الدم في أجزائه. والثاني: أنه طاهر، وبه قال أبو حنيفة؛ ليس بدم حقيقة بل هو ماء أحمر لأن الدم يسود إذا أصابته وها لا يسود، ومن أصحابنا من قال: إن قلنا هو رطوبة شبه الدم فهو طاهر وجهًا واحدًا، وإن قلنا إنه دم ففيه وجهان، وهذا الخلاف من ورثه وبوله، والفتوى عندي أن الكل طاهر؛ لأنه رخص في ابتلاعه حيًا وأكله ميتًا، فلا وجه للحكم بنجاسة شيء منه، ثم ختمك المزني هذا الباب بما مضى بيانه فلا نعيد. فرع آخر سؤر الفرس لا يكره وه طاهر، وقال أبو حنيفة: يكره وهذا خطأ لأنه حيوان يجوز بيعه كالشاة (211 ب/ 1). باب الماء الذي ينجس والذي لا ينجس قال الشافعي: أَخْبَرَنَا الثَّقةُ عَنْ الْوّلِيدِ بْنِ كَثِير، وَذَكرَ الْخَبَر)) وهذا كما قال، وقد ذكرنا حك الماء إذا ورد على النجاسة، والكلام الآن في النجاسة إذا وردت على الماء، وفي بيان القدر الذي ينجس، والذي لا ينجس، فلا خلاف بين العلماء في الماء إذا تغير بمخالطة النجاسة أنه ينجس، وإن كان كثيرًا راكدًا أو جاريًا، وأما إذا لم يتغير اختلفوا فقال ابن عباس، وحذيفة، وأبو هريرة، والحسن، والنخعي، وسعيد بن المسيب، وعكرمة، وأبن أبي ليلى، وحماد بن زيد، والقاسم بن محمد، ومالك، والأوزعي، والثوري- رضي الله عنهم:- لا ينجس قليلًا كان أو كثيرًا. وبه قال داود، وأهل الظاهر، واختاره ابن المنذر، وهو اختياري واختيار جماعة من العلماء الذين رأيتهم بخراسان والعراق. وحكى عن داود أنه قال: إذا بال في الماء الراكد ولم يتغير فإنه لا ينجس، ولا يجوز أن يتوضأ منه للخبر، ويجوز لغيره أن يتوضأ منه، وإذا تغوط فيه ولم يتغير لا ينجس ويتوضأ هو منه وغيره، وإن بال على الشط فجرى البول إلى الماء جاز له التوضئ منه إذا لم يتغير، وخطأه في هذا بين لا يحتاج إلى الدلالة عليه. واحتجزوا بما روى، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خلق الله (212 أ/ 1) الماء طهورًا لا ينجسه شيء إلا ما غير طعمه أو ريحه". وروى أبو أمامه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا ينجس الماء إلا ما غير طعمه أو ريحه". وروى عن أبي سعيد الخدري- رضي الله عنه- قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمررنا بغدير فيه شاة ميتة فامتنعنا أن نشرب منه، أو نتوضأ فقال:

" (توضؤوا) واشربوا فإنه لا ينجس الماء شيء". وقال خبر القلتين ضعيف لأنه رواه محمد بن جعفر. وقال يحي بن معين: كان محمد هذا مغفلًا، ولو صح فقد ورد مورد التقريب لا التحديد، بدليل ما روى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زاد الماء عن قلتين أو ثلاثة فإنه لا ينجس" ويقيسون على الكثير. واحتج الشافعي عليهم بالخبر وهو قوله "إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل نجسًا وروى "خبثاً" فدل على أن ما دون القلتين ينجس. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثًا فإنه لا يدري أين باتت يده" فأمر بغسل اليدين قبل إدخالهما الإناء خوفًا من النجاسة على يده. فدل على أنه لو تيقن النجاسة يفسد الماء به. وأما خبرهم الذي ورد في بئر بضاعة وماؤها وكانت قلالًا كثيرة. وقد روى أبو سعيد الخدري أنه قيل (212 ب/ 1): يا رسول الله إنك تتوضأ من بئر يطرح فيها الحيض ولحم الكلاب والنتن. فقال: "الماء طهور لا ينجسه شيء ". وري أنه قيل: يا رسول الله: إنك تتوضأ من بئر بضاعة وهي تطرح فيها المحايض، ولحوم الكلاب، وما ننجي الناس الغائط. وقال أبو داود: قدرت بئر بضاعة برداي- أي مددته عليها- ثم ذرعته فإذا عرضها ستة أذرع وسألت من أدخلني إليها هل غير بناؤها عما كانت عليها؟ فقال: لا، وسألت قمها عن عمقها، فقال: تكون عند الكثرة إلى الغاية، وإذا نقص تكون دون العورة، أو نحمله على الكثير بدليل ما ذكرناه، ولا يصح القياس على الكثير، لأنه قوي بكثرته، فقدر على دع النجاسة عن نفسه، وقد يكون الكثير قوة ليست للقليل كالشاهدين لا يثبت بأحدهما ما يثبت بهما. وقال أكثر العلماء: يفضل بين الماء القليل والكثير في هذا الحكم، إلا أنهم اختلفوا في التفصيل. فقال ابن عمر، وسعيد بن جبير، ومجاهد، وأبو عبيد. وروى بعض أصحابنا هذا عن ابن عباس، وأبي هريرة، وأحمد، وإسحاق. وفيه نظر. قال عبد الله بن عمرو بن العاص: يحد بأربعين قلة، والقلة منها كالجرة (213 أ/ 1). وقال محمد بن سيرين، ومورق بن الأجدع، ووكيع بن الجراح يحد بكر، والكر عندهم: هو أربعون قفيز اثنان وثلاثون رطلًا.

وقال أبو حنيفة في الصحيح في الروايات: كل ما خالطه نجاسة نجس حتى لو وقع في بحر نجاسة فإنه نجس ما يلي موضع وقوع النجاسة، وما لا تخلص إليه النجاسة فإنه طاهر، ومنهم من قال: إذا بلغ الماء عشرًا في عشر في عمق بئر لا ينجس لوقوع النجاسة فيه، وإن كان دونه تنجس، ومنهم من قال: إذا بلغ قدرًا لو حرك أحد جوانبه لم يتحرك الجانب الآخر لا ينجس، وإلا نجس، وهذا ليس بتحديد حقيقة بل جعله أمارة على وصول النجاسة إليه، وهذا كله غلط لما ذكرنا من الخبر المعروف. وقوله في خبر ابن عمر: "لم يحمل خبثًا" أو قال: "نجسًا" شك الراوي وقوله: في بشر بضاعة وهي تطرح فيها المحايض تطرح في بطن الوادي فيسل بها السيل إلى البئر. وقيل: معناه أن المنافقين والمشركين كانوا يطرحونها فيه علمًا منهم بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ بمائها، ثم قال الشافعي: ومعنى قوله: "لا ينجسه شيء" إذا كان كثيرًا قصد به الرد على مالك وجماعة، وذكر في الخبر الطعم والريح، ولم يذكر اللون فذكره الشافعي وألحقه بهما (213 ب/ 1)، لأنه في معناهما، ثم ذكر بعد هذا موضع آخر حجة أبي حنيفة، وهي ما يروى عن ابن عباس- رضي الله عنه "أنه نزح زمزم من زنجي مات فيها"، وأجاب عنه بخمسة أجوبة نقلها المزني في سطرين على الاختصار: أحدهما قوله: لا نعرفه وزمزم عندنا يعني نحن من أهل مكة، وزمزم بمكة فلا نعرف هذا الخبر، فكيف عرفه أهل الكوفة بالكوفة. والثاني: قوله: وروى عن ابن عباس أنه قال: أربع لا يجنب فذكر الماء منها. قال صاحب "الإفصاح" معناه: لا ينجس فكأنه عارض تلك الرواية بهذه، إلا أنه قد قيل: هذه المعارضة لا تصح؛ لأن ابن عباس أراد به لا ينجس من الجبث، ولا الثوب الذي يلاقيه، ولا المكان الذي هو عليه، ولا الماء الذي يماسه. وقيل معناه: لا ينجنب منهن بالشك في نجاستين. والثالث: قوله: وهو لا يخالف النبي صلى الله عليه وسلم أراد: أنَّا روينا عن ابن عباس ما روينا في بئر بضاعة بابن عباس أنه يخالفه. والرابع: قوله: وقد يكون الدم ظهر فيها فنزحها إن كان فعلها، وهذا تأويل منه للخبر إن ثبت، كأنه يقول يحتمل أن الزنجي لما سقط في البئر دمى بعض بدنه (214 أ/ 1) منه وظهر لون دمه في الماء فلذلك نزح. والخامس: قوله: "أو ننظف لا واجبًا" يريد تأويلًا آخر، وهو أنه نزع لا لنجاسة بل تنظفًا وتطييبًا للنفوس؛ لأنه ماءه يعد للشرب غالبًا. فإذا تقرر هذا فذكر حد القلتين. قال الشافعي: روى في الخبر بِقِلاّلِ هَجِر، قال ابن جريح: وقد رأيت قلال هجر، فالقلة تسع قربتين أو قربتين وشيئًا. وقال الشافعي: والاحتياط أن نجعل قربتين ونصفًا؛ لأن الشيء هو عبارة عن أقل من النصف، فالقلتان خمس قرب، وقرب الحجاز كبار تسع كل قربة مائة رطل من الماء، فيكون ماء القلتين

خمسمائة رطل بالبغدادي، وأول من حد كل قرية بمائة رطل من أصحابنا إبراهيم بن جابر، وأبو عبيد ابن حربوية وتابعهما سائر أصحابنا، وإنما قال: بقلال هجر لأنهما تعمل بقرية من قرى المدينة تسمى هجر، وليس بهجر البحرين. وقيل: سميت بذلك لأنها تعمل بقرية من قرى المدينة تسمى هجر، وليس بهجر البحرين. وقيل: سميت بذلك لأنها عملت على مثال قلال هجر، كما يقال ثوب مروى، وإن عمل بالعراق وهذه القلة تعمل بالمدينة ولكنها تنسب إلى هجر؛ لأن ابتداء عملها كان يهجر كما يسمى الثوب مرويًا لأن ابتداءه حمل من مرو، وهل هو تحديد أو تقريب؟ فيه وجهان: أحدها: أنه تقريب، فإن نقص منه رطل أو رطلان لا يؤثر؛ لأن الشافعي (214 ب/1) قال: والاحتياط أن تكون القلتان خمس قرب. والثاني: وهو اختيار أبي إسحاق أنه تحديدًا؛ لأنه لما وجب أن يجعل الشيء نصفًا احتياطيًا وجب استيفاؤه، كما انه لما وجب أن يغسل شيء من الرأس عند غسل الوجه احتياطيًا وجب استيفاؤه لغسل الوجه، صار ذلك فرضًا وهذا أظهر، فعلى هذا لو نقص منه شيء، وإن قيل: تنجس لوقوع النجاسة فيه وقال أبو عبد الله الزبيري: القلتان ثلثمائة منا وهو اختيار القفال؛ لأن القلة هي ما يستقله حمار، وكذلك الوسق. وقيل: بعير العرب ضعيف لا يحمل أكثر من وسق، ولا خلاق أن الوسق هو ستون صاعًا، وذلك مائة وستون منًا، فالوسقان ثلثمائة وعشرون منًا، فتصرف للأوعية والحبال عشرون منًا فيبقى ثلثمائة منًا. وقال القفال: لم يذكر الشافعي مقدار كل قربه، ومن أصحابنا من قال: كل قربة مائة من، فجملته خمسمائة منًا. ومنهم من قال: مائتان وخمسون منًا وهو قول الأكثرين، وهذا أصح، ولا يصح ما ذكره القفال، لأن الشافعي نص وقال: "القربة بالحجاز تسع مائة رطل". فرع لو وقع رطل بول في قلتين من الماء فالماء طاهر، والمذهب أنه لا يجوز جميعه، ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان (215 أ/ 1). أحداها: هذا، والثاني: يتوضأ بجميعه حتى يبقى رطل ثم يتركه لأنه يتيقن حينئذ استعمال النجاسة، وشبه هذا بما لو حلف لا يأكل تمره فاختلطت بثمرات له أكل كلها إلا تمره، وهذا ليس بشيء لأن التمر جامدة لا تختلط، ويجوز أن تكون الباقية هي المحلوف عليها بخلاف مسألتنا؛ لأن البول اختلط بأخر الماء، ولا يجوز أن يكون الرطل الباقي في جملة البول. مسألة: قال: وَإِنْ كَانَ المَاءِ قِرَبِ مِنْ قَرِبَ الْحِجَازِ". الفصل وهذا كما قال فرع الشافعي على الأصل الذي ذكرناه ثلاث مسائل:

(إحداها): الماء الكثير إذا لم يتغير بالنجاسة، والثانية: إذا تغير بماذا يطهر؟ والثالثة: إذا كان قليلًا فنجس من غير تغير بماذا يطهر؟ وهو قوله:"وإذا كان قلتين فخالطته نجاسة ليست بقائمة فيه" إلى آخر الفصل. وذكر الشافعي في "الأم" الماء الراكد والماء الجاري، فنقل المزني حكم الماء الراكد وترك حكم الماء الجاري، ونحن نذكرهما، وجملته أن الماء ضربان راكد، وجاري، فالراكد أن يكون في مصنع أو بئر، فإذا وقعت فيه نجاسة لا تخلو، إما أن تكون نجاسة جامدة أو مائعة، فإن كانت جامدة كالفأرة والعصفور، وقطعة لحم من الميت أو عظمه فلا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يكون فوق (215 ب/ 1) القلتين، أو وفق القلتين، أو دون القلتين. فإن كان فوق القلتين لا يخلو، إما أن يكون بتغير أو لم يتغير، فإن لم يتغير فهو على الطهارة، وإن تغير نجسه وهو يطهر بأحد أربعه أشياء. إحداهما: أن يزول تغيره بطول المكث بمرور الزمان، أو هبوب الرياح به. قال القفال: أو بنبات شيء فيه مقل الكلأ ونحوه، وحكى عن الأصطخري أنه قال: إذا زال تغيره بنفسه لا يطهر، لأن نجاسته ثبتت بوارد فلا تزول إلا بوارد بخلاف نجاسة الخمر إذا صار خلًا. والثاني: أن يصب عليه ماء, والثالث: أن ينبع الماء فيه. والرابع: أن يستقي بعضه حيث لا ينقص عن قلتين، وهذا لأن كل حكم تعلق بعلة زال بزوالها، والعلة في نجاسته التغير ههنا، وقد زال ذلك، وإن صب فيه تراب أو جص أو ثورة فزال به التغير، فيه قولان نص عليهما في رواية حرملة. أحداهما: يطهر وهو اختيار المزني وهو القياس؛ لأنه لو كان في الابتداء ماء كدرًا فلم يتغير لونه لمخالطة النجاسة لتكدره، ثم ننجس فكذلك إذا تغير لونه بالنجاسة عند صفائه، ثم زال التغير بالتكدر وجب أن يطهر؛ ولأن التغير زال فأشبه إذا زال بنفسه وتفارق هذا إذا زال التغير بالكافور والمسك، وهذا أصح عند (216 أ/ 1) جماعة أهل العراق. والثاني: لا يطهر نصف عليه في "الأم" لأنه أزال التغير بوارد لا يزيل النجاسة، فأشبه إذا طرح فيه المسك وهذا أصح عند جماعة أصحابنا بخراسان؛ ولأنه يجوز أن يكون التغير باقيًا، ولكن التراب أخفاه. وقال أبو حامد: القولان فإما تغير التراب فلا يطهر قولًا واحدًا. والأول أصح، ونقل المزني وحرملة النورة صريحًا، وذكرًا فيه القولين. وقال بعض أصحابنا: إذا طرح فيه التراب فإنه صفًا ولم يكن تغير يحكم بطهارته؛ لأن التراب جذب النجاسة إلى نفسه، وفارق أجزاء الماء، وقيل: إن يصفوا هل يحكم بطهارته؛ وجهان، والأصح أنه لا يطهر لأن زواله لم يتحقق، فإن لون التراب غلبه، وربما إذا صفًا كان متغيرًا، ولا

يحكم بالإباحة إذا وقع الشك في سببها. فرع لو لم يكن للنجاسة ريح، ولا لون، ولا طعن، فوقعت في قلتين من الماء نعتبر قدرًا لو كان لها أحد الأوصاف فظهر بخلاف العين الطاهرة إذا خالطته يعتبر فيها الغلبة على أحد الوجهتين، لأن الطاهر لا يضاد الماء بخلاف النجاسة فلا يمكن اعتبار الغلبة فيها، ولهذا لو تغير النجاسة أدنى تغير يعتبر ذلك، وأدنى التغير بالظاهر لا يمنع الطهارة، وإن كان الماء وفق القلتين نُظر، فإن لم يتغير فهو طاهر، وإن كان متغيرًا فهو (216 ب/ 1) نجس، ويطهر بأحد ثلاثة أشياء، أن يزول بغيره بطول المكث أو بأن ينبع فيه ماء أو يصب فيه ماء، أو يصب عليه الماء، وإن صب فيه تراب أو جص ففيه قولان، ولا يجئ أن يسقي بعضه أنه ينقض عن قلتين، وإن كان الماء دون القلتين فهو نجس تغير أو لم يتغير، فإذا أخرجت النجاسة عنه طهر بأحد أمرين، فغنه ينبع فيه ماء أو يصب عليه فيكاثره حتى يغلبه، والمكاثره بأن يقلب فوقه من الماء سبعة أضعافه فيطهر، وغن لم يبلغ قلتين لأنه ماء قليل فيه نجاسة، ويفارق الثوب والإناء، وهذا لأن الماء إذا نبع فيه أو صب عليه، فقد ورد الماء على النجاسة، ولا فرق بين وروده من فوقها، أو من تحتها. ذكره ابن شريج. ومن أصحابنا من قال فيه وجهان: أحدهما: لا يطهر ما لم يبلغ قلتين؛ لأنه ماء قليل فيه نجاسة، ويفارق الثوب والإناء، لأن الماء ينزل عنه فيطهره، وهذا اختيار القفال. والثاني: يطهر، وقال أبو حامد: والصحيحان ههنا يطهر وجهًا واحدًا بخلاف الإناء؛ لأنه يمكنه أن يريق ما فيه بخلاف هذا، وهذا لا يقوى، لأن ها هنا أيضًا يمكنه أن يبلغ قلتين. فإذا قلنا: يطهر وهو المذهب المشهور فهذا الماء طاهرًا غير طهور؛ لأنه مستعمل في إزالة النجاسة (217 أ/ 1)، ويجيء فيه قول ابن خيران أنه يجوز التوضيء، وإن كان كاثره حتى يبلغ قلتين جاز استعمال جميعه. ومن أصحابنا من قال: يبقى به القدر النجاسة وليس بشيء، وإن كان الماء دون قلتين متغيرًا، فالنجاسة اعتبرنا زوال التغيير والمعاودة بالماء معًا وإذا لم يكن متغيرًا اعتبرنا المكاثره فقط على ما ذكرنا. فرع لو وقعت النجاسة في ماء وفق القلتين فأزال عنه النجاسة استعمله كيف شاء، وإن أراد أن يأخذ منه الماء للاستعمال مع بقاء النجاسة فيه، قال أبو العباس، وأبو إسحاق: لا يمكن ذلك لأنه إذا غرق فيه بقيت النجاسة فما بقى بالمأخوذ نجس أيضًا؛ لأنه ماء واحد فلا يكون بعضه طاهرًا وبعضه نجسًا، والمذهب أنه يمكن ذلك. وبه قال الأصطخري، وحكاه القاضي الطبري عن أبي العباس- وهو الأظهر عنه- وذلك حكاه

أبو حامد عنه، وهذا لأن الكل طاهر، وهناك عين نجاسة قائمة، فإذا رغب الإناء في الماء، فالكل طاهر، فإذا غرف الإناء بعضه لا يخلو إما أن تكون النجاسة في الدلو أو في البئر، فإن كانت في البئر وغرف الماء غرف لا شيئًا فشيئًا فالماء الذي في الدلو طاهر وباطن الدلو طاهر، وظاهر الدلو وما بقى في البئر طاهر، فإن قطر منه ماء نظرات، فإن كان من ظاهر الدلو لم (217 ب/ 1) يضره، وإن كان من باطن الدلو نجس كله. فرع لو كان الدلو نجسًا مثل أن يكون متخذًا من جلد كلب أو جلد ميتة غير مدبوغ أو مدبوغ وعليه شعر، والشعر إلى ظاهر الدلو، فالماء كله نجس لأنه وإن غرف النجاسة فيه نجس ما بقى بظاهر الدلو، وهكذا الوجهان فيه إن كان هذا الماء في إناء ينجس كجلد كلب أو نحوه، وأراد أن يستعمل شيئًا منه. فإن قلنا بقول أبي إسحاق: فلا سبيل إليه، وإن قلنا بالمذهب والدلو طاهر نُظر، فإن غرف النجاسة في الدلو فالكل تنجس، لأن الباقي في إناء نجس، وإن لم تغرف النجاسة فيه فباقي الدلو طاهر والباقي نجس. فرع آخر لو أدلى دلوًا في قلتين من الماء، وفي باطن الدلو بلل نجس، فإن انغمس في الماء طهر كله لأنه صار باقي الدلو، وما في البئر واحد فيصير البلل مستهلكًا، وإن دخل الماء في الدلو قليلًا قليلًا ولم ينغمس فيه فما في الدلو نجس، وإن تقاطر منه إلى البئر فما في البئر هو نجس أيضًا، وعلى هذا الذي ذكرناه. لو ولغ الكلب في إناء ماء أقل من قلتين نجس الماء والإناء، فإن صب فيه ماء آخر حتى بلغ قلتين فإن الماء طاهر، والإناء نجس، لأن الماء قد بلغ حدًا لا يحمل النجاسة، والإناء لا يطهر إلا بأن يغسل سبع مرات إحداهن بالتراب (218/ 1) على الصحيح من المذهب، فإن أخذ بعضه فنقص عن القلتين، فإن ما بقى في الإناء تنجس بلا خلاف، والماء الذي أخذه هل هو نجس أم لا؟ على ما ذكرنا. فرع آخر لو غمس جرة من الماء النجس في ماء ناقص عن قلتين واتصل الماء بالماء والكل قلتان، هل يحكم بطهارة ماء الجرة؟ وجهان: أحدهما: يحكم بطهارته لأن الاتصال قد وجد. والثاني: لا يحكم بطهارته، لأن ماء الجرة كالمفردة عنه ولهذا لو كان جاز إلا نزول جراته، وهكذا لو كان الجرة طاهرًا وغمسه في قلتين من الماء النجس إلا قدر جره هل يحكم بطهارته؟ وجهان. فرغ لو كان الماء فوق القلتين نُظر، فإن أزال عنه النجاسة استعمله كيف شاء، وإن ترك

فيه النجاسة فغرف منه نُظر، فإن كان بين النجاسة وبين موضع الغرف قلتان فصاعدًا فهو طاهر، وإن كان بينهما. دون القلتين. قال أبو إسحاق: ما غرف نجس ولا سبيل إلى استعمال ما يغرف إلا أن يكون الماء في موضع واسع مثل البول الكبار والمصالع من كل جانب من النجاسة القائمة قلتين، ثم يأخذ الماء وراء ذلك، فأما في الآبار الضيقة لا يمكن ذلك، والمذهب أنه طاهر؛ لأنه لا يجوز أن يكون كل الماء طاهر فيأخذ بعضه فيكون نجسًا، ويجوز أن يأخذ من أي موضع أراد قرب من النجاسة (218 ب/ 1) أو بعد عنها ما لم ينقص الماء عن قلتين، فإذا نقص لا يجوز استعماله؛ لأنه صار نجسًا بالنجاسة القائمة فيه. وقال القفال: فيه قولان أحدهما: قاله في "القديم" ماء غرفه طاهر وهو الصحيح وعليه الفتوى. والثاني: قاله في "الجديد" أنه نجس، وقال القفال: لم أسمع لذلك حدًا وكيفيته في اعتبار القلتين والذي أذهب إليه أنه يعتبر ما بينه وبين موضع النجاسة في مثله من الغرض، وفي مثله من العمق، فإن بلغ قلتين وإلا تباعد شيئًا وزاد في العرض والعمق مثله، فإن بلغ قلتين وإلا زاد لذلك أيضًا، وإن لم يكن له عمق زاد في العرض والطول بالسوية في جميع ما عد من العرض إذا لم يفعل كذلك، فالقليل من الماء إذا أخذ في جميع عمقه البحر بلغ قلالًا. فرع آخر قال في "الأم": ولو أخرج النجاسة منها في دلو وأريق الماء الذي معهما لأنه أقل من خمس قرب واجب إلى لو غسل الدلو، فإن لم يغسل ورد في الماء الكثير طهره الماء الكثير. فرع آخر لو نجس البئر بتغير الماء بالنجاسة فنزح فنقص عن القلتين ولم يذهب التغير، فعليه أن ينزح كل الماء ويغسل قعر البئر، وكل ما أصابه هذا الماء النجس من حوالي البئر، ولا يلزمه أن ينزح الغسالة لو غسل أرضًا (219/ 1) بالغسالة طاهرة لا يلزم إزالتها، وإن لم ينزح ولكن زاد فيه الماء حتى ذهب التغير وبلغ قلتين، فقد بينّا أنه طاهر، وإن كانت النجاسة مانعة فالحكم فيه لو كانت جامدة فأزالتها منه حرفًا بحرف على ما مضى إلا في موضع واجد وهو أنه إذا كان الماء في موضعين وهما قلتان فحصلت فيهما نجاسة مانعة فقد نجسا بحصولها فيهما، فإذا جمعا وصارا قلتين طار الماء طاهرًا مطهرًا، فإن فرقنا بعد ذلك لم ينجسا بعدما طهرا إلا بنجاسة تحدث فيها، فإن كانت النجاسة جامدة فإذا جمعتا عادتا طاهرتين، فإذا فرقا بعد ذلك، فإن الماء الذي مع النجاسة نجس، لأنه دون القلتين وفيه نجاسة قائمة، وقول الشافعي في المسألة الثالثة فخالطته نجاسة ليست بقائمة فيه، لأنه أراد أن يرتب عليه هذا الحكم، وهو إذا فرق الماء بعد ذلك. وقال أصحاب أحمد: لا يحكم بطهارة الماء فإن تجمعا؛

لأن كل واحد منهما نجس، فإذا اجتمعا لم تتولد بينهما الطهارة كالولد المتولد من بين الكلب والخنزير لا يحكم بطهارته بحال، وهذا غلط لخبر القلتين؛ ولأن هذا ما بلغ قلتين ولم تغيره النجاسة فكان طاهر، كما لو وقعت فيه وهو قلتين، وأما ما ذكره فلا يصح، لأنه إذا اجتمع وجد فيه كثرة أجزاء الماء (219 ب /1) إلى تمنع النجاسة، وهو كاجتماع الأوصاف الموجبة للحكم لو انفرد كل واحد منهما لا نوجبه، وبالجميع نوجبه، وليس كالمتولد بين الكلب والخنزير لأنه لا يوجد هناك عليه الطاهر بخلاف ها هنا. فرع آخر لو كان الماء قلتين إلا كوز ماء فصب عليه كوز بول نجس كله، فإن صب بعد ذلك فيه كوز ماء ولم يكن متغيرًا طهر كله؛ لأنه بلغ بالماء الصافي قلتين، ولو صب في الابتداء كوز من ماء ورد، ثم وقعت فيه نجاسة ينجس، وإن لم يتغير؛ لأن ما فيه من الماء هو ناقص عن قلتين ولو أكمل القلتين يكون من ماء الزعفران، وذهب التغير الذي كان فيه، ثم وقعت فيه نجاسة كان طاهرًا؛ لأنه ماء بخلاف ماء الورد، وهكذا لو أكمل بكوز من ماء نجس طهر الكل. فرع آخر لو وجد الماء الراكد متغيرًا، فإن علم أنه لطول المكث أو لترك الاستقامة فهو طاهر طهور، وإن علم أنه لنجاسة فهو نجس، وإن أشكل أمره فهو على أصل الطهارة، نص عليه في "الأم"، و"البويطي". فرع لو علم كون الماء قلتين، فرأى كلب ولغ فيه فشك هل شرب منه حتى نقص عن القلتين أم لا؟ فهو على الكثرة ما لم نقصه ويكون طاهرًا ذكره في "الحاوي "وهو صحيح. وأما الجاري [220 أ/1] ذكره الشافعي في "الأم "وحرملة مستوفى وجملة ما قال فيهما أنه إذا كان يجري كله لا يقف منه شيء أن لكل جزء من الماء حكم بنفسه، ولكل جريه حكم نفسها. والجرية: عبارة عن جزء من الماء ما بين حافتي النهر كلما جرى جزء ما بين الحافتين فو جريه، بيانه أن يكون على النهر خيط ممدود ما بين حافتيه، فالماء الذي تحت الخيط جريه وما بعد ذلك الماء هو جريه مثله، وما بعده جري مثله، وذكر في الكتابين أربع مسائل: إحداها: إذا كانت النجاسة جامدة تجري مع الماء كالفأرة والبقرة، فالماء الذي

أمامها طاهر وبعدها طاهر؛ لأن لكل جرية حكم نفسها والماء الذي أمامها وبعدها غير الماء الذي هي فيه، أو يقول: ما بعدها ما وصلت إليه والذي قبلها ما وصل إليها، وأما التي هي فيه فهو الجريه، وما عن يمينها وشمالها إلى حافتي النهر فينظر، فإن كانت الجرية أقل من قلتين فهي نجسة، وإن كانت قلتين فصاعدًا في طاهرة. قال القفال: إلا أن تكون بهذا لها عرض كبير، فالماء الذي في جابينه هو طاهر إذا كان متباعدًا عنها، وإنما ينجس منه قدر ما ينسل إليها، وكذلك لو تغير الماء الجاري بنجاسة خالطته فأتت جرية متغيرة وجرية غير متغيرة، فالمتغيرة نجسة [220 ب/1] وغير المتغيرة طاهرة، وهذه الجرية المتغيرة هي بمنزلة نجاسة قائمة. وقال ابن القاض في "المفتاح "قال الشافعي في "القديم ": لا ينجس الماء الجاري إلا بالتغيير. قال أصحابنا: العلة فيه أن الماء الجاري هو بمنزلة الماء الوارد على النجاسة؛ لأنه يحملها يجريانه عليها، والماء الوارد على النجاسة لا ينجس إلا بالتغير، والصحيح قوله الجديد، لأن ما لاقته نجاسة لا حاجة به إليها فتعتبر فيه القلتين كالماء الراكد. الثانية: إذا كانت الجيفة راكدة في قرار الماء، والماء يجري عليها فالماء الذي قبلها طاهر والواصل إليها ينظر فيه، فإن كانت كل جرية تمر بالجيفة قلتين فصاعدًا فالكل طاهر، وإن كانت كل جرية أقل من قلتين فكل جرية يمر بها فهي نجسة، ولا يطر ما لم تمر بها ما دام جاريًا حتى ينتهي إلى موضع يركد فيه، فإذا اجتمع الراكد قلتين فهو طاهر، وهذا لأن هذه الجرية قد جرت بالنجاسة فنجست بها، وكل جرية بعدها مثلها، والماء الجاري عند الشافعي لا يكون كالمختلط، ولكل جزء منه حكم نفسه. قال أبو العباس: فإن ورد هذا الماء الجاري على الجيف على ماء راكد واجتمعا وبلغا قلتين ولم يختلط طهرتا وإنما تبين هذا بأن يكون أحد الماءين صافيًا والآخر كدرًا [221 أ/1]؛ لأن الاعتبار باجتماع الماء الكثير لا بالمخالطة، ألا ترى أنه لو وقع رطل ماء نجس في قلتين طاهرتين فالكل طاهر، وإن لم يخلط يجميعه، وسئل أبو إسحاق عن هذه المسألة فقال: إن كان الماء شديد الجرية، فالماء الذي هو أمام الجيفة يجوز أن يستعمل من موضع يكون بينه وبين الجيفة مقدار القلتين، وبه قال ابن أبعن النجاسة بقدر قلتين، فأشبه إذا كان الماء راكدًا، والأول هو المذهب الظاهر، والفتوى عندي على ما قال أصحابنا الثلاثة والله أعلم. والثالثة: أنه لو ورد الماء الجاري على ماء راكد في مفيص من هذا النهر وفي الراكد نجاسة، فإن كان متغيرًا فهو نجس، وإن كان غير متغير فهو نجس أيضًا حتى يبلغ قلتين، فيكون الكل طاهرًا، ولو وقفت الجيفة في الماء الجاري وسكون الموضع ردت الماء فلم يجر من فوقها، ولا من تحتها، فإن الماء الذي اجتمع وتراد وإن كان

قبلها بمنزلة الماء الراكد يعتبر فيه قلتين. والرابعة: إذا كان في جانب النهر موضع منخفض زايغ عن مستوى جري الماء، وفيه ماء راكد فيه نجاسة قائمة لم تغيره نظر، فإن كان قلتين فصاعدًا فهو طاهر، وإن كان أقل من قلتين [221 ب/ 1]، فإن كان كل جرية تمر به من هذا الجاري يبلغ قلتين فالكل طاهر، وإن كان لا يبلغ قلتين بكل جرية تمر به تنجس به فيكون نجسًا ما دام جاريًا حتى يبلغ موضعًا يركد فيه ويبلغ قلتين على ما ذكرنا. ويجئ فيه قول أبي إسحاق أيضًا، وعلى هذا لو كان حوض له مخرجان يدخل الماء من أحدهما ويخرج من الآخر، وفي الحوض أقل من قلتين فوقعت فيه نجاسة فحكمه حكم الماء الراكد لا الجاري. فرع لو كانت النجاسة رأسية في أسفل الماء وقراره فلا تمر بها الطبقة العليا من الماء، وإنما تمر بها السفلى، فانتهى الماء إليها، فالطبقة السفلى من الماء نجسة لمرورها على النجاسة، وفي نجاسة الطبقة العليا وجهان: أحدهما: طاهرة؛ لأنها لم تجر على النجاسة ولا لاقتها فصار كالماء المتقدم. والثاني: هي نجسة؛ لأن جرية الماء إنما يمنع من اختلاط ما تقدم وتأخر، فأما ما علا منه وسفل من طبقاته فهو الراكد أشبه والراكد لا يتميز حكم علاه ولا ينتهي إلى قراره كانت الطبقة العليا التي انتهى إليها نجسة، وفي نجاسة الطبقة السفلى منها وجهان على هذا. فرع لو كان الماء راكدًا في موضع رقد تغير بالنجاسة وكل [222 أ/ 1] جرية تمر به قلتان، فقياس المذهب يقتضي أن كل جرية تنجس به لأنها معه كالماء الواحد، فإذا انفصلت عنه زال حكم النجاسة؛ لأن الجرية انفردت عنه وهي قلتان غير متغيرة بالنجاسة ذكره في الشامل. وعندي أنها لا تنجس به كما لو جرت على جيفة واقعة لا تنجس بها لبلوغها حدًا لا يقبل النجاسة بنفسها. مسألة: قال: "وإذا وقع في الماء القليل ما لا يختلط به مثل العود أو العنبر أو الدهن الطيب فلا بأس لأنه ليس مخوضًا فيه ". وهذا كما قال: أراد لأنه ليس بمختلط به لكنه مجاوز له فلا بضره، كما لو وقع ماء البئر لمجاورة جيفة على حافته لا يضره، ومفهوم لفظه أن الكثير منه يسلب حكم التطهر؛ لأنه يصير مخوضًا به. وقد ذكرنا شرحه فيما تقدم. مسألة: قال: "وإن كان معه إناءان في السفر يستيفن أن أحدهما قد نجس والآخر

لم ينجس تأخى". الفصل وهذا كما قال إذا كانت معه أوان في بعضها ماء طاهر وفي بعضها ماء نجس، واشتبه عليه يجزئ سواء كان عدد الطاهر أقل أو أكثر، وسواء، وكذلك الثياب. وقال المزني، وأبو ثور: لا يجوز التحري بحال لئلا يتوضأ بالنجس ويصلي بالتميم. وبه قال أحمد، وعنه في وجوب إراقتهما قبل التيمم روايتان [222 ب/ 1] وقال في الثياب: أنه لا يتحرى بل يصلي في كل واحد منهما. وقال ابن الماجشون، ومحمد بن مسلمة أنه يتوضأ بأحدهما ويصلي، ثم يتوضا بالآخر ويغسل ما أصابه الأول من ثيابه وبدنه، ثم يصلي. وقال أبو حنيفة: يجوز التحري في الثياب على الإطلاق ولا يتحرى في الأواني إلا أن يكون عدد الطاهر أكثر، وهذا غلط لأن كل جنس يجوز فيه التحري إذا كان الطاهر يجوز إذا كان عدد النجس أكثر أو ساواه كالثياب، والدليل على بطلان قول المزني أن ما هو شرط في الصلاة إذا اشتبه أمره جاز طلب صوابه بالاجتهاد كالقبلة، ولأن في الإناء الواحد إذا وقع الشك في نجاسته بناه على أصل الطهارة فجاز في الإناءين أن يبنى أمر أحدهما على الطهارة بالاجتهاد، ولأن القاضي يجتهد في الأحكام فيطلب الحق باجتهاده إذا اشتبه عليه كذلك هنا. واحتج المزني بأنه لا يتحرى في إناء ماء وغناء بول، ولا في ميتة ومزكاة، ولا في امرأتين إحداهما محرمة عليه كذلك ههنا، وأيضًا التحريم يغلب على التحليل، كما لو اختلط النجس بالطاهر. قلنا: الفرق أنه ليس له اصل في افباحة لأنه لا يستباح الحيوان إلا بالذبح، وقد شك في وجود الريح، ولا يستباح الفرج إلا بالنكاح الصحيح [223 أ/ 1]، والأصل تحريم الفرج ولا أصل للبول في الطهارة بخلاف الماء النجس فيرده بالتحري إلى الأصل. وأما إذا اختلط النجس بالطاهر فقد نجس بحيث لا يمكن التمييز. وههنا يمكن التمييز بالتحري. فإذا تقرر هذا، فاصل ما يمكن التحري فيه أن يكون الشيئان طاهرين، ثم ينجس أحدهما، كالماءان والمائعين غير الماء من اللبن والعسل، والثوبين: فإما بين طاهر ومحظور الأصل كالبول والماء والزكاة والميتة لا يجوز التحري فيه بحالٍ. وعند أبي حنيفة: يجوز التحري في الماء واللبن غذا كان عدد الطاهر أكثر كما قال في الماء، ووافقنا في المزكاة والميتة أنه لا يجوز التحري، وإن كان عدد المزكاة أكثر، فإن قيل: لم جوزتم التحري في غير الماء ولا ضرورة إليه للتطهير؟ قيل: لأنه يؤدي إلى غضاعة المال وفيه مشقة، ولأن الكل سواء في الطهارة قبل وقوع النجاسة فكذلك يستوي الكل في جواز التحري. فرع كيفية التحري أن يطلب النجس بالعلامات من انكشاف الإناء وحركة الماء وتغير

صفته، وأثر الكلب بقربه وبلل حواشيه وهذا هو المذهب. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا غلب على ظنه طهارة أحدهما أو نجاسته من غير دليل يدله عليه له العمل فيه بغالب ظنه؟ اختلف [223 ب/ 1] أصحابنا فيه، فمنهم من جوزه وتعلق بظاهر قوله: تآخر، وأراق النجس على الأغلب عنده، واعتبر الغلبة على ظنه، وعلل بأن الطهارة ممكنة والماء على أصله طاهر، يعني أن غلبة ظنه تتقوى بما ينضم إليه من طهارة أصل الماء وطهوريته، فعلى هذا لا يجوز التحري والعمل، فعليه الظن من غير دليل إذا كان أحد الإناءين بولاً؛ لأنه لا أصل له في الطهارة يتقوى به عليه ظنه، وبالدليل يجوز، وكذلك إذا كان أحدهما ماء ورد ولا يجوز التحري؛ لأنه لا أصل له في الطهورية، وفي الماء المستعمل، والماء المطلق يجوز لأنه أصله على الطهورية فتتقوى به غلبة الظن، وعلى هذا القياس. ومنهم من قال: لا يجوز العمل بغالب الظن فيه من غير دليل أو اثر يدل عليه، فعلى هذا تتقوى فيه المسائل كلها، ويجوز التحري في كل ذلك حتى يجوز في الميتة والمزكاة والأجنبية والمحرم، وهذا خلاف المنصوص. وقد قال جمهور أصحابنا: لا خلاف أنه لا يتحري في الزوجة والأجنبية؛ لأنه يحتاط في الفرج ما لا يحتاط في غيره. فرع آخر لو اختلطت شاته بشاة الغير أو ثوبه بثوبه واشتبه، فإن قلنا: لابد في الاجتهاد من دلالة يجتهد ها هنا ويأخذ [224 أ/ 1] بما يؤدي إليه اجتهاده، لأنه دلالة الملك تكفي في حل الأخذ، وإذا قلنا: يكفي فيه غلبة الظن لا يأخذ منهما ما يؤدي غليه اجتهاده؛ لأن الأموال ليست على الإباحة حتى يكفي فيها عليه الظن فرع آخر إذا كان معه إناءان أحدهما طاهر، والآخر نجس اشتبها عليه، ومعه إناء ثالث طاهر بيقين هل له أن يتحرى؟ فيهما وجهان: أحدهما: يجوز، وهو الصحيح، لأن استعمال الماء الطاهر في الطاهر يجوز مع وجود الماء الطهار بيقين، كمن ترك ماء دجلة واستعمل ماء في كوز يجوز أن يكون قد ولغ فيه الكذب يجوز. والثاني: لا يجوز التحري بل يتوضأ بالطاهر؛ لأن الشافعي شرط السفر في صورة هذه المسألة، ولأن الآخذ بالاجتهاد مع وجود اليقين محال كالكم بالاجتهاد في موضع النص. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك "وعلى هذا لا يجوز التحري في الحضر؛ لأنه يوجد فيه ماء طاهر بيقين، ومن قال بالأول أجاب عن هذا، فإن الشافعي

شرط السفر لوجوب التحري، فإنه قال: إذا كان قادرًا على ماء طاهر بيقين، وهذا يكون في الحضر غالبًا هو بالخيار، وإن شاء اجتهد فيما، وإن شاء ترك الاجتهاد، وهما محلان فلا يمنع وجود النص في أحد المحلين الاجتهاد [224 ب/ 1] في المحل الآخر، والخبر محمول على الاحتياط. فرع لو كان معه ماءان طهور، ومستعمل فأشكل عليه، هل له أن يتحرى؟ ينبني على الوجهين السابقين، فإن قلنا هناك: لا يتحرى فههنا لا يتحرى، بل يتوضأ بكل واحد منهما، وإن قلنا هنا يتحرى يجري ههنا أيضًا ولا شك أنه لو لم يتحرى وتوضأ بكل واحد منهما جاز. فرع لو كان معه مزادتان من ماء في كل واحدة منهما قلة فاشتبه النجس من الطاهر، فيه وجهان. أحدها: يتحرى، والثاني: أنه لا يتحرى لأنه يمكنه أن يتوصل إلى اليقين، بأن يصب إحداهما في الأخرى حتى يصير قلتين. فرع آخر لو كان معه ثوبان أحدهما نجس، ومعه ثوب ثالث قد تيقن طارته، أو معه من الماء ما يغسل به ادهما هل له أن يجتهد فيهما من غير غسل؟ وجهان: أحدها: ليس له ذلك لأنه يمكنه أن يغسل أحد الثوبين ويصلي فيه، والثاني: له ذلك وهو الصحيح. فرع آخر لو كان ماء طهور ومائع من ماء ورد قد انقطعت رائحته، أو ماء عرق لا يتحرى بلا خلاف؛ لأنه لا يجوز التوضئ بأصل كل واحد منهما ولكنه يتوضأ بكل واحد منهما على الانفراد. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان وهو غلط. فرع آخر لو كان معه ثوب واحد حلته نجاسة [225 أ/ 1] نظر، فإن عرف محلها غسل المحل، وإن أشكل المحل غسل كله، لأنه صار على أصل نجاسته، فلا يزول بغلبة الظن، وفيه وجه آخر يتحرى وليس بشيء. فرع آخر لو كان قميص تنجس أحد كميه في وجهان: أحدها: يتحرى كما في الثوبين. والثاني: لا يتحرى وهو الأصح، لأن الأصل نجاسة القميص فلا يزول بغلبة الظن. ومن قال بهذا القول، قال في الثوبين: إذا تحرى فيهما ثم غسل النجس منهما ثم جمع بينهما، وصلى فيهما لا يجوز؛ لأنه على يقين المنع، وفي شك من ارتفاعه وهو

اختيار أبي إسحاق، وعلى الوجه الأول يجوز، وهو اختيار ابن سريج وهو الصحيح عندي. فرع آخر لو كان معه ماء طاهر، وماء نجس، واشتبها عليه وهو يخاف العطش ولا يجوز أن يحبس الطاهر للعطش ويتيمم؛ لأنه لا تجوز الصلاة بالتيمم مع القدرة على الماء الطاهر، وخوف العطش أمر مظنون ربما يكون وربما لا يكون، فإن كان فليقتصر على شرب النجس، فإن قيل: لا يجوز شرب الماء النجس، قلنا: يجوز للضرورة وهذا موضع الضرورة. فرع آخر لو كان معه إناءان طاهر ونجس، فتحرى في وقت صلاة الظهر فأدى اجتهاده إلى طهارة أحدهما فتوضأ به، وبقيت منه بقية يستحب [225 ب/ 1] له أن يريق الإناء الآخر حتى لا يختلف اجتهاده للصلاة الثانية، فإن لم يرقه حتى دخل وقت العصر يلزمه أن يتحرى ثانيًا، فإن تحرى فأدى اجتهاده إلى طهارة الأولى، فقد قوى به اجتهاده الأول، وكذلك إن تيقين أن الذي توضأ به هو الطاهر، فقد قوى به الأمر الأول وهو بالخيار بين استيفاء ذا النجس وبين إراقته وإن أدى اجتهاد على أن الذي تركه هو الطاهر والذي استعمله هو النجس. روى المزني عن الشافعي أنه لا يتوضأ بواحد منهما ويتيمم ويصلي ويعيد كل صلاة صلاها بالتيمم لأنه تيمم ومعه ماء مستيقن. ومنن قال: لا تلزمه إعادة الصلاة لأنه ممنوع من استعمال الماء شرعًا، فهو كما لو كان ممنوعًا من الماء لخوف العطش أو العدو فتيمم، لا تلزمه الإعادة وهذا وإن كان له وجه إلا أنه يخالف النص ويمكن أن يفارق بينهما، فإن هذا مفرط في ترك إراقته ومفرط في اجتهاده؛ لأنه لو وضع الاجتهاد في موضعه لم يختلف بخلاف ما إذا تركه لخوف الضرر من العطش أو العدو. وحكى الداركي عن أبي الطيب بن سلمة، عن ابن سريج أنه قال: يتوضأ بالماء الثاني ويصلي، ولا يلزمه أن يعيد واحدة من [226 أ/ 1] الصلاتين، ولا أن يغسل ما أصابه الأول، وإن علم أنه صلى إحداهما بماء نجس كما لو صلى إلى جهتين مختلفتين صلاتين بالاجتهاد يجوز كلاهما. قال: والذي نقله المزني لا نعرفه للشافعي في ئ من كتبه. قال ابن سلمة: وغلط ابن سريج في هذا، والجواب كما نقل المزني، ونص علي الشافعي في حرملة، والفرق بينه وبين القبلة أنه يجوز أن يكون مصيبًا ولا يكون على خطأ في القبلة بيقين، وههنا إذا تؤضأ بالثاني صلى وهو نجس بيقين فلا يجوز، وهذا فرق ظاهر. وقال صاحب "الإفصاح "فيه وجه ثالث أنه يستعمل الثاني ويغسل كل

موضع أصاب بدنه من الماء الأول ويعيد الصلاة الأولى. قال صاحب "الإفصاح ": وهذا أقرب الوجوه. وقال القاضي الطبري: هذا غلط ظاهر مع مخالفة نص الشافعي، وذلك أنه نقص الاجتهاد الأول بالاجتهاد الثاني وهذا لا يجوز ومن أصحابنا من ذكر وجهًا رابعًا أنه يستعمل الثاني ويصلي ويعيد الصلاتين جميعًا. قال صاحب "الإفصاح ": وهذا أولى. وقال القاضي الطبري: هذا الوجه الرابع أقوى مما اختاره؛ لأن هذا القائل لم ينقص الاجتهاد بالاجتهاد، بل أمره أن يعمل في الصلاة الثانية [226 ب/ 1] على اجتهاد الثاني من غير أن ينفض الاجتهاد الأول، ثم إذا صلى علم إن إحدى الصلاتين صلاها بماء نجس ولا يعرف عنها فيلزم إعادتهما، كمن علم أنه ترك صلاة من صلاتين نلزمه إعادتهما، وهذا أيضًا فاسد لما ذكرنا من الدليل. ومن أصحابنا من قال على قول ابن سريح: يغسل بالثاني ما أصابه الأول في غير مواضع الوضوء، فإن في مواضع الوضوء تطهرها للوضوء من الحدث، ومن النجاسة ولا تلزمه إعادة الصلاتين، وهذا أحسن مما ذكرنا عنه أو لا، حتى لا يكون مصليًا بالنجاسة يقينًا، ولا يؤدي إلى نقص الاجتهاد بالاجتهاد، فإنا لا نحكم ببطلان طهارته الأولى، وصلاته يوم يغسل ما على بدنه من الماء الذي غلب على ظنه أنه نجس، ويكون ذلك بمنزلة ما منعناه من استعمال بقية الماء، وحكمنا بنجاسته، ولا يقال هو نقص الاجتهاد بالاجتهاد، ولو كانت لمسألة بحالها إلا أن الماء الأول قد فنى، أو صبه فأدى اجتهاده إلى [أن] الماء الذي تركه هو الطاهر، والذي استعمله أنه النجس، قال أبو إسحاق: لا يتوضأ به ويتيمم ويصلي، وهل يعيد هذه الصلاة؟ وجهان: أحدها: لا يعيدها لأنه تيمم وليس معه ماء طاهر [227 أ/ 1] بيقين، وذا مقتضى تعليل الشافعي. والثاني: يعيدها لأنه تيمم ومعه ماء عنده أنه طاهر، ولو كانت المسألة بحالها إلا أنه علم يقينًا أن الذي استعمله كان نجسًا والذي تركه هو الطاهر. قال في "الأم "يتوضأ به، ويغسل كل ما أصابه الماء الأول وأعاد الصلاة الأولى؛ لأنه تيقن أنه صلى محدثًا وعليه نجاسة. فرع آخر لو تحرى فيهما فلم يغلب على ظنه طهارة إحداهما. قال الشافعي: لا يزال يجتهد حتى يغلب على ظنه طهارة إحداهما ولا يجوز له أن يتيمم ومعه ماء طاهر، فإن خاف فوت الصلاة. قال الشافعي في الأعمى إذا تحرى ولم يكن عنده دلالة على الأغلب ولم يكن معه أحد يتآخى له: تآخى على أكثر ما يقدر عليه، ثم يتوضا ويصلي، وقال صاحب "الإفصاح ": فيه وجه آخر أنه إذا لم يجد دليلًا بدله على الطاهر وخاف فوت الوقت يتيمم ويصلي ويعيد كل صلاة صلاها، وعاد إلى الاجتهاد في طلب الطاهر حتى

يغلب على ظنه ما يعمل عليه، وهذا أقيس ولكنه خلاف النص؛ لأنه لم يثبت الماء لا بعلم ولا ظن، وإذا قلنا بالمنصوص لم يذكر الشافعي إعادة الصلاة. وقال القاضي الطبري: عندي أنه يلزمه إعادتها لأنه توضا به على التخمين من غير [227 ب/ 1] دلالة تدل على طهارته عنده، ولو صب إحداهما أو كلاهما لم يكن معه حينئذ ماء طاهر بيقين فله التيمم ولا إعادة عليه، وكذلك لو صب أحدهما على الآخر بخلاف ما لو صب الماء متعمدًا فإنه تجب الإعادة في أحد الوجهين؛ لأن هناك لا عذر وههنا عذر إذ لا يقدر على استعماله لو أمسكه ولم يصبه. فرع آخر لو انقلب أحد الماءين قبل التحري ففيه وجهان: أحدها: يتحرى في الباقي كما لو كانا باقيين، والثاني، لا يتحرى بل يتوضأ بهذا الباقي من غير تري وهذا اختيار ابن سريج؛ لأن الأصل هي الطارة في كل واحد منهما، فإذا كانا قائمين لم يعلم عين الطاهر، وإذا ذهب أحدهما صار معه ماء طاهر الأصل وهو شاك في نجاسته، فيبنى على الأصل وهذا ضعيف؛ لأن هذا المعنى هو موجود قبل أن يصب أحدهما وهو يشك في نجاسة كل واحد منهما فلا يصح ما ذكره وقال القاضي أبو حامد: إذا قلنا: لا يتحرى ههنا بتيمم وفعلى؛ لأن حكم الأحد قد زال فيه بوجوب التحري ومنعنا إياه من استعماله، فغذا تعذر التحري لم يجز استعماله. فرع آخر لو كان مع الأعمى إناءان طاهر ونجس، وأشكل عليه الطاهر من النجس، قال في "الأم ": "تحرى كالبصير "وقال في حرملة: لا يتحرى [228 أ/ 1] كما لا يتحرى في طلب القبلة، والأول اصح لأنه يمكنه أن يقف على بعض إمارات النجاسة وهو ما يتعلق بالتيمم واللمس والحس فله التحري كما لو التحري في دخول وقت الصلاة لأنه يمكنه الوقوف عليه بورده ويحمله بخلاف القبلة لأن إماراتها كلها متعلقة بالبصر ولا بصر للأعمى، فإذا قلنا: لا يتحرى تحرى ل غيره ويحمل على ما يخبر به كالقبلة سواء، وإذا قلنا: ينحرى. قال الشافعي في "الأم " "لو كان الأعمى لا يعرف ما يدله على الأغلب ومعه بصير يصدقه وسعه أن يستعمل الأغلب عند البصير "، فأجاز له الشافعي الاجتهاد والتقليد، واختلف أصحابنا في هذا فمنهم من قال: لا يجوز له التقليد؛ لأن من هو من أهل الاجتهاد في شيء لا يقلد فيه وكلام الشافعي- رحمة الله عليه- في "الأم "محمول على أن البصير أخبره بما شاهده أو سمعه فيلزمه قبوله، وهذا اختيار أبي حامد، ومنهم من قال: يجوز له التقليد؛ لأن من أماراتها ما يدركه الأعمى وهو التيمم واللمس، ومنها ما لا يدركه الأعمى لتعلقها بالمشاهدة مثل أثر الكلب

واضطراب الماء، فجاز له التقليد كما في القبلة، وهذا هو اختيار القاضي الطبري، وهو الصحيح فإن لم يغلب على ظنه ولا على ظن البصير فما يفعل؟ قد ذكرناه [228 ب/ 1]. فرع آخر لو أخبره واحد بأن الكلب ولغ في هذا الإناء وجب عليه قبوله إذا كان عدلًا رجلًا كان أو امرأة، حرًا كان أو عبدًا، نص عليه في حرملة، وهكذا إذا أخبره رجل بأن القبلة هكذا، صلى إليها وهو بمنزلة الإخبار. فرع قال: لو أخبره أعمى بأن هذا الماء نجس، وبين سبب النجاسة بأن قال: ولغ فيه الكلب أو وقع فيه بول قبل خبره؛ لأنه يجوز أن يكون سمع بصيرًا يقوله أو هو الذي نجسه. فرع آخر لا يلزمه قبول قول الصبي والمجنون فيه لأنه لا حكم لقولهما، إلا أن في الصبي الذي يعقل عقل مثله الأولى أن يحتاط ويحترز عنه. ومن أصحابنا من قال: يقبل فيه قول الصبي المراهق، وهو خلاف النص ولا يلزمه قبول قول الكافر والفاسق فيه. فرع آخر لو أخبر رجل أن هذا الماء نجس مطلقًا، قال الشافعي: لا يلزمه قبوله لأنه قد يرى سؤر الحمار والبغل والفهد نجسًا، وقد يرى الماء الكثير إذا وقعت فيه نجاسة نجسا، إلا أن يعلم اعتقاده أنه لا ينجسه بهذا فيلزمه قبول خبره. فرع آخر لو كان معه طاهر فتغير فغلب على ظنه أنه لنجاسة لا يحكم بنجاسته، وكذلك إذا كان [229 أ/1] معه ماء نجس فغلب على ظنه طهارته كان على نجاسته، ويفارق هذا إذا علم النجاسة في أحد الإناءين فغلب على ظنه طهارة. أحدهما أو نجاسته يحمل عليه، لأنه لم يثبت نجاسته. بغينه والأصل في كل واحد منهما الطهارة، وإنما يجدد الشك فتي كل واحد منهما فيزول بالظن. فرع آخر لو شهد شاهدان بأن الكلب ولغ قي هذا الإناء ولم يعرف هذا لإناء، وشهد آخر بأنه ولغ في هذا الإناء ولم يعرف هذا الإناء. قال الشافعي -رحمة الله عليه- لا يجوز أن يتوضأ بواحد منهما؛ لأته يجوز أن يكون قد ولغ في هذا الإناء كلب، ولم يقرب من الإناء الآخر، وولغ كلب آخر في الإناء الآخر،؛ولم يقرب من هذا الإناء ويكون الشهود كلهم صادقين. قال أصحابنا: ولو كانت الشهادتان هما متعارضتين مثل أن شهد شاهدان أن الكلب

ولغ في هذا في وقت كذا، ولم يلغ في الآخر وشهد آخران أن الكلب ولغ في ذلك الإناء الآخر في ذلك الوقت، ولم يلغ في الإناء الآخر. فإن قلنا: إن الشهادتين إذا تعارضتا سقطتا فههنا تسقطان، ويجوز له: أن يستعمل رأي الإناءين شاء؛ لأن نجاسة واحد منهما لم تثبت] 229 ب/1]. وإن قلنا: إنهما يستعملان ففيه ثلاث أقوال؛ القسمة، والقرعة، والوقف. ولا يجيء هنا إلا الوقف فيتوقف عن الإناءين. وقال القاضي الطبري- رحمه الله: وعندي أنه يلزمه أن يتيمم ويصلي، ثم يعيد كل صلاة يا لتيمم، لأنه صلى بالتيمم ومعه ماء مستيقن؛ لأن أحل الإناءين طاهر بتيقن وإحدى الشهادتين كاذبة فرع لو اخبره من يثق بخبره آن هذا الكلب بعينه ولغ في إنائه هذا في ونت كذا من يوم كذا، وشهد عنده عدلان، أن ذلك الكلب في ذلك الزمان في بلد آخر فيه وجهان: أحدها: أنه طاهر لأنهما تعارضتا فسقطتا، والثاني: نجس لأن الخبر الأول تنجيسه والشهادة المعارضة له محتملة؛ لأن الكلاب قد تشتبه ولأن تعيين الكلاب في الولوغ لا يلزم ذكره في ((الحاوي)). فرع لو أخبره فخبر بان أحد هذين تنجس وبين السبب فإنه يلزمه قبوله ويتحرى فيهما، وإن اختلف المخبران عليه يلزمه آن يأخذ بقول أصدقهما وأورعهما عنده بخلاف الشهادات لا يرجح قول شاهدين، وإن كان أحدهما أعدل لأن هذا كرواية الأخبار يتعمل فيه الترجيح. فرع أخر لو كان هناك ماءان ورجلان فنجس [230 أ/1] أحد الماءين فاجتهدوا فيه فنظر، فإن أدى اجتهادهما إلى طهارة أحدهما توضأ به، ولكل واحد منهما أن يأتم لصاحبه، وإن آبى اجتهاد أحدهما إلى طهارة أحدهما واجتهاد الآخر إلى طهارة الآخر توضأ كل واحد منهما بالطاهر عنده، ولكل واحد منهما أن يصلي لتفه وليس له آن يأتم بصاحبه؛ لأنه يعتقد أن أمامه محدث نجس وهذا أصيل كل من اعتقد بإمامه هذا لم تصح صلاته، وكل من غلب على ظنه أن إمامه طاهر متطهر جاز له أن يأتم به، وهذا كما يقول في القبلة إذا اجتهد اثنان فأدى اجتهاد كل واحد منهما إلى خلاف ما أدى إليه اجتهاد الآخر لا يجوز لأحدهما أن يأتم بالآخر خلافًا لأبي ثور.

فرع أخر لو (كانت) المياه ثلاثة والرجال ثلاثة فادى اجتهاد كل واحد منهما إلى واحد منها خفيه مسألتان نجستان وطاهر، وطاهران ونجس، فإن كان النجس اثنين صلى كل واحد منهم بنفسه ولا يأتم بغيره، لأنه يعتقد أن كل واحد منهما محدث نجس، وإن كان الطاهر اثنين فلكل واحد منهم أن يأتم بأحد الآخرين ولا يأتم بهما معًا؛ لأنه يعتقد أن أحدهما محدث نجس، فإن صلوا ثلاث صلوات جماعة وقدموا في كل صلاة منها [230 ب/1] واحدًا منهم، فإن صلاة الإمام والمأمومين صحيحة في الصلاة الأولى؛ لأن صلاة الإمام لا تبطل يبطلان صلاة المأموم، وكل واحد من المأمومين يقول: يجوز أن يكون قد استعمل النجس صاحبي وأنا والإمام طاهران، فلا تبطل صلاة واحد منهم، وأما الصلاة الثانية: فإن صلاة الإمام صحيحة، وصلاة من كان إمامًا في الصلاة الأولى صحيحة؛ لأنه لم يصل إلا خلف هذا الإمام,. وأما صلاة الآخر. فإنها باطلة؛ لأنه لما. صلى خلف الإمام في الصلاة الأولى فقد أقر بأنه طاهر، وأنه في نفسه طاهر، فلم يبق عنده نجس غير الإمام في الصلاة الثانية فتبطل صلاته خلفه. وأما الصلاة الثانية فهي صحيحة للإمام وباطلة للمأمومين؛ لأن كل واحد منهما يعتقد أن إمامه محدث نجس، وأصل هذا أن ينظر إلى عدد , المياه والرجال، فإن كان الطاهر واحدًا صلى كل واحد منهم لنفسه، ولا يجوز أن يأتم بغيره، وإن كان الطاهر اثنين صلى كل واحد خلف واحد ولا يصلي خلف الثاني، وإن كان الطاهر ثلاثة صلى كل واحد خلف اثنين ولا يصلي خلف الثالث، وعلى هذا ابتدأ ينظر إلى عدد الطاهر فيتبقي واحدًا لنفسه وينظر إلى ما بقي من عدد] 231 أ/1] الطاهر فيصلي بعددها من الأئمة. فرع أخر لو كانت المياه أربعة وهم أربعة نظر، فإن كان الطاهر واحدًا لم يصل أخذ خلف أحد، وإن كان الطاهر اثنين فصلى واحد منهم الصبح وآخر الظهر، وآخر العصر وآخر المغرب، صح الصبح لكل واحد منهم، وصح الظهر لإمامه وإمام الصبح ولم يصح للباقين، وصح العصر لإمامه وحده، وصح المغرب لإمامه وحده، وإن كان الطاهر ثلاثة صح الصبح لجماعتهم والظهر لجماعتهم؛ لأن لكل واحد منهم أن يصلي خلف اثنين، ولم يصح لأمام المغرب؛ لأنه صلى خلف اثنين فلا تصح صلاته خلف ثالث، وصح الغرب لإمامه وحده. فرع لو كانت المياه خمسة نظر، فإن كان الطاهر واحدًا لم يصل أحد خلف أحد، وإن كان الطاهر اثنين صح الصبح لكل وصح الظهر لإمامه وإمام الصبح، وبطل في حق الباقين، وصح العصر والمغرب والعشاء لإمامها وحدهم، وإن كان الطاهر ثلاثة صح الصبح. والظهر للكل، وصح العصر لإمامه وإمام الصبح والظهر؛ لأن كل واحد ما

صلى خلف ثالث، وصح المغرب والعشاء لامعهما لا غير، وإن كان الطاهر أربعة صح الصبح والظهر: والعصر للكل؛ لأن كل واحد ما صلي خلف واحد، وصح المغرب لإمامه. وأما الصبح والظهر والعصر] 231 ب/1] دون إمام العشاء وصحت العشاء لإمامه وحده؛ لأن كل واحد من الباقين صلى خلف ثلاثة فلا يصلي خلف رابع، ولو كانوا خمسة على الظهر فأحدث واحد ولم يعرف عينه أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة فالحكم في صلاة بعضهم يبعض كالأواني سواء حرفا بحرف. وحكي القفال وجهًا آخر عن صاحب التلخيص أنه لا يمح اقتداء بعضهم ببعض في هذه المسائل؛ لأن كل واحد يقول صاحبي قد استعمل النجس، وربما يكون هو الإمام. قال: وأصل الوجهين أنه هل يجوز الاجتهاد في حدث الغير وبناء أمره على أصل الطهارة، كما يجوز في حدث نفسه ذلك فلم يجوزه صاحب التلخيص وجوزه غيره وهو الأصح. فرع أخر لو كان هناك إناءان من لبن أحدهما نجس وأشكل، قد ذكرنا أنه يجوز التحري، ولو كان هناك له إناء ثالث من لبن طاهر بيقين. قال أبو حامد: هل يجوز التحري في المشكل؟ وجهان كما في الماء. وهذا لا معنى له؛ لأن في الماء إنما اختلف الحكم وجود غيرهما وبين عدمه لأنه يحتاج إليه لاستعماله في الصلاة ويجب عليه ذلك، وها هنا لا يلزمه شيء فلا يختلف الحكم به. فرع أخر لو كانت صبرة من التراب وقعت عليها ذرة من النجاسة، واشتبه محلها لا يجوز أن يتيم [232 أ/1] منها قبل التحري، وإن كانت المبرة كبيرة ولو تحرى في جوانبها ثم تيمم صح. فرع أخر ذكره القاضي الإمام الحسين - رحمه الله - لو كان زق دبس وزق خل في بيت مظلم فدخل البيت واعترف غرفة من زق الخل وصبه في قصعة، واغترف غرفة أخرى من الدبس وصبه قي الخل ثم أخرجها من البيت، فإذا في القصعة فأرة ميتة، وهو لا يدري خرجت من أي الزقين يلزمه التحري؛ لأن أصل كل واحد منهما على الطهارة، وكتف يتحرى؟ قيل: يلقى الفأرة بين يدي النور فإن أكل بان أنها وقفت قي الدبس، وإن لم يأكل بان أنها كانت في الخل، لا لأن الاعتبار بأكل النور، ولكن يغلب على الظن به، وأما الرقان فإنه اغترف، بمغرفتين، فقد ذكرنا حكمه، وإن اغترف بغرفة واحدة إن أدى اجتهاده إلى أن الفارة كانت في الثاني فالأول طاهر، وإن أدى إلى أنها وقعت قي الأول فكلامًا نجسان.

فروع متفرقة لو توضأ رجل وصلى الظهر، ثم أحدث وتوضأ وصلى العصر في وقتها، فلما فرغ منها تيقن أنه ني مسح الرأس بين إحدى الطهارتين يلزمه إعادة الصلاتين؛ لأنه يجوز أن يكون نسي من الوضوء الأول؛ فتكون صلاة الظهر باطلة والعصر [232 ب/ا] صحيحة، ويجوز أن يكون نسى من الوضوء الثاني فتكون صلاة العصر باطلة وصلاة الظهر صحيحة، فإذا لم يتعين له ذلك لزمه أن يعيد الصلاتين، كمن نسى صلاة من صلاتين، ولا يعلم عينها فإنه يلزمه إعادتهما. وأما الطهارة إن قلنا: لا يجوز تفريق الوضوء استأنف الوضوء، وإن قلنا: يجوز ذلك فإنه يعيد مسح الرأس، وعند الرجلين، ويجزيه ذلك لأنه إن كان نسى من الأول، والثاني صحيح، وإن كان قد نسي من الثاني فغل الوجه واليدين صحيح، وعليه مسح الرأس وغسل الرجلين. فرع آخر لو توضأ لصلاة الظهر ولم يحدث حتى لمحل وقتا العمر وجدن الوضوء ثم صلى العصر، فلما فرغ منها تيقن أنه نسي مسح الرأس من إحدى الوضوءين ولا يعلم أبه، فإنه يلزمه أن يعيد صلاة الظهر قولًا واحدا؛ لأنه يجوز أن يكون نسي من الوضوء الأول فتكون صلاة الظهر باطلة، فيلزمه أن؛ يعيدها حتى يؤديها بيقين، وأما صلاة العصر فإن قلنا: إن نية تجديد الوضوء تقوم مقام نية رفع الحدث فصلاة الخصر صحيحة؛ لأنه إن أكان قد نسي من الوضوء الأول فإن وضوؤه للعصر قد صح، وإن كان قد نسي من الوضوء الثاني فيكون الظهر [233 أ/] باطلة والعصر باطلة أيضا؛ لأن الوضوء الأول لم يصح، والوضوء الثاني الذي هو تجديد لا يرتفع الحدث والطهارة علن هذا على ما ذكرنا من البناء على تفريق الوضوء. فرع أخر إذا مات اثنا ن أحدهما بعد الآخر وهناك ما يكفي أحدهما، فالأول أولى بذلك الماء؛ لأن غسله وجب عند موته فلا يتغير حكمه بموت الآخر يعده، ولو كان وجود الماء بعد موتهما لم يقدم الأول منهما بل يجب الرجوع إلى معرفة أفضلهما وأوزعهما، يكون أولى من الآخر؛ لأن غسل الأول ألم يكن وجب عند موته لفقد الماء في ذلك الوقت، فإل كانا في الفضل سواء تقدم من شاء؛ منهما. ذكره والدي - رحمه الله. فرع أخر قال والدي - رحمه الله الصبي هل يجمع بين صلاتي فرض يتيمم واحد؟ فيه وجهان: أحدها: يجمع لأن صلاته ناقلة، والثاني: وهو الأصح لا يجمع لأن مجلاته ملحقة بالفرائض لأنها لا تجوز بنية النقل ويلزمه تعيين النية فيها، ولا يجوز له أن يصلها قاعدًا مع القدرة على القيام، ولا على الراحلة، وإذا سافر له آن يقصرها، وإن

كان القصر لا يدخل في النوافل. فرع أخر إذا غسل وجهه ثم فرق حتى مضى فصل طويل، وقلمنا له البناء صلى وضوئه فاستأنف اختيارًا، لا يجوز إلا أن] 233 ب/1] ينويه عند غسل يديه، لأنه يلزمه إعادة النية عند البناء في أحد الوجهين لقطع النية الأولى بالفصل الطويل، فإذا استأنف الطهارة ونوى عند غسل الوجه فقد قدم إلية على الغسل الذي يلزمه الإتيان به، فلا يجوز. ذكره والدي- رحمه الله. فرع الأذن الملصقة بالدم هل يلزم غسلها في الجنابة؟ مبني على طهارة هذه الأذن، والأصل أن الآدمي هل ينجس بالموت؟ قولان، فإذا قلنا: إنه لا ينجس هل ينجس هذه الأذن؟ وجهان، وإذا قلنا بالنجاسة فغسل هذه الأذن في الجنابة لا يجب، وإن قلنا بالطهارة فيحتمل وجهين؛ أحدها؛ يلزم لأن الاتصال مع الطهارة موجود كالأصلية، والثاني؛ لا يلزم لأن حكم الاتصال الحادث يفارق حكم الاتصال الأصلي، ألا ترى أنهما يفترقان في الطلاق، ذكره والدي - رحمه الله - وعندي إذا قلنا بنجاستها يلزم إزالتها أو إمرار الماء على موضع القطع. فرع أخر إذا قال رجل: هذا الماء نجس مطلقًا، ثم توضأ به وتقدم ليصلي هل يجوز لمن سمع منه أن يملي خلفه؟ وهل يصح وضوءه؟ تال والدي - رحمه الله؛ يحتمل عند وجهين: احدها: يجوز وضوءه لأنه لما جاز التوضاء به للغير جاز لهذا القائل [234 أ/1] أيضًا، والثاني: لا يجوز لأنه اعتقد نجاسة الماء حقًا كان أو باطلًا، فإذا توضأ به تضمن ذلك الاعتقاد بطلان الوضوء المعقول فبطل باعتقاده كالمتوضئ إذا اعتقد ونوى إبطال الوضوء، وهو فيه صار باطلًا في أحد الوجهين، وهذا إذا لم يرجع المخبر، فإن رجع وقال؛ كان ذلك سؤر الحمار، وقد رجعت عن اعتقادي نجاسته ثم توضأ به صح وضوءه بالإجماع. وأما الصلاة خلفه ني المسألة الأولى لا يجوز وجهًا واحدًا؛ لأنه يعتقد بطلان صلاته لبطلان طهارته، فلا تصح الصلاة خلفه مع العلم بحاله. فرع أخر إذا اختلطت آنية البول بأواني أهل بلد أو ميتة بمزكيات أهل بلد، فله التوضيء ببعض الأواني وأكل بعض المزكيات، لأن المنع منه يؤيدي إلى المشقة وإلى أي حد يتوضأ؟ فيه وجهان: أحدها: إلى أن تبقي آنية واحدة كما لو حلف لا يأكل تمرة بعينها لما فاختلطت بتمرات له أن يأكلها كلها إلا واحدة. والثاني: يتوضأ إلى أن يبقى من الأواني القدر الذي لو كان الاختلاط به في الابتداء منع التوضاء الجميع، ثم لا يتوضأ وهذا أوضح.

فرع أخر لو أمر غيره يصب الماء عليه في وضوءه وغسله، فصب البعض عليه ونوى المتطهر ثم صب علميه الباقي في حال كر [234 ب/] والمتوضئ فيها الصب، إما لبرودة الماء أو لاشتغاله بتنقية مكان من بدنه، إلا أنه لم ينه ولا أمر هل يسقط الفرض؟ يجب, أن يقال يسقط؛ لأن الكراهة لا تأثير بها بعد سبوق الأمر، ولو نوى الطهارة وغسل البعض، ثم صب عليه غيره الماء بغير أمره وهو لا يشعر به بل علم بعد ما صبه عليه، وفيه الطهارة عنه في تلك الحالة لا يجوز، لأن ب النية تناولت فعله لا فعل غيره، ولو أمر يصب الماء عليه في كل وضوءه، ثم نسي الأمر به عليه بعد ما غسل بعض أعضائه بنفسه يصح، ولا يقدح فيه النسيان. ذكره والدي - رحمه الله. فرع أخر لو نام قاعدًا في خلال وضوءه على القول الذي يقول: لا يتبعض وضوءه، فأنتبه في البناء هل مدة يسيرة هل تلزمه إعادة النية؟ وجهان. وهو كما قلنا في التفريق الطويل عند يلزمه تجديد النية؟ وجهان. فرع أخر إذا نام قاعدًا بعد غسل وجهه فصب الماء على يديه في حال نومه، ثم انتبه فغسل الوجه صحيح، أما غسل يديه فيحتمل أن يقال: يجوز لأن عزوب النية لا تؤثر في الطهارة. فرع إذا نوى بوضوئه قراءة القرآن حفظًا أو صلاة الجنازة، ولم يقطع نيته؛ بأحدهما، هل يجوز أداء الصلاة به على الوجه الذي يقول الوضوء [1235 أ/1 [لقراءة القرآن حفظًا لا يجوز أداء الفرض به، يحتمل أن يقال لا يجوز لأنه لم يقطع النية بما يجوز، ولو قال: نويت به قراءة القرآن حفظًا إن كانت هذه النية كافية في جواز أداء الفرض به، وإن لم تكن كافية نويت أداء الصلاة به يحتمل أن يقال: يجوز كما لو قال هذه زكاة مالي الغائب إن كان سالمًا، وإن لم يكن سالمًا فهو نافلة يجوز عن الزكاة إذا كان سالمًا، ولو نوى به قراءة القرآن حفظًا ما لم تزل الشمس والصلاة به بعد الزوال هل يجوز أداء صلاة النفل به قبل الزوال؟ يجب أن يقال: يجوز لأنه نوى أداء الصلاة به في الجملة فارتفع به حدثه في الحال، ولو نوى أداء الصلاة به في مكان نجس لا يعفى عنه، يحتمل أن يقال؛ لا يجوز لأنه نوى أداء ما هو معمية بها، ولم ينو أداء ما يتيقن صحته وجوازه إليها. فرع آخر لو توضأ فصار باطلًا في اثنائه بحدث أو غيره، هل له الثواب في القدر المفعول؟ يحتمل أن يقال: له الثواب كالصلاة إذا بطلت في أثنائها، ويحتمل أن يقال: إن أبطل

باختياره فلا ثواب له، وإن كان بغير اختياره فله الثواب. وقال بعض أصحابنا: لا ثواب له بخلاف الصلاة؛ لأنه يراد لغيره ولا يرتبط بعضه [235 ب/] ببعض حتى يصير كالشيء الواحد مثل الصلاة. فرع أخر خنثيان مشكلان مش رجل فرج أحدهما ومست امرأة ذكر الآخر، ثم مس الخنثى الذي مس الرجل فرجه ذكر الخنثى الآخر، ثم مس الخنثى الذي مست المرأة ذكره فرج الخنثى الآخر، ثم تقدم الرجل في صلاة الصبح وأم فيها بالخنثيين والمرأة، ثم تقدم في الظهر الخنثى الذي مس الرجل فرجه وصلى بالمرأة والخنثى الآخر، ثم تقدم في الخمر الخنثى الآخر، وأم فيها بالمرأة والخنثى الذي كان إمامًا في الظهر. فجوابه على القول الذي يقول: إنه لا وضوء على المأموميين أن صلاة الرجل جائزة وعلى المرأة إعادة الظهر والعصر دون الصبح، ويلزم الخنثى الذي كان إمامًا في الظهر إعادة الصبح والعصر وظهره صحيح له، ويلزم الخنثى الذي كان إمامًا في العصر إعادة الظهر وصبحه وعصره صحيحان له، ووجهه أن أحوال الخنثيين أربع أحوال: إما أن يكونا ذكرين وإما أن يكون أنثيين، وإما أن يكون الذي مس الرجل فرجه ذكرا والآخر أنثى، وإما أن يكون الذي مست المرأة ذكره ذكرًا والآخر أنثى ولا خامس [236 أ/1] لهذه الأقسام، فإن كانا ذكرين بطلت طهارة المرأة، وطهارة الخنثى الذي مس الرجل فرجه، وطهارة الرجل مع طهارة الخنثى الذي مست المرأة ذكره باقيتان، وإن كانا أنثيين بطلت طهارة الرجل وطهارة الخنثى الذي مست المرأة ذكره، وطهارة المرأة مع طهارة الخنثى الذي مس الرجل فرجه باقيتان، وإن كان الخنثى الذي مس الرجل فرجه ذكرًا، والآخر أنني بطلت طهارة كل واحد من الخثثين، وطهارة الرجل مع طهارة المرأة باقيتان، وإن كان الذي مست المرأة ذكره ذكرا، والآخر أنثي يطلب طهارة الجمع من الرجل والمرأة والجنثيين معًا، فإذا صح ذلك كانت صلاة الرجل، صحيحة، لأنه لم ينتقض حدثه، واحتمل انتقاض طهارته، واحتمل الجواز فبقيناها على الأصل، ولم يأتم أيضًا بالغير حتى تبطل صلاته انتقاص طهارة الإمام وأتباعه له. وأما المرأة فلا تلزمها إعادة الصبح لعدم التقين بانتقاض طهارتها، وانتقاض طهارة الرجل أيضًا، ولا يصح طهرها لأنه لا يجوز أن يكون الرجل وإمامها في الظهر على الطهارة على ما ذكرنا من الأحوال الأربعة، فإذا حكمنا لها بصحة الصبح خلف الرجل لم يصح منها صلاة الظهر خلف إمامها [236 ب/1] لما لم يحتمل ركونهما علي الطهارة، ونظره أن يعلم الرجل انتقاص طهارة زيد أو عمرو ولا يعرف غير من انتقضت طهارته منهما فصلى المح خلف أحدهما والظهر خلف الآخر صح له الصبح دون الظهر للمعنى الذي ذكرناه؛ فإن قيل ت لماذا جوز تم الصبح دون الظهر؟ قلنا: لأن المرأة لما صليت الصبح خلف الرجل صححنا صلاتها لجواز أن تكون هي وإمامها على الطهارة، وقد أربحنا أن الأصل ثبوتها، فإذا كان تصحح صلاتها محكومًا به لم يرتفع بصلاتها خلف أحذ الخنثيين في

باب المسح على الخفين

الطهر لاستحالة ورود (الفساد) بعد الفراغ من الصلاة، ومنافاة الثاني الأول كما قلنا في المثال الذي ذكرناه، وهذا واضح، ولا يصح عصرها أيضًا؛ لأن الأحوال الأربعة التي ذكرناها تمنع كون العصر محسوبا لها فتأملها. وأما الخنثى الذي كان إمامًا في الظهر فظهره جائز بجواز كونه على الطهارة، ولم يأتم فيه بأحد فصح له. وأما الصبح نلا يصح لأنه لا يحتمل أن يكون هو والرجل الذي هو إمام الصبح على الطهارة في شيء من هذه الأحوال، فلا ينبغي له أن يأثم به، فإذا: فعل ذلك بطلت صلاته. وأما العصر فلا يجوز لأن صلاة الخنثى [237 أ/1] خلف الخنثى لا تجوز، فإن قيل: على قول بعض أصحابنا لجواز صلاة الخنثى خلف الخنثى هل تصح صلاة العصر منه؟ قيل: لا يجوز العصر على قول هذا القائل أيضًا، لأنه لا يحتمل أن يكونا على الطهارة في واحد من هذه الأحوال الأربعة، وإنما كان يصح ذلك على قوله: لو احتفل ذلك فإذا لم يحتمل وجبت الإعادة. وأما الخنثى الذي كان إماما في العصر فصبحه صحيح له، لجواز أن كون الرجل على الطهارة، وعصره جائزًا أيضًا لأنه كان إمامًا في العصر مع جواز كونه على الطهارة وطهره لا يصح، لأن صلاة الخنثى خلقي الخنثى لا يصح، وعلى قول القائل الآخر لا تصح أيضًا، لأنه لا يجوز أن يكون هو والخنثى الآخر الذي هو إمامه في الطهر على الطهارة في واحد من هذه الأحوال الأربعة وإذا قلنا بالقول الذي يوجب الوضوء على الملموس لم تصح صلاة الخنثيين ولا واحد منهما لبطلان طهرهما، وحكم الرجل والمرأة على ما ذكرنا في القول الأول ذكره والدي - رحمه الله. باب المسح على الخفين قال الشافعي: أخبرنا عبد الوهاب، وذكر الخبر. وهذا كما قال جملته: أن المسح على الخفين جائز، وبه [237 ب/1] قال عمر، وعلي، وسعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وابن عباس - رضي الله عنهم - وقال الحسن البصري، حدثني سبعون من أصحاب النبي صلى الله عليه أنه مسح على الخفين، وقال النخعي: من رغب عن المسح على الخفين، نقد رغب عن سنة محمد صلى الله عليه وسلم وبه قال عامة الفقهاء، وقالت الشيعة، والخوارج: لا يجوز المسح على الخفين. وحكي ذلك عن أبي بكر بن داود، وهو رواية ابن أبي ذنب، عن مالك أنه أبطل المح على الخفين في آخر أيامه. وروى الشافعي عنه أنه قال: يكره ذلك، وعنه رواية ثالثة أنه يمسح في السفر دون الحضر، وهو الصحيح عنه، ويحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة محسوا في السفر درن الحضر، وعنه رواية خامسة أنه يمسح أبدًا من غير تأتيت، وهو قول الشافعي في القديم، وعنه رواية سادسة مثل قولنا، والدليل على كلهم

ما روى البخاري في صحيحه عن سعد بن أبي وقاص، والمغيرة بن شعبة، وعمرو بن أمية الضمري، أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين. وروى أبو داود في سننه، عن جرير بن عبد الله أنه بال، ثم توضأ ومسح على الخفين فقيل له [238 أ/1] أتقول هذا فقال: ما يمنعني أن أمسح، وقد رأيت رسول الله. مسح. فقيل قبل نزول المائدة أو بعدها فقال: ما أسلمت إلا بعد نزول المائدة. وروى بلال أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ترنحا فغل وجهه ويديه مسح برأسه ومسح على خفيه وروى أبو بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أرخص للماخر ثلاثة أيام ولياليهن وللمقيم يومًا وليلة إذا تطهر فلبس خفيه أن يمسح عليهما. ويدل على خبر صفوان بن غسال المرادي، وقد تقدم ذكره. وروي عن المغيرة بن شعبة أنه قال: سكبت الماء على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوضأ إلى أن قال: فأهويت لأنزع خفيه، فقال: "دعهما فإني لبستهما وهما طاهرتان" ثم مسح عليهما. واحتجوا بما روى ابن مسعود - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين فقال له علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - قبل نزول المائدة أو بعدها، فسكت ابن مسعود، وهذا يدل على أن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - كان يعتقد أنه لا يجوز. وروى عن علي رضي الله عنه - أنه قال: ما أبالي أمسح على الخفين أو على ظهر الغير. قلنا: أما قول علي استفهام لا تعجب وإنكار [238 ب/1] بدليل أنا روينا عنه أنه قال: "لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى بالمسح من ظاهره، ولكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على خفيه خطوطًا بالأصابع. ويحتمل أنه ذكر ذلك امتحانًا وكان تأخر عن بيعته فقصده. وأما قول عائشة: لعلها أرادت بعد ما نزع الخف المنزوع وظهر الغير سواء، فإن قاسوا على البرقع والقفازين، قلنا: لم يجز العادة بهما غالبًا، ولا يشق تنحية العمامة قليلًا، ويشق نزع الخف عند كل وضوء فافترقا. مسألة: قال: "وَإِذَا تَطَهَّرَ الرَّجُلُ الْمُقِيمُ بِغُسْلٍ أَوْ وُضُوءٍ".

الفصل وهذا كما قال نص الشافعي في الجديد: أن المسح على الخفين مؤقت فالمقيم يمسح يومًا وليلة، والمسافر يمسح ثلاثة أيام ولياليهن، وبه قال علي، وابن عباس، وعطاء، وشريح، وجماعة الفقهاء، وقال مالك: يمسح المسافر بلا توقيت في الرواية الصحيحة والمقيم كذلك في الرواية الضعيفة، وبه قال عمر، وابن عمر، وعائشة، والليث، وربيعة، وأبو سلمة بن عبد الرحمن، والشعبي وحكي الزعفراني أن الشافعي كان يقول بهذا: إلا أن يجب عليه غسل الجنابة، ثم رجع عن ذلك قبل أن يخرج إلى مصر، فقيل: في المسألة قولان، وقيل: قول [239 أ/1] واحد أنه مؤقت، واحتجوا بما روي عن أبي عمارة، وكان قد صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم القبلتين - رضي الله عنه - أنه قال: قلت يا رسول الله أمسح على الخفين، قال: نعم قلت: يومًا. قال: نعم. قلت: وثلاثة أيام، قال: نعم وما شئت. وروي: وما بدا لك قلت وروي أبو داود في هذا الحديث حتى بلغ سبعًا، وقال أنس - رضي الله عنه - قلت: يا رسول الله لم أمسح على الخفين فقال: ما دامتا في رجليك. وروي عن عمر - رضي الله عنه - أن وفدًا قدموا عليه فقال لهم: منذ كم تمسحون على الخف؟ فقالوا: منذ جمعة. فقال: أصبتم سنة نبيكم. وروي عن زيد بن ثابت أنه قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسافر أن يمسح ثلاث أيام ولو استزدناه لزادنا. ولأنه مسح بالماء فلا يتعدر كمسح الرأس قلنا: نقابل بخبر أبي بكرة على ما ذكرنا فحد يحد، والتحديد يمنع النقصان والزيادة، ولم يمنع النقصان ههنا فدل أنه يمنع الزيادة، وروى علي - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم "جعل ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ويومًا وليلة للمقيم" وأما خبر أبي عمارة فرواه محمد بن يزيد، وأيوب بن قطن، وهما ضعيفان إذ لم يرويه في مدة واحدة، بل أراد بتجديد الوضوء عند [239 ب/1] انقضاء كل مدة وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم "التراب كافيك ولو لم يجد الماء عشر حجج" أراد إذا تيمم كل مرة. وأما حديث خزيمة فوهم منه ولا حكم للوهم، وأما مسح الرأس أصل لا يشبه البدل بخلاف هذا، بدليل أنه لو نزع الخف بطل المسح. فإذا تقرر هذا، فلا خلاف أن ما قيل من الحدث من وقت اللبس لا يحتسب من وقت المسح. وأما ما بعد الحدث اختلف العلماء فيه، فعندنا أنه يعتبر ابتداء المدة من وقت الحدث، فإذا مضت المدة من ذلك الوقت انقطع حكمه، ولا يجوز له بعد ذلك

أن يمسح سواء كان قد مسح أو لم يمسح، وبه قال مالك، والثوري، وأبو حنيفة، وقال الحسن: ابتداؤه من وقت لباس الخفين، وقال الأوزاعي، وأحمد، وأبو ثور، وداود يعتبر ابتداء المدة من وقت المسح هو الحدث. وحكي القفال، عن أبي ثور أنه قال: الاعتبار بخمس صلوات، فلو قضي المقيم خمس صلوات في مكان واحد انقضى حكمه، وإن صلاها في أوقاتها، فإذا صلى آخر الصلوات انقطع حكم المسح. واحتجوا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يمسح المسافر ثلاثة أيام" فلو اعتبر من وقت الحدث لم يمكنه أن يستوعب هذه المدة بالمسح، ولأن الاعتبار في [240 أ/1] اختلاف المدة بالسفر والحضر. يفعل المسح لا بالحدث، لأنه لو مسح في الحضر، ثم سافر فإنه لا يمسح إلا مسح المقيم، ولو أحدث في الحضر، ثم سافر قبل أن يمسح له أن يمسح ثلاثة أيام، فكذلك اعتبار المدة بالمسح، وهذا غلط، لأن الله تعالى أمر بغسل الرجل، فظاهره أن غسل الرجل واجب بكل حال قام الدليل على جواز المسح من وقت الحدث، وما بعد ذلك على الظاهر، وروي القاسم ابن زكريا المطرز في حديث صفوان بن عسال من الحدث إلى الحدث لأن العبادة يدخل وقتها بالزمان وبمضي الوقت، فإن لم يكن منه فعل العبادة ألا ترى أن في الجمعة جوز الاقتصاد على ركعتين في وقتها، ولو ذهب الوقت زال هذا الحكم كذلك ههنا، ولأن بعد الحدث زمانًا يستباح فيه المسح فكان من وقته كبعد المسح. وأما الخبر الذي ذكر، وقلنا لم يرد به أنه يستعمل المسح طول هذه المدة؛ لأن بين المستحين مدة محسوبة بالإجماع، كذا قبل المسح الأول. وأما الدليل الآخر قلنا: لا يمتنع الفرق كما لو شرع في الصلاة ثم جرت السفينة إلى السفر صلى صلاة الحضر، ولو سافر بعد دخول وقت الصلاة ثم افتتح الصلاة صلى صلاة المسافر، ثم إن دخول الوقت بالزمان لا بالفعل كذلك ها هنا. وأما قول أبي ثور [240 ب/1] وينسب إلى داود فباطل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر المدة ولم يذكر الصلوات. فإذا تقرر هذا، فالمقيم يصلي بطهارة المسح خمس صلوات في العادة، لأنه إذا أحدث مع الزوال، ثم مسح صلى الخمس، فإذا جاء وقت الزوال من غده انتهت المدة، وقد يصلي ستًا بأن يكون وقت الحدث عبد الزوال بساعة ثم يمسح، ويصلي الظهر والعصر والصلوات بعدها. فإذا زالت الشمس من غده له أن يصلي الظهر بطهارة المسح، لأن وقت الحدث ماجاء بعد فتكون الصلوات ستًا، وقد يكون سبعًا لعذر المطر، فإن تقدم العصر إلى وقت الظهر في اليوم الثاني فيصليهما معًا قبل وقت الحدث بالأمس، والمسافر يصلي في العادة خمس عشرة، وست عشرة من غير جمع، وعند الجميع سبع عشرة على ما فصلناه. فرع لو أحدث، ومسح، وصلى، ثم شك هل كان وقت الحدث مع الزوال إذا دل وقت

العصر. قال في "الأم" أخذ بالاحتياط فتعتبر المدة من حين الزوال. وقال المزني في الجامع: تعتبر المدة من وقت العصر، لأن الأصل المسح فلا يزول بالشك، وهذا غلط لأن الأصل وجوب غسل الرجلين والمسح رخصة، فلا تجوز الرخصة بالشك. فرع آخر قال في "الأم": لو استيقن أنه مسح [241 أ/1] وصلى ثلاث صلوات وشك هل صلى الرابعة أم لا؟ لم يكن له إلا أن يجعل نفسه كأنه صلى بالمسح الرابعة لا يصلى بمسح مشكوك فيه، وصورته أنه شك هل كان أحدث في وقت الظهر ومسح وصلى الظهر بالمسح، أو لم يحدث وقت الظهر ولم يصل الظهر، وإنما أحدث وقت العصر، ومسح وصلى العصر بالمسح، ونسي فعل الظهر فيلزمه أن يحتسب مدة المسح من وقت الظهر، لا من وقت العصر، ويعيد الظهر احتياطًا، لأن الأصل أنه لم يصل الظهر، والأصل وجوب غسل الرجلين فلا يجوز المسح إلا باليقين. فإن قيل: إذا كانت صورته هذا فلم قال الشافعي وشك أصلى الرابعة أم لا، وإنما الشك في الصلاة الأولى؟ قلنا: الشافعي: لم يعدها على ترتيب أوقاتها وإنما سماها رابعة من طريق العدد. مسألة: "فَإِنْ تَوَضَّأَ وَمَسَحَ وَصَلَّى بَعْدَ ذِهَابِ وَقْتِ الْمسح أَعَادَ غُسْلَ رِجْلَيْهِ والْصَّلاَةِ". وهذا كما قال: إذا مضت مدة المسح في حق المقيم أو المسافر انتقض مسحه، فإن كان في الصلاة بطلت صلاته، وإن كان في غير الصلاة أو فيها فنزع خفين فهو كما لو نزع قبل انقضاء المدة، هل عليه استئناف الوضوء؟ قولان على ما نذكره إن شاء الله. وقال الحسن البصري: له أداء [241 ب/1] الصلاة بالمسح السابق إلى أن يحدث، وقال داود: ليس له أداء الصلاة بالمسح بعد انقضاء المدة ما دامت الرجل في الخف، فإن نزع الخف يجوز أن يصلي حينئذ، وإن لم يغسل الرجلين ما لم يحدث وهذا غلط لخبر صفوان بن عسال فإنه قال في آخره: لكن من بول، أو غائط، أو نوم، ثم يحدث بعد ذلك وضوءًا، ولأن هذه الطهارة لما انتهت إلى حالة لو أحدث لم يجز أن يبتديها لم يجز استدامتها كما لو وجد المتيمم الماء. مسألة: قال "وَلَوْ مَسَحَ في الْحَضَرِ يُمَّ سَافَر أَتَّمَ مَسْحَ مُقِيٍم". وهذا كما قال الكلام الآن فيما لو اجتمع الحضر والسفر، فإذا تطهر فلبس خفيه ثم سافر لا يخلو، إما أن يسافر قبل الحدث أو بعده، فإن سافر قبل الحدث، ثم أحدث في السفر فابتدأ المدة من الحدث فيمسح مسح مسافر ثلاثة أيام من الحدث، وإن سافر

بعد الحدث لا يخلو إما أن يسافر قبل المسح أو بعده، فإن سافر قبل المسح نُظر، فإنه كان قبل فوات وقت الصلاة مثل إن أحدث مع الزوال وسافر قبل خروج وقت الظهر، ثم مسح في السفر مسح مسح مسافر. وقال المزني. يمسح مسح مقيم، لأن ابتداء المدة كان في حال الإقامة. وقال القاضي [242 أ/1] الطبري: لا يوجد هذا عن المزني، وله يدل على خلاف هذا، والدليل عليه أنها عبادة تختلف بالحضر والسفر، فكان كيفية فعلها معتبرًا بحال الفعل لا بابتداء وقتها كالصلاة، وينكسر معناه بهذا، وإن سافر بعد خروج وقت الظهر ثم مسح في السفر، فإنه يصلي الظهر صلاة حضر لأنها صارت قضاء، والمسح يكون مسح مسافر. وقال أبو إسحاق، والمزني: يمسح، مسح مقيم، لأن خروج وقت الصلاة هو بمنزلة التلبس بفعل الصلاة في وجوب إتمامها، فكذلك في المسح، وهذا غلط لأنه سافر قبل التلبس بالمسح فيمسح مسح المسافر كم لو سافر في الوقت، ويفارق الصلاة لأنها تفوت بانقضاء وقتها ويستقر قضاؤها في الذمة، والقضاء مثل الأداء، والمسح لا يقضي بل كل حال يؤتي به يكون أداء فاعتبر بحال فعله، وإن أحدث في الحضر ومسح، ثم سافر، أتم مسح مقيم يومًا وليلة من الحدث، وبه قال أحمد، وإسحاق، وقال أبو حنيفة: والثوري: يمسح مسح مسافر، وهذا غلط لأنها عبادة تتغير بالحضر والسفر، فإذا تلبس بها في الحضر، ثم سافر كان الاعتبار بحكم الحضر، كالصلاة [242 ب/1] إذا دخل فيها مقيمًا، ثم سافرت السفينة، وصار مسافرًا يصلي صلاة المقيم، وقال المزني: يبني إحدى المدتين على الأخرى ويقسط ذلك على الزمان، فإن كان مقيمًا فمضى من هذه الإقامة ثلثها من حين الحدث إلى أن سافر فله أن يمسح من السفر يومين ثلثي مدة السفر في مقابلة ما بقي من مدة الحضر، وهو ثلثا يوم وليلة، وهذا غلط لأنه إذا اجتمع السفر والحضر في العبادة، إما أن يغلب حكم الحضر دون السفر أو السفر دون الحضر، والجمع بينهم محال؛ لأنه يؤدي إلى أن يصلى المسافر ركعة من الظهر، ثم نوى الإقامة فيضيف إليها ركعتيه فيصلي الظهر ثلاثًا وهو خلاف الإجماع، ولو لبس الخفين مسافرًا، ثم أقام يغلب حكم الحضر، ويمسح مسح المقيمين، فإن أقام قبل انتهاء يوم وليلة أكملها، وإن أقام بعد انتهائها بطل حكمه، وبه قال جماعة الفقهاء، وقال المزني: ههنا أيضًا يبني إحدى المدتين على الأخرى، فإن كان قد مضى يوم وليلة، ثم أقام، فقد مضى ثلث مدة السفر، فيضيف إلى هذا اليوم في الحضر ثلثي هذه المدة فيصلي بعد ذلك المسح [243 أ/1] ثلثي يوم وليلة. فرع لو سافر، ثم شك ها أنشأ المسح في الحضر أو في السفر أخذنا بالاحتياط، وهو أنه أنشأه في الحضر، فإن ذكر أنه أنشأه في الحضر فقد تحقق ذلك، وإن ذكر أنه أنشأه في السفر كان له إكمالها ثلاثًا من الحدث، وليس هذا كمن شك في صلاته، هل نوى القصر أم لا؟ يلزمه الإتمام، فول زال شكه في الحال لم يجز له إلا الإتمام؛ لأن الصلاة يرتبط بعضها ببعض، فإذا لزمه الإتمام في بعضها لزمه في كلها، والمسحات

بخلاف ذلك، لأنه لو حصلت مسحة بماء نجس أو بغير نية لم تؤثر في غيرها، فإن صلى بعد يوم وليلة، وشكه قائم، فالصلاة باطلة وعليه إعادتها سواء بقي على الشك أو زال، وعرف أنه أن له مسح المسافر، لأنه صلى بالشك فصار كما لو شك في الزوال فصلى الظهر، ثم بان له دخول الوقت حين الصلاة لم يجز. قال القفال: وعلى هذا الذي ذكرنا، قال الشافعي: المستحاضة إذا توضأت، ثم شكت في انقطاع دمها ليس لها أن تصلي ما لم تتوضأ ولا يقال الأصل أن الدم سائل بل يقال: الأصل أن من أحدث عليه الوضوء إلا أنه جوز لهذه أن تصلي مع الحدث للضرورة، فإذا شكت في زوال الضرورة أو بقائها [243 ب/1] فالأصل عدم الضرورة ووجوب الوضوء، وكذلك قال الشافعي: إذا سافر بنية بلده فدخل بعض البلاد، فلم يدر أنها البلدة التي قصدها أو لا يقصر، لأن الأصل أن الصلاة أربع فلا يجوز دونها إلا بيقين. فرع آخر الماسح على الخفين إذا لم يبق من وقت مسحه مقدار ركعتين فافتتح الصلاة ركعتين هل يصح الافتتاح، ثم يبطل عند انقضاء المدة أو لا يصح أصلًا؟ قال والدي - رحمه الله -: فيه وجهان، وفائدة الوجهين أنه لو افتتح الرجل خلفه وفارقه عند انقضاء المدة هل تصح صلاة المأموم؟ وجهان. مسألة: قال: "وَإِذَا تَوَضَّأَ فَغسَلَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ ثم أَدْخَلَهَا الْخُف". الفصل وهذا كما قال: المسح على الخفين إنما يجوز إذا لبس الخفين على كمال الطهارة، وهو أن يفرغ بين وضوءه ويستبح الصلاة، ثم ابتدأ بلبس الخفين، فإن لبس خفيه قبل غسل رجليه، ثم غسلهما في خفيه لا يجوز المسح، ولذلك لو غسل إحدى رجليه، فأدخلها في الخف، ثم غسل الرجل الأخرى فأدخلها الخف لا يجوز له المسح إذا أحدث، لأنه ابتدأ بلبسه قبل كما الطهارة، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، وقال أبو حنيفة، والمزني، وابن المنذر [244 أ/1] وداود: يجوز له المسح في كلا الموضعين. قال المزني: كيف ما صح لبس خفيه على طهر جاز له المسح عندي، وهذا هو الحجة عليه، وعلى أبي حنيفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أرخص في المسح لمن تطهر فلبس خفيه، وها هنا تطهر بعد لبس الخفين، أو لبس الخف الأول قبل كمال الطهارة. فإذا تقرر هذا، فلو نزع الخف الأول الملبوس، ثم لبسه ثانيًا جاز له المسح عند الشافعي؛ لأن الثانية صارت أولى بعد كمال الطهارة، وقال ابن سريج: إذا نزع الأول يلزمه نزع الثاني كما لو لبسا على الطهارة وأحدث ثم نزع أحدهما يلزمه نزع الآخر وبه قال أحمد وهذا غلط كما ذكرناه ومثاله ما نقول في المحرم إذا اصطاد

صيدًا، فإنه يؤمر بإرساله لحرمة إحرامه، فلو لم يرسل حتى حل من إحرامه فالأمر بالإرسال باق أخذه في وقت لم يكن له أخذه فيه، فإن أرسله، ثم أخذه في الحال حل له حينئذ؛ لأن هذا أخذ جديد بعد الإرسال والإحلال، فكذلك ها هنا إذا نزع الأول ثم لبسه بعد حصول غسل الرجل فهذا اللبس حصل منه على كمال الطهارة، وفي الأول كان قبل إكمال الطهارة [244 ب/1] فلا يحتاج إلى نزع الثاني وجاز له المسح. مسألة: قال: "وَإِنْ تَخَرَّقَ مِنْ مُقَدَّمِ الْخُفَّ شَيْءٌ بَانَ مِنْهُ الْرَّجُلٍ، وَإٍنْ قَلَّ لَمْ يُجْزِهِ أَنْ يَمْسَحَ". وهذا كما قال. الكلام الآن في صفة الخف الذي يجوز المسح عليه، وهو الذي يواري به قدميه، وقوله: مقدم الخف، أراد به موضع القدم، ولم يرد به المقدم الذي هو ضد المؤخر، فإن تخرق منه شيء نُظر، فإن كان مقابلًا لمحل الفرض. قال في "الجديد": لا يجوز المسح قليلًا كان الخرق أو كبيرًا من موضع أو من غيره، وبه قال أحمد، والحسن بن صالح، وقال في "القديم": يجوز المسح عليه إذا أمكن متابعة المشي فيه، وبه قال الأوزاعي، وإسحاق، وأبو ثور، وداود. وقال مالك: إن كثر الخرق وتفاحشه لم يجز وإلا جاز، وبه قال الليث: وقيل: هو قول الشافعي في "القديم" وهو قريب مما تقدم. وحكي عن مالك والقديم أنه يجوز إن كان يقع عليه اسم الخف، ويروي هذا عن الأوزاعي، وأبي ثور أيضًا، وقال أبو حنيفة: إن كان الخرق قدر ثلاث أصابع إذا كثر لا يجوز المسح وإلا فيجوز. قال أبو يوسف قال أبو حنيفة: لأن الثلاث هي أكثر الأصابع [245 أ/1] وهذا كله غلط؟ لأنه خف غير ساتر لجميع القدم فلم يجز المسح عليه، كما لو زاد على ثلاث أصابع، فإن قيل: اسم الخف يقع عليه ورود الشرع لجواز المسح على الخف. قيل: أراد به خفًا يستر جميع القدم، بدليل أنه لو زاد على ثلاث أصابع لا يجوز، وإن كان يسمى خفًا. فرع لو انفق منه شيء غير مقابل لمحل الفرض، مثل إن قابل الساق أو ما جاوز الكعبين لم يمنع المسح، وإن قطع الخف من فوق الكعبين نُظر، فإن كان واسعًا شاهد الكعبان لم يجز، وإن كان ضيقًا لا يشاهد لضيقه أو كان واسعًا فشده جاز المسح، ولو كان يظهر القدم لمن نظر في الساق لسعة الساق من الأعلى. قال القفال: لا يضره ويجوز المسح، كما لو بدا من عورته شيء كخرق في قميصه، فإنه لا تجوز الصلاة، ولكن لو صلى على طرف سطحه بحيث لو نظر ناظر من تحته رأي عورته تجوز صلاته، لأنه لا يجب عليه ستر عورته من الأرض.

فرع لو كان في الخف خرق وفيه جورب يواري القدم لم يجز المسح؛ لأن الخف ليس هو بجورب، ولولا الجورب بدا رجله نص عليه في "الأم". فرع آخر قال: لو انفتقت ظهارة الخف وبطانته صحيحة لا يرى [245 ب/1] منها قدمه جاز المسح له، لأن هذا خف كله. وقال بعض أصحابنا: أراد به إذا كانت البطانة صفيقة، مثل أن يكون جلدًا أو خرقًا ألصق بعضها ببعض، فأما إن كانت البطانة رقيقة لا يمكن متابعة المشي عليها لا يجوز المسح عليه. وقال القاضي الطبري: هذا خلاف نص الشافعي وما يوجب تعليله، ولهذا لو كان الخف طباقًا واحدًا فتشقق ظاهره ولم ينفذ فإنه يجوز المسح عليه ويخالف اللفافة، لأنها منفردة عنه، وقال الشافعي بعد هذا: "وكذلك كل شيء ألصق بالخف فهو منه". مسألة: قال: "وَلاَ يَمْسَحَ عَلَى جَوْرَبَيْنِ إَلاَّ أَنْ يَكُونَ الْجَوْرَبانِ مُجَلَّدَتِي الْقَدَمَيْنِ إِلَى الْكَعْبَيْنِ". وهذا كما قال ساتر الرجل يحتاج إلى ثلاثة شرائط ليجوز المسح عليه: أحدهما: أن يكون ساترًا لجميع القدم إلى ما فوق الكعبين. والثاني: أن يكون صفيقًا لا يشف الماء لصلابته وصفاقته حين يصب عليه بل يرد الماء. والثالث: أن يمكن متابعة المشي عليه في الحوائج ولا يشترط أن يمكن مشي الفراسخ عليه، ولا يعتبر بمن في رجله علة تمنعه من ذلك. فإن تقرر هذا ينظر في الجوربين، فإن كان رقيقين غير مجلدين ولا منعلين لم يجز [246 أ/1] المسح عليهما، وقال أحمد وإسحاق: يجوز المسح إذا كان صفيقًا، وبه قال عمر، وعلي - رضي الله عنهما - وهو مذهب أبي يوسف، ومحمد، وداود، واحتجوا بما روي هزيل بن شرحبيل عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم بال وتوضأ ومسح على الجوربين والنعلين. وروي أبو موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمسح الجوربين، وروي أنس أنه مسح على قلنسوته وعلى جوربيه. وهذا غلط؛ لأنه لا يمكن متابعة المشي عليه، فلا يجوز المسح عليه كالخرقة الملفوفة على الرجل. وأما خبر الغيرة قلنا: طعن فيه عبد الرحمن بن مهدي، وقال: المعروف عن الغيرة المسح على الخفين ثم نحمله على النعل، ولأنه ذكر فيه النعلين ولا يقولون به، وأما خبر أبي موسى قال أبو داود: ليس بالقوي ونحمله على ما ذكرنا، وإن كانا مجلدي القدمين إلى فوق الكعبين منعلين من أسفل يجوز المسح عليهما قولًا واحدًا، وإن كانا غير مجلدين، ولكنهما صفيقان ظاهر ما نقل المزني أنه لا يجوز

المسح عليهما. وقال في "الأم": ونقله الربيع: إنه يجوز إذا كان أعلاهما صفيقًا لا يشف [246 ب/1] لأنه لا يصل تلك المسح عليه لصفاقته، ويمكنه متابعة المشي عليه، فمن أصحابنا من قال فيه قولان، والصحيح أنه يجوز المسح عليه قولًا واحدًا، والاعتبار بأن يكون صفيقًا منعلًا، وبينه الشافعي في "الأم" صريحًا، وأراد به المزني: الجور بين المعتادين وهو أن يكونا رقيقين، وإن كان مجلدين غير منعلين. قال القفال: إن كانا تجليدًا غليظًا يمكن متابعة المشي عليه وإلا فلا، وقال الإمام أبو محمد الجويني: لا يختلف المذهب في المنع من ذلك حتى يكونا منعلين فظاهر لفظ المزني يوهم أنه يجوز، وإن لم يكونا منعلين ولكنه استدرك هذا بآخر كلامه حين قال: حتى يقوما مقام الخفين. وهو ظاهر ما ذكره أهل العراق، وعلى هذا لو كان الجورب متخذًا من السختيان كجورب الصوفية إن كانا ملصقًا بالنعلين ينزعه بنزعهما يجوز وإلا فلا يجوز، الأمر عندي على ما ذكره القفال - رحمه الله - ولعل غيره شرط أن يكون منعلًا لإمكان متابعة المشي عليه، وهذا يؤخذ على ما صوره فليس فيه خلاف في الحقيقة. وحكي عن أبي حنيفة: أنه لا يجوز المسح على الجوربين أصلًا، وهذا غلط لأنه في معنى الخف على [247 أ/1] ما ذكرنا، وحكي عن بعض العلماء أنه لا يجوز المسح على الخفين إذا لم يكن له ساق وهو غلط أيضًا كما ذكرناه. فرع لو لبس خفًا بشرج وهو الذي يكون قدمه كقدم الخف وما علامته جلود قال في "الأم": إن كان الشرج فوق الكعبين جاز المسح عليه سواء شرحه أو لم يشرحه، لأن عدمه لا يمنع المسح فوجوده مشترطًا أولى أن لا يمنه، وإن كان الشرج على موضع الغسل. قال الشافعي: فإن كان فيه خلل يرى شيء من القدم أو من اللفافة فلا يجوز المسح عليه، وإن لم يكن فيه خلل فإنه يجوز المسح عليه، لأنه إذا مشي أو تحرك انفرج وظهرت اللفافة. فرع آخر لو كان له شرج يفتح ويغلق فمسح عليه، وهو مغلق، ثم فتحه بطل المسح، وإن لم يبن شيء من اللفافة؛ لأنه إن لم يبن في الحال، فإذا مشى بان منه ذلك، مسألة: قال: "وَمَا لَبِسَ مِنْ خُفِّ خَشَبِّ ومَا قَامَ مَقَامَهُ أَجْزَأَهُ". وهذا كما قال. السنة وإن قدرت في الخف المعتاد فغيره مقيس عليه، فإذا لبس خفًا من خشب رقيق يمكن متابعة المشي عليه لغلظه ثم يجزأ، إذ لا فرق بين أن لا يمكن متابعة المشي عليه لرقته ولغلظه، وكذلك الخف من اللبد أو الخرق، إذا كان منعلًا

وأعلاه صفيقًا يجوز المسح [247 ب/1] عليه، وإلا فلا يجوز، لأنه يكون جوربًا، وقال القفال: أكثر يتقرر خف الخشب المقطوع، فإن كان مقطوعًا من فوق الكعبين لا فرص عليه، فلو لبس في رجله الآخر خفًا، ومسح عليه جاز، وإن كان بعض موضع الفرص باقيًا فلبس خف خشب ما ذكرناه، وفي الرجل الأخرى خف أدم يجوز المسح عليهما، وإن لم يلبس في المقطوعة شيئًا لم يجز، ولو كان الخف المتخذ من الخشب محدد الأسفل كما يكون في الغالب خف الأقطع لا يجوز المسح عليه، أو لا يمكن كل لابس متابعة المشي عليه، فلا يسمى باسم الخف. وقال القفال: إن كان خفه من زجاج فإنه يجوز المسح عليه، وإن بدا منه لون الرجل وليس هو كمن ستر عورته بزجاج وظهر من تحته لون العورة لم تجز صلاته؛ لأن القصد منه ستر العورة عن أعين الناظرين، والقصد من الخف اللبس، وقد حصل، وعندي أنه أراد أن يكون الزجاج في غير أسفل القدم حتى يمكن متابعة المشي عليه، فإنه إذا كان في أسفل القدم، وإن كان في الجلد يخاف من متابعة المشي على الغالب في التردد في حوائجه انكساره وجراحة الرجل به، ولا يوجد فيه معنى الخف، ورأيت بعض أصحاب [248 أ/1] أبي حنيفة ينسب هذا إلى الشافعي ويشنع به على المذهب، وهو يرتفع بما ذكرت إن صح عنه هذا اللفظ ولا يصح عنه ذلك، وأطلق سائر أصحابنا، وقالوا: لا يجوز المسح على الخف من حديد أو زجاج، وهو صحيح على ما ذكرنا أنه لا يمكن متابعة المشي عليه إذا كان كله من حديد أو زجاج. فرع لو لبس خفًا صفيقًا لا يمكنه متابعة المشي معه، فالمذهب أنه يجوز المسح عليه، لأن الخف صالح للمسح عليه في خف صغير القدم، وإنما منعه من المشي كبر رجله. وقال بعض أصحابنا: لا يجوز المسح عليه؛ لأن المشقة هناك هي في ترك النزع لا في النزع، وهو جوز للرفق ولا رفق هنا، وهذا أقيس وأصح عندي. مسألة: قال: "وَلاَ يَمْسَحُ عَلَى خُرْمُوقَيْنِ". الفصل وهذا كما قال الجرموق هو شيء عل مثال الخف كبير يلبس في البلدان الباردة من شدة البرد فوق الخف، فإذا لبسه على الخف أو لبس خفًا على خف، فإن كان السفلاني. متخرقًا جاز المسح على الفوقاني، وصار السفلاني كاللفافة، وإن كان الفوقاني متخرقًا، أو لم يكن منعلًا بحيث يجوز المسح عليه لو انفرد لا يجوز المسح عليه قولًا واحدًا، وصار الفوقاني كاللفافة على الخف، وإن كانا صحيحين بحيث يجوز المسح على كل [248 ب/1] واحد منهما على الانفراد ففيه قولان، قال في "الجديد":

لا يمسح عليهما، وبه قال مالك في رواية، ووجهه أنه لا يخلو هذا الفوقاني إما أن يكون بدلًا عن الرجل، أو عن التحتاني لا يجوز أن يكون بدلًا عن التحتاني؛ لأن البدل لا يكون له بدل في الطهارة كالتيمم وليس هو ببدل عن الرجل؛ لأنه لو كان بدلًا عن الرجل لكان إذا نزعه لا يبطل المسح؛ لأن الرجل لم تطهر. وقال في "القديم" و"الإملاء": يمسح عليهما. وهكذا لو لبس خفًا ثالثًا على الثاني مسح على الثالث، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق واختاره المزني، وروي ذلك عن مالك، ووجهه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الموق وهو الجرموق، ومن قال بالأول أجاب عن هذا فإن الموق هو الخف، ولكن ساقه إلى القصر، واحتج المزني بأن في الجرموق مرفقًا. قلنا: هو مرفق نادر غير عام فلا حكم له كالقفازين والقلنسوة، فإذا قلنا: لا يجوز المسح عليه قال في "الأم": عليه أن يطرح الجرموقين ثم يمسح على الخفين. وظاهره أنه إذا أدخل يده في جوف الجرموق ومسح على الخف السفلاني لا يجوز وليس هذا كما لو أدخل يده [249 أ/1] فضعف أمره فلم يجز المسح عليه مع استتاره، واختص بأكمل صفات المسح هكذا ذكره أبو حامد. وقال القاضي الطبري: هذا غلط قبيح، والمذهب أنه يجوز لأنه أوصل الطهور إلى محله، فصار كما لو غسل الرجلين في وسط الخفين الواسعين يجوز، والذي قال في "الأم" محمول على الغالب من الجرموق، فإنه لا يتأتى المسح على ما تحتهما من الخف إلا بطرحهما، وهذا هو الصحيح الذي لا يخل أن يقال غيره، والفرق الذي ذكره لا معنى له في تأثير المسح. وإذا قلنا: يجوز المسح فهل له أن يمسح على الخفين بأن يدخل يده ويمسح عليهما. قال القاضي الطبري: يحتمل وجهين. أحدهما: لا يجوز لأنه إذا جاز المسح على الظاهر لم يجز له أن يمسح على الباطن، كما لو أدخل يده في الخف، ومسح على ظاهر الجلد الذي يلي رجله لا يجوز. والثاني: يجوز لأن كل واحد منهما هو محل للمسح، بدليل أنه لو نزع الفوقاني جاز له أن يمسح على التحتاني، فجاز له المسح على كل واحد منهما، وهذا الوجه أصح، ويفارق هذا إذا مسح على ظهر الجلد؛ لأن المأخوذ عليه أن يمسح على ما جرى مجرى القدم في الطهور وناب عنه، ولا يوجد هذا المعنى في [249 ب/1] ظهر الجلد بخلاف مسألتنا، فإن الخف التحتاني جار مجرى القدم في الظهور وإنما ستره غيره، فجرى ذلك مجرى غسل الرجلين في الخف، فإذا تقرر هذا فاعلم أن ابن سريج قال: على أي معنى يجوز المسح على الجرموقين؟ ذكر أصحابنا ثلاث معان: أحدهما: وهو قول أبي حنيفة إلا على بدل عن الأسفل، والأسفل بدل عن الرجل. والثاني: أن الأسفل كاللفافة والثالث: أن الأعلى مع الأسفل كالبطانة مع الطهارة، وعلى هذه المعاني مسائل منها: إذا مسح على

الجرموقين ثم نزعهما، فإن قلنا بالمعنى الأول وقلنا: فيمن نزع خفيه بعد المسح بغسل قدميه فقط يمسح على الأسفل ويجوز، وإن قلنا هناك أنه يستأنف الوضوء فههنا يستأنف الوضوء ويمسح على الأسفل. وقال القاضي الطبري: المسح على الجرموقين لا يجوز إلا على القول القديم وفي القديم إذا نزع الخفين يُجدد الوضوء فإذا نزع الجرموق يلزمه أن يجدد ويمسح على الخفين، وفي قوله الجديد: لا يجوز المسح على الجرموقين، فإذا خلعهما بعد المسح يمسح على الخفين، ولا يصح البناء على القولين. وإن قلنا بالمعنى الثاني يلزمه نزع الأسفل أيضًا، ثم فيه [250 أ/1] قولان: أحدهما: يغسل الرجلين والثاني: يعيد الوضوء. وإن قلنا بالمعنى الثالث: لا يلزمه شيء، كما لو نشر موضعًا من خفه أو جميع خفه ونفى ما يمكنه متابعة المشي عليه جاز. والمسألة الثانية: لو نزع أحد الجرموقين، فإن قلنا بالمعنى الأول يلزمه نزع الآخر، ثم مسح الأسفل أو يستأنف الوضوء، وإن قلنا بالمعنى الثاني يلزمه نزع الكل، وغسل الرجلين أو استئناف الوضوء، وإن قلنا بالمعنى الثالث فلا يلزمه شيء وبه قال زفر. والمسألة الثالثة: لو أراد في الابتداء أن يلبس أحد الخفين وأحد الجرموقين ويمسح عليه، وعلى الخف، فإن قلنا بالمعنى الأول أو الثاني لا يجوز، وإن قلنا بالمعنى الثالث يجوز كما لو كان أحد خفيه أغلظ من الآخر. والمسألة الرابعة: لو لبس الخفين ثم أحدث وتوضأ ومسح عليهما، ثم مسح الجرموقين، فإن جعلناه بدل البدل جاز له أن يمسح عليهما إذا أحدث، وكذلك إن قلنا بالمعنى الثالث لمن أحدث ثم رفع خفه برقعة له المسح على الرقعة، وإن قلنا بالمعنى الثاني لا يجوز ذلك. وقال القاضي الطبري: قال الداركي: الذي عندي أن لا يمسح لأن طهارة المسح ناقصة. ومن أصحابنا من ذكر فيه وجهًا آخر [250 ب/1] أنه يجوز؛ لأن المستحاضة تمسح على الخفين فوضوءها وطهارة الماسح هي آكد من طهارة المستحاضة، والصحيح ما قاله الدراكي؛ لأن مدة المسح لا تخلو إما أن تعتبر من حين الحدث الذي كان قبل لبس الجرموق، أو من الحدث الذي بعد لبسهما، فإن كان يعتبر من الثاني يؤدي إلى أن يستبيح أكثر من مدته، وإن كان من الأول لا يجوز؛ لأن أول المدة لا يجوز أن يكون سابقًا للبس الخف الذي يمسح عليه، فإذا أبطل القسمان بطل جواز المسح عليهما، وهذه العلة أولى مما ذكره الداركي، فإن قيل: يعتبر من الحدث الأول وتكون مدة المسح على الجرموقين مبنية على مدة المسح على الخفين قبل المسح على الجرموقين ليس ببدل عن المسح على الخفين على هذا القول، ولا نائب منابه، وإنما هو بدل عن الغسل، ونائب عنه فلا يجوز اعتباره بغيره، ولا بناء مدة المسح عليه على

مدة المسح على غيره. وقيل: هذا بناء على القولين أن المسح على الخفين هل يرفع الحدث عن الرجلين، فإن قلنا يرفع فيجوز وإلا فلا يجوز، ولأنه ليس على حدث. والمسالة الخامسة: لو أحدث ولم يمسح على الخف حتى لبس الجرموق، فأراد أن يمسح [251 أ/1] عليه. قال القفال: فإن قلنا بالمعنى الأول والثاني: لا يجوز، لأن من يجوز المسح أيضًا، وإن قلنا بالمعنى الثالث يجوز لأن من لبس خفًا ثم أحدث ثم رقع الخف يجوز له المسح عليه، وقال غيره: لا يجوز المسح عليه بحاًل قولًا واحدًا، لأنه لبسه على حدث، وهو الصحيح ولو تطهر ولبس الخف، ثم لبس الجرموق على طهر يجوز المسح قولًا واحدًا. فرع لو لبس خفًا على الجبائر فهو كالجرموق على الخف، ولا يجيء على المذهب غيره ذكره أهل العراق. فرع آخر لو تيمم عند عدم الماء ولبس الخفين بعد كمال التيمم، ثم رأي الماء بطل تيمهه، وعليه الطهارة، وغسل الرجلين ولا يجوز له المسح على الخفين؛ لأنهما طهارة ضرورة فزالت بزوالها. وبه قال عامة أصحابنا، وقال ابن سريج في زيادة الطهارة إذا تيمم للظهر بعد دخول وقتها ولبس الخف، ثم وجد الماء قبل أن يصلي الظهر ثم توضأ ومسح على الخفين، وصلى الظهر والنوافل، قال: ولو صلى الظهر ثم وجد الماء توضأ ومسح على الخفين، وصلى ما شاء من النوافل والأول أصح [251 ب/1]. قال القفال: وكذا الوجهان فيمن ببعض أعضائه جراحة يغسل الصحيح ويتيمم للجريح ولبس الخف، ثم أحدث فأراد المسح على الخفين للفريضة الأولى التي تيمم لها، هل يجوز أم لا؟ فأما من توضأ وتيمم ولبس الخف، ثم برأ جراحه، ولزمه غسله فغسله، ثم أحدث فلا يمسح على الخف إذا توضأ وجهًا واحدًا؛ لأنه لما برأ جراحه بكمال طهارته بغسل الموضع الذي برأ فيحصل لابسًا للخف قبل كمال الطهارة. فرع آخر لو تطهرت المستحاضة ولبست الخفين، ثم أحدثت حدث الغائط والبول توضأت ومسحت على الخفين، وصلت الفريضة الواحدة، وما شاءت من النوافل، وإن كانت صلت الفرض، ثم أحدثت حدث الغائط والبول توضأت ومسحت على الخفين وصلت ما شاءت من النوافل، فإن أرادت أن تقضي فائته أو دخل عليها وقت فريضة أخرى يلزمها نزع الخفين وغسل الرجلين. والنكتة في ذلك هو أن المستحاضة استباحت بوضوئها فريضة واحدة وما شاءت من النوافل، فجاز لها أن تمسح على الخفين إذا أحدثت للصلاة التي استباحها بوضوءها الذي لبست عليه الخفين. وأما الصلاة التي لم

تستبح بوضوءها لم يجز لها أن تصليها بالمسح [252 أ/1] على الخفين. وقال القفال: فيه وجهان أحدها: هذا، والثاني: ليس لها أن تمسح على الخفين أصلًا؛ لأن جواز صلاتها مع الحدث الدائم رخصة جوزت للضرورة، ولا حاجة إلى تجوير مسح الخف في خفها، والرخصة في مسح الخف، وردت لمن كملت طهارته لا لمن نقصت طهارته، والأول أصح. وقال زفر: لها أن تمسح على الخفين يومًا وليلة؛ لأنها لبست الخف طاهرة، وهذا غلط كما ذكرنا. فرع آخر لو انقطع دمها قبل أن تصلي أو بعد ما صلت الفريضة عليها نزع الخفين واستأنف الوضوء بغسل الرجلين، وهذا هو الدليل على بطلان قول ابن سريج؛ لأنه جوز للمتيمم أن يمسح على الخفين إذا وجد الماء، ولم يجوز ذلك للمستحاضة إذا انقطع دمها، فإن قيل: الفرق أن طهارتها تتبعض من أصلها بانقطاع دمها ويتبين أن وضوءها لم يكن صحيحًا بخلاف المتيمم إذا وجد الماء، فإن التيمم يبطل في الحال قبل انقطاع دم المستحاضة يوجب بطلان وضوءها في الحال، ولا يتبين به بطلانه من أصله فلا يسلم، فإن قيل: انقطاع دم المستحاضة في الصلاة تبطل صلاتها فجاز أن يمنع انقطاع الدم المسح على الخفين دون وجود [252 ب/1] الماء للمتيمم. قيل: إنما افترقا في الصلاة لأن وجود الماء مع الحائل لا يمنع الصلاة, والصلاة حائل بخلاف انقطاع الدم، وههنا الانقطاع، ورؤية الماء سواء في بطلان الطهارة التي لبس الخف عليها فيجب أن يستوى هذا الحكم فيهما. فرع لو مسح على الخفين، ثم أخرج قدميه أو أحدهما من قدم الخف إلى الساق لم يبطل المسح، نص عليه في "الأم" في باب ما ينقض مسح الخفين. ويستحب أن يبتدئ الوضوء، ولو غسل رجليه فأدخلهما الخف، ثم أحدث قبل أن يستقر القدم في قدم الخف، لم يجز له المسح، والفرق أن الاستدامة هي أكد من الابتداء، كما يقول في العدة والإحرام يمنعان ابتداء النكاح ولا يمنعان استدامته، ولأن الأصل في المسألة الأولى استباحة المسح، فلا يزول حكمه إلا بالنزع التام والأصل في المسألة الثانية أن لا يستباح المسح، فلا يستباح إلا باللبس التام، وهذا اختيار أبي حامد، وذكر صاحب "الإفصاح": أن الشافعي ذكره في "القديم" ولم يحك عن الجديد شيئًا، وبه قال الأوزاعي. وقال القاضي أبو حامد في جامعه: إذا أخرج قدميه من الخف أو أزالهما عن موضعهما مخرجًا [253 أ/1] لهما حتى صارتا غير مستقرين في قدم الخف، وصار

إلى حال لو لم يكن ساق الخف طويلًا رئي بعض ما عليه الوضوء، أو فعل ذلك بإحدى رجليه، وبطل المسح، وقال القاضي الطبري: هذا هو الصحيح عندي، وما قاله في "الأم" محتمل للتأويل؛ لأنه قال فيه: "أحببت أن يبتدئ الوضوء" ولا يبين أن ذلك عليه وهو مذهب أبي حنيفة، والثوري، ومالك، وأحمد، وإسحاق، وهذا لأن استقرار الرجل في الخف هو شرط في جواز المسح، فإذا تغير بطل المسح كاستئثار الرجل في الخف لما كان شرطًا إذا ظهر بطل. فرع قال في "البويطي": ينزع الخف لغسل الجمعة والعيدين والإحرام، وسائر الغسلات، وإذا حضرت المرأة الجمعة اغتسلت ونزعت خفيها، وتنزع لغسل العيدين حضرت أو لم تحضر، ولسائر غسلاتها. وجملته أن في الغسل لا يجوز المسح على الخفين، والرجال، والنساء في ذلك سواء. فرع آخر لا يجوز المسح على خف من جلد الكلب والخنزير وجلد ميتة إلا أن يكون مدبوغًا، ولو دميت القدمان في الخفين أو وصلت إليهما نجاسة يجب خلع الخفين [253 ب/1] وغسل القدمين نص عليه في "الأم": ولو غصب خفًا أو سرقه فلبسه، قال عامة أصحابنا: يجوز المسح عليه، وقال ابن القاضي في "التلخيص" لا يجوز، وهو قول داود؛ لأن اللبس معصية والمسح رخصة ولا تستباح الرخصة بالمعصية، وهذا غلط؛ لأن المعصية لا تتعلق باللبس بل تتعلق بالغصب، فأشبه الذبح بسكين مغصوب والتوضاء بماء مغصوب، فإن قيل: يقضى باللبس أكثر من الإمساك لأنه استعمال فالمعصية تختص باللبس، ولأنه إنما يجوز المسح لمشقة النزع، وهذا عاص بترك النزع فلا ينبغي أن يعذر فيه، قلنا: وإذا توضأ بالماء المغصوب فقد استعمل أيضًا، وزاد في التعدي فينبغي أن لا يجوز. وأما المشقة فحاصله في تكليف غسل الرجلين، وهو عاص بأصل الغصب ويؤمر بترك الغصب ولا يختص ذلك بالنزع وتركه. فرع آخر لو لبس خفًا من ذهب، هل يجوز المسح عليه؟ قال: فيه وجهان كما في المغصوب. مسألة: قال: "وَلَوْ نَزَعَ خُفَّيْهِ بَعْدَ مَسْحِهمَا غَسَلَ قَدَمَيْهِ، وقال في "القديم" وكتاب أبي ليلى يَتَوَضَّأُ". وهذا كما قال: إذا نزع خفيه بعد المسح هل يلزمه غسل الرجلين فقط أو يلزمه استئناف الوضوء؟ قال في "الأم" [254 أ/1] و "القديم": يستأنف الوضوء. ورواه

المزني عن كتاب ابن أبي ليلى، وقيل: لم يقطع به في كتاب ابن أبي ليلى بل ذكر فيه قولين، وإنما قطع به في "القديم" فالمزني أخل بالنقل. وقال في "البويطي"، وحرملة: أحببت أن يبتدئ الوضوء من أوله، فإن لم يفعل وغسل رجليه أجزأه، وهذا هو الصحيح، وبه قال أبو حنيفة، والثوري، وأبو ثور واختاره المزني، وبالقول الآخر. قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وقال مالك والليث بن سعد: إن تطاولت المدة يلزمه الاستئناف، وإن غسل قدميه وجب النزع جريًا على أصلها في وجوب الموالاة، ثم اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: هذا مبني على جواز تفريق الوضوء، والذي قال في "الأم" وكتاب ابن أبي ليلى أنه يتوضأ، أراد استحبابًا؛ لأن مذهبه في هذين الكتابين جواز التفريق، وبين أصحابنا هذا غير مبني على هذا، لأن الشافعي أمر بالوضوء في "الأم" ونص فيه على جواز تفريق الوضوء، وإنما فيه القولان سواء مسح على الخف، ونزع في الحال، أو نزع بعد لمدة وتفريق الوضوء إذا كان قليلًا لا يضر، ولأنه تفريق بعذر فلا يبطل الوضوء قولًا واحدًا، فصح أنهما قولان بأنفسهما ومعناهما [254 ب/1] أن الحدث ارتفع عن الرجل بالمسح أولًا، فإن قلنا: لم يرتفع لم يلزمه عند نزع الخف ألا يتيمم الوضوء الأول بغسل الرجلين، وإن قلنا: ارتفع فلما نزع الخف انتقض الطهر في الرجلين، وانتقاض الطهر لا يتبعض كما لو أحدث فبطل في الكل، ووجه قول من قال: يرفع الحدث عن الرجل أنه مسح بالماء، فرفع الحدث كمسح الرأس، ولأنه يجوز الجمع بين فريضتين، وبه فيرفع الحدث، ووجه قولنا لا يرفع الحدث أنه يبطل حكمه بظهور الأصل فلا يرفع الحدث كالتيمم، وقيل: البناء على هذين المعنيين لا يصح أيضًا؛ لأن مسح الخفين، وإن لم يرفع الحدث عن الرجلين منذ كملت به الطهارة، فإذا بطل فقد انتقص بعضها وجرى ذلك مجرى انتقاضها في الكل لأنها لا تتبعض منهما قولان بأنفسهما من غير البناء على هذين المعنيين، ووجه قولنا يلزمه الوضوء ما ذكرنا، ووجه قولنا: يكفيه غسل الرجلين ما قال المزني مسح الخفين باب غسل الرجلين خاصة فظهورهما يبطل النائب دون غيره كما يبطل التيمم برؤية الماء، ويجب ما ناب عنه التيمم، فإن قيل: أليس المقيم يستوعب الأعضاء عند وجود الماء الذي هو الأصل، [255 أ/1] فكذلك الماسح إذا نزع الخف وجب أن يستوعبها. قلنا: لأن التيمم ناب عن كلها بخلاف المسح فإنه ناب عن الرجلين فقط فافترقا. فرع لو نزع الخف وأخر غسل الرجلين طويلًا، فإذا قلنا: إذا لم يؤخر استأنف الوضوء فههنا أولى، وإن قلنا: لا يستأنف ويكفيه غسل الرجلين فيه قولان للتفريق الحاصل، وهذا لأن التراخي الذي وقع من ساعة المسح إلى ساعة النزع كان معذور، وكان المسح فيه نائبًا عن الغسل، فكأنه لم يفرق، وبعد النزع ذهب حكم المسح فتأخير غسل الرجلين يكون تفريقًا بغير عذر فيكون فيه قولان.

باب كيفية المسح على الخفين

باب كيفية المسح على الخفين قال: أخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي يَحْيَي. . . وذكر الخبر. وهذا كما قال. قال: السنة في المسح على الخفين هي أن يمسح أعلى الخف وأسفله، وبه قال ابن عمر، وسعد بن أبي وقاص، وعمر بن عبد العزيز، والزهري، ومالك، وابن المبارك، وإسحاق. وقال أبو حنيفة: السنة مسح الظاهر دون الباطن. وبه قال أنس، وجابر والشعبي، والنخعي، والأوزاعي، والثوري، وأحمد، وداود. واحتجوا بما روي عن علي - رضي الله عنه - أنه قال: "لو كان الدين بالرأي لكان باطن الخف أولى [255 ب/1] بالمسح من ظاهره، لكني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على ظاهره". وهذا غلط؛ لما روي عن المغيرة بن شعبة - رضي الله عنه - أنه قال: وضأت رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فمسح أعلى الخف وأسفله، وخبرهم محمول على الجواز، ويرجح بالقياس، وهو أنه محل يجازي محل الفرض، فأشبه الظاهر. فإذا تقرر هذا فيكفيه ذلك أن يضع يده اليسرى تحت عقب الخف، واليمنى على أطراف أصابعه، ثم يمرر اليمنى إلى ساقه واليسرى إلى أطراف أصابعه، وإنما يفعل ذلك لأنه أمكن وأسهل، ولأن اليد اليسرى للمباشرة الأذى، وأسفل الخف محل القذرات واليمني بعد ذلك. ولهذا قلنا: إذا أخذ الماء لمنخريه وأدخل فيهما بيمينه ينثره بيساره، وأما من تحت الخف ويدًا من فوقه، ثم يمسح مسحة واحدة تبلغ يده حد الوضوء. وقال القاضي أبو حامد: نص الشافعي في مختصر الطهارة أن يمسح على العقب فقد قيل: يمسح عليه قولًا واحدًا. والذي نقله المزني: يحتمل أنه يريد به أنه يضع يده اليسرى تحت عقب الخف، فتكون بقية راحته على [256 أ/1] عقبه. وقيل قولان: أحدهما: يمسح عليه لأنه يحاذي محل الفرق والثاني: لا يمسح عليه لأنه موضع صقيل ويفسد ذلك بالمسح، وفي إيصاله إلى العصون التي فيه مشقة والأول أصح. فرع لو كان على باطن الخف نجاسة فدلكه بالأرض، وقلنا: تجوز الصلاة فيه بالدللك في أحد القولين لا يمسح عليه، لأنه إذا مسح عليه زاد التلويث، فيلزمه حينئذ غسل اليد وغسل باطن الخف.

مسألة: قال: "وَإِنْ مَسَحَ عَلَى بَاطِنَ الْخُفَّ وَتَرَكَ الْظَّاهِرَ أَعَاد، وَإِنْ مَسَحَ عَلَى الْظَّاهِرِ وَتَرَكَ الْبَاطِنَ أَجُزَأَهُ". وهذا كما قال. لا يجوز الاقتصار بالمسح على باطن الخف، هكذا نقله المزني وقال أبو إسحاق: يجزيه، والذي نقله المزني لا نعرفه للشافعي، وهذا لأنه موضع من الخف محاذي محل الفرض كالظاهر، وقال ابن سريج: لا يجوز كما ذكره المزني، ولا خلاف فيه بين المسلمين، وقول أبي إسحاق: إنه لا يعرف ذلك للشافعي غلط؛ لأنه نص في "مختصر البويطي" في آخر باب المسح على الخفين على أنه لا يجوز، فقال: "وإن مسح أسفله ولم يمسح أعلاه أعاد كل صلاة صلاها بهذا المسح". ونص عليه في الإملاء أيضًا، وهذا هو الصحيح؛ لأنه موضع من [256 ب/1] الخف لا يرى غالبًا، فلا يجوز الاقتصار بالمسح عليه، لأنه لا يمتنع أن يكون البدل في موضع محل الفعل، كالتيمم لا يجوز إلا في الوجه واليدين خاصة. وقال القفال: فيه قولان، والأقيس جوازه، وإن كان ظاهر المذهب أنه لا يجوز، وفي هذا نظر. فرع لو أدخل يده في ساق الخف ومسح على الداخل لم يجز بلا خلاف، وأبو إسحاق أول قول المزني بهذا، ولو اقتصر بالمسح على أعلاه بلا خلاف أنه يجوز. فرع آخر لو اقتصر على مسح العقب، فإن قلنا: إنه سنة أجزأه، وإن قلنا: لا يسن، فيه وجهان: أحدهما: يجوز كالساق. والثاني: يجوز، لأنه يقابل محل الفرض، وقيل: وجه واحد أنه يجوز؛ لأنه موضع من الخف يحازي محل الفرض يرى غالبًا، فوجد فيه علة أبي إسحاق، وعلة ابن سريج. مسألة: قال: " وَكَيْفَ مَا أَتَى بِالْمَسْحِ عَلَى طُهْرِ الْقَدَمِ بِكُلَّ الْيَدِ أَوْ بِبَعْضِهَا أَجْزَأَهُ". وهذا كما قال: عندنا المفروض منه ما يقع عليه الاسم قل أو كثر، وبأي شيء مسحه به من يد أو خشبة بيده جاز. وقال أبو حنيفة: يجب أن يمسح قدر ثلاثة أصابع بقدر الممسوح والممسوح به، حتى لو مسح قدر ثلاثة أصابع من أصغر أصابع رجل الماسح وهي [257 أ/1] الخنصر، وهذا لا معنى له؛ لأن التقدير على هذا الوجه لا يوجد إلا توفيقًا، ولم يرد ذلك. وقال أحمد: لا يجزيه إلا مسح الأكثر من القدم؛ لأن الحسن البصري قال: سنة

باب الغسل للجمعة والأعياد

المسح خطط بالأصابع. قلنا: هذا مرسل فلا يلزمنا القول به، وأراد بالسنة المستحب، ونحن نقول به. باب الغسل للجمعة والأعياد مسألة: قال الشافعي: "والاخْتِيَارُ في السُّنَّةِ لِكُلُ مَنْ أَرَادَ الْجُمْعَةِ الاغْتِسَالُ لَهَا". وهذا كما قال: غسل يوم الجمعة سنة مؤكدة. قال الشافعي رحمه الله:" ما تركته قط ولا يجب عندنا". وقال مالك:"هو واجب يقضي بتركه إلا أن صلاة الجمعة تصح بدونه" وقيل: هذا مذهب داود ولا يصح عنه. وروى عن الحسن أنه قال:"هو واجب". وقال كعب الأحبار:"لو لم أجد ماء إلا بدينار في يوم الجمعة لاشتريته واغتسلت به". واحتجوا بما روى أبو سعيد الخدري- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم". ومعناه كل بالغ، وهذا غلط لما روى سمرة بن جندب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من توضأ يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل". (257 ب/ 1) وقوله فبها، أي بالفريضة أخذ. ونعمت: يعنى الخلة الفريضة. وقيل: معناه فبالسنة أخذ، ونعمت الخصلة السنة. وقال والدي رحمه الله: يحتمل أنه أراد به الضوء من الحدث بنية رفع الحدث والجمعة، ويحتمل أنه أراد الوضوء المجدد بنية التجديد والجمعة فيبقى للجمعة اختصاص من هذا الوجه، كالجنب يغتسل يوم الجمعة بنية الجنابة والجمعة تجوز عنهما، ويحتمل أن يقال: إذا توضأ بنية الحدث فقد استفاد فضل الطهارة للجمعة، وإن كان دون الفضل. وإذا نوى ذلك قياسًا على أحد القولين في الجنب يغتسل يوم الجمعة بنية الجنابة يصح الغسل عنهما. قلت: ويحتمل أن يقال: أراد به التجديد للجمعة على الاختصاص، وهذا أشبه عندي؛ لأنه مدحه على ذلك لكونه في يوم الجمعة. وقد روى أبو سعيد الخدري، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا أتى أحدكما الجمعة فليتوضأ بنيتها" وروى أنس- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من توضأ فيها ونعمت، ومن اغتسل أفضل" والغسل من السنة.

وأيضًا فقد قال علي- رضي الله (258 أ/ 1) عنه: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغسل يوم الجمعة وليس بواجب". وروى ابن عباس- رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الوتر علَّى فريضة وهو لكم تطوع". وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من اغتسل يوم الجمعة فقد أحسن، ومن لم يغتسل فيها ونعمت". وروى عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من توضأ يوم الجمعة فيها ونعمت". وهي تجزئ عنه الفريضة، ومن اغتسل فهو أفضل وهي من السنة. وروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن من السنة الغسل يوم الجمعة ". وأيضًا روى عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: كان الناس عمال أنفسهم وكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عرش، فيفرقون فتفوح منهم رائحة الضأن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لو اغتسلتم" وهذا لفظ ندب وإرشاد لا لفظ إيجاب، وروى أنها قالت: كان الناس مهَّان أنفسهم. والمهان جمع الماهن وهو الخادم، تريد أنهم يتولون المهنة لأنفسهم في الزمان الأول حين لم يكن لهم خدم. واحتج الشافعي عن عمر وعثمان- رضي الله عنهما- وعام الخبر ما روى أن عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- كان يخطب (369 ب/ 1) على المنبر يوم الجمعة فدخل عثمان- رضي الله عنه- فقطع الخطبة وقال لعثمان: آية ساعة هذه؟ فقال عثمان: ما زدت على أن توضأت وحضرت. فقال عمر: والوضوء أيضًا أي واقتصرت على الوضوء، وقد علمت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا بالغسل. فقال الشافعي:"لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَرَجَعَ عُثْمَانَ وَمَا تَرَكَهُ عُمَرُ" فهذا دليل من فعلهما جميعًا على ما ذكرنا. وقال القفال: في هذا دليل من فعلهما دليل على أنه يجوز للمحتشم الذي يوسع الناس له أن يتخطى رقاب الناس، وإنما يكره لمن لا يرى له هذا الإيجاب، وهو كما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يُهادي بين اثنين فخرقوا له الصفوف حتى وصل إلى المحراب، لأن الطهارة تراد الصلاة، فلو كانت واجبة لما صحت الصلاة دونها، أو يقول: لأنها طهارة مأمور بها من غير حدث فلا يجب كالغسل للإحرام وأما خبرهم: قلنا: أراد به وجوب الاختيار، كما يقال: حقك علَّي واجب، ونحو ذلك. والدليل على هذا ما روى عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الغسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم ". والسواك لا يجب بالإجماع (259 أ/ 1).

فإذا تقرر هذا، فالكلام الآن فيمن يستحب له الغسل، فاعلم أن القصد من هذا الاغتسال التنظيف وقطع الرائحة الكريهة، ولهذا خص الشافعي به من أراد صلاة الجمعة، ولا يستحب لمن لم يحضرها بخلاف غسل يوم العيد فإنه يستحب لمن يريد الحضور ولمن لا يريد؛ لأن ذلك للزينة وإظهار السرور، ولا يسن للمسافر إذا لم يرد أن يصليها. وقال أبو ثور: يسن هـ ذلك، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم:"غسل الجمعة واجب على كل محتلم. وهذا غلط؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:"من جاء إلى الجمعة فليغتسل"، وهذا أخص. فرع قال أصحابنا: ويستحب للصبيان أن يقتدوا بهم إذا أرادوا حضور الجمعة وإن قال صلى الله عليه وسلم""على كل محتلم". فرع آخر إذا أرادت المرأة أن تحضر الجمعة يستحب لها الغسل. وقال أحمد: لا يستحب؛ لأنها غير مخاطبة بالجمعة. وهذا غلط للخبر الذي ذكرناه. وأما ما ذكر فإنه ينتقض بالعيد. فرع آخر غسل الجمعة هل يستحب على من كان من أهلها ولكن ممنوع بعذر؛ فيه وجهان: أحدهما سنة، لأن زوال عذره مجوّر، ولزم الجمعة له ممكن. والثاني: لا يسن، ذكره في "الحاوي"، والأول أظهر عندي، وبه قال جمهور أصحابنا. فرع آخر (259 ب/ 1) إذا اغتسل للجمعة بعد الفجر ثم أجنب لم ينتقض، ولو استأنفه ناويًا كان أولى. وقال الأوزاعي: يعيد غسل الجمعة. وهذا غلط؛ لأنغسل الجمعة تنظيف، فإذا تعقبه غسل الجنابة زاده تنظيفًا فلا يعيد. فرع آخر قال القفال: فإن لم يجد الماء فتيمم حاز الفضيلة ويتصور في قوم في بلد توضأوا

ثم نفذ ماؤهم وانقطع، فتيمموا. ويتصور في الجريح في غير مواضع الوضوء يتيمم بنية الغسل. فرع آخر قال في "الأم": وعلى قياس هذا أحب التنظيف لكل من أراد حضور وطن يتجمعون فيه الناس، للطاعة والقربة بالاغتسال والسواك وحلق الشعر والتطيب. مسألة: قال:" وَيُجْزِيهِ غُسْلُهُ لَهَا إِذَا كَانَ بَعٌدَ الْفَجْرِ". وهذا كما قال. الكلام الآن في وقت غسل الجمعة، وله وقتان: وقت استحباب ووقت جواز. فالاستحباب هو وقت الوراح إلى الجمعة. وأما وقت الجواز: فهو ما بين طلوع الفجر الثاني وصلاة الجمعة، فلو اغتسل قبل الفجر لا يجوز. وقال الأوزاعي: لو اغتسل قبل طلوع الفجر يوم عيد الفطر، وهذا غلط؛ لأن غسل (360 أ/ 1) للجمعة قبل الفجر فلا يجوز كما لو راح بعد طلوع الفجر. وأما في العيد: إذا اغتسل قبل الفجر، قد قيل: فيه قولان: وإن سلمنا بالفرق أن وقت صلاة العيد إذا طلعت الشمس فيضيق على الناس وقت الغسل من الفجر، فجوزنا قبله بخلاف الجمعة فإنها بعد الزوال. وقال مالك: يحتاج أن يغتسل بعد الفجر ويروح، فإن أخر الرواح لم يجر. وقال القفال: رأيت مالك في الموطأ مثل مذهبنا، والدليل على قوله صلى الله عليه وسلم:"غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم" فاعتبر اليوم ولم يفصل. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من اغتسل يوم الجمعة ثم راح، فكأنما قرب بدنه". ثم للتراض قلا يجب عقيبه. مسألة: قال:"وَإِنْ كَانَ جُنُبًا فَاغْتَسَل إنما أَجْزَأَهُ". وبه قال أبو حنيفة وجماعة، وحكى عن مالك: لا يجوز حتى يفرد كل واحد منهما لاختلاف موجبهما، وهذا غلط، لأنه يكفي لغسل الجنابة والحيض غسل واحد، كذلك هاهنا، وقد روى نافع عن ابن عمر- رضي الله عنهما- أنه كان يغتسل من الجنابة والجمعة غسلًا واحدًا. وإن نوى بغسله الجنابة أجزأه عن الجنابة. وأما عن الجمعة: قال أبو إسحاق: قال المزني في" الجامع الكبير" (260 ب/ 1): يجزيه عن الجمعة والجنابة؛ لأن القصد من غسل الجمعة التنظيف وقد حصل. وقال الربيع: قال في "الإملاء": لا يجزيه عن الجمعة، ولأنه

نوى التبرد لا يجوز عنه، وإن حصل المقصود كذلك هنا، وإن اغتسل ولم ينو الجنابة ولا الجمعة لا يجزئ عن واحد منهما؛ لأن كلها قربة تفتقر إلى النية، وإن اغتسل بنية الجمعة دون الجنابة، قال أصحابنا: لا تجزيه عن الجنابة قولًا واحدًا، وليس كالمحدث توضأ لقراءة القرآن ظاهرًا، أو الجنب اغتسل للعبور في المسجد يجوز له أن يصلي به في أضعف الوجهين، لأن المقصود من غسل الجمعة النظافة دون رفع الحدث بخلاف ذلك، فإنه يتضمن رفع الحدث. وهل يجزيه عن الجمعة؟ فيه وجهان، والمذهب أنه يجزيه؛ لأنه نواها. والوجه الآخر لا يجزيه، لأنه لا تحصل النظافة. مع الجنابة. ومن أصحابنا من جعل هذا قولًا للشافعي وهو غلط. وقال في "الحاوي" فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يجزي عنهما. والثاني: يجزي عنهما. والثالث يجزيه عن الجمعة وحدها (231 أ/ 1) وهو اختيار جمهور أصحابنا. والمستحب إذا كان جنبًا يوم الجمعة أن يغتسل للجنابة ثم يغتسل للجمعة حتى يكون قد فعل أكمل الوجوه، ذكره أصحابنا. فرع لو اغتسل بنية العيد حصل بعد غسل الجمعة، ولو اغتسل بنية الجمعة حصل به غسل العيد قولًا واحدًا بخلاف المسألة قبلها في أحد الطريقتين؛ لأن ذلك جنسان نفل وفرض، وهاهنا هما نقلان. مسألة: قال:"وَأَحِبُّ الْغُسْل مِنْ غُسْلِ المَيَّتِ". الفصل وهذا كما قال: الغسل من غسل الميت مستحب غير واجب. وقال في التقديم: أوجبه للاختيار فيه. وقال في موضع من "الجديد": لو ثبت الخبر قلت به. يعني بوجوبه، وأراد به ما روى أبو هريرة- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من غسل ميتًا فليغتسل، ومن مسه فليتوضأ". وقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي- رضي الله عنه- بعد ما غسل أباه "اغتسل" ولم يفرق بين غسل الميت والمسلم والكافر في هذا، وإنما قال: "إن صح الخبر". لأن في إسناده ضعفاء. وقيل: إنه موقوف على أبي هريرة. ومن أصحاب الجديد من خرج لصحته مائة وعشرون طريقًا.

واختلف أصحابنا في هذا، فمنهن من قال قول واحد أنه (261 ب/ 1) لا يجب، وإن صح الخبر، ولفظه يحمل على الاستحباب والاختيار. وقيل: معنى قوله: "فليتوضأ" أي ليكن على وضوء لتتهيأ له الصلاة على الميت. ومنهم من قال: فيه قولان. فإذا قلنا: يجب، فقد قيل: إنه غير معقول المعنى، ويؤمر به تعبدًا للشرع وهو الصحيح. وقيل: إنما وجب لأن الميت نجس والماء الذي يلاقيه نجس، فلا ينفك من يغسله عن نجاسة تصيبه، منه، ولا يعرف مكان فيلزمه غسل كل بدنه. وقيل: إن لم نقل الميت نجس فلا نأمن أن تصيبه نجاسة مما يخرج منه، فأمر بالغسل للاحتياط. أو لما جاز أن يجب علينا أن نغسله جاز أن يجب علينا الغسل لغسله. وهذه وجوه ضعيفة. وأما الوضوء بمسه فلا يجب، وتأويله كما ذكرنا كما قال: "ومن حمله فليتوضأ" على معنى أن يكون على وضوء عند حمله لئلا تفوته الصلاة عليه. وقيل: أراد مس ذكره. وقيل: أراد غسل اليد، فكذا في الوضوء من حمله أراد إذا باشر الحامل شيئًا من بدنه يغسل يده. وروى عن أحمد أنه قال: يجب الوضوء من مسه، والغسل لا يجب إن شاء الله. وهذا غلط؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "الماء من الماء". فدل أنه لا يجب الغسل من غير خروج الماء بحق الظاهر، ولأن غسل (262 أ/ 1) آدمي فلا يوجب الغسل، كما لو غسله حيًا، ولأنه مس آدميًا لا يقصد به الشهوة فلا وضوء عليه كما لو مس حيًا. وقال أبو حنيفة والمزني: لا يسن الغسل من غسله، ولا الوضوء من مسه. وهذا غلط لما ذكرنا من الخبر. مسألة: "وَكَذَلِكَ الْغُسْلُ للأَعْيَاَدِ هو سُنَّةٌ اخْتِيَارًا". وهذا كما قال: غسل العيد والجمعة سواء في الأحكام إلا في شيئين. أحدهما: أنه يستحب ذلك لجميع الناس، كالغسل للإحرام دون هذا. والثاني: يجوز قبل الفجر في قول. وقال في "البويطي": ويغتسل للعيدين قبل الفجر وبعده. وقال القاضي الطبري: لا أعرف للشافعي غير هذا، فالمسألة على قول واحد بخلاف غسل الجمعة. وقال أبو حامد: قال في "الأم": لا يجوز الغسل لها قبل الفجر كالجمعة. فالمسألة على قولين، وجملة مسنونات الغسل في غير الحج أربعة: غسل الجمعة، وغسل العيد،

باب حيض المرأة، وطهرها، واستحاضتها

والغسل من غسل الميت، وغسل الكافر إذا أسلم. ولم يذكر الشافعي في هذا الباب الأخير، وقد ورد به الخبر، وإن لم يكن لزمه الغسل أصلًا. مسألة: قال: "وَأَوْلَى الغُسْلِ أَنْ يَجِبَ عِنْدِي بَعْدَ غُسْلِ الْجَنَابَةِ الْغُسْلُ مِنْ غُسلُ الْمَيَّتِ". الفصل وهذا كما قال: ليس بعد الغسل الواجب من غسلين (265 ب/ 1) غسل الجمعة، والغسل من غسل الميت، ثم اختلف في قوله في الأوكد بعد الغسل الواجب، فقال في القديم: واجبًا، وبين أن لا يصح فيكون مستحبًا. وقيل: فيه وجه ثالث: هما سواء. واحتج المزني بأن الخبر إذا لم يثبت في الغسل من غسل الميت وثبت في غسل الجمعة فهو آكد، ثم أكد بأن من مس خنزيرًا أو ميتة لا غسل عليه ولا وضوء، فكيف يجب في أخيه المؤمن ذلك. ومن قال بالأول أجاب عن هذا بأنه لو ثبت الخبر في الميت وجب، لأن اللفظ أمر مطلق، فيخاف إذا تركه أن يكون تاركًا للواجب، وهناك يتيقن أنه لا يترك واجبًا، وليس كمس الخنزير، ولأن للآدمي من الحرمة ما ليس لغيره، ولا ينكر وجوب الغسل والوضوء من مماسة ما له حرمة كما لو مس فرجخ، فإنه يلزمه الوضوء بخلاف ما لو مس خنزيرًا أو فرجه. والجواب عن هذا أنه لم يثبت الخبر فيه، ولا ذهب أحد من السلف إلى وجوبه، ومذهب مالك وجوب الغسل للجمعة فلا يكون ذلك آكد منه. باب حيض المرأة، وطهرها، واستحاضتها (263 أ/ 1) قال: قال الله تعالى: {َيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}. (البقرة: 222)، الآية وهذا كما قال. اعلم أن الحيض دم يرخيه الرحم عند بلوغها في أوقات معتادة، وأوصله من قولهم: حاض السيل إذا أفاض وسال. وحاضت الشجرة: إذا أخرجت صمغها حتى سال منها. والأصل فيه هذه الآية. قال الشافعي: أراد المحيض الحيض، يقال: حاضت المرأة حيضًا ومحيضًا، كما يقال: سار سيرًا ومسيرًا ويكون تقديم الكلام: فاعتزلوا النساء في زمن حيضهن. وقيل: المحيض عبارة عن الفرج لأنه موضع الحيض، كما يسمى موضع البيتوتة مبيتًا، وموضع القيلولة مقيلًا، ويكون تقديره: اعتزلوهن فلا تجامعوهن في الفرج. وما قاله

الشافعي أولى؛ لأن الله تعالى وصفه بأنه أذى، والأذى هو الدم لا الفرج ولا الزمان. ولهذا قال: " حَتَّى يَطْهُرْنَ" (البقرة:222)، وأراد يطهرن منه، وإنما يطهرن من الدم. فإذا تقرر هذا، فاعلم أنه يتعلق بالحيض أربعة عشر حكمًا يوجب حكمين ويمنع الباقي. فالذي يوجب البلوغ به، والغسل. ويتعلق بالرفع حكمان: المنع من الاستمتاع والطلاق. ويتعلق بالعدة حكمان: يمنع الاعتداد بالشهور ويمنع الدخول في العدة الشرعية ويختص (263 ب/ 1) ويتعلق بالمسجد ثلاثة أحكام: اللبث فيه، والاعتكاف، والطواف. ويتعلق بالصلاة ثلاثة أحكام تمنع وجوبها، وفعلها، وقراءة القرآن. ويبقى حكمان: حمل المصحف، والمنع من الصوم دون وجوبه. وقيل: خمسة عشر، وذلك أنه يمنع صحة الغسل؛ لأن الجنب إذا حاضت لا يصح غسلها عن الجنابة، وهذا يرجع إلى تعليق الغسل به؛ لأن الغسل لا يفيد شيئًا لوجوبه بالحيض. وقيل: يتعلق به اثني عشر حكمًا، ولم يحسب هذا القائل البلوغ، والغسل به، وصحة الغسل، وما ذكرناه أصح. وقال القفال: جملته أن ما منعت الجناية منه منع الحيض منه وزيادة أربعة أشياء: وجوب الصلاة، وجواز الصوم، وإتيان الزوج، وكون الطلاق سببًا، قلت: ويمنع الاعتداد بالأشهر، والدخول في العدة الشرعية فالزيادة هي ستة لا أربعة. فإذا تقرر هذا فاعلم أن الحيض إذا وجد ممن قد بلغت تسع سنين حكمنا ببلوغها؛ لأنه زمن تحيض له الجارية ويبلغ فيه الغلام بالاحتلام. قال الشافعي في "الأم": وأعجل من سمعت من النساء تحيض نساء تهامة يحيض لتسع، وقد رأيت جدة لها إحدى وعشرين سنة ولم يذكر الجدة تحديدًا أقل سن تكون فيه جدة. وإنما (264 أ/ 1) أخبر عما رآه، فقد تكون جدة لها تسع عشرة سنة تحمل ولها تسع، وتضع بعد ستة أشهر ثم تحمل هذه الجارية لتسع وتضع بعد ستة أشهر، فيكون تسع عشرة سنة. ومن أصحابنا من قال: إذا رأت الدم وقد دخلت في تسع سنين ولم تكمل التاسعة، هل نحكم بكونه حيضًا؟ فيه وجهان: أحدهما: نحكم لأنه يقال لها بنت تسع والثاني: لا نحكم وهو الأصح. وتسع سنين هل هي حد تقريب أو حد تحقيق؟ وجهان: أحدها: أنه تحقيق يتعين الحكم بنقصان يوم. والثاني: تقريب فلا يضر نقصان يوم أو يومين، وهذا أقرب عندي. ومن أصحابنا: قال: حد القرب هو أن لا يكون بين انقطاع الدم والتسع زمان يسع لحيض أو طهر، ولو رأت قبل الستع موصولًا بالتسع، وقلنا: إنه تحديد فإن رأت قبل التسع أقل من يوم وليلة، وبعد التسع قدر يوم وليلة، فإنا نجعل الكل حيضًا. وإن رأت

قبل التسع يومًا وليلة وبعده دون يوم وليلة لم يجعل حيضًا. وإن كان المجموع يبلغ قدر أقل الحيض بعضه قبل التسع وبعضه بعد التسع هل يجعل حيضًا؟ وجهان. وأما الغسل فقد ذكرنا حكمه كيف يجب بالحيض. وأما الطلاق فلا يحل (264 ب/ 1) في حال الحيض بغير عوض. وأما العدة قفلا تدخل المقعدة في العدة الشرعية ما دامت حائضًا حتى تطهر. وأما الاعتداد بالشهود فلا يكون إلا في حق من لا تحيض. وأما اللبث في المسجد فلا يجوز لها كالجنب. وأما العبور ففيه كلام سنذكره إن شاء الله، وأما الاعتكاف فيه فهو عين اللبث في المسجد، وكذلك الطواف. ويفتقر إلى الطهارة ولا تصح منها. وأما الصلاة فقد روى أن امرأة سألت عائشة- رضي الله عنهما- عن الحائض هل تقضي الصلاة؟ فقالت: لا. فقالت لها: فمال بال الحائض تقضي الصوم دون الصلاة؟ فقالت: أحرورية أنت كنا ندع الصوم والصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنقضي الصوم دون الصلاة. وقولها:" أحرورية أنت" تعني من أهل حروراء أنت؟ وأكثر أهل حروراء خوارج، وإنما زجرتها ولم يتبين لها دليلًا؛ لأن تلك المرأة لم تكن أهلًا لذلك، ولم تكن ممن تقيم الحجة، وتمنع القراءة لأنها أسوأ حالًا من الجنب، ويمنع الصوم دون وجوبه. والفرق بين الصوم والصلاة من حيث المعنى: هو أن قضاء الصوم لا يشق؛ لأنه ربما يفسد من شهر رمضان خمسة عشر يومًا ولا يشق قضاء ذلك في باقي السنة. والصلاة تتكرر (2365 أ/ 1)، فإذا قضت في كل شهر أدي إلى المشقة، ولأن الصوم لم تبن على أن تؤخر ثم تقضى، بل لا تجنب في مواضع، ومتى وجبت لم يجز تأخيرها بعذر. والصوم بنى على ترك بعذر المرض، أو السفر والقضاء بعده، فجاز لها أن تترك أيضًا ثم تقضيه، ولهذا يترك المسافر ركعتين لا إلى القضاء ويترك الصوم إلى القضاء. وأما الاستمتاع بها فهو على ثلاثة أضرب؛ محظور، ومباح، ومختلف فيه فالمحظور: هو الوطء في الفرج، كقوله تعالى: {لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222]. وروى أن اليهود كانوا يعتزلون الحيض أشد الاعتزال فلا يواكلوهن، ولا يشار بوهن، ولا يساكنونهن في بيت واحد، ولا يتناولونهن الطعام إلا برأس خشبة. والنصارى كانوا يخالطون الحيض أكثر من مخالطة الطاهرات، يتقربون بذلك إلى الله تعالى، فلما جاء الإسلام سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فنزلت هذه الآية، فظن المسلمون أنهم أمرور بمثل ما تفعله اليهود، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال:" وأكلوهن وشاربوهن وضاجعوهن، وافعلوا بهن كل شيء إلا الجماع ". فقالت اليهود: لا يدع هذا الرجل شيئًا إلا خالفنا فيه، فسمعه سعد بن عبادة، فأراد مغايظتهم، فأتى [265 ب/1]

رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن اليهود قالت كذا وكذا، فأذن لنا في جماعهن، فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أنه قد وجد عليه. وروى أبو داود في سننه أن سيد بن حضير وعباد بن بشر سالا ذلك منه فتمعر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أنس رضي الله عنه: حتى ظننا أنه قد وجد عليهما، قال: فخرجنا واستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعض في آثارهما فسقاهما، وظننا أنه لم يجد عليهما. وهذا أصح عندي. وقوله:"تغير" هو مصحف، ومعنى تمعر أي تغير، والأصل في التمعر قلة النظارة. وقوله:"فظننا أنه لم يجد عليها" أراد علمنا، فالظن الأول حسبان والظن الآخر علم ويقين، فأن بادر فوطئ فإن كان جاهلًا بالتحريم أو الحيض، أو بوجوب الكفارة فلا كفارة عليه، وإن كان عالمًا بع ففيه قولان، قال في"الجديد": "لا كفارة عليه ويتوب إلى الله تعالى ويستغفر الله تعالى منه" وقال في"القديم":"إن كان في إقبال الدم تصدق بدينار، وإن كان في إدباره تصدق بنصف دينار" وذلك يجب على الزوج في ماله، ويصرفها إلى الفقراء والمساكين، وبه قال الأوزاعي، وأحمد، [266 أ/1] وإسحاق. وحكي عن أحمد أنه قال:"يتخير بين الدينار ونصف الدينار". ووجهه ما روى مقسم عن ابن عباس-رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي يأتي أهله وهي حائض:"يتصدق بدينار أو نصف دينار". وروى": من أتى امرأة حائضًا فليتصدق بدينار، ومن أتاها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل فليتصدق بنصف دينار". وقيل: قال الشافعي في مواضع:" إن صح هذا الحديث قلت به". وروي:" ومن أتاها بعد ما رأت الطهر ولم تغتسل فعليه دينار". وروي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من جامع امرأة وهي حائض في أو الدم فليتصدق بدينار، وإن جامعها في لآخر الدم وقد انقطع قبل أن تغتسل فليتصدق بنصف دينار". ووجه قوله الجديد وبه قال مالك، والثوري، وأبو حنيفة، ما روى أبو هريرة-رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من أتى كاهنًا فصدقه فيما يقوله، أو أتى امرأة في دبرها، أو حائضًا، فقد برئ مما جاء به محمد" ولم يذكر الكفارة.

وروي أن رجلًا قال لأبي بكر الصديق: رأيت في منامي كأنني أبول دمًا. فقال: يوشك أن تطأ امرأتك وهي حائض، قال: [266 ب/1] استغفر الله ولا تعد. ولم يوجب الكفارة، ولأنه وطء حرم لأجل الأذى فلا تجب به الكفارة كالوطء في الدبر. وأما الخبر الذي ذكروه وروي موقوفًا على ابن عباس ولا يثبت مرفوعًا، وألفاظه مختلفة، ويحتمل الاستحباب، ولهذا إنه حير بين الدينار ونصفه. وروي عن عمر-رضي الله عنه- أنه قال:" يجب إعتاق رقية"، وبه قال سعيد بن جبير. وروى عن الحسن البصري أنه قال:" يلزمه نا يلزم من المجامع في نهار رمضان"، وبه قال عطاء الخراساني، وهذا لا يصح لما ذكرنا. وقال الأستاذ الإمام أبو إسحاق الإسفراييني:" أراد بإدبار الدم انقطاع دمها ووطئها قبل الاغتسال فيتصدق بنصف دينار. وأما قبل الانقطاع فيجب دينار وإن كان في آخره" وسائر أصحابنا قالوا: إدبار الدم هو أن يقل ويقرب الانقطاع فإذا تقرر هذا، فإذا انقطع دمها لا يحل له وطئها أيضًا، وسواء انقطع لأكثر الحيض أو لأقله، أو لما بينهما حتى تصير إلى صفة تسبيح الصلاة بالغسل عند وجود الماء، وبالتيمم عن عدمه. وبه قال الزهري وربيعه، والحسن، وسليمان بن يسار، ومالك، والليث، والثوري، وأحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة: إن انقطع دمها لعشرة أيام-وهي أكثر مدة الحيض عنده-[267 أ/1] حل وطئها وإن لم يغتسل. وإن انقطع دمها لدون العشر لا يحل وطئها ما لم تغتسل أو يمر عليها وقت الصلاة. وعندنا مرور وقت الصلاة لا يبح الوطء بحالٍ. وقال أيضًا: لا يحل وطئها بالتيمم حتى تصلي بالتيمم. وقال مكحول: لا يحل وطئها بالتيمم أصلًا. وقال طاوس ومجاهد: إذا لم تجد الماء يحرم وطئها حتى تتوضأ ثم تحل. واحتج الشافعي على أبي حنيفة بقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة:222]، يعني من الحيض، وهو انقطاع الدم {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} يعنى اغتسلن بالماء {فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222]، يعني في القبل دون الدبر، وقد قرنت هذه الآية (حتى يطهرن) بتشديد الطاء والهاء، يعني يغتسلن. وأما الاستمتاع المباح فهو مباشرتها فوق الإزار، والإزار عبارة عما بين السرة والركبة، وهو قدر عورة الرجل. وأما المختلف فيه فمباشرتها بما تحت الإزار ما دون الفرج، نص الشافعي أنه حرم خوفًا أن يصيبه منها أذي. ذكره في أحكام القرآن و"الأم" وبه قال مالك: وأبو حنيفة، وأبو يوسف. قال أبو إسحاق بن خيران وحكاه صاحب"الحاوي" عن مالك هو

حلال. وبه قال الثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور، وداود، ومحمد بن الحسن، واختاره ابن المنذر. وروي ذلك عن الشعبي والنخعي. وقال [267 ب/1] بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان. قال في "القديم": لا يحرم ذلك، وهذا غريب. وقيل وجهان، والصحيح ما ذكرت. ووجه القول الثاني ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"اصنعوا كل شيء غير النكاح". وروى عن عائشة-رضي الله عنها- أنها قالت: كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخميلة، فحضت فانسللت، فقال صلى الله عليه وسلم:"مالك؟ أنفست"؟ قلت: نعم. فقال:" ائتزري وعودي إلى مضجعك". فائتزرت وعدت، فنال مني ما ينال الرجل من امرأته إلا الجماع. وقال عائشة-رضي الله عنها-:" كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرنا في فوج حيضتنا أن نَتَّزِرَ ثم يباشرنا، وأيكم كان يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه". وفوج الحيض هو معظمه وأوله، يقال: فاج وفاع بمعنى واحد. والإرب: مكسورة الألف، والأرب مفتوحة الألف والراء كلاهما واحد، ومعناه: وطر النفس وحاجتها. ووجه القول الصحيح ما روي عن عائشة-رضي الله عنها- قالت قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الذي يحل للرجل من امرأته الحائض؟ فقال:" ما فوق الإزار:. وقال أبو [268 أ/1] الفياض من أصحابنا: فيه ثلاثة أوجه، والوجه الثالث أنه كان يضبط نفسه عن إصابة الفرج، وأما لضعف شهوته أو لقوة تحرجه، جاز الاستمتاع بذلك، وإن لم يضبط نفيه فلا يجوز، لقول عائشة:" وأيكم يملك إربه" الخبر. فرع لو تلوث بدم الحيض ما عدا ما بين السرة والركبة هل يحل مباشرتها في موضع تلوثها بالدم؟ هذا لا فيه للشافعي, وقال أصحابنا: لو قيل يحرم ذلك كما يحرم ما تحت الإزار لم يبعد. ولو قيل: لا يحرم لأنه لا يخاف أن يصيبه دم الحيض من الفرح بغير واسطة بلم يبعد أيضا، وهذا أصح وهو فرق واضح، فصار ذلك بمنزلة سائر النجاسات إذا أصابها لا يمتنع الاستمتاع. فرع آخر لو قصد رحل غشيان زوجته فزعمت أنها حائض، وهكذا كلما رغب فيها قالت هكذا، ولا يعرف الرجل ميقات حيضها وطهرها، فكل مكان يصدقها فأنها حائض لا يحوز له

وطئها، وكل زمان لا يصدقها فله وطئها ولا يقبل قولها، ويفارق هذا إذا قال: أما إن حضت فأنت طالق، فقالت حضت يقع الطلاق وإن كذبها؛ لأن التقصير من جهته حيث علق الطلاق بأمر لا يعرف إلا بالقول منها، وأما الإباحة [268 ب/1] والتحريم بالحيض فهو أمر شرعي، ولم يحد من جهة الزوج تقصير فلا يلزمه قولها فيه. فرع آخر الحائض هل هي مخاطبة بصوم رمضان؟ وجهان: احدهما: أنها مخاطبة بدليل وجوب القضاء. والثاني: أنها لا تكون مخاطبة؛ لأنها ممنوعة منه بسبب عي غير مفرطة ولا لها قدره على إزالة المانع والقضاء وحب بأمر ثان. مسألة: قال:" وَإِذَا اتَّصَلَ بِالْمَرْأَةِ الدَّمُ نَظَرَتْ". الفصل وهذا كما قال. أراد أنه اتصل دم الحيض بدم الاستحاضة، والاستحاضة تخالف الحيض اسمًا وحكمًا ومحملًا، ولا يمنع الاستحاضة ما يمنع الحيض، وخروجه من عرق خارج الرحم، يقال له: العاذل، في أدنى أول الرحم، وخروج الحيض من الرحم، ثم الاستحاضة تنفصل من الحيض، فإن يكون في حال نقصان السن أو لنقصان القدر، بأن يكون دون يوم وليلة، وقد يتصل بالحيض دم الاستحاضة بأن يجاوز الدم أكثر مدة الحيض، فيعرف أن بعضه حيض، وبعضه استحاضة. والأصل في هذا أن الشافعي-رحمه الله- رجع في أقل الحيض وأكثره، وفي أقل الحمل وأكثره، وأقل سن تحيض فيه الجارية، وأقل سن تيأس به المرأة من الحيض وأقل [269 أ/1] الطهر، وأكثر النفاس إلى الوجود، ومعنى الوجود ما جرى به عرف العادة، وهذا لأن كل ما ورد به الشرع مطلقًا، ولا بد من تقديره، ولا تقدير له في الشرع ولا في اللغة، فالمرجع فيه إلى العرف والعادة، كالإحراز، وكالقبض والتفرق في البيع. فإذا ثبت هذا وجد الشافعي-رحمه الله- أقل سن تحيض له الجارية لتسع سنين. فإن رأت قبل التسع فهو دم فساد ولا يتعلق به حكم الحيض. وإن رأت لتسع سنين فإن لم يتصل يومًا وليلة فهو دم فساد أيضًا، وإن اتصل يومًا وليلة فهو حيض، فإن زاد على ذلك لا يخلو إما أن يتجاوز خمسة عشر أو لا يتجاوزها فإن لم يتجاوزها مثل إن انقطع لتمامها أو لما دونها فهي حائض. وإن غير خمسة عشر فهي مستحاضة ودخلت الاستحاضة في الحيض، ولا تمنع الاستحاضة صحة الحيض؛ لأن الاستحاضة مرض وسقم، والحيض عادة وصحة، والسقم يطرأ على الصحة، والصحة على السقم، فإذا صارت مستحاضة نذكر حكم المستحاضة. وجملته: أن المستحاضة على أربعة أضرب: مميزة لا عادة لها، ومعتادة لا تميز

لها، ومن لها تميز وعادة، ومن لا تمييز لها ولا عادة. والأصول منها ثلاثة مميزة ومعتادة [269 ب/1] ومن لا تمييز لها ولا عادة، وكلها في المختصر على هذا الترتيب، والتي لها تمييز وعادة فرع من هذه الأصول، لأنها جمعت ضفة أصلين، ولكل أصل من هذه الثلاثة أصل في الشريعة ثبت به، فالأصل في المميزة حديث فاطمة بنت أبي حبيش قالت: يا رسول الله، إني امرأة أستحاض فلا أطر، أفأدع الصلاة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنما ذلك عرق وليست بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم، ثم اغتسلي وصلي". وروي أنه قال:" إنما هو داء عرض أو عرق انقطع، توضئي لكل صلاة" وروى أنه قال لها:" إذا كان دم الحيض فإنه دم أسود يعرف، فأمسكي عن الصلاة، وإذا كان الآخر فتوضئي وصلي فإنما عو عرق". أو ردها إلى التمييز. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأم حبيبة بنت جحش:"إذا أقبلت الحيضة فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغتسلي وصلي". وقد استحيضت سبع سنين، ولا يقول لها صلى الله عليه وسلم هذا إلا ويعرف إقبالها وإدبارها بعلامة ينفصل لها من الأمرين، وهي بأن تراه زمانًا أسود ثخينًا فذلك إقبال حيضها، ثم تراه رقيقًا مشرقًا [270 أ/1] فذلك إدبارها. وروى عن ابن عباس-رضي الله عنه- أنه قال:"إذا رأت الدم البحراني فلا تصلي، وإذا رأت الطهر ولو ساعة فلتغتسل وتصلي". وأراد البحراني: الدم الغليظ الواسع الذي يخرج من قعر الدم، ونسب إلى البحر لكثرته وسعته. والأصل في المعتادة: ما روى عن أم سلمة-رضى الله عنها- أن امرأة كانت تهراق الدم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستفتت لها أم سلمة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:"لتنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن يصيبها الذي أصابها، فلتترك الصلاة قدر ذلك من الشهر، فإذا خلفت ذلك فلتغتسل، ثم لتستثفر ثوب ثم لتصل" الاستثفار هو: أن تشد توبًا تحتجر به تمسك موضع الدم لتمنع السيلان، وهو مأخوذ من الثفر، قالت عائشة -رضي الله عنها-: رأيت مركنها ملآن دمًا. والمركن: شبه الجفنة الكبيرة. والأصل في التي لا تمييز لها ولا عادة: ما روى عن حبيبة بنت جحش، قالت:

كنت أستحاض حيضة كبيرة شديدة، فأتيت رسوله الله صلى الله عليه وسلم أستفتيه وأخبره، فوجدته في بيت أختي زينب بنت جحش [270 ب/1] فقلت: يا رسول الله، إن لي إليك حاجة، وإنه لحديث ما منه بد، وإني لأستحي منه، فقال:" ما هو يا هنتاه"؟ فقلت: إني امرأة أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فما ترى فيها معنى الصوم والصلاة. فقال:"فإني أنعت لك الكرسف، فإنه يذهب الدم"، وقيل:" أبعث لك الكرسف" وهو مصحف عندي. قلت: هو أكثر من ذلك، قال:"فتلجمي" قلت: هو أكثر من ذلك، قال: فاتخذي ثوبًا قلت هو أكثر من ذلك إنما أثج ثجًا، قال:"سأمرك بأمرين أيهما فعلت أجزاك عن الآخر، فإن قويت عليهما فأنت أعلم، إنما عي ركضة من ركضات الشيطان، فتحيضي ستة أيام أو سبعة أيام في علم الله، ثم اغتسلي حتى إذا رأيت أنك قد طهرت واستنقأت فصلي ثلاثًا وعشرين أو أربعة وعشرين ليلة وأيامها، وصومي فإن ذلك يجزئك، وكذلك فافعلي في كل شهر كما تحيض النساء وكما تطهرن ميقات حيضهن وطهرهن، وإن قويت على أن تؤخرني الظهر وتعجلي العصر فتغسلي وتجمعي بين الصلاتين الظهر والعصر، وتؤخرين المغرب وتعجلين العشاء، ثم تغتسلين وتجمعين بين الصلاتين فافعلي، وتغتسلين مع الفجر فافعلي، وصومي إن قدرت على ذلك". قال [271 أ/1] رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وهذا أحب الأمرين إلي". قال الشافعي: واحتمل هذا أمرين: أحدهما: أنه كان لها عادة، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عادتها إن كانت ستًا فستًا، وإن كانت سبعًا فسبعًا، فلا تكون المستحاضة إلا أصلان مميزة ومعتادة. والثاني: أنه لم يكن لها عادة، بل كانت مبتدأة، فردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غالب عادة النساء إن كانت ستًا فستًا، وإن كانت سبعًا فسبعًا وهو أخد قولي الشافعي فيكون هذا أصلًا ثالثًا في التي لا تمييز لها ولا عادة وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم حكمها. وقال أصحابنا: ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن هذه المرأة قد ثبت لها فيما تقدم أيام ستة أو سبعة، إلا أنها قد نسيتها فلا تدري أيتها كانت، فأمرها أن تتحرى وتجتهد وتبني أمرها على ما تيقنه، من أحد العددين، وحكاه صاحب الشامل هذا عن الشافعي. والدليل على هذا أنه قال:" في علم الله"، أي فيما علم الله من أمرك من ستة أو سبعة، وقد ترك بعض أصحابنا القول بهذا الخبر، لأن في رواية كلامًا، وصار في المبتدأة التي لا تمييز لها إلى أنها تحتاط وتأخذ باليقين، فلا تترك الصلاة إلا أقل مدة الحيض وهو يوم وليلة [217 ب/1] ثم تغتسل وتصلي سائر الشهور وهذا أحد قولي الشافعي. وقوله:" أنعت لك الكرسف" يعني: القطن وقوله:" أثج ثجًا": فإن الثج شدة السيلان. وقوله:

" إنما هو ركضة من ركضات الشيطان": فأصل الركض الضرب بالرجل والإصابة بها، يريد به الإضرار والإفساد، كما تركض الدابة وتضرب برجلها، ومعناه: أن الشيطان قد وجد بذلك طريقًا إلى التلبس عليها في أمر دينها، فصار في التقدير كأنه ركضة نالتها من ركضاته، وإضافة النسيان في هذا على فعل الشيطان، كهو في قوله تعالى: {َأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ} [يوسف:42]. وقد روى أصحابنا في المستحاضة الناسية للوقت المتحيرة في أمرها: أن حبيبة بنت جحش استحيضت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها بالغسل لكل صلاة، وروت زينب بنت أبي سلمة أن امرأة كانت تهراق الدم، وكانت تحت عبد الرحمن بن عوف، فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تغتسل عند كل صلاة وتصلي. وروت عائشة-رضي الله عنها- أن سهلة بنت سُهيل استحيضت، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فأمرها أن تغتسل عند كل صلاة، فلما جهدها ذلك أمرها أن تجمع بين الظهر والعصر بغسل، والمغرب [272 أ/1] والعشاء بغسل، وتغتسل للصبح. والشافعي-رحمه الله- لا يقول بهذا الجمع، فإذا تقرر هذا، بيني كل واحدة منهن ويذكر حكمها. فالمميزة: هي التي لا إعادة لها، هي المبتدأة ترى الدم ثم يتصل بها وينفصل بعضه عن بعض ما يقع التمييز به، وذلك يكون بلون وريح ورقة. فاللون يكون الأول أسود، ثم يتغير إلى الحمرة. قال الشافعي: يكون أسود محتدمًا وأرد بالمحتدم: الحار كأنه محترق. يقال: احتدم النهار إذا اشتد حره. وأما الريح: يكون الأول رائحة، ثم تزول. وأما الرقة: أن يكون الأول ثخينًا، ثم يرق فيصفر أو يشرق، فإذا تميز شيء من هذا، فإنما يتعلق حكم التمييز إذا اجتمع شرطان: أحدهما: أن لا يزيد الأسود أو الأحمر على أكثر الحيض. والثاني: أن لا ينتقص عن أقل الحيض؛ لأنه إذا زاد على أكثر الحيض لا يجوز أن يجعل جميع الأسود حيضًا. وإذا نقص عن اليوم والليلة لا يجوز أن يكون حيضًا. فإذا وجد هذان الشرطان رددناها على الدم السود، وجعلناه حيضًا، وقضت ما زاد عليه من الصلوات هذا في الشهر الأول. فأما في الشهر الثاني تترك الصلاة في الدم الأول، فإذا تغير وصار بعد السواد أحمر تغتسل وتصلى ولا تنتظر إلى آخر [272 ب/1] خمسة عشر، وإنما تنتظر في الشهر الأول فقط إلى خمسة عشر لتنظر هل ينقطع لتمام الخمسة عشر أو يختلط به دم الاستحاضة. فأما الشهر الثاني فقد حكمنا بأنها مستحاضة وعرفت أمر نفسها فلا تؤخر الصلاة. وأما المعتادة التي لا تمييز لها: هي أن يكون لها عادة مستقرة في كل شهر، فلما كان في هذا الشهر اتصل الدم وزاد على العادة على لون واحد، وقول الشافعي: وكان مشتبهًا إلى لون الدم مشتبهًا شبه بعضه بعضَا، فإنها تؤخر الصلاة حتى تنظر، فإن انقطع لخمسة عشر فما دونها فهو حيض، وإن عبر خمسة عشر فهي مستحاضة تغتسل حين عبر، ثم تقضي ما بعد العادة، وتقعد في كل شهر بعد الأول عن الصلاة في أيام

العادة، وتغتسل عقيبها وتصلي ولا تؤخر، وتكون على يقين الطهر، ولا يجئ فيه قول الاحتياط. وأما التي لها تمييز وعادة: مثل إن كان لها عادة في كل شهر، فلما كان في هذا الشهر زادت العادة وتغير الدم، فإنها تقعد عن الصلاة حتى تنظر، فإن انقطع لتمام خمسة عشر فما دونها فهو حيض، وإن عبر خمسة عشر فهي مستحاضة فتنظر عقيبه فإن تغير عند انتهاء العادة واتصل فهذه امرأة قدر عادتها وتمييزها [273 أ/1] واحد تغتسل حين يعبر وتقضي ما بعد الأول، وإن تغير بعد أن جاوز العادة، مثل إن كانت العادة خمسة أسود فاتصل في هذا الشهر الأسود عشرة، ثم تغير إلى الحمرة واتصل، فالمنصوص أن التمييز مقدم على العادة. وبه قال جمهور أصحابنا، وهذا لأن التميز اعتبار صفة الدم في الوقت، والعادة هي اعتبار صفة ما مضاى فالصفة في الوقت أولى. وقال ابن خيران، والاصطخري: العادة مقدمة على التمييز، وبه قال أحمد: لأن العادة أسبق فلا تبطل بالتأخير، ولأن العادة لا تختلف والتمييز يختلف، وهذا لا يقوى؛ لأن العادة تختلف أيضًا في الشهور كالتمييز. وإذا قلنا العادة مقدمة قضت ما بعد العادة. وإذا قلنا التمييز مقدم قضت ما بعد التمييز. فأما ما بعد هذا من الشهر فلا تؤخر الصلاة عقيب العادة إن اعتبرنا العادة، ولا بعد التمييز إن اعتبرنا التمييز. وقال أبو حنيفة لا اعتبار بالتمييز وإنما الاعتبار بالعادة. قال: فإن لم يكن لها تمييز وكان لها عادة استظهرت بعد زمان العادة بثلاثة أيام، وإن لم يجاوز خمسة عشر يومًا، ثم بعد ذلك هي مستحاضة لا حيض لها. وروى عنه أنه قال: إذا انقضى الدم الأسود فقعد [273 ب/1] ثلاثة أيام استظهارًا. فأما التي لا تمييز لها ولا عادة: فهي المبتدأة إذا طبق بها الدم بصفة واحدة أو بصفتين، إلا أن السواد يزيد على خمسة عشر أو ينتقص عن يوم وليلة، فيكون ذلك تمييزًا فاسدًا لا اعتبار به، فتتوقف عن الصلاة. فإن انقطع لجون خمسة عشر ولتمامها فهو حيض، وإن غير فهي مستحاضة. وفي مقدار حيضها قولان: أحدهما: اليقين، وهو يوم وليلة, وبه قال أحمد في رواية، وأبو ثور، وزفر، وهذا لأن الزيادة على اليوم والليلة مشكوك فيها فلا يعمل فيها. والثاني: غالب عادة النساء، وهي ست أو سبع والباقي طهر، وبه قال عطاء، والثوري، والأوزاعي، وإسحاق وأحمد في رواية. ووجهة خبر حمنة بنت جحش وظاهره أنها كانت مبتدأة لأنه لم ينقل أنه سألها عن حيضها قبل ذلك، وروي البويطي قولًا ثالثًا: أنها ترد إلى أقل الحيض وأقل الطهر وليس بمشهور. وروى ابن القاسم عن مالك: أنها تقعد خمسة عشر يومًا حيضًا. وروي ذلك عن

أحمد. وعن أحمد رواية رابعة أنها ترد على عادة نسائها. وقال أبو حنيفة: تحيض أكثر الحيض. وقال أبو يوسف: تأخذ في الصوم والصلاة [274 أ/1] بالأقل، وفي وطء الرفع بالأكثر. فإذا قلنا بالقول الأول اغتسلت وقضت ما بعد يوم وليلة. وإذا قلنا بالقول الثاني قضت ما بعد ست أو سبع. وأما في الشهر الثاني إذا مضى وقت حيضها تغتسل وتصلي ولا تتوقف عن الصلاة. فإذا قلنا ترجع إلى غالب عادة النساء فالست والسبع علي التخيير أو على الاجتهاد؟ وجهان: أحدهما: على التخيير أي العددين شاءت؛ لأن كل واحد منهما قد ثبت لا لعرف فيه، وعلم الرسول أن كل واحد منهما عادة غالبة في النساء فخيرها. والثاني: أنه على الاجتهاد فتجتهد في الأغلب منهما وتعمل على ما ثبت عندها أنه أغلب، وهذا هو المذهب، والرسول صلى الله عليه وسلم عرف أن أحدهما هو الغالب فأمرها بالاجتهاد في أغلبهما، قال ابن سريج: وعلى هذا الوجه يحتمل وجهين: أحدهما: أنها تجتهد في الغالب من هذين العددين في عادة نسائها من قبيلتها وعشيرتها، ولا تعتبر نساء العصبات كما في مهر المثل، بل تعتبر بجملة نساء أهل بيتها من طرفي نسبها وهو المذهب، وهذا لأن طبعها إلى طباعهن أقرب. وذكر بعض أصحابنا نساء العصبات، وهو غلط ظاهر. الثاني: تعتبر نساء الدنيا في بلدها خاصة، فإذا [274 ب/1] قلنا: ترد إلى يوم وليلة فما حكمها وبعد اليوم والليلة إلى تمام خمسة عشر يومًا؟ فيه قولان: أحدهما: لها من للطاهرات تتوضأ لكل صلاة. وثانيهما: زوجها، ويصح صومها وصلاتها فيها. ولفظ الشافعي في"الأم": يحل لزوج المستحاضة وطئها إن شاء الله تعالى. والثاني: أنها تستعمل للاحتياط فلا يأتيها زوجها في ذلك الوقت، وتغتسل لكل صلاة، ولو صامت فيها أو طاقت قضت؛ لأنه يحتمل أن يكون ذلك زمان الحيض، والأصل بقاء الفرض فالاحتياط، هكذا نص عليهما في"الأم" والصحيح الأول؛ لأن حكمنا بأنه زمان طهر، فلا يجوز أن لا يكون لها فيه حكم الطاهرات بخلاف المتحيرة؛ لأن هناك لم يتقدم طهرها المشكوك حيض بيقين. وقال الحكم، وابن سيرين، والنخعي: لا يجوز وطء المستحاضة وبه قال أحمد، إلا أن بخاف العنت على نفسه؛ لأن بها أذى, وهذا غلط لأن حمنة بنت جحش كانت مستحاضة، وكان زوجها طلحة-رضي الله عنه- يجامعها، وأم حبيبة كانت تحت عبد الرحمن بن عوف، وكان يطأها مستحاضة، والظاهر أن ذلك كان بإذن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما قول الشافعي في"المختصر": لاَ يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَسْتَظْهِرَ بِثَلاَثَةِ أَيَّامٍ] 275 أ/

1] قرئ بالظاء المعجمة، وقرئ بالطاء، وقصد به مالكًا -رحمه الله- فبالطاء غير المعجمة: هو اشتقاق من الطهارة، وهو طلب الطهر. وبالظاء المعجمة: اشتقاق من الاستظهار وهو الاستعانة بها لاستيقان الطهر والاحتياط. والدليل على بطلان قوله: إنما لم يجعل بعض الدم طهرًا مع أن الاحتياط فيه أبلغ، فلأن لا تجعل بعض الدم الأضعف حيضًا أولى. واحتج بأن الدم الأسود لا ينقطع ثمره بل يرق ويشرق ويصفر، ثم ينقطع. فلينظر ثلاثة أيام كذلك، قلنا: هذا لا يوجد في المعتادة وأنت تأمرها بالاستظهار ثلاثة أيام. فإذا تقرر هذا، فنذكر الآن حكم الصفرة والكدرة، ثم نشتغل بالتفريع. قال الشافعي هاهنا: والصُّفْرَةُ وَالكُدْرَةُ في أَيَّامِ الْحَيْضِ حَيْضٌ واختلاف أصحابنا في معنى ذلك، فقال عامة أصحابنا: المراد به أيام الإمكان وإن لم تكن عادة كالدم السود. وبه قال سعيد بن المسيب، وربيعة ومالك، والثوري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو حنيفة، ومحمد، وقال الإصطخري: المراد به أيام العادة دون أيام الإمكان، فإن ذات الصفرة في غير أيام العادة ويكون دم الاستحاضة، وإن أمكن فيه الحيض. وبه قالت عائشة، وعطاء رضي [275 ب/1] الله عنهما. قال أبو إسحاق المروزي: إلى هذا كنت أذهب، حتى رأيت الشافعي يقول في أول كتاب"العدة": الصفرة والكدرة حيض، والمبتدأة فيهما سواء. فدل أنه لا فرق بين العادة وغيرها، وحكى ابن أبي هريرة زجهًا ثالثًا عن بعض أصحابنا، وبه قال أبو ثور، وابن المنذر، أنه إن تقدم دم أسود ولو بعض يوم، فالصفوة التي بعده هي حيض مع الأسود. وإن لم يتقدم دم أسود لا يكون حيضًا، قال القفال: وإلى هذا الوجه الثالث أشاء الشافعي في"كتاب العدة"، قال لو اعتدت امرأة قرءين ثم رأت في القرء الثالث دفعة سواء، ثم رأت صفرة أو كدرة حتى جمد يومًا وليلة ثم انقطع قدرًا انقضت عدتها. يعني بالطعن في هذه الدفعة التي كملت بالصفوة يومًا وليلة. فحصل من هذا أن لصفوة والكدرة حيض في أيام العادة بالاتفاق. وقيل: إن مراد الشافعي به أن لا ترى المرأة في أيام عادتها دمًا سائلًا، ولكنها إذا استدخلت قطنة أو خرقة، ثم استخرجت فرأت عليها صفرة أو كدرة، فإنه يحكم لها، بحكم الحيض كالدم السائل، وفي أيام الإمكان ثلاثة أوجه. قال داود: لا يكون حيضًا أصلًا، والمذهب الأول؛ لأن كل دم كان حيضًا [276 أ/1] في وقت العادة كان حيضًا في

غير وقت العادة كالدم الأسود. ولأن الله تعالى وصف الحيض بأنه أذى، وهذا يتناول الصفرة والكدرة. واحتجوا بما روي عن أم عطية-وكانت بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قالت:"كنا لا نعد الصفرة والكدرة بعد الغسل شيئًا". وقال علي-رضي لله عنه- في الصفرة والكدرة بعد الطهر: ليس بحيضة، ولا تترك لها الصلاة. وحكاه أبو سليمان الخطابي عن الثوري والأوزاعي، قلنا: روي أصحابنا عن عائشة-رضي الله عنها- أنها قالت:"كنا نعد الصفرة والكدرة حيضًا" وقولها أولى، وقال أبو يوسف في رواية الطحاوي: إنها قد رأت يومًا وليلة دمًا، ثم رأت بعد صفرة أو كدرة فهو حيض وإلا فلا. وحكي عنه أنه قال: الصفرة حيض والكدرة حيض إلا أن يتقدمها دم أسود. وقيل: هذا قول محمد أيضًا. فصل في التفريغ على هذا إذا كانت تحيض من أول كل شهر خمسة أيام وتطهر في الباقي، فرأت في بعض الشهور في تلك الخمسة صفرة أو كدرة، وانقطع كانت الصفرة والكدرة حيضًا في ظاهر المذهب. وقول الإصطخري: ولا يكون حيضًا في الوجه الثالث، وإن كانت عادتها خمسة في كل شهر [276 ب/1]، فلما كان في هذا الشهر رأت الخمسة بحالها، ثم رأت صفرة وكدرة إلى تمام خمسة عشر فما دونها ثم انقطع، فالدم الأسود حيض وأما الصفرة والكدرة ففي قول الإصطخري لا تكون حيضًا، وفي قول غيره تكون حيضًا وإن كانت المسألة بحالها قرأت الخمسة بحالها، ثم رأت صفرة وكدرة خمسة أيام، ثم رأت خمسة أسود وانقطع، قال ابن سريج هاهنا: هذه الصفرة هي بمنزلة دم الاستحاضة ولا تكون حيضًا، وهو قول الإصطخري: فإن قلنا: لا تلفق الدماء فالكل حيض، وإن قلما: تلفق بجمع الدم الأسود إلى الدم الأسود، فيكون حيضها غيره، والصفرة والكدرة طهر بينهما، ووجه هذا أن عادة دم الحيض أنه إذا تطاولت به الأيام يرق ويضعف، فيعمل على أنه بقية الحيض. وإن رأت دمًا أسود بعد ذلك لا يمكن أن يحمل على البقية والضعف بطول الأيام؛ لأنه لو كان كذلك ثم جاء بعده دم أسود فجعلناه طهرًا بخلاف ما إذا لم ير بعده دمًا أسود، فإن كانت بحالها فرأت مكان الصفوة والكدرة دمًا أحمر؟ قال ابن سريج: الكل حيض الأسود والأحمر معًا. قال: والفرق بينهما أن الأحمر إلى السواد أقرب، بالحيض أشبه [277 أ/1]، والصفرة والكدرة إلى النقاء أقرب، وبالطهر أشبه على المذهب في كلتا المسألتين

حيض. وإن كانت العادة في أول كل شهر خمسة أسود وخمسة وعشرون طهرًا، فلما كان في هذا الشهر رأت الدم على العادة ثم طهرت خمسة عشر يومًا، ثم رأت صفرة وكدرة خمسة أيام فهل يكون حيضًا أم لا؟ على الوجوه، لأنها في وقت الإمكان. وإن رأت المبتدأة خمسة أيام صفوة أو كدرة وانقطع، أو رأت أقل من خمسة غير صفرة، فعلى قول عامة أصحابنا حيض، وعلى الوجهين الآخرين ليس بحيض. فصول في التفريع على كل واحدة من المستحاضات الأربع الذي تقدم ذكرهن. الفصل الأول منها في التفريغ على المميزة التي لا إعادة لها، إذا كانت من أهل التمييز كما شرطناه تعتبر كل حيضة بنفسها في كل شهر سواء اتفقت الأيام أو اختلفت إلى زيادة أو إلى نقصان أو إليهما. فالاتفاق أن يرى في أول كل شهر خمسة أيام دمًا أسود وباقية أحمر، والاختلاف على الزيارة أن يرى في الأول يومًا أسود ثم يصير أحمر، وفي الثاني يومين أسود، وفي الثالث ثلاثة أسود. والاختلاف إلى النقصان أن يكون الأسود في الأول: [277 ب/1] خمسة، وفي الثاني: أربعة، وفي الثالث: ثلاثة، وفي الرابع: يومين، والاختلاف إلى النقصان والزيادة معًا أن يكون في شهر خمسة، وفيما بعده أربعة، وفيما بعده ستة. وعلى هذا فيكون أيام الأسود حيضًا والباقي استحاضة، ولا يعتبر حكم شهر بشهر آخر، لأن التمييز شاهد في نفس الدم، فاعتبر كل دم تشاهده. وجملته: أنها لا تخلو من أربعة أحوال: إما أن ترى أولًا أسود، ثم أحمر، أو ترى أسود ثم أحمر ثم أسودن فيكون أحمر بين أسودين. أو ترى أولًا أحمر ثم أسود، أو ترى أحمر ثم أسود ثم أحر فيكون أسود بين أحمرين. فإن رأت أسود ثم أحمر مثل إن رأت أولًا خمسة أسود ثم صار أحمر، فإن لم يغير خمسة عشر فالكل حيض؛ لأن التمييز إنما يعتبر عند حصول الاستحاضة ولم يحصل هاهنا؛ لأنه لم يعبر خمسة عشر التي هي أكثر الحيض. وإن عبر ذلك أو رأت خمسة عشر أسود ثم صار أحمر واتصل، فالأسود حيض والأحمر بعدة استحاضة. فإن رأت ستة عشر أسود ثم صار أحمر واتصل فكأنه لا تمييز لها بحيضها في أول الأسود، وكم تحيضها؟ على ما ذكرنا من القولين، فإن رأت خمسة أسود ثم طهرت يومًا أو يومين ثم عاد أحمر [278 أ/1] وعبر فالأسود حيض، والنقاء طهر، والدم بعد استحاضة؛ لأنه لو اتصل الأحمر بالأسود كان استحاضة، فإذا انفصل بطهر لا يحتسب أولى أن يكون استحاضة فأما الأحمر بين أسودين: أن ترى خمسة أسود وخمسة أحمر، ثم صار أسود وعبر، فالخمسة الأولى حيض وما بعده من الأحمر والأسود معًا استحاضة؛ لأن الأسود الأخير عبر ولم نقف على أكثر الحيض.

وإن رأت الأسود يومًا وليلة، ثم أحمر عشرة، ثم أسود أربعة، ثم صار أحمر واتصل، قال ابن سريج: ما بعد الأربعة استحاضة وما قبله من الأسودين حيض، فيكون الأسود الحيض خمسة أسود، والأحمر بين الأسودين في حكم الطهر؛ لأن المستحاضة متى جعل لها أحمر بين أسودين فهو في حكم الطهر أولًا، وليست كالحائض التي يجعل لها أحمر بين أسودين فيكون الكل حيضًا. فإذا كان الأحمر هاهنا في حكم الطهر فهل يلفق أم لا؟ على قولين، كما لو كان مكان الأحمر طهر، فإنه على قولين. فإن قلنا: لا يلفق فالكل حيض، وإن قلنا: يلفق لفق الأسود إلى الأسود والأحمر إلى الأحمر، فيكون الأسود حيضًا والأحمر استحاضة. ثم قال: والأشبه بالمذهب أن لا يلفق إذا كان بين الأسودين طهر؛ لأن التقاء [278 ب/1] بالطهر أشبه. وإن رأت نصف يوم أسود ونصف يوم أحمر كذلك إلى الرابع، ثم رأت الخامس كله أسود، ثم صار أحمر وعبر، فإن ما بعد الخامس استحاضة والأسود حيض، وهو ثلاثة أيام الهامس ونصف الأربعة، والأحمر بين الأسودين في حكم الطهر. فإن قلنا لا يفلق فهو حيض أيضًا، فيكون حيضها خمسة وإن قلنا يلفق فالأحمر طهر وهو يومان وهو نصف الأربعة وثلاثة أيام حيض وهو زمان الأسود. وإن رأت نصف يوم أسود ثم صار أحمر إلى تمام التاسع، ثم رأت العاشر كله أسود، ثم صار أحمر وعبر، فما بعد العاشر استحاضة، وزمان الأسود حيض وهو بوم ونصف، والأحمر بينهما. هو في حكم الطهر على ما ذكرنا، ويجئ فيه ما قال من الأشبه بالمذهب. وأما الأحمر ثم الأسود مثل أن يرى خمسة أحمر ثم صار أسود عبر، فهل يمنع الأسود من أن يكون الحمر قبله حيضًا أم لا؟ قال ابن سريج: فيه وجهان وهما أصل في هذا الباب: أحدها: يمنع لقوله بالسنة ومزينه عليه. والثاني: لا يمنع للاحمرار أن يكون حيضًا؛ لأنه وجد في وقت يمكن أن يكون حيضًا؛ لأنه وجد في وقت يمكن أن يكون حيضًا كما لو انفرد. فإذا قلنا: لا يمنع سقط حكم الأسود وصار كأنه أحمر كله، ولا تكون [279 أ/1] مميزة. وكم حيضها من أول ما رأت الدم فيها؟ على قولين: أحدهما اليقين يومًا وليلة والباقي استحاضة. والثاني: غالب عادة النساء وهو كل الأحمر وعامة من الأسود والباقي استحاضة. وإذا قلنا بمنع ذلك سقط حكم الأحمر وثبت حكم الأسود، ولا تكون مميزة في الحقيقة، فيكون ابتداء الحيض من الأسود والأحمر قبله استحاضة. وكم تحيض من الأسود؟ قولان: اليقين أو غالب عادة النساء، وكل موضع يقول اليقين يريد يومًا وليلة. وكل موضع يقول غالب عادة النساء يريد ستًا أو سبعًا، فإن كانت بحالها فرأت الأحمر عشرة ثم صار أسود واتصل. فإن قلنا: الأسود لا يمنع الأحمر حيضناها في أول الأحمر. وكم نحيضها؟ على القولين وإذا قلنا يمنع حيضناها من أول الأسود، وكم يحيضها؟ على القولين والباقي استحاضة.

فإن كانت بحالها فرأت الأحمر خمسة عشر ثم صار أسود واتصل، فإن قلنا: الأسود لا يمنع الأحمر حيضناها من أول الأحمر، وكم تحيضها؟ على القولين وإن قلنا يمنع سقط الأحمر، وكم تحيضها من الأسود؟ على القولين. وعلى هذا فإنها تدع الصلاة في النصف الثاني من الشهر أيضًا رجاء أن ينقطع على خمسة فيكون النصف من الشهر الباقي [279 ب/1] حيضها، ولا يتصور امرأة يلمها ترك الصلاة شهرًا كاملًا إلا في هذه المسألة على الوجه، وذلك أنها لما رأت الأحمر في الابتداء يلزمها ترك الصلاة رجاء أن ينقطع على خمسة عشر، حتى إذا انقطع كان الأحمر حيضها، فلما رأت الأسود بان حيضها النصف الثاني من الشهر دون النصف الأول. فإن كانت بحالها فرأت المبتدأة ستة عشر يومًا دمًا أحمر ثم صار أسود واتصل. قال ابن سريج: يبني على الوجهين، فإن قلنا: الأسود لا يمنع الأحمر يبني ذلك على القولين فإن قلنا تحيض يومًا وليلة كان حيضها يومًا وليلة من أول الدم الأحمر، وبقية الأحمر في حكم الطهر. وتحيض من لون الأسود حيضة أخرى. وإن قلنا: تحيض ستًا وسبعًا لم يمكن هذا إلا أن يكون الأحمر اثنين وعشرين يومًا فتحيض يومًا وليلة أيضًا. وإن قلنا الأسود يمنع الأحمر تبنى على القولين. فإن قلنا: تحيض يومًا وليلة، لم يمنع هاهنا لأنه يكون بينهما طهر كامل فتحيض من أول الأحمر يومًا وليلة، ومن أول الأسود يومًا وليلة. وإن قلنا تحيض ستًا وسبعًا لم يمكن أن تحيضها هذا القدر؛ لأنه يؤدي إلى أن لا تحيض من أول الأسود فيسقط هذا القدر بحيضها يومًا [280 أ/1] وليلة قولًا واحدًا. وقال القاضي الطبري: الصحيح عندي أن تحيض من أول الأحمر ولا اعتبار بالأسود لأنه قد بطلت إماراته لزيادته على أكثر الحيض. ومن أصحابنا من قال: ابن سريج ناقض في هذا الفرع؛ لأنه إذا قال الأسود يمنع الأحمر، فكان ينبغي أن نحيضها من أول الأسود ويكون الأحمر استحاضة؛ لأن معنى قوله"يمنع الأحمر" أنه يدل على أن الأحمر استحاضة وإن كان زمانه زمان الحيض. وقوله:"يمكن المنع بينها" لا يصح، لأن المميزة المبتدأة إذا رأت يومًا دمًا أسود وباقي الشهر أحمر حيضها الدم الأسود، وكان الأحمر استحاضة. وإن كان يمكن أن يكون السابع عشر حيضًا ولا يمنعه الأسود. وفرع أصحابنا على ما قال القاضي الطبري: إذا رأت خمسة أيام دمًا أحمر ثم رأت بعده دمًا أسود إلى آخر الشهر فهذه لا تمييز لها؛ لأن الأسود أكثر من أكثر الحيض ويختص من أول شهر يومًا وليلة أو ستًا أو سبعًا على اختلاف القولين وحكي عن ابن سريج فيه وجهان أحدهما: هذا والثاني: يختص من أول الأسود بطلت صلاته على ما ذكرنا. وقال أيضًا: لو رأت خمسة عشر دمًا أحمر وخمسة عشر أسود، فالأسود حيضها [280 ب/1] فإن زاد الأسود على خمسة عشر

يومًا فلا تمييز لها، وتحيض من أول الأحمر، ويجئ وجه آخر على ما قال ابن سريج أنها تحيض من أول الأسود. وأما الأسود يسن أحمرين، مثل إن رأت خمسة أحمر ثم أسود دون يوم وليلة، ثم صار أحمر وعبر، فلا حكم لها لهذا الأسود؛ لأنه لو انفرد لم يكن حيضًا لنقصانه عن أقل الحيض، وإنما يكون له حكم إذا كان تقرر خمسة يمكن أن يكون حيضًا. فإن رأت خمسة أحمر ثم أسود، ثم صار أحمر وعبر، قال ابن سريج: فيه ثلاثة أقوال، وأراد ثلاثة أوجه. أحدها: أن الأسود لا يمنع الأحمر، فله أن يكون حيضًا فيسقط التمييز، وكم نحيضها من أول الأحمر؟ على القولين، وهذا لأنها رأت في الخمسة الأولي أحمر في وقت يصلح أن يكون حيضًا وجب أن نحكم بكونه حيضًا، ثم إذا حكمنا بكونه حيضًا لم يجز أن يكون الدم الأحمر حيضًا ويكون الأسود استحاضة، فكان الأسود حيضًا أيضًا. والثاني: الأسود يمنع الأحمر أن يكون حيضًا، فيكون الأحمر استحاضة والحيض هي الخمسة الأسود. قال القاضي الطبري: هذا هو الصحيح الذي لا يجوز أن يقال غيره، ووجهه ما سبق لأنه قوي. والثالث: يكون حيضًا [281 أ/1] عشرة أيام، الخمسة الأسود والخمسة الأسود والخمسة الأحمر، وما بعد ذلك استحاضة؛ لأن الأسود قوة بالصفة، والأحمر قوة بالسبق فثبتا حيضًا معًا، وهذا لا يصح مع الوجه الأول؛ لأنه الصفة أقوى من الدمان عند الشافعي، ولهذا قدم التمييز على العادة، وهكذا لو رأت خمسة أحمر ثم عشرة أسود، ثم رأت الأحمر واتصل، وقال القفال: اختلف أصحابنا في المميزة إذا كان ابتداؤها أضعف الدمين على ثلاثة أوجه: أحدها: يترك ابتداؤه ويعمل على الأسود. والثاني: لا يترك بحالٍ، ولكن هذا لأضعف إن كان مع الأقوى الذي بعده إذا جمعا لم يجاوزا خمسة وعشر فالكل حيض. وإن جاوزاه ردت على يوم من أول الدم الأضعف إن كانت مبتدأة، أ, إلى غالب عادة النساء على اختلاف القولين، وترجع على عادتها إن كانت معتادة. والثالث: إن أمكن أن تجعل ابتداء الدم مع السواد الذي بعده حيضًا بأن لا يجاوزا خمسة عشر فعل، وإن جاوزا فحينئذ يترك ابتداء الدم ويجعل الحيض هو السواد، فعلى هذا في المسألة الأخيرة إن قلنا بالوجه الأول فالعشرة حيض، وإن قلنا بالوجهين الأخيرين فجميع الخمسة عشر حيض. قال: وإن رأت خمسة أحمر واحد عشر أسود، ثم رأت [281 ب/1] حمرة، فعلى الوجه الأول والثالث السواد عو الحيض، وعلى الوجه الثاني ترد إلى أول الدم الأحمر، أما إلى اليقين وإما إلى غالب عادة النساء. وعلى هذا لو رأت خمسة صفرة

وستة عشر سوادًا، فعند الإصطخري هي مستحاضة ترد إلى أول السواد، وكذلك على الوجه الأول والثالث، فأما على الوجه الثاني ترد إلى أول الصفرة على ما ذكرنا على اليقين أو إلى الغالب من عادة النساء، فإن كانت الصفرة ستة أيام والسواد خمسة عشر جعل زمان الصفرة حيضًا وهو ستة وزمان السواد طهرًا لا حكمًا للتمييز، بل ردًا للتمييز إلى عادة النساء وكانت ستة. ولو رأت خمسة أصفر ثم خمسة عشر أسود، فعلى قول الإصطخري والوجه الأول والثالث زمان السواد حيض كامل، وما قبله لا شيء. وعلى الوجه الثاني هي مستحاضة ترد إلى ما قلنا، وما تقدم أصح الدلائل التي ذكرناها ولا نعيدها. فروع ثلاثة في اجتماع ثلاثة دماء ذكرها بعض أصحابنا بخراسان: أحدها: لو رأت عشرة أسود، ثم عشرة حمرة، ثم عشرة أصفر فحيضها العشرة الأولى بلا إشكال والثاني: لو رأت عشرة أحمر، ثم عشرة أصفر، ثم عشرة أسود، أو عشرة أصفر ثم عشرة أحمر، ثم عشرة أسود، فإن قلنا بالوجه الأول فحيضها العشرة [282 أ/1] الثالثة، وإن قلنا بالوجه الثاني فهي كالمبتدأة. ثم ابتداء المدة من أي وقت يكون؟ إن قلنا الصفرة حيض يحسب من ابتداء الصفرة، وإن كانت العشرة الأولى صفرة. فإن قلنا ليست بحيض يحسب من ابتداء الأحمر في العشرة الثانية. والثالث: لو رأت خمسة أحمر، ثم خمسة أصفر، ثم خمسة أسود. فإن قلنا بالأول فالأسود حيض. وإن قلنا بالثاني وقلنا الصفرة حيض فالخمسة عشر كلها حيض. وإن قلنا ليست بحيض يخرج على قولي التلفيق. إن قلنا يلفق فالخمسة الأولى والثالثة حيض، والخمسة الوسطى طهر، وإن قلنا لا يلفق فالكل حيض. فرع آخر ذكره الإمام أبو حامد عن ابن سريج-رحمهما الله- لو رأت خمسة أسود وخمسة أصفر وخمسة أسود، فظاهر المذهب أن الكل حيض؛ لأن التمييز بين الدمين للمستحاضة وهذه ليست مستحاضة. وقال ابن سريج: الصفوة لا تكون حيضًا، بل هي في أيامها في حكم الطهر بخلاف ما لو كان أحمر؛ لأن الأحمر هو بالحيض أشبه، والصفرة بالطهر أشبه، وهذا لا يجئ على مذهب ابن سريج؛ لأن عنده الصفرة في زمان الإمكان حيض، وإنما يجئ ذلك على قول الإصطخري، لأنه يقول: الصفرة في غير أيان العادة [282 ب/1] ليست بحيض. الفصل الثاني في المعتادة التي لا تمييز لها إذا استحيضت المعتادة ردت إلى عادتها سواء كانت عادتها أقل الحيض، أو غالبه،

أو أكثره، (وسواء) ثبت ذلك بحيض صحيح وطهر صحيح أو بالتمييز. بيانه: كأنها كانت تحيض يومًا وليلة وتطهر خمسة عشر، أو تحيض ستًا أو سبعًا وتطهر خمسة عشر، أو تحيض خمسة عشر وتطهر خمسة عشر، هذا هو الحيض الصحيح والطهر الصحيح. وأما ثبوتها بالتمييز: هو أن تكون عادتها يومًا وليلة أسود وخمسة عشر أحمر، أو ستًا أو سبعًا أسود وخمسة عشر أحمر، أو خمسة عشر أسود وخمسة عشر أحمر، وترد في وقت حيضها إلى عادتها سواء طال شهرها أو قصر، بيانه: قد يكون شهرها ستة عشر يومًا، وهو أقل ما يمكن فيه أقل الحيض يومًا وليلة، وأقل الطهر خمسة عشر يومًا، وقد يكون شهرها ثلاثين يومًا خمسة دم والباقي طهر، وقد يكون ستين يومًا خمسة دم والباقي طهر، وقد يكون سنة وخمسة دم والباقي طهر فإذا ثبت كيفية ثبوت العادة فالكلام الآن فيما تثبت بعه العادة وينظر فيه، فإن تكرر عليها مرتين العادة به بلا خلاق [283 أ/1] وإن لم يكن ذلك منها إلا مرة واحدة، فالمنصوص وبه قال ابن سريج: ثبت بها، لأن اعتبارها بنفسها أولى من اعتبارها بغيرها، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمستحاضة أن تنظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل أن أصابها، والخبر ولم يعتبر التكرار. ومن أصحابنا من قال: لا يثبت بها؛ لأن معنى العادة أن تعتاد ذلك، وهي مشتقة من العود، وإنما يحصل ذلك بالتكرار، وبه قال أبو حنيفة وهذا لا يصح؛ ولأن الشرع لم يرد باسم العادة، ولا معنى لاعتبار الاشتقاق في اللغة. وعلى هذا لو رأت أول مرة خمسة والباقي طهرًا ثم استمر بها الدم في الشهر الثاني فإن قلنا ثبت العادة مرة واحدة فهي معتادة عادتها خمسة. وإن قلنا لا تثبت بمرة فهي مبتدأة. ولو رأت في شهرين خمسة والباقي طهرًا ثم اتصل الدم في الشهر الثالث، فإنها ترجع إلى عادتها وهي خمسة بلا خوف. فإذا تقرر هذا، فإذا استحيضت بعد التكرار لا تخلو عادتها من أحد أمرين، فإما أن تكون متفقة أو مختلفة فإن كانت متفقة مثل إن كانت العادة خمسًا فالحكم على ما ذكرنا أبدًا وإن كانت مختلفة فلا تخلو [283 ب/1] إما أن تكون على ترتيب أو على غير ترتيب. فإن كانت على ترتيب واحد ودور مستقيم، مثل إن كانت تحيض في الشهر الأول ثلاثًا، وفي الثاني أربعًا، وفي الثالث خمسًا، وفي الرابع ستًا، وفي الخامس سبعًا، ثم تعود إلى ثلاث وأربع وخمس وست وسبع، ثم طبق بها الدم على لون واحد، نظرت فإن عرفت نوبة هذا الشهر عملت عليه وأكملت العادة في كل شهر حتى تعود إلى الأول، وعلى هذا أبدًا، وقال القفال: فيه وجهان: أحدهما هذا. والثاني: أنها تعود إلى عادتها في الشهر الذي قبل الاستحاضة، ويكون ذلك عادتها.

وكذلك لو توالى لها شهران ثلاثة ثلاثة، وشهران خمسة خمسة، وشهران ستة ستة، ثم دارت النوبة هكذا مرة أخرى، ثم استحيضت على المذهب الصحيح تعمل بدورها. وفي الوجه الذي ذكره القفال تعمل بما قبيل الاستحاضة ولا تعرف هذه لنفسها دورًا مستقيمًا في هذه المسألة في أقل من سنة كاملة؛ لأنها تحتاج أن تمر بها نوبتها مرتين، وإن نسيت نوبة ذلك الشهر حيضناها ثلاثًا؛ لأنها أقل عادتها، ثم تغتسل أخر كل يوم إلى آخر السابع لجواز أن يكون وقت الانقطاع للدم فيه، وكذلك [284 أ/1] تفعل في كل شهر. وإن كانت العادة على غير ترتيب، مثل إن أرادت في الأول ثلاثة، وغي الذي يليه ستًا، وفي الذي بعده خمسًا ثم ثلاثًا ولم تتفق على شيء، ثم استحيضت بعد هذا نظر، فإن كان بها شهران على عدد واحد، ثم بعدها شهر الاستحاضة فذلك عادتها؛ لأنها قد تكررت مرتين، وإن لم يكن كذلك فهو على الوجهين فإن قلنا: تثبت العادة بمرة واحدة عملت على الشهر الذي يلي شهر الاستحاضة وكذلك في كل شهر، وإن قلنا: لا تثبت بمرة واحدة، قال بعض أصحابنا: نحيضها ثلاثًا؛ لأنه أقل عدد لها. وأيضًا الأقل داخل في الأكثر، فيكون الأقل قد تكرر مرتين، وهذا غلط؛ لأنه إذا لم يكون ذلك منها مرتين سقط حكمه على هذا القول كأن لم يكن. وكم نحيضها في كل شهر؟ على القولين: أحدها: اليقين. والثاني: الغالب. فإذا قلنا بهذا، فهل يلزمها الاحتياط ما بين أقال عادتها إلى الأكثر؟ قال القفال: فيه قولان كما ذكرنا في المبتدأة، فتغتسل عند انقضاء أوسط العادات وأكثر العادات. وإن صامت في هذا الأيام التي بين أقل العادات وأكثرها أعادت على هذا، ويجئ هذا القول في المسألة قبلها إذا نسيت [284 ب/1] نوبة الشهر. ولو رأت في ابتداء شهر خمسة وفي شهر آخر عشرة، ثم اتصل الدم في الثالث، فهكذا الجواب وقال القفال: إن قلنا: لا تثبت العادة بمرة فحيضها خمسه، لأن الخمسة هي موجودة في العشرة وقد تكررت الخمسة شهرين، غير أن في أحد الشهرين زيادة لم تتكرر فتركناها. قال: ولو لم تر العشرة إلا شهراً ثم رأت الخمسة في الثاني، ثم اتصل في الثالث فعادتها خمسة بكل حال؛ لأنا إن قلنا تثبت بمرة فالذي قبل الاستحاضة خمسة. وإن قلنا لا تثبت فالمتكرر لم يوجد إلا في الخمسة، وما تقدم أصح لما ذكرنا. الفصل الثالث في المعتاد التي لها تمييز وقد ذكرنا أن التمييز مقدم العادة على المذهب الصحيح، وذكرنا عن ابن خيران، وجهًا أخر، وذكر القفال وجهًا ثالثاًا أن يجمع بينهما إن إمكن، وإن لم يمكن فهي كالمبتدأة، فإذا كانت عادتها في كل شهر خمسة أيام فرأت ثلاثة أسود، ثم رأت أحمر واتصل، كان الحيض ثلاثة على المذهب، وعند ابن خيران خمسة وإن رأت الأسود بحالة خمسة ثم رأت أحمر واتصل فقد اتفق ها هنا التمييز والعادة على عدد واحد

فحيضها خمسة [285 أ/ 1]، ولو رأت مكان الأسود أحمر ثم صار أسود واستمر، فإن قلنا: الأسود لا يمنع الأحمر سقط فحيضها الخمسة الأحمر وما بعده استحاضة. وإن قلنا يمنع الأحمر سقط حكمه وحيضناها الخمسة من الأسود؛ لأنها قدر العادة. ولو رأت مكان الأسود أحمر ثم صار أسود خمسة ثم صار أحمر واتصل، ففيه ثلاثة أوجه. إن قلنا الأسود لا يمنع الأحمر سقط حكم الأسود وحيضناها خمسه من أول الشهر؛ لأنها عادتها والباقي استحاضة. وإن قلنا الأسود يمنع الأحمر سقط حكم الحمر والحيض هو السود خمسة. وهو الوجه الثاني والثالث يكون حيضها عشرة الأسود خمسه وقبله الأحمر خمسة؛ لأن الأحمر وافق العادة ووقتها فلم يسقط، والأسود قوي بلونه فلم يسقط أيضاً وعلى الوجه الذي ذكره القفال يمكن، فالحكم هذا. ولو رأت المبتدأة في الشهر الأول دمًا أحمر ورأت في الشهر الثاني خمسة أيام أسود والباقي أحمر، ورأت في الشهر الثالث دمًا بلون واحد لا يتميز، فإنها في الشهر الأول لا تمييز لها ولا عادة، فإلي ماذا ترد؟ قولان. وفي الشهر الثاني فمييزة غير معتادة، فحيضها خمسة أيام، وفي الشهر الثالث لإن قلنا إن العادة تثبت [285 ب/ 1] بمرة فهي كالمبتدأة. فإن كانت المسألة بحالها فرأت في الأول دمًا أحمر، ثم رأت شهرين في كل شهر خمسة أسود والباقي أحمر، ثم رأت في الرابع دمًا أحمر كله، ففي الأول الحكم على ما ذكرناه، وفي الثاني والثالث ميزة ترد إلى التمييز، وفي الرابع ترد إلى عادتها بلا خلاف، ولو كانت عادتها خمسة أسود من أول الشهر فرأت في شهر عشرة أحمر ثم خمسة أسود فعلى ثلاثة أوجه على ما ذكرنا. ولو رأت خمسة عشر أحمر وخمسة اسود فعلي الوجه الأول الخمسة الأولي حيض وهي عادتها، وعلى الثاني السواد حيض، وعلى الوجه الذي ذكر القفال هي المبتدأة. وإن كانت عادتها شهرين في كل شهر خمسة أسود والباقي أحمر، ثم رأت الثالث كله أحمر، ثم في الرابع أحمر وأسود، فإنَّا نحيضها في الشهر الأول والثاني بلا إشكال خمساً خمساً، وفي الثالث خمسًا بالعادة، وفي الرابع رأت أحمر وأسود ذكر ابن شريج فيه ثلاث مسائل: أحدها: رأت من الرابع ثلاثًا أحمر ثم صار أسود واتصل فهذه تبني على الوجهين؛ إن قلنا الأسود لا يمنع الأحمر كان وجوده وعدمه سواء نحيضها من الرابع خمسًا، ثلاثة أحمر ويومين أسود. وإن [286 أ/ 1] قلنا يمنع سقط حكم الأحمر وحيضناها من الأسود عادتها، وما قبله وبعده استحاضة. والثانية: رأت من الرابع خمسة أحمر ثم صار أسود واتصل. فإن قلنا: الأسود لا يمنع الأحمر سقط حكم الأسود، وكان حيضها الخمسة الأحمر قبله، وإن قلنا:

الأسود يمنع الأحمر سقط الأحمر وحيضناها من الأسود لأنها الهادة، والباقي هو استحاضة. والثالثة: رأت من الرابع ستة عشر أحمر ثم صار أسود واتصل. فإن قلنا: الأسود لا يمنع الأحمر حيضناها من أول الرابع خمسًا والباقي استحاضة، وإن قلنا يمنع لا يمكن ها هنا أن نحيضها العادة من الأحمر، لأن الأسود يمنع منه، فإذا لم نحيضها العادة دبرت أمرها في هذا الشهر، كأنها ابتدأت به فنحيضها على هذا الوجه يومًا من الأول الأحمر، ثم بعده خمسه عشر استحاضة ويكون ابتداء الأسود ابتداء حيضة أخرى، لأن بينه وبين أول الأحمر اقل الطهر، وقد تقدم نحو هذا في المميزة التي لا عادة لها. الفصل الرابع في المبتدأة التي لا تمييز لها ولا عادة إذا رأت هذه المبتدأة الدم على لون واحد نحيضها في كل شهر حيضة، وشهرًا وشهر المستحاضة يكون ثلاثين يومًا، وقد ذكرنا مقدار تلك الحيضة [286 ب/ 1]، فإذا قلنا باليقين فلها ثلاثة أحوال: حيض بيقين يوم وليلة، وطهر مشكوك فيه وهي أربعة عشر يومًا، وطهر بيقين وهو ما بعد ذلك، وإن قلنا بالغالب فلها أربعة أحوال: حيض بيقين يوم وليلة، وطهر مشكوك فيه ما بعد ست أو سبع إلى خمسة عشر، وما بعد ذلك طهر بيقين، بقي الحيض بيقين والحيض المشكوك فيه حكمها حكم الحيض، وفي الطهر بيقين حكمها حكم الطاهرات، وفي الطهر المشكوك فيه تفعل ما يفعل الطاهرات وهل يستعمل الاحتياط به؟ ذكرنا قولين. الفضل الخامس في انتقال العادة والزيادة فيها والنقصان للانتقال هو أن تنتقل عادتها إلى تثبيت من العدد إلى زيادة أو نقصان، وفي الوقت إلى تقدم أو تأخر، كأنه كانت عادتها في كل شهر خمسة وستة طهرًا، ثم انتقلت، ففيه مسائل: طهرت خمستها وحاضت خمسة بعدها، طهرت خمستها وخاضت خمسه قبلها، خاضت خمستها وخمسة قبلها وخمسة بعدها. وإن كانت عادتها في كل شهر عشرًا وعشرين طهرًت ففيه مسائل: طهرت عشرتها وحاضت بعدها خمسًا أو عشرًا أو خمسة عشرة، أو حاضت عشرتها [287 أ/ 1] وحاضت خمساً بعدها. وأما التقدم ها هنا لا يمكن إلا بخمسة كان بينها وبين الحيص قبلها عشرين، فإذا تقدمت بخمس بقي بينهما أقل الطهر عشرة يومًا، وإن تقدمت بخمسة فقبلها ثلاث مسائل: حاضت عشرتها وخمسة قبلها، حاضت خمسة قبلها وطهرت عشرتها، وحاضت خمسة قبلها من عشرتها، ويمكن تصوير المسائل بأكثر من هذا، والأصل في التقدم ما ذكرنا، وهو ان لا يقصر بالتقدم ما بين وقت التقدم والحيض قبله

عن أقل الطهر، وإن كانت عادتها خمسة وبقية الشهر طهراً صح أن يتقدم ها هنا بخمسة وبعشرة× لأنه يبقي أثل الطهر. وإن كانت عادتها خمسة عشرة وبقية الشهر طهر لم يتقدم شيء بحالٍ. وفرع ابن سريح فرعين بين بهما فقه التقدم: أحدهما: إذا كانت عادتها خمسة في كل شهر وبقية طهر فقدمت لعشر صح، وهو إن حاضت منه خمساً وطهرت خمسة عشر، ثم رأت الدم نظر، فإن انقطع لتمام قوم إلى خمسة عشر فهو حيض، فإن اتصل وعبر حيضناها خمسة؛ لأنها العادة. وهل نحيضها ذلك بما انتقلت إليه أو بما انتقلت عنه؟ قال ابن سريج: فيه وجهان: أحدهما: بما انتقلت إليه؛ لأنه في وقت لا يمكن أن يكون حيضاً. وكذلك [287 ب/ 1 [في كل شهر فيكون شهرها عشرين يومًا خمسة حيض وخمسة عشر ظهر. والثاني بما انتقلت عنه فيكون خمسة من أول كل شهر، لأنَّا إذا رددنا إلى العادة في مقدار الحيض فكذلك في مكانه. والثاني: إذا كان عادتها أن تحيض في كل شهر خمسًا وخمسة وعشرين طهرًا، فتقدمت بأكثر من عشر، مثل إن حاضت خمسًا وطهرت عشراً، ثم رأت الدم، فهذا انتقال لا يمكن أن يكون أول حيضاً، ولا أن تعتبر ما انتقلت إليه؛ لأن بين رؤيتها الدم وبين الحيضة فيها أقل من الطهر، فتكون مستحاضة تحيض من أول كل شهر عادتها، وهي خمسة بخلاف المسألة قبلها. ولو رأت في العشرة الأولي خمسة أحمر، ثم رأت أسود، ثم رأت الأحمر واتصل فقد ذكرنا ثلاثة أوجه هاهنا، في أحد الوجوه تكون مميزة انتقل حيضها وتأخر، وهو إذا قلنا حيضها الأسود، ولو كانت عادتها في كل شهر خمسة فحاضت خمستها وخمسة بعدها وانقطع. قال بعض أصحابنا: هذه امرأة زادت عادتها خمسة ولم تنقل. كذلك لو رأت حمستها ورأت خمسة قبلها وانقطع، وهذا اختلاف في العبادة، وفي الحقيقة [288 أ/ ا] هو انتقال إلى زيادة، ويجوز أن تسمى منتقلة وقد ذكرنا حكمها. الفضل السادس في الناسية الناسية: من كانت لها عادة ثم استحضيت، فلا تخلو من ثلاثة أحوال: إما أن تكون ناسية للوقت دون العدد، أو العدد دون الوقت، أو الوقت والعدد معاً. والأصل فيها أن كل زمان لا يصلح لغير الحيض فهو حيض، وكل زمان لا يصلح لغير الطهر فهو طهر، وكل زمان يصلح للأمرين معاً فهو طهر مشكوك فيه، وكل زمان أمكن انقطاع الدم فيه فعليها أن تغتسل فيه، هذا هو الأصل، ونحن نفرد كل قسم منها بتفريع ينفرد به وأول ذلك:

فروع الناسية للوقت دون العدد إذا قالت: حيضي أحد أعشار الشهر لا أعلم أي عشر هو، فمعني هذا أعلم أنه عشر من ثلاثة أعشار الشهر، ولا أعلم أي عشر من ثلاثة أعشار. ولا أعلم أي عشر من ثلاثة أعشار، الأول، أو الثاني، أو الثالث، ولا أخلط عشرًا بعشر، غير أني لا أعرف عينه، قلنا: زمانان كله مشكوك فيه؛ لأنه ما من عشر إلا ويجوز أن يكون حيضك فيه، فتتوضأ لكل صلاة إلى أخر العشر، ثم تغتسل لجوزا انقطاع الدم، ثم تتوضأ لكل صلاة إلى أخر الشهر [288 ب/1] ثم تغسل لجواز انقطاع الدم وعلى هذا. وإن قالت: حيضي عشرة في الشهر لا أعرف موضعها منه، فمعني هذا قد ضاعت لي عشرة أيام في كل الشهر لا أعلم ما هو العشر الأول أو الثاني أو الثالث، وهو المسألة المتقدمة. وكذلك إن قالت: حيضي عشرة من الشهر ولا أعلم موضعها منه إلا أن العشر الثالث كان طهراً/ قلنا: الثالث من العشر طهر بيقين، فتتوضأ لكل صلاة إلى آخر العاشر، ثم تغتسل لإمكان انقطاع دمها، ثم تغتسل لكل صلاة إلى تمام العشر الثاني لإمكان انقطاع دمها عند كل صلاة، إلا أن تعلم الوقت الذي كان ينقطع دمها فيه في كل يوم، فتغتسل في ذلك الوقت دون غيره وهذا الذي ذكرنا هو إذا اختلط أحد العشرين الأولين بالآخر. بحيث يمكن أن يكون كل وقت من العشرين حيضاً أو طهراً. فإن قالت: كنت أحيض عشرة أيام من الشهر، إما الأولي أو الثانية أو لا يختلط أحد العشرين بالآخر، واعلم أني أكون في العشر الأخير من الشهر طاهرة فهذه حيضها، أما العشر الأول أو الثاني فتغتسل عند انقطاع العشر الأول [289 ا/ 1]، وعند انقضاء العشر الثاني، فيحصل لها غسلان ويكفيها، وهكذا الحكم فيه إذا قالت: كنت أحيض عشرة ولا أعرف وقتها، إلا أني كنت طاهرة في العشر الأول، فهذه حيضها في العشرين الأخيرين من الشهر، فالعشر الأول طهر بيقين ويجئ فيها المسألتان اللتان ذكرناهما في المسألة قبلها، وهي إذا قالت: كنت أحيض عشرة ولا أعرف الوقت ويختلط أحط العشرين بالآخر. والثانية: إذا قات: لم يكن يختلط أحد العشرين بالآخر. فرع آخر قالت: كانت حيضتي ثلاثة من العشر الأول من الشهر، ولا أعلم موضعها منه. قلنا: العشران الآخران طهر بيقين، والعشر الأول مشكوك فيه، تتوضأ لكل صلاة إلى أخر الثالث، ثم تغتسل لكل صلاة إلى أخر العاشر، إلا أن تعرف الوقت الذي كان ينقطع دمها فيه من كل يوم فتغتسل في ذلك الوقت دون غيره. وإن قالت: حيضي أربعة منه. قلنا: تتوضأ لكل صلاة إلى أخر الرابع ثم تغتسل لكل صلاة إلى أحسن العشر.

وإن قالت: حيضي خمسة منه، قلنا: تتوضأ لكل صلاة إلى أخر الخامس، ثم تغتسل لكل صلاة إلى أخر العشرة. وإن قالت: حيضي سته منه فقد حصل لها حيض بيقين؛ لأن عدد الحيض زاد على نصف العشر، والأصل فيه متى ضاع عدد [289 ب/ 1] حيضها في عدد أيام نظرت، فإن كان عدد الحيض مثل نصف عدد الأيام فما دونه فالكل طهر مشكوك فيه. وإن زاد عدد حيضها على نصف الأيام فلها حيض بيقين، فإذا أرادت أن تعرف مبلغ حيضها فانظر إلى قدر الزيادة على النصف أضف إليه مصله، فما بلغ فهو حيض بيقين. فإذا قالت: حيضي منه ست، قلنا بالخامس، والسادس حيض بيقين، يجوز أن يكون الابتداء من الأول والانتهاء من السادس، ويجوز أن يكون الابتداء من الخامس إلى آخر العاشر، فالخامس والسادس لا ينفك عن الحيض، فتتوضأ لكل صلاة إلى آخر العاشر. وإن قالت: حيضي سبعة منه، قلنا: لك أربعة أيام حيض بيقين؛ لأن الزائد على نصف العشر يومان. وإن قالت: حيضي ثمانية منه، قلنا لك منه ست أيام حيض بيقين؛ لأن الزائد على النصف ثلاثة. وإن قالت: حيضي تسعة منه، قلنا: لك منه ثمانية حيض بيقين، لأن الزائد عن النصف أربعة، فتتوصأ لكل صلاة إلى أهر الأول، ومن الثاني على آخر التاسع حيض بيقين، ثم تغتسل لكل صلاة إلى أخر العاشر، وعلى هذا. فرع آخر قالت: حيضي خمسة من العشر الأول من الشهر لا أعلم [290 ا/ 1] موضعها منه، غير أن اليوم الأول كنت ظاهراً. قلنا: الأول طهر بيقين، والسادس حيض بيقين لجواز أن يكون الابتداء من الثاني إلى أخر السادس، ويجوز أن يكون الابتداء من السادس إلى آخر العاشر، والأصل في هذا النوع أن ينظر إلى طهرها بيقين من الخمسة الأولي، فذات حيض بيقين من الخمسة الثانية، فتتوضأ لكل صلاة إلى آخر الخامس وتدع الصلاة يوم السادس، ثم تغتسل لكل صلاة إلى أخر العاشر.

وإن قالت: أعلم أني يوم الثاني طاهر، قلنا: لك يومان طهر بيقين الأول والثاني، ويومان حيض بيقين السادس والسابع والباقي طهر مشكوك فيهن فتتوضأ لكل صلاة إلى آخر الخامس والسادس، والسابع حيض بيقين فتدع الصلاة، ثم تغتسل لكل صلاة إلى أخر العاشر. فإن قالت: أعلم أني يوم الرابع طاهر، قلنا الأربعة الأولي طهر بيقين والأربعة حيض بيقين، أولها السادس إلى آخر التاسع، فتفعل على نحو ما ذكرنا. وإن قالت: أعلم أني يوم الخامس طاهر، قلنا: هذه مغالطة، لأنك إذا علمت هذا ثبت أن الحيض هي الخمسة الثانية. وإن قالت أعلم أني يوم السادس طاهر، قلنا: هذه [290 ب/ 1] مغالطة أيضاً، لأنك إذا علمت هذا ثبت أن الحيض هي الخمسة الأولي. وإن قالت: أعلم أني يوم الثاني طاهر، ويوم الخامس حائض. قلنا: الأول والثاني طهر بيقين والثالث والرابع طهر مشكوك فيه، والخامس والسادس والسابع حيض بيقين، والثامن والتاسع طهر مشكوك فيه، والعاشر طهر بيقين؛ لأنه يحتمل أن يكون الابتداء أوله الثالث وآخرة إلى آخر السابع، ويمكن أن يكون الابتداء أول الرابع وأخره أخر الثامن، ويمكن أن يكون الابتداء من الخامس وآخرة التاسع فالعاشر لم يصل إليه الحيض، فتتوضأ لكل صلاة إلى آخر الثامن ويكون طهر بيقين فتتوضأ لكل صلاة إلى آخر التاسع، وتتوضآ لكل صلاة إلى آخر العاشر لأنه طهر بيقين. نوع آخر لو قالت: حيضي خمسة من خمسين من العشر الأول، ولا أرى ثلاثة من الأولي أو يومان الأولى وثلاثة من الثانية. قلنا: الأولي والثاني طهر بيقين؛ لأنه لا يمكن ابتداء الحيض فيهما، وأمكن كون الحيض من أول الثالث وآخره أخر السابع إذا كانت الثلاثة من الأولي، ويمكن أن يكون أوله أول الرابع وآخره آخر الثامن، فهذه قد جمعت خمسة في ستة، فيكون لها حيض بيقين أربعة [291 ا/ 1]، وهو ما زاد على نصف الستة، فالأول والثاني طهر بيقين تتوضأ لكل صلاة. الثالث طهر مشكوك فيه، تتوضأ لكل صلاة وتدع الصلاة من أول الرابع على آخر السابع؛ لأنه حيض بيقين فتغتسل عقيب السابع وتتوضآ لكل صلاة إلى آخر الثامن، ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة إلى آخر العاشر لأنه طهر بيقين. قلنا: غسلان عقب الثاني من الخمسة الثانية، وعقيب الثالث منها أيضاً. فإن كانت بحالها فقالت: خمسة من خمسين من الشهر، وأعلم أنها خمسة من خمسين ثلاثة من الأولي، ويومان من الثانية، أو يومان من الأولي وثلاثة من الثانية، ولا أداري من أي الخمسين من الشهر هي. قلنا: يحتمل في الخمسين الأولين فيه ما نزلناه غير أنه لا تكون الأربعة حيضاً بيقين لجواز أن تكون من غير هاتين الخمسين، فتتوضأ لكل صلاة إلى آخر الثاني؛ لأنه طهر بيقين، ثم تتوضأ لكل صلاة إلى آخر السابع؛ لأنه طهر مشكوك فيه، ثم تغتسل لجواز انقطاع الدم، ثم تتوضأ إلى كل صلاة إلى آخر الثامن وتغتسل عقيبه، والثامن يمكن أن يكون طهراً من وجهين: أحدها: لا ينتهي الحيض إليه لجواز أن يكون الابتداء من الثالث؟ والثاني [291 ب/ 1]: لا يبتدأ بالحيض منه في الخمسة الثالثة لجواز أن يكون الدمان منهما. ويمكن أن يكون حيضاً من وجهين ينتهي الحيض إليه ويبتدأ به إن كانت الثالثة من الخمسة الثالثة فتتوضا لكل صلاة إلى أخر الثاني من الخمسة الثالثة وتغتسل، ثم تتوضأ لكل صلاة إلى أخر الثالث من الثالثة. وهكذا تفعل في كل خمسة من الشهر، فيحصل لها في كل خمسة غسلان من الخمسة الثانية إلى آخر الشهر، فيكون لها عشر غسلات في جميع الشهر، وفي الباقي تتوضأ لكل صلاة، ولها فيه أربعة أيام طهر بيقين، يومان من أول الشهر ويومان منها في أخره.

فإن قالت: حيضي يوم ونصف من يومين لست أدري كل الأول ونصف الثاني، أو نصف الأول وكل الثاني. قلنا: كل يوم حيض بيقين، لأنه قد ضاع يوم ونصف في يومين، وزاد على النصف نصف يوم، فإذا أضعفته صار يومًا كاملًا، فيحتمل أن يكون أول حيضها أول الشهر وآخره مع الزوال من الثاني. ويحتمل أن يكون أوله أول الزمان من الأول، وآخره آخر الثاني، فمن أول اليوم إلى الزوال هو طهر مشكوك فيه تتوضأ لكل صلاة ثم تدع الصلاة [292 ا/ ا] إلى الزوال من عنده، ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر الثاني. وإن قالت: حيضي خمسة من الشهر لا أعلم موضعها منه، قلنا: كل الشهر طهر مشكوك فيه تتوضأ لكل صلاة إلى أخر الخامس، ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر الشهر، وهكذا لو قالت: غير أني أعلم أني ظاهر في اليوم السادس، أو السادس والعشرين، فإن وجود هذه الزيادة وعدمها سواء، فالحكم على ما مضي، لأنها ما أفادت بهذه الزيادة فائدة، بل أبقت الأمر على الشك وإن قالت: حيضي خمسة من الشهر لا أعلم موضعها منه فير أني كنت يوم السادس والعشرين طاهراً. قلنا: هذا تطويل معناه: غير أني أحيض أحد هذين اليومين من الشهر، ولا أدري فالوجه أن تترك كل واحد من العشرين. ثم نذكر الحكم، فإن كان هذا من العشر الأول أمكن أن يكون الابتداء أول الثاني وآخره آخر السادس. وأمكن أن يكون الابتداء أول السادس وآخره أخر العاشر، فاليوم الأول طهر بيقين والسادس حيض بيقين وبقية العشر طهر مشكوك فيه. وإن كان هذا [292 ب/ 1] من العشر الثالث أمكن أن يكون الابتداء أول الثاني والعشرين وآخره آخر السادس والعشرين. ويمكن أن يكون الابتداء أول السادس والعشرين وآخره أخر الشهر، فمن الثاني والعشرين إلى آخر الخامس طهر مشكوك فيه، والسادس حيض بيقين، وإلى آخر الشهر طهر مشكوك فيه، وما قبل هذا من الشهر طهر بيقين، فإذا احتمل هذين لم يكن لها حيض بيقين لأنها على شك مما ذكرته، فتتوضأ لكل صلاة اليوم الأول؛ لأنه طهر بيقين، ثم تتوضأ لكل صلاة إلى أخر السادس؛ لأنه طهر مشكوك فيه، ثم تغتسل لكل صلاة إلى لآخر العاشر؛ لأنه يمكن انقطاع الدم فيه. قلنا: اثني عشر يومًا طهر بيقين والباقي طهر مشكوك فيه. نوع آخر قالت: حيضي عشرة من الشهر لا أعلم موضعها منه غير أني أعلم يوم العاشر حائض، فيحتمل أن يكون الابتداء من أول يوم في الشهر، ويحتمل أن يكون الابتداء أول العاشر وآخره آخر التاسع عشر، فالعشر الثالث طهر بيقينـ، لأن الحيض لا يصل إليه، وآخر العشر الثاني وهو يوم العشرين طهر بيقين أيضاً. وأصل [293 أ/1] هذا النوع أن ينظر إلى ما لها من الطهر بيقين من العشر الثاني فهو حيضها بيقين من العشر الأول، فكلما زاد في طهرها بيقين من العشر الثاني زاد في

حيضها من العشر الأول، فمن الأول إلى أخر التاسع طهر مشكوك فيه، والعاشر حيض بيقين، ومن العاشر إلى آخر التاسع عشر طهر مشكوك فيه، ويوم العشرين طهر بيقين. وإن قالت: اعلم أني يوم التاسع حائض. قلنا: يمكن أن يكون الابتداء أول الشهر وآخره العاشر، ويمكن أن يكون أول التاسع وآخره الثامن عشر، فيكون التاسع عشر والعشرون طهراً بيقين، والتاسع والعاشر حيضاً بيقين. فإن قالت: أعلم أني أكون يوم الثامن حائض. قلنا: يحتمل أن يكون الابتداء أول الشهر وآخره أخر العاشر، ويحتمل أن يكون الابتداء أول الثامن وآخره آخر السابع عشر، فيكون ثلاثة أيام من آخر العشر الثاني طهر بيقين، وثلاثة أيام من آخر العشر الأول حيض بيقين وعلى هذا التنزيل، فإن قالت: غير أني أعلم أني يوم السادس حائض. قلنا: يمكن أن يكون الابتداء أول الشهر وآخره آخر العاشر، ويمكن أن يكون الابتداء أول السادس وآخره أخر الخامس [293 ب/ 1] عشر فخمسة من آخر العشر الثاني طهر بيقين، وخمسة من أخر العشر الأول حيض بيقين. فإن قالت: أعلم أني اليوم الثاني حائض. قلنا: يحتمل أن يكون الابتداء الثاني وآخره آخر الحادي عشر، فيكون تسعة أيام من الثاني طهر بيقين وتسعة من الأول حيض بيقين، فتتوضأ لكل صلاة إلى آخر يوم الأول، ثم تدع الصلاة إلى آخر العاشر، ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر الحادي عشر، ثم تتوضأ لكل صلاة إلى آخر العشر الثاني، والعشر الثالث أخرجناه عن هذا لأنه أبداً طهر بيقين. فإن قالت: أعلم أني يوم الأول حائض. قلنا: هذه مغالطة، أنت قد علمت أن الحيض هو العشر الأول، وبقية الشهر طهر بيقين فما نسيت شيئًا. فإن قالت: أعلم أني يوم الثاني عشر حائض ولي من الشهر طهر كامل. قلنا: قد عرفت أن نصفه الثاني طهر بيقين؛ لإن حيضك في النصف الأول وقد ضاع عشرتك منه، فيمكن أن يكون الابتداء أول الثالث وآخره آخر الثاني عشر، ويمكن أن يكون الابتداء أول السادس وآخره الخامس عشر، فيكون اليوم الأول والثاني طهراً بيقين، ومن أول الثالث إلى آخر الخامس طهر [294 ا/ 1] مشكوك فيه، ومن أول السادس إلى آخر الثاني عشر حيض بيقين، ومن الثالث عشر إلى آخر الخامس عشر طهر مشكوك فين، فتتوضأ لكل صلاة إلى آخر الثاني؛ لأنه طهر بيقين، ثم تتوضأ لكل صلاة إلى آخر الخامس، لأنه طهر مشكوك فيه، ثم تدع الصلاة سبعة أيام إلى آخر الثاني عشر؛ لأنه حيض بيقين، ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر الخامس عشر؛ لأنه يحتمل انقطاع الدم فيه، ثم تتوضأ لكل صلاة إلى آخر الشهر؛ لأنه طهر بيقين. نوع آخر قالت: حيضي عشرة من الشهر لا أعلم موضعها منه، إلا أني يوم العاشر طاهر. قلنا: هذا معناه العشر الأول كله طهر، وإنما ضاع عشرتك فيما بقي من الشهر. وإن قالت أعلم أني يوم السادس طاهر. قلنا: معناه من أول الشهر إلى آخر السادس طهر

بيقين، وقد ضاع عشرتك فيما بقي منه. وإن قالت: أعلم أني يوم الحادي والعشرين طاهر. قلنا: يوم من أوله طهر بيقين وقد ضاع حيضك فيما سلف منه. وإن قالت: أعلم أني يوم السادس والعشرين طاهر. قلنا: قد علمت من السادس إلى الباقي طهر بيقين، وقد ضاع حيضك فيما سلف. وإن قالت: اعلم أني يوم الحادي عشر [294 ب/ 1] طاهر. قلنا: هذا كلام يحتمل أن يكون الابتداء أول الشهر وآخره آخر العاشر، ويحتمل أن يكون الحيض بعد الحادي عشر وآخره آخر الحادي والعشرين، وآخره ثلاثين. فالأول هو طهر مشكوك فيه تتوضأ لكل صلاة لإمكان انقطاع الدم، ثم تتوضأ لكل صلاة يوم الحادي عشر لأنه طهر بيقين، ثم تتوضأ لكل صلاة إلى آخر الحادي والعشرين أنه طهر مشكوك فيه، ثم تغتسل عقب الحادي والعشرين إلى آخر الشهر؛ لأنه يمكن انقطاع الدم فيه. نوع آخر لو قالت: حيضي خمسة عشر من الشهر لا أعلم موضعها منه. قلنا: تتوضأ لكل صلاة إلى آخر الخامس عشر، ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر الشهر. فإن قالت: أعلم أني يوم الثاني عشر حائض. قلنا: يحتمل أن يكون الابتداء أول الشهر وآخره آخر الخامس عشر. ويحتمل أن يكون الابتداء أول الثاني عشر وآخره السادس والعشرين، فيكون أول الشهر إلى آخر الحادي عشر طهراً مشكوكاًً فيه، تتوضأ لكل صلاة، وأربعة حيض بيقين إلى آخر الخامس عشر، ثم إلى آخر السادس والعشرين طهر مشكوك فيه، فتغتسل لكل صلاة، ويكون (295 أ/ 1) أربعة أيام بيقين تتوضأ لكل صلاة. وإن قالت: حيضي أريعه أيام من الشهر لا أعلم موضعها منه، وأعلم أن لي من الشهر طهرًا كاملًا، وآخر خمسة فيه طهر. قلنا: معنى هذا الكلام شهري خمسة وعشرون يومًا؛ لأنها قد تحققت أن الخمسة الأخيرة من الشهر طهر، والإشكال فيما سلف. ولو قالت: لي منه خمسة حيض وطهر كامل. قلنا: يحتمل

أن تكون الخمسة في العشر الأول، والطهر بعد العشر خمسة يومًا. ويحتمل أن يكون في العشر الأخير من شهرك وهو من أول السادس عشر إلى آخر الخامس والعشرين، فيكون العشر الأول طهرًا مشكوكًا فيه، تتوضأ لكل صلاة إلى آخر الخامس، ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر العاشر؛ لأنه يمكن انقطاع الدم فيه، ثم تتوضأ لكل صلاة إلى آخر الخامس عشر لأنه طهر بيقين؛ لأنه إن كان الطهر من أول شهرك فهذه الخمسة هي طهر، وإن كان من آخره فهذه الخمسة طهر، ثم تتوضأ لكل صلاة من أول السادس عشر إلى آخر العشرين، ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر الخامس والعشرين، وبقى من الشهر خمسة طهر بيقين تتوضأ لكل صلاة إلى آخر الشهر. وإن (295 ب/ 1) قالت: شهري عشرون يومًا وحيضي منه خمسة لا أعلم موضعها منه. قلنا: يمكن أن يكون أول خمسة منه خمسة عشر وهي تمام شهرك طهرًا. ويحتمل أن تكون الخمسة الأخيرة وخمسة عشر من أول شهرك طهرًا. فالخمسة الأولى هي طهر مشكوك فيه، والخمسة الأخيرة كذلك وبينهما عشرة طهر بيقين تتوضأ لكب صلاة إلى آخر الخامس، ثم تغتسل لجواز انقطاع الدم فيهـ ثم تتوضأ لكل صلاة إلى آخر الخامس عشر لأنه طهر بيقين، ثم تتوضأ لكل صلاة إلى آخر العشرين لأنه طهر مشكوك فيه، ثم تغتسل عقيب ذلك لجواز انقطاع الدم فيه. فإن قالت: شهري ستة عشر يومًا وأحيض منه يومًا لا أعلم موضعها. قلنا: الأول والسادس عشر طهر مشكوك فيه، وما بينهما طهر بيقين وهو أربعة عشر يومًا. فإن تقرر هذا، فالكلام في حكم العبادات وإتيان الزوج: وقد قلنا: إن لها ثلاثة أحوال طهر بيقين، وحيض بيقين، وطهر مشكوك فيه. فالطهر بيقين حكمًا فيه حكم الطاهرات، وفي الحيض بيقين حكمها حكم الحائض، وفي طهرها المشكوك تأتي العبادات ولا يأتيها الزوج، ولا تقضي الصلاة وتقضي الصوم والطواف (296 أ/ 1) على ما نذكر. وجملته أن طهر المستحاضة هو على ضربين، يقين، وغير يقين، فاليقين لا كلام فيه؛ لأنه حدث كسلس البول. وأما غير اليقين فعلى ثلاثة أضرب: ضرب ثبت بالدليل الواضح وهو التمييز أو العادة، فهذه يأتيها زوجها وتأتي بكل العبادات ولا تقضي. وضرب ثبت احتياطيًا بغير دليل فهو طهر، من قالت: حيضي خمسة من الشهر لا أعلم موضعها، فالشهر كله مشكوك فيه لا يأتيها زوجها، وتأتي بالعبادات وتقضي غير الصلاة؛ لأن العبادات لا تسقط بالشك في الوقت كما لو خفيت عليه دلائل القبلة فإنه يصلي ويعيد. وضرب اختلف القول فيه، وهو طهر المبتدأة التي لا تمييز لها كم نحيضها؟ قولان. وعلى القولين الباقي إلى تمام أكثر الحيض طهر مشكوك فيه، وفيه قولان: أحدها: هو الطهر المميز. والثاني: كطهر المتحيرة. وهذا لأن خبر حمنة بنت جحش يحتمل أن في المعتادة، ويحتمل أنه في المبتدأة. فإن كان في المعتادة فليس في المبتدأة دليل واضح، فهي كالمتحيرة، وإن كان في المبتدأة فقد ثبت طهرها بالدليل الواضح فهي كالمميزة والمعتادة. وقال والدي الإمام رحمه الله: من (296 ب/ 1) أصحابنا من قال في الوطء في الطهر المشكوك أنه يحل في الطهر المشكوك أولًا ولا يحل في الطهر المشكوك آخر لأن الأصل إباحة الوطء في القسم الأول فلا يحرم إلا باليقين بخلاف الثاني. قال والدي الإمام: وهذا هو أولى ما قال أصحابنا على الإطلاق يحرم وطئها. وأما فروع الناسية للعدد دون الوقت إذا قالت: أعلم أن أول الوقت الدم أول الشهر، ولا أعلم مبلغه حيضناها اليقين يومًا وليلة، وما بعده طهر مشكوك فيه إلى آخر الخامس

عشر؛ لأنه غاية مدة الحيض، وتغتسل لكل صلاة عقيب الأول إلى آخر الخامس عشر لإمكان انقطاع الدم فيه، وتصلي وتصوم وتقضي، وبقية الشهر طهر بيقين تتوضأ لكل صلاة. ولو قالت: اعلم انتهاء حيضي ولا اعلم ابتدائه ولا بعدده، وكان الانتهاء آخر يوم من الشهرـ قلنا: آخر يوم من الشهر حيض بيقين، وما قبله السادس عشر طهر مشكوك فيه، وأول الشهر إلى آخر الخامس عشر طهر بيقين، فتتوضأ لكل صلاة إلى آخر الخامس عشر، لأنه طهر بيقين، ثم تتوضأ لكل صلاة إلى آخر التاسع والعشرين لأنه طهر مشكوك فيه ولا تغتسل؛ لأنه لا يمكن (297 أ/ 1) انقطاع الدم فيه، وهي تعلم أن آخر حيضها آخر الشهر، وتدع الصلاة آخر يوم من الشهر؛ لأنه حيض بيقين. ولو قالت: لي في كل شهر حيضتان بينهما طهر صحيح، ولا أعلم موضعهما ولا عددهما، قال الشيخ أبو حامد: أقل ما يحتمل أن يكون حيضها أربعة عشر يومًا من أول الشهر إلى آخره، ويومًا وليلة من أول الشهر، أو آخره، ويكون بينهما خمسة عشر يومًا طهرًا. ويحتمل ما بين الأقل والأكثر فيلزمها أن تتوضأ لكل صلاة وتصلي في اليوم الأول من الشهر لأنه طهر مشكوك فيه، وتغتسل في آخره، ثم تغتسل لكل صلاة إلى آخر الرابع عشر لاحتمال انقطاع الدم فيه، ويكون الخامس عشر والسادس عشر طهرًا بيقين؛ لأنه إن كان ابتداء الطهر في اليوم الثاني فالسادس عشر طهرًا بيقين، لأنه إن كان ابتداء الطهر في اليوم الثاني فالسادس عشر آخره، وإن كان من الخامس عشر، فالخامس عشر والسادس عشر داخل في الطهر، ثم تغتسل من انقطاع السابع عشر إلى آخر الشهر لكل صلاة؛ لأنه يمكن انقطاع الدم في كل وقت منه. وقال القاضي الطبري: هذا خطا؛ لأنَّا إذا نزلنا هذا التنزيل لم يجز أن يكون ذلك حالها في الشعر الذي بعده (297 ب/ 1)، بل يجب أن تكون في سائر الشهور كالمتحيرة الناسية لأيام حيضها ووقتها، فتغتسل لكل صلاة ولا يطأها الزوج وتقضي العبادات. وأما فروع الناسية للوقت والعدد معًا متى نسيت الوقت والعدد معًا لا تذكر أوله ولا آخره، فهي التي تسميها الفقهاء المتحيرة. ويتصور ذلك في مجنونة تفيق فترى الدم سائلًا ولا تعرف شيئًا من حالها، فمتى تحيرت هكذا فيه قولان، قال في كتاب "الحيض": "لا أحيضها شيئًا بحال؛ لأنه ما من زمان بها إلا ويمكن أن يكون طهرًا، فكل طهر مشكوك فيه". وقال في "كتاب العدة": "ولو ابتديت مستحاضة أو نسيت أيام حيضها تركت الصلاة يومًا وليلة". فجعل لها الحيض يومًا وليلة في كل شهر، وسوى بينها وبين المبتدأة، وهذا لأن كل شهر غالب، وقد حيض النساء، والأول أصح؛ لأنها إذا لم تعلم الوقت لا يمكن تعينه بوقت دون وقت، فإذا

قلنا بالقول الثاني، قالب بعض أصحابنا: رجع الشافعي إلى اليقين في قدر الحيض، وفي وقته إلى غالب عادة النساء يقول: "وأحب أن حيضها على هذا القول يوم وليلة بخلاف المبتدأة". وقال القاضي الطبري: يجئ فيه قول (289 أ/ 1) آخر أن حيضها في كل شعر ست أو سبع كما ذكرنا في المبتدأة هذا القول. فإذا قلنا بهذا القول، متى تبتدئ بهذه الحيضة؟ قال الشافعي في "العدة": "تستقبل العدة في أول كل هلال". ووجهه أن لأول الشهر أثرًا في التجارب فيعتبر به. وقال ابن سريج: يقول لها: متى رأيت ابتداء الدم، فإن عرفته جعلنا ابتداء شهرها من ذلك الوقت، وعددنا لها ثلاثين يومًا، ثم حيضناها يومًا وليلة، وعلى ذلك أبدًا. وإن لم يعرف ابتداء الحيض يقول لها: أخبرينا آخر الزمان الذي يتيقن أنك كنت طاهرة فيه، فإن قالت: كنت طاهرة في آخر رمضان بيقين، ولا أعرف حالي في شوال، جعلنا ابتداء شهرها من أول شوال، ثم عددنا لها ثلاثين وجعلنا الحادي والثلاثين حيضًا، ثم على ذلك أبدًا، وهذا هو اختيار كبار أصحابنا. فإذا تقرر هذا، فإنها على هذا القول تفعل ما تفعل المبتدأة، فتصلي بعد مدة الحيض وتصوم وتعتد به، وهل يستعمل الاحتياط؟ فيه قولان، وقيل قول واحد أنها تستعمل الاحتياط فتصوم وتقضي ولا يطأها ووجهها: لأنه طهر ثبت احتياطيًا، وتأويل قوله في "العدة": "عليها ما على الطاهرات ولها (298 ب/ 1) ما للطاهرات" هي في حكم العدة حتى لا يحصل لها في كل شهر إلا قرء واحد. وإذا قلنا: لا تحيض كما قال الشافعي أنها تصلي ولا تقضي؛ لأن صلاتها إن كانت في زمان الحيض فلا صلاة عليها، ولا يضرها بأن فعلته، وإن كانت في زمان الطهر فصلاتها صحيحة لا يلزمها قضاؤها، وأما في رمضان فلا تصومه وتقضي خمسة عشر يومًا منه؛ لأن خمسة عشر يومًا منه طهر بيقين، وما زاد عليها يجوز أن يكون حيضًا، فيكون صومها فيه باطلًا يلزمها قضاؤة، ويجوز أن يكون طهرها، ويكون صومها صحيحًا لا يلزمه قضاؤه، فأوجبنا قضاءه احتياطيًا للصوم. فإذا صامت شوال حصل لها أربعة عشر يومًا لأنها تفطر يوم العيد، فيلزمها أن تقضي الخامس عشر، ولا يصح لها قضاؤه إلا أن تصوم يومين من بينهما أربعة عشر يومًا لا يجوز غير ذلك، ولو كان عليها صوم يومين صامت أربعة أيام بين يومين ويومين وثلاثة عشر يومًا، ولو كان عليها صوم ثلاثة أيام صاما ستة أيام بين الثلاثة إثنا عشر يومًا (299 أ/ 1) وإن كان عليها طواف طافت طوافين، يكون من حين ابتدأت بالطواف الأول إلى أن تبتدئ بالطواف الثاني خمسة عشر يومًا، فيكون إحدى الطوافين واقعًا في زمان الطهر بيقين، ولا يعتبر خمسة عشر بعد الفراغ من الطواف الأول إلى الثاني؛ لأنه ربما كان ذلك طهرًا كاملًا فيكون الطواف الأول والثاني وقعًا في الطهر،

ويجتنبها زوجًها أبدًا، وتغتسل لكل صلاة. هكذا نقله جمهور أصحابنا بالعراق، ولم يذكروا غير هذا. وقال الإمام أبو زيد المروزي وجماعة: أما قوله: إذا صامت شهرًا آخر إنما يكون إذا عرفت أن انقطاع دمها كأن يكون ليلًا حتى يعلم أنه لم يفسد عليها من الصوم أكثر من عدد أيام حيضها خمسة عشر يومًا، فأما إذا لم تعرف، أو عرفت أن انقطاع دمها كان يكون نهارًا فلا يكفيها ذلك بل إذا صامت رمضان لم تحتسب منه إلا بأربعة عشر يومًا لاحتمال أنها حاضت في بعض النهار، ومكث أربعة عشر يومًا ثم انقطع حيضها في بعض النهار فتفسد عليها ستة عشر يومًا، فإذا صامت شهرًا آخر يصح لها أربعة عشر يومًا على هذا التقدير ويبقى (299 ب/ 1) عليها يومان ولا يكفيها أن تصوم في القضاء لستة عشر اثنين وثلاثين يومًا، لأن ستة عشر يومًا من أول هذا الشهر ربما تفسد، وأربعة عشر يصح، والباقي يقع في الحيض، فإن زاد حتى بلغ صومها ثمانية وأربعين يومًا جُعل لها اليومان مع أربعة عشر؛ لأنه يفسد عليها بعد الأربعة عشر يومًا ثم يحصل يومان، فإذا أرادت إفراد اليومين بالقضاء يذكر أولًا. بحكم يوم واحد يكون عليها، فيقول: إن عرفت أن انقطاع دمها كان بالليل صامت يومين بينهما أربعة عشر يومًا، فيقع أحدهما في الطهر لا محالة. وقد قال الشافعي: "بينهما خمسة عشر" ولكن أراد مع أحد اليومين، فيكون على ما ذكرنا، وإن لم يعرف ذلك فلا بد من صوم ثلاثة أيام، فتصوم يومًا في التقدير كأنها صامته أول الشهر، ثم تترك اليوم الثاني بعده لا تصومه، ثم بعد الثاني ثلاثة عشر يومًا، تصوم أي يوم منها شاءت، ثم تترك يومًا بعد هذه، وهو السادس عشر من أول الشهر، ثم تصوم اليوم السابع عشر، وقد صح صوم أحد الثلاثة في طهر بيقين، ولا يصح أقل من ذلك؛ لأن أسوأ حالها أن يفسد لها من الشهر ستة عشر يومًا، وأنها تحيض أكثر الحيض (300 أ/ 1) ويكثر في الطرفين، فيفسد أول الشهر بالكثير، والسادس عشر أيضًا في التقدير وبينهما أربعة عشر يومًا حيض، فإن صامت يومين بينهما أربعة عشر يومًا جاز أن يقعا معًا في حيضة واحدة، فمتى صامت يومًا فلا تصوم السادس عشر من ذلك اليوم لهذه العلة، وإن جعل بينهما أقل من الطهر فيقع اليومان في الحيض الأول في آخر حيضها، والسابع ابتداء حيضة أخرى، فقلنا لها: صومي يومًا من أول الشهر، ثم صومي السابع عشر ولا تصومي الثاني؛ لأنه يكون بينه وبين السابع عشر يومًا فلا يصح ذلك، ولا تصومي السادس عشر؛ لأن بينه وبين الأول أحد عشر يومًا، فتقع الثلاثة في حيض، ولكن لك هاهنا ثلاثة عشر يومًا من الثاني من الشهر، والسادس عشر صومي منها أي يوم شئت، فإنه لا يخلو إما يكون طهرًا أو حيضًا، فإن كان طهرًا صح ذلك وعملت أن السابع عشر وأول الشهر وقعا في زمان الحيض، فإن كان هذا حيضًا علمت قطعًا أحد اليومين أول الشهر أو السابع عشر طهرًا؛ لأن أكثر ما فيه أن يفسد لها ستة عشر، فإن

كانت الفاسدة ستة عشر يومًا من أول الشهر يسلم السابع عشر، وإن كانت الفاسدة (300 ب/ 1) ستة عشر أولها ثاني الشهر وآخرها السابع عشر يسلم الأول، وأما إذا أرادت قضاء يومين إن اختارت أن تقضي يومًا يومًا يومًا فعلى ما ذكرنا، وإن اختارت أن تقضيها متصلًا صامت ستة أيام، تصوم يومين وتصوم السابع عشر، والثامن عشر وتصوم يومين فيما بين ذلك، ولا تحتاج إلى ترك اليوم، بل إن صامت أربعة أيام متوالية جاز، وذلك أنه كان الحيض من بعض الأول وانتهاؤه بعض السادس عشر فقد صح اليومان بعده، وإن كان من بعض الثاني انتهاؤه بعض السابع عشر فإنه قد صح الأول والثامن عشر، إن كان انتهاؤه من الثالث فقد صح الأول والثاني، وإن كان الأول وبعض الثاني حيضًا وبعضه طهرًا إلى بعض السابع عشر فقد صح الثالث والرابع. وإن كان ابتداء الطهر من بعض الرابع وانتهاؤه بعض التاسع عشر فقد صح السابع عشر والثامن عشر. وإن لزمها صوم ثلاثة أيام قضتها فهي تسع عشر يومًا، أربعة في أولها، وأربعة في آخرها. وإن لزمها صوم أربعة قضتها في عشرين يومًا خمسة أيام من أولها وخمسة (301 أ/ 1) أيام من آخرها، وعلى هذا القياس. وهذه المسألة خلل في كتب أصحابنا بخراسان وتعاليق العراق، وهذا الذي ذكرت هو المحتار الصحيح. وأما قول الشافعي: "تغتسل لكل صلاة" قال أبو يزيد المرزوي تحتاج إلى زيادة احتياط، وهو أنها تغتسل للظهر وتصلي، ثم تغتسل للعصر وتصلي، ثم تغتسل وتصلي للمغرب، ثم تغتسل وتصلي للعشاء في وقتها، ثم إذا طلع الفجر تغتسل وتصلي وتعيد المغرب والعشاء بغسل واحد، ثم تغتسل وتصلي الصبح، ثم إذا طلعت الشمس اغتسلت وتعيد الصبح، فيحصل لها الاغتسال ثمان مرات، وتصلي كل صلاة مرتين؛ لأن اغتسالها لكل صلاة لتوهم انقطاع الدم في كل لحظة، وإعادة الصلاتين بعد الغروب؛ لأن مذهب الشافعي أنها لو طهرت قبيل الغروب بخمس ركعات لزمها قضاء الظهر والعصر، ولعلها طهرت ولم يجزها ما فعلت في حال الحيض، وأما اكتفاؤها بغسل واحد لإعادة الظهر والعصر، فلأنها لا تخلو إما أن يكون طهرها من الحيض بعدما غربت الشمس واغتسلت هي، أو قبل الاغتسال فليس عليها ظهر ولا عصر. وإما أن يكون طهرها قبيل الغروب فقد صح غسلها ولا حاجة إلى الإعادة. وإن كان عليها طواف احتاجت (301 ب/ 1) أن تطوف ثلاثة طوافات، تطوف طوافين بينهما خمسة عشر يومًا، وتطوف في الوسط طوافًا إلا أنها تدع زمان في أول الخمسة عشر وفي آخرها، تقرر الطواف فلا تطوف فيه، وتطوف فيما بين ذلك، فإن كان الطوافان في الحيض كان الأوسط في الطهر. وإن قلنا: تترك بقدر الطواف من أول الخمسة عشر، ثم تطوف لئلا يكون الأول في الحيض، وبعض الثاني إذا كان عقيبة، ثم يكون الطهر في بعضه إلى بعض الثالث فيفسد الكل، فإذا أخرته أمنت ذلك، وقال

القفال: لا بأس أن اقطع طوافان من هذه الثلاثة يوم واحد، مثل أن تطوف الزوال مثلًا في اليوم الأول، ثم تمهل أربعة عشر يومًا بعده،، ثم في السادس عشر تطوف مرة قبل الزوال ومرة بعد الزوال، فيحصل به الشرط الذي ذكرناه، لأن الطواف لا يستغرق اليوم بخلاف الصوم. وإن عرفت وقت انقطاع دمها في اليوم والليلة، مثل إن كان طهرها وقت الزوال مثلًا يكفيها طوافها في يومين بينهما أربعة عشر يومًا وتجتنب ساعة الزوال، بل تأتي به في اليومين قبل الزوال أو بعد الزوال فيهما، فيقع أخدهما في الطهر لا محالة، فإن أتت بأحدهما قبل (302 أ/ 1) الزوال وبالآخر بعد الزوال لم يجز، لاحتمال أنهما وقعا في حيض إن طافت اليوم الأول بعد الزوال والآخر قبل الزوال، أو في حيضتين إن طافت في اليوم الأول قبل الزوال في اليوم الأخير منه. الفصل السابع في فروع مسائل الخلطة يعنى الخلطة في ناسية الوقت دون العدد، غير أنها تعلم أنها تختلط أحد الزمانين بجزء من الحيض. مثاله: قالت: حيضي خمسة عشرة من الشهر لا أعلم موضعها منه، إلا أني أخلط أحد النصفين بالآخر بيوم كامل، ولست أدري الباقي من النصف الأول أو الثاني، وتفسير هذا الكلام: أني أحيض في كل شهر خمسة عشر يومًا في أحد النصفين، ويومًا في النصف الآخر، قلنا: يحتمل أن يكون أول الحيض أول الثاني وآخره أخر السادس عشر. ويحتمل أن يكون أوله أول الخامس عشر وآخره آخر التاسع والعشرين، فيكون يومان حيض بيقين الخامس عشر والسادس عشر، ويومان طهر بيقين أول الشهر وآخره، فتتوضأ لكل صلاة أول يوم منه، ثم تتوضأ لكل صلاة إلى آخر الرابع عشر؛ لأنه طهر مشكوك فيه، ثم تدع الصلاة يومين وتغتسل عقيب السادس (302 ب/ 1) عشر؛ لأنه يحتمل انقطاع الدم فيه، ثم تتوضأ لكل صلاة إلى آخر التاسع والعشرين؛ لأنه طهر مشكوك فيه، ثم تغتسل لجواز عقيبه انقطاع الدم فيه، ثم تتوضأ لكل صلاة إلى الثلاثين؛ لأنه طهر بيقين، فحصل الاغتسال في موضعين. وجملة الطهر مشكوك فيه ستة وعشرون يومًا، ثلاثة عشر في النصف الأول، وثلاثة عشر في النصف الثاني. وأصل هذا أن ينظر إلى القدر الذي تخلط به فتضيف إليه مثله، فما اجتمع فهو حيض بيقين، فإذا عرفت عدد حيضها بيقين فقبلها وبعدها طهر بيقين مثل عددها، وهو يوم في أول الشهر ويوم في آخره. وإن كانت المسألة بحالها وقالت: عير أني أخلط النصفين بالآخر ستة أيام، قلنا: يضاف إلى الستة مثلها تصير اثني عشر فذلك حيضها بيقين، ولها اثني عشر طهر بيقين، ستة من أول الشهر وستة من آخره، والباقي طهر مشكوك فيه؛ لأنه يحتمل أن يكون الابتداء أول السابع وآخره الحادي والعشرين. ويحتمل أن يكون ابتداؤه أول العاشر وآخره آخر الرابع والعشرين، وتتوضأ لكل صلاة في طهرها بيقين، وفي طهرها

المشكوك فيه، وتقعد عن الصلاة في حيضها بيقين وتغتسل (303 أ/ 1) مرتين عقيب الحادي والعشرين وعقيب الرابع والعشرين. فإن قالت: غير أني أخلط أحد النصفين بالآخر سبعة. قلنا: يضاف إليها مثلها تصير أربعة عشر حيض بيقين وبعددها في طرفي الشهر، وآخره آخر الثاني والعشرين. ويحتمل أن يكون أوله أول التاسع وآخره آخر الثالث والعشرين فتغتسل في موضعه عقيب الثاني والعشرين، وعقيب الثالث والعشرين، وتتوضأ لكل صلاة إلا في حيضها بيقين. وإن قالت: كنت أخلط بثمانية. قلنا: هذا معناه بسبعة؛ لأن إذا كان لها من أحد النصفين فلها من الآخر بسبعة. وإن قالت كنت أخلط بتسعة. قلنا: هذا معناه لستة. وإن قالت: بعشرة، قلنا: معناه بخمسة. فإن قالت: وكنت أخلط بأربعة، قلنا: معناه أخلط بيوم، وقد مضى كل هذا، وهذا كله إذا لم يختلف الحيض واختلف ما يختلط به. فإن اختلف الحيض ولم يختلف ما يختلط به، فقالت: عادتي خمسة عشر فكنت أخلط بيوم، فقد مضى حكمه. ولو قالت: حيضي أربعة عشر وكنت أخلط بيوم، قلنا أجعلي في حيضك بيقين ما قلناه، وأضيفي إلى ما تخلطين به مثله، فما بلغ فهو حيض بيقين، وأما طهرك بيقين فانظري إلى ما ذكرت من العدد والحيض فأستقي منه يومًا (303 ب/ 1) وضمي إلى ما بقى مثله، فما جمع أسقطه من الشهر، ويكون ما بقى من الشهر طهرًا بيقين. فإن قالت أربعة عشر. قلنا: أسقطي منها يومًا وضمي إلى ما بقى مثله يكون ستة وعشرين يومًا، أربعة من الشهر طهر بيقين؛ لأنه يحتمل أن يكون الابتداء أول الثالث وآخره آخر السادس عشر. ويحتمل أن يكون الابتداء أول الخامس عشر وآخره آخر الثامن والعشرين تتوضأ لكل صلاة إلى آخر الثاني؛ لأنه طهر بيقين، ثم تتوضأ لكل صلاة إلى آخر الرابع عشر؛ لأنه طهر مشكوك فيه، ثم تدع الصلاة مرتين، ثم تغتسل عقيب الثالث عشر لإمكان انقطاع الدم فيه، ثم تتوضأ لكل صلاة إلى آخر الثاني والعشرين، ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة إلى آخر الثلاثين، فيحصل لها أربعة أيام طهر بيقين، يومان من أوله ويومان من آخره، ويومان حيض بيقين وهما الخامس عشر والسادس عشرـ وباقي الطهر مشكوك فيه. فإن قالت: حيضي عشرة وأخلط بيوم. قلنا: لك يومان حيض بيقين واثني عشر طهر بيقين؛ لأنه يقتصر يومًا من عشرة وأضفت إليها مثلها صارت ثمانية عشر ففي اثني عشر من الشهر طهر بيقين ستة من أول الشهر وستة (304 أ/ 1) من آخره، وعلى هذا أبدًا. وإن قالت: حيضي ثلاثة وأخلط بيوم. قلنا: لك يومان حيض بيقين. والعدد ثلاثة أنقص منه واحدًا يبقى اثنان، أضيفي إليها مثلها تصير أربعة يكون لك ستة، يبقى لك ستة وعشرين يومًا طهرًا بيقين ثلاثة عشر من أول الشهر ومثلها في آخره، والرابع عشر

والسابع عشر والتاسع عشر طهر مشكوك فيه. وإن قالت: حيضي يومان، وأخلط بيوم قلنا: حيضك الخامس عشر والسادس عشر قطعًا والباقي طهر، يتفق هذا إذا خلطت نصف الشهر بنصفه. وهكذا إذا خلطت نصف العشر بنصف العشر أو عشر العشر على ما قلنا حرفًا بحرف. فرع لو قالت: حيضي أربعة عشر ونصف اليوم، وأخلط أحد النصفين بالآخر يوم، وأعلم أن الكثير في ابتداء حيض بنصف يوم. قلنا: حيضك أول الشهر، وما تخلطين به وهو يوم هو السادس عشر، لأن الخلط بيوم كامل يمنع الكثير آخر الحيض. فإن كانت المسألة بحالها فقالت: لكني أكثر في آخر حيض بنصف يوم. قلنا: قد عرفت أن الحيض في الثاني من الشهر، وأن الخلط بالخامس عشر، وما بقى من الحيض من النصف الثاني من الشهر. فإن كانت بحالها فقالت: لكني أكثر في آخر حيض بنصف يوم (304 ب/ 1) قلنا: قد عرفت أن الحائض في الثاني من الشهر، وأن الخلط بالخامس عشر وما بقى من الحيض من النصف الثاني من الشهر. فإن كانت بحالها فقالت: لكن أكثر بنصف يوم من أول حيضي وبنصف يوم في آخره. قلنا: محال أن يكون الخلط بيوم كامل، وفي أول الحيض وآخره كثر هذا كله إذا تحققت ما تخلط به، فإن شكت فيما تخلط به فقالت: حيضي خمسة عشر لا أعلم موضعها من الشهر، وأعلم أني أخلط أحد النصفين بالآخر بيوم كامل، أشك هل أخلط بأكثر أم لا؟ قلنا: يحتمل أن يكون الابتداء أول الخامس عشر آخره آخر التاسع والعشرين. ويحتمل غير هذا. قلنا: لك حيض بيقين يومان، ويومان في طرفي الشهر طهر بيقين، والباقي طهر مشكوك فيه تتوضأ لكل صلاة أول يوم منه؛ لأنه طهر بيقين ثم تتوضأ إلى آخر التاسع عشر، لأنه طهر مشكوك فيه، ثم تدع الصلاة الخامس عشر والسادس عشر، ثم تغتسل عقب الخلط لجواز انقطاع الدم فيه، ثم تغتسل لكل صلاة إلى تمام التاسع والعشرين لجواز الانقطاع، ثم تتوضأ لكل صلاة إلى آخر الشهر. (305 أ/ ب) فإن قالت: حيضي خمسة عشر من الشهر ولا أدري هل كنت أخلط أم لا؟ ولا أعرف موضعًا منه. قلنا: ضاع نصف الشهر في كله، فالكل طهر مشكوك فيه، تتوضأ لكل صلاة إلى تمام خمسة عشر، وتغتسل لكل صلاة إلى انقضاء الشهر. فرعان لأبي إسحاق. إذا قالت حيضي خمسة عشر من الشهر لا أعرف موضعهما، غير أني أخلط النصفين بالآخر بجزء أعلم أنه الباقي من النصف الآخر. قلنا: أضيفي إلى جزء يكون لك جزأين حيض بيقين، وهو آخر جزء من نهار الخامس عشر، وأول

جزء من ليلة السادس عشر، وجزأن من طرفي الشهر طهر بيقين، تتوضأ لكل صلاة إلى بقية جزء من نهار الخامس عشر منها جزء من حيض بيقين لا يمنعان وجوب صلاة بحال، فإن الحيض لبقية جزء من النهار لا يمنع وجوب العصر، وجزء من الحيض أول الليل لا يمنع وجوب المغرب، فتغتسل مرتين عقب الجزأين، أعني عقيب الجزء الأول من ليلة السادس عشر، وفي الجزء الأخير من آخر يوم الثلاثين لجواز الانقطاع فيه، ويبقى لها جزء طهر بيقين. الثاني: إذا قالت: مسألتي بحالها، وأخلط بجزء وأشك في الزيادة. قلنا: الحكم على ما مضى إلا في الاغتسال، فإنها (305 ب/ 1) تغتسل عقيب جزء من نهار الثلاثين؛ لأنه ما من زمان إلا ويمكن انقطاع الدم فيه لقولها: أشك في الزيادة فيما أخلط فيه. فروع ثلاثة لأبي محمد أحمد بن محمد ابن بنت الشافعي رضي الله عنه أوردها أبو إسحاق. أحدها: إذا قالت: حيضي خمسة من العشر الأول من الشهر، لا أعلم موضعها منه إلا أني أخلط نهار أحد الخمسين بنهار الأخرى بجزء لا أدري أنه جزء من نهار الخامس والباقي من الخمسة الثانية، أو أول جزء من نهار السادس والباقي من الخمسة، فمعنى هذا الكلام أن ليلة السادس هي حيض بيقين؛ لأنها إذا خلطت نهارًا بنهار آخر فالليلة التي بينهما هي حيض بيقين. قلنا: يحتمل أن يكون أول الحيض لمضي جزء من نهار أول العشر وآخره لمضي جزء من نهار العاشر، فتكون ليلة السادس وجزء من آخر نهار الخامس حيضًا بيقين، وأول ليلة من الشهر طهر بيقين، وجزءان طهر بيقين أول نهار الأول وآخر نهار العاشر، والباقي طهر مشكوك فيه، فتتوضأ لكل صلاة أول ليلة من العشر وجزء من نهار أوله؛ (306 أ/ 1) لأنه طهر بيقين، ثم تتوضأ لكل صلاة إلى بقية نهار الخامس؛ لأنه طهر مشكوك فيه، ثم تقعد عن الصلاة آخر جزء من نهار الخامس وإلى أن يمضي جزء من نهار السادس؛ لأنه حيض بيقين، ثم تغتسل وتتوضأ لكل صلاة إلى بقية جزء من نهار العاشر، ثم تغتسل لجواز انقطاع الدم فيه ونفى جزء من العاشر وطهر بيقين وصلاة لسلة السادس يسقط عنها، ولا يسقط العصر من اليوم الخامس، لأن الحيض في آخر وقت العصر، ولا الفجر من اليوم السادس، لأن الحيض أول جزء من وقتها. والثاني: قالت: حيضي يومان من هذا العشر، لا أعلم موضعها منه، غير أني أخلط نهار أحد الخمسين بالآخر بجزء، ولا أخلط بأكثر منه، فإن كان الجزء من الخمس الثاني فأول حيضها يكون عند مضي جزء من اليوم الرابع، وآخره عند مضي جزء من اليوم السادس، وإن كان من الخمس الأول فأول حيضها يكون من آخر جزء من اليوم الخامس، وآخره آخر جزء من اليوم السابع، فيحصل لها من أول العشر إلى أول جزء من اليوم الرابع طهر بيقين، ويحصل لها من الجزء الثاني من اليوم السابع إلى آخر

العشر طهر يقين، ويحصل لها من (306 ب/1) آخر جزء من اليوم الخامس إلى أول جزء من اليوم السادس حيض بيقين يسقط عنها صلاة المغرب والعشاء، ويكون بقية الرابع والخامس وبقية السادس والسابع طهر مشكوك فيه تتوضأ لكل صلاة إلى آخر الخامس، ثم تقعد عن الصلاة إلى أول جزء من السادس، ثم تغتسل لإمكان انقطاع دمها والحكم في الصلاة على ما ذكرنا. والثالث: إذا قالت: حيضي يوم وليلة من هذا العشر لا أعلم موضعه منه إلا أني أخلط نهار إحدى الخمسين بنهار الأخرى بجزء. قلنا: حيضك بيقين ليلة السادس وجزء قبلها جزء بعدها ويمضي جزء من نهار الخامس لبقية جزء منه طهر مشكوك فيه والباقي طهر بيقين. والحكم في الصلاة والغسل والوضوء على ما مضى تدع الصلاة في الحيض بيقين، وتصلي في طهرها بيقين وفي طهرها المشكوك فيه وتغتسل في وقت إمكان انقطاع الدم فيه، وتتوضأ لكل صلاة إلى تمام العشر. فروع ذكرها القفال: لو قالت: لا أعرف إلا أني كنت أخلط شهراً بشهر بيوم، وكنت يوم العاشر حائضاً بيقين. قلنا: حصل لك يقين الحيض في أحد عشر يوماً، يوم من آخر الشهر، ويوم من أول الشهر، ويوم (307 أ/ 1) العاشر وما بينه، وبين يومي الخلط. وإذا قدمنا حيضك أقصى ما يمكن كان أوله يوم السادس والعشرين من الشهر الأول تتوضأ هذا اليوم، وفي ثلاثة أيام بعده، وإذا أخرنا حيضك أقصى ما يمكن كان آخره انقضاء أربعة عشر من الشهر الثاني، فاغتسلي لكل صلاة في هذا اليوم، وفي ثلاثة أيام قبله، وما وراء ذلك طهر بيقين. فإن قالت: كنت أخلط شهراً بشهر بيوم، وكنت يوم الحادي والعشرين حائضاً بيقين قلنا: حيضك أحد عشر يوماً، يوم الحادي والعشرين، ويوم الخلط وما بينهما، وتوضئي لكل صلاة أربعة أيام قبل الحادي والعشرين واغتسلي لكل صلاة أربعة أيام أولها اليوم الثاني من الشهر. فإن كانت المسألة بحالها غير أنها قالت: كنت أخلط شهراً بشهر بيوم لكني كنت يوم العاشر طاهراً بيقين، فلا يحصل لها بيقين الحيض إلا يوم الخلط، وتتوضأ لكل صلاة من ليلة السابع عشر من الشهر إلى انقضاء التاسع والعشرين، وتغتسل لكل صلاة من الليلة الثانية من الشهر إلى انقضاء التاسع، ثم هي طاهرة إلى انقضاء السادس عشر. وإن قالت: كان مع هذا حيضي خمسة عشر يوماً، قلنا: حصل لك - يعني الحيض (307 ب/ 1) سبعة أيام ولها ليلة الخامس والعشرين من الشهر فتتوضئ لكل صلاة ثمانية أيام قبل ذلك، واغتسلي ثمانية أيام بعد زمان الحيض آخرها انقضاء التاسع من الشعر

فإن قالت: كانت حيضي (كله) عشرة أيام، وكنت أخلط شهراً بشهر بيوم، وكنت يوم العاشر حائضاً بيقين. قلنا: هذا محال، لأن العاشر ويومي الخلط وما بينهما تزيد على عشرة. وكذلك إن قالت: كنت يوم الحادي والعشرين حائضاً بيقين. فإن قالت: بل كنت يوم التاسع حائضاً بيقين. قلنا: يعين زمان حيضك وهو يوماً الخلط ويوم التاسع وما بينهما. وإن قالت: كنت يوم الثاني والعشرين حائضاً بيقين. قلنا: يقين، وهو يوم الخلط وبينهما. وإن قالت: لا أعرف كم كان حيضي أو كان خمسة عرش، فكونها حائضاً يوم العاشر ليس بمحال لا محالة في هذه المسألة، إلا أن تقول: كنت يوم الخامس عشر أو السادس عشر حائضاً، لأن يوم الخلط مع أحد هذين اليومين وما بينهما يزيد على خمسة عشر. وإن قالت: بل كنت يوم الرابع عشر حائضاً تعين بحيضها يوماً الخلط واليوم الرابع عشر، وما بينهما. وإن قالت: كنت يوم السابع عشر (308 أ/ 1) حائضاً تعين هذا اليوم ويوم الخلط وما بينهما وذلك خمسة عشر. وإن قالت: أعرف أني كنت أخلط شهراً بشهر ولا أعرف قدر الخلط. قلنا: أقل الخلط لحظة فلك لحظتان حيض، لحظة في آخر جزء من اليوم الخامس عشر، والأخرى في أول جزء من ليلة السادس عشر، فإذا عرفت وقت الحيض المتيقن فعدم حيضها أقصى ما يمكن، فإذا أخره من الليلة السادس عشرة وأخره أقصى ما يمكن فإذا آخره قبيل غروب الشمس من اليوم الخامس عشر من الشهر الثاني، ففي النصف الأخير من الشهر تتوضأ لكل صلاة، إذ لا تتوهم انقطاع دمها، وفي النصف الأول تغتسل لكل صلاة إذ كل ساعة تعرض للانقطاع. وعلى هذا لو قالت: كنت أخلط شهراً بشهر يوماً بيوم، أعني بيوم وليلة، ومعنى قولها: (يوم بيوم): أي أن جميع حيضي إن كان في أول الثاني بعد أن كان يوم منه في آخر الشهر الأول، وإن كان الجميع في آخر الشهر الأول بعد أن كان يوم منه في أول الشهر الثاني. وحكم المسألة أنه حصل لها يقين الحيض في يومين يوم من آخر الشهر (308 ب/1) ويوم من أوله، وفي مقابلته حصل يومان طهر، يوم الخامس عشر والسادس عشر، ثم قدم الحيض أقصى ما يمكن بعدما بعد فيه اليومين، وآخر أقصى ما يمكن وبعدهما فيه تتوضأ لكل صلاة في ثلاثة عشر يوماً من آخر الشهر ليلة السابع عشر وآخرها انقضاء التاسع والعشرين، وتغتسل في ثلاثة عشر يوماً أولها الليلة الثانية من الشهر وآخرها انقضاء الرابع عشر. فإن قالت: كنت أخلط شهراً بشهر بياض النهار ببياض النهار تعين لحيضك ليلة

ولحظتان، لحظة من آخر الشهر والليلة الأولى من الشهر، ولحظة بعد طلوع الفجر، وفائدته أن صلاة المغرب والعشاء في تلك الليلة لا يلزمانك، وأنه لا يفسد عليك من شهر رمضان إلا خمسة عشر، وإن كان الانقطاع نهاراً من المحتمل، لأنك تعلمين أن أحد طرفي حيضك كان خارج شهر رمضان، فلا يفسد من رمضان إلا خمسة عشر، وإن أفسد يوماً باشتراك الطهور والحيض فيه. وهكذا جميع الشهر بالشهر لا يفسد من رمضان إلا خمسة عشر فما دونه. ثم في هذه المسألة إذا قدمان حيضها أقصى ما يمكن كان آخره قبيل غروب (309/ 1) الشمس يوم الخامس عشر، فهذه تغتسل في النصف الأول من الشهر وتتوضأ في النصف الثاني، وتكون على يقين الطهر ليلة السادس عشر ولحظتين قبلها وبعدها. وعلى هذا لو قالت: كنت أخلط الشهر بالشهر سواد الليل بسواد الليل فتيقن حيضها اليوم الأخير من الشهر، ولحظة من الليلة الأخيرة من آخر الليلة، ولحظة من أول الشهر من أو الليل، وتسقط عنها صلاة الصبح والظهر والعصر في اليوم الأخير، لا يفسد عليها من الصوم إلا خمسة عشر، لأن انقطاع دمها كان ليلاً إذ لا تتيقن انقطاع دمها متى كان، ولكن لما ذكرنا من الخلط، وتعين طهر هذا اليوم الخامس عشر ولحظتان قبله وبعده، ثم تتوضأ وتغتسل على ما ذكرناه. وإن قالت: كنت أخلط بياض النهار من الشهر الأول بسواد الليل من الشهر الثاني، فهو كما لو قالت: كنت أخلط ولا أعرف بكم، فيقين حيضها لحظتان في آخر اليوم الخامس عشر وأول ليلة السادس عشر. وإن قالت: كنت أخلط بسواد الليل من الشهر الأول ببياض النهار من الشهر الثاني، فيقين حيضها اليوم الأخير، والليلة الأولى، ولحظتان (309 ب/ 1) قبلها وبعدها، ويقين طهرها يوم الخامس عشر وليلة السادس عشر، وقس المسائل على هذا. فرع ذكره القفال: قال: قد ذكرنا العادة في الطهر والحيض يزيد وينقص ومعلوم أنه لو ارتفع دمها عشر سنين ثم استحضيت لم نجعل كل طهر لها عشر سنين، فلابد من حد فاصل بين ما يكون طهراً بين حيضين ونصب عادة، وبين ما لا يكون. وسألت كثيراً من أصحابنا عن هذا الحد الفاصل فلم أجد له بياناً، والذي عندي أن الحد الفاصل ثلاثة أشهر، فإن رأت خمسة أيام دماً وخمساً وثمانين يوماً طهراً، ثم رأت الدم استمر، عملت على أن لها في كل تسعين يوماً حيضاً وطهراً، فإن بلغ طهرها تسعين ثم رأت الدم واستمر بها، عمل على عادتها الأولى أن حيضها خمسة وطهرها خمسة وثمانون،

وإلا فثلاثة أشهر، لأن الآية تعتد بثلاثة أشهر، ولو رأت قرء أو قرئين، ثم ارتفع حيضها وصارت آية، أتت بثلاثة أشهر أيضاً بدلاً من (310 أ/ 1) القرء الباقي والقرءين الباقين، فعرفت أنه قدر لا يجوز أن يكون طهراً بين حيضين، وما دون ذلك يجوز، وهنا حسن. فرع آخر ذكر والدي - رحمه الله - امرأة صلت خلف مستحاضة متحيرة لم تصح صلاتها لجواز أن تكون الحالة حالة حيض فلا تصح الصلاة خلقها، ولهذا لا يجوز صلاة الرجل خلف الخنثى لجواز أنها امرأة وليس لمن صلى خلف من يشك في حدثه بعد يقين الطهارة لا يجوز، لأن هناك أصلاً يفيده، وهو العلم بطهارته، فجاز ذلك. ولو صلى من لا علة به خلف من به سلس البول لا يجوز لأنه لا حالة له إذا ظهرت منع الصلاة خلفه بخلاف هذا. وفيه وجه آخر: لا يجوز لأن حدثه دائن، ولم يأت بطهارته ولا يبدلها. فرع آخر لو صلت المستحاضة خلف المستحاضة وهما متحيرتان ففيه وجهان، كالخنثى إذا صلى خلف الخنثى، والصحيح أنه لا يجوز. فرع آخر صلاة المرأة الطاهرة خلف مستحاضة تعرف عدد حيضها وتعرف وقت البعض دون البعض في حال الطهر المشكوك فيه تنظر، فإنه كان عقيب يقين الحيض لم يجز، وإن كان عقيب يقين الطهر جاز بناء على الأصل فيهما قياساً على الوطء الذي ذكرنا من (310 ب/ 1) التفصيل فيه بين الأول والآخر وفيه وجه آخر أنه لا تصح الصلاة خلفها فهما كما قلت في الوطء يحرم بكل حال وما ذكرناه أصح. فرع آخر قال والدي - رحمه الله - المستحاصة المتحيرة إذا وطأها زوجها في صوم شهر رمضان وقلنا للمرأة يلزمها كفارة الجماع هل عليها الكفار. وجهان والأصح أنه لا يجب عليها لأن الأصل أن لا وجود وللأصل فيه معتمد. فرع آخر قال أيضاً إذا افطرت المتحيرة لإرضاع ولدها فهل يلزمها الفدية على القول الصحيح وجهان والصحيح أنه لا يلزم. فرع آخر لو كان عليها قضاء يوم واحد من الصحيح وقد ذكرنا إنها لا تؤدي ذلك إلا لصوم ثلاثة أيام فلو صامت يوماً وشكت هل نوت أمر آخر فيه وجهان أحدهما لا يؤثر الشك

لأنها شكت بعد الفراغ والثاني يؤثر لأن هذا الصيام كصوم يوم واحد لأنه يسقط بها قضاء صوم يوم واحد فصار كالشك قبل الفراغ، لأجل هذا إذا كان عليه صوم شهرين متتابعين، فصام يوماً ثم شك هل نوى أم غير النية أم لا هل يلزمه الاستئناف؟ وجهان. فرع آخر قال: لو أرادت الجمع بين الصلاتين في السفر وفت الأولى (311 أ/ 1) لا يجوز إلا بشرط تقديم الأولى على الثانية صحيحة يقيناً، أو بناء على أصل ولم يوجد ذلك، ويجوز أن تكون طاهرة عند أداء العصر، وحائضاً عند أداء الظهر، ليس كمن شك في الحدث وأدى صلاة الظهر يجوز العصر بعده جمعاً، لأن هناك يعتمد أصلاً وهي الطهارة السابقة. الفصل الثامن من فروع التلفيق إذا رأت يوماً دماً ويوماً طهراً، لم يخل من أحد أمرين، أما أن يتغير خمسة عشر، أو لا يتغير. فإن وقف عليها ولم يتغير كانت أيام الدم ثمانية، وأيام النقاء سبعة، فهل يكون الطهر بين دم الحيض؟ قولان بناء على التلفيق. فإن قلنا: لا يلفق فمعناه لا يضم دماً إلى دم وطهراً إلى طهر، فتكون أيام النقاء حيضاً، وهو قول الشافعي - رضي الله عنه - في عامة كتبه، وهو الصحيح، واختاره القاضي الطبري. وبه قال أبو حنيفة - رحمة الله عليه - ووجهه أنا لو جعلناه طهراً جعلنا أقل الطهر أقل من خمسة عشر، ولأن عادة المرأة أن لا ترى الدم أبداً، بل ترى من وقت وتمسك في وقت، فحكم بكون الكل حيضاً، إلا أنه بشرط أن لا يزيد الطهر على الدين، فإن زاد فهو طاهر، والدم الذي لم يبلغ (311 ب/ 1) ثلاثة أيام من الدمين طهر أيضاً. والقول الثاني: أنها تلفق ويكون أيام النقاء طهراً وهكذا ذكره الشافعي - رحمه الله - في مناظرة بينه وبين محمد بن الحسن، ونصره، وبه قال مالك، وهو اختيار ابن سريج وأبي حامد وهو المشهور من المذهب وهذا لأن الله تعالى أمر باعتزال الحيض على الطهر إلا وجود النقاء الخالص فجعل وقت الدم حيضاً، ووقت النقاء طهراً، وهكذا لو رأت يومين ويومين وثلاثة وثلاثة، أو رأت خمسة دماً وخمسة طهراً، وخمسة دماً، أو رأت يوماً وليلة دماً، وثلاثة عشر يوماً طهراً، ويوماً دماً، أو كان زمان الدم أكثر، أو أقل. قال: فالكل على قولين، وعلى كلى القولين متى رأت النقاء في اليوم الثاني عليها أن تغتسل في الحال، وتأتي بالعبادات كلها ولزوجها أن يأتيها، لأن النقاء إذا وجد بعود الدم مظنون، والظاهر أنها قد طهرت، فإذا فعلت ذلك، فإن لم يعاود الدم، فقد صح ما فعلت، وإن عاودها الدم فهل صح ما فعلت يبني على القولين. فإن قلنا: تلفق صح ما فعلت، وكان وطئه مباحاً، وإن قلنا: لا تلفق لم (312 أ/ 1) يصح ما فعلت بالصلاة

لا تقضي لأنها ما وجبت، وتقضي الصوم والطواف. وأما الوطء فقد وقع محظوراً، ولكنهما لا يأثمان بذلك، ث إذا قعدت يوماً آخر وطهرت في اليوم الرابع اغتسلت وصامت وصلت على ما بينا وعلى هذا حكمها متى عاودت الدم وطهرت، فإن قيل: هلا قلتم أنه إذا تكرر تركت الصلاة في يوم الطهر وإذا قلتم أنها لا تلفق، لأنها اعتادت عود الدم بعده كما قلتم في المستحاضة إذا زاد الدم على عادتها في الشهر الثاني تعود في الحال إلى ما كانت في الشهر الأول، وإن جاز أن لا يتغير خمسة عشر، قلنا: الفرق أن الظاهر ها هنا بقاء الطهر، فلا ينتقل عن هذا الظاهر لمجرد العادة وتترك الصلاة، وهناك الظاهر اتصال الدم ومجاوزته أكثر الحيض، فثبت على المتقدم في ذلك هذا إذا وقف. فأما أن عبر على هذا كان السادس عشر طهراً، والمذهب أن الاستحاضة دخلت في الحيض. وقال ابن بنت الشافعي: النقاء الذي في السادس عشر بفصل ما قبله من الدماء عما بعده فيكون بعده من الهمسة عشر طهراً، وفي الخمسة عشر قولان على ما بيناه، فجعل ذلك بمنزلة قالوا: تقطع الدم ولم يجاوز الخمسة عشر، وتابعه الشيخ (312 ب/ 1) أبو بكر المحمودي وهذا قول بخلاف نص الشافعي، لأنه قال، في هذه المسألة بعينها في كتاب "الحيض" (فإذا زاد على خمسة عشر علمنا أنها مستحاضة، ورددنها إلى يوم وليلة)، ولأنه لو فصل بينهما إذا وقع بعد خمسة عشر لفصل بينهما إذا وقع في أثناء خمسة عشر، ألا ترى أن الدم الأحمر بين الأسودين لما لم يفصل بينهما في أثناء خمسة عشر، لم يفصل بينهما بعدها، ومن مسألة أنها لو رأت يوماً دماً، ويوماً طهراً حتى عبر خمسة عشر، فالكل الخمسة عشر حيض لو قلنا تلفق، أو كلما فيهما من الدماء حيض على قولنا، لأنها رأت يوم الخامس عشر دماً، وأن رأت ثلاثة دماً، وثلاثة طهراً على هذا فحيضها خمسة عشر، وإن رأت أربعة دماً، وأربعة طهراً فحيضها أثنى عشر، وإن رأت خمسة دماً وخمسة طهراً فحيضها خمسة عشر، وإن رأت أربعة دماً، وأربعة طهراً فحيضها أثنى عشر، وإن رأت خمسة دماً وخمسة طهراً، فحيضها خمسة عشر، وإن رأت ستة دماً، وستة طهراً بعد. وافقنا أنها ترد إلى يوم وليلة في قول، وإلى عادة النساء في قول، لأن الدم اتصل من الخمسة عشر إلى ما بعدها، وإذا قلنا بالمنصوص، وعليه عامة أصحابنا، فهذه مستحاضة فلا يخلو إما أن تكون مميزة أو معتادة أولا تمييز لها، ولا عادة، فإن كانت مميزة لا عادة لها مثل إن (313 أ/ 1) رأت يوماً أسود، ويوماً طهر إلى التاسع، ثم يوماً أحمر، ويوماً طهراً، أو فالأسود حيض، وما بعدها استحاضة، وكم قدر حيضها. فإن قلنا: لا تلفق فالتسعة كلها حيض، وإن قلنا تلفق لفقنا لها خمسة من تسعة الأول، والثالث، والخامس، والسابع، والتاسع، وما عداها طهر، فالوتر أبداً دم إذا كان أولها دماً، وعلى هذا ما زاد ونقص، ولا شك أن النقاء الذي في اليوم العاشر لا يكون حيضاً،

لأنه لا يتعقبه دم محكوم بأنه حيض. وقال أبو يوسف: إذا عاود الدم الحادي عشر أو قبل وجود طهر كامل فجميع العشرة حيض، وإن كانت معتادة مثل إن كان لها خمسة دم فلما كان في هذا الشهر رأت يوماً يوماً، واتصلت وعبر، يبني على القولين، فإن قلنا: لا تلفق ردت إلى عادتها، وهي خمسة فتكون الخمسة للأول دماً بينهما من الطهر حيضاً كلها، وإن قلنا: إنها تلفق فمن أين تلفق؟ قولان: أحدها: من أيام العادة، والثاني: خمسة عشر، ولا تلفق من بعده خمسة عشر، فإن قلنا: تلفق من أيام العادة لفقناها في زمان العادة، وهي ثلاثة أيام الأول، والثالث، والخامس، والباقي طهر، فإن قلنا: نلفق من خمسة عشر من ستة وإن كانت (313 ب/ 1) عادتها ستة، فعلى القولين، فإن قلنا: لا تلفق نقص حيضها بها فيكون خمساً، والسادس رأت النقاء فيه، فلا يمكن أن يكون في معنى الحيض لأنه طهر لم يتعقب حيض، وهذا أصل من كانت عادتها وتراً لم ينقص حيضها، ومن كانت عادتها شفعاً سقط الأخير أبداً على هذا القول. وإن قلنا: تلفق فمن أين تلفق؟ على القولين، فإن قلنا: من العادة لفقنا لها ثلاثة من خمسة، لأن السادس يسقط، وإن قلنا: من خمسة عشر لفقنا لها خمسة من تسعة، وعلى هذا أبداً، وإن كانت عادتها ثمانية فعلى القولين، فإن قلنا: لا تلفق بسبعة حيض، وإن قلنا: تلفق فعلى القولين، فإن قولنا من العادة لفقنا لها أربعة من ثمانية، وإن قلنا: من خمسة عشر لفقنا لها ثمانية من خمسة عشر، فتكون في هذه المسألة في حيضها ثلاثة أقوال: أحدهما: حيضاً ثمانية، والثاني: أربعة، والثالث سبعة، فإن كان حيضها تسعة، فإن قلنا: لا تلفق فحيضها تسعة، وإن قلنا: تلفق فإن قلنا: من العادة لفقنا لها همسة من تسعة، وإن قلنا: من خمسة عشر لفقنا لها ثمانية من خمسة عشر ونقص حيضها يوماً، لأنه ليس في خمسة عشر أكثر من ثمانية أيام دماً، ولا تلفق لها من غيرها، وإن (314 أ/ 1) كانت العادة خمسة عشر، فعلى القولين، فإن قلنا: لا تلفق فالكل حيض، وإن قلنا: إنها تلفق اتفقت العادة خمسة عشر ها هنا تتلفق لها منها ثمانية، وإن كانت مبتدأة لا تمييز لها، ولا عادة كم تحيض هذه؟ قولان. أحدها: اليقين، والثاني الغالب. فإن قلنا: اليقين كان حيضها يوماً وليلة وما بعدها استحاضة. وإن قلنا: الغالب فالحكم فيها كمن عادتها سبعاً، هل تلفق من الست، أو السبع، أو من الخمسة عشر؟ قولان على ما مضى، فإن رأت بياض يوم دماً، ثم بياض الخامس عشر دماً، وما بينهما طهراً فعلى القولين، وإن قلنا: لا تلفق فالكل حيض، وإن قلنا: تلفق فالدم حيض والباقي طهر، فإن رأت بياض يوم دماً، ثم بياض السادس عشر دماً، وما بينهما، وهو أربعة عشر طهراً فالكل دم فساد، لأنا إن قلنا: لا تلفق لم

يصح، لأنه يؤدي إلى أن نجعل مدة الحيض ستة عشر يوماً، وإن قلنا: تلفق التلفيق هو ضم دم إلى دم بعد أن يكونا معاً في وقت يمكن أن يكونا حيضة واحدة، فهذا الثاني بعد خمسة عشر لا يكون حيضاً والأول دون يوم وليلة، فلا يكون حيضاً، وإن رأت ثلاثة أيام دماً وأثنى عشر طهراً صارت خمسة عشر، ثم (314 ب/ 1) رأت الثالث عشر دماً فالثلاثة الأولى حيض، وما بعدها طهر، لأنا أن قلنا: لا تلفق لم يمكن بعد الكل حيضاً، وإن قلنا: تلفق لم يضم ما بعد خمسة عشر إلى ما في خمسة عشر، فكانت الثلاثة وحدها حيضاً، فإن رأت بياض يوم دماً ثم طهراً أربعة عشر، ثم رأت ثلاثة من أول السادس عشر دماً، فالثلاثة حيض، وما قبله دم فساد على القولين معاً، لأنا إن قلنا: إنها لا تلفق لم يصح أن يكون الكل حيضاً، وإن قلنا: تلفق لم يجز ضم الأول إلى الثلاثة، لأن بينهما لا يمنع الجمع، وإن رأت بياض يوم دماً، ثم طهراً ثلاثة عشر يوماً، ثم رأت ثلاثة من أول الخامس عشر، وما بني على القولين، فإن قلنا: لا تلفق، فالأول ثم رأت ثلاثة من أول الخامس عشر، وما بني على القولين، فإن قلنا: لا تلفق، فالأول دم فساد والليلة حيض، لأنه لا يمكن أن يزيد الحيض على خمسة عشر، وإن قلنا: تلفق فمن أين التلفيق؟ على قولين. أحدها: من العادة. والثاني: من خمسة عشر. وإن قلنا: من العادة فلا عادة لها، لأنها مبتدأة ولا يمكن جعل الأول بانفراده حيضاً فبطل الأول وكان الثاني حيضاً. وإن قلنا: تلفق من خمسة عشر فهي مبتدأة لا تمييز لها كم تحيض؟ فيها قولان أحدها: اليقين، والثاني: الغالب. فإن قلنا: اليقين (310 أ/ 1) فبياض الأول وتمام أقل الحيض من الثاني. وإن قلنا: الغالب لفقنا لها كل دم من خمسة عشر، وهو بياض الأول يوماً وليلة وهو يوم خمسة عشر وما بعده طهر. فرع فإن كانت عادتها خمسة في أول كل شهر، وخمسة وعشرون طهراً، فلما كان في هذا الشهر رأت أربعة أيام دماً، وخمسة طهراً، ثم يوماً يوماً ثم الحادي عشر طهراً، واتصل الطهر فهذه حائض تغيرت عادتها. فإن قلنا: لا تلفق فالعشرة حيض، وإن قلنا: تلفق فأيام الدم حيض، وأيام النقاء طهر، وإن كانت بحالها فرأت أول يوم دماً ثم طهرت سبعة أيام، ثم رأت يومين دماً، ثم طهرت، واتصل الطهر فعلى القولين أيضاً. وإن قلنا: لا تلفق فالعشرة حيض وزاد حيضها خمساً، وإن قلنا: تلفق بأيام الدم حيض، وأيام النقاء طهر فبعض حيضها يومين. فرع آخر لو كانت عادتها خمسة من أول الشهر وباقيه طهر، فلما كان في هذا الشهر طهرت

اليوم الأول من الشهر من أحد أمرين، إما أن تقف على خمسة عشر أو بغير كذلك، فإن وقف عليها فهذه حائض قد تغيرت عادتها فانتقل ابتداء عادتها عن أول الشهر إلى ثانية فيكون آخر يوم، وأن الدم الخامس عشر (315 ب/ 1) من يوم رؤيتها الدم، والسادس عشر من أول الشهر، فإن قلنا: لا تلفق فالكل حيض أول الثاني من الشهر، وآخر السادس عشر، وإن قلنا: لا تلفق فالكل حيض أول الثاني من الشهر، وآخر السادس عشر، وإن قلنا: تلفق لفقت لها ثمانية حيضاً من خمسة عشر والباقي طهر، وإن غير واتصل على هذا يوماً ويوماً دخلت الاستحاضة في دم الحيض على الصحيح من المذهب، وتبني على الأولين ففي التلفيق، فإن قلنا: تلفق من أين تلفق؟ قولان: أحدها: من أيام العادة، والثاني: من خمسة عشر، فإن قلنا: من العادة بأول عادتها طهر وقبله طهر فلا نحكم بأنه حيض وآخر عادتها يوم الخامس طهر بعده طهر، فلا نحكم بأنه حيض بقي من عادتها يومان حيض، وهي الثاني والرابع والثالث بينهما طهر، وإذا قلنا: تلفق من خمسة عشر لفقنا لها خمسة من عشرة الثاني من الشهر، والرابع، والسادس، والثامن، والعاشر، والباقي طهر، فإن قلنا: لا تلفق ردت إلى العادة، وهل ترد إلى وقت العادة أو إلى عددها دون وقتها؟ قال ابن شريج: فيه وجهان. أحدها: ترد إلى وقت العادة، فعلى هذا حيضها ثلاثة أيام الثاني، والثالث، والرابع دون الأول والخامس، لأن الأول طهر قبله (316 أ/ 1) طهر الخامس طهر بعده طهر، والثاني: ترد إلى عدة العادة وقدرها دون الوقت. فعلى هذا نحيضها خمسة متصلة أولا ثاني الشهر وآخرها آخر السادس، لأنا نجعل على هذا النقاء الذي بين الدم حيضاً، فحصل في قدر حيضها ثلاثة أوجه: أحدها: يومان، والثاني: ثلاثة، والثالث: خمسة. وفي دمها أربعة أوجه: أحدها: الثاني والثالث والرابع والخامس والسادس والرابع: أن الثاني والرابع والسادس والثامن والعاشر. وفرع أبو العباس على هذه مسألة أخرى، فقال: طهرت من أول الشهر يوماً ولكن رأت اليوم الذي قبل أو الشهر، ثم يوماً ويوماً وعبر، قال: نبني على القولين، فإن قلنا: تلفق، فمن أين تلفق؟ قولان: أحدها: من العادة، والثاني: من خمسة عشر، فإن قلنا: من العادة فليس من عادتها إلا يوماً في الثاني من الشهر والرابع، لأنه ما وجد في عادتها غيرهما، وإن قلنا: من خمسة عشر، قال ابن سريج: في ابتداء الخمسة عشر وجهان: أحدهما: الابتداء من يوم الثاني من الشهر، فعلى هذا يلفق لها خمسة من عشرة أوله الثاني من الشهر والرابع، والسادس والعاشر. والثاني: الابتداء من أول الدم (316 ب/ 1) وهو قبل الشهر بيوم وهو أولى، فعلى هذا تلفق لها خمسة من أول الدم إلى الثامن، فحصل في قدر الحيض وجهان في زمانه ثلاثة أوجه. وإن قلنا: لا تلفق فهل يعتبر وقت العادة أو عددها؟ وجهان، فإن قلنا: يعتبر وقتها سقط أول الدم، لأنه تقدم الوقت وسقط الخامس لأنه طهر بعد طهر، فيكون حيضها ثلاثة أيام أولها ثاني الشهر وآخرها آخر الرابع من الشهر، فحصل على

هذا في قدرها وجهان ثلاثة وأربعة، وفي زمانه وجهان على ما بيناه، فيكون في قدر حيضها ثلاثة أوجه يومان وثلاثة وخمسة، وفي وقته خمسة أوجه لوقت الخمسة ثلاثة أوجه، والثلاثة وقت واحد،. ولليومين وقت واحد. فرع آخر قال بعض أصحابنا بخراسان: لو كان عادتها خمسةُ أيام فجاءها شهر فرأت يومين دمًا ويومين طهرًا هكذا كانت ترى يومين فيومين إلى أن جاوز خمسةً عشر فرد إلى الخمسةُ. فإن قلنا: تلتقط أيام حيضًا من خمسةَ عشر فحيضها اليوم الأول، والثاني، والخامس، والسادس، والتاسع، وفي اليوم التاسع وجه ضعيف أنه ليس بحيض بناء على الوجهين في كل دم كان متصلًا بدم الاستحاضة [317 أ/1] هل هو حيض أم لا؟ والأصح انه حيض. وإذا قلنا: أنها تلتقط من الأيام المردودة إليها فاليوم الأول، والثاني، والخامس حيض، وفى الخامس وجه آخر أنه لا يكون حيضًا، هذا كله في الشهر الأول. فأما في الشهر الثاني كيف تفعل؟ فيه وجهان: أحدها: تجعل ابتداء خمستها في الشهر الثاني من اليوم الثالث؛ لآن اليوم الأول والثاني لم ير فيهما الدم، والثاني: تجعل من ابتداء الشهر وحكم الشهر الأول والثاني سواء، وإن رأت في اليوم الأول والثاني طهرًا، وهذان الوجهان ينبنيان على أن العادة إذا انتقلت ولم تنقطع هل يحكم بالانتقال؟ فيه وجهان: أحدها: وهو قول أبي إسحاق لا تصير منتقلة، فعلى قوله في مسألتنا لا تحيضها إلى يومين في السهر الثاني وحيضها اليوم الثالث، والرابع؛ لأن اليوم الأول والثاني، والخامس لم تر فيها الدم سواء قلنا: الدماء تلفق أم لا، فأما في الشهر الثالث فهر كالشهر الأول سواء تم هكذا فيما يستقبل ففي شهر يكون حيضها يومين، وفي شهر خمسةً أيام على قول من لا تلفق، وثلاثةً علي قول من تلفق، فأما على قول أبي إسحاق تصير منتقلةُ، فعلى هذا في مسألتنا الشهر الثاني يخرج على قول التلفق، فإذا قلنا: لا تلفق [317 أ/] حيضناها خمسةً أيام أولها اليوم الثالث والثلاثين، وآخرها السابع والثلاثين، وإذا قلنا: تلفق يخرج على. الوجهين في محل الالتقاط كما بينا. فرع أخر قال القفال: قال الشافعي: في مبتدأهِ وترى يومًا دمًا، ويومًا طهرًا حتى جاوز خمسةَ عشر، وكانت تصلي وتصوم في أيام النقاء، فإذا أردت إلى يوم وليلةً تعيد صلاةَ سبعةَ أيام. وصوم خمسةَ عشر يومًا، وأجاب على قولنا: الدماء لا تلفق حتى إذا انقطع على خمسةَ عشر كان الكل حيضًا، ومعنى قولهِ: تعيد صلاةَ سبعةً أيام هو أن الأيام التي رأيت فيها الدم سوى اليوم الأول لست بحيض أي فيلزمها قضاء صلاتها. وأما ما أدتها منها في حال النقاء مترددةً بين أن تكون صحيحةً، وبين أن لا تكون واجب عليها أصلًا ولا يحتمل أن تكون واجبةً ولا يصح الإتيان منها، وموضع

الإشكال في الصوم، وهو أنه واجب عليها إعادةُ الصوم خمسةً عشر يوماً، وقد أدت الصوم في أيام النقاء أدام، فما الفرق بينه وبين ,الصلاةَ، فاختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال في الصوم قولان. أحدها: ما نص عليه أنها تعيد الكل. والثاني: تعيد صوم ثمانيةُ أيام وهي [318 أ/1] أيام الدماء، لأن الحائض تقضي الصوم. ومن أصحابنا من قال: تعيد الصوم كما ذكر قولًا واحدًا، والفرق بين الصوم والصلاةً هو أن العبادةً إذا ترددت بين الجواز والفساد لا يجوز، وصومها بهذه الصفة. وأما الصلاةَ فهي مترددة ين أن يجوز وبين أن لا يجوز، ولكن فيها نيابةً وهو أنها لا تجب إن لم يجز بخلاف الصوم فإنه لا يحتمل آن يجب ولا يجوز، ومن جعل المسألةَ على قولين، اختلفوا فمنهم من قال: ينبني القولان على مسألةً قالها الشافعي في خنثى صلى خلف شخص، ثم بان انه امرأةُ فأمرناه بالإعادةً، فقيل: إن أعاد بأن هذا المقتدى امرأةً أيضًا قال: أخشى أن لا يجوز وأحب آن يعيد، فعلق القول فيه، وقاس أصحابنا على ذلك لو صلى رجل خلف شخصًا ثم بان أنه خنثى فأمرناه. الإعادةَ، ثم بان أنه رجل قبل أن يعيد فحصل في هذه المسألة؛ ووجه الشبه أن هذه كانت تصوم وتصلي على ظاهر أن الدم انقطع، فإذا أعاد من الغد كان الظاهر أن صومها بالأمس باطل، إذ الظاهر انقطاع الدم على خمسةُ عشر فما دونه، فإذا جاوز خسمةُ عشر بان أن صومها وفع في الطهر وعذر الصلاة ما ذكرنا إن لم تجب لم يجز، وهذا ذكره [318 أ/] الشيخ أبو زيد المروزي. ومن أصحابها من قادت أصلها القولان في المبتدأةَ التي ردت إلى يوم وليلةً فما بعد ذلك إلى خمسةً عشر هل يعمل على الاحتياط؟ قولان. فإذا قلنا: نعمل فها هنا أعادت ما صامت، لم تصم، وهذه الطريقة ُأصح، لأن الشافعي ذكر هذه المسألة، ثم قال: وهكذا تفعل مما يستقبل، ولو كان المعنى ما ذكره الشيخ أبو زيد لم يكن ذلك إلا في الشهر الأول؛ لأن في الشهر الثاني لا تحتاج أن تراعى الانقطاع على خمسةً عشر أو المجاوزة. فإذا تقرر هذا رجعنا إلى المسألة وحكمها في الشهر الثاني، وهو أن تقول: لا يمكننا أن نحيضها من ابتداء الشهر، ولكن خذ مدة طهرها ومدةْ حيضها واضربها في عدد يبلغ ثلاثين أو يقرب من ثلاثين فما خرج من الضرب فاليوم الثاني منه حيض بيانه فيمن كان حيضها يومين وطهرها يومين أن نضرب أربعةً في عدد يقرب من ثلاثين فتضربها في ثمانيةً فيكون اثنين وثلاثين، فهي تعد من كل شهر اثنين وثلاثين يومًا، ثم يكون بعد ذلك حيضها من اليوم الثالث والثلاثين قس عليه الثلاثةً، والأربعةَ، والخمسةً، فإن كان ترى ستةُ أيام دمًا وستة [319 أ/] أيام طهرًا ففيه وجهان: احدها: نضرب اثني عشر في ثلاثةَ يكون ستةً وثلاثين. والثاني: تضرب اثني عشر في اثنتين يكون أربعة وعشرين.

فرع آخر لو رأت أنصاف الأيام طهرًا وأنصافها حيضًا، فرأت نصف. يوم دمًا ونصف يوم طهرًا، إ فلا يخلو إما أن يتغير أو لا يتغير، فإن وقف عر خمسةَ عشر، ولم يتغير فهذه الأصناف هل تكون بمنزلةَ الأيام الصحاح؟ فيه ثلاثةَ أوجه: المذهب وبه قال: شيوخ الصحاح، أنها كالأيام الصحاح، لأن حيضها قد تقطع ولا فرق بين أن ينقطع على الأيام، أو على الأصناف، ومن أصحابنا من قال: إن تقدمها ما يكون بانفراده دمًا متصلًا أقله يوم وليلةً، فالاتصاف هي كالأيام الصحاح وإلا فهي دم فاسد. وحكي أبو إسحاق عن بعض أصحابنا وجهًا ثالثًا: أنها لا تكون كالأيام الصحاح حتى ترى أولها يومًا وليلةً متصلا وآخرها كذلك، فتكون الأنصاف: بينهما كالأيام الصحاح وإلا فهو دم فاسد، والتفريع على المذهب، والآخر أنه. ليس بشيء فتبنى على القولين، لا يلفق فالكل حيض إلا النصف الثاني من الخامس عشر، لأنه طهر ليس دم الحيض، وإذا قلنا: تلفق فأوقات الدم حيض، وأوقات النقاء [ب 319/ 1] طهر فتكون لها سبعةُ أيام ونصف حيض والباقي طهر. وأما الاغتسال فقال ابن سريج: يبنى على القولين في التلفيق. فإن قلنا: تلفق اغتسلت حتى ترى الطهر في النصف الثاني؛ لأنه يحتمل أن يعاودها الدم من الغد فتصير مع الدم الأول يومًا وليلةً، فيكون الدم الأول حيضًا والطهر الذي يتعقبه طهرًا صحيحًا، فتكون هذه المرأة قد انتقلت من بعض الحيض إلى بعض الطهر يلزمها أن تغتسل؛ لأن حكمها في بعض الطهر حكم الطاهرات، وإن قلنا: لا تلفق لا يلزمها أن تغتسل حتى ترى الطهر في الصف الثاني؛ لأنها لا تخلو من أن يعاودها الدم فيكون زمان الطهر حيضًا أو لا يعاودها الدم، فلا يكون ما رأته من الدم حيضًا كاملًا فلا يلزمها الغسل، فعلى هذا إذا مضى منه القدر الذي إذا جمعته بلغ حيضًا اغتسلت عقيبه. ومن أصحابنا من قال على القول الأول: لا يجب الاغتسال أيضًا في الصف الثاني من اليوم؛ لأن الدم الأول لم حكم بأنه حيض ولا يعلم بمعاودةُ الدم، وهذا كله إذا وقف. فأما إن غير واستمر فقد دخلت الاستحاضةً في دم الحيض على الصحيح من المذهب، وصارت مستحاضةً فلا تخلو إما أن تكون مميزة أو [320 أ/1] معتادة أو لا تمييز لها الإعادة، فإن كانت مميزةً مثل ما رأت الأنصاف أسود إلى عشر، ثم رأت مكانه الأسود أحمر، فالحيض زمان الأسود فيبنى على القولين. فإن قلنا: لا تلفق فالكل حيض، أعني إلى نصف العاشر فيكون لها تسعةً أيام ونصف حيض وبقيةً يوم العاشر، وما بعده استحاضةً؛ لأنه طهر لا يتعقبه حيض، وإن قلنا: تلفق لقضاء من غيره خمسةً وما عداه طهر، وعلى هذا إن كان التميز قبل العشر

أو بعده، وإن كانت معتادة مثل إن كانت عادتها خمسةً فتفرقت أنصافًا بعد ذلك، فإنها ترد إلى عادتها، ثم تبنى على القولين، فإن قلنا: لا تلفق كان حيضها أربعة ونصفًا ونصف الخاص طهر؛ لأنه طهر يعقبه طهر، وإن قلنا: تلفق فهل تلفق لها من العادةً آو من خمسةً عشر؟ على القولين، فإن قلنا من العادةً فالذي لها من العادةً خمسةً أنصاف تصير لها يومان ونصف، وإن قلنا: من خمسةً عشر لقضاء لها خمسةَ من عشرةً، بأن كانت عادتها ستًا فعلى القولين، فإن قلنا: تلفق فعلى القولين، فإن قلنا: أن التلفيق من أيام العادةَ لقضاء لها ثلاثةً من ستةً، وإن قلنا: من خمسةَ عشر لفقنا لها ستةً من اثني عشر، وهكذا الحكم لو كانت عادتها [320 أ/] ستةً، آو سبعةً أو ثمانيةً، وإن كانت مبتدأه فلها في كل شهر حيضةً، وما تلك الحيضةَ؟ قولان احدها: اليقين والثاني: الغالب. فإن قلنا: اليقين فهو على القولين في التلفيق، فإن قلنا: لا تلفق سقط حكم الحيض وكان دم فاسد، لأنه لا يمكن الزيادةَ على يوم وليلةً، ولا يمكن أن يجعل اليوم والليلةً؛ لأن النصف الباقي طهر يتعقبه طهر فلا يكون حيضًا، ولا آن تجعل النصف الأول حيضًا، لأنه دون أقل الحيض فبطل كله، وكان دم فاسد، وإن قلنا: تلفق فمن أين يكون التلفيق؟ قولان فإن قلنا من المادةَ سقط الحيض لأنه لا عادةً لها تلفق بها فيكون دم فاسد، فإن قلنا عن خمسةَ عشر لفقنا لها يومًا وليلةً من يومين. وإن قلنا رجع إلى الغالب قال: وهكذا لو كانت ترى يومًا بلا ليلةً ثم يومًا بلا ليلةً حتى جاوز خمسةَ عشر إلا على قول "أبي بكر المحمودي" من أصحابنا، فإن قال: نحيضها يومين لأنه يقبح أن تكون امرأةً ترى الدم في كل يوم أبدًا، ثم يقال: لا حيض لها، وهكذا قال في المسالةً الأولى، وهكذا إذا تفرقت أنصافًا في الأنصاف، فإن قلنا: الأنصاف لا تكون كالأيام الصحاح فهذه أولى، وإن قلنا: كالأيام الصحاح نظرت في حكم الدم المفرق في خمسةً عشر بأن كان .. لو جمع كله بلغ كله بلغ حيضه [321 أ/] فهو على القولين، إن قلنا: لا تليق فالكل حيض، وإن قلنا: تلفق فأيام الدم حيض، وأيام النقاء طهر، وإن كان الدم لو جمع لم يبلغ أقل الحيض بني على القولين في التلفيق، فإن قلنا: تلفق سقط الدم؛ لأنه لو جمع لم يكن حيضًا، وإن قلنا: تلفق، قال "ابن سريج": فيه وجهان: احدها: أنه دم فساد أيضًا لأنّا إنما نحكم بالطهر بين الدمين بالحيض تبعًا للدم الذي هو حيض، وهذا بانفراده لا يكون حيضًا وهو المذهب، والثاني: الكل حيض، لأنه طهر بين الدمين في وقت يمكن أن يكون حيضًا وهو قول "الأنماطي" حتى قال: لو رأت ساعة حيضًا، ثم أربعةً عشر طهرًا، ثم ساعة دمًا، فهاتان الساعتان تصيران الأطهار حيضًا، وهو قول أبي حنيفةَ.

مسألة: قل: " وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَتِرَكَ الصَّلاَةَ إلا لِأَقَلُّ مَا تَحِيضُ لَهُ النَّسَّاءَ وَذَلِكَ يَوْمَ وَلَيْلَةٍ ". وهذا كما قال نقل المزني ها هنا أن أقل الحيض يومًا وليلةً، وبه قال: أحمد، وذكر في كتاب العدةَ ما يدل على أنه يوم وبه قال داود ولم يذكر الليلةً، فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثةَ طرق: أحدها قول واحد أنه يوم، وليلةً، والذي قال يوم يطلق محمول على ما في سائر كتبه، وأراد به يومًا بليلته؛ لأن العرب يذكرون الأيام ويريدون مع الليالي. والثانيةَ المسألةً على [321 أ/] قول واحد أنه يوم، والذي قال: يوم وليلةً قيل: إن أثبتا: عنده أنه يوجد ذلك في العادةً فلما ثبت رجع إليه، والثانيةً: فيه قولان، وهذا فاسد، لأن الحيض ثبت عندنا بالعادةً، ولا يصح أن يكون عرف العادةً على وجهين، والصحيح الطريقةً الأولى وقال أبو حنيفة: أقل الحيض ثلاثةَ أيام، وبه قال الثوري، وقال أبو يوسف; يومان وأكثر الثالث. وقال مالك: ليس لأجله حد يجوز أن تكون ساعةً، وهذا غلط لأنه خارج من الرحم نعلم به البراءةً، فكان لأقل مدته حد كالحمل، ولأن طريق هذا الوجوب، ولم يوجد أقل من يوم وليلةً عبادةً بتمرةً قال الشافعي: رأيت امرأة ثبت لي عنها. أنها لم تزل، تحيض يومًا لا ترتد عليه، وأثبت لي عن نساء أنهن لم يزلن يحضن أقل من ثلاثةَ أيام، وقال عطاء: رأيت من الماء من تحيض يومًا، وتحيض خمسةَ عشر يومًا. ,قال الأوزاعي: عندنا امرأة بحيض غدوةً وتطهر عشيةً. وقال "أبو عبد الله الزبيري": كان في نسائنا من تحيض يومًا وتحيض خمسةَ عشر يومًا، واحتج به أبو حنيفة بما رؤى "وائلة بن الأسقع" أن النبي. صلى الله عليه وسلم قال:"اقل الحيض ثلاثةً أيام وأكثره عشرة". قلنا: رواه محمد بن أحمد الشامي، وهو وضعيف [321 ا/1] عن "حماد ابن المنهال" وهو مجهول، ثم نحمله على نساء بأعيانهن كان ذلك أقل حيضهن وأكثره. واحتج مالك بأنه لو كان أقله يومًا لكانت لا تقع الصلاةَ حتى يمضي يومًا كاملًا. قلنا: إنما تترك؛ لأن الظاهر الصحة وأنها تدوم والاستحاضةً نادرة لعلةً. مسألة: قال: " وَأَكْثَرُ الْحَيْضَ خَمْسَةَ عُشُرِ " وهذا كما قال: أكثر الحيض خمسةَ عشر، وبه قال مالك: والحسن، وأحمد في رواية، روى ذلك عن علي بن أبي طالب، وعطاء بن أبي رباح - رضي الله عنهما - وقال أبو حنيفة، وسفيان الثوري عشرةً أيام. وقال سعيد بن جبير: ثلاثةً عشر يومًا،

(وروي) عن مالك: أنه لا حد لأكثره كما لا حد لأقله عنده، وحكي عن أبي إسحاق المروري أنه قال: لا يتقدر أكثر الحيض ولا أقله؛ بل يرجع عليه إلى الوجود فكلما وجدنا عادةً مستقرةً تجعل حيضًا. وقال مالك في روايةً ثالثةً: أكثره سبعةً عشر يومًا، وهذا غلط لما روي عن -النبي صلى الله عليه- وسلم أنه قال: "إنهن ناقصات عقل ودين" فقيل: وما نقصان دينهن يا رسول الله؟ فقال: تمكث إحداهن شطر دهرها لا تصلي" فدل على أن أكثر الحيض خمسةً عشر. وهذا الخبر بهذا اللفظ رواه شيوخنا - رحمهم الله، في التصانيف. وروى: نصف دهرها، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم -[321 أ/] قال: "لتنتظر عدد الليالي والأيام التي كانت تحيضهن من الشهر قبل آن بصيبها الذي أصابها" فاخبر أنها تحيض في كل شهر مرةً، والإجماع أن الناسيةً تحيض في كل شهر حيضةَ، والآيةً تعتد بثلاثةً أشهر بدلا عن ثلاثةَ. أقراء، فلا يخلو إما أن يكون الشهر ظرفًا لأكثر الحيض وأكثر الطهر أو لأقلهما أو لأقل الحيض، وأكثر الطهر، آو لأكثر الحيض، وأقل الطهر لا يجوز الأقسام الثلاثةً، فتعين القسم الرابع وأما أكثر الطهر فلا نهايةً له وأقله خمسةً عشر يومًا نص عليه في كتاب "الحيض". وقال "يحيى بن أكثم القاضي": أقل الطهر تسعةً عشر يومًا؛ لأن العادةً أن للمرأةً في كل شهر حيض وطهر، والشهر لا ينقص عن تسعةً وعشرين، وأكثر الحيض عشرةَ أيام فيبقى أقل الطهر تسعةً عشر يومًا، وقال مالك: أقل الطهر عشرةً أيام. وقال أحمد وإسحاق: لا حد لأقله، والدليل على ما قلنا. الوجود، وقد قال شريك بن عبد الله: عندنا امرأةً تحيض من النهر خمسةً عشر يومًا حيضًا صحيحًا مستقيمًا. مسألةً: قال: " وَأَكْثَرُ النّفاسِ سِتُّونَ يَوْمَا" وهذا كما قال: أكثر النفاس ستون يوم، وبه قال مالك وعطاء، والشعبي، والحجاج ابن أوطأة، وعبد الله بن العنبري، وأبو ثور، وداود، وقال [323 أ/] أبو حنيفة والثوري، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيدة: أكثره أربعون يومًا. وروي ذلك عن الأوزاعي، والليث بن سعد،.وقال الحسن البصري: خمسون يومًا

وقال بعض العلماء: سبعون يومًا، واحتج أبو حنيفةَ بما روي عن: أم سلمهَ - رضي الله عنها - أنها قالت: كانت النفساء تقعد منى عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أربعين ليلةً وأربعون يومً وروى أبو أمامةً: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "النفساء إن طهرت حين تضع صلت، فإن رأت الدم قعدت خمسةً وعشرين يومًا، فإن رأت الدم قعدت أربعين يومًا، فإذا جاوزت فهي مستحاضةً"، وهذا غلط لأن الطريق في ذلك الوجود، وقد وجد، وقال الأوزاعي: عندنا امرأةً ترى النفاس شهرين، وروي عن مالك، وعطاء أنه في الغالب. وأما أقل النفاس في بعض نسخ المزني أقله ساعةً، ورواه أبو ثور عن الشافعي، واختلف أصحابنا في هذا فمنهم من قال: محدود للأقل ساعةً، أو به قال ابن سريج، وجماعةً من أصحابنا، وبه قال محمد، وأبو ثور. وقال أصحابنا بالبصرة وبخرسان: أقله لا حد له، وإنما ذكر: الشافعي تقليلًا وتفريعًا لا أنه جعله هذا وأقله مجةً من دم، وبه قال مالك والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق ;وقال أبو حنيفة: أوله خمسةً وعشرون يومًا، وروي عنه. [323 ب/] أقله لحظةً، وقال الثوري: أوله ثلاثةً أيام لأنه أقل الحيض، وقال أبو يوسف: أقله أحد عشر يومًا ليزيد أوله على أكثر الحيض، وقال المزني: أقله أربعةَ أيام لأنها أربعةً أمثال أقل الحيض كما أن أكفره أربعةً أمثال الحيض، وهذا كله غلط؛ لما روى أبو أمامةً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا طهرت النفساء حين تضع صلت" ولا المرجع فيه إلى الوجود، وقد تلد المرأةً ولا ترى دمًا،.ويقال: إن نساء الأكراد هن بهذه الصفةً. وروي أن امرأةً ولدت على عهد رسول الله. ولم تر معه دمًا فسميت ذات الجفاف، وقيل: ذات الجفوف. فإذا تقرر هذا ي فإن رأت ساعة فلا تفوتها صلاة في ذلك، ولكن إن ولدت في رمشان فد عليها صوم ذلك اليوم الذي ولدت فيه، وعليها آن تغتسل عند الانقطاع، ولزوجها أن يأتيها، فإن خافت عود الدم استحب لها التوقف احتياطًا، وإن لم تر شيئًا أصلا، فقد ذكرنا فيما تقدم. فإذا تقرر هذا فإن رأت الدم قبل ظهور شيء من الولد فهو دم فساد بلا خلاف، وإن رأت بعد انفصاله فهو نفاس بلا خلاف. وأما ما خرج مع الولد هل يكون نفاسها؟ فيه وجهان. قال أبو إسحاق: هو نفاس. وبه قال ابن أبي أحمد، وهذا هو أقيس [324 أ/1]؛ لأنه دم خارج بخروج الولد فأشبه الخارج بعده، فعلى هذا يلزم منه الاغتسال، ولو كانت صائمةُ بطل صومها.

وقال سائر أصحابنا: هو دم فساد، ولو كانت صائمةً لا يبطل صومها، وإذا لم تر الدم بعد انفصاله، وكان الولد خرج وحده. وقد ذكرنا أنه لا يلزم الاغتسال به في أحد الوجهين، وهذا هو المذهب؛ لأن ما قاله أبو إسحاق يؤدي إلى أن يزيد أكثر النفاس على ستين يومًا، لأنه لا خالف أن ابتداء الستين عقيب انفصال الولد، ولأنه دم انفصل قبل انفصال الولد فأشبه ما خرج قبله، ولو أتت المرأة بولدين توأمين بينهما أقل من أقل مدة الحمل، فالنفاس لهما، وهل يعتبر من الولد الأول أو الثاني؟ قال ابن القاضي: فيه ثلاثةً أوجه أحدها: أن أول النفاس من الولد الأول حتى لو رأت بين الولدين تسعةٌ وخمسون يومًا فعد الولد الثاني لا نفاس لها إلا يومًا، وإن جاوز فهي استحاضةً النفاس، وبه قال أبو حنيفةً وأبو يوسف، وقال: أكثر النفاس أربعون يومًا فلو كان بين الولدين، أربعون يومًا لم يكن بعد الولد الثاني نفاس أصلًا، وهذا لأنه دم يعقب الولادةً فيجب أن يكون نفاسًا كما في الولد الواحد، والثاني يعتبر من الولد الثاني وهو [324 أ/1] المذهب؛ لأن التوأمين هما كالولد الواحد ولهذا في حكم الرجعةً كذلك حتى لا ينقطع إلا بانفصالها فكان ابتداء النفاس بعدهما، وبه قال زفر، ومحمد، وعلى هذا ما لو رأت قبل الولد الثاني استحاضةً لا يتعلق به حكم النفاس، ولأن ما قاله القائل الأول يؤدي إلى المحال، وذلك أنه ربما يقع بينهما أكثر النفاس، ورأت مع الثاني دمًا مثل ما رأت مع الأول، فإن قال: لا يكون نفاسًا فمحال، لأن الولد الثاني كالأول فكيف يجعل الأول نفاسًا دون الثاني مع رؤية الدم على صفةً واحدةً، وإن قال: يكون نفاسًا وهو قوله: يؤدي إلى أن يزيد النفاس على ستين يومًا، ولا يقال: هما نفاسان متميزان وهذا عذر هذا القائل من غير إشكال لأنه لم يتخلل الطهر بينهما، والثالث أول النفاس هو من الولد الأول وآخره من الولد الثاني، ولا تبالي إن تجاوز ما بين الولد الأول إلى آخر الدم ستين، وهذا هو اختيار ابن أبي أحمد، ووجهه آن كل واحد منهما هو سبب في إثبات، حكم النفاس بدليل حالة الانفراد فإذا اجتمعا ثبت لكل واحد منها نفاس وتداخلًا فينما اجتمعا فيه، ويفارق هذا خروج الدم قبل انفصال الولد؛ لأنه لم يوجد سبب النفاس. ثم [325 أ/1] أعلم أنه إذا اتصل النفاس إلى شيئين يومًا تتعلق به أحكام الحيض أجمع، وإن انقطع الدم في يوم، ورأت طهرًا يومًا، ورأت خمسةً دمًا وخمسةً طهرا أو عشرةً، وعشرةً إلى الستين تبنى على القولين، فإن قلنا: إنها لا تلفق الدماء فالكل نفاس، وإن قلنا: أنها تلفق فأيام الدم نفاس وأيام النقاء طهر، وقد مضت فائدةً التلفيق في الحيض، وعلى كل لون وجد الدم في الستين فهو نفاس كالموجود في حق الحائض في مدةً خمسةً عشر يومًا، وإن رأت الدم دون يوم وليلةً

عقيب الولد، ثم طهرت خمسةً عشر يومًا، ثم رأت الدم لم يخل الثاني من أحد أمرين: إما أن يكون مدةً تكون بانفراده حيضًا أولا تكون، فإن كان مما يمكن أن يكون بانفراده حيضًا، ثم إن بلغ يومًا وليلةً فاليوم الأول نفاس قولًا واحدًا، وأما الثاني: قال ابن سريج: فيه وجهان أحدها: أنه حيض مستأنف وما بينهما طهر صحيح، وبه قال أبو يوسف، ومحمد لأنهما دمان فصل بينهما أقل الطهر فلم يضم أحدهما إلى الآخر كالحيضتين وهذا أصح. والثاني: يقاس أيضًا وبه قال أبو حنيفةً: لأنهما دمان في زمان إمكان النفاس فأشبه إذا كان بينهما أقل ;من خمسةً عشرةً، ويفارق الحيضتين [325 ب/1] لأن الثاني لا يمكن ضمه إلى الأول؛ لأن الحيض الواحد لا يبلغ زمانه، وأما ما بينهما من الطهر فهل يكون نفاسًا؟ فيه قولان بناء على القولين في التلفيق. وحكي عن أحمد أنه قال: الدم الأول نفاس، والدم الثاني مشكوك فيه تصوم وتصلي ولا يأتيها زوجها، وتقضي اليوم والطهر والطواف؛ لأنه يحتمل أن يكون نفاسًا، ويحتمل أن يكون دم فساد، وهذا لا يصح لأنه دم في زمان الإمكان يستحيل آن يجعل مشكوكًا في حكمه، ولأنه ناقص فقال: إن كان الدم الثاني أقل من يوم وليلةً كان دم فساد، ويحمل الأمرين على ما قاله، وإن كان بما لا يمكن أن يكون حيضًا بانفراده إن رأت ساعةً دمًا بعد الولادةً، ثم طهرت خمسًة عشر يومًا، ثم رأت ساعةً، واقطع فمن قال في المسألةً الأولى الزمان زمان نفاس ففي هذه المسألةً الدمان نفاس أيضًا، وأما ما بينهما من النقاء هو مبني على القولين في التلفيق، ومن قال هناك: الثاني حيض مستأنف قال ها هنا: يخرج على وجهين أحدها: أنه دم فساد لأنه لا يصلح أن يكون بانفراده، ولا يمكن أن يضم إلى الأول؛ لأنه يتخلل بينه وبينه طهر كامل فلم يبق إلا أن يجعل دم فساد، والثاني: أنه يكون نفاسًا وهو والأظهر لأنه [326 أ/1] إذا لم يمكن أن يجعله حيضًا مستأنفًا أضفناه إلى الأول وجعلناه نفاسًا وهذا قول محمد، والأول قول آبي حنيفةً، وان تخلل الطهر خمسةً عشر يومًا، نم عاد الدم، وجاوز الستين، قال القفال: لا يختلف القول أن النفاس هو ما قبل الطهر وما بعد الطهر حيض، وإن جاوز في نفسه خمسةً عشر تكون مستحاضةَ، وقيل: فيه وجهان أيضًا، وهو محتمل لأن مدة النفاس واحدة فتعتبر بعود هذا الدم فيها حكم الطهر السابق، وفرع ابن سريج على المسألة الأولى، وهو إذا كان الثاني قدرًا يمكن أن يكون حيضًا. مسألةُ أخرى: وهى أنه لو علق طلاقهما بالولادةً فولدت وأخبرت بانقضاء عدتها فإن قلنا الثاني حيض قال ما ينقضي بها عدتها سبعةً وأربعون يومًا، ولحظتان النفاس

لحظةً، ثم طهرت خمسةً عشر ثم يومًا وليلةً رأت حيضًا، ثم طهرت خمسةً عشر ثم يومًا وليلةً رأت حيضًا ثم طهرت خمسةً عشر فإذا رأت من الحيضةً الثالثةً لحظةً بانت، ويمكن انقضاء عدتها بسبعةً وأربعين يومًا، ولحظةً تأتي بأن لا ترى شيئًا من النفاس بحال، وإن قلنا: الدم الثاني دم نفاس لم نحكم لها بالحيض في الستين. بحالٍ، وأقل ما يمكن أن تحيض يومًا عقيب [326 ب/1] الستين، وقد تقدمهما في الستين طهر، ثم طهرت فيه خمسةً عشر، ثم حاضت يومًا وليلةً، ثم طهرت خمسةً عشر فتصير الستين وتسعين يومًا؛ لأن الستين بعد الولادة قد دخلت اللحظة فيها، وتكفي لحظةً واحدةً، وهذا كله إذا لم تعبر الستين، فإذا عبر الستين، واتصل ففيه وجهان: أحدهما: دخلت الاستحاضةً في دم النفاس لأنه دم يسقط فرض الصلاةً اتصل الدم به بعد مدته فكان استحاضةً كما لو عبر في حق الحائض خمسةً عشر، وهذا هو المذهب. والثاني: إن أيام الستين هي نفاس كلها وما بعد الستين استحاضةً، وهذا هو اختيار المزني - رحمه الله - واحتج بأنه كما ظهر حكمنا أنه يقين النفاس فيستصحب ذلك اليقين إلى الأكبر فيجعل الكل نفاسًا إذا جاوزه ويفارق الحيض، فإنه لا يكون يقينًا أول ما ترى بل يكون مشكوكًا فيه، وإذا بلغ يومًا وليلةً حكمنا بأنه حيض فإذا جاوز الأكثر جاز أن يرد إلى الأقل، وهذا غلط؛ لأن عنده لأقل النفاس قدر هو أربعةَ أيام كالحيض سواء فلا يصح الفرق، ولأن الحيض إذا بلغ يومًا وليلةً حصل فيه اليقين، فإن لم يكن قل ذلك يقين فينبغي أن لا تترك بعدم إلا [326 أ/1] الأقل، ومن أصحابنا من ذكر وجهًا ثالثًا أن الستين نفاسًا والذي بعده حيض؛ لأنهما جنسان فلا يتنافيان وهذا ضعيف. وإذا قلنا بالمذهب فلا يخلو إما أن تكون مميزةً أو معتادةً، أو لا تمييز لها، ولا عادةً فإن كانت مميزة مثل إن رأت الدم الأسود، ثم تغير إلى أحمر، أو رأت الأحمر ثم تغير إلى الصفرة ردت إلى تمييزها فأيام الأسود، أو أيام الأحمر نفاس وما بعد ذلك استحاضة، وإن كانت معتادة مثل أن ولدت مرة بعد أخرى وكانت عادة نفاسها أربعين يومًا ردت إلى العادة، فيكون قدر العادة نفاسًا وما بعدها استحاضة، وإن لم يكن لما تمييز ولا عادة فكم تنفس؟ فيه قولان: أحدهما: أن اليقين لحظة أو لا شيء أصلًا. والثاني: غالب نفاس النساء أربعون يومًا وقيل قول واحد ترد إلى الغالب. والفرق بينه وبين الحيض أن دم النفاس يقين، ودم الحيض فرددناها إلى أقل الحيض احتياطًا.

فرعان لأبي إسحاق - رحمه الله - أحدهما: امرأة شهرها عشرون يومًا خمسة حيض وخمسة عشر ظهر، فولدت فرأت الدم عشرين يومًا، ثم طهرت خمسة عشر، ثم عاودها، واتصل فالأول نفاس، والطهر بعده صحيح وما بعده استحاضة يكون شهرها عشرين يومًا خمسة [327 ب/1] حيض، وخمسة عشر استحاضة، هذا إذا وافق الطهر بين النفاس، والدم الثاني عادة طهرها. والفرع الثاني: امرأة شهرها ثلاثون يومًا، عشرة حيض وعشرون طهر، فولدت فرأت الدم عشرين يومًا وطهرت ستين يومًا، ثم عاودها الدم واتصل بنفاسها عشرون يومًا وبعده طهر صحيح، وما بعده استحاضة يكون شهرها سبعين يومًا عشرة حيض، وستون استحاضة؛ لأن العادة على ظاهر المذهب تثبت بمرة واحدة، وقد طهرت مرة ستين يومًا من نفاسها وحيضها، فانتقلت عن تلك العادة إلى هذه، وعلى قول من قال: لا تثبت العادة بمرة واحدة، قال ها هنا: أردها إلى عادتها فيكون شهرها ثلاثين يومًا ما كان قبل الولادة، وأبو إسحاق فرعها على القول: الدم الثاني بعد الولادة وبعد خمسة عشر يومًا حيض، فإن قيل: لم عبرتم به الطهر دون الدم؟ قلنا: لأن دم النفاس مخالف لدم الحيض في المقدار فلم يتغير به مقدار الحيض، والطهر بين النفاس كالطهر من الحيض فتعين أحد الطرفين بالآخر. وقال القفال: هذا مبني على أن النفاس والحيض جنس واحد، وجنسان فإن قلنا: جنس واحد فقد نقص طهرها، وإن [328 أ/1] قلنا: جنسان فالطهر كما كان والأول أطهر وأصح. فرع آخر ذكره أصحابنا: إذا رأت الحامل خمسة أيام دمًا، ثم ولدت عقبها فرأت دم النفاس، فإن قلنا: إن الحامل لا تحيض بالخمسة استحاضة وما بعد الولد نفاس وإن قلنا: أنها تحيض. اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: الخمسة حيض وما بعد الولادة نفاس، وبه قال صاحب "الإفصاح"، ومنهم من قال: الخمسة استحاضة على القولين معًا؛ لأن ما بعد الولادة نفاس بالإجماع، ولا يجوز أن يتوالى الحيض والنفاس كالحيضتين، ومن قال بالأول أجاب عن هذا لأنهما دمان من حيضتين فلا يضر أن لا يتخلل بينهما طهر بخلاف الحيضتين. وقال القفال: معنى الوجهين أن الحيض والنفاس جنس واحد أو جنسان؟ فيه وجهان. وقال بعض أصحابنا: بخراسان: إن قلنا بالوجه الأول ترد إلى يوم وليلة من

أول هذا الدم الذي قبل الولادة إن كانت مبتدأة، ثم الباقي دم فساد، وكذلك ما بعد الولادة إلى الشهر الثاني من اليوم المردود وتجعل الولادة كأن لم تكن، وقد يقع الطهر ناقصًا في خلاف دم الفساد، فيكون طهرًا أيضًا مثل إن رأت عشر دمًا، وعشرة طهرًا، ثم ولدت فإنها تكون طاهرة أيضًا بعد [328 ب/1] الولادة عشرة ثم بحيضها يومًا آخر وتجري على ذلك إن اتصل دمها، وإن كانت معتادة وعادتها خمسة نردها إلى خمسة سواء ثبتت لها العادة في زمان الحمل أو قبل زمان الحمل، ويكون الباقي من العشرة الطهر وعشرة بعد الولادة كلها طهر ثم نحيضها خمسة أخرى، وما تقدم أصح لأنه يستحيل أن تجعل الدم بعد الولد في مدة النفاس المحتمل طهرًا. مسألة: قال: "وَالَّذِي يُبْتَلَى بِالْمَذْيِ بِلاَ تَقْطِيعُ مِنَل المُسْتَحَاضَةِ يَتَوَضَّأُ لِكُلَّ صَلاَةٍ فَرِيضَةٍ بَعْدَ غَسْلِ فَرْجِهِ وَيَعَصِبُهُ" وهذا كما قال: المستحاضة ومن به سلسل البول والذي يتوضأ لكل صلاة فريضة حاضرة أو فائتة، ولا يجمع بين صلاتي فرض ولا بين بفرض، ولا بين صلاة فرض وطواف فرض بوضوء واحد، وإذا توضأ الفرض صلى به الفرض الواحد وما شاء من النوافل كما قلنا: في التيمم ولا يجوز لواحد من هؤلاء أن يتوضأ لصلاة الفرض قبل دخول وقتها. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: يجوز لواحد من هؤلاء أن يصلي في وقت واحد ما شاء من الفرائض، وتبطل طهارتها بخروج الوقت حتى لا تصلي بها أصلًا، وتجوز طهارتها قبل دخول وقت الصلاة. وبه قال أحمد، وعندنا لا تبطل [329 أ/1] طهارتها بخروج الوقت. وقال الأوزاعي، والليث: تجمع بطهارتها بين الظهر والعصر فقط، وهذا غلط لما روى عدي بن ثابت، عن أبيه، عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المستحاضة: "تدع الصلاة أيام أقرائها ثم تغتسل وتصلي وتتوضأ عند كل صلاة" ولأن أبا حنيفة - رحمة الله عليه - قال: "إذا توضأت قبل الطهر، ثم دخل وقت الظهر، لم تبطل طهارتها، وقد خرج عنها وقت صلاة العيد. وقال مالك - رحمه الله - لا وضوء على المستحاضة أصلًا عن داود مثله أنه لا

وضوء عليها بما يخرج من الدم بعد الوضوء فكذلك لا وضوء بالأول، وهذا غلط، لأن الدم الأخير يوجب الوضوء، ولهذا لو انقطع يلزمها تجديد الوضوء ولكنه عفي عنه عند الاتصال للضرورة. وإذا تقرر هذا الكلام الآن فيما يجب على المستحاضة فعله إذا أرادت صلاة الفرض والحكم فيها ومن به سلسل البول والقيام والريح، وكذلك من به جرح سائل حكمه حكم المستحاضة إلى في الوضوء، فإن خروجه منه لا ينقص الوضوء إلا أن يخرج الدم من أحد السبيلين كدم البواسير ونحو فإنه كالمستحاضة سواء فإن كان الدم يسيرًا بحيث إذا استدخل قطنة [329 ب/1] أو خرقة انقطع فعلت ذلك، كأن لم ينقطع به وضعت على رأسن القطنة خرقة واستوثقت وتلجمت، والتلجم: هو أن يشد فرجها بخرقة ويعصبها، ثم يشد في وسطه نكة أو خرقة، ويشد تلك الخرقة التي على وسطها من خلفها وطرفها الثاني من بين يديها. وقال الشافعي - رضي الله عنه - في موضع: تأخذ خرقة مشقوقة الطرفين فتدخلها بين فخديها كل طرفين منها على فخدها. وهذا ضعيف وما تقدم هو أصح، فإذا فعلت ذلك وصلت فإن لم يقطر منها الدم أجزأها، وإن قطر الدم نظر، فإن كانت قد استوثقت قدر الإمكان والخارج غلبه فلا قضاء عليه لقوله - عليه الصلاة والسلام - في المستحاضة. "صل وإن قطر الدم على الحصير قطرًا" كأن لم يكن استوثقت فعليها إعادة الشد والطهارة والصلاة لأنها مفرطه في ذلك، وهكذا من سلسل البول يسيل إحليله لقطنة يدخلها فيه إن كان يمسك بها، وإن كان لا يمسك عصب رأس ذكره بخرقة ويكفيه، ولا يلزمه إدخال القطنة في إحليله لقول الشافعي - رحمه الله - بعد غسل فرجه وتعصيبه، ولا يجوز أن يعلق قارورة يقطر فيه بوله، لأنه يكون يحمل نجاسة في غير معدتها بلا ضرورة. فإذا تقرر هذا [330 أ/1] ودخل عليها وقت الصلاة فتوضأت رفعت بها الحدث الماضي دون القائم والحادث، ثم يُنظر، فإن صلت عقيب الفراغ من الوضوء صحت الصلاة، وإن أخرت خارج وقت الصلاة زالت طهارتها في حق الفرض وتجوز لها النوافل. ومن أصحابنا من قال: يجوز لها أداء الفرض كما لو تتيمم للفائتة ثم دخل وقت الفريضة به يجوز له أن يصليها به في أحد الوجهين، وهو اختيار القفال وإن أخرت

الصلاة من أول وقتها نظرت، فإن كان التأخير لسبب يتعلق بمصلحة الصلاة كاستقبال القبلة وإصلاحها ولباس البدن وانتظار الجماعة والخروج إلى المسجد لم يقدح فيها، إن كان بغير سبب. قال ابن سريج: فيه وجهان. أحدهما: لا يجوز لها أن تصلي به الفريضة، لأنه ما رخص في الحدث القائم حالة الصلاة فلا يجوز لها تأخير الصلاة أكثر من الحاجة. والثاني: يجوز ذلك لأنه لما جاز لها تأخير الصلاة إلى آخر الوقت جاز تأخير فعلها بهذه الطهارة، وهل يلزمها غسل الفرج لكل صلاة فريضة؟ فيه وجهان، وقيل قولان: أحدهما: ما نص عليه ها هنا أنه يلزمها ذلك لأنها تقدر على إزالة تلك النجاسة، والثاني: لا يلزمها ذلك ما لم تزل الضرورة أو العصابة وقيل: أو طهر على [330 ب/1] العصابة، ذكره القفال. ولو توضأت وانقطع دمها لا تخلو إما أن يكون انقطاع عادة أو لا عادة لها به، فإن لم يكن لها عادة بانقطاعه مثل أن تكون مبتدأة، فإن لم تكن خلت في الصلاة بطلت طهارتها وعليها استئنافها، وهذا لأن الانقطاع يحتمل أن يكون لكبر أو زوال العلة، ويحتمل أن يكون لعارض ولم تزل العلة إلا أن الظاهر زوالها وحصول البرء منها، فيبطل وضوءها الأول ويلزمها تجديد الوضوء، وإن كان الانقطاع في الصلاة فالمذهب المنصوص أنه تبطل صلاتها، وفيه قول مخرج من التيمم أنه إذا رأى الماء في صلاته لا تبطل صلاته، وقد مضى الفرق فيما تقدم، وإن كان لها عادة بانقطاعه، مثل أن تستمر عادتها أنه تنقطع ساعة وتسيل ساعة، والقدر الذي تنقطع فيه لا يتتبع الطهارة والصلاة، فلا يقدح ذلك في الطهارة ولها الدخول في الصلاة، وإن انقطع انقطاعًا بينًا يمكنها تجديد الطهارة فعليها أن تتوضأ وتصلي، وصار هذا الانقطاع بمنزلة الانقطاع المثل للبرد وزوال العلة، فإن توضأت ودخلت في الصلاة فعاد الدم بطلت الطهارة قولًا واحدًا كابتداء الاستحاضة، ولكنه حدث عليها الصلاة فتخرج وتتوضأ وهل تبنى على. . . [331 أ/1] تستأنف قولان كمن سبقت الحيض سواء. وفرع ابن سريج عن الفصل الأول. وقال: إذا انقطع دمها بعد الوضوء والدخول في الصلاة، وقلنا لها: لا تْدخلي في الصلاة مثل الوضوء ثم عاد الدم قرب فيه وجهان. أحدهما: صحت الصلاة لأن هذا الانقطاع هو كل انقطاع على ما ظهر. والثاني: وهو المذهب الصحيح أن صلاتها باطلة، لأنها دخلت فيها معتقدة أنها محدثة، فلم تنعقد، وإن بان أنها متطهرة اعتقد انقضاء المدة في مسح الخفين يدخل في الصلاة، ثم بان بقاء المدة لم تصح صلاته كذلك ها هنا.

فرع آخر لو كان انقطاعها عادة، وقلنا: يجوز الدخول في الصلاة فدخلت فإن عاد الدم قريبًا صحت صلاتها واتصل الانقطاع بطلت صلاتها وجهًا واحدًا لأنها علمت الخطأ في تقدمها أن الانقطاع غير تام. وذكر أبو حامد عن ابن سريج فيه وجهين كما في ابتداء الانقطاع غلط ظاهر. فرع آخر لو كان الانقطاع في أثناء الصلاة وكان قدراً ......... الصلاة أيضًا.

..............

كتاب الصلاة

كتاب الصلاة باب وقت الصلاة والأذان اعلم أن الصلاة في اللغة: عبارة عن الدعاء، يقال: صلى فلان، يعني دعا. قال تعالى: "وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم" [التوبة: 103]، أي: ادع لهم. وقال تعالى: "وصلاة الرسول" [التوبة: 99]، وأراد دعاء الرسول. ثم الشرع سمى الدعاء مع ما ضمه إليه من الأفعال والتكبير والقراءة صلاة، فكأنه أقر الدعاء على ما كان، وأضاف إليه غيره من الأركان، فصار عرف الشرع منصرفاً إليها، فمتى ورد في الشرع الأمر بالصلاة مطلقاً، انصرف إلى الصلاة الشرعية دون اللغوية. والأصل في وجوب الصلاة قوله تعالى في غير موضع: "وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة" [البقرة: 43]. وقوله تعالى: "وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة" [البينة: 5]. وروى ابن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمس "، وذكر منها: "وإقام الصلاة". وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا خمسكم " الخبر. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "الصلاة عماد الدين فمن تركها فقد كفر"، ولأنه لا خلاف بين المسلمين في وجوبها، والإجماع حجة، فإذا تقرر هذا: قال الشافعي - رحمة الله تعالى عليه- في استقبال القبلة: سمعت من أثق بخبره وعلمه يقول: أن الله تعالى أنزل فرضاً في الصلاة ثم نسخه بفرضٍ غيره، ثم نسخ الثاني بالفرض في الصلوات الخمس، ويعني به قوله تعالى: "يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا،

نصفه" [المزمل: 1 - 3] الآية. وجملة ذلك، أن فرض الصلاة كان قيام الليل نصفه أو أزيد منه ثلثه [1 أ/2]، أو أنقص من ثلثيه، وهو المراد بقوله تعالى: "نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه" [المزمل: 3 - 4]. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي به وطائفة من الذين آمنوا معه. قال الله تعالى: "إن ربك يعلم أنك تقوم ادنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك" [المزمل: 20] معك ثم تاب الله تعالى على عباده وخفف عنهم، فنسخه بعد سنة إلى قيام اليسير من الليل، فقال تعالى: "فاقرؤوا ما تيسر من القرآن" [المزمل: 20]، يعني: فصلوا، فعبر عن الصلاة بالقراءة، لأنها ركن من أركانها، وعبر بالقيام عنها في أول السورة، لأنه ركن منها. قال ابن عباس رضي الله عنه: «كان بين أول السورة وبين آخرها سنة»، ثم نسخ كله بقوله تعالى: "ومن الليل فتهجد به نافلة لك" [الإسراء: 79]. وقيل: نسخه بالصلوات الخمس واستقر الأمر عليها، وكان ذلك ليلة المعراج قبل الهجرة بسنة، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك، لم يزد عليها، ولم ينقص بدليل ما روي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «خمس صلوات فرضهن الله تعالى في اليوم والليلة، فمن أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن، وأتم ركوعهن وسجودهن وخشوعهن كان له على الله عهد أن يدخله الجنة، ومن لم يفعل ذلك فليس له على الله عهد، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له ". ثم فرض الصوم بعد الهجرة بثلاث سنين، فكان بين فرض الصلاة والصوم أربع سنين، ثم فرض الحج بعد الهجرة بست سنين، فكان بينه وبين الصوم ثلاث سنين، وفرض الصلاة قبل فرض الصوم، وقيل: بعد فرض الصوم، فإذا تقرر هذا، فاعلم أن الصلوات الخمس مؤقتة، بدليل قوله تعالى: "إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا" [النساء: 103]، أي مكتوبة موقتاً، ثم ذكر الوقت في آيتين ذكراً فيه إجمال، فقال في موضع: "فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون" [الروم: 17 - 18]. قال ابن عباس رضي الله عنهما: قوله: "سبحان الله" أي: سبحوا الله، ومعناه: "صلوا". فعبر عن الصلاة بالتسبيح، وأراد بقوله: "حين تمسون" صلاة المغرب

والعشاء، وأراد بقوله: "وحين تصبحون" صلاة الصبح، وأراد بقوله: "وعشياً" صلاة العصر، "وحين تظهرون" صلاة الظهر. وقال في موضع آخر: "أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر * إن قرآن الفجر كان مشهودا" [الإسراء: 78]. والدلوك: هو الزوال، فتضمن ذلك صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، ثم أفرد صلاة الصبح بالذكر، فقال: "وقرآن الفجر"، يعني: صلاة الفجر. وقيل: الدلوك: عبارة عن الغروب، فيكون فيه ذكر العشاء من صلاة الفجر. وقوله: "مشهودا"، أي: تشهدها ملائكة الليل وملائكة النهار، ثم بين جبريل عليه السلام الأوقات للنبي صلى الله عليه وسلم بيانا شافيا، ورد فيه الإخبار وأحسنها ما روى نافع وجبير بن مطعم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمني جبريل عليه السلام عند باب البيت مرتين، فصلى بي الظهر في اليوم الأول حين زالت الشمس ". وروى حين كان الفيء مثل الشراك، ثم صلى بي العصر حين كان كل شيء بقدر ظله، ثم صلى بي المغرب حين أفطر الصائم، ثم صلى بي العشاء حين غاب الشفق، ثم صلى بين الصبح حين حرم الطعام والشراب على الصائم، ثم عاد في اليوم الثاني، فصلى بي الظهر حين كان كل شيء بقدر ظله قدر العصر بالأمس، ثم صلى العصر حين صار كل شيء مثليه، ثم صلى بي المغرب للقدر الأول لم يؤخرها، ثم صلى العشاء الآخرة حين ذهب ثلث الليل، ثم صلى الصبح حين أسفر. وروي: وقد كاد [2 أ/ 2] حاجب الشمس يطلع، ثم التفت، فقال: يا محمد هذا وقتك ووقت الأنبياء من قبلك. والوقت فيما بين هذين. وقوله: مثل الشراك ليس على مضي التحديد، ولكن الزوال لا يستبان بأقل ما يرى من الفيء وأثلّه فيما يقدر ما هو مبلغ قدر الشراك، أو نحوه، وليس هذا المقدار مما يتبين به الزوال في جميع البلدان، وإنما يتبين ذلك في مثل مكة من البلدان التي ينتقل فيها الظل، أي يصير الظل تحت النقل عند الزوال، وإذا كان أطول يوم في السنة، واستوت الشمس فوق الكعبة، لم ير شيء من جوانبها ظل، وكل بلد يكون أقرب إلى وسط الأرض كان الظل فيه أقصر وما كان من البلدان أبعد من واسطة الأرض، وأقرب إلى طرفها، كان الظل فيه أطول.

مسألة: قال الشافعي رحمة الله عليه: والوقت للصلاة وقتان. الفصل وهذا كما قال: اعلم أن وقت القيام هو وقت الصلاة في حال الإقامة، ووقت الرفاهية هو وقت من لا عذر له، كما بينه جبريل عليه السلام. والرفاهية هي: الخفض والدعاء. وأما وقت العذر والضرورة، اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: وقت العذر غير وقت الضرورة، لأن العذر ما رخص له فيه من غير أن يدفع الإنسان إليه، والضرورة ما دفع إليه من غير اختياره فوقت العذر، هو وقت المعذور بالسفر والمطر عند الجمع. وأما وقت الضرورة، فهو وقت الصبي إذا بلغ والكافر إذا أسلم والمجنون إذا أفاق وغير ذلك، فهذا القائل يقول: الوقت ثلاثة: وقت مقام، ورفاهية، ووقت عذر وهو وقت الجمع، ووقت ضرورة. وقد نص الشافعي على هذه الأوقات الثلاثة فغلط المزني فجعلها اثنين. ومن أصحابنا من قال: أصاب المزني فيما ذكر، وأراد بقوله: [2 ب/ 2]، ووقت عذر وضرورة ويسر. وثلاثة أقسام قد تجعل خبرين: يقسم في خبر، ثم قسمان. وإنما صح ذلك له، لأن كل ضرورة عذر، وإن لم يكن كل عذر ضرورة، وهذا غير صحيح، لأنه ذكر في آخر الباب ما يدل على فساده، فقال: والوقت الآخر هو وقت العذر والضرورة، ثم فسر بطهر الحائض وإفاقة المجنون، فثبت أنه أراد بهما وقتا واحدا. وقال أبو إسحق: وقت العذر والضرورة واحد، لأن كل ضرورة عذر، وهو وقت الصبي إذا بلغ وغيره، ولم يذكر في جملتهم المسافر والممطور، بل ذكر ذلك في باب الجمع. وهذا أصح، لأن الشافعي قال: الوقت للصلاة وقتان، وفسره بكذا في آخر الباب. ونسب المزني هذه العبارة إلى الشافعي، وهو صادق في الرواية، فإذا تقرر هذا، فالكلام الآن في بيان وقت الصلاة وقد بدأ الشافعي في "القديم" بيان وقت صلاة الصبح أولاً، وعليه كل الفقهاء، وبدأ في "الجديد" ببيان وقت الظهر أولاً، وهذا أولى، لأنه اعتمد في بيان الأوقات على خبرين أشار إليهما في آخر هذا الفصل.

وكانت صلاة الظهر هي المبدأ ببيان وقتها في كل الخبرين، ولهذا سميت الظهر الصلاة الأولى. ثم اعلم أن أول وقت الظهر حين تزول الشمس، وزوالها ميلاً عن وسط الفلك، لأنها تطلع، ولا تزال في الارتفاع حتى تنتهي إلى وسط الفلك، فإذا انتهت إليه انحطت عنه، وهو زوالها. وذلك أن السماء على الدنيا مثل القبة مسبلة الأكتاف عالية الوسط، ألا ترى أن الشمس ترى عظيمة حين تطلع لقربها منك، وإذا علت صغرت في رأي العين لبعد المسافة وبيان فالزوال في الأرض أنها أول ما تطلع يكون الظل في الشمس طويلا مديداً نحو المغرب، فكلما علت يتقلص الظل حتى تنتهي إلى وسط الفلك، فإن كان [3 أ/ 2] الزمان صيفاً، والمكان وسط الدنيا مثل مكة، لم يبق لكل شخص قائم معتدل ظل بحال حتى يأخذ الشمس حواليها كلها من غير ظل، وهذا لا يكون إلا يوماً واحداً على ما ذكرنا، فمتى سقط الظل وإن قل فقد مالت الشمس، وإن لم يكن الزمان صيفاً، وهو الربيع والخريف والشتاء، أو كان صيفاً، ولكن المكان غير وسط الدنيا، فالفيء لا يتقلص كله حتى لا يبقى للشخص فيء، بل يبقى له ظل يخلف قدره بالزمان والمكان، لأن الشمس تبلغ في الصيف وسط السماء، فتبعد من الأرض وينقص الفيء. وفي الشتاء يصير في عرض السماء، ولا تبلغ الوسط، فتكون أقرب إلى الأرض، فيطول الفيء فمعرفة الزوال في هذه الفصول أو في الصيف في غير وسط الدنيا أن ينظر إلى الظل، وتتفقد تناقصه حتى إذا علمت انتهاء النقصان، فقد عرفت انتهاء ارتفاعها، فإذا ظهر الظل نحو المشرق أدنى شيء، فذلك زوال الشمس، وهذا لأن أول ما تطلع الشمس يقع الظل إلى ناحية المغرب مستطيلاً، ثم لا تزال ترتفع ويتقلص الظل، ثم عند استواء الشمس يأخذ الظل الثاني الذي لا يزال في الزيادة نحو المشرق، فإذا تحقق زوال الشمس، فقد دخل أول وقت الظهر ووجبت الصلاة ويجوز الأذان لها. قال الله تعالى: "أقم الصلاة لدلوك الشمس" [الإسراء: 78]، قال الشافعي: أراد به زوال الشمس دون الغروب. وبه قال ابن عمر وابن عباس وأبو هريرة رضي الله عنهم، قالوا: دلوك الشمس: ميلها. وروي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا: الدلوك: غروبها، وهذا غلط لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خبر المواقيت، فصلى في الظهر حين دلكت

الشمس، فدل أن المراد به الزوال، ولأن اسم الدلوك يقع على الزوال على ما ذكرنا عن الصحابة، وهم أهل اللسان، ويقع على الغروب على ما ذكرنا، [3 ب/ 2] وذلك لأن الدلوك: الانتقال والتحول، وهو حاصل فيهما، ولكن حمل الآية على الزوال أولى، لأن ذلك ينتظم جميع الصلوات، ولأنه أسبق، فانصرف إليه الأمر. وذكر أبو جعفر الراسي في المواقيت، قبل أن ينتهي طول النهار بستة وعشرين يوماً لايكون للشخص في مكة ظل. وكذلك بعدما انتهى بستة وعشرين يوماً، وهذا غريب. وأما قبل الزوال، لا يجوز استفتاح صلاة الظهر بحال. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما رواية ضعيفة، أنه يجوز استفتاحها قبل الزوال بقليل، وهذا غلط لما ذكرنا من الخبر. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن للصلاة أولاً وآخراً، وأول وقت الظهر إذا زالت الشمس". وقال مالك: يؤخر استفتاحها بعد الزوال حتى يصير الفيء قدر ذراع، وهذا غلط لقوله تعالى: "أقم الصلاة لدلوك الشمس" [الإسراء: 78]، فاعتبر الزوال وحده. وروي أن جبريل عليه الصلاة والسلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقت الزوال، وقال: قم يا محمد فصل الظهر، فإذا تقرر هذا، فاعلم أنه يسهل معرفة ذلك إذا كانت الشمس طالعة، والسماء صاحية، فإن كانت السماء مغيمة، قال الشافعي: راعي الشمس فإنه نزوله منها ما يدله وإلا تأخر حتى يرى أنه قد صلاها بعد الوقت، واحتاط بتأخيرها ما بينه وبين أن يخاف دخول وقت العصر، وهذا صحيح، فيقول: إذا كانت السماء مغيمة راعى قرص الشمس، فإن بانت له من وراء الغيم تحمل على ما يدله عليه وإن لم يرها تجري في ذلك، واستدل على دخول الوقت بعمل أو قرئ أو قراءة قرآن ونحو ذلك، فإذا غلبه على ظنه دخول الوقت بشيء من ذلك عمل عليه. وأحب الشافعي أن يؤخرها إلى أن يخاف خروج الوقت، فإذا صلى بذلك نظر فإن لم ينكشف الأمر بذلك، كانت الصلاة مجزية، وإن انكشف الأمر بظهور الشمس، فإن بان أنه فعلها قبل الوقت لم تجزه، وإن بان أنه فعلها في الوقت أجزأته، [4 أ/ 2] وإن كان فعلها بعد خروج الوقت أجزأته، هذا يدل على أن نية القضاء لا تجب، لأنه اعتقدها أداء.

قال الشافعي: وسواء علم بذلك بنفسه أو أخبره من صدقه، أراد به إذا أخره عن مشاهدة، وإن أخره عن اجتهاب لم يلزمه قبوله، وكذلك إن أخبره من لا يصدقه لم يلزمه قبوله، والاحتياط الإعادة إذا أخبره أنه فعلها قبل الوقت، وإن لم يصدقه. قال الشافعي في "الأم": وإذا كان أعمى وسعه خبر من يصدقه في الوقت والاقتداء بالمؤذنين. وقال أيضا في استقبال القبلة، وإن كان محبوساً في ظلمة أو أعمى ليس بقربه أحد لم يسقه أن يصليها وتأخى على إلا عليه عنده من مرور الوقت من نهار وليل، وإن وجد غيره تآخى به. وهذا يدل على أن المحبوس والأعمى يجوز لهما التبيان. ووجه ذلك أن في إمارات الوقت ما يدرك بالبصر مثل قرصة الشمس من وراء الغيم والفيء الخفي. وفيها ما يدرك بالعمل والصفة وغير ذلك، فأشبه الأواني لما كان منها ما يستدل على طهارتها ونجاستها بالبصر. ومنها: ما يستدل عليه بغير البصر، كان له الاجتهاد والتقليد إن لم يتبين له. ومن أصحابنا من قال: ليس له التقليد فيه لأنه من أهل الاجتهاد فيه فأشبه البصير غير المحبوس ويفارق القبلة لأنه ليس من أهل الاجتهاد فيها. هذا خلاف النص وإن أخبرهما واحد بالوقت عن مشاهدة وكان مصدقاً عندهما لزمهما قبول ذلك والعمل به وأما العمل على أذان المؤذنين، قال أبو حامد: الأعمى والبصير في ذلك سواء، لأن الأذان بمنزلة الإخبار بالوقت، فيجب قبوله وحكي عن ابن شريح أنه قال: الرجوع إلى الأذان جائز للبصير والأعمى بلا خلاف إذا كان المؤذن ثقة، عارفاً بالمواقيت، لأن الناس يحضرون الجمعة من صلاة الغداة وعشياً غلون بالنوافل، فإذا أذن المؤذن عمل الكل في الأذان، ولا يطالع كل واحد منهم الشمس. وقال القاضي أبو الطيب: هذا لا يصح، لأن الشافعي خص الأعلى به، ولأن المؤذن (يحمتل) أن يكون يؤذن عن اجتهاب لا عن مشاهدة، ويسوي البصر في الاجتهاد، والواجب أن يقال: ينظر، فإن كان في الصحو قبل لأنه إذا كان ثقة لا يؤذن إلا بعد العلم بدخول الوقت من طريق المشاهدة، ويكون حراً، وإذا كان غيماً لا يجوز للبصير أن يقلده، لأنه يمكنه الاجتهاد، ويجوز للأعلى أن يقلده على ما ذكرنا. وقال أصحابنا: إلا أن يكون المؤذنون عدداً في جهات شتى، لا يجوز على مثلهم

الغلط والتواطئ، فيقع بهم العلم في دخول الوقت، فيجب قبوله. وقيل في الغيم وجهان، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز للبصير تقليد المؤذن، وإن كان صحواً، لأنه يجوز إن لم يؤذن عن مطالعة، بل أذن عن اجتهاد. والصحيح ما تقدم، ولو صلى المحبوس في ظلمة أو الأعمى من غير تآخ. قال الشافعي: أعاد الصلاة وإن وافقا الوقت، وأراد إذا صلى من غير خبر، كالخبر عن اجتهاد، ولو خفيت عليه، ولا يلي الوقت ولم يظهر ما يستدل عليه حتى على حسب حاله، وأعاد بكل حال، لأنه صلى بغير اجتهاد. فرع قال بعض أصحابنا: إن الاعتماد على أصوات الديكة في القوت ينظر فإن كان وجدها في زمان الصحو تصح عادة بقدر دخول الوقت، فله أن يعتمد على أصواتها وإلا فلا. فرع آخر بصير في بيت لا يقدر على الخروج ومطالعة وقت الصلاة، قيل له: أن يجتهد في الوقت، وجهان: أحدهما: لا يجتهد لأنه قادر على اليقين، كالمكي لا يجتهد في القبلة [5 أ/2]. والثاني، يجوز، وهو ظاهر المذهب، لأن اجتهاده من حمل الدليل عليه، ولأن للأعمى أن يجتهد فيه، وإن كان قادراً على سؤال البصير. وبه فارق القبلة، ولأن الصحابي كان يجتهد ويبني، وإن كان قادراً على سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم. مسألة: قال: " ثم لا يزال وقت الظهر قائماً حتى يصير ظل كل شيء مثله"، وهذا كما قال. اختلف العلماء في آخر وقت الظهر فعندنا إذا صار ظل كل شيء مثله فقد خرج الوقت، فإن لم يكن للشمس حين الزوال ظل، فحتى يصير ظل كل شيء مثله من أصل الشخص، وإن كان للشخص من الزوال ظل، فحتى يصير ظل كل شيء مثله من عند الزيادة على الظل الموجود حتى لو كان الشخص سبعة أذرع، وظله وقت الاستواء ذراع، يجب أن يصير الظل ثمانية أذرع.

وقيل: مثل الإنسان ستة أقدام ونصف بقدمه، فإذا أردت أن تقدر المثل، فقدر الزيادة من التي بقدمك، وذلك بأن تقف في موضع مستو من الأرض، وتعلم على الموضع الذي انتهى إليه فيه، وتعرف قدر ما زالت عليه الشمس، وتقدر فيه بالأقدام، فيضع قدمه اليمنى بين يدي قدمه اليسرى، فيلصق عقبيه بإبهامه اليسرى، فإذا مسحه بالأقدام أسقط منه القدر الذي زالت عليه الشمس، فإذا بلغ الباقي ستة أقدام ونصف فقد بلغ المثل، وبهذا قال الأوزاعي والليث والنووي والحسن بن صالح وأحمد وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور. وروي هذا عن مالك وقال: بعضهم وقت الظهر إذا من حين الزوال إلى غروب الشمس ووقت العصر من حين يصير ظل كل شيء مثله إلى الغروب فما بين الزوال إلى أن يصير ظل كل شيء مثله مختص بالظهر، والباقي في الغروب مشترك بين الظهر والعصر. وبه قال عطاء وطاوس [5 ب/ 2] وهو رواية ابن وهب عن مالك، وحكى ابن جريج عن عطاء، قال: لا يفرط بتأخيرها حتى تدخل الشمس في الصفرة. وقيل عن مالك: آخره إذا بقي إلى غروب الشمس قدر أربع ركعات، ووقت الاختيار عنده نحو قولنا. وقال ابن جرير وابن المبارك وإسحق ابن راهويه: إذا صار ظل كل شيء مثله فقد دخل وقت العصر، ولم يخرج وقت الظهر إلى أن يمضي من الوقت بمقدار ما يصلى فيه أربع ركعات، ثم يخرج وقت الظهر، ويكون باقي النهار إلى الغروب من وقت العصر. وحكى ابن جرير هذا عن مالك. وقيل: إنه اختيار المزني وأبو ثور، واحتجوا بأنه روي: أن جبريل عليه السلام "صلى الظهر في اليوم الثاني في الوقت الذي صلى فيه العصر في اليوم الأول "، وهذا غلط، لأن الوقت الواحد لا يجوز أن يكون مشتركاً بين صلاتين كسائر الأوقات. وأما الخبر فالمراد بقوله: "صلى العصر في اليوم الأول حين صار ظل كل شيء مثله "، أي: ابتداؤها. "وفي اليوم الثاني صلى الظهر حين صار ظل كل شيء مثله " أراد فرغ منها لأن الخبر سبق لبيان الأوقات وتحديد أوائلها وأواخرها، بدليل قوله: في آخره "الوقت فيما بين هذين الوقتين "، فلو كان الأمر على ما قالوه لبقي الإشكال في أمر الأوقات، لأن الصلاة تطول في العادة وتقصر، والذي يوجب حمله على هذا ما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ووقت

الظهر ما لم تحضر العصر". واحتج من نصر رواية ابن وهب عن مالك بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم «جمع بين الظهر والعصر في الحضر»، قلنا: محمول على العذر بالمطر، أو جمع بينهما على التعاقب، فصلى الظهر في آخر وقتها، والعصر في أول وقتها [6 أ/ 2]. وقد روى أبو قتادة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس التفريط في النوم، وإنما التفريط في اليقظة أن يترك صلاة حتى يدخل وقت أخرى». وروي عن أبي حنيفة ثلاث روايات: إحداها: مثل قولنا. رواها الحسن بن زياد عنه. والثانية: أخر وقتها إذا صار ظلُّ كل شيء مثليه. رواها أبو يوسف عنه، وهو المشهور. والثالثة: رواها أبو يوسف أيضاً، آخر وقتها أن يصير ظل كل شيء مثليه، ولم يجد ذلك المقدار. وحكي عن أبي يوسف أنه قال في هذا الموضع: لم يرض صاحبنا بأن خالف النبي صلى الله عليه وسلم حتى خالف جبريل عليه السلام!. مسألةٌ: قال: «فإذا جاز ذلك بأقل زيادة فقد دخل وقت العصر»، وهذا كما قال عندنا أول وقت العصر إذا صار ظل كل شيء مثله، وزاد أدنى زيادة، وبهذه الزيادة يتبين خروج وقت الظهر ودخول وقت العصر، وهي من وقت العصر، ولا فصل بين الوقتين. وقال في «الأم»: وقتاهما يتجاوران. ومن أصحابنا من قال: وقت الزيادة فصل بين الوقتين، وهو خلاف النص. وقال أبو حنيفة: إذا صار ظل كل شيء مثليه، وزاد عليه أقل زيادة، فقد دخل وقت العصر، واحتج بقوله تعالى: "وأقم الصلاة طرفي النهار" [هود: 114]، فلو كان وقتها ما ذكرتم كان وسط النهار، وهذا غلط لما ذكرنا من حديث جبريل عليه السلام، ولا حجة في الآية، لأن الطرف ما تراخى عن الوسط، وهذا موجود فيما ذكرناه.

مسألةٌ: قال: «ثم لا يزال وقت العصر قائماً، حتى يصير ظل كل شيء مثليه». وهذا كما قال: آخر وقت العصر من طريق الاختيار أن يصير ظل كل شيء مثليه، وما بعد هذا وقت الجواز من غير كراهية إلى أن تصفر الشمس وما بعدها [6 ب/2] وقت الجواز مع الكراهة إلى أن تغرب الشمس، فإن صلى قبل غروب الشمس لا يكون عاصياً ولا قاضياً، وحصل للعصر أربعة أوقات: وقت الاستحباب، وهو أول الوقت، ثم وقت الاختيار إلى أن يصير ظل كل شيء مثليه، ثم وقت الجواز من غير كراهة إلى أن تصفر الشمس، ثم وقت الجواز مع الكراهة حالة اصفرار الشمس إلى الغروب. وقال أبو سعيد الاصطخري: إذا زاد الظل على مثليه، فقد فات وقت العصر، ويصير عاصياً قاضياً بعده إذا كان بغير عذرٍ، وهذا اختاره وليس بمذهب. واحتج بإمامة جبريل عليه السلام أنه صلى العصر في الثاني حين صار ظل كل شيء مثليه. وقال: «الوقت فيما بين هذين»، وهذا غلط، لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: «وقت العصر ما لم تصفر الشمس»، وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح». وأما خبر جبريل عليه السلام فمحمول على بيان وقت الاختيار، وحكي عن سفيان وأحمد أن آخر وقتها ما لم تصفر الشمس. وعن الأوزاعي نحو من ذلك، وقيل عنهم: ما لم تتغير الشمس. مسألةٌ: قال: «فإذا غربت الشمس، فهو وقت المغرب والأذان». الفصل وهذا كما قال وقت صلاة المغرب، يدخل بغروب الشمس إجماعاً. وقيل: هو أن يسقط قرص الشمس بكماله حتى لا يبقى شعاع الشمس على الأبنية العالية ورؤوس الجبال. واختلفوا في آخر وقتها، فقال الشافعي في «القديم» و «الجديد»: لها وقت

واحد، ولهذا لم يقل: فإذا غربت [7 أ/ 2] الشمس، فهو أول وقت المغرب كما قال في الظهر والعصر، لأن مذهبه أن وقتها غير ممتد. وبه قال مالك والأوزاعي، وحكي عن مالك أنه قال: يمتد وقتها إلى قبل طلوع الفجر كما قال في الظهر، وحكى أبو ثور عن الشافعي أن لها وقتين، أولهما هذا، وآخرهما إلى دخول وقت العشاء. وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحق وأبو ثور وداود وابن المنذر والزبيري من أصحابنا، وهذا أصح القولين عندي للأخبار الثابتة فيها، وذلك ما روى عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وقت المغرب ما لم يسقط فور الشفق»، أورده أبو داود في «سننه». قال أبو سليمان الخطابي: هذا القول أصح لهذا الخبر، فور الشفق: بقية حمرة الشمس في الأفق، وسمي (فوراً) لفورانه وسطوعه. وروي: ثور الشفق، وهو ثوران حمرته. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ووقت صلاة المغرب ما لم يغب الشفق»، أورده مسلم بن الحجاج في «الصحيح». وروى جابر أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الصلاة، فقال: «صل معنا»، فذكر الحديث وفيه: «ثم صلى المغرب في اليوم الثاني قبل غيبة الشفق». ومن أصحابنا من قال: المسألة على قول واحد: أن لها وقتاً واحداً، ولا تصح رواية أبي ثور عنه، ووجه هذا أن جبريل عليه السلام صلاها في اليومين لوقت واحد. وروى العباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال أمتي على الفطرة ما لم يؤخروا المغرب إلى اشتباك النجوم». والفطرة: الدين. وروي عن أبي عمران: أن عقبة بن عامر «صلى بهم المغرب، فأخرها» ونحن بالقسطنطينية، ومعنا أبو أيوب الأنصاري، فقال أبو أيوب لعقبة: لم تؤخر صلاة المغرب وأنت من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم [7 ب/ 2] فيراك من لم يصحبه، فيظن أنه وقتها؟ فقلنا لأبي أيوب: فمتى وقتها؟ فقال: كنا نصليها حين تجب الشمس نبادر بها طلوع النجم. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه أخر صلاة المغرب لشغل اشتغل به

غير ناسٍ حتى طلع نجمان، فأعتق رقبتين، وقال عمر رضي الله عنه: «ما صلاة أخوف فواتاً عندي من المغرب» فإذا قلنا بهذا القول، فلا وقت استدامةٍ، فوقت الافتتاح من حين تغرب الشمس، ويمضي قدر ما يتطهر للصلاة، ويلبس ويؤذّن، ولا يجوز تأخير الافتتاح عن هذا الزمان. وقال أبو حامد: وإن أخر افتتاحها عن هذا الوقت عصى وأثم، وفي هذا نظر، لأن المنصوص أن من أدرك ركعة من الوقت لا يكون عاصياً. وأما مقدار وقته، فما ذكرنا وقد فعل ثلاث ركعات لا طويلة ولا قصيرة على حسب العرف فيها، فإن لم يفعل وأخرها عن هذا الوقت صار مفرطاً عاصياً، وللصلاة قاضياً، ولا يعتبر صلاة كل أحد طهارته في نفسه، لأن العادات مختلفة، فمن الناس من يستغرق بطهارته زماناً مديداً لثقل حركته، لأن لك الصلاة، وإنما يعتبر الوسط من الدرجتين لا في غاية الخفة، ولا في غاية الإبطاء، والمرجع فيه إلى العادة. وهذا في الحقيقة تقدير وقتها بالزمان لا بالفعل. وقال بعض أصحابنا: جميع وقت المغرب بمنزلة أول وقت كل صلاة، فيجوز أن يتراخى عن غروب الشمس كما أن من أخر الصلاة في غيرها قليلاً، ثم صلى يكون مصلياً في أوله، وهذا معنى وقت واحد ولسائر الصلوات وقتان يريد أن لها وقتاً أولاً، ووقتاً آخراً، فينبغي أن يكون وقت (المغرب) بقدر وقت الأول من سائر الصلوات، وذلك منها ما لا يبلغ إلى نصف وقتها. وقال صاحب «الحاوي»: «هل يتقدر وقتها بالفعل أو بالعرف؟ وجهان: أحدهما: بالفعل [8 أ/ 2]، وهو بما ذكرناه. والثاني: بالعرف، وهو أن يكون إذا أتى الصلاة فيه لم ينسب في العرف إلى تأخيرها عن أول الوقت، لأن الفعل يختلف بالعجلة والإبطاء، ولأن الصلاة ذات الوقتين يتقدر أول وقتها بالعرف لا بالفعل، ومنزلة المغرب في تفردها بوقت واحد منزلة الوقت الأول من الوقتين». وقال بعض أصحابنا بخراسان: بتقدر بالفعل ويعتبر أداء خمس ركعات وسط، وهذا خلاف ظاهر المذهب. وقيل: يعتبر أن يكون الستر والطهارة قبل الغروب ثم ما بين ذلك إلى غروب الشفق خالياً عن الصلاة في وقت الرفاهية، ولا يقطع أنه خالي عن الصلاة على الإطلاق، لأنه وقت لها عند الجمع. وأما وقت الاستدامة، قال أبو

إسحق: فيه ثلاثة أوجه، المذهب أن يستديمها إلى غيبوبة الشفق للأخبار الواردة في هذا الباب، وقد ذكرناها. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن للصلاة أولاً وآخراً وأول وقت المغرب حين تغرب الشمس، وآخر وقتها حين يغيب الأفق». وروي عن مروان بن الحكم أنه قال: قال لي زيد بن ثابت رضي الله عنه: تقرأ في المغرب بقصار المفصل، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بطول الطوليين يريد أطول السورتين، ويقال: إنه أراد سورة الأعراف. والوجه الثاني، لا يستديمها أكثر من وقتها الذي ذكرنا. والثالث: يستديمها قدر ما ذكرنا من العرف في أول وقت سائر الصلوات. واعلم أن العرب يسمُّون صلاة المغرب العشاء، وقد روى البخاري في «صحيحه» عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تغلبنكم (الأعراب) على اسم صلاتكم، إنها المغرب، والمغرب يسمونها العشاء»، فَكَرِه ذلك [8 ب/ 2]. مسألةٌ: قال: «فإذا غاب الشفق، وهو الحمرة، فهو أول وقت عشاء الآخرة والأذان». وهذا كما قال: لا خلاف أن وقت العشاء إذا غاب الشفق، ولكن اختلف العلماء في الشفق فعندنا أنه الحمرة، فإذا غابت الحمرة، فقد دخل وقتها. وبه قال ابن عمر وابن عباس وعبادة بن الصامت وشداد بن أوس ومكحول وعطاء ومجاهد وسعيد بن جبير والزهري وطاوس ومالك والثوري وابن أبي ليلى وأحمد وإسحق وأبو ثور وداود وأبو يوسف ومحمد رضي الله عنهم. وحكى عنه أنه قال: وقتها في البلدان والأبنية عند غيبوبة البياض، وفي الصحارى عند غيبوبة الحمرة، وإنما اعتبر هذا لأن البنيان في ستر منه، فاحتاط أن يؤخرها إلى غيبوبة البياض في البنيان بخلاف الصحارى. وفي الحقيقة عنده الشفق: الحمرة. وقال أبو حنيفة: الشفق: البياض. وبه قال زفر والأوزاعي والمزني، وروى ذلك عن أبي هريرة وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم،

وحكى عن الفراء أنه قال: الشفق: الحمرة. وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: الشفق: البياض. وقال بعض أهل اللغة: الشفق: اسم للحمرة والبياض معاً، إلا أنه إنما يطلق في أحمر ليس بقاني، وأبيض ليس بناصع، وإنما يعلم المراد منه بالأدلة لا باليقين. الاسم كالقرء الذي يقع على اسمه على الطهر والحيض معاً، والدليل على صحة ما ذكرنا ما روى مالك عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الشفق: الحمرة، فإذا غاب الشفق وجبت الصلاة». وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا غاب الهلال قبل الشفق فهو لليلة، وإذا غاب بعد الشفق، فهو لليلتين»، فدل على أن الشفق: الحمرة. فرع قال بعض أصحابنا في بلاد المشرق [9 أ/ 2] بنواح تقصر الليالي، فلا يغيب الشفق عندنا فأول وقت العشاء في حقهم أن يمضي من الزمان بعد غروب الشمس قدر مغيب الشفق في مثله في أقرب البلاد إليهم. مسألةٌ: قال: «ثم لا يزال وقت العشاء قائماً حتى يذهب ثلث الليل». وهذا كما قال، اختلف قول الشافعي رحمة الله عليه في آخر وقت العشاء المختار، فقال في «الجديد»: وقتها إلى ثلث الليل. وبه قال عمر وأبو هريرة وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم ومالك وأحمد في رواية. وقال في «القديم» و «الإملاء»: وقتها إلى نصف الليل. وبه قال ابن المبارك والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأبو ثور وأحمد في الرواية الثانية، وهذا اختيار أبي إسحق. وبه أقول لأن الزيادة في الخبر أولى، واحتجوا بما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «ووقت العشاء إلى نصف الليل». وظاهر المذهب الأول لما روي من حديث جبريل عليه السلام، ولأن الثلث، ثبث بجميع الروايات، وتعارضت الأخبار في الزيادة، فسقطت الزيادة.

وقال ابن سريج: ليست المسألة على قولين، فيقول رواية من روى إلى ثلث الليل محمولة على أنه آخر وقت الابتداء بها. ورواية من روى إلى نصف الليل محمولة على أنه آخر وقت الانتهاء بها، حتى لا تتعارض الاخبار، ولا يختلف فيه قول الشافعي رضي الله عنه. وقال النخعي: وقتها إلى ربع الليل، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: وقتها المختار يبقى إلى طلوع الفجر، وبه قال عطاء وطاووس وعكرمة. وأما وقت الجواز، (فباقٍ) إلى طلوع الفجر الثاني. وحكى الشيح أبو حامد: أن الشافعي قال في «الأم»: وقتها بانقضاء ثلث الليل، ولفظه: وآخر وقتها إلى أن [9 ب/ 2] يمضي ثلث الليل، فإذا مضى ثلث الليل، فلا أراها إذا فاتته فحصل قولان، والأصح الأول، لما روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، قال: أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعشاء حتى ابهارَّ الليل، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح فليوتر بركعة». وقال الاصطخري: إذا فات وقتها المختار، فقد فات وقت الجواز أيضاً كما قال في صلاة العصر، وقال: لو أدرك قبل طلوع الفجر الثاني يكون مدركاً لها، وهذا مناقضة منه. فرعٌ: قال في «الأم»: واجب أن لا يسمي صلاة العشاء بالعتمة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاة هي العشاء إلا أنهم يعتمون بحلاب الإبل». أي: يؤخرون الحلب إلى أن يعتم الإبل ويسمون الحلبة العتمة، وقيل: العتمة، الظلمة، فإذا قال: صليت العتمة معناه: صليت الظلمة. وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه إذا سمع رجلاً يقول: العتمة صاح وغضب، وقال: إنما هو العشاء، ويكره أن يقول ذلك، وهذه كراهية تنزيه. قال الشافعي: وأحب أن يلقن الرجل أهله وولده ذلك ليعتادوه، وإن احتاج إلى أن يخاطبه بهذا الاسم من لا يعرف الصلاة إلا به ومنه ذلك. وقيل: للصلاة ثلاثة أوقات:

أولها، من حيث يغيب الشفق، وآخرها: إلى ثلث الليل أو نصفه من غير كراهية، والثالث: وقت الجواز مع الكراهة بعد ذلك إلى طلوع الفجر. مسألة: قال: "ولا أذان إلا بعد دخول وقت الصلاة خلا الصبح». الفصل وهذا كما قال نص الشافعي: أن وقت أداء صلاة الصبح، وأنه مخالف لأذان سائر الصلوات، ثم عاد إلى بيان وقت صلاة الصبح، فأولاً، [10 أ/2] يذكر وقت صلاة الصبح، ثم يذكر وقت أذانها، فأول وقت الصبح إذا طلع الفجر الثاني لخبر جبريل عليه السلام، «والفجر فجران»: فالأول، هو المستطيل المستدق في الجو، ولا ينتشر في الأفق وتسميه العرب الفجر الكاذب، لأنه يضيء ثم يسود، وتصير الدنيا أظلم مما كانت ويسمى الخيط الأسود ويشبه بذنب السرحان، وهو (الذئب)، وإنما يشبه بذلك لأنه مستدق صامد في غير إعراضٍ. والفجر الثاني، هو المستنير المستدير المنتشر بالمعترض في الأفق، ويسمى الفجر الصادق، لأنه صدقك عن الصبح، وثبت ذلك، ويقال لهذا الثاني: صبح، ولا يقال للأول: صبح، وإن كان يقال: فجر، لأن الصبح ما جمع بياضاً وحمرة، ولهذا يقال للرجل الذي عليه حمرة: أصبح، ويسمى الخيط الأبيض، وإذا طلع هذا يزداد كل ساعة ضياءً ونوراً، فبالأول لا يتعلق التحريم والتحليل، وهو كطلوع نجم من النجوم، وبالثاني: يخرج الليل ويدخل النهار وتجب به الصلاة ويحرم به الطعام، والشراب على الصائم. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يغرَّنك الفجر المستطيل، فكلوا واشربوا حتى يطلع الفجر المستنير». ثم اعلم أن صلاة الفجر من صلوات النهار، لأن أول النهار من حين طلوع الفجر الثاني. وقال حذيفة بن اليمان والشعبي والحسن بن صالح والأعمش: هي من صلاة الليل، وحكي عن الأعمش أنه قال: النهار يدخل بظهور مغرب قرص الشمس، ويخرج

بغروب نصف قرصها حتى يجوز للصائم الأكل والشرب ما لم يطلع نصف القرص. وروي مثل هذا عن حذيفة، وهذا يفيد مع ظهور تحريم الطعام والشراب بطلوع الفجر في كل عصر، وظاهر قوله تعالى: "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض" [البقرة: 187] الآية. وروي في حديث جبريل عليه السلام أنه قال: «وصلى بي الفجر في اليوم الأول حين حرم الطعام والشراب [10 ب/ 2] على الصائم»، ولا يصح الصوم بالليل بالإجماع، واحتجوا بقوله تعالى: "فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة" [الإسراء: 12]، وآية النهار الشمس، فينبغي أن يكون النهار من طلوعها، ولأنه يجهر فيها بالقراءة، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: «صلاة النهار عجماء». قلنا عن الأول: الشمس آية النهار وهذا لا يدل على أنه لا آية له غيرها، ولأنه يقال للفجر: حاجب الشمس. وقال الخليل بن أحمد: النهار هو الضياء الذي من طلوع الفجر وغروب الشمس. وأما الخبر قال الدارقطني: هذا لم يرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو من قول الفقهاء، ثم المراد به معظم صلوات النهار، ألا ترى أنه يجهر بالقراءة في صلاة الجمعة، وهي من صلاة النهار، وقيل: المعنى فيه أن الكفار كانوا إذا سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يصلي ويقرأ يسبون القرآن ومن أنزله، فأنزل الله تعالى: "ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها" [الإسراء:110]، فأمر بالمخافتة فيما يحضره الكفار من الصلوات وكانوا وقت العشاء والصبح نياماً، ووقت المغرب مشتغلين بالأكل فلا يحضرون، فيجهر النبي صلى الله عليه وسلم في قراءتها لهذا المعنى. وحكي أن أبا حنيفة خرج إلى الأعمش زائراً وجعل يعتذر ويقول: لولا مخافة الثقل لزرناك كثيراً، فقال له: أنت ثقيل في بيتك، فكيف إذا جئتنا؟ فقام أبو حنيفة رحمه الله مغضباً، وقال: ماذا أقول لرجل لم يصم لله تعالى قط، ولم يغتسل من الجنابة قط؟ وعنى به هذه المسألة التي ذكرناها عنه. وقوله: الماء من الماء، فإنه يذهب إلى أنه لا يجب الغسل بالتقاء الختانين، فإذا تقرر هذا فوقت الاختيار يبقى إلى أن يسفر النهار، وهو آخر وقت الاختيار ثم بعد الإسفار يبقى وقت الجواز، والأداء إلى أن تطلع الشمس، ولكن يكره له تأخيرها إليه، فحصل للصبح ثلاثة أوقات [11 أ/ 2]، كما ذكرنا في العشاء. وقال الإصطخري: يخرج الوقت بالإسفار كما قال في العصر والعشاء، وهذا غلط

لما روي في حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ووقت صلاة الفجر ما لم تطلع الشمس». وقال بعض العلماء: صلاة الصبح من صلاة اليوم ليست من صلاة النهار ولا من صلاة الليل لقوله تعالى: "يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل" [الحج: 61]، فاقتضى أن يكون زمان ولوج الليل في النهار ليس من الليل، ولا من النهار، فيكون الليل الذي لم يلج فيه شيئاً من النهار ليلاً، ويكون النهار الذي لم يلج فيه شيء من الليل نهاراً، وهو بعد طلوع الشمس. وقد بينا صحة ما ذكرنا وبطلان غيره. فإذا تقرر هذا، فإن فرغ منها قبل طلوع الشمس، فلا كلام، وإن صلى منها ركعة في الوقت ثم طلعت الشمس فيصلي باقيها بعد طلوعها. نص في «القديم» و «الجديد» أن الكل أداء. وبه قال أحمد وإسحق وهو اختيار ابن سريج، وعلى هذا لا يصير عاصياً إذا لم يكن بعذر، وقال أبو إسحق: ما فعله في الوقت يكون أداء، وما فعله خارج الوقت يصير قضاء، ويكون بهذا التأخير عاصياً، إذا لم يكن معذوراً، ونص الشافعي على هذا في غير موضع وأراد بما ذكرتم في حق أهل الأعذار، فإنه لا حرج عليهم، ويكونون مؤدين لحقها. قال أبو حامد: وهذا قول عامة أصحابنا، وهذا غلط للخبر المشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح» الخبر، ولأنه لا خلاف أن من أدرك ركعة من الجمعة يكون مدركاً لها، فدلَّ على ما قلنا. وقال القاضي الطبري: هذا مذهب الشافعي الذي لا يحتمل غيره. وقد نقل المزني صريحاً، فقال: فإذا طلعت الشمس قبل أن يصلي منها ركعة [11 ب/2]، فقد خرج وقتها فجعلها فائتة بطلوع الشمس قبل أن يصلي منها ركعة، والذي ذكره أبو إسحق ما وجد للشافعي في شيء من كتبه. وقال ابن المنذر، هو قول أبي ثور. وقال بعض أصحابنا: المقصود من الأوقات أن يكون الافتتاح فيها، فإن شرع فيها ومدها إلى خارج الوقت لم يكره لما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه: «قرأ سورة البقرة في صلاة الصبح»، فلما سلم قال له عمر رضي الله عنه: كدت لا تسلم حتى تطلع الشمس، فقال: «لو طلعت لم تجدنا غافلين». واحتجَّ أبو إسحق بقوله صلى الله عليه وسلم: «وقت الصبح ما لم تطلع الشمس»، وهذا عندنا على أنه أراد وقت افتتاحها بدليل ما ذكرناه وهكذا الحديث فمن صلى ركعة من العصر قبل غروب الشمس وأتمها بعد غروبها، وإن صلى دون الركعة قبل طلوع الشمس أو قبل

الغروب لا يكون مؤدياً لها بلا (خلاف) ويصير عاصياً إذا لم يكن معذوراً. وقال أبو حنيفة: إذا طلعت الشمس قبل الفراغ منها بطلت ووافقنا في صلاة العصر أنها لا تبطل بغروب الشمس فيها، فقيس عليه. فإذا تقرر هذا، قال الشافعي في «الأم»: وأحب أن تسمى هذه الصلاة بصلاة الفجر كما سماه الله تعالى: "وقرآن الفجر" [الإسراء: 78] أو الصبح كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يستحب أن يقول: صلاة الغداة، فإذا تقرر هذا رجعنا إلى حكم أذانها، فيجوز الأذان لها قبل طلوع الفجر ولا يجوز الأذان لسائر الصلوات قبل دخول أوقاتها. وقال الشافعي رحمة الله عليه: السنة أن يكون لها مؤذنان: أحدهما، يؤذن قبل الوقت، والآخر، بعده كما كان بلال وابن أم مكتوم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كان المؤذن واحداً، فالسنة أن يؤذن لها قبل الفجر، ويعيد بعد الفجر ليكون لها أذانان، فإن لم يفعل واقتصر على الأذان الأول جاز وإذا أراد الاقتصار على واحد، فالمستحب أن يؤذن بعد الفجر، وبقولنا [12 أ/ 2]، قال مالك والأوزاعي وأحمد وإسحق وأبو ثور وأبو يوسف وأهل الحجاز وأهل الشام. وقال أبو حنيفة ومحمد والثوري: لا يجوز أن يؤذن الأولى بعد دخول وقتها، وهذا غلط لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن بلالاً يؤذن لليل فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم». واحتجوا بما روي عن ابن عمر رضي الله عنه: أن بلالاً أذن قبل طلوع الفجر فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي ألا إن العبد نام فرجع فنادى ألا إن العبد قد نام. قلنا: هذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون أراد أنه غفل عن الوقت كما يقال: نام فلان عن حاجتي إذا غفل عنها. والثاني: معناه أنه قد عاد لنومه إذا كان عليه بقية من الليل يعلم الناس ذلك لئلا ينزعجوا عن نومهم، ويشبه أن يكون هذا فيما تقدم من أول زمان الهجرة، ثم نسخ ذلك بما روينا من خبر بلال. ومن أصحابنا من قال: هذا يجوز إذا كان للمسجد مؤذنان كما كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما إذا لم يكن إلا مؤذن واحد، فلا يجوز له أن يؤذن إلا بعد دخول الوقت فيحمل

خبر النهي على الوقت الذي كان المؤذن واحداً، ويحمل خبر الجواز على الوقت الذي كان المؤذن اثنين، فإذا تقرر هذا، فكم يجوز التقديم؟ فيه أوجه: أحدها: وهو الأصح أول وقت أذانها إذا انتصف الليل ولم يذكر أهل العراق غير هذا القول، لأنه لو أذن قبله لشبه بأذان العشاء، ولا يحتاج أيضاً في النصف الأول إلى سبب من أسباب صلاة الفجر بحال. والثاني: يجوز أذانها بعد ثلث الليل فإنه أخر وقت العشاء اختياراً. والثالث: يجوز في جميع الليل إلا أن المستحب أن يؤخره عن وقت الاختيار للعشاء حتى لا يخلط بأذان العشاء فيقع الغلط. والرابع: يجوز ما لم يتباعد عن الصبح وقدروا ذلك بوقت السحر، وتارة بالثلث الآخر من الليل [12 ب/ 2] ووقت السحر المسنون إذا بقي من الليل سدسه. وقال صاحب «التقريب»: المستحب تقديم الأذان على وقتها، وإن كان مرة، لأن الشافعي قال في موضع: «فإن أذن قبل الفجر، ولم يعد بعده، فلا بأس» لأن ذلك كان وقته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقوله: (لأن ذلك كان وقته على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) دليل على أن التقديم أحب وعلى هذا يدل كلام القاضي الطبري في «الخلافيات». وما تقدم أصح. وأما الإقامة، فلا يجوز تقديمها على الوقت بحال. والفرق بينها وبين الأذان للصبح أن الإقامة تراد لاستفتاح الصلاة، ولا يجوز قبل وقت الافتتاح والأذان يراد للإعلام، ويدخل في وقت الصبح، والناس نيام، منهم الجنب المحدث فاحتيج إلى تقديم الأذان ليتأهبوا للصلاة بخلاف أذان سائر الصلوات. فإذا تقرر هذا قال الشافعي رحمه الله: «وليس ذلك بقياس»، قيل: معناه ليس بقياس على سائر الصلوات، ولم يرد به أن القياس يخالفه، ولا يساعده لما ذكرنا من المعنى. وقيل: أراد ليس بقياس جلي، ولكنه قياس شبه. وقيل: أراد تركت القياس فيه للخبر بخلاف ما قال أبو حنيفة، فإنه قال بالقياس وترك الخبر ثم قال: واعتمد في ذلك على إمامة جبريل عليه السلام بالنبي صلى الله عليه وسلم ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك قري، واعتمد بنصب الدال وقري واعتمد بالرفع فالنصب. ذكره على وجه الخبر، يعني: قال

المزني. واعتمد الشافعي فيه على ذلك وبالرفع ذكره على وجه الحكاية يعني: قال الشافعي: اعتمد في ذلك على إمامة جبريل عليه السلام ويريد به ما ذكرنا فيما تقدم. وأراد بالخبر الآخر ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في إمامته بالقوم، وهو ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أوقات الصلوات، فقال له: «أقم عندنا»، فصلى به صلى الله عليه وسلم [13 أ/ 2] في يومين مثل ما صلى جبريل عليه السلام في تعليمه للأوقات، ثم قال: أين السائل عن أوقات الصلاة؟ فقال الرجل: ها أنا ذا يا رسول الله، فقال له: «ما بين هذين وقت». مسألة: قال: «والوقت الآخر هو وقت العذر والضرورة، فإذا أغمي غلى رجل فأفاق». الفصل وهذا كما قال أهل العذر والضرورة أربعة: الصبي إذا بلغ، والمغلوب على عقله بالجنون أو الإغماء إذا أفاق، والحائض والنفساء إذا انقطع دمهما، والكافر إذا أسلم. وذكر الشافعي في جملتهم: وإن لم يكن له عذر ويلزمه الصلاة في حال كفره، لأنه مخاطب بالشرائع ويعاقب على تركها، لأنه يجري مجراهم في سقوط القضاء عنه إذا أسلم بعد فوات الوقت. وقيل: أنه فسَّر وقت الضرورة ولم يفسِّر وقت العذر، لأن كل ضرورة عذر ونحن نذكر الآن وقت العذر من غير الضرورة، فوقت عذر العصر هو جميع وقت الظهر إلا قدر أربع ركعات من أوله، لأن من جمع وقت الظهر لم يجز له إلا تقديم الظهر على العصر. وأما وقت عذر الظهر، فهو جميع وقت العصر أو يستثني من آخره أربع ركعات وجهان، وأصل الوجهين أن من جمع وقت العصر هل له تقديم فعل العصر على الظهر؟ وجهان، وهكذا في المغرب والعشاء، فإن وقت عذر العشاء جميع وقت المغرب إن جعلنا للمغرب وقتين إلا قدر ثلاث ركعات من أوله ووقت عذر المغرب جميع وقت العشاء في وجه ويستثنى قدر أربع ركعات من آخره في وجه آخر هكذا ذكره القفال. وقال بعض أصحابنا: الأحسن أن يستثنى قدر ركعتين من أول وقت الظهر أو من

آخر وقت العصر لأنها تقضى كما تجمع، وكذلك في العشاء، وأما وقت الضرورة فما ذكره، فإذا تقرر هذا، فلا خلاف أن هؤلاء لو أدركوا [13 ب/ 2] من وقت العصر ركعة قبل الغروب أو من وقت العشاء ركعة قبل طلوع الفجر أو من وقت الصبح ركعة قبل طلوع الشمس يلزم هؤلاء فرض الصلاة، فإن أدركوا أقل من ركعة فيه قولان: أحدهما: تجب الصلاة بمقدار تكبيرة الافتتاح، نص عليه في كتاب استقبال القبلة في باب التلبية على الفعل في «الجديد». وبه قال أبو حنيفة. وقال القاضي أبو حامد: هذا أشهر القولين، وهو اختيار أبي حامد ووجه أنه أدرك جزءاً من الوقت بعد زوال عذره فأشبه إذا أدرك مقدار ركعة ويؤكده أنه يعتبر فيه إدراك الحرمة دون الفعل، لأنه لو أدرك الوقت، ولم يفعلها يلزمه ذلك، فاستوى فيه القليل والكثير كإدراك حرمة الجماعة. والقول الثاني: لا يلزمه الصلاة بإدراك دون ركعة ثانية، نص عليه في «القديم». وذكر المزني أنه سمعه منه لفظاً، وهو اختيار المزني. وبه قال مالك، وقال أبو إسحق: هذا أشهر القولين، وهكذا ذكره القاضي الطبري ووجهه ما احتج به المزني، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «من أدرك ركعة قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر»، فعلق الإدراك بركعة، وأيضاً الجمعة لا تدرك إلا بإدراك ركعة فكيف يكون مدركاً للعصر معاً بتحريمه؟. والجواب عن هذا أن نقول: أما الخبر فوارد في إدراك الفعل، أو أراد به من أدرك شيئاً في الجملة. وهذا احتجاج من المزني لمفهومه لا لمنطوقه، فلا حجة فيه ظاهراً. وأما المعنى قلنا: ذلك إدراك إسقاط، فإنه يسقط عن نفسه ركعتين بذلك، فلا بدَّ من إدراك الركوع كما لا يسقط القيام والقراءة عن المأموم إلا بإدراك الركوع وهذا إدراك إلزام، فيحصل بأدنى شيء. لمسافر إذا أدرك من صلاة المقيم أدنى شيء يلزمه صلاة [14 أ/ 2] المقيم. فإذا تقرر هذا نقل المزني أن هؤلاء إذا تغيرت حالهم قبل مغيب الشمس بركعة أعادوا الظهر والعصر، ونقل بعده إن أدرك الإحرام صلاهما فاستعمل لفظ الإعادة عند إدراك ركعة. ولفظ الصلاة عند إدراك تحريمة، وأوهم مع هذين قولين في «الجديد». وهما غلطان اثنان:

أحدهما: أن الشافعي وضع لفظ الإعادة حيث وضع المزني لفظ الصلاة، فقال في كتاب استقبال القبلة: ولو أغمي على رجل فأفاق قبل غروب الشمس بتحريمة أعاد الظهر والعصر ووضع لفظ الصلاة حيث وضع المزني لفظ الإعادة، فقال: لو أغمي على رجل فأفاق قبل غروب الشمس بركعة صلى العصر ولفظ الإعادة أليق بمن أدرك تحريمة، ولفظ الصلاة والأداء أليق بمن أدرك قدر ركعة. والثاني: أن القول في «الجديد» غير مختلف في وجوب الضدين بإدراك ركعة أو تحريمة. واختار المزني القول القديم وعنده أنه يختار الجديد، فإذا تقرَّر هذا ففي دليله لفظ مثيل، وهو أنه قال. معنى قوله: عنده إن لم يفته، أي: عند الشافعي، وهذا التفسير مفتقر إلى تفسير وربما يقرأ إن لم تفته بالكسر وربما يقرأ أن لم تفته بالفتح فمعنى الكسر إن لم تفت الجمعة الرجل بأن أدرك منها ركعة صلاها جمعة، وإن فاتته بأن أدرك أقل من ركعة صلاها ظهراً وبالفتح تقدير اللفظ أن يقال: معنى هذا الخبر عند الشافعي: أن الجمعة لم تفته إذا أدرك ركعة وفاتته إن أدرك أقل من ركعة. ولو قال: ومعنى قوله عنده أنها لم تفته أو ارتفع الإشكال. وهكذا سماع بعض المشايخ، ولكن أكثر النسخ على ما قدمنا واعتصد بجمع ذلك أحد، فإذا تقرر هذا، فهذا الذي ذكرنا إذا امتدت به حال السلامة قدر ما يتم فيه الصلاة، فأما إذا حدث عقيب خروج الوقت عذر آخر لا يلزمه الصلاة [14 ب/2] إذا لم يكن أدرك من الوقت قدر أربع ركعات إذ الإمكان شرط ويتصور ذلك بأن (يبلغ) ثم بعد قليل يجن أو تحيض أو تطهر ثم يجن، فأما الصلاة التي قبلها هل تلزمهم؟ ينظر فإن كانت صلاة لا تضم إلى هذه كالصبح مع الظهر لا تلزمهم، وكذلك بإدراك المغرب لا تلزم العصر ولا تلزم بإدراك الصبح العشاء، وإن كانت صلاة تضم إليها عند العذر كالظهر إلى العصر والمغرب إلى العشاء يلزمهم. وقال أبو حنيفة: لا تلزم الظهر بإدراك العصر ولا المغرب بإدراك العشاء. وهذا غلط لما روى ابن المنذر بإسناده عن عبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أنهما أوجبا على الحائض التطهر قبل طلوع الفجر بركعة المغرب والعشاء، ولا مخالف لهما. واحتج الشافعي بأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما في وقت واحد، فدلَّ أن وقتهما

للضرورات واحد، فإذا تقرر هذا لم يشترط أن يدرك حتى يلزمه الظهر مع العصر. قال في «الجديد»: تجب الظهر بما تجب به العصر لأن وقتهما واحدٌ عند العذر، وكذلك تجب العشاء بما تجب به المغرب. وقال في «القديم»: فيه قولان: أحدهما: بمقدار ركعة وطهارة تجب الصلاتان لأن الاعتبار بإدراك ركعة فاعتبر إدراك ركعة كاملة بالطهارة. والثاني: بمقدار خمس ركعات لأنه يعتبر وقت يمكن الشروع فيهما. ومن أصحابنا من قال: يخرج على قوله «القديم» أربع ركعات وتكبيرة. قال أبو إسحق: وهذا محتمل لأن الشافعي اعتبر في إدراك العصر قدر تكبيرة، واعتبر في «القديم» لإدراك الظهر أربع ركعات فجمع أحد القولين إلى الآخر، فاعتبر كليهما أربع ركعات وتكبيرة، وهذا أضعف الأقوال، فحصل فيما يدرك به الظهر والعصر خمسة أقوال: أحدها: يدركهما بمقدار تكبيرة. والثاني: بمقدار ركعة. والثالث: بمقدار ركعة وطهارة [15 أ/ 2]. والرابع: بمقدار أربع ركعات وتكبيرة. والخامس: بمقدار خمس ركعات. والصحيح قوله «الجديد»: وما عداه من الأقاويل باطلة. وقال القفال: حصل في الجملة ثمانية أقوال، خمسة ذكرناها. والسادس: تحريمة وطهارة. والسابع: خمس ركعات وطهارة. والثامن: أربع ركعات وتحريمة مع الطهارة، فإذا قلنا بخمس ركعات، وهو قول مالك، فالمنصوص في «القديم» أنه يكون مدركاً للعصر بركعة وللظهر بأربع ركعات. وقال أبو إسحق: يكون مدركاً للعصر بأربع ركعات وللظهر بركعة، وهذا غلط، لأنه جعل إدراك العصر بأربع ركعات، فخالف نص السنَّة وترك المذهب. وفائدة هذا تتبين في المغرب والعشاء، فإن قلنا: أربع للعصر وركعة للظهر ففي الآخر وقت العشاء لا بدَّ من إدراك خمس ركعات أيضاً، وإن قلنا: أربع للظهر وركعة للعصر ههنا يكفي أربع ركعات: ثلاث للمغرب وركعة للعشاء، ويأتي في وجوبهما على ما ذكر القفال ثمانية أقوال، ويزيد أربعة أقوال: أحدها: أربع ركعات.

والثاني: ثلث ركعات وتحريمة. والثالث: أربع ركعات وطهارة. والرابع: أربع ركعات وتحريمة وطهارة. والمذهب أنه لا فرق بين ما ذكرنا وبين ما يدرك به المغرب والعشاء إلا في فصل، وهو أنا إذا اعتبرنا هناك خمس ركعات فيعتبر ههنا أربع ركعات، لأن عدد المغرب ثلاث ركعات، وهذا كله في زوال العذر الموجود في آخر الوقت، فأما الكلام في حدوث العذر في أول الوقت، وهو زوال العقل بجنون أو إغماء، أو زوال طهر بحيض أو نفاس. فأما العذر للصغر فلا (يحدث) والكفر يحدث، ولكن ليس بعذر لأن المرتد يلزمه قضاء الصلاة، فإذا زالت الشمس ثم زال عقله أو حاضت أو نفست المرأة نظر، فإن كان الذي مضى من الوقت لا يتسع [15 ب/ 2] لأربع ركعات لم يستقر الفرض، ولا يجب القضاء عليه نص عليه في «الإملاء». وبه قال عامة أصحابنا. وقال أبو يحيى البلخي: يلزمه ويستقر عليه، وعليه القضاء، لأنه أدرك جزءاً من الوقت، فأشبه إذا أدرك من آخره، وهذا ليس بشيء لأنه في آخره، يمكنه التلبس بها والبناء عليها، وههنا لا يمكنه البناء بحال، وإن مضى من الوقت ما يتسع لصلاة الظهر أخف صلاة استقرت، فلا تسقط بعد ذلك. وقال ابن سريج والاصطخري: لا تستقر إلا بمضي كل الوقت. وبه قال مالك، لأنه لو سافر في آخر وقت الصلاة قصر إذا بقي من الوقت ما يمكنه أداء الصلاة، وهذا غلط لأن اعتبار عددها بحال الأداء، فأما الاستقرار بإمكان الأداء في الوقت وقد وجد ذلك. وهذا الكلام في الظهر، فأما العصر فلا يكون مدركاً لها بإدراك وقت الظهر فلو زال عقله مع آخر وقت الظهر، لا يلزمه العصر. وقال أبو يحيى البلخي: تجب العصر بإدراك وقت الظهر إذا أدرك ثمان ركعات، لأنه وقت لهما، كما إذا أدرك وقت العصر لزمته كلتا الصلاتين، وهذا ليس بشيء، لأن وقت العصر وقت للظهر وقتاً متبوعاً بدليل أن له تقديم الظهر على العصر ووقت الظهر وقت العصر تبعاً للظهر لا وقتاً لها بدليل أنه لا يقدم العصر عليها في وقت الظهر، فإذا تقرر هذا فالكلام الآن فيما هو عذر، وفيما ليس بعذر وجملته أنه متى زال عقله بوجه هو معذور فيه حتى فاتته الصلاة لا قضاء عليه كالإغماء والجنون. ولا فرق بين الإغماء الكثير والقليل وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: إن كان الإغماء دون يوم وليلة لا يسقط قضاء الصلوات، وإن كان

أكثر تسقط وفي يوم وليلة اختلفوا على قولين وسلموا في الجنون أنه [16 أ/ 2]، يسوّى بين قليله وكثيره في هذا المعنى، فنقيس عليه. وقال أحمد: يجب عليه القضاء بكل حال، واحتجّ بما روي عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه أغمي عليه يوماً وليلة فقضى الصلوات، وهذا غلط لما روت عائشة رضي الله عنها، قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يغمى عليه فينزل الصلاة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ليس لشيء من ذلك قضاء إلا أن يغمى عليه فيفيق وقتها فيصليها»، ويحمل ما روي عن عمار على الاستحباب. وقد روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أنه أغمي عليه ثلاثة أيام، فلم يعد الصلاة. وعن أنس نحو ذلك، وإن زال عقله بسبب هو غير معذور فيه حتى فاتت الصلاة، فعليه قضاء كلها، كالسكر وإذا شرب دواءً مجنناً ونحو ذلك. وقد قال في «الأم»: إذا سكر بشرب الخمر أو النبيذ كان مخاطباً مكلفاً بالعبادات إلا أنه لا يفتتح الصلاة، وهو سكران حتى يفيق، لأن الله تعالى قال: "لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون" [النساء: 43]، فإن افتتحها وهو سكران أو افتتحها مفيقاً فسكر بالصلاة بطلت صلاته، وعليه الإعادة وأقل السكر (أن) أن يغلب على عقله في بعض ما لم يكن يغلب عليه قبل الشرب. فرعٌ قال في «الأم»: «ولو شرب المسكر قليلاً وصلى لم (تجب) الإعادة، وأحب لو أعاد». وهذا إذا غسل فمه، فإن لم يغسل لا تجوز صلاته. فرعٌ آخر لو تناول دواء فيه بعض السموم. وقال الشافعي في «استقبال القبلة»: "إن كان الأغلب منه السلامة يحل تناوله، وإذا تناوله فزال عقله ونزل الصلاة لم يلزمه قضاؤها. فرع آخر قال في كتاب الأطعمة: «وإذا جعل في الدواء سم، فالغالب منه السلامة حل تناوله، وقيل: لا يحل تناوله لأن السم يقتل [16 ب/ 2] قليله وكثيره، فخرج فيه قولين.

والأصح الأول، لأن الاعتبار بغالب السلامة، فإذا قلنا: يحل فزال عقله لا إعادة وإلا فيلزم الإعادة». فرعٌ آخر قال في «الأم»: ولو أكل أو شرب هلالاً، فخبل عقله أو وثب وثبة، فانقلب دماغه، وزال عقله أو تنكس فذهب عقله لم يكن عليه إعادة صلاة صلاها، هو لا يعقل أو تركها لذهاب العقل، وإن وثب لغير منفعة، أو تنكس لذهاب عقله، فذهب كان عاصياً، وعليه القضاء. قال الشافعي: «وأقل ذهاب العقل الذي يوجب عليه إعادة الصلاة أن يكون مختلطاً يغرب عنه عقله في شيء وإن قلّ وثوب». فرعٌ آخر قال: «ولو شرب قليلاً مما يزيل العقل لا لحاجة ظناً منه أنه لا يزيلُ العقل لقلته، فزال عقله يلزمه إعادة الصلاة، ولو لم يعلم أن ذلك يزيل العقل فأزال لا إعادة». فرعٌ آخر لو سكر ثم جن كم يعيد من الصلوات؟ فيه وجهان: أحدهما: قدر ما يدوم السكر. والثاني: يلزمه قضاء الكل كما لو اتصل الجنون بالارتداد وعندي هذا إذا تولد الجنون من السكر فإن كان بعلة أخرى، فلا يلزمه سوى مدة السكر. فرعٌ آخر قد ذكرنا مواقيت وجوب الصلاة في حق المعذور، فأما في حق غير المعذور، فإنها تجب بأول الوقت وتستقر بإمكان الأداء. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجب بآخر الوقت إلا أن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمداً، يقولون: تجب إذا بقي من الوقت بمقدار تكبيرة. وقال زفر: تجب إذا بقي من الوقت قدر الصلاة. وقال الكرخي: إنما يعتبر عندهم قدر التكبيرة في حق المعذورين، فأما في حق غير المعذورين تجب بقدر الصلاة كقول زفر.

واختلفوا إذا صلى في أول الوقت، فمنهم من قال: تقع فرضاً. وقال الكرخي: تقع نفلاً ويمنع ذلك من وجوب الفرض في آخر الوقت [17 أ/2] ومنهم من قال: تقع مراعىً فإن أدرك آخر وقتها، وهو ممن تلزمه الصلاة وقعت فرضاً وإلا وقعت نفلاً، وهذا غلط، لأنه وقت لأداء صلاة لو أظهر في حق الكافة فكان وقتاً للوجوب كآخر الوقت. وقال بعض أصحابنا: كل حظ من الوقت له حظ في الوجوب، ولا نقول: وجبت الصلاة بأول الوقت حتى لو أدرك جميع الوقت نقول: وجبت بجميع الوقت، وهذا كالقيام يجب بقدر الفاتحة، فلو طال القيام بقراءة السورة، فالكل واجب وهذا خلاف المذهب. فرع آخر إذا قلنا بالوجوب في أول الوقت، فلم يصل مع الإمكان حتى مات. وقال القفال: هل يحكم بأنه عاصٍ، وجهان: أحدهما: يكون عاصياً كما في الحجِّ على أحد الوجهين. والثاني: لا يكون عاصياً، والفرق بينه وبين الحج أن آخر وقت الصلاة معلوم بخلاف آخر وقت الحج، وهذا هو الأصح وذاك غلط. فرع آخر وقت وجوب الطهارة متى يكون، فيه وجهان: أحدهما: تجب كلما انتقض طهره. والثاني: وهو ظاهر المذهب تجب بدخول وقت الصلاة على من كان محدثاً عند دخول وقتها، ويجوز فعلها قبل وقتها. فرع آخر إذا أفاق المجنون وقد بقي من وقت العصر مقدار ركعة يلزمه الظهر والعصر، ثم جن بعد أن مضى من الوقت مقدار أربع ركعات ولم يصلّ وبقي على جنونه مدةً طويلة، ثم أفاق هل يلزمه إعادة الظهر أو العصر أو هما؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه إعادة الظهر وحدها، لأن الإمكان وجد في صلاة واحدة، ولا يمكن إيجاب الظهر وحدها، لأن الإفاقة كانت في وقت العصر. والثاني: يلزمه الظهر والعصر جميعاً، لأن وجوب العصر يستدعي وجوب الظهر، وهذا أصح لأن وقتيهما واحد عند العذر [17 ب/ 2]. هكذا قال والدي الإمام رحمه

باب صفة الأذان وما يقال له

الله وهذا لا يصح عندي، لأن الإمكان شرط، وإن كان وقتهما واحداً، ولا يتسع هذا القدر من الوقت لأداء الصلاتين فصار كما لو تمكن من أداء ركعتين من العصر لا يلزمه تمام العصر. باب صفة الأذان وما يقال له من الصلاة وما لا يؤذن اعلم أن معنى الأذان والتأذين الإعلام، يقال: أذن يؤذن تأذيناً وأذاناً. إذا أعلم الناس بشيء يحتاجون إليه. قال الله تعالى: "وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر" [التوبة: 3]، معناه إعلامٌ من الله تعالى بذلك. وقال الله تعالى: "آذناك ما منا من شهيد" [فصلت: 47]، أي: أعلمناك، وإنما قيل: أذن بالتشديد مبالغة وتكثيرا. وقال الزجاج: إنما سمي الإعلام إيذاناً اشتقاقاً من الأذن، ومعنى الإعلام في الأذان الإعلام بدخول وقت الصلاة، أو مقاربة الوقت. والإقامة: معناها الأمر بالقيام لافتتاح الصلاة، وقوله في الأذان: حي على الصلاة، حي على الفلاح "، أي: هلم وتعال، يقال: حي على كذا، أي: أسرع وعجل إليه. وقيل: معناه: يا أهل الحي هلموا وأقبلوا على الصلاة. وقيل: معناه: بادروا وأسرعوا إلى فعل الصلاة ومنه قول ابن مسعود رضي الله عنه: إذا ذكر الصالحون فحيّ هلا بعمر، أي: فبادر بذكره في أولهم، وقيل في حي على الفلاح، تأويلان: أحدهما: إن الفلاح إدراك الطلبة واللطف بالحاجة. والثاني: إنه البقاء والخلود في الجنة. والتثويب عبارة عن قوله: الصلاة خير من النوم، وإنما سمي تثويباً من ثاب فلان إلى كذا [18 أ/ 2] إذا عاد إليه، فإذا قال: الصلاة خير من النوم بعد الحيعلة، فقد عاد إلى الدعاء إلى الصلاة فسمي تثويباً، فإذا تقرر هذا، فالأصل في الأذان الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب، فقوله تعالى: "وإذا ناديتم إلى الصلاة اتخذوها هزواً ولعباً" [المائدة: 58] فذمَّ الله تعالى من يستهزئ بالأذان. وأيضاً قوله تعالى: "إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله" [الجمعة: 9]. وأفا السنة، ما روي أنه لما انتشر الإسلام في الناس واشتغل كثير منهم بالمعاش أهمهم أمر الصلاة واحتاجوا إلى إمارة يعرفون بها الوقت، فاجتمع قوم من الصحابة في

المسجد فتشاوروا، فقال بعضهم: نضرب بالناقوس. وقال آخرون: تلك علامة النصارى لا نريده. وقال بعضهم: نضرب بالبوق، فقال آخرون: تلك علامة اليهود لا نريده. وقال بعضهم: نوقد النار بالليل وندخن بالنهار، فقال آخرون: تلك علامة المجوس لا نريده ولا ندخل النار مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم تفرقوا مهتمين لهذا الشأن، ثم جاء عبد الله بن زيد بن عبد ربه الأنصاري إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغد، وقال: كنت بين النائم واليقظان إذ نزل ملك من السماء عليه ثياب خضر بيده قوس، فقلت: يا عبد الله أتبيع الناقوس؟ فقال: وما تصنع به؟ فقلت: أضرب به في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أفلا أدلك على ما هو خير من ذلك؟. قلت: بلى، فاستقبل القبلة، فقال: الله أكبر، الله أكبر، وذكر الأذان ثم صعد جذم حائط فأقام مثل ذلك، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم «حق إن شاء الله، ألقه على بلال، فإنه أندى منك صوتاً»، فقلت: يا رسول الله [18 ب/2]، ائذن لي أن أؤذن مرة، فأذن فأذنت، فلما سمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه صوتي خرج يجر رداءه ويقول: والذي بعثك بالحق لقد رأيت مثل ما رأى، فقال: الحمد لله، فذاك أثبت ثم أتاه بضع عشرة من الصحابة كلهم رأوا مثل ذلك إلا أنه نسب إلى عبد الله بن زيد، لأنه كان أول من أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو أول من أذن في الإسلام. قال ابن عمر ابن أنس الأنصاري: نزعم أن عبد الله بن زيد لولا أنه كان يومئذٍ مريضاً لجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤذناً. وروي أن عمر رضي الله عنه قد رآه قبل ذلك فكتمه عشرين يوماً، ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: «لم لم تخبرنا به؟» فقال: سبقني به عبد الله بن زيد فاستحييت وروى أبو داود بإسناده عن أبي عمير بن أنس عن عمومة له من الأنصار، قال: ائتم النبي صلى الله عليه وسلم للصلاة كيف يجمع الناس لها، فقيل له: انصب راية عند حضور الصلاة فإذا رأوها أذن بعضهم بعضاً، فلم يعجبه ذلك، قال: فذكر له القمع يعني الشبور فلم يعجبه ذلك. وقال: هو من أمر اليهود، قال: فذكر له الناقوس. قال: هو من أمر النصارى، فانصرف عبد الله بن زيد بن عبد ربه، وهو (مهتم) لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدى الأذان في منامه فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا بلال، قم فانظر ما أمرك به عبد الله بن زيد فافعله»، فأذن بلال.

وقال أبو داود: القنع بالنون ساكنة. وقال مرة أخرى: القبع بالباء مفتوحة، وتفسيره ما ذكر في الحديث. قال الإمام أبو سليمان الخطابي: إن كانت الرواية بالنون فهو من إقناع الصوت، وهو رفعه [19 أ/ 2] يقال: أقنع الرجل صوته، وأقنع رأسه إذا رفعه. وأما القبع، فلأنه يقبع صاحبه، أي: يستره. يقال: قبع الرجل رأسه في جيبه إذا أدخله فيه. وقال أبو عمر: هو من القثع بالثاء، يعني البوق، وليس هذا عن غيره. وأما الإجماع، فلا خلاف بين المسلمين فيه. مسألة: قال: «ولا أحب أن يكون في أذانه وإقامته إلا مستقبلاً القبلة». الفصل وهذا كما قال المستحب للمؤذن أن يؤذن على مكانٍ عالٍ من منارةٍ أو سطح أو تل حتى يكون أبلغ في الإعلام. ولما روي في خبر عبد الله بن زيد أن الملك صعد جذم حائط، وقال: الله أكبر، ويستحب له استقبال القبلة في أذانه بالإجماع. وقد روي في خبر عبد الله بن زيد أنه قال: رأيت رجلاً قائماً مستقبلاً القبلة فقال: الله أكبر، الله أكبر، ولأن الجهات سواء فكانت جهة القبلة أولى، لقوله صلى الله عليه وسلم: «خير المجالس ما استقبل به القبلة»، فإن ترك الاستقبال كره وأجزأه لحصول المقصود نص عليه في «الأم»، وخرج الشيخ الإمام سهل الصعلوكي قولاً، أنه لا يجوز ولا يحتسب به. قد تفرَّد بهذا القول. وقال في «الأم»: وأحب أن يؤذن قائماً لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا بلال قم فناد للصلاة»، ولأن ذلك أبلغ لصوته، ولو أذن جالساً، فإن كان مريضاً أو على سفر راكباً لايكره وإن كان من غير عذر يكره، ويجوز نصَّ عليه، لأنه ليس بواجب فلا يجب له القيام. وذكر الإمام سهل فيه قولاً مخرجاً، لا يجوز. مسألةٌ: قال: «ويقول: الله أكبر، الله أكبر».

الفصل: وهذا كما قال: الكلام، الأذان في صفة الأذان. واختلف الناس فيه [19 ب/ 2]، في مذهبنا أنه تسع عشرة كلمة، وكيفيته على ما رواه أبو محذورة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله علمني سنة الأذان. فقال: «تقول: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ترفع بها صوتك، ثم تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، تخفض بها صوتك، ثم ترفع صوتك بالشهادة، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله. وهذا هو الترجيع المسنون، ثم تقول: حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله. فإن كان أذان صلاة الصبح، قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله»، فيبلغ إحدى وعشرين كلمة. وقال مالك: الأذان سبع عشرة كلمة فالتكبير مرتين في الابتداء ووافقنا في الترجيع. وقال أبو حنيفة والثوري خمس عشرة كلمة، فأسقط الترجيع وافقنا في التكبير، وروي عن أبي يوسف: ثلاث عشرة كلمة فنقص التكبير وترك الترجيع وقيل: إنه رجع بعد ذلك إلى قول أبي حنيفة. وروى ابن المنذر عن أحمد، قال: إن رجّع فلا بأس، وإن ترك فلا بأس. وقال إسحق: قد ثبت أذان بلال وأذان أبو محذورة وكل سنة. وقال الشافعي: رأيت إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة: يؤذن نحو قولنا، ويقول: أدركت أبي وجدي يؤذنون هكذا. وروي أيضاً أن سعد القرظ أذن ورجع، وقال: هذا أذان بلال، ولو ترك الترجيع فقد ترك سنة، ويجوز أذانه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان: أحدهما: لا يحتسب [20 أ/ 2] كما لو ترك التكبير. والثاني: يحتسب كما لو ترك التثويب، وحكي هذا عن الشافعي، وهو خلاف المذهب.

مسألة: قال: «ويلتوي في حيَّ على الصلاة، حي على الفلاح يميناً وشمالاً ليسمع النواحي». وهذا كما قال: يستحب للمؤذن أن يلتوي في قوله: حي على الصلاة، حي على الفلاح برأسه وعنقه يميناً وشمالاً، ولا يدير بدنه، ولا يلوي غير رأسه وعنقه. وروي عن بلال أنه لوى عنقه يميناً وشمالاً، ولم يزل قدميه، وروي أنه لوى شدقيه يميناً وشمالاً. ولا فرق بين أن يكون على المنارة أو على الأرض وكيفيته أن يلتوي يميناً، فيقول: حيَّ على الصلاة مرتين، ثم شمالاً، فيقول: حي على الفلاح مرتين. وقال القفال: وحده الصحيح أن يلتوي يميناً، فيقول: حي على الصلاة مرة ثم شمالاً، ويقول: ذلك مرة. وكذلك في حيَّ على الفلاح، لأنه إذا فعل على ذلك الوجه، فقد خص أهل كل واحدة من الناحيتين بلفظٍ ومعنى يخالفه أهل الناحية الأخرى، وهذا حسن. وقال ابن سيرين: لا يلتوي في شيء من الأذان ويكره ذلك، وهذا غلط لما ذكرنا، ولأن القصد منه الإعلام، وإنما يتم ذلك بالالتواء على ما ذكرنا. واحتج بأن في الخطبة لا يلتوي يميناً وشمالاً، فكذلك في الأذان، ولأن في سائر كلمات الأذان لا يلتوي، فكذلك في هذه الكلمة، قلنا: الفرق أن الخطبة خطاب الحاضرين، وفي صرف الوجه عمن هو في قصد وجهه إلى غيره سوء الأدب فلا يسن ذلك. والأذان: إعلام الوقت. وفي هذا تأكيد الإعلام فسن، أن تختلف ألفاظ الخطبة. والقصد منه العظة والإفهام فمن فاته بعض الفصول لا يفهم الباقي بخلاف الأذان، كلامه معهود، والقصد منه الإعلام والصوت، وهو يحصل بكل حال. وأما سائر الكلمات، فذكر الله تعالى محضاً فلا بأس فيها الالتفات. وهذه الكلمة [20 ب/ 2]، خطاب آدمي فهو كالسلام من الصلاة فسن فيه الالتفات عن اليمين والشمال، لأنه خطاب آدمي إلا أنه جعل للتجليل، فلم يجز في وسط الصلاة. إذ الكلام في الصلاة لا يجوز، ويجوز في الأذان، فورد خطاب الآدمي في خلال الأذان دون خلال الصلاة. وقال أبو حنيفة: إن أذن على المنارة دار حول الحجرة، وإن أذن على الأرض لوى

عنقه. وروي هذا عن أحمد، واحتج بما روي عن أبي جحيفة رضي الله عنه، قال: «رأيت بلالاً يؤذن يدور فاتبع فاه ههنا وههنا وأصبعاه في أذنيه»، وهذا غلط. لما روى سفيان الثوري بإسناده عن أبي جحيفة أنه قال: «أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة، وهو في قبة حمراء من أدم، فخرج بلال فأذن فلما بلغ: حي على الصلاة، حي على الفلاح لوى عنقه يميناً وشمالاً، ولم يستدر». ويحمل ما رويتم على هذا الالتواء، ولأنه إذا استدار استدبر القبلة، فكره كما لو كان على الأرض. وقال صاحب «الحاوي»: قد كانت المنارة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد خلفائه مربعة لا مجال لها حتى أحدث المنارة المدورة عبيد الله بن زياد بالبصرة والكوفة، فإن كان البلد لطيفاً والعدد يسيراً لا يدور المؤذن في المنارة في مجالها، لأنه لا حاجة. وإن كان البلد واسعاً والعدد كثيراً كالبصرة، ففي جواز طوافه في مجالها وجهان: أحدهما: يجوز، لأن فيه زيادة الإبلاغ والتسوية من الجهات. وإن علماء الأمصار أقروا المؤذنين عليه، ولم ينكروا. والثاني: لا يجوز إلا على ما ذكرنا، ولا يدور في الحيعلة بحالٍ، وهذا حسن، ولكنه خلاف مذهب الشافعي رضي الله عنه. فرع لو خطب مستقبل القبلة، قال بعض أصحابنا: أساء ويجوز كما لو استدبر القبلة في الأذان. وقال جمهور أصحابنا: لا يجوز [21 أ/ 2]، بخلاف الأذان. والفرق أن الخطبة لما كانت فرضاً، كانت جهة الاستقبال المشروعة فيها فرضاً بخلاف الأذان، ولأن في العدول في الخطبة عدولاً عن أهلها المقصودين بها بخلاف الأذان. فرع آخر لو أذن ماشياً، فإن انتهى في مشيه إلى حيث لا يسمع من كان في الموضع الذي ابتدأ الأذان فيه بقية الأذان لم يجز وإن كان يسمع من سمع ابتداءه لا يجوز. مسألة: قال: «وحسن أن يضع أصبعيه في أذنيه».

وهذا كما قال: يستحب وضع أصبعيه في أذنيه لما ذكرنا في خبر أبي جحيفة، ولأنه إذا انسد خروق الأذن يكون صوته أرفع وأبلغ في الإعلام، ولا يفعل ذلك في الإقامة، لأنه لا يحتاج فيها إلى الرفع البليغ. مسألة: قال: "ويكون على طهر". وهذا كما قال أراده، وحسن أن يكون على طهر، وإنما يستحب ذلك لما روى وائل بن حجر عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «حق وسنة أن لا يؤذن أحد (إلا) وهو طاهر»، ولأنه يستحب أن يؤذن عقيب الأذان ركعتين، ولأن الأذان يراد للصلاة التي تجب فيها الطهارة، فيسن فيه الطهارة فإن أذن على غير طهارة نظر، فإن كانت المنارة خارج المسجد كره ذلك لكونه غير طاهر وأجزأه جنباً كان أو محدثاً وإن كانت المنارة في المسجد فإن كان محدثاً فكذلك، وإن كان جنباً حرم عليه اللبث في المسجد، ولكنه لو لبث وأذن أجزأه الأذان. وقال الشافعي في «الجامع الكبير»: «وأن للأذان مجنباً أكره للأذان محدثاً، وأن للإقامة محدثاً أكره مني للأذان محدثاً لأنهم إن انتظروه شقَّ عليهم، وإن لم ينتظروه كان موضعاً للتهمة». قال أصحابنا: أما زيادة كراهية أذان الجنب على أذان المحدث، فلأجل أن طهر المحدث أخف وأقل شغلاً والغسل أكثر شغلاً فيشق على الناس انتظاره، ولأنه لا يمكنه [21 ب/ 2] الوقوف في المسجد بخلاف المحدث. وأما زيادة كراهية الإقامة، فلما ذكره الشافعي رحمه الله. وأيضاً السنة أن لا تباعد الصلاة عن الإقامة، فلا ينتظره الناس ويتهم في تخلفه عن الصلاة ويلحقه الاستخفاف. وقال أحمد وإسحق: لا يجوز الأذان على غير طهارة قياساً على الخطبة. وهذا غلط لما ذكرنا من الخبر، فأخبر أنه سنة، ولأنه ذكر مشروع خارج الصلاة، فلا يجب فيه الطهارة كالتكبير في العيد بعد الصلاة. وأما الخطبة ففيها قولان، وإن سلمنا، فالفرق أنها ذكر واجب أقيمت مقام ركعتين بخلاف الأذان. فرع آخر: لو افتتح الأذان على طهر ثم أحدث في خلاله، قال في «الأم»: بنى على أذانه،

ولا يقطعه سواء كان الحدث جنابة أو غيرها، وأراد به إذا كان هذا خارج المسجد، فإن كان في المسجد نظر. فإن كان غير الجنابة فكما قال: وإن كان جنابة حرم عليه المقام في المسجد فيحرم إلينا لا للأذان بل للمكان. وإنما قال: ولا يقطعه لأنه إذا قطعه وتطهر ورجع أخل بالإعلام، فإنه يشتبه على الناس بما يجعل بينهما من القطع وإذا مضى فيه أخل بالطهارة، إلا أن الإخلال بالطهارة في الأذان هيئة، والإعلام مقصود. قال: فإن قطعه وتطهر ورجع بنى على أذانه، ولو استأنف كان أحب إلي، وإنما استحب الاسئتئناف لما وقع من الخلل في الإعلام. مسألة: قال: "وأحب رفع الصوت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم به"، وهذا كما قال: أراد به في الأذان، وأراد بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم قوله لأبي محذورة: «ارجع ومدَّ صوتك». وقال في خبر عبد الله بن زيد: «ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتاً». وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي سعيد الخدري رضي الله عنه: «إني أراك تحب البادية والغنم [22 أ/ 2]، فإذا كنت في باديتك أو غنمك، فدخل وقت الصلاة، فأذن وارفع صوتك فإنه لا يسمع مدى صوتك حجر ولا مدر إلا شهد لك به يوم القيامة». وروي أنه قال: «لا يسمع صوتك جن ولا أنس ولا شيء إلا شهد لك يوم القيامة». وروى أبو داود بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: «المؤذن يغفر له مدى صوته ويشهد له كل رطب يابس». وروي: مدّ صوته ويشهد له كل رطب ويابس وشاهد الصلاة، ويكتب له خمس وعشرون حسنة ويكفر عنه ما بينهما. وروى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يغفر للمؤذن منتهى صوته، ولا يسمع صوته رطب ولا يابس إلا جاء يوم القيامة يشهد له». قال الإمام أبو سليمان: مدى الشيء غايته، والمعنى أنه يستكمل مغفرة الله تعالى إذا استوفى وسعه في رفع الصوت، فيبلغ الغاية من المغفرة إذا بلغ الغاية من الصوت.

وقيل: أنه كلام تمثيل وتشبيه يريد أن المكان الذي ينتهي إليه الصوت لو يقدر أن يكون ما بين أقصاه وبين مقامه الذي هو فيه ذنوباً تملأ تلك المسافة يغفرها الله تعالى له. والمعنى فيه أنه أبلغ في المقصود به، وهو الإسماع والإعلام. وقال في «القديم»: يرفع صوته ما أمكنه ما لم يجهده، لأنه إذا أجهد نفسه انقطع صوته. فرع قال في «الأم»: لو جهر بشيء منه وخافت في بعضه لم يكن عليه إعادة ما خافت به. قال أصحابنا: هذا إذا كان يؤذن لنفسه فإن كان يؤذن لجماعة لم يحتسب به، وأعاد ما خافت فيه أو استأنف ويحتمل مراد الشافعي إذا خافت بشيء منه لا يخرجه من الإعلام كتكبيرة أو شهادة، فيكون الباقي كافياً. فرع آخر قال بعض أصحابنا بخراسان: نص الشافعي رحمه الله على أنه يرفع صوته في ابتداء الترجيع [22 ب/ 2] قدر ما يسمع أهل المسجد، وهذا صحيح. مسألة: قال: "وأن لا يتكلم في آذانه". الفصل وهذا كما قال: أراد وأحب أن لا يتكلم في أذانه. والكلام ضربان: ضرب: لا يتعلق بمصلحة الناس والصلاة، فيكره له ذلك في خلال الأذان، لأنه يخل بالإعلام ويرفع اللبس والإشكال. وضرب: يتعلق بمصلحة الناس مثل أن يحذر أعمى أن يقع في بئر، ونحو هذا فإن أمكن أن يؤخر عن الأذان فعل، وإن لم يمكن يجوز له أن يتكلم في خلاله ولا يكره، ثم ينظر في كلها، فإن لم يكن طويلاً بنى وإن طال، فالمستحب أن يستأنف، ولو بنى جاز نصَّ عليه. وحكي عن سليمان بن صرد أنه كان يأمر بحاجته في أذانه، وكان بين الصحابة.

وروى نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يأمر مناديه في الليلة ذات الريح أن يقول: «ألا صلوا في رحالكم». فرع آخر قال في «الأم»: لو سكت سكوتاً طويلاً أحببت استئنافه، وكان له البناء، ففرق الشافعي بين الطويل والقليل في استحباب الاستئناف. وقال صاحب «الإفصاح»: وكذلك الكلام إذا كان قليلاً لا يستحب له الاستئناف، وإذا كان كثيراً استحب. وقال غيره: هذا خلاف ظاهر قول الشافعي، فإنه في الكلام لم يفرق بين القليل والكثير في استحباب الاستئناف. والفرق أن القليل من السكوت لا بد منه للتنفس والاستراحة ولا يحتاج إلى قليل الكلام أصلاً من غير ضرورة. فرع آخر لو نام في أثناء الأذان أو غلب عليه عقله أو جن ثم ثاب إليه عقله فالمستحب أن يستأنف. قال في «الأم»: طال أو قصر فإن بنى جاز. وإنما قلنا كذلك، لأنه إذا استأنف يكون أبلغ في الإعلام، وإذا بنى حصل الإعلام [23 أ/ 2] في الجملة، وإن لم يكن تاماً. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا طال الفصل يبني على ما لو سبقه الحدث في الصلاة، فخرج وتوضأ لها يبني أم يستأنف؟ قولان، فإن قلنا: هناك يبني ففي الأذان أولى، وإن قلنا: هناك لا يبني، ففي الأذان قولان: والفرق أن الأذان يتخلله ما ليس منه بخلاف الصلاة. ومن أصحابنا من قال: يجب الاستئناف ههنا قولاً واحداً، لأنه لا يحصل الإعلام، ولا يصح البناء على ما سبق الحدث في الصلاة، لكن هناك لا فصل بين اليسير والكثير، وههنا اليسير لا يوثر بالإجماع. وهذا أقيس، ولكنه خلاف المنصوص. فرع آخر لو ارتد في خلال أذانه، فإن أكمله مرتداً لا يعتد به، وإن عاد إلى الإسلام هل يبني أو يستأنف؟ فيه وجهان:

أحدهما: يبني كما لو جن ثم أفاق، ولأن الردة لا تحبط العمل ما لم يتصل بها الموت، فهو أذان من مسلم يقع به الإعلام، وهذا أصح. والثاني: يستأنف لأن الردة تبطل العبادة التي هو فيها. ومن أصحابنا من قال: نص في الأذان أنه يستأنف. وقال: إذا ارتد في خلال إعتاقه ثم أسلم لا يستأنف. فمن أصحابنا من قال: فيها قولان على سبيل النقل والتخريج، ومنهم من قال: هما على حالين. وأراد في الأذان إذا أحدث الردة وفي الاعتكاف إذا لم يمتد. وفي هذا نظر. فرع آخر لو أذن ثم ارتد قال في «الأم»: لو أذن بعض الأذان أو كله، ثم ارتد لم يترك يعود لأذانه ولا يصلى بأذانه، ويؤمر غيره فيؤذن أذاناً مستأنفاً. وهذا استحباب حتى لا يُصلى بأذان مرتد. ويجوز لأن مجرد الردة لا تحبط العمل عندنا، وقد أتى به في حال السلامة. فرع آخر إذا كانت الليلة باردة أو ذات ريح وظلمة، قال الشافعي رحمه الله: يستحب أن يأمر المؤذن [23 ب/ 2] يقول إذا فرغ من أذانه: ألا صلوا في رحالكم، فإن قال في أثناء الأذان بعد قوله: حي على الفلاح، فلا بأس، فقد أمر ابن عباس رضي الله عنه بذلك. وقد ذكرنا فيه خبر عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. فرع آخر كل موضع قلنا: يبني على أذانه كان هو الباني على ما مضى، فإن بنى غيره لم يجز قرب أم بعد، نص عليه. وقال: ولا يشبه هذا الصلاة يبني الإمام فيها على صلاة إمامه قبله، لأنه يفرغ من الصلاة فيتمم ما عليه ولا يمكنه العودة في الأذان بعد الفراغ، ولأنه إذا ابتدأ بالصلاة يكون أول صلاته، ولا يكون أول الأذان شيء غير التكبير، ولأنه لا يحصل الإعلام به لأنه تختلف أصواتهما، ويحمله الناس على اللهو واللعب بخلاف الصلاة، فإن المقصود يحصل هناك.

فرع آخر يلزمه أن يأتي بالأذان على الولاء والترتيب، ولا يقدم كلمة على كلمة فإن نكس أعاد مرتباً، وإن ترك منها كلمة أعادها وبنى عليها ما بعدها، ولفظ الشافعي في «الأم»: لو كبر ثم قال: حي على الصلاة عاد فتشهد، ثم أعاد: حي على الصلاة حتى يضع كل شيء منه موضعه، وهذا لأنه نكس لا يحصل به الإعلام ويعد لعباً واستهزاء، وحكي عن أبي حنيفة: أنه يجوز إذا حصل به الإعلام، وهو غير صحيح عنه عندي. فرع آخر يستحب للمؤذن أن يجمع بين الأذان والإقامة ليكمل له الثواب. وقال في «الأم»: وإذا أذن الرجل أحببت أن يتولى الإقامة لشيء يروى فيه أن من أذن أقام. وقال: وإن أقام غيره أجزأه، وبه قال الثوري والليث، وقال مالك وأبو حنيفة في رواية: لا بأس أن يقيم غير من أذن، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم «أمر بلالاً بالأذان في الأول، فأذن، فقال عبد الله بن زيد: إني رأيته، وإني أردت ذلك، فأمر عبد الله بن زيد بالإقامة» [24 أ/ 2]، وهذا غلط لما روى زياد بن الحارث الصدائي، قال: «لما كان أول أذان الصبح أمرني النبي صلى الله عليه وسلم فأذنت فجعلت أقول: أقيم أقيم يا رسول الله؟ فجعل ينظر إلى ناحية المشرق إلى الفجر فيقول: لا حتى إذا طلع الفجر نزل ويلاحق أصحابه فتوضأ فأراد بلال أن يقيم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أخا صداء من أذن، ومن أذن فهو يقيم». قال: فأقمت. وخبرهم محمول على الجواز إن صح. وقد روينا فيما تقدم خلاف هذا، وهو الأصح عندي. وقال بعض أصحابنا بخراسان: قال الشافعي رحمه الله: «فإن أذن واحد وأقام غيره أجزأه إن شاء الله»، فقال أصحابنا: هل يحتسب بتلك الإقامة؟ قولان: بناء على ما لو خطب واحد وصلى آخر هل يصح؟ قولان. وهذا لا يصح لأن الخطبة أقيمت مقام ركعتين من الصلاة، فيجوز فيه التخريج على قولين كما في الصلاة بخلاف الأذان.

فرع آخر لو أذن بعض الأذان ثم دخل الوقت، قال الشافعي رحمه الله: «استأنف». قال أصحابنا: يحتسب بما وقع في الوقت على الترتيب، وهو أنه لو أتى بتكبيرتين ثم دخل الوقت احتسب بتكبيرتين أخريين في آخر الأذان ويبني على ذلك هو إن دخل الوقت بعد ذلك احتسب بالتكبيرتين في آخر الأذان وبنى عليها. فرع آخر إذا لم يكن منارة يستحب أن يؤذن على باب المسجد، فإن أذن في صحن المسجد جاز، وإن ترك المستحب. مسألة: قال: "وإن فات وقته أقام ولم يؤذن"، وهذا كما قال: أراد، وما فات وقته من الصلوات المكتوبة، وجملته أنه إذا (أراد) أن يصلي صلاة فاتته يقام لها، وفي الأذان لها ثلاثة أقاويل: أحدها: لا يستحب لها الأذان قاله في «الأم»، و «البويطي». وبه قال الأوزاعي ومالك وإسحق. والثاني: يؤذن لها [24/ 2]. قاله المزني في «القديم»، وبه قال أبو حنيفة وأحمد. والثالث: قاله «الإملاء» إن رجى اجتماع الناس أذن وأقام، وإن لم يرج اجتماعهم أقام ولا يؤذن، وكأنه في الأول اعتبر الأذان لحرمة الوقت، وفي الثاني: لحرمة الصلاة، وفي الثالث: لحرمة الجماعة، واجتماع الناس. ووجه قوله «الجديد» ما احتج الشافعي به، وهو ما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: «حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصلاة يوم الخندق يعني: شغل بالحرب عن الصلاة حتى بعد المغرب فظهر شيء من الليل فدعا رسول الله صلى اله عليه وسلم بلالاً وأمره أن يقيم، فأقام العصر، ولم يؤذن». وقد روي بخلاف هذا، ولكن هذه الرواية أشهر وأصح. ووجه قوله «القديم» ما روى عمران بن الحصين رضي الله عنه، قال: «سافرنا مع

رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، أو قال: سرية، فلما كان آخر السحر عرسنا فما أيقظنا إلا حر الشمس فأمرنا فارتحلنا، ثم سرنا حتى ارتفعت الشمس، ثم نزلنا فقضى القوم حوائجهم وأمز بلالاً، فأذن فصلينا ركعتين، ثم أمره فأقام الغداة». وروي عن أبي هريرة أنه صرح عن هذا، فقال: لما قفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة خيبر سار ليلة حتى أدركنا الكرى فعرَّس وقال لبلال: اكلأ إناء الليل، فغلبت بلالاً عيناه، وهو مستند إلى راحلته ولم يستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم ولا بلال ولا أحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظاً، ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا بلال»، فقال: أخذ نفسي الذي أخذ نفسك بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قال: فقادوا رواحلهم شيئاً ثم توضأ النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بلالاً فأذن وأقام وصلى بهم الصبح، فلما قضى الصلاة، قال: «من نسي صلاة فليصلها [25 أ/ 2] إذا ذكرها فإن الله تعالى قال: "وأقم الصلاة لذكري" [طه: 14] والكرى النوم». وقوله: عرس، أي: نزل للنوم والاستراحة. والتعريس: النزول لغير إقامة. وقوله: فزع رسول الله صلى الله عليه وسلم، معناه: انتبه من نومه يقال: أفزعت الرجل من نومه، ففزع، أي: فانتبه وإنما تحوَّل عن ذلك المكان قبل الصلاة لئلا يصلي في المكان الذي أصابته الغفلة فيه. وقد روي في هذا الخبر الإقامة من دون الأذان. وهذا القول اختيار كثير من أصحابنا لهذا الخبر. وقالوا: الزيادة إذا صحت فالعمل بها واجب. ووجه قوله في «الإملاء»: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤذن للعصر بعرفات ولا العشاء بمزدلفة لاجتماع الناس. وقال أبو إسحاق: هذا أصح الأقاويل لإمكان حمل الأخبار المختلفة على اختلاف الحالين. وهذا اختيار القاضي أبي الطيب. وفرع أبو إسحق على هذا، فقال: لا فرق على هذا بين الفائتة والحاضرة في وقتها، فإذا صلى الصلاة الحاضرة في وقتها في موضع لا يرجو اجتماع الناس أقام ولم يؤذن استحباباً، وإن كانت الفوائت أكثر من واحدة قضى كل واحدة منها في وقت دون الوقت الآخر. فالحكم على ما مضى وإن قضاها في وقت واحد، فالحكم في الأولى على ما مضى. وأمّا الباقيات فلا يؤذن لها قولاً واحداً، ولكنه يقيم لكل واحدة. وعند أبي حنيفة، يؤذن لكل واحدة وهذا غلط، لما روى ابن مسعود

رضي الله عنه في خبر الخندق أن الكفار شغلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أربع صلوات، «فأمر بلالاً فأذن ثم أقام فصلى الظهر، ثم أقام فصلى العصر، ثم أقام فصلى المغرب، ثم أقام فصلى العشاء». وقد روى أبو عبد الرحمن السلمي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه أذن وأقام لكل واحدة، ولكنه غير محفوظ عند أهل الحديث. واحتج الشافعي أيضاً بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم «جمع بعرفة بأذن وإقامتين، وبمزدلفة بإقامتين [25 ب/ 2]، ولم يؤذن». وأراد أن الظهر بعرفة كانت في وقتها فأذن لها وأقام، والعصر لم تكن في وقتها أو كان أيضاً جامعاً بينها وبين الظهر، فلذلك لم يؤذن لها، وفي المغرب بمزدلفة لم يؤذن، لأنه نقلها عن وقتها، ولم يؤذن للعشاء لئلا يطول الفصل بينهما. ونذكر حكم الأذان عند الجمع، فنقول: إن جمع بينهما في وقت الأولى منهما أذن وأقام للأولى قولاً واحداً، وأقام للثانية ولم يؤذن، وإن جمع بينهما في وقت الثانية، فالحكم فيها كالحكم الفائتين. هل يؤذن للأولى ثلاثة أقاويل؟ ويقيم الثانية ولا يؤذن. وقال أبو حنيفة: يقيم للعشاء بمزدلفة، وإن أراد أن يقدم العصر في هذا الجمع، هل يجوز وجهان، فإن جوَّزنا يؤذن للعصر ويقيم دون الظهر. فرع قال بعض أصحابنا بخراسان: لو كانت عليه فائتة وفريضة الوقت، فإن قدم الفائتة ففي الأذان لها ما ذكرنا من الأقوال، ثم يقيم لفريضة الوقت ولا يؤذن، وإن قدم فريضة الوقت أذن لها وأقام، ولا يؤذن للفائتة قولاً واحداً، وهذا يقرب من اختيار أبي إسحاق. فرع آخر الصلوات على ثلاثة أضرب منها: ما يؤذن لها ويقام كالصلوات الخمس، ومنها ما لا يؤذن لها ولا يقام. ولكن يقال: الصلاة جامعة، وهو صلاة العيدين والكسوف والاستسقاء وقيام شهر رمضان. وروي عن عمر بن عبد العزيز ومعاوية أنهما أذنا لصلاة العيد وهذا غلط، لما روى

جابر بن سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «لم يؤذن لها ولم يقم». ومنها ما لا يؤذن لها ولا يقام ولا يقال: الصلاة جامعة، وهو صلاة الجنازة والنوافل مما ليس فيه الجماعة. مسألة: قال: "ولا أحب لأحد أن يصلي في جماعة ولا وحده إلا بأذان وإقامة". وهذا كما قال: أراد به الصلاة المكتوبة، وجملته أن الأذان والإقامة مسنونان في [26 أ/ 2] صلاة الانفراد والجماعة. وبه قال جماعة العلماء، فإن اتفق أهل بلده على تركه لم يقاتلهم الإمام على ذلك. وقيل: في وجه آخر: يقاتلهم الإمام، لأنه شعار الإسلام. ومن أصحابنا من قال: وهو اختيار الإصطخري وجماعة، وهما فرائض الكفايات، فإذا أقام بها قوم سقط الفرض على الباقين، إلا خرجوا أجمعين. وبه قال أحمد والكفاية أن لا يبقى بالمكان أحد إلا ويعلم أنه قد أذن فيه، فإن كان المكان قرية يبلغ النداء إلى جميعها أجزى ذلك في مكان واحد. وكذلك الرفقة في السفر، وإن كانت أكبر من ذلك فلا بد من الأذان في موضعين، فإن كانت بلدة كبيرة، فالكفاية أن تقام في كل محل منها حتى يتصل بعض المحال ببعضٍ، فعلى هذا إذا اجتمع أهل بلدٍ على تركهما أو ترك أحدهما قاتلهم الإمام. وهذا خلاف المنصوص. ومن أصحابنا من قال: هما سنَّة إلا في الجمعة فإنهما من فرائض الكفايات فيها، وهو النداء الذي يحرم البيع عنده. وهو إذا جلس الإمام على المنبر. وحكي عن ابن خيرات والإصطخري أيضاً. وقال عطاء وداود يجب كلاهما في صلاة الجماعة في كل يوم خمس مرات. وحكي عن عطاء، وهو الأصح أنه قال: الإقامة واجبة دون الأذان، فإن بعذرٍ يجوز، وإلا فلا يجوز. وروي عنه أنه قال: من نسي الإقامة يعيد الصلاة. وقال مجاهد: هما واجبان، فإن تركهما أو أحدهما فسدت صلاته. وقال الأوزاعي: هما واجبان ولكن أحدهما ينوب عن الآخر، فإن أتى بأحدهما يجوز، وإن تركهما لم يجز وأعاد الصلاة إن كان وقتها

باقياً، ولا يعيد إن كان فائتاً، وهذا كله غلط لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: والمسيء صلاته «إذا أردت الصلاة، فأحسن الوضوء ثم استقبل القبلة فكبر»، ولم يأمره بالأذان. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا كان أحدكم بأرض فلاةٍ، [26 ب/ 2]، فدخل عليه وقت الصلاة، فإن صلى من غير أذان ولا إقامة صلى وحده وإن صلى بإقامة صلى بصلاته (ملكان)، وإن صلى بأذان وإقامة صلى خلفه صف من الملائكة أولهم بالمشرق وآخرهم بالمغرب». واحتجوا بما روي عن مالك بن الحويرث أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم مع صاحب له، فقال لهما: «إذا سافرتما فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما». وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا نزل بقبلة استمع إذا أصبح، فإن سمع الأذان وإلا شن الغارة». قلنا: أمَّا الأول، نحمله على الاستحباب. وأما الثاني: فلأنه كان يستدل بتركهم الأذان على كفرهم لا أنه كان يقاتلهم لترك الأذان. فرع قال الشافعي- رحمه الله-: يأتي بالأذان المقيم والمسافر، والحر والعبد سواء صلى منفرداً أو في جماعة، وسواء كان المسجد صغيراً أو كبيراً، ولكنه في المساجد العظام أشد استحباباً، فإن ترك رجل الأذان والإقامة منفرداً أو في جماعة كرهت له ولا إعادة. وهذا يدل على خلاف قول أبي إسحق على ما ذكرنا قبل هذا في الصلاة الحاضرة إذا لم يكن جماعة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يسن الأذان للمنفرد؟ قولان: قال في «القديم»: لا يسن. وقال في «الجديد»: يسن. وهذا غير مشهور.

فرع آخر قال في «الأم»: لو صلى الرجل مع إمامه جماعة، فأذن المؤذن وإقامته تكفيه ولا حاجة به إلى أن يؤذن لنفسه، ويصلي بأذان غيره، وإن كان المؤذن ما أذن له ولا نواه مثل أن يجتاز بمسجد قد أذن فيه والناس على أن يصلوا فيه، فإنه يصلي مع القوم، ولا يؤذن لنفسه. فرع آخر لو دخل رجل المسجد، وقد صلى فيه بأذان وإقامة، هل يؤذن فيه لنفسه؟. قال في «الأم»: أحببت أن يؤذن ويقيم لنفسه. وقال في موضع آخر من «الأم»: ولا أعلم مخالفاً أنه إذا جاء المسجد، وقد خرج الإمام من الصلاة له أن يصلي بلا أذان ولا إقامة، وليست المسألة على قولين، بل هي على اختلاف [27 أ/ 2] حالين، فالذي يؤذن ويقيم إذا كان الإمام والناس قد انصرفوا وفرغوا، والذي قال لا يؤذن ولا يقيم، إذا دخل حين فرغ الإمام من الصلاة. وقال بعض أصحابنا: يؤذن ويقيم بكل حال في نفسه ولا يرفع صوته، لأنه يوقع الإشكال للسامع، فإنه إذا سمع الأذان الثاني قدر الصلاة الأخرى، قد دخل وقتها. وما قال في «الأم»: له أن يصلي بلا أذان أراد به الجواز. فرع آخر لو كان في بيته فسمع أذان المؤذن وأراد أن يصلي في بيته هل يجزئه أذان المؤذن؟ قال في «القديم»: يكفيه أذانه وإقامته، وقال في «الأم»: لا يكفيه، وهو الأصح عندي. مسألة: قال: "وأحب للمرأة أن تقيم". وهذا كما قال: الأذان للنساء غير مسنون، وهذا لأن الأذان لإعلام الغائبين، ولا يستحبُّ لها رفع الصوت.

وروي عن ابن عمر وأنس رضي الله عنهما أنهما قالا: ليس على النساء أذان. ولو أذنت قال الشافعي: لم يكن مكروهاً. وقال البويطي: لأن ذلك تحميد. ومن أصحابنا من قال: يكره لها، وهو خلاف النص. وقال الحسن وابن سيرين: ليس عليهن أذان، فإن فعلن، فهو ذكز ولا يكون أذاناً شرعياً. وهو قول بعض أصحابنا ولو صفين جماعة، وأذنت واحدة منهن. قال في «الأم»: "لا بأس ولا ترفع صوتها إلا بقدر ما يسمع صواحباتها". وأما الإقامة فإنها مسنونة لها، فإن تركت الإقامة قال في «الأم»: أكره لها من تركها ما أكره للرجال. وروي عن جابر رضي الله عنه أنه سئل: أتقيم المرأة؟ فقال: نعم. لأن الإقامة تراه لافتتاح الصلاة ولا تبالغ فيها برفع الصوت بخلاف الأذان. فرع قال في «الأم»: "لو أذنت امرأة للرجال لم يجز عنهم"، لأن المرأة لا تصلح أن تكون إماماً للرجال، فلا يعتد بأذانها لهم. وقال أبو حنيفة: يعتد بأذانها لهم. وقيل: هو قول بعض أصحابنا لأنها تخبر عن دخول الوقت وخبرها مقبول. مسألة: قال: "ومن سمع المؤذن أحببت أن يقول مثل ما يقول". [27 ب/ 2]. الفصل وهذا كما قال: هذا الكلام ليس على ظاهره، لأنه لا يقول مثل ما يقول في جميع الكلمات، وأراد به فيما عدا الحيعلة، فإذا ثبت هذا ينظر، فإن سمع الأذان خارج الصلاة، فالمستحب أن يقول مثل ما يقوله إلا قوله: حي على الصلاة، حي على الفلاح، فإنه يقول في ذلك: لا حول ولا قوة إلا بالله. وهذا لأن سائر الألفاظ ذكراً لله تعالى، وهاتان اللفظتان ليستا بذكر بل يقصد بهما الإعلام فلا يتابعه فيهما. والأصل في ذلك ما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال المؤذن: الله أكبر، الله أكبر، فقال أحدكم: الله كبر، الله أكبر، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله. فإذا قال: أشهد أن محمداً رسول الله، قال: أشهد

أن محمداً رسول الله، فإذا قال: حي على الصلاة، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإذا قال: حي على الفلاح، قال: لا حول ولا قوة إلا بالله، فإذا قال: الله أكبر، الله أكبر، قال: الله أكبر، الله أكبر، فإذا قال: لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه دخل الجنة». وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا سمعتم النداء، فقولوا مثل ما يقول المؤذن». فرع قال بعض أصحابنا: ويستحب قول: لا حول ولا قوة إلا بالله مرة مرة، وإن كان المؤذن يقول: حي على الصلاة مرتين، وحي على الفلاح، لأنه ظاهر السنة. فرع آخر قال في «الأم»: وأحب لكل من كان خارج الصلاة، أو ذاكر أو صامت أو متحدث أن يقول ذلك، فأستحب قطع القراءة لذلك، وهذا لأن قراءة القرآن لا تفوت، والقول مع المؤذن يفوت ويفارق هذا المصلي لأن تحريمته أوجبت عليه الاشتغال بها، ولا يجوز الإعراض عنها. فرع آخر قال الشافعي رحمة الله عليه: المستحب للسامع والمؤذن بعد الفراغ أن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم [28 أ/ 2] قال: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول، ثم صلوا علي، فإن من صلى علي صلاة صلى الله عليه عشراً، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة إلا تكون لعبد من عباد الله عز وجل وأرجو أن أكون أنا، فمن سأل لي الوسيلة حقت لهُ الشفاعة». ثم يقول ما روى عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال أحدكم حين يسمع الأذان: اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الفضيلة والوسيلة وابعثه المقام

المحمود الذي وعدته حلَّت له الشفاعة يوم القيامة». وروى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قال حين يسمع النداء وأنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً غفر له ذنبه». وهذا يدل على أنه يقوله في أثناء الأذان. وهذا محتمل لتطويل المؤذن ألفاظه، وإن قاله بعد الفراغ من الأذان جاز ويزيد فيه عند أذان المغرب، فيقول: «اللهم هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك، وأصوات دعائك، فاغفر لي»؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أم سلمة رضي الله عنها بذلك، ويستحب أن يدعو الله تعالى بين الأذان والإقامة، لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة، فادعوا». وروى سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ساعتان تفتح فيهما أبواب السماء، وقل داع ترد دعوته حضر النداء بالصلاة والصف في سبيل الله». قلت: ويستحب أن يقرأ آية الكرسي لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قرأ ذلك بين الأذان والإقامة لم يكتب عليه ما بين الصلاتين». فرع آخر قال أصحابنا: [28 ب/ 2] المستحب أن يقعد بين الأذان والإقامة مدة ينتظر فيها الجماعة، لأن الملك الذي رآه عبد الله بن زيد أذن وقعد قعدة، ولأنه لو وصل الأذان بالإقامة فات الناس الجماعة، فلا يحصل المقصود بالأذان. فرع آخر يستحب أن يتحول من موضع الأذان إلى غيره للإقامة لما روي في خبر عبد الله بن زيد، «ثم استأخر غير كثير، ثم قال مثل ما قال وجعلها وتراً». فرع آخر إذا سمع الإقامة يستحب له أن يقول مثل ما يقول على ما ذكرنا، فإذا قال: قد

قامت الصلاة، يقول: أقامها الله وأدامها وجعلنا من صالحي أهلها لما روى أبو أسامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أقامها الله وأدامها». فرع آخر قال بعض أصحابنا: إذا قال المؤذن في أذان الصبح: الصلاة خير من النوم يقول: صدقت وبررت، وقيل: يقول صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصلاة خير من النوم». فع آخر قال الشافعي رحمة الله تعالى عليه: إلا أن يكون في صلاة، فإذا فرغ منها قاله. وقال الشافعي في «الأم»: ولا فرق بين أن يكون في صلاة فرض أو نافلة، وإنما يقوله بعد الفراغ منها تحصيلاً للقربة، والمستحب أن لا يقوله في أثناء الصلاة. وقال مالكٌ والليث: إن كان في صلاة النافلة يقول مثل ما يقول إلا في الحيعلة، فإنه يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا غلط، لأنه يقطعه عن الإقبال على الصلاة والاشتغال بها فأشبه صلاة الفريضة. فرع آخر قال أبو إسحق: إذا فرغ منها لا يكون من تأكيد الاستحباب ما يكون في حال ما يسمعه. فرع آخر لو قال ذلك في الصلاة، قال الشافعي: لم يكن مفسداً لها إن شاء الله، والاختيار أن لا يقوله. قال أصحابنا: أراد به إذا قال ما سن له من القول، فأما إذا قال ما قال المؤذن: حي على الصلاة، حي على الفلاح بطلت صلاته [29 أ/ 2] إن كان عالماً بأنه خطاب الآدميين، وإن كان جاهلاً لا تبطل ويسجد للسهو، وهذا لأن هذا بذكر الله تعالى بخلاف سائر الألفاظ.

فرع آخر قال أصحابنا: هذا إذا ذكر في غير الفاتحة، فإذا ذكر في الفاتحة وأجاب المؤذن كما هو السنة في غير الصلاة بطلت قراءته، لأن التتابع فيها شرط، ويتسأنف القراءة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: قال الشافعي: لا أكره أن يجيب المؤذن في الصلاة وليس على قولين بل لا يكره ولا يستحب ويباح، وقيل: هل يستحب في الصلاة؟ قولان. وقيل: هل يكره؟ وجهان، وهذا غلط ظاهر. مسألة: قال: "والإقامة فرادى". الفصل وهذا كما قال: الإقامة فرادى، وهي إحدى عشرة كلمة التكبير مرتين، والشهادتان مرتين، وحي على الصلاة مرة، وحي على الفلاح مرة، وقد قامت الصلاة مرتين، والله أكبر مرتين، ولا إله إلا الله مرة. وبه قال عروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز والحسن ومكحول والزهري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور رضي الله عنهم، وكان عليه عمل أهل مكة والمدينة والشام. وقيل: عبارة أصحابنا الإقامة فرادى على المجاز، ومعناه كل ما كان في الأذان مثنى ففي الإقامة مرة، لأن التكبير مرتان وكذلك كلمة الإقامة [29 ب/ 2] وقال بعض أهل خراسان للشافعي قول أنه يفرد التكبير في الانتهاء وثنيه في الابتداء، وفيه نظر. وقال الشافعي في «القديم»: هي عشر كلمات يقول: قد قامت الصلاة مرة، وبه قال مالك وداود، وحكي عن مالك أنه قال: التكبير فيها مرة أيضاً. وقال الثوري وأبو حنيفة: الإقامة مثل الأذان ويزيد لفظ الإقامة مرتين، واحتج بما روي في خبر عبد الله بن زيد أنه قال: «فأمهل هنيهة، ثم قام، فقال مثلها إلا أنه زاد: قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة». وروى ابن محيريز عن أبي محذورة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «علّمه سنة الأذان تسع عشرة كلمة والإقامة سبع عشرة كلمة»، وهذا غلط لما روي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: «أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة». وروي: إلا الإقامة، ومعناه إلا كلمة الإقامة. وقوله: أمر بلال يريد به رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي أمره به، والأمر مضاف إليه دون غيره، وقد قالوا: كان الآمر فيه أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وهذا خطأ ظاهر

لأن بلالاً لحق بالشام بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستخلف سعد القرظ على الأذان في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما خبرهم الأول قلنا روى أبو داود بإسناده عن عبد الله بن زيد أنه قال في الخبر: ثم استأخر عني غير بعيد، ثم قال: يقول: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله. وذكر نحو قولنا إلى آخرها. وقال الإمام أبو سليمان الخطابي: قد روي هذا بأسانيد مختلفة وإسناد هذا أصحها وجرى به العمل في الحرمين والحجاز وبلاد اليمن وديار مصر ونواحي المغرب، وحكاه سعد القرظ، وكان أذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته بقباء، ثم استخلفه بلال وسأل عمر رضي الله عنه، وكان يفرد الإقامة. [30 أ/ 2] وأما الخبر الثاني، قلنا: روى الحميدي في الرد على أهل الحذف قال: أدركت إبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة، قال: أدركت أبي وجدي يقيمون فيقولون: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، وذكر نحو قولنا، ويشبه أن يكون العمل من أبي محذورة ومن ولده بعده إنما استمر على إفراد الإقامة فاتبعه وكان أمر الأذان ينقل من حال إلى حال وتدخله الزيادة والنقصان، ولأنها إنما تبلع تسع عشرة كلمة بالترجيع، وهم لا يقولون. وقال بعض أصحابنا: إذا رجع في أذانه ثنى الإقامة لهذا الخبر. وحكاه شيخنا الإمام ناصر رحمه الله عن محمد بن إسحاق بن خزيمة، وهذا خلاف مذهب الشافعي. وقال ابن شريح: الترجيع والتثنية في الإقامة من الاختلاف المباح وليس بعضه بأولى من البعض، وهذا قول مطروح بالإجماع، فإذا تقرر هذا لزم الشافعي رحمة الله عليه نفسه سؤالاً، فقال: فإن قال قائل: فقد أمر أن يوتر الإقامة. واختلف أصحابنا في معنى هذا السؤال، فمنهم من قال: هذا سؤال من جهة مالك في إفراد التكبير، فكأنه يقول: قد أمر بلال أن يوتر الإقامة، وأنت تأمر بتشفيع التكبير، فأجابه بأن عارض، فقال: قيل له: فأنت تثني الله أكبر، فتجعلها مرتين، يعني مرة في ابتداء الإقامة، ومرة في آخرها، فيلزمك من الخبر ما ألزمتنا. ومن أصحابنا من قال: هذا سؤال من قوله «القديم» على قوله «الجديد» في إفراد

قوله: قد قامت الصلاة، فكأنه يقول: قد أمر بلال أن يوتر الإقامة، فلم ثنيت، قوله: قد قامت الصلاة، فأجاب على قوله الجديد بقوله: تثني الله أكبر، الله أكبر، فتجعلها مرتين في ابتداء الإقامة ومرتين في آخرها، ولأنه روي استثناء كلمة الإقامة من الإفراد على ما ذكرنا. مسألة: قال: "وقال في القديم: [30 ب/ 2] ويزيد في صلاة الصبح التثويب وهو: الصلاة خير من النوم" مرتين. الفصل وهذا كما قال: السنة أن يقول ذلك نص عليه في «القديم» و «الجديد» في «الإملاء»، و «البويطي»، وبه قال مالك والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وقال في كتاب استقبال القبلة من «الجديد»: يكره ذلك، لأن أبا محذورة لم يحكه. قال أصحابنا: هذا القول سهو من الشافعي ونسيان حتى سطر هذه المسالة، فإنه حكي ذلك في الكتاب العراقي عن سعد القرظ، وعن أبي محذورة، ولأن أصحابنا رووا هذا في خبر أبي محذورة على ما سبق بيانه. وقيل: هذه الرواية لم تبلغ الشافعي ولو بلغه لقال بها، فالمسألة على قول واحد. وقد قال الشافعي: إذا رأيتم قولي خلاف السنة، فاطرحوا قولي في الحش. وقال أبو إسحاق: في المسألة قولان: أصحهما الأخذ بالزيادة كما قلنا في الترجيع، وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة مثل قولنا وروي عنه أنه قال: هو بدعة. وروى محمد عنه أنه قال: لأن التثويب الأول، الصلاة خير من النوم مرتين من الأذان والإقامة، ثم أحدث الناس بالكوفة، حي على الصلاة، حي على الفلاح مرتين من الأذان والإقامة وهو حسن. وهذا اختيار أبي بكر الرازي. واحتج بما روي عن بلال أنه أذن، ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقيل له: إنه نام فقال: الصلاة خير من النوم مرتين، فأقره عليه. وهذا غلط لما روي عن أبي محذورة أنه قال: «قلت: يا رسول الله، علمني سنة الأذان، فذكر الخبر إلى أن قال بعد قوله: حي على الفلاح، فإن كان صلاة الصبح، قلت: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم، الله أكبر، الله أكبر».

وأما خبر بلال قلنا: روى ابن المنذر عن سويد بن غفلة أن بلالاً كان يقول في أذانه: الصلاة خير من النوم [31 أ/ 2]. وقال أبو هريرة: جاء بلال إلى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه بصلاة الصبح، فقيل: هو نائم فقال: الصلاة خير من النوم، فقال لنا النبي صلى الله عليه وسلم: «ما الذي زدت في أذانك»؟ فقال: الصلاة خير من النوم، ظننتك وسنت يا رسول الله، وثقلت عن الصلاة، فقال: «زدها في أذانك». وروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: أذن بلال للصبح، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم ليؤذنه، فقيل: إنه نائم، فقال: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، الصلاة خير من النوم مرتين، ثم دخل فحرك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: اجعله في أذانك إذا أذنت للصبح، فقل: الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم». وروى الشافعي رحمة الله عليه عن علي رضي الله عنه نحو قولنا، ثم قال المزني: الزيادة أولى في الأخبار كما قال في التشهد وصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت. وأراد بخبر التشهد رواية ابن عباس رضي الله عنه: «التحيات المباركات». وأراد بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في البيت ما روى ابن عمر رضي الله عنه، قال: «دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم البيت ومعه أسامة بن زيد وعثمان بن طلحة، فأخبرت فبادرت إلى المسجد فوجدته قد خرج فادركت بلالاً، فقلت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت: أين صلى؟ فأشار إلى موضع، فنسيت أن أسأله: كم صلى؟». وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «دخل البيت ودعا ولم يصل» فأخذ الشافعي بالزيادة وهذا قاله صحيح، وهو المذهب ومن نصر مخالفيه، أجاب عن هذا بأن الزيادة إنما تكون أولى فيما يجوز أن يخفى على العامة كالتشهد وصلاة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكعبة، فإنه لم يدخلها إلا مع نفر يسير، فأمَّا أمر الأذان فهو من الأمور الظاهرة [31 ب/ 2] الشائعة المتكررة في كل يوم وما كان هذا سبيله فالزائد والناقص فيه سواء، لأنه مما لا يخفى على العامة، ولهذا أخذ بإفراد الإقامة دون التثنية. ثم اعلم أن ابن شجاع قال: قال أبو حنيفة: التثويب الأول في نفس الأذان، والثاني من الأذان والإقامة، فيقول بعد الأذان: حي على الصلاة، حي على الفلاح. وروى الحسن بن زياد عنه أنه قال: يثوب بعد الأذان بقدر عشرين آية، واحتج بما روى أبو يوسف عن كامل بن العلاء السعدي أنه قال: «كان بلال إذا أذن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم

فسلم عليه، ثم قال: حي على الصلاة، حي على الفلاح، يرحمك الله». وهذا عندنا بدعة لما روى مجاهد قال: لما قدم عمر رضي الله عنه مكة أتاه أبو محذورة، وقد أذن، فقال: الصلاة يا أمير المؤمنين، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، فقال: ويحك، أمجنون أنت؟ ما كان في دعائك الذي دعوته ما نأتيك حتى تأتينا؟ ولو كان هذا سنة لم ينكره عمر رضي الله عنه، وسئل الأوزاعي عن التسليم على الأمراء، فقالى: أول من أحدثه معاوية، وأقره عمر بن عبد العزيز. وأما كامل بن العلاء فلم يلق بلالاً، فلا حجة فيه. قال أصحابنا: يجوز استدعاء الأمراء إلى الصلاة كما روت عائشة رضي الله عنها أن بلالاً جاء، فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته، الصلاة يرحمك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مر أبا بكر فليصل بالناس». قال: إنه قال: فكان بلال يسلم على أبي بكر وعمر كما كان يسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا تقرر هذا لا يستحب التثويب في غير الصبح عندنا. وقال: يثوب في العشاء وأيضاً لأنه وقت النوم. وقال النخعي: يثوب في جميع الصلوات، وهذا غلط لما روى يزيد بن غفلة عن بلال رضي الله عنه [32 أ/ 2]، قال: «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أثوب في أذان الصبح ولا أثوب في غيرها». وروي أن عمر رضي الله عنه أنه دخل المسجد يصلي فسمع رجلاً يثوب في أذان الظهر، فخرج عنه فقيل له: إلى أين تخرج؟! فقال: أخرجتني البدعة. مسألة: قال: "وأحب أن لا يجعل مؤذن الجماعة إلا عدلاً ثقة لإشرافه على الناس". وهذا كما قال، قوله ثقة تأكيد لأن العدل لا يكون إلا ثقة، وقيل: معناه إلا عدلاً إن كان حراً، ثقة إن كان عبداً، لأن العبد لا يوصف بالعدالة، ولكن يوصف بالثقة والأمانة. وقيل: أراد إلا عدلاً في دينه ثقة في علمه بمواقيت الصلاة، وجملته أنه

يستحب أن يكون المؤذن عدلاً أميناً لاطلاعه على الناس عارفاً بالمواقيت لأن الناس يعتمدون عليه وقوله: لإشرافه على الناس، يحتمل شرف المكان عند الأذان فيطلع على عورات الناس. وقيل: أراد الإشراف على المواقيت، وقد قال في «الإملاء» لإشرافه على عوراتهم وأمانته على الوقت. وقال في «القديم»: لإشرافه على بعض عورات الناس ولأجل المواقيت وهذا أصح، لأنه لا يقدر أن يشرف على عورات الكل، وهذا لأنه إذا لم يكن عدلاً ثقة يخاف منه الفتنة في الإشراف والتلبيس على الناس في الأوقات. قال: وأحب أن يكون حراً كاملاً من خيار الناس لقوله صلى الله عليه وسلم: «يؤمكم أقرؤكم، ويؤذن لكم خياركم». وقال عمر رضي الله عنه لرجل: من مؤذنكم؟ فقال: موالينا أو عبيدنا، فقال: إن ذلك لنقص كثير. وقال في «القديم»: الأولى أن يكون من أولاد المؤذنين الذين جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان فيهم، وهم أبو محذورة وبلال وسعد القرظ، فإن لم يبق منهم أحد فإلى من أنابهم فإن لم يبق منهم أحد جعله في أولاد أحد من الصحابة، فإن انقرضوا جعل إلى الأقرب فالأقرب، [32 ب/ 2] فإن لم يكن جعل إلى من يراه من خيار الناس على ما وصفنا. وقال أبو محذورة: جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأذان لنا. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الملك في قريشٍ والقضاء في الأنصار، والأذان في الحبشة والأمانة في الأزد». فرع قال في «الأم»: "ومن أذن من عبد مكاتب وحر أجزأ، فأما الصبي فيكره أن يكون مؤذناً". قال في «الأم»: «وأحب أن لا يؤذن إلا بعد البلوغ لما رويناه فإن أذن قبل البلوغ أجزأه». وقال داود: لا يعتد بأذانه، لأنه ليس بمكلف بالشرع فأشبه المجنون، وهذا غلط لما روى ابن المنذر بإسناده عن عبيد الله بن أبي بكرة، قال:

«كان عمومتي يأمرونني بأن أؤذن لهم وأنا غلام لم أحتلم». وأنس ابن مالك رضي الله عنه شاهد ولم ينكر، وهذا فيما يظهر ولا يخفى، فثبت أنه إجماع منهم ولأنه تجوز إمامته في النوافل بالإجماع كالعبد، وأما المجنون، فلأنه لا يعقل معنى ما يقول هذا. فرع آخر لو كان خصياً أو مجبوباً لا يكره ويجوز، ولو كان فاسقاً يكره ولو أذن جاز لما قلنا في إمامته، والكافر لا يجوز بحالٍ. فرع آخر قال: لو كان أعمى فإن معه بصير يؤذن قبله أو يعرفه المواقيت جاز ولا يكره، وإن كان وحده كره ذلك، لأنه لا يشاهد علامات الوقت، فإن أذن جاز، لأن له أن يجتهد في المواقيت. وجملته: أن الناس على أربعة أضرب: من يستحب أن يكون مؤذناً، وهو من ذكرنا، ومن يجوز أن يكون مؤذناً وإن كان غيره أولى منه، وهو العبد ونحوه، ومن يكره أن يكون مؤذناً، ويجوز كالأعمى إذا كان وحده، والصبي والفاسق، ومن لا يجوز بحال، وهو الكافر والمجنون والمرأة للرجال. فرع آخر لو تنازع جماعة في الأذان مع تساويهم استمعوا. روى ابن المنذر أن الناس تشاحوا يوم القادسية في الأذان، فاختصموا إلى سعد بن أبي وقاص، فأقرع بينهم. وروي عن عمر [33 أ/ 2] بن الخطاب رضي الله عنه أنه اختصم إليه ثلاثة نفر في الأذان، فقضى لأحدهم بأذان الفجر وقضى للأخر بالظهر والعصر وللآخر بالمغرب والعشاء. مسألة: قال: وأحب أن يكون صيتاً. أي: رفيع الصوت لقوله صلى الله عليه وسلم لعبد الله: «ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتاً»، ولأنه أبلغ في الإعلام.

مسألة: قال: "وأن يكون حسن الصوت ليكون أرق لسامعيه". وهذا كما قال، أراد أنه إذا كان حسن الصوت يكون أدعى إلى الإجابة، لأن الداعي إلى الطاعة ينبغي أن يكون حلو المقال، ترق القلوب له. قال الله تعالى: "ولو كنت فظاً غيظ القلب لانفضوا من حولك" [آل عمران: 159]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "زينوا القرآن بأصواتكم»، وأراد به تحسين الصوت بالقراءة. وقال الله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام حين أرسلهما إلى فرعون: "فقولا له قولاً لينا" [طه: 44] الآية. مسألة: قال: "وأحب أن يؤذن مترسلاً بغير تمطيط". وهذا كما قال، أراد بالترسل إفراد كل كلمة من الأذان وإرسال النفس عند انتهائها. يقال: جاء فلان على رسله، أي: على هينة غير عجل ولا متعب نفسه. وروى ابن عمر رضي الله عنه سمع أبا محذورة وقد رفع صوته، فقال له: «أما خشيت أن ينشق من تطاول، فقال: أحببت أن تسمع صوتي». والتمطيط: التمديد. وقيل: إنه الإفراط في المد، وقوله: ولا نفي فيه، أراد أن يرفع صوته حتى يجاوز به المقدار. وقرئ، ولا يغني فيه. وأراد تشبيهه بالغناء في التطريب والتلحين. وروي أن رجلاً قال لابن عمر رضي الله عنه: «إني أحبك في الله، فقال: وأنا أبغضك في الله إنك تغني في أذانك». قال حماد: يعني التطريب. مسألة: قال: "وأحب الإقامة إدراجاً مبيناً". وهذا كما قال. الإدراج: أن يدرج كلمة في كلمة ويجمع بينهما في نفس واحد بخلاف الترسل، ولكن مع الإدراج [33 ب/ 2] يجب أن يكون مبيناً، وإنما قلنا كذلك لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال: «إذا أذنت فترسل وإذا أقمت فاحذر!». رواه جابر، وروى أبو الزبير مؤذن بيت المقدس، قال: جاءنا عمر بن الخطاب رضي

الله عنه، فقال: إذا أذنت فترسل، وإذا أقمت فاحذر، ولأن الأذان يراد الإعلام، والترسل فيه أبلغ في الإعلام، والإقامة تراد لافتتاح الصلاة. والإدراج فيه أقرب إلى الاستفتاح ولا يستحب فيه الصعود على المنارة، وهل يلتوي فيها في كلمة الحيعلة؟. قال القفال: مرة يلتوي كما في الأذان، وقال: مرة لا يلتوي، والصحيح عندي الأول، وهو ظاهر المذهب. وقول الشافعي: «ويلتوي في حي على الصلاة يرجع» إليهما. وقيل: الصحيح لا يلتوي لأن القوم يسمعون من غير التفات حتى لو كان المسجد كبيراً يلتوي ليحصل الإعلام. ثم قال الشافعي: «وكيف ما جاء بهما أجزأه». يعني إن خالف ما قلناه، فأدرج الأذان وأقام مترسلاً جاز، وإن كان تاركاً للسنة لأنهما هيئتان فيهما، فهو كترك الجهر والإبراد في الصلاة. فرع إذا أذن بالفارسية للجماعة لم يجز وإن كان لنفسه ولا يحسن العربية أجزأه، وعليه أن يتعلم وإن كان يحسن العربية لم يجز. كأذكار الصلاة ذكره صاحب «الحاوي». فرع آخر متى يقوم الناس إلى الصلاة عند إقامة المؤذن؟ قال أصحابنا: ينبغي لمن كان منهم شيخاً بطئ النهضة أن يقوم عند قوله: قد قامت الصلاة، ومن كان شاباً سريع النهضة أن يقوم بعد فراغه من الإقامة فيختلف باختلاف القائمين ليستووا في صفوفهم قياماً في وقت واحد. مسألة: قال: "وأحب أن يكون المصلي بهم عالماً فاضلاً". وهذا كما قال أراد أن الإمام سفير بين القوم وبين الله تعالى، فيجب أن يكون أفضلهم وأعلمهم، وأي الناس صلى بالإمامة من الرجال [34 أ/ 2] المسلمين جاز، وإن كان فاسقاً وشرح هذا يجيء في موضعه، فإن هذه المسألة ليست من مسائل الأذان، بل هي من مسائل الإمامة.

مسألة: قال: "وأحب أن يكون المؤذنون اثنين". الفصل وهذا كما قال: يجب أن يكون لكل مسجد كبير مؤذنان لكل صلاة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان له مؤذنان: بلال وابن أم مكتوم، فإن اقتصر على مؤذن واحد جاز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على أذان سعد القرظ وعلى أذان زياد بن الحارث. قال في «الأم»: ولا يضيق أن يؤذن أكثر من اثنين. قال أصحابنا: ولا يستحب أن يزيد على أربعة، لأن عثمان رضي الله عنه اتخذ أربعة من المؤذنين، ونص في «القديم»: أنه يجوز أكثر من ذلك. قال الشافعي: وإذا كان المؤذنون أكثر أذن واحد بعد واحد لما روت عائشة رضي الله عنها، قالت: لم يكن بين أذان بلال وابن أم مكتوم إلا أن ينزل هذا ويرقى هذا، ولأنهما إذا أذنا معاً كما يعملون اليوم في بلدنا يتشوش، ولو كان مسجد كبير في كل جانب منه منارة، فأذنوا في وقت واحد كل واحد منهم يسمع من يليه، فلا بأس، فكذلك إذا أذنوا في نواحيه معاً جاز. نص عليه في «الأم». قال أصحابنا: وإذا اجتمعوا هكذا يتفقون في الأذان كلمة كلمة فإن اشتراكهم في كل كلمة منه أبين في الإعلام. فرع لو كثر المؤذنون، فلا يبطئ الإمام بالصلاة لانتظار فراغهم فيؤدي إلى ترك فضيلة أول الوقت، ولكنه يخرج بعد الأذان الأول، ويصلي في أول الوقت، ويقطع من بقي من المؤذنين من الأذان. فرع آخر لا يستحب أن يقيم إلا واحداً منهم، فإن أذن واحد بعد واحد، يقيم الأول وإن أذنوا معاً في جوانب المسجد فأيهم أقام فقد أتى بالسنة، فإن تشاجروا أقرع بينهم

[34 ب/ 2]، فيقيم من خرجت قرعته. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا أذنوا معاً اجتمعوا في الإقامة ولا يترتبون لأن من سنة الإقامة أن يتصل بطرف الصلاة، والأول أظهر وهذا محتمل إذا كان المسجد كبيراً وأذن المؤذنون في جوانبه يقيمون في كل جانب معاً إذا كانوا لا يسمعون الإقامة إلا هكذا. مسألة: قال: "ولا يرزقهم الإمام وهو يجد متطوعاً". الفصل وهذا كما قال: إذا وجد الإمام من يتطوع بالأذان وكان أميناً لم يجز للإمام أن يعطيه الرزق من بيت المال، لأن منزلة الإمام من بيت المال كمنزلة ولي اليتيم من مال اليتيم لا ينفق منه إلا ما لا غنى باليتيم عنه. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعثمان بن أبي العاص رضي الله عنه حين ولاه الطائف: «صل بهم صلاة أضعفهم ولا تتخذ مؤذناً يأخذ على أذانه أجراً»، فإن لم يجد متطوعاً جاز له أن يرزق مؤذناً واحداً، ولا يزيد عليه لأن هذا من جملة مصالح المسلمين. وهكذا لو وجد فاسقاً متطوعاً ووجد أميناً لا يتطوع به كان له بذل الرزق من بيت المال للأمين. وقيل: فيه وجه آخر. المتبرع أولى وإن كان فاسقاً حتى لا يحتاج إلى التزام مؤنة، ولو كان المتبرع ليس بحسن الصوت، فيه وجهان، لأنه تتوفر الجماعة به. وقال الشافعي في «القديم»: رزقهم إمام هدى عثمان بن عفان رضي الله عنه. ولو عظمت البلدة ولم يكمهم مؤذن واحد نصب في كل محلة مؤذناً ورزقهم. وروي أن عثمان بن عفان رضي الله عنه أجرى الرزق على أربعة مؤذنين بالمدينة، ونص الشافعي رحمة الله عليه في «الأم»، فقال: «رزق منهم قدر ما يحتاج إليه، ولو أراد الإمام أن يرزق مؤذناً من مال نفسه مع وجود من يتطوع به فلا بأس به». فرع اختلف أصحابنا في جواز عقد الإجارة على الأذان من الإمام [35 أ/ 2]، أو من واحد من الرعايا، فقال الأكثرون: يجوز كما يجوز على تعليم القرآن وأداء الحج عن الغير وبه قال مالك، وهذا أشبه بالمذهب، واختار القاضي الطبري وجماعة أئمة

خراسان. وقال أبو حامد: لا يجوز أخذ الأجرة عليه بحال. وغلط من أجازه وليس للشافعي ما يدل على جوازه. وقد قال ههنا: «فإن لم يجد متطوعاً فلا بأس أن يرزق مؤذناً» فسماه رزقاً ولم يسمه أجرة. وقال في الحج: استأجر من يحج عنه فدل على الفرق. وحكى ابن المنذر عن الشافعي أنه قال: يجوز أخذ الرزق، ولا يجوز أخذ الأجرة. وبه قال أبو حنيفة والأوزاعي وأحمد. وروي عن أبي حنيفة لا يجوز أخذ الرزق أيضاً، وقيل: يجوز من الإمام ولا تجوز الإجارة من آحاد الرعية، وعلى ماذا يأخذ الأجرة؟ فالظاهر أنها على جميع الأذان كما في تعليم القرآن. وقيل: فيه أوجه: أحدهما: على مراعاة الوقت. والثاني: على رفع الصوت. والثالث: على كلمتي الحيعلة، لأنهما ليستا بذكر الله تعالى، ويجوز أخذ الأجرة على إعادة الدروس واحتجوا بخبر عثمان بن أبي العاص الذي ذكرنا. وهذا غير صحيح عندي، لأنه عمل معلوم يجوز أخذ الرزق عليه، فجاز أخذ الأجرة عليه، ككتبة المصاحف. والخبر محمول على ما لو وجد متطوعاً 0 ومن نصر قول أبي حامد قال: يجوز أخذ الرزق على القضاء، ولا يجوز أخذ الأجرة عليه 0 وكذلك على الإمامة. وقال هذا القائل القرب في باب الإجارة والرزق على ثلاثة أضرب: قربة يفعلها عن نفسه، ولا يعود نفعها إلى غيره، فلا يجوز أن يأخذ عليها رزقاً ولا أجرة بحالٍ كالصلاة والصيام ونحو ذلك. وقربة يفعلها عن الغير وتقع عنه كالحج وتعليم القرآن وبناء القناطر والمساجد يجوز أخذ الأجرة والرزق عليها معاً. وقربة يفعلها عن نفسه ويعود نفعها إلى غيره كالأذان والقضاء والخلافة، ويجوز أخذ الرزق عليها دون الأجرة [35 ب/ 2] قلت: إذا كان الأذان بأجرة فهو قربة يفعلها للغير وهو إعلامهم بوقت الصلاة ودعائهم إلى حضور الجماعة فهو كالحج وتعليم القرآن، فلا يصح هذا التقسيم. فرع آخر قال: "ولا يرزقهم إلا من خمس الخمس"، سهم النبي صلى الله عليه وسلم، وأراد به سهم

النبي صلى الله عليه وسلم من الغنيمة والفيء جميعاً فإنه مرصد لمصالح المسلمين وهذا من المصالح، ثم نقل المزني: ولا يجوز أن يرزقه من الفيء ولا من الصدقات، لأن لكل مالكاً موصوفاً وفيه خلل، لأنه معقول أن خمس خمس الفيء مع خمس خمس الغنيمة سهمان لرسول الله صلى الله عليه وسلم مصروفان إلى مصالح الإسلام، فيجوز صرف بعض هذا السهم من الفيء إليهم، والشافعي لم يقل هكذا، بل قال: ولا يرزقه إلا من خمس الخمس سهم النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز أن يرزقه من غيره من الفيء يعني من الأخماس الأربعة ألا ترى أنه علَّل فقال: لأن لكل مالكاً يريد فما عدا سهم النبي صلى الله عليه وسلم من الغنيمة، والفيء والصدقات ملاكاً موصوفين في القرآن والسنة وليس لسهم النبي صلى الله عليه وسلم من الغنيمة ولا من الفيء مالاً موصوف بل هو للمصالح. وهذا على القول الذي يقول: أربعة أخماس الفيء للمقاتلة. فأما على القول الثاني، أنها للمصالح فإنه يبدأ بالأهم، فالأهم، والأهم أن يبدأ بالمقاتلة أيضاً، ثم بسد الثغور، ويجوز ذلك فما فضل جاز أن يرزقهم الإمام منه ويرزق الحكام وغيرهم أيضاً. مسألة: قال: "وأحب الأذان لما جاء فيه". وهذا كما قال، أراد به يستحب التأذين لما جاء في فضله من الأخبار، ثم روى من الأخبار خبراً واحداً، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «الأئمة ضمناء والمؤذنون أمناء فأرشد الله الأئمة وغفر للمؤذنين». ومعنى قوله: الأئمة ضمناء، أي: ضمنوا إتمام الصلاة بالقوم كما جاء في خبر آخر. قال: فإن أتموا فلكم ولهم وإن نقصوا فلكم وعليهم [36 أ/ 2]. وقيل: الضامن في كلام العرب الراعي والضمان معناه الرعاية، فمعنى الخبر أن الإمام يحفظ الصلاة وعدد الركعات على القوم. وقيل: معناه ضمان الدعاء يعمهم به، ولا يختص به دونهم. ومعنى قوله: «المؤذنون أمناء»، أي: هم مؤتمنون على الأوقات، وروى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أذن سبع سنين صابراً محتسباً كتبت له براءة من النار». وروى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أذن اثني عشرة سنة وجبت له الجنة، وكتب له بكل أذان مسنون حسنة وبكل إقامة ثلاثون حسنة»، أورده الدارقطني.

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يشفع المؤذنون يوم القيامة»، فإذا تقرر هذا اختلف أصحابنا في الأذان والإقامة أيهما أفضل؟ فقال أبو حامد وجماعة: الأذان أفضل، قالوا: وهذا هو المذهب، وقد صرح به في كتاب الإمامة، فقال: وأحبّ الأذان لما فيه من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «اغفر للمؤذنين». وذكره الإمامة للضمان. وهذا اختيار أبي إسحق ووجه هذا ما ذكرنا من الخبر، «الأئمة ضمناء» فإن الإمامة موضع السلامة، ولا يخاف منها شيء. والضمان موضع الخطر والغرامة ودعاء الرسول صلى الله عليه وسلم لكل واحد منهما فكان دعاؤه للأئمة بالرشد الذي هو سبب المغفرة، وكان دعاؤه للمؤذنين بنفس المغفرة. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤذنون أطول أعناقاً يوم القيامة». وفي لفظ: «يحشر المؤذنون أطول الناس أعناقاً»، ومعناه أطول رجاء يقال: طال عنقي إلى وعدك، أي: رجائي. وقيل: أراد طولاً حتى لا يبلغ العرق إلى أفواههم فيلجمهم كما يلجم غيرهم. وقيل: لم يرد به أن أعناقهم تطول لكن الناس يعطشون يوم القيامة، فإذا عطش الإنسان انطوت عنقه. والمؤذنون [36 ب/ 2] لا يعطشون فأعناقهم قائمة. وقيل: أراد أطول الناس أصواتاً وعبر عن الصوت بالعنق، لأنه محل الصوت. وقيل: أراد أكثر أتباعاً. والعنق: الجماعة من الناس، يقال: ما تبعه عنق من الناس. ومعناه من أجابهم إلى الصلاة تبعهم إلى الجنة يوم القيامة. وقيل: أراد أطولهم أعناقاً لأمنهم، إذ الأمين مشرفٌ رافع رأسه والخائن متوارٍ منقبض. وقيل: إعناقا بكسر الألف، ويراد به سرعة السير إلى الجنة. وروى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لو يعلم الناس ما في الأذان لتضاربوا عليه بالسيوف». وروى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «يد الرحمن على رأس المؤذن حتى يفرغ من أذانه، وأنه يغفر له مدى صوته أين بلغ». وروي أن عمر رضي الله عنه قال: «لو كنت مؤذناً لما باليت أن لا أجاهد، ولا أحج ولا أعتمر بعد حجة الإسلام».

وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى: "ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله" [فصلت: 33] نزلت في المؤذنين. ومن أصحابنا من قال: الإمامة أفضل لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء بعده اختاروا الإمامة، ولأنها أشق فكانت أفضل. ومن قال بالأول، قال: إنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم الأذان لاشتغاله بما هو أهم. وكذلك الخلفاء، وهو ظاهر في قول عمر رضي الله عنه لولا الخلافة لأذنت. ولا بد من الصلاة إن لم يكن إماماً فمأموماً فلهذا تولى الإقامة. وقيل: إنما تركه لأنه يحتاج أن يشهد لنفسه، ويقول: أشهد أني رسول الله وفيه تغيير نظم الأذان أيضاً. وقيل: إنما تركه، لأنه لو دعا الناس بنفسه إلى الصلاة لم يسع لأحد منهم التخلف، وفيه ضيق على الناس. وقيل: كانت الإمامة له أفضل، لأنه كان مأموناً من الخطأ والزلل والتقصير في أداء الضمان [37 أ/ 2]، فإنه لا يقر على الخطأ والسهو. وقال بعض أصحابنا وهو قول أئمة خراسان، وهو الصحيح عندي: الإمامة أفضل إذا كان عالماً بما يلزم الإمام في صلاته وما ينوب فيها ويعلم من نفسه القيام بحقها، لأنها أشق والإمام الضامن أكثر عملاً من المؤذن الأمين. وكلما كثر العمل فالثواب أكثر، وهذا اختيار صاحب «الإفصاح» وصرح الشافعي به في كتاب الإمامة، فقال: وأحب الأذان وأكره الإمامة للضمان، وما على الإمام فيها، وإذا أم ينبغي أن يتقي ويؤدي ما عليه في الإمامة، فإذا فعل رجوت أن يكون خير حال من غيره. وفيما ذكروه من لفظه في كتاب الإمامة خلل، ولم يذكروا تمام الكلام على هذا الوجه، وهذا يزيل الإشكال. فرع قال أصحابنا: لا يستحب أن يتولى واحد كلا الأمرين: التأذين والإمامة، لأن ذلك لم يكن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة رضي الله عنهم، ولأن المؤذن والقوم تبع للإمام. ومن أدب المؤذن إذا أذن أن ينتظر اجتماع القوم، ثم إذا اجتمعوا يأتي نائب الإمام فيؤذنه باجتماعهم كما ذكرنا عن بلال. وقال صاحب «الحاوي»: «لو أمكن القيام بهما والجمع بينهما أولى، فيجوز

شرف المنزلتين وثواب الفضيلتين»، والأول أصح عندي، وهو ظاهر المذهب. فرع آخر روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «المؤذن أملك بالأذان والإمام أملك بالإقامة»، ولم يرد به أن الإمام يقيم بل أراد أن المؤذن يؤذن متى شاء إذا دخل الوقت، ولكن لا يقيم إلا أن يرضى الإمام أو يأذن فيها، ويجوز انتظاره لها. مسألة: قال: "وأحب للإمام تعجيل الصلاة لأول وقتها"، وهذا كما قال: يستحب تعجيل الصلوات في أول وقتها في الجملة. وقال أبو حنيفة: يستحب تأخيرها عن أول وقتها، وهذا غلط لما احتج به [37 ب/ 2] الشافعي، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله». قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: رضوان الله أحب إلينا من عفوه، ثم بين الشافعي المعنى فيه، فقال: وأقل ما للمصلي في أول وقتها أن يكون عليها محافظاً، ومن المخاطرة بالنسيان والشغل والآفات خارجاً، وهذه إشارة منه إلى تأويل قوله تعالى: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" [البقرة: 238]، وفيه خلل، لأن الشافعي احتج بهذه الآية، ثم ذكر هذه اللفظة على جهة الاستدلال، فترك المزني نقل الدليل ونقل جهة الاستدلال، ولا يحسن ذلك، وفيه خلل آخر. وقال: «ورضوان الله إنما يكون للمحسنين والعفو يشبه أن يكون للمقصرين» ولم يقل الشافعي هذا، لأن تأخير الصلاة إلى آخر الوقت موسع فلا ينسب إلى التقصير، ولفظ الشافعي: ورضوان الله إنما يكون للمحسنين والعفو عفوان عفو تقصير وعفو توسعة، ويشبه أن يكون الفضل في غير التوسعة ما لم ينه عن ذلك الغير، ومعنى ذلك أن الفطر رخصة في السفر، والصوم أفضل ما لم يجهده، فيكون الفطر أفضل. فأما إذا لم ينه عن ترك الرخصة، فالفصل في تركها، فلم يجعل الشافعي التأخير من باب

التقصير، وإنما جعله من باب التوسعة، فألحقه المزني بالتقصير. وقيل: أراد به أنه مقصر بإضافته إلى ثواب من صلى في أول الوقت كالمصلي عشر ركعات نفلاً مقصر بإضافته إلى من صلى عشرين، ولم يرد به تقصير الإثم. وقيل: أنه مقصر لولا عفو الله في إباحة التأخير، فإذا تقرر هذا نذكر كل صلاة على التفصيل. أما الصبح: التغليس بها أفضل إذا تحقق طلوع الفجر، فإذا غلب على ظنه طلوعه يجوز له أن يصلي ولكن يستحب له تأخيرها إلى أن يتحقق. وبه قال عمر وعثمان وابن الزبير [38 أ/ 2] وأنس وأبو موسى الأشعري وأبو هريرة ومالك والأوزاعي والليث وأحمد وإسحاق وجماعة. وقال الثوري وأبو حنيفة: الإسفار بها أفضل ما لم يخشَ طلوع الشمس إلا الصبح بمزدلفة، فإن تعجيلها أفضل. وروي ذلك عن ابن مسعود والنخعي واحتجوا بما روى رافع بن خديج رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «آسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر». وروي: «أصبحوا بالصبح» الخبر، هذا غلط لما روي عن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم «صلى الصبح بغلس ثم أسفر مرة ثم غلس ولم يعد إلى الإسفار حتى قبضه الله تعالى». وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي الصبح فينصرف النساء متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس»، والغلس اختلاط ضياء الصبح بظلمة الليل، والغبش قريب منه إلا أنه دون، والمروط أكسية تلبس، والتلفع بالثوب الاشتمال به. وروي: متلفقات، أورده مسلم في «صحيحه». وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «أفضل الأعمال عند الله الصلاة لأول وقتها». وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ثلاث لا تؤخرها، الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت لها كفؤاً». وأما خبرهم أراد به إسفار الفجر، وهو ظهوره واستنارته، وهذا لأنه يحتمل أنه لما

أمر بتعجيل الصلوات كانوا يصلونها ما بين الفجر الأول والفجر الثاني طلباً للأجر في تعجيلها ورغبة في الثواب، فقال لهم: صلوها بعد الفجر الثاني، وأصبحوا بها إذا كنتم تريدون الأجر، فإن ذلك أعظم للأجر، فإن قيل: كيف يقال هذا، والصلاة إذا لم تجز لم يكن فيها أجر؟ [38 ب/ 2] قلنا: لا جواز لها، ولكن أجرهم فيما نووه بالخطأ ثابث كقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأخطأ، فله أجر». وقيل: الأمر بالإسفار إنما جاء في الليالي المقمرة. وذلك أن الصبح لا يتبين فيها جيداً، فأمرهم بزيادة التبيين استظهاراً باليقين في الصلاة، فإذا تقرر هذا يستحب أن يدخل فيها بغلس ويخرج منها بغلس. وهذا هو المذهب. ومن أصحابنا من قال: يدخل فيها بغلس ويخرج منها بالإسفار جمعاً بين الأخبار، وهذا حسن. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: «صلوا الفجر في الشتاء وتغلسوا بها، وأطيلوا القراءة على قدر ما تطيقون وإذا كان الصيف فأسفر فإن الليل قصير ليدركها النوام». وأما صلاة الظهر: يستحب تعجيلها في كل وقت لكل أحد إلا أن يشتد الحر، فيستحب أن يؤخرها عن أول وقتها باربع شرائط: أحدها: أن يكون الرجل إمام القوم يصلي بهم جماعة. والثاني: أن يكون في شدة الحر في الصيف. والثالث: أن يكون في البلاد الحارة مثل الحجاز ونحوه. أن تنتابها الجماعة ويحضرها من مكان بعيد، فإن اختل شرط من هذه الشرائط لا يستحب تأخيرها مثل أن يصلي وحده أو في جماعة في جوار المسجد، أو في زمان معتدل، أو في شدة الحر في البلاد الباردة، أو في مسجد يكون الطرق إليه في ظل أو كنين. وقال في «البويطي»: القريب والبعيد فيه سواء لأن القريب يلحقه حر المسجد ويشق عليه ذلك. وقيل: الإبراد في حق من يصلي في بيته قولان: أحدهما: يسن لعموم الخبر. والثاني: لا يسن، لأنه لا مشقة، وهذا غريب. وإذا وجدت هذه الشرائط أخرها حتى تكسر شدة الحر ويتسع فيء الحيطان، ثم صلاها. قال الشافعي رحمه الله:

«ولا [39 أ/ 2] يبلغ بتأخيرها آخر وقتها حتى يصليها معاً، يعني: الظهر مع العصر من يصيبها، وينصرف منها قبل آخر وقتها». وقال أيضاً: «يصليها في وقت إذا فرغ منها يكون بينه وبين آخر الوقت فصل». وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا ينبغي أن يبلغ بالتأخير نصف الوقت، وهذا صحيح موافق للنص الذي ذكرنا. وقيل: يؤخر إلى أن يحصل فيء ويمشي فيه القاصد إلى الصلاة، وهذا قريب مما تقدم، والأصل في هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «اشتكت النار إلى ربها، فقالت: يا رب قد أكل بعضي بعضاً، فأذن لها في نفسين: نفس في الشتاء ونفس في الصيف فأشد ما تجدون من الحر من حرها وأشد ما تجدون من البرد من زمهريرها، فإذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم»، وقوله: فيح جهنم معناه سطوع حرها وانتشاره، يقال: مكان أفيح، أي: واسع. وقيل: هذا في الحقيقة من وهج حر جهنم. وقيل: خرج هذا الكلام مخرج التقريب، أي: كأنه نار جهنم في الحر فاحذروها، فإن قيل. روى خباب بن الأرت قال: «شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم شدة حر الرمضاء، فلم يشكنا»، وهذا يدل على أنه لم يجوز لهم التأخير لشدة الحر. وقال جابر رضي الله عنه: «كنت أصلي الظهر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فآخذ قبضة من الحصباء لتبرد في كفي أضعها لجبهتي أسجد عليها لشدة الحر». قلنا: يحتمل أنه لا يزول ذلك بالإبراد وإنما يزول بالسترة ويحتمل أن يكون رخص بعد ذلك وأمر بالإبراد. وقال مالك: الأفضل أن يؤخرها أبداً حتى يصير الفيء قدر ذراع لأن الناس يكونون في أشغالهم فإذا أخرت قليلاً اجتمع لها الناس، وهذا غلط لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يصلي الظهر حين ترجع الشمس». وأما ما قاله لا يصح لأنه لو صح لكان يؤخرها إلى وسط الوقت ليكثر الناس [39 ب/ 2]. وقال أبو حنيفة: «تأخيرها أبداً إلا الظهر في الشتاء»، وهذا غلظ لما ذكرنا.

فرع الإبراد بالظهر على ما ذكرنا هل هو سنة أو رخصة؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: سنة، وهو ظاهر المذهب، وهو اختيار أبي إسحق لأن شدة الحر تذهب بالخشوع فهي كشدة الجوع، ومنهم من قال: هو رخصة، لأن الشافعي، قال في البويطي: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتأخيرها في الحر توسعة منه ورفقاً بالذين ينتابونه مثل توسعته صلى الله عليه وسلم في الجمع بين الصلاتين، فحصل قولان. فرع آخر الإبراد بصلاة الجمعة عند اشتداد الحر بهذه الشرائط، هل يستحب؟ وجهان: أحدهما: لا يستحب، لأن الناس ندبوا إلى التبكير إليها، فإذا اشتد الحر يكونون مجتمعين في الجامع، فتعجيل الجمعة بهم أرفق من تأخيرها، وهذا أظهر. وروى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان إذا اشتد البرد بكر بها، وإذا اشتد الحر أبرد بها». والثاني: يستحب فيها ذلك أيضاً، لأنها في يوم الجمعة كالظهر في سائر الأيام. وقال بعض أصحابنا بخراسان: وعلى هذا في المسجد الكبير الذي يجتمع فيه الناس الكثير في الجماعات وجهان أيضاً، وهذا محتمل قياساً على الجمعة. وأما صلاة العصر: فتعجيلها أفضل، وبه قال من ذكرنا من الصحابة وغيرهم. وقال مالك: يؤخرها يسيراً كما قال في الظهر. وقال أبو حنيفة: تأخيرها أفضل ما دامت الشمس بيضاء نقية، وبه قال الثوري إلا في يوم الغيم وعن إبراهيم أنه كان يؤخر العصر. وروي عن أبي قلابة أنه قال: إنما سميت العصر لأنها تعصر، واحتج بما روى رافع بن خديج رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يأمر بتأخير هذه الصلاة»، يعني صلاة العصر، وهذا غلط لما روى الشافعي بإسناده عن أنسٍ رضي الله عنه [40 أ/ 2] أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يصلي العصر والشمس بيضاء حية ثم يذهب الذاهب إلى العوإلي فيأتيها والشمس مرتفعة». وحياتها شدة وهجها وبقاء حرها. وقيل: حياتها صفاء لونها لم تتغير. وقال الزبيري: والعوالي على ميلين أو ثلاثة. قال الراوي: وأحسبه قال: أو أربعة.

وروي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يصلي العصر والشمس في حجرتها قبل أن تظهر» ومعنى الظهور هنا: الصعود. يقال: ظهرت على الشيء إذا علوته. ووجه الدليل أن حجرة عائشة كانت ضيقة الرقعة والفناء والشمس تتقلص عنها سريعاً، فلا يكون مصلياً للعصر قبل أن تصعد الشمس عنها، إلا وقد بكر بها. وأما خبرهم رواه عبد الواحد بن رافع، وهو مطعون فيه. وقد روى الدارقطني بإسناده عن الأوزاعي عن ابن المجادي عن رافع بن خديج. قال: «كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، ثم ننحر الجزور فنقسمه ثم نطبخ فنأكل لحماً نضجاً قبل أن تغيب الشمس» فدل على ما قلنا. وأما صلاة المغرب: فلا خلاف بين العلماء أنه يستحب تعجيلها. والأصل فيه ما روى جابر رضي الله عنه، قال: «كنا نصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة المغرب ثم نخرج فنناضل حتى يخرج صوت بني سلمة فننظر إلى مواقع النبل من الإسفار». وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بادروا بصلاة المغرب قبل طلوع النجم». وأما العشاء الآخرة: قال في «الإملاء» و «القديم»: «تعجيلها أولى»، وهو الصحيح لما روي عن النعمان بن بشير رضي الله عنه، قال: أنا أعلمكم بوقت هذه الصلاة، صلاة عشاء الآخرة، «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها لسقوط القمر لثالثة»، وهذا إخبار عن دوام فعله. [40 ب/ 2] وقال في «الأم»: «تأخيرها أفضل». وبه قال أبو حنيفة لقوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بتأخير العشاء إلى ثلث الليل». وروي إلى نصف الليل. واختلف قوله في قدر التأخير لاختلاف الرواية. وروى معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أعتموا بهذه الصلاة، فإنكم قد فضلتم بها على سائر الأمم، ولم تصلها

أمة قبلكم». ومعناه أخروها. فرع قال أصحابنا: يكره النوم قبلها والحديث بعدها لما روى أبو برزة، قال: «نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النوم قبلها والحديث بعدها». فرع آخر أوكد الصلوات في المحافظة عليها، الصلاة الوسطى، لأن الله تعالى قال: "والصلاة الوسطى" [البقرة: 238] فخصها بالذكر، والصلاة الوسطى هي صلاة الصبح. وبه قال مالك، وروي هذا عن علي وابن عباس وابن عمر وجابر رضي الله عنهم. وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة أنها العصر. ورواه ابن المنذر عن علي وأبي هريرة وأبي أيوب وأبي سعيد رضي الله عنهم. وروي عن عائشة وزيد أنهما قالا: هي الظهر. وروي هذا عن أبي حنيفة وأصحابه. وقال قبيصة بن ذؤيب: هي المغرب. وهذا كله غلط لقوله تعالى: "وقوموا لله قانتين" [البقرة: 238]، فقرنها بالقنوت، ولا قنوت إلا في صلاة الصبح. وروى مالك عن ابن عباس رضي الله عنه أنه صلى وقنت فيها، ثم قال: «هذه الصلاة التي أمرنا الله فيها أن نقوم قانتين». وروى مالك في «الموطأ»: عن أبي يونس مولى عائشة أنه قال: أمرتني عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أن أكتب لها مصحفاً، فإذا بلغت هذه الآية فأذنتني "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" قال: فلما بلغتها أذنتها فأملت علي: حافظوا [41 أ/ 2] على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر، ثم قالت: «سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم»، ولأن صلاة الصبح لا تتبع إلى ما قبلها وإلى ما بعدها، فهي منفردة قبلها صلاتا الليل وبعدها صلاتا نهار. واحتج أبو حنيفة بما روى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، قال: لما كان يوم الأحزاب صلينا العصر بين المغرب والعشاء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «شغلونا عن الصلاة

باب

الوسطى صلاة العصر ملأ الله قبورهم وأجوافهم ناراً». قلنا: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم سماها وسطى ونحن لا نمنع من ذلك وخلافنا في المراد بالآية. واحتج زيد بن ثابت رضي الله عنه بأن صلاة الظهر وسط صلوات النهار وفيها مشقة لكونها في شدة الحر ووقت القيلولة. واحتج قبيصة بأن المغرب أوسط أعداد الصلوات ووقتها مضيق فنهى عن تأخيرها. قلنا: أخبارنا أولى لأنها صريحة منصوصة، ويعارضهم بأن الله تعالى حث على صلاة الصبح دون غيرها، فقال: "وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا" [الإسراء: 78]. باب استقبال القبلة وأن لا فرض إلا الخمس مسألة: قال: "ولا يجوز لأحد صلاة فريضة ولا نافلة ولا سجود قرآن ولا جنازة إلا متوجهاً إلى البيت الحرام". الفصل وهذا كما قال: اعلم أنه افتتح الباب ببيان الحال التي يجب فيها استقبال القبلة والحالة التي لا تجب، والمقصود هذا. وقوله في ترجمة الباب، (وأن لا فرض إلا الخمس) شيء اعترض في الباب وبيانه سيأتي في موضع آخر، وأراد بالبيت الحرام الكعبة. قال الله تعالى: "جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس" [المائدة: 97]، وكذلك المراد بقوله تعالى: "فول وجهك شطر المسجد الحرام" [البقرة: 144]، الكعبة فإنها هي القبلة بعينها [41 ب/ 2]، وشطر المسجد: نحوه. وجملته: أن استقبال القبلة شرط في الصلاة في الجملة بدليل هذه الآية. وروى أبو أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم «استقبل الكعبة وصلى ركعتين. وقال: هذه القبلة، هذه القبلة». مرتين. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «كان يصلي أول فرض الصلاة بمكة إلى بيت المقدس، وكان يصلي على صفةٍ يكون متوجهاً إلى الكعبة ليكون مستقبلاً لها ولبيت المقدس لمحبته قبلة آبائه إبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهما، فلم يزل على هذا

حتى هاجر إلى المدينة وكان يصلي فيها إلى بيت المقدس، ولم يمكنه التوجه إلى الكعبة لأن من استقبل بيت المقدس بالمدينة يكون مستدبراً للكعبة، فلا يمكنه ما كان بمكة فشق عليه ذلك. ومضى على هذا ستة عشر شهراً أو سبعة عشر، فسأل يوماً جبريل عليه السلام أن يسأل له ربه عز وجل أن يجعل قبلته الكعبة، فقال له: سله أنت فإنك من الله بمكان فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرج جبريل عليه السلام وكان يقلب النبي صلى الله عليه وسلم وجهه في السماء، فنزل قوله تعالى: "قد نرى تقلب وجهك في السماء فلنواينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام" [البقرة: 144]. فنسخ القبلة عن بيت المقدس إلى الكعبة. وكان هذا في وقت صلاة العصر. وقال أنس رضي الله عنه: كان في صلاة الظهر. «وقد صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين منها نحو بيت المقدس، فانصرف إلى الكعبة». وقال الواقدي: كان هذا في يوم الثلاثاء للنصف من شعبان في السنة الثانية من الهجرة، وقيل: كان في رجب قبل بدر بشهرين. وقال ابن عباس رضي الله عنه: أول ما نسخ من القرآن فيما ذكر لنا، والله أعلم شأن القبلة والقيام الأول. وقال أيضاً: أول من صلى إلى الكعبة، [42 أ/ 2] وأوصى بثلث ماله وأمر أن يتوجه إلى الكعبة البراء بن معرور وابنه بشر بن البراء الذي أكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشاة المسمومة فمات، واختلف أصحابنا، هل استقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المقدس برأيه أو عن أمر الله تعالى على قولين: أحدهما: برأيه، لأن الله تعالى خيره في قوله تعالى: "فأينما تولوا فثم وجه الله" [البقرة: 115]، أي: قبلة الله، فاختار بيت المقدس وبه قال الحسن وعكرمة وأبو العالية والربيع بن أنسٍ. والثاني: استقبله بأمر الله تعالى لقوله تعالى: "وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول" [البقرة: 143]. وبه قال ابن عباس وابن جريج وفي قوله تعالى: "إلا لنعلم من يتبع الرسول" [البقرة: 143] أربع تأويلات: أحدها: ليعلم رسولي وأوليائي لأن من عادة العرب إضافة ما فعله اتباع الرئيس كما قالوا: فتح عمر رضي الله عنه سواد العراق.

والثاني: ألا ترى والعرب تضع العلم مكان الرؤية، والرؤية مكان العلم. والثالث: معناه، إلا لتعلموا أننا نعلم، لأن المنافقين كانوا في شك من علم الله تعالى بالأشياء قبل كونها. والرابع: معناه إلا لنميز أهل اليقين من أهل الشك، وهذا قول ابن عباسٍ رضي الله عنه. وأما قوله تعالى: "فأينما تولوا فثم وجه الله" [البقرة: 115]، له ست تأويلات: أحدها: ما قاله الأولون من تخيير الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يستقبل حيث شاء قبل استقبال الكعبة. والثاني: نزلت في صلاة التطوع للسائر وللخائف في الفرض. وبه قال ابن عمر رضي الله عنه. والثالث: نزلت فيمن خفيت عليه القبلة. والرابع: أنه لما نزل قوله تعالى: "أدعوني استجب لكم" [غافر: 60]، قالوا: إلى أين؟ فنزل هذا، وبه قال مجاهد. والخامس: أراد وحيث ما كنتم من مشرق أو مغرب فلكم جهة الكعبة فيستقبلونها. والسادس: سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم حين استقبل الكعبة، قالت اليهود: قبحاً في ذلك، فنزل هذا. وبه قال [42 ب/ 2] ابن عباس. وروى الشافعي عن مالك عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنه، قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ أتاهم آت، فقال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن نستقبل الكعبة، فاستقبلوها. وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة». وروي أن هذا القائل، قال لهم: أشهد أن القبلة قد حولت إلى الكعبة. وقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، فاستداروا في صلاتهم وبنوا عليها، فإذا تقرر هذا، فكل من لزمه التوجه إليها على ستة أضرب: ضرب: فرض المعاينة. والثاني: ضرب فرضه الإحاطة دون المعاينة.

والثالث: ضرب فرضه الخبر. والرإبع: ضرب فرضه التقليد. والخامس: ضرب فرضه الاجتهاد. والسادس: ضرب فرضه التفويض. فأما من فرضه المعاينة فكل من يقدر على معاينة البيت فمن يكون بمكة في مسجدها أو منزل منها أو سهل أو جبل لا تجوز صلاته حتى يصيب استقبال القبلة، لأنه يدرك صواب عينه بمشاهدة ومعاينة. وأما من فرضه الإحاطة، وهي اليقين دون المعاينة، فكل من كان بمكة في موضع لا يرى منه البيت إلا أنه نشأ بمكة، ويعلم جهة البيت يقيناً فهذا يلزمه أن يصيب استقبال البيت من طريق الإحاطة واليقين. وهكذا من يقدر على قبلة النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة لأنها مقطوع بصحتها، لأنه لا يقر على الخطأ. قال أصحابنا: وكذلك القبلة التي صلى إليها الصحابة كقوله قباء والكوفة. وأما من فرضه الخبر: فكل من كان وراء جبل أبي قبيس وما أشبهه من الجبال، وهو غريب لا يعرف سمت البيت وعلى رأس الجبل من يخبره عنه من طريق المشاهدة، وهو ثقة يلزمه قبول خبره كمن وجد من يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [43 أ/ 2] نصاً يلزمه قبوله، ولا يجوز الاجتهاد فيه. وأما من فرضه التقليد كالأعمى. وقال داود: يصلي الأعمى إلى أي جهة شاء، لأنه عاجز. وهذا غلط لظاهر الآية، وهي قوله تعالى: "فولوا وجوهكم شطره" [البقرة: 144]، ولأنه يمكنه السؤال فلا يكون عاجزأ. وأما من فرضه الاجتهاد فكل من كان على صفة لا يقدر على معاينة ولا إحاطة ولا خبر لبعده عن مكَّة ففرضه الاجتهاد يستدل عليها بالرياح والنجوم والشمس والقمر، فمن غلب على ظنه جهة صلى إليها. وأما من فرضه التفويض، فهو أن يدخل بلداً كبيراً كثير الأهل، قد اتفقوا على قبلتهم كالبصرة، وبغداد، فيستقبل قبلتهم تفويضاً، لاتفاقهم لأنه يبعد أن يكونوا على خطأ ويستدركه واحد، فإذا تقرر هذا، فكل من كان غائباً عن مكة يجوز له الاجتهاد فيها إذا تعذر معرفتها.

وأما من كان بمكة ذكر الشافعي فيه كلاماً مختلفاً، فقال في «الأم»: فكل من كان يقدر على رؤية البيت لا تجوز صلاته حتى يصيب استقبال البيت، لأنه يدرك صواب استقباله بمعاينةٍ. ثم قال بعد ذلك: ومن كان بمكة لا يرى البيت وأراد المكتوبة لا يحل له أن يدع الاجتهاد في طلب صواب عين الكعبة بالدلائل، فجعل فرضه الاجتهاد وإن كان بمكة وجعل في الأولى فرضه الإحاطة. وليست المسألة على قولين بل هي على اختلاف حالين، فالموضع الذي قال: فرضه اليقين إذا كان الحائل دونها حادثاً كالبناء والسترة، ولا يجوز الاجتهاد بل ينتقل إلى حيث يرى البيت ويصلي إليها على اليقين. والموضع الذي قال: فرضه الاجتهاد إذا كان الحائل دونها من خلقة الأصل كالجبال والتلول ونحوها، فالحاصل من هذا أنه إذا كان بالبعد من مكة ففرضه الاجتهاد، [43 ب/ 2] وإن كان بالقرب منها ينظر، فإن كان الحائل من خلقة الأصل، ففرضه الاجتهاد، هان كان الحائل حادثاً، ففرضه الإحاطة، ومن أصحابنا من قال: إن كان الحائل أصلياً، ففرضه الاجتهاد، لأنه يشق عليه صعود الجبل، ونحوه، وإن كان حادثاً كالأبنية، ففيه وجهان: أحدهما: أنه كالأصلي، وهو ظاهر كلام الشافعي، لأنه لو كثف المشاهدة أدى إلى تكليف سيراً يشق عليه، ولأن بينه وبين البيت حائلاً يمنع المشاهدة فأشبه إذا كان بينهما جبل. والثاني: لا يجوز، لأن الاجتهاد لم يجز في هذا الموضع قبل حدوثه، فلا يجوز بعد حدوثه وطرآنه. فرع لو استقبل حجر الكعبة، فيه وجهان: أحدهما: يجوز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها: «صلي في الحجر، فإنه من البيت». والثاني، لا يجوز استقباله وحده، وهو الصحيح، لأنه ليس من البيت قطعاً، بل هو منه بغلبة الظن، فلم يجز العدول عن اليقين لأجله.

فرع آخر لو اجتهد فتساوت عنده جهتان مختلفتان على كل واحدة منهما. أمارات دالة ولم يترجح عنده إحداهما، فيه وجهان: أحدهما: يصلي إلى أي الجهتين شاء. والثاني: يصلي في إحدى الجهتين ويعيد في الأخرى، وأصل هذين الوجهين اختلافهم في العامي إذا أفتاه فقيهان بجوابين مختلفين، فيه وجهان: أحدهما: يتخير. والثاني: يأخذ بالأغلظ، والأغلظ ههنا أن يصلي إلى الجهتين. ذكره صاحب «الحاوي». فرع آخر تعلم دلائل القبلة فرض في الجملة وهل هو على الأعيان أو على الكفاية، وجهان: أحدهما: على الأعيان ليعلم أركان الصلاة. والثاني: على الكفاية كتعلم دقائق مسائل الفقه. مسألة: قال الشافعي رحمة الله عليه «إلا في حالين». الفصل وهذا كما قال: لا يجوز ترك استقبال القبلة إلا في حالين: [44 أ/ 2] إحداهما: حالة الخوف، والثاني: حالة السفر. فأما الخوف، فضربان: خوف لا يقطع عن استقبالها بل يكون بالمسلمين كثرة، وبالمشركين قلة ويمكنهم أن يفترقوا فرقتين، طائفة وجاه العدو وتصلي الطائفة الأخرى ففرضهم التوجه إلى القبلة لا يجزئهم غير ذلك. وخف يقطعه عن ذلك، وهو شدة الخوف عند المسايفة والتحام القتال، فيجوز له ترك إستقبالها في الفرض والنفل راكباً كان أو نازلاً. قال الله تعالى: "فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً" [البقرة: 239] ويسقط عنه في هذه

الحالة ثلاثة أشياء: التوجه إلى القبلة، والقيام، واستيفاء الركوع والسجود، فإن قدر على بعضها دون بعض يلزمه. وأما السفر: فيجوز لأجله ترك الاستقبال في النافلة فقط دون الفريضة، وإن كانت من فرائض الكفايات كصلاة الجنازة ولا فرق فيه بين الماشي والراكب. وقال أبو حنيفة: لا يجوز للماشي ذلك، لأنه عمل كثير، وهذا غلط، لأنه أحد اليسرين، فأشبه سير الراكب، ولأن النوافل كثيرة غير محصورة. ولا بد من الأسفار وتقع الحاجة إلى الأسفار ماشياً كما تقع راكباً، فلو قلنا: لا يجوز النفل ماشياً أدى إلى انقطاع الناس عن أحد أمرين: إما عن نوافلهم، وإما عن أسفارهم ومعايشهم. قال القفال: وعرفت فضل عبادة الشيخ أبي زيد المروزي، واجتهاده على غيره بأنه كان يعلل في هذه المسألة بأنه يؤدي إلى أن ينقطع الناس عن نوافلهم. فكان عنده أن النوافل لا بد منها وإن أدى إلى ترك المعاش لها. والأصل فيما ذكرناه قوله تعالى: "فأينما تولوا فثم وجه الله" [البقرة: 115]. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: نزلت في التطوع خاصة حيث توجه بك بعيرك. وروى جابر رضي الله عنه، قال: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلي على راحلته في كل جهة» [44 ب/ 2] وروي أنه صلى الله عليه وسلم «كان يوتر على راحلته». فرع إذا كان ماشياً فأراد صلاة النافلة يلزمه التوجه إلى القبلة في ثلاثة أحوال: منها عند الافتتاح، فيلزمه أن يفتتحها إلى القبلة، ثم يعدل إلى جهة سفره ويقرأ، ثم إذا حضر الركوع والسجود ركع إلى القبلة وسجد على الأرض إلى القبلة متمكناً لأنه لا مشقة في ذلك، لأن زمانه يسير. نص عليه في «القديم» و «إلإملاء»، وكأنه اعتبر أن يتوجه إلى القبلة في كل ركن يفتتح بالتكبير. فرع آخر إذا سجد إن شاء والى بين السجدتين وإن شاء فرق بينهما وتشهد ماشياً وسلم في

جهة سفره، أي جهة كانت، لأن التشهد يطول زمانه، فهو كالقراءة، والسلام ليس كالتكبير لأن في السلام لا يعتبر التوجه إلى القبلة في غير حالة العذر أيضاً، فإنه يسلم عن يمينه وشماله. وقال بعض أصحابنا بخراسان: يستقبل القبلة عندالسلام أيضاً. وقيل: فيه وجهان، وقيل: هل يلزمه وضع الجبهة على الأرض أم يكفي إدناؤها من الأرض؟ وجهان. وهذا كله خلاف المذهب المشهور على ما ذكرنا. فرع آخر لو كان راكباً في كبيسة أو عمارية أو هودج على صفةٍ يمكنه التوجه إلى القبلة، ويتسع الركوع والسجود يلزمه ذلك، لأنها كالسفينة وهذا ظاهر المذهب. ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان: أحدهما: هذا. والثاني: لا يلزمه ذلك لأن فيه إضراراً لمركوبه وإدخال مشقة عليه، فصار كراكب السرج. فرع آخر لو كان راكب السفينة مسيراً لها كالملاح يجوز له أن يصلي إلى غير القبلة في نافلته ويصلي إلى جهة سيره، لأنه يسقط التوجه إلى القبلة عن الماشي فعن هذا أولى، لأنه ينقطع بالتوجه عن السير هو وغيره. فرع آخر لو كان راكب السفينة لا يسيرها يصلي الفرض والنفل، كما يصلي غير الراكب ولا يختلف الفرض والنفل [45 أ/ 2] في حقه إلا في ترك القيام مع القدرة وعند أبي حنيفة يجوز له ترك القيام في السفينة في الفرض مع القدرة، لأن الغالب أنه يدور رأسه وعندنا لا يجوز ذلك إلا أن يدور رأسه في الحال، وهذا لأنه قادر على القيام والاستقبال من غير مشقة. فرع آخر لو كان على ظهر دابة ناقة أو فرس أو حمار ونحو ذلك، فإن كان واقفاً فالتوجه عند افتتاحها شرط فإذا عقدها سار في جهة سفره حيث كان. وإن كان سائراً ننظر، فإن كانت سهلة مطيعة يمكنه أن يدير رأسها إلى القبلة من غير مشقة يلزمه أن يدير رأسها ويفتتح الصلاة إلى القبلة، وإن كان يشق ذلك لأنه حرون أو مقطر بالآخر لا يلزمه

استقبال القبلة ويفتتح أينما توجهت به مركوبه، ثم إذا حضر الركوع والسجود ركع وسجد يومئ إيماء ويكون سجوده أخفض من ركوعه ولا يلزمه السجود على كفه ولا على سرجه، ولو سجد على مقدم رحله أو سرجه جاز، ونحو هذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن أمكنه أن يدير رأسها إلى القبلة عند الركوع والسجود يلزمه، كما قلنا في الماشي، ذكره القاضي الطبري. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يلزمه استقبال القبلة عند الافتتاح؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: ما ذكرنا. والثاني: لا يلزمه ذلك، لأن فيه كلفة وإن كان الركوب سهلاً بخلاف الماشي، وهذا أقيس. والثالث: إن كان وجه دابته إلى القبلة أو إلى طريقه افتتح كما هو وإن كان إلى غير هذين، لا يفتتح إلا إلى القبلة ومنهم من قال: نص الشافعي في مواضع أنه يلزمه ذلك ونص في موضع لا يلزمه فقيل: قولان. وقيل: على حالين كما ذكرنا وفي هذا نظر، وما تقدم أصح. فرع آخر لو كان ظهره في طريقه إلى القبلة فركب الدابة مقلوباً وجعل وجهه إلى القبلة، فيه وجهان: أحدهما: يجوز لأنه إذا جازت صلاته إلى غير القبلة، فإلى القبلة أولى. والثاني: لا يجوز [45 ب/ 2]، لأن قبلته طريقه، وهو قد ترك ما جعل طريقاً له. فرع آخر لو أراد أن يصلي الفريضة قائماً في كنيسة واسعة مستقبل القبلة بأركانها فإن كانت الدابة واقفة جاز، وإن كانت سائرة. قال أبو حامد: نصّ الشافعي في «الإملاء»: أنه لا يجوز بخلاف السفينة. والفرق أن البهيمة لها اختيار وتسير بنفسها ولا تكاد تثبت على حالٍ واحد؟، فيؤدي ذلك إلى تغيره عن القبلة في الفريضة، فلا يجوز. والسفينة كالأرض لا تسير بنفسها، وإنما تسير إلى جهةٍ واحدة لا تختلف فافترقا. وذكر القاضي أبو الطيب رحمه الله في الإمامة: أنه إذا أمكنه ذلك في كنيسة يقوم

ويركع ويسجد صخت صلاته كما لو صلى على سريرٍ يحمله أربعة. وهذا إذا كان لها من يسيرها حتى لا تختلف جهة القبلة بلزوم لجامها ولحفظها أو كانت واقفة، وهو القياس عندي. فرع آخر لو كانت راحلته متوجهة إلى القبلة، ثم تحولت عنها، وهو في الصلاة، فإن كان ذلك الانحراف إلى الطريق لا يضره، وإن كان على غير الطريق، فإن تعمد ذلك بطلت صلاته، وإن سها عنه فظن أن طريقه ذلك أو نسي أنه في الصلاة، ثم ذكر رجع ومضى على صلاته ويسجد للسهو نصّ عليه في «الأم». وهذا يدل على أن من سها في النوافل سجد سجدتي السهو. وحكي عنه أنه قال في «القديم»: لا يسجد وليس بصحيح. فرع آخر لو كان ناسياً، ثم علم ثبت، وهو يمكنه أن ينحرف فسدت صلاته ولو غلبته دابته يردها إلى الطريق ويبني على صلاته، ثم قال الشافعي: إن ردها عن قرب لا يسجد للسهو، لأنه لا أثر لذلك القليل، وإن تطاول وتمادى الأمر سجد للسهو. وقال أصحابنا في مسألة النسيان: يجب أن يفرق بين التطاول وعدمه على قياس هذا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا كان ناسياً، وطال الفصل، بطلت صلاته لأن الصلاة لا تحتمل الفصل الطويل، وإن ردها في الحال سجد للسهو [46 أ/ 2]، وان كان مغلوباً فطال بطلت صلاته، وإن قل تبطل ولا يسجد لسهو، لأنه لم يوجد منه فعل. وهذا خلاف المذهب المنصوص. فرع آخر الدابة لو مشت على نجاسةٍ لم تؤثر في صلاته، لأنه لا يمكن حفظها منه في حال السير حتى لو تعمد الراكب تسييرها على موضع نجس بطلت صلاته. فرع آخر إذا ضرب الدابة أو حرك رجله لسيرها فإن كان لحاجةٍ لم يؤثر وإن كان لغير حاجة؛ فإن كان قليلاً لم تبطل، وإن كان كثيراً تبطل.

فرع آخر الشرط فيه أن يكون موضع ركوبه وجميع ما يلاقيه بدنه وثيابه والزمام الذي في يده طاهراً، فلو دمي فم الدابة وتنجس طرف اللجام فحكمه حكم من يصلي وفي يده حبل مشدود في رقبة كلب. فرع آخر الماشي إذا صلى يلزمه أن يجتنب النجاسة حتى لو (مشى) على موضع نجسٍ بطلت صلاته، لأنه لا يشق عليه الاحتراز منه. فرع آخر لو عدا في صلاته فإن كان لغرضٍ لم تبطل وإلا بطلت. فرع آخر لو كان يسير إلى غير جهة القبلة، (فاستفتح) ثم عدل إلى جهة القبلة، وليست بجهة سفره لا يضر الصلاة سواء كان عالماً أو جاهلاً، لأنه إذا جاز لغير القبلة فلأن يجوز إلى القبلة أولى. فرع آخر لو دخل بلده الذي يقصده فمتى وصل إلى أول عمرانه لا يجوز له أن يصلي على الراحلة، ولكنه ينزل، ويستقبل القبلة، ويبني على صلاته، وكذلك إن كان ماشياً استقبل القبلة ويبني على ما مضى، ولو دخلها وكان مستقبل القبلة. قال بعض أصحابنا بخراسان: صحت صلاته على الراحلة لكنه يسجد على مقدم الرحل، ولا يجوز بالإيماء. وعندي أنه لا يجوز أن يصلي سائراً، لأنه في حكم الحاضر في البلد وله أن يصلي واقفاً، ولعل هذا القائل أراد هذا. فرع آخر لو دخل بلداً لا يريد المقام فيه، وإنما يريد أن يجتاز فيه أو يقيم فيه مقام المسافر دون أربعة أيام له أن يصلي على الراحلة حيث توجهت إلى أن ينزل، [46 ب/ 2] وإذا نزل أو وقف للنزول لا يجوز له أن يصلي إلا مستقبل القبلة. والأصل في هذا أن ترك الاستقبال في الصلاة على الراحلة إنما يجوز للمسافر السائر، فإن عدما أو أحدهما لم يجز.

فرع آخر لو دخل بلده، ولكنه لا يريد المقام بها مثل إن كان له بسارية أهل ومال، فخرج من بلده قاصداً الاستراباذ، فدخل سارية، قال الشافعي: فإن أراد النزول بها، أو كان بلده لم تجز صلاته إلا مستقبل القبلة، وأراد بالنزول بها المقام. وقوله: أو كان بلده يدل على أن بدخوله هناك يصير مقيماً. وفي المسألة قولان: أحدهما: هذا. والثاني: لا يصير مقيماً، فعلى هذا لا يلزمه النزول، وله ترك الاستقبال، ذكره القفال. فرع آخر لو افتتح الصلاة على الراحلة، ثم ترك استقبال القبلة وبنى على ما مضى من صلاته، لأن عمل النزول قليل، ولو أحرم على الأرض، ثم ركب بطلت صلاته، لأنه عمل كثير نصّ عليه الشافعي رحمه الله. فرع آخر قال في «الأم»: وليس له أن يصلي فائتة، ولا صلاة نذر ولا صلاة طوافٍ ولا صلاة جنازة على الراحلة، وهذا لأن الفائتة والمنذورة فريضتان وصلاة الطواف فريضة في أحد القولين. وإذا قلنا: تطوع، فإنه يكون حاضراً في حال صلاته أو مسافراً غير عابر في طريق، وصلاة الجنازات من فروض الكفايات وليست بتطوع. وقال ابن القفال في «التقريب»: يحتمل أن يقال: يجوز إذا لم يتعين، كما قال الشافعي: يجوز أن يصليها، وبتيمم الفريضة وهذا خلاف النص. وقال أنس رضي الله عنه: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم «يصلي في جنازة وهو ذاهب إلى خيبر، والقبلة خلف ظهره» ولأنه وإن لم يتعين تقع واجبة، أو هذه صلاة لا تكثر بل تندر فليس في اشتراط الاستقبال فيها مشقة، ويخالف التيمم، لأنها تبع ذلك في الفريضة. [47 أ/ 2] وقال بعض أصحابنا بخراسان: في ركعتي الطواف وجهان بناء على أنهما واجبتان أم لا، وفيه قولان. وفي المنذورة قولان: بناء على أن المنذورة هل يسلك بها مسلك

النوافل، أو مسلك ما ورد به الشرع؟ وفيه قولان، وهذا غير صحيح. فرع آخر قال الشافعي: لو غرقت السفينة وتعلق رجل بلوح وصلى مومياً فإن استقبل بها القبلة لا إعادة وإن مال إلى غير القبلة تلزم الإعادة. وهذا لأن غير الخائف قد يسقط فرضه بالإيماء. وهو المريض فجاز أن يسقط ههنا وغير الخائف لا تصح صلاته مع ترك القبلة، فلم يصح ههنا. مسألة: قال: "وطويل السفر وقصيره سواء". وقال في «البويطي»: وقد قيل: لا ينتقل أحد على ظهر دابة في سفر إلا سفراً يقصر في مثله الصلاة. وقال أصحابنا: هذا قول مالك، وإنما أراد به، وليس بقول الشافعي. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا قول آخر، وهو الصحيح، وهذا ليس بمشهور، وهو غلط، لأنه سفر مباح، فأشبه السفر الطويل. فرع التنفل في الحضر ماشياً لا يجوز ولا يجوز ترك الاستقبال فيها ولا الإيماء بالركوع والسجود فيها. وقال الإصطخري: يجوز لأنه جوز في السفر لتتصل النوافل، وهذا موجود في الحضر. وقيل: إذا جوزنا هذا للماشي يجوز للراكب أيضاً، وهذا غلط، لأنه لم يرو عن النبي صلى الله عليه وسلم ذلك في الحضر، ولو فعل لنقل، ولأن المشقة الغالبة والضرورة الداعية توجد في السفر دون الحضر. ثم إن الشافعي رحمه الله، قال في أثناء هذا الكلام، وفي هذا دلالة على أن الوتر ليس بفرض، وليس هذا مقصود هذا الباب. واستدل على ذلك بأن النبي صلى الله عليه وسلم أوتر على الراحلة». قال والدي الإمام رحمه الله: هذا الاستدلال منصف. وذلك أن الوتر كان [47 ب/ 2] واجباً على رسول الله صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم: «كتب علي الوتر، ولم يكتب عليكم»، وفعله على راحلته لم يدل على نفي وجوبه عنه فلأن لا يدل على نفي وجوبه عن غيره أولى، وهذا حسن. واحتج أيضاً بخبر الأعرابي وتمامه ما روى أبو داود بإسناده عن

طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل نجد ثائر الرأس يسمع دوي صوته ولا نفقه ما يقول حتى دنا، فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خمس صلوات في اليوم والليلة»، فقال: هل علي غيرهن؟ قال: «لا، إلا أن تطوع»، فأدبر الرجل، وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أفلح وأبيه إن صدق دخل الجنة وأبيه إن صدق». وفي هذا الخبر خمسة أدلة: أحدها: أنه قال: خمس صلوات، ولم يقل: ست صلوات. والثاني: لما قال: هل علي غيرهن؟ قال: لا. والثالث: قال: إلا أن تطوع فسمى الزيادة تطوعاً. والرابع: قال: والله لا أزيد على هذا ولا أنقص فأقره عليه. والخامس: قال: أفلح ومدحه. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: «من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة، فلينظر إلى هذا»، يعني إن فعل ذلك فهو من أهل الجنة. قال: قال الإمام أبو سليمان رحمه الله قوله: «أفلح وأبيه» كلمة جارية على لسان العرب يريدون بها التوكيد وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أن يحلف الرجل بأبيه» فيحتمل أن يكون هذا القول منه قبل النهي، ويحتمل أنه جرى هذا منه على عادة الكلام الجاري على الألسن ولم يقصد به القسم كلغو اليمين المعفو عنه. وقيل: يحتمل الإضمار وتقديره: أفلح ورب أبيه. مسألة: قال: "ولا يصلي في غير هاتين الحالتين إلا إلى البيت إن كان معايناً". الفصل وهذا كما قال المعاين للبيت يجب عليه استقباله، ولا يجوز له الصلاة إلى جهته بلا خلاف [48 أ/ 2]، وأما الغائب عن البيت. قال في «الأم»: يجب عليه إصابة العين وظاهر ما نقل عن المزني أنه يجب عليه طلب جهة القبلة، فمن أصحابنا من قال: هذا قوله، ولا يعرف للشافعي، وهو اختيار أبي حامد.

ومن أصحابنا من قال: فيه قولان. ووجه القول الأول ما ذكرنا من الآية والخبر. ووجه القول الثاني، وهو قول أبي حنيفة: أن إدراك العين مع البعد يتعذر. ولهذا تجوز صلاة أهل الصف الطويل على مدى خط مستوي، ولا يجوز أن يتوجه منهم إلى الكعبة إلا بقدر الكعبة، ولكن لن يجاب عن هذا بأن أهل الصف الواحد لا يمكن لأحد منهم أن يقطع بأنه يحاذي الكعبة. وإنما ذلك طريقة الظن فإذا لم يتعين منهم المخطئ لعين الكعبة لم نوجب على أحد منهم القضاء بخلاف هذا. وقال مالك: من كان في المسجد الحرام ففرضه عين الكعبة ومن كان خارج المسجد في الحرم ففرضه المسجد، ومن كان خارج الحرم من أهل الآفاق ففرضه الحرم، وهذا غلط لما ذكرنا. مسألة: قال: "فإن اختلف اجتهاد رجلين: لم يسع أحدهما اتباع صاحبه". وهذا كما قال: إذا كان رجلان في موضع لا يرى البيت منه فاجتهدا في القبلة فأدى اجتهاد أحدهما إلى جهة واجتهاد الآخر إلى جهة، فعلى كل واحد منهما أن يعمل على اجتهاد نفسه، ولا يجوز لأحدهما أن يقلد صاحبه، وإن كان أعلم منه في الاجتهاد، لأنهما اشتركا في الأدلة الموصلة إلى العلم بالقبلة، فلا يجوز لأحدهما تقليد صاحبه كالعالمين في أحكام الشرع لا يقلد أحدهما صاحبه ولا يسع أحد منهما أن يأتم بالآخر، لأن كل واحد منهما يعتقد أن صاحبه متوجه إلى غير القبلة وأنه غير مصيب فيها، فإن ائتم أحدهما بصاحبه كانت صلاة الإمام صحيحة وصلاة المأموم باطلة. وقال أبو ثور: يجوز أن يأتّم أحدهما بصاحبه ويصلي كل واحد منهما إلى جهة كما يجوز أن يصلي [48 ب/ 2] الناس جماعة حول الكعبة، ويكون إمامهم إلى جهة، والمأموم إلى جهة أخرى، وهذا غلط، لأن كل واحد منهما يعتقد أنه في غير صلاة بخلاف ما قاس عليه، فإن كل واحد مصيب هناك، وإن كان الاجتهاد في جهةٍ واحدة، فقال أحدهما: عن اليمين. وقال الآخر عن الشمال صلى كل واحد منهما على اجتهاد نفسه، فإن أراد الجماعة ليكون أحدهما إمام الآخر. قال ابن سريج: يجوز. قال أصحابنا: هذا إذا قلنا: الواجب طلب الجهة، فأما إذا قلنا: الواجب إصابة العين، وهو المذهب، لا يجوز كالاختلاف في الجهتين.

فرع آخر لو اجتهد قوم فاتفق اجتهادهم إلى جهة فاقتدوا بواحد منهم فلما شرعوا في الصلاة تغير اجتهاد بعضهم إلى جهة أخرى انحرفوا في صلاتهم، فإن كانوا مأمومين خرجوا عن الاقتداء وأتموا لأنفسهم، وإن تغير اجتهاد الإمام، فمن وافقه انحرف معه ومن كان على اجتهاده الأول خرج من صلاته وصلى وحده نصّ عليه الشافعي. مسألة: قال: "فإن كان الغيم وخفيت الدلائل على رجل فهو كالأعمى". وهذا كما قال: جملته أن الناس ضربان: بصراء وعميان. فالبصير على ثلاثة أضرب: ضرب يعرف دلائل القبلة وضرب لا يعرفها، وإذا عرف عرف. وضرب لا يعرفها، وإذا عرف لم يعرف، فإن كان عارفاً ففرضه الاجتهاد على ما ذكرنا ولا فرق فيه بين العالم والعامي. وأما من لا يعرفها، وإذا عرف يعرف نظر، فإن كان الوقت واسعاً للتعلم والاجتهاد بنفسه، فالحكم فيه كالعالم إذا كان هناك من يعلمه وإن ضاق الوقت ولا يسع للتعليم والاجتهاد فالحكم فيه، وفي العالم إذا خفيت عليه الدلائل بأن حصل في ظلمة أو حبس في موضع يمنع الدلائل أو لم يكن في ظلمة ولا حبس، [49 أ/ 2] ولكن ضاق الوقت عن الاجتهاد، هل له أن يقلد غيره؟. قال الشافعي: «ههنا فهو كالأعمى» وظاهره أنه يقلد ويقضي. وقال: ولا يسع بصير خفيت عليه الدلائل بل اتباع غيره بحالٍ. وظاهره أنه لا يقلد. واختلف أصحابنا على ثلاثة طرقٍ. وقال أبو إسحق: لا يجوز له تقليد غيره بحالٍ، لأن معه آلة الاجتهاد، وهي البصر. وقول الشافعي: هو كالأعمى، أي: في إعادة الصلاة، لأن الأعمى إذا لم يجد بصيراً يقلده في جهة القبلة صلى على حسب الإمكان، ثم يعيد الصلاة إذا وجد من يقلده. كذلك هنا يصلي على حسب حاله ويعيد إذ بان له الصواب. وهذا ظاهر المذهب. وقال ابن سريج: لا يختلف المذهب أن له التقليد إذا ضاق وقت الصلاة، لأنه قال: فهو الأعمى. والأعمى يقلد فلذلك. قال: ومن قال: لا يقلد أراد مع اتساع

الوقت، وكان ابن سريج يقلد الملاحين في القبلة في طريق الأهواز. وقال بعض أصحابنا: المسألة على قولين: أحدهما: وهو اختيار المزني ومذهبه جواز التقليد. واحتج بأنه لا فرق بين جهل القبلة لعدم العلم وبين من جهلها لعدم البصر كما لا فرق بين من لا يحسن الحروف لعدم البصر وبين من لا يحسبها للجهل بها، أي: كونه أمياً لا يحسن الكتابة، ومن اختار القول الآخر أجاب عن هذا بأنه قادر على التعلم، فلا يضطر إلى التقليد (اضطرار) الأعمى. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا بناء على أنه هل يجب تعلم دلائل القبلة على الأعيان؟ وفيه وجهان: أحدهما، له الإعراض عن تعلمها وتقليد من علمها والثاني يلزمه، تعلمها. وفي هذا نظر. وأما من لا يعرفها وإذا عرف لم يعرف ففرضه التقليد، كالأعمى، والأعمى لا يجوز له أن يصلي إلى القبلة برأي نفسه بل فرضه التقليد، لأنه ليس معه آلة الاجتهاد. فرع لو كان إذا عرف يعرف [49 ب/ 2] فأخر التعليم مع القدرة حتى ضاق الوقت عن التعليم قلد غيره وصلى، وهل تلزمه الإعادة؟ يحتمل وجهين بناء على أن معه ماء فأراقه وصلى بالتيمم. فرع آخر إذا لم يجز له التقليد فله أن يقبل ما يتوصل به إلى الاجتهاد مثل أن يقول له آخر: قد انكشف السحاب فرأيت الشمس في موضع كذا، فيقبل، لأنه يخبر عن يقين. وكذلك لو خرج من مكة ولم يدر من أي أبوابها خرج، فأخبره رجل أنك عن يمين مكة أو يسارها يقبل منه ويجتهد بنفسه، وهو كالحاكم يقبل رواية الحديث، ثم يجتهد بنفسه، ولا يكون مقلداً في الحكم ولو قال: إذا كانت الشمس ههنا، فالقبلة كذا لا يقبل لأنه اجتهاد. فرع آخر لو أخبره مخبر عن القبلة عن يقين بإن قال: أدركت آبائي المسلمين يصلون إليها غير أنهم لم ينصبوا محراباً قبل ذلك لا يجوز له الاجتهاد، ولأن الخبر عن قبلة المسلمين

بمنزلة الخبر عما أجمعوا عليه، أو عما تواتر الخبر. فرع آخر لو دخل بلداً من بلاد المسلمين فرأى محاريبهم لزمه أن يتوجه إليها على ما ذكرنا، ولا يجوز له أن يجتهد في طلب القبلة، ولو دخل بلدة خربت وانتقل أهلها فرأى فيها محاريب منصوبة يلزمه أن يجتهد فيها في طلب القبلة، لأنه يجوز أن تكون تلك المحاريب لأهل الذمة دون المسلمين ولو عرف أنها محاريب المسلمين لا يجوز له الاجتهاد. قال القفال رحمه الله: ويجوز في البلاد التي بنيت فيها المحاريب أن يجتهد في التيامن والتياسر، لأن الخطأ في ذلك القدر يحتمل ولا يوقف عليه قطعاً ويقيناً. وقال بعض مشايخنا في قبلة مدينة آمل طبرستان بعضها مبني على الغرب وبعضها مبني على الزوال فلا يصلى إليها إلا بعد الاجتهاد في طلب الأصح منها. والسلف من علمائنا كانوا يميلون عن قبلة الزوال [50 أ/ 2] قليلاً إلى اليمين وعن قبلة الغرب قليلاً إلى اليسار. فرع آخر لو أن أعمى شاهد القبلة قبل العمى في المسجد فدخل المسجد ولمسها، يجوز أن يصلي إليها ولو كان للأعمى مسجداً يصلي فيه على الدوام، فدخل فيه وجسّ محرابه بيديه لم يجز أن يصلي إليه حتى يقلد بصيراً يقلده الصواب بخلاف ما لو كان شاهده. فرع آخر لو صلى باجتهاد نفسه ثم قيل له: إنك صليت إلى القبلة، القبلة لا يجوز لأنه كان شاكاً في حال الصلاة. وقال داود رحمه الله: له أن يصلي إلى حيث شاء ويسقط عنه فرض القبلة، وهكذا قال في البصير الذي إذا عرف لم ينحرف. واحتج بقوله تعالى: "فأينما تولوا فثم وجه الله" [البقرة:115] وهذا غلط لقوله تعالى: "وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره" [البقرة: 144]، والآية التي ذكرها وردت في التطوع. فرع آخر لو اجتهد في القبلة فأدى اجتهاده إلى جهةٍ فصلى إلى غيرها لم تجز صلاته، وإن بان أن التي صلى إليها القبلة، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه

الله: تجوز صلاته، لأن المبتغى هو القبلة، وصلى إليها كما لو شك إنائين فتوضأ بأحدهما من غير اجتهاد ثم بان أنه الطاهر، وهذا غلط، لأنه ترك فرضاً عليه، وهو التوجه إلى ما أدى اجتهاده إليه كما لو ترك النية. وأما الأواني إن بان له ذلك بعدما دخل في الصلاة لم تجز صلاته وإن كان قبل الدخول في الصلاة يجوز. والفرق أن الطهارة تمنع قبل وجوبها فإذا عملها قبل وجوبها أجزأته ولم يضره الشك قبل ذلك. فرع آخر قال الشافعي رضي الله عنه: «كل من دل الأعمى على القبلة من رجل أو امرأة أو عبد من المسلمين وكان بصيراً وسعه قبوله إذا صدقه» قال: وتصديقه أن لا يرى أنه يكذب. قال: "ولا تتبع دلالة مشرك بحالٍ" وهذا لأنه متهم في خبر الدين، وأيضاً إذا لم يقبل قول الفاسق فيه، فالكافر أولى لأنه أسوأ حالاً منه، [50 ب/ 2] وقد قال صلى الله عليه وسلم: «ما حدثكم به أهل الكتاب، فلا تكذبوهم ولا تصدقوهم». وذكر أصحابنا أن قول الكافر لا يقبل إلا في الإذن في دخول الدار وقبول الهدية وكذا الفاسق في ظاهر المذهب، وهذا لأنهما أحسن حالاً في القول من الصبي، ويقبل من الصبي ذلك. وقيل: المذهب أنه لا يجوز قبوله من الفاسق لأنه لا يتهم في مثل هذا الأمر. فرع آخر حكى الخضري نصاً عن الشافعي أنه لا يجوز قبول دلالة الصبي، وحكى أبو زيد المروزي نصاً عن الشافعي أنه يجوز قبول قوله، فأخبر الخضري مما حكاه الشيخ أبو زيد، فقال: لا يتهم ذلك الشيخ في الرواية، ولكن وجه الجمع أنه أخبره عن محراب مشاهد قبل إذا كان يعقل عقل مثله، وإن اجتهد به لا يقبل. ومن أصحابنا بخراسان من قال: فيه وجهان، أو قولان، وهكذا في قبول خبر النبي صلى الله عليه وسلم منه وهذا كله خطأ عند أهل العراق من أصحابنا.

فرع آخر لو صلى بقول بصير ثم أخبره أنه أخطأ، فالبصير آلته، فإن أخبره بالخطأ عن اجتهاد فلا إعادة عليه قولاً واحداً، وإن أخبره عن معاينة، هل تلزمه الإعادة؟ قولان. فرع آخر لو كان هناك جماعة فدلوه على القبلة، فإن اتفقوا على جهةٍ واحدة عمل عليها، وإن اختلفوا عليها قلد الأعلم والأدين والأور وأيهم قلده أجزأه. فرع آخر لو دخل البصير في الصلاة باجتهاده، ثم عمي كان له أن يصلي إلى الجهة التي كان يصلي إليها ولا يلزمه الرجوع إلى التقليد لأن اجتهاده أقوى من اجتهاد غيره، فإن استدار في تلك الصلاة بطلت صلاته، لأنه لا يحسن الرجوع إلى الجهة التي كان عليها ولزمه أن يستأنف الصلاة بالتقليد، وكذلك لو فرغ من تلك الصلاة لا يستأنف غيرها بذلك الاجتهاد الأول. فرع آخر لو دخل في الصلاة بالتقليد ثم أبصر في الصلاة نظر، فإن بان له [51 أ/ 2] أنه على صواب حين عاد بصره بنى عليها، فإن بان له الخطأ، أو لم يعلم هل هو خطأ أم صواب؟ بطلت صلاته، لأنه لا يسوغ له بالتقليد وهو من أهل الاجتهاد. فرع آخر لو دخل بقول واحد في الصلاة، فقال له بصير آخر: قد أخطأ بك، نطر، فإن كذب الثاني مضى في صلاته وإن كان الثاني صادقاً نظر، فإن كان عنده كالأول في الصدق مضى في صلاته، وإن كان الثاني أصدق منه عنده صار إلى قوله وانحرف عن تلك الجهة، وهل يستأنف أم يبني نظر، فإن أخبره عن اجتهاد بنى قولاً واحداً وفيه وجه آخر يستأنف، وهو ضعيف، وإن أخبره عن يقين. قال أبو إسحق رحمه الله: عدل عن قوله بكل حال، وهل يبني أم يستأنف؟ قولان. بناء على ما لو صلى باجتهاد ثم تعين له نفس الخطأ هل يلزمه إعادتها؟ قولان، وهذه المسألة نقلها المزني بعد مسألة أخرى ولكنا ذكرنا ههنا، لأن هذا موضعها.

فرع آخر لو اجتهد البصير فصلى إلى جهة ثم حضرت صلاة أخرى ولم يتغير اجتهاده، هل عليه تجديد الاجتهاد؟ نصّ الشافعي رحمه الله في «الأم»: أنه يلزمه ذلك كما في الحكم والفتوى يلزمه إعادة الاجتهاد في الحادثة الثانية وذكر أبو حامد رحمه الله فيه وجهين: أحدهما: لا يلزمه، لأن اجتهاده قائم لم يتغير، وهذا خلاف النص. فرع آخر لو دخل البصير في الصلاة باجتهاده ثم شك هل أخطأ أم لا؟ يجوز له أن ينصرف عن الجهة التي اجتهاده إليها بلا شك. فرع آخر لو صلى الأعمى بالاجتهاد من البصير أم أخبره بالخطأ غير المجتهد له عن يقين، فإن كان خبراً متواتراً، هل يلزمه الإعادة؟ قولان، وإن كان خبر واحد وقع في نفسه صدقه. قال أبو إسحق: لا إعادة، لأنه لا يتيقن الخطأ بخبره كما يتيقنه البصير بمشاهدته. وقال غيره من أصحابنا بل تكون الإعادة على قولين [51 ب/ 2] ذكره في «الحاوي». مسألة: قال: "ومن اجتهد فصلى إلى الشرق، ثم رأى القبلة إلى الغرب استأنف". الفصل وهذا كما قال: اللفظ يحتمل معنيين: أحدهما: أنه أراد بقوله: فصلى، أي: شرع في الصلاة، ثم رأى القبلة يقيناً إلى الغرب استأنف وهو ظاهر تعليله فإنه قال: لأن عليه أن يرجع من خطأ جهتها إلى تعين صواب جهتها. والثاني: أن يكون المراد بقوله: فصلى، أي: فرغ من الصلاة، ثم رأى، أي:

علم يقيناً القبلة إلى الغرب استأنف، أي: أعاد هذه الصلاة، ومعنى أن الاجتهاد ينقض بوجود النص، ويرجع منه إليه، وجملة الكلام فيه أنه إذا اجتهد في القبلة فأخطأ، لا يخلو إما أن يكون قبل الدخول في الصلاة أو بعد الدخول فيها أو بعد الفراغ منها، فإن كان قبل الدخول عدل عن الاجتهاد الأول إلى الثاني سواء بان له الخطأ اجتهاداً أو يقيناً أو تيامناً أو تياسراً، وإن كان بعد الدخول في الصلاة لا يخلو إما أن يتبين له الخطأ بالاجتهاد أو باليقين، فإن كان بالاجتهاد نظر، فإن كانت الجهة واحدة وغلب على ظنه الآن أنه منحرف عن سمت القبلة إما تيامناً أو تياسراً انحرف إليها ويعتد بما مضى قولاً واحداً؛ لأن ذلك لا يقع عن يقين وإنما يقع عن ظن لأن الجهة الواحدة لا تتبين منها الكعبة يقيناً. ومن أصحابنا من قال: تبطل صلاته ويلزمه أن يستأنفها بالاجتهاد الثاني، لأن الصلاة الواحدة لا يجوز أداءها باجتهادين مختلفين كالحكم الواحد لا تجوز باجتهادين مختلفين، وهذا غلط بخلاف النص وذلك أنه لا يجوز إبطال ما فعله بالاجتهاد باجتهاد آخر، ولا يمنع ما ذكر هذا القائل، لأن المستأنف يصلي إلى جهة، فإذا زال الخوف أتمها إلى القبلة ويخالف الحكم، لأنه لا يمكن فيه، ولأن كل ركن من أركان الصلاة بمنزلة الحكم [52 أ/ 2] المنفرد، لأن الحكم لا يمكن فصل بعضه عن بعض، لأنه شيء واحد، والصلاة إذا أتى بعضها مع الأركان فقد أتى بما يسمى صلاة فلا يجوز إبطالها بهذا لئلا يؤدي إلى ما ذكرنا، فوزان الحكم من الصلاة أن يقول: الله ولم يتم التكبير حتى تغير اجتهاده يلزمه ترك الاجتهاد الأول، والابتداء بالتكبير ثانياً، وإن كانت جهتان مختلفتان مثل أن يصلي إلى الغرب ثم بان أنها إلى الشرق (بالاجتهاد)، وعدل عن الأول، وهل يبني أم يستأنف المذهب أنه القبلة الثانية التي ذكرناها. ومن أصحابنا من قال: يستأنفها لأنه لو بنى تيقن أنه ترك القبلة في بعض هذه الحالة، وقال أبو حامد: فيه وجهان، وهو غلط، وقيل: ههنا تفصيل فإن كان حين بان له الخطأ بان له جهة القبلة تحول إليها، وإن احتاج إلى اجتهاد بطلت صلاته لأن استدار الصلاة إلى غير قبلة، وإن بان يقيناً نظر فإن كانت الجهة واحدة بالتيامن والتياسر انحرف ما لم يتفاحش انحرفه حتى يقارب الجهتين وتحريه، لأنه لا يعرف ذلك إلا اجتهاداً حتى لو كان بمكة لا يجوز الانحراف في الصلاة، وإن كانت الجهة أبين فيه قولان: أحدهما: يبني.

والثاني: استئنافها. وقال القفال: هذا مبني على الحكم بعد الفراغ من الصلاة، فإن قلنا: هناك يعيد الصلاة، فههنا أولى أن يستأنف، وإن قلنا: هناك لا يعيد فههنا وجهان. والفرق أن الصلاة بعد الفراغ منها كالقضية المبرومة، وقبل الفراغ منها كالقضية غير المبرومة. ومن أصحابنا من قال: الجهة إن كانت واحدة فقد يعلم الخطأ يقيناً أنه في بعض جهة الكعبة دون بعض فيلزمه العود إليه، ثم إن قلنا فرضه استقبال الجهة دون العين بنى، وإن قلنا: فرضه إصابة العين، هل يبني أم يستأنف؟ قولان. وإن كان معه أعمى يصلي باجتهادٍ فكلما يجب عليه من الانحراف أو الاستئناف [52 ب/ 2] يجب على الأعمى، فيعرفه ذلك، لأنه تابعه، وهو دليله، وإن كان بعد الفراغ من الصلاة لا يخلو إما أن يتبين الخطأ اجتهاداً أو يقيناً، فإن بان اجتهاداً لا يلزمه إعادة الصلاة، ويصلي ثانياً إلى الجهة التي أدى اجتهاده إليها ثانياً، وصورته أن يغلب على ظنه أن القبلة في هذه الجهة الأخرى إلا أن يستوي الجوازان، وكذلك ثالثاً ورابعاً حتى لو صلى إلى الجهات الأربع على هذا أجزأه لأنه لا يجوز نقض الاجتهاد باجتهاد مثله كما في الحكم. وقال أبو إسحق الإسفرايني في هذه المسألة يلزمه إعادة كلها كما لو نسي صلاة من خمس صلوات، وإن بان ذلك يقيناً، فهل يلزمه إعادة الصلاة؟ قولان: أحدهما: يلزمه. نصّ عليه في كتاب استقبال القبلة في «الجديد». والثاني: لا يلزمه. نص عليه في «القديم» في كتاب الصيام والطهارة من «الأم». وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد رحمهم الله، وهو اختيار المزني رحمه الله. وجه القول الأول أنه الخطأ فيما يأمن قوله في القضاء، فيلزمه الإعادة كالحكم إذا تيقن الخطأ والمصلي بمكة. ووجه القول الثاني ما روي عن عامر بن ربيعة، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة، فلم نعرف القبلة، فجعل كل رجل منا يصلي وبين يديه أحجار فلما أصبحنا إذا نحن إلى غير القبلة، فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى: "ولله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله" [البقرة:11]. ومن قال بالأول أجاب عن هذا بأنه كان في صلاة التطوع. وقال بعض أصحابنا بخراسان: ومثل هذه المسألة: إذا صلى ثم بان أنه كان

على بدنه أو ثوبه نجاسة لم يعلمها أو نسي الفاتحة، هل يلزمه الإعادة؟ قولان. وكذلك المحبوس في المطمورة، ولو اجتهد في صوم رمضان، ثم بان أنه صام شعبان، فيه قولان، وكذلك لو دفع الزكاة بالغلط إلى غني، هل تحسب؟ قولان، وأصلهما في المجتهد، [53 أ/ 2] هل يقال: كل مجتهد مصيب أم الحق في واحد من القولين؟. واختلف أصحابنا في محل القولين، فمنهم من قال: هذا إذا أبان له الخطأ، وبان له يقين الصواب، فأما إذا بان له الخطأ دون تيقن الصواب فلا قضاء عليه، هذا مفهوم نصه، وفيه وجه مخرج عليه القضاء. ذكره الإمام الجويني رحمه الله، ومنهم من قال: القولان إذا بان له يقين الخطأ دون يقين الصواب، فأما إذا بان له اليقينان، فقول واحد يلزمه القضاء، ومنهم من قال: في الكل قولان، وبه قال أهل العراق من أصحابنا. وقال القفال: معنى القولين أنه كلف الاجتهاد لا غير أم كلف التوجه إلى القبلة؟ وفيه قولان، فإذا تقرر هذا رجعنا إلى كلام المزني رحمه الله. اختار المزني أن لا يلزمه الإعادة، وأورد فصولاً مختلطة، فحكى أولاً عن الشافعي رحمه الله تعالى أنه قطع بهذا القول في موضعين: أحدهما: في كتاب الصيام. والثاني: في كتاب الطهارة. وأما ما حكي عن كتاب الصيام قال: قال الشافعي رحمه الله فيمن اجتهد ثم علم أنه أخطأ يجزه، واحتج به لو تآخى القبلة ثم علم بعد كمال الصلاة أنه أخطأ أجزأت عنه كما يجزيء ذلك في خطأ عرفة، وأراد به أن الأسير إذا أشكل عليه دخول شهر رمضان واجتهد وصام شهراً، ثم علم أنه أخطأ وصام شهراً بعده يجوز، واحتج على جواز صومه هذا وإن أخطأ في وقته بجواز صلاته إذا علم أنه أخطأ في القبلة، واحتج على جواز صلاته وإن أخطأ فيها جهة القبلة، يجوز وقوله بعرفة إذا علم أنه أخطأ يوم عرفة، فكان المزني يقول: هذا النص من الشافعي يقطع بجواز صلاة من أخطأ فيها جهة القبلة كما هو في خطأ عرفة. وأما ما حكي عن كتاب الطهارة، وهو قوله: (واحتج أيضاً في كتاب الطهارة بهذا المعنى، فقال: إذا تأخى في أحد الإناءين أنه طاهر والآخر نجس وصلى)، أي: فصلى بوضوءه بما تأخى أنه طاهر، ثم أراد أن يتوضأ [53 ب/ 2] ثانية. الأغلب عنده أن

الذي ترك هو الطاهر لم يتوضأ بواحد منهما، ويتمم ويعيد كل صلاة صلاها بتيمم، لأن معه ماء مستيقناً. وفي بعض النسخ: لأن معه ماء مستيقناً، أي: متيقن الطهارة، ثّم فرق بين هذا وبين الخطأ في القبلة، وهو مقصود المزني من حكاية هذا النص، فقال: وليس كالقبلة يتأخاها في موضع، ثم رآها في غيره، أي: ليس عليه إعادة ما أخطأ فيها، وعلل فقال: لأنه ليس من ناحية إلا وهي قبلة لقوم، فلا يلزمه الإعادة لهذه العلة، ثم اختلف أصحابنا في المراد بهذه العلة، فقال: المراد به ما من ناحية من النواحي إلا وهي قبلة لقوم في بعض الأحوال لبعض الأعذار، وهو في السفر والخوف، فكذلك هذا المخطئ معذور، فلا يلزمه الإعادة، وقيل: أراد إلا وهي قبلة لقوم من أهل الآفاق. وذلك أن أهل الشرق يستقبلون الغرب، وأهل الغرب يستقبلون الشرق وأهل يمين القبلة يستقبلون يسارها. وأهل يسارها يستقبلون يمينها، فلم يخرج هذا المخطئ في اجتهاده عن قبلة قوم في الجملة، وهذا معنى قول عمر رحمه الله «ما بين المشرق والمغرب قبلة». ثم علل المزني رحمه الله هذا للقولين، فقال: لأنه أدى ما كلف، أي: إنما كلف أداء الصلاة حيث أدى اجتهاده إليها وقد أداها كما كلف. قال: ولم يجعل عليه إصابة العين، أي: لم يجعل الشافعي على هذا المجتهد إصابة عين القبلة للعجز عنها في حال الصلاة، فلا يلزمه ما عجز عنها. والجواب عن هذا هو أن نقول في أول الفصل: إن كان احتجاجك بأن الشافعي رحمه الله لم يوجب الإعادة في مسألة القبلة، فإنما أجاب بأحد القولين، فلا يكون فيه دليل على بطلان القول الآخر، وإن كنت تقيس على الخطأ في الصوم في عرفة، فالفرق ظاهر، وهو أنه قد يفطر الرجل بعذر ويقضي بعذر ما في رمضان [54 أ/ 2] فصوم رمضان يجوز في شوال مع العلم الأمن إلى غير القبلة مع العلم. وأيضاً لو أوجبنا الإعادة هناك لأعاده بعد رمضان أيضاً، فلا فائدة فيه. وههنا يعيد مستقبل القبلة. وأما خطأ عرفة، قلنا: ذاك غلط لخلق عظيم، وفي إعادته مشقة عظيمة بخلاف هذا، وأيضاً ذلك الخطأ في الوقت، وأجمعنا على أن الخطأ في الوقت لا يعذر منها

بل هذا غلط في المكان، ولو غلط في المكان بعرفة لم يجز، وأيضاً لا نأمن ذلك في القضاء إذ كل عام يتوهم مثله، وههنا لا يأمن الخطأ في القضاء. وأما الثاني فكما أجاب بأحد القولين، فلا حجة فيه، واحتج بفصل آخر، فقال: وهذا القياس على ما عجز عنه المصلي في الصلاة من قيام وقعود وركوع وسجود وستر إن فرض الله كله ساقط عنه دون ما قدر عليه من الإيماء عرياناً، فإذا قدر من بعد لم يعد، فكذلك إذا عجز عن التوجه إلى عين القبلة كان عنه أسقط. وقوله دون ما قدم عليه من الإيماء عريان. يحتمل معنيين: أحدهما: أن يكون المراد به أن العريان إذا لم يجد السترة لعورته صلى قاعداً بالإيماء، ولا يرفع مقعدته عن الأرض في السجود، لأن ذلك أستر له، وهو قادر على صلاته بالإيماء الذي هو أستر لعورته، فلا يسقط عنه ذلك، وهو أحد قولي الشافعي، وفيه قول آخر: يصلي كما يصلي المكتسي وكأن الأول اختيار المزني، ويحتمل أن يكون المراد به الاستثناء للتخصيص بالإعادة دون من عجز عن الركوع والسجود فيكون على هذا في النظم تقديم وتأخير فكأنه يقول: فرض الله كله ساقط عنه، فإذا قدر من بعد لم يعد ما قدر عليه من الإيماء عرياناً، فإنه يعيد عند وجود الثوب، وهذا لأنه ترك القيام مع القدرة عليه، وإنما يسقط عند الفرض بالعجز عنه في حال الصلاة، وعلى المعنى الأول لا يلزمه الإعادة. والجواب عن هذا أن ذاك عجز، وهذا خطأ [54 ب/ 2] في الاجتهاد والأصول مفرقة بينهما، ألا ترى أن صلاة المستحاضة جائزة، ثم لو تحرى فصلى بالوضوء بماء نجس، ثم علم يلزمه الإعادة، فلذلك تقديم الصلاة على الوقت بعد الجمع يجوز، والخطأ فيه ليس بعذر. واحتج بفصل آخر، وهو قصة أهل قباء، فقال: وقد حولت القبلة وقد صلى أهل قباء ركعة إلى غير قبلة، ثم أتاهم آت، فأخبرهم أن القبلة قد حولت، فاستداروا وبنوا بعد تيقنهم أنهم صلوا إلى غير قبلة. ووجه الاستدلال منه ما أشار إليه وهو قوله: ولو كان صواب عين القبلة المحول إليها فرضاً لما أجزأهم خلافه للجهل كما لا يجوز بغير ماء طاهر للجهل، ثم علم لا يجوز. والجواب، أن أهل قباء لم يكونوا على خطأ بل كان شرعهم ذلك الأول ما لم

يبلغهم النسخ كما أن الذين لم تبلغهم الدعوة إذا كانوا متمسكين بدين عيسى عليه السلام مثلاً حكمهم حكم المسلمين، وهم معذورون وعفي عنهم قبل بلوغهم الدعوة. كذلك ههنا، ومن أصحابنا من قال: يتوجه حكم النسخ على الجميع وإن لم يعلم بعضهم، فعلى هذا الفرق بين أهل قباء وغيرهم أنهم صلوا بالنص على اليقين الأول، فلا تلزم الإعادة لأنهم لو أرادوا الاجتهاد قبل علمهم (بالنسخ) لم يكن لهم بخلاف الخاطئ في القبلة، لأنه دخلها باجتهاد لا بنصٍ وعن ظنٍ لا بيقين. ثم إن المزني رحمه الله بعدما فرغ من الاحتجاج قاس على هذا الأصل كان من أمر بالصلاة في حال العجز على لا تلزمه الإعادة إذا قدر، فقال: ودخل في قياس هذا الباب أن من عجز عما عليه من نقص الصلاة يريد القيام والركوع والسجود أو ما أمر به فيها يريد القراءة: والتشهد والصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم أولها يريد الطهارة واستقبال القبلة، والسر أن ذلك ساقط لا يعيد إذا قدر. ثم قال: وهو أولى بأحد قوله من قوله فيمن صلى في ظلمةٍ أو خفيت عليه الدلائل، [55 أ/2] أو به دم لا يجد ماء يغسله إلى آخر الفصل وقد مضى بيان ذلك في كتاب الطهارة. والجواب عنه، وقول المزني ففهم أراد به الشافعي، وإذا قال: فافهموه يريد أصحاب الشافعي. فرع قال أصحابنا: يكره أن يصلي وبين يديه رجل يستقبله وجهه، لما روي أن عمر رضي الله عنه «رأى رجلاً يصلي ورجل جالسٌ بين يديه يستقبله فضربهما بالدرة». مسألة: قال: "ولو دخل غلام في صلاة فلم يكملها، أو صوم يوم فلم يكمله حتى استكمل خمس عشرة سنة أحببت أن يتم ولا يعيد ولا يتبين أن عليه إعادة". الفصل إلى آخر الباب وهذا كما قال: هذه المسألة ليست من مسائل استقبال القبلة. وجملته أنه إذا دخل الصبي في صلاة الوقت فلم يكملها حتى استكمل خمس عشرة سنة، فاختلف أصحابنا قال أبو إسحق وغيره: يجب عليه أن يتمها، ويستحب له أن يعيدها، ولا يجب،

وذلك وإن كان الوقت باقياً، وهذا هو المذهب الصحيح. وقوله: أحببت أن يتم ويعيد اختصار من المزني. والشافعي رحمه الله قال: أتم وأحببت أن يعيد ومعنى ما نقل يستحب الجمع بين الإتمام والإعادة، فأما الإتمام بانفراده واجب بكل حالٍ، وإنما استحببنا ذلك لشروعه فيها قبل الخطاب، ويتفرع على هذا الصبي إذا صلى في أول الوقت وفرغ منها، ثم بلغ في آخر الوقت لا يلزمه الإعادة. وهذا ينافي الحقيقة على أصله أنه ليس للصبي صلاة شرعية، وعندنا له صلاة شرعية ويجوز أن يصلى خلفه الفرض والنفل. وقال مالك رحمه الله مثل قوله، وهو رواية عن أحمد رحمه الله، واحتجوا بأنها تقع نافلة، فلا تجزي عن الفرض. قلنا: الصبي كان مأموراً بأداء الصلوات المشروعة في وقتها، ويطالب بأن ولو صلى بغير نية صلاة الوقت لم يسقط الأمر له بذلك، وإذا كان مأموراً بالصلاة بنية الوقت [55 ب/ 2] ينبغي أن يسقط عنه الفرض، وليس كسائر النوافل لأنها لا تؤدى بنية صلاة الوقت بخلاف هذه، ولأن من قدم العصر فصلاها في وقت الظهر جمعاً لا يمكن وصفها بالوجوب ويجزئه عن الفرض. ومن أصحابنا من قال: أراد الشافعي رضي الله عنه إذا فرغ من الصلاة ولم يبق من وقتها ما يفعلها فيه، فأما إذا بقي قدر ما يفعلها فيه تلزمه الإعادة. وقال الاصطخري والمزني: لا نعرف هذا القول للشافعي، ولو كان هذا على ما ذكره هذا القائل لوجبت أن يلزمه الإعادة، وان لم يبق من الوقت ما يفعل فيه هذه الصلاة، لأن الشافعي يوجب الصلاة على المعذور بإدراك ركعة أو تكبيرة على اختلاف القولين. وحكي عن ابن سريج: يتمها استحباباً ويعيدها واجباً، وكذلك إذا صلى في أول الوقت، ثم بلغ في آخره يعيدها واجباً. وذكر أبو حامد أنه رجع عنه إلى قول أبي إسحق في كتاب الانتصار. وهذا والذي قبله خلاف نصّ الشافعي، وقيل هل تلزمه الإعادة؟ قولان، لأن الشافعي قال: ولا يتبين أن عليه إعادة، وهذا تعليق القول. وقيل: القولان بناء على أنه إذا نوى الظهر ولم يقيد بالفرضية، هل يجوز؟ وجهان، وهذا غلط، لأن اللفظ يدل على أن وجوب الإعادة لم يبق عنده، ولا يدل على أن سقوط الإعادة لم يبق عنده، فمن المحال إحالة القولين على هذا اللفظ، وأما إذا بلغ الصبي في الصوم خرج ابن سريج رحمه الله فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يتمه واجباً ويعيده استحباباً، وهو اختيار أبي إسحق. والثاني، يتمه استحباباً ويعيده استحباباً، لأنه لم يدرك وقتاً يمكنه إيقاع الصوم فيه،

فلم يلزمه، ولو أصبح مفطراً، ثم بلغ في ذلك اليوم له أن يأكل بقية نهاره قولاً واحداً، وهل يلزمه قضاء ذلك اليوم؟ وجهان: أحدهما: يلزمه، وهو الأصح لأنه أدرك جزءاً من وقت الصوم [56 أ/ 2] كما لو أدرك جزءاً من وقت الصلاة. والثاني: خرجه ابن سريج: لا يلزمه لأنه مدرك وقت الإمكان لأن بقية النهار لا يمكن إيقاع جميع الصوم فيها. وبنى الباقي عليه بخلاف الصلاة. واختار المزني رحمه الله أنه يلزمه قضاء الصلاة دون قضاء الصوم. واحتج بأنه لا يمكنه صوم يوم هو في آخره غير صائم، ويمكنه صلاة هو في آخرها غير مصل، ألا ترى أن من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب يبتدئ العصر من أولها ولا يمكنه في آخر يوم أن يبتدئ صومه من أوله فيعيد الصلاة لإمكان القدرة، ولا يعيد الصوم لارتفاع إمكان القدرة، ولا تكليف مع العجز. والمزني ألحق هذه المسألة بهذا الباب لهذه النكتة التي أشار إليها، وهي أنه لا تكليف مع العجز فتكون هذه المسألة نظراً للمسائل التي كان تكلم فيها قبل ذلك ومعنى هذا الكلام أن الصوم يستغرق الوقت، فبإدراك بعض الوقت لا يحصل الإمكان بخلاف الصلاة، فمن أصحابنا من قال: في عبارته خلل كان ينبغي أن يقول لا يمكنه صوم يوم هو في أوله غير صائم، لأن الأول فات ههنا دون الآخر. وقيل: أراد المزني هذا، ووقع الغلط في الخط. وقيل: ما قاله صحيح أيضاً، لأن قصده ما ذكرنا أن الصوم يستغرق الوقت بخلاف الصلاة فسواء ما قال في أوله أو قال في آخره، فيصح ذلك. والجواب عن هذا أن يقول: وإن كان يمكنه إعادة الصلاة إلا أنه لم يؤمر بها، لأنه أدى وظيفة الوقت قبل البلوغ وسقطت العقوبة عنه بالضرب بأدائها فهو كعبدٍ صلى يوم الجمعة الظهر ثم عتق وأدرك الجمعة لا يلزمه إعادتها، فكذلك هذا، وأيضاً الاعتبار بالإمكان لأنه قد يدرك تحريمه، أو ركعة من آخر الوقت، فتلزمه الصلاة، وإن لم يحصل الإمكان في الوقت فدلّ أن المعنى ليس ما ذكرتم بل المعنى أنه إذا أسرع في العبادة على الصحة يجوز [56 ب/ 2]، أن يتمها واجباً، وفي أولها لم يكن الشروع واجباً كما لو نذر صوم يوم بعد الشروع فيه يكون مقطوعاً في أوله ويجب الإتمام في آخره، كذلك ههنا.

فرع قال ابن الحداد: لو أن صبياً صلى الظهر، ثم بلغ وأدرك الجمعة عليه حضور الجمعة وإن صلى العبد الظهر ثم عتق، أو المسافر ثم أقام لا يلزمهما حضور الجمعة. والفرق أنهما كانا من أهل الفرض، فأديا الفرض والصبي لم يؤد الفرض، فإذا أدرك الجمعة تلزمه. قال أصحابنا: هذا التعليل أخذه من كتب أبي حنيفة رحمه الله وعندنا لا تلزمه الجمعة إذ لو لزم ذلك لزمه في سائر الأيام إذا صلى، ثم بلغ في الوقت إعادة الصلاة، وليس ذلك كذلك. تم الجزء الأول بتقسيم المحقق ويليه الجزء الثاني وأوله: «باب صفة الصلاة»

بحر المذهب في فروع المذهب الشافعي تأليف القاضي العلامة فخر الإسلام شيخ الشافعية الإمام أبي المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني المتوفى سنة 502 هـ تحقيق طارق فتحي السيد الجزء الثاني يحتوي على الكتب التالية: تتمة الصلاة - الجمعة - صلاة الخوف - صلاة العيدين - الجنائز دار الكتاب العلمية Dar Al-Kotob Al-ilmiayh DKI أسسها محمد حلمي بيضون سنة 1971 بيروت - لبنان Est. by Mohammad Ali Baydoun 1971 Befaut- Lebanon Etablic par Mohamad Ali Baydoun 1971 Beyrouth - liban

الكتاب: بحر المذهب ... Title: BAHR AL - MADHAB التصنيف: فقه شافعي ... Classification: Shafeit jurisprudence المؤلف: الإمام أبو المحاسن الروياني Author: Imàm Abu al-Mahàsin al-R?yàni المحقق: طارق فتحي السيد ... Editor: Tariq Fathi al-Sayyid الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت ... Publisher: Dar Al-Kotob Al-ilmiayh عدد الصفحات: 7232 (14 جزءًا) ... Size: 17 * 24 سنة الطباعة: 2009 ... Year: 2009 ... بلد الطباعة: لبنان ... Printed in: Lebanon الطبعة: الأولى ... Edition: 1 st ... Exclusive rights by © Dar Al-Kotob Al-llmiyah ... DKI Beirut-Lebanon No part of this publication may be translated, reproduced. distributed in any form or by any means. or stored in a data base or retrieval system. without the prior written permission of the publisher. ... Dar Al - Kotob Tous droits Exclusivement réservés à © Dar Al-Kotob Al-llmiyah ... Al - ilmiyah Beyrouth-Liban Toute representation, édition, traduction ou reproduction méme precede partielle, par tous, en tous pays, Faite sans autorisation préalable signée par l'éditeur est illicite et exposerait le contrevenant à des poursuites judiciaires. ... جميع حقوق الملكية الأدبية والفنية محفوظة لدار الكتب العلمية بيروت - لبنان ويحظر طبع أو تصوير أو ترجمة أو إعادة تنضيد الكتاب كاملًا أو مجزأ أو تسجيله على أشرطة كاسيت أو إدخاله على الكمبيوتر أو برمجته على أسطوانات ضوئية إلا بموافقة الناشر خطيًا.

باب صفة الصلاة

بسم الله الرحمن الرحيم باب صفة الصلاة مَسْأَلُة: قال: (وإذا أحرم إمامًا، أو وحده نوى صلاته في حال التكبير لا قبله ولا بعده). وهذا كما قال: لا تصح الصلاة إلا بنية. والأصل فيها ما تقدم من الآية والخبر، فإذا ثبت ذلك، فإن الكلام فيها في ثلاثة فصول في محّلها وكيفيتها ووقتها. فأما محّلها فالقلب، فإن نوى بقلبه ونطَق بلسانه، فهو الكمال، وهذا إذا نطق قبل التكبير، ثم كبرّ ناويًا، وإن نطق بلسانه بهما، ولم ينِو بقلبه لم يعتد بهما، وإن نوى بقلبه، ولم ينطق بلسانه أجزأته. ومن أصحابنا من سها، فقال: لا تجزئه حتى ينطق بلسانه، لأن الشافعي رحمه الله، قال في كتاب الحج: (وليس عليه أن يسمي حجًا ولا عمرة، وليس كالصلاة التي لا تصحّ إلا بالنطق)، وهذا غلٌط، لأن الشافعي قصد به الرد على أبي حنيفة حيث قال: لا بدّ مع النية في الحج من التلبية أو سوق الهدي حتى ينعقد، وأراد بالنطق في الصلاة التكبير لا التلفظ بالنية. وأما كيفية النية، قال في (الأم): وكان على المصّلي في كل صلاٍة واجبة أن يصّليها وينويها بعينها فأوجب تعيين النّية [57 أ/ 2]. واختلف أصحابنا في ذلك، فقال أبو إسحق رحمه الله: عليه أن ينوي ثلاثة أشياء: الفعل والتعيين والفرض. فالفعل أصلي، والتعيين قوله: الظهر أو العصر، والفرض قوله: فرض، قال ابن أبي هريرة رحمه الله: يكفيه أن ينوي الفعل والتعيين، فينوي صلاة الظهر، ولا يحتاج إلى نية الفرض، لأن صلاة الظهر لا تكون إلا فريضة فاستغنى عن نية الفرض. وبه قال أبو حنيفة رحمه الله، ولأن الصبي إذا صلّى بنية صلاة الوقت، ثم بلغ أجزأه، وإن لم يكن نوى الفريضة. ومن قال بالأول أجاب عن هذا بأن من أعاد الصلاة في جماعة ينوي صلاة الوقت، ولا يكون فرضًا، وكذلك الصبي مأمور بأن يصّلي ينوي صلاة الوقت، ولا يكون فرضًا، والأشهر قول أبي إسحق، ولكن قول ابن أبي هريرة أصح في القياس. وقال بعض أصحابنا بخراسان: يحتاج أن ينوي فرض الوقت ليتميز عن القضاء، ولم يذكره أهل العراق، أو يقول: أؤدي صلاة الظهر فريضة، وقيل: يحتاج أن ينوي لله

تعالى، وهو ضعيف، وهذا لإظهار الإخلاص. والمذهب أنه يستحب ذلك، لأنها لا تكون إلا لله تعالى. فَرْعٌ لو قال: نويت أداء فرض الظهر، ولم يقل: فريضة صلاة الظهر، فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأن الظهر اسم الوقت لا العبادة. والثاني: يجوز لأن الظهر في الُعرف اسم الصلاة والمفهوم عند الإطلاق اسم العبادة لا الوقت. فَرْعٌ آخرُ قال بعض أصحابنا: نية الأداء مأمور بها في ظاهر المذهب لأن الصلاة تنقسم إلى قضاء وأداء وعلى هذا لو قال: نويت أن أصلي فريضة صلاة الوقت، ولم يقيد بالأداء لا يجوز، والتقييد بفرض الوقت لا يقوم مقامه، لأنه يتصور صلاة في الوقت وتكون قضاء، وهو إذا شرع في الصلاة ثم أفسدها ثم أراد أن يصّلي ثانيًا، فهو قضاٌء [57 ب/ 2]، ويظهر لمسألتين: أحديهما: مقيٌم شرع فيها ثم أفسدها، ثم سافر لا يقصرها. والثانية، مسافٌر نوى الإتمام، أو اقتدى بمقيم، ثم أفسدها لا يجوز له القصر فلو لم يكن قضاء لا يلزمه الإتمام، لأن القصر جاز للمسافر بلا خلاف. فَرْعٌ آخرُ لو قال: على ما ذكرنا أقضي صلاة فريضة الوقت، فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأن بين القضاء والأداء اختلافًا في الحكم، فإن لم يكن في الفعل فلا بدّ من التمييز. وظاهر نصّ الشافعي: يجوز لأن القضاء يعّبر عنه بالأداء في قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ} [الجمعة: 10] الآية، أراد: أديت. وقيل: العبارات على ثلاثة أضرب: أحدها: ما يكفي فيه نية الفعل فقط، وهو الحّج والعمرة والطهارة. والثاني: ما يكفي فيه الفعل والفرض من غير تعيين، وهو الزكاة والكفارة. والثالث: ما يفتقر إلى نية الفعل والفرض والتعيين، وهو الصلاة ونحوها، وبماذا يحصل بأدائها بهذه الثلاثة؟. قال أبو إسحق: بأن ينوي ثلاثة أشياء. وقال ابن أبي هريرة: يحصل بأن ينوي شيئين. وأما نية استقبال القبلة لا يشترط بل إذا علم قبل التكبير أنه مستقل القبلة كفاه، ولا يجوز أن يعتقد أنه غير مستقبل لها. وقيل: نية الاستقبال شرٌط، وليس بشيء، ونية أعداد الركعات لا يشترط. وقال بعض أصحابنا بخراسان: تستحبّ. وفيه نظٌر. وأما في الفائتة. قال بعض أصحابنا: يحتاج أن ينوي أربعة أشياء: الفعل، والفرض، والتعيين، والفوات ليتميز من

الأداء. نصّ عليه في (الأم)، وهذا اختيار أبي حامد. وقال القاضي الطبري: هذا خلاف نصّ الشافعي؛ لأنه قال: ولو صلّى في يوم غيم ثّم بان أنه صلّى بعد الوقت أجزأه، وإن لم يكن نوى الفائتة. وهذا قال في الأسير: إذا تحرى صوم رمضان فبان أنه صام شوالًا أجزأه، ولم ينِو القضاء، وكذلك لو اعتقد [58 أ/ 2] أن وقت الصلاة فات فنوى القضاء، ثم بان أن الوقت ما فات أجزأه فبان أن نية القضاء والأداء لا تجب. ويمكن أن يجاب عن هذا فنقول: ههنا نوى صلاة وقت بعينه، وهو ظهر هذا اليوم، فكيف وقعت أجزأته سواًء وقعت أداًء؛ أو قضاًء، لأنه غير وقت وجوبها وجرى مجرى من نوى صلاة أمس تجزئه، وإن لم ينِو القضاء، وإنما يتصور الخلاف فيمن كانت عليه فائتة الظهر، فصلّى في وقت الظهر ينوي صلاة الظهر الفريضة، فإن هذه الصلاة تقع بحكم الوقت، فإن نسي أنه صلاها، فصلّى ثانيًا ينوي صلاة الظهر الفريضة على ما ذكره أبو حاحد لا تجزئه عن القضاء، وتقع نافلًة وعلى ما قاله القاضي تجزيه، ويلزمه أن يقول فيمن صلّى الظهر قبل الوقت معتقدًا أن الوقت قد دخل ولم يكن قد دخل أنها ُتجزئه عن فائتة الظهر. وفي هذا نظٌر، لأنه إذا اعتقد دخول الوقت فقد عين ظهر ذلك اليوم، فلا يلزمه هذا. وأما من صلّى في غير وقت الظهر ونوى الظهر الفريضة، وهو عالم بالوقت، فلا بدّ أن يكون عالمًا بسبب الوجوب، وهو فوات الظهر في وقتها فقد تضمنت نيته القضاء ومثل ما صورناه في الصلاة لا يتصور في الصوم، لأنه لا يقضيه إلا في غير زمانه، فإذا نواه عن رمضان فقد تضمن نية القضاء، ووجه قول أبي حامد أنه لم ينِو بهذه الصلاة الظهر التي تركها، فلا تجزئه كما لو لم ينو الظهر. ووجه القول الآخر أنه أتي في قضائها ما كان لزمه في الأداء فأجزأه، كسائر الأفعال ذكره صاحب (الشامل)، وما قاله القاضي أصح عندي، وإن كان يصّلي جماعة فنية الإقتداء شرط ليحوز فضيلة الجماعة، وكذلك نية الإمامة شرط إن أراد حيازة فضيلة الجماعة. فَرْعٌ إذا لم ينِو الجماعة هل تصح صلاته منفردًا؟ فيه وجهان! [58 ب/ 2] أحدهما: يصحّ لأنه أتى بجميع أركانها. والثاني: لا يصحّ لأنه ينتظر في أركانها من ليس بإماٍم له فيبطلها. فَرْعٌ آخرُ إذا لم ينِو الإمامة، هل تكون صلاته جماعة؟ وجهان: أحدهما: لا تكون. والثاني: تكون، لأن سبب الفضيلة اجتماع القوم على العبادة، ولهذا تزداد الفضيلة بزيادة الجماعة، وإن لم يكن للإمام ولا لأحد المأمومين قصد فيه تظهر فائدته إذا لم ينِو الإمامة في صلاة الجمعة، فإن قلنا: صلاته جماعة تصحّ جمعته، وإن قلنا: صلاته انفراد لا تصحّ جمعته.

فَرْعٌ آخرُ قال بعض أصحابنا: يشترط في الجمعة شرطان زائدان نية الاقتداء وتقييد النية بما يتميز عن الظهر الذي هو فرض الوقت في سائر الأيام بأن يقول: أصّلي صلاة الجمعة فرض الوقت، أو يقول: الصلاة المفروضة ركعتين، ونية القصر عند الافتتاح شرٌط ليجوز له القصر. وأما صلاة النافلة، فعلى ضربين: مقيدة وغير مقيدة، فالمقيدة كصلاة العيدين والخسوف والكسوف، وصلاة الاستسقاء وقيام رمضان والوتر وركعتي الفجر، فهذه الصلوات لا تقع إلا بنيتها، فيلزمه أن ينوي الفعل، والتقييد. وأما غير المقيدة مثل صلاة الليل وسائر النوافل يكفيه أن ينوي الفعل فقط. ومن أصحابنا من قال في النوافل الراتبة في الصلوات الخمس يلزم التقييد، وهذا َاقَيُس عندي وليس بمشهور. ومن أصحابنا من قال: في جمع النوافل المرتبة مع الفرائض سوى ركعتي الفجر يكفيه نية الفعل، لأن فعلها قبل الفريضة وبعدها يغني عن تقييدها وتخالف ركعتي الفجر، لأنها تقع سابقة للصلاة في أول طلوع الفجر، وإن صلّى الفريضة في آخره، ويصليها بعد الفريضة أيضًا إذا تركها، وهذا ضعيٌف عندي، لأن النوافل الراتبة وسواها في هذا المعنى سواء، وهذه النوافل مزية على غيرها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سّنها وواظب على فعلها، فلا بدّ من تعيينها. وأما وقت النية [59 أ/ 2] في الإحرام لا قبله ولا بعده، فيحتاج أن تكون نيته مقارنة لجميع التكبير، ولو قدمها واستصحبها إلى حال التكبير جاز، والحكم للنية المقارنة، ولو أتى بتمام النية مع ابتداء التكبير واستصحبها إلى آخره أجزأه، وإن لم يستصحب ذكرها إلى آخر التكبير لم ُيْجِز، فإن قيل: هلّا قلتم: إنه إذا نوى مع أول جزء من التكبير أجزأه، لأنه عندكم من الصلاة كما قلتم فيمن ينوي الطهارة مع أول جزء من وجهه أجزأه؟ قلنا: لأن في الطهارة كل جزء منها سقط به الفرض عن محله، فإذا نوى عن أول جزء منها أجزأه، وههنا الصلاة عقد ينعقد لجمح لفظ التكبير، وإذا أتّمه يدخل به في الصلاة وانعقدت به، فيلزمه أن لا يعري شيئًا منه عن النية. ومن أصحابنا من قال: يلزمه أن يأتي بجميع النية مع ابتداء التكبير، لأن النية لحظة، وهذا غلٌط. وأما قول الشافعي رحمه الله: (لا قبله) لم يرد به أنه لا يجوز أن ينوي قبل التكبير، بل أراد: لا ينوي قبله ويقطع قبل التكبير، وكذلك قوله: ولا بعده لم يرد أنه لا يجوز استدامة النية بعد التكبير، بل أراد: لا يجوز إنشاؤها بعد التكبير وقصد به الرّد على أبى حنيفة حيث قال: إذا نوى قبل التكبير بلحظة يجوز، وبه قال أحمد، وهذا لأن عبادات الأبدان مبنية على أن نيتها تقارن الشروع فيها، إلا في النية في الصوم للضرورة بدليل الحّج وغيره. وروى الطحاوي والكرخي عن أبي حنيفة مثل مذهبنا، وقال داود: يلزمه أن يقدم النية على التكبير لئلا يعرى جزء منها عن النية، وهذا غلٌط لأنا نوجب أن يقارن جميع النية ابتداء التكبير، فلا يخلو جٌزء منها عن النية. وقال القفال: قال المتقدمون من أصحابنا: يلزمه أن

ينوي ابتداء النية مع ابتداء التكبير وانتهائها مع انتهائه، لأن الشافعي رحمه الله، قال: (لا قبله ولا بعده)، وهذا لا يصحّ، لأن النية ليست شيئًا يمتد حتى لو فعل [59 ب/ 2] هكذا، بطلت صلاته. والأصح أن يأتي بجميع النية قبل التكبير ويستصحبها حتى يفرغ من التكبير، لأنه إنما يصير داخلًا في الصلاة بالفراغ من التكبير، وهذا صحيح موافق لما ذكرناه. فَرْعٌ آخرُ لو تراخى بعض النية عن آخر حرٍف من حروف التكبير لم تجز صلاته، ولو نوى بعض النية قبل التكبير وأتمها مع التكبير لم تجز أيضًا، ولو نوى كلها قبل التكبير وكلها مع التكبير يجوز. فَرْعٌ آخرُ إذا نوى على ما ذكرنا لا يلزمه استصحاب ذكرها إلى آخر الصلاة ولو عزبت نيته جازت صلاته لأنا لو كلفناه. ذكرها إلى آخرها أّدى إلى المشقة ويلزمه استصحاب حكمها حتى لا يغيرها، فإن َغيرها ُنِظر، فإن اعتقد أنه يقطعها أو أنه سيقطعها قبل الفراغ منها أو تفكر على أن يقطعها أم لا؟ بطلت صلاته، لأنه زالت نيته عن الُمضَّي فيها، فأشبه إذا سلم ونوى الخروج. وحكي عن أبي حنيفة رحمه الله لا تبطل قياسًا على الحّج، وهذا غلط، لأن الحج لا يقبل القطع بخلاف الصلاة، ولو قال: سأخرج إن لقيت فلانًا هل تبطل صلاته في الحال؟ وجهان، وقيل: وجه واحٌد لا تبطل. فَرْعٌ آخرُ لو نوى في الابتداء مثل هذا لم تنعقد صلاته خلافًا لأبي حنيفة، وهذا لأنه لم يقطع النية الواجبة عليه. فَرْعٌ آخرُ لو شك هل نوى الخروج منها أم لا؟ ُنِظر فإن تذكر في الحال مضى في صلاته، وإن تذّكر بعد ما انتقل من ركٍن إلى ركٍن بعد الشك بطلت صلاته لأن العمل الذي يأتي به في حال الشك لا يحسب، ولو شاك هل دخلها بنية صحيحة أم لا؟ فإن ذكر قبل أن ُيْحِدث عملًا جاز، والعمل مثل القراءة، أو الركوع أو السجود، وإن ذكر بعد أن طال الأمر، وبعد أن عمل شيئًا من هذا بطلت صلاته، فإن قيل: وإن لم يعمل عملًا فهو متلبٌس بالصلاة، وقد مضى جزء منها مع الشك في النية فوجب أن تبطل، قلنا: ذلك الجزء لو حلّت منه الصلاة لجاز بخلاف الأفعال التي ذكرناها، فعفي عن الشك فيه. فإن قيل: َأَلْيَس لو شّك المسافر أنه نوى القصر أو الإتمام وطال الفصل، ثم تذّكر [60 أ/ 2] فصلاته جائٌزة، ويلزمه الإتماُم، وإن تذّكر في الحال، يلزمه الإتمام أيضًا، فما الفرق؟ قلنا: الفرق أن ما مضى في حال الشّك محسوب من صلاته، ولكن إتمامًا لا قصرًا، وإذا لزم الإتمام في جزء لزم في الكل كما لو نوى الإتمام قبيل التسليم،

فلهذا لم يُجز القصر وههنا ذلك القدر لم يحسب من صلاته فُجعل كأن لم يكن ثم جازت صلاته حين لم يبطل الفصل، فلهذا لم نبطلها. فَرْعٌ آخرُ لو عزبت نيته عن الصلاة التي هو فيها، فاعتقد أنه في غيرها كالفائتة أو صلاة الوقت، ثم ذكر التي دخل بها. قال في (الأم): لا يجزئه ما انتقل إليه، وقال أبو حامد: لا يجزئه ما انتقل عنه، وإن كان ساهيًا وإن تذكر ذلك، وهو في الصلاة. سمعت بعض أصحابنا يقول: يعيد ما أدّى بالنّية الثانية ويسجد للسهو، وإن طال مثل أن يصلي ركعتين من الظهر بنية الظهر، ثم صلّى ركعتين منه بنية العصر، ثم تذّكر يعيد ركعتين بنية الظهر، وهذا صحح عندي. فَرْعٌ آخرُ لو غّير النية إلى غيرها عمدًا، فإن كان إلى فريضة أخرى لم تجز كلتاهما، لأن الصلاة الأولى بطلت بقطع نيتها ولم يصحّ الصلاة الثانية، لأنه لم ينوها من أول صلاته، وكذلك لو صرفها من القضاء إلى الأداء أو من الأداء إلى القضاء. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل تبطل، أو تصير نفلًا؟ قولان، وليس بمشهور. فَرْعٌ آخرُ لو غيرها إلى نفٍل قال في (الأم): لا يجوز، وقال في باب اختلاف نية المأموم والإمام، ومن أحرم في مسجد أو غيره، ثم جاء الإمام فتقّدم بجماعة، فأحّب أن يكمل ركعتين تكونان له نافلًة. فالمسألة على قولين: أحدهما، لا يجوز، لأنه لم ينو النفل في جميع الصلاة، وهذا أصح. والثاني، يجوز، لأن نية النفل دخلت في نية الفرض، وهو نية الصلاة، فقد حصلت نية النفل في جميع الصلاة ألا ترى أن من نوى صلاة قبل دخول وقتها انعقدت نافلًة لوجود نية النفل [60 ب/ 2] في نّية الفرض؟ ومن أصحابنا من قال: قوٌل واحٌد، أنه لا يجوز. وقوله: تكونان له نافلًة إنما أجاز لفرٍض صحيح، وهو أن يحصل له الجماعة في الفرضية، فإذا لم يكن هذا الفرض فلا يجوز، ولأن الشافعي قال: تكونان له نافلة بفعله شرعًا لا بتعين نيته ولو نقلها إلى نافلٍة معنيٍة كركعتي الفجر ونحوهما لا تجوز قولًا واحدًا. فَرْعٌ آخرُ قال القفّال: وكذلك لو أن مريضًا كان يصلي بقوم فوجد قوة القيام عليه أن يقوم، فإن لم يفعل، قال الشافعي: بطلت صلاته، وكذلك صلاة من خلفه وعلم بحاله. وقال: قال أصحابنا، هل تبطل أو تصير نفلًا؟ قولان. وكذلك لو كبرّ للفرض قاعدًا مع

القدرة على القيام وأحرم بالظهر قبل الزوال مع العلم. قال: وعلى هذا لو أحرم بالحج قل أشهر الحج، هل يبطل أو ينعقد عمرًة؟ قولان. فَرْعٌ آخرُ لو شرع في الجمعة بنية الظهر لم َيُحز، ولو شرع في الظهر بنية الجمعة، قال القفال: فيه وجهان بناًء على أنها ظهٌر مقصورٌة أو فرض مبتدأ، وفيه قولان. فَرْعٌ آخرُ لو كان في نافٍلة فنقلها إلى فريضٍة لم تجز التي انتقل عنها، ولا التي انتقل إليها، والفرق بين هذه المسألة وبين التي قبلها على أحد القولين، أن نية الصلاة تكفي للنفل، فإذا ترك ما زاد على هذه النية لا يمنع أن يكون نفلًا محسوبًا بخلاف الفرض، فإنه لا يجوز إلا بنية معينة في ابتدائه. فَرْعٌ آخرُ قال في (الأم): (إذا فاتته صلاة لا يدري أهي الظهر أم العصر أو غيرها، فكبر ينوي الصلاة الفائتة لم تجزءه لأنه لم يقصد الفائتة قصد صلاٍة بعينها). وهذا صحح، ويلزمه أن يأتي بالصلوات الخمس، وقال المزني رحمه الله: القياس عندي، والله أعلم. أنه يجزئه أربع ركعات ينوي بها ما عليه يجهر في الأوليين ثم يجلس بعد الثالثة أيضًا، فإن كانت عليه الصبح فقد صلاها وزاد فيها ركعتين على وجه الشك والنسيان، [61 أ/ 2] فتجري مجرى من صلّى الصبح أربعًا، ناسيًا فإنها تجزئه وتسقط، الزيادة وإن كانت مغربًا، فقد زاد ركعًة بعد أن تشهد لها التشهد الأخير على وجه السهو كما ذكرنا، وإن كانت ظهرًا، أو عصرًا، أو عشاًء فقد أتى بها وزاد تشهدًا احتياطًا كمن شّك في صلاته فأتى بركعٍة زائدٍة وجهر بالقراءة فلا تضر صلاته وإنما أمره بالجهر، لأن الجهر في ثلاث صلوات من الخمس وذلك أكثرها قال المزني: وهو كما لو كان عليه كّفارة ولم يعلم من أي جهة أجزأه أن يعتق رقبة ينوي بها الكفارة كذلك ههنا، وهذا غلط، لأنه بتعيين النية وتعيينها واجٌب في الأداِء فلم يجز تركها في القضاء، ويفارق الكفارة لأن تعيينها لا يجب في الأداء، فلم يجب في القضاء، وأما تشبيهه سهوًا، لا يصحّ لان ذلك يقع، ولا يمكن الاحتراز منه، لأنا نأمن مثله في القضاء وههنا يمكن الاحتراز بأن يأتي جميع الصلوات الخمس فيلزمه ذلك. فَرْعٌ قال في (الأم): (ولو فاتته الظهر والعصر، فدخل في الصلاة ينوي بها الظهر والعصر لم يجزه) لأن تشريكه بين الصلاتين يمنع وقوع التعيين بأحدهما. وقال أيضًا: لو دخل نّيته أحديهما ثم شك فلم يدِر آيتهما نوى لم يجزئه على يقين من التي نواها.

فَرْعٌ آخرُ لو كبرّ لافتتاح الصلاة ثم كبر مرًة أخرى، قال صاحب (التلخيص): بطلت صلاته، فإن كبرّ ثالثة جاز فإن كبرّ رابعة بطلت. قال أصحابنا: هذا بشرطين: أحدهما: أن يقصد محل تكبيرة الافتتاح. والثاني: أن لا ينوي الخروج من الصلاة قبل التكبير الثاني فإن نوى ذلك صّح خروجه ثم إذا كبرّ الثانية صّح افتتاحه. فَرْعٌ آخرُ قال والدي رحمه الله: لو صلّى أرع ركعاٍت ظهرًا بنية الفاقة ولم يعلم أن عليه ذلك ثم علم أنه كان عليه ذلك هل يجوز عن فرضه الفائت؟ ينبغي أنه يجوز [61 ب/ 2] لأّن بالإجماع لو صلّى الظهر وفرغ منه، ثم شّك في بعض فرائضه يستحب له الإعادة بنية الفرض، فلولا أن الأولى إذا تبين فساده تقع الثانية عن فرضه، لم يكن للإعادة معنًى، وبان ذلك أن شّكه في وجوبه عليه لا يمنع صحة فعله، وقد صّح أيضًا أن من نسي صلاة من خمس صلوات يؤديها كلها، وفي كل صلاة منها لا يعلم أنها واجبة عليه بنيتها، فبان بهذا أن هذه المعرفة لا تكون شرطًا، إنما يؤديه من الصلوات. مَسْألةٌ: قال: (ولا يجزئه إلا قوله: الله أكبر، أو الله أكبر)، وهذا كما قال. اختلف العلماء فيما تنعقد به الصلاة على خمسة مذاهب، فعندنا لا تنعقد إلا بالتكبير مع القدرة، والتكبير قوله: الله أكبر لا غير ونقل المزني رحمه الله لا تنعقد إلا بقوله؛ الله أكبر، أو الله الأكبر، وهو عبارة عامة أصحابنا، وص غلٌط لأن الشافعي رحمه الله نصّ في (الأم): إذا قال: الله الأكبر، انعقدت صلاته بما فيه من قوله: الله أكبر، والألف واللام زيادتان لا ُيخلان بالمعنى ولا تنعقد بما عدا هذا من الألفاظ. وبه قال ابن مسعود، وطاوس، والثوري، وداود، وإسحاق رحمهم الله، وقال مالك وأحمد رحمهما الله: لا تنعقد إلا بقوله: الله أكبر، ولو قال: الله الأكبر لا تجوز صلاته. وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله تنعقد بكل اسم لله تعالى علي وجه التعظيم كقوله: الله العظيم أو الجليل، وبقوله: الحمد لله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، ولو قال: الله أو الرحمن من غير وصٍف، فيه روايتان. روى الحسن بن زياد: أنه يجوز، وظاهر رواية الأصول أنه لا يجوز من دون ذكر الصفة ووافقنا أنه لو قال: على وجه النداء: يا الله، لم تنعقد. وبه قال النخعي، والحكم، وروى ابن شجاع عن أبي حنيفة أنه قال: أكره أن تنعقد الصلاة بغير قوله: [62 أ/ 2] الله أكبر. وقال أبو يوسف: تنعقد بلفظ التكبير خاصة، فلو قال: الله الكبير أجزأه، ولا تنعقد بما عداه.

وقال الزهري: تنعقد بمجرد النية من غير لفٍظ، وهذا غلط لقوله - صلى الله عليه وسلم - (مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسلم)، فدّل على أنها لا تنعقد بغير التكبير. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الطهور مواضعه)، الخبر إلى أن قال: (ثم يستقبل القبلة، فيقول: الله أكبر)، لأن في قوله: الله أكبر معنى العِظم والقِدم قبل كّل شيء، وهذا لا يحصل بغير هذا اللفظ. واحتّج مالك رحمه الله بأنه عدل عن قوله: الله أكبر، فلا يجوز، قلنا: قوله: الله الأكبر لم يتغير عن نيته ومعناه؛ لأن لام التعريف الزائدة لا تنقص معناه بل تفيد التعريف كقول القائل رجل، والرجل فجرئ مجرى قوله: الله أكبر كبيرًا ونحو ذلك. واحتّج الزهري، بأنه يكفي للشروع في العبادة النية كما في الحّج والصوم. قلنا في الأصل: لا يجب النطق في الانتهاء، فلا يجب النطق في الأول بخلاف الصلاة. فَرْعٌ آخرُ قال في (الأم): (لو قال: الله أكبر من كل شيء وأعظم، واش أكبر كبيرًا فقد كبرّ وزاد شيئًا، فهو داخل في الصلاة بالتكبير والزيادة نافلٌة) كما لو أتى بالقدر الواجب من القراءة وزاد عليها. وروى جبير بن مطعم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل في الصلاة، وقال: والله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، الله أكبر كبيرًا، والحمد هـ كثيرًا، وسبحان الله بكرة وأصيلًا، اللهم إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه، ونفخه ونفثه). قال عمرو بن مرة راويه: همزه: الموتة، ونفخه: الكبر، ونفثه: الشعر. فَرْعٌ آخرُ لو أتى من ذكر الله تعالى بين التكبير شيئًا من صفات الله تعالى ومدحه كقوله: الله، لا إله إلا هو أكبر، أو الله عز وجل أكبر، أجزأه، ولكنه لا يستحب، وإن كان طويلًا بحيث يجعل بين الذكرين [62 ب/ 2] مفصولًا، مثل قوله: الله لا إله إلا هو، وحده لا شريك له أكبر، لا يجوز، لأنه خرج عن حّد التكبير إلى الثناء والتهليل، ذكره في (الحاوي). فَرْعٌ آخرُ لو نقص من التكبير حرفً لم يكن داخلًا في الصلاة إلا بكمال التكبير، قال: ولو

أبقى من التكبير حرفًا، فأتى به، وهو راكٌع، أو منحٍن، ولم ينطق بالراء إلا راكعًا، لم يكن داخلًا في الصلاة المكتوبة، وكان داخلًا في النافلة، لأن القيام في التكبير للمكتوبة واجٌب، وغير واجٍب للنافلة، وإذا أتم التكبير للنافلة، وقد زال عن حّد القيام أجزأه. وهذه المسألة تتصور في المأموم إذا أدرك المأموم الإمام راكعًا فكبرّ ودخل معه في الركوع. فَرْعٌ آخرُ التكبير عندنا من الصلاة، وهو أول الصلاة. نصّ عليه في (الإملاء). وقال بعض أصحابنا: التكبير أول الصلاة، وبالفراغ منه يدخل فيها، وهذا غير صحيح بل يجب أن يدخل في الصلاة بأول التكبير مع النية حتى يصحّ قولنا: التكبيرتين من الصلاة. وقال أبو حنيفة رحمه الله: ما يدّل على أنه ليس من الصلاة، بل يشرع به في الصلاة، وهذا غلٌط لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (تحريمها التكبير)، ولأن العبادة إذا افتتحت بالتكبير كان منها كالأذان. فَرْعٌ آخرُ لو قال: الكبير الله، قال في (الأم): لم أره داخلًا في الصلاة ولا يختلف المذهب فيه، ولو قال: الأكبر الله، أو أكبر الله، هل تنعقد صلاته؟. اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: تنعقد لأن تقديم النعت على الاسم أبلغ في التعظيم، لأن قوله: فلاٌن أكبر دون قوله: الأكبر فلاٌن، قال هذا القائل، وهذا هو المذهب، لأن الشافعي رحمه الله فرض المسألة فيه إذا قال: الكبير الله، فلو كان قوله: أكبر الله، لا يجوز لكان يفرض فيه المسألة، لأنه موضع الإشكال. وقال ابن سريج وغيره من أصحابنا: لا يجوز، وهذا أشبه بمذهب الشافعي في (الأم)، لأنه قال: وكذلك ما أمر به من ذكٍر أو قراءة لا يجزيه حتى يأتي به مرتبًا، كما أنزل، وهذا إنما يرجع إلى قوله: أكبر الله، لأنه إذا رتبه جاز، [63 أ/ 2] فإذا نكسته لا يجوز. وفي قوله: الكبير الله لو أتى به مرتبًا لا يجوز. وقال في (الحاوي): في الأكبر الله، وجهان. وفي أكبر الله لا يجوز قولًا واحدًا، لأنه لا يكون كلامًا مفهومًا، والأصح أنه لا يجوز ذلك أيضًا، لأنه أوقع الإلباس. وأخرجه من صفة الكبير. وقال بعض أصحابنا بخراسان: نصّ ههنا أنه لا يجوز ونص في السلام على أنه لو قال. عليكم السلام، بدل قوله: السلام عليكم، يجوز، فقيل: قولان. وقيل: فرق بينهما، وهو أنه في السلام يسّمى مسلمًا، إذا عكس ولا يسمى مكبرًا، وفي هذا النص الصريح نظٌر.

فَرْعٌ آخرُ قال: وأحّب أن يجهر الإمام بالتكبير وبنيته ولا يمططه ولا يحذفه. والسنة للمأموم أن يخفيه بقدر ما يسمع نفسه، أو من إلى جانبه إن شاء، فإن خافَت الإمام بها جاز وإن خافتا بها معًا، أو أحدهما، فإنه يجزئ بقدر ما يسمع نفسه، فإن حرك لسانه على صفة لا يسمع لم يجزئه كما لو اعتقد بقلبه. قال أصحابنا: فإن كان الجمع كثيرًا، فلا بأس أن يجهر عدد منهم يسمع جميعهم. فَرْعٌ آخرُ إذا أمت المرأة النساء، فإنها تخفض صوتها بالتكبير حتى لا تجاوزهن، وتخالف الرجل فإنا نستحب له أن يجهر بالتكبير، وإن جاوز من خلفه، وإن كانت تصلي فرادى، فالسنة الإخفات، وهو أن تسمع نفسها فقط. فَرْعٌ آخرُ لو كان لا يقدر على النطق لخرٍس أو قطع لساٍن أو علٍة ففرُضه حركة لسانه به أكثر ما يقدر عليه، وبالقراءة والتشهد وأذكار الصلاة، لأنه إذا عجز عن النطق أتى بما قدر عليه من الحركة، فإن النطق يتضمن الحركة. فَرْعٌ آخرُ قال: لو صلّى ركعًة ثم ذكر أنه لم يكبرّ ابتدأ الكبير ويلغى ما مضى، ولا بأس أن يسلم أو لا يسلم، لأنه لم يكن في صلاٍة. فَرْعٌ آخرُ قال بعض أصحابنا: الَأولى في ظاهر المذهب في الافتتاح [63 ب/ 2] أن تكون بسرعٍة من غير تأني ومدًّ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (التكبير جزم والسلام جزم)، ولأن النية مع التكبير شرٌط ويخشى إذا مده أن تزول النية من قلبه. ومن أصحابنا من قال: الَأولى أن يمده ويأتي به على ترتيل، وهذا على طريقة من يبتدئ النية مع ابتداء التكبير فيمد التكبير حتى تتم له النية. فَرْعٌ آخرُ قال: (لو أدرك الإمام راكعًا فكّير تكبيرة واحدة، فإن نوى بها تكبيرة الافتتاح أجزأه، لأن كان داخلًا في الصلاة، لأن نوى بها تكبيرة الركوع لم يكن داخلًا في

الصلاة ولو كبرّ لا ينوي واحدًة منهما، فليس بداخل في الصلاة، وإن كبرّ فنوى تكبيرة الافتتاح والركوع لم يجزه من المكتوبة لأنه شرك في النية بين الفرض والنفل). قال أصحابنا: هذا يدل على أنها تجزئه عن النفل، واختلف أصحابنا فيه على وجهين، فمنهم من قال: تجزئه عن النفل، لأنه نوى بها النفل، وتكون جميع الصلاة نفلًا، كما لو أخرج خمسه ينوي بها الزكاة والصدقة والتطوع يقع عن الطوع، ومنهم من قال: لا تجزئه لأن تكبيرة الافتتاح شرط في النافلة أيضًا، فقد شرك بين النافلة والفرض في الشرط، والأول أصح. فَرْعٌ آخرُ قال في (الأم): (لو أبقى من التكبيرة حرفًا وأتي به، وهو راكع أو منحٍن للركوع لم يكن داخلًا في الصلاة المكتوبة، وكان [داخلًا] في نافلٍة. قال أصحابنا; هذا إذا كان جاهلًا، فإن كان عالمًا أنه لا يجوز لا تنعقد صلاته أصلًا كما لو أحرم بالظهر قبل الزوال عالمًا لا تنعقد فرضًا، ولا نفلًا. وقال القفال: فيه قولان، وفيه نظٌر. مسألة: قال: (فِان لم يحسن بالعربية كبر بلسانه). وهذا كما قال: أراد بقوله: بلسانه أي بغير العربية، وليس من شرطه أن يكون لسانه، بل يجوز أن يكبرّ بجميع الألسنة وجملته [64 أ/ 2] أنه لا يجوز أن يكبرّ بغير العربية مع القدرة بحاٍل، وبه قال أبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز ذلك، وهذا غلٌط، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خّص قوله: (الله أكبر)، فإن قيل: أجزتم كلمة التوحيد بلسانه مع القدرة على العربية، وههنا لا تجوزون، فما الفرق؟ قلنا: من أصحابنا من قال: لا تجوز هناك أيضًا، وهو اختيار الإصطخري، وإن سلمنا، وهو المذهب. فالفرق أن المقصود من التوحيد الاعتقاد، فبأي لفظ عّبر عن اعتقاده حكمنا بإسلامه. وههنا القصد اللفظ دون الاعتقاد، فلا يجوز العدول عن اللفظ الذي ورد به الشرع إلى غيره مع القدرة، ولو عجز عن العربية ُنظر، فإن كان الوقت واسعًا يمكنه أن يتعلم ويكبرّ بالعربية، ففرضه العربية، ولو توانى فيه وصلى بالتكبير بالفارسية يلزمه الإعادة، وإن كان الوقت ضيقًا عن التعلم يجوز له أن يكبرّ بالفارسية، فيقول: (خذاء يزر كنز)، ولا يقتصر على التعظيم من غير حرف التفضيل حتى يكون معبرًا بقوله: الله أكبر، فإن قيل: هلّا قلتم: يجوز أن يكبرّ بالعجمية في الوقت الأول، ولا يلزمه تأخير الصلاة للتعليم، كما قلتم: يجوز له أداُء الصلاة بالتيمم في أول الوقت، وإن تيقن وجود الماء في آخره؟. قلنا: لأنا لو جوزنا ذلك، لم يتوجه عليه فرض التكبير بالعربية جملًة. وذلك لأنه إذا صلّى لا يلزمه التعليم في هذا الوقت، وفي الوقت الثاني مثله، ويفارق الماء لأن

وجوده لا يتعلق بفعله، فإن قيل: قلتم: لا يجوز قراءة القرآن بالفارسية، وإن كان عاجزًا وههنا جوزتم بالفارسية عند العجز، فما الفرق؟ قلنا: الفرق أن القرآن ُمعِجز، ومعناه لا يكون معجزًا، فلا يكون قرآنًا ولا تجوز الصلاة بغير القرآن بخلاف هذا. فَرْعٌ لو كان لا يحسن العربية ولكنه يحسن [64 ب/ 2] الفارسية والسريانية، فيه ثلاثة أوجٍه: أحدها: يكبرّ بالفارسية، لأنها أقرب اللغات إلى العربية. والثاني: بالسريانية، لأن الله تعالى أنزل بها كتابًا دون الفارسية. والثالث: بآيتهما شاء. فَرْعٌ آخرُ لو كان يحسن الفارسية والتركية، فيه وجهان: أحدهما: يكبرّ بالفارسية لأنها أقرب. والثاني: الخيار إليه فيهما، ولو كان يحسن السريانية والنبطية، فيه وجهان: أحدهما: يكبرّ السريانية. والثاني: أنه بالخيار فيهما، ولو كان يحسن بالتركية والهندية كان بالخيار وجهًا واحدًا. فَرْعٌ آخرُ قال الشافعي رحمه الله: (وكذلك الذكر)، وأراد به أن كل ذكٍر في الصلاة من التسبيح والتشهد والتعوذ وغيرها كالتكبير في اعتبار لفظ العربية فيه، وفسره في (الأم)، فقال: التكبير والتشهد إلا القرآن. وقيل: أراد به كل ذكٍر في الصلاة من التسبيح والدعوات والتشهد والتعوذ سوى القراءة بمنزلة التكبير لا فرق بينهما في جوازها بالفارسية عند العجز، وهذا لأنا لو كلفناه بالعربية أدى إلى فوات الوقت، أو الذكر المشروع فيها. قال الشافعي: وعليه أن يتعلّم، وهذا لأن الأذكار المشروطة فيها يسيرة المؤنة على المتعلم فيلزمه كما يلزمه شري الماء للطهارة والثوب للستر. وقال في (الحاوي): كل ذكٍر واجٍب، كالشهد والسلام لا يجوز بالفارسية مع حسنه بالعربية وكل ذكر مستحب كالتسبيح والتوحيد يجوز بالفارسية، إن كان يحسن العربية ولكنه أساء وإذا لم يحسن العربية يجوزها بالفارسية وهذا غريب، وهذا لأنه ليس من جنس العجز، ولم يتعين له لغٌة حتى يأتي بأي لفظٍة من العربية، أراد فلا تتعين فيه لغةُ العرب

بخلاف التشهد، فإنه يتعين فيه لغة العرب، والأول اختيار القفال رحمه الله، لأنه لم َيِرد في الخبر إلا بالعربية. وقيل: عند العجز، هل يجوز له الترجمة؟ وجهان، لأنه لا حاجة إليه فيتركها حش يتعلّم. فَرْعٌ آخرُ إذا لم يعلم بالعربية [65 أ/ 2] ليس عليه أن ينتقل إلى بلٍد آخر ليجد من يعلمه كما إذا عدم الماء في موضعه ليس عليه أن ينتقل إلى بلد الماء وعليه أن يطلب من يعلمه في بلده كما يلزمه طلب الماء في موضعه. مسألة: قال: (ولا يكبر ان كان إمامًا حتى تستوي الصفوف خلفه). وهذا كما قال: المستحب للإمام إذا أراد أن يكبرّ أن يلتفت يمينًا وشمالًا، ويقول: استووا، رحمكم الله، عن اليمين والشمال، فإذا رآهم قد استووا كبرّ. والأصل في هذا ما روى أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قام إلى الصلاة، قال هكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله: (استووا تعادلوا)، وروى أبو مسعود البدري رضي الله عنه، قال: كان رسول - صلى الله عليه وسلم - يمسح مناكبنا في الصلاة، ويقول: (استووا ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم)، ومعناه أنه إذا اخلف القوم فتقدم بعضهم على بعٍض تغّير قلب بعضهم على بعض، وذهب عن الصلاة. وروى أنس رضي الله عنه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (سوّوا صفوفكم، فإن تسوية الصف من تمام الصلاة). وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (لتسّوون صفوفكم أو ليخالفن الله بين قلوبكما). وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال؛ (استووا في صلواتكم ولو ِبَسهم). وروى البراء بن عازٍب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أقيمت الصلاة مسح صدورنا، وقال: (تراصّوا، المناكب بالمناكب، والأقدام بالإقدام، فإن الله يُحب في الصلاة ما يحُب في القتال كأنهم بنيان مرصوص). وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يأمر قومًا بتسوية الصفوف، فإذا رجعوا إليه كبرّ. فإذا تقرر هذا، فالإمام والمأموم يقومون إذا فرغ المؤذن من الإقامة. وبه قال مالٌك وأحمد وإسحق وأبو يوسف رحمهم الله، وعلى هذا أهل الحرمين، ثم يقول: استووا.

وقال بعض أصحابنا بخراسان: يسوي الصفوف في آخر الإقامة حتى إذا فرغ [65 ب/ 2] من الإقامة كبرّ، وهذا خلاف المنصوص. وقال أبو حنيفة والثوري: إذا قال المؤذن: حّي على الصلاة، قاموا في الصف، ويقول: استووا، فإذا قال: قد قات الصلاة، كبرّ الإمام وكبرّ القوم تصديقًا لقول المؤذن، قد قامت الصلاة، إلّا أن يكون المؤذن الإمام، فلا وجه إلا أن يفرغ، ثم يكبرّ، وهذا غلط لما روى أبو إمامة رضي الله عنه أن بلالًا أخذ بالإقامة، فلما قال: قد قامت الصلاة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (أقامها الله، وأدامها)، وقال في سائر الإقامة مثل ما قال. وقول المؤذن: قد قامت الصلاة، أي: قرب قيامها. فَرْعٌ قال: ولا يكبرّ المأموم حتى يفرغ الإمام، وبه قال مالك وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة والثوري ومحمد: يكبرّ مع تكبيرة الإمام كما يركع مع ركوعه، وهذا غلٌط لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبرّ فكبرّوا)، وأما الركوع فلأنه لا يجوز أن يأتي به بعد فراغه بخلاف هذا. فَرْعٌ آخرُ لو سبق المأموم الإمام بالتكبير نقضه، ثم يستأنف التكبير. وحكي عن مالك والثوري أنه يعتّد بتكبيره. قال أصحابنا: هذا يدل على أن عند الشافعي انعقدت صلاته حتى يحتاج إلى قطعها، وهذا إذا اعتقد أنه كبرّ، ولم يكن كبرّ، فأنا إذا علم أنه لم يكن كبرّ، فكبر بنية الاقتداء به لا تنعقد، لأنه ائتم بمن ليس في الصلاة، ويحتمل قولًا آخر أنه يضمها إلى صلاة الإمام إذا حكمنا بانعقادها لأنه يجوز أن يضم المفرد صلاته إلى صلاة الإمام في أحد القولين. مسألة: قال: (ويرفع يديه إذا كبر خذو منكبيه) وهذا كما قال. رفع اليدين مستحب حال التكبير في ابتداء الصلاة لما روى ابن عمر رضي الله عنه، قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا افتتح الصلاة يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه). وأما كيفية الرفع فهي أن يرفعهما حتى يحاذي كفاه منكبيه [66 أ/ 2]. وبه قال مالٌك وأحمُد وإسحُق، وقال أبو حنيفة والثوري رحمهما الله: يرفعهما حتى يحاذي كفاه أذنيه، وهو معنى قوله: يرفعهما إلى فروع الأذنين، وهذا غلٌط لما روى ابن عمر رضي الله عنه، قال: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا افتتح الصلاة يرفع يديه حذو منكبيه)،

ورواه علي بن أبي طالب وأبو هريرة وأبو حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنه واحتجوا بما روى مالكٌ بن الحويرث ووائل بن حجٍر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان يرفع يديه حيالَ أذنيه)، قلنا: رواية الجماعة أولى أو يحمل هذا على أن أطراف الأصابع كانت تبلغ الأذنين وقيل: أن الشافعي رضي الله عنه لما قدم العراق قدم عليه العلماء مثل: أبي ثور والحسين الكرابيسي وغيرهما، فسألهم عن الجمع بين أخبار رفع اليدين، فلم يذكروا شيئًا، فقال: إني أرى أن تكون كفاه حذو المنكبين، ورأس إبهامه عند أصل الآذنين ورؤوس أصابعه عند فروع الأذنين، فاستحسنوا ذلك، فعلى هذا يرتفع الخلاف. وقال ابن سريج: الرفع إلى المنكبين أو إلى الأذنين من الاختلاف المباح، وليس أحدهما أولى من الآخر. فَرْعٌ قال في (الأم): ويثبتهما مرفوعتين حتى يفرغ من التكبير، وجملة ذلك أنه إذا أراد أن يكبرّ أسبل يديه، ثم رفعهما مع ابتداء التكبير، فإذا حاذى بهما منكبيه أثبتهما مرفوعتين حتى يكمل التكبير، لأن الرفع أسرع من الإتيان بالتكبير، لأنه يستحب له ترتيل التكبير والرفع يحصل في وقت يسير، ولا يمكن في هذا القدر ترتيله فعلى هذا ينتهي الرفع قبل انتهاء التكبير. وقال أبو إسحق: ينبغي أن يكون انتهاء الرفع مع انتهاء التكبير. وبه قال صاحب (الإفصاح)، وهذا خلاف نصّه، وقد بّينا دليله، وقال بعض أصحابنا بخراسان: يرفع يديه [66 ب/ 2] غير مكبرّ ويكبرّ، ثم يرسلها غير مكبرّ، وهو رواية ابن عمر رضي الله عنه. وهذا عندي غلط. فَرْعٌ آخرُ قال في (الأم): وينشر أصابع يديه إذا رفعهما للتكبير ويفرقهما، والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان ينشر أصابعه للتكبير). وذكر بعض أصحابنا أنه لا نصّ فيه، وهو سهٌو. فَرْعٌ آخرُ قال: ويرفع يديه في كل صلاة فريضة ونافلة، ولا فرق بين الإمام والمأموم. قال: وكذلك إن كان يصّلي قاعدًا لمرض به رفع يديه. قال: وإن ترك رفع اليدين حيث أم به كرهت ذلك ولا إعادة عليه ولا سجود، وهذا لأنه هيئة. قال أصحابنا وكذلك إن كان مضطجعًا أو متكئًا يأتي بالرفع في مواضعه، لأنه لا مشّقة عليه.

وأما في صلاة الجنازة يرفع يديه في كل تكبيرة وكذلك في العيدين يرفع اليدين في كل تكبيرة في حالة القيام، وصلاة الاستسقاء كالعيدين سواء في هذا وفي صلاة الخسوف الركوعان يريد الرفع فيه في الركوع والرفع من الركوع وفي سجود التلاوة والشكر يرفع يديه عند التكبير لأنها تكبيرة الافتتاح. فَرْعٌ آخرُ لو أثبت يديه مرفوعتين حتى انتهى تكبيره أو أثبتهما هكذا بعد انقضاء التكبير لم يضره، ولم يؤمر به، وهذا لأنه لو ابتدأ رفع يديه في أثناء الصلاة لم تبطل. فَرْعٌ آخرُ لو كانت بيديه علة لا يقدر على رفعهما إلى الحد الذي ذكرنا ويقدر على رفعهما دون ذلك رفعهما إلى حيث يقدر. وروى وائل بن حجر - صلى الله عليه وسلم - أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يرفعون بأيديهم إلى صدورهم وعليهم برانس وأكسية)، وتأويله أنه كان عليهم ذلك لشدة البرد، وكان يشّق عليهم رفع اليدين إلى الموضع المسنون كاشفًا. فَرْعٌ آخرُ لو كانت بيديه ِعّلة يقدر على رفعهما مجاوز المنكبين ولا يقدر على الاقتصار على حذاء المنكبين لم يدع رفعهما وإن جاوز المنكبين، [67 أ/ 2] وتلك الزيادة مغلوٌب عليها لا تضره. فَرْعٌ آخرُ لو كانت علة فقدر على أحد الرفعين: إما فوق المكبين أو دون المنكبين ليأتي بالمأمور زيادة من غير اختياره. فَرْعٌ آخرُ لو كانت إحدى اليدين صحيحة والأخرى عليلة، صنع بالعليلة ما وصفنا، واقتصر الصحيحة على حذو المنكب. فَرْعٌ آخرُ لو أغفل الرفع في موضعه ثم ذكره فإن ذكره قبل انقضاء التكبير أتى به وإن ذكره بعد انقضاء التكبير لم يأِت به، لأن هيئته في وقت فإذا مضى لم يوضع في غيره. مسألة: قال: (ويأخُذ كوعه الأيَسَر بكفيه اليمنى). الفَصْل وهذا كما قال. جملة هذا أن وضع اليمين على الشمال ُسّنٌة في الصلاة بعد الفراغ من الرفع، وبه قال أبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحق وأبو ثور، ويكره إرسال اليدين في ظاهر المذهب.

وقال أبو إسحق المروزي، قال الشافعي في (الأم): (القصد منه تسكين يديه، فإن أرسلهما ولم يعبث فلا بأس)، وعن مالك روايتان: إحداهما: أنه مستحب. والثانية: أنه مباحٌ. وحكي عن مالٍك أنه قال: يضع اليمين على الشمال في نافلٍة يطول فيها القيام ولا يفعل في غيرها. وروى ابن المنذر عن ابن الزبير أنه كان يرسل يديه. وبه قالت الشيعة. وروي ذلك عن الحسن وابن سيرين والنخعي. وقال الليث: يرسل يديه إلا أن يطيل القيام فٌيْعِل. وقال الأوزاعي من شاء فعل، ومن شاء ترك، وهذا غلط لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنا معاشر الأنبياء أمرنا أن نؤخر السحور ونعجل الإفطار، وأن نمسك أيماننا على شمائلنا في الصلاة). وروى أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (ثلاث من سنن المرسلين: تعجيل الإفطار وتأخير السحور ووضع اليمنى على الشمال في الصلاة. وروي أنه لما نزل قوله تعالى [67 ب/ 2]: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2]، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لجبريل - عليه السلام -: (ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟، فقال: ليست هذه من نحائركم إنما هو وضع اليمين على الشمال في الصلاة). وروى عقبة بن ظبيان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ هذه الآية: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ}، فوضع يده اليمنى على ساعده اليسرى، ثم وضعهما على صدره. وروى أبو عثمان النهدي عن ابن مسعود رضي الله عنه (أنه كان يصلي فوضع يده اليسرى على اليمنى فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده اليمنى على اليسرى)، ولأن هذا أعون على خشوعه، وأتّم لخضوعه، فإذا تقرر هذا، كيف يصنع ذلك؟ فالسّنة أن يضع يده اليمنى على ظهر كّفه اليسرى، والرسغ والساعد ويأخذ كوعه الأيسر هكذا. رواه وائل بن حجر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل هكذا في صلاته. وقال أبو حنيفة: يضع كفه اليمنى على ظهر كّفه اليسرى من غير أخٍذ. وروي عنه أنه قال: يأخذ لرسوغه، وأما أين يضع اليدين؟ نقل المزني: ويجعلهما تحت صدره، وهو المروي عن علي رضي الله عنه. وقال أبو إسحاق: تحت سّرته، وهو قول أبى حنيفة وإسحق وعن أحمد روايتان.

وروي هذا عن أبي هريرة رضي الله عنه، ورواه أبو جحيفة عن علي رضي الله عنه أيضًا. والأول أولى لأن وضعها تحت الصدر أخشع ووضعها تحت السّرة أقرب إلى إرسالها، وأشبه به. وقيل: هذه اللفظة توجد للشافعي، فيجوز أن يكون المزني سمعها من الشافعي، أو قالها من عند نفسه، وهو حسن وهو قول إمام مثل علي رضي الله عنه. وذكر الإمام الجويني رحمه الله عن علي رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مسألة: (ثم يقول: وجهت وجهي). الفَصْل وهذا كما قال: إذا فرغ من التكبير استحب أن يبتدئ [68 أ/ 2]، فيقول: وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفًا مسلمًا وما أنا من المشركين إن صلاتي وُنُسكي وَمْحياَي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا من المسلمين، ولا يقول: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام: 163]. لأن ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه أولهم في هذه الأمة نصّ عليه. ومعنى {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ}، أي: قصدت بوجهي الله سبحانه. وقال أبو حنيفة: يستفتح بقوله: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جُّدك وجلّ ثناؤك، ولا إله غيرك. وبه قال الثوري وأحمد وإسحاق والأوزاعي. وقال أبو يوسف يقول معه: وجهت وجهي أيضًا، وقد ذكر بعض أصحابنا أنه لو جمع بين الذكرين كان أولى، ولو أراد الاقتصار على أحدهما، فما تقدم أولى وقصد بهذا القائل الجمع بين المذهبين، والأخبار الواردة فيه. واعلم أن هذا من الاختلاف المباح فأّيهما استفتح الصلاة يجوز وروي كلاهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فروى علي رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاة كبرّ، ثم قال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} إلى آخره، غير أنه قال: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}. وقالت عائشة رضي الله عنها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استفتح الصلاة، قال: (سبحانك اللهم وبحمدك. . .)، إلى آخره. ومعنى قوله: وبحمدك، أي: وبحمدك سبحتك، ومعنى الجد: العَظم ههنا، وإنما قلنا: إني وجهت وجهي َأولى، لأنه َألَيق بالموضوع وهو من ألفاظ القرآن والتسبيح يعود في الركوع والسجود، وما ذكرناه إذا ترك لا يعود. وروي عن أبي حنيفة أنه قال: يستحب أن يقرأ: وجهت وجهي إلى آخره قبل التكبير حتى لا يعقب التكبير بقراءة القرآن، وهذا غلط، لأنه لو كان قرآنًا لاقتصر على قوله: {حَنِيفًا} دون قوله: {مُسْلِمًا}، ولقال: {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} موافقًة للقرآن. وقال: مالٌك: لا يدعو بشيء بعد الافتتاح، [68 ب/ 2] ويفتتح الصلاة بقول: الله

أكبر، ويقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}. واحتّج بما روى أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يفتح الصلاة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، وهذا عندنا يجوز إذا ذكر التسمية في أول الفاتحة، ولكنه يكره، وهذا الخبر محمول على استفتاح القراءة وعّبر بالصلاة عنها. قال الشافعي: ويستحب بعده: أللهم أنت الملك، لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك، أنت ربى وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي، فاغفر لي ذنوبي جميعها لا يغفر الذنوب إلا أنت وأهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنى سيئها، لا يصرف عنى سيئها إلا أنَت، لبيك وسعديك، والخير بيديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت أنا بك وإليك لا منجا منك ولا ملجأ إلا إليك تباركت وتعاليت، أستغفرك وأتوب إليك. وقوله: والشر ليس إليك، قال المزني: معناه لا يضاف الشر إليك، وإن كان هو الخالق له، لأنه إنما يضاف إليه محاسن خلقه، فيقال: خالق السماء والأرض، ولا يقال: خالق العذرة والخنازير، وإن كان هو الخالق لها في الحقيقة. وقال محمد بن إسحاق بن خزيمة: معناه، والشر لا يتقرب به إليك. وهكذا قاله الخليل بن أحمد. وقوله: أنا بك وإليك، يعني: انتمائي والتجائي. وقال في (الأم): يأتي بهذا كله لا يغادر منه شيئًا رواه علي وأبو هريرة رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإن زاد فيه شيئًا أو نقص منه كرهته ولا يسجد للسهو عمد أو جهلُة لو نسيه. فَرْعٌ آخرُ قال: لو سها عنه في موضعه، ثم ذكره، وقد افتتح القراءة أو التعوذ لم يقله لأن هيئته فات وقتها، وإن ذكره قبل الأخذ في القراءة أتى به ولا يقوله إلا في أول ركعٍة، ولا يقوله فيما بعده بحاٍل. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا اختلف الأمام [69 أ/ 2] فيما لا يجهر، ففات من الركعة ما إن قال: هذا لا يقدر أن يقرأ القران. قرأ أم القرآن وتركه وإن لم يفت من الركعة ما لا يقدر عليه أوفات منها ما يقدر على بعضه، أحببت أن يقول ذلك، وإن لم يقله لم يقِض في الركعة بعدها. وقال أصحابنا: الإمام يقول إلى قوله وأنا من المسلمين، ولا يقول ما بعده لئلا يطول الصلاة فيتأذى به المأموم المريض، أو من له عذر، وهذا صحيح، قال: رضي به

المأمومون، ولا مشّقة عليهم يستحب له كل ذلك. قال: ويقوله في النافلة والفريضة. َمسألة: (ثَُّم َيَتَعََّوُذ َفَيُقوُل: َأُعوُذ ِبالله ِمَن الَّشَْيطاِن الَّرجيِم). وهذا كما قال: إذا فرغ من دعاء الافتتاح أتى بالتعوذ، وهو سنة في الصلاة. وبه قال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحق. وقال مالٌك: لا يتعّوذ في المكتوبة ويتعّوذ في قيام رمضان. وحكي عن النخعي وابن سيرين: أنهما كانا يتعّوذان بعد القراءة. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه، واحتّج بقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98]، وهذا غلط لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول قبل القراءة: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، ومعنى الآية، فإذا أردت قراءة القرآن كقوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6]، أي: أردتم القيام إلى الصلاة. والدليل على مالك أن يقول: صلاة تتضمن قرآنًا فتضمن تعّوذًا كقيام رمضان. فَرْعٌ قال الشافعي: (وأحب أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، لأنه موافق للآية) وبه قال أبو حنيفة وقال أصحابنا: الأحسن أن يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. وقال أحمد: يقول هكذا ويزيد أنه هو السمع العليم، وهذا غلٌط، لأنه ذكره مرًة، فلا معنى لتكراره. وقال الثوري: يقول [69 ب/ 2]: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إن الله هو السميع العليم. واحتّج بقوله تعالى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 36]، وهذا غلٌط، لأن قوله: {إِنَّهُ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ليس بداخل في الأمر بالاستعاذة، وإنما هو خبٌر بعده والأمر ما قبله، وهو الذي يقول، وقال الحسن بن صالح يقول: أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. وبه قال ابن سيرين. فَرْعٌ آخرُ لو استعاذ بالله بأي كلام استعاذ به جاز كقوله: أعوذ بالرحمن الرحيم من الشيطان الرجيم، أو أعوذ بكلمات الله من الشيطان الرجيم. وقال أصحابنا: قوله؛ أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم أولى من قوله: أعوذ بالله العلي من الشيطان الغوي. فَرْعٌ آخرُ قال في (الأم): (ويقوله في أول ركعٍة، ثم قال: وقد قيل: إن قاله حين يفتتح

القراءة في كل ركعٍة فحسٌن ولا أمُر به في شيء من الصلوات أمري به في أول ركعٍة). واختلف أصحابنا في هذا، فقال أبو حامٍد المسنون في الركعة الأولى لا غير قولًا واحدًا، لأن الشافعي قال: ولا آمر به. وبه قال ابن سيرين وأبو حنيفة، لأن الصلاة كالفعل الواحد فيكفي استعاذة واحدة كالتوجه. وقال بعض أصحابنا: فيه قولان: أحدهما: هذا. والثاني: يستحب في كل ركعة لقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَاتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98]، وهذا يريد القراءة في كل ركعة، ويفارق التوجه، لأنه للاستفتاح، وذلك لا يتكرر في الصلاة بخلاف القراءة. وقال القاضي الطبري: قوٌل واحٌد أنه يستحب في كل ركعة إلا أنه في الركعة الأولى أكد وكلام الشافعي في (الأم) يقتضي هذا، وبه يفتي كثير من أصحابنا، وهذا اختياري، وهو الصحيح. فَرْعٌ آخرُ إذا قلنا: يستحب في الركعة الأولى خاّصة لو نسيه في الأولى أش به في الركعة الغانية، ومتى ذكر أتى به [70 أ/ 2] في ابتداء القراءة، ويفارق دعاء الاستفتاح، لأّن محله. قال: فلا يأتي به في الركعة الثانية، وههنا القراءة تتكرر وإنما يتعوذ في الابتداء لجميع القراءة، فإذا نسيه في بعضها أتى به في الباقي، ولو تركه أصلًا، قال: أكره ذلك ولا تبطل صلاته، ولا يسجد للسهو، وإن كان ناسيًا أيضًا. فَرْعٌ آخرُ قال بعض أصحابنا بخراسان: يستحب أن يقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم من همزه ونفثه ونفخه، لأنه روي مثل هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا حسٌن، ولكن الشافعي لم يذكره. فَرْعٌ آخرُ هل يجهر به في صلاة الجهر. قال الشافعي رضي الله عنه في (الأم): (كان ابن عمر رضي الله عنه يتعّوذ في نفسه، وكان أبو هريرة رضي الله عنه يجهر به وأيهما فعل أجزأه). وقال في (الإملاء): يجهر به فإن أخفت أجزأه، فقال أبو حامٍد: فيه قولان: أحدهما: أنه مخّيٌر وهما سواء، وهو قوله في (الأم). والثاني: يجهر به، وهو ظاهر المذهب، وهذا لأن هذه مراد للقراءة، فكان بصفتها كالتأمين، ولأن أبا هريرة رضي الله عنه جهر به في جماعٍة ولم ينكر عليه، ولأن روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول قبل القراءة: (أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)، فلولا أنه كان

يجهر به، وإلا لم يسمع ذلك. وقال صاحب (الإفصاح): يستحب له ترك الجهر قولًا واحدًا، لأن الشافعي قال: وأيهما فعل جاز، وإن كنت أستحب له ترك الجهر، لأن سنة الجهر بالقرآن والأذكار التي جعلت علمًا على الإتباع. وقال بعض أصحابنا بخراسان: قوله: القديم أنه يجهر بها، وقوله الجديد: لا يجهر، وهو المذهب، قلت: حصل ثلاثة أقوال: أحدها: يستحب الجهر بها. والثاني: يسحب الإسرار بها. والثالث: هما سواء، والأظهر الصحيح عندي ما اختاره صاحب (الإفصاح). مسألة: قال: (ثم يقرأ [70 ب/ 2] مرتلًا بأم القرآن). وهذا كما قال: الصلاة تفتقر إلى القراءة. وبه قال جمهور العلماء، وحكي عن الحسن بن صالح والأصم أنهما قالا: القراءة مستحّبة في الصلاة، وليست بواجبٍة. واحتجّ بما روي عن عمر - صلى الله عليه وسلم - أنه صلّى فنسي القراءة، فقيل له في ذلك، فقال: كيف كان الركوع والسجود قالوا؛ حسنًا. قال: فلا بأس، وهذا غلٌط لما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (لا صلاة لمن لم يقرأ فيها بفاتحة الكتاب). وروى ابن عمر رضي الله عنه أن رجلًا سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنقرأ في الصلاة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: (أو تكون صلاة بلا قراءة). وأما خبر عمر رضي الله عنه، قلنا: يحتمل أنه ترك ما زاد على الفاتحة أو ترك الجهر بها بدليل ما ذكرنا. فإذا تقرر هذا، في (الأم): قال الله تعالى: {وَرَتِّلِ الْقُرْآَنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4]، والترتيل ترك العجلة في القراءة عن الإبانة، وكلما زاد على أقل الإبانة في القراءة كان أحب إلّي ما لم تبلغ الزيادة تمطيطًا وأحب ما وصفت لكل قارئ، في صلاة وغيرها، وأما للمصلي أشد استحبابًا مني للقارئ في غير الصلاة. قال: ولا يجزئه أن يقرأ في صدره ولا ينطق بلسانه لأنه ليس بقراءة بل هو تفّكر، ولو أيقن أنه لم يبَق من القراءة شيء إلا نطق به أجزأه، وإن لم يرتله، وهو بأن يسمع نفسه حروفه، وإن لم يسمع هو لشغل قلبه أجزأه، لأنه قرأ بحيث يسمع، فإذا تقرر هذا، فالقراءة التي لا تجزئ الصلاة إلا بها، فاتحة الكتاب، فإن أخّل بحرف منها لم تجزه الصلاة، وفيها أربع عشرة تشديده، فإن أخّل بواحدٍة منها لم تجزه، ثلاٌث في بسم الله الرحمن الرحيم في اللام من اسم الله تعالى، والراء والراء من الرحمن

الرحيم. وفي قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} تشديدتان اللام من اسم الله تعالى، والباء في رب وفى {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} تشديدتان: الراء، والراء، [71 أ/ 2] وفي {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} تشديده، وهي في الدال، وفي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} تشديدتان في الياء من إياك وإياك، والصاد في {الصِّرَاطَ}، واللام من {الَّذِينَ}. وفي قوله: {ولا الضالين} تشديدتان في الضاد واللام. وهذا لم يذكره الشافعي، ولكن أصحابنا ذكروه لأن عند أهل اللغة التشديد يقوم مقام الحرف. وبه قال عمر وابن عباس وخوات بن جبير وأبو سعيد الخدري وأبو هريرة رضي الله عنه والثوري ومالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود رحمهم الله. وقال أبو حنيفة: القراءة غير متعينة في الصلاة والمشهور عنه أنه يجب قراءة آية إما طويلة، وإما قصيرة حتى لو قال: {مُدْهَامَّتَانِ}. وروي عنه أنه قال: يجوز أقل من آية إذا كان يقع عليه اسم القرآن. وأصحابه بخراسان يقولون: هذا هو الصحيح والأول أشهر. وقال أبو يوسف ومحمد: إن قرأ آيًة طويلًة كآية المدثر وآية الكرسي يجوز وإن كانت آياٍت قصارًا لم َيُجز أقلّ من ثلاث آيات، وربما ينسب هذا إلى أبي حنيفة. واحتجوا بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي: (المسيء صلاته، ثم اقرأ بما تيسر معك من القرآن)، وهذا غلٌط لما ذكرنا من الخبر. وأمّا خبرهم روى الشافعي بإسناده عن رفاعة بن رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي: (ثم اقرأ بأم القرآن وما شاء الله أن تقرأ)، ثم نحمله على الفاتحة، فإنها التي تتيسر على جميع الناس في الغالب، ولأن القراءة ركٌن من أركان الصلاة فكان متعينًا كالركوع والسجود. مسألة: قال: (يبتدئها ببسم الله الرحمن الرحيم). وهذا كما قال: بسم الله الرحمن الرحيم آيٌة تامة من الفاتحة، ومن كل سورة. وحكي أبو حامد عن بعض أصحابنا أنه قال للشافعي قول آخر أنها من الفاتحة. وحكاه ابن القطان أيضًا، وقال: لا يعرف [71 ب/ 2] هذا القول عنه، وهو على ما ذكر، ومن أصحابنا من قال: هي في سائر السور بعض آية في أحد القولين كقوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة: 2]، وبقولنا، قال ابن عباس وأبو هريرة وسعيد بن جبير وعطاء والزهري وأحمد وإسحق وأبو عبيد. وروي عن الزهري أنه كان يفتح ببسم الله الرحمن الرحيم، ويقول آية من كتاب الله تعالى تركها الناس. وقال ابن المبارك: من ترك بسم الله الرحمن الرحيم، فقد ترك مائة وثلاث عشر آية. وقال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي وداود: التسمية ليست من القرآن إلا في سورة النمل، فإنها بعض آيٍة هناك وإنما ذكرت في رأس سائر السور تبركًا.

وقال الكرخي: إنها آية في مكانها ليست من السور. وروي هذا عن أحمد، وعن أحمد رواية أخرى أنها من الفاتحة. وحكي عن مالك أنه قال: لا يقرأها في الصلاة أصلًا إلا في قيام رمضان، فإنه يقرأها في ابتداء السورة بعد الفاتحة، لا في الفاتحة. ووافقنا أبي حنيفة أن الفاتحة سبع آيات إلا أنه يجعل الآية السابعة من قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ}، وعندنا من قوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ}، وما قلناه أولى، لأن أواخر آيات هذه السورة كلها مجرورة وممدودة، فينبغي أن تكون آخر الآية السادسة فيها كذلك، والمشهور من مذهب أبى حنيفة أنه لا يأتي بالتسمية إلا في أول الركعة كالتعوذ. واحتجوا بما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (يقول الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يقول الله تعالى: حمدني عبدي، فإذا قال العبد: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}، يقول الله تعالى: أثنى علّي عبدي، فإذا قال العبد: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، يقول: الله مجدني عبدي، فإذا قال العبد: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، يقول الله تعالى: هذه بيني وبين عبدي، [72 أ/ 2] فإذا قال العبد: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} إلى آخر السورة، يقول الله تعالى: هذه لعبدي، ولعبدي ما سأل). ولم يذكر بسم الله الرحمن الرحيم منها. وقوله: فتمت الصلاة، أي: القراءة. وحقيقة هذه التسمية منصرٌف إلى المعنى لا إلى الألفاظ، وذلك أن نصف هذه السورة ثناء ونصفها مسالٌة ودعاٌء. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (سورة ثلاثون آية شفعت لقارئها ألا وهي: {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1]، وهي ثلاثون آية سوى بسم الله الرحمن الرحيم، وهذا غلط لما روت أم سلمه رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (قرأ في الصلاة: بسم الله الرحمن الرحيم وعدها آية، {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} آيتين)، وهذا نصّ. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا قرأتم الحمد فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم، فإنها أم الكتاب، وإنها السع المثاني)، وبسم الله الرحمن الرحيم آية منها، وقال جابر رضي الله عنه، قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (كيف تقرأ إذا افتتحت الصلاة، قلت: أقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، قال: قل بسم الله الرحمن الرحيم). وأما خبر أبي هريرة رضي الله عنه، قلنا: روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبي

السائب عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال في هذا الخبر: فإذا قال العبد؛ بسم الله الرحمن الرحيم يقول الله تعالى: ذكرني عبدي. وأما سورة الملك، قلنا: قد ذكرنا قولًا: أن التسمية بعض آيٍة منها، مضمومة إلى الآية الأولى منها، ويحتمل أنه قال ذلك قبل نزول بسم الله الرحمن الرحيم، أو أراد ما يختص بهذه السورة من آياتنا. وحكي شيخنا أبو سهل الأبيوردي أن خطيب بخارى من جملة العلماء الزهاد رأى خبرًا عن رسول الله. أنه قال: من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] [72 ب/ 2] ألف مرة رفع الله تعالى عنه وجع السن ولا يتجع أبدًا). فوجع سّنُه فقرأها ألف مرة، فلم يزل الوجع وزاد فنام فرأى في المنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن وجع السن وعما فعل، فقال: رأيت خبرًا عنك يا رسول الله كذا، وفعلت كذا، فلم يسكن وجعي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لأنك قرأتها بلا تسمية فاقرأها بالتسمية)، فانتبه فقرأها مع التسمية فرفع الله تعالى عنه وجع السن، ولم يعد. قال هذا الخطيب: فاعتقدت مذهب الإمام الشافعي في هذه المسألة، ولا أصلي إلا بالتسمية في أول الفاتحة، فإن قيل: لو كانت قرآنًا لم يجز فيها الاختلاف، قلنا: تقابل بأنه لم يكن قرآنًا لما أضيفت إليه بمثل خط سائر القرآن ثم أصلها من القرآن بلا خلاف. والخلاف ههنا في موضعها، فإن قيل: القرآن لا يثبت إلا بالتواتر قطعًا. قلنا: من أصحابنا من قال: نحن نثبتها حكمًا لا قطعًا، وهو أنا نوجب قراءتها في الصلاة، فيجوز إثبات ذلك بأخبار الأحاد وهو الأصح. ومن أصحابنا من قال: يثبت قطعًا لكونها في المصحف بخط القرآن ولم نكفر جاحدها كما لم نكفر مثبتها لحصول الاختلاف بنوع من الشبهة كما كانت الشبهة لابن مسعود رضي الله عنه في المعوذتين. وقال: إنهما ليستا من القرآن، فإذا تقرر هذا، قال في البويطي: يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم قبل أم الكتاب، وقبل السورة. وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد رضي الله عنه، وعند أبي حنيفة يقرؤها في صلاة الجهر. وبه قال علي وابن مسعود وعّمار والثوري والأوزاعي وأحمد وأبو عبيد رضي الله عنه. وقال مالك: المستحب أنه لا يقرأها أصلًا في شيء من الصلوات. وبه قال الأوزاعي في روايٍة. [73 أ/ 2] وقال الحكم وإسحق وابن أبي ليلى: الجهر والإخفات فيها سواء، وكلاهما حسٌن، واحتجوا بما روى قتادة عن أنس أنه قال: صليت خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنه، فلم أسمع أحدًا منهم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، وهذا غلٌط لما روى ابن عباس رضي الله عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر في الصلاة ببسم الله الرحمن الرحيم).

وروى النعمان بن بشير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أّمني جبريل - عليه السلام -، فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم). وروي عن نعيم ين عبد الله المجمر قال: صليت خلف أبي هريرة رضي الله عنه فقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم قبل أم الكتاب وقبل السورة وكبرّ في الخفض والرفع، وقال: أنا أشبهكم صلاة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال عطاء: قال أبو هريرة: (ما أسمعنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسمعنا كم وما أخفى عنا أخفينا عنكم). وروى الشافعي بإسناده عن أنس رضي الله عنه قال: صلّى معاوية بالمدينة صلاة يجهر فيها بالقراءة، فقرأ ببسم الله الرحمن الرحيم لأم القرآن، ولم يقرأها للسورة بعدها حتى قضى تلك الصلاة، فلما سلم ناداه من سمع ذلك من المهاجرين والأنصار من كل مكان؛ يا معاوية أسرقت الصلاة أم نسيت؟ فلما صلّى بعد ذلك قرأ ببسم الله الرحمن الرحيم للسورة بعد أم القرآن، وهذا إجماٌع. وروي عن مسلم بن حيان، قال: صليت خلف ابن عمر، فجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في السورتين، فقلت له: لقد صليت صلاة ينكرها كثير من الناس، فقال: وما ذاك؟ فقلت: جهرت ببسم الله الرحمن الرحيم في السورتين، قال: نعم صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى ُقبض، فكان يجهر بها في السورتين حتى قبض، وخلف أبى الصديق فكان يجهر بها في السورتين حتى قبض، فلا أدع الجهر بها حتى أموت [73/ ب]. وأما الخبر الذي ذكروا، قلنا: روينا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه (كان يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم)، فيحتمل أنه لم يسمع ذلك لصغره أو أُبعده، وأخبارنا المثبتة أولى، فَرْعٌ قال في (الأم) لو أغفل أن يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم وقرأ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} إلى آخر السورة كان عليه أن يعود فيقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم، ويأتي ببقية السورة، وهذا لأنه يجب الترتيب في القراءة ولا يجوز أن يغيرها فيقرأ آيًة بعد آية بعدها، فإذا ترك آية وجبت عليه إعادتها وإعادة ما بعدها كما أنه لا يجوز أن يغير حروف الكلمة الواحدة أو الكلمتين، فيقول: موضع لله الحمد، كذلك ترتيب الآيات لا يجوز تغييرها، وكذلك لو قرأ بعد التسمية {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} وترك {الْحَمْدُ لِلَّهِ} وأتى بالحمد لله، وما بعده كما لو نسي القراءة، فركع وأتى بالقراءة والركوع. فَرْعٌ آخرُ قال: لو بدأ فقرأ في الركعة غيرها، ثم قرأها أجزأت عنه. قال أصحابنا: أراد إذا قدم السورة على الفاتحة لم يمنع ذلك صحة قراءة الفاتحة،

ويستحب إعادة السورة لتقع في موضعها، نصّ عليه. فَرْعٌ آخرُ لو سكت في أثناء القراءة طويلًا، ولم ينِو قطعها أو تعايا فيها، فوقف أو أدخل فيها آية من سورة أخرى ناسيًا لم يكن ذلك قطعًا لقراءته، ألا ترى أنما يأتي به في الصلاة على طريق السهو لا يكون قطعًا لصلاته، فكذلك لا يكون قطعًا لقراءته. وقال بعض أصحابنا بخراسان: في السكوت الطويل من غير نية القطع وجهان، لأن التلاوة في العادة تكون موصولة فحمل مطلق الخطاب على المعهود، وهو خلاف النص في الذكر الطويل ناسيًا. فَرْعٌ آخرُ لو عمد فقرأ فيها آية من غيرها كان ذلك قطعًا لها، فيلزمه استئناف القراءة، وكذلك لو دخل فيها عمدًا سائر الأذكار من التسبيح والتهليل، ونحو ذلك وكذلك لو سكت في أثنائها ونوى قطع القراءة. وقال بعض أصحابنا: [74 أ/ 2] هذا في السكوت الطويل، ولو سكت قليلًا مع نية القطع، فيه وجهان: أحدهما: وهو الأصح عند أصحابنا يكون قطعًا للقراءة، لأنه اقترن الفعل بالقطع. والثاني: لا يكون قطعًا، لأن النية لا تأثير لها والسكوت القليل بمجرده لا يضر، وهو الأشبه عندي. فَرْعٌ آخرُ لو نسي فقرأ غيرها في أثنائها ثم تذكر فمّر على قراءة غيرها كان قطعًا لقراءته، وإن عاد إليها حال ذكره بني عليه، وهو كما لو تكلم في الصلاة ناسيًا، يبطلها، فإن تذكر ودام على الكلام أبطلها. فَرْعٌ آخرُ قال: ولو قرأ منها شيئًا ثم نوى قطعها ولم يسكت لم يكن ذلك قطعًا، لأن فعله مخالف لنيته، والاعتبار فيها بالفعل دون النية، ويفارق هذا نيته لقطع الصلاة، وهو فيها لأن الصلاة تحتاج إلى النية، فإذا غيرها بطلت، والقراءة لا تحتاج إلى النية، وإنما تحتاج إلى الفعل خاصة. فَرْعٌ آخرُ لو أمن في خلال الفاتحة متابعة الإمام لم يكن قطعًا للقراءة، لأن هذا موضعه، وهو مأمور به عند تأمين الإمام، كما لو مّر بآية فقال: اللهم اغفر لي، لا يكون قطعًا

لقرائته. وبه قال صاحب الإفصاح والقاضي، والطبري والقفال وهو الصّحيح وبه قال أبو حامٍد: تنقطع القراءة ويستأنفها، لأن الشافعي قال: لو عمد فقرأ فيها من غيرها استأنفها، وهذا اختيار القاضي أبي علي الزجاجي رحمه الله وجماعة، وقيل: نص عليه في (الإملاء): قياسه سجوٌد التلاوة، والفتح على الإمام لأنه أطول وهذا لأن هذه ليست من مصلحة التلاوة وتقطع نظمها فإن كان ناسيًا أو جاهلًا لا يضر. وقال بعض أصحابنا بخراسان: وعلى الوجه الأول لو فتح على الإمام في آيًة أو سجد للتلاوة معه لا يقطعها؛ لأنه من صلاح صلاته، وإن فتح على غيره أو أجاب مؤذنًا فيها بطلت قراءته، ولو ترك منها آيًة عمدًا وقرأ ما بعدها مثل أن [74 ب/2] يقول: بسم الله الرحمن الرحيم، {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} كان قطعًا لها كما لو أدخَل فيها آيًة من غيرها. فَرْعٌ آخرُ لو ترك قراءة الفاتحة ناسيًا لم تجز صلاته في قوله (الجديد)، وكان يقول في (القديم): تجوز لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه صلّى المغرب، فلم يقرأ فيها، فقيل له في ذلك، فقال: كيف كان الركوع والسجوٌد، فقالوا: حسنًا، فقال: لا بأس، وهذا غلٌط، لأنه ركن من أركان الصلاةَ، فلا يسقط بالنسيان كالركوع. وخبر عمر رضي الله عنه محموٌل علي ما ذكرنا فيما تقدم. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا أدرك الإمام قائمًا، فأحرم خلفه وقرأ بعضه القراءة ثم ركع الإمام يركع معه وصار مدركاً للركعٍة ويسقط عنه من القراءة ما عجز عنه، وأراد إذا لم يشتغل بالثناء. وقال القفال: فإن لم يفعل هكذا حتى رفع الإمام رأسه من الركوع في أحد الوجهين، أو حتى سجد في الوجه الثاني بطلت صلاته. ومن أصحابنا من خّرج فيه وجهًا آخر أنه يجب عليه إتمامها ثم يتبعه، لأنه إذا وجب بعضها وجب كلها، وهذا خلاف نصّ الشافعي. وحُكي عن محمد بن خزيمة من أصحابنا أنه قال: إذا أدركه راكعًا لا يحتسب له بالركعة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: (من أدرك الإمام راكعًا، فليركع معه وليعد الركعٍة)، وهذا خلاف إجماع علماء العصر، وقد روى أبو هريرة أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا جئتم إلى الصلاةَ، ونحن سجوٌد فاسجدوا ولا تعدوها شيئًا، ومن أدرك الركوع فقد أدرك الصلاةَ). فَرْعٌ آخرُ لو أدرك الإمام في أول صلاته، وكان الإمام سريع القراءة والمأموم بطيء القراءة

ففرغ الإمام من القراءة وركع والمأموم لم يتّمم القراءة بعد، فيه وجهان: أحدهما: يتبعه ويسقط الباقي عنه للعجز. والثاني: لا يسقط ولكنه يخرج من صلاته، والأولى أن لا يصلي [75 أ/ 2] خلف من تكون صفته كذلك، لأن هذا يتكرر في كل ركعٍة ويكثر ويكون ذلك عذراً في مفارقة الإمام والخروج من إمامته، وهذا أظهر عندي لئلا يؤدي إلى ترك المبالغة في أكثر الصلاةَ لو ترك الصلاةَ المفروضة، وفيه وجه ثالث: يلزمه إتمام الفاتحة في كل ركعٍة ولا يضر التأخر عنه، لأنه معذوٌر. فَرْعٌ آخرُ لو أدرك من القيام قدرًا يمكنه قراءة الفاتحة إلا أنه يشتغل بقراءٍة دعاء الاستفتاح، فركع الإمام، وهو في أثنائها، فإن أمكنه إتمامها ويدرك معه الركوع فعل، وإن قرأ منها قدر دعاء الاستفتاح بعد ركوعه ثم ترك الباقي وركع معه، فقد أدرك الركعٍة أيضًا، ولو عرف أنه إذا أتّمها أدرك معه الاعتدال أتّمها أيضًا، ولو عرف أنه لا يدركها إلا في السجوٌد تبعه في الركوع، ولا تحتسب له هذه الركعٍة، وهذا هو الصّحيح عندي. وقال القفال: يتّم الفاتحة ويمضي خلفه بكل حالٍ ويكون معذّورًا في التخلف عن الإمام بسبب القراءة، فإن لم يتّم الفاتحة في هذه الحالة وركع بطلت صلاته. مَسْألةٌ: قالَ: (وإذا قال: {ولا الضالين} [الفاتحة: 7] قال: {آَمِّينَ} [المائدة: 2] يرفع بها صوته). وهذا كما قال: جملُة هذا أن التأمين مسنوٌن لكل مصًّل إمامًا كان أو مأمومًا، أو منفردًا ذكرًا كان أو أنثى حرًا كان أو عبدًا، فإن كانت صلاته لا يجهر فيها بالقراءة لم يجهر بها، وإن كانت صلاته يجهر فيها بالقراءة جهر بها الإمام والمنفرد، وبه قال أبو هريرة وابن الزبير رضي الله عنه وعطاء وأحمد وإسحاق وداود. وقال أبو حنيفة والثوري: لا يجهر بها بحاٍل، وعن مالك روايتان: إحداهما: لا يقولها الإمام أصلًا، والمأموم يؤّمن سّرًا، وروي هذا عن أبي حنيفة. والروأيًة الثانية: يقولان سّرًا. واحتّج مالك بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (إذا قال الإمام: (ولا الضالين)، (فقولوا: (آَمِّينَ)، فدّل على أن الإمام لا يقولها، [75 ب/2] وهذا غلط لما روى وائل بن حجر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قال: (ولا الضالين)، قال: آَمِّينَ، ورفع بها صوته)، وروي نحو هذا عن علي رضي الله عنه، وهو معنى قول الشافعي رضي الله عنه، وبالدلالة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه جهر بها، أي: وقلت هذا بما روي في هذا الخبر، واحتّج الشافعي رضي الله عنه أيضًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إذا أمّن الإمام أّمنت الملائكة،

فأّمنوا فإنه من وافق تأمينه تأمين الملائكة ُغفر له ما تقدم من ذنبه). قال الزهري عقيب هذا الخبر: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (آَمِّينَ). وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا صلّى قال: (آَمِّينَ) حتى يسمع لصوته طنين. وأما خبرهم فلا حّجة فيه لأن القصد به أن يوافق تأمينه تأمين الملائكة والإمام. وليس فيه أن الإمام لا يؤّمن أصلًا. وأما المأموم هل يجهر بها؟ قال في (الجديد): يسمع نفسه. وقال في (القديم): يجهر بها. واختلف أصحابنا فيه على طريقين، فمنهم من قال: فيه قولان سواء كان المسجد صغيرًا أو كبيرًا: أحدهما: لا يجهر بها، لأنه ذكر مسنوٌن في الصلاةَ، فلا يستحب للمأموم الجهر كالتكبيرًات. والثاني: وعليه الأكثرون أنه يجهر بها لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -.كان إذا قال: (ولا الضالين)، قال: (آَمِّينَ). ويقول من خلفه، حتى أن للمسجد لضّجة. وروى عطاء أن ابن الزبير رضي الله عنه قال: كان يؤّمن ويؤّمنون وراءه حتى أن للمسجد للَّجة. وروى نعيم المجمر أن أبا هريرة رضي الله عنه، قال: آَمِّينَ، وقال الناس: آَمِّينَ. ومن أصحابنا من قال: هذا على اختلاف حالّين، فالذي قال في (الجديد): إذا كان المسجد لطيفًا يبلغ صوت الإمام آخر الصفوف، والذي قال في (القديم): إذا كان المسجد كبيرًا مثل جامع لا يبلغ صوت الإمام آخر الصفوف، فيستحب للمأمومين أن يجهروا حتى يعلم تأمين الإمام آخر الصفوف [76 أ/2] بتأمينهم. وأما قول الشافعي في (المختصر): (ويسمع من خلفه أنفسهم)، قيل: أراد لا يجهرون بالتأمين، وقيل: أراد لا يجهرون بالقراءة، والأول أظهر. فَرْعٌ قال في (الأم): لو نسي التأمين أو جهل أمن المأموم وجهر صوته بها حتى يسمعها الإمام فيؤمّن). فَرْعٌ آخرُ قال: (لو نسي حتى استفتح السورٍة لم يؤّمن لأن محلها فات، وهي هيئة في وقت، فيفوت بفوات وقتها). وقال في (الحاوي): (وهل يعود إلى التأمين إذا قدر قبل الركوع؟ وجهان مخرجان من اختلاف قوليه نسي تكبيرات العيد حتى أخذ في

القراءة، هل يأتي بها أم لا؟). فَرْعٌ آخرُ قال: وقول آمين في الصلاةَ يدّل على أن لا بأس أن يسأل العبد ربه عزّ وجلّ في الصلوات كلها أمر الدين والدنيا، وإنما كان كذلك، لأن معناهُ: اللهم اسمع واستجب. فَرْعٌ آخرُ قال: (ولو قال: آمين رب العالمين، وغير ذلك من ذكر الله كان حسنًا). فَرْعٌ آخرُ قال: في آمين لغتان: إحداهما: أمين بقصر الألف. والثانية: آمين بمَّد الألف والتخفيف فيهما. وأنشد في المقصورة قول الشاعر: تباعدَ عني فَطْحَلٌ إِذا سَأَلتُهُ أمينٌ فَزَاد اللهُ ما بَيْنَنا بُعْدا وأنشد في الممدودة: يا ربّ لا تسلبني حبها أبداً ويرحم الله عبداً قال آمينا فإن شدّد الميم وإنما معناهُ قاصدين، قال الله تعالى: {آَمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ} [المائدة:2] أي: قاصدين، ولا يكون معناهُ معنى الدعاء، فإن تعمّد ذلك وعرف معناهُ بطلت، لأنه من كلام الآدميين، ذكره والدي الإمام رحمه الله وبعض أصحّابنا. فَرْعٌ آخرُ إذا دخل وقت الصلاة ولا يعرف الفاتحة ولا هناك من يعلمه، وهناك مصّحف القرآن لغيره ولا سبيل له إلى تعلمها إلا من المصّحف وصاحب المصّحف غائب، هل له أخذه والنظر فيه؟ قال والدي الإمام: يحتمل أن يقال: يجوز له ذلك، بل يلزمه للضرورة من جهة الشرع، لعلمنا أن الصلاةَ لا تجزيء إلا بالفاتحِة [76 ب/2] مع إمكان قراءتها بوجٍه، وهو كما يباح أخذ مال الغير وأكله للضرورة، ولأن صاحب المصّحف لو كان حاضرًا عالمًا بالقرآن يلزمه تعليمه بنفسه ولو لم يعلم هو، يلزمه تمكينه من مصّحفه، فإذا لم يكن حاضرًا جاز له أخذه أيضًا، فإذا صح أن له الأخذ، هل يلزمه كراء المثل؟ وهل يضمن؟ قال والدي: سمعت بعض أصحابنا يقول: يجري

هذا مجرى العاريَّة يلزم عليه ضمان العين دون المنفعة، ويحتمل أن يقال: لا يلزمه الضمان، لأن الأخذ ههنا باستحقاق، ألا ترى أنه لو كان المالك حاضرًا استحق عليه الدفع إليه وبعدما دفع ليس له الاسترجاع قبل استيفاء منفعته. مَسْألةٌ: قال: (ثُّم يقرأ بعد أم القْرآن بُسورٍة). وهذا كما قال ما زاد على قدر الفاتحة مستحب، ولا يجب قراءة الفاتحة فقط. وبه قال جماعة العلماء، وقال عثمان ابن أبي العاص يجب قراءة الفاتحة وقدر ثلاث آياتٍ. وروي هذا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وروي عنهما أنه يلزم قراءة شيء بعد الفاتحة من غير تقدير، وبه قال أحمد، واحتجوا بما روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أن أنادي لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب فما زاد). وروي أنه قال: (لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب وشيء معها). وروى أبو سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (لا صلاةَ لمن لم يقرأ في كل ركعٍة بالحمد وسورٍة في الفريضة وغيرها). وهذا غلٌط، لما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا صلاة إلا بقراءٍة ولو بفاتحة الكتاب). وروى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (صلى صلاة لم يقرأ فيها إلا بفاتحة الكتاب) وخبرهم محموٌل على نفي الفضيلة، أو معناهُ: لا صلاةَ، إلا بفاتحة الكتاب جوازًا وشيء معها كمالًا. فَرْعٌ آخرُ لا خلاف أنه تسن قراءة السورٍة بعد الفاتحة في الركعتين الأوليين، وهل تسن قراءتها في الركعتين الأخريين [77 أ/ 2] من الظهر والعصر والعشاء، والركعٍة الثالثة من المغرب؟ قولان فقال في (القديم): ورواه المزني والبويطي أنه لا يقرأها. وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد، وهو الأشهر لما روى أبو قتادة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -،كان يقرأ في صلاةَ الظهر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورٍة، وكان يطيل في الأولى ما لا يطيل في الثانية، وكان يقرأها في الأخريين بفاتحة الكتاب في وقال في كل ركعٍة). وقال في (الأم): يقرأها، وهو الأصح عندي وعند جماعة من أصحاب الماوردي. أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يقرأ في الظهر

في الركعتين الأوليين في كل ركعٍة ثلاثين آيًة، وفي الأخريين نصف ذلك)، وهذا أكثر من قدر الفاتحة. وروي عن أبى عبد الله الصنابحي أنه قال: (صليت خلف أبى بكر الصديق رضي الله عنه المغرب فدنوت منه حتى أن ثيابي لتكاد تمّس ثيابه فقرأ في الركعٍة الأخيرة بأم الكتاب. وهذه الآيًة: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران:8]) ولأن هاتين الركعتين ساوتا الأوليين قي الواجب من القراءة، فكذلك في المستحب. وأما خبرهم، قلنا: نحمله على الجواز وما قلناه أولى لأنه إثبات زيادة. فَرْعٌ آخرُ ظاهر ما قاله الشافعي في (الأم): أنه يسوي بين الركعتين الأوليين في القراءة، لأنه قال: فيه واجب أن يكون أقل ما يقرأ مع أم الكتاب في الركعتين الأوليين قدر أقصر سورٍة في القرآن مثل: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}، ونحوها. وفي الأخريين أم القرآن وآيًة وما زاد كان أحب إلّي ما لم يكن إمامًا يثقل على الناس. قاله أكثر أصحابنا هذا هو المستحب فيسوي في القراءة في الأوليين ويسوي في الأخريين فإن فاضل جاز، وهذا لخبر أبي سعيد الخدري على ما ذكرنا. وقال الماسرجسي: من أصحابنا يستحب أن يطول الركعٍة الأولى في جميع الصلوات [77 ب/ 2] ليلحق القاصد، ويستحب ذلك في الفجر أكثر مما يستحب في غيرها. وقال أبو قتادة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (يطول في الركعٍة الأولى من صلاةَ الفجر ويقصر في الثانية). وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يستحب ذلك في الفجر دون غيرها. وقال الثوري ومحمد: يستحب أن يطيل الأولى في كل الصلوات. واحتجوا بخبر أبي قتادة الذي ذكرنا، قلنا: يحتمل أنه كان ذلك لأنه أحَس بدخول مأموم فطّول أو زاد القيام فيها لدعاء الاستفتاح، لأن الأخريين متساويتان، فكذلك الأوليان. فَرْعٌ آخرُ قال بعض أصحابنا: قراءة سورٍة كاملٍة عقيب الفاتحة أولى من قراءة آياٍت من سورًة للخبر في ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه كان يفعل هكذا. فَرْعٌ آخرُ قال بعض أصحابنا السّنة: أن يقرأ في الركعٍة الثانية سورةً بعد السورٍة التي قرأها في الركعٍة الأولى، فإن اتفق قراءة سورٍة الناس في الركعٍة الأولى، ففي الثانية يقرأ سورة البقرة، ولو قرأ سورة قبل تلك السورة جاز لما روينا أن أبا بكٍر الصديق رضي الله عنه قرأ في الركعٍة الثانية من المغرب: {رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا}، [آل عمران: 8] الآيًة.

فَرْعٌ آخرُ قد ذكرنا أن القراءة واجبة فلا يجوز أن يقرأها بالفارسية ولا بسائر اللغات، ولا يبدل لفظًا بلفٍظ آخر بالمعنى. وقال أبو حنيفة: هو بالخيار إن شاء قرأ بالفارسية وإن شاء قرأ بالعربية. وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان يحسن العربية لا يجوز أن يقرأ بالفارسية، وإن كان لا يحسنها جاز بلساٍن آخر تفسرها، وهذا غلط لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (لا صلاةَ إلا بقرآن)، وتفسير القرآن لا يكون قرآنًا، لأن القرآن معجز بلفظه ونظمه. وهذا خلافه. مَسْألةٌ: قال: (فَإذا َفَرَغ ْمنها َوَأراَد َان َيْرَكَع ابَتَدَأ ِباَّلْتكبيِر َقاِئمًا). الفَصْل وهذا كما قال: [78 أ/ 2] إذا فرغ من القراءة ركع عقيب الفراغ منها والركوع ركن من أركان الصلاةَ، فإذا جاء وقت الركوع فعل ثلاثة أشياء في حالٍة واحدٍة، فيرفع يديه حذو منكبيه مكبرا آخذاً في الانحناء، ورفع اليدين مستحب في الركعٍة الأولى في ثلاثة مواضع: إذا كبرّ للافتتاح، وإذا كبرّ للركوع، وإذا رفع رأسه من الركوع. وفي الركعات التي بعدها يستحب رفع اليدين في كل ركعٍة في موضعين: إذا ركع، وإذا رفع رأسه من الركوع. وبه قال أبو بكر الصديق وابن الزبير وابن عمر وابن عباس وأبو سعيد الخدري وأنس والحسن وعطاء ومجاهد والقاسم بن محمد والأوزاعي والليث وأحمد وإسحاق ورواه ابن وهٍب عن مالك. وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبي ليلى: لا يستحب رفع اليدين إلا عند تكبيرة الافتتاح. وبه قال الشعبي والنخعي. وروي هذا عن مالٍك وعليه أصحابه اليوم. واحتجوا بما روى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا افتتح الصلاةَ رفع يديه إلى قريب أذنيه، ثم لا يعود). وروي نحوه عن ابن مسعود مرفوعًا، وهذا غلط لما روى الشافعي بإسناده عن سالم عن أبيه عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إذا افتتح الصلاةَ رفع يديه حذو منكبيه، وإذا أراد أن يركع، وبعدما يرفع رأسه من الركوع، ولا يرفع بين السجدتين). قال الشافعي: وروى هذا غير ابن عمر اثنا عشر رجلًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ورواه أبو حميد الساعدي في عشرة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أحدهم أبو قتادة. وقال الحسن: رأيت أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. يرفعون أيديهم إذا كبروا، وإذا ركعوا،

وإذا رفعوا رؤوسهم من الركوع كأنهم المراوح. وروى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -.قال: (من صلّى ولم يرفع يديه [78 ب/ 2] إذا ركع وإذا رفع رأسه من الركوع لعنته أعضاؤه). وأما حديث البراء، قلنا: قال سفيان بن عيينة، حدثنا يزيد بن أبى زياد بمكة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن البراء، ولم يقل: ثم لا يعود، فلما قدمت الكوفة سمعته يحدث به، فيقول: ثم لا يعود وظننت أنهم لّقنوه. وقال الحميد بن زيد: هذا ساء حفظه في آخر عمره واختلط، ثم تأويله، ثم لا يعود في الركعٍة الثانية في ابتدائها. فَرْعٌ المستحب أن يرفع يديه مع ابتداء التكبير، ثم ينتهي رفعهما قبل انتهاء التكبير، وينبغي أن يكون في التكبير، وهو يهوي راكعًا حتى ينتهي التكبير مع انتهاء ركوعه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان: أحدهما: أنه يمدّ التكبير مداً لا يخلو شيء من صلاته عن الذكر. والثاني: يحذفه حذفًا، وبه قال أبو حنيفة وابن المبارك، وهو اختيار القفال، والأول أصح، وهو قوله (الجديدة). وهو اختيار أصحابنا بالعراق. وقال سعيد بن جبير وعمر بن عبد العزّيز: لا يكبرّ في ركوعه، ولا في شيء من صلاته سوى موضع الافتتاح، وهذا غلط لما روي عن علي بن الحسين رضي الله عنه، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - (يكبرّ لخفض ورفع حتى لقي الله تعالى). وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان (يكبرّ في كل خفض ورفع وقيام وقعود). ومثل هذا عن أبي بكر وعمر رضي الله عنه. فَرْعٌ آخرُ لو نسي رفع اليدين، ثم ذكر فإن ذكر قبل الفراغ من التكبير أتى به، وإن ذكر بعد الفراغ من التكبير لم يقضه ولا يسجد لتركه ذلك ساهيًا كان أو عامدًا، ولو أراد أن يسجد للتلاوة في أثناء الصلاةَ لا يرفع يديه في تكبيره لافتتاح السجوٌد. مَسْألةٌ: قال: (ويضع راحتيه على ركبتيِه ويفرق بين أَصابعه). وهذا كما قال: الكلام الآن في كيفية الركوع وفيه فصلان: أحدهما: في بيان كماله. والثاني: في بيان أقلّ ما يجزئ منه. فأما الكمال: هو أن يضع [79 أ/2] راحتيه على ركبتيه، ويفرق بين أصابعه ويقبض عليها ويمدّ ظهره ولا يرفعه ويجتهد أن يكون مستويًا في ذلك كله. وقال في (القديم): يكون رأسه وعنقه حيال ظهره. وقال في (الإملاء): (ولا

يتباذخ)، يعني لا يخرج صدره ويطأ من ظهره حتى يكون كالسرج، ولا يحدودب، فيجعل ظهره كأنه حدبة بأن يطأطئ كتفيه ويعلى وسط ظهره، ويجافي مرفقه عن جنبيه. وحكي عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: يطبق إحدى راحتيه على الأخرى ويجعلهما بين الركبتين. وحكي مثل ذلك عن صاحبيه: الأسود بن يزيد وعبد الرحمن بن الأسود وكان ابن مسعود يروي ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا غلط لما روى أبو مسعود البدري رضي الله عنه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان (إذا ركع وضع راحتيه على ركبتيه وفرّج بين أصابعه). وروي عن مصعب بن سعد بن أبي وقاص، أنه قال: (صليت إلى جنب أبي فطبقت يدي وجعلتهما بين ركبتي، قال: فضرب أبي في يدي فلما انصرفت، قال: يا بني إنا كنا نفعل ذلك فأمرنا أن نضرب الأكف على الركب). وهذا يبين النسخ. والدليل على ما ذكرناه من الهيئات ما روي أن أبا أحمد الساعدي رضي الله عنه، قال في عشرة من الصحابة منهم: أبو قتادة: (أنا أعلمكم بصلاةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قالوا: فلم، فو الله ما كنت بأكثرنا له تبعًا ولا أقدمنا له صّحبة. قال: بلى، قالوا: فاعرض، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. إذا قام إلى الصلاةَ يرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يكبرّ حتى يقر كل عظم في موضعه معتدلًا، ثم يقرأ، ثم يكبرّ ويرفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه، ثم يركع ويضع راحتيه على ركبتيه [79 ب/2]، ثم يعتدل ولا ينصب رأسه ولا ثم يرفع رأسه، فيقول: سمع الله لمن حمده، ثم يرفع يديه حتى يحاذي منكبيه معتدلًا، ثم يقول: الله أكبرّ، ثم يهوي إلى الأرض فيجافي يديه عن جنبيه، ثم يرفع رأسه ويثني رجله اليسرى، فيقعد عليها ويفتح أصابع رجليه إذا سجد، ويسجد ثم يقول: الله أكبرّ، ويرفع ويثني رجله اليسرى، فيقعد عليها، حتى يرجع كل عظم إلى موضعه، ثم يصنع في الأخرى مثل ذلك، ثم إذا قام من الركعتين كبرّ ورفع يديه حتى يحاذي بهما منكبيه كما يكبرّ عند افتتاح الصلاةَ، فإذا كانت السجدة التي قبلها التسليم أخر رجله اليسرى وقعد متوركاً على شقّه الأيسر، قالوا: صدقت). وروي أنه قال فيه: وإذا ركع أمكن كفيه من ركبتيه وفرّج من أصابعه وهصر ظهره غير مقنع رأسه، ولا صافح لخده. وروي كان لا يصبي رأسه ولا يقنعه. يقال: أصبى الرجل رأسه إذا خفضه جدًا، وقوله: لا يقنعه، أي لا يرفعه. والإقناع رفع الرأس، وقوله: يفتح أصابع رجليه، أي يلينها حتى تنثني فيوجهها نحو القبلة. والفتح ليٌن

واسترسال في جناح الطائر. وقوله: يهصر ظهره، يعني يثني ظهره ويحفظه. وقوله: ولا يصافح خدّه، أي يبرز صفحة خدّه ممايلًا في أحد الشّقين. وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: (وليعدل ظهره). (ونهى أن يدبح الرجل في الصلاةَ كما يدبح الحمار). وأراد أن يطأطئ رأسه في الركوع حتى يكون أخفض من ظهرِه. وروي ابن قتيبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التدبيح في الصلاةَ، وفسره بهذا التفسير. وروي عن عائشة رضي الله عنهأن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان في ركوعه مستويًا بحيث لو صب على ظهره ماء لا يستمسّك). وروي: ما انصّب. وأما أقلّ ما يجزئ في الركوع، فهو أن ينحني حتى تبلغ راحتاه ركبتيه حتى لو أراد [80 أ/2] وضعهما عليهما أمكنه ذلك، ثم يمكث بعد ذلك قليلًا حتى يطمئن، والُطمأنينة فيه واجبة. وقال أبو حنيفة: يجوز ما يقع اسم الركوع عليه، وهو أن ينحني قليلًا من غير طمأنينة، وهذا غلط لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخلَ المسجد، فدخلَ أعرابي فصلّى وأساء الصلاةَ، ثم جاء وسلّم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فردّ عليه السلام، وقال: (ارجع فصلِّ، فإنك لم تصلِّ)، فرجع وصلّى، ثم عاد وسلم، فردّ عليه السلام، وقال: (ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ)، فرجع وصلّى ثم عاد فسّلم، فردّ عليه السلام، وقال: (ارجع فصلِّ فإنك لم تصلِّ)، فقال: والذي بعثك بالحق لا أحسن غيرها، فعلمني ما يجزيني، فقال: (توضأ كما أمرك الله، ثم استقبل القبلة وقل: الله أكبرّ ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعًا ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائمًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا، ثم ارفع حتى تعتدل جالسًا، ثم اسجد حتى تطمئن ساجدًا ثم، ثم، ثم افعل ذلك في كل ركعٍة). وروي: (ثم افعل ذلك في صلاتك كلها)،. وروى أبو قتادة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (أسوأ السراق سرقة الذي يسرق من صلاته)، قيل: كيف يسرق من صلاته. قال: (لا يتّم ركوعها ولا سجوٌدها). فَرْعٌ آخرُ لو كان أقطع اليدين أو كانتا عليلتين. قال الشافعي: (ركع بحيث لو كانتا صحيحتين وضعهن على الركبتين، وإن كانت أحدهما صحيحة والأخرى عليلة قبض الركبة بالصحيحة وأرسل العليلة).

فَرْعٌ آخرُ قال: (لو أتى من الركوع بقدر الأجزاء أو الكمال، ثم سقط على وجهه قبل أن يعتدل قائما يلزمه أن ينتصب قائمًا، فيحصل له منه الرفع من الركوع والسجوٌد عن قيام). فَرْعٌ آخرُ قال: لو ترك وضع يديه على ركبتيه ثم اعتدل قائمًا فشك، هل أتى بقدر الأجزاء من الركوع أم لا؟ فعليه أن يعود لركوعه، لأن الأصل براءة الركوع من ذمته، حتى يتحقق براءتها منه 0 فَرْعٌ آخرُ إذا أدرك المأموم الإمام راكعا فقد أدرك الركعٍة لأنه أدرك معظم الركعٍة وهو أنه أدرك اثنين من الأركان الثلاثة، فإن ركع قبل رفع الإمام، فلا إشكال في أدارك الركعٍة، وإن رفع الإمام قبل أن يركع، فهو لا يكون مدركًا للركعٍة، وإن أخذ هذا يركع وأخذ الإمام يرفع، ُنِظَر، فإن لحق بإمامه قبل أن يرفع عن قدر الأجزاء فقد أدرك الركعٍة وإن رفع عن قدر الأجزاء [80 ب/ 2] قبل أن يصير المأموم إلى حّد الأجزاء لم يدرك الركعٍة. فَرْعٌ آخرُ لو رفع المأموم رأسه قبل الإمام فالمستحب أن يعود إلى الركوع، وإن كان قد أسقط عن نفسه الفرض، لأن عليه متابعة الإمام، فإن لم يعد حتى رفع الإمام رأسه، قال: كرهته له، ويعتد له بتلك الركعٍة، لأنه خلاف يسير. فَرْعٌ آخرُ قال: لو تعمد إلى رفع رأسه قبله يكره ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار). وروي: رأس كبٍش. وقال صاحب (الإفصاح): إذا لم ينِو الخروج من صلاته يحتمل أن يقال: بطلت صلاته، وهذا خلاف نص الشافعي. وقال ابن عمر رضي الله عنه: لا صلاةَ لمن فعل ذلك، وعندنا يؤمر أن يعود إلى موضعه 0 وبه قال أكثر الفقهاء، وقال بعضهم مكث في ركوعه بعد أن يرفع الإمام رأسه بقدر ما كان ترك منه.

فَرْعٌ آخرُ لو ركع الإمام ورفع ثم ذكر أنه ترك الذكر في الركوع لم يكن عليه العود للذكر، لأنه سنة فات وقتها، فإن خالف وعاد للذكر. قال الشافعي: (لا تبطل صلاته)، وقال الربيع فيه قوٌل آخر: بطلت صلاته. قال أصحابنا: ليست على قولين، وإنما هي على اختلاف حالتين، فالذي قال: لا تبطل إذا كان جاهلًا بأن كان يرى أن التسبيح في الركوع فرٌض، والذي قال: لا تبطل إذا كان عالمًا بأنه ليس بفرٍض، ولا يجوز العود له، وقيل: فيه قولان، ولا يصحّ. فَرْعٌ آخرُ إذا قلنا: تصحّ صلاته لو أدركه رجٌل في هذا الركوع فركع معه، قال الشافعي رضي الله عنه: (لا يكون مدركًا للركعٍة، ولا يحتسب له بهذه الركعٍة من صلاته، لأنه لا يعتّد بهذا الركوع من صلاةَ الإمام). وقال في (الإفصاح): يحتمل أن يكون مدركًا قياسًا على ما قاله فيمن قام إلى الخامسة، فأدركه رجل في هذه الركعٍة يحتسب له بها، وإن لم تكن محسوبة للإمام، وهذا غلط، لأن من أدرك الإمام في الركعٍة الخامسة في أول الركعٍة وصلاها معه يعتدّ له بها فعلها بنفسه، فيتعلق الاحتساب بفعله، لا بفعل الإمام حتى لو أدركه راكعًا في هذه الركعٍة الخامسة لا يعتدّ له بهذه الركعٍة، لأن الاحتساب يتعلق بفعل الإمام، ولا يحتسب ذلك للإمام فكيف للمأموم. وذكر الإمام السنجي وجهًا آخر: أنه لا يعتدّ له وإن أدركه في أول الخامسة، لأنها لغٌو في حق الإمام [81 أ/ 2]، وهكذا نقول لو كان الإمام جنبًا، فأدركه رجل في الركوع لا يعتدّ له بهذه الركعٍة، لأنه لا يحتسب للإمام به. فَرْعٌ آخرُ لو ركع الإمام، فلما أراد أن يعتدل قائمًا سقط على وجهه فعليه أن ينتصب قائمًا على ما ذكرنا فلو كبرّ رجل خلفه فركع وقد انتهى الإمام في أثناء قيامه إلى حّد الركوع واجتمعا على هذه الصفة لم يعتدّ له بهذه الركعٍة أيضًا، لأن الركوع قد سقط عنه قبل سقطته. مَسْألةٌ: قال: (يقول إذا ركع: سبحان ربي العظيم ثلاثًا، وهذا أدنى الكمال). وهذا كما قال: الذكر في الركوع والسجوٌد مستحب وليس بفرٍض، وهو التسبيح. وقال أهل الظاهر والحسن وأحمد وإسحق: يجب تسبيحه واحدة حتى لو تركها عمدًا بطلت صلاته ولو تركها ساهيًا سجد للسهو. وقال داود: هي واجبة إلا أنه إذا تركها

عمدًا لا تبطل صلاته. وهكذا الخلاف في تكبيرًات الركوع والسجوٌد والتسميع. وقوله: رب اغفر لي بين السجدتين. واحتجوا بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علّم رجلًا الصلاةَ، وقال: ثم قل: (الله أكبرّ، ثم اركع، هذا غلٌط لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للأعرابي المسيء صلاته، (ثم اركع حتى تطمئن راكعًا، ثم ارفع رأسك حتى تعتدل قائمًا)، الخبر. ولم يأمره بالتكبير ولا بالتسبيح وما ذكروه من الخبر محموٌل على الاستحباب. واحتجوا بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سبّح، فقال: (سبحان ربي العظيم في الركوع). وقال: (سبحان ربي الأعلى في السجوٌد)، ثم قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) قلنا: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل في صلاته المسنون والمفروض، فنحن نفعل المسنون مسنونًا، والمفروض مفروضًا حتى يكون كفعله سواء، واحتجوا أنه لما نزل قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74]، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (اجعلوها في ركوعكم) ولما نزل قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (اجعلوها في سجودكم). قلنا: أراد استحبابًا لأن عندهم يجوز ذكر آخر غير هذا. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا ركع أحدكم فليضع يديه على ركبتيه، ثم يمكث حتى يطمئن كل عظٍم في مفاصله [81 ب/2]، ثم يسّبح ثلاث مراٍت، فإنه يسبح الله عزّ وجلّ من جسده ثلاثة وثلاثون وثلثمائة عظم وثلثمائة وثلاثة وثلاثون عرقًا، وإذا سجد، فليسّبح ثلاثًا، فإنه يسّبح من جسده مثل ذلك). واحتجوا بما روي أنه علّم رجلًا الصلاةَ، قال له: (إذا ركعت فقل: سبحان ربي العظيم ثلاثًا)، وذلك أدناه، (وإذا سجدت فقل: سبحان ربي الأعلى ثلاثًا، وذلك أدناه). وقال على رضي الله عنه: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا، قلنا: معناهُ، وذلك أدنى الكمال. والكمال أقلّ وأكثر كما الثلاث، ولأن عندهم لا يجب التثليث، فلا حّجة فيه 0 واحتجوا بأن في القيام يجب الذكر، وكذلك في الركوع والسجوٌد، قلنا: لأن القيام ينقسم إلى عادٍة وعبادٍة، فيحتاج إلى التمييز بالذكر والركوع في نفسه عبادٌة لا تشاركه العادة، فلا حاجة فيه إلى الذكر. والدليل على الفرق أنه لا يجبر الذكر بالسجوٌد عند النسيان في القيام بخلاف الذكر في الركوع.

فَرْعٌ قال بعض أصحابنا. أتم الركوع في التسبيح إحدى عشر تسبيحه أو تسع وأوسط الكمال خمس وأدنى الكمال ثلاٌث، كما قال الشافعي، وحكي الطحاوي عن الثوري أنه كان يقول: ينبغي للإمام أن يقول: سبحان ربي العظيم خمسًا، حتى يدرك الذي خلفه ثلاثًا. وقال ابن المبارك: الأفضل للمنفرد خمٌس وللإمام ثلاث، وهذا أحَسن مما قال الثوري. والدليل على ما ذكرنا. ما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ركع قال: (سبحا ن ربي العظيم ثلاثًا، وإذا سجد قال: سبحان ربي الأعلى ثلاثًا)، ولأن المأموم يسجد معه فما أمكن الإمام من ذلك أمكن المأموم. وقيل: أعلى الكمال أن يسبح ثلاثًا، ثم يزيد عليها ما قال الشافعي. روي عن علي بن أبي طالب وأبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا ركع، قال: (اللهم لك ركعت ولك أسلمت وبك أّمنت وأنت ربي خشع لك سمعي وبصري ومخي وعظامي وشعري وبشري، وما استقلت به، فدمى لله رب العالمين)، وهذا أفضل من جنس التسبيحات [82 أ/ 2]. قال في (الأم): وأحب أن لا يقتصر على هذا إمامًا كان أو منفردًا، وهو تخفيٌف لا يثقل، وهذا صّحيح. قال: فإن زاد من جنس التسبيحات، فلا بأس، فيسبح في الركعتين الأوليين إحدى عشرة، وفى الأخريين سبعًا سبعًا، لما روى معاذ بن جبل رضي الله عنه، قال: (كنا نصلي خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيسبح في الركعتين الأولتين في الركوع والسجوٌد إحدى عشرة، وفي الأخيريين سبعًا سبعًا). ذكره في (الإفصاح)، وقال في (الحاوي): الإمام يقتصر على التسبيح َوْحَده ليخفف على من خلفه. فَرْعٌ آخرُ قال ابن المنذر، قيل لأحمد بن حنبل يقول: سبحان ربي العظيم وبحمده، فقال: أما أنا فلا أقول: وبحمده، وعندي يقول ذلك لما روى حذيفة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في ركوعه: (سبحان ربي العظيم وبحمده) ثلاثًا، ولأنه زيادة حمٍد، ومعناهُ، وبحمدك سبحتك. وروى أبو داود بإسناده عن عائشة رضي لله عنها، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول

في ركوعه وسجوٌده: (سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، اللهم اغفر لي). يتأول القرآن، وأراد- قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3]. فَرْعٌ آخرُ لو ترك الذكر كله فيه لم يسجد للهو عامدًا كان أو ساهيًا. قال الشافعي: ويكره أن يقرأ القرآن في ركوعه وسجوٌده، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه، وذلك ما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إني ُنهيت أن أقرأ راكعًا أو ساجدًا، فأما الركوع فعظموا فيه الرب). وأما السجوٌد فاجتهدوا في الدعاء فقمٌن أن يستجاب لكم). وقوله: فإنه فقمٌن أي: جدير وحري أن يستجاب لكم، ويقال: قمن بفتح الميم، فإن قرأ فيه عامدا أو ساهيا سجد للسهو، وهذا لأن كل موضع شرعت فيه القراءة كرهت فيه غير القراءة، فلذلك كل موضع شرع فيه غير القراءة من الذكر كرهت فيه القراءة. وقال في (الحاوي): إن قرأ غير الفاتحة جازت الصلاةَ، وإن أساء وفي سجوٌد، وجهان [82 ب/2]، وإن قرأ الفاتحة، هل تبطل صلاته؟ وجهان: أحدهما: تبطل لأنه أتي بركٍن منها في غير محله. والثاني: لا تبطل لأن القراءة ذكر فخفف عن حكِم الأفعال في إبطال الصلاةَ، ولكنه يسجد من أخلها سجوٌد السهو وجهًا واحدًا. مَسْألةٌ: قال: (وإذا أَراد أن يرفع ابتدأ بقوله مع الرفع: سمع الله لمن حمده). الفَصْل وهذا كما قال إذا فرغ من الركوع يلزمه أن يرفع رأسه منه، ويعتدل قائما، ويطمئن فيه لا يجزئه غير ذلك. وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: لا يجب شيء من ذلك، بل ينحط من ركوعه ساجدًا. واختلف أصحاب مالٍك في ذلك على قولين، وهذا غلط لخبر الأعرابي الذي ذكرنا، ولأنه ركن هو خفض فالرفع منه فرٌض كالسجوٌد، فإذا تقرر هذا يفعل ثلاثة أشياء في حالٍة واحدٍة: يرفع صلبه ويرفع يديه، ويقول: سمع الله لمن حمده، فإذا انتصب قائمًا يقول: ربنا لك الحمد، سواء كان إمامًا أو مأمومًا، أو منفردًا. وبه قال أبو برزة من الصحابة وعطاء وابن سيرين وإسحاق. وقال أبو حنيفة ومالك: الإمام يقول: سمع الله لمن حمده، والمأموم يقول: ربنا لك الحمد. واختاره ابن المنذر. وقد قال أبو حنيفة: المنفرد يجمع بينهما. وقال الثوري وأبو يوسف ومحمد وأحمد: يأتي الإمام بهما، والمأموم لا يزيده على قوله: ربنا لك الحمد.

واحتجوا بما روى أبو هريرة رضي الله عنهأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إذا قال الإمام: سمع الله لمن حمده، فقولوا: ربنا لك الحمد)، وهذا غلط لما روى ابن عمر رضي الله عنهأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا قال: (سمع الله لمن حمده، قال: ربنا ولك الحمد)، وقال: (صّلوا كما رأيتموني أصلي) وذلك عام في الإمام والمأموم. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبرّ فكبرّوا، وإذا قال: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد فقولوا مثل ذلك). وأما خبرهم يحتمل أنه قال ذلك، لأنهم لا يسمعون الإمام يقولها، فإنه [83 أ/2] إنما يجهر بسمع الله لمن حمده، وحده ولم يأمرهم بها لأن المأموم يقتدي بالإمام في جميع الأذكار، فلا يخفى عليهم ذلك. وذكر الطحاوي أن الشافعي خالف الإجماع في هذا، وقد روينا عن جماعة ما قلنا: حتى يعلم بطلان قوله، فإذا تقرر هذا، فمعناهُ الدعاء لحامد الله تعالى بالإجابة كأنه يقول ليسمع الله، وليستجيب لمن يقول: ربنا لك الحمد بعد قوله: سمع الله لمن حمده ليصير بذلك من الحامدين، فيستحق إجابة الله تعالى وسماعه لحمده، ولهذا قال أبو حنيفة: الإمام يقول: سمع الله لمن حمده، ولا يأتي بالحمد، لأنه يندب من خلفه إلى الحمد، والقوم يقولون: ربنا لك الحمد، ولا يقولون: سمع الله لمن حمده، لأنهم منتدبون إلى ما ندبهم الإمام إلّيه، وعندنا لكل واحٍد منهما، يستحب ذلك، فكأنه ندب نفسه إلى الحمد، ثم ينتدب إلّيه غيره كالمنفرد ويجمع بينهما لهذا المعنى، وهذا كما إذا قرأ فاتحة الكتاب، يقول: آمين، لأن النصف الأخير من الفاتحة دعاء من القارئ فندب القارئ إلى أن يقول: آمين على دعاء نفسه كما ندب السامع إلّيه كذلك ههنا. فَرْعٌ آخرُ قال في (الأم): وإن شاء قال: اللهم ربنا لك الحمد، وهذا لأنه رواه علّي وأبو هريرة رضي الله عنه بهذا اللفظ، قال: ولو قال: من حمد الله سمع له لم يكن عليه إعادة، وأجزأه، وأن يقول: سمع الله لمن حمده اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان أحّب إلّي، قال: ولو قال: لك الحمد ربنا اكتفى وأن يقول: ربنا ولك الحمد اقتداء برسول - صلى الله عليه وسلم - كان أحّب إلّي. واعلم أنه روي: ذلك الحمد بالواو. وروي من غير الواو، والواو فيه زيادة يقال: يعنى هذا الثواب بعشرة، فيقول: هو لك بعشرة. فَرْعٌ آخرُ قال ويستحب أن يزيد عليه ما روي عن علي رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا رفع

رأسه: (ربنا لك الحمد، ملء السماوات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شيء بعده،. وعند أبي حنيفة لا يسن ذلك. قال: والدعاء الكامل ما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: كان النبي - صلى الله عليه وسلم -، يقول ذلك ويزيد (أهل الثناء والمجد [83 ب/2] حق ما قال العبد: كلنا لك عبُد لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجّد، ويستحب أن يقول هذا كّل مصلٍّ من إماٍم ومأموم ومنفرد. ذكره أبو حامٍد، وقال بعض أصحابنا: هذه الزيادة يستحب للمنفرد دون الإمام لئلا يطول على القوم، وهذا أصح عندي. فَرْعٌ آخرُ لو اعترضته علة منعته من الركوع سجد عن ركوعه، فإن زالت العّلة نظر، فإن كان زوالها قبل سجوٌده عاد إلى القيام، وإن زالت قد وضع جبهته على الأرض، لم يعد لقيامه، لأنه قد سقط عنه، فإن خالفه وقام نظر، فإن كان عالمًا عامدًا بطلت صلاته، وإن كان جاهلًا أو ناسيًا لم تبطل صلاته وسجد للسهو. فَرْعٌ آخرُ قال: ولو قرأ في اعتداله القرآن كان عليه سجوٌد السهو، وإن طال القيام بعد الرفع يذكر الله تعالى، ويدعو ساهيًا لا ينوي به القنوت، فلا سجوٌد عليه للسهو، ولو أطال القيام ينوي به القنوت كان عليه سجوٌد السهو. والفرق أن الدعاء لغير القنوت غير مقصود ودعاء القنوت مقصود، فإذا أتى به في غير موضعه ساهيًا سجد كالقراءة. مَسْألةٌ: قال: (فإذا هوى ليسجد ابتدأ التكبير قائمًا). الفَصْل وهذا كما قال: إذا فرغ من الذكر حال الانتصاب ابتدأ بالسجوٌد والتكبير معًا، ولا يرفع يديه ههنا ويكون في التكبير، وهو يهوي حتى ينتهي التكبير مع أول السجوٌد، واختار القفال ههنا أن يحذفه ولا يمدّه، وذكر أنه أحد القولين، فإذا سجد وضع على الأرض ما كان إليّها أقرب ركبتيه ثم يديه ثم أنفه وجبهته دفعًة واحدًة. وبه قال أبو حنيفة وإسحق وأحمد في أصح الروايتين. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو مذهب النخعي والثوري. وقال الأوزاعي: يضع يديه قبل ركبتيه. وبه قال زفر، وقال أصحاب مالك إن شاء وضع التدين وإن شاء وضع الركبتين، ووضع اليدين أحَسن. واحتجوا بما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (إذا سجد أحدكم فلا

يبرك كما يبرك البعير، وليضع يديه قبل ركبتيه). وروى ابن عمر رضي الله عنه نحوه، وهذا غلط [84 أ/ 2] لما روى وائل بن حجر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -. كان (إذا سجد وضع ركبتيه قبل يديه، وإذا نهض رفعه يديه قبل ركبتيه)، ولأن اليدين تسبقان الركبتين في الرفع فوجب أن تتأخر عنهما في الوضع كالجبهة مع اليد. وأما خبرهم، قلنا: روي أنه منسوخ. وقد قال سعد رضي الله عنه (كنا نضع اليدين قبل الركبتين، فأمرنا بوضع الركبتين قبل اليدين)، فإن خالف فوضع يديه أولًا أجزأه وترك المستحب، فإذا تقرر هذا فالكلام الآن في السجوٌد في فصلين: أحدهما: في أعضاء السجوٌد. والثاني: في نفس السجوٌد. فأما الكلام في أعضائه ففي فصلين: أحدهما: في الكمال. والثاني: فيما يقع به الأجزاء، فالكمال أن يقع غلى الأرض ثمانية أعضاء: الأنف والجبهة واليدين والركبتين وأطراف أصابع القدمين لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (أمرت أن أسجد على سبع، وأن لا أكف الشعر والثياب الجبهة والأنف واليدين والركبتين والقدمين). ومد الجبهة والأنف معًا لاتصاله بها ومقارنته لمساواتها. وقوله: لا أكف الشعر، قال عطاء: معناهُ، الشعر عن الأرض. وكانوا يكرهون أن يسجد وهو قاُص شعره، وكذلك الثياب لا يجمعها ويدعها تقع على الأرض. وروي: لا يكفت شعرًا ولا ثوبًا، أي: لا يجمع. وأما الأجزاء، فلا يختلف المذهب أن السجوٌد على الجبهة، ولا يجوز ترك فرضها فيه عند القدرة، ولا خلاف عندنا أن وضع الأنف لا يجب، وإنما هو شرط الكمال، فإن اقتصر على وضع الجبهة أجزأه وإن اقتصر على الأنف لم يجزه. وبه قال الحسن وعطاء وطاوس وابن سيرين والثوري وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور ومالك. وقال سعيد بن جبير: يجب السجوٌد عليهما حتى لو أخّل بأحدهما لم يجز، وبه قال النخعي وعكرمة وإسحق والأوزاعي وأحمد في رواية. واحتجوا بما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا ما يصيب أنفة من الأرض، فقال: (لا صلاةَ لمن لا يصيب أنفه من الأرض ما يصيب الجبين)، أو قال: «ما يمس الجبين)، وهذا غلط لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: (أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يسجد على سبع)، ولم يذكر [74 ب/2]. الأنف. وقال جابر: (رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سجد بأعلى جبهته على قصاص الشعر، وعلى

هذا لم يسجد على الأنف. وأما خبرهم، قلنا: قال، الدارقطني هو مرسل ثم نحمله على الفضيلة. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: يتعين الأجزاء لكل واحٍد من الجبهة والأنف على الانفراد فعلى أيهما سجد جاز لأن الأنف والجبهة عضُو واحُد، وهذا غلط لما ذكرنا من الخبر. وروى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إذا سجدت فأمكن جبهتك من الأرض). وروى ابن عباس أنه قال: (مكن جبهتك من الأرض حتى تجد حجمها). وما ذكره يبطل بعظم الرأس، فإنه متصل بعظم الجبهة، ولا يجوز السجوٌد عليه، وكذلك لا خلاف أنه يجوز السجوٌد على حّده. وأما غير الجبهة والأنف من أعضاء السجوٌد من اليدين والركبتين والقدمين. قال في (الإملاء): يجب وضعها في السجوٌد، وبه قال أحمد وإسحاق. وروى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إذا سجد أحدكم فوضع جبهته فليضع يديه، وإذا رفع رأسه، فليرفع يديه فإنهما يسجدان له كما يسجد وجهه). وثم في (الأم) عنى قولين: أحدهما: المشهور وظاهُر المذهب. والثاني: لا يجب وضعها. وبه قال أبو حنيفة ومالك وأكثر الفقهاء، وهو الأصح. واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: (سجد وجهي للذي خلقه). الخبر فدّل على أن السجوٌد للوجه فقط، ولأنه لا يجب كشفها في السجود، فلا يجب وضعها. ووجه القول الآخر خبر ابن عباس رضي الله عنه. فَرْعٌ إذا قلنا: لا يجب وضعها فالواجب وضع الجبهة فقط فلو تمكّن من وضعها دون سائر الأعضاء أجزأه وكما شاء وضع هذه الأعضاء مكشوفة ومستورة وراحتيه أو ظهور كفيه. الباب واحُد. فَرْعٌ آخرُ لو كانت بجبهته علة يدني جبهته من الأرض أقصى ما يمكنه ولا معنى لوضع الأنف. وحكي عن أبى يوسف أنه قال: إن كانت بجبهته علة جاز السجوٌد على الأنف، وإن لم يكن علة لا يجوز.

فَرْعٌ آخرُ إذا قال: يجب وضع الأعضاء كلها فالكمال أن يضع بطون كفيه وأصابعهما على الأرض وكذلك ركبتيه وبطون أصابع رجليه، فإن اقتصر على وضع بعض كل واحد منها من الأصابع، [85 أ/ 2] أو راحتيه أجزأه. ثم عليه في (الأم). فَرْعٌ آخرُ الكمال في الجبهة أن يضع بضعها كلها على الأرض، فإن اقتصر على وضع بعضها. قال في (الأم): (كرهته وأجزأه) وقال أيضًا: (لو عصبت جبهته بخرقة مشقوقة فوضع موضع الشق على الأرض جاز ولو سجد على عظم رأسه وشيء من جبهته أجزأه). فَرْعٌ آخرُ كشف الجبهة واجُب. وعليه أن يسجد على الأرض، أو على حائل منفصل منه كالبساط والحصير، فإن سجد على ما هو حامله من طرف الرداء أو كور العمامة لا يجوز. وبه قال علي وابن عمر وعبادة بن الصامت رضي الله عنه ومالك. وقال أبو حنيفة: يجوز السجوٌد على كور العمامة وكمه، ولو سجد على يده، ويجوز. وبه قال الحسن وحكاه صاحب (الشامل) عن مالٍك وأحمد وروي عن شرح أنه كان يسجد على برنسه. واحتجوا بما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أنه سجد على كور العمامة)، وهذا غلط لما روى خباب ابن الأرت رضي الله عنه، قال: (شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حّر الرمضاء في جباهنا وأكفنا فلم يشكنا)، أي: لم يقل شيئًا وروى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إذا سجدت فمكن جبهتك من الأرض ولا تنقر نقرًا). وروى ابن عبد الحكم في كتابه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يسجد وقد اعتّم على جبهته فحسر عنها وقال: إذا سجدت فمّكن جبهتك من الأرض). وأما خبرهم لا أصل له ثم إن صّح نحمله على أنه سجد على بعض جبهته معه. وقد روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إذا سجد أحدكم فليضع جبهته بين يديه، فإذا رفع رأسه فليرفع يديه فإنهما يسجدان لله كما يسجد وجهه). فَرْعٌ آخرُ قال: ولو انقلب يريد السجوٌد، فماست جبهته الأرض أجزأه السجوٌد، ولا فرق بين

أن لا ينقلب وبين أن ينقلب إلى السجوٌد من غير تعود في أن السجوٌد معتد به. [85 ب/2] فَرْعٌ آخرُ قال: ولو أنه هوى ليسجد، فسقط على بعض جسده ثم انقلب على وجهه فماّست جبهته الأرض لم يعتدّ بهذا السجوٌد، لأنه انقلب لغير إرادة السجوٌد وانعطفت نيته الأولى، كما لو نوى فتوضأ ثم غسل بعض الأطراف لتبرد أو تتنظف لم يجز، لأنه فعل لغير الطهارة. قال: ولو هوى على وجهه يريد السجوٌد فوقع على جبهته وكان على إرادته لم يحدث غير السجوٌد إرادًة أجزأه. فَرْعٌ آخرُ قال: لو سجد على ذيل رجل آخر أو ظهره ولم يكن مرتفعًا بحيث يخرج هذا الساجد عليه عن صورة الساجدين يجوز. فَرْعٌ آخرُ لو سجد على موضع عاٍل، فإن كان بحيث لا يكون ظهره أعلى من رأسه ورقبته، لا يجوز لأنه لا يسمى سجوٌدا، وإن كان ظهره أعلى من رأسه ورقبته يجوز، ويكره إذا لم يكن له عذر. فَرْعٌ آخرُ إذا قلنا: يجب وضع سبعة أعضاء في السجوٌد، هل يجب كشفها، قال في (الأم). ولا أحب كشف الركبتين بل أحب أن يكونا مستورتين، ولا أحب تخفيف الثياب عنهما، لأن سترهما من تمام ستر العورة وأما القدمان إن كانت في الخفين أجزأه السجوٌد عليهما فيهما، وإن كانتا في النعلين، فالمستحب أن ينزع النعلين ويكشف عن موضع السجوٌد منهما، فيسجد على الأرض وعلى حائل ينفصل عنه، فإن لم يفعل أجزأه. وأما اليدان، فيه قولان. قال في (الأم): وفي السبق والرمي الكشف مستحُب غير واجٍب وهذا أصح. وقال في موضٍع آخر. وقيل: فيه قوُل آخرُ يجب كشفهما ووجهه خبر خباب بن الأرت، ووجه القول الأول أنه عضو أعضاء السجوٌد، ولا يبرز في العادة إلا لحاجة فلا يجب كشفه في السجوٌد كالقدمين. وأما خبر خباب، قلنا: نحمله على أنه لم يشكهم من أجل الجبهة.

فَرْعٌ آخرُ إذا قلنا لا يجب كشفهما فحكمهما حكم الرجلين، وإذا قلنا: يجب كشفهما فحكمهما حكم الجبهة، ولو وضع ظاهُر الكفين مكشوفًا على هذا القول. ثم في (الأم) أنه لا يجوز. وأما نفس السجوٌد فالكمال فيه التخوية، [86 أ/ 2] فهي أن يجافي مرفقيه عن جنبيه، ويقل بطنه عن فخذيه لما روى البراء بن عازب رضي الله عنهأن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان إذا سجد خوي)، وفي رواية (لجج)، واللجج التخوية. وروى يزيد بن الأصم عن ميمونة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان إذا سجد جافى يديه حتى لو أرادت بهيمة أن تمّر تحته مّرت). وروى ابن بحينة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان إذا سجد فّرج يديه عن جنبيه). وروى أحمد بن جري صاحب النبي - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (كان إذا سجد جافى عضديه على جنبيه حتى نأوي له). أورده أبو داود ومعنى نأوي له، أي: نرق له. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - من خلفه فرأيت بياض إبطيه وهو مجنح قد فّرج يديه. وقوله: هو مجنح، أي: رفع مؤخره ومال قليلًا. قال الشافعي: (يجافي حتى إن لم يكن عليه ما يستره رأيت عفرة إبطيه)، أي: سواد إبطيه ويكنى عن ذلك العفرة، كما يقال للحبشي أبو البيضاء ويفّرج بين فخذيه ورجليه ويضع يديه حذو منكبيه. قلنا: رواه وائل بن حجر رضي الله عنه. وقال أبو حنيفة: يضع حذو أذنيه ويضم أصابعه بعضها على بعض ويضم الإبهام إليّها ضمًا بخلاف الركوع. والفرق أن هناك يقبض على ركبتيه. والتفريق أمكن له بخلاف السجوٌد، ولأنه يستحب أن يستقبل بكلها القبلة، ولا يستحب ذلك في الركوع أن يوجهها نحو القبلة، فلهذا يضم الأصابع ههنا دون الركوع ويرفع ظهره، ولا يحدودب ولا يعمد رفع وسطه عن أسفله وأعلاه، ويكون على صدور قدميه وعلى أصابع رجليه، فيضع بطول أصابع رجليه على الأرض لتكون رؤوس الأصابع إلى القبلة، وهكذا فسره بعد ذلك. قال: ويوجه أصابعه نحو القبلة ولم يقله، أي: رؤوس الأصابع. كما ذكرنا في أصابع اليد. وقال القفال: من أصحابنا من قال قوله: ويوجه أصابعه نحو القبلة لم يقل به الشافعي، وهو بخلاف قوله، ويكون على أصابع رجليه، لأنه إذا نصب الأصابع، [86 ب/ 2] فظهورها إلى القبلة، فإن أضجعها وحّول رؤوسها إلى القبلة لم يكن على أصابع رجليه. وفي هذا نظُر، وقد بّينا ما يزيل الإشكال، ويكره أن يفرش ذراعيه في السجود.

وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن افتراش السبع في الصلاةَ). قال أبو عبيد: هو أن يلصق ذراعيه بالأرض في سجوٌده. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إذا سجد أحدكم فلا يفترش ذراعيه افتراش الكلب)، وافتراش الذراعين ما ذكرنا. وروى البراء بن عازب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إذا سجدت فضّم كفيك وارفع مرفقيك)، وقيل في أدب الصلاةَ: ادعم على راحتيك، وأبدل ضبعيك. والإدعام: مأخوُذ من الدعامة. والضبعان: العضدان، وأبدادهما: هو نزعهما، يقال: أبد فلاُن يده إذا مدها. ثم إذا دخَل في السجوٌد على الوجه الذي ذكرنا مكث في السجوٌد مقدار ما يطمئن فيه. والطمأنينة في السجوٌد واجبة، وهى أن يسكن مقدار ما تسكن جوارحه خلافًا لأبي حنيفة. مَسْألةٌ: قال: (ويقول في سجودة: سبحان ربي الأعلى ثلاثًا وهو أدنى الكمال). وهذا كما قال: الكلام الآن في أدنى الكمال وأعلاه. وجملته أن الذكر في السجوٌد مسنوٌن، وهو أن يقول: سبحان ربى الأعلى، وأدنى الكمال أن يقول ثلاثًا، وأعلى الكمال أن يضيف إلّيه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في سجوٌده: (اللهم لك سجدت، ولك أسلمت، وبك أّمنت، وأنت ربي، سجد وجهي للذي خلقه، وشّق سمعه وبصره، تبارك الله أحَسن الخالقين). ورواه علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ذكره في (الأم). قال: ويجتهد في الدعاء لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا من الدعاء. أما الدعاء بعد الكمال فمستحب. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو في سجوٌده، فيقول: اللهم اغفر لي ذنبي كله دقه وجلّه آخره وأوله علانيته وسّره) [87 أ/2]. وحكي عن الشافعي رحمة الله عليه أنه كان يقول في سجوٌده: وسجد وجهي حقًا حقًا تعبدًا ورقاً. وقال في (الأم): (ويدعو بعد هذا الذكر بما أحب رجاء الإجابة). ويستحب الدعاء للإمام ما لم يثقل على المأمومين، وإن كان مأمومًا اجتهد في الدعاء ما لم يخالف الإمام في الإتباع.

وقال في (الإملاء): لا يزيد على الدعاء الذي ذكرناه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والأول أصح لما روينا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (فأكثروا من الدعاء). وقيل: قال في (الأم): (الدعاء بعد الكمال يأتي به الإمام أيضًا كما يأتي بها على الكمال). وقال في (الإملاء): لا يزيد الإمام على الكمال. وهذا أصح عندي لئلا يؤدي إلى المشقة بالمأمومين. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لو أتى بذكر آخر سوى التسبيح فيه جاز، وإن كان الأفضل التسبيح لما روي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: افتقدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فراشي ليلة النصف من شعبان، فأخذني ما يأخذ النساء من الغيرة، فطلبته فلم أجده، [فظننُت أَّنما انسَّل إلى بعض نسائه، فإذا أنا به ساجُد كالثوب الطريح، فسمعته] يقول: (سجد لك سوادي وخيالي وأّمن بك فؤادي، وهذه يدي التي جنيت بها على نفسي يا عظيم، يا رجاء كل عظيم، اغفر الذنب العظيم، فإنه لا يغفر الذنب العظيم إلا الرب الكريم، ثم رفع رأسه ثم سجد، وقال: (أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصى ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك أقول كما قال أخي داود: أعفر وجهي في التراب لسيدي، وحق لسيدي أن أسجد له). فلما فرغ من صلاته، قال: ما لك؟ أخذك شيطانك؟ فقلت: بأبي أنت وأمي أنت في واد، ونحن في واد). ومعنى ذلك الاستغفار من التقصير في بلوغ لواجب من حق عبادته والثناء عليه. وقوله: لا أحصي ثناء عليك، أي لا أطيقه ولا أبلغه. وقال بعض أصحابنا: لو قال في سجوٌده: سّبوح، قّدوس، رب الملائكة، والروح القدس. فهو حسن لما روت عائشة رضي الله عنه، قالت: كان رسول الله [87 ب/ 2]- صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك في سجوٌده. مَسْألةٌ: قال: (ثم يرفع مكبرًا كذلك حتى يعتدل جالسًا على رجله اليسرى وينصب رجله اليمنى). وهذا كما قال إذا انتهى الدعاء في السجوٌد يرفع مكبرّا، ويكون ابتداء الرفع مع ابتداء التكبير، فيكون فيه، وهو يرفع حتى يكون انتهاء التكبير مع انتهاء الجلوس. والجلوس ركن، والطمأنينة فيه ركنُ. وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجب هذا الجلوس أصلًا، ويكفيه أدنى رفع حتى لو رفع قدر ما يسع من الأرض وجبهته حدّ سيٍف. وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: يجب أن يرفع حتى يصير إلى الجلوس أقرب منه

إلى السجوٌد، وفي الركوع يجب أن يرفع حتى يكون إلى القيام أقرب منه إلى الركوع، وهذا ليس بمشهور، فإذا ثبت هذا فصفة الجلوس أن يكون مفترشًا، وهو أن يفترش رجله اليسرى، فتجعل ظهرها إلى الأرض ويجلس عليها، وينصب أليمنى ويضع بطون أصابعها على الأرض، ويستقبل بأطرافها القبلة. والإقعاء مكروه، وهو أن يضع إليتيه على عقبيه ويقعد عليها مستوفزًا غير مطمئن على الأرض وذلك اقعاء الكلاب والسباع، إنما أن تقعد على مؤخرها وتنصب أفخاذها وقال أبو عبيد: هو أن ينصب رجليه في هذا، وقال غيره: هو أن يفترش رجليه وكلاهما مكروه، وبهذا قال جماعة العلماء. وروي كراهته عن على وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنه. وروي عن على رضي الله عنهأن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن الإقعاء في الصلاةَ) وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (نهى عن عقب الشيطان في الصلاةَ). قال ابن قتيبة: هو أن يضع إليتيه على عقبيه في الصلاةَ من السجدتين. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه سئل عن الإقعاء، فقال: هو سنة نبيكم، وقال طاوس، قلنا لابن عبا س في الإقعاء، فقال: هو السّنة، قلنا: إنا لنراه. جفا بالرجل، فقال: سنة نبيك. وقال أحمد بن حنبل: أهل مكة يستعملون الإقعاء. وقال طاوس: رأيت العبادلة يفعلون ذلك [88 أ/ 2]، ابن عمر وابن عباس وابن الزبير رضي الله عنه، قلنا: قد كان هذا وُنِسخ بدليل ما ذكرنا وقد وصف أبو حميد صلاةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر هذا. وقد روي عن ابن عمر أنه قال لبنيه: لا تقتدوا بي في الإقعاء، فإني إنما فعلت هذا حين كبرّت. وقال صاحب (الإفصاح): حكي عن الشافعي قول آخر: أنه يجلس على صدور قدميه، والأول أصح، فإذا تقرر هذا يستحب أن يقول في هذه الجلسة: رب اغفر لي وارحمني وأجرني وأهدني. وروي: اللهم اغفر لي وارحمني وعافني وأهدني وارزقني. وقال القفال: روى الشافعي بإسناده عن علي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول فيه: (اللهم اغفر لي وارحمني وأجرني وأهدني). وأصحابنا رووا زيادة، وقد ذكرنا، وهذا حسن، ولو بلغ الشافعي لقال، وزادت أم سلمه رضي الله عنها: (وأهدني للسبيل الأقوم). وقال أبو حنيفة: لا يسّن ذلك، وهذا غلط لما ذكرنا، ولئلا يخلو هذا الفعل عن الذكر. قال الشافعي: (ثَّم َيْسُجُد َسْجَدًة ُاخَرى َكذلِك)، وهذا صّحيح. مسألة: قال: (فإذا استوى قاعدًا نهض معتمدًا على يديه).

وهذا كما قال: أراد إذا استوي قاعدًا بعد السجدتين والجلسة أنه يرفع من السجدة الثانية مكبرّا فيستوي جالسًا، ثم ينهض. وهذه رواية المزني. وقيل: يستحب أن يكون بقدر الجلسة بين السجدتين، ولا يزيد عليها. وقال في (الأم): يقوم من السجدة الثانية، ولم يأمر بالجلوس. وقال فيه أيضًا: إذا أراد القيام من السجدة الثانية كبرّ مع رفع رأسه حتى يكون انقضاؤه مع استوائه جالسًا، فلم يستحب الجلوس من السجدة الثانية إلا للشّهد. فاختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: المزني ثقة فتضم روايته إلى ما قاله في (الأم) ففي المسألة قولان. وعلى هذا القول في الصلاةَ أربع جلسات، وتسمى هذه الجلسة، جلسة الاستراحة، وهي مستحبُة غير واجبة. ومن أصحابنا من قال: هو اختيار أبى إسحق، هذا على اختلاف حالين، فإن كان كبيرًا ضعيفًا جلس للاستراحة كما [88 ب/2] نقل المزني، ومن كان شابًا قويًا لا يجلس كما قال في (الأم). وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحق: لا يستحب هذا الجلوس أصلًا، واحتجوا بما روى وائل بن حجر رضي الله عنه بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان إذا رفع رأسه من السجوٌد استوي قائمًا بتكبيره). وهذا غلط لما روى أبو حميد الساعدي في صفة صلاةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهذا الجلوس. وهذه الرواية في عشرة من الصحابة، فكانت أولى. وروي أن مالك بن الحويرث رضي الله عنه حكي صلاةَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال: (فلما قام من السجدة الثانية من الركعٍة الأولى جلس ثم نهض معتمدًا على يديه). فإذا تقرر هذا. قال أبو إسحاق: إذا جلس قضى تكبيرة مع جلوسه، ثم نهض إلى القيام من غير تكبير، لأن التكبير للرفع من السجوٌد دون الذهاب إلى القيام، ولا يجوز أن يبتدئ للقيام بالتكبير، لأنه يؤدي إلى الموالاة بين التكبيرتين، ويخالف إذا قام إلى الثالثة من التشهد حيث يكبرّ، لأنه لا يؤدي إلى الموالاة بين الكبيرتين لأنه تخلل التشهد بينهما. وكذلك بين السجدتين تخّلل الدعاء المأمور فيه عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -. قال هذا القائل وقال بعض أصحابنا: المذهب أنه يكبرّ رافعًا من السجوٌد وينهيه مع انتهاء الانتصاب لئلا ينفّك بعض هذا الفصل عن الذكر، وما ذكره أبو إسحق ليس بشيء، وهذا أصح عندي، لأنه أشبه بأفعال الصلاةَ، فإنه لم يشرع فيها فعل يخلو عن ذكر، وهذه الجلسة لا تكون من الأولى ولا من الثانية، بل هي فصُل للجلوس كالتشهد الأول، فلا بدّ فيها من الذكر، ولكنه يطّول التكبيرات، ولا يطول الجلوس، ويأتي بهذا بأسهل ما يمكن وما قاله أبو إسحق: اختيار القاضي الطبري.

وقال القفال: كلام الشافعي في صلاةَ العيد يدّل على أنه يكبرّ بين جلوسه وقيامه، ولا يبتدئ عند الرفع، لأنه قال: يكبرّ في الثانية خمسًا سوى تكبيرة القيام من الجلوس، وقيل: رجع القفال عن هذا، وتأويل قوله: القيام من الجلوس [89 أ/ 2] على المقارنة، وأراد تكبيرة الرفع، ثم اعلم أنه ينهض من هذا الجلوس معتمدًا على الأرض بيديه. وبه قال ابن عمر وعمر بن عبد العزّيز ومالك وأحمد. وعند أبي حنيفة: يقوم من السجدة الثانية على صدور قدميه. وبه قال على وابن مسعود رضي الله عنه، وهو مذهب الثوري، وهذا غلط لما ذكرنا من الخبر، لأنه أشبه بالتواضع وأعوذ للمصلي على الصلاةَ وأحرى أن لا ينقلب. مَسْألةٌ: قال: (ولا يرفع يديه في السجود ولا في القيام من السجود). وهذا كما قال عندنا: لا يرفع يديه إلا في ثلاثة مواضع على ما ذكرنا. وقال أبو علي في (الإفصاح): (يستحب رفع اليدين كلما قام إلى الصلاةَ من سجوٌد أو تشهد). واختاره ابن المنذر، وقال: هذا باب أغفله كثير من أصحابنا قد ثبت فيه حديث أبي حميد الساعدي. وروي في حديث علي رضي الله عنه أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان إذا قام من السجدتين رفع يديه وكبرّ). وقال الإمام أبو سليمان الخطابي حديث أبي حميد الساعدي قال به عشرة من الصحابة. وقد قال به جماعة من أهل الحديث، ولم يذكره الشافعي. والقول لازُم به على أصله في قبول الزيادة، ولا أعلم أحدًا من الفقهاء ذهب إلى ما رواه علّي رضي الله عنه، وإن صّح الخبر فالقول به واجُب. وقيل: إنما لم يذكره الشافعي لخبر ابن عمر الذي تقّدم ذكره فلعل ذلك نسخ. وحكي عن أحمد أنه قال: يستحب رفع اليدين في ابتداء كل ركعٍة، وهو غلط عندي، بل مذهبه رفع اليدين عند القيام من التشهد الأول لا هذا. مَسْألةٌ: قال: (ثم يفعل في الركعة الثانية مثل ذلك). وهذا كما قال: الركعٍة الثانية مثل الركعٍة الأولى في أفعالها وأذكارها سوى تكبيرة الافتتاح، [89 ب/ 2] ودعاء الاستفتاح، ورفع اليدين في ابتدائها، وهذا لأن أبا حميد قال: (وصلّى ركعٍة أخرى مثل ذلك). مسألة: قال: (ويجلس في الثانية على رجله اليسرى).

الفَصْل وهذا كما قال إذا فرغ من الركعٍة الثانية رفع مكبرا واستوي جالسًا للتشهد الأول، وهذا الجلوس والتشهد في مسنوٌنان معًا. وبه قال عمر بن عبد العزيز والأوزاعي ومالك وأبو حنيفة وجماعُة. وقال الليث وأحمد وإسحق وأبو ثور وداود: هما واجبان، فإن تركهما عمدًا بطلت صلاته، وإن كان ناسيًا سجد للسهو، وهذا غلٌط لما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إذا قام الإمام من الركعتين، فإن ذكر قبل أن يستوي قائمًا فليجلس، وإن استوي قائمًا فلا يجلس ويسجد للسهو). وروى عبد ابن بحينة، قال: (قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اثنتين من الظهر- أو العصر- فسبحوا له، فلم يرجع ومضى في صلاته، فلما كان في آخر صلاته، وانتظر الناس تسليمه سجد سجدتي السهو قبل التسليم)، ولأنه لو كان واجبًا لم يسقط بالسهو كالتشهد الثاني، فإذا ثبت ما ذكرنا فصفة الجلوس ههنا الافتراش، والجلسات المشروعة في الصلاةَ أربع، ويستحب في كلها الافتراش إلا في التشهد الأخير، فإنه يستحب فيه التورك. وبه قال أحمد وإسحاق وأبو ثور وصفة الافتراش قد ذكرناه. وأما صفة التورك يجعل رجليه معاً ويخرجهما من تحت وركه اليسرى إلى أليمنى ويفضي بمقعدته إلى الأرض ويفرش اليسرى وينصب قدمه أليمنى ويضع بطون أصابعهما على الأرض، ويستقبل بأطرافهما القبلة. وقال أبو حنيفة والثوري: يجلس في جميعهما مفترشاً. وقال مالك: (يجلس في جميعهما متوركاً. واحتّج أبو حنيفة بما روى أنس بن مالٍك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: (إذا جلست [90 أ/2] فاجعل عقبك تحت إليتيك). واحتّج مالك بما روى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان يجلس في وسط صلاته، وفى آخرها متوركاً)، وهذا غلُط لما روينا من خبر أبى حميد الساعدي في الجلستين نحو مذهبنا. وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - (كان يجلس بين الركعتين كأنه على الرضف). والّرضف: الحجارة المحماة. واحدتها: رضفة. وهذا يدّل على أنه كان يخالف بينهما في الجلوس، ولأن خبرنا متأخر يحتمل أن ذلك نسخ، أو في

خبرنا زيادة وهي الفصل بين التشهدين، فكان أولى، وهذا الذي ذكرنا في الصلاةَ التي لها التشهدان. فأما ما ليس فيها إلا تشهد واحد كالصبح والجمعة يجلس في تشهده متوركاً، ولو أدرك الإمام في الركعٍة الثانية من الصبح تشهد بها تشهدين يفترش في الأول مع الإمام ويتورك في الثاني، وكذلك لو أدركه في التشهد الأخير يجلس هو مفترشًا، والإمام متوركاً. ثم عليه في (الأم)، ولو فاتته ركعٍة من المغرب، ولو أدرك الثانية بعد الركوع، فإّنه يتشهد أربع تشهداٍت فيها، يفترش في ثلاثة منها ويتورك في الرابع ثم عليه في (الأم). قيل ويقعد مفترشًا، لأنه يريد أن يسجد بعد ذلك، فهو كالجلسة بين السجدتين بخلاف من لا سجوٌد عليه. مَسْألةٌ: قال: (ويبسط يده اليسرى على فخده اليسرى ويقبض أصابع يده اليمنى على فخده اليمنى إلا المسبحة). وهذا كما قال: الكلام ههنا في صورة وضع اليدين في التشهد، فإنها لا تختلف باختلاف التشهدين، وإن اختلفت صفة الجلوس فيهما، فيضع يده اليسرى على فخذه اليسرى ويبسطها عليها، ولكن يضم بعض أصابعها إلى بعض ويقيم إبهامها إليّها، ولا يفرقها. لا يختلف القول فيه، وذكر بعض أصحابنا بخراسان وجهًا آخر أنه يفرق الأصابع، وهو غلط، ويستقبل بأطرافها القبلة. وأما يده أليمنى [90 ب/2] يضعها على فخذه أليمنى، وكيف يضعها، فيه ثلاثة أقواٍل. قال في (الآم): يقبض الخنصر والبنصر والوسطى، ويشير بالسبابة، ويرسل إبهامه على فخذه، ولا يضمها إلى أصابعه، وقال في (الإملاء): يقبض الخنصر والبنصر ويطلق الوسطى والإبهام، ويشير بالسبابة. ونقل المزني، وثم عليه في (القديم): يقبض أصابع يده أليمنى إلا المسبحة، فعلى هذا في كيفية وضع الإبهام على هذا القول، وجهان: أحدهما: يضعها على حرف راحته أسفل من سبابته كالقابض ثلاثة وخمسين. والثاني: يضعها فوق الوسطى، وهو الأصح المشهور. وقد روي كل ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال ابن عمر رضي الله عنه (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقبض في التشهد على أربع أصابع، ويشير بالسبابة، كأنه عاقد ثلاثة وخمسين). وروى ابن الزبير رضي الله عنه (كان يضع إبهامه على الوسطى). وروى وائل بن حجر رضي الله عنه (أنه كان حلق ثلاثين، وأشار بالسبابة). وروى أبو حميد أنه بسط

الإبهام، فكيف ما وضع يده في ذلك أتى بالسّنة وهو بخلافهما، فإذا تقرر هذا، قال الشافعي: ويشير بها متشهدا. وهذه الأسئلة مستحّبة على ما ثم عليه. وروي في خبر أبي حميد: ولا يجاوز بصره إشارته، وهل يحركها؟ فيه وجهان: أحدهما: يحركها طول التشهد. والثاني: لا يحركها، وهو الخلاف لما روى ابن الزبير رضي الله عنه، قال: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يشير بالسبابة ولا يحركها، ولا يجاوز بها بصره)، فيستحب أن ينظر إلى السبابة إذا جلس، وهو معنى قوله ولا يجاوز بها بصره. وقال أبو حنيفة: (لا يشير بها أصلًا)، وهذا غلط لما روينا من الخبر، فإذا قلنا: يحرك، أو قلنا: يشير ولا يحرك ينوي به الإخلاص لله عزّ وجلّ والتوحيد لا الإشارة إلى السماء. قال أصحابنا: وإنما يشير عند قوله: [91 أ/2] إلا الله، ولا يشير عند قوله: لا إله، وهذا حسن ولو لم يفعل شيئًا من هذا بل جلس متربعًا أو مادًا رجليه فقد أساء ويجزئه. فَرْعٌ قال في البويطي: وينظر المصّلي في صلاته إلى موضع سجوٌده، وإن رمى ببصره إمامه كان حسنًا، والخشوع أقصر. وبه قال أبو حنيفة والثوري، وهذا لما روى ابن عباس رضي الله عنه، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا استفتح الصلاةَ لم ينظر إلا موضع السجوٌد)، ولأن هذا أبلغ في الخشوع. وقال مالك: يكون بصره أمام قبلته. قال شريك بن عبد الله: ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوٌده، وفي ركوعه إلى قدميه، وفي السجوٌد إلى أنفه، وفي قعوده إلى حجره ويكره أن ينظر إلى أطراف قميصه، أو إلى شيء يقرأ أو صورة يتأملها، فإن فعل لم تبطل صلاته، وهذا لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى في خميصة لها أعلاُم، فلما فرغ، قال: (شغلتني أعلام هذه، اذهبوا بها إلى أبي جهم وائتوني بأنبجانيته)، والخميصة كساء مربع من صوف، والأنبجانية نسبة إلى [مْنِبج]. وقال من لا علم لها ولم يعد الصلاةَ فدل أنه لا يبطلها. فَرْعٌ آخرُ لو نسي التشهد الأول وجلس على رجليه للاستراحة، ثم تذكر وهو جالس تشهد، وليس عليه سجود السهو، لأنه لم يزد في صلاته ولم ينقص، وإن ذكر بعدما نهض عاد

فجلس ما بينه وبين أن يستنم قائمًا، وعليه سجود السهو، لأنه زاد في صلاته، وهو القيام. ومن أصحابنا من قال: إن كان نهوضه إلى الجلوس اقرب لا يسجد للسهو، لأنه قليل، وإن كان إلى القيام أقرب يسجد للسهو، لأنه قليل، وإن كان إلى القيام أقرب يسجد للسهو، وهذا حسٌن، ولو ذكر بعد اعتداله قائمًا لم يجز له العود، ويسجد للسهو، فإن عاد نُظِر، فإن كان جاهلًا لم تبطل صلاته، وإن كان عالمًا بأن ذلك لا يجوز بطلت صلاته كما لو تكلم في الصلاة. مسألة: قال: "فإذا فرغ من التشهد قام مكبرًا". وهذا كما قال: هذا اللفظ يدل على أنه لا يستحب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأول، ونص على هذا في "القديم". [91 ب/ 2]. وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحق. وقال في "الأم" و "الإملاء": يصلي فيه على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو الأصح. وبه قال مالك، لأنه أحد التشهدين. فرعٌ فيه الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالتشهد الأخير، واحتج من قال بالأول بما روي "أنه كان يجلس فيه كأنه على الرضف"، يعني في تخفيفه، قلنا: لأنه كان يترك الدعاء فيخف، وعندنا لا يستحب الدعاء في هذا التشهد، ولا الصلاة على الآل وجهاً واحدًا. وقال مالك: يدعو في هذا التشهد أيضًا بما شاء كالتشهد الأخير، وهذا غلط، لأنه في التشهد الأخير غير عازم على القيام إلى ركعة أخرى، فهو مطمئن فيه فيدعو بخلاف التشهد الأول. ومن أصحابنا من قال: يستحب الصلاة فيه على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولًا واحدًا، والذي نقل المزني متأول على أنه أراد به التشهد مع الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن التشهد لا يتم إلا بها، ولو نسي فيه الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن قلنا: لا يستحب فيه، لا يسجد، وقيل: هل يسن فيه الصلاة على الآل؟ وجهان. بناء على الوجوب في التشهد الأخير، وعند مالك يسن الدعاء فيه، وعندنا لا يسن، وإذا قلنا: يسن على الآل يسجد للسهو بتركها. فرع يبتدئ التكبير ههنا في أول قيامه ويمدّه إلى استوائه. وحكي عن مالك أنه قال: "لا يكبر حتى يستوي قائمًا، لأنه قيام إلى افتتاح ركعة، ولا يكبر إلا بعد اعتداله كالركعة الأولى"، وهذا غلط لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يكبر في كل خفض ورفع وقيام وقعود"، ولأن هذا يؤدي إلى أن يخلو موضع من الصلاة عن ذكرٍ، وهذا خلاف موضوع الصلاة، وفي الركعة الأولى يقوم إليها في غير صلاة بخلاف ههنا. ثم قال الشافعي: "معتمدًا على الأرض بيديه"، وهذا سنة في قيامه من الجلوس،

وكذلك إذا سجد في الصلاة سجود القرآن [92 أ/ 2]، ثم أراد أن يقوم اعتمد على الأرض بيديه وقد ذكرنا ما يسن فيه ويكره له تقديم إحدى رجليه عند النهوض. وروي عن مالك أنه قال: لا بأس به. وروي عن مجاهد أنه رخص فيه للشيخ، وهذا لا يصح لأنه لم ينقل مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مع كثرة الواصفين صلاته. وروي عن ابن عباس أنه قال: "هذه الخطوة الملعونة". مسألة: قال: "ويصلي الركعتين الأخريين كذلك". الفصل وهذا كما قال: أراد أنه تجب فيهما قراءة الفاتحة. وبه قال الثوري والأوزاعي وأحمد. وقال مالك في رواية ابن القاسم عنه: "إن ترك القراءة في ركعةٍ واحدة"، وقرأ في ثلاث ركعاتٍ أجزأه. وقال في رواية أخرى مثل قولنا. وقال الحسن وداود: "تجزئه القراءة في ركعة واحدة"، وروي هذا عن أحمد. وقال أبو حنيفة: "لا تجب القراءة في الركعتين الأخريين من الظهر والعصر، ولا في الركعة الثانية من المغرب، ويلزمه القراءة في جميع صلاة الوتر بثلاث ركعات". واحتجوا بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "اقرأ في الأوليين، وسبح في الأخريين"، وهذا غلط. لقوله - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي: "ثم افعل ذلك في صلاتك كلها". وأما خبر علي رضي الله عنه، قلنا: رواه الحارث الأعور، وكان كذابًا. ثم روي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: "من صلى ركعة فلم يقرأ فيها، فلم يصل إلا خلف الإمام"، ولا خلاف أنه لا يجهر بهذه القراءة، وهل يسنّ فيهما قراءة السورة؟ قد ذكرنا. فرع لو قرأ من المصحف وقلب الأوراق أحيانًا لا تبطل صلاته. وبه قال مالك وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: تبطل صلاته إلا أن يقرأ آية قصيرة، أو كان يحفظ القرآن، لأنه عمل طويل، فهو كما لو تلقن من غيره، وهذا غلط لأن من جازت له القراءة ظاهرًا جازت ناظرًا كالآية القصيرة. وقوله: إنه عمل طويل لا يصحّ، لأن الفكر [92 ب/ 2] والنظر لا يبطل الصلاة كما لو تفكر في إشغاله، وينظر إلى المارين، وأما إذا تلقن من الصلاة فسلم، بل لا تبطل به الصلاة. مسألة: قال: "فإذا قعد في الرابعة أماط رجليه".

الفصل وهذا كما قال: إذا رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الأخيرة، جلس متشهدًا والجلوس والتشهد فرضان وكذلك الصلاة على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والسلام فرضان آخران. وبه قال عمر وابن عمر وأبو مسعود البدري والحسن وأحمد رضي الله عنهم. وقال: عليّ بن أبي طالب وسعيد بن المسيب والنخعي والزهري ومالك والأوزاعي والثوري: الجلوس فيه والتشهد معًا ليسا بواجبين. وقال أبو حنيفة: الجلوس فيه قدر التشهد واجبٌ، وقراءة التشهد لا تجب. واحتجوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعلم الأعرابي المسيء صلاته قراءة التشهد، وهذا غلط لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: كما نقول قبل أن يفرض علينا التشهد. والسلام على الله على عباده السلام على جبريل، السلام على ميكائيل فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تقولوا: السلام على الله، فإن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات" إلى آخره. وروي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا التشهد كما يعلمنا السورة من القرآن، ويقول "تعلموا فإنه لا صلاة إلا بالتشهد". وأما خبر الأعرابي فيحمل أنه كان قبل فرض التشهد، أو كان يعلم التشهد فلم يذكر له، فإذا تقرر هذا، فإن سلم قبل التشهد، فإن كان عامدًا بطلت صلاته، وإن كان ناسيًا نُظِر، فإن ذكر قبل تطاول الفصل بنى وإن ذكر بعد تطاول الفصل استأنف والرجوع في طوله إلى العُرف. قسم الكلام في التشهد في فصلين؛ في الأفضل وفي أقل ما يجزئ. فأما الأفضل ما روى سعيد بن جبير وطاوس عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[93 أ/ 2] يعلمنا التشهد كما يعلّمنا السورة من القرآن، فقال: "قولوا: التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله". هذا رواه الشافعي، وهو اختيار أصحابنا بخراسان. ورواه أبو داود، فقال: "السلام" بالألف واللام، وهما صحيحان، لأن التنوين يقوم مقام الألف واللام، وهو اختيار أصحابنا بالعراق. وقال مالك: وأهل المدينة الأفضل تشهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقد علم الناس التشهد على المنبر، فقال: "التحيات الزاكيات لله الصلوات الطيبات لله، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله، السلام عليمنا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله

إلا الله، واشهد أن محمدًا عبده ورسوله". وقال أبو حنيفة وأهل الكوفة: الأفضل، ما رواه عن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "التحيات لله والصلوات والطيبات، والسلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله". وبه قال الثوري وأحمد وإسحق واختاره ابن المنذر وجماعة من السلف، وما قلناه أولى، لأن فيه زيادة كلمة: المباركات. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألقاه إلقاءً شائعًا ظاهرًا وعلّمه كما يعلّم القرآن، وهو متأخر موافق للقرآن. قال الله تعالى: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61]. وقال تعالى: {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 181]، وكل موضع ذكر الله تعالى التحية منه، فإنه سلام بغير ألف ولام. وأمّا خبر عمر رضي الله عنه، فليس بمسنٍد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فما رويناه أولى، فإذا تقرر هذا، قال صاحب "الإفصاح": قال بعض أصحابنا: الأفضل أن يبتدأ فيقول: بسم الله وبالله، التحيات المباركات الزاكيات [93 ب/ 2] الطيبات، فيجمع به من الزيادات المرورية. وقال ابن المنذر: ليس في شيء من الأخبار الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التسمية. وقد روى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطبنا فعلّمنا سنتنا وبين لنا صلاتنا، وقال: "إذا كان عند القعدة، فليكن من أول قول أحدكم: التحيات"، فحصل وجهان. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه سمع رجلًا يقول: بسم الله، فانتهره، فإن قيل: روى جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول ذلك. قلنا: رواية أيمن عن ابن الزبير وأيمن ضعيف. قلت: سمعت فيه خبرًا بإسناد صحيح عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول: "بسم الله، وبالله التحيات لله"، وبهذا أقول فإنه زيادة. وروي عبد الغفاري في تشهد عمر رضي الله عنه: "قال: قل: بسم الله، خير الأسماء". وروي جابر: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يعلّمنا التشهد: بسم الله، وبالله التحيات لله". وأمّا أقل ما يجزئ منه، فهو خمس كلمات: التحيات لله، سلام عليك أيها النبي ورحمة الله، سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا

رسول الله، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال في "الأم": لو اقتصر على هذا كرهته وأجزأه، وهذا لنه يأتي على معنى الجميع. وقال ابن شريح: أقل التشهد أن يقول: التحيات لله، سلامٌ عليك أيها النبي، سلام على عباد الله، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، فاكتفى بذكر السلام عن ذكر الرحمة، واكتفى بذكر عباد الله عن قوله: علينا، لأن الكل عباد الله، ولم يشترط الصالحين، لأن الإضافة تدل على ذلك كقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42]، الآية. ولم يعد ذكر الشهادة، لأن حرف العطف دليل عليه. وقال القاضي الحسين: يكفي أن يقول: أيها النبي، وعلى عباد الله [94 أ/ 2]، وإعادة لفظ السلام قبل قوله: عباد الله لا يشترط، بل يكفي حرف العطف. فرع لو قال: صلى الله عليه محمد بدل قوله: أللهم صلِّ على محمد، وجهان. والموالاة شرط بين كلمات التشهد حتى لو تركها لا يحتسب، ولو قال: اللهم صلِّ على الرسول، لا يجوز حتى يسمي محمدًا. وأمّا سر التحيات، قال ابن عباس رضي الله عنه: التحيات العظمة والصلوات: الصلوات الخمس والطيبات: الأعمال الصالحة. وقال أبو عبيد: قال أبو عمرو: التحيات: الملك، وأنشد قول زهير: وّكُلُّ مَا نَالَ الفَتَى قَدْ نِلتُهُ إِلَّا التَّحِيَّةْ وقيل: الطيبات: هو الثناء على الله تعالى. وقيل: معناها الحلالات. فأمّا السلام، ففيه قولان: أحدهما: اسم السلام، والسلام: هو الله تعالى، كما يقال: اسم الله عليك. والثاني: معناه سلم الله عليك تسليمًا وسلامًا. فَرْعٌ آخرُ قال في "الأم": "لو قدّم بعض ألفاظها على بعض أجزأ كما يجزئه في الخطبة"، وهذا نص على أنه لا يجب الترتيب فيه والتحرير أنه ذكر واجب من غير جنس المعجز، فلا يجب الترتيب فيه كالخطبة. فَرْعٌ آخرُ قال: يلزم كل مكلف من المسلمين أن يتعلم التشهد والصلاة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما يتعلم عدد الركعات والركوع والقراءة، فإن كان لا يحسنها نُظر، فإن كان ذكيًا واتسع

الوقت، ففرضه التعليم، وإن قصر حتى فات التعليم صلّى وأعاد، وإن ضاق الوقت على الذكي أو اتسع على البليد فلم يتعلم صلّى على حسب حاله، فإن كان يحسن غير ذلك من الذكر أتى به، وإن كان لا يحسن أجزأه بغير ذكرٍ. وجملته أن الحكم فيهما كالحكم في القراءة، ولو بدل عربية فيها بغيرها لا يجوز، لأنه تغيير نظمه. فَرْعٌ آخرُ قال: المستحب لمن كان إمامًا أن يرتّل التشهد بحيث يعلم أن ثقيل اللسان خلفه [94 ب/ 2] قد أتى به، فإن حذف ذلك ولم يرتب كره وأجزأه. فَرْعٌ آخرُ قال: السنة، إخفاء التشهد، وكذلك كل ذكر حال السجود وغيره إلا السلام. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "من السنة الإسرار بالتشهد". مسألة: قال: "ثم يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ". هذا كما قال: الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركنٌ من أركان الصلاة لا تتم الصلاة إلا به، وبه قال ابن مسعود وأبو مسعود البدري رضي الله عنهما وإسحق وأحمد في رواية. وقال مالك وأبو حنيفة والثوري والأوزاعي: "يستحبّ ذلك، ولا يجب"، واحتجّوا بما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "علّمه التشهد، ثم قال: "إذا قلت هذا أو قضيت هذا، فقد تمت صلاتك". وهذا غلط لما روت عائشة رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا يقبل الله صلاة إلا بطهور، والصلاة عليَّ". وروي أنه - صلى الله عليه وسلم -، قال: لا صلاة لمن لم يتشهد، ولم يصلِّ عليّ". وأما خبرهم نحمله على أنه كان في الأول، أو معناه: قارب التمام كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من وقف بعرفه فقد تم حجّه"، أي: قارب التمام بدليل أنه يجب الخروج من الصلاة بالإجماع، فإذا ثبت هذا، فالأفضل فيها أن يقول ما روى كعب بن عمرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في الصلاة: "أللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد، وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد". وروي أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56]، الآية. قالوا: يا رسول الله قد عرفنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك؟ فقال: "قولوا: اللَّهم صلِّ على محمد" على ما رواه كعب ولم يرو في الخبر، قوله: وارحم محمدًا وآل محمد، ولا قوله: "ترحّمت على إبراهيم"، وليس بفصيح أيضًا، لأنه يقالُ:

رحمته، ولا يقالُ: [95 أ/ 2] ترحمته، ولأن الترحم معنى التكلف، وليس ذلك من صفات الله تعالى، ويرجع معناه إلى الشفقة والرقّة، ولا يجوز ذلك على الله تعالى. ذكره القفّال: والواجب الصلاة على محمد - صلى الله عليه وسلم - وحده فيقول: "أللهم صلِّ على محمد". وأما الصلاة على آل محمد يستحب ولا يجب، وهو المذهب. ومن أصحابنا من قال: إنها واجبة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: قولوا: "اللهم صلِّ على محمد وعلى آلِ محمد". وروي هذا عن أحمد، وقد روى أبو سعيد الأنصاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من صلّى صلاة ولم يصلِّ عليّ وعلى آل بيتي لم تقبل"، وهو خلاف الإجماع، ولا يجب ذكره في الأذان، والإيمان فكذلك في الصلاة بخلاف ذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وأما تفسير الآل، قال الماسرجسي: سمعت أبا إسحق المروزي يقول: المراد بآل محمد ههنا بنو هاشم وبنو المطلب، كما أن المراد بذي القربى في تحريم الصدقات المفروضات وسهم ذوي القربي من خمس خمس الفيء والغنيمة هؤلاء وهذا لأن الآل منقلب عن أهل وهؤلاء أهل النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو مذهب الشافعي. وقيل: المراد به من كان على دينه، وهم جميع أمته لقوله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46]، وأراد به من كان على دينه. وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن آل محمد، فقال: "كل مؤمنٍ تقي إلى يوم القيامة"، والأول أصح. ثم إذا فرغ من الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وآلهِ دعا بما أحب من أمر دين ودنيا. قال أصحابنا: ويستحب أن يقول ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا تشهّد أحدكم، فليستعذ بالله من أربع: من عذاب النار، وعذاب القبر، وفتنة المحيا والممات، وفتنة المسيح الدجّال ثم يدعو لنفسه بما بدا له". وروى أبو داود بإسناده عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: كان رسول الله [95 ب/ 2]- صلى الله عليه وسلم - يعلّمنا كلماتٍ، ولم يكن يعلّمناهنّ كما يعلّم التشهد، وهي: أللهم ألفّ بين قلوبنا، وأصلح ذات بيننا، وأهدنا سبل السلام، ونجّنا من الظلمات إلى النور، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وأزواجنا وذريتنا، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، واجعلنا شاكرين لنعمك، وأتمها علينا وأثبتها". وروى عليّ رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول من التشهّد والسلام: "أللهم اغفر لي ما قدمت وما أخّرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أسرفت، وما أنت أعلم به مني أنت المقدم وأنت المؤخّر، لا إله إلا أنت"، وجملته أن كل دعاء يجوز خارج

الصلاة من أمر الدين والدنيا يجوز في الصلاة. وقال أبو حنيفة: "لا يدعو إلا بما يشبه ألفاظ القرآن والأدعية المأثورة، ولا يدعو بما يشبه كلام الناس". ومن أصحابنا من قال: لا يطلب إلا من الله تعالى، يدعو به فيها، وما يجوز أن يطلب من المخلوقين إذا دعا به في الصلاة بطلت صلاته، وهذا غلط لقوله - صلى الله عليه وسلم - في خبر ابن مسعود رضي الله عنه بعد ذكر الشهادتين في التشهد: "ثم ليتخير أحدكم من الدعاء ما أعجبه"، ولأن دعاء الله تعالى يجوز خارج الصلاة، فجاز في الصلاة كالدعاء المأثور. مسألة: قال: "ويدعو قدرًا أقل من التشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ". وهذا كما قال: هذا نقل المزني. وقال في "الإملاء": ويدعو بقدر التشهد، ولم يذكر الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا ليس باختلاف القول، فإن الأقل من قدر التشهد، والصلاة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - كقدر التشهد، وقد بيّنه في "الأم"، فقال: "أرى إذا كان إمامًا أن يدعو أقل من قدر التشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - قليلًا [96 أ/ 2] ليخفف على من خلفه". وهذا خلاف النص الذي ذكرنا، ولم يذكره أحدٌ من أهل العراق. مسألة: قال: "ويفعلون مثل فعله إلا أنه إذا أسر قرأ من خلفه، وإذا جهر لم يقرأ من خلفه"، وهذا كما قال: أراد به أن المأموم يتبع الإمام فيفعل مثل فعله في كل ما ذكرناه ويتأنى الإمام في الخفض والرفع بحيث يمكن من خلفه أن يتبعه ويقتدي به من غير مشقة. وأمّا القراءة، فاختلف قول الشافعي فيها، قال في "الأم" و "الإملاء"، وكتاب الجمعة من "الجديد": "المأموم كالمنفرد يقرأ فيما يسرّ به ولا يقرأ فيما يجهر به". وبه قال مالكٌ وأحمد وإسحق وداود وعبد الله بن المبارك. وروى ذلك عن عائشة وأبي هريرة والزهري رضي الله عنهم، وقال في البويطي و "الأم": "يلزمه أن يقرأ فيما أسرّ وجهر"، وهو الصحيح. وقال الربيع: رجع الشافعي عن القول الأول. وبه قال عمر وابن عباس وأبي بن كعب وعليّ في رواية رضي الله عنهم، والليث والأوزاعي وأبو ثور وابن المنذر. وقال أبو حنيفة والثوري وسفيان بن عيينة: "لا يقرأ المأموم بحالٍ". وروي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وأنس وجابر وعليّ وفي رواية رضي الله عنهم، واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان له إمامٌ فقراءة الإمام له قراءة"، وهذا غلط لما روى أبو داود بإسناده عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، قال: كنا خلف النبي - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر، فقرأ

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فثقلت القراءة عليه، فلما فرغن قال: "لعلكم تقرؤون [96 ب/ 2] خلف إمامكم؟ " قلنا: نعم هذا يا رسول الله، قال: "لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرا بها"، والهذ سرد القراءة، وتداركها في سرعة واستعجال. وقيل: أراد بالهذ الجهر بالقراءة، وكانوا يلبسون عليه قراءته بالجهر، وإنما نهى عن الجهر، أو عن الزيادة على الفاتحة، ويحمل خبرهم على هذا أيضًا. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ن قال: "من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، فهي خداج، فهي خدام غير تام". قال أبو السائب رواية عن أبي هريرة، فقلنا: يا أبا هريرة، فإني أكون أحيانًا وراء الإمام فغمز ذراعي، وقال: اقرأ يا فارسيّ في نفسك، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قال الله تعالى: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين .... ". الخبر. وقوله: فهي خداج"، أي: ناقصة نقص فساد وبطلان. تقول العرب: أخدجت الناقة إذا ألقت ولدها، وهو دم ولم يستبن خلقه. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب الناس فقال: من صلى صلاة مكتوبة فليقرأ فيها بأم القرآن، وقرآن معها، فإن انتهى إلى أم القرآن فقد أجزأت عنه ومن كان مع الإمام، فليقرأ قبله، وإذا سكت، ومن صلى صلاة لم يقرأ فيها فهي خداج". فرع ثلاثة إذا قلنا: لا يقرأ خلف الإمام: أحدها: إذا جهر في صلاة السر، هل يقرأ المأموم؟ وجهان: والأصح يقرأ لأنه جهر في غير موضعه. والثاني: لو أسّر في صلاة الجهر، هل يقرأ؟ وجهان: أحدهما: يجب، لأنه لم يتوجه عليه فرض الاستماع. والثاني: لا يجب اعتبارًا بأصل الصلاة. والثالث: إذا كان على بعد من الإمام بحيث لا يسمع، هل يجب أن يقرأ؟ وجهان: أحدهما: يقرأ. والثاني: لا يقرأ، لأن الصلاة مما يجهر فيها، والبعد عن الإمام لا يجوز أن يكون سببًا لإيجاب الفرض على المأموم.

فَرْعٌ آخرُ قال في البويطي: [97 أ/ 2] وأحبّ أن يكون ذلك في سكتة الإمام قبل أن يقرأ لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان إذا كبرّ في الصلاة سكت هنيهةً قبل أن يقرأ، قلت: بأبي أنت وأمي ما تقول في سكتتك بين التكبير والقراءة. قال: أقول "أللهم باعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بني المشرق ولالمغرب، ونقني من الذنوب كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم اغسلني بماء الثلج والبرد". وقال سمرة رضي الله عنه: "حفظت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سكتتين في الصلاة سكتة إذا كبرّ حتى يقرأ، وسكتة إذا فرغ من قراءة فاتحة الكتاب"، فأنكر عليه عمر، فكتب في ذلك إلى أبيّ بن كعب رضي الله عنه، فكتب إليه أن سمرة قد حفظ. ولا ينبغي أن يقرأ معه. وروي أنه كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث سكتات في الصلاة، وقال أصحابنا: سكتة بعد الإحرام، وأخرى بعد الفاتحة، وأخرى في الركعة الثانية، ولو قرأ قبل أن يبتدئ الإمام يجوز، وفيه وجهٌ أنه لا يجوز كما لو رفع قبله، وهذا لا يصحّ، لأنه لا يظهر به المخالفة. ولهذا له أن يؤخّر القراءة عن قراءته بخلاف الركوع، ولو كان في صلاة السرّ، فالأولى أن يؤخرّ مقدار ما يعلم أن الإمام قرأ الفاتحة، فإن قرأ قبله، فقد ذكرنا، ولو علم أنه لا يمكن من قراءتها بعد قراءته يقرأ معه. وأما قراءة السورة لا يختلف المذهب أنه تسن له قراءة السورة مع الفاتحة في صلاة السرّ أو كان في صلاة الجهر في موضع لا يسمع قراءة الإمام، لأنه غير مأمور بالإنصات إلى غيره، فهو كالإمام والمنفرد، وإن كان الإمام يجهر بالقراءة، وهو يسمع قراءته اقتصر على الفاتحة، ولا يستحب الزيادة فيها. وهذا لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلّى صلاة الظهر بالقوم، فلما انفتل، قال: "أيكم قرأ: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1]، فقال رجل: أنا، فقال: "علمت أن بعضكم خالجنيها"، ومعناه: [97 ب/ 2] جاذبنيها، وإنما أنكر عليه مجاذبته في قراءة السورة حين تداخلت القراءتان وتجاذبتا ونهى عن قراءة السورة خلفه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: الأصحّ أنه لا يقرأ خلفه سوى الفاتحة بحالٍ، وفيه وجهان، وهو غلطٌ ظاهٌر، وهكذا نقول فيمن تباعد عن الخطيب ولا يسمع خطبته، يقرأ القرآن في نفسه، وذكروا وجهًا آخر أنه لا يقرأ شيئًا، وليس بشيء. فَرْعٌ آخرُ المنفرد يجهر في صلاة الجهر سنّة عندنا خلافًا لأبي حنيفة، والأصل في هذا أن الجهر عنده شرع للإمام للإسماع، فإن المأموم لا يقرأ. وعندنا يجهر، لأنه سنّة مقصودٌة.

فَرْعٌ آخرُ لو نسي الفاتحة حتى ركع الإمام، فيه ثلاثة أوجٍه: أحدها: يركع معه ويعيد ركعةً في آخرها، وهو الأصح. والثاني: يقرأها ويتابع الإمام، لأن النسيان عذرٌ كما لو تأخر عن الإمام بعذٍر. والثالث: يقرأها وحكمه حكم من تخلف بغير عذر، لأن الناسي لا يخلو عن تفريط. فَرْعٌ آخرُ قال بعض أصحابنا: هل يسن للمأموم قراءة السورة؟ في ثلاثة أوجه، فإذا قلنا: يسنّ: هل يسنّ في الركعتين الأخيرتين؟ وجهان كالمنفرد. مسألة: قال: "ثم يسلم عن يمينه: السلام عليكم ورحمة الله". الفصل وهذا كما قال: جملته أن الخروج من الصلاة ركن يتعين فيه السلام مع القدرة، ولا يقوم غيره مقامه، وبه قال الثوري وجماعٌة. وقال أبو حنيفة: الخروج من الصلاة واجبٌ، ولكن لا يتعين له السلام، فيخرج منها بكل ما ينافي الصلاة من فعله كالحدث ونحوه، ويسنّ أن يكون السلام، وهذا غلط لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "وتحليلها التسليم"، ولأنه ذكر في أحد طرفي الصلاة، فكان واجبًا كالتكبير في أول الصلاة. ثم أعلم أن التسليمة الأولى عندنا في الصلاة. وقال أصحاب أبي حنيفة: ليست من الصلاة، بل يخرج بها من الصلاة، وهذا غلط، لأنه ذكر شرع في محل [98 أ/ 2] من الصلاة، فلا يجوز أن يرد عليه ما يفسد الصلاة، فكان فيها، فإذا تقرر هذا، فالكلام فيه في فصلين: أحدهما: في الكمال. والثاني: في الإجزاء. فأمّا الكمال، فإن كان المسجد كبيرًا وكثر الناس واللغط في المسجد يسلم تسليمتين، تسليمة عن يمينه وتسليمة عن شماله، وإن كان المسجد صغيرًا أو كبيرًا وقلّ الناس فيه، فيه قولان في "القديم": يقتصر على تسليمة واحدة، لأنه بلغنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "سلّم واحدة، وأنه سلّم اثنين"، فيحمل على حالين. وقال في "الأم": "يسلّم تسليمتين"، وهذا أصح لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: "لم أنسَ تسليم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن يمينه وشماله: السلام عليكم ورحمة الله السلام عليكم ورحمة الله"، ولأنه زائد فكان أولى. وبه قال أبو بكر الصديق وعليّ بن أبي طالب وعمار بن ياسر وأبو مسعود الأنصاري رضي الله عنهم، وأبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحق رحمهم الله.

وقال مالك والأوزاعي: يسلم تسليمة واحدة بكل حال. وروي عن ابن عمر وأنس بن مالك، وسلمة بن الأكوع وعائشة والحسن وابن سيرين وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم، واحتج بما روت عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسلم في الصلاة تسليمة واحدة، تلقاء وجهه، وكان يميل إلى شقّه الأيمن قليلًا"، قلنا: قبل رواية عمرو بن أبي سلمة، وهو ضعيف، فإن ثبت لعله كان في الأول، ثم نسخ. وذكر بعض أصحابنا بخراسان: إن قوله القديم مثل قول مالك، وهو غلط، فإذا قلنا: يسلم تسليمة واحدة، نقل كما روت عائشة رضي الله عنها، وإذا قلنا: يسلم تسليمتين سلم عن يمينه وعن شماله: السلام عليكم ورحمة الله، السلام عليكم ورحمة الله، حتى يرى بياض خديه إمامًا، كان أو مأمومًا. واختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: معناه حتى يُرى خدُّه الأيمن عن الجانب الأيمن وخده الأيسر [98 ب/ 2] عن الجانب الأيسر، ومنهم من قال: معناه حتى يرى خداه من الأيمن، ثم من الأيسر، وعليه يدلّ خبر ابن مسعود رضي الله عنه، واللفظ يحتمل الوجهين. وفرع الشافعي على هذا فقال: "إذا سلم الإمام تسليمة واحدة على اعتقاده، فالمأموم يسلم تسليمتين ولا يتبعه فيما يفعل"، لأنه خرج من إمامته، وبهذا فارق إذا ترك الإمام التشهد الأول تابعه المأموم، ولا يقرأه، لأنه لم يخرج عن إمامته ههنا، فيلزمه متابعته. وما قدر الإجزاء فتسليمة واحدة، قال في "الأم": أقل ما يكفيه من تسليمه السلام عليكم، فإن نقص منه حرفًا عاد فسلم، فإن لم يفعل حتى قام عاد فسجد للسهو، ثم سلم، فإن تطاول الفصل استأنف الصلاة قولًا واحدًا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يبني أم يستأنف؟ قولان. كما لو ترك سجود السهو وتطاول الفصل بعد السلام هل يعيد؟ قولان: وهذا ضعيف، لأن ههنا ترك ركنًا بخلاف ذاك. وقال الحسن بن صالح رضي الله عنه: عليه تسليمتان، وهذا أصحّ الروايتين عن أحمد. واحتجوا بخبر ابن مسعود رضي الله عنه في السلام، وهو غلطٌ لخبر عائشة رضي الله عنها في السلام، وخبرهم محموٌل على الاستحباب. فرع لو قال: سلام عليكم، ولم يُنَوِّنْ لا يجوز قولًا واحدًا، وإن قال: سلامٌ عليكم بالتنوين، فيه وجهان:

أحدهما: لا يجوز، لأنه أسقط حرفين، وهو ظاهر قوله في "الأم". والثاني: يجوز، لأن التنوين يقوم مقام الألف واللام، وهو الأقيس، لأنه يجزئه في التشهد بكلا اللفظين: السلام وسلامٌ. ومن قال بالأول: أجاب عن هذا بأن الخبر ورد هناك بكلا اللفظين، ولم يرد في آخر الصلاة، إلا بالألف واللام. فَرْعٌ آخرُ لو قدّم وأخّر، فقال: عليكم السلام، قال أبو إسحق: "يجزئه"، ونص على جوازه في كتاب "استقبال القبلة" في آخر "باب السلام"، فقال: "لو قال [99 أ/ 2] هكذا كرهته، ولا إعادة عليه"، وهو كالتشهد، يجوز تقديم وتأخيرها. وقال القاضي أبو حامد في "الجامع" من أصحابنا من قال: لا يجوز، ويلزمه أن يأتي مرتبًا، وهذا ضعيٌف. فَرْعٌ آخرُ كيف ينوي عند السلام؟ فإن كان منفردًا نوى عن يمينه الخروج من الصلاة والسلام على الحفظة، وهم الملائكة، وإن كان إمامًا نوى عن يمينه ثلاثة أشياء: الخروج من الصلاة، والسلام على الحفظة، والسلام على من على يمينه من المأمومين. ونوى عن يساره شيئين: السلام على الحفظة، وعلى المأمومين الذين عن يساره. وأما المأموم ينظر، فإن كان على يمين الإمام نوى عن يمينه ثلاثة أشياء: الخروج من الصلاة، والسلام على الحفظة، والسلام على الحاضرين من ناحيته في صفّه. ووراءه: وقدّامه، وينوي عن يساره ثلاثة أشياء: السلام على إمامه، والسلام على الحفظة، والسلام على الحاضرين من ناحيته. وإن كان على يسار الإمام نوى عن يمينه أربعة أشياء: الخروج من الصلاة، والسلام على الإمام، والسلام على الحفظة، والسلام على الحاضرين وعن يساره، ينوي شيئين: السلام على الحفظة، والسلام على الحاضرين. والأصل فيه ما روى سمرة رضي الله عنه، قال: أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - أن نسلّم على أنفسنا، وأن يسلّم بعضنا على بعض"، وقيل: يسلّم على مسلمي الجن والإنس والملائكة، وإن كان حذاء الإمام من خلفه. قال في "الأم": "هو بمنزلة كونه على يسار الإمام"، فإن نوى السلام على إمامه في الأولى وإلا نواه في الثانية. وقال بعض أصحابنا: هو بالخيار ههنا إن شاء يردّ على الإمام عن يمينه، وإن شاء ردّ على الإمام عن يساره. ذكره أبو حامٍد. فَرْعٌ آخرُ لا يختلف المذهب أن ما عدا نيّة الخروج من الصلاة مستحبٌة غير واجبٍة. وأما نية الخروج منها

قال أصحابنا: لا نص فيه للشافعي لو اختلف أصحابنا فيها، فقال عامة أصحابنا: هي واجبة. وهو ظاهر نص القاضي في البويطيّ، [99 ب/ 2] فإنّه قال: ينوي بالتسليمة الأولى الخروج من الصلاة، وهو اختيار ابن أبي أحمد، وهذا لأنه ذكر في أحد طرفي الصلاة، فكان واجبًا كالطرف الآخر. وقال أبو حفص بن الوكيل وجماعة من أصحابنا: لا يجب ذلك كما لا يجب عليه نية الخروج من الحج، وهذا لأن نية الصلاة في الابتداء قد اشتلمت على جميع أقوالها وأفعالها المشرعة فيها والسلام من جملتها، فلم يحتج إلى نيٍة منفردٍة، وهو اختيار القاضي الطبري، وهو الصحيح عندي، وعند مشايخ خراسان، ولهذا لو نوى الخروج من الصلاة من غير تعيين الصلاة التي هو فيها، يجوز بالإجماع، فلو كانت النية واجبة ي آخرها لوجب تعيينها كما في ابتدائها. فَرْعٌ آخرُ لو عيّن فأخطأ، قال بعض أصحابنا بخراسان: إن قلنا: نية الخروج لا تشترط لم يضره، وإن قلنا: تشترط لم يصحّ سلامة فيسجد للسهو ثم يسلم مرة أخرى، ولو تعمد إلى هذا بطلت صلاته. وعندي أنه لا يصح سلامه بحال على الوجهين جميعًا لأن نية الخروج وإن كانت لا تشترط فإذا أتى بها على الخلاف يمنع احتساب السلام. فَرْعٌ آخرُ إذا فرغ من السلام يستحب أن يدعو إمامًا كان أو منفردًا، والمستحب أن يكون الدعاء ما روى ابن الزبير رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا سلّم من صلاته، يقول بصوته الأعلى: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا حول ولا قوة إلا بالله، لا نعيد إلا إياه، له النعمة، وله الفضل، وله الثناء الحسن، لا إله إلا الله، مخلصين له الدين، ولو كره الكافرون". وقال الشافعي في كتاب الصلاة: وبأي دعاء دعا جاز. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول: "اللهم أنت السلام، ومنك السلام، وإليك يعود السلام"، وكلما أكثر من الدعاء بعد المكتوبة كان أحب إليّ رجاء الإجابة. فَرْعٌ آخرُ الأفضل الإخفات في هذا الدعاء إذا كان منفردًا أو مأمومًا والإمام ينظرُ [100 أ/ 2]، فإن لم يكن بالناس حاجة إلى تعلمه، فالأفضل الإخفات أيضًا، وإن كان بهم حاجة إلى تعلمه، فالأفضل الإعلان بقدر ما يرى أنهم حفظوه، ثم يرجع إلى الإخفات، وعلى هذا يحمل جهر النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا نريد الإخفات أن يذكر في قلبه بل ينطق بقدر ما يسمع نفسه.

قال الله تعالى: {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]، يعني: به الدعاء، ومعناه: لا تجهر برفع صوتك ولا تخافت بها حتى لا تسمع نفسك. قال الشافعي: وعامة الرواية سوى رواية ابن الزبير من غير ذكر الجهر. فَرْعٌ آخرُ قال بعض أصحابنا: يستحب إذا صلى الصبح أن يشتغل بذكر الله تعالى حتى تطلع الشمس لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لئن أجلس مع قوم يذكرون الله من الصبح إلى طلوع الشمس أحبّ إليّ مما طلعت عليه الشمس"، الخبر. مسألة: قال: "ويثب ساعة ما يسلم إلا أن يكون خلفه نساء فيثبت لينصرفن قبل الرجال". وهذا كما قال: أراد به أن الإمام يسرع القيام ساعة السلام فعبّر عن سرعة قيامه بالوقوف، وإنما قال ذلك لخبر روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أنه قال: "إذا سلّم إمامكم ولم يقم فأنحوه، ولأنه لو أقام على حاله لا يأمن أن يلحقه السهو أو الشك في السلام، وربما يدخل داخلٌ فيعتقد أنه جالسٌ في الصلاة فيدخل معه، ثم إن كانت صلاة يُنتفّل عقبيها يثبت عقيب السلام، وإن كانت صلاة يلا ينتفل عقيبها يتحول عن مكانه أو ينصرف. وقيل: يقبل بوجهه على القوم إذا لم يرد الانصراف ولا التنفل ويتبعه المأموم في هذا، فإن مكث الإمام ولم يثبت فالمستحب للمأموم أن يتوقف ولا يقوم ويتبعه فإنه ربما يتذكر سهوًا فيسجد له فإن وثب وتركه، فلا شيء عليه. قال في "الأم": "وللمأموم أن ينصرف إذا قضى الإمام السلام قبل قيام الإمام وإن أخّر ذلك [100 ب/ 2] حتى ينصرف بعد الإمام أو معه كان ذلك أحبّ إليّ"، وقال في "الأم": "وإذا أراد الانصراف، فإن كان له حاجة انصرف حيث ما توجهت به حاجته يمينًا وشمالًا وتلقاء وجهه، ومن ورائه". والحاجة كالدخول إلى منزله. وهذا يتصوّر إذا كان في مسجد له أبواب كثيرة، أو كان في فضاء، فإن كان للمسجد باب واحد خرج منه، وإذا خرج انصرف على ما ذكرناه، وإن لم يكن له حاجة، فالمستحب أن ينصرف عن يمينه، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يحبّ التيامن في كل شيء". وقال القفّال: "أراد بالانصراف عن اليمين أنه يقعد على الجانب من المحراب الذي كان يلي يمينه عند الاستقبال للقبلة والانصراف عن اليسار أن يقعد عن الجانب الآخر الذي كان يلي يساره عن استقباله"، وهذا هو المسنون عند أبي حنيفة، وعندنا ذلك هو

المستحب المسنون. وفي كيفية الانتقال، اختلف أصحابنا، قال الأكثرون: يفتل يده اليسرى ويكون يمينه إلى القبلة، واليسار إلى القوم، ويجلس على الجانب الأيمن من المحراب. وقال بعضهم، وهو اختيار القفّال: يفتل يده اليمنى ويكون يساره إلى القبلة ويمينه إلى الناس كما قلنا في الطواف، يجعل الكعبة عن يساره واليمين إلى الناس، ويجلس على يمين المحراب، ولأنه أحين في الأدب فربما يقتدي به واحدٌ، فإذا فعل ذلك كان مقبلًا بوجهه فيه، ولا يكون موليًا ظهره عليه، وعلى أي الجانبين قعد، فلا بأس، وقيل: ظاهر هذا أنه لا يشتغل بالدعاء في الجلوس بعد السلام. وذكر أبو حامد: ويثبت ساعة يفرغ من الدعاء، وهو خلاف النص، ولا يفوته الدعاء بالقيام والإقبال على القوم بالوجه فيدعو في تلك الحالة الدعاء المشروع، ولو كان خلفه رجال ونساء. وقال الشافعي: "يثبت عقيب السلام في موضعه حتى ينصرف النساء". قال في "القديم": لا يلحقهن سرعان الرجال فيختلطون بهم، والأصل في هذا [101 أ/ 2] ما روت أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كان إذا سلّم قام النساء حين يقضي صلاته فيمكث يسيرًا قبل أن يقوم". قال الزهري: نرى، والله أعلم، أن مكثه لينصرف النساء قبل أن يدركهن الرجال. وقال الحسن: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلّون في المسجد الجامع فمن كان بيته من قبل بني تميم انصرف عن يساره ومن كان بيته مما يلي بني سليم انصرف عن يمينه، فمن بالبصرة، وهذا يدلّ على ما سبق. فرع قال الشافعي: إذا أراد التنفل بالصلاة، فالأفضل أن يتنفل في بيته. وقيل: إلا يوم الجمعة، فإنه ينتفل ظاهرًا في المسجد، وهو الأولى لما روى زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة المرء في بيته أفضل من صلاته في مسجدي هذا إلا المكتوبة". وهذا مع قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة في غيره". وروى عبيد الله عبد الله بن عمر عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "اجعلوا من صلاتكم في بيوتكم ولا تتخذوها قبورًا"، ولأن المسجد بني للجماعة

والنافلة لم تسن لها الجماعة فكانت في البيت أولى، ولأنها في البيت أسلم من الرياء، والفرائض بُعدى عن الرياء حيث كان يفعلها العامة والخاصة، ولأن الفرائض شعار الإسلام، فاستحب فيها الإظهار بخلاف النافلة. فَرْعٌ آخرُ جرت عادة بعض الناس يسجدون بعد الفراغ من الصلاة فيدعو فيها وتلك سجدة لا يعرف لها أصل ولم تنقل عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة رضي الله عنهم. مسألة: قال: "ويقرأ بين كل سورتين: بسم الله الرحمن الرحيم". وهذا يوهم أن بسم الله الرحمن الرحيم، تسنَ في أول كل سورة، والمذهب خلافه، وهذا اللفظ متأول على أنه قصد به الرّد على من قال: لا يقرأ بها أصلصا، وقد مضى حكم هذا. والمزني أحلّ به في موضعه، [101 ب/ 2] وذكره ههنا. وقوله: فعله ابن عمر، أراد به أنه كان يجهر به. مسألة: قال: "فإن كانت الصلاة ظهراً أو عصرًا أسَرَّ القراءة في جميعها". وقد مضى بيان هذا، والجهر والإسرار من جملة هيئات الصلاة. وقيل في تفسير قوله تعالى {وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً} [الإسراء: 110]، أراد: اجهر في البعض وخافت في البعض. مسألة: قال: "وإذ رفع رأسه من الركعة الثانية من الصبح وفرغ من قوله: سمع الله لمن حمده، ربنا لك الحمد، وهو قائم قال: اللهم اهدني فيمن هديت". الفصل وهذا كما قال: جملته أن القنوت في صلاة الصبح مستحب إذا رفع رأسه من الركعة الثانية، فإن تركه عامدًا أو ناسيًا سجد للسهو، وبه قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأنس رضي الله عنهم، والحسن ومالٌك وابن أبي ليلى والحسن بن صالح والأوزاعي. وقال أبو حنيفة: لا يستحب ذلك. وبه قال الثوري، وروى ذلك عن ابن عباس وابن عمر وابن مسعود وأبي الدرداء رضي الله عنهم وربما يقولون: إنه بدعة. وقال أبو حنيفة: "لو قنت إمامه سكت هو ولم يقنت قنوته"، وقال أبو يوسف: "قنت بقنوته"، ويرى هذا عن محمد، وحكى الساجي عن أحمد أنه قال: "لا بأس بالقنوت فيها". وروي عن أحمد أنه قال: "القنوت للأئمة يدعون للجيوش، فإذا ذهب إليه ذاهب، فلا بأس، وإمام الجيوش والسلطان فعله". وقال إسحاق: "هو سنّة عند الحوادث لا تدعه إلا به". واحتجوا بما روت أم سلمة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن القنوت في الفجر". وروى ابن مسعود وأنس

رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "قنت شهرًا ثم ترك". وهذا غلط لما احتجّ الشافعي، وهو ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "قنت قبل قتل أهل بئر معونة، ثم قنت بعد قتلهم في الصلاة سواها"، أي: في سائر الصلوات سوى الصبح، مع الصبح [102 أ/ 2] ثم ترك القنوت في سواها. وهذه إشارةٌ إلى قصة نذكرها، وذلك أن رجلًا يقال له: أبو البراء ولقبه ملاعب الأسنة من سادات نجد من المشركين قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفدًا من قبل نجٍد فأهدى لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قلم يقبل هديته، وقال: "لا نقبل هدية مشرك، فإن أحببت أن أقبل هديتك فأسلم"، فقال: اعرض عليّ الإسلام، فعرض عليه، وتلا عليه القرآن، فلم يسلم، وقال: ما تقوله حسنٌ، ولكني وفد قومي، فأرى أن تبعث من أصحابك من يعرض عليهم الإسلام ويقرأ عليهم القرآن، فإني أرجو أن يسلموا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إني أخاف على أصحابي نجدًا"، فقال: أنا جارٌ لهم، إني خفير، وندب النبي - صلى الله عليه وسلم - ستين رجلًا من أصحاب الصفة وأمَّر عليهم رجلًا منهم يقال له: المنذر بن عمرو فلما بلغوا بئر معونة من أرض نجد اجتمع عليهم رِعْلٌ، وذكوان وعصية من قبائل نجد ولم ينفذوا أمان أبي البراء، فقتلوهم إلا رجلين منهم، أحدهما عمرو بن أميّة، والآخر أنصاريّ كانا ذهبا في طلب بغير لهما ضلّ، فلما وجدا وانصرفا، فالتقتهما جارية فقالت: هل أنتما من أصحاب هذا الرجل الذي يزعم أنه نبيَّ؟ قالا: نعم، فقالت لهما: النجاة، النجاة، فقد قتل أصحابكما في بطن هذا الوادي، فقال الأنصاري لعمرو بن أمية: ما ترى؟ قال: أرى أن نركب البعير ونلحق برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنخبره به، فقال الأنصاري: أمّا أنا فلا أرغب عن مصرع صرع فيه المنذر بن عمرو، فوالله لا يردنّ الجنة قبلي، فقال له عمرو: اصبر إذًا حتى أركب البعير وأتوارى، ثم أنت أعلم، قال: نعم، فركب عمرو وسل الأنصاري سيفه وأقبل على أهل الوادي، فقاتل حتى قتل، فأنزل الله تعالى: (أخبورا إخواننا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا إن الله كان غفورًا رحيمًا)، وكان ذلك من القرآن، ثم نسخت تلاوته، [102 ب/ 2] فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك يقنت في جميع الصلوات يدعو على أولئك الكفار باللعنة شهرًا، حتى نزل قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} [آل عمران: 128]، فنهاه الله عن اللعنة عليهم إذ كان في سابق علمه تعالى أن يُسلم بعضهم، وذلك أنه روي أن رجلًا منهم أسلم بعد ذلك فسئل عن سبب إسلامه، فقال: "إني طعنت يوم بئر معونة رجلًا من المسلمين بحربتي في صدره فنفذ فيه حتى خرج من ظهره، فكأني أنظر إلى بريق سنان رمحي من ظهره، وهو يبتسم في وجهي وأخذ شيئًا من دمه فرمى نحو السماء فقال: فزت وربّ الكعبة، فقلت في نفسي: بم فاز هذا الرجل؟ أليس قد قتلته؟ ثم أُخبرت أنه الشهادة، فقلت: إنه حق، فأسلمت، فلما نزلت هذه الآية ترك النبي - صلى الله عليه وسلم -

القنوت في الصلوات سوى الصبح، وفي الصبح لم يزل يقنت حتى فارق الدنيا". رواه أنس بن مالك. وروي أنه سأل أنس: هل قنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الصبح؟، قال: نعم. قال: قبل الركوع أو بعد الركوع؟، فقال: بعد الركوع، ثم قال: وقنت عمر وعلي رضي الله عنهما بعد الركعة الأخيرة، وإنما لم يذكر عثمان، لأنه في أيامه قدّم القنوت على الركوع ليدرك الناس تلك الركعة، فإنه كان يسفر بصلاة الفجر لأجل أن عمر رضي الله عنه قتل في صلاة الصبح، وكان يفلس بها". وأمّا خبر أم سلمة نحمله على الدعاء على اللعان أنه تركه ونهى عنه. ثم صفة القنوت أن يقول: "اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت، وتولني فيمن توليت، وبارك لي فيما أعطيت، وقني شر ما قضيت، إنك تقضي ولا يُقضى عليك، إنه لا يذل من واليت، تباركت وتعاليت". وجملته ثماني كلمات. رواه الشافعي بإسناده عن أبي الجوزاء أنه قال للحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما، هل عندك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء، فقال: "كلمات أقولهنّ [103 أ/ 2] في قنوت التوتر"، وذكر هذه الكلمات، وقد زاد بعض أصحابنا: "ولا يعزّ من عاديت، تباركت ربنا وتعاليت، فلك الحمد على ما قضيت، استغفرك وأتوب إليك". وقالوا: لو قال هذا كان حسنًا. وقال القاضي الطبري قوله: لا يعزّ من عاديت ليس بحسن، لأنه لا تضاف العداوة إلى الله تعالى، وهذا فيه نظرٌ، لأن مثل هذا جاء في القرآن العظيم: قال الله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98]، فلا بأس بهذه الألفاظ، وإذا كان إمامًا، قال أصحابنا: الأفضل أن يعم، فيقول: "اللهم، اهدنا" حتى يكون الدعاء له ولغيره من المأمومين، ولو دعا بغير هذا الدعاء جاز، وإن كان المستحب ذلك. وقال بعض أصحابنا: لو قنت بما روي عن عمر رضي الله عنه كان حسنًا، وهو ما روى نافعٌ عن ابن عمر، قال: قنت رضي الله عنه بعد الركوع في الصبح، فسمعته يقول: "اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ولا نكفر بك، ونؤمن بك ونخلع من يكفرك، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك إن عذابك الجد بالكفار مُلحق. اللهم أغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، وأصلح ذات بينهم، وألّفة بين قلوبهم، واجعل في قلوبهم الإيمان

والحكمة وثبتهم على ملّة رسولك، وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم عليه، وانصرهم على عدوك وعدوهم، إله الحق واجعلنا منهم. وروي أن عثمان رضي الله عنه لما كان يجمع القرآن لا يثبت إلا ما اجتمع عليه عدد من الصحابة، فانفرد واحدٌ من الصحابة براوية هاتين السورتين: "اللهم إنا نستعينك" إلى آخره، فقال عثمان رضي الله عنه: "اجعلوها في القنوت"، وإنما أمر به حتى لا تضيّعا، ويستحب أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد الدعاء لما روي في حديث الحسن في الوتر، أنه قال: "تباركت وتعاليت" [103 ب/ 2] وصلّى الله على النبيّ وسلم. أورده أبو عبد الرحمن النسائي في سننه، وقيل: لا يستحب، ولكن يجوز لأنه لم يصحّ الخبر. وأما القنوت فيما عدا الصبح، فلا يستحب إذا لم يكن نازلة ويُنهى عنه، فإن نزل نازلة بالمسلمين، ولن تنزل إن شاء الله قنت فيها كلها إن شاء الإمام، ثم إذا زالت النازلة ترك القنوت. وقال الطحاوي: "القنوت في سائر الصلوات لم يذكره غير الشافعي"، وهذا غلط لما رُوي عن علي رضي الله عنه أنه قنت في صلاة المغرب، وهذا محمول على نزول النازلة. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يقنت إلا أن يدعو لأحٍد، أو يدعو على أحٍد. كان إذا قال: "سمع الله لمن حمده"، قال: "ربنا لك الحمد" وذكر الدعاء. وقال بعض أصحابنا: إذا لم يكن نازلة، قال في "الأم": "لا يقنت". وقال في "الإملاء": "إن شاء قنت وإن شاء ترك، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت فيها وترك، ولا يقال في هذا: ناسخٌ ومنسوخٌ"، وفي نظر. والصحيح ما تقدم، وقيل: يقنت في الجمعة والعشاءين وإن لم يكن نازلة فإذا قلنا لا يقنتا فلا كلام وإذا قلنا يقنت فالقنوت بعد الركوع في آخر الصلاة. وروي عن ابن عمر أنه قال: كان بعض الصحابة يقنت قبل الركوع وبعضهم بعد الركوع، فإن كانت الصلاة مما تسرّ فيها القراءة أسرّ به، وإن كان مما يجهر فيها بالقراءة جهر به، وقال أبو العوام بن حمزة المازني: قلت لأبي عمرو البهزي: القنوت قبل الركوع أو بعده؟ فقال: بعده، فقلت له: عمنّ أخذت هذا؟ فقال: عن أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم. وحكي عن مالك والأوزاعي وابن أبي ليلى أنه قبل الركوع، وأما المأموم ماذا يفعل في حال قنوت الإمام؟ قال بعض أصحابنا: هل يقنت معه المأموم؟ أم يؤمّن على

دعائه؟ لا نص للشافعي فيه، ولكنه قال: إذا مرّت به آية رحمة سألها، ولذلك المأموم فشرك بينهما في الدعاء، فينبغي أن يكون ههنا مثله. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: [104 أ/ 2] "إذا دعا الإمام فأمّنوا على دعائه". وقيل في الكلمات التي ليست بدعاء فالمأموم يسكت أن يقول مثله أو يقول: أشهد. وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يدعو على الكفّار ونخن نؤمّن خلفه". وهذا يدل على أنه يؤمّن، ولا يدعو. وقال بعض أصحابنا: هذا فيما كان دعاء، فأمّا ما كان ثناء على الله تعالى، فينبغي أن يقول مثله، وقيل: المأموم بالخيار في ذلك إن شاء أمّن في الكل، وإن شاء قرأ معه، فإن التأمين على الدعاء يجري مجراه، فاستويا في حقه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يجهر في القنوت أم يسرّ؟ وجهان. فإذا قلنا: يجهر، فالمأموم يؤمّن، وإذا قلنا: يسرّ، فالمأموم يقنت أيضًا. وأمّا رفع اليدين فيه، فلا نص فيه. وقال أصحابنا: يستحب رفع يديه عند الدعاء لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه "كان يرفع يديه حتى يبدو ضبعاه"، أي عضداه. وروي أن عمر "قنت ورفع يديه حتى رأي بياض إبطيه". وروي عن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "رفع يديه على الكفار". وروي عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما أنهما "رفعا أيديهما إلى صدورهما". ومن أصحابنا من قال: يقتضي المذهب أنه لا يرفع، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "لم يرفع اليد إلا في ثلاثة مواطن في: الاستسقاء، والاستنصار، وعيشة عرفة". ولأنه دعاء في الصلاة فلم يستحب له رفع اليد كالدعاء في التشهد. وقال القاضي الطبري مرةً: أنه لا يرفع وهو اختيار القفّال. وقال مرةً: أنه يرفع، والأولى عندي هذا، وأنا أرفع اليدين فيه. وقال بعض أصحابنا: يستحب أن يمسح يديه على وجهه عند الفراغ من الدعاء لما روي محمد ابن كعب عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: إذا دعوت فادع الله ببطون كفك، ولا تدع بظهورهما، فإذا فرغت فامسح راحتيك على وجهك"، [104 ب/ 2] ولا يمسح يديه على غير وجهه من بدنه، فإن فعل ذلك كان مكروهًا. وروى بعض أصحابنا بخراسان: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان إذا قنت يرفع يديه شاهرًا، ثم يمسح بهما على وجهه". وفي هذا نظر وأنا لا أفتي بهذا. فرع قال بعض أصحابنا: لو أراد أن يدعو في القنوت لقوم أعيانهم، أو على قوم

بأعيانهم، جاز لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "اللهم العن رعلاً وذكوان وعصية، وأنج الوليد بن الوليد وسلمة بن هشام"، الخبر. وفي هذا نظرٌ عندي. مسألة: قال: "والجلسة فيها كالجلسة في الرابعة". وأراد بها التورك. وقد ذكرنا ذلك، وذكر بعد هذا كيفية التشهد، وقد مضى ذلك. مسألة: قال: "ومن ذكر صلاة، وهو في أخرى أتمها ثم قضى". وهذا كما قال: من فاتته صلوات تركها عامدًا أو ناسيًا، أو نام عنها حتى فاتت أوقاتها استقرت في الذمّة وسقط الترتيب فيها، ويجوز أن يقدمها على صلاة الوقت، ويجوز تقديم صلاة الوقت عليها قلّت أو كثرت إلا أنه إن ذكرها، وهو في صلاة أخرى أتمها، ثم قضى ضيقًا كان الوقت أو واسعًا، وإن ذكرها قبل أن يتلبس بها، فإن كان الوقت ضيقاً بحيث إن قضاها فاتت صلاة الوقت فيكون قد صلاها قضاء، فالأولى تقديم صلاة الوقت والقضاء بعدها، وإن كان الوقت واسعاً، فالمستحب أن يصلي الفائتة أولاً، ثم الحاضرة ويُراعي الترتيب للخروج من الخلاف، فإن خالف فصلى الحاضر أولاً جاز. وبه قال الحسن وطاوس وشريح. وقال أبو حنيفة ومالك: إذا ذكر صلاة فائتة، وهو في حاضرة بطلت التي هو فيها ويجب عليه أن يقضي ما فاته ثم يصلي الحاضرة، وإن ضاق الوقت يصلي الحاضرة أولاً، ثم الفائتة، وإذا اجتمعت عليه فوائت فإن الترتيب فيها واجب ما لم يبلغ ست صلوات، فإن بلغت ست صلوات فقد دخلت في حد التكرار، فلا يلزم الترتيب، وفي خمس صلوات، هل يلزم [105 أ/ 2] الترتيب؟ روايتان، ويسقط هذا الترتيب عند النسيان، وقال أحمد وإسحق: "إذا ذكرها، وهو في الصلاة مضى فيها واجبًا، وصلّى الفائتة، ثم أعاد صلاة الوقت، ويلزم الترتيب بكل حالٍ حتى لو فاتته صلاة في أول بلوغه، ثم ذكرها، وقد صار شيخًا يلزمه إعادة ما بعدها". وبه قال الزهري وربيعة، وذكر بعض أصحابنا: أنه يسقط هذا الترتيب عند النسيان، وإذا ضاق الوقت فيه روايتان عنه. وقال الليث: "إن كانت ست صلوات لا يلزم الترتيب، وفيما دونها يلزم الترتيب مع اتساع الوقت وضيقه، والذكر والنسيان، فإن ذكرها، وقد صلّى صلاة الوقت يصلّي الفائتة، وأعاد صلاة الوقت، وإن ذكرها، وهو متلبسٌ بصلاة الوقت مضى فيها مستحبًا، وأعاد الفائتة وصلاة الوقت"، وهذا غلط لما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا نسي أحدكم صلاة، فذكرها وهو في صلاة مكتوبة، فليبدأ بالتي هو فيها، فإذا فرغ منها صلّى

التي نسي"، ولأن هذه الصلوات فاتت أوقاتها، فلا يجب الترتيب في قضائها كالست. واحتجّوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لمن عليه صلاة"، وروى نافعٌ عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من نسي صلاة فذكرها وهو مع الإمام، فإذا فرغ منها قضى فائتة، ثم أعاد التي صلّى مع الإمام". أمّا الخبر، تحمله على نفي الكمال أو أراد: لا نافلة لمن عليه فريضةٌ. وأما الخبر الآخر فيحمل الإعادة على الاستحباب. فرع إذا نسي صلاة من صلوات الليل فذكرها بالنهار لا يجهر فيها بالقراءة، رواه أبو ثور عن الشافعي، وقال أبو ثور: يجهر فيها ليكون القضاء كالأداء كما لو قضى صلاة النهار بالليل لا خلاف أنه لا يجهر فيها، وهو غلط عندي. وفي النوافل يسرّ بالقراءة [105 ب/ 2] في النهار ويجهر في الليل، والأول أصح لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا رأيتم من يجهر بالقراءة في صلاة النهار فارموه بالبعر". وروى بريدة مرفوعاً "من جهر في صلاة النهار فارجموه بالبعر"، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة النهار عجماء"، ولأن الجهر سنّة متعلقة بالوقت، فقامت بفوات الوقت. وقال أبو حنيفة مثل ذلك إلا أنه يقول: "إذا كان إمامًا يجهر، وإذا كان منفردًا لا يجهر"، وإن قضاها ليلاً لا نص فيه للشافعي، والذي يجيء على مذهبه أنه يجهر فيها، لأنا إن اعتبرنا أصلها فهي مما يجهر فيها، وإن اعتبرنا الوقت، فالوقت وقت الجهر. وقال الأوزاعي: إن قضاها نهارًا أسرّ فيها، وإن قضاها ليلاً فهو بالخيار بين الجهر والإسرار. مسألة: قال: "لا فرق بين الرجال والنساء في عمل الصلاة". الفصل وهذا كما قال: الصلاة تشمتك على واجبات ومسنونات وهيئات فالواجبات القيام والقعود والركوع ونحو ذلك. والمسنونات: التشهد الأول، والقنوت ونحو ذلك. وأما

الهيئات؛ فالرجل يخالف المرأة في بعضها، فالرجل يجافي مرفقيه عن جنبيه راكعًا وساجدًا، ويقل بطنه عن فخذيه ساجدًا، والمرأة تضم مرفقيها إلى جنبيها، ولا تقل بطنها عن فخذيها لأنها عورة، وهذا أستر لها. وأما في الجهر والقراءة: فالمرأة كالرجل ما لم يسمعها الرجال الأجانب وإنما يسمعها النساء أو ذوي محارمها من الرجال، فإن كان يسمع الرجال الأجانب فالسّنة لها الإسرار بخلاف الرجل وهو معنى قول الشافعي: "وتخفض صوتها"، وهذا لأن صوتها كالعورة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لم يرد الشافعي أنها تسرّ كما صلاة السرّ، بل أراد تسمع من يليها قليلًا ولا تجهر [106 أ/ 2] بحيث يسمع أهل المسجد كلهم بخلاف الرجل، فإنه يستحب له ذلك عند الإمكان. وقال بعضهم: لا يزيد على إسماعها نفسها، وهو غلط ظاهرٌ وما تقدم أصحّ. وأما في التشهدين: تجلس كما يجلس الرجل. وقال أبو حنيفة: "تجلس كأستر ما يكون". وقال الشعبي: "تجلس كما يتيسر عليها". وكان ابن عمر رضي الله عنها يأمر نساءه أن يجلسن متربعات، وهذا غلط، لأنه ليس في هذا ترك الستر، فكان مسنونًا في حقها كوضع اليمين على الشمال. مسألة: قال: "وتكتف جلبابها". وهذا كما قال: الجلبات: الشملة التي تشتمل بما فوق الثياب، وقال أبو عبيد: هو الخمار والإزار. وقال الخليل بن أحمد: الجلباب أوسع من الخمار وألطف من الإزار. وقوله: تكثف، أي: تجعله كثيفًا حتى لا يصفها، والكثيف: الثخين. وقيل: تكثف وتكفت. والكفت: الشدّ، والكفت: الجمع، أي: تجمع. قال الله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ الأَرْضَ كِفَاتاً} [المرسلات: 25]، أي: نضمهم ونجمعهم، إنما كان ينبغي للمرأة أن تفعله لأنها عورة، فلا ينبغي أن تصفها ثيابها. قال: "وتجافيه راكعة وساجدة لئلا تصفها ثيابها". أراد به تجافي عن نفسها ثيابها لأنها لو ضمت ثيابها حكي ضمها خلقتها من السمن والهزال، وهذا مستحب. وقال بعض أصحابنا: يستحب لها أن تصلي في أستر موضع، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة المرأة في قعر بيتها أفضل من صلاتها في صحن دارها". مسألة: قال: وإن نابها شيء في صلاتها صفقت".

الفصل وهذا كما قال الرجل إذا نابه شيء في صلاته، مثل إن سها إمامه، أو رأى أعمى متردٍّ في بئر، أو طرق عليه الباب، وهو في الصلاة، فله أن يسبّح يقصد به الإعلام والتحذير، والإذن بالدخول. ولو قرأ: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمْ الْبَابَ} [المائدة: 23]، أو قال: {يَا يَحْيَى خُذْ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم: 12] [106 ب/ 2]، أو {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} [طه: 12]، بقصد الأمر بالقراءة جاز، وهذا إذا قصد به قراءة القرآن مع أمره به، فإن لم يقصد به قراءة القرآن أصلًا، بطلت صلاته، لأنه خطابٌ آدمي. وقال أبو حنيفة: إن قصد به إفهام الآدمي، بطلت صلاته إلا أنه ينبّه إمامه أو المارّ بين يديه، وكذلك لو أرتج على الإمام له أن يفتتح القراءة عليه وعلى غيره، وسواء كان الغير في الصلاة أو في غيرها، ولا فرق بين أن يكون ذلك ابتداء من جهته أو جوابًا. والمستحب للمرأة أن تصفق في كل ما يسبّح فيه الرجل، لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا ناب أحدكم شيء في صلاة فليسبح، فإنما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء". وأصل الخبر ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج ليصلح بين قبليتين فأبطأ، فقال بلالٌ لأبي بكر الصديق: استأخر مجيء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفاقيم لتصلي بالناس؟ فقال أبو بكر: شئت، فأقام وتقدم أبو بكر فلما أحرم حضر النبي - صلى الله عليه وسلم - فجعل الناس يصفقون ويخرقون الصفوف وكان أبو بكر لا يلتفت فلما أكثرو علم أنه جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فالتفت فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أحرم، فأشار إليه أن اثبت مكانك، فرفع أبو بكر يده فحمد الله شكرًا، إذ رضيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لذلك المقام ثم استأخر، وتقدم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلما فرغ من الصلاة، قال للناس: "أحسنتم"، يعني: حين لم يؤخروا الصلاة انتظارًا لي. وقال لأبي بكر: "هلّا ثبت مكانك إذ أمرتك"، فقال: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال للقوم: "ما لي رأيتكم تصفقون؟ من نابه شيء في صلاة فليسبّح، فأما التسبيح للرجال والتصفيق للنساء"، فإن لم يتسع الإمام أنه سها لا يعمل بقول المأموم، لأن من شك في فعل نفسه لا يرجع إلى قول غيره، كالحاكم [107 أ/ 2] إذا نسي حكمه، فشهد عنده شاهدان أنه حكم، وهو لا يذكره. وقال أبو هريرة رضي الله عنه مثل هذا. وقال مالك: "المرأة تسبّح كالرجل". فرع التصفيق ليس أن تضرب كفًا على كف، لأن ذلك يشبه اللهو، بل تضرب كفها اليمني على ظهر كفها اليسرى، وهو اختيار القفال والقاضي الطبري وهو الأصح، والأصابع من الكلف. وقيل: هو أن تضرب ظهر كفها اليمنى على بطن كفها الأيسر.

وقيل: تضرب بإصبعي يمينها على ظهر كفّها الأيسر، وقيل: على بطن كفها الأيسر. وقيل: أن تضرب أكبر أصابع يدها اليمنى على ظاهر أصابعها اليسرى. وروي في الخبر: "التصفيح للنساء" وفي معناهما واحد، وقيل: التصفيح: أن تضرب إصبعي اليمنى على باطن أصابعها اليسرى، وهذا لأن ضرب اليد أستر لها ولو صفّق الرجل للتنبيه أو سبحت المرأة فقد خالفا السنّة ويجوز. فَرْعٌ آخرُ لو صفقت المرأة، أو الرجل على وجه اللعب لا الإعلام بطلت صلاتها قليلًا كان أو كثيرًا، لأن اللعب ينافي الصلاة فاستوى قليله وكثيره كالضحك والقهقهة، ذكره القاضي الطبري. فَرْعٌ آخرُ لو عطس رجل فشمتهُ وهو في الصلاة فقال: يرحمك الله، بطلت صلاته، لأنه كلام وضع لمخاطبة الآدمي كردّ السلام، ذكره صاحب "الإفصاح". وبه قال عامّة أصحابنا، وهو المذهب. وقال القاضي الطبري: "وجدت فيما جمعه عبد الرحمن بن أبي حاتم من "مناقب الشافعي" يقول: روى يونس بن عبد الأعلى قال: سمعت الشافعي يقول في الرجل يكون في الصلاة فيعطس رجل لا بأس أن يقول له المصلي: يرحمك الله، فقلت له: ولِمَ؟ قال: لأنه دعاء، وقد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوم في الصلاة، ودعا على آخرين". وهذه رواية صحيحة، فوجب أن تكون أولى مما قاله أصحابنا [107 ب/ 2]، وأنا رأيت عن الإمام أبي عبد الله الخياطي حكى عن البويطي عن الشافعي هكذا. وهذا هو الصحيح عندي إذا كان قصده الدعاء لا الخطاب وما تقدمّ أشبه بالسنية، بدليل ما روي عن معاوية بن الحكم السلمي، قال: صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك الله، فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أماه، ما شأنكم تنظرون إليّ، فجعلوا يضربون أيديهم على أفخاذهم، فعرفت أنهم يصمتوني، فلما صلّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي وأمي ما ضربني ولا كهرني ولا سبّني، ثم قال: "إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وقراءة القرآن". وقوله: ما كهرني، أي: انتهرني، ولا أغلط لي. وقرأ بعض الصحابة: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى: 9]. فَرْعٌ آخرُ قال الإمام أبو سليمان الخطابي: "فإن عطس وهو في الصلاة هل يحمد الله

تعالى؟ قال بعض العلماء: يحمد الله تعالى. وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: "العاطس في الصلاة يجهر بالحمد"، وكذلك قال النخعي ومحمد، وهو مذهب الشافعي، قال: إنه يستحب أن يكون في نفسه"، وهذا غريب. فَرْعٌ آخرُ إذا سلم رجل على المصلي، قال في "القديم": "يرد بالإشارة بيده وبرأسه ولا يتكلم". وبه قال جميع أصحابه، وهو مذهب مالكٍ وأحمد وأبي ثور. وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، ولو قال: عليك السلام بطلت صلاته، لأنه خطابٌ لآدمي على طريق الجواب فجرى مجرى سائر الكلمات ويخالف تشميت العاطس في قول، لأنه موضوع للدعاء لا للخطاب. وقال الحسن وسعيد بن جبير وسعيد بن المسيب وقتادة: يرد لفظًا، واحتجوا بأن ردّ السلام واجب، والكلام الواجب لا يبطل الصلاة، وقال أبو ثور وعطاء والنخعي، والثوري يؤخر الردّ حتى يفرغ من الصلاة، [108 أ/ 2] ثم يردّ بالكلام"، وحكي عن الثوري أنه قال: "إن كان المسلم حاضرًا فعل هكذا، وإن كان قد ذهب اتبعه بالردّ". وقال النخعي: "ردّ عليه بقلبه". وقال أبو حنيفة: "لا يردّ أصلًا، لا بالقلب ولا بالإشارة، لأن العمل يكره في الصلاة"، وهذا كله غلط لما روي أن ابن مسعود رضي الله عنه لما قدم من الحبشة سلّم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة، فلم يردّ عليه، قال ابن مسعود: فأخذني ما قربُ وما بعُد فلما فرغ، قلت: يا رسول الله أنزل فيَّ شيء؟ فقال: "لا، ولكن الله يحدث من أمره ما يشاء وإن مما أحدث لا تكلموا في الصلاة"، وهذا دليل على الحَسَن ومن تابعه. وروي ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا سُلّم على أحدم وهو في الصلاة، فليُشر ولا يتكلم". وروى ابن عمر رضي الله عنه، قال: "دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسجد عمرو بن عوف يصلي ودخل معه صهيب، فدخل رجال من النصار فسلموا عليه، فسألت صهيبًا: كيف كان يصنع إذا سلّم عليه؟ فقال: كان يشير بيده"، وفي هذا نص فيما قلناه، وأما قوله: (إن ردّ السلام فرض)، قلنا: إنما يكون فرضًا إذا وقع في موقعه، وههنا الأولى أن لا يسلّم لأن المصلي مشغول بصلاته، فهو كمن سلّم على من هو قاعد لحاجته لا يرد عليه، وقد نص الشافعي إلى أن الداخل على الإمام في حال خطبته يكره له أن يسلم، فينبغي أن يكون المصلي أولى به. وبه قال عطاء وأبو مجلز والشعبي وإسحاق، وروي ذلك عن جابر رضي الله عنه،

وعن مالك روايتان في هذا، وكان أحمد بن حنبل لا يرى به بأسًا، وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله عنه. فَرْعٌ آخرُ إذا كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - دعا مصليًا فأجابه بالكلام لم تبطل صلاته، لأن إجابته في الصلاة واجبة. والواجب فيها لا يبطل الصلاة كالقراءة. قال الله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24]. [108 ب/ 2] وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلم على أبي بن كعب، وهو يصلي فلم يجب، فخفف الصلاة، ثم انصرف إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: السلام عليك يا نبيّ الله، وقال: "وعليك السلام ما منعك أن تجييني إذ دعوتك؟ " فقال: كنت أصلي، فقال: "أفلم تجد فيما أوحي إليّ: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ}؟ فقال: بلى يا رسول الله لا أعود". فَرْعٌ آخرُ إذا رأى المصلي أعمى يتردى في بئر أو صيبًا يقع في نار، يلزمه أن يصبح به، وينذره وإذا فعل ذلك، حكى الدارمي عن أبي إسحق أنه قال: لا تبطل صلاته. وقال سائر أصحابنا: بطلت صلاته لأن الوقوع غير متحقق، وليس كذلك لدعاء الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فإنه أمرٌ متحقق وهذا لا يصحّ، لأن هذا التوهم لا يمنع الوجوب فلا تمنع منه الصلاة، وهذا أظهر، وإن أخرج زكاته في الصلاة بطلت صلاته، لأن إخراجها لا يتعين عليه في الصلاة، وإن كان واجبًا. فصل في النواهي في الصلاة روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن القِران في الصلاة" وأراد والله أعلم القران بين أذكارها كالقران بين الإحرام والتوجه، وبين التوجه والاستعاذة، والقراءة والتكبير. وما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن الشكال في الصلاة"، ومعناه أن يلصق إحدى رجليه بالأخرى. وما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كره الشكال في الخيل" أراد أن يكون ثلاث قوائم منه محجلة وواحدة مطلقة. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى أن يصلي الرجل مختصرًا". قال أبو عبيد: "هو أن يضح يديه على خصره في الصلاة". وروي أنه "نهى عن الاختصار في الصلاة"، ومعناه ما ذكرنا. ويقال: إن هذا من فعل اليهود. وروي في بعض الأخبار: أن إبليس - لعنه الله - أهبط إلى الأرض كذلك، وهو فعل أهل

المصائب يضعون أيديهم على الخواصر [109 أ/ 2] إذا قاموا في المأتم. وقيل: معنى الاختصار وهو أن يمسك بيديه مخصرة، أي: عصًا يتوكأ عليها. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا غرار في الصلاة ولا تسليم". والغرار: النقصان في عدد الركعات أو في الركوع والسجود، ولا تسليم، أي: لا يسلم عليه فيها. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى أن يصلي الرجل حتى يحتزم". قال ابن قتيبة: حتى يحتزم بثوبه، فيتزر إن كان إزازًا ويزره عليه إن كان قميصًا. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن اشتمال الصماء". قال أبو عبيد: هو أن يشتمل على منكبه ويسدله على قدميه ويلقي ما فضل من منكبه الأيمن على منكبه الأيسر. وقيل: إنما سمي صماء، لأنه يصير كصخرة صماء لا يبين فيه شق. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن السدل في الصلاة"، وأراد به سدل اليدين. وقيل: السدل إرسال الثوب حتى يصيب الأرض وكان سفيان يكرهه في الصلاة، وكان الشافعي يكرهه في الصلاة وغيرها. وقال مالك: "لا بأس به في الصلاة"، وبه قال عطاء ومكحول والزهري والحسن وابن سيرين ويكره في غير الصلاة، لأن المصلي ثابتٌ مكانه، فلا يرون فيه خيلاء وفي غير الصلاة خيلاء فنهى عنه. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى أن يصلي الرجل وهو زناء" يعني حاقنًا ضاق به الأمر. وروي أنه - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا يصلين أحدكم وهو يدافع أخبثيه". وروي: وهو ضام ركبتيه. وروي: صريحًا به. قال: "إذا وجد أحدكم الغائط فليبدأ به قبل الصلاة"، لأن هذا العذر يمنعه من الخشوع في الصلاة والخشوع شرط. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كره أن يصلي الرجل وبه طوف. قال: قطرب: الطوف الحدث من الغائط والبول". وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " [109 ب/ 2] نهى عن كفل الشيطان في الصلاة". قال قطرب: هو أن يصلي الرجل وهو عاقد شعره من ورائه. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن قعدة الشيطان في الصلاة". قال أهل العراق: هي الجلسة قبل القيام إلى الركعة الثانية، ولا يوجد هذا عن المفسرين لغرائب الحديث.

وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن نقرة الغراب في الصلاة"، وهي أن ينقر إذا سجد من غير أن يطمئن. وروى أبو قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن النفخ في الصلاة"، وهو أن ينفخ في موضع سجوده. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن التفات الثعلب في الصلاة"، وهو أن يلتفت يمينًا وشمالًا بسرعة. وروى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن الصلب في الصلاة"، وهو أن يضع يديه على خصريه ويجافي مرفقيه. وروى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى أن يرفع الرجل أصابعه، وهو في الصلاة". وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التثاؤب في الصلاة، وقال: "إذا تثاءب أحدكم وهو في الصلاة فليرده ما استطاع، فإن أحدكم إذا قال: ها ها ضحك منه الشيطان". وروي أنه قال: "إذا تثاءب أحدكم فليمسك يده على فيه، فإن شيطان ينتقل ما بين لحييه". وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن صلاة العجلان"، وهذا لئلا يترك شيئًا من سنن الصلاة. ويكره أن يلتفت الرجل في صلاته من غير حاجة لما روى أبو ذرّ رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا يزال الله تعالى مقبلًا على عبده في صلاته ما لم يلتفت، فإذا ألتفت صرف عنه وجهه". وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا التفت العبد في صلاته. يقول الله تعالى: عبدي إلى من تلتفت؟ أنا خير لك ممن تلتفت إليه" [110 أ/ 2]. وقالت عائشة رضي الله عنها: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التفات الرجل في الصلاة، فقال: "اختلاس يختلسه الشيطان من صلاة العبد"، وإن احتاج إلى الالتفات لا يكره لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يلتفت في صلاته يمينًا وشمالًا"، فإن التفت من غير حاجة لا تبطل صلاته أنه عملٌ قليل، إلا أن يستدبر القبلة أو صرف صدره عن القبلة، فتبطل صلاته

وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى أن يوطن الرجل الصلاة في المسجد كما يوطن البعير"، وهو أن يألف مكانًا معلومًا من المسجد لا يصلي إلا فيه كالبعير يتخذ مكانًا لا يبرك إلا فيه. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن التمطي في الصلاة". وروى أن الحسن البصري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن الصلاة في أرض مزبلة". ويكره أن يرفع بصره إلى السماء في الصلاة لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما بال أقوام يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة ولينتهين عن ذلك أو لتخطفنَّ أبصارهم". ويكره أن ينظر إلى ما يلهيه لما روينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى وعليه خميصة ذات أعلام، فلما فرغ، قال: "ألهتني أعلام هذه". وقد ذكرناه. ويكره أن يكف شعره وثوبه في الصلاة لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نُهي أن يكف شعره وثوبه". ويكره أن يمسح الحصى في الصلاة لما روى أبو ذر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الرحمة تواجهه فلا يمسح الحصا"، وأراد بمسح الحصا تسويته ليسجد عليه. وأكثر العلماء كرهوا هذا. وقيل: أراد العبث بها. وقال مالك: "لا بأس به"، وكان يسوي الحصا في صلاته غير مرة. وروى معيقيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تمسح لحصا، وأنت تصلي، فإن كانت لابدّ فاعلًا فواحدة تسوية الحصا" [110 ب/ 2]. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى أن يغطي الرجل فاه في الصلاة". رواه أبو هريرة رضي الله عنه، وهذا لأن عادة العرب التلثم بالعمائم على الأفواه، فنهوا عن ذلك في الصلاة إلا أن يعرض للمصلي التثاءب، فيغطي فمه عند ذلك للخبر الذي تقدم. وروى سعيد المقبري: أن أبا رافع مولى النبي - صلى الله عليه وسلم - "مرَّ بالحسن بن علي رضي الله عنهما، وهو يصلي قائمًا وقد غرز ضفره في قفاه فحله أبو رافع فالتفت الحسن إليه مغضبًا، فقال أبو رافع: أقبل على صلاتك ولا تغضب، فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

يقول: "كفل الشيطان"، يعني: مقعد الشيطان، يعني معرز ضفره ويريد بالضفر المضفور من شعره، وأصل الضفر: الفتل، واصل الكفل: أن يجمع الكساء على سنام البعير، ثم يركب وإنما أمره بإرسال الشعر ليسقط على الموضع الذي يصلي فيه صاحبه من الأرض فيسجد معه. وقد روي في السجود: "أمرت أن لا أكفّ شعرًا ولا ثوبًا". وروى أن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن الصلاة في سبعة المزبلة والمجزرة والمقبرة والحمام ومحجة الطريق ومعاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله الحرام". وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأرض كلها مسجٌد إلا الحمام والمقبرة"، وإنما منع من المزبلة والمجزرة لأجل النجاسة، فإذا تحقق طهارة الموضع جازت الصلاة إلا أنها مكروهة لأنه موضع النجاسة، وإن تحقق النجاسة فلا تجوز الصلاة فيه بلا خلافٍ. وإن شكّ في نجاسته، فيه وجهان بناء على أن الاعتبار بالأصل أو بالغالب. وأمّا المقبرة، فإن كانت جديدة تجوز الصلاة فيها، ولكنه يكره. وقال مالك: "لا بأس بالصلاة في المقابر". وحكي عن الحسن أنه صلّى في المقابر، وقال أبو ثور: لا يصلي في حمام ولا مقبرة، ولا تجوز لظاهر الخبر. وأما الحمام، اختلف أصحابنا [111 أ/ 2] في المعنى الذي كرهت الصلاة، فمنهم من قال: إنما منع من الصلاة فيه لأجل النجاسة، فإنه محل النجاسات، وعليه نص في "الأم"، فعلى هذا إن علم نجاسته لم تجز، وإن علم طهارته كره، وجاز وإن جهل أمره فوجهان على ما ذكرنا أو على هذا لا ينهي عن الصلاة في المسلخ، لأنه ليس بمحل النجاسة. ومن أصحابنا من قال: إنما نهى عنها لأجل أنه مأوى الشياطين لكشف عورات فيه، ولهذا لما نام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الوادي ولم ينتبه حتى أيقظهم حرّ الشمس، قال: "ارتفعوا عن هذا الوادي فإن به شيطانًا"، ولم يصل فيه، فعلى هذا المسلخ وبيوت الحمام سواء؛ لأن العورات تكشف في المسلخ ويكون النهي نهي كراهة، فإن صلى جازت الصلاة. وقيل: النهي عن الصلاة في الحمام لأنه يكثر دخول الناس فيه فلو كان الحمام في داره هل يكره الصلاة فيه؟ وجهان، وحكي عن رجل أنه قال: "لا تجوز الصلاة في الحمّام ولا في سطحه" والنهي يعتمد. وأمّا محجة الطريق فلأجل أنه لا يحصل الخشوع فيها لشغل القلب بالعوارض وقيل لأن الغالب فيها النجاسة وقيل لأنه يكثر فيها

المار فلا يمكن الخشوع، فعلى هذا لو صلى في قارعة الطريق لا يمرّ أحد فيها، هل يكره؟ فيه وجهان. وأمّا في معاطن الإبل وظهر بيت الله الحرام فسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. فصل في الخشوع في الصلاة قال الله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2)} [المؤمنون: 2]ـ فدل ترك الخشوع على عدم الفلاح. وروى شداد بن أوس رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "أول ما يرفع من الناس الخشوع"، وهذا كالمشاهد في زماننا هذا، لأنهم يقتصرون على الجائز والمباح. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من هانت عليه صلاته كان على الله أهون" والخشوع أن يفعل ما أمر به، ويجتنب ما نهي عنه، وأن يخلي نفسه من حديث النفس [111 ب/ 2] وأفكار الدنيا. وكان علي رضي الله عنه "إذا دخل عليه وقت الصلاة يصفرّ وجهه تارةٌ ويخضرّ تارةً، ويقول: أتتني الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال، فأبين أني حملها وأشفقن منها وحملتها أنا، فلا أدري أُسيء فيها أن أُحسن؟ ". وروي أنه قيل له: إنك تلقى الأقران وتشهد الحروب، ولا نرى بك ما نرى عند الصلاة؟ فقال هذا. وقال عبد الله بن الشخير رضي الله عنه: "أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يصلي، ولجوفه أزيز كأزيز المرجل من البكاء". والأزيز الالتهاب والحركة. وروى أبو داود "في صدره أزيز كأزيز الرحا من البكاء"، وأزيز الرحا صوتها وحركتها. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يقبل الله صلاة امرئ لا يحضر فيها قلبه". وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن رجلين من أمتي يصليان ركوعهما واحدٌ وسجودهما واحدٌ وما بين صلاتيهما كما بين السماء والأرض ومن الخشوع أن ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده وفي حال جلوسه إلى حجره". وقال مالك: "الخشوع أن ينظر تلقاء وجهه" وما قلناه أولى لوجهين: أحدهما: أنه مروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن خلفائه. والثاني: أنه أغضّن لطرفه وأجزى أن لا يشغل عن صلاته. ومن الخشوع أن يكون المصلي قريبًا من محرابه ليصده عن مشاهدة ما يلهي ويمنعه من مرور ما يؤذي. لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ارهقوا

القبلة"، يعني ادنوا منها، فإن لم يكن محرابٌ اعتمد القرب من حائط أو سارية، فإن لم يكن وضع بين يديه شيئًا أو خط خطاً، ومن الخشوع أن لا يضع [112 أ/ 2] رداءه عن عاتقه بين يديه، ولا يكثر الحركة والالتفات ولا يقصد فعل شيء أبيح له فعله في الصلاة. ومن الخشوع أن لا يلبس ثوبًا يلهيه ويعتمد لبس البياض ولا يصلي متلثّمًا ولا مغطى الوجه فإنه مكروه. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلًا يصلي، وقد غطى لحيته، فقال: "اكشف وجهك". ومن الخشوع أن لا ينتحنح في صلاته ولا يبصق. وروى حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من تفل تجاه القبلة جاء يوم القيامة وتفله بين عينيه"، فإن غلبه البصاق فألقاه على الأرض لم تبطل صلاته. وروي أن عثمان رضي الله عنه "أول من رسم الخلوق في المسجد لينمحي به أثر البصاق". فرع إن كان حاقنًا ويخاف فوت الصلاة لضيق وقتها، فيه وجهان: أحدهما: يؤخرها حتى يأتي الخشوع، ويكون عذرًت في التأخير كما لو خاف ذهاب الوقت لو تطهّر لا يترك الطهارة. والثاني: يصليها على حاله ثم يستحب له أن يعيد لأنه يؤدي إلى فوات الصلاة. مسألة: قال: "وعلى المرأة إذا كانت حرة أن تستتر في صلاتها". الفصل وهذا كما قال: يجب ستر العورة على الرجل والمرأة في الصلاة قولاً واحدًا. وأما في غير الصلاة ينظر فإن كان هناك من ينظر إليه، فعليه الستر، وإن كان خاليًا في بيته، فيه وجهان. والمذهب المنصوص أنه يجب سترها لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "فالله أحق أن يُستحى منه"، ومن أصحابنا من قال: لا يجب ذلك. وقال مالك: "ستر العورة ليس بشرط من شرائط الصلاة بل هو واجب في الصلاة وغيرها". واحتج بأن وجوبه لا يختص بالصلاة فلا يكون من فروضها، فإذا عدم فيها لم يبطلها كالصلاة في الدار المغصوبة، وهذا غلط لما روت عائشة رضي الله عنها [112 ب/ 2] أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا يقبل الله صلاة امرأةٍ حاضت إلا بخمار". أي

بلغت حال الحيض، وما ذكروه يبطل الإيمان والطهارة أيضًا، فإنه تجب لمس المصحف وفقدهما يبطل الصلاة، فإذا تقرر هذا، فالكلام الآن في قدر العورة، فهو من الرجل ما بين سرته وركبته، وليست السرة ولا الركبة منها. نص عليه في عامة كتبه. وبه قال مالك وأحمد في رواية وقال أبو حنيفة: الركبة من العورة. وبه قال عطاء، وهذا غلط لما روى أبو أيوب الأنصاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "وما فوق الركبة من العورة وما أسفل السرّة من العورة". وقال ابن عباس رضي الله عنه: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يأتزر تحت سرّته وتبدو سرّته ولقي الحسن بن علي أبو هريرة رضي الله عنهم، فقال: "أرني الموضع الذي قبله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرفع الحسن ثوبه فقبل سرّته"، ولأنها حدّ العورة فأشبهت السّرة. واحتج بما روي أبو الخصوب عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "الركبة من العورة". قلنا: أبو الخصوب لا يثبته أهل الأخبار فخبرنا أولى أو أراد استحبابًا. وحكى الداركي عن الترمذي أن الشافعي نصّ في موضع على أن السرّة والركبتين من العورة، وهذا لا يعرف في شيء من كتبه، ولكنه قول بعض أصحابنا. وقال داود بن الجرير: العورة هي السوأتان: القبل والدبر من الرجل والمرأة. وروي ذلك عن أحمد، واحتج بما روت عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مضطجعاً في بيته كاشفًا عن فخده، فاستأذن أبو بكر فأذن له، وهو على تلك الحال، ثم استأذن عمر، فأذن له، وهو كذلك، ثم استأذن عثمان، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسوّى ثيابه، فدخل فتحدث، فلما خرج، قلت: يا رسول الله [113 أ/ 2] دخل أبو بكر، فلم تهتش له، ثم دخل عمر، فلم تهتش له، ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "ألا استحي من رجل تستحي منه الملائكة"، فلو كان الفخذ عورة لغطاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند دخول أبي بكر وعمر. وهذا غلط لما روى جرهد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "رآه في المسجد قد كشف عن فخذه، فقال: غطّ فخدك، إن الفخذ من العورة". وروى الدارقطني بإسناده أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال لعلي: "لا تكشف فخذك ولا تنظر إلى فخذ حيّ ولا ميت". وأمّا ما روي عن عائشة رضي الله عنها قلنا: روي كاشفًا عن ساقيه، ويحتمل أن يكون الموضع المكشوف لم يكن من الناحية التي جلس فيها أبو بكر وعمر، ويحتمل

أن يكون جائزًا ثم نسخ بما ذكرنا. وأما المرأة فكل بدنها عورة إلا الوجه والكفين فمتى صلت، وقد كشف بعضها، وإن كان شعرة بطلت صلاتها. وبه قال الأوزاعي ومالك وأبو ثور إلا أنا ذكرنا عن مالك ما قال في حكم الصلاة، وروي ذلك عن ابن عباس وعطاء، وقد قال مالك لو تركت الستر ووقت الصلاة باق أعادتها، وأصحابه يقولون: كل موضع يقول مالك: يعيد إن كان الوقت باقيًا يريد الإعادة استحبابًا. وقال أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: يجب عليها ستر جميع بدنها حتى ظفرها وإن انكشف منها شيء بطلت صلاتها. وروي هذا عن أحمد. وروي عن أحمد وداود: كل بدنها عورة إلا وجهها فقط. واحتجا بقوله تعالى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]، والظاهر الوجه، وهذا غلط، لأن ابن عباس رضي الله عنه قال: إلا ما ظهر منها: الوجه والكفين. وروت عائشة رضي الله عنها: أن امرأة رمت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من وراء ستر بثياب فقبض ذلك. وقال: "ما أدري أيد امرأة أم رجل"، [113 ب/ 2] فقالت: بل امرأة، فقال: "لو كنت امرأة لغيرت أظفارك" يعني بالحناء، فلو كانت يدها عورة لم ينظر إليها. وقال أبو حنيفة والثوري والمزني: قدم المرأة ليست بعورة. وعن أبي حنيفة رواية: أنها عورة. وذكر بعض أصحابنا بخراسان: أن في أخمض قدميها وجهين. وقيل: قولين. وهذا غلط لما روت أم سلمة رضي الله عنها، قالت: قلت: يا رسول الله "أتصلي المرأة في درع وخمار، وليس عليها إزار؟ فقال: "نعم، إذا كان سابغًا يغطي ظهور قدميها". قالوا: القدمان يظهران منها في العادة كالكفين، قلنا: لا نسلم بل تستران في العادة، ولهذا لا يجب كشفهما في الإحرام بخلاف الكفين. وقال أبو حنيفة أيضًا: العورة عورتان مخففة ومغلظة، فالمخففة ما بين السرة والركبة من الرجل وجميع بدن المرأة إلا ما ذكرنا. والمغلظة: السوأتان من الرجل والمرأة، فإن ظهر من المغلظة قدر درهم لا تبطل صلاته وإن زاد بطلت وإن انكشف من المخففة قدر ربع عضو فأكثر لا تصح الصلاة وإن كان دون ذلك يصح. وقال أبو يوسف: يُعفى عن أقل من النصف وعندنا لا فرق. ولا يُعفى عن قليله وليس فيما قدره توقيف ولا اتفاق، فلا يجوز القول به. فإذا تقرر هذا فالمستحب لها أن تصلي في ثلاثة أثواب: قميص سابغ يغطي قدميها وخمار يغطي رأسها وعنقها، وإزار غليظ فوق القميص والخمار هو الجلباب الذي ذكره الشافعي، نص عليه في "الأم"

وروي عن عمر وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم أنهم قالوا: يستحب للمرأة أن تصلي في ثلاثة أبواب، وأما الواجب الخمار والقميص السابغ لما ذكرنا من خبر أم سلمة رضي الله عنها. مسألة: قال: "وإن صلت الأمة مكشوفة الرأس أجزأها". وهذا كما قال: قد ذكرنا عورة المرأة الحرة، فأما عورة الأمة لم يذكر الشافعي [114 أ/ 2] قدرها، ولكنه قال: تصلي بغير قناع. واختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: إنها كالرجل عورتها ما بين السرة والركبة، وهو اختيار أبي إسحق والقاضي الطبري وجماعة، وهو ظاهر المذهب لأنها سلعة من السلع يضطر الناس إلى النظر إلى صدرها كما يضطرون إلى النظر إلى الإشهار لأن من لم يكن رأسه عورة لم يكن بدنه عورة كالرجل. ومن أصحابنا من قال: جميع بدنها عورة إلا ما تمس الحاجة إلى كشفه عند التقلب من الرأس والوجه واليدين والساقين وما عدا ذلك عورة. وقال صاحب "الإفصاح": "عورتها كعورة الحرة" إلا أن لها كشف الرأس لما روي أن عمر رضي الله عنه: "رأى جارية متقنعة لآلِ أنسٍ فَعَلاها الدرة. وقال: أتتشبهين بالحرائر يا لكعاء. وروي أنه قال: "اكشفي رأسك ولا تشبهي بالحرائر يا لكاع". وقال ابن المنذر: "كان الحسن البصري يوجب على المرأة الخمار إذا تزوجت أو يتخذها سيدها لنفسه وروي عنه: إذا ولدت". فرع أم الولد والمكاتبة والمدبرة والمعتق بعضها سواء في قدر العورة، ذكره جميع الصحابة. وقال في "الحاوي": "في المعتق نصفها وجهان: أحدهما: هنا، وهو أنها كالأمة في صلاتها ومع الأجانب وكأمة الغير مع سيدها. والثاني: أنها كالحرائر في صلاتها ومع سيدها والأجانب، وهذا أصحّ لأنه إذا اجتمع التحليل والتحريم كان حكم التحريم أغلب" وهذا غريب جيد. وقال محمد بن سيرين: أم الولد لا تصلي إلا متقنعة لثبوت سبب الحرمة لها، وهو رواية عن أحمد. وروي عن مالك مثله، وهذا غلط لأنها مضمونة بالقيمة فأشبهت القن. فَرْعٌ آخرُ لو دخلت في الصلاة مكشوفة الرأس، ثم عتقت قبل الفراغ منها فعليها أن تستتر ثم

تمضي في صلاتها، ثم لا يخلو إما أن يكون بالقرب منها أو بالبعد عنها، فإن كان بالقرب منها أخذته وسترت به عورتها، ولم تبطل صلاتها لأنه عمل يسير، وهكذا لو سترها غيرها به جازت صلاتها أيضًا. ولو احتاجت إلى استدبار القبلة بطلت صلاتها، وإن كان قليلًا لأن استدبارها أعظم من العمل الكثير، وإن كان الثوب بالبعد عنها فعليها أن تمشي إليه وتستر به عورتها، فإذا مشت إليه بطلت صلاتها. وقال في "الحاوي": "ثم فيه وجهان: أحدهما: تبطل برؤية الثوب كالمتيمم إذا رأى الماء، وهذا لا يصحّ لأنه لو صحّ لبطلت، وإن كان الثوب قريبًا. والثاني: تبطل بالمشي إليه وعلى هذا لو لم تمضِ لأخذ الثوب ولا انتظرت من يناولها، تبطل أيضًا؛ لأنها وإن لم تمض فهي في حكم من مضى لوجوب ذلك عليها". وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان بناء على من سبقه حدث في صلاته فخرج وتوضأ، هل يبني أم يستأنف؟ قولان. فَرْعٌ آخرُ لو كان هناك من يأتيها به، فهل يجوز لها أن تمسك عن عمل الصلاة حتى يأتيها به ويسترها؟ فيه وجهان: قال أبو إسحق: يجوز ذلك ولا تبطل صلاتها لأنها فعلٌة واحدٌة، فهو كانتظار الراكع المأموم. وقال بعض أصحابنا: لا تبطل صلاتها، لأنها تركت ستر العورة مع القدرة عليه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا مبني على المشي، فإن جوزنا المشي فالانتظار أولى وإن لم نجوز المشي، فيه وجهان. وهذا مبني على أنه هل يجوز في صلاة الخوف أكثر من انتظارين؟ فَرْعٌ آخرُ لو كانت جاهلة بالعتق أو بوجوب الستر أو بوجود الثوب، وصلت مكشوفة الرأس لم تجزها لأنه شرط فلا يسقط بالنسيان والجهل قولًا واحدً. ومن أصحابنا من قال: فيه قولان مخرجان [115 أ/ 2] من المصلي في الثوب النجس ناسيًا، فإن فيه قولين. ومن قال الأول أجاب عن هذا: أنها مندوبة إلى الستر، فصارت كالمفرطة في تركها ولم يعزر فيه الجهل بخلاف مسألة النجاسة، وفي هذا الفرق نظرٌ. فَرْعٌ آخرُ المكاتبة كالأمة، ولكن إذا كان عندها ما تؤدي في نجومها وقد حلت يكره لها أن تصلي مكشوفة الرأس، وهكذا لو قال لها سيدها: إني دخلت الدار في يومي هذا، فأنت حرة فتركت الدخول، أو قال لها: أنت حرة إن شئت.

فَرْعٌ آخرُ لو قال لأمته: إن صليت مكشوفة الرأس فأنت حرةٌ من الآن يعني قبل الصلاة، فصلت مكشوفة الرأس صحت صلاتها ولا تعتق قبل الصلاة، لأن هذه صفة باطلة، لأن تقدم المشروط على الشرط محال ويكون كإيقاع العتق في الزمان الماضي. فَرْعٌ آخرُ يلزم الحرة ستر العورة الصغرى مع الصبيان الذين لم يبلغوا الحلم ولم تتحرك عليهم الشهوة والصغرى ما بين السّرة والركبة وأما مع العبيد فيه ثلاثة أوجه أحدها: يلزمها ستر العورة الكبرى، كالأجانب، والكبرى: جميع البدن. والثاني: يلزمها ستر العورة الصغرى لدى الرحم وبه قال ابن أبي هريرة، وابن سريج. والثالث: وهو تقريب أنها تبرز إليهم وهي فضل بارزة الذراعين والساق، ولا يختلف أصحابنا أنه لا يلزمهم الاستئذان إلا في وقت مخصوص بخلاف الحرة. فَرْعٌ آخرُ لو كان نصفها حرًا فعليها ستر العورة الكبرى منه بلا خلاف ذكره في "الحاوي". فَرْعٌ آخرُ الشيوخ الهرمي الذي عدموا الشهوة وفارقوا اللذة ففي عورتها معهم وجهان: أحدهما: هي الكبرى. والثاني: الصغرى، كما قلنا في الصبيان. فَرْعٌ آخرُ المحبوب الذي ليس بخصيّ، ففي عورتها معهم وجهان أيضًا لقوله تعالى: {أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ}. فَرْعٌ آخرُ العينين [115 أ/ 2] والمأيوس من جماعه والخصي والمؤنث المشبه بالنساء كغيرهم من الرجال في حقها. فَرْعٌ آخرُ لو تجرد الرجل في ماء نهر أو غدير، فيه وجهان: أحدهما: يجوز لأن الماء يقوم مقام الثوب في ستر عورته. والثاني: لا يجوز لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى أن ينزل الماء بغير مئزر، وقال: "إن للماء سكانًا".

فَرْعٌ آخرُ لا حكم لعورة الأطفال دون السبع، فإذا بلغ الغلام عشرًا والجارية تسعًا كانا كالبالغين في حكم العورة، وتحريم النظر إليها، لأن هذا زمان يمكن فيه البلوغ فيغلظ حكم العورة وفيما بين التسع والعشر من الغلام والجارية يحرم النظر إلى فرجها ويحلّ فيما سواه. مسألة: قال: "وأحب أن يصلي الرجل في قميص ورداء". الفصل وهذا كما قال: قد ذكرنا عورة الرجل، فيلزمه أن يصلي مستور العورة، ثم الكلام فيه في فصلين: أحدهما: في الكمال. والثاني: في قدر الجائز. فأما الكمال هو أن يصلي في ثوبين وقميص ورداء أو قميص وإزار أو قميص وسراويل لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه، فإن الله أحقّ من يزين له". فمن لم يكن له ثوبان، فليتزر إذا صلى، ولا يشتمل اشتمال اليهود، وإن كان معه ثوب واحد اتزر به إذا كان ضيقًا، ويجعل على عاتقه شيء، وإن كان واسعًا التحف به، وخالف بين طرفيه على عاتقه كما يفعله القصّار إذا كان في الماء. والأصل في ذلك ما روى جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال له: "يا جابر إذا كان الثوب واسعًا، فخالف بين طرفيه، وإذا كان ضيقًا فاشدده على حقوك"، وإنما قال كذلك في الثوب الواسع ليكون بمنزلة الإزار والرداء. وروى أبو داود في "سننه" عن عمر بن أبي سلمة أنه قال: "رأيت النبي [116 أ/ 2]- صلى الله عليه وسلم - يصلي في ثوب واحد ملتحفًا به مخالفًا بين طرفيه على منكبيه". وقال أحمد: لا يجزئه حتى يكون على عاتقه شيء لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء"، وهذا غلط، لأن هذا الموضع ليس بعورة، فلا يجب ستره. والخبر محمول على الاستحباب أو على أنه أراد: لا يتزر به في وسطه ويشد طرفيه على حقوه، ولكن يتزر به ويرفع طرفيه، فيخالف بينهما ويشده على عاتقه على ما بيّنا. وأما اشتمال اليهود أن يجلل بدنه الثوب ويسلبه من غير أن يشيل طرفيه.

وأما قدر الجائز فثوب واحد يستر به عورته فأولاها القميص ثم الرداء، ثم الإزار، ثم السراويل، فقدم الشافعي الإزار على السراويل، لأنه روى: "فليتزر به"، وهذا لأن السراويل تصف العورة حيث كان معمولاً على قدها. قال أصحابنا: وتقديم السراويل أولى لأنه أجمع للستر، ولا فرق بين أن لا يقدر على أكثر من ثوب واحد وبين أن يقدر، والأصل في هذا ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الصلاة في ثوب واحدٍ، فقال:" أو يكلكم ثوبان"؟. وروى جابر رضي الله عنه أنه "صلى يومأ في إزار واحد ورداؤه موضوع بين يديه على المشجب فقيل له في ذلك، فقال: إنما فعلت ليراني جاهل مثلك فيعلم أن الصلاة في الثوب الواحد جائزة وأينا كان له على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثوبان". فإذا تقرر هذا، فمتى ملى في قميص واحد فعليه أن يزره لئلا يشاهد عورته هو أو غيره حال الركوع والسجود. وروي أن سلمة بن الأكوع، قال: يا رسول الله إنا نكون في الصيد فيصلي أحدنا في القميص الواحد، قال: "انعم، [116 ب / 2] وليزره ولو لم يجد إلا أن يخله بشوكة". وروي أنه قال: "زره عليك أو اربطه بشوكةٍ". وعنا أبي حنيفة: يجوز وان لم يزره لأن ستر العورة يجب من المقابلة، فإن كان على رقبته ثوب أو خلة بخلال أجزأه، وان ترك ذلك، فإن جيبه ضيقاً ورقبته غليظة يمنع النظر إلى العورة عند الركوع والسجود أجزأه، وان لم يفعل شيئاً من هذا وشد وسطه على سرته بخيط أو حبل أجزأه، وان كان في قميصه شق نظر، فإن قابل العورة لم يجز، وإن لم يقابلها، فهو كالجيب إن كان يشاهد العورة منه، لم يجز، وإن لم يشاهد جاز، ولو غطاه بلحيته أو شعر رأسه، أو وضع يده على موضع الشق لا يجوز، لأنه لا يجوز أن يغطي بعض بدنه ببعضه. وقال بعض أصحابنا بخراسان فيه وجهان: والصحيح الأول، ولو كان معه رداء اتزر ببعضه وجعل البعض على عاتقه، ولو كان معه سراويل واحد لبسه. قال الشافعي: وأحث أن يكون على عاتقه شي، عمامة أو غيرها، وإن كان حبلاً ولم يجد غيره جعله على عاتقه، وهذا لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا يصلين أحدكم في ثوب ليس على عاتقه منه شيء"، فان لم يجد ثوبا يطرحه على عاتقه طرح حبلاً حتى لا يخلو من شيء. مسألة: قال: "وكل ثوب يصف ما تحته أو لا تجز لم تجز الصلاة فيه". وهذا كما قال: الكلام الآن في صفة الثوب الساتر، وهو أن يكون صفيقاً يستر لون

البشرة فإن كان لا يستر لونها ويشاهد أنه أحمر أو أسود لم يجز لأنه لم يستر العورة، فإن قيل: أليس قلتم: لو كان الحائل خفيفاً عليها فمسها فوق ذلك الحائل لا ينتقض وضوؤه عناكم فجعلتموه ستراً لها؟!. قلنا: الفرق أن نقض الطهارة يتعلق بمباشرة البشرة، والسترة الخفيفة تحول دونه، [117 أ/ 2] وليس كذلك السترة في الصلاة، فإن الفرض الحيلولة لتبين البصر وبين البشرة، فإذا لم يستر لونها لم يجز. وقال بعض أصحابنا: تجوز الصلاة في الثوب الواصف للون وكذا ذكره القفال زماناً فألزم عليه فساد صلاة العريان في الماء الصافي، فرجع عن ذلك، ولو كان الثوب صفيقاً يستر لونها جازت الصلاة فيهء وإن وصف حجم الأعضاء للينه من الإليتين أو الفخذين، أو الذكر، لأنه ما من ثوب إلا ويصف ذلك وغيره أولى. وقول الشافعي: "وكل ثوب يصف ما تحته". أراد به ما ذكرنا. وقوله: أو لا يستر أراد به أن يكون رخو النسج بحيث يرى من فرج النسج ما تحته من العورة. فرع يجوز ستر العورة بكل طاهر يستر عورته، فلو سترها يجلد طاهر ذكي أو مدبوغ جاز. وقال في "الأم": "وإذا لم يجد ثوباً ووجد ورق الشجر ستر به عورته وصلى" لأنه أكثر ما يقدر عليه من الستر ويخصفه على نفسه بشدة أو خيطه. فَرْعٌ آخرُ لو طين عورته بطين حتى لا يرى من لونه شيء وصلى جازت صلاته، لأن الواجب ستر لونه لا ستر جثته وخلقته، ألا ترى أنه لو لبس سراويل ضيقة ترى جثة أعضائه فيه جازت صلاته. وحكي عن ابن أبي أحمد أنه قال: "لا تجوز صلاته"، وهذا غلط لما ذكرنا. فَرْعٌ آخرُ هل يلزمه أن يطين عورته؟ اختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: يلزمه، وهو الأصح، وهو ظاهر المذهب، لأن الشافعي قال في "الأم": "إذا وجد ما يستر عورته من جلد طاهر أو ووق ما وغيره يلزمه"، وأراد بالغير الطين، ووجه هذا أنه جسم صفيق يستر ويمنع النظر ولهذا لو طين المحرم رأسه تلزمه الفدية. والثاني: لا يلزمه، وهو اختيار أبي إسحق وجماعة، لأنه يتلوث به البدن، ولأنه إذا جف يتشقق ولا يستره، فإذا قلنا: لا يطين، [117 ب / 2] فلا كلام، وإذا قلنا: يطين، فإن كان محدثاً طين كيف شاء، وإن كان متطهراً طين بدنه غير القبل والدبر، فأما القبل

والدبر ينظر فإن أمكنه تطين ذلك من غير أن يباشر الفرج بيده بأن يكون الطين ثخيناً أو يجعل على يده شيئاً من خرقة، أو ورق شجر أو خشبة فعل وإلا انتقض طهره بمسه. فَرْعٌ آخرُ لو وجد من الكسوة ما يستر بعض عورته مثل أن تجد المرأة سراويل أو الرجل خرقة صغيرة أو إزاراً مشقوقاً، فعليه أن يستر به ما قدر عليه من عورته. والقياس: أن له أن يستر أي موضع شاء من عورته، والأولى ستر القبل والدبر، هكذا ذكر أبو حامد. وقال في "الأم": "ستر به الفرجين لأنهما أغلظ من الفخذين"، فظاهره وجوب ذلك، وان وجد ما يستر به أحدهما، قال في "الأم": "ستر القبل دون الدبر"، لأنه لا حائل دون ذكره يستره ودون الدبر حائل من الإليتين، ولأن هذا الفرج يستقبل به القبلة فكان ستره أولى وكذلك المرأة تستر قبلها دون الدبر أيضاً، ومن أصحابنا من قال: يستر دبره، لأنه ينكشف في الركوع والسجود، فيكون أفحش من القبل، ومن أصحابنا من قال: هما سوا،، وكلاهما خلاف النص الصحيح. فَرْعٌ آخرُ لو كان للرجل ما يستره أو يستر امرأته لا يكفيهما وإنما يكفي أحدهما، وليس للمرأة شي،، فالأفضل أن يسترها لأن عورتها أعظم حرمة، فإن لم يفعل وستر نفسه وصلت عريانة صحت صلاتها لأنها صلت ولم تملك ما تستر عورتها، نص عليه في "الأم". فَرْعٌ آخرُ لو صلى في قميص واحد فوق سطح بحيث لو نظر ناظر من الأسفل رأى عورته جازت صلاته، لأنه لا يلزمه ستر عورته من الأرض، وإنما يلزمه من الجهة التي جرت العادة بالنظر منه ونظيره الخرق في الخف يمنع المسح، ولكن لو كان لابساً للخف وكان واسع الساق بحيث لو نظر [118 أ / 2] ناظر في ساقه رأى ظهر قدمه يجوز المسح عليه. وذكر والدي الإمام وجهاً آخر أنه لا يجوز، لأنه كما يلزمه الستر لحق الآدمي من الأعلى والأسفل، كذلك يلزمه لحرمة الصلاة وهذا ضعيف. فَرْعٌ آخرُ لو صلى في ماءٍ كدرٍ ستر به ما دون السرة حتى لا يظهر منه شيء إذا ركع ويمكنه أن يسجد على الأرض فيها، أو كان يصلى على جنازة حتى لا يحتاج إلى ركوع وسجود تجوز صلاته، وكذلك إذا كان صافياً ودخل فيه إلى عنقه حتى تراكم الماء واخضر به وستر بلونه لون عورته جازت الصلاة، وإلا فلا. وحكي عن ابن أبي أحمل: أنه لا يجوز ذلك بحال.

فَرْعٌ آخرُ لو ستر عورته بالزجاج لا يجوز لأنه لا يستر اللون. فَرْعٌ آخرُ لو وقف عرياناً في جب وصلى على الجنازةء فإن كان رأس الجب ضيقاً لا تبين العورة له ولا للناظرين يجوز وإلا فلا يجوز، وكذلك لو حفر في الأرض حفرة، ووقف فيها ورد التراب إلى نفسه. فَرْعٌ آخرُ لو انكشفت عورته بريح أو سقطة لم تبطل صلاته نص عليه في "الأم"، فإذا قار عليه وأمكنه إعادته كما كان لزمه فعله وان أخره عن أول حال الإمكان بطلت صلاته. فَرْعٌ آخرُ لو لم يجد إلا ثوبا نجساً ولا يقدر على عيله. قال في "الأم": "لم يصل فيه وتجزئه الصلاة عرياناً ولا يعيد". وبه قال الليث. وقال في البويطي هكذا، ثم قال: "وفيه قول آخر: يصلي في الثوب النجس ويعيد"، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: "يصلي فيه ولا يعيد". وبه قال المزني، وهذا غلط لأن فرض الصلاة يسقط مع العري ولا يسقط مع النجاسة. والدليل على أنه لا يسقط مع النجاسة ما تقدم. وقيل: هذا الذي حكي عن أبي حنيفة، مذهب مالك والأوزاعي لأن عندهما لا تجب إزالة النجاسة على المصلي. وقد روى أبو يوسف [118 ب / 2] عن أبي حنيفة أنه إن شاء صلى عرياناً وان شاء صلى في الثوب النجس. واحتج بأن كليهما واجب وليس أحدهما بأولى من الآخر فيتخير. وروى محمد في "الإملاء" عن أبي حنيفة أنه إن كانت النجاسة في أقل من نصف الثوب صلى فيه، ولا يصلي عرياناً، وإن كان مملوءاً دماً، فإن شاء صلى عرياناً، وان شاء صلى في الثوب، وهذا غلط، لأنها سترة نجسة، فلم تجز الصلاة فيها كجلد الميتة، وما ذكره ينقض بهذا. فَرْعٌ آخرُ لو كانوا جماعة فذهبت ثيابهم لغرق أو حريق أو قطع طريق نظر، فإن بقي مع أحدهم ثوب نظر، فإن كان يحن القراءة تقدم إماماً، وصلوا جماعة، لأنه يمكنه أن يقف أمام الصف الذي هو موقف الأئمة، فكان أولى من العريان، وان كان لا يحسن القراءة يصلي وحده، لأن إمامته ممن يحن الفاتحة لا تصح، فإذا في غ من الصلاة، فالمستحب له أن يعيرهم ثوبه ليصلوا فيه، لأن فيه قربة وثواباً، فإن بخل ولم يعرهم

ثوبه لم يكن لهم قتاله ومكابرته عليه لأنه لا ضرورة لهم إليه لأن لهم أن يصلوا عراة وتجزئهم، ويخالف هذا إذا كان به جوع شديد ووجد مع غيره طعاماً فضل عن حاجته كان له مكابرته عليه، لأن به ضرورة إليه. فَرْعٌ آخرُ إذا أراد أن يعيرهم، فالأولى أن يبدأ بالنساء، ثم بالرجال، لأن عورتهن أغلظ وأكد حرمة فكانت البداية بسترها أولى. فَرْعٌ آخرُ يجب على المعار قبول العارية به ولا يجوز له أن يصلي عرياناً، قبول العارية كما لو بذل له ماء الطهارة يلزمه القبول. فَرْعٌ آخرُ لو امتنع من الإعارة ورغب في الهبة تمليكاً لا يلزمه قبوله في ظاهر المذهب، لأن في قبوله منة كما لو بذل له ثمن ماء الطهارة لا يلزمه قبوله. وقال بعض أصحابنا: فيه ثلاثة أوجه: [119 أ / 2] أحدها: هذا. والثاني: يلزمه قبوله. وأما الثالث: يلزمه قبوله ناوياً به العارية، ثم إذا صلى فيه رده إلى ملكه، لأن عليه أن يتسبب إلى ستر عورته بما يقدر عليه، ولهذا عليه أن يستتر بالأوراق وغيرها، وهذا اختيار صاحب "الإفصاح"، وهو غلطء لأن الرجل بذل له عينه دون منفعته، فكيف يمكنه قبول منفعته دون عينه، وإذا تملكه كيف يمكنه رد ملكه إلى الغير؟. فَرْعٌ آخرُ لو خافوا ذهاب الوقت إذا صلوا واحداً واحداً، قال ههنا: لم يجز لهم أن يصلوا عراة. وقال في "الإملاء": يتعاورونه بينهم إلا أن يخافوا ذهاب الوقت فيصلوا كما أمكنهم حكاه صاحب "الإفصاح"، فالمسألة على قولين: أحدهما: يلزمهم الصبر، ولا يجوز أن يصلوا عراة، فإن صلوا أعادوا لأن متر العورة لا بال له يرجع إليه، فلا يجوز تركه لخوف فوت الوقت كما لو كان معه ثوب يحتاج إلى غسله، ويخاف فوت الوقت لو اشتغل بغله لا يجوز له أن يصليها حتى يغسله، كذلك ههنا. والثاني: لهم أن يصلوا عراة، لأن الستر يسقط بالعذر وخوف فوت الوقت عذر يسقط به. ولو كانت جماعة في سفينة لا يمكن جميعهم أن يصلوا قياماً وأمكنهم واحداً واحداً. قال الشافعي: "صلوا واحداً واحداً إلا أن يخافوا ذهاب الوقت فيصلوا قعوداً". قال المزني في "الجامع الكبير": "إذا كان هذا من قول الشافعي فكذلك يلزمه في الثوب

مثله"، فاختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال في مسألة السفينة قولين أيضاً، ومنهم من قال: ههنا قول واحد، والفرق من وجهين: أحدهما: أن ستر العورة أكد من القيام، لأنه يجوز ترك القيام في النوافل مع القدرة، ولا يجوز ترك الستر بحال. والثاني: أن ستر العورة لا بدل له يرجع إليه وللقيام بدل، وهو القعود. فَرْعٌ آخرُ لو تخلف [119 ب / 2] القادر على الثوب مع القدوة، وتقدم واحد من القوم مع المكتسي يجوز. نمق عليه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان، وهو غلط. وقال أبو حنيفة: لا تجوز صلاة المكتسي خلف العاري، وهذا غلط، لأنه ذكر تجوز صلاته، فصحت صلاته خلفه. فَرْعٌ آخرُ لو استعار ثوباً فلبسه ثم أحرم بالصلاة، ثم استرجعه مالكه بنى على صلاته عرياناً، وتجوز لأنه عاجز الآن عن الستر. فَرْعٌ آخرُ لو لم يبق مع أحدهم ثوب أصلاً. قال الشافعي: "صلوا فرادى وجماعة"، فمخير بين الفرادى والجماعة. وقال في "القديم": "الأولى أن يملوا فرادى"، لأنه أغض للبصر، فكان أولى من الجماعة التي لا يمكن معها غض البصر، ولأن الجماعة فضيلة وغض البصر فريضة فما أدى إلى فعل الفرض أولى، ولأنه لا يمكنهم أن يأتوا بسنة الجماعة بأن يصطفوا خلف الإمام، وإنما يقف إمامهم وسطهم. ووجه قوله "الجديد": أنهم إذا صلوا فرادي سواء. وقال بعض أصحابنا بخراسان: أحد القولين، أنه ين لهم الجماعة خلافاً لأبي حنيفة، وهو غلط. فَرْعٌ آخرُ إذا صلوا جماعة فالمستحب للإمام أن يقف وسطهم، لأنه إذا تقدمهم لم يمكنهم أن يفضوا أبصارهم عن عورته ويقف المأمومون صفا واحداً، فإن فاق الموضع قاموا صفين وغض الصف الأخير أبصارهم. فَرْعٌ آخرُ لو كانوا رجالاً ونساء صلى الرجال على الانفراد، والنساء على الانفراد، فإن كان المكان واسعاً غاب الرجال عن النساء وصلى الكل في وقت واحد، والحكم في جماعهم وانفرادهم على ما ذكرنا، وإن كان المكان ضيقاً صلى الرجل جماعة،

واستدبر النساء الرجال حتى إذا فرغوا صلى النساء حتى لا يشاهد بعضهم عورات بعض [120 أ / 2] في الصلاة، وظاهر كلام الشافعي ههنا أن النساء ينفردن عن الرجال سواء كان هناك حائل بينهن وبينهم، أو لم يكن. ولكن قال أصحابنا: لا تمنع النسا، إذا كان هناك حائل في حرم المسجد أن يصلين مع الرجال في جماعة، لأن المنع للاطلاع على العورة، وههنا لا توجد هذه. ومن أصحابنا من قال في النساء: ين لهن الجماعة بخلاف الرجال العراة لأنهن يصلين بسنة جماعتهن فإن إمامتهن تقف وسطهن عاريات كن أو ملتبسات. فَرْعٌ آخرُ العريان إذا لم يجد السترة يصلي قائما بركوع وسجود. وبه قال مالك، وروي ذللك عن عمر بن عبد العزيز ومجاهد. وقال الأوزاعي وأحمد والمزني: "يصلي قاعداً، لأنه قادر على ستر عورته بالأرض، فيلزمه". وقال أبو حنيفة: هو بالخيار إن شاء قعد، وإن شاء قام، لأنه لا من ترك فرض في كل واحد من الفعلين، فيتخير. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قول مخرج أنه يصلي قاعداً يومئ بالسجود، ولا يسجد على الأرض، فيكون كما قال الشافعي في المحبوس في حبس يصلي ويومئ، ثم إذا صلى هكذا، هل تلزم الإعادة؟ فيه وجهان. والمشهور ما تقدم. والدليل عليه أنه مستطيع للقيام من غير ضرر، فلا يجوز له تركه كما لو كان يجد السترة، ولأن فيما قالوا: لا يحصل الستر، بل يسترها من بعضه، ولا يوازي هذا ترك القيام والركوع والسجود، فلا يصح ما قلتم، ولا يضع يده على فرجه إذا صلى فإن وضع بحيث مس باطن كفه فرجه أعاد الوضوء والصلاة. فَرْعٌ آخرُ إذا صلى في ثوب حرير، وكان يجد غيره فقد عصى، ولكن تصح صلاته. وقال أحمد: "لا تصح صلاته"، وكذلك قال: إذا صلى في دار مغصوبةٍ، [120 ب / 2] وهذا غلط، لأنه لا تعلق لهذا النهي بالصلاة، فلا يمنع صحتها كما لو وجب عليه أداء الحق، فتركه واشتغل بصلاة النافلة أو الصلاة في أول الوقت، لا يمنع صحتها، ولو لم يجد غير هذا الثوب الحرير. قال بعض أصحابنا: يجوز له أن يصلي فيه، ولا يجوز له أن يصلي عرياناً، لأن العذر يبيح لبسه، وقد "رخص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للزبير وعبد الرحمن بن عوف في الحرير لحكة كانت بهما". وقد قال الشافعي: لو فاجأته الحرب يجوز له لبى الديباج، وهذه حالة عذر فجاز له اللبس، ويحتمل عندي وجهاً، أنه يصلي عرياناً، ولا يلبه كما لو وجد ثوب الغير، ولم يعره صاحبه.

فَرْعٌ آخرُ يكره للمرأة أن تتنقب في الصلاة، لأن الوجه من المرأة ليس بعورة، فهي كالرجل يكره له أن يصلي متلثماً على ما ذكرنا في الصلاة في الثوب الذي عليه الصور لما روي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان لي ثوب فيه صور، فكنت أبسطه، فلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إليه فقال: "أخريه عني فجعلت منه وسادتين". فَرْعٌ آخرُ لو دخل العريان في الصلاة، ثم وجد السترة، فهو كالأمة تصلي مكشوفة الرأس، ثم تعتق وتجد السترة. وقال أبو حنيفة: "بطلت صلاته" فنقيس على الأمة إذا أعتقت، وهي حاسرة الرأس سترت، ولا تبطل صلاتها. مسألة: قال: "ومن سلم أو تكلم ساهياً أو نسي شيئاً من صلاته بنى ما لم يتطاول". وهذا كما قال. الكلام في الصلاة ضربان: ذكر الله تعالى وغير ذكر الله تعالى، فإن كان ذكر الله تعالى، وهو التكبير والقراءة، ونحو ذلك لا تبطل الصلاةء وإن قصد به التنبيه والتحذير على ما بيناه. وأما غير الذكر، فهو خطاب الآدميين ينقسم أربعة أقسام: أحدها: أن يتكلم به ناسياً، أنه في الصلاة، [121 أ / 2] فإن كان يسيراً لم تبطل صلاته، وإن كان كثيراً، فظاهر كلام الشافعي ههنا أنه يبطلها، لأنه قال: بنى ما لم يتطاول. وقال نحو هذا في البويطي ولفظه: "إذا تكلم أو فحك ناسياً لصلاته، فإن كان يسيرا ككلام النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة ذي اليدين بنى، وإن كان كثيرا أعاد". واختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: هذا، لأنه يقطع نظام الصلاة، ولأنه لو نسي شيئاً من صلب الصلاة وسلم. طال الفصل أبطل الصلاة وجهاً واحداً، فكذلك الكلام. والثاني: وهو اختيار أبي إسحق لا يبطلها، لأن العلة كونه ساهياً، وهو موجود في القليل والكثير، ولهذا سوي في الأكل في الصوم ناسياً بين القليل والكثير. قال: وقول الشافعي: "بنى ما لم يتطاول" عاد إلى ما تركه من صلب الصلاة لا إلى الكلام. وأما في العمل إنما فرقنا بين القليل والكثير، لأن الفعل أكد وأغلظ حكماً، ولهذا المكره على القتل يلزمه القود والمكره على الطلاق لا يقع طلاقه، والأول أصح كما صرح في البويطي وأما دليله لا يصح لأنه إذا كان كثيراً يؤمن مثله في القضاء، فلم يعف وجرى مجرى الفعل الكثير، ولهذا العمل القليل يساوي الكلام القليل، لأنه لا يمكن الاحتراز منهما.

والثاني: أن يسلم من اثنتين يعتقد بأنه فرغ منها فتكلم، ثم بان له أنه لم يفرغ منها، فالحكم فيه كالثاني، والأصل فيه خبر ذي اليدين. والثالث: أن يكون قائماً بالصلاة ولكنه يجهل تحريم الكلام بأن يكون قريب العهد بالإسلام، فهو كالناسي أيضا لخبر معاوية بن الحكم. وقد ذكرناه ولو علم أن جنس الكلام يبطل الصلاة، ولكنه يجهل أن هذا الكلام بعينه يبطلها لم يعذر وتبطل. والرابع: أن يتكلم عامداً مع العلم بالتحريم فيبطلها سواء كان من المصلحة كقوله للإمام: سهوت [121 ب / 2]. وقوله للأعمى: لا تقع في البئر ونحو ذلك. وذكر بعض أصحابنا قسماً خامساً، وهو أن يقصد تلاوة القرآن، أو ذكراً من الأذكار، فسبق إلى لسانه كلام البشر لا يبطلها، وبهذا قال مالك والأوزاعي وأحمد وإسحق وأبو ثور. وروي ذلك عن ابن عباس وابن الزبير وعطاء رضي الله عنهم. وقال أبو حنيفة والنخعي: "جميع ذلك يبطل الصلاة إلا السلام ناسياً". وقال سعيد بن المسيب والنخعي وحماد: "جنس الكلام يبطل بكل حال، وكذلك السلام ناسياً في أثناء الصلاة". وقال مالك والأوزاعي: "إن كان لمصلحة الصلاة، لا يبطلها كتنبيه الإمام ودفع المار من بين يديه بالكلام"، وحكي عن الأوزاعي: "لا يبطلها، وان لم يكن هن مصلحة الصلاة كقوله للأعمى: لا تقع في البئر". وهذا كله غلط لما احتج الشافعي من خبر ذي اليدين أنه كلم النبي - صلى الله عليه وسلم - وكلمه النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكلم القوم ثم بنوا على صلاتهم، وتمام الخبر ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى بالمدينة إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر فسلم من اثنتين، وانصرف وقعد على خشبة في المسجد كالمتفكر، فخرج سرعان الناس، وهم يقولون: قصرت الصلاة، وفي الناس أبو بكر وعمر فهابا أن يكلماه، فقام رجل كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسميه: ذا اليدين، فقال: يا رسول الله، أقصرت الصلاة أم نسيت، فقال: "لم أنس ولم تقصر الصلاة ". وروي أنه قال: "ذلك لم يكن ما قصرت الصلاة ولا نسيت، فقال: أنسيت يا وسول الله؟. وروي: فقال: بلى قد كان بعض ذلك، فالتفت إلى أبي بكر وعمر، فقال: أو كما قال ذو اليدين؟ فقالا: بلى. وروي: فقالا برأسيهما: أي نعم، فأقبل على القوم. وقال: أصدق ذو اليدين؟ فأومأ أي: نعم، فرجع وسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مقامه، [122 أ / 2] فصلى الركعتين الباقيتين، ثم سلم، ثم كبر، ثم سجد مثل سجوده أو أطول، ثم رفع وكبر وسجد، ثم سلم، ثم قال: "لو حدث في الصلاة شيء لأنبأتكم لكن إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني. وسرعان مفتوحة السين والراء هم الذين يقبلون بسرعة، ويقال: سرعان بكسر السين.

وسكون الراء أيضاً، وهو جمع سريع. واحتج مالك بهذا الخبر وذكر أن القوم تكلموا عمداً لمصلحة الصلاة، ولم تبطل صلاتهم، قلنا: كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان على ظن أنه خارج من الصلاة، وكلام ذي اليدين على هذا المعنى لأن الزمان زمان نسخ فزيادة الصلاة ونقصان فتوهم أنه خارج من الصلاة للنسخ وكلام آبي بكر وعمر والقوم كان بالإيماء، ويقول الرجل: قلت بيدي، وقلت برأسي على التوسعة في الكلام، وإن مع أنهم نطقوا لم يضرهمء لأنهم أجابوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وجواب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يبطل الصلاة على ما ذكرنا. والدليل على بطلان قوله أيضاً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "التسبيح للرجال والتصفيق للنساء"، فلو جاز الكلام في هذا لاستغنى عن التسبيح والتصفيق. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى ذات يوم والرجال صفان والنساء صف، فلما قام ليكبر، قال: "إن أنساني الشيطان شيئاً من صلاتي فليسبح الرجال ولتصفق النساء". فرع قال في "الإملاء": "النفس الشديد ليس بكلام، وكذلك النفخ حتى يكون كلاماً يفهم كقوله: أف، والأنين كالنفخ". وهذا صحيح، وجملته أنه إذا أتى من الحروف شيئاً فشيئاً يكون كلاماً مفهوماً بطلت صلاته، وهذا لأن الكلام ما تحرك به اللسان والشفة، فأما صوت يخرج من الحلق، فليس بكلام، فإذا طبق شفتيه وتنحنح [122 ب / 2] لا تبطل، ولو مد الحرف الواحد لا تبطل، لأن مجرد الحرف من غير تشديد لا يسمى كلاماً، وأقل ما يفهم حرفان عند أهل اللغةء فأما الحرف الواحد، فليس بكلام، فلا تبطل الصلاة. وقال بعض أصحابنا: حتى لو كان حرفاً واحداً له معنى كالأمر من وقى، يقي، ق، ومن وعى، يعي، ع، جمع ومن وشى، يشي، ش. بطلت صلاته، لأنه كلام يفهم ومعناه: ق نفسك من كذا، وع كلامي، وش ثوبك. ولو قال: آه، بطلت صلاته سواء كان من خوف الله تعالى، أو من مرض وألم. وقال أبو حنيفة: "إذا نفخ في صلاته بطلت بكل حال وأما الأنين إن كان لمرض تبطل، وان كان لخوف الله تعالى، لا تبطل، وإن بان حرفان". وهذا غلط لما روي أن عمر رضي الله عنه، قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى، ثم سجد في آخرها، وجعل ينفخ في الأرض ويبكي، ويقول: "أللهم لا بعدي بهذا وأنا فيهم، ولا بعدي بهذا ونحن نستغفرك".فرفع رأسه وقد تجلت الشمس؛ ولأن هذا لا يسمى كلاماً.

فَرْعٌ آخرُ لو كان في فيه طعام أو سن من أسنانه، فازدرده لم يقطع صلاته إذا كان مما يمر مع الريق بلا مضغ، كما لا يبطل الصوم، ولو مضغه أو علكه أو استأنف إدخال شيء منه وازدرده بطلت صلاته نص عليه في "الجامع الكبير". وقال سعيد بن جبير وطاوس: "لا تبطل صلاة النفل وتبطل صلاة الفرض". وشرب سعيد بن جبير الماء في صلاة النفل، وقال طاوس: "لا بأس به"، وهذا غلط، لأن ما أبطل الصوم أبطل الصلاة كالمباشرة، وإن ترك في فمه لقمة، ولم يزدردها لا تبطل صلاته، لأنه ليس بأكل، ولا عمل طويل، ولو كان ناسياً أو جاهلا بالتحريم، فهو كالكلام ناسياً، فإن كان قليلاً لا تبطل صلاته. قال أصحابنا: ولا سجود عليه ههنا، لأن العمل [123 أ / 2] اليسير معفو عنه، وإن تطاول، فوجهان. والمذهب أنه يبطل. وقيل ههنا قول واحد: إنه يبطل، لأنه نادر. وقال القفال: إذا أكل كثيرا في الصوم، فإن قلنا الكلام الطويل ناسياً، لا يبطل الصلاة، فهذا أولى، وان قلنا: هناك يبطلها فههنا وجهان، فإن جعلنا العلة أن الاحتراز من الكثير يمكن في الغالب، فالموضعان سوا،، وان جعلنا العلة إن نظم الصلاة ينتح بالطويل، فالصوم لا يبطل، لأنه ليس فيه أفعال منظومة. فَرْعٌ آخرُ ولو بكى في صلاته، فإن كان بغير نطق، وإنما هو خشوع وذرف دموع لم تبطل صلاته، وإن كان بالنحيب والرقة والتأوه حتى بان حرفان، فإن كان ناسياً أو جاهلاً لم تبطل صلاته، وإلا بطلت كالكلام سواء، ولا فرق بين أن يكون ذلك من أمر الدنيا أو الآخرة، ذكره أبو حامد في "الجامع". قال القاضي الطبري: سمعت الماسرجسي يقول: إن كان آية عذاب فبكى من خشية الله تعالى لم تبطل صلاته، وإن حزن على ميت فبكى بطلت صلاته، وهذا يشبه مذهب أبي حنيفة، ولا يجي على أصلنا الفرق. فَرْعٌ آخرُ لو ضحك في الصلاة، فإن كان يبديها من غير صوت لم تبطل صلاته، لأنه ليس فيه أكثر من ظهور أسنانه، وإن كان بصوت وصار حروفاً تفهم كالقهقهة، فإن كان ناسياً أو جاهلاً، أو مغلوباً عليه لا تبطل صلاته وإلا بطلت. فَرْعٌ آخرُ قال الشافعي في أثنا، هذا الفصل: "أو نسي شيئاً من صلب الصلاة"، وجملته: أنه لا يخلو إما أن يترك واجبا أو غير واجبٍ، فإن لم يكن واجباً كالأذكار المسنونة لم

تبطل صلاته عامداً كان أو ناسياً، وان كان واجباً، فإن كان ذاكرا نظر، فإن كان تكبيرة الافتتاح لم تنعقد صلاته، ولا يصح بشيء مما عمله، وعليه [123 ب / 2] أن يستأنفه الصلاة، وهكذا لو علم أنه ترك ركناً، ولا يدري عينه، وإن نسي القراءة، فقد ذكرنا قولين، فإذا قلنا بقوله "القديم" فذكرها، فإن كان قبل فوات وقته بأن ذكر قبل الركوع أتى بهاء وان ذكرها بعد الركوع لا يعيدها، وإن كان فعلاً كالركوع والسجود، ونحوهما لا يسقط بالنسيان، فإن ذكره بعد التسليم قريباً بنى عليه، وفعل ما نسيه، وأعاد جميع ما عمله بعد الذي نسيه، لأن الترتيب فيها متسحق، وان تطاول الزمان يلزمه استئناف الصلاة قولاً واحداً، لأنه انقطع الموالاة، وذلك يمنع متابعة الأذكار. فَرْعٌ آخرُ اختلف أصحابنا في حد التطاول فمنهم من قال: هو الخروج من العرف بأن يحول وجهه عن القبلة، ويطول الفعل خارجا عن العرف، وهو اختيار صاحب "الإفصاح"، وجماعة، وهو الصحيح، وهو ظاهر كلامه في "الأم". وقال أبو حامد في "الجامع" حكى البويطي في "مختصره": "أنه قدر ركعة تامة". قال: وهذا نص فهو أولى، وهو اختيار أبي إسحق، وحكى الماسرجسي عن ابن أبي هريرة أنه قال: حده مقدار الصلاة التي هو فيها، لأن العلم يبني على تحريمة هذه الصلاة، وهذا خلاف نص الشافعي، وغلط لأنه يؤدي إلى اختلاف التطاول لاختلاف أعداد الصلوات. وقال بعض أصحابنا بخراسان: يبني وان تطاول تخريجاً مما قال: يمضي سجود السهو، وإن طال الفصل في قول، وهذا ليس بشي،. مسألة: قال: "وإن تكلم أو سلم عامداً أو أحدث فيما بين إحرامه وبين سلامه استأنف". وهذا كما قال: قد ذكرنا حكم كلام العمد وفروعه ومن جملة فروعه أنه لو قرأ كتاباً بين يديه، فإن قرأ في نفسه لم تبطل صلاته لأن التفكر [124 أ / 2] وحديث النفس لا يبطل الصلاة لما روى أبو هريرة ورضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "تجاوز الله لأمتي عما حدثت به نفوسها ما لم يتكلموا"، ولذلك لو سها على القراءةء ثم تذكر فعاد إليها لا سجود، وان قرأ بلسانه بطلت صلاته، لأن قوله: أطال الله بقاءك، وأدام عزك من كلام الآدمي. وأما الحدث في الصلاة على ثلاثة أضرب: عمد وسهو وسبق حدث، فالعمد يبطل الطهارة، وإذا بطلت الطهارة بطلت الصلاة. قال أبو حنيفة: إذا أحدث عمداً قبل

السلام بعد القعود قدر التشهد، قام مقام السلام، وتمت به الصلاة. وأما سهو الحدث، فكالعمد سواء. وأما سبق الحدث يبطل الطهارة قولاً واحداً، وهل تبطل الصلاة؟ قولان. قال في "القديم ": "لا تبطل الصلاة" وعلق القول في هذا في "الإملاء": فيتوضأ ويبني على صلاته ما لم يتطاول أو يتكلم. وبه قال أبو حنيفة وابن أبي ليلى وداود. وقال في "الجديد": "بطلت صلاته، فيتوضأ ويستأنف". وبه قال مالك وابن شبرمة. وروي هذا عن المسور بن مخرمة. وروي نحو قول "القديم" عن عمر وعلي وابن عمر رضي الله عنهم، وهذا هو الصحيح بدليل ما روى أبو داود في "سننه" بإسناده أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا قاء أحدكم في صلاته فلينصرف وليتوضأ وليعد صلاته"، لأنه حدث يمنع المضي في صلاته، فيمنع البناء عليها كما لو رمي بحجر فشج. واحتجوا بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من قاء أو رعف، فلينصرف وليتوضأ وليبن على صلاته ما لم يتكلم". قلنا: قال أبو حاتم الرازي، هذا مرسل، لأنه يرويه ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يحمل قوله: "بنى على صلاته" على الاستئناف، لأنه يقال لمن فعل مثل ما مضى بنى، وفي هذا نظر. وحكي عن مالك أنه قال: إن كان [124 ب / 2] في أول الصلاة بنى، وإن كان في آخرها استأنف، وهذا بعيد عن الصواب. فرع لا فرق في سبق الحدث عندنا بينه وبين النجاسة إذا خرجت من بدنه من القيء أو الرعاف، فعلى قوله القديم: يغسل النجاسة ويبني على صلاته ما لم يتطاول الفصل لما يخالف الصلاة من أكل أو كلام أو عمل طويل، ولو فار دم جرحه، فلم يصب شيا من بدنه مضى في صلاته على القولين معاً، ذكره في "الحاوي": وسمعت شيخنا الإمام ناصر رحمه الله يقوله: لخبر المهاجري والأنصاري، وهو معروف مذكور ووجه الدليل أنه لم يقطع صلاته بالرمية الأولى والثانية، لأن ما انفصل عن البشرة في الحكم غير مضاف إليه، وان كان الدم متصلا بعضه بالبعض كما لو قلب الماء من إناء على نجاسة فيتغير بها، فالمتغير نجس وما في الطريق طاهر. فَرْعٌ آخرُ إذا قلنا بقوله القديم، فانصرف ليتوضأ فبال الباقي، له أن يبني على صلاته أيضا، لأن الذي سبق منه هو الذي أبطل الطهارة، وبطلان الطهارة لم يبطل الصلاة على هذا القول.

وأما الباقي الذي قصده باختياره لا يبطل الطهارة، فلا يبطل الصلاة. وعلى هذا قال الشيخ الإمام سهل الصعلوكي رحمه الله: لو كان بال ثم تغوط الآن لا تبطل الصلاة أيضاً. وقال بعض أصحابنا بالعراق: العلة في باقي البول أنه يحتاج إلى إخراج باقيه، وهو حدث واحد فكان حكم باقيه حكم أوله، فعلى هذا إذا أحدث حدثا أخر بطلت صلاته، لأنه لا يوجد فيه هذه العلة. مسألة: قال: "وإن عمل عملا قليلا مثل دفعه المار بين يديه أو قتل حية". الفصل وهذا كما قال: جملته أن العمل القليل لا يبطل الصلاة عامداً كان أو ساهياً، وهذا إجماع، لأنه لا بد فيها من قليل العمل، لأنه يدفع المار ويسوي ثوبه ويميط عنه الأذى [125 أ / 2] إن أصابه. وقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يملي بأصحابه، فخلع نعليه، فوضعه عن يساوه، فلما رأى ذلك القوم، ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاته، قال: "ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ " قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فألقينا نعالنا. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن جبريل عليه السلام أتاني، فأخبرني أن فيهما قذراً". وفي هذا دليل أيضاً على أن الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أفعاله واجب كهو في أقواله، فإن أصحابه نزعوا نعالهم لما وأوه نزعه، ودفع وسول الله - صلى الله عليه وسلم - المار بين يديه، وكان يحمل أمامة بنت أبي العاص، "فكان إذا سجد وضعها، وإذا قام رفعها". وهذا عمل كبير عند الجمع ولكن مرة قليل. وأما حد القليل والكثير، قيل: المرجع فيه إلى العرف والعادة. ومن أصحابنا من قال: حد القليل أن يفعل فعلا لا يتراءى للنظارة أنه في غير الصلاة، وحد الكثير أن يفعل فعلا يتراءى للنظار أنه ليس في الصلاة، وهذا اختيار مشايخ خراسان. ومن أصحابنا من قال: كل عمل لا يحتاج فيه إلى اليدين، فهو قليل كحك الجربان، وإن احتيج فيه إلى اليدين كان كثيرا مثل تكوير العمامة وهذا ليس بشيء. فرع قال الشافعي في "الجديد": "القليل مثل دفعه المار بين يديه وقتل الحية

والعقرب، فلا بأس به في الصلاة". قال: وكل عمل خف يف، وإن كان عمداً مثل الخطوة والخطوتين والطعنة والطعنتين ودفع المار مرة ومرتين، ومسح التراب عن وجهه، وإصلاح ردائه ونحو ذلك لا يبطل الصلاة، فجعل حد القليل المرة والمرتين، وجعل حد الكثير فيما زاد على ذلك، وإنما ذكر دفع المار بين يديه للخبر، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقطع صلاة المرء شيء، [125 ب / 2] وادرؤوا ما استطعتم"، وذكر قتل الحية والعقرب، وذلك لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "اقتلوا الأسودين في الصلاة: الحية والعقرب"، وقتل الحية في الغالب إنما يكون بالضربة والضربتين. وفي معنى الحية والعقرب كل ضرار مباح القتل كالزنابير ونحوها. وقال أبو رافع: قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عقرباً، وهو يصلي" ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن يزيد على الضربة الواحدة، لأن الشافعي قال في صلاة الخوف: "ولا بأس أن يضرب في الصلاة الضربة ويطعن الطعنة، فإن تابع الضرب أو ردد الطعنة في المطعون، أو عمل ما يطول بطلت صلاته"، فمن أصحابنا من قال: "المسألة على قول واحد، وهو أن الثلاثة تبطلها والمرتين لا تبطلها"، وهو اختيار أبي حامد. ومن أصحابنا من قال: "في المرتين قولان"، وهذا اختيار القاضي الطبري، ووجه قولنا أنه يبطلها أن المرتين دخلتا في حد التكرار كالثلاث. والمشهور الأول، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خلع نعليه وذلك فعلان. فَرْعٌ آخرُ لا يكره قتل الحية والعقرب فيها، وقال النخعي: يكره، وهذا غلط لما ذكرنا من الخبر. فَرْعٌ آخرُ لو قصد بالعمل القليل منافاة الصلاة تبطل صلاته، لأنه لو قصا الخروج من صلاته بطلت فبالقصد مع العمل أولى، وهو أن يفتح بابا أو يخطو خطوة أو يستنا إلى حائط بهذه النية، وكذلك لو التفت بوجهه قاصداً منافاة الصلاة. فَرْعٌ آخرُ إذا قفز قفزة وان كان مرة تبطل صلاته، لأنه في نفسه فعل كثير فاحش. فَرْعٌ آخرُ لو التفت بجميع بدنه وحول قدميه عن جهة القبلة، فإن كان عامداً بطلت، وإن كان

ساهياً، فإن تطاول الزمان بطلت وإن قصر [126 أ / 2] يسجد للسهو. وقال بعض أصحابنا: وكذلك لو استدبر القبلة بوجهه دون بدنه. فَرْعٌ آخرُ لو خطا خطوتين لا تبطل الصلاة، وكذلك لو وقف كثيراً بعد ذلك، ثم خطا مثل ذلك حتى خطى عشرين خطوة في صلاة واحدة لم تبطل صلاته، لأن الذي يبطلها لم يكثر دفعة واحدة. فَرْعٌ آخرُ لو دق عليه الباب، وهو بالبعد فخطا خطوة، ثم وقف ثم خطا خطوةً أخرى، ثم وقف ثم هكذا إلى أن بلغ الباب وفتح تصح صلاته، لأن الأعمال المتفرقة، لا ينبني بعضها على بعض. وقالت عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في الحجرة والباب مغلق عليه، فجثت واستفتحت فمشى وفتح لي، ثم رجع إلى مصلاه". وقالت أم سلمة: "استأذنت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو يصلي، فإما مشي عن يمينه، وإما مشى عن يساره حتى فتح الباب، ثم رجع إلى مقامه". وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "كانت لي ساعة من السحر أدخل فيها على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن كان في صلاة سبح، وكان ذلك إذنه لي، وان لم يكن في صلاة أذن لي". فَرْعٌ آخرُ لو وضح السكر في فمه أو شيئاً يذوب بريقه في الصلاة فذاب ونزل في حلقه بطلت صلاته، لأن الصوم فيها شرط. فكل أكل أبطل الصوم أبطل الصلاة، وهذا ظاهر المذهب ولأنه ينافي الاشتغال بالعبادة والخشوع، ويمكن الاحتراز منه. وقال بعض أصحابنا: لا تبطل صلاته لأنه نزل إلى حلقه من غير اختياره ولم يوجد منه إلا الترك في فيه، والصوم يبطل. لأنه هكذا يؤكل، والإمساك فيه شرط ذكره أبو حامد. فَرْعٌ آخرُ يكره له البصاق في المسجد سواء كان في صلاة أو غيرها لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إن المسجد لينزوي من النخامة [126 ب / 2] كما تنزوي الجلدة من النار". وقال جابر رضي الله عنه: أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مسجدنا هذا وفي يده عرجون،

فنظر فرأى في قبلة المسجد نخامة، فأقبل عليها فحتها بالعرجون، ثم قال: "أيكم يحت أن يعرض الله عنه، إن أحدكم إذا قام يصلي، فإن الله تعالى قبل وجهه، فلا يبصقن قتل وجهه، ولا عن يمينه، وليبصق عن يساره تحت رجله اليسرى، فإن عجلت به بادره، فليقل بثوبه هكذا، ووضعه على فيه ثم دلكه أروني عبيراً، فقام فتى من الحي يشتد إلى أهله، فجاء بخلوف في راحته، فأخذه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم لطخ به على أثر النخامة". قال جابر: فمن هناك جعلتم الخلوف في مساجدكم، والعرجون عود لباسه النخل، وسمي عرجوناً لانعراجه، وهو انعطافه. وقوله: فإن الله قبل وجهه، أي: القبلة التي أمره الله تعالى بالتوجه إليها للصلاة قبل وجهه، وفيه هذا الإضمار إنما أضيفت تلك الجهة إلى الله تعالى على سبيل التكرمة كما يقال: بيت الله، فإن كان يصلي في غير المسجد، فلا يبصق عن يمينه ولا بين يديه، ولكن عن يساره، أو تحت قدمه اليسرى، فإن بادره جعله في ثوبه، وحك بعضه ببعض كما في الخبر. قال أصحابنا: فإن بصق في المسجد ناسياً دفنه لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "البزاق في المسجد خطيئة وكفارته دفنه". فَرْعٌ آخرُ لو وجد قملة في ثيابه فالأولى أن يتغافل عنها، فإن رمى بها جاز لأنه عمل قليل، وإن قتلها جاز لأن دمها، معفو عنه، ولا يرميها في المجد. فَرْعٌ آخرُ من دخل في الصلاة بنية الإطالة، ثم نابه شيء كالخوف [127 أ / 2] على المال والحريق والغريق أو بكاء ولد أو حاجة، فله التخفيف، بل يستحب ذلك لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إني لأدخل في الصلاة أريد أن أطيلها فأسمع بكاء الصبي خلفي، فأخفف لما أعلم من قلب أمه". فَرْعٌ آخرُ قال الإمام أبو سليمان: "إذا صلى المصلي وحده، فالأدب أن يخلع نعله ويضعها عن يساره، ولو كان مع غيره في الصف وكان عن يساره ويمينه ناس، فإنه يضعها بين رجليه". وهذا لما روينا من خبر أبي سعيد الخدري في نزع النبي - صلى الله عليه وسلم - نعله. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا صلى أحدكم فلا يضع نعليه

عن يمينه ولا عن يساره، فيكون عن يمين غيره إلا أن لا يكون عن يساره أحد ويضعها بين رجليه". وهذا ليصان ميامين الناس من كل شيء يكون محلاً للأذى. وفي هذا الخبر: "دليل على أنه إن خلع نعليه، فتركها من ورائه أو عن يمينه، فتعرقل بها رجل فتلفت بأن خر على وجهه أو تردى في بثر بقربهء يلزمه الضمان، وهو كوضح الحجر في غير ملكه". فَرْعٌ آخرُ قال الشافعي: "وإذا عد الآي في الصلاة عقداً ولم يتلفظ به لم تبطل صلاته، وتركه أحب إلي"، وهذا لأنه عمل يسير. وقال مالك: "لا بأس به." وبه قال الثوري واسحق وأبو ثور وابن أبي ليلى والنخعي. وقال أبو حنيفة ومحمد: "يكره". قال في "الحاوي": "وهو قولنا". وقال أبو يوسف: "لا بأس به في التطوع". واحتجوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يسبح ثلاث تسبيحات"، وذلك إنما يكون بالعد. وقال أبو الدرداء: "إني لأدعو في صلاتي لسبعين رجلا من إخواني". وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يعقد في صلاته عقا الأعراب" [127 ب / 2]، وإن عل ركعاتها لا يكره كذلك عد الآي، ولأنه علم العباس رضي الله عنه صلاة التسبيح، فلا يخلو إما أن يعد بعقد القلب، وهو مكروه، لأنه يشغله عن الخشوع فثبت أنه كان يعد بالأصابع، وهذا غلط، لأن هذا عمل ليس من الصلاة، فكان تركه أولى كمسح وجهه، ولأنه مأمور بقراءة ما تيسر عليه، وهذا العد يقطع خشوعه، ويخالف عد الركعات، لأنه لا يقطع خشوعه، لأن معرفة ما مضى منها، وما بقي واجب فجاز عقد الأصابع، ولا يكره. وأما التسبيحات، فلا تحتاج إلى عقا ولا فكر أصلاً. وقول أبي الدرداء يحمل على أنه عدهم قبل الصلاة، أو قال ذلك حرزا وتخميناً. وأما الخبر الذي ذكروا فقد روي أنه عد الفاتحة في الصلاة، وقطعها وهذا يدل على الجواز، وإنما فعل ذلك ليتبين عددها فجاز لغرض، وعلى ما ذكرنا لو داوم بتحريك أصابعه أو أجفاته، لا تبطل صلاته، لأن الفعل في نفسه قليل. فَرْعٌ آخرُ لو تلوثت جبهته بالتراب في الصلاة، فالأولى بأن لا صيحة حتى يفرغ من صلاته لما روي عن ابن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: "أبصرت عيناي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

صبيحة الحادي والعشرين من شهر رمضان وعلى جبهته وأنفه أثر الماء والطين". مسألة: قال: "وينصرف حيث شاء عن يمينه وشماله". وهذا كما قال. قد ذكرنا هذه المسألة، ولا فائدة في إعادتها ههنا إلا أنه اتبع الدليل، وهو أنه قال: لما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب التيامن، وفي الأول ذكره المزني بلا دلالة. وقال أبو حنيفة: "الانصراف على اليسار أولى، لأنه انصراف من العبادة كالخروج من المسجل يقدم رجله اليسرى، وهذا يبطل بالسلام من الصلاة". واعلم أن التيامن بالانصراف [128 أ / 2] مثل التيامن في السلام، وذلك أنه في السلام يلتوي ويوجهه عن يمينه. كذلك في الانصراف يلتوي ببدنه عن يمينه، وهذا لأن القصد من الانصراف الإقبال على القوم، وربما يكون المأموم واحدا على يمينه، فلو التوى عن يساره ببدنه صار قفاه نحو المأموم على ما ذكرنا. مسألة: قال: "وإن فات رجل مع الإمام ركعتان من الظهر قضاهما بأم القرآن وسورةٍ". وهذا كما قال: إذا أدرك الإمام في الركعة الأخيرة من الصلاة، فإنها أخر صلاة الإمام وأول صلاة المأموم فعلاً وحكماً، وبه قال عمر وعلي وأبو الدرداء وسعيد بن المسيب والحسن والزهري والأوزاعي ومحمد بن الحسن واسحق. وقال أبو حنيفة: "ما أدرك مع الإمام آخر صلاته وما يقضيه أول صلاته فعلا وآخرها حكماً، وما يقضيه آخر صلاته فعلاً، وأولها حكماً"، فوافقنا في الفعل وخالفنا في الحكم. وفائدة هذا الترتيب يتبين في مسألة، وهي أنه إذا صلى الوتر مع الإمام ركعة أو ركعتين وقنت معه إتباعاً يعيد القنوت عندنا في آخر صلاته وعندهم لا يعيد، وربما يقولون: روي عن أبي حنيفة أنه قال: يعيد القنوت، فلا يبقى معه للخلاف فائدة. والدليل على ما قلنا: أنها ركعة مفتتحة بالإحرام، فكانت أول صلاته كالمنفرد، فإذا تقرر هذا، فلو فات مع الإمام ركعتان من الظهر، وأدرك ركعتين، فإن شاء صلى من الركعتين الأولى والثانية، فإذا سلم الإمام قام، وصلى الثالثة والرابعة. قال الشافعي: "قضاهما بأم القرآن وسورة كما فاته"، وإن كان ذلك في صلاة المغرب، وفاتته منها الركعة الأولى وأدرك الركعة الثانية والثالثة، فإنما للإمام الأولى والثانية، فإذا سلم الإمام صلى الثالثة، ويقرأ فيها بأم القرآن وسورة، [128 ب / 2] ويسر فيها بالقراءة. قال المزني: "وهذا غلط قد جعل هذه الركعة في معنى الأولى، يقرأ أم الكتاب وسورة، وجعلها في معنى الثالثة من المغرب بالتعوذ"، وهذا متناقض. واختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: إنما أجاب الشافعي ههنا على القول الذي يقول:

قراءة السورة تستحب مع الفاتحة ني الأخريين وفي الثالثة من المغرب، فأما على القول الذي يقول: لا تستحب في الآخرين ولا تستحب هها قراءة السورة، كما قال المزني. وبه قال القاضي أبو حامد. ومن أصحابنا من قال: وهو اختيار أبي إسحق، هها تستحب قراءة السورة على القولين جميعاً، لأنه فاتته فضيلة السورة في الأوليين من صلاته، فإنه لم يسمعها من الإمام، ولم يقرأها بنفسه فعليه أن يقرأها في الأخريين لتحمل له الفضيلة، وهذا مذهب الشافعي، أن السنة إذا فاتت في محلها جاز قضاؤها في مثل محلها إذا لم يكن في قضائها ترك سنة أخرى، ألا ترى أنه إذا قرأ الإمام في الجمعة في الركعة الأولى سورة المنافقين، وترك سورة الجمعة استحببنا له في الركعة الثانية قضاء سورة الجمعة وإتباعها بسورة المنافقين. والدليل على صحة هذا أنه قال في البويطي: "يقضي بأم الكتاب وسورة كما فاته". وكذا ذكر ههنا ولم يعلل بأن آخر الصلاة محل السورة بل علل بالفوات، فإن قيل: أليس لو ترك الرمل في الأشواط الثلاثة من الطواف لا يقضيه في الأربعة الباقية، فما الفرق؟. قلنا: الفرق أن سنة الأربعة المشي وسنة الثلاثة في الابتداء الرمل، فلو قضى الرمل في ثلاثة من الأربعة المتأخرة ترك سنة الأربعة، وهي المشي وههنا لا يؤدي تضاء هذه السنة إلى ترك سنة أخرى. فرع إذا قلنا: بقراءة السورة، [129 أ / 2] هل يجهر بالقراءة؟ قال صاحب "لإفصاح"، قال الشافعي في موضع: "يجهر بها". وقال في "الإملاء": "لا يجهر"، فالمسألة على قولين: أحدهما: يجهر بها حتى يأتي بها على حسب ما فاته، أو ليدرك ما فاته من الجهر كقراءة السورة. والثاني: لا يجهر بها لا الثالثة من المغرب، والأخريين من غيرها لا مدخل للجهر بالقراءة فيها بحال وللقراءة فيها مدخل، فجاز أن يستحب فيها القراءة دون الجهر. وقال أصحابنا: نص الشافعي على الجهر ههنا يدل على خطأ الجواب للأول عن كلام المزني أنه قال على القول الذي يقول: يقرأ في كل ركعة سورة. فَرْعٌ آخرُ إذا أدرك الإمام راكعاً كبر وهو قائم معتدل ورفع يديه حذو منكبيه ثم كبر تكبيرة أخرى للدخول في الركوع ويرفع يديه حذو منكبيه، ويل خل معه في الركوع، ولو أدركه ساجداً كبر تكبيرة الافتتاح على ما ذكرنا، ثم يسجد ولا يكبر، لأنه لم يدرك محل التكبير، وإنما يفعل هذا السجود على طريق المتابعة، فإنه لا يستحب به من صلاته، فيفعل القدر الذي أدركه ورفع رأسه مكبراً وسجد سجدة أخرى مكبراً تبعاً لإمامه، ويخالف الركوع لأنه يحتسب به من صلاته، فيأتي به على هيئته.

ومن أصحابنا من قال: يكبر للسجود أيضا، لأنه مأمور بالسجود متابعة للإمام، فيسن له التكبير كما لو كان من صلب صلاته، وهذا ضعيف. فَرْعٌ آخرُ لو أدركه في التشهد الأول كبر تكبيرة الإحرام وجلس بغير تكبير وجها واحداً، وقد نص عليه في البويطي، ووجهه أن الجلوس عن القيام لم يسن في الصلاة، فلا يكبر له، فإذا قام مع الإمام إلى الثالثة كبر متابعة لإمامه، لأن إمامه يكبر، فإذا صلى ركعتين مع الإمام وسلم الإمام قام إلى ثالثته مكبراً، لأنه يقوم إلى ابتداء ركعة. [129 ب / 2] فَرْعٌ آخرُ لو أدركه في التشهد الأخير كبر وجلس بغير تكبير، ويتشهد معه، لأنه أدرك محل التشهد فتبعه في المحل والذكر فيه، ويحصل له فضيلة الجماعة، ثم إذا سلم الإمام قام من غير تكبير، لأنه كبر في ابتداء هذه الركعة، وإنما قام في أثنائها، وليس له إمام يكبر فيتابعه. ومن بعض أصحابنا من قال: لا يتشهد معه، لأنه ليس بموضع تشهده، والأول أصح، لأنه إذا جاز أن يقعد في غير موضع قعوده للمتابعة جاز أن يتبعه ني التشهد أيضاً، إلا أن هذا التشهد لا يجب عليه، لأنه يلزمه متابعة الإمام في الأفعال الظاهرة دون الأذكار. والأصل فيما ذكرناه أن كل موضع كان محلاَ للتكبير لو كان وحده، فإنه يكبر إذا فارق إمامه، وكل موضع ليس بمحل التكبير إذا كان وحده نظر، فإن كان إمامه مكبراً كبر معه متابعا له، وإن لم يكن إمامه مكبراً فيه، لم يكبر هو. وعلى هذا إذا أدركه في الركوع وتبعه، ثم سلم الإمام، قام يكبر لأنه يقوم إلى ركعة أخرى لنفسه، ولو أدرك مع الإمام سجدة سجد بها معه ولا يضيف إليها أخرى وإذا استوى قائماً بعدما سلم الإمام، وأدركه في التشهد لا يأتي بدعاء الاستفتاح، لأنه قد اشتغل عقيب تكبيرة الافتتاح بغيره، فلا يعود إليه. فَرْعٌ آخرُ قال: "ويصلي الرجل قد صلى مرة مع الجماعة كل صلاة". وهذا كما قال: إذا صلى صلاة من الصلوات الخمس منفرداً، ثم أدرك الجماعة، فالمستحب أن يصليها معهم، ولو صلاها في جماعة، ثم أدركها في جماعة أخرى يستحب أيضا أن يصليها معهم نص عليه في "الجديد". ومن أصحابنا من قال: لا يستحب له ذلك، لأنه أدرك فضيلة الجماعة، فلا معنى لإعادتها، وهذا اختيار كثير من مشايخ خراسان. ومن أصحابنا من قال: إن كان صبحاً أو عصراً لا يستحب له [130 أ / 2] إعادتها

في جماعة أخرى، وهل يكره؟ وجهان. وان كانت غيرهما يعيدها استحباباً، وان كانت مغرباً قد قيل: هي كالظهر. وقيل: يكره حتى لا يصير الوتر شفعاً، والأول أصح. ومن أصحابنا من مال: ينظر في الجماعة الثانية، فإن كانت فيها زيادة فضيلة بالإمام أو المسجد أو بكثرة الجماعة يعيدها، وإلا فلا يعيدها. ذكره الإمام سهل والمنصوص الأول، وهو الأصح، لأن فيه غرضاً وسبباً ظاهراً، وهو استدراك زيادة الفضيلة، وبهذا قال علي وأنس وحذيفة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير والزهري والحسن وأحمد واسحق رضي الله عنهم. وروي عن أحمد أنه قال: "لا يعيد الفجر والعصر إلا مع إمام الحق دون غيره". وقال مالك: "إن صلاها في جماعة لا يعيدها، وإن صلاها في غير جماعة يعيد إلا المغرب". وقال النخعي والأوزاعي: "يعيد الكل إلا المغرب والصبح". وبه قال أبو ثور. وروى عن الحسن وحكي عن الأوزاعي مثل قول مالك. وقال أبو حنيفة: ا (لا يعيد إلا صلاتي الظهر والعشاء، فأما الصبح والعصر والمغرب، فلا يعيدها". واحتج بما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تصلوا صلاة في يوم مرتين". وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس". وأما المغرب لو أعادها صارت وترين من جنس واحد، ولأن الوتر لا يتنفل بهاء وهذا غلط لما أشار إليه الشافعي رضي الله عنه من الخبر. وتمامه ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "صلى بالمدينة يوماً صلاة الصبح، فلما انفتل منها رأى رجلاً منعزلاً لم يكن صلى معهم، فقال له: "ما لك لم تصل معنا"؟، فقال: كنت قد صليت، فقال له: "إذا جثت فصل، وإن كنت [130 ب / 2] قد صليت". وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الصبح في مسجد الخيف، فلما انفتل من صلاته رأى رجلين منعزلين في ناحية المسجد، فقال: "علي بهما"، فأتى بهما ترعد فرائصهما، فقال لهما: "هونا على أنفسكما، فإني لست بملك، وإنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد"، ثم أعرض عنهما حتى سكن ما بهما، ثم قال لهما: "ألستما برجلين مسلمين؟! فقالا: بلى، يا رسول الله، فقال: "لم لم تصليا معنا"؟ فقالا: كنا قد صلينا في رحالنا، فقال: "فلا تفعلا إذا جئتما، فصليا، وان كنتما قد صليتما في رحالكما يكون لكما سبحة"، أي: نافلة.

وفي رواية أخرى أنه قال: "إذا صلى أحدكم في رحله ثم أدرك الإمام، فليصل معه، فإنها نافلة". وقوله: "ترعد فرائصهما"، جمع الفريصة: وهي لحمة وسط الجنب عند منبض القلب ترتعد عند الفزع. وروى صعصعة بن أبي العريف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا صلى أحدكم في رحله، فوجد الناس يصلون، فليصل بصلاتهم وليجعل صلاته في بيته نافلة". وروي أن رجلاً سأل أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه، فقال: يصلى أحدنا في منزله الصلاة، ثم يأتي المسجد وتقام الصلاة، فليصل معهم، فقال أبو أيوب: سألنا عن ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: ذلك له سهم جمع"، وأراد أنه سهم من الجزء جمع له فيه حظان. وقال الأخفش: أراد سهم الجيش، وهو السهم من القسمة والجمع ههنا الجيش مثل قوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} [القمر: 45]. وأما خبرهم محمول على إنشاء الصلاة ابتداء من غير سبب، قلنا: إذا كان لها سبب، وهو إحراز الفضيلة، فلا يدخل تحت النهي أو صار ذلك منسوخاً، لأن خبرنا كان في حجة الوداع. وأما قوله: لا يجوز التنفل بالوتر لا يسلم، فإنه يجوز عندنا. فَرْعٌ آخرُ إذا أراد أن يصلي ثانياً مع الإمام ينوي الفريضة كما في الأولى. ومن أصحابنا من قال: يطلق النية إن شاء قيد [131 أ / 2] بالغرض. والصحيح الأول، وقيل: إن قلنا: الفرض أكملهما ينوي الفرفية. وإن قلنا: الثانية نافلة، فيه وجهان: أحدهما: ينوي النفل لأنها تقع نفلاً. والثاني: وهو الصحيح ينوي الفرض لأن القصد إدراك فضيلة الجماعة، ولا تشرع الجماعة في النوافل. فَرْعٌ آخرُ إذا صلى ثانياً، أيهما تكون فريضة؟ قال في "الجديد": الأولى فرضة، والثانية سنة. وبه قال أبو حنيفة وأحمد بدليل ما ذكرنا من نص الخبر الصريح، ولأن الأولى تسقط الغرض بدليل أنه لا يجب عليه الثانية، فدل على أنها نافلة. وقال في "القديم" "أحديهما: فرضه لا بعينها يحتسب الله تعالى له بأيهما شاء". وقيل: يحتسب الله تعالى بأفضلهما وأكملهما، وعبارة هذا أحسن، ووجه هذا أنه استحب إعادتها ليكملهما بالجماعة، فلو كانت الثانية نافلة لم يستحب لها الجماعة، وهذا لا يصح، لأن ههنا الجماعة سببهما.

وقال الشعبي والأوزاعي: "هما فريضة"، وهذا غلط لأن النبي {}، قال: "لا صلاتين في يوم". قال بعض أصحابنا بخراسان: إذا قلنا بقوله "الجديد" يضم ركعة أخرى إلى صلاة المغرب الثانية ليصير شفعاً، فإنه لا يستحب التنفل بثلاث وكعات. وقيل: إنما يضم إليها ركعة أخرى حتى يكون مع الأولى وتراً. وروي هذا عن حذيفة بن اليمان، وقيل: فيه وجه أنه يقتصر على ثلاث. قال: وإذا قلنا: لا يعيدها في جماعة أخرى استحباباً لو أراد فضلها تكون نافلة لا سبب لها، فتكره في الوقت المنهي، وإن كانت مغربا يجعلها شفعاً، وهذا خلاف المذهب. مسألة: قال: ومن لم يستطع إلا أن يومئ أومأ وجعل السجود اخفض من الركوع. وهذا كما قال: القيام واجب في صلاة الفريضة عند القدرة سواء كان قادراً على الركوع والسجود [131 ب / 2]، أو عاجراً عنهما. والأصل فيه قوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} (البقرة: 238]، أي: مطيعين. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمران بن الحصين رضي الله عنه وكان به البواسير: "صل قائماً، فإن لم تستطيع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنب". وقال أبو حنيفة وصاحباه: "إذا عجز عن الركوع والجود بمرض ولم يعجز عن القيام سقط عنه القيام، لأن كل صلاة لا يجبه فيها الركوع والسجود لا يجب فيها القيام كالنافلة على الراحلة". وهذا غلطء لأن القيام ركن، فلا يسقط بعجزه عن غيره كالقراءة، وليس كالنافلة، لأنه لا يجب فيها القيام، وإن وجبه الركوع والسجود، وهو إذا كان على الأرض. وروي عن أبي حنيفة: "أنه بالخيار بين أن يصلي قائماً، وبين أن يصلي قاعداً" كما قال في العاري. فرع إذا كانت بظهره علة تمنعه الركوع ولا تمنعه القيام أجزأه أن ينحني بظهره للركوع، فإن لم يقدر حنى رقبته، وان لم يقدر على ذلك إلا بأن يعتمد على شيء اعتمد مستوياً أو في شق.

فَرْعٌ آخرُ لو قدر على الركوع ولا يقدر على القيام لمرض أو تقوس ظهره من الكبر فصار، كأنه راكع، كان قيامه على صورته راكعاً، فإذا جاء وقت الركوع. قال في "الأم": "خفض على قدر قيامه ثم يسجد ليميز بين قيامه وركوعه". فَرْعٌ آخرُ لو لم يتمكن من وضع جبهته على الأرض في السجود يدني رأسه من الأرض أقصى ما قدر عليه، ولا يضع صدغه على الأرض، لأن ذلك ليس بسجود. هكذا ذكر أصحابنا، وذكر صاحب "الشامل": أن الشافعي قال: "وان قدر أن يسجد على صدغيه فعل، لأنه إذا سجد على صدغيه قربت جبهته من الأرض". فَرْعٌ آخرُ إذا قار أن يقرب رأسه من الأرض مستوياً أو على أحد شقيه لزمه أن يفعل ما فيه المقاربة، ولا يرفع إلى وجهه شيئاً، فإن [132 أ / 2] رفع مخدة إلى وجهه وسجد عليها لم يجزه، لأنه لا يسمى ساجداً. فَرْعٌ آخرُ لو سجد على مخدة فإن وضعها على يديه لم يجزه، لأنه سجد على ما هو حامل له، وان وضعها على الأرض ثم سجد عليها، قال: أجزأه إن شاء الله. وقال: "إذا جاز إن يسجد على ربوة بين يديه جاز إن يجد على مخدة بين يديه، ولو سجد الصحيح على وسادة من أدم لاصقة بالأرض كرهت له، ولم أر عليه أن يعيد". وروى الحسن البصري عن أمه قالت: رأيت أم سلمة رضي الله عنها تسجد على مخدة من أدم. وروي لرمدٍ بها. فَرْعٌ آخرُ متى عجز عن القيام والركوع وقدر على القعود يصلى قاعداً لما ذكرنا من الخبر، قال الله تعالى: {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 191]، وأراد: الذين يصلون قياماً عند القدرة، وقعودا عند العجز، وعلى جنوبهم عند العجز عن القعود. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "سقط عن فرسه فجحش شقه فصلى بالناس قاعداً"، قال في "الأم": "وإنما آمره بالقعود إذا كانت المشقة عليه غير محتملة، أو كان لا يقدر على القيام بحال".

فَرْعٌ آخرُ كيف يقعد ههنا؟ فيه قولان. قال في البويطي: "يجلس في موضع القيام متربعاً، وفي التشهد الأول مفترشاً، وفي التشهد الأخير متروكاً" كما حكاه ابن المنذر والساجي. وبه قال مالك والثوري وأبو يوسف وأحمد واسحق والليث إلا أنهم لا يقولون بالتورك. وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وأنس رضي الله عنهم، ووجه ما روي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي النفل متربعاً". وروى المزني والقاضي أبو حامد عن الشافعي أنه يجلس كما يجلس في التشهد مفترشاً، لأنه قعود في أثناء الصلاة، فأشبه القعود للتشهد الأول، ولأن القعود [132 ب / 2] متربعا فعل الجبابرة والقعود مفترشاً جلوس تواضع، فهو أليق بالصلاة. وهذا أصح. وقد قال ابن مسعود: "لأن أجلس على رضفة أحب إلي من أن أصلي متربعاً". وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم غير المتربع". وقال بعض أصحابنا: إلا أن تكون امرأة فالأستر لها التربع، وهذا غريب. وهكذا الخلاف في القعود في النافلة. وروى محمد عن أبي حنيفة: "يقعد كيف شاء". وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه يجلس متربعا وكيف قعد، فإذا جاء وقت الركوع حنى ظهره، ثم سجد إن قدر على السجود، وإن لم يقدر فعل ما ذكرنا. فَرْعٌ آخرُ لو كان يصلي جالساً، فقدر على القيام في مواضع قيامه يلزمه القيام، ثم ينظر، فإن قدر عليه قبل القراءة، قام وأتى بها قائماً، وان قدر بعد الفراغ منها قام ليأتي بالركوع عن قيام، قال: وأستحب له أن يعيد القراءة قائماً، وبهذا غلط. قول بعض أصحابنا: أنه إذا كرر الفاتحة بطلت صلاته. وحكي عن ابن الوكيل وأبي الوليد النيسابوري صاحب ابن شريج، قالا: "تبطل الصلاة، لأنها وكن كالركوع"، وهذا غلط بخلاف النص. والفرق أن الركوع إذا كرره يأتي بالثاني في غير موضعه، وههنا يأتي بالفاتحة ثانياً في موضع القراءة أنه تطويل الركوع وأيضاً لا يقاس الذكر على الفعل، لأن ما ليس بركن في الصلاة من الأفعال مثل الجلوس للتشهد الأول لا يجوز تكراره، والقراءة التي ليست بواجبة يجوز تكرارها، ولا يبطل ذلك الصلاة، فكذلك الواجبة فيها. وهكذا الحال لو تشهد مرتين عمداً، وإن قدر على القيام في أثناء قراءة الفاتحة قطع القراءة وقام ولا يقرأ حال

نهوضه إلى القيام، فإذا اعتدل قائماً [133 أ / 2] بنى على ما مضى. وقال محمد: إذا قار على القيام بطلت صلاته ولا يبني على ما مضى، وهذا غلط، لأن زوال العذر إذا لم يورث عملاً طويلاً لا يبطل الصلاة. فَرْعٌ آخرُ لو قرأ باقي الآية بعد القدرة على القيام في حال نهوضه إلى القيام قبل انتصابه لم يعتد بها وليس هذا كمن قرأ بعض الفاتحة قائماً، ثم عجز عنه فجلس لا يقطع القراءة ويستديمها حين الانحطاط للجلوس، لأن فرضية القراءة قاعداً بعد العجز، وهذه حالة تزيد على حال القعود وهناك فرضة القراءة قائماً، وعند النهوض نقص عن القيام، فلم يجز. فَرْعٌ آخرُ قال في "الأم": "إذا كان قادرا أن يصلي قائما ويحفف الصلاة، ولو صلى مع الإمام احتاج أن يقعد في بعضها لطول صلاته صلى منفرداً، لأن القيام ركن من أركان الصلاة، فالإتيان به في جميع الصلاة أفضل من الجماعة، فإن صلى مع الإمام، فقام ما أمكنه وجلس في وقت العجز صحت صلاته". فَرْعٌ آخرُ لو أطاق القيام فأبطأ حتى عاوده العجز، فإن كان قاعداً في موضع الجلوس يجوز، ولا إعادة عليه، وإن كان في موضع القيام بطلت صلاته، لأنه لما استدام ذلك صار كالمطيق إذا قعد في موضح القيام. فَرْعٌ آخرُ إذا كان لا يقدر على القيام إلا بمعين، وإذا قام لا يتأذى بوقوفه، فإنما يلزمه أن يستعين بغيره، فإن لم يجد إلا بأجرة تلزمه الأجرة. فَرْعٌ آخرُ الكمين إذا صلوا قعوداً. قال الشيخ أبو عاصم العبادي: "فيه قولان: أحدهما: لا يصخ لأنهم آمنون لا خوف عليهم. والثاني: يصح، لأنهم تركوا القيام لغرض صحيح، وهو التوصل إلى قهر العدو:. فَرْعٌ آخرُ لو كان به رمد عين، فقيل له: إن صليت متلقياً قرب البرء، وإن صليت قائماً بالركوع والسجود أبطأ [133 ب / 2] لا نص فيه للشافعي. وحكي عن أبي حنيفة والثوري أنه يجوز ذلك. وقال مالك والأوزاعي: "لا يجوز ذلك" قال الشيخ أبو حامد: وهذا أشبه

بمذهبنا، وهو الأصح ووجهه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه "أنه لما كف بصره ووقع في عينه الماء حمل إليه عبد الملك بن مروان الأطباء على البرد، فقيل له: إن صبرت سبعة أيام تصلي مستلقياً داويتك ورجوت أن تبرأ عينك، فأرسل إلى عائشة وأبي هريرة وغيرهما من الصحابة يسألهم عن ذلك فكل قال: إن جاءك الأجل في السبعة الأيام، فما تصنع بصلاتك؟ فترك معالجة عينه". وروي أن عياش كره ذلك، وقال: بلغني "أن من ترك الصلاة، وهو يستطيع أن يصلي لقي الله، وهو عليه غضبان". وقال القاضي الطبري: "عندي أنا إذا قلنا: يجوز ترك الماء، والاقتصار على التيمم لخوف إبطاء البرء والزيادة في العلة جاز ههنا ترك القيام"، وهذا أصح عندي. فَرْعٌ آخرُ من لم يستطع أن يصلي جالساً جاز له ترك الجلوس وكيف يتوجه إلى القبلة) المذهب أنه يصلي على شقه الأيمن متوجهاً إلى القبلة معترضاً كما يوضع الميت في اللحد، نص عليه في "البويطي". وقال فيه: وان لم يستطع استلقى على ظهره ورجلاه إلى القبلة. وبه قال أحمد، وقال صاحب "الإفصاح": "يكون على جنبه الأيمن ورجلاه إلى القبلة حتى إذا أومأ يكون إيماؤه إلى ناحية القبلة"، والأول ظاهر كلام الشافعي. وهذا الثاني لا يصح، لأن التوجه إلى القبلة إنما يعتبر في غير حال الركوع والسجود، لأن الصحيح إذا ركع كان في وجهه إلى الأرض وسجوده إليها، وههنا يكون وجهه إلى غير القبلة على ما ذكرنا قبل الإيماء. وقال أبو حنيفة: "صلي على ظهره [134 أ / 2] مستلقياً ورجلاه في القبلة بحيث إذا رفع وسادته قليلاً، كان وجهه نحو القبلة"، وهو قول بعض أصحابنا بخراسان: ولا يصح، لأن المستلقي يستقبل السماء ولا يستقبل القبلة، ولأن في خبر عمران بن الحصين رضي الله عنه، "فإن لم تستطع فعلى جنب". وروى علي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "يصلي المريض قائماً، فإن لم يستطع فجالساً، فإن لم يستطع صلى على جنبه مستقبل القبلة، فإن لم يستطع صلى مستلقياً على قفاه ورجلاه إلى القبلة وأومأ بطرفه"، وعلى أي صفة صلى، فإذا جاء وقت الركوع والسجود، فإن قدر عليهما، وإلا أومأ بعينيه وحاجبيه، إذا لم يقدر أن يومئ برأسه ويكون السجود أخفض من الركوع. فَرْعٌ آخرُ إذا صلى على جنبه الأيسر، قال أبو حامد: لو قلنا: تجزئه صلاته لم يبعد، فإن الاعتبار باستقبال مقدمه.

فَرْعٌ آخرُ لو قدر على الجلوس في أثنا، صلاته يجلس ويبني على صلاته. وقال محمد: يستأنف. وقال أبو حنيفة: إذا قدر المومئ على القيام والقعود تبطل صلاته، ووافقنا في القاعد إذا قدر على القيام أنه يبني. فَرْعٌ آخرُ لو تمكن من السجدة الأولى ولم يتمكن من الثانية أومأ في الثانية، ولو أومأ بالأولى وقدر على الثانية سجد الثانية، ولا يعيد الأولى. فَرْعٌ آخرُ لو عجز عن الإشارة وعجز لسانه عن القراءة أيضاً، فعندنا يصلي بقلبه ويعرض القرآن على قلبه، وكذلك جميع أفعال الصلاة وتجزئه. وقال أبو حنيفة: "تسقط الصلاة عنه". وحكي عنه كذلك: "إذا لم يقدر أن يومئ برأسه، وقدر أن يومئ بطرفه وحاجبيه"، وهذا غلط لخبر علي رضي الله عنه. فَرْعٌ آخرُ لو كان يصلي جالساً فقدر على القيام في حال ركوعه يقوم ثم يسجد ولا يعود إلى الركوع، لأنه يؤدي إلى ركوعين في ركعة. فَرْعٌ آخرُ هل يجوز التنفل منه مضطجعاً مع القدرة على القيام [134 ب / 2] والقعود؟ وجهان: أحدهما: لا يجوز. والثاني: يجوز، لأن كل حالة يصح أداء الفريضة عليها يجوز أداء الفعل عليها، وان كان قادراً، وهكذا الوجهان في المومئ. ذكره مشايخ خراسان. وذكر في "الحاوي": قطعاً: أنه يجوز. مسألة: قال: "وأحب إذا قرأ آية رحمةٍ إن يسأل أو آية عذاب أن يستعيذ، بلغنا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل ذلك في صلاته". وهذا كما قال: أراد بالخبر ما روي عن حذيفة رضي الله عنه، قال: "صليت خلف رسول الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فعل ذلك في صلاته". فما مر بآية رحمة إلا سأل الله، ولا آية عذاب إلا استعاذ بالله، ولا آية تنزيه إلا سبح، ولا ضرب مثل إلا فكر". وجملته أن المستحب عندنا إذا قرأ في الصلاة آية رحمة أن يسأل الله تعالى الرحمة، وإذا قرأ آية عذاب أن يستعيذ به من النار.

وقول الشافعي: "والناس"، أراد به أن المأمومين يسألون الله تعالى مثل ما يسأل الإمام ويستعيذون مثل ما يستعيذ الإمام. وقال أبو حنيفة: "يكره ذلك في الفرض، ولا يكره في النفل، لأنه ليس بموضع الدعاء"، وهذا غلط، لأن الذكر إذا استحب في النافلة استحب في الفريضة كسائر الأذكار. إذا قرأ آية سورة القيامة يستحب أن يقول: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين، وفي آخر سورة الملك يقول الله تعالى، وفي آخر سورة المرسلات: آمنت بالله، أو يقول: لا إله إلا الله، والكل سنة في حق المأموم أيضاً، وقد ورد به الخبر. مسألة: قال: "وإن صلت إلى جنبه امرأة صلاة هو فيها لم تفسد عليه". وهذا كما قال: إذا صلى النساء مع الرجال، فالسنة أن يتقدم الرجال ويتأخر النساء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: [135 أ / 2] "أخروهن من حيث أخرهن الله". وقال - صلى الله عليه وسلم -: "خير صفوف الرجال أولها وشرها آخرها، وخير صفوف النساء آخرها وشرها أولها"، فإن تقدمت المرأة وصلت إلى جنب الرجل أو بين يديه، أو إلى جنب الإمام فقد أسا، ت وخالفت السنة. وكذلك الرجال حين وقفوا معها، ولا تبطل صلاة واحدٍ منهم بذلك. وقال أبو حنيفة: "إذا وقفت بجنب الإمام مقتدية، ونوى إمامتها بطلت صلاتها وصلاة سائر المأمومين، وان وقفت بين يدي رجلين بطلت صلاتهما، ولا تبطل صلاة غيرهما، وهذا غلط، لأنه لا تبطل بهذا صلاة الجنازة، فكذلك غيرها". فرع إذا صلت المرأة خلف الرجل صحت صلاتها معه. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: "لا تصح ائتمامها به إلا أن ينوي الإمام إئتمامها به، لأن من أملهم أن صلاة الإمام تبطل بصلاتها، وهو إذا وقفت إلى جنبه، وكل من تبطل صلاته بصلاته، يحتاج أن ينوي صلاته كالمأموم ينوي صلاة الإمام". وهذا لا يصح لأن كل من صح ائتمامه به إذا نواه صح وإن لم ينوه كالرجل، ثم الإمام إنما ينوي صلاته المأموم لأنه يحتاج أن يقتدي به، والإمام لا يقتدي بغيره، فكيف يلزمه أن ينوي صلاته؟ فَرْعٌ آخرُ قال في "البويطي": "ولا يدع رجلاً أو امرأةً أو دابةً أو شيئاً يمر بين يديه، فإن مر من ذلك شيء لم تفسد صلاته".

وقال أصحابنا: لو نصب بين يديه شيئاً فمر به مار وراء ما يصلي إليه لم يضره وإن مر من بين يديه دفعه ومنعه من المرور بين يديه، وله أن يضربه، وإن أدى إليه قتله، ولو لم ينصب شيئاً، فالحكم هكذا سواء كان في مسجد، أو منزل أو صحراء، وإنما لا يجوز ذلك في موضع سجوده، [135 ب / 2] وفيما عداه يجوز. والأصل في هذا ما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا كان أحدكم يصلي، فلا يدع أحداً يمر بين يديه، وليدرأه ما استطاع، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان". وروي: "إذا مر المار بين يدي أحدكم فليدفعه، فإن أبى فليدفعه فإن أبى فلمقاتله". والدرء: المدافعة. وقوله: "فإنما هو شيطان"، أواد أن الشيطان يحمله على ذلك، أو أنه من فعل الشيطان وتسويله له. وروى ابن عمر رضي الله عنه: "فليقاتله، فإن معه القرين"، يريد الشيطان. وقال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله: "إن لم يكن المصلي يصلي إلى سترة وأراد المار أن يمر، فليس له درؤه، ولا دفعه". بدليل ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال: سمعت وسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إذا صلى أحدكم إلى شي، يستره من الناس، فإن أراد أحد أن يجتاز بين يديه، فليدفع من عجزه، فإن أبى فليقاتله، فإنما هو شيطان"، فشرط أن يصلي إلى ستره، وهذا غريب. وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لو يعلم المار بين يدي المصلي ما فيه لوقف أربعين "، منهم من قال: أراد أربعين سنة، ومنهم من قال: أربعين يوماً، وقيل: أربعين ساعة. وقال ابن عمر وأنس والحسن رضي الله عنهم: "يقطع صلاة الرجل الحمار والكلب الأسود والمرأة". وقال ابن عباس وعطا، رضي الله عنهم: يقطع الصلاة: "الكلب الأسود والمرأة الحائض". وقال أحمد واسحق: "لا يقطع الصلاة إلا الكلب الأسود". وروي ذلك عن عائشة رضي الله عنها، وقال أحمد: "وفي قلبي من المرأة والحمار شيء"، وعندنا لا يقطع الصلاة شيء من هذا. وبه قال علي وعثمان رضي الله عنهما [136 أ / 2] وابن المسيب

والشعبي وعروة بن الزبير ومالك والثوري وأبو حنيفة وأصحابه، واحتجوا بما روى عبد الله بن الصامت عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي قير، قال: "تقطع صلاة الرجل إذا لم يكن بين يديه قيد آخرة الرجل: الحمار والكلب الأسود والمرأة"، فقلت: ما بال الأسود من الأحمر من الأصفر من الأبيض؟ فقال: يا ابن أخي سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما تسألني، فقال: "الكلب الأسود شيطان". وفي رواية ابن عباس رضي الله عنه، قال: يقطع الصلاة المرأة الحائض". وقيد آخر الرحل أي قدرها في الطول وقدر العلماء بهذا ذراعاً. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى إلى جدار فجاءت بهيمة تمر بين يديه فما زال يداريها حتى لصق بطنه بالجدار، فمرت من ورائه. والبهيمة ولد الشاة أول ما تولد. وقوله: يداريها هو من الدرء مهموز، أي: يدافعها. وقال أنس: بادر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بتمرة ليمنعها تمر بين يديه، وهو في الصلاة. وهذا غلط لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا يقطع الصلاة شيء وادرؤوا ما استطعتم، فإنما هو شيطان". وقالت عائشة رضي الله عنها: كنت بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين القبلة، وأنا حائض". وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كان يصلي صلاته من الليل، وعائشة معترضة بينه وبين القبلة كاعتراض الجنازة". وقالت ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها: "كان فراشي بحيال مصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فربما وقعت يداه علي وهو يصلي وأنا على فراشي". وروي عن أبي الصهباء، قال: تذاكرنا ما يقطع الصلاة عند ابن عباس رضي الله عنه، فقال: جثت وأنا غلام من بني عبد المطلب على حمار ورسول الله - صلى الله عليه وسلم -[136 ب / 2] يصلي، فنزل ونزلت فتركنا الحمار أمام الصف، فما بالى ذلك. وقال الفضل بن عباس رضي الله عنه: "أتانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن في بادية نصلي في صحراء ليست بين يديه سترة وحمارة لنا وكليبة يعبثان بين يديه، فما بالى ذلك". وأما خبر أبي ذر، قلنا: يحتمل أنه أراد أن هذه الأشخاص إذا مرت بين يدي

المصلي قطعته عن الذكر وشغلت قلبه عن مراعاة الصلاة، فذاك معنى قطعها الصلاة دون إبطالها من أصلها، ونقول: صار منسوخاً بخبرنا. وقال ابن عباس رضي الله عنه: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي والحمر تعترك بين يديه". فَرْعٌ آخرُ قال في "البويطي": "للمصلي في صلاته يستتر بنحو من عظم الذراع طولاً بدليل ما روى طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا وضع أحدكم بين يديه مثل مؤخرة الرحل، فليصل ولا يبالي ما وراء ذلك". وقال عطاء: مؤخرة الرحل، ذراع. وقال فيه: "ويدنو المصلي من سترة لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا صلى أحدكم إلى سترة فليدن منها، لا يقطع الشيطان عليه صلاته". وقال ابن المنذر: "كان مالك يصلي متبايناً عن السترة فمر به رجل لا يعرفه، فقال: أيها المصلي ادن من سترتك، قال: فجعل مالك يتقدم، ويقول: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء: 113] ". فَرْعٌ آخرُ إذا صلى في الصحراء، فالمستحب أن ينصب على ما ذكرنا، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان إذا خرج يوم العيد أمر بالحربة فتوضع بين يديه، فيصلي إليها، والناس وراءه". قال الشافعي: "ويبعد عنه قدر ثلاث أذرع ". وبه قال عطاء وأحمد: وان لم [137 أ / 2] يجد ما ينصبه بين يديه خط على الأرض خطاً، وصلى إليه لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا كان مع أحدكم عصا فلينصبها، وليصل إليها"، فإن لم يكن، فليخط خطاً. إلا أن يكون لي في ذلك حديث ثابت، فيتبع. قال ابن المنذر: "كان الشافعي يأمر الخط إذ هو بالعراق، ثم قال بمصر ما حكاه البويطي"، وقال ابن المنذر: "قد صح الحديث فيه". وذكر القاضي أبو حامد أنه يخط خطآ بين يديه وإن صلى في البيت أو في المجد، فلا يحتاج إلى نصب شيء بين يديه، لأن في محراب المسجد أو الحائط كغاية. هكذا ذكر أصحابنا. قال في "الحاوي": "يستحب أن يدنو من القبلة نحو ثلاث أذرع". قال ابن عمر رضي الله عنه: سألت بلالاً ماذا منع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين دخل البيت؟ فقال: "صلى وبينه وبين القبلة ثلاث أذرع".

باب

فَرْعٌ آخرُ قال في "البويطي": "ولا يستتر بامرأة ولا دابة". وقد روى ابن المنذر بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "صلى إلى بعير". وروى أبو داود في "سننه" عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه أنه قال: "ما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي إلى عود ولا عمود ولا شجرة إلا جعله على حاجبه الأيمن أو الأيسر، ولا يصمد له صمداً". والصمد: القصد يريد به لا يجعله تلقاء وجهه. مسألة: قال: "وإذا قرأ السجدة سجد فيها". وهذا كما قال: كتب في رواية عبدان بن محمد ههنا. باب عدد سجود القرآن وسجدة الشكر ولم يكتب في رواية غيره، وجملته أن سجود التلاوة منون غير واجبه نص عليه في "القديم" و"الجديد". وقال في موضع من "القديم": هو سنة مؤكدة. وقال في "اختلاف الحديث": [137 ب / 2] "أكره تركه ومن تركه ترك فضلاً لا فرضاً". وبه قال عمر وابن عباس ومالك والأوزاعي وإسحق وأبو ثور وداود رضي الله عنهم. وقال أبو حنيفة: "هو واجب، وليس بفرض على القارئ والمستمع إلا أنه بالخيار وإن شاء سجد في الحال، وإن شاء أخر وسجد في آخر الحال". واحتج بأن الله تعالى أوعدنا على تركه، فقال: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21]، وهذا غلط لما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه، قال: "عرضت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة: {وَالنَّجْمِ}: فلم يسجد منا أحداً". واحتج الشافعي بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "سجد وترك"، وأراد به ما روي أن رجلاً قرأ بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سورة: {وَالنَّجْمِ}، فسجد، فسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بسجوده، ثم قرأها رجل آخر فلم يسجد، فلم يسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال ذلك الرجل: سجدت يا رسول الله لقراءة فلان، ولم تسجد لقراءتي، فقال: "كنت إمامنا لو سجدت، لسجدت معك". واحتج أيضا بقول عمر رضي الله عنه: "إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء". وتمام الخبر ما روي أنه قرأ يوما على المنبر سورة السجدة، فنزل وسجد، وسجد الناس معه، فلما كان في الجمعة الثانية، فقرأها فتهيأ الناس للسجود". وروي: فنشز الناس للسجود، فقال: "أيها الناس على رسلكم، إن الله تعالى لم يكتبها علينا إلا أن نشاء". وكان هذا بمحضر الجمع الكثير، ولم ينكر منكر. وقوله:

نشز الناس، أي: استنفروا للسجود وتهيأوا له. وأما الآية إنما ذمهم على ترك السجود، لأنهم لا يعتقدون فضله. مسألة: قال: "وسجود القرآن أربع عشرة سجدة سوى سجدة {ص}، فإنها سجدة شكر". وهذا كما قال، وبحملة هذا [138 أ / 2] أن سجود القرآن أربع عشرة سجدة نص عليه في "الجديد" في النصف الأول أربع في آخر الأعراف {وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206]، وفي الرعد {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15]. وفي النحل {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50]، وفي بني إسرائيل {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} [الإسراء: 109]، وعشر في النصف الثاني في سورة مريم عند قوله: {خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم: 58]، وسجدتان في الحج: أحدهما: عند قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] والثانية: عند قوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]. وسجدة في الفرقان عند قوله: {وَزَادَهُمْ نُفُوراً} [الفرقان: 60]، وسجدة في النمل عند قوله: {رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26]، وسجدة في آلم تنزيل عند قوله: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15]، وسجدة في حم السجدة، عند قوله: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38]، وثلاث سجدات في المفصل: أحداها: في آخر النجم، {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62]، والثانية: في إذا السماء انشقت: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] والثالثة: في آخر: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19]. وقال في "القديم": "إحدى عشرة سجدة"، فلم يجعل في المفصل سجود، وبه قال ابن عباس وأبي بن كعب وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير ومجاهل والحسن ومالك في الرواية المشهورة. وقال أبو ثور: "ليس في النجم خاصة سجود". وقال ابن سريج: "هي خمس عشرة سجدة"، فأضاف إليها سجدة {ص}. وبه قال اسحق وأحمد في رواية، وهو اختيار أبي اسحق. وروي عن أحمد: أنها أربع عشرة نحو القول "الجديد". وقال أبو حنيفة ومالك: هي أربع عشرة، ولكنها في سورة الحج واحدة عند قوله: {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] وأثبت سجدة {ص}، في قوله: {وَخَرَّ رَاكِعاً} [ص: 24] وأناب، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "عزائم السجود أربع في {الم (1) تَنزِيلُ} [السجدة: 251]، وفي {حم} السجدة وفي {اقْرَا}، وهذا كله غلط لما روي عن أبي رافع، قال: صلى أبو هريرة رضي الله عنه صلاة المغرب فقرأ: {إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]، وسجد، [138 ب / 2] فقلت: ما هذه السجدة؟ فقال: سجدت فيها خلف

أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -، فلا أزال أسجدها حتى ألقاه". وروى عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: قلت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: في الحج سجدتان؟، فقال: "نعم، من لم يسجدهما فلا يقرأهما". وقال عبد الله بن ثعلبة: رأيت عمر رضي الله عنه سجد في سجدتين. وروي مثل ذلك عن علي وابن عباس وأبي الدرداء وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهم. وقال أبو إسحق: أدركت الناس منذ سبعين سنة يسجدون في الحج سجدتين. وهذا إجماع. وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو على المنبر سورة {ص}، فلما بلغ السجدة نزل فسجد، وسجد الناس معه، فلما كان يوم آخر قرأها، فلما بلغ السجدة نشز الناس للسجود، فقال: "إنما عي توبة نبي، ولكني رأيتكم نشزتم للسجود"، فنزل وسجد، فبين أنها توبة، وليست بسجدة. وروى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "سجدها داود للتوبة ونحن نسجدها شكراً". واحتجوا بما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: "أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خمس عشر سجدة في القرآن"، ولا يكون هذا إلا مع سجدة {ص} "، قلنا: نحن نقول: يسجد فيها، ولكن شكراً وليس في الخبر تفصيل. واحتج من قال بالقول القديم بما روي عن ابن عباس رضي الله عنه "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يسجد في شيء من المفصل مذ تحق ل إلى المدينة"، قلنا: تركه لا يد ل على أنه ليس بسنة، ثم رواية أبي هريرة أولى، لأنها متأخرة، وهي مثبتة والمثبت أولى.

فرع قد ذكرنا أن موضع السجود في سورة {حم} السجدة عند قوله: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38]. وقال ابن عباس ومعيد بن المسيب والنخعي والثوري وأبو حنيفة وأحمد، وقال أهل المدينة [139 أ / 2] والحسن ومالك موضعه عند قوله: {إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]. وروي هذا عن ابن عمر رضي الله عنه. واحتجوا بأن الأمر بالسجود في هذه الآية، فكان الجود فيها، وهذا غلط لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه رأى رجلاً سجد هناك، فقال: هلا نزلت، إلى قوله: {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38]، ولأن تمام الكلام عند الآية الثانية، فكان السجود عقيبها كما قلنا في سورة النحل، فإن السجود عند قوله: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (النحل: 50]، وذكر السجود ههنا أيضاً في الآية التي قبلها. وقال ابن سريج: ما قلناه أصح لأنه إن كان موضع السجود فقد أتى به في موضعه، وان كان قبله فقد أخره عنه، فلا يضره وإذا قدمه لم يجز. وقال بعض أصحابنا: مثلما قال أهل المدينة، وقال في سورة النحل: موضع السجود عند قوله: {وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [النحل: 49]، وقالوا أيضاً في سورة النمل عنه قوله: {مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [النمل: 74]. فَرْعٌ آخرُ إذا قلنا: منصوص الشافعي رضي الله عنه في سجدة {ص} فقرأ الآية التي فيها السجدة، فإن كان في غير الصلاة، سجد شكراً لله تعالى على ما أنعم به داود السلام بأن غفر له، وان كان في الصلاةء لا يجوز أن يسجد فيها، فإن خالف وسجد نظر، فإن كان ناسياً أو جاهلاً بأنها سجدة. شكر لا تبطل صلاته، وإن كان عالماً بأنها سجدة شكر، هل تبطل صلاته؟ وجهان: أحدهما: تبطل لأنها منجاة شكر كما لو بشر في الصلاة فسجد شكراً، وهو ظاهر المذهب. والثاني: لا تبطل، لأنها سجدة تتعلق بالتلاوةء وهذا اختيار صاحب "الافصاح"، وبه أقول فعل هذا في الصلاة أربع سجدات: الراتبة، والسهو، والتلاوة، والشكر، فعلى هذا القول ليس له أن يجد فيها شكراً، وان كانت سجدة التلاوة آكد، وهو قول بعض أصحابنا. فَرْعٌ آخرُ قال أصحابنا: لو كان الإمام حنفياً فقرأ سورة {ص} وسجد فيها لا يتابعه، بل ينتظر. قائماً [139 ب / 2] حتى يفرغ. وهذا صحيح، لأنه لا تبطل صلاته لاعتقاده، وعندي في أحد الوجهين يجوز أن يتابعه فيها بنية سجود الشكر. وقيل: إذا انتظره على ما ذكرنا، هل يسجد للسهو؟ وجهان:

أحدهما: يسجد، لأنه اعتقد أن إمامه زاد في صلاته ما ليس منها جاهلاً، فاختلت صلاته. والثاني: لا يسجد لأن الاعتبار بالإمام المتبوع. فَرْعٌ آخرُ سجود التلاوة مستحب للتالي والمستمع، فأما من طرق سمعه من غير استماع اتفاقاً، فلا يسن في حقه. وقال في "البويطي": "لا أؤكد عليه وإن سجد فحسن". وقال أبو حنيفة: "التالي والمستمع والسامع سواء"، وهذا غلط لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه "مر بقاص فقرأ القاص سجدة ليسجد عثمان معه فلم يسجد، وقال: ما استمعنا له". وقال ابن مسعود وعمران بن الحصين رضي الله عنهما: "ما جلسنا لها". وقال سلمان: "ما عدونا لها". وقال ابن عباس رضي الله عنه: "السجدة لمن جلس لها"، ولا مخالف لهم. فَرْعٌ آخرُ لو لم يسجد التالي سجد المستمع نص عليه في "البويطي"، وان كان التالي في الصلاة فنظر، فإن سجد هو، سجد المستمع المأموم معه، وان لم يسجد، لم يسجد المستمع، ويتبعه كما يتبع في ترك سائر المستويات بخلاف ما إذا كان خارج الصلاة، فإنه يسجد، وإن ترك التالي، لأن لكل واحد منهما حكم نفسه خارج الصلوات. وقال القفال: إنما يستحب للسامع بثلاث شرائط: إحداها: أن يسجد التالي، فإن لم يجد هو لم يسجد هو أيضاً. والثانية: أن يقصد الاستماع. والثالثة: أن يكون متطهراً عند السماع، وهذا حسن للخبر الذي تقام، ولكنه خلاف المنصوص. وقال: يتأكد الاستحباب بهذه الشرائط. فَرْعٌ آخرُ لو كان التالي في غير الصلاة والسامع في الصلاة لا يسجد، ولا ينبغي أيضاً أن يستمع إلى قراءة التالي، بل يشتغل بصلاته، فإن استمع أو سمع لم يسجد في الصلاة، لأن سببها لم يوجد في صلاته [140 أ / 2]، ولا يسجد أيضاً، إذا فرغ. وقال أبو حنيفة: "يسجد إذا فرغ من الصلاة". وبناه على أن السامح يلزمه السجود، ولا يمكنه أن يسجد في صلاته، فيسجد إذا فرغ منها. وقال أبو حنيفة: "إذا تلا الصلاة سجد فيها، فإن يجد حتى خرج منها سقط عنه السجود، لأنه صار من سنن صلاته، وإذا لم يفعل في صلاته سقط"، فنقول: إذا لم يلزمه حكم تلاوته في الصلاة بعد الفراغ منها، فلأن لا يلزم حكم السامح عند الخروج من الصلاة أولى.

فَرْعٌ آخرُ ويسجد في كل وقت ولا يكره فعلها في الأوقات التي نهي فيها عن الصلوات سوا، نهي عنها لأجل الوقت أو لأجل الفعل. وقال الشافعي في "البويطي": "ويجد بعد العصر وبعد الصبح وبعد الفجر"، وهذا يدل على أنه يكره التنفل بعد الفجر سوى ركعتي الفجر. وقال مالك: "يكره في الأوقات الخمسة المنهي عن الصلاة فيها". وقال أبو حنيفة: "يكره في الأوقات الثلاثة التي نهى عنها لأجل الوقت فحسب"، وهذا غلط، لأن لها سبباً فجازت في الوقت المنهي. فَرْعٌ آخرُ لو قرأها في وقت تجوز فيه الصلاة، ثم سجدها في الوقت المنهي لا يجوز. فَرْعٌ آخرُ لا يجوز سجود التلاوة إلا بالطهارة، وستر العورة، واستقبال القبلة إن كان يسجد على الأرض، وحكمه حكم صلاة النفل، لأنها صلاة في الحقيقة. ولو كان على الراحلة في السفر سجد حيث توجهت به، وإن كان ماشياً في السفر سجد على الأرض. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجه أخر يجوز بالإيماء من غير أن يسجد على الأرض وهو ضعيف. فَرْعٌ آخرُ الحائض إذا استمعت لا تومئ برأسها وقال ابن المنذر: "تومئ برأسها"، وبه قال سعيد ابن المسيب، وهذا غلط، لأن ما ينافي الصلاة ينافي السجود والإشارة به. فَرْعٌ آخرُ لا يكره قراءة آية السجدة في الصلاة بحال. وقال مالك: "يكره بكل حال". وقال أبو حنيفة: [140 ب / 2] "يكره في صلاة السر، ولا يكره في صلاة الجهر"، وبه قال أحمد. وقال أحمد: "لو قرأها لا يسجد، لأنه يشتبه على المأمومين ولا يعلمون سبب سجوده"، وهذا علته، لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد في الظهر فرأى أصحابه أنه قرأ سورة السجدة"، وقال: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر، فسجد، فرأينا أنه قرأ: ألم تنزيل السجدة". وأما ما ذكره، لا يصح لأن المأموم، يلزمه متابعة الإمام، ولا يحتاج إلى معرفة سجوده، وإذا جهر الإمام قد يشتبه أيضاً على ما لا يسمع لبعده أو صممه ونحو ذلك. فَرْعٌ آخرُ إذا كانت السجدة في آخر السورة مثل قوله، {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62]،

فقرأ ذلك في الصلاة، سجد، فإذا قام يقرأ من سورة أخرى شيئاً، ثم يركع، فإن لم يقرأ، وهام وركع جاز، وقيل: إذا قام، هل يركع أم يقرأ آية ثم يركع؟ وجهان: ولو قام من السجود إلى الركوع، ولم يقم لم يجز، لأنه لم يبتدئ الركوع من قيام. فَرْعٌ آخرُ لا يقوم الركوع مقام السجود فيه. وقال أبو حنيفة: "يقوم مقامه استحساناً"،.واحتج بقوله تعالى: {وَخَرَّ رَاكِعا وَأَنَابًَ} [ص: 24]، وهذا غلط، لأن السجود المشروع لا ينوب عنه الركوع كسجود الصلاة. وأما الآية، قلنا: إن لها السجود، بدليل أنه قال: {وَخَرَّ رَاكِعاً}، ولا يقال: خر إذا ركع، وإنما يقال ذلك إذا سجد وعبر بالركوع عن السجود، ثم تلك السجدة عندنا ليست من العزائم، وقد ذكرنا. فَرْعٌ آخرُ كل من سن له ذلك، فمتى تركه حتى فارق موضعه أو طال الفصل، لم يقضه، لأن سنة في وقت راتب، فإذا لم يفعلها سقطت، وإن أخر يسيرا يأتي به نص عليه في "البويطي". فَرْعٌ آخرُ لو كرر وقراءة أية السجدة في مجلس واحد مرتين وثلاثاً يكفيه سجدة واحدة ذكرها ابن سريج، وهو قول أبي حنيفة، ولو قرأها مرة وسجد ثم قرأها ثانياً. قال القفال: "يسن له السجود ثانياً"، وقال أبو حنيفة: "لا يسجد ثانيا إلا أن يقرأها في مجلس أخر"، وهو وجه أخر لأصحابنا. فَرْعٌ آخرُ إذا أراد أن يسجد سجود التلاوة [141 أ / 2] في الصلاة يكبر ويسجد ثم يرفع ويكبر مع الرفع ويعود إلى قراءته، ولا يرفع يديه. نص عليه. وقال ابن أبي هريرة: "خر ساجداً من غير تكبير ويرفع قائماً بغير تكبير"، وهذا غلط، لأنه خفض ورفع في الصلاة فيستحب له التكبير. فَرْعٌ آخرُ إذا كان يسجد للتلاوة خارج الصلاة. قال الشافعي: "يرفع يديه في التكبير لسجود القرآن وسجود الشكر". قال ابن سريج: "هذا يقتضي أن تكون تكبيرة أخرى للسجود، لأنه جعل التكبيرة الأولى للإحرام بها، ولا فرق في رفع اليدين بين أن يكون قائماً أو جالساً أو مضطجعاً". وقال أبو جعفر المهدي من أصحابنا: "يكبر للسجود لا غير ثم يكبر أخرى لرفع الرأس منه، لأنه سجود مجرد ولا يفتقر إلى الإحرام"، وبه قال أبو حنيفة: وهذا خلاف

المنصوص، وهو غلط، ونهى صلاة ذات سجود فتفتقر إلى تكبيرة الإحرام. فَرْعٌ آخرُ لو لم يسجد سجود التلاوة مع الإمام ولم ينو مفارقته بطلت صلاته، ذكره بعض أصحابنا. فَرْعٌ آخرُ يكره للمأموم قراءة أية السجدة، فإن قرئ وسجد، ولم يخرج نفسه من إمامته تبطل صلاته، ولو ترك يستحب أن يسجد بعد الفراع على قولنا النوافل تقضى. فَرْعٌ آخرُ لو قرأ في صلاته ينبغي أن يسجد عقيبها، فإن أخرها، ثم سجد، فإن لم يطل الفصل، فلا بأس أن يسجد، وإن طال سواء كان في تلك الركعة أو ركعة أنرى، لا يسجد، ولو سجد بطلت صلاته، لأنها سجدة زائدة في غير محلها. فَرْعٌ آخرُ لو كبر تكبيرة واحدة بنية الإحرام وتكبيرة السجود، ولم يجز وأعاد السجود، ولا قرأ أية السجدة جالساً. قال بعض أصحابنا: السنة أن يقوم ثم يكبر للإحرام، ثم يكبر ويسجد، لأن النافلة قائماً أفضل، وإذا توالت سجدتان قام بينهما لانفصالهما. وهذا اختيار أبي حامد المقري النيسابوري من أصحابنا. فَرْعٌ آخرُ قال في "البويطي": "ليس في سجود القرآن، ولا سجود الشكر تشهد ولا سلام ". وروى المزني في المنثور عن الشافعي، أنه يسلم، فحمل في السلام قولان: [141 ب / 2] أحدهما: لا يسلم كما لو سجد في الصلاة، ولأنه لا يفتقر إلى القراءة، فلا يفتقر إلى السلام كالطواف. والثاني: يسلم، وبه قال أحمد في رواية، وهو مذهب عطا، وابن سيرين، لأن ما افتقر إلى الإحرام، افتقر إلى السلام، وهذا اختيار أبي إسحق وابن سريج، والأول ظاهر المذهب، والثاني، أقيس وأحسن؛ وبه أقول. ومن أصحابنا من قال: يتشهد أيضاً، لأنه سجود يفتقر إلى الإحرام والسلام، فيفتقر إلى التشهد كسجود الصلاة، وهذا غلط، لأنه إذا لم يفتقر إلى القراءة، فالتشهد أولى، وحكى أبو يوسف عن أبي حنيفة، أنه لا يسلم. وروى الحسن بن زياد عنه أنه لا يكبر إذا انحط ويكبر إذا رفع. فَرْعٌ آخرُ المستحب أن يقول في سجوده ما روت عائشة رضي الله عنها، قالت: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول في سجود القرآن: "سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله

وقوته تبارك الله أحسن الخالقين". ولو قال: "أللهم اكتب لي عندك أجرأ وضع عني بها وزراً واجعلها لي عنه ك ذخراً وتقبلها مني كما تقبلت من عبدك داود عليه السلام"، فهو أحسن لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله، رأيت هذه الليلة فيما يرى النائم، كأني أصلي خلف شجرة، وكأني قرأت سجدة فسجدت، فرأيت الشجرة كأنها تسجد بسجودي، فسمعتها وهي ساجدة تقول: هذا الذي ذكرنا. قال ابن عباس، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرأ السجدة، فسمعته، وهو ساجد يقول: ما قال الوجل عن الشجرة، ولو قال فيه ما يقول في سجود الصلاة يجوز. وقيل: المستحب هذا ويستحب زيادة التسبيح في {الم (1) تَنزِيلُ} (السجدة: 1]، لقوله تعالى: {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} (السجدة: 15]، وفي سورة تبارك، يستحب أن يقول: "آمنت بالرحمن سجل وجهي للرحمن، فاغفر لي يا رحمن"، لأن الخبر ورد به، ويستحب أن يدعو بعد التسبيح فيه، ما روى ابن عباس رضي الله عنه. فَرْعٌ آخرُ قال والدي الإمام رحمه الله: إذا قرأ الإمام آية السجدة في صلاة السر [142 أ / 2] لو ترك السجود للتلاوة إلى وقت الفراغ من الصلاة يكون أولى، لأنه لو سجد جملة أكثر الجماعة على السهو فيشوش أمر الصلاة عليهم ويختلفون في الاتباع، وقد استحب أصحابنا إذا قرأ آية السجدة ترك السجود لما فيه من الاحتياج إلى النزول والممعود، فلا يبعد نحوه فيما ذكرنا للعذر. فَرْعٌ آخرُ لو نذر أن يسجد سجود القرآن في غير الصلاة صح، وإن نذر الإتيان به في الصلاة لم يصح الشرط، وفي صحة النذر وجهان: أحدهما: يصح. والثاني: وهو الأقرب كما لو نذر صوم يوم النحر لم يجز، ولا يجوز القول فيه بإلغاء التقييد وإيجاب الصوم، فكذلك ههنا ذكره والدي رحمه الله. فَرْعٌ آخرُ قال والدي رحمه الله: لو قرأ آية السجدة في صلاة الجنازة، لم يسجد فيها، لأنه لا سجود فيها شرعاً، وهل يسجد لهذه القراءة بعد الفراغ؟ فيها وجهان، وأصلهما أن القراءة التي هي غير مشروعة أصلاً. هل يسجد سجود القرآن لها بحال؟ وجهان، وعلى

هذا لو قرأ آية السجدة في سجود القرآن، هل يسجد لهذه القراءة؟ وجهان، لأنها غير مشروعة، فإذا قلنا: يسجد لم ينب هذا السجود عنها قولاً واحداً. ولكن إذا قلنا: يشرع فيه السلام، هل يسجد لهذه القراءة قبل السلام؟ فيكون فاعلاً لهذا السجود في نفس هذه الصلاة، أم يسجد بعد الفراغ منها؟. الأظهر لي أنه يسجد بعد الفراغ، ولو فعله فيها تبطل الصلاة، ويحتمل خلاف هذا. مسألة: قال: "ويصلي في الكعبة الفريضة والنافلة وعلى طهرها". الفصل وهذا كما قال: جملة هذا أن صلاة الفريضة والنافلة يجوز فعلها داخل الكعبة. وبه قال أبو حنيفة وجماعة. وقال مالك: "يجوز أن يصلي فيها النافلة دون الفريضة والوتر". وبه قال أحمد واسحق. وقال ابن جرير: لا يجوز فعل الفريضة فيها، ولا النافلة. [142 ب / 2] وروي هذا عن ابن عمر، واحتجوا بقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]، أي: نحوه، وإذا كان فيها لم يول وجهه نحو جميعها، ولأنه مستدبر لبعضها، فلا يجوز كما لو صلى خارجها مستدبراً، وهذا غلط لقوله تعالى: {طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، ولم يفصل، فإن قيل: الطواف لا يجوز فيها، فكذلك الصلاة. قلنا: الطواف بكلها لا يحصل بطوافه فيها والصلاة لا تجب إلى كلها بل يتوجه إلى جهة منها، وقد وجا ذلك فيجوز، وأما إذا كان خارج الكعبة، واستدبر فلأنه، لم يستقبل شيئاً منها، فلا يجوز ههنا بخلافه، واحتج ابن جرير بما روي "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل البيت، ولم يصل". قلنا: روي عن بلال رضي الله عنه أنه قال: "دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - البيت فصلى ركعتين". قال ابن عمر: فقلت لبلال: أين صلى؟ فقال: نزل عموداً عن يمينه وعموداً عن شماله، وثلاثة أعمدة من ورائه. وكان البيت إذ ذاك على ستة أعمدة، وما رويناه أولى، لأنه زائد، ويحتج على مالك بأن كل جهة جاز أداء النفل إليها مع الأمن والقدرة جاز أداء الفريضة إليها كما لو كان خارجاً. قال: وإنما جازت النافلة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها فيها، ولأن أمر الاستقبال في النوافل أخف، فإنها تجوز في السفر إلى غير القبلة، قلنا: لما صلى فيها النفل صار دليلا على جواز الفرض والتخفيف في النوافل عند الضرورة والاحتياج، ولا حاجة ههنا إلى الفرق بين الفرض والنفل، فإذا تقرر هذا، قال بعض أصحابنا الفرادى فيها أفضل من الفرادى في غيرها. والجماعة فيها أفضل من الجماعة في غيرها، والجماعة في غيرها أفضل من الفرادى فيها. وقال بعضهم: إذا كانت صلاة نافلة لم تسئ لها الجماعة أو فائتة لا يرجو لها

الجماعة، فالأفضل أن يصليها في جوف الكعبة، وإذا صلى خارجها فكلما كان أقرب إليها [143 أ / 2] كان أولى، وان كانت صلاة الجماعة، فالمستحب أن يكون خارج البيت، لأن الكعبة لا تسع للجماعات، ولأنه يؤدي إلى ابتذالها في الدخول إليها للصلوات الخمس، وفي الصعود والنزول عنها مشقة على الناسء فالأفضل أن يصلي جماعة خارجها نص الشافعي، وهذا أصح، ولكن لو اتفقت جماعة في الكعبة على وجه لا يؤدي إلى ما ذكره، فلا شك أنها أولى فيها، فإذا تقرر هذا، فإذا صلى فيها وتوجه إلى غير الباب صحت صلاته، وإن صلى إلى الباب، فإن كان مغلقاً أو مردوداً صحت صلاته، وإن كان مفتوحاً نظر، فإن كانت له عتبة شاخصة، وإن قلت: صحت صلاته، لأن العتبة والباب من جملة البيت، ولهذا يدخل في البيع بالإطلاق وإن لم يكن عتبة لم يجز، لأنه صلى إلى غير شيء من البيت. فرع لو رفع بناء الكعبة، والعياذ بالله وبقيت العرصة، فإن وقف على طرفها حتى لا يكون بين يديه منها شيء لم يجز، وان وقف في وسطها أو حيث يكون بين يديه منها شيء. قال أبو إسحق وابن خيران: "لا تجوز صلاته"، وهو الصحيح، لأنه لو صلى على ظهرها، وليست بين يديه سترة لا يجوز، ولا فرق بين ظهرها وعرصتها. وقال ابن سريج: "يجوز، لأنه يتوجه إلى القدر الذي بين يديه منها"، وهذا خلاف المذهب، ويبطل بما لو كان على ظهرها لا يقال: يصلي إلى ما بين يديهء ولو صلى خارجها مستقبلا العرصة يجوز بلا خلافء لأن من هو خارجها يكون متوجها إليها، ومن صلى عليها لا يقال: هو متوجه إليها، ولهذا لو صلى فوق جبل أبي قبيس جاز وان كان أعلى من الكعبة، ولو صلى على ظهر الكعبة إليها لم يجز حتى يكون بين يديه شي، شاخص. قال بعض أصحابنا: ويستحب أن ينصب في موضعها خشب أو يفرج عليها أنطاع ليستقبله [143 ب / 2] الناس كما فعل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه. وقال القفال: اعتقادي في هذه المسألة مثل قول أبي حنيفة: إنه تجوز الصلاة على ظهر الكعبة، وفي عرصتها، وإن لم يكن بناء لهذه المسألة، وهي أنه إذا صلى إلى التربة، ولا بناء يجوز، وكذلك إذا وقف على التربة، وبين يديه بعضها يجوز. وقال ابن عباس: "إذا انهدمت الكعبة سقط فرض التوجه إليها، ولم يتابعه أحد". فَرْعٌ آخرُ لو صلى على ظهرها وبين يديه سترة، فإن كانت مبنية بجص أو طينٍ أو خشبةٍ مسمرةٍ تجوز لأنها من البيت بدليل أنها تدخل في بيع الدار، وإن كانت موضوعة عليها كالثياب والأجر نصب بعضها على بعضٍ، لا يجوز، وان كانت عصا غرزها فيه. اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: يجوز، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من كانت معه

عصاً، فلينصبها بين يديه، وليصل إليها"، ولم يفصل، ولأنها جارية مجرى الأوتاد، والأوتاد تتبع الدار في البيع، والثاني: لا يجوز، لأنه غير منسوب إلى البيت، ألا ترى لو باع داراً فيها خشبة مغروزة لا تدخل في البيعء فلا تصح صلاته إليها، وهذا أصح. فَرْعٌ آخرُ اختلف أصحابنا في قدر الستر ة فمنهم من قال: قدر ذراع، وهو الأصح، لأن هذا القدر يستر شيئاً منه ويسمى سترة في العادة، ومنهم من قال: قدر قامة الرجل حتى يكون جميع بدنه في مقابلته، وهو ضعيف. مسألة: قال: "ويقضي المرتد ما ترك في الردة". وهذا كما قال من ارتد عن دينه، ثم عاد إلى الإسلام كان كمن سكر، ثم أفاق يلزمه قضاء كل ما ترك في حال ردته من العبادات مثل الصلاة والصيام والزكاة، وما فعله قبل ردته يعتد له. وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد في رواية أنه إذا عاد إلى الإسلام يصير بمنزلة كافر أصلي أسلم [144 أ / 2]، فيلزمه الحج ابتداءً، أو لا يلزمه قضاء ما ترك من العبادات حتى قال أبو حنيفة: "لو ترك الصلاة خمسين سنة في إسلامه، ثم ارتد ثم أسلم لا يلزمه قضاء شيء منها"، وأصل هذا أن عنده الردة تحبط العمل بمجردها. وعنانا لا تحبط حتى ينضم إليها الموت، وهذا غلط، لأنه ترك الصلاة بالعصيان بعدما التزمها بالإسلام، فيلزمه قضاؤها كالسكران، ولأن الردة لا تزيده خيراً، إن لم تزده شراً في سقوط قضاء الصلوات على ما قلتم. فرع لو جن أو أغمي عليه في حال رأته حتى فات وقت الصلاة. نص في "الأم": أنه يلزمه قضاؤها. وقال المزني في "الجامع": هذه والله وحشة، وإن حاضت في حال ردتها ثم أسلمت لا يلزمها قضاء ما تركت من الصلوات فيها. والفرق أن إسقاط الصلاة عن المجنون والمغمى عليه رخصة وتخفيف، ألا ترى أنه يستحب لهما القضاء والمرتد لا يستحق التخفيف، وأما الحائض فإسقاط الصلاة عنها عزيمة وتغليط، لأنها ليست من أهل الصلاة في هذه الحالة، ومع قدرتها على فعلها مشاهدة منعت من فعلها حتى لو أقدمت عليها تصير عاصية، ولهذا يكره لها القضاء، فلهذا سقط عن المرتدة قضاؤها ويدل على صحة الفرق أنه لو شرب دواء حتى جن أو أغمي عليه لم يسقط عنه القضاء، ولو شربت حتى حاضت أو نفتء لا يلزم القضاء. فإن قيل: المعصية ليست في سبب الرخصة، وهي الإغماء والجنون، وإنما هي بالاعتقاد. قلنا: ولكن غلظنا عليه بإيجاب القضاء إذ وجد منه ذلك في زمان المعصية كما أزلنا

باب

يده عن أملاكه تغليظاً عليه، وان كان الإسلام ليس بسبب للملك، لأن الكافر الأمي يملك، وهذا مشكل. [144 ب / 2] باب سجود السهو وسجود الشكر مسألة: قال: "ومن شك في صلاته، فلم يدر أثلاثاً صلى أم أربعاً". الفصل وهذا كما قال: إذا سها في صلاته لم تبطل صلاته، فإن شك في عدد الركعات بنى على اليقين وطرح الشك ولا يأخذ بغلبة الظن والتحري سواء كان في المرة الأولى أو الثانية، فإن شك هل صلى ركعة أم ركعتين جعلها واحدة، وإن شك هل صلى ثلاث وكعات أم ركعتين جعلها ركعتين، وان شك هل صلى ثلاثاً أو أربعاً؟ جعلها ثلاثاً. وبه قال أبو بكر وعمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير واسحق وربيعة ومالك والثوري. وقال الأوزاعي: تبطل ما صلا ته، ويلزمه استئنافها. وقال الحسن: يسجد سجدتي الوهم وتجزئه. وروي هذا عن أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما. وقال أحمد: "إن كان منفرداً بنى على اليقين، وان كان إماماً، ففيه روايتان: إحداهما: يبني على اليقين. والثانية: يبني على غالب ظنه". وقال أبو حنيفة: "إن كان ذلك أول مرة بطلت صلاته، وان كان شكاكاً وتكرر منه هذا تحرى وعمل على ما يؤديه تحريه إليه، فإن لم يغلب على ظنه شيء عمل على اليقين". روي عن سفيان الثوري أنه يتحرى بكل حال، واحتجوا بما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا شك أحدكم في صلاته فليتحر الصواب فليتم عليه، ثم يسلم ويسجه سجدتين". واحتج الحسن البصري بما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إن أحدكم إذا قام يملي جاءه الشيطان، فيلبس عليه حتى لا يدوي كم صلى، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين وهو جالساً"، وهذا غلط [145 أ / 2] لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا شك أحاكم في صلاته فليلق الشك وليبن على اليقين، فإذا استيقن التمام سجد سجدتين، فإن كانت صلاته تامة كانت الركعة نافلة، وان كانت ناقمة كانت الركعة تماما لصلاته وكانت السجدتان

مرغمتي الشيطان". وروي: "كانت الركعة والسجدتان نافلة". وروى عطاء بن يسار أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا شك أحدكم في صلاته، فلم يدر كم صلى ثلاثاً أم أربعاً، فليصل ركعة ويسجد سجدتين، وهو جالس قبل التسليم، فإن كانت الركعة التي صلى خامسة شفعها بهاتين، وإن كانت رابعة، فالسجدتان ترغيم الشيطان"، وأراد أن الشيطان يأتي أحدكم، وهو في الصلاة، فيقول له: اذكر كذا، اذكر كذا لما كان لا يذكره حتى يشك في صلاته، فلا يدري كما صلى، وقوله: شفعها بهاتين أراد أن سجود السهو إنما شرع جبراناً للصلاة من النقص والزيادة فيها، فإن نقص منها في الحقيقة فتشفعها السجدتان، أي: يصيرها أربعاً في الحكم لا أنها تصيرها ستاً في الحكم كما توهمه أبو حنيفة، وأما خبرهم أراد بالتحري البناء على اليقين على ما فسر في خبرنا وحقيقة التحري هو طلب أحرى الأمرين، وأولاهما بالصواب، وهو فيما قلنا لما فيه من إكمال الصلاة، والاحتياط لها والتحري يرد بمعنى اليقين كما قال تعالى: {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً} [الجن: 14]، وأما خبر أبي هريرة فخبرنا أولى، لأنه مفسر لما أجمله في هذا الخبر. مسألة: قال: "فإذا فرغ من صلاته سجد سجدتي السهو قبل السلام". وهذا كما قال: إذا فرغ من صلاته بعد التشهد سجد سجدتي السهو قبل السلام سواء كان السهو نقصاناً أو زيادة أوهما أو زيادة متوهمة، فالنقصان ترك الجلوس للتشهد الأول وترك القنوت [145 ب / 2]، ونحو ذلك. والزيادة أن يجلس في موضع قيامه ونحو ذلك، والزيادة المتوهمة أن يشك في عدد الركعات نص عليه في كتبه القديمة والجديدة. وبه قال أبو هريرة وأبو سعيد الخدري وسعيد بن المسيب والزهري وربيعة والأوزاعي والليث. وقال في اختلافه ومالك: ما يدل على تخريج الأخبار الواردة فيه على الزيادة والنقصان، فيسجد للزيادة بعد السلام للنقصان قبل السلام. وذلك أن عبد الله بن مالك ابن بحينة. روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سجد قبل السلام، وقال: "السجود في السهو قبل السلام". وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه "سجد بعد السلام"، فيحمل هذا على الزيادة، وذلك على النقصان، وبه قال مالك والمزني واسحق وأبو ثور. وقال أبو حنيفة والثوري: سجود السهو بعد السلام بكل حال. وروي ذلك عن علي وابن مسعود وعمار وسعد بن أبي وقاص والنخعي وابن أبي ليلى رضي الله عنهم.

وحكي عن الشافعي أنه قال بعد ما ذكر في اختلافه ومالك ما قلنا: كان مالك لا يعرف الناسخ من المنسوخ، وكان آخر ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "السجود قبل السلام". وقال الزهري: "سجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل السلام وبعد السلام، وكان آخر الأمرين قبل السلام"، وقد روى ابن المنذر عن أبي هريرة رضي الله عنه "أنه كان يأمر بسجدتي السهو قبل السلام" فثبت ترك ما رواه، لأنه نسخ، ولأن الزيادة تحل محل النقصان، فمان الصلاة تبطل بهاء فالجود عنها قبل اللام أيضاً، ولأن في خبر أبي سعيد توهم الزيادة وأمر السجود قبل السلام فبطل قول مالكٍ. قال المزني:"واحتج في ذلك بحديث أبي سعيد الخدوي وبحديث ابن بحينة"، ولم يرد به أنه احتج بالخبرين في السجود قبل السلام بل ذكر مسألتين: مسألة البناء على اليقين، [146 أ / 2] ومسألة السجود قبل السلام، ثم احتج فيها بالخبرين، فالخبر الأول، يرجع إلى المسألة الأولى، والخبر الثاني، يرجع إلى المسألة الأخرى. مسألة: قال: "وإن ذكر أنأ في الخامسة سجد أو لم يسجد". الفصل وهذا كما قال: إذا ملى صلاة هي أربع ركعات، فلما كان في الرابعة سها وظن أنها ثالثة، فقام إلى الخامة، ثم ذكر، فإن ذكر بعد السلام سجد للسهو حين ذكر وسلم، وقد تمت صلاته، وإن ذكر بعد التشهد وقبل السلام، فقد ذكر في موضع السجود فيسجد سجدتين ويسلم، وقد تمت أيضاً، ولا فرق بين أن يكون قعد في الرابعة أو لم يقعد، وإن ذكر قبل التشهد وبعد السجود نظر، فإن لم يكن قعد في الرابعة، ولا تشهد، فإنه يقعد ويتشهد ويسجد للسهو ويسلم، وإن كان قد قعد في الرابعة وتشها بالتمام. قال ابن سريج: "يعيد التشهد، ثم يسجد للهو، ثم يلم ليكون سجود السهو بعد التشهد". قال: وهذا مذهب الشافعي، لأنه قال: "سجد أو لم يسجد وقعد في الرابعة، أو لم يقعد"، فإنه يعود إلى الرابعة ويتشهد، فنص على أنه قعا في الرابعة أو لم يقعد. والمذهب أنه لا يعيد التشهد، لأن موضوع الصلاة على أنه إذا سها فيها سقط السهو ويبني على ما قبله، ولا يسقط السهو ما وقع صحيحاً قبله بدليل أن من سجد سجدة، ثم قام إلى الثانية عاد وبنى على الأولى، ولم يبطلها ما تخلل بينهما من سهو العمل كذلك ههنا. وقول الشافعي: "يتشهد ويسجد للسهو ويسلم قعد في الثانية، أو لم يقعد" قصد به الرد على أبي حنيفة، حيث قال: إن كان قد سجد في الخامسة، ولم يكن قعد في الرابعة بطل فرضه، وعليه إعادتها لأنها صارت نفلاً، وإن كان قد قعد في الرابعة فقد

تمت صلاته بالقيام، والركعة الخامسة نفل، فيضيف إليها ركعة أخرى، وإن كان سجد فيها، وإلا فلينصرف عنها، أو يقول: تأويل هذه اللفظة [146 ب / 2] أن قول: "ويتشهد" يرجع إلى إحدى الحالتين، وهو أنه إذا لم يكن تشهد، فكأنه جمع بين مسألتين، وأجاب عن إحداهما إذا لم يكن مقصوده كيفية الرجوع، وإنما كان قصده أنه في الجملة يرجع إلى الرابعة بكل حال. وقيل: قوله: "قعد في الرابعة، أو لم يقعد" لم يرد به التشهد، فإنه قد يقعد ولا يتشهد وقراءة التشهد واجبة كالقعود واجب، فكأنه صور المسألة فيمن تذكر أنه في الخامسة وشك فلم يدر قعد في الرابعة أم لا؟ فعليه أن يتشهد إذا رجع وقد ترك كلمتان فيهما حرف أو وإحداهما للتنويع والأخرى للشك. كما قال الشافعي في خبر الربا، ونقص أحدهما، التمر أو الملح وزاد الآخر فهذا شك، ثم لما قاله ابن سريج معنيان: أحدهما: أن الموالاة شرط بين الأركان. والثاني: لا يجوز إفراد ركن وفي ذلك إفراد السلام يعني إذا لم يعد التشهد. وفائدة هذا تظهر فيما لو ترك الركوع ساهياً وتذكر في السجود، فإن قلنا: المعنى فيها الموالاة، يجب أن يقوم من السجود مستوياً، ثم يركع، وان قلنا بالمعنى الآخر يجوز أن يعود راكعاً وبقولنا. قال الحسن وعطا، والزهري والليث والأوزاعي وأحمد واسحق. والأصل في هذا ما روى عبد الله بن مسعود رصي الله عنه. قال: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر خمساً، فلما انفتل توسوس القوم بينهم، فقال: "ما شأنكم؟ "، قالوا: يا رسول الله زيد في الصلاة؟ قال: "لا"، قالوا: فأنت صليت خمساً، فانفتل فسجد سجدتين، ثم سلم، ثم قال: "إنما أنا بشر أنى كما تنسون "، والظاهر من حاله أنه لم يجلس في الرابعة، لأنه قام إليها يعتقد أنه يقوم من الثالثة. وعند أبي حنيفة: إذا لم يكن جلس بطلت صلاته، وإن كان جلس يلزمه أن يضيف إليها ركعة أخرى والنبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ذلك. وروى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى العشاء خمساً، [147 أ / 2] فسجد سجدتي السهو، وهو جالس". وقال الثوري: إن لم يكن قعد في الرابعة أحب إلي أن يعيد. مسألة: قال: "وإن نسي الجلوس من الركعة الثانية، فذكر في ارتفاعه وقبل انتصابه، فإنه يرجع إلى الجلوس". الفصل وهذا كما قال: قد ذكرنا فيما أنه إذا ترك التشهد الأول، فذكره قبل انتصابه عاد إليه، وإن ذكر بعد انتصابه لا يعود. وقال بعض أصحابنا بخراسان: يريد بالانتصاب أن يصير إلى حالة هي أرفع من

حالة الراكع، وحالة الراكع أن تنال راحتاه ركبتيه فما كان أرفع من ذلك فهو حد الانتصاب، وما دون ذلك، فليس بانتصاب. وفي هذا نظر والانتصاب المشهور أن يصير إلى حالة يعتد بقيامه فيها. وقال مالك: "إن قام أكثر القيام لم يعتد، وإن قام أقل القيام، أعاد" وحكى ابن المنذر عن مالك، أنه قال: "إن فارقت أليته الأرض مضى، ولا يرجع"، وقال الحسن: "يرجع ما لم يركع". وقال النخعي: "إن ذكر قبل القراءة عاد، وإن ذكر بعدما قرأ لا يعود". وقال أحمد: "إن ذكر قبل أن يستوي قائماً، يلزمه أن يرجع، وإن ذكره بعدما استوى قائماً، وقبل: القراءة يتخير بين الرجوع وبين المضي"، والأولى أن لا يرجع، ثم إذا رجع بعد الانتصاب، قد ذكرنا أنه إن كان جاهلاً لا تبطل صلاته، وإن تعمد بطلت. وقال صاحب "الحاوي": "فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحق تبطل صلاته، لأنه أتى بعمل طويل في الصلاة عمداً". والأصح لا تبطل، لأنه لم يقصد بعمله منافاة الصلاة، فأشبه إذا صلى خمساً ناسياً، وإذا عاد قبل الانتصاب، هل يسجد للسهو؟ قد ذكرنا. وقال أبو حامد: "فيه قولان: أحدهما: يسجد. وبه قال أحمد". وقال يحيى بن سعيد: "رأيت أنس بن مالك تحرك للقيام في الركعتين من العصر، ثم تذكر فجلس، ثم سجد سجدتين، وهو جالس"، وهذا لأنه زاد في الصلاة من جنها ساهياً، فأشبه إذا زاد ركعة. والثاني: لا يسجد. [147 ب / 2] وبه قال الأوزاعي لما روي في حديث المغيرة بن شعبة إن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا قام أحدكم في الركعتين، فلم يستتم قائماً فليجلس"، ولم يأمر بالسجود. وروي: "فليجلس ولا سهو عليه"، ولأن هذا القدر من القيام عمل يسير، ولو تعمد لا تبطل صلاته، فأشبه الخطوة والخطوتين. وهذا أحسن عندي، وهو اختيار أبي حامد، والأول اختيار القاضي الطبري، ولم يذكر القولين. فرع لو كان إماماً فرجع بعد الاعتدال بطلت صلاته وينوي المأموم مفارقته، وإن كان الإمام جاهلاً أو ناسياً لم تبطل صلاته، ولكن المأموم لا يتابعه أيضاً، وينوي مفارقته كما لو قام إلى الخامسة ناسياً لا يتابعه، وإن كان هو جاهلاً أيضاً، أو ناسياً فتابعه لم تبطل صلاته.

فَرْعٌ آخرُ لو انتصب قائماً بعدما تذكر أنه تركه تبعه المأموم بكل حال، لأن متابعته واجبة والتشهد الأول نغل فيجب ترك النفل للفرض، وإن ذكر الإمام قبل أن يعتدل قائماً يرجع المأموم، لأن متابعته أولى من فرضه، كما لو أدركه في الركعة الأخيرة جالساً يلزم الجلوس معه اتباعاً، وإن كان يترك: فرض نفسه. وهذا هو المذهب. وقال أبو حامد: "وفيه وجه آخر لا يرجع لأنه تقابل فرضان، وليس أحدهما أولى من الآخر". وهذا ضعيف، ولو انتصب الإمام دون المأموم، ورجع الإمام إلى الجلوس، فالذي يقتضيه المذهب أن المأموم يقوم، ولا يتابعه في الجلوس، لأن المأموم، وإن لم يكن انتصب فقد وجب عليه الانتصاب، لانتصاب الإمام، فإذا سها الإمام بالرجوع لم يسقط عن المأموم ما وجب من الانتصاب، ولا يتابع الأمام فيما ليس من صلاة الإمام. فَرْعٌ آخرُ لو صلى نافلة بنية ركعتين، فقام إلى ثالثة ناسياً لا خلاف بين العلماء أنه يجوز أن يتمها أربعاً، ويجوز أن يرجع إلى الثانية، ويجوز أن يكمل الثالثة، ويسلم. [148 أ / 2] وأي ذلك فعل سجد للسهو، والأولى بمذهب الشافعي أن لا يمضي ويرجع إلى الثانية، ويسجد للسهو سواء كان في صلاة الليل، أو في صلاة النهار. وقال بعض أهل العراق: الأولى أن يتمها أربعا، وقال ابن سيرين: "لا يسجد للسهو في النوافل"، وقيل: هذا قوله في "القديم"، وهو خطأ، لأنه نص في "القديم"، و"الجديد" على أنه يسجد للسهو في الفرض والنفل، وهذا لأن كل عبادة دخل الجبران في فرضها، دخل في نفلها كالحج، ولو قام إلى الثالثة عمداً، ولم ينو شيئاً بطلت صلاته، ولو غير نيته قبل أن يقوم، وصلى أربعا عامداً أجزأه، ولا سجود عليه كالمسافر إذا أتم بعل ما نوى القصر. مسألة: قال: "وإن جلس في الأولى، فذكر قام وبنى، وعليه سجود السهو"، وهذا كما قال: إذا جلس في موضع قيامه، إما عقيب الركعة الأولى، أو عقيب الركعة الثالثة، فقد جلس في موضع جلة الاستراحة، فإن ابتدأ فقرأ التشهد في جلوسه سجد للسهو قليلا كان جلوسه أو كثيراً، ولا نعني بقراءة التشهد أن يقرأ جميعه، بل إذا أخذ في قراءته فالحكم كذلك، وإن لم يقرأ التشهد ننظر في قدر جلوسه، فإن كان قدر جلسة الاستراحة، فلا سهو عليه، وإن زاد على جلة الاستراحة سجد للسهو، لأن ذلك لو تعمده أبطل الصلاة. وحكي عن علقمة والأسود أنهما قالا: لا يسجد للسهو ههنا لأن الجبران للنقصان

والزيادة لا تحتاج إلى الجبران كما نقول في الحج. وهذا غلط، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "صلى الظهر خمساً، وسجد للسهو، وزاد في الصلاة في خبر ذي اليدين، وسجد للسهو". مسألة: قال: "وإن ذكر في الثانية: أنه ناسٍ لسجدة من الأولى بعدما اعتدل قائماً". الفصل وهذا كما قال: جملته أن الترتيب عندنا واجب في أركان الصلاة، فلا يسقط بالنسيان، فإذا نسي السجدة الثانية من الركعة الأولى، فاعتل ل قائماً، ثم ذكر في قيامه، لا يصح لأن الركعة الثانية [148 ب / 2] لا تصح قبل إتمام الركعة الأولى، فإذا تذكر بعد ذلك لا يخلو، إما أن يذكر قبل أن يسجد فيها مثل أن ذكر قبل الركوع أو بعده، وقبل السجود كان عمله في الثانية كلا عمل، فيلزمه أن يعود ويسجد، ثم كيف يسجد؟ لا يخلو من ثلاث أحوال، إما أن يكون تركها وحدها دون جلة الفصل بين السجدتين أو تركها مع جلسة الفصل، وجلسة الاستراحة أيضا، أو تركها وترك جلسة الفصل، ولم يترك جلسة الاستراحة، فإن تركها وحدها جلس عقيب السجدة الأولى جلسة الفصل، ثم قام، فكيف يسجد التي تركها؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو المذهب أنه يخر ساجداً وتجزئه من غير جلوس. والثاني: وهو قول أبي إسحق: لا يجزئه حتى يجلس، ثم يسجد، لأن السجدة الثانية لا تصح إلا من الجلوس، وهذا غلط، لأنه لا يختلف المذهب أنه إذا صلى أربع ركعات، ونسي من كل ركعة سجدة، يحصل له منها ركعتان، ويحصل له السجدة للركعة الأولى من الركعة الثانية، وهذه السجدة في الركعة الثانية حصلت من القيام. فإن قال في هذه المسألة: لو لم أحتسب بالسجدات أدى إلى بطلان عمل كثير، قلنا: ما لا يحتسب به، لا فرق بين أن يقل وبين أن يكثر، وأما إذا تركها وترك جلسة الفصل، وجلسة الاستراحة أيضاً، وهو أن يرفع رأسه من السجدة الأولى، وينهض قائماً، ولم يجلس بحال، فإنه يسجد للثانية التي عليه، وكيف يسجد؟ المذهب أنه يجلس ثم يسجد بعده لأنه جلوس هو ركن، فلا يسقط بالقيام كأخر جلسة في الصلاة. ومن أصحابنا من قال: يكفيه أن يسجد، ولا يحتاج إلى جلة الفصل، لأن الفصل حصل بالقيام فأغنى عن الجلسةء وهذا غلط، لأن هذه الجلسة واجبة مقصودة ولو تعمد إلى القيام ليفصل بينهما تبطل صلاته، ولا ينوب القيام منابها، فكذلك ههنا، وإن تركها وترك جلسة الفصل، ولكنه لم يترك جلسة الاستراحة، فجلس بهذه النية هل ينوب هذا عن الفرض الذي عليه؟. اختلف أصحابنا فيه، قال ابن سريج: لا ينوب عنه، [149 أ / 2] لأن جلوس الاستراحة، نفل، وهذا الجلوس فرض فلا ينوب الفرض عن النفل كما لو نسي وسجد

للتلاوة، أو للسهو لا ينوب عنه". وقال سائر أصحابنا وهو المذهب: ينوب عنه كما لو تشهد في الرابعة على أنه في التشهد الأول، ثم ذكر أجزأه، وسقط الثاني بنية الأول، وإن كان الثاني فرضاً، والأول نفلاً، ويخالف سجود التلاوة، وسجود السهو، لا يجزيان عن سجود الصلاة، لأنهما ليسا من سجود الصلاة، راتباً، والجلوسان من الصلاة مشروعان فيهما، فجاز أن يسقط أحدهما بنية الآخر. وأيضا سجود التلاوة يقع في موضعه، فلا يقع عن غيره بخلاف السجدة الأولى، ههنا من الركعة الثانية، لأنه لا يجوز أن تصح الثانية قبل تمام الأولى، فإن قيل: فهذه القراءة أيضا قبل إتمام الأولى، قلنا: سجود التلاوة لا يختص بالقراءة المجزية في صلاته بل يتعلق بالتلاوة الصحيحة، وقد وجدت، فإن قيل: فقولوا: إذا قرأ آية السجدة في الركوع يسجد للتلاوة، قلنا: يكره له هذه القراءة، فلا يقع موقعها. وههنا قصد إلى قراءة جائزة، وإنما لم تجز عنه لعدم تمام الأولى من جهة نسيانه. وقال أبو حامد: "لا نص في سجدة التلاوة وسجدة السهو، ويحتمل أن يقال: تنوب عن الفرض، ولا يبعد"، وهذا غلط، لأن الشافعي، نص عليه حكاه صاحب "الإفصاح"، وغيره. والفرق ظاهر على ما ذكرنا، وإن ذكر في الثانية بعد أن سجد فيها، لا يخلو إما أن يذكر بعد السجدتين، أو بعد إحدى السجدتين، فإن تذكر بعد السجدتين تمت الأولى قولاً واحداً، ولكن بآية الجدتين تتم الأولى؟ ينبني على الأقسام، فإن لم يكن ترك في الأولى جلسة الفصل، وجلسة الاستراحة أيضا، فإن قلنا: ينوب القيام عن جلسة الفصل تمت الأولى بالسجدة الأولى من الثانية، وإن قلنا: لا ينوب القيام عنها تمت الأولى بالسجدة الثانية، وإن كان ترك جلسة الفصل دون جلسة الاستراحة، فإن قلنا: تنوب [149 ب / 2] هذه الجلسة عن جلسة الفرض، تمت الأولى، وإلا تمت الثانية، وان ذكر بعد أن سجد في الثانية سجدة واحدة، فكل موضع قلنا: تمت الأولى بالسجدة الأولى من الثانية، فقد تمت ههنا الأولى، ولا حاجة إلى السجود، وكل موضع، قلنا: تمت الثانية، فعليه أن يسجد ههنا سجدة أخرى لتتم الأولى. وقال أبو حنيفة: "إذا ترك السجدة الثانية من الأولى، لم يمنع من احتساب ما بعدها، بل سجد في آخر صلاته سجدة فتلتحق بموضعها ويسلم ويسجد للسهو"، والى فعل ذلك عمداً محت صلاته عنده، ولا يسجد للسهو. وعندنا إن فعل ذلك عمدا بطلت صلاته، ووافقنا أنه لو ترك سجدتين لم يحتسب الثانية، وكذلك لو ترك ركوعاً لا يحتسب بما بعده. وقال: "لو ترك أربع سجدات من أربع رجات يسجد في آخر صلاته أربع سجدات متواليات وتجزئه". وبه قال الثوري والأوزاعي والحسن. وقال الحسن بن مالك بن حيي: "لو ترك ثمان سجدات أتى بهن متواليات". وقال

مالك: "إن ذكر في الثانية قبل أن يطمئن راكعاً أنه نسي سجدة من الأولى عاد إلى الركعة الأولى، وإن ذكر بعدما اطمأن راكعاً لا يعيد، فإذ لم يكن سجد مضى في صلاته وأتى بالسجود في الركعة الثانية، ويلغوا ما فعله في الأولى، وإن كان قد سجد بطلت الأولى وبنى على الثانية". وقال أحمد: "إذا ذكرها بعد القراءة بطلت الأولى وأتم الركعة الثانية"، وهذا غلط، لأنه شارع في الثانية تبل إكمال الأولى، فيلزمه العود إذا تذكر كما لو تذكر قبل الركوع، أو يقول في الفصل الثاني، لأنه سهو، نهو لا يبطل العبادة، فلا يمنع من الاعتداد بما مضى منها كما لو ذكر قبل الركوع. واحتج بأن ما يفعله في ركعته لا يتقل إلى أخرى ألا ترى أن المزحوم في الجمعة عن السجود في الأولى، إذا زال الزحام والإمام راكع في الثانية، فإن يتبعه ويجد معه، ولا يتم به الأولى كذلك هها. وهذا لا يصح لأن في المزحوم هل يكون سجوده للأولى أم الثانية؟ [150 أ / 2]، وجهان. وإن سلمنا، فالفرق أن الجمعة لا تدرك بركعةٍ ملفقة على أحد الوجهين، فلهذا احتسبنا به من الثانية لتكون ركعةً كاملةً وههنا لا يوجد هذا المعنى. ولهذا أمرناه بفعل الركوع في مسألة الزحام مع علمه بما عليه من الجود، وههنا لا يفعل ذلك مع العلم، بل يأتي به سهواً فيصح ما يلي ما فعله على وجه الصحة، وهو السجود. مسألة: قال: وإن ذكر في الرابعة أنه نسي سجدة من كل ركعة". الفصل وهذا كما قال: إذا ترك أربع سجدات من أربع ركعاتٍ صحت له ركعتان، وذلك أن الأولى صحت إلا سجدة، فلما شرع في الثانية كان عمله فيها كلا عمل، فلما سجد فيها سجدة تمت الأولى بهذه السجدة، وسقطت الثانية، فلما قام إلى الركعة الأخرى، وهي ثالثة في العدد، ثانية في الحكم، صحت له إلا سجدة، فلما شرع في الركعة الأخرى، وهي الرابعة في العدد كان عمله فيها كلا عمل، فلما سجد فيها سجدة تمت بها الثانية ولغا باقيها فصحت له ركعة من الأولى وركعة أخرى من الثالثة والرابعة، فإن ذكر ذلك بعد أن تشهد قام، فأتى بركعتين وكان هذا: تشهد واقعاً عن التشهد الأول، وإن ذكر قبل التشهد تشهد التشهد الأول، ثم قام، فصلى ركعتين. والأصل في هذا وفي نظائره أن المصلي إذا نسي ركناً سجدة أو ركوعاً، أو غيرهما واشتغل بما وراء ذلك الركن، فكل فعل فعله، وذلك الفعل غير مشابه للركن المني، فهو غير محسوب، وإن كان مشابهاً للركن المنسي قام مقامه، وألفينا سائر أفعاله. وهذه المسألة مفروضة فيه إذا ترك من كل ركعة سجدة دون جلسة الفصل بين

السجدتين، فإن ترك جلسة الفصل، نظر فإن أتى بجلسة الاستراحة، فهو على الوجهين، فإن قلنا: يقوم مقام جلسة الفصل، فكما ذكرنا، وإن قلنا: لا يقوم مقامها صحت له ركعة إلا سجدة، فإنه ما صح له بعد هذا سجود بحال، وإن لم يكن جلس [150 ب / 2] للاستراحة أيضاً، فإن قلنا: القيام مقام الجلسة، فكما ذكرنا، وإن قلنا بالمذهب الصحيح حصلت ل ركعة إلا سجدة. وهذا إذا لم يجلس للتشهد الأول، فإن كان قد جلس للتشهد في الركعتين حصلت له ركعتان إلا سجدة على الصحيح من المذهب، لأن السجدة التي حصلت من الركعة الثانية لا يعتد بها، لأنه لم يتقدمها جلوس. وأما السجدة في الثالثة تضاف إلى الأولى، لأن الجلوس للتشهد قام مقام الجلة بين الجدتين، وإن كان هذا الجلوس لم يكن بنية الفرض. وقال ابن سريج: "هذا إذا لم يحاشها أن يكون أوله أو ثانيه، فأما إذا حاشاها ذلك، فلا يجوز لا من الأولى ولا من الثانية". ومعنى: لم يحاشها، أي: لم ينفها بقلبه. قال القفال: "وهو كما قال: لأن استدامة النية الأولى، وان لم يشترط من حيث الذكر، فهي شرط من حيث أن لا يبدلها بغيرها، فإذا قصد أن لا تقع على وجه كذا لم تقع على ذلك الوجه" ونظيره ما قال الشافعي: "لو أراد أن يسجد، فسقط فانقلب على وجهه فماست جبهته الأرض لم يجز، وعليه أن يسجد". هذا إذا ترك من كل ركعة سجدة، فإن ترك سجوداً، ولم يعلم من أين تركها، فالأصل أن ينظر إلى أسوأ الأحوال، فيأخذ بها، لأنه اليقين، فإن ترك سجدة، لا يعلم موضعها، فأحسن أحواله، أن تكون هذه السجدة من آخر ركعة، فيصح له أربع ركعات إلا سجدة وأسوأ أحواله أن تكون هذه السجدة من ركعة غير الرابعة، فيصح له ثلاث ركعات، وإن كان الترك سجدتين، فأسوأ أحواله أن يكون سجدة من الأولى وسجدة من الثالثة، فيحصل ركعتان، ويأتي بركعتين. وفرع ابن سريج ههنا، فقال: "إن علم أن السجدتين من ركعة واحدة صحت له ثلاث راحات. وهذا أسوأ الأحوال، فإن علم أنها من ركعتين متواليتين صحت له ثلاث وكعات أيضاً"، وليست ههنا حال [151 أ / 2] أحسن من حالٍ، لأنهما إن كانا من الأولى والثانية، تمت الأولى، وسقطت الثانية، وإن كانتا من الثانية والثالثة، سقطت الثالثة، وإن كانتا من الثالثة والرابعة، سقطت الرابعة فيصح ثلاث ركعات، وإن ترك ثلاث سجدات فأسوأ أحوالها أن تكون واحدة من الأولى، فتمت الأولى بالثانية، وبقيت ركعتان من أنهما كانت السجدتان صحت له ركعتان، فصحت له ركعتان، فيأتي بما بقي، فإذا لا فصل بين أن يترك سجدتين، أو ثلاث سجدات. وإن ترك أربع سجدات، فأحسن أحواله أن تكون من الثالثة والرابعة، وأسوأ أحواله

أن تكون سجدة من الأولى وثلاث من الثالثة والرابعة فتتم الأولى بالثانية، وتسقط الثانية، وبقيت ركعتان، فيذهب منهما ثلاث سجدات، فيصح له منها ركعة إلا سجدة، فيأتي بسجدة في الحال، ويصلي ركعتين أخريين. ولو ترك خمس سجدات، فأسوأ أحواله أن يأتي في الأولى بسجدة، ويأتي في الثانية بسجدتين فتتم بها الأولى، ولا يأتي في الثالثة والرابعة بسجود، فيحصل له الأولى تامة والرابعة بلا سجود. هكذا ذكره أصحابنا، ويحتمل أن يأتي في الرابعة بسجدتين فتتم بها الأولى، فلا يحصل له إلا ركعة، وهذا أصح. ولو نسي ست سجدات، ولا يدري كيف تركها يحصل له ركعة واحدة، لأن أسوأ الأحوال أن يكون نسي من الأولى سجدتين، ومن الثانية سجدة، ومن الثالثة سجدتين، ومن الرابعة سجدة، فيضاف إلى الأولى من الثانية سجدة واحدة، ومن الرابعة سجدة أخرى، فتتم الأولى بالثانية والرابعة. وإذا نسي سبع سجدات يحصل له ركعة إلا سجدة، وإذا نسي ثمان سجدات حصلت له ركعة إلا سجدتين. وقال الليث وأحمد: "في المسألة الأولى، وهي إذا ترك أربع سجدات من أربع ركعات، يحصل له التكبير فقط، ولا يحصل له شيء آخر من الصلاة، وهذا غلط، لأنه سهو لا يبطل العبادة، فلا يمنع البناء على فعله كالكلام ناسيا. وعن أحمد رواية أخرى: [151 ب / 2] أنه تبطل كلها، وقال مالك: "يصح له الركعة إلا سجدة، ويبطل ما قبلها". وبه قال أحمد في رواية أخرى. مسألة: قال: "وإن شك هل سها أم لا؟ فلا سهو عليه". وهذا كما قال: ليس هذا على الإطلاق بل ينظر فإن شك هل زاد أم لا؟ مثل أن شك هل قعد في موضع قيامه؟ أم قام في موضع قعوده؟ فلا سهو عليه، لأن الأصل أنه ما زاد، فأما إن شك هل صلى ثلاثاً أم أربعاً؟ جعلها ثلاثا، وأضاف إليها أخرى وسجد ههنا لأنها زيادة متوهمة، وهو أنه قد فعل الفعل حقيقة، وشك هل هو زيادة أم لا؟ وليس كذلك إذا شك هل جلس في موضع قيامه؟، لأنه لا يدري هل جلس أم لا؟ وهو لا يدري زاد أم نقص فإن كان الشك في النقصان مثل أن شك هل فعل الشيء أو لا؟ هذا إذا كان الشك في الزيادة، وكذلك لو تيقن أنه سهى ولا يدري زاد أم نقص فإن كان الشك في النقصان مثل إن شك هل فعل الشيء أم لا؟ وهو القنوت والتشهد الأول سجد ههنا، لأن الأصل أنه لم يفعل، وكذلك لو تيقن السهو وشك هل سجد للسهو أم لا؟ سجد لأن الأصل أنه لم يجد، ولو شك هل سجد سجدتين أو سجدتين للسهو؟ وسجد أخرى، لأن الأصل أنه لم يسجد، ولا يسجد لهذا الشك، لأنه ربما يسهو ثانياً وثالثاً، فيؤدي إلى ما لا نهاية له. والأصل في كل هذا البناء على اليقين.

مسألة: قال: "وإن سها سهوين أو أكثر، فليس عليه إلا سجدة السهو". وهذا كما قال: لو تكرر سهوه وكثر سجد لها سجدتين قبل السلام سواء كان السهو جنساً واحداً مثل أن يتكلم ساهياً مراراً، أو كان أجناساً، ولا فرق بين ألا يكون كلها نقصاناً أو زيادة أو بعضها زيادة، وبعضها نقصاناً. وقال الأوزاعي: إن كانا جنساً واحداً كفاه سجدتان، وإن كانا جنسين احتاج كل سهو إلى سجدتين كالمحرم إذا لبى ثم لبس تداخلت الفدية، ولو لبس وتطيب لا تتداخل. وقال ابن أبي ليلى: لكل سهو سجدتان في آخر الصلاة، واحتج بما روى ثوبان دني الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، [152 أ / 2] قال: "لكل سهو سجدتان". وهذا غلط لما روي في حديث ذي اليدين "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سلم ناسياً، وتكلم ناسياً، واستدبر القبلة ناسياً، واقتصر على سجدتين". ولأن سجود السهو إنما أخر إلى آخر الصلاة عن محل السهو لتداخل أحكام السهو وإلا لكان يؤتى به عقيب كل سهو كسجود التلاوة، وأما خبرهم محمول على أنه أراد به لكل سهوٍ سجدتان زيادة كانت أو نقصاناً، أو قولاً فعلاً أو أراد به إذا انفرد. مسألة: قال: "وما سها عنه من تكبير سوى تكبيرة الافتتاح أو ذكر فيٍ ركوعٍ أو سجود ٍأو جهرٍ فيما يسر". الفصل وهذا كما قال: السهو الذي يقتضي الجبران ضربان: نقصان القول وهو ترك التشهد الأول دون الجلوس، وترك القنوت دون القيام، وترك الصلاة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأول، ونقصان الفعل: وهو ترك الجلوس للتشهد الأول، والقيام للقنوت في الصبح والوتر في النصف الأخير من شهر رمضان. وقال في "القديم": "من نسي الفاتحة، لا تبطل صلاته ويسجد للسهو"، وهو غير صحيح. وأما الزيادة، فضربان: قول وفعل. فالقول: أن يسلم ساهياً، أو يتكلم، أو يقرأ القرآن في غير محل القراءة. والزيادة ضربان: زيادة متحققة ومتوهمة، فالمتحققة الزيادة في الركوع والسجود ونحو ذلك. والمتوهمة: ما ذكرنا. وقال في "الأم": "لو رفع رأسه من الركوع واعتدل قائماً، فأطال القيام أو قصر فقرأ القرآن كان سجود السهو، لأن القراءة من غير الصلاة في غير هذا الموضع، وهذا

الموضع، موضع ذكر غير القراءة". وقال: وكذلك لو أطال القيام ينوي به القنوت كان عليه سجود السهو، لأن القنوت عمل معدود من عمل الصلاة، فإذا عمله في غير موضعه أوجب سجدتي السهو. وقوله: (عمل معدود)، ومعناه معتد، مقصود، وعلى هذا يجب إذا قرأ في موضع التشهد أو تشهد في موضع القراءة أو فعل ذلك في الركوع والسجود أن يسجد سجدتي السهو، لأن علة الشافعي تقتضيه، [152 ب / 2] ولا فرق بين الاثنين. وقال صاحب "الإفصاح": "يحتمل أن يفرق بينهما"، وذكر شيئاً لا يتبين ويخالف أيضاً تعليل الشافعي. وأما قول الشافعي: "ولا سجود إلا في عمل البدن"، قد قيل: فيه خلل من المزني، لأن سجود السهو يجب في غير عمل البدن على ما ذكرنا، وإنما قال الشافعي: "فلا سجود في التفكر، وإنما السجود في العمل"، يعني: إذا انضم العمل إلى التفكر يجب السجود، ولا سجود بمجرد التفكر، وإنما ذكره عقيب مسألة، وهي أنه لو قعد للتشهد فظن أنها الركعة الرابعة، ثم تذكر أنها الثانية، فأتم صلاته، فلا يلزمه سجود السهو لأنه فكر، وقيل: أراد به سجود السهو في عامة الصلاة ليس إلا في عمل البدن، ولكنه يجوز أن تجب في غيره أحياناً. وقيل: معناه إلا في عمل البدن أو ذكر، قصد له العمل، فالتشهد الأول والقنوت مقصودان، ولا يفعل لغيرهما على وجه الهيئة له، أو التبع. وهذا شرع لهما محل مختص بهما يسقط بسقوطهما بخلاف دعاء الافتتاح، فإنه يراد للافتتاح، وقراءة السورة تبع للفاتحة في محلها، والتكبيرات هيئات للرفع، والخفض والتسبيحات هيئات للركوع والسجود تسقط بسقوط محلها، فلا سجود لها لهذا المعنى. وقال القاضي الطبري: خبر الباب عندي أن السهو الذي يقتضي السجود ضربان: نقصان وزيادة، فالنقصان: بترك كل مسنون مقصود في نفسه، ومعناه أن محله قدر به، وهو التشهد الأول ونحوه، والزيادة: ضربان متحققة ومتوهمة، فالمتوهمة ما ذكرنا، والمتحققة ضربان: ضرب من غير جنس الصلاة ككلام الآدميين، وضرب من جنس الصلاة كالقيام في موضع القعود والسلام ونحو ذلك. وقد قال الشافعي: "لو نوى المسافر القصر، ثم نسي وأتتها أربعاً سجد سجدتي السهو"، وهذا قيام في موضع السلام، هذا هو المذهب الصحيح [153 أ / 2] في "الجديد". وقال أبو إسحق: قال في "القديم": "يسجد لكل مسنون تركه في الصلاة، وهكذا إذا أسر فيما يجهر به، أو جهر فيما يسر به"، وهذا قول مالك حتى يقول: "لو ترك سمع الله لمن حمده عند الرفع من الركوع سجد فيه"، هذا قول مرجوع عنه.

وقد روى أبو قتادة أن أنساً رضي الله عنه "جهر في العصر، فلم يسجد"، ولأنه هيئة مسنونة، فلا يسجد لتركها كرفع اليدين. وعن أحمد: إذا بدل الجهر بالإسرار، روايتان: هل يسجد أم لا؟. وقال الأوزاعي: "إذا ترك التكبيرات المسنونة أتى بها إذا ذكرها"، وهذا غلط، لأن هذا ذكر مسنون، فلا يقضى بعد فوات محله كدعاء الاستفتاح. وقال أبو حنيفة: "لا سجود في تكبيرات الانتقالات ولا في التسبيحات، ولكن يلزم في تكبيرات العيد، وترك قراءة السورة، أو تبديل الجهر بالإسرار"، واحتج بأن تكبيرات العيد ذكر كثير في محل واحد فأشبه التشهد الأول، وهذا غلط، لأنها تكبيرات مسنونة، فلا يسجد لتركها كتكبير الركوع والسجود، وما ذكره يبطل بدعاء الاستفتاح. وقال ابن أبي ليلى: إذا بدل الجهر بالإسرار بطلت صلاته"، وهذا غلط لما روى أبو قتادة، قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسمعنا أحياناً الآية والآيتين في صلاة الظهر والعصر"، ولأنه أخل بصفة في ذكر، فلا تبطل صلاته كما لو غير الجلوس في التشهد. وقيل: الصلاة تشتمل على أركان ومسنونات وهيئات، فالأركان والهيئات لا تجبر فعلاً كان أو قولاً، وإنما تجبر المسنونات المقصودة وتفصيلها معلوم على ما ذكرنا. ونظيره الحج يشتمل على أركان: كالإحرام والطواف وهيئات كالرمل والاضطباع، ومسنونات: كالمبيت بمزدلفة، والرمي والمبيت بمنا. فالأركان والهيئات لا تجبر بالدم بخلاف المسنونات كذلك ههنا. فرع قال القفال: "لو سجد سجدة، [153 ب / 2] ثم تشهد على ظن أنه سجد سجدتين، ثم تذكر فسجد الثانية، فلا سجود عليه للهو بخلاف من قعد بين الركوع والسجود، فتشهد لأنه لم يزد على دعاء وما بين السجدتين محل الدعاء، فتطويله بالتشهد، أو دعاء غيره لا يضره". وقيل: السجدتان ليس محل القعود ولا الدعاء بحال، ويحتمل الخلاف هذا على قياس ما تقدم. فَرْعٌ آخرُ قال بعض أصحابنا بخراسان: لو شك بعد الفراغ من الصلاة أنه صلى ثلاثاً أو أربعاً، فيه وجهان: أحدهما: لا يكون شيئاً وتمت صلاته ولم يقل أهل العراق غير هذا، لأن الظاهر أنه أداها على التمام، ولو اعتبرنا حكم الشك بعدها شق ذلك وضاق. والثاني: يتم الباقي فكأنه سلم ناسياً، فيقوم ويصلي ركعة أخرى، وإن تباعد الوقت

استأنف، وهذا غريب. ورأيت عن بعض أصحابنا أنه إن كان الوقت قريباً بنى على اليقين، وإن كان بعيداً لا يضره، ولهذا وجه. فَرْعٌ آخرُ قال بعض أصحابنا: لو أطال القيام بعد الركوع نظر، فإن أطاله للقنوت، بطلت صلاته ذكره القفال، لأنه لا قنوت في هذه الصلاة، وكذلك لو أطاله بذكر مشروع ونوى به القنوت، ولو أطاله بذكر مشروع، ولم ينو به القنوت لا تبطل صلاته. وفيه معنيان: أحدهما: لأنه نقل ذكراً مشروعاً من ركن إلى ركن. والثاني: لأنه ما ركناً مقصوراً. وفائدة المعنيين يتبين في مسألة، وهي إذا تشهد قائماً، وقرأ قاعداً، فإن قلنا بالمعنى الأول يسجد، وإن قلنا بالمعنى الثاني لا يسجد، لأن القعود ممدود، وكذلك القيام، وعلى هذا لو تشهد قائماً متعمداً أو قرأ قاعداً متعمداً، فإن قلنا: إذا فعله ناسياً يجد، فإذا فعله عامداً بطلت صلاته، وإن قلنا: لا يسجد لا تبطل صلاته، وفي هذا كله نظر. مسألة: قال: "وإن ذكر سجدتي السهو بعد أن سلم [154 أ / 2] قريباً أعادهما وسلم". الفصل وهذا كما قال أولاً: نذكر مسألة قبل هذه المسألة، ثم نعود إليه، وهي أن سجود السهو مسنون غير واجب، وقال الكرخي: عن أبي حنيفة: "إنه واجب ليس بشرط في صحة الصلاة لجبران الحج". وبه قال مالك في رواية، وقال ني رواية أخرى: هو واجب لو تركه بطلت صلاته، وبه قال داود، وروى أصحاب مالك عه أنه في النقصان واجب، وهذا غلط لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في خبر أبي سعيد الخدري، فإن كانت الصلاة تامة كانت الركعة والسجدتان نافلة؛ ولأن هذا يفعل بدلاً عما ليس بواجب لتكملة الصلاة، فلا يكون واجباً. وأما في الحج: يجب الجبران بترك فعل واجب، فكان واجباً بخلاف هذا، فإذا تقرر هذا موضع سجود السهو، والقولين فإن قلنا: موضعه قبل السلام نظر، فإن أتى به في موضعه، فلا كلام، وإن تركه ساهياً، ثم ذكره بعد السلام نظر، فإن لم يبطل الفصل أتى به قولا واحداً، وإن طال الفصل فيه قولان: قال في "الجديد": "لا يعيد"، وبه قال أبو حنيفة ومالك، لأنه يبني على الفصل، فإذا تطاول الفصل منع من البناء عليها، كما لو ترك من الركعة الأخيرة سجدة، ثم

ذكرها، وقد طال الفصل، لا يبني. وقال في "القديم": "يعيد". وبه قال الأوزاعي، لأنه جبران للعبادة، فلا يسقط بتطاول الفصل لجبران الحج. وقال أبو حنيفة: "إن تكلم بعد الصلاة سقط عنه السجود بناء على أصله أن كلام الناسي يبطل الصلاة ". وحكي عن مالك أنه قال: "إن كان لزيادة أتى بهما، ولو بعد شهر، وإن كان لنقصان، فإن ذكر قريباً أتى بهما، وإن تطاول أعاد الصلاة". وقال ابن شبرمة: "إذا خرج من المسجد أعاد الصلاة"، وقال الحسن وابن سيرين: "إذا صرف وجهه عن القبلة لم يسجد"، وبه قال ابن أبي أحمد في "التلخيص". وهذا غلط لما روي في خبر ابن مسعود [154 ب / 2] رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - "صلى الظهر خمساً، ثم أقبل عليه بوجهه قيل له: أحدث في الصلاة شيء، فذكر فثنى رجله، واستقبل القبلة، وسجد بهم سجدتين". وفي حد الطول والقرب، قال في "القديم ": "ما لم يقم عن مجلسه". وقال في "الجديد": "المرجع فيه إلى العرف والعبادة" ذكره أبو حامد. ونص في "البويطي" "أنه قدر ركعة تامة"، فحصل ثلاثة أقوال، والأصح قوله "الجديد"، وما ذكره في "البويطي" قريب منه، وهذا لأن ما لا حد له في اللغة، ولا في الشريعة يرجع فيه إلى العرف والعادة. وقيل: حد التطاول أن يمضي مقدار تلك الصلاة، وهذا غلط، لأنها تختلف باختلاف الناس تطويلاً وتخفيفاً، وكل موضع. قلنا: أنه بعد السلام يأتي به عقيب السلام، فإن لم يفعل، ثم ذكره، فإن لم يطل الفصل أتى به، وإن طال، فقولان كما ذكرنا، وكل موضع قلنا: يسجد بعد السلام يأتي به. سجد وتشهد بعدها ثم سلم، نقله المزني لفظاً، ونص عليه في "القديم". وهو مذكور في بعض نسخ المزني بعد هذا. قال: سمعت الشافعي يقول: "إذا كانت سجدتا السهو بعد السلام تشهد لهما، وإن كانتا قبل السلام كفاه التشهد الأول، وكل موضع. قلنا: يسجد قبل السلام نظر، فإن فعل قبل السلام سلم عقيبها، ولا يتشهد". ومن أصحابنا من قال: "يتشهد ويسلم". حكاه القاضي الطبري، وهو ضعيفه، ولو أخر ذلك إلى ما بعد السلام ناسياً، اختلف أصحابنا فيه، فقال صاحب "التلخيص": "يتشهد ويسلم"، وتعلق بظاهر كلام الشافعي الذي نقله المزني من السماع. وقال في "الحاوي": "هذا مذهب الشافعي وجماعة أصحابنا"، لأن من حكم

سجود السهو أن يكون تشهد وسلام، فإذا فعله بعد السلام يلزمه وصله به. [155 أ / 2] وروى عمران بن الحصين رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "سجد سجدتين، ثم تشهد بعد ذلك وسلم". وقال أبو إسحق وصاحب "الإفصاح": "يسجد سجدتين ويسلم ولا يتشهد"، وهذا هو المذهب الصحيح، لأن الشافعي قال: "وإن ذكر سجدتي السهو بعد أن سلم قريباً أعادهما، ولم يذكر التشهد، وهذا لأن السجود تركه من الصلاة، فلا يلزمه أن يعيل ما قبله، بل يأتي به فقط كما لو نسي شيئاً من صلب صلاته. قال هذا القائل، وما قاله المزني تفريع على مذهب الغير، إما أبي حنيفة، وإما مالك أو تفريع على قوله "القديم". ومن أصحابنا من قال: هذا الذي ذكره المزني قول الشافعي، أنه يتخير في سجود السهو بين ما قبل السلام وبعده في الزيادة والنقصان بخلاف قول مالك، حكاه الإمام أبو محمد الجويني رحمه الله. وقال القفال: هذا مبني على أنه إذا اشتغل بالسجدتين إلى أن سلم مرة أخرى، هل هو عائد إلى حكم الصلاة أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون سلامه لغواً وهو في الصلاة لا على معنى العود، ولكن جعل سلامه كأن لم يكن حتى لو أحدث بطلت صلاته، فعلى هذا لا يعيد التشهد ولا يكبر. وهذا اختيار الشيخ أبي زيد. والثاني: لا يلغي اللام، بل هذا منفرد عن صلاته، فلو أحدث بطل حكم السجدتين، ولا تبطل الصلاة، فعلى هذا لا بد من التشهد بعدهما. ولو سلم عامداً. قال بعض أصحابنا: حكمه كما لو سلم ساهياً. وعندي إذا سلم عامداً لا يمكن أن يلفي سلامه، فيكون خارجاً من الصلاة، ثم هل يأتي بسجود السهو على ما ذكرنا فإذا قلنا: يأتي به لا بد من التشهد، ولا يصير عائداً إلى حكم الصلاة حتى يبطل بالحدث، وقيل: فائدة هذا الاختلاف في خمس مسائل: إحداها: إذا خرج وقت صلاة الجمعة، وهو في سجود السهو بعد السلام، هل يتمها ظهراً أم صحت الجمعة؟. والثانية: في المسافر إذا نوى الإقامة فيها. والثالثة: إذا أحدث فيها مع ما ذكرنا والرابعة: إذا لم يكن سلم المأموم هل على المأموم أن يتابعه. والخامسة: إذا سلم المأموم مع الإمام ثم عاد الإمام هل على المأموم أن يعود حتى إذا لم يعد تبطل صلاته. فرع: إذا قلنا يسجد من الزيادة بعد السلام فسهى سهوين زيادة ونقصاناً سجد قبل السلام، لأنه يجوز بالاتفاق، فإنه من قال يسجد بعد السلام، قال: لو سجد قبله يحتسب به وبعد السلام مختلف فيه.

مسألة: قال: "ومن سها خلف إمامه فلا سجود عليه". وهذا كما قال. إذا سها المأموم وحده تحمله عنه الإمام، وكان وجود سهوه وعدمه سواء، وصور الشافعي السهو خلف الإمام في مسألة حسنة ذكرها في "البويطي"، وهي أن الرجل إذا أدرك الإمام في الركعة الثانية من الصبح فصلاها معه وقعد معه التشهد فسمع صوتا ظنه تسليم الإمام فقام لقضاء ما عليهء فصلاها وقعد للتشهد فإذا الإمام الآن يسلم من صلاته فإنه يقوم ويصلي تلك الركعة مرة أخرى، وليس عليه بهذا السجود سجود؛ لأنه سها خلف إمامه. وقال مكحول: لا يتحمل عن المأموم السهو. وحكي عنه أنه قام في قعود الإمام فسجد سجدتي السهو، وهذا غلط لما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على من خلف الإمام سهو، الإمام عافيه، فإن سها الإمام فعليه وعلى من خلفه، ومن سها خلف الإمام فلا سهو عليه". وكذا روى عن عمر- رضي الله عنه - ولأنه كما يتحمل عن المأموم بعض مسنونات الصلاة من التشهد الأول وقراءة السورة ونحو ذلك كذلك سجود السهو: لأن في خبر معاوية بن الحكم: سها خلف إمامه ولم يأمره بسجود السهو، وإن سها الإمام يلزمه سهو إمامه؛ لأن على المأموم متابعة إمامه فيما يلزمه من مسنونات الصلاة، كما قلنا أنه يتابع إمامه في التشهد وان لم يكن موضع تشهده، وهذا لأن نقصان صلاة الإمام نقصان صلاته في الحقيقة، وإن سهوا معا فهو كما لو أنفرد الإمام. مسألة: قال: "فإن لم يسجد إماماً سجد من خلفه". وهذا كما قال: إذا جاء وقت سجود الإمام بعد التشهد وقبل السلام لم يخل من أحد الأمرين، إما أن يسجد للسهو أو لا يجد، فإن سجد تبعه المأموم، وإن ترك السجود عامداً أو ساهياً فالمذهب المنصوص أن المأموم يسجد ولا يتركه. وبه قال مالك، والأوزاعي، والليث وأحمد في رواية. وقال أبو حنيفة: "لا يسجد" وبه قال النخعي، وحماد، والمزني، وابن الوكيل، واحتجوا بأنها سنة فتسقط عنه إذا تركها الإمام كالتشهد الأول؛ لأن المأموم ما سها وإنما سهى الإمام ويسجد هو للمتابعة، فإذا لم يسجد هو فلا متابعة. وهذا غلط؛ لأن صلاة المأموم تنتقص بنقصان صلاة الإمام، كما تكمل بكمالها، فإذا لم يجبوها الإمام جبرها المأموم. وأما ما ذكره لا يصح؛ لأن هناك يفارق إمامه فلا يأتي به لأنه يؤدي إلى ترك متابعته في حال إمامته وههنا فارق إمامه حين سلم فلهذا يسجد لنفسه. مسألة: قال: "وإن كان قد سبقه إمامه ببعض صلاته سجدهما بعد القضاء".

الفصل وهذا كما قال. جملة هذا أن الإمام إذا سها وكان خلفه مأموم مسبوق بركعة أو أكثرها، فإن الإمام يسجد قبل سلامه ويتابعه المأموم المسبوق بلا خلاف. وحكي عن ابن سيرين أنه قال: "لا يتابعه" لأنه ليس هذا موضع سجود السهو من حق المأموم وذكر بعض أصحابنا بخراسان أنه قول بعض أصحابنا، وليس بشيء. والدليل على ما ذكرنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فإذا سجد فاسجدوا". [155 ب / 2] ولأن المأموم يتابع الإمام فيما لا يعتد به إذا أدركه رافعاً من ركوعه. فكذلك ههنا يتابعه، وإن لم يجد إمامه عمداً أو سهواً، أو كان فيمن يرى سجود السهو بعد السلام، فسلم، فالمأموم لا يسجد في هذا الموضع، ولكنه يقوم ويصلي ما بقي عليه، ثم يسجد في آخر صلاته قولا واحداً. وعند أبي حنيفة: يتابعه في السجود، ولا يتابعه في السلام، لأن عنده يعود إلى حكم صلاته بعد السلام إذا سجد معه، وقام لقضاء ما عليه فقضاه هل يسجد للسهو مرة أخرى؟ فيه قولان: أحدهما: قاله في "الأم"، ونقله المزني: يسجد ولا يعتد بما فعله مع إمامه، لأن صلاته نقصت بنقصان صلاته، والذي سجد معه في غير موضعه لإتباع الإمام، فيلزمه أن يسجد في محل السجود جبراناً للنقص. والثاني: قاله في "القديم" و"الإملاء": "لا يسجد"، لأن بسجود الإمام كملت الصلاة في حق الإمام وحق المأمومء فلا حاجة به إلى السجود ثانياً، والأول أصح. فرع هذه المسألة أنه إذا قام لقضاء ما عليه فسها فيه حصل له سهوان: سهو نفسه، وسهو الإمام، فإذا قلنا: لا يعيد يسجد ههنا سجدتين فقط لسهو نفسه، وإذا قلنا: يعيد فههنا وجهان: أحدهما: يكفيه سجدتان، وهو المذهب، نص عليه في "القديم". والثاني: يحتاج إلى أربع سجدات، لأنهما سهوان مختلفان، فلم يتداخل حكمهما، وهذا غلط، لأنه لو تكلم ناسياً وترك التشهد الأول يكفيه سجدتان، وإن اختلف السبب كذلك ههنا. وقيل فيما نقله المزني في هذا الموضع خلل، وذلك أنه قال: "وإن كان سبقه إمامه ببعض صلاته سجدهما بعد القضاء إتباعاً لإمامه، لا لما يبقى من صلاته، وهذه العلة إنما ذكرها الشافعي في مسألة أخرى، وهي أنه لو سها في باقي الصلاة بعدما سجد مع الإمام سجد في آخر صلاته، لأن سجوده كان إتباعاً لإمامه لا لما يبقى من صلاته [156 أ / 2]، وهذا لا يليق بتلك المسألة التي أوردها المزني، ولو سها الإمام فيما سبق به المأموم بأن صلى ركعة من الظهر وسها فيها، ثم كبر هو ودخل معه

هل يتعلق به حكم ذلك السهو السابق؟ المنصوص في صلاة الخوف أنه يتعلق به ذلك. وبه قال مالك، ومن أصحابنا من قال: "لا يتعلق به حكمه، لأنه فيما يقضى لا يتحمله الإمام، فكذلك فيما انفرد به الإمام لا يلزمه حكمه"، وهذا غلط، لأنه يكمل صلاته بتلك الركعة وتنتقص بنقصاتها فهو كما لو سها فيما لحقه فيه، ويخالف إذا انفرد المأموم لأنه لا يجبره الإمام بعد مفارقته، فلزمه حكمه، فإذا قلنا: لا يتعلق به، فإن سجد إمامه سجد معه متابعاً، وإن لم يجد إمامه لا يجد هو أصلاً، وإذا قلنا: يتعلق به فالحكم كما ذكرنا في المسألة الأولى. فَرْعٌ آخرُ هذه المسألة أنه إذا أحرم بالظهر وحده وصلى ركعة ثم جاء إمام فأحرم بها مع توم فنقل صلاته إليه حتى يصلي معه القوم جماعة، هل يجوز ذلك؟ قولان. فإذا قلنا: يجوز، كان أول صلاته انفراداً، وآخرها جماعة. ولكن المأموم يفرغ من صلاته قبل فراغ الإمام، فإذا صلى الإمام ثلاثاً، وقام في الرابعة نوى مفارقته وتشها لنفسه، فإن كان قد سها إمامه، فيما أدرك معه سجد هو، ثم سلم، وإن كان قد سها هو فيما انفرد به قبل الجماعة سجد أيضاً، وإن كان قد سها هو عند الانفراد وسها إمامه حصل سهوان إن من جنسين لم يسجد، وجهان على ما ذكرنا، وإن حمل له انفراد في طرفي الصلاة، وجماعة في الوسط، كأنه صلى وحده ركعة من الظهر، ثم أحرم مسافر بقوم، فبنقلها إلى صلاته وصلى معه، ثم سلم وبقي عليه، فقام لقضاء ما عليه، واجتمع السهو في هذه الأحوال الثلاث، سهوان منه وسهو من الإمام، فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يسجد ست مجدات. والثاني: أربع سجدات، لأنهما جنسان انفرد وجماعة. والثالث: وهو المذهب يكفيه سجدتان. والوجه الأول أضعف الوجوه، [156 ب / 2] ولا يصح لأن السهو من جنسين في الحقيقة مستحيل إلا من سجدات. فَرْعٌ آخرُ إذا أدرك مع إمامه آخر الصلاة صلى ما أدرك وقضى ما فاته، ولا سهو عليه، لأن الذي فعل مع إمامه، وإن كان زيادة في الصلاة، فهو فعل واجب، فلا يوجب السجود. وحكي عن ابن عمر وابن الزبير وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم، أنهم قالوا: يسجد للسهو، ثم يسلم، لأنه زاد في صلاته ما ليس منها. وهكذا ينبغي أن يختص بالمسبوق الذي تابع إمامه فيما لا يعتد به، وهذا غلط، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ما أدركتم فصلوا وما فاتكم، فامضوا". وروي: "فأتموا" أو لم يأمر بالسجود، ولأن هذه الزيادة كانت واجبة عليه، فلم

ينقصها فلا تحتاج إلى الجبران. فَرْعٌ آخرُ لو دخل وجل والإمام في السجدة الأولى، فأحرم ودخل معه في السجود، ثم أحدث الإمام، وبطلت صلاته وانصرف، ولم يستخلف، يقوم ولا يأتي بالسجدة الثانية. وقال ابن أبي هريرة: يسجد الثانية، ثم يقوم لأنها لزمته بحكم الاتباع، وهذا غلط، لأن ذلك إنما وجب للمتابعة، فإذا بطلت إمامته لم يتبعه فيها، ويخالف هذا سجود السهو يأتي به على طريق الاتباع ثم يأتي به منفرداً، وإن زالت إمامته، لأن سهو الإمام نقص صلاة المأموم، فإذا لم يأت به أتى به في آخر صلاته جبرانا لما لحق صلاته من النقصان، فإذا ثبت هذا، هل يجلس في الركعة الأولى مشتهدا فيأتي به على ترتيب صلاة الإمام أو يراعي ترتيب صلاة نفسه على هذين الوجهين؟، والصحيح أنه يراعي ترتيب صلاة نفسه، لأن الاتباع قد بطل ببطلان صلاته. فَرْعٌ آخرُ لو ترك التشهد الأول، أو القنوت عمداً، هل يسجد للجبران؟ قال الشافعي: "يسجد، لأنه إذا سجد للسهو، [157 أ / 2] فالعمد أولى به". ومن أصحابنا من قال: فيه قول آخر، فلا يسجد، وبه قال أبو حنيفة وأبو إسحق من أصحابنا لأنه يسمى سجود السهو، وهذا غلط، لأن الشافعي لم يذكر هذا القول في شيء من كتبه، وإنما يسمى سجود السهو، لأنه يفعل غالباً عند السهو، لأنه يقال: فدية الأذى، وإن تعلقت الفدية بالحلق لا بالأذى، فكذلك ههنا يتعلق بالسجود، وترك التشهد ولا يختص بالسهو. فَرْعٌ آخرُ لو سجد إحدى سجدتي السهو، ثم سلم، أو قام ساهياً لا نص للشافعي فيه. وقال عامة أصحابنا: لا حكم لهذا السهو فيأتي بالسجدة الثانية ويسلم، لأن سجود السهو في نفسه جبران، فلم يفتقر إلى جبران كصوم التمتع لم يفتقر إلى جبران في تأخيره بخلاف قضاء رمضان. ومن أصحابنا من قال: وهو قول قتادة: "يسجد لهذا السهو سجدتين"، ويكون حكمه حكم السهو في غيره فتكون السجدة الأولى من هاتين السجدتين نائبة عن السهو الأول والثاني. والسجدة الثانية نائبة عن السهو الثاني. فَرْعٌ آخرُ لو سها بعد فراغه من سجود السهو قبل سلامه فتكلم، أو قام. اختلف أصحابنا

فيه، فمنهم من قال: "يعيد سجدتي السهو"، وهو ظاهر هذا المذهب، لأن السجود لا يجبر ما يقع بعده من السهو، لأنه لو كان يجبر ذلك لما كان للتأخير إلى آخر الصلاة معنى، ولأن هذا السهو لم يقع في الجبران حتى يمنع جبرانه، بل وقع في نفس الصلاة، فكان بالساهي قبل سجوده أشبه بخلاف المسألة السابقة، وهذا اختيار ابن أبي أحمد، ومنهم من قال: "لا يعيد السجدتين"، لأنه إنما أخر عن موضعه إلى آخر الصلاة ليجمع السهو، فلو جاز أن يفرض فيه وبعده سهو يقتضي سجوداً لم يكن لتأخيره وجه ووجب الإتيان بالسجود لكل سهو عقيبه، أو كان السجود يؤخر عن السلام كما قال أبو حنيفة، ليجمع السهو كله، ولأنه لو سجد بعده لجاز أن يقع السهو بعد الثاني [157 ب / 2] والثالث، فيؤدي إلى ما لا نهاية له. وهذا اختيار القفال. وقال أبو عبد الله الحسن من أصحابنا: هذا قياس المذهب. فَرْعٌ آخرُ لو سجد ثلاث سجدات، قال صاحب "التلخيص": "لا يسجد سجدتي السهو"، ولعل حجته أن الجبران لا يقضي الجبران وعلى قول أصحابنا في هذا وجهان أيضاً. وحكي أن الكسائي قال لأبي يوسف: من تقدم في صناعته أمكنه أن يهتدي إلى سائر العلوم، فقال له: أنت إمام في النحو والأدب، فهل تهتدي إلى الفقه؟ فقال: سل ما شئت، فقال: إن سها في سجود السهو، هل يلزمه أن يسجد؟ قال: لا، لأن التصغير لا يصغر، فقال: هل يجوز الطلاق قبل النكاح؟ قال: لا، لأن السيل لا يسبق المطر، فناقضه بالوصية قبل المال فتوقف. فَرْعٌ آخرُ لو شك، هل سها أم لا؟ فجهل وسجد للسهو لزمه أن يسجد ثانياً للزيادة. فَرْعٌ آخرُ لو سها في صلاة الجمعة يسجد سجدتي السهو، ثم دخل وقت العصر قبل أن يسلم أتمها ظهراً ويعيد سجدتي السهو في آخر صلاته، لأن ما سجد في خلال صلاته لم يعتد به. فَرْعٌ آخرُ لو نوى المسافر القصر فيها في الركعتين وسجد للسهو، ثم نوى الإقامة أو الإتمام، أو بلغت السفينة البلدة قبل أن يسلم من الركعتين، فإنه يجعلها أربعاً، ويعيد سجدتي السهو. وقال صاحب "التلخيص": "لا يلزم أكثر من سجدتين عنا السهو إلا في مسائل"، وذكر نحو هذه المسائل. وفي الحقيقة لا يحتسب إلا سجدتان، والباقي لغو. فَرْعٌ آخرُ لو أحرم المسافر بصلاة الظهر فنسي فصلى أربع ركعات وسلم، ثم تذكر أنه نسي

من كل ركعة سجدة فصلاته صحيحة، وسقط عنه فرض الظهر، ولا تجزيء أحداً صلاة الظهر. أربه ركعاتٍ في كل ركعة سجدة إلا في هذه المسألة. فَرْعٌ آخرُ لو سها في صلاة المغرب فزاد ركعة يسجد للسهو وأجزأته صلاته. وقال قتادة والأوزاعي: "يضيف إليها أخرى، ويسجد للسهو، لأنه إن لم يضف إليها أخرى [158 أ / 2] صارت شفعاً، وهذا غلط لما روينا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "صلى الظهر خمساً ناسياً، فلما تذكر سجد للسهو"، ولم يضف إليها أخرى حتى تصير شفعاً، وهذا لأن ما فعله على وجه السهو لا يعتد به. فَرْعٌ آخرُ قال القاضي أبو علي البندنيجي: "لو دخل في صلاة، فلم يكملها حتى اعتقد أنه ما كبر تكبيرة الافتتاح مستأنفاً للصلاة، فإن ذكر أنه كان كبر الأولى نظر، فإن ذكر بعد أن فرغ من الثانية لم تفد صلاته الأولى، وتمت بالثانية، وان ذكر قبل أن يكمل الثانية عاد إلى الأولى، فأكملها وسجد في كل هذا للسهو"، نص عليه الشافعي رضي الله عنه. مسألة: قال: "وإن تكلم عامداً بطلت صلاته". وهذا كما قال: قد ذكرنا هذه المسألة، واستدل الشافعي في كلام السهو بحديث ذي اليدين، وقد ذكرنا، ثم أول خبرهم الذي يتدلون به، وهو خبر عبد الله بن مسعود وتمامه أن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: كنا نتكلم في الصلاة، ونسلم على النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيرد علينا، وهو في الصلاة قبل أن نخرج إلى أرض الحبشة، فلما قامت من أرض الحبشة وجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصلاة فلمت عليه، فلم يرد علي السلام، فأخذني ذلك، فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الصلاة علم ما داخلني، فقال: "إن الله تعالى يحدث من أمره ما يشاء، وإن ما أحدث إن لا تكلموا في الصلاة"، وهذا كله بمكة، وخبرنا كان بالمدينة، فيحمل خبرهم على العمد، ولم ينسخ أحدهما بالآخر. مسألة: قال: "وروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى نغاشا فسجد شكراً لله". وهذا كما قال: سجود الشكر مسنون، وهو إذا حدث ما يشكر الله عليه مثل ابتداء النعمة من المال والجاه والولد والنصرة على الأعداء ودفع بلية مثل النجاة [158 ب / 2] من الغرق والحرق والعدو والسبع. وبه قال الليث وأحمد. وقال الطحاوي وأبو حنيفة: "لا نرى سجود الشكر شيئاً"، وروى محمد عن أبي حنيفة: أنه كان يكرهه، في به قال مالك، وقال محمد: "لا يكره". واحتج الشافعي بالخبر الذي ذكره. والنغاش: الناقص الخلق. وقيل: إنه المبتلى.

وروى ابن عمر رضي الله عنهما "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر برجل به زمانة، فنزل وسجد شكراً لله". وروى جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان إذا قام من النوم سجد، وإذا رأى القرد سجد، وإذا رأى رجلاً متغير الخلق سجد". وروى أبو بكرة رضي الله عنه أن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - "أتاه ظفر جند ورأسه في حجر عائشة رضي الله عنها، فرفع رأسه فسجد". وقال المغيرة بن شعبة: "رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً قصيراً بينا في قصره، فسجد لله تعالى شكراً". وروى أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان إذا أتاه أمر يسره خر ساجداً لله تعالى". وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه لما بلغه فتح اليمامة وقتل مسيلمة الكذاب المدعي النبوة فيما بين المرتدين سجد شكراً لله تعالى". وروي عن علي رضي الله عنه "أنه سجد شكراً حين وجد ذو الثدية مقتولاً" وحكمها حكم سجود التلاوة إلا أنه لا يسجد في الصلاة، ثم إذا أراد أن يعبه للشكر، فإن كان للنعمة أظهرها، وان كان لنقص رآه بالغير، فإن كان نقصا هو فيه غير معذور كالكفر والفسق أظهره ليرتاع العامي بذلك، ويأنف مما هو فيه، وإن كان نقصاً هو فيه معذور كالزمانة أخفى ذلك لئلا يدخل الحزن على قلب أخيه المؤمن، وربما يسخط عليه ويخاصمه إذا رآه يفعل ذلك. ثم قال الشافعي: "ويسجد الراكب إيماءً، والماشي على الأرض"، وأراد: والماشي يسجد للشكر على الأرض، فكأنه لم يجز للماشي النجود بالإيماء كما جوز للراكب، وهذا دليل على أن صلاة النفل لا تجوز للمقيم بالإيماء، وإن كانت تجوز قاعداً، [159 أ / 2] وهو أحد وجهي أصحابنا. ومن جوز ذلك حمل كلام الشافعي على الاستحباب. فرع قال والدي الإمام رحمه الله: إذا أراد القنوت في غير صلاة الصبح لوقوع النازلة فنسي القنوت، هل يسجد للهو؟ يحتمل وجهين: أحدهما: يسجد لأنها صلاة استحب القنوت فيها كالصبح.

باب

والثاني: لا يسجد، والفرق أن القنوت في الصبح مستحب في حال الاختيار، فاستحب الجود بتركه فيها بخلاف سائر الصلوات، وهذا أظهر. فَرْعٌ آخرُ إذا كلم في صلاته كلاماً لم يسمعه لعارض كالصياح العظيم، وكان يسمعه لو لم يكن ذلك العارض، هل تبطل صلاته. قال والدي: فيه وجهان: أحدهما: لا تبطل لفقد السماع. والثاني: تبطل، وهو الأظهر لوجود إمكان السماع، وأصل هذا إذا قرأ الفاتحة في صلاته، ولم يسمعها للعارض الذي ذكرناه، هل يسقط عنه فرض القراءة؟ وجهان، والأظهر سقوطها، وهكذا الحكم لو كان العارض الصمم. باب أقل ما يجزئ من عمل الصلاة مسألة: قال: "وأقل ما يجزئ من عمل الصلاة أن يحرم ويبدأ بأم القرآن". الفصل وهذا كما قال: القصد به بيان جواز الاقتصار على الصلاة على الأركان، وذكر الإحرام، ولم يذكر النية، لأن الإحرام إذا عري عن النية لم يكن إحراماً، وقد قيل: ذكر النية، لأنه لا يكون الإحرام إلا بالنية، وقيل: إنما لم يذكر النية، لأنه أراد أعمال الصلاة التي تفعل بجوارح البدن، لا جارحة القلب، لأنه قال: "من عمل الصلاة". وجملته: أن الصلاة تشتمل على أركان، ومسنونات، وهيئات، وتفتقر إلى شرائط تتقدمها، وكل وكن شرط، وليس كل شرط ركناً. والأركان ما اشتملت عليه، والشرائط ما تقدم عليها. والشرائط ست: الطهارة من الحدث، وطهارة البدن من النجس، [159 ب / 2] وطهارة الثوب، وطهارة المكان، وستر العورة، واستقبال القبلة. وقيل: ثمان، فذكر دخول الوقت، والنية معها، وقيل: خمس، الطهارة من الحدث، والنجس بالماء الطاهر، وستر العورة بالثوب الطاهر، وستر العورة بالثوب الطاهر، والوقوف على بقعة طاهرة، واستقبال القبلة، والعلم بدخول الوقت قطعاً أو استدلالاً يغلب على الظن دخوله في صلاة الفرض، وهذا أحسن عندي، وغلط من قال: النية من شرائطها، لأن الصلاة تشتمل عليها لمقارنتها التكبير. وقيل: استقبال القبلة ركنها، وهو غلط أيضاً. وأما أركانها: فأربعة قبل الركوع، التكبير، والنية، والقراءة. وأربعة قبل السجود: الركوع، والطمأنينة فيه، والاعتدال، والطمأنينة فيه. وأربعة قبل السجود الثاني:

السجود والطمأنينة فيه، والجلوس والطمأنينة فيه، وركنان بعد هذا السجود والطمأنينة، فذاك أربعة عشر ركناً في أول ركعة من الصلاة، وفي كل ركعة بعد الأولى اثنا عشر ركناً، لأنه لا افتتاح فيه، ولا نية وبعد آخر ركعة في كل صلاة أربعة أركان: الجلوس والتشهد والصلاة على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والتسليمة الأولى. ومن أصحابنا من قال: خمسة وضم إليها نية الخروج من الصلاة، فإذا أردت أن تعرف أركان الصلاة، فاجعل لكل ركعة منها اثني عشر ركناً، وزد على ذلك ستة أركان: ركنان تنفرد بهما الركعة الأولى وأربعة بعد آخر الركعة، أو زد سبعة إذا قلنا: نية الخروج من الصلاة واجبة، فالظهر والعصر والعشاء كل واحدة أربع ركعات في كل ركعة اثنا عشر ركناً، تكون ثمانية وأربعين وستة بعدها تصير أربعة وخمسين أو خمسة وخمسين على قول بعض أصحابنا [160 أ / 2]. وفي المغرب اثنان وأربعون ركناً. وفي الصبح ثلاثون ركناً هذا إذا جعلت الطمأنينة ركناً مفرداً. وظاهر قول الشافعي: إن الطمأنينة صفة من صفات الركوع والسجود والجلوس، فنقول على هذا، وهو الأصح في أول الركعة تسعة أركان: أربعة قبل الركوع، والركوع مطمئناً، والاعتدال عنه مطمئناً، والجلوس مطمئناً، والسجود الثاني مطمئناً، وفي كل ركعة بعدها سبعة أركان وأربعة أركان في آخر الصلاة، ففي الصبح عشرون ركناً، وعلى هذا الحساب، فإن أردت أن تحصر أركان الصلاة من غير تفصيل. قلت: أجناسها أحد عشر ركناً: التكبير، والنية، والقيام، والقراءة، والركوع، والسجود، والجلوس بين السجدتين، والتشهد، والطمأنينة في أربعة أركان والتشهد والصلاة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - والسلام. وقيل: أربعة عشر، وزاد هذا القائل: نية الخروج من الصلاة، وترتيب أفعالها على ما ذكرناه، والاعتدال من الركوع، والجلوس بين الجدتين، والجلوس للتشهد عدهما اثنين، وجعل الطمأنينة صفة في الأركان، ولم يعدها في هذه الجملة. قال صاحب "التلخيص": "الأركان أربعة عشر"، وعد الاستقبال فيها دون الطهارة والستر، لأن الطهارة تسبق الصلاة، وستر العورة لا يختص بالصلاة، والصحيح ما تقدم. وأما المسنونات: فهو كل ما لو تركه عمداً أو سهواً سجد للسهو لأجله، وهو التشهد الأول والجلوس له، والقنوت في الصبح والوتر، والصلاة على الرسول - صلى الله عليه وسلم - في التشهد الأول على أحد القولين، ولم يذكر أصعابنا القيام للقنوت، وهو من المسنونات حتى لو ترك القيام في القنوت في الصبح، ولم يترك القنوت سجد للسهو، فهو خمسة، وأصحابنا يسمونها أبعاض الصلاة. وأما الهيئات: فكل ما تركه لا يجبر بالسجود، وهو كثير رفع اليدين في ثلاثة مواضع ودعاء الافتتاح، والتعوذ، والجهر، والتأمين، [160 ب / 2] وقراءة السورة، ووضع اليمنى على الشمال، وتكبيرات الانتقالات، ووضع اليدين على الركبتين في

الركوع، والتسبيحات في الركوع والسجود، والتسميع والذكر بعده وجعل اليدين حذو المنكبين في حال السجود، وجلسة الاستراحة، ووضع اليدين على الفخذين عند الجلوس، والصلاة على الآل، والتسليمة الثانية. وخلط أبو العباس ابن سريج السنة بالهيئات، وربما قال: ثمان رفع اليدين في ثلاثة مواضع ودعا، الاستفتاح، والتعوذ، ورفع اليمين على الشمال فيها، والتأمين، وقراءة السورة، وتكبيرات الانتقالات، والتسبيحات في الركوع والسجود، وما عداها فهيئات. وقيل: السنن خمس وثلاثون: رفع اليدين في تكبيرة الإحرام، والركوع، والرفع من الركوع، ووضع اليمنى على الشمال، والنظر إلى موضع السجود، ودعاء الاستفتاح، والتأمين، وقراءة السورة، والجهر، والإسرار، والتكبيرات سوى تكبير الإحرام، والتسميع، والتحميد، والتسبيح في الركوع، والتسبيح في السجود، ووضع إليه على الركبة في الركوع، ومد الظهر والعنق فيه، والبداية بالركبة، ثم باليد في السجود، ووضع الأنف في السجود، ومجافاة المرفق عن الجنب في الركوع والسجود، وإقلال البطن عن الفخذين في السجود، والدعاء في الجلوس بين السجدتين، وجلسة الاستراحة، ووضح اليد على الأرض عند القيام، والتورك في آخر الصلاة، والافتراش في سائر الجلسات، ورفع اليد اليمنى على الفخذ اليمنى مقبوضة، والإشارة بالمسبحة، ووضع اليد اليسرى على الفخذ اليسرى مبسوطة، والتشهد الأول، والصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه، والصلاة على آله في التشهد الأخير، والدعاء في آخر الصلاة، والقنوت في الصبح، والتسليمة الثانية، والسلام على الحافرين، والسلام على الحفظة. وأبو حنيفة يوافقنا في بعض هذه الأشياء ويخالفنا في أكثرها، فيجوز عنده في الطهارة ترك النية والترتيب، والاقتصار على غسل ربع اللحيةء والتوضؤ بالنبيذ، وفي الستر يجوز أن ينكشف من العورة الغليظة قدر درهم [161 أ / 2]، ومن العورة الخفيفة دون ربع العضو، ويجوز أن يكون على ثوبه قدر درهم من النجاسة، وفي التكبير يقتصر على قوله: الله، أو يقول بالفارسية: خذا، ويقتصر في القراءة على آية، أو يفسر قوله، ثم نظر بالفارسية، ويقول: (لس ينكرست)، ويركع حتى يكون إلى الركوع أقرب، ولا يطمئن، ولا يرفع رأسه، بل يخر ساجداً، ولا يطمئن ويجد على كور العمامة، ويرفع قليلاً، ثم يسجد كذلك، ثم يصلي ركعة أخرى كذلك، ولا يقرأ في الأخريين، ويجلس قدر التشهد ولا يتشهد، ثم يحدث أو يتكلم، وقد تمت صلاته. وقال الطحاوي: "أركان الصلاة عند أبي حنيفة ستة: النية، والتكبير، والقراءة، والقيام، والركوع، والسجود". مسألة: قال: "فإن كان لا يحسن أم القرآن، فيحمد الله تعالى ويكبره مكان القراءة".

الفصل وهذا كما قال: إذا كان يحسن قراءة الفاتحة فقراءتها شرط على ما ذكرنا، ولو شدد المخفف فيها يجوز وإن أساء، وإن لم يحسن الفاتحة لا يخلو من ثلاث أحوال: إما أن يحسن غيرها من القرآن، أو من الذكر، أو يحسن قرآناً، ولا ذكراً، فإن كان يحسن غيرها من القرآن، فعليه أن يقرأ مكانها سبع آيات وجهاً واحداً، ولا يكفيه دون سبع آيات، حتى لو قرأ آية المداينة لم يحتسب له إلا آية واحدة. قال الشافعي: "ويستحب أن يقرأ ثماني آيات لتكون الآية الثامنة بدلاً من السورة"، وهل يعتبر أن تكون هذه الآيات بعدد حروف الفاتحة، فيه قولان: أحدهما: لا يعتبر لأن الاعتبار بالآي لا بالحروف، ألا ترى أنه لو قرأ ست آيات حروفها أكثر من حروف الفاتحة بكثير لا يجوز، وقد قال الشافعي في "الأم": "صغاراً أو كباراً من موضعٍ واحد أو من مواضع". وقال في "الجامع الكبير": "طوالاً كن أو قصاراً"، وهذا كما أن في قضاء الصوم يعتبر عدد الأيام، ولا يعتبر طولها وقصرها، والشافعي يعتبر ذلك، [161 ب / 2] وهو ظاهر المذهب، وهو الصحيح، لأن الشافعي، قال فيما نقل المزني: وقرأ بقدرها سبع آيات"، فاعتبر الأمرين جميعاً. والدليل عليه أنه بدل عن مبدل من جنسه، فيجب أن يكون مساوياً له بكل حالٍ ومعنى قوله: "صغاراً أو كباراً"، أي: وإن كباراً، لا يكفيه دون سبع آيات. وقال أبو حامد: فيه وجهان، لأنه رواية المزني غير مريحة في اعتبار الحروف، وإن كان يحسن آية من الفاتحة، ويحسن غيرها من القرآن، فإن يقرأها، وهل يكررها سبعاً، أو يقرأ غيرها؟ فيه وجهان: وقيل: فيه قولان: في "الأم" ذكره أبو حامد. أحدهما: يقرأها، ويقرأ ست آيات من غيرها. قال الشافعي: "وأحب أن يعيد تلك الآية سبع مرات"، وهذا أصح، لأن سائر القرآن لما قام مقام كل الفاتحة قام مقام بعضها. وأيضاً روي عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله إني لا أستطيع أن آخذ شيئاً من القرآن، فعلمني ما يجزئني. فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قل: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله"، فقال: هذا لله، فما لي؟، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قل: اللهم ارحمني وعافني وأهدني وارزقني". وهذا الرجل يحسن من الفاتحة: الحمد لله، ولا يتعذران بقول: رب العالمين، فيتم آية، ولا يحتاج إلى

ذكر آخر إن وجب التكرار، فدل أنه لا يحب ذلك. والثاني: يكروها سبع مرات، ويكفيه لأن تكرارها أشبه بما فرض عليه دون غيره، وهكذا لو كان يحسن آية من الفاتحة ويحمن الذكر دون القرآن، هل يكروها أم يأتي بها ويكمل بالذكر؟ قيل: قولان، وقيل: وجهان، فإذا قلنا: يكمل بالذكر يلزم مراعاة الترتيب، فإن عوف مثلاً النصف الأول من الفاتحة أتى به، ثم يأتي بالذكر، وإن كان يحسن النصف الأخير منها يأتي بالذكر قدر النصف الأول، ثم يقرأ ما بقي من الفاتحة. [162 أ / 2] ذكره القفال رحمه الله، ولو كان يحمن آية من الفاتحة، ولا يحسن شيئاً آخر لا من القرآن ولا من الذكر كررها سبعاً قولاً واحدً، وإن كان لا يحسن الفاتحة، ولكنه يحسن من غيرها آية واحدة، ولا يحسن غيرها نص في "الأم" على قولين: أحدهما: يقرأها وست كلمات من الذكر، لأنه لما ناب الذكر عن كل القراءة ناب عنه بعضها. والثاني: يكررها سبع مرات لأنها بالفاتحة أشبه، فإذا قلنا: يأتي بها وبالذكر أتى بالذكر بعد ست آيات. وإذا قلنا: يكررها سبعاً. قال في "الأم": "يكررها سبعاً أو ثمانياً"، وعندي إنما قال: أو ثمانياً لتقوم المرة الثامنة مقام قراءة السورة، وإن لم يحسن القرآن بحالٍ، ويحسن الذكر يقوم الذكر مقام القراءة قولاً واحداً، ويجب عليه قراءته والذكر ما تقدم في الخبر، وإنما أمر بذلك لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "أفضل الذكر بعد كلام الله عز وجل، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر". وقال أبو حنيفة: "لا يلزمه الذكر ويقوم ساكتا قدر القراءة، ثم يركع"، وقال مالك: "لا يلزمه الذكر ولا القيام"، واحتج بأنه موضح من الصلاة، فلا يجب فيه ذكر غير القرآن كالركوع، وهذا غلط لخبر عبد الله بن أبي أوفى. وقد قال الرجل: "فعلمني ما يجزئني". وروى رفاعة بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا قام أحدكم إلى الصلاة فليتوضأ كما أمر الله تعالى، ثم ليكبر، فإن كان معه شي، من القرآن قرأ به، وإن لم يكن معه فليحمد الله، وليكبر"، وليس كالركوع، لأنه قربة في نفسه، فاستغنى عن الذكر بخلاف القيام. والدليل على بطلان قول مالك: أن القيام فعل واجب في الصلاة، فلا يسقط بتعذر الذكر فيه كسائر الأفعال، فإذا تقرر هذا، ففي قدر الذكر الذي يقيمه مقام الفاتحة، وجهان: أحدهما: وهو اختيار أبي إسحق يجبه من الذكر بقدر حروف الفاتحة ويسقط اعتبار

الآي، لأنه لا يمكن اعتبارا في الذكر، وهذا لأنه أقيم مقامها فاعتبر قدرها، [162 ب / 2] ولا يتعين ما ورد به الخبر، لأنه لو كان يحسن غير الفاتحة لا يتعين ما يلزمه أن يقرأ فيها بل يخير، فيقرأ سبع آيات من أي موضع شاء. وهذا اختيار أبي حامد، وابن أبي هريرة. والثاني: يجب ما نص عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير زيادة، ولا تبديل، وهو اختيار صاحب "الإفصاح" وأشبه بالسنة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - اقتصر على ذلك، ولم يأمره بالزيادة عليه، ويفارق هذا القراءة من غير الفاتحة، لأن هذا بدل من غير الجنس كالتيمم، فلا تجب فيه الزيادة على النص. وهذا اختيار القافي الطبري وجماعة. ومن أصحابنا من قال: هذه خمس كلمات فيأتي بها ويضم إليها كلمتين آخرتين حتى تصير سبعاً، فإن كل كلمة بمنزلة آية، ولا يعتبر قدر الحروف، وإن كان لا يحسن شيئاً، ففرضه أن يقوم قدر القراءة، ويسقط عنه الذكر نص عليه، ولو قدر على التعلم يلزمه ذلك، فإن لم يتعلم وصلى، قد ذكرنا أنه يلزمه إعادة الصلاة، ثم فيه وجهان: أحدهما: يعيد كل صلاة صلاها من وقت قدرته على التعلم. والثاني: يعيد إلى أن أخذ في التعلم، لأن الأخذ في التعلم يزيل حكم التفريط، فيسقط عنه إعادة ما صلى في هذه المدة. فرغ لو تعلم الفاتحة في خلال إتيانه بالبدل، فالصحيح أنه يترك البدل ويشتغل بالفاتحة، وفيه وجه آخر يمضي في البال، وليس بشيء. ومن أصحابنا من قال: يحتسب بالقدر الذي أتى به، ويقوم مقام أول الفاتحة فيتم من أخر الفاتحة، لأن الذكر مقصود في نفسه، فيستحب بما أتى به منه، والأول أصح، لأنه قدر على الأصل قبل الفراغ من البدل. فَرْعٌ آخرُ لو تعلم بعد فراغه من البدل يلزمه أن يقرأها إذا لم يكن ركع، لأن محل القراءة باق. ذكره القاضي الطبري، [163 أ / 2] وهو الصحيح. وقيل: فيه وجهان، واختار مشايخ خراسان، أنه لا يلزمه العود إلى الفاتحة، لأنه فرغ من البدل كما لو صلى بالتيمم ثم وجد الماء. فَرْعٌ آخرُ إذا كان لا يحفظ الفاتحة، ولكنه قادر على تلاوتها من المصحف يلزمه التلاوة، ويلزمه الشراء أو الاستعارة، ولو كان بالليل عليه تحصيل الضوء، فإن قال قائل: لم قال الشافعي ههنا وضيع حظ نفسه فيما ترك، ولم يقل ذلك في مسنونات الوضوء. قلنا: لأن هذه السنن أكد ألا ترى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل قط خالياً عن المسنونات، وقد

باب

توضأ مرة مرة!! فإذا تقرر هذا، ذكر الشافعي: أنه لو ترك حرفاً من أم القرآن، وهو في الركعة رجع إليها وأتمها. وفي بعض النسخ رجع إليه، وهما صحيحان، فالتأنيث يرجع إلى الفاتحة وكناية التذكير راجعة إلى الحرف، والمعنى في المسألة، أن كل حرف من الفاتحة ركن عن حياله، والترتيب فيه شرط، فإذا نسي حرفاً لم يحتسب ما بعده، فإن تذكر في تلك الركعة رجع إلى ذلك الحرف فبنى عليه، وان لم يذكر حتى قرأ في ركعة أخرى التحقت قراءته فيها بالركعة التي قبلها فتمت القراءة فيها، وسقطت في التي بعدها. باب طول القراءة وقصرها مسألة: قال: "وأحب أن يقرأ في الصبح مع أم القرآن بطوال المفصل". وهذا كما قال: اعلم أن القصد من هذا الباب، أن المستحب للإمام في الصلاة التخفيف مع التمام، كما قال أنس رضي الله عنه: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - "من أخف الناس صلاة في تمام". وبين الشافعي ذلك، وهو أن يقرأ في صلاة الصبح بعد الفاتحة في كل ركعة بسورة من طوال المفصل كسورة الحجرات، والذاريات، والواقعة ونحوها. ويقرأ في الظهر سنها بذلك يعني في [163 ب / 2] الركعتين الأوليين، وفي الأخويين ذكرنا قولين في سنة السورة، فإذا قلنا: تسئ قرأ فيهما على النصف من الأوليين. والأصل فيه خبر أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "حزرنا قيام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الركعتين الأوليين من الظهر قدر ثلاثين آية قدر: {الم (1) تَنزِيلُ} (السجدة: 1 - 2]، وحزرنا قيامه في الأخريين على النصف من ذلكء وحزرنا قيامه في الأوليين من العصر بنحو مما يقرا في العشاء". وأراد في الأوليين من العشاء، ثم امن ما يستحب في العشاء، وهو قدر سورة الجمعة، وإذا جاءك المنافقون، ويقرأ في المغرب بقصار المفصل مثل: {وَالْعَادِيَاتِ} (العاديات: 1]. وهذا تفسير التخفيف في تمام. فإن زاد على هذا كان مثقلاً على القوم، وان نقص عنه كان مقصراً إلا أن يكون له عذر ظاهر، أو لأحدٍ ممن خلفه، فلا بأس حينئذ أن ينقص عنه، ولا يكون مقصراً، فإن قصر أو زاد يجوز في الجملة. وإنما شبه الشافعي الصبح بالظهر والعصر والعشاء، لأنهما صلاتا سر، ولم يثبت ما إذا قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهما، وفي كل هذا ورد الخبر. قال ابن عباس رضي الله عنه: "صليت خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح يوم الجمعة، فقرأ فيها بسورة السجدة: {الم (1) تَنزِيلُ}، {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ} وقرأ في صلاة الجمعة بسورة الجمعة والسورة التي ذكر فيها المنافقون".

وروي أيضاً أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ في صلاة الجمعة: {الم (1) تَنزِيلُ}، و {هَلْ أَتَى}. وروي أنه "قرأ ليلة الجمعة في المغرب: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وفي صلاة العشاء تلك الليلة: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ". وقال بعض أصحابنا: يقرأ في ليلة الجمعة في صلاة العشاء سورة الجمعة وسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}. وقال جابر بن سمرة رضي الله عنه: "صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح، فقرأ فيها، {يس}، و {حم}. وقال عمران بن الحصين رضي الله عنه [164 أ / 2]: "قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الظهر: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، و {هَلْ أَتَاكَ} يسمعنا الآية أحياناً". وقال بريدة الأسلمي رضي الله عنه: "قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: {وَالشَّمْسِ}، و {وَاللَّيْلِ} ". وروي أنه قرأ في العصر: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}، و {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} ". وروي عن عمرو بن حريث رضي الله عنه، قال: "كأني أسمح صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الغداة: {فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير: 15] وروى أبو داود بإسناده عن رجل من جهينة أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يقرأ في الصبح: {إِذَا زُلْزِلَتْ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1]. وروي أنه "قرأ في العشاء الآخرة سورة الجمعة والمنافقين". وقال أبو هريرة رضي الله عنه: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب بقصار المفصل". وروى ابن مسعود رضي الله عنه: "قرأ في المغرب: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه: أنه "قرأ في المغرب: {وَالْمُرْسَلاتِ}، فقالت أم الفضل: إنه لآخر ما سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ في المغرب". والظاهر أن هذا التطويل كان نادراً، وهذه الأخبار كلها تدل على جميع ما ذكرنا. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: "يقرأ في الأولى من الصبح من ثلاثين آية إلى ستين آية"، وفي الركعة الثانية من عشرين إلى ثلاثين، وفي الظهر: شبهها بالصبح من ثلاثين آية إلى ستين آية" حكاه الكرخي، وقال في العصر: "يقرأ في الركعتين الأوليين سوى الفاتحة عشرين آية، وكذلك في العشاء الآخرة". وقال أحمد: "يقرأ خمس عشرة آية". فرع قال بعض أصحابنا: يستحب تطويل القراءة في صلاة الصبح، لأن أبا بكر الصديق رضي الله عنه قرأ في صلاة الصبح سورة البقرة في الركعتين. وعن عمر رضي الله

عنه أنه قرأ سورة يوسف في ركعة، وسورة الحج [164 ب / 2] في ركعةٍ. والمستحب أن لا ينقص عن السور الطوال في سبع المفصل لما روي أنه "قرأ بسورة {ق} في صلاة الصبح". وروي أنه "قرأ يوم الجمعة: {الم (1) تَنزِيلُ} السجدة". فزع آخر قراءة السورة الكاملة في الصلاة أولى من قراءة بعض الآيات، لأنه لم يقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا قراءة السور، ولو قرأ ذلك جاز لما روي أن الصديق رضي الله عنه قرأ البقرة في الركعتين من الصبح، "وقرأ في الثانية من المغرب: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا} [آل عمران: 8] الآية". فَرْعٌ آخرُ لو قرأ سورتين لم يكره، لأن عمر رضي الله عنه "قرأ سورة: {وَالنَّجْمِ}، وسجد ثم قام، فقرأ سورة أخرى". وكان ابن عمر إذا صلى منفرداً يقرأ أحياناً السورتين والثلاث في الركعة الواحدة في صلاة الفريضة. فَرْعٌ آخرُ قال بعض أصحابنا: تطويل القراءة أولى من تطويل الركوع والسجود لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238]، ولأن الذكر المشروح في القيام قراءة القرآن وفي غيره التسبيح، والقراءة أفضل من التسبيح. فَرْعٌ آخرُ قال بعض أصحابنا: لو كان يصلي النافلة أكثر من ركعتين بتشهد واحد يقرأ في كل ركعة الفاتحة والسورة، وإن كان يصلي بتشهدين، فهل يقرأ السورة في الركعتين الأخريين؟ وجهان، بناء على القولين في الركعتين الأخريين من الفرائض. فَرْعٌ آخرُ قال في "الأم": ((ولا باس بتلقين الإمام في الصلاة"، ونقل المزني أن الشافعي قال: "وإن حضر الإمام لقن"، والأصل في هذا ما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "صلى صلاة، فقرأ فيها، فلبس عليه، فلما انصرف قال لأبي: "أصليت معنا؟ " قال: "نعم، قال: فما منعك؟ "، وأراد به ما منعك أن تفتح علي إذ رأيتني قد لبس علي؟.

باب

وروي عن عثمان بن عفان وابن عمر رضي الله عنهما أنهما كانا لا يريان به بأساً. وبه قال عطا، [165 أ / 2] والحسن وابن سيرين ومالك وأحمد واسحق. وقال ابن مسعود: "يكره ذلك". وبه قال الشعبي والثوري. وقال أبو حنيفة: "إذا استفتحه الإمام فتحته عليه، فإن الكلام في الصلاة. واحتجوا بما روى الحارث عن علي رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا علي لا تفتح على الإمام في الصلاة". قلنا: رواه يونس بن أبي إسحق عن أبي إسحق عن الحارث، قال أبو داود: سمع أبو إسحق من الحارث أربعة أحاديث ليس هذا منها. وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "إذا استطعمكم الإمام فأطعموه". يعني: أنه إذا تعايا في القراءة، فلقنوه. ورواه بعض أصحابنا بخراسان مرفوعاً، ولا يصح. باب الصلاة بالنجاسة مسألة: قال: "وإذا صلى الجنب بقوم أعاد، ولم يعيدوا". وهذا كما قال: إذا صلى الرجل بقوم من غير طهارة، فعليه الإعادة جنباً كان أو محدثاً، عالماً كان أو جاهلاً. وأما المأموم ينظر فيه، فإن كان عالماً بحدثه لم تصح صلاته، وإن كان جاهلاً صحت صلاته سواء كان الإمام جنباً أو محدثاً عالما كان بحدث نفسه أو جاهلاً وسواء علم المأموم به بعد خروج وقت الصلاة، أو قبل خروجه، فإن جهل كل المأمومين صحت صلاتهم، وإن كانوا عالمين بحاله لم تنعقد صلاتهم، وان كان بعضهم عالماً، وبعضهم جاهلاً صحت صلاة الجاهل به. وبه قال عمر وعثمان وعلي وابن عباس وابن عمر والحسن والنخعي وسعيا بن جبير والأوزاعي والثوري وأحمد وأبو ثور رضي الله عنهم. وقال أبو حنيفة: "تبطل صلاة المأمومين بكل حال". وبه قال الشعبي وابن سيرين وحماد. وقال مالك: ا (إن كان الإمام غير عالم بحدث نفه صحت صلاة المأمومين، وان كان عالماً لم تصح صلاتهم". [165 ب / 2] وقال عطاء: "إن كان حدثه جنابة لا تصح صلاتهم، وإن كان حدثه غيرها يلزمهم إعادة الصلاة في الوقت، وان كان الوقت خارجاً، فلا إعادة". واحتج مالك بأنه إذا علم بحدث نفسه فسق، ولا تصح الصلاة خلف الفاسق، وهذا غلط، لأن الفسق لا يقدح في الإسلام، فلا يمنع جواز الصلاة خلفه، والدليل على ما ذكرنا ما روى أبو بكرة رضي الله عنه، قال: "دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الفجر، فأومأ إليه، أي: مكانكم، ثم ذهب، ثم جاء، ورأسه يقطر، فصلى بهم". وهذا يدل على أنهم أحرموا خلفه، لأنه أومأ إليهم، ولم يكلمهم، لأن كلام المصلي يكره.

واحتج الشافعي بعمر بن الخطاب رضي الله عنه، والقياس، وأراد به ما روي أن عمر رضي الله عنه "صلى يوماً صلاة الصبح بالناس، فلما انفتل من صلاته رأى على ثوبه أثر الاحتلام، فقال: هكذا يفعل بنا اللحم إذا أكلناه ما أراني إلا وقد احتلمت، وصليت بكم، وما شعرت، فقام واغتسل، وأعاد صلاته"، ولم يأمر أحداً بالإعادة. وأما القياس: ما ذكره المزني، وهو أن كلأ مصل على نفسه، فلما كانت صحة صلاة الإمام لا تغني عن المأموم إذا كان المأموم جنباً أو محدثاً، فكذلك فساد صلاته من هذا الوجه لا يوجب صلاة المأموم، إذا لم يعلم، ثم أيد ذلك بأنه لو سبقه الحدث في صلاته ينصرف ويتوضأ ثم يبني على صلاته، ويجوز للمأمومين المضي في صلاتهم إذا استخلف عليهم رجلاً بالإجماع، فدل أن فساد صلاة الإمام لا يوجب فساد صلاة المأموم، إذا لم يعلم، كما أن امتناع المضي في الصلاة للإمام بسبب سبق الحدث لا يوجب امتناع المضي للمأموم في الصلاة. وذكر صاحب "التلخيص" أن قول مالك أحد القولين للشافعي: ولا يصح ذلك عنه. فرع لو أدرك [166 أ / 2] الإمام في الركوع وصلى، ثم علم بجنابته، قد ذكرنا أنه لا يحتسب له بهذه الركعة. ومن أصحابنا من قال: يعتد له بها، لأنه إذا لم يعلم بحاله صار كالإمام الطاهر، وهو ضعيف. فَرْعٌ آخرُ لو صلى الجمعة خلف إمام جنب، فإن كان الإمام تمام الأربعين لا تصح صلاتهم، وإن كان زائداً على الأربعين فلا تصح صلاة الإمام. وهل تصح صلاة المأمومين؟ نص في "الأم": أنها صحيحة، وحكي عنه في "القديم": أنها لا تصح، لأن الإمام شرط في صحة هذه الصلاة. فَرْعٌ آخرُ لو أحرم بهم، وهو جنب أو محدث، وأحرموا خلفه جاهلين بحدثه، ثم علموا فعليهم مفارقته، فإن نووا مفارقته، وفارقوه أتموا لأنفسهم، وان لم ينووا مفارقته، أو نووا ذلك ولم يفارقوه فعلاً بطلت صلاتهم وان علم بعضهم دون بعض، فصلاة من لم يعلم صحيحة وصلاة من علم على ما ذكرنا، وكذلك لو أحرم بهم، وهو طاهر، ثم أحدث فعليه أن يخرج من الصلاة، وعليهم أن يفارقوه على ما ذكرنا. وقال أبو حنيفة: "إذا أحدث الإمام عمداً بطلت صلاة المأمومين"، وهذا غلط لما ذكرنا.

فَرْعٌ آخرُ لو أحوم بهم، ثم ذكر أنه جنب، قال في "القديم": فإن كان الموضع قريباً، ولم يكن ركع بهم، فإنه يشير إليهم: كما أنتم، ومضى، واغتسل ورجع وصلى بهم كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإن كان موضعه بعيداً وكان موضعه قريباً، ولكنه كان قد ركع يشير إليهم أن صلوا منفردين ويمضي ويغتسل، لأنه إذا كان قد صلى ركعة يحتاج إلى مفارقته في آخر صلاته مفارقة الآن ولا ينتظره. وهذا على قوله "القديم": لا يجوز الاستخلاف في الصلاة. وأما على قوله "الجديد": فإنه يستخلف من يصلي بهم، وقد قيل: إنما قال في "القديم " هذا ليخرجوا من الخلاف، فيصلون لأنفسهم. فَرْعٌ آخرُ لو صلى خلف كافر عزر الكافر وأما المأموم، [166 ب / 2] فإن كان عالما بأنه كافر فقد أسا، وصلاته باطلة، وان كان جاهلاً، فهل تجزئه صلاته أم لا؟ فالكافر ضربان: كافر يظهر كفره، وكافر يستره، فإن كان ممن يظهره، فالصلاة باطلة. قال الشافعي رضي الله عنه: "لأنه اءتم بمن لا يصح أن يكون إماماً له بحال". وقال أصحابنا: لأنه مفرط بالائتمام به، فإن علامته تظهر بالغيار والزنار، وهذا يبطل بالمرتد، لأنه لا أمارة على كفره، ولا تصح الصلاة خلفه، ويمكن بأن يعلل بأن هذا يندر، ولا يكثر، فلا يؤدي وجوب المتحرز منه إلى المشقة على المأمومين. وقال المزني: "تصح ملاته، لأنه أدى ما كلف"، وهو غلط لما ذكرنا، وإن كان ممن يستسر بكفره كالزنديق والمنافق. قال صاحب "الإفصاح": قال الشافعي: في موضع ما يدل على التسوية بين جميع الكفار. وقال في موضع ما يدل على الفرق، فيحتمل وجهين، والمذهب أن صلاته باطلة لعلة الشافعي رضي الله عنه. وقال أبو إسحق: "لا تبطل لأن علامته لا تظهر، فلا ينسب إلى التفريط". فَرْعٌ آخرُ لو أسلم رجل فصلى بقوم، فلما فرغ، قال لهم: ما كنت أسلمت، وإنما تظاهرت بالإسلام، فصلاتهم ماضية، ولا يقبل قوله في إبطال صلاتهم، ويكون مرتداً فيستتاب، فإن تاب، وإلا قتل. فَرْعٌ آخرُ لو صلى خلف مرتد بعد العلم بردته، فالصلاة باطلة، ولا يجوز أن يصلي خلفه حتى يعرف رجوعه إلى الإسلام، فإن كان يسلم تارة ويرتد أخرى، فصلى خلفه، ثم أشكل عليه، فلم يعلم هل صلى خلفه في حال إسلامه أم في حال كفره؟ تصح صلاته.

والمستحب أن يعيد، لأن الصلاة مضت على السلامة، نص عليه. فَرْعٌ آخرُ لو صلى خلفه رجل في دار الإسلام، ثم شك، هل كان مسلماً أو كافراً؟ لا يلزمه إعادة الصلاة، لأن الظاهر من الدار الإسلام. فَرْعٌ آخرُ لا تجوز الصلاة خلف المجنون، لأنه إن صلى مع علمه، فهو متلاعب، [167 أ / 2] وإن لم يعلم جنونه، فإن الجنون مما يمكن الوقوف عليه، فيكون منسوباً إلى التفريط، وان كان يجن ويفيق فصلى خلفه، ولم يعلم أنه ملى في حال جنونه أو عقله، فلا إعادة عليه قياماً على ما قال في المرتد، وان أحرم خلفه، وهو مفيق فجن في أثناء الصلاة، فعليه أن يفارقه، فإن لم يفعل بطلت صلاته. فَرْعٌ آخرُ السكران كالمجنون مواء لا تصح الصلاة خلفه، وإذا سكر ينبغي أن يعلم إفاقته حتى تجوز الصلاة خلفه، فإذ كان يكر ويفيق فصلى خلفه لم يعد كما قلنا في المرتد، ولو أحرم خلفه فسكر في أثنائها، فعليه مفارقته، فإن لم يفعل بطلت صلاته. ولو شرب مسكراً، قال الشافعي: "تجوز الصلاة خلفه"، وأراد إذا غسل فمه، وما أهاب من يديه وثوبه منه، وجملته إن كل ما لا يصح أن يكون إماماً بحال لم تصح الصلاة خلفه كالكافر والزنديق والمرتد والمرأة والمجنون وكل من يصح أن يكون إماماً بحال، كالمحدث والجنب محت صلاته خلفه، وعند المزني تصح الصلاة خلف الكل إذا لم معلم لأنه أدى ما كلف. مسألة: قال: "ولو صلى رجل وفي ثوبه نجاسة من دم أو قيح فكان قليلاً مثل دم البراغيث". الفصل وهذا كما قال: إنما قال في ثوبه، لأن أثر موضح الاستنجاء من بدنه معفو عنه، وقوله: (فكان قليلاً مثل دم البراغيث)، أو كان نفس دم البراغيث (وما يتعافاه الناس)، أي: يتساهله الناس. وجملته: أن الصلاة تفتقر إلى طهارتين: طهارة من حدث، وطهارة من نجس. والطهارة من الحدث مضى بيانها. وأما الطهارة من النجس نقلها المزني إلى هنا، فلا تجوز الصلاة حتى يكون طاهر البدن والثوب والبقعة التي يصلي عليها لقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4]. قال الفقهاء وابن سيرين: أراد [167 ب / 2] وثيابك فطهر من النجاسة بالماء، لأن

حقيقة الثياب والطهارة. هذا وقوله: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]، أراد بالرجز النجاسة. وقال ابن عباس وسعيا بن جبير رضي الله عنهم: أراد: لا تلبس ثيابك على الفار والمعاصي. فقول العرب لمن غدو دنى ثيابه، ولمن وفى بالعهد طاهر الثوب. وقيل: ثيابك فقصر حتى لا تنجر خيلاء وكبراً. وقال الحكم: "معناه: وعملك فأصلح". وقال الحسن: "وخلفك فحسن". وقيل: وقلبك فطهر. والصحيح الأول، فإن صلى وعليه نجاسة يلزمه إعادة الصلاة في الجملة. وقال مالك رحمه الله: "لا يعيدها خارج الوقت، ويعيدها في الوقت"، وأراد استحباباً. وهذا يدل على أن إزالة النجاسة لا تجب عند الصلاة. وبه قال ابن مسعود وابن عباس وسعيد بن جبير وابن أبي ليلى. وقال ابن عباس: "ليس على الثوب جنابة"، أي: لا يجب الاجتناب عن الثوب النجس. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه نحر جزوراً، فأصاب ثوبه من فرثه ودمه، فصلى ولم يغسلها. وروي أن رجلاً "سأل سعيد بن جبير عن رجلٍ صلى في ثوبه نجاسة، فقال: اقرأ علي الآية التي فيها غسل الثوب من النجس". وبه قال ابن مجلز. وروى بعض أصحاب مالك عنه أن إزالة النجاسة واجبة إلا يسير الدم. والدليل على ما قلنا ما روى ابن عباس، وأبو هريرة، وأنى رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "تنزهوا من البول، فإن عامه عذاب القبر منه". وروى ابن عباس انه - صلى الله عليه وسلم - مر بقبرين، فقال: "إنهما يعذبان"، وقد مضى هذا الخبر. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "تعاد الصلاة من قدر الدرهم من الدم"، فإذا تقرر هذا، فالكلام الآن في بيان النجاسة التي يعفى عنها، والتي لا يعفى عنها. وجملته أن النجاسة التي تجب إزالتها خمس: الغائط، والبول، والخمر، والدم والصديد. [168 أ / 1] وقال داود: "الخمرة ظاهرة". ورواه الليث عن ربيعة مثله. واحتجوا بأنه كان عصيرا طاهراً، وهذا غلط لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} [المائدة: 90]، والرجس في اللغة: النجس، ولأنها مائع حرم على الإطلاق، فكان نجساً كالدم. وحكي عن الحسن أنه ذهب إلى طهارتها، واحتج بأن الله تعالى أعدها لخلقه في الجنة، ولا يعد النجس لهم. وهذا خطأ لأنه لا يبعد أن تكون في الدنيا نجسة، ثم

يقلب الله تعالى عينها، وحكمها أو نقول: النجاسة ضربان: دم وغير دم. فأما غير الدم، إن كان قدرا يدركه الطرف، فلا يعفى عنه قليلا كان أو كثيراً إلا أثر الاستنجاء وحكم ما لا يدكره الطرف، قد ذكرنا. وأما الدم، فجميع الدماء نجش بلا خلاف إلا دم السمك على ما ذكرنا فيما قيل، وإذا ثبت أن كلها نجس، فإن كان دم ما ليست له نفس سائلة كالبراغيث والقمل والذباب والزنابير والبق، فاليسير معفو عنه قولاً واحداً. وأما الكثير منه الخارج عن العرف والعادة، فإن طبق الثوب ذلك، فغيه وجهان. المذهب أنه معفو عنه لأن الكثير منه نادر، فكان ملحقا بمعتاده كرخص السفر ثبتت للمسافر، وإن كان مرفهاً في سفره لا مشقة عليهء ولأن من يبيت في ثيابه لا يسلم من كثيره، وفي الاجتناب عنه فيق وحرج. والثاني: وهو اختيار الإصطخري لا يعفى عنه لأنه لا مشقة عليه في الاحتراز عنه. وقال أبو حنيفة وأحمد: "هو طاهر لأنه دم غير مسفوح، فأشبه الكبد"، وهذا غلط لظاهر قوله تعالى: {وَالدَّمَ} [البقرة: 173] ولم يفصل. وأما قوله: ليس بمسفوح خطأ، بل هو مسفوح سائل، ولكنه لا ينسفح لقلته، وان كان دم ما له نفس سائلة كالآدمي وغيره من الحيوان فقد نص فيه على قولين. قال في "الإملاء": "حكمه حكم البول والغائط، فلا يعفى عن قليله وكثيره". وقال في "القديم" و"الأم": "يعفى عن قليله دون كثيره"، فإذا قلنا: يعفى عن قليله. [168 ب / 2] اختلف قوله في حق القليل، فقال في "الأم": "القليل هو اليسير كدم البراغيث، لأن يتعافونه ويتجاوزونه، ولا يعفى عن قار الدرهم والدينار". وهذا أصح، لأنه يشق الاحتراز من يسيره كما في دم البراغيث. وقال في "القديم": "إن كان دون الكف لم يجب غسله، وإن كان قدر الكف أو أكثر وجب غسله، ولا تجوز الصلاة فيهء وفيه قدر لمعة". وقيل: إن اجتمع في موضع قدر راحته، لا يعفى، وان كان متفرقا في بدنه أو ثوبه كدم البراعيث يعفى. وقال بعض أصحابنا بخراسان: قال الشافعي في موضع: "القليل دينار"، وقال في موضع: "قدر لمعة". وقال في موضع "قدر كف". والعبارات ترجع إلى معنى واحدٍ، وإنما اختلفت عباراته لاختلاف دم البراغيث باختلاف الزمان، فتكثر في الصيف وتقل في الشتاء. وفي هذا نظر، والصحيح ما تقدم. وقال أصحابنا: هذا في دم يصيبه من نفسه من الحك والبثرة والجرب والفصد والحجامة، فأما الدم الذي يصيبه من غيره من الآدمي أو البهيمة، فلا يعفى عنه أصلاً. وهذا صحيح على ما ذكرنا، وقيل: في الكل قولان. وهذا الفصل لا يعرف عن الشافعي بل نص في كتبه على ما بيناه، ولم يفصل، وقيل: إذا قلنا بهذا التفصيل لا يعفى عن دم الحجامة والفصد أصلاً، لأنه يمكن الاحتراز منه، وهو ضعيف عندي.

وقال القفال: هذا مستحب على أن العلة في عفو دم البراغيث، ماذا؟ فإن قلنا: القلة، فلا فرق، وإن قلنا: الابتلاء به وتعذر الاحتراز منه، فيفصل هكذا. وأما الصديد والقيح نص في عامة كتبه: أنه كالدم، وقيل: قال في موضع من "الأم": "هو أخف حالاً، ولكنه متى بلع لمعة وجب غسله". وقال أبو حامد رحمه الله: "المذهب الأولى، وما قال في "الأم": لا يحكى، وهذا لأنه مستحيل، كالدم". وقد روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أرخص في [169 أ / 2] دم الحنون"، أي: الدمل، وأما ماء القروح، فهو كالعرق يظهر عليه، وينزل عنه، فإن كان له رائحة فهو كالدم، وإن لم يكن له رائحة نص في "الإملاء" ما يدل على أنه طاهر كالعرق. وقال في موضع من "الإملاء": "إنه يجري مجرى الصديد والقيح"، فحصل فيه قولان. والمذهب الأول. وقال مالك وأحمد: "يعفى عن الدم ما لم يتفاحش". وروي عن أحمد أنه قال: "البثر متفاحش". وروي عنه أنه قال: "النقطة والنقطتان معفو. وهذا غلط، لأن ما دون الشبر متفاحش في العادة، فيجب أن لا يعفى عنه. وقال مالك: "المتفاحش نصف الثوب". وقال الأوزاعي والنخعي: "يعفى عن أقل من درهم"، وأما ونيم الذباب فنجش، ولكنه يعفى عنه في الثوب، كما قلنا في دم البراغيث، لأن الابتلاء به موجود كدم البراغيث. وعند أبي حنيفة رحمه الله هو طاهر. وقيل: حد النجاسة كل عين حرم تناوله على الإطلاق مع إمكان التناول لا لحرمته، وإنما حددنا بتحريم التناول، لأن الله تعالى قال: {قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} إلى قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145]، فجعل النجاسة علة تحريم الكل، ولا يلزم السم، لأنه لا يحرم قليله الذي لا ضرر فيه ولا يلزم الحجر ولحم الآدمي للاحتراز، فإذا تقرر هذا، فلو صلى مع نجاسة عير معفو عنها نظر، فإن صلى مع العلم بها جاهلاً لحكمها لم تنعقد صلاته، وإن صلى فلما فرغ من الصلاة علم بها فيه ثلاث مسائل: إحداهما: إن فرغ منها ثم شك، هل كانت موجودة حال الصلاة أم لا؟ مثل إن كانت رطبة يحتمل أن تكون إصابته بعد الصلاة، ويحتمل أن تكون أصابته في الصلاة، لا يلزمه الإعادة، لأن الصلاة المحكوم بصحتها ظاهراً لا تبطل بالاحتمال. والثانية: شاهد النجاسة على ثوبه أو بدنه، ولم يغسلها، ولم يذكرها حتى فرغ [169 ب / 2] من الصلاة، فالمذهب أن عليه الإعادة، لأنه مفرط في إزالتها. ومن أصحابنا من قال: لا إعادة عليه في قوله "القديم"، خرجه القافي أبو حامد رحمه الله، كالذي نسي الماء في رحله فتيمم وصلى لا يلزمه الإعادة في قول ضعيف. والثالثة: لما فرغ من الصلاة علم بها ولم يعلم بها قبل ذلك، ولكنه تحقق أنها كانت في الصلاة مثل أن شاهدها يابسة، ففيه قولان. قال في "الجديد": "لم تنعقد

صلاته، لأنها طهارة تستباح بها الصلاة، فلا تسقط بالنسيان كالطهارة من الحدث". وقال في "القديم": "انعقدت صلاته ولا إعادة عليه". وبه قال ابن عمر والأوزاعي ومالك وأحمد في رواية. واحتجوا بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نزع نعليه في الصلاة. وقال: "أخبرني جبريل عليه السلام أن فيهما قذراً". ومن قال بالأول أجاب عن هذا بأن القذر كان بصاقاً أو مخاطاً، فكان يصيب المجد ويتلوث به عند السجود والقعود. وقيل: روي أنه كان فيها دم حلمه وذلك مما يعفى. وإذا قلنا بقوله "القديم" فعلم في أثنائها، فإن أمكن طرح الثوب عن نفسه بأن كان عليه ثوبان أو بقربه آخر، فيستبدل بثوب آخر فعل ذلك، وبنى. ولو أصابت النجاسة الشيء الصقيل كالسيف والمرأة والزجاج لا يطهو إلا بالماء. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يطهر تمسحاً، وهذا غلط ولأنه محل نجس فلا يكفي فيه المسح كالثوب النجس. مسألة: قال: "وإن كان معه ثوبان: أحدهما طاهر والآخر نجس". الفصل قد ذكرنا أن التحري في الثياب عند الاشتباه جائز، فإذا أدى اجتهاده إلى طهارة أحد الثوبين صلى فيه ولا إعادة عليه، وإن غسل النجس وصلى فيه صحت صلاته أيضاً، وإذا بانت له بالتحري طهارة أحدهما صلى فيه ما شاء، [170 أ / 2] ولا يلزمه إعادة الاجتهاد في صلاة أخرى بخلاف القبلة، لأن أمارات القبلة تنتقل وتحدث وأمارات الطهارة في الثوب لا تتجدد كل ساعة ولو أعاد اجتهاده في الثوبين فغلب على ظنه طهارة الثاني، لم يعد ما ملى ولا يجوز له أن يستأنف الصلاة فيه، لأن اجتهاده الثاني أثبت له حكم النجاسة، ثم مذهب الشافعي رحمه الله أنه يصلي عرياناً ويعيد لأن معه ثوباً طاهراً بيقين. وقال ابن سويج: "يصلي في الثاني، ولا يعيد. وقال المزني: يصلي في أحدهما، ويعيد في الآخر بنا، على أمله، أنه لا يتحرى أصلاً". فرع لو لم يغلب على ظنه طهارة أحدهما يصلي عريانا وتلزمه الإعادة إذا وجد ثوباً طاهراً على المذهب. وقال المزني وساعده بعد أصحابنا في هذا الموضع: يصلي في أحدهما ويعيد الآخر، ولو فعل هذا لأجزأه على مذهب الشافعي رحمه الله، وان كان لا يوجب عليه، هكذا ذكر في "الحاوي". ويحتمل أن يقال: لا يجوز أن يفعل هذا، لأنه يؤدي إلى

أن يصلي بنجاسة متيقنة، وذلك لا يجوز ورأيته عن كبار أصحابنا، وهو الصحيح كما لو اشتبهت في القبلة جهتان، فصلى إلى أحدهما من غير تحر، ثم صلاها ثانية إلى جهة أخوى، لم يجز واحدة منهما، ولو أمكنه أن يغسل أحدهما ويصلي فيه، فقياس المذهب أنه يلزمه ذلك، كما لو كان معه ثوب نجس يقدر على غسله، فإن قيل: ألم يحكم بنجاسته كيف يلزمه غسله؟. قلنا: ولكن لا تجوز الصلاة فيه ويمكنه أن يصلي فيه لغسله، فيلزمه ذلك، ويفارق الإناءين إذا لم يؤد اجتهاده إلى طهارة أحدهما، لأنه لا يمكنه أن يتوصل إلى تطهير أحدهما. فَرْعٌ آخرُ لو أخبره ثقة أن النجاسة في أحد كمي الثوب، هل يجوز له قبول خبره؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز إذا قلنا: لا يجوز له التحري. والثاني: يجوز، وهو إذا قلنا: يجوز له التحري فيهما ذكره في "الحاوي". مسألة: قال: "وإن خفي عليه موضع النجاسة من الثوب غسله كلها" [170 ب / 2]. الفصل وهذا كما قال: قد تقدم جواب هذه المسألة فلو شق هذا الثوب نصفين حتى صار بمنزلة الثوبين لا يتحرى أيضاً، لأنه يجوز أن يكون كل واحد منهما نجساً، ويكون موضع النجاسة حصل بعضه مع أحد النصفين وبعضه مع النصف الأخر، وفي الكمين هل يتحرى؟ ذكرنا وجهين، فلو فصل أحد الكمين عن الآخر يجوز التحري وجها واحداً، لأنهما بعد الفصل بمنزلة الثوبين. فرع لو نجس أحد البيتين من دار واحدة يجوز التحري بلا إشكال كالثوبين، موضع من بيته، ولا يدري عينه، هل يجوز التحري؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز كما لا يتحرى في الثوب الواحد ويلزمه غسله كله. والثاني: يصلي في أي موضع منه شاء إذا غلبت على ظنه طهارته، ولا يلزمه غسله، كما لو تيقن أن موضعا من الصحراء نجس يصلي في أي موضع شاء، والصحيح الأول، لأن الصحراء تخالف البيت، لأنه يمكنه غل البيت، ولا يمكنه غسل الصحراء فافترقا. مسألة: قال: "وإن أصاب ثوب المرأة من دم حيضها".

الفصل وهذا كما قال: إذا أصاب الثوب دم الحيض، فالمستحب أن تحته بخشبة أو بظفرها وتقرصه. والقرص إمعان الدلك. ثم تغسله بالماء، وهو المراد بقول الشافعي رحمه الله: "قرصته بالماء حتى تنقيه ثم تصلي فيه"، والاقتصار على الغسل بالماء يجوز. وقال بعض أهل الظاهر: الحت والقرص واجب، ثم إذا غسل وبقي له أثر لاصق لا يخرجه الماء عفي عنه على ما مضى بيانه. مسألة: قال: "ويجوز أن يصلي في ثوب الحائض". الفصل وهذا كما قال: إنما جاز ذلك، لأن الأصل الطهارة، وقد ذكرنا أن بدن الحائض طاهر. وروت ميمونة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "صلى وعليه مرط وعلى بعض أزواجه منه، وهي حائض، وهو يصلي وهو عليه"، والمرط ثوب يلبسه الرجال والنساء، ويكون إزاراً ويكون رداء ويتخذ من قز وغيره. وقالت عائشة رضي الله عنها: [171 أ / 2] "كنت أحيض على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث حيض جميعاً ولا أغسل لي ثوباً". وأما الثوب الذي جامع فيه الرجل أهله، فتجوز الصلاة فيه ما لم يصبه مذي أو ودي أو بول بما روي أن رجلاً سأل أم حبيبة رضي الله عنها، "هل كان وسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في الثوب الذي جامع أهله فيه، فقالت: نعم، ما لم تعلم فيه أذى"، وإن أصابته رطوبة فرجها، فقد ذكرنا الخلاف في نجاستها. وأما ثياب المشركين، فقد ذكرنا، وأما الصلاة في ثوب الصبي والصبية يجوز له أيضاً، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "حمل أمامة بنت أبي العاص في صلاته"، ولا شك أن معها ثوبها. وقال في "الأم": "يجوز حملها في الصلاة من غير ضرورة لهذا النهي". وقال أصحابنا: لو توقى عن هذه الثياب كان أحبه". فرع لو كان على الثوب نجاسة يابسة فنفضها عنه زال حكمها، لأنه لم يبق منها شيء، ولو كان في الصلاة فنفضها عن نفسه حال وقوعها صحت صلاته، كما لو كشفت الريح عورته في الصلاة فسترها في الحال، ولأنه مغلوب عليه كسلس البول، ولو وقعت في الصلاة، فأزالها بيده بطلت صلاته لمماسة النجاسة. مسألة: قال: "وأصل الأبوال، وما خرج من مخرج حي مما يؤكل أو لا يؤكل، فكل ذلك نجس

الفصل جملته: أن أبوال الآدميين كلها نجسة سواء في ذلك بول الكبير والصفير، والأنثى والذكر، ويجب غسل جميعها إلا بول الغلام ما لم يطعم الطعام، فإن الرش عليه يجزى، وهو أن ينضح بالماء حتى يغمره من غير أن ينزل الماء عنه، وأطلق أصحابنا هذا اللفظ، ومن أصحابنا من قيد. وقال: ما لم يطعم الطعام غير اللبن، وهو صحيح. وفيما نقله المزني رحمه الله خلل، لأنه قال: "فكل ذلك نجس إلا ما دلت عليه السنة من الرش قلى بول الصبي"، فأوهم الاستثناء من النجاسة طهارة بول الصبي، ولا يختلف المذهب في نجاسته، وإنما قال الشافعي رضي الله عنه: "فكل ذلك نجس يغسل إلا ما دلت عليه السنة [171 ب/ 2] وبه قال أحمد واسحق وأبو عبيد رحمهم الله. وروي هذا عن علي وعطاء رضي الله عنهم. وقال أبو يعقوب الأبيوردي من أصحابنا: الرش أن ينضح ما يزيد على قدر البول، فيطهر بذلك، وأراد بالسنة ما روي أن صبياً حمل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "ليحنكه فوضعه في حجره، فبال فيه فدعا بماء فرش عليه، وتركه"، والمستحب الغسل، نص عليه. ثم قال الشافعي: "ولا يتبين لي فرق بينه وبين بول الصبية"، يعني من حيث المعنى، ولكن السنة فرقت بينهما. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يرش من بول الغلام، ويغسل من بول الجارية". وروي عن أمامة بنت الحارث أنها قالت: كان الحسين بن علي رضي الله عنهما في حجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبال عليه، فقلت: البس ثوباً آخر، وأعطني إزارك حتى أغسله، فقال: "إنما يغسل من بول الأنثى، وينضح من بول الذكر". قال أبو سليمان الخطابي: "معنى النضح في هذا الموضع الغسل، إلا أنه غسل لا مرس ولا ودلك في الجارية: غسل يستقضي فيه فيمرس باليد ويعصر بعده"، وهذا قريب مما ذكرنا، والاعتماد في الفرق بين الصبي والصبية على السنة، لأن بول الجارية أصفو وله رائحة، وبول الصبي أبيض كالماء، فلهذا افترقا. وقال أبو يعقوب الأبيوردي: إنما فرق بينهما بعض أصحاب الحديث، وعندنا: لا فوق بينهما في جواز الرش. وقال أبو حامد: التسوية بينهما ذكره بعض أصحابنا،

وليس بشيء. وقال القفال: فيه قولان، والأقيس أن لا فرق. والصحيح الفرق للسنة، والأثر عن علي رضي الله عنه. وقال أبو حنيفة والنخعي والثوري ومالك رحمهم الله: "يجب غسل الأبوال كلها"، وقال داود: "وبول الصبي ما لم يأكل الطعام، فالرش استحباب"، وحكي عن الأوزاعي والنخعي: يرش على الأبوال كلها قياساً على بول الصبي. وأما ما عدا الآدميين من جميع الحيوانات فبولها كلها وأرواثها نجسة سوا، كانت مما يؤكل لحمه أو لا يؤكل. وقال بعض أصحابنا بخراسان: [172 أ/ 2] "بول ما لا نفى له سائلة وروثه طاهر، لأن الناس يتعافون ونيم الذباب، وأن العسل ظاهر من النحل". قال: وبناء الوجهين على أنه هل ينجس بالموت؟ وفيه قولان. وهذا غير صحيح، لأن الناس يتعافون ونيم الذباب لقلته وعموم البلوى به لا لطهارته، والعسل ليس بروث النحل، وإنما تعسله بفمها. وقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ} [النحل: 69] يعني من جوف الفم لا من دبرها. وقال القاضي أبو علي البندنيجي: سألت الشيخ أبا حامد عن ذرق السمك والجراد، فإن الناس يأكلون الجراد والسمك الصغار على صفته، فقال: كل هذا طاهر، فقلت: فما الذي يصنع بعلة الشافعي لأنه بول فقال: ينبغي أن يقال: هو نجس، فقلت: فما يقول في جب ماءٍ ألقي فيه السمك ومكث دهراً يعلم أنه بال وذرق فيه؟ فقال: ينبغي أن يكون الحكم في أبواله وذرقه أنه نجس معفو عنه، لأن الاحتراز منه لا يمكن كدود الخل وذباب الباقلي إذا مات فيه نجس ولكن يعفى عنه قولاً واحداً. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: "الكل نجس إلا ما لا يمكن الاحتراز عنه كزرق الحمام والعصافير ونحوها"، فإنه طاهر وما عداها نجس إلا أنه يختلف الحكم فيه فبول ما لا يؤكل لحمه وروثه لا يعفى عنه إلا قدر الدرهم وبول ما يؤكل لحمه يعفى عنه ما لم يتفاحش إلا عند أبي حنيفة، المتفاحش ربع الثوب، وقيل: ذرع في ذراع. وعند أبي يوسف: شبر في شبر، وفي روث ما يؤكل لحمه، لا يعتبر أبو حنيفة التفاحش، وأبو يوسف يسوي بين بوله وروثه. وقال الزهري ومالك والثوري وعطاء وأحمد وزفر رحمهم الله: "بول ما يؤكل لحمه وروثه طاهر". وقال الليث ومحمد: "بول ما يؤكل لحمه طاهر دون روثه". وقال النخعي: "بول ما عدا الآدميين وروثه كلها طاهر مما يؤكل ومما لا يؤكل". واحتجوا بما روي أن قوماً من عرينة قدموا على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة فاجتووها، أي: كرهوها فاصفرت ألوانهم، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لو خرجتم في إبلنا فأصبتم من أبوالها وألبانها"، ففعلوا فصحوا فمالوا على الرعاء فقتلوهم، [172 ب / 2] واستاقوا الإبل، وارتدوا عن الإسلام، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - في أثارهم فأتى بهم، فقطع أيديهم

وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة حتى ماتوا عطشاً". وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "في أبوال الإبل وألبانها شفاء للذرب". والذرب: فساد المعدة. قالوا: وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم"، وأخبر "في أبوالها شفاء"، فدل أنها طاهرة حلال. وقال البراء بن عازب رضي الله عنه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أكل لحمه فلا بأس ببوله". وروي عن انس رضي الله عنه، قال: كنت بين يدي ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العضباء فكانت تقصع بجرانها ولحاثها يسيل على رأسي، وهو يقول: "لبيك بجحة وعمرة"، فدل أن الحرة طاهرة. وعندكم هي نجسة. وهذا غلط للأخبار الواردة في البول، وقد ذكرنا، ولم تفصل، ولأنه حيوان محرم الدم، فكان محرم البول كالحيوان الذي لا يؤكل لحمه، أو نقول خارج نجس مما لا يؤكل لحمه، فكان نجساً مما يؤكل كما ذكرنا. وأما الخبر الأول صار منسوخاً، لأنه روي أنه مثل فيهم ونسخت المثلة حتى نهى "رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المثلة، ولو بالكلب العقور" أو ذاك للضرورة والتداوي إذا لم يكن في غيره مثل ذلك الشفاء، وهكذا الجواب عن الخبر الثاني، وحال الضرورة، أنه لا يقول: أنه حرام، بل هو مباح، فيكون الشفاء في الحلال. وأما الخبر الثالث: نحمله على حال الضرورة أيضاً، فإن قيل: وبول ما لا يؤكل لحمه عند الضرورة أيضاً، فلا تأثير له، قلنا: لعل السؤال وقع عن بول ما يؤكل فخصه بالذكر. وقيل: رواه سوار بن مصعب، وهو ضعيف، وقد روى: "ما يؤكل لحمه، فلا بأس بسؤره"، فلعل ما رويتم مصحف. وأما الخبر ليس فيه أنه لم يغسل ذلك، ويحتمل أنه أصابه اللعاب، ثم قصع بجرته. واحتج أبو حنيفة رحمه الله [173 أ / 2] بأن الناس أجمعوا على ترك الحمام والعصافير في الماجد الصحابة والعلماء في بيت الله الحرام ذلك، ولم ينكر منكر، وهذا مما روي: في بول ما يؤكل لحمه وروثه إلى قول مالك وأحمد في سيرتهم خلفاً عن سلف في مدينة الحجاز، يمكن أن يجاب أنهم تركوا ذلك للحوق المشقة في إزالته، ألا ترى أنه مستقذر بلا خلاف، "وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

عن النخامة في المسجد" وهي أنظف منه بكل حال. مسألة: قال: "ويفرك المني فإن صلى ولم يفركه، فلا بأس". وهذا كما قال: المني عندنا طاهر لا تجب إزالته، وبه قال أحمد في أصح الروايتين. وروي ذلك عن ابن عباس وسعد بن أبي وقاص وعائشة وسعيد بن المسيب وعطاء رضي الله عنهم. وقال مالك والأوزاعي وأبو حنيفة: "هو نجس" إلا أن مالكاً والأوزاعي يقولان: "هو نجس بكل حال". وقيل: هذا قول الشافعي رضي الله عنه في "القديم". حكاه أبي أحمد، وأبو حنيفة يقول: "يفرك يابساً"، وهو قول أحمد في الرواية الثانية. وقال الحسن بن صالح بن حيي: "لا يعيد الصلاة من يعيدها من المن في البدن، وإن قل". واحتجوا بما روي عن علي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إنما يغسل الثوب من خمسة: البول والمني والدم والقيء". وهذا غلط لما روى الشافعي رضي الله عنه: أن عائشة رضي الله عنها، قالت: "كنت أفرك المني من ثوب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فركا، فيصلي فيه" وروي: وهو في الصلاة. وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن المني يصيب الثوب، فقال: "أمطه عنك بإذخرة فإنما هو كبصاق أو مخاطٍ". وأما خبر عمار، قلنا: رواية ثابت بن حماد، وهو ضعيف أو نحمله على الاستحباب فيه، [173 ب / 2] ولا فرق عندما بين مني الرجل ومني المرأة. وقال بعض مشايخ خراسان: مني المرأة طاهر بأصل الخلقة، ولكن هل ينجس بملاقاة الرطوبة التي في باطن الفرج؟ قولان: أصحهما، أنه لا ينجس، لأنه إن جعل ذلك الموضع في الحكم كالطاهر فبلله كالعرق، وإن جعل في حكم الباطن فنجاسة الباطن لا حكم لها، ومن هنا قال ابن أبي أحمد في "المنهاج": "ومني المرأة نجس"، وهذا غير صحيح، والمنصوص المشهور ما ذكرنا. فرع في مني البهائم ثلاثة أوجه: أحدها: كله طاهر إلا مني الكلب والخنزير وما تولد منهما أو من أحدهما، وهذا ظاهر المذهب، لأنه خارج من حيوان طاهر يخلق منه مثل أمله، فكان طاهراً. والثاني: كل ذلك نجس، وإنما اختص الآدمي بطهارته للإكرام، فإنه يخلق منه

الأنبياء والأولياء، ولهذا لا ينجى الآدمي بالموت دون غيره. والثالث: وهو الأقيس يعتبر باللبن، فكل حيوان يحل شرب لبنه فمنيه طاهر، حيوان لا يحل شرب لبنه فمنيه نجس. فَرْعٌ آخرُ المني إذا استحال وصار علقة أو البيضة صارت دماً، فيه وجهان: أحدهما: أنهما طاهران، وهو الأصح وحكاه الربيع عن الشافعي، لأن المعنى الموجب لطهارة المني موجود فيه. وقال أبو إسحق: "هو نجسء لأنه دم". فَرْعٌ آخرُ بيض الدجاجة، هل يشرط غسله؟ فيه وجهان بناء على رطوبة فرج المرأة. فَرْعٌ آخرُ المشيمة التي يكون فيها الولد نجسة إذا نفصلت لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ما أبين من حي فهو ميت"، قلت: ويحتمل وجها آخر عندي. فَرْعٌ آخرُ الأنفحة لبن جامد يحل أكلها، وهي طاهرةء ذكره في "الحاوي". وقال بعض أصحابنا: "أنها نجسة، لأنها كرش"، والأول أظهر عندي. مسألة: قال: "ويصلي على جلد ما يؤكل لحمه إذا ذكي". وقد ذكرنا حكم الجلود فيما مضى، وجملته أنه تجوز الصلاة على كل محل طاهر عندنا. وقال بعض الشيعة: "لا تجوز الصلاة [174 أ / 2] على ثوب الصوف ونحوه مما لا ينبت على الأرض". وقد روي عن ميمونة بنت الحارث رضي الله عنها، قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يصلي على الخمرة"، والخمرة: سجادة تعمل من سعف النخل وترمل بالخيوط، وسميت خمرة، لأنها تخمر وجه الأرض، أي تستر. وروي أنه "صلى على نمرة". قال الشافعي: "النمرة، تعمل من الصوف". وروى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يصلي على الحصير والفروة المدبوغة"، وروي: "كان يستحب أن يصلى على الحصير، أو فروة مدبوغة". مسألة: قال: "ولا يصل ما انسكر من عظمه إلا بعظم ما يؤكل لحمة".

الفصل وهذا كما دل: إذا انكسر عظمه، فاحتاج أن يرقعه بعظم نظر، فإن رقعه بعظم طاهر، وهو عظم ذكي يؤكل لحمه جاز، ولذلك إذا انقلعت سنه، فجعل مكانها سن حيوان يؤكل لحمه ذكياً جاز، وإن أراد أن يرقعه بعظم نجس، وهو عظم كلب أو خنزير أو عظم ميتة لم يخل من أحد أمرين، إما أن يكون مضطراً إليه، أو غير مضطر، فإن كان مضطرا إليه، بأن لم يجد غيره جاز له، أن يرفعه به، لأنه موضع ضرورة، فهو كأكل الميتة، وإن لم يكن مضطراً إليه لم يجز أن يرقعه به، فإن خالف ورقع به، هل يلزمه قلعه؟ لا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن لا ينبت اللحم أو نبت، ولا يخاف التلف من قلعه، أو يخاف التلف من قلعه، فإن لم ينبت عليه اللحم يلزمه قلعه وإزالته بمنزلة النجاسة على ظاهر البدن، وإن نبت عليه اللحم، ولكنه لا يخاف التلف من قلعه فعليه أن يقلعه، وان كان يدخل عليه وجع شديد ومشقة عظيمة، فإن فعل، وإلا أجبره السلطان على قلعه لأن صلاته لا تصح إلا بقلعه، فهو كما لو ترك الطهارة يجبره السلطان عليها كذلك ههنا، فإن توانى ولم يقلعه وصلى يلزمه إعادة كل صلاة صلاها، وهو حامل له. وقال أبو حنيفة رحمه الله: "إذا التحم لا يلزم قلعه [174 ب / 2] أصلاً"، وإنما يتصور الخلاف معه في عظم الخنزير، فإن عنده كل عظم طاهر إلا عظم الخنزير، وهذا غلط، لأنه أوصل نجاسة غير معفو عنها إلى غير معدنها ولا يخاف التلف من إزالتها، فيلزمه إزالتها، فإن قيل: أليس لو شرب خمراً، أو أكل لحم الخنزير، أو الميتة لا يلزمه أن يتقيأ؟ قلنا: فيه وجهان: أحدهما: يلزمه إزالته بالاستقاء كما يلزم قلع العظم في مسببنا. والثاني: لا يلزمه ذلك، وهو اختيار صاحب "الإفصاح". والفرق أن هناك أوصل النجاسة إلى معدن النجاسة وموضعها، وههنا يوصلها إلى غير معدنها، فبان الفرق بينهما. ومن أصحابنا من قال: قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب صلاة الخوف: "لو أسر رجل فحمل على شرب محرم ففعل للضرورة، فعليه أن يتقيأ إن قدر عليه". قال هذا القائل: وهذا هو المذهب لأن تغذي البدن به محرم. وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه شرب لبناً، فقيل له: "إنه كان من إبل الصدقة، فتقيأ". والصحيح عندي ما سبق، فإن قيل: أليس لو غصب خيطاً فخاط به جرح نفسه لا يجبر على نزعه، وان كان لا يخاف التلف، قلنا: لأن له بدلاً يرجع إليه، وهو القيمة، فلا يجبر على نزعه، ويلزمه دفع قيمته بخلاف هذا، ولو مات قبل قلعه، فهل يقلع عنه بعد وفاته أم لا؟.

قال في "الأم": "لا يقلع بعد موته، لأنه صار ميتاً كله، والله حسيبه"، وأراد لا يقلع بعد موته، والله تعالى يحاسبه عليه، إن شاء آخذه وان شاء عفا عنه. وقال أبو إسحق: "يجب أن يقلع عنه لئلا يلقى الله تعالى بنجاسة، عصي بإدخالها في بدنه". وحكي عنه أنه قال: "إن قلع عنه كان أحوط وأولى، وإن ترك جاز". وهذا غلط، لأن المعصية، لا تزول بنزع ذلك ولا يتجدد المعصية في إنقائه [175 أ / 2] وإزالته إنما تراد للصلاة، فإذا زال التكليف لم تجب إزالتها، ولهذا لا يلزم إزالته حتى يدخل عليه وقت الصلاة، ويتوجه عليه الأمر بإقامتها، فإن قيل: أليس يزال عين النجاسة ويغسل، وإن سقط عند التكليف؟. قلنا: أما غسله، فتعبد، تعبد الأحياء، وليس بحكم يتوجه عليه في نفسه لو كان حياً، وأما إزالة النجاسة فلأن حكم الغسل لا يحصل ما دامت النجاسة، إذ النجاسة تمنع وصول الماء إلى ما تحتها، ولأنه ليس في ذلك مثله، ولا هتك حرمة، وفي كسر عظمه مثله. وقد خرج عن التكليف فلا يؤمر، فإذا تقرر هذا، قال بعض أصحابنا: هذا اللفظ يدل على أن بدن الآدمي ينجس بالموت، وهذا المذهب، لأنه قد صار ميتاً كله، أي: نجساً كله، فلا معنى لإزالة النجس عن النجس، وهذا غلط، بل المذهب أن الآدمي لا ينجس بالموت، وتأويل هذا اللفظ صار جماداً لا تكليف عليه، فلا معنى لقلعه. والمسألة مشهورة بالقولين. وإن كان يخاف التلف من قلعه مثل أن كان في صلبه أو ضلعه أو رأسه أو خاف تلف عضو من أعضائه كالأصبع واليد ونحوهما، هل يجبر على قلعه؟. المذهب أنه لا يجبر، لأن حكم النجاسة يسقط عند خوف التلف، ألا ترى أن له أن يأكل الميتة عند خوف التلف، ولأنه لما جاز أن يجبره به إذا لم يجد غيره لموضع الضرورة، كذلك لا يقلع عند الضرورة. ومن أصحابنا من قال: يجبر على قلعه، لأنه أطلق القول في "الأم"، فقال: "أجبره السلطان على قلعه"، ولم يفصل، ولأنه أن يستوفى منه حق الله تعالى، وإن أدى إلى التلف كالقطع في السرقة، ويستحق القتل على ترك الصلاة، وهذا لا يصح، لأنه يعفى عن النجاسة للضرورة كما في سلس البول والمستحاضة، ولا يعفى محن الصلاة جملة فيقتل تاركها، ولأن المجبر على الصلاة بالقتل يمكنه إسقاط [175 ب / 2] القتل عن نفسه. ومن أصحابنا من أطلق القولين في المسألة، وهو غير صحيح. فرع لو سقطت سنه، قال الشافعي رضي الله عنه: "صارت ميتة لا يجوز له أن يعيدها بعد أن بانت، ولا يعيد سناً غير سن ذكي يؤكل لحمه، فإن أعاد بعظم ميتة أو ذكي لا

يؤكل لحمه أو عظم أدمي نهو كالميتة عليه قلعه وإعادة كل صلاة صلاها، وهو عليه". نص صريحاً على أن جزء الآدمي إذا انفصل عه يكون نجساً. وقال أبو بكر الصيرفي رحمه الله من أصحابنا: عضو الآدمي إذا قطع في حياته، نهو طاهر، لأن جملته ميتاً طاهرة، وهذا خلاف النص، ولكنه أقيس، وبه أنتي، وهو اختيار كير من الأئمة، والفرق عد الشافعي بين العضو وبين الجملة أن العضو المبان لا حرمة له، ألا ترى أنه لا يجب غسله وتكفينه ودنه بخلاف الجملة مجرى العضو مجرى سائر الميتات سوى الآدمي. وقال في "الأم": "فإن اعتلت سه فربطها قبل أن تدر، فلا بأس لأنها لا تصير ميتة حتى تندر". فَرْعٌ آخرُ قال في "الأم": "لو أدخل تحت جلده دماً فثبت، فعليه إخراجه ويعيد كل صلاة صلاها مع ذلك الدم"، فإن خاف التلف، فالحكم ما ذكرنا. وسمعت بعض أصحابنا قال: "لو عض الكلب رجلاً يلزمه أن يغسل موضع العض سبعاً، فلو لم يغسل حتى التحم يلزمه شقه وغسله". وهذا عندي خطأ، لأنه لا يمكنه تمييز موضح القطع وغسله، فلا يلزمه الشق. مسألة: قال: " ولا تصل المرأة شعرها بشعر إنسانٍ، ولا بشعر ما لا يؤكل". الفصل وهذا كما قال: كل شعرٍ نجسٍ لا يجوز للمرأة أن تصل به شعرها، لأن فيه استصحاب النجاسة، ولا تجوز الصلاة مع شعر نجس، فإن فعلت وجب عليها قلعه، فإن لم تفعل أجبرت عليهء وكل شعر طاهر، هل يجوز للمرأة وصل شعرها به، فإن لم يكن لها زوج ولا سيد لا يجوز لها ذلك [176 أ / 2]، وتأثم بذلك، لأنه تدليس على طالبها، لأن الرجال يرغبون في كثرة الشعر. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "من غشنا فليس منا". وان كان لها زوج فوصلت به لتتزين له، جاز ذلك لها، وذكر بعض أصحابنا: أنه يكره لها ذلك على معنى أنها لا تأثم، ولا تعصي، إذا لم يكن قصدها التغرير، وهو القياس عندي. وقال أحمد: "يكره لها ذلك، وإن كان لها زوج" لعموم الخبر، وحكى أبو داود عنه أنه قال: "لا بأس بالقرامل" وحكي هذا عن سعيد بن جبير، والقرامل: ما يوصل

بالذوائب حتى تطول. وهذا غلط، لأنه شعر طاهر، وليس في شده غش، ولا تدليس، فلا وجه للمنع منه. والأصل في كراهة الوصل ما روي أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابنتي أصابتها علة فتمزق شعرها، أفلا أصل فيه؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لعنت الواصلة والمستوصلة". وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "ألا ألعن من لعن الله في كتابه، لعن الله الواصلة والمستوصلة، والواشمة والمستوشمة، والواشرة والمستوشرة"، فرجعت امرأة معنية بأمر دينها فقرأت القرآن، فرجعت إلى ابن مسعود، وقالت: قرأت ما بين الدفتين، فلم أجد ما قلت، فقال: لو قرأتيه لوجدتيه، الم تسمعي الله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7]؟ وقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الواصلة والمستوصلة"، الخبر. وروي أنه قال: "لعن الله الواشرة والمستوشرة، والنامصة والمتنمصة، والعاضهة والمستعضهة، والمغلجة للحسن والمغيرة خلق الله"، فقال: وأراد بالواصلة: واصلة الشعر. والمستوصلة: طالبة الوصل، والواشمة: التي تجعل في وجهها خالاً للحسن، وقيل: التي تنقش يديها وتسمه بالخضرة، وربما تسقيه العظلم، وأما الوشم بالحناء والخضاب حلال، وأراد بالمستوشمة طالبة الوشم، وأراد بالواشرة: التي تبرد الأسنان بحديدة لتحديدها وزينتها، وأراد بالنامصة: [176 ب / 2] التي تأخذ الشعر من حول الحاجبين وأعالي الجبهة. وقيل: التي تدقق حاجبيها وترققه للجمال، وهو قريب مما تقدم، والمفلجة للحسن: التي تبرد أسنانها لتفليجها. والعاضهة: التي تقع في الناس. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن وصلت بشعر الآدمي لا يجوز بحال، لأنه وان كان شعر امرأة لا يحل للزوج النظر إليه، لأنه عضو من أجنبية. وقيل: يجب دفنه ومواراته حتى قلامة ظفر يجب دفنها. وان كان شعر رجل لم يجر لها أن تستصحبه، وإن وصلت بشعر طاهر لا من آدمي، فالتفصيل فيه كالتفصيل في التطريف والنقوش بالحنا وتحمير الوجه بالحمرة، ونمش الحاجبين بالواد، فإن كانت تبرز لغير زوجها لا يجوز، وان كانت لا تبرز لغيره، ولم يعلم به الزوج لا يجوز لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زورٍ"، وإن علم الزوج به ورضي، فيه وجهان: أحدهما: يجوز، لأن فيه استمالة قلبه. والثاني: لا يجوز لعموم النهي، وقال بعض أصحابنا: مفهوم كلام الشافعي الجواز، لأنه خص شعر الآدمي وشعر ما لا يؤكل لحمه عن الوصل، فدل أن بغيره يجوز.

وقال الإمام أبو يعقوب الأبيوردي: إنما خص شعر الآدمي لنجاسته في أحد القولين، وهذا أشبه عندي، ولكنه رجع عن هذا القول على ما رواه إبراهيم البلدي عنه، فهو قول مرجوح لا اعتبار به. فرع لو وصلت شعرها بوتر أو بشيء يخالف لونه لون شعرها. قال أصحابنا: يجوز، لأنه لا خديعة فيه، وهذا عندي إذا كان طاهراً لا يحصل به الغرور، وأما إذا كانت متقنعة ينظر إلى رأسها ويغتر. بكبر ذلك بالموصول، فهو منهي أيضاً. فَرْعٌ آخرُ قال أصحابنا: خضاب الشعر مباح بالحناء الكتم ومحظور بالسواد إلا أن يكون في جهاد العدو؛ لما روى الحسن البصري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن الخضاب بالسواد، وقال: "إن الله تعالى: يبغض الشيخ الغربيب ألا لا تغيروا هذا الشيب، فإنه نور المسلم، فمن كان [177 أ / 2] لا محالة فاعلاً، فبالحناء والكتم"، ذكره في "الحاوي". مسألة: قال: "وإن قال رجل في مسجد أو أرض طهر بأن يصب قليه ذنوب من ماء". وهذا كما قال: إذا بيل على الأرض فطهارتها أن يكاثر بالماء حتى يغلب البول، ويغيره، فيزيل اللون والريح والطعم. وفي كيفية الإزالة. قال الشافعي رضي الله عنه: يصب عليه ذنوب من ماء، يعني به الدلو الكبير، والسجل مثله، وهو الأصح، وقيل: إنه دون الذنوب. وقيل: إنه اسم لما يشد به الرشاء، فإن لم يكن رشاء لا يسمى ذنوباً. والعرب دونه بلا إشكال. واختلف أصحابنا في هذا، فقال الأنماطي والاصطخري: إنه شرط وتحديد حتى لو بال اثنان لم يطهره إلا دلوان كعدد السبع في ولوغ الكلب لورود الشرع به. وقال سائر أصحابنا: وهو صحيح إنما ذكره الشافعي على سبيل التقريب أو لموافقة لفظ الخبر والاعتبار بالمكاثرة، لأن البول يختلف، فيقل ويكثر. والذنوب لا تختلف، فلا يجوز أن تكون الذنوب حداً فيه، وإنما الواجب أن يغمره بالماء حتى يغلب عليه، فلا يبقى له رائحة، ولا لون، وان كان له لون. وقد قال الشافعي رضي الله عنه: والذي يثبه أن لا يزال البول بأقل من سبعة أضعافه. وهذا يشبه أن يكون قاله بعدما جرب قدر الماء الذي يأتي على البول ويغمره، وليس فيه حد محدود قولاً مقدار مقدر إلا ما ذكرنا.

ورأيت بعض أصحابنا، قال: لا يختلف المذهب في هذا وذلك غلط. قال الشافعي: "وإن بال اثنان لم يطهره إلا دلوان"، وهذا على الخلاف الذي ذكرناه. وقصد الشافعي به ترتيب الاثنين على الواحد على موافقة الخبر لا التحديد على ما توهمه بعض أصحابنا، وهذا لأنه قد يزيد بول الواحد على بول الجماعة، فلا اعتبار بعدد الدلاء. وقال أبو حنيفة: "إن كانت الأرض رخوة فصب عليها ما يطهر ظاهرها، ولا يطهر باطنها، وإن كانت صلبة، فصب عليها ماء وجرى طهر موضع البول [177 ب / 2] والماء نجس. وذلك الموضع الذي يركد فيه الغسالة نجس ولا يطهر إلا بالحفر"، وبناه على أصله أن الماء المزال به النجاسة نجس، وأن العصر شرط في الثوب المغسول، وعندنا وإن اشترط العصر في أحد الوجهين فههنا الأرض تنشف، فيقوم مقام العصر. واحتج الشافعي بخبر الأعرابي وتمامه ما روي أن أعرابياً دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد، فلما رأى لطفه وتثريبه ولم ير من أصحابه ذلك، قال: أللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "لقد تحجرت واسعاً يا أعرابياً"، فما لبث أن قام إلى زاوية المسجد، وقعد يبول، فهم به أصحابه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تزرموه"، فلما فرع وخرج، قال: قربوا ولا تنفروا ويسروا ولا تعسروا، صبوا عليه ذنوباً من ماءٍ"، أو قال: "سجلاً من ماءٍ". وقوله: "لا تزرموه"، أي: لا تقطعوا عليه بوله. وقوله: "لقد تحجرت واسعاً"، أي: استوليت عليه بزعمك واقتطعته لنفسك. فإن قيل: روينا أنه أمر بأخذ التراب الذي أصابه البول فيلقي ويصب على مكانه. قلنا: قال أبو داود رواه عبد الله بن معقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو لم يلقه. فرع لو وقع البول على موضع من الأرض، فأتى المطر عليه كان بمنزلة الماء الذي يصب عليه، فإن كاثره حتى غلب عليه واستهلك طهر، لأن القصد غير معتبر في إزالة النجاسة، نص عليه. فَرْعٌ آخرُ لو مر بالمكان سيل نظر، فإن دام بمقدار ما يعلم أنه وصل إلى انتهاء البول طهر، وإن مر على الموضع مسحة واحدة لم يطهر كما لو صب عليه الماء فجرى عليه مسحاً لا يطهر المكان إلى انتهاء البول إليه.

فَرْعٌ آخرُ قال: لو قلع المكان، وهو رطب حتى لم [178 أ / 2] يبق له أثر رطوبة فقد طهر بغير الماء، فإن جف البول، فقلع المكان لم يطهر، لأن أثره بعد الجفاف إنما يتبين على الطبقة العليا من الأرض إلا أن يستقصي حتى يحيط أنه انتهى إلى انتهاء البول، وأزالة كله. مسألة: قال: "والخمر في الأرض كالبول". الفصل وهذا كما قال: الخمرة نجسة على ما ذكرنا، فإذا أصابت الأرض، فهي كالبول يصب عليها الماء، حتى يغمرها، فإن ذهبت ريحها، ولم يذهب لونها لا تطهر قولاً واحداً، وإن ذهبت لونها، ولم يذهب ريحها أجاب ههنا أنه لا يطهر، وفيه قول نص في "الأم "، وهو الصحيح: "إنه لا يطهر لان الرائحة قد تبقى لذكائها مع زوال العين كالماء تتغير رائحته بجيفة، ولا يحصل عينها في الماء". وقال بعض أصحابنا: إن كانت في الثوب، لا يطهر قولاً واحداً، لأن حكم النجاسة في الأرض أخف لكونها معدناً للأنجاس بخلاف الثوب، ولأن رائحة الخمر لا تتعدى إلى الثوب إلا ببقاء الأجزاء فيه لبعده عنها فتشبه الرائحة فيه بقاء اللون في الأرض، وفي الإناء إذا بقيت رائحة الخمر بعد العسل، فهو أخف حكماً من الأرض، فيطهر قولاً واحداً، لأن بقاء الرائحة فيه لكثرة المجاورة، وقيل: فيه قولان أيضاً، كالأرض ذاكره في "الحاوي". فرع لو ذهبت أوصاف النجاسة عن الأرض بالجفاف، فلم يبق لون ولا ريح، ولا طعم، فإن كان في الظل لم يطهر قولاً واحداً، وإن طلعت الشمس وهبت الرياح عليها فجفت، هل يطهر؟ قولان: أحدهما: لا بطهر، وبه قال مالك وأحمد واسحق وزفر رحمهم الله، وهو الصحيح، لأنه محل نجس، فلا يطهر بالشمس كالثوب. والثاني: يطهر، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله: لأن الشمس تحيل الشيء عن طبيعته وتأثيرها أكثر من تأثير الماء، وهم يقولون في الظل مثله بخلاف قولنا. ومن أصحابنا من رتب الظل [178 ب / 2] على الشمس. فقال: إن قلنا بالشمس لا يطهر فعند الظل أولى، وإان قلنا يطهر فغي الظل وجهان.

وقال في "الحاوي": هذا القول الثاني في شمس حكاه ابن جرير عن "القديم"، ولا يعرف هذا عن الشافعي رحمه الله. مسألة: قال: "فإن صلى فوق قبر أو إلى جنبه ما لم ينبش أجزأه". وهذا كما قال: المقبرة على ثلاثة أضرب: مقبرة منبوشة تحققها، فالصلاة فيها لا تجوز للنجاسة، وذلك أن لحوم الموتى وصديدهم اختلطت بهذا التراب البارز، والآدمي. وإن قلنا: لا ينجس بالموت، فإن ما في جوفه نجش بلا إشكال، وتخليط ذلك بغيره. والثاني: مقبرة جديدة غير منبوشة، قال الشافعي: "كرهته وأجزأه، ولا آمره بالإعادة"، وإنما كره ذلك، لأن المقبرة مدفن النجاسات، وسواء بين الصلاة فوقها وإلى جنبها أو إليها. والثالث: مقبرة أشكل أمرها، ولا يعلم، هل هي منبوشة أم لا؟. قال في "الأم": لم يكن له أن يصلي فيها، لأن الأصل الآن أنها مقبرة حتى يعلم انه لم يدفن فيها قط وترابه لم ينبش. وقال في "الإملاء": "إن صلى فيها لم أر عليه الإعادة"، فحصل قولان. وهذا الثاني قول مالك رحمه الله، ووجهه أن الأصل الطهارة فلا يزول إلا بيقين. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن شك فالأصل الطهارة، وإن كان الغالب كونها منبوشة فقولان بناء أنه يعتبر الأصل أو الغالب فهذا حسن. وقال أحمد: "لا يجوز الصلاة فيها بحال وإن تحقق طهارته"، وكذلك إذا استقبلها في الصلاة، والنهي عن ذلك تعبد، لا لأجل النجاسة، ولو صلى مع النهي هل يجوز؟ روايتان. وقال داود: "تجوز الصلاة في المقبرة المنبوشة أيضاً مع الكراهة"، والدليل على أحمد أنها بقعة طاهرة فجازت الصلاة عليها كسائر البقاع، وأما الخبر الوارد فيه محمول على المنبوشة. وروى أبو ذر رضي الله عنه، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أول مسجد وضع [179 أ / 2] في الأرض، فقال: "المسجد الحرام"، قلت: ثم أي؟ قال: "المسجد الأقصى". فقلت: كم كان بينهما؟ قال: "أربعون عاماً وحيث أدركت الصلاة فصل". مسألة: قال: "وما خالط التراب من نجس لا تنشفه الأرض إنما يتفرق فيه، فلا يطهره إلا الماء".

وهذا كما قال: إذا أحلت النجاسة الأرض لا يخلو إما أن تكون مائعة أو جامدة، فإن كانت مائعةً قد ذكرنا حكمها، وإن كانت جامدة فعلى ضربين: عين قائمة، ومتفرقة، فإن كانت عيناً قائمةً كالفأرة الميتة والعصفور الميت، ونحو هذا من العذرة والسرجين، ينظر فيه، فإن كانت يابسة فالأرض لم تنجس فتزال عن المكان، ويصلى فيه كما لو حلت ثوبا فرماها عنه، وإن كانت رطبة بقيت نداوتها في الأرض بعدما أزالها يكون مكانها من الأرض كالبول على الأرض وقد مضى حكمه، وان كانت النجاسة عيناً متفرقة فيها كأجزاء الميتة والسرجين، فلا يطهر المكان بمكاثرة الماء، وإنما يطهو بقلع المكان حتى يحيط العلم أنه لم يبق من أعيان النجاسة شيء، وإن أراد أن يصلي في هذا الموضع قبل قلع التراب لم يجز حتى يطينه بطين طاهر، فيصير حائلاً بينه وبين النجاسة، أو يفرش عليها بساطاً طاهراً، فإذا فعل هذا كره له أن يصلي على هذا الحائل، لأنه على نجاسة كالمقبرة الجديدة ويجوز، لأنه محل طاهر، وعلى هذا هذه الطرقات التي تلكها البهائم وتروث فيها، ويختلط روثها بترابها كذلك. مسألة: قال: "وإن ضرب لبن فيه بول لم يطهر إلا مما تطهر به الأرض". وهذا كما قال: إذا ضرب اللبن من تراب نجس فهو نجس، لا يجوز أن يصلي عليه ولا حاملاً له، وإن طبخ بالنار، فإن النار: لا تطهر شيئاً. وقال أبو حنيفة رحمه الله: "يطهر بالطبخ بالنار"، حتى قال في السرجين: "إذا صار رماداً بالنار طهر"، وحكي عنه أنه قال: "لو وقع خنزير في ملاحة فصار ملحاً طهر"، واحتج بأن الاستحالة أبلغ في إزالة النجاسة من الماء، ولهذا تطهر الحمر بالاستحالة [179 ب / 2]، وهذا غلط، لأن هذا لم ينجس بالاستحالة، فلا يطهر بها بخلاف العصير، فهو ينجس بالاستحالة، إذا مار خمراً، فطهر بالاستحالة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا كانت نجاسته بمائع يصير طاهراً في قول مخرج مما قال الشافعي في "الإملاء" في الحجر المستنجي به إذا أصابته الشمس وذهب أثر النجاسة يحكم بطهارته، لأن النار أبلغ في هذا المعنى من الشمس. وكان الشيخ أبو زيد يقول: "وإن قلنا: لا يطهر بالشمس ينبغي أن يطهر بالنار، لأن النار أبلغ تأثيراً من الشمس"، وربما قالوا: فيه وجهان. وذكروا الوجهين في السرجين إذا صار بطبع التراب، وصار رماداً بالنار، وكذا في الخنزير أو الكلب إذا صار ملحاً. وهذا الذي اختاره أبو زيد أسهل على الناس فيضطرون إلى هذه الفتوى في كثير من البلاد وأفتى به بعض مشايخنا الذين رأيتهم، ولكنه خلاف منصوص الشافعي، وظاهر المذهب، وعلى المذهب الظاهر إذا سجر تنوراً بالرقين فعلق به دخانه، ثم لصق به الرغيف ينجس أسفله، ولو وقع في وسط التنور على الرماد نجس أيضاً. والوجه أن يكبح التنور بشيء يابس، ثم يلصق به الرغيف، فإذا تقرر هذا، قال الشافعي رضي الله

عنه: "يكره أن يبني باللبن النجس مسجداً ويفرش به"؛ لأن المسجد ينزه عن النجاسة، والصلاة تكره على النجاسة أو إلى النجاسة، وإن لم يلاقها المصلي، فإن بنى مسجداً وصلى في بقعة طاهرة، والجدار نجس صحت صلاته كما لو كان أمامه قبراً منبوشاً أو جيفة وإن فرش المسجد به لم تجز الصلاة عليه، فإن فرش عليه بساطاً وصلى كره، لأنه صلى على نجاسة تحت بساطه، وتجوز. وأما ما يطهر به هذا اللبن ينظر فيه، فإن كانت النجاسة جامدة كلحوم الموتى والعذرة والسرجين. قال في "الأم": "لا سبيل إلى طهارة هذا الحال طبخ أو لم يطبخ، ولو غسل بما، الدنيا [180 أ / 2] كالميتة". ومن أصحابنا من قال: إذا طبخ فقد أكلت النار أجزاء النجاسة التي على وجه اللبنة، فإذا غسل بالماء ظاهرها طهر ظاهرها، ويجوز إن يصلى عليها. وهذا صحيح، وإن كان خلاف ظاهر النص وذاك محمول على ما لو لم تحرق النار أجزا، النجاسة في ظاهرها، وبقيت عينها. وقال كبار أصحابنا: المذهب ما ذكر في "الأم"، لأن عينها تبقى ولكنها تبدل وعند التأمل الأمر بخلافه. وقال ابن القطان من أصحابنا: طهر بالطبخ بالنار، لأن النار تأكل السرجين، ويبقى الطين، وهذا لا يصح لأن ما نجس بمجاورته يبقى. وروي أنه سئل الشافعي عن هذا النص، فقال: "إذا فاق الشيء اتسع"، ولم يرد الطهارة، بل أواد إباحة استعماله في غير الصلاة إذا لم يمكن التحرز منه، وإن كانت النجاسة مائعة كالخمر والبول، فإن لم يطبخ فكالأرض يبال عليها فطهارته بأن يكاثر بالماء، حتى يصير اللبن طيناً، ثم يكاثر الطين بالماء حتى تستهلك النجاسة فيه، فيطهر كله، ثم إن شاء ضربه لبناً وإن شاء تركه، ولو طبخه فغسل يطهر ظاهره دون باطنه، لأن الماء يجري على ظاهره فيزول عنه حكم النجاسة، لأنه ما بقي له غير بحال، فإن أراد غسل باطنه دقه حتى يصير تراباً، ثم كاثر بالماء، فيطهر الكل. قال بعض أصحابنا بخراسان: إذا صب عليه الماء وكاثره حتى خلص الماء إلى الوجه الآخر وتقاطر بالرشح طهر كما تطهر الأرض، وهذا صحيح لو تصور جريان الماء إلى الجانب الأخر حتى يحصل الغسل. وحكي عن أبي حامد رحمه الله أنه علل، فقال: "لا يطهر، لأن النجاسة صارت جامدة، وصار اللبن حجراً لا ينشف الماء"، وفيه نظر. مسألة: قال: "والبساط كالأرض". الفصل وهذا كما قال: لا تصح الصلاة حتى يكون طاهراً [180 ب / 2] في ثيابه وبدنه، وأن

تكون البقعة التي يصلي عليها طاهرة بحيث لا يلاقي شيء من بدنه ولا ثيابه شيئاً من النجاسة سواء كان موضع القدمين أو الجبهة أو غير ذلك. وقال أبو حنيفة: "إذا كان موضع القدمين طاهراً صحت صلاته ولا يضره نجاسة غيره"، وقال أبو يوسف ومحمد: "يجب أن يكون موضع الجبهة طاهراً أيضاً". وقيل: هو رواية أبي حنيفة، واحتج بأن وضع الركبتين والراحتين لا يجب فوضعهما على النجاسة كلا وضع. وهذا غلط، لأن هذا موضع المصلى عليه كموضع القدمين والجبهة سواء. وأما ما ذكره لا يصح لأنه وإن لم يجب وضعه، ولكن وضعه على النجاسة ممنوع كما لو كان له ثوب طويل بعضه نجس لا تجوز صلاته. فرع لو صلى على موضع طاهر من البساط وباقيه نجس تجوز صلاته سواء تحرك موضع النجاسة منه بقيامه أو قعوده، أو لم يتحرك. وقال أبو حنيفة: "إن كان يتحرك ذلك بتحركه لا تجوز صلاته مثل أن يكون على سرير يتحرك بتحركه، أو صلى على الحصير وتحت الحمير نجاسة. والحصير تضطرب فوقها بحركة وإن وقعت ثيابه على المكان الطاهر"، قال في "الأم": "وليس هذا كما لو لبس بعض ثوب طاهر، والبعض نجس ساقط عنه لا تجوز الصلاة"؛ لأنه منسوب إليه يقال له: لابس الثوب ويزول عن مكانه فيزول الثوب معه بخلاف هذا. فَرْعٌ آخرُ لو كان يصلي عليه وتحت صدره أو بطنه نجاسة على البساط ولا تصيبها ثيابه ولا بدنه، تصح صلاته، نص عليه، لأنه غير حامل لها ولا يماسها. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان: أحدهما: هذا. والثاني: لا تصخ صلاته، لأنه من جملة مصلاه فطهارته شرط، وهذا ضعيف عندي. هكذا الخلاف فيمن وضع يده في السجود على ثوب مهلهل النسج وتحته نجاسة [181 أ / 2] فوقع الالتقاء من خلل النسج بين كفه وبين النجاسة، وإن كان الثوب صفيقاً، فلا إشكال في الجواز إذا لم يكن مبتلاً يخرج بلله إلى وجه البساط. فَرْعٌ آخرُ لو كانت على رأسه عمامة وطرفها في موضع نجس لا تجوز صلاته وكذلك لو كان الطرف الساقط في نفسه نجساً، وقال أبو حنيفة: "إن كان لا يتحرك بحركته تجوز صلاته"، فنقول: هل يؤدي إلى أن تدرك النجاسة إذا قربت منه تجوز الصلاة، وإذا بعدت لا تجوز لأنها إذا قربت وأرخى إرسال العمامة لا يتحرك وإذا بعده ولم يرخ إرسالها يتحرك بتحركه، وهذا محال.

فَرْعٌ آخرُ لو شد كلباً بحبل وصلى وطرف الحبل معه نظر، فإن جعل طرف الحبل تحت قدمه لم تضر صلاته سواء كان الكلب صغيراً أو كبيراً حياً أو ميتاً، وإن شد طرف الحبل في وسطه أو أمسكه بيده نظر، فإن كان الكلب ميتاً أو صغيراً يتحرك معه إذا مشى لا تصح الصلاة، وإن كان كبيراً يمشي بنفسه، فالمذهب أنه لا تصح صلاته، لأنه حامل الحبل يلاقي النجاسة. ومن أصحابنا من قال: "لا تبطل صلاته، لألا لهذا الكلب اختياراً، فهو واقف باختياره". ومن أصحابنا من قال: "إن كان مشدوداً على موضع طاهر مثل إن لف على عنقه خرقة وشد الحبل بتلك الخرقة تجوز صلاته، وإلا فلا تجوز"، وكلا الوجهين ضعيف، لأن هذا الكلب في العادة تابع له يمشي بمشيه، فهو بمنزلة الميت. فَرْعٌ آخرُ لو كان الحبل مشدوداً في سفينة فيها نجاسة نظر، فإن جعل الحبل تحت قدميه فلا بأس، وان أمسكه بيده أو شده في وسطه نظر، فإن كانت مغيرة تحرك معه كيف مشى لا تصح صلاته سواء كان طرف الحبل مشدوداً في موضع منها لا تصيبه النجاسة، أو كان مشدوداً في النجاسة، وان كانت السفينة كبيرة لا تتحرك معه إذا مشى نظر، فإن كان طرف الحبل ملاقياً للنجاسة لا تجور صلاته. وقال بعض أصحابنا بخراسان: "فيه وجه أخر أنه تجوز صلاته، لأنه ليس من لباسه"، [181 ب / 2] وهذا غلط ظاهر، وإن كان مشدوداً في موضع طاهر منها، فالمذهب أنه تجوز صلاته، لأن السفينة ليست تابعة له، فإنها لا تزول بزواله، فلا يكون حاملاً للنجاسة. ومن أصحابنا من غلط وقال: "لا تجوز لأنها منسوبة إليه ومتصلة به"، وأطلق صاحب "الإفصاح"، فقال: فيه وجهان. وما ذكره أولى. فَرْعٌ آخرُ لو صلى وفي كمه حيوان طاهر تجوز صلاته، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "حمل أمامة في صلاته"، فإن قيل: أليس لا يخلو بطنه عن النجاسة، فيكون حاملاً للنجاسة؟ قلنا: تلك النجاسة في معدنها فلا يمنع جوازها. فَرْعٌ آخرُ لو كان مذبوحاً، فغسل موضع الدم منه وحمله في الصلاة لا يجوز، لأنه لا حكم لباطن الحيوان في النجاسة والطهارة ما دام حياً، فإذا زالت الحياة يعتبر حكمها، وتصير بمنزلة القارورة إذا جعلت فيها نجاسة وسد رأسها برصاص أو شمع، وملى معها لا تجوز صلاته. وحكي عن ابن أبي هريرة أنه حضر في مجلس ما لزم عليه هذه المسألة، فارتكب، وقال. تجوز صلاته، وهدا غلط، لأن هذه النجاسة في غير معدنها.

ورأيت بعض أصحابنا أطلق وقال: في المسألة وجهان. وقال في اللبن: إذا طهر ظاهره دون باطنه فحمله في صلاته، هل تجوز صلاته؟ والصواب ما ذكرنا، ومثل هذا الارتكاب لا يحتمل التخريج عليه. مسألة: قال: ولا بأس أن يمر الجنب في المسجد". الفضل وهذا كما قال: الأحداث على ثلاثة أضرب: حدث يمنع الصلاة دون القراءة والجماع، وهو الحدث الأصغر، فلا يمنع الاجتياز في المسجد ولا اللبث فيه. وحدث يمنع الصلاة والقراءة دون الجماع، وهو الجنابة، فهذا الجنب إذا أراد الاجتياز في المسجد نظر، فإن كان لغرض كطلبه إنساناً في المسجد والعبور فيه لقرب الطريق، فهذا مباح، وان كان لغير غرض، فينبغي أن لا يفع، فإن فعل لم يكن فيه كبير كراهة. ومن أصحابنا من سوى [182 أ / 2] بين وجود الغرض وعدمه، وأما اللبث فيه فممنوع بكل حال، وان أجنبه، وهو فيه خرج منه من غير لبث فيه، وبه قال سعيه بن المسيب والحسن وعطاء رحمهم الله تعالى، وقال مالك وأبو حنيفة: "لا يجوز له العبور فيه". وقال أحمد وإسحق: "إذا توضأ جاز له اللبث فيه"، وقال داود والمزني: "يجوز له اللبث فيه، وإن لم يتوضأ"، واختاره ابن المنذر وهذا غلط، لأن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا} [النساء: 43]. قال الشافعي: لا تقربوا مكان الصلاة، وهو المسجد، كما قال تعالى: {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ} [الحج: 40]. وأراد مواضع الصلاة. وقوله: {إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ} أي: إلا أن تجتازوا. وروي عن جابر رضي الله عنه، قال: كان أحدنا يمر في المسجد، وهو جنب مجتازاً، ولا يفعلون مثل هذا في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بإذنه، ولأنه يجوز المبيت في المسجد فلو لم يجز العبور فيه جنباً، لم يجز ذلك، لأن النوم فيه يؤدي إلى هذا، وقد قال أبو حنيفة: "إذا احتلم فيه يخرج مجتازاً". وقال الثوري "يتيمم، ثم يخرج". ويحكى عن أبي حنيفة أيضا هذا، واحتج أيضا بما روى زيد بن أسلم، قال: "كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتحدثون في المسجد، وهم على غير وضوء، وكان الرجل يكون جنبا فيتوضأ ثم يدخل المجد، فيتحدث". قلنا: يحمل على أنه كان يتحدث مجتازاً أو نسخ ذلك. وحدث يمنع الصلاة والقراءة والجماع أيضا، وهو الحيض والنفاس، فينظر فيها،

فإن كانت لا تأمن تلويث المسجد ويخاف أن يقطر الدم منها فيه يكره لها العبور فيه، كما قلنا في المستحاضة، ومن به سلس البول [182 ب / 2] إذا كان لا يأمن ذلك ولهذا قلنا: يمنع الصبيان والمجانين والسكران من المسجد لئلا يؤدي إلى هذا، فإن كان واحد من هؤلاء لا يحبس البول متى جاءه، والسكران ربما يتقيأ فيه، وهذه الكراهة كراهة تحريم. وقال أنس: يا رسول انه تخرج الحائض الخمرة من المسجد؟ قال: "نعم، وتمر إن كان طريقها فيه"، وقيل: إنها كراهة تنزيه. والأول، وان أمنت تلويث المسجد بأن تلجمت واستوثبت، هل يكره لها العبور؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يكره كالجنب، لأنه حدث يزول بالغسل كالجنابة. وقول الشافعي: "وأكره ممر الحائض"، أراد إذا كانت لا تأمن تلويثه. ومن أصحابنا من قال: يكره لها العبور بكل حال لظاهر لفظ الشافعي، ولأن الحيض أغلظ حكماً، لأنه يمنع الجماع دون الجنابة، وهذا ضعيف، لأنهما استويا في المزيل كالبول والدم سواء، وأما الذي على بدنه نجاسة، ولا يخاف منها تلويث المسجد، فله دخوله والمقام فيه. فرع لو احتلم في المسجد يخرج، فإن خاف العسس يتيمم بتراب غير تراب المسجد، فإن لم يجد إلا تواب المسجد لا يتيمم به كما لو وجد تراباً مملوكاً للغير، ولكنه لو تيمم به جاز. فَرْعٌ آخرُ لو كان له بابان، فأراد أن يخرج من الأبعد، فإن كان لغرض جاز، وإن لم يكن لغرض فيه وجهان، هل يكره أم لا؟. فَرْعٌ آخرُ إذا أراد أن يقعد في المسجد لا لغرض صحيح يكره لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما بنيت المساجد لذكر الله تعالى"، وان كان لمذاكرة العلم أو لاستماع الوعظ والعلم لا يكره. مسألة: قال: "ولا بأس أن يبيت المشرك في كل مسجد إلا المسجد الحرام". وهذا كما قال: المشرك لا يدخل الحرم بحال [183 أ / 2] لا بالإذن ولا بغير الإذن، وأراد بالمسجد الحرام جميع الحرم حتى قال الشافعي: "ويخرج الإمام منه إلى الرسل"، أي: لا يأذن للرسل في دخول الحرم ومسجده أيضاء واحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم - يوم

الفتح: "ومن دخل المسجد فهو آمن. وهذا غلط لقوله تعالى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} (التوبة: 28]، والآية بعد سنة تسع من الهجرة وفيها نزلت سورة برا، ة. وأما ما ذكر صار منسوخاً بهذه الآية. وأما غير الحرم، فلا بأس أن يدخل فيما يجوز للمسلم أن يدخل فيه من المساجد وغيرها، ويجوز أن يبيت فيه لما روي أن ثمامة بن أثال الحنفي ربط على سارية المجد بأمر وسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جماعة من المشركين في المسجد، وهم وفد ثقيف. قال أصحابنا: ولا يجوز لهم ذلك من دون إذن المسلم. ورواه بعض أصحابنا بالعراق عن الشافعي. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يحتاج إلى إذن المسلم؟ وجهان، والظاهر أنه لا يحتاج إليه، وبه قال أبو يعقوب الأبنوردي، هل يجوز للمشرك المقام في المسجد قولان. قال: وقد قيل هذا على حالين، فإن كان بإذن المسلم رجاء إن ينزجر عن كفره بسماع القرآن ومشاهدة الصلوات جاز، وإلا فلا يجوز لاستخفافه بالمسجد. وقال مالك رحمه الله: "لا يجوز لهم دخول المسجد أصلاً، وان كان بالإذن قياساً على المسجد الحرام"، وهذا غلط، لأن للمسجد الحرام من الاختصاص بالطواف والمناسك وتحريم قتل الصيد ما ليس لغيره. وقال أحمد رحمه الله: "ولا يجوز له دخول الحرمين، وفي سائر المساجد روايتان: أحدهما: لا يجوز. والثانية: يجوز بالإذن". ثم قال المزني رحمه الله: "إذا بات فيه المشرك، فالمسلم الجنب أولى"، لأنه ربما تكون حائضاً، أو جنباً مع المشرك، فمن أصحابنا من قال: استدل المزني لجواز مقام الجنب فيه بمقام المشرك فيه. قلنا: من أصحابنا دن قال: نحن إنما [183 ب / 2] نبيح للمشرك والمشركة دخول المسجد إذا لم نعلم منهما جنابة، فإن علمنا، فلا يجوز التمكن من ذلك. ومن أصحابنا من قال: يبيح له بكل حال، وهو الظاهر. والفرق أن المشرك غير معتقد تعظيم حرمة المساجد، والمسلم معتقد تعظيم حرمتها، فطولب بموجب اعتقاده. وهذا يمنع الملم من قراءة القرآن جنباً، لأنه يعتقا تعظيمه، والكافر لو تعلم القرآن وجعل يقرأه، وهو جنب لا يمنع منه ذكره ابن سريج. وفي هذا الاستشهاد نظر عندي. ومن أصحابنا من قال: مذهب المزني أنه لا يقيم فيه المشرك وأراد بهذا الكلام

الإنكار على الشافعي وهو أنه إذا لم يقم فيه الجنب المسلم ولا يبيت، فالمشرك أولى، وهذا بعيد. فرع إدخال النجاسة في المسجد لا يجوز، لأنه مكان الصلاة، وإدخال الصبيان والمجانين يكره فيه للخبر، وإدخال البهائم فيه يكره، لأنه لا يؤمن تلويثه، ولكنه لا يحرم لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "طاف راكباً". مسألة: قال: "والنهي عن الصلاة في أعطان الإبل اختيار". الفصل وهذا كما قال: ذكر الشافعي الصلاة في أعطان الإبل ومراح الغنم، والأصل فيه: ط روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا أدركتكم الصلاة وأنتم في مراح الغنم فصلوا فيه، فإنها سكينة وبركة، وإذا أدركتكم الصلاة وأنتم في أعطان الإبل فاخرجوا منها وصلوا، فإنها جن من جني خلقت ألا ترونها إذا نفرت كيف تشمخ بأنفها". والأعطان في اللغة: مواضع قريب الماء تنحى إليها الإبل الشاربة ليشرب غير الشاربة لا مبيتها بالليل. ومراح الغنم: موضع مأواها ليلاً. وجملته: أنه إن كان العطن والمراح نجسين بأبعارها وأبوالها، لا تجوز الصلاة فيها، وإن كانا طاهرين لا بول فيهما ولا بعر، فإن صلى فيهما، فالصلاة صحيحة، ولكن السنة قضت بأنها مكروه في أعطان الإبل غير مكروهٍ في المراح، وليس الفرق بينهما للطهارة والنجاسة، وإنما الفرق لما قال الشافعي في "الأم"، [184 أ / 2] وهو أنه كره الصلاة بالقرب من الإبل، لأجل أنه مأوى الشياطين والجن كما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إنها جن"، فهو كما تكوه الصلاة في الحمام والحش وان كان في موضع طاهر منهما. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حين ناموا عن الصلاة: "اخرجوا من هذا الوادي فإن به شيطاناً". قال الشافعي: "فأمرهم بالخروج من ذلك الوادي كراهة قرب الشيطان، فلذلك نهى عن الصلاة في أعطان الإبل كراهية الإبل المخلوقة من الجن"، وهو معنى قوله: (فكره قربه لا لنجاسة إبل ولا موضع فيه شيطان)، ثم استدل على جواز الصلاة بقرب الشيطان، فقال: وقد مر "برسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيطان فخنقه" ولم يفسد صلاته. وتمام هذا الخبر ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لقد مر بي البارحة عفريت ليفسد علي صلاتي، فأمكنني الله تعالى منه، فأخذته فخنقته حتى وجدت برد لسانه على أناملي،

باب الساعات التي تكره فيها صلاة التطوع

فأردت أن أربطه بسارية من سواري المسجد لتلعب به صبيان المدينة فتذكرت قول أخي سليمان عليه السلام: {} [ص: 35]، فرددته خاسئاً"، فدل على أن قرب الشيطان لا يفسد الصلاة، وهذا المعنى لا يوجد في القرب من الغنم لأن فيها سكينة وبركة، وقيل: إنها من دواب الجنة، فلهذا لا تكوه الصلاة في القرب من الغنم ومراحها. والفرق الثاني ذكره الشافعي: أن أعطان الإبل في العادة أوسخ مكان يكون في الأرض، فإن بطلت لها الدبغ من الأرض، فإنها لا تملح إلا بذلك فتكره الصلاة فيه، لأنه مكان وسخ. وأما مراح الغنم أنظف موضع وأطيب تربة، وتطلب لها ما استعلت أرضه واستدار من مهب الشمال موضعه، فلم تكره الصلاة فيه. ومن أصحابنا من فرق بأن الصلاة بالقرب من الإبل تسقط الخشوع، لأنه لا يأمن على نفسه من نفورها والخوف على نفسه منها، ويكره له ما يسقط الخشوع، ولهذا لا يصلي عند مدافعة الأخبثين ونحو ذلك. [184 ب / 2] وفي الغنم يأمن على نفسه لما فيه من البركة والسكينة، فلم يكره. وقال بعض أصحابنا: هذا الذي ذكره الشافعي في العطن والمراح ترجيح لقول من يقول لجواز الصلاة، وعلى الثوب طين الطريق إذ الغالب من العطن والمراح أنهما لا يخلوان من النجاسةء وان قلت: غير أن البناء على أمل الطهارة، وليس الغالب نجاسة جميع العطن. وقال أحمد: "لا يجوز الصلاة في أعطان الإبل، وإن كان المكان طاهراً، ويجوز في مراح الغنم، وإن كان فيه بول وبعر" بنا، على أصله، أنه طاهر، واعتمد على النهي والإباحة في الخبر، وإياه قصد الشافعي بتطويل هذا الفصل. وقيل: العطن هو الموضع الذي تناخ الإبل فيه الصيف إذا شربت في المرة الأولى ليملأ الحوض مرة أخرى ثم ترد إليه هذه الشربة الثانية تسمى العطل. باب الساعات التي تكره فيها صلاة التطوع قال: "أخبرنا مالك. . . ."، وذكر الخبر، وهذا كما قال: الأوقات المنهي عن الصلاة فيها، خمسة: وقتان: منهي عنها فيهما لأجل الفعل بعد فعل الصبح حتى يبتدئ طلوع الشمس، وبعد فعل العصر حتى تصفر الشمس، وقيل: حتى تبتدئ الشمس بالغروب ذكره القاضي الطبري. وقيل: حتى تغرب الشمس، ذكره أبو حامد، وما ذكرنا أصح وهو معنى هذا أن من لم يصل بعد صلاة الوقت في هذين الوقتين غير منهي عن الصلاة فيهما، فلو أخر الصبح عن وقته لا يكره قبله النافلة، وإذا صلى يكره حينئذ، وكذا لو

أخر العصر لم يكره النفل قبلها إلى قبل اصفرار الشمس، ولو صلى في أول وقتها يكره النفل بعدها، وإن كان قبل الاصفرار وذلك الفعل لا لعين الوقت. وثلاثة أوقات منهي عنها فيها لأجل الوقت حين تأخذ في الطلوع حتى تطلع [185 أ / 2] وترتفع قيد رمح. والثاني: حين يستوي الزوال حتى يزول وحين تأخذ في الغروب تغرب. وقال بعض أصحابنا: يكره أن يصلي بعد ركعتي الفجر غير ركعتي الفجر لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ليبلغ الشاهد الغائب أن لا تصلوا بعد الفجر إلا سجدتين". وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يصلى بعد الفجر غيرهما"، فتصير الأوقات المنهية على هذا القول ستة، وظاهر المذهب أنه لا يكره ذلك، والقائم به، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينه إلا بعد صلاة الصبح حتى تطله الشمس. هكذا ذكره مشايخ خراسان. وقال بعض أصحابنا بالعراق: "ظاهر المذهب الكراهة". وروي ذلك عن ابن عمر وعبد الله بن عمرو وسعيد بن المسيب والنخعي. وبه قال أبو حنيفة وأحمد وقال مالك: "لا تكره". وقد روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا صلاة بعد طلوع الفجر إلا ركعتا الفجر"، ومن أصحابنا من قال: جملته ثلاثة أوقات بعد طلوع الصبح حتى ترتفع الشمس قيد رمح وبعد العصر حتى تغرب الشمس، وعند استواء الشمس حتى تزول إلا إن قيل: أن تبتدئ الشمس بالطلوع والغروب يتعلق النهي بفعل صلاة الصبح والعصر، فلو لم يصل لم يحصل النهي حتى تبتدئ الشمس بالطلوع والغروب، والذي قاله هذا أحسن. وقيل: إنما نهى عن الصلاة بعد الصبح ليكون أقوى لهم على صلاة الضحى، وبعد العصر ليكون أقوى لهم على صلاة الليل، وعند نصف النهار لأجل النافلة والاستراحة. وقيل: إنه كان يجلس في هذه الأوقات ليعلمهم دينهم ويتلوا الوحي عليهم، فكانوا ينقطعون عنها بالصلاة فنهاهم عند قيام الظهيرة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قيلوا فمان الشيطان لا يقيل". [185 ب / 2] فإذا تقرر هذا، فإطلاق النهي يقتضي كل صلاة في كل مكان، وفي كل زمان. وليس النهي على ظاهره، بل أراد به الخصوص في صلاة دون صلاة، وفي مكان دون مكان وفي زمان دون زمان. فأما الصلاة: فالنهي يتناول إنشاء نافلةٍ لا سبب لها، وهو أن يشرع بنافلة لا عادة له

بها، فأما كل صلاة لها سبب، فله فعلها في هذه الأوقات كلها من ذلك الفوائت، وصلاة النذور والجنائز وصلاة الخسوف والعيدين قضاء. ومن أدرك جماعة وكان قد صلاها، والنوافل الراتبة كالوتر وركعتي الفجر وغير ذلك من النوافل الراتبة مع الفرائض وسجود التلاوة والشكر. وأما تحية المسجد، ينظر فإن دخل المسجد في هذه الأوقات لغرض له مثل العبور فيه أو لينام فيه، أو يقرأ أو يكتب علماً أو يجلس فيه لحاجة دين أو دنيا، فالسنة أن يصلي ركعتي التحية، وإن كان دخوله لغير غرض، فيه وجهان أحدهما: لا يصليها، لأنه يفضي إلى أن يتحرى النافلة في هذه الأوقات، وهو الأقيس. والثاني: له أن يصليها، لأن سببها موجود، وهو دخول المسجد. وحكي عن أبي عبد الله الزبيري من أصحابنا: أنه لا تجوز تحية المسجد مطلقاً، وقيل: هل يجوز قصد دخول المسجد للتحية؟ وجهان: أحدهما: يجوز، لأن بعد الدخول قد وجا السبب. والثاني: لا يجوز القصد إلى إحداث سببها كما لا يجوز القصد إلى الصلاة فيه. وأما ركعتا الإحرام، لا يجوز في الوقت المنهي لأن سببه متأخر عنها لا يتقدم عليها، فهو كصلاة لا سبب لها. فنقول له: أخر الإحرام وركعتيه. وذكر بعض أصحابنا: أنه يجوز ذلك في الوقت المنهي لأنها صلاة لها سبب ذكره القاضي البندنيجي، وهو غلط، وإن ذكر في هذه الأوقات صلاة كانت ورده وعادته في وقت كمن عادته أن يصلي الضحى ركعتين أو يسجد في [186 أ / 2] كل ليلة قدراً راتباً، فالحكم في سائر الناس مبني على حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فيها. وقد ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "شغل عن ركعتين كان يصليهما بعد الظهر، فذكرهما بعد العصر، فصلاهما في بيت أم سلمة رضي الله عنها، وثبت أنه داوم على قضائهما بعد العصر قالت عائشة رضي الله عنها: "ما دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً إلا وصلى تلك الركعتين". وأما غيره من الناس إذا ذكرها في هذه الأوقات قضاها فيها قولاً واحداً. وذكر بعض أصحابنا: فيه وجهاً آخر أنه لا يقضي فيها وليس بشيء. وأما المداومة على القضاء في هذا الوقت كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجعل ذلك سبباً في فعل مثلها، هل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والثاني: وهو الأصح، لا يجوز له أن يداوم عليها، لأن التكرار ليس بسبب،

ويفارق النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنه كان ألزم نفسه أن لا ينسى صلاة، فيذكرها في وقت إلا قضاها فيه، ولا يوجد هذا المعنى في غيره. وروي أن أم سلمة رضي الله عنها، قالت: أفنقضيها نحن إذا فاتتنا؟، فقال: "لا". وروي أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه يرى هذا النهي عاماً، فقيل له: أليس قد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بيت أم سلمة؟ فقال: "إنه فعل ما أمر ونحن نفعل ما نؤمر". وتأويل هذا أنه لا يجوز لنا أن نجعله عادة ويجوز له، ولو نذر أن يصلي في الوقت المنهي عنه. فالصحيح أنه لا ينعقد نذره، وفيه وجه آخر. وأما المكان، فالنهي يتناول كل البلدان إلا مكة، فالطواف وركعتا الطواف تجوز في هذه الأوقات كلها قولاً واحداً. وان أراد أن ينشئ نافلة يتبرع بها من غير سبب فيها، فهل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز كالطواف وركعتيه، ولا فرق بين مسجدها وبيوتها في ذلك. وهذا لقوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية أبي ذر رضي الله عنه [186 ب / 2]: "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس إلا بمكة، إلا بمكة إلا بمكة "ثلاثاً"، ولأن هذا التفضيل للمسجد الحرام على سائر البقاع، وتخصيصها بحراسة الله تعالى لها من أن يتخطفها شيطان. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وكل الله عز وجل بأطراف الحرم ستين ألفاً من الملائكة يحرسونه من الشياطين". وهذا اختيار جماعة من أصحابنا. وهو المذهب. والثاني: لا يجوز ذلك لأنا جق زنا الطواف وركعتيه لئلا ينقطع الطواف، وهذا معدوم في غيرها من النوافل. ولا يجوز في البيوت، لأن للمسجد حرمة زائدة. وهذا اختيار ابن سريج. وأما الزمان، فالنهي يتناول كل الأيام إلا يوم الجمعة. وفيه ثلاث مسائل: إحداها: من بكر للجمعة وجلس ينتظر الصلاة والخطبة، فله التنفل إذا استوت الشمس للزوال حتى كيف شاء، لأنه مخصوص بالاستثناء. والثانية: الأوقات الأربعة في يوم الجمعة كما في سائر الأيام، لأن الاستثناء كان في نصف النهار. وذكر بعض أصحابنا بخراسان: وجهاً أنه لا نهي يوم الجمعة أملأ عن الصلوات لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن جهنم لا تسجر يوم الجمعة"، وأشار إليه صاحبه "الإفصاح"، وهو ضعيف. والثالثة: من تخلف عن الجمعة لعذر أو غير عذر، هل له أن يتنفل إذا استوت

الشمس للزوال؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك، لأن الاستثناء لم يخص قوماً دون قوم. والثاني: وهو المذهب ليس له ذلكء لأن المعنى في الرخصة أن الناس ندبوا إلى التبكير إلى الجمعة وإيصال الصلاة، فلو أخذوا بأن يرقبوا حين الاستواء لشق ذلك عليهم، ولعله يخفى على أكثرهم، ويؤدي مراعاة ذلك إلى تخطي رقاب الناس، وذلك مكروه ولا وجه لأن يقال بترك الصلاة قبله، لأنه إذا لم يصل ربما ينامء فينتقض وضوءه، ثم يشق عليه وعلى الناس الخروج للطهارة، وهذا المعنى معدوم فيمن ليس في الجامع، فلهذا لا يتنفل في هذا الوقت. وقال أبو حنيفة: "النهي عام في جميع الأزمان، [187 أ / 2] وجميع البلاد، وجميع الصلوات إلا عصر يومه عند اصفرار الشمس، فإن الوقتين المتعلقين بالفعل سلم جواز قضاء الفوائت، ولم يجوز الصلاة المنذورة، ولا ركعتي الطواف". وقال ابن المنذر: "لا تكره الصلاة إلا بعد العصر حتى تصغر الشمس"، لأنه روي عن علي رضي الله عنه أنه "دخل فسطاطه فصلى ركعتين بعد العصر". وروي ذلك عن الزبير وابنه والنعمان ابن بشير وأبي أيوب الأنصاري وعائشة وتميم الداري رضي الله عنهم. وقال داود: "يجوز فعل النافلة بعد العصر حتى تغرب الشمس، وبعد الصبح حتى تطلع أيضاً". وقال مالك رحمه الله: "يقضي الفرائض في الأوقات المنهي عنها، ولا يصلي فيها النوافل أصلاً". وبه قال أحمد إلا أنه أجاز فيها ركعتي الطواف وصلاة الجنازة مع إمام الحي. وقال أحمد: "لا يجوز وقت الزوال يوم الجمعة". واعلم أن الشافعي رحمه الله أورد في هذا الباب أخباراً عاقة في النهي، وأخباراً عامة في الإباحة، وأخباراً فيها تفصيل، فبدأ بما يدل على النهي عاماً، وهو ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس". قال: وعن أبي ذر رضي الله عنه مثل ذلك. وأخل المزني بالنقل؟ لأنه نقل لفظ أبي ذر في خبر أبي هريرة رضي الله عنه بأن أبا هريرة روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس وبعد الصبح حتى تطلع الشمس". وروى أبو ذر رضي الله عنه ما ذكرنا وزاد فيه: "إلا بمكة" على ما ذكرنا، فكان من حق المزني إذا أراد الاختصار أن ينقل خبر أبي هريرة بلفظه، ثم يقول، وعن أبي ذر مثل ذلك، أو يقول: خبر أبي ذر بلفظه، ثم يقول: وعن أبي هريرة مثل ذلك، ثم روى عن الصنابحي، وهو عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إن الشمس تطلع ومعها قرن

الشيطان، فإذا ارتفعت فارقها، وإذا استوت فارقها، [187 ب / 2] فإذا زالت فارقها، ثم إذا دنت للغروب فارقها، فإذا غربت فارقها"، ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاة هي تلك الأوقات. واختلف العلماء في تأويل هذا اللفظ، فقال بعض أصحابنا: معنى (قرن الشيطان)، أي: ناصية الشيطان أو رأسه. وذلك أنه يقارن الشمس في هذه الأوقات الثلاثة، لأن الذين يعبدون الشمس من الناس يجدون لها في هذه الأوقات الثلاثة فيحيونها حالة الطلوع، لأنها حالة ظهورها، وعند الاستواء، لأنه أكمل أحوالها، وعنه الغروب يودعونها، فالشيطان يقارن الشمس فيرى أن هؤلاء إنما يجدون له. وقيل: أراد القرن القوم، يقال: قرن نوح وقرن كذا بمعنى القوم والحزب، فمعناه تطلع بين قرني الشيطان، وهو من جماعته الأولين، وجماعته الآخرين، فكأنه جعل عبدة الشمس قوم الشيطان وحزبه، لأنه أغراهم واستزلهم بالسجود في هذه الأوقات، ولم يرد أنهم مع الشيطان، فنهى عن الصلاة في هذه الساعات لئلا يتشبهوا بهؤلاء. وقيل: أراد بين قرني رأسه، أي: ناحيته، لأن لكل رأس قرنين، أي: ناحيتين، وسمي: ذا القرنين، لأنه ضرب على جانبي رأسه. وقيل معناه: أن الشيطان مقارن لها. وقال إبراهيم الحربي: "معناه أن ذلك الوقت حين يتحرك الشيطان وينشط، فيكون كالمعين لهم" ونظيره ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إن الشيطان يجري من ابن أدم مجرى الدم"، أي: يغويه على المعاصي، وقيل: قرن الشيطان، أي: حزب الشيطان من الإنس الذين يعبدون الشمس في هذه الأوقات كالمجوس. وقيل: حزب الشيطان من الجن الذين يصرفهم في أعماله وينهضهم في مرضاته في هذه الأوقات. وقيل: القرن، عبارة عن الارتفاع، فيرتفع الشيطان إلى الشمس في هذه الأوقات، وقيل: قرن الشيطان قوته، [188 أ / 2] فيقوي التسويل لعبدة الشمس حتى يسجدوا لها. وروى عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: "نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثة أوقات أن نصلي فيها، وأن نقبر فيها موتانا إذا طلعت الشمس حتى ترتفع بازغة، وإذا استوت في كبد السماء حتى تزول، وإذا تضيقت الغروب حتى تغرب"، يعني: مالت. وهذا لم ينقله المزني. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: شهد عندي رجال مرضيون أرضاهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الصلاة بعد الصلاتين: صلاة الصبح، وصلاة العصر"، ولم ينقله المزني أيضاً. ثم روى خبر أبي سعيد الخدري

رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن الصلاة نصف النهار حتى تزول الشمس إلا يوم الجمعة"، وهذا خبر التفصيل. وروى جبير بن مطعم رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمر الناس شيئاً، فلا يمنعن أحداً طاف بهذا البيت وصلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار"، أراد طاف وصلى ركعتي الطواف. وقيل: أراد جميع الصلوات، وهو أصح، ثم ذكر الصلوات التي لها سبب، وأورد الخبر العام في الإباحة، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نسي صلاة أو نام عنها، فليصلها إذا ذكرها"، وتمام الخبر، "فإن ذلك وقتها لا وقت لها غيره". يقول الله تعالى: {وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، أي: إذا ذكرتها. ثم أورد خبر التفصيل، وهو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى قيس بن فهد يصلي بعد الصبح ركعتين، فقال: "ما هاتان الركعتان يا قيس"؟ فقال: لم أكن صليت ركعتي الفجر، فهما هاتان الركعتان، فسكت. وروي خبر أم سلمة رضي الله عنها، وتمام الخبر ما روي عن أم سلمة، قالت: دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد صلاة العصر، فقام يصلي، فقلت لجارية لنا في البيت: قومي إلى جنب [188 ب / 2] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقولي له: ألست نهيتنا عن هذه الصلاة، فإن أشار إليك أن استأخري، فاستأخري، فقامت، وقالت ذلك، فأشار إليها، فاستأخرت، فلما صلى ركعتين سلم، ثم نادها، فقال لي: "يا هنتاه ركعتان كنت أصليهما فشغلني عنهما وفد بني تميم". وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخل أحدكم المسجد، فلا يجلس إلا بركعتين". وروي أنه قال لرجلين في مسجد الخيف: "إذا جئتما فصليا وان كنتما قد صليتما"، ثم بين الشافعي رحمه الله المبب في قضاء الصلاة التي أغفلها، فقال: وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أحب الأعمال إلى الله تعالى أدومها، وإن قل"، ثم قال: "فأحب فضل الدوام"، أي: فأحب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقضا، هذه الصلاة حيازة فضل الدوام على العمل وقرأ: "فأحب فضل الدوام".

قال الشافعي: "أحب ذلك". ثم قال الشافعي: "وصلى الناس على جنائزهم"، يريد بالناس أهل الحرمين من الصحابة والتابعين صلوا على جنائزهم بعد العصر وبعد الصبح، فدل أن النهي على الخصوص، ثم قال: "وليس من هذه الأخبار شيء مختلف على ما رتبنا لا يختلف ذلك"، ثم إذ المزني رحمه الله اعترض على الشافعي رضي الله عنه في هذا الموضع، فقال: "وهذا خلاف قوله فيمن نسي ركعتي الفجر حتى صلى الظهر والوتر حتى صلى الصبح أنه لا يعيد"، وأراد به أن قول الشافعي ههنا في قضاء صلاة فرض أو جنازة، وغير ذلك خلاف ما قال في موضع: "لا يقضي ركعتي الفجر بعدما صلى الظهر ولا الوتر بعدما صلى الصبح". ثم قال: "والذي قبل هذا أولى بقوله وأشبه عندي بأصله"، أراد ما نص عليه في هذا الباب من قضاء هذه الصلوات في هذه الأوقات، ويريد بأصله المسألة التي حكاها ههنا، وهي قوله: قال الشافعي: "من ذكر صلاة، وهو في أخرى أتمها ثم قضى"، ولم يفصل في قوله: (ثم قضى) من صلاة، [189 أ / 2] وصلاة، فينبغي إذا ذكر ركعتي الفجر، وهو في صلاة الظهر أتم صلاة الظهر ثم قضى ركعتي الفجر، ثم بعد هذا أطنب المزني الكلام في الاعتراض حتى قال الشيخ أبو زيا المروزي رحمه الله يقول: ليته اختصر من كلام نفه كما اختصر من كلام الشافعي، فحكى عن أصحابنا عن الشافعي أنه كان يقول: "التطوع قسمان: أحدهما: صلاته جماعة مؤكدة، ولا أجيز بتركها لمن قدر عليها"، وهي خمس صلوات على ما ذكرنا أكدت بالجماعة فيها. وصلاة منفرد، وهو القسم الثاني، وبعضها أوكد من بعض، فأوكد ذلك الوتر ويشبه أن يكون صلاة التهجد، أي: يثب أن يكون الوتر هي صلاة التهجد التي أمر الله تعالى رسوله - صلى الله عليه وسلم -، {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79]. وخرج الشافعي بهذا في "الأم". وقال الشافعي في "جامعه الكبير": "ويشبه أن تكون هي صلاة التهجد. وقيل: صلاة التهجد غير الوتر"، وهي صلاة يصليها الرجل في الليل ورداً له، وأصل التهجد في اللسان من الأضداد، ويقال: تهجدت إذا نمت وتهجدت إذا سهرت. وقول الشافعي: "ويشبه أن تكون صلاة التهجد"، أي: ويشبه أن يكون الذي يتبع الوتر في التأكيد صلاة التهجد، ولأن الوتر يشترك فيها النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمته، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - مخصوصاً بالتهجد لقوله تعالى: {نَافِلَةً لَكَ}، وهذا خلاف نص الشافعي، ومن قال بالأول أجاب أن قوله: {نَافِلَةً لَكَ} أي: زيادة لك وفضيلة، لأن بنوافل غيره تجبر الفرائض. وفرائضه معصومة من النقصان، فتبقى له سائر الصلوات زيادة، والمراد به الوتر، وكان واجباً

على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتهجد: اسم الصلاة بعد الهجود، وهو النومء والمستحب أن يصلي الوتر في آخر صلوات الليل. قال: "ثم ركعتا الفجر". الفصل إلى أن [189 ب / 2] قال: "وقالوا، أي: وقال أصحابنا: إن فاتته الوتر حتى يصلي الصبح لم تقض". الفصل وهذا لا يليق بما ذكروا من تأكيد أمر الوتر وركعتي الفجر، ثم أيد ذلك بإعادة ما قال الشافعي في جواز قضاء الفرض والصلوات التي لها سبب في الأوقات المنهية، واستدلالاً له بالأخبار، فأعاد المزني كل ذلك على وجهه، ثم هال في آخره: "يقال لهم، أي: لأصحابنا: فإذا استويتم في القضاء بين التطوع الذي ليس بأوكد وبين الفرض لدوام التطوع الذي ليس بأوكد، أي: جعلتم السبب فيه الدوام على العمل، فلم أبيتم قضاء الوتر الذي هو أوكد؟ ثم ركعتي الفجر، وهما أوكد من الكل"، ثم قال: "أفتقضون الذي ليس بأوكد، ولا تقضون الذي هو أوكد؟ وهذا من القول غير مشكل"، أي: خطأه وضعفه. ثم أيد ذلك بقوله: ومن احتجاجكم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من نسي صلاة أو نام عنها، فليصلها إذا ذكرها"، فقد خالفتم في ذلك قضاء الوتر وركعتي الفجر، ثم لزم نفسه سؤالاً، فقال: "فإن قيل القضاء على القرب"، أي: قضاء النوافل، إنما يكون على القرب من وقتها لا على البعد أبطلنا هذا بأنه لو صح هذا لما قضى ركعتا الفجر نصف النهار لبعد قضائها من طلوع الفجر، وأنتم تقولون: يقضي ما لم يصل الظهر وينبغي إذا صلى الصبح عند الفجر أن يقضي الوتر، لأن وقتها إلى الفجر أقرب، ثم قال: "وفي ذلك إبطال ما أعللتم به من القرب والبعد"، وقيل: كل موضع يقول المزني: قال بعض الناس: يريد به أبا حنيفة، وإذا قال: قال أصحابنا: يريد مالكاً، ثم اعلم إن أجابوا عما ذكر المزني، فقالوا: الصلاة على ضربين: فرض ونفل. وما عدا الفرض، هو النفل، وهو على ضربين: ضرب سق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمته، وضرب لم يسن رسول الله شر، وإنما يصلي الأنفال عن تلقاء نفسه [190 أ / 2]، فأما التطوع الذي سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أمته ضربان: ضرب سنت له الجماعةء وهو خمسة: العيدان والخوفان والاستقاء. وضرب لم يسن له الجماعة، وهو الوتر وركعتا الفجر وغيرهما، وكل واحد من هذين الضربين بعضه أوكد من بعض. وأما ما سن له الجماعة، فهو أوكد من سائر السنن، لأنه يشبه الفرائض للاشتراك في الجماعة، والمذهب أن جميعها سنة مؤكدة.

وقال في "الحاوي": فيه وجهان: أحدهما: أن كلها فرض على الكفاية لقوة سببها، وظهور شرائع الإسلام بها، فعلى هذا يستوي حكم جميعها في الفضل وليس بعضها أوكد من بعض. والثاني: ما ذكرنا فعلى المذهب فيها وجهان: أحدهما: في الفضل سواء لاستواء أمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - بها وفعله لها. والثاني: وهو الأظهر أن بعضها أوكد من بعض، فأوكدها صلاة العيدين، لأنها صلاة راتبة سنت لها الجماعة في وقت معلوم لا لعارض، فهي كالفرائض، ثم بعد صلاة الخسوف، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما تركها قط، وهي أكثر عملاً، فإنها ركعتان في كل ركعة ركوعان، ولأن الله تعالى ذكر الخسوف والكسوف، وذكر عقبيهما السجود، ولم يذكر ذلك في شيء من الآيات، ولأنها عبادة محضة، لا يخالطها شي،. وقال في "الحاوي": "ثم صلاة كسوف القمر، ثم صلاة خسوف الشمس، ثم صلاة الاستسقاء" التي هي عبادة. ومسألة، فهي بعد الكل. وأما ما لم تسن له الجماعة: فالوتر وركعتا الفجر آكد من غيرهما، وفي الوتر وركعتي الفجر أنهما آكد، قولان. قال في "القديم": "ركعتا الفجر آكد"، وبه قال أحمد. وقال في كتبه الجديدة: "الوتر آكد"، وبه قال مالك: وجه الأول قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها". وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوتر: "إن الله تعالى زادكم صلاة هي خير لكم من حمر النعم ألا وهي الوتر، فصلوها ما بين العشاء والفجر". ومعلوم أن حمر النعم بعض الدنيا وما فيها. وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي [190 ب / 2]- صلى الله عليه وسلم - "ما ترك ركعتي الفجر في سفر ولا حضر". وقالت أيضاً: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يكن على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح". وقالت أيضاً: "ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسرع إلى شيء منه إلى ركعتي الفجر ولا إلى غنيمة ينتهزها". وقالت أيضاً: "صلوا ركعتي

الفجر ولو طردتكم الخيل"، لأن ركعتي الفجر تحصر بعدد لا يزيد ولا ينقص، فتشبه فريضة الصبح بخلاف الوتر. ووجه القول الجديد، وهو الصحيح قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من لم يوتر فليس منا". وروى أبو سعيد الخدري رضي لله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من نسي الوتر أو نام عنه، فليصله إذا ذكر أو أصبح"، لان الناس اختلفوا في وجوب الوتر، ولم يختلفوا أن ركعتي الفجر سنة، ولان الشافعي رضي الله عنه، قال: "ويشبه أن يكون الوتر صلاة التهجد"، فإذا قلنا بالأول، فاولاً ركعتا الغجر، ثم ما عداهما، وإذا قلنا بالقول الثاني، فيه وجهان: أحدهما: الوتر ثم ركعتا الفجر، ثم ما عداهما. والثاني: الوتر ثم صلاة التهجد، ثم ركعتا الفجر، ذكره أبو إسحق، وهذا لأن قيام الليل كان نائباً عن الفرائض، وورد به القرآن، وهذا غير صحيح لما ذكرنا أن صلاة التهجد هي: الوتر ولهذا قال الشافعي: "من ترك واحدة منهما كان أسوأ حالاً ممن ترك جميع النوافل". وأراد به: الفجر وركعتي الوتر، فدل أنه لا ثالث بينهما، فإذا تقرر هذا رجعنا إلى حكم القضاء، فالصلوات على ثلاثة أضرب: صلاة تؤدى وتقضى، وهي الصلوات الخمس تؤدى في الوقت وتقضى في خارج الوقت، وصلاة تؤدى ولا تقضى بعد فوات وقتها، وهي كل صلاة تفعل لعارض، وهي صلاة الخوف والكسوف والاستقاء، وصلاة الجنازة تفعل لعارض، ولا تقضى، ولكن لا يفوت وقتها، فإن كل الزمان وقت لها، وصلاة تؤدى، وفي القضاء قولان، وهي كل نافلة لها وقت [191 أ / 2] راتب فوقت الوتر لا يريد قيام الليل عقيب فعل العشاء، ولا يزال وقته قائماً مع وقت العشاء، وفي وقته المختار قولان، كما ذكرنا في العشاء، ويبقى وقت جوازه إلى طلوع الفجر الثاني، فإذا طلع الفجر الثاني فقد دخل وقت ركعتي الفجر، ولا يزال وقتهما قائماً حتى تطلع الشمس، وقيل: وقتهما ممتد إلى زوال الشمس بظاهر لفظ الشافعي، وعندي هذا ضعيف، والأفضل تقديمهما على الفرض، فإن أخرهما جاز. ووقت سنة الظهر حين تزول الشمس، ولا يزال وقتهما قائماً مع بقاء وقت الظهر، فإذا خرج وقت الظهر فات وقتهما، وليست مع العصر سنة راتبة، والمغرب سنتها عقيبها، فإذا فاتت هذه النوافل عن أوقاتها، هل تقضى؟ قد ذكرنا قولين: قال في "القديم": "تقضى"، وهو الصحيح، وذكره في "الجديد" أيضاً على ما حكاه بعض أصحابنا، وهو اختيار المزني، وبه قال أحمد في رواية، ووجه خبر أم سلمة

رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "صلى ركعتين بعد العصر كان يمليهما بعد الظهر"، ولأنها صلاة راتبة في وقت، فأشبهت الفرائض. وقال ههنا: لا تقضى، وأومأ إليه في "القديم" أيضاً. وبه قال مالك وأبو حنيفة، لأنها نافلة، فلا تقضى كصلاة الخوف، وقيل: ما كان من صلاة النهار تقضى نهاراً، وما كان من صلاة الليل تقضى ليلاً في وجه، وهو بعيد، فإذا قلنا: لا تقضى سقطت، فإن تطوع فصلى كانت تطوعاً ابتداء بغير سبب فيكره فعلها في الأوقات المنهية، وإذا قلنا: تقضى، يجوز قضاؤها في الأوقات المنهية، ويأتي بالتي فاتته بنية القضاء، فعلى هذا وقت القضاء بعضه أوكد من بعض، فالأولى أن يقضي ما لم يأت بمكتوبة من وقت صلاة أخرى، فيقضي الوتر ما لم يطلع الصبح، فإذا فعلها، قال في "القديم". وقله المزني: "لم يقض الوتر"، ولذلك قال في ركعتي الفجر: يقضيها بالنهار [191 ب / 2] ما لم يفعل الظهر. وقال أبو إسحق رحمه الله: معناه لم أحث على قضائها بعد فعل الفرض كما أحث عليه قبل فعل الفرض، ويقضيهما أبدأ. والمسألة على قول واحد: إنه يقضي جميع النوافل. وهذا اختيار القاضي الطبري، قال: والدليل عليه أن الشافعي قال: "يصليها ما لم يصل الظهر"، فلو كانت تسقط بالفوات لسقطت بطلوع الشمس. وقيل: قول المزني عن الشافعي لا يقضي، أراد لا يقضي واجباً، كما قال أبو حنيفة. وقيل: تأويله لا بقضي في هذه الحالة بل يقدم الصلاة التي دخل وقتها، لأنها أهم وأولى. ثم يقضي ما فات من الوتر وركعتي الفجر. ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا: لا يقضي، هل يسقط فعلها بفعل الصلاة الأخرى أم بدخول وقتها؟ وجهان: أحدهما: بدخول الوقت فتسقط صلاة الوتر بطلوع الفجر وركعتا الفجر بزوال الشمس. وقول الشافعي: "حتى يصلي الصبح" عبارة عن دخول الوقت، لأنه يستحب أن يبادر إلى فعل الفريضة، فعبر بفعلها عن دخول وقتها. والثاني: بفعل الصلاة، فيقضي الوتر بعد الفجر قبل صلاة الصبح، ويصلي ركعتي الفجر بعد الزوال قبل صلاة الظهر، فإذا صلاها سقطت. ومن أصحابنا من قال في "القديم": ما كان من صلاة النهار يقضى ما لم تغرب الشمس وما كان من صلاة الليل يقضى ما لم يطلع الفجر، فعلى هذا يقضي ركعتي الفجر ما دام النهار باقياً، وهذا غريب ضعيف. ومن أصحابنا من قال: جميع النوافل يقضي إلا أربع صلوات، فإن فيها قولين: الوتر وركعتي الفجر، وصلاة عيد الفطر وصلاة عيد الأضحى.

ومن أصحابنا من سلم المزني ما نقله، وقال: المعنى ليس ما ذكرت من القرب والبعد، ولكن المعنى أن الوتر تابع لصلاة العشاء، فلو قضاها بعد الصبح صارت تابعاً لصلاة الصبح. وكذلك لو قضى ركعتي الفجر بعد الظهر صارت تابعة للظهر، وذلك لا يجوز وليس فيه أنه لا يجوز القضاء بعد ذلك ويكره له القضاء، [192 أ / 2] ولكنا لا نأمر بذلك ولا نندبه إليه، والاعتماد على أن ما اختار المزني، هو القول الصحيح وأولنا القول الآخر، فلا يحتاج الجواب، وهكذا لو كان له ورد وراتب كصلاة الضحى والتهجد فنسيه، ثم ذكرها، هل يقضيها على القولين؟ والصحيح عندي أنها تقضى. وأما الضرب الآخر من النوافل التي لم ين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسيأتي في باب آخر إن شاء الله تعالى. فرع إلى متى تمدد ركعتي الفجر؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: إلى أن يصلي الصبح. والثاني: إلى أن تطلع الشمس، لأنه وقت الصبح. والثالث: إلى الزوال، لأنه لم يصل بعد الصبح فريضة أخرى. فَرْعٌ آخرُ قال بعض أصحابنا: يستحب إذا في غ من ركعتي الفجر أن يتحدث أن يضطجع ليكون فصلاً بين النفل والغرض. والأصل فيه: ما روي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "صلي ركعتي الفجر، فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع حتى يقوم إلى الصلاة". فَرْعٌ آخرُ قال بعض أصحابنا: يستحب أن يخفف ركعتي الفجر، قالت عائشة رضي الله عنها "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخففهما حتى أني لأقول، هل قرأ فيهما القرآن أم لا؟ ". وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يقرأ فيهما: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} (الكافرون: 1)، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص: 1] ". فَرْعٌ آخرُ السنة قبل الظهر إلى متى وقتها؟ وجهان: أحدهما: إلى أن يصلي الظهر.

باب صلاة التطوع وقيام شهر رمضان

والثاني: ما لم يخرج وقت الفرض. وسنة المغرب، يمتد وقتها إلى سقوط الشفق وسنة العشاء إلى طلوع الفجر، وفيه وجه آخر سنة المغرب، إلى أن يصلي العشاء وسنة العشاء إلى أن يصلي الصبح وفي آخر وقت الوتر قولان: أحدهما: إلى طل ح الفجر. والثاني: إلى أن يشتغل بفريضة الصبح. وروي أن علياً رضي الله عنه [192 ب / 2] سمع تثويب المؤذن، فقال: "نعم، ساعة الوتر هذه"، وتلا قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 17 - 18]. باب صلاة التطوع وقيام شهر رمضان مسألة: قال: "الفرض خمس في اليوم والليلة". الفصل وهذا ما قال: القصد من هذا الباب ذكر أقسام التطوع، وبيان أحكامه، ولكنه افتتح بذكر حصر الفرائض من الصلوات في اليوم والليلة ليعلم أن ما عداها تطوع، قال: الفرض خمس وذكر حديث الأعرابي وقد مضى هذا فيما قبل، وبقولنا قال مالك والثوري والليث والأوزاعي وأحمد واسحق رحمهم الله، وقال أبو حنيفة مع أصحابه رحمهم الله: "الوتر واجب وليس بفرض"، وهذا غلط لما تقدم، وأيضا روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاث هن على فرض ولكم تطوع النحر والوتر وركعتا الفجر". وأيضاً روى ابن محيريز: أن رجلاً من بني كنانة يدعى المخدجي سمع رجلاً بالشام مكنى أبا محمد يقول: إن الوتر واجب. قال المخدجي: فرحت إلى عبادة بن الصامت رضي الله عنه فأخبرته، فقال: كأب أبو محمد، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "خمس صلوات افترضهن الله تعالى من أحسن وضوءهن وجاءهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له على الله أن يغفر له، وإن لم يفعل فليس له على الله عهد إن شاء غفر له وإن شاء عذبه". ثم ذكر بعد هذا أقسام التطوع على ما جرى في الباب قبله إلا أن موضعها في هذا

الباب، فلذلك أعاد الذكر ههنا. قال: التطوع وجهان، ثم ذكر المسألة التي اعترض عليها في الباب قبله، وقال في أثنائه. قال الشافعي رضي الله عنه: مران فاتته ركعتا الفجر [193 أ / 2] حتى تمام الظهر لم يقض، لأن أبا هريرة رضي الله عنه، قال: "إذا أقيمت الصلاة، فلا صلاة إلا المكتوبة". وقد أخل بنقل خبر أبي هريرة ههنا من وجهين: أحدهما: نقله موقوف عليه، وهو مرفوع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. والثاني: أوهم أن الشافعي استدل على أن ركعتي الفجر لا تقضى بعد الظهر بهذا، وليس كذلك،. بل استدل على أن من دخل المسجد، وقد أقيمت الصلاة لا يشتغل بركعتي الفجر. وهذا مذهبنا في الرجل إذا دخل والإمام في صلاة الصبح دخل معه في الفرض، ثم صلى بعد الفراغ منها ركعتي الفجر. وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: "إن رجا إدراك ركعة من الفرض صلى ركعتي الفجر في رحبة المسجد أو في زاوية منه، ثم دخل معه في الفرض، وان خاف فوت الفريضة دخل معه في الفريضة، ولا يقضيها"، وهذا الخبر نص في هذا الموضع على خلاف ما قال. وقال بعض أصحابنا بخراسان: روي في هذا الخبر زيادة وهي أنه قيل: يا رسول الله، "وإن كانت ركعتي الفجر، قال: وان كانت ركعتي الفجر"، وروي أنه قيل: "ولا ركعتا الفجر؟ فقال: ولا ركعتا الفجر". ثم ذكر هذا أنه كيف يستحب في النوافل أن يصليها؟ وكيف يجوز أن يصليها؟. وروي خبر ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى"، ونقل المزني هذا القدر وكان من حقه أن ينقل تمام الخبر، وهو قوله: "فإذا خشي أحدكم الصبح، فليوتر بركعة" لأنه عطف على هذا الخبر ما لم يخشى إلا بعد ذكر تمامه، وهو قوله في ذلك دلالتان إحداهما: أن النوافل مثنى مثنى. والثانية: أن الوتر واحدة، وهذه الدلالة الثانية لا مخرج إلا في آخر الخبر الذي ترك المزني روايته، وجملة الكلام فيه أن نقول: الصلاة ضربان: فرض ونفل. والفرض فرضان: فرض العين كالصلوات الخمس، وفرض الكفاية كصلاة الجنازة، والنفل ضربان: سنة راتبة. وقد ذكرناها، وسنة يتبرع بها، [193 ب / 2] فله ذلك،. أي عدد شاء. وقيل: أفضل ما يتطوع به من العبادات التطوع بالصلاة كما أن أفضل الفرائض صلاة الغرض، وهذا لأنها تجمع من القرب ما لا يجمع غيرها. ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "خير

أعمالكم الصلاة". والتطوع ضربان، ما كان تبعاً للفرائض، وما ينشأه بنير سبب. فأما ما هو تبع للفرائض، ففي عدد ركعاته وجوه: أحدها: ما حكى البويطي عن الشافعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يصلي ركعتين قبل الظهر وركعتين بعده، وركعتين قبل العصر، وركعتين قبل صلاة الفجر، فيحصل مع ركعتي المغرب وركعتي العشاء اثنتا عشرة ركعة". وقيل: ذكر في البويطي ثماني ركعات: ركعتين قبل الصبح وركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب لم يذكر الوتر، وهو ثلاث ركعات، فيصير إحدى عشرة ركعة، وهذا أدنى الكمال، وقيل: ثلاث عشرة وزاد على هذا ركعتين بعد العشاء. وقيل: إثنتا عشر ركعة على وجه آخر، وهي ركعتان قبل الصبح وأربع قبل الظهر وركعتان بعدها وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء غير الوتر، ولم يل كر قبل العصر شيئاً. وهذا اختيار أبي حامد لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من ثابر على اثنتي عشرة ركعة في كل يوم وليلة بنى الله تعالى له بيتاً في الجنة". وقيل: عشر ركعات سوى الوتر، وأسقط هذا القائل ركعتين من الأربع قبل الظهر. وقال صاحب "الإفصاح": "ثماني عشر ركعة غير الوتر، ومع الوتر إحدى وعشرون ركعة". وهذا على الكمال لما روى علي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يصلي قبل الظهر أربع ركعات وبعدها ركعتينء وقبل العصر أربع ركعات يفصل بين كل ركعتين بالتسليم ". وروي إن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "صلوا قبل المغرب ركعتين". وروت أم حبيبة رضي الله عنها [194 أ / 2] أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من حافظ على أربع قبل الظهر وأربع بعدها حرم على النار". وروى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "رحم الله امرأ صلى قبل العصر أربعاً". واختلف في كيفية العدد عن صاحب "الإفصاح"، فقال بعضهم: ركعتان قبل الصبح، وأربع قبل الظهر وركعتان بعدها وأربع قبل العصر وركعتان قبل المغرب وركعتان بعدها وركعتان بعد العشاء.

وقال بعضهم: أربح قبل الظهر وأربح بعدها، ولم يذكر ركعتين قبل المغرب. وهذا أصح، وقد تعارفت الأخبار في الركعتين قبل المغرب، فروى البخاري رحمه الله عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "حفظت من النبي - صلى الله عليه وسلم - ركعتين قبل الظهر وركعتين بعدها وركعتين بعد المغرب في بيته وركعتين بعد العشاء في بيته، ولم يذكر قبل المغرب شيئاً". وروى المختار بن فلفل عن أنى رضي الله عنه أنه قال: "صليت الركعتين قبل المغرب على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: قلت لأنس: رآكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: نعم وأنا، فلم يأمرنا ولم ينهنا". وروي هذا عن عبد الرحمن بن عوف وأبي بن كعب رضي الله عنهما، وقال طاوس: سئل ابن عمر رضي الله عنهما عن الركعتين قبل المغرب، فقال: "ما رأينا أحداً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصليهما". وقيل: ست عشر ركعة غير الوتر وأنكر هذا القائل الركعتين قبل المغرب. وقال: هو مذهب الحنابلة ونسخ بقوله - صلى الله عليه وسلم - "بين كل أذانين صلاة لمن شاء إلا المغرب". وقيل: بل يستحب أن يصلي قبل المغرب، وجهان: والصحيح أنه لا سنة للعصر. وكان يستحب أن يصلي قبلها وكم قدر المستحب؟ وجهان: أحدهما: ركعتين. والثاني: أربعاً. وقال ابن أبي أحمد: سبع عشرة مع الوتر ركعتان قبل الصبحء وركعتان قبل الظهر، وركعتان بعدها، وأربع قبل العصر [194 ب / 2] وركعتان بعد المغرب وركعتان بعد العشاء وثلاث مع الوتر بتسليمتين، ثم قال: قلته في العصر تخريجه، وهذا لا معنى له، لأن معنى السنة ما داوم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولم يداوم على السنة قبل العصر. وقال الإمام أبو عبد الله الخضري: "لا سنة للعشاء"، وذكر ركعتين بعدها من صلاة الليل، لأنه ليس في خبر أم حبيبة، ولا خلاف أنه لا سنة قبل صلاة العشاء. وذكر الباقي نحو ما اختار أبو حامدٍ. وأما النوافل التي ينشأها بغير سببٍ فهي كل نافلة يتبرع بها في غير الأوقات المنهية، وهي دون ما تقدم، لأن الموقتة بأوقات الفرائض صارت مشابهة للفرائض في

أوقاتها، فكانت آكد من غيرها، وفعل هذه النوافل يجوز ليلاً ونهاراً في الجملة والأفضل في هذا القسم صلاة التهجد، وهي صلاة الليل، ومن صلى قبل النوم لا يسمى متهجداً، وهي أفضل من صلاة النهار أيضاً. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى بالليل حسن وجهه بالنهار"، وأراد في نهار القيامة، ولأن الليل وقت الخلوة وانقطاع الذكر ويكون الناس في غفلة، فالعبادة فيه أفضل لهذا. قال - صلى الله عليه وسلم -: "من دخل السوق على غفلة من الناس فقال: لا إله إلا الله، وحده، لا شريك له، له الملك، وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير. كتب له بكل فصيح منها وأعجمي" يعني: من الأجر، والفصيح: الآدمي، والأعجمي: البهيمة. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ذكر الله في الغافلين كشجرة خضراء بين أشجار يابسة". وقال أيضاً: - صلى الله عليه وسلم - أفضل الصلاة بعد المفروضة صلاة الليل، وإذا فعل شيئاً من الصلوات، فالمستحب أن يداوم عليه، وان قل لما ذكرنا من الخبر، فإذا داوم على ركعتين في كل ليلة كان أفضل من قيام الليل كله [165 أ / 2] في غير مداومة، وإذا تقرر هذا، فالكلام الآن في صفة الأفضل منها. والجائز، فالأفضل أن يصلي مثنى مثنى ليلاً كان أو نهاراً للخبر الذي ذكرنا. وقال أبو حنيفة: "أفضل التطوع في النهار أربع بتسليمة واحدة إلا ما ورد الشرع بالركعتين، وفي الليل إن شاء صلى ركعتين أو أربعاء أو ستاً وما شاء لا فضل لبعضها على بعض". وأما الجائز: فله أن يصلي بتسليمة واحدة ما شاء من النوافل من غير حصر شفعاً كان أو وتراً ويقعد في آخوه ويتشهد ويسلم، والأولى أن يتشهد بعد كل ركعتين، فإن لم يفعل جاز، نص عليه. ومن أصحابنا من قال: له أن يزيد في عدد الركعاتء ولا يزيد على تشهدين، وإذا صلى ثمان وكعات يتشهد في السادسة، والثامنة، ولو أراد أن يتشهد بعد الرابعة والثامنة لا يجوز، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - زاد في عدد الركعات في الوتر، وما زاد على تشهدين، وكان تشهده بين الركعة والركعتين، فههنا بين ركعتين وركعتين كما في الاتساع من الفرائض. وحكي عن بعض السلف أنه كان يفعل بغير إحصاء، فقيل له في ذلك: فقال: "إن الذي أصلي له يعرف العدد. وعند أبي حنيفة: لا تجوز الزيادة على الأربع في النهار والليل على ثمان وكعات. وقال أبو يوسف ومحمد: "صلاة الليل مثنى مثنى".

وقال مالك وأحمد: "صلاة الليل والنهار مثنى مثنى"، واحتج أبو حنيفة بما روى أبو أيوب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "أربع قبل الظهر لا يسلم فيهن تفتح لهن أبواب السماء". وهذا محمول على الجواز عندنا، فإذا تقرر هذا قد ذكرنا فيما قبل أنه إذا أحرم بنافلة بنية ركعتين، ثم نسي فصلاها أربعاً يسجد سجدتي السهو، ولو غير نيته إلى الأربح يجوز، ولو نوى الأربع في الابتداء ثم سلم عن ركعتين عامداً مقتصراً عليهما يجوز، وإن لم ينو عند سلامه الاقتصار على ركعتين لا تجوز صلاته، ولو سلم ساهياً قام، [195 ب / 2] وأتم وسجد للسهو ولو سلم ساهياً عن ركعتين، ثم علم فنوى الاقتصار عليهما يسجل للسهو ثم يسلم عامداً يجوز. فرع قال بعض أصحابنا: من السنن الراتبة صلاة الضحى، وهي سنة مختارة فعلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وداوم عليها واقتدى به السلف فيها. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أقل ما كان يصليها أربع ركعات، وأكثر ما كان يصليها ثماني ركعات". وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاث هن علي فرائض وهن لكم تطوع: الوتر والنحر وصلاة الضحى". وروي "أن آخر ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الضحى في بيت أم هاني بنت أبي طالب بمكة أول عام الفتح ثماني ركعات، وداوم عليها إلى أن مات" فيختار أن يصلي ثماني ركعاتٍ اقتداء به ووقتها في الاختيار إذا مضى من النهار وربعه ووقت جوازها إذا أشرفت الشمس إلى الزوال، وهل تقضى إذا فاتت؟ قولان على ما ذكرنا. وروى أبو ذر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "على كل سلامي أحدكم صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يصليهما من الضحى". فَرْعٌ آخرُ قال بعض أصحابنا: روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يملي بين المغرب والعشاء عشرين ركعة"، ويقول: هذه صلاة الأوابين فمن صلاها غفر له"، وكان الصالحون من السلف يصلونها ويسمونها صلاة الغفلة، أي الناس غفلوا عنها وتشاغلوا بالعشاء والنوم، وهذا مختار أيضاً، والأظهر عندي أنها دون صلاة الضحى في التأكيد.

فَرْعٌ آخرُ التنفل بالأوتار لا يستحب ولو فعل جاز. فَرْعٌ آخرُ إذا أحرم بالنفل مطلقا، هل يكره أن يسلم عن ركعة؟ وجهان بنا، على ما لو نذر أن يصلي مطلقا، هل يلزم ركعة أو ركعتان، فيه قولان. فَرْعٌ آخرُ لو نذر أن يصلي النافلة قائماً لا يلزمه لأن القعود [196 أ / 2] فيها رخصة فنذره أن لا يقبل الرخصة لا يلزم كما لو نذر أن بخلاف ما لو نذر أن يصلي ركعتين قائماً يلزمه القيام: لأنه نذر أصل الصلاة بصفةٍ مخصوصة. مسألة: قال: "وأما قيام شهر رمضان، فصلاة المنفرد أحب إلي منها". الفصل وهذا كما قال: صلاة التراويح، وهي سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رضي الله عنه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرغب في قيام رمضان من غير أن يأمرهم به بعزيمة. ويقول: "من قام رمضان إيماناً أو احتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"، فتوفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك في خلافة أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وصدر من خلافة عمر رضي الله عنه. وقالت عائشة رضي الله عنها: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى صلاته ناس ثم صلى من الليلة القابلة وكثر الناس ثم المسألة الثالثة والرابعة، وعجز عن الناس، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: "قد رأيت الذي منعتم، فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا إني خفت أن يفرض عليكم ذلك في رمضان". وقال أبو هريرة رضي الله عنه: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وإذا ناس في رمضان يصلون في المسجد، فقال: "ما هؤلاء؟ قيل: هؤلاء ليس معهم قرآن وهم يصلون صلاته، فقال: "أصابوا ونعم ما صنعوا"، فدل هذا على أنه مندوب، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله وأقر أصحابه عليه. وأما إمامة هذه الصلاة إلى أنها من سنة عمر رضي الله عنه فمعاذ الله لأن القدر الذي كان في هذا من عمر رضي الله عنه أن القوم كانوا يصلون أوزاعاً في المسجد بأئمة مفرقين، فدخل عمر رضي الله عنه فرآهم جماعة، وإن كل من كانت قراءته أطيب اجتمع الناس عليه [196 ب / 2] أكثر فجمعهم عمر رضي الله عنه على إمامٍ واحد، وهو

أبي بن كعب، فصلى أبي بن كعب عشرين ليلة، ثم تأخر، فقال الناس: ابق أبي، ابق أبي، ثم صلى تميم الداري بعد ذلك بقية الشهر، وإنما ندب عمر رضي الله عنه أبياً رضي الله عنه إلى هذا، لأنه كان أقرب الناس عهداً بقراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ القرآن علي: أبي في السنة التي مات فيها، وكان قصده من هذا تلقين أبي من ألفاظه، وإنما جمعهم على إمام واحد لئلا يؤدي إلى الشتات والاختلاف، وأمر بإسراج القناديل راحة للناس وتنويرا للمسجد. وروي أن عثمان رضي الله عنه، قال: "إنها بدعة ونعمت البدعة"، يعني: القناديل وجمعهم على إمام واحدٍ. وقال علي رضي الله عنه لما رأى القناديل: رحم الله عمر ونور قبره كما نور مساجدنا بالقرآن واجتمعت الصحابة على ذلك وانقرض عصرهم عليه، فهو إجماع. فإن قيل: فعلي بن أبي طالب رضي الله عنه لم يصل معهم. قلنا: روى أبو عبد الرحمن السلمي عن علي رضي الله عنه أنه صلى بهم في شهر رمضان، فكان يلم في ركعتين ويقرأ في كل ركعة بخمس آيات، فإذا تقرر هذا، فهل الأفضل أن يصليها جماعة أو منفرداً. قال في "الأم": "فأما قيام رمضان فصلاة المنفرد أحب إلي منه". قال في "القديم": "إن صلى رجل في شهر رمضان لنفسه فهو أحب إلي، وإن صلاها في جماعة فحسن". وقال في البويطي لما ذكر النافلة المتأكدة بالجماعة: وقيام رمضان في معناها في التأكيد. واختلف أصحابنا فيه على طريقين فقال عامة أصحابنا، وهو اختيار ابن سريج وأبي إسحق وغيرهما. المذهب أن قيام رمضان في جماعة أفضل من قيامه في الانفراد. ولما روينا من خبر أبي بن كعب رضي الله عنه، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أصابوا"، أو "نعم ما صنعوا" [197 أ / 2]. فإن قيل: تركها النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجماعة. قلنا: بين العذر فيه. وقال: "خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها". وقول الشافعي: "فصلاة المنفرد أحب إلي منه". أراد بالصلاة التي هي ركعتا الفجر والوتر اللتين هما من صلاة الانفراد أحب إلي من قيام رمضان، وإن كان هذا القيام من صلاة الجماعة ألا ترى أنه قال: "فصلاة المنفرد أحب إلي"، فلو أراد قيام رمضان في الانفراد، قال: فصلاته منفرداً أحب إلي منه في جماعة، فإن قيل: فكيف يكون أولى من صلاة سنت فيها الجماعة؟. قلنا: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يدم على فعلها جماعة، بل فعلها ليالي، ثم لم يخرج إليهم،

فكان الوتر أفضل منها، ولا يكون أفضل من العيدين وصلاة الخسوف، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - داوم على فعلها جماعة. وأما ما قال في "القديم"، فليس فيه تعرض للأفضل، ومن أصحابنا من أخذ بظاهر كلامه. وقال: قيام رمضان في الانفراد أفضل منها في جماعة بشرائط، وهي أن يحفظ القرآن وتأخره عن المسجد ولا يؤدي إلى تعطيل المسجد، وانقطاع الجماعة فيه، وأنه يصلي في بيته أطول من صلاة الإمام. واحتج هذا القائل بما روى زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للقوم في رمضان لما صلى بهم ليالي: "قد عرفت ما رأيت من صنيعكم فصلوا أيها الناس في بيوتكم، فإن أفضل الصلاة، صلاة المرء في بيته إلا المكتوبة". ومن قال بالأول قال: هذا الخبر محمول على غير التراويح. وقيل: ما ذكرنا من إجماع الصحابة. ويمكن الجواب إن احتج هذا القائل بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "أفضل صلاة الرجل تطوعاً في بيته على صلاته في المسجد كفضل صلاة المكتوبة في المسجد على صلاته في بيته". وقال أيضاً - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من مائة صلاة في غيره من المساجد وصلاة [197 ب / 22] في المسجد الحرام أفضل من ألف صلاة في مسجدي هذا، وأفضل من ذلك كله رجل يصلي في بيته ركعتين لا يعلمهما إلا الله تعالى". ومن أصحابنا من قال: إنها في البيت أولى من دون الشرائط التي ذكرناها. وحكي عن مالك أنه قال: "قيام رمضان في البيت لمن نوى أحب إلي". قال مالك: وكان ربيعة وغير واحدٍ من علمائنا ينصرفون ولا يقومون مع الناس. وروي عن أبي يوسف أنه قال: "من قدر أن يصلي في بيته كما يصلي مع الإمام في رمضان، فأحب إلي أن يصلي في بيته". مسألة: قال: ورأيتهم بالمدينة يقومون بتسع وثلاثين وأحب إلي عشرون". وهذا كما قال: صلاة التراويح خمس ترويحات، كل ترويحة أربع ركعات بتسليمتين، فذلك عشرون ركعة بعشر تسليمات، وبه قال أبو حنيفة وأحمد رحمهما الله تعالى. وروي عن أحمد أنه قال: "هي ست ثلاثون ركعة لفعل أهل المدينة". وروي هذا عن مالك، وهذا غلط، لأنه روى ابن عمر رضي الله عنهما: لما اجتمع الناس على أبي بن كعب صلى بهم عشرون ركعة، وهذا إجماع منهم، وكذلك يفعلون بمكة. وأما أهل المدينة، قال الشافعي رحمه الله: "إنما صلوا تسعاً وثلاثين ركعة، لأن

أهل مكة كانوا يصلون عشرين ولكنهم كانوا يطوفون بين كل ترويحتين سبعاً، والترويحة: أربع وكعات، فكان يحصل لهم من عشرين ركعة، أربعة أطواف، فأقام أهل المدينة مقام كل طواف أربع ركعات طلباً لمساواتهم أهل مكة فيكون ست عشرة ركعة ويوترون بثلاث ركعات، فتلك تسع وثلاثون". ولم يرد به أنهم كانوا يصلون التراويح سعا وثلاثين، بل التروايح كانت ستاً وثلاثين، والوتر بعدها ثلاث ركعات. قال أصحابنا: وليس لغير أهل المدينة أن يفعلوا ذلك، لأن أهل المدينة تشرفوا بمهاجر رسول الله [198 أ / 2]- صلى الله عليه وسلم - وقبره، فلهذا أرادوا مساواة أهل مكة بخلاف غيرهم. وقال في - صلى الله عليه وسلم - القديم": "ليس في شيء من هذا ضيق ولا حد ينتهي إليه، لأنها نافلة"، ولم ينقل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك عاد محدود إلا ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يوتر منها بواحدةٍ". ورأيت في كتاب بعض مشايخنا عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يصلي في شهر رمضان عشرين ركعة، ويوتر بثلاث"، وإنماً كانوا يوترون بثلاث في مكة والمدينة لئلا تتفرق الجماعة في الوتر، فإذ الخلاف في الوتر بركعة كان ظاهراً، فاختاروا الثلاث اقتداء بمالك رحمه الله، ولهذا قال الشافعي في "القديم": "إن أوتر جماعة أوتر بثلاث، وإن أوتر منفردا أوتر بواحدة"، والمعنى ما قلنا. وقيل: كان السبب في فعل أهل المدينة أنه كان لعبد الملك بن مروان تسعة أولاد، فأراد أن يصلي جميعهم بالمدينة فتقدم كل واحد منهم فصلى ترويحة، فصار ستة وثلاثين. وقيل: السبب أن تع قبائل من العرب تنازعوا في الصلاة واقتتلوا فقدم من كل قبيلة وجل، فصلى بهم ترويحة، ثم صار سنة. مسألة: قال: "ولا يقنت إلا في رمضان في النصف الأخير". وهذا كما قال: السنة أن يقنت في النصف الأخير من رمضان في الركعة الثالثة من الوتر ولا يسن القنوت في بقية السنة، وبه قال مالك. وكلام الشافعي رحمه الله يدل على كراهية القنوت في سائر السنة في الوتر، وقال أبو حنيفة وأحمد: "ستحب القنوت في جميع السنة حتى لو تركه يسجد للسهو"، وبه قال أبو عبد الله [198 ب / 2] الزبيري من أصحابنا، واحتجوا بما روي عن أبي بن كعب رضي الله عنه، قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث: بـ: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}، ويقنت في الثالثة قبل الركوع". وهذا غلط لما روى عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "السنة إذا انتصف الشهر من

رمضان أن يلعن الكفرة في الوتر بعد ما يقول: "سمع الله لمن حمده، ثم يقول: أللهم قاتل الكفرة". وروي أن عمر رضي الله عنه جمع الناس على أبي بن كعب رضي الله عنه في صلاة التراويح ولم يقنت إلا في النصف الثاني، قال الشافعي: "وكذلك كان يفعل ابن عمر ومعاذ القاري، وإنما قيل له: القاري لأنه كان من بني قارة بغير همزة، وليس هو من القراءة بالهمز. وأما ما رووا قلنا: قال أصحاب الحديث: ذكر القنوت في هذا الحديث ليس بصحيح. ومن أصحابنا من قال: يجوز في جميع السنة من غير كراهة، فلو تركه لا يسجد للسهو بخلاف ما لو ترك القنوت في النصف الأخير، فإنه يسجد للسهو، وهذا اختيار مشايخ طبرستان. وأنا أقول به". وقال مالك: "يقنت في جميع رمضان في الوتر". فرع قال أصحابنا: لم يذكر الشافعي ما يقنت به في الوتر، وإنما لم يذكره، لأنه نص عليه في قنوت الصبح، وهو ما روى الحسن بن علي رضي الله عنه، قال: علمني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمات أقولهن في الوتر: "اللهم اهدني فيمن هديت. . ." إلى آخره. وروى عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في آخر وتره: "اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك ومعافاتك من عقوبتك، وأعوذ بك منك لا أحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيت على نفسك". وروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول في القنوت: "اللهم إنا نستعينك. . ." إلى آخره. وزاد ابن أبي أحمد: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا} " إلى آخر السورة. قال القاضي [199 أ / 2] أبو الطيب: كان شيوخنا يدعون فيقولون: اللهم عذب كفرة أهل الكتاب والمشركين الذين يصدون عن سبيلك ويكذبون رسلك ويدعون معك إلهاً، لا إله إلا أنت، تباركت وتعاليت عما يقول الظالمون علواً كبيراً، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، وأصلح ذات بينهم، وألف بين قلوبهم، واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة، وأوزعهم أن يوفوا بعهدك الذي عاهدتهم، وتوفهم على ملة رسولك، وانصرهم على عدوك وعادوهم، واجعلنا برحمتك منهم، اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. فإذا فرغ من القنوت، فالمستحب أن يقول بعده: سبحان الملك القدوس، رب الملائكة والروح، لأنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقول ذلك ثلاثاً ويمد صوته: "رب الملائكة والروح".

قال: ويستحب له رفع اليدين في الدعاء، فإذا فرع مسح بهما وجهه، وقد شرحنا هذا فيما تقدم. مسألة: قال: وآخر الليل أحث إلي من أوله، وإن جزأ الليل أثلاثاً فالأوسط أحب إلي أن يقومه". وهذا كما قال: قد ذكرنا أن الصلاة بالليل أفضل. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من طال قيامه بالليل خفف الله عنه يوم القيامة". وروي أنه سئل - صلى الله عليه وسلم - عن رجل نام حتى أصبح، فقال: "ذاك رجل بال الشيطان في أذنه". ثم إذا أراد أن يجعل الليل ثلاثة أجزاء: للنوم وللصلاة، ولغيرهما. قال الشافعي: "الأوسط أحب إلي أن يقومه"، وإن أراد أن يجعله جزءين: فالنصف الثاني أفضل، وهذا لأنه أشق، والطاعات فيه أقل، ولأن ذلك وقت النوم والغفلة، فكان الذكر فيه أفضل. وقال مالك: "الثلث الأخير أفضل بكل حال"، وهذا غلط لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الليل [199 ب / 2] أفضل، فقال: "جوف الليل البهيم"، وروي: "جوف الليل الغابر" وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الليل أجوب وأسمع، فقال: "جوف الليل الأخير"، أي: أوجب للإجابة. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل عن الصلاة نصفه الليل، فقال: "تلك صلاة الأوابين"، وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينام نصف الليل، ويقوم الثلث وينام السدس". وقالت: "من أراد أن يراه قائماً رآه، ومن أراد أن يراه نائماً رآه، ومن أراد أن يراه صائماً رآه، ومن أراد أن يراه مفطراً رآه"؟ وقالت أيضاً: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوم حتى يقال: لا ينام وينام حتى يقال لا يقوم ويصوم، حتى يقال: لا يفصر ويفطر حتى يقال: لا يصوم". وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أفضل الصيام صيام أخي داود - صلى الله عليه وسلم - كان يصوم يومأ ويفطر يوماً وأفضل القيام قيام أخي داود كان ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه". وقال مالك: "كان عبد الله بن أبي بكر يقوم الليل، فإذا أصبح يقول: عند الصباح يحمد القوم السرى يعني من سار ليلاً حمد أمره إذا أصبح".

وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا أيقظ الرجل أهله من الليل فصليا ركعتين كتبا في الذاكرين والذاكرات". وقال الربيع رحمه الله: "كان الشافعي رضي الله عنه دهره ينظر في العلم الثلث الأول ويصلي الثلث الثاني وينام الثلث الثالث. وقال المعتمر بن سليمان لبعض أهله: لولا أنك من أهلي ما حدثتك أنا منذ اثنين وأربعين سنة أقوم يوماً وأفطر يوماً، وأصلي الصبح على طهر العشاء". وكان للحسن بن صالح بن حي ثلاثة أخوة يجزؤوا الليل أرباعاً، فكان كل واحد يقوم ربع الليل فمات واحد منهم فجزؤوه ثلاثة أجزاء، ثم مات آخر فجزؤوه نصفين، [200 أ / 2] ثم مات الثالث، وبقي الحسن، فكان يقوم الليل كله. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى دار عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه فرأى امرأته متبذلة في ثياب مهنةٍ، فقال لها ما لك لا تتزينين لعبد الله؟ فقالت: إن عبد الله لا حاجة له في إنه يقوم الليل كله ولا ينام ويصوم دائماً ولا يفطر. قال عبد الله: فلما أتيت داري صادفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فألقيت له وسادة فوضعها بيني وبينه ولم يجلس عليها، ثم قال: "ألم أخبر أنك تقوم ولا تنام وتصوم ولا تفطر؟ "، فقلت: إني أفعل ذلك، فقال: "لا تفعل فإنك إذا فعلت ذلك عجمت عيناك ونقهت نفسك إن لنفسك عليك حقاً وإن لأهلك عليك حقاً وأن لزوجك عليك حقاً، قم ونم وصم وافطر". ثم قال: "صم ثلاثة أيام من كل شهر". قلت: إني أطيق أكثر من ذلك. قال: "صم عشرة أيام"، قلت: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: "صم يوماً وأفطر يوماً". قلت: إني أقوى من ذلك. قال: "لا تفعل فإنه أفضل الصيام وهو صوم أخي داود عليه السلام"، ثم قال: "اختم القرآن في الشهر مرة". قلت: إني أقوى من ذلك. قال: "في كل عشرة أيام"، قلت: إني أقوى من ذلك، قال: "في كل ثلاثة أيام"، قلت: إني أقوى من ذلك، قال: "لا". فكان عبد الله بعدما كف بصره وكبر يبكي ويقول: ليتني قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإنه كان أعرف بنفسي مني". ومن ههنا قال بعض أصحابنا: يكره أن يقوم الليل كله. مسألة: قال: "قلت للشافعي: أيجوز أن يوتر بواحدةٍ؟ ". الفصل وهذا كما قال: قد ذكرنا أن الوتر سنة مؤكدة غير واجبةٍ خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله وحده. وقد روى عاصم بن حمزة عن علي رضي الله عنه، قال: "ليس الوتر محتم كهيئة الصلاة المكتوبة، ولكنه سنة سنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ".

وقد قال صلى الله عليه وسلم: "أوتروا [200 ب / 2] يا أهل القرآن". وقال ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم: "سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصلاة في السفر ركعتين وهما تمامء والوتر من السنة"، فإذا ثبت هذا فالكلام الآن في أربعة فصول: في قدره، ووقته، وما يقرأ فيه، ويدعى به. فأما قدره، ففيه مسألتان: الجواز، والأفضل. أما الجواز فأقله ركعة وأكثره إحدى عشرة ركعة، ويجوز فيما بين ذلك بكل وتر كيف شاء بتسليمة واحدة أو بما أحب من التسليمات بين كل ركعتين. وبه قال أحمد رحمه الله، وقال مالك رحمه الله: "أقل الوتر ركعة، وليس لما قبل ذلك من الشفع حد، وأقله ركعتان". وقال أبو حنيفة والثوري: "الوتر ثلاث ركعات بتسليمة واحدة، لا يزاد عليها ولا ينقص منها كالمغرب، والركعة الواحدة ليت بصلاة". وحكي عن مالكٍ، قال: الوتر ثلاث بتسليمتين، ولكن لا ينبغي أن يتكلم بعد السلام، ولا يحتاج إلى تجديد النية لهذه الركعة الثالثة. واحتجوا بخبر أبي بن كعب الذي ذكرنا. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه "نهى عن البتراء". وقال ابن مسعود رضي الله عنه ما أجزأت ركعة قط. وهذا غلط لما روى ابن المنذر بإسناده عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "الوتر حق وليس بواجب فمن أحب أن يوتر بواحدة، فليفعل ومن أحب أن يوتر بثلاث، فليفعل، ومن أحب أن يوتر بخمس فليفعل". واحتج الشافعي بأن عثمان رضي الله عنه كان يحيي الليل بركعة هي وتره، وروي: أنه كان يقرأ فيها جميع القرآن. وروي: أن معاوية رضي الله عنه أوتر في الشام بواحدة، فقال ابن عباس: أصاب إنه لفقيه، ومثل هذا عن سعيد بن أبي وقاص. واحتج على مالك وأبي حنيفة أيضا، بأن عبد الله بن عمر كان يسلم بين الركعة والركعتين من الوتر [201 أ / 2] حتى يأمر ببعض حاجته، وان لم يكن له حاجة كان يقول: يا جارية اعلفي الناضح. واحتج على مالك أيضا، بأن من سلم من اثنتين فقد فصل، فإن قال: ما فصلت لأني أمنع الكلام، قلنا: لا خلاف أنه لو أحدث لا يبطل ما مضى من الركعتين. وروى ابن عمر رضي الله عنه إن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يفصل بين الشفع والوتر، ولأنه يجهر في قراءة الثالثة منها"، فلو كانت موصولة بما قبلها لم يجهر فيها كما لا يجهر في الثالثة من المغرب.

وأما البتراء فهي: الناقصة الأركان التي لا يقيم فيها الركوع والسجود. وأما خبر أبي نقول به جوازاً. وأما قول ابن مسعود أراد في الفريضة خلافاً لابن عباس رضي الله عنه حيث قال: "صلاة الخوف ركعة"، ثم تقابل بما روي أن عمر رضي الله عنه "مر بالمسجد فصلى ركعة فتبعه رجل، فقال: يا أمير المؤمنين إنما صليت ركعة، فقال: إنما هي تطوع، فمن شاء زاد ومن شاء نقص". وروى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خفت الصبح فواحدة توتر بها، فإن الله عز وجل وتر يحب الوتر"؛ لأنه واحد. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا توتروا بثلاث تتشبهوا بالمغرب، ولكن أوتروا بخمس أو بسبح أو بتسع أو بإحدى عشرة أو بأكثر من ذلك". وروى ابن عمر رضي الله عنه "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يفصل بين الشفع والوتر يأكل ويشرب ثم يركع ركعة". وروى أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "الوتر خمس أو ثلاث أو واحدة". وقال أبو أمامة رضي الله عنه: يا رسول الله بكم أوتر؟، قال: "بواحدة"، قال: يا رسول الله إني أطيق أكثر من ذلك، قال: "بثلاث"، ثم قال: "بخمس"، ثم قال: "بسبع"، قال أبو أمامة: [201 ب / 2] أني كنت قبلت رخصة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما الأفضل، قال الشافعي في "القديم" و"الجديد": "والذي اختار ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كان يصلي إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة، فيصلي عشر ركعات بخمس تسليمات ثم يصلي ركعة واحدة، وهي الوتر"، لأن السلام يفصل. قال بعض أصحابنا: لا يختلف مذهب الشافعي رحمه الله أن الوتر واحدة. ذكره في "الحاوي". وبه قال أبو بكر وعمر وعثمان وسعد وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، وأقل الأفضل ثلاث بتسليمتين، وهي أفضل من واحدة والخمس أفضل من ثلاث. وقال الداركي من أصحابنا وجماعة: ينوي الوتر في كلها وتر وغلط من قال: الوتر منها ركعة، وهذا اختياري فإن قيل: كيف يكون كلها وتر؟ والسلام فاصل. قلنا: يجوز

أن يسمى كلها وتراً، وإن كان السلام في أثنائها كما تسمى العشرون ركعة تراويح، وإن كان يسلم عن كل ركعتين منها. ومن أصحابنا من قال: ينوي بما تقدم على الواحدة صلاة الليل، ومن أصحابنا من قال: ينوي مقدمة الوتر، وقال مشايخ طبرستان: ينوي سنة الوتر ويجوز أن يكون للسنة سنة كركعتي طواف القدوم. وقال القفال: لو لم يقدم على الواحدة ركعتين فالثلاث بتسليمة أفضل منها ولو قام عليها ركعتين لصلاة الليل، ثم أوتر بواحدة كان هذا أفضل من ثلاث وكعات موصولة للوتر، وهكذا لو صلى رجل إحدى عشرة ركعة أوتر فيها بواحدة يكون أفضل ممن أوتر بإحدى عشرة ركعة متصلة، وهذا ظاهر ما ذكر في "المختصر"، لأن فيها زيادة تكبيرات وتسليمات. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه أربعة أوجهٍ: أحدها: هذا. والثاني: الثلاث أفضل بجلستين وتسليمة واحدة وفقاً للخلاف، وهو اختيار الشيخ أبي زيد. والثالث: الواحدة أفضل [202 أ / 2] بكل حالٍ. والرابع: إن كان في الجماعة فالثلاث بتشهد واحد أفضل حتى لا يؤدي إلى الفتنة بين الناس. واختلاف الجماعة، ولأن في ذلك تشبيه بصلاة المغرب، لأن فيها تشهدين، وإن كان منفرداً، فالواحدة أفضل. ورأيت بعض أصحابنا اختار هذا من غير فرق بين الجماعة والانفراد وفقأ للخلاف، وأنا أفعل هذا منفرداً وأوتر بواحدة في الجماعة إظهاراً لمذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه، فإنه الحق، والله أعلم. وقال بعض أصحابنا: إذا أوتر بثلاث أو بخمس أو بإحدى عشرة إن شاء لا يتشهد إلا في الركعة الأخيرة، وإن شاء يتشهد فيها وفيما قبلها، وروي كلاهما في الخبر، قالت عائشة رضي الله عنها: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بثلاث ولا يجلس إلا في آخرهن وبإحدى عشرة ركعة لا يجلس إلا في آخرهن". وقالت أيضاً: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوتر بخمس لا يجلس إلا في الرابعة والخامسة، وبتسع لا يجلس إلا في السادسة والثامنة". وقالت أيضاً: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي الليل ثلاث عشر ركعة يوتر منها بخمس يجلس في الأخيرة ويسلم". وأما وقته فمن لا يريد قيام الليل يصلي العشاء ويوتر ثم ينام، ومن أواد قيامه، فإن شاء أوتر، ثم قام، وإن شاء قام وصلى بعد ذلك صلاة الليل وختمها بالوتر، وهذا هو الأفضل.

وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: "متى توتر"؟ فقال: أول الليل، ثم قال لعمر بن الخطاب: "متى توتر"؟ فقال: في آخر الليل، فقال: "أما هذا فقد أخذ بالحذر يعني الحزم والاحتياط، وأما هذا فقد أخذ بالقوة"، وقيل: تعجيلها أولى أم تأخيرها وجهان: أحدهما: تأخيرها أفضل لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يصليها بعد فراغه من صلاة الليل، وقال: "الوتر ركعة في آخر الليل". والثاني: تعجيلها أولى، لأن في تأخيرها مخاطرة. وروى جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، [202 ب / 2] قال: "من خاف منكم أن لا يستيقظ من آخر الليل فليوتر من أول الليل، ثم ليرقد، ومن طمع منكم أن يقوم من آخر الليل فليقم آخر الليل ثم ليوتر". وأما ما يقرأ فيه، فالمستحب عند الشافعي أن يقرأ في الركعة الأولى: بـ: {سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1]، وفي الثانية بـ: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ}، وفي الثالثة بـ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، والمعوذتين. وبه قال مالك وأبو حنيفة، وقال أحمد: "يقرأ في الثالثة بسورة الإخلاص وحدها"، وهكذا روى ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا غلط لما ذكرنا رواية عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يقرأ كذلك، وهذه الرواية أولى للزيادة وآكد بما قد ذكرنا. فرع إذا صلى الوتر ثم نام ثم قام وصلى لا يلزمه إعادة الوتر. وبه قال مالك وقال أحمد: "انتقضت وتره فيشفعها بركعة ثم يتهجد بما أراد، ثم يوتر بركعة". وروي ذلك عن علي وابن عمر رضي الله عنهم. وقيل عن ابن عباس مثله. وروي عن أبي بكر الصديق وعمار بن ياسر وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهم قالوا: "لا يشفع الرجل وتره". ورأيت بعض أصحابنا بخراسان يميل إلى هذا القول، وذكر وجها في المسألة، وهذا غلط لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا وتران في ليلة"، وهذا وتران بل ثلاثة. فَرْعٌ آخرُ لو اعتقد أنه صلى العشاء فأوتر ثم تذكر أنه لم يصلها صلى العشاء، ثم أوتر، لأن

باب

تقديم الوتر على العشاء لا يجوز. وبه قال صاحباه. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: "يجزئه الوتر"، وهذا غلط، لأنه تابع للعشاء ولم يفرد بوقت ولا يتقدم التابع على المتبوع. مسألة: قال المزني رحمه الله،: "قلت: آنا لا أعلم الشافعي رضي الله عنه ذكر موضع القنوت من الوتر". الفصل وهذا كما قال عندنا موضع القنوت في الوتر بعد الركوع قياساً على القنوت في الصبح نص عليه الشافعي في "حرملة"، وخفي ذلك على المزني. وبه قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي [203 أ / 2] رضي الله عنهم. ومن أصحابنا من قال: "يقنت فيه قبل الركوع" وليخالف القنوت في الصبح كما خولف بين خطبة الجمعة وخطبة العيد. وهذا اختيار ابن سريج وعلى هذا لا يكره خلافاً لأبي حنيفة. وقال يعقوب الأبيوردي: وهذا مذهب عامة أصحابنا، وهو الأصح، ولا معنى لهذا الكلام عندي مع النص الذي ذكرنا، وأجمع أهل العراق وخراسان من أصحابنا على ما ذكرنا. وقال أبو حنيفة ومالك: إنه قبل الركوع. واحتج بخبر أبي بن كعب رضي الله عنه، وهذا غلط لما روى أنس رضي الله عنه "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت في الصبح بعد الركوع". ورواه أبو هريرة أيضاً، وروي عن عثمان وحده من الخلفاء الراشدين أنه قدم القنوت على الركوع في أخر عمره ليدرك الناس معه الركعة للتخفيف على الناس. واحتج الشافعي عليه بحجتين: إحداهما: أن قوله: "سمع الله لمن حمده"، دعاء. والقنوت دعاء، فالدعاء في محل الدعاء أولى من الدعاء في محل القراءة. والثانية: أنه أسر بتكبيرة زائدة في الصلاة لم تثبت بدليل، فلا يجوز القول به، وإذا بطل هذا القول بقي قولنا. فرع إذا قنت قبل الركوع قد قيل: أساء ويجزئه. وقيل: يعيده في الركوع ويسجد للسهو. باب فضل الجماعة والعذر بتركها قال: "اخبرنا مالك. . . . " وذكر الخبر. وهذا كما قال: اعلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى ثلاث عشرة سنة بمكة من غير جماعة،

لأن أصحابه كانوا مقهورين متفرقين يصلون في بيوتهم فلما هاجر إلى المدينة أقام الجماعة. والجماعة واجبة في صلاة الجمعة على الأعيان بلا خلاف، لأنها لا تصح إلا بالجماعة. وأما فيما عداها من صلاة الفرض اختلف أصحابنا فيه، فقال أكثر أصحابنا: هي من فرائض الكفايات كرد السلام ودفن الموتى، ويجوز ذلك نص عليه الشافعي في كتاب "الإمامة". [203 ب / 2] وقد قال ههنا: لا أرخص في تركها من غير عذر، وهو الصحيح، والدليل عليه ما روى أبو الدرداء رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ما من ثلائة في قريةٍ أو بلدةٍ". وروي: "أو في باديةٍ"، وفيه نظر. وروي: "في قرية ولا بدوٍ". "وهذا أصح لا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان، فعليك بالجماعة، فإن الذئب يأكل القاصية". ومن أصحابنا من قال: "هي سنة مؤكدة"، والأولى أن لا يخل بهاء ويحافظ عليها، فإن أخل بها ترك فضلا كثيراً وأجزأه. وبه قال الثوري ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي. وحكي عن الأوزاعي وأحمد وأبي ثور وداود وابن المنذر ومحمد بن إسحق وابن خزيمة: "هي واجبة على الأعيان، فمن تركها من غير عذر فقد عصى". قالوا: ولكن لا يشترط في جوازها حتى لو صلى منفرداً يجوز، وإن عصى. وحكى أصحابنا بخراسان عنهم: أنه لا تجوز صلاته. واحتجوا بقوله تعلى: {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِي اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ دَاعِي اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأَرْضِ} [الأحقاف: 31 - 32]، الآية. وداعي الله: المؤذن. وروي إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد". وروي انه - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر أو مطر". ورواه ابن عباس رضي الله عنه، ولم يقل: "أو مطر". وروي أن ابن أم مكتوم قال: يا رسول الله إني رجل ضرير شاسع الدار وعلى طريقي نخل ولا قائد لي، وروي: لي قائد لا يلازمني. هكذا روي، والصواب: لا يلامني، أي: لا يوافقني فهل تجد لي رخصة؟ فقال: "أتسمع النداء"، قال: نعم، فقال: "لا أجد لك رخصة". وروي أنه قير قال: "لقد هممت أن آمر فتياني من قريش ليجمعوا حطباً، ثم آمر رجلا ينادي بالصلاة، ثم أحرق على أقوام بيوتهم يسمعون النداء ولا يحضرون، وإن

أحدهم لو دعي إلى مرماتين حسنتين لآتاهما ولو حبواً". [204 أ / 2] قيل: المرماة: السهم. وقيل: عظم عليه قطعة لحم. وروى ابن أم مكتوم، قال: يا رسول الله إن المدينة كبيرة الهوام والسباع، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حي على الصلاة، حي على الفلاح، فحي هلا"، وقوله: حي هلا كلمة حث واستعجال، ولأن الله تعالى أمر أن يصلى جماعة في حال الخوف، ولم يعذر في تركها، فدل أنها في حال الأمن أوجب. وقال عطاء بن أبي رباح يقول: ليس لأحد من خلق الله تعالى في الحضر والقربة رخصة إذا سمع النداء، وأن يدع الصلاة. وقال الأوزاعي: لا طاعة للوالد في ترك الجمعة والجماعات سمع النداء أو لم يسمع، وهذا غلط، لأن الله تعالى قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} [البقرة: 47])، ولم يفصل. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة ". وروي بخمس عشرين درجة، فلولا جواز الانفراد وإلا ما فاضل بين صلاة الجماعة وصلاة الفرد، فإن قيل: لعله أراد به في حق صاحب العذر. قلنا: العاجز يكتب أجره كاملاً من غير نقصان لما روي عن رسول الله قيه، قال: "إذا مرض المريض يقول الله تعالى لملائكته: اكتبا لعبدي ما كنتما تكتبان في صحته من أعمال الخير حتى أقبضه، أو أبدله بلحمة خيرا من لحمه وبدم خيرا من دمه"، فإن قيل: لعله أراد به النفل. قلنا: النفل في الخفية والانفراد أفضل. وأيضاً روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "صلاة الرجل مع الواحد أفضل". وروي: "أزكى من صلاته وحده، وصلاته مع الرجلين أفضل من صلاته مع الواحد وحيث ما كثرت الجماعة، فهو أفضل". وروي أن عتبان بن مالك رضي الله عنه قال: يا رسول الله إني رجل ضرير شاسع الدار، وأحب أن تحضر بيتي وتصلي في موضع أتخذه مسجداَ، فحضر بيته وصلى في [204 ب / 2] موضع، فكان يصلي عتبان هناك". وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال للرجلين في مسجد الخيف: "لم لم تصليا معنا فقالا لنا: قد صلينا في رحالنا"، فلم ينكر عليهما، ولأنه كان يأمر في الليلة المطيرة للمؤذن أن يقول في أذانه، "ألا صلوا في رحالكم"، فلو كان واجباً لما كان المطر عذراً.

وقال مشايخ خراسان: هذا عندنا سنة أن يقول في هذه الحالة في أذانه بعد حي على الفلاح. وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا ابتلت النعال، فالصلاة في الرحال". وأراد به النعال المعهودة في اللباس، وقيل: كنى بها عن الأرجل والأقدام. وقيل: أراد بالنعال الحجارة الصغار تكون في الطرق تسمى نعالاً. وأما الآية التي ذكروا، قلنا: أراد بالداعي النبي - صلى الله عليه وسلم -، لأنه قال: {وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف: 31] والإيمان بالمؤذن لا يجب. وأما الخبر الأول، قلنا: أراد: لا صلاة له كاملة، أو أراد: لا صلاة لجار المسجد بصلاة الإمام مقتدياً به إلا في المسجد، وأما سائر الأخبار نحملها على أنها فرض على الكفاية. وأما خبر ابن أم مكتوم: نحمله على الجمعة، وأما الخبر الأخير ورد في شأن المنافقين الذين لا يصلون في بيوتهم، ولا يرون الجماعة أصلاً، وهكذا الجواب إن احتجوا بما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: "حافظوا على هؤلاء الصلوات الخمس حيث ينادى بهن فإنهن من سنن الهدى، وأن الله تعالى شرع لنبيه - صلى الله عليه وسلم - سنن الهدى، ولقد رأيتنا وأن الرجل ليهادى بين رجلين حتى يقام في الصف، وما منكم من أحد إلا وله مسجد في بيته، ولو صليتم في بيوتكم وتركتم مساجدكم تركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لكفرتم". وقوله: "ليهادى بين رجلين"، أي: يرفد من جانبيه، ويؤخذ بعضديه يتمنى به إلى المسجد. [205 أ / 2] وقوله: "كفرتم"، أي: يؤديكم إلى الكفر بأن تتركوا شيئاً شيئاً منها حتى تخرجوا من الملة، فإن قاسوا على صلاة الجمعة، قلنا: أصلها أربع ركعات، وردت إلى ثنتي بشرائط منها: الجماعة بخلاف هذا. ثم لو كانت الجماعة شرطاً ههنا لبطلت بتركها كما نقول في الجمعة، فإذا قلنا: إنها فرض على الكفاية فمتى قام بها قوم سقط الفرض عن الباقين، وإلا خرجوا أجمعون. ولو اتفق أهل بلد على تركها قاتلهم الإمام على إقامتها حتى يقيموها، والحد الذي يسقط الفرض به عن الباقين أن يظهر إقامتها ويعرف فعلها، وذلك أن يعلم الناس إقامتها مشاهدة أو سماعاً، فإن كان المكان قرية صغيرة، فأقيمت في مسجدها فقد ظهرت في كلها، وإن كان بلداً كبيراً، فكل محلةٍ منه مثل هذه القرية يحتاج أن تظهر في كل مسجد في كل مسجدٍ محلةٍ، فإذا أقامها أهل محلة لم يسقط فوضها عن أهل محلة أخرى، ولو اتفقوا على أن يصلي كل واحد جماعة في بيته، ولا يخرج إلى المساجد. قال أبو إسحق: لم يسقط ما ذكرنا من الفرض عنهم. وقال

يعقوب الأبيوردي: فيه وجهان، والأظهر أنه يسقط الفرض به، لأن الشافعي رضي الله عنه، قال: "وإن جمع في بيته أجزأ عنه". والأصح عندي الأول، وأراد الشافعي أجزأ عنه إذا ظهرت الجماعة في الأسواق، لأن فرضها يسقط بذلك. ومن أصحابنا من قال: أقل من يسقط الفرض عن الباقين ثلاثة نفر فإنه هو الجمع المطلق. والمذهب أن أقل الجماعة إثنان، فيكفي ذلك إذا ظهرت في الباقين، لأن الشافعي قال في "الأم": "إذا كانوا ثلاثة فأمهم أحدهم كانوا جماعة، وان كانوا اثنين، فأتم أحدهما بالآخر رجوت أن تكون جماعة، ثم قطه في أخر الباب أن الاثنين جماعة، ولا خلاف أن فضيلة الجماعة تحصل بالاثنين، فبطل قول القائل الأول". والدليل عليه [205 ب / 2] قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الاثنان فما فوقهما جماعة". مسألة: قال: "وإن جمع في بيته أو مسجد وان صغر أجزأه". الفصل وهدا كما هال: هد ذكرنا أن اقل الجماعة إثنان. وهال في "الأم": "إذا صلى الرجل مع أخر أدرك فضيلة الجماعة سواء صلى مع إمامه أو زوجته أو ولده أو رفيقه". وقد قال أصحابنا: أراد إذا صليت الجماعة في المسجد، وظهر ذلك في الباقين، ولكن تأخر بعضهم وصلى في بيته هكذا، أو أراد: إذا قلنا: الجماعة سنة، فحيث ما جمع جاز. وأما الأفضل فكلما كان الجمع أكثر كانت الصلاة أفضل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من صلى مع واحد كان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء، ومن صلى مع اثنين كان له مثل أجرهما، وحيث ما كثرت الجماعة فهو أفضل، والصلاة جماعة في المسجد أفضل منها في البيت". فرع قال: لو كان بقرية مسجدان متساويان في الجماعة، فإن كان يبلغه النداء من أحد المسجدين دون الآخر، فالذي يبلغه النداء منه أولى بالحضور، وإن كان يبلغه النداء منهما، فإن كان أحدهما أقرب من الآخر، كان الأقرب أولى، وإن كانا في القرب سواء حضر أيهما شاء. فَرْعٌ آخرُ قال: "لو كان أحدهما أتوب والأخر أبعد إلا أن الجماعة في الأبعد أكر، فإن كان لخروجه لا يختل الأقرب فالأبعد أفضل، وإن كان يختل ويؤدي إلى انقطاع الجماعة عنه كان حضور الأقرب الذي فيه الجماعة اليسيرة أولى، لأن إقامة الجماعة في مسجدين أولى من إقامة جماعة واحدة وتعطل المسجد الأخر.

فَرْعٌ آخرُ لا كان الإمام في الجماعة الكبيرة مبتدعاً كالمعتزلي والرافضي وفي الجماعة القليلة موافقاً، فإن حضور الجماعة القليلة أولى، والصلاة منفرداً أفضل [206 أ / 2] من الصلاة خلفه. وحكي عن أبي إسحق أنه قال: "صلاته منفرداً أولى من الجماعة خلف الحنفي، لأنه لا وضوء له، ولا صلاة بترك النية والترتيب في الوضوء وترك الفاتحة ونحوهما في الصلاة". وقال القاضي الطبري: "في هذا نظر، لأن أمر المسلم بني على الإتيان بالعبادة على أكمل الأحوال ألا ترى أنهم يعتقدون أن التشهد غير واجبء ولكنهم يتشهدون ولا يتركه أحد منهم". وحكي عن أبي حامد أنه قال: "متى أتى الحنفي بالشرائط يصح الاقتداء به، وإلا فلا". وحكي عن الأستاذ الإمام أبي إسحق الإسفراييني رحمه الله أنه قال: "لا يجوز وإن أتى بها"، لأنه يعتقد أنه يأتي بها نافلة لا فرضاً. وحكي عن القفال: أنه يصح الاقتداء به، وان لم يأت بشرائطها، لأنه يحكم بصحة صلاته، ولهذا لا يباح قتله، ولا يقع به الاختلاف في ظاهر الأفعال، فلا يمنع صحة الاقتداء به، والفتوى عندي أنه إن كان متديناً يوثق أنه يؤدي الصلاة على الاحتياط للفريقين، كالأئمة الذين رأيتهم ببخارى وغزنة تجوز الصلاة خلفه من غير كراهة وإن علم أنه يترك ركنا أو شك في ذلك لا تصح الصلاة خلفه، لأن عناه أنه في غير صلاة. فَرْعٌ آخرُ قال: لو كان لرجل مسجد يجمع فيه، ففاتته فيه الصلاة فإن أتى مسجد جماعة غيره كان أحب إلي وان لم يأته وصلى في مسجده منفرداً فحسن. فَرْعٌ آخرُ لو كان للمسجد إمام راتب ففاتت رجلاً أو رجالاً فيه الصلاة، صلوا فرادى ولا أحب أن يصلوا فيه جماعة، فإن فعلوا أجزأتهم الجماعة فيه، وإنما كرهت لهم ذلك، لأنه ليس مما فعل السلف قبلنا بل عابه بعضهم، وأحسب كراهية من كره لتفرق الكلمة، وأن يرغب الرجل عن الصلاة خلف إمام جماعته، فتتخلف هو ومن أراد عن المسجد في وقت الصلاة، فإذا قضيت الصلاة دخلوا فجمعوا يكون فيه اختلاف وتفريق كلمة [206 ب / 2] وفيهما المكروه، وبهذا قال جماعة الصحابة والفقهاء أبو حنيفة ومالك والثوري والأوزاعي والليث رحمهم الله. وروي ذلك عن سالم وأبي قلابة. وقال أحمد وإسحق وداود وابن المنذر: "لا تكره الجماعة بعده". ورواه قتادة عن أنس رضي الله عنه.

يندب إليها ثانيا، وهو غلط لما ذكرنا. فَرْعٌ آخرُ لو كان مسجد على ظهر الطريق أو ناحية لا يؤذن فيه مؤذن راتب، ولا يكون له إمام معلوم يصلي فيه المارة، ويستظل به الناس، فلا أكره هذا فيه، لأنه ليس فيه المعنى الذي وصفت. قال أصحابنا: وهكذا لو كان المسجد في موضع أهل لا يسع جيرانه لضيق الوقت عليهم، والمكان إقامتها دفعة واحدة، وإنما يصلون فيه فوجاً بعد فوج لم يكره فيه الجماعة بعد الجماعة. مسألة: قال: "وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمر مناديه في الليلة المطيرة والليلة ذات الريح: ألا صلوا في رحالكم". الفصل وهذا كما قال: ترك الجماعة يجوز لعذر سواء قلنا أنها من فرائض الكفايات أو سنة مؤكدة. والعذر ضربان: عام وخاص. فالعام ضربان: عذر يجوز ترك الجماعة وعذر يجوز التأخير، فالذي يجوز التأخير مثل شدة الحر وقت الظهر على ما بيناه. وأما الذي يجوز الترك، فمثل المطر والوحل في الليل والنهار أو الريح الشديدة في الليلة المظلمة دون النهار. ويجوز ترك الجمعة للمطر والوحل أيضاً، ولا يتصور عذر الريح فيها لأنها تقام نهاراً. وحكى أبو يعقوب الأبيوردي عن بعض أصحابنا: أنهما لا يكونان عذراً في ترك الجمعة تأكيداً لها على سائر الجماعات. وهذا خلاف المذهب ولا شك أن الريح والوحل لا يكونان محذراً لجواز الجمع بين الصلاتين بخلاف المطر. وقال في "التلخيص": "وأنكر المزني أن يكون المطر عذراً". قال القفال: "لا أدري أين قال [207 أ / 2] المزني هذا". وقال بعض أصحابنا بخراسان: الوحل هل يكون محذراً في ترك الجماعة؟ وجهان: أحدهما: لا يكون عذراً، لأن له عده بالخف والصندل، وبهذا يفتي مشايخ طبرستان رحمهم الله لمن قدر على ذلك. وروى ابن عمر رضي الله عنه قال: كنا إذا كنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في سفر وكانت ليلة مظلمة أو مطيرة نادى مناديه: "صلوا في رحالكم". وأما العذر الخاص، فهو: الذي يختص به الواحد من بين الجماعة، وهو عشرة أشياء ذكرها الشافعي رضي الله عنه في "الأم"، فمتى أقيمت الصلاة واتفق واحد منها ساع له تركها من ذلك إذا حضر الطعام، وهو شديد التوقان إليه في أي صلاة كانت فإنه

يتناول منه ما يسد الرمق، ثم يشتغل بالصلاة، ولا فرق بين أن يكون صائماً أو لا، لأن الشافعي قال في "المختصر": وإذا حضر فطره، أي: كان صائماً فحضر وقت فطره أو طعام مفطر به إليه حاجة، أي: لم يكن صائماً، ولكن حضر طعامه، وهو جائع، وبه حاجة إلى أكله. وهذا لما روت عائشة رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يصلي أحدكم بحضرة طعام، ولا هو يدافعه الأخبثان". وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وضع العشاء وأقيمت الصلاة، فابدؤوا بالعشاء"، وأراد قدر ما يسكن النفس لا أن يتربع للألواذ الكثيرة حتى يتضلع فيخرج وقت الصلاة. وهذا يدل على جواز تأخير صلاة المغرب يسيراً. والثاني: مدافعة الأخبثين: الغائط والبول، أو أحدهما، لأنه يسقط خشوعه. والثالث: المرض، لان النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مرض تركها أياماً كثيرة. والرابع: الخوف من سلطان ظالم أو مطالبته بغير حق، لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سمع النداء فلم يجبه، فلا صلاة له إلا من عذر". قالوا: يا رسول الله، وما العذر؟، قال: "خوف أو مرض". والخامس: [207 ب / 2] السفر، ولا يريد به المسافرين، فإنهم يصلون جماعة كغيرهم، وإنما يريد إذا أقيمت الصلاة، ومن اشتغل بالجماعة فاتته الرفقة له تركها. والسادس: النعاس وغلبة النوم، لأنه يسلب الخشوع في الصلاة ويخاف انتقاض الطهر في أثنائه. والسابع: إذا كان له مريض يعلله متى فارقه خاف عليه يجوز له ترك الجماعة بسببه، لأن حفظ الآدمي أفضل من حفظ الجماعة. وكذلك إذا كان له قريب مريض يخاف موته، لأنه يتألم بذلك أكثر مما يتألم بذهاب المال. والثامن: ثلاثة أعذار: في المال، إذا خاف هلاكه أو ضياعه أو رجا عود ما قد ضل، فالهلاك مثل أن يكون خبز في تنور وطبخ في قدر متى اشتغل بالجماعة هلك. والثاني: إذا كان له مال قد قدم في الحال ومتى لم يتداركه ضاع عليه كله أو بعضه له ترك الجماعة لحفظه.

والثالث: إذا أبق له عبد أو سرق له فرس أو ند له بعير يرجو تداركه في ترك الجماعة. وقال القاضي أبو الطيب رحمه الله: ومن جملة الأعذار إذا كان قد أكل بصلاً أو كراثاً لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أكل من هذه الشجرة فلا يقربا في مسجدنا"، وهذا إذا كان لا يمكنه إزالة هذه الرائحة بغسل فمه، والتداوي، فإن أمكن ذلك لم يكن عذراً، وإن أكله مطبوخاً جاز الحضور، ولما روي أن عمر رضي الله عنه خطب الناس، فقال: "فمن كان لا بد له من أكلهما فليتمهما طبخاً". قال القفال: "ومن تركها لواحد من هذه الأعذار وكان قصده الجماعة لولا العذر حصلت له فضيلة الجماعة". وقيل: من العذر الخاص أن يكون عله قصاص يرجو العفو ولا يحل له الخروج بأن يكون عارياً أو حافياً وتكره الجماعة هكذا، ذكره بعض مشايخ خراسان. فرع يستحب أن يمشي على عادته وسكونه إلى الجماعة ولا سرع، وإن خاف فوتها. وقال أبو إسحق: [208 أ / 2] إذا خانك فوت التكبيرة الأولى أسرع لما روي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه اشتد إلى الصلاة، وقال: "بادرت حد الصلاة" يعني: التكبيرة الأولى، وكان الأسود بن يزيد يهرول إلى الصلاة، وهذا غلط لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا أقيمت الصلاة، فلا تأتوها تسعون وأتوها تمشون وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا". وروي: "فاقضوا". وروى أبو أمامة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "من خرج من بيته متطهراً إلى صلاة مكتوبة فأجره كأجر الحاج المحرم، ومن خرج إلى تسبيح الضحى لا ينصبه إلا ذالك فاجرة كأجر المعتمر وصلاة على اثر صلاة لا لغو بينهما كتاب في عليين". وقوله: لا ينصبه، معناه: لا يتعبه إلا ذلك. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "إذا توضأ أحدكم فأحن الوضوء وأتى المسجد لا يريد إلا الصلاة لا ينهزه إلا الصلاة لم يخط خطوة إلا رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة حتى يدخل المسجد". وقوله: "لا ينهزه"، أي: لا يبعثه ولا يشخصه إلا ذلك.

باب

فَرْعٌ آخرُ لو حضر رجل المسجد ولم يجد إلا من صلى بالجماعة استحب لبعض من حضر أن يصلي معه لتحصل له فضيلة الجماعة لما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن رجلاً جاء وقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "من يتصدق على هذا فيصلي معه؟ "، فجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك بمنزلة الصدقة عليه. فَرْعٌ آخرُ لو حضر والإمام لم يحضر، فإن كان للمسجد إمام راتب قريب فالمستحب أن ينفذ إليه ليحضر لأن في تفويت الجماعة عليه افتئاتا عليه، وإفساداً للقلب، فإن خشي فوات أول الوقت لم ينتظر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهب ليصلح بين قومين [208 ب / 2] فقدم الناس أبا بكر الصديق رضي الله عنه، فحضر النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم في الصلاة، فلم ينكر عليهم، فإن خافوا إنكاره ينتظرونه ما لم يخف فوات الوقت، فإن خيف لا ينتظره أحد. باب صلاة الإمام قاعداً بقيام قائماً وبقعود مسألة: قا: "وأحب للإمام إذا لم يستطع القيام في الصلاة أن يستخلف". الفصل وهذا كما قال: إذا عجز الإمام عن الصلاة بالقوم، فالمستحب أن يستخلف من يصلي بهم قائماً، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلف في أكثر الصلوات حين مرض، وإنما صلى قاعداً بهم دفعة واحدة، ليبين الجواز، ولأن من الناس من لا يجيز إمامة القاعد، فيستحب الخروج من الخلاف فلو لم يستخلف وصلى بهم قاعداً، وهم قيام يجوز، ومن عجز منهم قعد معه أيضا. وبه قال أبو حنيفة والثوري ومالك في روايةٍ. وروي عن مالك أنه قال: "لا تصح صلاة القائم خلف القاعد ويجب عليه أن يستخلف"، وبه قال محمد وعند أبي حنيفة يجوز خلف القاعد ولا يجوز خلف المومئ. وقال الأوزاعي وأحمد وإسحق: "يصلون خلفه جلوساً"، وهو اختيار ابن المنذر، واحتجوا بما روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "ركب فرساً معروراً"، فسقط فجحش شقه الأيمن فصلى بالناس في بيتي قاعداً، والقوم خلفه قيام، فأشار إليهم أن اقعدوا فقعدوا، فلما فرغ مت صلاته، قال: "إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا

عليه، فإذا ركع، فاركعوا، وإذا سجدنا فاسجدوا، وإذا قرأوا فأنصتوا، وإذا صلى قاعداً فصلوا قعوداً أجمعين". وقوله: فجحش شقه، أي: قد انسجح جلده، والجحش كالخدش أو أكثر منه، ولأنه يجوز أن يسقط بسبب الإمام فرض الانفراد كما في الجمعة تسقط ركعتان. [209 أ / 2] واحتج مالك بما روى الشعبي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لا يؤمن أحد بعدي جالساً"، وهذا غلط لما قال الشافعي وفعله الأخر ناسخ لفعله الأول، أي: صار ما رويتم منسوخاً بفعله الآخر، فإن قيل: هذا اللفظ لا يصح، لأن فعله في الحالين الصلاة قاعداً، فكيف ينسخ أحدهما بالأخر؟ قلنا: أراد تقريرهم على القيام خلفه ناسخ لأمره إياهم بالقعود وتقريره نوع فعل أيضاً. وهذا ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: لما استعز برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مرضه الذي توفي فيه كان يغشى عليه ويفيق، فدخل وقت الصلاة، وهو مغمى عليه، فلما أفاق، قال: "أصلى الناس؟ "، فقيل: لا، هم ينتظرونك، فقال: "ضعوا لي ما، في المخضب"، أي: ضعوني في ماء في المخضب، وهو مثل الأجانة، فوضعناه فاغتسل ثم أغمي عليه، فأفاق وقال: "ضعوا أي ماءٍ في المخضب"، فاغتسل مرة أخرى، فأغمي عليه أيضاً، فلما أفاق قال: "مروا أبا بكر فليصل بالناس". قالت عائشة رضي الله عنها: فكرهت ذلك مخافة أن يتشاءم الناس بأبي، فأردت أن أصرف عنه ذلك، فقلت: يا رسول الله إن أبا بكر رجل أسيف لا يملك نفسه من البكاء، إذا قام مقامك، فلو أمرت غيره، فقال: ا"مروا أبا بكر فليصل بالناس"، فقدمت حفصة وأمرتها أن تقول مثل ذلك، فذكرت ذلك، فقال: "أنتن صواحبات يوسف"، أبى الله والمسلمون إلا أبا بكر، فتقدم أبو بكر رضي الله عنه، ثم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجا في نفسه خفة في بعض الأيام، فخرج إلى المسجد يهادي بين رجلين من أهل بيته: العباس بن عبد المطلب ورجلٍ آخر؟ قال الراوي: أتدرون من الرجل الآخر؟ هو علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ولكن كانت لا تذكره، وهي تستطيع، فلما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المسجد كان أبو بكر رضي الله عنه قد افتتح الصلاة، فلما رآه الناس تفرجت الصفوف لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، [209 ب / 2] فعلم أبو بكر أنه لا يتقدم ذلك الموضع أحد غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأقعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يسار أبي بكر، فكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس، فجعل أبو بكر يكبر بتكبيره وجعل الناس يكترون بتكبير أبي بكر رضي الله عنه. وروي: فكان يصلي أبو بكر بصلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والناس يصلون بصلاة أبي بكر،

يريد أن أبا بكر كان كالمترجم لهم إذ كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قاعداً وهم قيام وأكثرهم لا يرونه ولا يسمعون صوته، فلهذا قال: كانوا يصلون بصلاة أبي بكر ولم يأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالقعود، فكان هذا ناسخاً للأول. وروي: أنه خرج يهادي بين رجلين: أسامة ورجل آخر. وقد روى سفيان: أن الإمام كان أبا بكر رضي الله عنه، وهو غلط. وأما الدليل الآخر، قلنا: في الجمعة سقطت ركعتان بسبب الجماعة لا بسبب الإمام، لأن الإمام لو انفرد صلى أربعاً كالقوم وههنا لو قدر الإمام على القيام لم يترك لعجز القوم، فلذلك القوم لا يتركونه لعجز الإمام، ثم تقابل بأن المأموم أحد ركني الجماعة، فلا يسقط عنه القيام بعجز صاحبه كالإمام لا يقعد بقعود المأمومين، ويؤكده أن القارئ يتحمل القراءة عن المأموم عند بعض العلماء، والأمي لا يتحمل والقادر إذا لم يتحمل القيام عن القوم، فالعاجز أولى أن لا يتحمل. وأما احتجاج مالك رحمه الله. قلنا: صار منسوخاً بجبرنا مع أنه مرسل ضعيف. رواه جابر الجعفي، أو أراد استحباباً. واحتج أيضاً بأنه فقد ركناً من صلاته، فلا تجوز إمامته كالأمي. قلنا: لأنه ناقص أو مقصر في التعليم والعاجز عن القيام ليس بناقص إذ لا يجوز أن يقال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: كان ناقصاً حين مرض ولا أن صلاته ناقصة. مسألة: قال: "فإن صلى الإمام لنفسه جالساً ركعة، ثم قدر [210 أ/2] على القيام". الفصل وهذا كما قال: قد ذكرنا فيما تقدم أنه إذا زالت العلة في أثناء الصلاة يلزمه القيام ويبني، فإن لم يقم بطلت صلاته، فإن لم يعلم المأموم بصحته وقدرته على القيام صحت صلاته لأنه غير مفرط، وإن علم بصحته وتركه القيام بطلت صلاته، فإن قيل: كيف يعلم المأموم صحته وقدرته؟. قلنا: قال أبو إسحق رحمه الله: يمكنه أن يعلم بأن المانع أنه كان لا يقدر على مد الرجلين، فرآه، وقد مدهما وقد يعلم بعلامة أخرى سوى هذه. ومن أصحابنا من قال: فيه قول أخر: لا تبطل صلاته بل تصير نفلاً. وقول الشافعي ههنا: (أفسد صلاته)، أي: أفسد يعني الفرض فعلى هذا لا تبطل صلاة المأمومين أصلاً، وإن علموا بصحته. وهذا خلاف المذهب الظاهر، ثم ذكر المزني رحمه الله بعد هذا مسألة الأمة إذا صلت مكشوفة الرأس، وقد ذكرناها فيما تقدم، وذكر في وسط كلامه أنه إذا دخل في الصلاة، وهو لا يحسن أم القرآن ثم أحسنها بني عليها، وعند أبي حنيفة: بطلت صلاته إذا تعلم القرآن، ولم يكن يعلم شيئاً. مسألة: قال: وعلى الآباء والأمهات أن يؤدبوا أولادهم".

الفصل وهذا كما قال: إذا بلغ الصبي سبع سنين كان على أبيه أن يعلمه الطهارة والصلاة، لأن هذا سن التمييز والعقل في العادة، وهو الحد الذي يخير فيه الصبي بين أبويه، وإذا بلغ عشراً أمره بها وضربه عليها. قال القاضي أبو حامد: "ويعوده الجماعة ليعتادها"، وهذا لقوله - صلى الله عليه وسلم - في رواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع"، والمعنى في الضرب إذا بلغ عشراً أنه يحتمل البلوغ فيه بالاحتلام، فيؤمر به ضرباً، لأنه ربما يكون [210 ب/2] بلوغه، فإن كان بالغاً يكون مؤدياً للواجب وإن لم يكن بالغاً يتعود ذلك حتى لا يكسل عنها في كبره. وكذلك الجد والوصي والقيم من جهة الحاكم عليهم ما على الأب. وأما وجوب الفعل قبل بلوغه فلا يجب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى ينتبه". وأما في "الأم" فأشار إلى أنه يجب قبل بلوغه، ولكنه لا يعاقب على تركها عقوبة من تركها بعد بلوغه. ورأيت كثيراً من المشايخ يركبون هذا القول في المناظرات وليس بمذهب لأنه غير مكلف أصلاً، وإنما هذا قول أحمد في رواية: أنها تجب عليه إذا بلغ عشراً بدليل أنه يضرب على تركها، وعندنا هذا الضرب للاعتياد كما يضرب تأديباً في الأمور. فإذا تقرر هذا ففيما نقله المزني إشكال، لأنه قال: أن يعلموهم الطهارة والصلاة ويضربوهم على ذلك إذا عصوا، فيوهم الأمر بالضرب فيما دون العشر إذا عقل، وليس كذلك فنقول في النظم تقديم وتأخير ونظمه ويعلمونهم الطهارة والصلاة إذا عقلوا، ويضربونهم على ذلك، فيبقى الضرب مطلقاً عن بيان الوقت، ثم يعلم وقته بالخبر، ثم قال: "فمن أحتلم أو حاض أو أستكمل خمس عشرة سنة لزمه الفرض"، أراد فمن احتلم من الغلمان أو حاض من النساء. واختلف أصحابنا في الجارية إذا احتلمت في هذه السن، ولم تحض هل يكون بلوغاً؟ على وجهين. والصحيح أنه بلوغ وظاهر قوله ههنا: فمن احتلم يدل على التسوية بينهما، وإذا لم يوجد حيض ولا احتلام، فالبلوغ عندنا استكمال خمس عشرة سنة. ومن أصحابنا من قال: يحصل بالطعن في الخامسة عشرة، وعند أبي حنيفة باستكمال ثماني عشر، وفي المرأة روايتان: إحداهما: كذلك.

باب اختلاف ... الإمام والمأموم

والثانية: سبع عشرة سنة، والله أعلم. والحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. [211 أ/2] باب اختلاف ... الإمام والمأموم مسألة: وإذا صلى الإمام بقوم الظهر في وقت العصر وجاء قوم فصلوا خلفه ينوون العصر. الفصل وهذا كما قال وجملته أن الصلاتين إذا اتفقتا في الأفعال الظاهرة يجوز أن يكون الإمام في [332 أ/2] إحداهما المأموم في الأخرى فريضتين كانتا أو نافلتين أو فريضة ونافلة وسواء كانت الفريضتان متفقتين كظهرين وعصرين أو مختلفتين كظهر وعصر وسواء كانتا مما يجهر فيهما أو لا يجهر فيهما أو يجهر في إحداهما دون الأخرى وله أن يصلي العشاء خلف من يصلي التراويح أو الوتر ويجوز ذلك، والقضاء خلف الأداء وبه قال عطاء وطاوس والأوزاعي والحسن وأبو ثور وأحمد في رواية وإسحاق واختاره ابن المنذر وقال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد في رواية أخرى: لا يصلي المفترض خلف المتنقل ولا المفترض في غير فرضه ويصلي المتنفل خلف المفترض وبه قال الزهري وربيعة ولا يجوز أن النفل خلف الفرض أيضاً ويروى هذا عن مالك وهو الصحيح عنه وهذا غلط لما روي الشافعي رضي الله عنه بإسناده عن جابر رضي الله عنه قال "كان معاذ يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء ثم ينطلق إلى قومه فيصليها بهم هي له تطوع ولهم فريضة مكتوبة" وروي أن جابراً رضي الله عنه: "قال كان معاذ يصلي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء ثم يرجع فيصليها [332 ب/2] بقومه من بني سلمة فأخر النبي - صلى الله عليه وسلم - العشاء ذات ليلة فصلى معه ثم رجع فأم قومه فقرأ سورة البقرة فتنحى رجل من خلفه فصلى وحده فقالوا له نافقت فقال: ما نافقت ولكني آتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يا رسول الله إنك أخرت العشاء وإن معاذاً صلى معك ثم رجع فأمنا فافتتح سورة البقرة فتنحيت وصليت وحدي وإنما نحن أهل نواضح نعمل بأيدينا فالتفت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال أفتان أنت يا معاذ أقرأ بسورة كذا وكذا" فإن قيل يجوز أنه صلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم - تطوعاً ثم صلى بقومه فريضة قلنا قد روي أنه كان يصلي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العشاء والعشاء في صلاة الفريضة ولأنه لا يجوز على معاذ أن يذر الفرض وهو أفضل العمل أفضل الخلق فيتركه ويضيع بحظه منه ويقنع من ذلك بالنقل ثم استأنس بفعل عطاء بن أبي رباح المكي بمكة وهو أنه كان يصلي مع الإمام القنوت يريد، ركعتين من التراويح ثم يعتمد بهما من العتمة وكان الدخول فيهما [أ/333 - 2] بنية العتمة فإذا سلم الإمام قام فنسي ركعتين من العتمة فعبر بخبر صلاة الليل بالقنوت لقوله تعالى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة:238] ولأن أبا حنيفة رحمة الله ناقض أصله حيث قال تجوز صلاة النذر خلف من يصلي الصلاة الشرعية بعلمه أن صلاة النذر واجبة وليت بفريضة وقال: لو سجد

الإمام للسهو بعد السلام فأحرم رجل خلفه لصلاة الظهر لصح وليس هو في صلاة الظهر وسجود السهو عنده واجب لا فرض. فرع لا يجوز أن يصلي الظهر خلف من يصلي صلاة الجنازة ولا خلف من يصلي صلاة الخسوف لاختلافهما في الأفعال الظاهرة ولذلك لا يصلي الكسوف خلف من يصلي الصبح وقال بعض أصحابنا بخراسان واختاره القفال أنه يجوز لأن اقتدى بمصلي فيقوم قائماً حتى يسلم الإمام في صلاته ثم يركع هو وفي الخسوف لا يركع معه في الركوع الثاني ولكن إذا سجد تابعه. فَرْعٌ آخرُ لو صلى الصبح خلف من يصلي صلاة العيد ظاهر المذهب أنه لا يجوز لما ذكرنا من العلة. وقال والدي رحمه الله فيه ثلاثة أوجه؛ أحدها: هذا والثاني يجوز ولا يكبر معه تكبيرات العيد [333 ب/2] والثالث يجوز ويكبر معه التكبيرات. فرع لو صلى ركعتي خلف من يصلي أربعاً فإذا قام الإمام إلى الثالثة إن شاء سلم وإن شاء انتظر الإمام ليفرغ ويسلم به ولا تبطل صلاته وإن خرج عن صلاة الإمام لأنه خروج بعذر وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يجوز أن يصلي ركعتين خلف من يصلي الأربع؟ قولان: لأن يؤدي إلى خروجه من صلاة الإمام قبل فراغه منها وهذا غلط ضعيف. فَرْعٌ آخرُ لو صلى ركعتين من العشاء خلف من يصلي التراويح ثم سلم الإمام فقضى هو تمام صلاته فإنه يجوز بلا خلاف فلو قام الإمام إلى ركعتين أخرتين من التراويح فقام هو في ثالثة واقتدى في الإمام مرة أخرى هل يجوز؟ قولان كما لو افتتح الصلاة مفرداً ثم صلاها مع الإمام. فَرْعٌ آخرُ قال في "الأم" لو أن رجلين قاما إلى الصلاة فأحرم أحدهما قبل الأخر ثم شكا قبل الفراغ من الصلاة فلم يدريا أيهما الإمام؟ بطلت صلاتهما وإن شك أحدهما دون الآخر بطلت صلاة الشاك دون الذي لم يشك ولو قال الذي يشك للذي شك: ما شككنا فصدقه لم [334 أ/2] تسقط عنه إعادة الصلاة لأنه لايرفع في عمل الصلاة إلا إلى علم نفسه ولو كان ثلاثة أو أكثر فعلموا أن الإمام كان واحداً ولكن كل احد منهم شك هل كان هو الإمام أو هو المأموم؟ أعادوا أجمعين فلو كان هذا الشك بعد الفراغ من الصلاة فلا إعادة عليهما لأن الشك الطارئ بعد السلام من الصلاة وسلامة الصلاة في الظاهر لا توجب الإعادة ولأنه إذا شك بعد الصلاة إن كان إماماً صحت صلاته وإن كان

مأموماً صحت ويخالف إذا كان في الصلاة لأنه لا يدري هل يتبعه أم يتبعه صاحبه؟. فَرْعٌ آخرُ قال لو وقف رجلان يصلي كل واحد منهما لنفسه غير مؤتم بصاحبه فصلى جماعة خلفهما وجعلوهما معاً إمامين لم تصح صلاة المؤتمين إذ ليس أحدهما بأولى باتباعه من الأخر وإن كانت المسألة بحالها فجعل الذي خلفهما أحدهما: إماما لا يعينه مثل أن قال أحدهما: إمامنا لم تصح أيضاً لأنه إذا لم يتعين لا يمكن الاقتداء به. فَرْعٌ آخرُ لو دخل رجل المسجد فرأى رجلين [334 ب/2] أحدهما يأتم بالأخر فأحرم هذا وجعل المأموم إمام نفسه لم يجز لأن المأموم لا يكون إماماً وهو مأموم وسواء فعل هذا الثالث ما فعله مع الجهل بحالة أو مع العلم فإن قيل أليس لو صلى خلفه المحدث جاهلاً يجوز؟ قلنا هو هناك غير مفرط وهو هنا مفرط لأن كونه إماماً أو مأموماً يظهر في حركاته وكيفية صلاته في أركانها فإذا لم يتأمل ذلك لم يعذر. فَرْعٌ آخرُ قال أصحابنا لو نوى كل واحد منهما أنه هو الإمام وإن الآخر هو المأموم صحت صلاتهما معاً لأن كل واحد منها يصلي لنفسه ويعتقد أن غيره يصلي بصلاته فإذا بان خلاف ذلك لا يضر ولو اعتقد كل واحد منهما أنه هو المأموم لم تصح صلاتهما لأن كل واحد منهما ائتم بمن ليس بإمام فلا يجوز. فَرْعٌ آخرُ لو افتتح الصلاة بنية الانفراد ثم جاء آخر فصلى خلفه صح ائتمامه به وإن لم ينو الإمام إمامته وبه قال جماعة العلماء وقال الثوري وأحمد، وإسحاق لا يصلي خلفه إلا أن ينوي الإمام إمامته فإن لم ينو فسد صلاتهم واحتجوا بما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " [335 أ/2] الأئمة ضمنا ولا تضمن إلا بعلم العلم" وهذا غلط لما روى أنس رضي الله عنه قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في رمضان فجئت فقمت إلى جنبه وجاء رجل فقام إلى جنبي حتى كان رهطاً فلما أحس رسول ألله - صلى الله عليه وسلم - أنا خلفه جعل يتجوز في الصلاة فقلنا له حين فرغ: أفطنت بنا الليلة؟ قال: نعم ذلك الذي حملني على ما صنعت" وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: بت في بيت خالتي ميمونة فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأطلق القربة فتوضأ ثم أوكأ القربة ثم قام إلى الصلاة فقمت وتوضأت كما توضأ ثم جئت فوقفت عن يساره فأخذني بيمني وروى فأخذني برأسي وحولني إلى يمينه وروي فأخذ بأذني فأدارني من ورائه فإمامني عن يمينه فصليت معه ولم يكن نوى الإمامة فيها وفي هذا دليل على جواز الصلاة بالجماعة في الإثنين وإن الإثنين جماعة وإن المأموم يقوم عن يمين الإمام إذا كانا اثنين وإنه يجوز العلم اليسير في الصلاة.

مسألة: قال وإذا أحس الإمام برجل وهو راكع [335 ب/2] لم ينتظره وهذا كما قال الانتظار في الصلاة على أضرب أحدها أن يدخل الإمام في الصلاة في مسجد لم تكثر فيه الجماعة فطولها رجاء تلاحق الناس وتكاثر الجماعة فهذا مكروه لقوله: "إذا أم أحدكم فليخفف فإن فيهم السقيم والضعيف وذا الحاجة" والثاني أن يتخلف رجل له جاه في المكان وعادة بالصلاة في هذا المسجد كالسلطان والعالم فهذا يكره انتظاره أيضاً والثالث: أن يكون في الصلاة فأحس بداخل يقصد الجماعة نظر فإن لم يكن القاصد دخل المسجد كره له الانتظار أيضاً وإن كان قد دخل فلا يخلو إما أن يكون الإمام ركعاً أو غير راكع فإن كان ركعاً فلا يستحب له أن ينتظره ليدرك الركعة وهل يكره له الانتظار فيه قولان؟ أحدهما: يكره وهو اختيار المزني رحمه الله والثاني يباح له ذلك وهو اختيار أبي إسحاق رحمه الله وهذا ما لم يكثر الداخلون فيطول على من حضره قال أبو إسحاق وجواز الانتظار أحوط القولين وأقواهما وبه قال أحمد، وإسحاق، وأبو ثور وروي ذلك عن الشعبي والنخعي [336 أ/2] وقال أبو إسحاق فيه قولان: أحدهما يكره له الانتظار. والثاني: يستحب وهذا هو اختيار كثير من أصحابنا لأنه انتظار ليدرك به الغير ركعة فلا يكره بل يستحب كالانتظار في صلاة الخوف وحكي صاحب الإفصاح عن بعض أصحابنا أنه قال إن لم يطل على المأمومين ولم يشق عليهم فإنه ينتظر قولاً واحداً وإن طال فهل ينتظر قولان وهذه الطريق غلط لأن تعليل الشافعي رحمه الله ولكن صلاته خالصة لله تعالى يقتضى الكراهية معلقاً قال المزني الأول عندي أولى بالصلاة وقرئ بالصواب فمن قرأ بالصلاة أراد بحق الصلاة حتى لا يطول على المتقدم ومن قرأ بالصواب أراد لا ينتظره أولى بالصواب لأن فيه تشديداً على من قصر في إتيانها واحتج المزني على أنه يكره وبه قال أبو حنيفة ومالك وداود، وأبي المنذر رحمهم الله بأن فيه تشديداً على من قصر في إتيانها فكان أولى ولأن فيه تشريكاً بين الله وبين الخلق في العبادة وقد قال الله تعالى: {وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} [الكهف:110] وقال أبو حنيفة من فعل [336 ب/2] ذلك فقد أشرك بين العمل لله تعالى وبين المخلوقين ولم يرد به الإشراك الذي هو الكفر كما وهم بعض أصحابه وأفتى بشركه وإباحة دمه وكيف يكون شركاً به وقد استحبه كثير من الفقهاء فأما نحن لا ننسب هذا الداخل إلى التقصير ولا نظن به الأخير فلا بأس بانتظاره قليلاً ليفتتح الصلاة ويدرك الركوع ولا يمنع ذلك أن تكون صلاته خالصة لله تعالى ولأنه روي في الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: إني ربما أكون في الصلاة في سورة أريد أن أتممها فلما أسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مخافة أن تفتتن أمه" فإذا جاز له - صلى الله عليه وسلم - أنه يجوز بالصلاة لحق بعض المأمومين جاز للإمام هذا الانتظار القليل لحق الداخل حتى لا تفوته الركعة ولأنه يؤمر بإعادة الجماعة لمن فاتته الجماعة ويؤمر برفع الصوت بالتكبير ليسمع من وراءه ولا يقال فيه تشريك ويستحب ذلك كذلك ههنا ولأنه روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى وأجلس الحسن رضي الله عنه عند قدميه فلم سجد ركب ظهره فأطال السجود فلما

[337 أ/2] فرغ قيل له: أطلت السجود قال: "إن ابني ركبني فأطلت السجود ليقضي وطره" فإذا أجاز هذا ففي مسئلتنا أولى وقيل: هما على حالين فإن كان يعرف الداخل لا ينتظره لأنه لا يخلو عن نوع مراياة وإن كان لا يعرفه لا ينتظره. فرع لو أحس به وهو قائم أو ساجد لا ينتظره لأنه لا غرض للداخل في لحوق القيام ولا في لحوق السجود وإن أحس وهو قاعد في التشهد وقارب السلام هل ينتظره حتى يحرم الداخل أم لا ينتظره ويسلم على القولين لأن للداخل غرضاً في لحوقه في التشهد وهو أن يدرك فضيلة الجماعة وإن لم يكن قارب السلام يكره انتظاره لأنه لا يقوم بترك الانتظار فضيلة ولا نية فوات ركعة. فَرْعٌ آخرُ لو انتظره لا للاحتساب بل للتودد واستمالة القلب يكره قولاً واحداً وههنا قال أبو حنيفة رحمه الله أخشى أن يكفر وقال بعض أصحابنا بخراسان هل تبطل صلاته بالانتظار الذي ذكرنا؟ قولان وهذا ليس بشيء وقال أيضاً لا يدرك الرجل فضيلة الجماعة إلا بإدراك ما يحتسب له به مثل أن يدركه في الركوع فأما إذا أدركه في السجود لا يحصل له فضيلة الجماعة وليس بشيء. فَرْعٌ آخرُ قال [337 ب/2] بعض أصحابنا وردت الأخبار في فضل إدراك التكبيرة الأولى عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى متى يكون مدركاً لها فيه ثلاثة أوجه؛ أحدها: إذا أدرك الركعة صار مدركاً لها لفضيلتها وإن كان أدرك الركوع معه والثاني: ما لم يدرك شيئاً من القيام لا يكون مدركاً لها. والثالث: ينظر فإن كان مشتغلاً بأمر الدنيا لا يكون مدركاً لها ما لم يدرك شيئاً من القيام وإن كان مشتغلاً بالطهارة فإنه يكون مدركاً لها بإدراك الركوع. مسألة: قال ويؤتم بالأعمى وبالعبد وهذا كما قال يجوز إمامة الأعمى للبصراء والعميان ولا تكره وحكي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال تكره وبه قال ابن سيرين ويروى عن مالك رحمه الله أيضاً لأنه لا يرى النجاسة فلا يمكنه التوقي وهذا غلط لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلف ابن أم مكتوم مراراً على المدينة وكان يصلي بالناس وكان ضريراً ولأنه ليس فيه إلا فقد حاسة لا تخل به شيء من شرائط الصلاة فأشبه الأطرش فإذا تقرر هذا فقد قال في كتاب الإمامة الأعمى والبصير فيها سواء لا فضيلة لأحدهما على الآخر لأن [338 أ/2] البصير وإن كان له فضل قربة في اجتناب النجاسات ومشاهدة الجهات فالأعمى فضيلة أخرى في كثرة الخشوع لأنه لا يشاهد شيئاً يشغله عن الصلاة. وقال بعض أصحابنا وبه أفتي البصير أولى لما تقدم من العلة وحكي عن أبي إسحاق أنه قال: الأعمى أولى لأنه أخشع في صلاته وهذان الوجهان مخالفان للنص وهو أولى ولهذا قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - الأعمى كما قدم البصير ولم يفرق بينهما فاستويا وقال أبو حنيفة:

البصير أولى بكل حال لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استخلف البصراء في أكثر الأحوال ولم يستخلف الأعمى إلا مرة أو مرتين قلنا لأن البصراء بالمدينة هم أكثر من العميان لا لما قلتم وأما إمامة العبد تجوز ولا تكره إمامته قال: والاختيار أن يقدم الأحرار على المماليك لأن الإمامة هي فضيلة وكمال فالكامل بها أولى وحكي عن أبي حنيفة أنه تكره إمامته وبه قال أبو مجلز وحكي عن مالك رحمه الله أنه قال: لا يؤمهم في الجمعة والعيدين وقال الأوزاعي رحمه الله: أربعة لا يؤمون الناس فذكر العبد إلا أن يؤم أهله [338 ب/2] وهذا غلط لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اسمعوا وأطيعوا ولو أمر عليكم عبد حبشي أجدع ما أقام فيكم الصلاة" وقال عبد الله بن أبي مليكة: كنا عند أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فأمرت مولى لها لم يعتق بعد فصلى بنا وروي أنه كان لعائشة رضي الله عنها غلاماً يكنى أبا عمرو وكان يؤم بني محمد بن أبي بكر وعروة ولم يكن عتق بعد وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن قوماً من المهاجرين نزلوا بحسن قباء وفيهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأمهم سالم مولى أبي حذيفة. وإمامة الحر الضرير أولى من إمامة العبد البصير ثم ينظر فإن كنت إمامته بقدر صلاة الانفراد لا يلزم استئذان السيد وإن تطاول عن حد الانفراد كالجمعة يلزمه استئذانه لأن فيها تفويت خدمته. فرع إمامة الصبي الذي يفعل الصلاة للبالغين في الفريضة والنافلة جائزة ولا يكره والاختيار أن لا يؤهم إلا بالغ نص عليه وبه قال الحسن وإسحاق وقال عطاء والشعبي، ومالك، والثوري، والأوزاعي تكره إمامته وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال لا يؤم الغلام حتى [339 أ/2] يحتلم وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يجوز أن يكون إماماً أصلاً وروي عنه أنه يجوز ذلك في النوافل دون الفرائض وقال الزهري إذا اضطروا إليه أمهم وكلام أحمد في هذا يحتمل وجهين وهذ غلط لما روى عن عمرو بن سلمة قال كنا بحاضر يمر بنا الناس إذا أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فكانوا إذا رجعوا مرو بنا فاجهرونا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال كذا وقال كذا وكنت غلاماً حافظاً فحفظت من ذلك قرأناً كثيراً فانطلق أي وافد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - في نفر من قومه فعلمهم الصلاة وقال يؤمكم أقرأكم وكنت أقرأهم فقدموني فكنت أصلي بهم وأنا ابن سبع سنين أو ثمان سنين وقوله: كنا بحاضر الحاضر هم القوم النزول على ماء يقيمون به ولا يرحلون عنه ومعنى الحاضر: المحضور ولأن من أجاز أن يكون لنا ما في النفل جاز أن يكون إماماً في الفرض كالبالغ وقالت عائشة رضي الله عنها: كنا نأخذ الصبيان من الكتاب فيصلوه بنا التراويح وكنا نعمل لهم القلية والخشكنانج. فرع قال الشافعي [339 ب/2] رحمه الله وأكره إمامه ولد الزنا ومن لا يعرف أبوه لأن الإمامة موضع فضيلة وبه قال مجاهد وروي أن عمر بن عبد العزيز رحمه الله نهى رجلاً يصلي

بالناس عن الإمامة لأنه لا يعرف أبوه. وحكي عن أبي حنيفة أنه لا يكره وبه قال الثوري وأحمد، وإسحاق ورواه ابن المنذر عن مالك رحمهم الله واختاره والصحيح عن مالك وأبي حنيفة مثل قولنا وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: ما عليه من وزر أبويه شيء فإن أم جاز لأنه يذكر من أهل الصلاة فأما الخصي والمحبوب فكالفحل سواء بلا إشكال. مسالة: قال: وأكره إمامة من يلحن. فصل وهذا كما قال إذا لحن الإمام في القرآن فإن كان لا يخل بالمعنى فصلاته وصلاة من خلفه جائزة سواء كان في أم القرآن أو غيرها مثل أن يقول {اهْدِنَا الصِّرَاطَ} بضم الألف {وَإِيَّاكَ} بفتح الألف ونستعين بخفض النون الأولى ونحو ذلك وتكره إمامته لأن الاختيار أن يكون الإمام فصيح اللسان حسن البيان مرتلاً للقرآن كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "يؤم القوم أقرأهم لكتاب الله" وإن كان يخل المعنى فإن كان في [340 أ/2] غير الفاتحة مثل أن يقول (إن الله برئ من المشركين ورسوله) بخفض اللام قوله: (أنعمت) عليهم بضم التاء فإن كان لا يحسن الصواب أو جرى بذلك لسانه من غير قصد لا يضره ولا يضرهم لأنه في غير الفاتحة التي هي الفريضة وحدها وإن كان تعمد بذلك فإن كان معتقداً لما قرأه فقد كفر ولا صلاة للكافر وإن لم يكن معتقداً فقد فسق به وبطلت صلاته لأنه تلاعب بصلاته فكان حكمه أغلظ من حكم من تكلم في الصلاة عامداً وأما صلاة المأمومين فإن علموا بحاله وتبعوه في صلاتهم بطلت صلاتهم وإن لم يعلموا لم تبطل صلاتهم وإن كان ذلك في أم القرآن مثل أن يقرأ ولا الظالين بالظاء أو أنعمت عليهم على ما ذكرنا أو إياك نعبد بخفض الكاف فيكون خطاباً للمؤنث قال الشافعي رحمه الله: أجزأته دونهم وقال في استقبال القبلة: لا تجوز صلاته ولا صلاة من خلفه وليست المسألة على قولين وإنما على اختلاف حالين؛ فالأولى إذا كان لا يستقيم لسانه ولا يقدر على تعلم الصواب والثانية إذا كان يمكنه ذلك ففرط وأما صلاة من خلفه فمن كان مثله [340 ب/2] تجوز صلاته ومن كان يحسن ذلك من غير لحن فهو بمنزلة صلاة القارئ خلف الأمي وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وأما قول الشافعي: أو لفظ بأعجمية معناه أن يقول الخمد بالخاء المعجمة والهمد بالهاء كما يقول الجبلي والديلم أو يتبدل حرفاً بحرف مثل أن يقول ما يقول بعض العجم إهدنا الصراط المستقين بالنون فهذا كله بمنزلة اللحن الذي يحيل المعنى وقد ذكرنا. فرع لو ترك التشديد في قوله: {إِيَّاكَ} وخففها فإن تعمد وعرف معناه صار كافراً لأن الإيا ضوء الشمس فيصير كأنه يعبد ضوء الشمس وإن كان ناسياً أو جاهلاً يسجد للسهو بعد إعادته على الصحة. فَرْعٌ آخرُ قال بعض أصحابنا ولو لحن بغير المعنى مثل أن قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} ونصب

الهاء هل يجزيه؟ وجهان بناء على أصل وهو أن الإعجاز في النظم وحده دون الإعراب أو في النظم والإعراب معا؟. مسألة: قال وأكره إمامة من به تمتمة أو فأفأة. الفصل وهذا كما قال. التمتام هو الذي يردد التاء ثم يأتي بها والفأفأة هو الذي يردد الفاء ثم يأتي بها فهذان تصح الصلاة خلفهما [أ 34 أ/2] لأنهما يأتيان بالحروف على الكمال والزيادة مغلوب عليها ويكره تقديمهما لموضع الزيادة بالتردد وأما الأرت وهو الذي في لسانه رتة يدغم حرفاً في حرف ولا يبني الحروف وقال بعض أصحابنا هو الذي يبدل حرفاً بحرف مثل اللام تاء ونحو ذلك وهكذا قاله الفراء وقال أبو العباس المبرد: الأرت الذي به رتة وهو أن أول الكلام لا يطاوعه حتى إذا نطق به اتصل فحكمه حكم التمتام على هذا وقال في تفسيره عن الشافعي رحمه الله: من يكون في لسانه رخاوة كما يكون في لسان الصبيان فإن كان هكذا فإنه تجوز الصلاة خلفه إذا أتى بالتشديد في موضعه وإذا قلنا بما ذكره بعض أصحابنا أو ذكرنا أولاً لا تجوز صلاة القارئ خلفه وأما الألثغ فهو الذي يقلب الحرف عن موضعه حتى يتلفظ بالعين بدل الغين أو اللام في مخرج الكاف أو الكاف في مخرج التاء ونحو ذلك فهو بمنزلة الأمي الذي لا يحسن الفاتحة وقال القاضي أبو حامد رحمه الله الألثغ هو الذي يبدل حرفاً بحرف وقال المبرد اللثغة هو أن يعدل بحرف إلى حرف وقال الفراء: اللثغة [341 ب/2] هي بطرف اللسان وهي أن يجعل الراء على طرف لسانه لاماً ويجعل الفاء تاء وقال الأزهري: الأليغ بالياء وهو الذي لا يبني الكلام وقد ذكرنا حكمه. فرع لو كان ممن لا يصرح بالحرف فيتكلم بالحرف بين حرفين كالعربي الذي لا يجعل القاف كافاً بل يخرجها بين الحرفين لا كافاً ولا قافاً أو العجمي الذي لا يصفو له الضاد غير أنه لا يقول ظاء فيه فتكره الصلاة خلفه ويجوز وحكي عن الشيخ أبي العباس الأسفراييني عن الداركي عن أبي غانم تلقى أبي العباس قال: انتهى ابن سريج رحمه الله إلى هذه المسألة فقال: لا تجوز إمامة الألثغ وكان به لثغه يسيرة وفي مثلها فاحتشمت أن أقول له هل تصح إمامتك؟ فقلت أيها الشيخ هل تصح إمامتي؟ قال: نعم. وإمامتي أيضاً. فَرْعٌ آخرُ لو اختلف لحن الإمام والمأموم فأحال الإمام بلحنه معنى كلمة أصاب المأموم معناها وأحال معنى كلمة سواها ففي صلاة المأموم وجهان؛ أحدهما: يجوز لاشتراكهما في اللحن وإن اختلفا والثانى: لا يجوز وهو الأصح لأنه يفضل على الإمام فيما قصر عنه وإن اعتوره النقص من غيره وكذلك لو كان [342 أ/2] المأمون لا يحسن الفاتحة ويحسن سبع آيات لا يلحن فيها أو لا يحسن من القرآن شيئاً ولكنه يسبح ولا

يلحن فصلى خلف من يحيل بلحنه معنى الفاتحة فهو على هذين الوجهين وروى عبيد بن عمير أن رجلاً من السائب كان يصلي بالناس بمكة وكان أعجمي اللسان فأخره المسور بن مخرمة وقدم غيره فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فهم بالمسور فقال يا أمير المؤمنين أن الرجل كان أعجمي اللسان وكان في الحج فخشيت أن يسمع به بعض الحاج فيأخذ بعجمته فقال: أصبت. فَرْعٌ آخرُ لو اختلف لثغة رجلين لم يجز لأحدهما أن يأثم بالآخر في أصح الوجهين لأن كل واحد يعجز عن صاحبه في الحرف الذي أتى به فكان نقصاً. فَرْعٌ آخرُ الحبسة في اللسان تعذر الكلام عند إرادته والفف إدخال حرف والغمغمة أن تسمع الصوت ولا يبين لك تقطيع الحرف وأصل الغمغم موت المبارز في الحرب وحكم هؤلاء حكم الألثغ. فَرْعٌ آخرُ القراءات الشاذة ما عدا الحروف السبعة فإن لم يكن فيها زيادة حرف ولا تبديل معنى فقراءتها في الصلاة لا تبطلها وتحتسب لأن اللحن الذي لا يغير المعنى لا يمنع الاحتساب بالقراءة [342 ب/2] على ظاهر المذهب وإن كان فيها زيادة كلمة أو كان فيها تغيير المعنى فتلك القراءة تجري مجرى أثر عن الصحابة أو خبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإن كان عمداً تبطل الصلاة وإن كان سهواً فإنه يسجد للسهو. مسألة: ولا يأتم وجل بامرأة ولا بخنثى وهذا كما قال لا يجوز أن تكون المرأة إماماً للرجال وبهذا قال كافة العلماء وقال أبو ثور يجوز ذلك وحكي عنه وعن ابن جرير أنهما قالا: يجوز في صلاة التراويح إذا لم يكن قارئ غيرها وتقف خلفه الرجال واحتجوا بما روي عن ورقة بنت نوفل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يزورها في بيتها فجعل لها مؤذناً يؤذن لها وأمرها أن تؤم أهل دارها وهذا عام في الرجال والنساء وهذ غلط لقوله - صلى الله عليه وسلم - "أخروهن من حيث أخرهن الله" وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لا تؤمن امرأة رجلاً ولا إعرابي مهاجراً لا فاسق مؤمناً إلا أن يقهره سلطان يخاف سيفه أو سوطه" ولأن الإمامة هي موضع الكمال والمرأة ليست من أهل الكمال ولهذا لا تصلح للقضاء والإمامة الكبرى ولأن في إمامتها [343 أ/2] افتتاناً بها فلا يجوز وأما خبرهم قال الدارقطني: أمرها أن تؤم نساء أهل دارها. وأما الخنثى فينظر فيه فإن بان أنثى فهو كالمرأة وإن بان رجلاً فهو كالرجل وقال في الحاوي: إذا زال إشكاله وبان أمره كرهنا له أن يأتم بامرأة ويجوز، وإن بان رجلاً كرهنا للرجال أن يأتموا به ولكن يجوز، وأما إذا كان مشكلاً لا يجوز أن يكون إماماً للرجال لئلا تكون امرأة ولا يجوز أن يكون إماماً للخنثى لئلا

تكون امرأة والمأموم رجلاً، ولا يجوز للخنثى أن تأتم بامرأة لئلا يكون رجلاً خلف امرأة. ويجوز أن يكون إماماً للمرأة وأن يأتم بالرجال أيضاً. فرع قال في كتاب الإمامة ويصلي الرجل بالنساء من ذوات محارمه فإن كن أجنبيات ولا رجل معهن كره له أن يصلي بهن وإنما كان كذلك لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يخلو الرجل بالمرأة الأجنبية وقال: "لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما" وإن كان معهن رجال لم يكره بحال. فَرْعٌ آخرُ لو صلى خلف الخنثى ولم يعلم ثم علم لزمه إعادة الصلاة [343/ 2] فلو لم يعد الصلاة حين عرف حتى بان أنه رجل فالصحيح أنه يلزمه الإعادة أيضاً وفيه قول مخرج أنه لا يلزمه الإعادة من قول الشافعي رضي الله عنه ولو رأوا سواداً فظنوه عدواً فصلوا صلاة شدة الخوف ثم بان أنه غير عدو يلزمهم الإعادة في أحد القولين ولو ائتم خنثى بامرأة ثم بان أن الخنثى امرأة لا تسقط عنه الإعادة قولاً واحداً لأن إحرامه انعقد فاسداً ولو فرغ من صلاته ثم بان أن الإمام امرأة ففيه وجه مخرج أنه لا إعادة ذكره في الحاوي. مسألة: قال: وأكره إمامة الفاسق والمظهر للباع وهذا كما قال تكره إمامة الفاسق وأراد كراهة التنزيه وهو المسلم إذا شرب الخمر أو زنى أو سرق أو ارتكب غيره من المعاصي فإن صلى بهم صحت صلاتهم والكراهة للنهي الذي ذكرنا في الخبر وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "انتقدوا أئمتكم انتقاد الدرهم والدنانير" وقال مالك رحمه الله: الفاسق بغير تأويل لا يجوز الصلاة خلفه وفي المتأول روايتان والمشهور عنه أنه قال: إذا صلى خلف الفاسق بتأويل يعيد في الوقت وهذا يدل على أنه [344 أ/2] لا تجب الإعادة وقال أحمد رحمه الله في إحدى الروايتين: لا تجوز الصلاة خلف الفاسق أصلاً وروي أنه قيل لأحمد: أتصلي خلف من يشرب النبيذ؟ فقال: أنا أروي عنه الحديث أفلا أصلي خلفه؟ وهذا إذا غسل فاه عند الصلاة وثيابه نظيفة وكان صاحياً والدليل على ما ذكرنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلو خلف من قال: لا إله إلا الله وعلى كل من قال: لا إله إلا الله" وصلى ابن عمر رضي الله عنهما خلف الحجاج وكان من أفسق الناس، وروي أنه قيل لابن عمر رضي الله عنهما: أتصلي خلف الحجاج؟! فقال: إذا دعونا إلى الله تعالى أجبناهم وإذا دعونا إلى الشيطان تركناهم. وقال معاذ قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معاذ أطع كل أمير وصل خلف كل إمام ولا تسبن أحداً من أصحابي" وروى أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ثلاث من السنة الجهاد في سبيل الله مع كل بر أو فاجر والصلاة خلف كل إمام بر أو فاجر والصلاة على من صلى إلى القبلة بر أو فاجر" وقال الشافعي وإن أم من بلغ غاية في خلاف الحمد والدين أجزأه

وخلاف الحمد هو الذم ولكنه [344 ب/2] تطرف في العبادة فعبر عن الفسق المذموم بخلاف الحمد وأراد به من بلغ الغاية في ارتكاب المعاصي ولم يرد الغاية في البدعة هي الكفر، وأما المظهر للبدع في الدين بالطعن على السلف الصالح فإنه تكره الصلاة خلفه فإن صلى صحت صلاته لأن ذلك لا يخرجه عن الإسلام وقال صاحب الإفصاح: أراد الشافعي رحمه الله: إذا لم يخرج عن الإسلام ببدعته ولم يكفر السلف ولم ينقصهم ولم يعتقد حدوث كلام الله تعالى ولا نفي شيء من صفاته، وإنما خالف في الأرجاء والوعيد ونحو ذلك من البدع التي لا تخرجه من الملة فتكره الصلاة خلفه، ولكن تجوز فأما إذا اعتقد شيئاً مما ذكرنا لا تجوز الصلاة خلفه. ومن أصحابنا من قال: البدعة على ثلاثة أضرب ضرب لا يفسق به كالمخالف في الفروع من الفقهاء فلا تكره الصلاة خلف معتقده إلا أن يكون منهم من يذهب إلى ترك الأركان فتكره الصلاة خلفه لئلا يترك ركناً ويجوز لأن الظاهر منه أنه يأتي به إذ هو يستحب عنده قلت: وربما يعتقد أنه لا يستحب كالتسمية في الركعة الثانية ولكنه يأتي به للخروج [345 أ/2] من الخلاف، وضرب يفسق به كمن سب الصحابة من الروافض والخوارج، فتصح الصلاة خلفه ولكنه يكره، وضرب يكفر به كالقول بخلق القرآن والاعتقاد بأن علياً رضي الله عنه كان إلهاً أو كان نبياً كما قالت غلاة الرافضة فلا تجوز الصلاة خلفه. وحكي عن مالك أنه قال: لا يؤتم ببدعي ولعله أراد من يحكم بكفره وقال القفال: تجوز الصلاة خلف الخوارج والروافض ولكن يكره لأن مذهب الفقهاء أن لا يكفر أهل الأهواء بالتأويل وقيل لجعفر بن محمد رضي الله عنه: أكان الحسن، والحسين إذا صليا خلف مروان بن الحكم يعيدان الصلاة؟ فقال: لا ما كان يزيدان على الصلاة معه غير النوافل. مسألة: قال وإن أمي أي بمن يقرأ أعاد القارئ وهذا كما قال إذا ًصلى القارئ وهو الذي يحسن أم القرآن خلف الأمي الذي لا يحسن أم القرآن ففيه قولان؛ أحدهما قاله في الجديد: أنه لا تجوز صلاة القارئ وقال في القديم: إن كانت الصلاة مما يجهر فيها بالقراءة لا يجوز لأن الإمام يتحمل القرآن في هذه الصلاة والأمي ليس هو من أهل التحمل وإن كانت الصلاة مما يسن فيها [345 ب/2] بالقراءة يجوز لأنه يقرأ لنفسه وبه قال الثوري وخرج أبو إسحاق رحمه الله قولاً ثالثاً فقال على هذا نحى في قوله الجديد أن يصح صلاة القارئ خلف الأمي بكل حال لأنه يلزمه أن يقرأ لنفسه في الصلاتين وبه قال المزني وأبو ثور واختاره ابن المنذر وروي ذلك عن عطاء، وقتادة ووجهه أن القراءة هي ركن من أركان الصلاة فجاز أن يكون العاجز عنه إماماً للقادر كالقائم يصلي خلف القاعد وقال القاضي الطبري هذا التخريج باطل لأن الشافعي رحمه الله رجع في الجديد كما قاله في القديم من تحمل الإمام قراءة المأموم وألزم المأموم القراءة في الصلاتين ومع هذا فقد منع جواز صلاة القارئ خلف الأمي وفي القديم اعتبر بطلان صلاته بتحمل القراءة عن المأموم فلم يجز أن يخرج على قوله الجديد طريقة رجع عن القول بها ولو جاز هذا لجاز أن يقال قوله القديم قول الشافعي في

الجديد مع رجوعه عنه واختياره لطريقة مخالفة له فلما لم يجز هذا فكذلك هذا التخريج وقال القفال اختلف أصحابنا في نصين للشافعي خالف الآخر الأول هل يجعل للآخر [346 أ/2] رجوعاً عن الأول أم لا فإن قلنا أنه يكون رجوعاً فلا يأتي في الجديد إلا قول واحد لا يجوز بحال وإن قلنا لا يجوز رجوعاً فعلى هذا يخرج ما قاله أبو إسحاق قال: وإنما لا يجعل رجوعاً لأنه قد ينص في موضع واحد على قولين والصحيح القول الأول وبه قال أبو حنيفة ومالك، وأحمد، والثوري في الرواية الصحيحة أن الإمام من يقدر على التحمل إذا أدركه راكعاً فالعاجز لا ينتصب له كالإمام الأعظم إذا عجز عن عمل أعيا الأمة لا يكون إماماً. فرع إذا صلى القارئ خلف الأمي صحت صلاة الإمام وإن لم تصح صلاة القارئ خلفه وبه قال أبو يوسف ومحمد وأحمد رحمهم الله وكذلك يجوز للأمي أن يصلي خلف الأمي مع المقدرة على الاقتداء بالقارئ ولكل واحد منهما أن يصلي منفرداً، وكذلك يجوز للأخرس أن يصلي خلف الأخرس مع القدرة على الصلاة خلف الناطق ويصلي منفرداً أيضاً مع القدرة على الاقتداء بالناطق، وقال أبو حنيفة: تبطل صلاة الأمي أيضاً قال أبو حازم: من جملة أصحابه إنما أفسد أبو حنيفة صلاة الأخرس لأنه يمكنه [346 ب/2] أن يقتدي بالقارئ فيؤدي صلاة بقراءة وهذا يدل على أنه لا يصلي وحده وقال الكرخي: إنما أفسد صلاته لأنه لما أحرم معه صح إحرامه معه ثم لزم تحمل القراءة عنه فعجز فبطلت صلاته، وهذا غلط لأنه أم من لا يجوز له أن يؤمه فلا تبطل صلاته، كالمرأة تؤم الرجل وأما ما ذكر أبو حاتم فغلط فإنه يوجب الجماعة على الأمي وقد روينا أن رجلاً قال يا رسول الله إني لا أستطيع شيئاً من القرآن فقال: "قل سبحان الله" والحمد لله الخبر ولم يأمره بالائتمام بالقارئ وأما ما ذكره الكرخي لا يصح لأن هذا الأمي بإحرامه لا تجب عليه القراءة لنفسه فكيف يجب عليه أن يتحمل عن غيره. فَرْعٌ آخرُ الأمي في اللغة: هو الباقي على أميته يعني عى خلقته الأولى لم يعلم شيئاً وفي الشرع: من لا يحسن أم القرآن فإذا ائتم من لا يحسن أم القرآن ويحسن غيرها فصلاة من يحسن أم القرآن خلفه باطلة وإن كان الإمام لا يحسن أم القرآن يحسن سبع آيات أو ثمان آيات والمأموم لا يحسن أم القرآن أيضاً إلا أنه يحس من سائر القرآن أكثر صحت صلاته خلفه لأنهما أميان والمستحب [347 أ/2] تقدم من يحفظ الأكثر. فرع لو كان لا يحسن شيئاً من القرآن فصلى بمن يحسن سبع آيات من غير الفاتحة فهو كصلاة القارئ خلف الأمي لأن سبع آيات تقوم مقام الفاتحة.

فَرْعٌ آخرُ لو كان أحدها يحسن النصف الأول من الفاتحة والأخر يحفظ النصف الأخير لا يصح اقتداء أحدهما بالأخر وهذا مما يسأل للتعنف فيقال: أيهما أولى بالإمامة؟ ومثل هذا يسأل فقال: جماعة من الخنائى إمامهم أين يقف؟ وهذا السؤال محال لأنه لا يصح اقتداء بعضهم ببعض. فَرْعٌ آخرُ لو صلى رجل خلف من لا يعرفه قارئاً فإن كانت الصلاة يسر فيها بالقراءة أحببنا له الإعادة لئلا يكون أمياً ولا يجب عليه لأن الظاهر أن لا يتقدم بالناس إلا قارئ وإن كانت صلاة يجهر فيها بالقراءة ولكنه ما جهر بها قال في الأم عليه الإعادة لأنه لو كان يحسن القراءة لجهر بها اللهم إلا أن يسأله فيقول: تركت الجهر ناسياً فلا يلزم الإعادة. فَرْعٌ آخرُ قال: لو أم رجل قوماً يقرأون القرآن ولا يدرون أيحسن أن يقرأ أم لا؟ فإذا هو لا يحسن أم القرآن أو تكلم بسجع في القرآن لم تجزهم صلاتهم وابتداء الصلاة وعليهم إذا سمع [347 ب/2] ما ليس من القرآن أن يخرجوا من الصلاة خلفه وسجاعته كالدلائل الظاهرة على أنه لا يحسن يقرأ وأراد بالسجع ما حكي عن الأصمعي قال: اجتزت ببعض أحياء العرب فحضرت الصلاة فقام رجل يؤم القوم فقرأ: والسماء ذات البروج والحيل السروج والأرض ذات المروج والبحر عليها يموج. ثم ذكر وقام إلى الثانية فقرأ: والليل إذا يغشى وجاء الذئب يسعى وأكل الشاة الوسطى وترك الشاة العرجا وسوف يأخدها مرة أخرى. وكبر وسلم فقلت له: إن هذا ليس بقرآن قالها القرآن قال: فلقنته الفاتحة والمعوذتين قال أما إنه لأحسن مما كنت أقول وقرأ بعض العرب: قل هو الله أحد قاعد على الرصد مثل الأسد لا يفوته أحد. فإذا علم أنه أمي أو سمع ما ذكرناه وكان قد أحرم خلفه قال الشافعي رحمه الله أحب أن يعيدوا الإحرام فإن بنوا عليه وأتموا لأنفسهم أجزأتهم واحتج المزني رحمه الله على صحة قوله بأربعة أشياء؛ أحدها: قال قد أجاز صلاة من ائتم بجنب وهو ليس في صلاة فأولى أن تجوز الصلاة خلف العاصي بترك الغسل دون المطيع والثاني [348 أ/2] قال الشافعي: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاعداً بقيام وفقد القيام هو أشد من فقد القراءة لأن القراءة تسقط إذا أدرك الإمام راكعاً دون القيام والثالث: قال أجاز الشافعي رحمة الله عليه في صلاة الخوف للطائفة الثانية ركعتها مع الإمام إذا نسي سجدة من الأولى وقد بطلت هذه الثانية على الإمام والرابع قال ولا يكون هذا أكثر ممن ترك أم

القرآن عمداً وتجوز صلاة المأموم خلفه والجواب عن الكل هو يرجع إلى نكتة واحدة وهي أن في هذه المواضع لم يكن أنقص في ذات الإمام يمنع اقتداء كامل بالذات به وفي الأمي وجد نقص في ذاته فمنع اقتداء القارئ الذي هو كامل الذات به كما لا يجوز اقتداء الرجل بالمرأة ولهذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم بالصلاة وهو جنب ثم تذكر فخرج فاغتسل وصلى وروي أنه لما مرض صلى قاعداً ولا يقال هو نقص فيه أو نقول الحدث والطهارة متعاقبان وليست لهما علامة يعرف. الرجل بها والأمي يمكن الوقوف على حاله ولأن خلف الجنب لا تجوز الصلاة مع العلم وهو يجوز خلف الأمي [348 ب/2] مع العلم فلا يصح الاعتبار وقوله: فقد القيام أشد ليس كذلك بل فقد القراءة أشد لأن المتنفل يترك القيام مع القدرة دون القراءة وأما إذا أدرك الإمام لا يأتي بقيام القراءة بل يأتي بقيام التكبير فكما سقطت للقراءة فكذلك للقيام وأما الأخير قلنا ليست لتركه القراءة عامداً علامة يعرف بها بخلاف الأمي. مسألة: وإن ائتم بكافر ثم علم أعاد ولم يكن هذا منه وهذا كما قال إذا صلى الكافر قبل أن أن يظهر الشهادتين لم يكن ذلك إسلاماً منه وعذر على ذلك ولا يكون ذلك أيضاً دلالة على إسلامه وسواء كان إماماً أو مأموماً وسواء صلى في بيته أو في المسجل وإنما يعزر لأنه أفسد على المسلمين صلاتهم واستهزأ بدينهم وحكي عن الأوزاعي أنه قال: يعاقب وينبغي أن يريد به التعزير وقال أبو حنيفة: إذا اقتدى بمسلم في مسجد وحكم بإسلامه حتى لو قال: ما أسلمت حكم بردته ويقتل وإن كان إماماً أو منفرداً في مسجد فيه روايتان وإن صلى في غير المسجد لم يكن إسلاماً وعند محمد إذا صلى في المسجد على أية حالة كانت كان إسلاماً وقال أحمد: يحكم بإسلامه بالصلاة بكل [349 أ/2] حال وحكي عن أبي حنيفة: أنه لو حج وطاف كان إسلاماً منه وهذا غلط لأن صلاته تحتمل وجوه فلا تدل على الإسلام. فرع هذا الذي ذكرنا هو إذا لم نسمع منه كلمة الشهادتين في التشهد فإن سمع منه ذلك قال ابن أبي هريرة: فيه وجهان أحدهما: أنه يحكم بإسلامه وهو الصحيح وهو اختيار القفال لأن الشهادتين قد وجدتا منه ابتداء فكان إسلاماً كما لو دعي إلى الإيمان فقال: أشهد أن لا إله إلا الله والثاني أنه لا يحكم بإسلامه حتى يأتي بها قاصداً إظهار الإسلام لجاز أن يكون ذلك منه على طريق الحكاية والاستهزاء كما روي أن أبا محذورة وأصحابه إذنوا في طريق حنين على طريق الحكاية والاستهزاء لمؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم يجعل ذلك إسلاماً منهم وعلى هذا إذا أتى بالشهادتين في غير الصلاة من غير دعاء إلى الإيمان أو أذن هل يحكم بإسلامه فيه وجهان. فرع لو قال مع الشهادتين وأنا برئ من كل دين خالف الإسلام حكم بإسلامه على أي

وجه كان وإنما يعتبر ذلك هذا عند الدعاء إلى الإيمان في العيسوية من اليهود الذين يقولون: إن محمداً [349 ب/2] رسول الله أتى العرب دون بني إسرائيل. فرع قال الشافعي رحمه الله في المرتد في الكبير إذا قامت البينة على الرجل بالردة غنم ماله إذا مات فإنه قال ورثته: أنه رجع إلى الإسلام وأقاموا البينة أنهم رأوه بعد الشهادة عليه بالردة يصلي صلاة المسلمين يعني في دار الحرب قبلت ذلك منهم وإن كان هذا في بلاد المسلمين لا يحكم بإسلامه بها قال القافي أبو الطيب: وعندي أن الكافر إذا صلى في دار الحرب مثل المرتد وهذا لأنها دلالة على الإسلام فإذا وجدت في دار الإسلام جاز أن يكون هذا رياء وتقرباً إلى المسلمين فلا يحكم بها بالإسلام كصوم شهر رمضان فإذا وجدت في دار الحرب لا يحتمل إلا الإسلام وهذا غريب لم يذكره أهل خراسان وقد ذكرنا من قبل أنه إذا صلى خلف الكافر ثم ... فإنه يلزمه الإعادة بخلاف ما لو صلى خلف الجنب ثم علم والفرق ما أشار إليه الشافعي قال الكافر لا يكون إماماً بحال والمؤمن يكون إماماً في الأحوال الظاهرة ويقرأ هذه اللفظة بالطاء والظاء ومعناهما متقارب إلا أن الأحوال لا توصف [350 أ/2] بالطهارة ويصح أن توصف بالظهور من قرأها بالظاء قال الخلل وقع من المزني رحمه الله لأن الشافعي رحمه الله عبر بخلافه في الكبير فقال لأن الكافر لا يكون إماماً بحال والمؤمن يكون إماماً إلا أنه ليس له أن يصلي إلا طاهراً وأراد أن الطهارة والحدث حالتان متعاقبتان على المؤمن فلا يمكن المقتدي الاحتراز من حدث الإمام كما يمكنه في الغالب الاحتراز من كفره إذا الكفر والإسلام ليسا متعاقبين في الغالب وكذلك الذكور والأنوثة وبهذا نجيب المزني رحمه الله كما ذكره هنا وهو قوله كل فصل لنفسه. مسألة: قال ومن أحرم في مسجد أو غيره ثم جاء الإمام فتقدم لجماعة. فصل وهذا كما قال وجملته أن في نفل الصلاة إلى الصلاة ثلاث مسائل؛ إحداها: أن ينقل من جماعة إلى جماعة مثل إن أحدث الإمام فاستخلف غيره أو أحرم بهم وهو جنب فذكره انصرف واغتسل وعاد فابتدأ بهم الصلاة صح ذلك كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد انعقد في هذه المسألة الثانية جماعة بغير الإمام ثم صارت جماعة بإمام فيجوز والثانية [350 ب/2] نقل الجماعة إلى الانفراد ينظر فإن سلم إمامه قبل الفراغ المأموم مثل أن أدرك معه بعض الصلاة أتمها المأموم منفرداً وإن أخرج نفسه من صلاة إمامه قبل فراغ الإمام منها نظر فإن كان لعذر أتمها لنفسه لما ورد في صلاة الخوف وإن كان لغير عذر ففيه طرق قال الإصطخري لا تبطل قولاً واحداً وقال غيره من أصحابنا فيه قولان والصحيح أنه لا يبطل ويكره لما روي أن رجلاً خرج من صلاة معاذ حين أطالها فلم يأمره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالإعادة ولأن الجماعة فضيلة فكان له تركها كما لو صلى بعض صلاة النفل قائماً ثم قعد وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن كان بعذر فقولان، وإن

كان بغير عذر فتبطل قولاً واحداً. وهذا ضعيف وقال بعض أصحابنا بالعراق من المتأخرين: فيه قولان: سواء كان بعذر أو غير عذر وهذا هو أضعف من الذي تقدمه وقال أبو حنيفة، ومالك رحمهما الله: تبطل صلاته سواء كان بعذر أو غير عذر واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم - إنما جعل الإمام ليؤتم به فلا يختلفوا عليه قلنا: [351 أ/2] أراد ما دام متابعاً له والثالثة: أن ينقلها من الانفراد إلى الجماعة ينظر فإن أحرم وحده ثم جاء قوم فصلوا خلفه فنوى هو إمامتهم صارت جماعة ويجوز بلا خلاف وإن جاء هو والإمام معاً لصلاة الجماعة فلما وقفا للدخول فيها أحرم قبل إمامه فنوى إتباعه في الصلاة لا يجوز قولاً واحداً ولو أحرم وحده بصلاة فجاء إمام ومعه قوم فأحرموا بتلك الصلاة فالمستحب أن يتجوز في إكمال الركعتين ويسلم ويتبع الإمام فيصلي معه الجماعة وإن لم يفعل كذلك ولكنه نقلها إلى صلاة الإمام قال في الأم والقديم ونقله المزني: يكره ويصح وقال في الإملاء: تبطل صلاته واختلف أصحابنا في هذا فمنهم من قال قول واحد أنه لا يجوز لأنه قال في الإملاء: لا يجوز أن يبتدئ الصلاة لنفسه ثم يأتم بغيره وهذا منسوخ أراد به ما قال في الكبير هو منسوخ بفعل معاذ وذلك أن في ابتداء الإسلام كان إذا دخل المسبوق يسأل بعض القوم كم مضى من الصلاة فيشير إليه بأصبعين أو ثلاثة فيصلى هو ذلك القدر ثم يتم صلاته مع الإمام فدخل معاذ رضي الله عنه فصلى مع النبي - صلى الله عليه وسلم -[351 ب/2] ما أدراك فلما سلم قضى ما فاته فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فأخبره كيف فعل فقال: "إن معاذاً سن لكم سنة فاتبعوه" وروي: "إذا أتيتم الصلاة فأتوها تمشون ولا تأتوها تسعون وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا" ونقل المزني رحمه الله: وكرهت ذلك وأراد كراهة التحريم كما قال تعالى: {كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً} [الإسراء:38] أي محرماً والذي قاله في القديم قال قائل: يدخل مع الإمام ويعيد بما مضى أراد به مالكاً رحمه الله ثم رده عليه وقال: من قال بهذا أجاز الصلاة بإمامين ونحن لا نجيز ذلك أراد به إبطال الاستخلاف في قوله القديم لا يجوز هذا والفرق أنه التزم أحكام المنفردين بالانفراد فليس له إسقاطها بالاقتداء بخلاف الصلاة خلف إمامين فإنه لا يؤدي إلى هذا وهذا جواب المزني عما اختار من جواز نفل صلاة الانفراد إلى الجماعة قال هذا القائل ولا يجوز الاحتجاج بما روي أنه أحرم وهو جنب فتذكر فخرج ثم عاد بعد الغسل فأحرم لأنهم افتتحوا على قصد [352 أ/2] الجماعة بخلاف هذا قال: ولا يجوز الاحتجاج أيضاً بما روي أن أبا بكر رضي الله عنه ائتم بالنبي - صلى الله عليه وسلم - بعد ما صلى بعض الصلاة إماماً لأن ذلك أيضاً هو افتتاح جماعة وهذا قول أبي حنيفة ويروى عن مالك أيضاً ومن أصحابنا من قال وهو الأصح في المسألة قولان: والصحيح عندي أنه يجوز وهو اختيار المزني رحمه الله ووجهه أنها صلاة افتتحت فرادى وصارت جماعة فلا بأس كما لو أحرم وحده ثم صلى خلفه جماعة، والاحتجاج بما روي أنه صلى بهم وهو جنب صحيح لأنه - صلى الله عليه وسلم - في الحقيقة لم يكن في صلاة فلم تصح جماعتهم ثم صحت

باب موقف صلاة المأموم مع الإمام

بعد ذلك وكذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان في حكم الأصل ولم يكن متابعاً لأحد ثم صار متابعاً وجاز ذلك، وهاتان الحجتان قويتان. ثم اختلف أصحابنا في محل القولين فمنهم من قال القولان: قبل الركوع فأما بعد الركوع لا يجوز قولاً واحداً لأن فيه تغيير نظام الصلاة ومنهم من قال وهو اختيار أبي إسحاق وغيره إن كان قبل الركوع يجوز قولاً واحداً والقولان: بعد الركوع ومنهم من قال وهو الأصح في الكل قولان: قبل الركوع وبعده ثم من أصحابنا من [352 ب/2] قال القولان هما مبنيان على أن الخروج من صلاة الإمام قبل فراغه هل يجوز أم لا؟ لأنه يحتاج ههنا إلى الخروج قبله ومنهم من قال: هما مبنيان على أن الاستخلاف هل يجوز أم لا؟ ووجهه المشابهة أنه يصلي الآن بإمام لم يكن من قبل والصحيح أنهما قولان: بأنفسهما لأنه خروج بعذر ومعنى القولين أنه يؤدي إلى تغيير الأحكام فإذا قلنا: يجوز ضمها وكان قد سبقه بركعة فإذا قام الإمام إلى الرابعة لا يجوز له أن يقوم معه لأنه يؤدي إلى أن تصير صلاته خمساً بل يقعد ويتشهد ثم إن انتظر الإمام حتى يتشهد ويسلم كان له ذلك كما جاز في صلاة الخوف نحو هذا وان أراد أن يسلم كان له ذلك لأنه عذر ولو صلى ركعتين من الظهر ثم ضم إلى صلاته فقام غير ركعتين إن شاء انتظر حتى يصلي ركعتين ويتم الصلاة فيسلم معه وهو يطول الدعاء في حال الانتظار وإن شاء سلم لنفسه. وقال بعض أصحابنا بخراسان يجوز قبل الركوع وبعده بشرط أن لا يؤدي إلى مخالفة الإمام فإن أدى إلى مخالفة الإمام لا يجوز بأن صلى ركعة من الظهر ثم وصل بإمام وهو في أول [353 أ/2] الظهر لأنه مخالفة في القيام والقعود في كل ركعة وهذا لا يصح لأنه إذا جوزنا هذ يتابعه إلى آخر الصلاة ويترك التشهد الأول متابعة له ويأتي معه بالتشهد في الركعة التي هي ثالثة متابعة له ولا يضره ذلك ثم إذا تمت ركعات صلاته وقام هو إلى الرابعة فعلى ما ذكرنا وهذا أوضح. فرع لو شرع في صلاة فائتة فحضرت صلاة الوقت جماعة لا يقطعها لأنه لا يجوز أن يقطع فريضة لمراعاة مصلحة فريضة أخرى والله أعلم. باب موقف صلاة المأموم مع الإمام مسألة: قال وإذا أم رجلاً قام المأموم عن يمينه. الفصل وهذا كما قال، المأموم إذا كان واحداً فالسنة أن يقف عن يمين الإمام قال سعيد بن المسيب رحمه الله يقف على يساره وقال النخعي رحمه الله: يقف خلفه إلى أن يركع فإن أدركه آخر وقف معه وإن لم يدركه تقدم ووقف عن يمينه وهذا غلط لما ذكرنا من خبر ابن عباس رضي الله عنه في بيت ميمونة رضي الله عنها في هذا الخبر دلائل كثيرة أربعة ذكرناها والخامس: أنه يدل على أنه إذا وقف على يساره فإنه يجوز وإن

[353 ب/2] ترك السنة، والسادس: أنه لا يلزمه سجود السهو بذلك. والسابع: أنه إذا وقف عن يساره يلزمه أن يتحول إلى يمينه، والثامن: أن يؤخره الإمام بيمينه لا يساره، والتاسع: أن يريده من خلفه لا من قدامه، والعاشر: أنه يحرم الكلام في صلاة النفي. والحادي عشر: أنه يدل على أن المشي اليسير لا يبطل الصلاة. والثاني عشر: أن للصبي موقفاً في الصف كالبالغ وابن عباس رضي الله عنهما كان صبياً فإذا ثبت هذا فإن تركه الإمام على يسار نفسه وصلى معه لم تبطل صلاة واحد منهما وإذا أراد أن يدور عن اليسار إلى اليمين فالمأموم يدور دون الإمام لأنه تابع فهو أولى بالانتقال وإن كان المأموم اثنين يقومان وراء الإمام. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال يقف بينهما وروي أنه تمسك بثلاث سنن منسوخة. أحدها: هذا، والثانية: التطبيق في الركوع، والثالثة: الإقعاد في الصلاة والدليل عليه في هذا الموضع ما روى جابر رضي الله عنه قال: وقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجئت ووقفت على جنبه فجاء جابر بن صخر فوقف عن يساره فأخرنا بيده حتى [354 أ/2] صيرنا خلفه. فإن وقفا كما قال ابن مسعود رضي الله عنه أو وقف كلاهما عن يمينه لم تبطل صلاة أحد واحتج بما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه صلى بين علقمة والأسود فلما فرغ قال: هكذا فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قلنا: صار منسوخاً بخبرنا. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كانوا ثلاثة تقدم واحد وتأخر اثنان" وقال مسعود: غلام فروة كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي وإلى جنبه أبو بكر الصديق رضي الله عنه يصلي فدفع - صلى الله عليه وسلم - في صدر أبي بكر فقمنا خلفه. فإذا تقرر هذا فإذا جاء الثاني ووقف على يساره وأحرم فإن كان قدام الإمام واسعاً ووراءه ضيقاً تقدم الإمام وإن كان قدامه ضيقاً وورائه واسعاً تأخر المأمومان لأنهما تابعان للإمام. وحكي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يتقدم الإمام وذكر بعض أصحابنا بخراسان مثله وهو غلط لما ذكرنا. وقال القاضي الطبري: إذا جاء آخر يقف على يساره ويحرم [354 ب/2] فإذا أحرم فإما أن يتقدم الإمام عليهما أو يتأخر المأمومان عنه ويكره أن يحذر المأموم الذي عن يمينه فإنه لم يصر بعد في الصلاة فلا يجوز له ترك موقفه لأجله وكلام سائر أصحابنا يدل على أنه يتأخر المأموم إلى الجائي قبل الشروع في الصلاة، والصحيح ما ذكره القاضي رحمه الله قال: ولو جاء ثالث وهما قاعدان في التشهد الأخير فالمستحب أن يقعد عن يساره متشهداً ولا يتأخران عنه قل في التأخر في حال القعود أو تقدم الإمام مشقة والمرأة إذ أمت امرأة قامت عن يمينها فإذا جاءت أخرى فإنها تقوم عن يسارها لأن إمامة النساء تقوم وسطهن ولو أم صبياً وقفا معاً خلفه. فرع لو كان معه صف من الرجال وصف من الصبيان خلف الرجال ومن أصحابنا من قال: يقف بين كل رجلين صبي حتى يتعلم أفعال الصلاة والأول: هو المذهب لقوله - صلى الله عليه وسلم - "ليليني منكم أولوا الأحلام والنهى ثم الذين يلونهم ولا تختلفوا فتختلف قلوبكم وإياكم وهيشات الأسواق" يعني ما يكون فيها من [355 أ/2] ارتفاع الأصوات وما

يحدث فيه من الفتن وقال أنس رضي الله عنه: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحب أن يليه المهاجرون والأنصار ليحفظوا عنه وأما ما ذكروه موجود إذا صلوا خلفهم فإنهم يتعلمون منهم. مسألة: قال وإن كان امرأة أو خنثى مشكلاً قام كل واحد منهما خلفه وحده وهذا كما قال: المرأة إذا صلت مع الرجل وقفت وراءه على ما ذكرنا وإن كان إمام ورجل وامرأة وقف الرجل على يمين الإمام والمرأة ورائه والدليل عليه ما روى أنس رضي الله عنه أن حدثته مليكة دعت النبي - صلى الله عليه وسلم - لطعام منعته فأكل منه ثم قال: قوموا فلأصل بكم. قال أنس: فقمت إلى حصير لنا قد اسود من طول ما لبس فنضحته بماء فقام عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا فصلى بنا ركعتين وكانت العجوز أم سليم وهذا يدل على نسخ ما قاله ابن مسعود وروى الشافعي رحمه الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أم أنس وعجوزاً منفردة خلف أنس وأراد بالعجوز أم سليم وهي أم أنس. وإن كان إمام وخنثى مشكل وقف الخنثى [345 ب/2] خلفه لجواز أن تكون امرأة وإن كان إمام ورجل وخنثى وامرأة وقف الرجل على يمين الإمام ثم الخنثى خلفه ثم المرأة خلفه وإن كان هناك رجال ونساء وصبيان وخناثى فالرجال يلون الإمام ثم الصبيان يلونهم ثم الخناثى ثم النساء. قال - صلى الله عليه وسلم -: "خير صفوف الرجال أولها وشرها أخرها". فرع لو تقدم المأموم على الإمام قال في الجديد: بطلت صلاته وبه قال أبو حنيفة، وأحمد رحمهما الله: وقال في القديم تصح صلاته قال مالك، وإسحاق، وأبو ثور رحمهما الله: واحتجوا بأن مخالفة الموقف لا تبطل الصلاة كما لو وقف على يسار الإمام ووجهه قوله الجديد هو الصحيح لأنه أخطأ موقفه إلى موقف ليس بموقف لأحد من المأمومين بحال فلا تصح صلاته كما لو صلى في بيته بصلاة الإمام في المسجد وبهذا فارق إذا وقف عن يساره لأن اليسار قد يكون موقفاً للمأموم بخلاف القدام. فَرْعٌ آخرُ لو كان الناس في المسجد الحرام مستديرين حول الكعبة فصلوا بصلاة الإمام فإن كان الإمام أقرب إلى الكعبة من المأمومين صحت صلاتهم، وإن كان بعضهم أقرب إلى الكعبة من الإمام قال [356 أ/2] أبو إسحاق: تبطل صلاتهم لأنهم تقدموا على الإمام. وهذا بخلاف نص الشافعي لأنه نص في كتاب الإمامة على خلاف هذا فقال: ويجتهدون أن يكونوا أبعد عن البيت من الإمام فإن لم يفعلوا وعلموا وبعضهم أنه أقرب إلى البيت من الإمام فلا إعادة عليهم ثم قال: ولا تجزي صلاة الذين يصلون من جهته إلا أن يكونوا خلفه فإن لم يفعلوا عادوا ففرق الإمام بين من كان خلف الإمام يتوجه إلى الكعبة وبين من كان موجهاً إلى الكعبة من جهة أخرى وذكر في الفرق بينهما أن من هو في غير جهته لا يخفى عليه فعله وليس كذلك إذا كان الإمام في جهته خلفه لأنه يخفى عليه فعله فلم يجز وأيضاً من كان محاذياً له لما جاز له التوجه إلى غير جهة

الإمام وجاز له التقدم عليه ومن هو خلفه لما لم يجز له أن يتوجه إلى غير جهة الإمام لم يجز له التقدم عليه وهذا هو الجواب إن احتج به أصحاب مالك على جواز التقدم وكذلك في الكعبة لو استقبل أحدهما صاحبه على هذا الوجه يجوز وذكر بعض أصحابنا بخراسان أنه إذا تقدم المأموم على الإمام [356 ب/2] في الكعبة تجوز وهذا الإطلاق خطأ وإنما يجوز على ما ذكرنا. مسألة: قال وركع أبو بكر وحده وخاف أن تفوته الركعة فذكر ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يأمره بالإعادة وهذا كما قال من دخل وقد استوت الصفوف فإن وجد فرجة وقف فيها معهم في الصف ثم آخر فإن أحرم خلفه ثم دخل الفرجة فإنه يكره ويجوز صلاته، وهكذا لو مضى على صلاته وحده ولم يدخل معهم في الصف كره وأجزأه وبه قال الحسن، وأبو حنيفة، والثوري، ومالك، والأوزاعي، وابن المبارك رحمهم الله وروي ذلك عن زيد بن ثابت. وقال أحمد، وإسحاق، وابن أبي ليلى، وداود: لا تنعقد صلاته وبه قال النخعي، والحسن بن صالح واختاره ابن المنذر واحتجوا بما روى وابصة بن معبد: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى، ثم رأى رجلاً يصلي خلف الصف وحده فأمره أن يعيد الصلاة. وأيضاً روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل صلى خلف الصف: أنها خلف الصف هلا دخلت في الصف أو جررت رجلاً من الصف فيصلي معه أعد صلاتك. وروي أنه - صلى الله عليه وسلم -[357 ا/2] قال: "لا صلاة للمنفرد خلف الصف" وهذا غلط لخبر أبي بكرة وتمام الخبر ما روي أن أبا بكرة دخل المسجد فوجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الركوع فخاف أن تفوته الركعة فركع وحده خلف الصف ثم خطا خطوة أو اثنتين حتى اتصل بالصف فلما فرغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من صلاته روي أنه قيل له ذلك وروي أنه علمه لأنه كان يرى في الصلاة من خلفه كما يرى من قدامه فأقبل على أبي بكرة. وقال له: يا أبا بكرة زادك الله حرصاً ولا تقرأوا اسم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون ولا تأتوها وأنتم تسعون وعليكم السكينة والوقار وما أدركتم فصلوا وما فاتكم فاقضوا" ولأنه أخطأ في الوقف ولم يخرج عن حد المتابعة فأشبه إذا وقف الواحد على يسار الإمام وأما خبرهم الأول والثاني فإنا نحمله على الاستحباب وأما الثالث فلعله أساء إلى رجل بعينه كان منافقاً أو لم يتم ركوعه وسجوده فقال: لا صلاة له. فإن قيل فقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكرة عن القعود قلنا: إنما تنهاه لأجل الكراهة أو أراد لا تعد إلى التأخر. وقال بعض أصحاب [357 ب/2] أحمد إدا افتتح صلاته منفرداً خلف الإمام فلم يلحق به أحد من القوم حتى رفع الإمام رأسه من الركوع فلا صلاة له ومن تلاحق به بعد ذلك فصلاتهم كلهم فاسدة وإن كانوا مائة نفر ولو التحق بالصف أو تلاحق به القوم قبل رفع الإمام رأسه من الركوع تصح صلاتهم وكان الزهري، والأوزاعي يقولان في الرجل يركع دون الصف إن كان قريباً من الصفوف أجزأه وإن كان بعيداً لم يجزه.

فرع لو دخل المسجد ولم يجد في الصف فرجة، يصلي خلف الصف وحده وذكر أبو حامد أنه يستحب له أن يجذب رجلاً من القوم ليقف معه خلف الصف فإن لم يفعل هذا كره وأجزأه وبه قال جماعة من أصحابنا وقالوا: لا نص فيه وذكر القاضي الطبري أن الشافعي رحمه الله نص في البويطي أنه يقف وحده ولا يجذب رجلاً وهو أصح لأن في جذبه رجلاً يحدث خللاً في الصف الأول ويحرمه فضيلة الصف الأول وليس له ذلك. فَرْعٌ آخرُ لو وجد في الأول فرجة فدخل رجل له أن يتقدم ويسد الفرجة وإن احتاج إلى المرور بين يدي [358 أ/2] آخر لأن الذي ترك الفرجة بين يديه في الصف الأول منع حق نفسه حين لم يتصل بالصف الأول. مسألة: قال وإن صلت امرأة بين يديه أجزأته صلاته وهذا كما قال في رواية ابن خزيمة وإن صلى وبين يديه امرأة وقصد به الرد على أحمد رحمه الله حيث قال: ومرور الحائض بين يدي الرجل في الصلاة تبطل صلاته وأخذ بالخبر الذي تقدم وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها لما أخبرت بذلك قالت: "بئس ما عدلتمونا بالكلاب كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصلي على فراشي وأنا معترضة بينه وبين القبلة كاعتراض الجنازة فكان إذا سجد غمز وجلي فأقبضهما وإذا رفع مددتهما" والقصد به الاحتجاج على أبي حنيفة ووجهه أن المرأة إذا لم تكن في الصلاة فإذا وتكون قائمة بخلاف ما إذا كانت في الصلاة فإذا لم تضر. صلاة الرجل في شر حاليها فلأن لا تضر صلاته في أحسن حاليها أولى. مسألة: قال وإن صلى رجل في طرف المسجد والإمام في طرفه ولم تتصل الصفوف بينه وبين الإمام. الفصل وهذا كما قال إذا صلى الإمام في المسجد وصلى غيره لصلاته نظر [358 ب/2] فإن كان معه من جوف المسجد صحت صلاته سواء كان بينهما حائل أو لم يكن، بعدت المسافة بينهما أو قربت، اتصلت الصفوف أو لم تتصل، إذا كان له طريق إلى العلم بصلاة الإمام فإن كان سميعاً بصيراً علم بالسماع والمشاهدة لأنه يشاهد الركوع والسجود ويسمع التكبير وقول سمع الله لمن حمده منه، أو من غيره ممن يأتم به وإن كان بصيراً أصم علم بالمشاهدة وإن كان أصم ضريراً لم يجز حتى يكون إلى جنب من يسدده للركوع والسجود، فإن لم يكن أو كان ولكنه لم يثق به لم يجز أن يقتدي به ويجوز لهذا الضرير الأصم أن يكون إماماً لأنه يصلي لنفسه ولا يقتدي بغيره بل غيره يقتدي به والمساجد اللطاف المتصلة بالجامع فإن حكمها حكم المسجد الكبير فإذا وقف المأموم فالمسجد اللطيف والإمام في المسجد الكبير صحت صلاته وإن كان الباب الذي بين المسجدين مردوداً لأن الجميع بني للجماعة الواحدة ولو وقف الإمام

في أسفل المسجد والمأموم على سطح المسجد صحت صلاته لأن سطح المسجد هو من جملة المسجد [359 أ/2] ألا ترى أنه يجوز للجنب اللبث فيه والمستحب له أن يتأخر حتى يكون من وراء الإمام فإن حاذاه كرهنا له ذلك وأجزأه وإن تقدم حتى يصير إلى القبلة أقرب فهو على القولين ولو كان الإمام في ظهر المسجد والمأموم أسفل فإنه يجوز أيضاً وقال أبو حنيفة رحمه الله هذا يجوز ولكن إذا كان المأموم أعلا والإمام أسفل فإن كان المأموم أعلا بأقل من قامة الرجل صحت الصلاة وإن كان أكثر من ذلك لم تجز صلاته وهذا غلط لما روى أبو هريرة رضي الله عنه صلى على ظهر المسجد بصلاة الإمام في المسجد ولم يفصل ولو كان الإمام في المقصورة والمأموم في الصحن أو رحبة المسجد جاز وإن زادت المسافة بينهما على ألف ذراع مثلاً والرحبة هي البناء المبني لدخوله متصلاً به أو فنائه وهو ما يقارب بابه وجداره من حريمه ومطرح ترابه كالعادة الجارية في أفنية الدور وهكذا لو كان الإمام في بئر المسجد أو المأموم فيها والإمام خارج أو كان أحدهما على المنارة والآخر أسفل كل ذلك جائز وإن كان الإمام في المسجد والمأموم خارج المسجد في غير [359 ب/2] رحبة ففيه ثلاثة مسائل؛ إحداها: أن لا يكون دونه حائل بحال مثل أن لا يكون للمسجد حائل يحول دون روية من فيه من حائط وغيره لو يكون له حائط إلا أن باب المسجد بحذائه أو يمينه أو يساره مفتوح فإن كانت الصفوف متصلة صحت صلاته وإن خرجت فرسخاً أو أكثر وإن كانت الصفوف متقطعة قال الشافعي رحمه الله تصح صلاته على القرب ولا تصح من البعد وهو أن يكون منقطعاً على قدر ثلثمائة ذراع واختلف أصحابنا من أي موضع أخذ الشافعي هذا التحديد على وجهين: أحدهما: وهو قول ابن سريج وأبي إسحاق وغيرهما أنه أخذه من صلاة الخوف يوم ذات الرقاع فإنه يحني عن المصاف بقدر رميتهم وسهام العرب لا تبلغ أكثر من هذا وقيل أخذه من صلاة الخوف فإنه صلى بفرقة ركعة فانصرفت وهم في الصلاة إلى وجاه العدو وأتت الفرقة الأخرى فأحرمت من خلفه فصارت الفرقتان في مكان بين التي معه والتي تحرسه ثلثمائة ذراع وقال ابن الوكيل، وابن جبران رحمهما الله إنما أخذه [360 أ/2] من العرف والعادة لأنه قال ما يعرف الناس قوماً وكذلك ثلثمائة ذراع فما دونها وهذا ظاهر المذهب ثم اختلف أصحابنا أنه تحديد أو تقريب قال أبو إسحاق رحمه الله: هذا تحديد فإن جاوز ثلثمائة ذراع لم تجز صلاته قال أبو إسحاق والذي قال المزني أجاز ذلك في الإملأ بلا تأقيت مطلق محمول على ما قيده ههنا وهذا هو المذهب المشهور ذكر القاضي الطبري رحمه الله ومن أصحابنا من قال هو تقريب وليس بتحديد فإن زاد عليها قليلاً قدر ثلاثة أذرع لم يضر وهذا هو اختيار المزني رحمه الله وهو الصحيح عند مشايخ خراسان وقال القاضي أبو علي البندنيجي: نص عليه في الأم وذلك ليس بشيء وهذا لأن الشافعي قال مائتي ذراع أو ثلثمائة ذراع أو نحو ذلك وهذا ليس إلا للتقريب ولأنه اعتبر ذلك من صلاة الخوف أو العرف أو العادة وليس ذلك إلا بالتقريب وهل يعتبر هذه المسافة

من الإمام أو من آخر المسجد؟ فيه وجهان؛ أحدهما: يعتبر من موقف الإمام إن لم يكن خلفه أحد في المسجد أو من آخر [360 ب/2] الصفوف إن كانت خلفه صفوف، والثاني: وهو المذهب أنه من آخر المسجد في صحراء موات لا مالك له أو كان ملكاً لرجل واحد فإن كانت أملاكاً مختلفة ففيه وجهان؛ أحدهما: يجوز ولا اعتبار باختلاف الليل وإنما الاعتبار باختلاف الأبنية ولا بناء ههنا. والثاني: لا يجوز أن يكون الإمام في ملك والمأموم في ملك آخر وهذا كان اختيار القفال رحمه الله ثم رجع عنه وهذا الوجه الثاني لا وجه له عندي. المسألة الثانية، والثالثة: أن يكون بينه وبينه حائل فإن كان الحائل من غير المسجد لم يختلف أصحابنا فيه قال أبو إسحاق: حائط المسجد ليس بحائل لأنه بني لمصلحة المسجد كالسواري في الوسط وقال عامة وهو المذهب الصحيح وهو حائل يمنع صحة الصلاة لأنه بني الفصل بينه وبين غيره بخلاف غيره ولأن عائشة رضي الله عنها قالت لنسوة صلين في حجرتها: لا تصلين بصلاة الإمام فإن كان دونه في حجاب لم يكن بين منزلها والمسجد إلا سور المسجل لأن باب منزلها كان ينفذ إليه وقيل هذه الحكاية لا تصح [361 أ/2] عن أبي إسحاق ونص في الشرح على خلافه وإن كان الحائل يمنع الاستطراق دون المشاهدة مثل المشبك فعلى قول أبي إسحاق هذا أولى أن لا يكون حائلاً وعلى هذا المذهب في هذا وجهان؛ أحدهما: لا يكون حائلاً لأنه لا يمنع النظر إلى من في المسجد فهو كالباب المفتوح. والثاني: يكون حائلاً لأنه يمتنع للاستطراق بخلاف الباب المفتوح وهذا أقرب. فرع لو كان باب المسجد مفتوحاً والناس في المسجد فوقف رجل بحذاء الباب يصلي بصلاة الإمام فإن صلاته صحيحة وصلاة من على يمينه ويساره وإن اتصل الصف وطال وكذلك صلاة من خلفهم وإن اتصلت الصفوف لأنه إذا كان في الصف من يرى بعض المأمومين أو من بين يديه صحت صلاة الكل وأما صلاة من وقف قدامه على يمين المسجد أو يساره ولم يقف أحد منهم بحذاء الباب هل تصح صلاته؟ المذهب أنه لا تصح وعلى قول أبي إسحاق تصح وحكي عن أبي حنيفة رحمه الله مثل قول أبي إسحاق وهذا غلط كما ذكرنا ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا صلاة لجار المسجد إلا [361 ب/2] في المسجد" وأراد بصلاة الإمام في المسجد ولم يرد به إذا لم يكن حائل يدل على أنه أراد إذا كان حائل وحكي الشافعي رحمه الله عن عطاء رحمه الله أنه قال يصلي بصلاة الإمام من علم صلاته ولم يراع القرب وهذا لا يصح لقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9] فظاهره أن السعي واجب وإن علم بصلاة الإمام وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو صليتم في بيوتكم لضللتم" ومذهب عطاء جوازها في بيته وحكي عن مالك رحمه الله أنه قال: يصلي بصلاة الإمام من علم صلاته إلا في الجمعة. وهذا غلط أيضاً لما سبق من الدليل ويقيس على الجمعة. مسألة: قال وكذلك الصحراء والسفينة.

الفصل وهذا كما إذا كان الإمام في الصحراء والمأموم يصلي بصلاته وبينهما مسافة يعتبر القرب والبعد على ما ذكرنا ومقدار المسافة يعتبر في أخر الصفوف والشارع والطريق بين الصفوف ليس بحائل وبه قال مالك، وقال أبو حنيفة، وأحمد رحمهما الله هو حائل يمنع الائتمام وقيل أنه وجه آخر وليس بشيء لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[362 أ/2] أنه قال: "من كان بينه وبين الإمام طريق فليس هو مع الإمام" وهذا غلط لما روي أن أنساً رضي الله عنه كان يصلي الجمعة في بيوت حميد بن عبد الرحمن بن عوف بصلاة الإمام في المسجد وهو الوليد بن عبد الملك وبينه وبين المسجد طريق ولم ينكر منكر ولأن ما بينهما تجوز الصلاة فيه فلا يمنعها هو لأن ذلك لا يمنع الاستطراق ولا المشاهدة وأما الخبر الذي ذكروا فإنه لا أصل له في كتب أصحاب الحديث أو هو محمول على البعد أو الكراهة وأما في السفينة فقد ذكرنا جواز الصلاة فلو كان الإمام في سفينة والمأموم في أخرى فلا يخلو من ثلاثة أحوال؛ إما أن تكونا مغطاتين أو إحداهما مغطاة والأخرى مكشوفة أو كلتاهما مكشوفتين فإن كانتا مغطاتين أو إحداهما، لم تجز صلاة المأمومين لأن السفينتين هما في حكم الدارين فلا يجوز أن يكون بينهما حائل، وإن كانت مكشوفتين فإن كانت إحداهما مشدودة إلى الأخرى صحت الصلاة لأنهما كالبيت الواحد وإن كانت إحداهما منفصلة عن الأخرى ولم يكن بينهما بعد فالمذهب جواز الصلاة وإن الماء ليس بحائل وقال أبو سعيد [362 ب/2] الأصطخري: لا يجوز لأن بينهما ما يمنع الاستطراق وبهذا قال أبو حنيفة: وهذا غلط بخلاف المنصوص لأن الماء لا يمنع الاستطراق بسباحة على لوح ولأنه إن نصب الماء يمكن الاستطراق قيام الماء مانع منه فأشبه النار وقد سلم في النار أنها لا تمنع الائتمام وقال الإمام أبو محمد الجويني: الانقطاع ببعد المسافة، أو بنهر عظيم يجرى بينه وبين المسجد، أو بملك لغيره، لا يجوز له الوقوف فيه متى كان بينه وبين المسجد حائل يتعذر به الوصول إلى المسجد من موقفه حتى يحتاج إلى أن يتيامن أو يتياسر فيقطع قنطرة، أو يركب سفينة فذلك في العادة قطر وإلا فلا وهذا أحسن، ولكنه خلاف النص الذي ذكرنا. فرع لو كان هناك جسر بينه وبين الإمام فلا شك أن الماء ليس بحائل وكذلك إن كان هناك نهر وليس في النهر ماء أو كان نهر صغير بحيث يمكنه العبور إلى الجانب الآخر أو قل الماء في النهر العظيم كذلك لا يكون حائلاً ولو كان النهر في المسجد وهما في المسجد فلا نص بلا إشكال لأن المسجد جامع وقيل فيه وجهان وليس بشيء. مسألة: قال [363 أ/2] وإن صلى في دار قرب المسجد. الفصل. وهذا كما قال إذا صلى الرجل في الدار بصلاة الإمام في المسجد فإن كان حائط الدار هو حائط المسجد فعلى ما ذكرنا من مذهب أبي إسحاق وغيره وإن كان بينهما حائل غير حائل غير حائط المسجد فإن كان لا يشاهد أحداً من المأمومين لا يجوز أن يصلي بصلاة

الإمام بحال، وإن كان يشاهد بعض المأمومين، فلا يخلو إما أن يكون الباب مفتوحاً والصفوف متصلة حتى دخلت إلى داره أو لا يكون كذلك. فإن كانت متصلة على ما ذكرنا فصلاته صحيحة، لأنا بينا أن مواضع الصفوف هي بمنزلة المسجد وإن كانت متصلة متقطعة ولكنه واقف بحذاء الباب ويبصر بعض الصفوف في المسجد أو خارج المسجد، فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: يجوز ائتمامه إذا كان بينهما مقدار ثلثمائة ذراع فما دونها وهو الصحيح كما يقول إذا وقف في بعض الشوارع والطرقات ومن أصحابنا لا يجوز حتى يكون العقول متصلة إلى داره لأن الشافعي رحمة الله عليه قال: لم يجز إلا بأن تتصل به الصفوف ولا [363 ب/2] منه وبينهما فاعتبر فيه شرطين؛ أحدها: عدم الحائل، والثاني: الصفوف وتفارق الطريق والشارع لأنه جعل ذلك لمرافق المسلمين وهذا أحد المرافق بخلاف الدار والأول هو المذهب وعليه المحصلون من أصحابنا قول الشافعي رحمه الله إلا أن تتصل به الصفوف أراد بألا .. أن يكون بينه وبين آخر الصفوف أو آخر المسجد ثلثمائة ذراع فما دونها لأن ذلك عنده في ذلك الصف أو خلفه صحت صلاته ومن وقف قدامه ولم يكن محاذياً للباب لا تصح صلاته خلفه. فرع قال ولو وقف خلف صفوفه متصلة في دار بيت من الدار لم يكن له أن يصلي حتى تتصل الصفوف في البيت وأراد به إذا كان في البيت لا يرى أحداً من أهل الصف فإن كان يرى بعضهم وكان بينه وبين آخر الصفوف ثلثمائة ذراع أجزأته صلاته هكذا ذكره القاضي الطبري وقال بعض أصحابنا إن كان هذا الصف الثاني في قرار. ولا حائل فإنه يجوز وإن كان من ذلك حائل مثل إن كان في بيت أو في علو الدار في غرفة أو سطح لا يجوز سواء شاهد الصف [364 أ/2] أو لم يشاهد لأن الشافعي علل فقال: لأن علوها باين من المسجد ونحو هذا ذكره القفال ولعل مواد القاضي الطبري هذا التفصيل أيضاً وهو الأشهر. وقال بعض أصحابنا بخراسان: كيفية اتصال الصفوف ههنا أن ينظر فإن كان البيت على يمين المسجد أو يساره ولم يكن له باب شارع إلى المسجد فلا يتصور اتصال الصفوف ولا يجوز الاقتداء منه بإمام المسجد بأن يقف رجل في المسجد وآخر داخل العتبة الحائلة بين البيت والمسجد ولا يكون بينهما إلا ما يكون بين رجلين من الصف على العرف والعادة حتى لو كانت العتبة عريضة فتباعد الرجلان، لا يجوز إلا بأن يقف واحد على العتبة ليحصل الاتصال فإذا حصل هكذا واتصل الصف جاز، وإن كان البيت وراء المجد فمن أصحابنا من قال: لا يتصور الاتصال هناك بحال ولا تصح الصلاة خلفه من ههنا ومن أصحابنا من قال: يتصور بأن يقف صف في المسجد أو رجل واحد وصف في البيت أو رجل ولا يكون بين الصفين في سائر المواضع على العرف [364 ب/2] ثم إذا حصل هذه فصلاة جميع من يكون في ذلك البيت جائزة وإن لم تتصل بهذا الرجل الذي وقف داخل العتبة وحصل به الاتصال ثم هكذا لو كان في البيت بيت آخر فالاتصال بين من في البيتين على نحو ما ذكرنا. وإن وقف قوم على سطح البيت الذي بجوار المسجد لم يجز إلا

بأن تتصل الصفوف بهم من سطح المسجد، فيجوز حينئذ قال أصحابنا: ويجوز في موضع آخر وهو أن يكون السطح غير عال وصحن المسجد مرتفعاً حتى إذا وقف رجل في المسجد ورجل على سطح البيت لم يكن قدر ذلك بحذاء رأس هذا الذي في المسجد ولكن تحصل المحاذاة بين جسديهما ببعض الجسد فيكون ذلك في حكم المتصل إذا وقف على حرف السطح ووقف الذي في المسجد بجنبه قريباً منه وهذا كله اختيار القفال وقيل: خلف المسجد، فعلى وجهين أيضاً كالدار خلف المسجد وقال القفال: لو اختلفت البقعة مثل لو كان الإمام في الصفة وهو في البيت يشترط اتصال الصف حتى يصح اقتداؤه به لاختلاف البناء بخلاف المسجد فإن اختلاف الأبنية فيه [365 أ/2] لا يضر قال و .. فاقتدى من أحدهما الذي في الآخر لا يجوز إلا باتصال الصفوف كالبيتين وهذا كله خلاف المشهور في المذهب والذي تقدم هو أصح. فَرْعٌ آخرُ المستحب أن يتقدم الرجل الصف الأول لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لو تعلمون ما في الصف المقدم لكانت قرعة وروي ما في الصف الأول استهوا عليه وروى البراء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله وملائكته يصلون على الصف الأول" والمستحب أن تعمدوا يمين الإمام لما روى البراء رضي الله عنه قال: كان يعجبنا عن يمين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأنه كان يبدأ بمن على يمينه فيسلم عليه. فإن وجد في الصف الأول فرجة فالمستحب أن يسدها لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قال أتموا الصف الأول" فإن كان نقص ففي المؤخر وروى أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "رصوا صفوفكم وقاربوا بينها وحاذوا بالأعناق فإن الشيطان يدخل بين ذلك الصف" وروى ابن عباس رضي الله عنه قال: خياركم ألينكم مناكب [395 ب/2] في الصلاة. فقيل: لين المناكب لزوم السكينة والطمأنينة فيها لا يلتفت وقيل: أراد لا يمتنع على من يريد الدخول بين الصفوف لسدد الخلل ولصق المكان بل يمكنه من ذلك ولا يدفعه بمنكبه لتتراص الصفوف. مسألة: قال ومن خرج من إمامة الإمام فأتم لنفسه. الفصل وهذا كما قال. قد ذكرنا هذه المسألة وذكرنا خبر معاذ وروى أنه ما رئي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في موعظة أشد غضباً منه في تلك الموعظة، وقال: أفتان أنت يا معاذ أفتان أنت؟ أين أنت من {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس:1] إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف الخبر إلى آخره والله أعلم. وهذا آخر الجزء الثاني ويتلوه الجزء الثالث إن شاء الله تعالى (باب صلاة الإمام وصفة الأئمة) قد تم نسخ هذا الكتاب بمعرفة محمود صدفي النساخ نقلاً عن نسخة الأصل الموجودة بالكتبخانة الخديوية وذلك في يوم الاثنين ربيع الثاني سنة 1325 هـ الموافق مايو سنة 1907 م [366 أ/2].

باب صلاة الإمام وصفة الأئمة

باب صلاة الإمام وصفة الأئمة مسألة: قال: وصلاة الأئمة قد قال أنس بن مالك. الفصل وهذا كما قال: قد ذكر فيما قيل: إن المستحب لمن كان إماماً أن يخفف الصلاة بعد أن يأتي بالذكر والأفعال على الكمال، ويكون التخفيف من ترك تطويل القراءة، وإذا صلى وحده يطول كيف يشاء. وقال بعض أصحابنا: يخفف أذكارها ويكمل أفعالها ومعناهما واحد، والدليل على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف، فإن فيهم السقيم والضعيف وذا الحاجة، وإذا صلى لنفسه فليطل ما شاء". وروي: أنه - صلى الله عليه وسلم -: "كان أخف الناس صلاة بالناس، وأطول صلاة على نفسه"، فإن كان الإمام يصلي بقوم محصورين يريدون التطويل كأهل محله، أو كانوا في سفر طول كيف شاء إذا رضوا بذلك ذكره أبو إسحاق وقال غيره يستحب ذلك. مسألة: "قال ويؤمهم أقرؤهم وأفقههم". وهذا كما قال: الصفات التي يتعلق بها التقديم للإمامة في الصلاة سنة أشياء: الفقه، والقراءة، والسن، والنسب والهجرة، فالنسب: هو أن يكون قريشياً فيكون أولى من [1 أ/3] العربي، والعربي أولى من غيره، وبنو هاشم وبنو المطلب يقدمون على غيرهم من قريش، والهجرة: أن يكون من هاجر من مكة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو من أولاد المهاجرين ممن سبق إلى الهجرة أو سبق أبوه إليها كان أولى ولا فرق بين أن تكون الهجرة قبل الفتح أو بعده، فإن قيل: أليس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا هجرة بعد الفتح"، قلنا أراد أن لا تجب الهجرة، وأما فضيلة الهجرة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم تسقط. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذه الهجرة تحتمل معنيين: أحدهما: هجرة النسب، والثاني: هجرة نفسه مثل أن يكون رجلان أسلما في دار الحرب وسبق أحدهما الآخر بالهجرة إلى دار الإسلام، فإن كان المراد ذلك هل يكون أقدم من السن؟ قولان: وهذا حسن ولكنه خلاف النص، وأما السن: فإن المراد من طال منه مسلماً. فأما من له سبعون سنة فأسلم الآن فإنه لا يكون كمن أسلم أمس وإن كان

أصغر منه سناً، وقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أم قوماً وفيهم من هو أقرأ [1 ب/3] للقرآن منه وأفقه لم يزل في سفال إلى يوم القيامة، فإذا ثبت هذا فلا يختلف المذهب أن القراءة والفقه مقدمان على غيرهما من الشرائط لأنهما يختصان بالصلاة بخلاف غيره. ثم ينظر فيه فإن استويا في الفقه وأحدهما أقرأ فالأقرأ هو أولى وإن استويا في القراءة وكان أحدهما أفقه فالأفقه أولى، وإن كان أحدهما يقرأ ما يكتبه في الصلاة وليس فقيه، والآخر لا يقرأ ما يكفيه في الصلاة، وهو فقيه فالقارئ أولى؛ لأن الفرقة شرط بخلاف الفقه، فإن كان أحدهما يقرأ ما يكفي الصلاة وهو كتاب الفقه والآخر يفقه ما يكفي الصلاة وهو القراءة قال في كتاب "الإمامة" إن قدم الفقيه فحسن، وإن قدم القارئ ههنا فحسن ثم قال بعده: يشبه أن يكون من كان فقيهاً وقرأ من القرآن شيئاً هو أولى بالإمامة لأنه قد ينو به في الصلاة ما يعلم كيف يفعل به من الفقه ولا يعلمه من لا فقه له وهذا ترجيح منه للفقيه على القارئ وبه قال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله والأوزاعي وأبو ثور وعطاء بن أبي رباح وهذا لأن القراءة الواجبة هي محصورة بخلاف الفقه الذي يحتاج إليه المصلي. ومن أصحابنا من أطلق [2 أ/3] وقال: هما سواء في قول الشافعي لأن الفضيلتين تقابلتا والصحيح ما ذكرنا، وهو ظاهر في آخر كلام الشافعي. وقال الثوري وأحمد وإسحاق: -رحمهم الله-: القارئ أولى واختاره ابن المنذر رحمه الله واحتجوا بما روى أوس بن ضمغج عن ابن مسعود البدري رضي الله عنه قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله وأقدمهم قراءة فإن كانوا في القراءة سواء فليؤمهم أقدمهم هجرة فإن كانوا في الهجرة سواء فليؤمهم أكبرهم سناً ولا يؤم الرجل في بيته ولا في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه". وتكرمته: فراشه. وروي في هذا الخبر فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنة وهذا غلط لما ذكرنا من الدليل، ولهذا كان الفقيه بالقضاء والإمامة الكبرى أولى من القارئ، وأما الخبر فأجاب الشافعي بما قال: إن من مضى كانوا يسلمون كباراً يتفقهون قبل أن يقرؤوا ويريد به الصحابة الذين هم المخاطبون من بعدهم من التابعين إلى يومنا هذا، كانوا يقرؤون القرآن صغاراً قبل أن يتفقهوا، وأراد لم يكن أحد من الصحابة أقرأ إلا وهو فقيه إذ ذاك وكثير منهم كانوا فقهاء ولم يكونوا قراء واليوم يتعلمون [2 ب/3] الناس القرآن صغاراً، ويتفقهون كباراً فكثير منهم يكونون قراء ولا يكونون فقهاء فلهذا لم نقدم الأقرأ اليوم على الأفقه. وقد روي أنه لم يجمع جميع القرآن من الصحابة إلا ستة، فقرأ أبو بكر وعثمان

وعلي وزيد وأبي وابن مسعود ثم بعدهم ابن عباس رضي الله عنهم، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: "كان أحدنا إذا حفظ سورة من القرآن لم يخرج عنها إلى غيرها حتى يحكم عليها أو يعرف حلالها من حرامها"، فإن استويا في الفقه والقراءة معاً ففيه قولان: قال في "القديم": يقدم بالشرف فإن كان في الشرف سواء فقدم الهجرة فإن كانا في الهجرة سواء فأكبرهم سناً، وقال في "الجديد": السن يتقدم على الشرف والهجرة فإن كانا في السن سواء فالشرف أولى، فإن كانا في الشرف سواء فأقدمهم هجرة فلا يختلف القول: إن الهجرة تلي الشرف، وإنما الخلاف في السن هل يقدم عليهما أو يؤخر عنهما؟ فيه قولان: فالترتيب على قوله القديم: القراءة والفقه والشرف والهجرة والسن، وعلى قوله الجديد: القراءة والفقه والسن والشرف والهجرة وأن ... علامة للحفظ فقل هل السن أوسطها أم آخرها؟ قولان: ووجه قوله القديم وهو اختيار [3 أ/3] أبي إسحاق قوله - صلى الله عليه وسلم -: "قدموا قريشاً"، ولأن النسب حصل بأمر مكتسب كانا لآبائه والسن صفة تحدث ليست بمكتسبة فالمكتسب أولى ووجه قوله الجديد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يؤمكم أكرمكم"، ولأنه فضل في نفسه والنسب فضل في آبائه ولأن من كبر سنه يكون أسكن وأخشع في الصلاة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لم يقل الشافعي رحمة الله عليه فإن استويا فأقدمهم هجرة، فإن أراد المزني أنا لو صورنا رجلين في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحدهما من المهاجرين الأولين، والآخر من مسلمي الفتح فالأمر كما قال، وإن أراد أن ولد المهاجر أولى من ولد من لم يهاجر فهو نسب، والنسب يقدم أو السن؟ فيه وجهان وهذا غلط؛ لأنا نقلنا لفظ الشافعي فيه، والهجرة غير النسب فلا معنى للوجهين مع النص، فإن تساويا في كل هذا. قال أصحابنا: تقدم أورعهم وأدينهم وقال بعض المتقدمين: يقدم أحسنهم فمن أصحابنا من قال: أراد أحسنهم صورة لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "يؤمكم أحسنكم وجهاً فإنه أحرى أن يكون أحسنكم خلقاً" ذكره في الحاوي [3 ب/3] ولأنه فضيلة كالنسب. ومنهم من قال: يقدم أحسنهم بين الناس ذكراً وأشدهم طريقة وهذا أحسن ذكره القاضي الطبري رحمه الله وروت عائشة وأبو هريرة رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يؤم القوم أقرؤهم لكتاب انه فإن كانوا في القراءة سواء فأفقههم فإن كانوا في الفقه سواء فأكبرهم سناً فإن كانوا في السن سواء فأصبحهم وجهاً فإن كانوا في الصباحة والحسن سواء فأكبرهم حسباً". وقيل بعد السن والنسب يقدم لطيفه الثوب على

الوسخ الثوب، لأن قلب الناس إليه أميل ثم يقام بعده حسن الصوت لما ذكرنا من تقدم حسن الصورة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى لا يحسن خلق رجل وخلقه وهو يريد أن يعذبه في النار". مسألة: قال ولا يتقدم أحد في بيت رجل إلا بإذنه. الفصل وهذا كما قال: إذا اجتمع قوم في منزل رجل فصاحب المنزل أحق بالإمامة من جميع من قدمنا ذكره إلا أن يكون فيهم والٍ فإنه أحق من صاحب المنزل ولو حضر الخليفة ومن دونه فالخليفة أولى لأنه أعم سلطاناً، وإذا لم يحضر الوالي فلا يحتاج أحد في الإمامة إلى إذنه وإن [4 أ/3] كان في مسجد جامع مصر والأصل فيه ما ذكرنا من الخبر في رواية أبي مسعود الأنصاري، وقيل معنى التكرمة: الطنفسة، والمصلى الخاص الذي يتخذه الرجل لجلوسه فلا يوطأ ذلك إلا بإذنه لأنه قد يريد أن يكرم الغير بإجلاسه عليه فلا يفوت ذلك عليه أو يريد أن يجلس هو حتى يتميز عن غيره ولأن ولاية السلطان هي عامة وصاحب الدار واحد من رعيته فهو أولى، ويفارق ذلك ولاية النكاح لأنها تراد لطلب الحظ وحفظ العشيرة عن العار، فإن الولي الخاص هو أولى بذلك، والإمامة تراد للكمال والإمام أكمل ويفارق صلاة الجنازة في أحد القولين؛ لأن المطلوب منها الشفقة على الميت وإخلاص الدعاء له والاستغفار، والولي المناسب هو أحسن وأشفق من غيره ودعاؤه أرجى للإجابة فكان أولى من الوالي بخلاف هذا فإنه للكمال والإمام أكمل. وقال أبو يعقوب الأبيوردي: فيه قولان: أحدهما ما ذكرنا، والثاني: أن صاحب الدار أولى من الوالي لأنها ملكه فله أن يخص نفسه بالوقوف فيه وهذا غريب. وقال في "الحاوي": "إن كان إمام العصر فلا خلاف أنه أولى من الكل بكل [4 ب/3] حال" فإن كان إمام الوقت أو سلطان البلد ففيه قولان: أحدهما: رب الدار أولى لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رب الدار هو أحق بالدار" والثاني: وهو الأصح المشهور في الجديد والقديم أن إمام الوقت أو السلطان أولى لأن ولايته عامة على ما ذكرنا فإن أذن لبعض الحاضرين بها جاز ولا يكره ذلك. فرع لا يجوز لواحد من الرعية أن ينصب نفسه إماماً في جامع البلد إلا بإذن سلطانه، لما فيه من الاستهانة به، والامتياز عليه في ولايته ولو عدم السلطان فارتضى أهل البلد بتقديم أحدهم جاز. فَرْعٌ آخرُ المساجد التي في الأسواق يجوز لأحدهم أنه يندب نفسه للإمامة فيها من غير إذن

السلطان لأنه يشق استئذانه فإن انتدب أحدهم وعرف أنه ليس لغيره التقدم عليه إلا بإذنه وهذا لما روي أن ابن عمر رضي الله عنهما حضر مسجد مولى له فقيل له: تقام فقال لمولاه: تقدم فإنك إمام المسجد. فَرْعٌ آخرُ لو دفع السيد إلى عبده منزلاً يسكنه فهو أولى بالإمامة فيها من غيره إلا أن يكون سيده [5 أ/3] حاضراً فيكون هو أولى؛ لأن الملك له وإن كان قد ملكه وقلنا: يملك بالتمليك لك لأن للسيد التحكم عليه فيما ملكه. فَرْعٌ آخرُ قال الشيخ أبو حامد رحمه الله: والمستعير كالعبد هو أحق بالإمامة ما لم يحضر المعير فإن حضر المعير فهو أحق، لأن للمالك الرجوع في العارية متى أراد، والمستأجر أولى بالإمامة من المؤجر، لأنه قد ملك المنافع بعقد الإجارة وهذا من جملة المنافع. وقال بعض أصحابنا بخراسان: المستعير كالمستأجر، وقال القفال رحمه الله في الابتداء: المعير كالسيد مع العبد كما قال أبو حامد رحمه الله: ثم رجع إلى أن المستعير أولى، لأنه يكن الدار لنفسه والعبد يكن لسيده والأول أصح عندي. فَرْعٌ آخرُ لو اجتمع مسافرون ومقيمون قال الشافعي رحمه الله: فإن كان الوالي من أحد القريتين صلى بهم مسافراً كان أو مقيماً وإن لم يكن فيهم وال فأحب إلي أن يؤمهم المقيم لتكون صلاتهم بإمام يريد به أن المقيم إذا أم المسافرين لزم المسافرون التمام فلا يؤدي إلى مفارقة الإمام في بعض الصلاة كما تؤدى إذا أم المسافر، قال: ويؤجر المسافرون على الجماعة وكمال عدد الصلاة وهذا يدل [5 ب/3] على أن الائتمام عنده أفضل من القمر والمشهور أن القمر أفضل، وإن أم مسافر قال: كرهت له ذلك إذا كان يصلي خلفه مقيم ولكن يجوز وبني المقيمون على صلاة المسافر إذا قصر. وقال في "الإملاء": لا بأس به، وقيل: قال في "الإملاء": هما سواء فحصل من هذا أن إمامة المقيم أفضل، ويجوز إمامة المسافر وهل يكره؟ فيه قولان والأظهر ما تقدم وهو اختيار القاضي الطبري. فَرْعٌ آخرُ لو حضر إمام المسجد في أول الوقت ولم يتكامل اجتماع الناس يقيم الصلاة ولا ينتظر كثرتهم؛ لأن الصلاة في أول الوقت مع الجماعة اليسيرة أفضل. قال أصحابنا: ولا يكره هذا بشرطين:،أحدهما: أن لا يفوت به أول الوقت، والثاني: أن لا يسبق على الحاضرين ويقدم الإمام في الصف الأول الشيوخ والعلماء وأهل الفضل.

فَرْعٌ آخرُ قال في "الأم": يكره للرجل أن يؤم قوماً وهم له كارهون، فإن فعل لم تبطل صلاته، ولم يكن مكروهاً للمأموم لأن إمامه لا يكره أن يصلي الناس خلفه وإن كرهه بعضهم دون بعض نظرنا إلى الغالب، فإن كان الأكثر يكرهون كرهنا وإن كان الأكثر لا يكرهون [6 أ/3] نكره؛ لأنه لا يخلو في العادة عن أن يكون فيهم من يكرهه، والأصل في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله صلاة من يؤم قوماً وهم له كارهون، ولا صلاة امرأة وزوجها غائب عنها، ولا صلاة عبد آبق من سيده حتى يرجع"، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة لا يقبل الله صلاتهم: من أم قوماً وهم له كارهون، ومن استعبد محررة، ومن لا يأتي الصلاة إلا دباراً"، ومعنى الدبار أن يؤخر حتى يفوت ثم يأتي. قال الإمام أبو سليمان رحمه الله: هذا إذا اتخذه عادة حتى يكون حضوره الصلاة بعد فراغ الناس وانصرافهم عنها، واستعباد المحرر من وجهين: أحدهما: أن يعتقه ثم يكتم عتقه أو ينكره، والثاني: أن يستخدمه كرهاً بعد العتق، قال: وهذا الوعيد في الرجل الذي ليس من أهل الإمامة فينقلب عليها حتى يكره الناس إمامته، ولو كان مستحقاً للإمامة فالوعيد على من كرهه دونه، وشكا رجل إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه يصلي بقوم وهم له كارهون، فقال له: إنك لخروط يريا أنك متعسف في فعلك، ولم يزده على ذلك. وقال بعض أصحابنا بخراسان: [6 ب/3] هذا إذا لم ينصبه الإمام فإن نصبه الإمام لا يبالي فالكراهة من القوم، وقيل أراد الشافعي رحمه الله وأكره أن يتولى قوماً وهم له كارهون ولاية الحكم دون ولاية الصلاة. فرع إذا صلى الإمام على مكان مرتفع عن الناس، مثل أن يصلي على دكة أو سرير أو منبر نظر، فإن كان بالناس حاجة إلى تعلم الصلاة منه أحببنا له ما فعل، وإن لم يكن فالمستحب أن يكونوا على مستو من الأرض لا يعلو بعضهم على بعض. وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صلى على المنبر بالناس إعلاماً للناس، فكلما أراد السجود رجع قهقرى وسجد على الأرض، ثم عاد إليه، ثم قال بعد الفراغ: صلوا كما رأيتموني أصلي" وروي أنه قال: "إنما فعلت ذلك لتأتموا بي وتعلموا صلاتي" وقال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله: يكره ذلك لما روي أن حذيفة صلى بالناس فوقف على دكان فأخذ ابن مسعود رضي الله عنه ثيابه فجبذه، فلما فرغ من صلاته قال له ابن مسعود: ألم تعلم أنه نهى عن ذلك. فقال: بلى ذكرت حين جبذتني. روى الشافعي أنه

قال: ألم ترني تابعتك قلنا: نحمله على غير وقت التعليم [7 أ/3]. وقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يرتفع الإمام على من خلفه قيد أربع أصابع ثم إذا صلى الواحد منا على مكان مرتفع كبر، وقرأ وركع فإن كان المكان لا يضيق عن سجوده فيه سجد فيه، وإن ضاق عنه كالمنبر فإن قدر على التقدم إلى مكان واسع يسجد عليه تقدم، وإن لم يقدر دون التأخر نزل القهقرى فسجد وصعد ولا ينحرف عن القبلة متيامناً أو متياسراً، فإن كرر ذلك وتفاحش بطلت صلاته، وإن أمكنه التقدم والتأخر معاً، فالتقدم أولى لأن التقدم من شأن المصلين، وإذا علم مرة واحدة أحببنا له أن يصلي مع المأمومين في مستو من الأرض بعد ذلك. فَرْعٌ آخرُ إذا صلى بالجماعة فالمستوى أن يتبع الإمام فيركع بعد ركوعه، وكذلك في كل ركن وانتقال من ركن إلى ركن؛ لأنه تابع فلا يسبق المتبوع، فإن وافقه في ذلك جاز إلا في الإحرام فإنه لا يجوز أن يحرم معه على ما ذكرنا، والأصل في هذا ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبادروني بركوع ولا سجود، فإنه مهما أسبقكم به إذا ركعت [7 ب/3] تدركوني إذا رفعت إني قد بدنت"، وأراد بقوله: تدركوني إذا رفعت أي لا يضركم رفع رأسي وقد بقي عليكم منه إذا أدركتموني قائماً قبل أن أسجد. وقوله: بانت وروي على وجهين: بتشديد الدال، ومعناه كبر السن، فقال: بأن الرجل إذا أسن، والثاني: بدنت مضمومة الدال غير مشددة. ومعناه: زيادة الجسم وحمل اللحم وهذا يثقل البدن. فَرْعٌ آخرُ لو سبقه فركع قبل إمامه يكره ذلك، ويؤمر بالانتصاب فإن فعل فأدرك إمامه منتصباً ركعة بعد ركوعه، وإن أقام على ما هو عليه حتى لحق به الإمام، واجتمعا في الركوع جازت صلاته، ولو ركع قبل إمامه ثم اعتدل قبل أن يركع الإمام فإنه يركع مع إمامه إذا ركع، وإن رفع قبل إمامه، وأراد الاعتدال فجعل الإمام يركع، وهذا يرجع اجتمعا معاً على الركوع في حالة واحدة بعد سبق إمامه بركن فلا تبطل صلاته. وقد روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أما يخشى الذي يرفع رأسه قبل الإمام أن يحول الله رأسه رأس حمار"، وروي كبش، وروي حية. فإن أقام على [8 أ/3] الانتصاب حتى لحق به إمامه فانتصبا معاً أجزأه وإن رفع من الركوع فركع إمامه، ثم سجد قبل اعتدال إمامه من الركوع فقد سبق بركنين فإن كان عالماً بطلت صلاته، وإن كان جاهلاً لا تبطل صلاته، ولكنه لا يعتد بهذه الركعة، وهذا أصل أنه متى سبقه بركن كره وأجزأه، وإن

باب إمامة المرأة

سبقه بركنين. فإما أن تبطل أو لا يعتد بتلك الركعة ويبني على صلاته نص عليه. فرع لو سلم مع إمامه معاً، فإن قلنا: إن نية الخروج لا تجب يجزيه كما لو ركع معه، وإن قلنا: تجب نية الخروج لا يجزيه كما لو كبر معه لا تنعقد له صلاة الجماعة، ثم قيل على هذا تبطل صلاته كما لو تقدم على الإمام بركن. فَرْعٌ آخرُ يستحب للمسبوق أن ينتظر فراغ الإمام عن التسليمتين جميعاً ثم يقوم، وإن قام قبل التسليمة الثانية يجوز. فَرْعٌ آخرُ لو قام المسبوق مقارناً للتسليمة الأولى؛ فإن قلنا في المأموم الموافق: إنه لو سلم مقارناً له يجوز فيجوز؛ وإن قلنا: هناك لا يجوز فههنا يبطل إلا أن ينوي الخروج عن متابعته. [8 ب/3]. فَرْعٌ آخرُ لو وقف المأموم المسبوق بعد سلام الإمام، ولم يقم، وطال جلوسه، فإن كان قد أدرك مع الإمام ركعتين لا تبطل لأنه جلوس محسوب من صلاته، فإن كان قد أدرك ركعة تبطل، لأن جلوسه بحكم المتابعة، وقد زالت بالسلام. فَرْعٌ آخرُ لو مد قيامه حتى سبقه الإمام بركن لم يضره، وإن تأخر حتى سبقه بركنين بطلت صلاته ثم اختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: إذا كان هذا قعد في القيام ووصل إمامه إلى السجود بطلت صلاته، لأنه يسبقه بالركوع والاعتدال منه وهما ركنان، ومنهم من قال: إذا أدركه في السجود جازت صلاته، والركوع والاعتدال منه كركن واحد والأول أصح، ولو سجد الإمام سجدتين، وهو قائم في الاعتدال ففيه وجهان، أحدهما: تبطل صلاته لأنه تأخر عنه بسجدتين وجلسة بينهما، وقال أبو إسحاق رحمه الله: لا تبطل لأنه تأخر بركن واحد وهو السجود. والأول أصح وهو المذهب. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن خالف إمامه بركن غير مقصود مثل جلسة الاستراحة لا يضره، وإن خالفه بركن مقصود مثل القنوت والتشهد [9 أ/3] الأول فترك الإمام واشتغل هو به بطلت صلاته وفي هذا نظر والله أعلم. باب إمامة المرأة مسألة: قال أخبرنا إبراهيم ... الخبر. وهذا كما قال: جملة هذا أن كل صلاة تستحب للرجال في جماعة تستحب للنساء في جماعة فريضة كانت أو نافلة، إلا

أن للرجال آكد، فإنه يكره لهم ترك الجماعة ولا يكره للنساء ذلك، وبه قال عطاء، والأوزاعي، والثوري، وأبو ثور، وأحمد، وإسحاق رحمهم الله. وقال بعض أصحابنا: هل تكون جماعتهن في الفضل والاستحباب كجماعة الرجال؟ على وجهين: أحدهما: أنها كجماعة الرجال تفضل على صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة. والثاني: وهو الأظهر أن جماعة الرجال أفضل من جماعتهن لقوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] وقال أبو حنيفة ومالك: يكره لهن أن يصلين جماعة وروي ذلك عن نافع، وعمر بن عبد العزيز. واحتجوا بأنه يكره لهن الأذان كذلك الجماعة. وقال الطحاوي: عند أبي حنيفة: الأفضل أن يصلين فرادى لا الكراهة. وهذا غلط لما روت أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس على النساء الجمعة ولا الاغتسال [9 ب/3] للجمعة ولا تتقدم إمامتهن ولكن تقدم وسطهن"، وروي أن عائشة -رضي الله عنها- صلت بنسوة العصر فقامت وسطهن، وعن أم سلمة -رضي الله عنها- مثله وعن علي بن الحسين الملقب بزين العابدين -رضي الله عنه- أنه كان يأمر جارية تقوم بأهله في رمضان. وقال صفوان بن سليم: من السنة أن تصلي المرأة بنساء تقوم إذا صلت المرأة بنسوة وسطهن، وأراد بالسنة الخبر الذي ذكرنا أولاً. وأما الأذان فإنه يراد للإعلام، ويسن فيه رفع الصوت، ويكره لها رفع الصوت لأجل الستر بخلاف هذا، وقال الشعبي والنخعي: يكره له الإمامة في الفرض دون النفل وما ذكرنا من خبر عائشة -رضي الله عنها- دليل عليهما، فإذا تقرر هذا فالسنة أن يقف الإمام وسطهن، فإن تقدمت جازت الصلاة لأنه خطأ في الموقف، وإن كثر النساء فصفوفهن كصفوف الرجال، ويستحب أن تكون إمامتهن حرة وهي أولى من الأمة، لأن الإمامة موضع فضيلة، والحرة أكمل، فإن أمت أمة غير متقنعة متشبهة بالحرائر جاز، لأن هذا فرضها وهذا فرضهن نص عليه. فرع صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في المسجد [10 أ/3] والأصل في هذا ما روى ابن مسعود -رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن المرأة عورة وإنها إذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان فأقرب ما تكون في وجه الله تعالى وهي في قعر بيتها". وروى ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها". يعني صحن دارها. وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها"،

والمخدع: هو جوف البيت تخبئ فيه المرأة ثيابها، فإن قيل: أليس قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن وهن تفلات" قيل التفل: سواء برائحة يقال: امرأة تفلة إذا لم تتطيب، والنساء تفلات، قلنا: قد روي: وبيتها أستر لها، وروي: وبيوتهن خير لهن ثم يحمل على النساء العجائز، وقد قال الشافعي - رحمه الله-: يستحب للعجائز إذا أذن لهن أزواجهن حضور الجمعة. فروع متفرقة: ذكرها أصحابنا -رحمهم الله- قال والدي رحمه الله: إذا صلى مع ثوب فلما فرغ تذكر أن النجاسة أصابت هذا الثوب، ولا يدري هل كان أزالها عنه أم لا؟ فهل يلزمه إعادة الصلاة المفعولة أم لا؟!. يحتمل وجهين: أحدهما: لا يلزمه الإعادة لأنه [10 ب/3] شك في وجوب الإعادة. والثاني: يلزمه الإعادة لأن الأصل بقاء النجاسة، ولا شك أنه لا يصلي مع ذلك الثوب ثانياً إلا بعد تطهيره. وأصل هذا إذا فرغ من صلاته ثم شك بعد الفراغ هل كان تطهر بعد الحدث أم لا؟ لا يصلي ثانياً ما لم يتطهر، وفي إعادة ما فعله ما ذكرنا من الاحتمال، والمسألتان واحدة إلا أن إحداهما في طهارة الحدث والأخرى في طهارة النجس، وذكر الشيخ أبو حامد أن الشافعي قال في "الأم": إذا أحرم بالعمرة وفرغ منها، ثم شك أنه طاف بطهارة أو بغير طهارة لا يلزمه إعادة الطواف؛ لأنه أدى العبادة في الظاهر، وهذا يدل على صحة أحد الوجهين ها هنا. فَرْعٌ آخرُ قال أيضاً: إذا صلى خنثى خلف امرأة معتقداً أنها رجل مكان امرأة، بان أن الخنثى كان أنثى هل تصح الصلاة؟ يحتمل أن يقال: تصح الصلاة لأنه اعتقد في الابتداء، أنه على صفة يجوز له الائتمام به وبأن في المال كما اعتقده في الابتداء ويحتمل أن يقال: لا تصح الصلاة؛ لأن هذا الخنثى لم يكن معذوراً في الابتداء حيث لم يعلم أن المتقدم أنثى، لأن علامة المرأة [11 أ/3] ظاهرة، ولهذا يلزم الإعادة على الرجل إذا خاف، وإن لم يعلم بحالها وهذا أصح، وعلى هذا لو حكم الحاكم في الحدود بشهادة الخنثى، وهو يعتقد كونه رجلاً ثم ظهر بعد ذلك أنه رجل فالحكم صحيح في أحد الوجهين، لأن الحقيقة صادفت موجب الاعتقاد وعلى الوجه الثاني: لا يصح. فَرْعٌ آخرُ قال والدي - رحمه الله-: لو اعتقا الصبي الكفر وأبواه مسلمان أو أحداهما فصلى معتقداً للكفر، هل تصح صلاته؟ كنت أقول: تصح صلاته لأن حكمه حكم المسلمين لا حكم الكافرين فتصح صلاته كصحتها قبل ذلك، كالمكره على إظهار كلمة الكفر إذا

صلى تصح صلاته، لأن ذلك اللفظ الذي ظهر منه لم يجعله كافراً، وظهر لي الآن أن صلاته تبطل لأجل أن اعتقاده للكفر إبطال منه لصلاته، إذ لا معنى للصلاة في اعتقاد من نفى الصانع، واعتقاد بطلان الصلاة مبطل به للصلاة في حق الصبي الذي لا يعتقد الكفر؛ إذا نوى الخروج منها أو إبطالها ويفارق المكره لأنه لم يوجد منه نية الفساد والبطلان فصحت صلاته، وعلى هذا لو توضأ الصبي أو صام، وهو يعتقه الكفر هل يصح صومه [11 ب/3] ووضوؤه؟ على الوجه الأول يصحان، وعلى الوجه الثاني: وجهان يبنيان على أنهما يبطلان بنية البطلان، وفيه وجهان. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا قلنا: لا تجوز الجمعة خلف من يصلي النفل، لو لم يعلم أنه متنفل ثم علم هل يصح؟ يحتمل وجهين: بناء على الجمعة خلف الجنب عند الجهل هل يجوز؟ فيه قولان وعلى هذين القولين ينبني إدراك الركعة بإدراك الركوع خلف الجنب فيه وجهان؛ لأن هذا الإدراك يفتقر إلى الإمام كأداء صلاة الجمعة فهما سواء لا فضل بينهما. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا بلغ الصبي الذي أحد أبويه مسلم واختار الكفر مدة ثم رجع إلى الإسلام، هل يلزمه قضاء الصلوات المتروكة في حال الكفر؟ يحتمل وجهان مبنيان على أن هذا الصبي هل يقر على الكفر، وفيه قولان، فإن قلنا: لا يقر فحكمه حكم المرتد فيلزمه القضاء، وإن قلنا: يقر فحكمه حكم الكافر الأصلي فلا قضاء والأول أصح. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا شك خلف الإمام في صلاة الجمعة أنه صلى ركعة أو ركعتين، وقلنا بأحد الوجهين [12 أ/3] أنه لا يقلد جماعة المأمومين فيه فقام هذا المأموم وقد سلم الإمام ليتم الظهر أو الجمعة على اختلاف وجهي أصحابنا فيه، وفعل ذلك هل يسجد للسهو؟ القياس أنه يسجد للسهو كالمصلي إذا شك في عدد أعداد ركعات صلاته، فإنه يبني على اليقين، ويتم صلاته ويسجد للسهو وهذا الشك، وإن كان خلف الإمام، فإنما يتعلق السجود بفعل الركعات بعده، وهذا الفعل إنما وجد بعد مفارقة الإمام، يبين هذا أن المصلي للظهر لو شك قبل السلام هل صلى أربعاً أم خمساً لم يكن عليه سجود السهو فصح ما قلناه. فَرْعٌ آخرُ قال: لو افتتح الإمام في يوم الجمعة الصلاة، وهو ممن لا جمعة عليه فشك هل نوى الظهر المقصور أم نوى الظهر مطلقاً، وقلنا: إن الجمعة ظهر مقصور، وهو أحد القولين: فعليه أن يصلي الجمعة وجهان: اعتباراً بما قال الشافعي رحمة الله عليه: لو شرع المسافر في صلاة، وشك هل نوى القصر أم لا؟ يصلي أربعاً، فإن زال الشك بعد ذلك. وفيه وجه أخر أنه يصليها قصراً.

فَرْعٌ آخرُ لو شرع الصبي في الصلاة، ثم اعتقد الكفر [12 ب/3] في أثنائها هل تبطل الصلاة؟ وجهان، وقل ذكرنا نظير هذه المسألة. فَرْعٌ آخرُ قال: لو افتتح المرتد الصلاة بالناس، ثم اعتقد الإسلام في الركعة الثانية وتاب فأدركته جماعة، فصلوا خلفه ولم يعلموا بحاله لا تصح صلاة الطائفة الأولى، لأنهم افتتحوها خلف كافر فلا فرق فيه بين العلم والجهل، وأما الجماعة الثانية: هل تصح صلاتهم؟ وجهان: أحدهما لا تصح، لأن من لا تصح خلفه صلاة طائفة مع الجهل بحاله لم تصح صلاة طائفة أخرى، كما لو بقي على كفره، والثاني: يصح، لأن الطائفة الثانية حيث افتتحوا صلاتهم كانت صلاة الإمام باطلة لفساد ابتداء صلاته لا بسبب كفره، وهو على ضعفه تصح صلاتهم خلفه ابتداء بحال، فلهذا صحت صلاتهم مع الجهل بحاله، كما لو ترك الإمام المسلم فيه الصلاة في الابتداء صحت صلاة المأموم لجهله بحاله بخلاف الطائفة الأولى. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا افتتح الصلاة خلف جنب فاعتقد الإمام الكفر في أثناء صلاته، والمأموم لا يعلم بالجنابة، ولا بالكفر، هل تصح صلاة المأموم؟ وجهان: أحدهما يصح، لأن صلاة الإمام لم تبطل بالكفر [13 أ/3]، ولكن تفقد الطهارة وهذا لا يقدح في صلاة المأموم، وإن أمكن تعليق البطلان على الكفر أولى ههنا؛ لأنه قارن الجنابة في ابتداء الصلاة، وأحدهما يبغي الصلاة بكل حال دون الأخر، أعني الجنابة، فعلقنا البطلان بالأقوى، وأبطلنا صلاة المأموم وههنا أحدهما قارن الابتداء دون الأخر، فالسابق هو المبطل دون الآخر فلهذا صحت صلاة المأموم وهذا على القول الذي يقول: لا تجوز الصلاة خلف الكافر بحال فأما إذا قلنا: تجوز خلف الزنديق يجوز ههنا وجهاً واحداً. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا خطب الإمام للجمعة وهو معتقد الكفر ثم اعتقد الإيمان فصلى الجمعة والناس لم يعلموا بحاله هل تصح صلاة المأمومين؟ وجهان: فإذا قلنا: يصح هل عليهم إتمامها أربعاً؟ ينبغي أن يلزمهم الأربع؛ لأن الخطبة وجدت في حالة الكفر الذي يمنع جواز الائتمام في حال الجهل والعلم فيقدح في الخطبة أيضاً، وبهذا خالف إذا كان الإمام جنباً في حال الخطبة دون الصلاة، حيث صحت صلاة المأموم عن الجمعة إذا لم يعلم بالحال مع كون الطهارة شرطاً في [13 ب/3] الخطبة في أصح القولين؛ لأن افقد الطهارة يوجب الفصل بين حالة العلم وحالة الجهل في حالة الائتمام في الصلاة، فكذلك في حال الخطبة والكفر تمنع صحة الائتمام بكل حال في حالتي العلم والجهل، فيمنع جواز الخطبة في حق المأمومين أيضاً في الحالتين، ويجيء في الخطبة

جنباً أن يقال: ولا تصح صلاة المأموم عن الجمعة، وإن لم يعلم بالحال إذا اعتبرنا الطهارة فيها على القول الذي لا تجوز الجمعة خلف الجنب مع الحال. فَرْعٌ آخرُ إذا افتتح صلاة الصبح مثلاً خلف من يصلي على الجنازة، ولم يعلم وقلنا: لا يصح ذلك مع العلم، ثم علم ونوى مفارقته في الحال قبل التكبيرة الثانية هل تصح صلاته؟ وجهان: أحدهما: تصح كالصلاة خلف الجنب. والثاني: لا تصح كالصلاة خلف الكافر لأن العلامة ظاهرة في الغالب وهذا أوضح. فرع قال: إذا نذر أن يسجد سجدة، أو يركع ركوعاً واحداً يلزمه ما نذره، ولو نذر أن يقوم ويقرأ هل يلزمه القيام؟ يحتمل وجهين، أحدهما: يلزمه، والثاني: لا يلزمه لأن نذر القيام على انفراده لا يوجب شيئاً، فكذلك إذا نذره مع القراءة، وبهذا خالف [14 أ/3] الركوع والسجود؛ لأن نذر كل واحد منهما على الانفراد موجب للمنذور، فكذلك إذا نذرهما والأول أصح، والفرق بين القيام المجرد وبين الركوع، هو أن الركوع لا يفعل إلا عبادة فيلزم بالنذر بخلاف القيام: لأنه تشترك فيه العادة والعبادة ولا يتميز إلا بالذكر، فإذا تجرد لا يكون عبادة فلا يلزمهم بالنذر. فَرْعٌ آخرُ قال: لو نذر أن يصلي ركعتين قاعداً، هل يصح النذر؟ وجهان: فإذا قلنا يصح هل يلزمه القيام؟ وجهان، أحدهما: يلزم، والثاني: لا يلزم لأنه استثنى إحدى الفرائض التي لا تمنع صحة الصلاة فقدها مع القدرة وذلك في صلاة النافلة، وحالة المرض في الفرض، وبه خالف سائر أركان الصلاة، فإذا قلنا بهذا: لو صلى قائماً أجزأه؛ لأن هذه الحالة هي أكمل من الحالة المنذورة فحصل ثلاثة أوجه في المسألة. فرع قال: إذا نذر أن يصلي ركعتين قائماً، وإن كانت المشقة الشديدة تلحقه لكبره أو مرضه فاشتد عليه القيام فهل يجوز القعود؟ وجهان: أحدهما: له ذلك لأن الصلاة الواجبة شرعاً هي آكد من هذه، ويجوز القصور فيها ففي هذه [14 ب/3] أولى. والثاني: ليس له ذلك لأن نذره في هذه الحالة فلا يمتنع أن يلزمه لحق النذر ما لا يلزمه لحق الشرع، كالزائدة على الخمس لا يلزم شرعاً وإن لزمت نذراً وهذا هو أصح. فَرْعٌ آخرُ لو أحرم بالجمعة في وقتها ولكن لم يبق من الوقت إلا مقدار ركعة لم تصح في أحد الوجهين، وتصح في الوجه الثاني، كما لو أحرم في آخر ساعات الوقوف وهو يعلم أنه لا يمكنه الوقوف صح الإحرام، ومن قال بالأول فصل بينهما بأن الجمعة إذا فاتت بفوات الوقت يبقى حجاً، فلهذا صح الإحرام به، وإن علم الفوت بعد الشروع فيه.

فَرْعٌ آخرُ قال: إذا قلنا: لا يلزم القراءة على المأموم في صلاة الجهر، فعلى صلاة الجهر خلف جنب، ولم يعلم بحاله، ولم يقرأ خلفه هل تصح صلاة المأموم؟ وجهان: أصحهما لا يصح وأصلهما الجنب إذا أدركه المأموم في الركوع هل يكون مدركاً للركعة وجهان. فَرْعٌ آخرُ قال: لو أحرم بالعصر ظناً منه أنه قد دخل الوقت، ولم يكن دخل صح عن النفل، ولو علم أن الوقت لم يدخل لم يصح عن النفل ولو أحرم [15 أ/3] بالحج قبل أشهر الحج فإنه ينعقد عمرة في حال الجهل والعلم، والفرق أنه في الصلاة نوى الفرض فيما يعلم أنه نفل، ونوى العصر فيما يعلم أنه ليس بعصر، فتضمن ذلك إبطال الصلاة عن النفل: إذ الصلاة تبطل بنية الإبطال، وفي الحج إن نوى الحج فيما يعلم أنه عمرة فتضمن إبطال إحرامه عن العمرة، وبالنية لا يبطل الإحرام عما انعقد عنه تبين هذا أنه لو أحرم بالنفل، ثم نوى إبطاله عنه بطلت صلاته عن النافلة، ولو أحرم بالعمرة ثم نوى إبطال الإحرام عن العمرة لم تبطل فصح الفرق، وأيضاً نية الفرض لو طرأت على صلاة النفل مع العلم بطلت صلاته حتى لا يصح عن النفل أيضاً، فلهذا إذا قارنت إحداهما مع العلم بطلت أيضاً بخلاف نية الحج لو طرأت على العمرة مع العلم بالحال لم تبطل العمرة. فلهذا إذا قارنت إحرامها لا يبطلها أيضاً، وعلى هذا لو كان في صلاة النفل فاعتقد في الركعة الثانية أنه في الفريضة، ومضى على هذا الاعتقاد صح ما فعله من النافلة. فَرْعٌ آخرُ قال: لو كان في صلاة الجمعة فاعتقد في أثناء الصلاة أنه يصلي الظهر قصراً، فإن تعمد [15 ب/3] إلى ذلك هل تبطل صلاته؟ وجهان: أحدهما: لا يبطل وهذا إذا قلنا: إنه ظهر مقصور، والثاني: تبطل وهذا إذا قلنا: إنها صلاة منفردة عن الظهر. فَرْعٌ آخرُ قال: المسافر إذا افتتح الصلاة بنية التمام، ثم اعتقد في الركعة الثانية أنه يصلي الظهر المقصور وأن إحرامه وقع بذلك، ثم تذكره في التشهد الأول هل يقع الاحتساب بالقدر المفعول بالنية الجديدة أم لا؟ الأوضح أنه يقع محسوباً؛ لأن صلاة القصر والتمام صلاة واحدة، وإنما يختلفان في العدد وهذا كما لو صلى الركعة الثانية بنية الأولى، فإنها تقع محسوبة عن الثانية؛ لأن الصلاة لا تختلف سواء كانت الركعة أولى وثانية، ويفارق هذا إذا صلى الركعة الثانية في الظهر بنية العصر يظن أنها العصر لم تصح هذه الركعة من الظهر: لأن صلاة العصر تخالف صلاة الظهر وعلى قياس هذا يجب أن يقال: إذا كان في الظهر فصلى الركعة الثانية وعنده أنه في الجمعة أو كان في الجمعة يصلي الثانية وعنده أنه في

الظهر أنه يصح ما فعله من الصلاة التي هو فيها؛ لأن [16 أ/3] صلاة الظهر والجمعة صلاة واحدة، ألا ترى أن إحداهما تبنى على الأخرى. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا أحرم بالجمعة في وقتها فطولها حتى تحقق وهو في الركعة الثانية أن الوقت ينقضي قبل الفراغ من الصلاة، إن اقتصر على الفرائض وترك السنن والهيئات، هل تصير هذه الصلاة ظهراً الآن؟ إنما تصير ظهراً بعد خروج الوقت، الذي عندي أنها تصير ظهراً الآن، لأنه لما تحقق أن أداء الجمعة لا يصح بالإحرام الذي فعله وتحقق أن الإحرام لا يفسد، لأنه وقع في حال اتساع الوقت لم يبق بعد هذين إلا الجواز عن الظهر، ويوضحه أن افتتاح الجمعة لا تصح في هذا الزمان بحال لأحد من الناس، فإذا بلغ المصلي أن هذه الحالة وجب أن تبطل صلاته عن الجمعة، كما لو خرج الوقت ودخل وقت الحصر، فإن قيل: ما يقول في الأمة شرعت في إحرام الحج أو العبد، وعلم أنه يصير حراً قبل فوات زمان الوقوف، مثل أن يكون السيد علق عتقه بدخول يوم عرفة، هل تنقلب حجه إلى حجة الإسلام في الابتداء أم عقيب طلوع الفجر يوم عرفة؟ قلنا: ينقلب [16 ب/3] عقيب الطلوع يوم عرفة، وقيل: ذلك لا ينقلب وإن كان المعلوم أنه ينقلب إلى حجة الإسلام، والفرق أن ابتداء الإحرام بحجة الإسلام لا يصح قبل الحرية، فلهذا لا ينقلب الإحرام إليها في ذلك، وابتداء الإحرام بالظهر صحيح في هذا الوقت؛ لأنه لا يتسع لأداء الجمعة فيه، فجاز أن ينقلب إحرام الجمعة إليه في هذا الوقت، كما إذا فعل ذلك بعد دخول وقت العصر، وفيه وجه أخر أن هذه الصلاة إنما تصير ظهراً إذا دخل وقت العصر، لأن الموجب لانقلاب هذه الصلاة إلى الظهر فوات الوقت، ولم يوجد الآن، ولا يمتنع أن لا يصح الابتداء بالجمعة في هذا الوقت، وتصح الاستدامة، كما يجوز استدامة الصلاة بالتيمم مع رؤية الماء، وإن لم يجز الابتداء. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا صلى الفريضة والنافلة، ثم علم أنه ترك سجدة من إحداهما ولا يدري لا يلزمه إعادة الفريضة، لأنه شاك في وجوب الإعادة فلا يلزمه الإعادة. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا افتتح الصلاة، ثم ظن أنه لم يفتتحها فتكلم لا تبطل صلاته، ويفارق هذا الصائم إذا تسحر، ثم علم أنه كان نهاراً، لأنه وجد [17 أ/3] نوع تفريط من جهته لتمكنه من ترك الأكل حتى يتيقن بقاء الليل، وههنا لا تفريط بوجه. فَرْعٌ آخرُ إذا أم الأمي في الجمعة بأربعين رجلاً هم أميون، فإن قلنا: صلاة القارئ تجوز خلف الأمي صحت الجمعة، وإن قلنا: لا تجوز صلاة القارئ خلفه وهو الأصح، فيه

وجهان: أحدهما: لا تجوز؛ لأن الجمعة تلزم الأعيان وتجمع الجماعات ولا تصح على الانفراد، ولا تفعل مرتين، فاعتبر أن يكون الإمام فيها على صفة تصح صلاة جماعة الناس خلفه بخلاف سائر الصلوات، والثاني: يجوز وهو الأصح، لأن من تنعقد به الجمعة يجوز له الانفراد بالجمعة مع أمثاله، وهذا أشبه؛ لأن أصحابنا أطلقوا جواز صلاة الأمي خلف الأمي. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا أدرك الإمام في سجود الركعة الثانية في صلاة الجمعة شرع فيها بنية الظهر فلو نوى الجمعة هل يصح إحرامه؟ فإن قلنا: صلاة الجمعة والظهر صلاتان مختلفتان فلا يصح إحرامه عن الظهر، وإن قلنا: إنها ظهر مقصورة ففيه احتمال وعندي أنه لا يجوز إذا علم أن الواجب عليه نية الظهر، ويجوز إذا لم [17 ب/3] يعلم ذلك؛ لأن نية الجمعة تقتضي نية الخروج من هذه الصلاة التي تنعقد إذا انعقدت ظهراً، وهذه النية تبطل الصلاة في حالة العمد دون حالة الخطأ، وهذا كما لو نوى المسافر القصر في موضع الائتمام، فإنه تبطل صلاته مع التعمد ولا تبطل مع الجهد. فَرْعٌ آخرُ قال: لو قال قائل: أليس لو أدركه في الركوع في الثانية، ثم سلم الإمام فقام وصلى ركعة أخرى، ثم علم أنه ترك سجدة من إحدى الركعتين ولم يدر من أيتهما ترك صحت له منهما ركعة ويبني عليها الظهر، وإن قلنا: هما صلاتان مختلفتان؟ قلنا: فيه وجهان أيضاً، أحدهما: يستأنفها ظهراً ذكره الإمام الاسفرائيني على هذا القول، والثاني: يبني. والفرق أن فيما ذكرتم نوى الجمعة في الحال التي لا يتمكن من أدائها بحال فافترقا. فَرْعٌ آخرُ لو دخل المسافر بلداً وهو على عزم الظعن أو كان مقيماً على حرب وجاوز أربعة أيام هل يجوز له ترك الجمعة؟ فإن قلنا: له أن يقصر له تركها وإلا فلا، وجملته: أنه إذا جاز قصر السفر فالجمعة لا يجب، وإذا لم يجز ذلك وجبت [18 أ/3] هذه ونحن وإن قلنا: الجمعة هي ظهر مقصور بقصر السفر ووجوب قصر الحضر لا يجتمعان، ولكن جواز قصر السفر يجتمعا ويجوز أن يجتمع جواز قصر السفر، ووجوب الجمعة في موضع، وهو إذا نسي صلاة في سفر فذكرها في حضر، وقلنا: يجوز قصرها على أحد القولين. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا صلى أربع صلوات إلى أربع جهات مختلفة، ثم تعينت له القبلة تعييناً ولا يدري عين الصلوات التي أداها إلى غير هذه الجهة، هل عليه إعادة جميعها إلى هذه الجهة؟ وجهان: أحدهما: يلزم كما لو صلى أربع صلوات قلنا: منها بغير طهارة ولا يعرف عينها، والثاني: لا يلزم، كما لو قضى بأربع حكومات، ثم علم أنه أخطأ النص في ثلاث منها ولا يعرف عينها فإنه لا ينقض شيئاً منها، وإن كان الحكم منقوضاً عند تعين الخطأ في

حكومة منها، ولا يختلف القول إنه قيل: إن تيقن عين القبلة لا يلزم إعادة الصلوات الثلاث إلى الجهة الرابعة؛ لأن الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، وهذا التفريع على القول الذي يقول: إذا تيقن الخطأ معيناً في القبلة يلزمه إعادة الصلاة، ومثل هذا إذا مس الخنثى [18 ب/3] المشكل فرجه وصلى الظهر، ثم بعد وضوء آخر مس ذكره وصلى العصر، ثم تبين أنه رجل أو امرأة ولا يدري عين الصلاة التي أداها عند مس الفرج والتي أداها عند مس الذكر، فعليه إعادتهما قولاً واحداً، وقيل: تبين حاله هل يلزمه الإعادة؟ عندي لا يلزمه، ورأيت بعض أصحابنا يوجب إعادتهما، والأول أظهر، وعلى هذا لو تيقن النوم، ولم يدر هل كان في حال القعود أو في غيره؟ ففي وجوب الوضوء احتمال وجهين، إذا قلنا: إن نوم القاعد لا ينقض الوضوء. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا كان يصلي خلف الإمام، فها إمامه وأراد أن يسجد للسهو والمأموم في التشهد الأخير، فإن كان قد قرأ القدر المفروض من التشهد قطع تشهده وتابع الإمام، فإذا سجد وسجد هو لا يقرأ ما بقي من تشهده، ولكنه يسلم إذا سلم الإمام، لأن هذا أقرب إلى ما وضع عليه أمر سجود السهو وهو التأخير إلى آخر الصلاة، وإن كان المأموم لم يفرغ من القدر المفروض يتبع الإمام في السجدتين، فإذا فرغ تم تشهده، هل يعيد سجدتي السهو؟ قولان. ومن أصحابنا من ذكر فيه وجهاً لا يقطع التشهد، بل يتم المفروض [19 أ/3] ثم يتبعه كالإمام إذا ركع قبل إتمام المأموم الفاتحة، وكان قد افتتح الصلاة معه فعليه إتمام الفاتحة، ثم إتباعه، ومن قال: بالأول يشبه هذا بما لو سجد الإمام للتلاوة وهو في أثناء الفاتحة عليه المتابعة، ثم يعود إلى فرض نفسه كذلك ههنا. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا نذر الصلاة على الجنازة، وكان قد صلى عليها مرة هل يصح النذر؟ وجهان: إحداهما: لا يصح وهذا إذا قلنا: إن الصلاة على الجنازة بعد سقوط الفرض تقع فرضاً كالأولى، وقد ذهب إليه كثير من مشايخنا فلا معنى للنذر في الفروض، والثاني: يصح لأنها صلاة تلزم شرعاً فصح وجوب جنسها بالنذر كسائر الصلوات وهذا أصح؛ لأن الصلاة الثانية لا يمكن عند التحقيق أن يقال بوجوب الشرع فيها، لأن ذلك لو وجب لبطل قولنا إن الفرض قد كان سقط بالفعل الأول. فَرْعٌ آخرُ قال: لو نذر رجل أن يصلي وأطلق، ثم سجد سجود القرآن لم يسقط فرض النذر، ولو صلى على الجنازة هل يسقط النذر؟ وجهان، والفرق أن هذه تسمى صلاة عرفاً وشرعاً بخلاف ذلك [19 ب/3]. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا صلى على رجل وعنده أنه امرأة، أو كان بعكس ذلك ففي الجواز وجهان،

وكذلك إذا صلى خلف رجل وعنده أنه فلان فإذا هو غيره فيه وجهان أيضاً، وهذان الوجهان إذا نوى الصلاة خلف الشخص الواقف للإمامة إلا أن عنده أنه فلان فإذا هو غيره، فأما إذا لم تحضره هذه النية عند الإحرام فنوى خلف فلان فكان غيره لا يصح وجهاً واحداً، ولو نوى أنه يصلي خلف إمام وعنده أن اسمه زيد فكان اسمه عمراً يجوز بلا خلاف. فَرْعٌ آخرُ قال: لو نوى الصلاة خلف واحد إلا تسبيحات الركوع والسجود فإنه لا يؤديها خلفه، أو نوى الصلاة خلفه سوى الركعة الأخيرة، أو نوى الصلاة خلفه إلا الركعة الثانية، أو الثالثة، ففي هذه المسائل الثلاث وجهان: وأصلهما أن من افتتح الصلاة منفرداً هل له ضمها إلى صلاة الإمام؟ وهل يجوز بعد مفارقة الإمام وبقاء بعض الصلاة عليه أن يضم صلاته إلى صلاة الإمام التي يفتتحها بعد الأولى؟ وفيهما جميعاً قولان: أحدهما: لا يجوز فعلى هذا لا يصح فيما نحن فيه، والثاني: يجوز فعلى هذا يصح فيما نحن فيه، ولو نوى الصلاة [20 أ/3] خلفه سوى الركعة الأولى صحت صلاته على القول الثاني في الأصل الذي ذكرناه، وعلى القول الأول لا يصح، فإذا قلنا: بالأول فهل تصير صلاته بعد الركعة الأولى جماعة بهذه النية أم تعتبر فيه مستأنفة؟ يجب أن يقال: تعتبر نية جديدة لأن تقديم نية الجماعة على ما يكون مؤتماً فيه بإمامه لا يقع صحيحاً، كما لا يصح تقديم نية الصلاة خصوصاً إذا كان بزمان طويل. فَرْعٌ آخرُ قال: هل يجوز رفع اليد النجسة في الدعاء خارج الصلاة؟ يحتمل أن يقال يكره في غير حائل ولا يكره في الحائل، كتحريم مس المصحف بيده النجسة وهو على طهارة تزول بكونها في حائل، وإذا جاز هذا الفرق فيما طريقه التحريم جاز أيضاً فيما طريقه الكراهة، وتحتمل الكراهة في الموضعين، لأن المقصود رفع اليد دون الحائل، والتعبد بهذا ورد ويخالف مس المصحف؛ لأن اليد فيه من جهة التعبد كالحائل ولا يجيء القول فيما نحن فيه بالتحريم. فَرْعٌ آخرُ صلاة الصغيرة الحرة بغير خمار هل تجوز؟ ظاهر الخبر يقتضي لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا صلاة لحائض إلا بخمار"، أي: لمن بلغت المحيض [20 ب/3] فصح أن ذلك يختلف باختلاف حال المرأة، فإذا كانت صغيرة لا يشترط الخمار، وعندي المذهب أنه لا يجوز، وقد تقدم هذا، وقال أيضاً، هل تجوز صلاة الظهر من الصبي قاعداً مع القدرة على القيام؟ وجهان، والأصح لا يجوز. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا افتتح الصلاة منفرداً وسها فيها، ثم ضمها إلى صلاة الإمام، وجوزنا في أحد القولين: هل يسقط عنه سجود السهو؟ يحتمل أن يقال: يسقط؛ لأن من أدرك

جزءاً من الصلاة مع الإمام فقد أدرك فضيلة الجماعة، فجرى ذلك السهو كأنه وجد خلف الإمام والأول أولى. فَرْعٌ آخرُ إذا شك في خروج وقت الصلاة قد ذكرنا أنه يجوز الصلاة بنية معلقة ويجيء أن يقال: لا يجوز عن الفائتة إن كان الوقت خارجاً، ويجوز عن الأداء إن كان الوقت باقياً، لأن نية الفائتة غير مبنية على أصل، ونية المؤقتة مبنية على أصل. ويفارق هذا مسألة رمضان؛ لأن الفطر لا يحتاج إلى النية فصح الصوم، وإن كان من رمضان، لأن الأصل بقاء الشهر، وعلى هذا الوجه لا يجيء أن يقال: لا يجوز عن صلاة الوقت أيضاً إن كان الوقت باقياً من جهة امتناع تبعيض [21 أ/3] النية في الفساد والصحة، وذلك أن الشافعي رحمه الله جعل صلاة من افتتحها بنية الفرض قبل الوقت نافلة لبعض النية فلا يمتنع التبعيض في هذا. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا صلى العصر خلف من يصلي الصبح فترك الإمام القنوت ولم يسجد للسهو، فهل يسجد المأموم؟ على قول الشافعي دون المزني يحتمل أن يقال: يسجد، لأنه سجود لزم إمامه، ولا يقال: لا يدخل للقنوت في صلاة العصر التي هي صلاة المأموم، لأنه إذا جاز أن يسجد بكلام الإمام سهواً، وإن لم يقع ذلك الكلام في صلاته جاز أن يسجد لترك الإمام القنوت في صلاته وإن لم يترك هو وليس عليه ذلك. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا شك خلف الإمام في الظهر، هل صلى ثلاثاً أم أربعاً هل يسبح بالإمام؟ يحتمل أن يقال: لا يسبح؛ لأن الأظهر أن الإمام يعتقد أنه صلى أربعاً والمأموم لا يتيقن خطأه فيه فلا يأذن له من تشكيك الإمام وتشويش الأمر عليه ويجيء أن يقال: يسبح، لأن شكه في الصلاة كاليقين، ألا ترى أنهما سواء في حق نفسه، وكما لا يلزم الإمام العمل على شك المأموم لا يلزمه [21 ب/3] النزول عند يقينه أيضاً فهما سواء. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا أخرج المأموم نفسه من صلاة الإمام على الوجه الثاني فعليه أن يتمها أربعاً ويسجد للسهو، وإن كان الشك منه خلف الإمام، لأن مثل هذا الشاك إنما يسجد للسهو لإتيانه بالزيادة المتوهمة لا لمجرد الشك، ألا ترى أنه لو شك هل صلى ثلاثاً أم أربعاً، وهو منفرد أو إمام ثم علم في الحال أنه صلى أربعاً لا يسجد للسهو، وهذه الزيادة حصلت منه حال الانفراد فلا بد من سجود السهو، وهذا واضح. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا قلنا: يجوز أن يكون الإمام في الجمعة عن الخطيب، وقلنا في المراهق: إنه لا يجوز أن يكون إماماً لهم وهذا في الخطبة أولى لأنها آكد.

فَرْعٌ آخرُ إذا كان الإمام في بعض الأحوال يرفع رأسه من الركوع، ثم يقول: سمع الله لمن حمده عند الاعتدال، أو إذا قرب منه فأدرك رجل هذا الإمام في الركوع وركع ورفع حين سمع قوله، فلا يدري هل اجتمع معه في الركوع بأن لا يكون عمل على ما ذكرنا أم لا يجتمع؟ فإن كان منه على ما وصفناه ولم يكن شاهده عند الركوع والرفع عياناً [22 أ/3] هل يكون مدركاً للركعة الأولى؟ فيه ثلاث مسائل: إحداها: أن يكون أغلب أحواله ما ذكرناه، وإنما يفعل ما هو السنة نادراً فهذا لا يكون مدركاً للركعة؛ لأن الأصل بقاء فرض القراءة وقيامها عليه فلا يسقط إلا بيقين، والظاهر هاهنا عدم الإدراك لعادته التي ذكرنا. والثانية: أن تكون أحواله مختلفة فيه ولا يمكن جعل أحد الأمرين أصلاً في حقه وعادة لاختلاف أحواله واضطرابها وتلونه في أوقاته، فلا يصير مدركاً أيضاً لعدم اليقين، ولا ظاهر يدل على الإدراك. والثالثة: أن تكون عادته إتباع السنة في ذلك أيضاً، وإنما يقع منه ما ذكرنا نادراً هل يصير مدركاً للركعة؟ يحتمل وجهين: أحدهما: لا يكون مدركاً لعدم اليقين ولا اعتبار بالغلبة في فرائض الصلاة: لأن مبناها على الاحتياط. والثاني: يكون مدركاً وهو أوضح، لأن أمر الإتباع هو مبني على استعمال الظاهر وحسن الظن بالإمام. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا نذر أن يسجد سجدة في أثناء صلاة يصليها لم يصح النذر في أحد الوجهين، وفي الوجه الثاني يصح النذر ويبطل الشرط، ولا يحتمل أن يقال لصحة الشرط؛ لأن [22 ب/3] سجود النذر لا يجوز فعله في الصلاة بحال. فَرْعٌ آخرُ قال: ولو نذر أن يقرأ القرآن غير الفاتحة في صلاته هل يصح الشرط؟ وجهان: أحدهما: أنه لا يصح كالسجود، والثاني: يصح لأن القراءة التي هي غير مشروعة في الصلاة لا تبطلها كالقراءة في حال الركوع والسجود وكالقراءة للعبادة فيها ثانياً وثالثاً ويخالف السجود في هذا المعنى، ولهذا جازت القراءة المنذورة مطلقاً في الصلاة دون السجود المنذور مطلقاً. فَرْعٌ آخرُ قال: لو نذر أن يسجد سجود السهو إذا سها في صلاته، فإن نذر فعله قبل السلام لم يصح النذر لامتناع سجود النذر في أثناء الصلاة، وإن نذر فعله بعد السلام ففي

صحة النذر وجهان: أحدهما: يجوز كما يجوز نذر سجود لو لم ينذره كان تطوعاً. والثاني: لا يجوز لأن من حق سجود السهو أن يصح فعله قبل السلام؛ وقد أجمع أصحابنا على أن السجود المنذور لا يجوز فعله قبل السلام، فإذا كان كذلك وجب امتناع هذا النذر. فَرْعٌ آخرُ قال: هل يؤذن المؤذن للعشاء ويصلي العشاء في وقت واحد في الشتاء والصيف أم يختلف [23 أ/3] الأمر فيه؟ الأصل في هذا أن العبرة بغروب الشفق وهو الحمرة، إلا أن غروبه في الليل الطويل أبعد، وفي الليل القصير أقرب، فينبغي إذا كان لا يشاهد الشفق وأراد الاجتهاد في غروبه أن يراعي هذا المعنى، وهذا كما أن طلوع الشمس وزوالها يختلفان بقصر النهار وطوله في القرب والبعد، وهذا ظاهر. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا فاتته صلاة الظهر وأراد قضاءها في وقت العصر، فنوى أنه يصلي صلاة ظهر يومه فريضة، أو لم ينو الفائتة، يحتمل أن يقال: لا يجوز لأن ظهر اليوم قد يكون أداء، وقد يكون قضاء في الجملة، فلا بد من نية الفائتة للتمييز، ويحتمل أن يقال: يجوز لأن ظهر اليوم بالإضافة إلى هذا الزمان لا يكون إلا فائتة فوجب التمييز، وهكذا لو نوى في صلاة الصبح أنه يصلي صلاة فريضة شرع في أدائها التثويب، أو ينسى فيها القنوت في عموم الأحوال ولم ينو الصبح على هذا الخلاف. وهذا لأن هذه الصلاة معروفة باسم الصبح ولا يعلم بهذه النية أن المراد بها الصبح إلا الخواص من الناس، فلا يكتفي به للتمييز، وهكذا لو لم يكن [23 ب/3] عليه فائتة غيرها من الصبح أو لا فائتة عليه أصلاً سوى هذه فأحرم بها، ولم ينو الفائتة، فإن كان عليه صبح الوقت لم يجز لعدم التمييز، وإن لم يكن عليه صبح الوقت أيضاً فيحتمل أن يقال: لا يجوز؛ لأن الصبح في الجملة هو ينقسم إلى أداء وفائت فيحتاج إلى التمييز، ويحتمل أن يقال يجوز؛ لأن الصبح الذي عليه الآن ليس إلا الفائتة الواحدة، فإذا نوى صلاة الصبح فريضة، والحالة هذه انصرفت هذه النية ضرورة إلى ما عليه، إذ الغرض من التمييز قد حصل. وهكذا لو فاتته صلاة العشاء، وأراد أن يقضيها في النهار، فنوى أنه يصلي العشاء الذي هو للبارحة فريضة، ولم ينو الفائتة على هذين الوجهين، والأشبه الجواز هاهنا؛ لأن عشاء البارحة لا تكون إلا قضاء، فإن الأداء منها لا يسمى بهذا الاسم، وهذه التسمية يقتضي دخول النهار وذهاب الليل فتقوم هذه النية مقام نية القضاء في الجواز، بل هذا أولى لأن هذه النية هي أخص من نية القضاء الذي قد يكون عشاء البارحة، وقد يكون عشاء غيرها من الليالي فكانت أولى بالجواز ويشبه بما [24 أ/3] ذكرنا من الوجهين في هذه المسائل الوجهين في نية الفرض. هل يلزم في صلاة الظهر؟ أحدهما:

لا يلزم لأن نية الظهر تقتضي نية الفرض، والثاني: يلزم لأن الظهر في الجملة ينقسم إلى نفل وفرض وهو في حق الصبي والبالغ. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا سلم على رجل مرتين في مجلس واحد، هل يلزم الجواب مرة أو مرتين؟ ينبغي أن يلزم الجواب مرة ويكون جواباً لهما، كما لو سها مرتين في صلاة واحدة فإنه يكفيه جبران واحد، فإن أجاب ونوى به الإجابة عن السلام الأول دون الثاني أو عن الثاني دون الأول فيحتمل أن يقال: يبقى عليه فرض آخر، ويحتمل أن يقال: لا يبقى فرض آخر، ويحتمل الفصل بين أن ينوي الرد الأول دون الثاني، فلا يلزمه للثاني شيء وبين أن ينوي الرد للثاني دون الأول، فيبقى عليه فرض الأول. ومثل هذا إذا أحدث أحداثاً ثم نوى في الوضوء رفع حدث واحد منهما دون غيره هل يصح وضوءه؟ فيه أوجه على ما ذكرنا، والوجه الثالث: منها الفصل بين نية رفع الحدث الأول أو رفع ما بعده، ولكن على هذا الوجه الأول [24 ب/3] أو رفع ما بعده في السلام يصح عما أجاب عنه، وفي الوضوء لا يصح عما نواه أيضاً، والفرق أن الوضوء لا يصح مع مجامعة الحدث له من غير ضرورة، ورد السلام يصح مع وجوب فرض الرد عليه لأمر آخر لحق سلام آخر عليه فظهر الفرق. وهكذا لو سها في صلاته مرتين ثم سجد بنية جبران أحدهما دون الآخر يجيء أن يقال: لا يجوز، وهذا على الوجه الثالث في الطهارة، فعلى هذا يجب بطلان الصلاة لزيادة السجود فيها عمداً، ولا يمكن على هذا الوجه تجويز السجود عما نواه فقط كما قلنا في السلام: لأن هذا يوجب بقاء السجود عليه للسهو الثاني، فيؤدي ذلك إلى اجتماع أربع سجدات لسهوين تقدماها، وهذا غير جائز. ويحتمل أن يقال: يجوز عنهما وهذا على الوجه الأول في الطهارة، ويجيء الفصل بين الأول والثاني، وهذا على الوجه الثاني فحصل ثلاثة أوجه في هذا أيضاً. فَرْعٌ آخرُ قال: لو سلم رجل على رجل فرد عليه الجواب، ثم سلم ثانياً في ذلك المجلس هل يلزم رد الجواب؟ الأقرب أنه لا يلزم، لأن السلام الثاني [25 أ/3] هو غير مشروع، فإن حق السلام يؤدى بالمرة الواحدة إذا كان المجلس واحداً، كما يؤتى بتحية المسجد والحالة هذه مرة واحدة. فَرْعٌ آخرُ قال: لا شك أن الجمع بين المغرب والعشاء في وقت المغرب صحيح، فإن قيل: كيف يصح ووقت المغرب ينقضي قبل الفراغ من العشاء؟ فإنه إذا صلى ركعتين منه فقد مضى الوقت الذي للمغرب في سائر الأوقات، قلنا: هذا لا يضر؛ لأن افتتاحه كان في وقت المغرب والاعتبار بوقت الافتتاح، ألا ترى أنه لو افتتح في الوقت، ثم خرج الوقت في الأثناء يجوز إتمامها من غير نية الفائتة؛ لأن الافتتاح كان في الوقت، وهذا

يمكن أن يجعل دليلاً على قوله. قال: يجوز استدامة المغرب إلى الشفق، ولو أراد الجمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر، فأخر الظهر إلى وقت لم يبق من وقته إلا مقدار فعله وركعة من العصر جاز الجمع قياساً على ما ذكرنا، ولو أراد الجمع بين المغرب والعشاء فأخر المغرب إلى وقت لم يبق من وقته إلا مقدار فعله ففعله ليس له أن يصلي العشاء ما لم يدخل وقته وزال الجمع [25 ب / 3]؛ لأنه لو صلى العشاء الآن لم يكن جامعاً بين الصلاتين في وقت العشاء ولا في وقت المغرب، ومن شرط الجمع افتتاحهما في وقت إحداهما لا محالة، فإن كان قد بقي من وقت المغرب مقدار فعله، ومن العشاء أقل من ركعة، فيحتمل أن يقال: لا يصلي العشاء الآن؛ لأن المفعول في الوقت إذا كان أقل من ركعة، فإن الصلاة قضاء، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك ركعة من الصبح قبل طلوع الشمس فقد أدرك الصبح"، فإذا صح هذا والجمع لا يدخل في القضاء، فوجب القول بامتناع الجمع هاهنا. قلت: وعندي أنه يجوز الجمع في هذه المسألة والتي قبلها، لأن وقت المغرب يمتد إلى طلوع الفجر الثاني عند العذر، فإن جمع بينهما لا في الوقت المعهود للمغرب ولا في وقت العشاء المعهود جاز، ومتى جاز المغرب في الجمع بعد دخول وقت العشاء فلا يجوز قبل دخول وقت العشاء أولى، وتقديم العشاء إذا جاز إلى وقت المغرب المعهود يجوز إلى ما بعده أيضا وهذا ظاهر. فَرْعٌ آخرُ وجل جمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر، فلما قعد في التشهد في العصر تيقن أنه [26 أ / 3] ترك سجدة ولا يدري تركها من الظهر أو العصر، ينبغي أن يقال: تصرف بنية إلى الظهر، فيعيا ركعة منه، ثم يعيد العصر في وقته لا على جهة الجمع. ووجهه: أن السجدة إن كانت متروكة من العصر فالظهر صحيح إذا امتثل ما قلناه في الحالين، ولو بنى على أن الترك من العصر فأعاد ركعة أخرى منه لم يجز لجواز أن تكون السجدة متروكة من الظهر، فلا يصح العصر، أو شرط هذا الجمع تقديم الظهر على العصر. وإنما قلنا: لا يجمع لأن السجود قد يكون متروكا من العصر، فإذا أعاد العصر الآن كان الفصل الطويل واقعاً بين الصلاتين، وشرط هذا الجمع الاتصال فلا يجوز مع فقد الشرط. قال: وهذا الجواب كنت أقوله ثم ظهر لي الآن فساد هذا القول، وذلك أن السجدة قد تكون متروكة من الظهر فلا يصح البناء عليها مع وقوع الفصل الطويل بركعات العصر، والبناء على الصلاة من شرط الاتصال كما أنه من شرط الجمع فكما منع من

الجمع وخوف الانفصال. فكذلك البناء، بل هذا أولى؛ لأن البناء إن احتيج إليه فوقوع الانفصال بركعات [26 ب / 3] العصر متيقن لا محالة. فإن قيل: أليس إذا كان في الظهر فأدى الركعة الثانية والثالثة والرابعة، وعناه أنه في العصر، ثم تبين له في التشهد له أن يقوم ويعيد ثلاث ركعات ويبني على صلاته مع طول الفصل، فهلا جاز مثله في هذا الموضع؟. قلنا: هناك لم يقصد الخروج من الظهر بل اعتقا وقه ع الإحرام عن العصر في الابتداء، فصارت الركعات الثلاث سهواً في الصلاة من جنسها، فلا يؤثر التطويل والقصر منه فيها، وهاهنا قصا الخروج من الظهر فلا سبيل له إلى البناء عليه مع طول الفصل، كمن سلم، ثم ذكر بعد طول الفصل أنه نسي فرضاً لا يبني، فإذا صح هذا فالجواب الصحيح أن يقال: يلزمه إعادة الصلاتين في وقتهما بلا جمع؛ لأن صلاة الظهر صحيحة في حال باطلة في حال وصلاة العصر باطلة في حال ومنقوصة في حال، فإذا لم يتعين الباطل منهما مع تيقن وجوب فرض الإعادة عليه في الجملة وجبت إعادتهما جميعاً، فإن كانت المسألة بحالها والجمع كان في وقت العصر فعليه أن يقوم ويصلي ركعة أخرى للعصر ويصح عصره وعليه إعادة الظهر [27 أ / 3] ويكون جامعاً: لأن السجود إن كان متروكا من الظهر فعصره صحيح، وإن كان من العصر فقد صح بأداء هذه الركعة، ويسوغ له أداء ركعات العصر، لا محالة، والشاك في أعداد الركعات للصلاة التي هو فيها يلزمه البناء على اليقين، وإنما لزمته إعادة الظهر، لأنه يجوز أن تكون السجدة متروكة منهء وهو قا تيقن عند وجود هذا الشك وجوب فرض ما عليه، ولا يتيقن زوال هذا الغرض إلا بإعادة الظهر مع ما فعله من البناء على العصر، فلزمه ذلك لنزول الفرض عنه بيقين. وإنما قلنا: إنه يكون جامعاً لأن الجامع بين الصلاتين في وقت الأخيرة منهما يجوز له تقديم الصلاة الثانية، ولا يضره أيضا وتدع الفصل الطويل بين الظهر والعصر، والمسألة بحالها فعليه إعادة الظهر والعصر أيضا، ولا يجوز له البناء الذي ذكرناه؛ لأن السجدة قد تكون متروكة من الظهر فلا يمح افتتاحه للعصر، لأنه بعد في الظهر، إلى أن يقع الفصل الطويل. ألا ترى أنه لو ذكر في الحال جاز له البناء على الظهر، [27 ب / 3] فإذا كان كذلك فهو لا يتيقن سقوط الغرض الذي لزمه عند الشك إلا بإعادة الصلاتين فوجب إعادتهما، فإذا أعادهما وقت العصر كان جامعا قاضيا لما ذكرناه فيما مضى. فَرْعٌ آخرُ قال: رجل فاتته صلاة الظهر فأدرك الإمام في العصر في وقت العصر سعة، هل يصلي العصر خلف إمام الظهر؟ يحتمل أن يقال: يصلي العصر، ثم يقضي الظهر، ثم يستحب له إعادة العمر ولا يلزمه؛ لأن إعادة كل واحدة منهما واجبة عليه، والاتباع في فعل العصر هو أظهر، وموضوع الجماعة على اعتبار ذلك، وإنما سنت إعادة العصر للخروج من الخلاف، ولا يمكن أن يقال: يصلي الظهر خلفه للخروج من هذا

الخلاف؛ لأن هذا يعارضه خلاف آخر، وهو فعل الظهر خلف من يؤدي العصر، والقضاء خلف من يصلي الأداء. فيتعادل القولان من هذا الوجه، ووجب الأخذ بما ذكرناه، ولا ينقلب علينا هذا مما ذكرنا من السنون من جهة وقوع الخلاف في إعادة العصر مرتين؛ لأنا إنما أمرناه بإعادة العصر خوفاً من فساد الأول، ولو تحقق ذلك كانت هذه الإعادة شرعاً [28 أ / 3] لا محالة بالإجماع، ومثل هذا الإجماع لا يجده ذلك القائل فافتقروا والقولان. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا نوى في الفر قبل دخول وقت الظهر الجمع بينه وبين العصر هل يكتفي بهذه النية أم يلزم تحديد النية في وقت الظهر؟ يحتمل أن يقال: لا يكتفي بها، لأن الوقت لا يصلح للظهر فلا يصلح لنية الجمع، ويحتمل أن يقال يجوز كنية الصوم يتقدمه، والأول أشبه؛ لأن هذه النية تدل على فعل الظهر في وقته المعهود والإتيان بالبال الذي هو عمل البدن لا يجوز قبل وجوب المبدل، كالتيمم قبل دخول وتته الصلاة، وهكذا لو نوى في اليوم الأول أنه يجمع في كل يوم بين الظهر والعصر في وقت العصر، هل يلزمه إعادة النية في كل يوم في وقت الظهر؟. الأشبه أنه يلزمه ولو دخل بعليه وقت الظهر في الحضر فنوى الجمع بينه وبين العصر في وقت العصر في السفر، ثم سافر في الحال قبل خروج وقت الظهر، هل تجب إعادة النية؟ يحتمل أن يقال لا يلزم الإعادة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما لكل امرئ ما نوى"، وهذا عام ويجوز أن يقال [28 ب / 3] يلزم، لأن تلك النية وقعت في حالة لا تصلح للجمع فلا يصح فيه الجمع فيها. . . فرع قال: إذا جمع بين الصلاتين في وقت الأولى ثم ارتد في وقت فراغه من الأولى، ثم أسلم عن قريب، فافتتح العصر هل يبطل الجمع؟ يحتمل أن يقال: لا يبطل؛ لأن الإسلام يجب ما قبله، ويحتمل أن يقال: يبطل لأن الارتداد يقتضي بطلان الجمع ونيته، فصار كمن أبطل نية الجمع قبل دخوله في وقت العصر يبطل الجمع، وهكذا لو نوى الصوم في الليل، ثم ارتد، ثم أسلم قبل العجز، هل يلزم إعادة النية؟ يخرج على وجهين. فَرْعٌ آخرُ لو كان يجمع في وقت الظهر، فلما شرع في العصر نسي أنه ني الصلاة، فقال: أبطلت نية الجمع بطلت صلاته، لا من جهة أن كلام السهو يبطلها، ولكن لأن هذا يقتضي بطلان نية الجمع، وهذا يقتضي بطلان العصر، أو شرط هذا الجمع البقاء على نية الجمع إلى الفراغ منه، ألا ترى أنه لو نوى إبطال نية الجمع بطلت صلاته وإن لم يتلفظ، فإذا تلفظ فالمؤثر في البطلان نيته دون قوله.

فَرْعٌ آخرُ قال: إذا كان يجمع في وقت العصر فلما [29 أ / 3] شرع في الظهر وصلى ركعة نوى ترك الجمع، وأبطل نية الجمع بطلت صلاته وعليه إعادتها بنية القضاء، فإن قيل: هلا قلتم تتم صلاته؛ لأنه قد أدى ركعة منها في الوقت كمن صلى ركعة من سائر المواضع في الوقت، ثم خرج الوقت عليه إتمامها لأداء ركعة في الوقت. قلنا: الغرق هو أن نية ترك الجمع يبين لنا أن افتتاح الظهر كان في غير وقته: لأن من شرط هذا الجمع المقام على نيته إلى الفراغ من الظهر، وإنما يصير وقت العصر وقت الظهر بهذه النية، والافتتاح في غير الوقت محتاج إلى نية القضاء، فإذا لم يأت بها لم يصح الافتتاح، وهناك لا يتضح بخروج الوقت، لأن الافتتاح كان في غير الوقت فوقع الافتتاح صحيحاً فلم يبطل بخروج الوقت خصوصاً، وقد صلى في الوقت مقدار ما يقع به الإدراك. قال: إذا كان يجمع في وقت العصر فصلى الظهر بنية الأداء، ثم أخر العصر إلى أن غربت الشمس، هل يصح ما أداه من الظهر؟ الأشبه الجواز، أن فعل العصر لو كان معتبراً في جواز الظهر لاعتبر اتصاله به، ولاعتبر تقدمه عليه [29 ب / 3]. ألا ترى أن فعل الظهر لما كان شرطاً في جواز العصر إذا كان الجمع في وقت الظهر اعتبر اتصاله به وتقدمه عليه، ويحتمل أن يقال: لا يجوز، لأنه لم يجمع بين الصلاتين في وقت إحداهما، وأداء الظهر في وقت العصر بغير نية القضاء إنما يصح بشرط الجمع، والشرط إذا لم يوجد لم يحصل المشروط، وهكذا لو ملى الظهر وقت العصر، ثم عزم على ترك الجمع، هل عليه إعادة الظهر بنية القضاء إذا لم يصل العصر بعد؟ يخرج على هذين الوجهين. ولو نوى في وقت الظهر تأخيره إلى العصر ليؤديه فيه دون العمر ليس له أن يصلي الظهر في وقت العصر إلا بنية القضاء؛ لأنه لم ينو الجمع، وهذا يدل على صحة الوجه الثاني، وللقائل الآخر أن يقول: العزم في الابتداء على فعل العصر أيضاً في وقته شرط في جواز الظهر في وقت العمر بغير نية القضاء، ووجود العصر ليس بشرط، ومثله موجود في الأصول، ألا ترى أن بيع الثمار قبل صلاحها يقف على شرط القطع لا على وجود القطع كذلك هاهنا. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا دخل في الظهر في وقت وأراد استدامته [30 أ / 3] إلى أن يدخل وقت العصر يحتمل أن يقال: لا يجوز في أحد الوجهين، والثاني: يجوز قياساً على استدامة المغرب إلى الشفق، فان قيل: ما الفرق بينه وبين استدامة الجمعة إلى ما بعد وقتها لا يجوز وجهاً واحداً؟ قلنا: الفرق أن خروج الوقت هناك يبطل بالصلاة عن الجمعة والفرض الجمعة في يوم الجمعة بخلاف هاهنا.

فَرْعٌ آخرُ قال: رجل نذر إتمام كل صلاة يشرع فيها، وصح نذره ولزم، فأراد الشروع في صلاة نغل، هل ينوي التطوع أم الفرض؟ يجيء أن يقال: ينوي التطوع؟ لأن ابتداءها يقع نفلاً، ثم يجب إتمامها كما في الحج ينوي التطوع عند الشروع، ثم يصير واجباً، وهكذا لو لم يبق من الصبح إلا ركعة واحدة يفتتح بنية الأداء، وان قلنا إنها تصير قضاء بعده. فَرْعٌ آخرُ العبد إذا شرع في الجمعة يلزمه إتمامها بخلاف المسافر إذا شرع في صوم رمضان، والفرق أنه جوز للمسافر ترك فرض الوقت على كل وجه بخلاف العبد، لأنه لم يجوز له ترك الفرض بالكلية. فَرْعٌ آخرُ قال: التأمين على دعاء الكفار لا يجوز [30 ب / 3]؛ لأنه عدو الله ورسوله وقد قال تعالى: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ} [الرعد: 14] فأما التأمين على دعاء فساق المسلمين فإنه يجوز؛ لأنهم لم يخرجوا عن الإسلام، والله تعالى قد يجيب دعاءهم، وجاز الدعاء لهم فإنه يصلي عليهم إذا ماتوا، فجاز التأمين على دعائهم، بخلاف الكفار، وأما التأمين على التأمين فإنه يجوز لأنه دعاء، قال الله تعالى: {قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا} [يونس: 89] وموسى عليه السلام كان يدعو وهارون عليه السلام كان يؤمن وأضاف الدعاء إليهما، ويحتمل أن يقال: لا يؤمن على التأمين لأن الشرع لم يرد به. . . فَرْعٌ آخرُ قال: إذا عزبت النية للصلاة في خلال التكبير يجوز، وإذا عزبت النية في لفظ الكناية هل تطلق) وجهان، والغرق أن المصلي إذا فرغ من التكبير علمنا شروعه في الصلاة عند الحرف الأول، على قولنا: إن التكبير من الصلاة فلم يؤثر غروب النية في خلال التكبير؛ لأن غروب النية في أثنا، الصلاة لا يبطلها، وفي الطلاق تقع الفرقة عقيب الفراغ من اللفظ، والذي تقع به الفرقة هو اللفظ بشرط اقتران النية به، فلو جوزنا غروب النية في أثنا، اللفظ أدى إلى إيقاع الفرقة [31 أ / 3] بلفظ كتابة لم تقارنه النية، وهذا لا يجوز. فإن قيل: لو كان شارعاً في الصلاة عند الحرف الأول لوجب إذا اقتصر على قوله: الله أن يجوز قلنا: إذا فرغ من التكبير فتبين الشروع عند الحرف، فإذا اقتصر على قوله: الله لم يجز، لأن شرط التبيين لم يحصل، ومثل هذا لا يمتنع، ألا ترى أن المشتري إذا قال: قبلت كان البائع بائعاً بقوله: بعت لا بالقبول الحاصل من المشتري، وان كان قوله: لو تجرد عن القبول لم يكن بائعاً لأجل قوله، ويمكن أن يقال: غروب النية في أثناء التكبير يبطله كما في الطلاق، لأن الشروع فيها يحصل بتمام التكبير، فلو جوزنا غروب النية في الأثناء لصار شارعاً بما تقدمته النية، وهذا لا يجوز، إذ لو جاز هذا لجاز تقديم النية على التكبير كما قال أبو حنيفة - رحمه الله -:

ويمكن أن يجاب بأن اعتبارها في الابتداء صار أحق لمعنى الأولية، وهذا كما أن صحة الصلاة تقف على أركان مع الإحرام، ثم النية معتبرة في ركن معين منها وهو الإحرام لمعنى الأولية فكذلك هذا. فَرْعٌ آخرُ قال: لو قرأ أية القرآن وقصد به [31 ب / 3] التنبيه دون القراءة لم يجزه، وان قصا كليهما قيل قولان: أحدهما: باطلة وهو قول ابن سريج والثاني: تصح. فَرْعٌ آخرُ قال: لو ناداه الوالد أو الوالدة وهو في الصلاة، قيل فيه وجهان: أحدهما: يلزمه الإجابة وتبطل صلاته إذا أجاب، والثاني: تلزمه الإجابة ولا تبطل صلاته بها، وفيه وجه ثالث لا تلزمه الإجابة أصلاً، وهذا هو أصح عندي. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا قام في الثالثة وني التشهد الأول، ثم تذكره فشك هل يجوز له العود أم لا، فعاد هل تبطل صلاته؟ يحتمل أن يقال: لا تبطل لأنه علم كون التشهد مسنوناً له، وهو شاك في أن هذه الحادثة، هل تزيل تلك السنة أم لا، والأمل كونه مسنوناً له وهو شاك في أن هذه الحادثة هل تزيل تلك السنة أم لا؟، والأصل كونه مسنوناً له، وهذا كمن شك في خروج الوقت يلزمه البناء صلى الأصل، ويحتمل أن يقال: تبطل صلاته؛ لأن لما شك لزمه ترك العود من جهة أن مراعاة الاحتياط في الصلاة واجبة، والاحتياط ههنا هو في ترك العود؛ لأن الزيادة في أفعال الصلاة محرمة وترك [32 أ / 3] التشهد الأول غير محرم، ومل هذه المسألة إذا عمل في الصلاة أعمالاً، ثم شك هل هي كبيرة أم قليلة، وهل يلزمه الاستئناف؟ يخرج على هذين الوجهين. والأشبه عندي أنه لا يلزم، لأن الأصل بقاء الصلاة نصار كالشك في الحدث بعد يقين الطهارة لا يضر، فإن قيل: لا فائدة في ذكر هذين الوجهين في العود، لأنه إذا عاد وعنده أن العود لا يجوز فصلاته باطلة على الوجهين، وإن عاد وعنده أن العود جائز فصلاته لا تطل على الوجهين، قيل: فائدة ذلك إذا هاد ولا يدري هل يجوز العود أم لا؟ فعلى الوجه الأول لا تبطل، وعلى الثاني: تبطل وتظهر فائدة ذلك ني حال وقوع مثل هذه الحادثة في أثناء الصلاة، لأنه إذا عرف ما ذكرناه، نعلى الوجه الأول: يجوز له العود في الظاهر، وعلى الثاني: لا يجوز له ذلك، وهذه فائدة معقولة. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا نذر قراءة القرآن نقرأه ولم ينو النذر ولا الفرض، فإن كان النذر غير مضاف إلى زمان بعينه لم يكن واقعا عن النذر، وإن أضافه إلى زمان بعينه. مثل إن قال: لله علي أن أقرأ القرآن في كذا. يحتمل [32 ب / 3] يقال: لا يقع

عن النذر وهو الأشبه، ويحتمل أن يقال: تجعل نيته عند قوله: في يوم كذا، كالنية المتقدمة فيحكم بجوازها في أحد الوجهين قياساً على جواز تقديم النية في الزكاة على أحد الوجهين، ويمكن أن يقال ذاك إنما يجوز في عبادة المال، فأما في عبادة البدن في فلا يجوز إذا لم يكن ضرورة. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا كان على ثوب الإمام نجاسة إلا أن المأموم لم يعرف ذلك لبعده من الإمام لم تصح صلاته؟ لأن النجاسة موجودة في موضح يمكن رؤيتها، وإنما عرض ما يمنع من الرؤيا فصار كما لو كان قريباً منه، إلا أنه لم يقف عليها لاشتغال قلبه بأفعال الصلاة، فإنه تلزمه الإعادة بالإجماع، وكما لو صلى خلف الكافر ولم يعرفه لبعده منه يلزمه الإعادة. فَرْعٌ آخرُ لو كان على عمامة الإمام نجاسة تمكن المأموم من رؤيتها إذا قام غير أنه صلى قاعداً لعجزه عن القيام، ولا يمكنه رؤيتها في هذه الحالة لا يلزمه الإعادة؛ لأن فرضه القعود في هذه الحالة وهو على أي وجه قعد لا يمكن من رؤية النجاسة فلم يحصل [33 أ / 3] من جهته تعزراً بوجه كما لو كانت النجاسة على باطن ثوبه لا يلزمه الإعادة. فَرْعٌ آخرُ النية هل تلزم في الخطبة؟ وجهان: أحدهما: تلزم لأنها عبادة لا تصح من المجنون كالصلاة، والثاني: لا تلزم والأول أصح، وكذلك الوقوف بعرفة والأذان والطواف هل يفتقر إلى النية؟ وجهان. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا ارتد الإمام في الجمعة في أثناء الخطبة، ثم أسلم له استئنافها وله البناء عليها، لأن التفريق لا يبطلها، وكذلك إدخال ما ليس منها لا يبطلها كالأكل والكلام. فَرْعٌ آخرُ لو خطب الإمام يوم الجمعة ثم شك هل ترك شيئاً من فرائضها ليس له الشروع في الصلاة، وعليه إعادة خطبة واحدة إذا كان المشكوك فيه فرضاً واحداً، ولم يعلم عينه، ويقرأ أية من القرآن في هذه الخطبة، وهذا لأنها غير مقصودة بنفسها فالشك فيها بعد الفراغ يؤثر كالشك بعد الفراغ من الوضوء. فَرْعٌ آخرُ قال: لو أدرك الإمام في السجود فسجد معه وقام، فإنه لا يأتي بدعاء الاستفتاح؛ لأنه تابع للإمام، والإمام لا يأتي به. ولو أدركه [33 ب / 3] في التشهد الأخير فأحرم وقعد معه ثم قام بعد سلام الإمام يأتي بدعاء الاستفتاح؛ لأنه فرض الاتباع سقط فيجب العود إلى حكم صلاة الانفراد، وفيه نظر، وعندي لا يلزمه أن يأتي بدعا، الاستفتاح هاهنا أيضاً، وانقطع ذلك بقعوده معه.

فَرْعٌ آخرُ قال: لو أراد الجمع بين الجمعة والعصر للمطر نظر، فإن أراد الجمع بينهما في وقت العصر لا يجوز، وإن أراد الجمع في وقت الجمعة ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يجوز لأن الجمع رخصة واردة في موضع مخصوص فلا يقاس عليه. والثاني: يجوز لأن ما يباح لعذر يستوي فيه الجمعة والظهر كترك القياس عند العجز والأول أصح. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا قرأ سبع آيات عند الفجر عن الفاتحة، هل يستحب له التأمين في الآخر إذا كان مضمنا بالدعاء؟ والصواب عندي أنه يسن لأنها بدل على الفاتحة والتأمين شرع بعدها طلباً لإجابة السؤال، وهذا موجود هاهنا ويحتمل وجهاً أخر أن الخبر لم يرد به. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا قام ناسياً إلى الركعة الثالثة قبل [34 أ / 3] التشهد فقبل اعتداله بدأ بقرا، ة الفاتحة، ثم تذكر ما نسي من التشهد، هل يرجع إلى الجلوس والتشهد؟ نظر فإن كان في صلاة الفرض يرجح، وإن كان في النفل لم يرجح، لأن القراءة هي غير محسوبة في الفرض قبل الانتصاب بخلاف النفل، أو يجوز القعود فيها مع القدرة على القيام، فابتداؤه في النفل بالقراءة كالانتساب في الغرض وفيه وجه آخر يعود فيهما. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا قام الإمام تاركاً التشهد الأول واعتدل، ثم أحدث فاستخلف واحداً من المأمومين لا يتشهد هذا المستخلف ويبني على صلاته، ألا ترى أنه يقعد في موضح قعوده ويلزمه إتمام الصلاة، وإن كان مسافراً إذا كان المستخلف مقيماً ففي حكم التشهد يتبعه أيضاً. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا جمع بين صلاتين في الوقت الأول، فلما فرغ من الظهر شك هل كان نوى الجمع أم لا؟، ثم تيقن أنه كان نوى ليس له أن يجمع؟ لأنه طرأت حالة تمنع الجمع فزوالها بعد لا يوجب الجواز، كما لو نوى الإقامة ثم أراد السفر لم يكن له أداء العصر بعده في وقت الظهر، وإن كان ما حدث من المقام زائلاً. [34 ب / 3] وذكر الشافعي - رحمة الله عليه - نظيره إذا شك في نية العصر ثم تذكر في الحال فإنه لا يقصر. قلت: وعندي يجوز الجمع؟ لأنه لم يصادف هذا الشك العبادة. وقد يقع الشك في شرط منها، وقد تحقق وجود الشرط في الحال، والحالة ليست بحالة العبادة فصار كما لو شك في ركن الطهارة، ثم تذكر في الحال له الدخول في الصلاة. فَرْعٌ آخرُ قال: لو أذن لصلاة الظهر قبل دخول وقتها، ثم أراد أن يؤدي به فائتة، وقلنا بالقول

الذي يقول: إن الأذان مشروع للفائتة، هل له أداء الفائتة بهذا الأذان؟ نظر، فإن كان ذاكراً للفائتة وقت الأذان يجوز، وإن لم يكن ذاكراً لها لا يجوز، والفرق أن وقت الفائتة إنما يدخل عند ذكرها، فإذا كان ذاكراً لها، ولم يصح عما قصده وقع عما كان الوقت وقتاً له، كما لو أحرم بالحج قبل أشهر الحج صح عن العمرة. وفي المسألة الثانية لم يدخل وقت الفائتة ولا يقع الأذان عنها، لأن تقديم الأذان على وقته لا يجوز إلا في الصبح، ويحتمل وجهاً آخر أن هذا الأذان لا يصح عن الفائتة في الحالتين، ويحتمل وجها ثالثاً أنه يصح في الحالتين [35 أ / 3]. فرع قال: إذا أقام لصلاة الجمعة قبل الإتيان بتمام الخطبة المفروضة، ثم أتمها بعده وافتتح الجمعة بعده في وقت يسير هل يصح؟ عندي أنها لا تجوز، لأنها تراد لاستفتاح الصلاة فلا يجوز إلا في الوقت الذي يجوز فيه الاستفتاح، كالإقامة للصبح لا تجوز قبل الوقت، وان صح الأذان. ويحتمل أن يجوز كالإقامة قبل الفراغ من الطهارة وهذا أبين. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا سلم عليه رجل فلم يرد الجواب حتى طال الزمان، هل يسقط فرض الرد؟ يحتمل وجهين وكذلك لو مضت أيام. فَرْعٌ آخرُ قال: لو شك الرجل هل أدى الصلاة التي وجبت عليه أم لا؟ فإن قيل: إن فوات الوقت يلزمه أداؤها بلا خلاف، وان كان فوات الوقت يحتمل أن يقال: يلزمه الإعادة للاحتياط، والأصل: عدم الأداء، ويحتمل أن يقال: إن كان في وقت لا ينس في مثله في العادة أداء الصلاة التي أديت يلزمه قضاؤها وإلا فلا يلزم؛ لأن الظاهر إذا كان في وقت ينسى أنه لا يتغافل عن صلاته وأداها، ولكنه لا يمكنه تذكرها إلى هذه الغاية. والظاهر إذا كان في وقت لا ينس أنه [35 ب / 3] لم يؤدها ولو لم يفصل هكذا لأدى إلى مشقة عظيمة. وقيل: لا يلزمه الإعادة كما لو شك بعد الفراغ من الصلاة في بعض أفعالها وهذا ليس شيء. فَرْعٌ آخرُ قال: لو شك المصلي هل سلم من صلاته التي أداها أم لا؟ نظر، فإن حدث أمر يقطع الصلاة، أو يمنع صحة السلام في هذه الحالة فلا يلزم حكم الشك، وإن كان قاعداً متوجها إلى القبلة، ولم يطل الفصل لزمه السلام لنزول شكه في صحة الصلاة، ووجه ذلك أن في الأول: لو أوجبنا اللام لوجبت الإعادة من الأصل، والشك لا يوجب الإعادة، وفي الثانية: يجوز البناء ولا يلزمه الإعادة، فيجوز إثبات وجوب السلام في تلك الحالة؟ لأن وقت السلام باق في تلك الحالة، ولا يشبه التشهد إذا شك في قراءته بعد السلام: لأن وقته فات بحصول السلام، ألا ترى أنه لو ترك ذلك وتعمد إلى السلام بطلت صلاته، وإن كان قريباً وفوات الوقت يمتنع من تأثير الشك فيما لا يمكن اعتبار الظاهر فيه.

فَرْعٌ آخرُ قال: البالغ إذا أدرك الصبي الإمام في [36 أ / 3] الركوع هل يكون مدركاً الركعة؟ وجهان: والأصح الإدراك، وعندي لا معنى للوجه الآخر بعدما حكمنا بصحة صلاته. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا أدرك الإمام في الركوع فافتتح الصلاة، ولم ينو الجماعة، وركع معه لم تصح صلاته، سواء قلنا: الإخلال بنية الجماعة مع الاقتداء يبطلها أو لا يبطلها إلا أن يكون عنده جواز اتباعه فلا يصير مدركاً للركعة، ولا تبطل الصلاة، فإن قيل: نية الجماعة هي واجبة في الجمعة أم لا؟ قلنا: هي واجبة على المأموم، ولا يجوز أن يقال غيره، وهل يلزم الإمام هذه النية؟ وجهان: أحدهما: لا تلزمه كما في سائر الصلوات، والثاني: تلزمه لأنها لا تصح إلا بالعدد، وهو اختيار جدي الإمام - رحمه الله -. فَرْعٌ آخرُ قال: صلاة التراويح إذا صليت قبل دخول وقت العشاء بعد غروب الشمس هل تصح؟ وجهان: أحدهما: لا تصح لأنها تابعه للعشاء كالوتر، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة صلوها في وقت العشاء والوقت يؤخذ توقيفاً. والثاني: أنها تمح كقيام الليل. فَرْعٌ آخرُ هل تصح في وقت العشاء قبل العشاء؟ [36 ب / 3] يحتمل أن يقال: لا يجوز كالوتر ويحتمل خلافه. فَرْعٌ آخرُ قال: من به سلس البول إذا أم الناس في الجمعة هل له أن يجمع بين الخطبتين وصلاة الجمعة بوضوء واحد؟ يحتمل على قياس قول الشافعي وجهين بناء على اعتبار الطهارة في الخطبة، وفيه قولان، والأصح أنه لا يجوز. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا كان يصلي الظهر عن قعود لعجزه عن القيام فني التشهد الأول، ثم ذكره فإن كان قد أخذ في القراءة المفروضة لم يرجح، وإن لم يكن أخذ فإنه يرجع، وإن ابتدأ بالقعود على قول من قال: يتعوذ في كل ركعة فغيه وجهان. فرع قال: إذا كانت صلاة العشاء هل له أن يصلي الوتر قبل قضاء العشاء وجهان. فرع قال: إذا في الإمام التشهد الأول واعتدل فعزل المأموم نفسه من صلاة الإمام، هل يأتي بالتشهد؟ فإن كان اعتدل قائماً لم يأت به، وإن لم يكن اعتدل يحتمل وجهين:

أحدهما: لا يأتي به، والثاني: يأتي به وهو الأظهر. فرع قال: إذا علم أنه ترك صلاة الظهر في مدة شهر معين في بعض الأيام وصلاها في بعض الأيام ولا ندري كم ترك؟ وكم صلى؟. قال القفال: نقول [37 أ / 3] له: كم تتحقق من الصلوات تركها؟ فإن قال: أعلم أني كنت تركت عشرة أيام، ولا أدري الزيادة، نقول: أقض عشرة صلوات وليس عليك إلا ما تحققت تركها، فإن الظاهر أن المسلم لا يترك الصلاة. وقال القاضي الحسين - رحمه الله -: الأمر عندي على العكس فيقال: كم تتحقق قدر ما صليت؟ فإن قال: أتحقق عشرة أيام يقال له: اقض عشرين يوماً لأنا تحققنا اشتغال ذمته بالفرض فلا يسقط عنه إلا بيقين. ونظيره إذا أسلم ثم شك، هل ترك ركناً فيه قولان. أحدهما: إن كان الفصل قريباً عاد وبنى، وإن طال الفصل استأنف. والثاني: أنه لا يبني عليه، لأن الظاهر أن الصلاة قد تمت على وجهها. فَرْعٌ آخرُ إذا شرع في الفائتة على تقدير أن في الوقت سعة فتبين أن الوقت قد ضاق، المذهب أن عليه أن يقطع الفائتة، ويملي صلاة الوقت ثم يعيد الفائتة؛ لأنه لو شرع منفرداً ثم أدرك الجماعة فإنه يستحب له أن يجعله نفلاً ويسلم، ومراعاة حق الوقت هاهنا أولى من مراعاة الجماعة، ففيه وجه آخر يتمها ولا يقطعها وليس كتلك المسألة، لأن الجماعة من مصلحة تلك الصلاة فجاز [37 ب / 3] أن يقطعها لمراعاة مصلحتها، وفي القضاء ليس الوقت من مصلحتها، وإنما الوقت من مصلحة فريضة الوقت، فلا يجوز أن يقطع فريضة لمراعاة مصلحة فريضة أخرى. فَرْعٌ آخرُ إذا ترك الصلاة فقال: كنت نسيت أو كنت أجد البرد، أو كانت على بدني نجاسة ما قدرت على غسلها لا يقبل بل يؤمر بالصلاة. فإن امتنع بالمذهب أنه لا يقبل؛ لأن الصلاة إنما يتضيق فعلها في الوقت ومعظم الجنابة في التأخر عن الوقت ولم يتحقق قصده إلى التفويت، وفيه وجه آخر أنه يقبل لامتناعه من الإتيان بها مع التمكن. فَرْعٌ آخرُ إذا قلنا: يكفيه في نية الصلاة نية الظهر لا بد وأن يعتقد فرض الظهر حتى إن كان قريب العهد بالإسلام ولم يعلم أن صلاة الظهر من المفروضات، أو علم أنها من المفروضات ولكن لم يعلم فريضة أركانها إذا اعتقد في بعضها أنها سنة لم تصح صلاته؛ لأن فرض الصلاة لا يؤدى بنية النفل، ولو اعتقد أن جميع ما يفعله فيها فرض

يصح؛ لأن السنة تؤدى بنية الفرض. فَرْعٌ آخرُ إذا قتل برغوثة على ثوبه فيه وجهان: أحدهما: لا يكون عفواً لأنه يمكن الاحتراز منه، وإن [38 أ / 3] كان كثيراً فإنه لا يعفى وجهاً واحداً. والثاني: أنه يعفى لعلته لاعتبار الجنس وهو الصحيح، ولما روي أن ابن عمر - رضي الله عنه - عصر بثرة بوجهه وصلى. فَرْعٌ آخرُ دم البراغيث يعفى عنه في ثوبه الملبوس، فإن كان في كمه روث فيه دم البراغيث، فإن كان كثيراً لا يجوز، وإن كان قليلاً فيه وجهان؛ لأنه يمكن الاحتراز وكذلك لو كان دم البراغيث على مصلاه. فَرْعٌ آخرُ إذا كان عليه دم البراغيث فعرق بدنه وانتشر، يصير ذلك الموضع نجد وهل يعفى عنه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يعفى وهو اختيار القاضي الحسين - رحمه الله - ويختص العفو بعين الدم دون المحل الذي يتعدى إليه نجاسة الدم كما في محل الاستنجاء. والثاني: يعفى وهو الصحيح عندي، واختاره أبو عاصم العبادي؛ لأنه لا يمكن الاحتراز منه عرفاً، ولأنه لم ينقل ذلك عن الصحابة - رضي الله - عنهم مع علمنا بأنهم كانوا فقراء، ولم يكن للواحد منهم إلا ثوب، وكانوا يبيتون فيه، وقلنا: يخلو عن مثله والعرق يكثر في الحجارة لشدة الحر، ولأنا لو أوجبنا غسل [38 ب / 3] المتعدي لأوجبنا غسل موضع الاستنجاء؟ لأن البعض متصل بالبعض. وقال جعفر بن محمد الصادق: لقد هممت أن أتخذ للمغتسل ثوباً فإني رأيت الذباب تقع على النجاسة، ثم تقع على الثوب، ثم إني تفكرت أن السلف المالح ما كان لهم إلا ثوب واحد فتركته. فَرْعٌ آخرُ لو ابتلع خيطاً وطرفه خارج فمه لم تصح صلاته؛ لأن الظاهر هو متصل بالنجاسة. فرع لو قدر على قطع موضع النجاسة من الثوب، فإن كان النقصان الداخل فيه بقدر أجرة ثوب يستأجره للصلاة تلزمه أن يقطع، وإن زاد فلا يلزمه. فَرْعٌ آخرُ لو شك في الحدث في صلاته لا ينصرف، فلو انصرف لتجديد الطهارة، فإن بان أنه كان أحدث له البناء على صلاته في قوله: القديم، فيمن سبقه الحدث، وإن بان أنه ما كان أحدث، أو بقي الحال مشكلاً فيه وجهان: أحدهما: يبطل، لأنه ممنوع من الانصراف قبل تحقيق الحدث، والثاني: لا يبطل، لأنه من سلم ناسياً وظن أنه ليس في الصلاة فتكلم لم تبطل صلاته حتى يبني عليها، ويجعل كأنه تكلم بعد إتمام الصلاة

فكذلك [39 أ / 3] من جهل بقاء الطهارة يجعل في الحكم كأنه تحقيق انقطاعها. فرع لو قال في صلاته: يا قومنا قوموا لله موصولاً فهو كلمات القرآن، ولكن ليست على ذلك النظم تبطل صلاته؛ لأنها ليست بقرآن، ولو فرق الكلمات لا تبطل لأن الجمع من القرآن. فَرْعٌ آخرُ إذا تنحنح الإمام، وقلنا في أحد القولين: التنحنح يبطلها فمن أصحابنا من قال: يزم المأموم أن يفارقه، فإن لم يفارقه بطلت صلاته؛ لأن الظاهر أنه قاصد، وقد بطلت صلاته، ومنهم من قال: يمضي على متابعته لأن المسلم لا يقصد بطلان الصلاة، والظاهر أنه غير مختار له وأن صلاته لم تبطل، وهذا أمح عندي إذا كان الإمام ممن لا يخفى عليه هذا القدر. فرع لو تستر في الصلاة بآدمي أو بهيمة؛ لأنه يشبه عبادة من يعبد الأصنام، ولو صلى إلى آدمي أو إلى حيوان طاهر جاز لخبر عائشة - رضي الله عنها -: ((كنت معترضة بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين القبلة كاعتراض الجنازة". فَرْعٌ آخرُ لو أخبره جماعة أنه صلى ركعتين وهو يشك فهل يعتما على قولهم؟ وجهان والأصح [39 ب / 3] أنه يعتمد. فَرْعٌ آخرُ لو كان يصلي الصبح فرفع رأسه من السجود، وقام إلى الثانية بعدما شك أنه صلى الواحدة أو الثانية، ثم تذكر أنه ما صلى إلا ركعة، وأن التي قام إليها هي الثانية، فالظاهر أن عليه سجود السهو؛ لأنه حين قام لم يقطع بأن عليه فرض القيام، بل توهم أنه صلى ركعتين وهذه ثالثتهما وهي زيادة في الصلاة، وفيه وجه آخر: أنه لا يسجل لأن الوهم زال بالتذكر وتبين أنه ما زاد فيها. قال بعض أصحابنا: والأول أصح؛ لأن فعله مع الوهم أنه يفعله زيادة فيها خلل ولهذا لو بقي على الشك حتى فرغ منها عليه سجود السهو، وإن احتمل أنه لم يزد وقد تقرر أن من شك هل زاد في صلاته لا سجود عليه، وعندي الوجه الثاني أصح. فرع لو شك في سجوده أنه سجد سجدة أو سجدتين بنى على اليقين، فإذا أخذ بالأقل ثم بان قبل أن يرفع رأسه من السجدة أنه ما كان سجد إلا واحدة فلا سجود عليه للسهو؟ لأن تلك السجدة معتد بها، وان بان بعد أن رفع رأسه من تلك الجدة وسجد السجدة الأخرى، ثم تذكر أنه [40 أ / 3] ما كان قد سجد إلا سجدة واحدة، وأن هذه ثانيتها يلزمه سجود السهو لأن فعله لم يكن معتداً به لاحتمال أنه سجد سجدتين وهذه ثالثتهما على ما ذكرنا.

فَرْعٌ آخرُ لو سلم وقام، ثم داس نجاسة برجله، المذهب أنه لا يبني على صلاته إذا علم أنه ترك منها شيئاً؛ لأن حكم النجاسة هو أغلظ من حكم القبلة والكلام، فيبني بعه استدبار القبلة والكلام قليل ولا شيء بعد النجاسة. فَرْعٌ آخرُ إذا سلم فقال له وجل: سلمت من ركعتين، فمان تداخله شك يعود إلى صلاته في الوقت ولو اشتغل بجوابه، ثم تذكر فأراد أن يعود إلى الصلاة ليس له ذلك، فإن لم يتداخله شك فأجابه، وقال: بل أتممت الصلاة، ثم تذكر أنه سلم محن ركعتين له أن يبني على صلاته لخبر "ذي اليدين". فرع لو قام من موضعه لا يعوذ إلى موضعه، بل يبني في المكان الذي تذكر لأن عوده ليس من مصلحتها. فَرْعٌ آخرُ إذا أراد أن يبني لا يحتاج إلى النية؟ لأن التحريمة الأولى باقية. ولو كبر ونوى الافتتاح بطل ما مضى. [40 ب / 3]. فَرْعٌ آخرُ لو سلم من ركعتين وقام وافتتح النفل، ثم تذكر أنه نسي ركعتين فعلى قول بعض أصحابنا: الانتقال إلى الركن مقصوداً شرط، فعلى هذا ما فعله لا يعتد به إلا أن الفعل من جنس الصلاة فله أن يبني على صلاته، وإن كان قد طال الفصل، وعلى طريقة الباقين الانتقال إلى الركن بالقصد ليس بشرط، ولكن هذا الرجل قصد النفل وعليه الفرض هل يتأدى الفرض بنية النفل؟ ذكرنا فيه الخلاف بين أصحابنا، فإن قلنا: يتأدى بها احتسب له ما فعله ويتممه. وإن قلنا: لا يتأدى بها استأنف الركعتين وهذا أصح عندي. فَرْعٌ آخرُ لو أراد المأموم أن يقنت في الصبح وترك الإمام القنوت، فإن أخرج نفسه من متابعته وقنت لا يسجد للسهو، وان لم يخرج نفسه من متابعته ولكن طول الإمام قيام الاعتدال فقنت جاز، وهل يسجد للسهو؟ وجهان. قال أبو حامد يسجد، وقال القفال: لا يسجد، لأن في اعتقاد إمامه أنه ليس في صلاته خلل والمأموم اعتقد الخلل فيجعل اعتقاده كسهو منه ولا يسجد للهو خلف الإمام [41 أ / 3]. فَرْعٌ آخرُ لو قنت في الركعة الأولى ساهياً أو في غير الصبح. قال الشافعي - رحمه الله _:

باب صلاة المسافر

يسجد للسهو، فقال بعض أصحابنا: لأنه نقل ذكراً مقصوداً من محله إلى غير محله، فجعل الإتيان به في غير محله كتركه في محله. وقيل: العلة هي أن قيام الاعتدال ركن قصير، وقد طوله بالقنوت، وعلى هذا لو قنت في الركعة الأولى عامداً أو في غير الصبح عامداً، فإن قلنا: العلة عند السهو نقل الذكر لا تبطل صلاته لأن الصلاة هي محل الذكر، وإن قلنا: العلة تطويل الركن القصير تبطل صلاته ونجعل تطويل الركن القصير كزيادة ركن في الصلاة. فَرْعٌ آخرُ لو قنت قبل الركن عامدا لا تبطل صلاته، ولو فعله ساهياً، فإن قلنا: إن العلة نقل الذكر المقصود ويسجد، وإن قلنا: العلة تطويل الركن لا يسجد، لأن القيام ركن ممتد. فَرْعٌ آخرُ لو تشهد قائماً، أو قرأ القرآن في التشهد، فإن كان عمداً لا تبطل، وإن كان ناسياً، فإن قلنا: العلة في المسألة الأولى نقل الذكر ليسجد! لأنه نقل موجود وإن قلنا: العلة تطويل الركن القصير لا يسجد لأن الركن في نفسه ممتد [41 ب / 3]. باب صلاة المسافر مسألة: قال: وإذا سافر الرجل سفراً يكون ستة وأربعين ميلاً بالهاشمي. فله أن يقصر الصلاة. وهذا كما قال. الأصل في جواز القصر في السفر الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب؛ فقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ} [النساء: 101] الآية. وأما السنة: فما وري أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان يقصر في أسفاره حاجاً وغازياً". وأما الإجماع: فلا خلاف بين الملمين فيه. فإذا تقرر هذا، فجملة الأسفار على أربعة أضرب: سفر واجب كالسفر للحج والعمرة والجهاد والهجرة، وسفر معصية: كالسفر لقطع الطريق، وطلبه الزنا، والمعاصي، والهرب من الغريم مع القدرة، والخروج مراغما لأبويه في شيء، وسفر طاعة: كزيارة الوالدين أو أحدهما، الخروج إلى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلى المجد! لأقصى، وسفر مباح: كتجارة أو تنزه ويستباح القصر في كلها إلا في سفر المعصية. وقال ابن مسعود - رضي الله عنه _: لا يجوز القصر إلا في السفر الواجب: لأن الواجب لا يترك إلا للواجب، وقال عطاء [42 أ / 3]. رحمه الله -: لا يجوز إلا في سفر الطاعة لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يقصر إلا في سبيل الخير. وقال داود: لا يجوز إلا عند الخوف لقوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا}] النساء: 101] فشرط الخوف وهذا غلط لما روى ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فرض الله تعالى الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاء وفي السفر ركعتين"، وروى يعلى بن أمية

وقيل: يعلى بن منية، وقيل: أمية أبوه ومنية جدته، فنسب إلى كل واحد منهما. قال: وقلت لعمر بن الخطاب _ رضي الله عنه _: أباح الله تعالى القصر في الخوف فأين القصر إذا أمن، فقال: عجبت مما عجبت، فألت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته". فثبت جوازه في الأمن. وروى جابر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خياركم من قصر في السفر وأفطر"، وروى ابن عمر _ رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيار أمتي أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله والذين إذا أحسنوا استبشروا، وإذا أساؤوا استغفروا [42 ب / 3] وإذا سافروا قصروا وافطروا"، وروى عيسى بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن أبيه قال: كنت مع عمي عبد الله بن عمر في سفر فصلى ركعتين، ثم انصرف فرأى ناساً في المسجد يصلون فقال: لو كنت مصلياً معهم لأتممت، لقد صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر فما رأيته يصلي إلا ركعتين، ما يصلي معهما شيئاً حتى لقي الله"، ولقد صحبت أبا بكر في السفر "فما رأيته يصلي إلا ركعتين ما يصلي معهما شيئاً، ثم صحبت عمر في السفر ففعل هكذا ثم صحبت عثمان فما رأيته إلا هكذا، ثم قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. وقال أبو سعيد الخدري _ رضي الله عنه _ كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من المدينة فسار فرسخاً قصر الصلاة، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قصر في السفر في الحج وكان آمنا، ولأن الرخصة إذا تعلقت بسفر الطاعة تعلقت بالفر المباح كصلاة النافلة على الراحلة. وأما ما ذكر ابن مسعود _ رضي الله عنه _ ينتقض ممن لا يجب عليه الجهاد إذا خرج إليه يقصر بالإجماع، وأما ما قال عطاء فلا يصح لأنه لو اختص بموضع السنة [43 أ / 3] لما جاز القصر في غير الموضع الذي سار فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأنه كان يقصر الصلاة في عوده، وإن كان مباحاً وأماما، قال داود رحمه الله: قلنا ذكر الخوف لا للشرط كقوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31] فهذا ليس بشرط، وقال أبو حنيفة _ رحمه الله _: يجوز القصر في جميع الأسفار، وان كان سفر معصية وسيأتي الكلام عليه في موضعه إن شاء الله تعالى، فإذا تقرر هذا فإن عنانا لا يجوز القصر إلا في السفر الطويل، وقال داود: يجوز القصر في السفر القليل وإن كان فرسخاً لظاهر الآية، وهذا غلط لما روى ابن عباس _ رضي الله عنهما _ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يا أهل مكة لا تقصروا في أدني من أربعة برد من مكة إلى عسفان". وهذا يخص الآية، ولأن المشقة لا تلحقه في ذلك غالباً فأشبه الانتقال في البلد من محله إلى محله.

فإذا تقرر هذا فحد السفر الطويل ماذا؟ قال الشافعي: هاهنا ستة وأربعون ميلاً بالهاشمي. وقال في القديم: يقصر إذا جاوز أربعين ميلاً، وقال في موضع: مسيرة ليلتين، وقال في موضع: مسيرة يوم وليلة. وقال في موضع: أربعة برد. وكل هذا واحد والأصل فيه ما قال [43 ب / 3] هاهنا ستة وأربعون ميلاً، والذي قال ثمانية وأربعون ميلاً احتسب فيه الميل الذي يبتدي منه، والميل الذي ينتهي إليه وهناك لم يحتسب. والذي قال في القديم: جاوز أربعين ميلاً أبهمه وفسره في الجديد، والذي قال مسيرة ليلتين قال: فيه قاصرتين سير الأبغال ودبيب الأقدام دون سير البرد والخيل ونحب الركاب لأن ذلك خارج عن المعتاد، كما لا يعتبر سير المزمن والمقعد، وذلك ستة عشر فرسخاً في كل ليلة ثمانية فراسخ، والذي قال مسيرة يوم وليلة أراد إذا وصل سير الليل والنهار وذلك ما قلناه. والذي قاله: أربعة برد فهو ما ذكرنا؟ لأن كل بريد أربعة فراسخ كل فرسخ ثلاثة أميال بأميال هاشم جد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الذي قدر أميال البادية وبردها كل ميل اثنا عشر ألف قدم، وهي أربعة آلاف خطوة، فإن كل ثلاثة أقدام خطوة. وجملته ستة عشر فرسخاً. وقال بعض أصحابنا: كل ميل أربعة آلاف قدم وهو غلط ظاهر، وقال الساجي: قوله: ثمانية وأربعون ميلاً أراد به أميال بني أمية، وقوله: ستة وأربعون ميلاً أراد به أميال بني هاشم لأن أميال بني أمية هي أقصر من أميال بني هاشم وهذا [44 أ / 3] غلط، لأن الشافعي رحمة الله عليه نص في الموضعين على أميال بني هاشم، وبقولنا: قال مالك والليث، وأحمد، وإسحاق، وأبو ثور. وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، وقال أبو حنيفة والثوري والحسن بن صالح: لا يقصر إلا في ثلاث مراحل أربعة وعشرون فرسخاً، وروي ذلك عن ابن مسعود رضي الله عنه وسويد بن غفلة وسعيد بن جبير والنخعي رحمهم الله. وقال الأوزاعي: يقصر في مسيرة يوم، وروي ذلك عن أنى رضي الله عنه وقال الزهري رحمه الله: مسيرة يوم تام ثلاثين ميلاً، وقد قال الشافعي رحمه الله: لا يستحب أن يقصر في أقل من مسيرة ثلاثة أيام. كما قال أبو حنيفة: للخروج من الخلاف، والدليل على ما ذكرنا: خبر ابن عباس رضي الله عنهما ما ذكرنا، وقال عطاء رحمه الله: لابن عباس رضي الله عنهما أأقصر إلى عرفة؟ فقال: لا، فقال: إلى منى؟ فقال: لا، ولكن اقصر إلى جدة أربعة برد. واحتجوا بما روي عن أنس رضي الله عنه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ يصلي ركعتين. أورده أبو داود عن علي رضي الله عنهما أنه خرج [44 ب / 3] إلى النخيلة فصلى بهم الظهر ركعتين، ثم رجع من يومه، وقال عمرو بن دينار: قال لي جابر بن زيد: أقصر بعرفة؟ قلت: احمل الخبر على ما لو نوى سفراً طويلاً، فحين خرج من بلده ثلاثة أميال ابتداء

القصر، ولأنها مسافة تجمع مشقة السفر من الشد والحل والارتحال فجاز القصر فيها كالثلاث، ثم الصحيح أنه تجديد كالنصاب في الزكاة: لأنه ثبت بالنص عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - والصحابة لا بالاجتهاد، وقال أبو إسحاق رحمه الله: لم يقصد الشافعي بألفاظه التحديد الذي لا ينقص منه وإنما أراد به التقريب. فرع لو سافر في البحر لا اعتبار بسير الفن كما لا اعتبار في البر بالسير السريح، بل الاعتبار بالمسافة التي يقصر الصلاة في مثلها في البرء قال: فإن شك هل بلغ مثل تلك المسافة في البر أم لا؟. لا يجوز له القصر حتى يستيقن أنها مسافة القصر. مسألة: قال: وأكره ترك القصر رغبة عن السنة. وهذا كما قال: الصلوات المفروضات خمس، اثنتان منها لا تقصران، وهما الصبح والمغرب، والباقيات يقصرن وهي الظهر والعصر والعشاء، لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: فرفت [45 أ / 3] الصلاة ركعتين ركعتين فزيد في صلاة الحضر، وأقرت صلاة السفر إلا المغرب والصبح. أما المغرب فوتر النهار، وأما الصبح فلطول القنوت. معناه: أنه مقصور عدداً ولكنه يطول بطول القراءة فإذا كان في السفر يخفف القراءة فيه: ولأن الصبح مقصور والمغرب لا ينتصف صحيحاً، ولا يمكن أن ترد إلى ركعتين: لأنه يخرج عن كونه وتراً ولا أن ترد إلى ركعة: لأنه إسقاط الأكثر، ثم اعلم أن القصر رخصة لا عزيمة ولا فرض كالمسح على الخفين فهو بالخيار إن شاء أتم وإن شاء قصر، وأيهما فعل سقط عنه الغرض كالعبد والمرأة إذا حضرا الجمعة يختاران الجمعة أو الظهر أربح ركعات، وأيتهما فعلا سقط عنهما الفرض، وبه قال عثمان وابن مسعود وابن عمر وابن عباس وسعد بن أبي وقاص وعائشة رضي الله عنهم والأوزاعي وأحمد وأبو ثور رحمهم الله. وقال أبو حنيفة والثوري رحمهما الله: القصر عزيمة لا يجوز تركه بحال، وبه قال عمر وعلي رضي الله عنهما، وعن مالك رحمه الله روايتان والأشهر عنه نحو مذهبنا، وهذا غلط لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: خرجت مع [45 ب / 3] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمرة رمضان فأفطر وصمت، وقصر وأتممت. فقلت: "يا رسول الله بأبي أنت وأمي أفطرت وصمت وقصرت وأتممت، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أحسنت"، وهذا نص ولأنه لو صلى خلف مقيم صلى أربعاً والركعات لا تزيد بالإتمام، فإذا تقرر هذا نص الشافعي رحمه الله في كتاب استقبال القبلة أن القصر أفضل من الإتمام، ونقل المزني رحمه الله في "الجامح الكبير": أن الاختيار للمسافر القصر، ثم اعترض عليه بأن الإتمام أفضل لأنه أكثر عملاً، وهو مذهبه ونص في كتاب الإمامة على أن الإتمام

أفضل، فيكون في المسألة قولان، ومن أصحابنا من ذكر قولاً واحداً أن القصر أفضل وهو اختيار أبي حامد، وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله وقول الشافعي رحمه الله: وأكره ترك القصر رغبة عن السنة لم يرد به أن تركه رغبة عن السنة، ولكن أراد إذا ترك على وجه الرغبة عن السنة كفر، فكيف يقول الشافعي هذا؟ قلنا: قيل: إن الشافعي قال في "الأم": والقصر سنة وأكره تركه، وهذا نقله المزني وله تأويلان: أحدهما: أنه أراد أن يتركه في حال [46 أ / 3] الأمن عدولاً عن قبول خبر الواحد. وهذا لا يوجب كفراً، لأنه ذهب إلى ظاهر القرآن وشرط الخوف فيه. والثاني: أراد أنه رغب عن هذه السنة الرخصة الثانية بالسنة، وقال: لا أترك ما ثبت من عدد الركعات بالتواتر والإجماع، فإن قيل: أليس الصوم أفضل من الإفطار في السفر إذا أطاق الصوم فكذلك الإتمام وجب أن يكون أفضل؟ قلنا: قال القفال: الفطر أفضل من الصوم في أحد الوجهين والصحيح الغرة، وذلك أن الذمة تبقى مشغولة بقضاء الصوم دون قضاء الصلاة إذا قصرها، ودخل الوقت تفوت بالفطر بخلاف القصر، ولأن الخلاف فيه أشهر منه في جواز الفطر: ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خيار عباد الله الذين إذا سافروا قصروا"، وقد داوم النبي - صلى الله عليه وسلم - على القصر ولا يداوم إلا على الأفضل، وقال عمران بن الحصين رضي الله عنه: حججت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان يصلي ركعتين وسافرت مع أبي بكر رضي الله عنه فكان يصلي ركعتين حتى ذهب وسافرت مع عمر رضي الله عنه فكان يصلي ركعتين حتى [46 ب / 3] ذهب وسافرت مع عثمان رضي الله عنه فصلى ركعتين ست سنين، ثم أتم بمنى. فإن قيل: إذا اعتبرتم الاحتياط للخروج من الخلاف هاهنا، وفي القصر في أقل من ثلاث مراحل على ما قال الشافعي فيم لا يحتاطون في الوتر حتى يوتر بثلاث؟ قلنا: لأن الأخبار في الوتر بواحدة هي كثيرة مشهورة، وهاهنا أكثر فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأسفار القصر فيها، ثم قال الشافعي رحمة الله عليه: "وله أن يفطر في أيام رمضان، فإن صام فيه أجزأه" وموضعه كتاب الصوم. مسألة: قال: فإن نوى السفر فلا يقصر حتى يفارق المنازل. الفصل وهذا كما قال: الكلام الآن في وقت القصر، فكل سفر يقصر فيه الصلاة فوقت القصر هو إذا فارق البنيان والمنازل، وهو المكان الذي إذا عاد إليه من سفره يزول القصر، فإن كان للبلد سور فحتى يفارق السور، وإن لم يكن له سور فحتى يفارق البنيان والمنازل، فلا يبقى بيت منفصل ولا متصل، وان كانت أطراف البلد حزبه نظر، فإن كانت الحيطان قائمة فهي كالعامرة، وان كانت ساقطة [47 أ / 3] فهي كالمعدومة، وإن كان حول البلد بساتين،

فإن الاعتبار بمفارقة حيطان البلد المبنية للإيواء والكن، فأما حيطان البساتين فهي كالمعدومة: لأنها مبنية لحفظ الغلات والثمار لا للاستيطان، وإن كان البلد ذا جانبين يفصل بينهما نهر كبغداد وواسط والبصرة فالجانبان معاً كالبلد الواحد يفصل بينهما شارع، فالماء والشارع سواء فلا يجوز القصر إذا عبر من أحد الجانبين إلى الآخر، وإن كانت قريتان اتصلت عمارتها حتى ليس بينهما قضاء فإنهما بمنزلة القرية الواحدة، وإن كان بينهما قضاء فهما قريتان، وان كان ذراعا مثلا ذكره في "الحاوي". ضومن أصحابنا من قال: إن كان الفضاء يتباعد بينهما فعلى ما ذكرنا، وان قرب القضاء بينهما فهما قرية واحدة. ذكره ابن سريج، وهذا خلاف المذهب، لأن الشافعي نص على ما ذكرنا وأطلق، وهذا لأن كل واحدة منهما منفصلة باسمها وبنائها، وإن كان بدوياً يخرج من البادية، فإن لم يكن خيمة يكون فيها بل له بقعة قد نزلها، نقل المزني أنه لا يقصر حتى يفارق موضعه. وقال الشافعي في كتاب استقبال القبلة: حتى [47 ب / 3] يجاوز البقعة التي فيها منزله، وهذا أبين وأشرح، وأراد المزني أيضاً بقعة موضعه لا نفس الموضع، وهي مواضع تردده إليها في الاحتطاب وغير ذلك على العادة، وقال عطاء والأسود والحارث بن أبي ربيعة رحمهم الله: إذا نوى السفر جاز له القصر في منزله وبلده لمجرد النية. وقال مجاهد رحمه الله: إن سافر نهاراً لا يقصر حتى يمسي، وإذا سافر ليلاً لا يقصر حتى يصبح، وهذا غلط لما روي عن أنى رضي الله عنه أنه قال: صليت مع وسول الله - صلى الله عليه وسلم - الظهر بالمدينة أربعاً والعصر بذي الحليفة ركعتين. وقال علي بن ربيعة: خرجت مع علي رضي الله عنه فقصر ونحن نرى البيوت ورجعنا بقصر ونحن نرى البيوت. واحتج عطا، بأنه لو نوى الإقامة فإنه يلزمه الإتمام في الحال، فإذا نوى الفر قصر في الحال أيضا. إن الحارث بن أبي ربيعة أراد سفراً فصلى بهم ركعتين في منزله وفيهم الأسود بن يزيد وغير واحد من أصحاب عبد الله، فصار إجماعاً، قلنا: إذا نوى الإقامة وجد مع النية ما يوافقها وهو اللبث والإقامة، وإذا نوى السفر لا يوجد ما يطابقها حتى [48 أ / 3] يسير فيما جاوز البنيان فاعتبر ذلك فيها. فرع لو كانت له خيمة وهناك خيام مجتمعة كالبيوت في القرية فحتى يفارق كلها، نص عليه في "الأم" قال: فإن كان في حاضر مجتمع فحتى يفارق ما قارب منزله، وأراد إذا كان من أهل المظال والخيام لقبائل متفرقة فلا اعتبار بالحلة، فإن كانوا يعدونها حلة واحدة فيعتبر مجاوزة جميعها، وان كانوا يعدونها حللاً مختلفة، فإذا جاوز حلت له أن يقصر: لأن الحلل هي كالقوى فإذا فارق قريته قصر وإن كان يقربها قرية أخرى لم

يجاوزها. قال أصحابنا: وما يكون من مرافق الحلة كمطرح الذبل وموضع الطبخ، والخبز، ومتحدث النادي من جملتها لا يقصر حتى يفارقها. وقال القفال: إذا كانوا يجتمعون للسمر ويتعين بعضهم ببعض في الحوائج، وان كانت متفرقة فهي كالمحلات في بلده. فَرْعٌ آخرُ قال: وإن كان في عرض وادٍ فلا يقصر حتى يقطع عرفه. قال أصحابنا: أراد به إذا كانت البيوت قصر، وان كان في عرض كان في عرض الوادي، وقال القافي الطبري: لم يشترط الشافعي ما ذكره بل أطلق وإنما قال ذلك، لأن [48 ب / 3] جانبي الوادي بمنزلة السور على البلد؛ لأنهم إنما اختاروا النزول في الوادي ليتحصنوا بجانبيه كما يتحصن أهل البلد بسورة فينبغي أن لا يقصر حتى يفارقه، ولو كان منزله في طول الوادي فإنه يقصر أيضاً إذا جاوز البيوت. فَرْعٌ آخرُ قال: ما دام يتردد حول خيمته للارتحال وإحضار الدابة فهو كالمقيم إلا أن تستوي دابته على الطريق ذاهباً. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن كان على صعود في صحراء فما لم ينهبط منه لا يقصر، وان كان في هبوط فما لم يصعد لا يقصر، وعندي ليس هذا على هذا الإطلاق لأنه قد تطول المسافة بين الصحراء وبينه، فإذا فارق موضعه من أعلاه وتباعد يجوز له القصر وان لم ينزل بعد. فَرْعٌ آخرُ قال في "الإملاء": لو خرج مسافراً، ثم ذكر شيئاً نسيه في منزله فعاد إلى بلده لأخذ ذلك الشيء، لم يكن له أن يقصر لأنه صار بعوده مقيماً، ولهذا لم يجز له أن يقصر إلا بعد مجاوزته. فَرْعٌ آخرُ لو دخل البلد الذي قصده، وبلغ أول بنيانه أتم الصلاة. وقال في "البويطي": لو خرج إلى الجب مبرزاً ليخرج إلى مكة في المشاة أو الركبان وكانت [49 أ / 3] نيته المقام حتى يتكامل الناس أتم حتى يرحلوا، لأن السفر يبتدأ من حيث نزل هاهنا، وإن كانت بنية المقام في الجب أقل من أربعة أيام ويسير منه مكامل الناس أو لم يتكاملوا فله القصر. فَرْعٌ آخرُ قال في "البويطي": لو رجع واحد ممن له القصر إلى منزله في حاجة، فحضرته الصلاة ذاهباً وجاثياً قصر، وليست المسألة على قولين بل على اختلاف حالين، فالذي قال في "الإملاء": لا يقصر إذا حصل في جوف البلد، والذي قال في "البويطي": يعني: في طريق البيت ما لم يدخل شيئاً من البلد، وفي طريقه راجعاً إذا فارق البلد فاعتبر كونه في الوطن، وقال القفال: حال ما نوى صار مقيماً في مكانه رجع أو لم

يرجع، ولو لم يرجع لا يجوز له القصر ما لم يفارق مكانه. قال: وهكذا لو نوى الرجوع من موضع أبعد منه بعد ما لا يكون بينه وبين مبتدأ سفره مسافة قصر الصلاة، فإن سار قدر مسافة القصر ثم نوى الرجوع صار مقيماً في موضعه، لأنه ترك سفره الأول ثم عند الانصراف له القصر في الطريق، وقطع في الصيد لأني بهذا الجواب، ولم يذكر ما قال في "البويطي" والصحيح ما ذكرت من التفصيل. [49 ب / 3]. فَرْعٌ آخرُ ذكره أصحابنا على هذا الذي سبق، وهو أنه لو سار إلى بلد بعيد يدخل في طريقه بلل أو نوى المقام فيه أربعة أيام أتم، فإن خرج منه إلى المقصد وبينه تمام الفر قصد أيضاً إذا فارق بنيان هذا البلد، فإن نسي شيئاً فعاد إلى البلد لأخذه له أن يقصر هاهنا ذاهباً وجائياً، وفي وسط البلد: لأن هذا البلد ليس بوطن له، وبلده الذي هو وطنه موضع وطنه فانقطع قصره بدخوله. فَرْعٌ آخرُ قال في "الإملاء": لو أحرم خارجاً من البلد بنية القصر، ثم رعف فانصرف فاخل بعض المنازل لغسله، فإن قلنا: لا تبطل الصلاة وله العود والبناء لزمه الإتمام: لأنه حصل في الوطن في أثناء الصلاة، وإن قلنا: إذا رعف بطلت صلاته لم يلزمه إتمامها فاعتبر الوطن لا غير. مسألة: قال: وإن نوى المسافر مقام أربع أتم. وهذا كما قال متى دخل المسافر بلداً لا يخلو من أحد أمرين، إما أن ينوي المقام أو لا ينوي فإن نوى المقام فطر، فإن نوى مقام أقل من أربعة أيام فهو مسافر، وان نوى مقام أربعة أيام فهو مقيم ينقطع قصره، وهذه الأربعة هي غير يومه الذي دخل [50 أ / 3] فيه ويومه الذي خرج منه فيه، فلو دخل يوم الأحد وخرج يوم الخميس كان له القصر: لأن بين دخوله وخروجه ثلاثة أيام، وإنما ينقطع قصره إذا دخل يوم البت وخرج يوم الخميس تعمل له أربعة أيام في الوسط؛ فلو ترك بعد طلوع الفجر من يوم السبت ورحل قبل غروب الشمس من الخميس أتم فيها كلها، وبه قال عثمان وسعيد بن المسيب والليث وأحمد وإسحاق ومالك وأبو ثور رحمهم الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إن نوى مقام خمسة عثر يوماً مع اليوم الذي دخل فيه واليوم الذي يخرج منه بطل حكم سفره، وبه قال الثوري واختاره المزني رحمه الله، وعن ابن عمر رضي الله عنهما ثلاث روايات إحداها: هذا، والثانية: إذا نوى ثلاثة عشر يوماً أتم وفي لفظ أقلها يقصر، والثالثة: إذا نوى اثنا عشر يومأ أتم، وفي أقلها يقصر، وبه قال الأوزاعي، وقال نافع: اختلفت الروايات عن ابن عمر رضي الله عنهما

في مدة الإقامة ثم آل الأمر إلى اثني عشر. وروي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما إذا نوى إقامة عثرة أيام أتم وإلا قصر وبه قال الحسن بن صالح بن حي، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: سبعة عشر يوماً، وبه قال إسحاق في رواية [50 ب / 3] وقال الليث في رواية: أكثر من خمسة عشر يوماً، وبه قال سعيد بن جبير، وقال الحسن البصري رحمه الله: إذا دخل البلد أتم، وقالت عائشة رضي الله عنها: إذا وضع المسافر رحله أتم وسواء كان في البلد أو خارجه. وقال ربيعة: إذا نوى إقامة يوم وليلة أتم وإلا قصر، وروي عن أحمد رحمه الله أنه قال: إن نوى مقام مدة يؤدي فيها أكثر من عشرين صلاة أتم، وروي هذا عن عائشة رضي الله عنها وهو قريب من مذهبنا، وبه قال ابن المنذر، وحكي عن أنس رضي الله عنه أنه أقام بنيسابور سنتين وكان يقصر فيهما، وروى النخعي أن علقمة أقام بخوارزم سنتين وكان يقصر فيهما. واحتج الشافعي رحمه الله عليه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يقيم المهاجر بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثاً"، وأراد بالمهاجر الذين هاجروا من مكة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة كان حراماً عليهم بعد ذلك أن يقيموا بمكة، فرخص لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن حج منهم أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه، ولم يرخص في أكثر من ذلك، فدل أن ما زاد يكون في حد الإقامة ولما روي أنه أقام بمنى ثلاثاً يقصر الصلاة، وبما روى [51 أ / 3] ابن عمر رضي الله عنه أجلى أهل الذمة من الحجاز وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقول في مرضه الذي توفي فيه: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ولو عشت لأخرجت اليهود والنصارى من جزيرة العرب"، فلم يعش إلى قابل، ولم يتفرغ لذلك بعده أبو بكر رضي الله عنه فلما آل الأمر إلى عمر رضي الله عنه، جمع من كان في جزيرة العرب وهي بلاد الحجاز مكة والمدينة والطائف ومخاليفها وأمرهم بالانجلاء منها، وضرب لمن يقدم منهم تاجراً مقام ثلاثة أيام أي قدر ولم يقدر أكثر من ذلك يدل أن ذلك مقام السفر وما جاوزه مقام الإقامة. واحتج أبو حنيفة رحمه الله بما روى مجاهد عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا إذا قدمت بلدة وأنت مسافر، وفي نفسك أن تقيم بها خمسة عشر ليلة فأكمل الصلاة ولا مخالف لهما. واحتج أحمد رحمه الله بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل مكة صبيحة يوم الأحد وهو الرابح من ذي الحجة، وكان قد صلى الصبح قبل دخوله، فأقام بها تمام الرابع والخامس والسادس والسابع، وصلى الصبح بها في اليوم الثامن ثم خرج إلى منى، وكان يقصر في هذه الأيام. وصلاته [51 ب / 3] في هذه المدة عشرون صلاة؛ قلنا: أما الأول: فقد روى الشافعي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: من أجمع إقامة أربع أتم.

فتعارضا، ثم روى أبو مجلز، قال: كنت جالساً عند ابن عمر رضي الله عنهما فقلت: يا أبا عبد الرحمن أتى المدينة طالباً حاجة فأقيم بها السبعة الأشهر والثمانية، كيف أصلي؟ قال: ركعتين. وأما ما ذكره أحمد رحمه الله: نقول به، لأن مدة إقامة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير يوم الدخول ويوم الخروج ثلاثة أيام، وإنما لا يعتبر يوم الدخول ويوم الخروج لأنه يشق مراعاة الزمان والساعة التي دخل فيها وخرج وضم بعضه إلى بعض، وفيه وجه آخر: أنه إذا دخل وقت الزوال يوم الجمعة ودخل وقت الزوال يوم الثلاثاء لا يقصر لأنه أربعة أيام كوامل، وهذا خلاف النص، وإن لم ينو الإقامة أصلاً ولكنه دخل لينجز حاجته كالبيع والشراء، أو سرع حديث أو لعلة لحقته حتى يبرأ، ويحصل مراده في اليوم واليومين، وربما طال فله أن يقصر ما لم يتصل مقامه أربعة أيام كاملة على ما بينا، ويستحب له فيه القصر على ما ذكرنا في السفر السائر، وإن زاد على هذا بعد نقل المزني أنه يتم وإن قصر أعاد [52 أ / 3]. وقال في "الإملاء": وإن دخل بلداً لحاجة فيحج في اليوم واليومين فاستأخر كان له القصر ما لم يجمع مكثاً أو يبلغ مقامه مقام النبي - صلى الله عليه وسلم - بهوازن وذلك سبع عشرة ليلة ~ن زاد عليه أتم، وقال في استقبال القبلة من "الأم": فإن جاوز أربعاً أحببت له أن يتم، فإن لم يتم أعاد ما صلى بالقصر بعد أربع، ولو قيل الحرب وغير الحرب سواء في هذا كان مذهباً. فاستحب الشافعي رحمه الله الإتمام. وقوله: إنما يريد به مستحباً؛ لأنه نص على أن الإتمام مستحب وقال فيه: ومن قصر كما يقصر في خوف الحرب لم يبن لي أن عليه الإعادة، فإن اخترت ما وصفت، واختلف أصحابنا في هذا فقال أبو إسحاق وغيره: بعد الأربعة إلى ثمانية عشر يوماً قولان أحدهما: لا يجوز له القصر، لأنه لو نوى مقام أربعة أيام لزمه الإتمام، فإذا أقام أربعة من غير نية الإقامة أولى أن يلزمه الإتمام؛ لأن فعل المقام هو آكد من نيته، والثاني: يجوز له القصر ما لم ينو مقام أربعة أيام، أو يجاوز سبعة عشر يوماً والثاني يقصر أبداً، فأما القصر إلى سبعة عشر يوماً فإنه يجوز قولاً واحداً وهذا أصح، ولا يصح الطريقة الأولى، لأن الشافعي [52 ب / 3] رحمه الله بين في "الأم": أن إعادة الصلاة إذا قصرها بعد الأربعة هي استحباب وأنه إذا استحب الإتمام، فإذا لم يتم تكون الإعادة مستحبة أيضاً، ونص أنه والمحارب سواء لا فرق بينهما والمزني رحمه الله اختصر كلام الشافعي وأخل به وأورث شبهة، ونقل عن "الإملاء" أنه يقصر ما لم يجمع مكثاً، ولم يقتصر الشافعي على هذا، بل قال: أو يجاوز مقامه مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلم ينقله المزني. وقال أبو حامد: أسقط المزني قول الشافعي: أحببت أن يتم فنقل أنه يتم، ومن أصحابنا من قال: ما نقل المزني صحيح وذكر في موضع آخر في كتاب استقبال القبلة

من "الأم": أنه إذا كان محارباً أو خائفاً مقيماً في موضع سفر قصر ثمانية عشر، فإذا جاوزها أتم، وإذاً كان غير خائف قصر أربعة فإذا جاوزها أتم، وهذا مثل ما نقله المزني، ويحتمل أن يكون قوله في "الأم": أحببت خطأ القلم من أوجبت، لأنه في الموضع الذي يستحب القصر لا يأمر بالإعادة إذا أتم فعلى هذا لا يقصر فيما زاد على الأربعة قولا واحداً، أو هذا ضعيف. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لم يقل الشافعي يقصر أبداً كما في الحرب في أحد القولين بل أراد أن [53 أ / 3] الحرب كالأمن في أن لا يزيد فيها القصر على أربعة أيام، فهو يشبه الحرب بالأمن لا الأمن بالحرب، واحتجاج المزني رحمه الله بما روى ابن عمر رضي الله عنهما في أذربيجان أنه يقصر أبداً غلط، لأن أذربيجان هي بلاد كثيرة، فيجوز أن يكون أقام في كل بلد منها دون مدة المقام، وهكذا الجواب إن احتج بما روي أن مسور بن مخرمة أقام بفارس سنتين يقصر الصلاة، وهذا غلط لما ذكرنا من النص الصريح. وقيل فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يقصر أبداً وبه قال أبو حنيفة. والثاني: يقصر إلى سبعة عشر. والثالث: لا يقصر فيما زاد على الأربعة بحال. فأما إذا تيقن أنه لا تنتجز حاجته في أقل من أربعة أيام لا يجوز له القصر عندنا قولاً واحداً، وأما المحارب وهو من كان مقيماً على حرب أو مستعداً للحرب أو خائفاً من حرب، فلا يخلو إما أن ينوي مقاماً معلوماً أو لا ينوي، فإن نوى مقاماً مدة معلومة، فإن قصرت عن أربعة كان له القصر كالتاجر سواء: وقال في "القديم": فيه قولان أحدهما: هذا، والثاني: له القصر أبدأ وبه قال أبو حنيفة _ رحمه الله _، وهو اختيار المزني رحمه [53 ب / 3] الله لأن المحارب لا تصح نيته وعزمه لأنه مقيم على الحرب فربما هزم وربما هزم ولا اختيار له في ذلك، وروي أن رجلاً سأل ابن عباس فقال: إنا نقرأ ببلاد خراسان فنقيم في الموضع الشهر والشهرين، أفأقصر الصلاة؟ فقال: اقصر ولو إلى عشر سنين. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر أربعين يوماً يصلي ركعتين، وظاهر المذهب الأول؛ لأنه نوى مقام أربعة أيام، وما ذكروا من التجويز يجوز أيضاً في حق من أقام على نجز حاجة من غير حرب، وان لم ينو مقاماً ولكنه يتوقع انقضاء الحرب ويريد الانصراف متى ينقضي، فله القصر إلى سبعة عشر يوماً، أو ثمانية عشر يومأ: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام هذه المدة بمكة عام الفتح مستعداً لحرب هوزان يقصر، وقد اختلفت الأخبار في هذا، فروى أنس رضي الله عنه أنه أقام عشرة أيام، وروى عمران بن حصين رضي الله عنه أنه أقام سبعة عشر، وروى ابن عباس رضي الله عنهما

أنه أقام ثمانية عشر، وروى جابر رضي الله عنه عشرين يوماً، ولم يصحح الشافعي رحمه الله خبر أنس، والأصح أنه كان [54 أ / 3] ثمانية عشر يوماً، وجابر رضي الله عنه حسب فيه يوم الدخول ويوم الخروج فصار عشرين يوماً، فإن زاد على ذلك نص في "الأم" على قولين، وقال فيه القول الأول أولى أن لا يقصر زيادة على ما ذكرنا، وهذا لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحرب هوزان ثمانية عشر يوماً يقصر الصلاة، فمن أقام أكثر من ذلك فليتم، واختار المزني القول الثاني، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه ثلاثة أقوال أيضاً على ما ذكرنا وهو ضعيف بعيد، فإذا تقرر هذا فاعلم أن في هذا الفصل إشكالاً وهو أن الشافعي جعل أربعة أيام في مباشرة الإقامة حداً لجواز القصر فيها حين قال: فإذا جاوز أربعة أتم، وقيل: هذا بعد أربعة بنية الإقامة حداً لوجوب الإتمام، فيحتاج إلى الجمع بين هذين النصين لئلاً يتناقضا. ووجه الجمع ما ذكره القفال رحمه الله، وهو أنه أراد بذكر أربعة أيام في مباشرة الإقامة مع يومي الدخول والخروج، وأما في نية الإقامة أراد فيه مقام أربعة أيام سوى يوم الدخول والخروج فهما متفقان من هذا الوجه [54 ب / 3]. فرع لو نوى أن يقيم في بلد يوماً، ونوى أنه إن بقي فيه ثلاثاً أقام أربعة أيام فإنه يقصر في ذلك اليوم حتى يلقاه؟ لأنه قبل أن يلقاه لم يحصل منه نية مقام أربعة أيام ولا فعله، فإذا لقيه لم يجز له القصر، وكذلك لو نوى الخروج إلى سفر طويل، ثم بعل مفارقة العمران قال: إن لقيت فلاناً انصرفت فلما لم تلقه لا تنقطع رخصته، فإذا لقيه صار كالمقيم في موضعه بنيته السابقة، وقال القفال رحمه الله: وكذلك لو قال: إن دخلت بلدة في وسط الطريق أقمت هناك أربعة أيام، فما لم يدخلها لا يصير مقيماً، وإن كان من بلده إلى هناك أقل من مسافة القصر. وقيل فيه وجهان: وليس بشيء فإنه خلاف المنصوص. ولو خرج في الابتداء يريد لقاء فلان أو أتى عبداً له أو ضالة ببلد يقصر فيه الصلاة، فقال: إن تنجزت الحاجة دون البلد رجعت، لم يكن له القصر حتى تكون نيته بلوغ البلد الذي يقصر فيه الصلاة، أو تيقن أنه لا تنتجز حاجته ما لم يخرج ستة عشر فرسخاً، وهذا لأنه لم يقطع بنيته سفراً يستباح فيه القصر فتفرق بين الابتداء والانتهاء في هذه النية نص عليه، ولو [55 أ / 3] أقام في بلد أربعة بعده على ما بينا. فرع لو قصد السفر إلى البلد الذي فيه العبد الآبق، وهي مسافة القصر، ثم في أثناء الطريق قال: إن استقبلني العبد في الطريق رجعت، فإلى وقت تغيير النية له أن يقصر

وبعد تغيير النية، هل له أن يقصرها؟ فيه وجهان كما ذكرنا فيمن أنشأ سفراً مباحاً، ثم أحدث نية المعصية. فرع الأسير في أيدي الكفار إذا سافر معهم، فإن كان يعرف مقصدهم وقصد الخروج معهم إلى مقصدهم له أن يترخص، وإن كان على عزم الانصراف متى قدر على التخلص فلا يترخص، وإن كان لا يعرف مقصدهم ففي الحال لا يترخص، فإذا ساروا به أكثر من مرحلتين. حكي عن الشافعي رحمه الله أنه قال: له أن يقصر لأنه تيقن طول سفره، وقال: العبد الآبق إذا قصد رده أنه لا يترخص، لأن القصد في الابتداء ما وجد. قال أصحابنا: فتكون المسألتان على قولين، ونظيره ما لو باع مال أبيه على تقديم أنه حي وكان ميتاً هل يجوز؟ فيه قولان. فَرْعٌ آخرُ لو سافر من مكة إلى المدينة وله فيما بين مكة والمدينة مال أو ماشية فنزل لشيء من ماله كان له أن يقصر ما لم [55 ب / 3] يجمع مقام أربعة أيام وكذلك إن كان له ذو قرابة أو أصهاراً وزوجة، ولم ينو المقام قصر إن شاء، نص عليه في "الأم" خلافاً لأبي حنيفة، واحتج بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج إلى الحج وأصحابه معه ونزلوا مكة في دورهم وعلى أقاربهم وكانوا يقصرون الصلاة، وكذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما حج قصر هذا. فَرْعٌ آخرُ قال: لو خرج من بلده يريد بلداً والمقام فيه أربعة أيام فصاعداً، ثم الخروج منه إلى بلد أخر فهما مفران مختلفان، فإن كان كل واحد منهما يقصر فيه الصلاة قصر، وان كان لا يقصر في واحد منهما الصلاة لم يقصر، وإن كان يقصر في إحداهما دون الآخر قصر فيما يقصر ولم يقصر فيما لا تقصر، ولو رجع من البلد الأقصى إلى بلا كان بينهما أو بلدة فإن لم يكن إليه مسافة القصر أتم وإلا قصر. فَرْعٌ آخرُ لو أقام في المراسي في البحر، وهي: المواضع التي تحبس فيها السفن أو الجزائر فهي كالمقام في البر لا تختلف، فإن أزمع مقام أربعة أتم، وإن لم يزمع قصر على ما بيناه. فَرْعٌ آخرُ قال: لو حبسه الريح في البحر ولم يزمع مقام أربعة إلا ليجد السبيل إلى الخروج [56 أ / 3] بالريح، قصر ما بينه وبين الأربعة، فإذا مضت أربعة كما وصفت في

الاختيار، وإذا أتيت به مسيرة قصر يعني سار إلى مكانه الذي قصده، وإن ردته الريح إلى ذلك المكان فهو على القصر ما لم يجمع مقام أربعة، وهذا يدل على أنه لو نوى هناك مقام أربعة انقطع القصر. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا نوى الإقامة في موضع لا يصلح للإقامة كالبحر والمفازة هل يصر مقيماً؟ قولان كما لو نوى الإقامة في الحرب. وعند أبي حنيفة رحمه الله لا يصير مقيماً وهذا غلط عندي؟ لأن الخبر ورد في الحرب دون هذا، ولأن هناك هو على الخطر من الإقامة فإنه ربما يغلبه العدو فيطرده فلا تتحقق الإقامة وهذا لا يوجد في غير الحرب. فَرْعٌ آخرُ قال: لو كان الرجل مالكاً للسفينة وفيها منزله وأهله وأولاده معه، أو لا أهل معه فيها، فأحب إلي أن يتم، وان كان الأحب للمسافر القصر، لأن هذا يسير، ومنزله معه يسير، فإن قصر جاز، وهو فيها كالغريب يتكاراها لا يختلفان. وقال أحمد رحمه الله: لا يجوز له القصر، لأنه مقيم فيمكنه وماله وهذا غلط للظواهر الواردة في القصر، ولأن كون أهله [56 ب / 3] وماله معه لا يمنع الترخص كالجمال. فَرْعٌ آخرُ قال: ولو كان الرجل من أهل البادية لا مال له ولا دار يصير إليها، وإنما هو سيارة تتبع مواقع القطر، فكلما شام برقاً انتجعه، فإن استيقين أنه بينهما ما تقصر فيه الصلاة وكانت نيته أنه إن مر بموضع مخصب أو موافق له في النزول أن ينزل لم يقصر. فَرْعٌ آخرُ قال في "البويطي": لو خرجوا من البلد وأقاموا في موضع حتى يجتمعوا أو يخرجوا، لم يجز لهم القصر لأنهم قطعوا بالسفر. فَرْعٌ آخرُ لو كان على مسافة تقصر الصلاة بينها إلى مكة فخرج حاجاً كان له القصر حتى يدخلها، فإذا دخل ولم ينو المقام بها قصر أيضاً، وإن نوى مقام أربعة أتم، ثم إذا خرج منها إلى عرفة يريد قضاء النسك نظر، فإن نوى مقام أربعة إذا رجع أتم بعرفة ومنى، وإن لم ينو المقام إلى أن يرجع من حيث جاء فله القصر، فإن قيل: عندكم من سافر إلى بلد تقصر الصلاة إليه فدخل بنيان ذلك البلد انقطع القصر، وقد سافر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة وقدمها فلم يزل يقصر فيها. قلنا: كان قصده - صلى الله عليه وسلم - قضاء النسك لا المقام لها فدخل مكة اليوم الرابع من [57 أ / 3] ذي الحجة، وخرج إلى منى اليوم الثامن وحج، وعاد إلى منى اليوم العاشر، فأقام بها ثلاثاً، ثم قدم قاصداً مكة ليلة الرابع فنزل بالمخصب، ثم دخل مكة وطاف وانصرف فما أقام بها مدة لا يقصر فيها الصلاة، فهو بمنزلة ما لو خرج إلى بلد في رسالة، فإن له القصر حتى يعود وليس عليه

الإتمام بوصوله إلى ذلك البلد. فَرْعٌ آخرُ قال: لو خرج إلى مكة والياً عليها وعلى الحج قصر حتى ينتهي إلى مكة، ثم أتم بها وبعرفة ومنى، لأنه انتهى إلى بلدة مقامه ما لم يعزل، فإذا عزل لم يقصر حتى يخرج منها مسافراً. فَرْعٌ آخرُ قال: لو ولي بلاداً كثيرة ونيته المقام ببلدة منها كان له القصر في كل بلد دخله من ولايته ما لم ينو المقام فيه، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج في أسفاره ويمر ببلاد الإسلام وأهلها وأهل طاعته فما أتم في شيء منها. فَرْعٌ آخرُ لو خرج من مكة يريد المدينة فنوى المقام بعسفان أو عدل عنها إلى موضح يقيم فيه أو يتعرف الأخبار فيه، كان كمن هو من أهل عسفان؟ لأنه قد قطع سفره الأول، فإلى أي موضع سافر من عسفان راجعاً إلى مكة أو غيرها، فإن كان [57 ب / 3] سفراً يقصر فيه الصلاة قصر وإلا أتم. فَرْعٌ آخرُ قال: لو نوى مقام أربعة في موضع ومعه من نوى هذه النية غير أن مذهبه أن يقصر مع هذه النية. قال في "الإملاء": كرهت له أن يأتم بهذا الذي لا يتم، فإن خالف وائتم به نظر، فإن أتم إمامه فذاك، وان سلم من اثنتين قام هو فأتم أربعاً، وهذا لأنه محكوم بجواز صلاته خلفه، قلت: لا شك أنه ينوي القصر عند إحرامه، وعندنا من نوى القصر وليس له القصر تبطل صلاته فلا تجوز الصلاة خلفه على قياس قول الشافعي، ويمكن أن يقال: إذا جاز هاهنا تجوز الصلاة خلف الحنفي، وإن ترك الأركان؛ لأنه محكوم بجواز صلاته في نفسه ويمكن أن يقال: إذا نوى القصر لا تبطل صلاته بل تنعقد نفلاً على وجه، فحينئذ تجوز الصلاة خلفه وهذا أشبه. مسألة: قال: وإن خرج في أخر وقت الصلاة قصر. الفصل وهذا كما قال. الكلام الآن في وقت إنشاء السفر، وفيه ست مسائل: أحدها: أن يسافر قبل الزوال، ثم زالت الشمس وهو في السفر. والثانية: أن يسافر بعد الزوال نظر، فإن [58 أ / 3] كان القدر الذي مضى من الوقت، ما يصلي فيه أربع ركعات قصر. وقال المزني رحمه الله لا يقصر لأن الشافعي رحمه الله، قال: إن أمكنت امرأة الصلاة فلم تصل حتى حاضت لزمتها، وهذا لأن الصلاة عنده تجب بأول الوقت والإمكان فهذا أشبه بقوله: قلنا خرج ابن سريج رحمه الله هاهنا وجهاً أنها تسقط بالحيض أيضاً.

وقال بعض أصحابنا بخراسان: في كلتا المسألتين، قولان وهذا غلط، والجواب أنا لا نقول إن الصلاة تجب بأول الوقت من حيث لا تأثير لآخره في الوجوب، بل الصلاة تجب بقدر ما أدرك من الوقت، فإن أدرك الأول دون الآخر وجبت بالأول، وإن أدرك الآخر دون الأول وجبت بالآخر، وان أدرك جميع الوقت، فالوجوب وفق الأول فلا يؤدي الصلاة في جز، من أجزاء الوقت إلا وقد أداها في وقت وجوبها، فيصير قاضياً إذا أداها، فبان صحة ما قلناه؛ وأيضاً بالسفر يتعلق تخفيف الفرض دون إسقاطه، فإذا حققنا عنه بعد لمكان فعلها لعارض السفر لم يؤد ذلك إلى إخلاء أول الوقت من الوجوب، وإذا أسقطنا لعارض الحيض أو الجنون أدى [58 ب / 3] إلى إخلاء أول الوقت من الوجوب. وقال القفال رحمه الله: هذا شيء يختاره المزني على أصل الشافعي لأن مذهبه أنه لو فاتته صلاة في الحضر، ثم أداها في السفر، فإنه يقصر فاعتبر وقت القضاء وهذا هو مذهب تفرد به، وفي هذا عندي نظر. والثالثة: أن يسافر وقد بقي من الوقت مقدار ما يصلي فيه أربع ركعات يجوز له القصر أيضاً. وقال المزني وأبو الطيب بن سلمة رحمهما الله صاحب بن سريج: لا يجوز له القصر؛ لأنه قد تعين صلاة الحضر، وهذا غلط؟ لأنه لم يتضيق وقتها في حال الإقامة، فإذا لم يتضيق لم يتعين فعلها مقيماً فجاز له القصر. والرابعة: أن يسافر وقد بقي من الوقت ما لا يمكنه أن يصلي فيه أربع ركعات. نص الشافعي في "الإملاء" في هذه المسألة أن له القصر حكاه القافي الطبري، وقال القاضي أبو علي البندنيجي: نص عليه في "الأم" في باب تفريع السفر. وقال في "الحاوي": المنصوص في غير "الإملاء"، وبه قال عامة أصحابنا إنه لا يقصرها لعدم الأداء في جميعها ففي المسألة قولان، واختيار أبي إسحاق أنه لا يقصر، واختيار ابن خيران أنه [59 أ / 3] يقصر واستدل بأن الصلاة قد تجب بآخر الوقت في أصحاب العذر كوجوبها في أوله، فاقتضى أن يستويان في جواز القصر، وهذا مبني في الحقيقة على أنه يكون مؤدياً لكلها ومؤدياً لبعضها قاضياً لبعضها وقد بينا هذا فيما مضى، وظاهر المذهب ما ذكره ابن خيران. والخامسة: أن يسافر وقد بقي من الوقت ما يصلي فيه ركعتين، فالمذهب أن المسألة على قولين. وحكى الداركي عن أبي هريرة أنه يجوز له القصر هاهنا قولاً واحداً، لأنه إذا قصرها أدى جميع الصلاة في وقتها، وهذا غلط لما بيناه. والسادسة: أنه يسافر وقد بقي من الوقت مقدار تكبيرة وما دون ركعة يلزمه الإتمام بلا خلاف. مسألة: قال: وليس له أن يصلي ركعتين في السفر إلا أن ينوي القصر مع الإحرام.

وهذا كما قال. قصد به الرد على أبي حنيفة حيث قال: صلاة المسافر ركعتان ولا حاجة إلى نية القصر، لأنه عزيمة وعندنا رخصة لا تثبت له إلا بالنية، وأصل فرضه أربع، ثم احتج على أن أصل فرضه أربعء فإنه لو كان فرضه ركعتين ما صلى مسافر خلف مقيم يعني أربعاً، وذكره الشافعي وأسقط المزني، ثم اعترض عليه المزني وقال: ليس [59 ب / 3] هذا بحجة وكيف يكون حجة وهو يجيز صلاة فريضة خلف نافلة وليست النافلة فريضة ولا بعض فريضة وركعتا المسافر فرض، وفي الأربع مثل الركعتين فرض فالجواب عن هذا الاعتراض من وجهين: أحدهما: أن الخلل وقع من الاختصار، لأن الشافعي رحمه الله قال: ما صلى أربعاً وأراد أن ركعات الصلاة في الأمل لا تزيد بسبب الاقتداء فلما، أجمعنا أن المسافر يصلي خلفه المقيم أربعاً دل ذلك أن أصل فرضه أربع وهذا دليل قوي. والثاني: أن الشافعي رحمه الله ألزمه على أصل أبي حنيفة رحمه الله أن اختلاف صلاتي المأموم والإمام تمنع صحة الاقتداء، ثم لم يمنع في هذا الموضع فدل أن أصل صلاتهما واحد. وقال المزني رحمه الله: نية القصر شرط ولكن يجوز في أثنائها، ولو نوى مع سلامه جاز، وان سلم غير ناو كمن ملم في صلاته ساهياً فتم. وهذا غلط، لأن كل صلاة تفتقر إلى النية فمحل تلك النية الإحرام. وقال المزني: يجوز له القصر، وان نوى الإتمام كما جاز له أن يفطر، وإن نوى الصوم وهذا غلط، لأن الفطر مضمون بالقضاء فلم يتحتم الصوم بدخوله [60 أ / 3] فيه بخلاف القصر. وقال الشعبي وطاوس رحمهما الله: لا يلزم الإتمام بالصلاة خلف مقيم، وبه قال إسحاق، وقال مالك رحمه الله: إن نوى الإمام والمأموم القصر ثم نوى الإمام الإقامة أو الإتمام لا يلزم المأموم الإتمام وهذا غلط؛ لأنه مؤتم بمتم فلا يجوز له القصر، كما لو نوى الجمعة خلف من يصلي الظهر. فرع لو أراد أن يصلي الظهر قصراً خلف من يصلي الجمعة لم يكن له ذلك، لأنه مؤتم بمقيم نص عليه في "الإملاء". فَرْعٌ آخرُ لو فاتته صلاة في السفر فقضاها في الحضر، وقلنا له: قصرها في قول فأراد أن يؤديها خلف من يصلي الصبح قصراً لا يجوز؛ لأنه مؤتم بمقيم. ولو صلى مسافر بأهل البلد الجمعة فدخل معه مسافر ينوي صلاة الظهر قصراً لم يجز وعليه الإتمام؛ لأن

الإمام وإن كان مسافراً إلا أنه يصلي صلاة المقيم. جملته أن كل من ائتم بمقيم أو يتم لا يجوز له القصر. وقال بعض أصحابنا: فيه وجه آخر يجوز إذا قلنا: الجمعة هي ظهر مقصور، وهذا غلط ظاهر. فَرْعٌ آخرُ لو نوى الإتمام، ثم خرج منها لم يجز له القصر بعده خلافاً للمغربي، وكذلك [60 ب / 3] إذا أحرم مطلقاً ثم أفسدها لأنه التزم الأربع فلا يسقط بعده. فَرْعٌ آخرُ لو شك أنه نوى عند افتتاحها الإتمام أو القصر فعليه الإتمام، لأنه شك في شرط الجواز والأصل عدمه، فإن تذكر بعده أنه نوى القصر فعليه الإتمام أيضا، لأنه وجب عليه الإتمام في حال فلا يجوز القصر بعده بحال. فَرْعٌ آخرُ لو جهل رجل القصر فقصر ظناً أن ليس له ذلك أعاد كل صلاة تامة قصرها؛ لأنه صلى ركعتين وعنده أن ذلك لا يجزيه، ولو أتم في السفر وهو جاهل بالقصر فلا إشكال أنه يجوز. فَرْعٌ آخرُ أنه لو أدرك تكبيرة من صلاة المقيم أتمها أربعاً، وبه قال أبو حنيفة والأوزاعي وأحمد وداود رحمهم الله، وقال مالك: إذا أدرك ركعة من صلاته أتمها، وإلا قصر، وهذا غلط لما روي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم أنهما قالا: إذا دخل المسافر في صلاة المقيمين صلى بصلاتهم، وروي أنه سئل ابن عباس فقيل له: ما بال المسافر يصلي ركعتين في حال الانفراد وأربعاً إذا ائتم بمقيم؟ فقال: تلك السنة وهذا بمنزلة الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأن [61 أ / 3] هذه الصلاة مردودة من الأربع فلا يصليها خلفه من يصلي الأربع كالجمعة، واحتج مالك رحمه الله بأن من أدرك دون الركعة هن الجمعة لا تصح جمعته كذلك هاهنا قلنا: لأن بذاك يرجع من أربح إلى ركعتين فلا يحصل له بدون ذلك وهاهنا خلافه. مسألة: قال: وإن نسي صلاة وهو في سفر فذكرها في حضر. الفصل وهذا كما قال: إذا ترك صلاة حتى خرج وقتها لا يخلو إما أن يكون تركها في حضر فذكرها في حضر، أو تركها في سفر فذكرها في سفر، فأما إذا تركها في الحضر فذكرها في الحضر، فإنه يأتي بها تامة سواء تخلل بين الوقتين سفر أو لم يتخلل؛ لأن

العذر لم يوجد في وقت استقرارها ولا أدائها. وأما إذا تركها في السفر تذكرها في الحضر فقال في "القديم" و "الإملاء": يجوز له قصرها، وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري إلا أنهم قالوا: يتحتم عليه القصر، وعندنا على هذا القول هو بالخيار بين القصر والإتمام، وروي هذا عن الحسن وحماد، وهذا لأن القضاء معتبر بالأداء ويجزيه في الأداء ركعتان فكذلك في القضاء. وقال في "الأم": لا يجوز له قصرها وبه قال [61 ب / 3] الأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور والمزني رحمهم الله: لأن القصر رخصة، فإذا زال السفر قبل الترخص بطلت الرخصة كما لو قدم قبل أن يفطر، وأما ما ذكر القائل الأول فإنه تبطل بالجمعة إذا تركها لا يؤديها ركعتين. وأما إذا شرطها في الحضر، ثم ذكرها في السفر فإنه يأتي بها تامة: لأن صلاة الحضر قد استقرت في ذمته بفوات وقتها في الحضر فلا يجوز إسقاط شيء منها. وروى الأشعث عن الحسن البصري: أن الاعتبار فيها بحالة الفصل فيصلي ركعتين، وروى يونس عنه أن الاعتبار بحال الترك. وقال القاضي الطبري رحمه الله: رأيت للمزني في مسائله المعتبرة على الشافعي رحمه الله أنه نقص، واحتج عليه بأنه لو ترك صلاة وهو صحيح، ثم ذكرها وهو مريض بأنه يصلي صلاة المريض قاعداً كذلك هاهنا، ولأنه لو أفطر في رمضان، ثم شرع في قضائه في السفر فهو بالخيار إن شاء أتم وان شاء أفطر فكذلك هاهنا. قلنا: أما الأول نصفه الفصل يخالف عدد الركعات، لأنها تسقط بالعجز والعدد يسقط رخصته لا بالعجز، ولم يوجد سبب الرخصة وقت الاستقرار، ولأنه [62 أ / 3] إذا لم يأت بها على حسب حاله مريضاً أدى إلى تأخيرها وفي ذلك تقرير بها، وهاهنا الإتمام ممكن في الحال، وأما ما ذكر ثانياً، قلنا: قال أبو إسحاق: إن ترك الصوم في الحضر بلا عذر، ثم أراد قضاءه في السفر انحتم عليه، لأن الأصل في الحضر كان منحتما فكذلك القضاء، وان كان تركه للعذر ثم أراد أن يقضيه في السفر كان له الخيار في القضاء إن شاء أتم، وعلى هذا أكثر أصحابنا، ومن أصحابنا من قال: تثبت له رخصة الإفطار في القضاء سواء كان أفطر لعذر، أو لغير عذر، والفرق أن الصوم يتركه إلى بدل بخلاف الركعتين فإنه يتركهما لا إلى بدل، وكان أغلظ، ولهذا يقول: إذا أصبح في السفر ناوياً للصوم، ثم أراد الفطر له ذلك، ولو أحرم بالصلاة ينوي الإتمام ثم أراد القصر ليس له ذلك فإن قيل: أليس من وجبت عليه الكفارة ثم اعتبر جاز له العدول إلى الصوم اعتباراً بحالة الأداء، يقولوا: مثله هناء قلنا: لا نسلم على أحد الأقوال، وإن سلمنا فلأن الكفارة لا تقضى بل تؤدى أبدأ أو هاهنا بخلافه، وأيضاً فإن ملك حالة عجز فهي بمنزلة المريض في [62 ب / 3] حالة القضاء بخلاف هذا، فأما إذا

تركها في السفر، ثم ذكرها في السفر هذا السفر أو غيره. قال في "الإملاء" و"القديم": له القصر وهو الصحيح عندي، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنها صلاة تؤدى وتقضى، فكان قضاؤها مثل أدائها كالصبح، وأيضاً هذا تخفيف تعلق بعذر والعذر باق فكان التخفيف باقياً، كالقعود في صلاة المريض، وقال في "الأم": ليس له القصر، لأنها صلاة ردت إلى ركعتين فكان من شرطها الوقت كالجمعة، وهذا اختيار مشايخ خراسان، قالوا: وهذا ظاهر المذهب؛ لأن الشافعي رحمه الله علل بأن علة القصر الوقت والسفر، وقال أبو حامد: لا أعرف هذا القول وليس كذلك لأن المسألة مشهورة بالقولين. فرع لو تخلل الحضر بين السفرين، فإن قلنا في المسألة الأولى: إنه لا يقصر فهاهنا أولى، وان قلنا هناك يقصر فهاهنا وجهان. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هاهنا لا يقصر قولاً واحداً، لأن في كل حالة عليه تكليف القضاء، فإذا لم يقض صار كأنه تركها في تلك الحالة، ولو تركها في الإقامة ثم سافر أتم، وهذا كما لو غصب شيئاً قيمته ألف فبلغت قيمته ألفين ثم [63 أ / 3] تلف يلزم ألفان، لأنه مخاطب في كل حالة برد المغصوب، فكأنه غصبه في تلك الحالة وهذا أقيس، والمسألة مشهورة بالقولين هاهنا أيضاً من غير فرق. فرع لو سافر وقد بقي من الوقت ما يصلي فيه يجوز له القصر، فلو لم يصل حتى خرج هل له القصر؟ فيه قولان: بناء على ما ذكرنا. فَرْعٌ آخرُ لو لم يصل في السفر في وقتها حتى دخل الحضر وبقي من الوقت مقدار ما يصلي فيه وجب عليه الإتمام بلا خلاف، ولا يكون بمنزلة فوات الصلاة وكذلك إذا بقي من وقتها مقدار ركعة في الحضر، ولم يصل حتى فات وقتها. فَرْعٌ آخرُ لو أخر المسافر صلاة الظهر إلى وقت العصر بنية الجمع كان له أن يقصرهما في وقت القصر قولاً واحداً، لأن وقت القصر وقت الظهر في السفر وهو مؤد للصلاتين فيه، وإن أخرها من غير نية الجمع ففي القصر الظهر قولان؛ لأنه يصير بترك نية الجمع قافيا عامياً. مسألة: قال: وإن أحرم ينوي القصر، ثم نوى المقام أتم أربعاً ومن خلفه من المسافرين.

وهذا كما قال: هذه صورة صلاة يكون في ابتدائها مسافراً وفي آخرها مقيماً، فإذا أحرم [63 ب / 3] بالصلاة بنية القصر، ثم نوى في الصلاة أن يقيم في ذلك الموضع أربعة أيام فصاعداً لم يجز له القصر، لأنه اجتمع له المقام مع النية، فإن قيل: أليس لو كان مقيماً فنوى السفر لا يصير مسافراً بمجرد النية فيجب أن لا يصر مقيماً لمجرد النية؟ قلنا: الفرق هو أن نية الإقامة قد وجدت مع نقل الإقامة وهو اللبث، ونية السفر لم توجد مع السفر، ولو نوى السفر وسار مع النية صار مسافراً، ووزانه من مسألتنا أن ينوي الإقامة وهو سائر في سفره غير ماكث لا يصير مقيماً، ونظير هذه المسألة إذا نوى القينة في مال التجارة يصير للقينة، ولو نوى التجارة في مال القينة فإنه لا يصير للتجارة ما لم يتجر، فإن قيل: ألا قلتم وجود الإقامة في أثناء الصلاة لا يوجب إتمامها حيث مع الدخول فيها مقصورة، كما قلتم في المتيمم: إذا رأى الماء في صلاته لا تبطل صلاته. قلنا: الفرق هو أن المتيمم وجب عليه الدخول في الصلاة عند عدم الماء وهذا رخص له، فإذا زال سبب الرخصة سقطتء ولأن المتيمم إذا وجب عليه استعمال الماء بطل ما عمله بالتيمم، وها هنا يتمم الصلاة ويبني على ما فعله. وقال مالك رحمه [64 أ / 3] الله: لا يبني عليها فإن كان قد صلى ركعة بسجدتيها أتمها ركعتين نافلة ويستأنف الفريضة، وهذا غلط؛ لأنهما صلاة واحدة ولا تختلف بينهما إلا من جهة العدد، فإذا نواها ركعتين جاز له أن يجعلها أربعاً كالنافلة، وإن كان إماماً وخلفه مسافرون في هذه المسألة يلزمهم أن يتموا أيضاً، وإذا أرادوا الإتمام بنوا على ما فعلوا ولا تبطل صلاتهم وقد ذكرنا عن مالك أنه قال: هم يقصرون، وكذلك لو نوى الإتمام فإنه يلزمه الإتمام وعليهم أن يتموا. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يقصر هو ويقصرون لأنه لا تأثير لنية الإتمام عنده في الصلاة في السفر، فإن قيل: أليس لو نوى الإتمام لا يجوز له القصر بعده، فكذلك إذا نوى القصر لا يجوز له الإتمام؟ قلنا: لأنه إذا نوى الإتمام ترك الترخص، ونوى الصلاة الكاملة وهاهنا نوى الترخص، ثم ترك الرخصة والتزم التامة فلا يجوز له النقصان. فرع لو أحرم مسافراً بصلاة نوى القصر فيها فصلى أربعاً تجزيه ويسجد للسهو [64 ب / 3] ولو تعمد ذلك بنية الإتمام لم يجد، وهذا فرع غريب! لأن الزيادة التي توجب سجدة السهو إذا تعمدها أفسدت الصلاة، وهاهنا السهو يوجب السجود والعمد لا يبطل. وقال بعض أصحاب مالك: لا تجزيه لأن هذا السهو عمل كثير، وهذا غلط لأن هذا من جنس الصلاة فلا يبطلها كما لو صلى خامسة. فَرْعٌ آخرُ لو نوى القصر، ثم صلى أربعاً عامداً من غير نية الإتمام بطلت صلاته كمن صلى الصبح أربعاً عامداً.

فرع لو سهى فصلى أربعاً، فلما بلغ أخر صلاته تذكر فعليه أن يلغي الزيادة ويرجع إلى تشهد الركعة الثانية، ويسجد للسهو. فلو قال في نفسه: كان لي أن أتم جميع ما فعلت محسوباً، قلنا: عليك أن تقوم فتصلي ركعتين أخرتين؛ لأن الوسطين لغو وأنت قد نويت الإتمام قبل السلام، ولم يكن حصل لك محسوباً إلا ركعتان فزد ركعتين واسجد للسهو. مسألة: قال: ولو أحرم في مركبٍ ثم نوى السفر لم يكن له أن يقصر. وهذا كما قال، وأراد بالمركب السفينة، ولا يتصور السفر في خلال الصلاة الآن [65 أ / 3] من هذا الوجه، لأنه بمجرد النية لا يصير مسافراً كما يصير لمجرد النية مقيماً، فإذا أحرم فيها والفينة قائمة، ثم نوى السفر وسارت السفينة لا يجوز له القصر؛ لأن العبادة إذا اشترك فيها السفر والإقامة ابتنى حكمها على الإقامة، وهكذا لو أحرم بها وهو مسافر بنية القصر ثم دخل المركب البلد الذي يريده قبل أن يفرغ من الصلاة. مسألة: قال: "وإن أحرم خلف مقيم أو خلف من لا يدري فأحدث الإمام كان على المسافر خلف المقيم يلزمه إتمام الصلاة". ولو صلى خلف من لا يدري أهو مسافر أو مقيم يلزمه الإتمام أيضاً؛ لأن الأصل الإقامة والسفر طارئ، ثم إذا تبعه وكان الإمام مسافراً وقد نوى القصر فسلم عن ركعتين قام هو وأتم صلاته أربعاً، ولو علم أن الإمام مسافراً ولكنه شك هل نوى القصر أم الإتمام؟، فإن له أن يصلي خلفه وينوي القصر إن قصر الإمام قولاً واحداً، وفي كيفية نية القصر عند افتتاح الصلاة اختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: يحرم بنت القصر قطعا، ثم ينظر في حال الإمام فإن قصر قصر معه، وإن أتم أتم [65 ب / 3] ولا يضره ما تقدم من نية القصر لأن تغيير نية القصر إلى الإتمام جائزة، فإن علق نيته، وقال: إن قصر الإمام قصرت، وان أتم أتمت لا تجوز الصلاة، لأن الدخول في الصلاة بنية معلقة لا يجوز، ألا ترى أنه لو نسي الظهر أو العصر، ولا يدري عينها لم يجز له أن يحرم بها بنية معلقة، فنقول: إن كانت المنسية ظهراً فهذه ظهر، وان كانت المنسية عصراً فهذه عصر، ولو قطع النية بإحدى الصلاتين، ثم ذكر أنها هي المنسية أجزأته أيضا: لأنه إن قطع النية فهي في الحقيقة معلقة، لأنه إن أتم الصلاة لزمه الإتمام، إن قصر جاز له القصر فجاز له التعلق. ونظير هذه المسألة أن يخرج خمسة دراهم فنقول: إن كان مالي الغائب سالماً فهذا زكاته، وإن لم يكن سالماً فهو نافلة يجوز، فإن قيل: ما الفرق بين أن يجهل حال الإمام. فلا يدري أمقيم هو أو مسافر؟ فلا يجوز له أن ينوي القصر خلفه وبين أن يعلم أنه مسافر

ويجهل حاله أنه نوى القصر أو الإتمام. فيجوز له أن ينوي القصر خلفه، وقول الشافعي رحمه الله أو خلف من [66 أ / 3] لا يدري أراد به المسألة الأولى دون الثانية. والفرق: أنه إذا علم أنه مسافر فالظاهر من حاله القصر؛ لأنه خائف وهو الأولى وليس كذلك إذا جهد حاله في الأصل، لأن الظاهر أنه مقيم فلا يجوز له القصر، وهذا كما لو شك هل هذا اليوم من رمضان أم لا؟، فإن كان في أول الشهر جاز لم تصح له نية صوم رمضان لأن الأصل أنه من شعبان، وان كان في آخر الشهر فإنه يصح لأن الظاهر له من رمضان؟ لأن الأصل أنه من رمضان حتى يثبت دخول شوال. وأيضاً فإن للمسافر علامات لا تكاد تخفى فيمكن تعرفها، فإذا لم يتعرف اقتدى به على الشك فيلزمه الإتمام والنية غيب لا يوقف عليها، فلو قلنا: إنه لا يجوز القصر إلا أن يتيقن بنية القصر أدى أن لا يمكنه القصر بحال خلف الإمام. فإذا تقرر هذا فلو أحدث هذا الإمام وانصرف فلا يخلو حاله من ثلاثة أحوال: إحداها: أن يعلم أنه كان نوى القصر بأن يخبره فيقصر هو. والثانية: أن يعلم أنه نوى الإتمام أتم هو. والثالثة: أن يشك هل نوى القصر أم الإتمام؟ قال أبو إسحاق رحمه الله: لزمه الإتمام وهو [66 ب / 3] الذي نقله المزني، لأنه شاك في نية إمامه فهو كمن صلى بعض الصلاة، ثم شك هل صلى ثلاثاً أم أربعاً فإنه يلزمه البناء على اليقين، وكما لو شك في نية نفسه هل نوى القصر أم لا؟ وهذا ظاهر المذهب. وقال ابن سريج رحمه الله: يجوز له القصر وغلط المزني رحمه الله في النقل، وإنما أجاب الشافعي رحمه الله بهذا الجواب: إذا أحدث المأموم وانصرف ليتوضأ، وقد نص عليه في كتاب استقبال القبلة فقرر المزني أنه أراد إذا أحاث الإمام. والغرق بينهما أن الإمام إذا أحاث وانصرف، فإن نية الإمام هي فعل باطن لم يكلف المأموم الإحاطة بها فجاز أن يرجع إلى الظاهر، والظاهر من حال المسافر القصر؟ لأنه أقل عملاً وأكثر أجرأ فيقصر هو، وإذا أحدث المأموم وانصرف يمكنه أن يرجع ويتعرف كيف صلى الإمام وهل قصرها أم أتمها؟ لأن عدد الركعات فعل ظاهر يحمل من الإمام، فإذا لم يتعرف كان التفريط من جهته فلزمه الإتمام. فرع لو أحرم خلف من لا يدري أمقيم هو أو سافر؟ فقد ذكرنا أنه يلزمه الإتمام فلو أفسد المأموم صلاته يلزمه أن يقضيها تامة. وقال [67 أ / 3] أبو حنيفة رحمه الله: يجوز له قصرها، لأن الإتمام لزمه الاقتداء فإذا زال الاقتداء سقط حكمه وهذا غلط، لأن هذه العبادة لزمته بالدخول فيها، فإذا أفسدها يلزمه قضاءها على صفتها كالحج.

فَرْعٌ آخرُ لو أن مسافراً أم مسافرين ومقيمين، وكانت نيته القصر فصلى أربعاً ساهياً فقد ذكرنا أنه يسجد للسهو، وأما من خلفه من المسافرين إن نووا إتمام الصلاة لأنفسهم فصلاتهم صحيحة تامة، وإن لم ينووا إتمام الصلاة لأنفسهم إلا أنهم رأوه قد أتم لنفسه فأتموا معه، فإنه يجزيهم أيضاً لا يلزمهم أن يصلوا أربعاً خلف من صلى أربعاً، وان صلوا ركعتين معه على غير شيء من هذه النية وعلى أنه ساهٍ فاتبعوه، ولم يريدوا الإتمام لأنفسهم يلزمهم إعادة الصلاة نص عليه في كتاب استقبال القبلة. فرع لو أحرم مسافر خلف إمام مسافر، وكان الإمام قد نوى الإتمام أو المقام وهو قد نوى القصر ولم يعلم، ثم انكشف أن الإمام كان جنباً، قال ابن القاص في "التلخيص": له القصر؛ لأن صلاة الإمام لم تنعقد فلم ينعقد بها صلاة المأموم قال: وليس على أصلنا مسألة يحرم المسافر خلف المقيم ويجوز [67 ب / 3] له القصر عبر هذه المسألة. فرع لو قام الإمام من اثنتين ساهياً فظن القوم أنه نوى الإتمام فقاموا معهم يلزمهم الإتمام، وإن بان بعد ذلك إن لم يكن نوى الإتمام بل كان ساهياً وليس له أن يسلم عن اثنتين بعدما ظن أنه نوى الإتمام إلا أن يتيقن أنه ساه فيلم ولا يتابع وهذا قلما يعلم. فَرْعٌ آخرُ لو أحرم خلف من ظنه مقيماً مقتدياً به، ثم بان أنه كان مسافراً محدثاً أو غير محدث لم يقصر هذه الصلاة أبداً؛ لأنه التزم الإتمام، وانعقد صلاته خلفه. فَرْعٌ آخرُ لو أن مكياً قصد الخروج إلى منى ثم إلى عرفات، ثم يعود إلى منى ثم إلى مكة ثم إلى بعض الأفاق ولا يقيم في شيء من هذه المواضع أربعة أيام لا يقصر في شيء من هذه المواضع نص عليه؛ لأن المسافات متقاربة ومكة بلد إقامته، ولو قصد الخروج منها إلى موضع يقصر إليه الصلاة ويعود إليها ويفارقها من غير إقامة فيها فدخلها راجعا، فلا شك أن له القصر ذاهباً وراجعاً. وهل له القصر في مكة ما لم يجاوز مقامه فيها أربعة أيام؟ قد ذكرنا نصاً في "الأم": أنه يقصر ولا يصير بالدخول فيها مقيماً. وقال القفال: فيه [68 أ / 3] قولان. وقال بناء على ما مر في سفره ببلد له به أهل ومال، هل يصر مقيماً بدخوله؟ قولان فحصل في المسألة طريقان وهذا غريب. ولو خرج إلى ثمانية فراسخ بنية أن يرجع ليس له أن يقول: ذهابي ورجوعي ستة عشر فرسخاً فلي القصر، بل لا يجوز له القصر

بحال ولا يكون ذهابه ورجوعه كفر واحد في هذا المعنى. فَرْعٌ آخرُ لو شرع في الصلاة بنية الإتمام منفرداً، ثم بان أنه كان محدثاً له القصر؛ لأنه لم يصح شروعه فيها، فكذلك لو دخل فيها في الحضر، ثم بان أنه كان محدثاً، ثم سافر له قصرها لأن دخوله محدثاً فيها في حال الإقامة كلأ دخول. مسألة: قال: وإن رعف وخلفه مسافرون ومقيمون فقدم مقيماً كان على جميعهم والراعف أن يصلوا أربعاً. وهذا كما قال: إذا صلى مسافر بمسافرين ومقيمين فرعف الإمام قبل أن يستكمل ركعتين يقدم مقيماً ليصلي بهم بقية الصلاة. قال الشافعي رحمه الله: يصلون أربعاً، والراعف أيضاً، أما المستخلف فلا شك أنه يصلي أربعاً؛ لأنه مقيم والمسافرون يتمون لأنهم ائتموا بمقيم، وأما الراعف [68 ب / 3] قال الشافعي رحمه الله: يتم، وقال المزني: هذا غلط، بل له أن يصلي ركعتين، لأنه مسافر ولم يأتم بمقيم. واختلف أصحابنا في هذا فقال أبو إسحاق: هذا بناه على قوله "القديم": إنه يبني على صلاته إذا غسل الدم، وهذا مذهبه في "الإملاء". من "الجايد"، وقد غسل الدم وأتم صلاته مع هذا المقيم بدليل أن الشافعي علل فقال: لأنه لم يكمل واحد منهم الصلاة حتى صار فيها في صلاة مقيم، فدل أنه رجع إلى صلاة المقيم وذكر على قوله "الجديد": إنه لا يبني ولكنه خرج من الصلاة وغسل الدم وعاد وأحرم خلف خليفته، وقيل: قاله على قوله "القديم": وأنه لم يخرج من الصلاة فيكون بعد الاستخلاف في حكم المؤتم بالمقيم، وإن لم يأتم وهذا ليس بشيء؟ لأنه لم يأتم بمقيم حقيقة وقطعاً. وقال ابن سريج رحمه الله: إنما أوجب الشافعي على الراعف الإتمام أيضاً، لأن الذي استخلفه يصلي أربعاً، ولا يجوز أن يكون الذي هو خليفته، ويبني على ترتيب صلاته فصلى أربعاً وهو يصلي ركعتين. قال أبو إسحاق: وهذا غلط لأن الشافعي رحمه الله قال في كتاب صلاة الخوف [68 أ / 3]، في باب تقدم الإمام في صلاة الخوف: إذا كان الإمام الأول مسافراً وخلفه مسافرون ومقيمون فصلى ركعة ثم أحدث، وقدم مقيماً ليصلي بهم بقية الصلاة، كان على الطائفتين جميعاً أن يصلوا أربعاً، فإن قيل: لم أمر الطائفة الأولى بالإتمام وهي لا تأتم بالإمام الثاني لأنه إذا صلى الإمام الأول وهو مسافر ركعة، فإن الطائفة الأولى تفارقه وتصلي لنفسها ركعة أخرى؟، قلنا: أراد الشافعي رحمه الله إذا أحذث الإمام الأول قبل أن تفارقه الطائفة الأولى مثل أن يحدث قبل أن يعتدل في الركعة الثانية فلما قدم الإمام الخليفة صارت الطائفة الأولى مقتدية به، وهذا في كلامه بين،

لأنه قال في آخره: إن كلا قد دخل مع الإمام مقيم في صلاته. ذكره القاضي الطبري رحمه اه. ولأن الخليفة يصلي أربعاً لأنه مقيم. وهذا ليس بمقيم فكيف يكون حكمه حكمه. وقال أبو غانم: تلقى أبي العباس تأويل المسألة أن الإمام أحس بالرعاف فاستخلف ولم يكن وعف فوقف خلف خليفته، ثم رعف فانصرف فعليه الإتمام؛ لأنه صار خلف مقيم وهذا غلط [69 ب / 3] أيضاً؛ لأن الرجل لا يجوز له أن يستخلف في الصلاة ويكون فيها مأموماً له قبل الانصراف عنها، ولأن الشافعي قال: رعف وخلفه مسافرون ومقيمون ولم يقل أحس. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يجب على المسافرين خلفه الإتمام، لأن صلاتهم هي مبنية على صلاة الإمام الذي قبله، بدليل أنه لو كان مسبوقاً بركعة فإنه يبني على ترتيب المستخلف، وهذا غلط لأنهم مؤتمون به وقد بطلت صلاة الأول ولهذا لو سها هذا الخليفة فإنه يلزمهم سجود السهو، ولو بطلت صلاة هذا الخليفة بالحدث عمداً بطلت صلاتهم عند أبي حنيفة فدل أنه للإمام في الحقيقة. مسألة: قال: وإذا كان له طريقان يقصر في أحدهما ولا يقصر في الآخر. الفصل وهذا كما قال: إن أراد أن يسافر إلى بلد وله إلى ذلك البلد طريقان، أحدهما: مسيرة ثمانية وأربعين ميلاً، والأخرى أقل من ذلك، فإن سلك الأقرب لم يجز له القصر، وإن سلك الأبعد فإن كان لفرض له فيه، مثل أن يكون في الأقرب حزونة وهي الحنونة من الحجارة، والصعود والهبوط، أو يكون فيه خوف من اللصوص، أو السباع، أو لا يكون فيه ماء [70 أ / 3] أو كان له في الأبعد قريب أو صديق يريد زيارته، أو معامل يريد محاسبته فهذا يجوز له القصر قولاً واحداً، وان لم يكن له فيه غرض بوجه ففيه قولان: قال في كتاب استقبال القبلة من "الأم": لا يقصر وبه قال أبو إسحاق رحمه الله، وهو الأصح لأنه طول على نفسه من غير غرض فأشبه إذا هام في الأرض ومشى لا يجوز له القصر، وإن سار ألف فرسخ، وقال في "الإملاء": يقصر. وبه قال أبو حنيفة وهو اختيار المزني، واحتج بأنه سفر مباح قلنا: لا نسلم أنه مباح؛ لأن فيه إتعاب نفسه وطهره وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى يبغض المشايين من غير إرب". ومن أصحابنا من قال ما قاله في "الإملاء": مجمل وتفسيره ما ذكرنا إذا كان له فيه غرض فليس في المسألة إلا قول واحد إنه لا يقصر. مسألة: قال: وليس لأحد سافر في معصيةٍ أن يقصر.

الفصل وهذا كما قال: إذا أنشأ الإنسان سفره لمعصية على ما ذكرنا، فلا يجوز له الترخص بشيء من وخص السفر كالفطر، والقصر، والمسح على الخفين ثلاثاً، والجمع بين الصلاتين، والنوافل على الراحلة، وأكل الميتة عند الضرورة، وأكل مال [70 ب / 3] الغير إذا لم يأذن صاحبه عند الضرورة. وبه قال مالك وأحمد وإسحاق رحمهم الله. وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي رحمهم الله: هو كالمطيع في سفره في جميع الأحكام وهو اختيار المزني رحمه الله. واحتجوا بأنه لو غصب خفاً جاز له المح عليه وإن كان عاصياً يلبسه كذلك هاهنا، ولأنه إذا منع المضطر من أكل الميتة فقد أمرتم بقتل نفسه وهذا لا يجوز، وهذا غلط؛ لأن الله تعالى قال: {فَمَنْ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] قال ابن عباس رضي الله عنه: غير باغ على المسلمين مفارق لجماعتهم مخيف للسبيل، ولا عاد عليهم بسيفه؟ ولأن فيه إعانة على المعصية والإعانة على المعصية معصية، ولهذا لا يجوز صلاة الخوف في القتال ظلماً، وأما الخف المغصوب لا يسلم في وجه، وإن سلمنا فبسب الرخصة هناك هو السفر وليس الخف شرطاً وليس بسبب؛ ولأن المعصية لا تختمر بلبسه لأنه غاصب وإن نزعه بخلاف هذا. وقال القاضي الطبري: الصحيح أنه لا يجوز لأن اللبس معصية فلا يكون سبباً للرخصة وقال أبو حامد رحمه الله: يجوز وجهاً واحداً [71 أ / 3] وأما المضطر قلنا: يقال له: تب ويحل، ثم يحل له أكلها فلا يؤدي إلى قبلة. فرع قد ذكرنا أن له أن يمسح مسح المقيم على الصحيح من المذهب، لأنه يجعل كأنه لم يسافر، وهكذا لو دخل بلداً ليقيم فيه على معصية هل يمسح مسح المقيمين؟ وجهان: ذكرهما أبو إسحاق رحمه الله، لأن الإقامة هي سبب لمسح يوم وليلة، كالسفر سبب لمسح ثلاثة أيام، وهو عاص بهذه الإقامة والمذهب جوازه. فرع لو أنشأ السفر في غير معصية ثم نقله إلى معصية هل يترخص؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يترخص وهو الأصح وظاهر المذهب، والثاني: يترخص لأنه مستديم غير متثنى وهو اختيار بعض مشايخ خراسان رحمهم الله. فرع لو أنشأ سفراً مباحاً إلا أنه كان يفق فيه بالأفعال المحرمة يجوز له الترخص؟ لأن السفر مباح، وإنما يؤمر بترك المعصية لا بترك السفر. فَرْعٌ آخرُ لو كان جريحاً في سفر المعصية فإن له التيمم؛ لأنه لا تأثير للسفر فيه وإنما التيمم

للقرح بخلاف ما إذا عدم الماء فإنه يتيمم ويعيد الصلاة في أصح الوجهين عندي؛ لأن السفر فيه شرط. وقال بعض أصحابنا [71 ب / 3] بخراسان: ينظر إن أصابته الجراحة في الحضر لا يعيد، وإن أصابته في السفر ففيه وجهان. فَرْعٌ آخرُ لو وثب من موضع لاعباً فاندقت قدماه فصلى قاعداً. قال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان: والصحيح عندي أنه لا إعادة وهو المذهب؛ لأن دوام العجز ليس باختياره ولا هو مقصود جنايته ولا يلزم السكر لأنه مقصود جنايته، وإن لم يكن دوام المكر باختياره. فَرْعٌ آخرُ لو تاب في خلال سفره، فإن بقي إلى مقصده من موقع التوبة مسافة القصر قصر وإلا فلا. فَرْعٌ آخرُ التنفل في السفر مستحب قال في "الأم": هو كالحاضر في التطوع. وقال بعض أهل العلم من السلف: يكره لمن يقصر أن يتنفل لأنه إذا أسقط بعض الفرض لا يأتي بالنافلة. وروى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان لا يتطوع في السفر قبل الصلاة ولا بعدها وهذا غلط، لما روي عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمانية عشر سفراً فما رأيته ترك الركعتين إذا زاغت الشمس قبل الظهر. وروى عطية عن [72 أ / 3] ابن عمر رضي الله عنه: "أنه قال صليت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في السفر ركعتين وبعدها ركعتين". وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - "كان يتنقل على راحلته في السفر"، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة على حرب هوازن عام الفتح فكان يصلي قبل الظهر ركعتين. وروي: أربعاً ولأن المسافر كالحافر في النفل الواقع في أثناء الصلاة فكذلك كالحافر في النفل الواقع خارجها. فرع وإن صلى مسافر بمقيمين ومسافرين فإنه يصلي والمسافرون ركعتين، وهذا كما قال: إذا صلى مسافر بمقيمين أو مسافرين فإنه يصلي والمسافرون ركعتين إذا نووا القصر، وأما المقيمون يلزمهم الإتمام فإذا فرغ الإمام يستحب أن يقول لهم الإمام: أتموا لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام عام الفتح بمكة أياماً يصلي ركعتين ركعتين ويقول لهم: "أتموا يا أهل مكة فإنا قوم سفر"، وهذا لأنهم أو بعضهم لا يعلمون ذلك.

فرع هل يجوز للإمام أو المقيمين أن يقدموا من يصلي بهم بقية الصلاة؟ هذا مبني على جواز الاستخلاف إذا أحدث الإمام وانصرف، فإن [72 ب / 3] قلنا: لا يجوز هناك فهاهنا لا يجوز، وإن قلنا: يجوز هناك وهو قوله الجديد فهاهنا وجهان: أحدهما: يجوز كما لو أحدث الإمام وانصرف. والثاني: لا يجوز لأن هذه الصلاة قد أديت جماعة فلا يجوز عقد جماعة أخرى فيها كما يقول في المسبوق بركعة في صلاة الجمعة إذا سلم الإمام والأول أصح، والفرق بينهما وبين الجمعة هو أن الجمعة لا تصلى جماعة بعد جماعة بخلاف غيرها، وهكذا المسبوق بركعة في غير الجمعة هل يستخلف؟ على هذين الوجهين. مسألة: قال: وكل مسافر له أن يتم. وقد مضت هذه المسألة، واحتج هاهنا بما روي أن عثمان رضي الله عنه كان يتم الصلاة إذا حج، وكان يحتاط في ذلك لأنه كان له بمكة أهل وعيال فاختار الإتمام وإلا فالمستحب القصر. مسألة: قال: واحتج في الجمع بين الصلاتين في السفر بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جمع في سفره إلى تبوك. . . الخبر. وهذا كما قال: إذا سافر سفراً يجوز له فيه قصر الصلاة يجوز له الجمع فيه بين الصلاتين، وهو الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في وقت أيتهما شاء. وأما [73 أ / 3] في السفر القصير هل تجوز الجمعة؟ فيه قولان: أحدهما: يجوز قاله في "القديم" وبه قال مالك، ووجهه: أن أهل مكة يجمعون بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء وسفرهم قصير ولم ينكر منكر. والثاني: لا يجوز ذكره في "الجديد" وهو الصحيح لأنه تأخير العبادة عن وقتها فلا يجوز في السفر القصر كالفطر، وأما أهل مكة فإنهم يقصرون أيضاً ونحن وأنتم تقولون: لا يجوز ذلك في السفر القصير. وقال أبو يعقوب الأبيوردي رحمه الله: اختلف قول الشافعي رحمه الله في جمع أطر مكة بعرفة ومزدلفة أهو لحق النسك أم لحق السفر؟ على قولين فإذا قلنا: إنه نسك فلا كلام، وإذا كان للسفر فمتى كان السفر قصيراً قولان وسائر أصحابنا لم يذكروا القولين. وقد ذكر بعض أصحابنا بخراسان وجهاً أنه لحق النسك وليس بمذهب الشافعي، وحكى الداركي عن أبي إسحاق أنه كان يقول: لا يجوز الجمع إلا في السفر الطويل، نص عليه في الجديد والقديم.

وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يجوز الجمع لحق السفر أصلاً، وإنما يجوز لحق النسك [73 ب / 3] في موضعين. أحدهما بعرفة في يوم عرفة بين الظهر والعصر في وقت الظهر والثاني بمزدلفة ليلة النحر يجمع بين المغرب والعشاء في وقت العشاء، وبه قال النخعي، وكان الحسن ومكحول يكرهان الجمع في السفر بين الصلاتين قالوا: وفي السفر تؤخر الظهر إلى آخر وقتها ويعجل العصر في أول وقتها، وكان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يفعل ذلك وروي ذلك عن ابن سيرين، وقيل: إنه مذهب المزني رحمه الله وبقولنا قال ابن عباس وابن عمر، ومعاذ بن جبل، ومالك، والثوري، وعطاء، وسالم بن عبد الله، وطاوس، ومجاها، وأحمد، وإسحاق، وأبو موسى، وسعد بن أبي وقاص، واحتجوا بأن المواقيت ثبتت بالتواتر فلا يجوز تركها غير الواحد. وهذا غلط لما روى الشافعي رحمة الله عليه بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ألا أخبركم عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في السفر فقالوا: بلى، فقال: "كان إذا زالت الشمس وهو في منزله جمع بين الظهر والعصر في الزوال، فإذا سافر قبل الزوال أخر الظهر حتى يجمع بينها وبين العصر في وقت [74 أ / 3] العصر"، وكذلك في المغرب والعشاء. وهذا نص ورواه ابن عمر وأنس أيضا. وروى معاذ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كان يجمح في غزوة تبوك بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء فأخر الصلاة يوماً، ثم خرج فصلى الظهر والعصر، ثم دخل ثم خرج فصلى المغرب والعشاء جميعاً". وروى نافع أن ابن عمر رضي الله عنه استصرخ على صفية وهو بمكة فسار حتى غربت الشمس وبات النجوم فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان إذا عجل به أمر في سفر بين هاتين الصلاتين فسار حتى غاب الشفق ثم نزل فجمع بينهما. وروي أن ابن عمر كان يرجع من جرف أرعوه، فأخبر في الطريق بأن امرأتك صفية بالموت فأسرع السير، فلما غربت الشمس قلنا له: الصلاة فسكت حتى دخل وقت العشاء فنزل وجمع، ثم قال: هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يفعل إذا جد به السير والرواية الأولى أصح. وقال أنس رضي الله عنه: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا ارتحل قبل أن تزيغ الشمس أخر الظهر إلى وقت العصر، ثم نزل فجمع [74 ب / 3] بينهما، قال: ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حتى يغيب الشفق"، ثم احتج الشافعي رحمه الله بالجمع في عرفة ومزدلفة فاستنبط منه المعنى وعدى إلى سائر الأسفار، وأما ما ذكروا قلنا:

الأوقات تثبت مطلقة ويجوز تخصيصها بحالة الإقامة بخبر الواحد: كما يجوز تخصيص الكتاب بخبر الواحد. فإذا تقرر هذا فالمسافر بالخيار بين أن يقدم العصر وقت العصر فيجمع بينهما في وقت الظهر، وبين أن يؤخر الظهر إلى وقت العصر فيجمع بينهما في وقت العصر، وهكذا في المغرب والعشاء، والحقيقة أن السفر يمزج الوقتين، فإذا زالت الشمس يجوز الجمع إلى آخر وقت العصر، وكذلك إذا غربت الشمس يجوز الجمع إلى آخر وقت العشاء، والأفضل أنه إن سار قبل الزوال أن يجمع بينهما في وقت العصر، وان زالت الشمس قبل أن سار جمع بينهما في وقت الظهر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا فعل وهذا أسهل وأرفق. مسألة: قال: ولا يؤخر الأولى عن وقتها إلا بنية الجمع. وهذا كما قال: إذا اختار الجمع في وقت الظهر لا تصح إلا [75 أ / 3] بأربح شرائط: السفر والنية والموالاة والترتيب. فالسفر قد ذكرناه ولا بد منه لأنه روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه جمع في السفر كما روي عنه أنه قصر في الفر، فجعلنا السفر علة في الجمع كما جعلناه علة في القصر: لأن كل واحد منهما تخفيف في الصلاة. وأما نية الجمع: فلا بد منها ليخرج بذلك عن أن يكون تاركاً للصلاة ساهياً أو متوانياً. وحكي عن المزني رحمه الله أنه قال إذا أتى بالثانية عقيب الأولى جاز ولا يحتاج إلى النية؛ لأن الجمع حصل بفعله، ولأن الوقت يوجد لهما في السفر، وصار وقت الصلاتين واحداً وهذا غلط؛ لأنه أحد الجمعية فافتقر إلى النية كتأخير الظهر إلى العصر، ولأن أفعال الصلاة تؤخذ من غير قصد إلى فعلها ولا تجري كذلك هنا. وأما الموالاة: فإنه لا يفصل بينهما فصلاً طويلاً، والمرجع في التطويل إلى العرف والعادة، وان تكلم بينهما فلا بأس، فإن أتى بركعتين نافلة بينهما لا يصح الجمع، وقد قال الشافعي: ولا يسبح بينهما ولا عقيب الثانية فيهما يعني أنه لا يتطوع بالصلاة لأنه إن تطوع بينهما طال الفصل، وان تطوع [75 ب / 3] بعد الثانية بعد تطوع العصر والتطوع بعد العصر لا يجوز. وقال أبو سعيد الإصطخري رحمه الله: التنفل بركعتين بينهما لا يمنع صحة الجمع، لأنه من سنة الصلاة كالإقامة. وحكي عنه أنه لا يحب الموالاة، لأن كل واحدة منهما منفردة عن الأخرى، ولهذا جازتا بإمامين، وهذا غلط لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أن تقام الثانية ولم يتنفل بينهما، وقد قال الشافعي رحمه الله في مواضع: أنه إن صلى الأولى ثم أغمي عليه فأفاق أو سها أو نام أو شغل شغلاً بطل جميعه. وأما الترتيب: فهو أن يقام الظهر أولاً، فإذ قدم العصر لم يجز، وهذا لأن الوقت

الأولى والثانية تجوز تبعاً لها فيجب تقديم المتبوع، وعلى هذا لو تلبس بالظهر فأفسدها، ثم صلى العصر بعد الزوال لم يجز حتى يصلي الظهر أولاً ثم الحصر، وإن أواد الجمع بينهما في وقت الثانية افتقر إلى شرطين السفر ونية التأخير للظهر إلى وقت العصر، فإن أخرها بغير نية فقد عصى وأثم، وإن سها عنها فصلاها في وقت الحصر كان قافياً، ولا يكون مؤدياً لها في وقت العصر حتى يؤخرها بنية [76 أ / 3] الجمع وفات الجمع الشرعي، ثم إذا زاد يصليها في وقت العصر لا يحتاج إلى نية أخرى للجمع، لأن كل واحدة منهما يصليها بعد دخول وقتها. وأما الموالاة والترتيب: فليسا بشرط أما الموالاة: فإن الوقت للقصر فأي وقت أتى بها فيه فقد أتى بها مؤدياً، وأما الترتيب: فإن الظهر إذا تأخرت إلى وقت العصر لم يكن إحداهما تبعاً للأخرى، بل صارت كل واحدة منهما متبوعة غير تابعة والأفضل أن يقدم الظهر. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يلزم الترتيب هاهنا؟ وجهان حتى لو ترك الترتيب كان الظهر قضا، لا أداء، فلا يجوز قصرها إذا قلنا: لا يقصر الفائتة ولا معنى لهذا مع النص الصريح عن الشافعي. وأما وقت نية الجمع فالجمع ضربان: جمع تأخير، وجمع تقديم. فأما جمع التأخير: فلا بد وأن ينوي تأخير الظهر على ما بيناه، ووقت النية من حين نزول الشمس إلى أن يبقى من الوقت ما يقيم فيه الصلاة فإن فاق الوقت عن هذا كان عاصياً، وهذا على قول أبي إسحاق، فأما على [76 ب / 3] القول الذي يقول: إذا بقي من الوقت مقدار ما يملي فيه ركعة لا يكون عامياً ولا قاضياً فيجوز أن يؤخر نية الجمع إلى أن يبقى من الوقت هذا القدر. وأما جمع التقديم: إن نوى قبل أن يحرم بالأولى لا يجوز، وإن نوى بعد السلام من الأولى لا يجوز، وقال المزني رحمه الله: يجوز إذا لم يطل الفصل بين السلام من الأولى والإحرام بالثانية. وقال أبو يعقوب الابيوردي: قد قيل: إن الشافعي رحمه الله نص على هذا في استقبال القبلة فقال: ولو أكمل الظهر، ثم نوى الجمع أو كان فيه أجزأه، وهذا غريب، وقيل: قوله: أكمل الظهر أي: أفعاله سوى السلام، وان نوى مع التحريم بالأولى أجزأه بلا إشكال وإن نوى في أثناء الأولى فيه قولان: أحدهما: يجوز حتى ينوي عند الإحرام بالأولى: لأن محل النية ذلك الوقت نص عليه في الجمع في المطر. والثاني: يجوز نص عليه في الجمع في السفر فقال: إذا نوى قبل أن يسلم مع التسليم جاز له الجمع؛ لأن وقت الجمع حين ينفصل عن الأولى ويدخل في الثانية ولا تتأخر النية عن هذا الوقت فجاز [77 أ / 3] وهذا اختيار أبي إسحاق رحمه الله قال: وهذا أشبه بأصل الشافعي، ويفارق نية القصر تعتبر عند الإحرام لتبتعد صلاته ركعتين. ومن أصحابنا من قال: قول واحد يجوز ذلك، وما قاله في جمع المطر قصد به أن المطر لا يبيح الجمع بنفسه دون انضمام النية إليه، لأنه ذكر المسألتين في باب واحد

فيبعد تخريجهما على قولين. ومن أصحابنا من قال: في الجمع للمطر تشترط النية عند الإحرام، وفي الجمع للسفر لا شرط عنده والفرق هو أن نية الجمع يجب أن تكون في حالة يشترط فيها وجود سبب الجمع بقي السفر موجود، وفي المطر أن يشترط وجود المطر الذي هو سبب جواز الجمع في أول الصلاة الأولى وأول الصلاة الثانية حتى إن سكبت فيما بين ذلك لا يضر فلهذا اشترط نية الجمع في أول الصلاة الأولى. فرع لو جمع بين الظهر والعصر في وقت الظهر، ثم بعدما فرغ من الصلاتين نوى الإقامة قبل أن يدخل وقت العصر ووصل إلى مقصده هل يستحب بالعصر؟ وجهان: أحدهما: لا يحتسب لأن الشرائط قد زالت قبل دخول [77 ب / 3] وقت الوجوب كما لو عجل زكاته ثم هلك المال. والثاني: يحتسب لأنه فرع على الصحة كما لو عجل شاة بصفة الزكاة فحال الحول وقد تعيبت بصفة لا يجوز إخراجها في الزكاة يعتد بهاء وهكذا الخلاف لو دخل وقت العصر فنوى الإقامة قبل مضي إمكان الصلاة فإن مضى وقت إمكان الصلاة ثم أقام فقد استقر حكم ما فعل فلا إعادة. مسألة: قال: والسنة في المطر كالسنة في السفر. وهذا كما قال: يجوز الجمع للمطر بين الصلاتين كما يجوز السفر، وبه قال عبد الله بن عمر والفقهاء السبعة. فقهاء المدينة. وهم: سعيد بن المسيب، وعروة بعز الزبير، والقاسم بن محمد، وأبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، وخارجة بن زيد، وعبد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وسليمان بن يسار". وفعله عمر بن عبد العزيز رحمه الله وهو مذهب مالك وأحمد والليث إلا أن عندنا يشترط في ذلك أن يكون المطر قائماً وقت افتتاح الصلاتين معاً، ولم يشترط ذلك غيره. وروي عن مالك وأحمد أنه يجوز الجمع للمطر بين المغرب والعشاء دون الظهر والعصر لأن [78 أ / 3] المشقة في مطر الليل دون النهار. وقال أبو حنيفة والأوزاعي والمزني: لا يجوز ذلك للمطر بحال وروي عن الأوزاعي مثل قولنا. وهذا غلط لما روى ابن عباس رضي الله عنه قال صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الظهر والعمر جميعاً، والمغرب والعشاء جميعاً من غير خوف ولا سفر". أورده أبو داود. قال مالك: أرى ذلك كان في مطر وإنما ذكر قول مالك استئناساً، فأما وجه الدليل منه ظاهر وهو أن الدليل قام في غير المطر فتعين المطر،

وروى أصحابنا عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "جمع في المدينة بين الظهر والعصر في المطر". ويقول: على مالك كل عذر أباح الجمع بين المغرب والعشاء أباحه بين الظهر والعصر كالسفر، وأما ما ذكره من المشقة لا اعتبار بها، لأن الليلة المقمرة كالنهار ويجوز الجمع فيها عندكم. فإذا تقرر هذا يجوز الجمع بينهما في وقت الأولى منهما بلا خلاف، فإن أراد الجمع بينهما في وقت الثانية منهما. قال في "القديم" و "الإملاء": إن شاء قدم الثانية إلى وقت الأولى، وإن شاء أخر الأولى إلى وقت [78 ب / 3] الثانية. وبه قال أحمد وقال في "الجديد": في استقبال القبلة لا يؤخر الأولى إلى الثانية للمطر وهو المذهب المشهور، فقد قيل قولان، وقيل: قول واحد لا يجوز إلا في وقت الأولى، لأن المطر ينقطع بغير اختيار فربما ينقطع المطر ولا يؤخذ عند الجمع بخلاف السفر، فإنه لا ينقطع من دون اختياره فلا يتقدم حالة الجمع طاهراً فإذا قلنا: لا يجوز ذلك فلا كلام، وإذا قلنا: يجوز فإن لم ينقطع المطر بينهما، وإن انقطع صلاهما في وقت العصر، لأن وقت العصر قد دخل والظهر عليه فيصليهما معاً. وأما إذا جمع بينهما في وقت الأولى منهما لا يصح إلا بأربع شرائط على ما ذكرنا، فالعذر وجود المطر حين الإحرام بالأولى، فإن أحرم بها والمطر قائم نظر، فإن استدام حتى في غ منهما فلا كلام، وإن انقطع قبل [79 أ / 3] الفراغ منهما نظر، فإن انقطع بعد أن أحرم الثانية لم يؤثر، لأن الجمع قد صح فإن قيل: قد قلتم إذا دخل في الثانية ثم نوى المقام، أو دخل البلد الذي يريده بطلت صلاته فلم لا يقولون مثله هاهنا؟ قلنا: الفرق هو أن نية المقام والسير إلى بلده بإرادته واختياره، فإذا اختار ذلك لم يكن له الجمع وانقطاع المطر لا يتعلق باختياره وإرادته، فإذا انقطع بعد دخوله في الصلاة لم يضره كما قلنا في وجود الماء في حق المتيمم في الصلاة. ومن أصحابنا من قال: نص الشافعي رحمه الله على انقطاع المطر بعد الإحرام بالثانية لا تؤثر في صحة الجمع، وعلى قياس هذا ينبغي أن تكون نية الإقامة ودخول البلد الذي يريده مثله، ولا يمنع هذا أيضاً صحة الجمع لأنه إذا جاز الدخول في الصلاة جاز له إتمامها ويفارق هذا إذا دخل في الصلاة بنية القصر، ثم نوى الإقامة فإنه يتمها أربعاً لأنها صلاة واحدة تامة ومقصودة وهاهنا إن لم يجوز له الجمع أبطلنا ما جوزنا له الدخول فيه وذلك لا يجوز فافترقا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: في كلتا [79 ب / 3] المسألتين وجهان: وقال هذا القائل: لو نوى الإقامة بعد الفراغ من العصر أو انقطع المطر في هذه الحالة فعلى أحد الوجهين وجهان، وهذا ضعيف، ولو انقطع المطر قبل أن يحرم بالثانية لم يكن له الجمع.

فرع لو انقطع قبل أن يسلم من الأولى، ثم عاد واتصل لا يمنع ذلك الانقطاع صحة الجمع نص عليه، ولو وجد عند افتتاح الأولى والثانية، ولكن انقطع عنا خروجه من الأولى وعاد في الحال. قال الشيخ أبو زيد رحمه الله: لا يصح الجمع وفيه وجه أخر أنه يصح الجمع، وهو ظاهر ما قال أصحابنا يشترط وجود المطر عند افتتاح الأولى والثانية. فرع لو افتتح الظهر والسماء لم تمطر، ثم مطرت بعده لا يجوز الجمع، نص عليه في استقبال القبلة، وهذا لأنه شرع فيها ولم يكن من أهل الجمع فصار كما لو أحرم ولا سفر، ثم وجد السفر لا يصح الجمع، ومن أصحابنا من قال فيه قولان: مبنيان على أنه هل تجوز نية الجمع في أثناء الصلاة فإذا قلنا: يجوز ذلك يمكنه أن ينوي الجمع عند مجيء المطر ويجمع. فَرْعٌ آخرُ هل يجوز الجمع للمنفرد في بيته أو في المسجد، أو بمن كان في المسجل [80 أ / 3] أو لمن كان بين منزله والمسجد ظلال يمنع وصول المطر إليه؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز نص عليه في "الأم" لأنه إنما جوز للمشقة ولا مشقة في هذه الحالة وعلى هذا إنما يجوز في مسجد الجماعة الذي ينتابه الناس من بعد في المطر. وقال في "الإملاء": يجوز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجمع وكانت بيوت أزواجه مفتحة إلى المسجد لا يشق عليه الخروج للجماعة، ولأن العذر إذا تعلقت به الرخصة استوى فيه وجود المشقة وعدمها كما في السفر. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان ولا معنى لهذا مع النص. فَرْعٌ آخرُ قال الشافعي رحمه الله: ويجمع في قليل المطر وكثيره. قال أصحابنا: معناه إذا كان القليل بين الثياب، فإن كان مما لا يبل لا يجوز به الجمع، وقال القاضي الطبري رحمه الله: يعتبر ابتلال الثياب والطين. قلت: ابتلال الثياب يورث الطين لا محالة فلا فائدة في ذكره. فَرْعٌ آخرُ البرد لا يبح الجمع، لأنه لا يبل الثياب. وأما الثلج فإن كان رقيقاً يبل الثياب فهو كالمطر، وإن لم يكن كذلك فلا يبيح الجمع، وفيه وجه آخر [80 ب / 3] كالثلج يبيح الجمع بكل حال، لأنه يتأذى بالمشي فيه ويشتق. فرع الوحل، والظلمة، وشدة الريح، والبرد لا يبيح الجمع، وقد قال الشافعي: لا يجوز الجمع في الحضر من غير مطر للمرض والخوف. وقال أحمد وإسحاق ومالك رحمهم

الله: يجوز للمريض والخائف ذلك، وبه قال عطاء بن أبي رباح وقالوا: يجوز في الوحل أيضاً: لأنه كالمطر في المشقة، ولهذا يجوز ترك الجمعة به، واختاره القاضي الحسين فإن كانت تشد الحمى في وقت الزوال وتخف وقت العمر فالأولى أن يؤخر الظهر، وإن كانت تشد وقت العصر يقدم العمر إلى الظهر، وهذا لأنه عذر يبيح الفطر كالسفر، ولأن الضرر بهذا أكثر منه بالمطر ولهذا أبيح به ترك القيام والفطر في الصوم. وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام قال للمستحاضة: "إن قويت أن تؤخري الظهر وتعجلي العصر وتغتسلي، ثم تصلين الظهر والعصر جميعاً ثم تؤخرين المغرب وتعجلين بالعشاء ثم تغتسلين وتجمعين بين المغرب والعشاء فافعلي، وهذا هو أحب الأمرين إلي". رواه البيهقي رحمه الله وهذا غلط،؛ لأنه لم ينقل الجمع في شيء منها وكانت كلها على عهد رسول [81 أ / 3] الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولأن عذر المطر من جهتين من الأعلى والأسفل، وهذا الوحل من الأسفل، وأما ترك الجمعة للرجل قلنا هناك لا يترك إلا السعي إلى المسجد ويأتي بالصلاة فيحصل له الترفه بترك السعي إلى المسجد وحده وهاهنا يترك السعي إلى المسجد ويترك الوقت الذي هو شرط من شرائط الصلاة، فكان حكمه أغلط، ولهذا جاز ترك الجمعة لخوف فوت الرفقة وطلب الغريم بخلاف الجمع. وحكى ابن المنذر، عن ابن سيرين أنه قال: يجوز الجمع بين الصلاتين من غير مرض أيضاً، واختاره ابن المنذر واحتج بما روى أبو داود رحمه الله في سننه بإسناده عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر. قال: فقلت لابن عباس: ما أراد إلى ذلك قال: أراد أن لا يحرج أمته. وقال ابن المنذر: ولا يمكن حمله على عذر من الأعذار لأن ابن عباس قد أخبر بالعلة فيه وهي قوله: أراد أن لا تحرج أمته وحكي عن ابن سيرين رحمه الله [81 ب / 3] أنه قال: لا بأس به إذا كانت حاجة أو شيء ما لم يتخذ عادة. وهذا غلط لما روي من اختيار المواقيت. وأما خبرهم قلنا: أصحاب الحديث قد تكلموا في حبيب بن أبي ثابت، ثم إنا نحمله على أنه انقطع المطر في أثناء الصلاة الثانية، أو أراد الجمع بتأخير الظهر إلى آخر وقتها، وتعجيل العصر في أول وقتها، وفي هذا رفاهية ورفع للحرج ولا يمكن أن يول به أخبار الجمع في السفر؛ لأنه صرح هناك بما لا يحتمل هذا التأويل.

كتاب الجمعة

كتاب الجمعة قال: أخبرنا إبراهيم بن محمد. . . الخبر. وهذا كما قال: الجمعة هو اليوم الذي بين الخميس والسبت، وذلك مستقيم متواتر يعلمه كل أحد، وكانت العرب قبل الإسلام تسميه العروبة، ثم سميت يوم الجمعة. قال الشاعر: نفسي الفداء لأقوام هم خلطوا يوم العروبة أوراداً بأوراد وصلاة الجمعة فرض على الأعيان، وغلط بعض أصحابنا فقال فيه: قول آخر إنها من فرائض الكفايات؛ لأن الشافعي رحمة الله عليه قال: [82 أ/ 3] ومن وجب عليه حضور الجمعة وجب عليه حضور العيدين، وصلاة العيد هي من فرائض الكفايات. وقد قال في "القديم": إذا صلى الظهر يوم الجمعة بعد الزوال قبل الإمام فقد أساء، ولا إعادة عليه وهذا لا يجوز اعتقاده ولا حكايته عن الشافعي، وأراد بما قال في العيد: من وجب عليه الجمعة حتماً وجب عليه العيد اختياراً. وقد قال أصحابنا: من نسب هذا إلى الشافعي عذر، وذكر الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله في "معالم السنن": أن الشافعي علق القول فيه، وقال أكثر الفقهاء: هي من فروض الكفاية وهذا غريب، والأصل في وجوبها الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]. قيل: أراد بالذكر الصلاة، وقيل: أراد الخطبة وفيه ثلاثة أدلة: أحدها: أنه إذا أمر بالسعي والأمر على الوجوب ولا يجب السعي إلا لما هو واجب. والثاني: أنه نهى عن البيع فيه والنهي يقتضي التحريم ولا ينهى عن المباح إلا لفعل واجب. والثالث: [82 ب/3] أنه وبخ على ترك الجمعة بقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِماً} [الجمعة: 11]. ولا يوبخ إلا على ترك الواجب والمراد بالسعي المضي والذهاب لا الإسراع في المشي والفعل يسمى سعياً. قال الله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ

للْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] وروي عن عمررضي اثه عنه أنه كان يقرأ {فَامضوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} فدل على ما قلناه. وأما السنة: فما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ترك الجمعة ثلاث مرات من غير عذر لم يكن لها كفارة دون يوم القيامة". وروى أبو الزبير عن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فعليه الجمعة يوم الجمعة إلا مريضاً أو مسافراً أو امرأة أو صبياً أو مملوكاً، وروى ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لينتهي أقوام عن تركهم الجمعة أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين". وروى طارق بن شهاب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمعة حق واجب على كل مسلم في جماعة إلا أربعة عبد مملوك أو امرأة [83 أ/ 3] أو صبي أو مريض". وقيل: إن طارق هذا لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يسمع منه. وروى جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خطب في جمعة من الجمع فقال: "أيها الناس توبوا إلى الله قبل أن تموتوا، بادروا بالأعمال الصالحة قبل أن تشغلوا، وأصلحوا فيما بينكم وبين ربكم بكثرة الدعاء والصدقة في العلانية والسر، تؤجروا وتنصروا، واعلموا أن الله تعالى فرض عليكم الجمعة في مقامي هذا في يومي هذا في شهري هذا في عامي هذا إلى يوم القيامة، فمن تركها في حياتي أو بعد وفاتي استخفافاً بها أو جحوداً لها وله إمام عادل أو جائر فلا جمع الله شمله، ولا بارك له في أمره ألا لا صلاة له، ألا لا زكاة له، ألا لا حج له، ألا لا بر له، إلا أن يتوب فمن تاب تاب الله عليه". وأما الإجماع: فلا خلاف بين المسلمين في وجوبها. وأما في فضل يوم الجمعة، ورد الكتاب والسنة. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج:3]، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الشاهد يوم الجمعة والمشهود هو يوم عرفة"، وقيل: يوم القيامة. وأما السنة فيما روى أبو هريرة رضي الله [83 ب/ 3] عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم وفيه أهبط وفيه تاب الله عليه، وفيه مات، وفيه تقوم الساعة، وما من دابة إلا وهي مُسيخة يوم الجمعة من حين تصبح حتى تطلع الشمس شفقاً من الساعة إلا الجن والإنس وفيه ساعة لا يصادقها مسلم، وهو

يصلي يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه" وقوله مسيخة أي: مصغية مستمعة، وقيل: إن أصحاب وسول الله - صلى الله عليه وسلم - اجتمعوا وتذاكروا هذه الساعة فأجمعوا أنها آخر ساعة من يوم الجمعة، وقيل: بعد العصر إلى غروب الشمس. ومعنى يصلي أي: ينتظر الصلاة، فإن المنتظر للصلاة كالمصلي، وقيل: من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، وقيل: من بين خروج الإمام إلى أن تنقضي الصلاة، وقال الحسن: هي عنا زوال الشمس في وقت الصلاة، وقال كعب: لو قسم إنسان جمعة في جمع، أي: على وقت تلك الساعة يريد أنه يدعو في كل جمعة في ساعة ساعة حتى يأتي على جميع اليوم. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد [84 أ/ 3] أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم فهذا اليوم الذي هدانا الله له وضلت عنه اليهود والنصارى فاليوم لنا ولليهود غد وللنصارى بعد". مسألة: قال: وتجب الجمعة على أهي المصر وإن كثر أهله. وهذا كما قال: فرض الجمعة يتعلق بثمان شرائط: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحرية، والذكورة، والصحة، والاستيطان في بلد مجتمع البناء والمنازل، والعدد، وهو أربعون رجلاً فصاعداً. ومن أصحابنا من لم يذكر الإسلامء وهذا الاختلاف في أن الكفار مخاطبون بالشرائع أم لا؟ وثلاث من هذه الشرائط لا تختص بها الجمعة وهي: العقل، والبلوغ، والإسلام وما عداها فإنها تختص بالجمعة، ثم ثلاث شرائط. منها شرط في الوجوب والجواز، وهي العقل والإسلام والعدد، والباقي شرط في الوجوب دون الجواز. والناس في الجمعة على أربعة أضرب: من تجب عليه الجمعة وتنعقد به، وهو من وجد فيه الشرائط السبع، ومن لا تجب عليه الجمعة ولا تنعقد به وهو الصبي والعبد والمرأة والمسافر، ولا يدخل المسافر والمجنون في هذا القسم، لأنه لا يصح [84 ب/ 3] منهما فعل الصلاة فلا معنى، لأن يقال: لا تجب عليه لا تنعقد به، ومن تنعقد به ولا تجب عليه وهو المريض إذا حمل على نفسه وحضر الجامع، أو حضر عنده جماعة فصلوا الجمعة، وهذه الصورة أولى لأنه إذا حضرها تعين عليه الوجوب فكأنها تجب عليه وتنعقد به. ومن اختلف القول فيه في الانعقاد دون الوجوب وهم التجار الذين يقصدون بلداً يقيمون فيه السنة والسنتين بنية العود إذا فرغوا حاجتهم، وطلبة العلم من الغرباء. قال ابن أبي هريرة رحمه الله: يجب عليهم الجمعة وتنعقد بهم وهو ظاهر قوله في

"الأم ": لأنه تلزمهم الجمعة فتنعقد بهم كالمستوطنين. وقال ابو إسحاق رحمه الله: لا تنعقد بهم: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حضر بعرفة فوافق الجمعة فلم يجمع لأهل مكة، وكانوا مقيمين غير مستوطنين، فعلى قول أبي إسحاق الناس على أربعة أضرب، وعلى قول ابن أبي هريرة: الناس على ثلاثة أضرب. وحكي أن الشافعي، ومحمد بن الحسن اجتمعا عند الرشيد رحمهم الله فسأل الرشيد محمد بن الحسن عن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة [85 أ/ 3] هل كانت جمعة أو ظهرا؟ فقال: جمعة، لأنه خطب قبل الصلاة، ثم سأل الشافعي، فقال: كانت ظهراً لأنه أسر بالقراءة، فقال الرشيد: صدقت. ويروي هذه الحكاية أيضاً عن مالك وأبي يوسف فإذا ثبت هذا فالناس في وجوب الجمعة على ضربين: ضرب في البلد والمصر، وهو من أهل الجمعة فتجب عليه الجمعة سواء سمع النداء أو لم يسمع؛ لأنه ما من موضع من البلد إلا وهو محل النداء. وأما علة الشافعي رحمه الله؛ لأن الجمعة تجب على أهل المصر الجامع، يريد به أن الله تعالى وإن علق وجوبها بسماع النداء في الآية فليس السماع في أهل المصر شرطاً في الوجوب، وإنما الخلاف في الخارج من المصر، واستنكر الإمام القفال هذا العطف الذي في المختصر حيث قال: وتجب الجمعة على أهل المصر، وان كثر أهله حتى لا يسمع أكثرهم النداء؛ لأن الجمعة تجب على أهل المصر الجامع وعلى من كان خارجاً من المصر إذا سمع النداء، وقال: كيف يجوز التعليل لوجوب الجمعة على أهل المصر بوجوبها على من كان خارج المصر، والمصر أصل والسواد تبع، والجواب عن هذا [85 ب/ 3] أن هذا الكلام هو عطف على المسألة الأولى لا على المسألة وتقدير الكلام أن يقال: وتجب الجمعة على أهل المصر، وان كثر أهله حتى لا يسمح أكثرهم النداء: لأن الجمعة تجب على أهل المصر الجامع سمعوا أذانا أو لم يسمعوا، ثم استأنف الكلام، فقال: وعلى من كان خارجاً من المصر، يعني: تجب الجمعة إذا سمع النداء وهذا ذكره الشيخ أبو محمد الجويني للشيخ القفال رحمهما الله فرضيه واستحسنه. وضرب يستوطن خارج المصر من أهل القرى وهم على ثلاثة أضرب: ضرب يلزمهم إقامة الجمعة في موضعهم بأنفسهم، وهو أن يكونوا أربعين رجلاً على الشرائط التي ذكرناها، وهم مستوطنين في قرية مجتمعة البناء والمنازل لا يظعنون عنها شتاءً ولا صيفاً فيقيمون الجمعة في موضعهم سواء كان قريباً من المصر أو بعيداً، فإن تركوا إقامتها في موضعهم وحضروا المصر وصلوها فيه فقد أساؤوا وأجزأتهم صلاتهم، وبه قال عمر وابن عباس، وعمر بن عبد العزيز ومالك وأحمد وإسحاق رضي الله عنهم. وقال أبو حنيفة والثوري رحمهما انه: لا تجوز إقامة الجمعة في القرى أصلا وإنما تقام [86 أ/ 3] في مصر فيه إمام وقاض وسوق. واحتجوا بما روى علي بن أبي طالب

رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا جمعة ولا تشريق إلا في مصر جامع"، وهذا غلط لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: "إن أول جمعة جمعت في الإسلام بعد الجمعة بالمدينة في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجمعة جمعت بقرية يقال لها: جُواثا من قرى عبد القيس ومن قرى البحرين، ولأنه بناء استوطنه أربعون رجلاً من أهل الجمعة فيجب عليهم إقامة الجمعة كالمصر. وأما الخبر الذي ذكره قلنا: رواية الأعمش، عن سعيد المقبري، عن علي، والأعمش لم يكن سعيد وعلي رضي الله عنه لم يرفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد روي عن عمر رضي الله عنه خلافه، وروي أن أبا هريرة رضي الله عنه كتب يسأله عن الجمعة بالبحرين"، وكان عامله عليها فكتب إليها عمر رضي الله عنه أن جمعوا حيث كنتم، ثم نحمله على أنه أراد أنها لا تقام خارج المصر ولكن يقيمها فيه. والضرب الثاني: من لا تلزمهم إقامة الجمعة في موضعهم ويلزمهم [86 ب /3] حضور المصر لأجلها، وهو أن يكونوا دون الأربعين في موضع لا يبلغهم النداء من المصر. والثالث: من لا تلزمهم إقامة الجمعة في موضعهم ولا يلزمهم حضورها في المصر، وهو أن يكونوا دون الأربعين في موضع لا يبلغهم النداء من المصر، وبه قال عبد الله بن عمرو بن العاص، وسعيد بن المسيب، ومالك، وأحمد، وإسحاق، والليث، إلا أن مالكاً والليث قدراً ذلك ثلاثة أميال، وقال أحمد: فرسخ وهو لقولهما وعندنا لا تتقرر المسافة. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا تجب الجمعة على من كان خارج المصر بحال، وقال ربيعة: تجب على من كان في أربعة أميال، وقال الزهري: ستة أميال، وقال الأوزاعي: إن كانوا إذا صلوا الجمعة أسكنهم أن يأووا بالليل إلى منازلهم تلزمهم الجمعة وإلا فلا، وبه قال ابن عمر، وأبو هريرة، وأنس رضي الله عنهم وهو مذهب أبي ثور. وقال عطاء: تجب على من كان على عشرة أميال وهو قريب من هذا. واحتج أبو حنيفة رحمه الله بما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه وافق يوم الجمعة يوم العيد، فقال: لأهل العوالي من أراد منكم أن ينصرف [87 أ/ 3] فلينصرف، ومن أراد أن يقيم حتى يصلي الجمعة فليقم. وهذا غلط لما روى عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمعة على من سمع النداء"، ولأن ما قالوه خلاف إجماع الصحابة لأنهم اختلفوا على قولين. فمنهم من اعتبر سماع النداء، ومنهم من اعتبر أن تمكنه البيتوتة عند أهله فلا يجوز إحداث قول ثالث، وأما خبر عثمان لم يذكره أحد من أصحاب الحديث فلا يثبت، ثم نحمله على أنه أراد فلينصرف ويعود. فإذا تقرر هذا فصفة سماع النداء: قال أبو إسحاق ـ رحمه الله ـ يعتبر سماع النداء من آخر البلد لا من المسجد، فينادي رجل

على طرف البلد من الجانب الذي يلي هذه القرية، ويكون المنادي صبياً والأصوات هادئة، والريح ساكنة، وكان من ليس بأصم مستمعاً، يعني مصغياً غير لاه ولا ساهٍ ولا يشترط نفس السماع بل إمكان السماع بدليل الأصم، ولا يعتبر أن يكون المؤذن على سور البلد أو على منارة ليعلو على البناء، لأن الارتفاع لا حد له. وقال القاضي الطبري: وسمعت بعض شيوخنا يقول: إلا بطبرستان فإنها مبنية بين غياض [87 ب/ 3] وأشجار تمنع من بلوغ الصوت فيعتبر أن يصعد على بناء أو منارة بعلو الأشجار التي حواليه، لأن ذلك عارض بمنع السماع فيعتبر زواله. وذكر بعض أصحابنا بخراسان: أنه يعتبر أن يكون على موضع عال قد جرت العادة بمثله للأذان من المنارة وغيرها ولم يفصلوا هكذا وذلك أصح. وقال أبو يعقوب الأبيوردي: هل يعتبر النداء في وسط البلد أم في طرفه؟ وجهان: أحدهما: هذا، والثاني: يعتبر في الوسط لأن النداء في الغالب يقع في الجامع وهذا خلافه ظاهر المذهبه. فرع لو كانت قرية على قمة جبل وأخرى دونها على وجه الأرض والنداء يبلغ القرية إلى أعلى قلة الجبل، ولا يبلغ التي على وجه الأرض لا تجب الجمعة على أهل القريتين؛ لأن أهل القرية التي على قمة الجبل إنما يسمع النداء للعارض وهو ارتفاع موضعها، وإنما يعتبر سماع النداء مع زوال العارض ألا ترى أنا نراعي سكون الرياح وهدوء الأصوات، فكذلك نراعي أن لا تكون القرية على قمة الجبل، لأن بلوغ النداء إليها لارتفاعها لا لأجل ما بينهما من القرب، وعلى هذا إذا كانت قريتان إحداهما [88 أ/ 3] على وجه الأرض يبلغها النداء والأخرى دونها في وهدة لا يبلغها النداء تجب الجمعة على أهل القريتين؛ لأن النداء لا يبلغ أهل القرية التي في الوهدة لعارض وهو انخفاض موضعها هكذا ذكره القاضي الطبري، وهو الأشبه بكلام الشافعي ومذهبه. وقال أبو حامد: بالعكس من هذا فقال: لا جمعة على أهل الوهدة، لأن النادر يلحق بالغالب السائر ممن لا يسمع لبعده، ويجب على من كان على قمة الجبل؛ لأنه وإن كان نادراً في السماع يلحق بالغالب ممن يسمع لقربه من البلد وسمعت بعض أصحابنا قال: فيه وجهان. فرع قال الشافعي رحمه الله: فإن لم تكن بيوتها مجتمعة فليسيروا أهل قرية لا يجمعون بل يتمون، ولو كانت قرية كما وصفنا فتهدمت منازلها أو بعضها وبقي في الباقي أربعون رجلاً وأهلها لازمون لها ليصلحوها جمَّعوا، سواء كانوا في مطال أو غير مطال، ولو كانت بيوتها مجتمعة ولكنهم أهل خيام فليسوا من أهل الجمعة، لأن بيتهم يتنقل معهم كالمتاع والوطن لا يكون إلا بشرطين: أحدهما: أن تكون الأبنية ثابتة ويكون البناء من آجر [88 ب / 3] وجص أو حجر أو طين أو خشبة أو جريد ونحو ذلك.

الثاني: أن تكون البيوت مجتمعة على صفة متى انفصل أحد من أهلها مسافراً كان له القصر إذا فارق البناء، وقال في البويطي: لو كانت بيوتهم خياماً يستوطنونها ولا يرتحلون عنها شتاءاً، ولا صيفاً بحال فهي كالبناء سواء وعليهم الجمعة فحصل قولان: أحدهما: لا تجب لعدم البناء. والثاني: يجب للمقام والاستيطان. وقال أبو ثور: الجمعة كسائر الصلوات إلا أن فيها خطبة، فمتى كان إمام وخطيب أقيمت الجمعة، وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه كان يرى أهل المياه بين مكة والمدينة يجتمعون فلا يعيب عليهم. واحتج أبو ثور رحمه الله أن عمر رضي الله عنه كتبه إلى أبي هريرة أن جمعوا حيث كنتم، وهذا غلط؛ لأن قبائل العرب كانت حول المدينة فلم ينقل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمرهم بإقامة الجمعة ولا أقاموها، ولو كان ذلك لنقل، ولأنه لم يجمع بعرفة وقد وقف بها يوم الجمعة، ولهذا قال عمر رضي الله عنه: إن قوله تعالى: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] نزل في يوم عرفة وكان يوم الجمعة، وأما خبر [89 أ/ 3] عمر رضي الله عنه محمول على البلد أو دار الإقامة. فإذا ثبت أنه لا يجب عليهم إقامة الجمعة بأنفسهم فإن كانوا يسمعون النداء من بلد أو قرية لزمهم أن يأتوها فيصلون معهم وإلا فلا. فَرْعٌ آخرُ الشرط في الجمعة في القرية أن تكون مجمعة الدور، فإذا تفرقت منازلهم، فإن كانت متقاربة فإنه يجب عليهم الجمعة، وحد القريب: هو أن يكون بين منزل ومنزل دون ثلاثمائة ذراع، وقيل: يعتبر بتجويز القصر عند إرادة السفر، فإن كان البعد بين المنزلين قدر إذا خرج هن منزله بقصد السفر يشترط أن يتجاوزه في استباحة القصر فهو في حد القرب، وإن كان لا يشترط أن يتجاوزه فهو خارج عن حد القرب. فرع لو خرج أهل المصر من المصر لا تجوز للإمام أن يصلي بهم الجمعة هناك. نص عليه في "الأم ". وقال أبو حنيفة رحمه الله: تجوز إذا كان قريباً منه نحو الموضع الذي حصل وصلى لصلاة العيد. وهذا غلط؛ لأنه موضع يجوز لأهل المصر قصر الصلاة فيه، فلم يجز لهم إقامة الجمعة [89 ب / 3] فيه كالبعيد. فَرْعٌ آخرُ لو خرج قوم من البلد فنزلوا بقعة استوطنوها لإنشاء قرية في بقعة يسكنوها لم يكن المكان وطناً حتى يحدثوا في البقعة بناء.

فرع لو كانت قرية بقرب بلد يسمع النداء من البلد وكانوا أربعين، وقد قل أهل البلل ونقصوا عن أربعين فعليهم الجمعة بأهل القرية فيلزمهم الخروج إلى القرية لإقامة الجمعة بها. فرع لو كان أهل البلد أقل من أربعين من أهل الجمعة، ثم أتموا أربعين أهل الجمعة، مثل أن ينزل بهم مسافرون فتموا أربعين لم يجز لهم إقامتها، وكذلك لو انجلى أهله ونزل فيهم مسافرون فكذلك لا يقيمون الجمعة بل يصلونها ظهرا أربعاً، ثم اعلم أن المزني رحمه الله نقل فقال: احتج الشافعي في اشتراط عدد الأربعين بما لا يثبته أهل الحديث أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "حين قدم المدينة جمع بأربعين رجلاً"، وهذا ليس مما اعتمد الشافعي رحمة الله عليه في هذه المسألة كما أوهم المزني، ولكن في المسألة آثار سوى ذلك، وهو ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه في خبر جواباً، قيل له: كم كنتم؟ [90 أ/ 3] قال: كنا أربعين رجلاً، واستأنس بما روي عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود وهو من فقهاء التابعين أنه قال: كل قرية فيها أربعون رجلاً فعليهم الجمعة. وروي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه كتب إلى أهل المياه بمثل ذلك، وقيل: هذا الخبر لا يثبته أهل الحديث، ولكن ثبت عند الشافعي رحمه الله، وقيل: غلط المزني على الشافعي هاهنا وغلط أصحابنا على المزني، فأما غلط المزني قوله: واحتج الشافعي بما لا يثبته أهل الحديث، وهذا حديث ضعيف ذكره الشافعي في "الأم". ولكنه لم يحتج به، وإنما احتج بحديث محمد بن إسحاق عن محمد بن إسحاق عن محمد بن أبي أمامة بن سهل بن حنيف، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك قال: "كنت قائد أبي بعد ذهاب بصره، فكان إذا سمع النداء يوم الجمعة قال: رحم االله أبا أمامة أسعد بن زرارة فقلت: يا أبت إنك تترحم على أبي أمامة إذا سمعت النداء، فقال: نعم، لأنه أول من صلى بنا الجمعة في حرم البيت من جرة بني بياضة في نقيع، فقال له: نقيع الخصمات، فقلت له: كم كنتم يومئذ؟ قال: كنا أربعين رجلاً. [90 ب /3] والنقيع: هو بطن من الأرض يستنقع فيه الماء مدة، فإذا نضب الماء أنبت الكلأ وفيه حديث عمر رضي الله عنه أنه حمى النقيع بالنون، وقد تصحف بعض أصحاب الحديث فيروونه البقيع بالباء. والبقيع هو موضع القبور، وجرة بني بياضة هي على ميل من المدينة، ووجه دليل الشافعي رحمة الله عليه أنهم أخروا إقامة الجمعة إلى أن بلغوا أربعين، فإن مصعب بن عمير رضي الله عنه كان ورد المدينة بمدة طويلة، وكان في المسلمين قلة قبل أسعد بن زرارة، ولأن هذه الجمعة كانت أول جمعة ما تنزع من الجمعات، فكان جميع أوصافها معتبراً فيها؛ لأن ذلك بيان لمجمل

واجب وبيان المجمل الواجب واجب. وأما غلط أصحابنا على المزني أنهم ظنوا أنه أراد بالحديث الضعيف حديث محمد بن إسحاق؛ لأن محمداً كان ضعيفاً طعن فيه مالك فقالوا: الحديث صحيح، وإن كان محمد بن إسحاق ضعيفاً؛ لأن أبا داود وأحمد بن حنبل أثبتاه ونقلاه، وقد روي هذا الخبر من جهة عبد الرزاق فلم يكن ضعف محمد بن إسحاق قادماً في تضعيف صحته. وهذا غلط على المزني، فإن المزني، لم يقل ذلك هكذا [91 أ/ 3]. فإذا تقرر فعندنا الجمعة لا تنعقد بأقل من أربعين على الشرائط التي ذكرناها، وبه قال عمر بن عبد العزيز، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، ومالك وأحمد وإسحاق إلا أن عمر بن عبد العزيز اشترط أن يكون فيها والٍ، وعندنا لا يشترط ذلك والمنصوص أن الإمام أحدهم. ومن أصحابنا من قال: يعتبر أربعون سوى الإمام، وبه قال ابن أبي هريرة، وقد قال جابر رضي الله عنه: قضت السنة أن في كل ثلاثة إماماً وفي كل أربعين فما فوق ذلك جمعة وأضحى وفطرا. وقال أبو حنيفة: تنعقد بأربعة أحدهم: الإمام لأن هذا عدد يزيد على أقل الجمع المطلق، وبه قال الثوري، ومحمد، وقال الأوزاعي وأبو يوسف: تنعقد بثلاثة أحدهم الإمام وذكر ابن أبي أحمد في "المصباح ": أنه قول الشافعي في "القديم" ولم ينقله غيره. وحكي عن الأوزاعي أنها تنعقد بثلاث إذا كان فيهم الوالي، وقال أبو ثور تنعقد باثنين؛ لأنه تنعقد بهما الجماعة، وقال ربيعة: تنعقد باثني عشر رجلاً واحتج بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى مصعب بن عمير [91 ب/ 3] قبل الهجرة وكان مصعب بالمدينة فأمره "أن يصلي الجمعة بعد الزوال ركعتين وأن يخطب قبلهما" فجمع مصعب بن عمير في بيت سعد بن خيثمة باثنتي عثر رجلا، وهذا غلط لما ذكرناه. وأما خبرهم فقد قال أبو إسحاق في الشرح: إنهم كانوا أربعين فتعارضت الروايات، أو يجوز أنه كان بغير علم النبي - صلى الله عليه وسلم -. قول أبي حنيفة رحمه الله أنه يزيد على أقل الجمع المطلق لا معنى له، لأن الثلاثة والأربعة وما دونها في الجماعة سوا، لأن الاثنين يكونان، صفاً خلف الإمام كالثلاثة، وأما قول أبي ثور رحمه الله خطأ، لأن الجماعة هي شرط الجمعة، وهي مردودة من أربع إلى ركعتين بشرائطها فلا يعتبر بغيرها والله أعلم. مسألة: قال: فإن خطب بهم وهم أربعون ثم انفضوا عنه. الفصل وهذا كما قال لا يجوز أن يخطب للجمعة إلا بحضرة من تنعقد بهم الجمعة، وهم أربعون رجلاً على ما بيناه والخطيب أحدهم. وقال أبو حنيفة رحمه الله في إحدى الروايتين: يجوز أن يخطب وحده قياساً على الأذان وهذا غلط؛ لأنه ذكر هو شرط في صحة [92 أ/ 3] الجمعة فكان

من شرطه حصول العدد كتكبيرة الافتتاح. وأما الأذان فإنه يراد للإعلام والإعلام للغائبين، والخطبة من الخطاب وذلك لا يكون إلا للحاضرين، وإنما يجب أن يحضروا في الواجب منها فإذا تقرر هذا، فلو ابتدأ الخطبة بحضرة الأربعين، ثم انفضوا حتى لم يبق عنده إلا أقل من أربعين، فإن كان قبل الفراغ من الخطبة نظر، فإن أمسك عن الخطبة حتى رجعوا وكان قريباً بنى على ما مضى من الخطبة، والفصل اليسير لا يقطر الخطبة، وإن تباعد ذلك لا يجوز أن يبني على ما مضى من الخطبة، لأنها بمنزلة الصلاة الواحدةء ويلزمه أن يستأنف الخطبة ويصلي بهم الجمعة، وإن أكمل الخطبة في حال غيبتهم، أو أتى ببعض واجباتها لم يحتسب به، والمرجع في التباعد والتقارب إلى العرف والعادة كما قلنا فيمن سلم ناسياً في أثناء الصلاة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا تطاول الفصل هل له البناء على الخطبة؟ قولان وهذا ضعيف، وإن كان ذلك بعد الفراغ من الخطبة، فإن رجعوا قريباً صلى بهم الجمعة ولا يضر ما وقع بينهما [92 ب / 3] من الفصل اليسير، وإن تباعا رجوعهم نقل المزني رحمه الله هاهنا أن الشافعي رحمه انه قال: أحببت أن يبتدئ بهم الخطبة، فإن لم يفعل صلى بهم ظهراً أربعاً. واختلف أصحابنا فيه على ثلاثة طرق: قال ابن سريج رحمه الله: هذا غلط وقع في النقل وإنما هو أوجب أن يبتدئ الخطبةء لأن الخطبة الأولى قد بطلت، لأن من شرط الخطبة أن تقع الجمعة عقيبها وقوله: فإن لم يفعل صلى بهم ظهراً أربعاً معناه فإن لم يبتدئ، الخطبة حتى فات وقت الجمعة ملى بهم الظهر، وهذا اختيار القفال رحمه الله، وهذا لأن الوقت إذا كان يتسع للخطبة والصلاة وهو ممن يجب عليهم الجمعة والخطبة الأولى بطلت بتطاول الفصل، يجب إقامتها واستئنافها وقيل النقل صحيح. والمراد بقوله: أحببت أي أوجبت، ويعبر عن الوجوب بالاستحباب كما يعبر عن المحرم بالمكروه؛ لأن كل واجب مستحب وكل محرم مكروه. وقال صاحب "الإفصاح ": لا يجب إعادة الخطبة؛ لأن فرضها قد أقامه فلا يجوز أن يوجب مرة أخرى، لأنا لا نأمن أن يقع في القضاء مثل ما وقع في الأداء من [93 أ/ 3] الانفضاض، ولا يجوز أن يقال يصلي الجمعة بالخطبة الأولى مع تباعد الفصل بينهما فقلنا: المستحب أن يبتدئ الخطبة ويصلي الجمعة، وإن لم يفعل ذلك لم يجب عليه وصلى بهم الظهر، وهذا ظاهر كلام الشافعي رحمة الله عليه هاهنا. وفي "الأم": وقال أبو إسحاق رحمه الله: فساد الخطبة بتطاول الفصل ليس بالبين فالمستحب أن يبتدئ الخطبة ويصلي بهم الجمعة فرضاً، فإن لم يبتدئ الخطبة، وصلى الجمعة بالخطبة الأولى أجزأتهم. وقال: وإن لم يصل الجمعة وصلى بهم الظهر

أجزأتهم أيضاً، لأن مذهب الشافعي أن جميعهم إذا صلوا الظهر وتركوا فرض الجمعة أجزأتهم وان أساؤوا، وإنما لا يصح الظهر لمن تخلف عن جمعة قد كملت بأوصافها وهذا هو اختيار أبي حامد رحمه الل. وذكر بعض أصحابنا بالعراق: أنه لا فرق بين أن ينفضوا في أثنا، الخطبة أو بعد الفراغ منها قبل الإحرام بالصلاة في هذه الطرق، وليس كذلك بل بينهما فصل؟ لأن الخطبة هي كالصلاة الواحدة فلا يحتمل الفصل الطويل قولاً واحداً والخطبة مع الصلاة كالصلاتين [93 ب/ 3] والعبادتين فيحتمل الفصل الطويل على وجه. مسألة: قال: وإن انفضوا بعد إحرامه بهم ففيها قولان. الفصل وهذا كما قال: إذا أحرم الإمام بأربعين رجلاً فصاعداً، ثم انفضوا حتى بقي معه أقل من أربعين نص الشافعي في "الأم" على قولين: أحدهما: لا تجزيهم الجمعة بحال، وهو الأظهر وبه قال زفر، وأحمد رحمهما الله؛ لأن العدد شرط يختص بالجمعة فإذا كان شرطاً في الابتداء وجب أن يكون شرطاً في الاستدامة. والثاني: إن بقي معه اثنان حتى تكون صلاته صلاة جماعة تامة أجزأته، وهو قول أبي يوسف، لأنه أول الجمع المطلق وزاد في "الكبير"، فقال: لو كان أحد الاثنين عبداً أو مسافراً لم تجز جمعته. وقال في "القديم": إن بقي معه واحد جازت جمعته وبه قال الحسن البصري لأن الناس لما اختلفوا في العدد الذي تنعقد به الجمعة لم يحكم بانعقادها إلا بالعدد المتفق وهو الأربعون، ثم إذا حكمنا بانعقادها لم يجز الحكم ببطلانها حتى يبقى ما لا تنعقد به الجمعة بالاتفاق، وهو أن يبقى فحصل ثلاثة أقوال. وحكى المزني رحمه الله [94 أ/ 3) قولين آخرين في "الجامع الكبير". أحدهما: قال سألت الشافعي عن إمام أحدث بعد أن أحرم يوم الجمعة فقال يبنون على صلاتهم ركعتين فرادى، لأنهم دخلوا منه في صلاته، قال المزني رحمه الله: فكذلك إذا انفضوا عنه وبقي وحده فإنه يجوز له أن يصلي الجمعة؛ لأنه دخل معهم في الصلاة، واختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من خطأ المزني قال: وإنما قال الشافعي رحمه الله ذلك في "القديم " حيث لا نقول بجواز الاستخلاف فلما منع المأمومين من نصب الإمام لأنفسهم بقاءهم على حكم الجماعة وجعل لهم أن يتموا فرادى وليس كذلك الإمام إذا انفضوا عنه فليس بتابع للمأمومين، فلم يجز أن يبقيه على حكم الجماعة بعد انفضاضهم، ومن أصحابنا من صوبه فيه. وحكي هذا عن أبي يوسف ومحمد، ووجهه أن الشيء قد يكون شرطاً في الابتداء دون الاستدامة كالنية في الصلاة والشهود في النكاح.

والقول الثاني: الذي خرجه المزني فقال: إن كان صلى بهم ركعة، ثم انفضوا صلى أخرى منفرداً، وإن لم يصل ركعة صلى أربعاً، واختار [94 ب/ 3] لنفسه هذا، وبه قال مالك رحمه الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله مثله إلا أنه قال: يكفي أن يقيدها بسجدة واحدة، واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها أخرى"، وأيضاً في المسبوق يفرق بين أن يكون قد أدرك ركعة أو لا كذلك هاهنا. واحتج المزني بأن الشافعي رحمة الله عليه قال: لو صلى بهم ركعة ثم سبقه الحدث فانصرف ولم يستخلف من يصلي بهم أتموا لأنفسهم جمعة، فإذا جاز أن ينفردوا عن إمامهم بإتمامها إذا انصرف عنهم، جاز أن ينفرد هو بإتمامها إذا انصرفوا عنه. وأما أبو يوسف ومحمد فإنهما بنيا على أصلهما أن المسبوق إذا أدرك جزءاً من الجمعة أتمها جمعة كذلك الإمام، وأجاب أصحابنا فقالوا: أما الخبر فنحمله على المسبوق، والفرق بين المسبوق وغيره هو أن المسبوق قد أدرك ركعة من جمعة قد صحت، وتمت شرائطها فجاز أن يبني عليها، وهذه الصلاة لم تتم بشرائطها فلم يبن عليها. وأما ما ذكر المزني قلنا: إن الشافعي لم يعتبر في هذه المسألة الركعة بل جوز البناء، وان بقي وحده، وهذا هو قوله [95 أ/ 3] "القديم" ثم المأموم تبع الإمام فجاز إذا أدى معه ركعة أن يؤدي الأخرى على متابعته، والإمام لا يتبع القوم، فإذا انفض العدد قبل الفراغ لم يجز، لأنه ليس في عدد كامل ولا تبع لعدد كامل. وأما ما ذكر أبو يوسف رحمه الله: لا نسلم فحصل من هذا طريقان: إحداهما: في المسألة ثلاثة أقوال، والثانية: فيها خمسة أقاويل. وقال بعض أصحابنا بخراسان: الترتيب أن يقال بقاء الأربعين هل هو شرط؟ قولان: فإن قلنا: شرط فما تلك الجماعة ثلاثة وهي الجماعة المطلقة أو اثنان وهو أقل الجمع قولان. فرع لو افتتح الصلاة بأربعين سمعوا الخطبة فجاء آخرون، واقتدوا به، ثم انفض الأولون فصلاتهم جمعة جائزة، لأنهم لما اقتدوا بالإمام التحقوا بمن سمع الخطبة، فصار كما لو كانوا ثمانين فانفض أربعون. فرع لو انفض الذين سمعوا الخطبة قبل افتتاح الصلاة، وجاء أربعون آخرون فافتتح بهم لا تجوز الجمعة، وكذلك لو ذهب واحد من الأربعين الذين سمعوا الخطبة، وجاء عشرون مكانه فإن قيل: لو افتتح بالسامعين، ثم انفضوا ثم جاء آخرون، يعني: قدر الأربعين واقتدوا به [95 ب/ 3] هل يجوز أم لا؟ قلنا: لا يجوز، فإن قيل: قد قال الشافعي رحمه الله في صلاة الخوف بخطبة: ويصلي بطائفة ركعة من الجمعة، ثم يتمون لأنفسهم، ثم يأتي بالطائفة الثانية فيتم. قلنا: صورة ذلك أنه خطب بهم كلهم أو صورته أنهم جاؤوا،

واقتدوا به، ثم أتم الأولون وانصرفوا إلى وجاه العدو. ذكره القفال. مسألة الزحام: قال: ولو ركع مع الإمام ثم زحم فلم يقدر على السجود حتى قضى الإمام سجوده. الفصل وهذا كما قال: إذا أحرم الإمام فقرأ وركع ورفع، فلما سجد الإمام في هذه الركعة زحم المأموم عن السجود فلم يمكنه السجود على الأرض، وأمكنه السجود على ظهر إنسان لم يجز له تركه إلا لعذر نص عليه في "الأم". وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور. ومن أصحابنا من قال فيه قول أخر: قاله في "القديم" هو بالخيار إن شاء سجد على ظهره، وإن شاء صبر حتى يزول الزحام، ثم يسجد على الأرض، لأنه قد تقابلت هاهنا فضيلتان فضيلة التابعة إذا سجد في الحال على ظهر إنسان، وفضيلة السجود على الأرض كاملاً فيتخير [96 أ/ 3] بين الفضيلتين، وهذا قول الحسن رحمه الله، وقال مالك رحمه الله: لا يجوز أن يسجد إلا على الأرض ويؤخره حتى يقدر عليه، وبه قال عطا، والزهري رحمهما الله لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تمكن جبهتك من الأرض" وهذا غلط، لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "إذا اشتد الزحام فليسجد أحدكم على ظهر أخيه "، ولا يعرف له مخالف. وروي عن زياد بن جابر أن رجلاً أتى عمر رضي الله عنه فقال: "إنا نروح يوم الجمعة، فلا يدري أحدنا أين يضع جبهته؟ قال: ضع جبهتك حيث أدركت، وعلى ظهر أخيك، فإن أخاك ليس بنجس"، ولأن المريض إذا عجز عن السجود على الأرض يسجد على حسب حاله ولا يؤخر، وإن كان في التأخير فضيلة السجود على الأرض كذلك هاهنا وخبرهم محمول على حالة القدرة؛ ولأن أكثر ما فيه أن موضع سجوده هو أولى من موضع وقوفه، وهذا لا يضر كما لو كان في موضع منهبط من الأرض وسجد على دكة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا إذا كان ظهره منخفضا بحيث يكون سجوده أخفض من ركوع القاعد حتى يشبه هذا الساجد [96 ب/ 3] الساجدين، فأما إذا كان الظهر مرتفعاً حتى يخرج هذا الساجد عن صورة الساجدين لا يجوز وهذا غير صحيح: لأنه لا يعتبر ذلك لأجل الضرورة وعليه يدل كلام الشافعي رحمه الله، فإذا تقرر هذا فإن ترك السجود على الظهر ونوى الخروج من الصلاة هل تبطل صلاته على ما سنبين، وإن لم ينو مفارقة الإمام والخروج من صلاته بطلت صلاته قولا واحداً، وإن لم يقدر على السجود بحالٍ حتى سجد الإمام وقام في الركعة الثانية ثم زالت الزحمة، فإن أدرك الإمام قائماً فإنه يشتغل بقضاء ما قاته من السجود قولاً واحداً ويجوز، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -

أجاز هذا في صلاة الخوف بعسفان لتسجد الطائفة الأولى معه فإذا فرغوا من السجدتين سجد الطائفة الثانية منفردين للعذر وها هنا العذر موجود، وهذا لأن المخالفة في الركن الواحد لا يعتبر كالمسبوق إذا أدرك من صلاة الإمام ركعتين وهما الركوع والسجود وفاته ركن واحد، وهو القراءة كان مدركاً للركعة وكان ما فاته من الركن الواحد لا اعتبار به فكذلك ها هنا، وعلى هذا [97 أ/ 3] يستحب للإمام إذا علم أن خلفه من فاته السجود أن يطول القراءة حتى يقضي المأموم ما عليه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - هكذا فعل في صلاة الخوف بعسفان. قال في "الأم": وكذلك من فاته السجود مع إمامه لعذر أو مرض أو سها عنه إن قدر عليه قبل أن يركع إمامه في الركعة الثانية فله أن يسجد ويلحق بإمامه، لأنه يجوز أن يكون بينهما اختلاف في ركن واحد فإذا فرغ من قضاء السجود الذي قد فاته وقام، فإن قلنا إن المأموم لا يقرأ خلف الإمام في صلاة الجهر فإنه يتبع الإمام فيما هو فيه سواء كان الإمام قائماً أو راكعاً وإن قلنا: يلزمه أن يقرأ خلف الإمام بكل حال فيلزمه ها هنا أن يقرأ، ثم يركع معه فصار مدركاً للركعتين، وان لم يدرك مقدار ما يقرأ فيه. اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: يتبع الإمام في الركوع كما لو أحرم الإمام، وقد قرأ بعض الفاتحة فقبل أن يتمها ركع الإمام فإنه يتبعه في الركوع، ويتحمل عنه الإمام القراءة فكذلك هاهنا. ومنهم من قال: لا تسقط القراءة عنه هاهنا لأنه قد مر عليه وقت القراءة ويفارق [97 ب/ 3] المسبوق؛ لأنه لم يمر عليه وقت القراءة، فعلى هذا تتم القراءة وتلحق الإمام أينما وجده، وهذا اختيار القفال والأول أصح وهو اختيار القاضي الطبري وجماعة؛ لأن الشافعي رحمة الله عليه قال: يتبع الإمام إذا قام فأمره بمتابعة الإمام إذا قضى السجود، ولأنه لم يدرك من القيام ما أمكنه أن يقرأ فيه تمام القراءة فأشبه المسبوق، فإذا ثبت إنه يتبع الإمام في الركوع فتبعه ثم سلم الإمام وسلم هو معه صار مدركا للجمعة. وقال ابن سريج رحمه الله: وعلى هذا كل من أحرم خلف الإمام وأخذ في القراءة، فخاف إن كملها رفع الإمام وكان بطيء القراءة خلف إمامه فركع إمامه قبل أن يكمل هو القراءة وخاف أن يرفع قبل أن يركع معه هل يقطع القراءة ويتبعه؟ وجهان: وإن زال الزحام بعد أن ركع الإمام في الركعة الثانية، وفرغ من الركوع ورفع فإنه يتبعه في السجود قولاً واحداً؛ لأن عليه السجود فكان متابعة الإمام فيه أولى من انفراده عنه به، ولا فرق بين أن يكون قائماً بعد الركوع في الاعتدال أو ساجداً. وقال أبو حنيفة: لا يتبعه ويشتغل بقضاء ما عليه [98 أ/ 3] فإذا تبعه في السجودين حصلت له مع الإمام ركعة بسجدتيها إلا أنها ملفقة من ركعتين هل يكون مدركاً للجمعة فيه وجهان:

أحدهما: أنه يكون مدركاً وهو الصحيح، وبه قال أبو إسحاق لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدرك ركعة من الجمعة فليضف إليها أخرى". والثاني: أنه لا يكون مدركا للجمعة وبه قال ابن أبي هريرة، لأنها مبنية على الكمال فلا يدركها إلا بركعة كاملة، والملفقة ليست بكاملة فيصلي الظهر، وهذا لا يصح على الكمال فلا يدركها إلا بركعة كاملة لأن المسبوق يصلي من الأولى مع الإمام، والإمام يصلي الثانية ولا يمنع ذلك من الاحتساب، فكذلك هاهنا اتبعه في السجود، وان اختلفا في الاحتساب، فإذا قلنا بقول ابن أبي هريرة: هل يجوز أن يبني عليها صلاة الظهر أم يستأنفها، اختلف أصحابنا فيه، فقال ابن أبي هريرة: فيه وجهان بناء على القولين فيمن صلى الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة، وفيه قولان فإذا قلنا: هناك يجوز فهاهنا يبني على هذه الركعة ثلاث ركعات أخر، وان قلنا: بقوله إن من إن من صلى الظهر [98 ب /3] قبل فراغ الإمام من الجمعة لا يجوز فهذه الركعة باطلة فعليه أن يستأنف الظهر أربع ركعات. ومن أصحابنا من قال: له أن يبني عليها قولاً واحداً، لأنه معذور، والمعذور إذا صلى الظهر قبل الإمام يجوز قولاً واحداً ولأن القولين فيمن ترك الجمعة وصلى الظهر منفرداً وهذا دخل مع الإمام في الجمعة فلا يلزمه إعادة ما فعل معه، وأصل هذا أن الزحام هل يجعل عذراً؟ منهم من قال: هو بعذر كالمزمن فيبني قولا واحداً، ومنهم من قال: ليس بعذر، لأن أعذار الجمعة أغراض مانعة، والزحام ليس منها، وإن زال الزحام بعد أن سلم الإمام. قال في "الأم": سجد وصلى الظهر أربعاً، لأنه لم يدرك مع الإمام ركعة كاملة، والجمعة لا تدرك إلا بكمال ركعتين بسجدتين، وقيل: هذا يبني أم يستأنف ظهرا؟ على طريقين، والمذهب أنه يبني عليها، وقد نص هاهنا صريحا فلا معنى للطريقة الأخرى، وإن زال الزحام وقد ركع الإمام في الركعة الثانية ولم يفرغ بعد هل يشتغل بعض ما عليه من السجود أم يركع؟. قال في "الأم": ركع مع الإمام ولم يكن له أن يشتغل [99 أ/ 3] بالسجود إلا أن يخرج من إمامة الإمام. وقال في "الإملاء": فيه قولان: أحدهما: أنه لا يتبعه ولو ركع حتى يفرغ مما يقضي عليه. والثاني: إن قضى ما فاته لم يعتد به ويتبعه مما سواه فحصل فيه قولان، وجه الأول وهو الصحيح، وبه قال أبو حنيفة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الإمام ليؤتم به" والائتمام به أن يصنع كصنعه، ولأنه زحم عن السجود فإذا قدر عليه يلزمه الاشتغال بقضاء ما عليه من السجود، كما لو زال الزحام قبل الركوع، ووجه القول الثاني، وهو قول مالك رحمه الله قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تختلفوا على أئمتكم" ولأنه قال: "فإذا ركع فاركعوا" وهذا ركع ولأنه أدرك الإمام راكعا فيلزمه متابعته في الركوع، كما دخل في

الصلاة والإمام راكع، فإذا قلنا: يتبع فركع مع إمامه، فقد صار مواليا بين الركوعين فهل يحتسب بالركوع الأول أم بالركوع التاني؟ قال أبو إسحاق رحمه الله فيه قولان: أحدهما: يحتسب له بالركوع الثاني: لأن الركوع الأول لم يعقبه السجود، وإنما السجود يعقب الركوع الثاني فكان أولى بالاحتساب به، ولأنا أمرناه [99 ب / 3] بهذا الركوع مع علمنا بالركوع الذي قبله فوجب أن يكون محسوباً له. والثاني: يحتسب له بالركوع الأول وهذا أقيس القولين وأصحهما، لأن الأول قد صح فلا يلغو بترك ما بعده، كما لو ركع ونسي السجود وقام وقرأ وركع ثم سجد كان السجود مضافاً إلى الركوع الأول كذلك هاهنا. وأما قول الشافعي رحمه الله: فيركع معه في الثانية، وسيقط الأخرى يحتمل أنه أراد وتسقط الأولى، لأنه إذا كان في ذكر الثانية فالأخرى أولى، ويحتمل أنه أراد وتسقط الثانية لأنها هي الأخرى في الحقيقة. فإذا قلنا: يحتسب بالركوع الثاني فإنه يحصل له الركعة الثانية ويلغي الركعة الأولى ويكون مدركاً للجمعة قولاً واحداً، فإذا سلم أتى بركعة ويتشهد ويسلم. وإذا قلنا: يحتسب بالركوع الأول فقد حصلت له ركعة ملفقة، لأن القيام والقراءة والركوع يحصل من الركعة الأولى ويحصل السجود من الركعة الثانية، فهل يكون مدركا للجمعة على ما ذكرنا، فإذا تقرر هذا فإن قلنا: يركع مع الإمام ويتابعه فخالف واشتغل بالسجود فلا يخلو من ثلاثة أحوال؛ فإن كان جاهلاً به لا تبطل صلاته بما فعله. فإذا [100 أ/ 3] فرغ من السجود، فإن أدرك الإمام راكعا بعد فإن كان قد طوله فإنه يركع معه، وهل يحتسب بالركوع الأول أم الثاني؟ قولان على ما بيناه، ويكون الحكم فيه كما لو تابع، ولم يخالف حرفا بحرف ويلغي ما فعله بالجهل، وإن أدركه ساجداً يتبعه في السجود ويكون السجود المعتد به هو الباقي الذي عمله مع الإمام دون ما انفرد به، وتحصل له ملفقة، وهل يكون مدركاً للجمعة بها على ما بيناه، وإن أدركه جالساً في التشتهد فإنه يتبعه فيه ولا يكون مدكاً للجمعة، لأنه أدرك معه أقل من ركعة، وهل يبني الظهر عليها أم يستأنف؟ على ما ذكرنا، وإن كان علم أن عليه إتباع الإمام إلا أنه اشتغل بالسجود ونوى مفارقة الإمام وهو الحالة الثانية هل تبطل صلاته؟ يبنى على القولين فيمن أخرج نفسه من صلاة الإمام من غير عذر، فإن قلنا: تبطل صلاته فهاهنا تبطل أيضاً، وإن قلنا: لا تبطل فهاهنا هل تبطل؟ وجهان مبنيان على قولين فيمن صلى الظهر قبل فراغ الإمام من الجمعة. قال أبو إسحاق رحمه الله: ومن أصحابنا من قال هاهنا لا تبطل قولاً واحداً، لأنه لما قصد بإخراج نفسه من صلاته قضى ما عليه [100 ب / 3] من السجود، وتكميله صار في معنى المعذور، وصار بمنزلة المكبر بالظهر وهو مريض قبل صلاة الإمام، ثم صح من مرضه في صلاته فلا يفسد عليه، وإن كان مصليا في حال يصلي الإمام الجمعة. وهذا غلط؛ لأن هذا التخريج إنما يصح إذا كان جاهلاً وهو القسم الأول، وكلامنا إذا تعمد إخراج نفسه من صلاته، وهو يعلم أن عليه إتباعه فلا يشبه هذا ما أورده من

النظير. فإذا قلنا: إنه يجوز من الظهر، ظاهر المذهب أنه يحتاج إلى تحديا النية للظهر. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يحتاج إلى تجديد النية للظهر أم يكفي الثبات على النية الأولى؟ وجهان: وهذا بناء على أن الجمعة ظهر مقصور أو فرض مبدأ وإن علم عليه إتباع الإمام إلا أنه اشتغل بالسجود ولم ينو به مفارقة الإمام، وهو الحالة الثالثة تبطل صلاته قولاً واحداً، لأنه خالفه مع اقتدائه، ومنزلته منزلة رجل أدرك الركعة الثانية مع الإمام فنسي الإمام التشهد، فقام يقعد هو يتشهد لنفسه من غير نية الخروج من صلاته، أو كمن قدم السجود على الركوع فإنه تبطل صلاته كذلك هاهنا، هذا كله إذا قلنا عليه متابعة الإمام في الركوع. فأما إذا قلنا: عليه الاشتغال بقضاء السود [101 أ/ 3] فإذا فسجد فإذا فرغ من السجود فإن أدركه راكعاً ركع معه وتبعه فيما سواه فإذا سلم الإمام سلم معه، وقد أدرك الجمعة وإن أدرك الإمام ساجدا سجد معه ولا يحتسب به، وقد حصلت له الركعة الأولى، وهل يدرك بها الجمعة؟ وجهان: أحدهما: يدرك وهو اختيار أبي إسحاق، لأن ما يأتي به من السجود والإمام في الصلاة فكأنه أتى به مع الإمام. والثاني: لا يكون مدركا لها، وهو قول ابن أبي هريرة، لأنه لم يدرك مع الإمام ركعة فعلا لأنه يسجد بعد الركوع في الركعة الأولى منفرداً بفعله غير متابع فيه لإمامه، ولكن حصلت المتابعة والإدراك حكماً فهي ركعة ناقصة، فيكون حكمها حكم الركعة الملفقة على ما ذكرنا. هكذا ذكره القاضي الطبري، وقال غيره: إذا أدركه ساجداً هاهنا هل يتبعه أم يقضي ما عليه؟ وجهان: أحدهما: يقضي ما عليه لأن هذا التفريع على قول القضاء، وهو الصحيح يتابعه، لأنه لم يدرك سبباً من هذه الركعة، فيتابع الإمام فيما وجده بخلاف ما إذا زحم عن السجود، في الركعة الأولى يقضي هناك السجود، لأنه أدرك شيئاً من تلك الركعة فجاز [101 ب/101 ب/] أن يقضي السجود ليتمها بخلاف هذا، فإذا قلنا: إنه لا يقضي فيتابع فالحكم ما ذكرنا، وإن أدركه في التشهد فالحكم فيه كما لو أدركه ساجدا على ما بيناه، وإن كان قد سلم الإمام قبل أن يكمل هو السجدتين فلا يختلف أصحابنا أنه لا يكون مدركاً للجمعة. ونص عليه في "الأم "، ويكون فرضه الظهر وهل يبني أم يستأنف؟ على ما ذكرنا من الطريقين. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إنه يصير مدركاً للجمعة قولاً واحداً، وهذا غلط ظاهر هذا إذا قضى ولم يخالف، فأما إذا خالف وتابع إمامه في الركوع ولم يشتغل بقضاء ما عليه، فإن كان عالما بأن فرضه السجود فتركه تبطل صلاته قولاً واحدا كمن والى بين ركوعين عامداً تبطل صلاته، فيستأنف الإحرام ويدخل معه في الركوع حتى يدرك الجمعة وإلا فلا يكون مدركاً، وإن كان جاهلاً بذلك فظن أن عليه إتباع الإمام فركع معه لا تبطل صلاته قولاً واحداً، ويكون الركوع الثاني مع الإمام لغوا لا يعتد به، فإذا سجد مع الإمام سجدتين انضافت السجدتان إلى الركوع وتمت له ركعة بسجدتيها

إلا أنها ركعة ملفقة [102 أ/ 3] فيكون الحكم على ما ذكرنا. فإذا تقرر هذا اختار المزني أحد هذين القولين فقال: الأول أشبه بقوله قياساً على أن السجود إنما يجب له إذا جاء والإمام يصلي بإدراك الركوع، ويسقط بسقوط إدراك الركوع فاختلف أصحابنا فيما اختاره المزني من هذين القولين فمنهم من قال: أراد بالأول ما حكاه أولاً قبل حكاية "الإملاء"، وهو أنه يركع مع الإمام في الثانية، ويدع ما زحم عنه، ويدل عليه ما حكاه بعد ذلك عن الشافعي رحمه الله من مسألة السهو: وهي أنه لو سها عن الركعة الأولى بعد الركوع مع الإمام، ثم ظهر له عند ركوع الإمام في الركعة الثانية، قال في "الأم": ركعها معه وقضى التي سها، وهذا لا يختلف القول فيه ويفارق هذا الزحام؛ لأن السهو أتى من جهته فكان منسوباً إلى التفريط فيه فلم يجز له أن ينفرد عن الإمام لقضاء ما عليه. وقال القاضي أبو حامد رحمه الله: يجب أن تكون مسألة السهو على قولين أيضاً كالزحام وليس كذلك، والفرق ظاهر. وعلى هذا معنى قوله قياساً على أن السجود إنما يحسب له بإدراك الركوع [102 ب / 3]، أي: إن هذا المزحوم قد أدرك الركوع في الثانية فوجب أن يركع معه ليحسب له السجود، ومنهم من قال: بل أراد المزني أول القولين في "الإملاء" وهو أنه لا يتبع بل يقضي بدليل قوله: قياساً. على السجود يحسب له بإدراك الركوع، يعني هذا المزحوم قد أدرك مع الإمام الركوع من الركعة الأولى فعلى هذا معنى مسألة السهو أي: أن هذا لم يسنه عن الركعة الأولى حتى يؤمر بمتابعة الإمام فيما بقي بل كان معذوراً فيما زحم عنه عالماً به غير ساه، فليس له تركه إذا أمكنه والله أعلم. وقال بعض أصحابنا بخراسان: أراد بمسألة السجود إذا لم يكن قد ركع في الركعة الأولى، وهذا غلط لأنه نص فيما لو ركع على ما ذكرنا. فرع لو زحم المأموم عن السجود في الركعة الأولى حتى قضى الإمام سجوده، وقام الإمام فزال الزحام فسجد فلحق الإمام في القيام، فلما ركع الإمام في الثانية، ركع معه، فلما سجد الإمام زحم المأموم عن السجود حتى قضى الإمام سجوده وتشهد، فزال الزحام، وسجد سجدتين قبل أن يسلم الإمام، فإن [أل/ 103 _ 3] هذا قد حصلت له ركعتان، وهل يدرك بهما الجمعة؟ قال أبو إسحاق: يدرك بهما الجمعة، وهو اختيار أبي حامد؛ لأن المأموم إذا تأخر سجوده عن الإمام بالعذر كان كما لو سجد معه. وقال القاضي الطبري فيه وجهان: أحدهما: هذا، والثاني: لا يدرك بهما الجمعة لأنه لم يأت بركعة بسجدتيها مع الإمام، وإنما أتى بالسجود في الركعتين جميعا منفرداً به، وقال أبو حامد: وكذلك لو تأخر أخر سجوده عن الإمام حتى سلم الإمام فإنه إذا

كان بعذر كان كما لو سجد معه وهذا صحيح. فرع لو زحم المأموم عن الركوع في الركعة الأولى فلم يقدر على الركوع حتى ركع الإمام ثم زال الزحام والإمام في الركوع الثاني، فإنه يتبعه في الركوع قولا واحداً، لأن الركوع فرضه فكان متابعته به أولى، فإذا ركع معه وسجد تشهد معه، فإذا سلم الإمام قضى ركعة أخرى وبني عليها ويكون مدركاً للجمعة قولاً واحداً، لأنه أدرك مع الإمام ركعة بسجدتيها. وقال القاضي الطبري رحمه الله: هي ملفقة فهل تحصل له الجمعة؟ [103 ب/3] على الوجهين، والأول أصح وهو اختيار أبي حامد. فَرْعٌ آخرُ لو دخل رجل والإمام في الركوع من الركعة الثانية، فدخل معه فلما سجد الإمام زحم عن السجود، ثم زال الزحام فسجد، ثم تبع الإمام في التشهد فهل يكون مدركاً للجمعة بهذه الركعة؟ على الوجهين، ولو لم يزل الزحام حتى سلم الإمام لم يكن ماركا للجمعة وجهاً واحداً، وغلط بعض أصحابنا بخراسان وذكر فيه وجهاً آخر وليس بشيء. مسألة: قال: ولو أحدث في صلاة الجمعة فتقام رجل بأمره أو بغير أمره، وقد كان دخل مع الإمام قبل حدثه فإنه يصلي بهم ركعتين. وهذا كما قال: إذا أحدث الإمام في الصلاة، فهل يجوز له أن يستخلفه؟ قولان: أحدها: لا يجوز نص عليه في "القديم" و"الإملاء" لأنه يؤدي إلى تناقض الأحكام، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أحرم بأصحابه وهو جنب ثم تذكر، فقال لأصحابه: "كما أنتم " ومضى ورجع ورأسه تقطر ماء ولم يستخلف، فدل أنه لا يجوز. والثاني: يجوز نص عليه في "الأم ": وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق [104 أ/ 3]، والدليل عليه ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "استخلف أبا بكر الصديق رضي الله عنه في الصلاة، ثم وجد خفة فخرج يهادي بين اثنين فدخل المسجد، وأبو بكر يصلي بالناس، فتقدم وصلى بهم وتأخر أبو بكر"، فصار النبي - صلى الله عليه وسلم - إماما بعد أن لم يكن إماماً لهم. وما ذكروه لا صحة فيه، لأن الاستخلاف جائز ويجوز أن لا يستخلف ويعود سريعا فيصلي بهم، وعندنا لا فرق بين أن يكون عند سبق الحدث أو حدث العمد. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يجوز إلا عند سبق الحدث، ولو أحدث عمداً تبطل صلاة المأمومين، وعندنا لا فرق بين أن يستخلف هو أو يستخلف واحد من المأمومين من غير أمره، أو يقدم واحد من غير استخلاف واحد. وعند أبي حنيفة رحمه الله إذا

سبقه الحدث ولم يستخلف هو بطلت صلاتهم، ولو خطب واحد وصلى آخر صلاة الجمعة هل يجوز؟ قولان مبنيان على هذين القولين: أحدهما: لا يجوز لأن الخطبتين كركعتين، والثاني: وهو الأصح يجوز، فإذا قلنا: لا يجوز فإن كان حدثه قبل افتتاح الصلاة لم يجز أن يقدم [104 ب/3] واحد، فإن كان رجوعه قريباً أشار إليهم أن امكثوا وخرج هو وتطهر ورجع وينو عليه وإن كان يطول، فقد حكي المزني رحمه الله عن الشافعي رحمة الله عليه في "الجامع الكبير": أن الإمام إذا أحدث في صلاة الجمعة فإنهم يصلون فرادى ركعتين. قال أبو إسحاق رحمه الله: يشتبه أن يكون هذا علي هذا القول فبقاءهم على حكم الجمعة حيث منعهم من أن ينصبوا إماماً غير الأول إتباعاً له. وحكى المزني رحمه الله في "جامعه الصغير" أنه إن كان هذا بعد أن صلى بهم ركعة أتموها جمعة، وإن كان قبل ذلك أتموها ظهراً، أو ينقضوها ويستأنفون الجمعة، بأن يأمروا واحداً يخطب بهم ويصلي الجمعة، وهذا أصوب قياساً على المسبوق وإن كان هذا في سائر الصلوات أتموا لأنفسهم بكل حال. وإذا قلنا: إنه يجوز الاستخلاف فإن كانت جمعة، فإن استخلف في أثناء الخطبة فغيه وجهان: أحدهما: يجوز لأن الخطبتين كركعتين، والثاني: لا يجوز لأنها ذكر للصلاة قبلها فلا يجوز أن يستخلف فيه، كالأذان، وان كان الاستخلاف [105 أ/ 3] بعد الفراغ من الخطبة، وقبل الإحرام بالجمعة، فإن استخلف من حضر الخطبة جاز، لأنه من أهل الجمعة وأصل فيها ألا ترى أنه لو خطب بهم وهم أربعون فقبل أن يحرم بهم أحرم بهم غير الإمام الخطيب صح، ولو استخلف من لم يحضر الخطبة لا يجوز، لأنه ليس من أهلها، بدليل أنه لو خطب بأربعين فحضر أربعون بعد الخطبة فعقدوا الجمعة بنا، على خطبة هذا الإمام لا يجوز. وقال بعض أصحابنا بخراسان: في هذا قولان: وفيه نظر وإن كان الاستخلاف بعد افتتاح الصلاة فإن لم يكن أحرم معه بها قبل حدثه لا يجوز سواء حضر الخطبة أو لم يحضرها. نص عليه في "الأم"؛ لأنا نراعي قبل الإحرام بالصلاة من حضر الخطبة وبعد الإحرام بها من دخل معه في الصلاة. وقال صاحب "الإفصاح": ويحتمل عندي أن يجوز قيامه على ما قال الشافعي في جواز صلاة الجمعة خلف الصبي في أحد القولين؛ لأن صلاة الصبي نافلة، وإذا جاز أن يصلي الجمعة خلف من يصلي نافلة، جاز أن يصلي خلف من يصلي [105 ب/ 3] الظهر، وهذا هو خلاف النص وإن استخلف من كان قد أحرم بالصلاة قبل حدثه، فإن كان في الركعة الأولى كان تقديمه سواء كان قد أحرم قبل الركوع أو بعده وسواء كان قد حضر الخطبة أو لم يحضر، نص عليه في "الأم"؛ لأنه إذا حضر الخطبة كمل

بنفسه وصلى وهو ممن تنعقد به الجمعة، وإذا لم يحضر الخطبة فإنه علق صلاتة على صلاة الإمام قبل حدثه، فصار كاملاً بإمامته على طريق التبع له، وصار من أهل الجمعة بإحرامه قبل حدثه فجاز تقديمه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: قال في البويطي: إذا سبقه الحدث في الصلاة لا يستخلف إلا من سمع الخطبة ففي المسألة قولانء وإن كان في الركعة الثانية، فإن كان بعد الركوع فاستخلف من أدركه. قال أصحابنا: لا يجوز، لأن فرضه الظهر، لأنه أدرك من الجمعة أقل من ركعة، ولا يجوز أداء الجمعة خلف من يصلي الظهر، وخرج صاحب "الإفصاح" وجهاً آخر أنه يجوز تقديمه فيكون له الظهر ويكون للمأمومين الجمعة، وإن كان قد أدركه هذا الخليفة قبل أن يفوته الركوع في الركعة الثانية، أما قبل الركوع [106 أ/ 3] أو في حال الركوع فإنه يجوز تقديمه، لأنه صار كاملا بإمامه من أهل الجمعة بإحرامه خلف الإمام الخطيب قبل حدثه، فجاز أن يكون إماماًأ لهم في فعل الجمعة. وذكر الشافعي رحمة الله عليه. مسألة: في الإمام وصورتها: إذا خطب الإمام يوم الجمعة، ثم أحرم بالصلاة وأحرم الناس خلفه، ثم أحدث فقدم رجلاً لم يدرك الخطبة إلا أنه كبر خلفه قبل الركوع في الركعة الأولى وقبل حدثه فصلى الثاني بالناس تمام الركعة، ثم أحدث فقدم رجلا أدرك معه الركعة الأولى فصلى هذا الإمام الثالث ركعة أخرى وسلم ويسلم الناس خلفه، وتكون جمعة له ولهم ولمن أدرك الركعة الأخيرة من صلاته، وإن كان هذا الثالث لم يدرك الركعة الأولى وإنما أدرك الركعة الأخيرة. قال الشافعي رحمه الله: يصلي بهم ركعة أخرى، ثم تقدم من يسلم بهم من أدرك من أول الصلاة ويضيف هو إلى الركعة التي صلاها ثلاث ركعات تكون له ظهراً، قال القاضي الطبري: هذا يخالف أصله، لأنه يدل على جواز الجمعة خلف من يصلي الظهر [106 ب/ 3] ومذهب الشافعي أنه لا يجوز ويدل أيضا على أن المأموم إذا أدرك الركعة الثانية من الجمعة ثم أحدث الإمام فاستخلفه لم تجز جمعته؛ لأنه لم يدرك الركعة الأولى وإذا لم تجز جمعته يجب أن لا يجوز تقديمه لما ذكرنا أن الجمعة خلف الظهر لا يجوز فتخرج في المسألتين قولا آخر لأجل هذه المسألة ويمكن أن يقال في هذه المسألة الأخيرة انعقدت صلاته جمعة فجاز تقديمه ولم تجز جمعته، لأنه لم يكمل بنفسه إذا لم يدرك الركعة الأولى، ولم يكمل بإمامه؛ لأن إمامه لم يحضر الخطبة وإنما هو تابع للإمام الأول. وقال الشيخ أبو حامد رحمه الله: مذهب الشافعي أنه جائز ويكون له ظهراً ولهم جمعة لهذه المسألة، قال القفال رحمه الله: وأعجب منه أن الشافعي رحمة الله عليه قال: لو أدرك مسبوق هذا الخليفة في الركعة الثانية التي استخلف فيها صحت جمعته، فجوز جمعة المسبوق ولم يجوز به جمعة الخليفة، فإن قيل: قد أدرك هذا المستخلف ركعة من الجمعة فكيف يكون فرضه الظهر؛ ولو أدرك المأموم ركعة [107 أ/ 3] ابتداء

كان له الجمعة؛ قلنا: الفرق ما ذكره الشيخ أبو حامد رحمه الله قال: إذا أدرك معه ركعة وسلم إمامه فقد أقيمت الجمعة فصح أن يضيف إليها أخرى، وليس كذلك المستخلف؛ لأنه فارق القوم قبل أن أقيمت الجمعة فكان فرضه الظهر، فخرج من هذا أنه إن استخلف من أدرك معه الركعة الثانية يجوز قولاً واحداً. ذكره أبو حامد، وعلى قول بعض أصحابنا قولان: لأنه يصلي ظهراً على قول، وفي الجمعة خلف الظهر قولان. وهل يصلي هو جمعة أو ظهراً؟ قولان: وإن لم يكن أدرك معه ركوع الثانية هل يجوز استخلافه قولان. وقال ابن سريج رحمه الله في جواز ظهره: يحتمل أن يقال قولان، لأنه ظهر مع القدرة على الجمعة إذ يمكنه أن لا يتقدم حتى يتقدم من أدرك الركعة الأولى، ويحتمل أن يقال: يجوز قولاً واحداً لأنه معذور في التقدم هذا كله في صلاة الجمعة، فأما في سائر الصلوات على القول الذي يجوز الاستخلاف لا يخلو حدثه من أحد أمرين، فإن كان قبل الركوع يجوز له أن يقدم غيره سواء كان قد أحرم [107 ب/ 3] قبل حدثه خلفه أو لم يحرم ويخالف الجمعة، لأنه لا يجوز أن يكون خليفته في صلاة الجمعة من ليس في صلاة الجمعة؛ لأنه إذا لم يعلق صلاته على صلاة الإمام قبل حدثه يلزمه أن يصلي الظهر فلم يجز تقديمه في صلاة الجمعة بخلاف سائر الصلوات، لأنه ليس من شرطها الدخول في صلاة الإمام فيمن لم يحرم خلفه يصلي تلك الصلاة، كمن أحرم خلفه فاستوي من أحرم خلفه ومن لم يحرم، وإن كان ذلك بعد الركوع في الأولى أو الثانية أو الثالثة أو الرابعة، فإن قدم من أحرم بالصلاة قبل حدثه جاز، لأنه لما أحرم مع إمامه لزمه ترتيب الإمام، فإن لم يكن أحرم معه فإن كان إذا أحرم معه كان على ترتيب الإمام مثل إن استخلف في الثالثة من الظهر صح، وإن كان يخالف ترتيب الإمام مثل إن استخلف في الثانية أو الرابعة أو الثالثة من المغرب لا يجوز لأنه يخالف ترتيب الإمام، وهو لم يعلق صلاة نفسه على صلاته في حال إمامته حتى يجوز له ترك ترتيب صلاة نفسه وحين جوزنا الاستخلاف إذا [108 أ/ 3] كان قبل حدثه فعل معه في الركعة الثانية مثلاً فترك ترتيب نفسه، ويراعي ترتيب الإمام، لأنه في حكمه هذا إذا استخلف من خرج من الصلاة قبل الفراغ، فأما بعد الفراغ إذا أراد أن يستخلف المسبوق فقد ذكرنا فيما تقدم. فرع قال الشافعي رحمه الله في "الأم ": لو صلى الإمام بأربعين رجلاً فصاعداً الجمعة، ثم ذكر بعد الفراغ منها أنه كان جنبا أو محدثاً، فإن صلاة المأمومين صحيحة؛ لأن المأموم إذا صلى خلف إمام جنب، ولم يعلم بجنابته فإنه تجوز صلاته، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم.

وذكر ابن أبي أحمد فيه قولا مخرجاً أنه لا تجوز جمعتهم، لأن الإمام فيها شرط ولم يحصل، وهذا غلط لأن الجماعة شرط، وقد حصلت كما أن للإمام شرط في الجماعة في غير الجمعة، بفساد صلاته لا تفسد جماعتهم. وأما الإمام فصلاته باطلة وعليه أن يتطهر ويعيد الظهر، فإن أعاد الخطبة بطائفة منهم الجمعة لا يجوز، لأن المأمومين أدوا الجمعة مرة فلا يجوز لهم فعلها مرة أخرى، ولهذا لا يجوز أن يصلي الجمعة بطائفة أخرى لم [108 ب/ 3] تصل الجمعة، لأن فرض الجمعة قد أدي مرة. قال الشافعي رحمه الله: فإن لم يعلم وأعاد الخطبة وملى بطائفة منهم الجمعة، ثم علم أن فرضه الظهر فإنه يستحب أن يستأنف، ولو بنى عليها أجزأه، لأن نية الجمعة تجوز أن يؤدي بها صلاة الظهر، ويخالف هذا المسافر إذا نوى القصر ثم نوى الإتمام، فإنه لا يستحب له أن يستأنفها والفرق من وجهين: أحدها: أن في الابتداء يتخير بين القصر والإتمام وهاهنا لا يتخير. والثاني: أن المسافر نوى الظهر التي هي فرضه بعينها وهذا قد نوى الجمعة ولم ينو الظهر فافترقا، وإن كانوا مع الإمام أربعين رجلاً لا تنعقد الجمعة وصلاتهم باطلة، وعليه أن يتطهر ويعيد الخطبة والصلاة بهم. فَرْعٌ آخرُ لو علم الإمام أن الأربعين كلهم محدثون أعادوا الظهر دون الإمام، ولو كانوا عبيداً يعيدون بأجمعهم. فرع إذا جوزنا الاستخلاف فهل يجوز من غير عذر؟ قال القاضي أبو حامد: فيه قولان. مسألة: قال: ولا جمعة على مسافر ولا عبد. الفصل وهذا كما قال: إذا دخل المسافر بلداً في يوم الجمعة وهو [109 أ/ 3] مجتاز لا ينزل فيه أو نزل ليرحل دون أربعة أيام لا تجب عليه حضور الجمعة للخبر الذي ذكرنا. وروى رجاء بن مرجى الحافظ في سننه عن تميم الداري رضي الله عنه: عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمعة واجبة إلا على خمسة: امرأة، أو صبي، أو عبد، أو مريض، أو مسافر"، ولأنه لم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى الجمعة في أسفاره، وقال الزهري والنخعي رحمهما الله: إذا سمع النداء وجبت عليهم الجمعة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الجمعة على من سمع النداء"، وهذا مخصوص بما ذكرناه، ولو حضر الجمعة كان أولى ولا

تنعقد به الجمعة. وقال أبو حنيفة رحمه الله: تنعقا به الجمعة حتى قال: لو اجتمع المسافرون وأقاموا الجمعة، ولم يختلط بهم غيرهم جاز وهكذا قال في العبيد. وهذا غلط لأنه غير مستوطن أو لا يجب عليه الجمعة. فأشبه النساء، وأما العبد فلا يجب عليه الجمعة. قال الشافعي: وأحب للعبد إذا أذن له السيد أن يحضر، وهذا لأن الجمعة مي مبنية على الكمال وهذا ليس بكامل، ولأنه مملوك المنفعة محبوس على السيد فأشبه المحبوس على الدين [109 ب/ 3]، وقال الحسن وقتادة رحمهما الله: يجب على العبد الذي يؤدي الضريبة، وبه قال الأوزاعي. ويحكى عن داود مطلقاً أنه قال: يجب عليه الجمعة، وعن أحمد رحمه الله روايتان. فرع المدبر والمأذون والمكاتب كالعبد، وأما المعتق نصفه، فإن كان بينه وبين سيده مهايأة فوافق الجمعة يوم العيد يستحب له حضور الجمعة؛ لأنه لا حق عليه لمولاه في ذلك اليوم، وإن لم يحضر لهم يأثم به، لأنه ليس من أهل فرض الجمعة ما دام فيه جزء من الرق. وقد قال في "الأم": لا أرخص له في تركها ولا تبين لي أنه يخرج كما يخرج الحر فجعلها في حقه آكد من العبد لأنها تجب عليه، وإن وافقت يوم سيده فهو فيها كالعبد القن. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يلزمه في يومه؟ قولان: أحدهما: يلزمه لأنه حر في هذا اليوم، وهذا غلط ظاهر. فَرْعٌ آخرُ إذا صلى العبد الظهر، ثم أعتق لم تلزمه صلاة الجمعة لأنه أدى صلاة الوقت وكذلك المسافر إذا أقام والصبي إذا بلغ، وأما المرأة فلا جمعة عليها، فإن كانت عجوزاً فالأفضل لها عند إذن الزوج حضورها نص عليه في "الأم " وهذا فيمن لا يستهين [110 أ/ 3]. وإن كانت شابة فالأفضل لها أن لا تحضر. وقال القاضي أبو علي البندنيجي: ولا تحضر غير الجمعة أيضاً من الصلوات إلا صلاة العيدين، وهذا الاستثناء غريب لم يقله غيره، وروي عن أبي عمر الشيباني قال: رأيت أبا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يخرج النساء من الجامع يوم الجمعة، ويقول: "اخرجن إلى بيوتكن فهي خير لكن ". وأما المريض: فلا جمعة عليه والمريض الذي يجوز ترك الجمعة به هو أن لا يمكنه حضورها إلا بمشقة تلحقه غير محتملة من زيادة مرضه ونحو ذلك، ولو حضر المريض الجامع تعين عليه أداؤها؛ لأن عذر المريض زال بحضور الجامع بخلاف المرأة،

والمسافر والعبد إذا حضر ولا يلزمهم ذلك، ولو اجتمع أربعون مريضاً فصلوا الجمعة انعقدت بهم الجمعة لهذه العلة، ثم قال: ولا من له عذر، وقد ذكرنا الاعتذار في باب الجماعة. قال أصحابنا: كل ما كان عذراً في ترك الجماعة فهو عذر في ترك الجمعة. وإن كانت الجماعة غير واجبة فيكون تركها من غير عذر فما سقطت معه الكراهية في الجماعة كان عذراً إذا وجد في وقت الجمعة. وقد روى ابن [110 ب/ 3] عباس رضي انه عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سمع النداء فلم يجب فلا صلاة له إلا من عذر، قالوا: يا رسول الله وما العذر؟ قال: خوف أو مرض ". فرع قال في "الأم ": ولا جمعة على غير البالغين، وأحب لهم حضورها ليتعودوا فعلها ويتمرنوا عليها. فَرْعٌ آخرُ الأعمى إن كان له قائد يلزم حضورها، ويلزمه أن يستأجر القائد إن كان لم يجد متبرعاً، وكذا من لم يقدر لكبر سن أو زمانه يلزمه أن يكتري من يحمله، وإن لم يكن له قائد لم يلزمه حضورها، لأنه يخاف الضرر مع عدم القائد ولا يخاف مع القائد. فَرْعٌ آخرُ إذا اجتمع العيد والجمعة فحضور العيد لا يسقط فرض الجمعة عن أهل البلد. وروي عن ابن الزبير وابن عباس رضي الله عنهم أنهما قالا: تسقط الجمعة عن الكل في هذا اليوم إذا صلوا العيد، ويحكى عن أحمد رحمه الله هذا. وقال عطاء رحمه الله: اجتمع يوم جمعة ويوم فطر على عهد ابن الزبير فقال: عيدان قد اجتمعا في يوم واحد فجمعهما جميعاً وصلاهما بكرة لم يزد عليهما حتى صلى العصر. رواه أبو داود، وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[111 أ/ 3] قال: "إذا اجتمع في يومكم هذا عيدان، فمن شاء أجزأه من الجمعة وإنا مجمعون" وهذا غلط لظاهر قوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ} [الجمعة: 9] ولم يفصل ولأن الجمعة من فرائض الأعيان فلا تسقط بصلاة العيد التي هي نفل على قول البعض، وفرض على الكفاية على قول البعض، وأما خبرهم قلنا: قال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله في إسناده مقال، ولو صح أجزأه من الجمعة، أي: عند حضور الجمعة، ولا يسقط عنه الظهر بحال وهذا عندنا في أهل

العوالي. وأما فعل ابن الزبير فلا يجوز إلا أن يحمل على مذهب من نوى تقديم صلاة الجمعة قبل الزوال. وقد روي ذلك عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهما، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه بلغه فعل ابن الزبير فقال: أصاب السنة، وقال عطاء: كل عيد حين يمتد الضحى والأضحى والفطر وقال أحمد: حين سئل: الجمعة قبل الزوال أو بعده؟ إن صليت قبل الزوال فلا أعيب. وكذا قال إسحاق، فعلى هذا يشبه أن يكون ابن الزبير صلى الركعتين على أنهما جمعة وجعل [111 ب / 3] العيد في معنى التبع لها والله أعلم. مسألة: قال: ولا أحب لمن ترك الجمعة بالعذر أن يصلي حتى يتأخر انصراف الإمام ثم يصلي جماعة. وهذا كما قال كل من أخبرنا له ترك الجمعة من أهل الأعذار يستحب له أن يؤخر صلاة الظهر حتى يفرغ الإمام من الصلاةء أو يتحقق أنه لو قصدها الآن لا يدركها ولا ركعة منها، وإنما استحببنا له هذا رجاء أن يقدر على إتيانها، فيكون إتيانها خيراً له فيصلوا الجمعة الكاملة، ولأن الجمعة هي فرض عام، والظهر فرض خاص فاستحب تأخير الخاص عن العام، فإن صلى قبل صلاة الإمام يجوز لأنها فرضه، ثم إن حضر الجامع بعد ذلك وصلى الجمعة لا تبطل ظهره، والأولى فرضه والثانية نفل. وقال في "القديم": يحتسب الله تعالى له بأيتهما شاء، فإذا فعلها لم تتعين واحدة منهما، وهذا هو الأصح؛ لأنه لما فعل الظهر سقط عنه فرضه بذلك، ولم يجب عليه غيره فإذا فعل الجمعة كان متطوعاً بها. وأما ما ذكروه، قلنا: هذا التخيير إنما كان قبل الفعل فأما إذا فعل فقد تعين ما فعل أولا [112 أ/ 3] كالمكفر إذا كفر بأحد الأنواع تعين القبض وما يفعل بعد ذلك كان تطوعاً. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا سعى إليها يبطل ظهره بمجرد السعي، وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: يبطل ظهره إذا أحرم بالجمعة، وهذا غلط لأن الصلاة الصحيحة لا تبطل بالسعي إلى غيرها، والإحرام بها كسائر الصلوات. ومن أصحابنا من قال: العذر ضربان ضرب يرجى زواله، وضرب لا يرجى زواله، فما لا يرجى زواله مثل الأنوثة والمرض الشديد، فالمستحب تقديم الظهر في أول وقتها لصاحب هذا العذر؛ لأنه لا يرجى زوال الأنوثة والمرض الشديد في ساعة وساعتين، وضرب يرجى زواله وهو على ما ذكرنا، وهذا خلاف نص الشافعي لأنه يملك بما ذكرنا. وصرح في "الأم" فقال: ولا أحب لأحد ممن له ترك الجمعة بالأعذار من الأحرار ولا من النساء والعبيد أن يصلي يوم الجمعة حتى ينصرف الإمام أو يتأخر انصرافه لما ذكرنا من العلة. فإذا تقرر هذا، فهؤلاء المعذورون لو أرادوا أن يصلوا جماعة في مسجدهم أو بيتهم لا يكره بل يستحب ذلك. وقال أبو حنيفة

[112 ب /3] ومالك رحمهما الله: يكره لهم ذلك، لأن زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يخل من المعذورين ولم ينقل أنهم كانوا يصلون جماعة، ولو استحب ذلك أمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا غلط للأخبار الواردة في فضل صلاة الجماعة، ولأن كل من كان من أهل صلاة الفرض استحب له فعلها جماعة كما في غير يوم الجمعة، وأما ما قالوا: لا يصح لأنه يحتمل أنهم كانوا يصلون الجمعة لقرب المسجد من دورهم وحرصهم على الصلاة خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإذا تقرر هذا فقد قال في "الأم": وأحب لهم إخفاء جماعتهم لئلا يتهموا بالرغبة عن صلاة الإمام. قال أصحابنا: هذا فيمن كان عذره خفياً فأما إذا كان عذره ظاهراً جلياً لا يستحب له الإخفاء، لأنه لا يتهم هكذا وهو عذر السفر والرق وهذا غلط بخلاف النص، لأن الشافعي رحمه الله استحب هذا للعبيد وأهل السجن ولو زالت أعذارهم قبل أن يصلي الإمام الجمعة أو في أثناء ظهرهم لا يؤثر في صلاتهم. وحكي عن ابن سريج رحمه الله أنه قال: إن زال عذره في أثناء صلاته والجمعة [113 أ/ 3] معرضة للإدراك تبطل صلاته، كالمتيمم إذا رأى الماء في صلاته تبطل عنده. فرع لو كان قوم من أهل الجمعة فأتتهم الجمعة ملوا الظهر قضاء، ويستحب لهم الجماعة نص عليه في "الأم "، وعند أبي حنيفة يكره ذلك، وأما إذا صلى من لا عذر له صلاة الظهر قبل صلاة الإمام. قال في "الجديد": عليه أن يعيدها إذا فرغ الإمام من الجمعة وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وزفر رحمهم الله. وقال في "القديم" أساء وأجزأه، ويجب عليه حضور الجمعة، فإذا حضرها دارأها فعند الله سعة أن يكتب له أجر أحدهما إذا كملهما. ففي المسألة قولان: وأصل هذين القولين القولان في فرض الوقت، قال في "الجديد": فرضه الجمعة يوم الجمعة لا الظهر وهو الأصح لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فعليه الجمعة يوم الجمعة" على ما ذكرناه ولأنه يأثم بتركها فكانت هي الواجبة في نفسها كسائر الصلوات. وقال في "الجديد": فرضه الظهر ويجوز إسقاطه بالجمعة، لأن الجمعة لو كانت في الأصل ما قضى الظهر عنا فواتها بل يقضي الجمعة، وبه قال أبو حنيفة ومن أصحابنا من [113 ب/ 3] قال: القولان إذا صلى الظهر في وقت لو سعى إلى الجمعة أدركها فأما إذا صلى في وقت أو أراد السعي إليها لم يدركها لبعد الطريق تجوز صلاته قولاً واحداً والصحيح خلاف هذا، لأن الشافعي نص وقال: لا تجوز إلا بعد فراغ الإمام ولم يفصل هذا التفصيل، وقال أبو حنيفة: يصح ظهره ويلزمه السعي إلى الجمعة فإذا سعى إليها بطل بالأخذ في السعي، وعند أبي يوسف ومحمد بالإحرام بها. وروي عن محمد أنه قال: إن الواجب إحدى

الصلاتين إما الظهر وإما الجمعة لا يعينها فأيتها فعل شاء أنها الواجبة. فَرْعٌ آخرُ قال أبو إسحاق رحمه الله: لو اتفق أهل بلد على فعل الظهر أتموا بترك الجمعة إلا أنه يجزيهم؛ لأن كل واحد منهم لا تنعقد به الجمعة، والصحيح أنه لا تجزيهم على قوله الجديد، لأنهم صلوا الظهر وفرض الجمعة متوجبة عليهم. فَرْعٌ آخرُ العبد والمرأة إذا أحرما بالجمعة، ثم أراد العدول بها إلى الظهر فيه وجهان بخلافه المريض والمسافر. مسألة: قال: ومن مرض له ولد أو والد فرآه منزولاً به. الفصل وهذا [114 أ/ 3] كما قال: قد ذكرنا أنه يجوز بترك الجمعة بالعذر، والأعذار ثلاثة في الجملة عذر في نفسه، وعذر في أهله، وعذر في ماله، فإن كان مريضاً على ما ذكرنا، أو خاف أن يحبسه سلطان، أو من لا يقدر على الامتناع منه بالغلبة، أو أصابه غرق أو حور أو سرق، يرجو في تخلفه عن الجمعة مع ذلك أو تدارك شيء فات منه، أو ضل له ولد أو مال أو رقيق أو حيوان يرجو تداركه ووجوده يجوز له ترك الجمعة نص عليه في "الأم". قال: فإن خاف أن يحبسه السلطان بحق المسلم في دم أو حد لم يسعه التخلف عن الجمعة ولا الهرب في غير الجمعة عن صاحبه إلا أن يرجو أن يدفعوا الحد بعفو، أو صلح وهو القصاص. أو حد القذف فأرجو أن يسع ذلك بأنها الحد للزنا أو نحوه الذي لا يرجو سقوطه فلا يجوز له تركها، وان كان يخاف غريماً، فإن كان معسرا وسعه التخلف وإلا فلا. وجملة ذلك أن العذر الذي يجوز له ترك الجماعة اختياراً يجوز له ترك الجمعة الواجبة له على ما ذكرنا، وإن كان له مريض من يوم الجمعة بينه وبينه [114 ب/ 3] نسب أو سبب أو صداقة فإن كان منزولاً به وخاف إن حضر الجمعة أن تفوته نفسه فله أن يتأخر عن الجمعة سواء كان له قيم يقوم بأمره أو لا، وكذلك إن مات يتركها لتجهيزه والصلاة عليه، لأنه يلحقه بفوات ذلك من الألم أكثر مما يلحقه في مرض، أو أخذ مال. وروي أن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه كان يستجمر للجمعة، فاستصرخ على سعيد بن زيد بن نفيل فترك الجمعة ومضى إليه بالعقيق، فإنه كان ابن عمه، لأن زيد بن عمرو بن نفيل، وعمر بن الخطاب بن نفيل رضي الله عنهم أبناء عم لحّاً، وان لم يكن منزولاً به ولكنه شديد المرض. قال أبو إسحاق: لا يجوز له ترك الجمعة إذا كان له

قيم سواه وبه قال أبو حامد. وقال ابن أبي هريرة: يجوز له ترك الجمعة، لأن قلبه يتعلق بمفارقته وان لم يكن له قيم سواه، فلا شك أنه يجوز له تركها، لأن حفظ المسلم أولى من صلاة الجمعة، وإن كان الرجل أجنبياً منه فلا يجوز له ترك الجمعة إلا بشرطين: أحدهما: أن يكون منزولاً به. والثاني: أن يكون ضائعاً لا قيم [115 أ/ 3] له غيره بخلاف القريب، لأن شغل القلب هناك خلافه هنا، وإن كان له قيم إلا أنه مشغول عنه في وقت الجمعة يكون ذلك بمنزلة من لا قيم له. مسألة: قال: ومن طلع عليه الفجر فلا يسافر حتى يصليها. وهذا كما قال: السفر ليلة الجمعة جائز ما لم يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر. فالمستحب أن لا ينشأ السفر، لأن الشافعي رحمه الله قال في "الأم": لا أحب في الاختيار أن يسافر بعد طلوع الفجر وإن استحب الترك. وقال: بعده لم يكن له أن يسافر بعد الفجر يوم الجمعة. وظاهره أنه لا يجوز ذلك، وقال في "القديم": له أن يسافر لأن الفرض يلزم بدخول الوقت، وهذا نصر في حرملة فحصل قولان: أحدهما: يجوز ما لم تنزل الشمس. قال أبو إسحاق رحمه الله: وهذا أوضح وبه قال عمر والزبير وأبو عبيدة بن الجراح والحسن وابن سيرين وأبو حنيفة ومالك رضي الله عنه، واحتجوا بما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجه زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن وواحة في جيش مؤتة، فتخلف [115 ب/3] عبد الله بن رواحة فرآه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما خلفك؟ فقال: الجمعة، فقال: "لروحة في سبيل الله أو غدوة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها". قال: فراح منطلقاً. وروي أنه قال له: "لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما أدركت غزوتهم" وروي عن عمر رضي الله عنه قال: إن الجمعة لا تحبس مسافراً. والقول الثاني: وهو اختيار أبي حامد، وهو ظاهر المذهب أنه لا يجوز له ذلك، وبه قالت عائشة وابن عمر رضي الله عنه وأحمد رحمه الله: إلا أن يكون السفر إلى الجهاد، وهذا لأن الجمعة واجبة والتسبب إليها واجب، فإذا لم يجز السفر بعد وجوبها لا يجوز بعد وجوب السبب إليها؛ ولأنه وقت الرواح إلى الجمعة وقد يجب ذلك على من بعدت داره: وأما الخبر الذي ذكر وقلنا: إنه يحتمل أنه كان بعثه قبل يوم الجمعة فتأخر لأجل الجمعة. وأما خبر عمر رضي الله عنه قلنا: قاله للمسافرين ونحن نقول: لا تجب الجمعة عليه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: يجوز ذلك إذا كان سفره في طاعة قولاً واحداً كما لو كان جهاداً، وهذا لا يصح [116 أ/ 3] لأن الطاعة التي لا

باب الغسل للجمعة

تجب لا تفوت بتأخيرها. وقال بعض أصحابنا: يجوز ذلك قولاً واحدا بكل حال، والقول الآخر استحباب. وقال أصحابنا: أجمع القولان إذا لم يكن مضطراً إليه، فإن اضطر إليه مثل النافلة ترحل من البلد يوم الجمعة، ولو تخلف عنها فاتته يجوز له السفر قولاً واحداً. وأما إذا زالت الشمس لا يجوز قولاً واحداً إلا أن يخاف ما ذكرنا، وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله إلا في الجهاد، وقال محمد: يجوز له أن سيافر بعد الزوال أيضا، ويروى هذا عن أبي حنيفة وهذا غلط: لأن الجمعة قد وجبت عليه فلا يجوز له تركها مع القدرة، كما لو سافر مع العلم بفوات الصلاة لضيق الوقت، وعلى ما ذكرنا لو زالت الشمس بعد خروجه من منزله قبل خروجه من عمارة البلد، ولا يخاف فوت السفر لو رجع لا يجوز له الخروج، لأنه ما لم يخرج من العمارة فهو مقسم. باب الغسل للجمعة مسألة: قال: والسنة أن يغتسل للجمعة. الفصل [116 ب/ 3] وهذا كما قال. قد شرحها هذا فيما تقدم وقول الشافعي: من ترك الغسل لم يعد أراد أنه لا يعيد الصلاة وهذا إجماع، وإن أوجبه مالك هذا الغسل ويقرأ لم يعد هو بفتح الياء وضم العين من العود لا من الإعادة، ومعناه: أنه لا يرجع الاغتسال إذا تضيق الوقت خلافا لمالك رحمه الله وحيث قال: يلزمه أن يرجع ما لم يخف فوت الصلاة. مسألة: قال: فإذا زالت الشمس وجلس الإمام على المنبر فقد انقطع الركوع. الفصل وهذا كما قال إذا دخل المسجد قبل الخطبة صلى تحية المسجد وله أن يتنفل، وقيل: يستحب إلى أن يخرج الإمام ويستوي على المنبر جالساً ويأخذ المؤذنون في الأذان فإذا جلس على المنبر وأخذ المؤذنون في الأذان انقطع ركوع من حضر، فمن لم يكن في الصلاة لا يبتدئ بها ومن كان فيها خففها، وأما الكلام فمباح له إلى أن يأخذ الإمام في الخطبة، والفرق أن الكلام يمكن قطعه حتى يأخذ الإمام في الخطبة، والصلاة إذا ابتداء بها في حال الأذان أن لا يمكنه قطعها إذا أخذ الإمام [117 أ/ 3] في الخطبة فكرهنا له أن يبتدئ بها إذا أخذ المؤذنون في الأذان لئلا يأخذ الإمام في الخطبة وهو في الصلاةء وبهذا قال أحمد رحمه الله. وقال أبو حنيفة: إذا خرج الإمام حرم الكلام في الوقت الذي ينهى عن الصلاة فيه، واحتج بما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اغتسل يوم الجمعة

واستاك ومس من طيب إن كان عنده، ولبس أحسن ثيابه ثم جاء إلى المسجد ولم يتخط رقاب الناس ثم ركع ما شاء أن يركعء ثم أنصت إذا خرج الإمام حتى يصلي كان كفارة لما بينها وبين الجمعة التي قبلها" فدل على أن خروج الإمام يوجب الإنصات، وهذا غلط لما روى ابن شهاب، عن ثعلبة بن أبي مالك أنه يقول: قعود الإمام يقطع السجدة وكلامه يقطع الكلام وأنهم كانوا في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوم الجمعة يصلون حتى يخرج عمر فإذا خرج عمر وجلس على المنبر وأذن المؤذنون جلسوا يتحدثون حتى إذا سكت المؤذنون وقام عمر سكتوا فلا يتكلم أحد. وأما الخبر الذي ذكروه قلنا: قد روي: وأنصت إذا خطب الإمام [117 ب/ 3] أو نحمله على هذا بدليل ما ذكرنا. وأما إذا دخل واحد المسجد والإمام يخطب ملى ركعتين تحية المسجد، ويخففهما ثم يجلس ويسمع الخطبة سواء كان الإمام في الخطبة الأولى أو الخطبة الثانية، ويستحب له ذلك، وبه قال الحسن ومكحول والثوري وأحمد وإسحاق رحمهم الله. وقال مالك والليث وأبو حنيفة: ويكره ذلك ويحكى هذا عن الثوري وقال الأوزاعي: إن كان قد صلى في بيته ركعتين فلا يصلي وإلا فيصلي مكانه يجيز تحية المسجد في بيته واحتجوا بما روى عبد الله بن بسر صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رجلاً جاء يتخطى رقاب الناس فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اجلس فقد آذيت وآنيت"، وهذا غلط لما احتج به الشافعي حديث سليك الغطفاني وهو ما روى جابر رضي الله عنه قال: جاء سليك هذا يوم الجمعة، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب فجلس فقال له: "يا سليك قم فاركع ركعتين وتجوز فيهما"، ثم قال: "إذا جاء أحدكم يوم الجمعة والإمام يخطب فليركع ركعتين وليتجوز فيهما" فإن قيل: روي في بعض الأخبار أنه - صلى الله عليه وسلم - قال [118 أ/ 3] لسليك: "لا تعودن لمثل هذا"، قلنا: هذه الزيادة ليست في شيء من الأصول، ثم معناه لا تعودن إلى التأخير واحتج أيضاً بحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وتمام الخبر ما روي أن مروان بن عبد الملك لما ولي الخلافة كان يخطب بنفسه والناس يبغضونه ولا يستمعون لخطبته ويصلون عندها، فعلم مروان ذلك فأمر زبانيته أن يطوفوا في المسجد عند خطبته فيقعدوا الناس عن الصلاة، فدخل أبو سعيد يوماً ومروان يخطب، فقام يصلي فأتاه زبانيته ليقعدوه فلم يقعد حتى صلى ركعتين فقيل له: كاد هؤلاء الزبانية يأكلونك فما منعك من أن تدعهما؟ فقال: ما كنت لأدعهما بعد شيء سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم روى خبر سليك الغطفاني، وأما خبرهم قلنا: يحتمل أنه أمره بالجلوس، لأنه كان في آخر الخطبة، أو كان الموضع مضيق عن الصلاة.

فرع قال في "الأم ": ولو دخل والإمام في آخر كلامه ولا يمكنه أن يصلي ركعتين قبل دخول الإمام في الصلاة فلا عليه أن لا يصليها؛ لأنه أمره بها عنا الإمكان، فإن لم يصل الداخل [118 ب /3] عند الإمكان كرهت له ذلك ولا إعادة عليه، وإن صلاهما وقد أقيمت الصلاة كرهت له ذلك، قال: وأرى الإمام أن يأمره بهما ويريد في كلامه بقدر ما يكملها فإن لم يفعل الإمام ذلك كرهت له ولا شيء عليه، وهذا إذا دخل في آخر الخطبة. فرع إذا أتى المسجد يستحب له أن يقدم رجله اليمنى ويقول: بسم الله اللهم اغفر لي، وقوّني، وافتح أبواب رحمتك. وقال المزني رحمه الله: من بلغ باب المسجد صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: اللهم اجعلني من أوجه من توجه إليك، وأقرب من تقرب إليك، وأنجح من دعاك وتضرع إليك وأنجح من طلب إليك. فرع إذا كان المسجد فارغاً، أو كان فيه من إذا تقام لا يتخطى رقاب الناس، فكلما كان إلى الإمام أقرب كان أفضل، وإن كان في المسجد من تقدمه كرهنا له أن يتخطى رقاب الناس، سواء كان له مجلس عادة يصلي فيه أو لم يكن، وسواء كان الإمام قد ظهر أو لم يظهر. وقال مالك: إذا خرج الإمام كره ذلك وقبل خروجه لا يكره، وقال الأوزاعي: إن كان له موضع راتب لم يكره له التخطي إليه وإلا كره، وهذا غلط [119 أ/ 3] لما روي أن رجلاً دخل المسجد يتخطى رقاب الناس يوم الجمعة والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقال له: "اجلس فقد آذيت وآنيت". وروى أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الذي يتخطى رقاب الناس، ويفرق بين الاثنين يوم الجمعة والإمام يخطب كالجار قصبته في النار". وروي أن الأرقم بن أبي الأرقم المخزومي جاء يوم الجمعة فأوسعوا له، فأبى أن يجلس وجلس في الشمس فقيل له: أوسعنا لك، فقال: إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من تخطى رقاب الناس يوم الجمعة والإمام يخطب فكأنما يجر قصبته في النار". وقال الشافعي رحمه الله: ولأن فيه أذى وسوء أدب فيكره. فَرْعٌ آخرُ قال في "الأم": وإن كان دون مدخله زحام وأمام الزحام فرجة، فإن كان تخطيه إلى الفرجة بواحد واثنين رجوت أن يسعه التخطي إليها، لأنه يسير فإن كثر كرهت له ذلك، فإن لم يجد السبيل إلى مصلى يصلي فيه الجمعة إلا بالتخطي وسعه التخطي إن شاء الله؛ لأنه موضع ضرورة.

فَرْعٌ آخرُ ولو علم أنه إذا صبر حتى تقام الصلاة [119 ب / 3] تقدم الناس واتسع المكان كرهنا له التخطي، ويصبر حتى تقام الصلاة، فإن خالف وتخطى فقد أساء وتجزيه الصلاة. فَرْعٌ آخرُ قال: وإن كان الزحام للإمام الذي يصلي الجمعة لم أكره له من التخطي ما أكره للمأموم؛ لأنه مضطر إلى أن يمضي إلى الخطبة والصلاة بهم. فَرْعٌ آخرُ قال: وأحب إذا نعس في المسجد يوم الجمعة ووجد مجلساً غيره لا يتخطى فيه أحداً أن يتحول عنه. قال الشافعي: لأنه إذا تحول أحدث له القيام واعتساف المجلس ما يذعر عنه النوم وروى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا نعس أحدكم في مجلسه يوم الجمعة فليتحول إلى غيره ". فرع قال: وان ثبت في مجلسه ناعساً كرهت له ذلك، ولا إعادة للوضوء إذا لم يرقد زائلاً عن حد الاستواء، وإن قدر على دفع النوم عن نفسه بوجه برأه من ذكر أو حركة أو غيرها لم يكره له المقام فيه، بل يستحب له المقام. فَرْعٌ آخرُ قال: ويكره للرجل أن يقيم الرجل عن مجلسه، ويجلس هو في مكانه إماما كان أو مأموماً في يوم الجمعة وغيره؛ لأن السابق إلى المكان هو أحق به، فإن [120 أ/ 3] اختار صاحب المكان أن يقوم منه ويجلس غيره فيه لم يكره للثاني أن يجلس في مكان الأول، فأما الأول فإن تحول إلى حيث يسمع الخطبة على ما كان في المجلس الأول لم يكن له، فإن تباعد عن ذلك يكره له. فَرْعٌ آخرُ لو نصب رجل صاحبا له يجلس في مكان حتى إذا جاء هو قام وجلس هو فيه لم يكره له، ولا يكره لهذا الجالس أن يتحول عنه أيضاً. وروى ابن المنذر أن محمد بن سيرين كان يرسل غلاماً إلى مجلس له يوم الجمعة فيجلس فيه، فإذا جاء محمد قام الغلام وجلس فيه محمد.

فَرْعٌ آخرُ لو لم يفعل هكذا ولكن بعث شيئاً يفرش له حتى إذا جاء جلس عليه وصلى قال في "الأم": ليس لغيره أن يجلس عليه؛ لأنه ملك لغيره، وقال الشيخ أبو حامد رحمه الله: ولكن له أن ينحيه ويجلس في ذلك المكان: لأن الحرمة للإنسان دون فرشه. فَرْعٌ آخرُ لو قام رجل من مكان لحاجة، ثم عاد إليه كان أحق من غيره لقوله - صلى الله عليه وسلم -:"إذا قام أحدكم من مجلسه يوم الجمعة، ثم عاد إليه فهو أحق به". فَرْعٌ آخرُ قال: متى جلس في مكان جلس في صف مستقبل القبلة على العادة [120 ب/ 3] فإن ضاق به المكان لضيق المسجد وكثرة المصلين فجلس مستقبل المصلين لم يكر له. فَرْعٌ آخرُ قال: ولو جاء والموضع ضيق بأهله يقول: تفسحوا أو توسعوا. ولا يقيم أحداً من مجلسه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقيمن أحدكم الرجل من موضعه ثم يخلفه فيه"، ولكن يقول: توسعوا وتفسحوا". قال: فإن قعد المأموم في مصلى الإمام أو في طريق الناس، أو قعد مستقبلاً للمصلين والمسجد امتلأ من الناس لا تكره إقامته؛ لأن في جلوسه ضرراً على الناس. فَرْعٌ آخرُ قال: الجلوس يوم الجمعة كالجلوس في جميع الحالات إلا أن يضيق على من يقاربه ويجاوره كأنه اتكأ، فأخذ من المكان أكثر مما يأخذ الجالس أو يمد رجليه، أو يلقي يديه من خلفه فهذا كله مكروه إلا أن تكون به علة فلا أكره شيئاً من هذا، وأحب إذا كانت به علة أن يتنحى إلى موضع لا يزاحم فيه الناس، فيفعل من هذا ما فيه الراحة لبدنه ولا يزاحم غيره. فَرْعٌ آخرُ قلت: لا يجلس حبواً في حال الخطبة لما روى. معاذ رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن الحبوة يوم الجمعة والإمام يخطب"، والمعنى أن [121 أ/ 3] الاحتباء يجلب النوم ويعرض طهارته للانتقاض فنهى عن ذلك، وأمر بالاستيفاز في القعود

لاستماع الخطبة والذكر، وفيه دليل على أن الاستناد يوم الجمعة في ذلك المقام مكروه؛ لأنه بعلة الاحتباء إذا كثر. وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يجلس محتبياً، ولعله كان لعذر. ولحو أحدث واحد فليأخذ بأنفه ولينصرف، لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أحدث أحدكم في صلاته فليأخذ بأنفه ثم لينصرف"، وهذا ليوهم القوم أن به رعافاً وفي هذا بيان الأدب في ستر العورة وإخفاء الأمر القبيح، والتورية بما هو أحسن، ولا يدخل هذا في باب الكذب والرياء، وإنما هو في باب التجمل واستعمال الحياء. فرع قال أصحابنا: الأفضل للمقصورة على غيرها لأنها شيء محدث، وأول من أحدثها معاوية رضي الله عنه والاختيار للصف الأول من غير تخصيص. مسألة: قال: وينصت الناس ويخطب الإمام قائما خطبتين. وهذا كما قال إذا خطب الإمام فإن الناس ينصتون لاستماع الخطبة لقوله تعالى: {فَاسْتَمِعُوا لَهُ [121 ب/ 3] وَأَنصِتُوا} [الأعراف: 204]. وهل واجب أو مستحب؟ قال في "الإملاء" و "القديم": هو واجب، والكلام في حال الخطبة محرم، وبه قال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي وأحمد وابن المنذر رحمهم الله. وقال في "الجديد": هو مستحب غير واجب، وبه قال عروة بن الزبير والشعبي والنخعي وسعيد بن جبير والثوري فحصل قولان، وجه القول الأول: ما روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قلت لصاحبك أنصت والإمام يخطب فقد لغوت " فإذا اللغو لإثم بدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 3]. وروى جابر رضي الله عنه قال: دخل ابن مسعود رضي الله عنه والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فجلس إلى أُبيّ فسأله عن شيء فلم يرد عليه، فسكت حتى صلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال له: "ما منعك أن ترد علي" فقال: إنك لم تشهد معنا الجمعة قال: ولم؟ قال: تكلمت والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب فقام ابن مسعود، ودخل على النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكر له ذلك فقال: صدق أُبيّ وأطع أُبياً". ووجه القول الثاني: وهو الصحيح ما روى [122 أ/ 3] أنس قال: "دخل رجل المسجد

والنبي - صلى الله عليه وسلم - قائم على المنبر يوم الجمعة، فقال: متى الساعة؟ فأشار إليه الناس أن اسكت فلم يقبل فأعاد، ثم أعاد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عند الثالثة: "ما أعددت لها" قال: حب الله ورسوله قال: "إنك مع من أحببت " وأما خبرهم فلا حجة فيه؟ لأنه جعله لاغياً بكلامه في موضع الأدب وفيه السكوت وليس كل لغواً إنما قال الله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225. فإذا تقرر هذا فلا فرق بين القريب والبعيد والأصم والسميع؛ لأن الشافعي قال في "الأم" ومن بعد عن الإمام ولا يسمع الخطبة ومن قرب منه في الإنصات سواء، فإذا قلنا: إنه مستحب فهو مستحب للجميع. وأما الخطبة فاعلم أنه لا تصح الجمعة إلا بالخطبة، ويجب أن يخطب قائما خطبتين يفصل بينهما بجلسة خفيفة، ولا يجوز أن يخطب مع القدرة إلا قائما، وقال الحسن البصري رحمه الله: الخطبة مستحبة غير واجبة، وهذا غلط لقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة:9]. والذكر: هو الخطبة وإذا وجب السعي إليها [122 ب / 3] كانت واجبة، ولأن الله تعالى أوجب الجمعة إيجاباً مجملا وبيانه مأخوذ من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو كان يصلي ويخطب فثبت أنها واجبة، ولأن الخطبتين أقيمتا مقام ركعتين، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: إنما قصرت الصلاة لأجل الخطبة، وقال سعيد بن جبير رحمه لله: جعلت الخطبتان مقام مكان الركعتين، وقال أبو حنيفة وأحمد: لا يجب فيهما القيام وتجوز قاعداً، لأنها ركن ليس من شرطه استقبال القبلة فلا يجب له القيام كالأذان، وهذا غلط لما روي أن النبي الله كان يخطب قائما خطبتين يفصل بينهما بجلوس. رواه جابر، وابن عمر، وأبو هريرة رضي الله عنهم، ولأنها ذكر مفروض في قيام مشروع فكان واجباً كما في التكبير ولا يعتبر القيام بالاستقبال لأن الاستقبال يسقط في صلاة الخوف، ولا تسقط القبلة عند الإمكان فافترقا، فإذا تقرر هذا، فإن خطب جالساً مع القدرة وصلى بطلت صلاته، ولو خطب جالساً وهم يرونه صحيحاً فأخبرهم أني عاجز عنه قبلوا منه، لأنه أمين على نفسه وكذلك [123 أ/ 3] في الصلاة، ولو علموا قارته على القيام فلا جمعة لهم، ولو لم يعلموا أنه صحيح أو مريض أجزأتهم الصلاة، لأنه الظاهر أنه لم يترك القيام إلا لعلة، ولو علمت بقدرته على القيام طائفة وجهلت طائفة فلا جمعة لمن علمت، وأما التي جهلت حاله فإن بلغوا أربعين صحت جمعتهم وإلا فلا تصح جمعتهم، وهو كما قلنا إذا كان الإمام جنباً.

فرع لو حضر أربعون فسمع بعضهم الخطبة ولم يسمع الباقون لصممهم فالمذهب أنهم لا يصلون الجمعة، كشاهد النكاح إذا كان أصم، وفيه وجه آخر أنهم يصلون الجمعة ويجوز ذلك قياساً على ما لو قال: لا أكلم فلاناً فكلمه بحيث يسمع غير الأصم فلم يسمع لصممه. قال الشافعي رحمه الله: يحنث في يمينه. فَرْعٌ آخرُ لو خطب جالساً لعذر يخطب خطبتين. قال أصحابنا: ويفصل بينهما بسكتته ولم يجلس. نص عليه في "الأم" أنه لا يجوز، وإن لم يسكت ووصل بين الخطبتين. قال بعض أصحابنا: فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأنها بدل من جلسة واجبة والثاني: يجوز لأنه قد يتخلل كلامه سكتات [123 ب/ 3] غير مقصودة. فَرْعٌ آخرُ لو خطب خطبتين ولم يجلس بينهما فحسبهما خطبة واحدة، ثم قام وأضاف إليها أخرى نص في "الأم". وقال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله وأحمد: هذه الجلسة مستحبه غير واجبة، وهذا غلط لما ذكرنا أنه - صلى الله عليه وسلم - "لم يتركها"، وبينا أن فعله واجب. فَرْعٌ آخرُ قال: ولا بأس به أن يخطب الإمام على شيء مرتفع من الأرض وغيرها وعلى المنبر ولم يقل: إن الخطبة أفضل وأولى. قال أصحابنا: والخطبة على المنبر هي أولى لأنه آخر الفعلين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه أبلغ استماع الناس. هكذا ذكره القاضي الطبري، وقال أبو حامد: قال الشافعى رحمه الله: ويستحب أن يخطب على منبر، فإن لم يكن فعلى نشز لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان يخطب على المنبر"، وهذا أولى. ويستحب أن يكون [124 أ/ 3] المنبر على يمين القبلة، ويمين القبلة هو الموضع الذي على يمين الإمام إذا توجه القبلة، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: كان يخطب بجنب جذع النخلة في المسجد ويجعلها على يسارهء وهو يقوم عن يمينها إلى أن أرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى امرأة لها غلام نجار فقال: "مري غلامك النجار يعمل لي أعواداً أجلس عليها إذا كلمت الناس"، فأمره فعملها من طرفاء الغابة. قال سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه: فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبر عليها، ثم ركع وهو عليها، ثم نزل القهقرى فسجد في أصل المنبر، ثم عاد فلما فرغ أقبل على الناس فقال: "يا أيها الناس إنما صنعت هذا لتأتموا بي ولتعلموا صلاتي".

والغابة: هي الغيضة وكان المنبر مرقاتين فنزوله وصعوده خطوتان، وذلك في حد القلة فلا تبطل الصلاة وإنما نزل القهقرى لئلا يولي الكعبة قفاه. واعلم أنه كان منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاث درج وكان يقف على الدرجة الثالثة التي تلي المستراح، ثم إن أبا بكر رضي الله عنه [124 ب/ 3] كان يقف على الثانية دون موقفه بدرجة، ثم جاء عمر فوقف على الأولى دون موقف أبي بكر بدرجة، ثم جاء عثمان رضي الله عنه فصعد إلى الثانيةء وهي موقف أبي بكر رضي الله عنه ثم جاء علي رضي الله عنه فوقف على الثالثة موقف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم إن مروان بن الحكم قلع المنبر في زمن معاوية وزاد فيه ست درج فصار عدد درجه تسعاً، فكان الخلفاء يرتقون إلى الدرجة السابعة الست التي زادها مروان والسابعة هي أولى مراتب الخلفاء الراشدين، ولو وقف يخطب من غير منبر، وقف على يمين القبلة. فرع لو نزل عن المنبر بعدما أخذ في الخطبة، ثم عاد إليه فإن كان الفعل يسيراً بنى عليه، وان كان طويلاً استأنفها، نص عليه في "الأم"؛ لأن الخطبة لا تعد خطبة إذا فصل بينهما بنزول يطول. فرع الطهارة للخطبة هل هي واجبة أم لا؟ قال في "الجديد": لا تصح إلا بالطهارة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان يخطب متطهراً"؛ لأنه كان يصلي في الخطبة وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني [125 أ/ 3] أصلي"، ولأن هذا ذكر هو شرط في صحة الصلاة فيشترط فيه الطهارة كالتكبير. وقال في "القديم": تصح بغير طهارة وقد أساء ولا أحب له أن يخطب إلا على طهارة، وبه قال مالك وأبو حنيفة؛ لأنه ذكر يتقدم الصلاة فلا يشترط فيه الطهارة كالأذان، وهل تجب إزالة النجاسة عن ثوبه وبدنه في حال الخطبة؟ قولان كما قلنا في طهارة الحدث. مسألة: قال: ولا بأس بالكلام ما لم يخطب. وهذا كما قد ذكرنا أن الكلام لا يحرم ما لم يبتدئ ثم يخرج على أحد القولين. وقال في "الأم": الكلام على ثلاثة أضرب: ضرب يلزمه لأخيه مثل أن يراه يلسعه عقرب، أو رآه يتردى في بئر، أو يقع عليه هدم ونحو ذلك، فهذا لا يمتنع بالخطبة ويلزمه أن يخبره به بلا خلاف. وضرب يعينه في نفسه: مثل سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم - قتلة ابن أبي الحقيقء وقول الأعرابي للنبي - صلى الله عليه وسلم -، يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا أن يسقينا، وما أشبه ذلك فهذا مباح غير مكروه قولاً واحداً.

وضرب لا يلزمه [125 ب/ 3] لأخيه ولا يعينه في نفسه، مثل أن يقول لصاحبه وهو يتكلم: اسكت أو اقبل على الخطبة، أو يحدثه بحادث سرور أو مصيبة، فهذا ومكروه وليس بمحرم في أحد القولين. وقال أبو إسحاق: يحرم في أقوى القولين. فإذا تقرر هذا فلو كان بعيداً من الإمام لا يسمع خطبته فهو بالخيار بين أن ينصت وبين أن يقرأ القرآن ويذكر الله تعالى في نفسه، ولا يكلم الآدميين نص عليه في "الأم". قال عثمان بن عفان رضي الله عنه: للمنصت الذي لا يسمع مثل ما للمنصت السامع، وقيل: هل له قراءة القرآن؟ وجهان: بناء على أن المأموم البعيد من الإمام هل يسن له قراءة السورة؟ وجهان: ولا معنى لهذا مع ما ذكرنا من النص، وإن كان قريباً من الإمام يسمع الخطبة فالإنصات أولى من قراءة القرآن وذكر الله تعالى. فرع إذا قلنا: يحرم الكلام يحرم على الإمام أيضاً في خطبته نص عليه في "الإملاء" و "القديم". فَرْعٌ آخرُ وقت تحريم الكلام هو من حين يأخذ في الخطبة حتى يفرغ من الخطبتين جميعاً وجلوسه بينهما يجري مجرى الخطبة في ذلك [126 أ/ 3] نص عليه. وذكر بعض أصحابنا أنه لا يحرم في الجلسة بين الخطبتين. ذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله وفيه نظر. فَرْعٌ آخرُ يستحب له أن لا يتكلم حتى يفرغ الإمام من الصلاة، فإن تكلم بين الإحرام بالصلاة والفراغ من الخطبة فلا شيء عليه. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يكره الكلام فيه لأنها حالة تكره فيها الصلاة. وهذا غلط لما روى أنس رضي االله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -:كان ينزل يوم الجمعة من المنبر فيقوم معه كالرجل فيكلمه في الحاجة ثم ينتهي إلى مصلاه، فيصلي ويخالف الصلاة لأنها تقطعه عن الاشتغال بالفرض بخلاف الكلام. فَرْعٌ آخرُ قال: لو عطش رجل في حال خطبته فلا بأس أن يشرب وإن لم يكن عطشان ولكنه يتلذذ بشربه، فإنه يكره، ولا يحرم على قوله "الجديد" هكذا أورده القاضي الطبري. وذكر أبو حامد رحمه الله عن "الأم" أنه قال: إذا عطش الإمام له أن يشرب على المنبر وإن كان يؤيد ذلك للتبرد والتلذذ لا للعطش فإنه يجوز ذلك [126 ب/ 3] ولكن يستحب أن يكف وهذا أظهر. وقال الأوزاعي رحمه الله: إذا شرب الماء تبطل جمعته وهذا خلاف الإجماع. فرع المستحب للناس إذا خطب الإمام أن يحولوا وجوههم إليه ويسمعون الذكر

والمستحب للإمام أن يخطب ووجهه إلى الناس، ولا يستحب للمؤذن أن يقبل بوجهه إلى القوم بل يستحب له استقبال القبلة حال الأذان. قال البراء بن عازب رضي الله عنه: "كان رسول الله يخطبنا وكنا نستقبله بوجوهنا ويستقبلنا بوجهه" ولو خطب الإمام ورفع صوته حتى سمع الحاضرون خطبته جاز استقبلهم أو لم يستقبلهم؛ لأن سماع الخطبة قد حصل. فَرْعٌ آخرُ لو أسمع نفسه أو لم يسمع الحاضرين ظاهر المذهب أنه لا يعتد بها. وقال أبو إسحاق رحمه الله: يحتمل أن يعتد بها كما لو أسر بالقراءة في الصلاة، ويحتمل أن لا يعتد بها كما لو أذن بحيث لا يسمعه غيره. قال أبو حامد: هذا هو الصحيح عندي لأنها بالأذان أشبه. مسألة: قال: فإذا فرغ أقيمت الصلاة فيصلي بالناس ركعتين. الفصل [127 أ/ 3] وهذا كما قال إذا فرغ من الخطبتين أقام المؤذن الصلاة، لأن الإقامة لاستفتاح الصلاة والمستحب أن يأتي بها عقيب الخطبتين لتكون صلاة الجمعة عقيبها بلا فصل، ولو أقام قبل الفراغ من الخطبة هل يحتسب؟ وجهان: أحدهما: لا وهو الأقيس، لأنه لا يصح الابتداء بالجمعة في تلك الحالة. والثاني: يحتسب كما قبل الطهارة. وقيل: إن فرغ منها بعد الفرغ من الخطبة جاز وإلا فلا، فإذا فرغ من الإقامة فالإمام يصلي بالناس ركعتين. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: صلاة الجمعة ركعتان وصلاة السفر ركعتان تماما غير قصر على لسان نبيكم - صلى الله عليه وسلم -. والمستحب أن يقرأ في الركعة الأولى بالفاتحة وسورة الجمعة، وفي الركعة الثانية بالفاتحة وسورة المنافقين. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يكره تعيين سورة من القرآن سوى الفاتحة حتى لا يقرأ غيرها. وهذا غلط لما روي عن عبد الله بن أبي رافع كاتب علي رضي الله عنه قال: كان مروان بن الحكم يستخلف أبا هريرة رضي الله عنه على المدينة فاستخلفه مرة فصلى الجمعة فقرأ في [127 ب /3] الركعة الأولى بالجمعة، وفي الثانية: بسورة المنافقين، فلما انصرف مشيت إلى جنبه فقلت: يا أبا هريرة لقد قرأت بسورتين قرأهما علي رضي الله عنه، فقال إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأهما، فإن قيل: روى سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في الجمعة {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1] وقلنا: ما رويناه

أولى؛ لأنه عمل به علي بن أبي طالب وأبو هريرة رضي الله عنهما ولأن فيها حثاً على الجمعة فكانت أولى، فإن قيل: إنما قرأهما النبي - صلى الله عليه وسلم - لأجل من كان في زمانه من المنافقين قيل: لا يخلو عصر من الأعصار من المنافقين، فإن قرأ غير هاتين الصورتين جاز لما روى سمرة، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قرأ فيهما {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى:1] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية:1]. فرع لو قرأ سورة المنافقين ني الركعة الأولى قبل الفاتحة، ثم قرأ الفاتحة قال الشافعي رحمه الله: يجوز له أن يركع وهذا لا شك فيه، لأن قراءة السورة غير واجبة. قال: ولو قرأ معها شيئاً من الجمعة كان أحب إلي [128 أ/ 3] وإنما استحب أن يقرأ شيئاً من الجمعة لأن ما بعد الفاتحة محل قراءة سورة الجمعة في السنة، ولم يأمر باستيفائها إلى آخرها لئلا يطول على المأمومين بالجمع بين السورتين مع الفاتحة في ركعة واحدة. قال: ويقرأ في الركعة الثانية سورة الجمعة، لأنه لم يقرأ بها في الركعة الأولى فاستحب قراءتها في الركعة الثانية لئلا يقوم فيصليها، والمعنى الذي يختص بها من السنة على فرض الجمعة والأذكار بها والحث على فعلها، فإذ قيل: قد قلتم في الطائف: إذا نسي الرمل في الثلاثة ومشى فيها يمش في الأربعة أيضاً ولا يرمل، فقولوا: هاهنا يقرأ في الركعة الثانية بسورة {إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ} [المنافقون:1] حتى لا يؤدي إلى ترك السنة في الركعتين قلنا: الفرق أن الرمل في الأربعة الأخيرة مكروه لا ثواب فيه بوجه فا يستحب فعله فيها، وهاهنا قراءة سورة الجمعة في الركعة الثانية ليست بمكروهة وهذا. . . وليس فيه لأنهم على يقين من الدخول في الوقت وفي شك من أن الجمعة لا تجزي عنهم فهو كمن استيقن الطهر ثم شك في انتقاضه. فَرْعٌ آخرُ لو شك قبل الدخول في [ب /128 _ 3] الجمعة أن الوقت قد خرج أو هو باق لا يبتدئ الجمعة لأنه لم يستيقن سبب الجواز ولو شك في أثناء الصلاة هل خرج وقتها أم لا؟ أتمها جمعة، لأن الأصل بقاء الوقت وصحة الجمعة. فَرْعٌ آخرُ لو شك قبل الصلاة هل ترك فرضاً من الخطبة؟ يلزمه إعادتها، وفيه وجه آخر أنه لا يؤثر الشك بعد الفراغ منها وليس بشيء.

فرع لو قام المسبوق لقضاء ما عليه من الركعة فخرج الوقت يتمها ظهراً نص عليه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان: أحدهما: هذا هوا لأصح، والثاني: يتمها جمعة ولا معنى لهذا عندي مع النص الظاهر. مسألة: قال: ومن أدرك مع الإمام ركعة بسجدتين أتمها جمعة. الفصل وهذا كما قال: إذا أرك المأموم الإمام في صلاة الجمعة قبل أن يرفع رأسه من الركوع في الركعة الثانية، وأحرم ودخل معه في الركوع فقد أدرك الركعة الثانية، فصار مدركا للجمعة، فإذا سلم الإمام قام وبنى [129 أ/ 3] عليها ركعة أخرى، وإن فاته الركوع الأخير يتبعه فيما بقي ولا يكون ماركا للجمعة، فإذا سلم الإمام قام وبنى عليها ركعة أخرى، وان فاته الركوع الأخير يتبعه فيما بقى ولا يكون مدركا للجمعة، فإذا سلم الإمام قام وصلى الظهر أربعاً، فإن ركع ثم شك هل كان راكعاً قبل أن يرفع الإمام رأسه أم لا، لا يعتد بتلك الركعة؟ لأنه لم يتيقن إدراك الركوع فيلزمه أن يصلي الظهر أربعاً، وبه قال ابن عمر وابن مسعود وأنى وسعيد بن المسيب والحسن والشعبي والنخعي ومالك والزهري والثوري وأحمد وإسحاق وزفر ومحمد رضي الله عنهم. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: من أدرك جزءاً منها فقد أدرك الجمعة وإن قل، وبه قال النخعي في رواية والحكم وحماد وقال عطاء وطاوس ومجاهد ومكحول: لا يكون مدركا للجمعة إلا بإدراك الخطبة والصلاة، وبه قال عمر رضي الله عنه وهذا غلط لما روى أبو سلمة عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أدرك من الجمعة ركعة فليضف إليها أخرى ومن أدرك دونها صلاها أربعاً"، ولأنه لم يدرك وركعة من الجمعة فلا يصليها جمعة كالإمام إذا انفض عنه القوم قبل [129 ب/ 3] أن يصلي ركعة بسجدة. فإذا تقرر هذا، فلو أدركه راكعاً فركع معه ورفع معه وسجد، ثم شك هل سجد معه سجدة أو سجدتين، فإن كان هذا قبل سلام الإمام سجد أخرى في المال وصار مدركاً للجمعة بإدراك ركعة حكماً، وذلك أنه أتى بالسجدة في حكم متابعته، وقد ذكرنا فيما سبق فيه وجهان عن أصحابنا أنه لا يكون مدركاً للجمعة وإن كان هذا بعد سلام الإمام سجد سجدة أخرى، ولا يكون مدركا للجمعة لأنه أدرك معه ركعة إلا سجدة. فرع لو أدرك معه ركعة تامة سلم الإمام، وقام المأموم فأتى بالثانية، ثم ذكر أنه نسي سجدة من إحداهما ولا يعلم هل هي من الأولى أو من الثانية، اعتد من كل هذا بركعة وكان فرضه الظهر لأنه أدرك ركعة إلا سجدة في أشد الحالين فيأتي بثلاث ركعات أخر.

فَرْعٌ آخرُ لو صلى الإمام الجمعة ثلاثاً ساهياً، فأدرك وجل معه الركعة الثالثة، قال ابن الحداد: كان مدركاً ركعة من الظهر، لأن هذه الركعة لا يحتسب بها من الجمعة، ولو صلى ثلاث ركعات ساهياً، ثم قال: نسيت سجدة ولا أدري أهي من الأولى أم من الثانية؟ [130 أ/ 3] كان الجواب هكذا؛ لأن السجدة المنسية يجوز أن تكون من الركعة الأولى، فتكون الأولى تمت بالثانية وتكون الثالثة ثانية، ويكون المأموم مدركاً للجمعة. ويحتمل أن تكون السجدة المنسية من الركعة الثانية فتتم الثانية بالثالثة؛ لأنه تحصل له الثانية إلا سجدة فيكون قيامه في الثالثة وركوعه فيها لغو، وتنضم سجدة واحدة منها إلى الثانية فتتم الثانية بهذه السجدة، ويكون الباقي من الركعة الثالثة لغواً لا يحتسب به، وإذا أدرك ما لا يحتسب به فلا يكون به مدركاً للجمعة، فإن كان الإمام يحيط علماً بأن السجدة المنسية من الأولى فإن الركعة الثالثة مجزية من الداخل من الجمعة؛ لأن الأولى تتم بالثانية وتكون الثالثة هي الثانية ويكون محتسباً بها فصار مدركاً للجمعة بإدراكها. فرع لو أدرك الثانية من الجمعة، فلما سلم الإمام قام لقضاء ما فاته، فتذكر الإمام أنه نسي سجدة من الأولى، وإن عملت في الثانية كلاً عمل، فقام يصلي ركعة فاقتدى هذا المسبوق به تمت جمعته، وإن لم يقصد الاقتداء به بل أتم بنية الانفراد كما يفعل المسبوق لم تجز جمعته، وهل يجزئ [30 ب / 3] طهره؟ فعلى قولين لأنه طهر قبل فوات الجمعة، وإنما جازت جمعته في المسألة الأولى لأنه حصل مقتدياً به في ركعة هي محسوبة للإمام من الجمعة وهي الأخيرةء فلا يضر أن يكون في الأول منفرداً فإن قيل: فجوزوا أن يصلوا ركعة منفردا، ثم يصلي صلاته بصلاة الإمام فيصلي معه ركعة ويتم جمعته قلنا: لا يجوز هذا؛ لأنه قصد بها الانفراد فلم تصح نية الجمعة، وها هنا نوى الجمعة والاقتداء فلا فرق بين أن يجعل له صحة الاقتداء في الأولى أو في الثانية، وعلى هذا قال ابن الحداد: لو صلى الإمام في الجمعة ثلاثاً ساهياً وكان قد ترك سجدة من الأولى فاقتدى به رجل في ركعته الثانية، وظن أنها أولاه وصلى معه ركعتين جازت جمعته وتمت، وان كانت الثانية غير محسوبة للإمام. قال القفال رحمه انه: وعلى هذا لو صلى الإمام ثلاثاً ساهياً ولم يترك سجدة فأدرك معه رجل الركعة الثانية وظن أنها الأولى، فإذا هي الثانية فصلى معه تلك الركعة، وركعة بعدها تمت جمعته، لأن عنده أنه مصيب في الاقتداء به في الركعتين [131 أ/ 3]. مسألة: قال: وحكى في أداء الخطبة: استواء النبي - صلى الله عليه وسلم - على الدرجة التي تلي المستراح قائماً ثمَّ سلم.

وهذا كما قال: أراد به حكى الشافعي في كتاب سماه "أدب الخطبة ". والمستراح: هي الدرجة العليا من المنبر وهي التي يقعد عليها الإمام ليستريح، وكان منبره ثلاث درجات سوى الدرجة التي كان يقعد عليها. وجملته أنه يستحب للإمام إذا دخل المسجد أن يسلم، ثم يصلي ركعتين تحية المسجد، ثم إذا زالت الشمس المستحب أن يصعد المنبر، ويستوي على الدرجة التي هي دون الدرجة التي تسمى المستراح، فإذا استوي عليها سلم على الناس ووجب عليهم الرد، فإذا رد بعضهم سقط الفرض عن الباقين، ثم جلس على المستراح ورجلاه على الدرجة التي وقف عليها، وهي جلسة الاستراحة، وهي غير واجبة، ولا يزال جالساً حتى يفرغ المؤذنون من الأذان، ثم يقوم قائما ويخطب. وقال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله: لا يسلم على رأس المنبر ويكره، لأنه لما دخل سلم فلا يعيد، كالمؤذن إذا أذن ثم رجع، وهذا غلط لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: كان [131 ب/ 3]) رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إذا دنا من منبره يوم الجمعة يسلم على من عند منبره من الجلوس، اثم يصعد فإذا استقبل الناس بوجهه سلم، ثم قعد". وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يسلم إذا صعد المنبر" ولان الإمام قد استدبرهم حين صعد ثم أقبل عليهم. وقد كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم يحول بين بعضهم وبعضهم شجرة فيسلم بعضهم على بعض. وأما في الأذان لا يغيب عنهم، ولو صعد المنارة ثم نزل سلم عليهم أيضاً، وإذا أشرف على الناس في رأس المنارة وكان قريباً منهم وهم يسمعون سلامه استحب له أن يسلم عليهم، كما قلنا في الخطيب، لأنه استقبال بعد استدبار فسن فيه السلام كما لو خرج ثم دخل. وحكي عن أبي حنيفة: أنه لو أدخل المسجد يجلس أولاً، ثم يقوم ويصلي التحية، وهكذا في تحية سائر المساجد، وهذا غلط لما تقام من الخبر ولأنه يسلم على الناس، ثم يجلس كذلك يصلي ثم يجلس لأن كليهما تحية. وحكي عن مالك رحمه الله أنه [أ/ 132 - 3] قال: هذه الجلسة في أول الخطبة هي واجبة لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجلس في الأول ليستريح من تعب صعوده، ولهذا سميت هذه الدرجة المستراح، ولأنه لا فائدة في قيامه مع أذان المؤذنين. فرع قال: وأحب أن يؤذن مؤذن واحد إذا كان على المنبر لا جماعة المؤذنين، لأنه لم يكن لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا مؤذن واحد، فإن أذن جماعة المؤذنين والإمام على المنبر أو أذان بعد أذان كرهت ذلك، ولا يفسد شيء من الصلاة، لأن الأذان ليس من الصلاة

وإنما هو دعاء إليها، وكذلك لو صلى بغير أذان كرهت ذلك له ولا إعادة عليه. وروي عن أبو سائب بن يزيد أنه قال: كان على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما: إذا جلس الإمام على المنبر أذاناً واحداً، فلما كان في أيام عثمان وكثر الناس أمر بالأذان الثاني، وكان يؤذن على الزوراء لأهل السوق والناس. وأنكر عطاء هذا وقال: أول من أحدثه معاوية رضي الله عنه، يعني: الأذان الذي قبل جلوس الإمام على المنبر. فَرْعٌ آخرُ قال: لا يحرم البيع [132 ب/ 3] يوم الجمعة قبل أذان المؤذن، ويحرم عند الأذان، وهو الأذان الذي يكون بعد الزوال عند جلوس الإمام على المنبر، وبهذا الأذان يجب السعي إلى الجامع، وأما بعد الزوال قبل هذا الأذان لا ينهى عن البيع كما ينهى عنه إذا كان على المنبر وأكرهه؛ لأن ذلك الوقت لم ينه فيه عن البيع، وبه قال عمر بن عبد العزيز وعطاء ومالك وأبو حنيفة، وقال الضحاك وربيعة وأحمد: يحرم البيع عند الزوال. وهذا غلط لقوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] فثبت أن الحكم يتعلق بحالة النداء. فرع قال أصحابنا: في الجمعة أربعة أوقات قبل الزوال وبعد الصلاة لا يحرم البيع ولا يكره، وبعد الزوال قبل الأذان يكره البيع ولا يحرم، وعند الآذان إلى أن يفرغ من الصلاة يحرم البيع، وإنما يحرم ذلك أو يكره في حق من كان من أهل الجمعة، فأما في حق من لم يكن من أهلها كالعبيد والنساء والمسافرين فلا يحرم ولا يكره. فَرْعٌ آخرُ لو كان أحد المتبايعين من تجب عليه الجمعة والآخر ممن لا تجب، قال الشافعي رحمه الله: أتما [133 أ/ 3] جميعاً، وهذا لأن من لم تجب عليه قد عاونه على المعصية، وقيل: يحرم على من تجب عليه وتكره لمن لا تجب عليه لأنه عاونه على محرم والأول أظهر. فَرْعٌ آخرُ لو تبايعا في الوقت الذي حرمنا أو كرهنا صح البيع؛ لأن المنع ليس لمعنى يرجع إليه نفس البيع، فهو كالبيع على بيع أخيه محرم ولكنه ينعقد، وهو كما لو تضيق عليه وقت الصلاة فاشتغل بالبيع في تلك الحالة عمى وانعقد، وقال مالك وربيعة وأحمد وداود رحمهم الله: يفسد البيع لأن الله تعالى قال: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] والنهي يقتضي الفساد وهذا غلط لما ذكرنا. وحكي عن مالك أنه قال: النهي في حق الكل سواء كان عليه الجمعة أم لا، وهذا

غلط، لأن المنع منه لئلا تفوته الصلاة وهذا لا يوجد في حق من لا جمعة عليه. فَرْعٌ آخرُ قلت: روى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن البيع والشراء في المسجد، وإن سد فيه ضالة وإن سد فيه سعر"، ونهى عن "الحلق قبل الصلاة يوم الجمعة ". أورده أبو داود والحلق: مفتوحة اللام جماعة الحلقة. وقال الإمام الخطابي: أخبرني [633 ب / 3] واحد من الصالحين أنه بقي أربعين سنة لا يحلق رأسه قبل صلاة الجمعة ظناً منه أنه نهى عن الحلق قبل الصلاة بسكون اللام حتى قلت له: هذا هو الحلق كأنه كره الاجتماع قبل الصلاة للعلم والمذاكرة، وأمر أن يشتغل بالصلاةء وينصت للخطبة والذكر، فإذا فرغ منها كان الاجتماع والحلق بعد ذلك فقال: قد فرجت عني ودعا لي. مسألة: قال: وروي أنه - صلى الله عليه وسلم -: كان إذا خطب اعتمد على عنزته اعتماداً وروي على قوس. وهذا كما قال: إذا قام الخطيب ليخطب فإنه يستحب له أن يعتمد على عصى أو قوس أو سيف، لما روي عن الحكم بن حزن قال: "وفدت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فشهدنا معه الجمعة، فقام متوكئاً على قوس أو عصى فحمد الله وأثنى عليه كلمات خفيفات مباركات". وروي أنه كان إذا خطب اعتمد على عنزته والعنزة مثل الحربة، وروي أنه كان في الحضر يعتمد على العنزة، وفي السفر على القوس، ولأن ذلك أعون له على القيام فإن لم يفعل ذلك أي: فإن لم يعتمد على شيء. قال الشافعي رحمة الله عليه [634 أ/ 3] أحببت له أن يسكن جسده ويديه، فإما أن يضع اليمنى على اليسرى أو يقرهما في موضعهما ويرسلهما، لأنه في ذكر الله تعالى ولا يعبث بهما فتبين أن المعنى في الاعتماد وهو السكون، ثم قال: ويقبل بوجهه، يعني تلقاء وجهه لا يلتفت يميناً وشمالاً وهذا غلط وقد ذكرنا الفرق بينهما وبين الأذان، ثم قال: وأحب أن يرفع صوته وهذا يستحب حتى يسمع كل من في المسجد إن أمكن وإلا رفع بقدر الإمكان لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا خطب يرفع صوته كأن منذر جيشء وروي عن أم حارثة بنت هشام قالت: "حفظت سورة ق من في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " فدل أنها سمعت مع بعدها؛ ولأنه إذا رفع صوته كان أبلغ في الاستماع والوعظ وقال الشافعي رحمه الله: ويكون مترسلاً مبيناً معرباً من غير تمطيط ولا يعي لأن ذلك أحسن وأبلغ في البيان والإفهام والترسل أن يفرق بين كل فصل ولا يعقب أحدهما الآخر ويكون مقوماً معربا من غير لحن، ويكون بين الكلامين دون الوحش

المشتغل، وفرق الروي المسترذل، فإن خير [134 ب/ 3] الأمور أوسطها وهو معنى قوله: ولا ما يستنكر منه، وفي بعض النسخ: وما لا يستنكر منه حتى يكلمهم بكلام تقبله طباعهم قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كلموا الناس على قدر عقولهم أتحبون أن يكذب الله ورسوله ". وروى بعض أصحابنا بخراسان هذا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أي: لا تقولوا ما تقصر عنه الأفهام فتكذبوا الله تعالى كذلك، ثم قال الشافعي رحمة الله عليه: ولا العجلة فيه عن الأفهام ولا ترك الإفصاح بالقصد ويكون كلامه حصراً، وهذا لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعجبه الجوامع من الدعاء. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أوتيت جوامع الكلم واختصر لي اختصاراً". وقال عمار بن ياسر رضي الله عنه: امرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "بإقصار الخطب"، وروي عن عمار رضي الله عنه أنه خطب وأوجز فقيل له: لو كنت تنفست. قال: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "قصر الخطبة مئنة من فقه الرجل فأطيلوا الصلاة وأقصروا الخطبة"، وهذا كله للرغبة في الصلاة في أول الوقت. مسألة: قال: وأقل ما يقع عليه اسم الخطبة [135 أ/ 3]. وهذا كما قال: قد ذكرنا أنه لا بد من الخطبتين، وعند أبي حنيفة رحمه الله تكفي كلمة واحدة مثل أن يقول: سبحان الله والحمد لله، ولا يحتاج إلى خطبتين وأقل ما يقع عليه اسم الخطبة من الخطبتين أن يحمد الله تعالى، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويوصي بتقوى الله تعالى ويقرأ شيئاً من القرآن فهذه أربعة أشياء هي واجبة في الأولى، وفي الثانية ويحمد الله تعالى، ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويوصي بتقوى الله تعالى، ويدعو للمؤمنين والمؤمنات فهذه أربعة واجبة في الثانية، هكذا نقل المزني رحمه الله. والأصل في هذا قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر"، وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كان يدعو الحمد لله نحمده ونستعينه .... " الخبر، وقال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] قيل في التفسير: معناه قرنت ذكرك بذكري حتى لا أذكر إلا ذكرت معي، ولأن المقصود من الخطبة الموعظة فلا بد من الإتيان بما هو مقصود فيها، وأما الوصية كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[135 ب / 3] يقول: "ألا إن الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر، ألا وان الآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قادر". وأما قراءة القرآن فلأجل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخطب إلا وقرأ فيها القرآن،

ودعا للمؤمنين نص على هذا كله في "الأم". قد قيل: فصول الخطبة خمسة: التحميد، والصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والوصية بتقوى الله تعالى، وقراءة آية، والدعاء للمؤمنين والمؤمنات، ثلاثة منها شرط في الخطبتين معا، وهي التحميد والصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والوصية بتقوى الله تعالى. وواحد هو شرط في الثانية لا غير وهو الدعاء، وواحد يستحب في الخطبتين. فإن لم يكن ففي الأولى، فإن أتى به في الثانية جاز وهو قراءة آية، ولا بد منها بكل حال. وقد نص الشافعي رحمه الله على أنه لو قرأ بين ظهراني الخطبة أو بعد الفراغ منها، أو قبل الشروع في الخطبة أجزأهء وقال في "الإملاء": فإن حمد الله وصلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - ووعظ أجزأه. وضيع حظ نفسه، ولم يشترط قراءة القرآن ولا [136 أ/ 3] الدعاء. وقال في "القديم": أقل الخطبة كأقصر سورة في القرآن واختلف أصحابنا في هذا فمنهم من قال: فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يجب قراءة آية في الجملة إما في الأولى أو في الثانية أو في أي موضع قرأ جاز. والثاني: يجب في الأولى بكل حال لتأكيد أمر الأول الخطبتين. والثالث: لا يجب أصلاً بل هي مستحبة، ومن أصحابنا من قال: تجب القراءة قولاً واحداً والذي قال في "الإملاء": هو يحمل واكتفى في ذلك بما بينه في سائر المواضع وله أن يقرأ في الأولى أو الثانية قولاً واحداً، والذي قال: يقرأ في الأولى استحباب وهذا أصح ويبعد أن يذكر في باب أدب الخطبة قولاً، وفي باب القراءة في الخطبة قولا آخر، وهما بابان متواليان، ونصه في أدب الخطبة على أنه يقرأ في الأولى ونصه في القراءة في الخطبة على أن له الخيار على ما وصفت. وحكى الداركي عن بعض أصحابنا أنه خرج قولا رابعاً أن القرآن شرط في الخطبتين جميعا؛ لأن ما وجب في الأولى وجب [131 ب/ 3] في الثانية، كالتحميد وهذا تخريج باطل يخالف نص الشافعي رحمه الله، وقد قال الشافعي في "الأم" والذي أحب أن يقرأ بقاف في الخطبة الأولى لا يقصر عنها، وأن يقرأ في الأخيرة مائة أو أكثر منها، ثم يقول: أستغفر الله لي ولكم. وأما الدعاء: هل يجب؟ فيه قولان كما يرى: أحدهما: ذكره في "الأم"، والثاني: ذكره في "الإملاء". ومن أصحابنا من قال: يجب قولا واحداً، والمجمل في "الإملاء" محمول على المفسر في "الأم"، وهذا اختيار القفال. وقال أبو حامد: قول واحد إنه مستحب وهو خلاف ما حكينا من النص، وقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ سورة ق في الخطبة، وروي أنه كان يستغفر للمؤمنين والمؤمنات".

ويستحب الدعاء فيهما، وإن كان لا يجب إلا في الأخيرة على ما بينا. وقال بعض أصحابنا: لو أتى بالدعاء في الأولى دون الثانية لم يجزه. وأما الدعاء للسلطان أو لرجل بعينه فهو غير منقول عن السلف. قال عطاء رحمه الله: هذا شيء محدث لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا واحد من الصحابة وإنما كانت الخطبة تذكيراً. فإن [137 أ/ 3] دعا لرجل بعينه أو على رجل بعينه قال الشافعي رحمه الله: كرهته ولا إعادة عليه، ويستحب أن يطول الدعاء. قال - صلى الله عليه وسلم -: "طولوا الصلاة واقصروا الخطبة". وأما لفظ الوصية فليس بشرط حتى لو قرأ آية فيها العظة والوصية جاز، ويخص الخطبة الوصية والباقي تبع لها. فرع لا تجوز بالفارسيه مع القدرة على العربية خلافا لأبي حنيفة رحمه الله لما ذكرنا من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفيه وجه آخر أنه يجوز؛ لأنه لا يتعين فيها لفظة مخصوصة فكذلك لا يتعين لغة. فَرْعٌ آخرُ لو لم يكن فيهم من يحسن العربية يخطب بالفارسية في مدة إمكان التعلم، فإن مضت مدة الإمكان يصلون ظهرا ولا يصلون جمعة. فرع لو قرأ في الخطبة آيات من القرآن تتضمن تحذيراً ووعظاً بدلا من الوصية لا يجوز عنهما، لأن القراءة فرض فلا يؤدي به فرضين فإنه واحد. فرع لا يجب الترتيب في ألفاظ الخطبة قولاً واحداً نص عليه في "الأم " والأفضل أن يبدأ بالحمد، ثم بالصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[137 ب/ 3]، ثم بالوصية ثم بقراءة القرآن ومن أصحابنا من قال: يجب الترتيب؛ لأن المنقول عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - على هذا الترتيب. فَرْعٌ آخرُ المستحب أن يخطب بما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً فقال: "الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستنصره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد إن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فقد غوى حتى يفيء إلى أمر الله"، وخطب يوماً فقال في خطبته: "ألا إن الدنيا عرض حاضر يأكل منها البر والفاجر وان الآخرة أجل صادق يقضي فيها ملك

قادر، ألا وإن الخير كله بحذافيره في الجنة ألا وإن الشر كله بحذافيره في النار، فاعملوا وأنتم من الله على حذر واعلموا أنكم معروضون على أعمالكم فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره"، وروى جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[138 أ/ 3] خطب يوم الجمعة "فحمد الله وأثنى عليه ثم قال على إثر ذلك وقد علا صوته واشتد غضبه واحمرت عيناه كأنه منذر جيش، ثم قال: "بعثت أنا والساعة كهاتين"، وأشار بأصبعه الوسطى والتي تلي الإبهام، ثم يقول: "إن أفضل الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل محدث بدعة من ترك مالاً فلأهله ومن ترك ديناً أو ضياعاً فإليً". وقال جابر بن سمرة رضي الله عنه: كان لرسول - صلى الله عليه وسلم - خطبتان يجلس بينهما ويقرأ القرآن ويذكر الناس. وروي عن صفوان بن يعلى قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يقرأ على المنبر {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} [الزخرف: 77] فإن قال: من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى قال الشافعي رحمه الله: أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على من قال ذلك فيكره له ذلك حتى يقرأ اسم الله تعالى ثم يفرد بعده اسم رسوله فلا يذكره إلا منفرداً فقد قال رجل عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ما شاء الله وشئت فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: [138 ب/ 3] "أمثلان قل ما شاء الله، ثم شئت" فنهاه عن العطف في المشيئة بالواو ونقله إلى حرف ثم لبدله بذلك على أن المشيئة من جهته، إنما تكون بمشيئة الله تعالى، وأن المخلوق إنما يشاء شيئاً؛ لأن الله تعالى يشاء إن شاء مخلوقه ذلك الشيء ودل هذا من كلام الشافعي رحمة الله عليه على أن مذهبه مذهب أهل الحق. ثم قال الشافعي رحمه الله: ومعقول أن الخطبة جمع بعض الكلام من وجوه إلى بعض وهذا أوجزه أي: هذا الذي ذكرته من أقل الخطبة هو أوجزه فلا يجوز أن يقتصر على ما قاله أبو حنيفة. فإن ذلك لا يسمى خطبة ولا يسمى المتكلم به خطيباً. واحتج أبو حنيفة رحمه الله بما روي أن رجلاً قال: يا رسول الله علمني عملاً أدخل به الجنة فقال: "إن قصرت الخطبة لقل أعرضت المسألة" فسمي ذلك خطبة قلنا: هذا السؤال لا يكون خطبة بالإجماع، ثم لعله سماه خطبة مجازاً وكلامنا في الحقيقة، وفي الحقيقة قوله: لا إله إلا الله أو سبحان الله لا تكون خطبة. وروي عن أبي يوسف ومحمد رحمهما [139 أ/ 3] الله، وعن مالك رحمه الله روايتان: إحداهما: أن من هلل أو سبح أعاد ما لم يصل والثانية: أن لا يجزي إلا ما تسميه العرب خطبة وعن أحمد رحمه الله نحو مذهبنا. فَرْعٌ آخرُ إذا خطب الأولى جلس ويكون جلوسه بقدر قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}

[الإخلاص: 1] ثم إذا فرغ من الخطبة الثانية أخذ في النزول، وأخذ المؤذن في الإقامة حتى يكون فراغه من النزول مع فراغه من الإمامة. مسألة: قال: وإن حُصر الإمام لُقن. وهذا كما قال. هكذا قال هاهنا، وقال في موضع آخر: لا يلقن وليست المسألة على قولين، وإنما هي على اختلاف الحالين: فإن كان يرجى أن يستدرك هو فلا يلقن وان كان لا يرجى ذلك وانفلق عليه يلقن، وهذا إذا سكت طالباً للتلقين، فإن مضى إلى فصل آخر وترك ذلك يترك وذاك، وإنما يمكن الفتح عليه في فصول معروفة فأما إذا كان سنة في الحال لا يمكن الفتح عليه. مسألة: قال: وإن قرأ سجدة فنزل فسجد لم يكن به بأس. وهذا كما قال، إذا قرأ على المنبر وهو يخطب للجمعة آية السجدة، فإن [139 ب 3] أمكنه أن يسجد عليه سجدها، وإن لم يمكنه السجود في موضعه. فإن تركه جاز: لأنه ليس بواجب عندنا، وإن نزل وسجد على الأرض. قال في "الأم" رجوت أن لا يكون به بأس لأنه ليس يقطع للخطبة كما ليس يقطع للصلاة، فإذا فرغ صعد وبنى، فإن استأنف الكلام فحسن، وهذا إذا لم يتطاول الفصل بين النزول والصعود إلى موضعه، فإن تطاول فهل يبني أم يستأنف؟ قولان: قال في "القديم ": يبني، وقال في "الجديد": يستأنف. وقال القفال: هذا إذا كان المنبر درجتين مثل منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يحتاج في نزوله إلى عمل كثير، فأما إذا كان نزوله أكثر من ذلك انقطع به خطبته ويلزمه استئنافها، والمسألة مشهورة بالقولين، وعندي أنه لا اعتبار بالدرجتين وزيادة بل الاعتبار بالقرب والبعد على العرف والعادة، ويمكن النزول عن خمس درجات بسرعة والصعود إليها بسرعة بحيث لا يكون فصلاً طويلاً. وقال في موضع من "الأم": لا ينزل ولا يسجد فإن نزل فسجد رجوت أن لا يكون به بأس وهذا يدل على [140 أ/ 3] أن تركه أفضل وهذا لأن الخطبة فرض والسجود سنة، والأصل فيه ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قرأ في خطبته الآية التي في سورة ص، وقال: "إنما هي توبة نبيّ ولكني رأيتكم تشرفتم للسجود"، فنزل وسجد ثم قرأها في الجمعة الأخرى فتهيأ الناس للسجود فلم ينزل ولم يسجد، ومثله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. مسألة: قال: وان سلم رجل والإمام يخطب كرهته.

الفصل وهذا كما قال إذا دخل رجل والإمام يخطب بالأولى له أن لا يسلم ويكره له ذلك، وقال في "الأم": لا بأس أن يسلم ويرد عليه، والإمام يخطب يوم الجمعة فحصل من هذا أن الأولى أن لا يسلم، وهل يكره؟ قولان: فإن خالف فسلم، قال: هاهنا يرد عليه بعضهم أي: يجيب عن سلامة بعضهم وعلل فقال: لأن الود فرض، يعني: في غير هذا الموضع لأن المسلم في هذا الموضع وضع السلام في غير موضعه، وترك الأدب فيه فلا يستحوذ الرد، ألا ترى أنه روي أن رجلاً مر على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو [140 ب / 3] يقضي حاجته فسلم عليه فقام النبي - صلى الله عليه وسلم - وضرب يده على الجدار وتيمم، ثم ناداه ورد عليه السلام وقال له: "إذا رأيتني على مثل هذه الحالة فلا تسلم عليَّ، فإنك إن سلمت عليَّ لا أرد عليك ولولا أني خشيت أن تقول: سلمت على رسول الله فلم يرد عليَّ ما رددت عليك ". ثم قال الشافعي رحمه الله: ويسع تشميت العاطس؛ لأنه سنة، يعني لا أكره تشميت العاطس في هذه الحالة ما أكره من رد السلام؛ لأن العطاس لم يكن إلا العاطس فكان معذوراً فيه. بخلاف المسلم فإن السلام إليه هذا مذهب الشافعي في الجايد، وهو أن الصمت في حال الخطبة سنة ويجوز فيها رد السلام وتشميت العاطس. وقال في"القديم": لا يشمت العاطس ولا يرد السلام إلا بالإشارة، وهذا لأن الصمت فرض، وفيه قول مخرج. ذكره أبو إسحاق رحمه الله أنه يشمت العاطس ولا يرد السلام، فحصل في المسألة ثلاثة أقوال: أحدها: لا يشمت ولا يرد السلام، والثاني: يشمت ويرد السلام، والثالث: يشمت [141 أ/ 3] ولا يرد واختار المزني أنه يشمت ويرد، وقال: لأن الرد فرض والصمت سنة والفرض أولى وهذا غير لازم؛ لأنه على القول الذي يقول: الصمت فريضة أجاب بهذا الجواب، ثم استدل المزني رحمه انه على أن الصمت سنة بكلام الخطيب في الخطبة فقال: وهو يقول، يعني به الشافعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كلم قتلة ابن أبي الحقيق وكلم سليكاً الغطفاني، أما خبر سليك فقد ذكرناه. وأما حديث ابن أبي الحقيق فهو ما روي أنه "كان يهودي بخيبر يكنى أبا رافع كان يؤذي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويغري المشركين على قتاله فاستأذن عبد الله بن عتيك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قتله فأذن له، فخرج في جماعة إلى أن احتال في دخول حصنه فقتله فيه، ثم رجع أصحابه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعهم السيف الذي قتل به أبو رافع والنبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب يوم الجمعة فدخلوا فدعاهم وكلمهم" وهذا أيضاً ليس بلازم، لأن الخطيب إذا تكلم وهو يخطب فقد ترك الخطبة، ولا يكون [141 ب/ 3] في حال كلامه خطيباً وغيره إذا تكلم وهو يخطب فقد ترك ما أمر به من الاستماع للخطبة والإنصات لها فلم يجز،

وهذا ذكره القفال وبعض أصحابنا. وقد ذكرت فيما مضى نصاً عن الشافعي رحمه الله أنه قال: يحرم الكلام على الخطيب أيضاً على هذا القول، والجواب عن هذا أن هذا الكلام هو من جملة ما يعنيه، ولا يجوز ذلك عندنا، وأما رد السلام فليس من ذلك، لأن المسلم أساء الأدب بالسلام في غير موضع السلام فلا يجاب. وقال بعض أصحابنا بخراسان: القولان مبنيان على أن الخطبة في معنى الصلاة أم لا؟ وفيه قولان: وعلى هذا هل تفتقر إلى الطهارة هل يجب فيها التتابع، وهل يبني الغير على خطبة الغير؟. فرع أقل ما يتأذى به سنة السلام أن يقول: السلام عليك؛ ولو قال: "سلام عليك" بغير ألف ولام مع التنوين يجوز، والأولى أن يقول: "السلام عليكم حتى يقول: سلاماً عليه وعلى من، وأقل الجواز أن يقول: وعليك السلام. ولوترك حرف الواو فلا يكون مجيباً لأن المنقول في الشرع الكلمة مع واو العطف وكمال السلام هو [142 أ/ 3] أن يقول: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، ويقول: المجيب: وعليكم اللام ورحمة الله وبركاته. فَرْعٌ آخرُ إذا نادى رجل من خلف حائط، وقال: السلام عليك يا فلان، أو كتب كتاباً وكتب فيه السلام على فلان، أو أرسل رسولاً وقال: سلم على فلان فبلغه، فإنه يجب عليه الجواب، لأن تحية الغائب بالمبادأة والكتابة والرسالة فعليه أن يجيب تحيته مثلها أو بخير منها كما قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا} [النساء: 86]. فرع إذا سلم على أصم لا يسمع شيئاً يجب عليه أن يتلفظ بلفظ السلام لقدرته، ويشير باليد حتى يحصى الإفهام فيستحق الجواب، فإن لم يجمع بينهما لا يستحق الجواب، وهكذا لو سلم عليه أصم وأراد الود عليه تلفظ باللسان ويشير بالجواب حتى يحصل له الإفهام. فَرْعٌ آخرُ لو سلم على أخرس فأشار باليد سقط عنه الفرض؛ لأنه يقوم مقام العبارة، وهكذا لو سلم عليه الأخرس بالإشارة يستحق الجواب لما بيناه. فَرْعٌ آخرُ لو سلم على جماعة وفيهم صبي فلم يرد إلا الصبي لا يسقط عنهم الفرض، لأن الصبي ليس من أهل الفرض [142 ب/ 3]. فَرْعٌ آخرُ أنه إذا سلم الصبي هل يستحق رد الجواب؟ وجهان: مبنيان على أن سلامه يصح أم لا؟

فَرْعٌ آخرُ لو لقي جماعة فأراد أن يخص بعضهم بالسلام يكره، لأن فيه إيحاش الباقين وربما يكون سبباً للعداوة. فرع إذا سلم على رجل جماعة فقال: وعليكم السلام وقصد الرد عليهم سقط الفرض في حق الكل، كما لو صلى على جنائز دفعة واحدة. فَرْعٌ آخرُ إذا سلم على رجل ثم التقى به ثانياً يستحب له أن يسلم ثانياً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أفشوا السلام بينكم"، وروي أن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كانوا إذا كانوا في طريق تستقبلهم شجرة فاجتازوا عليها سلم بعضهم على بعض ". فرع لو أن وجلين تلاقيا فخاطب كل واحد منهما بالسلام دفعة واحدة، أو على الترتيب لم يقم مقام الجواب، وعلى كل واحد أن يجيب. فَرْعٌ آخرُ إذا لقي وجلاً فقال له ابتداء: وعليكم السلام لم يكن به مسلماً حتى يستحق الجواب، لأن هذه الصنيعة هي مشروعة للجواب فلا تصح للابتداء. فَرْعٌ آخرُ النسا، بعضهن [143 أ/ 3] مع بعض في السلام كالرجال مع الرجال، فإن سلم على امرأة، فإن كانت زوجة أو محرماً له فعليها الجواب، وإن كانت أجنبية فإن كانت شابة تخشى الفتنة فلا يجوز لها رد الجواب، ويكون الرجل مفرطاً بالسلام عليها، وهكذا المرأة إذا سلمت على رجل، فإن كانت زوجته أو محرماً له أو عجوزاً لا يخاف منها الفتنة فإنه يلزمه الجواب، وإن كانت شابة تميل إليها النفس يكره أن يجيب لأنها مفرطة بالسلام. فَرْعٌ آخرُ إذا دخل الرجل دار نفسه يستحب له أن يسلم على أهله، لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا دخل بيته فسلم على أهله كثر خير بيته ". فرع إذا دخل مسجداً أو بيتاً ليس فيه أحد يستحب أن يقول: السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، لقوله تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النور: 61].

فَرْعٌ آخرُ جرت عادة بعض الناس بالسلام عند القيام ومفارقة القوم، وذاك دعاء فيستحب الجواب ولا يجب؛ لأن التحية تكون عند اللقاء لا عند المفارقة. فرع لو سلم على رجل لا يعرفه فبان دمياً يستحب أن يسترد سلامه [143 ب/ 3] فيقول له: أردد علي سلامي والفرض أن يوحشه ويظهر أنه ليست بينهما إخوة ولا إلفة، وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنه "أنه سلم على رجل فقيل له: إنه يهودي فتبعه وقال: "رد على سلامي". فرع إذا أراد تحية ذمي يجب أن يكون بغير السلام، فيقول: هداك الله، أو أطال الله بقاك، أو أنعم الله صباحك ونحو ذلك. فَرْعٌ آخرُ إذا سلم عليه ذمي لا يزيد في الجواب على قوله وعليك. فرع زيارة القادم سنة، وقد انتشر ذلك فيما بين الناس وتواتر به النقل، ويستحب أن يعانق القادم، لما روي أن جعفر بن أبي طالب لما رجع من الحبشة "قام إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعانقه". فَرْعٌ آخرُ المصافحة سنة، لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المصافحة تزيد في المودة" وقال - صلى الله عليه وسلم - لأبي ذر: "أما علمت أن المسلمين إذا تصافحا تحاتت ذنوبهما". فَرْعٌ آخرُ قال بعض أصحابنا: يكره لمن دخل على قوم أن لا يطمع في قيامهم لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار". إلا أنه يستحب للقوم [144 أ/ 3] أن يكرموه لما روي أن سعد بن معاذ لما أقبل قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقومه من أوس: "قوموا لسيدكم" وقال - صلى الله عليه وسلم -: " إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه"،وبسط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رداءه لدحية الكلبي إكراماً له.

فَرْعٌ آخرُ إذا أراد تقبيل يد غيره، فإن كان يعظمه لزهده أو علمه أو كبر سنه لم يكره لما روي أن أعرابياً قعد عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاستحسن كلامه فقال له: ائذن لي حتى أقبل وجهك فأذن له ثم قال: ائذن لي حتى أسجد لك فلم يأذن له" وإن كان يعظمه لأجل غناه أو لسلطنته لم يجز لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من تواضع لغني لغناه ذهب ثلثا دينه". فرع الدخول على الأغنياء والسلاطين لا يستحب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تدخلوا على هؤلاء الموتى فتمرض قلوبكم" قيل: ومن هم يا رسول الله؟ قال: "الأغنياء". فَرْعٌ آخرُ التحية بالطليقة وانحناء الظهر وتقبيل اليد لا أصل له في الشرع، إلا أنه لا يمنع لما روي أن عمر رضي الله عنه لما دخل الشام كان أهل الذمة [142 ب/ 3] يحيون الله ويخدمونه بين يديه بتقبيل اليد وانحناء الظهر، يقال: إن هذا شيء جرت به عادتهم في التعظيم فإذا عظموا به المسلمين لا يمنعهم. فرع التحية عند الخروج من الحمام: يقال للذي خرج من الحمام: طاب حمامك لا أصل له، لكنه روي أن عليا رضي الله عنه قال لرجل خرج من الحمام: طهرت فلا نجست فسكت الرجل، وكان مع علي رضي الله عنه إنسان يهودي فقال للرجل: هلا أجبت أمير المؤمنين؟ فقلت: سعدت فلا شقيت، فقال علي رضي الله عنه: الحكمة ضالة المؤمن خذوها ولو من أفواه المشركين. فَرْعٌ آخرُ الاستماع إلى مدح المادحين بالشعر وغير الشعر لا يستحب، لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأيتم المادحين فاحثوا في وجوههم التراب ". فَرْعٌ آخرُ إذا قرأ الإمام على المنبر {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] الآية فهل يصلي الناس على النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه؟ قال أصحابنا: إنه لا نص فيه للشافعي. ويجب أن يكون بمنزلة تشميت العاطس.

فَرْعٌ آخرُ الصلاة على غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[145 أ/ 3] كان جائزاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لأنه قال: "اللهم صل على آل أبي أوفى". فأما لغيره فيجوز أن يصلي على غير الرسول تبعاً ولا يجوز مقصوداً: لأن الله تعالى خص الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة عليه فلا يشاركه في هذه الفضيلة غيره. مسألة: قال: والجمعة خلف كل إمام صلاها من أمير ومأمور. الفصل وهذا كما قال صلاة الجمعة لا تفتقر إلى الإمام ولا إلى إذنه، وبه قال مالك وأحمد رحمهما الله. وقال أبو حنيفة: لا تنعقد إلا بإذن السلطان، أو من يقوم مقامه، ولا يجوز لآحاد الرعية إقامتها، إلا أن يتعذر استئذانه فيجوز لصاحب الشرطة والقاضي أن يصليها من غير إذنه. وهذا غلط لما روي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه "صلى بالناس الجمعة وعثمان رضي االله عنه محصور، ولم ينكر أحد، ولأنها صلاة مفروضة فلا تفتقر إقامتها إلى إذن السلطان كسائر الصلوات، فإذا تقرر هذا، أراد الشافعي بالأمير الإمام وبالمأمور خليفة الإمام وبالمتغلب الخارجي وبغير أمير القاضي، وتجوز الجمعة خلف كل من هو من أهل [145 ب/ 3] الفرض وتصح خلف العبد أيضاً، وقال مالك في رواية ابن القاسم: لا يجوز أن يكون العبد إماماً فيها لعدم كمالهء وهي إحدى الروايتين عن أحمد رحمه الله وهذا غلط؛ لأنه ذكر يؤدي فرض الجمعة فجاز أن يكون إماما فيها كالحر وتجوز خلف المسافر أيضاً. وحكي عن أحمد رحمه الله أنه قال: لا تجوز لأنها لا تجب عليه، وهذا غلط؛ لما ذكرنا وقد ذكرنا جوازها خلف الصبي قولين: قال في "الأم": لا يجوز، وقال في ا"الإملاء": يجوز. وهل تجوز خلف المتنفل؟ قد ذكرنا قولين: بناء على جوازها خلف الصبي. وقال القفال: نص الشافعي رحمه الله في صلاة الخوف أنه يجوز: لأنه قال: ولو صلى الإمام يوم الجمعة صلاة الظهر في شدة الخوف إيماء، ثم سكنت الحرب ووقت الجمعة باق لا تلزمه الجمعة، فإن بقي أربعون ممن لم يصل الظهر أمر بعضهم بأن يخطب ويصلي بهم، فإن خطب هو وصلى الجمعة جاز، وهو متنفل في هذه الحالة. وهل يجوز خلف الجنب إذا لم يعلم؟ قد ذكرنا قولين: قال أصحابنا: هما مبنيان على [146 أ/ 3] الصبي فإن قلنا: خلف الصبي يجوز بعلة أنه يجوز أن يكون إماما في غير هذه الحالة فيجوز هاهنا. وإن قلنا: لا يجوز خلف الصبي لأنه لا يسقط الفرض عن نفسه لا يجوز هاهنا. وقال أبو حامد رحمه الله: هذا ترتيب مليحء ولكن مذهب

الشافعي غير هذا، لأنه قال في "الأم": ولا يكون الصبي إماماً فيها، ولو كان جنباً أو محدثاً فإنه يصح فلا معنى لما ذكر أصحابنا، وأما المرأة فلا يجوز إمامتها للرجال أصلاً ولا تنعقد الجمعة بالنساء المنفردات لحال. مسألة: قال: ولا يجمع في مصر وان عظم أهله. الفصل وهذا كما قال. لا يجوز أن يصلي الجمعة في بلد واحد، وبه قال مالك، وهو ظاهر قول أبي حنيفة وليس له نص صريح في هذا، وقال أبو يوسف: إذا كان للبلد جانبان جاز أن يقام في كل واحد منهما جمعة، وبه قال أبو الطيب بن سلمة: وجاز في بغداد في موضعين، لأن نهر دجلة حائل بينهما، وقال محمد: القياس أنه لا يجوز أكثر من جمعة واحدة، ولكنا نجوزها في اثنين استحسانا [146 أ/ 3] ولا فرق في هذا بين الجانب والجانبين. وروي عنه أنه يجوز في ثلاثة، وقال أحمد: إذا كثر أهله كبغداد اد والبصرة جاز أن يقام فيه جمعتان وأكثر، وإن لم يكن بهم حاجة لا يجوز أن تقام إلا جمعة واحدة. وقال داود: يجوز أن يصلوا الجمعة في مساجدهم كما يصلون سائر الصلوات. وهذا غلط؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما جمع إلا في مسجد واحد. وكذلك الخلفاء من بعده، ولو جاز ذلك لم يعطلوا المساجد وكانت إقامتها في موضعين أولى من إقامتها في موضع واحد. وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: "لا تقام الجمعة إلا في المسجد الأكبر الذي صلى فيه الإمام"، وقال الشافعي رحمة الله عليه: "لو جاز في مسجدين لجاز في مساجد العشائر" يعني: القبائل ولأن الجمعة سميت بهذا الاسم لاجتماع الناس بها فيجب أن لا يفترقوا، واحتج أبو يوسف بأن دجلة تقطع بينهما فصار كالبلدين، واحتج محمد بما روي عن علي رضي الله عنه أنه كان يخرج يصلي العيد في الجبان ويستخلف أبا مسعود [147 أ/ 3] البدري فصلى بضعفة الناس وعنده حكم الجبان حكم البلد، والجمعة والعيد. واحتج داود بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى أبي هريرة رضي الله عنه بالبحرين "أن جمعوا حيث ما كنتم ". قلنا: أما ما قال أبو يوسف: لا يصح لأنه لو كان كما قاله لوجب إذا عبر المسافر من أحد الجانبين إلا الآخر يجوز له القصر، وأجمعنا أنه لا يقصر حتى يفارق البنيان من الجانبين وهم لا يسلمون هذا ويقولون: إذا عبر يجوز له القصر حين يحصل في الماء، فيقول: الظهر من مصلحة العمارتين فلا يكون حائلاً ولا يجعل كالبلدين، وأما ما قال محمد: عندنا يجوز العيد في كل موضع وللمنفرد أيضا فلا حجة فيه. وأما خبر عمر رضي الله عنه قلنا: أراد في أي بلد كنتم، واحتج أحمد بالمشقة قلنا: العادة جارية أنه لا يشق على أهل البلد الاجتماع في جامع البلد. وان وجب ذلك فهو مشقة محتملة يسيرة لا اعتبار بها، فإن قيل: أليس دخل الشافعي بغداد وكانوا

يصلون في ثلاثة جوامع المنصور، وجامع المدينة، وجامع [147 ب/ 3] الرصافة؟ ولم ينكر ذلك، قلنا: إنما ترك الإنكار: لأنها مسألة اجتهاد وليس لبعض المجتهدين أن ينكر على البعض منهم واعتقاده في بغداد أنها لا تجوز إلا في موضع واحد أيضاً. وقال أبو الطيب بن سلمة: إنما منع الشافعي في غير بغداد حيث تكون البلد ذا جانب واحد وبغداد ذو جانبين وهذا لا يصح، لأن هذا القائل لا يجوز في بغداد إلا في موضعين وقد رأى الشافعي ثلاثاً في ثلاثة جوامع ولم ينكر. وقال أبو إسحاق وابن سريج: إنما لم ينكر، لأنه كان بلدا كبيراً لا يمكن اجتماع الجمع في موضع واحد إلا بمشقة عظيمة. ولو أن مدينة اتصلت عمارتها فرسخين أو ثلاثة يلزمهم أن يجمعوا في موضع واحد لهذا وهذا أقرب وبه أقول، ولكنه عين قول أحمد رحمه الله، وليس بمذهب الشافعي رحمه الله لما ذكرنا. وقال أبو جعفر الترمذي من أصحابنا: إنما لم ينكر لأنها مدن اتصلت عمارتها لأن المنصور بنى المدينة منفردة على الكرخ وهذا بنى كل جانب منفرداً، فكل ناحية منها هي بمنزلة المدينة المنفردة، ثم اتصلت [148 أ/ 3] عمارتها فبقيت على حكمها، ألا ترى أنه لو اتصلت عمارة بغداد بواسط مثلاً لا يجعل في حكم البلد الواحد كذلك هاهنا، وفي هذا نظر أيضا. وقال الداركي: سئل أبو إسحاق فقيل له: إن أهل مرو يصلون الجمعة في موضعين، ويمكنهم أن يجمعوا في موضع واحد فقال: لأهل مرو في ذلك قصة وذلك أن أبا مسلم دخل مرو وأخذ دوراً وبناها الجامع، فتورع الزهاد وأصحاب الحديث عن الصلاة فيه وصلوا في غيره، وصلى أصحاب الرأي في جامع أبي مسلم فحصلوا حزبين. فإذا تقرر هذا فكل بلد لا يجوز أن يصلوا الجمعة فيه، في موضعين إذا صلوها في موضعين لا يخلو من ثلاثة أقسام: أحدها: أن لا يكون في واحدة منهما إمام ولا صاحبه. والثاني: أن يكون في إحداهما إمام وفي الأخرى صاحبه. والثالث: أن يكون في إحداهما إمام أو صاحبة وليس في الأخرى واحد منهما. ففي القمسين الأولين إن علمت السابقة منهما بعينها ولم يشكل فإنها هي الجمعة الصحيحة، وعلى الآخرين أن يعيدوا الظهر أربع ركعات [148 ب/ 3] واعتبار السبق بالإحرام فإن الجمعة تنعقد بالإحرام، فإذا انعقدت لم يصح عقد غيرها وهذا هو المذهب، ومن أصحابنا من قال فيه قول آخر: إنه يعتبر بالفراغ، لأنه لا يحكم بصحتها إلا بالفراغ منها. وهذا غلط؛ لأنه يؤدي إلى أن يحكم بصحة انعقاد الجمعتين ثم ببطلان إحداهما وهذا لا يجوز. وقال بعض أصحابنا بخراسان: يعتبر بالشروع في الخطبة لأن حكمها حكم الصلاة لأنها لا تصح إلا بعد دخول وقت الصلاة وهذا ليس بشيء؛ لأن الخطبة شرط في الجمعة لا نفسها فلا اعتبار بالسبق فيها، فإن علمت السابقة ثم أشكلت أو علم أن إحداهما سبقت الأخرى، فإن في هذه الأقسام الأربعة يجب على الكل إعادة الصلاة. وقال المزني: لا تلزم الإعادة في القسمين الأولين من هذه الأقسام الأربعة لأنهما أديتا

في الظاهر فلا يحكم ببطلانهما بالشك. وهذا غلط؛ لأن كل واحدة منهما مشكوك في صحة الإحرام بها؛ فإنها إن كانت هي السابقة صح الإحرام بها وإلا فلا، والصلاة لا تصح إذا دخل فيها بالشك، كما [149 أ/ 3] لو شك في ركن الطهارة، ودخل في الصلاة. فإذا تقرر هذا، فكيف يعيد إن علم أنهما وقعتا معاً في حالة واحدة؟ يجب إعادة الجمعة لأنه لم تصح جمعة واحدة من الطائفتين وليست إحداهما بالبطلان أولى من الأخرى فبطلت، كما لو تزوج بأختين معاً بطل نكاحهما وان سبقت إحداهما الأخرى ولم تتعين أو تعينت، ثم أشكلت فهل تجب إعادة الجمعة أم الظهر؟ قولان: أحدهما: الظهر لأن الجمعة قد أقيمت في هذا اليوم بيقين فلا تقام ثانياً. والثاني: الجمعة لأنه لم يعتد بما فعلوا فكان وجوده وعدمه سواء. وقال بعض أصحابنا بالعراق: لا خلاف بين أصحابنا أنه لا يجب إعادة الجمعة، ولكن هل يجوز أن يصلوا الجمعة؟. قال في "الأم": يجوز وقال الربيع: فيه قول آخر إنه لا يجوز وبنحو هذا ذكر القفال قال: ونظير القولين نظير الوليين إذا أنكحا وعلم أن أحدهما سابق ولم يتعين، ففيه قولان: أحدهما: أن النكاح باطل فعلى هذا تجوز الجمعة هاهنا. والثاني: هو موقوف فعلى هذا يلزم إعادة الظهر هاهنا. قال [149 ب/ 3] القفال رحمه الله: وهذا إذا لم تعرف السابقة. قال القفال: فإذا عرفت السابقة ثم خفيت فلا تجوز جمعة أخرى قولاً واحداً، كما قلنا في نكاح الوليين في هذه الصورة هما باطلان قولاً واحداً، فإن قيل: إذا تعينت ثم أشكلت ينبغي أن يوقف كما قلتم في الوليين إذا أنكحا، وفي الميراث في الغرقى قلنا في الجمعة: إذا وقفنا فقد فات وقتها بخلاف الميراث والنكاح فإن وقتهما لا يؤدي إلى فوات وقتهما فجاز أن يوقفا، وان لم يعلم هل وقعتا في حالة واحدة أو سبقت إحداهما الأخرى فيعيدون الجمعة هاهنا قولاً واحداً؛ لأنا حكمنا ببطلانهما لجواز أن تكون وقعتا في حالة واحدة، فكأنهم لم يصلوا أصلاً هكذا ذكره القاضي الطبري والقفال رحمهما الله. وقال الشيخ أبو حامد رحمه الله: هذا نظير ما لو عرف العين ثم أشكل فيه قولان: وما تقدم أصح. وأما القسم الثالث من أقسام الأصل: إذا كان في إحداهما إمام دون الأخرى اختلف قول الشافعي رحمه الله فيه قال في "الأم": السابقة أولى بكل حال وان كان الإمام [150 ا/ 3] الذي صلى بهم إماماً حقيقة أو متغلباً أو عزله الإمام فامتنع من العزل وهذا أصح؛ لأن السابقة انعقدت صحيحة فلا تفسد بعقد الثانية. وقال في كتاب العيدين: لو صلى غير الإمام الجمعة في المسجد الأعظم والإمام في مسجد أصغر منه وصلاة الإمام، ومن معه جائزة ويعيد الآخرون.

باب التكبير إلى الجمعة

قال أبو إسحاق رحمه الله: وهذا أحفظ القولين لأن في إطلاق ذلك فساد الصلاة على أهل البلد وأهل الإسلام، ومتى شاء أربعون أن يفسدوا على أهل البلد صلاتهم صلوا أولاً فإذا قلنا: الجمعة للسابق فالأقسام التي قدمناها تجيء هاهنا. فرع لو أحرم الإمام بأربعين، ثم أخبر في أثنائها أن غيره قد أقامها قبله فلأن قلنا: جمعه الإمام أولى، فإن الأدلة باطلة، وإن قلنا: السابقة الأولى كان فرضه الظهر وجاز له إتمامها ظهرا. قال الشافعي رحمه الله: وأحب أن يستأنف الظهر بخلاف المسافر إذا نوى الإقامة يتمها ولا يستأنف؛ لأنه عقدها بنية الظهر وهذا عقدها بنية الجمعة فأحببنا له استئنافها ظهرا. وقال القفال رحمه الله: نص الشافعي رحمه الله هاهنا أن عليهم استئناف الظهر بخلاف المسافر: لأن أصل فرضه أربع، ولو أتموا أربعاً لم يبن أن عليهم [150 ب/ 3] الإعادة، لأنه قد يحرم بالجمعة، ثم يخرج الوقت فيصليها ظهرا. قال القفال رحمه الله: فحصل قولان: وإذا خرج وقت الجمعة فمن هاهنا قول مخرج إنهم يستأنفون الظهر، ومعنى القولين إن الجمعة والظهر صلاة واحدة بقصر ويتم، أو هما صلاتان على الخلاف وهذا تخريج بعيد، وفي لفظ الشافعي على ما سبق ما يمنع هذا. وقد نص في "الأم" على أنه لو صلى بهم الجمعة، ثم تذكر الإمام أنه كان جنباً عاد ظهرا وأجزأت الجمعة في حق المأموين، فإن اغتسل وأعاد الخطبة وصلى بطائفة الجمعة لم يكن له ذلك وعليه الظهر، فإن خالف وفعل، ثم ذكر في أثناء الجمعة أن عليه الظهر كان له أن يبني على الظهر، وان عقدها بنية الجمعة كرجل يدخل في آخر الجمعة ينوي الجمعة ويكون فرضه الظهر، ثم قال: وأحب له أن يستأنف الظهر هاهنا. وهذا يدل على ضعف هذا التخريج الذي ذكره القفال. باب التكبير إلى الجمعة قال أخبرنا سفيان ..... وذكر الخبر. وهذا كما قال: يستحب أن يبكر إلى الجمعة لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [151 أ/ 3] "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يسمعون الذكر"، ومعنى غسل الجنابة، أي: كغسل الجنابة، وقيل: أراد أنه جامع واغتسل لتسكن نفسه في يومه، وأراد بالرواح: الخروج إلى الجامع، وحقيقة الرواح في آخر

النهار، وأوله من حين تزول الشمس ويستعمل في الانقلاب من موضع إلى موضع سواء كان في أول النهار، أو في آخره على طريق التوسع، والمجاز كما أن حقيقة الغدو في أول النهار ويستعمل في المضي، والذهاب في أول النهار وآخره على طريق المجاز. واختلف أصحابنا في الرواح من أي وقت اعتبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمنهم من قال: من حين طلوع الفجر الثاني وهو الصحيح، لأنه أول ما يصح فيه غسل الجمعة، وهو أول وقت الرواح وهو ظاهر كلام الشافعي رحمة الله عليه؛ لأنه قال: وكلما قدم التبكير كان أفضل وإنما عبر بالرواح؛ لأنه خرج لأمر يؤتى به [151 ب/ 3] بعد الزوال، ومنهم من قال: من حين طلوع الشمس؛ لأن أهل الحساب يعدون أول النهار من حين طلوع الشمس. قال في "الحاوي": وهذا أصح ليكون ما قبل ذلك من طلوع الفجر زمان غسل وتأهب. وقال القفال رحمه الله: أراد بالساعات أزمنة لطيفة لا الساعات التي عند المنجمين لأن النهار في الشتاء يتراجع إلى تسع ساعات، فتكون الساعة الخامسة بتمامها زائدة على نصف النهار، والمراد بذلك كله بعد الزوال، فمعنى الخبر من راح إلى الجمعة بعد الزوال فدخل المسجد أولاً فكأنما قرب بدنة على هذا الترتيب، والدليل على أنه أراد بعد الزوال، لأن الأمر من الله تعالى إنما يتوجه بعد الزوال لا قبله، ويستحيل أن يكون أعظم الثواب في وقت لم يتوجه فيه الأمر، وأقل الثواب في وقت توجه فيه الأمر. وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لن يتقرب المتقربون إلى الله تعالى بأعظم من أداء فريضة " وهذا كله إذا كانت الدار قريبة من المسجد. فأما إذا كانت الدار بعيدة من المسجد فالواجب أن يتهيأ للقصد في وقت يتيقن الإدراك، وقال أيضاً: الدرجات غير مقصورة على الخمس لا غير [152 أ/ 3] حتى لو جاء خمسة نفر وللخامس أجر من قرب بيضة فللسادس ومن بعده أقل من ذلك، ولكن السادس مع الخامس كالمهدي بقرة مع المهدي شاة وعلى هذا. والمقصود بيان تفاوت الدرجات لا غير، وهذا أحسن، ولكنه خلاف ظاهر قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقول الشافعي رحمه الله، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فإذا خرج الإمام حضرت الملائكة يسمعون الذكر" يدل على أنه لا فضيلة لمن جاء بعده كما روي في خبر آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الناس على منازلهم الأول فالأول، فإذا خرج الإمام طووا الصحف وحضروا يسمعون الدكر". فمن جاء بعد ذلك جاء بفرض"، وأراد بقوله: قرب بدنة، أي: ثوابه كثواب من تقرب إلى الله تعالى ببدنة أو بيضة، وجعلها قرباناً وتقرباً إلى الله تعالى. وروي عن علقمة رضي الله عنه أنه قال: "حضرت وعبد الله بن مسعود الجمعة، وقد

سبقنا ثلاثة، فقال عبد الله: رابع أربعة وما رابع [152 ب/ 3] أربعة ببعيد، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الناس بالقرب من ربهم على قدر رواحهم إلى الجمعة"، وأيضاً روى أوس بن أوس الثقفي قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من غسل يوم الجمعة واغتسل ثم بكر وابتكر ومشى ولم يركب، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ كان له بكل خطوة عمل سنة أجر صيامها وقيامها". وروي في خبر آخر: "وبكر وابتكر ولبس من ثيابه أحسن ما قدر عليه ومس طيباً إن كان عنده وخرج، ولم يتخط رقاب الناس، وأنصت حتى خطب الإمام كان كفارة لما بين هذه الجمعة وما قبلها". وروي "خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"، وروي "وجلس قريباً واستمع ولم يرفث ". واختلف العلماء في معناه فمنهم من قال: هذا من الكلام الظاهر الذي يراد به التوكيد ولم تقع المخالفة بين المعنيين لاختلاف اللفظين، ألا ترى أنه قال: "ومشي ولم يركب"، ومعناهما واحد، وبهذا قال الأثرم صاحب أحمد رحمهما الله ومنهم من قال قوله: غسل معناه غسل الرأس خامة وذلك؛ لأن العرب لهم لحم وشعور وفي غسلها مؤنة، فأفرد [153 أ/ 3] ذكر غسل الرأس من أجل ذلك، وقوله: واغستل معناه غسل سائر البدن، وبهذا قال عبد الله بن المبارك ومكحول، وقيل: روي غسل بالتخفيف. وروي غسل بالتشديد فبالتخفيف معناه تطهر واغتسل، وأما بالتشديد معناه غسل أعضاء الوضوء، وإنما شدد لتكرير الفعل كما يقال: قطعه إرباً إرباً. وقيل: معناه غسل غيره فإن جامع واغتسل هو وبهذا قال وكيع: وقيل: روي هذا بالعين عسل غير المعجمة بتشديد السين، معناه أصاب أهله ليكون أملك لنفسه، وأحفظ في طريقه لبصره. ومن هذا قول العرب فحل عسله إذا كان كثير الضراب. والعسيلة: هي الجماع ومعنى قوله: بكر، أي: أدرك باكورة الخطبة، وهي أولها، ومعنى ابتكر قدم في الوقت، وقيل: قوله بكر أي تقدم، وجاء بكرة وابتكر له تأويلان: أحدهما: أنه فعل أفعال المبكرين من الاشتغال بالعبادة من الذكر وقصد الصلاة ولم يقف على موضع اللعب والشعوذة. والثاني: أدرك باكورة الخطبة واشتقاقه من باكورة الثمرة التي هي أولها، وقيل معناه: بكر إلى صلاة [153 ب/ 3] الغداة وابتكر إلى صلاة الجمعة. وقال ابن الأنباري: معنى بكر، أي: تصدق قبل خروجه من قوله - صلى الله عليه وسلم -: "باكروا بالصدقة فإن البلاء لا يتخطاها"، فإذا تقرر هذا يستحب أن يمشي إلى صلاة الجمعة والعيدين ولا يركب إلا أن لا يقدر عليه لضعف من كبر أو مرض فلا يكره له الركوب،

باب هيئة الجمعة

وإذا ركب فيجتهد أن لا يؤذي أحداً، وينبغي أن يمشي متوقراً لا يزيد على سجيته في المشي ولا يشبك بين أصابعه ولا يعبث، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أحدكم في صلاة ما كان يعمد إلى الصلاة"، فألحق العامد إلى الصلاة بمن كان في الصلاة ولا يشك في الصلاة كذلك في طريق الصلاةء وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يزال أحدكم في صلاة ما دام ينتظرها، ولا تزال الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في المسجد اللهم اغفر له اللهم ارحمه ما لم يحدث" فقال: رجل من حضرموت، وما الحدث يا أبا هريرة قال: فساء أو ضراط. وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن التشبيك بين الأصابع في الصلاة، وعن التفرقع في الصلاة وهو [154 أ/ 3] أن يثني أصابعه فيسمع من مفاصله صوت"، وروى كعب بن عجرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من توضأ فأحسن وضوءه، وخرج إلى المسجد عامداً فلا يشبك بين أصابعه". وروي عن النبي ´ - صلى الله عليه وسلم -: "أنه ما ركب في عيد ولا جنازة قط"، والجمعة هي في معنى ذلك، وإنما لم يذكر الجمعة لأن باب حجرته كان في المسجد فلا يتوهم الركوب إليها، وهذا لأنه إذا ركب يضيق على الناس ويزاحمهم أنجس الطريق بالبول والروث، وربما يترشرش على الناس والماشي هو أكثر عملاً ويكون أخشع فكان أولى. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا إذا كانت عادته أن لا يركب فيها وهذا ليس بشيء، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -، لجابر بن عتيك: "إذا خرجت إلى الجمعة فامش على هيئتك"، وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يسعى إلى الجمعة سعياً لقوله: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وهذا عنانا مكروه، المراد بالسعي القصد على ما ذكرناه. باب هيئة الجمعة قال: أخبرنا مالك. . . الخبر. وهذا كما قال: المستحب [154 ب/ 3] أن يروح إلى الجمعة على أكمل ما يقدر عليه من نظافة وزينة وطيب رائحة، لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في جمعة من الجمع: "يا معشر المسلمين إن هذا يوم جعله الله عيداً للمسلمين فاغتسلوا، ومن كان عنده طيب فلا يضره أن يمس منه وعليكم بالسواك ". وهذا أمر تلطف وتطرف

ومقصوده الأمر ولكن هذا هو أحسن من قوله: "تطيبوا". وروي في خبر آخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اغتسل يوم الجمعة ولبس ثيابه ومس طيباً إن كان عنده وحضر الصلاة ولم يتخط رقاب الناس ولم يؤخر وجلس حتى رجع الإمام خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"، وأراد بالرجوع فراغ الإمام من الصلاة. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اغتسل يوم الجمعة واستاك ومس من طيب إن كان عنده ولبس أحسن ثيابه، ثم خرج إلى المسجد ولم يتخط رقاب الناس ثم ركع ما شاء الله أن يركع وأنصت إذا خرج الإمام كانت كفارة بينها وبين الجمعة"، ثم قال الشافعي رحمه الله: وأحب أن يتنظف بغسل [155 أ/ 3] وأخذ ظفر وشعر وعلاج بما يقطع تغير الرائحة من جميح جسده وسواك يريد به أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر في هذا الخبر بثلاثة أشياء فيقاس عليه ما في معناها: أولها: الغسل للتنظيف فيقاس عليه أخذ الشعر والظفر. والثاني: التطيب فيقاس عليه تطيب الثياب التي تلبسها. والثالث: السواك لإزالة الرائحة الكريهة فيقاس عليه استعمال المرتك وكل ما يزيل ويقطع تغير الفم من جميع جسده. وجملة ذلك سبعة أشياء: الغسل، وحلق الشعر، وتقليم الأظفار، والسواك، وما يزيل عن نفسه الروائح الكريهة، ولبس أحسن ما يجد من الثياب، والطيب. وقال في "الأم": واستحب له ذلك في كل عيد وأمره به وأحبه في كل صلاة جماعة، وان كنت له أشد استحباباً في الأعياد والجمع. فإذا تقرر هذا، فالمستحب للرجال لبس البياض، فإن جاوز البياض فعصب اليمن، وهي البرود المخططة والقطري، وهو نوع من الكتان. وقال الأزهري رحمه الله: القطري هي ثياب حمر لها أعلام فيها بعض الخشونة، هي منسوبة إلى قطر، وهو موضع بين عمان وسيف البحر وإنما كان كذلك؛ لأنه يصبغ بمنزله ولا يصبغ بعد التسبيح فأما ما يصبغ بعد التسبيح مكروه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلبسه قط، وكذلك الخلفاء الراشدين. وأما السواد فلا يستحب لبسه مع وجود البياض لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلبس السواد إلا يوم فتح مكة، فإنه دخل مكة وعلى رأسه عمامة سوداء ويجوز أن يكون قد تعذر في تلك الحال البياض، وهذا لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أحب الثياب إلى الله تعالى البياض يلبسها أحياؤكم ويكفن فيها موتاكم". وروى سمرة بن جناب رضي الله عنه أن

النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "البسوا الثياب البيض فإنها أطهر وأطيب" وروي "خير ثيابكم البيض فألبسوها أحياءكم وكفنوا فيها موتاكم". وقال بعض أصحابنا: يجوز لبس السواد، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يقيم بعمامة سوداء ويرتدي بإزار أسحمي"، وأول من أحدث السواد بنو العباس في خلافتهم شعاراً لهم، ولأن الراية التي عقدت للعباس رضي الله عنه يوم فتح مكة ويوم حنين كانت سوداء، وكانت راية الأنصار صفراء فينبغي للإمام [164 أ/ 3] أن يلبس السواد إذا كان السلطان له مؤثراً لما في تركه من مخالفته ويعتبر شعاره ذكره في "الحاوي". وجميع ما ذكرنا للرجال من النظافة فإنه يستحب للنساء إلا الطيب وما يستهدن به من الثياب، قال - صلى الله عليه وسلم -: "طيب النسا، ما ظهر لونه وخفيت رائحته، وطيب الرجال ما ظهرت رائحته وخفي لونه". وفي لفظ: "طيب الرجل ما ظهر ريحه وبطن لونه، وطيب النساء المرأة ما ظهر لونه وبطن ريحه"، وقال: "إنهن يحضرن الذكر والصلاة وليحضرن بثلاث غير عطرات". وروي أن امرأة مرت يوم جمعة على أبي هريرة رضي الله عنها فشم منها رائحة المسك، فقال لها: يا أمة الجبار: أين تريدين؟ قالت: الجمعة، فقال: ولها تطيبت؟ قالت: نعم، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "أيما امرأة خرجت إلى الصلاة متعطرة لم يقبل الله تعالى صلاتها حتى ترجع وتغتسل اغتسالها من الجنابة"، فرجعت تلك المرأة. فرع قال في "الأم": واستحب هذا للعبد والصبيان كما استحب للرجال وهذا لأنهم من جنس الرجال الأحرار. فَرْعٌ آخرُ قال: ويستحب للإمام من النظافة والزينة أكثر مما [164 ب/ 3] يستحب لسائر الناس؛ لأن الإمام يتقدم على الناس ويقتدي به، قال: وأحب له أن يقيم فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقيم ويستحب أن يرتدي فإنه صلى - صلى الله عليه وسلم - عليه وسلم كان يرتدي ببرد.

فَرْعٌ آخرُ قال: واستحب كثرة الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - في كل حال، وأما في يوم الجمعة وليلتها أشد استحباباً قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أقربكم مني مجلساً في الجنة أكثركم صلاة عليّ فأكثروا الصلاة عليّ في الليلة الغراء واليوم الأزهر". قال الشافعي رحمه الله: هما ليلة الجمعة ويوم الجمعة. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من صلى عليّ ليلة الجمعة أو يوم الجمعة مائة مرة قضيت له مئة حاجة سبعون من حوائج الآخرة، وثلاثون من حوائج الدنيا"، وروى أوس رضي الله عنه أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: إن من أفضل أيامكم يوم الجمعة فأكثروا عليّ من الصلاة فيه، فإن صلاتكم معروضه عليّ" قالوا: يا رسول الله وكيف تعرض صلاتنا عليك. وقد ارمت؟ قال: "إن الله تعالى حرم على الأرض أجساد الأنبياء" وقوله: أرمت أي: بليت وأصله أرممت، أي صرت رميما. فَرْعٌ آخرُ قال: وأحب [165 أ/ 3] قراءة سورة الكهف ليلة لجمعة ويومها. روى عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قرأ سورة الكهف يوم الجمعة غفر له ما بين الجمعة إلى الجمعة"، وروي أنه قال: "من قرأ سورة الكهف وقي فتنة الدجال"، وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قرأ سورة الكهف في يوم الجمعة أصابه من النور ما بين الجمعتين"، وهذا كله. لأجل فضل هذا اليوم. قال سعيد بن المسيب رحمه الله: ما من يوم أحب أن أموت فيه ضحى إلا يوم الجمعة، وروى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ترك الجمعة من غير ضرورة كان منافقاً في كتاب لا يمحى ولا يبدل"، وروي عن أبي جعد الضمري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ترك الجمعة ثلاث مرات متهاوناً بها طبع الله على قلبه". اورده ابو عيسى الترمذي، والعمل على هذا عند بعض أهل العلم، وبه يقول الشافعي وأحمد رحمهما الله، وروي عن نافع أن ابن عمر رضي الله عنه "كان إذا صلى

الجمعة انصرف يصلي سجدتين في بيته" وقال: كان [165 ب/ 3] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع ذلك. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان منكم مصلياً بعد الجمعة فليصل أربعاً"، وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه "كان يصلي قبل الجمعة أربعاً ويصلي بعدها أربعاً"، وروي عن علي رضي الله عنه أنه "أمر أن يصلي بعد الجمعة ركعتين ثم أربعاً" وبقول ابن مسعود قال الثوري وابن المبارك، وقال إسحاق: إن صلى في المسجد يوم الجمعة صلى أربعاً، وإن صلى في بيته صلى ركعتين تلفيقاً بين الخبرين عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقد قال عطاء: رأيت ابن عمر رضي الله عنه صلى بعد الجمعة ركعتين، ثم صلى بعد ذلك أربعاً. فرع يكره أن يصلي السنة بعد الجمعة من غير أن يفصل بينهما بالرجوع إلى وطنه، أو انتقال إلى مكان آخر أو كلام لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كان لا يصلي بعد الجمعة حتى ينصرف، فيصلي ركعتين في بيته" وقال نافع بن جبير: صليت مع معاوية رضي الله عنه في المقصورة فلما سلمت قمت في مقامي فصليت فأرسل إلي [166 أ/ 3] معاوية. أما بعد إذا صليت الجمعة فلا تصلها بصلاة حتى تتكلم أو تخرج، فإن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - أمر أن لا تفضل صلاة بصلاة حتى يتكلم أو يخرج". فرع قلت: يستحب أن يكثر فيه من الدعاء، لأن فيه ساعة يستجاب فيها الدعاء فلعله يصادف ذلك، ثم رأيت عن بعض أصحابنا مثله، وقد ذكرنا ما قبل من الأخبار في تلك الساعة. وروى أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "التمسوا الساعة التي ترجى في يوم الجمعة بعد العصر إلى غيبوبة الشمس". وبهذا يقول أحمد وإسحاق رحمهما الله. وقال أحمد: أكثر الأحاديث في الساعة التي ترجى فيها الإجابة أنها بعد العصر وترجى بعد زوال الشمس، وروي عن عبد الرحمن بن عوف المزني أنهم قالوا: يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أية ساعة هي؟ قال: "حين تقام الصلاة إلى الانصراف منها". وقال عبد الله بن سلام: أنا أعلم تلك الساعة هي بعد العصر إلى أن تغرب الشمس، فقيل له: كيف تكون بعد العصر؟ وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يوافقها عبد مسلم وهو يصلي" وتلك الساعة لا يصلى فيها فقال [166 ب/ 3] عبد الله: أليس قد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من جلس ينتظر الصلاة فهو في صلاة " قال: بلى قال: فهو ذاك.

كتاب صلاة الخوف

كتاب صلاة الخوف مسألة: قال: وإذا صلوا في سفرٍ صلاة الخوف من عدو غير مأمون. الفصل وهذا كما قال: الأصل في صلاة الخوف قوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ} [النساء: 102] الآية. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى صلاة الخوف بذات الرقاع وبعسفان وببطن نخل". واعلم أنها باقية لم تنسخ، وقال المزني رحمه الله: كانت ثابتة ثم نسخت بدليل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخر يوم الخندق أربع صلوات اشتغالاً بالقتال، ولم يصل صلاة الخوف. وقال أبو يوسف رحمه الله في رواية: مثل قولنا وفي الرواية الثانية كانت خاصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا يجوز لغيره لقوله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاةَ} [النساء: 102] الآية فيشترط كونه فيهم وهذا غلط لقوله تعالى: {فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً} [سبأ: 20]. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني [167 أ/ 3] أصلي"، وروي أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلى صلاة الخوف ليلة الهرير، فصلى المغرب بالطائفة الأولى ركعة، وبالطائفة الثانية ركعتين، وصلى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه صلاة الخوف بأصحابه، وكذلك صلاها أبو هريرة رضي الله عنه بأصحابه، وروي أن سعيد بن العاص كان أميراً على الجيش في حرب طبرستان فقال: أيكم صلى مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الخوف؟ فقال حذيفة رضي الله عنه: أنا فقدمه حتى صلى بهم، وأما الذي كان يوم الخندق من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذلك قبل نزول صلاة الخوف. وأما الآية قلنا: خطابه لا يوجب اختصاصه إلا أن يقول: خالصة لك، وهو كقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] ولم يرد به التخصيص. فإذا تقرر هذا فاعلم أن هذا الباب هو يشتمل على ثلاثة أقوال في الخوف، الحالة الأولى منها هي مذكورة في القرآن مبينة في السنة، والحالة الثانية: مذكورة في القرآن لم ترد بها السنة، والحالة الثالثة: وردت بها السنة ولم تذكر في القرآن [167 ب/ 3] .. وأعلم أن الخوف لا يؤثر في نقصان ركعات الصلاة بل يؤثر في هيئاتها، فإذا كان في السفر صلى ركعتين، وإن كان في الحضر صلى أربعاً، وإنما صور الشافعي أولاً في

السفر حتى يفرغ عليها صلاة الحضر، وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "صلاة الخوف ركعة". وقال جابر رضي الله عنه: الركعتان في السفر ليستا بقصر، وإنما القصر واحدة عند القتال، وروي عن طاوس والحسن أنه يصلي الإمام ركعتين، وكل طائفة ركعة، وروي هذا عن ابن عباس رضي الله عنه، وروى حذيفة في خبر صلاة الخوف بطبرستان وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بطائفة ركعة، وبطائفة ركعة ولم يقضوا، وقال عطاء وطاوس والحسن ومجاهد والحكم وحماد وقتادة رحمهم الله: الصلاة في شدة الخوف ركعة واحدة يومئ بها إيماء. وقال إسحاق رحمه الله: أما عند السلة يعني سل السيف تحريك ركعة يومئ بها إيماء فإن لم يقدر فسجدة واحدة فإن لم يقدر فتكبيرة؟ لأنها ذكر الله عز وجل. وقال أحمد رحمه الله: كل حديث روي في أبواب صلاة الخوف فالعمل به جائز [168 أ/ 3]. وقد روي ستة أوجه أو سبعة وكلها جائز، وهذا كله غلط لخبر ذات الرقاع، ولأنها حالة يستوي فيها الإمام والمأموم متساوياً في عدد الركعات كما لو كانوا مقيمين أو مسافرين في غير حالة الخوف، وبقولنا قال جماعة العلماء، وروي ذلك عن ابن عمر والنخعي والثوري فإذا تقرر هذا رجعنا إلى مسألة الكتاب. قال في "الأم": ولا يجوز لأحد أن يصلي صلاة الخوف إلا أن يعاين عدواً قريباً غير مأمون. أن يحمل عليه من موضعه أو يأتيه من يصدقه أن العدو قد قرب، أو يسيرون إليه ويصلون إليه، وإذا لم يكن واحد منهما لم يكن له ذلك، فإن عاينوا عدداً أو أخبرهم من يصدقونه إلا أن بينهم وبين العدو حائلاً من خناق عميق عريض لا يصلون إليه إلا بوقت يطول أو تعب يمتد لم يجز لهم أن يصلوا صلاة الخوف، وان عاينوا العدو؛ لأنهم في الحال آمنون وقال: وفي كل حال أحببت أن لا يصلون فيها صلاة الخوف وأمرت الإمام أن يصلي بطائفة ويكمل ما يصلي في غير خوف وتحرسه طائفة أخرى، فإذا فرغ من صلاته حرس من معه وأم تلك [168 ب/ 3] الطائفة الأخرى، وأما لبقية صلاة الخوف فإنها ضربان صلاة الخوف الأدنى وصلاة شدة الخوف، فأما صلاة الأدنى فالعدو لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون في ناحية القبلة أو في غير ناحية القبلة، فإن كانوا في غير ناحية القبلة وهو الذي افتتح الشافعي رحمة الله عليه به هذا الباب، فإن الإمام يجعل أصحابه طائفتين فطائفة في وجه العدو، وطائفة خلفه، فيصلي بها ركعة ثم يقوم الإمام ويلبث قائماً وتفارقه الطائفة وينوي الخروج من صلاته، لأنها تفارقه ولا يعود إلى صلاته فيلزمه أن ينوي الخروج من صلاته ثم يتمم الركعة الثانية منفردة ويسلم وينصرف إلى وجه العدو، وهل يقرأ الإمام إذا فارقته الطائفة الأولى في حال الانتظار؟ نقل المزني رحمه الله عن الشافعي رحمة الله

عليه أنه لا يقرأ لأنه قال: وتأتي الطائفة الأخرى فيصلي بها الإمام الركعة الثانية التي بقيت عليه فيقرأ فيها بعد إتيانهم بأم القرآن وسورة قصيرة، وهذا يدل على أنه لا يقرأ قبل إتيانهم، وقال في "الأم": أن ينظرهم وهو يقرأ ويأخذ سورة طويلة [169 أ/ 3] أو يجمع سوراً حتى يقضي من خلفه صلاتهم وتفتتح الطائفة الأخرى ويقرأ بعد افتتاحهم قدر أم القرآن ولو زاد في قراءته ليزيدوا على أم القرآن كان أحب إلي، وهكذا قال في البويطي و"الإملاء"، وهذا النص والذي قبله يدل على أنه يسن للمأموم قراءة السورة. وكان القفال رحمه الله يقول: لا تسن قراءة السورة خلف الإمام أصلاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كنتم خلفي فلا تقرؤوا إلا بفاتحة الكتاب" فألزم عليه هذا النص فاجتهد في تأويله مما تيسر له، فالصحيح أنه يستحب له في صلاة البرد، الخبر محمول على صلاة الجهر، ذكره الشيخ أبو محمد الجويني رحمه الله ثم اختلف أصحابنا فيما ذكرنا، فمنهم من قال فيه قولان: أحدهما يقرأ. والثاني: لا يقرأ. ومنهم من قال: هو على اختلاف حالين فالذي قال: يقرأ إذا أراد تطويل القراءة والذي قال: لا يقرأ هو إذا أراد بقصر القراءة، والصحيح أنه يقرأ ويطول لأنه يجوز أن يسكت، لأن أفعال الصلاة لا تنفك عن ذكر، ولا يجوز أن يسبح لأنه موضع القراءة لا التسبيح فلم يبق إلا أن [169 ب/ 3] يقرأ. وقال بعض أصحابنا بخراسان: قول واحد إنه يقرأ، وغلط المزني رحمة الله لأن الشافعي رحمة الله عليه قال: فيقرأ بعد إتيانهم قدر أم القرآن فيسقط عن المزني قدر. وأراد المزني بما نقل هذا، فإذا قلنا: لا يقرأ فإذا جاءت الطائفة الثانية قرأ الفاتحة وسورة قصيرة، وإذا قلنا: يقرأ فعل ما مرح به في "الأم"، فإن خالف وقرأ وحين جاءت الطائفة الثانية وأحرمت خلفه ركع في الحال ركعوا معه وأجزأتهم الصلاة نص عليه في "الأم"، ولكنه ترك سنة صلاة الخوف، فإذا تقرر هذا وجاءت الطائفة الثانية وصلى بهم الركعة الثانية وقعد في التشهد فهل تفارقه هذه الطائفة إذا قعد للتشهد أو عند الفراغ من التشهد قبل التسليم؟ فيه قولان: أحدهما: وهو الأصح المنصوص في "الأم" والبويطي يفارقه إذا قعد للتشهد لأنها تعود إليه لتسلم معه فلا فائدة في التطويل على هذه الطائفة بالجلوس معه وقراءة التشهد وصلاة الخوف مبنية على التخفيف. والقول الثاني: نص عليه في باب سجود السهو في "الأم" يفارقونه بعد التشهد قبل [170 أ/ 3] التسليم لأن المسبوق لا يفارقه الإمام إلا بعد التشهد وهذا غلط، لأن في المسبوق يسلم الإمام وينتظر المسبوق سلامه، وهاهنا لاختلاف أنه لا ينتظر سلامه، وقال مالك رحمه الله مثل قولنا ثم رجع وقال: يسلم الإمام ولا ينتظر فراغ الطائفة الثانية، وإنما تقوم الطائفة الثانية إذا سلم الإمام وهو غلط، لأنه يؤدي إلى ترك التسوية

بين الطائفتين وهو خلاف فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ومن أصحابنا من قال: قول واحد: إنها تفارقه إذا قعد للتشهد، وما قال في "الأم": أراد به في صلاة الحضر، فإن الطائفة الثانية تقعد ويتشهد معه لأن موضع التشهد الأول لهذه الطائفة وهذا غير صحيح لأن الشافعي رحمه الله قال: وإذا سها الإمام في الركعة الأولى ثم صلت الطائفة الأخيرة تفارقه إذا سجد للسهو معه، وهذا لا يكون إلا في صلاة السفر فإذا فارقته الطائفة الثانية إذا قعد للتشهد أو عند التسليم قبل السلام فإنها لا تنوي الخروج من صلاته لأنها لا تفارقه ويعود [170 ب/ 3] إلى صلاته ويخالف الطائفة الأولى لأنها تفارق الإمام ولا يعود إلى صلاته. فإذا تقرر هذا فإذا قلنا: يفارقه إذا قعد للتشهد فهل يتشهد الإمام قبل رجوع الطائفة الثانية إلى صلاته؟. اختلف أصحابنا فيه على طريقين: فمنهم من قال: فيه قولان كالقراءة ومنهم من قال: يتشهد قولاً واحداً ويفارق القراءة، لأن تفويت التشهد على الطائفة الثانية لا يوجب تفضيل الطائفة الأولى على الثانية، لأن الأولى لم تأخذ بإزاء التشهد شيئاً آخر، وهذا هو الصحيح لأن القول الذي يقول لا يقرأ إنما أثبتنا من رواية المزني. وقد فرق المزني بينهما فقال في هذا الموضع: ثم يجلس الإمام قدر ما يعلمهم يشهدوا، ثم يسلم فدل أن الإمام قدم التشهد فلا يجوز إثبات قول آخر، ولم يرد الشافعي رحمه الله أن يجلس ساكناً بل يقرأ التشهد والصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يطول بذكر الله تعالى والدعاء إلى أن يعلمهم قد تشهدوا على ما ذكرنا، ثم قال الشافعي رحمه الله: وقد صلت الطائفتان مع [171 أ/ 3] الإمام وأحدث كل واحدة منهما ما أحدث الأخرى، يعني من الاقتداء بالإمام، لأن الأولى صلت معه الركعة الأولى بالتحريم، والأخرى صلت معه الركعة الأخرى بالتسليم، وبقولنا قال أحمد رحمه الله. وقال ابن أبي ليلى رحمه الله: يحرم بالطائفتين معاً ويصلي بهم على ما ذكرنا، وقال أبو حنيفة رحمه الله: الطائفة إذا صلت مع الإمام ركعة انصرفت وهم في الصلاة ووقعت وجاه العدو، وتأتي الطائفة الأخرى وتصلي مع الإمام ركعة ويسلم الإمام، وينصرف الذين هم في الصلاة إلى مصاف الطائفة الأولى، وترجع الطائفة الأولى إلى موضع صلاتها، ويتمون لأنفسهم بغير قراءة وينصرف إلى مصاف الطائفة الثانية، ويأتي الطائفة الثانية إلى موضع ضلاتها ويتمون الصلاة بالقراءة، لأن الأولى لما أدركوا التحريمة سقطت القراءة عنهم في جميع الصلاة بخلاف الطائفة الثانية، ولأن الطائفة الثانية فارقت الإمام يوم فراغه من الصلاة فلا تسقط عنهم القراءة لهذا، واحتجوا بأن ابن مسعود وابن عمر رضي الله [171 ب/ 3] عنهما رويا مثل قوله. قالوا: وهذا أولى مما رويتم، لأنكم تجوزون للمأموم أن يفارق الإمام قبل فراغه من الصلاة وهم الطائفة الأولى، ويجوزون للثانية أن تخالفه في الأنفال فيكون جالساً، وهم قيام يصلون، وهذا

غلط؛ لأن خوات بن جبير وسهل بن أبي حثمة رويا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ما روينا يوم ذات الرقاع، وبه نسخ ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما، لأن هذا آخر غزوة غزاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ ولأن هذا أشبه بظاهر القرآن، لأن الله تعالى قال: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاةَ} [النساء: 102] فجعل إقامة الصلاة لهم كلها إلا بعضها وقال: {فإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَآئِكُمْ} [النساء: 102] أي: إذا صلوا كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين" أي: فليركع ركعتين ثم قال: {وَلْتَاتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا} [النساء: 102] بدليل مفهومه أن هؤلاء قد صلوا، وقال: {فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} فيقتضي تمام الصلاة وعندهم لا يصلون معه إلا بعضها، وقد ذكر الطائفتين ولم يذكر عليهما القضاء فدل [172 أ/ 3] على أن كل واحدة منهما قد انصرفت عن كمال الصلاة، وهذا المذهب هو أحوط للصلاة؛ لأن الصلاة تحصل مؤداة على سننها في استقبال القبلة، وعندهم تبع الاستدبار للقبلة ويكثر العمل في الصلاة وفيها احتياط للحرب أيضا حتى يمكن متابعة الضرب والكلام والصياح على قولكم لا يمكن لأنه يكون في الصلاة. وأما الخروج من صلاة الإمام للعذر فجائز وقد ذكرنا. واختلفوا لما سمي ذات الرقاع فقيل: إن هذه الحرب كانت عند جبل متلون أحمر وأسود وأصفر كرقعة وقعة، وقيل: كانت في شدة الحر وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حفاة: رقعوا أقدامهم بالخرق والجلود؛ لئلا تحترق. وقال: أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: كانت في موضع مر به ثمانية نفر حفاة، فثقبت أرجلهم وتساقطت أظفلرهم، وكانوا يلفون عليها الخرق فسميت ذات الرقاع لهذا، وهذه الصلاة التي ذكرناها لا تتم إلا بأربع شرائط: أن يكونوا مسافرين، وأن يكون خوف العدو على ما ذكرنا، وأن يكون العدو في غير جهة القبلة، وأن [155 ب/ 3] يكون بالمسلمين كثرة إذا فرقهم فرقتين كانت كل فرقة تقاوم العدو. ثم اعلم أنه ليس الفرض أن يؤمهم إمام واحد، لأنه لو صلى إمام بقوم وأمروا واحداً ليصلي بآخرين، أو بعضهم صلى منفردا جاز، ولكن إذا أرادوا أن يصلوا خلف إمام واحد فهذا حكمهم وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانوا يكرهون أن لا يستووا في فضيلة الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلهذا اختار لهم الصلاة هكذا، فإن خالف الإمام ما ذكرنا فصلى بالأولى ركعة وثبت جالساً وفارقته هذه الطائفة تقدمت صلاتها، وأما صلاة الإمام فإنه جلس في موضع قيامه، فإن كان لمرض وضعف جاز، وإن كان قادراً فإن كان ساهياً أو حاملاً فصلاته جائزة، وإن كان عالماً فإن لم يطل جلوسه لا تبطل صلاته، وان طال جلوسه بطلت صلاته ثم إذا جاءت الطائفة الثانية وأحرمت خلفه فصلى بهم الثانية، فمن علم بطلان صلاته فصلاته باطلة، ومن جهل فصلاته صحيحة،

قال الربيع رحمه [156 أ/ 3] الله: وفيه قول آخر إذا كان الإمام عالماً بإفساد صلاته بطلت صلاة من خلفه علم به أو لم يعلم. وهذا لا يجيء على قول الشافعي. قال أبو حامد رحمه الله: وما رأيت واحداً من أصحابنا حكى هذا، وقال القاضي الطبري رحمه الله: هذا قول غريب وفي المسألة قولان. مسألة: قال: والطائفة ثلاثة فأكثر. وهذا كما قال المستحب أن يصلي صلاة الخوف إذا كانت الطائفة التي تصلي ثلاثة فأكثر والتي تحرسه ثلاثة فأكثر، فإن صلى بأقل من ذلك أو حرسه أقل من ذلك كرهته. وقال في "الأم": واجب أن يحرسه من يمنع عنه إذا أريد سواء كثر من معه أو قل. والطائفة عند الشافعي لا حد لها، وإنما يعمل في عددها على ما يدل عليه قرينتها، فإن الله تعالى قال: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122] وأراد واحداً لأن الله تعالى قال: {مِن كُلِّ فِرْقَةٍ} وفرض طلب العلم يسقط بواحد يطلبه، وقال في قوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2] استحب أربعة لأنه بلغ العدد الذي يثبت به العذاب [156 ب/ 3] وقال في قوله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]. أن المراد به الخلق الكثير؛ لأن الباغية على الإمام لا تكون إلا فئة مجتمعة ممتنعة فلما قال هاهنا: {فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَاخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِن وَرَآئِكُمْ} [النساء: 102] كان هذا كفاية الجمع وأقل الجمع ثلاثة، فحمل الشافعي فقال: لم قال الشافعي، وأقل الطائفة ثلاثة على الإطلاق وليس كذلك؟ قلنا: أراد في آية صلاة لخوف بدليل ما ذكرنا، فإذا ثبت هذا فإن كانوا خمسة نفر يصلي واحد منهم باثنين وركعتين تامتين، وإن كان لا تحصل الحراسة باثنتين إذا كانا في وجه العدو، ولو كانت الحرب في شعب أو مضيق فقال: واحد من الشجعان الشجعاء إن أسد هذا الشعب لكم فاشتغلوا أنتم بالصلاة فإنه يكره ذلك ذكره القفال. مسألة: قال: وإن كانت صلاة المغرب. الفصل وهذا كما قال. الصلاة على ضربين صلاة بقصر وحكمها على ما تقدم، وصلاة لا تقصر وهي الصبح والمغرب، فالصبح حكمها على ما ذكرنا. وأما المغرب فحكمها في الحضر والسفر واحد، ولا يمكن الإمام أن يسوي [157 أ/ 3] بين الطائفتين، فيها فلا بد من تفضيل إحداهما. فنقل المزني رحمه الله أنه يصلي بالطائفة الأولى ركعتين، وبالثانية ركعة، وهكذا قال في "الأم"، ثم قال: فإن صلى بالطائفة الأولى ركعة ثم بالثانية وركعتين أجزأه إن شاء الله، وأكره له ذلك.

وقال ابن خيران رحمه الله قولاً آخر في "الإملاء": أنه يستحب أن يصلي بالأولى ركعة وبالثانية ركعتين وهو قول علي رضي الله عنه وقد فعل مثل هذا ليلة الهرير. واختلف أصحابنا في هذا؛ فمنهم من قال: فيه قولان أحدهما: ما نقل المزني وهو الأصح، لأن الطائفة الأولى هي أولى بالتفضيل لأنها أسبق ولا بد من تفضيل إحداهما ولأن تخصيص الأولى بالركعتين لا يؤدي إلى تغيير نظام صلاة الطائفتين، ولو خص الطائفة الثانية يؤدي إلى تغيير نظام صلاة هذه الطائفة، لأنها تحتاج حينئذ إلى القعود مع الإمام في الركعة الأولى: لأنها ثانية الإمام فيزيد في صلاتهم تشهد ومبني صلاة الخوف على التجوز والتخفيف. والثاني: ما ذكر في "الإملاء"؛ لأن الطائفة الثانية تفضل [157 ب/ 3] على الأولى في غير المغرب بالتشهد فينبغي أن يفضل في المغرب أيضاً، ومن أصحابنا من قال: قول واحد وهو ما ذكره المزني، وأنكر قول "الإملاء" لما ذكرنا من المعنيين. فإذا تقرر هذا، فإذا قلنا بقول "الإملاء" فلا تفريع لأنها تفارقه إذا قام إلى الثانية كما في غير صلاة المغرب، وإذا قلنا بالمذهب فإذا صلى بالأولى ركعتين يفارقون الإمام إذا فرغ من التشهد قولاً واحداً: لأنه التشهد الأول للكل، وهل الأفضل أن يثبت الإمام جالساً حتى تجيء الطائفة الثانية أو يقوم وينتظر في حال القيام؟ نص عليه في "الأم"، وهو المذهب. والثاني: ينتظر في حال، الجلوس، لأن الشافعي رحمه الله قال هاهنا: إن انتظرهم قائماً فيحسن وإن انتظرهم جالساً فجائز، وإنما استحسن الشافعي انتظارهم قائماً وخوف انتظارهم جالساً في الثانية، لأن القيام هو محل القراءة والتطويل بخلاف الجلوس؛ ولأن القيام أفضل من الجلوس، ولأن في انتظاره جالساً تحوجه عند إتيان الطائفة الثانية إلى الانتقال عن الحالة التي هو فيها إلى القيام بخلاف انتظاره قائماً في الثالثة. ومن [158 أ/ 3] أصحابنا من قال: الأفضل ما ذكره في "الأم". وقد قال في صلاة الخوف في الحضر: انتظرهم جالسا وقائماً، وهذا على ما قيد من قبل، وهو أنه إن انتظرهم جالساً فجائز وإن انتظرهم قائماً فحسن، ولأن ظاهر قوله يقتضي التسوية ولا يقتضي أن الانتظار في الجلوس أفضل فإذا قلنا: ينتظرهم قائماً فإذا جاز أحرموا معه، وإذا قلنا: ينتظر جالساً فإذا جاز قام وكبر، ويكبرهم ثم متى يفارقونه بعد التشهد أو عقب السجود قبل التشهد؟ على ما ذكرنا من الطريقين فإذا صلوا الركعتين اللتين بقيتا عليه جلسوا للتشهد، وهل يتشهد بعد فراغهم من الركعتين أو قبل ذلك يتشهد ويطول الدعاء؟ طريقان على ما ذكرنا. وعندي أنه لا تجيء الطريقة الأخرى أنه يتشهد قبل مجيئهم قولاً واحداً؛ لأنه يؤدي هاهنا إلى تفويت فضيلة على الثانية أدركتها الطائفة الأولى، فإن الإمام يتشهد بالطائفة الأولى، فإذا قلنا بقول "الإملاء" فصلى بالأولى ركعة وثبت قائماً حتى أتموا لأنفسهم، ثم جاءت الطائفة الثانية فصلى بهم ما

بقي من صلاته وهي ركعتان يفارقونه بعد التشهد [158 ب/ 3] قولاً واحداً، لأنه تشهده الأخير وتشهدهم الأول، ثم يصلون الركعة الباقية عليهم، فإذا جلسوا صبر الإمام لم حتى يتشهدوا ثم يسلم بهم. مسألة: قال: وإن كانت صلاة حضر فلينتظر جالساً في الثانية. الفصل وهذا كما قال: صلاة الخوف تجوز في الحضر كما تجوز في السفر، وقال مالك رحمه الله: فيما حكى عنه أصحابنا: أنه لا يجوز في الحضر وأصحابه ينكرون هذا، والدليل على جوازها ظاهر الآية: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاةَ} [النساء: 102] الآية. ولم يفصل. فإن قيل في هذه الآية: ذكر ركعتين وهذه صلاة السفر قلنا: قد تكون في الحضر ركعتين كصلاة الصبح والجمعة، فإن قيل: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصلها إلا في السفر، قلنا: النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يتفق له الخوف في الحضر لأنها وردت بعد الخندق. فإن قيل: في السفر انتظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الركعة يصلونها، وفي الحضر يحتاج إلى الانتظار لركعتين فيطول، قلنا: جاز الانتظار لموضع الحاجة فإذا دعت الحاجة إلى أكثر من ذلك جاز، وهذا لأن سببه الخوف [159 أ/ 3] والضرورة وهو موجود في الحضر وجوده في السفر. فإذا تقرر هذا فالمستحب أن يجعل أصحابه طائفتين، فيصلي بهم بالطائفة الأولي ركعتين، ثم تقوم هذه الطائفة وتصلي ما بقي عليها، والمستحب أن ينتظر الإمام قائماً في الثالثة على الصحيح من القولين، وإنما لم يذكر الشافعي استحسان انتظاره قائماً في الثالثة هاهنا اقتصاراً على ما ذكر في صلاة المغرب، ولا شك أنه يجوز الانتظار قائماً وقاعداً والطائفة الثانية هاهنا يفارقونه بعد تشهده قولاً واحداً، لأن هذا التشهد هو محسوب لهم من الأول، وهكذا الحكم لو كانوا في السفر واختاروا الإتمام في الخوف، فإن خالف هذا الذي ذكرنا وجعل أصحابه أربع طوائف، وصلى بكل طائفة ركعة مثل إن كان المسلمون أربعمائة وكان المشركون ستمائة، فصلى بالمائة ركعة من الأربعة، وثبت قائناً حتى أتمت المائة صلاتها، وانتظر المائة الأخرى فصلى بها ركعة أخرى، وثبت جالساً وأتمت المائة لنفسها، وانتظر الثالثة أيضاً حتى أتمت صلاتها وانتظر الرابعة فصلى بها ركعة وثبت جالساً، وانتظرهم [159 ب/ 3] حتى صلوا ما بقي عليهم من صلاتهم ثم سلم بهم فحصل في هذا أربع ركعات، وأربع انتظارات لأنه انتظر الثانية، والثالثة مرة مرة، وانتظر الرابعة في موضعين انتظرهما حتى جاءت وأحرمت خلفه، ثم انتظرها حتى صلت ما عليها ولحقت به، ثم سلم بهم، فإذا فعل هذا فقد أساء، وما الحكم في صلاتهم؟. قال في "الأم": ونقله المزني رحمه الله إلى هاهنا فيه قولان: أحدهما: أن صلاته

وصلاة جميع المأمومين جائزة. والثاني: أن صلاته للإمام باطلة، وصلاة الطائفة الأولى والثانية جائزة، ومن علم من الطائفة الثالثة والرابعة ببطلان صلاة الإمام فصلاته باطلة، ومن لم يعلم ذلك فصلاته صحيحة. وقال في "الإملاء": صلاة الإمام صحيحة وصلاة الطائفة الرابعة صحيحة وصلاة الطائفة الأولى والثانية والثالثة باطلة، وترتيب هده المسألة أن يقول: فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أن صلاة الإمام وجميع المأموين جائزة وهو الأصح، لأنه إن انتظر في حال القيام فليس فيه أكثر من تطويل القراءة، وإن انتظر في حال القعود فليس فيه أكثر من تطويل التشهد والذكر [160 أ/ 3] وهذا لا يبطل الصلاة في حال الأمن، ققي حال الخوف أولى وأكثر ما في المأموم أنه خرج من صلاة الإمام من غير عذر، والأصح من القولين فيه أنه لا تبطل الصلاة. والثاني: أن صلاة الإمام باطلة لأنه انتظر أكثر مما جعل له، ولأنه إنما جعل له أن ينتظر انتظارين، وصلاة الطائفة الأولى والثانية جائزة لأنهما فارقتا الإمام قبل بطلان صلاته. وأما صلاة الطائفة الثالثة والرابعة، فإن علمتا ببطلان صلاة الإمام بطلت صلاتهما، وإن لم تعلما لم تبطل. ومن أصحابنا من قال: هاهنا: إذا علم أن الإمام زاد في الانتظار بطلت صلاته، وإن لم يعلم أنه تبطل به صلاة الإمام كما إذا علم جنابة الإمام بطلت صلاته، وهذا هو ظاهر كلام الشافعي رحمه الله، لأنه قال: وتفسد صلاة من علم من الباقين بما صنع، والأول أصح لأنه لا تبطل صلاته إلا أن يعلم أن ذلك مبطل لصلاة الإمام؛ لأنه مما يخفى على العوام بخلاف الجنابة. وحكى أبو إسحاق عن ابن سريج أنه قال: إذا قلنا: بهذا القول الثاني يجب أن تبطل صلاة الطائفة الرابعة وحدها مع صلاة الإمام، [160 ب/ 3] تبطل صلاة الطائفة الأولى والثانية والثالثة، لأنه انتظر الثانية وكان له ثم انتظر الثالثة، وكان له، فلما انتظر الرابعة بطلت صلاته وفارقته الطائفة الأولى والثانية والثالثة قبل بطلان صلاته، فوجب أن تكون صلاته صحيحة. وقال سائر أصحابنا: هذا غير صحيح، لأنه إذا انتظر حتى تفرغ الطائفة الثانية من الركعتين فإن انتظاره بعد ذلك حتى تمضي هذه الطائفة إلى وجه العدو وتجيء الطائفة الثالثة إليه انتظاراً زائداً على ما جعل إليه، فكان بمنزلة ابتداء الانتظار فبطلت صلاته قبل مجيء الطائفة الثالثة فبطل ما قاله. وأصل هذا الاختلاف: أن في وقت بطلان صلاة الإمام وجهين. قال ابن سريج: تبطل بالانتظار لفراغ الثالثة، وعلى مذهب الشافعي تبطل بانتظاره لمجيء الطائفة الثالثة. والقول الثالث: ما قاله في "الإملاء": وهو أن صلاة الطائفة الأولى والثانية والثالثة باطلة، لأنهم خرجوا من صلاة الإمام من غير عذر، وصلاة الإمام جائزة لأنه لم يفعل أكثر من تطويل القراءة، والذكر في القيام والجلوس وذلك لا يبطل الصلاة والطائفة [161 أ/ 3] الرابعة خرجت من صلاة الإمام في موضعه لأنه لم يبق على الإمام إلا ركعة فلا تبطل صلاتهم، وان اخترت ترتيب الحفظ نقل في صلاة الطوائف ثلاثة

أقوال ووجه لأصحابنا أحدها: صحة صلاة الكل. والثاني: تصح صلاة الطائفة الأولى والثانية دون الثالثة والرابعة. والثالثة: صحة صلاة الطائفة الأولى، والثانية دون الثالثة والرابعة، والثالث: صحة صلاة الطائفة الأخيرة وحدها، والرابع: وهو الوجه ما قال ابن سريج رحمه الله: صحة صلاة الطوائف الثلاث. وفي الإمام هل تصح صلاته؟ قولان وان كان في جهتين أو ثلاث جهات فإنه يفرقهم فرقة تصلي معه، وفرقة تقاوم الجهات كلها، فإن احتاج أن يفرقهم أربع فرق بنيت على القولين، فإن قلنا: لا تبطل صلاتهم فرقهم أربع فرق على ما بينا ولا يكره ذلك، وان قلنا: تبطل صلى بكل فرقتين صلاة بأحدهما فرض وبالأخرى نفل. فرع لو صلى على نحو ما ذكرنا في حال الأمن، فالذي يقتضيه مذهب الشافعي أن يكون فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: صلاة الكل جائزة على القول الذي نقول للانتظار [161 ب/ 3] الطويل من غير حاجة، والخروج من صلاة الإمام من غير عذر لا تبطلها. والثاني: صلاة الجميع باطلة على القول الذي نقول للانتظار الطويل من غير حاجة والخروج من صلاة الإمام من غير عذر يبطل الصلاة. والثالث: تصح صلاة الإمام وتبطل صلاة المأمومين على قياس قوله في "الإملاء": لأنه لم تبطل الصلاة بالانتظار في غير موضعه وإنما بطلت بخروج المأمومين من صلاة الإمام بلا عذر، وهاهنا خرجت الطوائف كلها من صلاة الإمام بلا عذر فبطلت صلاة الكل، وقال صاحب "الإفصاح": يجيء فيه أن تكون صلاة الطائفة الرابعة خرجت من صلاته، وليس لها أن تخرج في حال الأمن، فكانت الرابعة وسائر الطوائف سواء، وإنما قياس قوله في "الإملاء": على ما بيناه، وقيل فيه ترتيب إن قلنا في الخوف: لا يجوز ففي الأمن أولى، وان قلنا في الخوف: يجوز ففي الأمن وجهان. فَرْعٌ آخرُ قال في "الأم": لو صلى بطائفة ثلاث ركعات، وبطائفة ركعة كرهت ذلك له ولا تفسد صلاته؛ لأن الإمام لم يزد في الانتظار إلا أن الإمام يسجد سجدتي السهو، وكذلك تسجد الطائفة الأخيرة [162 أ/ 3] لأنه وضع للانتظار في غير موضعه، وهذا يدل على أن العامد هو كالساهي في سجدتي السهو وهذا هو المذهب، ويجب على هذا أن يقال: إذا قلنا: إنه إذا فرقهم أربع فرق تصح صلاة الكل وعليه أن يسجد سجدتي السهو: لأنه وضع الانتظار في غير موضعه قياساً على ما قاله الشافعي هاهنا.

فَرْعٌ آخرُ لو صلى بالطائفة الأولى ركعة، وبالثانية ثلاث ركعات فعلى قياس قوله في "الأم": يسجد سجدتي السهو وكذلك تسجد الطائفة الأخيرة وتكون صلاتهم صحيحة، وعلى قياس قوله في "الإملاء": تبطل صلاة الطائفة الأولى لأنها خرجت من صلاة الإمام في غير موضعه فبطلت صلاته، ولا يجيء هذا القول في المسألة التي قبلها، لأن الطائفة الأولى خرجت من صلاة الإمام وقد استباحت الخروج من صلاته؛ لأنها استباحت الخروج حين صلى الإمام ركعتين فكان ائتمامها بالإمام في الركعة الثالثة لا يرفع تلك الاستباحة فلم تبطل صلاتها. فإذا تقرر هذا، اختلف ألفاظ نسخ المختصر، ففي هذه المسألة نفى بعضها، لأن له انتظاراً واحداً بعده آخر، وفي نسخة أخرى [162 ب/ 3] لأن له انتظارين واحداً بعد واحد وهذا قريب من الأول، وفي نسخة لأن له انتظار واحد بعد أخرى وهذا دليل على ما قلنا: إنه إذا طول الإمام جلوسه لمجيء الثالثة بطلت صلاته لأن استدامة الانتظار هي كابتداء الانتظار. مسألة: قال: وأحب للمصلي أن يأخذ سلاحه في الصلاة ما لم يكن نجسا أو يمنعه من الصلاة. وهذا كما قال هذا الذي نقله المزني رحمه الله ذكره الشافعي رحمه الله في "الأم"، وقال في أثناء الباب: ولا أجيز له وضع السلاح كله؛ وقال في آخر الباب: وإن وضع سلاحه كله من غير مرض ولا مطر كرهت له، ولم يفسد ذلك صلاته لأن معصيته في ترك أخذ السلاح ليس من الصلاة، وهذا يدل على أن حمل السلاح في الصلاة واجب؛ لأنه جعل تركه معصية، واختلف أصحابنا فيه؛ فقال أبو إسحاق وغيره: المسألة على قولين: أحدهما: واجب لأن الله تعالى أمر به في الآية في موضعين فقال: {وَلْيَاخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] وقال: {وَلْيَاخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 102] وبه قال داود رحمه الله. والثاني: لا يجب ولكنه يستحب وبه قال أبو حنيفة وأحمد رحمهما [163 أ/ 3] الله أنه إنما يجب على من يحرس العدو والمصلي ليس بحارس، ولأنه لو كان واجباً فيها لكان شرطاً كالسترة، والآية محمولة على الاستحباب، ومنهم من قال: هذا على اختلاف حالين بالموضع الذي قال: يجب السلاح الذي يدفع به عن نفسه كالسكين والسيف، والذي قال: لا يجب إذا كان السلاح مما يدفع به عن غيره كالرمح والقوس ونحو ذلك، وهذا أشبه بكلام الشافعي في "الأم"، وهذا لأن الدفع عن نفسه هو واجب وعن غيره لا يجب، ومن أصحابنا من قال: قول واحد إنه واجب لأمر الله، والذي قال: أحب لأنها في الوجوب، لأن الشافعي رحمه الله كثيرا ما يعبر

بالاستحباب عن الوجوب، وكما لا يجوز أن ينهزم ويترك الحرب لا يجوز أن يضع السلاح. ذكره القفال رحمه الله. وقال بعض أصحابنا بخراسان: قول واحد إنه يستحب وما قاله في "الأم" في آخر الباب متأول على تأكيد الاستحباب، وهذا ليس بشيء، فإذا قلنا: المسألة على اختلاف الحالين فالسلاح على خمسة أضرب: ما يحرم حمله، وما يكره حمله، وما يجب حمله، وما يستحب حمله، وما [163 ب/ 3] [172 ب/ 3] اختلف حكمه باختلاف مكان حامله بالحرام هو ما كان نجساً كالريش الذي في النشاب فإنه ريش النسور والعقاب ونحو ذلك، وذلك نجس وكذلك ما يمنعه من الاعتدال في الركوع والسجود يحرم حمله، والمكروه ما كان ثقيلاً يشغله عن الصلاة كالجوشن والمغفر السابغ على الوجه. أو كان ذا أنف، وإنما كرهت لبسه لئلا يحول بينه وبين موضع إكمال السجود بأن لبسه. قال الشافعي: إذا سجد وضعه أو حرفه أو حسره حتى تماس جبهته الأرض متمكناً قال في "الأم": وكذلك الجعبة والتنور والترس فالجعبة هي غلاف النشاب والتنور: هو الجوشن الثقيل والواجب ما يدفع به عن نفسه كالسيف والسكين، والمستحب ما يدفع به عن نفسه وعن غيره كالقوس ونحوها، وما اختلف حكمه باختلاف المكان هو ما يتأذى به جاره كالرمح إن كان في حاشية الناس لم يكره له حمله، وإن كان في أثناء الصف كره له حمله فإنه يؤذي عند اضطجاعه من بين يديه ومن خلفه، وإذا قلنا المسألة على قولين: فالسلاح على أربعة أضرب: محرم، ومكروه، وما [173 أ/ 3] اختلف باختلاف المكان، وما اختلف القول فيه وهو ما يدفع عن نفسه أو عن نفسه وعن غيره. فرع قال في "الأم": ولو كان معه نشاب قد أحمي فسقي لبناً أو سم بسم شجر فصلى فيه لا بأس؛ لأنه ليس من الأنجاس وان سم بسم حية أو ودك ميتة فصلى فيه أعاد الصلاة إلا أن يطهره. فَرْعٌ آخرُ لو سمت الحديدة ثم أحميت بالنار ولا يطهر شيء إلا بالماء خلافاً لأبي حنيفة، ولو كان نجساً يغسله بدهن لئلا يصدأ الحديد أو مسحه بتراب لم يطهر. فرع قال في "الأم": لو أحمي ثم صب عليه سم نجس أو نجس فيه فقيل: قد شربته الحديدة ثم غسلت بالماء طهرت، لأن الطهارات كلها إنما جعلت على ما يظهر لا على الأجواف.

وقال بعض أصحابنا: هذا يدل على أن الشيء إذا تنجس ظاهره وباطنه يغسل ظاهره طهر وجازت الصلاة معه، وهذا خلاف نص الشافعي في الآجر إذا نجس ظاهره وباطنه ثم نجس ظاهره طهر الظاهر دون الباطن، وجازت الصلاة عليه، ولا تجوز فيه فعلى هذا تجوز الصلاة على هذا السيف ولا يجوز إذا كان حاملاً له، وهذا [173 ب/ 3] هو الصحيح الذي لا يحتمل على المذهب غيره عندي. فرع لو صلى بعض الصلاةء ثم انتضح عليه دم قبل أن يكملها. قال في "الأم": أعاد الصلاة فإن طرح الثوب عن نفسه ساعة ما مسه الدم ومضى في الصلاة أجزأه، قال: وإن انحرف يغسل عنه الدم كرهت ذلك له وأمرته أن يعيد، وقد قيل: يجزيه أن يغسل الدم ولا آمره بهذا القول وأمره بالإعادة، وان كان عذر من مطر أو غيره يجوز وضع السلاح بلا إشكال. مسألة: قال: ولو سها في الأولى أشار إلى من خلفه بما يفهمون سهوه. الفصل وهذا كما قال: إذا صلى الإمام بالطائفة الأولى ركعة وسها فيها، فإن الطائفة إذا قاموا وصلوا الركعة الأخرى سجدوا سجدتي السهو في آخر صلاتها، ثم سلمت؛ لأن الإمام إذا سها بحق المأموم حكم سهوه. فإذا ثبت هذا قال الشافعي رحمه الله: أشار الإمام إلى من خلفه بما يفهمون أنه سها. واختلف أصحابنا في هذا قال أبو إسحاق رحمه الله: هذا إذا كان قد سها بأصل خفي لا يظهر للمأمومين مثل أن يتكلم خفياً على طريق السهو، أو [174 أ/ 3] شك هل سجد سجدتين أم سجدة واحدة، فسجد أخرى للبناء على اليقين، فعليه سجود السهو والمأمومون لم يرد منه إلا سجدتين أو قرأ في موضع التشهد، أو تشهد في موضع القراءة، فيومئ إلى المأمومين بما يوقفهم على سهوه، وذلك يمكن بأن يقول للمأموين: إذا سهوت أشرت بإشارة كذا فاعلموا، فإما إن كان سهواً ظاهرا لا يحتاج إلى الإشارة، وهذا لأن الإشارة عمل في الصلاة فلا يجوز إلا عند الحاجة. وهذا نصه في "الإملاء". ومن أصحابنا من قال: يشير إليهم بكل حال، لأنهم ربما جهلوا أن عليهم أن يسجدوا لسهو الإمام فإن ذلك لا يعرفه إلا أهل العلم وربما ينسون ذلك، وهذا ظاهر كلام الشافعي رحمة الله عليه هاهنا: لأنه أطلق السهو ولم يفصل؛ ولأنه قال في "الأم": وان اغفل الإشارة إليهم وعلموا بسهوه، سجدوا لسهوه، فدل انه يشير إليهم ثم علمهم بسهوه، وان لم يسنه الإمام وسهت الطائفة فإن كان في الركعة الأولى فإنهم لا يسجدون لسهوهم، لأن الإمام يتحمل عنهم، وان كان في الركعة [174 ب/ 3] الثانية

يسجدون سجدتي السهو لأنهم خرجوا من إمامة الإمام في الركعة الأولى والثانية وانفردوا لصلاتهم. ولو سها الإمام في الركعة الأولى وسهت الطائفة في الركعة الثانية ففيه وجهان: هل يكفي سجدتان أم أربع سجدات؟ وقد ذكرنا وإن سها في الركعة الأولى، ثم جاءت الطائفة الثانية وأحرمت خلفه فقد تعلق بهم حكم سهوه. فإذا صلى الإمام الركعة الثانية بأن قلنا: إنهم يفارقون الإمام قبل التشهد فارقوه وصلوا الركعة الثانية، فإذا قعدوا للتشهد تشهد بهم، وسجد سجدتي السهو وسلم، وإن قلنا: الإمام يتشهد ولا ينتظر جلوسهم قال الداركي رحمه الله: إذا تشهد الإمام هل يسجد سجدتي السهو؟ وجهان. قال أبو إسحاق رحمه الله: لا يسجد إلا يومئ الأفعال الظاهرة فلا يفوتهم إياه. وقال ابن أبي هريرة رحمه الله: يسجد سجدتين في السهو منفردا كما يتشهد منفرداً، فإذا جلسوا للتشهد تشهدوا وسجد سجدتي السهو ثم سلم الإمام بهم، وإن قلنا: يفارقون الإمام عند السلام، فالإمام يتشهد [175 أ/ 3] ويسجد للسهو ويسجدون معه على طريق التبع لأنه يلزم على المأمومين إتباع الإمام في الأفعال الظاهرة، فإذا قعد الإمام من السجدتين لم يسلم وتقوم الطائفة فيصلون الركعة الثانية، فإذا تشهدوا قال الشافعي رحمه الله: سجدوا، لأن سجدتي السهو، وقد تقدم فيه ذكر القولين وانه لم يسنه الإمام، وقامت الطائفة الثانية ليصلوا الركعة الثانية فسهوا. قال الداركي قال ابن خيران رحمه الله: إنهم يسجدون لسهوهم لأنهم سهوا في الركعة التي انفردوا بها كما يقول في الطائفة الأولى. وقال أبو إسحاق وغيره: إنهم لا يسجدون وهو المذهب، لأنا بينا أنهم لم يخرجوا من صلاة الإمام حكماً ولهذا إنهم لا يجهرون بالقراءة، فإذا سهوا، يتحمل الإمام عنهم، فإن سها الإمام والطائفة الثانية في الركعة الثانية سجدوا لسهو الإمام، فعلى قول الجماعة لم يسجدوا على قول ابن خيران. فرع ذكره ابن سريج رحمه الله قال: إذا قلنا: إنهم يفارقونه عقب السجود وقبل التشهد، فالإمام ينتظرهم حتى يسجدوا [175 ب/ 3] معه، فإن تركهم حتى جلسوا للتشهد ثم سجدوا، وهم لم يتشهدوا بعد هل يتبعونه في السجود؟ وجهان: أحدهما: يتبعونه لأنهم مؤتمون به. والثاني: لا يتبعونه، لأن هذا موضع تشهدهم فإذا قلنا: بهذا أتموا لأنفسهم، وإذا قلنا: إنهم يتبعونه فإذا قاموا وصلوا لأنفسهم هل يعيدون السجود؟ على ما ذكرنا، من القولين، وعلى قياس ما ذكرنا. قال أصحابنا في مسألة الزحام: إذا قلنا: إنه يشتغل بقضاء ما عليه فسها فلا سجود عليه؛ لأنه متابع للإمام حكماً. وذكر بعض أصحابنا بخراسان فيه وجهاً آخر: قال: وكذا الوجهان إذا وصل صلاته بصلاة الإمام وجوزنا الفصل، وكان قد سها من قبل هل يسجد؟ وجهان.

فَرْعٌ آخرُ قال في "الأم": يقرأ الإمام بأم القرآن وسورة قدر {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ} ونحوها في الطول للتخفيف في الخوف. ونقل السلاح، ولو قرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} وقدر ذلك لم أكره، وإذا قام في الركعة الثانية قرأ بأم القرآن وسورة طويلة لانتظار القوم وليس في الصلاة موضع تكون القراءة في الركعة الثانية [176 أ/ 3] أطول منها في الركعة الأولى إلا في هذه المسألة. فَرْعٌ آخرُ قال في "الأم": ويقنت في صلاة الصبح في صلاة الخوف ولا يقنت في غيرها، لأنه لم يبلغنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قنت في صلاة الخوف خلاف قنوته في غيرها، فإن فعل فجائز؟ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قنت في الصلوات قبل قتل أهل بئر معونة. قلت: من هاهنا أقول: يجوز أن يقنت في الوتر في جميع السنة وان لم يستحب. قال في "الأم": لو صلى الإمام بطائفة ركعة وثبت قائماً وقاموا يتمون لأنفسهم فحمل عليهم عدو وحدث لهم خوف فحملوا على العدو منحرفين عن القبلة ثم أمنوا فقد قطعوا صلاتهم، وكذلك لو فرغوا فانحرفوا عن القبلة بلا قتال ولا خروج من الصلاة. وهم ذاكرون الصلاة حين استدبروا القبلة استأنفوا. قال أصحابنا: هذا لأنهم انحرفوا عن القبلة من غير ضرورة؛ لأن الذين في وجه العدو يحرسونهم وإنما لحقهم خوف لا يجوز ترك القبلة لأجله؛ لأنهم لو صاروا إلى شدة الخوف لوجب أن يجوز [176 ب/ 3] لهم ترك القبلة، وبنوا على ما مضى من صلاتهم؛ لأن في هذه الحالة لما جاز الاستفتاح إلى غير القبلة جاز الانتقال إليها والبناء عليها، كالمصلي إذا مرض قعد وبنى. فَرْعٌ آخرُ قال: ولو حملوا عليهم مواجهين القبلة قدر خطوة فأكثر، كان ذلك قطعاً للصلاة بنية القتال وعمل الخطوة. قال أصحابنا: وهذا، لأن من نوى في الصلاة أن يعمل عملاً كثيراً وعمل شيئاً معه، وان قلَّ بطلت الصلاة. وعلى هذا لو نوى في الصلاة أن يمشي كثيراً ومشى خطوة بطلت صلاته، وكذلك لو حمل العدو عليهم فتهيأوا بسلاح أو بترس كان قطعاً للصلاة بالنية مع العمل، وهكذا لو أخذ السلاح بنية دفع العدو بطلت صلاتهم لما ذكرنا من التعليل ولا فرق بين أخذ السلاح بنية القتال وبين الحمل عليهم. فَرْعٌ آخرُ قال: ولو حمل عليهم وخافوا فبنوا القنوت في الصلاة، وأن لا يقاتلوا حتى يكملوها

إلا إن يغشاهم العدو، فلا يكون قطعاً للصلاة: لأنهم لم ينووا في الحال القتال بل نووا القتال إن حدث غشيان العدو، وهذا لا يبطل الصلاة، وان تهيأوا سيراً خفيفاً مع هذه [177 أ/ 3] النية؛ لأن العمل اليسير لا يبطلها ولم توجد نية العمل الكثير. فَرْعٌ آخرُ لو تكلم من الخوف وهو ذاكر بطلت صلاته: لأن الكلام يحرم في صلاة الخوف أيضاً ولو نووا القتال ولم يحدثوا عملاً لا تبطل حتى يحدثوا عملاً وإن قل، وعلى هذا لو نوى رجل أن يتكلم في الصلاة في ثاني الحال لا تبطل صلاته في الحال، هذا هو المذهب: ولهذا قال الشافعي رحمه الله: لو فرق الإمام أربع فرق وصلى بكل فرقة ركعة لا تبطل صلاة الإمام حتى يزيد في الانتظار؛ وإن لم تبطل صلاته حين أحرم وهو نوى أن ينتظر انتظاراً يبطل الصلاة. فَرْعٌ آخرُ لو كانوا في المصر وأراد الإمام أن يصلي بهم الجمعة عند الخوف. ذكر الشافعي رحمه الله في "الأم" فيها أربع مسائل: إحداها: قال: فرقهم فرقتين يخطب بفرقة ويصلي بهم ركعة، ثم يثبت قائماً ويتموا لأنفسهم بقوله: يجهرون فيها ثم وقفوا بإزاء العدو. وتأتي الطائفة الأخرى فتحرم خلفه وتصلي معه ركعة ويثبت جالساً حتى يقضوا ما بقي عليهم، ثم سلم بهم الإمام: لأن شرائطها قد وجبت، وإنما تجهر الطائفة الأولى في الركعة [177 ب/ 3] الثانية لأنهم منفردون ولا تجهر الطائفة الثانية في الركعة الثانية لأنهم متابعون حكماً نص عليه، وقد ذكر القفال هذه المسألة عن الشافعي على هذه العبارة وأول بتأويل لا يساعده هذا اللفظ، والصحيح هو الذي ذكرنا، فإن قيل: إذا خطب بأحديهما وصلى بها ركعة، فإن هذه الطائفة تصلي الركعة الأخرى منفردة عن الإمام فينفرد المأموم عن الإمام، وينفرد الإمام عن المأمومين، ومن شرط صحة الجمعة بقاء العدو والجماعة من أولها إلى آخرها على أصح الأقوال حتى لو انفضوا لا تصح جمعتهم، قلنا: من أصحابنا من قال: إنما قال هذا على القول الذي نقول لا يعتبر العدد من أول الصلاة إلى آخرها، فأما على القول الأخر لا تصح الجمعة هاهنا، ومنهم من قال: هاهنا يجوز قولا واحداً للضرورة والعذر في فراق الإمام هاهنا، بخلاف الانفضاض، ولأنهم إذا انفضوا لا يتوقع من يحضره غيرهم، وهي الطائفة الأخرى، فلهذا [178 أ/ 3] يتمونها جمعة، فإن قيل: إذا انصرفت الطائفة الأولى بعد فراغها من الجمعة، ثم جاءت الأخرى كيف يحرمون بالجمعة، وقد أقيمت الجمعة بمصر مرة؛ قلنا: إنما منع ذلك إذا أتمها الإمام، وهاهنا لم يفرغ الإمام من الجمعة، وإنما أدركت الطائفة الأولى معه ركعة، وأصل الجمعة التي عقدها الإمام لم تتم فانعقد بها الثانية وجرت مجرى المستعين وهو كما لو

انعقدت الجمعة وصلوا ركعة، ثم وافى أربعون فأحرموا خلفه ينوون فإذا كانت الجمعة انعقدت قبل حضورهم كذلك هاهنا. واعلم أن الشافعي رحمه الله فرض المسألة إذا كانت الطائفة الأولى أربعين، فإن نقصت الأولى عن أربعين لم تجز جمعتهم؟ لأن الجمعة أقيمت بهم مع الأولى وهي أربعون فلا يضر نقصان الثانية بعد انعقادها، هكذا ذكر أبو حامد رحمه الله، ومن أصحابنا من قال: إذا انقضت الثانية عن أربعين فيه قولان وهو ضعيف. المسألة الثانية: قال: لو خطب بهم وهم أربعون، ثم خرجوا إلى وجه العدو، ثم جاءت الطائفة الثانية فأحرم بهم لا تجوز الجمعة [178 ب/ 3] حتى يخطب بهم ويصلي بهم ركعة ثم يصلي بالطائفة الثانية الركعة الثانية. المسألة الثالثة: قال: لو صلى بالطائفة الأولى كمال الجمعة، ثم جاءت الطائفة الثانية فأراد أن يصلي بهم جمعة ركعتين لم يجز، لأنه استفتاح جمعة بمصر بعد انعقاد غيرها. المسألة الرابعة: قال: لو أقاموا هذه الجمعة في الصحراء لا في جوف البلد لم يجز، وحكي عن أبي إسحاق رحمه الله أنه يجوز وهو قول أبي حنيفة رحمه الله وليس بمذهب الشافعي رحمه الله. فَرْعٌ آخرُ قال: ولو لم يمكنه صلاة الجمعة فصلى الظهر أربعاً ثم حدث الأمن، ويمكن من الجمعة لا تجب ذلك عليهم، ويجب على من لم يصل معه إن كانوا أربعين أن يقدموا رجلاً يصلي بهم الجمعة، فإن لم يفعلوا كرهت وأجزأهم، ولو أعاد هو ومن معه صلاة الجمعة مع إمام غيره لم أكره، وان أعادها هو إماماً لم أكره للمأمومين وكرهت لأنه يمكنه أن يتأخر حتى يتقدم من لم يصل الظهر فيحرم بفرض الجمعة، والمأمومون لا يمكنهم غير ما فعلوا فلا يكره لهم ذلك. قال أصحابنا: هذا ذكره [179 أ/ 3] على القول الذي يقول الواجب: يوم الجمعة فعل الظهر، فأما على القول الآخر لا يجيء هذا. فَرْعٌ آخرُ قال في:"الأم": ولو أجدب وهو محارب لا بأس أن يدع الاستسقاء وإن كان في عدد كثير ممتنع فلا يأمن أن يستسقي ويصلي صلاة الخوف في الاستسقاء كما يصلي في المكتوبات. فرع وإن كانت شدة الخوف لم يصل الاستسقاء لأنه يمكن تأخيرها ويصلي للخسوف

والعيدين؛ لأنه لا يصح له تأخيرها يريد بذلك أن صلاة الاستسقاء لا يتحقق فواتها وصلاة العيدين والخسوف يتحقق قراءتهما هذه بخروج وقتها وهذه بالتجلي. مسألة: قال: وإن كان خوفاً أشد من ذلك وهو المسابقة والتحام القتال. الفصل وهذا كما قال، هذه في الحالة الثانية من أحوال صلاة الخوف، وجملته: أنه إذا اشتد الأمر بالمسلمين بحيث يمكنهم أن يفترقوا فرقتين للصلاة والتحمت الحرب وصاروا إلى المسايفة والمصادمة لم يجز تأخير الصلاة عن وقتها، فيصلي كل واحد منهم على حسب حاله مضارباً ومطاعناً رجالاً وركباناً، مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، قعوداً على دوابهم [179 ب/ 3] وقياماً على الأرض يومئون برؤوسهم للركوع والسجود، ويكون السجود أخفض من الركوع، ويتقدمون ويتأخرون. وقال أبو حنيفة رحمه الله: له أن يؤخر الصلاة عن وقتها في هذه الحالة، وإن خرج وقتها، ويجوز أن يصلي قائماً على الدواب على كل حال ولا يجوز ماشياً على القدم وهذا غلط؛ لقوله تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة: 239]. وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال في تفسير هذه الآية: مستقبلي القبلة وغير مستقبليها قال نافع مولى ابن عمر رضي الله عنهما: لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أي: هذا التفسير. وروى ابن المنذر وغيره من أصحابنا ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر بالصلاة في هذه الحالة، والأمر على الوجوب، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى يوم الخندق وآخرها بهذه العلة، قلنا: قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: لأن ذلك قبل نزول صلاة الخوف، ويحتمل أن يكون شغله المشركون عن ذكرها فنسيها، ثم إذا صلوا على ما ذكرنا جازت صلاتهم ولا إعادة [180 أ/ 3] لظاهر الآية؛ ولأن ذلك يجوز في النوافل في حال الاعتبار فجاز مثله في الفرائض عند شدة الخوف. فرع إذا كانوا في شدة الخوف وأمكنهم الجماعة فالصلاة جماعة أفضل. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يجوز جماعة، واحتج بأن بينهم وبين الإمام طريقاً وذلك يمنع الاقتداء، قلنا: لا نسلم؛ ولأن عندهم لا يجوز، وإن كان الإمام وسطهم، ثم يقول: كل ركوب لا يمنع فعل الصلاة في الانفراد لا يمنع فعل الصلاة في الجماعة كركوب السفينة. مسألة: قال: ولو صلى على فرسه في شدة الخوف ركعة ثم أمن نزل فصلى أخرى. الفصل وهذا كما قال. ذكر الشافعي رحمه الله حكم شدة الخوف والأمن إذا اشتركا في صلاة واحدة فقال: ولو صلى على فرسه في شدة الخوف ركعة، ثم أمن فنزل بنى،

وعكس هذا لو صلى آمناً ركعة، ثم صار إلى شدة الخوف فركب ابتداء .. وقال في "الأم" في المسألة الأولى: إذا نزل أحب أن يعيد فإن لم ينقلب وجهه عن جهته فلا إعادة؟ لأن النزول خفيف وإن انقلب وجهه عن جهته حتى يولى قفاه أعاد، لأنه تارك [180 ب/ 3] قبلته، وفي الركوب يلزم الاستئناف؛ لأن الركوب عمل أكثر من النزول واعترض المزني رحمه الله على هذا الفرق فقال: قد يكون الفارس أخف ركوباً وأقل شغلاً لفروسيته من نزول ثقيل غير فارس. قال أصحابنا: لم ينصف المزني في مقابلة ركوب الخفيف بنزول الثقيل، بل كان من حقه أن يقابل بل ركوب كل واحد منهما بنزوله بنفسه، ولا شك أن نزول كل واحد منهما إذا قوبل بركوبه كان عمل الركوب أكثر من عمل النزول. وقال بعض أصحابنا: خرج كلام الشافعي على العادة في الفارس الحاذق بترك أو بركب. فإذا صورت على الضد كان الجواب على الضد. وقيل: النزول أخف بكل حال لأنه وإن لم يكن فارساً يمكنه أن يرمي بنفسه عن الدابة، وينزل وهذا ليس بشيء، وقيل: نص في موضع من "الأم": على أنه إذا ركب بنى على صلاته ففي المسألة قولان: سواء كان لغير حاجة أو لحاجة، أحدهما: يبطلها، لأنه عمل كثير، والثاني: لا يبطلها لأن العمل الكثير لا يؤثر في صلاة شدة الخوف كالمشي. ومن أصحابنا من قال: هذا على [181 أ/ 3] اختلاف حالين، فإن كان لغير حاجة بطلت صلاته، وان كان للحاجة إلى الركوب للدفع عن نفسه أو للهرب عند الضرورة فلا تبطل الصلاة قولاً واحداً لأن الشافعي رحمه الله نص في "الأم" فقال: وإذا صلوا رجالاً وركباناً في شدة الخوف لم يتقدموا فإن احتاجوا إلى التقدم لخوف تقدموا ركباناً ومشاة، وكانوا في صلاتهم بحالهم وكذلك إن احتاجوا إلى ركوب ركبوا وهم في الصلاة، وان لم يحتاجوا إليه فركبوا ابتدؤوا الصلاة. وقال في موضع آخر من "الأم": لو تفرق العدو فابتدؤوا الصلاة بالأرض، ثم جاءهم طلب فلهم أن يركبوا، ويتمون الصلاة ركباناً، ويومؤون إيماء. وقال القاضي الطبري رحمه الله: نص في هذين الموضعين على أنه إذا أتى الركوب ركبه ومضى في صلاته. قال: وقرأت أن صلاة الخوف من "الأم" وغيره وأعدت نظري فيه كثيرا، والذي يقتضيه كلام الشافعي أن الركوب عمل طويل، فإذا فعله المصلي من غير حاجة بطلت صلاته، وإن فعله للحاجة بأن يشتد الخوف على ما ذكرنا يركبون ويمضون في صلاتهم [181 ب/ 3] ثم يعيدون على ما سنذكر من بعد إن شاء الله، وهذا يدل على بطلان قول من قال فيه قولان. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا تبطل عند الحاجة قولاً واحداً ولا إعادة وهذا أقيس.

مسألة: قال: ولا بأس أن يضرب في الصلاة الضربة. الفصل وهذا كما قال. نقل المزني رحمه الله أنه يجوز أن يضرب الضربة، ويطعن الطعنة وأراد عند الحاجة. فإما من غير حاجة فيكره، وإن كانت الصلاة لا تبطل لعلته، ثم قال: فإن تابع الضرب أو زود الطعنة أو عمل ما يطول بطلت صلاته، وقال في "الأم": على هذا الوجه ثم قال: وإن بطلت صلاته يمضي فيها، ثم إذا قدر على أن يصليها ولا يعمل فيها ما يقطعها أعادها لا يجزيه غير ذلك، ولا يدعها في هذه الحالة إذا خاف ذهاب وقتها ويصليها ويعيدها، وقال أيضاً: لا تقطع صلاتهم يوجههم إلى غير القبلة أو ضرب الضربة الخفيفة إن رهقه عدو أو يتقدم التقدم الخفيف، فإن أعاد الضرب وأطال التقدم قطع صلاته ومتى لم يمكنه صلى وهو يقاتل وعاد إذا أمكنه. فإذا ثبت هذا قال القاضي [182 أ/ 3] الطبري: الظاهر من كلام الشافعي أن الضربتين من العمل الكثير الذي يبطل الصلاة، وغلط بعض أصحابنا فجعل الضربتين قليلاً وأول الكثير ثلاث ضربات أو ثلاث طعنات، والأول هو الصحيح الذي نص عليه. وقال أبو حامد رحمه الله: لا نص في الضربتين، وقياس المذهب أنهما كالضربة، لأنه لا ينطلق عليها اسم الجمع المطلق. وقال مشايخ خراسان: الضربتان والخطوتان من القليل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: في المار بين يدي المصلي: "فليدفعه فإن أبى فليقاتله" فأباح له فعلين، ودرأ أبو سعيد الخدري رضي الله عنه شرطي مروان مرتين حين منعه من تحية المسجد، ولم تبطل صلاته، فإذا تقرر هذا فالقليل لا يبطل الصلاة بحال، وأما الكثير إذا عمله في صلاة شدة الخوف فإن لم يكن به حاجة إليه بطلت صلاته قولا واحداً، وان كان للحاجة. قال القاضي الطبري: الذي يقتضيه كلام الشافعي في "الأم" أنه يفعله ويمضي في صلاته، فإذا قدر أعاد، وغلط بعض أصحابنا، فقال: لا إعادة عليه، لأنه كان مضطرا إليه كما إذا صلى على فرسه بالإيماء إلى غير [182 ب/ 3] القبلة لا تلزمه الإعادة وهذا خلافه النص، والجواب عن الإيماء هو أن وقوع هذه الأفعال التي ليست من جنس الصلاة فيها أغلط من تغيير أركانها، ألا ترى أن المريض يستبيح تغيير الأركان ولا يستبيح فعل ما ليس من جنسها وكذلك المسافر يستبيح الإيماء في النوافل وفعلها في حال السير، ولا يستبيح فعل ما ليس من جنسها فيها فظهر الفرق، وهذا لأن هذا العمل ضاد الصلاة بكل حال فاستوى فيه حالة الأمن وحالة شاة الخوف كالحدث. وقال القفال رحمه الله قول واحد: لا تبطل الصلاة وان اضطر إلى الضرب والطعن من أول الصلاة إلى آخرها، وهذا اختيار ابن سريج رحمه الله، وهو القياس لكنه خلاف النص الذي ذكرناه.

والآخر من هذا عندي أن تخريج المسألة على قولين: ولا يقطع بخلاف المنصوص. وذكر أبو حامد رحمه الله فيه وجهين، ولا معنى لهذا أيضاً مع النص. وقال بعض أصحابنا بخراسان: نص الشافعي رحمه الله أنه لا تبطل، وخرج أبو حامد قولاً إنه تبطل وهذا أفسد من الكل. فرع قال بعض أصحابنا: مد القوس وتحلية [183 أ/ 3] السهم عمل قليل بمنزلة الضربة الواحدة. فَرْعٌ آخرُ قال في "الأم": لو عمد في شيء من الصلاة كلمة عذر بها مسلماً أو يسترهب بها عدواً وهو ذاكر أنه في صلاته انتقضت صلاته وعليه الإعادة. فَرْعٌ آخرُ قال: ولو أسر رجل ووضع من الصلاة فمقدر على أن يصليها مومئاً صلاها ولم يدعها وكذلك إن لم يقدر على الوضوء صلاها في الحضر متيمماً، وكذلك إن حبس تحت سقف لا يسوي فيه قائماً، أو ربط فلم يقدر على ركوع أو سجود صلاها ولم يدعها وعليه القضاء؛ لأنه عذر نادر. وكذلك إن منع الصوم فعليه قضاؤه، وهذا على القول الذي نقول: إذا دفع إليك فتناوله بيده مكرهاً أنه يفطره وإذا قلنا: لا يفطره فلا يصح المنع منه. فَرْعٌ آخرُ قال: لو كمنوا في موضع وصلوا قعوداً وكانوا يخافون أنهم إن قاموا يرون فيصطلموا فعليهم الإعادة لأنه عذر نادر. فرع قال: ولو ضرب ضربة فتنجس سلاحه بالدم رمى به وأخذ غيره 0 فإن لم يجد أمسكه للدفع وأعاد الصلاة إذا قدر كالمصلي وعلى جراحته دم يعجز عن غسله وفيه وجه آخر [183 ب / 3] أنه لا إعادة وهو ضعيف. فرع قال بعض أصحابنا: لو جعله في الحال تحت ركابه فلا تبطل أيضاً؛ لأنه غير حائل للنجاسة، ويحتمل عندي أن يقال: تبطل لأنه يمكنه أن يطرحه من يده في الحال، فإذا أمسك إلى أن يجعله في ركابه فقد فرط، وإن كان له غمد فجعله في غمده بطلت صلاته. فرع قال في "الأم": إذا صلوا يومؤون إيماء فعاد عليهم العدو من جهة توجهوا إليهم

وهم في صلاتهم لا يقطعونها وداروا معهم أين داروا، لأن ترك القبلة جائز في صلاة شدة الخوف، وإن صلى صلاة شدة الخوف، ثم أمكنه أن يصلي صلاة الخوف الأدنى بنى على صلاة شدة الخوف، ولم يجزه إلا أن يصلي صلاة الخوف الأدنى، كما إذا صلى قاعداً ثم أمكنه القيام لم يجزه إلا القيام. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا صلوا صلاة شدة الخوف غير مستقبلي القبلة جاز لبعضهم أن يأتم بالبعض، وإن كان الإمام متوجهاً إلى جهة والمأمومون متوجهين إلى جهة أخرى أو كان وجه الإمام في وجه المأموم، لأن المأموم يعتقد أن إمامه في صلاة صحيحة كما قلنا في الجماعة [184 أ/ 3] حول البيت خلف المقام. فَرْعٌ آخرُ لو سقط عن دابته أو هبت ريح فأسقطته في الحرب عن القبلة أو الجهة التي كان متوجهاً إليها، انحرف إليها إلى القبلة في الحال على حسب الإمكان وأجزأته الصلاة؟ لأن انحرافه كان بغير اختياره. فَرْعٌ آخرُ قال: ولا بأس أن يصلي الرجل في الخوف ممسكاً عنان دابته؛ لأنه عمل يسير فإن نازعته فجبذها إليه جذبة أو اثنتين أو ثلاثة أو نحو ذلك، وهو غير منحرف عن القبلة فلا بأس، وإن كثرت مجاذبته وهو غير منحرف عن القبلة قطع صلاته وعليه استئنافها وهذا صحيح، وقد جعل الشافعي رحمه الله جبذ الدابة ثلاث مرات ههنا من العمل اليسير، وقد قلنا: إن ثلاث ضربات عمل كثير والفرق أن الضرب والطعن أكثر من الجبذ لأنه يحط السيف ويرفعه ويرسل الرمح للطعن ويجذبه وليس كذلك جبذه لعنان دابته. فإنه لا يحتاج أن يعمل فيه أكثر من الجبذ فكان ذلك أخف وأسهل من ذلك وهذا يدل على أن الاعتبار بكثرة العمل لا بالعدد. فَرْعٌ آخرُ قال: وإن جبذته فانصرف وجهه عن [184 ب/ 3] القبلة فأقبل مكانه على القبلة لم يقطع صلاته، لأن انصراف وجهه عن القبلة حصل بغير اختياره، فإذا رجع إليها في أول حال الإمكان أجزأته صلاته، وان طال انحرافه ولا يمكنه الرجوع إليها انتقضت صلاته؛ لأنه يقدر على أن يدعها يعني ينزل عنها أو يتوجه إلى القبلة، فإذا لم يفعل ترك القبلة باختياره فبطلت صلاته. فَرْعٌ آخرُ قال: وإن ذهبت دابته فلا بأس بأن يتبعها، فإذا تبعها على القبلة شيئاً يسيراً لم تفسد

صلاته، وإن اتبعها كثيراً فسدت صلاته، وإن تبعها لا إلى القبلة قليلاً أو كثيراً بطلت صلاته. مسألة: قال: لو رأوا سواداً مقبلاً فظنوه عدواً فصلوا صلاة شدة الخوف. الفصل وهذا كما قال: إذا رأوا سواداً فظنوه عدواً وخافوا أن يظهر بهم فصلوا صلاة شدة الخوف بالإيماء، ثم بان لهم أنه لم يكن عدواً، وإنما كان إبلاً أو شجراً أو إظلالاً أو وحشاً، نقل المزني رحمه الله عن "الأم": أن عليه الإعادة ونقل عن "الإملاء": أنه لا إعادة. قال أصحابنا: هذا سهو منه، لأن الشافعي نص في "الإملاء" على وجوب الإعادة أيضا، وإنما [185 أ/ 3] سها عن مسألة قالها الشافعي في "الإملاء": وهي أنه لو أخرهم ثقة أن ذلك السواد عدو فلا إعادة، فنص في خبر الثقة أنه لا إعادة، ونص فيما ظنوه عدواً فصلوا أن عليهم الإعادة، فقال أصحابنا: كل واحدة من المسألتين على قولين لأنه لا فرق أن يصلوا برؤية العين، أو يخبر من يصدقونه. أحدهما: يلزم الإعادة وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني، لأن سبب جواز هذه الصلاة وجود الخوف من العدو ولم يوجد العدو هاهنا، وقيل: لم يذهب المزني رحمه الله إلى لزوم الإعادة، لأن عنده كل من صلى بالعذر لا إعادة عليه، ولكنه قال: الأشبه بقوله: يعني بمذهب الشافعي رحمه الله لزوم الإعادة. والثاني: لا يلزم الإعادة وهذا هو اختيار أبي إسحاق، وقال: هذا أقوى القولين؛ لأن الاعتبار بوجود الخوف دون تحقيق المخوف منه، ألا ترى أنه لو كان المشركون بإزائهم وظنوا أنهم يكرون عليهم فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم بان أنهم يكونوا هموا بذلك فإنه تجزيهم الصلاة، وإن لم يتحقق المخوف منه، وكذلك لو شاهدوا العدو فصلوا صلاة شدة [185 ب/ 3] الخوف، ثم بان أنهم كانوا على المصالحة والمشاركة لا يلزم الإعادة قولا واحداً، لا الخوف متحقق. ومن أصحابنا من قال: تجب الإعادة فيما ظنوه بأنفسهم ولا تجب في خبر الثقة على ما نص عليه، والفرق أن الاعتماد على خبر الثقة أقوى من الاعتماد على الظن والتخمين فحصل التفريط هاهنا. ومن أصحابنا من قال: في خبر الثقة قولان، وفي الظن يجب قولاً واحداً. فرع لو كان هذا في بلد الإسلام فظنوه عدواً فصلوا صلاة شدة الخوف، ثم بان خلافه. قال في "الحاوي": لا نص فيه وقال أصحابنا: يلزمهم الإعادة قولاً واحداً، لأن ظنهم في أرض العدو أقوى من ظنهم في بلاد الإسلام.

وقال بعض أصحابنا بخراسان: نص في "الإملاء": أنه إذا كان في دار الإسلام يلزم الإعادة دون دار الحرب، واعتبر في ذلك غالب العادة وظاهر الحال وهذا غريب. فَرْعٌ آخرُ قال في "الأم": لو جاء خبر عدو فصلوا هذه الصلاة، ثم ثبت أن العدو كانوا يطلبونهم، ولكن لم يفرقوا منهم القريب الذي يخاف من غلبتهم عليهم في الحال يلزمهم الإعادة، وعلى قياس [186 أ/ 3] قوله في "الإملاء": لا إعادة فحصل قولان. فَرْعٌ آخرُ لو صلوا صلاة شدة الخوف، ثم وجدوا بين أيديهم خندقاً يعلم أن العدو لا يمكنه العبور إليهم ولا إفساد الصلاة عليهم فيه طريقان: أحدهما: فيه قولان: وهو الصحيح، لأنهم علموا أنهم أخطؤوا في الخوف، وقال أبو إسحاق رحمه الله: تلزمهم الإعادة قولاً واحداً، لأن هؤلاء تمكنهم معرفة حقيقته ففرطوا فتلزمهم الإعادة. فرع لو صلوا صلا ة شدة الخوف في المسألة السابقة، ثم شكوا أنهم كانوا عدواً أم لا، يلزمهم الإعادة في قول الشافعي في "الأم"؛ لأنه على شك أن الصلاة مجزية عنهم والوجوب متيقن فوجبت الإعادة. فرع لو كان رجلاً وحده فرأى سواداً فظنه علج من علوج الروم أو سبعاً، فصلى صلاة شدة الخوف خوفاً أن يقله، ثم بان خلاف ذلك ففيه قولان، ولا فرق بين أن يقع الغلط في ذلك لجماعة أو لواحد. فَرْعٌ آخرُ لو ظنوا أن الكفار يزيدون على ضعف المسلمين فانهزموا وصلوا صلاة شدة الخوف، ثم بان خلاف ذلك يلزمهم الإعادة على قوله في "الأم"، وكذلك لو لحقهم مددد وعلموا أنهم لو لم يصلوا [186 ب/ 3] يلحقهم ذلك قبل لخوف الكفار إياهم، وازدادوا بذلك على ضعف الكفار نص عليه، وأصل القولين أن السبب المجوز للصلاة بالإيماء حقيقة وجود العدو أو وجود الخوف، ويقرب القولان من القولين فيمن نسي الماء في رحله فتيمم وصلى، ففي قول لا إعادة؛ لأن ظنه عدم الماء موجودء والثاني: يلزم الإعادة لأن الماء موجود. فَرْعٌ آخرُ لو صلوا صلاة ذات الرقاع في حال الأمن هل يجوز أم لا؟ من أصحابنا من قال:

صلاة الإمام يجوز قولا واحداً، وفي صلاة المأمومين قولان: أحدهما: تجوز صلاتهم؛ لأنه ليس فيه أكثر من الانتظار، والخروج من صلاة الإمام قبل التمام، وكل هذا لا يبطل الصلاة على القول الذي يقول الخروج من صلاة الإمام لغير عذر لا تبطل الصلاة، والثاني: صلاة الجميع باطلة على القول الذي يقول: الخروج من صلاة الإمام بغير عذر، والانتظار الطويل من غير حاجة يبطل الصلاة، هذه الطريقة هي اختيار ابن سريج رحمه الله وابن [187 أ/ 3] خيران. ومن أصحابنا من قال: هذا عند ابن سريج وابن خيران رحمهما الله أن الطائفة الثانية عندهم فارقت الإمام فعلاً وحكماً، فأما على المذهب الصحيح القولان في الطائفة الأولى لا تبطل صلا ة الطائفة الثانية قولاً واحداً لأنها تركت متابعة الإمام وهي غير خارجة من صلاة الإمام، وهذا هو الصحيح، وعندي هذا الاختلاف يحتمل في مسألة "الأم": عند توهم الخوف؛ لأن هذا المعنى هو موجود أيضاً. وقال القاضي الطبري رحمه الله: هذه المسألة في بطلان صلاة الإمام هي مبنية على القولين فيه إذا فرقهم أربع فرق، لأنه انتظر في غير موضع الانتظار فتبطل صلاته أيضاً على أحد القولين. فرع لو صلوا صلاة الخوف، كما قال أبو حنيفة رحمه الله برواية ابن عمر رضي الله عنهما هل يجوز أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز لأن ذاك صار منسوخاً بالمتأخر. والثاني: يجوز لأنه من الاختلاف المباح، وقد صح الحديثان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن الأفضل ما ذكرنا لما بينا من الدلائل، وأما صلاة الإمام فتجوز [187 ب/ 3] قولاً واحداً لأن المشي والعمل إنما يحصل من الطائفتين دون الإمام، ولو صلى صلاة شدة الخوف في حال الأمن لا يجوز قولاً واحداً. مسألة: قال: وإن كان العدو قليلاً من ناحية القبلة والمسلمون كثيرون يأمنونهم. الفصل وهذا كما قال: هذه في الحالة الثالثة من أحوال صلاة الخوف التي وردت السنة بها، وهي صلاة الخوف الأدنى، ولا بد في هذه الصلاة من ثلاث شرائط: إحداهما: أن يكون العدو في ناحية القبلة. والثانية: أن يكون بالمسلمين كثرة بحيث ينظر بعضهم ويصلي بعضهم، فإذا وجدت هذه الشرائط فإنه يصلي صلاة الخوف فيقفون خلفه صفوفاً، ويحرم بجماعتهم، ويقرأ ويركع ويرفع بالكل، فإذا سجد سجد الكل إلا الصف الذي يليه، فإنه يثبت قائماً بعد

الركوع حتى يفرغ الإمام والباقون من الركعة الأولى، فإذا قاموا إلى الثانية سجد بعد هذا الصف الأول سجدتين، ويلحق الإمام قائماً ويصلي ويقرأ ويركع بالكل أيضاً، فإذا اعتدلوا عن الركوع سجد معه الذين حرسوه في الأولى، ووقف الباقون قائمين أو بعضهم، فإذا فرغ من السجود [188 أ/ 3] وجلس للتشهد سجد الباقون ولحقوا به جالساً فيتشهد ويسلم بالكل، هذا هو المختار. وقال الشافعي رحمه الله: فإن كانت المسألة بحالها: وصلى على ما قلنا: إلا أن الصف الأول تأخر في الركعة الثانية إلى مكان الصف الثاني، وتقام الثاني إلى مكان الأول ليكون من يحرسه أبداً هو الصف الأول فلا بأس، لأن ذلك عمل يسير، ويحصل بعمل قليل فإن يتخلل بين كل رجلين متقدماً أو متأخراً بخطوة أو خطوتين ولو لم يفعل هكذا بل حرس في الثانية من حرس في الأولى. قال في "الأم": رجوت أن يجزيهم ولا إعادة عليهم ولا أعاد ما كان أحب إلي. وقال بعض أصحابنا بخراسان: قال الشافعي رحمه الله: هاهنا أحببت له أن يعيد الركعة ثم قال أصحابنا: لا يجوز أن يعيد ركعة دون كل الصلاة فمعناه بطلانها هو حراستها في الركعة الثانية، لأنه ليس لها أن تحرس في الركعتين، بل يجب أن تحرس كل فرقة مرة واحدة وهذا يدل على أن صلاتهم تبطل، وهو قول بعض أصحابنا. ويمكن أن يقال: هذه عبارة عن استحباب إعادة كل الصلاة [188 ب/ 3] وعبر عنها بالركعة، والمذهب ما نص في "الأم": لأنه لا تلزمه الإعادة. وقال القاضي الطبري: إنما قال ذلك لأنه لم يكن لها الحراسة، وفي هذه الركعة الثانية فاستحب الإعادة، وفي هذا نظر عندي: لأن الاستحباب كيف يزاد في ركعات الصلاة فلا وجه إلا ما ذكرت والله أعلم، فإن قيل: لم استحب الشافعي أن يحرس أهل الصف الأول ويسجد مع الإمام أهل الصف الثاني؟ قلنا: كل واحد منهما جائز، وإنما استحب ذلك لأنه أحوط لهم وذلك لأن أهل الصف الأول يصيرون جنة لأهل الصف الثاني إذا سجدوا، فلا يصيبهم من العدو سهم، ولأنهم إذا حرسوا وليس بين أيديهم صف كانت الحراسة أمكن لكونهم أقرب إلى العدو من الصف الثاني؛ ولأن العدو لا يمكنهم الوقوف على عدو من ورائهم من الساجدين فكان أولى، ولو لم يفعل هكذا بل حرس أهل الصف الثاني وسجد أهل الصف الأول يجوز، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرسه أهل الصف الثاني. وقال الشيخ أبو حامد رحمه الله: السنة المؤدية في هذا ترتيب الشافعي من كل طريق [189 أ/ 3]، فإن السنة تدل على أن الصف الثاني هو الذي يحرس أبداً وذلك أن أبا داود رحمه الله روى في سننه بإسناده عن أبي عياش الزرقي رضي الله عنه قال: "كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعسفان وعلى المشركين خالد بن الوليد رضي الله عنه فصلينا الظهر، فقال المشركون: لقد أصبنا غرة لو حملنا عليهم وهم في الصلاة، فنزلت آية القصر بين الظهر والعصر فلما حضر العصر قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مستقبل القبلة والمشركون أمامه فصف خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وركعوا جميعاً، ثم سجد وسجد الصف الذي يلونه وقام الآخرون

يحرسونهم، فلما صلى هؤلاء السجدتين وقاموا سجد الآخرون الذين كانوا خلفهم، ثم تأخر الصف الذي يليه إلى مقام الآخرين وتقدم الصف الآخر إلى مقام الصف الأول، ثم ركع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وركعوا جميعاً، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه وقام الآخرون يحرسونهم، فلما جلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصف الذي يليه سجد الآخرون، ثم جلسوا جميعاً فسلم بهم جميعا وصلى هكذا [189 ب/ 3] يوم بني سليم ". وروي أن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال لأصحابه قد دخل عليهم وقت الصلاة: هي أحب إليهم من أهاليهم وأموالهم فنصبر حتى يسجدوا فيها. فنحمل عليهم حملة فنستأصلهم، فنزل جبريل عليه السلام، وأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذلك، وعلمه هذه الصلاة عن الله تعالى. قال أبو حامد: فيجب أن يكون المذهب هكذا، لأن الشافعي رحمه الله قال: إذا رأيتم قولي مخالفاً للسنة فاطرحوه وعندي أن هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فدل على الجواز، والأحسن والأفضل ما ذكره الشافعي لما ذكرنا العلة، وليس في هذا مخالفة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بحال. فإذا تقرر هذا، قال أصحابنا: في نقل المزني خلل، وذلك أنه قال في الركعة الثانية سجد معه الذين حرسوه إلا صفاً أو بعض صف تحرسه، وهذا الاستثناء يقتضي أن الحارسين في الركعة الثانية هم الحارسون في الركعة الأولى ولا يختلف المذهب أن الحراسة على التناوب في هذه الصلاة، ولفظ الشافعي في الكبير بخلاف ما نقل المزني وذلك أنه [190 أ/ 3] قال: فإذا سجد سجد معه الذين سجدوا أولاً إلا صفاً أو بعض صف يحرسه منهم، وهذا هو الصحيح بلا خلاف. مسألة: قال: ولو صلى في الخوف بطائفة ركعتين، ثم سلم بالطائفة الأخرى ركعتين ثم سلم. الفصل وهذا كما قال: إذا صلى الإمام بالناس صلاة الخوف والعدو في غير جهة القبلة، فصلى بطائفة ركعتين وسلم بهم أجزأته وإياهم؟ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلاها ببطن النخل هكذا وكانت صلاة الظهر مقصورة في رواية جابر رضي الله عنه. قال الشافعي رحمه الله: وأحب أن يصليها صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - بذات الرقاع، وهي أولي من صلاة بطن النخل، لأنها أعدل بين الطائفتين، ولأن في الفريضة خلف النافلة خلافاً بين العلماء. وقال أبو إسحاق رحمه الله: صلاته ببطن النخل أحب إلينا، لأن فيها تسوية بين الطائفتين، ويحصل لكل واحدة منهما فضيلة الجماعة على التمام، وهذا خلاف نص الشافعي.

باب من له أن يصلي صلاة الخوف

قال المزني رحمه الله: هذا عندي يدل على جواز الفرض خلف النفل [190 ب/ 3] وهذا الاحتجاج ذكره الشافعي رحمه الله أيضا فلا معنى لقوله عندي، وهذه الصلاة في الخوف لا تتم إلا بثلاث شرائط: إحداها: أن يكون المشركون في غير جهة القبلة وأن لا يأمن الكرة من جهتهم، وأن يكون بالمسلمين كثرة يمكن تفريقهم فرقتين كل فرقة تقاوم المشركين، ولو صلى الإمام بالناس هكذا في حال الأمن أجزأته وإياهم، لأن الفريضة خلف النافلة تصح، ولو صلى في الأمن صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعسفان لصح صلاة الإمام، وكذلك صلاة من لم يحرسه صحيحة أيضاً وفي صلاته من حرسه منهم وجهان: أحدهما: باطلة لأنهم تركوا متابعته حتى سبقهم بثلاثة أركان سجدتان وجلسة بينهما. والثاني: لا تبطل صلاتهم وهو ظاهر المذهب، واختاره أبو إسحاق؛ لأن السجدتين والجلسة بينهما كالركن الواحد، لأنه جنس واحد لأن الجلسة للفصل والجدتين كلتيهما واحد، ومن نصر القول الأول علل بعلة أخرى. وقال: التأخر عن الإمام ركن واحد إنما يجوز لعذر، وهو أن يقصد إتمام القراءة أو الركن الذي هو [191 أ/ 3] فيه، فأما إذا وقف من غير عذر وترك متابعته حتى ركع أو سجد بطلت صلاته وهذا أحسن وليس بمذهب. وذكر بعض أصحابنا بخراسان عن الشافعي أنه قال هاهنا: أحببت للطائفة الحارسة أن يعيدوا الصلاة، وهذا غريب وفيه نظر عندي والله أعلم. مسألة: قال: وليس لأحد أن يصلي صلاة الخوف في طلب العدو لأنه آمن وطلبهم تطوع. وهذا كما قال: إذا كانوا في طلب العدو فإن لم يكونوا خائفين، مثل إن خرجوا من بلاد الإسلام في طلب العدو وهم مستظهرون يأمنون الكرة عليهم لم يكن لهم أن يصلوا صلاة الخوف، فإن كانوا خائفين من كمين أو مدد أو كرة عليهم أو فتحوا بلد من بلاد العدو فلم يأمنوا أن يلحق المدد بهم كان لهم أن يصلوا صلاة الخوف، فإن كان الخوف أشد من ذلك صلوا صلاة شدة الخوف، وذلك أن يخاف أن تكون هزيمتهم هكذا منهم، ولم يكن في المسلمين كثرة فتهيأ لبعضهم أن يقوى بهم أو يخاف عود العدو إن تولوا عنهم نص على كل هذا في "الأم". باب من له أن يصلي صلاة الخوف مسألة: قال: كل قتال كان فرضاً أومباحاً لأهل الكفر والبغي. الفصل وهذا كما قال: جملته أن القتال على ثلاثة أضرب: قتال واجب، وقتال مباح، وقتال محظور.

فالواجب: كقتال المشركين وهو الأصل في صلاة الخوف، وفيه نزلت الآية وفي معناه قتال أهل البغي لأن الله تعالى قال: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9]، وقتال قطاع الطريق: فتجوز صلاة الخوف في كلها. وأما المباح: فهو الدفع عن حريمه وماله ونفسه، وكذلك عن نفس الغير وماله وحريمه فإن الصحيح من المذهب إن دفع المسلم عن نفسه مباح غير واجب، لأن حميته في قصده الإسلام بخلاف المسلم الظالم. وقد روي عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "يكون في آخر الزمان فتن كقطع الليل المظلم، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، فقال رجل: يا رسول الله إن أدركنا هذا الزمان كيف نفعل؟ فقال: "احتمل ذكرك وادخل بيتك"، قال: يا رسول الله [أفرأيت إن] دخل علي بيتي قال: إن أفرقك شعاع السيف فاجعل طوف ثوبك على رأسك ولتكن عبد الله المقتول [192 أ/ 3] ولا تكن عبد الله القاتل"،وروي "اتخذ سيفاً من خشب"، فتجوز صلاة الخوف في هذا القتال أيضاً؛ لأن كل رخصة تعلقت بالأمر الواجب فعلقت بالمباح كالقصر في السفر. قال صاحب "التلخيص": إذا قاتل في الدفع عن ماله هل يجوز له أن يصلي صلاة شدة الخوف؟ قولان: أحدهما: لا يجوز نص عليه في "الجامع الكبير"، وفي "الإملاء"؛لأن الدفع عنه غير واجب بل هو مباح. والثاني: يجوز وقال القفال رحمه الله: نص الشافعي رحمة الله عليه على قولين فيمن غشيه سيل فوجد ملجأ لنفسه دون ظهره وماله، هل له أن يهرب ويصلي صلاة شدة الخوف في هربه؟ والأصح له ذلك لأن في الدفع المباح يجوز القتال، وإن أتى على نفسه كما في النفس سواء فلا فرق. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن كان ماله ذا روح فعلى وجهين، وإن لم يكن ذا روح فهو مرتب على ذلك، وهو بناء على أن له أن يقتل في الدفع عن المال أم لا؟ فيه وجهان، والأصح له ذلك، وفي هذا نظر والاعتماد على ما سبق، وقد أدخل الشافعي حجة كلامه في خلال الفصل، وهو قوله: من قتل دون ماله فهو شهيد [192 ب/ 3] على أن له صلاة الخوف في الدفع عن المال وهذا من فصيح الكلام أن يذكر المسألة، ثم الحجة ثم الجواب. وأما المحظور: فهو القتال لقطع الطريق أو المعصية، أو لمنع الحق، أو أي وجه من وجوه الظلم فليس له أن يصلي صلاة شدة الخوف في هذا القتال، وإن فعل يلزمه الإعادة لأن الرخصة لا تكون لعاص، ولو انهزم قوم من المسلمين وصلوا في حال انهزامهم صلاة شدة الخوف، فإن كان ذلك ليتحولوا من جهة إلى جهة أخرى ليتمكنوا

من القتال، أو يتحيزوا إلى فئة من المسلمين في مواضع أخرى ليتقووا بهم، فهؤلاء لا تصح صلاتهم ولا تجب الإعادة؛ لأن انهزامهم لهذا السبب مباح، وان انهزموا للعجز والفشل، فإن كان بإزاء كل واحد من المسلمين ثلاثة من المشركين فأكثر فهؤلاء لا تصح صلاتهم ولا إعادة عليهم لأن للواحد أن يفر من الثلاثة، وإن كان بإزاء كل واحد منهم واحد أو اثنان لا تصح صلاتهم: لأنه لا يجوز للمسلم أن يفر من مشركين وإذا فر منهما كان عاصياً وصلاة شدة الخوف رخصة ولا تستباح الرخصة بفعل هو معصية. وقال في "الحاوي" [193 أ/ 3] إذا عرفوا أنهم لا يطيقون قتال مثليهم من المشركين هل يجوز لهم أن يولوا من غير تحرف القتال أو تحيز إلى فئة؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] الآية. والثاني: لا يجوز لأن لهم طريقاً إلى ما يجوز، إذ لا يعدم الانحياز إلى فئة قربت أم بعدت، وقال أبو حنيفة رحمه الله: جواز التولي الانحراف إلى القتال أو التحيز إلى فئة كانا في ابتداء الأمر ثم نسخا معاً وعليهم أن يقاتلوا ما أمكن. مسألة: قال: ولو غشيهم سيل ولا يحدون نجوة. الفصل وهذا كما قال: النجوة الموضع المرتفع يلتجأ إليه لينجو به، وجملته: أن الرخصة في صلاة الخوف لا تختص بخوف القتال، بل كل خوف كان المصلي غير عاص في سببه فهو مثله، فإذا كان الرجل في واد فغشيه سيل وخاف إن وقف للصلاة لحقه السيل وغرقه، فإن كانت نجوة يأوي إليها فعدا في طول الوادي من السيل وصلى في حال عدوه لم يجز وان لم يجد نجوة جاز، وهذا إذا كان بالالتجاء إلى النجوة لا ينقطع عن أهله، ولا يخاف من المقام هناك الجوع وهلاكه منه ونحو ذلك [193 ب/ 3]. قال الشافعي رحمه الله: وإن أمكنهم نجوة لا بد أنهم دون ركابهم فلهم أن يهربوا ويصلوا صلاة الخوف، لأن الخوف على المال هو بمنزلة الخوف على النفس ذكره القاضي الطبري رحمه الله، وقد ذكره رحمه الله على وجه آخر وقد ذكرنا ذلك. فرع قال في "الأم": ولو كان في الصحراء في موضع حشيش وحطب يابس، فوقعت فيه نار فاشتعلت فخاف إن ثبت يصلي يحترق، فإن كان يجد نجوة يأمن بها من الحريق لجأ إليها، وان لم يجد وصلى في حال عدوه تجوز صلاته، وهكذا لو طلبته حية أو غيرها من السبع وخاف على نفسه منها وهرب، وكذلك لو طلبه جمل صائل أو فيل، فإنه تجوز صلاة الخوف بالإيماء أينما توجه.

باب ما له لبسه وما يكره له والمبارزة.

وقال المزني رحمه الله: يلزم الشافعي على أصله أن يأمره بإعادة الصلاة، لأنه عذر نادر قلنا: لا يلزم ذلك، لأن الخوف معتاد وقد يكون عرضاً نادراً،، ولكن حكم نادره كحكم معتادة. فَرْعٌ آخرُ قال في "الأم": ولو خافوا الحريق على متاعهم أو منازلهم أحب أن يصلوا جماعة، ثم جماعة أو فرادى، ويكون من [194 أ/ 3] لم يكن معهم في الصلاة في إطفاء النار، ويكره أن يصلوا في هذه الحالة صلاة الخوف التي صلاها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بذات الرقاع: لأن هذه الصلاة شرعت في خوف القتال والحرب. فَرْعٌ آخرُ لو هرب من غريمه فإن كان معسراً فله صلاة الخوف في الهرب، لأن له الهرب وإلا فلا. ولو هرب من عليه القصاص من الولي له أن يصلي صلاة شدة الخوف في عدوه؛ لأنه يرجو العفو لأن العفو مندوب إليه فربما يرغب في العفو، ذكره بعض أصحابنا بخراسان، وعندي ليس له ذلك إذا كان صاحبه يطلبه: لأنه عاص بالهرب، لأنه لا يجوز أن يمنع حقاً مستحقاً من مستحقه، فإن كان عليه حد فهرب لا يصلي هكذا. باب ما له لبسه وما يكره له والمبارزة. مسألة: قال: واكره لبس الديباج. الفصل وهذا كما قال القفال رحمه الله، أراد بالكراهة هنا التحريم، وجملته: أنه يحرم في حالة القتال من الملابس ما يحرم في غير حالة القتال إلا أن يكون حاجة وضرورة. وقال سائر أصحابنا: الديباج والحرير وسائر الثياب [194 ب/ 3] في العرف لا يحرم لبسها، لما روى أبو داود عن مولى لأسماء بنت أبي بكر، يقال له: عبد الله بن عمر قال: رأيت عبد الله بن عمر رضي الله عنه في السوق اشترى ثوباً شامياً فرأى فيه خيطاً أحمر فرده، فأتيت أسماء وذكرت ذلك لها، فقالت: يا جارية ناوليني جبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأخرجت جبة [طيالسة] مكفوفة الجيب والكمين والفرجين بالديباج " وهدا نص. وروى بعض أصحابنا زيادة: أنه "كان يلبسها للقاء العدو"، وقال علي رضي الله عنه: "نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الحرير إلا في موضع إصبعين أو ثلاث أو اربع ". فَرْعٌ آخرُ قال في "الإملاء" و "الأم": لو لبس رجل قباء محشواً بالقز فلا بأس؛ لأن

الحشو باطن، وإنما أكره إظهار القز للرجال، ومشايخ خراسان ذكروه عن أصحابنا ولم يذكروا هذا النص. فَرْعٌ آخرُ قال في "الأم": إذا كان منسوجاً بالقز، والقز غالب كرهته في الحرب وغير الحرب، وان كان قزاً خالصاً كان مباحاً في الحرب؛ لأن القز الخالص يحصنه، وإذا لم يكن خالصاً لا يحصنه تحصين الخالص، ويرجع المعنى إلى ما تقدم في الحقيقة [195 أ/ 3] وقيل: فيه وجه أنه يباح لبس ثوب القز؛ لأنه ليس من ثياب الزينة، وإن كان القز أصل الإبريسم. فَرْعٌ آخرُ الذهب حرام على الرجال قليله وكثيره؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهي عن التختم بالذهب". وهو قليل، وكذلك أزرار الذهب والدرع المنسوج بالذهب حرام، وكذلك لو كان الذهب على سيفه أو حمائل سيفه أو منطقته أو كان مموهاً بالذهب، وكان ظاهراً فيه لا يجوز استعماله، ويخالف الديباج، لأنه لا يعمل فيه السلاح ولا حاجة في الذهب، وان كان في الدرع يجد بثمن ذلك درعاً جديداً والجديد أخص. فإن قيل: أليس أجزتم بيسير الحرير دون يسير الذهب فما الفرق؟ قلنا: الفرق أن يسير الذهب يظهر كما يظهر كثيره ويحصل به السرف والخيلاء من طريق العادة بخلاف يسير الحرير. فَرْعٌ آخرُ إذا فاجأته الحرب فلا يكره لبسه، لأنه موضع ضرورة، ويحل في حال الضرورة ما يحرم في حال الاختيار، وكذلك لو كان له سيف عليه حلية ذهب ففاجأته الحرب لا بأس أن يتقلده، فإذا انقضت الحرب، قال الشافعي رحمه الله: "أحببت [195 ب/ 3] له نقضه"، وهكذا في حمائل سيفه وترسه ومنطقته، لأن كل هذا جنة أو صلاح جنة ولا يجوز لبس الخاتم من الذهب، وان فاجأته الحرب؛ لأنه لا جنة فيه. فَرْعٌ آخرُ يجوز لبس الحرير عند الحاجة إلى لبسه لما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "رخص لعبد الرحمن بن عوف والزبير بن العوام رضي الله عنهما في قميص الحرير في سفر من حكة كانت بهما"

فَرْعٌ آخرُ قال: لو نسخ الذهب المنسوخ في الذرع وصدئ حتى لا يظهر لونه حل لبسه؛ لأنه سرف فيه وكذلك لو كان مموها بالذهب ولا يظهر لونه فصار مستهلكا فيه، ويستحب تركه مع هذا وقيل: الذهب لا يصدأ. فَرْعٌ آخرُ قال: ولا أكره للرجل لباس اللؤلؤ إلا من جهة الأدب فإنه لباس النساء وزينتهن لا للتحريم، وكذلك لا أكره لبس الياقوت والزبرجد إلا من جهة السرف أو الخيلاء، يعني: أنه لا يحرم أيضا، وهذا لأن الشرع لم يرد بتحريم لبسها ولكن كره الشرع التشبه بالنساء. فَرْعٌ آخرُ قال بعض أصحابنا: يكره للنساء البياض والفضة لما فيه من التشبه بالرجال وفي هذا نظر عندي "196 أ/3". فَرْعٌ آخرُ التختم باليمين واليسار جائز إلا أن المستحب التختم باليسار، لأنه الآخر من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقيل: اليمين أولى إلى الاحتراز من النسبة إلى البدعة والاشتهار بهم. فرع قال أصحابنا: المشي في نعل واحدة أو خف واحد مكروه للخبر في ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. مسألة: قال: ولا أكره لمن يعلم من نفسه في الحرب بلاء أن يعلم ولا أن يركب الأبلق. وهذا كما قال: إذا علم المحارب من نفسه الشجاعة والشدة جاز له أن يعلم، وأراد بالبلاء الشجاعة، وهو أن يجعل في صدره ريش نعامة أو يشد على عمامته عصابة ملونة، أو يركب الأبلق من الخيل، وإن عرف من نفسه الضعف والفشل كره له ذلك؛ لأنه ربما يقصد فينهزم فإذا انهزم من ظهر بعلامة الشجعان كان ذلك قوة للمشتركين ووهنا على المسلمين فيؤدي إلى كسرتهم وهزيمتهم. وروي عن الحسن رحمه الله أنه كره الإعلام في الحرب، وهذا غلط، لأن حمزة رضي الله عنه أعلم يوم بدر بأن غرز ريش نعامة في صدره، أي في لحيته، وشدد أبو دجانة "196 ب/3" على عمامته عصابة حمراء، وركب أبو محجن الأبلق وكل هؤلاء كانوا أهل شدة وشجاعة. مسألة: قال: ولا أكره البراز.

الفصل وهذا كما قال، أراد بالبراز المبارزة، وجملته: انه إذا خرج رجل من المشركين ووقف بين الصفين وطلب البراز من المسلمين، لا يكره لمن يعلم من نفسه بلاء من المسلمين أن يخرج إليه فيقاتله، فإن كان مثله في الشجاعة والآلة والسلاح كان الخروج في مقاتلته مباحا وإن كان فوقه كان خروجا مستحبا، وإن كان دونه كان مكروها، وإن لم يطلب أحد من المشركين ذلك فهل يجوز للمسلم أن يبتدئ بطلب المبارزة وجهان: أحدهما: يكره له، وبه قال صاحب " الإفصاح"؛ لأن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما خرجوا للمبارزة عند الطلب منهم؛ ولأنه لا بأس أن يخرج من المشركين من هو أشجع منه. والثاني: يجوز ذلك وهو الأصح لما فيه من الرهبة في قلوب العدو. وذكر بعض أصحابنا على هذا الوجه الثاني أنه يستحب ذلك له. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يكره كل ذلك إلا بإذن الإمام، وقال الحسن رحمه الله: تكره "197 أ/3" المبارزة بكل حال. واحتج الشافي رحمه الله بما روي أن عبيدة وحمزة وعليا رضي الله عنهم بارزوا بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذه إشارة إلى قصة نذكرها، وهي: أن يوم بدر خرج من مصاف المشركين ثلاثة نفر عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة وهما أخوان، والوليد بن عتبة، وهو ابن أخي شيبة، وطلبوا البراز فخرج إليهم ثلاثة من الأنصار أبناء عفراء وعبد الله بن رواحة وكانوا متلثمين فاستنسبوهم فنسبوا لهم، وقالوا: نحن الأنصار فقالوا: أكفاء كرام ولكنا نريد قومنا، ثم نادوا: يا محمد اخرج لنا قومنا من قريش، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعبيدة بن الحارث بن عبد المطب وهو ابن عمه، ولحمزة بن عبد المطلب عمه، ولعلي بن أبي طالب ابن عمه رضي الله عنه: "اخرجوا لهم"، وكان عبيدة شيخا له سبعون سنة فخرجوا لهم، فقالوا: من القوم فاستنسبوا لهم، فقالوا: أكفاء كرام فدار حمزة مع عتبة فلم يمهله أن قتله، ودار علي مع الوليد فلم يمهله أن قتله، واختلف بين شيبة وعبيدة ضربتان فضرب عبيدة لشيبة ضربة على عاتقه "197 ب/3" الأيسر فأرخى كتفه، وضربه شيبة ضربة جزمت ساقه، فكر حمزة وعلي رضي الله عنهما على شيبة وقتلاه، ثم حملا عبيدة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ومخ ساقه يسيل فدعا له النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم مات بعد انقضاء الحرب بالصعواء عند منصرفه من بدر فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودفن"، وروي أنه لما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومخ ساقه يسيل قال: أشهيد أنا يارسول الله؟ فقال: "نعم"، فقال: ووددت أنا أبا طالب كان حيا ليعلم أنا نحن أحق بهذا البيت منه حيث يقول: ونسلم حتى ما نصرع حوله ونذهل عن أبنائنا والحلائل ثم أنشأ يقول: فإ تقطعوا رجلي فإني مسلم أرجي به عيشا من الله عاليا وأبسني الرحمن من فضل منه لباسا من الإسلام غطى المساويا

مسألة: قال: ويلبس فرسه وأداته جلد ما سوى الكلب والخنزير. وهذا كما قال. اختلف أصحابنا في هذا، فقال ابن خيران رحمه الله: أراد به الشافعي رحمه الله الجلود التي لم تدبغ فيجوز له أن يلبس فرسه ذلك وإن كان نجسا؛ لأنه لا تعب على الفرس، وإنما لا يجوز للرجل لبسه، لأن عليه في نفسه "198 أ/3" تعبدا فلا يجوز له لبس النجاسات، وإنما استثنى الشافعي منها جلد الكلب والخنزير؛ لأن الانتفاع بالخنزير لا يحل حال. وأما الكلب فلا يجوز الانتفاع به إلا فيما أذن فيه من اقتنائه للصيد والماشية والزرع وهذا غيره فلا يحل استعماله. وحكى الداركي عن أبي إسحاق رحمه الله أنه قال: أراد به الجلود المدبوغة واستثنى جلد الكلب والخنزير، لأنهما لا يظهران بالدباغ، قال: وقول الشافعي رحمه الله لأنه جنة الفرس، ولا تعبد على قوس، أراد به أن لبس الجلود في الحرب مكروه للرجل، لأنا نحتاج أن ننزعها من الشهيد، والمستحب أن يدفن الشهيد على حاله بخلاف الفرس، فإنه لا تعبد عليه فلا يكره له أن يلبسه إياه، وأما غير المدبوغ من جلود الميتة فكما يلزمه لبسه في نفسه يكره لبسه في فرسه وأداته، ولو خالف لا يحرم إلا للصلاة، وذا غلط لأن الشافعي صرح في "الأم" فقال: ليس كل جلد طاهر، وهو جلد ما يؤكل لحمه إذا كان ذكيا، وإن كان جلد ميتة أو جلد ما لا يؤكل لحمه فإنه يلبسه فرسه، ولا يلبسه هو إلا أن يدبغ لأنه يكره للإنسان حمل النجاسة ولبسها "198 ب/3" بلا ضرورة. وأما إذا اضطر عند الحرب فيجوز لبس كله في نفسه وأدته، وإن كان جلد الكلب والخنزير.

كتاب صلاة العيدين

كتاب صلاة العيدين مسألةُ: قالَ: ومن وجَبَ عليه حضور الجمعة وجب ليه حضور العيدين. وهذا كما قال العيد في اللغة: لما اعتاد، أو عاد إليك، والأضحى: جمع أضحاة فقولنا: يوم الأضحى، أي: يوم الأضاحي والضحايا. والأصل في العيد: الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {فَصَلِّ لِرِبِّكَ َواُنْحَرْ} " الكوثر: 2" ولا نحر بعد الصلاة إلا صلاة العيد. وأما السنة: فما روى أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: قدم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: "ما هذا اليومان؟ " فقالوا: كنا نلعب فيهما في الجاهلية فقال: "إن الله تعالى قد أبدلكم بهما خيرا منهما يوم الأضحى ويوم الفطر". وأما الإجماع: فلا خلاف بين المسلمين فيه. وعيد الفطر: هو أول يوم من شوال، وعيد الأضحى هو اليوم العاشر من ذي الحجة، وجاء في الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه " يوم الحج الأكبر"، وروي أن أول "199 أ/3" عيد صلى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العيد يوم الفطر في السنة الثانية من الهجرة، وفيها فرضت زكاة الفطر وسمي عيدا، لأنه يعود كل سنة، وقيل: إن السرور يعود فيه إليهم. ويستحب لهم أن يقوم ليله كل واحد من العيدين. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " من قام ليلتي العيد إيمانا واحتسابا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب"، وهذا هو أعظم الفضائل، كقوله تعالى في الشهادة: {ومَن يَكْتُمْهَا فَإنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} " البقرة: 283" وهذا أشد الوعيد. فإذا تقرر هذا فالمذهب أن صلاة العيدين نافلة؛ وهي: سنة مؤكدة، وبه قال مالك لأن الشافعي قال: والتطوع وجهان نذكر في جملته صلاة العيدين، وقال في البويطي: صلاة العيد سنة لأهل الآفاق للرجال في المصلى وللنساء والعبيد والإماء في منازلهم، وأراد بما نقل المنزل من وجب عليه حضور الجمعة حتما وجب عليه حضور العيدين اختيارا وقصد الشافعي له أن حكم العيدين إنما يتوجه قصدا على من يخاطب بالجمعة. فأما النساء والصبيان والعبيد فل يتوجه عليهم "199 ب/3" بل هم تبع.

وقال الإصطخري: صلاة العيد فرض على الكفاية؛ لأن الشافعي قال: وجب عليه حضور العيدين فتقديره من وجب عليه حضور الجمعة عينا وجب عليه حضور العيدين كفاية، وبه قال أحمد وهذا غلط لما ذكرنا. وروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما عرض الأعرابي الصلوات الخمس قال: هل علي غيرها؟ فقال: "لا إلا أن تتطوع"، وقيل: ما نقله المزني بهذا اللفظ لا يحفظ للشافعي في كتاب؛ ولأنها صلاة مؤقتة لم يشرع لها الإقامة فلا تجب كصلاة الاستسقاء، وقال أبو حنيفة في رواية: صلاة العيد واجبة وليست فرضا. فإذا تقرر هذا لو اتفق أهل بلد على تركها يقاتلون على قول الإصطخري، وعلى المذهب فيه وجهان: أحدهما: لا يقاتلون لأنهم تركوا نافلة كالوتر وركعتي الفجر. والثاني: يقاتلون لأنها من شعار الإسلام، وفي تركها تهاون بالدين وإخفاء الشعار بخلاف الوتر، فإنه لا يحصل بتركه التهاون في الدين وهذا أظهر وأوضح عندي، فإن قيل: فهذا يدل على أنه يأثم بتركها ويقضي، وهو قول الإصطخري، قلنا: يفضي بالتهاون "200 أ/3" بشعار الإسلام، ومثله يقول في ترك الأذان، وإن لم يكن واجبا فإن قيل: ما يقولون لو اتفق أهل بلد بأسرهم على ترك الوتر وركعتي الفجر؟ قلنا: ذاك يصلونه في منازلهم فلا يتوصل إلى اتفاق الكل على تركه، وإن علم ذلك منهم لا يقاتلون أيضا، لأنهم لم يندبوا إلى الجهات، فقلنا: بالإجماع لها فلم يكن في تركه تهاون بالدين. مسألةْ: قال: وأحب الغسل بعد الفجر للغدو إلى المصلى. وهذا كما قال. الغسل للخروج إلى العيد مستحب والمعنى فيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث سن الغسل في يوم الجمعة شبهه بالعيد، فقال: "إن هذا يوم جعله الله عيدا للمسلمين فاغتسلوا"، وروي عن علي رضي الله عنه أنه " كان يغتسل في الفطر والأضحى"، وروي نحوه عن ابن عمر رضي الله عنه ولأنه يوم سن فيه اجتماع الكافة للصلاة فاستحب فيه الغسل كالجمعة، وقد ذكرنا قولين في وقته. وقال القفال فيه وجهان: والنص هاهنا يدل على أنه بعد الفجر وفي هذه نظر، لأن القولين "200 ب/3" منصوصان على ما تقدم بيانه، والنص يدل على وقت الاستحباب والخلاف في وقت الجواز، وقال أحمد: لا يجوز إلا بعد الفجر. فرع إذا قلنا: إنه يجوز قبل الفجر، قال القاضي الطبري: يجوز في جميع الليل كما يقول في أذان الصبح: ولا يجوز قبله، ويحتمل أن يجوز في جميع الليل، ويفرق بينه وبين الأذان بأن النصف الأول وقت مختار لصلاة غيرها، فربما يظن أن الأذان لها وهذا المعنى لا يوجد هاهنا.

مسألة: قال: وأحب إظهار التكبير. الفصل وهكذا كما قال: وجملته أن التكبير مسنون في عيد الفطر، وبه قال مالك وأحمد وروي عن ابن عمر رضي الله عنه وروي لعلي بن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنه قال: يكبر يوم الأضحى في ذهابه إلى المصلى، ولا يكبر يوم الفطر، وبه قال ابن عباس رضي الله عنه وروي عن أبي حنيفة مثل قولنا، واحتج من نصر القول بما روى سعيد بن جبير أن ابن عباس رضي الله عنه سمع التكبير يوم الفطر فقال "201 أ/3" ما شأن النس؟ فقلت: يكبرون، فقال: أمجانين الناس. وروي أنه سئل عن رجل كبر يوم الفطر، فقال ابن عباس: كبر إمامه فقيل: لا قال: ذاك رجل أجمق. وقال النخعي: التكبير يوم العيد عمل الحركة وهذا غلط لقوله تعالى: {ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ ولِتُكبرّوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} "الحج: 37" قال الشافعي في " الأم": سمعت من ارتضى من أهل العلم بالقرآن يقول: ولتكملوا عدة صوم رمضان ولتكبروا الله عند إكماله على ما هداكم، وروى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: " كان يخرج يوم الفطر والأضحى رافعا صوته بالتكبير". وأما قول ابن عباس يعارضه فعل علي وابن عمر، وأبي أمامة رضي الله عنه أنهم "كانوا يكبرون"؛ ولأن ابن عباس كان يقول يكبرون مع إمامهم ولا يكبرون منفردين" وهذا خلاف أصلكم. وقال داود: التكبير يوم الفطر واجب لظاهر الآية، وهذا غلط لأنه ليس بأمر بل هو إخبار عن إرادة الله تعالى لقوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ ولا يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ ولِتُكبرّوا اللَّهَ} " البقرة: 185" "201 ب/3" ولأنه تكبير شرع في يوم العيد فلا يجب كالتكبير في عيد الأضحى، واختلف قول الشافعي أي العيدين آكد في التكبير، فقال: في القديم ليلة النحر هي أوكد لإجماع الناس عليها من السلف. وقال في " الجديد": ليلة الفطر أوكد لورود النص الذي ذكرنا فيها فإذا تقرر هذا فالكلام الآن في وقته وصفته. فأما وقته: فأوله بعد غروب الشمس من ليلة الفطر، وبه قال سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وزيد بن أسلم، واختلفت ألفاظ الشافعي في هذا، فقال في " الأم": إذا رئي هلال شوال أحببت أن يكبر الناس جماعة وفرادى، وقال في البويطي: وتظهر الناس التكبير حين مغيب الشمس من ليلة الفطر، وروى المزني: وأحب إظهار التكبير ليلة الفطر ومعناهما واحد وهو ما ذكرنا. فإن كان في السماء غيم ولم يروا الهلال عدوا رمضان ثلاثين يوما، فإذا غابت

الشمس ليلة الحادي والثلاثين ابتدئوا بالتكبير، وإن كانت السماء مصحية فطلبوا الهلال عشية التاسع والعشرين، فإن رأوا الهلال بعد غروب " 202 أ/3" الشمس كبروا، وإلا لم يكبروا لأن رمضان باق لم ينقص. وقال علي وابن عمر ومالك والأوزاعي والثوري: لا يكبر ليلة الفطر. ولكنه يكبر في يومه وروى هذا عن أحمد، وقال إسحاق وأبو ثور: يكبر إذا غدا إلى المصلى وهذا غلط، لأن الله تعالى قال: {ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ ولِتُكبرّوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} " الحج: 37" ولأنه عيد سن في التكبير في يومه فسن التكبير في ليلته أصله عيد الأضحى. وأما وقت قطع التكبير قال في "الأم": لا يزال وقته قائما حتى يخرج الإمام إلى المصلى، وقال في البويطي: حتى يفتتح الإمام الصلاة. وقال في "القديم": حتى يفرغ الإمام من الصلاة والخطبتين معا هكذا حكاه أبو حامد، وحكى غيره عن "القديم" حتى ينصرف الإمام من الصلاة. واختلف أصحابنا فيه: فمنهم من قال: ثلاثة أقوال: إحداها: إلى خروج الإمام لأنه إذا خرج الإمام يستحب الاشتغال بالصلاة والتأهب لها فيقطع التكبير قبل الابتداء بالصلاة حتى يتأهب لها. والثاني: إلى افتتاح الصلاة وهو اختيار المزني، قال: هذا أقيس، لأن من لم "202 ب/3" يكن في صلاة ولم يحرم إمامه ولم يخطب، أي ولم يشرع في الخطبة فجائز أن يتكلم يعني فإذا جاز أن يتكلم في هذا الوقت فالأولى به أن يكبر، وهذا هو الصحيح عند أصحابنا. والثالث: إلى انصراف الإمام من الصلاة، لأن فيها تكبيرا فإن قيل: فينبغي أن يعتبروا الفراغ من الخطبتين؛ لأن فيهما تكبيرا قلنا؟: تكبير الخطبة هو مسنون للإمام دون السامعين وأما على ما ذكر أبو حامد فوجهان: هذا التكبير هو من شعار الصلاة والخطبة فما دامت الصلاة والخطبة، موجودة لا يقطع التكبير، وهذا القول الثالث إنما يتصور في حق الغائب عن الإما فله التكبير حتى يعلم فراغ الإمام من الخطبتين. فأما من كان حاضرا معه فلا يكبر وهو يخطب، فيكون في حق الحاضر قولان، ومن أصحابنا من قال قول واحد إنه يكبر إلى أن يفتتح الإمام الصلاة وهذ الطريق هي أصح. والألفاظ هي عبارة عن معنى واحد يقوله حتى يخرج الإمام معناه تفتتح الصلاة؛ لأنه يفتتحها عقيب خروجه إذ ليس قبلها خطبة ولا أذان ولا إقامة. وقوله في "القديم": أراد "203 أـ/3" جنس التكبير لأن في الصلاة والخطبتين تكبيرا كثيرا، وإنما قال ذلك لأن الإمام إذا افتتح الصلاة يجب عليهم أن يفتتحوا، ولا يجوز لهم أن يشتغلوا بالتكبير فإذا سلم صعد المنبر للخطبة وعليهم الاستماع فلا يكبرون. وأما الكلام في صفته: فالمستحب أن يجهروا بالتكبير جماعة وفرادى في المسجد

والأسواق، والطرق، والمنازل، ومسافرين ومقيمين، وهذا معنى التكبير المرسل في جميع الأحوال. وروي ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كان يخرج في العيدين مع الفضل بن العباس وعلي وجعفر والحسن والحسين وأسامة بن زيد، وزيد بن حارثة وأيمن ابن أم أيمن رافعا صوته بالتهليل والتكبير" ولأن في ذلك تذكيرا لغيره وإظهار شعار الإسلام. وروى ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كان يكبر يوم الفطر من حين يخرج من بيته حتى يأتي المصلى" وأما التكبير المقيد وهو في إدبار الصلوات. واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: يستحب ذلك عقيب ثلاث صلوات صلاة المغرب، وصلاة العشاء، وصلاة الصبح لأن كل "303 ب/3" عيد سن فيه التكبير المطلق سن فيه المقيد كعيد الأضحى. ومنهم من قال: لا يستحب ذلك ولكنه يكبر عقيب الصلوات وغير عقيبها على السواء ويكون تكبير الإرسال أبدا، لأنه لم يرو في عيد الفطر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه كبر عقيب الصلوات ولو فعله لنقل كما نقل في عيد الأضحى، وهذا ظاهر المذهب، لأن الشافعي لم يذكر ذلك. وقال بعض أصحابنا بخراسان: المنصوص أنه يستحب ذلك كما في عيد الأضحى وأيام التشريق، ومن أصحابنا من قال: لا يستحب ذلك على الخصوص وهذا غريب دائما في أيام التشريق فلا يكبر من حيث السنة إلا خلف الصلوات، فإن كبر فيها تكبيرا مطلقا جاز. فإذا تقرر هذا بين الشافعي رحمه الله: أن ليلة النحر في ذلك مشبهة بليلة الفطر ومقيس عليها لغير الحاج، فقال: وشبه ليلة النحر بها إلا من كان حاجا تذكره التلبية، يعني: أن الحاج لا يقطع التلبية في عامة الأوقات ما لم يفتتح رمي الجمرة يوم النحر، فلما كانت التلبية في هذه الليلة ذكره لم يؤمر بتركها إلى التكبير، ولا كذلك من لم يكن حاجا فكذلك أمر بالتكبير في "204 أ/3 " هذه الليلة ذكره لم يؤمر بتركها إلى الكبير ولا كذلك من لم يكن حاجا، فكذلك أمر بالتكبير في هذه الليلة قياسا على ليلة الفطر لأنها ليلة أحد العيدين. مسألة: قال ويغدون إذا صلوا. وهذا كما قال يستحب التبكير إلى المصل من حين يصلي الصبح، لأن المنتظر للصلاة وهو كالمصلي ويكبر هناك، ولأن في ذلك خلو الطريق والمبادرة إلى أدنى المجالس من الإمام ليسمع الخطبة فكان أولى كما قلنا في الجمعة. الفصل وهذا كما قال. أراد به أنه يخرج بهم إلى أوسع مكان من البلد لأنها صلاة يجتمع

لها أهل البلد والقرى فلا يسعهم الجامع بخلاف الجمعة. وقال في " الأم": إذا كان المسجد يسعهم فصلاة العيد فيه أفضل من الصلاة في الصحراء، وإن كان ضيفا لا يسعهم فالصلاة في الصحراء أفضل، وعلى هذا المعنى، قال الشافعي في التكبير: لا يقام العيد في البلدان في المساجد، بل يخرجونإلى الجبان إلا بمكة فإنهم يصلون في المسجد، ولا أراهم يفعلون ذلك إلا لعظم المسجد، وقال بعض أصحابنا: "204 ب/3" في علته في مسجد مكة أنهم يستقبلون عين الكعبة حقيقة ولا يكون هذا في موضع آخر، وإن كان المسجد كبيرا مسجد مكة وبيت المقدس صلوا فيه، وهذا لأن المسجد هو أشرف البقاع وأفضلها وألطفها. وجملته: انه يجوز في الصحراء والمسجد بكل حال، والمسجد أفضل عند الاتساع وعند العذر من مطر أو غيره؛ لما روي أبو هريرة رضي الله عنه قال: أصابنا مطر فصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة العيد بالناس في المسجد، ولأن الناس يقلون في يوم المطر فلا يضيق المسجد عنهم، وإنما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج إلى الصحراء عند الصحو لضيق مسجده، فإن خالف في هذه الحالة وخرج إلى الصحراء وصلى الناس، قال: "لم أكره ذلك ولا بأس". وإن ضاق المسجد عن الناس فالأفضل الخروج إلى الصحراء، فإن خالف صلى في المسجد يكره ذلك، وإنما قال: يكره هاهنا ولم يقل: هناك يكره، لأن في هذا مخالفة السنة ولم يخالف السنة هناك، ثم إن كان الصحار قريبا لا يلحق الضعيف مشقة في حضوره فالأمر على ما ذكرنا، وإن كان الصحراء بعيدا استخلف من يصلي "205 أ/3" بضعفة الناس في المسجد، وفي المطر إذا ضاق المسجد على الناس صلى الإمام في المسجد الأعظم بمن يطيق الحضور معه، واسخلف من يصلي بباقي الناس في موضع آخر يكون أرفق بهم. ومن أصحابنا من قال: الأفضل الخروج إلى الصحراء عند الإمكان بكل حال، لأن فيه إظهار العيد الذي هو شعار الإسلام والسنة وهذا خلاف النص، ويستحب أن يمشي إلى صلاة العيدين ولا يركب إلا أن يضعف عن المشي سواء كان رجلا أو امرأة، ولو ركب من غير ضعف فلا بأس، ويكون سيره وصفة مشيه على ما ذكرنا في الجمعة. وأما إذا انصرف فهو بالخيار إن شاء ركب، وإن شاء مشى، لأن انصرافه ليس بطاعة خلاف الخروج إلا أن يتأذى الناس بركوبه فيكره لأجل الأذى بالناس. وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان لا يركب في أربعة مواطن: " العيدين والاستسقاء والجنازة وعيادة المريض". وقال أصحابنا: لو كان البلد ثغرا لأهل الجهاد يقرب من العدو فركوبهم وإظهار سلاحهم وزيهم في العيد أولى لما فيه من إعزاز الدين وتحصين "205 ب/3" المسلمين.

مسألة: قال: ويلبس عمامته. وهذا كما قال المستحب للإمام ولسائر الناس أن يلبسوا للعيد أحسن ما يجدون ويتنظفوا يتطيبوا، كما ذكرنا في الجمعة ويتعمموا وهذا الإمام هو آكد استحبابا. وقال في " الأم": أحب العمامة في الحر والبرد وفي جميع محافل الناس، لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قال: "أيعجز أحدكم أن يتخذ لعيده جمعته ثوبين سوى ثوبي مهنته"، وأراد بالثوبين الإزار والرداء، وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يلبس برد حبرة ويقيم في كل عيد، وقال الحسن بن علي رضي الله عنهما: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نتطيب بأجود ما نجد في العيد". مسألة: قال: وأحب أن يكون خروج الإمام في الوقت الذي يوافي فيه الصلاة. وهذا كما قال: أول وقت صلاة العيدين حين تبرز الشمس، أي تظهر ويزول عنها التغير بأن ترتفع قليلا قيد رمح ولا يزال وقتها قائما ما لم تزل الشس، فإذا زالت خرج وقتها ويكون قد دخل وقت الظهر، فتكون هذه المدة ميقاتها؛ لأنه لا يخرج وقت صلاة حتى يدخل "206 أ/3" وقت أخرى. والمستحب للإمام أن يؤاخي المصلى في هذا القت الذي يستحب فيه أداؤها حتى يحرم بالصلاة حتى يوافيه، فإن شاء قعد في بيته حتى يعلم أنه إذا خرج إلى المصلى وافاه في هذا الوقت، وإن شاء ضربت له خيمة في المصلى ليبكر إليها، ثم إذا كان أول وقت الصلاة خرج إليها، لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يخرج بالمدينة يوم العيد إلى المصلى للوقت الذي يبتدئ بالصلاة، ولأن الإمام هو المتبوع فالمستحب أن ينتظره الناس لا أن ينتظرهم هو، وهذا في عيد الأضحى، فأما في عيد الفطر قال الشافعي: يؤخر الخروج إلى الصلاة عن ذلك قليلا، وهذا لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى عمرو بن حزم أن عجل الأضحى وأخر الفطر، وذكر الناس سريد به الخطبة في العيدين ورأيت خبرا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه: " كان يصلي في عيد الفطر لقيد رمحين، وفي عيد الأضحى لقيد رمح، والمعنى الفارق في ذلك هو أن الاشتغال في عيد الأضحى بالذبح والتصدق والتناول يكون بعد "206 ب/3" الصلاة، وفي عيد الفطر يؤدون زكاة الفطر قبل الصلاة، كما قال عليه الصلاة والسلام: أغنوهم

عن الطلب في هذا اليوم" فيؤخر في الفطر ليتسع الوقت لإخراج زكاة الفطر، ويعجل في الأضحى ليصل إليهم لحم القربان سريعا. مسألة: قال: ويطعم يوم الفطر قبل الغد. الفصل وهذا كما قال. المستحب أن يأكل الناس قبل الخروج إلى الصلاة يوم الفطر ولا يأكلون في الأضحى إلا بعد الصلاة، ثم إن شاء أكل في بيته، وإن شاء في طريقه، فإن ترك الأكل في الفطر قبل الصلاة وأكل في الأضحى قبل الصلاة يكره له ذلك، وهذا لما ورى الشافعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان يطعم يوم الفطر قبل الغدو"، وروي أنه " كان يطعم قبل الخروج إلى الصلاة في يوم الفطر ولا يطعم في عيد الأضحى حتى يعود فيأكل من أضحيته". وقال ابن المسيب: كان المسلمون يأكلون يوم الفطر قبل الصلاة ولا يفعلون ذلك يوم النحر، والمعنى في ذلك أنه يطعم الناس في الفطر قبل الصلاة بأداء زكاة الفطر، فاستحب أن يطعم هو أيضا، وفي الأضحى: يؤخر الإطعام "207 أ/3" إلى ما بعد الصلاة، فيستحب أن لا يطعم هو أيضا، وأيضا فإن الفطر واجب في هذا اليوم وكان الصوم واجب قبلهفاستحب المبادرة إلى الأكل فيه ليتميز عما قبله، وفي يوم النحر: لم يتقدمه صوم واجب، فاستحب له الانتقال في هذا اليوم ليتميز يوم الفطر عنه، ثم المستحب أن يأكل التمر وترا، لما روي أنس رضي الله عنه قال: "قلما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج يوم الفطر حتى يأكل تميرات ثلاثا أو خمسا أو سبعا وأقل من ذلك وأكثر"، وهذا يدل على استحباب التمر وأن يكون وترا. وقال جابر بن سمرة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا كان يوم الفطر أكل قبل أن يخرج سبع تمرات أو سبع زبيبات، وإذا كان يوم الأضحى لم يطعم شيئا". فإذا تقرر هذا، فقد روي في "المختصر": بعد هذا أثرا عن ابن عمر رضي الله عنه في استحباب إظهار التكبير يوم الفطر عند الغدو إلى المصلى إلى أن يخرج الإمام وقوله: " ويكبر بالمصلى حتى إذا جلس الإمام ترك التكبير" وأراد بجلوس الإمام فراغه من الصلاة وجلوسه على المنبر للاستراحة، وقيل: أراد بالجلوس "207 ب/3" السكون في مقام الصلاة، وقد مضت المسألة قبل هذا وهناك موضع رواية هذا الأثر، ثم أعاد المزني ها هنا ما ذكرنا

من استئناس الشافعي ببعض فقهاء التابعين. فقال: وعن عروة وأبي سلمة أنهما كانا يجهران بالتكبير حين يغدوان إلى المصلى، ولا فائدة في إعادة هذا الكلام ها هنا، إلا أنه إنما تكلم هناك في التكبير في ليلة الفطر، وهاهنا يتكلم في العدد يوم الفطر وما يستحب له فيه، ثم قال: وأحب أن يلبس أحسن ما يجد، يعني: من الثياب التي يجوز لبسها للرجال على ما ذكرنا وقد مضى ذلك. مسألةٌ: قالَ: فإذا بَلَغَ الإمام المصلَّى نُودِي: الصلاة جامعة. وهذا كما قال: لا يستحب لصلاة العيد أذان ولا إقامة، فإن أذن وأقام يكره له ولا إعادة عليه. وقال الزهري: ما كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر، وعمر، وعثمان رضي الله عنهم لصلاة العيدين أذان حتى أحدثه معاوية بالشام. وأحدثه الحجاج حين ولي الإمامة بالمدينة، ثم ترك عليهما. وقال ابن سيرين: أول من أحدثه بنو أمية والحجاج، وقال أبو قلابة: أول من أحدثه ابن الزبير، وقال سعيد بن المسيب: أول من أحدثه معاوية وكيف ما هو "208 أ/3" فإنه بدعة، ولأن الإذان والإقامة من شعائر الفرائض المؤقتة في اليوم والليلة، وهذه ليست منها. فإذا تقرر هذا، فالمستحب أن يقول المؤذن: الصلاة جامعة، أي: عليكم الصلاة التي تجمعكم فقوموا إليها. قال في "الأم": ويستحب أن يتوقى قوله: حي على الصلاة لأنه من ألفاظ الصلاة، فإن قال: هلم إلى الصلاة لا أكرهه، لأنه ليس من ألفاظ الأذان فكان كقوله: الصلاة جامعة، وهذا لأنه لما كان الأذان مكروها يستحب أن يتوقى عن جميع كلماته، ولو قال: حي على الصلاة فلا بأس به، وإن كان المستحب غيره، وأراد أنه لا يكره ذلك، وإنما استحببنا ما ذكرنا لما روى الزهري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان: "يأمر مناديه يوم العيد بذلك"، ولأن من سننها اجتماع الناس فليس هذا الذكر ليجتمعوا عند سماعه كما يسن الأذان. مسألةٌ: قالَ: ثُّمَّ يُحرِمُ بالتكبِيرِ فيرفعُ يَديهِ. الفصل وهذا كما قال: إذا نودي بالصلاة فأول شيء يعمله الإمام الإحرام بالصلاة بالتكبير لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تحريمها التكبير"، ويرفع يديه حذو منكبيه، ثم يأتي بدعاء الاستفتاح كما في المكتوبة ولا يتعوذ، ثم يكبر سوى تكبيرة الافتتاح "208 ب/3" والركوع سبع مرات يرفع يديه حذو منكبيه كلما كبر، وفي الركعة الثانية فيكون قدر الزيادة على التكبيرات الراتبة اثنتي عشرة تكبيرة سبعا في الأول، وخمسا في الثانية، وبه قال أبو بكر وعمر

وعلي وابن عمر وزيد بن ثابت وأبو هريرة، وعائشة وابن عباس وأبو سعيد الخدري وعمار بن ياسر والأوزاعي وأحمد وإسحاق رحمهم الله. وقال أبو حنيفة والثوري: يكبر في الأولى ثلاثا سوى تكبيرة الإحرام والركوع، وفي الثانية ثلاثا سوى تكبيرة الركوع، لأن عنده أن يوالي بين القراءتين، ومعنى الموالاة بين القراءتين أنه يكبر التكبيرات في الركعة الأولى قبل القراءة، وفي الركعة الثانية: بعد القراءة وعندنا القراءة بعد التكبيرات في الركعتين جميعا. وروي هذا عن ابن مسعود وأبي موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فتكون التكبيرات الزوائد ستة، ثلاثة في الأولى وثلاثة في الثانية، وروي عن أحمد رواية يوالي بين القراءتين. وقال مالك: مثل قولنا إلا أنه قال: سبع تكبيرات في الأولى مع تكبيرة الإفتتاح فالتكبيرات الزوائد إحدى عشرة، ستة في الأولى وخمس "209 أ/3" في الثانية، وبه قال أبو ثور والمزني، وروى هذا عن أحمد. وقال بعض أصحابنا بخراسان: وهذا قول ابن عباس وعلى هذا فعل أهل الأمصار اليوم اتباعا للعباسية، وكان الحسن يكبر في الأولى خمسا وفي الأخرى ثلاثا سوى تكبيرتي الركوع. واحتج أبو حنيفة: بما روى عن سعيد بن المسيب أنه سأل أبا موسى الأشعري وحذيفة بن اليمان عن التكبير في صلاة العيد كيف كان يكبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال أبو موسى: كان يكبر أربع تكبيرات، تكبيرة على الجنازة، فقال لحذيفة: صدق ثم قال أبو موسى: وهكذا كنت أكبر بالبصرة حين كنت واليا عليها، وهذا غلط لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يكبر في الفطر والأضحى في الأولى سبع تكبيرات، وفي الثانية خمس تكبيرات". وروى أبو عيسى الترمذي بإسناده عن كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر في العيدين في الأول سبعا قبل القراءة، وفي الآخرة خمسا قبل القراءة". ونحو هذا روى ابن عمر، وعبد الله بن عمرو، وعمار روى عن أبي هريرة أنه صلى بالمدينة نحو هذا "209 ب/3"، وهو قول أهل المدينة. وأما خبرهم قلنا: رواية ضعيف ثم إن خبرنا أولي، لأن روايته أكثر وأفضل وأتقن، وروي ذلك قولا وفعلا وهو زائد والزوائد أولى. واحتج مالك: بما روت عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان يكبر في العيد في الأولى سبع تكيرات سوى تكبيرة الركوع" قلنا: روينا أنها قالت: سوى تكبيرة الإفتتاح وتكبيرة الدخول في الركوع، وهذا أبين فيرتفع به الإجمال الذي في خبركم، وروي عن الثوري

ومالك وأبي يوسف، ومحمد أنه لا يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى التي هي الافتتاح، وهذا غلط لما روى ابن عمر رضي الله عنه كبر في الأولى سبعا، وفي الثانية خمسا. ويرفع يديه عند كل تكبيرة في حال الانتصاب فيرفع اليد لها كتكبيرة الافتتاح. فإذا تقرر هذا، وفرغ في الأولى من سبع تكبيرات يتعوذ، ثم يقرأ لتتصل القراءة بالتعوذ وبه قال أحمد ومحمد، وقيل: قال محمد بن الحسن: يأتي بدعاء الاستفتاح بعد التكبيرات مع التعوذ. وقال أبو يوسف: يتعوذ عقب دعاء الاستفتاح ثم بعد التكبيرات يقرأ الفاتحة، ولا نص فيه لأبي حنيفة، وقد قيل: مذهبه مذهب أبي "210 أ/3" يوسف وهذا غلط لما ورى أبو سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان يتعوذ قبل القراءة"؛ ولأن التعوذ تابع للقراءة فلا يفصل بينهما كما في سائر الصلوات. مسألةٌ: قالَ: ويقِفُ بينَ كل ِّ تكبيرتَينِ بقدرِ قراءةِ آيةٍ لا طويلةٍ ولا قصيرةٍ. وهذا كما قال. يستحب أن يأتي بهذه التكبيرات فيها مفرقا ويقف بين كل تكبيرتين بقدر آية لا طويلة ولا قصيرة، يهلل الله ويكبره ويحمده ويمجده. والتمجيد هو التعظيم مثل قوله: مالك يوم الدين، ولا إله إلا الله. والمراد به: أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله، والله أكبر، فإن زاد على هذا جاز، ولا يقول هذا بين تكبيرة الإحرام والتي تليها، لأنه يكفيه فيما بينهما دعاء الافتتاح، ولو اتبع بعض التكبير بعضا، ولم يفصل بينه بذكر. قال الشافعي: كرهت له ذلك ولا إعادة ولا سجود السهو. وقال أبو حنيفة: يأتي بالتكبيرات متواليات، وقال مالك: يقف بين كل تكبيرتين، إلا أنه لا يأتي بذكر بينهما وهذا غلط لما روي أن ابن مسعود رضي الله عنه صلى صلاة العيد وكان يقف بين كل تكبيرتين يهلل ويكبر ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - "210 ب/3" وسأل الوليد بن عقبة عبد الله بن مسعود عن هذا، فقال: يقول: الله أكبر ويحمد الله ويثني عليه ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم -. ومن أصحابنا من قال: عادة الناس قولهم: الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا، وصلى الله على محمد وسلم تسليما وهذا حسن، ومنهم من قال: يقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، بيده الخير وهو على كل شيء قدير، قالوا: لو كان هذا مسنونا لنقل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كما نقل التكبيرات. قلنا: الظاهر أن ابن مسعود ذكره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأن هذا يخفى ولا يظهر بخلاف التكبيرات، ولأنها تكبيرات متكررة في حال القيام فاستحب أن يتخللها الذكر

كتكبيرات الجنازة، ثم إذا فرع من التكبيرات يقرأ بأم القرآن كما قلنا في سائر الصلوات، ثم يقرأ سورة {ق والْقُرْآنِ المَجِيدِ}، وفي الثانية {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} بعد أم القرآن، وعند أبي حنيفة يكره تعيين سورة لبعض الصلوات وليس بعض السور بأولى من بعض، وقال مالك وأحمد: يقرأ بسبح، وهل أتاك. واحتجا بما روى النعمان "211 أ/3" بن بشر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بسبح اسم ربك الأعلى، وهل أتاك حديث الغاشية، وهذا غلط لما روى الشافعي بإسناده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه سأل: أبا واقد الليثي ما كان يقرأ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأضحى والفطر؟ فقال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ بقاف والقرآن المجيد، واقتربت الساعة". وأما خبرهم: على الجوزا وخبرنا على الاستحباب، لأنه إخبار عن دوام فعله ولأن في هاتين السورتين ذكر الساعة، وصفتها، ويوم العيد يشبه يوم القيامة لاجتماع الناس في صعيد واحد، فاستحب قراءة هاتين السورتين فيها. قال الشافعي: وأحب أن يقرأ في الاستسقاء: {إنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا} "نوح: 1" أحببت ذلك، والسنة الخبر فيها بالقراءة في صلاة العيدين والاستسقاء لأن أبا واقد الليثي وصف قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإنما عرف ذلك بجهره. فرع لو نسي التكبيرات حتى افتتح القراءة ففيه قولان: أحدهما: قاله في "القديم": يستحب له العود إلى التكبيرات، لأن محلها القيام وهو في القيام "211 ب/3"، فإذا قلنا بهذا فإن ذكر في خلال القراءة قطعها، وعاد إلى التكبيرات، فإذا فرغ منها استأنف القراءة؛ لأنه تعمد قطعها بغيرها، وإن ذكرها بعد الفراغ من القراءة عاد إلى التكبيرات، فإذا فرغ منها استحب أن يعيد القراءة، فإن لم يفعل أجزأه، لأن جميع القيام هو محل للقراءة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يعيد القراءة؟ جهان: وليس بشيء. والثاني: قاله في " الجديد" إنه لا يعود إلى التكبير، لأن هيئة موضعها قبل القراءة فإذا أخذ في القراءة فاتت، أو ذكر مسنون قبل القراءة فوجب أن يسقط بشروعه في القراءة كدعاء الاستفتاح، فإذا قلنا بهذا فقطع القراءة إلى التكبيرات. قال الشافعي: لا تبطل صلاته لأن ذكر الله تعالى لا يبطل الصلاة وإن تعمد في غير موضعه وإن ذكرها وقد فرغ من القراءة فعاد وكبر.

قال في " الأم": أحبت له أن يعيد القراءة ثانيا فإن لم يفعل لم يجب وإن لم يقطعها ومضى في القراءة وركع وسجد، فإذا قام إلى الثانية لا يكبر إلا خمسا بلا خلاف؛ لأنه لا يجوز أن يترك سنة التكبيرات في الركعة الثانية لأجل تركه إياها في الركعة الأولى، فيكون "212 أ/3" قد ترك السنة في الركعتين، وهذا كما لو ترك الرمل في الطواف في الثلاث لم يقض في الأربع. وقال أبو حنيفة: يأتي بالتكبيرات، وإن كان قد ركع، وبه قال محمد وهذا غلط لما ذكرنا. فَرْعٌ آخرُ لو أدرك المأموم الإمام في صلاة العيد وقد فاته بعض التكبيرات، ففي قوله" القديم" يكبر ما فاته. وبه قال أبو حنيفة ومحمد، وكذلك إذا أدركه وهو يقرأ وعلي قوله الجديد لا يكبر ما فاته، ولو أدركه راكعا يكبر ويركع معه، ولا يقضي التكبير وقلا واحدا، وبه قال أحمد وأبو يوسف، وقال أبو حنيفة ومحمد: يكبر في الركوع تكبير العيد، وهذا غلط لما ذكرنا. فرع لو أدرك في الركعة الثانية كبر معه خمس تكبيرات، ثم إذا قام للقضاء كبر في الركعة الثانية خمس تكبيرات؛ لأن ما أرك من صلاة الإمام فهو أول صلاته عندنا والإمام يتحمل عنه الزيادة التي عليه من التكبيرات. فَرْعٌ آخرُ قال: لو ترك التكبيرات فيها عامدا أو ناسيا لم يكن عليه سجود السهو ولو زاد على ذلك كرهته، ولا إعادة عليه ولا سجود للسهو عليه. فرع قال: لو استيقن أنه يكبر في الأولى أنه يكبر في الأولى سبعا أو أكثر أو أقل "212 ب/3" وشك هل نوى بواحدة منهن تكبيرة الافتتاح لم تجزه صلاته؛ لأنه لم يتيقن دخوله في الصلا فيلزمه أن يكبر تكبيرة الافتتاح ويكون ذلك ابتداء الصلاة ويأتي بما بعدها على الترتيب. فَرْعٌ آخرُ قال: لو استيقن أنه كبر سبعا أو أكثر أو أقل وتيقن أنه نوى بواحدة منها تكبيرة الافتتاح ولا يدر هلى نوى بالتكبيرة الأولى أم بالأخيرة؟ بالاحتياط أن يجعلها للأخيرة، ويبتدئ بقوله: وجهت وجهي، ثم يأتي بعده على الترتيب. فرع قال: لو شك بعد تكبيرة الافتتاح هل كبر واحدة أم أكثر أخذنا بالأقل لأنه اليقين،

وما زاد عليه شك. فَرْعٌ آخرُ قال: لو كبر لافتتاح الصلاة وترك دعاء الاستفتاح حتى كبر للعيد، ثم ذك لم يكن عليه أن يدعو بدعاء الاستفتاح، فإن فعل أحببت أن يعيد التكبير سبعا حتى تكون كل واحدة منهن بعد دعاء الاستفتاح، فإن لم يفعل فلا إعادة ولا سجود للسهو. فَرْعٌ آخرُ قال: ولا قنوت في صلاة العيدين والاستسقاء، فإن قنت عند نازلة لم أكرهه وإن قنت لغير نازلة كرهته، وأحببت له أن يسجد للسهو. فإذا تقرر هذا، قال الشافعي: هاهنا فإذا قام إلى الثانية "213 أ/3"كبر خمس تكبيرات سوى تكبيرة القيام من الجلوس، وهذا يدل على أنه يستحب أن يرفع رأسه من الجود ساكنا ويجلس جلسة الاستراحة، ثم يبتدئ بالتكبير والقيام لأنه قال: تكبيرة القيام من الجلوس، ولم يقل: من السجود، ود ذكرنا شرحه فيما سبق، ثم قال: ولا يقرأ من خلفه قد ذكرنا أنه أحد القولين. مسألة: قال: ثم يخطب. الفصل وهذا كما قال: أراد أنه يخطب بعد الصلاة، ويستحب أن يكون على المنبر. وجملة الخطب عشر: خطبة الجمعة، وخطبة الفطر، وخطبة الأضحى، وخطبة كسوف الشمس، وخطبة خسوف القمر، وخطبة الاستسقاء، وأربع خطب في الحج: إحداها: اليوم السابع بمكة، واليوم التاسع بعرفة، ويوم النحر بعد الزوال بمنى، ويوم النفر الأول بمنى. وكل هذه بعد الصلاة إلا خطبتين خطبة الجمعة، وخطبة عرفة فإنهما معا قبل الصلاة، وهذا إجماع المسلمين، وروي ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر، وعمر، وعثمان كانوا يصلون في العيدين قبل الخطبة، فإن قيل: فما الفرق بين الجمعة والعيد في هذا الباب من طريق المعنى؟ قلنا: "213 ب/3" الجمعة فرض والعيد نفل، فخولف بين خطبتيهما ولا يلزم على هذا خطبة عرفة؛ لأنها ليست للصلاة، بل هي للوقت، وأيضا خطبة الجمعة شرط في الصلاة، فلهذا قدمت لتكمل شرائط الصلاة بخلاف خطبة العيد، ولأن وقت الجمعة يضيق فقدمت الخطبة عليها لتتكامل الناس للصلاة، وخطبة عرفة قدمت ليتعلم الناس مناسكهم وصلاتهم وما يفعلونه في حجهم وعمرتهم، ويشتغلوا عقيب صلاتهم بالدعاء، وهذا المعنى لا يوجد في خطبة العيد، وروي أن الأمر كان على هذا حتى آلى الأمر إلى مروان فقدم الخطبة على الصلاة، إذ الناس كانوا يبغضونه فيتفرقون بعد الصلاة ولا يجلسون لخطبته، فأخذ

أبو سعيد الخدري في بعض الأعياد بردائه حين أراد صعود المنبر وجذبه. وقال: غيرت السنة يا رجل خل عني فقد ذهب ما تعلم، فقال أبو سعيد: ما أعلم خير مما تعلم كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي قبل الخطبة. فرع لو بدأ بالخطبة قبل الصلاة، قال في "الأم": رأيت أن يعيد الخطبة بعد الصلاة فإن لم يفعل لم يكن عليه إعادة صلاة ولا كفارة كما لو صلى ولم يخطب. مسألة: قال: فإذا ظهر على المنبر سلم ويرد الناس "214 أ/3" عليه. جواب السلام لقوله تعالى: {وإذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} " النساء: 86" واحتج الشافعي على أبي حنيفة حيث قال: لا تسلم، فإن قال: لأن هذا يروي عاليا، يعني: التسليم يروي عاليا قيل: أراد بإسناد عال. وقيل أراد به الجهر أي عاليا صوته بالتسليم، وقيل: أراد به سلم عاليا على المنبر في حال علوه، وقيل: أراد أن هذا مروي عن السلف، والعالي هو عبارة عن مقدم السلف، وقيل: أراد أنه يروي عن أعالي الصحابة أي كبارهم، ثم إذا فرغ من السلام هل يجلس قبل الخطبة أم لا؟ قال في "الأم": يجلس جلسة كجلوس الإمام يوم الجمعة للأذان، ثم يقوم ويخطب، وقال أبو إسحاق: لا يجلس ها هنا ويفارق الجمعة؛ لأنه ينتظر الأذان هناك وليس هاهنا أذان، وهذا غلط، لأن الجلوس في الجمعة لمعنيين أذان المؤذن والاستراحة حتى يكون أقدر على الخطبة، وقد وجد هنا أحد المعنيين، وهو الاستراحة فاستحب له الجلوس. وحكى بعض أصحابنا بخراسان عن الشافعي أنه قال في "الكبير": يجلس على "214 ب/3" المنبر هاهنا قدر ما يؤذن المؤذن يوم الجمعة، وهذا غلط، بل هو على ما ذكرنا من العبارة، ثم يقوم ويخطب قائما، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قام في جميع خطبته إلا أن تكون به علة فخطب جالسا، فإن خطب جالسا عن عذر جاز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - " خطب على راحلته بعدما انصرف من الصلاة يوم الفطر ويوم النحر"، وذكر الإمام الجويني في "المنهاج": أنه لا يجوز أن يخطب جالسا، وهذا غلط، لأنها نفل كنفس صلاة العيد فيجوز جالسا، ثم إذا قام يخطب كبر قبل الخطبة تسع تكبيرات تسعا تترى لا كلام بينهن، وفي الخطبة الثانية يبتدئ بسبع تكبيرات تترى لا يفصل بينهن بكلام، فإن أدخل بين التكبير الحمد والثناء والتهليل كان حسنا، ولا يكون حسنا وتركه مستحبا، وكان عمر بن عبد العزيز يفصل بين التكبيرات بحمد الله تعالى، وذكره وهذا التكبير ليس من الخطبة، والخطبة بعده، لأن الشافعي قال: ويكبر، ثم يخطب ويأتي بالخطبة

كما ذكرنا في الجمعة. وقد قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة: السنة في التكبير يوم الأضحى والفطر أن يبتدئ الإمام قبل الخطبة وهو قائم على المنبر بتسع تكبيرات تترى "215 أ/3" لا يفصل بينهما بخطبة، ثم يخطب ثم يجلس ثم يقوم إلى الخطبة الثانية فيفتتحها بسبع تكبيرات تترى لا يفصل بينهما بكلام ثم يخطب ويعتمد على شيء وينصتون على ما ذكرنا، ثمذكر ما تختص به هذه الخطبة فقال: إذا كان يوم الفطر، ذكر زكاة الفطر، وحث عليها وحث على إخراجها وعرفهم وجوبها ومقداهرا وجنسها ومستحقها. وإن كان في الأضحى: عرفهم سنة الأضحية ووقتها وصفتها، وأن البقرة والبدنة يجزيان عن سبعة، والعيوب التي تمنع الجواز وعرفهم ما يأكلون وما يطعمون الناس، فإا فرغ من الخطبة، فإن كانت بالناس قلة، وقد سمعوا الخطبة انصرف إلى بيته، وإن كانت بهم كثرة وهناك نساء لم يسمعن الخطبة، قال الشافعي: لم أر بأسا أن يأتيهم فيخطب خطبة خفيفة ولا يجب عليه لأنه لم يرو ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا مرة واحدة، وقد خطب خطبا كثيرةولم يفعل ذلك، فدل أنه قد فعله وتركه، وكان الترك أكثر، وهذا ما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يوم فطر فصلى ركعتين، ولم يصل "215 ب/3" قبلها ولا بعدها، ثم أتى النساء ومعه بلال فأمرهن بالصدقة فجعلت المرأة تلقي خرصها وسخابها"، والخرص: الحلقة، والسخاب: القلادة. وفي رواية جابر بدأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالصلاة قبل الخطبة ثم خطب الناس فلما فرغ نزل، فأتى النساء فذكرهن وهو يتوكأ على يد بلال، وبلال باسط ثوبه والنساء يلقين فيه صدقة تلقي المرأة فتحها، والفتح: هي الخواتيم الكبار واحدتها فتحة، ثم ذكر في "الأم" ما يؤمر به بعد الفراغ من الخطبة فقال: ثم ينزل فينصرف أي ينزل من حيث أراد. فرع قال: ويستحب للمساكين إذا حضروا أن يكفوا عن المسألة ويستمعوا إلى الخطبة حتى يفرغ الإمام، فإن لم يدعوا المسألة كره لهم، لأنهم تركوا الاستماع ومنعوا غيرهم منه؟. مسألة: قال: ولا بأس أن يتنفل المأموم قبل صلاة الإمام العيد وبعدها في بيته وفي المسجد. وهذا كما قال: ذكر الشافعي ما اختلفت فيه الصحابة من التنفل قبل صلاة العيد وبعدها على أربعة أوجه: فمنهم من شك قبلها وبعدها. وروي هذا عن أنس وأبي هريرة وسهل بن "216 أ/3" سعد الساعدي ورافع بن خديج والحسن.

ومنهم من لم يتنفل لا قبلها ولا بعدها، وبه قال الثوري والأوزاعي وأبو حنيفة قالوا: يكره ذلك، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه. ونهم من يتنفل قبلها، ولم يتنفل بعدها، ومنهم من يتنفل بعدها، ولم يتنفل قبلها، واختار الشافعي القول الأول وهو جواز التنفل قبلها وبعدها في بيته، وفي المسجد وفي طريقه وفي المصلى، وحيث أمكنه إذا حلت صلاة النفل بأن تبرز الشم قال الشافعي: وكثرة الصلاة على كل حال هي أحب إلي فاستحب ذلك، لأن فعلها جزء من تركها، لوم يستحب لأجل صلاة العيد وليس لصلاة العيد نافلة لا قبلها ولا بعدها؛ لأنها نافلة بنفسها وليس للنافلة اتباع من النوافل كما يقول في صلاة الخسوف والاستسقاء، ولا يستحب هذا كما يستحب تحية المسجد وصلاة الضحى، لأن المكان ليس بمكان التحية وهو لا يريد به صلاة الضحى. وقوله: كما يصلي قبل الجمعة وبعدها، وهو تشبيه في الجواز لا في الاستحباب واختلاف الصحابة يدل على أن الكل مباح، وأما الإمام فلا يستحب له ذلك، لأن "216 ب/3" المستحب له أن يوافي الصلاة حين تفتتح الصلاة، وإذا فرغ منها بدأ بالخطبة، ثم إذا فرغ منها انصرف وهذا لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - " لم يتنفل قبلها ولا بعدها"، ولأنه لو تنفل ربما يقتدي به الناس، ويعتقدون أن لهذه الصلاة توابع. وروي عن مالك في رواية أنه قال: إذا صلى العيد في المسجد يجوز التنفل، وفي الصحراء لا يتنفل. وروي عن أبي حنيفة أنه قال: يكره قبلها ولا يكره بعدها، لما روي أن عليا رضي الله عنه راى قوما يصلون قبل العيد فقال: ما كان يفعل ذلك على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقيل له: ألا تنهي عن ذلك؟ فقال: "أكره أن ننهي عبدا إذا صلى"، وعن ابن مسعود وحذيفة أنهما كانا ينهيان الناس عن الصلاة قبل العيد" وهذا غلط؛ لأن كل صلاة لا ينهي عن الصلاة بعدها لا ينهي عن الصلاة قبلها كسائر الصلوات، واما آثارهم فمعارضة بما رويناه عن الحابة رضي الله عنهم. فرع قال الشافعي: ونأمر المأموم بالنافلة قبل الجمعة وبعدها، ونأمر الإمام أن يبتدأ بالخطبة ثم "217 أ/3" بالجمعة ولا يتنفل وينصرف حتى تكون نافلته في بيته. فاستحب النافلة قبل الجمعة وبعدها للمأموم دون الإمام. قال القاضي الطبري: هذا عندي محمول على النوافل التي لا تتعلق بصلاة الجمعة؛ لأنه قال في "الأم": وجميع النوافل في البيت أحب إلى منها ظاهرا إلا في يوم الجمعة وهذا هو المذهب. مسألة: قال: ويصلي العجمعةيدين المنفردُ في بيتِه والمسافرُ.

الفصل وهذا كما قال: كل من وجبت عليه صلاة الجمعة فهو من أهل صلاة العيد، قال: ولا أرخص لأحد في ترك حضور العيدين ممن تلزمه الجمعة، وإذا حضر المسافر والعبد والمرأة مع أهل العيد صلوها معهم تبعا كما في الجمعة، ول صلاها الإمام بأهلها هل يصليها من لم يكن من أهل الجمعة أم لا؟ قال في " الأم":، و "الإملاء" يصليها المنفرد في بيته والمسافر والمرأة، وقال في "الإملاء و"القدي": في الصيد والذبائح: كل موضع وجبت فيه الجمعة صلى فيه العيدان، وكل موضع لم تجب فيه الجمعة لم يصل فيه العيدان، وقيل: إنه قال: ويجب إقامة العيد حيث يجب إقامة الجمعة ويسقط حيث يسقط. فاختلف أصحابنا فيه على طريقين فمنهم "217 ب/3" من قال قول واحد: يجوز ذلك للمنفرد والمسافر، وما قال في القديم، أراد أن هذه الصلاة لا تقام في مساجد المحال كسائر الصلوات، أو أراد كل موضع وجبت فيه الجمعة سن فيه الإجتماع للعيدين والخطبة له، وهذا التأيل لا يساعده اللفظ الظاهر ومنهم من قال: وهو الصحيح فيه قولان: أحدهما: أنه لا يجوز إلا أن توجد جميع رائط الجمعة، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد في رواية، لأنها صلاة راتبة يخطب بها كالجمعة، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يصل العيد بمنى كما لم يصل الجمعة، لأنه كان مسافرا. والثاني: وهو الصحيح يجوز للمنفرد وغيره، لأنها صلاة نافلة كسائر النوافل، وأما ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلا شتغالة بما هو أهم منها من أمور المناسك، وليس كالجمعة لأنها فرض بخلاف هذا. وإذا قلنا: بهذا فمن فاته ذلك يصليها منفردا، وإن شاء يصليها في جماعة إلا أنه لا يخطب إذا قام الإمام بالخطبة، ويقيمها أهل القرى وإن كانوا دون الأربعين وكذلك أهل البادية والسفر وخطب لهم أحدهم، وقال في "الأم": لا بأس أن يصلوها في مساجد "218 أ/3" الجماعات في الصر فإذا فعلوا لا أحب أن يخطب لأن فيه افتتانا على الإمام، وإذا قلنا بقوله: لا يصليها المنفرد ولا الجماعة بعدما صلى الإمام، ولا أهل السوق إذا كانوا دون الأربعين ولا يبلغهم النداء. وقال أبو حامد: ولكن ليس من شرطها الأربعون، ولا أن يكون الأربعون لصفة عدد الجمعة فإن كان بعضهم عبيدا أو مسافرين جاز بخلاف الجمعة، ومن أصحابنا من قال: ظاهر كلام الشافعي أنها بمنزلة الجمعة في العدد وصفتهم على هذا القول، ويجوز أن تصلى المرأة والمسافر تبعا مع العدو إذا تم، وهذا اختيار القفال، لأنه على هذا القول، على قياس الجمعة وقد ناقض الشيخ أبو حامد حيث قال عن القديم: لا تقان في القرى إذا كان فيها أقل من أربعين ثم قال: لا يشترط فيها العدد ولا شك أنه

ليس من شرطها الوطن لأنها تقام في الصحراء بخلاف الجمعة. مسألة: قال: وأحب حضور العجائز. الفصل وهذا كما قال: يستحب حضور العجائز من النساء وغيرهن العيد، وقال في "الأم": واحب شهود النساء العجائز، وغير ذوات الهيئة صلاة العيد وغيرها وأنا لشهودهن "218 ب/3" الأعياد أشد استحبابا من شهودهن غيرها من الصلوات المكتوبات. وقال أبو حنيفة: لا يشهدن إلا في صلاة الصبح وصلاة العشاء، وإن حضرت امرأة حائض قال في "الأم": لم تصل ودعت ولا أكره لها ذلك، وأكره لها أن يحضرها غير حائض إلا طاهرة للصلاة، لأنها لا تقدر على الطهارة، وأما النساء اللاتي لهن هيئة وجمال يكره لهن حضور هذه المواضع لخوف الفتنة بهن، وإذا حضر غيرهن فإنهن لا يلبسن الشهرة من الثياب مثل المصبغات والبياض الذي له فعقعة وخشخشة من العال، ولكن تلبس البياض النظيف المغسول ولا يتطيبين ولكن يتنظفن بالماء والأصل في ذلك ما ري عن ابن عباس رضي الله عنه قال: " كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخرج بناته ونساءه إلى العيدين". وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وليشهدن الذكر ودعوة المسلمين وليخرجن تفلات". قيل يا رسول الله إن إحدانا لا جلباب لها، قال: "فتلبسها صاحبتها جلبابها" أي يدخلان معا في جلباب إحداهما، وقالت أم عطيه رضي الله عنها: "أمرنا رسول الله مسلمين وليخرجن تفلات". قيل يا رسول الله إن إحدانا "219 أ/3" في العيدين بإخراج العجائز"، وروي العواتق وهذا أصح وذوات الخدور والحيض، قالت أم عطيه رضي الله عنها: أما الحيض فكن يعتزلن المصلى ويشهدن الذكر ودعوة المسلمين، والعواتق: جمع عاتق وهي التي قاربت الإدراك، وقيل: هي المدركة ولأنه موضع ريبة واجتماع فاستحب إخراجهن لتكثير الجمع. وقال القفال: يكره لهن الخروج إلى مجمع المسلمين، لأن الناس قد تغيروا ويروي مثله عن عبد الله بن المبارك، وسفيان الثوري وقالت عائشة: "لو رأى النبي مسلمين وليخرجن تفلات". قيل يا رسول الله إن إحدانا النساء لمنعهن المسجد كما منعت نساء بني إسرائيل"، وروي أنها كانت تمنع النساء من الخروج إلى المساجد، وقيل لها: أليس كان النبي مسلمين وليخرجن تفلات". قيل يا رسول الله إن إحدانا يرخص في ذلك؟ فقالت: لو

عاش إلى زماننا هذا لنهي عنه، وروي أن النساء كن يحضرن المجلس على عهد أبي بكر رضي الله عنه للصلاة كما كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج عبد الله بن عمرو بن العاص يوما وامرأته بين يديه تمضي إلى المسجد فأراد أن يمتحنها فجر بعض ثيابها فعلمت أن رجلا أخذ ببعض ثيابها فلم تلتفت إليه وانصرفت إلي بيتها، فلما رجع عبد الله إلى بيته قال لها: أحضرت "219 ب/3" المسجد؟ قالت: لا وقد عزمت أن لا أخرج أبدا، قال: وما بالك؟ قالت: أخذ رجل ببعض ثيابس فجره وقد تغير الزمان وتغير الناس، فقال عبد الله: أنا الذي فعلت ذلك، فقالت: الآن وجب علي أن لا أخرج إذا كان لا يتداخلك هذا مني في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا حسن، لكنه خلاف المذهب. فإذا تقرر هذا فيستحب إخراج الصبيان من الذكور والإناث أيضا. ويلبس كلهم في يوم العيد أحسن ما يقدر عليه من الثياب ويزينون بالصبغ والحلي، لأن ذلك يوم سرر وإظهار زينة وذا نص من الشافعي على أنه يباح أن يلبس الصبي حلي الذهب والديباج، وهذا لأنه لا يخاف الافتتان بهم ولا تكليف عليهم: قيل هل يجوز للصبيان لبس الحرير؟ قولان. وقال في "الحاوي": استحب بعض أصحابنا البغداديين حضور النساء الثيبات في العيد لخبر أم عطية وهو غلط، بل خروجهن مكروه لخوف الافتتان وخبر أم عطيه نسخ. مسألة: قال وروى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " كان يغدو من طريق ويرجع من أخرى". وهذا كما قال، روي الشافعي عن المطلب بن عبد الله بن "220 أ/3" حنطب "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجع من المصلى في يوم عيد فلما بلغ مسجد الأعرج الذي عند موضع البركة التي بالسوق قام فاستقبل القبلة، ثم دعا وانصرف". قال الشافعي: فاحب أن يصنع الإمام هذا ويقف في موضع يدعو الله وهو مستقبل القبلة، فإن لم يفعل فلا كفارة ولا إعادة. واختلف أصحابنا في معنى الخروج من طريق والرجوع من طريق أخرى: فمنهم من قال وهو الأصح سلوك: الأبعد ذاهبا والأقرب راجعا، لأنه يمضي في عبادة فيكتب خطاه ويكثر له الثواب ويرجع تاركا للعبادة لا يثاب عليه، وقيل: كان يفعل هذا لتتشرف به البقاع من الجانبين وتعم بركته أهل الطريقيتين، وقيل: كان يفعل هذا لئلا يضيق على الناس، لأنهم كانوا ينتظرون انصرافه في ذلك الطريق ومعه جمع آخر من الناس فتكثر الزحمة. وقد قال ابن عمر رضي الله عنه كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "يفعل ذلك ليتسع على الناس" وقيل: كان يفعل ذلك لتشهد له البقاع، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من مشى في خير أو بر شهدت له البقاع يوم القيامة"، وفيه "220 ب/3" تأويلان:

أحدهما: أن الله تعالى ينطقها فتشهد بذلك، والثاني: أنه تشهد له سكان الأرض والبقاع من الجن والإنس لقوله تعالى: {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ والأَرْضُ} " الدخان: 29" يعني: سكان الأرض، وقيل: كان يفعل ذلك للتسوية بين السؤال في الدين، فسأله أهل هذا الطريق وأهل ذلك الطريق الآخر، وقيل: كان يفنى ما معه من الصدقة ويكره أن يسأل فلا يعطى فيفر منهم إلى الطريق الآخر؛ وقيل: إنما يفعل ذلك لمغايظة المنافقين إذا رأوا زينته وعلامته في كلا الطريقين، وقيل: كان يفعل ذلك مخافة المنافقين كما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - كان إذا أراد سفرا وي بغيره. فإذا تقرر هذا قال أبو إسحاق: إذا عقلنا معنى ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجوعه من طريق أخرى، وكان ذلك متعودا في زماننا مثل شرف البقاع ومغايظة المنافقين فإنه معدوم في زماننا رجع كيف شاء ولا يسن ذلك، وإن كان المعنى موجود في زماننا فالسنة الاقتداء به والإمام والمأموم في هذا سواء. وقال ابن أبي هريرة: بل يرجع من بعده من أمته من طريق أخرى بكل حال كما كان يصنع رسول الله "221 أ/3" - صلى الله عليه وسلم - وهو المنصوص، لأنه إذا فعل شيئا صار شرعا وإن زال المعنى كالدمل والاضطجاع. وقال أبو حنيفة: لا معنى لذلك. مسألة: قال: وإذا كان العذر من مطر أو غيره أمرته أن يصلي في المساجد. لم يرد به أن أهل بلد يتفرقون في مساجدهم، بل أراد أن أهل كل بلد يصلون في مسجدهم الأعظم وفيه قول آخر: يجوز أن يتفرقوا في المساجد، ولكن الأولى أن يصلوا جماعة في مسجد واحد، ثم قال: ولا أرى بأسا أن يأمر الإمام من يصلي بضعفة الناس في موضع من المصر، وأراد بالضعفة: الشيوخ والزمناء والمرضى الذين لا يمكنهم قطع المسافة إلى المصلى، وقد ذكرنا ذلك. مسألة: قال: ومن جاء والإمام يخطب جلس. الفصل وهذا كما قال: يستحب للناس استماع الخطبة، وإذا جاؤوا والإمام يخطب يوم العيد فإن كان في الصحراء يجلس ويسمع الخطبة، لأنه لا تكون ركعتا التحية في الصحراء فإن قيل: هلا قلتم يشتغل بقضاء صلاة العيد؟ قلنا: لأن صلاة العيد لا يخاف فوتها فإن وقتها واسع وسماع الخطبة يفوت، فكان الاشتغال بسماعها أولى "221 ب/3"، ثم إذا فرغ الإمام من الخطبة إن شاء صلى صلاة العيد في مكانه، وإن شاء صلاها في بيته، فإن الصلاة إذا فاتت مع الإمام فليس لبعض المواضع مزية على بعض وإن الإمام يصلي صلاة العيد في الجامع، فجاء رجل وقد فرغ من الصلاة وهو في الخطبة، فالمستحب أن يصلي ركعتين، ويخالف المسجد المصلى في الصحراء، لأن في

المسجد تحية بخلاف الصحراء. فإذا ثبت هذا، قال أبو أسحاق: يصلي صلاة العيد لأنها تتضمن تحية المسجد. فإنه يكون قد أتى بالأمرين، كما لو دخل المسجد وعليه صلاة فائتة يصليها ويجزي ذلك عن تحية المسجد، وكذلك إذا كان الناس في صلاة الفرض يدخل معهم في الفرض ويتضمن ذلك تحية المسجد. وقال ابن أبي هريرة: يصلي تحية المسجد ركعتين، ثم يسمع الخطبة، فإذا فرغ منها قام فصلى ركعتي العيد، لأن الإمام ما دام في الخطبة فكأنه في الصلاة، لأن الخطبة من توابعها فلا يستحب له أن ينفرد بقضاء صلاة العيد، والإمام لم يفرغ بعد منها، ولأن التحية ركعتان خفيفتان وصلاة العيد تطول ويمنعه ذلك من الخطبة، وهذا اختيار أبي حامد وهو الأقرب "222 أ/3" عندي والأول أظهر، وهو اختيار القفال والقاضي الطبري. وذكر القاضي أبو علي البندنيجي عن البويطي أنه قال: يصلي صلاة العيد قبل أن يدنو إلى المصلى، ويكبر في الأولى سبعا، ثم يوافي ليستمع الخطبة. فعلى هذا في المسألة قولان وهذا الذي ذكرنا على القول الذي نقول: إنها ليست كالجمعة، وإنها تقضي خلافا لأبي حنيفة. وقال أبو إسحاق: الأفضل في هذه المسألة الأخيرة أن يصلي في المسجد حيث صلى الإمام، وإن خيرناه في المسألة الأولى بين أن يصلي في بيته أو يصلي في المصلى؛ لأنه ليست الصحراء مزية على بيته والمسجد أفضل البقاع فصلاته فيه أفضل. وأكمل من صلاته في بيته، فإن قيل: أليست النوافل في البيت أفضل؟ قلنا: هذه الصلاة سنت لها الجماعة، وإن كانت نافلة يفعلها في المسجد أفضل .. فإن قيل: فينبغي أن يفعلها في المصلى في الصحراء أيضا ولا يرجع إلى بيته. قلنا: إن كان هناك جماعة فالأفضل أن يصلي معهم هناك أيضا، والتخيير بين الانصراف إلى البيت وبين الصلاة هناك إذا بقي وحده. ثم ذكر الشافعي رحمه الله ما تخص "222 ب/3" به خطبة عيد الأضحى فقال: علمهم أن من نحر قبل أن يجب أي: يدخل وقت نحر الإمام أن يعيد، أي إن أراد أن يحصل له سنة الأضحية فإنها غير واجبة إلا أن يوجبها على نفسه، وبيان الوقت وما يجري من الأضاحي وما لا يجوز مذكور في كتاب الضحايا، وذكر أنه يجوز في يوم النحر وثلاثة أيام بعده خلافا لأبي حنيفة فإنه قال: لا يجوز في اليوم الثالث من أيام التشريق واستأنس الشافعي في ذلك بقول عطاء والحسن فقال: وكذلك قال: عطاء والحسن. مسألة: قال: ثم لا يزال يكبر خلف كل صلاة فريضة من الظهر يوم النحر. الفصل وهذا كما قال: قال في "الأم": ويكبر الحاج خلف صلاة الظهر من يوم النحر

إلى أن يصلي الصبح من آخر أيام التشريق ثم يقطعون التكبير إذا كبروا خلف صلاة الصبح لو ابتدئوا التكبير خلف صلاة المغرب من ليلة النحر قياسا على أمر الله تعالى في ليلة الفطر من شهر رمضان بالتكبير مع إكمال العدد لم أكره ذلك، وقد سمعت من يستحب هذا وإن لم يكبروا وأخروا ذلك حتى يكبروا تكبير أهل منى فلا بأس إن شاء الله. وقد "233 أ/3" روي عن بعض السلف أنه كان يبتدئ التكبير خلف صلاة الصبح من يوم عرفة وأسأل الله التوفيق. واختلف أصحابنا في هذا منهم من قال: المسألة على قول واحد، وهو الذي نص عليه في أكثر كتبه أنه يكبر من أول الظهر يوم النحر، والباقي حكاية مذهب الغير لا أنه مذهبه، أو الذي قال: يبتدئ من صلاة المغرب أراد تكبير الإرسال. ومنهم من قال: في المسألة ثلاثة أقاويل لظاهر ما ذكر في "الأم" أحدها: يبدأ به بعد صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق فيكون التكبير بعد خمس عشرة صلاة، وهو المروي عن عثمان وابن عباس وزيد بن ثابت، وابن عمر في رواية، وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهم، وبه قال مالك رحمه الله، ووجه هذا هو أن صلاة الظهر هي أول صلاة يستقبل الحاج بمنى، لأنهم يرمون الجمرة في هذا اليوم ويلبون في أول حصاة من الجمرة، ثم يتركون التلبية. ويأخذون في التكبير مع صلاة الظهر وآخر صلاة يصلونها بمنى هي الصبح من آخر أيام التشريق؛ لأنهم إذا رموا الجمرة بعد الزوال "223 ب/3" من هذا اليوم نفروا قبل أن يصلوا الظهر بمنى، وهذا هو السنة أن يصلوا الظهر في الطريق، فكان قطعهم التكبير خلف صلاة الصبح بمنى والناس بعد لهم تبع أو قياس عليهم. والثاني: يبتدئ به من صلاة المغرب ليلة النحر إلى صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، فيكون التكبير بعد ثماني عشرة صلاها، وهذا لما أمر الله به من التكبير بعد إكمال عدة شهور رمضان وهو وقت المغرب ليلة الفطر. والثالث: يبتدئ به من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، وبه قال عمر وعلي، وإحدى الروايتين عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهماوهو مذهب الثوري وأبي يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق، وهو اختيار ابن سريج والمزني وعليه يحمل الناس بالببلدان واختاره ابن المنذر، وبه أقول. ووجه هذا: ما روي جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى الصبح يوم عرفة ثم أقبل علينا فقال: الله "أكبر ومد التكبير إلى العصر من آخر أيام التشريق"، ونحو هذا رواه عمر رضي الله عنه وعمار أيضا، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - "224 أ/3" قال في أيام التشريق "إلى آخر النهار"، ولأن يوم عرفة هو يوم الحج الأكبر والناس في هذا اليوم تبع للحاج، وحكى الداركي عن أبي إسحاق أنه قال: ليس ذلك باختلاف الأقاويل، ولا يختلف المذهب أنه

باب التكبير

يكبر بعد صلاة الصبح من يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق، وإنما ذكر الشافعي في ثبوت التكبير ثلاثة أسباب: فذكر في ثبوته إلى صلاة العصر عن آخر أيام التشريق قول بعض السلف، وذكر في ليلة النحر القياس على ليلة الفطر، وذكر بعد زوال الشمس من يوم النحر إلى الصبح من آخر أيام التشريق الاقتداء بأهل منى، وهذا أضعف الطرق، وقيل في الابتداء ثلاثة أقوال: وفي وقت القطع قولان. فإذا قلنا: يبتدئ عقيب الصبح يوم عرفة يقطع مع العصر في آخر أيام التشريق والقول الآخر في القطع قول ابن سريج ذكره بعض أصحابنا بخراسان، وهذا كله تخطيط، والذي يدل عليه كلام الشافعي في "الأم" ما حكيناه من المذهبين، والباقي كله ضعيف. وقال الأوزاعي: يكبر من الظهر من يوم النحر إلى "224 ب/3" العصر من آخر أيام التشريق وقال أبو حنيفة: يكبر عقب الصبح من يوم عرفة إلى العصر من يوم النحر، وذلك في ثمان صلوات، ويروي هذا عن ابن مسعود وهو رواية عن علي رضي الله عنه، وأما قول الشافعي والناس لهم تبع أراد أن الأصل في الذكر والتكبير الحاج، فإن الخطاب في حقهم أكثر قال الله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ} " البقرة: 198" وقال تعالى: {فَإذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} " البقرة: 200". فغير الحاج في الخطاب تبعا للحاج. فرع ليلة النحر، هي آكد من ليلة الفطر في التكبير، أو على العكس قولان: باب التكبير قال: التكبير كما كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. الفصل وذا كما قال، المستحب أن يكبر خلف الصلوات التي بيناها ثلاثا نسقا فيقول: الله أكبر، الله أكبر، وقوله: نسقا، أي: متتابعا وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة وأحمد: المستحب مرتان فيقول: الله أكبر، الله أكبر لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. وروي هذا عن ابن مسعود رضي الله عنه وهذا "225 أ/3 غلط، لما روي عن سعيد بن أبي هند قال: "صليت خلف جابر بن عبد الله رضي الله عنه في أيام التشريق فلما فرغ من صلاته قال: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر ثلاثا" وهذا لا يقوله إلا توفيقا ومثله عن ابن عباس رضي الله عنه. وقال عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم: رأيت الأئمة يكبرون في أيام التشريق بعد الصلاة ثلاثا، وعن الحسن مثله. فإذا تقرر هذا قال الشافعي في "القديم":يكبر عقيب الصلوات ثلاثا، وظاهره أنه يقتصر عليها.

وقال في البويطي: يكبر ثلاثا ويقول بعدها: لا إله إلا الله، والله أكبر، الله أكبر، ولله الحمد، وقال في "الأم": استحب أن يبتدئ بثلاث تكبيرات لا يقدم عليها ذكرا ولا ينقص من ثلاث تكبيرات شيئا، وإذا بدأ بذلك، ثم زاد على الثلاث من جنس التكبيرات او من غير جنسها من الذكر وهو أن يوقل: الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا الله أكبر ولا نعبد إلا أياه مخلصين له الدين لو كره الكافرون لا إله إلا الله، صدق وعده، ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده لا إله إلا الله والله أكبر، أحببته وكان حسنا، والعمل على ما قال في البويطي، والأصل في هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "225 ب/3" قال: "هذا على الصفا في حجة الوداع"، وقال في موضع آخر: أنه يقول: "الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا والله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أبلانا". ومن أصحابنا من قال: هذا الذي ذكره في "الأم" يدل على أن الشافعي استحب أن يحدد التكبيرات ولا يزيد عليها من الذكر شيئا، ذكره أبو حامد وقال: السنة أن يكبر ثلاثا من غير أن يتخلل شيء آخر، فإن زاد من دعاء أو ذكر لم يكره ذلك ليس هو التكبير المسنون في العيد، وهو قول مالك وهذا غلط لأنه لا يفهم هذا من كلام الشافعي في "الأم" على ما شرحناه، فإن قيل: أليست السنة في التلبية أن لا يزيد على تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وهاهنا قلتم إن زاد فحسن، قلنا: العرف أن من سنة التلبية التكرار فتكرارها أولى من ضم الزيادة إليها وهاهنا يكبر دفعة واحدة فالزيادة عليها أولى من السكوت، ويستحب رفع الصوت بالتكبير لما في الخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يرفع صوته بالتكبير والتهليل؛ ولأنه إذا رفع صوته سمع من لا يكبر فيكبر. مسألة: قال: ومن فاته شيء من صلاة الإمام قضى، ثم كبر. وهذا كما قال: "226 أ/3" إذا سبقه الإمام ببعض الصلاة فإن الإمام إذا سلم كبر والمأموم لا يكبر، ولكنه لا يكبر ولكنه يقوم ويقضي ما عليه من تمام الصلاة ويسلم ثم يكبر، وقال ابن أبي ليلى: يكبر معه ثم يقضي ما عليه كما يسجد معه للسهو، ثم يقضي. وحكى هذا عن مالك ولا يصح عنه عندي، والفرق بين سجود السهو وهذا، أن سجود السهو قبل السلام فما دام الإمام في الصلاة يلزمه اتباعه فيها والتكبير بعد السلام، فإذا سلم الإمام من الصلاة، فقد خرج من إمامته وسقط أتباعه عنه فلم يستحب له التكبير لمتابعته، ولهذا يقول الإمام: لو سلم ولم يسجد للسهو ولم يسجد معه بل يسجد في آخر صلاته. مسألة: قال: ويكبر خلف الفرائض وخلف النوافل. وهذا كما قال: المنصوص هاهنا أنه يكبر خلف الفرائض والنوافل، وقال المزني: الذي قيل: هذا أولى أنه لا يكبر إلا خلف الفرائض، وأراد به ما قال الشافعي قبيل

هذا الباب، ثم لا يزال يكبر خلف كل صلاة فريضة بمفهومه أنه لا يكبر خلف النوافل، فمن أصحابنا من أنكر هذا القول وترك ذلك المفهوم لهذا المنظوم، ولأن تخصيص الشافعي "226 ب/3" الفريضة بالذكر ليس لنفي التكبير خلف النوافل، بل لأنه أراد أن يبين الصلاة الفريضة التي يكبر بعدها ابتداء ويقطع عقبيها فقال: من ظهر كذا إلى صبح كذا، والذي يدل أنه نص في " الأم"، فقال: يكبر الحائض والجنب وغير المتوضئ في جميع الساعات من الليل والنهار وهذا يدل على أنه يستحب خلف الفرائض والنوافل وفي سائر الأحوال، وأن من ليس من أهل الصلاة من الجنب والحائض والمحدث يستحب لهم التكبير أيضا. وهذا هو الصحيح. ومن أصحابنا من قال: المسألة على قولين: أحدهما: وبه قال أكثر الفقهاء: يكبر خلف الفرائض لا غير، وبه قال أبو حنيفة حتى روى اللؤلؤي عن أبي حنيفة أنه قال: لا يكبر خلف العيد، لأنها نافلة، وهو قول مالك وأحمد. والثاني: وبه قال أبو يوسف ومحمد: إنه يكبر خلف الفرائض والنوافل لقوله تعالى: {ولِتُكبرّوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} "البقرة: 185" ولم يفصل، ولأأنها صلاة مغفولة في يوم النحر فيستحب التكبير عقبها كالفرائض ويؤكده أنه من شعار العيد فالأولى أن يكون عقيب صلاة العيد. وقال بعض أصحابنا: إن كانت مما سن منفردا لا يكبر خلفها، وإن كانت مما تسن جماعة كالاستسقاء "221 أ/3" والخسوفين فيكبر خلفهما، ومن قال بهذا قال: هل يكبر خلف صلاة الجنازة؟ وجهان: أحدهما: يكبر لفعلها في جماعة. والثاني: لا يكبر لأنها ليست بصلاة معهودة ذات ركوع وسجود. فرع لو فاتته صلاة كان يكبر عقبيها فقضاها في غير أيام التشريق لا يكبر بعدها، لأن التكبير لأجل الوقت، قد فات الوقت ولهذا قلنا: يكبر من لا صلاة عليه. فَرْعٌ آخرُ لو فاتته صلاة كان يكبر عقبيها فقضاها في غير أيام التشريق فكبر عقبيها، وهل يكون أداء أو قضاء؟. قال القفال: فيه قولان: مبنيان على أنه هل يكبر خلف النوافل؟ فإن قلنا: يكبر خلف النوافل ففي الفائتة أولى وتكون أداء، وإن قلنا: لا يكبر خلف النوافل يكون قضاء، ومن أصحابنا من قال: هل يكبر خلف الفوائت التي فاتت في غير هذه الأيام؟ قولان: لأن منزلة الفوائت في هذا منزلة النوافل.

فرع لو نسي صلاة في أيام التشريق، ثم قضاها في أيام التشريق، هل يكبر خلفها؟ فيه وجهان: أحدهما: يكبر لأن وقت التكبير باق، والثاني: لا يكبر، لأن التكبير خلف هذه الصلاة يختص بوقتها، وقد فات الوقت، وقال القفال: يكبر وجها واحدا، وهل هو قضاء "227 ب/3" أم أداء؟ وجهان أحدهما: قضاء لأن الصلاة قضاء، والثاني: أداء لما ذكرنا. فرع لو نسي التكبير كبر حيث ذكره نص عليه ولفظه رحمه الله أنه قال: لو سلم وانتقل إلى مكان آخر كبر فيه ولا يعود إلى مصلاه بخلاف ما لو سلم عن ركعتين من الظهر ساهيا وانتقل إلى مكان آخر ولم يطل الفصل، فالمستحب أن يعود إلى مكان صلاته ويبني. وقال أبو حنيفة: إذا تكلم أو خرج من المسجد سقط، لأنه تابع للصلاة فسقط بتركه كسجود السهو وهذا غلط؛ لأن التكبير هو من هيئة أيام التشريق، فإذا كان الوقت باقيا أتى بها ويفارق سجود السهو؛ لانه من تمامها فلا يأتي به إذا طال الفصل. وقال القفال: هذا مببني على الوجهين أنه يكون قضاء أو أداء، فإن قلنا: يكبرقضاء كبر وإن قلنا: أداء لا قضاء عليه ولا يكبر هاهنا. فَرْعٌ آخرُ لو نسي الإمام التكبير أو تركه عامدا كبر المأموم، ومن صلى وحده كبر، وبه قال مالك والأوزاعي وقتادة والشعبي، وقال أبو حنيفة: لا يكبر المنفرد، واحتج بما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا صلى وحده أيام التشريق لم يكبر، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ليس على الواحد والاثنين تكبيرا أيام التشريق، وهذا غلط لأن كل ذكر يستحب للمسبوق يستحب للمنفرد كالتسليمة الثانية، ولأن المنفرد يؤذن ويقيم كالجماعة كذلك في هذا يستوي المنفرد والجماعة، وأما ما ذكروه مقدم عندنا وأنتم لا تقولون: بقول ابن مسعود لأن الاثنين جماعة ويكبران. فَرْعٌ آخرُ لو اقتدى من لا يرى الإتيان به أو هو يرى ولا يرى ذلك خرج ابن سريج فيه وجهين: أحدهما: لا يتابع إمامه بل يعمل برأيه، والثاني: يتابعه والأول أصح لأنه بالسلام خرج من متابعته فلا يلزمه حكمه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لو وقع مثل هذا في الصلاة تابعه في زيادة التكبيرات إن قال بذلك قائل وإلا فلا يتابعه. مسألة: قال: ولو شهد عدلان في الفطر بأن الهلال كان بالأمس.

الفصل وهذا كما قال: أول وقت صلاة العيد إذا طلعت الشمس إلى أن تزول، فإذا طلعت فقد دخل وقتها، فإن صلوا عقيب الطلوع أجزاتهم الصلاة نص عليه، وقال: ولكن المستحب أن يتوقفوا حتى ترتفع الشمس قيد رمح، وتحل النوافل التي لا أسباب لها، وهذا كما يقول في العصر: إنه يفوت آخر وقتها بغروب الشمس، ولكنا نستحب له أن "228 ب/3" لا يؤخرها إلى اصفرار الشمس. ذكره القاضي الطبري وسئر أصحابنا أطلقوا بأن أول وقتها حين تبرز الشمس على ما ذكرنا، وليس هذا النص عند أصحابنا بخراسان، والصحيح ذاك، ولا اعتبار بالوقت المنهي عن الصلاة، لأن هذه نافلة لها سبب ظاهر. فإذا تقرر هذا فلو شهد شاهدان بأن الهلال كان بالأمس أي رأينا الهلال الأمس وهذا اليوم يوم عيد، فإن كان قبل زوال الشمس صلى بالناس وكان ذلك أداء وإن كان بعد زوال الشمس. قال الشافعي في كتاب العيدين: لم يصلوا لأنه عمل في وقت، فإذا جاوزه لم يعمل في غيره كعرفة، وقال في كتاب الصيام: وأحب إذا ذكر فيه شيء، وإن لم يكن ثابتا أن يعمل من الغدو بعد الغدو وأراد به إذا روي فيه خبر، وهو أن ركبا قدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم الثلاثين من رمضان فشهدوا أنهم رأوا الهلال بالأمس، فأمر الناس بالفطر في هذا اليوم، وأن يصلوا صلاة العيد من الغد، إلا أن هذا ليس بثابت، فكذلك قال: وأحب إذا ذكر فيه شيء وإن لم يكن ثابتا أن يعمل من الغدو بعد الغد فحصل قولان: أحدهما: لا يقضي وبه "229 أ/3" قال مالك وأبو نور وداود، واختاره المزني وحكى الطحاوي عن ابن أبي عمران عن أبي حنيفة أنها لا تقضي، وقال أبو يوسف ومحمد: يقضي صلاة عيد الفطر في اليوم الثاني، ويقضي صلاة عيد الأضحى في اليوم الثاني والثالث. وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: مذهبه أنها تقضى، ووجه هذا القول: أن هذه صلاة شرع لها الاجتماع والخطبة، فلا يقضي بعد فوات وقتها كصلاة الجمعة والخسوف، وقال المزني: لو قضيت في عدد قومها لقضيت في يومها وكان أولى فإن قلتم: إن ضحى غد يشبه ضحى اليوم وما بعد الزوال لا يشبه الضحى، قلنا: فيجب أن يقولوا: يقضي هذا في ضحى غد بعد شهر. والقول الثاني: يقضي، وبه قال الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق، قال أبو سليمان الخطابي: وهذا أصح والخبر فيه صحيح أورده أبو داود والسنة أولى بالاتباع، ولأنها صلاة أصل مؤقتة فلا تسقط بفوات الوقت كالفريضة ولا يلزم الجمعة، لأنها مقصورة من الظهر وليست كالجمعة لأنها معدولة بها عن الظهر بشرائط، فإذا

فاتت واحد منها رجع إلى الأصل وليست كالخسوف " 229 ب/3" لأنها تتعلق بعارض فإذا زال سقطت، واما قول المزني لا يلزمنا لأن الشافعي قال: يقضي، من الغد إذا لم يمكن اجتماع الناس في بقية اليوم. وقد قال أصحابنا: إن كان البلد صغيرا يجتمع الناس في بقية اليوم من غير مشقة جمع الناس وصلى بهم، وكذلك إن كانوا في قرية أو حصن، وذكر القفال أن الشافعي نص عليه في كتاب الصيام وأنه قال: هذا أولى من تأخيرها إلى الغد، وإن لم يمكن جمعهم لتفرقهم في حوائجهم، فإن صلى بمن أمكنه جاز ولكنه أساء إلى ذلك؛ لأنه كان ينبغي أن لا يبدأ دون سائر المسلمين؛ لأن القصد منه الاجتماع وإظهار السرور لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استحب تأخير الظهر لاجتماع الناس إلى الصلاة فهاهنا أولى. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يقضي في مثل وقته من الغد كالوقوف بعرفة؟ يقضي في الجملة ولكن في مثل وقته من القابل يوم النحر، وبه قال أحمد وأبو حنيفة في رواية وهذا ضعيف، والأصل ما ذكرنا. وأما القضاء بعد الغد فاعلم أن الشافعي قال: يقضون من الغد وبعد الغد، وذكر الداركي عن "330 أ/3" بعض أصحابنا أنه يقضي أبدا ولا يكون القضاء مؤقتا، ويتصور ذلك عند اشتغال الإمام بالحرب حتى يتأخر إلى شهر وشهرين، وهذا خلاف ظاهر المذهب، والمعنى في الغد أن ذلك الوقت قد يكون وقت العيد إذا خرج شهر رمضان ثلاثين يوما، وهذا لا يوجد فيما بعده والقياس ما حكاه الداركي. فرع لو شهدا برؤية الهلال يوم الحادي والثلاثين قبل الزوال، أو ليلة الحادي أنهم رأوه ليلة الثلاثين. قال أبو إسحاق: يصلي الإمام بالناس يوم الحادي والثلاثين قبل الزوال، ويكون أداء قولا واحدا لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون، وعرفتكم يوم تعرفون"، وهم لم يفطروا بالأمس وإنما يفطرون من الغد، فوجب أن يكون ذلك يوم فطرهم. قال القفال: ولا يسمع هذه الشهادة، لأنه لا فائدة فيها. فرع لو شهد شاهدان بالنهار وعدلا باليل: قال أصحابنا: الصلاة من الغد تكون فرضا وهل يقضي؟ قولان: على ما ذكرنا، وهذا لأن الاعتبار وقت الشهادرة دون التعديل "330 ب/3" ألا ترى أنه لو مات الشاهدان قبل أن يعدلا، ثم عدلا حكم الحاكم بشهادتهما وكذلك لو شهدا قبل الزوال وعدلا بعده، او عدلا في اليوم الحادي والثلاثين فإنها تفعل بعد ذلك قضاء على القولين.

وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا عدلا من الغد بعد طلوع الشمس وهو اليوم الحادي والثلاثون يصلي الإمام بهم بلا خلاف وهو غير صحيح. فَرْعٌ آخرُ إذا اجتمع عيد وجمعة، قال في "الأم": صلى الإمام صلاة العيد حين تحل الصلاة، ثم أذن لمن حضر من غير أهل المصر أن ينصرفوا إن شاؤوا إلى أهليهم ولا يعودون للجمعة والاختيار لهم أن يقيموا حتى يجمعوا فإن لم يفعلوا فلا حرج عليهم إن شاء الله، ولا يجوز هذا لأحد من أهل المصر، واحتج بما روى عثمان بن عفان رضي الله عنه خطب فقال: "قد اجتمع لكم في يومكم هذا عيدان فمن أحب من أهل العالية أن ينتظر الجمعة فلينتظرها، ومن أحب أن يرجع فليرجع فقد أديت له" ولم ينكر عليه منكر، واختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: لا يجب على أهل السواد في هذا اليوم صلاة الجمعة بكل حال، بدليل ها "231 أ/3" الأثر عن عثمان رضي الله عنه، والمعنى فيه أنهم لو قعدوا في البلد لم يتهنوا بالعيد، وإن خرجوا ورجعوا كان عليهم في ذلك مشقة ظاهرة، والجمعة تسقط بالمشقة دون هذا من الأعذار مثل المطر ونحوه، وهذا ظاهر كلام الشافعي رحمه الله. ومن أصحابنا من قال: أراد الشافعي بما ذكر أهل السواد الذين هم في موضع يبلغهم النداء من البلد، فإنه تجب عليهم الجمعة، لأن كل من لزمهم الجمعة في غير يوم العيد لزمه في يوم العيد كأهل البلد، وهذا ضعيف وقد ذكرنا فيما قبل أن مذهب ابن الزبير وابن عباس وعطاء رضي الله عنهم أنهم قالوا: تسقط صلاة الجمعة في هذا اليوم عن الكل. وحكى عن ابن الزبير أنه صلى العيد وترك الجمعة، فعابه بعض بني أمية، فقال ابن الزبير: هكذا كان عمر بن الخطار يصنع. وبلغ ابن عباس فقال: أصاب السنة وروى أبو عبد الرحمن السلمي أنه اجتمع عيدان في يوم على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وصلى صلاة العيد وخطب وقال: أيها الناس إنه اجتمع عيدان في يوم "231 ب/3" فمن أراد أن يشهد الجمعة فليشهد ومن أراد أن ينصرف فلينصرف"، وهذا غلط لقوله تعالى: {إذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلَى ذِكْرِ اللَّهِ} "الجمعة: 9" ولم يفصل ولأن الجمعة هي من فرائض الأعيان فلا يسقط بصلاة العيد التي هي نفل في قول، وفي قول هي فرض على الكفاية. وأما خبر أبي هريرة فمحمول على أهل السواد ولهذا قال: من أراد أن يشهد الجمع لأن أهل المصر يشهدونها، وقد بينه عثمان بن عفان رضي الله عنه فخص أهل العالية بالذكر، وقيل أهل العوالي: هم على ثلاثة أضرب: منهم من يلزمهم الجمعة بأنفسهم وهو أن يكونوا أربعين في قرية فحكمهم في هذه

باب صلاة الكسوف

المسألة حكم أهل المصر. ومنهم من لا يلزم الجمعة لا بأنفسهم ولا بغيرهم، وهو أن يكونوا دون الأربعين ولا يبلغهم النداء، فإذا حضروا العيد كان لهم الانصراف من غير جمعة، ولا يكره لهم ذلك ولكن إن دخلوا البلد يوم الجمعة بغير صلاة العيد يكره لهم أن ينصرفوا قبل صلاة الجمعة، فإن قال قائل: هلا قلتم: يلزمهم الجمعة كالمريض إذا حضر فإنها تلزمه؟ قلنا: لأن سقوطها عن المريض للمشقة، وإذا حضر زالت المشقة، وسقوطها عن أهل هذه البرية في أوطانهم لصفته فيهم هناك "232 أ/3" وإذا حضروا وكانوا مسافرين غير مستوطنين فلا يلزمهم. ومنهم من تلزمهم الجمعة بغيرهم، وهو أن يكونوا دون الأربعين ويسمعون النداء من البلد فحكمهم ما ذكرنا من المنصوص والتخريج. باب صلاة الكسوف مسألة: قال: في أي وقت خسفت الشمس في نصف الهار أو بعد العصر فسواء. وهذا كما قال: اعلم أنه يقال: كسفت الشمس تكسف وخسفت تخسف، وذلك يقال في القمر أيضا ولأهل اللغة في معنى ذلك قولان. أحدهما: قال الفراء: وغيره كسفت معناه: نقص ضوئها وقوله تعالى: {وخَسَفَ القَمَرُ} " القيامة: 8". يعني نقص ضوءه ويقال: عين خاسفة إذا ذهب ضوءها أو نقص ورجل خاسف إذا كان مهزولا جائعا، وخسف بالرجل إذا ساخ في الأرض، وقال آخرون: معناه التغطية يعني حال دون ضوءها حائل ومنه قول جرير: الشمس طالعة ليست بكاسفة تبكي عليك نجوم الليل والقمرا وأراد ليست بمتغطية، فإذا تقرر هذا فلاأصل في صلاة الكسوف الكتاب والسنة والإجماع: فأما الكتاب: فقوله تعالى: {ومِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ والنَّهَارُ "232 ب/3" والشَّمْسُ والْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ ولا لِلْقَمَرِ واسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} "فصلت: 37" الآية. وأراد صلاة الكسوف صلوا لكسوفها لان الله تعالى ذكر آيات كثيرة ولم يذكر عندها السجود، وخص هاتين الأثنتين بالسجود عند ذكرهما، فدل أنه أراد به الصلاة فيها، وقيل: يحتمل انه أراد به الصلاة للكسوف، ويحتمل أنه أراد عبادة الله دون عبادتهما، ولكن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى عند كسوفهما، فكان كذلك منه بيانا لما تناولته الآية. وأما السنة: فما ورى ابن عباس رضي الله عنه قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى والناس معه ثم قال: "أيها الناس إن الشمس

والقمر آيتان من آيات الله سبحانه لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى الله تعالى" وروى ابن مسعود البدري رضي الله عنه قال: كسفت الشمس يوم مات إبراهيم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم فخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم قال: "أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى يخوف بهما عبادة لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته فإذا رأيتم "233 أ/3" ذلك فافزعوا إلى ذكر الله وإلى الصلاة"، والعم أنه لم يصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لكسوف القمر ولكنه نبه بما ذكر في كسوف الشمس عليه حيث قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله تعالى يخوف .... " الخبر. وأما الإجماع: فلا خلاف بين المسلمين فيه. فإذا تقرر هذا فوقت هذه الصلاة، أي: وقت وجد سببها من ليل أو نهار سواء كان ذلك الوقت المنهي عن الصلاة فيه، أو في غيره لأن لها سببا ويخاف فوتها لو أخرها خلافا لأبي حنيفة ومالك على ما مضى بيانه، فإن قيل: قلتم: صلاتا العيد والاستسقاء لا يؤديان في الوقت المنهي؟ قلنا: لأن وقتهما واسع فجرى ذلك مجرى النوافل التي لا سبب لها، وهذا وقته يضيق فإنه ربما يزول بزوال العارض. واعلم أن هذه الصلاة سنة مؤكدة وليست بفريضة بلا خلاف، وكل من وجبت عليه الصلوات الخمسة سنت له صلاة الكسوف، الرجل والمرأة والحر والعبد والمسافر والمقيم والحضري والبدوي فيها سواء، وسواء صلى الإمام أو تركها، وسواء صلاها منفردا أو في جماعة، فإن خرج الإمام صلوا معه، وإن لم يخرج طلبوا من يصلي بهم، فإن لم يجدوا وخافوا إنكار الإمام "233 ب/3" صلوا فرادى. مسألة: قال: ويتوجه الإمام إلى حيث يصلي الجمعة. وهذا كما قال: المستحب أن يصلي صلاة الخسوف في المسجد الجامع دون الصحراء؛ لأن صلاة العيد إنما تستحب في الصحراء إذا كان المسجد لا يسعهم؛ لأن الناس من الصغار والكبار من أهل المصر والسودان ندبوا إلى حضور صلاة العيدين، فكان الأرفق بهم أن يصلي بهم في الصحراء بخلاف صلاة الخسوف فإنه لا يسن لها من الاجتماع ما يسن لصلاة العيدين، وأيضا وقت صلاة الخسوف يضيق فربما تجلت الشمس قبل بلوغهم المصلى فتفوت الصلاة فاستحب فعلها في المسجد، بخلاف صلاة العيد فإن وقتها موسع لا يخاف فوتها، ولهذا لم يصلها قط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا في المسجد بخلاف صلاة العيد. مسألة: قال: ويأمر بالصلاة جامعة ثم يكبر.

وهذا كما قال. الكلام الآن في كيفية صلاة الخسوف، فأولا يأمر من ينادي الصلاة جامعة، ولا يؤذن لها، قالت عائشة رضي الله عنها: "كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر رجلا فنادى الصلاة جامعة"، ثم إذا افتتح الإمام صلاة جماعة يكبر تكبيرة الإحرام ويأتي بدعاء الاستفتاح والتعوذ "234 أ/3" بعده، ويقرأ بأم القرآن، ثم يقرأ سورة البقرة إن كان يحفظها أو بقدرها من القرآن إن كان لا يحفظها، ثم يركع بقدر مائة آية من سورة البقرة ولا يقرأ فيه القرآن بل يسبح في الركوع، ولكن التسبيح فيه يكون بقدر قراءة مائة آية من البقرة ثم يرفع رأسه من الركوع، ويقرأ بأم القرآن أيضا وقدر مائتي آية من البقرة، ثم يركع بقدر ما يلي ركوعه الأول من ثمانين إلى تسعين آية، ثم يرفع فيعتدل قائما ثم يسجد فيطيل السجود فيها ثم يقوم من سجوده قائما إلى الركعة الثانية فيقرأ بأم القرآن وقدر مائة وخمسين آية من البقرة، ثم يركع فيسبح قدر سبعين آية من البقرة، ثم يرفع فيعتدل قائما ثم يسجد سجدتين بقدر طول الركعتين فيحصل له ركعتان في كل ركعة ركوعان. وجملته أنه يقوم فيها ست قراءات يقرأ في القيام الأول بعد الفاتحة سورة البقرة أو بقدرها، وفي الثاني مائتي آية من البقرة أو قدرها، وفي الثالثة لا يقرأ شيئا بل يعتدل ويسجد وهما في القيام الرابع وهو القيام الأول من الركعة الثانية مائة وخمسين آية من البقرة أو بقدرها، وفي القيام الثاني من هذه الثانية مائة "234 ب/3" آية من البقرة أو قدرها ولا يقرأ في القيام الثالث من هذه الثانية مائة آية من البقرة أو قدرها ولا يقرأ في القيام الثالث عن هذه الثانية شيئا بل يرفع ثم يسجد ويرجع فيها أربع مرات يسبح في الركوع الأول قدر مائة آية وفي الركوع الثاني قريبا منها وفي الركوع الثالث قدر سبعين آية وفي الركوع الرابع قدر خمسين آية، وفي بعض نسخ المزني يركع في الثانية بقدر ثلثي ركوعه الأول، وهكذا قال في " الأم"، وهذا غلط لان مبنى هذه الصلاة على أن كل ركوع يكون أقصر مما قبله كالقومة الثانية هي أقصر من الأولى وقد قال في الركوع الثالث: يسبح بقدر سبعين آية، وعلى هذه الرواية يكون الثالث أطول من الثاني؛ لأن ثلثي المائة يكون ستة وستين آية، وقيل: إن المزني لم يروا هذا، وإنما رواه الربيع وهو غلط لما ذكرنا، والمشهور أن الغلط هو في نقل المزني، والشافعي لم يقل ذلك وقد صحف الكاتب وأسقط كلمة ما. وقال في البويطي: يقرأ في القيام الأول سورة البقرة، وفي الثانية آل عمران، وفي الثالثة سورة النساء، وفي الرابعة المائدة وليس هذا باختلاف القول؛ بل "235 أ/3" هو قريب مما ذكرناه وقال: في الركعة الأولى يسجد سجدتين طويلتين ويسبح في كل سجدة بنحو ما سبح في ركوعه، فالسجود الأول قدر الركوع الأول، والثاني كالركوع الثاني، وفي الركعة الثانية يسجد سجدتين تامتين طويلتين يسبح في كل سجدة نحو ما

يسبح في ركوعه. وحكى عن مالك أنه قال: لم يسمع أن السجود يطول في صلاة الكسوف وهذا غلط لما روى ابن عمر أنه قال: قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الكسوف فلم يكد يركع، ثم ركع، فلم يكد يرفع ثم رفع، فلم يكد يسجد، ثم سجد، فلم يكد يرفع ثم رفع فلم يكد يسجد، وهذا يدل على أنه طول السجود كما طول الركوع. ومن أصحابنا من قال: المذهب أنه يسجد كما يسجد في غيرها لأن الشافعي لم يذكر وقال ابن سريج: يطيل السجود وليس بشيء وهذا ضعيف عندي، وقال فيه أيضا: في الركوع الأول يركع طويلا نحوا من قراءته وكذلك في الركوع الثاني والثالث والرابع وهذا يدل على أنه قدر الركوع بقدر القيام الذي قبله بخلاف ما قال في الأم فحصل قولان "235 ب/3"، وجه ما قال في البويطي إن الركوع موضع التضرع والدعاء والخشوع فإن لم يزد على القيام يجب أن لا ينقص منه. وذكر بعض أصحابنا بخراسان: أنه يسبح في الركوع بقدر نصف القيام، وهذا ليس بشيء، ووجه ما قال في " الأم": أن القيام في سائر الصلوات هو أطول من الركوع لأن أقل ما يجزئ منه مقدار فاتحة الكتاب، وأقل ما يجزئ من الركوع مقدار الطمأنينية، وذلك القراءة المسنونة في أطول من التسبيح المسنون، فوجب أن يكن الركوع أقل من القيام الذي قبله، وبقولنا قال عثمان بن عفان وابن عباس ومالك وأحمد وإسحاق رضي الله عنهم. وقال النخعي والثوري وأبو حنيفة: يصلي ركعتين كصلاة الصبح. وحكى عن أحمد وإسحاق أنه يصلي ركعتين في كل ركعة ثلاث قومات وثلاثة ركوعات، وهذا غلط لما احتج الشافعي بما روى ابن عباس رضي الله عنه قال: "خسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج وصلى والناس معه فقام قياما طويلا نحوا من سورة البقرة، ثم ركع ركوعا طويلا ثم قام قياما طويلا، وهو بعض "236 أ/3" القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الأول، ثم سجد، ثم قام قياما طويلا وهو دون القيام الأول، ثم ركع ركوعا طويلا وهو دون الركوع الذي قبله، ثم قام قياما طويلا، ثم ركع ركوعا طويلا، ثم سجد فاستكمل أربع ركعات وأربع سجدات ثم انصرف" يعني: سلم من صلاته، وقد تجلت الشمس أي في حال انصرافه كانت الشمس قد تجلت، فقال: يعني: خطب وفي خطبته قال: "إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله يخوف الله بهما عباده، لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته" الخبر، وإنما قال هذا لأن إبرايهم ابنه كان قد مات في ذلك اليوم، ولم يكن الوقت وقت الخسوف إذ الشمس في الغالب إنما تنخسف في اليوم الثامن والعشرين من الشهر أو التاسع والعشرين. فقالوا: إنما خسفت لموت إبراهيم، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إشكالهم.

واحتج أيضا بأثرين: أحدهما: عن ابن عباس رضي الله عنه أنه صلى في كسوف القمر ركعتين في كل ركعة ركعتين، ثم ركب يعني ركب البعير فخطب إذ لم يكن هناك منبر فقال: أي قال في خطبته إنما صليت بكم "236 ب/3" كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي، يعني صليت بكم في خسوف القمر كما رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي في خسوف الشمس؛ لأنه لم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه صلى في خسوف القمر. والثاني: ما حكاه بلاغا فقال: وبلغنا أن عثمان رضي الله عنه صلى في كل ركعة ركعتين يعني ركوعين وقيامين، فغن قيل: فقد روى جابر أنه قام ثلاث قيامات، وروى خمس قيامات، وروى ثمانية قيامات، وروى أنه ركع ركعتين في عشر ركعات، وأربع سجدات. قلنا: أجمعنا على ترك هذه الروايات ولم يحصل الإجماع في ترك ما رويناه، أو يقول، قال بعض أصحابنا: شبه أنه صلاها مرات وكرات فكانت إذا طالت مدة الكسوف مد في صلاته وزاد في عدد الركوع وإذا قصرت نقص من ذلك، فيصلي على حسب الحال ومقدار الحاجة. ومن أصحابنا من قال: لا يزيد على ما ذكرنا وهو الظاهر، وبه قال ابن عباس ولم يصح ما رووا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن صح فقد نسخ"، واحتجوا بما روى النعمان بن بشير قال: "خسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى ركعتين، وروى "237 أ/3" أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأيتموها فصلوا كأحدث صلاة صليتموها من المكتوبة"، قلنا: نحمله على الجواز أو نحمله على أنه صلى ركعتين عددا، وإن كان في كل ركعة قيامان وركوعان. وقال أبو إسحاق: قال بعض أصحابنا: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ركع ركوعا واحدا ليدل على الجواز، فالسنة والأولى أن يركع ركوعين في طويل الخسوف وقصره وقال بعض أصحابنا: ركع ركوعا واحدا لقصر الخسوف، فالسنة في طويل الخسوف ركوعان وفي قصره ركوع واحد. وقال ابن سريج: كل ذلك من الاختلاف المباح وليس بعضه بأولى من بعض. واعلم أن هذا التطويل غير واجب، فإن زاد على هذا أو نقص منه واقتصر على الفاتحة أجزأه والمستحب أن يطول على حسب امتداد الخسوف حتى إن قصر الخسوف قصر الصلاة أيضا. فرع قال: لو ترك أم القرآن في ركعة من صلاة الخسوف لم يعيد تلك الركعة، بل يصلي ركعة أخرى ويسجد للسهو كما يقول في سائر الصلوات. فَرْعٌ آخرُ لو أدرك الإمام في هذه الصلاة، وقد رفع رأسه من الركوع الأول، فإنه يكبر خلفه

"237 ب/3" ولا يكون مدركا لهذه الركعة، فإذا سلم الإمام أي بالركعة الأخرى على التمام بقيامين وركوعين نص عليه في البويطي، ولفظه: فإذا سلم الإمام فإن بقى الكسوف قام وصلى ركعة بقيامين وركوعين على طولهما، وإن كانت قد تجلت خفف فيهما. وقال صاحب التقريب: يقضي قياما واحدا وركوعا واحدا وهذا غلط، لأن الركوع الثاني هو تبع للأول، فهو كالسجدتين لا يحصل له بإدراكهما ولا بإدراك واحدة منهما شيء، ولو كان يحصل له بذلك الإدراك لما لزمه قضاء شيء من تلك الركعة لمن أدرك جزءا من الركوع كفاه، وقيل فيه: إنه يصير مدركا للركعة، لأنه أدرك ركوعا صحيحا معتدا به. فَرْعٌ آخرُ هل يتعوذ في القومة الثانية؟ وجهان. فرع قال في "الأم": لو فرغ من صلاة الخسوف والخسوف باق لم يزد في الصلاة واشتغل بالخطبة لأنه لم ينقل عن النبي أنه صلى في الخسوف إلا ركعتين فلا يزيد على ذلك. قال القفال: هل يعود إلى الصلاة؟ وجهان: بناء على أنه هل يزيد على ركوعين عند طول الخسف، فإن قلنا: يزيد هاهنا يعود إلى الصلاة، وإن قلنا لا يزيد فلا يعود إلى الصلاة "238 أ/3" وهذا لا معنى له مع النص الذي ذكرنا. فَرْعٌ آخرُ لو تجلت الشمس وهو في القيام الأول، فإنه يتمها ويخفف نص عليه، وقال القفال: فيه وجهان، فإن قلنا: يزيد إذا امتد فهاهنا يقتصر على ركوع واحد، وإن قلنا: لا يزيد فهاهنا لا يقتصر وفيه نظر أيضا والله أعلم. مسألة: قال: ويسر في خسوف الشمس. وهذا كما قال: المستحب أن يسر بالقراءة في صلاة خسوف الشمس، لأنها من صلاة النهار لها نظر بالليل. وهو الصلاة لخسوف القمر فلا يجهر فيها كالظهر والعصر وبه فارق صلاة الجمعة والعيدين والاستسقاء. وقال أبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق: يجهر فيها بالقراءة، وبقولنا قال مالك وأبو حنيفة، واحتجوا بما روت عائشة رضي الله عنها قالت: "كسفت الشمس على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصلى وجهر في صلاته بالقراءة"، وهذا غلط لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه "قال كنت إلى جنب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فما سمعت منه

حرفا". قال الشافعي: لأنه أسر أي أن ابن عباس لم يسمع القراءة لإسراره، ثم أيد ذلك، فإن قال: ولو سمعه ما قدر قراءته أي "238 ب/3" ما احتاج إلى أن يقول: قرأ نحوا من كذا، بل كان يقول: قرأ كذا وكذا، وقال سمرة بن جندب: "قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة خسوف الشمس أطول قيامه في صلاة قط ولم أسمع له حسا"، وروى ولم أسمع له صوتا. وأما خبر عائشة قلنا: اختلفت الرواية عنها، فروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: تحرزت قراءة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "فرأيت أنه قرأ في الركعة الأولى سورة البقرة، وفي الثانية سورة آل عمران"، وهذه الرواية هي أولى لانها تعاضد ما رويناه. فإذا تقرر هذا فإنه يخطب في الخسوف بعد الصلاة على المنبر ليلا كان أو نهارا، ويجلس بين الخطبتين ويأتي بأركان الخطبة ويحضر الناس على الخير ويأمرهم بالتوبة، والتقرب إلى الله تعالى، فإن كان في الموقف بعرفة خطب راكعا ويصلي بين الخطبتين بسكتة قدر الجلسة لو كان على المنبر، ولو تركها أو خطب على غير ما أمر به كرهت ولا إعادة ويستمع الناس لها فإن انصرفوا كرهته، ولا إعادة. وقال في "الأم" وأحب "239 أ/3" للقوم بالبادية والسفر أن يخطب بهم أحدهم ويذكرهم إذا صلوا هذه الصلاة، وقال مالك وأبو حنيفة وأبو يوسف: لا تسن الخطبة في الكسوف واحتجوا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو خطب لنقل نقلا ظاهرا كما نقلت خطبة العيد. وهذا غلط لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: لما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخسوف انصرف وخطب الناس، وذكر الله تعالى فأثنى عليه، وقال " يا أيها الناس إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وانصرفوا، ثم قال: يا أمة محمد والله ما أحدا أعز من الله تعالى أن يزني عبده أو تزني أمته، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا" قال ابن المنذر: ما خالف هذا الخبر أحد من أصحابنا إلا مالك وهذه غفلة منه؛ لأنه روى الحديث ثم تركه، لانه لم يشتهر وعدم الاشتهار لا يمنع صحة الخبر لأن النقل يكون على حسب الدواعي، ألا ترى أن الأذان لما توفرت الدواعي عليه نقل نقلا ظاهرا حتى لا يختلف "239 ب/3" أحد أنه شفع، واختلفوا في الإقامة هل هي شفع أو وتر، ولم ينقل مثل ذلك النقل، وإن صلى منفردا لم يخطب لأن الخطبة هي للوعظ والتذكير للغير.

مسألة: قال: وإذا اجتمع خسوف وعد واستسقاء. الفصل وهذا كما قال: جملته أنه إذا اجتمع في يوم واحد صلوات بدأ بالأهم، فإذا اجتمع خسوف وعيد واستسقاء وجنازة بدأ بالأهم وهو صلاة الجنازة، لانها من فرائض الكفايات، وتتعلق بحرمة الميت مع حق الله تعالى، ثم نقل المزني أن الشافعي قال: فإن لم يكن حضر الإمام أمر من يقوم بها وبدأ بالخسوف وتداخل المزني بالنقل والشافعي لم يقل هكذا، بل قال في "الأم": فإن لم يكن حضرت: يعني: الجنازة ولكنها تنتظر فالإمام يأمر جماعة لينتظروها ويقوموا بها إذا حضرت ويبدأ الإمام مع الآخرين بصلاة الخسوف، وإن كانت صلاة العيد آكد منها، لأنه يخاف فوتها بالتجلي، ولا يخاف فوت العيد، ثم إذا فرغ من صلاة الخسوف، وقد صلى أولئك على الجنازة بذلك وإلا هو صلى عليها إن كانت حضرت ثم "240 أ/3" قال الشافعي: وتركها، أي: لا يتبعها حتى تدفن ويشتغل بصلاة العيد وقيل: ما نقل المزني صحيح أيضا، ومعناه: فإن لم يرد الإمام أن يصلي على الجنازة أولا يريد حضورها بل من يصلي عليها وبدأ الخسوف، وقيل: معناه فإن لم يكن حضر الإمام يعني إمام الجنازة وهو الولي، لأنه أولى فتترك جماعة ليصلوا مع الولي إذا حضر، وهذا ضعيف بعيد. وقال الشافعي في كتاب العيدين: إذا انكسفت الشمس يوم الجمعة ووافق ذلك يوم الفطر بدأ بصلاة العيد، ثم بصلاة الخسوف إن لم تنجل قبل الدخول في صلاة الكسوف، قال أصحابنا: ليست المسألة على قولين: بل هي على اختلاف الحالين، فالذي قال في العيدين: إنه إذا خاف صلاة العيد فيبدأ بصلاة العيد، لأن فواته متحقق وفوات الكسوف غير متحقق والذي قال هاهنا: إذا كان في وقت صلاة العيد سعة لا يخاف فوتها، ثم إذا فرغ منها بدأ بصلاة العيد وقدمها على صلاة الاستسقاء، لأنه لا يخاف فوتها ومجئ المطر ليس مما يسرع، وإذا جاء المطر لا يفوت الصلاة لأنا "240 ب/3" نقول: يستحب الصلاة بعد للشكر ولهذا قال الشافعي: يؤمر الناس قبل الاستسقاء يصوم ثلاثة أيام، ثم إذا فرغ منها فإن أمكنه أن يصلي صلاة الاستسقاء في ذلك اليوم، ولم تشق على الناس صلاها، وإن شق على الناس أخرها إلى الغد ثم صلاها. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا اجتمع عيد وخسوف صلى أيهما شاء، وهذا ليس بشيء، واعترض ابن داود قوم ممن يتعاطون علم النجوم فقالوا: إنه يستحيل اجتماع الخسوف والعيد، لأن خسوف الشمس لا يكون في العادة إلا في الثامن والعشرين أو التاسع والعشرين من الشهر، وخسوف القمر لا يكون إلا في ليلة الرابع

عشر والخامس عشر، فكيف يجتمع ذلك مع العيد. قلنا: الشافعي بينه على أنه لو كان، كيف يكون حكمه على طريق التوسع في التفريط والتبسط في العلم، وهذا كما قال أهل الفائض: إذا خلف مائة حبة وأكثر كيف يكون تنزيلها وحكمها وذلك لا يكون في العادة القائمة، ولكنهم ذكروها على المعنى الذي ذكرنا، وعلى هذا قال أبو حنيفة: لو ضرب رأس رجل بأبي قبيس فقتله فلا قصاص، والثاني: هذا "241 أ/3" عندنا أنه من الآيات يخوف الله تعالى بها عباده وبما أظهرها في غير هذا الوقت إذا علم المصلحة فيه بدليل ما روي عن الزبير بن بكار أنه قال في كتاب النسب: إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات يوم الثلاثاء لعشر خلون من ربيع الأول، وكسفت الشمس في ذلك اليوم. وروي أنه مات يوم الثالث عشر من ربيع الأول سنة عشر، فإذا تقرر هذا، ذكرنا أنه إذا خاف فوت العيد بدأ بها ويخفف، ثم يصلي الخسوف وإذا فعل كذلك يخطب لهما جميعا خطبة واحدة يذكر فيها ذكر العيد والخسوف جميعا ولا يضر تأخير صلاة العيد إلى ما بعد الزوال، لأن الخطبة هي غير مؤقتة وإنما هي تابعة لصلاة العيد في وقتها فلا يضر تأخيرها. فرع لو اجتمع صلاة الخسوف وصلاة الجمعة يبدأ بصلاة الخسوف، لما ذكرنا أن بقاءه غير متحقق ويقرأ في كل قيام بأم القرآن وقل هو الله أحد، فإذا فرغ من الصلاة خطب للجمعة وذكر فيها الخسوف، ثم يصلي الجمعة ولم يقل هاهنا يخطب لهما كما "241 ب/3" قال هناك؛ لأنه لو خطب لهما هاهنا لم يجز إذ الخطبة للجمعة فرض فلا يجوز أن يجعلها مشتركة بين الفرض والنفل. وذكر أصحابنا أنه ينوي بالخطبة للجمعة، وإن خاف فوت الجمعة بدأ بها لأنها آكد من غير إشكال، ثم إذا فرغ منها فإن كانت الشمس كاسفة بعد صلاة الكسوف وإلا فقد فاتت ولا تقضى. قال الشافعي: وهكذا يضع في كل مكتوبة ويخطب بعد المكتوبة، لأنه لا وقت للخطبة. فَرْعٌ آخرُ قال: لو خسفت الشمس بعد العصر وهو في الموقف صلى الخسوف؟، ثم خطب على بعيره ودعا، وإن كان بعرفة قبل المضي إلى الموقف صلاها ولم يدعها للوقوف وخفف الصلاة والخطبة، وإن خسف القمر بالمزدلفة بعد طلوع الفجر صلى للخسوف وإن حبسه ذلك إلى طلوع الشمس ويخفف لئلا يحبسه إلى طلوع الشمس، وإن كان الخسوف بمكة عند رواح الإمام للصلاة بمعنى صلى الخسوف، وإن خاف أن تفوته صلاة الظهر بمنى صلاها بمكة.

فَرْعٌ آخرُ قال: لو خسفت الشمس، ثم حدث خوف صلى الإمام صلاة الخسوف صلاة خوف، كما يصلي المكتوبة صلاة "242 أ/3" خوف وكذلك يصلي صلاة شدة الخوف إيماء حيث يوجد راكبا ماشيا فإن أمكنه الخطبة مع الصلاة خطب وإلا ترك الخطبة. مسألة: قال: وإن خسف القمر صلى كذلك. الفصل وهذا كما قال السنة أن يصلوا في خسوف القمر جماعة مثل ما ذكرنا في خسوف الشمس إلا أنه يجهر فيها بالقراءة. وقال أبو حنيفة فرادى في بيوتهم، لأن خروجهم ليلا مع الانكساف مشقة. وقال مالك: لا يصلي أصلا، وهذا غلط لما روينا عن ابن عباس فيما تقدم وما قالوا: ينتقض بصلاة التراويح ثم فرع الشافعي على هذا مثل ما فرع على خسوف الشمس من اجتماع هذه الصلاة مع غيرها في وقت واحد، فقال: وإن خسف به القمر في وقت قنوت أي في وقت قيام الليل من تراويح أو غيرها بدأ بالخسوف قبل الوتر وقبل ركعتي الفجر وإن فاتتا، أي: وإن أدى البداية بصلاة الخسوف إلى فوات هاتين الصلاتين وهما الوتر وركعتا الفجر وعلل، فقال: لأنها صلاتا انفراد، وأراد أن التطوع الذي سن له الجماعة هو آكد من صلاة الانفراد وإن كانت "242 ب/3" مؤكدة وقيل: العلة أن الوتر وركعتي الفجر .... بعد .... بخلاف هذه وهذا ينتقض بصلاة العيد فالعلة الصحيحة ما ذكرها الشافعي قبل هذه العلة، ثم بين أن خطبة خسوف القمر يجوز أن تقع في النهار بعدما كانت الصلاة في الليل، فقال: يخطب بعد صلاة الخسوف ليلا ونهارا. وأما النساء: فيستحب لهن أن يحضرن إذا كن عجائز أو غير ذوات الهيئة، وقالت أسماء بنت أبي بكر فزع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم كشفت الشمس فقام قياما طويلا، فرأيت المرأة التي هي أكبر مني والمرأة التي هي أصغر منهي قائمة، فقلت: أنا أحرى بالصبر على طول القيام. وقال في "الأم": لا أكره لمن لا هيئة له شهود هذه الصلاة ويكره للشباب وذوات الهيئة ويصلي هؤلاء في بيوتهن إما فرادى أو جماعة، وإذا فرغن لم يخطبن لأن الخطبة ليست من رتبة النساء. وقال في "الأم": وإن قامت إمامتهن فذكرتهن ووعظتهن كان حسنا، ولو حصل

رجل معهن، ولا رجل هناك سواه، فإن كن ذوات محارم له صلى بهن وإلا يكره له ذلك، فإن خالف وصلى "243 أ/3" بهن صحت صلاتهن، ثم بين أين تصلي هذه الصلاة وقد مضى بيانه في خسوف الشمس. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل تصلى صلاة الخسوف في كل مسجد أم لا تصلى إلى في جماعة واحدة؟ وجهان مخرجان بناء على القولين في صلاة العيد، وهذا خلاف النص الذي ذكرنا فيما تقدم. مسألة: فإن لم يصل حتى تغيب كاسفة. الفصل وهذا كما قال. إذا غفل عن صلاة الخسوف حتى تجلت كلها لم يصل وهذا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: في رواية جابر رضي الله عنه: "فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله والصلاة حتى تنجلي" فجعل الانجلاء غاية الصلاة ولأن الصلاة إنما شرعت ليدعو الناس الله تعالى حين يرد إليها الضوء للانتفاع به، فإذا تجلت زال هذا المعنى فإن قيل: قد قلتم: الاستسقاء إذا مطروا صلوا الاستسقاء، فلم لا تقولون هاهنا إنه يصلي بعد التجلي، قلنا: لانهم يصلون هناك لاستزادة المطر وإتمام المنفعة. وهاهنا لا معنى للصلاة لاستزادة الضوء فلهذا لم يصلوا. فرع لو تجلى بعضها صلى ليرد الله تعالى "243 ب/3" ضوء ما انكسفت منها ولهذا لو انكسف بعضها في الابتداء فإنه يصلي كذلك. مسألة: قال: فإن غاب خاسفا صلى صلاة الخسوف بعد الصبح ما لم تطلع الشمس. وهذا كما قال: إذا انخسفت الشمس وغابت خاسفة قبل أن يحرموا بالصلاة لا يصلون؛ لأن الشمس إذا غابت فقد ذهب سلطانها وذهب الوقت الذي دخل فيه ضوئها منفعة للناس فلم يكن للصلاة معنى، ولو خسف القمر ففيه ست مسائل: أحدها: أن ينجلي ليلا قبل الصلاة فلا يصلي مما ذكرنا في الشمس. والثانية: أن ينجلي بعضه فإنه يصلي. والثالثة: أن يغطيه السحاب منخسفا فإنه يصلي. والرابعة: أن يغيب القمر منخسفا في بعض الليل قبل أن يصلوا صلاة قولا واحدا ويخالف غروب الشمس كاسفة؛ لأن زمان الليل هو وقت لسلطان القمر وبقاء ضوئه في بعض الليالي فإن غاب في بعضها، وغيبوبة الشمس لا يختلف زمانها وليس لها في

الليل سلطنة بوجه، وقيل في القمر: إن القمر قد يكون باقيا بعد طلوع الشمس فلا يكون لطلوعه وبقائه حكم مضئ الليل فكذلك "244 أ/3" إذا غاب مع بقاء الليل وجب أن لا يكون لغيبوبته حكم مع بقاء الليل وليس كذلك الشمس؛ لأنه لا يسقط حكمها مع بقائها فكذلك لا يبقى حكمها مع غيبوبتها. والخامسة: أن تطلع الشمس وهو منكسف فإنه لا يصلي، لأن وقته قد فات وسلطانه قد ذهب فهو بمنزلة غيبوبة الشمس. والسادسة: أن يطلع الفجر وهو منكسف ففيه قولان: قال في "القديم": لا يصلي لأن القمر من آية الليل والشمس من آية النهار، فكما لا يصلى لخسوف الشمس بالليل لا يصلى لخسوف القمر بالنهار، وقبل الفجر حاجب الشمس. وقال في "الجديد": يصلي وهو الصحيح، لأن قبل طلوع الشمس سلطان باق لقوله تعالى: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} الإسراء: 12" فما لم تطلع الشمس فالسلطنة له وقد يقع لضوئه في هذا الوقت. فرع لو خسف القمر بعد طلوع الشمس، هل يبتدئ الصلاة؟ فيه قولان بناء على هذين القولين ولو ابتدأ خسوف القمر بعد طلوع الشمس لا يصلي قولا واحدا. مسألة: قال: فإذا طلعت أو أحرم فتجلت أتموها. وهذا كما قال أراد به إذا طلعت الشمس في خلال صلاة خسوف القمر إذا أحرم بصلاة خسوف الشمس، ثم تجلت الشمس "244 ب/3" أتموها، وهذا لأن القصد بهذه الصلاة إعظام الله تعالى ما رأوا من الآيات التي يخوفهم بها، ومسألة تجليها وإعادة ضوءها إليها، فإذا افتتحوا الصلاة ثم حصل المقصود لم يجز إبطال الصلاة بل إتمامها أحسن لعبادته. وأتم لشكر نعمته. وقال بعض أصحابنا: يحتمل أنه أراد يتجوز فيها ويطرح الزوائد التي خصت بها، وقد ذكرنا وجهين، والنص الظاهر أنه يتمها كما شرع فيها إلا أنه يخفف. فرع لو كسفت الشمس، ثم تغيبت السماء، وتغيبت الشمس في السحاب يصلون صلاة الخسوف؛ لأن الخسوف يقين وتجليها مشكوك فيه، واليقين لا يزول بالشك، ولو طلعت الشمس في غمام أو غيابة فتوهمها خاسفة فلا صلاة حتى يستيقن ذلك، ثم ذكر في "المختصر": مسألتين مضى بيانهما: إحداهما: قال: فإذا اجتمع أمران فخاف فوات إحداهما بدأ بالذي يخاف فوته. والثانية: قال: فإن لم يقرأ بأم القرآن أجزأه، وهذا لأن الفريضة تجزئ بأم القرآن فالنافلة أولى، ثم بين أن الجماعة وإن كانت مسنونة لهذه الصلاة فليست بواجبة بخلاف

الجمعة، فقال: ولا يجوز عندي تركها لمسافر على "245 أ/3" ما ذكرنا وأراد أنه لا يجوز من طريق السنة. وحكى عن الثوري، ومحمد بن الحسن أنه لا يجوز هذه الصلاة منفردا، وهو غلط لأنه روى أن ابن عباس صلى صلاة الخسوف على ظهر زمزم وذلك الموضع لا يتسع للجماعة ولأنه ليس من شرطها الوطن فكذلك الجماعة. مسألة: قال: ولا آمر بصلاة جماعة في آية سواهما. وهذا كما قال: لا تسن في غير آية الخسوف من الزلازل والريح الشديدة والظلمة ونحو ذلك؛ لأن هذه الآيات كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم تنقل الصلاة لها. قال الشافعي: ويستحب التكبير والدعاء، فإن صلى للناس منفردين لئلا يكونوا على غفلة جاز، وحكى عن الشافعي هاهنا أنه قال: وآمر بالصلاة منفردين، وقال بعض أصحابنا: لم يستحب الشافعي هذا بل أمر لئلا يكون على غفلة وحدث حادث فيكون على أفضل القرب وهي الصلاة، لأن الصلاة هي خير موضوع ولم يذكر في " الحاوي" غيره، ويحتمل أنه استحب ذلك لها منفردا اعتمادا على ظاهر قوله/ ولا إشكال أن هذه الصلاة هي كسائر الصلوات. وقد روى عن النبي "245 ب/3" - صلى الله عليه وسلم - أنه كان: "إذا سمع صوت رعد أو صاعقة يقول: "اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك"، وروى أنه كان إذا هبت ريح شديدة يستقبلها جاثيا على ركبتيه ويقول: "اللهم اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا، اللهم إني أعوذ بك من شر ما أرسلت فيها"، وهذا لأن في كل موضع ذكر الله تعالى الريح فهو للعذاب وهو موضع ذكر الرياح فهو للرحمة، هذا ذكره ابن عباس قال الله تعالى: {وأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ} " الحجر: 22" وقال: {وهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا} "الأعراف: 57" الآية وقال {فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ} "الحاقة: 6" وقال: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} "القمر: 19" وقال ابن مسعود رضي الله عنه يصلي في جماعة كل آية، وبه قال أحمد وإسحاق، وقال أهل العراق: يصلون فرادى الزلازل والرياح سنة. وحكى عن الشافعي أنه قال في كتاب اختلاف العراقيين: صلى علي رضي الله عنه جماعة في زلزلة ثم قال: فإن صح قلت به، فمن أصحابنا من قال: أراد إن صح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قلنا: به وإلى وقتنا هذا لم يصح، ومنهم من قال: إن صح عن علي قلنا به فمن "246 أ/3" قال بهذا اختلفوا على

باب صلاة الاستسقاء

وجهين: أحدهما: أراد إن صح قلنا: في الزلزلة وحدها. والثاني: أراد إن صح قلنا به في سائر الآات مثله باب صلاة الاستسقاء مسألة: قال: ويستسقى الإمام حيث يصلي العيد. وهذا كما قال. اعلم أن معنى الاتسقاء مسألة الله تعالى سقيا عبارة عن حاجتهم إليه وذلك هو سنة لا خلاف فيها، والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وإذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِب بِّعَصَاكَ الحَجَرَ} "البقرة: 60" الآية وقوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا} "نوح: 10 و 11". وأما السنة: فما روي ابن عباس رضي الله عنه أنه خرج في الاستسقاء متبدلا متذللا متواضعا متضرعا حتى أتى المصلى، فدعا على المنبر ولم يخطب كخطبتكم هذه ولكن لم يزل في الدعاء والتضرع والتكبير، ثم صلى ركعتين كما صلى في العيدين. وروى أنس رضي الله عنه قال: أصاب أهل المدينة قحط فقام رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يخطب فقال: "هلك الكراع والشاء فاسأل الله أن يسقينا فمد يده ودعا "246 ب/3" فهاجت ريح، ثم أنشأت سحابا، ثم اجتمع فأرسلت السماء عزاليها، فخرجنا نخوض الماء حتى أتينا منازلنا، والعزالى: هي جمع العزلا، وهم فم المزادة وروى أنه لما قال الأعرابي هذا وهو في خطبة الجمعة كانت السماء كمثل الزجاجة فمد يده ودعا فلم تزل السماء تمطر إلى الجمعة الأخرى فقام إليه ذلك الرجل أو غيره؟ فقال يار سول الله: تهدمت البيوت فادع الله لنا أن يحبسه فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: " اللهم حوالينا ولا علينا" فنظرت إلى السحاب ينصدع حول المدينة كأنه إكليل، وهذا الخبر يدل على أنه يستحب الاستسقاء عند الجدب والدعاء على صرفه إذا خيف ضرره. وأما الإجماع: روى أن العباس عم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استسقى، وروي أن عمررضي الله عنه استسقى بالناس عام الرمادة فأخذ بضبعي العباس وأشخصه قائما وأرمى به نحو الشمال. وقال: "اللهم إنا جئناك نستسقيك ونستشفع إليك بعم نبيك" فما انقضى قوله والناس ينظرون إليها وإلى السحاب حتى نشأت سحابة فلم تلبث أن طبقت الأفق، ثم أرسلت السماء "247 أ/3" عزاليها فما رجعوا إلى حالهم حتى بلغهم الغيث، فأفرغ الله به الجنان، وأخصب به البلاد وذلك أبلغ المعجزات لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأعظم

ما يكون من الآيات، ولا خلاف بين المسلمين فيه. فإذا تقرر هذا فقد قال في " الأم": إذا انقطعت الأمطار وقت الحاجة إليها وغارت العيون والأنهار أو جفت الآبار أو ملحت في بعض المواضع مياه الأنهار لا أحب للإمام أن يتأخر عن الاستسقاء، فإن تخلف عنه فقد أساء بترك السنة ولا قضاء عليه ولا كفارة، وإن لم يفعلها الإمام فعلها الرعية والمستحب أن يستسقي الإمام مع الناس في الصحراء؛ لأن المستحب أن يخرج له الرجال والنساء والصبيان، فالصحراء هي أوسع وأرفق وروى عباد بن تميم عن عمه عبد الله بن زيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خرج بالناس إلى المصلى يستسقي، ولأن في الصحراء يوقف على سحابة إن نشأت أو نقط من المطر فيستبشرون به، ولأن المطر يصيبهم في الصحراء والبروز للمطر مستحب. مسألة: قال: ويخرج متنظفا بالماء وما يقطع الروائح. الفصل وهذا كما قال في السنة: "247 ب/3" أن يخرج متنظفا بالماء، فإنه يغتسل ويستاك على ما سبق بيانه ويلبس ثيابا نظيفة غير جديدة ولا مطيبة، وهذا لئلا يتأذى بروائحه الكريهة، وقال في " الأم": ولا يتطيب ويكون مشيه وجلوسه وكلامه كلام تواضع واستكانة، وكذلك سائر الناس، وهذا لأنه موضع مسألة وطلب بخلاف يوم العيد، فإنه يوم سرور وزينة، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - تزين للعيد وخرج للاستسقاء متذللا متواضعا متضرعا. مسألة: قال: وأحب أن يخرج الصبيان ويتنظفوا للاستسقاء. الفصل وهذا كما قال: ويستحب أن يخرج الصبيان والشيوخ والعجائز، ومن لا هيئة له من غير العجائز ليكثر الجمع، والاستحباب في خروج الشيوخ والصبيان أشد لقوله - صلى الله عليه وسلم - "لولا رجال ركع"، وروي "شيوخ ركع" وروي "صبيان رضع وبهائم رته لصب عليكم العذاب صبا" وروي ثم يرص رصا؛ ولأن الصبيان لا ذنب لهم وفي الشيوخ قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا بلغ الرجل ثمانين سنة غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر"، وروي أن عمر رضي الله عنه "استسقى بالعباس" على ما ذكرنا. قال "248 أ/3" ويستحب لسيد العبد أن يخرجه ويخرج الأمة العجوز ليكثر التضرع والدعاء، ولا يجب ذلك على السيد؛ لأن الرقيق مستحق الخدمة.

قال: ولا آمر بإخراج البهائم وأراد لا يستحب ذلك ولا أكرهه؛ لأن بحضورها أثرا في الرحمة، وروي أن قوم يونس - صلى الله عليه وسلم - لما أظلهم العذاب وطلبوا يونس - صلى الله عليه وسلم - ليسلموا هرب منهم فخرجوا إلى الصحراء وفرقوا بين النساء وأولادهن وبين البهائم وأولادها، فضجت الأمهات وضج الأولاد وكثر الدعاء فرفع الله تععالى عنهم العذاب، وإنما قلنا: لا يستحب، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخرجها في الاستسقاء. وقال أبو إسحاق: يستحب إخراج البهائم لعل الله تعالى أن يرحمها ولا يؤاخذها بذنوب بني ءادم، لأنها تستضر بالجدب أيضا كبني ءادم، ومن قال بهذا قال: تأويل ما قال في "الأم"، " ولا آمر بأخراج البهائم كما آمر بإخراج الصبيان والشيوخ" فجعل حضورهم آكد وأفضل. وحكى القفال عن الشافعي أنه قال: أحب إخراج البهائم وإيقافها في جانب بين الناس للخبر الذي ذكرنا وهذا غريب. وقال في "الحاوي" "248 ب/3" قال ابن أبي هريرة: إخراج البهائم أولى من تركها. وقال سائر أصحابنا: إخراجها مكروه لما فيه من تعذيبها واشتغال الناس بأصواتها، وإنها من غير أهل التكليف، وهذا خلاف النص الذي ذكرنا، وحكى أن سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام خرج يستسقي فرأى نملة قد استقلت على ظهرها تستسقي فقال: ارجعوا فقد سقيتم بعيركم. مسألة: قال: وأكره إخراج من خالف الإسلام للاستسقاء في موضع مستسقى المسلمسن وأمنعهم من ذلك. وهذا كما قال: لا يجوز للإمام أن يخرج أهل الذمة وسائر الكفار للاستسقاء؛ لأن اللعنة تنزل عليهم. قال أصحابنا: وربما كانوا هم سبب القحط لقوله تعالى: {وأَن لَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّاءً غَدَقًا} "الجن: 16" فإن خرجوا متميزين عنهم، قال الشافعي: لا أمنعهم لأنهم مسترزقة والله تعالى يضمن رزق العباد المؤمنين والكفار فقوله تعالى: {وارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ ومَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} " البقرة: 126" الآية. وهذا إذا أرادوا أن يخرجوا في غير يوم المسلمين، فأما إن أرادوا الخروج في يوم المسلمين إلى موضع آخر متميزين عن المسليمن فيه "249 أ/3" وجهان: أحدهما: يمنعون لأن الشافعي قال في " الأم": وأكره إخراج من خالف الإسلام للاستسقاء مع المسلمين في موضع مستسقى المسلمين وغيره، وأراد به في ذلك اليوم لأن في غيره لا يمنعون، ولأنا لا نأمن إذا استجيبت دعوة المسلمين أن يدعوها لأنفسهم.

والثاني: وهو الأصح لا يمنعون لأن الشافعي، قال: وإن خرجوا متميزين لم أمنعهم، والذي قال في " الأم": إنما أكره إخراج من خالف الإسلام وهاهنا لا يخرجهم، بل هم خرجوا بانفسهم. وقال الشافعي: لا أكره إخراج صبيان أهل الذمة ما أكره من رجالهم، لأن غير البالغ لم يعاند ولم يعتقد، بل هو تابع. وأما خروج نساء أهل الذمة كخروج رجالهم إن خالطن المسلمين منعن وإلا فلا كما قلنا في الرجال. وقال مكحول: لا بأس بإخراج أهل الذمة مع المسلمين، وقال إسحاق: لا نأمرهم بالخروج ولا ننهاهم، وقال الأوزاعي: كتب يزيد بن عبد الملك إلى عماله بإخراج أهل الذمة للاستسقاء فلم يعب عليهم أحد في زمانه. واحتجوا بأن الله تعالى ضمن أرزاقهم كما ضمن أرزاق المؤمنين وهذا غلط؛ لأن الكفار أعداء "249 ب/3" الله تعالى فلا يحتاج إلى دعائهم وشفاعتهم فلا يخرجهم ولا يمنعهم. مسألة: قال: ويأمر الإمام الناس قبل ذلك أن يصوموا ثلاثا. الفصل وهذا كما قال: إذا أراد الإمام الخروج للاستسقاء يستحب له أن يتقدم إلى الناس، بان يصوموا قبله ثلاثة أيام متتابعة، وأن يتقربوا إلى الله تعالى بأداء ما يلزمهم من المظالم من دم أو مال أو عرض؛ لأن القحط عقوبة المظالم. قال عبد الله بن مسعود: "إذا بخس المكيال، حبس القطر" ويأمر بالصلح مع المتشاحن والمهاجر وبالتطوع وبالتصدق والصلاة والذكر وغيرها من البر، والأصل فيها ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الصدقة تطفئ غضب الرب والدعاء يرد البلاء"، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ثلاثة لا ترد دعوتهم الصائم والمريض والمظلوم"، ثم يأمرهم أن يخرجوا في اليوم الرابع صياما نص عليه في "الأك"؛ لأنا إذا استحببنا لهم أن يقدموا الصيام فالأولى يوم المسألى والدعاء. فإن قيل: أليس يستحب الفطر يوم عرفة ليتوفروا على الدعاء فقولوا: مثله هاهنا قلنا: هناك الغالب هناك "250 أ/3" السفر الطويل وأقلهم سفرا من يخرج من مكة، فإذا كان صائما ضعف عن الدعاء وهاهنا لا يوجد هذا المعنى. قال: ويخرج بهم إلى أوسع ما يجد يعني من الصحراء، وينادي الصلاة جامعة ثم يصلي بهم ركعتين كما يصلي في العيدين، ويقرأ فيهما ما يقرأ في العيدين في الركعة

الأولى بسورة ق وفي الركعة الثانية بسورة اقتربت، ومن أصحابنا من قال: يقرأ في الثانية سورة نوح لأنها بالحال أشبه كما في صلاة الجمعة الأول أولى لما روى ابن عباس رضي الله عنه عنه قال: "صنع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صلاة الاستسقاء ما صنع في صلاة عيد الفطر والأضحى"، ويجهر فيها بالقراءة ويصلون قبل الخطبة وبه قال مالك وأبو يوسف ومحمد، وهي أشهر الروايتين عن أحمد، وروى ذلك عمر بن عبد العزيز وسعيد بن المسيب، ومكحول رضي الله عنهم. وقال الزهري والأوزاعي وأبو حنيفة: لا يصلي الاستسقاء والصلاة فيه بدعة، وربما يقول أبو حنيفة وأصحابه: إنها لا تكون بدعة ولا سنة، وحكي عن مالك أنه يصلي ركعتين بلا [250 ب/3] تكبير زائد وهي رواية عن أحمد. وقال الليث بن سعد: يخطب قبل الصلاة، ويروى هذا عن ابن الزبير وكذلك عن عمر بن عبد العزيز، وهذا غلط لما روي عن جعفر بن محمد عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما كانوا يصلون صلاة الاستسقاء يكبرون فيها سبعا وخمساً. وروي أنهم كانوا يخطبون بعد الصلاة ويقيس على صلاة العيد ووقت هذه الصلاة وقت صلاة العيدين ولا يزال وقتها قائماً ما لم يصل العصر، فإذا صليت العصر، ظاهر كلامه في "الأم" أنها لا تفعل لأنه قال فيه: لو صلاها بغير طهارة أعاد في يومه بعد الظهر وقبل العصر، وليست كصلاة العيد التي يفوت وقتها بزوال الشمس، وهذا لأن وقتها موسع لا يخاف فوتها فلا يجوز أن يقصدها في الأوقات المنهية. مسألة قال: ثم يخطب الخطبة الأولى ثم يجلس ثم يقوم فيخطب يقصر الخطبة الأخرى. الفصل وهذا كما قال: الكلام الآن في صفة الخطبة، وجملته أنه يستحب أن يخرج المنبر إلى الصحراء ليخطب عليه، وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي [251 أ/3]- صلى الله عليه وسلم - أخرج المنبر للاستسقاء ولم يرو عنه أنه أخرج المنبر في العيد ولكنه خطب على بعيره، وقيل: لا يستحب ذلك في العيد، وقال الشافعي: فإن لم يخرج المنبر ولكنه خطب على حائط أو ربوة جاز؛ لأن الغرض أن يكون عالياً ليبلغ خطبته، فإذا صعد سلم وجلس كما قلنا في خطبة العيد، ولا تختلف هذه الخطبة وخطبة العيد، إلا أنه يستحب أن يدعو في هذه الخطبة الأولى لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان إذا استسقى قال اللهم اسقنا غيثاً مغيثاً هنيئاً مريئاً مريعاً غدقاً مجللاً عاماً ماسحاً دائماً، اللهم اسقنا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم إن بالعباد والبلاد والخلق من

اللأواء والجهد والضنك ما لا يشكو إلا إليك، اللهم أنبت لنا الزرع، وأدر لنا الضرع، واسقنا من بركات السماء وأنزل علنا من بركات الأرض اللهم ارفع عنا الجهد والجوع والعرى واكشف عنا من البلاء ما لا يكشفه غيرك، اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفاراً فأرسل السماء علنا مدراراً" فإذا دعا بهذا الدعاء [251 ب/3] ويصل بن الخطبتين بجلوس، فإنه يبتدئ بالخطبة الثانية"، وذكر ابن قتيبه في حديث أنس أنه قال:" اسقنا غيثاُ مغيثاً وحياً رتيعاً وحداً طبقاً غدقاً موقعاً عاماً هنيئاً مرياً مريعاً مونقاً وابلاً سائلاً مسيلاً مجللاً ديماً دراراً نافعاً غير ضار عاجلاً غير رائث غيثاً. اللهم تحيي به البلاد وتغيث به العباد وتجعله بلاغاً للحاضر منا والباد، اللهم أنزل علمنا زينتها، وأنزل علينا في أرضها سكنها اللهم أنزل علينا من السماء ماء طهوراً فأحيي به بلدة ميتاً واسقه مما خلقت لنا أنعاماً وأناسى كثيراً". وروى أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول عند كثره المطر: "اللهم اسقنا رحمة ولا سقياً عذاب ولا محق ولا بلاء ولا هدم ولا غرق، اللهم على الظراب ومنابت الشجر اللهم حوالينا ولا علينا" والغيث: المطر، مغيثاً أي: يغيث الخلق عن الشدة هنيئاً مريئاً، أي: ذا هناء ومراء مريعاً، أي: مخصباً ذا مراعة، مربعاً، أي: منبتاً للربيع وهو الكلأ، وهل: هو من ربعت بمكان كذا إذا أقمت به، مجللاً أي: مغطياً، سحاً: أي صباً والغدق هل: غذقاً وغَدَقاً ومغدقاً وهو الكثير المطر والحياء هو الذي تجيء به [252 أ/3] الأرض والجد المطر العام، ومنه أخذ جد العطية والجدوى مقصور والمونق: المعجب والسائل من السيل فقال: سئل سائل كما يقال: مطر ماطر والرايث: البطيء وسكنها فوتها، وإنما قيل: له سكن لأن الأرض سكن به والظراب: هى التلال الصغار. قال الشافعي: وأحب أن مكون أكثر كلامه الاستغفار ومفصل به كلامه ويختتمه به هكذا روي عن عمر رضي الله عنه ويكثر من قوله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11)} [نوح: 10 و 11] ويستحب أن يدعو بدعاء الأنبياء، فإنه أسرع إلى الإجابة. وروى أن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب إلى ميمون بن مهران: إني كتبت إلى البلدان أن يخرجوا إلى الاستسقاء وأمرتهم بالصدقة والصلاة فإن الله تعالى قال: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى (14) وذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)} [الأعلى: 14 و 15] وأمرتهم أن يقولوا: كما هال أبوهم أدم - صلى الله عليه وسلم - {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وإن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ (23)} [الأعراف: 63] وأن يقولوا: كما قال موسى عليه السلام: {ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ (16)} [القصص:16] وأن يقولوا: كما قال يونس [252 ب/31] {أَن لاَّ إلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} فإن قصر من هذا أو

زاد على هذا فلا بأس، ويستحب أن يأتي بهذا الاستغفار في الخطبة الثانية ثم إذا بلغ إلى هذا المكان في الخطبة الثانية حول وجهه إلى القبلة، وهو على المنبر وظهره إلى الناس، فإن كان عليه طيلسان مقور وهو الذي نسخ مقوراً حوله ولم يقلبه؛ لأن تقليبه لا يمكن، وتحويله هو أن يجعل ما على عاتقه الأيمن على الأيسر وما على عانقه الأيسر علي الأيمن. وقيل: ويجعل باطنه ظاهراً وظاهره باطناً ولو كان رداء مربعاً فإنه يحول قولاً واحداً، وهل ينكسه فيجعل الأعلى على الأسفل والأسفل على الأعلى؟. قال في "القديم": لا ينكسه؟ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكس، وقال في "الجديد": ينكسه وهو الصحيح، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد التنكيس فثقلت عليه فترك، فإذا أمكن ما أراد يكون مستحباً فإن ثقل عليه حوله، ولم ينكسه كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويفعل المأموم مثل هذا وهو جالس والفائدة في قلب الرداء وتنكسه التفاؤل، وهو أن ينتفل من جدب إلى [253 أ/3] خصب. وقال أبو حنيفة: لا يستحب التحويل، لأنه دعاء فلا يستحب فيه تغيير الثياب. وحكي الطحاوي عن أبي يوسف أنه قال: يحول الإمام رداءه دون المأمومين، وروي مثله عن محمد وعروة وسعيد بن المسيب والثوري وهذا غلط، لما روي في خبر عبد الله بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "استقبل القبلة وحول رداءه، وجعل عطافه الأيمن على عاتقه الأيسر، وجعل عطافه الأيسر على عاتقه الأيمن، ثم دعا الله". وأصل العطاف الرداء وانما أضاف الانعطاف إلى الرداء، لأنه أراد أحد شقي العطاف الذي عن يمينه وعن شماله. وقال أحمد: يجعل اليمين على الشمال والمال على اليمين، وعن مالك قريب منه، ثم إذا فعل ذلك يدعو لهم مستقبل القبلة سراً فيقول: "اللهم أمرتنا بدعائك ووعدتنا إجابتك فقد دعوناك كما أمرتنا فأجبنا كما وعدتنا، اللهم إن كنت أوجبت إجابتك لأهل طاعتك وكنا قد فارقنا، أي أذنبنا وأجرمنا ما خالفنا فيه الذين محضوا طاعتك، فامنن علينا بمغفرتك وإجابتك في سقياك، أو يقول: اللهم فامنن [253 ب/3] علينا بمغفرة ما فارقنا وإجابتك في سقيانا، وسعة رزقنا ويدعو بعد هذا بما شاء من أمر الدنيا والآخرة" ويدعو الناس معه سراً أيضاً في هذه الحالة، ثم يقبل على الناس بوجهه ويحضهم على طاعته ويأمرهم بالخير ويملي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو للمؤمنين والمؤمنات ويقرأ آية أو أكثر ويقول: أستغفر الله لي ولكم، ثم ينزل. فإن قيل: قلتم في الخطبة الثانية: إنه يدعو سراً. ويدعو الناس معه سراً، وفي الخطبة الأولى: لا يأمرون الناس بالدعاء، قلنا: لأن في الخطبة الأولى يجهر بالدعاء فيؤمنون هم وفي الثانية يسر هو بالدعاء فلا يسمعون دعاءه فلا بأس أن يوافقوه في الدعاء سراً، وإنما أمرناه أن يسر لهذا الدعاء ليجمع بين الإسرار والجهر في الدعاء، ويكون أقرب إلى الإجابة قال الله تعالى في قصة نوح عليه السلام {ثُمَّ إنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وأَسْرَرْتُ لَهُمْ إسْرَارًا (9)} [نوح:5] وقال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وخُفْيَةً} [الأعراف: 255].

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "خير الرزق ما يكفي وخير الذكر الخفي" فرع لو استقبل في الخطبة الأولى لم يكن عليه أن يعود لذلك في الخطبة [254 أ/7] الثانية نص عليه في "الأم". فرع قال: لو ترك عنهم تارك التحويل والتنكيس والإمام أوكلهم كرهت تركه لمن تركه ولا يحول رداءه إذا انصرف من مكانه الذي يخطب فيه. فرع إذا حولوا أرديتهم أقروها محولة كما هي حتى ينزعوها متى نزعوها على العادة. فَرْعٌ آخرُ قال: ولو اقتصر رجل على تحويل ردائه ولم ينكسه أجزأه إن شاء الله وكذلك إذا اقتصر على تنكيسه رجوت أن يجزيه. فَرْعٌ آخرُ يرفع يديه في حال الدعاء لما روى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان لا يرف يديه في شيء من الدعاء إلا عند الاستسقاء فإنه كان يرفع يديه حتى يرى بياض إبطيه". وروى جابر قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اللهم اسقنا غيثاً" الخبر وقوله: يواكئ معناه: التحامل على يديه إذا رفعهما ومدهما في الدعاء ومنه التوكؤ على العصا وهو التحامل عليها. فَرْعٌ آخرُ قال: لو اقتصر على خطبة واحدة يجوز لأنها سنة غير واجبة. فَرْعٌ آخرُ المنصوص أنه يبدأ بالخطبة بالتكبير كما في العيد، وقال بعمى [54 ب/31] أصحابنا بخراسان: يبدأ بالاستغفار بدل التكبير في العيد، وعندي أن هذا القائل غلط من قوله هاهنا ويبدؤون ويبدأ الإمام بالاستغفار ويفصل به كلامه بالاستغفار.

فَرْعٌ آخرُ يستحب أن يستسقى بمن يعرف أن له منزلة عند الله تعالى في الظاهر كما فعل عمر رضي الله عنه فإنه استسقى بالعباس رضي الله عنه، وقال: "اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبيك وإنا نتوسل إليك اليوم بعم نبيك العباس"، وروي أنه قال: "اللهم إن هذا عم نبيك فاحفظنا وعم نبيك لأنك تقول وقولك الحق: {وأَمَّا الجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المَدِينَةِ وكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82] فحفظتهما بصلاح أبيهما فاحفظنا بعم نبيك". وروي أن معاوية رضي الله عنه "استسقى بيزيد بن الأسود وكان رجلاً صالحاً فقال: "اللهم إنا نستسقي إليك بخيرنا وأفضلنا. اللهم إنا نستسقي إليك بيزيد بن الأسود يا يزيد ارفع يديك إلى الله تعالى" فرفع يديه ورفع الناس أيديهم فثارت سحابة من المغرب كأنها ترس وهب لها ريح فسقوا حتى كان الناس [255 أ/ 3] أن لا يبلغوا منازلهم". وقال القفال: قال الشافعي: يذكر كل واحد في نفسه ما فعل من خير فيعرضه على ربه سراً، ثم يسأل الحاجة كما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "ذكر ثلاثة نفر من بني إسرائيل خرجوا لحاجة فآواهم المطر إلى غار، ثم انحدرت صخرة من الجبل فسدت عليهم باب الغار، فقالوا: ما ينجينا من هذا الغار إلا الله تعالى، فقام أحدهم، وقال: اللهم إنك تعلم أنه كانت لي بنت عم وكانت أحب الناس إلي، فدعوتها إلى نفسي فأبت إلا أن آتيها بمائة دينار، فاكتسبت مائة دينار وجئتها بها، فلما قعدت بين شعبها الأربع قالت لي: يا عبد الله اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فقمت وتركت الدنانير، اللهم إن كنت تعلم أني لم أفعل ذلك إلا خوفاً منك فنجنا من هذا الغار فانحدرت الصخرة حتى رأوا شعاع الشمس، ولم يروا السماء. فقام الآخر، وقال: اللهم إنك تعلم أنه كان لي أبوان وكانت لي غنم أرعاها فكنت لا أطعم ولا أشرب ما لم أشبعهما، فأبطأت عليهما ذات ليلة فوجدتهما قد ناما، فحلبت اللبن وقمت به على رأسهما وصبياني [255 ب/ 3] حولي جياعاً فلم أشرب، ولم أسقهم ولم أوقظهما حتى استيقظا فشربا ثم شربت وسقيت أهلي، اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك لوجهك فنجنا فانحدرت الصخرة حتى رأوا السماء، فقام الثالث فقال: اللهم إنك تعلم أني استأجرت أجراء كل واحد منهم بصاع من أرز، فأبطأ أحدهم ذات يوم فجاء عند ارتفاع الضحى فدفعت إليه مثل ما لأصحابه فقال واحد منهم: لا أرضّ أن تسوي بيني وبينه، فإنه جاء بعدي فقلت له: هل نقصتك من أجرتك شيئاً. قال لا، قلت: هو مالي أعطيه من أشاء فغضب وترك لي أجوه، وذهب فزرعت ذلك ثم حصدت، ثم زرعت ثم حصدت حتى اجتمع منه مال كثير، واشتريت به عبيداً أكرة له فأصابته خصاصة فعاد، وقال: أتعرفني؟ قلت من أنت؟، فقال: أنا الذي راجعتك في أجري ذلك اليوم، وقد مستني الحاجة إليه فأعطني حقي فأمبته تلك الليلة، فلما أصبحت طفت به على تلك الأموال، وقلت: هذه لك، فقال: لي يا عبد الله لا تسخر بي وأعطني حقي، فأخبرته بما فعلت وسلمت إليه الأموال. اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك لوجهك فنجنا. فانفتح [256 أ/3]

باب الغار وخرجوا". فيستحب مثل هذا في الشدائد ورفح الحوائج إلى الله تعالى. مسألة: قال: فإن سقاهم الله تعالى وإلا عادوا من الغد للصلاة والاستسقاء. وهذا كما قال: إذا خرجوا للاستسقاء فلم تستجب دعوتهم يستحب أن يعودوا. وقال في "الأم": أحببت أن يعودوا ثم يعودوا حتى تمطر، وليس استحبابهم بعودة الثانية بعد الأولى لا الثالثة بعد الثانية كاستحباب الأولى لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يستسق إلا مرة واحدة، وهذا لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله يحب الملحين في الدعاء"، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا سأل أحدكم ربه فليعزم المسألة ولا يقل إن شئت فإن الله لا يكره له" وقال في "البويطي": يخرج ثلاثاً نسقاً وقال "في القديم": وأحب كلما أرادوا العود إلى الاستسقاء أن يأمر الناس أن يصوموا قبل عوده ثلاثاً، فإذا استسقى موالياً أجزأه إن شاء الله. واختلف أصحابنا في هذا فقال ابن القطان: في المسألة قولان: وليس في الاستسقاء مسألة على قولين إلا هذه، وقال بعض أصحابنا: تقديم صوم [256 ب/3] الثلاثة على كل مرة مستحب، ولكنه في المرة الأولى آكد ويجوز متوالياً وهذا أصح، ومن أصحابنا من قال: هو على اختلاف حالين، فالذي قال: يخرج من الغد هو إذا كان لا شغل لهم ولا ينقطعون عن معاشهم كأهل الرساتيق وإلا كره، والذي قال: يخرج بعد ثلاث هو إذا كان لهم أشغال ينقطعون عنها بذلك فيتركون حتى يتوفر قضاء أشغالهم، ثم يخرجون في اليوم الرابع. مسألة: قال: وإن كانت ناحية جدبة والأخرى خصبةً. الفصل هو كما قال. يستحب أن يستسقي أهل الناحية الخصبة لأهل الناحية الجدبة ولجماعة المسلمين، ويسألوا الله تعالى الزيادة لأنفسهم، ويكتب الإمام إلى من يقوم بأمر المجدبين في الاستسقاء لهم، فإن لم يفعل أحببت أن يستسقي رجل من بين أظهرهم، وهذا لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أرجى الدعاء دعاء الأخ عن ظهر الغيب"، وقال تعالى: {والَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ} [الحشر:10]. فأثنى عليهم بدعائهم للغير.

باب الدعاء في الاستسقاء

مسألة: قال: ويستسقي حيث لا يجمع من بادية وقرية. وهذا كما قال. صلاة [257 أ/ 3] الاستسقاء مسنونة لكل مكلف ذكراً كان أو أنثى، حراً كان أو عبداً، مقيماً كان أو مسافراً، حضرياً كان أو بدوياً، وأهل القرى والأمصار فيه سواء، لأن كلهم مشتركون في الاستضرار بالقحط والجدب، وقول الشافعي: لأنه سنة وليس بإحالة فرض أي: ليس كالجمعة التي أحيلت من الظهر إليها بشرائط، ويفعل هؤلاء ما يفعل أهل الأمصار عن الخطبة والصلاة، ومن أصحابنا من خرج فيه قولاً آخر: إنها لا تقام إلا في موضع تصلى فيه الجمعة وليس بشيء. مسألة: قال: ويجزئ أن يستسقي الإمام بغير صلاة وخلف صلاة. وهذا كما قال: الاستسقاء هو على ثلاثة أضرب: ضرب: هو الكامل وهو ما ذكرنا أن يخرج إلى الصحراء ويصلي ويخطب. والثاني: أن يستسقي قبل الصلاة وبعدها، وهذا دون الأول وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعله. والثالث: أن يستسقي بغير صلاة ولا خطبة. وهذا دون الكل ويجوز ذلك، لأن المقصود من الاستسقاء الدعاء لله تعالى في إزالة القحط وقد حصل ذلك، وروى الشعبي أن عمر رضي الله عنه "خرج يستسقي فصعد المنبر فقال: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا (11) ويُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وبَنِينَ ويَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ ويَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا (12)} [نوح:10 - 11] استغفروا ربكم إنه كان غفاراً، ثم نزل، فقيل: يا أمير المؤمنين لو استسقيت فقال: لقد طلبت بمجاديح السماء التي يستنزل بها القطر". باب الدعاء في الاستسقاء قال الشافعي: اخبرنا إبراهيم. . . الخبر. وهذا كما قال. هذا الباب يشتمل على نوعين من الدعاء: أحدهما: عند كثرة المطر واتصاله ومخافة تهدم البنيان، فيدعوه بما رواه المطلب بن حنطب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يقول: اللهم سقيا رحمة" إلى آخره. والنوع الثاني: هو ما ذكرنا في الخطبة الأولى فلا حاجة إلى الإعادة. فرع قال في "الأم": لو تهيأ الإمام للخروج فمطر الناس مطراً قليلاً أو كثيراً أحببت أن يمضي هو والناس فيشكرون الله تعالى على سقياه ويسألون الزيادة وعموم خلقه بالغيث، فإن كانوا ليمطرون في الوقت الذي يريد الخروج بهم فيه استسقى بهم في

المسجد أو أخر ذلك إلى أن يقع المطر. فرع قال: ولو نذر الإمام أن يستسقي ثم سقي الناس يجب عليه أن يخرج ويفي بنذره وإن [258/ 3] لم يفعل فعليه قضاؤه، وليس عليه أن يخرج بالناس، لأنه لا يمكنهم ولا له أن يكرههم على أن يستسقوا في غير جدب، وكذلك لو نذر رجل أن يخرج يستسقي عليه أن يخرج، وهذا لأن الاستسقاء طاعة فيلزم بالقدر كعيادة المريض. فرع لو نذر الإمام أن يستسقي بالناس. قال في "الأم": عليه أن يستسقي ويخرج بالناس ويصلي ويخطب بهم بأن سقوا قبل أن يخرج خرجوا وكان قضاء، كما إذا نذر أن يصوم يوماً ففاته بصومه قضاء. قال القفال: هذا في الجدب فإن كان في الخصب يحتمل أن لا يلزم شيء، لأنه لا حاجة إليها ويحتمل أن يلزم ويطلب زيادة السعة والخصب. فرع لو نذر غير الإمام أن يستسقي مع الناس كان عليه أن يخرج بنفسه ولم يكن عليه أن يخرج بالناس؛ لأنه لا يملكهم والواجب عليه إخراج من يطيعه من أهله وولده وغيرهم، وهذا استحباب وإن عبر بالواجب وقد قال في بعض الروايات: وأحب أن يخرج بمن أطاعه منهم. فَرْعٌ آخرُ قال: فإن كان في نذره أن يخطب فيخطب ويذكر الله تعالى ويدعوه جالساً إن شاء؛ لأنه ليس في قيامه إذا لم يكن [258 ب/3] والياً ولا معه جماعة طاعة، وإن نذر أن يخطب على المنبر يجوز أن يخطب جالساً وليس عليه أن يخطب على المنبر، لأنه لا طاعة في ركوب المنبر إلا ليستمع الناس، فإن كان إماماً معه ناس لزمه ذلك إلا أن يخطب على منبر أو جدار أو قائماً ويجزيه، ولا يتعين المنبر والطاعة إذا كان معه ناس أن يخطب قائماً. فرع ولو نذر أن يخرج إلى الصحراء يجوز أن يستسقي في المسجد، وكذلك في بيته، لأنه لا يقيد في الصلاة في الصحراء فلا يلزم بالنذر. فرع لو نذر أن يستسقي في مسجد المدينة أو في بيت المقدس، هل يتعين ذلك؟ قولان: كما يقول في نذر الصلاة فيها.

فَرْعٌ آخرُ لو خاف قوم من غرت لأجل سيل أو نهر دعوا الله تعالى لصرف الضرر عنهم، كما دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويلتمس من الله تعالى أنه يجعل حيث ينفع ولا يضر كالجبال والصحارى، قال: ولا أمر بصلاة جماعة في ذلك، وأمرت الإمام والعامة يدعون بذلك في خطبة الجمعة وبعد الصلوات وكذلك في سائر النوازل لغلاء الأسعار وضيق المعاش ونحو [259 أ/ 3] ذلك. فَرْعٌ آخرُ الاستمطار مسنون، وهو أن يتجرد لأول مطر ليصيبه منه، وهذا لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يتمطر لأول مطر حتى يصيب جسده، ويقول: "هذا قريب عهد بربه" ويستحب أن يقول: "اللهم صيباً هنياً"، وروت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول ذلك إذا رأي المطر، وروي أن الماء مطرت فقال عبد الله بن عباس رضي الله عنه لغلامه: أخرج فراشي ورحلي يصيبه المطر، فقال أبو الجوزاء: لم تفعل هذا يرحمك الله؟ فقال: أما تقرأ كتاب الله تعالى: {ونَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُّبَارَكًا} [ق:9] فأحب أن تصيب البركة فراشي ورحلي، وروي أن سعيا بن المسبب رضي الله عنه كان جالساً في المسجد فمطرت السماء فخرج إلى وحبة المسجد وكشف عن ظهره للمطر حتى أصابه ثم رجع إلى مجلسه. فَرْعٌ آخرُ يستحب إذا سال الوادي أن يغتسل فيه ويتوضأ منه، لما روي أنه حرا الوادي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اخرجوا بنا هذا الذي سماه الله طهوراً حتى نتوضأ منه ونحمد الله [259/ 3] تعالى عليه"، وروى الشافعي فيتمطر منه، وروي حتى ينظر فيه ويحمد الله تعالى. فَرْعٌ آخرُ المستحب أن يطلب استجابة الدعوة في ثلاثة مواطن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بها فيه وهي عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث. قال: ويستحب أن يكثر الدعاء عند نزول الغيث، وروى أبو أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تفتح أبواب السماء ويستجاب الدعاء في أربعة مواطن عند التقاء الصفوف، وعند نزول الغيث وعند إقامة الصلاة، وعند رؤية الكعبة".

فَرْعٌ آخرُ روى الشافعي في "الأم " عن مالك عن صالح بن كيسان عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن زيد بن خالد الجهني قال: "صلى بنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: قال الله تعالى: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله وبرحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا [260 أ/ 3] وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب". قال الشافعي: ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي وأمي عربي واسع اللسان يحتمل قوله هذا معان وإنما قال هذا؛ لأنهم مطروا بين ظهراني قوم أكثرهم مشركون، وكان هذا في غزوة الحديبية، ومعناه أن من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك إيمان بالله تعالى، ولأنه يعلم أنه لا يمطر ولا يعطي إلا الله تعالى، ومن قال: مطرنا بنوء كذا على ما كان بعض أهل الشرك، يعتقد من إضافة المطر إلى أنه أمطره نوء كذا، فذلك كفر كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن النوء هو وقت، والوقت مخلوق لا يملك لنفسه ولا لغيره شيئاً، ومن قال: مطرنا بنوء كذا أي وقت نوء كذا فإنما ذلك لقولهم: مطرنا في شهر كذا فلا يكون كفراً وغيره من الكلام أحب إليّ منه وأحب أن يقول: مطرنا في وقت كذا. وقيل الأنواء: هي منازل القمر ثمانية وعشرون منزلاً تطلع كل ثلاثة عشر يوماً، فتنزل بالمشرف فإذا طلح غاب رقيبه من المغرب فسميت أنواء لهذا المعنى يقال: ناء إذا طلح وناء إذا غرب [260 ب/3] فهو من الأضداد، وقد أجرى الله تعالى العادة بالمطر عند طلوع كل نجم منها، كما أجرى العادة بالحر في الصيف والبرد في الشتاء، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "يوم الجمعة على المنبر: كم بقي من نوء الثريا؟ فقال العباس رضي الله عنه لم يبق منه شيء إلا العراء فدعا الناس حتى نزل عن المنبر فمطرت مطراً أحيا الناس منه فاستجازوا، هذا القول والعراء في أحد المنازل فدل أنه لا بأس به على معنى ما ذكرنا، قال: وبلغني عن بعض أصحاب رسول الله رضي الله عنه أنه كان إذا أصبح وقد مطر الناس قال: مطرنا بنوء الفتح ثم يقرأ: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر:2]. فرع اعلم أن الرياح المعروفة هي أربع: الشمال، والجنوب، والقبول، والدبور،

فالجنوب أن تأتي عن يمين المتوجه إلى القبلة والشمال عكسها، والدبور هي من المغرب، والقبول عكسها والتي تدل على المطر هي الجنوب منها روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما هبت جنوب قط إلا أسالت واديًا". وقال ابن مسعود [261 أ/3] رضي الله عنه: إن الله تعالى أرسل الرياح فتحمل الماء من السماء، ثم يمر به السحاب حتى يدر كما تدر اللقحة، ثم يمطر، ويستحب إذا هبت الرياح أن يصنع كما كان رسول الل - صلى الله عليه وسلم - يصنع، وهو أن يجثو على ركبتيه على ما قدمناه، ويقول ما قاله. ولا يجوز أن يسب الريح، لأنها من خلق الله تعالى وهي جند من أجناده يجعلها رحمة ونقمة إذا شاء، وقد شكى رجل إلى وسول الله - صلى الله عليه وسلم - الفقر فقال: "لعلك تسب الريح " وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"الريح من روح الله تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب، فلا تسبوها وسلوا الله خيرها وعودوا إذا أتت بحرية، ثم استحالت شامية، فهي أمطر لها"، وروي "فهي غير غدقة" يعني كثيرة. ومعناه إذا نشأت من ناحية البحر وأخذت نواحي الشام دلت على المطر. فرع إذا نشأت السحاب فالمستحب أن يصنع ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصنع قالت عائشة: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أبصر شيئاً من السماء" يعني من السحاب "ترك عمله واستقبله، وقال: "اللهم إني [261 ب/3] أعوذ بك من شر ما فيه فإن كشفه حمد الله تعالى" وإن مطرت قال: "اللهم سقياً نافعاً. فَرْعٌ آخرُ إذا شاهد البرق أو الودق لا يشير إليه قال الشافعي: لم أزل أسمع عدداً من العرب يكره الإشارة إليه، فإذا رأي البرق فينبغي أن يفزع منه وكذلك الرعد، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا رعدت السماء أو برقت عرف ذلك في وجهه، فإذا أمطرت سُرَّيَ عنه، فسأل عن ذلك فقال: إني لا أدري بم أرسلت بعذاب أو برحمة". قال الشافعي: وقال مجاهد: الرعد ملك والبرق أجنحة الملك تشقق السحاب. قال: ما أشبه ما قال بظاهر القرآن وهو قوله تعالى: {ويُسَبِّحُ الرَّعْدُ

باب تارك الصلاة

بحمده والْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ} [الرعد:13] وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله تعالى بعث الحاب فنطقت أحسن المنطق وضحكت أحسن الضحك" فالرعد نطقها والبرق ضحكها. والمستحب: إذا سمع حنين الرعد أن يقول: سبحان من يسبح له الرعد بحمده. قال الشافعي: قال ابن عيينة: قلت لابن طاوس ما كان أبوك يقول: إذا سمح الرعد فقال: كان يقول: سبحان من سبحت له [262 أ/ 3]، قال الشافعي: ذهب إلى قول الله تعالى {ويُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} [الرعد:13] فثبت أن الرعد ملك يسبح به، فأما الصواعق فنستعيذ بالله منها، فإنها ربما أهلكت وأحرقت وقتلت قاله مجاهد، وقال: هي غير هذا يعني غير البرق والرعد، وروي عن ابن عباس قال: كنا مع عمر رضي الله عنه في سفر فأصابنا رعد وبرق وبرد، فقال لنا كعب: من قال حين سمع الرعد: سبحان من سبح الرعد بحماه والملائكة من خيفته ثلاثاً. عوفي من ذلك الرعد فقلنا فعرقنا. باب تارك الصلاة مسألة: قال: يقال لمن ترك الصلاة حتى يخرج وقتها بغير عذر. الفصل وهذا كما قال. إذا ترك الصلاة حتى خرج وقتها، فقال له: لم تركتها فإن قال: لأنها غير واجبة، وأنا لا أعتقد وجوبها فهو مرتد يقتل ويكون ماله فيأ، ويدفن في مقابر المشركين، وإن قال: ما علمت أنها واجبة وكان قريب عهد بالإسلام، فقال له: فاعلم أنها واجبة فقتل تاركها وإن اعتقد بعد هذا وجوبها وصلاها تركناه، وإن لم يعتقد [262 ب/ 3] وجوبها فهو مرتد أيضاً؛ لأن الصلاة تشبه الإيمان، لأنها قول باللسان واعتقاد بالقلب وعمل بالجوارح ولا يختص هذا الحكم بالصلاة في الحقيقة؛ لأن كل من جحد وجوب فرض من طريق الضرورة كالزكاة والحج والوضوء، فإنه يكفر بذلك قال: قال: الصلاة واجبة عليّ ولكني لا أمليها فهو في معنى الكافر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "بين الكفر والإيمان ترك الصلاة، فمن تركها فقد كفر"، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "الصلاة عماد الدين" فمن تركها متعمداً فقد كفر، وإذا قتل فهو مسلم مقتول بحق، كالمقتول بالزنا يغسل ويكفن ويدفن في مقابر المسلمين، ويرثه ورثته من المسلمين ويرجى له العفو، وليس أحد يقتل بترك عبادة مع صحة الاعتقاد إلا تارك الصلاة لما

ذكرنا من تشبيه الصلاة بالإيمان، وأشار الشافعي إلى المعنى فقال: يقال له: هذا العمل لا يعمله غيرك أي: لا تجري فيه النيابة ولا يمكن استخراجه منك إلا بك كالإيمان وهكذا لو قال: أعتقد وجوبها، ولكني أقبل عنها لما فيها من المشقة ولا أشط فيها، ولو قال: نسيتها [263 أ/ 3] أو تركتها لشغل عارض أمرناه بقضائها متى زال العذر وتذكر والقضاء موسع، وإن قال: أنا مريض قلنا له: صل كيف أطقت. وبهذا قال مالك وجماعة من السلف. وقال أحمد وإسحاق: يكفر بتركها عمداً ويخرج عن الملة، فإذا قيل: لا يصلي عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين وتوبته أن يصلي، ويروى هذا عن عمر وعلي رضي الله عنهما وقيل: هذا قول بعض أصحابنا ذكره في "المهذب"، وقال صاحب "التلخيص": يسوي عليه التراب بحيث لا يعلم أن هناك قبراً عقوبة له. وذكر أبو سليمان الخطابي عن بعض أصحابنا أنه لا يصلى عليه واحتجوا بظاهر الذي ذكرنا وهذا غلط لما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "خمس صلوات افترضهن الله تعالى على عباده في اليوم والليلة فمن جا، بهن لم يضع منهن شيئاً كان له عند الله عهداً أن يدخله الجنة، ومن لم يأت بهن فليس له عند الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء أدخله الجنة"، ولأنها من فروع الإيمان فلا يكفر بتركها مع اعتقاد وجوبها كالصوم. وأما خبرهم: أراد به [263 ب/3] فحكمه حكم الكافر كما قال - صلى الله عليه وسلم - "قتال: المسلم كفر"، وقال أبو حنيفة والثوري: لا يقتل تاركها ويحبس حتى يصلي وقال بعضهم: لا يتعرض له لأنها أمانة فيما بينه وبين الله تعالى. وقال بعضهم: يضرب حتى يصلي وبه قال المزني، واحتجوا بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، كفر بعد إيمان، وزناً بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق". وهذا غلط لما ذكرنا من الخبر، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "فمن ترك الصلاة فقد برئت منه الذمة" رواه مكحول فدل على إباحة قتله. فإذا تقرر هذا اختلف أصحابنا في وقت وجوب القتل، فقال الإصطخري: إذا ترك ثلاث صلوات وضاق وقت الرابعة قتل، ولا يقتل بترك صلاة واحدة وصلاتين، لأنه يجوز أن يكون قد تركها لعارض عذر، فإذا تكرر منه الترك علمنا أنه تركها تهاوناً بها واستخفافاً. وقال أبو إسحاق: إذا ترك صلاة واحدة وتضيق وقت الثانية وامتنع من أدائها يقتل. وقال بعض أصحابنا بخراسان: [264 أ/ 3] إذا ترك صلاة حتى خرج وقتها من غير عذر أمر بقضائها، فإن لم يفعل قتل، ولا يقتل ما لم يخرج وقت العذر والضرورة، مثل

أن يترك الظهر فلا يقتل حتى تغيب الشمس، وفي ترك صلاة المغرب لا يقتل حتى يطلع الفجر، ويجب قتله إذا لم يقض، وإن كان يصلي الصلاة الأخرى في وقتها، لأنه تركها عمداً بلا عذر بخلاف من تركها ناسياً، أو عذر، ويصلي بعد ذلك ولا يقضي تلك فلا يقتل لأنه قضاء في ذمته، ولم يحصل منه قصد في ترك الأداء وهو اختيار القفال. وهذا كله هو خلاف النص؛ لأن الشافعي قال، يقال لمن ترك الصلاة حتى خرج وقتها ولم يعتبر التكرار ولا خروج وقت العذر والضرورة لا يضيق وقت الصلاة الثانية، فمذهب الشافعي أنه إذا تضيق وقتها لما بيناه بفعلها، فإن فعل وإلا قلنا له: إن أخرتها عن وقتها قتلناك فيستوجب القتل بإخراجها عن وقتها كما يستوجب القتل بالخروج من الإيمان، وفعل القتل والزنا لا يعتبر تضيق وقت الصلاة الثانية، وهذا هو اختيار صاحب "الإفصاح" وابن أبي هريرة [264 ب/ 3]. فإن قيل: إذا قتلتموه قبل أن يتضيق وقت الصلاة الثانية لا يخلو إما أن يكون قتله للأولى أو للثانية لا يجوز أن يكون للأولى، لأنها صارت فائتة وصارت في ذمته ولا يجوز قتله لترك الفائتة، ولا يجوز أن يكون للثانية، لأنه قد وسع له في تأخيرها إلى أخر الوقت، قلنا: نحن نقتله لامتناعه عن فعلها في وقتها فإذا خرج وقتها استوجبه القتل كما يستوجب بالكفر، فإن قيل: هذا خلاف قول الشافعي؛ لأنه قال: يقال لمن ترك الصلاة حتى خرج وقتها بلا عذر وأنتم تقولون ذلك إذا تضيق وقتها ولم يقل حتى خرج وقتها، فدل أنه أراد إذا تركها حتى يضيق وقتها فقال له: هذا عمل لم يعمله غيرك، فإن صليت وإلا استتبناك فإن تبت وإلا قتلناك، وقد غلط بعض أصحابنا، فقال ظاهر "المختصر": إنه يقتل بالفائتة ولا خلاف أن لا يقتل بالفائتة، وإنما قال: يقتل بالصلاة الواحدة إذا تضيق وقتها على ما ذكرنا أو بالصلاة الرابعة عند [265 أ/3] تضيق وقتها عند الاصطخري أو بالصلاة الثانية إذا تضيق وقتها عند أبي إسحاق، لأنه يعلم به تحقيق عزمه على الترك. فإذا تقرر هذا، فإنه يستتاب قبل القتل، لأنه ليس بأشد من الردة، وهناك يستتاب، وهل يتأتى به ثلاثة أيام؟ قولان: أحدهما: يتأنى به ثلاثة أيام نص عليه في البويطي، فقال: وان استنيب ثلاثا كان حسناً ولم يستحسن ذلك في "الأم" فحصل قولان وكذا القولان في استتابة المرتد ثلاثاً واختار المزني للشافعي أنه لا يتأنى به ثلاثاً؛ لأن مذهبه أنه لا يقتل تارك الصلاة على ما ذكرنا، واحتج بالمرتد، وفي المرتد نص على قولين أيضاً فلا معنى لهذا. ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا: يمهل المرتد فهذا أولى، وإن قلنا: إنه لا يمهل المرتد فهل يمهل تارك الصلاة؟ قولان تغليظاً للردة، ثم إذا أردنا قتله المنصوص في "البويطي" أنه تضرب رقبته؛ لأنه شبهه بالمرتد. وقال ابن سريج: لا يزال يضرب وينخس بشيء فيه حديد حتى يصلي، أو يأتي الضرب عليه، كما إذا قصد دم غيره أو ماله فإن المقصود أن يدفعه عن نفسه ولا يقصد قتله فإن لم [265 ب/ 3] يمتنع حتى إذا أتى الدفع إليه لم يلزمه ضمانة كذلك هاهنا وهذا خلاف النص.

فرع من وجبت عليه الصلاة فلم يصل حتى فات الوقت لزمه قضاؤها، والمستحب أن يقضيها على الفور، فإن أخر قضاءها جاز، لما روي "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاتته صلاة الصبح فلم يصلها حتى خرج من الوادي"، وقال أبو إسحاق: إن تركها بغير عذر لزمه قضاؤها على الفور، لأنه مفرط في تأخيرها وهذا عندي حسن. فَرْعٌ آخرُ إذا امتنع من الوضوء هل يُقتل؟ اختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: لا يقتل لأنه غير مقصود في نفسه، والصحيح عندي أنه يقتل لأنه لا يتوصل إلى أداء الصلاة إلا به وفي الامتناع منه امتناع من الصلاة. فَرْعٌ آخرُ إذا أخر الصلاة المنذورة عن وقتها المعين لها عمدا لا نص فيه ويحتمل أن يقال: يقتل لأنها كالشرعية. فرع لو ترك التشهد والاعتدال قال بعض أصحابنا: إن رأي الإمام أن يقتل تارك الصلاة يجوز قتله وإلا فلا، كما شرب المطبوخ له أن يحد، ومن أصحابنا من قال: لا يقتله، لأن هذا غير ممتنع من الصلاة أصلاً [266 أ/ 3].

كتاب الجنائز

كتاب الجنائز باب إغماض الميت مسألة: قال: أول ما يبدأُ به أولياءُ الميت أن يتولى أرفقهمْ به إغماضَ عينيه. الفصل وهذا كما قال. قال: اعلم أن بعض أهل اللغة قالوا: الجنازة بكسر الجيم. هي: اسم لما يحمل عليه الميت، وبفتح الجيم نفس الميت. وقال الأزهري: الجنازة بكسر الجيم لا تسمى حتى يشد الميت مكفناً عليها، يقال: جنز الميت تجنيزاً، إذا هيئ أمره وجهر وشد على السرير، ثم اعلم أن الشافعي ذكر هاهنا ما يفعل بالمؤمن بعد موته. وذكر في البويطي: ما يفعل به قبل موته ونحن نقدم ذلك. وجملته: أنه يستحب للإنسان أن يكثر ذكر الموت، ويجعله من عينيه، وهذا في الدنيا وإطراحها، لما ووى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "استحيوا من الله حق الحياء" قالوا: يا رسول الله وما حق الحياء؟ قال: "من عرف الرأس _ وروي من حفظ الرأس _ وما حوى، والبطن وما وعى، وترك زينة الحياة الدنيا، وأكثر ذكر الموت والبلى، فقد استحيى من الله حق الحياء" [266 ب/ 3]. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أكثروا من ذكر هاذم اللذات، فما ذكر في كثير إلا قلله ولا في قليل إلا كثره"، وروي مثل هذا عن عمر رضي الله عنه وكان نقش خاتم عمر "كفي بالموت واعظاً يا عمر"، وينبغي أن يستعد لموته كما يستعد لسفره الطويل. وروى البراء بن عازب رضي الله عنه قال: بينما نحن نمشي مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أبصر جماعة مجتمعين، فقال: على ما اجتمع القوم؟ فقالوا: على قبر يحفرونه فابتدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسرعاً بين يدي الناس حتى أتى القبر وحثا عليه التراب، فابتدرت فاستقبلته لأنظر ما يصنع، فبكى حتى بل الثرى دموعه، وقال: "إخواني لمثل هذا اليوم فأعدوا" الاستعداد للموت، الخروج من المظالم، والإقلاع عن المعاصي والإقبال على الطاعات وهذا لأنه لا يؤمن من موت الفجأة [267 أ/3]

ويستحب أن يكون منه هذا الذي ذكرنا في مرضه أكثر منه في حال الصحة، قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إن تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] الآية. فأراد سبب الموت وهو المرض الذي هو نذير الموت ويريده. وعلى كل حال يستحب أن يكون حسن الطريقة حسن الظن بالله عز وجل، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل"، قال جابر: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول هذا قبل موته بثلاث. قال أبو سليمان الخطابي رحمه الله: إنما نحسن الظن بالله تعالى من حسن عمله، فكأنه قال: أحسنوا أعمالكم يحسن الله ظنكم بالله فإن من ساء عمله ساء ظنه، وقد يكون حسن الظن بالله تعالى من ناحية الرجاء وتأميل العفو، وروى واثلة بن الأسقع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عن الله تعالى: "أنا عند ظن عبدي بي فليظن عبدي ما شاء". وقيل: المستحب أن يستوي في خوف العبد المؤمن ورجاؤه، ويكون خوفه في الصحة أكثر ليزداد عملاً صالحاً، وأما عند الموت فيستحب أن يكون رجاؤه لرحمة الله [267 ب/ 3] أكثر ليموت وهو حسن الظن بالله تعالى ذكره القفال. واعلم أن من مرض يستحب له أن يصبر، لما روي أن امرأة جاءت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالت: يا رسول الله ادع الله أن يشفيني فقال: "إن شئت دعوت الله فشفاك وإن شئت فاصبري ولا حساب عليك" قالت: أصبر ولا حساب علي، وقال بعض أصحابنا: يكره للمريض الأنين والتأوه وكثرة الشكوى لما روي من الخبر، ولأن طاوس رضي الله عنه كان يكره أنين المريض، وقال أيضاً: يستحب أن يتداوى لما روى أبو الدر داء رضي الله عنه أن وسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله أنزل الداء والدواء وجعل لكل داء دواء فتداووا ولا تتداووا بالحرام". ويستحب عيادة المريض لما روى البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإتباع الجنائز وعيادة المريض وإجابة الداعي ونصر المظلوم وإبرار القسم ورد السلام وتشميت العاطس. وقال زيد بن أرقم: عادني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من وجع كان بعيني وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عائد المريض في مخرف من مخاريف الجنة حتى يرجع إلى [268 أ/ 3] أهله" وأراد بالمخرف البستان، يعني: أنه يستوجب به الجنة

ومخارفها. وروى ثوبان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن المسلم إذا عاد أخاه المسلم لم يزل في خرفة الجنة"، وروي عن ثوير بن أبي فاختة عن أبيه قال: أخذ علي رضي الله عنهب يدي، فقال: انطلق بنا إلى الحسن نعوده فوجدنا عنده أبا موسى فقال علي: أعائداً جئت يا أبا موسى أم زائراً، فقال: لا؟ بل عائداً، فقال علي رضي الله عنه سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما من مسلم يعود مسلماً غدوة إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح وكان له خريف في الجنة. أورده أبو عيسى الترمذي رحمه الله وقوله: خريف أي: مخروف من ثمر الجنة. وعاد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جابراً وسعداً وكان يحب زيارة المريض حتى أنه عاد غلاماً يهوديا مرض فأسلم ببركته - صلى الله عليه وسلم -. ويستحب إذا رجا برؤه أن يدعو له بما قال في رواية ابن عباس رضي الله عنه: "من عاد مريضا لم يحضره أجله فقال: عنده سبع مرات أسأل الله العظيم [268 ب/3] رب العرش العظيم أن يشفيك عافاه الله تعالى من ذلك المرض. وروي أن جبريل أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "يا محمد اشتكيت قال: نعم، فقال: بسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس وعين حاسدة، بسم الله أرقيك والله يشفيك". وروى عبد العزيز بن صهيب قال: دخلت أنا وثابت على أنس بن مالك، فقال ثابت: يا أبا حمزة اشتكيت فقال أنس: أفلا أرقيك رقية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: بلى، قال: قل "اللهم رب الناس، مذهب البأس اشف أنت الشافي لا شافي إلا أنت شفاء لا يغادر سقماً". وقال بعض أصحابنا: يكره للمريض أن يتمنى الموت وان اشتد مرضه، لما روى أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يتمنين أحدكم الموت لضيق نزل به، فإن كان متمنيا فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرا ليّ" وقال حارثة بن مضرب: دخلت على خباب وقد اكتوى في بطنه فقال: ما أعلم أحداً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقي من البلاء ما لقيت لقد [269 أ/ 3] كنت وما أجد درهماً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وفي ناحية من بيتي الآن أربعون ألفاً ولولا أن

رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهانا أن نتمنى الموت لتمنيت، وإن رآه ميؤوساً من البرء يستحب أن يوجهه إلى القبلة لتخرج الروح وهو متقبل القبلة. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "خير المجالس ما استقبل به القبلة"، فإن كان الموضع واسعاً فالمستحب أن يجعل على جنبه الأيمن ليكون وجهه وصدره ومقدمه نحو القبلة كما يصلي المريض، وكما يوضع في اللحد. قال عليه الصلاة والسلام: "إذا نام أحدكم فليتوسد يمينه"، وإن كان الموضع ضيقاً جعل على ظهره وبطون قدميه إلى القبلة ويكون تحت رأسه مرفقه، ثم يستحب أن يلقن قول: لا إله إلا الله ثلاث مرات إذا حضر الوفاة، فإذا قالها لم يتكلم بعدها ليكون آخركلامه هذا. قال - صلى الله عليه وسلم -: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة" فإن تكلم بعدها بشيء أعيد التلقين ليكون التوحيد آخر كلامه. وقال - صلى الله عليه وسلم -: "لقنوا موتاكم قول لا إله إلا الله" [269 ب/3] أي من قرب موته. وقال القفال: لا يستحب أن يقول له قل: لا إله إلا الله أو يلح عليه بذلك، لأنه ربما يضجر فيرده فيهلك به، بل يذكر بين يديه ليتذكر. وروي عن ابن المبارك أنه لما حضرته الوفاة جعل وجل يلقنه لا إله إلا الله فأكثر عليه فقال له عبد الله: إذا قلت: مرة فأنا على ذلك ما لم أتكلم بكلام. ويستحب أن يتولى تلقين الشهادة للميت من ليس بوارث حتى لا يسبق إلى قلبه أنه يستعجل موته فيغتاظ من ذلك فيجحد، فإن لم يكن عنده إلا الورثة، فالأولى أن يتولى ذلك أبرهم به وأحبهم إليه حتى لا يسبق إلى قلبه تهمة الاستعجال فتحمله المغايظة على الجحود، ويستحب أن يقولوا: خيراً لما روت أم سلمة قالت: قال وسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حضرتم المريض أو الميت فقولوا خيراً، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون، قالت: فلما مات أبو سلمة أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله إن أبا سلمة مات. قال: فقولي: "اللهم اغفر لي وله وأعقبني منه عقبة حسنة"، قالت: فقلت فأعقبني الله منه من [270 أ/ 3] هو خير منه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويستحب أن يقرأ عنده سورة "يس" لما روى معقل بن يسار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "قال: اقرؤوا على موتاكم" يعني يس.

وقال بعض التابعين: يقرأ عنده سورة الرعد لما روي عن جابر بن يزيد قال: إذا قرئ عنده سورة الرعد فإنه يكون أسرع لخروج الروح، فيستحب أن يقرأ عنده هذا إذا رأي اشتداد الأمر، فإن رأى أمارات السلامة فإنه يدعو له وينصرف. وروى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على شاب وهو في الموت فقال: كيف تجدك؟ فقال: أرجو الله برسول الله، واني أخاف ذنوبي. فقال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله تعالى ما يرجوه وآمنه مما يخاف"، وقالت عائشة رضي الله عنها: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو بالموت وعنده قدح فيه ماء وهو يدخل يده في القدح، ثم يمسح وجهه بالماء، ثم يقول: "اللهم أعني على غمرات الموت أو سكرات الموت". وأما ما يفعل به بعد موته، فاعلم أن الشافعي [270 ب/3] ذكر هنا وفي "الأم" أنه يفعل به سبعة أشياء: أحدها: أن يتولى أرفقهم به إغماض عينيه بأسهل ما يقدر عليه، وأراد به أقرباؤه ومحارمه، وهذا لما ووت أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "دخل على أبي سلمة وقد شق بصره فأغمض عينيه وقال: أغمضوا عيون موتاكم فإن الروح إذا خرجت تبعها البصر"، ولأن ذلك هو أحسن في هيئة الميت من أن يكون مفتوح العينين، ويشبه النائم بعد إغماضها. وإذا لم يغمض عند وجود حرارة الروح فيه لم تتغمض بعدما برد ويقبح منه ذلك بهيئة الميت، ويدخل فيها الهوام. والثاني: قال: وأن يشد لحييه الأسفل بعصابة عريضة ويربطها من فوق رأسه لئلا يسترخي لحيه الأسفل فيفتح فوه فلا ينطبق وهذا صحيح قريب المعنى من إغماض عينيه، ولأنه إذا لم يفعل ذلك دخل الهوام جوفه ويقبح به منظره. والثالث: يلين مفاصله ما دامت حرارة الحياة فيه، فيرد ذراعه إلى عضديه ثم يردهما ويلين أصابع يديه بطونها، ثم يردها ويرد ساقه إلى فخذه، ثم يرده ويرد فخذه إلى بطنه ثم يرد [271 أ/ 3] ويتعاهد منه هذا ليتأتى لينه على غاسله وقت غسله وتكفينه. والرابع: تجرده من ثيابه فيخلع عنه ثيابه المخيطة من الجبة والقميص وغيرهما، وهذا لئلا يحمى فيها فتفسد، ولأنه لا يخلو في الغالب عن نجس أو قذر. والخامس: أن يجعل على بطنه حديدة فإن لم يكن فطيناً مبلولاً لئلا يربو جوفه. وروي أن مولى أنس رضي الله عنه مات فقال: "ضعوا على بطنه حديدة لأنه ينتفخ". والسادس: يسجى بثوب يغطى به جميع جسده ووجهه لأنه بعد الموت يأخذ في

التغير فينبغي أن يستر ويوارى عن الأبصار، وقالت عائشة رضي الله عنها: "سجي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بثوب حبرة". والسابع: يجعل على لوح وسرير لئلا تدب إليه الهوام، وليكون أبعد من الأرض ولا يوضع على الفراش لأنه أسرع لانتفاخه ولا يجمع عليه أطباق الثياب لهذا، ويجعل جوانب الثوب تحت رأسه ورجله لئلا ينكشف. فرع قال في "الأم": وأحب إذا مات أن لا يعجل أهله غسله، لأن قد يكون يغشى عليه فيخيل إليهم أنه قد [271 ب / 3] مات حتى يرى فيه علامات الموت، وهو أن يسترخي قدماه فلا ينتصبان، ويميل أنفه ويفترق زنداه وتفترج المفاصل ويمتد جلدة الولد، يعني: جلدة الخصية، لأن الخصية تتعلق بالموت ويتدلى جلدها. وقال بعض أصحابنا: وينخسف صدغاه، قال: وإن مات فجأة مصعوقاً أو بحريق أو غرق أو مات غماً أو محمولاً عليه أو تردى من جبل أو في بثر، استوفى بموته يوما أو يومين أو ثلاثة ما لا يخاف بغيره، فإذا تحقق موته تعجل غسله، ودفنه لأنه عبادة، فكانت المبادرة إليها أفضل، وقد قال عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه: "ثلاث لا تؤخرها الجنازة إذا حضرت" الخبر، وأراد بالمصعوق الذي تصيبه السكتة، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على طلحة بن البراء يعوده، فقال: "ما أرى الموت إلا وقد ذهب بطلحة فإذا مات فآذنوني وبادروا به فما ينبغي لميت مسلم أن يكون بين ظهراني أهله" قلت: وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "موت الفجأة أخدة آسف"، والآسف الغضبان [272 أ / 3] من قوله تعالى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55]. ومعناه أنه نقل ما أوجب الغضب عليه. وروى أنى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "موت الفجأة رحمة للمؤمنين وعذاب على الكافرين". وهذا يفسر ما قبله من الخبر. فَرْعٌ آخرُ أول ما ينبغي أن ينظر في أمره أنه إن كان على الميت ومن قضى عنه أنه كان في تركته من جنسه، فإن لم يكن فيها من جنسه احتال بها الولي على نفسه وسأله أن يبرئ الميت منه، وإن لم يخلف تركه بحال يسأل من له الدين أن يبريه منه، فإن لم يفعل كان في قضاء دينه ثواب عظيم وأجر كثير فربما بما يضمنه ضامن ويؤدي ذلك وإنما قلنا هذا لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه"، وروي أن

باب غسل الميت

النبي - صلى الله عليه وسلم - أتي برجل ليصلي عليه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا على صاحبكم فإن عليه ديناً". قال أبو قتادة: هو علي فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بالوفاء" قال: بالوفاء فصلى عليه، وقال أبو هريرة [272 ب / 3] رضي الله عنه كان يؤتى بالرجل المتوفى عليه الدين، فيقول: "هل ترك لدينه من قضاء؟ " فإن حدث أنه ترك وفاء صلى عليه وإلا فلا. وقال للمسلمين: "صلوا على صاحبكم" فلما فتح الله عليه الفتوح قام فقال: "أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم فمن توفي من المؤمنين فترك ديناً فعلي قضاؤه، ومن ترك مالاً فهو لورثته"، ثم إن كانت له وصية تفرق على ما أوصى وبدأ بأقاربه وجيرانه ليقدم الخير بين يديه فيجده إذا ورد عليه. فرع قال بعض أصحابنا: يكره النداء على موته ولا نص فيه، وهذا لإخفاء أمره والمبادرة به، وقال بعضهم: يستحب الإنذار به وإشاعة موته في الناس بالنداء والإعلام، ليكثر المصلون عليه والداعون له فينادي: قد مات فلان ابن فلان. وبه أقول. وقال أحمد: لا بأس به، وبه قال أبو حنيفة وقال بعضهم: يستحب ذلك للغريب ولا يستحب لغيره وبه قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه لأن في الغريب إذا لم يناد لا يعلم به. وقد روي عن حذيفة بن اليمان أنه قال: "إذا مت فلا تؤذنوا بي أحداً [273 أ / 3] فإني أخاف أن يكون نعياً، وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن النعي". وروى عبد الله بن مسعود إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إياكم والنعي فإن النعي من عمل الجاهلية". قال عبد الله: والنعي: أذان بالميت وهذا دليل القول الأول ويمكن أن يؤول على ما لو لم يكن الفرض تعريف الإخوان وكثرة المصلين عليه والداعين. باب غسل الميت مسألة: قال: ويفضى بالميت إلى مغتسله. وهذا كما قال. أواد بنقل الميت إذا أريد غسله إلى الموضع الذي يغسل عليه وغسل الميت هو من فرائض الكفايات كالصلاة عليه سواء، وأصل هذا أن علياً والفضل بن العباس رضي الله عنهما توليا غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأمره ووصيته، وقال علي رضي الله عنه: ". . . . على غسله، وروي أن علياً رضي الله عنه رأى في عين رسول الله - صلى الله عليه وسلم -

قراءة فأدخل لسانه فأخرجها، وقد روي في خبر المحرم [273 ب / 3] الذي وقعت به ناقته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اغسلوه بماء وسدر" فأمر بالغسل ولأنه لا خلاف بين المسلمين فيه. فإذا تقرر هذا ذكر كيفيته فقال: ويفضى إلى مغتسله ويكون كالمنحدر قليلاً وهو أن يكون موضع وأسه أعلى حتى ينحدر الماء عنه ولا يقف عنه، ويكون ملقىً على ظهره وتكون رجلاه إلى القبلة. مسألة: قال: ثم يعاد تليين مفاصله. وهذا كما قال، قال أصحابنا: لا يعرف هذا للشافعي في شي، من كتبه، ولا يستحب ذلك لأن تليين المفاصل إنما يفيد عقيب الموت لبقاء حرارة الروح فيه، فأما عند الغسل فقد بردت المفاصل فلا يفيد التليين شيئاً وقيل: إنه نص على هذا في "الأم": حكاه البندنيجي ففي المسألة قولان، وهذا غير صحيح وينبغي أن يؤول إن صح أنه ذكره في "الأم". مسألة: قال: ويطرح عليه ما يواري بين ركبتيه إلى سرته. وهذا كما قال أراد به أن يستر عورته، وهو ما كان يستره في حال حياته من نفسه، والأولى أن يستر جميع بدنه، وهذا إن لم يغسل في قميص [274 أ / 3]، والسنة عنانا أن يغسل في قميص، وهو أن يلبس قميصاً عند غسله ولا تخرج منه يداه ويصب الماء فوق القميص ونص على هذا بعد هذا، وبه قال أحمد. وقال مالك وأبو حنيفة: المستحب أن يجرد عن ثيابه وتلقى خرقة على فرجه ويكون فخذه مكشوفا وهذا لأن الحي إذا اغتسل تجرد فالميت أولى. وهذا غلط لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "غسل في قميصه" فإن قيل: يحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - كان مخصوصاً بهذا، ألا ترى أنهم قالوا: نجرده كما نجرد موتانا، ما كان سنة في حقه ففي حق غيره كذلك ما لم يثبت دليل التخصيص. وروي أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه لما حضره الموت قال: "إذا أنا مت فامنعوا بي كما صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - " ولم ينكر ذلك أحد، وعندنا يجب ستر الفخذ منه، ولا يجوز النظر إليه من غير ضرورة لأنه عورة. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعلى رضي الله عنه: "لا تكشف عن فخذك ولا تنظر إلى فخد حي ولا ميت". فإذا [274 ب / 3] ثبت هذا. قال: "أحب أن يكون القميص خلقاً سخيناً"، يعني خلقا ينزل الماء عنه ولا يكون جديداً صفيقاً ينشف الماء ويتعذر غسله فيه، ثم ينظر في القميص، فإن كان واسعاً أدخل الغاسل يده في كمه وغسله من تحته ويكون على يده خرقة، وان كان ضيقا لا يمكنه إدخال اليد فيه. قال أصحابنا: يفتق رؤوس التحاريس ثم يدخل يده من موضع الفتق، فإن لم يمكن فعل ما ذكرنا إذا

لم يجد القميص. مسألة: قال: ويستر موضعه الذي يغتسل فيه فلا يراه أحد إلا غاسله. وهذا كما قال. إذا أراد غسله جعله في موضع لا يطلع أحد عليه، إما في بيت أو تحت سقف ويستر موضعه في البيت بأن يسبل الستر على الباب، وهذا لأجل أنه في حال حياته يستتر عن الناس عند غله فيفعل به بعد موته كذلك، ولأنه ربما تظهر به علامة لا ينبغي أن يطلع عليها الناس ولا يدخل هناك إلا الغاسل والمعين والولي إن شاء فالغاسل يفض بصره ما أمكن ولا ينظر إلى شي، منه إلا أن يكون له بد [275 أ / 3] من النظر للوقوف على قدر ما غسل وما لم يغسل، وأما المعين فيغض بصره بكل حال إلا أن يكون ضرورة ويشتغل بصب الماء، وقيل: إن الذي ولي غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العباس وعلي والفضل يغسلانه وأسامة يناول الماء، والعباس واقف. وقال في "الحاوي": اختلف أصحابنا في أنه هل يختار غسله تحت سقف أو سماء؟ فقال بعضهم: يختار غسله تحت سقف، لأن ذلك أصون له وأخفى، وقال بعضهم: يختار تحت السماء لتنزل عليه الرحمة. فرع قال الشافعي: لو أن رفقة في طريق من سفرهم مات منهم ميت فلم يواروه، فإن كان في طريق أهل تخترقه الناس والمارة، أو بقرب قرية أساؤوا بتركهم الفصل، وكان على من يقرب منه من المسلمين أن يواروه، وأن يتركوه في صحراء أو في موضع لا يمر به أحد، ولا يجتاز به أهل قرية أثموا وعصوا الله تعالى، وعلى السلطان أن يعاقبهم عليه لتضييعهم حق الله تعالى، واستخفافهم بما يجب عليهم من حق أخيهم المسلم، وان كان على هذا الميت [275 ب / 3] أثر الغسل والكفن والحنوط فإنهم يدفنونه، فإن اختاروا الصلاة عليه صلوا على قبره، لأن الظاهر أنه صلي عليه. مسألة: قال: ويتخذ إناءين إناء يغرف به الماء المجموع. الفصل وهذا كما قال. الكلام الآن في كيفية غسله، فالمستحب للغاسل أن يتخذ ثلاثة أواني. إناء يجمع فيه الماء الكثير كالمرجل والحب، ويكون بالبعد من الميت بحيث إذا تطاير من غسله ماء لا يصيبه فإن فسد ماء هذا الإناء الصفير الذي بقربه كان ما يأخذه من الإناء الكبير كافياً، وإناء يغرف به من الماء المجموع: كالكوز والقمقمة، وإناء يلي الميت، يصب به الماء عليه ولا يغرف به لأنه ربما يترشش عليه الماء من غسل الميت إليه فيتنجس به، ثم يتنجس به الماء المجموع، فيكون أحد هذين الإناءين في يد

الغاسل، والثاني في يد المعين ويغرف المعين منه ويصبه على الذي في يد الغاسل، وأراد الشافعي بالإناءين غير الإناء الكبير، فإذا تقرر هذا، قال بعض أصحابنا: هذا يدل على أن بدن الميت نجس لأن الشافعي [276 أ / 3] أمر بحفظ الماء كي لا يتطاير إليه غسالة الميت فدل على نجاسته، وقيل: إنه نص على هذا في البويطي: فقال: ولا يصلي على الثوب الذي ينشف به الميت حتى يغسل ثانياً والمذهب الصحيح أن بدنه طاهر لقوله - صلى الله عليه وسلم -:" عليكم في مسلم غل إذا غسلتموه فإن ميتكم ليس بنجس حسبكم أن تغسلوا يديكم". رواه ابن عباس وبه قال عامة أصحابنا، وإنما أمر بحفظ الماء هاهنا مخافة أن يخرج منه نجاسة فيصيبها الماء ثم يصيب الماء المجموع فينجسه أيضا إذا مر به تنظيفاً وتطييباً للنفس، وهذا هو اختيار أبي إسحاق والصيرفي. وذكر أبو حامد عن ابن سريج والأنماطي: أنه اختار القول الأول، وقال أبو حنيفة: الآدمي ينجس بالموت ولكنه يطهر بالغسل وقالت عائشة لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "جاء أبو بكر من قبل رأسه فقبل جبهته ثلاثاً، ثم انحدر عليه فقبله، فقال في الأولى: وانبياه، وقال في الثانية: واصفياه، وقال في الثالثة: واخليلاه". مسألة: قال: وغير المسخن من الماء أحب إلي. وهذا كما قال. إذا كان الزمان صيفاً أو معتدلاً ولم يكن بالميت [276 ب / 3] حاجة إلى الماء المسخن، فغير المسخن أولى به وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: الماء المسخن أولى، لأنه ينقي ما لا ينقي البارد وهذا غلط: لأن الماء البارد يمسكه ويقويه ويشده والمسخن يرخي البدن فيسرع إليه الفساد، ولهذا يطرح في الماء الكافور ليشده ويبرده، فإن كان الزمان زمان برد شديد أو كان بالميت ما لا بد فيه من المسخن وكذلك إذا احتاج إلى تليين شيء من بدنه بالدهن لينه به ثم غسله بالماء، ثم قال: ("ويغتسل في قميص" وقد ذكرنا. ومن أصحابنا من قال: وجه الجمع بين هذا اللفظ وبين ما سبق من قوله، ويرح عليه ما يواري ما بين ركبتيه إلى سرته إن الميت بين موته إلى أن ينقل إلى مغتسله يكون متجرداً عن القميص، فإذا أضجعه الغاسل على مغتسله ألبسه القميص ولا ينبغي أن يكشف عورته في هذه الحالة، ولكن يسترها بإزار ويدفع عنه الثوب الذي سجي به جميع بدنه، ثم يلبسه القميص فوق إزاره، ثم ينتزع الإزار من تحت قميصه. ومن أصحابنا من قال: الغسل في [277 أ / 3] القميص للأشراف وذوي المروءات وهذا لا يصح، بل الصحيح أن الكل فيه سواء ثم قال: ولا يمس سائر بدنه أيضاً بيده إلا بخرقة لأنه إنما يمسه للغسل والتنظيف ومسه بالخرقة أنظف.

مسألة: قال: ويعد خرقتين نظيفتين كذلك. أي: يغسل عورته قبل غسله فيغسلها بإحداهما، ثم يلقيها ويأخذ الأخرى، وإنما استحب ذلك لأنه إذا كانت معه خرقة واحدة فغسل بها وتنجست يحتاج أن يصبر حتى تغسل ويأخذها فيطول ذلك، وإن فعل هذا بخرقة واحدة فغسل بها وتنجست يحتاج جاز وإن طال. فإذا تقرر هذا، قال أبو حامد: ظاهر ما قال في "الأم": إنه يستعمل كل واحدة منهما في جميع بدنه في الأعالي والأسافل، فيأخذ إحداهما ويبدأ بغسل وجهه ورقبته وصدره وبطنه وساقه وفخذيه وفرجيه، ويؤخر الفرج حتى إن تنجست لا يستعملها في موضع أخر تنجس بها، ثم يلقيها ويأخذ الأخرى، فيفعل مثل ذلك. وقال في "القديم": يغسل بإحداهما ما بين الإليتين والفخذين ثم يلقيها ويغسل بالأخرى جميع بدنه. قال أبو حامد: وليست المسألة على [277 ب / 3] قولين بل لا خلاف أنه يغسل بكل واحدة منهما جميع بدنه. والذي قال في "القديم": أراد غير هاتين الخرقتين، بل يعد أولا خرقة سواهما يغسل فرجه وما بين الإليتين ثم يلقيها ثم يستعمل الخرقتين الأخرتين في جميع البدن. وقال القاضي الطبري: هذا الذي قاله أبو حامد لا أعرفه للشافعي في شيء من كتبه والمنصوص في "الأم": أنه يضع إحدى الخرقتين على يده ويشدها، ثم يبدأ بسفليه فينقيهما، ثم يستنجي الحي ثم ينظف يده ويأخذ خرقة أخرى نقية يشدها على يده، ثم صب عليها وعلى الميت الماء، ثم أدخلها في فيه وبين شقيه ويمر على لسانه بالماء ولا يفغر فاه، ويدخل طرف إصبعه على منخريه بشيء من ماء فينقي شيئا إن كان هناك وهذا أصح. وهكذا ذكره أبو يعقوب الأبيوردي أيضاً، وما ذكره أبو حامد هو اختيار القفال، ومن أصحابنا من قال: الخرقتان هما للفرجين وسائر البدن لا يحتاج إلى الخرقة إذ لا نجاسة عليه، وهذا خلاف المنصوص، وقال بعض [278 أ / 3] أصحابنا: ولو غسل كل عضو بخرقة كان أولى. مسألة: قال: ويلقي الميت على ظهره، ثم يبدأ غاسله. الفصل وهذا كما قال. أراد أن يلقيه على ظهره على مغتسله في ابتداء غسله، ثم أول ما يفعل به الغاسل أن يجلسه إجلاساً رقيقاً ويمر يده على بطنه إمرارا بليغاً، وإنما يكون الإجلاس رقيقاً لئلا يخرج من جوفه شيء في تحريكه، وإجلاسه قبل صب الماء عليه فيتأذى برائحته وإنما يفعل هكذا لأن عادة الحي أنه يتغوط ويبول قبل الغسل. وقال القاسم بن محمد: توفي عبد الرحمن فغسله ابن عمر فنفضه نفضاً شديداً وعصره عصراً شديداً، ثم غسله، ويكون إجلاسه كالمنحرف قليلاً على صورة المتكئ

فيسند الميت إلى رجله اليمنى ويمر يده اليسرى على بطنه، وإنما يحرفه ليخرج الخارج منه وإنما يصب عليه ماء كثيراً حتى يخفى لون الخارج منه ورائحته في كثرة الماء، ثم قال: وعلي يده الأخرى إحدى الخرقتين يعني: اللتين أعدهما لما ذكرنا فيغسل فرجيه من النجاسة وهو كاستنجاء الحي ثم يلقيها ثم يغسل يده بأشنان وغيره، ولو كان قد أصابها [ب / 278 - 3] شيء، ثم يأخذ الخرقة الأخرى فيشدها على يده ويدخل أصابعه بين شفتيه فيمسح الأسنان مسحاً بليغاً كالسواك للحي، ثم يدخل أصبعيه في منخريه وينظف ما هناك تنظيفاً بليغاً، فإذا فعل هذا فقد غسل ما به من الأذى، ثم يوضئه وضوءه للصلاة ولم ينص الشافعي على المضمضة والاستنشاق إلا أن إطلاق قوله: ويوضئه وضوءه للصلاة يدل على ذلك فهما مسنونان فيه. ومن أصحابنا من قال: قوله: يدخل أصابعه في فيه وأنفه هما إشارة إليها، ويفغر فاه فيقتصر على ما بين الشفتين والأسنان؛ لأنه لو صب الماء في فيه احتاج إلى تنكيسه لخروجه، وقال أبو حنيفة: لا يسن ذلك وهذا غلط لقوله - صلى الله عليه وسلم - لمن غسل: "ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها"، ولأن ما يسن في غسل الحي يسن في غسل الميت كالتكرار، ثم إذا وضأه ابتدأ بالرأس فيغسله بماء وسار ثم وجهه ولحيته وقال النخعي: يبدأ بلحيته وهذا غلط لأنه إذا بدأ بغسل الرأس ثم باللحية لم يحتج إلى إعادة غسلها، ثم ينظر في اللحية، فإن كانت كثيفه ملبدة قال في "الأم": لا بأس أن يسرحها بأسنان مشط تكون منفرجة الأسنان لا ينتف [279 أ / 3] شعره، وإن كانت خفيفة أفاض الماء عليها كالحي سواء. وقال أبو حنيفة: لا يسرح أصلاً، لأنه يؤدي إلى نتف شعره، وهذا غلط لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "اصنعوا بموتاكم ما تصنعون بعروسكم"، وأما ما ذكره لا يصح لأنه إذا رفق بالتسريح أمن ذلك، ولهذا يجوز للمحرم أن يسرح لحيته، ثم يبدأ بغسل بدنه فيبتدئ بغسل شقه الأيمن مما دون رأسه إلى أن يغسل قدميه ويحرفه حتى يغل ظهره كما يغسل بطنه، ثم يتحول إلى شقه الأيسر فيصنع به مثل ذلك. ومن أصحابنا من قال: يضجعه على قفاه ثم يبدأ بميامنه فيغسله من صفحة عنقه وشق صدره وجيبه وفخذه وساقه ثم يعود إلى شقه الأيسر فيصنع به مثل ذلك، فإذا فعل هذا صار ميامنه ومياسره مما يلي صدره وبطنه مغسولة مع صدره وبطنه، ثم يحرفه على جنبه الأيسر ويجعل الغاسل ساقي نفسه عماداً لصدره كي لا ينكب الميت على وجهه ولا يستلقي على ظهره فيغسل ظهره وقفاه وفخذه وساقه اليمنى وهو يراه متمكنا، ثم يلقيه على ظهره، ثم يحرفه على شقه الأيمن ويغسل مياسره من خلفه كما منع بميامنه [279 ب / 3] ويغسل ما تحت قدميه مستقصياً وما بين فخذيه بالخرقة، ثم يصب عليها الماء القراح وإذا حرفه وغسله هكذا يغسل ما تحته من المغتسل ليكون أنظف له وهذا

هو المذكور في جميع الكتب. وذكر القاضي الطبري: أنا لا نعرف هذا الترتيب عن الشافعي، ونصه في كتبه ما ذكرنا أولاً وهذا الغسل يكون بالماء والسدر، وقال الشافعي: إن كان هناك وسخ يحتاج إلى قلعه بأشنان استعمله، وقال أبو حنيفة: لا أعرف السدر وهذا غلط لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لمن غسل ابنته "اغسليها بماء وسدر وابتدئي بميامنها"، وإذا صب عليه الماء القراح قال الشافعي: "يلقى فيه شيئاً من كافور"، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: لا أعرف الكافور، وحكي عنه أنه قال: يغسل المرة الأولى بالماء القراح، ويغسل الثانية بماء وسدر، والثالثة بالماء القراح وهذا غلط لقوله - صلى الله عليه وسلم - في خبر أم عطية "واجعلي في الأجرة كافوراً أو شيئاً من كافور"، ثم للاحتساب إنما يقع بهذه الغسلة التي فيها الكافور وقيل ذلك بالماء والسدر تنظيف وقد تغير الماء به، لأن قليله [280 أ / 3] لا ينظف، وكثيره بغير الماء فلا يحتسب به، لأنه ليس بطهور وهذا هو المذهب المنصوص. وحكي عن أبي إسحاق: أن الغسلة الأولى هي التي يعتد بها دون الثانية، وهذا غلط لما ذكرناه، ومن أصحابنا من قال: لا تجزيه هذه الفسلة أصلاً وإن صب عليه الماء القراح لأنه إذا صب خالطه الدر الذي هو باق من الغسلة الأولى، فصار كالماء الذي خالطه السدر ذكره في "الشامل". وهذا ليس بشي، عندي فإن قيل: هلا قلتم الكافور إذا غير الماء أبطل تطهيره؟ قلنا: قال الشافعي: يغيره بالمجاروة لا بالمخالطة فلا يضر وأراد به اليسير الذي لا يخالطه ولا يمازجه، بل يتروح به الماء قليلاً، والمعنى في ذلك أنه أنقى للميت وأطيب له وأما قوله: وهو يراه متمكناً أراد الغاسل ينظر في غسل ظهره إليه نظر متمكن، أي نظر من يتمكن من غله ما يجب غله كما قال قبل ذلك: ويغضون أبصارهم عنه إلا فيما لا يمكن لغيره ليعرف الغاسل ما غسل وما بقي، وقيل: متمكناً يرجع إلى الميت وقال: ويستقصي ذلك وأراد غسل عورته، لأنه [280 ب / 3] موضع خروج الحدث منه. مسألة: قال: وأقل غسل الميت فيما أحب ثلاثاً. الفصل وهذا كما قال. الواجب: النية وغسله مرة واحدة كما في غسل الجنابة، والمستحب أكثر الأمرين من الثلاثة أو الإنقاء فإن أنقته الثلاث من الوسخ والدرن وإلا غسله خمساً أو سبعاً ويقف على الوتر وقال مالك: الاعتبار بالإنقاء، ولا معنى للعدد، وهذا غلط لما روي عن أم عطية قالت: توفيت إحدى بنات النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "اغسلنها وتراً ثلاثاً

أو خمساَ أو أكثر من ذلك إن رأيتن، واغسلنها بماء وسدر واجعلن في الأجرة كافوراً أو شيئاً من كافور فإن فرغتن فأذنني"، فلما فرغن أذناه فألقى إلينا حقوه وقال: "اشعرنها به" قالت: وضفرنا شعرها ثلاثة قرون وألقيناها خلفها. وبهذا قال أحمد وإسحاق والحقو: هو الإزار. وقوله: أشعرنها إياه: أراد اجعلنه شعاراً لها وهو الثوب الذي يلي جسدها، والضفر أصله الفتل. ولأنه لما استحب التكرار في غسل الجنابة استحب هاهنا، ثم قال: ويجعل في كل ماء قراح كافوراً، وإن لم يجعل إلا في [281 أ / 3] الأجرة أجزأه ذلك، وقد ذكرنا ذلك. مسألة: قال: ويتبع ما بين أظافره بعودٍ لا يجرح. وهكذا كما قال. قال بعض مشايخنا: هذا من عند المزني وهو حسن، ولم يوجد للشافعي ذلك وقيل: هذا ذكره الشافعي وزاد وقال الشافعي: ومن ظاهر أذنيه وصماخيه، وإنما قال هذا على القول الذي يقول: لا يقلم أظفاره فأما على القول الذي يقول: يقلم أظفاره لا يحتاج إلى هذا وإنما قال: بعود لا يجرح لقول عائشة رضي الله عنها: "كسر عظام الميت ككسر عظام الحي"، ويروى هذا مرفوعاً إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأراد فيه الحرمة. قال أصحابنا: ولو شد على رأس الخلال قطناً ويتبعها به كان أولى، وإنما يؤمر بهذا للتنظيف ويكون ذلك قبل الغسل؛ لأنه من جملة إزالة الأذى فيفعله في الوقت الذي يفعل فيه السواك وغيره، فإن ترك ذلك في ذلك الوقت أتى به بعد ذلك والمزني أخل بالنقل حيث ذكره هاهنا. وكان من حقه أن يذكر قبل البداية بالغسل، ثم قال: وكلما صب عليه الماء [281 ب / 3] القراح بعد السدر حسبه غسلاً واحداً" وأراد أنه يستحب غله بعد الدر بالماء القراح ثلاثاً على ما ذكرنا، وقد ذكرنا في الغسلة بعد السدر وجهين، وظاهر كلام الشافعي يدل على أنه يحسب غسلاً، ومن قال بذلك الوجه البعيد تأول كلام الشافعي على أنه أراد إذا نظف السدر، ثم غسله بالماء القراح والسدر حتى يخرج من جوفه ما يريد أن يخرج، ومن الغسلة الأخيرة لا يمر يده على بطنه ولكنه يجلسه لينشفه، وقال بعض أصحابنا: في المرة الأولى يبالغ في ذلك وبعد ذلك برفق ولا يبالغ. مسألة: قال: ويقعده عند أخر غسلةٍ، فإذ خرج منه شيء أنقاه بالخرقة وأعاد عليه غسله" .. وهذا كما قال: اختلف أصحابنا فيما لو خرج شيء من دبره أو قبله على ثلاثة

أوجه: فمنهم من قال: لا يعاد الغسل واجباً بل يعاد مستحباً، والواجب أن ينقي المكان الذي خرج منه الخارج النجس، ولأنه خارج من الميت بعد سقوط فرض الغسل فلا تجب إعادة الغسل، كما لو أدرجه في الكفن، ثم خرج [ق 283 ب] وهذا هو القياس، وبه قال أبو حنيفة، والثوري وهو اختيار المزني وقرئ ههنا: وأعاد عليه غسله بفتح الغين لا بضمها فيكون غسل ذلك المكان. وقال أبو إسحاق: يحتمل أن يقال: يجب الوضوء؟ لأنه خروج الحدث بعد الغسل كما في الحي يوجب الوضوء، وقال ابن أبي هريرة: يعاد الفسل واجباً ويقرأ بالضم، وأعاد عليه غسله، وهذا لأن الموت يوجب الغسل وليس فيه أكثر من زوال التكليف، ومثل هذا من الحي يوجب الوضوء، فكذلك خروج الحدث منه يوجب الغسل، وإن كان من الحي يوجب الوضوء، ولأن القصد أن يكون خاتمة أمره الطهارة الكاملة. وقال أحمد: يعاد غله إلى سبح مرات، ثم إذا فرغ من جميع ذلك، قال الشافعي في "الأم": "أعاد تليين مفاصله". وإنما قال ذلك لأنها قد لانت بالماء فتلين ليبقى لينه ويسهل على الدافن دفنه، فإنها إذا تركت هكذا جفت ويبست فيصعب دفنه كما قلنا في عقيب موته، وقيل: هذا غلط كما قيل فيما تقدم، وليس كذلك، لأن وجه هذا ظاهر، ثم قال: "ثم ينشفه في ثوب" أي [ق 284 أ] يمسح عنه البلل؛ لأن هذا عادة الحي ولئلا يتسارع الفساد إلى الكفن. وقال في كتاب الجنائز من "المختصر الصغير": وألصق بدنه بجنبيه وصف ما بين قدميه وألصق إحدى كعبيه بالأخرى وضم إحدى فخذيه إلى الأخرى ثم ينشف بعد ذلك. مسألة: قال: ومن أصحابنا من رأى حلق الشعر إذا طال. الفصل وهذا كما قال. الشعور ضربان: شعر يحلق تنظيفا، وشعر يحلق زينة، فالذي يحلق تنظيفاً هو ما يحلق فطرة من شعر العانة والإبط وفي معناه حف الشارب وتقليم الأظفار. قال في "القديم": وأكره إزالته منه، وبه قال مالك وأبو حنيفة والثوري، وهو اختيار المزني لأنه قطع جزء من يديه فيكره، كما لو كان أقلف لا يختن بالإجماع. وكذلك لو مات وعليه القطع في الرقة لا تقطع يد. وكذلك إذا وصل بعظمه عظم ميتة ومات لا يقطع بعد موته. وقال في "الجديد": لا بأس به، وبه قال الحسن وأحمد وهو الأصح لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اصنعوا بموتاكم ما تفعلون بعروسكم [282 أ / 3] وروي أن سعد بن أبي وقاص

حلق عانة ميت ولأن القصد به التنظيف فأشبه الغسل، ولا خلاف أنه لا يستحب والقولان في أنه هل يكره أم لا يكره؟ وقال المزني: تركه أعجب إلي لأنه يصير إلى بلى عن قريب ويمكن أن يجاب عن هذا فإنه لما لم يكن هذا عذراً في ترك تنظيفه بالغسل وتطييبه وتحسين كفنه كذلك في حلق شعره فإذا قلنا: لا يكره، ففي شعر الإبط بالخيار إن شاء نتفه وإن شاء أزاله بالنورة. وأما شعر العانة لا يزال إلا بالنورة لئلا يشاهد العورة هكذا ذكره أصحابنا، وقال القاضي الطبري: نص الشافعي في شعر العانة فقال: أحدنا نحكم أو بالموسى أو نورة فإن نورة غسل النورة ويقص الأظافير بالمقص، وأما شعر الشارب: يقص بالمقراض ولا يحلق بالموسى فإن حلقه مكروه في حق الحي والميت، وأما الشعر الذي يحلق زينة وهو شعر الرأس، فإن كان ذا جمة لم يحلق قولاً واحداً، وإن كان يحلق في حياته وقد طال في مرضه [282 ب / 3] هل يحلقه؟ قال أبو إسحاق: فيه قولان: وقال بعض أصحابنا: نص الشافعي أنه يكره حلقه، لأنه لا يحلق فطرة، وإنما يحلق زينة أو نسكاً بقول واحد إنه لا يحلق وهذا أصح، وأراد الشافعي بحلق الشعر [...] هذا، وقال الأوزاعي: يحلق رأسه ويقلم أظفاره ويدفن ذلك معه. فرع هل تجب النية في غسل الميت؟ اختلف أصحابنا فيه. فمنهم من قال: يجب وهو الصحيح عندي، لأنه يستحق تعبد الله عز وجل كالغل من الحيض، ولأن الشافعي نص أنه يجب غسل الغريق ثانياً، وقد مر الماء عليه بعد موته فدل أنه أمر به لأنه لم يجز غسله لعدم النية. ومن أصحابنا من قال: لا يجب لأن الشافعي نص على أن الذمية إذا غسلت زوجها المسلم فإنه يكره وتجزيه ولا نية للذمية. وأما ما ذكر في الغريق ثلاثاً أمرنا بإيقاع فعل [...] فيه ولم يوجد ذلك في الغريق، وهذا ظاهر المذهب فإذا قلنا: إنها تجب نوى الغسل الواجب أو الفرض أو غسل الميت. وذكر بعض أصحابنا بخراسان: في الكافر إذا غسل المسلم هل يجوز أم لا؟ فيه [283 أ / 3] وجهان. وقالوا أيضاً: إذا قلنا: لا تجب النية لورود ما على الميت عند الغرق لا يجب غسله ثانياً، ولكنه يستحب لأن الخطاب به على الأحياء فيظهر به الأمر، وهو غلط ظاهر لما ذكرنا من المعنى والنص. مسألة: قال: ولا يقرب المحرم طيباً في غسله ولا حنوطه.

الفصل وهذا كما قال: إذا مات المحرم لا يبطل إحرامه، وقال في "الأم": غسل بماء وسدر وكفن في ثيابه التي أحرم فيها أو غيرها ليس فيها قميص ولا عمامة ولا يعقد عليه ثوب كما لا يعقد الحي المحرم، ولا يمس طيباً ويخمر وجهه ولا يخمر رأسه. وقال في موضع آخر: "ولا يطرح الكافور في ثيابه ويصلى عليه ويدفن" وبه قال عثمان وعلي وابن عباس رضي الله عنهم، وهو مذهب عطاء والثوري وأحمد وإسحاق، وقال أبو حنيفة والأوزاعي: يبطل إحرامه بالموت وهو كالميت الحلال وبه قالت عائشة وابن عمر رضي الله عنهما، واحتج الشافعي على أبي حنيفة بخبر الأعرابي وتمامه: أن اعرابياً كان واقفاً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفات محرماً فوقصت به ناقته في أخافيق [283 ب / 3] جردان فاندقت عنقه فمات فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما ولا تخمروا وأسه ولا تقربوه طيباً فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً" وروي ملبداً، أي محرماً على هيئة المحرمين، وقوله: وقصت به ناقته، أي: صرعته فدقت عنقه، وأصل الوقص: الدق والكسر. فرع المعتدة المحدة إذا ماتتء قال أبو إسحاق: لا يبطل حكمها كالإحرام سواء، وقال سائر أصحابنا: وهو الصحيح يبطل حكمها، والفرق أن المعتدة إنما منعت من الطيب والزينة لئلا تدعو نفسها إلى النكاح، وهذا معدوم بعد الموت، والمحرم منع من ذلك بحق الله تعالى تعبداً محضا فلا ينقطع بالموت. مسألة: قال: وأحب أن يكون بقرب الميت مجمرة. الفصل وهذا كما قال. المستحب أن يكون بالقرب من غسله بخور من عود أو عطر لا ينقطع حتى يفرغ من غسله؟ لأنه وبما يخرج منه شيء تظهر رائحته، وربما تضعف نفس الغاسل يشم ذلك فيدفعه البخور. وقال بعض أصحابنا: إنما ذكر في هذا الموضح ليعلم أن الميت، وإن كان محرماً فهو كغير المحرم في هذا، لأن [284 أ / 3] الشافعي قال في المحرم: له أن يجلس عند العطار فجوز أن يحمر بالعود بقربه للمعنى الذي ذكرنا. مسألة: قال: وان رأى من الميت شيئاً لا يتحدث به.

الفصل وهذا كما قال. يستحب للغاسل والذي يعاونه إذا رأوا من الميت خيراً أن يرفعوه ويتحدثوا به، كالنور والأحوال الحسنة، وان شاهد التغير والأحوال القبيحة أو رأى كأن به مكتمة في حياته يستره ولا يحدث به، لما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من ستر على أخيه ستر الله عورته يوم القيامة ومن تتبع عورة أخيه تتبع الله عورته ومن تتبع الله عورته فضحه ولو في جوف رحله". وروى أبو رافع أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من غسل ميتاً فكتم عليه غفر الله له أربعين مرة"، ولأنه وبما يرى عليه اسوداد الوجه لغلبة الدم، أو التواء العنق للتشنج الذي قد أصاب عصبة فلا يكون ذلك لشقاوة فإذا حدث الناس به فإنهم يظنون به ظن السوء. ومن أصحابنا من قال: لا يتحدث بما يراه خيراً أيضا، لأنه قد يكون عنده محاسن وعند غيره مساوئ، وهذا لا يصح [284 ب / 3] لأن في ذلك ثناء يبعث على ترك الدعاء له والترحم عليه. مسألة: قال: وأولاهم بغسلة أولاهم بالصلاة عليه. الفصل وهذا كما قال. حكم الغسل والدفن في هذا واحد. فإن كان الميت رجلاً كان أولى الناس بالصلاة عليه أولى الناس بغسله ودفنه، فيكون الأب، ثم الجد، ثم الأقرب فالأقرب على ترتيب العصبات في الميراث، وهو مراد الشافعي هاهنا، لأن لفظه لفظ التذكر وهل تقدم زوجته على عصابته؟ فيه وجهان: أحدهما: تقدم، لأن لها النظر إلى ما لا ينظر العصبات إليه، وهو ما بين السرة والركبة قال هذا القائل. وأراد الشافعي إذا لم يكن هناك زوجة. والثاني: يقدم العصبات عليها، لأنهم أحق بالصلاة عليه فكذلك في الغسل، وهذا ظاهر المذهب. فإن كان الميت امرأة فلا يختلف المذهب أن النساء مقدمات على الأقرباء من الرجال لأن عورة المرأة مع المرأة أخف من عورتها مع الرجل، ولهذا أنه يجوز للمرأة أن تغسل المرأة الأجنبية. واختلف أصحابنا في الزوج هل هو مقدم في غسلها على النساء والأقرباء من [285 أ / 3] الرجال أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يقدم الزوج، لأنه أوسع في النظر إليها وهو الأقيس وقال: وهو اختيار القفال قال: وقصد الشافعي بما قال الرد على أبي حنيفة حيث قال: الوالي أولى

بالصلاة من الولي. والثاني: يقدم النساء والقرابات من الرجال عليه، وذكر بعض أصحابنا أن الشافعي نص على أن نساء القرابة أولى بغسلها من الزوج، فإذا قلنا بهذا فإن ذوات المحارم من النسا، أولى من سائر القرابات والأجنبيات. وإن لم يكن محرماً لها، وان لم يكن هناك امرأة، فإن كان هناك عصبات من غير ذوي المحارم وذوي المحارم من غير العصبات مثل الخال وأب الأم فالمحارم أولى، والذين ليسوا بمحارم بمنزلة الأجانب. وعلى هذا لو ماتت المرأة وخلفت أبوين فالأب أولى بالصلاة والأم أولى بغسلها. وقال بعض أصحابنا: إذا كان مع الزوج قرابات رجالاً ونساء أسقط الرجال القرابات بالنساء، ثم يبقى النساء والزوج فأيهما تقدم فيه وجهان. فرع لو مات رجل وهناك نساء لا رجل معهن، أو ماتت امرأة وهناك [285 ب / 3] رجال لا نساء معهن، ففيه وجهان: أحدهما: وبه قال أكثر أصحابنا لا يغسل، ولكنه يتيمم ويدفن وبه قال مالك وأبو حنيفة، لأن في غله النظر إلى من ليس بمحرم، ولأن الغل تعذر لهذا، فأقيم التيمم مقامه كما في الحي. والثاني: يغسل في قميص ويلف على يده خرقة كي لا يمسها ويغض بصره، وبه قال النخعي. قال في "الحاوي": وهذا أصح وذكر أن الشافعي نص في الميت إذا كان رجلاً وليس هناك إلا نساء أجانب يغسلنه، ولا يجوز أن يتيمم، وكأذلك يجب غل المرأة أيضا إذا لم يكن هناك إلا الرجال وهذا غريب، وقد روى سنان بن عرفة، وكان صحابياً أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في الرجل يموت مع النساء والمرأة تموت مع الرجال ليس لواحد منهما محرم ييممان بالصعيد ولا يغسلان، وعن أحمد روايتان وقال الأوزاعي: يدفن من غير غسل ولا يتمم وهو قول بعض أصحابنا وليس بشيء؛ لأن الفسل أو بدله من التيمم ممكن على ما ذكرناه، ومن أصحابنا من قال: يلف على يده خرقة ويغسلها [286 أ / 3] ذكره بعض أهل خراسان وليس بشيء. فَرْعٌ آخرُ الخنثى المشكل إذا مات، فإن كان له ذو رحم محرم من الرجال أو النساء جاز له غسله، وإن لم يكن ينبغي أن يكون فيه وجهان: كما ذكرنا في المرأة إذا لم يكن هناك محرم أو لا امرأة. أحدهما: يتمم، وبه قال أهل العراق والمزني؛ لأن الوجه واليدين ليسا بعورة في الرجال ولا في النساء فجاز لكلا الفريقين النظر إليه ولم يجز لهما النظر إلى جسده للاحتياط.

والثاني: يجب غسله وهو اختيار كثيرون من أصحابنا، فعلى هذا المستحب أن ينل في قميص ويكون موضع غسله مظلماً ويتولى غسله أوثق من يقدر عليه من الرجال والنساء، قال هذا القائل ولو جاز أن يمتنع هذا الإشكال لامتنع التيمم أيضاً، لأن ذراعي المرأة عورة ولأن الوجه والكف ليسا بعورة في جواز النظر، ولكنها عورة في المباشرة وتحرم مباشرتهما كسائر الجسد، فإذا تساويا فالغسل أولى. وقال بعض أصحابنا: يشتري له جارية من ماله، وإن لم يكن له مال فمن مال بيت المال فتغسله الجارية وقال [286 ب / 3]. الشيخ أبو زيد المروزي هذا خطأ؛ لأن الرجل لا تغسله جاريته إذا مات فكيف تغسله الجارية التي تشترى بعد موته؟، قال: وينبغي أن يقال: يغسله إما رجل أو امرأة أيهما كان، لأنه قد ثبت إن قبل البلوغ لو احتيج إلى غسله حياً أو ميتاً، فأي هذين غسله جاز، فيستحب ذلك الأصل، وإنما يؤخذ من أمر الخنثى المشكل باليقين، ولهذا لو مس أحد فرجيه فلا وضوء، وإن غطى وجهه أو رأسه في الإحرام فلا فدية عليه حتى يغطيهما معاً. مسألة: قال: ويغسل الرجل امرأته والمرأة زوجها. وهذا كما قال: لا خلاف أن المرأة تغل زوجها، لأن أسما، بنت عميس - رضي الله عنها - "غسلت زوجها أبا بكر رضي الله عنه لوصيته"، ولأن الزوجية باقية من التوارث والعدة فكان لها غسله، وروي عن أحمد أنها لا تغسله والرواية الصحيحة عنه خلافه، واحتج الشافعي على هذا بقول عائشة - رضي الله عنها - لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا ما غسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا نساؤه": وإنما قالت ذلك لأنها ظنت أن أبا بكر الصديق هو الذي غسل رسول الله [287 أ / 3]- صلى الله عليه وسلم - فلما أخبرت أن علياً وغيره غسلاه ذكرت هذا متحسرة. وأما الزوجة إذا ماتت، هل يغسلها زوجها؟ وبه قال علي رضي الله عنه: وهو مذهب حماد وعطاء وجابر بن الشعثاء، ومالك وإسحاق وزفر وأحمد في أصح الروايتين. وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: لا يجوز له أن يغسلها وهذا غلط لما روته عائشة رضي الله عنها قالت: رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من البقيع، فوجدني وأنا أجد صداعاً وأقول وارأساه فقال: بل أنا يا عائشة وارأساه، ثم قال: ما ضرك لو مت قبلي لغسلتك ولكفنتك وصليت عليك ودفنتك". وروي أن فاطمة _ رضي الله عنها _ ومسته أن تغسلها أسماء بنت عميس فكان علي ورضي الله عنه يصب الماء عليها". وقالت عائشة: توفيت فاطمة بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بستة أشهر فغسلها علي رضي الله عنه

ودفنها ليلاً". وقال جابر: الزوج أحق بغسل المرأة من أخيها، فإن قيل: أنكر عليه ابن مسعود فقال سمعت رسول الله في يقول: "كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبي". قلنا: هذا لم يذكره واحد من [287 ب / 3] أصحاب الحديث والدليل على عام صحته أن نكاحه ينقطع بموته لنكاح غيره، ولهذا تزوج عثمان رضي لله عنه ابنتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - واحدة بعد واحدة، ثم بين الشافعي أن ما فضل به أبو حنيفة بينهما من أمر العدة لا معنى له، فقال: وليس للعدة معنى يحل لأحدهما فيها ما لا يحل له من صاحبه، يعني: كما قلنا في حال الحياة، ولأن المطلقة قبيل موته لا تغسله، وإن كانت في عدته. فرع لو ماتت المرأة وتزوج الرجل في الحال بأختها أو بأربع سواها، قال الإمام أبو عبد الله الحناطي رحمه الله: هل يغسلها؟ وجهان: والصحيح عندي أنه يغسلها لأنه حكم ثبت بالموت فلا يبطل بعده بنكاح آخر ولا معنى للوجهين، وقيل: إلى متى يغسلها زوجها؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: إلى انقضاء العدة وبه قال أبو حنيفة. والثاني: إلى أن يتزوج، لأنها استباحت رجلاً أخر. والثالث: تزوجها إبداء لبقاء الميراث. فَرْعٌ آخرُ لو مات الرجل وامرأته حبلى فوضعت قبل دفن الزوج لها أن تغسله وإن انقضت العدة، ولو تزوجت بزوج [288 أ / 3] آخر، قال الإمام الحناطي في "المجرد": لا تغسل زوجها الأول وسائر أصحابنا قال: لها أن تغسله وهو الصحيح عندي لما ذكرته ولا يقال: أنه يؤدي إلى النظر إلى الزوجين؛ لأنها تنظر إلى أحدهما بالشفقة والصلة والى الآخر بالشهوة فلا بأس. فرع لو كانت مطلقة رجعية فماتت قبل المراجعة، روى المزني عن الشافعي في "الجامع الكبير": أنه لا يغسلها. ونقله القاضي أبو حامد إلى جامعه لأنه حرم وطئها قبل الموت والنظر إليها، وإنما يجوز غسلها إذا تمسك بزمام النكاح إلى أن فرق الموت بينهما. وقال بعض أصحابنا: يغسلها لبقاء الزوجية إلى الموت وليس بشيء وهكذا لو مات الزوج لا يجوز لزوجته الرجعية أن تغسله على ما ذكرنا. فَرْعٌ آخرُ لو كانت له امرأتان ثم مات فإنه يقرع بينهما فمن خرجت لها القرعة غسلته.

فَرْعٌ آخرُ لو ماتت الأمة القن فسيدها يغسلها خلافاً لأبي حنيفة، وهذا لأنه تلزمه مؤنتها بحكم الملك كالزوجة، ولو مات السيد فأمته لا تغسله لأنها صارت بموته ملكاً للغير، وقال بعض أصحابنا بخراسان: [288 ب / 3] فيه وجهان وليس بشيء. فَرْعٌ آخرُ لو ماتت الأمة في مدة الاستبراء فيه وجهان: أحدهما: لا يباح غلها لأنها محرمة للاستمتاع. والثاني: يباح بحق الملك. وإنما منعنا الاستمتاع صيانه لمائه حتى لا يختلط بماء، الغير، وليس في إباحة الغسل خوف الفساد. فَرْعٌ آخرُ لو ماتت أم الولد فسيدها يغسلها قولاً واحداً؛ لأنها ماتت في ملكه، ولو مات السيد هل لأم الولد غسله فيه وجهان: أحدهما: ليس لها ذلك، وبه قال أبو حنيفة لأنها عتقت بموته فصارت كالأجنبية. والثاني: تغسله كما تغسلها كالزوجة، وهذا البقاء حرمة الولاء بينهما. مسألة: قال: ويغسل المسلم قرابته من المشركين. الفصل وهذا كما قال. إذا كان للمشرك قرابة مسلمون ومشركون، فإن قرابته المشركين أولى بغسله، لأنهم استووا في القرابة وانفرد المشركون بالولاية والموالاة بالشرك، فإن رضوا بأن يغسله المسلم جاز، ولا يجب على المسلم غسله ولا يكره له ذلك. وقال مالك: يكره له ذلك. واحتج الشافعي على جواز غسله بخبر علي رضي الله عنه وتمام الخبر: أن أبا طالب لما مات جاء علي رضي الله عنه إلى [289 أ / 3] رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله مات عمك الشيخ الضال فقال: "اذهب فاغسله وادفنه ولا تحدث شيئاً حتى تأتيني"، ففعل ثم رجع إليه، فقال: قد فعلت فقال: "اذهب فاغتسل". وأما الصلاة عليه فلا تحل بحال لقوله تعالى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَداً} [التوبة: 84] الآية؟ ولأن القصد بالصلاة الترحم والاستغفار والقصد بالغسل التنظيف فافترقا، وأما الدفن فلا خلاف أنه يجوز لستر العورة ولئلا يتأذى به الناس. ولو ترك التكفين والدفن في الكفار جاز لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بأصحاب بدر من الكفار حتى جروا إلى القليب بعد ثلاث وطرح عليهم التراب. فرع قال الشافعي: إذا ماتت امرأته النصرانية، فإن شاء الزوج المسلم غسلها وشهدها وأدخلها قبرها ولا يصلي عليها، وأكره له أن تغسله هي فإن غسلته جاز وقد ذكرنا هذا.

باب عدد الكفن وكيف الحنوط

فرع إذا مات في معدن وتعذر إخراجه لا يصلي عليه؛ لأنه تعذر غسله. فَرْعٌ آخرُ المحترق إذا خيف عليه التهري يترك غسله واقتصر على التيمم فيه، وقال الأوزاعي: [289 ب / 3] لا يجب التيمم أيضاً. فَرْعٌ آخرُ إذا قلنا: الآدمي لا ينجس بالموت لو تفسخ ونتن، اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: تنجس لا لعينه، بل لحدوث التفسخ وظهور القيح والصديد ومنهم من قال: لا ينجس وهو كاللحم إذا نتن هل ينجس؟ وجهان. فَرْعٌ آخرُ قال أصحابنا: ينبغي أن يكون الغاسل أميناً لما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: "لا يغسل موتاكم إلا المأمونون". ولأنه إذا لم يكن أمينا لم يأمن أن لا يستوفي الغسل ويستر ما يرى من الجميل ويظهر ما يرى من القبيح. باب عدد الكفن وكيف الحنوط مسألة: قال: وأحب عدد الكفن إلى ثلاثة أثواب بيض رياطٍ. الفصل وهذا كما قال. الكلام في الكفن في خمس فصول: في القدر الواجب، والمستحب، والمباح، والمكروه، والصفة. فأما الواجب: فقد قال في "الأم": ما يستر به العورة يعني بين السرة والركبة، لأنه ليس بأكد حالاً من الحي، والواجب في الحي هذا القدر، ومنهم من قال: الواجب ثوب واحد يستر جميع بدنه لأن فيما دونه ما وتا بحقه، وأشار الشافعي إليه والصحيح الأول، ومن أصحابنا من قال: الواجب ثلاثة [290 أ / 3] أثواب، وهذا لأن أدنى كمال الثياب للحي ثلاثة: قميص، وسراويل، ولباس الرأس وهذا لا يصح وتأويله إذا تشاجرا في المستحب من الكفن لا في الواجب والمستحب هو للثلاثة. فإذا تقرر هذا بأن كان له ثوب يستر جميع بدنه ستره به، مران كان يستر بعضه ستر به رأسه وعورته، وجعل على رجليه التراب أو شيئاً من الإذخر والشجر، وإن كان لا يستر إلا العورة فقط ستروها وأجزأه، ويجعل على وأسه ورجليه ما ذكرنا، وهذا لما روي أن مصعب بن عمير رضي الله عنه قتل يوم أحد، وكانت له نمرة إذا غطى بها رأسه بدت قدماه، فإذا غطيت به رجلاه بدى رأسه،

فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "غطوا بها رأسه واجعلوا على قدمه شيئاً من الإذخر"، والنمرة: ضرب من الأكسية ذكوه الإمام أبو سليمان، وقال بعض أصحابنا: النمرة هي ثوب الحبرة، وروى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كفن حمزة في نمرة في ثوب واحد"، وأما المستحب: فثلاثة أثواب: لفائف ليس فيها قميص ولا عمامة، لأنها ثياب الليل عند النوم. وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[290 ب / 3] كفن في ثلاثة أثواب بيض سحولية ليس فيها قميص ولا عمامة"، ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة. والحولية: هي من ثياب اليمن منسوبة إلى سحول وهي مدينة بناحية اليمن يعمل فيها ثياب يقال لها: الحولية، وهذا بفتح السين والسحول بضم السين: هي الثياب البيض. وروي أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه - كفن في ثلاثة أثواب ثوبين سحوليين وثوب كان يلبسه، وقالت عائشة رضي الله عنها: لا يكفن الميت في أقل من ثلاثة أثواب، فإن قيل: روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في المحرم الذي مات بالوقص "كفنوه في ثوبيه اللذين مات فيهما" قلنا: يحتمل أنه لم يكن له ثالث فلهذا قال ذلك، فإن قيل: روى ابن المغفل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في قميص. قلنا: راوي خبرنا عائشة وهي أعرف بذلك وأقرب إليه، فإن قيل: روى مقسم عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن في ثلاثة أثواب ثوبان وحلة حمراء وقميصه الذي كان عليه. وروي أنه كفن في ثوبين وبرد حبرة. قلنا [291 أ / 3] روى القاسم بن محمد عن عائشة أنها قالت: "أدرج وسول الله - صلى الله عليه وسلم - في برد ثم أخذت عنه فعلمت عائشة في ذلك ما لم يعلموا"، وروي أنها قالت: "أتي بالبرد ولكنهم ردوه ولم يكفنوه فيه". وقال مالك: تستحب العمامة رجلاً كان أو امرأة. واحتج بأن علياً رضي الله عنه كفن وعمم في كفنه، وهذا لا يصح، لأن تلك لم تكن عمامة بل كانت عصابة سد بها رأسه للضربة. وأما قول الشافعي: بيض رياط: جمع الريطة وهي الملاءة البيضاء التي ليست ملفقة من ثوبين. وأما المباح فخمسة أثواب. قال الشافعي: فإن كفن في خمسة أثواب فلا بأس به؛ لأنه روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه "كان يكفن أهله في خمسة أثواب". ولأن ذلك من كمال لباس الحي فإنه يلبس قميصاً وسراويلاً وعمامة ورداء، وقال في "الأم": فإن عمم وقمص جعلت العمامة والقميص دون الثياب والثياب فوقهما، وليس في ذلك ضيق إن شاء الله، والدليل على أن القميص لا يكره ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كفن عبد الله بن أبي ابن سلول في قميص نفسه، وقال: لا يعرف [291 ب / 3] ما بقي

عليه من سلك، فإن قيل كان عبد الله هذا منافقاً، فكيف فعل هذا به؟ قلنا: أراد به تألف ابنه وإكرامه، فإنه كان مسلماً برياً من النفاق، وروي أنه لما مات عبد الله أتاه ابنه فقال: يا رسول الله إن عبد الله بن أبي قد مات فأعطني قميصك ألقيه فيه، فندع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قميصه فأعطاه إياه، وقيل: كان عبه الله بن أبي قد كسا العباس بن عبد المطلب قميصاً، وذلك أن الأنصار طلبت للعباس رضي الله عنه ثوباً يكسونه فلم يجدوا قميصاً يصلح عليه إلا قميص عبد الله فكساه إياه، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكافئه على ذلك لئلا يكون لمنافق عنده يد لم يجازه عليها، وأما المكروه فما زاد على الخمسة، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تغالوا في الكفن فإنه يسلب سلباً سريعاً"، ومثله عن علي رضي الله عنه ولأنه سرف وهو مكروه. وأما صفته: فيستحب أن يكون أبيضاً لما ذكرنا من الخبر، وروى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "البسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم وكفنوا فيها موتاكم"، وروى ابن سمرة "البسوا الثياب البيض فإنها اطهر وأنقى وكفنوا فيها موتاكم" وفي لفظ: "أحب الثياب إلى الله تعالى البيض يلبسها أحياءكم ويكفن فيها موتاكم"، ويستحب أن تكون جدداً لما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "كفن في ثلاثة أثواب بيض جدد"، وقال ابن المبارك: أحب إلي أن يكفن في ثيابه التي كان يصلي فيها. فرع يستحب أن تستجاد الثياب التي يكفن فيها، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه"، وروى أبو قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا ولي أحدكم أخاه فليحسن كفنه"، وقال سلام بن أبي مطيع: أراد به الوسط لا المربع. وقال أصحابنا: إن كان موسرأ فثلاثة أثواب جياد، وان كان متجملاً فثلاثة أثواب وسط، وإن كان فقيراً فثلاثة أثواب دون، وكل ما جاز للرجل أن يلبسه في حياته جاز أن يكفن فيه بعه موته، وكذلك المرأة. فإن قيل: فما تأويل ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه لما حضره الموت دعا بثياب جاد فلبسها، ثم قال: سمعت [292 ب / 3] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الميت يبعث في ثيابه التي يموت فيها"، قلنا: معنى الثياب هاهنا العمل، كنى بها عنه يريد به أنه يبعث على ما مات عليه من عمل صالح، أو عمل شيء والعرب تقول: فلان طاهر الثياب ودنس الثياب إذا كان بخلاف ذلك على هذا

المعنى، والدليل على هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يحشر الناس حفاة عراة"، وقيل: الحسن، فيجوز أن يكون البعث مع الثياب والحشر مع العري والحفا. فَرْعٌ آخرُ قال أصحابنا: لا يستحب للرجل أن يعد كفنه في حياته لئلا يحاسب عليه، وعندي أنه يستحب ذلك ليعرف خلوه عن الشبهة. مسألة: قال: ويجمر بالعود حتى يعبق بها. وهذا كما قال: يبخر الكفن بالعود قبل أن يدرج فيه، لأن عادة الحي أنه إذا لبس ثيابا جدداً بنحوها، ولأنه وبما يظهر من الميت رائحة كريهة فتخفيها رائحة العود، فإذا ثبت هذا نجعل الأكفان على مشجب أوعود ثلاث خشبات أو قصبات رؤوسهن مثقوبة مشدودة بخيط ويلف عليها هذه الأثواب، ويوضع [293 أ / 3] المجمر تحتها حتى يعبق بها رائحته. وروى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا جمرتم الميت فجمروه ثلاثاً" ويكون البخور عوداً. قال في "القديم": يبخر بالعود غير المطري دائماً قال: هكذا لأنه ربما تطرى بالخمر، فإن كان مطرا وهو الذي عليه أخلاط العنبر والمسك فلا بأس، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كان يتطيب بالمسك"، وقال: "المسك خير الطيب"، وروى أبو سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن المسك فقال: "هو من أطيب طيبكم"، وبه قال أحمد وإسحاق، وقيل: إنما منع من المطري لأن المطري يكون من المسك والعنبر ولا يستحب ذلك، لأنه حار يحمى لحم الميت فيسرع إليه الفساد، ولأن ابن عمر رضي الله عنه كره المسك أن يستعمل في الميت، فاستحب الشافعي الخروج من الخلاف. مسألة: قال: ثم يبسط أحسنها. الفصل وهذا كما قال. السنة أن يبسط على الأرض أوسعها وأحسنها، ويذر عليه الحنوط ثم يبسط الذي عليه ويذر عليه الحنوط، ثم يحمل الميت مستوياً مسجى بثوب، فيوضع فوق الأثواب مستلقياً ويكون ما يفضل [293 ب / 3] من الأثواب من جانب الرجلين أقل مما يفصل منها من جانب رأسه، وهذا لأن عادة الحي أن يظهر أحسن الثياب، ويجعل الدون تحته وعادة الحي أن ما على رأسه يكون أكثر مما على رجليه وقيل: ظاهر ما نقله المزني يقتضي أن لا يذر الحنوط على الثالث؛ لأنه قال: يذر فيما بينهما،

وأصحابنا لا يختلقون أنه يذر عليه لأنه أولى بذلك فإنه يلي الميت وربما ظهرت من الميت نجاسة في حال تحريكه فهو غلط. وقيل: قوى، ويذر فيما بينها وقرى فيما بينها فعلى القراءة الأولى الآن على ما ذكرنا وعلى القراءة الثانية أراد إذا قل الحنوط يذر فيما بينهما يعني الميت والريطة التي تليه. مسألة: قال: ثم يأخذ شيئاً من قطن منزوع الحب فيجعل فيه الحنوط. الفصل وهذا كما قال: إذا تركه على الكفن مستلقياً مستوراً، فأول ما يصنع به أن يأخذ شيئاً من القطن منزوع الحب فيجعل فيه الحنوط والكافور، ثم يدخله بين إليتيه إدخالاً بليغاً ويكره أن يكثر من ذلك القطن ليرد شيئاً إن جاء منه عند تحريكه ويشد عليه، أي: فوق ذلك خرقة مشقوقة [294 أ / 3] الطرفين تأخذ إليتيه وعانته، ثم يشد عليه، ثم يشد التبان الواسع والتبان مثل السراويل له حزة وليس له بايكه، أو يقول: ليس له كمان، وقيل: يشد عليه بالخيط ولا يحتاج إلى شق طرفيها. قال المزني: لا أحب ما قال من إبلاغ الحشو لأن في ذلك قبحاً يتناول به حرمته، ولكن يجعل كالنورة من القطن ما بين إليتيه وشفره قطن تحتها تضم إلى إليتيه، ويكون الشداد فوق ذلك كالتبان يشد عليه فهذا أحسن في كرامته عن انتهاك حرمته، قال أصحابنا: لم يرد الشافعي بهذا إلا بلاغ ما توهمه المزني من مجازة المثوبة ولكن أراد المبالغة في إلصاقه بذلك الموضع كما فسره واختاره فغلط في هذا الوهم ولا نعرف هذا الذي ذكره الشافعي، وما زاد على مراد الشافعي إلا سفرة قطن ونحن لا ننكر هذه الزيادة لو فعل، والدليل على أن مراده هذا لا يتوهم أنه قال: ليرد شيئاً إن خرج منه فلو كان إبلاغاً في الحشو لقال: ليمنع أن يخرج منه شيء، وقد بين في "الأم" فقال: إدخالا بليغاً يبلغ به [294 ب / 3] الحلقة. وقال فيه أيضا: فإن خيف أن يخرج منه شيء لعلة كانت به أو حدث حادث منه أو كان مبطوناً أدخلوا بينه وبين كفنه لبداً ثم شدوه عليه، أو ثوباً صفيقا أقرب الثياب باللبد شبها وشدوه عليه خياطة، فإن تركوا ذلك تركوا الاحتياط، وأرجو أن تجزيهم. وقال بعض أصحابنا بخراسان: ليس كما قال أصحابنا، لأنه نص وصرح بإبلاغ الحشو وهذا وإن كان عند المزني مستقبحاً فإن المصلحة بأجمعها فيه؛ لأن القطنة بين الإليتين إذا لم يكن في إدخالها إبلاغ لم تكن دافعة للخارج، فربما يخرج خارج فيجب استئناف غسله وربما يتسارع التغيير إلى جثته، وحكي عن المزني أنه قال: يشق طرفيها وتشد في وسطه، وهذا لا يحتاج إليه في الميت، وإنما ذكره الشافعي في المستحاضة؛ لأنها تمشي وتتصرف في حوائجها فتحتاج إلى ذلك لئلا يبخل بخلاف الميت. مسألة: قال: ثم يأخذ قطناً فيضع عليه الحنوط والكافور فيضعه على فيه ومنخريه وعينيه وأذنيه.

وأراد به لينشف الرطوبة الخارجة من هذه المنافذ، ولأتته الهوام بسرعة، ثم قال: وموضع سجوده [295 أ / 3]، يعني: يؤخذ القطن ويجعل عليه الكافور والحنوط ويترك على مساجده من الجبهة والأنف والكفين والركبتين والقدمين؛ لأن هذه مواضع شريفة شرفت بالجود وهكذا ذكره أصحابنا. وقال القفال: لم يرد أنه يضع القطن على أعضاء السجود كما يضع على المنافذ، بل أراد الحنوط والكافور فقط، وهذا هو أقرب إلى الصواب إن شاء الله تعالى. قال الشافعي: وإن ذر على جميع بدنه الحنوط كان أولى، لأن الحنوط تصلب بدنه وتشده، وإن كانت به جراحة نافذة وضع عليها الحنوط والكافور عليه، فقال: ويحنط رأسه ولحيته بالكافور، لأن هذا عادة العي وعلى مساجده وأراد مواضع سجوده على ما ذكرنا. وقال في البويطي: ولا بأس أن يحنط بالمسك والعنبر، وهذا يدل على أن الكافور أولى ويجوز غيره، ولا يستحب، وبه قال علي رضي الله عنه والفقهاء أجمع، وقال مجاهد وعطاء: يكره المسك في الحنوط، وهذا غلط لما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: اجعلوا في حنوطي المسك فإنه بقية حنوط رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروي [295 ب / 3] أنه لما مات سعيد بن زيد قالت أمه لعبد الله بن عمر: أحنطه بالمسك؟، فقال: وأي طيب أطيب من المسك. وقد قال بعض أصحابنا: يستحب المسك لهذا الخبر، ثم بين كيف يلف في أكفانه فقال: ويوضع الميت في الكفن بالموضع الذي يبقى من عنه رجليه منه أقل مما يبقى من عند رأسه فما عند رأسه يستحب أن يجمع جمع العمامة ويجعل على وجهه، ثم في القبر يجعل تحت رأسه وما عند رجليه يعطف على قدميه إلى حيث بلغ، وإنما استحب أن يبقى من الكفن من عند رأسه أكثر مما عند رجليه، لأن الحي يكثر الثياب على رأسه من العمامة والبرنس وغير ذلك، ثم بين بأي جانب من الكفن يبدأ عند اللف عليه، فقال: ثم يثني عليه صنفة الثوب الذي يليه على شقه الأيمن ثم يثني صنفة الثوب الآخر على شقه الأيسر كما يشمل الحي بالساج، وأراد شيئاً أق ل ما يلي شقه الأيسر على شقه الأيمن، ثم ما يلي شقه الأيمن على شقه الأيسر، فيبدأ من الجانب الأيسر وهو المنصوص في "الأم"، ثم أوضح ذلك بقوله كما يشمل الحي بالساج والحي يشمل بالساج على ما فسرناه ويكون على جانبه الأيسر [296 أ / 3] هو الظاهر، والساج: هو الطيلسان. وقال في "الأم": يبدأ من الجانب الأيمن فيثني على الأيسر ثم من الأيسر على الأيمن فيكون ما على جانبه الأيمن هو الظاهر وهو اشتمال الحي الساج، ومن أصحابنا من قال في المسألة قولان، ومنهم من قال قول واحد إنه يبدأ من الجانب

الأيسر: لأن الجانب الأيسر من الطيلسان تحت الذي بدأه من الجانب الأيمن، ومنهم من قال: يبدأ من الجانب الأيمن، وفي رواية المزني إضمار وهو أنه أراد: ثم يئني صنفة الثوب الذي يليه على شقه الأيمن تثنيه على الشق الأيسر أي الجانب الذي هو شقه الأيمن تثنيه على الشق الأيسر والجانب الذي على الشق الأيسر على الشق الأيمن. فحينئذ هو عين ما قاله في "الأم"، ثم يضع بكل لفافة مثل ذلك، ثم يجعل ما فضل عند رأسه ورجليه على ما ذكرنا، فمان خافوا انتشار الأكفان عقدوها عليه، ثم إذا أدخلوه القبر حلوها يعني العقد لئلا يكون معه في القبر شيء معقود فإنه يكره ذلك ولهذا يستحب أن لا يكون معه مخيط: ولأن العقد إنما كانت لخوف الانتشار والستر للميت وقد أمن ذلك عند [296 ب / 3] إدخاله القبر. فرع قال في "الأم": لو مات ميت في السفينة في البحر منع به ما ذكرنا، فإن قدروا على دفنه في الساحل لقربهم منه دفنوه، وإلا أحببت أن يجعلوه بين لوحين ويربطوهما به فيحملاه إلى أن يلقيه البحر بالساحل فلعل المسلمين يجدونه فيواروه، وهو أحب إلي من طرحه في البحر للحيتان يأكلوه، فإن لم يفعلوا وألقوه في البحر رجوت أن يسعهم، وقال أيضاً: لم يأثموا إن شاء الله، وإنما قال ذلك لأنه إذا شده بين لوحين منعه ذلك من الانتفاخ وألقاه البحر بالساحل، قال المزني: إنما قال الشافعي هذا إذا كان الذين على سواحل البحر مسلمين، فأما إذا كانوا مشركين فإنه يثقل بشيء حتى ينزل إلى القرار لئلا يأخذه المشركون فيدفنوه إلى غير قبلة المسلمين. وقال بعض أصحابنا: لا بأس بما قاله المزني، وقال القاضي الطبري: هذا لا أعرفه للمزني وطلبته في "الجامع الكبير" فوجدت المسألة على ما ذكره الشافعي دون هذه الزيادة ولعله ذكرها في موضع أخر، ومن أصحابنا من قال: هذا هو قول عطاء وأحمد أنه يثقل ويطرح في البحر بكل حال إذا لم يمكنهم دفنه، وينتهي [197 أ / 3] الموتى في هذا، لأن ما من بحر إلا وفي ساحل من سواحله مسلمون، وما قالوه غلط لما ذكرنا أنه ربما يلقيه البحر فيدفنوه إلى القلة. فرع قال الشافعي: ولا أرى أن يصبوا الذواق في أذنه وأنفه ومنخريه. وأراد به الزئبق، ولا أن يضعوا المرتك على مفاصله وذلك شيء يفعله الأعاجم ويريدون به إبقاء الميت، ولا أحب شيئاً من هذا، بل يمنع به ما يصنع بأهل الإسلام وهو الغسل والكفن والحنوط والدفن، فإنه صائر إلى الله تعالى والكرامة له برحمة الله وعمله الصالح.

فرع قال: ولا أحب أن يجعل الميت في صندوق من خشب وهو التابوت عندنا. وبلغني أنه قيل لسعد بن أبي وقاص: نتخذ لك شيئاً كأنه الصندوق، فقال: لا بل اصنعوا بي كما صنع برسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصبوا علي اللبن نصباً وأهيلوا علي التراب. فَرْعٌ آخرُ قال في "الأم": وأكره أن يتبع الجنازة بنار بين يديه المجامر للبخور بين يديها إلى القبر على ما هو العادة اليوم ولا يصاح خلفها لقوله - صلى الله عليه وسلم - "لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار"، ولان فيه قال: [197 ب / 3] السوء فيكره. وروي عن عمر وأبي هريرة وعبد الله بن معقل ومعقل بن يسار وعائشة وأبو سعيا الخدري رضي الله عنه أنهم أوصوا أن لا يفعل ذلك. مسألة: قال: وأضجعوه على جنبه الأيمن. وهذا كما قال. ذكر المزني الإضجاع قبل أن يبين كيفية حفر القبر وكيفية الصلاة عليه. وأما الصلاة عليه: فلها باب منفرد. وأما حفر القبر: فإنا نتكلم عليه نعود إلى مسألة الكتاب وجملة ذلك أنه يستحب تعميق القبور. قال الشافعي: قدر بطة، والبطة: الباع وهي قامة وقدر ذلك أربعة أذرع ونصف وذلك قامة وبسطة، والدليل عليه: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "احفروا وأوسعوا وعمقوا". وقال عمر رضي الله عنه "عمقوا قبري قامة وبسطة"، ولأنه إذا كان كذلك كان أقدر أن لا تناله السباع، وهو أبعد على من ينبشه، وأقطع لرائحته، وأي قدر أعمق ووارى جاز، ويستحب أن يوسع من قبل رجليه ورأسه، لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للحافر: "أوسع من قبل رجليه وأوسع من قبل رأسه"، ثم قال في "الأم": فإن [298 أ / 3] كانت الأرض صلبة شديدة فالسنة اللحد وصورته: أنه إذا انتهى إلى أرض القبر حفر مما يلي قبلة القبر لحد وهو معروف وهو أن يكون الحفر على صفة يحصل الميت تحت قبلة القبر، قال: ثم نصب على اللحد اللبن نصباً، ويتبع

مزج اللبن بكبار اللبن والطين، ثم أهيل التراب عليه، وإن كانت الأرض رخوة رقيقة، فالسنة الشق، وهو أن يبني من جانبي القبر بلبن أو مخر أو خشب، ويترك وسط القبر كالحوض في صورة التابوت ويرفع في بنائه حتى إذا سقف فوق الميت لم يباشر السقف الميت، فإذا جعل الميت فيه سقف عليه وروعي الخلل إن كان فيه، ويطين المكان بطين، قال: ورأيتهم عندنا يضعون على السقف الإذخر ويضعون عليه التراب، وفي بلدنا بطبرستان ويضعون على السقف الإذخر، ويضعون عليه التراب أو الطين، ثم يهيلون التراب وهكذا يستحب عند علمائنا. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: الشق أولى من اللحد. وهذا غلط لما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اللحد لنا والشق لغيرنا". وروى "والشق ليس لنا"، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات بعثوا إلى رجل يلحد والى رجل يشق، وقالوا: اللهم اختر لنبيك فسبق أبو طلحة اللحد فلحد له"، وقال عمر رضي الله عنه: "إذا جعلتموني في اللحد فاقصوا لحدي إلى الأرض"، وحكي عن مالك أنه قال: لا حد في لحد القبر فيحضر بقدر ما يغيب عن الناس. وقال عمر بن عبا العزيز: يحفر إلى السرة، وهذا غلط لما روينا عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه. فإذا تقرر هذا عدنا إلى مسألة الكتاب، وجملة ذلك أن الميت على جنبه الأيمن يريد إلى حيث يكون وجهه إلى القبلة، فيكون رأسه نحو المغرب إن كان بالمدينة أو بتلك البلاد، هكذا فعل بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا نام أحدكم فليتوسد يمينه" ويستحب أن يوسد رأسه بلبنة أو حجر كما توسد الحي إذا نام، ثم قال: وأسندوه لئلا يستلقي على ظهره، وأدنوه إلى اللحد من مقدمه لئلا ينكب على وجهه، يريد أنه يوضع منحنياً مقوساً كالدالع لئلا ينكب ولا يستلقى ويجعل خلفه لبنة. وقال بعض أصحابنا: ويفضي بخده إلى التراب كما وصى [299 أ / 3] عمر رضي الله عنه. وقال أبو موسى الأشعري: "لا تجعلوا بيني وبين الأرض شيئاً"، وقال أبو يعقوب: نص الشافعي أنه لا يكون بينه وبين الأرض إلا الكفن، ولعل ذلك القائل أواد فخذه مع الكفن. قال الشافعي: ويكره أن يجعل تحته مضربه وتحت رأسه بمخدة: لأن ذلك لم ينقل عن السلف، ولأن ذلك للتنعم ويربو به جسد الميت، ثم بين الشافعي كيف يسد بعد ذلك باب اللحد فقال: وينصب اللبن على اللحد، أي: يوضع اللبنات منصوبة على باب اللحد، ثم قال: ويسد فرج اللبن بإذخر أو حشيش أو بكسار اللبن لئلا يصيبه التواب، قال: ثم يهال عليه التراب. ثم بين سنة الإهالة فقال،

والإهالة: هي أن يطرح من على شفير القبر التراب بيديه جميعاً، ثم يهال بالمساحي. وأراد أنه يستحب لمن على شفير القبر أن يبرك بالإهالة بيديه ثلاثا، هكذا جاء عن الصحابة أنهم كانوا يفعلونه، حتى روينا عن أنس رضي الله عنه أنه قال: ما نفضنا أيدينا من تراب قبو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى استنكرنا قلوبنا. وإنما أمر بأن يطرح التراب أولا قليلا قليلاً برفق حتى لا يزال إلى الميت، ثم قال: ولا أحب أن يزاد في القبر أكثر من ترابه [299 ب / 3] وفي نسخة أن يرد ومعناهما متقارب وهو ما أشار إليه لئلا يرتفع جداً فيضيق على الناس ولأنه يقال: إن الملائكة يأخذون تراب القبر فإذا زيد فيه غير ترابه يبقى تراب كثير يظن الظان أن الملائكة لم يأخذوا من ترابه فيسئ الظن به. قال في "الأم": فإذا زادوا على ذلك فلا بأس، وأراد كراهة فيه وإن كان الأولى أن لا يزاد على ترابه، ثم بين كم يستحب أن يشخص عن وجه الأرض، فقال: ويشخص عن وجه الأرض قدر شبر ليعرف أنه قبر إلا أن يكون في داو الحرب فيخفيه بحيث لا يظهر مخافة أن يتعرض له الكفار بعد خروجهم بسوء، ويرش عليه الماء، لما روى جابر أن رسول لله - صلى الله عليه وسلم - "رش على قبر ابنه إبراهيم ووضع عليه من حصباء العرصة"، فيستحب وضع الحصباء الصغار وإنما يفعل هذا لتلتزق الحصباء بالتراب، وتختلط رطوبته فيبقى أثر القبر عليه ويوضح عند رأسه علامة من صخرة منقوشة أو حشيشة حتى لا يشكل، لما روي أن عثمان بن مظعون رضي الله عنه لما مات ودفن أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - رجلاً أن يأتيه بحجر فلم يستطع فقام [300 أ / 3] إليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحسر عن ذراعيه، ثم حملها ووضعها عند رأسه، ثم قال: "لأعلم به قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي". وقال الشافعي في موضع: أكره أن يرفع إلا بقدر ما يعرف أنه قبر لكي لا يوطأ ولا يجلس عليه، وروي أن علياً رضي الله عنه قال لأبي الهياح الأسدي: أبعثك على ما بعثني به النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته، ولا تمثالا إلا طمسته. وقيل: لم يرد به التسوية مع الأرض بل أراد أن يسطحه، وقال جابر: ألحد لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونصب عليه اللبن نصباً ورفع قبره عن الأرض قدر شبر. وهذا نص فإن قيل: أليس، قال جعفر بن محمد عن أبيه قال: الذي ألحد قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو أبو طلحة، والذي ألقى القطيفة تحته شقران، وقال شقران: أنا والله طرحت القطيفة تحت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القبر، وقال ابن عباس: جعل في قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطيفة حمراء، قلنا: لم يكن هذا بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا بمشورة الصحابة ويحتمل تخصصه به. فرع قال في "الأم": وإن مات ميت [300 ب / 3] بمكة أو المدينة أحببت أن يدفن في

مقابرهما، وكذلك إذ مات بلد قد ذكر في مقبرته خيراً أحببت أن يدفن فيها فإن كان ببلد لم يذكر فيها أحب أن يدفن في المقابر لحرمة المقابر والداعي لها وأنه مع الجماعة وأشبه أن لا يتغوط ولا يبال على قبره ولا ينبش وحيث ما دفن الميت فحسن إذ شاء الله. قال: واختار أن يكون الدفن في الجبان والصحراء لا في البيوت والمساكن؛ لأنه أقرب إلى رحمة الله تعالى لكثرة الداعي له إذا درس قبره. فإذ قيل: أليس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد دفن في حجرة عائشة؟ فكيف استحب الشافعي الدفن في المقابر. وقلنا: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يدفن أصحابه في المقابر، وفعله أولى من فعل غيره، وأنهم رأوا ذلك تخصيصاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - صيانة له عن رحمة الناس والابتذال وفي غير لا يوجد هذا المعنى. قلت: وقالت عائشة لما قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: اختلفوا في دفنه، فقال أبو بكر الصديق: سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئاً ما نسيته بعد قال: "ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يدفن فيه" ادفنوه [301 أ / 3] في موضع فراشه. رواه أبو عيسى الترمذي. ورأيت خبراً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الميت ليتأذى بجار السوء". فَرْعٌ آخرُ قال الشافعي في القراءة عد القبر: رأيت من أوصى بذلك وهو عندنا حسن والرحمة تنزل عند ختمة القرآن. قال أصحابنا: ويختار لمن حضر دفنه أن يقرأ سورة "يس" ويدعو له ويترحم عليه، لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بقوم يدفنون ميتاً فقال: "ترحموا عليه فالآن حين يسأل". فَرْعٌ آخرُ يستحب أن يجمع بين قبور ذوي القرابات، والأصل في بقعة واحدة ليكون أسهل للزيارة والتعهد، ويكون الأب إلى القبلة أقرب، ثم الأسن فالأسن أبداً وكيف ما دفنوا جاز في خبر عثمان بن مظعون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لأعلم به قبر أخي وأدفن إليه من مات من أهلي" وقيل: إن ترتيب قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه رضي الله عنه أن رأس أبي بكر بين كتفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورأس عمر بين كتفي أبي بكر ليكون كل واحد منهما دون مرتبة صاحبه، قلت: وروى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[301 ب / 3]، "كان يجمع بين الرجلين من قتلى أحد في الثوب الواحد، ثم يقول: أيهما أكثر أخذاً للقرآن؟ فإذا أشير له إلى أحدهما قدمه في اللحد".

فَرْعٌ آخرُ قال: ولا أحب إذا مات في بلد أن ينقل إلى غيره، اللهم إلا أن يكون بالقرب من مكة أو المدينة أو بيت المقدس، فيختار أن ينقل إليها لفضل الدفن بها، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من قبر بالمدينة كنت عليه شاهداً وله شافعاً، ومن مات بمكة فكأنما مات في سماء الدنيا"، ونقل الميت إلى بلد آخر حرام ولو أوصى به لا تصح الوصية. فَرْعٌ آخرُ لو استعار موقعاً للدفن جاز، وللمعير أن يرجع في ذلك ما لم يدفن الميت، فإذا دفن لزمت العارية للعارة في ذلك، كما لو أعار للغراس فإنه لا يقلع، فإذا هلك الميت وصار رفاتً تصرف المعير في البقعة كيف شاء، فالزرع والحفر والبناء نص عليه ذكره القاضي الطبري وغيره، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال: إذا مضى علي حول فازرعوا الموضع. فَرْعٌ آخرُ قال في "الأم": ويفرد كل ميت بقبر هذا من السنة في حال الاختيار، فإن اتفقت حاجة أو ضرورة مثل إن كثرت الموتى. وقل [302 أ / 3] من يدفنهم جاز أن يدفن الواحد والثلاثة في قبر واحد، ولكنه يحفر القبر على قدر عددهم لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم أحد لأصحابه: "احفروا وأوسعوا واجعلوا الرجلين والثلاثة في قبر واحد وقدموا أكثرهم قرآناً"، فإذا دفنوهم جعلوا أفضلهم يلي القبلة، ثم الذي يليه ثم الذي يليه أبداً، ويجعل بين كل رجلين حاجز من تراب. فَرْعٌ آخرُ قال: وأحب أن لا يدفن الرجل مع المرأة بحال، فإن دعت الحاجة واجتمع رجال ونساء وصبيان وخناثى كانوا في القبر على ترتيبهم في الصلاة، فالرجال يكون القبلة ثم الصبيان يلونهم، ثم الخناثى، ثم النساء آخرهم ويجعل بينهم حاجز من تراب ثم تقدم الأم، على البنت، والأب على الابن، ولا تقدم الأم على الابن. فَرْعٌ آخرُ لو ماتت له امرأتان أقرع بينهما أيتهما تقدم ذكره في "الجامع الكبير"، وقال صاحب "التقريب": فإن كانت امرأتان لا زوج لهما تقدم أفضلهما ولا يقرع بينهما.

فَرْعٌ آخرُ لو كانت الأرض من خلقه الأصل مباحة لم يدفن فيها بعد فإنه يدفن فيها كيف شاء، ولو كانت مقبرة مسبلة للدفن فيها، وإن تشاح [302 ب / 3] اثنان في الدفن في موضع منها كان السابق أولى لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مناخ من سبق"، وإن بادر إلى المكان اثنان معاً فتشاحا أقرع بينهما فمن خرجت قرعته دفن قبل الأخر. فَرْعٌ آخرُ قال: إن كان المكان مما قد تكرر فيه الدفن لم يحفر إلا في مكان يعلم في العادة أن الميت قد هلك وصار رميماً، وهذا يختلف باختلاف البلد إن قرب بلد يهلك فيه الميت سريعاً، ورب بلد يبقى فيه الميت كثيراً لحرارة البلد وبرده، وإذا هلك الميت لا يجوز أن يبني على قبره صورة القبر الجديد، بل يتركه حتى يدفن فيه غيره. فَرْعٌ آخرُ إذا حفر الموضع فإذا كان الميت قد هلك وصار رفاتاً دفن في مكان غيره وإن كان قد بقي منه أو من عظامه شيء، قال في "القديم" و "الجديد": أعيدت في القبر قال أصحابنا: ويرد التراب عليها كما كانت، ولا يدفن الميت معه بل يحفر له غير ذلك القبر لا حاجة بنا إلى ذلك، ويخالف هذا دفن اثنين في قبر واحد على ما ذكرنا؛ لأنه لحاجة وإن دعت الحاجة هنا أيضاً يدفن مع العظام في ذلك المكان، وهذا [303 أ / 3] لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كسر عظم الميت ككسر عظم الحي". فَرْعٌ آخرُ لو فرغ من القبر، ثم ظهر فيه شيء من العظام لم يضيق أن يجعل في جانب اللحد ويدفن الثاني فيه. فَرْعٌ آخرُ لو دفن في ملك غيره بغير أمره فهو غصب، قال الشافعي: وأكره أن ينقله لأنه يهتك حرمته، فإن نقله جاز. ولو غصب كفناً وكفن به ميتاً ودفن. قال أبو حامد: لم يخرج وعلى الغاصب قيمته. والفرق أن حرمة الأرض أوكد، لأن الانتفاع بها مؤيد بخلاف الثوب، ولأن الكفن ربما يتعين على صاحبه تكفين الميت به، وفي انتزاعه هنا هتك حرمته بخلاف الأرض المملوكة لأنها لا تتعين قط لوجود المباح، ولا يكون في نقله هتك حرمته، ولأن الحاجة من التكفين تبيح غصب الثوب ولا تبيح غصب الأرض. وقال صاحب "الحاوي": ويحتمل غير هذا القول ويمكن قلب الفروق بما هو

أولى منه أنا وأنت. عن بعض أصحابنا أنه قال: إن لم يستهلك ينبش ويذع ويرد إلى صاحبه وهذا أقيس. فَرْعٌ آخرُ قال: لو اتفقت الورثة أن يدفنوا الميت في بعض ملك الميت جاز ذلك وإن تشاحوا فقال بعضهم [303 ب/3] يدفن في المقبرة، وقال بعضهم: يدفن في ملكه فإنه يدفن في المقبرة يعني المسلة، فإنذ بادر واحد منهم فدفنه في الملك المشترك فقد تعدى وأثم، وكرهنا للباقين نقله عن الملك ويقر في مكانه حتى إذا هلك عاد الملك إلى تصرفهم على الإطلاق، وليس هذا كالغراس في ملك الغير، حيث قلنا له: إن يأمر الغاصب بنقله ولا يكره ذلك له لأنه لا حرمة للغراس ولا لمالكه وهاهنا للميت حرمة. فَرْعٌ آخرُ قال: لو اختلفوا في الكفن، فقال بعضهم: أكفنه من مال نفسي، وقال: لا بل من تركة الميت كفن من التركة؛ لأن في ذلك منة فلا يجبر سائر الورثة على تحملها، وتخالف المقبرة المسلة، لأنه لا منة فيها فتقدم قول من قال: يدفنه في المقبرة، وعلى هذا ينبغي أن يقال: إذا قال أحدهم: أنا أدفنه في شيء لا يلزمهم قبوله للمنة، فإن بادر دفنه في ملك نفسه أو كفنه من ماله، ثم دفنه لم يذكره الشافعي ولا أصحابه المتقدمون. وقال بعض المتأخرين من أصحابنا: لا ينقل ولا يبدل، كفنه لأنه ليس في تنقيته إسقاط حق أحدهم وفي نقله هتك حرمته. فَرْعٌ آخرُ لو دفنوه في ملكه [304 أ/3] بالاتفاق لا يجوز تحويله ولا التصرف فيه حتى يهلك الميت، سواء كان الملك ورثوه عن هذا الميت أو عن غيره، فإن أراد كلهم أو بعضهم نقله لم يجز ذلك، ولا يحل نقل الميت عن مكانه إذا كان الدفن يحق أبداً. فَرْعٌ آخرُ قال في "الأم": وأكره الوطأ على القبر والجلوس عليه والاتكاء إليه فإذ لم يمكنه أن يصل إلى قبر له إلا بالوطء على القبر رجوت أن لا يأثم. قال أصحابنا لزيارة أو لغيرها وروى الشافعي بإسناده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً على قبر فقال: "انزل عن القبور"، وروى أبو مرثد الغنوي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهى أن يجلس على القبور وأن يصلى إليها"، وروي عن عمارة بن حزم الأنصاري أنه قال: "رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً جالساً على قبر، فقال: انزل لا تؤذي صاحب القبر"، وروي أيضاً بإسناد عن أبي هريرة أنه قال: "لأن أجلس على جمرة ليحرق ردائي، ثم تفضي إلى جلدي أحب إلي

من أن أجلس على قبر امرئ مسلم"، وروى أصحابنا عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لأن يجلس على جمرة فتحترق ثيابه حتى تخلص [304 ب/3] إلى جلده خير له من أن يجلس على قبر"، وقال مالك: إن جلس على القبر للبول أو الغائط يكره وإلا فلا يكره، وهذا غلط لما ذكرنا، ويكره عن أحمد أنه يكره دخول المقابر بالنعال ولا يكره بالخفاف والشمشكات. فَرْعٌ آخرُ قال: يكره المبيت في المقبرة لما فيه من الوحشة على البايت. فَرْعٌ آخرُ قال: يكره أن يسوى القبر مسجداً فيصلى فوقه أو يبنى عنده مسجداً، فيصلى فيه إلى القبر، فإن فعل أجزأه وقد أساء، وهذا لأن القبر هو مستودع الموتى وغير هذا الموضع أنظف، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تصلي على قبر ولا إلى قبر"، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور انبيائهم مساجد"، وقال أيضاً: "لا تتخذوا قبري وثناً يعبد فإنما هلك بنو إسرائيل لأنهم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". قال الشافعي: وأكره أن يعظم مخلوق حتى يجعل قبره مسجداً مخافة الفتنة عليه وعلى من بعده من الناس. مسألة: قال: وإذا فرغ من القبر فقد أكمل وينصرف من شاء. وهذا كما قال. جملة هذا أن الانصراف هو على أربع مراتب: أفضلها أن يقف حتى يفرغ من الدفن والقبر [305 أ/3] ويستغفر الله تعالى ويدعو له بالرحمة والتثبيت، ويجوز بهذا جميع الثواب المتعلق بها، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كان إذا دفن ميتاً وقف، وقال: استغفروا الله له وسلوا الله له التثبيت فإنه يسأل الآن". رواه عثمان بن عفان رضي الله عنه. قال بعض أصحابنا: يستحب تلقين الميت بعد مواراته بالتراب، لأن الخبر ورد بسؤال منكر ونكير. وروي أنه لما دفن إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -:

"قل الله ربي ورسوله أبي، والإسلام ديني"، فقيل له: يا رسول الله أنت تلقنه، فمن يلقننا؟ فأنزل الله تعالى {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم:27] الآية. والمستحب في التكفين أن يقول من يتولى التكفين أن يقول: يا فلان ابن أمة الله أو يا فلان ابن حوا اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وأنك رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبياً، وبالقرآن إماماً وبالكعبة قبلة، وبالمؤمنين إخواناً، قال: وبلغني عن بعض من مضى أن امرأته تقعد عند قبره إذا دفن قدر [305 ب/3] ما ينحر جزور وهذا حسن، ولم أر الناس يصنعونه عندنا، وروى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من تبع جنازة حتى يصلى عليها فله قيراط"، وكان ابن عمر إذا صلى على جنازة انصرف عنها ولم يقف على الدفن، ثم سمع أن أبا هريرة يروي زيادة في هذا الخبر، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن تبعها حتى يدفن له قيراطان. أصغرهما مثل أحد"، فقال ابن عمر: لقد فرطنا في قراريط كثيرة فكان لا ينصرف بعد ذلك عن الجنازة حتى يدفن. قلت: وقد روى أبو هريرة في سؤال الميت في القبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا قبر الميت أو قال أحدكم أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما المنكر، والآخر النكير فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟: فيقول: ما كان يقول: هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسوله، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين، ثم ينور له فيه ثم يقال له: نم يقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم، فيقولان: نم كنومة العروس لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حيث يبعثه الله من مضجعه [306 أ/3] ذلك. وإن كان منافقاً قال: سمعت الناس يقولون فقلت مثله لا أدري، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول ذلك، فيقال للأرض: التئمي عليه فتختلف أضلاعه فلا يزال فيها معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك". والثانية: أن ينصرف إذا فرغ من القبر من غير أن يقف للدعاء فأجره دون الأول، وقيل: يحصل حيازة أجر القيراطين بالانصراف إذا ووري لقول الشافعي: ومن أراد أن ينصرف إذا ووري فذلك له واسع، ومن أصحابنا من قال: لا يكمل أجر القيراطين إلا بالفراغ من القبر وهو الأشبه، ولكن ظاهر المذهب ما ذكرنا. والثالثة: أن ينصرف إذا سوي عليه اللبن قبل أن يهال عليه التراب فأجبره دون ما تقدم. والرابعة: أن ينصرف إذا صلي عليه فأجره دونما تقدم وقيل: من تبعها حتى صلي عليها كان له قسط من الأجر، ومن أقام حتى يوارى كان له قسطان من الأجر، ومن

أقام حتى سوي القبر وجعل عند رأسه صخرة فقد أكمل الأجر زيادة على الأول والثاني، ومن أراد الانصراف لا يحتاج إلى أدنى من ولي الميت. وقال بعض السلف: لا يجوز الانصراف حتى يأذن ولي الميت [306 ب/3] وهذا محال فإن قيل: قد تقرر من المذهب أن المنصرف لو انصرف عقيب الفراغ من الصلاة فذلك واسع له، فما معنى قوله: ومن أراد أن ينصرف إذا أورى فذلك له واسع، قلنا: مراد الشافعي أن من أراد تحصيل القيراطين فواسع له أن ينصرف عقيب مواراته، فإن انصرف قبل ذلك ومراده القيراطين فغير جائز له، فإن قيل: فما فائدة تكرار الشافعي مسألة واحدة في سطرين وذلك أنه قال: فإذا فرغ من القبر بعد أن أكمل ومعناه إكمال القيراطين، ثم قال في السطر الثاني: ومن أراد أن ينصرف إذا أورى فذلك له واسع، ومعناه أن القيراطين حصلا والمسألتان واحدة، قلنا: مراده بالثانية أن الميت إذا ووري بلبنات اللحد، ثم القيراطان، ولا يتوقف تمامها على تمام تسوية القبر فمن انصرف بعد وضع اللبنات انصرف بقيراطين ومن صير إلى تسوية القبر انصرف بقيراطين. مسألة: قال: وبلغنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه سطح قبر ابنه إبراهيم. الفصل وهذا كما قال. السنة تسطيح القبور لا التسنيم، وهو أن يكون دكة لا سنام عليها، لا مغيراً ولا كبيراً، وقال ابن أبي هريرة وصاحب "الإفصاح" [307 أ/3] السنة التسطيح والأولى في زماننا أن يسنم، لأن التسطيح هو من شعار الروافض. وأهل البدع وقال ابن أبي هريرة: أحب أيضاً ترك الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم لأنه صار من شعارهم. وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد والثوري: السنة التسنيم، وهذا غلط؛ لأن السنة قد صحت فيه فلا يضرموا فقه أهل البدعة فيه. وذكر الشافعي الأخبار في هذا وفي جملتها خبر القاسم بن محمد وتمامه ما روي عن القاسم بن محمد أنه قال: قلت لعائشة رضي الله عنها: يا عمتاه أتستطيعين أن تكشفي لي عن قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه فقالت: نعم فكشفت لي عن ثلاثة قبور مسطحة لا مشرفة ولا لاطية مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء"، وروى الشافعي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: سطح قبر ابنه إبراهيم، وكذلك قبور المهاجرين والأنصار بالمدينة كلها مسطحة. قالوا قال إبراهيم النخعي: "أخبرني من رأى قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاحبيه مسطحة" قلنا خبرنا أولى لأنه شاهد ذلك. مسألة: قال: ولا تبنى القبور ولا تجصص. وهذا كما قال: أما التجصيص [307 ب/3] فمكروه سواء كان القبر في ملكه أو في

أرض مسلة: لأنه للزينة والخيلاء وليس الميت بموضع واحد منهما، وكذلك اللبنة عليه. وروى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهى أن يقعد على القبر وأن تقصص وأن يبنى عليه"، وفي لفظ: "نهى أن تجصص القبور وأن يكتب عليها وأن تبنى وأن توطأ"، والتقصص هو التجصيص والقصة شيء شبيه بالجص. وأما في القعود عليه: قيل: أراد القعود عليه للحدث وقيل: إنه كره أن يطأ القبر بشيء من بدنه فمد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: رأى رجلاً قد اتكأ على قبر فقال له: "لا تؤذ صاحب القبر". وأما البناء عليها، فإن كان في أرض مسلة لم يجز ذلك وقال في "الأم": رأيت من الولاة من يهدم بمكة ما بني عليها ولم أر الفقهاء يعيبون ذلك؛ ولأن فيه تضييقاً على سائر الناس وتحجراً عليهم، وإن كان في الملك فلا يكره ذلك ولهم أن يبنوا فوقه ما شاؤوا، وقيل: معنى قول الشافعي لا يبنى أي لا يرفع عن وجه الأرض أكثر ما ذكرنا من قدر شبر ولا تضرب عليها خيمة ولا قبة، لما روي أن النبي [308 أ/3]- صلى الله عليه وسلم -: رأى خيمة فربت على قبر ظلل بها فهتكها وقال: "دعوه ليظله عمله". مسألة: قال: والمرأة في غسلها كالرجل. الفصل وهذا كما قال: غسل المرأة والرجل يتساويان هاهنا كما في حال الحياة وينعقد في شعرها أكثر مما ينعقد في شعر الرجل كما قلنا في حال الحياة، ويسن تطهير شعر رأسها ثلاثة قرون ويلقى خلفها وهو شعر ناصيتها وقرنيها، وبه قال أحمد. وقال بعض أصحابنا بخراسان: يجعل ثلاثة أقسام ثم يفتل ضفيرة واحدة، وأصحابنا بالعراق قالوا: يجعل شعرها ثلاث ذوائب وهو ظاهر خبر أم عطية قالت في ابنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ضفرنا ناصيتها وقرنيها ثلاثة قرون، ثم ألقيناها خلفها، ولأن عادة المرأة أن تفعل هكذا في حال حياتها. وقال أبو حنيفة: لا تضفر ويترك شعرها محلولاً على كتفها أمامها، واحتج بأنه إذا ضفره فلا بد من تسريحه وإذا سرح انتتف وتقطع وذلك مكروه وهذا لا يصح: لأنه يمكن ضفره من غير تسريح أو بتسريح خفيف لا ينتتف به الشعر. وحكي عن أبي حنيفة أنه [308 ب/3] يجعل ضفيرتين ويلقيان على صدرها. مسألة: قال: وتكفن المرأة في خمسة أثواب: خمار، وإزار، وثلاثة أثواب.

الفصل وهذا كما قال. لا شك أن كفنها خمسة أثواب ويزاد لها على الرجال ثوبان استحبابا قال الشافعي: وأحب أن يكون أحدها درعاً، وقال المزني: قد قال به الشافعي ثم خط عليه قال أصحابنا: فيه قولان، ولعله خطأ لا لأنه لم يقل به، ولكن لأنه لم يثبت عنده السنة أحدهما: يكفن به وهو الصحيح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كفن ابنته أم كلثوم بالدرع" في جملة أكفانها، قالت أم عطية: أول ما أعطانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الحقو ثم الدرع، ثم الخمار، نم الملحفة، ثم الثوب الآخر، وكان يناولها واحداً واحداً؛ ولأن المرأة في حال حياتها تخالف الرجل في اللباس فكذلك بعد الموت. والثاني: لا يكفن به كما في الرجل، وهذا لأن القميص يحتاج إليه الحي لتصرفاته وحركاته ولا حاجة بالميت إلى ذلك، وقال في "الأم": ويشد على صدرها ثوب يضم ثيابها واختلف أصحابنا في هذا فمنهم من قال: ليس هذا الثوب من جملة [309 أ/3] الأكفان، وإنما أمر به ليشد أكفانها عليها فلا يتحرك في أكفانها، فإذا أضجعت في القبر حلت، وهذا هو اختيار أبي إسحاق، وقال ابن سريج: هو من جملة الأثواب الخمسة، لأن الشافعي أمر به ولم يأمر بحله، وظاهر كلام الشافعي الأول لأنه قال: يجمع عليها ثيابها. وهذا يدل على أنه يكون فوق جميع الكفن، فإذا قلنا: بقول أبي إسحاق، وقلنا: يستحب الدرع فالترتيب فيه أن تؤزر وتدرع وتخمر، ثم يشد على صدرها وثدييها ثوب ثم تروح في الخامس. وإن قلنا: الدرع لا يستحب فإنها تؤزر وتخمر ويشد على صدرها خرقة ثم يروح في لفافتين وهذا ذكره ابن أبي أحمد. مسألة: قال: ومؤنة الميت من رأس ماله. الفصل وهذا هو كما قال. مؤنة الميت مقدمة على الميراث والديون والوصايا، لأن ذلك مما استغرقته حاجته في نفسه فهو كالمفلس في حياته يترك له من ماله ما لا غناء به عنه، وقال خلاس بن عمرو: ويكون من الثلث بكل حال، وقال طاوس: إن كان موسراً فمن رأس ماله وإن كان معسراً [309 ب/3] فمن ثلثه، وهذا غلط لما روي في خبر الأعرابي الذي وقصت به ناقته "كفنوه في ثوبيه" ولم يسأل عن ثلثه، ولو أوصى رجل أن يكون كفنه ثلث ماله جازت. مسألة: قال: فإن اشتجروا في الكفن فثلاثة أثواب. الفصل وهذا كما قال. إذا اختلقت الورثة في الكفن اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: يكفن في ثلاثة أثواب لا ينقص منها، كالحي المفلس يترك عليه ثلاثة أثواب قميص

وسراويل ومنديل، وهو ظاهر كلامه هاهنا، ومنهم من قال: يكفن في ثوب واحد؛ لأن ذلك يعمه ويستره وهو الأقل، وتأويل ما ذكر هاهنا أنهم اشتجروا في الأجمل وعلى كل حال يعتبر الجنس والغلظ والرقة بحال الميت. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن لم يكن عليه دين لا ينقص عن ثلاثة أثواب، وإن كان عليه دين فاختلف الغرماء والورثة فقال الغرماء: نكفنه في ثوب واحد وقال الورثة: بل في ثلاثة أثواب، فيه وجهان: أحدهما: يكفن في ثوب واحد؛ لأنه ليس لمحل التجمل والمباهاة مع الدين، وأما إذا اشتجروا [310 أ/3] في الحنوط، قال أصحابنا: فيه قولان: أحدهما: ما قال في "الأم" و "القديم" وكفن الميت وحنوطه ومؤنته من رأس المال وليس لورثته ولا لغرمائه منع ذلك. فظاهره أنه واجب، لأن العادة جارية به كالكفن ويرجع في صفته إلى العرف والعادة لمثله، ولا يجب الكافور على هذا القول لأنه لا حاجة به إليه. والثاني: لا يجب الحنوط، وإنما هو استحباب؛ لأنه يجري مجرى الطيب ولا يترك للمفلس الطيب كذلك هاهنا، فعلى هذا عند الاشتجار يترك، وقيل: فيه وجهان والصحيح ما ذكرنا. فرع كل من كانت مؤنته ونقضه في ماله في حياته كانت مؤنته في تركته بعد وفاته من المناسبين والمملوكين قولاً واحداً، وأما الزوجة قال أبو إسحاق: مؤنتها على زوجها موسرة كانت أو معسرة، وبه قال مالك، كما قلنا: في السيد مع عبده والأب مع ابنه، لأن كفايتها عليه في حياته وهو القياس. وقال ابن أبي هريرة: يكون في تركتها فإن لم يكن لها تركة فهي كالتي لا زوج لها يكون كفنها على من تجب عليه نفقتها، وهم الوالدون والمولودون [310 ب/3] فإن لم يكن لها قريب فمن بيت المال، وهذا لأن النكاح قد زال بالموت، وهذا مذهب أبي حنيفة وأحمد، وهذا أصح عندي. قال في "الحاوي": وهذا ظاهر مذهب الشافعي، لأن النفقة في حياتها تجب في مقابلة التمكين من الاستمتاع، ولهذا سقط بالنشوز والبينونة ويخالف المملوك، لأنه نفقته تجب بحق الملك لا بالانتفاع، بدليل أنه يجب نفقة الآبق، والموت لا يبطل أحكام الملك، لأن السيد هو أحق بدفنه وتوليه. فرع لو سرق كفنه من القبر يستحب للورثة أن يكفنوه ثانياً، ولا يجب لأنه يؤدي إلى ما لا

يتناهى ذكره في "الحاوي". وقال بعض أصحابنا؛ قياس مذهبنا أنه يكفن ثانياً كابتدائه، لأن الميت عورة فلا به من ستره. وقال الكرخي: إن تفسخ دفن من غير كفن وإلا كفن. فَرْعٌ آخرُ لو مات ولا كفن له، فإنه يكفن من بيت المال وفي العدد وجهان: أحدهما: ثلاثة، والثاني: ثوب واحد وهو اختيار القفال لأن مصعب بن عمير "كفن في ثوب واحد" قال: وكذلك لو مات عن ثوب واحد ليس على المسلمين أن يتمموه ثلاثة، ولكن لا بد [311 أ/3] من ثوب سابع ولا يكتفي بقدر ستر العورة، لأن فيه إزراء بحق الميت. فَرْعٌ آخرُ لو مات ولا كفن له وهناك من معه فضل ثوب لزمه بذله بالقيمة، فهو كالمضطر إلى طعام الغير سواء. فَرْعٌ آخرُ لو مات جماعة من أقاربه دفعة واحدة بهدم أو غرق أو نحو ذلك فإنه يقدم من خيف فساده فإن لم يخف بدأ بالكبير وهو الأب، ثم الأم، ثم الأقرب فالأقرب، وإن كان أخوين قدم أسنهما، وإن كانت له زوجتان وقلنا: المؤنة عليه أقرعنا بينهما ولم ينظر إلى شيء ولا إلى غيره لأنه لا مزية لأحدهما بحال. فَرْعٌ آخرُ قال والدي رحمه الله: إذا ماتت المرأة الناشزة، وقلنا: كفن الزوجة على الزوج يحتمل أن يقال: يلزم كفنها عليه؛ لأن النشوز قد زال بالموت فصار كزواله بالعود إلى الطاعة، ويحتمل أن يقال: لا يلزم عليه لأن الطاعة لا توجد منها الآن كما لا يوجد النشوز فاعتبرت الحالة المتقدمة. فَرْعٌ آخرُ قال والدي رحمه الله: إذا طلق امرأته ثلاثاً وهي حامل فماتت فإنه يلزم كفنها على الزوج؛ لأن النفقة واجبة [311 ب/3] لها في حياتها فهي كالزوجة. وعندي يحتمل وجهاً آخر لا يلزم خاصته إذا قلنا: إن النفقة للحمل. فَرْعٌ آخرُ قال أيضاً: لو ماتت زوجته الصغيرة، فإن قلنا: نفقتها على الزوج فكفنها على الزوج، وإن قلنا: لا نفقة لها على الزوج لصغرها فهل يجب كفنها على الزوج؟ وجهان: والأصح أنه يجب وعندي الأصح أنه لا يجب.

فرع لو ماتت نصرانية وهي حبلى من مسلم وتحققنا موت الولد في بطنها قال المزني: القياس أن الحكم لها دون الحمل كما كان في حياتها فتدفع إلى أهل دينها ليتولوا غسلها ودفنها، ومن أصحابنا من قال: يدفن بين مقابر المسلمين ومقابر المشركين أو على طرف مقابر المسلمين؛ لأن للحمل أحكاماً في الشرع، وقيل: على هذا القول: يجعل ظهرها إلى القبلة لأن وجه الجنين يكون إلى ظهرها فيحصل به وجه الصبي إلى القبلة وكذلك إذا اختلط موتى المسلمين بموتى المشركين يدفنون في مثل هذا الموضع. ومن أصحابنا من قال: يدفنون في مقابر المسلمين تعليناً بحكم الإسلام وتجعل الأم كأنها [312 أ/3] صندوق الولد وهو الأصح عندي. وروي أن نصرانية ماتت وفي جوفها ولد مسلم "فأمر عمر رضي الله عنه بدفنها في مقابر المسلمين. الذمي إذا مات ولا مال له ولا قرابة هل يكفن من بيت المال؟ وجهان: أحدهما لا يكفن، والثاني: يكفن كما يطعم إذا جاع. فَرْعٌ آخرُ إذا لمس الرجل امرأة بعد غسلها أو غسل الميت فلمسته المرأة ففيه ثلاثة أوجه مخرجة مما لو خرج من الميت حدث بعد الغسل. مسألة: قال: ويغسل السقط ويصلى عليه إن استهل. الفصل وهذا كما قال: إذا ألقت المرأة جنينها فاستهل صارخاً، ثم مات فإنه يغسل ويصلى عليه ويدفن كالتكبير، وبه قال عامة العلماء، وقال سعيد بن جبير: لا يصلى على الميت غير البالغ، لما روت عائشة أن إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - مات وكان ابن ثمانية عشر شهراً فلم يصل عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أورده أبو داود. ولأن هذا لا يحتاج إلى الشفاعة لأنه لا ذنب له والصلاة شفاعة. وقال بعض العلماء: كان قد صلى عليه وإلا فلا. وهذا غلط لما روى جابر وابن عباس رضي الله [312 ب/3] عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا استهل السقط صلي عليه"، وروي "وروث" وروى المغيرة بن شعبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يصلى على المولود"، وروي "على السقط"، ويدعى لوالديه بالمغفرة والرحمة ولأنه ثبت له أحكام الدنيا فأشبه البالغ.

وأما خبرهم قلنا: روى عبد الله بن أبي أوفى أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: صلى عليه. وروى عطاء أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "صلى على ابنه إبراهيم" أورده أبو داود، وقال الخطابي: وهذا أولى وإن كان مرسلاً وقيل: إن الشمس كسفت يوم وفاته فاشتغل بصلاة الكسوف عن الصلاة عليه وأمر من يصلي عليه. وقيل: إنه استغنى بنبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قربة الصلاة كما يستغنى الشهيد بقربة الشهادة عن الصلاة عليه، وهذا ليس بشيء، وأما قولهم: إنه لا ذنب له يبطل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - والمجنون. وروى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: صلى على المنفوس، ثم قال: "اللهم أعذه من عذاب القبر"، وروى البراء بن عازب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أحق ما صليتم عليه أطفالكم" وروى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: [313 أ/3] "صلوا على أطفالكم فإنهم أفراطكم"، وروى ابن عباس: لما مات إبراهيم صلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "إن له مرضعاً يرضعه في الجنة، ولو عاش لعتقت أخواله القبط وما استرق قبطي"، وإن لم يستهل صارخاً ينظر، فإن بانت فيه الحياة مثل إن اختلج أو تحرك أو تنفس فهو بمنزلة الاستهلال يصلى عليه، وقال مالك: لا يصلى عليه إلا أن يطول ذلك ويتيقن حياته، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشترط الاستهلال، وهذا غلط، لأنه ظهرت فيه علامات الحياة فتجب الصلاة عليه كما لو استهل، وإن لم تبن فيه آثار الحياة فإن كان له دون أربعة أشهر لا يصلى عليه ولا يغسل، ويلف في خرقة ويدفن، وإن كانت له أربعة أشهر فأكثر، وقد تخلق وتصور ولكنه لا روح فيه بحال فلا بد من الكفن والدفن قولاً واحداً. وأما الغسل والصلاة قال البويطي: لا يغسل ولا يصلى عليه وقال في "الأم" و "القديم": يغسل ويكفن ولم يذكر الصلاة. وقيل: ذكر في "القديم": ويصلى عليه وقال أبو حامد: قرأت القديم كله فما رأيت هذا، وقال القاضي الطبري: قال في كتبه الجديدة: يغسل السقط ويصلى عليه إن استهل أو استكمل [313 ب/3] أربعة أشهر، فإنه أول ما ينفخ الروح، فصح القولان، وهذا أشهر. أحدهما: يصلى عليه [لحديث] المغيرة بن شعبة. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا بقي الولد في بطن أمه أربعة أشهر نفخ فيه الروح" ولأنه ثبت له حكمة الحي بوجوب الغرة فيه. والثاني: لا يصلى عليه لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرط الاستهلال وهذا لم يستهل، ولأنه لم يثبت له حكم الدنيا، لأنه لا يرث ولا يورث ولا يصلى عليه. فإذا قلنا: يصلى عليه

غسل، وإذا قلنا: لا يصلى عليه هل يغسل؟ قولان: أحدهما: لا يغسل كالشهيد. والثاني: يغسل نص عليه في "الأم"؛ لأن حكم الغسل أوسع، لأن الكافر يغسل ولا يصلى عليه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: قول واحد يغسل وفيه قول مخرج وهذا غلط لما ذكرنا من النص في البويطي. وقال أبو حنيفة: لا يغسل ولا يصلى عليه، فإذا قلنا: بهذا تكفيه خرقة تواريه، لأنه لم يثبت له حكم الأحياء. فَرْعٌ آخرُ إذا بلغت البنت حذا شهر لا يغسلها إلا النساء، وقيل: ذلك يغسلها الرجال أيضاً. فَرْعٌ آخرُ لو تحرك ولم يستهل ولم تعلم حياته بالحركة قال بعض أصحابنا [314 أ/3] بخراسان: فيه قولان: أحدهما: الحركة هي علامة الحياة كالاستهلال فحكمه حكم الكبير. والثاني: لا يثبت بها حكم الحي لأن الحي قد يختلج بعد الموت ويضطرب فلا حكم له، وقيل: هذا يغسل قولاً واحداً وهل يصلى عليه: قولان وليس بشيء. فَرْعٌ آخرُ قال: ولا بأس أن يدفن الميت ليلاً، ويستحب أن يدفن نهاراً وقال الحسن: يكره وهذا غلط لما روي أن مسكينة امرأة سوداء كانت تقم المسجد فتوفيت ودفنت ليلاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا آذنتموني بها" فقالوا: كرهنا أن نوقظك وحقروا شأنها. فقال: "دلوني على قبرها" فدلوه فصلى على قبرها. وقوله: تقم أي: تكنس وروى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "دخل قبراً ليلاً فأسرج له بسراج فأخذ من قبل القبلة، وقال رحمك الله، وقال: إن كنت لأواها تلاء للقرآن وكبر عليه أربعاً"، وروي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه دفن ليلاً وقالت عائشة رضي الله عنها: توفي أبو بكر ليلة الثلاثاء فما أصبحنا حتى دفناه. وروي أنه دفن يوم الثلاثاء. فَرْعٌ آخرُ قلت: يكره الذبح عند الميت بدليل ما روى أنس أن [314 ب/3] النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:

باب الشهيد ومن يصلي عليه ويغسله

"لا عقر في الإسلام". وأراد أن أهل الجاهلية كانوا يفعلون ذلك يعقرون الإبل عند قبر الميت الجواد، يقولون: تجازيه على فعله لأنه كان يعقرها في حياته فيطعمها الأضياف، فنحن نعقرها عند قبره ليأكلها السباع والطير فتكون مطعماً بعد مماته كما كانت مطعماً في حياته، ومنهم من قال: إذا عقرت راحلته عند قبره حشر في يوم القيامة راكباً، وكان هذا على مذهب من يرى البعث بعد الموت، وعندنا في الجبال يذبحون الشياه ويجمعون الناس ويتكلفون في ذلك مع لحوق المشقة بالورثة لفقرهم واحتياجهم، وهذا أيضاً مكروه. باب الشهيد ومن يصلي عليه ويغسله مسألة: قال: والشهداء الذين عاشوا وأكلوا الطعام. الفصل وهذا كما قال. وجملته أن الشهيد المعروف: هو الذي يقتل في معترك المشركين بغير حق، يدفن بثيابه ودمه، هكذا السنة. فإن شاء الأولياء بتبديل ثيابهم بأكفان حسنة كان لهم ذلك وهم بالخيار في ذلك لأن ما على بدنه صار ملكهم، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة ومالك: لا تذع عنه ثيابه ويكفن فيها، وهذا غلط لما روي [315 أ/3] أن صفية بنت عبد المطب أنفذت ثوبين ليكفن بهما حمزة رضي الله عنه، فوجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً فعل به مثل ما فعل بحمزة فكفنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثوب وكفن حمزة في ثوب؛ ولأن الكفن لا يتعين كما في غير الشهيد ولا يغسل هذا الشهيد ولا يصلى عليه عندنا، وبه قال الأوزاعي، ومالك، وأحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة والثوري: إنه لا يغسل واختاره المزني، وروي ذلك عن ابن محمد رضي الله عنه، واحتج بما روى شداد بن الهاد أن رجلاً من الأعراب جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - واتبعه، وقال: أهاجر معك؟ فأوصى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - به بعض أصحابه ثم غزا معه غزوة غنم فيها فقسم له، فقال يا رسول الله: ما هذا؟ قال: "قسمت لك"، فقال ما على هذا اتبعتك، ولكن اتبعتك على أن أرمى هنا وأشار إلى عنقه بهم فأموت فأدخل الجنة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن يصدر الله تعالى يصدقه" فلبثوا قليلاً ثم نهضوا إلى العدو فحمل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك الأعرابي وقد أصابه سهم حيث أشار إليه بيده فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -[315 ب/3]: "أهو هو" قيل: نعم يا رسول الله فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صدق الله فصدقه" وكفنه النبي - صلى الله عليه وسلم - وقدمه وصلى عليه. وهذا غلط لما روى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في

شهداء أحد: "أنا شهيد على هؤلاء يوم القيامة". وأمر بدفنهم بدمائهم ولم يصل عليهم ولم يغسلوا، وروى أنس نحو ذلك، وروي أنه قال: "زملوهم بكلوئهم ودمائهم فإنهم يبعثون يوم القيامة وأوداجهم تشخب دماء اللون لون الدم والريح ريح المسك"، فإن قيل: قد روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "صلى على قتلى أحد بعد ثمان سنين" قلنا: خبر ابن عباس رواه الحسن بن عمارة وهو متروك الحديث، وأنكر شعبة روايته لهذا الحديث أو نحمله على الدعاء لأنها لا تؤخر الصلاة الواجبة ثماني سنين ولا تتكرر الصلاة على الميت، وقال أنس: "لم يصل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أحد من الشهداء غير حمزة"، وقال: لما رأى المثلة به لولا أن صفية في نفسها لتركته حتى تأكله العافية حتى يحشو من بطونها والعافية السباع والطير التي تقع على الجيف فتأكلها فإن قيل: [316 أ/3] إذا سقط الغسل والصلاة وجب أن يسقط التكفين، قلنا: التكفين ضرب من الستر والمواراة، وفي تركه هتك حرمته فلم يسقط كالدفن والغسل للتطهير والصلاة للشفاعة وهو مستغن عن التطهير، لأن السيف قد طهره فلا يحتاج إلى شفاعة أحد. فرع لا فرق في الشهيد بين البالغ والصبي، والرجل والمرأة والعاقل والمجنون والحر والعبد. وقال أبو حنيفة: لا يثبت حكم الشهادة لغير البالغ لأنه ليس من أهل القتال ولا يحتاج إلى الشهادة، لأنه لا ذنب له وهذا غلط، لأنه مسلم قتل في معترك المشركين فأشبه البالغ وما قاله يبطل بالمرأة. فَرْعٌ آخرُ القتل الذي يثبت حكم الشهادة هو أن يقتل المسلم في معترك المشركين بسبب من أسباب قتالهم، مثل أن يقتله المشركون أو يحمل على قوم منهم فيتردى في بئر أو يقع من جبل، أو يسقط من فرسه أو يرفسه فرس غيره، أو يرجع سهم نفسه فيقتله، أو سهم مسلم أخر أو أكرمه الله فقبض روحه في حال اشتغاله بالجهاد فيكون حكم المقتول بسلاح الكافر. فَرْعٌ آخرُ لو انكشف الصفان عن ميت من المسلمين فالظاهر أنه مقتول بسبب من أسباب القتال سواء كان [316 ب/3] عليه أثر الدم أو لم يكن حكمه حكم الشهيد، وقال أبو حنيفة وأحمد: إن لم يكن به أثر غسل وصلي عليه وإن كان به أثر فحكمه حكم الشهيد

ثم قال أبو حنيفة: فإن كان به أثر فإن كان قد خرج الدم من عينيه أو أذنيه لم يغسل، وإن خرج من أنفه ذكره أو دبره يغسل وهذا غلط؛ لأن الظاهر أنه مقتول بسبب الحرب فأشبه إذا كان به أثر. فَرْعٌ آخرُ لو أسر المشركون رجلاً وقتلوه بأيديهم صبراً ففي غسله والصلاة عليه وجهان: أحدهما: يغسل ويصلى عليه، لأن خروج روحه لم تكن في المعترك. والثاني: لا يغسل ولا يصلى عليه لأنه قتل ظلماً بيد المشرك الحربي ذكره في "الحاوي". فرع لو كان الشهيد جنباً قال أكثر أصحابنا: لا يغسل ولا يصلى عليه وهو ظاهر المذهب، وبه قال مالك وأبو يوسف ومحمد. وقال ابن سريج: يغسل ولا يصلى عليه وبه قال ابن أبي هريرة وأحمد وهذا غلط لظاهر الخبر الوارد فيه، ولأنه غسل ينوب عند التيمم فيسقط بالشهادة كغسل الميت. وقال أبو حنيفة: يغسل ويصلى عليه، واحتج بما روي أن حنظلة الراهب قتل، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأهله [317 أ/3] "ما شأن حنظلة، فإني رأيت الملائكة تغسله فقالوا: إنه جامع ثم سمع هنة فخرج إلى القتال". ولأنه غسل واجب فلا يسقط بالموت كغسل النجاسة قلنا: لا حجة في الخبر، لأنه لو كان واجباً لم يسقط بغسل الملائكة، وأما إزالة النجاسة فيه وجهان: ولئن سلمنا فلأنه ليس من جنس الغسل، وغسل الجنابة يشبه بغسل الميت، فإذا سقط غسل الميت سقط الغسل الأخير، ولأن النجاسة ليست من آثار العبادة وهذا هو المذهب والوجه الآخر أنها تراد للصلاة وسقطت بالشهادة. فرع قال والدي رحمه الله: ولو قتلت الحائض قبل انقطاع الدم، فإن قلنا: إن الجنب يغسل ففي الحائض وجهان مبنيان على أن الغسل يتعلق برؤية الدم أو بانقطاعه فيه وجهان، والأصح أنه يتعلق بوجوده ويتأخر أداؤه. فَرْعٌ آخرُ لو خرج في المعترك وعاش حتى انقطعت الحرب، ثم مات غسل وصلي عليه كغيره من الموتى أكل أو شرب، أو لم يأكل، ولم يشرب، أوصى أو لم يوص، وبه قال أحمد. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان سواء طعم وتكلم أو لم يطعم ولم يتكلم،

وقال أبو حنيفة: إن خرج عن صفة القتلى وصار إلى حالة الدنيا فذلك حكم [317 ب/3] الشهادة مثل أن يأكل أو يشرب أو يوصي وإلا فلا يزول حكمه، ويسمى هذا المرئت، وقال مالك: لا اعتبار بنقض الحرب وإنما يعتبر أن يأكل أو يشرب أو يبقى يومين أو ثلاثة فيغسل ويصلى عليه وهذا غلط؛ لأنه مات بعد تقضي الحرب فلم يثبت له حكم الشهادة كما لو أوصى أو بقي يوماً كاملاً، وإن مات قبل تقضي الحرب فلا يغسل ولا يصلى عليه، وإن كان قد تكلم بعد الجرح أو أكل أو شرب، وقال أبو حنيفة: إن أكل لا يكون حكمه حكم الشهيد هاهنا أيضاً. واعلم أن المزني نقل لفظاً غير مستقيم، فقال: والشهداء الذين عاشوا وأكلوا الطعام وبقوا مدة ينقطع فيها الحرب وإن لم يطعموا كغيرهم من الموتى، وقوله في أول المسألة: وأكلوا الطعام مع قوله في آخرها: وإن لم يطعموا متناقض، وكان ينبغي أن يقول: وأكلوا الطعام أو بقوا مدة تنقطع فيها الحرب وإن لم يطعموا حتى يكونا مسألتين. فرع قال بعض أصحابنا بخراسان: إذا زاد الولي أو غيره الصلاة على الشهيد هل له ذلك وجهان: أحدهما: له ذلك؛ لأنا لا نوجب لاشتغالهم بالحرب فيجوز ذلك للفارغ من الحرب [318 أ/3]. والثاني: ليس له ذلك؛ لأن السيف طهره، وهذا أصح عندي والأول ليس بشيء. فَرْعٌ آخرُ سائر الشهداء بغير سبب القتال مثل: المبطون، والغريق، والمحرق، وصاحب الهدم، والمولدة إذا ماتت في الطلق يغسلون ويصلى عليهم، وقال الحسن: إذا ماتت المرأة في النفاس لا تغسل ولا يصلى عليها، وهذا غلط لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا على من قال لا إله إلا الله". فَرْعٌ آخرُ إذا قتل في غير المعترك ظلماً حكمه حكم سائر الموتى، سواء قتل بحديد أو غيره وبه قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: إن قتل ظلماً بحديد لا يغسل. وإن قتل بمثقل غسل؛ لأنه يوجب المال، وهذا غلط لما قال الشافعي وعمر رضي الله عنهما: كان شهيداً لكنه غسل وصلي عليه، لأنه لم يقتل في معترك الكفار، ولم ينكر أحد فصار إجماعاً، وقال الشافعي: الغسل والصلاة سنة، أي شريعة وطريقة لا يخرج إلا من أخرجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخرج عن جملتهم المقتول في معترك الكفار والباقي باق على حكم الأصل.

فرع إذا خرج قوم من المسلمين على الإمام العادل وقاتلوا، فإن كان المقتول [318 ب/3] من أهل البغي غسل وصلي عليه وبه قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا يغسل ولا يصلى عليه عقوبة له، وهذا غلط لأنه مسلم قتل بحق فوجب أن يغسل ويصلى كالزاني والقاتل، وأما قولهم: إنه عقوبة فينبغي أن لا يدفن أيضاً ولا يكفن عقوبة له. فَرْعٌ آخرُ لو كان المقتول من أهل العدل فالمشهور أنه يغسل ويصلى عليه قاله في "القديم"، و"الجايد" وبه قال مالك، وقال في كتاب أهل البغي: لا يغسل ولا يصلى عليه وعن أحمد روايتان. وقال أبو حنيفة: لا يغسلون واحتج بأن علياً -رضي الله عنه- لم يغسل من قتل معه، وأوصى عمار بن ياسر أن لا يغسل. ووجه القول الأول أن أسماء بنت أبي بكر غسلت عبد الله بن الزبير ولم يذكر ذلك منكر، وأما ما روي عن علي قلنا: لم ينقل أنه صلى فكل جواب لهم عن الصلاة فهو جوابنا عن الغسل وحديث عمار روينا خلافه. فَرْعٌ آخرُ لو قاتل أهل القافلة قطاع الطريق، فإن كان المقتول من قطاع الطريق كان بمنزلة المقتول من أهل البغي، فإن قلنا: إنه يصلب أبداً [319 أ/3] فعل به قبل الصلب وإن قلنا: يصلب ثلاثاً ثم ينزل فبعد الثلاث يغسل ويصلى عليه. وعند أبي حنيفة لا يغسل ولا يصلى عليه كما قال في الباغي، وإن كان المقتول في القافلة هل يكون بمنزلة الشهيد؟ وجهان بناء على القولين في المقتول من أهل العدل. فَرْعٌ آخرُ من قتل قصاصاً أو رجماً بالزنا غسل وصلي عليه، وقال الزهري: لا يصلى عليه، وقال مالك: لا يصلي الإمام ويصلي غيره، وهكذا عنده حكم كل من مات في حد، واحتج بأن ماعزاً لما رجمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يصل عليه، قال الزهري: ولم ينقل أنه أمر بالصلاة عليه، وهذا غلط لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رجم الغامدية وصلى عليها. فقال له عمر: ترجمها وتصلي عليها؟ فقال: لقد "تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم"، وروي أن علياً رضي الله عنه لما رجم شراحة الهمدانية جاء أهلها إليه، فقالوا: ما نصنع بها؟ فقال: "اصنعوا بها ما تصنعون بموتاكم"، وقال عبد الله بن مسعود أوصاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أن أصبح يوم صومك [319 ب/3] رضياً مرضياً ولا تصبح يوم صومك عبوساً، وأجب دعوة من دعاك من المسلمين وصلي على من مات من أهل قبلتنا، وإن كان مصلوباً أو مرجوماً. ولأن تلقى بمثل قراب الأرض ذنوباً خير

لك من أن تثبت الشهادة على أحد من أهل القبلة، فإن سألك عز وجل: من أفتاك فأقبل علي، فإذا أقبلت علي أقبلت على الأمين جبريل - صلى الله عليه وسلم - "، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على زانية ماتت هي وابنتها في نفاسها ونقول: على مالك: إذا لم يكره لغير الإمام لا يكره الإمام كما في سائر الموتى. وأما خبر ماعز فنحمل أنه أمر غيره ويجوز ذلك، ثم يقابل بما روى عمران بن الحصين رضي الله عنه أنه صلى على مرجومة. فَرْعٌ آخرُ من قتل نفسه يغسل ويصلى عليه، وقال الأوزاعي: إنه لا يغسل ولا يصلى عليه وكان عمر بن عبد العزيز يكره أن يصلى على من قتل نفسه، وحكي عن أحمد: لا يصلي عليه الإمام ويصلي غيره، واحتج بما روى جابر بن سمرة أن رجلاً قتل نفسه بمشقص وهو نصل عريض، فلم يصل عليه النبي [320 أ/3]- صلى الله عليه وسلم - وهذا غلط لأنه مسلم مقتول في غير معترك الكفار فأشبه إذا قتله غيره، وأما الخبر فنحمله على أنه صلى غيره. فَرْعٌ آخرُ إذا مات ولد الزنا فإنه يغسل ويصلى عليه وقال قتادة: لا يغسل ولا يصلى عليه وهذا غلط لما ذكرنا فيما تقدم. مسألة: قال: وينزع عنه الخف والجلود. وهذا كما قال: إذا كان على الشهيد آلة الحرب من الجلود والفرو والخف وما لم يكن من عام لباس الناس فإنه ينزع عنه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، وقال مالك: لا ينزع عن ذلك واحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم - في الشهداء: "ادفنوهم بثيابهم" وهذا غلط لما روى ابن عباس رضي الله عنه أنه أمر في قتلى أحد أن ينزع عنهم الحديد والجلود وأن يدفنوا بدمائهم وثيابهم وهذا أخص مما روي يقدم عليه. فرع إذا غرق قوم أو أصابهم هدم أو حريق وفيهم مشركون كانوا أكثر من المسلمين أو أقل غسل الكل وصلي عليهم، وينوي بالصلاة المسلمون منهم، ويقال في الدعاء: اللهم اغفر له إن كان مسلماً. ويصلى على واحد فواحد أو يقول عنه [320 ب/3] الجمع: اللهم اغفر للمسلمين منهم وبه قال مالك وأحمد وقال أبو حنيفة إن كان عدد المسلمين أكثر صلى عليهم وإن كان أقل سقط الغسل والصلاة، وهذا غلط لأنه اختلط من يصلى عليه بمن لا يصلى عليه فوجبت الصلاة عليه بالقصد والنية إلي المسلمين كما لو كان المسلمون أكثر قال الشافعي: وإذا جاز أن يتثني مشركاً واحداً من مائة مسلم جاز أن يستثني أكثر المائة، قال أصحابنا: وكذلك إذا اختلط الشهيد بغير الشهيد غسل الجميع وصلي عليهم ونوى بالصلاة غير الشهيد.

فَرْعٌ آخرُ كل من غسلنا كله إذا وجد بعضه غسل ذلك البعض وصلي عليه قليلاً كان أو كثيراً، إذا علم أن صاحبه مات، وهذا بأن يأكله سبع ولم يبق منه إلا هذا القدر، وقال أبو حنيفة ومالك: إن وجد الأكثر صلي عليه وإلا فلا. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال إذا وجد نصفه سواء، فإن قطع عرضاً فوجد النصف الذي فيه الرأس غسل، وصلي عليه وإلا فلا، وإن وجد طولاً لم يغسل واحداً منهما ولا يصلى عليه، وهذا غلط لما روي: أن طائراً ألقى يداً بمكة من وقعة الجمل فعرفت [321 أ/3] بالخاتم، فكانت يد عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد فصلى عليها أهل مكة بعدما غلوها، ولم يذكره واحد من الصحابة، وروي عن أبي عبيدة بن الجراح: أنه صلى على رؤوس قتلوا بالشام من المسلمين، وصلى عمر رضي الله عنه على عظام بالشام. وقال الشعبي: بعث عبد الملك بن مووان برأس ابن الزبير إلى أبي حازم فكفنه وصلى عليه. فَرْعٌ آخرُ لو وجد شعره أو أظفاره لا نص فيه، وقال بعض أصحابنا: لو قلنا: يغسل ويصلى عليه جاز لأنه جزء منه، والمذهب أنه لا يصلى عليه ولا يغسل، لأنه لا حرمة له كحرمة الأعضاء وبيان تعبداً. فَرْعٌ آخرُ لو كان هذا في دار الإسلام ولا نعرف أنها يد مسلم أو يد كافر غسلت، وصلى عليها، لأن الظاهر بالدار الإسلام. فرع اختلف أصحابنا أنه كيف سوى على وجهين: أحدهما: ينوي الصلاة على ما وجب بعد غسل العضو وتكفينه، فإن لم يكفنه جاز إلا أن يكون العضو من عورة الميت فلا بد من تكفينه ودفنه بعد الصلاة عليه. والثاني: ينوي بالصلاة عليه جملة الميت لأن حرمة العضو [312 ب/3] لزمت كحرمة جملته، إلا أن يعلم أن جملة الميت قد صلي عليها فتختص الصلاة بالعضو الموجود وجهاً واحداً. ذكره في "الحاوي". فرع العضو المقطوع من الحي مثل يد السارق ونحوه لا يغسل ولا يصلى عليه، لأنه انفصل من جملته فلا يصلى عليها. ذكره جميع أصحابنا، وقال في الحاوي: فيه وجهان: أحدهما: يغسل ويصلى عليه كما على عضو الميت وهذا غريب. فَرْعٌ آخرُ لو ماتت نصرانية وفي جوفها ولد مسلم وقد تحقق ذلك قال القاضي الطبري: إن قلنا بقوله القديم: إن السقط الذي لم يستهل يصلى عليه، فهاهنا يصلى عليها، وينوي بالصلاة الولد الذي في جوفها.

باب حمل الجنازة

باب حمل الجنازة مسألة: قال: روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أنه حمل جنازة سعد بن معاذ بين العمودين". وهذا كما قال: القصد من هذا الباب كيفية ما يستحب حمل الجنازة وإن حملها بين العمودين عند كثرة الناس مستحب وهو الأفضل من حملها من الجوانب الأربعة، وقال أحمد: التربيع أفضل، وقال النخعي والحسن وأبو حنيفة والثوري: يكره الحمل [322 أ/3] بين العمودين وروي عن الشافعي أنه قال: لم يرض أبو حنيفة إن حمل ما كان ينبغي أن يعلم حتى غاب على فعل وعلم، وقال مالك: التربيع وبين العمودين سواء، واحتج بما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "إذا اتبع أحدكم جنازة فليأخذ بجوانب السرير الأربعة، ثم ليتطوع بعد أو ليذر" فإنه من السنة، وهذا غلط لما ذكرنا من حديث سعد بن معاذ. وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه حمل سرير ابنه بين العمودين، وعن سعد بن أبي وقاص أنه حمل سرير عبد الرحمن بن عوف بين العمودين، وعن أبي هريرة أنه حمل سرير سعد بن أبي وقاص كذلك، وحمل ابن الزبير سرير المسور بن مخرمة، وأما ما رووه رواه أبو عبيدة عن أبيه، ولم يلقه ثم نحمله على الجواز، وقال بعض أصحابنا بخراسان: ذكر الشافعي هذه الأخبار لا لأنه أولى من الحمل بين الجوانب، ولكن ليتبين الجواز، فإن أبا حنيفة ينكره ويقول: ليس بشيء. وقيل: الأفضل الجمع بين العمودين والتربيع تارة تارة، فإن أراد الاقتصار بالحكم على ما ذكرنا، وقال المزني: أرى أن الأولى من مذهب الشافعي أن يدخل بين العمودين وليس كذلك؛ بل الأولى [322 ب/3] أن يجعل أحد العمودين على منكبه، فإن كثر الناس فلا بأس أن يدخل بين العمودين، فإذا تقرر هذا، فيكفيه حملها بين العمودين أن ينتصب رجل أمامها ويأخذ عموديها بيديه، والجنازة كأنها على كاهله، يعني ما بين العمودين وينتصب وراءها رجلان فيأخذ كل واحد بعمود واحد فيكون محموله بثلاثة، فإن ضعف الأول فمشى تحت الجنازة من يعينه فلا بأس، وإنما قلنا في المؤخر: يحتاج إلى رجلين لأنه لو أدخل رأسه تحت الجنازة لم ير بين يديه ولا يمكن الشيء وإن جعل وجهه إلى ورائه لا يمكن المشي أيضاً. وقال بعض أصحابنا: يجعل العمودين على عاتقيه وليس هذا باختلاف، بل إن أمكن هذا فعل وإن لم يمكن، فإن كانت الجنازة عريضة واسعة فعل ما ذكرنا أولاً، وقال بعض أصحابنا: فإن لم يمكنه ذلك جعل واحد الخشبة المعترضة بين العمودين من مقدم الجنازة على كاهله ويأخذ آخران العمودين فيحصل الحمل بخمسة ويكون الحاملون في الحملة وتران. قال بعض أصحابنا بخراسان: هذا مراد الشافعي في كل حال. وأما صورة الحمل على التربيع لمن أراد التبرك بحمل الجنازة من جوانبها كلها [323 أ/3] هو ما قال في

"الأم": يضع بأسرة السرير المقدمة على عاتقه الأيمن، لان فيه يمين الميت ويمين الحامل وقد قال - صلى الله عليه وسلم - "ابدؤوا بميامنكم" ثم ياسرته المؤخرة على هذا العاتق أيضاً، وأراد يسلم ياسرته المقدم إلى غيره ويتقدم فيأخذ ياسرته المؤخرة ثم يأخذ يامنة السرير المقدمة ويضعها على عاتقه الأيسر أي يسلم ياسرته المؤخرة إلى غيره وتتقدم الجنازة فتتحول إلى اليامنة فيأخذ يامنته المقدمة، ثم يسلمها إلى غيره ويتأخر فيأخذ يامنته المؤخرة، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، وقال إسحاق: يدور عليها، فيأخذ بعد ياسرة المؤخر يامنة المؤخر، ثم يامنة المقدم، وروي مثل ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وسعيد بن جبير والثوري رضي الله عنهم وروي ذلك عن أحمد لأنه أخف وهذا غلط لأنه أحد الجانبين فوجب أن يبدأ المقدمة كالجانب الأيسر، فإن ثقل عن أن يحمل أربعة أدخلوا تحت السرير عموداً فيصير من يحمله سبعة، وإن أدخلوا عمودين صار من يحمله ثمانية، وعلى هذا ذكره في "الأم" ثم بين أنه إذا كثر الزحام وشق عليه أخذ الجوانب وأحب أن يترك بالحمل ماذا يفعل فقال: إن كثر الناس [323 ب/3] أحببت أن يكون أكثر حمله بين العمودين. فرع حمل الرجال والنساء في ذلك سواء لا يختلف، ولا تحمل النساء الميت ولا الميتة. فَرْعٌ آخرُ يختار للنساء إصلاح النعش كالقبة على السرير لما فيه من الستر والصيانة، وهو الذي يسمى في وقتنا المكية، وقيل: أول جنازة وضع النعش عليها جنازة فاطمة بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذلك أنه لما حضرتها الوفاة قالت: إني لا أحب أن يراني الرجال، فقالت لها أم سلمة أو أسماء: إن بالحبشة نعوشاً للنساء فاتخذوا لفاطمة النعش وقيل: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضع النعش على ابنته التي ماتت في حياته، وأمر بذلك وأيهما كان فهو سنة. وقيل: الأصل فيه أن زينب بنت جحش زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ماتت في خلافة عمر بن الخطاب وكانت خليقة ذات جسم، فلما أخرجوها رأى الناس جثتها فاشتد ذلك علي عمر، فقالت أسماء بنت عميس: قد رأيت في بلاد الحبشة نعوشاً لموتاهم فعملت نعشاً لزينب فلما عمل، قال عمر رضي الله عنه: نعم جفا الظعينة، وعندي هذا أصح. فَرْعٌ آخرُ قال في "الأم": ويحمل الميت على السرير وهو [324 أ/3] الجنازة التي لها في كل رأس عمودان، فإن تعذر ذلك حمل على لوح، وفي محمل فإن كان في موضح عجلة حاجة أو خيف عليه التغير قبل أن يهيأ له ما يحمل عليه حمل على الأيدي والرقاب.

باب المشي بالجنازة

فَرْعٌ آخرُ قال الشافعي: وليس في حمل الجنازة دناءة ولا إسقاط مروءة بل ذلك مكرمة وثواب وبر، وهو فعال أهل الخير قد فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم الصحابة ثم التابعون. باب المشي بالجنازة مسألة: قال: والمشي بالجنازة هو الإسراع. الفصل وهذا كما قال: يستحب الإسراع بالجنازة وهو فرق سجية المشي لا الإسراع الذي يشق على ضعفه الناس ممن يتبعها، إلا أن يخاف بغيرها أو إنجاسها فيسرعوا بها ما قدروا وزادوا في الإسراع، وهذا لأن عادة الحي إذا دعاه السلطان أن يبادر إليه مسرعاً، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أسرعوا بالجنازة فإن كانت خيراً فإلى خير تقدمونها، وإن كانت شراً فشر تضعونه عن رقابكم". وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المشي [324 ب/3] مع الجنازة فقال: "ما دون الخبب" وإن خيف من الإسراع الانبجاس والتفجر لعلة كانت من الطاعون أو غيره فالأفضل التأني به والمشي على ما فيه الاحتياط. مسألة: قال: والمشي أمامها أفضل. وهذا كما قال: عندنا الأفضل المشي أمامها، ولا خلاف أنه يجوز خلفها وأمامها وعن جانبيها. وروي ذلك عن أبى بكر وعمر وعثمان وابن عمر وأبي هريرة والحسن بن علي وابن الزبير وأبي قتادة والقاسم بن محمد وشريح وسالم والزهري، وبه قال ابن أبي ليلى وأحمد ومالك، وقال أبو حنيفة: المشي خلفها أفضل. وروي ذلك عن علي رضي الله عنه وسعيد بن جبير والأوزاعي وإسحاق، وقال الثوري: إن كان راكباً مشى خلفها، وإن كان ماشياً مشى كيف ما أراد وبه قال أنس رضي الله عنه، واحتجوا بما روي عن أبي سعيد الخدرى قال: سألت عليا رضي الله عنه فقلت: أخبرني. يا أبا الحسن عن المشي مع الجنازة فقال: فضل الماشي خلفها على الماشي قدامها كفضل المكتوبة على التطوع. فقلت: تقول: هذا برأيك [325 أ/3] أو سمعت من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ فقال: لا بل سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا غلط لما روي عن سالم بن عبد الله عن أبيه قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر يمشون أمام الجنازة، وقال الزهري: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر وعمر يمشون أمام الجنازة، وقال الزهري: وأخبرني سالم أن أباه كان يمشي أمام الجنازة وروي ويقولون: هذا أفضل، ولأنهم شفعاء للميت فينبغي أن يتقدموا المشفوع له، وأما خبرهم فلم يذكره أصحاب الحديث وقالوا:

هو ضعيف، وقد نقل عن الحسن بن علي خلافه، ثم نحمله على من تقدمها وتبعها إلى موقع الصلاة أو الدفن وهكذا الجواب إذا رووا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الجنازة متبوعة ولا تتبع ليس منا من تقدمها". فرع المستحب والأكمل أن يمشي قدامها قريباً منها، فإن تقدم وجلس قبل أن يؤتى بالجنازة فلا بأس ذكره في "الأم" وبه قال مالك، وقال أبو حنيفة وأحمد: يكره له ذلك ولا يجلس حتى يوضح وبه قال الثقفي والنخعي وروي عن أبي حنيفة [325 ب/3] لا يجلس حتى يوضع في اللحد، وهذا غلط لما روي عن ابن عباس وعبيد بن عمير رضي الله عنهما أنهما مشيا أمام الجنازة فتقدما وجلسا يتحدثان فلما جازت بهما قاما، وروي عن عبادة بن الصامت قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يجلس حتى يوضح في اللحد، ثم نسخ ذلك فقعد وأمر بالقعود وروي أنه قيل له: إن اليهود يفعلون ذلك فجلس وقال: "خالفوهم". فرع قال: إذا مرت الجنازة بقاعد لا يقوم لها، بل يستحب له أن يدعو ويقول: لا إله إلا الله الحي الذي لا يموت، وقال في "الأم": لا يقوم للجنازة من يشهدها والقيام لها منسوخ، وعن علي رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم، ثم جلس وأمر بالجلوس، ومن أصحابنا من قال: يستحب القيام لها، وإذا كان معها فلا يقعد حتى توضع الجنازة، لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا فمن تبعها فلا يقعد حتى توضع" ولا يكره ترك القيام ولا الجلوس قبل وضعها وهذا خلاف النص الذي ذكرنا. وروي أن الحسن بن علي رضي الله عنهما مرت به جنازة فقام [326 أ/3] أصحابه فقال: ما لكم قمتم إنما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تأذياً بريح اليهود. وقال جابر: إنما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من نتن ريحها فإنها كانت جنازة يهودي، وقال المزني في "الجامع الكبير": قال الشافعي: لا بأس بالقيام والقعود أحب إلي لأنه الآخر من فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروي عن ابن مسعود البدري وجماعة أنه يجب القيام لها إذا مرت به لما روى عامر بن ربيعة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا لها حتى تخلفكم أو توضع"، وروى أبو سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا رأيتم الجنازة فقوموا فمن تبعها فلا يقعدن حتى توضع عن أعناق الرجال"، وهذا صار

باب من أولى بالصلاة على الميت

منسوخاً على ما ذكرنا وحكي عن أحمد أنه قال: إن شاء قام، وإن شاء لم يقم، لأنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه قام ثم قعد" وهكذا قال إسحاق. فَرْعٌ آخرُ قلت: يستحب أن لا يركب ويكره الركوب لما روي عن ثوبان قال: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جنازة فرأى ناساً ركباناً فقال: "ألا تستحيون إن ملائكة الله على أقدامهم [236 ب/3] وأنتم على ظهور الدواب"، وروى جابر بن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "اتبع جنازة أبي الدحداح ماشياً ورجع على فرس". فرع يكره للمسلم إتباع جنازة أقاربه من الكفار، ويستحب إتباع جنازة المسلم لما روي عن البراء بن عازب قال: "أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإتباع الجنازة وعيادة المريض وتشميت العاطس وإجابة الداعي ونصر المظلوم". وروى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من تبع جنازة وحملها ثلاث مرات، فقد قضى ما عليه من حقها" وقال أنس رضي الله عنه: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعود المريض ويشهد الجنازة، ويركب الحمار ويجيب دعوة العبد". باب من أولى بالصلاة على الميت مسألة: قال: والولي هو أحق بالصلاة عليه من الوالي. وهذا كما قال: إذا لم يكن هناك مناسب فالوالي أحق بالصلاة إذا حضر، فإن حضر المناسب دون الوالي كان المناسب أولى، وإن اجتمعا معاً فالمذهب الذي نص عليه في القديم، والجديد أن المناسب أولى، وبه قال مالك، وقال في موضع من القديم: الوالي أولى به وبه قال أبو حنيفة وأحمد [327 أ/3] وإسحاق ويحكى عن مالك أيضاً، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه، وقد قال أبو حنيفة: إمام الحي والمحلة أولى قياساً على سائر الصلوات، وأشار الشافعي إلى الفرق بينهما فقال: لأن هذا من الأمور العامة، واحتجوا بما روي عن أبي حازم قال: شهدت حسيناً حين مات الحسن رضي الله عنه وهو يدفع في قفا سعيد بن العاص ويقول: تقدم فلولا السنة ما قدمتك، وسعيد كان أمير المدينة. قلنا: يحتمل أنه أراد بذلك إطفاء النايرة وتسكين

الفتنة وهو من السنة. مسألة: قال: وأحق قرابته الأب ثم الجد. الفصل وهذا قال. الكلام الآن في ترتيب المناسبين فالأب أولى من كل أحد، ثم الجد أبو الأب، ثم الابن، ثم ابن الابن على ترتيب العصبات، وقال مالك: الابن أحق من الأب، لأن الابن أقوى تعصيباً من الأب، وهذا غلط لأنهما في الإدلاء سواء، فإن كل واحد منهما يدلي نفسه إلى الميت ودعاء الأب أرجى للإجابة، فإنه أحن وأرق وأشفق، فكان بالصلاة أولى والجد أولى من الأخ، وقال مالك: [327 ب/3] الأخ أولى من الجد، لأنه يدلي بالبنوة والجد يدلي بالأبوة، والبنوة عنده أولى من الأبوة، وهذا غلط لما ذكرنا. والأخ من الأب والأم هو أولى من الأخ للأب. قال في أكثر كتبه: وقال بعض أصحابنا فيه قول أخر: إنهما سواء ذكره القاضي أبو حامد "صاحب الإفصاح" واختلف أصحابنا فيه على طريقين، فمنهم من قال فيه قولان: كما في ولاية النكاح، هل يقدم الأخ من الأبوين على الأخ من الأب؟ قولان. لأنه لا مدخل للنساء فيها فلم يكن لقرابة الأم في ذلك تأثيراً كما لا مدخل للنساء في ولاية النكاح، ولا يقدم الأخ من الأب والأم فيها في قول، ومن أصحابنا من قال قول واحد: يقام هاهنا الأخ من الأبوين، لأن النساء تدخل في الصلاة على الميت عند الانفراد أو عند الائتمام ولها الإمامة بالنساء فيها، ولا مدخل لهن في ولاية النكاح أصلاً. قال القاضي الطبري: هذا ليس بمشهور، لأن الشافعي قال: تصلي النساء إذا لم يكن الرجال، فلم يجعل لهن مدخلاً إلا لضرورة، وقال القفال: الأشبه بالمذهب هذا، لأن لمن يدلي بالنساء مدخلاً فيها كالخال والأخ من [328 أ/3] الأم، وهذا غلط، لأنه لا ولاء به للأخ من الأم، ولا للخال فيها ذكره أهل العراق أجمع. فإذا قلنا: هما سواء فأولادهما سواء، وإذا قلنا: يقام ذو القرابتين فابنه مقدم ثم العم إن لم يكن له أخ، وهل يقدم العم للأب والأم على العم من الأب؟ على الطريقين وكذلك إذا اجتمع أبناء عم أحدهما أخ من الأم هل يقدم على الطريقين أيضا؟ فإن لم يكن أحد من العصبات فالمولى المعتق كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الولاء لحمة كلحمة النسب". مسألة: قال: فإن اجتمع له أولياء في درجة واحدة فأحبهم إلي أسنهم. وهذا كما قال. إذا اجتمع جماعة من الأولياء في درجة واحدة كالإخوة وبني الإخوة ونحوهم وتشاحوا قدم الأسن، وفي الإمامة في سائر الصلوات قدم الأقرأ والأفقه على المسن، والفرق أن القصد من سائر الصلوات حق الله تعالى فتقام فيها الأعلم والقصد

من صلاة الجنازة حق الميت والدعاء له، فكان الأشفق أولى بالإجابة، والأشفق هو الأسن ودعاؤه أرجى، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى يستحيي أن يرد دعوة ذي الشيبة [328 ب/3] المسلم. ومن أصحابنا من قال هاهنا أيضاً: يقدم الأفقه والأقدر على الأسن كما في سائر الصلوات وهو ضعيف. وقال بعض أصحابنا بالعراق: نص في سائر الصلوات أنه يقدم الفقيه والقارىئ. ففي كلتا المسألتين قولان: أحدهما: يقدم الأسن في الكل، وهذا غلط ظاهر؛ لأن في سائر الصلوات نص الشافعي أنه يقدم الفقيه والقارئ على الأسن من غير إشكال، فإذا تقرر ما ذكرنا، قال الشافعي: فإن لم يحمد حاله، فأفضلهم وأفقههم. وأراد فإن كان هذا الأسن فاسقاً أو غير مرض، فإن كان مبتدعاً أو يهودياً أسلم الآن، فحينئذ يقدم أفضلهم وأفقههم، وإن كان شاباً. وإن استووا بكل حال ولم يترجح بعضهم على بعض، ولم يتفقوا على تقديم واحد أقرع بينهم كما في ولاية النكاح. فرع إذا أوصى أن يصلي عليه رجل بعينه من غير أوليائه. روي عن عائشة وأم سلمة وأنس وابن سيرين وأحمد: أنه أحق بالصلاة عليه من الولي والوالي وهو قياس قول مالك لأنه [329 أ/3] حقه تنفذت فيه وصيته وعندنا الولي أولى؛ لأنه حق الولي، ولا تنفذ وصيته لانقطاع ولايته ويدخل به النقص على وليه كما يقول في ولاية النكاح. مسألة: قال: والولي الحر أولى من الولي المملوك. وهذا كما قال: إذا كان له وليان في درجة وأحدهما عبد والأخر حر، فالحر أولى بالصلاة من العبد، لأن للحر ولاية وليست للعبد ولاية، فكان من له الولاية أولى كالقريب والأجنبي، وعلى هذا قال أكثر أصحابنا: وإن كان العبد أقرب درجة فالولي الحر، فإن كان العبد فالعم الحر أولى من الأخ المملوك وهو مراد الشافعي لما ذكرناه أنه لا ولاية للعبد أصلاً. فإن قيل: فلم سماه الشافعي ولياً؟ قلنا: هذا من كلام المزني والشافعي قال: والحر أولى من المملوك أو سماه ولياً بمجاز الوجود. والسبب الذي يستحق به الولاية فيه، وليس هذا هو بولي حقيقة. ومن أصحابنا من قال: أراد الشافعي عند استوائهما في الدرجة، فإذا كان العبد أقرب فيه قولان مخرجان، والأول أصوب، وهو اختيار القفال. فرع قال الشافعي: ولا بأس [329 ب/3] بصلاة المملوك على الجنازة؟ لأن الفريضة

والنافلة تجوز خلفه، وكذلك الصبي الذي يعقل الصلاة. فَرْعٌ آخرُ وقال والدي رحمه الله: لو صلى الصبيان على الميت، هل يسقط الفرض بصلاتهم؟ ينبغي أن لا يسقط، لأنه لا مدخل للصبي في فرض الكفاية فلا يسقط بفعله الفرض، وهذا كما لو سلم وجل على وجل فرد عليه غيره جواب السلام، لم يسقط عنه الفرض، لأن الراد لم يدخل في الفرض، ويحتمل أن يقال: يسقط الفرض بصلاته، لأنه لو صلى في أول الوقت ثم بلغ في أخر الوقت، فإنه لا تلزمه الإعادة على الصحيح من المذهب. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا حضر صبي ولي أو غير ولي مع نسوة نقلاه سواء كان الميت رجلاً أو امرأة فهو أحق بالصلاة من النساء إذا عقل الصلاة، وإن لم يبلغ مملوكاً أو غير مملوك يقدم الصبي والرقيق على النساء، وإنما قدم لأنهما قد استويا في عدم الولاية، وانفرد هو بالذكورة، ولو اجتمع مملوك بالغ وصبي فالمملوك أولى، لأنه مكلف وتجوز إمامته إجماعاً بخلاف الصبي. فرع لو لم يكن هناك مملوك [330 أ/3] ولا صبي يعقل، صلت النساء على الميت صفاً منفردات، فإن أمتهن إحداهن قامت وسطهن، لم أر بذلك بأساً، فلم تجز صلاتهن إلا عند الضرورة، ولم يستحب لهن الجماعة في صلاة الجنازة، قال: ولو حضر الرجال بعد لا يلزمهم إعادة الصلاة. وقال أبو حنيفة: يصلين جماعة لأنهن من أهل الجماعة. وهذا غلط، لأن النساء لم يسن لهن الصلاة على الجنازة، فلم يشرع لهن الجماعة بخلاف سائر الصلوات. فرع قال في "الحاوي": تصلي النساء على المرأة، لأنه يجوز أن تتقدم النساء على النساء إذا لم يكن هناك رجال، وإنما: نص الشافعي أنهن يصلين فرادى بغير إمام في جنازة الرجال. فَرْعٌ آخرُ قال: وسنة وسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الموتى والأمر المعلوم بعده إلى اليوم أن يصلى عليهم بإمام ولو صلي عليهم أفراداً أجزأهم إن شاء الله قد صلى الناس على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أفراداً لا يؤمهم أحد، وذلك لعظم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي، وتنافسهم لئلا يتولى الإمامة في الصلاة عليه واحد. ومن [330 ب/3] أصحابنا من ذكر وجهاً يجب فيها جماعة وهو ضعيف. فَرْعٌ آخرُ فرض الكفاية في صلاة الجنازة لا يقع بأقل من ثلاثة إذا وجدوا، لأن الشافعي قال

في "الأم": لو صلى الإمام عليها وهو غير متوضئ، ومن خلفه متوضئون تجوز صلاتهم، فإن كان كلهم غير متوضئين أعادوا، فإن كان منهم ثلاثة متوضئون جازت فاعتبر أقل الجمع. وقال المزني في "الجامع الكبير": قال الشافعي: عندي إن صلى واحد أجزأه. فالظاهر أن المسألة على قولين: أحدهما: ما ذكرنا. والثاني: يكفي أن يصلي عليها واحد، لأنها صلاة ليس من شرطها الجماعة فلم يكن من شرطها العدد. وقال بعض أصحابنا بخراسان فيه ثلاثة أوجه: والوجه الثالث: لا بد من أربعة نفر، وهذا ليس بشيء. فرع قلت: الأولى كثرة المصلين عليها بالجماعة وأن لا يكون أقل من ثلاثة صفوف لما روى مالك بن هبيرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مسلم يموت فيصلي عليه ثلاثة صفوف من المسلمين إلا أوجب". وكان مالك بن هبيرة إذا صلى على جنازة فاستقل الناس [331 أ/3] جزأهم ثلاثة أجزاء. وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يموت أحد من المسلمين فيصلي عليه أمة من المسلمين يبلغون أن يكونوا مائة فيشفعوا له إلا شفعوا فيه"، وروي: مائة فما فوقها. وروى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من رجل مسلم يموت فيقوم على جنازته أربعون رجلاً لا يشركون بالله شيئاً إلا شفعهم الله فيه". وروى أن ابناً له مات بعسفان، فقال لكريب: انظر ما اجتمع له من الناس، فأخبره باجتماع الناس فقال: أربعون؟ فقال: نعم قال: أخرجوه. فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذكر هذا الخبر. فَرْعٌ آخرُ قال في "الأم": وأحب أن تكون الصلاة على الميت صلاة واحدة ولا يحبس بعد الفراغ منها لصلاة من فاتته الصلاة عليه، ويصلي على القبر، اللهم إلا أن يرجى حضور الوالي فلا بأس أن يحبس حتى يحضر ويصلي عليه، وهذا إذا لم يخف التغير. وأصحابنا لا يختلفون أن من لم يصل عليها يجوز له أن يصلي، وأما من صلى هل يصلي ثانياً؟ وجهان: أحدهما: يستحب أن يصلي مع الجماعة كما في سائر الصلوات. والثاني: أنه لا يصليها، لأنه لا ينتقل بها وإذا صلى جماعة آخرون ينوون الفرض، لأن [331 ب/3] فعل غيرهم ما أسقط الفرض عنهم، بل أسقط الحرج. وعند أبي حنيفة لا يصلى عليها إلا مرة واحدة.

باب وقت صلاة الجنازة

فَرْعٌ آخرُ يجوز أن يصلى على الميت في المسجد. وبه قال أحمد، وذكر بعض أصحابنا أنه أفضل وهذا ليس بمشهور، وقال في "الحاوي": لا يكره؛ بل يستحب، وقال أبو حنيفة ومالك: تكره الصلاة عليه في المسجد لما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من صلى على جنازة في المسجد فلا شيء له". أورده أبو داود وهذا غلط لما روي أن سعد بن أبي وقاص لما مات قالت عائشة: أدخلوه المسجد ليصلي عليه، فأنكروا عليها ذلك فقالت: "والله لقد صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابني بيضاء، سهيل وأخيه في المسجد"، وروي أنها قالت: ما أسرع ما نسيتم، والله ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على سهيل ابن بيضاء إلا في المسجد. وثبت أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما صلى عليهما في المسجد ولم ينكر منكر. وأما خبرهم فراويه صالح مولى التوءمة وهو ضعيف، ثم أراد به نقصان الأجر، لأن الغالب أن من صلى عليها في المسجد ينصرف إلى أهله ولا يشهد دفنه، وأن من سعى إلى الجبان وصلى عليها حتى يشهد دفنها يكون له قيراطان من الأجر، [332 أ/3] فصار من صلى عليها في المسجد كمن لا أجر له، بالإضافة إلى من صلى عليها في الصحراء. باب وقت صلاة الجنازة مسألة: قال: ويصلى على الجنازة في كل وقت. وهذا كما قال. لا يكره الصلاة على الجنازة في وقت، ويجوز في جمع الأوقات. وبه قال أبو يوسف، وقال أبو حنيفة: يكره في ثلاثة أوقات: عند طلوع الشمس، وعند استوائها وعند اصفرارها حتى تغرب، وبه قال الثوري وأحمد وإسحاق، وقال الأوزاعي: يكره فعلها في الأوقات الخمسة المنهي عن الصلاة فيها. وبه قال ابن عمر وعطاء والنخعي وابن المبارك وقال أبو سليمان: هذا أول الخبر وأنه قول الأكثرين واحتجوا بما روي عن عقبة بن عامر قال: "ثلاث ساعات كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهانا أن نصلي فيهن أو نقبر فيهن موتانا، حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل، وحين تتضيف الشمس للغروب حتى تغرب"، وقوله: تتضيف أي: تميل وقوله: نقبر فيهن موتانا: أراد الصلاة على الجنازة. وهذا غلط، لما روي

أن عقيل بن أبي طالب صلى عليه علي رضي الله عنه حين اصفرت الشمس. وقالت عائشة: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: [332 ب/3] صل على الجنازة أي ساعة كانت. وروي أن أبا هريرة صلى على جنازة والشمس على أطراف الجدر؛ لأنها صلاة لها سبب فجاز فعلها في الوقت المنهي عنه، كالعصر عند اصفرار الشمس، وأما ... فنحمله على التحري، وعندنا لا ينبغي أن يتحرى بها الأوقات المنهية، ولكن إذا اتفق حضورها في الوقت المنهي جاز فعلها فيه. وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه نهى عن تحري هذه الأوقات لصلاة الجنازة وغيرها. مسألة: قال: وإذا اجتمعت جنائز الرجال. الفصل وهذا كما قال: إذا اجتمعت جنائز الرجال والصبيان والنساء فإن لم يكن هناك عجلة فالسنة أن يصلى على كل ميت على الانفراد، وإن كانت هناك عجلة ومبادرة فإنه يصلى عليهم دفعة واحدة، وتقدم المرأة إلى القبلة ثم الصبي ثم الرجل. فإن كان هناك خنثى فالخنثى يجعل بين المرأة والصبي، فالذي يلي الإمام هو الرجل، ثم الصبي ثم الخنثى، ثم المرأة كما في صلاة الجماعة، وإنما قدم الصبي على الخنثى لجواز أن تكون امرأة، وقدم الخنثى على المرأة لجواز أن يكون رجلاً. وقال القاسم بن محمد وسالم بن عبد الله والحسن وسعيد بن المسيب. يقدم [333 أ/3] الرجل إلى القبلة ثم الصبي ثم الخنثى، ثم المرأة تلي الإمام كما لو أرادوا الدفن في مكان واحد فإنه يقدم الرجل إلى القبلة. وهذا غلط لما روى عمار بن ياسر قال: شهدت جنازة أم كلثوم بنت علي وابنها زيد بن عمر بن الخطاب، وفي الجنازة الحسن والحسين وابن عمر وابن عباس وأبو هريرة وثمانون رجلاً من الصحابة فوضعوا جنازة الغلام مما يلي الإمام والمرأة وراءه، فقلت: ما هذا؟ فقالوا: هذه السنة. وروي عن ابن عمر أنه صلى على تسع جنائز رجال ونساء، فجعل الرجال مما يلي الإمام والنساء مما يلي القبلة. وأما الدفن قلنا: الفرق هو أن الرجال يلون الإمام في الصلاة، وقرب الإمام أفضل فجعلنا الرجل أقرب إليه والمرأة أبعد منه، وعند الدفن لا يوجد هذا المعنى. وإنما الفضيلة هناك هي في القرب من القبلة، فقدمنا الرجل إلى القبلة. وقال المزني هاهنا: والخناثى في معناه يعني في قياس قول الشافعي، ولا معنى لهذا، لأنه نص عليه في "الأم". فرع قال القفال: إذا كان هناك جنائز الرجال والنساء والخناثى، يوضع بعضها خلف بعض، فيلي الإمام الرجال واحداً واحداً، ثم الناس واحدة واحدة، وتجعل [333 ب/3]

الخناثى صفاً واحداً لا يوضع بعضهم خلف بعض، لاحتمال أن يكون المتقدم امرأة والمتأخر رجلاً. وقال أبو حنيفة: تجعل جنائز الرجال صفاً واحداً، ويقف الإمام عند أخرها لتكون الجنائز عن يمينه، وذكر بعض أصحابنا بخراسان كذلك وقال: يوضع رأس كل واحد عند رجل الآخر. فَرْعٌ آخرُ لو تشاح ولاة الجنائز صلى ولي الجنازة التي سبقت. قال في "الأم" والقديم: ثم إن شاء ولاه ما سواها أن يستغنوا بتلك الصلاة فعلوا. وإن شاء كل واحد أن يعيد الصلاة على ميته فعل. قال أصحابنا: هذا هو الدليل على تكرير صلاة الجنازة أنه يجور. وقال بعض أصحابنا: معنى هذا أنه لم يكن ولي المسبوق صلى مع ولي السابق، فإن كان قد صلى لا يجوز له أن يعيد الصلاة: لأن صلاة الجنازة لا يجوز أن يكررها الواحد. ولعل القائل الأول أراد بما ذكر هذا فإنه محتمل، ولا يحصل الخلاف. فإن لم يكن أحدهما سابقاً قال أصحابنا: يقرع بينهما فمن خرجت قرعته فحكمه حكم من تقام بالسبق، وإن تشاحوا في المكان فقال كل واحد منهم: جنازتي تلي الإمام، فإن كانوا رجالاً فالسابق أولى، فإن استووا في [334 أ/3] السبق قال الشافعي: قدم أفضلهم إلى الإمام، وإن كانوا رجالاً ونساء فالرجال يلون الإمام سواء سبق النساء أو تأخرن لأن هذا ترتيب الصلاة. ولو كانوا رجالاً وصبياناً فالسابق أولى. فإن اختار ولي الرجل أن تكون جنازته خلف الصبي وإلا ذهب به إلى موضع غيره. فإن قيل: سويتم بين الرجل والصبي هاهنا وقلتم: الصبي والرجل إذا استويا في السبق فإنه يقدم الرجل من غير قرعة، وفي المرأة قدمتم عليها الرجل في كلتا الحالين فما الفرق؟، قلنا: الفرق أن الصبي قد يكون مساوياً للرجل، فيقف مع الرجل في الصف الواحد، فإذا سبق وليه ووضعه بين يدي الإمام لا يجوز تنحيته وإزالته بخلاف المرأة. فَرْعٌ آخرُ قال: لو كبر على جنازة تكبيرة أو تكبيرتين، ثم وافت جنازة أخرى فوضعت فرغ من الصلاة على الأولى، ثم استأنف هو أو غيره الصلاة على الثانية، لأنه ما نوى الصلاة على الثانية. ولو نوى في أثنائها بطلت صلاته، لأن نيته تعينت في الأولى. فرع قال والدي رحمه الله: لو يمم الميت عند عدم الماء وصلي عليه، ثم وجد الماء قبل الدفن، يلزمه غسله به. وهل تلزم إعادة الصلاة؟ وجهان. وعندي أنه لا يلزم [334 ب/3] غسله كما لا يلزم الصلاة عليه ثانياً في وجه.

فرع قال والدي رحمه الله: إذا صلي على ميت وحي دفعة واحدة، فإن كان عارفاً بالحال لا تصح صلاته على الميت. وإن كان عنده أنهما ميتان جازت صلاته على الميت والنية في الحي ملغاة، كما لو صلى العصر قبل وقته وهو عالم بالحال لم تصح، وإن كان عنده أن الوقت داخل صح عن النفل، ويجئ أن يقال: تصح الصلاة في حق الميت عند العلم أيضاً ويفارق مسألة العصر، لأن نية الفرض مضادة لنية النفل، فإذا نواها فيما يعلم أنه نفل كان قاطعاً لاستدامة نية الصلاة التي هو فيها متعمداً، فبطلت عليه كما لو صرف نيته إلى الفرض في صلاة النفل يبطل عن النفل أيضاً، وهاهنا نية الصلاة على الميت فتلغيها وتجوز الصلاة على الميت. فَرْعٌ آخرُ وقال أيضاً: إذا صلى على ميتين ثم نوى في أثناء صلاته قطع صلاته على أحدهما دون الآخر، بطلت هذه الصلاة في حق أحدهما، وفي الآخر وجهان: أحدهما: يبطل أيضاً لأنها إذا بطلت في البعض بطلت في الباقي، كما لو نوى في صلاته إبطال [335 أ/3] إحدى الركعات تبطل كلها. والثاني: لا تبطل لأنه كان يجوز له في الابتداء أن يصلي على أحدهما دون الآخر، فإذا نوى قطع الصلاة على أحدهما صار كأنه أحرم بالصلاة على أحدهما في الابتداء ويفارق ما ذكر. ولأنه لا يجوز له في الابتداء أن يحرم بالظهر بنية ثلاثة ركعات، فإذا نوى إبطال ركعة بطل الكل والأول أظهر. وهذا الفرق يبطل بمن افتتح النافلة ركعتين ثم نوى إبطال إحدى الرطعتين مطلقاً، وإن كان يجوز في الابتداء إفراد إحداهما عن الأخرى. فَرْعٌ آخرُ قال أيضاً: إذا صلى على أموات كثيرين دفعة واحدة ولا يعلم عددهم، ولكنه يشاهد لهم صح، لأن المشاهدة هي مغنية عن معرفة العدد، ولو صلى عليهم وعنده أنهم عشرة فإذا هم أحد عشر أعاد الصلاة على جميعهم؛ لأن فيهم من لم يصل عليه بالنية، ويحتمل أن يقال: إنه يعيد على الحادي عشر عينه، وينوي الصلاة على من لم يصل عليه أولًا. وأصل هذا أنه إذا كان بين يديه أموات فصلى على البعض منهم بغير نية هل تصح أم لا؟ يحتمل وجهين، وإن كان عنده أنهم أحد عشر فصلى ثم علم أنهم أحد عشر فصلى ثم علم أنهم كانوا عشرة يحتمل وجهين. أحدهما: لا تصح لأنه نوى فعل [335 ب/3] هذه الصلاة على ميت لم يحضر، ولا نعرفه بوجه أو على معدوم، والنية إذا بطلت في البعض بطلت في الباقي. والثاني: تصح وهو الأظهر. فَرْعٌ آخرُ قال: ولو دخل في صلاة الجنازة وفي الثاني والمصلون عليها كثرة ليس له الخروج قبل إتمامها، لأنها تلزم جميع الناس في الابتداء ما لم يقع الفراغ من بعضهم. فإذا

شرع فيها لم يجز الخروج من جهة أن تركها في الابتداء لا يسوغ له على كل وجه، لأنه لو لم يحضره غيره يلزمه الحضور وأداء الصلاة، فهو كالجمعة في حق العبد. فَرْعٌ آخرُ وقال: لو شرع في صلاة الجنازة بعدما صلى عليها من نية الكفاية، هل له الخروج؟ يحتمل وجهين: أحدهما: له ذلك. والثاني: ليس له ذلك. ولهذا أصل وهو أن هذه الصلاة تقع فرضاً أم لا؟ وفيه جوابان، والقياس عندي أنها لا تقع فرضاً، لأن الفرض ما لايجوز تركه على الإطلاق. فَرْعٌ آخرُ لو صلى رجل على جنازة وعنده أن الميت الفلاني عليها، ونوى الصلاة عليه ثم ظهر أن الميت الذي هو صلى عليه مات في بلد آخر ودفن فيه أو ذلك هل تصح الصلاة على ذلك أم لا؟ لاعتقاده أن الميت الذي يصلي على هذه الجنازة يحتمل أن [336 أ/3] يقال: يجوز لأن اعتبار عين الميت أولى من اعتبار المكان، لأن العين لا تتبدل والمكان يتبدل كما لو قال: زوجتك ابنتي الصغيرة فاطمة وسامها عائشة وفاطمة اسم الكبيرة، يصح النكاح على الصغيرة؛ لأن الاسم يتبدل بخلاف الصغير. فرع إذا صلى على جنازة الرجل وقف الإمام عند صدره، وإذا صلى على جنازة المرأة وقف الإمام عند عجيزتها، وبه قال أحمد وهو اختيار أصحابنا بالبصرة وصاحب "الإفصاح" ولا نص فيه للشافعي. وقال البغداديون من أصحابنا: يقف عند رأس الرجل وعند عجز المرأة وهو وسطها، وهذا هو اختيار القاضي الطبري، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وهذا أولى عندي. وقال أبو حنيفة: يقف عند صدر الرجل والمرأة، وقال مالك: يقوم من الرجل عند وسطه ومن المرأة عند منكبها، لأن الوقوف في أعالي المرأة أمثل وأسلم، وروي عن ابن مسعود في الرجل ما قال مالك، وهذا غلط لما روى سمرة بن جندب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "صلى على امرأة ماتت في نفاسها فقام وسطها"، وروى أبو غالب عن نافع قال: "صليت خلف أنس بن مالك رضي الله عنه على جنازة عبد الله بن عمير، فقام عند رأسه فكبر أربع تكبيرات ثم [336 ب/3] صلى على امرأة فقام عند عجيزتها فقيل له: هكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي على الجنازة كصلاتك يكبر عليها أربعاً ويقوم عند رأس الرجل وعجيزة المرأة؟ قال: نعم". وهذا خبر صحيح أورده أبو داود وغيره. ولأن المرأة تخالف الرجل في موضعها مع الإمام في الصلاة فجاز أن يختلفا هاهنا.

فَرْعٌ آخرُ يجوز أن يصلي على الميت بالنية، سواء كان الميت في جهة القبلة أو غيرها، فلو صلى أهل العراق على ميت بمكة، أو صلوا على ميت بخراسان جاز، ويكون الاعتماد على النية وصفة الصلاة كأن الجنازة موضوعة بين يديه. وقال الساجي: سمعت الربيع يقول: مات رجل بالصعيد، فخرج بنا أبو يعقوب البويطي وصلينا عليه فعاب علينا أصحاب مالك فقلنا: السنة معنا. ولا فرق بين أن تكون المسافة قريبة أو بعيدة، تقصر فيها الصلاة أم لا، وقال مالك وأبو جنيفة: لا يجوز ذلك بحال وهذا غلط، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نعى للناس النجاشي اليوم الذي مات فيه، وخرج بهم إلى المصلى فصف بهم وكبر أربع تكبيرات"، فإن قيل: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مخصوصاً به، فإنه كان في حكم المشاهدة للنجاشي [337 أ/3] وقد روي أنه قد سويت له أعلام الأرض حتى أبصر مكانه، قلنا: هذا تأويل باطل، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا فعل شيئاً من أفعال الشريعة فإنه يلزمنا متابعة والاقتداء به والتخصيص لا يعلم إلا بدليل، وكيف يقال هذا وقد خرج بالناس إلى المصلى فصف بهم وصلوا معه وهم لم يشاهدوه بحال، فإن قيل: النجاشي كان رجلًا مسلماً آمن بنبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أنه كان يكتم إيمانه، والمسلم إذا مات وجب على المسلمين أن يصلوا عليه، وكان هو بين ظهراني الكفار ولم يكن بحضرته من يقوم بحقه في الصلاة عليه، فلزم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يصلي عليه إذ هو نبيه ووليه وأحق الناس به، قلنا: أبو جنيفة لا يقول بهذا؛ لأنه قال: لو غرق واحد في البحر لا يصلى عليه أصلًا، ولأن النجاشي كان ملك الحبشة ويستحيل أن يسلم هو ولا يوافقه أحد على دينه يصلى عليه إذا مات، وذهب أبو سليمان الخطابي رحمه الله إلى هذا التأويل وقال: إذا مات الآن مسلم ببلد، فإن علم أنه لم يصل عليه لعائق، فالسنة أن يصلى عليه ولا يترك ذلك لبعد المسافة، وإن علم أنه قد صلى عليه لم يصل عليه من كان غائبا عنه وهذا عندي حسن [337 ب/3]. فرع لو كان الميت في طرف البلد لم تجز الصلاة عليه حتى يحضره، وكذلمك إن كان في أحد جانبي البلد لم تجز حتى يحضره، لأنه يمكنه الحضور من غير مشقة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان، وهما كالقولين في حواز تقديم المأموم على الإمام قالوا: وهكذا لو كانت الجنازة موضوعة فصلى أمامها وهي خلفه، هل يجوز؟ وجهان، وهذا غير مشهور. فَرْعٌ آخرُ لو صلى على أموات غائبين عن بلده وكان أقرباؤه غابوا عن البلد وماتوا ولا يعرف عددهم، فصلى عليهم دفعة واحدة جاز؛ لأنهم صاروا كالمتعينين بسمة القرابة، وهكذا لو

باب التكبير على الجنازة

صلى على الأموات الذين ماتوا في يومه وغسلوا في بلده كذا دفعة واحدة ولا نعرف عددهم جاز أيضاً، لأنهم صاروا كالمعنيين بالإضافة إلى ذلك البلد، ذكره والدي رحمه الله. فَرْعٌ آخرُ هل تصج الصلاة على الجنازة في حال حملها قبل أن توضع؟ فيه وجهان، ولو افتتح وهي موضوعة بين يديه فرجعت هل تبطل صلاته؟ وجهان: أحدهما: لا تبطل لأن حكم الاستدامة أضعف، والثاني: تبطل لأنه لا يجوز الافتتاح في هذه الحالة. باب التكبير على الجنازة مسألة: قال: [338 أ/3] أخبرنا إبراهيم بن محمد .... الخبر. وهذا كما قال. الكلام الآن في صفة صلاة الجنازة، ولا تجوز إلا بطهارة والقيام فيها شرط عند القدرة. قال في "الأم": لو صلوا جلوساً من غير عذر أو ركباناً أعادوا. وذكر بعض أصحابنا أن القيام جوازها قاعداً، ولكن لم يجوزوها. وحكي عن أبي حنيفة أنه لا يلزم القياس فيها ويكبر تكبيرة الإحرام يرفع بها يديه حذو منكبيه، وجملة تكبيراتها أربع تكبيرات لا يزاد عليها ولا ينقص، وكل تكبيرة هي ركن منها، ولهذا قال عمر وابن عمر والحسن بن علي ومحمد ابن الحنفية ويزيد بن ثابت وجابر وأبو هريرة والبراء بن عازب وعقبة بن عامر وعطاء وجماعة الفقهاء. وقال محمد بن سيرين وأبو الشعثاء وجابر بن زيد: يكبر ثلاثا وروي ذلك عن ابن عباس وأنس رضي الله عنهما ذكره في "الحاوي"، وقال حذيفة بن اليمان وزيد بن أرقم وابن أبي ليلى يكبر: خمساً وبه قالت الشيعة، وقال ابن مسعود رصي الله عنه يكبر ما شاء من غير حصر وقال: "كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجنائز تسعاً وخمساً وسبعاً وأربعاً" فكبر وما كبر الإمام، وقال إسحاق: يكبر ما يكبر الإمام ولا يزيد على سبع وقد روي [338 ب/3] عن علي رضي الله عنه أنه كبر على أبي قتادة سبعاً وكان بدرياً، وكبر على سهيل بن حنيف ستاً وكان بدرياً، وروى عنه عبد خبر أنه كان يكبر على أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - غير أهل بدر خمساً وعلى سائر الناس أربعاً، وقال ابن سريج: هذا هو من الاختلاف المباح وليس بعضه أولى من بعض وهذا قريب من قول ابن مسعود، قال: وقد روى الكل عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال إبراهيم النخعي: اختلفت الصحابة فيه فجمع عمر رضي الله عنه الصحابة فاستشارهم فأجمعوا على أن يكبروا أربعاً، فانعقد الإجماع وزال به ما تقدم من الخلاف، والدليل على ما قلناه ما رواه الشافعي عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر أربعاً وقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى، وأيضاً خبر النجاشي وعثمان بن مظعون وخبر المسكينة التي دفنت ليلًا، وخبر أنس أنه صلى على عبد الله بن عمير بالبصرة.

وروى أبي بن كعب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الملائكة صلت على آدم - صلى الله عليه وسلم - وكبرت أربعاً وقالت: هذه سنتكم يا بني آدم". وقال أنس رضي الله عنه: صلت الملائكة على آدم وكبرت أربعاً وقالت ما ذكرنا، وكبر الحسن [339 أ/3] بن علي على علي رضي الله عنه أربعاً وقال ابن عباس وابن أبي أوفى رضي الله عنه: آخر ما صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبر أربعاً، وروي عن إبراهيم النخعي قال: صليت مع ابن أبي أوفى على ابنته فكبر أربعاً، ثم قام حتى ظننا أنه يكبر الخامسة، ثم انصرف فقال: أظننتم أني أكبر الخامسة، لا ولكن هكذا رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صنع، وروى ابن عمر قال: آخر ما كبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الجنائز أربعاً وكبر أبو بكر على فاطمة أربعاً، وكبر الحسن بن علي على علي أربعاً، وكبر الحسين على الحسن أربعاً، وكبر عبد الله بن عمر على أبيه أربعاً، وكبرت الملائكة على آدم أربعاً وكبر ابن الحنفية على ابن عباس بالطائف أربعاً. وروى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كفن أحدكم أخاه فليحسن كفنه وصلوا على موتاكم أربعاً"، واحتجوا بما روي عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان زيد بن أرقم يصلي على جنائزنا فيكبر أربعاً، فكبر يوماً خمساً، فسألناه عن ذلك فقال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كبر خمساً. قلنا: ما رويناه هو أولى لكثرة روايتها وصحة أسانيدها وأنها متأخرة أو ما ذكرنا يدل [339 ب/3] على أن ما رووا صار منسوخاً. فرع لو كبر الإمام خمساً لا نتابعه في الزيادة، لأنها ليست بمسنونة للإمام، وقال أحمد: يتابعه إلى سبع وهذا غلط، لأنه وافقنا أنها لا تسن للإمام فصار كما لو قنت الإمام في الركعة الأولى فإنه لا يقنت معه. فإذا تقرر هذا، هل يسلم أو ينتظر سلامه؟ وجهان: أحدهما: يسلم لأنه اشتغل بما ليس من صلاته. والثاني: أنه ينتظر فراغه ليسلم معه حتى يكون خروجه بخروجه وهو الأشهر، وليس كما لو قام إلى الخامسة لا ينتظر تسليمه، لأن في الأفعال لا يمكن إلا متابعته بخلاف الذكر الزائد، ومن أصحابنا بطبرستان من قال: تبطل صلاة الإمام بالتكبيرة الخامسة، لأن كل تكبيرة هي بمنزلة ركعة من الركعات، ولو زاد ركعة تبطل الصلاة ولو كان ناسياً لا يسجد للسهو، لأنه لا سجود فيه ورأيته عن جماعة من أصحابنا. مسألة: قال: ويرفع يديِه حذو منكبيهِ. وهذا كما قال. المستحب أن يرفع يديه في كل تكبيرة منها، وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله عنه، وقال أبو حنيفة ومالك والثوري: لا يرفع يديه إلا في التكبيرة الأولى، وروي عن عمر رضي الله عنه كان يرفع يديه على الجنازة في كل تكبيرة"،

وروي مثله عن [340 أ/3] الحسن بن علي وأنس رضي الله عنهما، وقال زيد بن ثابت: وقد رأى رجلًا فعل ذلك فقال: أصابه السنة، والسنة أن يقبض بيمينه على شماله، وقال ابن المبارك: لا يقبض بيمينه على شماله فيها. وهذا غلط لما روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "كبر على جنازة زرفع يديه في أول تكبيرة ووضع اليمنى على اليسرى". أورده أبو عيسى الترمذي - رحمه الله - وينوي الصلاة على الميت مع التكبير لا قبله ولا بعده، وهل يلزم نية الفرض؟ فيه وجهان كما قلنا في سائر الصلوات والأصح وجوبها، وذكر بعض أصحابنا أنه ينوي الفرض مطلقاً ولا ينوي الفرض على الكفاية، وبه أفتى، ولا يحتمل غيره لأنه إذا اختار أداءها كانت فرضاً في حقه، وإن كانت فرضاً على الكفاية في الجملة. مسألة: قال: ثم يقرأ بفاتحة الكتاب. وهذا كما قال. ظاهر ما قال هاهنا: إنه يبتدئ بعد التكبيرة بقراءة الفاتحة يبتديها ببسم الله الرحمن الرحيم، ولا يأتي بالتعوذ ودعاء الاستفتاح، وبه قال أكثر أصحابنا؛ لأن مبنى هذه الصلاة على الحذف والاختصار، فلا يحتمل التطويل والإكثار. ومن أصحابنا من قال: يستحب كلاهما ذكره القفال وهو اختيار القاضي الطبري، لأن الذكر المستحب في غير [340 ب/3] صلاة الجنازة إذا وجد محله كالتأمين، ومن قال بالأول أجاب عن هذا، فإن التأمين لا يطول الصلاة بخلاف هذا. وحكى عن القاضي الطبري أنه قال: عندي لا يأتي بدعاء الاستفتاح، ولكنه يأتي بالتعوذ؛ لأن التعوذ هو من سنة القراءة كالتأمين بخلاف دعاء الاستفتاح فهو مالسورة لا يستحب، فإن أتى بهما جاز وهذا حسن عندي. وقال صاحب "الحاوي": يتعوذ عندنا وفي دعاء الاستفتاح، وجهان، ولا يجوز الإخلال بالفاتحة لأنها ركن فيها، وقد قال الشافعي في "الأم": وأحب إذا كبر على الجنازة أن يقرأ بأم القرآن بعد التكبيرة الأولى وهكذا نقل المزني في "الجامع الكبير"، وهذا يدل على الاستحباب إلا أن أصحابنا أجمعوا على وجوبها بتأويل قوله: إنه يستحب أن يقرأ بعد التكبيرة الأولى فإن أخرها إلى التكبيرة الثانية جاز. فرجع الاستحباب إلى موضعها، وروي ذلم عن ابن الزبير وابن مسعود وابن عباس والحسن رضي الله عنهم، وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: لا تجب فيها القراءة ولا يسن فيها قراءة القرآن، وقال أبو حنيفة: لو قرأ القرآن كان دعاء، ويوريه عن ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما وقال مالك: يكره [341 أ/3] فيها قراءة القرآن. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قرأ فيها بفاتحة الكتاب وجهر بها وقال:

"إنما جعلت ذلك لتعلموا أنها سنة" يعني إنما جهرت بقراءة الفاتحة ليعلموا أن القراءة هي طريقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشريعته، ولم يرد به أنها غير واجبة؛ ولأن الجهر بها سنة والمستحب أن لا يجهر بقراءتها ليلًا ونهاراً، لأن القراءة إذا كانت مقصورة على الفاتحة لا يجهر كما في الركعتين الأخريين ظاهر النص، قال: ويخفي القراءة والدعاء، وقال الداركي: إن كان بالليل جهر فيها وغن كان بالنهار أسر فيها؛ لأنها صلاة تفعل ليلًا ونهاراً فيجهر فيها إذا كان ليلًا، قال أبو حامد: لا يجئ على المذهب غير هذا، وهذا لا يصح؛ لأن صلاة الليل التي يجهر فيها هي صلاة راتبة في وقت من الليل، ولها نظير راتب في وقت النهار وسن في نظيرها الإسرار فسن فيها الجهر، وصلاو الجنازة صلاة واحدة ليس لها وقت يختص به من ليل أو نهار، ولهذا إنه يسر بالدعاء فيها بلا خلاف، وهذا اختيار القاضي الطبري. مسألة: قال: ثم يكبر الثانية [341 ب/3] ويحمد الله ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويدعو للمؤمنينَ والمؤمناتِ. وهذا كما قال في "الأم": إذا كبر الثانية صلى على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات. وقال في "الجامع الكبير": ويدعو جملة للمؤمنين والمؤمنات ولم يذكر الاستغفار ونقل المزني أنه يحمد الله تعالى ويصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - ويستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات يذكر ثلاثة أشياء، قال أصحابنا: أما التحميد فلم يحكه عن الشافعي ولم يذكره في المختصر الكبير، وقيل: رواها سماعاً من لفظه فلا خلاف أن التحميد في التكبيرة الثانية لا يجب، وهل يستحب؟ وجهان: أحدهما: يستحب فيقول: الحمد لله والصلاة على محمد وآله، والثاني: لا يستحب، وقال يعقوب الأبيوردي: لم يذكره الشافعي، ولكن لو أتى بما ذكره المزني كان حسناً، فيقول نحو ما ذكرنا. وأما الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - فواجبة لأن كل صلاة كان من شرطها القراءة فمن شرطها الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كسائر الصلوات، ولأنه روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا صلاة لمن لم يصل على نبيه" [342 أ/3]- صلى الله عليه وسلم -، وأما الدعاء للمؤمنين والمؤمنات فيها فلا خلاف أنه لا يجب بل هو استحباب فيقول: اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسليمن والمسلمات الأحياء منهم والأموات، تابع بيننا وبينهم في الخيرات، وألف بين فلوينا وقلوبهم على الخيرات، واجعل في قلوبهم الإيمان والحكمة، وثبتهم على ملة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - إمك مجيب الدعوات. وإنما اخترنا الدعاء للمؤمنين والمؤمنات عقيب الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليكون أسرع للإجابة قال النبي - صلى الله عليه وسلم -:"إذا سأل أحدكم ربه تعالى في حاجة فليبدأ بالصلاة عليّ، فإن الكريم إذا سئل حاجتين لم تجب إحداهما ويترك

الأخرى" ثم يكبر الثالثة ويدعو للميت وحده لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا صليتم على الميت فأخلصوا الدعاء له: وكان القصد منه الدعاء للميت فيجب ذلك. وقال في: الأم": يخلص الدعاء وليس في الدعاء ش ئ مؤقت ولا دعاء معين وأحب أن يقول: اللهم إن هذا عبدك وابن عبدك. وروي وابن عبديك وروي وابن عبدك وأمتك خرج من روح الدنيا وسعتها ومحبوبها وأحبابه فيها [342 ب/3] إلى ظلمة القبر وما هو لاقيه، كان يشهد أن لا إله إلا أنت وأن محمداً عبدك ورسولمك، وأنت أعلم به. اللهم نزل بك وأنت خير منزول به، وأصبح فقيراً إلى رحمتك وأنت غني عن عذابه، وقد جئناك راغبين إليك شفعاء له. اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه وإن كان مسيئاً فتجاوز عنه والقه برحمتك إلا من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك برحمتك يا أرحم الراحمين، رواه أبو قتادة. وروى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على جنازة فقال: "اللهم اعفر لحينا وميتنا صغيرنا وكبيرنا ذكرنا وأنثانا، وشاهدنا وغائبنا، اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته منا فتوفه على الإيمان، اللهم لا تحرمنا أجره" وقيل: "لا تفتنا بعده"، وذكر ابن أبي احمد هذا وزاد: اللهم اغفر لأولنا وآخرنا وحينا. إلى آخره وعلى هذا أكثر أهل خراسان. وروي عن عوف بن مالك قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على جنازة فحفظت من دعائه وهو يقول: "اللهم اعفر له وارحمه وعافه واعف عنه وأكرم [343 أ/3] نزله، ووسع مدخله واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره وأهلًا خيراً من أهله وزوجاً خيراً من زوجه وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر ومن عذاب النار" قال: حتى تمنيت أن أكون أنا ذلك الميت. وروى: وقه فتنة القبر وعذاب النار. ولو كان الميت طفلًا دعا لوالديه فيقول: "اللهم اجعله لهما فرطاً وسلفاً وذخراً، وعظة واعتباراً وشفقة لهما وثفل به موازينهما وأفرغ الصبر على قلوبهما ولا تفتنهما بعده ولا تحرمهما أجره" وإنما اخترنا هذا الدعاء لأنه مأثور عن السلف، وإن كان الميت امرأة قال: هذه أمتك وابنة عبدك وأمتك بالتأنيث، ثم يكبر الرابعة ويسلم عن يمينه وشماله، ولم يذكر

الدعاء بعد التكبيرة الرابعة في "الأم". وقال في "البويطي": يقول: اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده وقيل: ولا تفتنا بعده واغفر لنا وله ثم يسلم، وروى أبو هريرة أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقول نحو ذلك بعد التكبيرة الرابعة، وقال في "الحاوي" قال في "البويطي": إذا كبر الرابعة يقول: اللهم اغفر لحينا وميتنا (343 ب/ 3) وشاهدنا وغائبنا. قال أصحابنا: ليس هذا باختلاف القول بل هو بالخيار إن شاء سلم عقيب الرابعة، وإن شاء ذكر هذا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: يستحب أن يقول هذا، وهذا أحسن عندي ولكن عمل مشايخنا على الأول. وحكى ابن أبي هريرة أن المتقدمين كانوا يقولون في الرابعة: ربنا آتنا في الدنيا جسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، وليس هذا عن الشافعي فإن نقل كان حسنا. وأنا السلام فقال في "الأم": يسلن تسليمة يسمع من يليه، وإن شاء يسلم تسليمتين وقال في "الجامع الكبير": يسلم تسليمتين، وهكذا قال في البويطي وقال في "القديم": إنه إن كان إماما والناس كثيرون يسلم تسليمتين، فإن قل الناس أو كان منفردا أو مأموما كفاه تسليمة وتحدة يبدأ بيمينه ويختم بشماله، فمن أصحابنا من قال: فيه قولان، ومنهم من قال قول واحد يسلم تسليمتين استحبابا ويجب تسليمة واحدة. وروى عبد الله بن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - " كان يسلم في صلاة الجنازة مثل التسليم في سائر الصلوات". والذي يدل على وجوب السلام أنها صلاة يجب لها [344 أ/3] الإحرام فيجب الخروج منها بالسلام كسائر الصلوات. ومن أصحابنا من قال: المستحب هاهنا تسليمة واحدة قولا واحدا؛ لأنها بنيت على الاختصار، وقال أحمد: يحرج بتسليمة واحدة عن يمينه وأقل ما يجزي عن عمل هذه الصلاة أنه يكبر مع النية ويقرأ الفاتحة، ثم يكبر فيقول: اللهم صل على محمد، ثم يكبر ويدعو للميت بمايقع عليه الاسم، وهو أن يقول: اللهم ارحمه، ثم يكبر الرابعة ويسلم تسليمة واحدة فيقول: السلام عليكم، وعند أبي حنيفة لا تجب الصلاة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا الدعاء للميت. وأما قراءة السورة فالمذهب المشهور أنها لا تستحب، ومن أصحابنا من قال: يستحب قراءة سورة قصيرة، وروي ذلك عن المسنون وابن عباس رضي الله عنهما. ذكره القاضي الطبري قال الشافعي: ويجهر بالتسليم وأراد إذا كان إماما ليقتدي به من خلفه كما يجهر بالتكبيرات. مسألة: قال: ومن فاتته بعض الصلاة مع الإمام افتتح ولم ينتظر تكبير الإمام، ثم يقضي مكانه. وهذا كما قال. إذا أدرك المأموم الإمام في أثناء الصلاة كبر ودخل معه فيها ولا

ينتظر تكبيرة الإمام ليدخل معه فيها مكبرا، وبه [344 ب/3] قال أبو يوسف، وقال أبو حنيفة ومحمد: إنه ينتظر تكبيره حتى يكبر معه، وعن مالك روايتان، واحتج بأن التكبيرات تجري مجرى الركعات، بدليل أنه يقضيها بعد فراغ الإمام، فإذا فاتته ركعة مع الإمام، وهذا غلط، لأنه أدرك الإمام في أثناء صلاته، فوجب أن يدخل معه فيها في الحال كما في سائر الصلوات، وأما ما قالوا: لا يصح لأنه لو كان يجري مجرى الركعات لكان إذا حضر وكبر الإمام قبل أن يكبر المأموم لا يكبر حتى يكبر أخرى، كما لو حضر ولم يدخل مع الإمام حتى صلى ركعة، فإنه لا يشتغل بقضائها، فإن كبر هو ثم كبر الإمام التكبيرة الثانية في الحال. قال بعض أصحابنا: تبعه وسقطت القراءة عنه، وإن أدرك بعض القراءة قرأ ذلك القدر وسقط الباقي إذ كبر الإمام ثانيا والأول أصح، وقال بعض أصحابنا: على هذا، هل يأتي بالقراءة بعد التكبيرة الثانية؟ يحتمل أن يقال: يأتي بالقراءة بعد الثانية، لأن بعد التكبيرة الثانية محل القراءة؛ لأنه لو أدركه في التكبيرة الثانية قرأ المأموم، ويخالف هذا إذا ركع الإمام قبل إتمام المأموم قراءة [345 أ/3] الفاتح لا يقرأ الباقي، لأن الركوع ليس بمحل القراءة أصلا ويحتمل أن يقال: لا يأتي بها لأنه لما أدرك قراءة الإمام صار محل القراءة ما قبل التكبيرة الثانية في حقه فلا يأتي بها بعد الثانية، ولو أدركه وقد كبر التكبيرة الثانية فإنه يكبر في ال حال ويكون ذلك تكبيرة الافتتاح ويشتغل بالفاتحة، وإن كان الإمام يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم - وهكذا إن أدركه في الثالثة يكبر ويقرأ، وإن كان الإمام يدعو لأن ما أدركه يكون أول صلاته عندنا فيأتي بالتكبيرات على الترتيب، ولو أدركه في الرابعة كبر معه، فإذا سلم أتى بهن متواليات، لأن الجنازة ترفع قبل أن يفرغ من الصلاة فلا فائدة لدعائه بعد غيبة الميت. وقال في البويطي: يقضي ما فاته من التكبيرات تسعا متتابعات، ثم يسلم ثم قال: فقد قيل: يدعو بينهما للميت. وحكى القاضي أبو علي الزجاجي الطبري أن الشافعي قال في "كتاب الجنائز": إذا سلم الإمام قضى من خلفه من صلاته، وإن زال الخسوف وانقطع المطر يعني عند الجمع في المطر فالظاهر أن المسألة على [345 ب/3] قولين، ولا فرق بين أن ترفع الجنازة أو لا ترفع، غابت عنه أو لم تغب، وتكون، نيته تمام الصلاة عليه وهذا بخلاف ما لو صلى والجنازى خلفه لا تجوز على أجد الوجهين؛ لأن هذا هو إتمام الصلاة الصحيحة وحكم الإتمام أخف فيجوز، وإن رفعت الجنازة قولا واحدا، وقال أبو جنيفة: يقضي كما فاته إلا أن ترفع الجنازة تبطل الصلاة. فرع قال في "الأم": ولو أحدث الإمام انصرف وكبر من خلفه ما بقى فرادى. قال: ولو كان موضع وضوءه قريبا فانتظروه فجاء وبنى على التكبير رجوت أن لا يكون به بأس. قال الربيع: مذهب الشافعي الذي مات عليه أنه إذا أحدث لا يبني عليه، وأراد بالحدث هاهنا

أن يكون مسبوقا به، وفيه قولان مشهوران، والصحيح أنه رجع عن البناء. مسألة: قال: ومَنْ لَمْ يدركْ صلى على القبرِ. وهذا كما قال: يستحب أن تكون الصلاة على الجنازة دفعة واحدة، فإن كررت الصلاى عليها جاز، نص عليه في اجتماع الجنائز وقال في "الأم": ولا بأس أن يصلي على القبر بعدما يدفن بل يستحب، روي ذلك عن علي بن أبي طالب وعمر وأبي موسى الأشعري [346 أ /3] وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وابن سيرين، وقال النخعي ومالك وأبو حنيفة: لا يصلي على القبر ولا يصلي على الجنازة مرتين. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: يصلي على القبر ولي الميت إذا كان غائبا وقت الدفن، قال محمد: إلى ثلاثة أيام، وقال أبو يوسف: إلى أيام وأطلق، واحتج بأنه لو جازت الصلاة على القبر لجازت على قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا غلط لما روينا من خبر المسكينة التي توفيت ليلًا، وصلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على قبرها. وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم المدينة، وقد مات البراء بن معرور وقد وصلا له فقبل الوصية"، وصلى على قبر رجل كان يقم المسجد ودفن ليلًا". وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا وجد الميت قد دفن فليصل وحده وليقم عند رأس القبر"، فإن قيل: لأن صلاة الجنازة لم تكن تسقط فرضها إلا بصلاته ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يصلي على ميت ما دمت بين أظهركم أحد غيري، فإن صلاتي عليه رحمة". قلنا: لم [346 ب/3] تكن الصلاة على الجنازة متعينة عليه، وإنما كان يقصد الفضيلة بها، ولهذا أنه لم يصل على جنائز كثيرة، وقال في الرجل الميت المديون: "صلوا على صاحبكم"، وقال القوم في المسكينة: كرهنا أنو نوقظك. ولم يقل لهم: الصلاة عليها من دوني لا تجوز، وأما قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال أكثر أصحابنا: لا خلاف على المذهب أنه لا يجوز والنبي - صلى الله عليه وسلم - مخصوص بذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تتخذوا قبري مسجدا كما جعلت اليهود قبور أنبيائهم مساجد". وروي "وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث ما كنتم". ومن أصحابنا من قال: هذا مبني على الأقوال إلى متى تجوز الصلاة على القبر، ومن أصحابنا من قال: تجوز الصلاة عليه إلى شهر ذكره ابن أبي أحمد، ولعله أخذ ذلك من صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علي النجاشي وكان بينهما مسافة شهر، وهذا غلط لأنه - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر البراء بن معرور بعد شهر". ولم ينقل أكثر من ذلك. وروي، أنه صلى على أم سعد [347 أ/3] ابن عبادة بعدما دفنت بشهر. وروى أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على قبر بعد شهرين. وروى ابن عباس بعد شهر، ومن أصحابنا من قال: يجوز حتى يعلم أنه بلي في قبره فلا يجوز جينئذ لأنه ذهبت حرمته، وهذا أصح عندي، ومن أصحابنا من قال: يجوز أبدًا؛ لأن القصد الدعاء حتى يجوز اليوم أن يصلي على قبر آدم عليه السلام وعلى قبر جميع

الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. ومن أصحابنا من قال: هو الأظهر، واختيار الشيخ أبي زيد المروزي: يصلي عليه من كان من أهل فرض الصلاة عليه يوم مات، فأما من ولد بعده أو كان صبيا فبلغ بعده فلا يصلي عليه؛ لأنه يكون متبوعا، ولا يجوز أن يتطوع لصلاة الجنازة وإذا كان يوم موته من أهل الفرض كان من جملة من يؤدي الفرض؛ لأن المؤدي الفرض على الكفاية وإن كثر ويوصف كلهم بأنهم يؤدون الفرض، وإن كان الفرض يسقط بدونهم. ومن أصحابنا من لم يقيد بالفرض هاهنا، وقال في الصبي: إذا بلغ: تجوز الصلاة عليه ذكره أهل العراق، وهو اختيار القاضي الطبري، ومن أصحابنا من قال: تجوز إلى ثلاثة أيام ذكره والدي رحمه الله، وعندي أن هذا أخذه مما قال أبو حنيفة: إنه إن دفن [347 ب/3] قبل الصلاة عليه صلى على قبره إلى ثلاثة أيام فقط. فحصل من الحمالة ستى أوجه عند القائل فإن، قلنا بالأول: كانت تجوز الصلاة على قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى شهر وقد مضى، وإن قلنا: بالثاني فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يبلى ولكنه قال: لا أترك في قبري. فلا تجوز الصلاة على قبره، وإن قلت بالثالث ففيه وجهان: أحدهما: لا تجوز الصلاة على قبره لما ذكرنا. والثاني: تجوز ولكن يصلون أفرادًا كما صلت الصحابة أفرادًا. فرع لو ترك الصلاة على الميت ودفن، فإنه لا ينبش بل يصلي على القبر، ولو دفن من غير غسيل أو لغير القبلة قال في "الأم": لا بأس عندي أن يحاط عنه التراب ويحول وجهه إلى القبلة، وأن يخرج فيغسل ويصلى عليه ما لم يتغير، قال أصحابنا: الغسل فرض فإذا ترط مبش وغسل، وقال أبو حنيفة: إذا أهيل عليه التراب لا ينبش؛ لأن النبش مثلة، وقد نهى عن المثلة وهذا غلط؛ لأن الميت إذا كان بحاله لا يكون النبش مثلة، وأما التوجيه إلى القبلة فهو سنة مؤكدة، فالأولى أن ينبش ويرد إلى السنة إلا أن يكون قد [348 أ/3] تغير فلا ينبش؛ لأن القصد الستر وقد حصل الستر بالتراب ونبشه هتك لستره. والثاني: ينبش لأن التكفين فرض كالغسل. فَرْعٌ آخرُ إذا وقع في القبر ش ئ له قيمة كان لصاحبه أن يكشفه عنه حتى يأخذ ما سقط فيه. وروي أن المغيرة بن شعبة طرح خاتمه في قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال: خاتمي ففتح موضعًا منه، وأخذ خاتمه وكان يقول: أنا أقربكم عهدا برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولأنه يمكن إيصال المال إلى صاحبه فوجب إيصاله إليه. فَرْعٌ آخرُ لو بلع جوهرة لغيره، ثم مات فإنه تشق بطنه وترد إلى صاحبها إلا أن تضمن ورثته مثلها أي قيمتها فلا يخرج، ذكره أصحابنا من غير خلاف، والمثل يكون للدنانير ونحوها وينطلق عليها اسم الجوهر، ولو بلع جوهرة لنفسه ومات هل تخرج منه

وجهان: أحدهما: للورثة إخراجها لأنها صارت ملكهم بموته. والثاني: ليس لهم ذلك، لأنها ماله استهلكه في حياته فهو كما لو اشترى به الشهوات وأكلها، وهذا هو اختيار القاضي الطبري، وقال القاضي الطبري: الأول بمذهب الشافعي أن لا يشق جوفه في المسألة قبلها [348 ب/3] ويضمن له قيمتها من تركته، كما في الخيط إذا خاط به الغاصب وأخرجه لا ينزع، وعلى هذا قلت: إذا بلى الميت في القبر ونفقت الجوهرة فيما بين التراب ترد إلى صاحبها وتسترجع القيمة، ومن قال بالأول أجاب وقال: ليس هي كالخيط، لأنه يجوز له ابتداء غصبه بحال ليخبط خرجه لقلة خطره وعظم حرمة الآدمي، ولا يجوز ابتلاع جوهرة الغير بجال وهي الآن ملك الغير مقدور على ردها من غير إيلام حيوان فيلزم الرد عند الإمكان. فَرْعٌ آخرُ لو ماتت امرأة وفي بطنها جنين متحرك، قال ابن سريج: يشق بطنها ويخرج الجنين، لأن مراعاة الحي أولى، لهذا يجوز للحي أن يأكل الآدمي الميت عند الضرورة، ومن أصحابنا من قال: هذا إذا قالت القوابل الثقات: أن مثله يعيش متى أخرجنا فيخرج، وإن كان لا يعيش مثله تركناه فمن أصحابنا من قال فيه وجهان: أحدهما: يشق وبه قال أبو حنيفة، والثاني: لا يشق لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كسر عظام الميت ككسر عظام الحي". وهذت الولد لا يعيش في العادة. ومن أصحابنا من قال: وهو الصحيح مراد ابن سريج [349 أ/3] مراد هذا القائل أيضًا والذي له ستة أشهر، فإنه لا يخرج بحال. وذكر شيخنا الإمام ناصر رحمه الله وجهًا في رؤوس المسائل أنه لا يشق أصلًا؛ لأنه لا يتحقق وفيه هتك حرمتها وهو بعيد لم يذكره غيره. وحكي عن أحمد أنه قال: تصطلمه القوابل، فإن خرج وإلا ترك حتى يموت ثم يدفن، وهذا غلط، لأن هذا شبه القتل فلا يجوز ذلك بحال، فإذا قلنا: يشق فينبغي أن يشق إذا وضعت في اللحد فإنه أستر لها ذكره أصحابنا. وعندي أنه يشق قبله لأنه ربما يموت بضيق النفس. وحكي أن محمد بن عجلان ولدته أمه في القبر فجاء نباش فوجده فأخرجه. وقيل: إذا قلنا: لا يشق تمسح القابلة بطنها فربما يخرج، فإن لم يخرج صبر حتى يسكن. مسألة: قال: "ولا يُدخِلُ الميتَ قبرَهُ إلًّا الرجال ما كانوا موجودين". الفصل وهذا هو كما قال. وجملته أن ينوي دفن الميت وإدخاله القبر إلا الرجال ما كانوا موجودين، سواء كان الميت رجلًا أو امرأة، لأن هذا فعل يحتاج إلى البطش والقوة، والرجال أقوى على ذلك في نقله ووضعه في اللحد، ولأن المرأة عورة ولا [349 ب/3] يمكنها ذلك إلا بكشفها وجهها وذراعيها. فإذا تقرر هذا، فإن كان الميت رجلًا وله عصبات تساووا في الفقه فإن يتولى ذلك الأقرب فالأقرب على ما بينا في الصلاة عليه، فإنه لم يكن له عصبة فالأجانب، وإن كان أحدهم أفقه قدم الأفقه، لأن الوضع في اللحد وتناول الميت

إليه يحتاج إلى الفقه، ودعاء الفقيه أسرع إلى الإجابة نص عليه في "الأم"، وإن كان الميت امرأة قال في "الأم": استحب أن يكون الذي يحملها من المغتسل إلى الجنازة ومن الجنازة إلى من يحملها إلى القبر النساء، وأما إدخلها القبر فإن كان لها زوج فالزوج أحق لأنه يتعلق بمباشرتها والنظر إليها، وإن لم يكن لها زوج فعصباتها المحارم فيقدم الأب ثم الجد على الترتيب، وإن لم يكن لها خادم فخصيان الرجال أولى من الفحل، وإن كانوا أجانب فإن لم يكونوا فعصابتها الذين ليسوا بمحارم مثل ابن العم ونحوه، فإن لم يكونوا فسائر القرابات الذين ليس لهم تعصيب فإن لم يكونوا فالأجانب للضرورة. وأما النساء فلا مدخل لهن [350 أ/ 3] في ذلك ولكن إن كانت أكفانها مشدودة يجوز أن يتولى كل ذلك النساء عتد الضرورة، ومن أصحابنا من قال: عطف الشافعي قوله: وأقربهم به رحما على الزوج بحرف النسق وهذا يدل على أنه لا يقدم الزوج على ذي الرحم ولكن أيهما أدخلها قبرها حسن. وقال أبو حامد: يقدم من كان محرما لها من ذوي الأرحام كأب الأم والخال والعم من الأم على الخادم. وهذا أصح عندي، وذكر بعض أصحابنا بخراسان أن الشافعي نص على الخادم والخصيان وهو غريب. مسألة: قال: "ويسترُ عليها بثوبٍ". وهذا كما قال. هذا لا يوهم أن قبر المرأة مخصوص بالستر بثوب وليس كذلك بل الفرق في ذلك بين الرجل والمرأة، هكذا نص في "الكبير" وقال في "الأم": يستر القبر بثوب نظيف حتى يستوي على الميت لحده، وستر المرأة أوكد من ستر الرجل. وقال أبو حنيفة: إن كان رجلًا فلا يستر بخلاف المرأة، وهذا غلط لما روي أن سعد بن معاذ لما دفنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال سعد بن مالك: كنت متمسكاً بحافة ثوبه، فأصغى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أسامة بن زيد، فقلت له: ما قال لك [350 ب/3] فقال: قال: صرت قوائم العرش لموت سعد بن معاذ، وقال ابن عباس: جلل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبر سعد بن معاذ بثوب. وإنه ليعظم قدر الميت وهو كاستحباب أن يكون موضع مغتسله مستورا فالرجل والمرأة فيه سواء، والمستحب أن يكونوا وتراً إما ثلاثة أو خمسة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قال إن الله وتر يجب الوتر". وروي أن عبد الرحمن بن عوف كان رابعهم وأنه الذي نزل القبر، فإن صح هذا دل على أن الشفع جائز، هكذا ذكره أصحابنا بخراسان، وذكر مشايخ العراق أنه دفنه العباس وعلي واختلفوا في الثالث، فقيل: كان الفضل بن

باب ما يقال إذا دخل الميت قبره

العباس وقيل: كان أسامة بن زيد وهذا أظهر وأصح عندي. مسألة: قال: ويسلُّ الميتُ مِنْ قبلِ رأسهِ سلًا. وهذا كما قال. عندنا يسل الميت من قبل رأسه، وذلك أن يوضع رأس السرير عند رأس القبر، ثم يسل سلَا، لأن القبر منزله، والحي إذا دخل منزله أدخل رأسه فيه من قبل رجليه، وقال أبو حنيفة: توضع الجنازة بين القبر والقبلة [351 أ/3] ويدخل الميت القبر مغترضاً ويرون أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أدخل معترضاً من قبل القبلة وهذا من أفحش الغلط، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قبره ملصقاً بجدار القبلة حتى كان لحده تخت الجدار، فلم يكن هناك بين القبر والقبلة موضع يمكن وضع الجنازة فيه. وروينا عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سل من قبل رأسه سلًا. ولأن عليه عمل أهل الحرمين فكان أولى، لأنه يستحيل أن يجمعوا على ترك السنة الظاهرة إلا بسلطان ظالم قاهر، ولم يكن ش ئ من ذلك. باب ما يقال إذا دخل الميت قبره مسألة: قال: وإذَا أُدخِلَ الميتُ قبرَهُ. الفصل وهذا كما قال الشافعي. جمع في هذا الباب أذكاراً ودعوات يستحب أن يقولها الذين يدخلون الميت قبره، أي: يدعو كل واحد منهم بذلك، وهو أن يقول: بسم الله وعلى ملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروي بسم الله، وبالله اللهم أسلمه إليك الأشحاء- أي: المشفقون عليه من [351 ب/3] ولده وأهله وقرابته وإخوانه-، وفارق من كان يحب قربه وخرج من سعة الدنيا والحياة إلى ظلمة القبر وضيقه، ونزل بك وأنت خير منزول به، إن عاقبته فبذنبه وإن عقوت فأنت أهل العفو، أنت غني عن عذابه، وهو فقير إلى رحمتك. اللهم اشكر حسنته واغفر سيئته وأعذه من عذاب القبر، واجمع له برحمتك إلا من عذابك، واكفه كل هول دون الجنة. اللهم أخلفه في تركته في الغابرين - أي: كن خليفته فيمن تركه من الباقين من أهل قرابته - وارفعه في عليين - أي: وارفع درجته في الجنة - وجد عليه أن يفضل عليه بفضل رحمتك يا أرحم الراحمين. وهذا كله مما قد جاءت به الأخبار. وقال بعض أصحابنا: يقول: بسم الله الرحمن الرحيم وعلى ملة رسول الله إلى آخره. ولا وقت في الدعاء، وروي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي سلمة فضج ناس من أهله فقال: "لا تدعوا على أنفسكم إلا بخير، فإن الملائكة يؤمنون على ما تقولون. اللهم اغفر لأبي سلمة وارفع درجته في المهديين وأخلفه في عقبه الغابرين، واغفر له يارب العالمين اللهم افسح له في قبره ونور له فيه" [352 أ/3].

باب التعزية

باب التعزية مسألة: قال: وأحبُّ تعزيةَ أهلِ الميتِ رجاءَ الأجرِ بتعزيتهمْ. وهذا كما قال. معنى التعزية هو ترغيب المصاب في الصبر وحثه عليه، والعزاء هو الصبر، والتعزية: هي التصبر، وهي سنة لأهل المصيبة، والأصل في ذلك ما روي أنه قبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جاءت التعزية، فسمعوا صوتاً من ناحية البيت وهو يقول: السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته إن في الله عزاء من كل مصيبة، وخلفاً من كل هالك، ودركاً من كل فائت، فبالله ثقوا، وإياه فارجو، فإن المصاب من حرم الثواب، ويقال: إنه كان الخضر - صلى الله عليه وسلم - جاء يعزي زوجات الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأهل قرابته، فسمعوا صوته ولم يروا شخصه يعزي الناس بعضهم بعضاً. قال الشافعي: فأحب أن يقول: قائل هذا، ويترحم على الميت يدعو له ولمن خلفه، ثم الكلام فيها ثلاثة فصول: في وقتها وفي المعزي وفي لفظ التعزية. فأما وقتها: فإنه من حين الموت في المنزل والمسجد وطريق القبر وبعد الدفن ومتى عزى فحسن. قال: وإذا [352/ 3] شهد الجنازة أحببت أن يؤخر التعزية إلى أن يدفن الميت؛ لأن بعد الدفن يكون الجزع أعظم والحزن أشد، فهو أولى بالتعزية. قال بعض أصحابنا: التعزية ثلاث إلا أن يكون صاحب المصيبة غائباً، واتفق رجوعه بعد الثلاث، فلا بأس بالتعزية، وذكر بعض أصحابنا: أنه إذا دفن انقطعت التعزية، وأن الشافعي قال: وأكره التعزية بعد الدفن. وأراد به التعود للعزاء اليوم واليومين على ما عليه الناس اليوم، وأما عقيب الدفن فلا يكره، وليس هذا بخلاف، قال سفيان الثوري: لا يعزى بعد الدفن بحال لأن الدفن خاتمة أمره، وهذا غلط لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من عزى مصاباً فله مثل أجره". رواه ابن مسعود ولم يفصل؛ ولأن الخوف عقيب الدفن أشد فكان بالتعزية أولى، وروى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من عزى ثكلى كُسِي برداً في الجنة" وهذا خبر غريب أورده أبو عيسى. وأما من يعزي: قال: ويعزي الصغير والكبير والمرأة، إلا أن تكون شابة فلا أحب مخاطبتها، وتعزي الشابة [353 أ/3] محارمها، وينبغي أن يخص بها من الأهل من كان أضعف قلباً، وأضعفهم عن حمل المصيبة كيلا يتكلم بما يحبط أجره، ويعزي الأفاضل منهم والمنظور إليه فإنه إذا تعزى تبعه من دونه. قال في "الأم": وأحب مسح رأس اليتيم وتدهينه وإكرامه وأن لا ينهر ولا يقهر فإن الله تعالى قد أوصى به، وسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن التصافح في التعزية فقال: "هو سكن للمؤمن ومن عزى مصابا فله مثل أجره".

وأما لفظ التعزية: قال: إذا عزى مسلم مسلماً قال له: أعظم الله أجرك، وأحسن عزاءك وغفر لميتك وخلف عليك، يعني صار لك خليفة عنه. وإن عزي مسلماً بنصراني قال: أعظم الله أجرم وأحسن عزالك وأخلف عليك، وإن عزي نصرانياً بنصراني قال: أخلف الله عليك ولا نقص عددك، وينوي كثرة عدده لتكثر الجزية، وإن عزي نصرانياً بمسلم قال: غفر الله لميتك وأحسن عزاءك وأخلف عليك بالخير، أو جبر مصيبتك فخرج من هذا أربع مسائل: إحداها: أن يكون الميت والمعزي مسلمين فيدعو للمعزى بالأجر وللميت بالمغفرة. والثانية: أن يكونا كافرين فلا يجوز [353 ب/3] أن يدعو للمعزى بالأجر ولا للميت بالمغفرة؛ لأنه لا يجو زالدعاء للكافر بالمغفرة. قال الله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] الآية. والثالثة: أن يكون المعزي مسلماً والميت كافراً فيدعو له بالأجر والإخلاف عليه، ولا يدهو للميت. والرابعة: على عكس هذا، فيدعو للميت بالمغفرة وللمعزى بجبر المصيبة والإخلاف عليه. قلت: ويستحب إذا كان الميت طفلًا أن يقول عند التعزية: وجعله فرطاً لك. وروى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان له فرطان من أمتي أدخله الله بهما الجنة"، فقالت عائشة رضي الله عنها: فمن كان له فرط من أمتك؟ قال: "ومن كان له فرط يا موفقة" قالت: فمن لم يكن له فرط من أمتك قال: "فأنا فرط أمتي لم يصابوا بمثلي" وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لايموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فتمسه النار إلا تحلة القسم". مسألة: قال: وأحب لقرابة الميت وجيرانه أن يعملوا لأهل الميت في يومهم وليلتهم طعاما. الفصل وهذا كما قال. أراد أن يتخذ في [354 أ/3] الوقت الذي مات فيه ميتهم طعاماً لتبعهم فإنه سنة، وهو فعل أهل الخير، وأراد بالسنة ما روي في قصة عروة في موته، لما قتل جعفر بن أبي طالب، وبلغ النعي أهل جعفر، دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - على أهله فقال: "اصنعوا لآل جعفر طعاماً، فقد نزل بهم ما يشغلهم" يعني عن الطعام. قال: وهو من فعل الخير. وهذا لأنه من باب الجود والإفضال والإعانة على نوائب الحق، فإن أهل الميت لا يتفرغون لاتخاذ الطعام لأنفسهم في الغالب، ويعيرون لو اشتغلوا به

باب البكاء على الميت

فكان إنفاذ الطعام إليهم من باب الخير والتعاون على البر والمعروف، وأراد الشافعي بقرابة أهل الميت الأبعدين منهم، وأما إصلاح أهل الميت طعاما وجمع الناس غليه كما يفعل في جبال طبرستان فلم ينقل فيه ش ئ وهو بدعة غير مستحب. باب البكاء على الميت مسألة: قال: وأرخصُ في البكاء بلا ندبٍ. الفصل وهكذا كما قال: جملته أنه يكره البكاء بالنوح والندب والتعديد، ونشر الشعور، وخمش الوجوه وتخريق الثياب، وهذه الكراهة هي [354 ب/3] كراهة تحريم. قال الشافعي لما في النوح من تجديد الحزن ومنع الصبر وعظيم الإثم، وهذا يدل على أن قوله: وأكره النياحة هي كراهية تحريم. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أنها كم عن صوتين فاجرين صوت مزمار عند نغمة، وصوت عند حادث مصيبة"، وقالت أم عطية: أخذ علينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع البيعة أن لا ننوح، فما وفت منا امرأة إلا خمس منهن أم سليم وأم العلا، وابنة أبي سبرة، وامرأة معاذ وقالت: أيضاً لما نزل قوله تعالى: {إذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} إلى قوله: {ولا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة:12] قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا بد لي من أن أسعدهم، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا آل فلان. وروى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أربع في أمتي من أمر الجاهلية لن يدعهن الناس: النياحة والطعن في الأنساب، والعدوى أجرب بعير فأجرب مائة بعير من أجرب البعير الأول [355 أ/3] والأنواء مطرنا بنوء كذا". وروى أبو مالك الأشعري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران" وروي عن علي بن ربيعة الأسدي قال: مات رجل من الأنصار يقال له: قرظة بن كعب، فنيح عليه، فجاء المغيرة بن شعبة فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: ما بال النوح في الإسلام أما إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من نيح عليه عذب ما نيح عليه". وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس منا من شق الجيوب وضرب الخدود ودعا بدعوى الجاهلية". وقال أيضاً: "ليس منا من حلق

أو سلق" والسلق: النياحة لقوله تعالى: {سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19] ويقال: خطيب مسلق. وروى أبو سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لعن النائحة والمستمعة". وأما البكاء المجرد يجوز ويباح لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما مات ابنه إبراهيم أخذه في حجره وهو يدمع فقال: "تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون". وروى أسامة بن زيد أن بنت رسول [355 ب/3] الله - صلى الله عليه وسلم - أرسلت إليه أن ابني أو بنتي قد حضر فاشهد فأرسل يقرأ السلام. وقال: لله ما أخذ، وله ما أعطى، وكل ش ئ عنده إلى أجل مسمى، فمرها فلتصبر ولتحتسب. فعاد الرسول فقال ذلك: فأرسلت ثانياً تقسم عليه ليأتينها فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقام معه سعد بن عبادة. ومعاذ بن جبل فأتاها فوضع الصبي في حجره ونفسه تقعقع ففاضت عيناه فقال له سعد بن عبادة: نا هذا يا رسول الله؟ فقال: "هذه رحمة جعلها الله في قلوب عباده وإنما يرحم الله من عباده الرحماء". وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: شكا سعد بن عبادة شكوى له فأتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعوده مع عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود فلما دخل عليه وجده في غشيته فقال: قد مضى قالوا: لا يا رسول الله فبكى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رأي القوم بكاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكوا فقال: "ألا تسمعون أن الله لا يعذب بأدمع الغير ولا بحزن القلب ولكن يعذب بهذا - وأشار إلى لسانه - أو يرحم". قال الشافعي: ويكره المأتم [356 أ/3] وهو الذي يجتمع فيه النساء والرجال، وإن لم يكن بكاء، وإنما كرهناه، لما جاء فيه من الإثم وتكلف المؤنة وتجديد الحزن، وقال في "الأم": فإذا مات أمسكن فاستحب قطع البكاء بعد الموت. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء يعود عبد الله بن ثابت فوجده قد غلب، فصاح به فسلم لحينه، فاسترجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "غلبنا عليم يا أبا الربيع" فصاح النسوة يبكين فجعل ابن عتيك يسكتهن، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعهن فإذا وجبت فلا تبكين باكية" قالوا: وما الوجوب يا رسول الله فقال: "الموت". قال أصحابنا: والفرق بين ال حالين هو أن الذي شارف الموت إذا كان يرى علامات الموت على نفسه، ورأى فيمن حوله لا يبكون فربما ساءه ذلك، وإذا مات زال هذا المعنى، فإن علبه الدمع فذلم مما لا يملكه البشر، فلا يدخل تحت النهي، كما روي في خبر إبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهكذا تنفس الصعداء وحزن القلب. وانكسار النفس لا بد منه بل ضد ذلك قسوة في القلب. وروي

عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا أصاب أحدكم مصيبة فليقل: إنا لله وإنا إليه راجعون [356 ب/3] اللهم عندك أحتسب مصيبتي فاجرني عليها وأبدلني بها خيراً منها". والندب: قول النسوة: وافلاناه واسيداه واجبلاه ونحو هذا من تعداد فضائل الميت على وجه التأسف عليه، والنياحة: هي كلمات منظومة تشبه الشعر. وروي أن خالد بن الوليد لما أشرف على الموت ندبه بعض من حضره يقول: واكفهاه واجبلاه واسنداه، وكان يعشى عليه ويفيق فأفاق فقال: ما ندبتموني بش ئ إلا خوفت به، وقيل لي: أنت هكذا. فإذا تقرر هذا، فقد ذكر الشافعي بعد هذا ما جاء في التشديد في البكاء على الميت، وروى حديث عمر أنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه"، وقال: "حسبكم القرآن"، وهذا إشارة إلى قصة وهو أنه لما طعن عمر رضي الله عنه خرج أمعاؤه في مواضع كان يغشى عليه ويفيق، فأقبل صهيب رضي الله عنه وهو يتأوى ويندبه فيقول: واجبلاه واكهفاه واسنداه وأميراه، فأفاق عمر فسمع صوته فقال له: أتبكي علي وقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" فسمع ابن عباس فحفظه فلما توفي عمر ومضى زمان فتوفي بعض آل عمر وكان عبد الله بن [357 أ/3] عم روابن عباس رضي الله عنهما جالسين على باب حجرة عائشة ينتظران تلك الجنازة، فلما أقبلوا بالجنازة كان النساء يبكين، فقال ابن عباس لابن عمر: هلا نهيتهن فإني سمعت أباك قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه" فسمعت عائشة ذلك من وراء الستر فقالت: رحم الله عمر والله ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا وإنما قال: "إن الله يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله عليه ثم قالت حسبكم القرآن قال الله تعالى: {ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] أي: لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، ثم قال ابن عباس: عند ذلك تصديقاً لقول الله: {هُوَ أَضْحَكَ وأَبْكَى} [النجم: 43] أي ما ذنب الميت في بكاء أهله عليه. هذا شرح القصة مع أن الشافعي مال إلى ما قالت عائشة ورجح روايتها على رواية عمر. قال: ما روت عائشة أشبه بدلالة الكتاب ثم السنة، ثم فسر دلالة الكتاب بما ذكرت عائشة من قول الله تعالى {ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وزاد عليها فقال: وقال تعالى: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه: 15] وقال: {وأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى} [النجم: 39] ثم فسر دلالة السنة فقال قال النبي [357 ب/3]- صلى الله عليه وسلم - لرجل في ابنه "أما أنه لا يجني عليم ولا تجني عليه" وتمام هذا الخبر هو أن رجلين دخلا على النبي - صلى الله عليه وسلم - فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أكبرهما سناً فقال: ما هذا منك؟ فقال: هذا ابني فقال: "أما أنه لا

يجني عليك ولا تجني عليه" أي لا يؤاخذ أحدكما بذنب الآخر، فهذا هو وجه ترجيح رواية عائشة على رواية عمر رضي الله عنهما، ثم اعلم أنه لا بد من تأويل حديث عائشة أيضاً، فإن فيه بعض ما في حديث عمر وذلك أنه كما لا يجوز أن يعذب المسلم ببكاء أهله عليه لا يجوز أن يزيد في عذاب الكافر ببكاء أهله عليه؛ لأنه كما لا يظلم المسلم لا يظلم الكافر مثقال ذرة. فأول الشافعي هذا القدر تأويلًا مجملًا فقال: وما يزيد في عذاب الكافر فباستجابه أي باستحقاقه لا بذنب غيره، وهذا يحتاج إلى بيان فبيانه ما ذكره المزني فقال: بلغني أنهم كانوا يوصون بالبكاء أو بالنياحة عليهم أو بهما وهي معصية، وإذا أمر بها وعملت بعده كانت له ذنباً، فيجوز أن يزداد بذنبه [358 أ/3] عذاباً كما قال الشافعي لا بذنب غيره، ولا فرق بين أن هذه الوصية من مسلم أو كافر، وهذا موجود في أشعارهم: إذا مت فانعوني بما أنا أهله وشقي عليَّ الجَيْبَ يا أم معبد ومن أصحابنا من قال الصحيح من رواية عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الميت ليعذب وأهله يبكون عليه"، وذكر مسلم في صحيحه عن عائشة أنه ذكر لها هذا الخبر، عن ابن عمر رضي الله عنهما فقالت: "رحم الله أبا عبد الرحمن سمع شيئاً فلم يحفظه إنما مرت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جنازة يهودي، وهم يبكون عليه فقال: "إنهم يبكون وإنه ليعذب" وقالت أيضا: إنما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "إنه ليعذب بخطيئته أو بذنبه، وإن أهله ليبكون عليه الآن"، وقالت: إنما مر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على يهودية يبكي عليها فقال: "إنهم ليبكون عليها وإنها لتعذب في فبرها" ومن أصحابنا من قال معناه: أن بكاءهم عليه يكون سبباً لمؤاخذة الله هذا الكافر أو العاصي بذنب نفسه، وأنه كان في [358 ب/3] معلومه أنهم لو لم يبكوا عليه لكان لا يؤاخذه بذنبه وقيل: معناه أن الميت ليعذب عند بكاء أهله كما يقال: عتق المكاتب بالأداء - أي عند الأداء بالقول السابق - وقيل: إنهم كانوا ينوحون عليه ويعددون أفعالهم التي هي قيل .... والغارات، فأراد أنهم يعذبون بما يبكون به عليهم. ويكره مرثية الميت بذكر أيامه وفضائله وأفعاله، والأولى الاستغفار له، لما روى ابن أبي أوفى سمع نسوته يرثين ميتاً فنهاهن وقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ينهي عن المراثي". فرع يستحب زيارة القبور للرجال، لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا" وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "زوروا القبور فإنها تذكر الموت"، وروى بريدة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور

فقد أذن لمحمد في زيارة قبر أمه فزوروها فإنها تذكر الآخرة"، وقال في "الأم": لا بأس بزيارة القبور، فإنك إذا زرت القبور تستغفر للميت [359 أ/3] ويرق قلبك" وتذكر أمر الآخرة فهذا مما أحبه، وبهذا قال ابن المبارك وأحمد وإسحاق. فَرْعٌ آخرُ قال أصحابنا: يكره زيارة القبور للنساء لما روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "لعن زوارات القبور" وروى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "لعن زائرات القبور أو المتخذين عليها المساجد والسرح". قال القاضي الطبري: لا أعرف هذا للشافعي. قلت: قال في بعض أصحابنا: يحتمل أنه كره لهن ذلك لعلة صبرهن وكثرة جزعهن. وقيل: كان هذا قبل أن يرخص النبي - صلى الله عليه وسلم - في زيارة القبور فلما رخص دخل في رخصته الرجال والنساء، وهذا أصح عندي إذا أمنت الافتتان والتعدي عما فيه رضي الله تعالى. فَرْعٌ آخرُ قلت: يكره لها اتباع الجنازة والخروج إلى المقبرة مع النساء لما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قبرنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوماً ميتاً فلما فرغنا انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانصرفنا معه فلما جاؤوا بابه وقف فإذا نحن بامرأة مقبلة فعرفها فكانت فاطمة رضي [359 ب/3] الله عنها فقال لها: ما أخرجك يا فاطمة من بيتك؟ قالت: أتيت يا رسول الله أهل هذا الميت فرحمت إليهم ميتهم أو عزيتهم به، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فلعلك بلغت معهم الكدى قالت: معاذ الله وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر قال: "لو بلغت معهم الكدى" وذكر تشديداً. والكدى: هي القبور قاله ربيعة: وقيل الكدى جمع الكدية: وهي القطعة الصلبة من الأرض والقبور إنما تحفر في المواضع الصلبة لئلا تنهار. فَرْعٌ آخرُ يستحب إذا اجتاز بالمقبرة أن يسلم على أهلها فيقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. قال الشافعي: يقول: اللهم اغفر لنا ولهم يدعو بعد هذا بما يريد، وقالت عائشة: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلما كانت ليلتي منه يخرج من آخر الليل إلى البقيع يقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين وأتاكم ما توعدون غداً مؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد" وقالت أيضا للجماعة: "ألا أحدثكم عني وعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيها عندي انقلب فوضع رداءه وخلع نعليه فوضعهما عند رجليه وبسط طرف إزاره على فراشه فاضطجه فلم يلبث إلا ريثما ظن أني قد رقدت فأخذ رداءه رويداً وانتقل رويداً أو فتح الباب وخرج، ثم أجافه رويداً وجعلت درعي في رأسي واختمرت وتقنعت إزاري، ثم انطلقت على أثره حتى جاء البقيع فقام فطال القيام ثم

رفع يديه ثلاث مرات، ثم انحرف فانحرفت فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فاحتضرت فسبقته فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت فدخل فقال: ما لك يا عائشة؟ قلت: لا ش ئ فقال: لتخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأخبرته قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ قلت: نعم فلهدني في صدري لهدة أوجعتني ثم قال: "أظننت أن يحيف الله عليك ورسوله" قلت: مهما يكتمه الناس يعلمه الله. قال: نعم، قال: فإن جبريل أتاني حتى رأيته فناداني فاخفاه منك فأجبته فأخفيته منك، ولم يكن يدخل عليك، وقد وضعت ثيابك وظننت أنك قد رقدت فكرهت أن أوقظك [360 ب/3] وخشيت أن تستوحشي فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل البقيع فتستغفر لهم فقلت: كيف أقول يا رسول الله؟ قال قولي: "السلام على أهل الديار من المؤمنين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين وإنا إن شاء الله للاحقون"، وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - مر بقبور أهل المدينة فقال: "السلام عليكم يا أهل القبور يغفر الله لنا ولكم، أنتم سلفنا ونحن بالأثر" وروي في خبر آخر أنه قال: "أنتم لنا فرط وإنا بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم نسأل الله لنا ولكم العافية" وقوله: إن شاء الله بكم لاحقون ليس على معنى الاستثناء للشك والارتياب، ولكنه لتحسين الكلام كما يقول القائل: إن أحسنت إلى شكرتك إن شاء الله، وقيل: كان معه قوم يظن بهم النفاق فاستناده ينصرف إليهم، ومعناه: اللحوق بهم في الإيمان وقبل الاستثناء إنما وقع في استصحاب الإيمان إلى الموت لا في نفس الوقت. فَرْعٌ آخرُ قلت: يجوز له زيارة قبر الوالدين والأقارب وإن كانوا مشركين، لما روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي فلم [361 أ/3] يأذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي"، وروي أنه زار قبر أمه فبكى من حوله فقال: "استأذنت ربي أن أستغفر لكم فلم يأذن لي واستأذنته في أن أزور قبرها فأذن لي". فَرْعٌ آخرُ قلت: يستحب الثناء الحسن على الميت لما روى أنس بن مالك قال: مر بجنازة فأثنى عليها خيراً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "وجبت وجبت وجبت". فقال عمر رضي الله عنه: قداك أبي وأمي ما معناه؟ فقال: "من أثنيتم عليه خيرا وجبت له الجنة ومن أثنيتم عليه شرا وجبت له النار أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض، أنتم شهداء الله في الأرض"، وقال أبو الأسود الدؤلي: قدمت المدينة فجلست إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فمروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال عمر: وجبت فقلت لعمر: ما وجبت؟ قال: أقول كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما من مسلم يشهد له ثلاثة إلا

وجبت له الجنة" قلنا: واثنان قال: واثنان قال: ولم نسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الواحد، وقال: أيضا "اذكروا محاسن موتاكم وكفوا عن مساوئهم". فَرْعٌ آخرُ قلت: قال الله تعالى: {وبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ} [البقرة: 155 و 156] [361 ب/3] الآية والصبر عند الصدمة حتى يستحق ما وعد الله تعالى، وروى أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى على امرأة تبكي على صبي لها فقال: اتق الله واصبري، فقالت: وما تبالي بمصيبتي فلما ذهب قيل لها: إنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالت: فأخذها مثل الموت فأتت بابه فلم تجد على بابه بوابين، فقالت: يا رسول الله لم أعرفك، فقال: "إنما الصبر عند الصدمة الأولى" أو قال عند أول صدمة. عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قدم ثلاثة لم بيلغوا الحنث كانوا له حصنا حصيناً" قال أبو ذر: قدمت اثنين قال: واثنين قال أبي بن كعب سيد القراء قدمت واحداً قال: وواحداً، لكن إنما ذاك عند الصدمة الأولى، وروى أبو موسى الأشعري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا مات ولد العبد قال الله تعالى لملائكته: قبضتم ولد عبدي، فيقولون: نعم فيقول: قبضتم ثمرة فؤاده، فيقولون: نعم فيقول: ماذا قال عبدي فيقولون: حمدك واسترجه فيقول الله تعالى: "ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه [362 أ/3] بيت الحمد". فرع قلت: يستحب له أن يقصد جنازة الشهداء وزيارتهم إذا دفنوا أكثر مما يكون في غيرهم، وقد روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشهداء خمسة المطعون والمبطون والغريق وصاحب الهدم والشهيد في سبيل الله"، وروي أنه قال لأصحابه: "ما تعدون الشهادة؟ قال: القتل في سبيل الله، فقال: الشهادة سبع سوى القتل في سبيل الله المطعون شهيد، والغريق شهيد وصاحب ذات الجنب شهيد، والمبطون شهيد، وصاحب الحريق شهيد، والذي يموت تحت الهدم شهيد والمرأة تموت بجمع شهيدة" وهي أن تموت وفي بطنها ولد. وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتله بطنه لم يعذب في قبره".

فَرْعٌ آخرُ قلت: يكره الفرار من الطاعون لما روى أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر الطاعون فقال: "بقية رجز أو عذاب أرسل على طائفة من بني إسرائيل فإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا، وإذا وفع بأرض ولستم بها فلا تهبطوا فيها". وقال عبد الرحمن بن عوف: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[362 ب/3] يقول: "إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً" وقوله: "لا تقدموا عليه" إثبات الحذر والنهي عن التعرض للتلف، وقوله: "ولا تخرجوا فراراً منه" فيه إثبات التوكل والتسليم لأمر الله تعالى وقضائه، فأحد الأمرين تأديب وتعليم والآخر تفويض. فَرْعٌ آخرُ قلت: يستحب إذا مات في ليلة الجمعة أو يوم الجمعة أو في يوم عاشوراء أو يوم في يوم عرفة أن يتفاءل له خيراً ويرغب في حضور جنازته، لما روى عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله وحشة القبر". فَرْعٌ آخرُ قلت: يستحب إذا نزل به آيات الموت أنه لا يجزع من الموت، ولا بأس أن يجزع من الذنوب، وروى عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه"، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال ذلك، قالت عائشة: يا نبي الله كلنا نكره الموت فقال: "ليس كذلك ولكن المؤمن إذا [363 أ/3] بشر برحمة الله ورضوانه وجنته أحب لقاء الله وأحب الله لقاءه، والكافر إذ بشر بعذاب الله وسخطه كره لقاء الله وكره الله لقاءه". وقال عبد الله بن مسعود: "إذا جاء ملك الموت يقبض روح المؤمن قال: ربك يقرئك السلام، فمن كان حاله هذا ينبغي أن يستأثر الموت ويختاره، اللهم ارزقنا هذا برحمتك". فَرْعٌ آخرُ قلت: يستحب إذا أراد أن يسأل من الله تعالى حاجة أن يفعل ما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في رواية عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه: "من كانت له حاجة إلى الله تعالى أو إلى أحد من بني آدم فليتوضأ وليجسن الوضوء، ثم ليصل ركعتين، ثم ليثنين على الله تعالى وليصل على النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم ليقل: لا إله إلا الله الحليم الكريم سبحان الله رب العرش العظيم، الحمد لله رب العالمين، أسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك والعافية من كل بر، والسلامة من كل إثم، ثم لا تدع لي ذنباً إلا غفرته ولا هماً إلا فرجته، ولا حاجة هي لك

رضى إلا قضيتها يا أرحم الراحمين" قلت: ويتحرى غداة يوم السبت لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من عدا [363 ب/3] غداة يوم السبت في حاجة عمل طلبها فأنا ضامن لقضائها". فَرْعٌ آخرُ يستحب إذا أراد أن يبتدئ أن يقدم صلاة الاستخارة وهي ما روى جابر رضي الله عنه قال: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل: اللهم إني استخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني، ومعيشتي، وعاقبة أمري، فيسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني، ومعيشتي، وعافبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه واقدر لي الخير كان، ثم أرضني، ويسمي حاجته". فصل اعلم أن الخبر ورد بصلاة التسابيح وهي صلاة مرغوب فيها ويستحب أن يعتادها كل حين ولا يتغافل عنها وهكذا قال ابن المبارك وجماعة العلماء وقال ابن وهب: سألت عبد الله بن المبارك عن صلاة التسابيح فقال: يكبر ثم يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله [364 أ/3] غيرك ثم يقول خمس عشرة مرة: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ثم يتعوذ ويقرأ بسم الله الرحمن الرحيم وفاتحة الكتاب وسورة ثم يقول عشر مرات: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ثم يركع فيقولها: عشراً، ثم يرفع فيقولها: عشراً ثم يسجد فيقولها: عشراً ثم يرفع رأسه فيقولها: عشراً ثم يسجد الثانية فيقولها: عشراً، يصلي أربع ركعات على هذا فذلك خمس وسبعون تسبيحة في كل ركعة يبدأ في كل ركعة بخمس عشرة تسبيحة ثم يقرأ ثم يسبح عشراً، وقال: يبدأ في الركوع سبحان ربي العظيم وفي السجود سبحان ربي الأعلى ثلاثا اسبح التسبيحات وقيل لعبد الله بن المبارك: إن سهى فيها يسبح عشر عشراً قال لا إنما هي تسبيحة والله أعلم. تم الجزء الثاني من كتاب بحر المذهب حسب تقسيم المحقق ويتلوه في الجزء الثالث إن شاء الله تعالى كتاب الزكاة

بَحْرُ المَّذْهَبِ في فرُوع المذْهَب الشّافعي تأليف القاضي العلاّمة فخر الإسلام شيخ الشافعية الإمام أبي المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الرّوُيَاني المتوفي 502 تحقيق طارق فتحي السيد الجزء الثالث يحتوي على الكتب التالية: الزكاة- زكاة الفطر- الصيام- الاعتكاف- الحج

كتاب الزكاة

بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم كتاب الزكاة اعلم أن الزكاة الصدقة من [مال مخصوص] هو ما يخرجه من ماله, أي: المختار إلى المحتاجين تطهيرًا لماله وتنمية له, ثم قد يكون فرضًا, وقد يكون تطوعًا. والزكاة ركن من أركان الدين, والأصل فيه الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى في غير موضع: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ} (البقرة: 43) وقوله تعالى: {ويُقِيمُونَ الصَّلاةَ ويُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [التوبة: 71] , وقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وقوله: {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ ولا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 34] الآية. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "كلُّ مال لم تؤدَّ زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرًا على وجه الأرض" (¬1). فقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا جارت الولاة قحطت السماء, وإذا منعت الزكاة هلكت المواشي, وإذا ظهر الزنا ظهر الفقر والمسكنة, وإذا أخفرت الذمة أديل الكفر" (¬2). وقال صلى الله عليه وسلم: "ما خالطت الزكاة مالاً إلا أهلكته" (¬3)، وقال صلى الله عليه وسلم: "مانع الزكاة في النار" (¬4). وروي أن رجلًا قال يا رسول الله ما الإسلام؟ فقال: أن تعبد الله ورسوله ولا تشرك به شيئًا, وتقيم الصلاة المكتوبة, وتؤدي الزكاة المفروضة, وتصوم شهر رمضان". ثم أدبر الرجل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [2 أ/ 4] "ردوا علي الرجل" فلم يروا أحدًا, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هذا جبريل جاء ليعلِّم الناس دينهم" (¬5). وأما الإجماع, فلا خلاف بين المسلمين في وجوبها. واعلم بأن معنى الزكاة في اللغة: النماء والزيادة, يقال: زكاة الزرع, إذا نما وزاد. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (7230). (¬2) أخرجه الحكيم الترمذي, والبزار, وابن خزيمة والديلمي في الفردوس كما في فيض القدير (4/ 142). (¬3) أخرجه الحميدي (237) , وابن عدي في "الكامل" (6/ 2214). (¬4) انظر: "مجمع الزوائد" (3/ 64) , وعزاء للطبراني, وهو في "الصغير" له (2/ 58) (¬5) تقدم تخريجه.

وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما نقص مال من صدقة" (¬1) , وقال الله تعالى: {وَمَا آتَيْتُم مِّن رِّبًا لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِندَ الله وَمَا آتَيْتُم مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُضْعِفُونَ} [الروم: 39] , فالشرع وافق مقتضى اللغة. واختلف أصحابنا في قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ} [النور: 56] ونحوه من الآيات, هل هي مجملة أو عامة على وجهين. . . . (¬2) كقوله تعالى: {والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا} [المائدة: 38] فيكون حجة في كل مختلف إلا ما أخرجه الدليل. والثاني: هي مجملة, وهو للمذهب, كقوله تعالى: {. . . .} (¬3) لأنه. . . . (¬4) إلى. . . . (¬5). . . . (¬6) المراد به بخلاف آية السرقة, فعلى هذا الزكاة المفروضة زكاتان: زكاة الأموال, وزكاة الأبدان. فأما زكاة الأبدان فهي زكاة الفطر ويجيء بيانها إن شاء الله تعالى, وأما زكاة الأموال فهي تجب في عين الأموال وأكثرها نماء وأعظمها منفعة, وهي ثلاثة أجناس الماشية والزرع. . . . (¬7). . . . . . . (¬8) ومنها الأجل [2 ب/ 4]. . . . . (¬9) وفي الزرع والثمار, يجب في أعظمها منفعة, وهي: القوت, وفي الجواهر في النقدين: الذهب والفضة, ولا يجب فيما عداهما إلا بالتجارة, وهذا لأن الله تعالى أوجبها على طريق المساواة, وهذا اعتبر فيه النصاب والحول. ثم اعلم أن الناس في الزكاة على ثلاثة أضرب: ضرب يعتقد وجوبها ويؤديها, فهو المشكور والمدعو له على ذلك. قال الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِم بِهَا وصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة: 103] أي: ادع لهم. وضرب يعتقد وجوبها ولا يؤديها, فهذا مسلم فاسق, فيطالبه الإمام بأدائها أو الأخذ من ماله كرهًا, فإن كان ربّ المال في منعه لا يقدر عليه كان للإمام قتاله, وعلى الرعية معاونته حتى يؤديها. وضرب لا يعتقد وجوبها بعد استقرارها, فإن كان جاهلاً بالوجوب لقرب عهده بالإسلام, عرف حكمها, وعلم فرضها, ليعلم أنها من أركان الإسلام, وإن كان عالمًا بالوجوب فإن نشأ في دار الإسلام بين المسلمين, فقد كفر ويقتل لردته؛ لأنه خلاف إجماع الخاصة والعامة, وفيه تكذيب الله تعالى, وتكذيب رسوله صلى الله عليه وسلم, فإن قيل: أليس القوم الذين قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه على منع الزكاة, لم يكفر, فكيف كفَّرتهم هؤلاء؟ [3 أ/ 4] قلنا: الزكاة في ذلك الوقت لم يستقر وجوبها؛ بل كانت عليها أدلة ظاهرة يمكن تأويلها, ثم استقر فرضها بالإجماع, فكفر من جحدها بعد ذلك, وهذا كما أن عمرو بن معد يكرب وقدامة بن مظعون اعتقدا أن الخمر مباحة, فكانا يقولان: ما قطع الله بتحريمها لأنه قال: {فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] ولم يقل: بلى, ولا نعم عند الاستفهام. وقال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (2325) , والطبراني في "الصغير" (1/ 54). (¬2) و (¬3) و (¬4) و (¬5) و (¬6) و (¬7) و (¬8) و (¬9) موضع النقط بياض بالأصل.

باب الإبل السائمة

جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] الآية, فنحن نعمل الصالحات لله تعالى وقطع ما نريد. فقال لهم الصحابة: ذلك فيما طعموا قبل الإسلام لأن الله تعال لما أنزل تحريمها قالت الصحابة فأنزل الله تعالى هذه الآية, فلم يكفرا لأنهما قالاه لقرب من التأويل, ولم يكن انعقد الإجماع فيه, ثم رجعا, وصار بعد ذلك إجماع الخاصة والعامة, فمن أباحها بعد ذلك كفر, فهي كالزكاة سواء. باب الإبل السائمة مسألة: قال (¬1): أخبرنا القاسم بن محمد, وذكر الخبر. وهذا كما قال. بدأ الشافعي رحمة الله عليه بزكاة الإبل اتباعًا للخير, وذلك لأنها أجلُّ الأموال وأنفسها عند العرب, وقيّد بالإبل السائمة لأن الزكاة لا تجب في المعلوفة منها. وقيل بيان زكاتها نتكلم على أسبابها [3 ب/ 4] حتى يكون أسهل لمعرفة زكاتها, فإذا ولدت الناقة وانفصل عنها فهو فصيل, ويقال له: فإذا استكمل السنة ودخل في الثانية فهو ابن مخاض, والأنثى بنت مخاض, وإنما سميت بنت مخاض لأن أمها حامل في الغالب, ويسمى بهذا, وإن لم تكن أمها حاملًا اعتبارًا بالأغلب, والمخاض اسم جنس لا واحد له من لفظه, وإنما الواحد منها خلفة, فإذا استكمل سنتين ودخل في الثالثة فهو ابن لبون, وإنما سميت بهذا الاسم لكون أمها لبون أو ذاك, فإذا استكمل ثلاث سنين ودخل في الرابعة فهو حق, والأنثى حقة, لأن من حقها بهذا جاء الخبر, وقيل: سميت حقة؛ لأن من حقها أن يحمل عليها أو تركب. فإذا استكمل أربعًا ودخل في الخامسة فهو جذع -بفتح الذال- والأنثى جذعة, وسميت جذعة لتكامل أسنانها, وقيل: لنبات سن لها في هذه الحالة, وهو قريب من الأول, وقيل: لسقوط مقدم أسنانها, وهذا آخر أسنان فرائض الإبل, ولا يجب فيها أكبر من الجذعة. فإذا استكمل خمسًا, وذلك في السادسة, فهو ثني, والأنثى نية, وهما يجزيان في الأضحية, فإذا استكمل ستًا ودخل في السابعة فهو رباع, والأنثى رباعيّة, فإذا استكمل سبعًا ودخل في الثامنة فهو سديس, وسدس لغتان, واللفظ (4 أ/ 4) في الذكر والأنثى واحد, فإذا استكمل ثمانيًا ودخل في التاسعة فهو بازل, لظهور نابه, ثم بعد هذا يقال: بازل عام, وبازل عامين, ويسمى بهذا الاسم وإن كانت أنثى؛ لطلوع بازله, وهو الناب. فإذا تقرر هذا فلا شيء فيها حتى تبلغ خمسًا, فإذا بلغتها ففيها شاة, ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ عشرًا, فإذا بلغتها ففيها شاتان, ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ عشرين, فإذا بلغتها ففيها أربع شياه, فالواجب إلى العشرين من غير جنسها, ثم ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 188)

الواجب من بعد هذا جنسها, فلا شيء في زيادتها حتى تبلغ خمسًا وعشرين, فإذا بلغتها ففيها بنت مخاض. وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: فيها خمس شياه, وفي ست وعشرين بنت مخاض, فاتبع أحد النصابين الآخر من غير وقص بينهما, ولم يتابعه أحد على هذا, وقيل: إنه رجع عنه. ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ ستًا وثلاثين, فإذا بلغتها ففيها بنت لبون, ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ ستًا وأربعين, فإذا بلغتها ففيها حقة, ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ إحدى وستين, فإذا بلغتها ففيها جذعة, وقد انتهت الزيادة في السن, فلا يجب سن أكبر منها وإن كان كلها أكبر منها, فأكبر سن الفريضة الجذعة, وأصغرها بنت مخاض, ولا يعودان بعد الانتقال [4 ب/ 4] عنهما, ويكون الواجب حقاقًا وبنات لبون, فتكون الزيادة تارة في السن, وتارة بالعدد, ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ مائة وإحدى وعشرين, فإذا بلغتها ففيها ثلاث بنات لبون, وقد استقرت الفريضة فيكون في كل أربعين بنت لبون, وفي كل خمسين حقة, ويتغير الفرض بكل .... (¬1) لو زاد على مائة وعشرين جزءًا من بعير, فإنه لا يتغير الفرض به, وقال أبو سعيد الإصطخري: يتغير ويجب فيها ثلاث بنات لبون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زادت الإبل على عشرين ومائه واحدة, ففيها ثلاث بنات لبون" (¬2)، ولأن الوقص إذا انتهى لا يتغير الفرض إلا بزيادة واحجة كما في سائر الوقاص, ثم إن هذه الواحدة الزائدة على مائة وعشرين هل لها قسط من الفريضة, أو عفو؟ اختلف أصحابنا فيه, المذهب - وهو قول الأكثرين- لها قسط منها لأنه لا يجوز تغيير الفرض بما لا قسط له منه. وقال بعض أصحابنا, وهو اختيار الإصطخري: إنه [5 أ/ 4] لا قسط لها منها, لأنه يؤدي إلى إيجاب بنت لبون في أربعين وثلث وتظهر فائدة هذا الخلاف فيما لو تلفت هذه الواحدة بعد الحول قبل إمكان الأداء هل يسقط شيء من الواجب أم لا؟ ثم إذا اجتمعت بنات لبون في عدد, فاجعل بعد هذا مكان كل بنت لبون حقة, وإذا اجتمعت الحقاق وانتقلت عنها, فاجعل بعددها بنات لبون وزد واحدة, وهذا يجزي ولا ينكر فيكون في مائة وإحدى وعشرين ثلاث بنات لبون, ثم في مائة وثلاثين بنتًا لبون وحقة, ثم في مائة وأربعين حقتان وبنت لبون, ثم في مائة وسبعين حقة وثلاث بنات لبون, ثم في مائة وثمانين حقتان وبنت لبون, ثم في مائة وتسعين ثلاث حقاق وبنت لبون, ثم في مائتين اجتمع أربع خمسينات وخمس أربعينات, فتأخذ ما هو الأفضل من خمس ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض الأصل. (¬2) انظر نصب الراية (2/ 343).

بنات لبون وأربع حقاق, وبه قال الأوزاعي وإسحاق والخرقي عن أحمد, ووافقنا مالك إلا في فصل وهو أنه قال: يجب في إحدى وتسعين إلى مائة وثلاثين حقتان, ثم تستقر الفريضة بعده على ما ذكرنا, وبه قال أحمد في رواية, وأبو عبيد. وروي عن مالك: إذا زادت واحدة يتغير الفرض إلى تخيير الساعي بين ثلاث بنات لبون, وبين الحقتين. وقال حماد والحكم: لا شيء في الزيادة (5 ب/ 4) على مائة وحتى تبلغ خمسا, (فتبلغ مائة وخمسًا وعشرين) ثم يلزم حقتان في مائة، وابنه مخاض في خمس وعشرين. وقال أبو حنيفة والنخعي والثوري: وروي ذلك عن علي وعبد الله، ولكن قال ابن المنذر: لا يثبت عنهما إذا زادت الإبل على مائة وعشرين, فإذا بلغت مائة وخمسًا وأربعين ففيها بنت المخاض مع الحقتين, فإذا بلغت مائة وخمسين ففيها حقاق, فترقى بنت المخاض إلى الحقة, خلاف الأصول أيضًا, ثم يستأنف الفريضة, ففي كل خمس شاة إلى مائة وخمس وسبعين, فيلزم بنت لبون مع ثلاث حقاق إلى مائة وست وثمانين, فيلزم بنت لبون مع ثلاث حقاق إلى مائة وست وتسعين, وفيها أربع حقاق, وفي المائتين أربع حقاق أيضًا, ثم يستأنف هكذا في كل خمسين. وقال ابن جرير الطبري: إن الساعي بالخيار بين أن يأخذ بما قال الشافعي, وبين أن يأخذ بما قال أبو حنيفة, وينسب هذا القول إلى ابن خيران, وهو غلط عندي, وهذا خطأ فاحش؛ لأنا أسقطنا ما رواه أبو حنيفة, وأسقط أبو حنيفة ما رويناه, وأسقط ابن جرير الخبرين معًا, والأصل الذي اعتمد عليه الشافعي في هذا الباب الخبر الذي بدأ به ورواه عن المثنى بن أنس أو ابن فلان ابن أنس, شك الشافعي فيه, فقال: أنا شككت عن أنس بن مالك [6 أ/ 4] وروى الشافعي هذا الخبر من طريقة أخرى هذا الخبر, قال (¬1): أخبرني عدد من الرجال الثقات حماد بن سلمة عن ثمامة بن عبد الله بن أنس عن أنس, وهو معنى قول الشافعي في آخر هذا الجزء؛ وحديث أنس ثابت من جهة حمّاد بن سلمة وغيره دفعًا للوهم بما شك الإسناد الأول, أي: هو غير مشكوك فيه من هذه الجهة, وإن كنت شككت فيه من جهة غيره, ثم قال: هذه الصدقة, كأنه أشار إلى نسخة كتاب فيه بيان الصدقة, فقال (¬2): هذه الصدقة, ثم قرأها باسم الله الرحمن الرحيم, هذه فريضة للصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين, التي أمر الله بها, يريد به قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] الآية. وقيل: معناه هذا تقدير ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 3) (¬2) انظر الأم (2/ 3)

الصدقة التي قدرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينها, التي أمر الله بها أي: أوجبها الله, فأضاف الإيجاب إلى الله تعالى [6 ب/ 4] والبيان والتقدير إلى نفسه؛ لأن الله تعالى أمر بالزكاة في القرآن مجملا غير مبين ولا مقدر, ثم بينها على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم, وهذا أصح. ثم قال (¬1): فمن سألها على وجهها فليعطها, أي: فمن سئل هذه الصدقة على ما ورد به الشرع فليعطها ولا يمنعها, ومن سئل فوقها, فلا يعطه, أي: من سئل فوق الواجب فلا يعطي ما زاد على الواجب. ومن أصحابنا من قال: معناه فلا يعطه شيئًا أصلاً؛ لأنه صار معتديًا, بطلت الزيادة, وبطلت أمانته كالحاكم, والصحيح الأول لأن الوالي لا ينعزل بالجور على الصحيح من المذهب وإن كان القياس أنه منعزل, ولأن المراد به الإعطاء إلى الساعي, والساعي وكيل أهل السهمان, والوكالة لا تبطل بطلب الزيادة, والهاء في قوله: فلا يعطه, هي كناية عن الفرق في قوله: فمن سئل فوقها, وليس بكناية الساعي الطالب للصدقة, لأنه لم يؤنث, وقال: فلا يعطه, ثم قال (¬2): فإذا بلغت خمسًا وعشرين إلى خمس وثلاثين, ففيها بنت مخاض, فإن لم يكن فيها بنت مخاض فابن لبون ذكر, تأكيدًا للكلام كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أبقت الفرائض فالأولى رجل ذكر" (¬3)، وقيل: إنما بالذكر لئلا تؤخذ الخنثى, لأنه يقال له: ابن لبون أيضاً, ولا يقال: ذكر [7 أ/ 4] وقيل: ليس في شيء من الحيوانات خنثى إلا في الآدمي والإبل. ثم قال (¬4): فإذا بلغت ستًا وثلاثين إلى خمس وأربعين, ففيها بنت لبون أنثى, وإنما قيد بالأنثى للتأكيد, كما يقال رأيت بعيني, وسمعت بأذني, ونحو ذلك, فإذا بلغت ستًا وأربعين إلى ستين, ففيها حقة طروقة الحمل, ويقرأ طروقة الجمل -بالجيم- وقد روي طروقة الفحل, أي: استحقت أن يركب ويحمل عليها, والأول أصح, فإذا بلغت إحدى وستين إلى خمس وسبعين, ففيها جذعة, فإذا بلغت ستًا وسبعين إلى تسعين, ففيها بنتا لبون. وإنما كان كذلك لأن هذا العدد هو ضعف نصاب بنت لبون واحدة, وليس وراء الجذعة سن يؤخذ فأوجب بنتي لبون. ثم قال: فإذا بلغت إحدى وتسعين إلى عشرين ومائة, ففيها حقتان طروقتا الحمل, وهذا لأن العدد هو ضعف نصاب حقة واحدة ثن قال: فإذا زادت على عشرين ومائة ففي كل أربعين بنت لبون, وفي كل خمسين حقة. واعلم أن نصيب الإبل إلى هاهنا كانت مختلفة, وكانت في الابتداء حين كان الواجب الغنم خمسًا خمسًا, فلما صار الواجب من جنسها في خمس وعشرين بعد ذلك عشرًا عشرًا, ثم ثلاثة أوقاص بعد ذلك خمسة عشر, ثم الوقص بعد ذلك بلبون ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 3). (¬2) انظر الأم (2/ 3). (¬3) أخرجه الطحاوي في "شرح معاني الآثار" (4/ 390). (¬4) انظر الأم (2/ 3).

وهو وقص الحقتين إلى أن ينتهي إلى (7 ب/ 4) عشرين ومائة, ثم يطرد إلى أوقاص بالعشرات, ثم قال: ومن بلغت صدقته جذعة, وليست عنده جذعة, وعنده حقة, فإنها تقبل منه, ويجعل معها شاتين, يعني: رب المنزل يعطي مع الحقة شاتين إن استيسرتا ما عليه, أو عشرين درهمًا, يعني: أن هذا حيران لما بين السنتين الواجبتين عليه, والتي يعطيها. ثم قال: ومن بلغت صدقته جذعة, وليست عنده جذعة, وعنده حقة, فإنها تقبل منه الجذعة, ويعطيه المصدق عشرين درهمًا أو شاتين. وقال مالك: إذا لم يكن في ماله السن الواجب, يلزمه الحيران بشاتين أو عشرة دراهم, لأن قيمة كل شاة في الزكاة بنصاب الدراهم خمسة دراهم, وبه قال حمّاد والثوري وأبو عبيد, وإحدى الروايتين عن إسحاق, وهذا غير صحيح, لما ذكرنا من النص الصريح. ثم قال الشافعي: وحديث أنس ثابت من جهة حمّاد وغيره, أراد بقوله: وغيره, محمد بن عبيد الأنصاري, يرويه عن ثمامة بن عبد الله بن أنس, بل شك على ما ذكرنا, ثم أيّده بحديث آخر رواه عن ابن عمر أن: هذه نسخة كتاب عمر في الصدقة التي كان يأخذ عليها, ثم قرأها, فحكي هذا المعنى, يعني حديث أنس من أوله إلى قوله: ففي كل أربعين بنت لبون (8 أ/ 4) وفي كل خمسين حقة, يعني وليس في حديث ابن عمر ذكر الجيران كما كان في حديث أنس, ولكن في حديث أنس, ولكن في حديث ابن عمر زيادة ليست في حديث أنس, ولم ينقلها المزني, وهي أنه قال: ولا يؤخذ في الصدقة هَررِمة ولا ذات عُوار, ولا يتبين إلا ما شاء المصدق, ولا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسويّة, ثم قال الشافعي: وبهذا كله نأخذ, أي: بكل ما جاء في حديث أنس, وحديث ابن عمر نأخذ, وبه نعمل. مسألة: قال: (¬1): "ولا تَجِبُ الزَّكاةُ إلاَّ بالحَولِ". وهذا كما قال: الأموال هي على ثلاثة أضرب: مال لا ينمى هو مرصد النماء, كالثياب, فلا زكاة فيها إلا بالتجارة وحولان الحول من يوم التجارة. ومال هو نماء في نفسه كالثمار والزروع والذهب والفضة المستخرجين من المعدن, فلا يعتبر فيه الحول في وجوب الزكاة فيه. ومال ليس ينمي في نفسه, ولكنه مرصد لطلب النماء منه كالإبل والبقر والغنم والنقدين: الذهب والفضة, إذا ملكها ببيع أو ميراث فلا زكاة فيه إلا بحلول الحول عليه. وقال ابن عبّاس: تلزم الزكاة في المستفاد بهبة أو إرثٍ أو عطاءٍ من غير حول. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: تلزم في العطاء وحده دون غيره من غير حول, وكان إذا قبض العطاء أخرج زكاته في الحال, وهذا غلط [8 ب/ 4] لقوله ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 190).

صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" (¬1) , فإذا تقرر هذا, فهل الإمكان من شرائط الوجوب أو من شرائط الضمان؟ قولان. وقال في "الأم" (¬2) و"القديم": ثم تجب بالنصاب والحول والإمكان, فيكون شرائط الوجوب ثلاثًا, وبإمكان الأداء يتعلق الوجوب والضمان معًا, وبه قال مالك, وهو ظاهر المختصر, ووجهه أنه لو هلك المال قبل الإمكان لم يضمن زكاته, فلا تكون الزكاة واجبة قبله. وقال في "الإملاء": لا تجب الزكاة إلا بالنصاب والحول, والإمكان شرط في الضمان, وبه قال أبو حنيفة, وهو القياس, فعلى هذا الشرط الوجوب اثنان, ثم إذا وجبت فهي أمانة في يده حتى يمكنه الأداء, فإذا أمكنه الأداء ولم يؤدها ضمنها, كما لو تعدى في الوديعة, ووجه أنه لو كانت الزكاة غير واجبة لَمَا ضمنها بالإتلاف كما قبل الحول. وقد قال الإمام أبو الطيب رحمه الله: هذا القول ضعيف لهذا السؤال, ويمكن أن يجاب عنه بأنه إذا لم يبق من شرائط الوجوب .... (¬3) فأتلفه قصد منع حصول .... (¬4) بفعله, فلم يعذر فيه, وأما قبل الحول فهي من شرائط الوجوب غير الإمكان, فلهذا لا يضمنها بهذا الإتلاف, ولا خلاف أن ابتداء الحول الثاني من يوم تمام الحول لا من يوم الإمكان. مسألة: قال (¬5): وليسَ فيما دونَ خمسٍ [9 أ/ 4] منَ الإبِلِ, ولا فيما بينَ الفريضَتَينِ شيءٍ. وهذا كما قال: أما فيما دون خمسٍ فلا زكاة بلا خلاف. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمس ذود من الإبل دقة" (¬6)، وأما فيما بين الفريضتين, وهو الوقص, وقيل: الوقس - بالسين- والأول أشهر, فلا خلاف أنه لا يتعلق به زيادة واجب لا يجب في النصاب, ولكن الواجب في النصاب هل يقتصر عليه أم يتعلق به وبما زاد عليه؟ فيه قولان: إحداهما: يتعلق بالنصاب وما زاد عفو, وهو المشهور من المذهب, ذكره في كتبه الجديدة والقديمة, وبه قال أبو حنيفة والمزني وابن سريج. والثاني: قال في الإملاء والبويطي, وبه قال محمد: الفرض يتعلق بالكل, والمأخوذ مأخوذ عن الجميع ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 148) , وأبو داود (1573) , والدارقطني (2/ 91) , والبيهقي في "الكبرى" (7273) , وفي "معرفة السنن" (2273). (¬2) انظر الأم (2/ 14). (¬3) موضع النقط بياض بالأصل. (¬4) موضع النقط بياض بالأصل. (¬5) انظر الأم (1/ 190) (¬6) أخرجه أحمد (2/ 403, 3/ 30, 45, 74, 79) , وأبو داود (1558) , والترمذي (626, 627) , والنسائي (2445) , وابن ماجه (1794).

وجه الأول أنه وقص قبل النصاب كالأربعة الأول، ووجه الثاني: أنه حق الله تعالى يتعلق بالنصاب، فيتعلق بما زاد عليه، كالقطع في السرقة، فإذا تقرر القولان فإذا ملك تسعًا من الإبل فحال عليها الحول، ثم تلف منها أربع قبل إمكان الأداء وبقيت في يدع خمس، اختلف أصحابنا فيه، قال أبو إسحاق: يجب عليه شاة على كلا القولين، لأن الوقص هو تابع للنصاب بلا خلاف، فإذا كان المتبوع باقيًا لم يسقط من الفرض شيء بتلف التابع، ولأن في خمس من الإبل شاة، وبزيادة الأربعة لا يزيد الواجب، فلا ينقص أيضًا [9 ب/4] بتلفها. وقال سائر أصحابنا: الجواب في هذه المسألة ونظائرها يبني على الأصلين الذين أصحابنا: الجواب في هذه المسألة ونظائرها ينبني على الأصلين الذين تقدم ذكرهما: إحداهما: أن الإمكان من شرائط الوجوب أو من شرائط الضمان. والثاني: هذا يتعلق الفرض بالوقص أم هو عفو. فإن قلنا: إن الإمكان من شرائط الوجوب فعليه في الخمسة الباقية شاة، لأن الأربع تلفت قبل تعلق الواجب بها، وحصلت شرائط الوجوب وفي يده خمس من الإبل فيلزمه شاة، وإن قلنا: الإمكان من شرائط الضمان، فإن قلنا: إن الفرض يتعلق بالنصاب والوقص وعفو، فعليه أيضًا شاة، لأنه لم يتعلق الفرض بالتالف. وإن قلنا: الفرض يتعلق بالكل فعليه خمسة اتساع شاة، لأن تعلقت بجميع التسع، وانقسمت على أجزائها فقابل خمسًا منها خمسة اتساعها. وإن كانت المسألة بحالها إلا أن التالف منها خمس والباقي أربع، فإن قلنا: الإمكان من شرائط الوجوب فلا زكاة، لأنها نقصت عن النصاب قبل وجوب الزكاة فيها، وإن قلنا: من شرائط الضمان، وقلنا: الفرض يتعلق بالنصاب دون الوقص، فعليه أربعة أخماس شاه، لأن الشاة تعلقت بالخمس وانقسمت على أجزائها فقابل أربعًا منها أربعة أخماسها. وإن قلنا: الفرض يتعلق بالكل فإنه يلزم فيها أربعة اتساع شاة. فرع [10 أ/4] لو كانت له خمس وثلاثون من الإبل، فتلف منها بعد الحول وقبل إمكان الأداء خمس عشرة وهي عشرون، فإن قلنا: الإمكان من شرائط الوجوب فعليه أربعة شياه، وإن قلنا: من شرائط الضمان، فإن قلنا: الوقص عفو، فعليه أربعة أخماس بنت مخاض. فرع لو كانت له خمس وعشرون من الإبل، فتلفت منها خمس بعد الحول قبل إمكان الأداء، فإن قلنا: إنه من شرائط الوجوب فيلزمه أربع شياة، وإن قلنا: من شرائط الضمان، يلزمه أربعة أخماس بنت مخاض، ولا شيء على الأصل الآخر، لأنه ليس فيها وقص.

فرع آخر لو كانت له ثمانون شاه فتلف منها أربعون بعد الحول قبل إمكان الأداء، فإن قلنا: أنه من شرائط الوجوب، فيلزمه شاة، وإن قلنا: إنه من شرائط الضمان، فإن قلنا: الوقص عفو، فيلزمه شاة، وإن قلنا: الفرض يتعلق بالكل، فيلزمه نصف شاة، ولو كانت المسألة بحالها، فتلفت منها إحدى وأربعون، فإن فيها الإمكان من شرائط الوجوب، فلا زكاة، وإن قلنا: إنه من شرائط الضمان، فإن قلنا: الوقص عفو، فيلزمه تسعة وثلاثون جزءًا من أربعين جزءًا من شاه، وإن قلنا: إن الفرض يتعلق بالكل، فيلزمه تسعة وثلاثون جزءًا من ثمانين جزءًا من شاه. مسألة: قال (¬1): وإن وجبت عليه بنت مخاض فلم [10 ب/4] تكن عنده فابن لبون ذكر. وهذا كما قال: أراد به إذا لم تصل يده إلى بنت مخاض، ليدفعها إلى الساعي، يؤخذ منه ابن لبون، ولا يكلف شراء بنت مخاض، للخبر الذي ذكرنا، وهذا لأن في بنت المخاض فضيلة الأنوثة، لما فيها من الذر والنسل، وفي أثر اللبون فضيلة زيادة سن، فتقابلت الفضيلتان، وجعل هذا عوضًا عنها، ولا تعتبر فيه القيمة عندنا. قال أبو حنيفة: لا يوجد ابن اللبون إلا بقيمة بنت مخاض، وهذا غلط، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قص عليه من غير اعتبار القيمة، وكان الوقت وقت الحاجة إلى البيان، ولو جاء بابن لبون وعنده مخاض، لا يجوز أخذه، وإن كان أكثر قيمة منها. وقال أبو حنيفة: يجوز هذا بالقيمة، وهذا غلط للخبر، ولو أعطى نصف ابن لبون سمين بقيمة بنت مخاض لا يجوز قبوله، خلافًا لأبي خنيفة، ولو قدر على شراء بنت مخاض لا يلزمه شراؤها، فإن قيل: أليس في الكفارة يلزمه شراء الرقبة إذا ..... (¬2) العدول عنها إلى الصوم، وكذلك يلزمه الوضوء بالماء، ولا يجوز العدول عنه إلى التيمم، فما الفرق؟ فإن قلنا: الشرع هنا اعتبر القدرة، لأنه تعالى قال: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} [النساء: 92] وقال: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43] ومن وجد الثمن فإنه يسمى واجدًا، وهاهنا اعتبر الشرع أن لا يكون في ملكه، لأنه قال: فإن لم يكن [11 أ/4] فيها بنت مخاض فابن لبون، فإذا وجد الثمن لا تكون بنت مخاض في ملكه، وأيضًا لما جاوز العدول إلى ابن لبون مع القدرة على خمس وعشرين من الإبل، وتعلم ضرورة أنه يقدر على تحصيلها بواحدة منها أو ببعضها، علمنا ضرورة أنه لم يرد بحجره على تحصيلها بخلاف الكفارة. فرع لو لم يكن في إبله بنت مخاض ولا ابن لبون، فإن شاء اشترى بنت مخاض، وإن شاء ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 190). (¬2) موضع النقط بياض بالأصل.

اشترى ابن لبون. وقال مالك: يلزمه شراء بنت مخاض، فإن اشترى ابن لبون لم يوجد منه، وبه قال صاحب التقريب، لأنهما تساويا فصار كما لو كانا في ماله، وهذا غلط، لأنه بعد ما اشتراه ليست في ماله بنت مخاض، وعنده ابن لبون، فيؤخذ لظاهر الخبر. فرع آخر إذا أراد الساعي مطالبته بالواجب في هذه المسألة، ففيه وجهان: إحداهما: خيره في المطالبة بين بنت مخاض وبين ابن لبون، لأنه يتخير في تحصيلها. والثاني: يطالبه بابنه مخاض، لأنها الأصل، ثم إن جاء بابن لبون أخذ منه. فرع آخر لو جاء بحق مكان ابن لبون أخذناه، وهو الأولى، لأن ابن اللبون إذا جاز فالحق أولى بالجواز، لأنه أكبر منه سنة، كما لو وجبت عليه بنت مخاض، فجاء بابنة لبون، أخذناها، وفيه وجه ضعيف لا يؤخذ [11 ب/4] لأنه لا مدخل له في الزكاة، فإن قيل: فهل يجوز أخذه مع الجبران؟ قلنا: لا يجوز لأن بنت لبون جعلت بدلًا من بنت مخاض، والجبران يدخل في الأصل دون البدل. فرع آخر لو لم يرد شراء واحد منهما، بل أراد العدول إلى بنت لبون، ويأخذ الجبران، فيه وجهان: المذهب أنه لا يجوز لأنه قادر على الأقرب المنصوص. والثاني: يجوز. فرع عنده ابن لبون، فاشترى بنت مخاض أو ورثها بعد الحول، عليه إذا بنت مخاض وإن لم تكن موجودة عنده يوم الوجوب، لأنها في ملكه عند إخراج الزكاة. وفيه وجه آخر حكاه والدي رحمه الله: يجوز لجوازه في حالة الوجوب، وهو ضعيف. فرع آخر لو أخرج ابنتي لبون بدل حقة، وفيه وجهان: إحداهما: يجوز. قال بعض أصحابنا: وهذا ظاهر المذهب، لأنه يجوز ذلك عن ست وسبعين، فلأن يجوز عن ست وأربعين أولى. والثاني: لا يجوز، لأن في الحقة معنى لا يوجد في ابنتي لبون، فاعتبرنا إخراج ما ورد به النص، بخلاف ما أراد به النص، بخلاف ما إذا أخرج حقة بدل بنت لبون، وهذا ظاهر المذهب عندي. فرع آخر لو كانت له خمس وعشرون من الإبل مهازيل، وفيها بنت مخاض سمينة، وابن لبون مهزول، قال أكثر أهل العراق [12 أ/4] المنصوص أنه يجوز إخراج ابن لبون، لأنه لا يلزم إخراج بنت مخاض هذه، فوجودها كعدمها. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز ذلك، وهو المذهب، لان بنت مخاص موجودة في ماله، وإنما جوز إخراج ابن لبون

بشرط عدم بنت مخاض، وعلى هذا لا يجوز أن يطالب بنت مخاض التي في ماله، لأنها كريمة ماله. وقال صلى الله عليه وسلم: "إياك وكرائم أموالهم" (¬1) فيقول رب المال: أنت بالخيار بين أن تعطي بنت لبون بشبه مالك، أو تتبرع بهذه التي في مالك وملك، فإن قال: أعطى بنت لبون، وآخذ الجبران، فالذي يقتضي المذهب أنه يجوز، لأنه قال في "الأم": وإذا ضرب الفحل السن التي وجبت فلم يدر أحالب أم لقحت، قيل له: لا يأخذها منك، فأت بغيرها من تلك السن أن شئت، أو أدفع السفلى، ورد علينا، أو العليا ونرد عليك، فأجاز أخذ الأسفل منها هاهنا مخافة الحمل، وهو لا يتحقق ذلك فلأن يجوز هاهنا ويتحقق الثمن أولى. وأعلم بأن من ذكر النص في الوجه الأول، استنبطه من هذا الموضع، فقال: جعل الشافعي المشكوك في حملها كالمعدومة والانتقال إلى سن أخرى، فيجب أن يجعل السمينة كالمعدومة في جواز الانتقال إلى ابن لبون، والجواب [12 ب/4] عن هذا أن نقول: الانتقال إلى ابن لبون أغلظ حكمًا، وأضيق طريقًا، لأنه يترك الفرض إلى ما لا مدخل له في فرائض الإبل، وهو الذكر، وليس كذلك في الصعود والنزول، فإنه يصعد وينزل إلى أنثى لها مدخل في فرائض الإبل، فكان حكمه أسهل، ولهذا لو أعطانا حقًا بدل لبون، وطلب الجبران، لا يدفع الجبران، فدل هذا على صحة الفرق، وبطلت دعوى النص في الوجه الأول. فرع آخر لو كانت في إبله ابنة مخاض معيبة وسائر الإبل صحاح، يجوز أن يؤخذ ابن لبون صحيح، لأن المعيبة بمنزلة المعدومة، فإن قيل: جعلتم المعيبة كالمعدومة، فاجعلوا السمينة كالمعدومة، قلنا: الفرق أن السمينة تجزئ في الفرض، فكان وجودها مانعًا من إخراج ابن لبون لأنه لو تبرع بها أخذناها، والمعيبة لا تجزئ في الفرض بحال، فكان وجودها وعدمها سواء في جواز ابن لبون. فرع آخر لو كانت معه ست وثلاثون من الإبل، ففيها بنت لبون، فإن لم يكن في ماله بنت لبون، فجاء بحق لم يجز أخذه، وقيل: فيه وجه آخر، أنه يجوز، وهو خطأ، ويفارق ابن اللبون من وجهين: إحداهما أن بنت مخاض فاضلة من [13 أ/4] جهة الأنوثة ناقصة من جهة الصغر، فإنها لا تقوى على الرعي من الأشجار، ولا تتمكن من الشرب من الأنهار لكونها قصيرة العنق، ولا يمتنع من صغار السباع، وابن اللبون ناقص بالذكورة فاضل بالقوة والكبر، فقوبلت فضيلة إحداهما بفضيلة الآخر، وليست كذلك بنت لبون، فإنها فاضلة من وجهين: فضل الأنوثة، وفضل القوة، والحق فاضل بالقوة ¬

_ (¬1) أخرجه ابن خزيمة (2275)، والبيهقي في "الكبرى" (4/ 96، 7/ 7).

ناقص فلا يجوز أن يقام الحق مقام بنت لبون. والثاني: أن للمتصدق في بنت لبون خيارين بالنزول مع دفع الجبران، أو بالصعود مع أخذ الجبران، فغلا يجوز إثبات خيار ثالث: بإخراج الحق، وها هنا ليس فيها إلا خيار واحد، وهو الصعود مع أخذ الجبران، وليس له النزول إلى أصغر من بنت مخاض، فجعل له إخراج ابن لبون مكان بنت مخاض ليحصل له خياران قياسًا على ذلك، فإن قيل: يبطل هذا بما لو وجبت عليه جذعة وهو لا يملكها، وهو يملك الشيء، لا يجوز إخراج الشيء مكانها، وإن لم يكن له إلا خيار واحد في بابها، وهو النزول دون الصعود، قيل: لا شك أنه لا يجوز إخراج الشيء مكانها، وأما هل له الصعود إلى الثنية مع أخذ الجبران كما له النزول وبذل [13 ب/4] الجبران؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: لا يجوز، لأن الثنية لا مدخل لها في زكاة الإبل، فلم يجز قبولها مع الجبران، كما لو أعطى حقًا مكان ابن لبون في خمس وعشرين من الإبل، وطلب الجبران، لا يجوز، وهذا هو اختيار القفال. ومنهم من قال: يجوز، وهو الصحيح، وقد نص عليه الشافعي، فقال: ومن وجبت عليه جذعة وليست معه إلا ما خض، فإن تطوع بها قبلناها، وإلا نزلنا وأخذنا، أو صعدنا وبذلنا، حكاة أهل العراق. ووجهه أن الثنية في صفة الجذعة وأكبر منها بسنة، فهي مع الجذعة بمنزلة الحقة مع بنت لبون، وبنت لبون مع بنت مخاض، ويخلف الحق مكان ابن لبون، لأن الذكر لا مدخل له في زكاة الإبل إلا في موضع الضرورة، ولم يرد به الشرع، فإذا بذل الحق مكان ابن اللبون، وطلب الجبران، لا يدفع الجبران، ومن قال بالأول أجاب عن هذا فإن الثنية ليست في صفة الجذعة بل هي أنقص، لأن كل ما في الثنية من الذر والنسل والحمل موجود في الجذعة، وفي الجذعة ما ليس في الثنية، وهي الحداثة والطراوة، لأن الجذعة هي .... (¬1) ولهذا لم يجز إخراج الشيء بلد جوزت في الضحية، وعلى هذا قال القفال: لو دفع مكان بنت لبون ثنية، فيه وجهان: إحداهما: لا يلزم الجبران أصلًا، لأنها ليست من السن المفروضة. والثاني: وهو الأصح، أنه يلزم جبران سنين، لأن لهما مدخلًا، وهو متبرع بزيادة سن واحدة. فرع آخر لو وجبت عليه ابنة لبون وليست عنده، فأعطى ابن لبون مع الجبران، فيه وجهان: إحداهما: يجوز، لأن ابن اللبون في حكم ابنة المخاض عند عدمها. والثاني: لا يجوز، لأن ابن اللبون أقيم مقام ابنة المخاض إذا كانت هي الفرض، والفرض هاهنا ابنة لبون، فلم يجز أن يؤخذ مكانها ذكر وجبران، وهذا أقرب. ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل.

فرع آخر لو كانت لديه إحدى وستين ابنة مخاض، فأعطى واحدة منها، وهي ابنة مخاض، ففيه وجهان: إحداهما: تؤخذ ولا يكلف غيرها جبرانًا، لما فيه من الإجحاف. والثاني: لا يؤخذ لأنها فرض بعض هذه الجملة، إلا أن يعطي جبران من الجذعة، فيؤخذ حينئذ مع الجبران. فرع آخر لو كانت معه ست وثلاثون من الإبل ذكور، فإن قلنا: في خمسة وعشرين ذكرًا يطالب الأنثى، فهاهنا يطالب، وإن قلنا: هناك يخرج ابن مخاض ذكر، فهاهنا وجهان: إحداهما: لا يجوز ابن لبون ذكر، لأنه يجوز عن خمسة [14 ب/ب] وعشرين، فيؤدي إلى التسوية، لأن هناك فيؤدي ابن لبون عن الإناث، وها هنا فيؤدي عن الذكور. مسألة: قال (¬1): وإبانَةُ في كلِّ أربعينَ بنتُ لبونٍ، وفي كل خمسين حقه إلى قوله: فإذا بلغت مئتين. الفصل وهذا كما قال: أراد وأبانة النبي صلى الله عليه وسلم، حيث قال في كل أربعين بنت لبون، وفي كل خمسين حقة، إن الأمر على ما في الزيادة على مائة وإحدى وعشرين إلى أن تبلغ مائتين، فإذا بلغتها يخير الساعي بين أربع حقاق وخمس بنات لبون، وعلى الساعي أن يختار لأهل السهمان، ولا يحل له غير ذلك، وقال في القديم: يجب فيها أربع حقاق. وأطلق بعض أصحابنا المسألة على قول واحد، كما ذكر هاهنا، والذي قال في القديم، لأن الأفضل الحقاق عنده، وعلى الساعي أن يأخذ الأفضل. ومن أصحابنا من قال: فيه قولان: إحداهما: يأخذ الحقاق فقط، لأنه إذا أمكن الزيادة بالسن، فلا يزداد بالعدد، كما في سائر المواضع. والثاني: وهو الأصح، أنه يتخير لظاهر الخبر، وقد وجهه هاهنا الأربعينيات والخمسينات يتعلق بهما كلا الفرضين، فإذا قلنا بقوله القديم، فإن كانت موجودة أخذناها، وإلا فهو بالخيار بين الصعود والنزول مع الجبران، فإذا قلنا بقول الجديد ولم يكن [15 أ/4] في ماله إلا أخذ الفرضين، تعين ذلك، لأن من خير بين شيئين فتذعر إحداهما يعين الثاني، وإن كان الفرضان موجودين، فالمنصوص أن الخيار إلى الساعي. وقال ابن سريج: الخيار إلى رب المال، كما قال الشافعي في الشاتين والعشرين ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 189).

وزيهما في الجبران إلى رب المال، وقال: وقول الشافعي الخيار إلى الساعي، أراد به إذا خير رب المال، وهذا غلط، والمعروف بينهما أنه لما كان الخيار إلى المعطي في أصل الجبران، كان الخيار إليه في جنسه، وها هنا لا خيار له في أصل الفرض، فلا خيار له في جنسه. فرع لو كان في يد ولي اليتيم بيان في الإبل لليتيم، فحال الحول عليها، وجاء المصدق، وفي المال الفرضان جميعًا، فعند الشافعي يأخذ الساعي أجود الفرضين. وعلى قول ابن سريج: لا يجوز للولي أن يدفع إلا أدون الفرضين، لأنه لا يجوز له أن يفعل إلا ما هو الأحظ لليتيم. مسألة: قال (¬1): "فإن أخذ منْ ربَّ المال الصِّنْفَ الأدنَى، كانَ حَقًّا عليهِ أنْ يُخْرجَ". الفصل وهذا كما قال هذا التفريغ على قول الشافعي في الجديد، وفيه ثلاث مسائل، إحداها: أن يكون كاملين، أو إحداهما كاملًا والآخر ناقصا، أو كلاهما ناقصين، فإن كان كاملين، فإن كان كلاهما سواء [15 ب/4] أخذ الساعي ما شاء من الفرضين، وإن كان إحداهما أفضل يلزمه أخذه، فإن أخذه فلا كلام، وإن أخذ الأدون. قال الشافعي: كان حقًا على رب المال أن يخرج الأفضل. واختلف أصحابنا في معنى هذه المسألة، فقال أصحابنا: فمنهم من قال: معناها أن يأخذ الساعي أحد الصنفين باجتهاده، ويعلم رب المال أنه أدونهما، فإن الصدقة تقع موقعها، لأنه مجتهد فيه، فلو قلنا: لا يجوز، نقضنا الاجتهاد بالاجتهاد، وذلك لا يجوز، فإن أخذ من غير اجتهاد، أو كتم رب المال الصنف الأجود، لا يجزئه، وعليه رده إلى رب المال إن كان قائمًا أو قيمته أن كان تالفًا، وعلى رب المال أن يخرج الصنف الأجود. ومن أصحابنا من قال: هذا الضمان يجب في مال المساكين، لأنه بخس بحق المساكين، فضمنه في مالهم، كالإمام يخطئ في قضائه فيضمن في بيت المال. ومن أصحابنا من قال: يجزئه كيف ما أخذه المصدق، لأن كل واحد في الفرضين منصوص عليه، وأخذ الفضل وجب من طريق الاجتهاد، فلا يبطل به المنصوص، والأول أصح. فإذا قلنا: يجزئه، فإخراج الأفضل هل هو واجب أم مستحب؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: هو مستحب، لأن المأخوذ أجزأه وسقط به الفرض، وإنما استحب الشافعي ذلك الاحتياط خاصة إذا [16 أ/4] اجتهد الإمام، فإنه لو اجتهد وأخذ منه القيمة في الزكاة، وقع الموقع، ولا يلزمه شيء آخر. ومنهم من قال - وهو الأصح -: أنه يلزمه إخراج الفضل، لأن الشافعي قال: كان حقًا عليه، وهذه العبارة لا تستعمل إلا في الواجب، ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 192).

وهذا لأن ما بين السنين من الفضل من الواجب عليه، فإذا تركه لزمه إخراجه، ثم إذا وجب إخراج الفضل، إن كان يسيرًا لا يمكنه أن يشتري به جزءًا من الفرض يجزئه، أو يتصدق به من الدراهم والدنانير، ويجوز هذا للضرورة، وإن كان كثيرًا يمكنه أن يشتري به جزءًا من الفرض، فهل يلزمه أن يشتري به؟ فيه وجهان: إحداهما: يلزمه، ولا تجوز القيمة، لأنه يمكنه إخراج أصل الفرض. والثاني: لا يلزمه ذلك، وتجوز القيمة، لأنا لو كلفناه ذلك أدى إلى المشقة، فجوز العدول إلى غيره للضرورة، كما جوز أخذ الشاة في خمس من الإبل للضرورة، وإن لم يكن من جنس الفرض، ولأن هذا تلافي النقص، وليس بقيمة، فعلى هذا لا يجوز أن يعدل عن النقص إلى العروض، ولكن لو عدل إلى الجبران يجوز بلا خلاف، فإذا قلنا بالأول ينبغي أن يعرف القيمة ليعرف الأفضل، فإن كان قيمة الحقاق مثلًا خمسمائة وقيمة بنات اللبون أربعمائة وخمسين [16 ب/4] يلزمه أن يخرج بقدر خمسين من حقه لابن بنت لبون، وذلك خمسًا حقة، أو قيمة كل حقة مائة وخمسة وعشرون. ومن أصحابنا من قال: إن شاء صرفه إلى شاة أو بعير أو جزء منه. وكان الشيخ أبو الحسن الماسرجسي يقول: إن قدر على أن يشتري به ابنة مخاض يلزمه ذلك، لأنها من الفرائض، فهي أقرب إلى الفرض الواجب في المائتين من التقدير. ومن أصحابنا من قال في أصل المسألة: إن فرق الساعي على أهل السهمان يلزمه إخراج الفضل، لأنه لا يمكن استرجاعه سواء كان بالاجتهاد أو بغير الاجتهاد، وإن لم يكن فرق يسترد ما أخذ ودفع الأفضل، وهذا ضعيف، وإن كان إحداهما ناقصًا والآخر كاملًا فإن كانت عنده ثلاث حقاق وخمس بنات لبون. فالفرض بنات اللبون، فلو قال هاهنا: خذ مني ثلاث حقاق وبنت لبون مع الجبران، لم يقبل منه، لأنه يعدل عن المنصوص، وإن كانا ناقصين بأن يكون عنده أربع بنات لبون وثلاث حقاق، فإن أعطى أربع بنات لبون وحقة وطلب الجبران، كان له، وإن أعطى ثلاث حقاق وبنت لبون معها الجبران، أخذنا أيضًا، ولو قال: خذوا حقة وثلاث بنات لبون مع كل واحدة جبرانها حتى تتم أربعة حقاق هل يجوز؟ فيه وجهان: إحداهما: يجوز، كما يجوز الذي [17 أ/ب] قبله. والثاني: - وهو المذهب - أنه لا يجوز، لأنه يترك ابنة لبون في ماله، ولا يجوز أن يترك ابنة لبون في ماله، وهي من جنس الفرض، إلى الجبران، ولأنه يمكن أن يعطي ثلاث حقاق وبنت لبون وجبرانًا واحدًا، فلا يجوز جبرانان، ولو كان في ماله أحد الصنفين لا نكلفه شراء الصنف الآخر، ولو كان أنفع، لأن في تكليفه مشقة عليه. ثم قال المزني: ولا نفرق الفريضة ونقل الربيع، ولا نفارق الفريضة، فمعنى التفريق أنه لو وجد نصف أحد الصنفين وكل الصنف الآخر، مثل حقتين وخمس بنات لبون، فقال الساعي أريد أن آخذ الحقتين وبنتي لبون ونصفًا، ليس له ذلك، وإن كان ذلك جبرًا

لأهل السهمان، بل عليه أخذ الصنف الموجود بكمالة، وأما مفارقة الفريضة هي أن يدع الصنف الموجود ويأخذ الجبران، فليس له ذلك، لأنه مفارقة للفريضة الموجودة فصار كما لو كانا معًا موجودين يفارقهما إلى سن أعلى إذا سفل. ومن أصحابنا من غلط المزني في هذا النقل وقال: افتتح المسألة في مفارقة الفريضة، وختمها بلفظ التفريق والمفارقة والتفريق مفترقان، فإن المفارقة أن يجد أحدى السنين دون الأخرى فيعرض عنها ويصعد أو يترك، والتفريق أن ببعض المأخوذ على [17 ب/4] ما ذكرنا والشافعي رحمه الله فرق في "الكبير" مسألة: الفارقة عن مسألة التفريق. فضرب المزني إحداهما في الأخرى، وهذا ظلم من أصحابنا على المزني، لأنه نقل المسألتين بلفظ مختصر، فقال: وإن وجد أحد الصنفين دون الآخر، أخذ الذي وجد، فهذا مفارقة الفريضة. ثم استأنف الكلام بحرف العطف فقال: ولا يفرق الفريضة، فأفرد مسألة التفريق عن مسألة المفارقة فتفهم. فرع لو كانت له أربعمائة من الإبل، فأراد الساعي أن يأخذ منها خمس بنات لبون وأربع حقاق، فإنه يجوز، وهو المذهب. وقال أبو سعيد الإصطخري: لا يجوز، لأن الفرض إذا أمكن أخذه من جنس واحد لم يجز أخذه من جنسين كما في المائتين، وهذا غلط، لأن أربعمائة جملتان، لو انفردت كل واحدة منها جاز أن يأخذ منها كل واحد من الجنسين، إما خمس بنات لبون، وإما أربع حقاق، فإذا جتمعتا جاز أن يأخذ فرضها من جنسين مختلفين، وليس كذلك المائتان، فإنهما حملة واحدة فيهما فرض واحد، لأنهما إذا جعلتا نصفين لم يجز أن يؤخذ من كل نصف منهما كل واحد من الجنسين، كما يقول في كفارة يمينين يجوز التفريق، ولا يجوز في كفارة واحدة. مسألة: قال: وإنْ كانَ الفَرْضَانِ مَعِيبينِ [18 أ/4] بمَرَضٍ أو هُيامٍ أو جَرَبٍ. الفصل وهذا كما قال: الهيام - بضم الهاء-: داء يعتري الإبل في أجوافها، فلا تزال تكرع الماء عطشًا حتى تموت، يقال: جمل أهيم، وناقة هيماء وإبل هيم لأنها حينئذ في معنى المفقودين، إذ لا يجوز أخذهما، فيقال له: أنت بالخيار بين أن تصعد في السن أو تترك مع الجبران، لأن كون الفرض معيبًا بمنزلة عدمه، فإن أعطانا أربع جذاع بدل أربع حقاق، أخذناها ورددنا عليه لكل جزعة شاتين أو عشرين درهمًا، وإن أعطانا خمس بنات مخاض بدل خمس بنات لبون أخذناها، وأخذنا مع كل واحد منها شايتن أو عشرين درهمًا، فإن قال: خذوا مني خمس جذاع بدل خمس بنات لبون وردوا على لكل جذعة أربع شياه أو أربعين درهمًا، لم يأخذها، لأنا إذا أمكننا أن نصعد من الفرض الأعلى وهو الحقاق، لم يجز أن يصعد من الفرض الأدنى وهم خمس بنات لبون. ولو قال رب المال: أنا أشتري [18 ب/4] لكم خمس بنات لبون أو أربع حقاق

ولا أعطيكم شيئًا أعلى من الفرض ولا دون الفرض، كان ذلك له، وكان ذلك يجب عليه أن يأتي بالفرض على ما يشبه بماله بالقيمة، وطريق معرفته أن يقال: لو كانت المائتان مراضًا كم كانت قيمة خمس بنات لبون منها؟ فيقال: عشرة دنانير، ولو كانت كلها صحاحًا كم كانت قيمة همس بنات لبون منها؟ فيقال: عشرون دينارًا،/ ثم يقول كم المراض من المائتين؟ وكم الصحاح؟ فإن قيل: نصفان أخذنا نصف قيمة العشر ونصف قيمة العشرين، فتكون خمسة عشر دينارًا، فنقول لرب المال: ائت بخمس بنات لبون تساوي خمسة عشر دينارًا، وإن قيل: ثلث المائتين مراض، وثلثاها صحاح، أخذنا ثلث العشرة وثلثي العشرين، وعلى هذا الحساب إذا قل عدد المراض من المال وكثر عدد الصحاح، أو كان على العكس. فرع الجبار في موضع الجبران هو إلى المعطي، فإن كان المعطي رب المال فالخيار إليه، إن شاء أعطى شاتين وإن شاء أعطى عشرين قال في "الأم": والاحتياط لرب المال أن يعطي ما هو الأحظ لأهل السهمان منهما. وقال الثوري: الجبران شاتان أو عشرة دراهم، وروي ذلك عن على رضي الله عنه، لأن قيمة الشاة في الشرع [19 أ/4] خمسة دراهم، لأن نصاب الغنم أربعون، وهذا غلط، لأنه لا تقوم الإبل أربعة دنانير على هذا القياس، فكذلك فيما ذكرتم. ومن أصحابنا من قال: قال في "الإملاء": الخيار إلى الساعي، ففيه قولان، وهذا غلط، والذي قال في "الإملاء"، أراد إذا كان الساعي هو المعطي، ولا شك هاهنا أن الخيار إليه، ولا يجوز له أن يختار إلا ما هو خير لأهل السهمان كما قلنا في فرض المائتين، وهذا لأنه وكيل لهم، فلا يفعل إلا ما فيه حظهم. فرع آخر لو كان مع الساعي أغنام وليست معه دراهم، والشاتان أكثر قيمة من العشرين الدراهم، فإنه يبيع من الشاتين بقدر عشرين درهمًا، ويدفع إلى رب المال، وإن كانت العشرون درهمًا أكثر من الشاتين، دفع الشاتين. فرع آخر لو نزل سنين أو صعد سنين، فإن كانت السن التي تلي الفرض معدومة، جاز النزول بسنين ويجعل جبرانين، بكل سن جبرانًا واحدًا، فتكون أربع شياه أو أربعين درهمًا، وإن كان ثلاثة أسنان، يلزم ثلاث جبرانات، ست شياه أو ستون درهمًا، وإن كان السن التي تلي الفرض موجودة، فذكرنا أنه لا يجوز النزول منها، وهو المذهب، وفيه وجه آخر أنه يجوز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم "قدر جبران كل سن بشاتين أو عشرين [19 ب/4] درهمًا"، فيجوز أخذه هاهنا عن سنين، وهو ضعيف. وهكذا الخلاف لو وجد سنًا أعلى منه بسنة وسنًا أعلى منه بسنتين. وقال ابن المنذر: لا يجوز النزول إلا إلى سن واحدة لأن الشرع لم يرد الجبران إلا في سن واحدة، وهذا غلط لأن فيها ذكر سنها على ما ذكرنا.

فرع آخر لو وجبت ابنة لبون وعنده ابنة مخاض وجذعة، هل له إخراج الجذعة؟ وجهان: إحداهما: لا يجوز بل عليه إخراج بنت مخاض، لأنها أقرب إلى الواجب. والثاني: وهو الأصح، ما هذا يجوز له ذلك، لأنها استويا في القرب، هذا من طريق الانخفاض وذلك من طريق الارتقاء، لأنه ليس في إبله ما قبل الجذعة، ولم تجب عليه إخراج حقة، لكونها معدومة في ماله. فرع آخر إذا وقع الجبران لسن واحدة فليس له أن يبعض فيعطي شاة وعشر دراهم، وإذا دفع جبران سنين، له أن يبعض فيدفع شاتين وعشرين درهماً، كما قلنا في الكفارتين والكفارة الواحدة. فرع آخر لو لم يكن في ماله الفرض وفي ماله سن دونه وسن فوقه فاختلفا، فقال رب المال: أنزل وأعطى الجبران، وقال الساعي: أصعد وأعطى الجبران، أو كان على العكس، قال الشافعي في "الأم" (¬1): الخيار في ذلك إلى الساعي لأن السن الأعلى [20 أ/4] والسن الأسفل صارتا بمنزلة الفرضين عند عدم الفرض في ماله، ولو وجد الفرضان كان الخيار إلى الساعي، فكذلك هاهنا. قال الشافعي: فإن لم يقل المصدق الخير لهم، كان عى رب المال أن يخرج فضل ما بين ما أخذ المصدق لهم وبين الخير، ثم يعطيه أهل السهمان. وعند ابن سريج الخيار في هذا إلى رب المال كما قال في الفرضين. ومن أصحابنا من قال: الخيار هاهنا إلى رب المال، بخلاف الفرضين، والفرق أن له تركهما وتحصيل الواجب، بخلاف الفرضين في المائتين، وهذا خلاف النص الذي ذكرناه، فإن قيل: ما الفرق بين هذا وبين الخيار في الشاتين أو العشرين فإنه إلى رب المال إذا كان هو المعطي؟ قلنا: الفرق أن ذلك جعل جبراناً على سبيل التخفيف، فكان ذلك إلى المعطي، وهذا التخفيف في الفرض، فكان إلى الساعي. وقال أبو حنيفة: يجوز كل ذلك باعتبار القيمة، ويجوز حقه بتثمينه بقيمة الجذعة من دون الجبران، ولا يتقدر الجبران في موضع الحاجة بعشرين درهما أو شاتين بل يراعي القيمة، وهذا غلط الذي ذكرنا. فرع آخر لو أعطى بين سنين ابنة مخاض بدل شاتين، قال بعض أصحابنا: يجوز، وهو غلط مسألة: قال (¬2): ولا يأخذ [20 ب/4] مريضاً وفي الإبل عد صحيح. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 6). (¬2) انظر الأم (1/ 193).

وهذه كما قال. ومعنى المسألة: إذا كانت إبله مراضاً، وعدد الفرض منها صحاحاً، وهذه المسألة هي مخالفة للمسألة المتقدمة، لأن هناك الفرضين معيبان، وهذا الفرض صحيح، وسائر الإبل مراض، والجواب فيهما واحد إلا في الصعود والنزول، فإنا لا نجوز هاهنا أن يصعد إلى فرض مريض، ولا أن ينزل إلى فرض مريض، ويترك في مالك فرضاً صحيحاً، بل يقول له: إن تبرعت بالفرض الصحيح الموجود في مالك، وإلا فائتنا بفرض يشبه مالك بالقيمة، وطريق التقويم على ما تقدم بيانه. وقال في "الأم" (¬1): ولا يأخذ مريضاً وفي الإبل عدد صحيح من دون الهاء، وأراد إذا كان في جملتها صحاح مراض، لم تؤخذ المريضة، بل تؤخذ الصحيحة على ما ذكرنا لأنا لو أخذنا المريضة وقع الأخذ شائعاً فتكون قد أخذنا المريضة عن الصحيحة، وهذا لا يجوز. مسألة: قال (¬2): فإن كانتْ كُلَّها مَعِيبةً لمْ يُكَلِّفْهُ صَحيحةً من غَيرِهَا، ويأخذُ جَبْرَ المعُيبِ. وهذا كما قال: إذا كانت ماشيته مراضاً كلها، تؤخذ الزكاة منها، ولا يطالب بالصحيح، وهذا غلط، لقوله صلى الله عليه وسلم لما "إياك وكرائم أموالهم" (¬3) ولأنه مال تجب الزكاة فيه من جنسه، فلا يكلف الجيد من الرديء كالحبوب، فإذا تقرر هذا [21 أ/4] نقل المزني ويأخذ خير المعيب، واختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: أراد أنه يأخذ خير الفرضين المعيبين، وهو الصحيح، وعليه يدل ظاهر كلام الشافعي رحمه الله عليه في "الأم" (¬4)، لأنه قال: ويأخذ جبر المعيب من السن التي وجبت له. ومن أصحابنا من قال: أراد من المال إذا خيره رب المال وأذن له أن يأخذ خيره. ومن أصحابنا من قال: أراد بالخير الوسط ويعبر عن الخير بالوسط. قال تعالى: {وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطًا} [البقرة: 143]، وقال: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] وأراد وسطاً. ومن قال بهذا اختلفوا، فمنهم من قال: أراد الوسط بالقيمة على ما تقدم بيانه، ومنهم من قال: أراد بالوسط من عدد العيوب، فيترك ما فيه عيب واحد وما فيه ثلاثة عيوب، ويؤخذ ما فيه عيبان. فرع آخر لو كانت له ست وثلاثون من الإبل مراض، وفيها بنت لبون صحيحة، فإن تبرع بها أخذناها، وإن امتنع منها نقول له: الذي يجب عليك بنت لبون صحيحة تشبه مالك، وطريق ذلك التقويم على ما تقدم بيانه، وعلى هذا لو لزمته شاتان وإحداهما صحيحة في ماله، والأخرى مريضة وباقي مريضة كلفناه واحدة صحيحة، وقبلنا الأخرى مريضة، ولا تتعين هذه الصحيحة بل يأتي بشاة أخرى على ما يليق بماله أو [21 ب/4] ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 5). (¬2) انظر الأم (1/ 193). (¬3) أخرجه البخاري. فتح (3/ 377)، ومسلم. نووي (1/ 196). (¬4) انظر الأم (2/ 5).

يعطي الموجودة. ولو قال: أنزلوا إلى سن دونها، أو إلى سن فوقها مع الجبران في المسألة الأولى، لم يجز، لأن سائر الأسنان مريضة ولا يجوز أخذ المريضة وفي المال صحيحة. فرع آخر لو كانت له ستة وثلاثون من الإبل مراض، وليست فيها بنت لبون، فإن قال: أعطي بنت مخاض مريضة معها الجبران أخذناها، لأنه زيادة، وإن قال: أعطي حقة وردوا على الجبران شاتين، لا يجاب إليه، لأنه هذا جبران ما بين السنين الصحيحتين، فلا يجوز أن يجعل جبران ما بين السنين المريضتين، لأنه يؤدي إلى الإضرار بالفقراء، ولا يجوز للساعي أن يفعل إلا ما هو الاحتياط لهم، ولا يجوز أن ينقص الجبران كما قدره الشرع. مسألة: قال (¬1): وإذا وَجَبتْ عليه جَذَعَةٌ لم يَجُزْ لنا أن نأخذُ منهُ ماخِضاً. وهذا كما قال: إذا كانت له إحدى وستون من الإبل، يلزمه جذعة حائل، فإن كانت جذعة ما خض أي: حامل، لم يجز للساعي مطالبته بها، وإنما قيد الشافعي رحمه الله بالجذعة، لأن ما دونها لا يحمل فإن تطوع رب المال بها، أخذناها، فإن قيل: أليس لو جاء الجاني بغرة حامل لا يؤخذ. فما الفرق؟ قلنا: الفرق هو أن الحمل في بنات آدم نقص، وهو في البهيمة زيادة [22 أ/4] ولهذا لو اشترى بهيمة فوجدها حاملاً، لم يكن له ردها، ولو اشترى جارية فوجدها حاملاً كان له ردها. وحكي عن داود أنه قال: لا يجوز أخذ الحامل، لأن الحمل عيب، ولا السن الأعلى عن الأداء، واحتج بنهيه عن أخذ الشافع في الزكاة، وأراد به الحامل، وهذا غلط، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ففيها جذعة" ولم يفصل بين الحامل والحابل، ولأن الحمل زيادة، بدليل أنه غلط الدية بالحمل، فصار كما لو أخرج السمينة بدل المهزولة، والدليل على أن الأعلى يقبل إذا تطوع به، ما روى أبي بن كعب أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدقاً، فمررت برجل فجمع إلى ماله، فوجدته تجب عليه ابنه مخاض، فقلت: يجب عليك بنت مخاض، فقال: إنه لا ذر لها ولا ظهر، وهذه ناقة سمينة عظيمة فخذها، فقلت: لا آخذ مات لم أومر، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريب منا، فإذا أردت أن نأتيه فنعرضها عليه، فإن أخذها أخذتها، وأن ردها رددتها، فخرج إليه وذكر له، فقال: "ذاك هو الواجب فإن تطوعت بخير منه قبلنا منك" (¬2)، فقبلها، فقبلتها منه. فرع لو ضرب الفحل فلم يدر، أحملت أم لا؟، لا يأخذها جبراً على ما تقدم بيانه ولو ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 193). (¬2) أخرجه أحمد (5/ 142)، وابن خزيمة (4/ 24)، والحاكم (1/ 399)، والبيهقي في "الكبرى" (7279).

جاء الجاني [22/ب 4] بغرة وطيب قبلناها، لأن الغالب في البهائم من الضراب الحمل، بخلاف بنات آدم. مسألة: قال (¬1): وإنْ كانتْ إبِلُةُ مَعِيبة فَريضَتُها شاةً. الفصل وهذا كما قال: إذا كانت له خمس من الإبل مراضاً أو معيبة، نقول له: أنت بالخيار بين أن تعطينا منها بعيراً، فإن أعطانا شاة لا نقبل المعيبة والمريضة. ومن أصحابنا من قال: في خمس من الإبل شاة، ما يطلق عليه اسم الشاة، وهذا غلط، لأن مطلق الاسم في الشرع يتناول ما قيد وصفه في الضحايا. وروي عن سويد بن غفلة أنه قال: أتانا مصدق رسول الله صلى عليه وسلم فقال: نهينا عن الأخذ من راضع لبن، وإنما حقنا في الجذعة والثنية وقال ابن خيران: يؤخذ منه شاة صحيحة، يجوز في الأضحية بالقيمة فيقال: خمس من الإبل الصحاح كم تساوي؟ فيقال: ألف درهم، فيقال: وكم تساوي شاة يجوز أخذها منك؟ فيقال: عشرون، ثم يقال: لو كانت مراضاً كم كانت قيمتها؟ فيقال: خمسمائة، فيقال: ائتنا بشة صحيحة تجوز في الأضحية تسوي عشرة دراهم، فإن لم تؤخذ قسم العشرة على الفقراء وأجزأته الضرورة، والأول ظاهر مذهب الشافعي، لأن الشاة هي أقل الواجب فيها، فلا يجوز أن ينقص عنها، كما نقول [23 أ/4] في شاتي الجبران إذا كانت الإبل مراضاً، ولم يكن فيها الفرض لا يجوز أخذ الأدنى مع شاتين مريضتين فيها الفرض، لأن ذلك أقل الجبران بالشرع، كذلك هاهنا، ولأنه لا تعتبر فيه صفة المال، فلم يختلف بصحة المال ومرضه كالأضحية، ولو قال: أعطيك بعيراً منها أخذناه وأجزأه، وهكذا إذا كانت معه خمس من الإبل الصحاح، فأعطانا بعيراً منها أجزأه، لأن الأصل في الفرض إخراج الجنس من ماله, وإنما عدل إلى الشاة هاهنا رخصة ورفقاً برب المال، فإذا اختار الأصل كان له، كما لو اختار غسل الرجل بدل المسح على الخف كان أولى. فرع إذا أخرج الإبل هاهنا، فيه وجهان: إحداهما: وهو الأظهر، الكل فرضه فيكون في الخمس من الإبل فرضان: أعلى، وأدنى، فالأعلى هو البعير، والأدنى هو الشاة، وصاحبها بالخيار، وإن شاء أسقط الفرض بالأعلى، وإن شاء أسقط الفرض بالأدنى، كما تقول في أنواع كفارة اليمين. والثاني: أن الفرض منه خمسة والباقي تطوع، لأن أقل ما يجب فيه الإبل خمسة وعشرون من الإبل، فتكون في مقابلة كل خمس بعير، ونظير هذا التمتع إذا نحر بدنة، فهل جميعها فرض أم لا؟ وجهان: ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 193).

إحداهما: الجميع فرضه. والثاني: السبع منها فرضه، والباقي تطوع. [23 ب/4] فرع آخر لو أعطانا بعيراً منها أكثرها عيوباً، قبلناه، نص عليه في "الأم" (¬1)، فإن قيل: أليس قال الشافعي: ويأخذ خير المعيب؟ قلنا: أراد به إذاً الفرض من جنسها، لان المعيب لا يكون أكثر من الواجب، وهاهنا الفرض من غير جنسها، فأي شيء أعطانا من الجنس فهو أكثر من الواجب، فافترقا. فرع آخر قال القفال: لو أعطى بعيراً عن خمس من الإبل الصحاح، ولا تساوي هذه الإبل شاة، لا يجوز، ولو أعطى من الإبل المراض يجوز، وإن كان أقل قيمة من قيمة شاة، نص عليه الشافعي (¬2)، والفرق أن في الصحاح إذا أعطى إبلاً فهو غاية التطوع، وأقل ما في التطوع أن لا ينقص عن الواجب، وفي المراض، إذا أعطى إبلاً فهو غير متطوع، وإنما نعطيه للضرورة، فلا حاجة إلى اعتبار القيمة وأعلم أن هذا النص غريب لم يذكره أهل العراق. وقال بعض أهل خراسان: لم يوجد هذا للشافعي رحمه الله، وقد ذكر الإمام أبو محمد الجويني عن الشافعي رحمه الله أنه قال: لو أعطى ثوراً من ثلاثين ثوراً، وهو خير من تبيع قبلنا، قال: وقوله وهو خير، إنما اشترط، لأن هذه المنزلة هي منزلة تبرع، فلا ينبغي أن ينقص التبرع عن درجة الواجب، والواجب يتبع .... (¬3) التبرع [24 أ/4] أن يكون زائداً على الفرض ..... (¬4) أن الإمام القفال ذكر ذلك النص تخريجاً من هذا الموضع. وقال مالك: لا يجوز البعير عن الخمس إلا أن تسوي شاة بكل حال، وهو قول أبي حنيفة. وقال داود: لا يجوز البعير أصلاً، ويروي هذا عن مالك أيضاً في المعيب، ذكر في "الحاوي" (¬5)، وقد ذكرنا الدليل على بطلانه. فرع آخر لو كانت عنده عشر من الإبل، هل يرضي منه ببعير واحد أم يحتاج إلى بعيرين؟ فيه وجهان: إحداهما: يكفي واحد، لأنه يجوز عن خمس وعشرين، فلا يجوز عن عشر أولى، ولا يجوز أن يؤخذ خمس بعير، ولا همساه بدل شاة، وإن كان فيه ثنية، لأن التبعيض عيب. والثاني: لابد من بعيرين مكان شاتين. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 6). (¬2) انظر الأم (2/ 6). (¬3) (4) موضع النقط بياض بالأصل. (¬5) انظر الحاوي للماوردي (3/ 101).

فرع آخر قال بعض أهل خراسان: الإبل المخرج هل هو بدل عن الواجب أم أصل؟ وجهان: إحداهما: أنه بدل، ولكنه يجوز للنص. والثاني: أنه أصل، وهو الصحيح فرع آخر لو أخرج كبشاً هل يجزئه؟ قال أبو إسحاق: يجزئه، لأن هذه الشاة لا تتعلق بعين المال ... (¬1) الذكر والأنثى كالأضحية، وهو الصحيح. وقال بعض أصحابنا: لا يجوز، إلا الأنثى، لأن فرائض الإبل كلها إناث. وفيه وجه ثالث: أنه كانت الإبل إناثاً لا يجوز إلا أنثى، وإن كانت ذكوراً [24 ب/4] يجوز الذكر والأنثى اعتباراً لصفة المال، وعلى هذا لو أخرج الذكر في الجبران، هل يجوز؟ فيه وجهان أيضاً. فرع آخر سن هذه الشاة إن كانت ضأناً فجذعة، وإن كانت معزاً فثنية، وأما صفتها فمن نوع غنم البلد، فإن كانت ضأناً فضأنا، وأن كانت معزاً فمعزاً، وإن كانت منهما، فمن أيهما شاء، ولا فرق بين أن يكون إحداهما أغلب من الآخر، أو يكون سواء. وقال مالك: الاعتبار بأغلب غنم البلد في النوع، كما في الجنس، فإن كان غالب غنم البلد الضأن، لم يجز أخذ المعز، وإن كان الغالب المعز، لم يجز أخذ الضأن، وهذا غلط، لأن الشرع ورد بتجديد؟ النوع والتسوية بين جميع الأنواع، فلم يحتج مع ورود الشرع به إلى اختيار أهل البلد، والأغلب فيها، بخلاف الجنس المطلق، ذكره في الشرع، فاعتر فيه الأغلب، وقد قال الشافعي في "الكتاب". ولا أنظر إلى الأغلب في البلد، وعلل الشافعي لإبطال قوله نقله، أخل المزني بنقلها حيث نقل فقال: لأنه إنما قيل: إن عليه شاة من شياه بلده، أي: لم تقيد تلك الشاة في الخبرة بشاة من أغلب عنهم بلده، فإذا أعطاه شاة من شياه بلده جاز، فاستأنف هذا الكلام من جهة نفسه، لا إدراجاً له في متن الخبر كما أوهم المزني، وأما جنسها قال [25 أ/4] الشافعي في "الأم" (¬2): إن كان في بلده جنس من الغنم فجاء بجنس آخر، نظر، فإن كان مثله في القيمة، أو خيراً منه أجزأه، وإن كان دونه لم يجزه، فعلى هذا، إذا كان بمكة، فأخرج شاة مكية أجزأته، وأن أخرج من غيرها، وكان دونها في القيمة، لم يجز، وإن كان مثلها جاز ولو كانت له أربعون شاة مكية ببغداد، فأخرج من غنم بلدة شاة، لم يجز، ولا يعتبر فيها غنم البلد، لأن الشاة الواجبة من الأربعين هي مستحقة من جنس النصاب، فلم يجز إخراجها من غير جنسه إلا أن يكون خيراً من جنسه أو مثله فيجزئه، وليس كذلك في الشاة المأخوذة من خمس من الإبل، لأنها ليست من جنس النصاب، فاعتبرتا بغنم ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) انظر الأم (2/ 8).

البلد، وإذا أراد أن يعدل عن جنس غنم البلد فهو بمنزلة عدولة عن جنس النصاب في الأربعين. فرع إذا ملك نصاباً من الضأن فأراد أن يخرج ماعزاً أو على العكس، قال القاضي: فيه وجهان: إحداهما: يؤخذ كما لو كانت بعضها ضأناً، وبعضها ماعزا، فإنه يأخذ من الكل الضأن أو المعز. والثاني: يؤخذ الضأن من المعز، ولا يؤخذ المعز من الضأن، لأن الضأن خير النوعين، وإذا قلنا: يؤخذ المعز من الضأن، لا يؤخذ إلا ثنية، وإذا قلنا: يجوز [25 ب/4] إخراج الضأن من المعز، فإن أخرج ثنية فقد زاد، وإن أراد أن يخرج جذعة بدل ثنية من المعز فيه وجهان، إحداهما: يجوز لأنها تجوز عن نصاب من الضأن. والثاني: لا يجوز لأنها ناقصة السن كما لو أخرج حقة سمينة بدل جذعة لا يجوز. مسألة: قال (¬1): وإذا كانت إبِلُهُ كِراماً لم يأَخُذْ منهُ الصَّدَقَةَ دُونَهَا. الفصل وهذا كما قال قيل: الكرام من صفي الناس، وإنما يقال في الإبل كرائم ولا يقال كرام، إلا أن الشافعي رحمه الله استعمله في الإبل وقوله حجة في اللغة وجملته أنه إذا كانت إبلة كراماً من حيث الجنس مثل أن يكون معه خمسة وعشرون بختياً فعليه أن يخرج بنت مخاض بختية، ولو أعطى من العراب لا يجوز، وكذلك لو كانت إبلة مهرية أو مجيدية لم يجز إخراج الفرض من جنس دونه وهذا للعدل بين رب المال وأهل السهمان، وإن كانت إبلة كراماً من جهة السن مثل أن يكون كلها ثنايا أو بُزلاً أو جذاعاً لا نكلفه أن يعطي بعيراً منها بل نطالبه ببنت مخاض من جنسها والفرق بين كرم الجنس وكرم السن من وجهين: إحداهما: أن سن الفرض منصوصة مبنية بياناً لا يحتمل التأويل، حتى قال صلى الله عليه وسلم: "فمن سئل فوقها فلا [26 أ/4] يعطه" وليس كذلك جنس الفرض فإنه غير منصوص عليه فاعتبر بالجنس النصاب الذي وجب الفرض منه. والثاني: أن الزيادة في السن تجري مجرى الزيادة في العدد، ألا ترى أن فرائض الإبل تارة بالسن وتارة بالعدد فلما لم يجز أن يزاد في عدد الفرض لم يجز أن يزاد في السن لئلا يؤدي إلى الأخذ من القليل مثل الأخذ من الكثير، فإنه لو أخذ من خمس وعشرين جذعة مثلاً جذعة فقد أخذنا في إحدى وستين وهو محال وهناك لا يؤدي إلى هذا المعنى فافترقا، وعلى هذا لو كانت له إحدى وستون حوامل لا يكلف ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 194).

حاملاً لأن الحامل اثنان ولو كانت معه خمس وعشرون من الإبل سماناً أو أربعون شاة أكولة وجبت سمينة مثل ماله كما يؤخذ من الهازيل مهزولة. مسألة: قال (¬1): وإذا عَدَّ عليهِ السَّاعي فَلَمْ يأخُذْ منهُ شيئاً حتَّى نَقَصَتْ. الفصل وهذا كما قال هذه المسألة مبنية على أن الإمكان من شرائط الوجوب، أو من شرائط الضمان، وإن قلنا: من شرائط الوجوب وهو ظاهر المذهب فعد عليه الساعي ماشيته بعد حولان الحول فلم يأخذ منه شيئاً حتى نقصت عن النصاب فلا شيء عليه وعلى القول الآخر عليه بحصة ما بقي واختلف قول الشافعي [26 ب/4] رحمة الله عليه في كيفية الإمكان فقال في الجديد: الإمكان هو الوصول إلى الساعي أو إلى أهل السهمان سواء كان ماله من الأموال الظاهرة كالمواشي أو كان من الأموال الباطنة، كالذهب والفضة، ومن أصحابنا من قال: لو أخرها على هذه القول عن أهل السهمان ليوصلها إلى الإمام لا يضمن، لأن له غرضاً صحيحاً في الدفع إلى الإمام لدفع الخلاف، وهذا خلاف النص، وقال في "القديم": إن كان من الأموال الباطنة فهو الوصول إلى الساعي أو إلى أهل السهمان وأن كان من الأموال الظاهرة فهو الوصول إلى الساعي دون أهل السهمان، وتجب الزكاة على الفور عند الإمكان، وبه قال الكرخي من أصحاب أبي حنيفة، وقال أبو بكر الداري: على التراخي لأنها لو هلكت عند أبي حنيفة لا يضمن .... (¬2) على ..... (¬3) وإذا وجد الإمكان على ما بيناه فلم يخرج الزكاة حتى تلف المال فإنه يلزمه ضمان الزكاة، وقال أبو حنيفة لا يضمنها وإن أخرها سنين لا يطالبه إلا بمطالبة الإمام وهذا غلط، لأنها أمانة حصلت في يده بغير اختيار من له الحق فيضمن بالإمكان كما لو ألقت الريح ثوباً في داره ضمن بالإمكان. مسألة: قال (¬4): وما هَلَكَ أو نَقَصَ في يدَيَ [27 أ/4] السَّاعي. فلم يفرقها حتى تلفت في يده سقط الفرض عن رب المال بقبض الساعي منه فإن كان الساعي لم يمكنه أن يفرقها بين أهل السهمان حتى تلفت فلا ضمان على الساعي وإن أمكنه ذلك فإن آخر تفريقها لعذر مثل إن كان مشغولاً بتثبيت أسمائهم وإحصائهم وتعرف أحوالهم أو انتظار مال آخر من الصدقات، يحمل إليه فيضيفه إلى ما تحصل عنده ليعم الجميع به فلا ضمان عليه وإن أخرها لغير عذر، فإنه مفرط ويلزمه الضمان فإن قيل: إذا وكل رجلاً في قبض ماله من رجل فقبضه وأمكنه أن يدفع إليه فلم يدفع حتى تلف لا يلزمه الضمان، فما الفرق؟ قلنا: الفرق هو أن الزكاة مستحقها غير متعين فلم يجعل سكوت مستحقها رضي فتركها في يده فتعلق الضمان بالإمكان، وهاهنا المال الذي في يد الوكيل مستحقة متعين فجعل سكوته عن المطالبة بتسليمه إليه رضي منه. ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 194). (¬2) (3) موضع النقط بياض بالأصل. (¬4) انظر الأم (1/ 194).

باب زكاة البقر السائمة

بكونه في يده، وتعلق الضمان بمطالبه وامتناعه. فرع لو أوصى إلى رجل بتفرقة ثلاثة على الفقراء ومات الموصي وأمكنه تفريقه عليهم فلم يفعل حتى تلف ضمن لأن المستحق غير معين كالزكاة سواء، ولو وجد لقطة فأخذها وهو يعرف صاحبها لزمه إعلامه [27 ب/4] بها فإن أخر الإعلام مع الإمكان ضمن لأن مستحقة متعين ولذلك لو هبت الريح بثوب في داره. فرع لو قال له: سلم هذا المال إلى رجل فأخذه ... (¬1) التسليم فلم يسلمه حتى تلف هل يضمن وجهان: إحداهما: أنه يضمن كالزكاة. والثاني: لا يضمن لأنه لا يلزمه أمره بخلاف أمر الشرع وهذا هو اختيار كثير من أصحابنا، والصحيح عندي القول الأول لأنه ألتزمه باختياره فلزمه الوفاء به. باب زكاة البقر السائمة قال: أخبرنا مالك عن حميد، وذكر الخبر. وهذا كما قال: الأصل في زكاة البقر الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب: فقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، وأما السنة: فما رواه الشافعي أن النبي صلى الله عليه وسلم: "أمر معاذاً أن يأخذ من كل ثلاثين تبيعاً ومن كل أربعين مسنة" ثم روى فعل معاذ موافقاً لهذا فقد روى طاوس أن معاذاً أخذ من ثلاثين بقرة تبيعاً ومن أربعين مسنة (¬2)، وروى في خبر علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، وأما الإجماع: فما قال الشافعي لا أعلم فيه من أحد من أهل العلم لقيته خلافاٌ (¬3). فإذا تقرر [28 أ/4] هذا فقبل أن يشرع في حكم زكاتها يقدم ذكر أسنانها، فإذا ولدت البقرة فهو عجل وعجول، فإذا استكمل سنة ودخل في الثانية فهو جذع، وجذعة، فإذا استكمل سنتين ودخل في الثالثة فهو ثني وثنية، فإذا استكمل ثلاثاً ووجد في الرابعة، فهو رباع ورباعية، فإذا استكمل خمساً ودخل في السادسة، فهو صالغ، ثم لا اسم له بعد هذا إلا صالغ (¬4) عام وصالغ عامين. وأما التبيع فقال أبو عبيد: لا يدل على سن، وقال غيره: يسمى تبيعاً لأنه يتبع أمه في الرعي، وقال الأزهري (¬5): التبيع هو الذي أتى عليه حول ولا شك أنه المراد ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) أخرجه أبو داود (1576)، الترمذي (623)، والنسائي (2451)، وابن ماجة (1803). (¬3) انظر الأم (2/ 7). (¬4) انظر: فقة الله (63)، الفرق لقطرب (104). (¬5) انظر: "الزاهرة في غرائب ألفاظ الشافعي" (ص 98).

بالخبر، وقيل: إنما سمي تبيعاً لأن قرنه يتبع لونه حتى صارا سواء، وأما المسنة: فجمعها سنات ومسنات، وهي الثنية. وقال الإمام أبو الحسن الماوردي في تصنيفه "الحاوي" (¬1): من غير خلاف التبيع ما له ستة أشهر فصاعداً وسمي تبيعاً لأنه قوي على إتباع أمه، والمسنة هي التي لها سنة كاملة ودخلت في الثانية، وهذا غريب فإذا تقرر هذا فلا صحت الزكاة في البقر حتى تبلغ ثلاثين، فإذا بلغتا، ففيها تبيع، وهو قول كافة العلماء، وقال سعيد بن المسيب والزهري وجابر بن زيد وابن شبرمة، تجب في كل خمس منها شاة إلى ثلاثين لأن البقرة تجزي عن سبعة كالإبل، وقال [28 ب/4] أبو قلابة: في كل خمس شاة إلى عشرين ففيها أربع شياه ثم لا شيء فيها حتى تبلغ ثلاثين فيكون فيها تبيع، حكى عن سعيد بن المسيب أنه قال: نصها كالإبل في كل خمس شاة وفي خمس وعشرين بقرة بدلاً من ابنة مخاض ثم لا شيء فيها حتى تبلغ ستاً وسبعين فيكون فيها بقرتان بدلاً من بنتي لبون، وهذا غلط لما روى الحكم عن طاوس عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن أمره أن يأخذ من كل ثلاثين من البقر تسعاً أو سبعة جذعاً ومن كل أربعين مسنة فقالوا: الأوقاص، فقال: ما أمرني فيها بشيء وسأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدمت عليه فلما قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله عن الأوقاص فقال: "ليس فيها شيء" وروي أنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يقدم معاذ، وروى الشافعي أن معاذ أتى بوقس البقر أو وقص البقر فقال: لم يأمرني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء وفسر الشافعي رحمه الله الوقس فقال: والوقس ما لم يبلغ الفريضة أي: ما دون النصاب. ثم قال: فبهذا كله نأخذ أي: لا يوجب إلا فيما أوجبه رسول الله صلى الله عليه وسلم [29 أ/4] لأن المقادير لا تؤخذ توفيقاً وكذلك امتنع معاذ من الأخذ فيما لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم فيه بشيء، وأيضاً الواجب في الزكاة الإناث فلما استفتحت فريضة البقر بالذكر دل أن ما قبلها لا يحتمل واجباً، فإذا تقرر هذا فلا شيء في زيارتها حتى تبلغ أربعين فإذا بلغتها ففيها مسنة وهي التي تجزي في الأضحية، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ ستين فإذا بلغتها ففيها تبيعان ويستقر النصاب بعد ذلك فيكون النصاب عشرة عشرة والوقص تسعة تسعة والفرض في كل ثلاثين تبيع وفي كل أربعين مسنة والوقص يحرم إيقاف عند الفقهاء، وقال بعض أهل اللغة هو بتحريك القاف كالشنق، وأما الشنق بتحريك النون، فروى البويطي عن الشافعي رحمه الله أنه قال: هو ما بين الستين من الإبل والبقر والغنم وأراد به ما بين الفريضتين، ولكنه يختص بالإبل والوقص يختص بالبقر، وقال أبو حنيفة في إحدى الروايات مثل مذهبنا والرواية الثانية عنه أنه قال في خمسين مسنة وربع مسنة والرواية الثالث: عنه أنه قال يجب فيما زاد على أربعين جزء من مسنة، وإن ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (3/ 107).

باب صدقة الغنم السائمة

كانت الزيادة واحدة وهذا غلط، ظاهر لأنه يؤدي إلي إيجاب جزء من الجبران ابتدأ في الزكاة وهذا [29 ب/4] لا نظير له في الأصول، وفي هذا احتراز من ثلاث مسائل علي أصلنا يجب فيها الجزء إحداها: الخلطة، والثانية: إذا هلك البعض بعد حلول الحول قبل الإمكان، والثالثة: المستفاد ثم إذا بلغت مائه وعشرين اجتمع أربع ثلاثينات وثلاث أربعينات فيجب أخذ الفرضين، إما ثلاث مسنات أو أربعة أتبعه، وشرح هذا الفصل كما ذكرنا في الإبل، إلا أنه لا يجوز الصعود فيها ولا النزول مع الجبران وتفارق الإبل من وجهين، إحداهما: أن الجبران تقويم الشرع فيجب قصره علي الموضوع الذي ورد فيه الشرع، والثاني: أن في الإبل يجوز العدول من جنسها إلي غير جنسها في الابتداء للرفق بصاحبها فجاز إلي غير جنسها في الجبران للتخفيف والرفق بخلاف البقر، وبقولنا قال مالك وأحمد وأبو يوسف ومحمد. فرع لو كانت له ثلاثون من البقر ووجب فيها تبيع فأعطانا تبيعته كانت أفضل، لأن الأنثى أفضل من الذكر ولو أعطي مسنة بدل التبيع قبلنا لأنه اكبر من غير نقصان ولكن لا يجبر عليه بخلاف ابن لبون مكان بنت مخاض، لأن التبيع الواجب ذكره أيضاُ، ولو كانت له أربعون من البقر ووجبت عليه مسنة فأعطى تسعين أخذناها لأنه يجوز أخذهما في [30 أ/4] الستين ففيما دونهما أولي. باب صدقة الغنم السائمة مسألة: قال (¬1): ثابت عن رسول الله صلي الله عليه وسلم في صدقة الغنم معني ما اذكره إن شاء الله. الفصل وهذا كما قال: الأول في زكاة الغنم الكتاب، والسنة، والإجماع، أما الكتاب: فما تقدم. وأما السنة: فما روى أبو ذر رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "في الغنم صدقتها" الخبر، وأما الإجماع: فلا خلاف فيه وإنما قال الشافعي رحمه الله: ثابت عن رسول الله صلي الله عليه وسلم ولم ينقل لفظ الخبر لأنه لم يحفظ اللفظ فنقل المعني واحتاط بذكر الاستثناء، وهو قوله: إن الله، وقيل: إن لفظه وافق لفظ الخبر إلا في موضع واحد وهو أنه قال: حتى يبلغ مائتين وشاه، فإذا بلغت ففيها ثلاث شياه إلي ثلاثمائة ثم في كل مائة شاه فإذا تقرر هذا فلا صدقه في الغنم حتى تبلغ أربعين، فإذا بلغتها ففيها شاه وقد ورد النص في هذا وهو ما روي أن النبي صلي الله عليه وسلم قال:" إذا نقصت سائمة الرجل من الأربعين شاه فلا شيء فيها" ثم ليس في زيادتها شيء حتى تبلغ مائة وإحدى ¬

_ (¬1) أنظر الأم (1/ 194).

وعشرين، فإذا بلغتها ففيها شاتان، ثم لا شيء في زيادتها حتى تبلغ [30 ب/4] مائتي شاة وشاة، فإذا بلغتها ففيها أربع شياه ثم في كل مائه شاة وما نقص عن مائه فلا شيء فيه، هكذا نقله المزني والربيع، وروى البويطي عنه أنه قال: في مائتي شاة وشاة ثلاث شياه إلي ثلاثمائة ثم زاد بعد ذلك ففي كل مائه شاة فجعل الوقص إلي ثلاثمائة، ثم استأنف بعده اعتبار نصاب مستقر علي عدد واحد فقال: ثم في كل مائه شاة وهذا لفظ السنة المروية فيها والذي تقدم روي في بعض الألفاظ، فقدمناه لموافقة الأصول إياه، وذلك أنه يؤدي إلي الموالاة بين الوقصين وهو خلاف الأصول. وقال الحسن بن صالح بن حي والنخعي: إذا زادت علي ثلاثمائة واحدة ففيها أربع شياه، وحكي القاضي الإمام أبو الحسن الماوردي (¬1) عنهما أنهما قالا: في مائتي شاة هذا بذكر أسنان الغنم قبل الشروع في المسائل فأول ما تلد الشاه يقال سلخة ذكراً كان أو أنثى والمعز والضأن في هذا سواء، ثم يقال: للكل ثم إذا أربعة أشهر يقال للمعز جفر وجفرة، وجمعها جفار، ويقال للضأن: حمل ثم [31 أ/4] يقال بعد هذا للمعز عريض وعتود، ويقال له جدي وغياق إلي هذا الوقت من حين الولادة ثم إذا استكمل سنه يقال له: عنز وتيس، فإذا دخل في الثانية، يقال له: جذع وجذعة، فإذا دخل في الثالثة، فهو ثني وثنية، فإذا دخل في الرابعة، فهو رباع ورباعية، فإذا دخل في الخامسة، فهو سديس وسدس، فإذا دخل في السادسة، فهو صالغ ثم يقال صالغ عام وصالغ عامين، وفي الضأن، إذا بلغ سبعة أشهر إن كان من بين شاتين فهو جذع، وإنما قيل جذع لأن له نزواً وضراباً، وإن كان من بين هرمين، فلا يقال جذع حتى يكمل له ثمانية أشهر ثم هو جذع حتى يدخل في الثالثة فيقال ثنى وثنية والمعز لا ينزو حتى يصير ثنياً بخلاف الضأن ثم علي ما ذكرناه في المعز، وقيل: الجذعة من الضأن ما له ستة أشهر ودخل في السابع والثنية من المعز هي التي استكملت سنة ودخلت في الثانية، وهذا هو اختيار صاحب الحاوي (¬2) وحكي الأزهري (¬3) عن ابن الأعرابي انه إن كان من هرمين فعلي ما ذكرنا، وإن كان من شاتين فهو جذع لستة أشهر إلي سبعة أشهر، وحكي عن الأصمعي أنه قال: الجذع من الضأن هو لثمانية أشهر، ومن المعز لسنة، وقال ابن فارس: الجذع من [31 ب/4] الضأن هو ما أتي عليه حول، والثني ما ذكرنا وهذا اختيار بعض أصحابنا، وهو الاحتياط. مسألة: قال (¬4): ويَعُدَّ علَيهِمْ بالسَّخْلَةِ. ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (3/ 111) (¬2) انظر الحاوي للماوردي (3/ 112) (¬3) انظر الزاهر في غرائب ألفاظ الشافعي (ص 99). (¬4) انظر الأم (1/ 196)

الفصل وهذا كما قال: إذا ملك نصاباً من الغنم فتوالدت في أثناء الحول تحي صارت نصابين فإنه يجب فيها شاتان، وكذلك إذا بلغت ثلاثة نصب يجب ثلاث شياه، وتضم السخال إلي الكبار ويعد معها في حولها وكن لا بد من ثلاثة شرائط، أحدها: أن تكون متولدة منها. والثانية: أن تكون الأمهات نصاباً. والثالثة: أن تكون الدلالة في الحول، فأما إذا كانت من غيرها فلا يضم إليها، وعند أبي حنيفة يضم المستفاد إلي ما عنده من النصاب إذا كان من جنسه، وإن كان غير هذا من الأموال الزكاتية، وبه قال عنده من النصاب إذا كان من جنسه، وإن كان غير هذا من الأموال الزكاتية، وبه قال مالك وهذا غلطـ، لأنه النبي صلي الله عليه وسلم قال: "من استفاد مالاً فلا زكاة فيه حتى يحول عليه الحول"، وأما إذا كانت الأمهات أقل من البنات فولدت وتمت بالسخال نصاباً استأنف الحول من حين تمت نصاباً، وقال مالك: وهي رواية عن احمد يضم إليها وتجب شاة عند الحول واحتج بأنه لو ملك مائة درهم أحد عشرا شهراً ثم وجد مائة درهم ركازاً فزكاهم لأنهما نصاب، وهذا غلط لقوله صلي الله عليه وسلم: "لا زكاة في [32 أ/4] مال حتى يحول عليه الحول" ونقيس علي ما لو استفاد من غيرها سخالاً فإن عنده يستأنف الحول إذا تمت نصابا به، وأما مسألة الركاز ففيها وجهان، إحداهما: أنه يجب في المائة الركاز دون غيرها لأنه يعتبر فيها النصاب دون الحول، وفي المائة الأخرى يعتبر النصاب، والحول فلا يجب فيها لعقد الحول. والثاني: زكتهما واجبة لأن النصاب فيهما موجود، والحول فيما يعتبر فيه الحول موجود فوجد شرط الإيجاب فيمها وهذا إذا مضي شهر آخر علي هذه الثانية، وأما إذا كانت الولادة بعد الحول والإمكان فلا يضم إليها في زكاة الحول الماضي قولاً واحداً، لأن الأمهات جارية في زكاة الحول والثاني، وفي حكم الزكاة الثانية: فلا يجوز أن يضم إليها في جميع زكاة الحول الأول، ولو جاز هذا لوجب إذا آخر زكاة سنين أن يضمها إليها في جميع ما عليها من زكوات الأمهات، ونوجب في السخال زكوات سنين وهذا خلاف الإجماع، وإن كانت الولادة بعد الحول قبل الإمكان فيه طريقان إحداهما: أنه يبني علي القولين فإن قلنا: إمكان الأداء من شرائط الوجوب يضم الأولاد إليها لان زكاة الحول الماضي لم تجب بعد فيزكي الكل بعد الإمكان، وإن قلنا الإمكان [32 ب/4] من شرائط الضمان، وهو قوله الجديد لا يضم إليها إلا في الحول الثاني، لأنه حصلت الأولاد بعد الوجوب وهي جارية في الحول الثاني، والطريق الثاني: في المسألة قولان من غير بناء علي القولين إحداهما: يضم إليها لقول عمر رضي اله عنه اعتد عليهم بالسخلة التي يروح بها الراعي علي يديه، والسخلة التي يروح بها الراعي علي يديه لاتكون إلا بعد الحول، لأن ما تولد قبل الحول يمشى بعد الحول بنفسه، والثاني: وهو الصحيح لا يضم إلي ما عنده لأن الزكاة قد وجت في الأمهات والزكاة لا تسرى إلي الولد لأنها لو سرت بعد الوجوب لسرت بعد الإمكان، لأن الوجوب في مستقر وحال استقرار الوجوب هو آكد من حال الوجوب فلما لم تسر الزكاة إليه في حال الاستقرار فلأن لا تسري قبله

أولى، وقال الحسن البصري والنخعي وداود: إنه يستأنف الحول أبداً، وهذا غلط لخبر عمر رضي الله عنه، وتمامه ما روى ان سفيان ساعي عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجع إليه فقال: إن هؤلاء يعنى أرباب المواشي يزعمون أنا نظلمهم نعد بالسخلة عليهم ولا نأخذها منهم فقال له عمر رضي الله عنه مبيناً: إنه ليس بظلم بل هو عدل اعتد بالسخلة يروح بها [33 أ/4] الراعي أي: وإن كانت السخلة في الصغر بحيث لا تقوى علي المشي فيحملها الراعي فيروح بها، ثم قال: ولا يأخذها ولا يأكل الأكولة ولا الربي ولا المخاض ولا فحل الغنم، وخذ الجذعة والثنية (¬1).وذلك عدل بين غدي المال وخياره والغدي جمع الغدي وهو الصغير، ومعناه انك ما لا تأخذ السخلة وتعدها، كذلك تعد عليهم النفيس من الأكول والربي والماخض ولا تأخذها، وإنما تأخذ الجذعة والثنية فإذا ليس بظلم بل هو عدل عن الصغار والكبار والنفيس والخسيس، ثم فسر الشافعي رحمه الله الربي والماخض والأكولة فقال: الربي هي التي يتبعها ولدها، وهي قريبة العهد بالولادة ما بينها وبين خمسة عشرة ليلة، فقال: هي في ربابها كما يقال في المرأة هي: في نفاسها، وقيل: جمع الربي رباب، وإنما قيل ذلك لأنها تربي ولدها وقيل ذلك إلي خمسين يوماً، ولا تؤخذ هذه لفضلها لأنها ذات الذر الغزير في هذه الأيام في أخذها إضرار بالسخلة فإن تبرع بها صاحبها أخذناها، ومن أصحابنا من قال: لا يؤخذ لنقصها لأنها في هذا الوقت تكون مهزولة وهو خلاف النص، وأما الأكولة: هي التي تعلف وتسمن للذبح وليست بسائمة [33 ب/4] والماخض: الحامل والشافع، والماخض والمخاض رجع الولادة، قال الله تعالي: {فَأَجَاءَهَا المَخَاضُ إلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ} [مريم:32] وقيل: هي التي في بطنها ولد وخلفها ولد آخر ولا تؤخذ هاتان لفضلهما، فإن تطوع قبلنا. وأما فحل الغنم: فهو الذي يعد في القطيع للضراب والكفاح ينظر في الغنم فإن كانت كلها ذكوراً لا يؤخذ لفضله فإن تبرع به أخذناه، وإن كانت لكنها أناثاً أو بعضها ذكوراً وبعضها إناثاَ لا يجوز أخذه لنقصانه بالذكورة، ثم اعلم أن الجذعة عندنا إنما تؤخذ إذا كانت الغنم ضانية ولا تؤخذ إذا كانت الغنم ما عزة، وإنما يؤخذ من المعز الثنية، وبه قال أحمد وقال أبو حنيفة: لا يقبل فيها إلا الثنية، وروى الحسن بن زياد عنه مثل مذهبنا، وقال مالك: تجوز الجذعة فيهما واحتج الشافعي رحمه الله باحتجاج حسن، فقال: ولما لم يختلف أهل العلم فيما علمت مع ما وصفت يريد بقوله: فيما علمت فيما بلغني من الاختلاف مع ما رويت في حديث عمر رضي الله عنه من اخذ الجذعة والثنية، ولا مخالفة له في أن لا يؤخذ أي فرض الغنم أقل من جذعه أو ثنية أي: لا يؤخذ دون هذه السن إذا كانت في غنمه أي: إذا كانت [34 أ/4] هذه السن موجودة في غنمه أو اعلي منها أي: إذا كانت الأعلى منها موجودة لم يؤخذ دون هذا ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في " الموطأ" (1/ 265)، والشافعي في " المسند" (651).

السن دل علي أنهم أرادوا يجوز أضحية يريد به أنه لا خلاف أن الجذع من الضأن يجوز أضحية، والجذع من الماعز لا تجوز أضحية، وما دون الجذع من الضأن وما دون الثنية من الماعز لا تجوز أضحية، دل ذلك علي أن المطلوب في فرض الغنم سن تجوز أضحية وهو ما قلناه وتحرير هذا علي مالك أن يعلل للجذعة الماعز فنقول هذه سن لا تجوز أضحية فلا تجوز في صدقة الغنم كما دونها ونعلل علي أبي حنيفة للجذعة الضأنية فنقول: هذه سن تجوز أضحية كالثنية. مسألة: قال (¬1): ولا يُؤخَذُ أعلى إلاَّ أنْ يتَطَوعَ ويختارَ السَّاعي السَّنَّ التَّي وَجَبَتْ. الفصل وهذا كما قال: إذا ثبت أن الواجب إحدى هاتين السنين فلا يخلو الغنم من أربعة أحوال، إما أن يكون دون السن المأخوذة، أو كلها فوق السن المأخوذة، أو بعضها من السن المأخوذة، وبعضها من غيرها فإن كانت دون السن المأخوذة وهي أن تكون سخالاً دون الجذعة أخذت الزكاة منها ويتصور ذلك إذا ماتت الأمهات وبقيت السخال، وإن كانت كلها نفس السن المأخوذة جذاعاً إن كانت ضأناً أو ثنايا [34 ب/4] إن كانت معزى وصفتها متقاربة لا يكون بعضها أكرم من بعض اختار الساعي منها أية واحدة إن شاء والخيار إليه كما إذا وجبت عليه حقه والجميع حقاق، يأخذ أية حقه شاء منها، قال في "الأم": ولا يفرق فرقتين ولا ثلاث فرق وقصد به رداً علي الزهري حيث قال: يفرق ثلاث فرق فرقه لرب المال وفرقتان يختار الساعي منهما، وروى عن عمر رضي الله عنه هذا، وقال عطاء وسفيان الثوري: يفرق فرقتين فرقه لرب المال وفرقه يختار منها الساعي ماشاء، وهذا غلط، لأنه ربما يؤدي إلي إخراج الدون الذي فيه ضرر بالمساكين وقد قال تعالي {ولا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة:267] الآية، وإن كان بعضها أكرم من بعض لا يجوز له أن يأخذ من الكرام ولكنه يترك الأدنى والأعلى، ويأخذ من الأوسط نص عليه في "الأم) (¬2)، وقال أبو إسحاق في"الشرح": إذا وجبت عليه حقه وفي ماله حقاق جيدة ووسط وروى يأخذ الوسط، فإن قيل: أليس قلتم في المائتين يختار الساعي ماهو الأفضل من خمس بنات لبون، وأربع حقاق فما الفرق بين المسألتين، قلنا: الفرق إنا إذا تركنا الخبر هاهنا فقد تركنا بإزائه الردى فجاز وهناك لو أخذنا الحقاق [35 أ/4] وفيها بنات لبون خير من الحقاق فلم نأخذ من بنات اللبون شيئاً وتركنا جنسا مما يؤخذ في الزكاة ولم نأخذ منها شيئاً فيكون داخلاً في معني من تيمم الخبيث من ماله، وذلك لا يجوز، وإن كانت كلها فوق السن المأخوذة مثل أن تكون أكبر من الجذاع والثنايا نقول لرب المال: الذي يجب عليك جذعه من الضأن، إن كانت غنمك ضأنا أو ثنيه إن كانت غنمك معزى وأنت بالخيار إن شئت أعطنا الفرض من غيرها، وإن شئت طوعت بواحدة منها، فإن قيل هلا كلفتموه ¬

_ (¬1) أنظر الأم (1/ 197). (¬2) أنظر الأم (2/ 6).

واحدة منها لأن غنمه إن كانت صغاراً أخذتم منها صغيرة، فإذا كانت كباراً وجب أن يأخذ منها كبيرة قيل: نحن نأخذ من الصغار صغيرة رفقاً برب المال، ولا نكلفه في الكبار كبيرة، وإنما نأخذ قدر الفرض رفقًا برب المال فيلحق الرفق به في زيادة السن ونقصانها كما تقول في العدد وهو إذا كانت غنمه اقل من النصاب لا يؤخذ منه شيء، وإذا كانت أكثر من النصاب لا يؤخذ من الزيادة شيء فيلحق به الرفق فيما نقص عن النصاب وفيما زاد عليه كذلك هاهنا فإذا تقرر هذا فإن أعطانا الفرض من غيرها أخذناه وهو الذي وجب عليه، وإن تطوع بواحدة منها أخذناها إذا لم يكن بها عيب يمنع [35 ب/4] جوازها في الأضحية فلا يقبلها، وإن كانت قيمتها أكثر من قيمة الفرض الجائز في الأضحية، وقال بعض أصحابنا بخراسان: أراد ملا يجوز أضحية وتنقص القيمة بسبب ذلك الغيب، فأما إذا لم تنقص القيمة والمنفعة مثل قطع بعض الإذن أو الأسنان لا يضر، وإن كان مثله لا يجوز في الأضحية وهذا غريب، فإن قيل: هلا قبلتموها وجعلتم زيادة قيمتها في مقابلة نقصها بالعيب، قيل: لأن الفرض لما لم يجز تركه جنساً إلي جنس آخر، وإن كان أكثر قيمة منه ألا ترى منه، فكذلك لا يجوز ترك صفته إلي صفة غيره، وإن كان أكثر قيمة من إلا ترى أن الغرة لما لم يجبر الولي علي أخذ غير العبد والأمة، وإن كان أكثر قيمة لم يجبر علي أخذ الخصى أو المعيب، وإن كان أكثر قيمة، وإن كان بعضها بعد السن المأخوذ وبعضها اكبر وأدون يأخذ الواجب فإذا تقرر هذا قال الشافعي: إلا أن تكون تيساً يعين فوق السن الواجبة ذكراً من المعز فلا يقبل بحال لأنه ليس في فرض الغنم ذكور وقصد به الرد علي أبي حنيفة فإنه قال: يقبل الذكر في فرض الغنم وجملته أن الحيوان ثلاثة إضراب: أحدها: الغنم ولا يخلو من ثلاثة أحوال، إما ان يكون كلها [36 أ/4] ذكوراً أو كلها إناثاً أو بعضها إناثاً وبعضها ذكوراً فإن كان كلها ذكوراً جاز اخذ الذكر منها، فإن أعطانا تيساً أخذناه إذا كان ثنيا فما فوقه ولا يقبل ما دونه إلا أن يكون الغنم دون الثنايا فأعطانا تيساً منها قبلناه، وهذا لأن التيس من خيال المال نص عليه الشافعي في"الأم" (¬1) فقال: ولا يؤخذ التيس لنقصه وهو أنه لا ضرار له ولا نزو وهذا خلاف النص، وإن كانت كلها إناثاً أو بعضها إناثا وجب أخذ الأنثى منها ولا يجوز أخذ الذكر نص عليه في"الأم" (¬2). والثاني: في البقر فكل موضوع وجب الفرض من التبيع فيؤخذ ذكر سواء كانت البقر ذكوراً أو إناثاً للنص فيه وكل موضع وجبت فيه السنة، فإن كانت البقر إناثاً أو ذكوراً وإناثاً لم يجز إلا الأنثى، وإن كانت كلها ذكوراً ففيه وجهان، قال أبو إسحاق: لا يجوز إلا الأنثى لأن الفرائض كلها إناث إلا في موضع النص ولا نص هاهنا فعلي هذا يقوم النصاب من الإناث والفرض الذي فيها ثم يقوم النصاب من الذكور ويؤخذ أنثى ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 9). (¬2) انظر الأم (2/ 9).

بالقسط حتى لا يؤدي إلي التسوية بين الذكور والإناث، وقال أبو علي بن خيران: يجوز أخذ الذكر هاهنا وهو المنصوص في"الأم" لأن الزكاة وضعت علي الرفق والمواساة فلو أوجبنا [36 ب/4] الإناث من الذكور أجحفنا برب المال. والثالث: الإبل إذا وجب الفرض من جنسها فإن كانت إناثاً كلها أو ذكوراً وإناثاً وجب الفرض أنثى، وإن كانت كلها ذكوراً قال أبو إسحاق: لا يجوز إلا الأنثى، قال وهو مذهب الشافعي، وقد بينه في "الأم"، وإنما انغلق كلام المزني لشدة اختصاره، قال: والفرق بينه وبين الغنم أنا إذا قلنا: أنه يأخذ الذكر هاهنا لأدى إلي أن يؤخذ من القليل ما يؤخذ من الكثير لأن النبي صلي الله عليه وسلم أوجب في خمس وعشرين بنت مخاض فإن لم يكن فابن لبون وهذا يؤخذ من ست وثلاثين أيضاً إذا قلنا: يؤخذ الذكر في هذا الموضع، وفي الغنم لا يؤدى إلي هذا المعني. قال: والفرق بين الغنم والبقر أن في البقر يتفاوت النصاب الذي يتعلق به الذكر والذي تتعلق به الأنثى، ففي اخذ الذكر مكان الأنثى تسوية بين النصابين في البقر بخلاف الغنم، وقال ابن خيران: يجوز أخذ اذكر هاهنا أيضاً لأن المزني نقل عن الشافعي أنه قال: في الإبل بهذا المعني لا يؤخذ ذكراً مكان الأنثى إلا أن تكون ماشيته كلها ذكوراً وهذا نص وقيل: إنه منصوص في "الأم" (¬1) من غير إشكال وعلي هذا يؤخذ علي قدر المال حتى لا يؤدى [37 أ/4] إلي ما قله أبو إسحاق فيقال: كم قيمة خمس وعشرين جملاً فيقال خمسمائة ثم يقال كم قيمة ابن مخاض منها؟ فيقال خمسون فيؤخذ هاهنا ابن لبون قيمة خمسون ولا يؤخذ ابن مخاض، وذا كانت ستاً وثلاثين يؤخذ ابن لبون بقيمة ست وثلاثين حتى يكون عدلاً وعلي هذا القياس أبداً. وحكي بعض أصحابنا عن ابن خيران انه قال: ها هنا لا يؤخذ ابن لبون ولا ابن مخاض فتؤخذ ابنه مخاض عنه خمس وعشرين جملاً كما قال أبو إسحاق وهذه مناقضة لأن ابن لبون إنما أقيم مقام بنت مخاض في الإناث، فإذا كانت كلها ذكوراً يجب أن يجوز ابن مخاض وإلا لزمنه المناقصة وهذا غير صحيح عن ابن خيران، وعلي قول أبي إسحاق يؤخذ بالقيمة أيضاً ليكون المأخوذ من الذكر أقل قيمة من المأخوذ من الإناث فقال: لو كانت الست والثلاثون إناثاً كم كانت قيمتها؟ فيقال: مائة دينار فيقال: وكم قيمة بنت لبون منها فيقال: عشرة دنانير فيقال: ولو كانت كلها ذكوراً كم قيمتها فيقال: خمسون ديناراً فيلزم ابنه لبون قيمتها خمسة دنانير وعلي هذا أبدا، وهذا اقرب إلي الصواب إن شاء الله [37 ب/4]. مسألة: قال (¬2): ولا يُعَتَدٌ بالسَّخلَةِ علي رَبِّ الماشية إلاَّ بأنْ يكونُ السَّخْلُ من غَنَمِه. الفصل إلي قوله: والقول في ذلك قول رب الماشية وهذا كما قال: قد ذكرنا أن السخال ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 10) (¬2) انظر الأم (1/ 198)

إنما تضم إلي الأمهات بثلاث شرائط، فو اختلف رب المال والساعي في هذه الشرائط فقال رب المال: اشتريت السخال ولم تتولد من الكبار التي عندي، أو قال: توالدت ولم تكن الأمهات نصاباً، أو قال: توالدت بعد الحول، قال الشافعي، القول قول رب المال، ولا يمين عليه لأنه مؤتمن علي ما في يده وما يجب عليه من زكاته، فان قيل: أليست الوديعة أمانه في يد المودع؟ ثم يلزمه اليمين عند الخصومة في التلف، فما الفرق؟ قلنا: الفرق هو أن حكم الزكاة أخف وأسهل من الوديعة لان الزكاة مواساة من جهته بخلاف الوديعة، ولأن الزكاة المغلب فيها حق الله تعالي دون حق العباد، وحق الله تعالي مبني علي المسامحة والمتساهلة بخلاف حق الآدمي، وهكذا لو اختلفنا فقال رب المال: لم يخل عليه الحول، وقال الساعي: بل حال عليه الحول فالقول قوله، فلا يمين فإن اتهمه في هذه المسائل عرض عليه اليمين لإزالة الريبة عن قلبه، لا علي طرق الوجوب بأن لم يحلف لا يلزمه شيء وقد [38 أ/4] قال في "الأم" (¬1):وإن كذبه احلفه بالله تعالي وأراد ما ذكرنا، وأما إذا شهد شاهدان أن له هذه الغنم بأعيانها من أول السنة إلي آخرها، وهذه الشهادة تجوز قبل الاستشهاد لأنها تتعلق بحق الله تعالي، فقال المشهود عليه: بعتها في وسط الحول ثم اشتريتها من غير علم الشاهد، أو قال: أديت زكاتها إلي ساع غيرك، أو أديت زكاتها في بلد آخر، فقلنا: يجوز نقل الصدقة فهل يلزمه اليمين؟ وجهان ذكرهما أبو إسحاق. إحداهما: لا تلزمه اليمين كما في المسائل الأربع. والثاني: تلزمه اليمين لأن الظاهر ها هنا وجوب الزكاة وهو يدعي سقوطها فلا يسقط من غير يمين، الأول اصح وأشبه بكلام الشافعي في "الأم" لأنه لو كانت اليمين واجبة إذا كانت الدعوي تخالف الباطن وجبت وإن كانت تخالف الظاهر كما في المودع، وهكذا الخلاف لو وجد في يده أربعين شاه فقال رب المال: لي ببلد آخر أربعون أخرى فلا أؤدي إلا نصف شاة ها هنا صدقة، فإن اتهمه هل تلزمه اليمين؟ وجهان، ولو قال: هي كانت في يدي من أو السنة إلي آخرها ولكنها وديعة في يدي أو ضوال فلا زكاة علي فيها، اختلف أصحابنا فيه منهم من قال: هاتان المسألتان من جنس المسائل الأربع [38 ب/4] المتقدمة فلا يجب اليمين وجهاً واحداً، ومن أصحابنا من قال في هاتين المسألتين وجهان كما في المسائل الثلاث، لأن الظاهر من اليد الملك فالأصل وجوب الزكاة عليه وهذا لا يصح لأن الشافعي جمع في الأم بين قوله لم يحل عليه الحول، وبين قوله: هي وديعة أو ضوال، أو قال: صدقه، وأنه مع إنكاره لا اعتبار بيده، فإذا قلنا: إن اليمين واجبة فإن حلف برئ، وإن نكل لم ترد اليمين علي الساعي لأنه وكيل الفقراء، والوكيل لا يجوز أن يحلف عن الموكل وهل ترد اليمين علي الفقراء؟ قال ابن خيران في "الإفصاح": إن كان الفقراء معينين ردت ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 10)

عليهم اليمين، وإن لم يكونوا بمعينين لا ترد عليهم ويحكم عليه بالزكاة، فإن قيل: حكمتهم بالنكول ها هنا وهو خلاف أصلكم قلنا: من أصحابنا من قال القضاء بالنكول يجوز في حقوق الله تعالي والصحيح ان يقال: إن هذا ليس هو حكماً بالنكول ولكن الزكاة وجبت عليه في الظاهر، وللمدعي إسقاطها والتخلص منها باليمين، فإذا لم يحلف ألزمناه بالظاهر كما نقول في الزوج القاذف إذا نكل عن اللعان نقيم عليه الحد بالقذف ..... (¬1) ومن أصحابنا من قال إن قلنا: إن نقل الصدقة يجوز لا ترد اليمين [39 أ/4] نصاً واحداً، وإن قلنا: لا يجوز النقل هل ترد اليمين عليهم؟ وجهان، ومن أصحابنا من قال: إذا قال: هي وديعة في يدي ينظر، فإن اخبر عن مالكها ووقع في قلب الساعي صدقة لم يحلف، وإن ارتاب احلفه استظهاراً وجهاً واحداً لأنه أمين استند قوله إلي ظاهر ولو امتنع من الأخبار عن مالكها فيه وجهان، والأصح انه لا يجب اليمين أيضاً. فرع لو شهد فقيران من أهل الصدقة أن له هذا المال من أول الحول إلي آخره، فإن كانا من جبران المال لا تقبل التهمة، وإن كان بعيدين عن تلك البلدة فيها وجهان: إحداهما: تقبل شهادتهما لأنهما لا يجران لأنفسهما نفعاً. والثاني: لا يقبل خوفا من التهمة بأن تؤول الصدقة إليهما، وقال القفال: الأصح أن تصور رب المال بصورة المدعي فإن قال: أديب إلي ساعٍ آخر أو بعت المال ثم اشتريت تؤخذ منه الزكاة إذا نكل بظاهر الوجوب، وإن تصور بصورة المدعي عليه بأن قال: هي وديعة إذ لم يحل الحول يقضي بالنكول، لأن الأصل براءة الذمة وهذا حسن ولكنه خلاف النص. مسألة: قال (¬2): ولو كانتْ لهُ أربعونَ فأَمكَنهُ أنْ يُصدَّقَهَا. الفصل وهذا كما قال: إذا أمكن إخراج الزكاة عن أربعين شاة [39 ب/4] بعد الحول فلم يخرج حتى تلف الكل ضمن الزكاة علي ما ذكرنا، وإن لم تكن حتى ماتت منها شاة فالأربعة في الباقي هكذا ذكر في "المختصر" وأجاب علي القول الذي يقول: إن الإمكان من شرائط الوجوب فإن قلنا: إنه من شرائط الضمان فيجب فيما بقي بحصته ثم ذكر أنه لو أخرجها وعزل زكاة ماله فلم يمكنه دفعها حتى تلف الذي عزله لرجع إلي ما تفرق له فإن كان أولي من النصاب فلا يلزمه شيء وهذا إذا قلنا إن الإمكان من شرائط الوجوب فإن قلنا: من شرائط الضمان يجب فيما بقي ....... (¬3) أنه لو ......... (¬4) عن مالك وابن شبرمه إنهما قالا: لا يجوز ما عزل وتلف عن ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) انظر الأم (1/ 199) (¬3) موضع النقط بياض بالأصل (¬4) موضع النقط بياض بالأصل

الزكاة ...... (¬1) تلف في .......... (¬2) وهذا غلط لأن الساعي هو نائب المساكين .... (¬3) ورب المال وإن كان ما بقي نصاباً ....... (¬4) معه احدي وأربعون شاه فعزل منها بعد الحول شاه فلم يمكنه دفعها إلي الفقراء والمساكين ولا إلي الساعي حتى تلفت هذه الواحدة منها فإن قلنا: الوقص ليس بعفو والوجوب تعلق بالكل، فإن قلنا: إن الإمكان من شرائط الوجوب فعله شاه ها هنا وبه أجاب [40 أ/4] ها هنا، وإن قلنا: إنه من شرائط الضمان لا يلزم عليه جزء من أحد وأربعين جزئ من شاة ويلزم الباقي. مسألة: قال (¬5): وكل فائدة من غير نتاجها لحولها. وهذا كما قال: قد ذكرنا ان المستفاد من الأموال بشراء أو هبة أو ميراث لا يضم إلي ما عنده في حولها خلافاً لأبي حنيفة ويفارق مال التجارة إذا باع العرض بدراهم فإنه يبني حولها علي حول العرف، لأن الدراهم متولدة من العرض ضرباً من التولد والحول فيه يتعلق برأس المال، وهو الدراهم والدنانير، إلا أنها تخفي مرة وتظهر أخرى فتكون قيمة تارة زيادة عيناً بخلاف ذاك، فلهذا افترقا. فروع لو كانت له ثلاثون من البقر فأمسكها احد عشر شهراً ملك عشراً من البقر بشراء أو هبة أو إرث فإنه يخرج إذا تم الحول عن الثلاثين من البقر تبيعاً ثم إذا تم حول العشر من حين ملكها فإن كان قد اخرج التبيع منها لا يجب في العشر بشئ، لأن جملتها أقل من أربعين، فلم يتم النصاب الثاني، وإن أخرجه من غيرها فإن قلنا: تجب الزكاة في العين فكذلك لأن مقدار الزكاة صار مستحقاً للمساكين، وإن قلنا: يجب في الذمة فعليه في العشر بع مسنة لان العشر هي مضمونه إلي ...... (¬6) في [40 ب/4] النصاب فيتم بها النصاب الثاني، ومن أصحابنا من ذكر وجهاً انه لا يضم المستفاد إلي ما عنده في النصاب كما لا يضم اله في الحول، ذكره ابن سريج والطيبي من أصحابنا، وهذا غلط، لان النصاب للكثرة واحتمال المواساة وهو موجود في المستفاد والحول للاستمناء ولم تحصل القدرة علي الاستمناء في المستفاد، ثم إذا تم حول الثلاثين ثانياً تلزمه ثلاثة أرباع مسنة لان العشر قد اجتمعت مع الثلاثين في الحول الثاني من أوله إلي آخره، فلزمه أن يخرج بحصتها من فرض الأربعين، وليس كذلك في السنة الأولي، لأن الثلاثين قد انفردت عن العشر في بعض الحول فثبت لها حول التبيع لانفرادها عن الشعر فإذا تم الحول لم يجب فيها غير التبيع. فرع آخر لو كانت معه أربعون شاة مدة ثم ملك أربعين شاة ثانية بعدها ثم ملك بعده مدة ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل (¬2) موضع النقط بياض بالأصل (¬3) موضع النقط بياض بالأصل (¬4) موضع النقط بياض بالأصل (¬5) انظر الأم (1/ 199) (¬6) موضع النقط بياض بالأصل

أربعين شاة ثالثة فصار جميعها مائة وعشرين فيه قولان, قال في القديم: يجب قي الكل شاة في كل أربعين ثلثها بحولها لأن كل واحدة من الأربعينات مخالطة للثمانين في حال الوجوب فكانت حصتها ثلاث شياه, وقال في الجديد: يجب في الأربعين الأول شاة لأنه ثبت لها حكم الانفراد في شهر ثم في الثانية وجهان, إحداهما: يجب في شاة [41 أ/4] لأن الأولى لم ترتفق بخلطتها فلم ترتفق هي وهو اختيار ابن سريج, والثاني: يجب فيها نصف شاة لأنها خليطة الأربعين من حين ملكها, وفي الثالثة وجهان, إحداهما: تجب لأن الأولى والثانية لم يرتفقا بخلطتهما فلم ترتفق والثاني يجب ثلث شاة فيها لأنها خليطة الثمانين من حين ملكها فكانت حصتها ثلث شاة, ومن أصحابنا من قال: في الأربعين الأولى شاة ولا شيء في الثانية والثالثة ويكونان تبعًا لأنهما لم يبلغا نصابًا ثانيًا فلا تنفردان بالزكاة, وذكر بعض المحققين من أصحابنا: أن هذا هو الصحيح من المذهب, ومن أصحابنا من ذكر وجهًا ضعيفًا: أنه إن أخلط الجميع وأسامة في مرعى واحد كانت تبعًا, وإن فرقها فلكل واحدة حكم نفسها, فإذا قلنا: يجب في الأربعين الثانية نصف شاة فإنما يكون ذلك إذا أخرج الزكاة عن الأربعين الأولى وهي شاة من غير الأربعين, وقلنا: الزكاة في الذمة فأما إذا أخرجها منها أو أخرجها من غيرها, وقلنا: إن الزكاة استحقاق جزء من العين فعليه أربعون جزءًا من تسعة وسبعين جزءًا من شاةٍ, وكذلك إذا قلنا: يجب في الأربعين الثالثة ثلث شاة فإنما هو إذا أخرج الزكاة الواجبة من غيرها [41 ب/4] وقلنا: الزكاة في العين فعليه أربعون جزءًا من مائة وثمانية عشر جزءًا ونصف جزء من شاة, ثم يستوي الحساب فعند انقضاء كل حول على الأربعين يلزم ثلث شاة إذا لم ينقص بإخراج الزكاة وعلى ما ذكرنا, لو ملك ستًا وثلاثين من الإبل ثم ملك بعد ستة أشهر عشرًا من الإبل ثم تم الحول الأول يجب ابنة لبون, ثم إذا تم حول المستفاد فإنه يؤدى عشرة أجزاء من حقه من ستة وأربعين جزءًا على المذهب الصحيح. مسألة: قال (¬1): ولو نَتَجَتْ أربعينَ قَبْلَ الحَولِ ثُمَّ ماتَتِ الأمَّهَاتُ. الفصل وهذا كما قال: جملة هذا الفصل أنه لو كانت عنده خمسون شاة ستة أشهر فتوالدت أربعين سخلة كان حولها الأمهات, فإن هلك من الأمهات عشر فالحول بحاله قولاً واحدًا, وإن هلك أكثر فالمذهب أن الحول بحاله, وإن لم يبق من الأمهات شيء تجب فيها الزكاة إذا تم حول الأمهات, وبه قال أبو يوسف ومحمد وزفر ومالك, وقال أبو القاسم الانماطي من أصحابنا: إذا تلفت من أربعين أمهات واحدة بطل حول السخال لأن السخال تجري في حول الأمهات بشرط أن تكون الأمهات نصابًا, وقد زال هذا ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 199).

الشرط فوجب أن [42 أ/4] ينقطع الحول وهذا غلط, لأنها جملة جارية في الحول هلك بعضها ولم ينقص الباقي عن النصاب فلم يقطع الحول كما لو بقي نصاب من الامهات, وقال أبو حنيفة: إن بقي من الأمهات واحدة وجبت الزكاة في السخال وإلا فلا زكاة فيها, وقول الأنماطي هو أقيس من هذا وهذا أيضًا غلط, لأن ما صلح للوصل في حكم الزكاة صلح للأصل كالكبار, وحكي أن أبا حنيفة أجاب عن هذه المسألة بثلاثة أجوبة في مجلس واحد, فقال: أولاً: في أربعين سخلة سخلة فقال السائل أليس قد أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاة في أربعين شاة, وأنت توجب سخلة؟ فقال: فيها شاة, فقال السائل: إنما أوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم الشاة في أربعين شاة لا في أربعين سخلة؟ فقال: لا شيء فيها, وهكذا الخلاف فيما لو ملك أربعين جديًا يتم الحول وهي جدًا لم تزول سن الزكاة فقد تجب الزكاة عندنا خلافًا أبي حنيفة ولا يتصور هذا في الضأن عندنا, لأن الضأن تجذع في أقل من حول فإذا تقرر هذا أخذنا من الأربعين سخلة سخلة ومن مائة وإحدى وعشرين سخلة سخلتين, ومن مائتين وسخلة ثلاث سخال, ومن أربعمائة سخلة أربع سخال [42 ب/4] وعلى هذا قال مالك وزفر: تؤخذ الكبيرة ولا تؤخذ السخلة بحال, وقال بعض أهل خراسان: هذا هو قول الشافعي في القديم ولم يذكره أهل العراق, وأما الفصيل والعجول قال أصحابنا: فيه ثلاثة أوجه, أحدها: وهو اختيار ابن سريج وأبي إسحاق وجماعة: يلزم في خمسة وعشرين فصيًلا ابنة مخاض وهي ستة وثلاثين ابنة لبون وعلى هذا سواء كان الفرض يتعين بالسنين أو بالعدد, فعلى هذا يأخذ بالقسط, فيقال لو كانت الخمسة والعشرون كبارًا كم قيمتها فيقال مائة فيقال وكم الفرض المأخوذ منها وهو بنت مخاض؟ فيقال: عشرة وهذه الصغار التي هي خمسة وعشرون كم قيمتها؟ فيقال: خمسون فيقال أعطنا ابنة مخاض قيمتها خمسة فيكون قد أخذنا الفرض على ما يشبه ماله ولم نسويه بين فرض الصغار وبين فرش الكبار, ومن أصحابنا من قال: إن كان يتعين الفرض فيه بالسن يؤخذ الفرض المنصوص لأنه يؤدي إلى أن يؤخذ من القليل ما يؤخذ من الكثير, وإن كان مما يتغير الفرض فيه لا بالعدد يؤخذ الفصيل فمن ستة وسبعين يؤخذ فصيلان لأنه لا يؤدي إلى أن يؤخذ من القليل ما يؤخذ من الكثير فأشبه صغار الغنم وهذا [43 أ/4] غلط, لأنه يؤدي إلى هذا فإنه يؤخذ من أحد وتسعين فصيلاً فصيلان أيضًا, كما يؤخذ من ستة وسبعين على سواء, وأيضًا ما قلناه لا يؤدي إلى ما قاله هذا القائل للتقسيط الذي ذكرنا, ومن أصحابنا من قال: تؤخذ الفصال كما في الأغنام ولا يكلف الكبيرة فيها كما لا يكلف الصحيح في المريض. قال القاضي أبو علي البندنيجي: هذا هو المذهب, وهذا غلط, والمذهب الأول والفرق بينه وبين الغنم أنه يؤدي إلى التسوية بين النصابين بخلاف الغنم, وهكذا الفرق في البقر إذا كان ثلاثون وأربعون عجلاً ومن اختا هذا القول أجاب عن هذا بأني أعتبر العدل فيجتهد الساعي حتى يأخذ من أحد وستين فصيلاً

فصيلًا خيرًا مما يأخذ من خمسة وعشرين فصيلاً فلا يؤدي إلى التسوية بين النصابين, فإذا تقرر هذا رجعنا إلى تفسير ألفاظ المزني فنقول أراد بالجدي أولاد المعز وبالبهيمة أولاد الضأن, وقوله أو بين جدي وبهيمة أي: بعضها أولاد معز وبعضها أولاد ضأن, والفصال جمع الفصيل وهو ولد الناقة إذا فصل عن أمه يقال له فصيل بمعنى مفصول, كقولهم قتيل بمعنى مقتول, والعجول بالتشديد هو العجل والعجل ولد البقر. ثم قال: أخذ من كل [43 ب/4] صنف من هذا أي: لا يبطل حكمها في حول بتلف الأمهات خلاف قول أبي حنيفة ولا يكلف الكبيرة كما قال مالك, ثم بين أنه وإن كان يؤخذ الصغير يراعى صفة الذكورة والأنوثة كما في الكبار فقال: وأخذ من الإبل والغنم أنثى ومن البقر ذكرًا إذا كانت ثلاثين من بين أنه إذا لم يؤخذ الذكر من البقر ماذا يفعل؟ فقال: قيل له: إن شئت فأت بذكر مثل أخذها يعني صغيرة, وإن شئت أعطيت منها أنثى تطوعًا ثم احتج بعد ذلك عليهما بفصيل واحد ولم يميز أحد الكلامين من الآخر, فقال: لما لم يبطل عن الصغار الصدقة أي: حول الصدقة لأن حكمها حكم الأمهات في هذا الكلام تقديم وتأخير, فكأنه قال: لما لم يبطل عن الصغار حول الصدقة مع الأمهات أي: مع بقاء الأمهات فكذلك إذا حال عليها حول الأمهات, أي: بعد تلف كل الأمهات وجب أن لا يبطل أيضًا, ثم احتج على مالك فقال: ولم نكلفه كبيرة من قبل أنه لم لي دع الربى والماخض وخذ الجذعة والثنية, فقلت: إنه قيل لي دع له خيرًا مما تأخذ إذا كان عنده خير منه ودونه, أي: إذا كان عنده النفيس والخسيس والوسط فدع الخير والدون وخذ العدل من الصغير والكبير [44 أ/4] وما يشبه عشر ماله وهذا في أربعين من الغنم أو البقر لأن الواجب فيهما واحد, وهو ربع العشر وليس على الإطلاق, فإذا كانت عنده أربعون تسوي عشرين وكلفته شاةً تسوي عشرين درهمًا فلم آخذ عدلاً بل أخذت قيمة ماله كله ثم توجه له سؤال وهو أنه لو بقيت واحدة من الأمهات لم تؤخذ صغيره ويطالب الكبيرة فهذا لا يكون عدلاً أيضًا؟ فأجاب الشافعي رضي الله عنه عن هذا فقال: لا آخذ صغيرًا وعنده كبير فإن لم يكن إلا صغير يعني أن الكل صغارًا أخذ الصغير وشبه هذا بزكاة التمر فقال: كما آخذ الوسط من التمر ولا آخذ الجعرور فإن لم يكن إلا جعرور أخذت منه الجعرور, وهو التمر الرديء, ثم بين وجه الاستدلال فقال: ولم ينقص من عدد الكيل ولكنا نقصنا الجودة لما لم نجد الجيد أي: أخذنا الرديء لما لم نجد الجيد لذلك نقصنا من السن إذا لم نجدها, وأخذنا الصغير ولم تنقص من العدد وفي الجملة نحن وإن طالبناه بالكبيرة مع بقاء بعض الأمهات نأخذ كبيرة تشبه عشر ماله ولم نكلفه أكثر منها, ثم قال بعض أصحابنا بخراسان: إن لم توجد كبيرة بهذه القيمة أخذنا منه القيمة للضرورة. فرع لو توالدت أربعون من الغنم أربعين سخلة [44 ب/4] ثم ماتت الأمهات بعد الحول فإن قلنا: إن الإمكان من شرائط الوجوب وجبت سخلة وإن قلنا: لنه من شرائط

الضمان قال أبو حامد: تجب الكبيرة, وقال بعض أصحابنا: تجب صغيرة لأن الكبار إذا تلفت قبل الإمكان لم يضمن زكاتها, فإذا سقط جميع زكاتها بتلفها وإن وجبت بالحول فكذلك يسقط وجوب الكبيرة إلى الصغيرة لبقاء نصاب الصغار وتصير كأن كلها صغار عند الحول. مسألة: قال (¬1): ولو كانتْ ضَأنًا ومَعِزًا كانتْ سواءً. الفصل وهذا كما قال: إذا كان له أربعون من الغنم بعضها ضأن وبعضها معز يضم إحداهما إلى الآخر لأن الجنس واحد كما تضم الكرام إلى اللئام, ثم ينظر فإن كان إحداهما أكثر من الآخر قال في الأم: فيه قولان, إحداهما: نخرج الفرض من الأكثر اعتبارًا بالغالب, والثاني: يؤخذ بقدر حصته وطريقه إن كان الضأن ثلاثين والمعز عشرة أن يقال: كم قيمة جذعة من الضأن فيقال: ثمانية فتؤخذ ثلاثة أربعاها وهي ستة ثم يقال: كم ثنية معز فيقال: ستة فيؤخذ ربعها وهو درهم ونصف فيضم إلى الستة فتكون سبعة ونصفًا فيقال له: أعطنا جذعة من الضأن أو ثنية من المعز تساوي سبعة دراهم ونصفًا, ومن أصحابنا من [45 أ/4] قال: يؤخذ بالحصة, ولكن يكون الفرض منن أعلى الأنواع كما قلنا في المراض والصحاح, نأخذ بالحصة ولكن من الصحاح ذكره في "الشامل": وإن كان عددهما سواء. وقال في "الأم" (¬2): يأخذ المصدق من أيهما شاء, ووجهه أنهما إذا تساويا فقد استوى الفرضان الجذعة والثنية فكان الخيار إلى الساعي كما قلنا في أربع حقاق وخمس بنات لبون, قال أصحابنا ويجيء فيه وجه آخر: أنه يؤخذ من كل منهما واحد بقدره كالتمر إذا كان نوعين سواء فإنه يؤخذ من كل نوع بقدره, وذكر أبو إسحاق في الشرح: أنه يعطى رب المال من أيهما شاء, ولا وجه له مذهب الشافعي رحمه الله, ولو كانت له أربعمائة من الغنم مائتان من الضأن, أخذ الساعي جذعتين من الضأن وثيتين من المعز بلا خلاف, ولو كانت له أنواع مختلفة من الإبل والبقر والغنم بعضها أجود من بعض كالأغنام العربية والمكية واللأزية والبلدية في ناحية طبرستان, والإبل المهرية والأرحبية والعيدية وهي المنسوبة إلى بلدان اليمن وقيل النجدية بدل العيدية والعقيلية ويقال نجابتها تعيسة بحيث يبلغ عن الواحد ثلاثين دينارًا إلى مائة دينار والقرملية وهي إبل الترك وقيل: المهرية منسوبة [45 ب/4] إلى قوم وأعظمها أجسامًا, والدربانية هي التي تنقل الأحمال عليها, والعرابية جرد ملس حسان الألوان كرام فيضم بعضها إلى بعض بلا إشكال, ثم كيف يؤخذ الفرض؟ ذكر الشافعي فيه أقاويل. ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 200). (¬2) انظر الأم (2/ 12).

قال في"الأم": فيه قولان, إحداهما: يؤخذ من النوع الأكثر, والثاني: يؤخذ من كل نوع بقدر حصته, وقال في موضع آخر من"الأم" (¬1): إذا اختلفت غنم الرجل فكان منها أجناس بعضها أرفع من بعض أخذ من وسط أجناسها لا من أعلاها ولا من أسفلها, فحصل ثلاثة أقاويل: فإذا قلنا: يؤخذ من كل بقدر حصته وهو الصحيح لأن الوجوب يتعلق بكل واحد من الأنواع, فكان لكل نوع مدخل في أخذ الزكاة منه وأيضًا هذا يكون أعدل من الأكثر, والأوسط يقول: يقوم الفرض من كل نوع منها ثم يؤخذ من قيمته مقدار ما اجتمع منها من أي نوع كان وبيان ما ذكره الشافعي هاهنا فقال: كان إبله خمسًا وعشرية عشر مهرية وعشر أرحبية وخمس عيدية فتؤخذ بنت مخاض بقيمة خمس مهرية وخمس أرحبية وخمس عيدية, لأن كل عشر [46 أ/4] من خمس وعشرين خمساها والخمس خمسها فتكون قيمة المهرية عشرة وقيمة الأرحبية عشرة وقيمة العيدية خمسة عشر فيجمع بين خمسي قيمة المهرية وهو أربعة وخمسي الأرحبية وهو أربعة فذلك ثمانية وخمس عيدية وهو ثلثه فلذلك أحد عشر فنطالبه ببنت مخاض, إما من المهرية وإما من الأرحبية وإما من العيدية قيمتها أحد عشر درهمًا, وعلى هذا القياس أبدًا, فإذا قلنا: إنه يؤخذ من الأكثر بأي نوع كان أكثر منه فإن لم نجد في الأكثر السن الواجب كلفنا رب المال تحصيلها ولا تنخفض ولا ترتفع هكذا نص الشافعي, وأراد أنه لا يجوز أن يأخذ من النوع الأدنى مع الجيران أو من الأعلى مع دفع الجبران إليه, ولكن لو أخذ من السن الأكثر أو الأدنى مع الجبران فإنه يجوز بلا إشكال, وإن قلنا: يؤخذ من الوسط فإن لم يجد في الأوسط السن التي وجبت قال لرب المال: إن تطوعت بالأعلى منها أخذتها, وإن لم تتطوع كلفتك أن تأتي بمثل شاة وسط ولا تأخذ من الآخر فإن استوت الأعداد في المقدار يجيء فيه قولان ويسقط القول الثالث. مسألة: قال (¬2): ولو أدَّى في أحدِ البَلَدَينِ عنْ أربعينَ شاةً مُتفرِّقةً كَرِهتُ ذلكَ. الفصل وهذا كما قال: [46 ب/4] إذا كانت له أربعون شاة عشرون منها في بلد آخر فأخرج منها شاة في أحد البلدين نص هنا أنه يجوز واختلف أصحابنا في هذا, فمنهم من قال: هذا على القول الذي نقول: يجوز نقل الصدقة من بلد إلى بلد, فأما على القول الآخر: فعليه أن يخرج نصف شاة في البلد الآخر, ومن أصحابنا من قال: يجوز هاهنا قولاً واحدًا, لأن على رب المال مشقة في إخراج نصف الشاة, فإنه يؤدي إلى اشتراك الأيدي في الشاة الواحدة وفيه ضرر عليه وعلى أهل السهمان وهذه الطريقة اختارها القفال رحمه الله, والصحيح الطريقة الأولى, لأنه قال: كرهت ذلك وأجزاه فدل على أنه أحد القولين, ولو كان قولاً واحدًا لم يقل كرهت, وقال القفال: إذا جوزنا اختلف أصحابنا في العلة فمنهم من قال: هي المشقة فعلى هذا لو كان له في بلد مائة ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 9). (¬2) انظر الأم (1/ 201).

وفي بلد مائة فأدى شاتين في بلد لا يجوز, وإن أدى في كل واحد من البلدين شاة يجوز, لأنه لا مشقة هاهنا, ومن أصحابنا من قال: العلة هي أن البلدين جعلا في حقه كالبلد الواحد في الحكم بدليل أنه ضم أحد ماليه إلى الأخرى في استكمال النصاب, فكذلك في حق إخراج الزكاة كالقريتين من بلدة واحدة فعلى [47 أ/4] هذا الوادي شاتين في بلد واحد في هذه المسألة فإنه يجوز, فإذا تقرر هذا فأتاه الساعي في أحد القولين وطالبه بزكاة هذا المال أخرجتها في البلد الآخر فإن قلنا: لا يعتد به أخذ منه نصف شاة ولا يلتفت إلى قوله, وإن قلنا: يعتد به القول قول رب المال, وهل تجب عليه اليمين أم يستحب ذكرنا وجهين. مسألة: قال (¬1): ولو مرَّتْ به سَنَةٌ وهيَ أربعونَ فنَتَجَتْ شاة. الفصل وهذا كما قال: إذا كان لرجل أربعون شاة فأمسكها ثلاثة أحوال لم يخرج زكاتها فإن كانت تنتج في أول كل سنة شاة فعليه فيها ثلاث شياه قولاً واحدًا, لأنها لم تنقص عن النصاب في الأحوال الثلاثة, وإن لم تنتج فهذه المسألة مبنية على أصلين, إحداهما: أن الزكاة كيف تجب في المال؟ قال في القديم: تجب في الذمة والعين مرتهنة بما في الذمة فكان جميع المال رهن ما وجب من الزكاة في ذمته, وقال في الجديد: إن كانت الزكاة من جنس المال فقد استحق منه مقدار الزكاة, وإن كانت الزكاة من غير جنسه ففيه قولان, إحداهما: تجب في الذمة, والثاني: يستحق منه مقدار الزكاة وهذا أصح لأنه حق يتعلق بالمال سقط بهلاكه قبل الإمكان بعد [47 أ/4] الحول بلا خلاف يتعلق لعينه كحق الضارب والأصل, والثاني: إذا كان له مال وعليه مثله دين فالدين هل يمنع وجوب الزكاة؟ قولان: فإذا تقرر هذان الأصلان رجعنا إلى المسألة فإن قلنا بقوله القديم: إن الزكاة في الذمة ووجهه أنها لو تعلقت بالعين لم يقدر رب المال على إخراجها من غير هذا المال فتلزمه شاة للسنة الأولى, وهل عليه شاة لما بعدها من الحولين؟ يبنى على القولين الآخرين, فإن قلنا: الدين الذي لا يمنع وجوبها وهو المذهب فيلزمه لكل حول شاة حتى لو بقيت عنده أربعون شاة أربعين سنة وجبت أربعون شاة, وإن قلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة فإن لم يكن له مال غيرها فيجب في السنة الأولى شاة واحدة ولا يجب فيما بعدها, وإذا قلنا بقوله الجديد: لا يلزمه لما بعد السنة الأولى شيء لأن النصاب قد انتقص, ومن أصحابنا من جمع وقال: في هذه المسألة أربعة أقاويل, أحدها: يلزمه زكاة سنة, والثاني: يلزمه زكاة ثلاث سنين, والثالث: إن أخرج الزكاة منها وجبت عليه زكاة سنة, وإن أخرجها من غيرها وجبت عليه زكاة السنين الثلاث, وإن كان معسرًا بغيرها فإنه يجب زكاة سنة واحدة؛ لأن [48 أ/4] الذين يمنع وجوب الزكاة. ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 203).

وفرّع الشافعي رحمه الله على هذا ثلاث مسائل في"الأم", إحداها: إذا كانت لرجل خمس وعشرون من الإبل فحالت عليها ثلاثة أحوال ولم يخرج ولم يخرج منها فإنه يلزمه في السنة الأولى ابنة مخاض, وفي السنة الثانية أربع شياه, وكذلك في السنة الثالثة والثانية إذا كانت له إحدى وتسعون من الإبل أمسكها ثلاثة أحوال يلزمه في السنة الأولى حقتان, وفي السنة الثانية بنتا لبون, وفي الثالثة بنتا لبون, والثالثة: إذا كانت له مائتان وشاة فله ثلاثة أحوال يلزمه في السنة الأولى ثلاث شياه, وفي الثانية شاتان, وفي الثالثة شاتان, وعلى قوله القديم: إن قلنا: إن الدين يمنع وجوب الزكاة فعلى ما ذكرنا, وإن قلنا: لا يمنع فعليه في المسألة الأولى ثلاث بنات مخاض, وفي الثانية ست حقاق, وفي الثالثة تسع شياه. مسألة: قال: ولو ضَلَّتْ أو غَصَبَهَا أحوالاً فوَجَدَهَا زّكَّاها لأحوَالِهَا. وهذا كما قال: إذا كان له مال من النقد فضاع أو غصب عليه أو جحده المودع أو سرق أو وقع في بحر أو دفنه في موضع ونسي موضعه لا يجب عليه إخراج الزكاة عنه قولاً واحدًا, لأنه لا يجوز أن يكلف [48 ب/4] إخراج مال حاضر مقدور عليه عن مال هو يحول دونه ولا يتمكن منه وهل تجب فيه الزكاة أم لا؟ فيه قولان: قال في "الجديد": يجب وبه قال أحمد في رواية وهي الصحيح, لأنه من جنس الأموال النامية فتجب الزكاة فيه, وإن لم يحصل النماء لذكر المواشي, وقال في"القديم": لا تجب لأنه لا نماء والزكاة تجب بمعنى النماء ولأنه ناقص التصرف فيه فلا زكاة فيه كمال المكاتب, وبه قال أبو حنيفة, إلا أنه قال: إذا دفنه ونسي موضعه يلزمه الزكاة لأنه مفرط, وقال القاضي أبو حامد: هذا أشبه القولين: ومن أصحابنا من قال: يلزم الزكاة في المدفون إذا نسي موضعه قولاً واحدًا, لأنه منسوب إلى التفريط في غفلته وإليه يميل ابن أبي هريرة, ومن: بهذا هل يلزمه إخراج زكاته قبل وجدانه؟ فيه وجهان, والصحيح أنه لا يلزمه ذلك لأنه في حكم المغصوب ولا اعتبار بالتفريط كما في البضائع والتائه مفرط أيضًا على هذا الوجه, ومن أصحابنا من قال: يجب قولاً واحدًا وهو الذي نص هاهنا, وإنما قال في "القديم": في المال الضال لا يجوز إلا واحدًا من قولين على ما نقل المزني بعد هذا ردًا [49 أ/4] على مالك حيث قال: تجب للعام الأول دون ما بعده من الأعوام فقال الشافعي: القياس ما قلت أو ما قال أبو حنيفة, وقول مالك لا وجه له وهذا على أصله صحيح لأنه يقول: الوجوب هو بحلول الحول, وإمكان الأداء ولا يبتدي الحول الثاني إلا من يوم إمكان الأداء, وهاهنا لم يحصل إمكان الأداء إلا بعد الأحوال فلم تجب الزكاة إلا مرة. وذكر القاضي الإمام علي الزجاجي الطبري في"زيادة المفتاح" هذا القول لنا وجعل في المسألة ثلاثة أقوال وانفرد هو بهذا فإذا قلنا: لا تجب زكاته خرج من ملكه فمتى عاد إليه استأنف الحول, وإذا قلنا: يجب فالحول بحاله فمتى عاد إليه أخرج الزكاة بجميع ما مضى, وإن كان في أثناء الحول زكى المال بعد تمام الحول ومن أصحابنا من قال: على القول الأول إذا عاد إليه لا يستأنف الحول بل يبنى فلو مضت

ستة أشهر أخرى يلزمه الزكاة, وهذا هو أقرب عندي, لأن ملكه في الحقيقة لم يزل وإن [49 ب/4] كان ماله ماشيًة فضاعت أو غصبها غاصب حتى تم الحول ثم رجعت إليه فإن رجعت من دون نمائها فالحكم على ما ذكرنا, وإن رجعت بتمامها من الذر والنسل قال ابن سريج: يلزمه زكاة ما مضي قولاً واحدًا، لأنها سقطت في أحد القولين لعدم النماء وهاهنا حصل له النماء وترفه بسقوط مؤنها عنه مدة, وقال أبو علي بن أبي هريرة: فيه قولان أيضًا, وهو الصحيح لأن نقصان الملك بالخروج عن تصرفه ويده قد وجدوا بالرجوع لم يعد ذلك فأشبه مال المكاتب إذا رجع إلى الولي بالعجز من الأرباح لا زكاة فيه, وإن غصبها أحوالاً فالزكاة في السنة الأولى على ما ذكرنا, وفي السنة الثانية والثالثة لا يجب على قوله الجديد والقديم, أما على قوله الجديد فلأن الزكاة تجب في العين فينقص المال عن النصاب. وأما على قوله القديم فلأن المال كان محولاً دونه وأراد بما في الكتاب هاهنا إذا وجدها بتمامها زكاها أحوالها وهذا إذا أسامها ربها وأسامها الغاصب, فأما إذا أسامها المالك ثم غصبها وعلفها بقية السنة ففيه طريقان, إحداهما: لا زكاة قولاً واحدًا, وهو الصحيح, لأن شرط الزكاة عدم فيها وهو السوم فأشبه إذا [50 أ/4] ذبح شاة منها ونقص عن النصاب ومن أصحابنا من قال: فيه قولان, إحداهما: هذا والثاني: لا تسقط الزكاة بعلف الغاصب كما لو غصب دراهم فصاغها حليًا لم تسقط الزكاة عنها بصياغته وهذا غلط, والفرق أن صياغة الغاصب محرمة فلا يتعلق بها سقوط الزكاة كما لو صاغها المالك صياغة محرمة لا تسقط الزكاة, والعلف مباح بل واجب وإنما إمساكها محرم فصار كعلف المالك فسقط الزكاة ولو علفها المالك وأسامها الغاصب اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: لا زكاة فيها, لأن حكم السوم لا يثبت إلا بقصد المالك واختباره, ومنهم من قال: فيه قولان, إحداهما: هذا, والثاني: يثبت حكمه وتجب الزكاة فيه كما لو غصب طعامًا وزرعه في أرضه فالعلة لصاحب الطعام وجيب علي فيها العشر كما لو زرعه صاحبه باختياره, فإن قيل: يلزمكم إذا رعت الغنم بنفسها من غير قصد صاحبها واختياره تجب الزكاة فيها, قيل: لو جاز أن يدوم سنة هكذا لم يبعد أن يجب على قول هذا القائل ذكرها الإمام أبو الطيب الطبري, وقال الشيخ أبو حامد: لا تجب هاهنا قولاً واحدًا وقول هذا القائل غلط لهذا السؤال وحصل الفرق [50 ب/4] بين السوم والزرع وهل فيه وجهان؟! فرع لو غصب ماشية ثم تاب فسلمها ثم تاب فسلمها إلى الإمام فأسامها حولاً وجبت الزكاة. فرع آخر إذا قلنا: يلزم الزكاة على المالك بإسامة الغاصب, قال بعض أصحابنا: لا خلاف على المذهب إن قرار الضمان على الغاصب لأنه أوقعه فيها.

فرع آخر هل للمالك أن يطالب الغاصب بإخراجها؟ وجهان, بناء على أصل وهو أن الحلال إذا حلق شعر محرم وهو نائم فقرار ضمان الجزاء على الحلال وهل يؤمر الحلال بالإخراج فيه خلاف. فرع آخر لو كانت له أربعون من الغنم فضاعت واحدة منها ثم وجدها قبل الحول على القول القديم يستأنف الحول وعلى القول الجديد: يبني وإن وجدها بعد حلول الحول وباقي المال سالمًا فقد ذكرناه, وإن وجدها بعد الحول وتلف باقي المال بعد الإمكان فعلى القول القديم لا شيء وعلى قوله الجديد لم ينقطع حكم الحول, وقد يمكن أداء الزكاة فعليه شاة, قال الشافعي: إن شاء أخرج هذه وإن شاء أخرج غيرها. فرع لو كان له عبد فأبق أو غصب ثم أهل شوال, نص الشافعي رحمة الله عليه أن يخرج زكاة الفطر عنه فمن أصحابنا من قال: هذا على قول واحد والفرق أن هذا الزكاة تجب بمجرد الملك لا بمعنى النماء [51 أ/4] بخلاف الزكاة الأخرى, ومن أصحابنا من قال: فيه قولان أيضًا, لأنه ناقص التصرف فيه, وبه قال أبو حنيفة. فرع آخر لو أسر الرجل عن ماله ثم أطلق فالمذهب أن عليه الزكاة لما مضى قولاً واحدًا, والفرق بين هذا وبين غصب المال أن من غصب ماله يصير ممنوعًا من التصرف فيه لأنه لو باعه ممن يقدر عليه أو وكل وكيلاً بالبيع وهو في الأسر فإنه يجوز, ومن أصحابنا من خرج فيه قولين لأن الحيلولة موجودة بينه وبين ماله. فرع لو كانت له أربعون شاة فماتت واحدة وولدت واحدة ففيها ثلاث مسائل, إن ولدت واحدة ثم ماتت واحدة ثم حال الحول فإنه تجب شاة, لأن الحول حال على نصاب, وإن ماتت واحدة أولاً ثم ولدت واحدة ثم حال الحول فلا شيء, وإن حصل الموت والولادة في حال واحدة فال الحول تجب شاة, لأن المال لم ينقص عن النصاب بحال, ولو خرج بعد الولادة ثم ماتت واحدة ثم انفصل الباقي فلا زكاة أيضًا, لأنه لا حكم له ما لم ينفصل الكل. مسألة: قال (¬1): وكذلكَ الإبِلُ التي فَرِيضَتُهَا منَ الغَنَمِ. الفصل وهذا كما قال: نقل المزني مسألة الأربعين من [51 ب/4] الغنم يحول عليها ثلاثة ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 203).

أحوال وتزيد في الحول الأول والثاني, وقال فيها ثلاث شياه ثم عطف عليها مسألة الضال والغصب ثم عطف عليها هذا فقال: وكذلك الإبل التي فريضتها من الغنم فيها قولان, وقد أفسد ترتيب كلام الشافعي رحمه الله وراث أشكالاً بليغًا والشافعي حين ذكر مسألة الأربعين وفرغ منها قال: ولو حال عليها ثلاثة أحوال ولم تزد بالنتاج ففيه قولان, ثم قال: وكذلك الإبل التي فرضيتها من الغنم ففيها قولان, ومسألة الإبل لا تنعطف إلا على هذا المسألة التي فيها زيادة المال مع تكرار الأحوال, وأسقط المزني هذه المسألة وأدخل مسألة الضال والغصب بين المسألتين, ومن قال في رواية محمد بن إسحاق بن خزيمة: والإبل التي فريضتها من الغنم ولم ينقل وكذلك وإنما ذاك في رواية ابن عيدان وهذا أصح, لأن الشافعي ذكر هذه المسألة عقيب مسألة الغنم إذا مرت بها أحوال ولم يخرج زكاتها ولم تزد في عينها ففيها على القول الذي نقول تتعلق الزكاة بالعين شاة قولاً واحدًا بلا معنى لما نقل ابن عيدان, وكذلك الإبل لأن هذا إنما يصح [52 أ/4] أن لو كان أجاب في الإبل بمثل جوابه في الغنم, فأما فرق بينهما في الجواب نقطع في الغنم بقول واحد هاهنا, وإن كان فيها قول آخر ونص في الإبل التي فريضتها من الغنم على القولين فلا وجه لقوله, وكذلك فإذا تقرر هذا جعنا إلى المسألة, فإذا حال ثلاثة أحوال على خمس من الإبل ولم يؤد زكاتها ففي الحول الأول تلزمه شاة, ثم إن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالذمة وكان له مال سواها أو لم يكن, وقلنا: إن الدين لا يمنع الزكاة تجب في كل حول شاة, وإن قلنا: إنها تتعلق بالذمة ولم يكن له مال سواها, وقلنا الدين يمنع الزكاة لا شيء عليه للحول الثاني والثالث, وإن قلنا: إنه استحقاق جزء من العين فيه قولان منصوصان, إحداهما: تجب الشاة في عين الإبل فلا تجب للحول الثاني والثالث بشيء لانتقاض الخمس من الإبل بوجوب الشاة الأولى, ولهذا علل يقال لأن الشاة التي فيها رقابها يباع منها إن لم يأت بها واختار الشافعي هذا القول, وقال: وهذا أشبه القولين يعني أشبه بالصواب, والثاني: أنها تجب الشاة في الذمة لا في عينها فتجب ثلاث شياه لأن الواجب ليس هو من جنس [52 ب/4] المال حتى ينتقص بوجوبه النصاب بخلاف مسألة الغنم. وقال القفال: إذا قلنا: إن الزكاة تتعلق بالعين ففيه قولان, إحداهما: يتعلق فيها كتعلق الجناية برقبة العبد وبه قال أبو حنيفة, والثاني: يتعلق بها على معنى الشركة فكان السكاكين ملكوا جزءًا منه غير أن هذه الشركة لا تتحقق من جهة أن له يؤدي الزكاة من مال آخر, فإن قلنا: على معنى الشركة تجب في كل حول شاة هاهنا لأن الشركة في الجنس لا في غيره, وإن قلنا: على معنى الجناية فحكم الإبل والغنم سواء, ثم إن المزني اختار القول الذي اختاره الشافعي أيضًا, فقال: الأول أولى به أي: بالشافعي, وعلل بأن الشافعي قال في خمس من الإبل لا يستوي واحدها شاه لعيوبها إن سلم واحدًا منها فليس عليه شاة وهذه هي إشارة من المزني إلى المسألة التي مضت ووجه استدلال المزني منها هو ان الشاة أقيمت في هذا الموضع مقام جزء من بعير,

ولهذا جاز أن يسلم رب المال بعيرًا منها مكان شاة فثبت بهذا أن النصاب قد انتقض بوجوب الزكاة في السنة الأولى فلا تجب فيها بعد ذلك شيء ما لم يتخير النقصان بالزيادة فإن كان عنده من الإبل فحال أحوال يجب في كل حول شاة [53 أ/4] بكل حال لأنه يؤدي إلى نقصان المال عن النصاب. مسألة: قال (¬1): ولو ارتَدَّ فحالَ الحَوْلُ على غَنَمِهِ. الفصل وهذا كما قال: إذا ارتد رب المال فإن كان بعد وجوب الزكاة لا يسقط عنه بردته, وقال أبو حنيفة: يسقط بناء على أصله أن الزيادة بنفسها تحبط العبادة وتجعل بالردة كالكافر الأصلي, وإذا أسلم لا يلزمه قضاء العبادات كما لا يلزم الكافر الأصلي إذا المتلفات فإذا تقرر هذا فيؤخذ من ماله قدر الزكاة ويصرف إلى أهل السهمان قتل أو مات, وإن كانت الردة وجوب الزكاة فتم الحول وهو مرتد اختلف أصحابنا فيه, قال أبو إسحاق: في ملكه ثلاثة أقاويل: وحكم الزكاة مبني عليه أحدها: أنه موقوف فإن قتل تبينًا أن ملكه قد زال بالردة ولا تجب الزكاة وهذا أصح, والثاني: أنه زال الملك بنفس الردة فإن قتل أو مات فلا شيء, وإن تاب استأنف الحول والملك, والثالث: أن الملك لا يزول إلا بالموت وقبل ذلك هو على ملكه وتؤخذ الزكاة منه كل سنة. وقال ابن سريج: ليس في الملك إلا قولان, إحداهما: أنه موقوف, والثاني: [53 ب/4] أنه لا يزول إلا بالموت وكذلك في الزكاة قولان, إحداهما: أنها واجبة, والثاني: موقوفة وهذا لأن مذهب الشافعي لا يختلف أن أروش جنايات المرتد ونفقات من تلزمه نفقاته تؤخذ من ماله فلو كان ملكه يزول بالردة لوجب أن لا يؤخذ ذلك, قال هذا القائل ومعنى قول الشافعي في كتاب المرتد: لأن ماله خارج منه أي: من تصرفه فإنه يصير محجورًا عليه في ماله بردته لتعلق حق أهل الفيء, قال الإمام: ظاهر كلام الطبري هذا أصح, ونص الشافعي على هذين القولين في باب صدقة الورق كان القول الثالث ثابتًا لا يشبه أن يكون قد ذكره في موضع خاصة, والشافعي قال في كتاب المرتد: وهذا أسند الأقاويل فدل أن المراد به أنه خارج من تصرفه دون ملكه ومن أصحابنا من قال: أصل الاختلاف في الملك مأخوذ من تصرفه, وفي تصرفه نص الشافعي على ثلاثة أقوال لو دبر عبده فيه ثلاثة أقوال فقال أبو إسحاق: الملك والتصرف سواء, وقال ابن سريج: في الملك قولان, وفي التصرف ثلاثة أقوال. مسألة: قال: ولو غَلَّ صَدَقَتَهُ عُذِّرَ إنْ كانَ الإمامُ عَدْلاً. ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 204).

الفصل وهذا كما قال: إذا غل صدقته بأن [54 أ/4] يكتم المال الظاهر من الساعي ثم علم الساعي بغلوله فإن كان الساعي والإمام عارفين يسألانه عن غلوله وتغيب ماله عنه, فإن قال: لم أعلم وكان عندي أن ذلك جائز نظر في حاله فإن كان قريب العهد بالإسلام أو نشأ في بادية نائية عن المسلمين فإنه يعذر فيما يدعيه من الجهل ويعرف وجوب الزكاة ووجوب دفعها إلى الأمام عند المطالبة, وإن كان بعيد العهد بالإسلام وقد نشأ بين المسلمين فلا يقبل منه ذلك ويعزره على الغلول, وكذلك إن قال: تعمدت ذلك ولم يذكر عذرًا يعزر ويأخذ صدقته ولا يأخذ شطر ماله وقد قال الشافعي في "القديم": إن صح حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قلب به ولكن بهز بن حكيم ضعيف ولفظ الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: "إلا من منع فإنا آخذوها وشطر ماله عزمة من عزمات ربنا ليس لآل محمد فيها شيء" (¬1) فقيل فيه قولان, والصحيح أنه على قول واحد لقوله صلى الله عليه وسلم"ليس في المال حق سوى الزكاة" ولأنها عبادة فلا تجب بالامتناع منها أخذ شطر ماله كسائر العبادات وبظاهر هذا الخبر قال مالك وأحمد: وأما عندنا فإن [54 ب/4] هذا الخبر منسوخ إن صح, وكان ذلك حين كانت العقوبات في المال ونسخ ذلك وكيف يقال هذا ولو دفع ثم سرق لم يغرم شطر ماله, فإذا منع أولى وإن كان الإمام فاسقًا لا يعزر قولاً واحدًا, لأن له شبهة في الغلول بأن تقول: أردت أن أقسم بنفسي فأوصل إلى المستحقين في علمي ولو أخذ الفاسق زكاته قال بعض أصحابنا: سقط عنه الفرض لأن الشافعي نص فقال: وإذا غلبت الخوارج على بلد وأخذوا صدقات أهلها سقط فرضها عنهم, ومن أصحابنا من قال: إذا جار الإمام وفسق خرج من الإمامة ولا يجيء على أصل الشافعي غير هذا, وإنما ذاك قول أحمد وعامة أصحاب الحديث, ذكره القاضي أبو علب البندنيجي وجماعة وهذا أقيس ولكن الأول أصح. مسألة: قال (¬2): ولو ضُرِبَتْ غَنَمُهُ فحُوِّلَ الظِّباء لم يكنْ حُكْمُ أولادِهَا حُكْم الغَنَم. وهذا كما قال الأولاد المتولدة من بين الظباء والغنم لا زكاة فيها سواء كانت الأمهات من الغنم والفحل من الظباء ويسمى هذا المتولد رقلة ًوجمعها رقال: وقال مالك وأبو حنيفة: إن كانت الأمهات من الغنم حكمها حكم الغنم في جميع الأحكام وإلا فلا, وقال أحمد: يجب بك حال, وإن كانت الأمهات من [55 أ/4] الظباء, وقال في رواية: يجب في بقر الوحش لأنه يسمى بقرًا وهذا لا يصح لأنه يقيد فيقال بقر الوحش, واحتج الشافعي عليه بسهم فقال: لا يكون للبغل سهم من الغنيمة وإن كان متولدًا من خيل والحمار ولم يعتبر الأم في الاستحقاق السهم فكذلك في ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 2,4) , وأبو داود (1575) , والنسائي (2444) , والبيهقي في "الكبرى" (7328) , وفي "معرفة السنن" (2254) , والحاكم (4/ 398). (¬2) انظر الأم (1/ 205).

باب صدقة الخلطاء

الزكاة لا يكون حكمه حكم الأم فإن قيل: أليس في الولد الخارج من بين الوحش والأهلي يلزم الجزاء إذا قتله المحرم تغليبًا للإيجاب فما الفرق؟ قيل: لأن في الزكاة مغلب الإسقاط, ألا ترى أنه لو اجتمع السوم والعلف في المواشي أو الملك وعد الملم في بعض السنة غلب إسقاط الزكاة وفي الجزاء إذا اجتمع ما يوجب ويسقط فغلب الإيجاب, ألا ترى أن الصيد الواقف بين الحل والحرم إذا قتله قاتل فإنه يلزمه الجزاء بقتله وعلى ما ذكرنا لا يجوز أن يضحي بالرقلة ولا يجوز للمحرم أن يزكيه نص عليه في الأم, وأما المتولد بين السائمة والمعلوفة إذا كانت سائمة يلزم الزكاة فيها بلا إشكال. باب صدقة الخلطاء قال الشافعي رحمه الله: جاء الحديث "لا يجمع بين مفترق" الخبر. وهذا كما قال: أعلم أن الخلطاء جمع [55 ب/4] خليط والخليط والمختلط وقد يقع هذا الاسم على الشركة لأنها حقيقة الخلطة وهي اختلاط الملكين أو الأملاك بحيث لا يتميز إلا بالقسمة وقد يقع هذا الاسم على خلطة المجاورة وهي اجتماع ماشية الاثنين والثلاثة في موضع واحد, ومرافقهما واحدة والأصل في معرفة حكم الخلطاء في الزكاة ما صدر به الشافعي هذا الباب فقال: جاء الحديث "لا يجمع بين مفترق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية" (¬1)، وروي سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فيه زيادة وهي أنه قال: "والخليطان ما اجتمعا في الفحل والراعي والحوض", فإذا تقرر هذا فإذا كان بين رجلين نصاب من الماشية إذا كثر إما خلطة الملك أو خلطة المجاورة, فإنهما يزكيان زكاة المال الواحد سواء اختلف نصيبهما في الكثرة والقلة أو استويا وبه قال عطاء والاوزاعي والليث بن سعد وأحمد وإسحاق, وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري: لا تؤثر الخلطة في الزكاة بحال وحكمها حكم المنفرد ووافقنا أن خلطة الأعيان تؤثر في جواز الأخذ حتى يأخذ الساعي الزكاة الواجبة في المال من الوسط ثم يرجع صاحب الأقل على صاحب الأكثر بالزيادة [56 أ/4] وقال مالك: إن كان كل واحد منهما يملك نصابًا كاملاً زكيًا زكاة الانفراد, وإن كان كل واحد منهما يملك دون النصاب لا تؤثر الخلطة كما قال أبو حنيفة. مسألة: قال: والذي لا أشك فيه أن الشريكين ما لم يقتسما الماشية خليطان. الفصل وهذا كما قال: هذا هو إشارة إلى ما ذكرنا أن حقيقة الخلطة إنما هي الشركة وتسمى هذه خلطة الأعيان ثم بين بعد ذلك أن الخلطة من جهة المجاورة تدخل تحت ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2/ 145) , وأبو داود (1571) , وابن ماجه (1805) , وابن أبي شيبة (3/ 121) , وعبد الرزاق (6804) , والبيهقي في "الكبرى" (7305, 7329) , والدارقطني (2/ 105).

ذلك أيضًا في الحكم وهي التي تسمى خلطة الأوصاف فيكون مال كل واحد منهما معلومًا والخلطة في أوصافه بأن يريحان معًا على ما نذكر فقال: وقد يكون الخليطان الرجلين يتخالطان بماشيتهما, وإن عرف كل واحد منهما ماشيته وهذا صحيح على ما قال, ومن أصحابنا من قال في الخبر وما كان من خليطين فإنهما يتراجعان بينهما بالسوية وهذا يتبين بذكر المذهب, فاختلف قول الشافعي في الخلطة المطلقة ما هي؟ قال في"الأم" (¬1): المطلقة هي خلطة الأعيان, وهي التي ذكر هاهنا, وقال في "القديم": المطلقة خلطة الأوصاف لأنه ذكر الخبر ثم قال: والخليطان أن يعرف كل واحد عين ماشيته ويريحا, وذكر الفصل ولا خلاف أن الاسم يقع عليهما وأن [56 ب/4] اختلاف القولين لمعرفة المراد بالتراجع المذكور في الخبر لا بحكم آخر يتغير به, فإذا قلنا بقوله القديم: فالتراجع واضح, فإذا أخذ الساعي من مال إحداهما شاة أو أكثر بالحق رجع على شريكه بقدر ما أدى, وإذا قلنا بقوله الجديد: ففي أربعين شاة مشتركة إذا أخذ شاة فلا تراجع, وهكذا في أكثر وإنما يتصور التراجع في خمس من الإبل بينهما فأخذ من إحداهما شاة من ماله فإنه يرجع بنصف المأخوذ على شريكه, وكذلك إذا لم يكن عين الفريضة في المال المشترك مثل إن وجبت بنت مخاض أو بنت لبون وليست في المال فأخذها من أحد الشريكين يرجع بنصفهما, فإذا تقرر هذا قال (¬2): ولا إلى عشر شرائط. إحداها: أن يكون مسرحهما واحدًا وهو المرعى فيكون مرتعهًا واحدًا. والثانية: أن يكون مراحهما واحدًا, وهو المبيت فيردان عشاء إلى مراح واحد. والثالثة: أن يكون السقي واحدًا وهو أن يكون موضعهما أو منهليهما واحدًا فلا يميزان عند السقي, وقال بعض أصحابنا: هذا إذا كان بين المنهلين أو الحوضين مسافة فإن لم يكن بينهما مسافة فيهما كالحوض الواحد. والرابعة: أن يكون [57 أ/4] راعيهما واحدًا. والخامسة: أن يكون فحولهما مختلطة وهو أن يكون الفحل الذي يطرق عنهما واحدًا, إما أن يكون مشتركًا أو ملكًا لإحداهما أو مستعارًا, ولكن لا يحص به إحداهما بحيث لا يرسله إلا في أغنامه. والسادسة: أن يكون مال الخلطة نصابًا. والسابعة: أن يكون كل واحد من الخليطين من أهل الزكاة حتى لو كان إحداهما ذميًا أو مكاتباً وكان الآخر حرًا مسلمًا لا يؤثر الخلطة في مالهما فهذه سبع شرائط لا خلاف فيها بين جمهور أصحابنا, وفي ثلاث شرائط منها خلاف, إحداهما: الحلاب نقل المزني وعليًا معًا ولم يذكر الشافعي في "الأم" فمن أصحابنا من غلط المزني في ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 12). (¬2) انظر الأم (1/ 205).

نقله, وقال: لا يصح هذا الاعتبار ولأنه يؤدي إلى الربا فإنهما إذا خلطا اللبن ثم اقتسما فإنه يؤدي إلى الربا لأنه لا يجوز أن يكون لبن إحدى الماشيتين أغرز من الأخرى. وقال أبو إسحاق: ما نقله المزني فهو صحيح ونقل حرملة مثله ومعناه: أن الماشيتين لا يفرق بينهما للحلب كما لا يفرق بينهما للسقي فيحلبان في موضع واحد, وإن كان لكل واحد محلب على حدة يحلب فيه ماشيته خاصة ولم يرد به أنهما يحلبان في إناء واحد, ومن أصحابنا من قال: يشترط أن يكون الحالب والمحلب [57 ب/4] واحد فيحلبان في إناء واحد ولا يتميز إناء إحدى الماشيتين عن الأخرى, ولكن لا يجمع بين اللبنين ولا يخلط إحداهما بالآخر, ومن أصحابنا من قال: يشترط أن يكون الحالب والمحلب واحد فيحلبان في إناء واحد ثم يقتسمان على قدر الماشية ويجوز ذلك عن طريق المسامحة لما يجوز أن يخلط الرفقة في السفر أزوداهم ويأكلون معًا, وإن كان إحداهما أكثر أكلاً والآخر أقل أكلاً فحصل من هذا أن أصل الحلاب هل يشترط؟ وجهان, إحداهما: لا يشترط فكل واحد منهما يحلب ماشيته فكيف شاء لأن الأخلاط تعتبر في الأصل لا في النماء كما لا يعتبر في جز الصوف, والثاني: يشترط ذلك ليحصل رفق الخلطة فإذا قلنا بهذا ففي كيفيته ثلاثة أوجه, أحدها: أن يكون الحلاب على موضع واحد فقط, والثاني: أن يكون المحلب واحدًا ولا يشترط أن يكون الحالب واحدًا ولا خلط اللبن, والثالث: يشترط أن يكون الحالب والمحلب واحدًا ويخلطان اللبن وهذا هو أضعف الوجوه, ومن أصحابنا من ذكر وجهًا رابعًا فقال: لا خلاف أن خلط اللبن لا يشترط ومن اشترطه فقد سها ولكن يشترط أن يكون الحالب والمحلب واحدًا, ومن أصحابنا بخراسان من قال: [58 أ/4] الصحيح في الفحل أنه لا يشترط أن يكون واحدًا مشتركًا بل يشترط فيه من ذكرنا في الحلاب وهو ان يكون الأنزاء في موضع واحد. وإن كان لكل واحد فحل على حدة ينزيه على ماشيته خاصة, وهذا غريب والشرط الثاني من الشرائط الثلاث فيه الخلطة فهل يعتبر ذلك وجهان كما قلنا في نية السوم إحداهما: أنه شرط كما يشرط النية في أصل الزكاة, والثاني: لا يشترط وهو المذهب لأن المقصود حقه المؤنة ويجعل ذلك من دون النية, والثالثة: وجود هذه الشرائط في جميع السنة, قال الشافعي في الحديث: يعتبر من أول السنة وليس هذا بمشهور, ومن أصحابنا من قال: لا يشترط أن يكون الراعي واحدًا ويكفي أن يكون المرعى واحدًا وادعى أن هذا هو المذهب وهو غلط, لأن تخفيف الخلطة إنما يحصل بأن لا ينفرد الراعيان في التعهد والمراعاة ولا تكثر المؤنة باتخاذ كل واحد منهما راعيًا على حدته ويجوز أن يكون الراعي عشرة نفر وأكثر بعد أن يكونوا على الاشتراك في العمل, فإذا تقرر هذا رجعنا إلى سواد المختصر وبيانه قال: ويكونان خليطين أي: لا يثبت لهما في الزكاة حكم الخلطة حتى توجد الشرائط ثم ذكر [58 ب/4] بعض الشرائط, قال: فإذا كانا فإنهما يصدقان صدقة الواحد

أي: يؤخذ منهما كما يؤخذ من المالك الواحد سواء, وقوله: بكل حال أي: سواء استويا في عدد الماشيتين أو ... (¬1) فيه بقليل أو كثير ثم ذكر شرطين بعد ذلك فقال: ولا يكونان خليطين حتى يحول الحول على ما ذكر وأراد أنهما إذا خلطا في خلال الحول ثم تم الحول زكيًا الآن زكاة الانفراد لأنهما كانا في أول هذا الحول الذي وجبت فيه الزكاة منفردين, ثم إذا مضى حول آخر بعد ذلك وهما خليطان حينئذٍ زكيا زكاة الواحد ثم بين انه فقد شرط من هذه الشرائط بطل حكم الخلطة في حق الزكاة. فقال: فإن تفرقا في مراح. الفصل إلى أن قال: فليس بخليطين. أي: في حكم الزكاة ويُصدّقان صدقة الاثنين ثم قال: وهكذا إذا كانا شريكين وأراد, وهكذا إذا كانا شريكين فاقتسما قبل الحول وتفرقا في شيء مما ذكرنا بطل حكم الخلطة فإن لم يقتسما فلا يضر تفريق الماشية ولا يؤثر في حكم الزكاة, وقال مالك: شرائط الخلطة ثلاث الرعي والفحول والسعي فقط فإن فقد واحد منهما صحت الخلطة وإن فقد شرطان لا تصح الخلطة [59 أ/4] وهذا غلط, لأن تخفيف المؤنة يحصل بما عداهما على ما ذكرنا ثم بعد هذا احتج على مالك فقال: ولما لم أعلم مخالفًا يعني من أهل المدينة إذا كان ثلاثة خلطاء لو كانت لهم مائة وعشرون شاة, أي: لكل واحد منهم نصاب كامل وهو أربعون أخذت منهم واحدة أي: كما لو كانت في ملك رجل واحد وصدقوا صدقة الواحد فنقصوا أي: أهل المدينة نقصوا في هذه المسألة المساكين شاتين من مال الخلطاء الثلاثة الذين لو تفرق مالهم كانت فيه ثلاث شياه لم يجز إلا أن يقولوا: بإزاء هذه المسألة إذا كانت أربعون شاة بين ثلاثة كانت عليهم شاة حتى تنفع الخلطة المساكين في هذا المسألة بإزاء ما ضرهم في تلك المسألة, ثم ذكر المعنى الجامع فقال: لأنهم صدقوا الخلطاء صدقة الواحد يعني أن الخلطة تصير الأملاك في حكم الملك الواحد في حق الزكاة قياسيًا لهذه المسألة على تلك المسألة. فرع لو تفرقت الماشيتان في المرعى بأنفسهما من غير قصد المالكين أو إحداهما إن كان لأغنام كل واحد منهما هادٍ قد ألفته الأغنام فافترقا وتبعتهما الأغنام فإن علم الملاك وسكنوا انقطعت الخلطة, وإن لم يعلموا حتى المواشي بعده فإن [59 ب/4] لم يكن امتد الزمان لا تنقطع الخلطة, وإن امتد الزمان فالحكم كما لو فرق الراعي أو اجتبى بغير إذن المالك وفيه وجهان, إحداهما: لا تنقطع الخلطة بعدم قصد المالكين, والثاني: ينقطع لافتراق مالهما بناء على أن الغاصب إذا أسام المواشي المعلوفة أو علف السائمة ففي المسألة وجهان. ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل.

مسألة: قال (¬1): وبهذا أقولُ في الماشيةِ كُلِّهَا والزَّرعِ والحَائطِ. وهذا هو كما قال اختلف قول الشافعي في الخلطة فيما عدا المواشي من الأموال التي يجب فيها الزكاة من الحبوب والثمار والنقد هل يثبت فيها حكمها؟ قال في القديم: لا يثبت وبه قال مالك والفرق بينهما وبين النعم هو أن النعم أوقصًا متفاوتة ومتفقة فالخلطة تارة تنفع رب المال وتارة تضر ولا وقص فيما عداها فإثبات الخلطة فيها إضرار برب المال ولا يحصل في مقابلة الضرر منفعة وتخفيف من وجه آخر فلهذا لا يثبت حكمها فيها, والثاني: يثبت حكم الخلطة فيها نص عليه هاهنا, وفي الجديد: وهو الصحيح قياسًا على المواشي, وقد اختلفت الرواية عن أحمد وهذا لأن الخلطة إنما في المواشي لما فيها من تخفيف المؤنة والإرفاق برب المال, وهذا موجود في غيرها [60 أ/4] لأن في الزروع يقتصران على ناطور واحد وهو الحافظ ونهر واحد وساق واحد, وفي النقد يقتصر على صندوق واحد وخازن والميزان والوزان المنادي والمتقاضي والنقد واحد, وفي النخيل العامل والملقح والجذاذ واحد, فإذا قلنا: بهذا القول اختلف أصاحبنا فيه على ثلاثة أوجه, أحدها: يثبت فيها خلطة الاشتراك دون خلطة المجاورة, والثاني: يثبت كلتا الخلطتين وهو الصحيح المذهب وعليه أكثر أصحابنا, والثالث: ذكره أبو إسحاق أنها تثبت في الثمار والزروع كلا الوجهين ولا يثبت في الدراهم والدنانير إلا خلطة الاشتراك والفرق أن الارتفاق بالخليط لا يتحقق في الدراهم والدنانير إذا كانت مجاورة لأن دراهم كل واحد منهما هي في كيس منفرد عن كيس صاحبه يتصرف كل واحد منهما بانفراده كيف شاء, لو أراد ولا يمكن إحداهما أن يتصرف في مال صاحبه, ولكن يتحقق الارتفاق في الثمار والزروع بما ذكرنا من الأسباب, فاقترقا وهو اختيار القفال. فرع لو وقف بستانًا على قوم فإن كان على قوم غير معينين فلا عشر عليهم في ثماره كمال بيت المال, وكذلك إذا أخذ الساعي الصدقات ولم يقسما حتى [60 ب/4] حال عليها الحول لم تجب فيها الزكاة, وإن كان على قوم معينين فإن كان يبلغ نصيب كل واحد منهم نصابًا يجب العشر عليهم, وإن كان جميعها نصابًا وينقص نصيب كل واحد عن النصاب فإن قلنا: لا تثبت فيما عدا المواشي فلا عشر عليهم وإن قلنا: تثبت فيجب العشر عليهم ولو وقفه على المسجد أو القنطرة لا يجب العشر في ثماره وزرعه لأن ليس له ملك معين. فرع آخر لو وقف أربعين شاة أو خمسًا من الإبل فإن كان على عير معينين لا يلزم الزكاة فيها ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 206).

قولاً واحدًا, وإن كان على معينين فإن قلنا: ملك الموقوف لله تعالى فلا زكاة فيها, وإن قلنا: الملك للموقوف عليهم فهل تجب الزكاة فيه وجهان, إحداهما: تجب الزكاة لأنها ملكه, والثاني: لا تجب لأن ملكهم ناقص إذ لا يجوز لهم أن يتصرفوا فيه على الإطلاق فأشبه مال المكاتب وهذا أصح وعلى كلا الوجهين لا يخرج الزكاة من عينها لأنها وقف فلا يعطي المساكين, وإذا تقرر هذا فقد ذكر في المختصر فصلاً بعد هذا فقال: أرأيت لو أن حائطًا صدقته مجزأة يريد موقوفة على مائة إنسان ليس فيه إلا عشرة أوسق, أما كانت فيه صدقة الواحد وأراد بهذا أن مالكًا سلم في هذا المسألة [61 أ/4] أن عليهم صدقة الواحد, وإن كان حصة كل واحد منهم لم تبلغ نصابًا, فكذلك في المواشي وجب أن يلزم ذلك واعتذر محمد بن سلمة المالكي عن هذه فقال: تلك الثمرة باقية على ملك الواقف لا تدخل, وفي ملك الموقوف عليهم إلا بالقسمة فلهذا أوجب فيها الصدقة, لأن الملك لواحد وهو تمام النصاب, وهذا خطأ لأن الواقف قد زال ملكه عنه, وقد يكون وقت وجوب الصدقة ميتًا أو على صفة تجب في ملكه الزكاة فدل أنها وجبت على الموقوف عليهم لا على الواقف, ويؤكده أنه إن أمكن أن يقال هذا في الأصل فلا يمكن أن يقال إن الثمار ملك الواقف وهي لم تكن في جبانة, وحديث حين كان ترابًا في القبر وقيل قصد بهذا الكلام الرد على مالك من وجه آخر, وهو أنه قال: لا خلطة فيما عدا المواشي أصلاً. ثم قال في هذه المسألة: أن عليهم الزكاة وقيل: قصد به الرد على أبي يوسف ومحمد, لأنهما منعا الخلطة, وقالا بالتوسيق وأوجبا العشر هاهنا, وهذه متناقضة ثم قال الشافعي: وما قلت في الخلطاء معنى الحديث نفسه ثم هو قول عطاء وغيره, فاستأنس بقولهم قال: ويروى عن ابن جريج أنه قال: سألت عطاء عن الاثنين أو النفر كأنه شك في هذين اللفظين [61 ب/4] يكون لهم أربعون شاة, قال: عليهم شاة والشك من الشافعي ثم جاء الشافعي إلى بيان أو الحديث فقال: ومعنى قوله: لا يفرق بين مجتمع ولا بجمع بين مفترق خشية الصدقة لا يفرق بين ثلاثة خلطاء في عشرين ومائة شاة وإنما عليهم شاة واحدة, فغنها إذا افترقت تجب ثلاث شياه وليس للساعي أن يفرقهما خشية نقصان الصدقة بل يقررها على الخلطة ولا يجمع بين مفترق, رجل له مائة شاة وشاة ورجل له مائة شاة فإذا تركا متفرقتين فكليهما شاتان, وإذا جمعتا يلزم ثلاث شياه فليس للساعي أن يجمع لتكثر الصدقة, ولا لرب المال أن يفرق لتفك الصدقة, ثم قال: فالخشية خشيتان خشية الساعي أن تقل الصدقة وخشية رب المال أن يكثر الصدقة فأمر أن يقر كل على حاله وعلى هذا لو كانت منهما أربعون شاة مشتركة فرب المال لا يفرقها حتى تسقط الصدفة, وإذا كانت مائتان وشاة مشتركة فليس له أن يفرقها حتى تجب شاتاتن وهذا كثير فإن فعل فبعد الحول لا يؤثر وقبل الحول إن قصد به نقص الزكاة فيكره, وإن لم يقصد نقصها فلا يكره. مسألة: قال: ولو وَجَبتْ عليهِمَا شاةٌ وعدَّتُهُما سواءٌ, فظَلَمَ السَّاعي فأَخَذَ منْ غَنَمِ إحداهما عنْ [62 أ/4] غَنَمِهِ وعنْ غَنَمِ الآخرِ شَاةُ رَبِّي.

الفصل وهذا كما قال: هذا تفريغ على تراجعهما بالسوية والخلطة خلطتان خلطة أوصاف وخلطة أعيان, ففي خلطة الأعيان, لا يثبت التراجع إلا في التراجع إلا في موضعين على ما ذكرنا, والساعي يأخذ المشترك في الزكاة, وأما خلطة الأوصاف, فالكلام فيها في فصلين, إحداهما: في جواز الأخذ, والثاني في التراجع, فأما جواز الأخذ إذا جاء الساعي هل يجوز له أن يأخذ جميع الصدقة من نصيب إحداهما مثل أن يكون بينهما أربعمائة شاة لكل واحد مائتان فوجب على كل واحد منهما شاتين, وإن لم يمكن ذلك بأن يكون بينهما أربعون شاة لكل واحد منهما عشرون يأخذ شاة من نصيب أيهما شاء, لأنه يتعذر عليه أن يأخذ نصف شاة من كل واحد منهما, وهكذا إذا كانت بينهما أربعمائة إلا أن الفرض موجود في نصيب إحداهما, ونصيب الآخر أعلى سنًا من الواجب يأخذ من النصيب الذي وجد فيه الفرض ولو كانت بينهما ثلاثمائة شاة فإنه يجب ثلاث شياه على كل واحد شاة ونصف فيأخذ من نصيب كل واحد شاة والشاة الأخرى يأخذ من نصيب من شاء منهما ثم يرجع من يؤخذ من نصيبه على صاحبه بقيمة نصفها, وقال ابن أبي [62 ب/4] هريرة يجوز للساعي أن يأخذ الفرض من نصيب أيهما شاء بكل حال, لأن الخلطة تجعل المالين بمنزلة المال الواحد وهذا هو المذهب الصحيح, وعليه يدل كلام الشافعي في"الأم" فإذا تقرر هذا فإذا كانت بينهما أربعون شاة فجاء الساعي وأخذ من نصيب إحداهما فإن أخذ مقدار الفرض رجع المأخوذ من نصيبه على صاحبه بقيمة نصفها وجازت الزكاة عنهما ولا يرجع بنصف شاة فإن قيل: أليس لو أتلف مال الزكاة لزمته الزكاة من جنس المال لا قيمتها فما الفرق؟ قيل: الفرق هو أن ما دفع إحداهما وقع موقع الزكاة عن الدافع وعن شريكه وصاحبه لا يؤدي الزكاة, بل يغرم لصاحبه ما أدى من قبله كما لو أمر رجلاً ليخرج عنه الزكاة ففعل فإنه يكون الرجوع بالقيمة إذا كان المؤدي من غير ذوات الأمثال كذلك هاهنا, وهناك يريد أن يؤدي الزكاة فيلزمه جنس مال الزكاة وعلى ما ذكرنا, لو كانت بينهما ستون شاة لإحداهما عشرون والأخر أربعون فثلثاها على صاحب الأربعين وثلثها على صاحب العشرين فإن أخذها من صاحب العشرين رجع على صاحب الأربعين بثلثيها, ولو أخذ من صاحب الأربعين رجع على صاحب العشرين بثلثها ولو [63 أ/4] كانت ثلاثمائة شاة بين اثنين ثلثاها لواحد وثلثاها لآخر فأخذ ثلاث شياه من صاحب المائتين لا يرجع صاحب المائتين على صاحب المائة بقيمة شاة بل يرجع بثلث قيمة الشاة الثلاث لأنها قد تفاوتت وقد حصل الكل مأخوذًا من الجملة على الشيوع, وإن أخذ ذلك من صاحب المائة رجع على صاحبه بثلثي قيمة الشياه الثلاث لا بقيمة شاتين من جملة الثلاث وعلى هذا القياس أبدًا, وإن أخذ الساعي من إحداهما أعلى من الفرض فإن كان قد أخذه بتأويل شائع مثل أن يكون مالكيًا يرى أخذ الكبار من الصغار يحتسب به ويرجع على صاحبه بنصف قيمته لأن الساعي كالحاكم, فإذا اجتهد في مسألة فيها خلاف, وحكم بقول

بعض الفقهاء لم يجز أن ينقض حكمه, وإن أخذ فوق الثنية أو أخذ الماخض أو الربى أو ذات الذر أو شاتين بدل شاة لم يكن له أن يرجع على صاحبه إلا بنصف قيمة الفرض ولا يرجع بالزيادة على صاحبه, لأنها ظلم لحقه من جهة الساعي فلا يرجع بالظلم إلا على الظالم وهذا دليل على أن الإمام لم ينعزل بالجور, وإن كان الساعي [63 ب/4] يذهب مذهب أبي حنيفة في جواز أخذ الغنم فأخذ من إحداهما قيمة الشاة, قال أبو إسحاق: لا يجوز لأنه خلاف النص الوارد فيه ولا يرجع على شريكه بشيء, لأنه جور وظلم بحقه والمنصوص فيه وهو المذهب أنه يجوز ويرجع على خليطه بحصته من القيمة لأنها مسألة اجتهاد, فإذا حكم فيها بالاجتهاد لا يجوز نقض حكمه. فرع لو أخذ من غنم إحداهما شاة وغنمهما سواء في العدد فتداعيا في قيمة الشاة فالقول قول من يؤخذ منه القيمة نص عليه في "الأم", لأنه هو الغارم فأشبه الغاصب والمتلف, وإن كان مع المأخوذ منه بينة فالبينة أولى. فرع آخر لو وجدهما مفترقين فقال الساعي: افتراقهما بعد الحول ووجوب الزكاة, وقالا: كان ذلك قبل الحول فالقول قولهما في الوقت الذي افترقا فيه. فرع آخر لو كان لإحداهما أربعون من البقر والآخر ثلاثون فجاء الساعي فأخذ من صاحب الأربعين مسنة ومن صاحب الثلاثين تبيع لا نقول أعطى كل واحد ما عليه فلا تراجع بل كل واحد أدى ما أدى عن نفسه وشريكه فيرجع صاحب الأربعين على صاحبه بثلاثة أسباع مسنة وصاحبه يرجع عليه بأربعة أسباع تبيع وعلى عكس هذا لو اخذ من صاحب الأربعين تبيعًا [64 أ/4] ومن صاحب الثلاثين مسنة رجع صاحب الأربعين على صاحبه بثلاثة أسباع تبيع وصاحبه يرجع عليه بأربعة أسباع مسنة, وكذلك لو كانت لواحد مائة من الإبل وللآخر ثمانون وهما خليطُا فأخذ من صاحب المائة حقتين ومن صاحب الثمانين بنتي لبون رجع صاحب المائة على صاحبه بأربعة أتساع حقتين ورجع صاحب الثمانين عليه بخمسة أتساع بنتي لبون. مسألة: قال (¬1): ولو كانتْ لهُ أربَعُونَ شاةَ فأقامَتْ في يدِهِ شهرًا ثم باعَ نِصفَهَا ثمَّ حالَ الحَوْلُ عليهَا أخَذَ منْ نصيبِ الأوَّلِ نِصْفَ شاةٍ. الفصل وهذا كما قال: إذا كانت له أربعون شاة فأقامت في يده ستة أشهر ثم باع نصفها مشاعًا فإن الحول قد بطل في النصف الذي لم يبعه فالمذهب أنه لا يبطل, وقال ابن ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 208).

خيران: فيه قولان, إحداهما: هذا, والثاني: أنه يبطل الحول كما لو اتلف نصفها, وإذا بطل الحول في النصف التالف بطل في النصف الباقي, قال: وهذا مخرج مما قال الشافعي في رجلين لكل واحد منهما أربعون من الغنم ستة أشهر ثم خلطاها وحال الحول هل يزكيان زكاة الخليطين أم زكاة الانفراد؟ فيه قولان: هناك يزكيان زكاة الانفراد انقطع [64 ب/4] الحول هاهنا لأنه لا يمكن بناء حول الخلطة على حول الانفراد وهذا ليس بشيء, لأن النصف الذي لم يبع انتقل من خلطة إلى خلطة, فإن كان خليطًا يملك نفسه بما صار خليطًا لملك غيره فلم ينفك طول السنة من نصاب كامل فلم يسقط حوله وهذا التخريج فاسد, لأن الشافعي خرج ذلك على القول الذي ذكره في الجديد, والشافعي نص في الجديد في"الأم" في هذه المسألة: أن حول البائع لا ينقطع فكيف يخرج في الجديد ما نص في الجديد على خلافه, فإذا تقرر هذا فإذا مضت ستة أشهر من حين باع فقد تم الحول على النصف الذي لم يبع فعليه نصف شاة, ثم إذا حال الحول على العشرين التي في يد المشتري من حين ملكه ينظر فإن كان البائع قد أخرج النصف من عين المال فلا يلزمه شيء, لأن مال الخلطة نقص عن النصاب, وإن كان قد أخرجه من غيرها فإن قلنا: إن الزكاة تجب في الذمة فيلزمه نصف شاة في حصته, وإن قلنا: يجب في العين لا يلزمه شيء لأن نصف شاة قد صار للفقراء, وانتقض مال الخلطة عن النصاب, ولا يجوز أن يقال [65 أ/4] الفقراء إذا ملكوا النصف صار المال خلطة بينهما وبين الفقراء, لأن الفقراء غير معينين فلا تلزمهم الزكاة ومن زكاة عليه لا يثبت حكم الخلطة معه, وقال أبو إسحاق: تلزمه الزكاة في قول لأنه إذا أخرجها من غيرها تبينًا أن الزكاة لم تتعلق بالعين, ولهذا قال الشافعي: إذا باع مال الزكاة ثم أخرج الزكاة من غيره صح البيع وهذا غلط, ولا يعرف للشافعي ما قاله ولم يحكه سائر أصحابنا, وكلهم قالوا: إذا أخرج الزكاة من غيره عاد ملكه إليه بعد الزوال وعلى هذا لو نتجت واحدة مع حول البائع أو قبله فالحول بحاله في حقهما بلا إشكال, لن النصاب لم ينتقص وإن باع نصفها مفرزًا وأخرجها من المراح يبطل حولها جميعًا, فإن ردها بعد ذلك إلى المراح كان استئناف للخلطة فيعتبر الحول من حين اختلطتا, وإن لم يخرجها من المراح, ولكن أفرزها من الجملة نقل أصحابنا فيه فمنهم من قال: هو اختيار ابن أبي هريرة أنه لا تبطل الخلطة وهو المذهب لأنه لم يزل الاختلاط فلم يزل حكمه كما لو باعها مشاعة, ومنهم من قال تبطل الخلطة [65 ب/4] وهو المذهب لأنه لم يزل الاختلاط فلم يزل حكمه كما لو باعها مشاعة, ومنهم من قال: تبطل الخلطة بالتفرقة بينهما وبه قال أبو إسحاق, ومن أصحابنا من قال: لو فرز منها عشرين ثم باعها منه ثم سلمها مفرزة ثم خلطها في الحال هل ينقطع الحول؟ وجهان, لأن زمان الانفراد كان يسيرًا فلا يضر, وإن أعلم علتها ولم يفرزها من الجملة لم يبطل حكم الخلطة بلا إشكال, ومن أصحابنا من ذكر وجهًا هاهنا أنه يبطل لزوال الملك على الانفراد وهو غلط.

فرع لو كان لكل واحد منهما عشرون شاة مختلطة من أول الحول ثم نصف الحول جاء ثالث بعشرين وخالطهما ثم أخذ الشريكين السابقين ميز ماله من الجملة فالذي بقي وكان خليطًا من أوله يلزمه عند تمام حوله نصف شاة, لأن الخلطة له حصلت في جميع الحول, إلا أن في بعض الحول كان خليطًا لزيد وفي بعضه كان خليطًا لعمرو. فرع آخر لو كانت له أربعون شاة في بلد وأربعون في بلد آخر فلما مضت ستة أشهر باع نصف إحدى الأربعين مشاعًا ثم حال حول البائع [66 أ/4] من حين ملك فما الذي يجب؟ قولان, إحداهما: يجب ثلاثة أرباع شاة لأنه في أول الحول خليط نفسه وفي باقيه خليط غيره, ثم إذا تم حول المشتري يلزمه ربع شاة, والثاني: على البائع شاة, لأنه إذا باع نصف الأربعين انقطع حول الأربعين وصار كأنه لا يملك إلا الأربعين الأخرى, ثم إذا حال حول المشتري على العشرين فإنه يلزمه نصف شاة نص عليه في باب افتراق الماشية (¬1)، قال القاضي أبو علي البندنيجي قال: ومن هاهنا خرج ابن خيران ذلك القول وثبت القولان. مسألة: قال (¬2): ولو كانتْ لهُ غَنَمٌ يَجِبُ فيها الزَّكاةُ فخَالَطَهُ رَجُلٌ بغَنَمٍ يَجِبُ فيها الزَّكَاةُ. الفصل وهذا كما قال: إذا ملك رجل أربعين شاة في أول المحرم وملك آخر أربعين في أول المحرم وأمسكا ستة أشهر ثم خلطا فعلى قوله الجديد: لا خلطة بينهما في السنة الأولى ويخرج كل واحد منهما شاة كاملة عن ماشيته, وقال في القديم: تعتبر الخلطة في آخر السنة وهو مذهب مالك وهذا غلط, لأن ماشيتهما قد انفردتا في بعض السنة فوجب عليهما أن يزكيا زكاة الانفراد, كما لو كانتا مختلطتين في أول السنة منفردتين [66 ب/4] في آخرها, وأيضًا وجدت في هذه السنة حالة الاختلاط وحالة الانفراد فاعتبار حالة الانفراد أولى لأنها مجمع على حكمها وحكم الخلطة مختلف فيه ولأنها اليقين, فكان اعتبارها أولى, وأما في السنة الثانية: يزكيان زكاة الخلطة لأن الخلطة حصلت في السنة الثانية فيها من أولها إلى آخرها, وقول الشافعي ولم يكونا تبايعًا زكيت ماشية كل واحد منهما على حولها دليل على أنهما لو تابعيًا استأنف كل واحد منهما الحول على ما ملك من ماشية صاحبه ثم لا يخلو إذا تبايعا, إما أن يتبايعا الكل بالكل أو البعض بالبعض, فإن تبايعا الكل بالكل بأن قال بعتك غنمي هذه بغنمك هذه يستأنفان الحول من حين التبايع, فإن خلطا حين تبايعا زكيا زكاة الخليطين, ولو مضت ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 16). (¬2) انظر الأم (1/ 208).

مدة ثم اختلطا زكيا الزكاة المنفرد ويجيء فيه قوله القديم, وإن تبايعا البعض بالبعض مثل أن باع إحداهما نصف غنمه بنصف غنم صاحبه فإنه يصح مشاعًا ومفرزًا فالمشاع أن يقول: بعتك نصف غنمي هذه بنصف غنمك هذه والمفرز هو أن يعلم على كل واحد [76 أ/4] من العشرين علامة, ويقول: بعتك المعلم من غنمي بالمعلم من غنمك فإذا فعلاً هكذا حول المبيع على الطريقين, فإذا قلنا: لا ينقطع فحال الحول على غير المبيع وهو أربعون بينهما فعليهما فيها شاة, لأنه قد ثبت لهما حكم الانفراد في أول الحول, وكان خليط نفسه فيها وخليط غيره في باقيها وعلى قوله القديم: يجب عليهما نصف شاة لأنهما خليطان حال الوجوب بثمانين, ثم إذا حال حول المبيع هل تجب الزكاة؟ فيه وجهان: فإذا قلنا: لا يجب فلا كلام, وإذا قلنا: يجب فما تلك الزكاة؟ فيه وجهان, إحداهما: شاة كاملة عليهما كالأربعين غير المبيعة, لأن كل واحد منهما لم يرتفق على التمام بالخلطة, والثاني: نصف شاة عليهما على كل واحد ربعها لأنها أربعون خلطها مع أربعين طول الحول هذا على قوله الجديد, وعلى قوله القديم: تجب نصف شاة عليهما. فرع لو كان لكل واحد ثمانون فتبايعا فإن تبايعا الكل بالكل استأنفا الحول, وإن تبايعا البعض بالبعض مشاعًا أو مفرزًا على ما ذكرنا انقطع الحول في المبيع, والمبيع ثمانون لكل [67 ب/4] واحد أربعون, وفي غير المبيع لا ينقطع قولاً واحدًا, وبه قال ابن خيران, لأن الباقي نصاب بعد البيع في حق كل واحد منهما, ولكن إذا حال حول غير المبيع فعلى قول ابن خيران يزكي كل واحد منهما زكاة الانفراد فعليه في ملكه شاة, لأن عنده خلطة آخر الحول لا يسقط حكم الانفراد, وعلى قول الشافعي: عليهما شاة على كل واحد منهما نصف شاة لأن ماله ما انفك عن الخلطة طول الحول في أوله خليط نفسه وما فيه خليط غيره, ثم إذا حال حول المبيع ففيه الزكاة قولاً واحدًا, لأنا إن اعتبرنا الانفراد فهي كالأولى زكاتها شاة, وإن اعتبرنا الخلطة فهي ثمانون إلى ثمانين ففيها شاة. فرع آخر لو باع مال الزكاة من آخره وتأخر القبض عن وقت العقد زمانًا ثم حصل القبض هل يحتسب بذلك الزمان من حول المشتري؟ اختلف أصحابنا فيه منهم من قال: لا يحتسب لعدم تصرفه, وأن الملك لا يتم إلا بعد قبضه, ومنهم من قال: يحتسب لثبوت ملكه عليه في ذلك الزمان وهو الأقرب. مسألة: قال (¬1): ولو كانتْ ماشيتِهُما سواء [68 أ/4] وحَوْلُ إحداهما: في المُحَرَّمِ وحَوْلُ الآخَرِ في صَفَرِ. ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 208).

الفصل وهذا كما قال: إذا اشترى رجل أربعين في المحرم واشترى آخر أربعين في صفر وأمسكاهما متفرقين فلما كان أول الربيع خلطا المال فإنهما يزكيان في السنة الأولى زكاة الانفراد, إلا أن حول صاحب المحرم أسبق, فإذا تم حوله أخرج شاة, وإذا جاء صفر فقد تم حول الثاني فيخرج شاة, وأما في السنة الثانية فإنهما خليطان من أولها إلى آخرها فيخرج نصف شاة من المحرم ويخرج الآخر نصف شاة في صفر وهو مراد الشافعي هاهنا بقوله: أخذ منهما نصف شاة من المحرم ونصف شاة في الصفر, وفي قوله القديم: يثبت هذا الحكم أيضًا في الحول الأول, لأنهما خليطان حال الوجوب, وقال ابن سريج: إذا اختلف حولهما لا يثبت حكم الخلطة أبدًا فتجب في الحول الثاني عليهما ما يجب في الحول الأول, وهذا غلط, لأن الخلطة وجدت من أول الحول إلى آخره فيها فيجب أن تكون زكاة هذا الحول زكاة الخلطة. فرع لو ملك أربعين شاة من أول المحرم وملك آخر أربعين شاة [68 ب/4] من أول صفر (¬1) ... ملك ولم يثبت للثاني حكم الانفراد فإن .... (¬2) خرج في السنة الأولى شاة, لأنه ثبت له حكم الانفراد, وأما صاحب صفر إذا دخل صفر فيه وجهان, إحداهما: يزكي زكاة الانفراد شاة كاملة لأنه لما لم يرتفق صاحبه بخلطته لم يرتفق هو أيضًا بخلطة صاحبه, والثاني: عليه نصف شاة وهو الصحيح لأنه كان خليطًا من أول الحول ولا يصح اعتبار الرفق لأن في هذه المسألة يؤخذ في الحول الثاني .... (¬3) الأول نصف شاة ولو تفرقا واقتسما المال قبل ان يتم حول الثاني لزمته شاة كاملة فارتفق الأول بالثاني, ولم يرتفق الثاني بالأول وهذا كله على القول الجديد وفي قوله القديم: يجب على الأول نصف شاة في السنة الأولى وعلى الثاني نصف شاة إذا حال حوله. فرع آخر لو ملك أربعين في المحرم ثم ملك إحدى وثمانين في صفر فحال حول الأولى يلزمه زكاة الانفراد شاة, ثم إذا تم حول الثانية تلزمه شاة أخرى بلا خلاف, لأن الكل مائة وإحدى وعشرون وقد أخرج شاة فبقيت عليه شاة [69 أ/4] أخرى فإن قيل: أليس المستفاد لا يضم إلى ما عنده عندكم فكيف ضممتم هاهنا؟ قيل: نحن تعبر حولها بنفسها ولا تضم إلى ما سبق في الحول, ولكن يضم في اعتبار النصاب وهذا مذهبنا. مسألة: قال (¬4): ولو كانُ بَيْنَ رَجُلَينِ أربَعُونَ شاةٌ ولإحداهما ببلدٍ آخَرَ أربعونَ شاةً. ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) موضع النقط بياض بالأصل. (¬3) موضع النقط بياض بالأصل. (¬4) انظر الأم (1/ 109).

الفصل وهذا كما قال: إذا كان بين رجلين أربعون شاة ولإحداهما في بلد آخر أربعون شاة كانت عليهما شاة ربعها على صاحب العشرين وثلاثة أرباعها على صاحب الستين لأن ملك الرجل يجب ضم بعضه إلى بعض, وإن كان متفرقًا في مكان فيضم الأربعون الغائبة إلى العشرين التي له في الخلطة فيصير كأن مال الخلطة ثمانون لإحداهما وعشرون للآخر, وهذا هو المذهب المنصوص في كتبه, وقال ابن أبي هريرة: يجب على صاحب العشرين نصف شاة وعلى صاحب الستين ثلاثة أرباع شاة لأنه يضم ماله الغائب إلى ماله الحاضر في حقه دون حق صاحبه لأنا إنما نضم بعضها إلى بعض بالملك دون الخلطة ثمانون منها ستون له ويصير في حق صاحب العشرين كأن [69 ب/4] مال الخلطة أربعون له نصفها فيلزم الأول ثلاثة أرباع شاة بحساب الثمانين, وعلى الثاني نصفها بحساب الأربعين (¬1)، وهذا لا يعرف للشافعي رحمه الله. وقال بعض أصحابنا: وهو اختيار الشيخ أبي زيد المرزوي يلزم صاحب الستين شاة إلا نصف سدس شاة ويلزم صاحب العشرين نصف شاة لأن لصاحب الستين أربعين منفردة فيزكي زكاة الانفراد, فكأنه منفرد بستين شاة عليه فيها شاة فتخص الأربعين منها ثلثا شاة وله عشرون مختلطة فيزكي زكاة الخلطة فكان جميع الثمانين مختلط فيخص العشرين منها ربع شاة فتكون شاة إلا نصف سدس شاة, وأقل عدد يخرج منه ربع وثلثان منها ثمانية والربع منها ثلاثة فلذلك أحد عشر سهمًا فيجب عليه أحد عشر سهمًا من اثني عشر سهمًا من شاة, ويجب على صاحب العشرين نصف شاةٍ لأن الخلطة ثبتت في حقه في الأربعين الحاضرة, قال بعض أصحابنا: ونسب إلى ابن سريج يلزم على صاحب العشرين نصف شاة وعلى صاحب الستين شاة وسدس شاة وهذا لأن في الأربعين ثلثي شاة لما ذكرنا من العلة [70 أ/4] وفي العشرين نصف شاة لوجوب نصفها على شريكه إذ لا تجوز المخالفة بين الشريكين, وهذا ضعيف. وقال بعض أصحابنا: وهو اختيار الإمام أبي بكر الأردني يجب على صاحب الستين شاة وعلى صاحب العشرين نصف شاة, لأنه اجتمع في ملكه الاختلاط والانفراد فصار كما لو كان في بعض الحول منفردًا, وفي بعضه مختلطًا فيغلب حكم الانفراد, فأما صاحب العشرين فمخالط لعشرين فيلزمه نصف شاة فحصلت خمسة أوجه, وقال القفال: حكم المسألة مبني على القولين, أن الخلطة خلطة ملك أ, خلطة عين ومعنى هذا أن من خالط بعض ماله بمال رجل هل يجعل كأنه خالط جميع ماله أم لا حكم للخلطة إلا في القدر الذي خالط؟ فأحد القولين أنها خلطة ملك وبه أجاب هاهنا لا يختلف أصحابنا فيه, وإذا قلنا: هي خلطة عين تجب على صاحب العشرين نصف شاة بلا خلاف, وفي صاحب الستين أربعة أوجه, إحداهما: يلزم شاة إلا نصف سدس شاة, ¬

_ (¬1) انظر الحلوي للماوردي (3/ 150).

والثاني: شاة وسدس شاة, والثالث: شاة, والرابع: شاة ونصف شاة وهذا لأنه يجعل ملكه كملك المالكين لأن ملكيه اختلف حكمهما بالاختلاط الانفراد [70 ب/4] فيلزم في الأربعين المنفردة شاة, وفي العشرين نصف شاة إذ لو كان صاحب العشرين غير صاحب الأربعين لكان الحكم هكذا فعلى هذه الطريقة يكون في المسألة ستة أوجه, وفرع أصحابنا على هذا أنه لو كانت لرجل ستون شاة ولثلاثة أنفس لكل واحد منهم عشرون شاة فخالط صاحب الستين كل واحد من الثلاثة بعشرين شاة فعلى المذهب المنصوص تجل عليهم شاة نصفها على صاحب الستين لأن له نصف المال ويجب النصف على الثلاثة على كل واحد منهم ثلاثة وهو سدس الجميع وعلى قول ابن أبي هريرة لا يمكن ضم أملاك الثلاثة بعضها إلى بعض بالملك, ولا يمكن ضم كل عشرين منها إلى واحد من الثلاثة فيقال لصاحب الستين قد انضمت غنمك بعضها إلى بعض فضم الستين إلى غنم من شئت منهم فتصير ثمانين فتجب فيها شاة ثلاث أرباعها على صاحب الستين وعلى كل واحد من الثلاثة نصف شاة, لأن الخلطة هي ثلث في حق كل واحد منهم في الأربعين وعلى القول الذي اختاره أبو بكر الأردني يجب هاهنا على صاحب الستين شاة لأن غنمه يضم بعضها إلى بعض وتجعل كأنها منفردة فيجب فيها شاة ويجب على كل واحد من الثلاثة [71 أ/4] نصف شاة لأن الخلطة في حق كل واحد منهم ثابتة في العشرين التي له وفي العشرين التي لخليطه وعلى القول الذي اختاره أبو زيد المروزي يلزم على صاحب الستين نصف شاة وعلى كل واحد من أصحاب العشرين نصف شاة, لأن كل ماله خلطة وعلى ما حكي عن ابن سريج على صاحب الستين شاة ونصف شاة وعلى كل واحد من أصحاب العشرية نصف شاة. فرع لو كانت له خمس من الإبل ولخمسة أنفس عشرون من الإبل لكل واحد أربعة فخالط صاحب الخمسة كل واحد من الخمسة إلا نفس ببعير واحد يجد عليهم بنت مخاض فمنها على صاحب الخمس وعلى كل واحد من الخمسة أربعة أجزاء من خمسة وعشرين جزءًا من ابنة مخاض, وعلى قول أبي هريرة: يجب على الخمسة على كل واحد منهم أربعة أخماس شاة وعلى صاحب الخمسة خمس بنات مخاض وعلى هذا لو كانت مع رجل أربعون شاة فخالط رجلاً له أربعون بعشرين شاة منها وخالط آخر معه أربعون بالعشرين الأخرى على كل واحد منهم ثلثاه, وعلى قول أبي هريرة: يجب على الذي فرق ماله ثلث شاة وعلى كل شاة وعلى كل واحد منهما ثلثا شاة. فرع لو كان مع رجل عشر من الإبل فخالط رجلاً معه عشرون من الإبل بخمس وخالط [71 أ/4] رجلاً آخر معه عشرون بخمس ففيه ثلاثة أوجه أحدها: وهو المذهب على صاحب العشرة خمس حقه باعتبار جمع جميع الأملاك حتى يصير خمسين, وعلى هذه

باب من تحب عليه الصدقة

الطريقة يجب على كل واحد من صاحب العشرين خمسا حقه, والثاني: يجب عليه ثلث بنت مخاض باعتبار جمع ملكه إلى ملك أحد خليطيه فعلى هذا على كل واحد من خليطيه ثلثا ابنة مخاض, والثالث: عليه خمس بنت مخاض وهذا على قولنا الخلطة خلطة عين لأن المجتمع في المكان خمسة وعشرون فيجب في كل جملة بنت مخاض ويلزمه الخمس فيها ويجب على كل واحد من صاحبه أربعة أخماس بنت مخاض. باب من تحب عليه الصدقة قال (¬1): وتَجِبُ الصَّدَقَةُ على كُلَّ مالِكٍ تامِّ المُلْكِ. وهذا كما قال: إذا كان المالك حرًا مسلمًا وجبت الزكاة في ماله صغيرًا كان أبو كبيرًا عاقلاً كان أو مجنونًا, ويجب على الوالي إخراج الزكاة من مال الصغير والمجنون, وبه قال مالك وابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق, وقيل: لا تجب على الصبي ولكن تجب في ماله وهو غلط, لأن الصغر لا يمنع وجوب المال [72 أ/4] كالغرامة, وقال سفيان الثوري والاوزاعي: يجب الزكاة في مالهما, ولكن لا يخرجها الولي فإذا بلغ الغلام وعقل المجنون أعلمهما الولي قدر ما وجب في مالهما حتى يؤديا, وروى ذلك عن ابن مسعود, وقال أبو حنيفة وابن شبرمة: يلزمهما زكاة الفطر دون زكاة المال, وروي ذلك عن ابن عباس واحتج الشافعي في هذا بسائر الحقوق, فقال: كما تجب في مال كل واحد منهم ما لزم ماله بوجه من الوجوه جناية أو ميراث أو نفقة على والد أو ولد زمن محتاج وسواء في ذلك الماشية والزرع وزكاة الفطر, ثم احتج بالخبر وهو لقوله صلى الله عليه وسلم:"ابتغوا" يعني اتجروا في مال اليتيم أو قال في أموال اليتامى شك فيه الشافعي لا تأكلها الزكاة، وقي نسخة"لا تهلكها الزكاة", ثم احتج بالأثر عن عمر وابن عمر وعائشة وروي أيضًا عن علي رضي الله عنه. مسألة: قال (¬2): فأمَّا مالُ المكَاتَبِ فخَارجٌ من مِلْكِ مَولاهُ. الفصل وهذا كما قال: لا زكاة على المكاتب في ماله, وقال عكرمة وأبو ثور: يلزمه ذلك وهذا غلط, لأن ملكه غير تام لوجود الرق فيه ولهذا لا تجوز هبته ولا تلزمه نفقة الأقارب من ماله, ولا يرث ولا يورث ولا يعتق عليه قريبه بالملك بخلاف الحر ولا تجب على سيده في ماله أيضًا, لأنه [72 ب/4] لا يملكه ولا يعود إلى ملكه إلا بالعجز فكأنه متردد بين مالكين فأيهما تم ملكه استأنف به الحول. فرع لو ملك عبده نصابًا من الإبل فإن قلنا: لا يملك بالتمليك وهو المذهب الصحيح فالزكاة على المولى, لأنه ملكه, وإن قلنا: إنه يملك بالتمليك في قوله القديم لا زكاة ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 209). (¬2) انظر الأم (1/ 210).

باب الوقت الذي تجب فيه الصدقة

على واحد منهما بخروجه من ملك مولاه ونقصان ملك العبد, لأن المولى ينتزع من يده متى شاء فكان أسوأ حالاً من المكاتب. فرع من نصفه حر ونصفه عبد إذا ملك نصابًا بنصفه الحر اختلف أصحابنا فيه, منهم من قال: لا زكاة عليه قولاً واحدًا, وهو الظاهر لأن الرق الذي فيه يمنع كمال ملكه, ومنهم من قال: تلزمه الزكاة لأنه يملك بنصفه الحر ملكًا تامًا فوجبت عليه الزكاة كالحر وهذا اختيار والدي رحمه الله وهو الصحيح عندي الآن, لأن الشافعي نص أنه يلزمه زكاة الفطر في نصيبه. فرع آخر لو أن رجلاً أوصى بحمل امرأة بمال تجب فيه الزكاة ومات فوضعت حملها لأربع سنين ملك المال وفي زكاة ما مضى اختلف أصحابنا فيه منهم من قال: يخرج الزكاة عن ما مضى لأنه ملك من ذلك الوقت, ومنهم من قال: يستأنف الحول من وقت الوضع ذكره القاضي أبو الحسن في "الحاوي" (¬1) [73 أ/4] قال ويشبه أن يكون مخرجًا من الوصية هل يملك بالموت أو بالقبول مع الموت؟ وأصحابنا بخراسان قطعوا أنه يستأنف الحول من وقت الوضع لأنه لا يتحقق ملكه في حالة الاستجنان بل الحكم موقوف. باب الوقت الذي تجب فيه الصدقة قال (¬2): وأحِبُّ أنْ يبعَثَ الوالِي المُصَدِّقَ. الفصل هذا الباب يشتمل على ثلاثة فصول, أحدها: بيان الوقت الذي يبعث الوالي فيه السعاه إلى أرباب الأموال لجباية الصدقات, والثاني, الموضع الذي تعد فيه المواشي, والثالث: كيفية العد. فأما الوقت: فالمال ضربان, ضرب لا يعتبر فيه الحول مثل الزروع والثمار والمعادن فالوالي وقت إدراكها وإدراكها يتقارب بجميع الناس ولا يتفاوت تفوتًا بعيدًا وينبغي أن يبعث الساعي قبل وجوبها ليوافيها عند وجوبها. وضرب: يعتبر فيه الحول ولا يتفق أحوال الناس فيه ويتفاوت تفاوتًا بعيدًا وفي بعث الساعي إلى كل واحد منهم عند تمام حوله مشقة, قال الشافعي: أحب أن يكون بعثه في المحرم, قال: وهكذا رأيت السعاة عندما كان المحرم شتاءًا أو صيفًا, وهو احتجاج بقول العلماء فإنهم يخرجون بقول العلماء لا من عند أنفسهم [73 ب/4] وهذا لأن المحرم استفتاح السنة الجديدة العربية, وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للمارودي (3/ 154). (¬2) انظر الأم (1/ 211).

قال في المحرم: "هذا شهر زكاتكم فمن كان عليه دين فليقضه ثم ليزك بقية ماله" (¬1). والمستحب أن يبعث قبل المحرم بحيث يوافي بلد الصدقة مع أول المحرم فلا يتأخر إخراج الزكاة عن أول السنة ثم إذا دخل البلد الصدقة اشتغل هو بمعرفة أهل السهمان وقدر حاجاتهم واشتغل أصحابه بإحصاء المواشي والأموال فإذا فرغوا من ذلك فكل من تم حوله أخذ زكاته وكل من لم يتم حوله سأله أن يعجل زكاته فإن عجلها أخذها وفرقتها على أهل السهمان, وإن لم يعجلها فإن شاء وكل من يأخذها منه إذا وجبت عليه وإن شاء أخرها حتى يعود في القابل, وإن شاء فوض تفرقتها إلى رب المال إن كان ثقة أمينًا, وقيل: إن المزني أخل بالنقل لأن الشافعي قال: واجب على الوالي أن يبعث المصدق وهو الصحيح لأن جمع الصدقة وتفريقها على مستحقيها واجب على الأئمة والمزني نقل وأحب ويستحب لأرباب الأموال أن يعجلوا أدائها إذا حضرهم الساعي كيلا يشق عليه الأمر, وأما الموضع الذي تعد فيه الماشية إن كانت ترعى وترد الماء فلا يكلف الساعي أن يتبعها راعية لما فيه من المشقة عليه لتبددها [74 أ/4] في المرعى وليس للساعي أن يكلف رب الماشية ردها إلى فناء القرية أو المدينة, ولكن يمضي الساعي إلى موضع الماء فإنها تجتمع فيه فيحصيها عليه, وقال في"الأم" (¬2): لو كان للماشية ماءان فلرب المال أن يردها إلى أيهما شاء وهذا لأنه أسهل على أرباب الماشية وأقل كلفة ومؤنة وهذا في الغالب يكون في وقت الصيف فأما الربيع الذي تستغني فيه الماشية بالكلأ الرطب عن الماء أيامًا كما قال الشافعي (¬3) فإن جزأت الماشية بالكلأ الرطب عن الماء فإنها ترد إلى أفنيتها لبورها, أو إلى بيوتهم, ولا يكلف رب المال إيرادها الماء لأنه يشق في الغالب ذلك لتباعدها عنه ولا يلزمه أن يتبعها راعية لما عليه في ذلك من المشقة وعلى رب المال أن يجمعها بحضرته لبعدها, وهو معنى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا جلب ولا جنب" (¬4) أي: لا تجلب الماشية من البادية إلى الساعي وليس على الساعي أن يجنب أي: يبعد في إتباع المواشي, وروى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تؤخذ صدقات المسلمين عند مياههم وعند أفنيتهم" (¬5) وأما كيفية العد قال (¬6): "ويحصرها إلى ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 253) , والشافعي في "المسند" (620) , والبيهقي في "الكبرى" (7606). (¬2) انظر الأم (2/ 15). (¬3) انظر الأم (2/ 15). (¬4) أخرجه أحمد (4/ 429, 443) وأبو داود (2581) , والترمذي (1123) , والنسائي (3335) , وابن حبان (3256). (¬5) أخرجه أحمد (2/ 185) , وابن الجارود في "المنتقى) (346) , والطبراني في "الأوسط" كما في "مجمع الزوائد" (3/ 79). (¬6) انظر الأم (2/ 17).

باب تعجيل الصدقة

مضيق" أي: يحضر الماشية [74 ب/4] إلى حظيرة يجمعها ويحيط بما يخرج منها واحدة واحدة بأن يجعل لتلك الحظيرة منفذًا واحدًا لا يسع لخروج واحدة ليكون أسهل في العد, فيعدها كذلك حتى يأتي على عدتها, أي: حتى يعدها كلها, وقيل: يستحب أن يكون في يد الساعي, وفي يد رب المال أو نائبه وهما على باب المضيق, قضيب أو خشبة معترضة يسيران بها إلى كل واحدة تخرج ويجعل في ذلك المنفذ خشبة معترضة يثب فوقها كل واحدة تريد أن تخرج ليكون ذلك أسهل في العدد, وأبعد من الغلط, ويجوز أن يضطر الغنم إلى جدار أو جبل أو شيء قائم حتى يضيق الطريق فيخرج ثنيتين ثنيتين, وإن ادعى رب الماشية أنه أخطأ عليه أعيد عليه العدد, وكذلك إذا ظن الساعي أن عاده أخطأ العدد, وهكذا إذا كان اختلافهما مؤثرًا مثل أن يقول إحداهما مائة وعشرون, وقال الآخر: لا بل زيادة على ذلك بواحدة, فأما إذا لم يكن مؤثرًا بأن لا يكون هناك تكميل نصاب فلا معنى له .. باب تعجيل الصدقة قال الشافعي (¬1):أخبرنا مالِكٌ عن زيدٍ بن أسلَمَ .... الخبر [75/أ 4]. وهذا كما قال: كل زكاة تجب بحول ونصاب وهي زكاة الإيمان والتجارات والمواشي يجوز تقديمها بعد وجود النصاب قبل الحول وبه قال: كأنه أنفقها, وهكذا يجوز عندنا تقديم الكفارة بالمال على الحنث قياسًا على الزكاة, وقال ربيعة وداود وأبو عبيد بن حربويه: لا يجوز كلاهما, وقال مالك: يجوز تقديم الكفارة دون الزكاة, وروي عن مالك أنه قال: يجوز تعجيلها في قرب الحول بيوم أو يومين واحتج الشافعي بما روى أبو رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم:"أستسلف" يعني: استقرض من رجل بكرًا وهو الفتى من الإبل فجاءته إبل الصدقة فأمرني أن أقضيه إياه قال والعلم يحيط أنه لا يقضي من إبل الصدقة فالصدقة لا تحل إلا وقد تسلف لأهلها ما يقضيه من مالهم يعني ما ثبت أن الصدقة لا تحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يظن به أنه يستقرض شيئًا لنفسه, ثم يقضي ذلك من مال الصدقة فثبت أنه إنما استقرض لأهل الصدقات ما يقضيه من مال الصدقات فإن قيل في الخبر: "أنه اقترض بكرًا فرد رباعيًا " وذلك زيادة لا تجوز من الصدقة قلنا: [75 ب/4] يجوز أن يكون النقص في الجودة فيقابله زيادة السن أو يجوز أن يكون الرجل ممن تحل له الصدقة فالزيادة صدقة عليه, أو يجوز أن يكون فعل ذلك ليرغب الرجل ممن تحل له الصدقة فالزيادة صدقة عليه, أو يجوز أن يكون فعل ذلك ليرغب الناس في قرض الفقراء, ويجوز للإمام أن يفعل هذا للمصلحة العامة, فإذا تقرر هذا فأعلم أن من أصحابنا من قال: ليس في هذا الخبر دليل على جواز تعجيل الصدقة ولا استدل به الشافعي كما أوهمه المزني, بل استدل به على جواز استقراض الحيوان خلافًا لأبي حنيفة فإنه لا يجوزه, وأما حجة تعجيل الزكاة فغير هذا, وقد ذكره بعد ذلك من جهة الأثر والنظر, أما الأثر فقد روى أن ابن عمر رضي الله عنه "كان يبعث ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 211, 212).

بصدقة الفطر إلى الذي يجمع عنده قبل الفطر بيومين" (¬1). فإن قيل: أنا أجوز هذا القدر من التقديم قيل: إذًا نقيس ما لا يسلم على ما يسلم فإنه ليس في هذا الفرق معه خبر ولا فيما روينا من الأثر في قريب التقديم منع من بعيده، وإذا ثبت القريب بالأثر أو بتسليمهم ثبت البعيد ولا فرق، وأما النظر فهو أنه قاسه على كفارة اليمين فقال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم في الحالف بالله: "فليكفر عن يمينه وليأت الذي هو خير" (¬2) فأمر بالحنث [76 أ/4] قبل التكفير لأن سبب وجوبها اليمين والحنث هو وقت لوجوبها، كما أن سبب وجوب الزكاة نصاب والحول وقت لوجوبها فكما جاز ذلك جاز هذا، وروي عن بعض الصحابة أنه كان يحلف فيكفر عن يمينه ثم يحنث ويقيس مع أبي حنيفة الكفارة على الزكاة كما قسنا مع ملك الزكاة على الكفارة، ومن أصحابنا من يستنبط منه الاستدلال على تعجيل الصدقة فقال: لما جاز أن يستعمل ممن لا تلزمه الزكاة قبل استحقاق هذا المسكين الزكاة ليقضي ما استعجل له مما يستحقه بعد ذلك من الزكاة فلأن يجوز أن يستعجل له الزكاة ممن تلزمه الزكاة ليحتسب ذلك عليه عند وجوب الزكاة، واستحقاقه أيامًا أولى، وأيضًا للزكاة طرفان موجب عليه وهو رب المال وموجب له وهو المسكين، فلما جاز أن يعجل للموجب له حقه قبل استحقاقه بأن يستقرض له ليقضي من ماله فكذلك يجوز أن يستعجل من الموجب عليه قبل الوجوب ما يحتسب له عند الوجوب، وأيضًا للزكاة طرفان موجب عليه وهو رب المال وموجب له وهو المسكين، فلما جاز أن يعجل للموجب عليه قبل الوجوب ما يحتسب له عند الوجوب، وأيضًا الفرض المعجل هو بدل والزكاة مُبدل فلما جاز تعجيل البدل عن الزكاة كان تعجيل المبدل وهو الزكاة أولى لأن المبدل أكمل حالًا من البدل فكان في هذا الخبر دلائل جواز تعجيل الصدقة وجواز قرض الحيوان والسلم، وأنه يجب عند القرض رد مثله ثم اعلم أنه [76 ب/4] المزني استبعد هذه الدلائل فقال: ونجعل في هذا الموضع ما هو أولى به أي: ما هو أقرب إلى الدلالة من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استسلف صدقة العباس قبل حلولها (¬3) فقال له: هذا الخبر استدل به الشافعي في هذه المسألة وسبقك إليه وتمامه ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد بعث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ساعيًا على الصدقات فلما رجع إليه شكا من ثلاثة نفر من عمه العبّاس وخالد بن زيد رضي الله عنهما وعبد الله بن جميل فذكر أنهم منعوا الزكاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن العباس عمي استسلفنا منه صدقة عامين"، وروى له علي مثلها وأراد صدقة عامين، "وأما خالد فإنكم تظلمون خالدًا فإنه قد حبس أذراعه وأفراسه في سبيل الله" يعني أنه وقفها وكان ذلك مال زكاة يتجر فيها فلما وقفها لم تلزمه الزكاة بعد فيها، وأما ابن جميل فما ينقم من الله إلا أنه كان فقيرًا فأغناه الله ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 285)، والشافعي في "المسند" (682)، والدارقطني (2/ 152)، وابن حبان (3288)، والبيهقي (4/ 164). (¬2) أخرجه مسلم (17/ 1651)، وأحمد (2/ 185، 204، 211)، وابن حبان (4332). (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (9985)، والبراز (1482) - البحر

وفيه نزل قوله تعالى: {ومِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: 75] الآيات، فلما بلغه نزول الآيات في شأنه أتى بصدقته فلم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتى [77 أ/4] بها أبا بكر الصديق فلم يقبلها ثم أتى بها عمر فلم يقبلها ومات في خلافته منافقًا، وروى على بن أبي طالب رضي الله عنه أن العبَّاس رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ليعجل زكاة ماله فرخص له (¬1). فرع هل يجوز تقديم زكاة عامين وأكثر أصحابنا اختلفوا فيه قال أبو إسحاق: وهو ظاهر المذهب يجوز لما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم تسلف من العباس رضي الله عنه صدقة عامين، ولأن ما جاز تعجيل حق العامين كدية الخطأ، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز، لأنَّ تعجيل زكاة الحول الثاني تقديم لها على السببين الحول والنصاب، إذ هذا المال لزكاة هذا المقام فلا يجوز ذلك وتأويل الخبر أراد أنا استعجلنا مرتين منه صدقة مالين مختلفي الحول .... (¬2) استعجلنا مرتين، استعجلنا وتم الحول ثم استعجلنا ثانيًا لعام آخر. فرع آخر مسألة: لو كانت له مائتا شاة فعجل عنها وعما يتوالد من سخالها أربع شياه فتوالدت وصارت أربعمائة أجرأته زكاة المائتين وفي زكاة السخال وجهان، إحداهما: لا يجوز لأنه تقديم زكاة على النصاب، والثاني: يجوز لأن السخال جعلت كالموجودة في الحول في وجوب زكاتها فجعلت كالموجودة في [77 ب/4] تعجيل زكاتها والأول أصح، ومن أصحابنا من قال: هذا مرتب على المسألة المتقدمة، فإن قلنا: بوجوب تعجيل زكاة عامين فهذا أولى، وإن قلنا: لا يجوز ذلك بقي هذا وجهان، والفرق أنه انعقد الحول على نصابين لأن النتائج إذا حدثت يبني حولها على حول الأصل ولم ينعقد الحول الثاني قبل تمام الحول الأول. فرع آخر لو ملك أربعين شاة فعجل عنها شاة ثم توالدت أربعين سخلة وتماوتت الأمهات وبقيت السخال فهل يجزيه ما أخرج عن الأمهات عن زكاة السخال فيه وجهان، إحداهما: لا يجزيه عن زكاة السخال لأنه يؤدي إلى تقديم الزكاة على النصاب وهذا أقرب، والثاني: يجزيه لأنه لما كان حول الأمهات حول السخال كانت زكاة الأمهات زكات السخال، ولو كان معه نصاب فعجل زكاة نصابين لم يجز فيما زاد على النصاب ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 104)، وأبو داود (1624)، والترمذي (678)، وابن ماجه (1795)، والحاكم (3/ 332)، والدارقطني (2/ 123)، والبيهقي (4/ 111). (¬2) موضع النقط بياض بالأصل.

الموجود وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: يجوز بناء على أصله بضم المستفاد إلى ما عنده في الحول وهذا غلط، لأنه عجل زكاة مالٍ ليس في ملكه. فرع آخر لو أشترى بمائتي درهم عرضًا للتجارة ثم أخرج عنها زكاة أربعمائة درهم ثم حال الحول ..... (¬1) تساوي أربعمائة ....... (¬2) لأن [78 أ/4] الاعتبار في زكاة التجارة تأخر الحول وينعقد الحول في الابتداء على ما دون النصاب بخلاف زكاة العين وخالفه ابن سريج فقال: لا يجوز لأنه يعتبر النصاب في عرض التجارة من أول الحول إلى آخره. فرع آخر إذا أراد تعجيل عشر الثمار والزروع قال ابن أبي هريرة: يجوز إذا علم أن فيها على غالب العادة خمسة أوسق وهذا إذا كان الزرع قصيلًا، أو كان الثمار بلحًا أو طلعًا لم يتشقق، وقال أبو إسحاق: وهو المذهب الصحيح لا يجوز لأنه يجب زكاتها بسبب واحد وسائر الزكوات تجب بسببين، ولأن في الحال قصيل أو بلح وليس من مال الزكاة بخلاف غيرهَا. فرع آخر مسألة: يجوز تقديم زكاة الفطر على هلال شوال إذا دخل شهر رمضان وأول وقت جوازها بعد طلوع الفجر من اليوم الأول من رمضان، وقيل: فيه وجه أنه لا يجوز تعجيلها وحكي عن أبي حنيفة: أنه يجوز تقديمها على شهر رمضان وهذا غلط، لأنه لم يوجد سببها بوجه فلا يجوز. فرع آخر إذا نذر أضحية لا يجوز ذبحها قبل وقتها بلا خلاف، لأن ذبحها عمل البدن وهو مقصود لأنه لو فرق اللحم لم يجز. فرع آخر [78 ب/4] لو أحرم بالحج ثم أراد تقديم الجزاء على قتل العبد، فإن كان خرجه فالمذهب أنه يجوز ذلك وبه قال أبو حنيفة لأن وجود سبب القتل هو بمنزلة وجود القتل، وإن لم يكن خرج فالمذهب أنه لا يذهب لأنه لم يوجد شيء من أسبابه، والإحرام ليس بسبب لوجوب الجزاء، ومن أصحابنا من ذكر فيه وجهًا آخر: وهو ضعيف وعلى ما ذكرنا لو جرح آدميًا ثم قدم الكفارة على موته يجوز، وإن لم يكن جرحه لا يجوز. فرع يجوز تقديم كفارة الظهار على العود ولا يجوز تقديمها على الظهار، وقيل: فيه وجه آخر لا يجوز تقديم كفارة الجماع في صوم رمضان على الجماع بلا خلاف. ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) كلمة غير واضحة بالأصل.

مسألة: قال (¬1): وإن تَسَلَّفَ الوالي لَهُمْ فهَلَكَ منهُ قَبْلَ دفعِهِ إليهِمْ وقد فَرَّطَ أو لمْ يُفَرَّطْ فهُوَ ضَامِنٌ. وهذا كما قال: إذا استقرض الوالي للمساكين من لا يلزمه أو استعجل لهم قبل الحلول ممن يلزمه الزكاة بالحول لا يخلو من أربعة أحوال، أحدها: أن يكون من غير مسألة رب المال وغير مسألة أهل السهمان، ولكنه رأى بأهل السهمان حاجة وفاقة فلا يخلو إما أن يتلف في يده أو يدفعها إليهم فإن تلفت في يده فهي من ضمانه يلزمه في خاص ماله ويستقر عليه [79 أ/4] الضمان ولا يرجع الإمام به على المساكين فرّط أو لم يفرّط فيه لأن المساكين هم أهل رشد لا يولى عليهم فلا يجوز أن يتعجل لهم حقهم برأيه إلا بشرط السلامة والضمان، وليس لولي اليتيم إذا استقرض له عند علمه بحاجته فهلك في يده من غير تفريط فلا ضمان لأنه مولى عليه ولهذا يتصرف فيه له ولا يتصرف الإمام في مال الزكاة للمساكين من غير ضرورة، ومن أصحابنا من أهل خراسان من قال: فيه وجه آخر: أنه لا يضمن لأن حاجاتهم كمسألتهم من الإمام ذلك وليس بشيء، وإن دفعها إليهم فإن حال الحول ولم يتغير الحال فقد وقعت الزكاة موقعها وإن حال الحول وقد تغير حال الدافع أو المدفوع إليه، رجع رب المال على الإمام ورجع الإمام على المساكين، وقال أبو حنيفة: الضمان على المساكين فقط وهذا غلط به ما كان له أن يحل لهم حقهم برأيه. فرع لو رأى الإمام بأطفال المساكين حاجة إلى التعجيل وكانوا يتامى فاستسلف لهم فتلف في يده من غير تفريط ففيه وجهان، إحداهما: وبه قال أبو إسحاق: ليس له ذلك فإن فعل كان ضامنًا لأن لهم حقًا في خمس الخمس وسهمًا فيه يستغنون به غن غيره، [79 ب/4] والثاني: وبه قال ابن أبي هريرة: له ذلك ولا ضمان عليه لأنهم ممن يستحقون الزكاة عند وجوبها وهم في ولايته والحالة الثانية: أن يكون ذلك التسلف بمسألة أهل السهمان دون رب المال، فتغيرت حالهم أو حاله فإن بلغها من ضمان المساكين سواًء تلف في يد الإمام أو في أيديهم لأنه وكيلهم ولكن رب المال يطالب الإمام لأنه هو الآخذ منهم حتى يطالب الإمام المساكين، وقال القفال: إذا علم المالك أنه أخذ بمسألة المساكين لا يطالب الإمام بحال بخلاف الوكيل يطالبه التابع بالثمن، لأنه طريقه والتزم ذلك بالعقد بخلاف الإمام وهذا أقيس، والحالة الثالثة: أن يكون ذلك بمسألة أرباب الأموال دون المساكين، فالإمام وكيل أرباب الأموال دونهم فإن تلفت في يده فهي من ضمان رب المال، فإن تلفت في أيديهم رجع عليهم ولا يرجع على الإمام لأنه لا ضمان على الوكيل، والحالة الرابعة: أن يكون بمسألتهما جميعًا على الإمام لأنه لا ضمان على الوكيل، والحالة الرابعة: أن يكون بمسألتهما جميعًا فأيهما تغلب فيه وجهان، إحداهما: تغلّب جنبة رب المال لأن جانبه ..... (¬2) لأنه ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 213). (¬2) موضع النقط بياض بالأصل.

يملك الدفع والمنع. والثاني: تغلب جنبة المساكين، لأن المنفعة ترجع إليهم وقد ذكرنا حكمها فإن قيل: إذا ضمن الإمام في الحالة الأولى [80 أ/4] وجب أن لا يجوز له القبض أصلًا، قلنا: إنما جاز لأن اختياره يؤدي إلى ذلك لما رأى بهم من الفاقة والخلة فيجوز ذلك على شرط السلامة، كما لو كانت عند رجل وديعة فجاء رجل وقال: أنا وكيل فلان يقبضها منك فصدقه يجوز له تسليمها إليه بشرط السلامة حتى لو أنكر المالك الوكالة فإنه يضمن، كذلك هاهنا فإذا تقرر هذا فكل موضع قلنا: يرجع إليهم فإن كانت تالفة استرجع قيمتها هكذا أطلق أصحابنا، وقال بعض أصحابنا بالعراق: إن خرج المدفوع إليه من استحقاق الزكاة يسترجع منه مثلها وجهًا واحدًا، وإن خرج الدافع ممن تجب عليه الزكاة فيه وجهان، كوجهي أصحابنا فيمن أقرض حيوانًا هل يجب على المستقرض رد مثله؟ أو قيمته ويفارق المسألة قبلها، لأن هناك يسترجع في حق الفقراء فيسترجع المثل لأنه لا يجوز في حق الزكاة غير الحيوان وهاهنا يسترجع في حق نفسه فتجب القيمة ذكره في "الحاوي" (¬1) ثم إذا رجع بالقيمة حتى يقوم فيه وجهان: إحداهما: حين الدفع إليهم لأنهم ملكوا حينئذٍ كما يقول في الصداق وهو الصحيح. والثاني: حين التلف كالعارية وهذا لأنه لو كان موجودًا رجع به فإذا كان تالفًا رجع بقيمته في تلك الحالة، وإن كانت باقية بحالها [80 ب/4] لم تزد ولم تنقص يسترجع عنها ثم إن كان العارض موت المسكين فرأى الرائي أن يرده على وارثه وهو جاز، وإن كانت زائدة فإن كانت الزيادة غير متميزة رجع بها مع الزيادة فإن كانت الزيادة متميزة كانت الزيادة لوارث المسلمين لأنه ملك بالقبض، وإن كانت ناقصة فإن كان النقصان غير متميز كالهزال رجع بها ناقصة ولا يستحق أرش نقصانها كالمفلس إذا انتقص المباع في يده لا يضمن النقصان عند رجوع البائع في المبيع بعيب الإفلاس، نص عليه في "الأم"، وقيل: هل يغرم النقص؟ وجهان: إحداهما: يغرم لأن ما يضمن عينه يضمن نقصه هو غلط، فإن رأى الوالي أن يرده على وارثه لم يجز للنقص إلا أن يكون بعد النقص على وصف مال الدافع فيجوز، وإن كان النقصان متميزًا كبعيرين تلف إحداهما وبقي الآخر يرجع بالباقي وبمثل الثالث في أحد الوجهين، وبقيمته في الوجه الآخر، ومن أصحابنا من أهل خراسان من قال: هو كالقرض يملك يوم الإتلاف في أحد القولين فيغرم النقصان ويرد الزيادة مع الأصل على هذا القول وهذا غلط. فرع لو استعجل مسألة رب المال وهي باقية في يد الوالي له أن يسترجع قبل الحول ما لم يفرقها الوالي، فإن فرقها فلا [81 أ/4] رجوع إلا أن يتغير الحال على ما ذكرنا ولو ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (3/ 166).

استعجل بمسألة المساكين وكانت باقية في يد الإمام ليس لرب المال استرجاعها، لأن يد الوالي هاهنا يد أهل السهمان، وهناك يده يد رب المال. فرع آخر لو تعدى الإمام فيها يضمن قيمة الحيوان وجهًا واحدًا لأنه يضمنها ضمان غصب بخلاف ما تقدم. فرع آخر .. (¬1) رب المال أن يتعجل الزكاة منه لهم ففعل وصرفها إليهم ثم عند الحول كان الدافع من يجب عليه الزكاة والمدفوع إليه من لا يستحق الزكاة قد ذكرنا أنه يسترجع فإذا استرجع هل يتعين عليه دفعها في الزكاة فيه وجهان، إحداهما: يتعين لأنه عينها بالتعجيل، والثاني: هو بالخيار بين دفعها أو دفع غيرها لأنها بعد الاسترجاع من جملة ماله هذا أصح عندي. مسالة: قال (¬2): ولو استَسْلَفَ لرجُلَيْنِ بَعِيرًا فأتلَفَاهُ وماتَا قَبْلَ الحَوْلِ فَلَهُ أنْ يأخُذَ منْ أموالِهِمَا لأهلِ السَّهمَانِ. وهذا كما قال: اعلم أن في تعجيل الزكاة يعتبر ثلاثة أشياء صفة المعجل له وهو المسكين وصفة المعجل هو رب المال وصفة المعجل منه وهو النصاب فأما صفة المعجل له فهي معتبرة في حالين: حالة الدفع وهي حالة التعجيل لصلة النية، وحالة احتساب المدفوع [81 ب/4] عن القرض لهذين، وأما صفة لمعجل منه فهي معتبرة من وقت التعجيل إلى وقت الاحتساب في مسائل ذكرها هاهنا منها هذه المسألة، وأراد به لو استسلف الإمام لرجلين من المساكين بغير أمر رب المال قبل الحول ولا تأثير لذكر الرجلين إلا تحسين العبارة به في لسان العرب، وقوله: فأتلفاه وماتا قبل الحول لا تأثير للإتلاف أيضًا في هذه المسألة إلا المبالغة في بيان حكم المسألة، فله أن يأخذ من أموالها أي: الإمام أن يأخذ هذا البعير المعجل إليهما إن كان قائمًا وقيمته إن كان تالفا من أموالهما بغيرهما من أهل السهام للعلة التي ذكرها وهي أنهما لمّا لم يبلغا الحول .... (¬3) أنه لا حق لهما في صدقة خلت في حول لم يبلغاه أي: وإن وجد فيهما منعة الاستحقاق عند الدفع إذا لم يوجد وقت الاحتساب عن الفرض لم يكن لهما حق في هذه الصدقة تطوع وهذا غلط، لأنه دفع الزكاة على أن تقع موقع الفرض [82 أ/4] فإذا لم تقع استرجع كما لو دفع إلى من ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) موضع النقط بياض بالأصل. (¬3) انظر الأم (1/ 213).

ظاهره الإسلام ثم بان له كفره استرجع، ويؤكده أن المقصود بتعجيلها إسقاط الفرض، فإذا لم يسقط استرجع. فرع لو شك في موته هل كان قبل الحول أم بعده ففيه وجهان، إحداهما: يسترجع اعتبارًا بالنفس في التعجيل والشك في الجواز، والثاني: لا يسترجع اعتبارًا بأنه ملك بالقبض فلا يجوز الاسترجاع بالشك، فعلى هذا يجزي عن فرض رب المال لأن الاسترجاع إذا لم يجب الإخراج ثانيًا، وهذا أقرب. مسألة: قال (¬1): ولو أيْسَرا قَبْلَ الحَوْلِ. الفصل وهذا كما قال: أبدل الشافعي ها هنا تصوير موتهما بيسارهما قبل الدخول فينظر فإن كان اليسار مما دفع هؤلاء يسترجع شيئًا لأنا دفعنا إليه ذلك يستغني به، هكذا لو تصرف فيه واستغني بذبحه ونمائه لا يسترجع منه ووقعت الصدقة موقعها، وإن كان اليسار من غير ما دفع هو إليه إما بميراث أو هبة من الغير تسترجع منه ذلك، لأنه خرج عن أن يكون مستحقًا للصدقة قبل تمام الحول فصار كما لو مات. فرع لو أيسر ثم افتقر فحال الحول وهو فقير فيه وجهان، إحداهما: يسترجع لأنه خرج بالغني من أن يكون من أهل الصدقة فبطل الدفع الأول، والثاني: وهو الصحيح لا يسترجع لأن الاعتبار [82 ب/4] بآخر الحول. فرع آخر لو عجل إلى غني على أنه إن افتقر عند الحول كان عن زكاته وإلا استرجعها منه لا يجوز ذلك، لأن الزكاة إنما رخص في تعجيلها رفقًا بالفقراء، ولا فرق في تعجيلها للغني وإنما هو عبث ولهو فلم يسقط به الفرض، فإن قيل: إذا كان الاعتبار بآخر الحول يجب أن يجوز هاهنا كما قلتم: إذا أوصى لوارثه ثم صار غير وارث تصح الوصية لأن الاعتبار في الوصية بحالة الموت، قلنا: بالوصية يقصد الرفق بعد الموت لأنه حالة زوال ملكه عنه وها هنا القصد من التعجيل الرفق بالفقراء حال إخراجه وتعجيله، فإذا كان غنيًا فلا رفق فيه فلا يجوز. مسألة: قال (¬2): ولو عَجَّلُ زكاةَ مائَتَي دِرْهَمٍ قَبْلَ الحَوْلِ ثمَّ هَلَكَ مالهُ قَبْلَ الحَوْلِ ثمَّ وَجَدَ عَيْنَ مَالِهِ عِنْدَ المُعطي لمْ يَكُنْ لهُ الرُّجوعُ بهِ. وهذا كما قال: إذا تولى رب المال تعجيل زكاته إلى الفقير قبل تمام الحول ثم تغير حاله فإن كان شرط أن عجلها رجع عليه بها، وإن لم يكن شرط تعجيلها لم يكن له أن ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 123). (¬2) انظر الأم (1/ 214).

يسترجعها، لأنه متهم في قوله: إني كنت عجلتها ويجوز أن يكون قد أدى واجبًا عليه أو تطوع به ويفارق الإمام، فإن له أن يسترجع، وإن لم يقل ذلك لأنه وليهم ثابت الولاية عليهم ولا يتهم في بابهم، فإن قيل: [83 أ/4] أليس إذا دفع إلى رجل مالًا ثم اختلفا؟ فقال الدافع أقرضتك وعليك مثله، وقال المدفوع إليه: وهبته فالقول قول الدافع فقولوا مثله ها هنا قلنا: الفرق أن قوله هذه زكاتي وصدقتي الظاهر منه زكاة الدافع فقولوا مثله ها هنا قلنا: الفرق أن قوله هذه زكاتي وصدقتي الظاهر منه زكاة واجبة في الحال أو صدقة واجبة أو صدقة تطوع، فإنما ادعى أنه عجلها لم يقبل وليس كذلك إذا دفع إليه مالًا وقال: تصرف فيه فإنه لا ظاهر يدل على أنه هبة فرجعنا إلى قول الدافع في ذلك ولا يعتبر أن يشترط الرجوع بل يكفي أن يذكر التعجيل، لأن حكم التعجيل الرجوع عند تلف ماله، ولو لم يذكر التعجيل ولكن صدقه الفقير أنه كان تعجيلًا فله الاسترجاع أيضًا، فإن لم يصدقه وقال: لا أعلم ذلك فالقول قوله إن كان حيًّا وقول وارثه إن كان ميتًا وهل عليه اليمين أنها واجبة عليه فهو مكذب لنفسه فيه الآن فلا يجب عرض اليمين لأجل. والثاني: وبه قال أبو يحي البلخي: يلزمه اليمين لأن الدعوى محتملة وما في يده مدع فافتقر دفع الدعوى إلى يمين فعلى هذا يحلف هو أو رارثه على نفي العلم ولو اختلفا في الشرط فقال رب المال: شرطتُ التعجيل فلي الرجوع [83 ب/4] فأنكر الفقير الشرط فيه وجهان، إحداهما: القول قول رب المال مع يمينه وله الرجوع لأنه على أصل ملكه لم يقر بما يزيله عنه والمدفوع إليه هو مقر له بالملك مدع لما يزيله، والثاني: القول قول الفقير مع يمينه على البت وجهًا واحدًا: لأنه ملك الأخذ وادعى عليه الاستحقاق فكان على أصل تملكه ما لم يُقم بينة، ومن أصحابنا من أهل خراسان من ذكر فيه طريقة أخرى فقال: نص في "الأم" أنه يسترجع ونص في رب المال أنه لا يسترجع، وعلق القول فيه في حرملة ولم يفصل بين الإمام ورب المال ففيه ثلاث طرق، إحداها: كلتا المسألتين على قولين، والثانية: الفرق على ما ذكرنا، والثالثة هما على حالين فحيث قال في "الأم": يسترجع هو إذا أعلم المسكين أنها صدقة مفروضة وهذا الحكم لو أعلم رب المال وحيث قال: ليس لرب المال الاسترجاع أراد إذا لم يعلمه ذلك وهكذا الإمام قال هذا القائل وهذه الطريقة هي أصح والأمر عندي على ما تقدم، ذكره وهذا كله غير صحيح. فرع لو عجل خمسة دراهم عن مائتي درهم فلما قرب الحول أتلف درهمًا منها لم تلزمه الزكاة، وهل له أن يسترجع ما عجله فإن لم يكن شرط التعجيل لم يكن له استرجاعه [84 أ/4] وإن كان شرط الاسترجاع فقد خرّج أبو سعيد الإصطخري فيه وجهين، إحداهما: له أن يسترجع كما لو تلف بنفسه لأن الزكاة سقطت عنه في الحالتين، والثاني: ليس له ذلك لأنه متهم في إتلاف درهم لاسترجاع خمسة.

مسألة: قال (¬1): ولو ماتَ المُعطي قَبْلَ الحَوُلِ وفي يَدِ رَبِّ المالِ مائتا دِرهمٍ إلاَّ خَمْسَةَ دَرَاهمٍ فلاَ زَكَاةَ عليه. وهذا كمًا قال: إذا عجل زكاة ماله فمات المعطي قبل الحول فإن لم يكن اشترط أنه زكاة ماله عجلها لم يكن له أن يسترجعها عي ما ذكرنا، ورجع إلى ما بقي من ماله فإن كان نصابًا زكى، وإن كان دونه فلا زكاة عليه. قال الشافعي (¬2): وما أعطى كما يصدق به أو أنفقه في هذا المعنى يعني كما لا يسترد في حياته لأنه تطوع به، فكذلك بعد وفاته، وإن كان قد شرط أن زكاة ماله عجلها قبل وجوبها استرجعها فإن كان أقل من النصاب وقد تمَّ بهذا الذي استرجع النصاب قال أصحابنا: هل يستأنف الحول؟ وجهان: إحداهما: لا يستأنف لأن الزكاة المعجلة في الحكم كأنها عى ملكه بدليل جوازها عن فرضه في آخر الحول ولأن حكم الحول ثابت بحاله كما كان لم ينقطع بتعجيلها فكيف يجوز أن يقال يستأنف الحول. والثاني: إن كان المال دراهم أو دنانير لا يستأنف [84 ب/4] الحول، وإن كان حيوانًا يستأنف لأن الحيوان الذي عجله يصير بمنزلة ما في الذمة ولا زكاة في الحيوان الذي في الذمة بخلاف النقد وهذا غلط، لأنه لا فرق على ما ذكرنا أن حكم الحول جاز عليها، ومن أصحابنا من قال: إن كان ما استرجعه دراهم عن دراهم فعليه الزكاة سواًء استرجع عين ماله أو مثله لأن التعجيل لما لم يحز صار فرضًا في ذمة الفقير والقرض ومن يجب ضمه إلى المال الناقض ويزكيان، وإن كان ما استرجعه ماشية عن ماشية فإن استرجع مثله أو قيمته فلا زكاة ويستأنف الحول، لأن البدل المأخوذ عن التعجيل هو كالبدل المأخوذ عن المبيع ولو كان باع منها شاة بشاة استأنف الحول، وإن استرجع ما عجله في وجوب الزكاة وجهان: إحداهما: يجب لأن ما عجله مضموم إلى ما بيده على ما ذكرناه. والثاني: يستأنف الحول لأن ما عجله، إما أن يكون زكاة لا ترتجع أو قرضًا يرتجع فلما بطل كونه زكاة ثبت كونه قرضًا، ومن أقرض حيوانًا لم يلزمه زكّى به بخلاف من أقرض الدراهم وهذا لأن زكاة الماشية لا تجب إلا بالسوم والسوم لا يتصور فيما في الذمة والأول أصح. مسألة: قال (¬3): ولو كانَ لرجلٍ مالٌ لا تَجِبُ في مِثِلهِ الزَّكاة. الفصل وهذا كما قال: [85 أ/4] إذا أخرج خمسة دراهم ولا نصاب عنده فقال: إن ملكت مائتي درهم فهذه زكاتها لم يجز لأن الزكاة تتعلق بالحول والنصاب وقدمها في السببين ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 214). (¬2) انظر الأم (1/ 214). (¬3) انظر الأم (1/ 214).

فلا يجوز كما لو قدم الكفارة على اليمين والحنث لا يجوز. فرع لو شك هل استفاد مالًا من أنبيه الغائب بموته فأخرج خمسة دراهم فقال: إن كان مائتي درهم حصلت في ملكي عنه فهذه زكاته لم يجز لأنه شاك في حصول السبب فنيته لا تصح، بخلاف ما لو قال: إن كان مالي الغائب سالمًا فهذه زكاته، فإنه يجوز لأن الأصل بقاء المال، وفي المسألة الأولى الأصل العدم. فرع آخر لو عجل زكاة ماله ثم مات قبل الحول قال في القديم: تبنى الوراثة حولهم على حول الميت لأنهم يردون المال بما تتعلق به الحقوق كما يرثون التبعض بما تتعلق به من حقوق الشفعة وغيرها، وقال في الجديد: وهو الصحيح يستأنفون الحول لأنه يجدد ملكهم كما لو ملك بسائر وجوه الملك، فإذا قلنا: بالأول يجزي ما أخرجه عن زكاتهم، وإن قلنا بالثاني فهل يجزي ما أخرجه الميت عن زكاتهم، قال في "الأم": وبه قال أصحابنا: يجزيهم لأنهم لما قاموا مقامه في قضاء دينه واقتضائه قاموا مقامه في تعجيل زكاته ومن أصحابنا: يجزيه لأنهم لما قاموا مقامه في قضاء دينه واقتضائه قاموا مقامه في تعجيل زكاته ومن أصحابنا من [85 ب/4] قال: لا يجزيهم لأنهم لما استأنفوا الحول يصير تعجيلًا قبل وجود النصاب والحول، ثم على المذهب إن كان نصيب كل واحد منهم نصابًا أجزاهم ولا كلام، وإن كان نصيب كل واحد منهم أقل من النصاب فإن اقتسموا قبل الحول سقطت الزكاة عنهم ونظر فيما عجله المورث، فإن كان قد شرط أنه زكاة عجلها قبل الوجوب كان لهم الاسترجاع، وإن لم يشرط ذلك لم يكن لهم الاسترجاع وهذا حكم الاسترجاع، إذا قلنا: لا يجوز ما أدى عن الوارث وإن لم يقتسموا مال الميت حتى تم الحول فإن كان حيوانًا يثبت فيه حكم الخلطة قولًا واحدًا والزكاة واجبة عليهم فيه، وإن كان غير الحيوان ففي ثبوت حكم الخلطة قولان، فإذا قلنا: لا يثبت سقطت الزكاة وحكم الاسترجاع على ما ذكرنا، وإن قلنا: يثبت فما عجله الميت يجزي عنهم. فرع آخر ذكره والدي رحمه الله: لو كان عنده خمس وعشرون من الإبل ولم يكن عنده بنت مخاض فجوز له إخراج ابن لبون فمات قبل إخراجه فأراد الوارث ابن لبون وعنده بنت مخاض جاز له ذلك، لأنَّ الزكاة وجبت على المورث وهو نائب عنه في الإخراج فلم يعتبر حال الوكيل [86 أ/4] بخلاف ما لو حال الحول بعد موته. فرع آخر ذكر والدي رحمه الله: لو عجل زكاة خمس وعشرين فأخرج ابن لبون لأنه لم يكن في ملكه ابنة مخاض ثم استفادها قبل تمام الحول جاز ذلك ولا يلزمه دفع بنت مخاض، ولا استرجاع ابن لبون لأن الاعتبار بوقت الإخراج بدليل أنه لو حدث عيب

باب النية في إخراج الصدقة

يمنع الجواز ابتداء في ابن لبون الذي أخذه المسكين قبل الحول جاز، وإن لم يجز دفع المعيب ابتدأ عن الزكاة، قال ويحتمل وجهًا آخر: عليه إخراج ابنة مخاض والأولى أولى، وقال القاضي الإمام الحسين: الأصح الوجه الثاني، لأن الإبدال لا يصار إليها قبل وجوب المبدل كالتيمم لا يجوز قبل دخول الوقت. مسألة: قال (¬1): ولو عَجَّل شاتَيْن مِنْ مائَتَيْ شاةٍ فحَالَ الحَوْلُ وقد زَادَتْ شاهٌ أَخَذَ مِنها شاةً ثالثةً. وهذا كما قال جملة هذا الفصل أنه إذا وجد سبب وجوب الزكاة فأخرجها معجلا فلا اعتبار في قدر ما يجب عليه من الزكاة بوقت الاحتساب والمعجل في هذا الاعتبار هو في حكم القائم في ملكه المضموم إلى ما له فإذا عجل شاتين من مائتي شاة فحال الحول وقد زادت شاة أخذت منها شاة ثلاثة، لأن الشاتين المعجلتين كالقائمتين في ملكه بدليل احتسابهما عن [86 ب/4] الفرض وقت الحول وإذا كان كذلك فيكون له عند الحول مائتا شاة وشاة ففيها ثلاث شياه وقد عجل شاتين فعليه شاة ثالثة خلافًا لأبي حنيفة حيث قال: تقديمه الشاتين يسقط عنه وجوب الشاة الثالثة لأنه ليست في يده وقت الحول إلا مائة وتسع وتسعون شاة وفيها شاتان، وقد عجلهما فرد عليه الشافعي فقال: لا يسقط تقديمه الشاتين الحق عليه في الشاة الثالثة لأن الحق إنما يجب بعد الحول ويحتسب له ذلك المعجل عن الواجب عليه بعد الحول فدل أن ذلك المعجل كالقائم في ملكه وقت الحول، وإن كان تالفًا مشاهدة فيجعل كالقائم في وجوب الثالثة حكمًا أيضًا، ثم استشهد بالعكس فقال: كما لو أخذ منها يعني من المائتين قبل الحول شاتين فجاء الحول وليست فيها إلا شاة فإن تلفت منها مائة ردت عليه شاة اعتبارًا بوقت الاحتساب لا بوقت التعجيل، وإنما لم يعجله في هذه المسألة متطوعًا بما عجل من الشاة الثانية لأنه صور المسألة في الإمام دفع إليه الشاتين، والإمام في الظاهر لا يأخذ إلا الفرض، ولا يدفع إليه إلا الفرض، فلهذا كان له استرداد إحدى الشاتين عند تلف نصف ماله وأيضًا لو قلنا: لا يلزمه شاة أدى إلى الضرر [87 أ/4] بالمساكين وقد جوز التعجيل رفقًا لهم فيستحيل أن يكون مؤديًا إلى هذا الضرر. باب النية في إخراج الصدقة مسألة: قال (¬2): وإذا وَلي الرَّجلُ إخراجَ زَكاتِهِ لم يُجْزِهِ إلاَّ بنِيَّةِ أنَّهُ فَرَضٌ. وهذا كما قال الزكاة تفتقر إلى النية كسائر العبادات إلا أنه تجري النيابة في نيتها كما تجري في إخراجها، وقال الأوزاعي: لا تفتقر الزكاة إلى النية أصلًا كالدين وهذا غلط، لأنها عبادة تسوغ نقلًا وفرضًا كالصلاة فإذا تقرر هذا فالكلام في ثلاثة فصول فيمن ينوي وفي وقت النية وكيفية النية، فأما الناوي فإن كان يخرجها رب المال نوى، وإن كان يخرجها ولي المحجور عليه لصغر أو جنون نوى وليه، وإن كان الوالي ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 214). (¬2) انظر الأم (1/ 215).

يخرجها نوى الوالي، وأما وقت النية فالعبادات على أربعة أضرب، منها: ما لا يجوز تقديم النية عليه ومن شرطه، إن تقارن النية أوله كالصلاة والطهارة والحج والعمرة، ومنها: ما يجوز تقديمها على أوله ولا يجوز تأخيرها عن أوله وهو صيام الفرض، ومنها: ما يجوز تقديمها وتأخيرها عنه وهو صيام التطوع، ومنها: ما اختلف القول فيه وهو الكفارة والزكاة فقد قال في كتاب الأيمان: ولا تجزيه [87 ب/4] كفارة حتى يقدم قبلها النية أو معها ولا فرق فيها بين الكفارة والزكاة، فاختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: إن قدم النية عليها واستصحبها إلى وقت إخراجها يجوز، وإن غربت عنه لا يجوز وأراد الشافعي بما قال في الكفارة: أن ينوي قبلها ويستصحبها قال القاضي الطبري: وهذا أشبه بمذهب الشافعي في "الأم"، لأنه لا يتعذر عليه أن ينوي عند ابتدائها فيلزم، ومن أصحابنا من قال: يجوز فيهما كما نص عليه في الكفارة، لأنه يدخلهما النيابة فلو قلنا: لا يجوز تقديم النية لما جاز أن يوكل في إخراجهما لأنه إذا وكل كانت نيته متقدمة عليها، والاعتبار بنية الموكل دون الوكيل وهذا أصح عندي واختاره مشايخ خراسان، وكما يمكنه أن ينوي في ابتدائهما يمكنه أن لا يوكل في أدائهما حتى لا تقدم النية أو تعتبر نية الوكيل عند ابتدائهما، ومن أصحابنا من ذكر وجهًا: أنه يعتبر نية الوكيل عند الدفع لتقارن النية إخراج الزكاة ذكره القاضي الطبري وهو ضعيف عندي، فإن قيل في الحج: تدخل النيابة أيضًا ثم لا يجوز تقديم النية عليه، قلنا: هناك نية النائب شرط فلا يعرى أوله عن النية ونية الوكيل في الزكاة ليست بشرط وربما لا يعرف الوكيل [88 أ/4] أنها زكاة، ولا تصح منه النية بأن يكون كافرًا بخلاف الحج فدل على الفرق، ومن أصحابنا من ذكر وجهًا آخر: أنه لا يجوز أن يوكل كافرًا في أداء الزكاة ويجوز أن يوكل صبيًا لأنَّ نيته صحيحة، وفيه وجه آخر: أنه لا يجوز لأنه غير مكلف كالمجنون حكاه والدي رحمه الله وهو ضعيف. وأما كيفية النية فهي: أن ينوي نية يتميز المخرج عن النافلة مثل أن ينوي أنه زكاة ماله أو فرض تعلق بماله فإنه نية الزكاة في الحقيقة نص عليه في "الأم"، ولو قال: هذه زكاتي مطلقًا قال أصحابنا: يجوز وذكر بعض أهل خراسان: أنه لا يجوز، والأول أصح، لأن هذه عبارة عن الفريضة، ولو قال: فرضي ظاهر ما نص عليه الشافعي أنه يجوز وليس على ظاهره بإجماع أصحابنا، ومعنى النص إذا قال: صدقة مالي فريضة ولو نوى بقلبه ولم يتلفظ بلسانه لا شك أنه يجوز ولو تلفظ بلسانه ولم ينو بقلبه قال في "الأم" (¬1): سواء نوى في نفسه أو تكلم بأن ما أعطى فرضي فأقام الكلام مقام النية كما أقام أخذ الإمام مقام النية وعلل في "الأم" فقال: وإنما منعني أن أجعل النية في الزكاة كنية الصلاة لافتراق الصلاة والزكاة في بعض حالهما إذ يجوز الزكاة قبل وقتها ويجوز أن يأخذها [88 ب/4] الوالي من غير طيب نفسه فتجزي عنه وهذا لا يجوز في ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 19).

الصلاة، وهذا اختيار القفال وجماعة أصحابنا، واستدلوا بأن إخراج الزكاة يجوز في حال الردة والمرتد ليس من أهل نية القوية فدل أنه يكفي القول فيه، وقال بعض أصحابنا: وهو اختيار صاحب "التقريب" يحتاج أن ينوي بقلبه وأولوا النص بأنه أراد بقول هذا مع النية بالقلب لأن محل النية في جميع العبادات القلب وهذا التأويل خطأ لما ذكر من صريح العلة. فرع لو تصدق بجميع ماله ولم ينو الزكاة لم يحزه عن الزكاة، وقال أصحاب أبي حنيفة: يجزيه استحسانًا وهذا لا يصح لأنه لم ينو الفرض كما لو صلى مائة ركعة بنية التطوع لا يجزيه عن الفرض ولو تصدق ببعضه قال محمد: أجزأه عن زكاة ذلك البعض، وقال أبو يوسف: لا يجزيه لأنه لم يزل ملكه عن جميعه. مسألة: قال (¬1): ولا يُجْزِئهُ ذَهَبٌ عن وَرِقٍ. الفصل وهذا كما قال: إذا أخرج غير ما وجب عليه باعتبار القيمة لا يجوز سواًء أخرج الدراهم عن الدنانير أو الدنانير عن الدراهم، أو ما لا إخراج عنهما بالقيمة، وقال أبو حنيفة: يجوز أن يخرج بقيمته كل مال، وقال مالك: يجوز الذهب عن الورق والورق عن الذهب [89 أ/4] ولا يجوز غير ذلك من الأموال وبه قال أحمد في رواية وهذا غلط، لما قال الشافعي، لأنه غير ما وجب عليه فلا يجوز كما لو أخرج السكني لا يجوز. مسألة: قال (¬2): ولو أَخَرَجَ عشرةَ دراهمٍ فقالَ: إنْ كان مالي الغائبُ سَالمًا فهذه من زكاتُهُ أو نافِلةٌ. الفصل وهذا كما قال: إذا كان له مال غائب زكاته عشرة دراهم فأخرج العشرة إلى أهل السهمان، وقال: إن كان مالي الغائب سالمًا فهذه زكاته أو نافلة فكان ماله سالمًا لم يجزه ذلك عن زكاته وكانت الزيادة باقية عليه لأنه جعل النية مشتركة بين النفل والفرض، ولو رتب النية فقال: إن كان مال الغائب سالمًا فزكاته، وإن كان تالفًا فنافلة، صحت النية فإن كان سالمًا كان عن فرضه، وإن كان تالفًا كان نافلة، قال الشافعي (¬3): لإن أعطاه عن الغائب هكذا وإن لم نقله يعني لو قطع في نيته بأن هذا عن مالي الغائب لا يكون إلا هكذا فيكون عنه إن كان سالمًا وإلا فيكون نافلة، فإذا لم يقطع بنية يجوز أيضًا فإن قيل: أليس نقل الصدقة لا يجوز عندكم في أحد القولين، ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 215). (¬2) انظر الأم (1/ 215). (¬3) انظر الأم (1/ 216).

وجوزتم هاهنا نقل الصدقة عن بلد المال، قيل: الشافعي ذكر هذا على القول الذي جوّز نقل الصدقة أو إذا كانت [89 ب/4] المسافة قريبة أو لم يكن في بلده أهل السهمان. فرع لو قال: إن كان مالي الغائب سالمًا فهذه زكاته، وإن لم يكن سالمًا فهذه زكاة مالي الحاضر يجوز لأنه قطع نية الفرض وإنما رتب المال فلم يمنع ذلك جوازها، ولو قال: هذه زكاة مالي الغائب إن كان سالمًا ولم يزد عليه فكان ماله تالفًا فأراد أن يصرفها إلى الحاضر لم يجز، لأنه عينها في مال بعينه فلا يجوز أن يصرفها إلى غيره، وقال في "الشامل": يحتمل أن يجوز لأنها لم تصر زكاة بعد. فرع آخر لو أخرج خمسة ونوى بكلها الزكاة والتطوع لم يجزه عن الزكاة وكانت تطوعًا وبه قال محمد، وقال أبو يوسف: يجزيه عن الزكاة وهذا غلط، لأنه يشرك بين النفل والفرض. فرع لو لم يعلم أن ماله الغائب ذهب أو ورق أو ماشية فأخرج خمسة دراهم أو نصف دينار أو شاة على الظن لم يجز، وإن أخرج جميع ذلك ونوى به الزكاة جاز، وإن لم يعين. فرع آخر لو كانت له مائتا درهم وعرض للتجارة بمائتي درهم فأخرج خمسة ونوى فرض الزكاة ولم يعين إحدى المائتين يجوز، وكذلك لو قال: هي عن الدراهم فإن كانت تالفة فعن الفرض فإنه يجوز، وإن قال هي عن [90 أ/4] إحداهما ثم عين بعد ذلك بقلبه أو لم يعين يجوز وهذا لأنه لا يحتاج إلى تعيين النية كالكفارة سواء. مسألة: قال (¬1): ولو أخرَجَها وهيَ خمسةُ دراهم لتقسيمها فهَلَكَ مالُهُ - يعني المخرج منه قبل إمكان الأداء - كانَ لهُ حبسُ الدَّراهم. وهذا على القول الذي يقول إمكان الأداء هو من شرائط الوجوب وقد تقدمت هذه المسألة، وكذلك ما ذكر بعد هذه المسألة إذا تلفت هذه الخمسة بقي أصل المال ولو أخرجها إلى الوالي ثم بان له أن المال كان هالكًا ليس له الرجوع إلا أن يكون باقيًا عنده لم يصرفها إلى أهل السهمان فيستردها منه أو يصرفها في زكاة مال سواه. مسألة: قال (¬2): وإذا أخذَ الوالي منْ رجلٍ زكاةَ بلا نيةٍ في دفعها إليه أجزأت عنه. وهذا كما قال: إذا أراد إخراج الزكاة فلا يخلو من ثلاثة أحوال، إما أن يليها بنفسه أو يدفعها إلى وكيله أو إلى الساعي فإن وليها بنفسه فقد ذكرنا النية، وإن دفعها إلى وكيلة فإن نويا معًا رب المال عند الدفع والوكيل عند الإيصال أجزأه، وإن لم ينو واحد منهما لم يجز، وإن نوى الوكيل دون الموكل لم يجز، وإن نوى الموكل دون ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 216). (¬2) انظر الأم (1/ 216).

الوكيل ففيه طريقان، قيل: قوله واحد يجوز وقيل: هو بناء على [90 ب/4] ما ذكرنا من جواز تقديم النية على الدفع فإن قلنا: لا يجوز ذلك لا يجوز هاهنا، وإن دفعها إلى الوالي فإن نويا معًا أو نوى رب المال دون الوالي أجزأه قولًا واحدًا، لأن يد الإمام يد المساكين فإنه يسقط فرضه بالدفع إليه، ولو دفع الزكاة إلى المساكين ولم ينو المساكين جاز فكذلك إذا لم ينو الإمام وإن نوى الوالي دون رب المال المذهب أنه يجوز، لأنه لا يدفع إليه إلا الفرض فاكتفي بالظاهر عن النية، ومن أصحابنا من قال: وهو الأقيس لا يجوز لأن الإمام كالوكيل في أنه نائب الفقراء، وتأؤل هذا القائل نص الشافعي على أن من امتنع من أداء الزكاة فأخذها الإمام منه قهرًا فإنها تجزيه لأنه تعذرت النية من جهته فقامت نية الإمام مقام نيته، ومن أصحابنا من قال: في الحكم يجوز وفي الباطن لا يجوز وهو ضعيف، وإن لم ينو الإمام ولا رب المال نص في "الأم": أنه يجوز لأنه قال: وإذا أخذ الوالي من رجل زكاة بلا نية من الرجل في دفعها إليه طائعًا كان الرجل أو مكرهًا ولا نية للوالي الأخذ في أخذها من صاحب الزكاة أو له نية تجوز وهذا لأن أخذ الإمام أو دفعه إلى الإمام الظاهر منه أنه [91 أ/4] فرضه لأنه لا يأخذ إلا الواجب ولا يدفع إليه إلا الصدقة الواجبة فقام ذلك مقام النية بخلاف ما إذا وكل ولم ينو لا الوكيل ولا الموكل لا يجوز لأنه ليس في دفعه إلى الوكيل ظاهر يدل على أنه فرضه، فلابد من نية الموكل وهذا النص يمنع التأويل السابق، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز هاهنا لأنه نفذت النية المشروطة في الأداء، ومن أصحابنا بخراسان من قال: إذا أخذ بالإكراه لا يجوز فيما بينه وبين الله تعالى وهل يجوز في الحكم وجهان، وهذا خلاف النص، وقال أبو حنيفة: لا يأخذ الإمام الزكاة من الممتنع بل يحبسه حتى يؤدي، قال الشافعي (¬1): كما ينوب عنه في القسم ينوب عنه في النية. مسألة: قال (¬2): وأُحِبُّ أنْ يَتَوَلَّى الرَّجلُ قسمَتَهَا عنْ نَفْسِهِ. الفصل وهذا كما قال: هذه المسألة تنبني على أصل وهو أن المال ضربان، باطن وظاهر، وإن شئت قلت: صامت وناطق فالباطن يجوز أن يقسم زكاته بنفسه، وأما الظاهر فهل له أن يقسم زكاته بنفسه؟ فيه قولان، قال في القديم: ليس له ويجب دفعه إلى الإمام فإن فرقها بنفسه ضمن لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] وبه قال أبو حنيفة ومالك، وقال في الجديد: له ذلك وبه قال الحسن [91 ب/4] والنخعي ومكحول: لأنها زكاة واجبة كزكاة أمواله الباطنة، فإذا قلنا بقوله القديم لا يقال في هذا أفضل ولا غير أفضل، لأنه لا يجوز إلا وجهًا واحدًا، فإذا قلنا بقوله الجديد: هل للإمام المطالبة؟ منهم من قال: لا يطالب إذا علم أنهم يؤدونها بأنفسهم كما لو علم أنهم يصلون لا يطالبهم بها، ومنهم من قال: له المطالبة إذا أدى اجتهاده إليه لا على ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 19). (¬2) انظر الأم (1/ 216).

وجه الولاية بل جهة النيابة عن المستحقين وحثا عن الخروج عن حقوقهم لأنهم من أهل الرشد ولا تثبت عليهم الولاية وهل الأفضل أن يفرقها بتقسط أم يدفعها إلى غيره ليفرقها عنه؟ ينظر فإن كان ذلك الغير وكيلًا فالأفضل أن يفرقها بنفسه لأنه على يقين من فعل نفسه وهو في شك من فعل غيره ومعناه أن فعل الدفع إلى من هو مستحق لها في الظاهر يقين، فأما أن تكون وقعت موقعًا يقينًا فلا لأنه يعمل فيها بغالب الظن في الظاهر وزاد الشافعي في قسم الصدقات فقال: يجوز لأنه المحاسب بها والمسئول عنها، وإن كان الغير هو الإمام لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون عادلًا أو جائرًا فإن كان عادلًا، فالمذهب إن دفعها إليه أفضل لأن ذمته تبرأ [92 أ/4] بذلك عن الزكاة قطعًا والإمام أبعد من الخطأ في قسمها وأعرف بحال المستحقين وأراد الشافعي بما ذكر هاهنا إذا أراد الدفع إلى الوكيل أو أراد أن يتولى الدفع إلى الإمام بنفسه ولا يكله إلى غيره، ومن أصحابنا من قال: الأفضل تفريقها بنفسه أيضًا كما نص عليه هاهنا ليكون له إجراء التفريق والتكلف، كذلك بنفسه وهذا ليس بشيء لأنه علل فقال: لأنه على يقين من أدائها وهذا في الدفع إلى الإمام موجود وزيادة على ما ذكرنا، وإنما يقع الشك في الدفع إلى الوكيل، ومن أصحابنا من قال: أراد الشافعي هاهنا زكاة أمواله الباطنة فأما زكاة أمواله الظاهرة فالأفضل دفعها إلى الإمام، لأن الشافعي قال في آخر قسم الصدقات: ويعطي الولاة زكاة الأموال الظاهرة الثمر والزرع والمعدن والماشية، فإن أعطاهم زكاة التجارة والفطر والركاب أجزأتهم إن شاء الله. وإن كان الإمام جائرًا فاسقًا. قال صاحب "الإفصاح": فيه وجهان، إحداهما الأفضل أن يفرقها بنفسه لأنه ليس بموضع الأمانة لما ظهرت منه الجناية، والثاني: يدفعها إليه أيضًا وليس عليه من إثمها شيء لأن النبي صلى الله عليه وسلم [92 ب/4] قال: "سيكون بعدي أمورًا تنكرونها فقالوا: يا رسول الله فما تأمرنا قال: أدوا حقهم وسلوا الله حقكم" (¬1) وقال في "الحاوي" (¬2): للإمام أربعة أحوال، أحدها: أن يكون عادلًا في الزكاة وفي غيرها، فالأفضل دفعها إليه، والحالة الثانية: أن يكون عادلًا في الزكاة جائرًا في غيرها فيه وجهان، إحداهما: دفعها إليه أولى أيضًا لأنه روى عن سهل بن صالح عن أبيه أنه قال: سألت سعيد بن مالك وقلت: عندي مال مجتمع يعني من مال الصدقة وهؤلاء القوم كما ترى فما أصنع به؟ قال: ادفعه إليهم، قال: وسألت أبا سعيد الخدري فقال مثل ذلك، وسألت أبا هريرة فقال مثل ذلك، وسألت عبد الله بن مسعود فقال مثل ذلك، والثاني: يفرقها بنفسه أولى، وإن كان جائرًا في الزكاة وغيرها أو جائرًا في الزكاة عادلًا في غيرها لا يجوز دفعها إليه وتفريقها بنفسه فإن دفعها إليه لم يجز، لأنه لم يصل إلى المستحق وهذا حسن. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4/ 241)، وأحمد (1/ 384)، والبيهقي في "الكبرى" (16615). (¬2) انظر الحاوي للماوردي (3/ 186).

باب ما يسقط الصدقة عن الماشية

فرع إذا قلنا بقوله القديم: فلم يبعث الإمام الساعي أو لم يقدر على الإمام يجب على رب المال أن يفرقها بنفسه وهو المذهب، لأنه حق الفقراء والإمام نائبهم [93 أ/4] فإذا ترك النائب قبض الحق لا يجوز أن يترك أداءه، ومن أصحابنا من قال: أنه يتوقف حتى يطالبه الإمام لأنه مال حق القبض فيه إلى الإمام فإذا لم يطلبه الإمام لم يفرق هو كالخراج. فرع إذا علم الإمام أنه لا يؤدي الزكاة فقاتل فقتل إنما يقاتل لأن الزكوات كلها كانت تحمل إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن عثمان فرض إلى أرباب الأموال باجتهاده فإذا ظهر منهم التقصير كانت له المطالبة، وقيل: لأن الزكاة حق الله تعالى وهو نائب الله تعالى ويتفرع على هذا أنه لو كان عليه كفارة أو منذور فامتنع من الأداء هل يطالبه الإمام وجهان مبنيان على هاتين العلتين. باب ما يسقط الصدقة عن الماشية قال: روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: "في سائمةِ الغنمِ زَكَاةٌ" (¬1). وهذا كما قال: السائمة هي الراعية وسميت سائمة لأنها تسوم أي: ترعى فكل ماشية يجب الزكاة فيها لا تجب إلا إذا كانت سائمة للذر والنسل فإن كانت للعمل كالنواضح ونقل المتاع من بلد إلى بلد فلا زكاة فيها، كما يجب في السائمة، وقال داود في معلوفة الغنم لا يلزم الزكاة، وفي معلوفة الإبل والبقر يجب الزكاة لأن النبي صلى الله عليه وسلم [93 ب/4] خص الغنم وهذا غلط، لما ذكر الشافعي من الخبر وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في سائمة الغنم زكاة" فدل على أنه لا زكاة في غير السائمة وهذا استدلال منه بمفهوم الخطاب واحتج بالأثر فقال: روي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه ليس في البقر والإبل العوامل صدقة" (¬2)، ومن أصحابنا بخراسان من قال: أراد به إذا كانت العوامل معلوفة فإن كانت سائمة يلزم فيها الزكاة لأن منفعتها أكثر فكانت أولى بوجوب الزكاة فيها وهذا خلاف ظاهر نص الشافعي، لأنه قال: فإن كانت معلوفة أو مستعملة فلا زكاة فيها، فأفردهما وهو قول أهل العراق أجمع ودليل ذلك أن نماء الرعي للذر والنسل لا يتم إذا كانت مستعملة، وإن لم تكن معلوفة فلا زكاة ثم أن المزني فصل بهذا الأثر قوله: حتى تكون سائمة فوهم أنه ن جملة الأثر وليس كذلك بل هو من كلام الشافعي وهو أنه ذكر هذا الأثر في البقر والإبل عطف عليه فقال: وكذلك الغنم لا صدقة فيها حتى تكون سائمة فأخل المزني بالاختصار كما بيناه، ثم بين ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3/ 372)، وأبو داود (2/ 97). (¬2) أخرجه الدارقطني (2/ 103) عن ابن عباس.

الشافعي النكتة المفرقة بين السائمة والمعلوفة فقال (¬1): والسائمة الراعية [94 أ/4] وذلك أن يجتمع فيها أمران إن لا يكون لها مؤنة في العلف ويكون لها نماء الرعي فتجتمع قلة المؤنة وكثرة النما لأنهما سببًا وجوب الزكاة التي هي مواساة، وإذا علفت فالعلف مؤنة يحيط بفضلها، وقال في "المختصر الكبير": يحيط بكلها أو بعضها أي: العلف ربما يحيط بجميع نمائها وربما يحيط ببعض نمائها فيخرج به عن احتمال المواساة ثم رجح ذلك بقوله، وقد كانت النواضح على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم خلفائه فلم أعلم أحدًا روى أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ منها صدقة ولا أحذًا من خلفائه ثم في آخر الباب رجع إلى الرد على مالك أيضًا فقال: من مذهب مالك أنه لا زكاة في الذهب والورق إذا كانت مصوغة عن جهة النماء مع قوله صلى الله عليه وسلم في الرقة ربع العشر (¬2)، فجاز أن لا يلزم الزكاة في المعلوفة مع قوله صلى الله عليه وسلم في أربعين شاة، وفي خمس من الإبل شاة (¬3). إذ لا فرق بينهما، وأما قول داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الإبل السائمة: "في كل أربعين بنت لبون" (¬4). مسألة: قال (¬5): وإن كانتِ العَوَامِلُ تَرعَى مُدَّةً وتَترُك أُخرى. الفصل وهذا كما قال: الكلام الآن في [94 ب/4] العلف الذي يسقط به حكم السوم وينقطع به حكم الحول اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق: إذا علف اليوم واليومين لا يسقط الزكاة فاعتبر العلف في مدة لو لم يعلف فيها لتلفت وذلك ثلاثة أيام فأكثر، ومن أصحابنا من قال: قليل الزمان وكثيره فيه سواء قصد المالك أو علفه الغير ليلة من غير علمه لظاهر قول الشافعي، وهذا لأن السوم شرط في وجوب الزكاة فإذا عدم في قليل المدة أو كثيرها سقط حكم الحول كالنصاب والأول هو المذهب الصحيح، ومن أصحابنا من قال: إذا علفها دفعنة ونوى القطع انقطع الحول نص عليه في الأم، وقد قال: في موضع آخر: لا زكاة حتى يسميها دهرها وهذا لأن النية قارنت الفعل المسقط للزكاة فسقطت، وإن قل الفعل ذكره القاضي أبو علي البندنيجي وهذا غريب، ومن أصحابنا بخراسان من قال: ينظر إلى أكثر الحول فإن علف في أكثر الحول سقطت وإلا فلا، وهذا ليس بشيء ويحكى هذا عن أبي حنيفة. فرع لو كان الرعي يكفيها ولكنه يعلفها أيضًا لا يتغير حكمها به، وإن كان الرعي لا ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 217). (¬2) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (7518). (¬3) أخرجه البخاري (1454)، وأبو داود (2/ 98)، والدارقطني (2/ 16)، والحاكم (1/ 393). (¬4) أخرجه أحمد (5/ 2، 4)، والنسائي (5/ 15)، وابن خزيمة (2266)، والحاكم (4/ 389)، والبيهقي في "الكبرى" (7390). (¬5) انظر الأم (1/ 218).

باب المبادلة بالمشاشية

يكفيها يتغير حكمها بالعلف، وقد ذكر القفال: أنه لو كان يسرحها كل يوم وأراد ردها بالليل إلى المراح فألقي إليها [95 أ/4] شيئًا من العلف لا ينقطع الحول وأراد به ما ذكرت ثم اعلم أن بعض أصحابنا قال: معنى لفظ المختصر وإن كانت العوامل ترعى مرة وتترك أخرى عن الرعي فتعلف وهذا خطأ، بل معناه وتترك أخرى عن الرعي فتستعمل، وإن لم يعلف بدليل أنه عطف عليه قوله أو كانت غنمًا تعلف في حين وترعى في أخرى وحكم في هاتين المسألتين بأنه لا زكاة تغليبًا للعطف على الرعي والاستعمال على السوم. مسألة: قال (¬1): "ولا صَدَقَةَ في خيلٍ". الفصل وهذا كما قال: عندنا أنه لا صدقة في الخيل إلا أن تكون للتجارة، وبه قال عمر وعلي ابن عمر رضي الله عنه، وأما مالك والليث والأوزاعي وسفيان الثوري وأبو يوسف وعمر بن عبد العزيز وعطاء والنخعي والشعبي والحسن وأحمد وإسحاق ومحمد رحمهم الله، وقال أبو حنيفة رحمه الله: يلزم في إناثها وإناثها وذكورها إذا اجتمعت ولا زكاة في ذكورها إذا انفردت وبه قال حماد، ثم هو بالخيار إن شاء أخرج عن كل فرس دينارًا أو عشرة دراهم، وإن شاء قومها وأخرج ربع عشر قيمتها، وقد قال الشافعي (¬2): لا زكاة بدلالة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك وأراد بالسنة ما رواه وهو قوله صلى الله عليه وسلم "عفوت [95 ب/4] لكم عن صدقة الخيل والرقيق" (¬3)، وقال علي رضي الله عنه قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تجوّزنا لكم عن صدقة الخيل" (¬4) وروي: "قد تجاوزت لكم عن صدقة الخيل" (¬5) وقال يزيد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخيل فيها شيء، قال: "لا إلا ما كان منها للتجارة" وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة" (¬6)، وروي في خبر آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في الجارة ولا في الثجة ولا في الكسعة صدقة" (¬7) والجارة الخيل والثجة الدقيق والكسعة الحمير لأنها تقتني للزينة والتجمل لا للنماء كالبغال. باب المبادلة بالمشاشية قال (¬8): وإذا بادَلَ إبٍلًا أو غَنَمًا بغَنَمٍ. ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 218). (¬2) انظر الأم (1/ 218). (¬3) أخرجه أحمد (1/ 21، 45)، وأبو داود (1574)، والترمذي (620)، والنسائي (5/ 37)، وابن ماجه (1790). (¬4) أخرجه الشافعي في "المسند" (637)، والبيهقي في "الكبرى" (6/ 327). (¬5) أخرجه الحميدي (54)، وابن أبي سيبة (3/ 152)، وعبد الرزاق (6880). (¬6) أخرجه البخاري (3/ 383)، ومسلم (7/ 55. نووي). (¬7) أخرجه الطبراني في "الصغير" (1/ 67). (¬8) انظر الأم (1/ 219).

الفصل وهذا كما قال: كل مال يجب في عينه الزكاة كالإبل والبقر والغنم، والأثمان فبادله بنصاب يجب فيه الزكاة استأنف الحول سواء كانا جنسًا واحدًا إبلًا بإبل أو بقرًا ببقر أو جنسين كإبل ببقر أو بقر بغنم أو ذهب بفضة، وقال أبو حنيفة: إن كان ذلك ي الأثمان لا يستأنف الحول، وإن كان في غير الأثمان استأنف الحول وهذا على أصله أن وجوب الزكاة في الأثمان في معانيها لا في أعيانها ولهذا [96 أ/4] قال يضم الذهب إلى الفضلة، وقال مالك: إن بادل جنسًا بجنس آخر يستأنف الحول، وإن بادل جنسًا بجنسه يبنى على الحول الأول وهذا غلط، لأنه بادل ما يجب الزكاة في عينه بما تجب الزكاة في عينه فوجب أن يستأنف الحول قياسًا على موضع الوفاق ولو بادل بعض النصاب بمثله حتى كان الباقي في ملكه أقل من النصاب انقطع الحول، وقال أبو حنيفة: لا ينقطع الحول بناء على أصله أن نقصان النصاب في خلال الحول لا يضر وأن المستفاد يبني على حول الأصل. فرع اختلف أصحابنا في مال الصيارفة فمنهم من قال يستأنفون الحول كلما بادلوا دراهم بدنانير وهو الصحيح، ونص في "الأم": على استئناف الحول ولم يفرق بين الصيارفة وغيرهم، وقال ابن سريج في هذا بشروا الصيارفة في أنه لا زكاة عليهم والتعليل ما ذكرناه ويؤكده أن الحلاب إذا اشترى بدراهم أربعين شاة استأنف الحول، وإن كان ذلك عارية لا يختلف المذهب فيه ومنهم من قال: لا ينقطع حولهم بالمبادلة لأن مقصودهم التجارة، فالنقود في حقهم كالعروض للتجارة لسائر الناس، قال في "الشامل": وهذا ظاهر المذهب وهذا غلط، لأنا لو أوجبنا الزكاة هاهنا بحول الأصل يوجب في عين المال [96 ب/4] بخلاف مال التجارة، وقال القفال وأبو حامد: هذا مبني على أصل وهو أنه إذا اجتمعت زكاة العين وزكاة التجارة هل تغلب زكاة العين أم زكاة التجارة قولان فإن قلنا: يغلب زكاة التجارة فلا ينقطع الحول هاهنا، لأن حول التجارة لا ينقطع بالمبادلة، وإن قلنا: تغلب زكاة العين ففيه وجهان، إحداهما: ينقطع، والثاني: لا ينقطع لأنه عدم بالمبادلة شرط زكاة العين وهو دوام الملك في العين حولًا كاملًا فصار إلى زكاة التجارة كما لو كان له ثلاثون من الغنم للتجارة وبلغت قيمتها نصابًا يجب زكاة التجارة قولًا واحدًا والله أعلم. مسألة: قال (¬1): وأكرَهُ الفِرَارَ منَ الصَّدَقَةِ. وهذا كما قال: إذا قارب تمام الحول أو لم يقارب فأراد أن يسقط الزكاة عن نفسه ببيعه فهذا فرار من الصدقة فيكره ذلك فإن فعل فالبيع صحيح ولا يكون عاصيًا به، ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 219).

وقال مالك وأحمد: هو محرم ولا يسقط فيه الصدقة وهذا غلط، لما قال الشافعي، وإنما تجب الصدقة بالملك والحول لا بالفرار يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" وهذا المال بعد المبادلة لم يحل عليه الحول، وإن لم يقصد به الفرار بل كله أو بعضه بحاجة من قضاء دينه أو أهداه لم يكره [97 أ/4] ولا زكاة بلا إشكال. مسألة: قال (¬1): "ولو رَدَّ إحداهما بعيبٍ قَبْلَ الحَوْلٍ". الفصل وهذا كما قال: المبادلة في الحقيقة هي بيع يثبت فيه الرد بالعيب فإذا تراد بعيب أو غيره استأنف كل واحد منهما حوله من ذلك الوقت لتبدل الملكين وهذا لأن الرد بالعيب هو فسخ في الحال، وليس بدفع للعقد من الأصل، وقال أبو حنيفة: إن رد بالعيب وإن وجد العيب بعد تمام الحول فإن كان أخرج الزكاة من غيرها كان له الرد بالعيب قولًا واحدًا سواء قلنا: إن الزكاة في الذمة أو قلنا: إنها في العين ومن أصحابنا من قال: فيه وجه آخر: أنه لا يرد إذا قلنا: إن الزكاة في العين لأنه زال ملكه ثم عاد الملك بأداء الزكاة من غيرها كما لو اشترى وباع ثم ملك ثم وجد عيبًا قديمًا لا يرد في أحد الوجهين وهذا لا يصح، لأنه استدرك الظلامة بالبيع ولم يستدرك هاهنا، وقد تحقق زوال الملك هناك حتى لا يعود إلا بالرضا من آخر أو بسبب يوجب الملك وهاهنا لا يتحقق لأن له أداء الزكاة من موضع آخر، وقال القفال: إن قلنا: إنَّ الزكاة في الذمة أو تتعلق بالعين تعلق الجناية فله الرد كما لو رهنه ثم فكه ثم وجد به عيبًا آخر أو جنى العبد ففداه السيّد ثم وجد به عيبًا [97 ب/4] فله الرد فإن قلنا: على معنى الشركة ففيه وجهان، إحداهما: الرد لأن هذه الشركة لا تتحقق على ما ذكرنا، والثاني: لا يرد لأنه زال ملكه عن شاة لا بعينها ثم عاد ملكها، ومن أصحابنا بخراسان من قال: وإن قلنا: يتعلق تعلق الجناية وجهان أيضًا، لأن في مسألة الجناية وجهين وهو ضعيف، فإذا قلنا: يرد رد الكل واستأنف الحول فيما عاد إليه وإذا قلنا: لا يرد شيئًا هاهنا قولًا واحدًا سواء قلنا: الصفقة تفرق أو لا تفرق لأن التي سقط ردها بالعيب غير متعينة فلا يمكن رد ما عداها ويمتنع الرد في الكل، ومن أصحابنا من قال: يرد ما عدا الزكاة إذا قلنا: الصفقة تفرق وهو غلط ظاهر وإن كان قد أخرج الزكاة من عينها قال الشافعي: لم يكن له ردها ناقصة كما أخذه ويرجع بأرش العيب من أصل الثمن وهذا إذا قلنا: إن الصفقة لا تفرق، فأما إذا قلنا: إن الصفقة تفرق رد ما بقي بقسطه من الثمن فحصل قولان فإن اختلفا في قيمة التالف قال الشافعي القول قول البائع لأنه هو المأخوذ منه الثمن، قال الربيع: في قول آخر: إن القول قول المشتري لأنَّ الشيء تلف في يده فكان القول قوله، والأول أصح، وأجود فإذا قلنا: لا يرد يرجع [98 أ/4] ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 219).

بأرش العيب كما نص عليه هاهنا لأنه لحقه الضرر بالعيب والرد متعذر في الحال وهذا دليل لأحد الوجهين في مسألة اختلف فيها أصحابنا وهي أن الرجل إذا اشترى عبدًا ومات وخلف اثنين فوجدا بالعبد عيبًا فأراد إحداهما رد نصيبه بالعيب وأبى الآخر هل لمريد الرد وجهان، فإذا قلنا: ليس له ذلك هل يرجع بالأرش لهذا النص فإنه أثبت له الأرش مع توهم العود إلى ملكه، ومن أصحابنا من قال: إن تلفت الشاة في يد المساكين يرجع بالأرش، وإن كانت باقية لا ترجع بالأرش لأنه لا ييأس من الرد لتوهم رجوع الشاة المخرجة إلى ملكه فيتمكن من رد الكل وهذا اختيار كثير من أصحابنا، وإن لم يكن إخراج الزكاة أصلًا لا منها ولا من غيرها وأراد ردها ليس له ذلك لأن بعضها مستحق لغيره أو مرتهن بحق غيره كما لو رهن المبيع ثم وجد به عيبًا لا يرد وهو ظاهر "المختصر"، قال: لم يكن له ردها ناقصة عمَّا أخذه، ومن أصحابنا بخراسان من قال: إذا قلنا: إن الزكاة في الذمة له ردها لأنه ردها كما أخذ وهذا غلط، لما ذكرنا وأيضًا لا يؤمن أن يتعلق به الساعي فيأخذ منه الزكاة إذا لم يقدر على المشتري فهو عيب [98 ب/4] من هذا الوجه. فرع لو رضي البائع بها فردها عليه صح ويطالب الساعي المشتري بزكاتها لأنها وجبت عليه في ملكه نص عليه في "الأم" (¬1)، فإنه لم يقدر على المشتري قد ذكرنا. فرع آخر لو وجد عيبًا بعد الحول فبادر إلى إخراج الزكاة من غيرها عند ظهور العيب حتى يتخلص عن حق الغير ولم يتطاول الزمان هل له الرد فيه وجهان، إحداهما: يرد لقرب الوقت ووجود الرد عقيب العيب، والثاني: لا يرد لأن إخراج الزكاة هو اشتغال بغير الرد وهذا كله إذا كانت المبادلة صحيحة، فإن كانت المبادلة فاسدة فكل واحد منهما يزكي مال نفسه لأن ملكه لم يزل وهو قادر على انتزاعه من يد صاحبه، وإن كان قد سلم إليه ويخالف المغصوب لأنه محول دونه بيدٍ غالبةٍ، وقال أبو حنيفة: إذا باع وأقبض انقطع حول بناء على أصله أن البيع الفاسد يوقع الملك إذا اتصل بالقبض. فرع ذكره بعض أصحابنا بخراسان أنه لو أسامها المشتري بشرًى فاسد هل يلزم فيها الزكاة؟ وجهان: كالغاصب فإذا قلنا: يلزم هل يرجع على المشتري بها وجهان، بناء على الحلال إذا حلق شعر المحرم تلزم الفدية وهل يغرمها المحرم ثم يرجع بها على الحالق أم يطالب [99 أ/4] الحالق بها ابتداء قولان، وفي هذا نظر. مسألة: قال (¬2): ولو حَالَ الحوْلُ عَلَيْهَا ثمَّ بادَلَهَا أو بَاعَهَا. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 21). (¬2) انظر الأم (1/ 220).

الفصل وهذا كما قال: إذا كان له مال يجب الزكاة في عينه فباعه رب المال بعد وجوب الزكاة فيه هل يصح البيع في الكل أم في البعض؟ هذه المسألة هي مبنية على أصلين، إحداهما: أن تجب الزكاة وقد ذكرنا ذلك، والثاني: تفريق الصفقة فإذا جمعت بين ما يجوز بيعه وما لا يجوز بطل البيع فيما لا يجوز وهل يجوز في الباقي قولان، فإذا تقرر الأصلان رجعنا إلى المسألة فلا يخلو إما أن يبيع الكل أو يبيع البعض فإن باع الكل اختلف أصحابنا في ترتيب المسألة فقال ابن أبي هريرة: إن قلنا: إن الزكاة في العين لا تجوز في قدر الزكاة لأن المساكين ملكوا ذلك القدر فقد باع ملك الغير بلا إذن وهل يجوز في الباقي قولان، بناء على تفريق الصفقة فإذا قلنا: يفرق يجوز في الباقي، وإذا قلنا: لا يفرق لا يجوز في الباقي فإذا قلنا: يجوز فالمشتري بالخيار بين أن ينقص البيع لنقصانه وبين أن يجيزه فإن أجاز بكم نأخذ قولان إحداهما: بكل الثمن، والثاني: بحصته من الثمن وعلى هذا هل يثبت للبائع الخيار لانتقاض الثمن،؟ وجهان، وإن [99 ب/4] قلنا: الزكاة في الذمة فإن أخرج الزكاة من غيرها صح البيع في الكل وإن أخرجها منها بطل البيع في ذلك القدر وهل يبطل فيما عداه قولان، على ما قدمناه، وقال أبو إسحاق: إن قلنا: الزكاة في العين هل يصح البيع في قدر الزكاة قولان إحداهما: باطل لما ذكرنا وعلى هذا لو أخرج البائع الزكاة من غيرها لا يصح البيع لأنه ملكها من هذا الوقت فلا يصح البيع السابق الذي صادف ملك غيره وهل يصح البيع في الباقي؟ قولان، بناء على تفريق الصفقة. والثاني: وبه قال أحمد البيع جائز لأن المساكين لم يملكوا ملكًا مستقرًا وهو على ملك رب المال، ولهذا له أن يدفع إليهم حقهم من موضع آخر من غير رضى أحد فإن أدى الزكاة من غيره علمنا أن ملكه لم يزل عن شيء منه، وإن البيع صحيح ولا خيار للمشتري لأنه بمنزلة عيب وجده ثم ارتفع ذلك قبل فسخ البيع وهذا القول هو الذي نص عليه هاهنا، وإن قلنا: إن الزكاة في الذمة والعين مرهونة بها ففيه قولان مخرجان إحداهما: البيع في مقدار الزكاة باطل لأنه بمنزلة من باع شيئًا مرهونًا ثم قضي الدين لا يصح البيع حتى يجدده بعد فك الرهن، والثاني: أنه صحيح لأن حق المساكين [100 أ/4] تعلق بغير اختيار رب المال، فلا يمنع صحة البيع كبيع العبد الجاني يجوز في أحد القولين، وعلى هذا يكون موقوفًا فإن أدّى من غيره تم البيع وإن أدى من غيره بطل البيع في قدر الصدقة وهل يبطل في الباقي قولان، بناء على تفريق الصفقة فسّوى أبو إسحاق بين القول الذي يقول: الزكاة في العين والقول الذي يقول: الزكاة في الذمة في أن في إفساد البيع في قدر الزكاة قولين، وقال بعض أصحابنا: إذا جوّزنا البيع ثم أدى الزكاة من عينها أبو بطل البيع في مقدار الزكاة لا يبطل في الباقي قولًا واحدًا لأن هذا فساد طرأ بعد صحة العقد والفساد الطارئ بعد القبض هل يجعل في حكم الفساد الموجود عن العقد وجهان، فإن قلنا: لا يجعل يصح البيع هاهنا في الباقي قولًا

واحدًا، ومن أصحابنا بخراسان من قال: في محل الزكاة طريقان إحداهما: قولان إحداهما: تجب في الذمة ولها تعلق بالعين، والثاني: يتعلق بالعين وفي كيفيته ثلاثة أقوال، أحدها: على معنى الشركة، والثاني: كتعلق الجناية، والثالث: كتعلق حق المرتهن بالرهن، والطريقة الثانية ذكرها ابن سريج قول واحد يتعلق بالعين وفي كيفيته قولان، فإما أن تجب في [100 ب/4] الذمة فليس بمذهب الشافعي هذا إذا كانت الزكاة من جنس المال فإن كانت من جنس آخر كالشاة في خمس من الإبل فإن قلنا هناك أنها تجب في الذمة فهاهنا أولى وإلا فقولان فإذا قلنا: في الذمة فبيع كل المال لصح وللمشترى الخيار فلو أخرج رب المال الزكاة من موضع آخر هل يسقط خياره قولان، إحداهما: يسقط لأنه لم يزل ملكه. والثاني: لا يسقط لأنه يقول لا آمن أن أخرج ما أخرج مستحقا فيرجع إلّي الساعي ويأخذ من الواجب وإن قلنا يتعلق بالعين على معنى الشركة بطل البيع في قدر الزكاة قولًا واحدًا وهل يبطل في الباقي قولًا تفريق الصفقة إلا أنَّ الصحيح هاهنا أنَّ يبطل في الباقي قولًا تفريق الصفقة إلى أنَّ الصحيح هاهنا أنَّ يبطل في الكل لأن الواحد المستحقة هي غير متعينة، وإن قلنا: كتعلق أرش الجناية هل يصح البيع في قدر الزكاة قولان، كبيع العبد الجاني فإذا قلنا يصح له الخيار فلو أخرج من موضع آخر هل يسقط خياره قولان، على ما ذكرنا. وإن قلنا كتعلق حق المرتهن لا يصح البيع في قدر الزكاة قولًا واحدًا وهل يبطل في الباقي على ما ذكرنا وهذا كله في المواشي فأما المعشرات فكل موضع أجزنا البيع في المواشي فهاهنا أولى وكل موضع أبطلنا البيع هناك فهاهنا قولان بناء على التعليلين [101 أ/4] في منع تفريق الصفقة فإن قلنا: العلة أن اللفظة الواحدة جمعت حرامًا وحلالًا فغلب الحرام لا يجوز هاهنا أيضًا في الكل وإن قلنا إن العلة أنه يؤدي إلى جهالة الثمن حالة العقد يجوز هاهنا لأن ما يقابل قدر الزكاة من الثمن معلوم وهو العشر فإن الأجزاء لا يختلف ثمنها. فرع لو وجبت الزكاة في ماله فباع بعضه فإن قلنا بيع الكل يجوز فهاهنا أولى أن يجوز وإن قلنا لا يجوز هناك فهاهنا وجهان، إحداهما: يجوز لأن قدر الزكاة غير مبيع. والثاني: لا يجوز لأن حق المساكين متعلق بكل المال وشائع فيه لا يختصر ببعض دون بعض كحق الجناية يشيع في رقبة العبد وهذا أصح عندي. فرع آخر لو وجبت الزكاة في أربعين شاة فقال بعتك هذه الأربعين إلا شاة منها ولم يشر إليها فإن اختلفت الشياه فالبيع باطل للجهل وإن تساوت في الأسنان وتقاربت في الأوصاف ففيه وجهان، إحداهما: يجوز البيع لأنَّها إذا كانت بهذا الوصف شابهت الحبوب. والثاني: وهو الأظهر لا يجوز لأنها تختلف في السمن والحبوب متماثلة الأجزاء. وهذان الوجهان هما مخرجان من اختلاف قولي الشافعي في جعل إبل الدية صداقا

ذكره في "الحاوي" (¬1). مسألة: قال (¬2): ولو [101 ب/4] قال أصدقها أربعينَ شاةٍ. الفصل وهذا كما قال إذا أصدق امرأته أربعين شاة معينة فقبضتها أو لم تقبضها فقد ملكتها بعقد النكاح ملكًا صحيحًا فإذا حال الحول عليها وهي في يدها أو في يده وجبت عليها فيها شاة، وقال أبو حنيفة لا زكاة في الصداق غير المقبوض لا عليها ولا على الزوج قبل الدخول ووافقنا أنه لو اشترى أربعين شاة فلم يقبضها حتى حال الحول وهي في يد البائع تجب الزكاة فيقيس عليه. ومن أصحابنا من قال في المبيع قولان كالمال المغصوب لأنه لا يتمكن من التصرف فيه وهذا غلط لأنه يمكن التصرف فيه بدفع الثمن كالوديعة، فليس فيه إلا قول واحد وحكي عن القفال أنه قال: لا زكاة فيه قولًا واحدًا لأنه ناقص الملك فيه بدليل أنه لو تصرف فيه بإذن البائع أو أذن للبائع بالتصرف فيه لا يجوز بخلاف المغصوب فإنَّه لو أذن المالك الغاصب بالتصرف فيه يجوز، وكذلك لو باعه ممن تقدر عليه يجوز وهذا خلاف النص. فإذا تقرر هذا فلو طلقها قبل الدخول بها رجع عليها بنصف الغنم فإن كانت المرأة أخرجت الشاة من غيرها رجع بنصفها قولًا واحدًا. فإن قيل: قلتم إذا وهب لابنه شيئًا فخرج عن ملكه ثم عاد إليه [102 أ/4] ملكها لما أخرجت الزكاة من غيرها قيل: هاهنا لو قلنا لا يرجع بنصفها فلا حاجة أن يرجع بنصف قيمتها والعين أقرب إلى حقه من القيمة لأن طريق القيمة هو الاجتهاد وقد يخطئ المجتهد ويصيب فكانت العين أولى وليس كذلك الواهب لأنَّه إذا لم يرجع لم يحتج أن يرده إلى القيمة فافترقا، ولأن حق الزوج في الرجوع لأنه لو تلفت العين لا يسقط حقه وحق الوالد يسقط بالتلف فافترقا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا قلنا تتعلق الزكاة على طريق الشركة هل يبطل حقه من العين وجهان، بناًء على ما لو زال ملكها ثم عاد الملك إليها ثم طلقها هل ترجع بنصف العين وجهان، ألا أن الشاة التي أعادها إلى ملكه غير متعينة فأحد الوجهين حقه في نصف قيمة الكل. والوجه الثاني: حقه في نصف العين باق وإن أخرجت الشاة منها فبماذا يرجع عليها، فاعلم أن الشافعي قال: في رجل أصدق امرأته عبدين فهلك إحداهما ثم طلقها بماذا يرجع قولان، إحداهما: يرجع بالموجود ويكون التالف من ملكها. والثاني: نقله الربيع أنه يأخذ نصف الموجود ونصف قيمة التالف. وقال لو أصدقها إناءين فانكسر إحداهما [102 ب/4] ثم طلقها قبل الدخول فيه قولان، إحداهما: يأخذ نصف الموجود ونصف قيمة التالف أو يرد ويأخذ نصف القيمة من الموجود والتالف، فحصل في مسألتنا ثلاثة أقوال: أحدها: يرجع الزوج بعشرين شاة وهو ظاهر النص هاهنا وهذا إذا كانت قيمة الشياه متساوية، فأما إذا تفاوتت فإنه يرجع بنصف الشياه من الموجودة على التقسيط ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (3/ 199). (¬2) انظر الأم (1/ 220).

باب رهن الماشية

بالقيمة. والثاني: يرجع بتسع عشرة شاة ونصف شاة ونصف قيمة شاة وهي التي أخرجتها لأن الصداق كله لو كان موجودًا لأخذ نصفها، ولو كان مفقودًا كله لأخذ نصف قيمتها فإذا كان بعضه موجودًا وبعضه تالفًا يكون حكم كل واحد منهما كما لو انفرد. والثالث: أنه بالخيار بين أن يرجع بنصف قيمة الجميع ويترك الكل أو يرجع بنصف الموجود من الشياه ونصف قيمة التالف لأنه قد مضت الصفقة عليه فكان الخيار وإن طلقها ولم يكن أخرجت الزكاة منها ولا من غيرها واقتسماها نصفين فإن قلتا إن الزكاة استحقاق جزء من العين فهي بمنزلة المال بين ثلاثة شركاء اقتسمه شريكان دون الثالث فلا تصح القسمة فعلى هذا يصير كأنهما لم يقتسما ويصير الحكم موقوفًا على أداء الزكاة منها أو من [103 أ/4] غيرها على ما بيناه. وإن قلنا إن الزكاة تجب في الذمة والمال مرهون بها فالقسمة صحيحة لأن قسمة المال المرهون تصح إذا لم يدخل بها ضرر على المرتهن وليس على الفقراء ضرر في ذلك فإذا جاء الساعي أخذ من نصيب المرأة لأنها وجبت عليها فإن لم يجد في يدها شيئًا ووجد في يد الزوج ما أخذه فإنه يأخذ منه شاة لأن الجميع كان مرهونًا به، فإذا أخذها فهل تبطل القسمة وجهان، إحداهما: لا تبطل وهو الصحيح لأن هذا الاستحقاق طارئ بعد القسمة الصحيحة فعلى هذا يرجع الزوج عليها بقيمة الشاة. والثاني: تبطل القسمة لأنه استحق ذلك بسبب سابق فيصير الاستحقاق حال القسمة فتبطل القسمة ويصير كأنه وجد تسع عشرة شاة. فالحكم على ما ذكرنا ولو طلقها قبل الدخول قبل عام الحول ولكن لم يقتسما حتى تم الحول فعليها نصف شاة لأن ما بقي بها كان مخالطًا في بعض الحول بملكها وفي البعض بملك الزوج. والزوج يستأنف حولًا من يوم عاد إليه النصف بالطلاق، وهكذا لو أصدقها نصابًا من سائر ما يجب في عينه الزكاة. فرع لو أصدقها أربعين شاة بغير أعيانها لا صدقة عليها لأنه لا زكاة [103 ب/4] في الحيوان إلا بشرط السوم وذلك لا يوجد فيما في الذمة. ولو أصدقها نصابًا من النقد فحال الحول وجبت الزكاة عليها لأنه يثبت في الذمة على الوصف الذي يجب فيه الزكاة فكان كالغير. باب رهن الماشية قال: ولو رَهَنَ ماشِيةً وجَبتْ فيها الزَّكَاةُ. هل يصح الرهن في مقدار الزكاة؟ فعلى قول أبى إسحاق قولان: سواء قلنا: أن الزكاة تتعلق بالعين أو بالذمة. وعلى قول ابن أبي هريرة: إن قلنا: إنها تتعلق بالعين لا يصح الرهن، وإن قلنا: إنها تجب في الذمة فإن أخرج الزكاة من غيرها جاز الرهن وإن أخرجها منها بطل الرهن في قدر الزكاة وقيل يبطل في الباقي. إن قلنا: إن الصفقة تفرق لا يبطل في الباقي وإن قلنا: لا تفرق، فإن قلنا: إن العلة الواحدة جمعت حرامًا.

وحلالًا بطل الرهن في الكل ولا فرق بينه وبين البيع، وإن قلنا: إن العلة في جهالة الثمن فلا يكون في الرهن ثمن فيصح عقد الرهن في الباقي، فحصل هاهنا على أحد القولين قولان، فإذا قلنا الرهن صحيح في الكل نظر فإن كان للراهن مال غيرها كلف إخراج الزكاة من غيرها حتى يسلم للمرتهن جميع الرهن [104 أ/4] وتجري الزكاة مجرى مؤن الرهن فكما أن سائر المؤن على الراهن فكذلك الزكاة عليه يخرجها من سائر ماله، وقيل يؤخذ من الرهن وإن لم يكن له مال غيرها فإن الزكاة تؤخذ من الرهن. فإذا أخذت منه انتقص الرهن فيه والباقي يكون رهنا بحالة، وإذا قلنا: إن الرهن باطل في الكل فإن كان الرهن في عقد البيع هل يبطل البيع قولان، إحداهما: يبطل. والثاني: لا يبطل ولكن للبائع الخيار إن شاء أجاز البيع بلا رهن وإن شاء فسخ البيع لأنه لم يسلم له ما شرط من الرهن. وإذا قلنا الرهن باطل في قدر الزكاة فالحكم على ما بيناه إذا كان الرهن باطلًا في الكل إلا أنا إذا جوزنا البيع نخيره بين أن يفسخ البيع وبين أن يجيزه بما بقي من الرهن. ومتى أثبتنا له الخيار في فسخ البيع فأدى الزكاة من موضع آخر هل يبطل الخيار. قال القفال: إن قلنا: إنه يتعلق بمعنى الشركة لا يبطل خياره وإن قلنا بمعنى الجناية أو بالذمة سقط خياره وإن كان الرهن بدين في الذمة فبطلانه أنه لا يؤثر في الدين بحال. مسألة: قال (¬1): ولو حالَ عليها حَوْلٌ وجَبَتْ فيها الصَّدقَةُ. وهذا كما قال إذا رهنها قبل وجوب [104 ب/4] الزكاة ثم تم الحول في يد المرتهن وجبت الزكاة فيها لأن الرهن لا يمنع وجوب الزكاة وهذا على القول المشهور أن الدين لا يمنع وجوب الزكاة. ثم إن كان له مال غيرها فإن قلنا الزكاة هي استحقاق جزء من العين فالزكاة مقدمة على حق المرتهن لأن حق المرتهن يتعلق بالذمة والمال مرهون به فاختصاص الزكاة بالعين أكثر فكانت مقدمة. وإن قلنا: إن الزكاة تتعلق بالذمة والمال مرهون بها فهنا استويا في كيفية التعلق بالعين فاختلف أصحابنا فيه منهم من قال: حق المرتهن معدوم لأنه سابق، ومسألة الأقاويل إذا لم يكن حق الآدمي سابقًا فأما إذا كان سابقًا فله مزية فيقدم، وقال في "الإفصاح": فيه ثلاثة أقاويل، أحدها: يقدم حق الله تعالى. والثاني: يقدم حق الآدمي. والثالث: يقسط على قدر الحقين كالدينين لآدميين. قال ويدل على هذا أن الشافعي قال في "الأم" فإن حلت الصدقة ولم يؤخذ له مال كان فيها قولان، إحداهما: تباع الإبل فيأخذ صاحب الرهن حقه فإن فضلا منها فضل أخذت منه الصدقة وإلا كان دينًا عليه حتى أيسره أدّاه. والثاني: يبعث في الصدقة وكان لمرتهنها الفضل [105 أ/4] عن الصدقة وبهذا أقول هذا لا يجوز أن يكون إلا على القول الذي يقول الزكاة في الذمة فإذا ذكر الشافعي فيه قولين وجب أن يذكر القول الثالث في حق الله تعالى وحق الآدمي إذا اجتمعا أنهما سواء وأما سائر ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 222).

باب زكاة الثمار

الغرماء لا يشاركون المرتهن ولا الزكاة في هذه العين لأن حقوقهم لا تتعلق بها. فرع إذا كان معسرًا فأدى الزكاة من عين المرهون ثم استفاد مالًا هل يغرم الراهن للمرتهن ويكلف أن يأتي بقدر الزكاة فيجعله رهنًا مكان ما أخرج؟ فإن قلنا: الزكاة في الدَّية والمال خالٍ أو المال كالمرهون فيلزمه بدله ويكلف ذلك لأن حق المرتهن أسبق وإن قلنا في العين ففيه وجهان كالوجهين في الزكاة إذا أخرجت من مال القراض يحسب ذلك من الربح كسائر مؤن المال أو يحسب ذلك على رب المال حتى يجعل كأنه استرد طائفة من المال فإن قلنا: من الربح لم يكلف الراهن هاهنا عوضًا وإن قلنا: على رب المال فها هنا يكلف ذلك وكذلك إن قلنا: الزكاة تلزم على الشركة أو هي لحق الجناية لا يغرم بدله لأن حق المال والجناية يتقدم على الرهن، ثم قال الشافعي (¬1): فإن كانت إبلًا فريضتها من الغنم بيع منها [105 ب/4] فاستوفيت صدقتها يعني من الغنم وهذا دليل على أنه لو أراد أن يتبرع فيعطي منها بعيرًا فإنه لا يجوز لتعلق حق المرتهن بها ثم قال وكان ما بقيت رهنًا أي: ما فضل عن ثمن البعير المبيع رهن بجميع الحق مع الباقي من الرهن ثم قال: وما نتج منها خارج من الرهن وأراد به خلاف قول أبي حنيفة: فإن عنده أن ولد المرهون رهن وموضعه كتاب الرهن، ثم قال: ولا تباع ما خص منها حتى تضع إلا أن يشاء الراهن لأن الحق في ذلك له وهذا أيضًا هو من كتاب الرهن وجملته أن في الحمل قولين، إحداهما: أنه يجري مجرى السن لا يأخذ قسطًا من الثمن. والثاني: أنه يجري مجرى الزيادة المنفصلة يأخذ قسطًا من الثمن. فإذا قلنا بالأول يباع في حق المرتهن، وإذا قلنا بالثاني ينظر فيه إن كان قد رهنها حائلًا ثم حملت عنده لا تباع حتى تضع إلا أن يشاء المرتهن لأن استثناء الحمل لا يمكن وبيعه لا يجوزه لأنه لم يدخل في الرهن وإن كان قد رهنها حاملًا فالحمل دخل في الرهن ووجب بيعه مع الأم في حق المرتهن فخرجت من هذا أربع مسائل، مسألتان لا يختلف القول فيهما وهو إذا رهن وهي حامل [106 أ/4] وحل الحق وهي حامل تباع مع الحمل قولًا واحدًا. وإذا أحبلت بعد الرهن وولدت ثم حل الحق فالولد لا يباع في حقه قولًا واحدًا ومسألتان فيهما قولان إذا رهن وهي حامل وولدت، وإذا رهن وهي حائل وحل الحق وهي حامل ففيها قولان. باب زكاة الثمار قال (¬2) أخبرنا مالكُ بن أنس ..... الخبر. وهذا كما قال الأصل في وجوب الزكاة في الثمار، الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ} إلى قوله {وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 222). (¬2) انظر الأم (1/ 222).

وأما السنة: فما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما سقت السماء ففيه العشر" (¬1)، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليست فيما دون ستة أوسق من التمر صدقة". وأما الإجماع: فلا خلاف فيه فإذا تقرر هذا فلا يجب العشر فيها ما لم يبلغ نصابًا والنصاب خمسة أوسق من التمر لا من الرطب. فإذا بلغ قدرًا إذا شمس يكون مشمسه خمسة أوسق، فقد وجب النصاب ولا يعتبر أن يبلغ ذلك حال وجوب الزكاة لأنها تجب ببدو الصلاح وفي الزرع بالاشتداد بل يعتبر أن يبلغ ذلك حالة الادخار، والوسق ستون صاعًا هكذا روى أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم [106 ب/4] أنه قال: "ليس فيما دون خمسة أوساق صدقة، والوسق ستون صاعًا" (¬2) فتكون خمسة أوسق ثلثمائة صاع كل صاع أربعة أمداد يكون ألفا ومائتي مد والمد رطل وثلث فيكون ألفا وستمائة رطل ويكون ثمانمائة منًا بالبغدادي فإن نقص عن ذلك فلا زكاة وبه قال ابن عمر وجابر رضي الله عنهما ومالك والليث والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: لا يعتبر النصاب في المعشرات أصلًا ويجب العشر في قليلها وكثيرها إلا أن فيما دون خمسة أوسق لرب المال أن يفرق عشره بنفسه ولا يدفعه إلى الإمام بخلاف ما إذا بلغ خمسة أوسق فإنه يلزمه دفع عشرها إلى الإمام. وقال داود: ما يوسق من مكيل أو موزون فلا زكاة فيه ما لم تبلغ خمسة أوسق وما لا يوسق يجب العشر في قليله وكثيره والدليل على أبي حنيفة ما ذكرنا من الخبر والدليل على داود أن ما لا يوسق لا تعظم منفعته فإنه لا يقتات فلا حق فيه ولو ثبت لكم الحق في بالدليل. واعتبر الوسق فيما يصف أعلى منه فلأن يعتبر فيما هو أدون منه أولى فإذا تقرر هذا هل هو بقريب أم تحديد اختلف أصحابنا فيه. قال أبو حامد: هذا الذي حققه أصحابنا من اعتبار الوزن معناه إذا وافق الوزن الكيل وكان كل صاع خمسة أرطال [107 أ/4] وقلنا بالبغدادي فأما ما يختلف كيله ووزنه مثل أن يكون التمر مكتنزًا .... (¬3) فيكون ألفا وستمائة رطل منه دون ثلاثمائة صاع فلا زكاة فيه ولو كان خفيفًا يكون ثلاثمائة صاع منه كيلًا دون ألف وستمائة رطل يلزم الزكاة فيه لأن الأصل فيه المكيل قال صلى الله عليه وسلم: "المكيال مكيال المدينة والميزان ميزان مكة" (¬4)، وهذا يدل على أنه على التقريب في الوزن وعلى التحديد في المكيل وهو اختيار القاضي الطبري، وهذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قدرها بخمسة أوسق ومقدارها كان معلومًا عندهم على ما ذكرنا فوجب تقديره بها كما وجب تقدير الدراهم بخمس أواق، ومن أصحابنا من قال: هو تقريب فإن نقص منه شيء يسير لم تسقط الزكاة، وهذا لأن الوسق حمل الناقة عندهم وتقدير حمل الناقة ستون ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1483)، وأبو داود (1596)، والنسائي (2488)، وابن حبان (3274). (¬2) أخرجه الدارقطني (2/ 98). (¬3) موضع النقط بياض بالأصل. (¬4) أخرجه أبو داود (3340)، والنسائي (5/ 7054/284)، والطبراني في "الكبرى" (12/ 393)، والبيهقي في "الكبرى" (4/ 170).

صاعًا على التقريب وهذا اختيار القفال ومشايخ خراسان ثم اعلم أنه روى عن النبي صلى الله عليه ولم أنه "نهى عن جداد الليل" (¬1) وهو صرام النخل ليلًا وهذا ليكون الصرام في النهار فينال الناس من ثمرها فيستحب ذلك، وحكي عن مجاهد والنخعي والشعبي أنهم قالوا تجب الصدقة من الزرع والثمار وقت الصرام والحصاد ثم يجب [107 ب/4] العشر بعد التصفية لقوله تعالى: {وآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، وهذا غلط لقوله صلى الله عليه وسلم "ليس في المال حق سوى الزكاة"، وأراد بالآية الزكاة والاستحباب. مسألة: قال (¬2): والخليطانِ في أصلِ النَّخلِ يُصدقانِ صَدَقَةَ الواحدِ. وهذا كما قال: إذا كان له أقل من النصاب قد ذكرنا أنه لا زكاة عليه فإن كانت له خلطة مع آخر وتم نصيبها نصابًا فقد ذكرنا في الخلطة فيما عدا المواشي قولين والمشهور ما ذكر هاهنا أنه يثبت حكمها في الزكاة فإذا تقرر هذا فرّع الشافعي على هذا مسألة: وهي أن الرجل إذا مات وخلف نخلًا فورثه ورثته واقتسموا الثمرة بعد وجوب الزكاة فنفرض المسألة فيه إذا مات وخلف اثنين ونخلتين فورثاهما حتى تتضح المسألة فإذا ورثا نخلتين وهما مثمرتان أو كانتا غير مثمرتين فأثمرتا فالثمرة مشتركة بينهما فإن قلنا: إن الخلطة لا تصح بكل واحد منهما يخاطب بالزكاة في حقه على الانفراد فإن نصيبه نصابًا زكاة وإلا فلا زكاة وإن قلنا: إن الخلطة تصح نظر فإن اقتسما قبل وجوب الزكاة في الثمرة وهو قبل بدو صلاحها سقط حكم الخلطة ويزكيان زكاة الانفراد وإن كانا خليطين فيما قبل كما [108 أ/4] لو كانت لهما أربعون شاة من الغنم في أول الحول ثم اقتسما قبل الحول لا زكاة على واحد منهما حتى بدا الصلاح في الثمرة نظر، فإن لم يبلغ قدر الثمرة خسمة أوسق لا زكاة، وإن بلغ خمسة أوسق ففيها الزكاة ثم القسمة هل تصح قبل إخراج الزكاة عنها على ما تقدم بيانه من البناء على القولين أنها استحقاق جزء من العين أو في الذمة من الموجود ورجع المأخوذ منه على شريكه بنصف ما أخذ منه وعلل الشافعي هذه المسألة فقال (¬3): لأن أول وجوبها كان وهم شركاء أراد أن وقت وجوب الزكاة في الثمار هو عند بدو الصلاح فتلك الحالة هي بمنزلة قولان جميع الحول في النقود والمواشي فإذا تقرر هذا فقد اعترض المزني على هذا فقال: هذا عندي غير جائز في أصله لأن القسم عنده كالبيع ولا يجوز بيع الثمرة جزافًا ومع الجذوع لا يضر وإنما يضر ذلك إذا انفردت الثمرة قلنا مذهب الشافعي أن تبيع الذهب مع عرض بعرض وذهب لا يجوز وكذلك التمر بالتمر وكل ما فيه الربا مع غيره لا يجوز وهاهنا تمر وجذع بثمر وجذع فلا يجوز وإنما قال عنده وقيد به لأن عن أبي حنيفة يجوز ذلك والجواز عن هذا إنما ذكره الشافعي على القول [108 ب/4] الذي يقول القسمة إفراز حق. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9/ 290)، والطبراني كما في "مجمع الزاوئد" (3/ 77، والخطيب في "تاريخه" (12/ 372). (¬2) انظر الأم (1/ 223). (¬3) انظر الأم (1/ 224).

والثاني: قال الشافعي في "الأم" (¬1) فاقتسماها قسمة صحيحة فحذف المزني صحيحة ثم اعترض عليه ومن حقه أن يستخرج وجه صحة القسمة لا أن يعترض, ولصحة هذه القسمة وجوه فإن كانت بعد بدو الصلاح تصح من وجوه أحدهما كانت إحدى النخلتين حائلًا والأخرى حاملًا فقال أحدهما لشريكه: بعتك نصيبي من هذه النخلة التي لا ثمرة عليها هو نصفها بنصيبك من جذع هذه النخلة وثمرتها لتكون هذه الحائل كلها لك والحاملة كلها لي, فأجابه إلى ذلك فإنه تصح لأنه اشترى النخلة بثمرتها بجذع نخلة حائلًا فصار كما لو اشتراها بدراهم, وإن كانت النخلتان حاملتين صحت القسمة من أربعة أوجه وتصورها في نخلتين شرقية وغربية, أحدها: أن يقول بعتك نصيبي من الشرقية وهو نصفها ونصف ثمرتها بخمسين درهمًا فقبل ذلك فيكون له على شريكه خمسون ولشريكه كل النخلة, ثم قال اشتريت منك نصيبك من الغربية وهو نصف النخلة ونصف ثمرتها بخمسين درهمًا ليكون لي كل الغربية, فإذا فعلًا ذلك حصل لأحدهما كل الشرقية بثمرتها وللآخر كل الغربية بثمرتها ولكل واحد منهما على صاحبه [109 أ/4] خمسون درهمًا يكون قضاها وصحت القسمة ولا يجب شرط القطع في ذلك لأن الثمرة بدا صلاحها. والثاني قال لشريكه: بعتك نصيبي من جذع الشرقية بنصيبك من ثمرة الغربية ليكون لي كل ثمرة الغربية ولك كل جذع الشرقية واشتريت منك نصيبك من جذع الغربية بنصيبي من ثمرة الشرقية لتكون الغربية وثمرتها لي والشرقية وثمرتها لك وذلك يصح أيضًا لأنه بيع ثمره بجذع بعد بدو صلاحها وهذا أصح الوجوه. والثالث: قال له بعتك نصيبي من جذع الشرقية بنصيبك من ثمرتها ليكون جذع الشرقية كله لك وثمرتها كله لي وثمرتها كلها لك فإنه يصح أيضًا لأن بيع ثمرة بجذعها. والرابع: لا يختلف مذهب الشافعي أنه يجوز بيع العرايا وهو بيع الرطب على رؤوس النخل خرصًا بتمر مكيل على الأرض ولا خلاف أنه يجوز خرص الثمار ليعلم قدر الزكاة فيها ويضمن أرباب الأموال نصيب المساكين بالخرص. واختلف قوله في قسمة الرطب على رؤوس النخل خرصًا على قولين, أحدهما: لا يجوز, والثاني: نص عليه في الصرف أنه يجوز, فنقول للمزني يجوز أن يكون الشافعي فرعًها على هذا القول. وأما بدو الصلاح فأولًا الكلام في بيع الثمرة قبل بدو صلاحها فينظر فإن باعها [109 ب/4] مفرجة عن النخل مطلقًا لا يجوز وإن كان بشرط القطع يجوز وإن باعها مع جذعها يجوز قولًا واحدًا وإن باعها ممن يملك جذعًا مطلقًا هل يجوز؟ وجهان, فإذا تقرر هذا فباع الحائل بالحامل ثمرها وجذعها يجوز وإن كانتا عاملتين فتبايعا بالدراهم يجوز أيضًا. وأما على الوجه الثالث: هل يجوز؟ فيه وجهان لأنه بيع الثمرة قبل بدو صلاحها من صاحب الجذع, وأما على الوجه الخامس: قسمتها خرصًا قبل بدو صلاحها هل يجوز؟ قولان أيضًا, وذكر القفال وجهًا آخر فقال: يقول زيد بعتك نصيبي ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 26).

من جذع الشرقية بنصيبك من ثمرها, ويقول عمرو اشتريته وذكر القطع فيجوز لأن شرط القطع في نصف الثمرة واجب وهو النصف الذي تناوله البيع وشرط القطع في النصف الثاني جائز وهو الذي لم يبع بيع جذعة فإذا حصل ذكر القطع في الكل لم يؤد إلى التعذر وهو قطع النصف ولا إلى المحال وهو أن يشترط على البائع قطع ماله مع الميبع ثم إذا فعلًا ذلك فالجذع بين هذه النخلة خلص لعمرو والثمرة خلصت لزيد ثم يقول عمرو لزيد في النخلة العربية بعتك نصيبي من جذعها بنصيبك من ثمرها ويذكر القطع [110 أ/4] أيضًا كما ذكرنا فيخلص جذعها لزيد وثمرتها لعمرو ثم إن شاءا تركاهما على ذلك وإن شاءا باع زيد بعد ذلك من عمرو كل ثمرة النخلة الشرقية بكل جذع النخلة الغربية بشرط القطع ويبيع منه عمرو كل ثمرة النخلة الغربية بكل جذع النخلة الغربية بشرط القطع ويبيع منه عمرو كل ثمرة النخلة الغربية بكل جذع النخلة الشرقية فيه ليخلص لزيد النخلة الغربية بأسرها ولعمرو كل النخلة الشرقية بأسرها. مسألة: قال: (¬1) وثمر النخل يختلف فثمر النخل تجد بتهامة وهي بنجد بُسر وبلح. الفصل وهذا كما قال إطلاع الثمار وإدراكها يختلف باختلاف البلدان والأنواع وإن كان المكان باردًا وهو من قيد إلى المدينة وهي بلاد نجد تأخر الإدراك والإطلاع وفي العراق ثمر النخل يتقدم بالبصرة لشدة الحر بها على ثمر النخل ببغداد واختلافه باختلاف الأنواع أن الشكر أولها والعروس والإبراهيمي يتأخران إلى آخر الصيف ويتصلان بالشتاء ففيه أربع مسائل, إحداها: أن يتفق الإطلاع والإدراك كالنخيل ببغداد فلا إشكال أنه يضم بعضها إلى بعض لأنها ثمرة عام واحد من جنس واحد, والثانية: أن يختلف الإطلاع ويتفق الإدراك, والثالثة: أن يختلف الإدراك ويتفق الإطلاع فيضم بعضها إلى بعض أيضًا لما ذكرنا, والرابعة: أن يختلف الإدراك [110 ب/4] والإطلاع معًا, فالكل يضم أيضًا سواء أدركت الأخرى قبل أن تجد الأولى أم بعد جذاذها, قال الشافعي (¬2): فإن كانت له نخيل في بعضها رطب وفي بعضها بسر وفي بعضها بلح وفي بع 1 ها طلع فأدرك الرطب فجذ ثم أدرك البسر فجذ ثم أدرك الطلع فجذ ثم أدرك البلح فجذ فالكل ثمرة واحدة ولا فرق بين أن يكون ما بينهما زمان قريب أو زمان بعيد لما ذكرنا من المعنى, ولأن الله تعالى أجرى العادة أن الثما لا يتفق إدراكها في وقت واحد بل يختلف اختلافًا متباينًا فلو قلنا لا يضم أدى إلى إسقاط الزكاة في الثمار حتى قال أبو إسحاق: إذا رطبت التهامية وجذت ثم اطلعت النجدية ضمت إحداهما إلى الأخرى. وقال صاحب "الإفصاح": إذا كانت الثمرة في البلاد الحارة صارت رطبًا وبلغت أوان الجداد ثم اطلعت في البلاد الباردة ولم يضم إحداهما إلى الأخرى ويكونان بمنزلة الحملين من نخلة واحدة في سنة واحدة وهذا اختيار القفال وهو خلاف النص, ثم قال ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 224). (¬2) انظر الأم (2/ 27).

في "المختصر": وإذا أثمرت في عام قابل لم تضم وصورته أن يكون له نخل بتهامة ونخل بنجد فاطلع التهامي وبلغ وجذ ثم أطلع النجدي فقيل: إن جذ النجدي أطلع التهامي ثانيًا لا يضم إلى النجدي لأنها ثمرة عام آخر إذ الله [111 أ/4] تعالى لم يجر العادة بأن النخل تحمل حملين في سنة واحدة ثم قال بعد ذلك: وإذا كان آخر إطلاع ثمر أطلعت قيل تجد فإطلاع التي بعد بلوغ الآخرة كإطلاع تلك النخلة عامًا آخر لا يضم إطلاعه إلى العام قبلها. قال أبو إسحاق: تأويل هذا الكلام ما ذكرنا أن الحمل الثاني من التهامية لا يضم إلى الثمرة النجدية ويكون بمنزلة طلع التهامية في العام الآخر ويقرأ قبل تجذ بالتاء والضم وأراد به القطع فكأنه قال: وإذا كان آخر إطلاع ثم اطلعت تهامة يعني الحمل الثاني قبل أن يجذ الثمرة بنجد فإطلاع التي بعد بلوغ الآخرة يعني. فإطلاع الثاني من التهامية بعد بلوغ الثمرة الآخرة يعني النجدية هي بمنزلة ثمرة تلك النخل يعني التهامية عامًا آخر فلما لم يضم إطلاع التهامية في العامل القابل إلى النجدية كذلك الإطلاع الثاني لا يضم إليها, وإذا قوي قبل نجد بالنون فكأنه يقول إذا طلعت النجدية وهي آخر الثمار فإن التهامية قد سبقته ثم أطلعت التهامية ثانيًا وهو آخر الإطلاع لا يضم إلى النجدية والقرابات محتملتان والفقه لا يختلف بهما. وقال صاحب "الإفصاح": أراد به إذا اطلعت نخل بعد بلوغ ثم نخل أخر أطلعت قبله لا يضم أحدهما إلى الآخر على ما ذكرنا من قبل وما ذكرنا أصح وأليق [111 ب/4] بهذا الكلام لأن ذلك إلى القائل لا يمكنه أن يحمل قوله بعد بلوغ الآخرة على فائدة صحيحة فإن الآخرة والأولة فيما قاله سواء. مسألة: قال (¬1) ويترك لصاحب الحائط جيد التمر من البردي والكبيس. الفصل وهذا كما قال إذا كان لرجل نوع من الثمرة أخذت الزكاة من ذلك النوع جيدًا كان أو رديًا أو وسطًا فالجيد كالبردي والكبيس والعقلي والردي كالجعرور ومصران الناقة وعدق من حبيق بفتح العين فأما عذق بكسر العين فهو الكباسة هكذا ذكره الأزهري والأوسط كالخسرواني ويجوز ذلك ونحو ذلك وإن كانت أنواعًا فإن كانت يسيرة مثل نوعين وثلاثة فلا يختلف المذهب أنه يؤخذ من كل واحد منهما بقدره نص عليه في "الأم" (¬2) لأنه لا يعتذر ضبط ذلك جميعًا لأن ذلك مما يتبعض فيؤخذ ما يخصه بالكيل من غير مشقة ويخالف الحيوان لأنه يشق هناك فيخرج من الوسط وإن كانت أنواعًا [112 أ/4] كثيرة متفاوتة. قال صاحب "الإفصاح": فيه ثلاثة أوجه, أحدها: يؤخذ من كل بقدره, والثاني: من الوسط لأنه يشق فإن تحمل المشقة وأخرج من كل بقدره جاز, والثالث: من الأغلب وقال أبو إسحاق توجد ها هنا من الوسط قولًا واحدًا, قال القفال: وهذا إذا لم ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 225). (¬2) انظر الأم (2/ 28).

باب كيف تؤخذ صدقة النخل والعنب

يكثر كل نوع من الأنواع فإن كثر كل نوع بحيث لا يشق للأخذ من كل واحد بحصته يؤخذ بالحصة وهو على ما ذكر رحمه الله. مسألة: قال (¬1): وإن كانتْ لهُ نَخْلٌ مُختَلِفَةٌ تحمِل في وقتٍ والأخرى في وقتٍ أو في سَنة حملَينِ فهُما مُختِلفَانِ. وهذا كما قال أما الحملان في وقتين من نخلة واحدة لا يضمان كثرة عامين والحملان من نخلتين هل يضمان على ما ذكرنا وقيل قل ما يكون هذا في النخل وإنما يكون ذلك في الكرم وقيل لا يكون ذلك في الكرم أيضًا وإنما يحمل حملين ما ليس بزكاتي كالتين والنبق, والشافعي ذكر هذا على معنى التجويز أن لو كان كيف الحكم فيه وقيل: إنه يوجد ذلك نادرًا والله أعلم. باب كيف تؤخذ صدقة النخل والعنب قال (¬2): أخبرنا عبد الله بن نافع ... وذكر في الخبر. وهذا كما قال وقت وجوب الزكاة في الثما إذا جاز ببيعها مطلقًا من غير شرط القطع وهو إذا بدا الصلاح [112 ب/4] فيها بأن تحمر أو تصفر وفي العنب أن يتموه ويحلو شيء منه إن كان أبيض أو يسود إن كان أسود فإن جاء هذا الوقت وجبت الزكاة وهو وقت توجيه الساعي بخرصها فيبعث الإمام من يخرصها على أربابها فيعلم بالخرص قدر الزكاة فيها لأنه إذا عرف ما يجيء منها تمرًا أو زبيبًا عرف مقدار العشر ثم إذا خرص عليه قال لرب المال أنت بالخيار بين أن تأخذها أمانة أو ضمانًا فإن اختار إمساكها أمانة كان له غير أنه لا يجوز له أن يتصرف في شيء من الثمرة ببيع ولا يأكل غير حفظها كالمال بين شريكين في يد أحدهما فإن خالف فأكل أو أتلفه فقد أثم وعليه الضمان فإن اختار أن يقبلها ضمانًا جاز واعلم أن أصحابنا اختلفوا في معنى الضمان. قال ابن سريج: إن قلنا: إن الزكاة تجب في الذمة والعين مرتهنة بما في الذمة كان معنى الضمان فكها من الرهن ليستفيد رب المال التصرف وإن قلنا: إن الزكاة استحقاق جزء من العين كان معنى الضمان القرض فكأنه قال: أقرضناك هذا الرطب من نصيب المساكين بما يجيء منه تمرًا ويجوز هذا القرض لموضع الحاجة, وقال الشيخ أبو حامد: وأجود من هذا عندي أن يقال خذها بكذا وكذا [113 أ/4] تمرًا فإن لرب المال أن يعطي العشر منها أو مثله من غيرها تمرًا فإنه إذا قال خذه بما يجيء منه تمرًا فقد أعطاه يعني الزكاة وموجبها وسواء قلنا: أمانة أو تضمين لا يلزم الضمان إذا هلكت بغير تفريط وإنما يفيد التضمين جواز التصرف على الإطلاق كيف شاء لا وجوب الضمان, وقال القفال: الخرص عبرة أو تضمين قولًا, أحدهما: أنه عبرة فلا يأكل رب المال من الثمرة إلا بقدر ما يفضل عن الزكاة ولكن له أن يبسط في الثمار. ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 225). (¬2) انظر الأم (1/ 225).

والثاني: أنه يضمن فعلى هذا له التبسط في الكل والزكاة في ذمته, وروي نحو قولنا في جواز الخرص التضمين عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وعطاء والزهري ومالك وأبي ثور رحمهم الله, وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة: لا معنى للخرص إلا أن أصحاب أبي حنيفة هربوا من الأخبار المروية في الخرص, فقالوا يجوز لتخويف رب المال أن تبسط فيه فيتلف شيئًا منه فأما .... (¬1) فلا. واحتج الشافعي بخبر عتاب بن أسيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في زكاة الكرم: "يخرص كما يخرص النخل ثم تؤدي زكاته زبيبًا كما تؤدى زكاة النخل تمرًا" (¬2) , فدل أن خرص النخيل كان معروفًا عندهم معمولًا به ولذلك شبه رسول الله [113 ب/4] صلى الله عليه وسلم الكرم فيه بالنخل إذ الكرم لم يكثر عندهم كثرة النخل ثم احتج بقصة خيبر وهي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لليهود حين افتتح خيبر: "أقركم على ما أقركم الله على أن التمر بيننا وبينكم", وبعث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه خارصًا وتمام هذه القصة ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم افتتح خيبر عنوة وأحلى منها اليهود وقسم تلك النخيل بين الغانمين من المسلمين فلم يهتدوا إلى إصلاحها ونقصت ثمارها فجاءت اليهود مستأمنين وقالوا: نحن أعرف بأمر هذه النخيل فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "أقركم" أي: في هذه النخيل "ما أقركم الله" أي: ما لم يأمرني الله بإخلائكم وإخراجكم, وإنما قال ذلك لأنهم كانوا لا يرون النسخ فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون لهم حجة غدًا إن أراد إخراجهم بأن يقولوا بيننا وبينكم أي: ساقاهم على هذا الشرط وهو أن تكون الثمرة بين المسلمين وبينهم نصفين فأخذوا على هذا الشرط فلما طابت الثمار بعث إليهم عبد الله بن رواحه ليخرصا عليهم وكانت أم عبد الله خيبرية فلما سمعت اليهود بأنه مقدم عليهم ليخرص استقبلوه وأهدوا إليه حلى نسائهم ليخفف [114 أ/4] عليهم في الخرص فلم يقبل عبد الله هديتهم وقال: هذا سحت في ديننا فأرادوا أن يستدرجوه بالكلام, فقالوا له: أن أحب من تقدم علينا من هذه الجهة, فقال عبد الله: أما أنا فقد قدمت من عند من هو أحب من نفسي التي بين جنبي وقدمت على قوم هم أبغض على من القردة والخنازير فقالوا له: إذًا لا يمكنك أن تعدل بيننا فقال عبد الله حبي إياه لا يطلق إلى الميل إليه وبغضي إياكم لا يحملني أن أجور عليكم إني إنما أحبه في ذات الله وأبغضكم في ذات الله, فقالوا بهذا قامت السموات والأرض ثم إنه خرص عليهم أربعين ألق وسق وروي أكثر فقالوا له: أجحفت بنا أي ثقلت الخرص علينا, فقال لهم: إن شئتم فلكم وإن شئتم فلي يعني إن شئتم أخذت منكما بهذا الخرص ورددتم نصف ما خرصته من الثمن وإن شئتم أخذت منكم بهذا الخرص ورددت نص ما خرصت من الثمن فقالوا بهذا قامت السموات والأرض أي ¬

_ (¬1) مضع النقط بياض بالأصل. (¬2) أخرجه أبو داود (1603) , والترمذي (644) , والنسائي (2618) , وابن حبان (3267) , والدارقطني (2/ 132).

بالعدل فقيل إنهم أحصوا تلك الثمار التي أخذوها فلم يكن عبد الله غلط بقدر عشرة أوسق ثم إنه صلى الله عليه وسلم قبل وفاته قال: "إن عشت إلى قابل لأخرجن اليهود والنصارى من جزيرة العرب", [114 ب/4] فمات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يتفرغ لذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه فلما كان زمان عمر رضي الله عنه سحرت اليهود ابنه عبد الله بن عمر رضي الله عنه فتكوعت يده فأجلاهم عمر فقالوا كيف تخرجنا وقد تركنا أبو القاسم فقال: ألم يقل أقركم على ما أقركم الله وأقبل على رجل منهم فقال: أنشدك الله ألم يقل لك رسول الله "كأني أنظر إليك وقد حملت متاعك على عاتقك لتخرج من خيبر وأخرجهم". مسألة: قال (¬1) وَوَقْتُ الخَرْصِ إذا حَلَّ البَيْعُ. وهذا كما قال قد ذكرنا أن الوقت الخرص حين يحل بيع الثمار مطلقًا وذلك حين يبدو الصلاح وإن بدا ذلك في زمرة واحدة وهذا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يبعث عبد الله بن راوحة خارصًا حين يطلب أو الثمرة" ولأن الخرص إنما يراد ليعرف رب المال قدر الزكاة ويملك التصرف لله وهذا إنما يحتاج إليه إذا حدث ما يمنع التصرف وهو تعلق الزكاة, فأما قبل ذلك فهو مطلق التصرف فلا يحتاج إلى الخرص فيه ولأن الساعي يحصي المواشي بعد وجوب الزكاة فكذلك الخرص بعد وجوب الزكاة. وقوله يتموه العنب أراد حين يجمع الماء الحلو وقيل أراد حين يتغير [115 أ/4] لون إلى الصفرة من قولهم موهب الفضة إذا طليتها بالذهب, وأما قوله ويوجد فيه ما يؤكل أراد يؤكل مستطابًا لأن الحصرم والبلح يؤكلان أيضًا, وقد صرح في موضع آخر فقال: ويوجد فيه ما يؤكل طيبًا ثم أعلم أن الشافعي ذكر خبر سهل بن أبي حثمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمرنا فقال: "إذا خرصتم فخذوا ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فدعوا الربع" (¬2) ثم قال في "الأم" في آخر بيع العرايا: تأويله أنه يدع لرب الحائط وأهلها من الثمرة قدر ما يأكلون ولا يخرصه ليؤدي زكاته, وقال في بعض كتبه: تأويله يدع ثلث الزكاة أو ربعها عد رب المال ليتولى تفرقتها على فقراء قرابته وجيرانه لأنهم يطعمون في ذلك منه ذكره صاحب "الإفصاح" وهذا أقرب وقيل هل يفعل ذلك وجهان. فرع لو كان لرجل حائطان بدا صلاح أحدهما دون الآخر فيه وجهان, أحدهما: يخرصان معًا ويكون حكم الصلاح جاريًا عليهما, والثاني: يكون لكل واحد منهما حكم نفسه فيخرص ما بدا صلاحه إلا أن يكون أقل من خمسة أوسق فلا يخرص حتى يبدو صلاح الأخر يخرصان معًا. ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 226). (¬2) أخرجه أحمد (4/ 2, 3) , وأبو داود (1605) , والترمذي (643) , والنسائي (2491) , وابن حيان (3269) , والحاكم (1/ 402).

مسألة: قال (¬1): ويأتي الخارصُ النخلةَ فيطيف بها [115 ب/4] حتى يرى كل ما فيها. الفصل وهذا كما قال أعلم أن الصحابة وعلماء الأمصار أجمعت على أن خرص ثمار البصرة لا يجوز لكثرتها وما تلحق المشقة والمؤنة في خرصها فرأى السلف أن تؤخذ صدقتها في الكرش عند دخول ثمرها البصرة فيكون ذلك أرفة بأربابها وأحظ للمساكين. وأما الكرم فهم وغيرهم فيه سواء يخرص عليهم ثم إذا أراد أن يخرص الثمرة على ربها فإنه يجيء إلى كل نخلة من نخيل ذلك الحائط فينظر في شماريخها ويقدرها رطبًا ثم يقدرها تمرًا فيقول يبلغ رطبها كذا وكذا وإذا جف وصار تمرًا نقص كذا وكذا ويثبت مكيلتها من التمر, وقيل يكتبها حتى لا ينساها ولا يغلط فيها ثم يعمل ذلك بكل نخلة حتى يأتي على جميعها ولا يكفي أن ينظر في صف من النخيل أو في عريش من الكرم فيقول خرجها كذا وقيل فيه ثلاثة أوجه, أحدهما: أن هذا الذي ذكرنا احتياط ولا يجب لأن فيه مشقة خاصة عند كثرة النخل, والثاني: أنه شرط لأن الخرص اجتهاد فيلزم بذل المجهود له, والثالث: وهو الأصح إن كانت الثمرة بارزة من السعف على ما جرت به عادة الحجاز كان شرطًا وقال في البويطي يقدرها بسرًا ثم يقدرها تمرًا. [116 أ/4] والأول أولى لأنه ليس ما بين البسر والرطب تفاوت فإذا قدره رطبًا فقد قدره بسرًا. وقال أبو إسحاق: فإن اختار أن يحصي جميع ما في الحائط من الرطب ثم يسقط منهم قدر ما نقص إذا يبس كان أسهل وهذا غلط على الإطلاق لأن أنواع التمر تختلف فما قل ماؤه وكثر لحمه مثل المعقلي والبزي كثر تمره وما كثر ماؤه وقل لحمه كالسكر والهلبات قل تمره فيتفاوت ذلك ولذلك يحتاج أن يأخذ من كل واحد من الأنواع بحصته فلا يعرف ذلك فإن كان نوعًا واحدًا, قال بعض أصحابنا يجوز ذلك ولكن الاحتياط هو فيما ذكر الشافعي رحمه الله ويخرص العنب كما ذكرنا في الرطب لأنهما في وجوب العشر سواء. مسألة: قال (¬2): ثم يخلي بين أهله وبينه. وهذا كما قال: إذا خرص الخارص التمرة على ربها فإنه يخلي بينه وبينها لأنه مؤنه اللقاط والتجفيف على رب المال فوجب أن يخلي بينه وبينها فإذا خلى بينه وبينها وقيل خرص الخارص حل له التصرف في التمرة على الإطلاق على ما ذكرنا والأظهر من هذا النص هذا فالحرص يستفيد النصين وبالنصين يستفيد التصرف وبالتصرف يلزمه الضمان ثم إذا أتلفهما ضمن عشر تمرًا على حساب ما خرص عليه [116 ب/4] من أوسطهما فإن اختلف في وسطها فالقول قول رب المال مع يمينه. قال أصحابنا: ويجب أن يكون اليمين ها هنا استحبابًا لأن قول رب المال لا يخالف الظاهر فإن كان ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 226). (¬2) انظر الأم (1/ 227).

المساكين معينين في البلد ونكل هو عن اليمين هل يحلفون قد ذكرنا إن أوجبنا اليمين إلا أن يأتي الساعي ببينة وأقلها شاهد وامرأتان هذا إذا سلمت إليه بالضمان وإن سلمت إليه أمانة ففيه وجهان, أحدهما: يطالب بأكثر الأمرين من قيمتها رطبًا أو مكيلتها تمرًا لأن لهم أوفر الحقين من الرطب أو التمر كمن أوجب على نفسه أضحية ثم أتلفها لزمه أكثر الأمرين من قيمتها أو مثلها, والثاني: أن يطالب بمكيلتها تمرًا لأن هذا هو الواجب عليه وهذا هو ظاهر المذهب المنصوص, وقال بعض أصحابنا: إن قلنا: إن الخرص عبرة يضمن قيمة العشر لأنه لا مثل للرطب وهذا غلط لأن الثمرة إن كانت مما تصير تمرًا لم يجز إخراج العشر منه إلا من التمر وليس هذا كما لو أتلف الأجنبي الرطب تلزمه قيمته حين أتلفه لأن ضمان المتلف يختلف باختلاف التلف كالصيد المملوك إن أتلفه محرم فإنه يلزمه الجزاء والقيمة وإن أتلفه حلال فعليه القيمة وكذلك إذا [117 أ/4] عين أضحية إن أتلفها آخر ضمن قيمتها وإن أتلفه المضحي فعليه أكثر الأمرين من مثلها أو قيمتها, وكذلك إذا وطئت امرأة بشبة فعليه مهر مثلها فإن كان من العشرة خفف عنه, وإن كان من غير العشرة غلظ عليه, وإن أتلفها قبل مجيء الخارص خرصها فالقول قوله في مقدارها لأنه أمين في الزكاة, ويأثم بما فعل وللإمام أن يعزره إن تعمد ذلك لئلا يعود إلى مثله ويلزمه عشرة تمرًا على ما ذكرنا من المذهب, وقال القفال: فيه وجهان, أحدهما: هذا لأنه منع الخرص فصار كما لو خرص عليه ثم أتلفه, والثاني: تجب القيمة لأن التمر إنما يلزم في ذمته بالخرص وهذا غير صحيح على ما ذكرنا. فرع قال بعض أصحابنا: إذا أتلف نصاب الغنم فإنه يضمن للفقراء السن الواجبة عليه وهو المذهب, وقال القاضي حسين: يضمن قيمة الشاة كما إذا أتلف الرطب فإنه يضمن للفقراء ثمن عشرها وهذا صحيح على قولنا إن الزكان تجب على الشركة فإنه متلف شاة مملوكة للفقراء فيضمن قيمتها. مسألة قال (¬1): وإن ذكر أهله أنه أصابته جائحة أذهبته. الفصل وهذا كما قال: إذا دعي رب المال أن الثمرة أصابتها جائحة فإن ادعى ذهاب الكل [117 ب/4] نظر فإن ادعى بسبب ظاهر مثل مجيء الجرار ونزول العسكر أو وقوع الحريق في الجرين فلا يقبل منه إلا أن يعلم السبب لأن مثل ذلك يظهر في الغالب ولا يخفي أمره ولا يحتاج فيه إلى اليمين وإن ادعى ذهابها بسبب خفي بأن قال سرق بعد اللقاط أو على رؤوس النخل فالقول مع يمينه كما يقول في المودع إذا ادعى تلف ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 227).

الوديعة بسبب ظاهر لا يقبل منه حتى يعلم السبب وإن ادعى تلفها بسبب خفي قبل منه وإنما يحلفه ها هنا إذا اتهمه وهل اليمين واجبة أو مستحبة على القولين لأن هذه الدعوى تخالف الظاهر وهكذا لو ادعى شيئًا ظاهرًا ولكن لم يعلم أنه أصابها ويحتمل خلاف ذلك وإن ادعى ذهاب البعض فالكلام فيه على ما بيناه, وأما الباقي فإن كان نصابًا وجبت الزكاة فيه وإن كان أقل من النصاب فإن قلنا إن الإمكان من شرائط الوجوب فلا زكاة, وإن قلنا من شرائط الضمان وجبت في الباقي بقدره. فرع قال في "الأم" (¬1): لو قال أخذنا منه شيئًا وذهب شيء لا أعرف قدره قيل له: ادع فيما ذهب ما شئت واتق الله ولا تدع إلا ما أحطت به علي واحلف ثم يؤخذ العشر منه كما بقي إن كان في عشر ويجب [118 أ/4] أن يكون في هذه اليمين وجهان هل هي واجبة أو مستحبة وإن لم يذكر شيئًا معلومًا قال الشافعي: أخذنا منه العشر على ما خرصنا عليه. مسألة: قال (¬2): فإن قال: قد أحصيت مكيله ما أخذت وهو كذا وما بقي كذا. الفصل وهذا كما قال إذا قال رب الثمرة: قد نقصت الثمرة عما خرص الخارص وقد أخطأ في الخرص فإن ادعى كثيرًا لا يقع مثله في الخرص مثل النصف أو أكثر منه لم يقبل وطالبناه بعشر ما خرص عليه وان ادعى يسيرًا يقع مصله في الخرص يقبل منه وهل يحلف لم يذكر الشافعي في "الأم" اليمين بل صدق لأنها زكاة وهو فيها أمين وذكر في البويطي اليمين في هذه المسألة فقال: ومن ادعى أن الخارص أخطأ عليه حلف على ذلك وأسقط عنه, قال ابن أبي هريرة لا فرق في اليمين بين هذه المسألة والمسألة المتقدمة ففي وجوبها وجهان, لأن الظاهر أن الخرص صحيح ودعوى الخطأ خلاف الظاهر وإن ذكر نقصانًا وقال وجدت كذا وكذا ولم يذكر سبب النقصان, قال ابن سريج: القول قوله مع يمينه لأنها قد تهلك بأنه لا يعلمها وليس فيه تكذيب الخارص وإن تفاوت ما ذكره وإن وجد فضلًا عما [118 ب/4] خرص الخارص عليه أدى زكاة الفضل. فرع قال القفال: إذا ادعى غلطَا متفاحشًا وقلنا لا يقبل فهل يقبل المحال في هذه الحالة مثل خمسة أوسق في مائة وسق ونحو ذلك ينبغي أن يقبل ويحط عن هذا القدر المحتمل ... (¬3) ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 27). (¬2) موضع النقط بياض بالأصل. (¬3) انظر الأم (1/ 227).

هذا ما قال الشافعي في امرأة ادعت انقضاء عدتها بالأقراء في أقل من اثنين وثلاثين يومًا وساعتين فكذبناها فأصرت على دعواها حتى بلغت هذه المدة من يوم الطلاق حكمنا بانقضاء عدتها باثنين وثلاثين يومًا وساعتين وإن كانت تقول انقضت عدتي في عشرين يومًا ونحن نعرف كذبها في دعواها. فرع آخر قال القفال: لو ادعى نقصانًا بقدر ما يقع في التفاوت بين الكيلين هل يحط عنه ذلك وجهان, أصحهما: أنه يحط عنه لكن الكيل والخرص ظن وتخمين, والثاني: لا يحط كما لو اشترى طعامًا مكايلة وباع مكايلة فإنه لا يرجع بالنقص بين الكيلين على البائع الأول لأنه كما يحتمل أن يكون لنقص في الأول يحتمل أنه لزيادة في الثاني أو لمبالغة في فعل الكيال فيه كذلك ها هنا يحتمل أنه خطأ في الخرص ويحتمل أنه وقع [119 أ/4] رجحان في الكيل. فرع آخر لو ادعى أن الخارص ظلمه عمدًا لا دعواه كما لو ادعى على الحاكم الظلم لا يسمع إلا أن يدعي أمرًا لا يخفي على أحد ويشهد له المشاهدة لأنه على اصل الأمانة فإنه ادعى أنه أقر بالجور يسمع ويطالب بالبينة ولا يحلف كما لا يحلف الحاكم إذا ادعى عليه أنه أقر بظلم الحكم. مسألة: قال (¬1): وإن قال سرق بعد ما صبرته إلى الجرين. الفصل وهذا كما قال إذا قال رب الثمرة سرقت الثمرة بعد ما صيرتها إلى الجرين فالجرين هو الموضع الذي تجفف فيه الثمرة وتسمى الجوخان ويسميه أهل البحرين الفدا, والفدا هو الثمر الكثير المجتمع فسمي الموضع ويسميه أهل بغداد المسطاح ويسمى بخراسان وبالشام البيدر, فإذا ثبت هذا فإن سرقت بعد ما جفت وأمكن إخراج العشر منها صار مفرطًا وعليه ضمانها وإن سرقت قبل الإمكان فإنه تسقط الزكاة فيما سرق وينظر فيما بقي فإن كان نصابًا أخرج عشره وإلا فقولان على ما ذكرنا وإن الثمرة في غير الجرين في موضع ليس بحرز للثمرة فسرقت فعليه ضمان العشر فيما سرق لأنه مفرط في حفظه وإن صيرها في الجرين يستجفها [119 ب/4] فرش عليها ماء أو أحدث فيها شيئًا فتلفت بذلك أو نقصت فهو ضامن لأنه هو الجاني عليها وإن لم يحدث فيها إلا ما يعلم به إصلاحها فتلفت لم يضمن. مسألة: قال (¬2): وإن استهلكه رطبًا أو يسرًا بعد الخرص ضمن مكيلة خرصه. وهذا كما قال قد ذكرنا أنه إذا استهلكها وهي رطب يجب عليه العشر على ما ¬

_ (¬1) انظر الام (2/ 27). (¬2) انظر الأم (1/ 227).

خرصه الخارص وكذلك إن استهلكها بسرًا فإن قيل يوجب أن لا يلزم العشر إذا قلتم إن الإمكان من شرائط الوجوب لأنه لم يتمكن من إخراج العشر قبل قد سبق الجواب وهو انه إذا لم يبق من شرائط الوجوب إلا الإمكان وهو تيسير الفعل ثم أتلف فهو الذي منع الإمكان وتيسير الداء فكان الإمكان قد وجد ذكر كيفية الضمان. مسألة: قال (¬1): وإن أصابَ حائطَه عَطَشٌ. الفصل وهذا كما قال إذا أصاب نخيل عطش وعليها ثمرة قد بدا صلاحها فقال أهل البصر بها إن تركت الثمرة عليها حتى تصير رطبًا أدى إلى يبسها وجفافها لأنها تحتلب ماء النخيل فيجب أو ينقص ثمرها في مستقبل الأعوام وإن قطعت الثمرة عنها لم يضرها العطش ولكن يبطل كثيرًا من ثمنها إذ [120 أ/ 4] لا يرغب في شراء غيرها كان لرب الثمرة قطعها. قال الشافعي (¬2): يؤخذ ثمن عشرها أو عشرها مقطوعًا وأراد لا يكلف في هذا الموضع عشرها تمرًا. فإن قيل: هلا قلتم أنه يقطعها ويلزمه عشرها تمرًا كما لو قطع باختياره من غير عطش قبل الفرق أن به حاجة إلى قطعها فكان معذورًا فلا يلزمه العشر تمرًا وصار بمنزله الرطب الذي لا يجئ منه تمرًا ويجوز أخذ العشر من عينة وليس كذلك إذا استهلكها باختياره لأنه كان يمكنه أن يتركها حتى تترطب وتبلغ أوان الجذاذ فيجفف ويؤدي التمر فإذا لم يفعل لم يكن معذورًا وفرط في ذلك فلزمه ما وجب عليه صرفه إلى المساكين, فإذا تقرر هذا, قال أصحابنا: لا يجوز له قطعها ما لم يحضر الساعي, فإذا حضر الساعي قال أبو إسحاق: إن قلنا إن قسمة الرطب على رؤوس النخل بالخرص يجوز على أحد القولين يقاسمه بالخرص فإذا قسمه وتميز نصيب أهل السهمان في نخلات بعينها لحفظ الجميع وأخذ نصبيهم ونظر فإن رأي المصلحة في قسمته بينهم فعل, وإن رأي المصلحة في بيعه وقسمة ثمنه باعه وقسم ثمنه بينهم وإن قلنا [120 ب/ 4] إن قسمة الثمار على رؤوس النخل بالخرص لا يجوز .... (¬3) إلى تمييز حق أهل السهمان في عشر هذه الثمرة بعينها فإن رب المال بالخيار بين أن يعطي ثمنها أو من غيرها فإذا قبضه مشاعًا استقر حقهم في عشر هذه الثمرة بعينها وانقطع خيار المال وجاز للساعي التصرف فيه فإذا أثبت هذا وقبضه فإن شاء باعه من رب الثمرة وإن شاء باعه من الأجنبي وإن شاءا باعا الجميع من واحد واقتسما الثمن على قدر حقيهما وقبل أن يقبضه مشاعًا لا يجوز أن يأخذ ثمنه من رب المال لأنه يكون إخراج القيمة في الزكاة وإن شاء فوض البيع إلى رب المال إذا كان أمينًا وهذا هو المذهب. ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 228). (¬2) انظر الأم (2/ 27). (¬3) موضع النقط بياض بالأصل.

وقال ابن أبي هريرة: لو رأى الساعي الحظ في أخذ حصتهم من الثمرة فإنهما يقطعانها ويقتسمانها كيلاً أو وزنًا واستظهر رب المال على نفسه ليعلم أن الذي أخذه الساعي لا ينقص عن حق المساكين. فإن قيل كيف أخذتهم القسمة كيلاً أو وزنًا ولم تجيزوها خرصًا على رؤوس النخل لأنكم جعلتم القسمة على هذه الطريقة وبيع الثمرة بعضها ببعض لا يجوز كيلاً ولا وزنًا كما لا يجوز على رؤوس النخل خرصًا قيل إنما لا يجوز خرصًا [121 أ/ 4] على رؤوس النخل لأن الساعي لا يتيقن أن أخذه تمام حق أهل السهمان لا من أجل الربا لأنه لا ربا بين الساعي وبين رب المال في مقاسمة العشر وإنما الربا في البيع أو في قسمة الثمرة التي بين الشريكين فإذا كان كذلك فتقاسما كيلاً أو وزنًا واستظهر .... (¬1) السهمان بحيث يتيقن استيفاء حقهم جاز ولهذا قال الشافعي: ويؤخذ عشر ثمنها أو عشرها مقطوعة فخير بينهما على ما هو الأنفع للمساكين وهذا خلاف مذهب الشافعي لأنه بعد هذا والعشر مقاسمة كالبيع بلا فرق بين أن يكون على الأرض أو على الشجرة. وقوله ويؤخذ عشر ثمنها أو عشرها مقطوعًا أراد يأخذ عشر ثمن عشرها إذا باع العشر مشاعًا بعد القبض على ما ذكرنا أو يأخذ عشرها مقطوعة مشاعًا ثم يتصرف في العشر على ما يجوز في الشرع وقيل: معناه يأخذ عشرها إن كانت باقية أو قيمة العشر إن كانت مستهلكة وعبر بالثمن عن القيمة ونص في "الأم" على هذا وقيل يأخذ عشر قيمتها وإن كانت باقية وهو ضعيف لما بينا أنه لا يجوز أخذ القيمة في الزكاة وإن احتاج إلى قطع البعض للعطش دون الكل لا يقطع إلا قدر الحاجة. مسألة: قال (¬2): ومن قطع من ثمر نخلة [121 ب/ 4] قبل أن يحل بيعه لم يكن عليه فيه عشر. وهذا كما قال إذا قطع ثمر النخل قبل وجوب العشر فيها لم يكره ذلك إلا أن يقصد به الفرار من الصدقة فيكره ولا زكاة مع هذا خلافًا لمالك على ما تقدم بيانه. قال في "الأم" (¬3): وكذلك أكره له من قطع الطلع إلا ما أكل أو أطعم أو تخفيفًا عن النخل. فرع لو كانت النخيل فحولاً لم يكره قطعٍ طلعها بكل حال لأنه لا زكاة في طلع الفحال إذ لا يخفي منه رطب ولا تمر بل يؤكل رطبًا كالخضروات, نص عليه ثم قال الشافعي (¬4) وإن أكل رطبًا ضمن عشرة تمرًا مثل وسطه وقد ذكرنا هذه المسألة وأراد أنه يضمن قبل الخرص تمرًا إذ العبرة بوقت الخرص لا بنفسه وأراد به إذا كانت أنواعًا مختلفة فإنه يؤخذ زكاتها من الوسط فيضمن الوسط وهل يجوز الأكل ولم يضمن تقدم بيانه. مسألة: قال (¬5): وإن كانَ لا يكونُ تَمرًا أَعَلَمَ الوالي ليَأمُر من يَبيعُ عُشرَة رَطباً. ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) انظر الأم (2/ 28). (¬3) انظر الأم (1/ 228). (¬4) انظر الأم (1/ 228). (¬5) انظر الأم (1/ 228).

الفصل وهذا كما قال إذا كان له تمر لا يجفف في العادة مثل السكر والهليان والإبراهيمي التي تفرق قشورها وتقل لحومها ويكثر ماؤها فإذا جففت تخشبت وقوله لا يصير تمرًا أراد به أن لا يعمل منه في العادة [122 أ/ 4] تمر لأنه لابد وأن يحصل منه تمر وإن كان حشفًا فأكل كان كذلك فإنه يجب فيه العشر فإن قيل إذا كان لا ييبس ولا يدخر وحبس الرطب والعنب ييبس ويدخر وهذا نادر منه فألحق بجنسه فإذا ثبت هذا فاختلف أصحابنا في مقداره فمنهم من قال يعتبر نصابه بنفسه وهو أن يبلغ يابسة خمسة أو سق وإن كان حشفًا لأن الزكاة تجب فيه فاعتبر النصاب ثمنه ومنهم من قال يعتبر بغيره فينبغي أن يكون مقدار ما لو كان يجيء منه الثمن يحصل خمسة أوسق لأنه يعذر اعتباره بنفسه فيعتبر بغيره كما تقول في حكومة الحر يراعي التقويم للحاجة ثم الكلام فيه في أربعة فصول في كيفية الإخراج والتصرف والواجب بالإتلاف يصير تمرًا لأن ثمره حشف ومعظم منفعته في حال رطوبته فعلى هذا يلزمه أن يعلم الوالي الحال ثم الحكم في مقاسمته على ما بيناه في مسألة العطش ومن أصحابنا من قال يجوز قسمة هذا الثمرة كيلاً أو وزنًا بخلاف غيرها ويكون بمنزلة الألبان والخلول وهذا لا يعرف للشافعي والفرق أن أصل العنب والرطب أنهما يصيران تمرًا أو زبيبًا وما لا يصير [122 ب/ 4] كذلك فقليل نادر, فكان حكمه حكم الأصل بخلاف اللبن والخل ومن أصحابنا من قال: قال الشافعي ها هنا: إن أخذ عشرة وزنًا كرهته وأجزأه. وقال في موضع آخر رده فالموضع الذي قال رده هو إذا قلنا إن القسمة تبع والموضوع الذي قال أجزأه إذا قلنا: إنها إفراز حق ومن أصحابنا من قال: حين قال أجزأه إذا أخذه على الاحتياط وتيقن أنه استوفي حق المساكين وحين قال رده إذا أخذه بغير احتياط فأما التصرف فعلى ما مضى. وأما المضمون إذا استهلكه المنصوص أنه قيمة عشرة رطبًا لأن هذا لا يصير تمرًا ولا يخرص بل تؤخذ صدقته في الحال ومن أصحابنا من ذكر وجها أنه يضمن عشرها رطبًا لأن رب المال إذا أتلف الزكاة ضمن الزكاة الواجبة كما لو أتلف أربعين شاة وجبت فيها شاة يجب الضمان بالشاة وهذا ضعيف. وأما النوع هل يضمن من الوسط أو من كل نوع بحصته على ما ذكرنا. مسألة: قال (¬1): وفي كل أحب أن يكون خارصان. وهذا كما قال يستحب أن يكون الخارص خارصين وأكثر ليكون أبعد من الخطأ وأحوط [123 أ/ 4] للجميع وأما الواجب فقال أكثر أصحابنا يجوز خارص واحد قولاً واحدًا لأنه كالحاكم في أنه يجتهد وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن رواحة رضي الله عنه خارصًا وحده ومن أصحابنا من قال فيه قولان, وبه قال صاحب "الإفصاح" وتعلق بقول الشافعي وقيل يجوز خارص واحد كما يجوز حاكم واحد وهذا ¬

_ (¬1) أنظر الأم (1/ 228).

يدل على أن فيه قولاً وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعث مع ابن رواحة غيره ولأن في التقويم لابد من اثنين كذلك ها هنا والصحيح الأول. ومن أصحابنا من قال إن كانت الثمرة لابد من اثنين كذلك ها هنا والصحيح الأول. ومن أصحابنا من قال إن كانت الثمرة لصغير أو سفيه أو غائب فلابد من خارصين, وإن كانت لغيرها ولا يكفي واحد وهذا غلط لأن الشافعي سوى في "الأم" بين الجميع وإنما فرق بينهم في التخيير, فقال: يخير البالغ العاقل الحاضر ولا معنى للتخيير الصغير والسفيه والغائب الذي لا وكيل له. وفي القسمة إن كان فيها رد يحتاج إلى اثنين وإن يكن ففيه طريقان كما قلتا في الخارص وفي الغائب طريقان أيضًا. فرع إذا قلنا يكفي خارص واحد لا يجوز أن يكون امرأة ولا عبدًا كالحاكم, وإذا قلنا إنه لابد من خارصين لا يجوز [123 ب/4] أن يكونا امرأتين أو عبدين وهل يجوز أن يكون إحداهما امرأة أو عبدًا ليكون الرجل مختصًا بالولاية والمرأة والعبد مشاركًا له في التقدير والحرز؟ وجهان, إحداهما: يجوز كما يجوز أن يكون كيالاً أو وزانًا. والثاني: لا يجوز لأنه يحتاج إلى الاجتهاد كالحكم. فرع آخر لا يجوز للساعي أن يقبل من أرباب الأموال هدية لأنهم يفعلون ذلك لترك حق أو لدفع ظلم فيصير مرتشيًا (¬1) , وأراد بالرائش المتوسط بينهما. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أخذ العامل من عمالته فهو غلول" (¬2) فإن قبل الساعي هدية على ترك حق أو دفع ظلم يلزمه ردها وإن قبلها لشكره في إنعام كان منه, قال الشافعي: كانت في الصدقات لا يسعه عندي غيره إلا أن يكافيه عليها بقدره فيسعه تمولها والله أعلم وهذا عند أصحابنا على الاستحباب والاحتياط. مسألة: قال (¬3): ولا تُؤخَذُ صَدقةُ شَيءٍ منَ الشَجَرِ والعِنبِ. وهذا كما قال هذا الذي ذكره هو قوله الجديد وبه قال ابن أبي ليلى قال: وهذا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ الصداقة منهما [124 أ/ 4] وكلاهما قوت يشير بهذا إلى أن علة وجوب الزكاة فيهما أنهما مقتاتان من بين الثمار, وقال في القديم: يجب العشر في الزيتون إذا بلغ خمسة أو سق, وبه قال مالك والزهري والأوزاعي ثم قال في القديم وأحب أن يعشر زيتًا فجوز أن يعشر زيتًا لأنه أكمل وإنما أجاز الزيتون لأنه يدخر. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 164, 190, 387, 388) , وأبو داود (3580) , والترمذي (3580) , وابن ماجه (2313) , وابن حبان (5053). (¬2) أخرجه السهمي في "تاريخ جرجان" (2296) , وابن عدي في "الكامل" (1/ 281). (¬3) انظر الم (1/ 228).

باب [صدقة الزرع]

قال أصحابنا: وهذا في الشامي الذي يكون منه الزيت فأما الزيتون الذي لا يكون منه الزيت فإنه يعشر إذا نضج وطاب ويؤخذ عشرة إذا بلغ خمسة أوسق ومن أصحابنا من قال يجب أن يعشر زيتًا لأنها منتهاه كالثمر وهذا خلاف النص. وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه جعل في الزيت العشر (¬1). وروي عن ابن عباس رضي الله عنه انه قال في الزيتون الزكاة فجمعنا بينهما على ما ذكرنا وإذا أوجبنا الزكاة فيه فوقت الوجوب إذا بدا صلاحها بأن يسود كما يسود العنب ور يجوز خرصه قولاً واحدًا. وأما الورس قال الشافعي: هو شجرة صغيرة ينبت أصلها تحمل الورس طيب هل فيه العشر؟ قولان قال في "القديم": فيه العشر وذكر خبرًا قال: أخبرنا هشام بن يوسف أن أهل خفاش أخرجوا كتابًا من أبي بكر [124 ب/ 4] الصديق رضي الله عنه في قطعة أديم يأمرها أن يؤدوا عشر الورس. وقال: لا أدري أثابت هذا أم لا؟ فإن كان ثابها عشر قليله وكثيره لأنه ليس مما يكال, وقال في "الجديد": لا عشر فيه كما لا عشر في سائر المشمومات من الورد والبنفسج ونحو ذلك وهذا اصح وأما الزعفران قال في القديم: فإن قال قائل فقس عليه الزعفران لأنهما معًا طيب فهو وجه. وإن فرق بأن للورس أصلاً بخلاف الزعفران فإنه ليس له أصل ثابت فهو مذهب. قال أصحابنا إن قلنا: إنه لا شيء في الورس فإن الزعفران أولى, وإن قلنا: في الورس العشر ففي الزعفران قولان وإذا أوجبنا لا يعتبر النصاب لأنه لا يوسق ثم قال الشافعي: لو قال قائل: في حب العصفر العشر لأنه مما ينبته الناس ويأكلونه في بعض الأحوال كان مذهبًا. ولو قال بالورس عشر قليله وكثيره وأراد بحب العصفر القرطم فهذه إشارة إلى قولين. وروي. عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه كان يأخذ العشر منه ولم يثبت والصحيح لأن لا زكاة فيه لأنه ليس بقوت, وقال بعض أصحابنا: في عصفره قولان أيضًا كما في القرطم ذكره في "الحاوي" (¬2). وأما العسل فقال في [125 أ/4] "القديم": الحديث الذي فيه العشر غير ثابت والذي روي فيه أنه لا عشر فيه غير ثابت فكأنه لم يقطع بحكمه وعلى القول فيه والخبر المروي فيه أن بني شبابة كانوا يؤدون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحل كان عندهم العشر من كل عشر قرب قربة ورجع في الجديد عن ذلك. وقال أحمد وإسحاق والأوزاعي في العسل العشر, وقال أبو حنيفة: إن وجد في غير أرض الخراج يجب العشر وهذا غلط لأنه بقوت فلا يجب فيه العشر كالبيض. باب [صدقة الزرع] مسألة: قال (¬3) في قول الله تعالى: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] , فيه دلالة على انه إنما جعل الزكاة في الزرع. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (7455). (¬2) انظر الحاوي للماوردي (3/ 236). (¬3) انظر الأم (1/ 229).

وهذا كما قال لا خلاف في الجملة في وجوب الصدقة في الزرع والأصل فيه ما تقدم من الآية والخبر وأيضًا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [البقرة: 267] , ثم اختلفوا في الزرع الذي يجب فيه الزكاة فعندنا لا تجب إلا في الزرع هو قوت. فأما في الفواكه من التفاح والسفرجل وغير ذلك من الخضروات لا عشر فيها, وبه قال الليث بن سعد, وابن أبي ليلى وسيفان [125 ب/ 4] الثوري وأبو يوسف ومحمد وحكي عن أبي يوسف أنه قال يجب العشر في الثمار التي تخرج كل سنة ولا تجب في الخضروات. وروي عنه أيضًا أنه قال: يجب في الحبوب المأكولة والقطن أيضًا. وقال مالك: يجب العشر في الحبوب المأكولة غالبًا من الزرع, وروي عنه يجب فيما يعظم منفعة فليزم في القطن. وقال أبو حنيفة: يجب في جميع الثمار والخضروات إلا في الحشيش حتى تجب في عشر كراثات كراثة. وقال الحسن وابن سيرين والشعبي والحسن بن صالح لا زكاة إلا في الحنطة والشعير, وزاد أبو ثور والذرة, وقال عطاء بن أبي رباح يجب في كل زرع ينبت من بذره ويؤخذ من زرعه وهذا كله غلط لأن أنفس الزروع القوت والزكاة بأنفس الأجناس كما في الجواهر ثم أعلم أن المزني أوهم أن الشافعي احتج بهذه الآية على أبي حنيفة أن لا زكاة في الخضروات فنقل عن الشافعي أنه قال في هذه الآية دلالة على أنه إنما جعل الزكاة على الزروع وليس كما أوهم بل إنما استدل بهذه الآية على وقت وجوب الصدقة في الزرع الذي يجب فيه الصدقة وذلك أن المراد بالآية: والتزموا زكاة الزرع يوم حصاده أي: يوم يبدو الصلاح فيه ويمكن حصاده كما قلنا في الثمار تجب الزكاة فيها وقت بدو الصلاح. مسألة: قال (¬1): فَمَا جَمَعَ أن يَزرعَهُ الآدميُونَ. الفصل وهذا كما قال .... (¬2) الشافعي: الزرع الذي تجب فيه الصدقة, فقال فما جمع أن يزرعه الآدميون ويبس ويدخر ويقتات مأكولا خبزًا وسويقًا وقيل: طحينًا وليس بشيء ففيه الصدقة وأراد بقوله: "فما جمع", أي: فما حصل من الزروع هذه الأوصاف التي حملتها أن يزرعه الآدميون ويقتات في حال الاختيار بأي وجه كان ففيه الصدقة إذا كان نصابًا ونصابه ما ذكرنا في الثمار خلافًا لأبي حنيفة. فأراد بقوله: "يزرعه الآدميون" أنه من جنس ما تقصد زراعته في الغالب فإنه لو نقل الحنطة من البذر فانتشرت منها في أرضه فنبت ما يبلغ خمسة أوسق وجب العشر فيه, وإن لم يقصد زراعته كما يجب في زرع الغاصب على مالكه ومن أصحابنا من قال يشترط فيه أربع شرائط أن يزرعه الآدميون ويكون مما يبس بعد حصاده ويدخر بعد يبسه ويقتات حال ادخاره وهذا كله داخل فيما تقدم ومعنى القوت ما تقوم به النفس في غالب العادة لبقاء نقله في المعدة ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 230). (¬2) موضع النقط بياض بالأصل.

فإذا تقرر هذا فجملة ما يجب فيه [126 ب/ 4] العشر من الحبوب البر وأنواعه البيضاء والسمرا والحمرا والبغدادية والموصلية والشامية وهي أجودها, والشعير وأنواعه الأبيض والأحمر والأسود والحلو منه والحامض, وأما السلت فجنس بانفراده لا يضم إلى الشعير ولا إلى الحنطة وهو حب كالحنطة في الملامسة ويشبه الشعير في طوله وطبعة طبع الشعير وفيه حموضة يسيرة نص عليه في "الأم" (¬1) والبويطي, وذكر القفال هكذا أنه صنف بانفراده ولكنه قال: هو نوع من الشعير غير أنه لا عشر له, وطبعة حار كطبع الحنطة وهذا غلط لما ذكرنا وقال صاحب "الإفصاح": هو نوع من الشعير يضم إليه على الظاهر من مذهب الشافعي وأنكره أصحابنا على ما ذكرنا ويجب العشر في الأرز والذرة والقطنية كلها وهي الباقلا والحمص والعدس والدجر وهو: اللوبيا والجاورس والدخن والخلو وهو الماس والملك وهو الهرطمان وإنما سميت قطنية لأنها تقطن في البيوت للقوات أي تقيم فيه وتمكث عندهم مدخرة وقيل الخلو هو الترمس, قال الشافعي: لا زكاة في الترمس, قال الشافعي: لا زكاة في الترمس لأنه يؤكل أدمًا وقيل: إنه حب يدخل في العقاقير والأدوية. وقال في القديم ولا أضم حنطة إلى شعير ولا شعير إلى سلت ولا سلتًا إلى ترمس وهذا [127 أ/ 4] يدل على أن فيه الزكاة فحصل قولان والصحيح أن لا زكاة فيه نص عليه في "الأم" (¬2) والبويطي. وقال بعضُ أهل اللغة: الترمس حب عريض أصغر من الباقلاء وهو تقدير نواة التمر الهندي إلا أن نواة التمر الهندي مربعة وهذا مدور حسن التدوير, هو كالدينار الصغير وقيل: إنه يهيج الباءة. وقال في البويطي: لا زكاة في الحلبة لأنها ليست بقوت في حال الاختيار فإذا تقرر هذا فلا زكاة في صنف من هذه الأصناف حتى تبلغ خمسة أوسق ولا يضم صنف آخر, وقال مالك: يضم القطنيات وبه قال أحمد في رواية وهذا غلط لأن كل منهما يخالف صاحبه في الطعم والخلقة وينفرد كل واحد منهما باسم خاص لا يشاركه الآخر فيه فإن قيل: أليس العدس يفارق الحنطة في الاسم ويضم إلى الحنطة؟ قيل الفرق هو أن كليهما حنطة في الصورة والطبع وإن افترقا في الاسم فلهذا يضم إحداهما إلى الآخر بخلاف هذا ثم إن الشافعي ألزم نفسه سؤالاً من جهة مالك وانفصل عنه في آخر مسألة أخرى فقال: فإن قيل: فاسم القطنية العدس والحمص فلم يضم إحداهما إلى الآخر قيل ثم [127 ب/4] ينفرد كل واحد منهما باسم أي: وإن كان يجمعهما اسم عام فقد انفرد كل واحد منهما باسم خاص ثم أوضح ذلك فقال: وقد يجمعهما اسم الحبوب يعني جميع القطنية مع الحنطة والشعير اسم الحبوب ثم لا يضم الحنطة ولا الشعير إلى القطنية لما ذكرنا كذلك هشام لزمه سؤالاً آخر فقال: فإن قيل فقد أخذ عمر رضي الله عنه العشر من النبط في القطنية دل ظاهره أنه ضم بعضها إلى بعض ثم انفصل عنه فقال: وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم العشر من التمر ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 30). (¬2) انظر الأم (2/ 30).

والزبيب وأخذ عمر رضي الله عنه من القطنية والزبيب أفيضم ذلك كله أي: هذا الذي رويتم في القطنية عن عمر رضي الله عنه لا يدل على الضم ولا ما روي من أخذ عمر رضي الله عنه من القطنية والزبيب فنقول: اسم الحبوب يجمع الكل ولا يضم على ما سبق بيانه واسم النعم يتناول أجناسها واسم النقد يتناول الذهب والفضة ولا يضم فالقول على الجواب الأول الذي هو دليل بنفسه وعند مالك يضم البر إلى الشعير أيضًا فيبطل به مذهبه وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس فيما دون [128 أ/ 4] خمسة أوسق من البر صدقة", وهو دليل عليه ونقيس على التمر لا يضم إلى الزبيب. مسألة: قال (¬1): ولا يَبينُ لي يُؤخَذَ من الغَثَ وإن كانَ قُوتًا. وهذا كما قال المزني الغث هو حب الغاسول يعني حب الأشنان فيفسخ فتكون فيه حموضة ومرارة ويؤكل عند المجاعة. وقال غيره وهو حب أسود يدفن حتى يلين قشره ثم يؤخذ عنه القشر ويطحن ويقتاته أعراب طيء وهذا أشبه بكلام الشافعي لأنه قال: وإن كان قوتًا وحب الأشنان لا يقتات بحال, وإن كان فيؤكل وأيهما كان فلا زكاة فيه وكذلك لا زكاة في حب الحنظل ولا في حب شجرة برية وهو البلوط والفص مما لا يزرعه الآدميون ولا يجب في الوحشي كالظباء وحمار الوحش وبقر الوحش وغير ذلك, ثم اعلم أن بعض أصحابنا تعسف وأطلق فقال متى قال الشافعي ولا تبين لي كذا فهو تعليق القول وغلط فيه لأنه قال ذلك في الغث وليس بتعليق القول فإن المسألة إجماع. وقال في كتاب الصلاة حيث أمر بالرش على بول الصبي ولا يبين لي فرق بين الصبي والصبية وليس بتعليق القول, وقال في باب ما يُسقط الفرض عن الماشية: وإن كانت [128 ب/4] العوامل ترعى مرة وتترك أخرى لا تبين لي أن في شيء منها صدقة وليس بتعليق القول نظائر ولا زكاة في الجُلجان وهو في السمسم ولا في بزر الكتان والحرير والقثاء والقرع والفجل والكزبرة والكراويا والكمون وجميع توابل القدر من الفلفل والدار صيني والثوم والبصل والجزر والثلجم والثفا وهو حب الرشاد والأفيوش وهو بزر قطونا والعربرب وهو السماق والأدوية كلها الهليج والأملج والأبلج والمن وسكر القصب والترنجبين وغير ذلك والأصل في ذلك ما روى معاذ رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فيما سقته السماء والبعل والسيل العشر, وفيما سقي بالنضج نصف العشر" (¬2) يكون ذلك في التمر والحنطة والحبوب فأما القثاء والبطيخ والرمان والخضر فعفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال أحمد تجب في كل الثمار والحبوب التي تكال وتدخر وإن نبت بنفسه فأوجب الزكاة في اللوز دون الجوز لأنه لا يكال الجوز. ¬

_ (¬1) انظر الم (1/ 230). (¬2) أخرجه البخاري (1483) , وابن خزيمة (2285, 2288) , والدارقطني (2/ 97) , والحاكم (1/ 401) , والبيهقي في "الكبرى" (7485).

مسألة: قال (¬1): ولا يُؤخَذُ زَكَاةُ شيئٍ مما يَيَبسُ حتى ييبسَ ويُدرَسَ. وهذا كما قال قد ذكرنا وقت وجوب الزكاة في الثمار [129 أ/4] فأما في الحب فإنه تجب إذا اشتد قال ابن سريج: إذا اشتد الحب واصفر الزرع وحان حصاده, وقال في القديم وقت الوجوب قبل وقت الحصاد وقيل عند الحصاد والمذهب ما ذكره ابن سريج وأما وقت الإخراج فلا يخرج إلا في أكمل الأحوال فإن كان مما يبقى مثل الحبوب فإذا داسوه وذروه وصفوه يبحث يطحن على جهته أخرجوا عشرة وإن كان مما ييبس ويجفف كالرطب والعنب فإذا ردوه إلى الجرين وجففوه وأخرجوا عشره ويكون مؤنة ذلك على رب المال والأصل فيه خبر عتاب بن أسيد "ثم يؤدي زكاته زبيبًا" كما يؤدي زكاة النخل تمرًا, وقال عطاء تحتسب المؤنة من أصل المال ثم يؤدي العشر من الباقي وهذا غلط لقوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر", وعلى قوله يجب أقل من العشر ولأن مؤنة الحيوان السائمة الزكاتية على رب المال من أجره الراعي ونحو ذلك كذلك ها هنا فإذا تقرر هذا فإن سأل أهل الحنطة أن يؤخذ منه العشر في سنبلها لم يكن له ذلك لأنه ليس في حال يدخر عليه في الغالب ولأنه مجهول المقدار قيل أليس يأخذون العلس في قشرته [129 ب/4] وكذلك الأرز في قشره فما الفرق؟ قلنا الفرق أن هناك يعلم ما ينقص منه بالتقشير من طريق العرف والعادة فلا يؤدي إلى الجهل بمقداره بخلاف هذا وأعلم أن العلس هو نوع من الحنطة يخالف أنواعها لأنه إذا دس بقيت حبهان في كمام ولا يزول حتى يدق أو يطرح في رحى خفيفة فيقشر كالأرز وإذا قشر لا يبقى بقاء الحنطة في كمامها ويبقى بعد الدراسة قشرتان فإذا أرادوا الخبر نحوا عنها القشرة العليا وطحنوها في الثانية لأن القشرة الثانية مثل قشرة النوع الآخر من الحنطة فإن كان قد نحى عنها القشرة العليا اعتبر أن يكون مقداره قدر خمسة أوسق وإن كانت عليه القشرة العليا اعتبر أن يكون مقداره عشرة أوسق وإلا لا تجب الزكاة وكذلك الرز عليه قشرة لا ينتفع بها مثل العلس سواء, فإن أخرجه من قشرة اعتبر أن يكون وإذا لم يخرجه اعتبر أن يكون عشرة أوسق هكذا قال بعض أصحابنا وهو اختيار القاضي الطبري. وحكي عن الشيخ أبي حامد أنه قال: يذهب من الأرز الثلث إذا قشر فلا زكاة فيه حتى يكون سبعة أوسق ونصفًا غير مقشرًا ويكون خمسة أوسق مقشرًا والأول أصح لأن جريبًا [130 أ/4] واحدًا من الأرز على التقريب أربعون ثمنًا فيذهب عنه عشرون ثمنًا ويبقى عشرون ثمنًا. فرع هل يعتبر أن يكون الباقلى خمسة أوسق بعد التصفية عن العشر التحتاني وجهان: إحداهما: لا يعتبر لأنه مدخر معه ويطحن معه ولا تزال تلك القشرة إلا عند الأكل. ¬

_ (¬1) انظر الأم (1/ 230).

باب الزرع في الأوقات

والثاني: ... (¬1) قشر غليظ يظهر أثره في الكيل وليس بمقصود وهو الصحيح عندي ويضم العلس إلى الحنطة لأنهما نوعا جنس واحد كالضأن والمعز فلو كانت عنده ثلاثة أوسق من الحنطة وأربعة أوسق من العلس وجب العشر وهو بالخيار إن شاء دفع العشر من العلس في طبرستان بستين ثمنًا فلا دانق بالتمر المحمدي وتوجد زكاة الذرة في قشرها لأنه يطحن مع قشرها وقشرها لا يظهر في الكيل ظهورًا ظاهرًا فإذا تقرر هذا فلو أخذ العشر رطبًا كان عليه رده إن كان قائمًا أو رد قيمته إن كان تالفًا لأنه لا مثل له ويطالب باليابس لأن حق الفقراء في اليابس ومن أصحابنا من قال يضمن المثل لحق الله تعالى وهو غلط فإن جف عند الساعي نظر فيه فإن كان قدر الزكاة أجزأه وإن كان أقل رجع بالباقي عليه وإن كان أكثر الفضل ثم بين الشافعي [130 ب/4] العلة في أنه لا يجوز أخذه في حالة الرطوبة فقال: القسمة في هذه الحالة غير جائزة لأن القسمة كالبيع وبيع بعضه ببعض في هذه الحالة لا يجوز وهو معنى قوله لاختلاف نقصانه وهذا من كتاب البيوع وقال والعشر مقاسمة كالبيع, وقال أيضًا: لو أخذه من عنب لا يصير زبيبًا أمرته برده لما وصفت من أنه لا يجوز بيع بعضه ببعض رطبًا ذكره في "الأم" (¬2) وهذا كله يدل على بطلان قول من قال من أصحابنا إنما منع من ذلك أنه لا يتحقق استيفاء الحق على التمام حتى لو تيقن جاز وقد ذكرنا هذا فيما تقدم ثم قال الشافعي بعد هذا: ولو قسمه عنبًا موازنة كرهته ولم يكن عليه غرم وهذا على القول الذي يقول إن القسمة إفراز النصيبين ومن ذهب على قول ابن أبي هريرة تعلق به وقال غنما أجازه لأنه .... (¬3) وهذا غلط لأن ما قلناه من التأويل يمكن ولا يمكنه التأويل فيما ذكرنا من اللفظ والتعليل فصح ما قلناه وأعلم أن المزني أوهم في النقل أنهما مسألتان هذه والتي قبلها وليس كذلك بل هما مسألة واحدة فإن قوله ولو قسمه عنبًا موازنة أراد به في هذا العنب الذي [131 أ/4] لا يصير زبيبًا والرطب الذي لا يصير تمرًا فأجاز ها هنا أخذ عشرة مقاسمة مع الكراهة ولم يجزه قبل ذلك وهما قولان نقلهما المزني من موضعين فأوهم أنهما مسألتان وإنما كره لأجل الربا ومسامح للضرورة في أحد القولين. باب الزرع في الأوقات مسألة: (¬4): الذُرَةُ تُزرَعُ مَرًة فتَخرُجُ فتُحَدُ ثمَ تُستَخلَفُ في بعض المواضعِ. الفصل وهذا كما قال إذا زرع الصنف الواحد في ثلاثة فصول في خريف وربيع وصيف وقيل في أربعة فصول والفصل الرابع الشتاء ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعتبر اجتماع الحصاد في فصل واحد وإن اختلفت الزراعة وهو الأصح لأنه حالة إدراكه ووجوب العشر فيه فكان اعتباره أولى أو ما لا يعتبر فيه الحول يعتبر فيه حال وجوب الزكاة كنصاب مال التجارة. ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) انظر الأم (2/ 31). (¬3) موضع النقط بياض بالأصل. (¬4) انظر الأم (2/ 31).

باب قدر الصدقة فيما أخرجت الأرض

والثاني: يعتبر اجتماع الزراعة في فصل واحد وإن اختلف الإدراك في فصول لأن الزراعة هي الأصل والحصاد فرع. والثالث: كل زرعين اتفق في الحصاد في فصل واحد واتفق في الزراعة في فصل واحد ثم أخذها إحداهما إلى الآخر وإلا فلا يضم فيعتبر الطرفان، كما في زكاة المواشي يعتبر الطرفان. وذكر أبو إسحاق [131 ب/ 4] قولاً مخرجاً أن زرع العام الواحد يضم بعضه إلى بعض اختلفت أوقات زراعته وحصاده أو اتفقت كما قلنا في زكاة الثمار وقيل: بالعام ستة أشهر لأن الزرع لا يبقى اثني عشر شهراً فعام الزرع هذا القدر ذكره ألو حامد وقيل: أطول شنة الزرع ثمانية أشهر وأقصرها خمسة أشهر، فالأول يزرع في الخريف ويحصد في الصيف، والثاني: يزرع في الربيع ويحصد في الصيف، وقال بعض أصحابنا أراد اثني عشر شهراً فيعتبر الإدراك فيها أو الزراعة فيها والصحيح أن المراد بالسنة التي ذكر في "المختصر" في قوله: إنه زرع واحد وإذا زرع في سنة واحدة وبعد ذلك أيضاً الفصل، وهو أربعة أشهر ولم يرد به اثني عشر شهراً وفيه قول خاص لم يحكه المزني أن الاعتبار بجميع السنة أحد الطرفين: إما الزرعان وإما الحصادان. وأما الذرة قال الشافعي (¬1) إنها تزرع مرة فتخرج م يستخلف في بعض المواضع فتحصل أخرى فهو زرع واحد، وقال أبو إسحاق هذا هو على القول الذي يعتبر اتفاق الزراعة، فأما إذا قلنا: يعتبر الحصاد أو الطرفان لا يضم ما استخلفه إلى ما حصد منه. ومن أصحابنا من قال: إنها تضم قولاً واحداً لأنهما كالزرع [132 ا،4] الواحد فإنه قيل: على هذا ليس الحمل الثاني في النخل لا يضم إلى الأول فيجب أن لا يضم هاهنا لأنهما بمنزلة الحملين قلنا: الفرق أن في النخل كل حمل منه متفرد عن غيره فإنه يتوالى عادة وهو ثابت الأصل وهذا غير ثابت الأصل ولا هو مزروع للبقاء وإنما زرع لأخذه بعد تكامله وهما زرع واحد فكان بمنزلة العلة الواحدة وهكذا الخلاف، إذا لم يستخلف وضمهم بعضه بعضاً فأسرع إدراك البعض فلما حصد نبت الباقي وأخرج السنابل يضم إلى ما أسرع إدراكه في ظاهر المذهب وسلمه أبو إسحاق وفيه قول أخر لا يضم لاختلافهما في زمان الإدراك وقيل: صورة المسألة في الذرة الهندية تستبل فتحصد ثم تستخلف مرة وأخرى على أصولها في بعض المواضع فتحصل أخرى والأرز عندنا هكذا في بعض النواحي، وقيل: صورته أن الذرة إذا أدركت بما يقع عليها العصافير فتتناثر من سنابلها ثم تسقى الأرض فينبت في أصولها فيدرك مرة أخرى فتضم لأنه زرع سنة واحدة وهذا بعيد. باب قدر الصدقة فيما أخرجت الأرض قال: بلغنا أنًّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قولاً معناه " ما سقى بنصحٍ أو غربٍ ففيهِ نصفُ ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 22)

132 ب/4 [العُشْرِ" الخبر وهذا كما قال: الأرض ضربان، ضرب: يشرب من ماء مباح مثل النهر والعين يصل الماء إليه من غير تب ومؤنة فيكون في غلته العشر وهكذا أرض الجبل يقع الثلج عليها فإذا انكشف عنها تحرث وتزرع ولا يحتاج بعد ذلك إلى ماء وهذا ما سقته السماء، وهكذا إذا مرت السيول على أرض ثم انصب الماء فيها ثم تزرع كأراضي العراق والشام ولا يحتاج بعد ذلك إلى الماء ولا فرق في أرض الأنهار بين أن يفتح الماء إليها من النهر العظيم أو يسد النهر العظيم حتى يصعد الماء إليها أو يشق ساقية ويساق الماء إليها وكل هذا يسمى سيحاً ولا فرق في ماء العيون من أن ينبع الماء في جوف الضيعة أو بعيداً منها والعين التي بخراسان تنفق عليها نفقة كثيرة حتى يجري الماء فيصير سيحاً لأن المؤنة الثقيلة عليها حتى تستخرج، فإذا استخرج فهي عين قائمة ومن أصحابنا من قال: إذا احتيج إلى مؤنة عظيمة هكذا أو احتيج إلى نابق من الجص والآجر يلزم نصف العشر ورأيته عن الشيخ الخليل أبي عبد الله الخياطي رحمه الله، والمنصوص الصحيح ما ذكرنا ومن جملة هذا البعل وهو النخل التي تشرب بعروقها [133 أ/4] وكذلك الغيل. وقال الأزهري: البعل من التخل هو ما يشرب بعروقه من غير سقي ماء ولا نضح وذلك أن يغرس النخل في مواضع قريبة من الماء فإذا تفرقت استغنت بعروقها الراسخة في الماء عن السقي، وأما الغيل والغلك فهو الماء الجاري على وجه الأرض، وأما العثري فقيل: هو كالبعل وقيل: هو ما يجتمع في مصنع أو بركة من ماء الشتاء فإذا اجتيج إليه في الصيف فتح فجرى وسقي منه فكل هذا سيح وأصله ما شرب بغير آلة وسمي عثرياً، لأن الماء شيء يتعثر به، وضرب: لا يصل إليه الماء إلا بتعب ومؤنة وآلة وهي الدلو الصغيرة منها والكبيرة والنضح ما يغترف به من النهر إلى ساقية كالجفنة ويسمى بالعراق الشارون أو يستقى به من البئر من السانية وغيرها والغرب هو الدلو الكبير التي لا ينزعها إلا الجمل وجمعه غروب ومنه الدالية وهي جذع طويل يجعل تحته على النصف منه بناء وتعلق برأسه الباطنة من قصب مقير يغترف به الماء فإذا امتلأ يصعد الرجل على الرأس الآخر من هذا الجذع فينزل رأسه ويصعد الرأس .... (¬1) فتقلب إلى الأرض ومنه الدولاب وهو على ضربين، سندي وغراف فالسندي ما تعلق به حبال وتعلق بالحبال دلاً كبيرة من خشب مقير ويديره [133 ب/4] ثور أو بعير والغرّاف معروف ومنه الناعور وهو الدولاب غير أن الذي يديره الماء كدولاب الأرحية ففي كل هذا يجب نصف العشر وهذا لأن المؤن تجب في ذلك، وإن كان يديره الماء بنفسه فاختلف مقدار الزكاة فيهما لاختلاف المؤن ولهذا المعنى اختلف حكم الزكاة بالسوم والعلف والأصل فيه الخبر الذي رواه الشافعي بلاغاً ثم روي عن ابن عمر رضي الله عنهما معنى ما روي في الخبر ثم بيّن أن ذلك إجماع قال: ولا أعلم في ذلك مخالفاً ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل.

أي: لا يحتاج مع الإجماع إلى الاحتجاج وقيل: جملة ما يتعلق بالمستفاد من الأرض أربعة أوجه نصف العشر وتمام العشر والخمس في الركاز وربع العشر في المعدن في أظهر الأقوال. مسألة: قال (¬1): وإن سُقِيَ من هذا بنهرٍ أو سيل أو ما يَكونُ فيهِ العُشْرُ فَلَمْ يُكْتَفَ بهِ حتَّى يُسقَى بالغَرْبِ. الفصل وٍهذا كما قال: إذا سقي بالنوعين سيحاً ونضخاً ففيه ثلاث مسائل: أحدها: أن يكونا نصفين سقي ثلاثة أشهر بالسيح وثلاثة أشهر بالنضج فتؤخذ زكاته بحساب ذلك فيلزم ثلاثة أرباع العشر وهذا لأنه يؤخذ عشر نصفه ونصف عشر نصفه يكون في أربعين عشرها أربعة وثلاثة أرباع الأربعة ثلاثة. والثانية: [134 أ/4] أن يسقى بإحداهما أكثر وكان معلوماً مضبوطاً ففيه قولان: إحداهما: يقسط على مقدارهما. والثاني يعتبر الغالب وبه قال أبو حنيفة وأحمد، والأول أصح وأقيس كما لو كانت له قطعتا أرض سقيت إحداهما بالنضح والأخرى بالسيح فعلى هذا لو سقى ثلثاه بالسيح وثلثه بالدولاب أخذ من ثلثيه العشر ومن ثلثه نصف العشر. والثالثة: إذا أشكل فلم يعلم مقدار ما شرب من كل واحد منهما قال ابن سريج يحمل الأمر على التسوية فيجعل نصفين ويوجد ثلاثة أرباع العشر كما قلنا في دار بين رجلين فأشكل نصيبهما جعلت بينهم نصفين، ومن أصحابنا من قال: هذا على ضربين: إحداهما: أن يعلم أن إحداهما أكثر وشك في أيهما الأكثر فإن قلنا: بمراعاة الأكثر يلزم نصف العشر لأنه اليقين، وإن قلنا: بمراعاتهما واعتبار حسابهما فلسنا على يقين من قدر الواجب غير أنا نعلم أنه ينقص عن العشر ويزيد على نصف العشر فيأخذ قدر اليقين ويتوقف في الباقي حتى يستبين. والضرب الثاني: أن يشك هل هما سواء أم إحداهما أكثر فإن اعتبرنا الأكثر ففيه نصف العشر لأنه اليقين وإن قلنا: باعتبارهما ففيه وجهان: إحداهما: قاله بأن سريج [134 ب/4] فيه ثلاثة أرباع العشر لأنه أعدل الحالين وأثبت لحكم السقيين. والثاني: تؤخذ زيادة على نصف العشر بشئ، وإن قل وهو قدر اليقين ويتوقف في الباقي حتى يستبين اعتباراً ببراءة الذمة ذكره في "الحاوي" (¬2)، وقال القفال: هل يعتبر عدد السقيات أو المدة وجهان، مثل أن يكون من يوم الزراعة إلى إدارك ثمانية أشهر مثلاً فاحتاج في ستة أشهر وهو زمان الشتاء والربيع إلى ثلاث سقيات وفي شهري ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 32) (¬2) أنظر الحاوي للماوردي (3/ 251)

الصيف إلى ثلاث سقيات فأحد الوجيهين أنه يعتبر عدد السقيات فيلزم نصف العسر ونصف نصف العشر بلا توزيع العشر. والثاني (¬1): ..... ثلاثة أرباع العشر ونصف ربع العشر، ومن أصحابنا من قال: يعتبر بما وقعت الزراعة به فإن زرعت بماء السماء فيلزم العشر، وإن زرعت بماء الدولاب فنصف العشر لأن الزراعة هي الأصل وما بعدها تبع وليس بمذهب. فرع لو اختلف رب المال والساعي فقال رب المال: كان النضح الأكثر، وقال الساعي: كان السيح أكثر فالقول قول رب المال وهل تجب اليمين؟ فهذا يخالفه ظاهر الحال وقد مضى حكمه. [135 أ/4]. فرع آخر لو زرع بالماء الجاري ثم انقطع في الأثناء فاحتيج إلى السقي بالنضج فسقي به هل يثبت حكمه فيه وجهان، إحداهما: يثبت لأنه سقي بهما مشاهدة، والثاني: أنه لا حكم له لأن هذا سقي بالسيح، ولأن الاحتياج إلى النضخ نادر ولا حكم له وهذا القدر غير مقصود فلا يؤثر فلا يؤثر وهذان الوجهان يقربان من الوجهين فيما لو علفت السائمة ساعة ثم أعاد على السوم هل يبطل حكم السوم حتى يستأنف الحول من وقت الإعادة إلى السوم، ومن الوجهين في الخليطين في الماشية إذا ميزا ماشيتهما لحظة ثم خلطا هل يبطل حكم الخلطة أم لا. وهكذا ورع النواضح إذا سقته السماء مرة أو مرتين والصحيح أنه لا اعتبار به لأنًّه غير مقصود. مسألة: قال (¬2): وأخذُ العُشْرِ أن يُكَالَ لرَبِّ المالِ تِسْعَةٌ. الفصل وهذا كما قال: إذا أراد الساعي أخذ العشر من المعشرات فكال لرب المال تسعة والساعي واحد ونصف العشر أن يكال لرب المال تسعة عشر والساعي واحد، وأن .... (¬3) ثلاثة أرباع العشر يكال لرب المال سبعة وثلاثون وللساعي ثلاثة وإنما بدأ بجانب رب المال لمعنيين إحداهما: أن حقه أكثر، والثاني: أن حق المساكين إنما يتبين [135 ب/4] به ولو بدأ بجانب المساكين وكيل لهم واحد فلعل الباقي لا يفي بحق رب المال فيحتاج إلى رد ما كيل للمساكين إليه ولا يكال لرب المال عشرة وللساعي واحد لأنه حينئذٍ يكون جزءاً من أحد عشر ويكال لرب المال والساعي كيلاً واحداً إلا بكشف منه شيء على رأس المكيال ولا تهر ولا يزلزل المكيال ولا يحركه لما فيه من الميل وأخذ الفضل ولا يضع يده فوق المكيال ويرسل على رأسه فما أخذ رأسه أفرغ به لأن ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) أنظر الأم (2/ 32). (¬3) موضع النقط بياض بالأصل.

ذلك أصح الكيل ولا يمسح المكيال لأن المسح يختلف، وإن جعل التمر في قواص أو قلال ثم دعا الساعي إلى أن يأخذ الصدقة عنها عدداً أو وزناً لم يكن عليه ذلك بل عليه أن يأخذه كيلاً على الخرص فوجد في يده تمر أخذه كيلاً وصدق رب المال على مبلغ كيله وهكذا في الحبوب نص (¬1) على هذا كله. مسألة: قال (¬2): وهكذا نصف العشر ويؤخذ العشر مع خراج الأرض. وهذا كما قال: أراد على ما ذكرنا يؤخذ نصف العشر ولا يمنع خراج الأرض من وجوب العشر أو نصف العشر وبه قال ربيعة والليث والزهري والأوزاعي وسفيان الثوري وأحمد [136/ 4] وإسحاق، وقال أبو حنيفة: لا يلزم العشر في الأرض الخراجية والعشر والخراج لا يجتمعان وأصل هذا هو أن العشر عنده هو حق الأرض لأن من حق الزرع حتى لو أجر الرجل أرضاً من رجل بدرهم ..... (¬3) المستأجر فأدرك من الزرع ما يبلغ عشرة ألوفاً يجب العشر كله على المكري والزرع للمكتري وليس عليه إلا كري الأرض وهو درهم وعندنا العشر حق الزرع والخراج حق الأرض فلا يتمانعان في الوجوب والدليل عليه أنه يختلف قدره بقدر الزرع ويجب عندنا على المكتري دون الكري فإذا تقرر هذا فأعلن أن أرض الخراج هي سواد الكوفة وهي من القادسية إلى حلوان عرضاً ومن تكريت إلى الأهواز طولاً. وقيل: هي من تخوم الموصل إلى عبادان طولاً وهو قريب من ذاك ومن أصحابنا من قال: ظاهر هذه المسألة أنها خلاف فإذا كشفنا عن المذهب تبين أنها وفاق وذلك أن الإمام إذا فتح أرضاً عنوة فعليه أن يقسمها بين القائمين ولا يجوز أن يقرها على ملك المشركين ولا خلاف أن عمر رضي الله عنه فتح السواد عنوة ثم اختلفوا فيما صنع فعندنا أنه قسمها بين الغانمين واستغلوها سنتين أو ثلاثاً ثم رأى أنه إن أقرهم على القسمة تشاغلوا بالعمارة [136 ب/4] عن الجهاد فيتعطل الجهاد وإن تشاغلوا بالجهاد تخرب السواد فرأى المصلحة في نقض القسمة واستنزل المسلمين عنها فمنهم من ترك حقه بعوض، ومنهم من ترك حقه بغير عوض فلما حصلت الأرض لبيت المال وقفها على المسلمين ثم أجرها منهم بقدر معلوم يؤخذ منهم في كل سنة عن كل جريب من الكرم عشرة دراهم ومن النخل درهم ومن الرطبة ستة ومن الحنطة أربعة ومن الشعير درهمان فأرض السواد عند الشافعي وقف لا تباع ولا توهب ولا تورض، وقال ابن سريج ما وقفها عليهم ولكنه باعها من المسلمين بثمن معلوم يجب في كل سنة عن كل جريب وهو ما قلناه، فالواجب فيها في كل سنة ثمن وأيهما كان يجب العشر معه وعند أبي حنيفة إذا فتح الإمام أرضاً عنوة فعليه قسمة ما ينقل منها، وفي الأرض بالخيار بين ثلاثة أشياء بين أن يقسمها بين القائمين أو يقفها على المسلمين أو يقرها في يد أهلها ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 32). (¬2) أنظر الأم (2/ 32). (¬3) موضع النقط بياض الأصل

المشركين ويضرب عليهم الجزية بقدر ما يجب على رؤوسهم، فإذا فعل هذا تعلق الخراج بها إلى يوم القيامة ولا يجب العشر في غلتها أبداً فمتى أسلم واحد منهم أخذت تلك الجزية منه باسم الخراج وهكذا [137 أ/4] فعل عمر رضي الله عنه عندهم وعندنا مثل هذا يسقط بالإسلام لأنه جزية فلا يحتمل الخراج والعشر على هذا وعاد الكلام معه إلى فعلين، إحداهما: أن هذه التجربة تسقط بالإسلام أم لا؟ والثاني: هل يجب على الإمام قسمة الأراضي بين الغانمين أم لا؟ فرع لو وجد الإمام أرضاً في طرف من أطراف بلاد الإسلام يؤخذ منها الخراج جاز له أخذ الخراج لأن الظاهر أنه يؤخذ باستحقاق لجواز أن يكون الإمام صنع فيها كما صنع عمر رضي الله عنه نص عليه الشافعي، وإن علم سببه وهو ظلم أو جزية لا يجوز له أخذه. فرع آخر كل بلد أسلم أهله أو فتح عنوة وقسم بين الغانمين لا خراج على أهله وكل بلد فتحٍ على أن يكون قد ملك الأرض المسلمين ويؤدون إليهم الخراج عن كل جريب شيئاً معلوماً كان ذلك خراجاً لا يسقط بإسلامهم ولا يجوز للكافر بيعه فإن باعه لم يصح فإن صالحهم على أن يكون الملك لهم ويؤدون ذلك فيكون جزية فسقط بإسلامهم ولو باع هذا الكافر من المسلم صح البيع ويسقط المال عنه وبلاد خراسان على هذا لأن بعضها أسلم أهله وبعضها فتح عنوة وقسم بين الغانمين. [137 ب/4]. فرع آخر قال بعض أصحابنا: الأخرجة التي في البلاد على القاعدة التي وضعها عمر بن الخطاب رضي الله عنه ظلم عندنا، ولكن إذا أخذها السلطان ينظر فإن لم يقصد أن يكون بدلاً من العشر لا يسقط العشر عن مالكه، وإن قصد أن يكون بدلاً من العشر كان كما لو أخذ القيمة مجتهداً فإن كان المأخوذ بقدر قيمة العشر سقط الفرض عنه، وإن كان دونه يخرج الباقي. فرع آخر لو اشترى ذمي من مسلم أرضاً من أرض العشر صح الشراء ولم يجب على الذمي فيه عشر وخراج، وقال في القديم: أعجب إلى أن يفسخ عليه أو يجبر على البيع لأنه يستقطع مزرعة في دار الإسلام من غير حق يتعلق بها، وأصحابنا لم يجعلوا هذا قولاً آخر بل المسألة على قول واحد، وإذا صح أن ملكها لا حق عليه فيها، وقال مالك: لا يصح الشراء وهذا غلط، لأن كل أرض يملكها المسلم يملكها الذمي بالشراء أصلع أرض الخراج، وقال أبو يوسف: يجب على الذمي عشران، وقال محمد: يجب عشر واحد، وهذا غلط، لأنه حق مال مصروف إلى أهل السهمان فلا يجب على الذمي كزكاة المواشي، وقال أبو حنيفة: إن [138 ا/4] كان الذمي من غير نصارى بني تغلب

الذين أضعف عمر رضي الله عنه عليهم الصدقة تنقلب الأرض خراجية فيؤخذ الخراج وهذا غلط، لأنه قال: يتعلق به حق الله تعالى في ملك المسلم فإذا انتقل إلى الذمي ..... (¬1) إلى وجه آخر كالمواشي ...... (¬2) فرع آخر لو كان الذمي من بني تغلب وبهذا قال أصحابنا: يؤخذ عشران لأنه يؤخذ منهم مضاعفاً باسم الصدقة على ما عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكذلك ضاعف عليهم سائر الزكوات وهذا وفاق بيننا وبين أبي حنيفة، فإن أسلم هذا الذمي أو باع أرضه من مسلم سقط عنه أخذ العشرين ونفي الآخر، وقال أبو حنيفة: لا يسقط ويؤخذ عشران وهذا غلط، لقوله صلى الله عليه وسلم "فيما سقت السماء العشر" فأوجب عشراً واحداً ولم يفضل، ولأن حق يتعلق بزرع مسلم فلا يزيد على العشر كما لو ورث. فرع آخر لو حمل السيل الحب من دار الحرب ونبت في دار الإسلام لا يلزم العشر، وهكذا لا عشر في النخيل المباحة في الصحراء، لأنه لم يدرك في ملك مسلم. فرع قال ابن الحداد: لو كانت له تمرة يجب فيها الزكاة فباعها من ذمي قبل بدو الصلاح بشرط القطع فلم يقطع حتى بدا صلاحها [138 ب/4] ثم اشتراها البائع منه أو رد عليه بالعيب فلا زكاة فيها لأن وقت الوجوب جاء وهي لمن لا يجب عليه الزكاة، وكذلك لو اشتراها مكاتب وهذا لأنه لا عشر عندنا على المكاتب في زرعه، وكذا إذا ملك السيد عنه أرضاً وقلنا: تملك بالتمليك فزرع لا يجب العشر، وقال أبو حنيفة: يجب العشر في زرع المكاتب ووافقنا في الذمي في أنه لا عشر عليه. فرع آخر لو كانت له نخل وعليه بقيمتها دين ثم مات المالك قبل قضاء الدين انتقلت النخيل إلى ملك ورثته وتعلق الدين بها كما يتعلق حق الرهن بها وقال الإصطخري: الدين لا يمنع انتقال التركة إلى الوارث ويكو متبعاً على حكم ملك الميت والتفريغ على المذهب .... (¬3) إلى الورثة فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يطلع بعد وفاة من عليه الدين أو قبل وفاته، فإن اطلعت بعد وفاته كانت الثمرة لوارثه لا يتعلق الدين بها وعند الإصطخري يتعلق الدين بها وهو فائدة الخلاف معه فإن بلغت نصاباً والوارث واحد ففيها الزكاة، وإن كانوا جماعة فبلغت حصة كل واحد نصاباً يلزم الزكاة وإلا فقولان بناء على الخلطة [139 أ/4] في غير الماشية، وإن اطلعت قبل وفاته وكان موته قبل أن بدا صلاحها ثم مات وبدا صلاحها فقد تعلق الدين بالنخل وثمارها ثم وجبت الزكاة ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض الأصل (¬2) موضع النقط بياض الأصل (¬3) موضع النقط بياض الأصل.

باب صدقة الورق

فيها فقد تعلق بالتركة حقان زكاة ودين فأيهما تقدم يبني على القولين فإن قلنا: الزكاة استحقاق جزء من العين قدمنا الزكاة لأن ما اختص بالعين أولى، وإن قلنا: تجب في الذمة فهما سواء في أنهما تساويا في الذمة والعين معاً فنقدم الدين على الزكاة لأنه سابق وعلى الوارث إخراج الزكاة من غيره فإن لم يكن له مال سواه أخرج الزكاة، إذا أيسر من ماله، لأن الزكاة وجبت في ملك الورثة فعليهم إخراجها إذا قلنا: الدين لا يمنع وجوب الزكاة فإن بدا صلاحها ثم مات كانت الزكاة مقدمة على الدين على القولين جميعاً، لأن الحق تعلق بالذمة دون العين والزكاة تعلقت بالعين أو بالعين والذمة قبل الوفاة فكانت مقدمة على الدين. فرع آخر إذا وجب العشر فيما أنبتت الأرض مرة لا يجب مرة أخرى ولو بقي عنده سنين، وقال الحسن البصري: يجب عليه العشر في كل عام وهذا غلط، لقوله صلى الله عليه وسلم " فيما سقت السماء العشر" فأوجب [139 ب/4] عشراً واحداً، ولأن الزكاة إنما تجب في الأموال النفسية وهذا المال لا يتكرر نماؤه فلم يتكرر الوجوب فيه. مسألة: قال (¬1): وما زادَ ممَّا قَلَّ أو كّثُرَ أو كَثُرَ فبِحِسَابهِ. وهذا كما قال: إذا زاد الحب أو التمر على خمسة أوثق يجب العشر في قليله وكثيره بالإجماع، لأن الوقص في الابتداء اعتبر ليبلغ المال حداً يحتمل المواساة واعتبر في أثنائه احترازاً من الضرر بسوء المشاركة وهذا لا يوجد في الزيادة على خمسة أوسق لأنها تتبعض ولا يشق أخذ العشر من قليلها وكثيرها. باب صدقة الورق قال (¬2): أخبرنا مالِكٌ عن عمرو بنِ يَحيَى المازِنيِّ .... الخبر. وهذا كما قال الفضة والورق والرقة هي عبارة عن معنى واحد وقيل: الورق الدراهم المضروبة، وكذلك الرقة وهي من الحروف الناقصة كما قالوا في الوصل: صلة وفي الوزن زنة ويجمع الرقين والعرب قالوا: إن الرقين تغطي أفن الأفين أي: الدراهم تستر حمق الأحمق والأصل في وجوب الزكاة فيها قوله تعالى: {والَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والْفِضَّةَ ولا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] الآية، وقوله صلى الله عليه وسلم " في الرقة ربع [140 أ/4] العشر (¬3) " فإذا تقرر هذا فلا زكاة فيما دون خمس أوراق منها لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " ليس فيما دون خمِس أواق من الورق صدقة" (¬4) والأوقية أربعون درهماً وجمعها أواق بالتخفيف وأواقَّي بالتشديد، وروى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا كان الورق تسعة ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 32). (¬2) أنظر الأم (2/ 32). (¬3) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (3518) (¬4) أخرجه البخاري (1405)، ومسلم (6/ 980).

وتسعين ومائة فلا شئ فيه فإذا بلغ مائتين ففيه خمسة دراهم" (¬1)، وقال المعرفي: الاعتبار بمائتي درهم عداً لا وزناً حتى لو كانت معه مائة درهم وزنها مائتا درهم فلا زكاة وهذا جهل ببعض الأخبار والإجماع، فإذا تقرر هذا فجملة خمس أواق مائتا درهم بدراهم الإسلام وكل عشرة من دراهم الإسلام هي وزن سبعة مثاقيل ذهباً ويريد بدراهم الإسلام وزن مكة دون ما أحدثه الناس، وكذلك بريد بالمثاقيل وزن مكة دون غيرها من البلدان، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "الميزان ميزان مكة والمكيال مكيال المدينة" وقيل: إنما جعل كل عشرة دراهم بوزن سبعة مثاقيل من الذهب لأن الذهب هو أوزن من الورق فكأنهم جربوا خثة من الورق ومثلها من الذهب فوزنوهما فكان وزن الذهب زائداً على وزن الفضة بمثل ثلاثة أسباعها فكذلك [140 ب/4] جعلوا كل عشرة دراهم بوزن سبعة مثاقيل. قال أبو القاسم بن سلام في "كتاب الأموال": سمعت شيخاً من أهل المعرفة بهذا الشأن يعني بأصل الدراهم وسبب ضربها في الإسلام فقال: إنَّ الدراهم كانت على وجه الدهر نوعين هذه السوداء البعلية الوافية وهذه الطبرية الخفيفة أي: طبرية الشام فكانت الزكاة تجب في صدر الإسلام في مائتين منهما فلما كان في زمان بني أمية أرادوا ضرب الدراهم فنظروا في المتعقب وأنهم إن ضربوا من الوافية التي في كل درهم منها درهم ودانقان، أضر ذلك بالمساكين وإن ضربوا من هذه الطبرية الخفيفة أضر ذلك برب المال فحملوا زيادة هذه على نقصها من هذه، لأن المقصود سكته وعينه لا قدر الفضة منه، ولهذا جاز البيع بالدراهم الغطرفية ببخاري وسمرقند، ولم يختلف فيه العلماء أو نقول صارت بحملتها مقصودة مع الأخلاط بعد الضرب فضارت كالغالية والأودية المعجونة، وقال بعض أصحابنا: ينظر في المغشوش فإن كانت الفضة غير ممازجة للغش من النحاس بل الفضة على ظاهرها والنحاس في باطنها لا يجوز المعاملة بها لا معينة ولا في الذمة، لأن الفضة وإن شوهدت فالمقصود الأخر غير معلوم ولا مشاهد [141 أ/4] كما لا يجوز المعاملة بالفضة المطلية بالذهب، وإن كانت الفضة ممازجة للغش لم تجز المعاملة بها في الذمة للجهل وهل يجوز بالعين؟ وجهان، إحداهما: لا يجوز لجهل بالمقصود، والثاني: هو الأظهر أنه يجوز كما يجوز بيع الحنطة المختلطة بالشعير إذا شوهدت، وإن لم يجز السلم فيها، وإن كان الغش غير مقصود فإن كانا ممتزجين لا يجوز المعاملة بها لا معينة ولا في الذمة، لأن مقصودها مجهول بمخالطة ما ليس بمقصود، وإن كانا غير ممتزجين بل الفضة على ظاهرها والغش في باطنها كالزرنيخية يجوز المعاملة بها إذا كانت حاضرة لا معينة، لأن المقصود منها مشاهد ولا يجوز في الذمة للجهل ولو أتلفها رجل فإنه يلزمه رد قيمتها ذهباً وهذا كله ذكره في "الحاوي" (¬2) ويحكي عن أبي حنيفة أنه قال: إن كان الأكثر فضة جازت المعاملة وإلا فلا يجوز، وأما لفظ "المختصر": قرئ لئلا يغريه أحداً ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داوود (1573)، والترمذي (620). (2). (¬2) أنظر الحاوي للماوردي (3/ 260، 261)

وقرئ لئلا يغريه أحد وقرئ لئلا يعذية أحد فاللفظة الأولى هي محمولة على مباشرة التغرير والتدليس. واللفظة الثانية محمولة على مباشرة وازنه التغرير بعده جاهلاً بأنها مغشوشة. واللفظة الثالثة هي أحج عند من لا يجوز به التصرف أًصلاً، لأن من يعلم أنه مغشوش لا ينهي عنه كي لا يغير [141 ب/4] وإنما ينهي عنه، لأن تصرفه باطل، وأما حكم الزكاة فلا زكاة فيها حتى يعلم أنها إذا صفيت بلغت نصاباً ثم يجب فيها الزكاة، وقال أبو حنيفة: إن كان الغش أكثر فلا زكاة، وإن كان الغش أقل من نصفها تلزم الزكاة بناء على أن أصله أن الغش إذا نقص عن النصف سقط حكمه حتى لو اقترض رجل عشرة دراهم فضة لا غش فيها فرد عشرة فيها أربعة دراهم غش يلزم المقرض قبولها ويجوز أن يخرجها عن الفضة الخالصة في الزكاة على سواء، وهذا ظاهر الفساد يخالف ظاهر الخبر الذي رويناه، فإذا تقرر هذا فإن كان عنده ألف درهم مغشوشة فإن أخرج خمسة وعشرين درهماً فضة خالصة أجزأته لأنه تطوع بالفضل، وإن أراد إخراج الزكاة منها نص في "الأم" (¬1) على ثلاث مسائل، أحدها: أنه أحاط العلم بقدر الغش منها فكانت منها خمسة وعشرين أجزاته لأن الفضة ستمائة وقد اخرج ربع العشر منه، والثانية: أن لا يحيط علمه بالمقدار ولكنه إذا استظهر عرف أنه أخرج الواجب وزيادة ففعل ذلك أجزأه، والثالثة: قال: لا أعرف المبلغ ولا استظهر [142 أ/4] قلنا: فعليك التصفية لتعلم المقدار فتخرج منه هذا إذا أخرجها رب المال بنفسه إلى أهل السهمان فإن دفعها إلى الساعي وقال له: قد اجتهدت حتى أحاط علمي بالمقدار وهذا كل الواجب أو أكثر كان القول قول رب المال مع يمينه على الاستظهار، لأنه لا يخالف الظاهر فإن قال رب المال: لا أعرف المبلغ قطعاً لكن اجتهدت فأدى اختياري إلى هذا لم يكن للساعي أن يرجع إليه ولا يقبل منه حتى يشهد شاهدان من أهل الخبرة أن الأمر على ما حكاه، ولو أخرج الدراهم المغشوشة عن الدراهم الجيدة لم يجز وعليه أن يخرج خمسة دراهم لا فش فيها وهل له أن يرجع فيما أخرج من المغشوش قال ابن سريج فيه مثل ما قال فيما لو أخرج الرديء عن الجيد، وقد ذكرنا ما يقتضيه مذهب الشافعي إلا أنّا نقول: وها هنا إذا لم يذكر أنه عن فرصة لا يرجع وما أخرجه يجزيه بالقدر الذي فيه من القصد وعليه أن يخرج الباقي. مسألة: قال (¬2): ولو كانتْ لهُ فِضَّةٌ خَلَطَهَا بذَهَبٍ كانَ عليهِ أنْ يُدخِلَهَا النَّارَ حتَّى يَمِيزَ بَينَهُما. الفصل وهذا كما قال: إذا كانت معه فضة مختلطة بذهب وقدر كل واحد منهما يبلغ [142 ب/4] نصاباً فإنه تجب الزكاة فيها، وإذا أراد إخراجها فإن تيقن مقدار كل واحد ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 33، 34) (¬2) أنظر الأم (2/ 34)

منهما أخرج زكاة كل واحد منهما بقدره، وإن لم يعرف مقداره وأراد أن يستظهر فيخرج كل ما يعلم أنه قد أدّى الواجب أجزأه، والاستظهار أن يخرج من كل واحد منهما أكثر ما يتوهم مثل أن يكون للكل وزن ألف درهم ويحتمل أن وزن خمسمائة منها فضة وخمسمائة ذهب ويحتمل أن وزن ستمائة فضة وأربعمائة ذهب فلا يكفي في الاحتياط أن يجعل قدر الشك ذهبًا فيخرج زكاة خمسمائة ذهبًا وخمسمائة فضة لأن عندنا لا تجزي القيمة في الزكاة ولا يجزي الذهب من الفضة، وان أخرج منه بوزن الفضة بل الاحتياط بقدر وزن خمسمائة وستمائة وإن لم يفعل ذلك .... (¬1) بالنار ليخرج من كل واحد منهما ما وجب وفي مؤنة السبك وجهان، إحداهما: من وسط المال لأن المساكين يتزكانه في المال قبل السبك فلم يجز أن يختص بمؤنته دونهم، والثاني: وهو الأظهر المؤنة على رب المال لأنه لا يمكن أخذ الزكاة إلا بها فهي كأجرة الحصاد في الزرع، وقال بعض أصحابنا: يمكن معرفة مقدار كل واحد منهما من غير التمييز بالنار بأحد [143 أ/ب] طريقين إحداهما: أن يأتي بإناء فيه ماء وتطرح فيه السبيكة المخلوطة فيعلو الماء لا محالة فيعلم على رأس الماء في الإناء علامة ثم يخرج السبيكة ويطرح بوزنها من النقرة الخالصة في الماء فيعلو الماء أكثر لأن الفضة أكثر جثة وأخف وزنًا ويعلم على الموضع الذي ارتفع الماء إليه علامة نم يخرج الفضة من الماء ويطرح في الإناء بقدرها ذهبًا فيعلو الماء أقل لأن الذهب هو أصغر جثة وأكثر وزنًا فتعلم على رأس الماء علامة أخرى فيحصل ثلاث علامات تعرف بمقدار تفاوت العلامات قدر كل واحد منهما، مثاله ارتفع الماء بألف مثقال فضة قدر أصح وبألف مثقال ذهب قدر ثلثي أصبع وبالمخلوط خمسة أسداس الأصبع فتعلم أن المخلوط نصفه ذهب ونصفه فضة فعلا الماء فيه نصف الإصبع بخمسمائة مثقال فضة وقدر ثلث أصبع بخمسمائة مثقال ذهب والطريقة الثانية: أن يطرح السبيكة المخلوطة في الإناء حتى يعلو الماء ويعلم على الموضع الذي ارتفع إليه علامة ثم يخرج المخلوط ويطرح فيه من الفضة الخالصة حتى يعلو الماء إلى موضع العلامة ويخرجها ويزنها نم يطرح فيه الذهب الخالص حتى يبلغ الماء إلى موضع العلامة وتخرجه وتزنه فتكون النقرة أقل [143 ب/ (4)] من الذهب لا محالة فتعرف بقدر التفاوت قدر المخلوط مثاله ارتفع الماء إلى موضع العلامة بثمانمائة مثقال من الفضة ولما طرحنا الذهب لم يرتفع الماء إلى موضع العلامة إلا بألف ومائتين وخمسين مثقالًا فعلمنا أن كل مثقال من الفضة يشغل مكان مثقال ونصف ذهب، وان المخلوط نصفه فضة فشغل مكان سبعمائة وخمسين مثقالًا من الذهب وفيها خمسمائة ذهب. فرع لو كان عليه ألفين من الدراهم وليس له من أن يزن به يقضي الدين بهذا الطريق فإنه يجوز، ولو كان عليه دين من المكيلات فقض الدين بطريق الخرص فإنه يجوز، ولو ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل.

باع النقرة بالنقرة بهذا الطريق فإنه لا يجوز فإنه يعتبر في الربا تقدير مخصوص، ولهذا لو باع الحنطة بالحنطة وزنًا بوزن فإنه لا يجوز. مسألة: قال (¬1): ولو كَانَتْ لهُ فِضَّةٌ مَلطوخَةٌ على لجامٍ أو مُمَوَّهٌ بِهَا سَقْفُ بيته. الفصل وهذا كما قال: صورة السقف بالذهب والقفة حرام لأنه من السرف والخيلاء، وقال أصحاب أبي حنيفة يجوز لأنه يصير تابعًا لمباح ولو فعل ذلك فإن كان متهلكًا لا يحمل منه شيء فلا زكاة فيه، وإن كان يحصل عنه شيء فالحكم فيه كالمسألة قبلها، وفي حلية اللجام كلام وظاهر [144 أ/4] نصه هاهنا أنها محرمة وتجب الزكاة فيها. مسألة: قال (¬2): وإذا كانَ في يديهِ أقلٌ من خمسِ أواقٍ وما يُتمَّ خمَْسَ أواقٍ دينًا لَهُ أو غائبًا عَنهُ أحصَى الحاضِرَةً. الفصل وهذا كما قال؛ صورة المسألة أن يكون له عين ودين أو يكون له مال حاضر ومال غائب قال الشافعي: يضم بعضه إلى بعض فيذكر أولًا وجوب الزكاة في الدين .... (¬3)، ثم نرجع إلى حكم المسألة، أما الدين فقال الشافعي في عامة كتبه: فيه الزكاة وقال في باب الزكاة في الدين من القديم الذي نقله الزعفراني: لا أعرف في الزكاة في الدين أمرًا صحيحًا يأخذ به ولا يتركه وأرى والله أعلم أن ليست، فيه زكاة وهذا نص منه على أن لا زكاة في الدين ولم ينقل هذه الرواية سواه من أصحابنا فمن أصحابنا من قال: فيه قولان ومنهم من قال: قول واحد، يجب فيه الزكاة فإذا تقرر هذا فالدين على ضربين، حال ومؤجل، فالحال: على ثلاثة أضرب، أحدها: أن يكون الدين على مليء مقربه أي: وقت طالبه دفعه إليه فتجب الزكاة فيه لأنه في ملكه، ومقدوره كالوديعة ويجب عليه إخراجها قبضه أو لم يقبضه، وقال أبو حنيفة: تجب فيه الزكاة [144 ب/4 [ولكنه لا يلزمه إخراج ما لم يقبضه، والثاني: أن يكون على مليء باذل في الباطن جاحد في الظاهر ويخاف أن يطالبه بغير حجة ويمنعه أو على مقر ملئ مماطل مدافع لم يجب عليه إخراجها إذا حال الحول لأنه ممنوع، ولكن متى قبضه زكاه لما مضى قولًا واحدًا، وكذلك إن كان الدين على ملئ غائب، والثالث: أن يكون على مليء جاحد في الظاهر والباطن لهو كما لو كان على معسر ولو كان على معسر كان كالمغصوب فلا يجب الإخراج في الحال، وإذا رجع إليه هل يزكيه لما مضى قد بيناه من قبل، وإن كان الدين على مليء مؤجلًا إلى سنة فإذا حل الدين هل يستأنف الحول؟ قال ابن أبي هريرة: يستأنف الحول قولًا واحدًا لأن عنده الدين المؤجل غير مملوك حتى قال لو حلف لا دين لي عليه قبل حلول الأجل لا يحنث ولو حلف أنه لا يستحقه ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 34) (¬2) انظر الأم (2/ 34) (¬3) موضع النقط بياض بالأصل

كان بارًا بالإجماع، وقال أبو إسحاق: هو كالدين الحال على معسر أو مليء جاحد فيكون على قولين والصحيح هذا لأن الدين المؤجل هو مملوك لكن تتأخر به المطالبة كما تتأخر المطالبة عند المعسر للاعتبار، والدين على أنه مملوك أنه يصح [145 أ/4] الإبراء عنه قبل محله، وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا جاء الحول قبل حلول الأجل يزكي في الحال في أحد الوجهين وفي الوجه الثاني: يزكي لما مضى عند الاستيفاء وقبله لا يلزمه الإخراج وهذا غلط، وإن كان الدين غير لازم كمال الكتابة لا يلزمه زكاته لأن ملكه لم يتم عليه لأن له أن يعجز نفسه، ولو كان على مليء وله بينة أو يعلمه الحاكم فالذي يقتضيه المذهب أنه تجب الزكاة فيه، وقادت إن علمه الحاكم يجب، وإن كان ببينة لم تجب لأنه ربما لا يقبلها الحاكم وهذا غلط، لأن البينة هي حجة كعلم القاضي، وروي عن سهل بن قيس المازني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على من أسلف مالًا زكاة" (¬1) وقيل: المذهب أنه يلزم وهل يلزم الإخراج؟ وجهان، إحداهما: لا يلزم لأن يده قاصرة عن ماله، والثاني: يلزم لأن تأخير حقه كان برضاه ولم يوجد الرضا من المساكين، وأما المال الغائب فإن كان لا يعرف موضعه أو كان يعرف موضعه ولكن لا يصل هو إليه فهو بمنزلة المدفون الذي لا يعرف موضعه والمغصوب، وإن كان يعلم موضعه وهو مقدور [145 ب/4] عليه مثل أن يكون مع مضاربه في بلد آخر أو في بلد آخر أو مع وكيله أو مع عبده المأذون له في التجارة، قال بعض أصحابنا: يلزمه إخراج زكاته في الحال كالوديعة نم إما أن يأمر بإخراج زكاته في بلد المال فيجزيه قولًا واحدًا أو يخرجها في بلده فتجريه في أحد القولين، وقال بعض أصحابنا بخراسان فيه وجهان: إحداهما: هذا، والثاني: أنه لا يلزمه الإخراج في الحال، فإذا استوفاه زكاه لما مضى والأول أصح. ومن أصحابنا من قال: إن المال الغائب ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون مستقرًا في بلد تعرف سلامته فيلزمه إخراج زكاته في البلد الذي هو فيه. والثاني: أن يكون سائرًا غير مستقر ويعرف سلامته فلا زكاة قبل وصوله إليه فإذا وصل زكاه لما مضى قولًا واحدًا. والثالث: أن يكون سائرًا ولا يعرف سلامته فهو كالمال الضال والمعصوب فإذا تقرر هذا رجعنا إلى مسألة الكتاب إذا كان ماله عينًا ودينًا فإن كانت في يده مائة درهم عين ومائة درهم دين له على رجل أو غائب عنه، فإن كان الدين أو الغائب بحيث يلزمه [146 أ/4] إخراج الزكاة عنه في الحال يلزمه أن يخرج من المائة في الحال، وإن كان بحيث لا يلزمه إخراج الزكاة عنه في الحال ويلزمه إذا رجع إليه في أحد القولين لم ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عدى في "الكامل" (6/ 2211)

باب زكاة الذهب

يلزمه أن يخرج الزكاة من الحاضرة ولا من الغائبة حتى يرجع إليه ثم يخرج زكاتهما، فإن قيل: كان يجب أن يقولوا: يخرج زكاة المائة الحاضرة لأن الزكاة قد وجبت عليه وإنما لا يلزمه إخراجها في الحال لتعذر الوصول إليه والمائة الحاضرة مقدور عليها فلزمه إخراج زكاتها بمقدارها، قلنا: المائة الحاضرة غير منفردة بحكمها لأنها نصاب مع المائة الأخرى فإذا لم يجب إخراج الزكاة عن إحدى المائتين كذلك لا يجب إخراجها عن المائة الأخرى ولأن هذه المائة لما كانت متصلة بالأخرى في الوجوب فكذلك في الإخراج، وقال بعض أصحابنا: وهذا إذا قلنا: إمكان الأداء من شرائط الوجوب فأما إذا قلنا: إنه من شرائط الضمان فالإمكان فيما في يده حاصل فعليه أن يؤدي منه بقدره ثم كلما وصل إليه من الغائب أو الدين شيء زكاه بقدره لأن أكثر ما في الباب أن يجعل ذلك كالتالف وهذا صحيح. فرع مسألة: قال (¬1): وما زاد ولو [146 ب/4] قيراطًا فبحسابه. وهذا كما قال: عندنا لا وقص للدنانير والدراهم بعد الوجوب، وقال أبو حنيفة: للدراهم أوقاص بعد المائتين كل وقص أربعون درهمًا وللذهب أوقاص كل وقص أربعة دنانير، وبه قال الحسن وعطاء وطاوس والشعبي ومكحول والزهري رحمهم الله، وبقولنا قال علي وابن عمر رضي الله عنهما، والنخعي وسفيان وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد ومالك وأحمد وأبو عبيد، ثم ذكر الشافعي بعد هذا حكم المرتد واختار قول الوقف وقد ذكرنا ثم ختم المزني الباب بمسألة ذكرها من عند نفسه فقال: وحرام أن يؤدي الرجل الزكاة من عشر ماله لقوله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] يعني لا تعطوا في الزكاة الخبيث الذي لا تطيب أنفسكم به ولو دفع إليكم بل عليكم إعطاء الطيب مما أخرجت الأرض ومن الكسب والأمر على ما ذكره المزتي، وقوله: {إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: (267)] أراد إلا أن تكونوا مسامحين في ذلك ومواسين، فأما إذا أردتم الانتصاف واستيفاء الحق فلا تأخذوه، وقيل: أراد إلا أن يأخذوه بنقصان وبخس أراد أنه ولا يأخذوه بمثل القيمة التي يؤخذ فيها الجيد. باب زكاة الذهب [147 أ/4] قال (¬2): ولا أعلم اختلافًا في أن ليس في الذهب صدقة. في جميع أنواعه مضروبًا كان أو تبرًا. والتبر: هو كسارة الذهب والفضة مأخوذ من قولهم تبرت الشيء إذا كسرته جيدًا كان أو رديًا، ويريد به الرداءة من جهة الجنس لا من جهة الغش ولا يجب ذلك حتى يبلغ عشرين مثقالًا نم يجب نصف دينار فإن نقص عنه لا يلزم الزكاة، وإن كان فيه خلافًا لمالك وأحمد وقال عمر بن عبد العزيز: إن ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 34) (¬2) انظر الأم (2/ 34)

نقص ربع مثقال تلزم الزكاة، وإذا نقص ثلث مثقال لا تجب الزكاة، وقال الحسن في رواية: لا زكاة في الذهب حتى يبلغ أربعين مثقالًا فيجب مثقال لأنه لا يجوز الكسر فيها، وقال عطاء والزهري وطاوس ومجاهد وأيوب السختياني: نصاب الذهب يعتبر بقيمته من الورق فإن كان عشرون مثقالًا قيمتها أقل من مائتي درهم فلا زكاة وهذا غلط، لما روى عاصم بن محمرة عن علي رمحي الله عنه أنه قال: "ليس في أقل من عشرين دينارًا ثم حتى يكون لك عشرون دينارًا فيها نصف دينارا" (¬1). وربما يروى مرفوعًا والوقف أصح، وروى عمرو عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولا في أقل من عشرين مثقالًا من الذهب شيء"، (¬2) ثم بقاء النصاب [147 ب/ (4)] فيه شرط من أول الحول إلى آخره، وقال أبو حنيفة يعتبر في أوله وآخره، وقال مالك: يعتبر في آخره كما في زكاة التجارة وهذا غلط، لما ذكرنا من الخبر. مسألة: قال (¬3): ولو كانت لهُ مَعَها خمسُ أواقٍ فضَّةٍ إلاَّ قِيراطًا أو أقَل لمْ يكن في واحد منُهَما زكاةِ. وهذا كما قال: عندنا لا يضم الذهب إلى الورق ويعتبر نصاب كل واحد منهما بنفسه فإن ملك عشرين دينارًا غير حبة ومائتي درهم غير حبة لا زكاة فيها وبه قال شريك وابن أبي ليلى والمش بن صالح وأحمد في رواية وأبو عبيد وابن شبرمة، وقال الأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك وأبو يوصف ومحمد: يضم إحداهما إلى الآخر ثم اختلفوا في كيفية الضم فقال أبو حنيفة: يضم من طريق القيمة ويعتبر أسرعها في الإيجاب عند التقويم مثل أن يكون له مائة درهم وخمسة دنانير لو قومنا الدراهم بالدنانير لم تبلغ نصابًا من الذهب، ولو قومنا الدنانير الخمسة بالدراهم بلغت قيمتها مائة درهم فتكون نصابًا قوّمت الدنانير بالفضة لتجب الزكاة، وقال أبو يوسف ومحمد: يعتبر بالأجزاء فإذا كان عنده نصف نصاب فضة ونصف نصاب ذهب وجبت الزكاة وربما يقولان [148 أ/4] يعتبر بالقيمة الشرعية وهو أن الدينار بعشرة فيكون في الحقيقة اعتبار الأجزاء أيضًا واحتج الشافعي بأنه إذا لم يجمع التمر إلى الزبيب وهما يخرصان ويعسران وهما حلوان معًا، وأشد تقاربًا في الثمن أي: في القيمة والخفة والوزن، ويروى مكان الخفة الخلقة فلأن لا يجمع الذهب إلى الفضة أولى وهذا لا يلزم أبا حنيفة وإنما يلزم الآخرين، لأن عنده لا يعتبر النصاب في العشرات حتى يتصور الضم، وقيل: يتصور على مذهبه ذلك في حكم وهو أن عنده لرب المال أن يغرف بنفسه عشرهما دون خمسة أوسق دون ما زاد ثم قال: ومن فعل هذا فقد خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه قال: "ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة" فأخذها في أقل أي: في أقل من خمس أواق ثم التزم من جهتهم سؤالًا فقال: فإن قال أي: فإن اعتذر عن ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (7534). (¬2) أخرجه الدارقطني (2/ 93) بإسنداد ضعيف. (¬3) أنظر الأم (2/ 34).

باب زكاة الحلي

مخالفة الخبر بأني ضممت إليها غيرها فتمت، خمس أواق قيل فضم إليها بقرًا ليتم نصابها أيضًا فإن اعتذر بأن البقر ليس هو من جنس الدراهم فكذلك الذهب ليس من جنس الدراهم فلا يضم أيضًا. باب زكاة الحلي [148 ب/4] قال (¬1): الشافعي رحمه الله: أخبرنا مالك ... وذكر الخبر عن عائشة رضي الله عنها. وهذا كما قال: الحلي ضربان: محظور ومباح، فإن كان محظورًا فإنه تجب الزكاة فيه قولًا واحدًا، وإن كان مباحًا ففيه قولان إحداهما: وهو الأشبه والصحيح أنه لا زكاة فيه، وبه قال ابن عمر وجابر وعائشة وأسماء رضي الله عنهم، وسعيد بن المسيب والحسن والشعبي ومالك وعطاء وابن سيرين ومجاهد والزهري وأحمد وإسحاق ووجه هذا ما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وليس في الحلي زكاة" (¬2)، والقول الثاني: يجب فيه الزكاة وقيل: إن الشافعي استخار الله تعالى فيه واختاره وبه قال عمر بن الخطاب وعبد الله ابن عمر وان عباس وان مسعود رضي الله عنهم والشعبي والحسن والقاسم بن محمد والزهري وسفيان الثوري وأبو حنيفة وأصحابه: ووجه هذا ما روي أن امرأة من اليمن جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يدها مسكتان غليظتان من ذهب: فقال: "أتعطين زكاة هذا" فقالت: لا، فقال: "أيسرك أن يسورك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار فخلعتهما وألفتهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: هما لله ولرسوله" (¬3) فإذا تقرر هذا فاعلم أن الشافعي [149 أ/4] احتج في أول الباب بخبر عائشة رضي الله عنها أنها كانت تحلي بنات أخيها أيتامًا في حجرها ثم لا تؤدي زكاتها، وأصحاب أبي حنيفة يقولون: إنما لا تؤدى زكاتها (¬4)، لأنها كانت للأيتام ولا زكاة في مال اليتامى والجواب هو أن مذهب عائشة وجوب الزكاة في مال اليتيم فدل أنها لا تخرج زكاتها لاعتقادها أن لا زكاة في الحلي والظاهر أنها اعتقدت ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى أنس (¬5)، وابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في الحلي زكاة إذا كان يعار وينتفع به"، وقال ابن مسعود قلت يا رسول الله إن لامرأتي حليًا من عشرين مثقالًا قال: " فأد زكاته نصف مثقال" وهذا محمول على الاستحباب، ثم اعلم ما المباح منه وما المحظور منه فالمباح للرجال الخاتم من الفضة وحلية السيف والمصحف والمنطقة نص الشافعي رحمه الله ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ (34)). (¬2) أخرجه البيهقي في " الكبرى" (7537)، وفي معرفة السنن" (3/ 298). (¬3) أخرجه أبو داود (1563)، والنسائي (2479)، والبهيقي في " الكبرى" (7549)، وفي " معرفة السنن" (2358). (¬4) أخرجه مالك في "الموطأ" (586)، والبيهيقي في " الكبرى" (7535)، وفي "معرفة السنن) (2351). (¬5) أخرجه البيهقي في " الكبرى" (7540)، وفي "معرفة السنن" (2356).

على هذه الأربعة ولم يزد والشرح فيه أن يقال: الخاتم من الذهب حرام عليه واتخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأول خاتمًا من ذهب ثم ألقاه واتخذ خاتمًا من فضة ونقش فيه محمد سطر رسول الله سطر قال أصحابنا: وينبغي أن لا يثقله بالفضة بل يتخذه على حسب العرف [149 ب/4] للتجمل وقيل: لو كانت له خواتيم فلبس كل يوم واحدًا وللمرأة أسورة تلبس كل يوم واحدًا منها لا تمنع ولا زكاة ولو كانت له خواتيم يعدها للذخيرة وتفضل عن اللبس فإنه يلزم فيها الزكاة قولًا واحدًا، وأما السيف لا يجوز أن يحلى بالذهب ويجوز بالفضة، روي أنه كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فضة (¬1) ونعل سيفه من فضة وما بين ذلك حلق الفضة ولأن فيها مغايظة المشركين فحل ذلك قال أصحابنا: وفي معنى هذا السكين والخنجر والدشتي والترس وأطراف الرماح والمهام، لأن كلها سلاح، وقد روي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه كان له جمل في أنفه برة من فضة يغيظ بها المشركين"، وقال الإمام أبو بكر القفال: السكين الذي يتخذ لمهنة البيت لا تكون في معنى هذا فتحليته حرام، وكذلك السكين المقلمة، وأما المصحف فظاهر المذهب أنه يجوز تحليته بالفضة ولا يجوز بالذهب، وقيل: أنه أري في حرملة قولين: إذا كانت بالفضة، ومن أصحابنا من قال: يجوز بالذهب أيضًا لأن فيه تعظيمً للقرآن، والدين فجعلت فيه ثلاثة أوجه أحدها يجوز بهما، والثاني: لا يجوز بهما كتحلية [150 أ/4] سائر الكب لا يجوز. والثالث: يجوز بالفضة دون الذهب لأن حلية مصحفه بمنزلة حليته ولا يجوز للرجل أن يتحلى بالذهب ويجوز بالفضة في حال وقال هذا القائل ونص الشافعي (¬2) رحمة الله عليه: على أنه إذا كانت علاقة مصحفه من الذهب فإنه يلزم فيها الزكاة، ومن قال بالأول؛ فرق بينه وبين العلاقة بأن العلاقة ليست من المصحف، ألا ترى أنه إذا باع المصحف فإنه يدخل فيه العلاقة، وأيضًا العلاقة ليت من مصالح المصحف وإنما هي لتعلقه الإنسان بها على نفه فافترقا ثم قال بعض أصحابنا: هذا إذا كان للرجل فأما إذا كان المصحف للمرأة فإنه يجوز لها تحليته بالذهب وهو صحيح عندي، وأما المنطقة فتحليتها بالذهب لا تحل وبالفضة تحل قال أصحابنا: وفي معنى هذا يجوز إن على الزرع والجوشن والخف والرانين ولا ينبغي أن يثقل شيئًا من هذه الأشياء بالفضة فإن ثقل وخرج عن إمكان اللبس في العادة تلزم الزكاة بلا خلاف. فروع إذا حلى لجام دابته وثغرها وأطراف السيور بالفضة فقد اختلف أصحابنا فيه، قال أبو العباس وأبو إسحاق وغيرهما: هو محرم لأن الشافعي جمع بينه وبين [(150) ب/ (4)] تمويه السقف في وجوب الزكاة فيهما وتمويه السقف محرم، فكذلك هذا ولأن الشافعي ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (7570، 7571، 7572). (¬2) انظر الأم (2/ 35)

قال في البويطي: تجب فيه الزكاة ومذهبه في البويطي أنه لا زكاة في الحلي المباح ولأن ذلك من حلية الدابة لا من حليته فهو كحلية السرير والكرسي لا يجوز لما فيها من الترف والخيلاء، بخلاف المنطقة والسيف فإنه يتحلى بهما في الحرب فحل ذلك وهذا هو المذهب، وقال أبو الطيب بن سلمة وجماعة من أئمة خراسان؛ هو مباح لأن فرمه من آلة الحرب كالسيف وزينة الفرس زينة لصاحبها كحلية الجوشن، وإن كان ذلك من الذهب فلا شك في تحريمه، وأما التثقيل بالفضة على ما نشاهد في زماننا أو لمن لا يجاهد عليها فهو حرام بلا إشكال. فرع آخر لو حلَّى رداءه بذهب كانت محرمة، وأما بالفضة قال بعض أصحابنا: في الميل إذا اتخذه من ذهب أو فضة على وجه التداري بحلاء عينه فإنه يحل وهو صحح عندي. فرع آخر التحلي بالياقوت واللآلئ هل يجوز للرجل؟ وجهان مبنيان على أنه هل يجوز اتخاذ الآنية منها فإن قلنا: إنه لا يحرم يباح، وإن قلنا: إنه يحرم كان الحكم كما ذكرنا في الفضة لأن نفاستها [151 أ/4] لا تظهر لكل أحد فكل محل يجوز استعمال الفضة فيه يجوز استعمال هذه الجواهر فيه ذكره بعض أصحابنا، وقد ذكرنا قبل هذا أيضًا في هذا الباب. فرع آخر الخنثى إذا ملك حلي النساء أو الرجال وقلنا: لا زكاة في الحلي المباح ففيه وجهان، إحداهما: يلزمه الزكاة لأنه لا يمكن استباحتها بالشك، والثاني: لا زكاة لأنا في الصغير نبيح له أن يلبس حلي الرجال والنساء ولا نوجب الزكاة فبقينا على ما كان في حال الصغر. فرع آخر في الدنانير بالعُرى إذا طرحتها في القلادة فلبستها لم يكره. فرع آخر قال جمهور أصحابنا: لا يجوز أن يموه محراب المسجد بالذهب ولا بالفضة ولا أن يتخذ قناديل من الذهب أو الفضة ولا فرق في ذلك بين الكعبة وبين سائر المساجد لأنه لم ترد به السنة ولا عمل به أحد من الأئمة، وفيه إضاعة المال، ومن أصحابنا من قال: يباح كل ذلك في جميع المساجد كما أبيح ستر الكعبة بالديباج فإذا قلنا: بالأول إن وقف عليها فلا زكاة لأنه ليس لمالك من المسلمين، لأن كان حرامًا، وان لم يجعل وقفًا فإنه يلزمه الزكاة، وإذا قلنا: بالقول الثاني: إن جعله وقفًا لا زكاة وان كان ملكًا له فيه قولان. فرع آخر إذا موَه السقوف بالذهب [151 ب/4] أو الفضة فقد فعل محرمًا، وهل يحل

استدامته انظر فإن كان مستهلكًا لا تحرم استدامته، فإذا قلنا: لا تحرم استدامته فلا زكاة لأنه مستهلك، وإذا قلنا: تحرم استدامته تلزم الزكاة فإن كان إذا خرج بلغ نصابًا أو بالإضافة إلى ما معه يبلغ نصابًا ففيه الزكاة، وإن كان بخلاف هذا فلا زكاة. فرع آخر لو اتخذ الرجل حلي الذهب للصبيان اختلف أصحابنا فيه منهم من قال: وهو المنصوص في باب العيد يجوز لأنه تعيد عليهم ومنهم من قال: لا يجوز لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم في الذهب والإبريسم "هذان حرامان على ذكور آمتي حل لإناثها". فرع آخر يجوز أن يشد السن بالذهب فعل ذلك عثمان بن عفان رضي الله عنه ثم إن نشب في العضو وتراكب عليه اللحم صار كالمستهلك لا زكاة فيه ولو قطع أنفه فاتخذ لنفسه أنفًامن ذهب أو فضة جاز والأولى الذهب لأن الفضة تنتن وتصدأ والذهب لا ينتن ولا يصدأ والأصل فيه ما روي أن رجلًا جدع أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفًا من فضة فأنتن عليه فشكا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "اجعل مكانه ذهبًا" (¬1)، وإن قطع [152 أ/4] إصبعه فاتخذ إصبعًا من فضة لا يجوز لأنه لا يعمل عمل الإصبع فلم يكن إلا مجرد الزينة فلا يجوز ولو اتخذ منها أنملة جاز لأنها تعمل عمل الإصبع فيمكن تحريكها بالقبض والبسط ذكره القفال، ولو انقلعت سنه فاتخذ شأ من ذهب يجوز وتلزم الزكاة في أحد القولين في الأنف ولا تلزم في السن لما ذكرنا أن السن يصير متهلكًا بتراكب اللحم عليه بخلاف الأنف. فرع آخر المضبب من الأواني على أضرب: أحدها: أن يكون التضبيب يسيرًا للحاجة فهو مباح ومن جملته الحلقة للقصعة وهذا كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم الثاني: أن يكون كثيرًا لغير الحاجة فهو حرام، والثالث: أن يكون كثيرًا للحاجة أو قليلًا لغير حاجة فهما مكروهان، ولا يحرمان والكراهة في الأول هي للكثرة، وفي الثاني لعدم الحاجة ونفي التحريم في الأول للحاجة، وفي الثاني للقلة وفيه وجه آخر كلاهما حرام وهو ضعيف، ومن أصحابنا من قال: إن كان هذا على شفة الإناء بحيث يلاقيه فم الشارب يحرم وإلا فلا، ويروى هذا عن مالك والمرجع في الكثير واليسر إلى العرف والحالة، ومن أصحابنا من راعى فيه ما يراعى في الحرم في اليوم في الثوب العنابي، ومن أصحابنا من قال الكثير أن يكون [(152) ب/ (4)] جزء كامل منها معيبًا كفها أو أسفلها ونحو ذلك، والأول أصح فإذا قلنا؛ يجوز فهو كالحلي المباح، وإذا ثلنا؛ يحرم فهو كالحلي ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 23)، وأبو داود (4232)، والترمذي (1770)، والنسائي (5161)، وابن حيان (5438).

المحظور، وإذا قلنا: يكره ولا يحرم، قال أصحابنا: يلزم فيه الزكاة قولًا واحدًا ولا تباح على الإطلاق فسقط حكم فعله وعاد إلى أصله، وقال بعض أصحابنا: حكمه حكم الحلي المباح لأنه لا يحرم. وأما الضبيب بالذهب فال أهل العراق: لا يجوز أصلًا لأن حكم الذهب أغلظ، وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا فرق بين الذهب والفضة لي ذلك والمذهب الأول لأنه لم يرد به الخبر وقد ورد ذلك في الفضة، روى أنس رضي الله عنه "أن قدح رسول الله صلى الله عليه انكسر فاتخذ مكان الشفة سلسلة من فضة". فرع آخر لا يجوز للرجل أن يتخذ لنفسه شيئًا من حلى النساء كالخلخال وا لسوار ونحو ذلك، وان اتخذه لبناته أو جواريه أو نسائه فإنه يجوز، وكذلك إن أرصده لبعيره للنساء أو يكريه منهن يجوز، ويكون في زكاته قولان، وقال مالك: لا تجب وقال بعض أصحابنا: يباح للرجل التحلي بالفضة ولا يختص بالخاتم لأن الأعضاء كلها سواء فيلبس الدملج من الفضة في عضده والطوق في عنقه حتى قال بعضهم: لو اتخذ سوارًا من [153 أ/ب] فضة جاز وهذا بعيد عندي ومن أصحابنا من قال: إذا أرصده للكراء تجب الزكاة قولًا واحدًا، وان كان مباحًا لأنه معد لطلب النماء كما لو اتخذه للتجارة وبه قال أحمد: وهذا لا يصح لأنه أعده للاستعمال المباح، والنماء المقصود وقد فقد وما يحصل من الأجرة هو قليل غير مقصود فلا اعتبار به كأجرة العوامل من الإبل والبقر لاعتبارتها. وقال الزبير من أصحابنا: اتخاذه للتكرار والإعارة حرام لأنه خرج عن عرف اللف بالإجارة وعدل عما وردت به السنة في الإعارة والحلى إذا عدل به عما وضع له كان محظورًا وزكاة المحظور واجبة ولم يتابعه أحد، وان كان له وجه والدليل على بطلان هذا القول ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: وزكاة الحلي إعارته" ولأنه أعده لاستعمال مباح وهو علة الشافعي. فرع آخر الاختيار أن يكرى حلي الذهب بالفضة وحلي الفضة بالذهب فإن أكرى حلي الذهب بالذهب أو حلي الفضة بالفضة ففيه وجهان، والأصح يجوز لأنها أجرة والثاني: لا يجوز خوف الربا وهذا غلط، لأن عقد الإجارة لا يدخله الربا ولو صح هذا لما جاز أن يؤاجره بدراهم مؤجلة خوف الربا. فرع آخر [153 ب/4] لو أتلف على رجل حليًا وزنه ألفًا وقيمته ألفان فيه وجهان: إحداهما: في مقابلة الصنعة، والثاني في مقابلة أصله، والثاني يضمن الصنعة بالذهب لئلا يأخذ ألفين مكان ألف والأول أصح لأنه يأخذ الألف والثاني للصنعة فلا يؤدي إلى الربا، ألا ترى أنه لو كسره فأذهب صنعته لم ينقص وزنه ضمن ألف درهم.

فرع آخر لو اشترى حليًا مباحًا للتجارةً فإن قلنا: لا زكاةً في الحلي المستعمل ففي هذا زكاةً التجارةً ويعتبر قيمةً الصنعةُ وإن قلنا: في الحلي المستعمل يلزم الزكاةَ فهل يزكي عن هذا زكاةَ التجارةً أم زكاةَ العين لأن إحداهما يزكي زكاةً العين فعلى هذا لا اعتبار بالصنعةً، والثاني: يزكي زكاةَ التجارةً فتعتبر الصنعةُ فيها. فرع آخر لا يجوز للمرأةَ اتخاذ الحلي المعد للرجال لنفسها مثل حليةً السيف والمنطقةَ والفرس ونحو ذلك، ولو اتخذت ذلك لغلامها حل ولا اعتبار بالملك بل الاعتبار بما اتخذ الحلي له ولا يحل لها اتخاذ المدخنةً والمشط ونحو ذلك ويحل لها اتخاذ المحانق والحلق والسوار والخلخال وخواتيم الذهب والجلجل والطوق وقيل: لو اتخذت حمشكًا من ذهب أو أديمًا أو خرز بخيوط من ذهب جاز، وأما التاج فقد أطلق أصحابنا في [154 أ/ 4] الإباحةً لهن ومن أصحابنا من قال: إن جرت به عادةَ النساء يحل وإن لم تجر به عادةَ النساء لكن يلبه عظماء الفرس لا يحل وهذا أقرب، وآما تعاويذ الذهب فهي حلال لهن ونعال الذهب والفضة حرام عليهن، وآما الثياب المثقلةُ بالذهب المنسوجة فيه وجهان، إحداهما: تباح كالحلي، والثاني: لا تباح لما فيه من كثرةُ الإسراف والخيلاء. فرع آخر الدراهم والدنانير المنقوشةَ التي يجعلها في القلادةَ هل هي من جملةَ الحلي المباح الذي لا زكاة فيه في أحد القولين، اختلف أصحابنا فيه منهم من قال: هي من جملته ومنهم من قال: لا يكون من جملته لأنه لم يخرج بالصنعةً عن النقديةً وهذا أشبه. فرع آخر لو ملك أو ملكت حليًا مباحًا ونوى الغيبةً فإنه يلزم فيه الزكاة قولًا واحدًا، وإن لم ينو شيئًا فقد اختلف أصحابنا فيه منهم من قال: هو على حكم أصله ولا يتغير حكمه إلا بنيةً الاستعمال فيما يباح كالسلعةً لا تصير مال التجارةً بالتصرف ما لم ينو التجارةً ومنهم من قا: لا تعتبر النية لأنه بالصياغةً خرج عن الاستنماء به ومنهم من قال: المرآةُ في حليها لا تحاج إلى النيةً إذا صاغته والرجل يحتاج في حلي الماء إلى النيةً لأن حلي النساء حلال لهن فقد [154 ب/4] تعين بمجرد الصباغةً استعماله بنفسها والرجل لا يتعين لاستعماله فيحتاج أن ينوي اتخاذه للجواري أو للبنات أو نسائه والأقرب الأول. فرع أخر لو كان له حلي مباح فمات ولم يعلم به الوارث حتى مضى حول فإنه يلزمه زكاةَ الحول الماضي قولًا واحدًا، وقال والدي رحمهُ الله يحتمل وجها آخر: لا يلزمه الزكاةً

لأن الوارث قائم مقام الموروث وقصده كنيته. مسألة: قال (¬1): وَإِنَّ اِتَّخَذَ رَجُلُ أَوْ امرأة إناء مِنْ ذَهَبِ أَوْ وَرِقَّ. الفصل وهذا كما قال: قد ذكرنا في كتاب الطهارةَ أن استعمال أواني الذهب والفضةً لا يجوز وهل يجوز اتخاذها قيل فيه وجهان، وقيل: قولان أشار في كتاب الغصب إلى جوازه ونص هاهنا أنه لا يجوز وهو الصحيح لأن ما لا يجوز استعماله لا يجوز اتخاذه كالمزمار والبربط وعلى كل القولين تلزم قيمةَ الزكاةً قولًا واحدًا، فإذا كان له إناء من فضةً وزنه ألف درهم وقيمةُ الصنعةً التي فيه ألفان تلزم زكاته على وزنه لا قيمته، فإذا أراد إخراج زكاته فإن قلنا: اتخاذه محرم فلا قيمةَ للصنعةً التي فيه ويجب كسره فيؤمر يكسره لإخراج الزكاةً من فضته أو يسلم قدر الزكاة منه مشاعًا ولا يجوز إخراج الذهب عنه بحال، لأن قلنا: يحل اتخاذه برب المال [154 أ/4] بالخيار إن شاء ملك الفقراء ريع عشر مشاعًا وقبضوه ثم إن شاءوا باعه منه أو من غيره بذهب أو ثياب أو غيرها مما لا ربا بينهما وإن شاء أعطى فضةً جيدة نقيةً من غيرها خمسةً وعشرون درهمًا قيمتها من نقد البلد الذي هو قرب اللسان خمسون درهمًا، قال: القفال: أو يخرج إناء صغيرًا فيه مثل هذه الصنعةً التي في الإناء الكبير يسوي خمسين درهمًا من نقد البلد، قال ابن سريج: يجوز للضرورة لأنه يشق تسليم بعضه مشاعًا عليه وعلى المساكين، وقال سائر أصحابنا: وهو اختيار الشيخ أبي حامد والقفال: لا يجوز ذلك لأنه إخراج القيمةً في الزكاةً ويجوز تكليف هذا القدر من الضرر كما قلنا في الرطب الذي لا يجيء منه تمر ولو أعطى خمسين درهمًا من نقد البلد. قال ابن سريج: كرهت ذلك لأنه يؤدي إلى الربا، وقال الشيخ أبو حامد: الذي يجيء على المذهب تكليف ذلك أيضًا، لأنه لا ربا بينه وبين المساكين، وهذا غير صحيح عندي لأنه تكليف الزيادةَ في القدر ولا نظير له في الأصول ويمكن أداء الواجب على ما ذكرنا فلا حاجةً إلى هذا، ولو قال: اكسر هذا الإناء وأعطيكم زكاته منه فإنه يمنع منه لأنه إذا كسره نقصت قيمةً الصنعة [155 ب/4] التي فيها ويؤدي إلى الإضرار بأهل الجمان وبه أيضًا، وهذا الحكم في الحلي المباح إذا أوجبنا فيه الزكاةً، وأما عبارة الشافعي (¬2) هاهنا فإن كان وزنه ألفًا وقيمته مصوغًا ألفين تجوز منه ومعناه قيمته من الذهب ما يتقوم ألفين من الورق. فرع لو ملك خلخالًا وزنه دون المائتين وقيمته مائتان فلا زكاةً عليه لأن الزكاةً تتعلق بالعين لا بالقيمةً، ولو كان وزنه مائتين وقيمته من نقد البلد ثلاثمائةُ لجودة جوهره لا ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 35). (¬2) انظر الأم (2/ 35).

للصنعة فإن كسر ربع عشره وأعطانا قبلنا، وإن أعطانا خمسةً قبل جوهره قبلنا أيضًا، وإن أعطانا ربع عشره مشاعًا قبلنا، وإن أعطانا ذهبًا لم يقبل، وإن أعطانًا خمسةً من غالب نقد البلد لم يقبل، لأنه دون الواجب، وإن أعطانا تسعة ونصفًا لم نقبل بحال لأنه ربا على ما ذكرنا. مسألة: قال (¬1): وإذا انكَسَرَ حُليَها فلا زَكَاةَ فيهِ. الفصل وهذا كما قال: إذا انكسر حليها لا يخلو من ثلاثةً أحوال: إحداها: أن يكون يسيرًا لا يمنع من لبسه مثل أن يعوج أو يفسخ موضعه منه أو يشق الخلخال طولًا فحكمه حكم الحلي الصحيح، والثانية: أن يكون كسرًا لا يمكن لبسه حتى يصلح، ولكن لا يحتاج إلى السبك والإعادةً فقال صاحب "الإفصاح": حكمه حكم التبر [165 أ/ 4] لأنه خرج عن كونه حليًا، وقال أبو إسحاق: إن نوت أن تكسره خرج عن كونه حليًا ويفارق السائمة إذا نوى علفها لا يتغير حكمها لم تعف وفي المعلوفةُ أيضًا لا يتغير الحكم بنية السوم ما لم يضمها لأن ذلك لخفةَ المؤنةً وكثرتها، ولا يختلف ذلك بالنيةً وهاهنا سقطت الزكاة لكونه معدا لاستعمال مباح، والأصل وجوب الزكاةَ فيه فبهذه النيةً عاد إلى الأصل وإن نوت إصلاحه فحكمه حكم الحلي، وإن لم تنو الإصلاح ولا الكسر قال في "الأم" (¬2): لا زكاة فيه في قول من قال: لا زكاة في الحلي ووجهه أن الزكاةً سقطت عنه بالصياغةً وإعداد، لاستعمال مباح فلا يعود إلى وجوب الزكاةً عن دون النيةً كالعروض التي للتجارةً لا تعود إلى أصلها بترك التجارةً حتى ينوي العينةً، كذلك هاهنا وعلى قول صاحب "الإفصاح": تجب فيه الزكاةً لأنه خرج عن كونه حليًا ملبوسًا وهذا أقيس فحصل قولان: فإن قيل: قول صاحب "الإفصاح" يخالف نص الشافعي في "الأم"؛ لأنه قال (¬3): وإذا انكسر حليها فأرادت إصلاحه أو لم ترده فلا زكاةً في قول من قال: لا زكاةً في الحلي إلا أن تريد أن تجعله مالًا تكنزه فتزكيه قلنا: المراد به الكسر اليسير الذي لا يمنع استعماله، والحالة الثالثة: أن يترضغن [(156) ب/4] بحيث لا يمكن إصلاحه إلا بإعادةُ صياغته، قال أصحابنا: يعود إلى أصله قولًا واحدًا، وهذا يدل على صحةُ قول صاحب "الإفصاح" ويمكن الاعتذار بأن هاهنا خرج من أن يكون مصوغًا وصار كقراضةَ الذهب فلا يحتاج فيه إلى النيةُ بخلاف ما إذا أمكن إصلاحه فإنه يعد مصوغًا فلا يرجع إلى أصله إلا بنية الكسر يسيرًا، ومن أصحابنا من قال هذا أيضًا كالحالة الثانية وليس بشيء. مسألة: قال (¬4): وَلَوْ وَرَثَّ رَجُلُ حَلِيَاً أَوْ اشتراه فأعطاه امرأةً مِنْ أَهَلِّهِ. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 35). (¬2) انظر الأم (2/ 35). (¬3) انظر الأم (2/ 35). (¬4) انظر الأم (2/ 36).

باب ما لا زكاة فيه

الفصل وهذا كما قال قد ذكرنا ما يتعلق بهذه المسألةَ فلا فائدةً في الإعادةً، ثم اعلم أن المزني ختم الباب بترجيح القول المشهور أنه لا زكاةً فيه فقال: هذا أشبه بأصله لأنه يجب الزكاةً في الماشيةً وليست في المستعمل منها زكاةً فكذلك هاهنا وتحريره لأصحابنا أن قالوا: لأنه مصروف في نماء سائغ إلى استعمال سائغ فأشبه السائمةُ المستعملة لا زكاةً فيها. باب ما لا زكاة فيه قال (¬1) الشافعي: وما كانَ من لؤلؤٍ أو زَبَرْجَدٍ أو ياقوتٍ. الفصل وهذا كما قال: لا تجب الزكاةَ فيما عدا الذهب والفضةً من الجواهر من اللؤلؤ والزبرجد والياقوت والفيروزج والمرجان والصفر والنحاس [157 أ/ 4] والرصاص والحديد ولا زكاةً في عنبر ولا مسك ونحو ذلك، وقال أبو يوسف: في المسك والعنبر الخمس، وقال الحسن وعمر بن عبد العزيز (¬2) وعبد الله العنبري وإسحاق: يلزم الخمس في جميع حليةُ البحر والعنبر وحكي عن أبي يوسف هذا القول واحتج الشافعي عليهم يقول ابن عباس - رضي الله عنهما- في العنبر: "إنما هو شيء دسره البحر" (¬3) أي لفظه وليس هو بمعدن حتى يجب فيه الخمس وروي عنه صريحًا أنه قال: لا زكاةً فيه بعد ما قال هذا القول، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا زكاةً في حجر" (¬4) واللؤلؤ حجر، وروى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "العنبر ليس بغنيمةً" وهذا ينفي وجوب الخمس فيه وروي عن عائشةً -رضي الله عنها- أنها قالت: لا زكاةً في اللؤلؤ ولأنه مقوم مستفاد من البحر فلا حق فيه كالمسك وأكثر الفقهاء على أن العنبر طاهر، وقال الشافعي (¬5): سمعت من قال: " ورأيت العنبر نابتًا في البحر ملتويًا مثل عنق الشاة". وقيل: إن أصله ينبت في البحر وله رائحة كريهةً، وفي البحر دويبةً تقصده لذكاء رائحته وهو سمها فتأكله فيقتلها ويلفظ البحر فيخرج العنبر من بطنها، والدسر هو الدفع، ولو وجد في البحر ذهبًا فإن كان ركازاً فحقه الخمس، وإن كان [157 ب/ (4)] معدنًا فيجب فيه حق المعدن، وإن كان من ضرب الإسلام فهو لقطةً وحكمه حكمها. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 36). (¬2) أخرجه عبد الرزاق ((6979))، وابن أبي شيبةَ (3/ (143)). (¬3) أخرجه البيهقي في "الكبرى" ((7593)، (7594))، وفي "معرفة ُالسنن" ((2363))، وابن أبي شيبة (3/ (142))، وأبو عبيد في "الأموال" ((885)، (886)). (¬4) أخرج، البيهقي في "الكبرى" ((7590))، وابن عدي في "الكامل" (5/ (22)) (¬5) انظر الأم (3/ 100).

باب زكاة التجارة

باب زكاةَ التجارةً قال (¬1) الشافعي رحمه الله: أخبرنا سفيان وذكر الأثر. وهذا كما قال نص الشافعي في كتبه القديمة والجديدةً: على وجوب الزكاةً في عروض التجارةً، وقال في موضع من القديم: من الماس من قال: لا زكاةً فيها وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه وهو القياس، ومنهم من قال: لا زكاةَ فيها إلا إذا نضً فإذا نض أخرج منها زكاةً سنةً، وإن كانت عنده سنتين ومنهم من قال: فيها الزكاةً وبه قال ابن عمر رضي الله عنه وهذا أحب الأقوال إلينا فمن أصحابنا من قال: له قولان: لأنه قال في "القديم": قول ابن عباس وهو القياس، ومن أصحابنا من قال: قول واحد فيها الزكاةً لأنه قال قول ابن عمر أحب إلينا فدل أن القول الآخر ليس باختياره وبه قال عمر وجابر وعائشةَ رضي الله عنهم، ومن الفقهاء سفيان الثوري والأوزاعي وأبو حنيفةَ وأصحابه وبقول ابن عباس قال داود وجماعةً من أصحاب الظاهر وبالقول الثاني في "القديم": قال عطاء وربيعةَ ومالك رحمهم الله، وروى ابن المنذر [158 أ/4] عن ابن عياض نحو قولنا واحتج الشافعي رضي الله عنه عليهم بما روي عن عمرو بن حماس أن أباء حماسًا قال: مررت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعلى عنقي أدمةً أحملها فقال: "ألا تؤدي زكاتك يا حماس فقلت: يا أمير المؤمنين ما لي غير هذه واهبةٍ في القرط يقرأ أهبةٍ بالرفع والخفض جميعًا ومعناهما متقارب فقال: ذاك مال فضع قال: فوضعتهما بين يديه فحبها فوجدها قد وجبت فيها الزكاةً فأخذ منها الزكاة (¬2)، ووجه الدليل أنه لا يحتمل أنه أخذ، زكاةَ العين فدل أنه أخذ زكاةَ التجارةً وروى أصحابنا ما هو أولى من هذا في الاحتجاج وهو ما روى أبو ذر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "في الإبل صدقتها وفي البقر صدقتها وفي الغنم صدقتها وفي البز صدقته" (¬3) قال بالزاي معجمه وأراد به زكاةَ التجارةً وروي عن سمرةً بن جندب أنه قال: "أما بعد فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يأمرنا أن نخرج الصدقةً من الذي يعد للبيع"، (¬4) ولأن التجارةً يطلب بها نماء المال فتتعلق بها الزكاةً كالسوم في الماشية. مسألة: قال (¬5): وَإذاً اِتَّجَرَ فِي مَائَتَيِ دِرْهُمْ فَصَارَتْ ثلاثمائةٍ قَبْلَ الْحَوْلِ. الفصل وهذا كما قال: إذا كانت معه مائتا درهم أو عشرون ديناراً [158 ب/ (4)] ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 39). (¬2) أخرجه الشافعي في "الأم" (2/ 39)، وابن أبي شيبة (3/ (183))، وعبد الرزاق ((7099))، والدارقطني (2/ 125) (¬3) أخرجه الدارقطني (2/ 101)، والحاكم ((3888)). (¬4) أخرجه أبو داود (1562)، والدارقطني ((1278)، (128)). (¬5) انظر الأم (2/ 39).

فأقامت في يده ستةَ أشهر ثم اشترى بها سلعة للتجارةً فإن حول السلعةَ ينبني على حول الدراهم فإذا حال الحول من يوم ملك الدراهم وجبت الزكاةَ، لأنه لما كانت معه الدراهم فالزكاةً تجب فيها وهي معينةً، فإذا اشترى بها السلعةً فالزكاةً لا تجب في عين السلعةً وإنما تجب في قيمتها والقيمةَ هي تلك المائتان إلا أنها كانت معينةً فصارت مبهمةً فيبني حول المبهم على المعين كما لو كانت مع رجل مائتا درهم فأقامت في يده مدةً نم أقرضها مائةً فإنه تجب الزكاة فيها ويبني حولها على حول تلك المائتين ويفارق، هذا ما إذا بادل دراهم بدراهم يستأنف الحول لأن الزكاةً في عينها والعين تبدل، وفي العرض وإن كان غير العين السابقةً ولكن الزكاةَ تجب في قيمته والقيمةَ في تلك المائتان إلا أنها صارت مبهمةً فافترقا، فإذا تقرر هذا فإذا حال الحول لا يخلو إما أن يكون العرض باقيًا أو كان قد باعه وقبض ثمنه، فإن كان العرض باقيًا يقومه ويخرج زكاته على قيمته ويبني حول الربح على حول الأصل قولًا واحدًا، لأن النصاب في مال التجارة يعتبر من القيمةُ ويشق اعتبارها في جمح الحول فاعتبر في آخره ويصير الريح في التقدير [159 أ/ 4] كأنه كان موجودًا في جميع الحول فإذا زادت قيمةَ السلعةً فصارت تساوي أكثر من ثلاثمائةُ وعند الحول كانت تساوي ثلاثمائةَ فإن كانت الزيادةَ حدثت بعد الحول وبعد إخراج الزكاةً لا يضم إليها وتكون الزيادةً للسنة الثانيةً، وإن كانت الزيادةَ حدثت بعد الحول والإمكان وقبل إخراج الزكاةً ففيه وجهان ذكرهما ابن أبي هريرة وجماعة، إحداهما: وهو الأصح يكون للسنة الثانيةً لأنها زيادةً بعد الحول فلا فرق بين أن يكون بعد إخراج الزكاةَ أو قبله كالسخال. والثاني: يضم إليها لأن زيادةً قيمةَ السلعةً غير مميزة بخلاف السخال وهو كما لو كانت له أربعون شاةً فحال عليها الحول وهي مهازيل فسمنت قبل إخراج الزكاةً منها لؤمه أن يخرج منها سمينةً، وكذلك لو كانت كلها معيبةً فزال عيبها، وإن كانت الزيادةَ حدثت بعد الحول وقبل إمكان الأداء فإن قلنا: إمكان الأداء ليس من شرائط الوجوب ففيه وجهان على ما ذكرنا، وإن قلنا: من شرائط الوجوب يضم إليها في قول أكثر أصحابنا، وقيل: نص عليه في أو الجديدةً وقيل: المذهب أنه لا يضم إليها لأنها جاريةً في الحول الثاني وهو غلط. وإن زادت قبل الحول ساعة [159 ب/ (4)] فلا شك في ضمها إليها كالسخال، وإن نقصت قيمتها فإن أمكنه بيعها وإخراج زكاتها فأخرها صار مفرطًا وعليه زكاةً ما نقص، وإن لم يمكنه فعلى ما تقدم بيانه، وإن باعه فلا يخلو من أربعةً أحوال؛ إما أن يبيعه بثمن مثله، أو بنقصان يتغابن الناس بمثله، آو بنقصان لا يتغابن الناس بمثله أو بزيادةً على ثمن مثله، فإن باعه بثمن مثله أو بنقصان يتغابن الناس بمثله يخرج الزيادةً من قدر ثمنه، لأن ذلك مثل القيمةَ ولم يحصل منه تفريط في البيع، وإن باعه بنقصان لا يتغابن الناس بمثله يلزمه الضمان لأن المحاباةَ هي تجري مجرى الهبةً فلا تسقط زكاتها بها، ويمكن الاحتراز من هذا فهو مفرط، وإن باعه بالزيادةً على ثمن مثله كأنه كان يساوي

مائتين فباعه بثلاثمائةً لرغبة أو عيبه فيه وجهان: إحداهما: يزكي الكل لأنه استفاد الزيادةً بالعرض وقلةُ ثمنه، والثاني: لا زكاةً في الزيادة على الصحةَ ويستأنف لها الحول كالمال المستفاد بإرث أو هبةً هذا كله إذا حال الحول على العرض، فأما إذا نض ثمن العرض قبل الحول قال الشافعي: زكى المائتين بحولها والمائةً الزائدة بحولها، وقال في القراض: ما يدل على [160 أ/ (4)] أنه يبني حول الربح على حول الأصل فاختلف أصحابنا فيه، قال ابن سريج: هو على اختلاف حالين وليس على قولين فالذي قال في القراض: إذا دفع المال حين تملكه وصرف العامل في الحال إلى السلعةً فحصل الربح حين الشراء وهو ابتداء الحول وكان حول الربح والأجل واحدًا، والذي قال في زكاةً التجارةً أراد إذا حصل الربح وقت البيع فحصل من هذا أنه تعتبر الزيادةً من حين حدثت قولًا واحدًا وهذا ظاهر في كلام الشافعي في القراض، لأنه قال: فاشترى بها سلعة تساوي العين يعني في الحال وقيل: القصد بما قال في القراض أن يبين على رب المال زكاة حصته من الريح وعلى العامل زكاةً حصته أو يجب الكل على رب المال ولم يرد به أن يزكي عن كل ما في الحال، وقال أبو إسحاق: المسألةً على قولين: إحداهما: يستأنف الحول وهو الصحيح لقوله- صلى الله عليه وسلم -: "لا زكاةً في مال حتى يحول عليه الحول" ولأنه أصل في نفسه تجب الزكاةً في عينه وكان حوله معتبرًا به كالمستفاد بإرث بيع وهذا هو معنى قوله في "المختصر" لأن الربح ليس منها أي: أنه لم يتولد من نفسها كما يتولد السخال بل حصل هذا بتصرفه وتكسبه، وليس هذا كما لو ملك: [160 ب/ (4)] مائتي درهم ستةَ أشهر ثم يشتري بها عوضًا فإذا حال الحول يقدم العرض بزيادته أو نقصه أي: لا يستأنف الحول بتلك الزيادة لما ذكر من العلة وهي أن الزكاة تحولت في العرض، آي ت تحوك من النقد إلى العرض وصار العرض كالدراهم التي هي أصل العرض وثمنه، فيحب ربح العرض لحول الدراهم، والقول الثاني: يبني حولها على حول الأصل قياسًا على السخال، فإذا قلنا: يستأنف الحول اختلف أصحابنا فيه منهم من قال حولها من حين ينص لأنه لا يتحقق وجودها قبل ذلك ومنهم من قال حولها من حين ظهر لأنه إذا نص علمنا أنه ملك في ذلك الوقت، وقال الشيخ أبو حامد: كنت أقول بهذا ولكن الصحيح الأول والأقيس عندي الوجه الثاني. فرع لو اشترى سلعةً بمائتي درهم فلما مضت ستةَ أشهر باعها بثلاثمائةً واشترى بثلاثمائةً سلعةً فلما حال الحول كانت قيمتها ستمائةً فإن قلنا: لا يستأنف الحول بالزيادةً ويزكى عن الستمائة كلها، وإن قلنا: يستأنف الحول بها يزكي ثلثي السلعة فيخرج الزكاةً عن أربعمائةً ثم إذا مضت ستةَ أشهر أخرى يزكي ثلث السلعةً الباقي. فرع لو اشتراها بعشرين دينارًا مغربيةً فحال الحول وقيمتها عشرون [161 ب/ (4)] ديناراً

نيسابوريةً زكاها ويحتمل آن لا زكاةَ فيها ولو أخرج نصف دينار نيسابوريًا بدل نصف دينار مغربي قال بعض أصحابنا أجزأه وأخرج الفضل وفي هذا عندي نظر. مسألة (¬1): قال: ولو اشترى عَرضًا للتَّجارَةً بعرضٍ. الفصل وهذا كما قال: أراد به إذا كان في يده عرض للعينيةً فاشترى به عرضًا للتجارةً فابتداء الحول على العرض الثاني من حين ملكه فإذا تم الحول يلزمه الزكاةً، وقال مالك: لا زكاةً فيه اعتبارا بأصله وهذا غلط؛ لأنه مال اشتراه للتجارةً فأشبه إذا اشتراه بذهب فإذا تقرر هذا قوَّمه عند حول الحول بنقد البلد فإن كان في البلد نقد واحد يقوَّم به فإن بلغت قيمته نصابًا وجبت الزكاةَ وإلا فلا تجب وإن كانت تبلغ نصابًا بالنقد الآخر لا يجب تقويمه به وإن كان في البلد نقدان تعملان إحداهما أغلب يجب القويم به دون الآخر، لأنه ليس بغالب النقد فيه فلا اعتبار وإن استويا في الاستعمال وليس إحداهما أغلب من الآخر، فإن بلغ بإحداهما نصابًا ولا يبلغ بالآخر نصابًا قوم بما يبلغ به نصابًا لأنه وجد نصاب تتعلق به الزكاة فوجب التقويم به، وإن كان يبلغ يكل واحد منهما نصابًا فيه أربعة أوجه: أحدها: وهو الأصح [161 ب/ (4)] أنه يقوم بما شاء منهما لأنه لا مزيةً لإحداهما على الآخر فيخير بينهما. والثاني: يقوم بما هو الأنفع للمساكين كما إذا اجتمع في النصاب فرضان فإنه يؤخذ الأنفع. والثالث: وهو اختيار ابن أبي هريرةً يقوم بالدراهم لأنها أكثر استعمالًا وأسهل تصرفًا لأنه يشترى بها التافه وغير التافه، ولأن وجوب الزكاةَ في الدراهم ثبت بالتواتر بخلاف المذهب وهذا ضعيف، لأن وجوب الزكاةً في المذهب إجماع فهو كالتواتر في بعض البلاد الدنانير أكثر استعمالًا. والرابع: يقوم بأغلب نقد أقرب البلاد إليه لأن النقدين تساويا فجعلا كالمعدومين، فإذا تقرر هذا فمن أي شيء يخرج الزكاةً؟ قال في "الأم" (¬2) ونقله المزني: أنه يخرج من الذي قوم به، وقال في القديم: فيه قولان، إحداهما: يخرجها من الذي قوم به، والثاني: يخرج عوضًا بقدر ربع عشر القيمةَ وبه قال أبو يوسف ومحمد ثم قال بعد ذلك بأسطر: يخرج الزكاةً دراهم أو دنانير أو عرضًا منها فاختلف أصحابنا فيه على طرق. قال أبو إسحاق: فيه قولان إحداهما: يلزمه إخراجها من الذي قوم به حتمًا لأن ما وجبت الزكاةً فيه أخرجت الزكاةً منه كالمواشي وهو الصحيح، والثاني: هو [162 أ/ (4)] بالخيار بين هذا وبين إخراج العرض، وبه قال ابن أبي هريرةً وصاحب "الإفصاح" وأبو حنيفةَ بظاهر خبر سمرةَ بن جندب، وذلك لأن الذي يعد للبيع هو العرض ولأن كل مال ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 39). (¬2) انظر الأم (2/ 40).

تجب الزكاةَ لأجله يجوز إخراجها منه كالماشية، وقال ابن سرج: فيه ثلاثة أقوال: إحداها: تخرج مما قوم به حتمًا، والثاني: يخرج من العرض حتمًا، والثالث: هو بالخيار وهذا لا يصح، لأن الذي قال في "القديم" من العرض أراد نحو ذلك ولم يمنع من إخراج غيره فليس فيه إلا قولان، وقال بعض أصحابنا: فيه قولان، إحداهما: تخرج مما قوم به، والثاني: من العرض ويحكى هذا عن ابن أبي هريرةَ ولا يصح عنه وهو ضعيف وعن أصحابنا من قال: هذا يبني على أصل وهو أن هذه الزكاةً هل تجب في العين أو في القيمة؟ وجهان: فإن قلنا: تجب في القيمةً فلو أخرج من العين جاز، وإن قلنا: يجب في العين لو أخرج من القيمة قولان، فإذا قلنا: بالقيمة أخرجها منها، وإذا قلنا: بالعين يخرج من عينه فلو عدل عنه إلى جنسه وأخرج عرضا مثله من غيره، وقال بعض أصحابنا: المذهب أنه لا يجوز، ومن أصحابنا من قال: يجوز كما في المواشي والأثمان [162 ب/ (4)]. وقال بعضهم: المذهب أنه يجوز لأن الشافعي قال في "القديم": ينظر كم قدر زكاته فيشتري به عرضًا ويخرجه وهذا نص صريح والصحيح عندي، فإذا تقرر هذا فقد فرع أبو العباس بن سريج على هذا مسائل، إحداها: أنه لو اشترى مائتي قُفيز من طعام بمائتي درهم للتجارةً فحال الحول وقيمته مائتان وجبت الزكاةَ وكان وجوبها في القيمة قولًا واحدًا، ومن أين يخرجها على الأقوال، فإن قلنا: يخرجها من القيمةً أخرج خمسةً دراهم، وإن قلنا: من العرض أخرج خمسةَ أقفزة، وإن قلنا: بالخيار بين أن يخرج خمسةَ أقفزة من غيرها أو من عينها وبين أن يخرج خمسةَ دراهم لأن كل واحد منهم يخرج العشر فإن عدل من هذا الطعام إلى أربعةَ أقفزة من طعام جيد ساوي خمسةَ دراهم فهو على الأقوال أيضًا، فإن قلنا: إن الإخراج من القيمةَ واجب لا يجوز هذا ويكون مقطوعًا لأنه إخراج الزكاةَ بالقيمةً فيلزمه إخراج خمسةَ دراهم، وإن قلنا: يخرج من العرض تجزيء أربعةَ أقفزة عن أربعةَ أقفزة ويكون متطوعًا بالفرق وبقي عليه قفيز فيخرجه، وإن قلنا: بالخيار سألنا عن نيته فيما أخرج، فإن قال: نويت بها عن خمسةً [163 أ/ (4)] دراهم لم يجزه لأنه عدل عن المنصوص إلى القيمةً وإن قال: نويت بها عن خمسة من الأصل قلنا ت قد تطوعت بالفضل الذي هو الجودة وعليك قفيز آخر يلزمك إخراجه، ولو حال الحول على هذا الطعام وقيمته مائتان حين الحول ثم تغيرت الحال بعد الحول ففيه ثلاث مسائل: إحداها: أن تنقص قيمته لنقصان السوق فصار يساوي مائةً فإن كان ذلك بعد إخراج الزكاةً منها فهذا المقصان لا يؤثر فيه، وإن كان بعد الإمكان قبل إخراج الزكاة فإن الزكاةً وجبت بالحول والإمكان واستقرت فلا يسقط بالنقصان كما لا يسقط بالتلف فإن قلنا: تخرج من القيمةَ فعليه إخراج خمسةَ دراهم، لأن التقويم حين الوجوب فإذا لم يؤد ضمن النقصان، وإن قلنا: تخرج من العرض أخرج خمسةَ أقفزة فيها أجزأته، وإن كانت تساوي درهمين ونصفًا لأن نقصان القيمةً لنقصان السوق لا يضمن بالتعدي كما يقول في الغصب، وإن قلنا: بالخيار نظر فإن

اختار إخراج القيمةً أخرج خمسةَ دراهم وإن اختار إخراج العين أخرج خمسةَ أقفزة وتجزيه وإن كان ذلك بعد الحول قبل إمكان الأداء [163 ب/ (4)] فإن قلنا إمكان الأداء من شرائط الوجوب فلا زكاةً عليه لأن وقت الوجوب كان ولم يكن عنده نصاب وإن قلنا: هو من شرائط الضمان لؤمه أن يخرج زكاة مائة درهم وما نقصن نقصى منه ومن المساكين، فإن قلنا: الإخراج من القيمة أخرج درهمين ونصفًا، وإن قلنا: من العين أخرج خمسة أقفزة منه لأنه هو الواجب عليه، وإن قلنا ت بالخيار إن شاء أخرج من القيمة درهمين ونصفًا وإن شاء أخرج من العين خمسةَ أقفزةً لأنه وإن انتقصت قيمته فهو نقصان منها ليس عليه غير الطعام وهو ربع عشرها. والمسألةَ الثانيةً: أن تزيد قيمتها لزيادةَ السوق فبلغت قيمتها أربعمائةَ درهم فإن كانت الزيادةً بعد إخراج الزكاةً فلا اعتبار بها، وإن كانت قبل الإخراج بعد الإمكان فقد ذكرنا وجهين، والصحيح أنه لا اعتبار بها أيضًا، إلا في زكاةَ السنة الثانيةً، فإن قلنا: إن الإخراج من القيمةَ أخرج خمسةَ دراهم وإن قلنا: إن الإخراج من العين أخرج خمسةَ أقفزة منها أو من غيرها يكون قيمتها عشرةَ دراهم لأن الحق تعلق بالعين فما زاد فيها كان للمساكين لأن زيادةً قيمةَ العين في العين بمنزلةُ الزيادةً التي لا تتميز ويكون حكمه حكم زكاة العين إلا في النصاب فقط فإنه يعتبر نصابه [164 أ/ (4)] بالقيمةً، وإن قلنا: بالخيار فيخير بين أن يخرج خمسةَ دراهم وبين أن يخرج خمسةَ أقفزة منها أو من غيرها قيمتها عشرةَ دراهم، هذا إذا كانت الزيادةَ بعد الإمكان أو قبل الإمكان وبعد الحول، وقلنا: الإمكان من شرائط الضمان وحكي ابن أبى هريرة: وجهًا أنه يجب خمسةَ أقفزةً قيمتها خمسةَ دراهم لأن هذه الزيادةً حدثت بعد وجوب الزكاةً وهي محتسبةً في الحول الثاني وهذا غلط؛ لأن على هذا القول المستحق خمسة َأقفزة أو مثلها من غيرها، وأما إذا قلنا: الإمكان من شرائط الوجوب فزادت قبل الإمكان عليه أن يخرج عشرةَ دراهم على قوله الجديد، أم خمسةَ أقفزة على قوله القديم منها أو من غيرها تكون قيمتها عشرةَ دراهم، وإن قلنا: بقول الخيار إن شاء أخرج عشرةَ دراهم أو خمسةَ أقفزة قيمتها عشرةَ دراهم، ولو كانت معه مائتا قفيز حنطةً للتجارةً فحال الحول وأمكنه إخراج الزكاةً فلم يخرج حتى تلف وكانت ساوي مائتي درهم فلما كان بعد تلفها بغير السعر فصارت تساوي أربعمائةً فإن قلنا: بقوله الجديد أخرج خمسةَ دراهم ولا زكاةً في الزيادةً، وإن قلنا: بقوله القديم أخرج خمسةَ أقفزة قيمتها عشرةً؛ لأنه إذا لؤمه أن يخرج من عينها أو مثلها [164 ب/ (4)] فإن مثل ما تلفت قيمته في الحال إخراج الزكاةَ عشرةً. والمسألةَ الثالثةٌ: إذا نقصت قيمته بعيب حدث به كالسوس والنداوةً بالماء ونحو ذلك فإن كان هذا قبل إمكان الأداء فإن قلنا: بقوله القديم إن الإمكان من شرائط الوجوب فلا شيء عليه لأن وقت الوجوب جاء وليس معه نصاب، وإن قلنا: هو من شرائط الضمان فما نقص نقصُ منه ومن المساكين فهو على الأقوال فإن قلنا: الإخراج من القيمةً أخرج درهمين ونصفًا وإن قلنا: الإخراج من العين أخرج خمسةَ أقفزةً، لأن

العيب دخل عليه وعلى المساكين، وإن قلنا بالخيار يتخير بين أن يخرج درهمين ونصفًا أو خمسةً أقفزةً منه، وإن كان هذا العيب بعد إمكان الأداء يضمن ما نقص هاهنا، ثم إن قلنا: إن الإخراج من القيمةً أخرج خمسةً دراهم لأن عليه ضمان ما نقصت القيمة، وإن قلنا: إن الإخراج من العرض أخرج خمسةً أقفزة منها ومنها درهمان وهذا لأن عليه ضمان ما نقص وحكمه في قدر الزكاةً كالغاصب. فإن قيل: قلتم في المسألةَ الأولى: يخرج خمسةً أقفزة من غير أرش النقصان وهاهنا توجبون الأرش فما الفرق؟ قلنا: لأن الغاصب ضمن نقصان بغير العين ولا يضمن بغير السوق فافترقا هاهنا أيضًا. مسألةْ (¬1): قال: ولو كان [165 أ/ 4] في يده عَرَضَّ للتجارَةً تجبُ في قيمته الزكاةً. الفصل وهذا كما قال: إن كان في يده عرض قيمته قدر النصاب أقام في يده ستةَ أشهر ثم اشترى به عرضا للتجارةً فأقام في يده ستةَ أشهر فقد حال الحول على المساكين معًا وقام أحدهما مقام الآخر لأن الزكاةً تجب في القيمةً لا في العين والقيمةَ مستدامة في العرض الثاني، وبهذا فارق ما إذا باع ما تجب الزكاةً في عينه فيستأنف الحول لأن الزكاةَ تجب في أعيانها فلم تكن العين الأولى مستدامةً في الثاني، ويفارق المسألةَ الأولى، لأن الثمن هناك لم يكن زكاتيًا فحول العرض كان من يوم اشترى بالعرض الأول بخلاف مسألتنا. فرع لو ملك العرض للتجارة ستةَ أشهر ثم باعه بثمن من غير جنس ما اشترى به الأصل كأنه اشترى بدراهم وباعه الآن بدنانير فيه وجهان: أحدهما: يستأنف الحول لأن الزكاةَ انتقلت من قيمةُ العرض إلى عين لا تعتبر في العرض وحكاه الربيع في "الأم" (¬2) عن الشافعي، وهو بالقياس، والثاني: وهو ظاهر المذهب وعليه أصحابنا أنه يبني لأن التغليب لا يحصل إلا بالأثمان وبه وجبت الزكاة في العرض فلم يجز أن يكون سببًا لإسقاط الحول وهذا أحوط. مسألة: قال (¬3): ولو اشترى [165 ب/ (4)] عرضًا للتجارةِ بِدَرَاهِمِ أَوْ دَنانيرَ أَوْ بِشَيْءِ تَجِبُ فِيه الصَّدُقَةَ مِنْ الْمَاشِيَةِ وَكَانَتْ إفادة مَا اِشْتَرَى بِهِ ذَلِكَ الْعَرْضَ مِنْ يَوْمِهُ لَمْ يُقَوَّمْ الْعُرْضُ حَتَّى يَحْوَلَ الْحَوْلُ مِنْ يَوْمِ أَفَادَ ثُمْنُ الْعَرَضِ. وهذا كما قال: إذا اشترى عرضًا بنصاب من الدراهم أو الدنانير للتجارةً فإن حول العرض ينبني على حول الثمن بلا خلاف لأنهما معدتان لشراء العروض فجاز أن ينبني حول العرض على حولهما، وأما إذا اشتراه بماشيةً سائمةً فقد نقل المزني عن ¬

_ (¬1) انظر الآم (2/ 40). (¬2) انظر الآم (2/ 41). (¬3) انظر الآم (2/ 40).

الشافعي: أنه جعلها في حكم الدراهم في ابتناء حول العرض على حولها ثم اعترض فقال: إذا كانت فائدته نقدًا فحال العرض من حين أفاد النقد وأراد بالنقد الدراهم والدنانير وعلل بأن معنى قيمةَ العرض للتجارةً والنقد في الزكاةً ربع العشر أي: هما متفقان في قدر الواجب فيهما فجاز أن يبنى حول أحدهما على الآخر وليست كذلك زكاةُ الماشيةَ مع زكاةَ العرض لأنهما مختلفان في قدر الموجب ثم أوضح بأن في خمس من الإبل السائمةً شاةُ أفيضم ما في حوله زكاةً شاةً إلى ما في حوله زكاة ربع العشر أي: لا يجوز ابتناء الحولين عند اختلاف الموجبين ثم أيد هذا بأن قال: ومن قوله لو أبدل إبلًا ببقر أو بقراً بغنم لم يضمها في الحول لأن معناهما في الزكاة [166 أ/ 4] مختلف فكذلك هاهنا والجواب عن هذا من وجوه: أصحها أن الحكم على ما ذكره المزني ولكن ليست العلةُ ما ذكرها من اتفاق الموجبتين أو اختلافهما إذ لو كان كذلك لكان أداء بازل الدراهم بالدنانير أو ماشيةُ بجنسها وجب أن ينبني حول أحدهما على حول الآخر لاتفاق الموجبين بل العلةً ما أشرنا إليه من كون الدراهم أو الدنانير معدتين لشراء عروض التجارةً بخلاف المواشي فإذا تقرر هذا بقي الآن علينا الاعتذار للشافعي في الجمع بين أن يكون وبين أن يكون ماشيةً فنقول: إنما جمع بينهما يجوز إلا أنه صور المسألةً في استفادةً ثمن العرض ووقت الشراء وصرح به فإذًا لا فرق في هذا العرض بين أن يعبر بحولان الحول من يوم اشترى العرض وبين أن يعبر بحولان الحول من يوم أفاد ثمن العرض إذ كلا اليومين يوم واحد ثم إذا صرنا إلى التحقيق والتدقيق يعبر بما عبر به المزني، ومن أصحابنا من اعتذر بأن الشافعي جمع بين ثلاث مسائل: إذا اشترى بدنانير أو بدراهم أو بالماشيةً ثم أجاب عن المسألتين الأولتين دون الثالثةً، والشافعي قد يجمع بين مسائل ويجيب عن بعضها وهذا بين في كلامه لأنه قال: حتى يحول الحول من يوم أفاد ثمن العرض [166 ب/ 4] والثمن يطلق على التقدير دون الماشيةً ومن أصحابنا من اعتذر بأنه أراد إذا اشترى أربعين شاةً بنيةَ التجارةُ بما لا يجب الزكاةً فيه ثم اشترى بها عرضًا فإنه يبني حول العرض عليها على القول الذي يقول تجب في الماشيةُ زكاةُ التجارةً، وقال أبو يوسف الإصطخري: إن اشترى عرضًا بماشيةً يبني على حول وادعي أن هذا مذهب الشافعي وخالف المزني واستدل بأن العرض فرع، والماشيةً أصل فأشبه الأثمان بخلاف ما إذا بادل أصلًا بأصل وهذا غلط، لما ذكرنا. فرع إذا كان يبتاع النيل ليصغ به ثياب الناس أو شحمًا ليدهن به الجلود ويبيع أو ما يبقى له عين في المعمول فيبقى في يده حولًا تجب زكاةُ التجارةً فيه لأن عين المال يبقى بعد الاستعمال ويقابل بالعرض ويجري مجرى بيع العين إلا أنها لا تفرد بالعقد، ولهذا قلنا في المفلس: إذا اشترى ثوبًا ونيلًا ثم صبغه ثم رجعا جميعًا فيه وإن كان مما لا يكون له عين في المعمول فيه كما لو اشترى الصابون والأسنان ليغسل به ثياب

الناس بالعرض أو ملحًا ليستعمله في الخبز وبقي في يده حولًا فلا تتعلق به الزكاة لأن هذه [761 أ/ 4] الأشياء لا يبقى عينها حالةً المقابلةً بالعوض ولا يقابلها شيء من أجرةَ العمل ولكن يبقى أثرها. فرع آخر إذا اكترى منازل ودورا ليكريها بزيادةً ويريح عليها ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه زكاةَ التجارةً لأن المنافع مال، والثاني: لا يلزمه لأن المنافع ليست بأموال حاصلةً بل هي بعرض أن تحمل أو تفنى وعلى هذا لو كان يملك عرض التجارةً فصرفها في كراء منازل ودور ليكريها بزيادةً ويربح عليها يقطع الحول على ما ذكرنا من الوجهين. مسألة (¬1): قال: ولو كان اشترى العرَضَ بمائتي درهم لم يقوم إلا بدراهمِ. الفصل وهذا كما قال: الكلام الآن فيما يقوم به مال التجارةً ولا يخلو إما أن يشتري بغير جنس الأثمان أو بجنس الأثمان، فإن اشترى بغير جنس الأثمان مما فيه الزكاةً أو مما لا زكاةً فيه قومناه بنقد البلد على ما ذكرناه، وإن اشتراه بجنس الأثمان لا يخلو إما أن يكون بقدر النصاب أو بدون النصاب فإن كان بقدر النصاب فإنه يقوم بما اشتراه سواء كان غالب نقد البلد أو لم يكن وسواء كان ذلك خيرًا لأهل السهمان أو غيره، وقال أبو حنيفة وأحمد: يقوم بما هو الأنفع للمساكين وهذا غلط؛ لأن نصاب العروض مبني [167 ب/ (4)] عليه فيعتبر به ولا يعتبر الأنفع مع بقائه كذلك مع وجود ما بني عليه، وقال ابن الحداد: يقوم لغالب نقد البلد دون الذي اشتراه به كذلك هاهنا وهذا غلط؛ لأن العرض فرع لثمنه وتقويم الفرع بأصله إذا كان له في القيمةً مدخل هو أولى من تقويمه بغيره، ولهذا يبني حوله على حوله ويخالف المتلف لأنه لا يتعلق بما اشترى به فلم يقوم به وإن كان الشراء بدون النصاب ولم يكن له مال غيره، قال ابن أبي هريرة: فيه وجهان: أحدهما: يقوم بجنس ما اشترى به العرض لأن اعتبار رأس المال أولى إذا أمكن فإنه أقرب إليه وهذا أصح. والثاني: يقوم بنقد البلد لأنها ما دون النصاب هو في معنى العرض ولأنه لا يتعلق بما اشتراه به إذ ليس له حول يبنى عليه، وبه قال أبو إسحاق. فرع لو اشتراه بمائة درهم وعشرةً دنانير فيه ثلاثةَ أوجه أحدها: يقوم بغالب نقد البلد، والثاني: بثمنه فما قابل الدراهم يقوم بالدراهم، وما قابل الدنانير يقوم بها، والثالث: ذكره في "الحاوي" (¬2) يقوم بالدراهم لأنها أصل وطريقها النص والدنانير تبع وطريقها الاجتهاد. [168 أ/ 4] ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 41). (¬2) انظر الحاوي للماوردي (3/ 294).

فرع لو لم يعرف بماذا اشتراه يقوم بنقد البلد ذكره أصحابنا لأنه تعذر اعتبار أصله. فرع آخر إذا اشترى عروض التجارةً بالتبر والسبائك فيه وجهان: أحدهما: لا يُقَومِ عند الحول بالتبر لأنه ليس بقيمةً، ولكن يقوم بجنسه من النقد، والثاني: لا يقوم بجنسه ولكن يقوم بنقد البلد لأنه ليس بقيمة أصلًا فلا يقوم بجنسه. فرع آخر لو اشترى عرضا بدين في ذمة البائع، وقلنا: تجب الزكاةُ في الدين فيه وجهان: أحدهما: تقوم بجنس الدين لأن حوله مبني على حول الدين. والثاني: يقوم بنقد البلد لأن الدين ملك ناقص أو لا يجوز فيه التصرف إلا مع من عليه الدين فكان بمنزلةُ العرض الذي لا يعد التصرف والمشتري بالعرض يقوم بنقد البلد. فرع آخر إذا اشترى بدراهم في ذمته ثم صرف إلى البائع الدراهم التي في يده هل يقوم بالدراهم آو بنقد البلد؟ وجهان: أحدهما: لا يقوم بالدراهم لأن الدراهم قيمةُ وهي المال أقرب فكان التقويم بها أولى. مسألة: قال (¬1): ولو باعَهُ بعد الحَولِ بدنانير قُوَّمتْ الدَّنانيرُ الدَّراهم. الفصل وهذا كما قال: نقل المزني ولو باعه بعد الحول بدنانير، وقال في "الآم": لو باعه قبل الحول بدنانير [168 ب/ (4)] وهذا أصح وذاك غلط؛ لأنه لا تأثير لبيعه بعد الحول في حكم زكاةً ذلك الحول ولأنه يقوم العرض حالةَ الوجوب، ومن أصحابنا من تأول ما قاله المزنى على أنه باعه بثمن مثله فتكون قيمته وقيمةُ العرض سواء؛ فإذا تقدر هذا وكان اشتراه بمائتي درهم ثم باعه في آخر الحول بدنانير قومت الدنانير بالدراهم، وأخرج الزكاةً من الدراهم، وإن كان اشترى بدنانير وباعه بدراهم قومت الدراهم بالدنانير ويعتبر التقويم يوم حلول الحول لا ما بعده وأخرج الزكاة ًمن الدنانير، وإن كان اشترى بنصابين عشرين دينارًا أو مائتي درهم قوم ما اشتراه بالذهب بالذهب وما اشتراه بالدراهم بالدراهم وبيانه أن ينظر إلى قيمةُ الذهب فإن كانت قيمةَ الذهب أربعمائةُ درهم والدراهم مائتان فإن مكث العرض يقوم بالدرهم وثلثيه بالدنانير، فإن باع كل واحد منهما نصابًا أخرج الزكاةً فإن قصر كل واحد منهما عن النصاب فلا زكاةً، وإن بلغ أحدهما نصابًا والآخر أقل من نصاب أخرج الزكاةً من النصاب، ولم يخرج ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 41).

الزكاةً من الآخر، ثم قال في المزني: ولو باعه بدراهم وعرض أي: قبل الحول باع هذا [169 أ/ (4)] العرض الذي اشتراه بدنانير بدراهم وعرض قوّم بالدنانير أي: قوم العرض والدراهم جميعا عند الحول بالدنانير لأنها هي الأصل الذي انعقد عليه الحول وهو على ما ذكر وعلى هذا لو كان في أكثر الحول عرض التجارةً أو في أقل الحول وفي الباقي ناض بلغ نصابًا فحول الناض مبني على حول عرض التجارةً ثم هذا الناض يقوم بما وقع به الشراء حتى لو كان الشراء بنصاب من الدنانير قد مضى عليه شهر مثلًا ثم مرت بالعرض خمسةً أشهر ثم باعه وقد مضت ستةُ أشهر أخرى فالدراهم تقوم بالدنانير فإن كانت نصابًا زكاها وإلا فلا، وإن كانت هذه الدراهم في نفسها نصابًا وعلى هذا لو كان في أول السنةَ وآخرها عرضان وفيما بينهما ناض هو دراهم وشراء العرض الأول كان بالدنانير فلا اعتبار بهذه الدراهم بل يقوم العرض في آخر الحول بالدنانير. فرع لو باع في خلال الحول بأقل من مائتي درهم وكان الأصل دراهم فالحول ينقطع لأنها لا تقوم لخيرها بل هي أصل بنفسها وقد انتقص نصابها بخلاف ما لو بح بعرض لا ساوي نصابا أو العرض الأول انتقص عن نصاب لأن العرض أبدًا مقوم فلا [169 ب/ (4)] اعتبار بنقصان قيمته في خلال الحول كما لا اعتبار بنقصانه في أول الحول فإن الحول ينعقد على عرض ناقص من النصاب ذكره القفال، وفيه وجه آخر: أنه لا ينقطع الحول كما لو باع بجنس آخر دون النصاب ذكره في ألصغاري وهذا غلط، ولو وقع الشراء بمائتي درهم ثم بيع بعشر دنانير أو أكثر لا ينقطع الحول سواء كانت قيمةُ الدنانير تبلغ نصابًا أم لا لما ذكرنا، أن الدنانير هاهنا هي كعرض من العروض وليست بأصل، فإذا تمَّ الحول على الدنانير وهي تساوي مائتي درهم وجبتا الزكاةً وإلا فلا تجب. فرع آخر إذا باع عرض التجارةً بعد وجوب الزكاةً فيه طريقان، أحدهما: أن الحكم فيه كما لو باع ما تجب الزكاةً في عينه بعد وجوب الزكاةَ، والثاني: يصح البيع هاهنا قولًا واحدًا لأن الزكاةً لا تجب في عينه وإنما تجب في قيمته والقيمةُ موجودةً في العرض بخلاف ما تتعلق الزكاةُ بعينه. مسألة: قال (¬1): وَلَوْ أَقَامَتْ عِنْدَه مائة دِينارَ أَخَذَ عُشْرَ شَهَّرَا ثَمَّ اِشْتَرَى بِهَا أَلَفَّ دُرِّهُمْ أَوْ مائة دِينارَ فَلَا زَكاةَ فِي الدَّنانيرِ الأخيرةِ الفصل وهذا كما قال: هذه المسألةَ تتأوله ما تجب الزكاة في عينه من جنسه أو غير جنسه وقد ذكرنا: [170 أ/ (4)] ذلك وبينا الحكم في الصيرفي وهو أن ينوي التجارةً ومطلق نصه ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 41).

هاهنا يدل على أنه لا فرق بين الصرفي وغيره. مسألة: قال (¬1): ولو اشترى عرضًا لغير تجارةً فهو كما لو ملك بغير شراء. وهذا كما قال: إذا اشترى عرضًا بنيةَ التجارةً فإنه يصير للتجارةً بهذه النية ويعتبر الحول من حين الشراء لخبر سمرةً بن جندب رضي الله عنه، فإن قيل: أليس قد قلتم: لو اشترى شاةً بنية الأضحيةً فإنها لا تصير أضحيةً فما الفرق؟ قلنا: الفرق أن جعلها أضحيةً إزالةُ ملك والبيع جلب ملك فلا يجوز أن يجتمع البيع وإزالةً الملك بخلاف مسألتنا ولو اشتراه لا بنيةَ التجارةً أو نواه لغير التجارة مثل الإمساك للفرش أو اللبس لا يصير للتجارةً فإن نوى التجارةً بعده لا يصير للتجارةً ولا زكاةً حتى يبيعه ثم يشتريه ثانيًا بنيةَ التجارةً وبه قال جماعةُ العلماء، وقال إسحاق وأحمد في روايةً: إنه يصير للتجارةً بهذه النية وبه قال أبو ثور والحسين الكرابيسي من أصحابنا، وهذا غلط؛ لأن كل ما لا تجب الزكاةً في أصله لا تجب الزكاةً فيه بمجرد النية كالماشيةً المعلوفةً إذا نوى أن يجعلها سائمةً. فإن قيل: أليس لو اشترى العرض بنيةَ التجارةً ثم نوى آن يكون للقنيةً سقطت [170 ب/ (4)] الزكاةً فما الفرق؟ قلنا: قال مالك في رواية: هاهنا لا يصير باليةَ للتجارةً وهو غلط، والفرق ظاهر؛ وذلك أن الأصل فيه الفنية وأن لا زكاةً فيه فيرجع إلى الأصل بمجرد النيةَ ولا ينتقل عن الأصل بمجرد النيةَ وهذا كما يقول في المقيم؛ إذا نوى السفر فلا يصير مسافرًا وإذا نوى المسافر الإقامةً فإنه يصير مقيمًا، وإن لم يترك المشي لأن المقيم قد يمشي وأيضًا إذا نوى القنيةً فقد حصلت النيةَ وترك التصرف فانضم إلى النيةً غيرها فهو كما لو اشترى سلعةً بنية التجارةً تصير للتجارةَ وتنتقل عن حكم الأصل لحصول الفعل مع النية، ثم قال الشافعي (¬2): هاهنا وأحب لو فعل، أي: واجب لو أخرج الزكاةً ولم يقل هذا في المسألةً المقدمة استصحابًا للحالةُ المتقدمةً في كل واحدةً منهما في المسألةَ الأولى: لم يكن العرض في الأصل زكاتياً فلم يصر بمجرد نيته زكاتيًا، وفي المسألة الثانية: كان الحول قد انعقد وقد أبطله بنيته بعد انعقاده فكذلك استحب له إخراج الزكاةً منه ثم بين الشافعي أن نيةَ التجارةً فيما كان للقنية ونيةَ القنيةً فيما كان للتجارةً يفارق نيةُ السوم في المعلوفةً ونية العلف في السائمة فقال: ولا يشبه هذا السائمة أي الذي قد ذكرنا لا يشبه هاتين [171 ب/ (4)] المسألتين ولم يذكر المعنى المفرق لوضوحه وهو أن الإمامةً والعلف كل واحد منهما فعل مباشر والأفعال لا تحصل بالنيات من غير مباشرةً، وهاهنا التجارة التصرف والقنيةً ضدها وهو ترك التصرف فما كان للقنيةَ لا ينقلب للتجارةً حتى يحصل مباشرةً التصرف وما كان للتجارةَ ينقلب للقنية بمجرد النية، لأنه في الحال غير متصرف فيه فيمر للقنيةً بترك ذلك التصرف. فرع لو نوى قنيةَ بعضه فإن حد ذلك البعض فحكمه يتغير، وإن لم يحد ذلك البعض فيه ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 41). (¬2) انظر الأم (2/ 41).

وجهان، أحدهما: لا حكم لنيته للجهل ويكون كله على حكم التجارةً، والثاني: يجعل نصفه للتجارةً تسويةً بين البعضين وبعد ثلاثين الحكمين. فرع آخر لو اشترى عرضًا عند بائعه للقنيةً بعرض للتجارةً عنده فيه وجهان: أصحهما أنه يكون للتجارةً لأنه وجدت نيةً التجارةً فيغلبه عن أصله، والثاني: يكون للقنيةً ولا زكاة فيه استدامةُ بحكم العرض في نفسه قبل شرائه وهذا غلط؛ لأنه لو اشترى بعرض الفنية عرضًا عند بائعه للتجارةً بكون للقنيةً بلا خلاف ولا يستلزم حكمه قبل شرائه كذلك هاهنا. فرع لو ملك بغير عوض كالإرث والهبةً والوصيةً لم تكن للتجارة وإن [171 ب/ (4)] نوى بتملكه التجارةً لأن العرض إنما يصير للتجارةً بفعل التجارةً مع النيةً وهذه التمليكات ليست من التجارةً، ولو كانت الهبةً بشرط الثواب وجوزناها في أحد القولين تصير للتجارةً إذا نوى التجارةً لأنها معاوضةً. فرع لو ملكته بالصداق ونوت به التجارةً أو خالفته على مال أو صالحته على مال ونوى به التجارةً يصير للتجارةً ودخل في حولها لأن كل هذا معاوضة، وهكذا لو ملك بالإجارة أو السلم أو الشفعة. وقال بعض أصحابنا في الصداق وبدل الخلع ومال الصلح عن دم العمد: لا يفر التجارةً؛ لأن الخلع والنكاح ليسا بمعاوضةً على الحقيقةً فإنهما يصحان بدون ذكر العوض ذكره في الصغاري وهكذا ذكر صاحب "الحاوي" (¬1)، وقال: لا يجب فيما ملك بالإجارةً أيضًا، لأن كل هذا ليس من التجارةً ولم يذكر وجهًا آخر وهذا أقيس والأول ظاهر الذب وقيل: هذا بناء على أن المأذون هل يؤاجر عبده وفيه وجهان. ولو ملك بسبب حادث مثل الإفلاس والإقالةً فهذا العشر بحكمه قبل خروجه من ملكه، كان للتجارةً كان بعد رجوعه إلى ملكه للتجارةً، وإن كان للقنية كان بعد رجوعه للقنيةً، ولو كان للقنيةُ [172 أ/ (4)] فنوى للقنيةً والفسخ ليس بتجارةً، ولو اقترض بنية التجارةً عند القبض لا يصير للتجارةً، لأن طريقة الإرفاق، وكذلك لو اغتنم بنيةً التجارةً لا يكون للتجارةً، ولو باع ثوبًا بثوب وثوبًا التجارة ثم ترادا بالعيب لم تبطل التجارةً لأن العقد الذي انعقدت به التجارةً لم يبطل من أصله. فرع آخر إذا ملك الديباج كوى الفنية ليقطعه ويلبسه أو كان يملك سيوفًا للتجارة فنوى القنيةً ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (3/ 299).

ليقطع بها الطريق هل ينقطع الحول؟ وجهان: أحدهما: ينقطع لأن نيةُ الإمساك موجودةً، والثاني: لا يتقطع لأنها نيةً فاسدةً. مسألة: قال (¬1): وَلَوْ كَانَ تَمَلُّكُ أَقَلُّ مِمَّا تَجِبُ فِيه الزَّكاةَ زَكَّي ثَمَنَ الْعُرْضِ مِنْ يَوْمِ مُلَّكِ الْعَرْضِ. الفصل وهذا كما قال: نصاب مال التجارةً قيمةً المال فإن قوّم الدنانير فعشرون دينارًا محل وإن قوّم بالدراهم فمائتا درهم، والواجب ربع العشر وما زاد فبحسابه. وهل يعتبر النصاب طول الحول فيه طرق؟ إحداها: يعتبر في آخر الحول فقط قولًا واحدًا كما نص عليه هاهنا وبه قال مالك قال: لأن الزكاةً تحولت فيه بقنيةً أي: حول الزكاةً انعقد على هذا العرض يقنية إذا لم يكن منعقدًا على ثمنه فأقل ما في الباب أن يجعل كما لو اشترى عرضًا للتجارةً [172 ب/ (4)] يعرض للقنيةً ثم أوضح بأنه لو اتجاه بعشرين دينارًا وكانت قيمته يوم تحول الحول أقل سقطت الزكاةً عنها لأنها تحوك فيه والفرق بينه وبين زكاة النقد هو أن زكاة النقد تتعلق بالعين فلا يشق مراعاة العين، ونصابه في أول الحول ووسطه وآخره وزكاة التجارة تتعلق بقيمة العين فيشق مراعاةً النصاب كل ساعةً. وقال ابن سريج: يعتبر النصاب فيه من أول الحول إلى آخره وبه قال أحمد قال: وهذا هو المذهب، وتأول قول الشافعي: على أنه أراد إذا اشترى بأقل هن النصاب عرضًا يساوي نصابًا يعتبر حينئذٍ الحول من حين اشترى العرض الأول وقد ذكر الشافعي قبل هذه المسألةَ ما يدل على هذا فقال: ولو كان في يده عرض للتجارةً يجب في قيمته الزكاةً أقام في يده ستةَ أشهر على ما تقدم بيانه فشرط أن يكون قيمته نصابًا ومن قال بالأول أجاب عن هذا بأنه أراد أنه اشترى عرضًا للتجارةً حتى لو تم الحول عليه لوجبت في قيمته الزكاةً إذا كانت نصابًا، قال أبو إسحاق: الأول هو المذهب وخالف ابن سريج الشافعي: في هذه المسألة، ومن أصحابنا من [173 أ/ (4)] قال فيه قولان، أحدهما: ما ذكرنا، والثاني: خرجه ابن سريج، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه ثلاثة أقوال. والثالث يعتبر النصاب في أول الحول وآخره وبه قال أبو حنيفةَ وهذا ليس بشيء فإذا تقرر هذا مع أصحابنا على المذهب فقالوا: لو كانت معه مائةَ درهم ثم اشترى بها بخمسين درهمًا عرضًا للتجارةً فحال الحول وهو يساوي مائةً وخمسين درهما ضمها إلى الخمسين ويخرج زكاةً الكل، وإذا كان اشتراه بكل المائةَ ثم استفاد بعد ذلك بشهر مائةً أخرى فإذا تم حول العرض الأول من حين اشتراه فإن كان يساوي درهم زكاه، وإن كان يساوي أقل من ذلك لا يلزم فيه الزكاةً، ثم إذا تم حول المائةً فإن كانت إذا ضمت إلى قيمةَ العرض نصابًا زكاه لأن الثاني يضم إلى الأول في النصاب دون الحول ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 41).

ولو تم حول العرض الأول وقيمته مائتا درهم وزكاةً ثم تم حول المائةً ضمها إلى قيمةَ العرض، فإن كانت نصابًا أخرج زكاةَ المائةَ وإلا فلا يلزمه بشيء، ولو كانت معه مائةً درهم اشترى بها عرضًا للتجارةً، ثم استفاد بعد ذلك مائة أخرى واشترى بها عرضًا للتجارةً، فإن كل واحد منهما يعنى من [173 ب/ (4)] من العرض عند تمام الحول من حين اشتراه يبلغ قيمته نصابًا زكاه، وإن لم يبلغ قيمةً الأول نصابًا عند تمام حوله فإذا تم حول العرض الثاني أضافها إلى الأول وزكى الجميع، وإن لم يبلغ لمجموعها نصابًا فإذا تم حول العرض الثاني أضاف إلى العرض الأول، والثاني، فإذا بلغت قيمةُ الجميع نصابًا فأكثر زكى الجميع والطريق في الكل واحد. فرع آخر لو كانت معه مائة درهم فاشترى بها عرضًا للتجارةً فتم الحول من حين اشترى العرض وقيمته أقل من النصاب فلما كان بعد شهر بلغت قيمته نصابًا فيه وجهان. أحدهما: قاله ابن أبي هريرة يلزمه إخراج زكاته وهو اختيار الماسرجسي وهو الأصح وبه قال أكثر أصحابنا، فقط شهرًا من أول الحول حتى يصير عند بلوغ النصاب كأنه آخر الحول. والثاني: ذكره أصحابنا عن أبي إسحاق لا زكاةً عليه وتكون الزيادةً للحول الثاني فإذا تم الحول الثاني وجمعت، الزكاةً وقيل: هذا أصح، وعلى هذا لو اشترى سلعة بدراهم ثم باعها بعشرين دينارًا فحال الحول والعشرون دينارًا في يده قومت العشرون على [174 أ/ (4)] ما تقدم بيانه لأنها كالعروض فإن بلغت نصابًا من الدراهم تلزمه الزكاةً، وإن لم يبلغ نصابًا هل يسقط حكم الحول على ما ذكرنا من الوجهين فإذا قلنا: يسقط هل ينتقل وجوب الزكاةً إلى عين العشرين دينارًا كسلعةُ اشتراها بورق للتجارةً فيستأنف الحول، فإذا حال الحول الثاني قومت العشرون دينارًا مرة أخرى بالدراهم التي هي الأصل، والثاني: ينتقل وجوب الزكاةً إلى عين هذه العشرين ديناراً فمن أي وقت يحتسب حول العشرين ديناراً؟ وجهان، أحدهما: من وقت التقويم لأن حول الدراهم إذا بطل عند تقويم الدنانير بعد حولان الحول فلما بطل ذلك الحول انتقلت الزكاةً إلى الدنانير فيحسب حولها من ذلك الوقت، والثاني: من وقت ما نقصت في يده العشرون دينارًا لأنه ملك العشرين من ذلك الوقت. فرع آخر لو كان عرضه الأول ناقصًا من المصاب في أول الحول فصار في خلال الحول نصاباً ثم بيع يعرض آخر فلما تم الحول كان الثاني نصاباً أيضاً فلا شك أن الحول الثاني يبني على الحول الأول ولو بقي العرض الأول على النقصان حتى بيع بعرض ثانٍ هل يسقط [174 ب/ (4)] حكم العرض الأول؟ وجهان، أحدهما: لا يسقط بل الحول من يوم ملك العرض الأول أيضًا لأن العرضين كعرض واحد في حق التجارةً ولا يعتبر

النصاب إلا في آخر الحول، والثاني: أنه لما بقي على النقصان حتى خرج من ملكه على ذلك سقط حكمه فالحول من يوم ملك العرض الثاني والأول أصح. مسألة: قال (¬1): ولا تمنع زكاة التجارةً وزكاةَ الفطر يجتمعان. فإذا ملك رقيقاً للتجارةً فأهل هلال شوال فأخرج زكاةَ الفطر إذا حال حول التجارةً أخرج زكاة التجارةً وبه قال مالك وقال أبو حنيفة: تجب زكاة التجارةً ولا زكاةً الفطر لقوله: "لا ثُنيا في الصدقة" وهذا غلط؛ لما قال الشافعي رحمة الله عليه، أنهما زكاتان مختلفتان الموجب والموجَب فيه ألا ترى أن زكاةَ الفطر على الأحرار الذين ليسوا بمال، أي ليست هي زكاةَ المال وإنما هي زكاة البدن للمسلمين، وزكاةَ التجارةً تجب في المال لأنها لا تجب فيما ليس بمال فجاز أن يجتمعا. مسالةً: قال (¬2): وإذا اشترى نًخْلًا للتَّجارةِ أو وَرِثَها زكَّى زَكَاةَ النَّخلِ. الفصل وهذا كما قال: آما إذا ورث نخيلًا [175 أ/ (4)] فأثمرت أو أرضًا للتجارةً فزرعها أو اشترى خمسًا من الإبل السائمةَ للتجارةَ أو أربعين شاةً سادةً للتجارةً لا يجب إخراج الزكاتين بلا خلاف لأنهما جميعاً زكاتا مال مختلفان بقلةً المال وكثرته بخلاف زكاةَ الفطر والتجارةً فإنهما يجتمعان لأنهما زكاتان مختلفتان ثم أيتهما يقدم؟ قال في "الأم" (¬3): يقدم زكاة العين، وقال في "القديم": فيه قولان، أحدهما: ما ذكرنا وبه قال مالك، والثاني يقدم زكاة التجارةً وبه قال أبو حنيفة وأحمد ووجه هذا خبر سمرة بن جندب وقد ذكرنا أن زكاةَ التجارةً أعم لأنها تتعلق بالثمار والأرض والنخل وزكاة العين أخص وزكاةَ التجارةً أحوط لأنها تزيد بزيادة قيمةُ المال بخلاف زكاةَ العين فكان تقديمها أولى، والأول أصح، ووجهه قوله - صلى الله عليه وسلم - "في خمس من الإبل شاة" ولم يفصل ولأن زكاةَ العين ثبتت بالنص ويكفر جاحدها بخلاف زكاةَ التجارةً، ولأن العين أصل والقيمةَ فرع فاعتبار الأصل أولى. فإذا تقرر هذا فمسألةَ القولين إذا اتفق النصابان والحولان معاً مثل إن ملك أربعين شاة بنية [(170) ب/ (4)] القنيةً أو بما هو دون النصاب من الأثمان أو بنصاب من الأثمان ولكن اشتراها حين ملك الثمن فإذا حال الحول من حين اشترى وهي أربعون شاةً قيمتها نصاباً فقد اتفق الحولان والنصابان فإن اختلف النصابان واختلف الحولان فإنه يخرج الزكاةً مما هو نصاب ولا اعتبار بالآخر مثل إن اشترى ثلاثين شاةً للتجارةَ فحال الحول وقيمتها نصاب أخرج زكاة التجارة قولًا واحدًا، ولو كانت أربعون شاةً فحال الحول وقيمتها أقل من نصاب أخرج زكاةً العين قولًا واحدًا، لأنه إنما إحدى الزكاتين عند الاجتماع وهاهنا لم يجتمعا. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 41). (¬2) انظر الأم (2/ 41). (¬3) انظر الأم (2/ 41).

ولو اتفق النصابان واختلف الحولان مثل أن كانت عنده مائتا درهم ستة أشهر ثم اشترى بها أربعين شاه سائمة للتجارة فإنه بني حول الماشية على حول الأصل فيسبق حول التجارة حول العين وقد تسبق زكاة العين زكاة التجارة ففيهما طريقان أحدهما: قال أبو إسحاق: إنه يقدم ما سبق وجوبه قولًا واحدًا كما قدم ما تم نصابه وهذا هو اختيار القاضي (176 أ/ 4) الطبري. واحتج بأن الشافعي قال: لو باع العرض بالدنانير قبل الحول قدمها برأس المال إذا كان دراهم وهذا تقديم لزكاة التجارة على زكاة العين، لأن حول التجارة سابق. والثاني: فيه قولان أيضًا هو اختيار القاضي أبي حامد وهو ظاهر كلام الشافعي لأنه لم يفصل وقد فرض الشافعي الكلام في الثمرة ويبعد أن يوافق آخر جزء من الحول في التجارة أول بدو الصلاح وبهذا قال أحمد ومن أصحابنا من قال: فيه طريقة أخرى وهي أنه يعتبر بما هو الأحفظ للمساكين وأوفر لهم فيحمل رب المال عليه وهذا بعيد وعلى ما ذكرنا إذا كانت عنده أربعون شاة للتجارة ستة أشهر فاشترى بها أربعين شاه سائمة للتجارة هل يبني أم يستأنف الحول؟ على قولين: فإن قلنا: يقدم زكاة التجارة بني، وإن قلنا: يقدم زكاة العين استأنف الحول وعلى قول أبي إسحاق: يخرج زكاة التجارة قوم الكل وأخرج الزكاة سواء كانت الأموال ماشية أو غيرها من الثمار والنخيل والزرع والأرض، وإن قلنا: يقدم زكاة [176 ب/4] العين نظر فإن كان المال ماشية أخرج زكاة العين، وإن كان نخيلًا فأثمرت أو أرضًا فزرعت أخرج عشر الثمار والزرع، وما الذي يصنع برقبة الأرض والنخل؟ فيها قولان، وقال في القديم: يقومها ويخرج زكاة التجارة عنها لأن ما أخرجه من الزكاة عن النماء دون الأصل فلا يتنافيان وهذا ظاهر المذهب، والثاني: أنه لا يخرج عنها شيئًا وهو القياس لأن الثمرة والحب نماء الأصول فما أخرج يكون عن الجميع أو الأصل تبع كالأربعة الزائدة على خمس من الإبل تبع لا تنفرد بالزكاة، وقال القفال إذا قلنا: في الجذوع تتبع الثمار ففي الأرض هل تتبع؟ وجهان، والفرق أنه لا تكون الثمرة إلا من غير النخلة ولا تكون من عين الأرض بل الأرض محله ومحل الزرع فافترقا. فرع آخر إذا قلنا: يقدم زكاة العين فانتقص النصاب في خلال الحول هل يبطل حكمه وتجب زكاة التجارة؟ فيه وجهان، أحدهما: لا تبطل لأنها أثبتتا زكاة العين فإذا انتقص النصاب سقطت الزكاة، والثاني: تجب زكاة التجارة لأنا نقدم زكاة العين عند تصور وجوب الزكاتين وانعقاد الحولين لهما (177 أ/4) فإذا انتقص نصاب العين بأن الحول للعين أنه لم يكن منعقدًا وبقى حول التجارة، وكذلك إذا أوجبنا زكاة التجارة ثم انتقص نصاب التجارة ونصاب العين باق فيه وجهان، وبعض أهل خراسان.

باب زكاة مال القراض

فرع آخر لو اشترى سائمة للتجارة وأوجبنا زكاة التجارة فيها لنقصان نصاب العين فبلغت بالنتاج نصابًا فلما تم الحول كان نصاب التجارة ناقصًا قال بعض أصحابنا بخراسان: فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يستأنف من الآن حول، أما للتجارة، وإما للسوم على اختلاف القولين، والثاني: مقيمًا بلغت قيمة المال نصابًا أوجبنا زكاة التجارة، والثالث: يحسب حول العين من يوم تم نصاب العين بالسخال وقد تقدم أصل هذه الوجوه. فرع آخر لو كانت له حنطة للتجارة فزرعها في أرض القنية وأدرك الزرع هل يلزم العشر أم زكاة التجارة قولان. فرع آخر لو اشترى أرضًا للتجارة، وزرع يبذر للقنية فعليه في الزرع العشر، وفي الأرض زكاة التجارة بلا خوف، ولو كانت الأرض والبذر كلاهما للتجارة ففي الزرع قولان، على ما ذكرنا ولو اشترى غراسًا لا تحمل بنية التجارة أو أرضًا مغروسة غراسًا لا تحمل أو (177 ب/ 4) تحمل ولكن يكون أقل من خمسة أوسق أو أرضًا مزروعة زرعًا لا زكاة فيه من الخضراوات، قال الشافعي (¬1): عليه أن يزكي كل ذلك زكاة التجارة لأنه ليست فيها زكاة العين. فرع لو اشتري شقصًا للتجارة بعشرين دينارًا فحال عليه الحول وهو يساوي مائة دينار وجبت عليه زكاة مائة فإذا قدم الشفيع وطالب بالشفعة أخذها بعشرين لأنه يستحق أخذه بالثمن الأول، ثم قال الشافعي في "المختصر": والخلطاء في الذهب والورق كالخلطاء في الماشية وأراد بالخلطاء الشركاء وقد مضى بيانه. باب زكاة مال القراض مسألة: قال (¬2): وإذا دفع إلى رجل ألف درهم قراضًا على النصف. الفصل وهذا كمان قال: إذا دفع رجل إلى رجل قراضًا على أن ما رزق الله تعالى من الربح كان بينهما نصفان فاشترى العامل سلعة فحال عليها الحول وهي تساوي العين وجبت الزكاة في الكل لأن الربح في التجارة هو تبع للأصل في الحول إذا نض حين حال الحول، وعلى من تجب الزكاة؟ فيه قولان منصوصان أحدهما: تجب زكاة الكل على رب المال، وهو اختيار المزني، قال الشافعي: وهذا أشبه القولين، والثاني: على رب المال زكاة (178 أ/ 4) الأصل وزكاة حصته من الربح وعلى العامل زكاة حصته من ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 41). (¬2) انظر الأم (2/ 41).

الربح وبه قال أبو حنيفة، وأصل هذه المسألة أن العامل متى تملك نصيبه من الربح؟ فيه قولان. أحدهما: أن يملك بالمقاسمة والقبض بعد المقاسمة وهو اختيار الشافعي والمزني ووجهه ما ذكر المزني في آخر الباب، قال: أو ملكه زائدًا لملكه ناقصًا كالشريكين في المال ثم لو خسر حتى لم يبق للعامل في المال حق يعلمنا أنه لا حق من حيث الملك قبل الخسران. والثاني: يملك بالظهور نصيبه من الربح لأنه عقد على أصل يقتضي اشتراك المتعاقدين في النماء فإذا صح العقد وحصل النماء كان النماء مملوكًا لهما كالمساقاة وهذا أقيس القولين، ومن نصر هذا أجاب عما قال المزني بأنه يبطل بجانب رب المال فإن الربح عند الزيادة ولا شيء له من ذلك عن التراجع، وإنما يكون له ما كان من قبل وهو رأس المال، لأن الشرط هو الشركة في الربح لا غير فمتى ذهب الربح ذهبت الشركة فإذا تقرر هذا فالكلام في ثلاثة فصول، الحول، ووجوب الزكاة، والإخراج [178 ب/ 4]. وجملته أنه لا يخلوا حال رب المال والعامل من ثلاثة أحوال: إما أن يكونا مسلمين أو نصرانيين أو أحدهما مسلمًا والآخر نصرانيًا فإن حال الحول وجبت الزكاة عليه عن الكل فلما حال الحول كذلك فهو بالخيار بين أن يخراج الزكاة من غير هذا المال وبين أن يخرج من غيره، فإن أخرج من غيره بالقراض بحاله، وإن اختار إخراجها من عينه أخرج خمسين درهمًا، ومن أين يحتسب فيه ثلاثة أوجه. أحدهما: وهو الأصح يحتسب من أصل رأس المال ألفًا إلا خمسين، والثاني: يكون من الربح كالنفقة والمؤنة من أجرة الجمال والبيت والدلال ونحو ذلك، والثالث: يكون مقسومًا على رأس المال والربح لأن الزكاة تجب فيهما فعلى هذا ينفسخ القراض في خمسة وعشرين درهمًا، وهذا أقيس. وقال بعض أصحابنا بخسران: هذا مبنى على أن الزكاة في العين أو في الذمة فإن قلنا: في العين فهو كسائر المؤن وهذا أصح، لأن الشافعي قال في عبد التجارة: عليه زكاة الفطر وهو من مؤن المال، وإن قلنا في الذمة: كصبي كأنه استرد طائفة من [179 أ/ 4] رأس المال فهي من أصل المال، وإذا قلنا: على رب المال زكاة الأصل وزكاة حصته من الربح يكون قدر الزكاة عليه سبعة وثلاثين درهمًا ونصف درهم وحكمها ما ذكرنا، وزكاة الباقي على العامل والكلام فيه في الفصول الثلاثة في الحول والوجوب والإخراج. أما الحول: فمن حين الظهور نص عليه في "الأم" لأنه على هذا القول يملك الربح بالظهور ومن أصحابنا من قال: أومأ الشافعي على قولين في "الأم" أحدهما: هذا، والثاني: من حين التقويم لإخراج الزكاة منه لأن الربح مظنون وإنما يتحقق ذلك

بالتقويم، ومن أصحابنا من ذكر وجهًا ثانيًا: أنه يعتبر من حيث المقاسمة لأن ملكه قبل ذلك غير مستقر بل هو متردد بين أن يسلم له أو لا فأشبه مال المكاتب فإذا قلنا: بالأول ينعقد ... (¬1) للعامل إذا ظهر أدنى شيء من الربح ولا يعتبر بلوغه نصابًا لأن اعتبار النصاب في زكاة التجارة في آخر الحول، ومن أصحابنا بخسران من ذكر وجهًا رابعًا: أن حوله حول أصل المال لأن الحول حين انعقد على هذا المال انعقد على ما يتولد منه أيضًا فإنه تابع الأصل وهذا غلط فاحش، لأنه إنما يكون حول النماء حول الأصل إذا كان [179 ب/4] الأصل ملكًا لمن ملك النماء والعوامل لا تملك شيئًا من الأصل فكيف يكون حول ما ملك من النماء حول الأصل وقيل في نصيب العامل: طرق إحداها: حكم المال المغصوب لأنه غير متمكن من الضبط في المال وإن قلنا: ملك بالظهور، والثانية: يجب في الزكاة قولًا واحدًا لأنه يمكن طلب القسمة، والثالثة: لا زكاة فيه قولًا واحدًا لأنه وقاية لملك رب المال فملكه ناقص فيه. وأما الوجوب فإن قلنا: ابتداء الحول من حين الظهور أو من حين التقويم فحال الحول نظر فإن كانت حصته نصابًا أو بالإضافة إلى ما معه يبلغ نصابًا وجبت الزكاة وإن كانت حصته لا تبلغ نصابًا وليس له غيرها أو له غيرها ولكن بالإضافة إليها لا تبلغ نصابًا بنيت على الخلطة، فإن قلنا: لا تصح الخلطة في غير الماشية فلا شيء عليه، وإن قلنا: تصح فعليه الزكاة، فإذا قلنا: ابتداء الحول من حين المقاسمة فهذا رجل انفرد بهذا القدر من المال فإن كان نصابًا حين الحول ففيه الزكاة وإلا فلا زكاة فيه، لأنه لا خلطة له. وأما الإخراج قال أصحابنا: الزكاة وإن كانت واجبة لا يلزمه إخراجها لأنه يدري هل يسلم له المال أم لا فهو كما لو كان [180 أ/4] له دين على مليء يعترف به باطنًا لا ظاهرًا. وقال صاحب "التقريب": يجب عليه إخراجها لأنه تصل يده إلى هذا المال، فإن المقاسمة إليه متى شاء فهو كالدين على مليء مقر به ظاهرًا وهذا أصح عندي، ومن أصحابنا بخراسان من ذكر وجهًا آخر: أنه لا زكاة في هذا المال على العامل أصلًا كالمغصوب لأن العامل لا يقدر على التصرف فيه كيف شاء فيبقى على رب المال زكاة ألف وخمسمائة، فإذا قلنا: لا يلزمه الإخراج في الحال فلا شك أنه بالخيار بين أن يخرج أو يؤخر، فإن أخر إلى القسمة أخر زكاة ما مضى إلى هذا الوقت، وإن اختار تقديم الإخراج أو قلنا يلزمه الإخراج في الحال فإن أخرج من غير هذا المال فلا كلام وإن أراد إخراجها من عينه هل له ذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك كما لرب المال لأنهما دخلا على حكم الإسلام ووجوب الزكاة وقيل: هذا هو منصوص الشافعي، والثاني: ليس له ذلك لأن حصته هي وفاؤه لأصل ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل.

باب الدين مع الصدقة وزكاة اللقطة

المال وأصل هذين الوجهين ينبني على القولين في محلها فإن قلنا: إن الزكاة في الذمة لم يخرج منه، وإن قلنا: في العين تعلق الوجوب هاهنا بالقيمة فكان له أخراجها من القيمة هذا إذا كانا [180 ب/ 4] مسلمين فإن كانا نصرانيين فلا زكاة على واحد منهما، وإن كان أحدهما مسلمًا والآخر نصرانيًا نظر فإن كان رب المال هو النصراني، فإن قلنا: زكاة الكل على رب المال فلا زكاة في هذا المال أصلًا. وفرَّع الشافعي على هذا في "الأم" (¬1) فقال: فإن استرد رب المال رأس المال وبقى الربح بينهما فيكون ألف بين مسلم ونصراني فعلى المسلم زكاة نصبيه، وإن قلنا: على رب المال زكاة الأصل وحصته من الربح فلا زكاة في هذا القدر وبقى الكلام في حصة العامل فالكلام في الفصول الثلاثة. أما الحول فابتداؤه على وجهين، ولا يجيء فيه قول التقويم لأن رب المال مشرك لا تقويم له. وأما الوجوب: فإذا حال الحول فإن بلغت حصته نصابًا أو بالإضافة إلى ما معه يبلغ نصابًا فعليه زكاة وإلا فلا زكاة، لأنه لا خلطة لرب المال لكفره. وأما الإخراج: فلرب المال منعه من إخراجها قولًا واحدًا لأنه دخل على أن رب المال لا تلزمه الزكاة فكيف يخرج العامل الزكاة، وإن كان العامل هو النصراني فهو على القولين، فإن قلنا: زكاة الكل على رب المال فهو كما لو كانا مسلمين، وإن قلنا: على رب المال زكاة الأصل وزكاة حصته من الربح فالحكم [181 أ/ 4] في رب المال كما لو كانا مسلمين أيضًا ولا شيء على العامل لأنه نصراني، والمكاتب في كل ما قلناه كالنصراني. فرع لو كان القراض فاسدًا واستحق العامل أجره المثل قدر النصاب وقبضه زكاه لما مضى إن حال حول منذ ملكه وقيل فيه وجه آخر: أنه إذا جعل قدره فلا زكاة ويستقبل الحول من يوم علم قدره. فرع آخر لو كان مال القراض عبدًا فزكاة الفطر على من تكون؟ المنصوص أنها على رب المال، قال أصحابنا: هذا على القول الذي نقول: زكاة المال كلها على رب المال، فأما على القول الآخر: يلزم ها هنا على العامل زكاة الفطر في نصيبه من الربح ثم فيه وجهان أحدهما: يكون من رأس المال، والثاني: أنها تكون من الربح. باب الدين مع الصدقة وزكاة اللقطة قال (¬2): وإذا كانت له مائتا درهم وعليه مثلها. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 42). (¬2) انظر الأم (2/ 42).

الفصل وهذا كما قال: إذا ملك نصابًا من الأموال الزكاتية خمسًا من الإبل أو أربعين شاه أو خمسة أوسق من الزرع أو عشرين مثقالًا من الذهب أو مائتي درهم من الورق، وعليه دين يستغرق النصب نظر فإن كان له مال غير هذا النصاب (181 ب/ 4) فيه قولان. قال في "الأم" (¬1): لا يمنع بل يخرج الزكاة ويقضي الدين مما بقى بعد أداء الزكاة وهو الصحيح، وبه قال ربيعة وحماد وابن أبي ليلى ووجهه أنه حر مسلم ملك نصابًا من السائمة حولًا فأشبه إذا لم يكن عليه دين، وقال في القديم: واختلاف العراقيين من الجديد يمنع وجوبها كما يمنع وجوب الحج وبه قال سليمان بن يسار والحسن والليث والثوري وأحمد وإسحاق رحمهم الله، وقيل: لا فرق بين الدين المؤجل والحال في ذلك وروي عن أحد رواية في الأموال الظاهرة أنه لا يمنع وجوب زكاتها. وقال مالك والأوزاعي: إن كان معه دراهم أو دنانير وعليه مثلها دين فلا زكاة، وإن كانت مواشي أو ثمار فإنه يلزمه الزكاة وكذر بعض أهل خراسان: أن الشافعي قاله في موضع فيكون قولًا ثالثًا، ووجهة: أن في النقد يؤدي إلى اجتماع زكاتين على رب الدين ومن عليه الدين وفي غيره لا يؤدي إلى هذا، ومن أصحابنا من أنكر هذا وقال: قول الشافعي في القديم لمعنى وهو أن في قوله القديم: يجب دفع زكاة الأموال الظاهرة إلى الإمام فلا نصدقه أنه مديون فإن صح عنده ذلك لم يجز له أخذ الزكاة، وقيل: موضع القولين (182 أ/ 4) إذا كان الدين وما في يده جنس واحدة فإن كانا جنسين فقول واحد يلزم احترازًا من إيجاب زكاتين وهذا كله غير معتمد وقد روى أصحاب مالك عن عمير عن عمران عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان للرجل ألف درهم وعليه ألف درهم فلا زكاة عليه"، وقال أبو حنيفة: الدين الذي تتوجه المطالبة به يمنع وجوب الزكاة في الأموال إلا في الحبوب والثمار، وقال: لو كان عليه مائتا درهم دينًا وله مثل ذلك ومن العروض ما يسوي ألوفًا فلا زكاة في المائتين التي له فخالف جميع ما ذكرنا من العلماء واحتج بأنه تحل له الصدقة فلا تجب عليه الصدقة وهذا غير صحيح فيما صورنا لأنه لا تحل له الصدقة وتبطل بابن السبيل فإنه تحل له الصدقة وتجب عليه الصدقة في ماله الذي في بلده، وإن كان له أكثر من نصاب واحد فإن كان ما زاد على النصاب يفي بالدين لزمته الزكاة في النصاب قولًا واحدًا، وإن كان لا يفي بالدين كمسألة القولين، وأما قوله في "المختصر": فاستعدي عليه السلطان أي: رفع إليه قبل الحول وإنما ذكر ذلك مبالغة في حكم المسألة لا شرطًا إذ لا حكم [182 ب/ 4] للاستعداء عليه ما لم يقض عليه. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 42).

مسألة: قال (¬1): ولو قضي عليه بالدين وجعل لهم بماله حيث وجدوه قبل الحول ثم حال الحول قبل أن يقبضه الغرماء. الفصل وهذا كما قال: في بعض النسخ قبل أن يقضيه الغرماء وقد بينا أن الدين لا يمنع وجوب الزكاة ثم لا يخلوا رب المال من أحد أمرين: إما إن حجر عليه الحاكم أو لم يحجر فإن لم يحجر فكلما حال الحول أخرج الزكاة وقضي الدين بما بقى بعد الزكاة، وإن كان قد حجر عليه فحال الحول عليه وهو محجور عليه فيه ثلاث مسائل: إحداها: حال الحول بعد تفرقة ماله بين غرمائه فلا زكاة لأن الحول حال وليس له مال. والثانية: حال الحول بعد قسمة المال بينهم وتعيين كل ذي حق شيئًا من ماله فقيل لواحد: هذا لك بمالك وقيل لآخر: هذا لك بمالك فقبلا ذلك من غير قبض فلا زكاة أيضًا لأنه الملك، وإن لم يحصل القبض، وقال الكرخي في الموضع: أباح الشافعي للغرماء نهب مال المفلس وهذا غلط، لأن معناه عرف الحاكم الديون ومقدار مال المفلس وقسطه على الديون وجعل لكل واحد منهم من ماله عينًا بقدر دينه ورضيه الغرماء وقبلوا ذلك فلا يكون هذا نهبًا وكان ملك المفلس زائلًا [183 أ/ 4] عنه. والثالثة: أن يعفي عليه العافي بالديون ووقف ماله ومنعه من التصرف ثم حال الحول قبل أن يقبضه الغرماء هل يلزمه زكائه؟ قولان، بناء على المغضوب لأنه ممنوع من التصرف فيه، وقال أبو إسحاق: إن كان ماله ماشية وجبت الزكاة قولًا واحدًا وفي غيرها قولان، لأن نماءها تم بعد وقف المال بخلاف غيرها وهذا غلط، لأنها وإن كانت نامية ولكنه يحول بينها وبينه. وقال صاحب "الإفصاح": يلزمه الزكاة في الكل لأن الحجر لا يمنه الزكاة كالحجر على السفيه وهذا أيضًا غلط، لأن وليه ينوب عنه في التصرف وها هنا ليس له نائب في التصرف فافترقا، ومن أصحابنا من قال: إن سلطهم على أخذ ماله بديونهم حيث وجدوه فلا زكاة عليه، وإن لم يملكهم كرهًا ملكه ومعنى قوله لأنه صار لهم دونه أو صاروا أحق به منه إذا أخذوا لا أنهم ملكوا قبل الأخذ، وإن لم يسلطهم تجب الزكاة وهذا غير صحيح أيضًا بل تجب الزكاة قبل أن يملك الغرماء وهو ظاهر تعليل الشافعي، لأنه صار لهم دونه. فرع لو كان عليه دين من جنس الدراهم وفي يده أربعون شاه وثمره وأراد الحاكم أن يبيع (183 ب/4) أحداهما بدينه يبيع الثمرة لأن الأنفع للمساكين تبقية الماشية على ملكه لتكرر الزمان في عينها. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 42).

فرع آخر لو كان له مائتا دينار وألف درهم وعليه ألف درهم دين وقلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة قال ابن سريج: قال الشافعي في كتاب اختلاف العراقيين: ينظر في قيمة الدنانير فإن كانت قيمتها ألفًا جعلنا الدين في مقابلة ما فيه الحظ للمساكين فإن كان الحظ في جعله في مقابلة الورق فعلت وإن كان الحظ في جعله في مقابل الذهب فعلت. وقولنا: أحظ يريد أكثر استعمالًا في البلد من الآخر، وإن كان في الحظ سواء جعلت الدين في مقابلة الورق لأنه من جنسه وأخذت لزكاة الدناير، وإن كانت المسألة بحالها وكانت قيمة الذهب تسعمائة قال الشافعي: جعلت الدين في مقابلة العين، قال ابن سريج: يجعل في الدين في مقابلة الأقل فيكون الدين في مقابلة العين، وما به من الورق ويبقى من الورق تسعمائة فأخذ الزكاة منها هذا إذا كان ماله أجناسًا زكاتية إبل وبقر وغنم وورق وتجارة. قال ابن سريج: جعلت الدين [184 أ/4] في مقابلة العين أو الورق أو التجارة لأنه من جنسه وأخذت الزكاة من غير ذلك، وقال أبو حامد: هذا إطلاق فاسد وينبغي أن يقال: يجعل الدين في مقابلة ما هو الأحظ للمساكين وقد يكون الأحظ أن يكون في مقابلة الماشية دون الدنانير والدراهم، وهذا لا يصرف إلى غير مال الزكاة طلبًا لحظ المساكين، كذلك هاهنا ومن أصحابنا من قال: إذا كان الدين من جنس أحدها فإنه يصرف إلى الجنس بكل حال وهذا أصح عندي، وحكى عن أبي حنيفة أنه قال: إذا كانت له خمس من الإبل وعليه خمس من الإبل ومائتان درهم يجعل الدين في مقابلة الدراهم لأنها من جنس الأثمان وهذا غلط، لأن الإبل إلى الإبل أقرب والمطالبة بها دون غيرها صرف الدين إليها أولى. فرع آخر إذا اعترف المحجور عليه بالفلس أن ماله حال عليه الحول وفيه الزكاة أو حالت عليه أحوال وفيه زكوات فإنه يصدق بلا خوف، ولكن هل يشارك الغرماء في ذلك، أو يقدم سائر الغرماء؟ قولان (184 ب/ 4) كما لو أقر بسائر الديون. فرع لو كانت له مائتان درهم ولا مال غيرها فقال لله على أن أتصدق بهذه المائة بعينها صح نذره وتعلق بها، ولزمه أن يتصدق بها فلو حال الحول قبل أن يتصدق بها فعل يمنع النذر وجوب الزكاة؟ فإن قلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة فهذا أولى لأنه يتعلق بالعين واستحق بهذا النذر عينه بخلاف دين الآدمي، وإن قلنا: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة ففي هذا وجهان، لأن المال صار مستحقًا لله تعالى قبل الحول فإن قلنا: لا يمنع يتصدق بخمسة عن المائتين على وجه الزكاة ويتصدق بالمائة التي نذرها، وإن قلنا يمنع وجوب الزكاة تصدق بالمائة التي نذرها ولا زكاة.

فرع آخر لو نذر مطلقًا فقال: لله على أن أتصدق بدرهم وله مائتا درهم فإن قلنا: الدين لا يمنع وجوب الزكاة فها هنا أولى أن لا يمنع، وإن قلنا: يمنع ففيه وجهان: أحدهما: يمنع أيضًا، والثاني: لا يمنع لأنه دين لا مطالب به ويؤتمن على أدائه وضعف في بابه فلا يمنع وجوب الزكاة بخلاف دين الآدمي (185 أ/ 4) وهكذا لو قال: لله على أن أتصدق بمائتي درهم. فرع آخر لو قدمه غرماؤه إلى القاضي فجحدهم وحلف ففيه وجهان أحدهما: وهو قول جمهور أصحابنا جحوده ويمينه غير مؤثر فتكون زكاة ما بيده على قولين، والثاني: جحوده مع يمينه أسقط عنه المطالبة وإن لم يسقط عنه الدين فصار في حكم من لا دين عليه لسقوط المطالبة عنه فلزم زكاة ما في يده قولًا واحدًا ذكره في "الحاوي" (¬1). فرع آخر لو أقرض ألف درهم ولا مال للمستقرض سوى ألف درهم ورهنه عند المقرض فقط حصل له ألفان ألف رهن وألف في يديه وعليه ألف المقرض وحال الحول أما المقرض فهل تجب عليه الزكاة في الدين؟ قولان: وإما المستقرض فهل تجب عليه الزكاة فله ألفنا وعليه ألف درهم دين فإن قلنا: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة زكي الكل، وإن قلنا: يمنع زكي الألف ولم يزك الآخر. فرع آخر لو كانت له أربعون شاه سائمة فاستأجر رجلًا يرعاها حولًا بشاة موصوفة في الذمة صحت الإجارة وملك الأجير الشاه في ذمة رب المال فإذا حال الحول عليها فعلى رب المال شاه (185 ب/ 4) في ذمته فإن لم يكن له مال غير هذا الغنم هل يمنع الدين عليه وجوب الزكاة في الغنم قولان: وإن كان له مال غيرها فإنه تجب الزكاة قولًا واحدًا، ولو كانت الإجازة على واحدة شاه بعينها صحت الإجازة، وإذا حال الحول فإن كانت مختلطة بغنم المستأجر كان حكمها حكم الخليطين في نصاب واحد فيلزم الزكاة عليهما بالقسط، وإن كان ميزها وعزلها لم يضمنها إلى ما عنده من الغنم ولا زكاة عليهما، وهكذا إذا استأجر بثمره نخلة بعينها أو نخلات لا يختلف هكذا قال الشافعي. قال أصحابنا: أراد إذا ظهرت الثمرة ولم يكن يريد إصلاحها وشرط القطع أو كانت الإجازة بالنخلة وثمرتها فإذا بدا الصلاح فإن كان نصيب كل واحد منهما نصابًا زكيًا هنا، وإن كان أقل من نصاب ولكن الجميع يبلغ نصابًا فهو مبني على الخلطة فيما عدا ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (3/ 312).

المواشي وهذه هي خلطة أوصاف لا أعيان، ونص الشافعي ها هنا يدل على ثبوت حكمها فيها بكل حال. فرع آخر إذا قلنا: الدين يمنع الزكاة فدين الكفارة ودين الزكاة سواء على الطريقة الصحيحة، وقال زفر: كلاهما [186 أ/ 4] يمنع وقال أبو يوسف: إن كانت الزكاة واجبة في العين تمنع الزكاة، وإن كانت واجبة في الذمة فإن أتلف مال الزكاة وانتقلت الزكاة إلى ذمته لا يمنع، وقال أبو حنيفة: الزكاة تمنع بخلاف الكفارة لأنها دين واجب كدين الآدمي والله تعالى أعلا المطالبين بإخراجها. فرع لو حال الحول على مائتي درهم فحال الحول عليها ووجبت الزكاة فيها فتصدق بكلها ولم ينو الزكاة فقد ذكرنا أنه لا يسقط عنه الزكاة على ظاهرة المذهب، وقال ابن سريج: ينظر فإن كان له مال سواها يلزمه إخراج هذه المائتين منه لأنه لما تصدق بكل المائتين علمنا أنه قصد أن يخرج الزكاة من غير هذا المال فيخرجها من غيره واجبًا، وإن لم يكن له مال سواها ففيه وجهان: أحدهما: ما ذكرنا، والثاني: يقع خمسة عن الفريضة لأنها تتعلق بعينها والباقي عن التطوع ويشبه أن يكون الوجهان بناء على القولين في بيع مال الزكاة بعد وجوبها، فإن قلنا: يفقد البيع في الكل فقدت الصدقة في كله وعليه زكاة ماله، وإن قلنا: يصح فيما عدا قدر الزكاة فهاهنا صحت الصدقة تطوعًا [186 ب/ 4] فيما عدا قدر الزكاة وكانت منها واقعة موقعها. فرع آخر ذكره والدي الإمام رحمه الله لو ضمن عن آخر مالًا بإذنه فهذا الدين هل يمنع وجوب الزكاة؟ إذا قلنا: الدين يمنع وجوب الزكاة لا نص فيه ويحتمل وجهين أحدهما: لا يمنع وجوبها لثبوت حق الرجوع له بعد الأداء فصار كأنه لا دين عليه حيث يصل إليه عوضه عقيب أدائه، والثاني: يمنع لأن الدين عليه في الحال ولا شيء له على المضمون عنه قبل الأداء فصار كسائر الديون. فرع آخر ذكره والدي رحمه الله لو حال الحول على ماله فقبل إمكان الأداء توجه عليه الدين من قبل الله تعالى لا بإيجاب من جهته كنفقة الزوجات هل يسقط الزكاة عنه على القول الذي يقول الدين يمنع وجوب الزكاة، فإن قلنا: إمكان الأداء من شرائط الضمان لم يسقط، وإن قلنا: أنه من شرائط الوجوب فإن كان العقد منه لم يسقط أيضًا، وإن كان من وليه يحتمل وجهين: أحدهما: يسقط كما لو كان وجوبها قبل الحول لأن وقت الوجوب جاء وعليه دين،

والثاني: لا يسقط وهذا أصح لأن [187 أ/ 4] عقد وليه له كعقده بنفسه إذا كان من أهله والفرق بين هذا وبين ما قبل الحول هو إن الدين هناك لو وجب بسبب منه لم يمنع وجوب الزكاة، وإن لم يكن متعديًا في السبب فكذلك إذا وجب لا بسبب منه وهذا بين ثم ذكر في "المختصر" الزكاة في المرهون والزكاة في الدين على ملئ وقد مضى شرح ذلك. مسألة: قال (¬1): وإذا عرف لقطة سنة ثم حال عليها. الفصل وهذا كما قال: إذا التقط لقطة وكانت نصابًا تجب فيه الزكاة فعليه أن يعرفها حولًا فإذا فعل ذلك هل يدخل في ملكه عقيب الحول بغير اختياره المذهب أنها لا تدخل في ملكه بغير اختياره. ومن أصحابنا من قال: إذا اختار تملكها متى نملك؟ فيه قولان: كما في القرض أحدها: لا يملك ما لم يتصرف فإذا تصرف حكمنا بدخوله في ملكه قبيل التصرف، والثاني: يملك بنفس الاختيار قبل التصرف ثم إذا تملكها فإن كانت من الأثمان كان في ذمته مثلها لأنها عرض عليه وإن كانت ماشية حصلت في ذمته قيمتها من غالب نقد البلد. وأما حكم الزكاة فإذا حال الحول من حين الالتقاط فلا زكاة على الملتقط لأنه لا يملكها [187 ب/4] وأما ربها فعلى قولين أحدهما: لا زكاة، والثاني: عليهم الزكاة لأنها كالمغصوب فإذا حال الحول الثاني وجاء ربها لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون يملكها أو لا، فإن لم يكن تملكها فلا زكاة عليه لأنه لم يملكها، وأما ربها فإنه مرتب على القولين في المغصوب فإن قلنا: لا زكاة هناك فهاهنا أولى، وإن قلنا: فيه الزكاة فهاهنا قولان لأن ملكه هنا أضعف لأنه يعرض أن يملكه الملتقط وهذا أصح، لأن الشافعي قال: ويشبه أن لا يكون عليه الزكاة فيها قولًا واحدًا وهذا اختيار أبي إسحاق ويفارق المغصوب لأن ملك صاحبه مستقر عليه، وهكذا لو اختار تملكها وقلنا: لا يملك ما لم يتصرف ولم يكن تصرف وإذا قلنا: إنه يملك باختيار التملك فاختار التملك أو قلنا: يملكها بمضي السنة فإن للملتقط تملكًا على هذا اللقطة وعليه قيمتها دينًا فإن كان له مال سواها يفي بالدين فعليه زكاتها، وإن لم يكن له مال سواها فهل عليه الزكاة؟ قولان: وأما صاحب القطة فقد ملك في ذمة الملتقط قيمتها والدين يجري مجرى العين في وجوب الزكاة وهذا دين غير مقدور [188 أ/ 4] عليه هل يجب الزكاة فيه؟ قولان: كما قلنا في العين المغصوبة، ومن أصحابنا من قال: إنه يختلف بيسار الواحد وإعساره على ما تقدم بيانه في الدين فإن قيل: إذا كانت اللقطة مما لا تجب فيه الزكاة ولا مثل له فالمالك لم يختر قيمته في ذمته فيجب أن لا زكاة قيل: ما يجب فيه زكاة العين لا يعتبر فيه قصد المالك كما لو كانت له حنطة فذرتها الريح في أرضه فنبتت خمسة أوسق يلزمه ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 44).

عشرها ثم أن المزني اختار وجوب الزكاة هاهنا، وكذلك في المغصوب. واحتج بأن الشافعي نص في باب صدقات الغنم على هذا ثم قال: فقضي ما لم يختلف من قوله أي: من نصه في هذا لأحد قولين وهذا الذي اختاره المزني وهو الأصح، ولكن يقال له: وإن نص في موضع على أحد قوليه لا يمنع القولين في موضع آخر فإن قال قائل نص الشافعي في المسألة السابقة وهي إذا جحد ماله أو غصب عليه قولين ثم فرع على القول بالوجوب فما قصده بذلك قلنا: قيل: قصده ترجيح قبول الوجوب على .... (¬1) السقوط وعلامة الترجيه تخصيصه بالتفريع وقيل: قال بعض أصحابنا: يجب الزكاة لما مضى هناك [188 ب/ 4] قولًا واحدًا. وقوله: فلا يجوز إلا واحد من قولين قصد به إبطال قول مالك على ما ذكرنا فتخصيصه قول الوجوب بالتفريع كالدليل على صحة هذه الطريقة، وأما قوله في اللقطة (¬2) والقول فيها كما لو وصفت في أن عليه الزكاة لما مضى لأنها ماله أو في سقوط الزكاة عنه في مقامها في يد الملتقط بعد السنة لأنه أبيح له أكلها تشبيه للقطة المغصوب وهذا التشبيه وهذه العبارة تقوى طريقة من أدعى القولين في الجحودة. فرع لو أودع عند رجل وديعة ثم قال: إن احتجت إليها فخها قرضًا فنوى أن يتخذها قرضًا لم يدخل في ضمانه ما لم يستعمل، وفي اللقطة إذا نوى بعد الحول التملك دخلت في ضمانه وإن لم يتصرف على المذهب الصحيح والفرق أن يد المالك على الوديعة هي ثابتة فلا تتبدل إلا بالاستعمال وفي اللقطة فلا يد للمالك عليها فمتى حفظها لنفسه واختار تملكها دخلت بذلك في ضمانه ذكره القفال. مسألة: قال (¬3): ولو أكرى دارًا أربع سنين بمائة دينار. الفصل وهذا كما قال: إذا أكرى داره أربع سنين [189 أ/ 4] بمائة دينار بأن أطلق العقد أو اشترط تعجيل الأجرة كان الكراء كله حالًا وإن اشترط أجلًا كان على ما شرط خلافًا لأبي حنيفة ومالك، فإن عندهما لا تتعجل الأجرة عند الإطلاق فإذا تقرر ما ذكرنا فقد ملك المكري جميع المائة فإذا حال الحول عليها وهي في يده وجبت الزكاة بلا إشكال وكم الذي يجب عليه أن يخرجه؟ قال في "الأم" (¬4): يلزمه إخراج خمسة وعشرين دينارًا وهكذا كل سنة يخرج زكاة ما استقر ملكه عليه، وقال المزني والبويطي: يخرج زكاة الكل في السنة الأولى وهكذا في كل سنة يخرج زكاة ما في يده منها لأنها ملكه، وإن لم يكن مستقرًا كالصداق فاختلف ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) انظر الأم (2/ 44). (¬3) انظر الأم (2/ 44). (¬4) انظر الأم (2/ 44).

أصحابنا فيه، فمنهم من قال: المسألة على قولين، وما ذكره المزني والبويطي هو قول ثان للشافعي، وقد رواه البويطي عنه، وبهذا قال عامة أصحابنا. وحكي عن ابن سريج أنه قال: هذا القول الذي ذكره البويطي أصح، وقيل: هذا غلط، لأن ابن سريج ذكر في كتاب "الانتصار": إن هذا هو مذهب البويطي، قاله من عنده ولا يرويه أحد من الشافعي، فالمسألة على قول واحد، وهو ما ذكره في [189 ب/ 4] "الأم" ووجهه أن ملكه غير تام على كلها لأنه يتضمن بشرط سلامة المنفعة للمكتري وذلك يوجب نقصًا في ملكه فهو كالدين المجحود إذا لم يأمن أن يحلف عند المطالبة عليه لا زكاة عليه ويفارق الصداق لأنها لم تقبضه بشرط سلامة المنفعة للزوج بدليل أنها لو ماتت استقر كله وإن هلكت المنفعة، وأيضًا إذا طلقها فإنه يعود الصداق إليه حين الطلاق بتصرف جديد فلا يستدل من ذلك نقصان ملكها قبل ذلك. وهاهنا إذا انهدمت الدار تنفسخ الإجارة ويرتفع من غير تصرف جديد، فيظهر نقصان ملكه على الأجرة وعدم استقرار مكله عليها، وقيل: الصداق مضمون على الزوج ضمان العقد في حول فإذا حال الحول عليه وهو في يد الزوج فحكمه حكم المبيع إذا حال الحول عليه في يد البائع وقد ذكرنا الاختلاف فيه وقال القاضي الطبري وحده في وجوب الزكاة قولان كما في وجوب الإخراج قولان، وهذا لا يصح لأنه لو كانت لا تجب فيه الزكاة على أحد القولين لعدم استقراره لكان إذًا يستأنف حوله ولا مضى كمال الكتابة فلما نص على هذا [190 أ/ 4] القول أنه يزكي لما مضى دل على أن عدم الاستقرار لا يمنع الوجوب، وإنما منع الإخراج فإذا تقرر هذا وقلنا بالمذهب الصحيح فالحكم في السنة الثانية وما بعدها مبني على أن الزكاة تجب في الذمة أو استحقاق جزء من العين، فإن قلنا: في الذمة فحال الحول الثاني وجبت زكاة خمسين دينارًا لأن الملك استقر عليها وقد أخرج في الحول الأول زكاة خمس وعشرين منها وحال عليها الحول الثاني، فإن كان قد أخرج الزكاة من غيرها زكاها، وإن كان قد أخرج من عينها زكى ما بقى في هذا الحول الثاني، فإذا حال الحول الثالث وجبت زكاة خمسين وسبعين دينارًا خمسون منها قد زكاها حولين وقد حال عليها ثالث فيزكيها وبقيت خمسة وعشرون حال عليها ثلاثة أحوال ولم يخرج زكاتها فيخرج زكاتها، فإذا حال الحول الرابع وجبت الزكاة في المائة كلها خمسة وسبعون منها قد زكاها ثلاثة أحوال وقد حال عليها الحول الرابع فيزكيها لهذا الحول وبقيت خمسة وعشرون حال عليها أربعة أحوال ولم يزكها فيزكي زكاة أربعة أحوال فإن قلنا: الزكاة في العين فإذا حال الحول الأول [190 ب/4] زكي خمسة وعشرون دينارًا وهو بالخيار بين أن يخرج من عينها أو من غيرها، فإذا حال الحول الثاني وجبت زكاة خمسون خمسة وعشرين وقد أخرج الزكاة عنها في الحول الأول، وقد حال عليها حول ثان بأن كان قد أخرج الزكاة عنها في الحول الأول وقد حال عليها حول ثان فإن كان قد أخرج الزكاة من غيرها أخرج زكاتها، وإن كان قد أخرج من عينها زكى ما بقى وبقيت خمسة

وعشرون حال عليها حولان لم يخرج الزكاة منها وقد استحق المساكين زكاة الحول الأول ربع العشر من عينها فلا يجب عليه زكاة نصيب المساكين فيزكي الخمسين إلا قدر نصيب المساكين في الحول الأول وعلى هذا في الحول الثالث والرابع، ويدق الحساب وهكذا إذا قلنا: إن الزكاة في الذمة والعين مرتهنة بها والدين يمنع وجوب الزكاة يخرج الزكاة إلا عن القدر الذي هو نصيب المساكين لأن عليه دينًا وهو الزكاة قدر الواجب في الذمة من الدين يمنع من الزكاة بقدره كما لو استحق المساكين جزءًا من العين. وقال القفال الشافعي - رحمه الله -: وضع المسألة فيمن أكرى دارة أربع سنين بمائة دينار ونصور نحن في مسألة [191 أ/ 4] أسهل من هذا وهي أن يكري أربع سنين بمائة وستين دينارًا فحصة كل حول أربعون دينارًا فعلى هذا يؤدي في الحول الأول دينار، وفي الحول الثاني بأن أن ملكه كان مستقرًا على ثمانين دينارًا فعليه أربعة دنانير غير أنه أدى دينارًا فيؤدي ثلاثة دنانير، ثم إذا مضى الحول الثالث بأن أن ملكه كان مستقرًا على مائة وعشرين دينارًا ثلاثة أحوال وزكاتها تسعة دنانير وقد أدى أربعة دنانير في دفعتين فيؤدي خمسة دنانير، ثم إذا مضى الحول الرابع بأن استقر ملكه على جميع الكراء وزكاته في أربع سنين ستة عشر دينارًا وقد أدى تسعة فيؤدي سبعة دنانير وعلى هذا يرتب مسألة الكتاب فإنه يدق الحساب فإذا تقرر قال المزني: هذا خلاف أصله في كتاب الإجارات أشبه بأقاويل العلماء في الملك أراد كان من حقه إذا جعلها حالة كالثمن أن يوجب الزكاة بمضي الحول في الكل فإن هذا هو الأشبه بأقاويل العلماء في ملك الإنسان، ولم يراد به الاستثناء تأويل العلماء أن الكراء حال لأن أكثر العلماء على أن الكراء في مطلق الإجارة لا يكون حالًا فثبت أنه أراد به ما بينا. وقوله: لا على ما عبر في الزكاة أي: ليس [191 ب/4] الأمر على ما عبر به في الزكاة والجواب عن هذا أن يقول: عبارته في الزكاة لا يخالف عبارته في الإجارة لأن الشافعي جعله في الإجارة كثمن السلعة في جواز التصرف فيه لا في كمال ملكه وقوته وجواز التصرف في الملك لا يدل على استقرار ملكه في حكم الزكاة كمال المكاتب فبطل بما قال الزمني، وأيضًا هاهنا في الزكاة أثبت له الملك وإن لم يستقر ولهذا قال: زكاها لما مضى إذا استقر فلولا أن الملك حصل بالعقد لأمر باستئناف الحول فيدل على أن هذا لا يخالف ما ذكر في الإجازة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: الأحرى هل يملك بنفس العقد أم هي موقوفة؟ قولان: وهذا غير صحيح. فرع لو كانت المسألة بحالها فقبض الأجرة ولم يسلم الدار حولًا بعد حول حتى انقضت المدة فالإجارة قد بطلت وعليه رد الأجرة. فأما وجوب زكاتها عليه فإن قلنا: بالمذهب فلا زكاة عليه في شيء منها لأنه حكمًا مضى من مدة الإجارة شيء قبل التسليم بعد زوال ملكه عما قابله من الأجرة ومن زال

ملكه عن الشيء لم تلزمه زكاته، وإن قلنا بالقول الآخر فالجواب: بعكس ما تقدم فإذا مضت السنة الأولى قبل التسليم كان ملكه على مائة دينار وزال ملكه عن خمسة وعشرين دينارًا [192 أ/ 4] فيزكي الباقي وهو خمسة وسبعون دينارًا لسنة فإذا مضت السنة الثانية فقد زال ملكه عن خمسين فيزكي الباقي لسنة وهو خمسون دينارًا إلا قدر ما أخرج منها في زكاة السنة الأولى فإذا أمضت السنة الثالثة فقد زال ملكه عن خمسة وسبعين دينارًا فيزكي الباقي لسنة وهو خمسة وعشرون دينارًا إلا قدر ما أخرج منها في زكاة السنة الأولى والثانية، فإذا مضت السنة الرابعة فقد زال ملكه عن المائة كلها فلا زكاة عليه فيها ولا رجوع له بما أخرج من زكاتها لأن ذلك حق لزمه في ملكه فلا يرجع به على غيره. فرع ذكره والدي رحمه الله إذا قلنا: بالمذهب الصحيح في هذه المسألة لو عجل زكاة ما زاد على خمسة وعشرين في الحول الأول لم يجز، وإن علمنا عند انقضاء الحول أن زكاة الجميع هي واجبة بالحول الأول ولو عجل زكاة عشرين قبل تمام الحول الأول نظر فإن كان قد مضى لدفعه أخماس الحول جاز وإلا فلا يجوز والأصل فيه أن ما لم يعلم وجود النصاب الذي يلزمه به الزكاة في ملكه فتعجيلها غير جائز، وكذلك ما لم يعرف ملكه للمال لا يجوز إخراج زكاته إلا ترى أنه لو كانت له دراهم ولا يعرف كمال [192 ب/ 4] نصابها فأخرج خمسة دراهم ثم علم أنها كانت نصابًا لم يجز ما أخرجه عن فرضه فكذلك فيما نحن فيه وفي كل هذا وجه آخر: إنه يجوز إذا ظهور في الثاني وجود الشرط. فرع آخر لو باع شيئًا بمائة دينار وقبض الثمن والمبيع قائم في يده بعينه فحال الحول على الثمن هل يلزمه إخراج الزكاة عنه؟ قولان وهل يلزم المشتري إذا كانت السلعة للتجارة أن يخرج الزكاة عنها قبل قبضها؟ قولان، لأنه يخاف طروء الفسخ عليه كما في الأجرة بانهدام الدار. فرع آخر لو تبايعًا سلمًا بمائة دينار إلى أجل وقبض البائع الثمن في حال الحول قبل إقباض المسلم فيه قال الشافعي: أخرج زكاتها، قال أصحابنا: هذا مبني على أنه إذا عدم المسلم فيه عند محله هل ينفسخ العقد؟ فيه قولان: أحدهما: لا ينفسخ فعلى هذا يلزمه إخراج زكاتها قولًا واحدًا، والثاني: ينفسخ فعلى هذا هل يلزمه إخراج زكاتها؟ قولان: كما قلنا في الأجرة، وأما مشتري المسلم فلا يلزمه إخراج زكاته إن كان للتجارة قولًا واحدًا، لأن تأجيل الشيء يمنع من وجوب الزكاة فيه فإذا قبضه بعد محله استأنف حوله. مسألة (193 أ/4): قال (¬1): ولو غنموا فلم يقسمه الوالي حتى حال الحول. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 44).

الفصل وهذا هو كما قال: الكلام في الغنيمة في فصلين أحدهما: في القسمة، والثاني: في الملك. فأما القسمة: فالمستحب للإمام أن يقسم الغنيمة حيث غنمها في دار الحرب كانت أو في دار الإسلام، إلا أن يكون له عذر مثل أن يخاف لحوق المشركين بهم إن اشتغل بقسمتها بينهم وانقطاع الميزة عنهم وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يقسمها في دار الحرب. وأما الملك: فإذا حصلت أموال أهل الحرب في أيدي المسلمين نظر فإن كانت الحرب قائمة لم يملكوها ولا ملكوا أن يتملكوا، فلو قالوا: اخترنا التملك أو اقتسموها بينهم لم يملكوها، وإن انقضت الحرب وانصرف العدو فقد ملكوا أن يتملكوا كالشفيع لا يملك ولكن يملك أن يتملك، وإنما يملكوها بأحد أمرين: أحدهما: أن يقولوا: اخترنا الملك، والثاني: أن يقسمها الإمام بينهم فيتعين لكل واحد نصيب منها. وقال بعض أصحابنا بخراسان: يملكون ملكًا ناقصًا وإن لم يختاروا التملك ولا اقتسموا لأنه لو وطئ جارية من الغنيمة لا يلزم الحد وهذا غلط، لأنه لا خلاف أن من ترك حقه من القسمة سق حقه ويرجع إلى الباقين [193 ب/ 4] ولا يحتاج إلى قبولهم والحد يسقط بشبهة الملك كما لو وطئ جارية ابنه لا يلزمه الحد، وإن لم يتملك فإذا ثبت حكم الملك بني عليه حكم الزكاة فكل موضع قلنا: ملكوا أو قلنا: ملكوا أن يملكوا فلا زكاة لأنهم لم يملكوا وكل موضع قلنا: ملكوا بالاختيار نظر فإن كانت الغنيمة أصنافًا فلا حول ولا زكاة سواء كانت ماشية زكاتية وأثمانًا زكاتية وغير زكاتية ... (¬1) ثم يقسم بينهم قسمة بحكم وهي أن يجعل الإبل لقوم والبقر لقوم والدراهم لقوم على حسب اختياره ورأيه، فإذا لم يتعين ملكه فلا زكاة عليه، وإن كانت الغنيمة صنفًا واحدًا من الذي تجب فيه الزكاة نظر فإن بلغ نصيب كل واحد منهم نصابًا دار في الحول لأنه استقر ملكه على نصيبه كما لو ورثوه. وقال في "الحاوي" (¬2): هل تجب زكاتها والخمس باق؟ فيها وجهان أحدهما: وهو قول البصريين لا زكاة وهو بنص الشافعي أشبه، والثاني: وهو قول البغداديين وهو الأصح أنه تجب الزكاة لأن مشاركة أهل الخمس لا تمنع وجوب الزكاة عليهم كمشاركة المكاتب والذمي لا يمنع وجوب الزكاة على الحر المسلم [194 أ/ 4] وإن لم يبلغ نصيب كل واحد منهم نصابًا لم يضم ما لهم إلى الخمس لأنه لا زكاة على أهل الخمس في نصيبهم من هذا المال لأنهم غير معينين وينظر إلى ما بعد الخمس فإن كانت ماشية صحت الخلطة قولًا واحدًا، وإن لم يكن ماشية فقولان، فكل موضع قلنا: ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض الأصل. (¬2) انظر الحاوي للماوردي (3/ 322).

باب البيع في المال الذي فيه الزكاة بالخيار وغيره

لا تصح الخلطة فلا زكاة وكل موضع قلنا: تصح الخلطة جرت في الحول من حين الملك فإن قيل: ما الفرق بين الورثة يملكون التركة من غير القسمة واختيار التملك؟ قيل: الفرق أن بعض الورثة لو أتلف من التركة شيئًا لم يلزمه قيمته ولكن يسقط بمقداره من حصته فملكته مستقر وبعض الغانمين لو أتلف شيئًا من الغنيمة يلزمه قيمته وترد في المغنم فافترقا. فرع لو جمع الوالي ألفي دراهم أو ذهبًا فأدخله بيت المال فحال الحول عليها أو كانت ماشية ترعى في الحمى فحال عليها حول فلا زكاة فيها لأن ملاكها لا يحصون ولا يعرف كلهم بأعيانهم ثم نص عليه في "الأم" (¬1). فرع آخر لو عزل الإمام صنفًا من القسمة من المال الزكاتي لقوم غائبين فلا زكاة لأنهم ما ملكوا فإنا لا نعلم قبولهم نص عليه في "الأم" (¬2) (194 ب/ 4). باب البيع في المال الذي فيه الزكاة بالخيار وغيره مسألة: قال (¬3): ولو باع بيعًا صحيحًا على أنه بالخيار أو المشتري أو همًا أو قبض أو لم يقبض. الفصل وهذا كما قال: الكلام هاهنا في فصلين أحدهما: في زكاة القطر، والثاني: في زكاة المال وكلاهما مبنيان على أن الملك في زمان الخيار لمن يكون؟ وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: للبائع وهو اختيار المزني، والثاني: للمشتري، والثالث: موقوف فإن فسخا البيع تبينا أن الملك لم يزل عن البائع وإن أتما البيع تبينا أن المشتري ملكه بالعقد ولا فرق بين خيار المجلس وخيار الشرط، ولا بين أن يكون الخيار للبائع أولهما أو للمشتري. وقال القفال: الأصح أن الخيار إن كان للبائع فالملك له وإن كان للمشتري فالملك له وإن لهما فموقوف. وروى الربيع إن كان الخيار للبائع أولهما فالملك للبائع وإن كان الخيار للمشتري فقولان، أحدهما: للبائع ونقل المزني في أول هذا الباب أن الملك للبائع بكل حال ثم حكي قولين آخرين: أحدهما قال: وقال في زكاة الفطر: إن الملك يتم بخيارها أو بخيار (195 أ/ 4) المشتري وحده، يعني: أن الخيار إنما يمنع وقوع الملك للمشتري إذا كان البائع وحده ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 45). (¬2) انظر الأم (2/ 45). (¬3) انظر الأم (2/ 45).

دون أن يكون لهما أو للمشتري وحده والثاني قال: وفي الشفعة أن الملك يتم بخيار المشتري وحده أي: لا يقع الملك للمشتري إلا أن يكون الخيار له وحده دون أن يكون الخيار لهما وللبائع ثم اختار المزني هذا القول فقال: وهذا عندي أشبه بأصله. وفي بعض النسخ قال: الأول، يعني: القول الأول إذا كانا جميعًا بالخيار .... يعني أن الملك أنما يكون للبائع إذا كانا بالخيار أو البائع وحده بالخيار فأما إذا كان الخيار للمشتري وحده والملك له في زمن الخيار واحتج على هذا من أجل الشافعي لم يختلف قوله في رجل حلف بعتق عبده أن لا يبيع فباعه أنه عتيق لأن السنة عند الشافعي أن المتبايعين بالخيار ما لم يتفرقا فلولا أنه ملكه يعني في وقت الخيار ما عتق عبده المشتري عل البائع وأجاب أصحابنا عن هذا بأنه عتق لا لأن الملك للبائع ولكن لأن له فيه حق الفسخ للخيار ولو أنشأ العتق في زمان الخيار لعتق بانفساخ البيع به فيه (195 ب/4) وكذلك إذا وجدت الصفة التي علق العتق بها جاز أن يفسخ فيه البيع ويترتب عليه العتق رد وقوع العتق بالصفة أمضى في الأحوال من وقوع عتق المباشرة، فإن قيل: هذا تعليق الفسخ بالحظر وذلك لا يجوز لأنه لو قال: إن بعتك فقد فسخت البيع لم يجز قلنا: نعم، ولكن يجوز في ضمن العتق الذي يقبل التعليق بالحظر والغرر كما أن إبراء المكاتب لا يتعلق بالصفة، ولكن عتقه تعلق بالصفة وفي ضمنه إبراء فإذا تقرر هذا رجعنا إلى حكم الزكاة. أما حكم زكاة الفطر إذا أهل هلال شوال في مدة الخيار فإن قلنا: الملك للمشتري فإنه ينتقل إليه بنفس العقد فالفطر على المشتري، وإن قلنا الملك للبائع فإنه ينتقل إلى المشتري بشرطين: بالعقد وبانقضاء الخيار فالفطرة على البائع. وإن قلنا: مراعي ينظر فإن تم البيع فالفطرة على المشتري لأنه بأن أن الملك انتقل إليه وإن فسخا البيع فالفطرة على البائع، وأما زكاة المال إذا باع ما لا يجب فيه الزكاة قبل الحول فحال الحول في مدة الخيار بأن قلنا: الملك للبائع فالزكاة عليه، وإن قلنا: الملك للمشتري فإن أجاز البيع فلا زكاة على [196 أ/ 4] البائع ويستأنف المشتري الحول من حين اشتراه وإن فسخا البيع استأنف البائع الحول لأن ملكه قد تحدد عليه. وذكر بعض أصحابنا من المتأخرين أنه يلزم الزكاة على البائع بحوله لأن هذا الفسخ استند إلى العقد بالشرط المذكور فيه وهذا غريب، وإن قلنا: الملك موقوف فإن أجازا البيع استأنف المشتري الحول من حين العقد، وإن فسخاه وجبت الزكاة على البائع لأن تبينا أن الملك لم يزل عنه، ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا: أن الملك للبائع وينتقل إلى المشتري بشرطين فإن كان الخيار لهما أو للبائع فالزكاة على البائع، وإن كان الخيار للمشتري وحده فهل تجب على البائع الزكاة وجهان، لأن الملك انتقل بهذا البيع كالقولين في المغضوب. أحدهما: لا يجب وانقطع الحول، والثاني: يجب ولا ينقطع الحول فإذا تقرر هذا وقلنا: إن الزكاة على البائع فإن أخرج الزكاة من غيرها فالبيه بحاله ولا خيار

للمشتري، وإن أخرجها منها بطل البيع في قدر الزكاة وفيما عداه مبني على تفريق الصفقة، فإذا قلنا: يصح البيع فيما عدا الزكاة فللمشتري الخيار وقد [196 ب/ 4] ذكرنا هذه المسألة فإن قيل: لم قال: ولو باع بيعًا صحيحًا ولو باع بيعًا فاسدًا فالزكاة على البائع أيضًا فما الفائدة في تقييده بالصحيح قيل: الفائدة هي قطع التوهم إن يظن ظان أن إيجاب الزكاة على البائع هي لفساد في البيع بل هي لعدم تمام زوال الملك لأنه تملك فقال: لأنه لم يتم خروجه من ملكه وفي الفاسد لا يخرج المبيع من ملكه وأيام الخيار وما بعدها سواء في ذلك. مسألة: قال (¬1): ومن ملك ثمرة نخل ملكًا صحيحًا قبل أن ترى فيها الصفرة. الفصل وهذا كما قال: إذا ملك ثمرة تبلغ نصابًا قبل بدو صلاحها بميراث أو هبة أو وصية ولم يرد بالشراء هاهنا لأنه لا يصح تملكها بالشراء قبل بدو الصلاح إلا بشرط القطع، فلذلك نال ملكًا صحيحًا ثم بدا صلاحها فالزكاة عليه لأن الحول لا يعتبر فيها فهي كزكاة الفطر أو بدو الصلاح في الثمار كحولان الحول في الأموال التي يعتبر فيها الحول فكل من كان في ملكه ذلك وهو من أهل وجوب الزكاة عليه فعليه زكاته، وإن كانت من قبل أو من بعد في ملك غيره، وإن ملكها بالشراء فلا يصح إلا بشرط القطع فإن قطع قبل بدو الصلاح فلا زكاة، وأن توانى حتى بدا صلاحها وجبت الزكاة ثم لا يخلو من أربعة أحوال: إما أن يطالب بالقطع، أو يتفقا عليه، أو يتفقا على التبقية، أو يرضي البائع بالتبقية، فإن طالب بالقطع فسخنا البيع وعادة الثمرة إليه وكانت الزكاة عليه فإن قيل: كيف تكون الزكاة على البائع وإنما وجبت في ملك المشتري؟ قلنا: هذا الفسخ، وإن كان قطعًا في الحال يستند إلى شرط قارن العقد فكان الملك البائع لم يزل فلهذا كانت الزكاة على البائع وقال القفال فيه قولان: أحدهما: أن الزكاة على البائع وهذا أغمض، والثاني: على المشتري لأن الملك له يوم بدو الصلاح والزكاة تتبع الملك كما لو اشترى عبدًا فأهل هلال شوال ثم رد البيع بإقالة أو بيع جديد يلزمه إخراج الزكاة فعلى هذا يتخير الساعي بين أن يأخذ الزكاة من عين الثمرة، وبين أن يطالب المشتري بها، فإن طالبه بها فدفعها من موضع آخر، فذاك وإن أخذ الزكاة من غير هذه الثمرة فللبائع أن يرجع على المشتري بالقدر الذي أخذ (197 ب/ 4) بالزكاة. ومن أصحابنا بخراسان من ذكر قولًا آخر: أنه لا ينفسخ البيع والزكاة على المشتري ويلزمه أن يقطع يؤخذ عشر ثمنه مقطوعًا وهذا ليس بشيء، وإن اتفقا على القطع فالحكم ما ذكرنا أيضًا، وإن اتفقا على التبقية بقي العقد بحاله والزكاة على المشتري، ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 46).

وقال أبو إسحاق: فيه قول آخر ينفسخ البيع، وإن اتفقا على التبقية وعلى جميع الأحوال أنه لا يمكن إجبار المشتري على الوفاء بموجب العقد، وكذلك البائع لا يجبر على الترك لوجوب الزكاة لأجل القطع فلم يبق إلا الفسخ فتعود الثمرة إلى ملك البائع وتجب الزكاة عليه والمنصوص هو الأول، وإن رضي البائع بالتبقية وقال المشتري: أنا أقطع ففيه قولان: أحدهما: يجبر المشتري على التبقية لأن الحق للبائع فإذا رضي بإسقاط حقه أجبر المشتري على الرضا به وهو الصحيح. والثاني: لا يجبر لأن رضاه ليس مما أوجبه العقد وإنما هو متبرع به فلا نأمن أن يرجع فيه ولأن المشتري يقول: إذا قطعتها حصلت لي وإذا تركتها لا آمن أن تجتاح وتهلك فينفسخ البيع بينهما وهذا اختيار المزني، قال: أشبه هذين القولين بقوله أنه بنصه [198 أ/ 4] أن يفسخ البيع بينهما قياسًا على فسخ المسألة قبلها: أي قياسًا على ما لو طالب البائع بالقطع لأن الكل واحد منهما في القطع المشروط، والجواب عن هذا هو أن البائع إذا طلب بالقطع يؤدي إلى إدخال الضرر على المساكين فيفسخ البيع وإذا رضي بالتبقية فقد زاد المشتري ومنفعة للمساكين فلم يفسخ البيع. فرع لو قال المشتري: اخرصوا الثمرة على وضمنوني الزكاة حتى أقطع الثمرة وكان موضعًا للأمانة وتضمين الزكاة، فإنها تخرص عليه وتضمن الزكاة حتى تقطع الثمرة ويرد النخيل على البائع مفروغة. فرع لو باع النخل من الثمرة قبل بدو الصلاح بشرط الخيار فبدا الصلاح في زمان الخيار فهو مبني على أقوال الملك في زمان الخيار، والحكم على ما ذكرنا في زكاة الفطر فرع آخر لو أوصى له بثمرة فبدا صلاحها بعد موت الموصي قبل القبول فيه قولان بناء على أقوال الملك في الوصية، فإن قلنا: يملك بنفس الموت أو يتبين بالقبول أنه ملك بالموت فالزكاة على الموصي له، وإن قلنا: لا يملك إلا بالقبول فالزكاة على وجهين بناء على أن الملك فيما بينهما إلى من (198 ب/ 4) يضاف فإن قلنا: يضاف إلى الورثة فعليهم وإن قلنا: إلى الميت لا تجب الزكاة أصلًا إذ لا يجب على الميت ابتداء. مسألة: قال (¬1): ولو استهلك رجل ثمرة وقد خرصت أخذ بثمن عشر وسطها. وهذا كما قال: صورة المسألة أن تكون ثمرة لا تصير تمرًا فيلزمه ثمن عشرها وسطًا إن كانت أجناسًا كثيرة وثمن عشر كل واحدة منها وإن كانت أجناسًا كثيرة فإن كانت ثمرة ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 46).

تصير تمرًا فالواجب عليه عشرها تمرًا من الوسط وقد بيناه من قبل، وقال بعض أصحابنا في هذه العبارة خلل من المزني وإنما عبر الشافعي بما معناه أخذ بعشر وسطها تمرًا وأجاب على القول الذي يقول: الخرص تضمين، فأما إذا جعلناه عبرة فعليه عشر قيمة ما استهلك لا عشر ثمن وسطها وذكر التمر هو سهو من المزني وقال صاحب [الإفصاح] إذا خرص عليه ولم يضمنه ويصير تمرًا فإنه يلزمه أكثر الأمرين من ثمن عشرها رطبًا أو عشرها تمرًا وهذا لا يصح لأنه هذا لا يصح، لأنه أخذ القسمة ولأن اعتبار الأكثر لا معنى له وإنما الواجب عليه عشرها تمرًا ومعنى المسألة ما تقدم، ولا يحتمل غيره ثم قال (¬1) [199 أ/ 4] الشافعي والقول في ذلك قوله مع يمينه أي: في قدر مكليه ما استهلك لأنه غارم وقد ذكرنا أن مثل هذه اليمين هل تجب أم لا؟ فيه وجهان. مسألة: قال (¬2): ولو باع المصدق شيئًا فعليه أن يأتي بمثله. وهذا كما قال: إذا جمع الساعي الصدقات فلا يجوز أن يبيع منها شيئًا لأن المساكين أهل رشد فلا يجوز التصرف في حقوقهم من غير حاجة فإن كانت به حاجة إلى أن البيع مثل أن تكون بلد ليس فيه أهل السهمان فيريد نقلها إلى بلد آخر والطريق مخوف فيبيعها ويجعل ثمنها مستحقة إلى بلد آخر، وكذلك إن لم يكن الطريق مخوفًا ولكن يحتاج في نقلها إلى ملك البلد إلى مؤنة عظيمة أو احتاج إلى دفع الجبران بين السنين دراهم ولا يجد في الصدقات دراهم فيجوز في البيع لأنه ناظر في هذا المال فيفعل ما يؤدي إليه نظره فإن باع في غير موضع الحاجة فالبيع باطل فإن كان يقدر على استرجاعه استرجع، وإن لم يقدر عليه لزمه مثله إن كان له مثل أو قيمته إن لم يكن له مثل ورجع على المشتري إذا قدر عليه بما غرم، وقول الشافعي هاهنا فعليه [199 ب/ 4] أن يأتي بمثله يعني فعليه أن يغرم للمساكين مثله صورة أو قيمة وقوله: وأفسخ بيعه إذا قدرت عليه أي: أحكم بالإفساح ولم يرد به مباشرة الفسخ. مسألة: قال (¬3): وأكره للرجل أن يشتري صدقته. الفصل وهذا كما قال: إذا أخرج زكاة ماله يكره له أن يشتريها من الذي دفعها إليه وقوله إذا وصلت إلى أهلها أراد إذا لزمت بقبض المساكين أو بقبض باقيهم وهو الساعي والدليل على الكراهة ما روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حمل رجلًا على فرس في سبيل الله ثم رأى الفرس تباع في السوق فأراد أن يشتريه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نقد في صدقتك" (¬4) وهذا لأنه ربما يحابيه في الثمن إذا عرف أنه تبرع به فكأنه يعود في قدر المحاباة، وإن لم يعرف البائع الحال قال القفال: الكراهة أقل ولكن الأولى تركه ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 46). (¬2) انظر الأم (2/ 47). (¬3) انظر الأم (2/ 48). (¬4) أخرجه البخاري (2970)، ومسلم (2/ 1620).

باب زكاة المعادن

أيضًا لأنه أخرجه من ملكه لله تعالى، فالأولى أن لا يعود فيه فإن فعل لم يفسخ البيع لأن هذه الكراهة هي كراهة تنزيه لا تحريم، وقال مالك: هذه هي كراهة تحريم فإن اشترى تبطل وهي رواية عن أحمد وبعض أصحاب [200 أ/ 4] مالك ينكره عن مالك، وقال أيضًا لو جعل: ما على الفقير من دينه قصاصًا من زكاته جاز وعندنا لا يجوز هذا وهذا عجب لأنه منع من ابتياعها بعوض عاجل وجوز أن يكون قصاصًا بدين هالك والدليل على جواز البيع ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تحل الصدقة لغني إلا بخمسة" (¬1) وذكر منها رجل ابتاعها بماله ولأن ما صح أن يملكه إرثًا صح أن يملكه ابتياعًا كسائر الأموال. باب زكاة المعادن مسألة: قال (¬2): ولا زكاة في شيء من المعادن إلا ذهب أو ورق. الفصل وهذا كما قال: المعدن في اللغة هو اسم للمكان الذي خلق الله تعالى فيه الجواهر من الذهب والفضة والحديد والنحاس وغيرها، وهو مشتق من اللبث والإقامة قال الله تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72] أي: مكان لبث وإقامة ويقال: عدن الشيء بالمكان إذا مكث فيه، والعدن الإقامة فإذا تقرر هذا فالأصل في وجوب الحق فيه قوله: {أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ ومِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ} [البقرة: 267] والمعدن هو مما أخرج من الأرض وروى عن رسول الله [200 ب/ 4] صلى الله عليه وسلم أنه قال: "في الرقة ربع العشر" (¬3)، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم "أقطع بلال بن الحارث المزني المعادن القبلية جلسيها وغوريها وحيث يصلح للزرع من قدس؟ ولم يقطعه حق مسلم" (¬4) وأخذ منه الزكاة، وروى فما كان يأخذ منه إلا الزكاة وقوله: قبلية نسبة إلى ناحية من ساحل البحر بين المدينة وبينها مسيرة خمسة أيام، وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن إلى زماننا هذا يؤخذ منها الزكاة وجليسها: نهديها وغورينها نسبة إلى غور وقوله: من قدس وهو الموضع المرتفع الذي يصلح للزراعة، فإذا تقرر هذا فلا يجب عندنا الحق في المعدن إلا في الذهب والفضة، وأما الحديد والنحاس ونحوهما فلا شيء فيها سواء كان جوهرًا ينطبع أو لا ينطبع كالياقوت والزجاج والعقيق، وبه قال مالك، وقال أبو حنيفة: يجب الحق في كل ما يستخرج من المعدن مما ينطبع مثل الرصاص والنحاس والحديد، وكذا الزئبق في إحدى الروايتين، لأنه ينطبع مع غيره، وأما الفيروزج والبرام ونحو ذلك فلا يتعلق به حق المعدن، وقال أحمد: يتعلق الحق بجميع ما يستخرج منه كحق القسمة [201 أ/ 4] وهذا غلط، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا زكاة في حجر" (¬5) ولأنه مقوم مستفاد من المعدن ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 268)، وأبو داود (1635). (¬2) انظر الأم (2/ 36). (¬3) تقدم تخريجه. (¬4) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 190 - 191)، وأبو داود (3063). (¬5) تقدم تخريجه.

فلا يتعلق به حق المعدن كالفيروزج والطين والآجر الأحمر مع أحمد وما قاله أحمد يبطل بالدواب والأرض. مسألة: قال (¬1): وإذا خرج منها ذهب أو ورق فكان غير متميز حتى يعالج بالنار. الفصل وهذا كما قال: إذا ثبت أنه لا يجب الحق فيما عدا الذهب والفضة فالكلام في فصلين أحدهما: في بيان وقت الوجوب، والثاني: في بيان وقت الإخراج، فأما وقت الوجوب: فهو وقت الإخراج من المعدن وحصوله في يده لأنه استيقن ملكه في تلك الحالة وهذا على القول الذي لا يعتبر فيه الحول، وأما وقت الإخراج فهو بعد الطحن والتحصيل والتصفية كما يقول في الثمار والحبوب وقت الوجوب حتى يبدو الصلاح ويشد الحب، والإخراج بعد الجفاف والتصفية، فإن أخرج بعد التصفية فلا كلام، وإن أخرج قبل التصفية لم يجزه ولم تقع الصدقة موقعها كما لو أخرج الرطب في الزكاة قبل التشميس ثم ينظر فإن كان التراب قائمًا رده، وإن كان تالفًا رد بدله وإنما قلنا ذلك لأنه أعطى على أنه يكون زكاة فإذا لم يجز عن [201 ب/ 4] زكاته استرجع ويلزم الرد إليه ثم إن اتفقا على قدر القيمة فإن كان ذهبًا رد قيمته فضة وإن كان فضة رد قيمته ذهبًا وإن اختلفا في قدر القيمة فالقول قول الساعي، لأنه أمين وغارم، وإن اختلفا في قدر المقبوض فالقول قول الساعي، لأن الأصل أن لا قبض، وإن كانت المسألة بحالها فأخذها الساعي التراب وطحنه وقال أمسكه بمالي فله ذلك ويجزيه عن فرضه كما لو دفع إليه رطبًا فصيره تمرًا فما حصل من التمر يجزيه ثم ينظر فإن كان وفق الحق فلا كلام، وإن كان أكثر رد الفصل وإن كان أقل طالب بالتمام. مسألة: قال (¬2): ولا يجوز بيع تراب المعادن بحال. وهذا كما قال أوضح بهذا الكلام أنه لا يجوز أخذه في حالة الاختلاط وذلك أنه لا يجوز بيعه في هذه الحالة لأن المقصود منه مجهول فكذلك أخذه لا يجوز بهذا وليس كبيع .... (¬3) والغالية لأنها على حالتها التي هي الآن عليها مقصود بجملتها وهاهنا التراب غير مقصود بل المقصود ما فيه، قال القفال: ولهذا القول لا تجوز المعاملة بالدراهم [202 أ/ 4] المغشوشة لأن المقصود منها الفضة وهي مجهولة وهذا وجه ظاهر قوي فقيل له: أيجوز بيع الفواكه المختلطة؟ فقال: نعم، لأن جميعها مقصود، وقال مالك: يجوز تراب المعادن ولا يجوز بين تراب الصاغة وهذا غلط لما ذكرناه، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع الغرر" وفي هذا غرر وأما التراب الذي لا ذهب فيه ولا فضة من تراب الصاغة يجوز بيعه لأنه ينتفع به بأن يجلية به الحلى والصفر ونحو ذلك. مسألة: قال (¬4): وذهب بعض أهل ناحيتنا إلى أن في المعدن الزكاة. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 36). (¬2) انظر الأم (2/ 36). (¬3) موضع النقط بياض بالأصل. (¬4) انظر الأم (2/ 36).

وهذا كما قال: أراد بأهل الناحية أهل المدينة، وأراد بالزكاة ربع العشر واختلف أهل العلم في القدر الواجب فيه فالذي نص عليه الشافعي في "الأم" (¬1) و"القديم" و"الإملاء": أن الواجب فيه ربع العشر وبه قال أحمد وإسحاق وهي رواية عن مالك وهذا هو المذهب ووجهه ما روينا من خبر بلال بن الحارث، ولأنه مستفاد من الأرض لم يملكه غيره فلا يجب فيه الخمس كالزرع، وقال مالك والأوزاعي وعمر بن عبد العزيز: يختلف الواجب فيه باختلاف [202 ب/ 4] المؤنة فما وجد منه في أثر السبيل أو كان مجتمعًا لا يحتاج إلى طحين وتحصيل وتحمل مؤنة ففيه الخمس، وما كان بخلاف ذلك ففيه ربع العشر، وأومأ إلى هذا في "الأم" وهو الرواية الظاهرة عن مالك، ووجه هذا أنه مستفاد من الأرض يتعلق به حق الله تعالى فيختلف باختلاف المؤنة كالزرعة وقيل: هذا أحسن الأقوال للجمع بين الأخبار المختلفة فيه، وقال الزهري وأبو حنيفة: يجب فيه الخمس بكل حال، وحكي عن المزني: أنه اختاره، فمن أصحابنا من قال: ليس للشافعي ما يدل على هذا القول، ولكن أصحابنا خرجوه قولًا آخر وقيل: أومأ الشافعي في "الأم" إلى الأقاويل الثلاثة والمسألة مشهورة بالأقوال ووجهه ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الركاز الخمس" وقيل: يا رسول الله وما الركاز؟ فقال "هو الذهب والفضة والمخلوقان في الأرض يوم خلق الله تعالى السموات والأرض" (¬2) وقد روى ما يعارض هذا وهو أنه صلى الله عليه وسلم قال: "في الركاز الخمس وفي المعدن الصدقة" (¬3). مسألة: قال (¬4): وما قيل فيه الزكاة فلا [203 أ/ 4] زكاة فيه حتى يبلغ الذهب منه عشرين مثقالًا. الفصل وهذا كما قال: النصاب عندنا هو معتبر فيما يؤخذ من المعدن ولا يجب الحق فيما دون النصاب قولًا واحدًا، هكذا ذكره أهل العراق ووجهه قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون عشرين دينارًا من الذهب شيء" وقال القفال وجماعة: إذا أوجبنا الخمس هل يشترط فيه النصبا؟ قولان أحدهما: لا يشترط ويجب في قليله وكثيره وهو قول أبي حنيفة. والثاني: يشترط وبه قال مالك وأحمد وسحاق. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 36). (¬2) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (7640)، وفي "معرفة السنن" (2379)، وقال البيهقي: تفرد به عبد الله بن سعيد المقبري وهو ضعيف جدًا، خرجه أحمد بن حنبل بن معين وجماعة من أئمة الحديث. (¬3) قال ابن حجر في "التلخيص": لم أجده هكذا، لكن اتفقا على الجملة الأولى من حديث أبي هريرة. انظر التلخيص (864). (¬4) انظر الأم (2/ 36).

مسألة: قال (¬1): ويضم ما أصاب في الأيام المتتابعة. الفصل وهذا كما قال: هذا تفريع على القول الأول وهو أن النصاب فيه معتبر دون الحول، فإن وجد نصابًا دفعة واحدة فلا كلام، وإن كان يجب شيئًا فشيئًا ففيه ثلاث مسائل أحدها: أن يتصل النيل والعمل واتصاله على ما جرت العادة وهو أن يكون على العمل نهارًا ولا يعمل ليلًا ولا يعمل أيضًا من أول النهار إلى آخره بل على العادة، واتصال النيل أن يخرج ما فيه ذهب أو ورق فيضم بعضه إلى بعض حتى يبلغ الكل [203 ب/ 4] نصابًا، والثانية: أن يتصل النيل دون الكل فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون لعذر أو لغير عذر مثل أن سرقت آلته أو هرب عبده أو خاف الخروج إليه، فإذا عاد إلى العمل يبني على ما مضى، وإن كان لغير عذر بالتواني والاشتغال بعمل آخر وطال الفصل ثم عاد العمل استأنف ولا يجب عليه أن يضم ما يستخرج الآن إلى ما مضى مكانه الآن بدأ به وبدا به وذكر بعض أهل خراسان من أصحابنا: أنه إذا طال الفصل وإن كان عذرًا يستأنف ولا يبني كما لو تعمد القطع بغير عذر. والثالث: أم يتصل العمل وينقطع النيل فكان العمل دائمًا ولكن لا يخرج غير التراب ثم عاد النيل هي تبني عليه أم لا؟ فيه قولان، قال في القديم: يستأنف لأن العمل إنما يراد للنيل ولو انقطع العمل لا يضم فالنيل إذا انقطع أولى إذ لا يضم، وقال في الجديد: يبني وهو الأصح ووجهه أن العادة لم تجز أن المعدن ينيل أبدًا بل ينيل في وقت وينقطع في وقت فلو قلنا: إذا انقطع نيله لا يضم أدى إلى أن لا تجب الزكاة في المأخوذ [204 أ/ 4] ومن المعدن بحال ولا سبيل إلى ذلك، وقوله: المعدن غير حاقد أي: غير مانع لنيله، يقال: حقد المعدن إذا منع وأنال إذا أعطى وهذا إذا امتد الزمان، فإن لم يمتد الزمان لا ينقطع حكم الضم وكم قدر الفاصل فيه وجهان، أحدهما: يقدر الكبير بثلاثة أيام لأنها آخر حد القلة، والثاني: يقدر بيوم كامل لأن العادة العمل كل يوم فترك نوبه كامله فصل كبير. مسألة: قال (¬2): وقد قال في موضع آخر: والذي أنا فيه واقف الزكاة في المعدن. وهذا كما قال في بعض النسخ الزكاة في المعدن والتبر المخلوق في الأرض والأصح الأول، فكأنه قال: أنا متوقف في إيجاب الخمس في ذلك فاختار المزني له إيجاب الزكاة وهو ربع العشر دون الخمس فقال: إذا لم يثبت فيه أصل يعني خبر فأولى به أي: بالشافعي أن يجعله فائدة تزكي بحولها وقيل: أراد به التوقف لاعتبار الحول لأنه قطع بأن الواجب فيه الزكاة قبل هذا فلا معنى للتوقف في قدر الواجب فيه بعد ذلك ثم قال المزني: الأولى عندي أن نجعل فائدة يعتبر فيها [204 ب/ 4] الحول وهذا أولى من الأول والمنصوص في كتبه القديمة والجديدة أن الحول لا يعتبر فيه وقال ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 36). (¬2) انظر الأم (2/ 36).

المزني: رويي لي عنه من أثق به أن الحول يعتبر فيه، وإنما لم يذكر اسم من أخبره به عنه لأن امرأة أخبرته به عنه وهي أخت المزني وأومى إلى هذا في "مختصر البويطي" فقال أصحابنا في المسألة قولان: أشهرهما: أنه لا يعتبر فيه الحول وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد ووجهه: أنها زكاة واجبة فيما يستفاد من الأرض فلا يعتبر فيه الحول كالزرع وهذا لأن الحول إنما يعتبر للتمكن من تنمية المال وتمييزه، والمستخرج من المعدن نما في نفسه فلا معنى لاعتبار الحول فيه كما في النتاج، ويفارق النصاب فإنه اعتبر لبلوغ المال حدًا يحتمل المواساة فيعتبر هاهنا، والثاني: يعتبر فيه الحول لأنها زكاة في مال يتكرر فيه فاعتبر فيها الحول كسائر الزكوات. فرع لا يجوز صرف حق المعدن إلى من وجب عليه وبه قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: يجوز واحتج بما روي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم [205 أ/ 4] فجاء رجل بمثل بيضة من ذهب فقال: يا رسول الله أصبت هذه من معدن فخذها فهي صدقة ما أملك غيرها فأعرض النبي صلى الله عليه وسلم ثم أتاه من قبل ركبته الأيسر فقال مثل ذلك فأعرض عنه ثم أتاه من خلفه فأخذها فحذفه بها وقال: "يأتي أحدكم بما يملك فيقول هذه صدقة ثم يقعد فيستكف الناس خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى" (¬1). قالوا: فصرف ذلك إليه فدل على جوازه وهذا غلط، لأنه حق واجب عليه فلا يصرف إليه كالعشر. والخبر مجهول على أنه كان أقل من النصاب ويحتمل أنه كان قد أدى حق المعدن منها ويحتمل أن يكون ردها إليه إكثارًا للمتصدق بجميعها دون اجتهاد. فرع آخر إذا عمل رجلان في معدن فوجدا نصابًا قال في "الأم" (¬2): من أثبت الخلطة غير المواشي أوجب عليهما الزكاة، ومن لم يثبت لم يوجب عليها. فرع آخر المكاتب والذمي إذا استخرجا من المعدن لم يجب عليهما فيه شيء وقال أبو حنيفة: يجب، وقال في الحربي: إذا لم يأذن له الإمام من العمل لم يملكه، وإذا أذن له أخذت الخمس، وفرق فإن الحربي ليس من [205 ب/ 4] أهل الغنيمة الذمي وهذا باطل بما لو أذن للحربي ولا يجوز اعتباره بالغنيمة لأنه لا يسهم لهما، وقد قال الشافعي في "الأم" (¬3): الذمي هو ممنوع من أن يعمل في المعدن فإن عمل فوجد شيئًا يملكه ولا يملك المكان وهو كالاحتطاب والاحتشاش ويفارق إحياء الموات لأنه يتأيد ضرورة فلا يملك في دار الإسلام. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) انظر الأم (2/ 37). (¬3) انظر الأم (2/ 36).

باب في الركاز

فرع العبد المأذون له في التجارة إذا عمل فيه فوجد نصابًا فإن كان قد ملكه فهو على القولين: فإذا قلنا: لا يملك فالزكاة على السيد. وإذا قلنا: يملك فلا زكاة عليهما. فرع آخر ما يتكلفه من المؤن لا يحتسب به من حق المعدن بل يكون من نصيبه كما قلنا في المؤن الواجب عليه في الحصاد. وأبو حنيفة لا تلزمه المؤنة كلها ويكون على الشركة تشبيهًا بالغنيمة. فرع آخر قال ابن الحداد: لو وجد دينارًا في معدن ومعه تسعة عشر دينارًا زكاة [206 أ/4] في الحال وهذا على القول المشهور أنه لا يعتبر فيه الحول، وفيه قول مخرج لا شيء في الدينار لأن حكمها مختلف فلا يضم ولو أتلف ما أخذه في اليوم الأول ثم أخذ في اليوم الثاني، وبلغ الأول مع الثاني نصابًا زكاه لأنا لو قلنا: لا يضم أدى إلى سقوط الزكاة عن المعدن لأنه لابد من وقوع مهلة بين النيل. فرع آخر المعدن إن كان في ملكه فالمالك أحق به من كل أحد وإن كان في الموات فمن سبق إليه كان أحق بالعمل فيه، وإن أستوي اثنان في السبق يقرع بينهما. فرع آخر وقال أصحابنا: هذه المسائل التي ذكرناها عن الشافعي تدل على أن الذي تحصل من المعدن يملكه كله ثم يملك المساكين في ملك رب المال كسائر الزكوات ولا يكون للمساكين شركة فيما يستخرجه مقارنًا لملكه بخلاف الغنيمة ولهذا لم يوجب في حق المكاتب والذمي ويلزمه الحق إذا وجده في ملكه خلافًا لأبي حنيفة. فرع آخر الحق الواجب في المعدن مصرفه مصرف الزكوات بكل حال ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا: يجب فيه الخمس في مصرفه قولان، أحدهما: أن مصرفه مصرف الفيء ذكره القاضي أبو علي الزجاجي. [206 ب/ 4]. باب في الركاز أعلم أن هذا الباب لم ينقله المزني وذكره الشافعي في القديم والجديد من "الأم" والركاز في اللغة هو عبارة عن المال المدفون في الأرض أي مال كان، واشتقاقه من ركز يركز، إذًا يعني دفن يدفن، ومنه يقال: ركز الرمح في الأرض إذا غرزه فيها، ولا فرق في اللغة بين أن يدفنه مسلم أو مشرك وهو في الشرع: عبارة عن دفين الجاهلية

فإذا وجد مالًا مدفونًا لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون الموضع مواتًا أو غير موات فإن كان مواتًا لا يخلو الموجود من ثلاثة أحوال: إما أن يكون من ضرب الجاهلية أو الإسلام أو منهما فإن كان من ضرب الجاهلية وهي الدراهم الكسروية التي عليها الصورة والتماثيل فهو الركاز الذي أوجب النبي صلى الله عليه وسلم فيه الخمس لأن الظاهر أنه ملك الجاهلية وأنه لم يزل عن ملكهم وإنما أوجب الخمس لأنه يوجد دفعة واحدة من غير مؤنة في تحصيله فكثر فيه الواجب، وإن كان من ضرب الإسلام الذي عليه اسم الله تعالى واسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو لقطة يعرفها حولًا وإن كان مبهمًا [207 أ/ 4] لا سكة عليه من ضرب الجاهلية أو غيره فالمذهب المنصوص أنه لقطة لأنه مملوك لا يستباح إلا بتعين هذا ذكره البغداديون من أصحابنا، وقال البصريون: المنصوص أنه يكون ركازًا لأن النفقة تشهد له وهي الموات والإسلام وطارئ، وقيل: إن الشافعي قال في "الأم": أحب أن يعرفه ويخمسه ولا أجبره على التعريف، ولو كان لقطة لم يجز أن يخمسه، وإن كان الموضع مملوكًا لا يخلو من أحد أمرين: أما أن يعرف مالكه أو لا يعرف فإن لم يعرف مالكه لا ابتداء ولا انتهاء مثل الأراضي العادية والأراضي الجاهلية الذين بادوا وفنوا فإن ما يجده فيها من الذهب والفضة هو بمنزلة ما يجده في الموات لأن ما لا سبيل له إلى معرفة مالكه فهو بمنزلة ما لا مالك له ومن جملة ذلك ما نجد في قبورهم فقد روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال: لما خرجنا إلى الطائف مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هذا قبر أبي رغال خرج إلى هاهنا فأصيب كما أصيب أصحابه فدفن هاهنا رأيت ذلك أنه دفن ومعه غصن من ذهب فمن نبشه وجده" فابتدره الناس فأخرجوه. وروى [207 ب/ 4] عمر بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلًا وجد كنزًا فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن وجدته في قرية مسكونة أو في سبيل متباعد فعرفه، وإن وجدته في خربة جاهلية أو قرية غير مسكونة ففيه وفي الركاز الخمس" وإن كانت الأرض إسلامية فإن عرف مالكها ففي ظاهر الحكم ملك صاحبها فإن كانت لمسلم أو ذمي لم يتعرض له لأنه لا يجوز التصرف في ملكهما وإن كانت لحربي .... (¬1) لأخل الخمس والباقي .... (¬2) وقال أبو حنيفة: إذا وجده في موات دار الحرب فهو غنيمة وكله له بناء على أصله فيمن دخل دار الحرب وحده فأصاب مالًا فكله له، وقال أبو يوسف وأبو ثور: هو ركاز وعلى هذا عن أبي حنيفة: ولا يصح وهذا غلط، لأن الظاهر أنه لصاحب الأرض لأن يده عليها وإن لم يعرف مالكها، وقال أصحابنا هو لقطة، وقال في "الحاوي" (¬3): وهو اختيار القفال هو لبيت المال ولا يكون لقطة لأنه وجد في الملك فلا يكون لقطة وإنما يكون إذا وجد في غير ملك وضاع من صاحبه. ¬

_ (¬1) (2) موضع النقط بياض بالأصل. (¬3) انظر الحاوي للماوردي (2/ 342).

قال القفال: وهكذا لو كان عليه آيات القرآن التي هي علامة الإسلام (208 أ/ 4) على هذا الخلاف وهذا أحسن لو وجده في ملك فهو أولى به فلا يمين عليه إذا قال: هو لي وملكي لأنه الظاهر فإن لم يدعه لنفسه فإن كانت الأرض ابتاعها سئل بائعها فإن ادعاه سلم إليه، وإن لم يدعه يرجع إلى بائع البائع وعلى هذا أبدًا، وإن كانت موروثة كان مقسومًا على فرائض الله تعالى، فإن لم يدع رجع إلى ورثة من ورث مورثه عنه فإن ادعوا وإلا وقف أمره حتى ينكشف ولا فرق في كل ما ذكرنا بين الرجل والمرأة والصبي والبالغ والمجنون والعاقل، وقال سفيان الثوري لا يملكه إلا رجل عاقل وهذا غلط، لأنه اكتساب كالاصطياد والعبد إذا وجد كان لسيده. وحكي عن الأوزاعي والثوري وأبي عبيد أنهم قالوا: يرضخ للعبد منه ولا يعطيه كله وهذا غلط، لأنه كسب عبده فكان لسيده كالصيد والكافر إذا وجد ركازًا كان له، وقال بعض أصحابنا: لا يملك الكافر الركاز ولا المعدن أيضًا كما لا يملك بالإحياء وهذا غلط، وقد تقدم الفرق، ولو أدعى رب الدار والمستأجر في الركاز فالقول قول المستأجر نص عليه الشافعي كما يكون القول [208 ب/ 4] قوله في المتاع الذي في الدار وقال المزني: القول قول رب الدار وعلى المستأجر التنبيه لأن الدفين تابع للأرض وهذا غلط، لأنه مودع فيها وليس بتابع. وقال أصحابنا بخراسان: المستعير في ذلك كالمستأجر، قال: ولو بنى مشرك حصنًا أو قرية ودفن تحتها كنزًا فبلغته الدعوة فعاند ولم يسلم حتى مات وخربت القرية ثم وجد مسلم ذلك الكنز لا يكون ركازًا بل يكون فيئًا، لأنه مال مشرك معاند رجع إلينا من غير قتال، وإنما يكون كنزًا إذا لم يعرف حاله وهل بلغته الدعوة فعاند يحل محل ماله أم لم تبلغه الدعوة فلم يحل ماله، وأعلم أن الركاز ما جمع وصفين أن يكون من ضرب الجاهلية وذلك مشهور في مجراه فهو ركاز، وإن لم يكن كذلك فيكون لقطة ولو شك هل أظهره السيل أم لا؟ كما لو شك هل هو ضرب الجاهلية أم لا؟ فيه وجهان، فإذا تقرر ما ذكرنا فالكلام في الركاز في خمسة فصول: في المال الذي يتعلق به الحق ثم النصاب ثم الحال ثم قدر الواجب فيه ثم المصرف، فأما المال ينظر فيه فإن كان [209 أ/ 4] من الإيمان ذهبًا أو فضة تعلق الحق به قولًا واحدًا، وفيما عداهما من الرصاص والنحاس والصفر والحديد قولان، قال في الجديد: لا شيء فيه قياسًا على الزكاة تختص ببعض الأجناس، وعلى المعدن وعلى قوله في القديم: يخمس الكل ولو كان فخارًا وبه قال أبو حنيفة وأحمد وهي رواية عن مالك قياسًا على الغنيمة. وأما النصاب: فهل يعتبر؟ فيه قولان، قال في "القديم": لا يعتبر، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وأصح الروايتين عن مالك لأنه قال: يجب تخميسه كالغنيمة، وقال في

الجديد: يعتبر لأنه حق يتعلق بالمستفاد من الأرض فاعتبر فيه النصاب كحق المعدن والمستحب أن يزكيه قليلًا كان أو كثيرًا، قال الشافعي: لو كنت أنا الواجد لخمست قليله وكثيره، وقيل قول واحد: النصاب يعتبر والقول الآخر مخرج مما ذكر الشافعي لو كنت أنا الواجد لخمست قليله، وهذا الاحتياط لنفسه كما قال: وأما أنا فلا أحب أن أقصر في أقل من ثلاثة أيام، فإذا قلنا بقوله القديم يجب في كل جنس الخمس قليله وكثيره ولا يعتبر فيه الحول قولًا واحدًا، وقدر الواجب فيه الخمس بلا خلاف على ما ذكرنا. وإذا قلنا [209 ب/4] يعتبر النصاب فإن وجد نصابًا أخرج الخمس وإن كان أقل من نصاب نظر فإن لم يكن له مال سواه أو كان ولكن بالإضافة إليه لا يبلغ نصابًا فلا شيء عليه كما لو ورث أو أتهب، وإن كان له مال من غير جنسها فلا شيء فيه أيضًا لأنه لا يضم جنس إلى جنس، وإن كان معه ما إذا ضم إليه يبلغ نصابًا فلا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أم يجد الركاز مع حؤول الحول على ما عنده أو بعده أو قبله فإن كان مع حؤول الحول على ما عنده، وإن كان الذي عنده نصابًا مثل إن كان عنده مائتا درهم وقد وجد مائة أخرى زكي الكل خمس المائة وعشرون وربع عشر المائتين خمسة، لأن المائتين حال عليها الحول والركاز في حكم ما حال عليه الحول فوجب ضم أحدهما إلى الآخر، وإن كانت الإصابة بعد الحول فالحكم فيه كما لو كان مع الحول على ما مضى. ولفظ الشافعي في "الأم" (¬1): لو حال الحول على ماله في المحرم ثم أصاب ركازًا في صفر خمسة وإن كان دينارًا، رأوا إن كانت الإصابة قبل الحول قال أبو حامد: لا يضم إلى ما في يده ولا يجب فيه الخمس في الحال فيستأنف الحول واحتج بأن الشافعي [210 أ/ 4] قال في "الأم" (¬2): لو أفاد اليوم ركازًا لا تجب فيه الزكاة وغدًا مثله ولو جمعا معًا وجبت فيهما الزكاة لم يكن في واحد منهما خمس وهذا نص لأنه استفاد الثاني وكمل به النصاب ولم يوجب شيئًا، وقال أيضًا: لو وجد مائة ركازًا أو ورث مائة استأنف الحول وهذا لأن الركاز هو في حكم ما حال عليه الحول، والذي معه من المائتين لم يحل عليها الحول فكان حكمها مختلفًا فإذا تم حول المائتين أخرج زكاتها ثم إذا حال الحول على الركاز أخرج ربع عشره، قال: وقول الشافعي في "الأم": إذا كان له مال يجب فيه الزكاة أو قال: إذا ضم إليه الركاز وجبت فيه الزكاة ولم يعتبر أن يكون حال الحول على ما عنده من المال محمول على أن قصده به إيجاب الضم إلى ما عنده من العين فلم يتعرض لحكم الحول، ومن أصحابنا من قال: يلزمه إخراج حق الركاز في الحال قياسًا على ذكر الشافعي إذا وجده بعد تمام الحول يزكيه، وإن كان الحول الثاني لم يتم على ماله ولا حكم للحول الذي مضى قبل ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 38). (¬2) انظر الأم (2/ 37).

وجود الركاز، وهذا بمنزلة من كان معه عشرون دينارًا أحد عشر شهرًا ثم بازل تسعة .... (¬1) بمثلها انقطع [210 ب/4] الحول فيها ولم ينقطع الدينار وقد قال الشافعي: مثل ذلك فيمن كانت معه أربعون من الغنم ستة أشهر ثم باع نصفها مشاعًا فإن الحول ينقطع فيما باعه ولا ينقطع في الباقي، قال هذا القائل وهذا ظاهر كلامه في "الأم"، فإنه قال: فإن كان ماله الغائب كان في يد من وكّله فهو ككينونة المال في يده، وأخرج زكاة الركاز ولا يعتبر وجوده في آخر جزء من أجزاء الحول أو بعده قال هذا القائل: وأما ما قاله في "الأم": إذا واجد ركازًا لا يتم نصابًا ثم وجد ما يتم به نصابًا لم يضم يحتمل أن يكون قصد بذلك أن الركاز لا يضم بعضه إلى بعض كما يضم المستخرج من المعدن بعضه إلى بعض، لأن الركاز لا يوجد شيئًا بعد شيء ويحتمل أنه أراد إذا تلف الأول لا يضم الثاني إليه يدل على هذا أنه قال في هذه المسألة: وكانا كالمال يستفيد في وقت فتمر عليه سنة لا تكون فيه الزكاة، والقاضي الطبري ذكر في الأول أن المذهب ما قاله الشيخ [211 أ/4] أبو حامد ثم مال إلى هذا القول الآخر فحصل قولان في المسألة، وهذا كله إذا كان المال في يده نصابًا فإن كان أقل من نصاب ويتم بالركاز مثل إن كانت عنده مائة لها حول تام وأصاب هذه المائة ركازًا فإنه يضمها إليه نصابًا، وما الذي يزكى فيه وجهان، أحدهما: يزكي ربع عشر التي عنده وخمس التي وجدها، لأن المائة التي معه حال عليها الحول والمائة الركاز في حكم ما حال عليه الحول فصار كأنهما معه سنة فوجب أن يخرج زكاتها وهذا اختيار صاحب "الإفصاح"، وادعى أنه ظاهر المذهب، والثاني: أنه يخرج خمس التي وجدها دون المائة التي كانت عنده وهذا هو الصحيح لأن الحول لا ينعقد على ما دون النصاب، والركاز لا يعتبر فيه الحول فلا يجري مجرى ما حال عليه الحول، وقال بعض أصحابنا: الأصح أنه لا شيء عليه ويستأنف الحول من حين نما نصابًا لاختلاف حكمهما ذكره في "الحاوي" (¬2)، والمنصوص في "الأم" (¬3) خلاف هذا لأنه قال: لا فرق بين أن يكون نصابًا أو يتم بالركاز نصابًا، وإن كانت الإصابة قبل الحول مثل إن أصاب مائة وعنده مائة منذ سنة مثل ستة [211 ب/4] أشهر وقال الشيخ أبو حامد: لا نص فيه والذي يجيء على المذهب أنه لا شيء عليه في الحال وقد كمل النصاب فيستأنف الحول وقد بينا أن ظاهر كلام الشافعي يدل على أنه يجب في الركاز الزكاة، وفي المسألة قولان مخرجان. فرع إذا وجد ركازًا فالمؤنة لا تحتسب من أصل المال، وعليه إخراجٍ الحق من أصل المال كما قلنا في المعدن، وقال في القديم: وعلى كل من وجد كنزًا إظهاره ولا يحل ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) انظر الحاوي للماوردي (3/ 344). (¬3) انظر الأم (2/ 38).

باب ما يقول المصدق إذا أخذ الصدقة لمن يأخذها منه

كتمانه فإن كتمه كان الحق واجبًا عليه فيه حتى يخرجه وقصد به الرد على أبي حنيفة حيث قال: هو بالخيار إن شاء أظهره فيؤخذ منه الخمس وإن شاء كتمه إذا كان فقيرًا فلا يجب فيه شيء وهذا غلط، لأن بالكتمان لا يسقط الحق كسائر الحقوق، وأما المصرف المنصوص أن مصرفه مصرف الصدقات كحق المعدن سواء. وقال المزني وابن الوكيل من أصحابنا وهو رواية عن أحمد مصرفه مصرف الفيء، وقال أبو إسحاق: يحتمل ما قال المزني يقبل فيه قولان، وقيل: قوله واحد، وقال أبو حنيفة: مصرفه مصرف الفيء وهذا غلط، لأنه حق يجب في مال لصاحب المال [212 أ/4] أن يتولى تفرقته بنفسه فلا يكون مصرفه مصرف الفيء لزكاة النقد. فرع إذا وجد ركازًا وحمله إلى الإمام يجب على الإمام أخذ الخمس منه ولا يجوز له تركه به، وقال أبو حنيفة: الإمام بالخيار إن شاء أخذه، وإن شاء تركه به وهذا غلط قياسًا على العشر. فرع آخر لو وجده المكاتب لا يؤخذ منه الحق لأنه يعتبر عندنا أن يكون الواجد من أهل الزكاة خلافًا لأبي حنيفة ولو أقطعه الإمام أرضًا فيها ركاز فهو لقطع الأرض سواء كان هو الواجد أو غيره لأنه يملك الأرض بالإقطاع كما يملكها بالابتياع. باب ما يقول المصدق إذا أخذ الصدقة لمن يأخذها منه قال: قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وتُزَكِّيهِم بِهَا وصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 103]، وهذا كما قال: المستحب للساعي بقاء أخذ الزكاة من رب المال أن يدعو له لهذه الآية وفسر الشافعي (¬1) قوله تعالى: {وصَلِّ عَلَيْهِمْ} فقال: أراد به الدعاء لهم عند أخذ الصدقة منهم، وهذا وإن كان خطابًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فسائر الولاة له تبع فيه وهذا كما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم [212 ب/4] قال: "إذا دعي أحدكم إلى طعام فليجب فإن كان مفطرًا فليأكل وإن كان صائمًا فليصل" (¬2)، أي: فليدع لهم بالبركة، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا لآل أبي أوفي حين أتاه بالصدقة فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفي" (¬3)، ولأنه إذا فعل يكون تطييبًا لقلبه وترغيبًا له ولغيره في مثله. وقال أصحابنا: لو قال: اللهم صل عليهم لم يكن به بأس لأنه ظاهر الكتاب ونص السنة، وقال أهل التفسير: الصلاة من الله تعالى هي الرحمة ومن الملائكة الاستغفار ومن المؤمنين الدعاء. وقال الإمام أبو سليمان الخطابي: الصلاة التي هي بمعنى الدعاء والتبريك يجوز ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 51). (¬2) أخرجه مسلم (106/ 1431). (¬3) أخرجه البخاري (1497)، ومسلم (176/ 1078).

على غير رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما الصلاة التي هي تحية لذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنها بمعنى التعظيم والتكريم تختص به لا يشركه فيها إلا الله، والدعاء لا يتعين والأحسن ما قال الشافعي (¬1)، وهو أن يقول: آجرك الله فيما أعطيت وجعله لك طهورًا وبارك لك فيما أبقيت لأنه جمع في دعائه ثواب ما أعطى والبركة فيما أبقى وبأي شيء دعا بما يليق بحالة جاز، قال الشافعي: وكان طاوس واليًا على صدقات [213 أ/4] بعض البلاد فكان يقول أدُّوا زكاتكم رحمكم الله لا يزيد على هذا. وقال القفال: لا يقول صلى الله عليه وسلم على فلان لأنه ليس من الأدب أن يصلي أحد على غير رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجوز تبعًا فيقول اللهم صلِ على محمد وعلى آله وأصحابه وأزواجه، والنبي مخصوص بأن له أن يصلي على غيره وهذا كصاحب الدار يرفع من أراد إلى مجلسه وليس لغيره في داره ذلك دون إذنهن ومن أصحابنا من قال: إذا سأل رب المال الدعاء له هل يجب عليه وجهان أحدهما: يجب لظاهر الآية، والثاني: لا يجب وهو الأصح لأنه مؤد لعبادة واجبة عليه فلا يجب الدعاء له كالمصلي ونقيس على ما لو لم يسأل رب المال الدعاء له لا يجب بالإجماع، وقال داود: يجب الدعاء له وهو غلط ظاهر لأنه حملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقات كثيرة فلم ينقل أنه دعا لغير آل أبي أوفي. ويستحب للمسكين إذا دفع إليه رب المال الزكاة بنفسه أن يدعو له بمثل ما ذكرنا وينبغي لرب المال أن يؤديها عن طيب القلب كما ورد في الجن ولا يدافع الوالي إذا كان عدلًأ [213 ب/4] وقد روى عبد الله بن معاوية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من فعلهن فقد طعم طعم الإيمان من عبد الله وحده وأنه لا إله إلا هو وأعطى زكاة ماله طيبة بها نفسه رافده عليه كل عام ولم يُعط االهرمة ولا الدَّرِنة ولا المريضة ولا الشرط اللئيمة ولكن من وسط المال، فإن الله لم يسألكم خيره ولم يأمركم بشره" (¬2) وقوله رافدة أي: معينة وأصل الرفد الإعانة والدرنة هي الجرباء وأصل الدرن الوسخ والشرظ هي رد آلة المال. فروع متفرقة ذكرها والدي رحمه الله أحدها: رجل له عشرون دينارًا أحد عشر شهرًا ثم استفاد خمسة عشر دينارًا وتلفت من العشرين الأولى خمسة عشر وبقيت الخمسة ثم تمَّ حول العشرين فعليه زكاة الخمسة ولا زكاة عليه في الخمسة عشر المستفادة ما لم يتم حولها من وقت الاستفادة والمعنى أن فيه الخمسة بقيت على ملكه إلى تمام الحول وبيده في جميع الحول ما يبلغ الخمسة معه نصابًا وهو قياس ما قلنا فيمن وجد دينارًا من المعدن ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 51). (¬2) أخرجه أبو داود (1582)، والطبراني في "الصغير" (1/ 201)، والبيهقي في "الكبرى" (7275)، والبخاري في التاريخ الكبير" (5/ 31).

وعنده تسعة عشر دينارًا سواها فإنه يلزمه [214 أ/4] أداء الزكاة من الدينار في الحال إذا قلنا: لا يعتبر الحول في زكاة المعدن، وأوجبنا الزكاة فيها، وإن لم نوجبها في الدنانير المضمومة إليها لتكميل النصاب وفيه وجه آخر" أنه لا يلزمه زكاة الخمسة ما لم يتم الحول من يوم استفاد الثاني. والفرع الثاني: قال: إذا اشترى عصيرًا للتجارة وكان يتجر فيه فصار العصير للمشتري فيه إقبال الحول خمرًا ثم عادت خلاَ لم تبطل التجارة ويبني على الحول المتقدم وفيه قول مخرج إن الحول انقطع ولا يصير للتجارة إلا أن يبيعه ثم يشتريه ثم يشتريه بنية التجارة وهذا بناء على مسألة الرهن إذا رهن عصيرًا فصار في يد المرتهن خمرًا ثم صارت خلاَ هل يعود، وأصحابنا يذكرون فيها قولين، والأصح أنه لا يعود رهنًا. والفرع الثالث: قال: إذا اشترى عرضين بمائتي درهم وقبضهما ثم تلف أحدهما قبل الحول وكان الابتياع بنية التجارة هل يعتبر حول العرض الباقي من يوم ملك المائتين أو من يوم اشترى العرض وجهان، والأصح أنه يعتبر من يوم الشراء. والفرع الرابع: قال: إذا كانت له على آخر دراهم هي نصاب فلم يوجد مثلها [214 ب/4] حتى مضت أعوام ثم وجد المثل فقبضه فهل عليه أداء الزكاة للأعوام الماضية؟ على القول الذي يوجب الزكاة في المغصوب لا نص فيه ويحتمل وجهين أحدهما: يلزم وهو الأصح لأن بوجود المثل يعلم أن الدراهم كانت هي الثابتة في الذمة إلى هذه الغاية، ولهذا صار مطالبًا بالمثل وبين هذا أنه لا يلزمه زكاة الدنانير التي يقوم بها الدراهم بالإجماع، فلولا أن الواجب ما ذكرناه أدَّى زكاة الدنانير وهذا لا يقوله أحد، والثاني: لا يلزم لأن الملك ضعيف في الدراهم لسقوط المطالبة بها عمن عليه الدين فلا زكاة كما في مال المكاتب. والفرع الخامس: قال: لو كانا خليطين وهما كافران في الزرع فقيل الإدراك بساعة أسلما ثم أدرك الزرع وقلنا: تصح الخلطة فيما عدا المواشي يجب أن يقال عليهما زكاة الخلطة لأن الاعتبار بحالة الإدراك بخلاف زكاة الماشية إذا أسلما قبل الحول بساعة. والفرع السادس: قال: إذا وجد الركاز فلم يؤد خمسه حتى حال عليه الحول والباقي عن الخمس ليس بنصاب هل يلزم فيه الزكاة؟ إن [215 أ/4] قلنا: تتعلق الزكاة بالعين فالخمس هو الواجب دون غيره، وإن قلنا: إن الزكاة في الذمة ففي هذا وجهان، أحدهما: أن الخمس أيضًا يلزم في الذمة فعلى هذا يلزم الخمس والزكاة معًا على القول الذي يقول: إن الدين لا يمنع وجوب الزكاة وهذا إذا قلنا: إن الخمس زكاة، والثاني: أنه يلزم

الخمس في العين فعلى هذا لا يلزمه سوى الخمس شيء وهذا إذا جعلنا الخمس كخمس الغنيمة فيتعلق بالعين قولًا واحدًا. والفرع السابع: قال: إذا ضمن الزكاة عن غيره هل يصح الضمان؟ قال الشيخ أبو حامد: يصح بإذن من عليه، وقال والدي رحمه الله: فيه وجهان أحدهما: كالديون، والثاني: لا يصح لأنها حق اله تعالى وهو كالكفالة يتعين من عليه الشهادة لا يجوز لإحضاره مجلس الحكم ولصح بنفس من عليه المال في أصح القولينن فإذا قلنا: يصح فهل يصح بغير إذن من عليه، وجهان أحدهما: لا تصح لأن أداء الزكاة عن الغير لا يصح إلا بإذنه فكذلك ضمانها لا يجوز بخلاف الدين، والثاني: يصح لأن الضمان ليس هو بأداء بل هو إيجاب [215 ب/4] للحق في الذمة ويصح منه هذا الإيجاب بغير إذن، ثم يقع الأداء بإذن من عليه الزكاة وأصل هذا أن الضمان إذا كان بالإذن والأداء بغير إذن هل للضامن الرجوع وجهان أحدهما: أن الضمان بإذن هو كالأداء والأداء بغير إذن هل للضامن الرجوع وجهان أحدهما: أن الضمان بإذن هو كالأداء بإذن فيرجع، والثاني: أن الضمان إيجاب وليس بأداء فلا يرجع فحصل في ضمان الزكاة ثلاثة أوجه، أحداها: لا يجوز بحال، والثاني: يجوز بالإذن ولا يجوز من دون الإذن، والثالث: يجوز في الحالين وإذا ضمن بالإذن وجوزناه هل يعتبر الإذن عند الأداء؟ وجهان على ما ذكرنا فإذا قلنا: له الرجوع لا يعتبر الإذن هاهنا، وإن قلنا: لا رجوع فإنه يعتبر وهذا مليح. والفرع الثامن: قال: إذا حال الحل وتمكن من أداء نصيب الفقراء من زكاته دون سائر الأصناف مع كون جماعتهم موجودين في بلده فلم يؤد حتى تلف المال فعليه ضمان ثمن الزكاة وهو القدر الذي حصل فيه الإمكان ثم هل يفرقه على جماعتهم ام على الفقراء فقط؟ يجيء أن يقال: يفرقه على جماعتهم كالمال بين شريكين إذا تلف جميعه أو بعضه كان التالف [216 أ/4] عليهما والباقي لهما، وكذلك الزكاة المشتركة بين جماعة الأصناف ويجيء أن يقال: يفرقه على الفقراء فقط لأن هذا القدر إنما وجب ضمانه لإمكان الدفع إلى الفقراء فوجب أن يجعل ذلك حقًا لهم فحسب إذ لو كان لجماعتهم لسقط من الثمن نصيب الباقين لعدم الإمكان في الدفع إليهم، والقول في الباقي كالقول في هذا إلى ما لا غاية له معقولة فلما وجب ضمان هذا القدر وجب فعل ذلك حقًا للفقراء على الاختصاص. والفرع التاسع: قال: لو دفع الزكاة إلى مسكين وهو غير عارف بالمدفوع يجوز أن يكون مشدودًا في كاغد أو خرقة ولا يعرف قدره وجنسه وتلف في يد الفقير هل يسقط فرض الزكاة عن الدافع؟ يجيء أن يقال: يسقط لأن معرفة القابض بذلك ليست بشرط، فكذلك معرفة الدافع بخلاف المعاوضة فإن المعرفة هناك هي معتبرة في حق كل واحد من المتعاقدين

ويحتمل خلاف هذا لأن الشافعي قال (¬1) في زكاة المعدن: لو دفع شيئًا قبل التحصيل فالمعدن ضامن. والفرع العاشر: قال: لو دفع الزكاة إلى مسكين وواعده أن يردها [216 ب/4] إليه، إما بالبيع أو بالهبة أو ليصرفها المزكي في كسوة المسلمين ومصالحه هل يكون قبضًا صحيحًا عن الزكاة؟ يجيء على أن لا يكون هذا قبضًا لأن التحلية لم تحصل على التمام ويحتمل أن يكون قبضًا لحصول القبض المشاهد فيه وأصل هذين الاحتمالين إذا أطعم الغاصب منه الطعام الذي غصب منه فأكله المالك مع جهله بالحال ففي سقوط الضمان عن الغاصب قولان، والأصح بقاء الضمان. والفرع الحادي عشر: قال: لو كان بين يديه قفيزان فأخرج الزكاة، وقال: سلمتها إلى أحدكما من زكاتي فليأخذ واحد منكما أي واحد كان ثم إن أحدهما أخذها هل تصح عن زكاة الدافع؟ يحتمل أن يقال: يجوز لأن معرفة المدفوع إليه بعينه هي غير معتبرة بعد ما كان القابض من أهل قبض الزكاة كما لا يعتبر معرفة المسكين بالمقبوض على ما ذكرناه، وإن كانت المسألة بحالها إلا أن أحد المخاطبين غني غير أن الفقير أخذها يحتمل أن يجوز عن الزكاة لأن القبض حصل من أهل الزكاة وحصل التمكين من المالك [217 أ/4] فوجب القول بالجواز. والفرع الثاني عشر: المرأة إذا كانت تستعمل الحلي في المباح تارة وفي المحظور تارة هل يلزم فيه الزكاة على القول الذي لا توجب الزكاة في الحلي وهل يعتبر حال الاتخاذ لماذا صنعت؟ الجواب: هو أن الاتخاذ إن وقع للمحرم ولكنها تستعمله تارة في المحرم ففي وجوب الزكاة احتمال وجهين، وإن وقع الاتخاذ لهما وجبت الزكاة قولًا واحدًا تغليبًا للحظر على الإباحة ويجيء أن لا يلزم تغليبًا للمسقط على الموجب كالسوم والعلف. والفرع الثالث عشر: قال: إذا وقف على الفقراء وهناك امرأة فقيرة إلا أن لها زوجًا قال بعض أصحابنا: لا يعطي لها منه لأنها غنية بزوجها كما لا يجوز دفع الزكاة إليها بحق الفقر وقيل: يجوز ذلك من الوقف بخلاف الزكاة وهكذا لو أوصى بتفريق ثلاثة على الفقراء لا يجوز أن يدفع إليها في أصح الجوابين، ولو كانت ذات زوج إلا أنها ناشزة، هل يجوز دفع الزكاة إليها أو الوقف في أصح الوجهين وجهان، أحدهما: لا يجوز لأنها إذا لم تستحق عند الطاعة فعند العصيان أولى، [217 ب/4] والثاني: يجوز لأنها لا تستحق النفقة في هذه الحالة فصارت كالخالية من الزوج، وقال الشيخ أبو حامد: لا يجوز وإن ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 37)

كانت ناشزة لأنها تتمكن من ترك النشوز، فإذا لم يفعل صارت راضية بسقوط حقها فلم تستحق من الزكاة، قال: ولو خرجت مسافرة بغير إذن الزوج جاز أن تُعطى هناك من سهم الفقراء لأنها لا تتمكن من الرجوع إلى الطاعة في الحال، فكانت مضطرة إلى ما تأخذه، ولو كانت المرأة كبيرة الزوج والزوج صغير ففي وجوب نفقتها عليه قولان، فإن قلنا: تجب لا يجوز دفع الزكاة إليها، وإلا فيجوز لأنها غير عاصية بخلاف الناشزة. فروع ذكرها القاضي الإمام الحسين رحمه الله قال: لو اجتمعت على رجل زكوات فمات فهل للإمام صرفها إلى أقربائه الفقراء؟ إن كانوا ممن يجوز له صرفها إليهم في حال حياته فيجوز وإلا فلا يجوز، قلت: ويحتمل أن يقال يجوز ذلك لأن شبهة استحقاق النفقة هي غير موجودة وللآن في حياته أن يعطيه سهم الغارمين والغزاة من الزكاة لأنه لا يستحقه على أبيه، وقال أيضًا: لو ملك مائتي درهم فاشترى [218 أ/4] بها السمسم بنية التجارة فحال الحول عليه من يوم ملك الدراهم يلزمه زكاة التجارة ولو طحن السمسم وعصره ثم باع الدهن هل تنقطع الزكاة؟ يحتمل وجهين: أحدهما: ينقطع لأن الطحن والعصر ليسا من التجارة بل يكونان للقنية في العادة، والتجار لا يطلبون الربح بهذا بل يطلبونه بالتصرف، ألا ترى أنه لو قارضه على أن يشتري بمال القراض السمسم ثم يطحن ويعصر ويبيع الدهن كان القراض فاسدًا، والثاني: لا ينقطع الحول وهو الأظهر والأحوط لأنهم يفعلون ذلك لاستزادة الربح، وقال أيضًا: لو كان في بستانه عنب لا يترتب أو رطب لا يتتمر وعنب آخر يترتب لا يبلغ ثمانمائة منًا فما لا يترتب هل يضم إليه في تكميل النصاب؟ يجب أن يبني على هذا ما لو باع الرطب الذي لا يتتمر بما يتتمر هل يجوز وهو مرتب على ما لو باع ما لا يتتمر بما لا يتتمر هل يجوز؟ فيه وجهان: فإن قلنا: بيع أحدهما بالآخر لا يجوز فكمل نصاب أحدهما بالآخر لأنها جنس واحد، وإن قلنا: يجوز لا يضم لأنا جعلناهما جنسين. فروع أُخَر ذكرها غيره الشاة في خمس من الإبل على التقريب بقيمة [218 ب/4] خمس ابنة مخاض فإن كانت إبله معيبة فلا يجوز إلا شاة صحيحة تقرب هذه القيمة من صفة إبله فإن كان لا يؤخذ بخمس قيمة بنت مخاض شاة فلا بد من شاة صحيحة تجري في الأضحية، ومن أصحابنا من قال: يتصدق بالدراهم هاهنا للضرورة ولا تجوز شاة معيبة بلا خلاف بخلاف الذكر في أحد الوجهين، لأن الزكاة ليست بعيب بخلاف المرض فإنه عيب ذكره بعض أصحابنا. فرع آخر لو كانت الشاة وجبت في خمس مراض فأخرج إبلًا منها قيمتها دون قيمة الشاة، قال ابن سريج: لا يجوز، وقيل: إنه قول الشافعي ذكره في الكبير، والمسألة بناء على

أصل وهو أن الشاة هي أصل أو بدل فإن قلنا: هي أصل لا يجوز لأنه ناقص عن الأصل، وإن قلنا: إنه بدل يجوز لأنه أخرج. فرع آخر وإذا ملك أجناسًا من أنواع الزكاة، وعليه دين لا من جنس الأموال التي في يده، فإن كان بعض الأجناس لا يبلغ نصابًا جعل الدين في مقابلته نظرًا للمساكين، وإن كان كل جنس يبلغ نصابًا فمن أصحابنا من قال: يقسم الدين على الأموال [912 أ/4] كلها لأن ليس بعض الأجناس بأن يقابل الدين أولى من البعض ثم كل جنس بقي منه نصاب وراء المقابل بالدين يجب الزكاة وفيما زاد قولان، وكل جنس لم يبق منه نصاب ففي جميعه قولان والصحيح أنه إذا كان لو قسم الدين على الأنواع لم يكن الباقي من كل نوع نصابًا لا يقابل الدين بالأجناس، لأن فيه تفويت حق المساكين، ولكن يقابل بنوع أو نوعين حتى يتوفر حق المساكين على قولنا الدين يمنع وجوب الزكاةن ولهذا فإنه لو كان يملك نصابًا من المال الزكاتي وعروضًا تقابل الدين العروض لمراعاة حق المساكين. فرع آخر إذا كان يملك نصابين من المال وعليه دين من جنس أحدهما فالدين يقابل بالجنس أو يفرض عليهما وجهان بناء على أصل وهو إذا امتنع من أداء الدين وظفر صاحب الدين بأمواله وفي الأموال من جنس الحق وغير الجنس له أن يأخذ الجنس، وهل له أن يأخذ غير الجنس؟ فيه وجهان: فإن قلنا: له أن يأخذ غير الجنس يقابل الدين بهما، وإن قلنا: لا يأخذ إلا الجنس فيجعل الدين في مقابلته والصحيح أن الدين يجعل في مقابلة [219 ب/4] الجنس لأنه أقرب إليه. فرع آخر إذا نذر أن يفرق دراهم فترك تفريقها مع الإمكان فهذا مبني على أنه يسلك بالمنذور مسلك الواجب بالشرع أو التطوع فإن مسلك الواجب يضمن، وإن قلنا: مسلك التطوع فإنه لا يضمن وعلى هذا لو نذر أن يضحي بشاة وتمكن فلم يضح حتى تلفت هل يضمن وجهان. فرع آخر إذا حنث في يمينه ولا يجد الرقبة ويجد الكسوة والإطعام هل يكون الإمكان شرطًا في وجوب الكفارة عليه قولان كما قلنا في الزكاة، ووجه المشابهة أنه لا ينفرد بأدائهما ولا بد ممن يقبل منه كليهما. فرع آخر لو كانت عنده دراهم جيّدة فأدى الردئ فإن فرق على المساكين بنفسه فهو متبرع لا يسقط الفرض به، وإن لبس على الإمام، وقال: ما لي من هذا النوع لا يسقط الفرض،

فإذا علم الإمام فإن كان باقيًا يرده ويطالبه بالفرض، وإن كان هالكًا يرد مثله ويأمره بإخراج الفرض ولو أخذ منه قدر النقصان يكون كما لو أخذ القيمة في الزكاة باجتهاده فيه وجهان، وإن لم يلبس على الإمام ولكنه أخذ منه الأردأ [220 أ/4] فإن أخذه من غير اجتهاده لا يسقط الفرض الحكم كما لو أخرج رب المال إلى الإمام بنفسه، وإن أخذ باجتهاده على ظن أنه أصلح للمساكين فبان الخطأ، فإن كان المأخوذ باقيًا رده، وإن كان هالكًا فالمأخوذ يقع زكاة ويؤمر بإخراج الفضل، وهل هو مستحق أو مستحب كما ذكرنا في مائتين من الإبل إذا أخرج رب المال الصنف الأدنى. فرع آخر إذا قلنا: يعتبر في آخر الحول نصاب التجارة فاشتري بمائة درهم عرضًا للتجارة ثم مضت ستة أشهر فاستفاد خمسين درهمًا فلما تم حول العرض بلغت قيمته مائة وخمسين لا زكاة في المستفاد حتى يتم حوله وفي عرض التجارة وجهان: أحدهما: تجب الزكاة لأن المستفاد مضموم إلى أصل المال في حكم النصاب وفي زكاة التجارة يعتبر النصاب في آخر الحول وهو موجود، والثاني: أنه لا زكاة لأنا أسقطنا اعتبار النصاب في أول الحول للمشقة حتى يكمله مما يحصل من فوائد المال والمستفاد ليس من فوائد المال.

كتاب زكاة الفطر

كتاب زكاة الفطر باب من يلزمه زكاة الفطر [220 ب/4] قال (¬1): أخبرنا مالكٌ .... الخبر. وهذا كما قال: اعلم أنه يقال: زكاة الفطر وزكاة الفطرة فمن قال بالأول: فلوجوبها بدخول وقت الفطر، ومن قال بالثاني: فلوجوبها على الفطرة، والفطر هي الخلقة، قال الله تعالى: {فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30]، أي: خلقته التي جبل الناس عليها واختلف أصحابنا هل وجبت ابتداء بما وجبت به زكاة الأموال أم بغيره فقال البغداديون من أصحابنا: وجبت بالظواهر التي وجبت بها زكاة الأموال من الكتاب والسنة لعمومها في الزكاتين، وقال غيرهم: وجوبها أسبق لما روي عن قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنه أنه قال: "أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر قبل نزول آية الزكوات، فلما نزلت آية الزكوات لم يأمرنا، ولم ينهنا" (¬2)، ومن قال بهذا اختلفوا هل وجبت بالسنة أم بالكتاب؟ والسنة مبنية على وجهين، أحدهما: بالسبنة لخبر قيس فعلى هذا الدلالة على وجوبها من طريق السنة خبر عبد الله بن عمر رضي الله عنه وهو أنه قال: "فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة الفطر من رمضان على الناس صاعًا من تمر أو صاعًا من [221 أ/4] شعير على كل ذكر وأنثى حر وعبد من المسلمين" (¬3)، وروي على كل حر وعبد، لأن العبد لا يلزمه، وإنما تجب عنه، وروى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "فرض زكاة الفطر طهرة للصائم من الرفث واللغو وطعمة للمساكين من أدّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات" (¬4)، والوجه الثاني: أنها وجبت بكتاب الله تعالى، وإنما البيان مأخوذ من السنةن ومعنى قوله فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: قدرها ثم بأية آية وجبت فيه قولان، أحدهما: بقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّى} [الأعلى: 14]، قال سعيد بن المسيب (¬5) وعمر بن عبد العزيز: هي زكاة الفطر، والثاني: بقوله تعالى: {وأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 53). (¬2) أخرجه النسائي (2506، 2507)، وابن ماجه (1828)، والبيهقي في "الكبرى" (7671)، وقال: وهذا لا يدل على سقوط فرضها وإن اختلفوا في تسميتها فرضًا فلا يجوز تركها. (¬3) أخرجه البخاري (1503،1504، 1511، 1512)، ومسلم (12/ 984). (¬4) أخرجه أبو داود (1609)، وابن ماجه (21827)، والدارقطني (2/ 138)، والحاكم (1/ 409)، والبيهقي في "الكبرى" (7692). (¬5) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (7667).

الزَّكَاةَ} [البقرة: 277]، ثم اعلم أنها مفروضة عندنا والفرض والواجب سواء. وقال أبو حنيفة: هي واجبة وليست بفريضة، وقال: الفرض هو اسم لما وجب بدليل معلوم لا يسوغ الاجتهاد في نفيه وهذا خلاف لا يفيد شيئًا، والدليل على بطلانه الخبر الذي ذكرنا، فإنه قال/ فرض، وقال: زكاة، والزكاة مفروضة وقال الأصم وابن علية وقوم من أهل البصرة [221 ب/4] إنها ليست بواجبة وهو اختيار أبي الحسين اللبان الفرضي، واحتجوا بحديث قيس فلما نزلت آية الزكوات لم يأمرنا، ولم ينهنا. وهذا غلط؛ لأن تركه للأمر ثانيًا لا يسقط حكم الأمر الأول، وروي في بعض الألفاظ عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، وقال داود: زكاة الفطر تجب على العبد وعلى السيد إن يخليه ليكتسب ويؤديها وهذا غلط، لقوله صلى الله عليه وسلم: "عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق إلا صدقة الفطر في الرقيق" ولأنه شخص من أهل الطهرة يلزمه نفقة شخص من أهل الطهرة فليزمه فطرته مع القدرة كالولد مع والده. مسألة: قال الشَّافعيُّ (¬1): "فَلَم يَفْرضِهَا إلا على المُسْلِمينَ". وإنما قال ذلك للخبرين اللذين ذكرناهما، فإنه نص فيهما على المسلمين، ومن قال من أصحابنا أن الكفار غير مخاطبين بالشرائع احتج بهذا الكلام ومن قال هم مخاطبون قال: أراد الشافعي فرض الأداء؛ لأنه لا يصح أداؤها من الكافر. مسألة: قال (¬2): "والعبَيدُ لا مَالَ لَهُم". وقد ذكرنا [222 أ/4] هذا وهل تجب على السيد ابتداء أم تجب على العبد ثم يتحملها السيد؟ وجهان: أحدهما: تجب عليه لأن وجوبها في ماله فكانت عليه كفطرة نفسه، وأما المدبر والمعتق نصفه وأم الولد قال في "الأم": هؤلاء في حكم العبد القن، وقال في المكاتب: لا يلزمه أن يزكي عنه ولا يلزمه أن يزكي نفسه وهذا لأن المكاتب ناقص الملك، ولهذا لا تلزمه الزكاة في ماله، فكذلك زكاة الفطر ويجري مع سيده مجرى الأجنبي فلا يلزمه زكاة فطره بحكم الملك، وروى أبو ثور عن الشافعي قولًا في القديم: إن فطرته على سيده لقوله صلى الله عليه وسلم: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم" (¬3) ولأن أكثر ما فيه ضعف ملكه، وذلك لا يوجب سقوط فطرته كالآبق وهذا غلط، لأن الآبق لم يصر في حكم الأجنبي معه في شيء من الأحكام. وقال أحمد: يجب زكاة فطره في كسبه كنفقته، وقال ابن سريج: يلزمه أن يؤدي عن نفسه ويلزمه أن يزكي عن عبده أيضًا، تشبيهًا بالنفقة. فرع لو ارتد عبده عن الإسلام في هلال شوال ثم أسلم فيه ثلاثة أوجه [222 ب/4] ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 53). (¬2) انظر الأم (2/ 53). (¬3) أخرجه مالك في "الموطأ" (2/ 787)، وأبو داود (3926، 3927)، والنسائي (2526)، والحاكم (2/ 218).

أحدها لا شيء، إذا قلنا: رب المال إذا ارتد ثم عاد إلى الإسلام استأنف الحول في ماله، والثاني: وهو الأصح ذكره في "الحاوي" (¬1) عليه زكاة فطره وإن لم يسلم إذا قلنا: على رب المال الزكاة عاد إلى الإسلام أم لا، والثالث: أنها موقوفة على إسلامه، فإذا عاد يجب إذا قلنا: زكاة رب المال المرتد موقوفة على إسلامه وهذا أظهر عندي. وقال والدي رحمه الله: الأظهر أنها لا تلزم لأنها تراد للطهره والردة تضادها، ثم قال بعد هذا: ويؤدي السيد عن رقيقه وهذا إذا قلنا: لا يملك بالتمليك فيلزم سيده ذلك، وإذا قلنا بقوله القديم: لا يجب على سيده فطرته ولا يجب على سيده أيضًا، لأنه ناقص الملك وقد زال ملك السيد، ومن أصحابنا من قال: على هذا القول قولان، والقول الذي يجب على سيد سيده، وقال الشيخ أبو حامد: هذا ظن من أصحابنا، وبئس ما ظنوا فقول واحد لا يجب على أحد إذا قلنا: يملك بالتمليك. مسألة: قال (¬2): وكل من لزمته مؤنة أحد حتى لا يكون له تركها أدى زكاة الفطر عنه. وهذا [223 أ/4] كما قال: جملته أن زكاة الفطر عند الشافعي هي تابعة للنفقة فكل من كانت نفقته في ماله يفطر به في ماله، وكل من وجبت نفقته على غيره وجبت فطرته على ذلك الغير، والنفقة تجب على الغير بالسبب والنسب، فأما ذوو الأسباب: فالكلام عليهم يأتي، وأما ذوو الأنساب: فإنما تجب نفقتهم إذا كانوا من عمود الولادة وهم الوالدون والمولودون فكل من وقع عليه اسم اب حقيقة أو مجازًا لزمه نفقته وكل من وقع عليه اسم حقيقة أو مجازًا لزمته نفقتها وارثة كانت أو غير وارثة أولى بأب أو أم، والبنون والبنات وأولادهم ما توالدوا وتناسلوا وولد الإناث والذكور سواء، فالولد لا يخلو: إما أن يكون معسرًا أو موسرًا فإن كان موسرًا ففطرته ونفقته في ماله، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف، وقال محمد: نفقته في ماله وفطرته على أبيه، وبه قال زفر وإن تطوع الأب فأخرجها من مال نفسه يجوز ولو كان وصيًأ أو أمين حاكم فتطوع لم يجز، والفرق أن الأب يحتج به وولايته كاملة لأنه يتولى طرفي العقد فنيته تقوم مقامة نيته للولاية فجاز أن يتطوع بزكاة فطره [223 ب/4] بخلاف الوصي هكذا قال أصحابنا، وفي هذا الفرق نظر وعندي انه لا فرق بينهما في الجواز، وإن كان معسرًا فنفقته وفطره على أبيه، وهذا إجماع لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في خبر ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا تجب إلا على من أطاق الصلاة والصيام، وروى الحسن وسعيد بن المسيب: لا تجب إلا على من صلى وصام، وإن كان كبيرًا ففيه ثلاث مسائل: إحداها: أن يكون موسرًا فنفقته وفطرته في ماله. ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (3/ 351). (¬2) انظر الأمك (2/ 54).

والثانية: أن يكون زمنًا معسرًا فنفقته وفطرته على أبيه خلافًا لأبي حنيفة حيث قال: لا تلزمه فطرته لأنه لا ولاية له عليه وهذا غلط، لأن تشبيهها بالنفقة أولى، وقوله في "المختصر": من ولده الصغار والكبار الزمني الفقراء فصفة الفقراء هي راجعة إلى الصغار والكبار جميعًا وصفة الزمني راجعة إلى الكبار خاصة دون الصغار. والثالثة: أن يكون صحيحًا معسرًا فاختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: لا تجب نفقته ولا فطرته على والده قولًا واحدًا وهو الصحيح من المذهب [224 أ/4] لأن الشافعي شرط الزمانة، وحين أطلق الشافعي الفقر ولم يشترط الزمانة محمول على ما قيد فيه من الزمان في ...... (¬1) ومن أصحابنا ومن أصحابنا من قال: فيه قولان، والحكم في ولد ولده وإن سفل فالحكم في ولده لصلبه على سواء، وقال أبو حنيفة: لا تجب الفطرة على الجد وهذا غلط لما ذكرنا من العلة، وأما الأب إن كان موسرًا ففطرته ونفقته في ماله، وإن كان معسرًا زمنًا فنفقته .... وفطرته على ولده وإن كان صحيحًا معسرًا فطريقان: أحدهما: قول واحد يلزمه نفقته وفطرته ولا يشترط فيه الزمانة والفرق بينه وبين الأب هو: أن حق الأب آكد وأقوى بدليل أن على الابن أن يعف أباه وليس على الأب أن يعف ابنه فافترقا، والثاني: فيه قولان، قال: في الزكاة نفقته وفطرته على ولده، وقال في النفقات: لا تجب نفقته على ولده، وقال القاضي الطبري: فيه طريقة ثالثة: وهي أنه شرط فيه الزمانة قولًا واحدًا كما قلنا في الابن وهو الصحيح من المذهب، ووجه هذا أنه لا تحل له الصدقة كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا حظ فيها لغني ولا ذي مرة" فلا تجب [224 ب/4] فطرته ونفقته على غيره وحكم الأم والجدة حكم الأب، وبه قال مالك وقال أبو حنيفة: لا تجب فطرة هؤلاء على الابن لأن الفطرة عنده هي تبع الولادة وهذا غلط، لأن الأب المجنون لا ولاية له ويجب في ماله فطرة ابنه وفطرة نفسه وللحاكم ولايته على الصغير ولا يؤدي عنه زكاة الفطر من مال نفسه والدليل على ما قلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "ممن تمونون" وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "جرت عليك نفقته فأطعم عنه نصف صاع من بر أو صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير"، ولا مخالف له، ووافقنا أحمد فيما ذكرنا إلا أنه يوجب النفقة للأخ على الأخ والأب الصحيح ويوجب فطرتهما أيضًا، وقال القفال وأبو حنيفة: خالف المروي في زكاة .... (¬2) من عشرة أوجه: أحدها: أنه لا يجعل زكاة الفطر فريضةن والثاني: أنه قد روي في بعض الألفاظ صاعًا من بر، وروي صاعًا من طعام وعنده يجب نصف صاع من بر، والثالث: مال من المسلمين وعنده يزكي عن عبده الكافر، والرابع: أوجب على كل مسلم ولم يشترط الغني وعنده لا يجب إلا على من يملك نصابًا. والخامس: [225 أ/4] قال: "ممن تمونون" فجعلها تابعة للمؤنة وظاهرة يوجب فطرة الزوجة صدقة فطر الزوجة على ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) موضع النقط بياض بالأصل.

زوجها وعنده لا يجب، والسادس: ظاهره يوجب صدقة الأب على أبيه خلافًا له، والسابع: ظاهره يوجب صدقة الابن الكبير المعسر على أبيه وعنده لا يجب، والثامن: ظاهرة يوجب في العبد المشرك خلافًا له، والتاسع: ظاهره أن إخراج الحب واجب وعنده تجوز القيمة، والعاشر: لم يفصل يبن عبده للتجارة وبين عبد القنية وهو يفصل. فرع لو احتاج الأب إلى مال الطفل له أن ينفق من ماله على نفسه ويخرج فطرة نفسه أيضًا من ماله، ولا يجوز للأجنبي أن يؤدي عن الصغير فطرته من ماله، ولو فعل ضمن، وإنما يجوز ذلك للقيم. فرع آخر لو تطوع الأب بإخراج زكاة الفطر عن نفسه فإنه يجوز، وإن كانت تجب على ابنه لأنها تجب في حقه للمواساة، وإذا تطوع ارتفع وجه المواساة، ولو تطوعت الزوجة بغير إذن الزوج وأدت عن نفسها زكاة الفطر لا يجوز في أحد الوجهين، لأنها تجب على طريق المعاوضة ولهذا تجب مع غناها، هكذا ذكر في "الحاوي" (¬1)، وقال سائر أصحابنا: فيها [225 ب/4] وجهان بناء على وجوبها ابتداء، فإن قلنا: تجب على المؤدي فلا يجوز لهما بغير الإذن، وإن قلنا: تجب على المؤدي عنه يجوز بغير الإذن وهو ظاهر المذهب. فرع آخر لو كان له أب فقير بحيث يلزمه نفقته ونفقة زوجته هل تلزمه زكاة فطرة زوجته؟ وجهان: أحدهما: يلزم كنفقتها، والثاني: لا يلزم لأن ذلك لا يلزم أباه، وإنما يلزمه ما يلزم أباه وهذا أشبه بالمذهب وقال أصحابنا بخراسان: المذهب أنها تلزم، وتلزم زكاة فطر خادمة زوجة الأب أيضًا إن كانت لها مخدومة، وأما فطرة امرأة ابنه لا تجب كنفقتها بلا إشكال. فرع لو ملك الابن الصغير قوت يومه وليلته حتى لم تجب نفقته على ابنه كذلك اليوم تجب فطرته عليه ولو ملك الابن الكبير الزمن قوت يومه وليلته لم تجب على أبيه فطرته كما لا تجب نفقته، والفرق أن نفقة الابن الكبير لا تثبت في الذمة بحال فهي لكفاية الوقت، ونفقة الصغير إذا وجبت ثبتت في الذمة فهي آكد، ألا ترى أن الأم تستدين على الأب نفقة الصبي ثم تطالب الأب فيه فصارت كنفقة نفسه وفطرته لفطرة الأب نفسه وعليه [226 أ/4] أن يكتسب لنفسه النفقة فكذلك لابنه الصغير، وفيه نظر عندي. ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (3/ 355).

فرع آخر قال الشافعي في القديم: إذا كان الابن الصغير عبد فإن لم يكن محتاجًا إلى خدمته لأنه مستقل بنفسه ويمكنه أن يخدم نفسه يباع من العبد بمقدار زكاة الفطر، وإن كان محتاجًا إلى خدمته لا يباع منه شيء، وقال الداراكي: إذا كان يحتاج إلى خدمته فيه وجهان: أحدهما: هذا وتكون زكاة الفطر في ذمته، والثاني: يباع منه بقدر الزكاة والأول أصحن وهكذا في العبد المرهون وجهان: أحدهما: يباع منه كأرش الجناية، والثاني: في مال الراهن كالمؤنةز وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا يباع منه شيء بحال ويشترط في زكاة الفطر أن يملك سواه شيئًا والصحيح المنصوص ما ذكرنا من التفصيل، وقد قال الشافعي: لو وهب لابنه الصغير عبدًا وليس للأب مال وهو محتاج إلى خدمته فعلى الأب أن ينفق على ذلك العبد ويخرج عنه صدقة الفطر وهذا يدل على ما ذكرنا. فرع آخر قال القفال تفريعًا على ما تقدم: لو ملك الابن الكبير قوت يوم العيد فإن أكله فليس على الابن الصدقةن وإن تصدق به فعلى الأب النفقة [226 ب/4]. مسألة: قال (¬1): أو زَوْجَتِه وخادمٍ لَهَا. وهذا كما قال: قد ذكرنا الفطرة التي تتحمل بالنسب والكلام الآن في تحملها بالسبب والسبب ضربان: نكاح، وملك يمين، أما ملك اليمين فسيأتي حكمه، وأما النكاح: فيلزم فطرة زوجته عليه وبه قال مالك والليث وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال أبو حنيفة والثوري: وهو اختيار ابن المنذر لا يلزمه بل يلزمها في مالها وهذا غلط لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم "فرض زكاة الفطر على الصغير والكبير والحر والعبد ممن يمونون" والزوجة يمونها ولا فرق بين أن تكون موسرة أو معسرة، وأما فطرة خادمها فالكلام في المخدومة أولًا والمرجع فيه إلى العرف والعادة فإن كانت ممن تخدم مثلها وجبت عليه أن يخدمها وإلا فلا، ولكن من الذي يخدمها قال أبو إسحاق: الزوج هو بالخيار بين أربعة أشياء: بين أن يخدمها بنفسه، أو يكتري لها خادمًا، أو يشتري من يخدمها، أو يكون لها خادم فينفق على ذلك الخادم، وقال .... (¬2) أشياء فليس .... (¬3) بنفسه لأنها تحتشم أن تستوفي خدمته فإن خدمها بنفسه فهو يخرج فطرة نفسه وإن [227 أ/4] اشترى من يخدمها أو يكون لها خادم فعليه فطرته ونفقته معًا، وإن اكترى من يخدمها فلا نفقة عليه ولا فطرة لأنه يأخذ الأجرة لا النفقة. فرع لو كان الزوج غائبًا فلها أن تستقرض على الزوج لنفقتها وليس لها أن تستقرض ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 54). (¬2) موضع النقط بياض بالأصل. (¬3) موضع النقط بياض بالأصل.

لفطرتها، والفرق أن عليها في انقطاع النفقة عنها مضرة لأن النفس لا تقوم إلا بها بخلاف الفطرة، لأن الزوج هو المخاطب بإخراجها ولا ضرر على بدنها ولا على دينها في تركها. فرع لو كان الزوج حاضرًا هل لها أن تطالب الزوج بإخراجها؟ وجهان بناء على أن الوجوب هو على الزوج ابتداءً أو عليها ثم يتحمل الزوج عنها وهو كما لو حلق حلال شعر محرم مكرهًا هل له أن يطالب الحالق بإخراج الجزاء فيه قولان، وهكذا الحكم في الأب الزمن. فرع آخر لو نشزت سقطت نفقتها وفطرتها فإذا عادت إلى الطاعة عادت النفقة والفطرة ويفارق العبد الآبق لأن نفقة العبد هي لازمة في حال الإباق لحكم الملك لأن كسبه مال السيد فمتى أنفق على نفسه ففي الحقيقة كأنَّ السيد قد أنفق عليه من مال نفسه، ونفقة [227 ب/4] الزوجة تلزمه بحكم الطاعة فيسقط بالنشوز ثم بسقوطها تسقط زكاة الفطر. فرع لو طلق امرأته وهي حامل، قال المزني: عليه الزكاة في قياس قول أصحابنا، لأن عليه نفقتها وهي تابعة للنفقة، وقال أصحابنا: هذا مبني على أن النفقة هل هي للحمل أو للحامل، وإن قلنا: إن النفقة لها لزمه زكاة فطرها وإلا فلا يلزم. فرع آخر ذكره والدي رحمه الله أنه لو أدى زكاة الفطر عن عبده قبل هلال شوال بعد دخول شهر رمضان ثم باعه فإنه يلزم المشتري أداء زكاة الفطر عنه ولا يصح ما دفعه البائع، ولو مات السيد فانتقل إلى وارثه هل عليه الإخراج قولان مخرجان، ونص في زكاة المال إذا عجلها ثم مات يجوز عن ورثته. فرع آخر ذكره والدي رحمه الله: لو اعترف أحد عبديه بغير عينه ثم أهل شوال ثم عين الجزية في أحدهما فيه وجهان: أحدهما: عليه زكاة فطرهما، والثاني: عليه زكاة فطر المحكومة برقه دون الآخر، وأصل ذلك أن الجزئية تقع من وقت التعيين أو من وقت القول وفيه وجهان. فرع آخر ذكره والدي رحمه الله: إذا دخل وقت [228 أ/4] الوجوب ثم أقر أنه كان أعتق هذا العبد وأنكره العبد لم تسقط عنه زكاة الفطر لأن زكاته وجبت عليه في الظاهر وقوله على غيره لا تقبل بوجه في زكاة المال، إذا قال: كنت وقفته على رجل قبل الحول أو

كنت بعته من كافر قبل قوله لأنه لا ينقلها إلى غيره بل يدوم إسقاط الزكاة عن نفسه وهو أمين فيها. فرع آخر ذكره والدي رحمه الله: وهو إذا كان في بيت المال عبد هل تلزم زكاة فطره؟ يحتمل وجهين: أحدهما: تلزم لأنها تجب لطهرة العبد، والثاني: لا تلزم كزكاة المال وهذا أظهر، ورأيت الوجهين عن سائر أصحابنا، وهكذا لو كان موقوفًا على المسجد والمذهب أنه يلزم في مال المسجد وهناك يلزم في بيت المال، ولو وقف عبدًا على رجل فإن قلنا: ملك الموقوف زال لا إلى أحد لا تلزمه فطرته، وإن قلنا: زال إلى الموقوف عليه ففيه وجهان: أحدهما: يلزمه، والثاني: لا يلزمه لنقصان ملكه وهو كما ذكرنا في زكاة المال. فرع آخر ليس للزوجة مطالبة الزوج بأدائها عنها لأنها واجبة على الزوج، ووجوبها إن كان يجري مجرى الحوالة أو [228 ب/4] مجرى الضمان فليس للمحيل المطالبة ولا للمضمون عنه المطالبة، وقد ذكرنا الخلاف فيه والمذهب هذا. مسألة: قال (¬1): ويؤدي عن عبيدهِ الحضور والغيب. وهذا كما قال: إذا كان له عبد غائب فإن كان يعلم موضعه ويتيقن حياته تلزمه زكاة فطره سواء كان آبقًا أو غير آبق وسواء كان في بلد الإسلام أو في بلد الشرك لأن زكاة الفطر تجب بالملك ولا يعتبر حصول النماء ويجب إخراجها في الحال بخلاف المال المغصوب إذا أوجبنا فيه الزكاة لا يجب إخراجها في الحال، وهذا هو المذهب الصحيح، ومن أصحابنا من قال: وهو أبو حامد نص في "الإملاء" على قولين أحدهما: هذا، والثاني: لا يلزمه إخراجها حتى لا يرجع وهذا لا يصح، لأنا لا نراعي في صدقة الفطر إمكان الأداء، ولهذا لو تلف ماله قبل إمكان أداء الفطرة عن نفسه لم تسقط الفطرة بخلاف زكاة المال، وقيل: في الوجوب قولان كما في زكاة المال والآبق، وفيه وجه آخر ضعيف: أنها تسقط بتلف المال قبل الإمكان كزكاة المال، وإن لم يعلم حياته، ظاهر ما نقل المزني أنه لا تلزم فطرته لأنه قال: وإن لم ترجع رجعتهم بأن غابوا عنه أو افتقدهم ولا [229 أ/4] يسمع خبرهم إذا علم حياتهم وقال في موضع من "الأم" (¬2): تلزم فطرته، وإن لم يعلم حياته فمن أصحابنا من قال: فيه قولان أحدهما: يلزم لما ذكرنا من المعنى والأصل بقاء الملك، والثاني: لا يلزم لأنه لو كان له مال غائب ولا يعلم سلامته لم تلزمه زكاته، والأصل براءة ذمته عن الزكاة، والأول أصح والفرق بينه وبين زكاة المال أنه يراعى فيه حصول النماء بخلاف الفطرة فإنه يكفي ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 54). (¬2) انظر الأم (2/ 55).

فيها الملك، والأصل بقاؤه، وقال القفال إن قلنا في الآبق: لا يجب فهاهنا أولى، وإن قلنا: هناك يجب فهاهنا قولان: وأما جواز إعتاق هذا العبد عن الكفارة فيه قولان بناء على أن الأصل حياته أو بقاء اشتغال ذمته بالكفارة، ومن أصحابنا من قال قول واحد: لا يجزي في الكفارة واعتبار الاحتياط يوجب الفرق بينها وبين زكاة الفطر، ومن أصحابنا من قال قول واحد: تلزمه زكاة في فطره أيضًا، كما نص عليه في "الأم"، كما يلزم عن الابن الزمن وإن كان عاقًا والذي قال إذا علم حياتهم فليس بشرط بل نص على أحد المسألتين وسكت [229 أ/4] عن الأخرى ثم ذكرها في موضع آخر وهذا هو اختيار المزني، ومن أصحابنا من قال: هو على اختلاف حالين إن آيس عن رجوعهم لم يجب، وإن لم ييأس يجب وهذا أحسن عندي، وأما المرهون فيلزمه زكاة فطره لأن ملكه تام عليه، وأما المغصوب فالحكم فيه ما ذكرنا في الآبق، وقرئ في "المختصر" أو مغضوبًا بالغين غير المعجمة والضاد أراد به الزمن المقطوع، ولا خلاف في وجوب فطرته وفي بعض نسخ المزني: والمغضوب لا منفعة فيه، ثم قال: ورفيق رفيقه ورفيق التجارة والخدمة سواء، وقد ذكرناهما. فرع إذا ملك عبدًا وهو يحتاج إليه ولا مال له سواه هل يلزمه فطرته وجهان: أحدهما: لا يلزمه لأنه يستغرقه حاجته كما لا يلزمه عتقه في الكفارة. والثاني: يلزمه لأنه يباع في دينه ويفارق الكفارة لأن لها بدلًا بخلاف الفطرة. فرع آخر إذا ملك عبدًا وصاعًا وهو محتاج إلى العبد للخدمة وقلنا: إذا ملك عبدًا للخدمة ولا مال له سواه يلزمه فطرة نفسه فأخرج الصاع عن نفسه هل نجعل ملكه للعبد غنيً عن حق العبد حتى يبيع جزءًا منه لفطرته [230 أ/4] وجهان: أحدهما: لا نحكم بغناه ولا نلزمه ذلك لأن العبد يزكي عنه فلا يستحق صرفه في الزكاة، والثاني: يلزمه لأن الخطاب متوجه على السيد وهو غني بملكه العبد والأول أصح. مسألة: قال (¬1): وَإِنْ كَانَ فِيمنْ يُمَوّنُ كافر. الفصل وهذا كما قال: إذا ملك عبدًا كافرًا وله زوجة كافرة لا فطرة عليه، وقال أبو حنيفة: يلزمه الفطرة عن عبده الكافر وبه قال الثوري وإسحاق، وبقولنا قال مالك وأحمد وهذا غلط، لأنها تراد للطهرة ولا يطهر بالزكاة إلا مسلم. فرع إذا كان لنصراني عبد فأسلم في آخر رمضان أو كانت له أم ولد فأسلمت ثم أهل ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 55).

هلال شوال فيه وجهان: أحدهما: عليه زكاة فطره لأن هذا العبد من أهل الطهرة فيؤدي عنه زكاة الفطر وبه قال أحمد، فيأخذ الإمام من ماله كما يأخذ من الممتنع الزكاة لأنه ليس من أهل القربة، والثاني: لا يلزمه زكاة فطره وبه قال أبو حنيفة لأنه كافر فلا يكلف زكاة الفطر وهذا مبنيان على أن الزكاة هل تجب على السيد ابتداء أم على العبد؟ [230 ب/4] ثم يتحمل السيد وفيه قولان، فإن قلنا: تجب على السيد ابتداء لا تجب هاهنا، وإن قلنا: تجب على العبد ثم يتحملها السيد يجب هاهنا لأن السيد من أهل التحمل، وقال القاضي الطبري: الوجهان محتملان، ولكن البناء على القولين لا يصح لأنه لو جاز هذا لجاز أن يقال: إذا كان للمسلم عبد كافر أن يكون في وجوب فطرته وجهان، بناء على القولين فإن قلنا: تجب على السيد ابتداءً يجب هاهنا وهذا لا يصح فكذلك ما قاله. فرع آخر لو كان له ابن كافر زمن وولد مسلم فعليه نفقته دون الفطرة، وإن كان الابن مسلمًا والوالد كافر غني هل يلزمه فطرته؟ يخرج على وجهين كما ذكرنا في المسألة قبلها ثم قال (¬1): وإن كان ولده في ولايته ولهم أموال زكى منها عنهم وقد ذكرنا هذه المسألة، وقوله في ولايته أي: في حجره وهو قيم عليه ولو كان لابنه الصغير عبد أخرج زكاة الفطر عنه في مال ابنه، فإن لم يكن له مال سواه، فإن كان الابن يحتاج إليه لزمانته أو صغره فإنه يجب على الأب نفقته وفطرته، وإن كان مستغنيًا عنه كانت زكاة الفطر في قيمته [231 أ/4] فيبيع منه ويزكي فإن تعذر بيه جزء باع الكل ثم قال (¬2): فإن تطوع حر فيمن يمون فأخرجها عن نفسه أجزأه وقد بينا هذه المسألة وهذا هو الصحيح في الزوجة والوالد والولد، ويتصور ذلك فيهما بأن يستقرضا صاعًا ليلة الفطر وأدَّيا. مسألة: قال (¬3): "وَإِنَّما يَجِبُ عَليهِ أَنْ يُزَكِّي عَمّن كان عندهُ مِنْهُم في شيءِ من نهارٍ آخر يومٍ منْ شهرِ رمضانَ". الفصل وهذا كما قال: اختلف قول الشافعي في وقت وجوب زكاة الفطر فقال في الجديد: بغروب الشمس من آخر شهر رمضان فإن تزوج أو ولد له ولدًا وملك عبدًا أو كان كافرًا فأسلم قبل الغروب ثم غربت الشمس وجبت الفطرة، فإن ماتوا قبل الغروب فلا شيء عليه، وإن ماتوا بعد الغروب لم تسقط الفطرة، وبه قال الثوري وأحمد وإسحاق، وهو رواية عن مالك، ووجهه ما روي في الخبر المعروف فرض زكاة الفطر من رمضان وأراد وقت الفطر منه وهو عند غروب الشمس من آخر يوم من رمضان ..... (¬4) وفي ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 55). (¬2) انظر الأم (2/ 55). (¬3) انظر الأم (2/ 56). (¬4) موضع النقط بياض بالأصل.

سائره نام قبله إنما كان ذلك ..... (¬1) وقت الفطر في رمضان لا من رمضان، وقال في القديم: تجب بطلوع الفجر الثاني من [231 ب/4] يوم الفطر فإن تزوج أو ولد له ولد أو ملك عبدًا وماتوا قبل الطلوع فلا فطرة لأنهم لم يمر بهم وقت الوجوب، وبه قال أبو حنيفة وأبو ثور وهو رواية أخرى عن مالك، ووجهه قوله صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم" (¬2) فخص يوم وهذا غلط، لأن الإغناء يحصل بتقديم الدفع في ليلته، فخص يوم وهذا غلط، لأن الإغناء يحصل بتقديم الدفع في ليلته، وفيه قول ثالث مخرج، تجب بإدراك غروب الشمس وطلوع الفجر معًا حتى لو ولد له ولد قبل غروب الشمس ثم مات قبل الطلوع لا فطرة عليه، ذكره صاحب "التلخيص"، وهذا لا يعرف للشافعي، وروي عن مالك وهو الصحيح عنه في الولد تجب زكاة الفطر بطلوع الفجر، وفي العبد بغروب الشمس ولا يلزم بأداء الفطرة عن الجنين بلا خلاف. مسألة: قال (¬3): "وإنْ كَانَ عَبْدٌ بينهُ وبينَ آخر فعلى كُلِّ واحدٍ منهما بقدرِ مَا يملك". الفصل وهذا كما قال: إذا كان عبد بينه وبين آخر فعلى كل واحد منهما بقدر ما يملك وهكذا لو كان بينه وبين جماعة وبه قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: لا تجب زكاة فطرة عليهما حتى لو ملك رجلان مائة عبد بينهما فلا يجب عليهما زكاة فطرهم ولا يحتسب [232 أ/4] كل نصفين عبدًا كاملًا بخلاف ثمانين شاة مشتركة بين رجلين يجب عليهما شاتان عنده وهذا غلط، لأنه شخص من أهل الطهرة كالعبد الخالص فإذا تقرر هذا فإن كان قوتهما واحدًا أخرجا منه صاعًا واحدًا، وروي عن أحمد: أنه يخرج كل واحد منهما صاعًا كاملًا لأنها لا تتبعض ..... (¬4) لأنها تتبع النفقة والنفقة تتبعض فكذلك هذه، ولأنه يؤدي إلى زيادة صاع آخر عن شخص واحد وهذا خلاف النص، وإن كان قوت أحدهما حنطة وقوت الآخر شعيرًا ففيه أوجه أحدها: ذكره أبو إسحاق أخرج كل واحد منهما ما وجب عليه من قوت نفسه وليس ذلك بتبعيض الصاع، وإنما يكون تبعيضًا إذا وجب على كل واحد وهذا أصح، والثاني: حكاه أبو غانم عن ابن سريج أنه قال: لا يجوز من جنسين ولا يجبر من قوته الشعير على إخراج الحنطة فيخرجان صاعًا من شعير لأن من يقتات البر يقدر على الشعير وهذا كالمنفرد إذا فضل من قوته نصف صاع حطة ونصف صاع شعير أخرج من الشعير، ولا يجوز التبعيض، والثالث: يعتبر قوت العبد لأنها طهرة ب 232 ب/4] العبد، والرابع: يخرجان من غالب قوت البلد إن كان في بلد واحد، وإن كانا في بلدين أخرج من غالب قوت البلد الذي فيه العبد ذكره أبو حامد. ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) أخرجه الدارقطني (2/ 152. 153)، والبيهقي في "الكبرى" بلفظ: "اغنوهم عن طواف هذا اليوم". (¬3) انظر الأم (2/ 56). (¬4) موضع النقط بياض بالأصل.

مسألة: قال (¬1): "وَلَو كانَ لَهُ نِصْفَهُ ونصفهُ حرُّ فعليهِ في نصفهِ نصفُ زكاتهِ". الفصل وهذا كما قال: إذا كان نصفه عبدًا ونصفه حرًا فنصف الفطرة عليه بنصفه الحر ونصفها على السيد بنصفه المملوك سواء كانت بينهما مهايأة أو لا، ولا تدخل الفطرة في المهايأة لأن المهايأة معاوضة فإن كل واحد منهما يترك حقه من كسبه في يوم ليأخذ حق صاحبه من كسبه في الغد والزكاة لا تدخل في المعاوضة ولأنه إنما يدخل في المهايأة ما هو من حقوق الآدميين والزكاة من حقوق الله تعالى وبه قال أحمد. ومن أصحابنا من قال: فيه قول آخر: يدخل زكاة الفطر في المهايأة تبعًا للنفقة. فعلى هذا إن أهلَّ هلال شوال في شهر السيد يلزمه زكاة فطره كاملة، وإن كان في شهر العبد تلزم العبد كاملة، وما تقدم هو أصح، قال القفال: وهكذا الخلاف في العبد بين الشريكين إذا كانت بينهما مهايأة [233 أ/4] ولا خلاف أن العبد إذا جنى في أحد يومي المهايأة لم يكن للمهايأة في أرش الجناية حكم والفطرة هي كأرش الجناية فالصحيح أن المسألة على قول واحد، وروي عن مالك: يجب على السيد بقدر ما يملك ولا شيء على العبد، وقال أبو حنيفة: لا فطرة عليهما لأنه في معنى المكاتب لوجوب الاستغناء، فإذا تقرر هذا فإن كانت بينهما مهايأة تعتبر فيما يلزم العبد أن يفصل نصف صاع عن قوت ليلته ويومه إن وافق ليلة العبد في يومه، وإن كان وافق في يوم السيد اعتبر أن يملك نصف صاع ولا يلزمه نفقته في ذلك اليوم، وإذا لم يكن بينهما مهايأة يعتبر أن يفصل نصف صاع غير نصف قوته لأن نصف قوته عليه ونصف قوته على سيده وأراد في "المختصر" أنه إذا كانت بينهما مهايأة، لأنه قال: إذا كان للعبد ما يقوته ليلة الفطر ويومه وجميع نفقته لا يكون عليه إلا عند المهايأة. مسألة: قال (¬2): "وَلَوْ بَاعَ عبدًا على أنهُ بالخِيَارِ". الفصل وقد ذكرنا هذه المسألة فلا معنى للإعادة، وقال ابن خيران: إذا اشترى أباه ولم يقبضه ولا دفع ثمنه حتى أهلَّ شوال زكى [233 ب/4] عنه زكاة الفطر ولم يعتق عليه للعلقة التي بقيت للبائع فيه، وهي حق الاحتباس لأجل الثمن وهذا خلاف نص الشافعي. مسألة: قال (¬3): "وَلَو ماتَ حينَ أهلَّ شوالُ ولهُ رقيقٌ فزكاةُ الفطرِ عنهُ وعنهم في مالِهِ مُبْدأةٌ على الدَّين". الفصل وهذا كما قال: إذا كان له مال وله عبد وعليه دين ووجبت عليه زكاة الفطر عن نفسه ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 56). (¬2) انظر الأم (2/ 56). (¬3) انظر الأم (2/ 56).

وعن عبده ثم مات ينظر فيه فإن كان المال يفي بالدين وزكاة الفطر ففي الدين وزكاه وإن كان لا يفي بهما فزكاة فطر نفسه وجبت في ذمته كالديون فيكون فيها الأقاويل الثلاثة أحدها: يبدأ بدين الله تعالى. والثاني: يبدأ بدين الآدمين والثالث: يقسط على قدر الحقين وهو الأقيس، وأما زكاة فطر العبد فخرجها أبو إسحاق على وجهين: أحدهما: كزكاة نفسه تثبت في ذمته، والثاني: يبدأ بزكاة فطره قبل الدين قولًا واحدًا لأنها متعلقة برقبة العبد والدين يثبت في الذمة فوجب تقديمها عليه كما يجب تقديم زكاة المال عليه ويقدم زكاة الفطر على الوصايا لأن الغرض أولى من التبرع ويقدمه على الميراث لأنها مما يحتاج إليه الميت، وقال أبو الطيب بن سلمة: زكاة [234 أ/4] الفطر تقدم على الدين قولًا واحدًا لقلتها في الغالب وتعلقها بالرقبة وهو المنصوص هاهنا، وقال أبو حنيفة: تسقط الزكوات كلها بالموت وهذا غلط، لأنه دين مستقر عليه في حياته فلا يسقط بموته كدين الآدمي فإذا تقرر هذا فلو أخرج الوارث الزكاة عن الميت من ماله يجوز ولو أخرج الأجنبي قال أصحابنا: المذهب أنه يجوز كما قال في الحج الواجب: لو حج عنه بعد موته أجنبي فإنه يجوز وهل يأثم بتأخيرها، إن وجد الإمكان وأخر أثم، وإن لم يتمكن فإن قلنا: الإمكان من شرائط الوجوب فلا شيء، وإن قلنا: هو من شرائط الضمان يقضي عنه. فرع لو مات العبد قبل أن يمكنه إخراج الفطرة عنه قال ابن سريج: فيه قولان، أحدهما: لا يلزمه إخراجها كما لو تلف المال قبل الإمكان لا يلزم زكاة المال، والثاني: وهو الأصح يلزمه إخراجها لأنها تعلقت بذمة السيد دون رقبة العبد، ألا ترى أنه إذا ظاهر من امرأته وعاد فقبل إمكان إخراج الكفارة ماتت المرأة لم تسقط الكفارة لأنها لم تتعلق يعني المرأة كذلك هاهنا ويفارق زكاة المال لأن تلك تجب مواساة [234 ب/ب] من المال فإذا تلف المال خرج عن أن يكون من أهل المواساة بغير تفريط منه وهاهنا يجب تطهيرًا فلم تسقط كالكفارة. مسألة: قال (¬1): "وَلَوْ مَاتَ قَبْلَ شوال وعليهِ دينٌ زكَّى عنهُ الورثة". وهذا كما قال: إذا مات قبل وجوب زكاة الفطر وعليه دين يستغرق جميع ماله فإن العبد وسائر المال يكون للورثة ويجب زكاة الفطر على الورثة في مالهم والدين لا يمنع من مالك الورثة لتركه عند الشافعي كما نص عليه هاهنا. وقال الإصطخري: لا يملك الورثة التركة إذا كان على الميت دين يستغرق ولا يجب عن هذا العبد زكاة الفطر أصلًا هكذا ذكر أصحابنا، وقال القاضي الطبري هذا خطأ على الإصطخري ويجب أن يكون بمنزلة العبد الموصى به فيجب زكاة الفطر في تركة الميت في أحد القولين وهذا غلط، لأنه يلزم الإصطخري أن يقول إذا خلَّف مالًا ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 56).

وعليه دين وخلف اثنين فمات أحدهما قبل قضاء الدين وحلف أبناءهم ثم أن صاحب الدين أبرأ الميت كان المال كله للابن دون ابن الابن وأجمعنا أنه يكون بين الابن [235 أ/4] وابن الابن نصفين فعلمنا أن الملك انتقل إلى الاثنين بالموت ولأنه لا خلاف أن لهم أن يقضوا دينه من مال آخر فدل أنه لهم واحتج بأنه لو كان في التركة من يعتق على الوارث لم يعتق مع الدين المستغرق بلا خلاف، فدل أنه لم يملك، قلنا: إنما لا يعتق لأن التركة كالمرهونة بالدين فلا ينفذ العتق لئلا يؤدي إلى إبطال حق الغرماء، وقال القفال: نقل المزني أن عليهم زكاة الفطر يعني على الورثة ونقل الربيع: أن عليهم أن يؤدوا زكاتهم إن بقوا لهم فمفهومه يدل على أنه إذا لم يبق لهم لم يجب عليهم الزكاة فحصل قولان. مسألة: قال (¬1): "وَلَوْ أَوْصَى لرجلٍ بعبد] ٍ يخرجُ من الثلثِ فماتَ، ثمَّ أهلَّ شوال". الفصل وهذا كما قال: إذا أوصى بعبده لرجل فأهلَّ شوال ثم مات الموصي فزكاة الفطر على الموصي في تركته، وإن مات الموصي ثم أهلَّ هلال شوال فإن كان الموصى له قد قبل قبل غروب الشمس فالفطرة عليه قولًا واحدًا لأنه ملكه قبل الغروب، وإن قبل الموصى له بعد الغروب كانت الفطرة على من الملك له حين الغروب [235 ب/4] وقد اختلف أصحابنا فيما ينتقل به ملك الوصية إلى الموصى له على طريقين: منهم من قال: فيه قولان: أحدهما: بشرطين الوصية والقبول، والثاني: مراعى فإن قبل الوصية بان أن الملك قد انتقل إليه عن الموصي بالوفاة وإن رد بان أن الملك انتقل إلى الوارث بوفاة الموصي ومنهم من قال فيه ثلاثة أقوال، والثالث: أنه ينتقل إلى الموصى له بوفاة الموصي كالميراث فعلى هذه الطريقة الأقوال نظيرة إلا قولك في الملك في مدة الخيار لمن تكون؟ فإذا قلنا: ينتقل بالموت فالفطرة عليه قَبِلَ أو رد لأن الملك له حين الوجوب. وإذا قلنا: بشرطين فيه وجهان قبل أو رد أحدهما: أن الفطرة في تركة الموصي وبه قال أبو إسحاق ولم يذكر أهل العراق غير هذا، والثاني: لا يجب على أحد لأن الموصي قد زال ملكه والموصى له لم يملك، وقال القفال: على هذا القول في الملك بين الموت ..... (¬2) وجهان أحدهما: للوارث حتى يكون النماء له ولا يجب عليه ..... (¬3) على الوارث، والثاني: يكون باقيًا على [236 أ/4] ملك الموصي حكمًا فعلى هذا يصرف النماء إلى ديون ووصاياه ولا زكاة على أحد وهذا فيه نظر، وإن قلنا: هو مراعى نظر فإن قبل: فالفطرة عليه وإن رد فالفطرة على الورثة فإن كانت المسألة بحالها فمات الموصى له قبل القبول وخلف ابنًا قام هذا الابن مقامه في القبول والرد ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 56). (¬2) موضع النقط بياض الأصل. (¬3) موضع النقط بياض بالأصل.

فإن قبل ملك أبوه ذلك ثم انتقل إلى القابل ميراثًا وإن رد فكأن أباه رد ذلك وهو يبنى على الأقوال أيضًا فإن قلنا: يدخل في ملك ابنه بغير اختياره فقد ملك أبوه الوصية ثم مات وورثها هذا الابن فإن كان أبوه مات بعد الغروب فالفطرة في تركة أبيه، وإن كان موت الأب قبل الغروب فالفطرة على وارثه، وإن قلنا: ينتقل بشرطين فكذلك وارثه يملك بشرطين فعلى هذا الفطرة على من يكون فيه وجهان على ما ذكرنا، وإن قلنا: مراعى فإن قبل بان أن أباه ملك بموت الموصى وانتقل إلى الوارث ميراثًا فينظر متى ورث فإن كان أبوه مات قبل الغروب فالفطرة على الوارث، وإن كان بعد الغروب فالفطرة في تركة [236 ب/4] أبيه وإن رد فالفطرة على الوارث، وإن كان بعد ذلك بوفاة الموصي والمشهور قول الوقف وعند أبي حنيفة: إذا مات الموصى له قبل القبول لزمته الوصية. فرع قال في "الأم" (¬1): لو وهب لرجل عبدًا قبل الغروب فقبله قبل الغروب ولكن قبضه بعد الغروب فالفطرة على السيد لأن الهبة لا تملك بالقبول وإنما تملك بالقبض ومن أصحابنا من قال: نص في موضع من "الأم" (¬2): أن الفطرة على الموهوب له هنا وكل أصحابنا قالوا: يجيء هذا على قوله: وإنما فرعها على مذهب مالك أنه يملك الهبة بنفس القبول من غير قبض، وقال في "الحاوي" (¬3): فيه وجهان مبنيان على قوليه في الملك في الهبة، فإن قلنا: يملك بالقبض فزكاة فطره على الواهب، وإن قلنا: القبض ينبني عن ملك سابق من وقت الهبة فزكاة فطره على الموهوب له وأشار القفال أيضًا إلى هذا، وفرّع أصحابنا على هذا مسألة وهي: إذا قبل الموهوب له ومات قبل القبض وقبل الغروب فقبل وارثه ذلك وقبضه فالفطرة على الواهب لأن الملك له عين الوجوب. فرع لو أوصى [237 أ/4] بعبده لرجل وبعتقه لآخر فقبلا الوصية ثم أهلَّ هلال شوال فالفطرة على من أوصى له بالرقبة نص عليه في "الأم" (¬4)، وقال الداركي: النفقة عليه أيضًا لأن الشافعي لم يذكر النفقة إلا أنه اكتفي بذكر زكاة الفطر فإنها تابعة للنفقة، ومن أصحابنا بخراسان من قال في النفقة ثلاثة أوجه، أحدها: هذا، والثاني: أنها على مالك المنفعة، والثالث: في بيت المال وهذا تخليط. مسألة: قال (¬5): " وَمَنْ دخلَ عليهِ شوالٌ وعندهُ قوتُهُ وقوت من يقوته ليومه". الفصل وهذا كما قال: إذا دخل وقت وجوب الفطرة ومعه قوت يومه وليلته ويفضل عن ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 54). (¬2) انظر الأم (2/ 56). (¬3) انظر الحاوي للماوردي (3/ 371). (¬4) انظر الأم (2/ 55). (¬5) انظر الأم (2/ 56).

ذلك صاع يلزمه إخراجه في الفطرة وإن كان معه من تجب نفقته يعتبران بفضل عن نفقتهم ذلك وجملته أنه يجب عندنا على الغني والفقير ولا يعتبر نصاب الزكاة في وجوبها، وقال به أبو هريرة رضي الله عنه وابن سيرين والشعبي وعطاء والزهري وأبو العالية ومالك وأحمد وأبو ثور وابن المبارك. وقال أبو حنيفة: لا يجب إلا أن يملك نصابًا أو ما قيمته قيمة النصاب وهذا غلط لما روى ابن أبي صعير [237 ب/4] عن أبيه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صاع من بر عن كل صغير أو كبير حر أو عبد ذكر أو أنثى غني أو فقير أما غنيكم فيزكيه الله وأما فقيركم فيرد الله عليه أكثر مما أعطى". مسألة: قال (¬1): "وَإنْ لَم يكنْ عِندهُ بعدَ القوتِ ليومه إلا ما يؤدِّي عن بعضهم". وهذا كما قال: إذا فضل عن قوته وقوت عياله فضل نظر فإن فضل ما يؤدي به الفطرة عن نفسه وعنهم أخرجها كيف شاء من غير ترتيب وقدم من شاء وإن لم يفضل ذلك لا يخلو الفاضل من أحد أمرين، إما أن يكون صاعًا أو أقل من صاع، فإن كان صاعًا نظر فإن لم يكن هناك من يلزمه فطرته سواه أخرج عن نفسه، وإن كان هناك غيره كالزوجة والأولاد والوالدين أخرج ذلك، ولكن هل فيه ترتيب؟ اختلف أصحابنا فيه على وجوه: أحدها: يخرج ذلك عمن شاء من غير ترتيب وهو ظاهر نصه؛ لأن واحد منهم لو انفرد تلزمه فطرته، فإذا اجتمعوا تساووا. والثاني: لا بد من الترتيب كما في النفقة وعليه أكثر أصحابنا. فإذا قلنا بهذا اختلف أصحابنا في كيفية الترتيب؛ فمنهم من قال: [238 أ/4] يبدأ بنفسه قبل كل أحد لقوله صلى الله عليه وسلم: "ابدأ بنفسم ثم بمن تعول" (¬2) ولأن في النفقة يبدا بنفسه ثم بغيره كذلك في الفطرة وكذلك إذا أصابته وأهله جنابة ووجد ماء يكفي لواحد يبدأ بنفسه ومن أصحابنا من قال: يبدأ بفطرة زوجته قبل نفسه. لأن نفقتها مقدمة على فطرته وفطرتها تجري مجرى نفقتها فوجب أن يقدم على فطرته والمذهب الأول، وعليه التفريع فإن كان هناك صاع آخر اختلف أصحابنا فيه قال أبو إسحاق: أخرج ذلك عن زوجته وقدمها على كل أحد لأن نفقتها تجري مجرى المعاوضة فتقدم على المواساة ومن أصحابنا من قال: فطرتها مؤخرة عن جميع الأقارب. قال ابن أبي هريرة: لأن المسب هو أقوى من الزوجية فإنه يمكن رفعها بخلاف النسب والمذهب الأول فإن كان هناك صاع آخر قال أبو إسحاق: أخرج عن ولده الصغير الفقير قبل الكبير وقيل: الأب لأن نفقته تجري مجرى نفقته ويثبت والنص، قال الله تعالى: {وعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ} [البقرة: 233] الآية، ولآن نفقته تلزم الذمة فإن الأم تستدين ذلك ثم ترجع على الأب. ومن ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 56). (¬2) أخرجه مسلم (41/ 997)، والنسائي (5/ 70)، والبيهقي في "الكبرى" (7755).

أصحابنا من قال: الأب أولى [238 ب/4] لأن حرمته أعظم ذكره القفال والأول أصح، فإن كان هناك صاع آخر وله ولد كبير زمن وليس له والد أخرجه عنه، وإن كان له والد ولا ولد له كبيرًا أخرجه عنه، وإن اجتمعا ففيه وجهان أحدهما: الولد أولى لأنه بعضه فهو كنفسه. والثاني: الوالد أولى وهو المذهب، فإذا قلنا بهذا فإن كان هناك مع الأب امرأتيهما تقدم فهو مبني على نفقتيهما إذا اجتمعنا وفيه ثلاثة أوجه أحدها: الوالد أولى، والثاني: أن الأم أولى، والثالث: يقسم بينهما فإن قلنا: إن الوالد أولى بالنفقة قدمناه في الفطرة، وإن قلنا: أن الأم قدمناها، وإن قلنا: يقسم هناك قال أبو حامد أخرجه عمن شاء منهما، وإن شاء قسمه بينهما. قلت: ينبغي أن يقال: يخرج عمن شاء منهما ولا يقسم لأن هذا التفريع على قول الترتيب، وأداء التمام لا على قول القسمة وترك الترتيب والصحيح أن الأب أولى لأن هذا الابن لو كان محتاجًا وهما موسران يقوم بكفايته الأب دون الأم فحصل من المذهب الصحيح أنه يبدأ بنفسه ثم بزوجته ثم بابنه الصغير ثم بأبيه ثم [239 أ/4] بأمه ثم بأبيه الكبير الزمن، والوجه الثالث: أن يخرج ذلك الصاع الواحد عن نفسه وعنهم فيكون قد أخرج البعض عن كل واحد مهم كما لو لم يجد إلا بعض صاع يخرجه على أحد الوجهين ذكره بعض أصحابنا بخراسان، وهذا أبعد الوجوه، والرابع: يخرجه عن أحد الجماعة لا بعينه يحتسل الله به عمن شاء لأنه لو كان واجد الفطرة كلهم لم يلزمه أن يعينها عن أحدهم ذكره في "الحاوي" (¬1)، والخامس: يبدأ بنفسه ثم إن فضل صاع أخرجه عن أيهم شاء لأنهم يستوون في إخراجها عنهم لو وجد الكل، قال: وقول الشافعي أدى عن بعضهم أراد أخرجها عن نفسه، وإن فضل معه أقل من صاع هل يلزمه إخراجه فيه وجهان، قال أبو إسحاق: لا يلزمه إخراجه ويكون كالمعدوم كما لو وجد بعد الرقبة في الكفارة لا يلزمه إعتاقه وهذا أصح، وقال ابن أبي هريرة: وهو ظاهر المذهب يلزمه إخراجه لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم" (¬2) لأن الفطرة تتبعض ولهذا [239 ب/4] تجب في العبد المشترك متبعضة بخلاف الرقبة في الكفارة فإذا قلنا: عليه إخراجه فالحكم فيه كما لو فضل صاع فإن لم يفضل شيء فلا شيء عليه فإن وجد يوم الفطر لم يلزمه إخراجه لأن الفطرة قد سقطت بالاعتبار وقت الوجوب ويستحب أن يخرجه، نص عليه في "الأم" (¬3)، وقال مالك: يلزمه إخراجه وهذا غلط قياسًا على من وجد بعد أيام وعلى من أسلم بعد وقت الوجوب. مسألة: قال (¬4): فإن كان أحدٌ ممن يقوت واجدًا لزكاة الفطر لم أرخص له في ترك أدائها عن نفسه. ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (3/ 373). (¬2) أخرجه البخاري (7288)، ومسلم (412/ 1337)، وأحمد (2/ 313، 314). (¬3) انظر الأم (2/ 57). (¬4) انظر الأم (2/ 56).

وهذا كما قال هذه المسألة إنما تتصور في الزوجة فقط لأن نفقتها تجب مع الغني بخلاف القريب ولفظ "المختصر" يوهم أن هذه المسألة تتصور في مواضع وليس كذلك بل لا يتصور إلا فيما ذكرنا، وإنما ذلك لمجاز في العبارة، وقال: ولا يتبين لي أن تجب عليه لأنها مفروضة على غيره فدل على أن اللفظ لقوله تعالى: {ومَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ} [الأحزاب: 31]، وقوله تعالى: {مَن يَاتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ} [الأحزاب: 30] الآية، فإذا تقرر هذا فجملته [240 أ/4] أنه إذا كانت الزوجة واجدة الفطرة وكان الزوج معسرًا يستحب لها إخراج الفطرة عن نفسها، ونص هاهنا أنه يجب عليها ذلك وقال في آخر هذا الباب (¬1): لو زوّج أمته من مكاتب أو عبد أو حر معسر فعلى السيد إخراج الفطرة هاهنا والسيد مع أمته كالحرة مع نفسها، وأسقطها عن الحرة إذا تزوجت ولم يسقطها عن السيد إذا زوّج أمته من هؤلاء فاختلف أصحابنا فيه على طرق أحدها: بنقل جواب كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وفيهما قولان: أحدهما: لا يكون على الحرة دون زوجها ولا على السيد دون زوج أمته لأن المخاطب هو الزوج بها فإذا عجز لم يجب على غيره. والثاني: يجب على الحرة عن نفسها وعلى السيد عن أمته لأن الفطرة في الأصل كانت واجبة على السيد وعلى الحرة، وإنما تنتقل بالزوجية فإذا لم يكن الزوج من أهل أن ينتقل إليه بقيت على الأصل، ومنهم من قال في المسألتين قولين ولكن التعليل ليس ما ذكر القائل الأول وإنما هما مبنيان على أن الفطرة على من تجب ابتداء فإن قلنا: تجب [240 ب/4] على الزوجة ثم يتحمل الزوج على وجه الضمان عنها يجب على الزوج ابتداء وتصير بالزوجّة كأنها أحالت بالفطرة وهو كالمحال عليه لا يجب هاهنا على الزوجة ولا على السيد لأن الذي عليه الحق هو معسر به ومهم من قال: المسألتان على ظاهرهما والفرق بينهما أن الحرة يلزمها تسليم نفسها ولا اختيار لها في ذلك وليس كذلك السيد فإنه لا يلزمه تسليم أمته إلى زوجها، فإذا اختار تسليمها في حال اعساره لم تقسط الزكاة عنه لاختياره إسقاط الحق الذي يجب عليه ذكره أبو إسحاق، وهكذا لو كان زوجها موسرًا ثم أعسر فإنه لا فرق بين أن يتزوج ابتداء وهو معسر أو يتزوج وهو موسر ثم يصير معسرًا. مسألة: قال (¬2): وَلاَ بأسَ أَنْ يَاخُذَهَا بَعدَ أدائهَا إذا كانَ مُحْتَاجَاً. الفصل وهذا كما قال: إذا دفع صدقة الفطر إلى الفقير وكان ذلك الفقير من يجب عليه صدقة الفطرة فأخرج صدقة نفسه إلى هذا الدافع يجوز وله أن يأخذ عين ما أعطى ممن أعطاه [242 أ/4] قاله نصًا، وكذلك لو دفع الصدقة إلى الإمام فرد الإمام إليه ذلك مع ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 56). (¬2) انظر الأم (2/ 56).

باب مكيلة زكاة الفطر

غيره تجوز الصدقة إليه من غير الوجه الذي خرجت من ملكه ولا فرق في هذا بين زكاة الفطر وزكاة المال فيجوز له أن يؤدي ويأخذ فإن أحد الخلطاء ربما لا يملك إلا شاة فيلزمه من الزكاة بقدرها ثم يأخذ، وكذا من عليه الدين إذا أدّى الزكاة فأخذ من سهم الغارمين وعند أبي حنيفة لا يجوز أن يجتمع له حق الأخذ والإعطاء إلا في ابن السبيل، وقال مالك: لا يجوز أن يأخذها بعينها، وإن كان محتاجًا. مسألة: قال (¬1): وَإِنْ زوَّجَ أَمَتُهُ عَبَداً أو مُكَاتَباً. الفصل وهذا كما قال: قد ذكرنا هذه المسألة وقال القفال: هذا في العبد صحيح، وأما في المكاتب فوجهان، في أن زكاة فطر زوجته الأمة عليه أو على سيدها بناء على أن المكاتب هل يلزمه في نفسه زكاة الفطر وفيه قولان أحدهما: لا تجب لأنه لا ملك له فعلى هذا امرأته المملوكة على سيدها، والثاني: تجب عليه لأنه بين الحر والعبد وفي كل واحد يلزم الفطرة غير أن [241 ب/4] إكسابه له فالفطرة عليه لا على سيده، قال القفال: وعندي يقرب القولان من القولين في هيئات المكاتب بإذن سيده، قال القفال: وعندي يقرب القولان من القولين في هيئات المكاتب بإذن سيده فعلى أحد القولين يجوز لأن الحق لا يعدوهما فكذلك يلزم الفطرة لأن الحق لهما في ذلك لا غير فهو كعبد مشترك بين اثنين، والثاني: لا تجوز هبته وإن رضي السيد فعلى هذا لا تحصل كحر ولا كعبد وإنما له رتبة ثالثة. مسألة: قال (¬2): فَإنْ كَانَ زَوَّجهَا حُرًّا فعلى الحرِّ الزكاةُ عَنْ امرأتِه. وأراد به الحر الواجد للزكاة ينظر فإن بوأها السيد مع زوجها بيتًا فعليه فطرتها وإن لم يمكنه منها إلا عند فراغها عن خدمة السيد فهل يجب على الزوج نفقتها وصدقة فطرها؟ وجهان أحدهما: لا تجبان لأن التمكين التام لم يوجد فهي كالناشزة، وإن لم تكن عاصية كالمجنونة إذا امتنعت، والثاني: تجبان على الزوج لأنه لما تزوّج بها عالمًا أن سيدها لا يلزمه أن ينوبها معه بيتًا فكأنه رضي بهذا القدر من التمكين هذا ذكر بعض أهل خراسان [242 أ/4] والوجه المعروف أنه يلزم نصف النفقة على الزوج فجيء أن يقال: يلزمه نصف الفطرة. باب مكيلة زكاة الفطر قال (¬3) أخبرنا مالك .... وذكر الخبر. وهذا كما قال: أراد بالمكيلة مقدار ما يجب في زكاة الفطر من الطعام بالكيل وجملته أنه إذا أخرج في صدقة الفطر تمرًا أو شعيرًا يخرج صاعًا بلا خلاف، وأما إذا أخرج برًا أو زبيبًا فالواجب عندنا صاع لا يجزيه أقل من ذلك وبه قال الحسن والشعبي ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 56). (¬2) انظر الأم (2/ 56). (¬3) انظر الأم (2/ 57).

ومالك وأحمد وإسحاق، وروي ذلك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه. وقال أبو حنيفة: الواجب من البر نصف صاع، وروي ذلك عن عبد الله بن الزبير وأبي سلمة بن عبد الرحمن ومعاوية وسعيد بن المسيب وعطاء وطاوس ومجاهد وعمر بن العزيز وعروة بن الزبير واختلفت الرواية عن علي وابن عباس والشعبي فروي صاع وروي نصف صاع، وعن أبي حنيفة في الزبيب روايتان إحداهما: نصف صاع، والثانية: صاع، وبه قال أبو يوسف ومحمد واحتجوا بما [242 ب/4] روى ثعلبة بن أبي صعير عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صاع من بر أو قمح عن كل اثنين صغير أو كبير حر أو عبد ذكر أو أنثى غني أو فقير" وهذا غلط، بدليل ما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: كنا نخرج وكان فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر عن كل صغير أو كبير حر أو مملوك صاعًا من طعام أو صاعًا من أقط أو صاعًا من شعير أو صاعًا من تمر أو صاعًا من زبيب فلم نزل نخرجه حتى قدم معاوية حاجًا أو معتمرًا فكلم الناس على المنبر فكان فيما كلم به الناس أنه قال: إني أرى مدين من تمر الشام يعدلان صاعًا من بر فأخذ الناس بذلك (¬1)، وأما خبر ثعلبة قال ابن المنذر: لا يثبت نصف صاع به عن النبي صلى الله عليه وسلم، وخبرنا أولى لأنه زائد. مسألة: قال (¬2): وَبَيَّنَ فِيْ سُنَّتِهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ زكاةَ الفطرِ من البَقْلِ وممَّا يَقْتَاتُ الرجلُ ومَا فيه الزَّكَاةُ. وهذا كما قال: البقل عند العرب هو ما يقتات به وأراد أن زكاة الفطر يتعلق بما يقتاته الآدميون [234 أ/4] على الدوام في بعض البلدان فيما يبقى له في المعدة ثقل بقى ممتدًا حتى يقوم بها الأبدان، وهاهنا إشكال وذلك أن هذا اللفظ بظاهره يدل على التنويع وليست هاهنا أنواع ولكن كلما كان قوتًا معتادًا ففيه صدقة الفطر. وفي بعض نسخ "المختصر" حذف الواو عن قوله وما يقتات الرجل والحذف هو أقطع لهذا الإشكال، ولكن الواو ثابتة في قوله: وما فيه الزكاة فيكون الإشكال ثابتًا في تلك اللفظة ثم قطع هذا الإشكال أن يقال: قد حد الشافعي ما تجب فيه صدقة الفطر بثلاثة حدود أحدها: ما كان ثقلًا وهذا أيضًا حد كامل لأن الصدقة لا تجب إلا في الأقوات، والحد الثالث: قوله وما فيه الزكاة وهذا حدثًا منه لأن زكاة الفطر لا تتعلق إلا بما يتعلق به العشر سوى الأقط فإن فيه كلامًا سنذكره، فإذا تقرر هذا نقول يجوز إخراج البر والشعير والتمر والزبيب والحبوب التي يلزم فيها العشر، وقال الشافعي في الباقلاء: لا أحسبه يقتات فإن كان قوتًا أجزأه إذا أدّى منه صاعًا وأجمع أصحابنا أنه قوت يجب [234 ب/4] فيه الزكاة ويخرج منه زكاة الفطر، وأما الدقيق من الحب الذي يجزي في الفطرة، المذهب أنه لا يجوز، وقال مالك: يجوز بدلًا من الحب مع دقاقه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1506/ 1508)، ومسلم (18/ 985). (¬2) انظر الأم (2/ 57).

أن القيمة لا تجوز وبه قال الأنماطي من أصحابنا، وروي عن مالك مثل مذهبنا. وقال أبو حنيفة وأحمد: يجوز ويكون أصلًا وهذا غلط، لأنه ناقص المنفعة عن الحب ولا يكون أصلًا فيه كالخبز واحتجوا بما روي في خبر أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "أو صاع من دقيق" قلنا: قال أبو داود روى سفيان الدقيق ووهم فيه ثم رجع عنه وهل يعتبر غالب قوت البلد أو غالب قوت نفسه ظاهر قول الشافعي وهو الصحيح، وبه قال ابن سريج وأبو إسحاق يعتبر غالب قوت البلد لا قوته، وبه قال مالك، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم" وإنما يحصل الاستغناء بغالب قوت البلد، وقال أبو عبيد بن خربويه يعتبر غالب قوت نفسه وادعى أن هذا ظاهر المذهب لأن الشافعي قال (¬1): وأي قوت كان الأغلب على رجل أدّى منه زكاة الفطر ولأنه [244 أ/4] لما وجب إذا فضل عن قوته وجب أن يجب من موته، ومن قال: بالأول قال: أراد به إذا كان يقتات هو من غالب قوت البلد. قال القفال: وهو الأصح عندي أنه يلزمه أن يخرج مما يقتاته من هو في مثل حاله في الغالب أو خيرًأ منه فإن كان مثله يقتات الحنطة ولكنه يقتات الشعير لشحه لم يجزه إلا الحنطة، وإن كان مثله يقتات الشعير ولكنه يقتات الحنطة إسرافًا فله أن يؤدي الشعير، وإن ادعى الحنطة فهو أولى، وإن كان مثله يقتات كليهما وهو يقتات كليهما فإن كان أحدهما هو الأغلب اعتبرنا الأغلب، وإن استويا فهما سواء يؤدي من أيهما شاء، والأفضل أن يؤدي من خيرهما. ومن أصحابنا من قال: يتخير بين أجناس الأقوات فيخرج من أيهما شاء، وبه قال أو حنيفة لقوله صلى الله عليه وسلم: "صاعًا من نمر أو صاعًا من شعير" ولفظة أو إذا لم تكن شكًا ولا تنويعًا كانت للتخيير وهذا غلط، لأن معنى الخبر صاعًا من تمر إن كان القوت هو التمر أو صاعًا من شعير إن كان القوت هو الشعير [244 ب/4] فإذا قلنا بقول عامة أصحابنا، فإن كان قوته غالب قوت البلد ففيه ثلاثة مسائل: أحدها: أن يخرج من الغالب فيجوز، فإن أخرج أعلى منه مثل إن كان غالب قوت البلد الشعر فأخرج تمرًأ أو بُرّاً فيجوز قولًا واحدًا وعلى هذا لو أخرج التمر بطبرستان يجوز قولًا واحدًا بلا إشكال، وقال في "الحاوي" (¬2): فيه وجه آخر لأصحابنا: أنه لا يجوز لأنه غير ما وجب عليه، وإن كان خيرًا كمن أخرج البر عن الشعير أو الدينار عن الدرهم لا يجوز وهذا خلاف المنصوص ونظيره أن يخرج في زكاة الإبل أعلى سنامًا وجب عليه يجوز وإن أخرج دونه مثل إن كان الغالب حنطة فأخرج شعيرًا لا يجوز في ظاهر المذهب، وقال أبو إسحاق: فيه قول آخر أنه يجوز وهو عين ما ذكرنا أنه يتخير بين أجناس الأقوات، وقال القاضي الطبري: وهذا هو الصحيح عندي لظاهر السنة ولا خلاف على هذا أن التمر والبر أولى من غيرهما وفي أولادهما وجهان أحدهما: التمر ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 58). (¬2) انظر الحاوي للماوردي (3/ 378).

أولى وبه قال ابن عمر وأحمد لأن الرسول صلى الله عليه وسلم [245 أ/4] كان يخرج منه وعمل أهل المدينة عليه. والثاني: وإليه مال الشافعي: البر أولى وبه قال علي رضي الله عنه وإسحاق، قال علي رضي الله عنه: الآن قد أوسع عليكم فأخرجوا البر ولأن التمر مجمع على أنه لا يجوز أقل من صاع، وفي البر اختلفوا ولا يصلح التمر للزراعة بخلاف البر ولأنه أصلح القوت وأطيبه، ومن أصحابنا من قال: يعتبر الأفضل بكثرة الثمن وبه قال أحمد وقيل: قال الشافعي في "الأم" (¬1): الأفضل البر، وقال في البويطي: الأفضل البر والتمر ولو قيل: يختلف هذا باختلاف البلاد كان مذهبًا وله وجه وهذا صحيح عندي وإن كان أهل البلد يقتاتون أقواتًا مختلفة، فالمستحب أن يخرج الأفضل ويجوز أن يخرج من أيهما شاء لتساوي الكل وحكي عن أحمد أنه قال: لا يجوز إلا من الأجناس الخمسة المنصوصة وهذا لا يصح لأنها تجب في الفاضل عن قوته وربما يكون قوتهم الذرة ويحصل الإغناء بذلك فجاز. د مسألة: قال (¬2): وَمَا أَدَّى مِنْ هَذَا أَدَّى صَاعَاً بِصَاعِ [245 ب/4] رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذا كما قال: صاع النبي صلى الله عليه وسلم هو خمسة أرطال وثلث بالبغدادي، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأبو يوسف، وقال أبو حنيفة: الصاع ثمانية أرطال واحتج بما روى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان يتوضأ بالمد ويغتسل بالصاع" (¬3) والمد رطلان. وهذا غلط، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة في فدية الأداء: "أطعم ثلاثة آصع بين مساكين" (¬4) والفرق بتحريك الراء هو ستة عشر رطلاً وهو بسكونها مائة وعشرون رطلاً، فدل أن ثلاثة آصع ستة عشر رطلاً. وقال أحمد بن حنبل: عبرت صاع رسول الله صلى اله عليه وسلم بالمدينة فكان خمسة أرطال وثلثًا والطريق الواضح في ذلك نقل أهل المدينة خلفًا عن سلف فإنه لما اجتمع الرشيد مع مالك بالمدينة ومعه أبو يوسف اختلفا في قدر الصاع فحمل مالك قومًا كثيرًا معهم آصع نقلوها عن آبائهم أنهم كانوا يؤدون بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم [246 أ/4] فعبرت فكانت خمسة أرطال وثلثًا فرجع أبو يوسف إلى ذلك، وأما خبرهم فلم يصح قوله والمد رطلان ويحتمل أنه كان مد الطهارة أكثر من الزكاة، ثم اعلم أن الأصل هو الكيل في ذلك وإنما قدره العلماء بالوزن استظهارًا لئلا تختلف المكاييل والأولى إخراجها بالصاع إتباعً لرسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد قال الشافعي في "القديم": وصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أرطال وثلث زيادة ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 58). (¬2) انظر الأم (2/ 58). (¬3) أخرجه مسلم (51/ 325)، والترمذي (56، 609)، والنسائي (1/ 180)، وابن ماجه (267)، وأحمد (6/ 121، 133). (¬4) أخرجه البخاري (1814، 1815)، ومسلم (83/ 1201).

شيء أو نقصانه وغلط جماعة منت أصحابنا حيث قالوا: يعتبر الوزن وليس كذلك فقد عبر بعض المتقدمين من أصحابنا وزن المعشر الذي يخرج في زكاة الفطر بطبرستان فذكر أنه يزيد وزنه على وزن الحنطة في كل مدٍ عشرون درهمًا فالمد منه مائة وثلاثة وتسعون درهمًا وثلث درهم، وقال الطحاوي: الصاع ثمانية أرطال فيما يستوي كيله ووزنه والذي يستوي كيله ووزنه الزبيب والعدس والماش. مسألة: قال (¬1): وَلاَ تُقَوَّمُ الزَّكَاةُ. الفصل وهذا كما قال: قصد به أبا حنيفة حيث جوز [642 ب/4] إخراج القيمة وعندنا لا يجوز لظاهر الخبر، وقال الشافعي (¬2): ولو قومت لكان إذا أدى ثمن صاع زبيب ضروع أي: نفيس، كثير القيمة جيد وهو جنس من عنب الطائف أدى ثمن آصع حنطة وأراد أن هذه الأجناس من الأقوات مختلفة القيم متفاوتة تفاوتًا متباينًا فلو كان الاعتبار بالقيمة لأدى واجبًا ووافقنا أنه لو أراد أن يؤدي عن ثلاثة أشخاص صاعًا من زبيب ضروع قيمة ثلاثة أصع من حنطة فإنه لا يجوز فلو جازت القيمة لجاز هذا أيضًا. مسألة" قال (¬3): وَأَحَبُّ إِلَيَّ لأَهْلِ البَادِيَةِ أَنْ لاَ يُؤَّدُوْا أقِطَاً. وهذا هو كما قال الكلام الآن في القوت الذي لا يجد فيه الزكاة وعلل في الأقط فقال: لأنه وإن كان قوتًا فألقت قوت وقد يقتات الحنظل يعني يحتاج مع كونه قوتًا إلى وصف آخر وهو وجوب الزكاة ثم بين أن أهل البادية إذا كان قوتهم الأقط يؤدون من قوت أقرب البلدان إليهم وهذا كما يعتبر [247 أ/4] في إبل الدية إبل أقرب البلدان إلى العاقلة إذا لم يكن للعاقلة إبل، وإذا قلنا: يتخير بين الأجناس أخرج إلى الأجناس شيئًا من الأقوات ها هنا ثم استثنى فقال: إلا أن يقتات ثمرة لا زكاة فيها يعني أهل أقرب البلدان إليهم فيؤدوا من ثمرة فيها زكاة وهذا كله تعليق القول في الأقط ثم أوضح ذلك فقال: ولو أرادوا أقطًا لا شيء أن أرى عليهم الإعادة يعني اعتبر القوت الذي فيه الزكاة قبل هذا ثم قال: أو يجيز القوت، وإن لم يكن فيه زكاة أي: نجيز القوت من الثمار في أقرب البلدان، وإن لم يكن فيها الزكاة كما أجاز الأقط ها هنا واعتذر أصحابنا عن هذا بأن الأقط من الأقوات العامة لأهل البادية، فكذلك جوزنا لهم خاصة بخلاف الثمار وقد ورد به الخبر أيضًا بخلاف الثمار التي لا زكاة فيها واختلف أصحابنا فيه على طرق، قال أبو إسحاق: يجوز قولاً واحدًا نص عليه في "القديم" و"الأم"، وبه قال مالك وأحمد، وإنما علق القول حين لم يصح الخبر عنده [247 ب/4] فلما صح الخبر عنده قطع به. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 57). (¬2) انظر الأم (2/ 57). (¬3) انظر الأم (2/ 58).

ومن أصحابنا من قال: فيه قولان وعند أبي حنيفة: لا يجوز على طريق الأصل، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أهل الحضر، وإن كان لهم قوتًا قولاً واحدًا، لأنه نادر وفي أهل البادية قولان: فإن قيل: أليس قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: كنا نخرج وهو كان حضريًا، قلنا: أنه قد صح إنه كان يسكن البادية كثيرًا وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إذا كنت في باديتك فارفع صوتك بالأذان" فإذا قلنا: أنه يجوز الأقط فيجوز اللبن مع وجوده لأن اللبن أكمل منه لأنه يجيء منه الأقط وغيره، ويجوز الجبن أيضًا لأنه مثله ولا يجوز المصل والكشك، وإن كان قوتًا لهم لأنه لا يمكن اقتناؤه مفردًا، وأخرج منه الزبد، وقال أبو حامد: يجوز اللبن إذا لم يجد الأقط لأن الأقط أكمل منه فإنه بلغ حد الادخار، وقيل: قال في "القديم": إن أخرج اللبن عند عدمه أجزأه وقيل: إذا جوزنا الأقط ففي اللبن وجهان بكل حال، لأنه لا يدخر والأقط الذي يمكن [248 أ/4] اقتناؤه أن لا يكون مالحًا شديد الملوحة فإن شدة الملوحة فيه عيب ولو ملح الحنطة لا يجوز أيضًا، وقال أصحابنا بخراسان: لا يجوز الجبن بحال لأنه لا يقتات والأصح ما تقدم، ذكره القاضي الطبري وقيل: إن كانوا يقتاتون اللحم فالحكم فيه كالحكم في اللبن لأنه منفصل عن أصل تجب فيه الزكاة وفيه معنى القوت بخلاف الحبوب البرية. وأما أهل جزائر البحر الذين يقتاتون السمك وأهل الفلوات النائية الذين يقتاتون البيض ولحوم الصيد لا يجوز ذلك في زكاة الفطر بحال لأن ذلك نادر وقولهم غير راجع إلى أثر وحكي عن الزهري وربيعة وعطاء أنهم قالوا: لا تجب زكاة الفطر على أهل البادية لأنه لا قوت لهم وهذا خلاف الإجماع ونص السنة. مسألة: قال (¬1): وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ الرَّجُلُ نِصْفَ صاعٍ حِنْطَة وَنِصْفَ صَاعٍ شعير. الفصل وهذا كما قال: إذا كان الموجب عليه واحدًا والمخرج عنه واحدًا لا يجوز إلا صاع كله من جنس واحد، وقال أبو حنيفة يجوز أن يخرج نصف صاع تمر ونصف صاع [248 ب/4] شعير كما يجوز في كفارة اليمين أن يطعم خمسة مساكين ويكسو خمسة وهذا غلط، لأنه إثبات تخيير لم يثبته الشرع ولو ملك رجل نصفين من عبدين وقوته شعير فاخرج من أحد النص 2 فين شعيرًا ومن الآخر قوتًا آخر لا يجوز لأن المخرج عنه اثنان، وغن كان المخرج واحدًا ولو كان يزكي زكاة الفطر عن جماعة فأخرج عن بعضهم جنسًا غير الجنس الذي أخرج عن البعض يجوز ثم قال (¬2): وإن كان قوته حنطة لم يكن له أن يخرج شعيرًا وهذا يدل على أنه لا يتخير خلاف ما اختاره القاضي الطبري ثم قال (¬3): ولا يخرجه من مسوس ولا معيب وهذا لا خلاف فيه لقوله تعالى: {ولا تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة: 267] الآية، ثم بين أنه إذا لم يكن من القدم ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 58). (¬2) انظر الأم (2/ 58). (¬3) انظر الأم (2/ 58).

تغير لا يكون عيبًا فقال: وغن كان قديمًا لم يتغير طعمه ولا لونه أجزأه، وغن نقصت قيمته لقدمه وغيره أولى وغن تغير طعمه لا ريحه لا يجوز ثم قال (¬1): وغن كان قوته حبوبًا مختلفة فاختار له خيرها ومن أين أخرجه أجزأه، قال الإمام أبو محمد الجويني: هذا نص يدل على انه إذا أخرج [249 أ/4] الأدون يجزيه لان اللفظ في حديث ابن عمر هو لفظ تخيير. مسألة: قال (¬2): ويَقُسِّمُهَا عَلَى مَنْ تُقَسَّم عَلَيْهِ زَكَاةُ المَالِ. وهذا كما قال: أراد زكاة المال الباطن وهم الأصناف الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه سوى العاملين وقال الشافعي في "الأم" (¬3): فرقها في ستة أصناف وسقط سهم العاملين والمؤلفة لفقد [ما استحقا به من الحاجة]، وقال أصحابنا: فقد الرقاب أيضًا، فيقسم على خمسة أصناف، ويفرق على ثلاثة من كل صنف فيكون أقل من يفرق عليهم خمس عشرة نفسًا للفقراء، والمساكين، والغارمون، والغزاة، وأبناء السبيل، وقال الإصطخري: إن تولى إخراجها بنفسه يجوز أن يقتصر على صنف واحد فيصرفها إلى ثلاثة من أي الأصناف شاء، ولا يجوز في أقل من ثلاثة وإنما جاز ذلك للضرورة، وإن دفعها إلى الإمام لم يضعها إلا في جميع الأصناف لأنه قادر عليه من غير ضرر وبه يفتي كثير من أصحابنا، ومن أصحابنا من قال: إن عند الإصطخري أنه يصرفها إلى الفقراء فقط فلو صرفها إلى الغارمين أو أبناء السبيل فإن قلنا: سقوط الفرض [249 ب/4] هناك لأن النبي صلى الله عليه وسلم خصهم بالذكر فقال: "صدقة الفطر طعمة للمساكين" لا يجوز وإن قلنا: للمشقة يجوز وللإصطخري هاتان العلتان هناك، وعند أبي حنيفة يجوز أن يدفعها إلى واحد كما قال في زكاة المال، وأنا أفتي به وفصل الضرورة يبطل بما لو وجب عليه جزء من شاة في الخلطة لا يفرقه في صنف واحد ولأنه لا ضرورة لأنه يمكنه أن يجمع زكاة الفطر عند رجل حتى إذا اجتمعت فرقها. مسألة: قال (¬4): وَأَحَبُّ إلى ذَوو رَحِمِه. وهذا كما قال: الأقارب ضربان، تلزمه نفقته فلا يجوز له صرف الصدقة إليه لأنه مستغني بوجوب نفقته عليه، وضرب لا يلزمه نفقته فالمستحب أن يخصهم بالصدقة لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صدقة وذو رحم محتاج" وروى سلمان بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصدقة على المسكين صدقة وعلى ذي القربى صدقة وصلة" (¬5) وروت أم كلثوم قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح" (¬6) ثم الاختيار بعد الأقارب [250 أ/4] أن يصرفها إلى الجيران فإن لم يكن جيران صرف ذلك كيف ¬

_ (¬1) نظر الأم (2/ 58). (¬2) نظر الأم (2/ 59). (¬3) نظر الأم (2/ 59). (¬4) نظر الأم (2/ 59). (¬5) أخرجه أحمد (4/ 17، 18، 214)، والترمذي (658)، والنسائي (2582)، وابن ماجه (1844)، وابن حبان (3333)، والحاكم (1/ 407). (¬6) أخرجه أحمد (3/ 402).

شاء على من يستحقها وإن ترك الأقارب والجيران مع الفدية فقد ترك الأفضل وأجزأه ويقدم الرضاع والمصاهرة على الولاء فيها لأن الولاء يثبت المحرمية ولا يجوز أن يصرفها إلى أهل الذمة خلافًا لأبي حنيفة وهذا غلط، قياسًا على زكاة المال. مسألة: قال (¬1): وَإِنْ طَرَحَهَا عِنْدَ مَنْ تَجْمَعُ عِنْدَهُ أَجْزَأَِهُ إِنْ شَاءِ اللهُ. وهذا كما قال: صدقة الفطر من زكاة الأموال الباطنة فله أن يفرقها بنفسه وإن دفعها إلى الإمام أجزأه وبينا الكلام في الأفضل، وهذا نص على أن الأول أن يباشر بنفسه وهذا أولى عند كثير من أصحابنا، وقال بعض أصحابنا: هذا أحب إليه إذا لم يكن الوالي نزيهًا لأن الشافعي روى في "الأم": أن رجلاً سأل عطاء عن ذلك فقال: ادفعها إلى الوالي فجاء الرجل إلى ابن أبي مليكة فسأله فقال: أخرجها بنفسك فقال له الرجل: قال عطاء كذلك فقال أفتاك العلج بغير مذهبه لا تدفعها إليهم فإنما يعطيها [250 ب/4] هشام حرسه وبوابه ومن شاء من غلمانه، وقال بعض أصحابنا: هي جارية مجرى زكاة الأموال الظاهرة فيها قولان كما هناك وقيل: إنما قال الشافعي: إن شاء الله لتعلم كراهيته مع إجازته ولهذا استدل بخبر سالم فقال: سأل رجل سالمًا يعني به ابن عبد الله بن عمر فقال له: ألم يكن ابن عمر يعني أباه يدفعها إلى السلطان قال: بلى ولكني أرى أن لا يدفعها إليه أي: كان السلطان إذ ذاك عدلاً واليوم بخلافه ولم يرد به ابن عمر أن أخطأ في ذلك. فرع لو أدت الزوجة زكاة فطرة نفسها إذا قلنا: بالوجوب عليها عند افتقار الزوج ويسارها إلى زوجها يجوز والاختيار لها أن تخصه لأنه في معنى أهلها وأقاربها، وإن أدى هو زكاة فطر نفسه إليها فوجهان أحدهما: يجوز كالزوجة، والثاني: لا يجوز وهو المنصوص لأنها عينه بوجوب نفقتها عليه وهذا حكم زكاة المال، وقال أبو حنيفة: لا يجوز ذلك في كل واحد من الزوجين وهذا غلط، لأنه لا يقضيه بينهما كبني الأعمام. فرع آخر الأفضل أن يخرج صدقة [152 أ/4] الفطر يوم الفطر قبل الصلاة نص عليه في القديم، وإن أخرجها قبل ذلك في شهر رمضان أجزأه ولا يجوز تقديمها على شهر رمضان، وقال أبو حنيفة: تجوز لأنها مخرجة عن بدنه وبدنه موجود وهذا غلط، لأن سبب هذه الزكاة الصوم والفطر عنه فإذا بقي لوجوبها سببان لم يجز تعجيلها كما لو بقي الحول والنصاب وقولهم: إنها مخرجة عن بدنه قلنا: هو المؤدي فلا يجوز إذا بقي سببان وإن وجد سبب كما لا يجوز تقديم الظهار إذا وجد عقد النكاح، ولو أخرها عن الصلاة وأخرجها في يوم الفطر أجزأته ولم يأثم، وإن أخرجها عن يوم الفطر أثم به وأجزأته وبه قال أحمد وحكي عن ابن سيرين والنخعي أنهما كانا يرخصان في تأخيرها ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 59).

باب الاختيار في صدقة التطوع

عن يوم الفطر وهذا غلط، لقوله صلى الله عليه وسلم: "أغنوهم عن الطلب في هذا اليوم"، وقال صلى الله عليه وسلم: "ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات". باب الاختيار في صدقة التطوع قال: أخبرنا أنس بن عياض ... الخبر. وهذا كما قال: جملة هذا أنه إذا كانت عليه نفقة واجبة [152 ب/4] لنفسه أو عياله فلا يجوز له أن يتصدق حتى يقيم بذلك للخبر الذي ذكره وهو ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وليبدأ أحدكم بمن يعول" (¬1)، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كفي بالمرء إثمًا أن يضيع من يعول" (¬2)، وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله عندي دينار فقال له: "أنفقه على نفسه" فقال: عندي آخر، فقال: "أنفقه على ولدك" فقال: عندي آخر، فقال: "أنفقه على أهلك" فقال: عندي آخر، فقال: "أنفقه على خادمك" فقال: عندي آخر، فقال: أنت أعلم به" (¬3)، وكذلك إذا كان عليه دين فإنه يلزمه أن يبدأ به لأنه ربما يتعذر قضاؤه فيصير مرتهنًا بدينه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله النوافل إلا بعد إحكام الفرائض". وله تأويلان: أحدهما: لا يقبلها كاملة إلا بعد إحكام الفرائض، فإذا كملت الفرائض [252 أ/4] تقبل النوافل، ثم إذا أدى الواجبات يستحب له أن يتصدق بشيء من ماله تطوعًا، واختلف العلماء في قدر المستحب فقال قوم: جميع ماله كما فعل أبو بكر رضي الله عنه، وقال قوم: بنصفه كما فعل عمر رضي الله عنه، وقال قوم: بثلاثة كما فعل عبد الله بن عمر والذي عند أصحابنا: أنه يعتبر بحال المصدق فإن كان حسن اليقين قنوعًا لا يقنطه الفقر ولا يسأل عند الفقد فالأولى التصدق بجميع ماله كما فعل أبو بكر رضي الله عنه، قيل: لا يستحب ذلك ولا يكره، وإن كان بخلاف ذلك فليتصدق على حسب حاله ويكره له الزيادة، وروي في ذلك أخبارًا مختلفة منها ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليتصدق الرجل من ديناره وليتصدق من درهمه وليتصدق من صاع بره وليتصدق من صاع تمره" (¬4)، وقال صلى الله عليه وسلم: "أيما مسلم كسا مسلمًا ثوبًا على عري كساه الله من خضر الجنة، وأيما مسلم أطعم مسلمًا على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة، وأيما رجل سقى مسلمًا على ظمأ [252 ب/4] سقاه الله من الرحيق المختوم" (¬5)، وقال صلى الله عليه وسلم: "اتقوا النار ولو بشق تمرة"، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أردد عنك مذمة السائل ولو بمثل رأس الظفر من الطعام"، وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يمنعكم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1426، 1427)، ومسلم (95/ 1034). (¬2) أخرجه أبو داود (1692)، وأحمد (2/ 160، 195)، والحميدي (599)، والحاكم (1/ 145). (¬3) أخرجه أحمد (2/ 251،471)، وأبو داود (1691)، والنسائي (2535)، وابن حبان (4219)، والحاكم (1/ 415). (¬4) أخرجه مسلم (69/ 1017). (¬5) أخرجه أبو داود (1682).

من معروف صغره وقال صلى الله عليه وسلم: "أطعموا الطعام وافشوا السلام وصلوا بالليل والناس نيام:، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي الصدقة أفضل، فقال: "جهد المقل" (¬1) وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "حث رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس على الصدقة فقلت: والله لأسبقن أبا بكر هذا فعمدت إلى نصف مالي فأخذته وعدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوجدت أبا بكر قد سبقني فقال لي: ما حملت فقلت: نصف مالي وقال لأبي بكر: ما حملت فقال: جميع مالي فقال: ما أعددت لأهلك فقال: الله ورسوله فقلت لأبي بكر: والله لا أسابقك أبدًا" (¬2)، ولم يمنعه من التصدق بكل ما له حتى عزب منه صحة التوكل واليقين، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم [253 أ/4] قال: "رحم الله إمرأً أمسك فضل لسانه وبذل فضل ماله ووسعته السنة ولم تستهوه البدعة ولم يدعها إلى بدعة" (¬3) وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل لرجل فتصدق عليه بثوبين فلما كانت الجمعة قابلة سأل سائل فألقى إليه الرجل أحد الثوبين فزجره النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "خذ ثوبك إن أحدكم يتصدق بجميع ما عنده ثم يقعد يتكفف الناس خير الصدقة عن ظهر غنى" (¬4) أي: ما فضل عن حاجته في نفسه وذويه، وفيه الخبر الذي ذكرنا أن رجلاً أتي النبي صلى الله عليه وسلم بمثل البيضة من ذهب (¬5) وقد ذكرناه، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم: "قال إن لله عبادًا لا يصلح لهم إلا الغني فلو أفقرهم لأطغاهم ولله تعالى عبادًا لا يصلحهم إلا الفقر ولو أغناهم لأطغاهم"، وروي أن غيلان بن سلمة أراد أن يوصي بماله كله للمساكين فأكرهه عمر رضي الله عنه حتى رجع فيه، وقال: لو مت على رأيك لرجمت قبرك كما يرجم قبر أبي رغال، وكان بلال من أهل اليقين والقوة فدخل عليه رسول الله [253 ب/4] صلى الله عليه وسلم فرأى عنده كسرة خبز فقال: "ما هذا يا بلال. فقال: أفطرت الليلة على نصف قرص كان عندي وتركت النصف لأفطر عليه اليوم. فقال: أنفق بلالاً ولا تخشى من ذي العرش إقلالاً" قال أصحابنا: ولا ينبغي أن يمتنع من الصدقة باليسير فإن قليل الخير كثير قال الله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] ويستحب البداءة بالخير في أقاربه وأهله، واحتج الشافعي بما روي أن امرأة ابن مسعود كانت صناعة -أي مشاطة عاملة بيديها- وليس له مال- يعني لبعد الله - فقالت له - أي لزوجها - شغلتني أنت وولدك عن التصدق إلى غيركم، فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لك في ذلك أجران فأنفقي عليهم". ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 358)، وأبو داود (1677)، والنسائي (2526)، والبيهقي في "الكبرى" (7772)، وفي "معرفة السنن) (1235). (¬2) أخرجه أبو داود (1678)، والترمذي (3675)، والحاكم (1/ 414)، والبيهقي في "الكبرى" (7774). (¬3) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (5/ 1891)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 251). (¬4) أخرجه أبو داود (1675)، وابن حبان (840)، والحاكم (1/ 285، 413)، والبيهقي في "الكبرى" (7777). (¬5) أخرجه أبو داود (1673)، وابن حبان (3361)، والحاكم (1/ 413)، والبيهقي في "الكبرى"، (7643).

وهذا مختصر من قصة وهي: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس في يوم عيد، فلم يسمع النساء، فلما انصرف أرسل النساء إليه يشتكين أنهن لم يسمعن خطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم فواعدهن يخطب لهن يومًا، فلما كان ذلك اجتمع النساء [254 أ/4] فغي خطبته فخطبهن وحثهن على الصدقة حتى قال تصدقن ولو من حليكن فجعل النساء يتصدقن وبسط بلال كساء فكانت المرأة تلقي الخرص والسوار والخلخال، وكانت امرأة ابن مسعود تنظر وتخاف على زوجها وأولادها الضياع لو تصدقت فلما رجعت إلى زوجها قالت له قد شغلتني أنت وولدك عن الصدقة فقال عبد الله: لك في ذلك أجران فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكرت ذلك كله وأخبرته بقول عبد الله فقال: "صدق عبد الله إنه لفقيه، لك في ذلك أجران، فأنفقي عليهم" (¬1). وأراد بالأجرين أجر الصدقة وأجر صلة الرحم. وروي أن رجلاً قال: يا رسول الله من أبر؟ قال: "أمك". ثم أعاد فقال: "أمك" مرات، ثم قال: "أباك، ثم أختك، ثم أخاك ثم أدناك فأدناك" (¬2). وينبغي أن يختار السر (¬3) وذوي الفضل لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يأكل طعامك إلا مؤمن". فإن تصدق على كافر فإنه يجوز لقوله تعالى: {ويُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا ويَتِيمًا وأَسِيرًا (8)} [الإنسان:8] والأسير لا يكون إلا كافرًا. ويستجيب للفقير أن يتعفف عن السؤال، روى عبد الله بن [254 ب/4] مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم يسد الله فاقته ومن أنزلها بالله تعالى أوشك الله تعالى له بالغنى أو يموت عاجلاً" (¬4) فإن سأل لم يحرم إذا كان محتاجًا ويقصد بسؤاله أهل الخير والصلاح، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن كنت لابد سائلاً فاسأل الصالحين" (¬5)، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يد الله العليا ويد المعطي الوسطى، ويد المستعطي السفلى" (¬6) فأما من سأل وهو غني عن المسألة بمالٍ، أو بصناعة فهو بسؤاله آثم، وما يأخذ عليه محرم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سأل وهو غني جاءت مسألته يوم القيامة خدوشًا أو خموشًا أو كدوحًا في وجهه" قيل: وما غناه، قال: "خمسون درهمًا أو عدلها من الذهب" (¬7) واراد بهذا عندنا إذا ما كان وفق كفايته وكفاية من يمونه. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2/ 149)، وأحمد (2/ 173)، وابن خزيمة (1809)، والحاكم (3/ 460). (¬2) أخرجه البخاري (5971)، ومسلم (1/ 2548)، وأبو داود (5139)، والترمذي (1897). (¬3) كذا بالأصل. (¬4) أخرجه أحمد (1/ 407)، وأبو داود (1645)، والدارمي (2/ 34)، والحاكم (1/ 408)، والبيهقي (7869). (¬5) أخرجه أحمد (4/ 334)، وأبو داود (1646)، والنسائي (2587). (¬6) أخرجه ابن حبان (809)، والطبراني في "الكبير" (17/ 110)، والبيهقي في "الكبرى" (7885). (¬7) أخرجه أحمد (1/ 441)، وأبو داود (1626)، والنسائي (2592)، وابن ماجه (1840)، وابن أبي شيبة (3/ 180)، وابن عبد البر في "التمهيد" (4/ 101).

كتاب الصيام

كتاب الصيام فصل الأصل في وجوب الصيام الكتاب، والسنة، والإجماع، أما الكتاب: فقوله تعالى: {اأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] معناه فرض عليكم وإنما قال: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} تسلية للقلوب وتهوينا للخطب ولم يعين الصوم [255 أ/4] في هذه الآية ثم عين في آية أخرى فقال: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وأما السنة: فما روي ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بني الإسلام على خمس" (¬1)، ... الخبر إلى أن قال: "وإيتاء الزكاة وصوم رمضان"، وروي طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم لصوته دوي لا يفقه ما يقول فدنا منه فإذا هو يسال عن الإسلام فذكر له إلى أن ذكر له صوم شهر رمضان فقال: هل عليَّ غيره قال: "لا إلا أن تطوع" (¬2)، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا خمسكم وصوموا شهركم وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها قلوبكم وحجوا بيت ربكم تدخلوا جنة ربكم" (¬3). وأما الإجماع: فلا خلاف بين المسلمين فيه فإذا تقرر هذا فاعلم أن معنى الصوم والصيام واحد وهما في حقيقة اللغة الكف عن الشيء والإمساك، ولهذا سمي الساكت صائمًا قال الله تعالى: {إنيِّ نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] أي: صمتًا ويقال: صام النهار إذا استوت الشمس للزوال لأن لها وقفًا عن السير ويقال: خيل صائمة إذا وقفت عن [255 ب/4] السير، ومنه قول النابغة (¬4): خيلٌ صيامٌ وخيلُ غيرُ صائمةٍ ... تحت العجاجِ وأُخْرىَ تَعْلِكُ اللُّجَما ومعناه في الشرع الإمساك عن أشياء مخصوصة مثل الطعام والشراب، والجماع واستنزال المني فكأنه نقل من اللغة على الشريعة وهو أخصر من اللغوي ولكنه ضمت إليه النية، ثم اعلم أن عند الشافعي المراد بقوله تعالى: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] شهر رمضان وصوم رمضان هو أول ما فرض وليس هو بمنسوخ بل بين بقوله ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (8)، ومسلم (1/ 8). (¬2) أخرجه البخاري (46)، ومسلم (8/ 11). (¬3) أخرجه أحمد (5/ 215، 262). (¬4) البيت من البسيط، وهو للنابغة في ملحق ديوانه (ص 240)، ولسان العرب (10/ 470. علك، 12/ 351. صوم)، وتهذيب اللغة (1/ 313. 12/ 259)، وجمهرة اللغة (ص 899)، وكتاب العين (1/ 202)، ومقاييس اللغة (3/ 323)، ومجمل اللغة (3/ 251)، والمخصص (13/ 90)، والمعاني الكبير (ص 915)، والكامل (ص 992)، وتاج العروس (علك. صوم).

تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، وهذه الآية الثانية بيان لا ناسخة، وقيل: أول ما فرض صوم يوم عاشوراء، وروي عن معاذ رضي الله عنه أنه قال: فرض الله تعالى أولاً صوم يوم عاشوراء ثم نسخه بشهر رمضان (¬1) وقيل: أول ما فرض صيام ثلاثة أيام من كل شهر وهو المراد بقوله تعالى: {أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] ثم نسخ بشهر رمضان وقيل: أول ما فرض صيام أيام البيض وفي وجهان: أحدهما: أنه الثاني عشر وما يليه والثاني: أنه الثالث عشر وما يليه وهو الأصح ثم نسخ [256 أ/4] بقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وقيل: ما من أمة إلا وقد فرض عليهم شهر رمضان إلا أن اليهود تركوه إلى يوم واحد من السنة، والنصارى نقلوه إلى وقت وزادوا عشرة أيام ثم مرض ملكهم فزادوا عند شفائه عشرة أيام شكرًا لله تعالى فيصومون الآن خمسين يومًا، ولهذا قال تعالى: {ولِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ولَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]. يعني هداكم لهذا الشهر وضل عنه من كان قبلكم. واعلم أن صفة الصوم في ابتداء الإسلام هو أن يمسك من حين يصلي العشاء الآخرة أو ينام إلى أن تغيب الشمس فإذا غربت الشمس حل الطعام والشراب إلى أن يصلي العشاء أو ينام والأصل في ذلك ما روي عن البراء بن عازب أنه قال: كان الرجل إذا صام فنام لم يأكل إلى مثله. وإن صرمة بن قيس الأنصاري أتى امرأته وكان صائمًا فقال: عندك شيء فقالت لا ولكني أذهب فأطلب لك فذهبت وغلبت عينه فنام فجاءت فقالت: خيبة لك وصام من الغد فلما انتصف النهار غشي عليه وكان يعمل في أرض فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} [256 ب/4] إلى قوله: {وكُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ} [البقرة: 187] الآية (¬2)، وروى ابن عباس رضي الله عنه أن رجلاً اختان نفسه فجامع امرأته وقد صلى العشاء فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقوله تعالى {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 187] تفتعلون من الخيانة (¬3). وقال أبو هريرة رضي الله عنه: أصاب عمر بن الخطاب أهله بعد العشاء الآخرة ونام حمزة رضي الله عنه قبل أن يشبع من الطعام ولم يستيقظ حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء فأكل وشرب ثم أتيا النبي صلى الله عليه وسلم وأخبراه فأنزل الله تعالى هذه الآية فكأن ذلك عفوًا من الله تعالى ورحمته. واختلفوا لما سمي رمضان فقال ابن عمر: سمي بذلك لأن وجوبه وافق رمضان الحر فسمي رمضان من قولهم رمضت الفصال ورمضت الأرض إذا حميت، وقيل وهو الأولى: إنما سمي رمضان لأنه يرمض الذنوب أي: يحرقها، قاله أنس رضي الله عنه. ثم اعلم أن الله تعالى كان قد أوجب الصوم في الابتداء [257 أ/4] على التخيير بين الصوم والإفطار بالفدية فقال ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (7895). (¬2) أخرجه البخاري (1915)، والبيهقي في "الكبرى" (7900). (¬3) أخرجه البيهقي في "ألكبرى" (7901).

تعالى: {وَعَلَى اّلَّذِينَ يُطِيقُونِهُ فِدّيَةُ} [البقرة: 184] , وقال تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184] ثم نسخ التخيير بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] , هكذا قاله ابن عباس وسلمه بن لأكوع رضي الله عنهما. وقيل: إن هذا للشيخ الهرم يتخير بين الفطر والفدية, وبين تكلف الصوم ولم يكن القادر مخيراً قط والأول أصح, واعلم أنه نزل فرض صوم رمضان في شعبان في السنة الثانية من الهجرة لليلتين خلتا منه وفي هذا الشهر فرض استقبال الكعبة واختلف السلف في الأفضل فقال بعضهم: الصلاة هي أفضل من الصيام لتقدم فرضها ومقارنتها للإيمان, وقال آخرون: الصيام أفضل لقوله صلى الله عليه وسلم حكاية عن الله: "كل عمل ابن ادم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزى عليه" (¬1)، وقال آخرون: الصلاة بمكة أفضل من الصيام والصيام بالمدينة أفضل من الصلاة مراعاة لموضع نزول فرضهما فإذا تقرر هذا فقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقولوا [257 ب/4] رمضان فإنه اسم من أسماء الله تعالى ولكن قولوا شهر رمضان" (¬2)، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه" (¬3)، وذكر أنه صلى الله عليه وسلم قال: "جاء رمضان شهر مبارك" (¬4)، قال أصحابنا وجه الجمع بينهما أنه يلفظ بذكر رمضان ولم يعرف به ما يدل على أن المراد به الشهر يكره ذلك, وإذا قرن به ما يدل على أن المراد به الشهر لا يكره ذلك. مسألة: قال (¬5): وَلاَ يُجوزُ لِأَحَدٍ صيامُ مِنْ شَهْرِ رَمَضان. الفصل وهذا كما قال: نية الصوم شرط في صحته ولا يصح شئ من الصيام من غير نية سواء صام في الحضر أو في السفر وسواء كان صحيحاً أو مريضاً وسواء كان فرضاً أو تطوعاً, وقال زفر: صوم رمضان لا يفتقر إلى النية أصلاً إذا كان متعيناً فإن لم يكن متعيناً مثل أن يكون مريضاً أو مسافراً يفتقر إلى النية [258 أ/4] وكذلك غير صوم عطاء ومجاهد واحتجوا بأنه مستحق العين فلا يفتقر إلى النية أصلاً كرد المغضوب وهذا غلط, لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل" (¬6). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1904) , ومسلم (161/ 1151) , وأحمد (2/ 228) , والنسائي (4/ 164). (¬2) أخرجه البيهقي (7904) , وابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 187) , وابن أبى حاتم في "العلل" (834) , وابن عدى في "الكامل" (7/ 2517). (¬3) أخرجه البخاري (1901) , ومسلم (175/ 760) , والنسائي (4/ 156) , وابن ماجه (1641) وأحمد (2/ 233 , 241). (¬4) أخرجه أحمد (2/ 230 , 425) , وأورده في إتحاف السادة المتقين (4/ 192). (¬5) انظر الأم (2/ 2). (¬6) أخرجه أحمد (6/ 287) , وأبو داود (2454) , والترمذي (730) , والنسائي (4/ 196) وابن ماجه =.

وروى "لمن لم ينو" وروي "لمن لم يعزم"، وروي "لمن لم يفرض"، وروي "لمن لم يجمع", وروي "لمن لم يبيت"، وروي "لمن لم يورض"" أورده الدار قطنى رحمه الله, والتوريض هو التمهيد, وروي "لا صيام لمن يورضه قبل الفجر" أي: لم يهيئه, يقال أرضت المكان إذا سويته وهيأته, وروت ميمونة بنت سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أجمع الصوم من الليل فليصم ومن أصبح ولم يجمعه فلا يصم" (¬1) ولأنه عبادة لا تصح بعض أنواعه بغير نية فلا يصح شئ منه بغير نية كالصلاة والزكاة, وأما رد المغصوب فمن باب المعاملات لأن باب العبادات بخلاف هذا فافترقا فإذا تقرر هذا فالكلام في وقت النية فالفرض لا يصح إلا بالنية من الليل سواء كان صوم [258 ب/4] رمضان أو قضاء غير رمضان أو صوم نذر أو صوم كفارة, ويه قال مالك وأحمد, وقال أبو حنيفة: صوم رمضان يجوز بالنية قبل الزوال واحتج بأن هذا يدل عن صوم عاشوراء وصوم عاشوراء جاز بالنية قبل الزوال لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى أهل العوالى يوم عاشوراء, وقال: "من أكل منكم فليمسك بقية نهاره ومن لم يأكل فليصم" (¬2)، وهذا غلط لما ذكرنا من الأخبار, ولا نسلم أنه بدل عن صوم عاشوراء ولم يكن صوم عاشوراء واجباً قط في قول بعض أصحابنا بدليل أنه قال: "من أكل فليمسك" ولم يأمر بالقضاء ومن أصحابنا من قال: كان واجباً ولكنه وجب في بعض النهار فوجبت النية من ذلك الوقت بخلاف صوم رمضان فإذا تقرر هذا تجب النية لكل يوم ولا تجزيه أن ينوى في أول ليلة رمضان لجميع صوم رمضان, وقال مالك: يجوز ذلك, وروى ذلك عن أحمد واحتجا بأن صوم كل شهر رمضان هو كعبادة واحدة لأن له حرمة واحدة كل يوم هو ركن منها [259 أ/4] وهذا غلط, لأنه صوم يوم مفروض فيفتقر إلى النية من ليلته كاليوم الأول وقولهم إنه كعبادة واحدة غلط, لأن إفساد بعضه لا يفسد الباقي وقد يلزم بعضه دون بعض إذا أسلم الكافر في أثناء شهر رمضان وبلغ الصبي, وأما كيفية النية عندنا صوم الفرض يفتقر إلى تعيين النية ويه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا يفتقر صوم رمضان إلى التعيين ولو نوى صوماً مطلقاً يجوز عن صوم رمضان ولو نوى صوم التطوع يقع عن رمضان, وإن نوى صوم القضاء أو صوم ألمذر أو صوم الكفارة وقع ما نوى ويلزمه قضاء رمضان وقال أبو يوسف ومحمد: حكم المسافر حكم المقين ولو نوى النفل في السفر فعن أبى حنيفة روايتان فإذا تقرر هذا فكيفية التعيين قال أبو إسحاق: ينوى أن يصوم غداً عن رمضان صوم الفرض وقيل: هل يلوم أن يقول لله تعالى وجهان, وقال ابن أبى هريرة: لا يحتاج إلى نية الفرض وهذا هو المذهب، لأن صوم رمضان ممن عليه الفرض لا يكون إلا فرضاً [259 ب/4] ¬

_ (¬1) = (1700) , والدارقطني (2/ 172). () ... أخرجه الدارقطني (2/ 173). (¬2) أخرجه البخاري (2007) , ومسلم (136/ 1136).

وهو كالاختلاف في كيفية تعيين نية الصلاة ثم إذا نوى من الليل صحت نيته سواء نوى في أول الليل أ, في أخره, أو فيما بينهما وسواء أكل بعد النية أو جامع أو نام وانتبه بعد ذلك وإذا بقى عليه من الليل قدر النية تعينت عليه كما إذا بقى من وقت الصلاة يتعين فعلها وهذا هو المذهب. ومن أصحابنا من قال: لا تصح النية في النصف الأول من الليل وتصح في النصف الثاني لأن النصف الأول هو تابع لليوم الماضي لا للمستقبل, وحكي عن أبى إسحاق أنه إن نوى ثم أكل بعده أو جامع فسدت نيته وعليه أن يستأنف النية, وحكي عن الاصطخرى أنه لما بلغه عنه هذا قال: استثنيت من قال هذا فإن تاب وإلا قتلته لأنه خلاف الإجماع وهو خلاف نص الشافعي أيضاً لأنه قال: طلع الفجر وفي فيه طعام لفظه فإن ازدراده أفسد صومه, وإن كان مجامعاً أخرجه مكانه ونيته تكون قبل ذلك ولأن الله تعالى قال: {وكُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ} [البقرة: 187] , [260 أ/4] فأباح الأكل إلى أخر الليل, فلو اشترطت النية بعد الطعام لبقى جزء من أجزاء الليل يجب فيه الإمساك والصحيح أن هذا حكي عنه حكايته ولا يوجد ذلك في كتبه وليس بمذهب له وقيل: رجع عنه عام حجته وأشهد على نفسه. فرع لو نوى فكان انتهاء النية مع انتهاء الليل أجزأته وإن كان انتهاء الليل قبل انتهائها مثل إن كان بعضها بعد الفجر وبعضها قبله لم يجزئه, ولو وافقت مع الطلوع حتى وقعت النية والطلوع معاً ولم يفت من النهار جزء لا يجوز لأنه يمضى جزء من النهار عند الطلوع فيكون بغير كمال النية وهذا هو المذهب, وقال بعض أصحابنا بخراسان: يجوز لأنه استغرق النهار بالنية والنية والنية تجرى مع أول العبادة وإنما رخص في تقديمها للمشقة, قال القفال: وهذا أقيس. فرع آخر لو قالت الحائض: نويت ان أصوم غداً إن انقطع حيضي فاتفق انقطاعها قبل الفجر فإن لم يكن انضم إلى نيتها ما يدل على انقطاعها لا يجوز, وإن انضم دليل إلى [260 ب/4] نيتها فإن كانت مبتدئة يتم لها خمسة عشر في تلك المدة يصح, وإن كانت معتادةً وهى أخر عادتها فيه وجهان: أحدهما: يجوز لان العادة دلالة, والثاني لا يجوز لأن العادة قد تتغير والأصل بقاء الحيض. فرع آخر لو قام في أخر الليل وقال: أتسحر لأقوى على الصوم فهذا لا يكفي في النية بلا خلاف. فرع آخر إذا كان رمضان في سنة سبعين فقدر أنها سنة تسع وستين أو إحدى وسبعين فنوى

في صومه ذلك لا يصح لأنه ... (¬1) من السنة التي قبلها ولم ينو الصوم الواجب ولو نوى ليلة الثلاثاء أن يصوم غداً واعتقد أنه يوم الاثنين أو يوم الأربعاء فنوى صوم ذلك اليوم قال الثاضى الطبري: الصحيح عندي أنه يصح صومه ولأنه عين صوم الغد وخطأه في اعتقاده أنه يوم أخر لا يضره كما لو نوى أن يصوم غداً من هذه السنة التي هو فيها واعتقد أنها سنة سبعين فكانت سنة إحدى تصح نيته وصومه لأنه عين نيته أن يصوم غداً سنته فكان اعتقاده لغواً كذلك هاهنا وليس كذلك في المسألة المتقدمة، لأنه نوى أ، يصوم غداً [261 أ/4] عن نية ماضية أو مستقبلة ولم ينو عن السنة التي هو فيها فلم يجز, وقال والدي رحمة الله: فيه وجهان, وقال في "الشامل": عندي أنه يجوز هذا أيضاً لأن تعينه الغد هو بمنزلة تعيين هذه السنة. فرع آخر لو كان عليه قضاء أ, ل يوم من رمضان فقال: أصوم قضاء عن اليوم الثاني لا يجوز ذكره القاضي, وأبو حامد من غير خلاف ووجهه أنه نوى غير ما عليه كما لو كانت عليه كفارة اليمين فأعتق عن الظهار ويحتمل وجهاً أخر يجوز لأن تعيين الصوم غير واجب, وقال أبو حنيفة: إن كان عليه قضاء أ, ل يوم نوى قضاء الثاني منه جاز, وإن كان عليه قضاء اليوم الثاني فنوى قضاء اليوم الأول لا يجوز. فرع لو نوى أن يصوم غداً وقال بلسانه إن شاء الله لا يضره لقوله تعالى: {ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24,23] , وإن نوى ذلك بقلبه لا يضره ذلك أيضا, لأن معناه في نيته أنه يقف فعله على مشيئته وتمكينه وتوفيقه فإن ذكره على وجه الاستثناء والشك فلا يجوز صومه حينئذ, وقال في "الحاوي" (¬2): إن قال: إن [261 ب/4] شاء زيد لم يجز, ولو قال: إن شاء الله فالصحيح أ، هـ لا يجوز, لأ، هـ استثناء يرفع حكم مانيط عليه, ومن أصحابنا من قال: يجوز لان قوله: إن شاء الله قول باللسان فلا يؤثر في اعتقاد القلب وهذا باطل بمشيئة زيد. وربما يقولون: إن الله تعالى شاء صومه لأنه خير وهذا يبطل بما لو قال: أ، ت حر إن شاء الله لا يقع والتحرير خير. فرع لو اعتقد ترك صومه هل يبطل صومه؟ وجهان: احدهما: يبطل صومه وهذا أصح, لأن النية شرط في جميعه فإذا قطعها في أثنائه بقى بغير نية فبطل لأنه لا يتبعض, والثاني: لا يبطل ويه قال أبو حنيفة: لأ، هـ عبادة تلزم الكفارة بإفسادها فلم تبطل بنية الخروج كالحج وهذا لا يصح لأنه لا يخرج من الحج بالفساد بخلاف الصوم. ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) أنظر الحاوي للماوردى (3/ 404).

فرع آخر إذا قلنا: يبطل صومه ففي زمان فطره وجهان أحدهما: في الحال, والثاني: إذا مضى من الزمان قدر الأكل أ, الجماع إن نوى تركه بالجماع يفطر وقبله لا يفطر. فرع آخر لو نوى أن يفطر بعد ساعة لم [262 أ/4] يكن مفطراً وكان على صومه وقيل: فيه وجها أخر: ولو نوى أن يكون غير مصلٍ بعد ساعة يحتمل وجهين. فرع آخر لو نوى في صوم النذر نقله إلى صوم الكفارة لا ينتقل إلى الكفارة وهل يبطل أصلاً أو يبقى نافلة؟ فيه قولان ذكره أصحابنا بخراسان. مسألة: قال (¬1): فَأَمَّا التطَوع فَعلاَ بأسَ إِنْ أَصْبَحَ وَلَمْ يُطْعَمْ شَيْئَاً أَنْ يَنْوى الصَّوْم قَبْلَ الزًوَالِ. وهذا كما قال: صوم التطوع يجوز بالنية من النهار ويه قال أحمد وجماعة العلماء, وروى ذلك عن أبى طلحة والأصل أن ينويه من الليل, وقال مالك والمزني وداود: لا يجوز إلا بالنية من الليل, وروى ذلك عن عبد الله بن عمر وجابر بن زيد أبى الشعثاء رضي الله عنهما قال القفال: وهذا أقيس, ولكنا جوزنا للخبر واحتجوا بأن ما بقى من النهار كيف يصير عبادة بنية متأخرة, ولأن محل نية النفل ونية الفرض سواء كما في الصلاة ولأنه أحد طرفي النهار فلا يجوز فيه نية الصوم كما بعد الزوال وهذا غلط لما روى عن عائشة [262 ب/4] رضي الله عنها أنها قالت: دخل علىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هل من غداء" فقلت: لا, فقال: "إني إذا صائم" (¬2) , وروى أنه كان يدخل على أزواجه ويقول ذلك الخبر ولا يجوز أن يقال هذا محمول على أنه أصبح صائماً ثم أفطر إذا وجد طعاماً لأن المداومة على هذا لا تستحب, وفي الخبر كان إخباراً عن المداومة ولأنه لو كان على هذا الوجه لقال: إني إذا لا أفطر إذا تمم الصوم, وروى إني إذا صائم, فلا يحتمل ما قلتم, وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصائم بالخيار ما بينه وبين نصف النهار" (¬3)، ولأنه لا بد من أن يدخل الرخصة في النقل كما في صلاة النفل فإن قيل: قد دخلت الرخصة على أن الكفارة لا تجب بالفطر فيه قلنا: هذا موجود في أكثر الصيام المفروضة من القضاء وصوم النذر والكفارة ولا يختص به التطوع. ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 2). (¬2) أخرجه مسلم (170/ 1154) , وأبو داود (2455) , وأبن حبان (3620) , والدارقطني (2/ 176) , والبيهقى (7913, 7914). (¬3) انظر تذكرة الموضوعات للقيس (1084).

وأما دليلهم الأول قلنا: اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: إذا نوى في النهار يجعل صائما من أ, ل الليل ويثاب على صوم جميع النهار لأنه [263 أ/4] لا يتبعض كمن أدرك الإمام يكون له ثواب كل الركعة وهذا هو المذهب الصحيح. وقال بعضهم: يجعل صائما من وقت النية ويثاب من هذا الوقت وهو اختيار القفال, وقال: هذا هو المذهب, لأن الإمساك عن الطعام لا يصير قربة إلا بالنية, ولا ترجع النية قهقرى ولو أكل في أول النهار ثم نوى الصوم في بقية النهار لا يصح الصوم نص عليه في "الأم", وحكي صاحب "الإفصاح" عن بعض أصحابنا أنه خرج فيه وجهاً أخر: أنه يجوز ويه قال ابن جرير وابن سريج وأبو زيد المروزى. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا هو القياس لأنا نجعله صائماً من وقت النية فلا اعتبار بما قبله وهذا غلط, لأن من الشروط أن يكون غير أكل في أ, ل النهار لتتميز العادة عن العبادة, فإن عادة أكثر الناس الغداء والعشاء فترك الأكل شرط وليس ذلك بصوم, وإنما الصوم هو من وقت ما نوى على ما ذكر القفال ويجوز أن يشترط تقدم شرط على وقت العبادة كما لو أدرك [263 ب/4] الجمعة فصلاته من وقت الشروع في الصلاة ويشترط تقدم الخطبة على ذلك الوقت كذلك هاهنا, وأما الصلاة فتؤدى بأفعال فما خلا عن النية لا يكون عمل الصلاة وما ليس بعمل الصلاة هو يفسدها بخلاف الصوم, وألا بعد الزوال قال في حرملة: في أي وقت من النهار نوى الصوم جاز, وقال في القديم والجديد: لا يجوز بالنية بعد الزوال, فالمسألة على قولين والصحيح أنه لا يجوز, ويه قال أبو حنيفة ومحمد لأنه لم يستغرق معظم النهار بالنية بخلاف ماذا نوى قبل الزوال وهذا كما لو أدرك الإمام راكعاً فإنه يصير مدركا للركعة ولو أدرك ساجداً لا يصير مدركاً لفوات المعظم. فرع إذا دخل في الصوم تطوعاً ثم أفطر هل يثاب على ما مضى؟ المذهب أنه لا يثاب لأنه لم يتم العبادة, وحكي عن الشافعي أنه قال: يثاب عليه ..... (¬1) له أجر ما أحتسب. فرع آخر لو نسى النية في صوم رمضان حتى طلع الفجر عليه إمساك بقية نهاره [264 أ/4] وهل يكون صوماً شرعياً؟ قال أبو إسحاق: يكون صوما شرعيا والمذهب أنه لا يكون صوماً شرعياً لا يحتسب به. فرع آخر لو كان كافراً في أول النهار ثم أسلم فنوى الصوم فإن قلنا بالإفساد: لا يجوز, وإن ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل.

قلنا: الصوم من وقت النية فيه وجهان: أحدهما: يجوز لأنه لم يوجد عند الشروع في العبادة ولا بعدها ما يضادها, والثاني: لا يجوز لأنه يشترط خلو أول النهار عما بضاده. مسألة: قال (¬1): وَلاَ يَجِبُ عَلَيْهِ صَوْمُ رمضانَ حَتّى يَسْتَيْقِنَ أَنّ الهلالَ قَدْ كَانَ. الفصل وهذا هو كما قال: صوم شهر رمضان لا يجب عندنا إلا بأحد شرطين: إما برؤية الهلال, وإما يعد شعبان ثلاثين يوماً, وقيل: إن المزني أخذ ينقله عبارة الاستيقان والشافعي لم يقل ذلك بل قال: حتى يعلك وهذه العبارة هي أصح لأن اليقين هو عبارة عن القطع والتحقيق, وذلك ليس يشرط فيه وجوب الصوم إذ لا يحصل ذلك إلا برؤية كل أحد والعلم يقع ظاهراً وإن لم يكن مقطوعا به ويجب به الصوم [264 ب/4] ويمكن أن تؤول هذه الكلمة بأنه أراد به يقين الشاهد الذي يخبر عنه ولم يُرد في حق كل أحد, وقال بعض العلماء: يجب بهذين الشرطين ويجب بشرط أخر وهو أن يكون عارفا بالنجوم أ, يشهد شاهدان من أهل المعرفة بالنجوم أن الشهر قد دخل, وعندنا أنه لا يقبل قول المنجمين في ذلك بحال, وإن أكثروا والدليل عليه ما احتج الشافعي فقال: قال صلى الله عليه وسلم: "لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه فان غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" (¬2): "لا تفطروا حتى تروا الهلال أو تكملوا العدة", وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقته فيما يقول فقد كفر بما انزل على محمد" (¬3)، فإن احتجوا بقوله تعالى: {وعَلامَاتٍ وبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] قلنا: أراد بالاهتداء بالنجم معرفة الطرق والمسالك والبلدان لا ما قلتم وحكي عن بعض الشيعة أنه قال: يعتبر العدد في شهر رمضان ولا يعتبر الهلال وهو غلط ظاهر. مسألة: قال (¬4): وَقَدْ كَانَ ابنُ عُمَرَ يَتَقَدَّمُ الصيامَ [265 أ/4] بيوم. الفصل وهذا كما قال: صوم يوم الشك مكروه سواء صامه عن رمضان أو عن غيره من فرض أو تطوع إلا أن يوافق يوماً جرت العادة منه بصومه فلا يكره ويه قال عمر وعلى وعمارة بن ياسر رضي الله عنهم, والعبى والنخع ومالك والأوزاعى, وروى عن ابن عائشة وأسماء رضي الله عنه أنه إذا كان صحواً يكره, وان كان غيماً لا يكره عن رمضان, ويه قال أحمد وقال الحسن وابن سيرين: الناس في صومهم تبع لإمامهم فإن صامه الإمام ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 2). (¬2) أخرجه أبو داود (2326) , والنسائي (2126) , والبيهقى في "الكبرى" (7951). (¬3) أخرجه أحمد (4/ 68) , والحاكم (1/ 8) , والبيهقى في (16510) (¬4) أنظر الأم (2/ 3).

صاموا, وإن أفطر أفطروا, وروى هذا عن أحمد وعنه رواية ثالثة مثل قولنا. واختلف أصحابنا في قيام ليلة الشك, وقال أبو حنيفة: إن نوى التطوع فيه لا يكره, وإن نوى عن رمضان يكره, ويه قال مالك في رواية وهذا كله غلط, لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم: " نهى عن صيام ستة أيام: يوم الفطر ويوم النحر وأيام التشريق واليوم [265 ب/4] الذي تشك فيه من رمضان" (¬1)، وروى ربعى بن حراش رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا شعبان ثلاثين ثم صوموا ثم ان غم عليكم فعدوا ثلاثين ثم أفطروا" (¬2)، وروى عن صلة بن زفر أنه قال كنا عند عمار بن ياسر رضي الله عنه في اليوم الذي يشك فيه من رمضان فأتى بشاة مصيله فتنحى بعض القوم وقال: أنى صائم, فقال عمارك من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم (¬3)، وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقدموا هلال رمضان بيوم ولا يومين إلا ان يوافق صوما كان يصومه أحدكم" (¬4)، وقال سماك: دخلت على عكرمة في يوم وقد أشكل على أمن رمضان هو أم من شعبان فأصبحت صائماً فقلت: إن كان من رمضان لم يسبقني, وان كان من شعبان كان تطوعاً فدخلت على عكرمة وهو يأكل خبزاً وبقلاً ولبناً فقال: هلم إلى الغداء فقلت: إني صائم, فقال أحلفت بالله لتفطرنه قلت: سبحان الله قال: أحلف بالله لتفطرنه [266 أ/4] قال: فلما رأيته لا يستثنى أفطرت قم قلت: هات فقال: ابن عباس يقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن حالت بينكم وبينه كآبة أ, غيمة فكملوا العدة ولا تستقبلوا الشهر استقبالاً ولا تستقبلوا رمضان بيوم من شعبان" (¬5). قال أصحابنا: فإن وافق يوم عادة صومه فصامه عن فرض عليه لا يكره لأنه إذا جاز أن يصوم فيه تطوعاً له سبب فلئن يجوز الفرض فيه أولى كما في الوقت المنهي عن الصلاة فيه إذا جاز أن يصلى تطوعاً له سبب يجوز الفرض, وقال القاضي الطبارى: يكره ذلك عن فرضه, وقال أيضاً: لو كان عليه يوم من رمضان فقد ضاق وقت القضاء في هذا اليوم فيكره له أن يصوم فيه لأن الفرض به القربة ولا قربة في ذلك, وقال غيره: يجوز هاهنا أن يصومه, وإن لم يكن يوم عادته لأنه ضاق وقت القضاء, وهذا ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني (2/ 157) , والبيهقى في "الكبرى" (4/ 208). (¬2) أخرجه أبو داود (2326) , والنسائي (2126) , وابن حبان (5/ 190) والبيهقى في "الكبرى" (7950). (¬3) أخرجه أبو داود (2334) , والترمذي (686) , والنسائي (2188) , وابن ماجه (1645) , وابن حبان (5/ 239) , والحاكم (1/ 424) , والدارقطني (2/ 157) , والبيهقى في "الكبرى" (7952) , وفى "الصغرى" (1305). (¬4) أخرجه أحمد (2/ 513) , والدارمى (2/ 4) , والدارقطني (2/ 160). (¬5) أخرجه النسائي (2189) , وابن خزيمة (3/ 204) , وابن حبان (5/ 239) , والحاكم (1/ 424, 425).

أصح عندي, وأما قول الشافعي: كان ابن عمرو رضي الله عنه يتقدم الصيام بيوم قال القفال: لم يُرد به الأخبار عن عادته لأنه نهى عنه [266 ب/4] كما ورد ... (¬1) يخالفه ولكنه روى أنه لما كبر وضعف بصره يبعث من ينظر له الهلال من علمائه وأمنائه إلى الصحراء حتى ينظروا إلى الهلال ليلة الثلاثين من شعبان فإن رأوه كان يصوم وإن لم يروه, وكانت السماء مصحية أصبح مفطراً وان كانت السماء متغيمة أصبح متلوماً أي: ممسكاً عن المفطرات منتظراً ثبوت رؤية الهلال لئلا يكون اكلأ في شهر رمضان, وان لم يجز صومه والدليل عليه ما روى عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: لو صمت الدهر لأفطرت يوم الشك (¬2)، وأيضاً فإنه كان يفطر على هذا الحساب في أخر الشهر إذا تم ثلاثون بل كان يصوم يوماً أخر سوى اليوم الأول وعلى هذا ما رواه الشافعي بعد هذا عن على رضي الله عنه قال: لئن أصوم يوماً من شعبان أحب إلى من أفطر يوماً من رمضان (¬3) أي: لئن أمسك في يوم من شعبان فلا أطعم فيه أحب الى من ذاك واحتج بما روى في خبر ابن عمر رضي الله عنه, وإن كانت السماء متغيمة أصبح صائماً, قلنا: أراد ممسكا أو يحتمل أنه كان ذلك اليوم يوم عادته في الصوم وشاهد [267 أ/4] للراوي يفعل ذلك مرتين على الموافقة فحكي فعله بلفظ كان. فرع لو شرع في صوم يوم الشك هلي ينعقد وجهان والمذهب أنه لا ينعقد. مسألة: قال (¬4): وَإِنْ شَهِدَ شَاهِدَانِ أَنَّ الهلالَ رُئيَ قَبْلَ الزَوُالِ أَوْ بَعْدَهُ فهو لِلَّيْلَّةِ المُسْتَقْبِلةِ وَوَجَبَ الصيامُ. يعنى: من الغد وهذا كما قال: إذا أهل الهلال في يوم الشك فهو لليلة المستقبلة دون الماضية سواء كان قبل الزوال أو بعده, وسواء كان في أول رمضان أو في أخره فإن كان في أوله فإنه يصوم من الغد, وإن كان في أخره فالعيد من الغد ويه قال مالك وأبو حنيفة ومحمد, وقال ابن أبى ليلى وسفيان وأبو يوسف: إن كان قبل الزوال فهو لليلة السالفة, وإن كان في أخره ففيه روايتان إحداهما: الليلة الماضية .... (¬5) الثانية للمستقبلة احتياطياً للصوم, وتعلقوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته" فيجب الصوم عليهم برؤيته, وان ما قبل الزوال هو أقرب الى الماضية وهذا غلط لما روى أبو وائل قال: جاءنا كتاب عمر رضي الله عنه ونحن [267 ب/4] بخانقين أن الأهلة بعضها أكبر من بعض فإذا رأيتم الهلال نهارا فلا تفطروا حتى يشهد شاهدان أنهما رأياه بالأمس ويه قال على بن أبى طالب وابن مسعود رضي الله عنهما ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) أخرجه البيهقى في "الكبرى" (7958) (¬3) أخرجه البيهقى في "الكبرى" (7981) , وفى "الصغرى" (81308). (¬4) انظر الأم (2/ 3) ز (¬5) موضع النقط بياض بالأصل.

ولا مخالف لهم وخبرهم يقتضى وجوب الصوم بعد الرؤية وعندهم أنه يصوم جميع اليوم, وأما القرب قلنا: هو في أ, ل النهار أقرب إلى الليلة المستقبلة منه إلى وقت طلوعه من أول الليلة الماضية وما ذكره أحمد من الاحتياط في وجه له لأن هذا ان كان لليلة الماضية ثبت فيها, وان كان للمستقبلة في دليل فيه فلا يحتاط مع عدم الدليل على أنه يبطل به إذا اشتبه الفجر فإنه لا يجب الإمساك احتياطا. مسألة: قال (¬1): وَإِنْ شَهِدَ عَلى رؤيتِهِ عَدْلٌ وَاحِدٌ رَأَيْتُ أن أَقْبَلْهُ لِلأَثَرِ فيهِ والاحتياطِ. ٍ وهذا كما قال: إذا رأى الهلال وحده فإنه يلزمه الصوم لأنه علم قطعا ويقيناً وإذا شهد شاهد واحد قال في "الأم": رأيت أن [268 أ/4] أقبل عدلاً واحداً للأثر والاحتياط وأراد بالأثر خبراً, روى عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما روى ابن عباس رضي الله عنه أن أعرابياً جاء إليه من الحرة فقال: "أتشهد أن لا إله إلا الله" قال: نعم, قال: أتشهد أن محمداً رسول الله قال نعم [268 ب/4] .................... (¬2) [269 أ/4] ثم قال: "يا بلال أذن في الناس فليصوموا غداً" (¬3)، وقال ابن عمر رضي الله عنه: "ترى أي الناس الهلال فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم من أنى رأيته فصام وأمر الناس بالصيام" (¬4)، وروى عن عمر رضي الله عنه أنه قبل شهادة الواحد, قال: يكفي المسلمين أحدهم (¬5)، ويه قال على بن أبى طالب رضي الله عنه قالت فاطمة بنت الحسين بن على رضي الله عنه: أن رجلاً شهد عند على رضي الله عنه على هلال رمضان وأراد بالاحتياط قاله على رضي الله عنه, ويه قال ابن المبارك وأحمد وهو الصحيح, وقال في "الويطى": ولا يصام رمضان ولا يفطر منه بأقل من شاهدين حرين مسلمين عدلين فحصل قولان وبهذا قال مالك والأوزاعى والليث وإسحاق واحتجوا بما روي عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال: صحبنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعلمنا منهم وأنهم حدثونا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين فإن شهد ذوا عدل فصوموا وأفطروا وانسكوا" (¬6) قلنا هذا احتجاج بدليل الخطاب والنطق [269 ب/4] أولى منه فإن قاسوا على هلال الفطر قلنا: قال أبو ثور: يقبل فيه قول الواحد أيضا لأن هذا خبر يستوي فيه المخبر والمخبر فأشبه أخبار الديانات وقيل: هذا قول مخرج ولا يصح وهذا لما روى طاوس قال: شهدت المدينة ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 3). (¬2) هكذا يوجد صفحتان بيضاوان بالمخطوط. (¬3) أخرجه أبو داود (2340) , والترمذي (691) , والنسائي (2112) , وابن ماجه (1652) , والحاكم (1/ 424) , وابن حبان (5/ 187). (¬4) أخرجه أبو داود (2342) , والدارقطني (2/ 156) , والحاكم (1/ 423) , وابن حبان (3438) , والبيهقى في "الكبرى" (7978). (¬5) أخرجه البيهقى في "الكبرى" (7979). (¬6) أخرجه أحمد (4/ 321) , وأبو داود (2338) , والنسائي (2116).

وبها ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما فجاء رجل إلى واليها فشهد عنده على هلال رمضان فسأل ابن عمر وابن عباس عن شهادته [فأمره] أن يجيزه وقالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة رجل واحد على رؤية هلا رمضان، قالا: وكان لا يجيز على شهادة الإفطار إلا شهادة رجلين (¬1)، فنقول: السنة فرقت بينهما ولأن الاحتياط للصوم في كل واحد من الموضعين يفرق بينهما. وقال أبو حنيفة: بين أول الشهر وآخره، فإن كانت السماء متغيمة فإنه يقبل فيه شهادة واحد، وإن كانت السماء مصحية فلابد من الاستعاضة وقد يحصل ذلك بالخمسين في البلد الكبير مثل مصر وبغداد. واحتج بأنه يجوز أن ينظر الجمع الكثير والجمع الغفير إلى مطلع الهلال وأبصارهم صحيحة والموانع مرتفعة فيراه واحد ولا يراه الباقون. قلنا [270 أ/4] يجوز هذا مع لطافة المرئي وبعده ويحتمل أن يختلف موضع قصدهم ولهذا لو حكم برؤيته حاكم بشهادة واحد جاز ولو حكم على ما قلتم لما صح فيه حكم الحاكم فإذا قلنا: بالمذهب اختلف أصحابنا فيه قال أبو إسحاق: لو شهد عبد أو امرأة فإنه يقبل لأن طريقه طريق الخبر دون الشهادة بدليل سقوط العدد فيه وبه قال أبو حنيفة، وقال سائر أصحابنا، لا يقبل وهو المذهب ونص عليه في "الأم". ونص أيضًا على أنه يعتبر أن يقيد لفظه بلفظ الشهادة حتى يقبل منه، ولو جرى مجرى الخبر للزم فيه قبول قول واحد عن الواحد فيقول أخبرني فلان عن فلان. وقيل: لا يعتبر فيه لفظ الشهادة من وجه ولا شك أنه يعتبر فيه العدالة. وقال بعض أهل خراسان: لا تعتبر العدالة الباطنة فيه. وهو غلط، وإذا قلنا بالقول الثاني وهو القياس كما قال، والقياس أن لا يقبل على مغيب أي على أمر خفي إلا شاهدان، وأراد به القياس على هلال شوال لا يقبل إلا ذكرين حرين بالغين عاقلين مسلمين بلا إشكال، فإن قيل: كيف قال الشافعي: "يصوم بشهادة الواحد للاحتياط" [270 ب/4] وليس من الاحتياط يجري يوم الشك للصوم، قلنا: هذا سؤال من لا يعرف صوم يوم الشك وذلك أن الشاهد الواحد متى شهد فقد خرج اليوم عن حد الشك إلى حد الاحتياط أو حد الوجوب، وكذلك إذا كانت السماء كلها متغيمة فاليوم ليس بيوم الشك، فأما إذا كانت السماء قطع سحاب متفرّع بحيث يحتمل الرؤية في مكان وإن تعذرت في مكان، ولم يشهد على رؤية الهلال شاهد فمن أصبح في هذا اليوم كرهنا له الصوم لأنه صبيحة يوم الشك، وقال القفال: صورة يوم الشك أن يقول بعض الناس رئي الهلال ولا يقول عدل منهم: أنا رأيت وسواء ذكر الفساق ذلك أو الصبيان أو الكفار فإن قيل: ظاهر ما حكي عن علي رضي الله عنه يوهم أنه كان يستحب صوم يوم الشك، قلنا: ليس كذلك بل الظن بعلي رضي الله عنه أنه لا يخالف السنة، وقد قال عمران بن الحصين رضي الله عنه يوم الشك: "من صام هذا اليوم فقد عصى أبا ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني (2/ 156)، والبيهقي في "الكبرى" (7980).

القاسم" والمراد بما ذكرنا ما قدمنا إذا شهد واحد وإذا شهد واحد خرج اليوم عن الشك ولو أراد المزني [271 أ/4] قطع هذا الإشكال في اختصاره لأمكنه ذلك بحذف الواو من قوله: وقال علي، ورواه عن علي لئن أصوم يومًا من شعبان فيكون معناه، ورواه الشافعي كما روينا ثم نختصر من تلك القصة قول علي فلما أدخل الواو أوهم أن قول علي منفصل عن رواية الشافعي وروايته منفصلة عن قوله فيفهم. فرع قال في "الأم" (¬1): لو غُمَّ الشهران معًا فصاموا ثلاثين ثم جاءتهم البينة بأن شعبان قبل صومهم بيوم قضوا يومًا لأنهم قد أفطروا أول يوم من رمضان، وإن جاءتهم البينة بأنهم صاموا يوم الفطر أفطروا أية ساعة منه وصلوا العيد. فرع آخر الشاهد الواحد إذا شهد بإسلام ذمي لا يقبل في الإرث وهل يقبل في حكم الصلاة عليه وجهان بناء على هلال رمضان ووجه المقاربة أنها شهادة تقتضي إيجاب عبادة. فرع آخر لو صاموا بشاهدين فعدوا ثلاثين ولم يروا الهلال وكانت السماء مصحية كان لهم الفطر نص عليه في "الأم"، و"أمالي حرملة"، وقال ابن الحداد في تفريعه: لا يجوز لهم الفطر لأن عدم الهلال [271 ب/4] يقين والحكم بشهادة شاهدين مظنون واليقين مقدم على المظنون وهذا خطأ في المذهب وقوله: أنه من تفريعه خطأ أيضًا لأن الشافعي نص عليه وما قاله مذهب مالك والدليل عليه أنه لو شهد الآية برؤيته جاز الفطر فجاز الفطر أيضًا بناء على شهادتهما وإذا جاز أن يراه الواحد والاثنان دون غيرهما جاز أن لا يراه الجماعة فلا يتحقق كذلك الشاهدين. فرع آخر لو صاموا بشهادة واحد ثلاثين يومًا وكانت السماء متغيمة فلم يروا الهلال نص في "الأم" (¬2): أنهم يفطرون وبه قال أبو حنيفة، ومن أصحابنا من قال: وبه قال محمد يصومون يومًا آخر لأنهم لو أفطروا كان إفطارًا بشهادة واحد وهو غلط، لأن الإفطار يثبت على طريق التبع كشهادة النساء تثبت الولادة ثم يثبت الميراث والنسب تبعًا. فرع آخر إذا رأى الهلال أهلّ بلد دون أهل بلد آخر نظرت فإن كان البلدان بينهما مسافة قريبة لا يختلف المطلع لأجلها كبغداد والبصرة تجب على أهل البلد الآخر برؤيتهم الصوم، وإن كان البلدان [272 أ/4] متباينين كالعراق والحجاز أو الشام وخراسان قال أبو حامد: لا يلزم أهل أحدهما رؤية أهل الآخر لأن الهلال يجوز أن يهل في إقليمه ولا ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 82). (¬2) انظر الأم (2/ 82).

يهل في إقليم آخر واختاره القاضي أبو حامد والدليل عليه ما روي عن كريب مولى ابن عباس رضي الله عنه قال: بعثني أم الفضل بنت الحارث إلى الشام في حاجة عرضت لها عند معاوية رضي الله عنه فرأى الناس الهلال ليلة الجمعة وصاموا وصمت فرجعت إلى المدينة فسألني ابن عباس متى رأيتم الهلال فقلت ليلة الجمعة فقال: أما نحن فقد رأينا ليلة السبت فلا نزال نصوم حتى نرى الهلال أو ستكمل العدة ثلاثين فقلت: أما يكفيك رؤية أمير المؤمنين والناس فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال أصحابنا: يحتمل أنه كان عنده نص في ذلك ويحتمل أنه أراد به قوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته" وبهذا قال أبو حنيفة. قال أبو حامد: وحكي لي ثقة أن من البلاد ما لا يزيد الليل فيه عن النهار ومنها ما تكون الشمس طالعة فيه ولا تكون في غيره فإذا كان [272 ب/4] كذلك كان لكل بلد طلوع نفسه وغروب نفسه ورؤية نفسه، وقال القاضي الطبري وجماعة: هذا غلط، وإذا رآه في بلد وجب على أهل سائر البلاد الصوم وحكي هذا عن أحمد لأن الأرض مسطحة مبسوطة فإذا رُئي في بلد عرفنا أن المانع في بلد آخر عارض يمنع الرؤية لأن الهلال لم يستهل والأول أظهر عندي فإذا قلنا بهذا فلو رأى الهلال ليلة السبت فحكمه حكم البلد الذي انتقل إليه وليس له أن يفطر قبلهم لما روي في حديث ابن عباس رضي الله عنه أنه أمر كريبًا أن لا يفطر وأن يقتدي بأهل المدينة ذكره أصحابنا بخراسان، وقيل فيه وجهان، والأصح أنه لا يفطر لئلا يخالف أهل تلك البلدة وذكروا أيضًا أنه يعتبر القرب والبعد بمسافة القصر في هذا الحكم وهو غلط، بل الاعتبار في أحد الوجهين بالإقليمين. فرع آخر لو أن واحدًا من أهل البلد الذي لم يرقبه الهلال سافر إلى البلدة التي رأوا فيها الهلال ثم هم أفطروا في آخر الشهر فإن أفطروا برؤية الهلال أفطر معهم [273 أ/4] وإن أفطروا بكمال العدد ثلاثين يومًا فإن قلنا: حكمهم يلزمهم أهل البلاد يفطر معهم لا يلزم فيه وجهان على عكس المسألة الأولى، فإن قلنا: هناك لا يفطر تبعًا لأهل البلدة التي هو فيها فهاهنا يفطر، وإن قلنا: هناك يفطر لاعتبار حكم البلدة التي سافر عنها فهاهنا لا يباح له الفطر حتى يرى الهلال أو يكمل العدد. مسألة: قَالَ (¬1): وَمَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا من جِمَاعٍ أَوِ احْتِلاَمٍ. الفصل وهذا كما قال: إذا جامع بالليل وأصبح وهو جنب لم يضر صومه، وكذلك إذا احتلم في النهار اغتسل وأتمّ صومه، وبه قال علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 4).

وعائشة وزيد بن ثابت وأبو الدرداء وأبو ذر رضي الله عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة لا يفطرون الصائم الحجامة والقيء والاحتلام" (¬1) وكذلك الحائض إذا طهرت قبل الفجر ولم تغتسل حتى أصبحت صح صومها وليس من شرط الصوم الطهارة لا من الحدث ولا من الجنابة ولا من الحيض وحكي عن أبي هريرة وسالم بن عبد الله والحسن بن صالح بن حي يبطل صومه إذا أصبح جنبًا من جماع وبه قال [273 ب/4] الشيعة، وقال طاوس وعروة: إن كان علم بجنابته ففرط في الاغتسال حتى أصبح لم يصح صومه، وإن لم يعلم حتى أصبح لم يجب قضاؤه وقال النخعي يجزيه في التطوع ويقضي في الفريضة، واجتجوا بما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أصبح جنبًا فلا صوم له" (¬2) وهذا غلط لما روي خبر عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله يصبح جنبًا من جماع (¬3)، ثم يصوم" أي: كان لا يحتلم فإن الأنبياء لا يحتلمون. وأما خبر أبي هريرة قلنا: روي أن عائشة لما روت هذا الخبر رجع أبو هريرة وقال: أخبرني به الفضل بن عباس وروي أن عيسى بن أبان طعن فيه وقال: روى أبو هريرة خبرًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما روجع فيه أحال به على ميت يعني على الفضل، فإنه كان يومئذٍ ميتًا وهذا الطعن فيه أحق لأنه ثبت كثير من أحكام الشرع برواية أبي هريرة ولم يقل هو سمعت النبي صلى الله عليه وسلم حتى يكون بقوله سمعت الفضل مناقضًا للأول بل قال: من أصبح جنبًا أفطر قاله محمد ورب الكعبة [274 أ/4] وهذا يحتمل أنه ذكر ذلك برواية الفضل، وروي عن جابر رضي الله عنه قال: ليس كل ما يروى سمعناه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن سمع بعضنا بعضًا ونحن لا نكذب وروي أن مروان بعث إلى أبى هريرة أن عائشة وأم سلمة رضي الله عنهما قالتا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبًا من غير احتلام ثم يصوم فقال: "أهما قالتاه، قال: نعم، قال: فهما أعلم" (¬4) ويحتمل أنه منسوخ فإن الخبرين إذا تعارضا ولم يعلم التاريخ ورأينا الصحابة تلقوا أحدهما بالقبول وعملوا به دل على أنه ناسخ للحديث الآخر الذي تركوه أو يكون تأويله من أصبح مجامعًا أفطر وقد يسمى الشيء باسم ما هو سبب فسمى الجماع جنابة وهذا بعيد. مسألة: قال (¬5): وَإنْ كَانَ يَرَى الفَجْرَ لَمْ يَجِبْ وَقَدْ وَجَبَ أَوْ يَرَى أنَّ اللَّيْلَ قَدْ وَجَبَ وَلَمْ يَجِبْ أعاد. وهذا كما قال: إذا أكل ظانًا أن الشمس قد غربت ولم تكن قد غربت يلزمه القضاء بلا خلاف على المذهب، وبه قال عامة الفقهاء، وقال إسحاق وأهل الظاهر: لا قضاء ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (719)، والدارقطني (2/ 183)، والبيهقي في "الكبرى" (8033). (¬2) أخرجه البخاري (1925)، ومسلم (75/ 1109). (¬3) أخرجه البخاري (1926)، ومسلم (78/ 1109). (¬4) أخرجه البخاري (1925)، ومسلم (75/ 1109). (¬5) انظر الأم (2/ 4).

عليه ويمسكوا بقية [274 ب/4] النهار عن الأكل حتى تغرب الشمس، وروي ذلك عن الحسن ومجاهد وعطاء وعروة واحتجوا بما روي عن زيد بن ثابت أنَّه قال: كنت جالسًا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنا فشربنا ونحن نرى أنه من الليل ثم انكشف السحاب فإذا الشمس طالعة فعجل الناس يقولون: تقضي يومًا مكانه فقال عمر: والله لا نقضيه ما تجانفنا الإثم (¬1)، ولأنه بمنزلة الناسي لأنه أكل وعنده أنه غير صائم وهذا غلط، لما روي أبو أسامة عن هشام بن عروة عن فاطمة بنت المنذر عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: أفطرنا يومًا في رمضان في غيم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلعت الشمس قال أبو أسامة: قلت لهشام: أمروا بالقضاء قال: وبد من ذلك أورده أبو داود في سننه وروي أصحابنا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقضاء وأما خبر عمر قلنا: روى حنظلة قال كنا بالمدينة في شهر رمضان وفي السماء شيء من السحاب فظننا أن الشمس قد غابت فأفطر [275 أ/4] الناس فأمر عمر رضي الله عنه من كان قد أفطر أن يصوم يومًا مكانه، وروي مالك في الموطأ أنه قال: الخطب يسير وقد اجتهدنا قال مالك: أراد به حقه وجوب القضاء، وروي أصحابنا أنه قال: الخطب يسير يقضي يومًا مكانه، وأما الناسي فلا يمكنه أن يحترز من الأكل ناسيًا وهذا يمكنه أن يمكث فلا يأكل حتى يتيقن غروب الشمس فالنسيان خطأ في الفعل، وهذا خطأ في الوقت، والتحرز منه ممكن، وقال القفال: أما في آخر النهار فيلزمه القضاء بلا خلاف، وأما في أول النهار فقد نقل المزني أنه يقضي، وما نقله ليس هو من لفظ الشافعي بل لفظه واجب تأخير السحور فإذا صار إلى وقت يخشي طلوع الفجر أمسك وأحب تعجيل الفطر فإن خاف أن يكون النهار باقيًا أمسك فإن أفطر فبان أن النهار كان باقيًا فعليه القضاء ثم ذكر حديث عمر رضي الله عنه، فمن أصحابنا من صوّب المزني في هذا التخريج وسوى بين أول النهار وآخره، وقال: لعل المزني سمعه منه، ومن أصحابنا من غلط المزني وقال: في أول النهار [275 ب/4] لا يبطل صومه وبه قال مجاهد وهو اختيار المزني لأن الأصل بقاء الليل فهو معذور وفي آخر النهار الأصل بقاء النهار فعليه أن يحتاط ويؤخر فإذا لم يفعل أفطر ولم يساعده على هذا أحد من أهل العراق. مسألة: قَالَ (¬2): وَإِنْ طَلَعَ الفَجْرُ وَفِيْ فِيهِ طَعَام لَفَظَهُ فإنْ ازدَرَدَهُ أَفْسَدَ صَوْمَهُ. وهذا كما قال: العرب تسمي فجر الصبح خيطًا كما قال الله عز وجل فاعلم أنه يدخل في الصوم بطلوع الفجر ويخرج منه بغروب الشمس لما روى عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغابت الشمس ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8012)، وفي "معرفة السنن" (2473). (¬2) انظر الأم (2/ 5).

من هاهنا فقد أفطر الصائم" (¬1) ويجوز أن يأكل ويشرب ويباشر إلى طلوع الفجر لقوله تعالى: {وكُلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وإذا طلع الفجر وفي فيه طعام أخرجه كما طلع الفجر فإن ازدرده أي: ابتلعه بعد طلوع الفجر أفسد صومه إذا كان ذاكرًا للصوم، وحكي عن ابن سريج وأبي إسحاق أنهما قالا: هذه [276 أ/4] المسألة لا تتصور إلا في رجل كان على سطح أو ربوة من الأرض يراقب الفجر فانشق عموده وفي فيه بقايا طعامه لفظها وصح صومه، وأما إن كان مطلع الفجر متواريًا عن بصره يستره حائل يأكل حتى يخبر بطلوع الفجر فعليه قضاء اليوم لا ينفعه أن يلفظ ما في فيه عند اتصال الخبر به لأن الطعام لا محالة قد وصل إلى جوفه بطلوع أوائل الفجر إلى أن يسمع الخبر اللهم إلا أن يتصور إمساك لقمة في الفم قبل طلوع الفجر واتصال الخبر به قبل ازدراد شيء مها فيلفظها بجملتها بعد طلوع الفجر إن تصور ذلك. فرع لو طلع الفجر وفي فيه طعام فسبقه الطعام ودخل جوفه من غير اختيار لازدراده وهو ذاكر لصومه هل يفطر؟ وجهان مخرجان من المضمضة إذا شق منها الماء وأصحهما أن عليه القضاء. مسألة: قال (¬2): وَإِنْ كَانَ مُجَامِعًَا أخْرَجَهُ مَكَانَهُ. وهذا كما قال: إذا أولج قبل طلوع الفجر فوافاه الفجر مجامعًا نظر فإن وقع النزع والطلوع معًا بأن كان الفجر يطلع وهو شرع لم يقدح ذلك في صومه وإنما يتصور ذلك على [276 ب/4] ما صوره أبو إسحاق وابن سريج قال ابن سريج: وسواء أنزل في حال الإخراج أو لم ينزل لم يفسد صومه لأنه متولد من مباح، وقال مالك وأحمد وزفر والمزني: يفسد صومه، وعن أحمد أنه يلزمه الكفارة أيضًا، واحتجوا بأن النزع هو جماع يلتذ به كما يلتذ بالإيلاج فيفسده وهذا غلط، لأن النزع ترك الجماع وترك الفعل ليس بفعل، ألا ترى أنه لو حلف أنه لا يلبس ثوبًا وهو لابسه فنزع في الحال لا يحنث، وأما الالتذاذ فلا يتعلق به الفساد بل يتعلق بالوطئ وهذا ليس بوطء ولهذا لا يتعلق بالمباشرة دون الفرج إذا لم ينزل وإن التذ. مسألة: قال (¬3): فَإِنْ مَكَثَ شَيْئًَا أَوْ تَحَرَكَ لِغَيْرِ إِخْرَاجِه أَفْسَدَ صَوْمَهُ وَقَضَى وكفَّرَ. وهذا كما قال: إذا مكث على الجماع كما ذكرنا مع العلم والقدرة على إخراجه أو تحرك لغير إخراجه فسد صومه وعليه القضاء والكفارة وبه قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة والمزني: يجب القضاء ولا كفارة وذكره والدي رحمه الله عن بعض أصحابنا ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3/ 46)، ومسلم (862)، والترمذي (698)، وأحمد (1/ 35)، والدرامي (2/ 7)، والحميدي (20). (¬2) انظر الأم (2/ 5). (¬3) انظر الأم (2/ 5).

وهذا غلط لأنه مع الانعقاد بالجماع فصار كما لو أفسد بالجماع [277 أ/4] ولو كان جاهلًا بطلوع الفجر فلا كفارة وعليه القضاء وإن مكث بعد ذلك متعمدًا وليس على قولنا جماع يمنع صحة الصوم ولا كفارة إلا هذا واختلف أصحابنا إذا مكث متعمدًا فمنهم من قال: لم ينعقد صومه أصلًا والكفارة تجب بمنع الانعقاد بالجماع ومنهم من قال: انعقد صومه ثم فسد إذا أحرم مجامعًا انعقد ثم فسد والأول أولى عندي وقال الإمام أبو محمد الجويني: لو اشتغل عند الطلوع بالإخراج ولكن قصد بالحركة للإخراج طلب اللذة صار كالمكث على الجماع لأن اللذة تلتمس بالإيلاج مرة وبالإخراج أخرى فليكن قصده ترك الجماع لا يشوبه ابتغاء اللذة حتى لا يبطل صومه. فرع لو طلع الفجر وهو مجامع وظن أن صومه قد بطل وإن أقلع فمكث ممسكًا عن خراجه يلزمه القضاء ولا كفارة لأنه غير قاصد لهتك الحرمة ذكره في "الحاوي" (¬1)، فإن قيل: أليس إذا قال لامرأته إن وطئتك فأنت طالق ثلاثًا فوطئها طلقت ثلاثًا وإن مكث مع القدرة عن النزول عنها لا يجب الحد ولا المهر فما الفرق؟ قلنا: اختلف أصحابنا فيه فقال صاحب "الإفصاح" [277 أ/4] لا نص فيه للشافعي والذي يقتضيه نصه في كتاب الصوم أنه يلزمه الحد إذا كان عالمًا بتحريمها فإن لم يكن عالمًا فلا حد ويلزمه مهر مثلها فلا سؤال ومن أصحابنا من قال: لا يلزمه الحد ولا المهر لأن الشافعي قال في كتاب الإيلاء: ولو قال: إن قربتك فأنت طالق ثلاثًا فإذا غابت الحشفة طلقت ثلاثًا فإن أخرجه ثم أدخله بعد فعليه مهر مثلها فاشترط أن يخرج ثم يدخل فدل على أنه إذا مكث أو تحرك لغير إخراجه لا شيء عليه والفرق أن في الصوم لم يتعلق بابتداء الوطئ غرم لأنه كان قبل طلوع الفجر فجاز أن يتعلق باستدامته بعده غرم وفي الإيلاء يتعلق بابتدائه غرم وهو البينونة واستقرار المهر المسمى فلم يتعلق باستدامته بعده بشيء. مسألة: قال (¬2): وَإِنْ كَانَ بَيْنَ أسْنَانِهِ مَا يَجْرِيْ بِهِ الرَّيقُ. وَلاَ يُمْكِن الاحترازُ مِنْهُ لا يفطر، وإن كانت جسمًا يقدر على لفظه من فيه وإلقائه عنه فازدرده أفطره. وبه قال أحمد، ومن أصحابنا من قال فيما يجري به الريق نقل الربيع أنه يفطر ففيه قولان وهذا لا يصح [278 أ/4] وقد بينه الشافعي في "الأم" على ما ذكرنا فالنصان على حالين ولا معنى لتخريج القولين فيه. وقال القفال: أراد إذا جرى به الريق من غير قصد فإن قصد ابتلاعه وأمكنه دفعه عن أن يجري به الريق فلم يفعل بطل صومه وصغره لا يكون عذرًا خلافًا لأبي حنيفة حيث قال: إن كان قدر سمسمة فابتلعه عمدًا لا يفطره لأن الاحتراز عنه مثله لا يمكن وهذا لا يصح، لأنه إذا لم يمكنه الاحتراز يكون معذورًا عندنا أيضًا وكلامنا إذا أمكن ذلك وفسّره الربيع على هذا الوجه الذي حكاه القفال ولو صح فقال: إن تعمد ازدراده فطر. ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (3/ 417). (¬2) انظر الأم (2/ 5).

فرع آخر في الريق والنخامة إذا بلع الريق الذي يجتمع في فيه على العادة لا يفطره لأنه يمكنه الاحتراز منه فإن الريق لو انقطع جف حلقه وفسد وإن بزق في كمه ثم أخذه وبلعه فطره، وهكذا إذا أخذه بإصبعه ثم رده إلى فمه وبلعه فطره وهكذا لو رمى به فتدلى من فيه ثم رده وبلعه فطره ولو جمع الريق في فمه حتى كثر ثم بلغ فيه، وجهان: أحدهما: يفطره لأنه خرج عن العادة ويمكنه الاحتراز منه [278 ب/4]. والثاني: لا يفطره وهو الأصح لأنه لم يفارق محله ولم يوجد منه غير الجمع ومجرده لا يوجب الفطر ولو أخرج لسانه وعلى رأسه ريق ثم رده إلى فمه لا يفطره لأنه لم يفارق محله ولو مص ريق غيره وبلعه فطره فإن قيل: "روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ويمص لسانها" (¬1) قلنا: يحتمل أن يكون مص اللسان في غير الصوم ويحتمل أنه لم يبتلغ فإن مجرد المص لا يفطره قد جرت عادة الخياطين أنهم يبلون الخيط بالريق ثم يردون الخيط إلى الفم ويفتلون فإن لم يكن على الخيط من الرطوبة ما ينفصل عنه لا يبطل صومه بلا خلاف، فإن كانت تنفصل عنه فابتلعها عالمًا أنه يبطل الصوم بطل صومه وإن كان جاهلًا ففيه وجهان: أحدهما: لا يبطل صومه لأن مثل هذا يخفي ويشتبه على العوام. والثاني: يبطل صومه لأنه علم أن الواصل إلى الجوف مبطل للصوم وإذا علم ذلك كان من سبيله أن يحترز عن كل واصل إلى الجوف فإذا لم يحترز بطل صومه ولو أخرج البلغم من صدره إلى فيه ثم بلعه فطره قاله صاحب [279 أ/4] "الإفصاح" وغيره لأنه كالقيء وعلى هذا لو جذبه من رأسه فدخل في فيه ثم بلعه يجب أن يفطره قولًا واحدًا ذكره القاضي الطبري، وقال في "الحاوي" (¬2):فيه وجهان والصحيح أنه إذا أخرجه من حلقه أو دماغه لم يفطره كالريق ولو لم يحصل في فيه ولكن وصل إلى حلقه ومن هناك نزل إلى جوفه لا يفطره عندي لأنه نزل من الجوف إلى الجوف. مسألة: قال (¬3): وَإِنْ تَقَيَأَ عَامِدًا أَفْطَر، وَإِنْ ذَرَعَهُ القَيءُ لَمْ يُفْطِرْ. وهذا كما قال: إذا تقيأ عامدًا أفطر وعليه القضاء ولا كفارة كما لو أكل عامدًا، وإن غلبه القيء لم يفطره كما لو كان ناسيًا وقال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما: القيء لا يفطر بحال، وقال عطاء وأبو ثور: إن تعمد يلزمه القضاء والكفارة وبقولنا قال مالك وأبو حنيفة، وروي ذلك عن علي وابن عمر رضي الله عنهما والدليل عليه ما روى محمد بن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء وإن استقاء فليقض" (¬4). واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يُفطر من ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2386). (¬2) انظر الحاوي للماوردي (3/ 419). (¬3) انظر الأم (2/ 9). (¬4) أخرجه أبو داود (2380)، والترمذي (720)، والنسائي (3130)، وابن ماجه (1676)، وابن حبان =

قاء [270 ب/4] أو احتجم أو احتلم" (¬1). قلنا: أراد به إذا ذرعه القيء بدليل خبرنا وحكي عن الحسن البصري أنه قال في رواية يفطره، وإن غلبه وهو خطأ لما ذكرنا. وروي عن أبي الدرداء أنه قال: قاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفطر فقال ثوبان: صدق أنا صببت له الوضوء (¬2). وذكر المزني واحتج في ذلك بابن عمر وفي بعض نسخ المزني وقد رويناه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ثبت ذلك مرفوعًا من رواية أبى هريرة على ما ذكرنا واختلف أصحابنا إذا تعمد القيء كيف يفطر فمنهم من قال: إنما يفطر لأنه لا يقيء أحد إلا ويترادّ منه شيء إلى جوفه ولولا ذلك لم يفطره لأن ابن عباس رضي الله عنه قال: الصوم مما دخل والوضوء مما خرج ومنهم من لا يعتبر ذلك لأنه لو قاء منكسًا رأسه بحيث يعلم أنه لم يرجع إلى جوفه شيء يفطره وهذا أصح فإذا تقرر هذا قال المزني بعد هذا أقرب ما يحضر لي للشافعي فيما يجري به الريق أنه لا يفطره ما غلب الناس من الغبار في الطريق وغربلة الدقيق وهدم الرجل الدار وفي نسخة الجدار وما يتطاير من ذلك وفي نسخة وما يتكاثر من ذلك أي: يغلب بالكثرة [280 أ/4] في العيون والأنوف والأفواه فيصل إلى الحلق حتى يتنخمه فيدخل في فيه أي: فيجد لونه في نخامته التي يخرجها من فيه فيشبه ما قال الشافعي في قلة ما يجري به الريق، والأمر على ما ذكر وهذه الجملة هي تشتمل على خمس مسائل إحداها: أن الرجل إذا مشى في طريق وهو صائم فيصعد غبار الطريق إلى جوف رأسه أو ينزل إلى أقصى حلقه لم يبطل صومه لأنه مغلوب به، والثانية: لو غربل دقيقًا كان كالغبار ولو غربل الدقيق وفتح فاه عمدًا حتى وصل إلى جوفه فيه وجهان كمن تعمد جمع الريق وبلعه، والثالثة: لو لم يلتئم عند الهدم حتى وصل التراب إلى الجوف لم يضره، والرابعة: أن العين والأنف والفم في هذه المسائل فلا يفسد صومه ما يصل من هذه السبل إلى الجوف، والخامسة: أن الصائم إذا تنخم فانقلعت النخامة وخرجت إلى فيه وهو غير قاصد لم يفسد صومه، وإن كان قاصدًا قلعها عن حد الباطن بالتنخم اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: لا يفسد صومه وهو ظاهر كلام المزني واختياره، ومنهم من قال: يفسد صومه كما لو قصد الاستقاءة ولا فرق إذ لا فرق في الاستقاءة بين قلع الشيء من المعدة وبين قلعه من الصدر فإن كل ذلك جوف وإن كانت [280 ب/4] به سلعة فانقلعت النخامة من غير قصده فهو كمن ذرعه القيء وهذا هو القياس الواضح ذكره أصحابنا بخراسان، وقيل: جملة هذا هو أن الفم يقع الفطر بالواصل إلى الجوف منه ¬

_ (¬1) = (3509)، والدارقطني (2/ 184)، والحاكم (1/ 427). () أخرجه أبو داود (2376)، وعبد الرزاق في "المصنف" (7538، 7538)، والبيهقي في "الكبرى" (8033)، وفي معرفة السنن" (2476). (¬2) أخرجه أحمد (5/ 195)، وأبو داود (2381)، والترمذي (793)، والنسائي (3123)، والدارقطني (2/ 181)، والحاكم (1/ 426).

والخارج إليه، وكذلك القبل من الرجل والمرأة يقع الفطر بالداخل فيه والخارج منه، وأما الدبر فإنه يقع الفطر بالداخل فيه دون الخارج منه، وكذلك الأنف والأذن، وأما العين فلا يقع الفطر بالداخل فيها ولا الخارج منها، وقال أبو حامد: أخطأ المزني في "المختصر" حيث عد العين من جملة منافذ البدن وشبهها بالأفواه والأنوف وعلى هذا لو تثاءب إنسان إلى فوق فقطرت في حلقه قطرة ماء المطر لا يفطره كالذباب سواء ولو صب في حلقه ماء وهو نائم أو حبر مكرهًا أو وطئت نائمة مكرهة لا يفطره، وقال أبو حنيفة: يفطره كلها وهذا غلط، لأنه مغلوب عليه فأشبه ما ذكرنا ولو أكره وخوف بالسيف حتى شرب أو أكل بنفسه فيه قولان أحدهما: لا يفطره وهو المذهب الصحيح لأن هذا أشد من عذر النسيان، والثاني: يفطر لأن التناول حصل بفعله. فرع لو أعمي عليه فعولج بدواء يصل إلى جوفه قال القفال: فيه وجهان [281،4] أحدهما: لا يفطره كما لو أولج لغير علة، والثاني: يفطره لأنه فعل لمصلحته فصار ما لو باشر باختياره وهكذا المحرم إذا أغمي عليه فعولج بدواء فيه طيب هل يلزم الفدية على المداوي فيه وجهان. مسألة: قال (¬1): وَإِنْ أَصْبَحَ لاَ يُرَى أَنَّ يَوْمهُ مِنُ رَمَضَانَ وَلَمْ يُطُعَمْ ثُمَّ اسَتَبانَ. الفصل وهذا كما قال: إذا أصبح يوم الثلاثين من شعبان وهو يراه من شعبان ولم ينو الصوم من الليل ثم بان في أثناء النهار أنه من رمضان فإن قامت البينة فلزمه إمساك لحرمة الوقت كما لو نوى الصوم ثم أفسده بالجماع أو بالأكل فإنه يلزمه إمساك البقية ويفارق هذا الحائض إذا طهرت في بعض النهار لا يلزمها إمساك بقية النهار، لأنا أبحنا لها أن تأكل مع علمها بأنه يوم من رمضان فجازت لها الاستدامة على الأكل وهاهنا لا يجوز به أن يأكل الطعام مع العلم بالحال، وإنما أبحنا على أنه ليس من رمضان فإذا بان ذلك حرمنا عليه الأكل ومن أصحابنا من قال: هل يلزم الإمساك في المسألة الأولى [281 ب/4] قولان أحدهما: لا يلزمه الإمساك لأنه قال في البويطي: أحببت له أن يمسك لأنه أبيح له الفطر فلا يلزمه الإمساك بعده ولا فرق بين أن يكون أكل أو لم يأكل وإنما صور الشافعي المسألة فيمن لم يطعم لقصد الخلاف مع أبي حنيفة، فإنه يقول: إذا لم يطعم ونوى الصوم قبل الزوال يجوز صومه لا لأن وجوب الإمساك يختلف بذلك عندنا، وإذا أمسك على ما ذكرنا يلزمه القضاء لأنه لم ينعقد الصوم وهل يثاب عليه فيه وجهان: أحدهما: لا يثاب عليه لأنه لا يعتد به كما لو أكل متعمدًا ثم أمسك في الباقي. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 6).

والثاني: يثاب عليه وهو الصحيح لأنه لو تركه استحق العقاب وهو مطيع بإتيانه فإذا أتى به يثاب عليه، وإن لم يكن ثواب الصوم وقال أبو حامد: قال أبو إسحاق: يكون صائمًا صومًا شرعيًا لأنه لا يجوز في شهر رمضان أن يصوم غير رمضان وهذا أصح، ولأنه لا يجوز أن يقع نقلًا في رمضان ونحن نوجبه عليه فهذه العبارة خطأ فينبغي أن يعتبر بما ذكرنا. مسألة: قال: (¬1): وَإِنْ نَوَى أَنْ يَصُومَ غَدًا فَإِنْ كَانَ أَوَّلَ الشهرِ فَهْوَ فَرْضٌ وَإِلاَّ فَهْوَ تَطَوُّعٌ. الفصل [282 أ/4] وهذا كما قال: إذا كان في ليلة الثلاثين من شعبان ولم يثبت رؤية هلال رمضان فنوى أن يصوم غدًا من رمضان إن كان من رمضان وإن لم يكن من رمضان فهو تطوع فكان من رمضان لا يجوز لأن الأصل بقاء شعبان ودخول رمضان مشكوك فيه فلا يصح الدخول في العبادة بالشك، وإن كان ذلك في آخر رمضان فإنه يجزيه أن يقول أصوم غدًا من رمضان إن كان من رمضان فإن لم يكن من رمضان فأفطر لأن الأصل بقاء رمضان ودخول شوال مشكوك فيه واليقين لا يزول بالشك. وقال أبو حنيفة والمزني: يجوز في المسألة الأولى أيضًا قياسًا على المسألة الثانية، وعند أبي حنيفة يجوز صوم رمضان بمطلق النية ولو نوى أن يصوم غدًا من رمضان أو نافلة لم يجز سواء كان في أول رمضان أو في آخره لأنه لم يقطع النية بأحدهما، وإنما يترك بين النفل والفرض فلم يجز. وقال بعض أصحابنا: نظير هذه المسألة في صلاة الجمعة إذا قال: إن كان الوقت باقيًا فهي جمعة أو نافلة لم يجز، وإن بان بقاء الوقت لأنه شرك بين جمعة ونافلة، ولو قال: إن كان الوقت باقيًا فهي جمعة [282 ب/4] وإن كان خارجًا فهي نافلة فبان أنه لم يكن خرج الوقت كانت جمعة لأنه بني على أصل ولم يشرك وفي هذا نظر لأن من شك في وقت الجمعة هل خرج أم لا لا يجوز له أن يحرم بالجمعة على الصحيح من المذهب لأنه لم يتيقن وجود شرط جواز الجمعة ولابد من اليقين في ذلك. فرع لو نوى في غير رمضان فقال: أصوم غدًا عن قضاء رمضان أو نافلة فإنها تنعقد نافلة وبه قال محمد، وقال أبو يوسف: تنعقد قضاء لأن التطوع لا يفتقر إلى التعيين فكأن نوى القضاء وصومًا مطلقًا وهذا غلط، لأن زمان القضاء يصلح للتطوع، فإذا سقطت نية الفرض بالشك بقيت نية الصوم فوقع تطوعًا، وما قاله لا يصح لأن التطوع ينافي الفرض ونية الصوم لا تنافي الفرض، فإذا نواه نافي به الفرض في يوم شك. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 6).

مسألة: قال (¬1): وَلَوْ عَقَدَ رَجُلٌ على أنَّ غدًا عَندَهُ من رَمَضانَ في يَومِ شَكِّ ثُمَّ بان له أنه كان من رمضان أجزأه. الفصل وهذا كما قال: إذا عقد الرجل على أن غدًا عنده من رمضان عقدًا صحيحًا غير ممرض، إما بشهادة شاهد واحد يشهد عنده على رؤية الهلال أو بإخبار من يثق بخبره من امرأة أو عبد يغلب على ظنه صدقه أجزأته نيته وصح صومه لأن غلبة [283 أ/4] الظن في جواز الدخول في العبادة تجري مجرى اليقين، ألا ترى أنه إذا سمع أذان المؤذن فغلب على ظنه دخول وقت الصلاة جاز له أن يصلي، وكذلك إذا غلب على ظنه دخول وقت الصلاة بورده أو عمله يجوز له أن يصلي، وكذلك لو كان يعرف منازل القمر وتقدير سيره فعلم أن الهلال قد أهل هل يجوز له أن يصوم به؟ قال ابن سريج: يجوز، واختاره القاضي الطبري لأن علمه الحاصل من جهة الحساب هو آكد من غلبة الظن بخبر غيره فجاز أن يصوم به وهو اختيار القفال أيضًا، ومن أصحابنا من قال: لا تصح نيته به لأن الحساب ليس بطريق شرعي ولا يتعلق به وجوبه، وإنما الطريق الرؤية أو العدد، وهكذا الوجهان فيمن لا يعرف الحساب لكنه أخبره به من يثق هو بخبره فصام على ذلك، ولو عرف ذلك بالنجوم ففيه طريقان: أحدهما: قول واحد لا تجوز نيته به، والثاني: فيه وجهان أيضًا لأنه استند إلى دلالة علم والصحيح الأول لأن النجوم لا مدخل لها في أحكام الشرع. فرع هل يلزمه الصوم به إما بالحساب أو النجوم فلا خلاف أنه لا يلزمه به لأنه يكفي في الجواز ما لا يكفي في الجوب [283 ب/4] كما قلنا في وقت الصلاة: يجوز أن يدخل فيها بغلبة الظن، ولكن لا يجب وقيل: إذا كانت السماء متغيمة فقال أهل العلم بالحساب: لو لم يكن غيم أمكنت رؤية الهلال من طريق الحساب سير القمر فمن لا يعرف الحساب لا يعتمد ذلك ومن عرفه هل يلزمه أن يصوم وجهان والصحيح أنه لا يلزمه حتى يثبت عند الحاكم. فرع لو أخبره صبي عاقل برؤيته فغلب على ظنه صدقه، قال أبو حامد: يجوز أن ينعقد الصوم به وقال سائر أصحابنا بخراسان: لا يجوز ذلك لأنه لا حكم لقوله. فرع لو عقد من غير دليل وقال: غلب على ظني أنه من رمضان لا يجوز له أن يصوم ولو ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 7).

صام لا يجوز، وإن أصاب ولو قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام فأخبرني أنه من رمضان وقال لي: صم لا يجوز العمل عليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد حكم أنه لا يجب إلا برؤية الهلال أو استكمال العدة ذكره القاضي الحسين رحمه الله ثم أعلم أنه في لفظ "المختصر" أو في إشكال، وذلك أنه قال: لو عقد رجل ولم يبن سبب العقد [284 أ/4] وأطلق قوله ثم بان ومعناه بان للناس لا لهذا الرجل لأن هذا الرجل بان له بالأمس ما بان للناس اليوم. مسألة: قال (¬1): وَإِنْ أَكَلَ شَاكًَّا فِْي الفّجْرِ فَلاَ شَيءَ عَلَيْهِ. وهذا كما قال: وقت الصوم هو ما بين طلوع الفجر الثاني وغروب الشمس كما أن وقت تركه ما بين غروب الشمس وطلوع الفجر الثاني وليس للفجر الأول تعلق بعبادة بحال فما لم يطلع الفجر الثاني فله الأكل فإن كان شك في طلوعه فالمستحب أن لا يأكل فإن أكل ولم يتبين له طلوع الفجر وبقي على الشك فلا شيء عليه وصومه صحيح، وقال مالك: فسد صومه وعليه القضاء ولا يذكر أصحابه هذا وهذا غلط، لأن الليل يقين وطلوع الفجر شك فلا يزال حكم اليقين بالشك ومتى تحقق الليل أفطر ويستحب له تعجيل الفطر، وإن لم يتحقق وغلب على ظنه دخوله نظر فإن كان غير دليل فالمستحب أن لا يأكل حتى يغرر بالصوم فإن أكل ونفي الأمر على ذلك فلا قضاء عليه، وإن غلب على ظنه بغير دليل فأكل وبقي على الشك يلزمه القضاء لأنه لا يجوز له الأكل مع هذا الشك إذ الأصل تحريم الطعام وهو شاك في إباحته [284 ب/4] فلا يجوز استباحته بالشك فإذا أكل يجب القضاء، وإن بان أن الشمس كانت قد غربت فلا قضاء عليه، فإن قيل: قال الشافعي نصًا: إذا شك الناس عند افتتاح الجمعة أن الوقت باقٍ أو لا، لا تجوز جمعتهم والأصل بقاء الوقت فخالف هذا الأصل الذي ذكرتم قلنا: لم يخالف وذلك أن الشك وقع هاهنا حين لم يبق من الوقت إلا قليل وذلك القدر لا يمتد حتى يصلى فيه جميع الصلاة بل يتيقن خروج الوقت قبل فراغه منها فلهذا لم ..... (¬2) أن تبتدئ الجمعة حتى .... (¬3) عرض الشك في خلال الصلاة نص الشافعي أنهم يتمونها جمعة إذ يمكن الفراغ قبل خروج الوقت والأصل بقاء الوقت وصحة الجمعة ذكره القفال. مسألة: قال (¬4): وَإِنْ وطِئَ امْرَأَتَهُ فَأَوْلَجَ عَامِدًا الفصل وهذا كما قال: الجماع محرم على الصائم فإذا جامع في الفرج عامدًا في صوم رمضان أفسد صومه وعليه القضاء بكل حال، وحكي أن الشافعي قال في "الأم": إذا كفر الواطئ يحتمل أن لا يكون عليه القضاء، وإن القضاء هو داخل في الكفارة ويحتمل ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 7). (¬2) موضع النقط بياض بالأصل. (¬3) موضع النقط بياض بالأصل. (¬4) انظر الأم (2/ 7).

أن يكون عليه القضاء ولكل وجه وأن يصوم أحب إلّي فأومأ إلى قولين، أحدهما: لا قضاء [285 أ/4] وهو بعيد ولا فرق بين أنواع الكفارة ففيه وجهان أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي بالكفارة ولم يأمره بالقضاء، والثاني: يلزمه القضاء وقد روي أبو سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: "وصم يومًا مكانه" والصحيح أن المسألة على قول واحد يلزمه القضاء، وقال بعض أصحابنا: إن كفَّر بالعتق والإطعام يلزمه وإن كفَّر بالصيام فقولان ووجه أن قضاء اليوم دخل في صوم شهرين. وهذا غلط لأن هذا من مذهب الأوزاعي ولا يصح، لأن الصوم نوع من أنواع الكفارة فوجب معه القضاء كالعتق، ولأن هذا الصوم وقع عن الكفارة فيستحل أن يدخل فيه قضاء رمضان وتجب الكفارة وهي عتق رقبة، ولا فرق بين الزنا وغيره. وقال سعيد بن جبير، وقتاده، والشعبي، والنخعي: لا تلزم الكفارة كما في الأكل، وحكي عن سعيد بن جبير أنه إذا زنى لا كفارة وإذا ....... (¬1) ورد من وطئ الزوجة، وهذا غلط لخبر الأعرابي المذكور في المختصر وتمامه وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم كان جالسًا [285 ب/4] في المسجد يومًا بين أصحابه إذ أقبل أعرابي ينتف شعره ويضرب صدره ويقول: ألا هلك الأبعد ألا هلك الأبعد يريد نفسه حتى دخل المسجد فدنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما لك يا أعرابي"، فقال: هلكت وأهلكت، فقال: "ماذا فعلت" فقال: واقعت أهلي في نهار رمضان، فقال: "أعتق رقبة" فضرب يده على رقبته وقال: والذي بعثك بالحق لا أملك غيرها، فقال: "صم شهرين متتابعين" فقال: وهل أتيت إلا من الصوم أي: هل وقع إلا من قلة الصبر من الصوم، فقال له عليه الصلاة والسلام: "أطعم ستين مسكينًا". فقال: لا أجد، فقال له: "اجلس" فجلس فأتى بعرق فيه تمر فقال: "خذها فتصدق بها" فقال: أعلى أهل بيت أحوج من أهل بيتي، فوالله ما بين لابتيها - أي جبلي المدينة - أهل بيت أحوج من أهل بيتي، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه، ثم قال له: "كل وأطعم عيالك" فحمل الأعرابي المكتل على كاهله ورجع إلى قومه وقال لهم: خوفتموني من محمد فقد ذهبت وأعطاني هذا التمر (¬2). فإذا تقرر هذا فالكلام الآن في قدر الكفارة وفيمن تجب [286 أ/4] عليه فأما قدر الكفارة قال في "القديم": كفارة واحدة وهو الصحيح لأنه صلى الله عليه وسلم أوجب كفارة واحدة، وبه قال أحمد وقال في الإملاء: يجب كفارتان كفارة عليه وكفارة عليها، وحكي عن ابن أبي هريرة من أصحابنا أنه قال: قال الشافعي: هذا في مناظرة جرت بينه وبين مالك وليس بمشهور وهو قول أبي حنيفة ومالك وأبي ثور واختاره ابن المنذر وروي هذا عن أحمد، وإذا قلنا: تجب كفارتان فعلى كل واحد منهما أن يكفر عن نفسه على حسب حاله من عتق أو صيام أو إطعام وإذا قلنا: كفارة واحدة ففي كيفية ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) أخرجه البخاري (6087، 6089)، ومسلم (81/ 1111)، وأحمد (6/ 276).

الوجوب قولان أحدهما: تكون الرقبة عليهما وعلى الزوج تحملها عنها في ماله لأنهما اشتركا في هتك حرمة الصوم فاشتركا في وجوب الكفارة وهو ظاهر قول الشافعي عنه وعنها، والثاني: يكون عن الزوج خاصة ولا مدخل لها في وجوب هذه الكفارة كما لا مدخل لها في وجوب المهر وهو الصحيح، وقال بعض أصحابنا: إنما لا تجب الكفارة عليها بالجماع لن فطرها سبق جماعها وهذا لا يصح لأنه يتصور فطرها بالجماع من ثلاثة [286 ب/4] أوجه: أحدها: أن تكون نائمة فتنبهت بعد الإيلاج ومكثت على الجماع. والثاني: أن تكون ناسية للصوم فتتذكر في أثناء الجماع وتمكث عليه. والثالث: أن يكرهها في الابتداء ثم ترضى، فأول الإيلاج ما حصل به الفطر وإنما حصل بدوامه وقول الشافعي عنه وعنها أراد يجري عن فعله فعلها فلا يجب شيء آخر، وقيل: حصل ثلاثة أقوال: أحدها: كفارتان، والثاني: كفارة عنهما، والثالث: كفارة عليه خاصة وقال والدي رحمه الله قول التحمل باطل لأنه لو صح لوجبت كفارتان تامتان، ألا ترى أنه لما تحمل زكاة الفطر عنها يجب صاعان صاع عن نفسه وصاع عنها ويستحيل إيجاب نصف رقبة ثم تحمله وهو على ما ذكر، وقال القفال في كيفية التحمل: وجهان: أحدهما: أنه يجب نصف الكفارة عليها ويتحمل الباقي. والثاني: على كل واحد منهما كفارة تامة ثم يتحمل عنها ثم يتداخلان وهذا ضعيف لأن التداخل لا يجري في الكفارة عندنا، وذكر بعض أصحابنا بالعراق: أنه يجب على كل واحد منهما كل الكفارة ولكن إذا أخرجها الزوج [287 أ/4] سقطت عنها كما لو كان عليها دين هو ألف وضمنه الزوج عنها فالدين متعلق بكل واحدة من الذمتين فإذا أدى ذلك برئت الذمتان، كذلك هاهنا فإذا قلنا: لا يجب عليها أصلًا تعتبر حالة فيها فإن كان واجدًا للرقبة أعتقها، وإن لم يكن واجدًا لها صام شهرين متتابعين، وقال ابن أبي ليلى: يجوز متفرقًا فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينًا وهذه الكفارة هي على الترتيب عندنا، وحكي عن الحسن البصري أنه قال: يتخير بين أن يعتق أو ينحر بدنة لما روى ابن المسيب مرسلًا "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي بعد الرقبة هل تستطيع أن تهدي بدنة فقال: لا" وهذا غير مشهور فلا يعتمد عليه، وقال مالك: على التخيير بين هذه الثلاثة واحتج بما روي في خبر الأعرابي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "أعتق رقبة أو صم شهرين متتابعين أو أطعم ستين مسكينًا" ولأنها كفارة تجب بالمخالفة في موجب عقد فكانت على التخيير ككفارة اليمين وهذا غلط للخبر الذي روينا وروايته اختصار من خبرنا بعينه ولأنها كفارة فيها صوم شهرين متتابعين فكانت مرتبة [287 ب/4] ككفارة القتل، وليست كاليمين ولأنها خفف الأمر فيها بقلة المقدار وغيرها فخفف بالتخيير أيضًا وإذا قلنا بقول التحمل فلا يخلو حالهما من أحد أمرين: إما أن يتفقا أو يختلفا فإن اتفقا نظر فإن كان من أهل العتق أعتق الزوج رقبة واحدة تجزي عنهما ويقع حكمنا

عن كل واحد منهما، فإن كانا من أهل الصيام صام كل واحد منهما شهرين متتابعين، لأنه لا يدخل التحمل في الصيام ولا يتبعض، وإن كانا من أهل الإطعام أطعم ستين مسكينًا يقع عن كل واحد منهما كالعتق سواء، وإن اختلف الحالان فلا يخلو الزوج عن أحد أمرين: إما أن يكون أعلا أو أدنى فإن كان أعلا نظر فإن كان من أهل العتق وهي من أهل الصيام أعتق وأجزأهما وسقط عنها الصيام، لأن معنى التحمل أن ينقلها إلى مثل حاله ويكفر عنه وعنها هذا إذا كان العتق عنها فإن كانت فيمن لا تكفر بالعتق وهي الأمة أعتق عنه نفسه وصامت عن نفسها لأنه لا يقدر أن ينقلها إلى منزلته في العتق، وقيل: إذا قلنا: يملك بالتمليك يجزي العتق وحكمها حكم الحرة المعسرة، وإن كان من أهل [288 أ/4] الصيام وهي من أهل الإطعام صام عن نفسه وأطعم عنها فإن تكلف العتق نقلها إلى مثل حاله وأعتق وسقطت الكفارة عنها فإن لم يفعل ذلك ولكنه اختار الصيام وصام عن نفسه ولا يصح فيه التحمل ويطعم عنها على ما ذكرنا إن قدر وإلا فلا يلزمه، وإن كان الزوج من أهل العتق وهي من أهل الإطعام أعتق وسقط عنها الإطعام لأنه نقلها إلى مثل حاله فصارت كأنها من أهل العتق، وإن كانت هي أعلا من الزوج فإن كانت من أهل العتق وهو من أهل الصيام صام عن نفسه وكان العتق في ذمته يعتق عنها متى قدر لأن من هو من أهل العتق لا يكفر بالصيام، وإن كانت من أهل الصيام وهو من أهل الإطعام أطعم عن نفسه وصامت عن نفسها لأن من كان من أهل الصيام لا يكفر بالإطعام ولا يدخل التحمل في الصيام، وإن كان من أهل الصيام وهي من أهل العتق أطعم عن نفسه وكان العتق عنها في ذمته حتى يقدر فيعتق عنها، وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا اختلف الحالان على هذا القول فيه وجهان: أحدهما: عليها [288 ب/4] كفارتان لأن الكفارتين إذا كانتا من جنسين لم يتداخلا، والثاني: يتداخلان وهو الأصح وفي هذا نظر. فرع لو قدم من سفر وقد طهرت زوجته من حيض فجامعها لا كفارة على واحد منهما، وإن كانت صائمة دونه نظر فإن أكرهها فعلى الوجهين لا كفارة لأن الإكراه اسقط الكفارة في حقها وهو مفطر فلا كفارة عليهما، وإن طاوعته لا يخلو من أحد أمرين: إما أن تغره أو لا تغره فإن لم تغره ولكنها طاوعته مع العلم بذلك فعلى الوجهين، فإن قلنا: إن الكفارة عليه وحده لا كفارة هاهنا لأنه مفطر، وإن قلنا: عليهما فعليهما الكفارة ويتحملها عنها فيعتبر حالها فإن كانت من أهل العتق أعتق عنها، وكذلك إن كانت من أهل الإطعام أطعم عنها، وإن كانت من أهل الصيام صامت عن نفسها لأنه لا يحمل في الصيام. ولو غرته مثل أن قالت: أنا مفطرة ثم بانت صائمة فإن قلنا: الكفارة عليه وحده فلا كفارة، وإن قلنا: بالقول الآخر قال أبو إسحاق: يحتمل وجهين: أحدهما: الكفارة عليها لأنها غرته فلا يلزمه أن يتحمل عنها [289 أ/4] والثاني: لا كفارة على أحد

منهما لأن الزوج معذور في قبول قولها والمرأة لا يلزمها إخراج هذه الكفارة إذا كانت ...... (¬1) والأول اختيار أبي حامد ....... (¬2) لم يذكر غيره وإن هددها فطاوعته لا تجب الكفارة وفي إفطارها قولان. فرع آخر لو كان الرجل نائمًا فجاءت امرأته فاستدخلت ذكره لا يفطر قولًا واحدًا، وأما المرأة فإن قلنا: إن الكفارة عليهما تجب الكفارة في مالها، وإن قلنا: عليه واحده لا شيء عليهما ولو كانت هي نائمة لا يلزمها القضاء ويلزمه القضاء والكفارة، وقال مالك: عليها القضاء والكفارة، وقال أبو حنيفة: يلزمه القضاء دون الكفارة وهذا غلط، لأن هذا أكثر من النسيان فلا يفطرها. فرع آخر لو كان الزوج مجنونًا والمرأة عاقلة فمكنته من نفسها فإن قلنا: لا كفارة على المرأة لا شيء هاهنا، وإن قلنا: على المرأة الكفارة هل يتحمل فيه وجهان: قال أبو إسحاق: يتحمل لأنها وجبت بوطئه والوطء يجري مجرى الجناية وما يجب بجناية المجنون يجب في ماله، وقال ابن سريج: لا يتحمل عنها ويلزم في مالها لأنه لا قصد له ولا حكم [289 ب/4] لفعله ولأنه معذور دونها وهذا أظهر عندي وقيل: هذان الوجهان مبنيان على القولين فيمن أحرم بالحج ثم جن فجامع هل تلزمه الكفارة قولان، ولو أكرهها المجنون فلا كفارة قولاً واحدًا. فرع آخر لو أصبح صائمًا مقيمًا ثم جن فجامع وقلنا: لا يبطل صومه بالجنون قال ابن سريج: لا كفارة، وقال أبو إسحاق: عليه الكفارة ذكره بعض أصحابنا بخراسان وفيه نظر. فرع آخر لو أكره زوجته على الوطئ فإن لم يوجد منها تمكين فإن شدها ووطئها لا تفطر قولًا واحدًا تلزمه والزوج يفطر وعليه القضاء والكفارة وإن هددت بالضرب أو الطلاق حتى مكنته من نفسها هل تفطر، قولان: أحدهما: لا تفطر والحكم على ما ذكرنا. والثاني: تفطر ولا كفارة عليها قولًا واحدًا، لأنها معذورة في هذا الفطر غير عاصية به والزوج يفطر وعليه القضاء والكفارة، ولو أكره الرجل على الوطء بأن شدت يداه وأدخل ذكره في فرجها فإن لم ينزل فهو على صومه، وإن أنزل فيه وجهان: أحدهما: يفطر لأن الإنزال لا يحدث إلا عن قصد، والثاني: لا يفطر لأنه مكره فإذا قلنا: [290 أ/4] بالأول هل تلزمه الكفارة وجهان أحدهما: لا كفارة للشبهة، والثاني: تلزمه ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) موضع النقط بياض بالأصل.

الكفارة ذكره في "الحاوي" (¬1)، وعند أحمد تلزمه الكفارة لأن الانتشار بالاختيار. فرع لو زنا رجل بامرأة فإن قلنا: تلزمه الكفارة وحده تجب على الزاني وحده ولا شيء عليها سوى القضاء، وإن قلنا: إن الكفارة عليهما وتتداخل أو لا تتداخل ولكنه يتحمل عنها وجب على كل واحد منهما أن يعتق رقبة لأن التحمل إنما يجب على الزوج دون الزاني، وقال القاضي أبو حامد: لا خلاف في هذا لأن الخبر لم يرد فيه ولا الزاني في معناه. فرع (¬2) لو وطئ أربع زوجت له في يوم واحد فإن قلنا: الكفارة عليه فتكفيه كفارة واحدة، وإن قلنا: عليهما يلزمه أربع كفارات، ولو كانت له زوجتان مسلمة وذمية فوطئهما في يوم واحد فإن وطئ الذمية أولًا ثم المسلمة فعليه كفارتان في أحد الوجهين، وإن وطئ المسلمة أولًا ثم الذمية فليس عليه إلا كفارة واحدة. فرع لو وطئ زوجته هل يجب عليه ثمن الماء لغسلها من هذا الجماع، قال القاضي الطبري: لا أعرف هذه المسألة لأصحابنا والذي عندي أنه بمنزلة النفقة لقضاء [290 ب/4] الحج إذا وطئها الزوج فأفسده عليها وقد قال الشافعي على الزوج إن حج بها من قابل والظاهر من المذهب أنها في ماله، ومن أصحابنا من قال: تجب في مالها وقول الشافعي: عليه أن يحج بها من قابل أراد عليه أن يأذن لها في الحج ولا يمنعها من الخروج فيكون ثمن الماء بمنزلة نفقة الحج الذي أفسده عليها. واعلم أن الشافعي ذكر خبر الأعرابي وتكلم عليه فقال: قوله خذ هذا فتصدق به يحتمل أمرين: أحدهما: أنه لم يملكه إياه وإنما تطوع بالتكفير عنه من ماله فلما أخبره بحاجته صرف إليه، والثاني: أنه ملكه إياه وأمره بالتصدق به فلما أخبره بحاجته أذن له في أكله قال: وفي قوله أطعمه عيالك ثلاثة تأويلات: أحدها: أمره بأن يطعم عياله ويكون الفرض في ذمته باقيًا وهذا أحب إليَّ وأقرب إلى الاحتياط، وإن لم يكن مذكورًا في الخبر، والثالث أمره أن يطعم عياله ويسقط الفرض عنه بعجزه فهي خمس تأويلات ولكل واحد منها فائدة، فأما الأول يدل على أن من وجبت عليه كفارة يجوز لغيره أن يكفر عنه من ماله بإذنه لأنه دفع إليه الرسول صلى الله عليه وسلم [291 ب/4] ولم يملكه إياه ولكنه أمره بالتصدق به ليسقط الفرض عنه. والتأويل الثاني: يدل على أن الكفارة لا تلزم إلا في الفاضل عن الكفاية لأنه لما أخبره بالاحتياج أجاز له أكله ولم يأمره بالتكفير. ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (3/ 429). (¬2) انظر الحاوي للماوردي (3/ 429).

وأما الثالث: ففائدته أن من تطوع بالتفكير عن غيره يجوز له أن يدفع الكفارة إلى عيال المفكر عنه إذا كانوا محتاجين. وأما التأويل الرابع: فائدته أن من وجبت عليه كفارة فعجز عنها فإنه يسقط فرضها عنه. فحصل من التأويل الرابع والخامس قولان وهما: أن من عجز عن الكفارة هل تسقط عنه؟ قولان قال أصحابنا: حقوق الله تعالى المتعلقة بالمال هي على ثلاثة أضرب: حق يجب لا بسبب من جهته ولا هو على جهة البذل مثل زكاة الفطر فلا خلاف أنها تجب في حال الوجوب عند القدرة ولا تجب عند العجز ويسقط رأسًا، وحق يجب بسبب من جهته على جهة البذل كجزاء الصيد فلا خلاف أنه يجب إخراجه عند القدرة ويثبت في الدية عند الإعسار إلى أن يجد، وحق يجب بسبب من جهته لا على وجه البذل ككفارة الجماع [291 ب/4] والقتل واليمين والظهار فإن كان قادرًا في الحال يلزمه إخراجه، وإن كان عاجزًا هل يسقط؟ قولان: أحدهما: يسقط كزكاة الفطر، والثاني: وهو الصحيح أنه لا يسقط كجزاء الصيد ولا تجب الكفارة إذا وطاء في قضاء رمضان، وقال قتادة وأبو ثور: تجب الكفارة وهذا غلط، لأنه ليس لزمان القضاء حرمة رمضان فلا كفارة. مسألة: قَالَ (¬1): وَإنْ كَانَ نَاسِيًا فَلاَ قَضَاءَ عَلَيْهِ لِلْخَبَرِ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم في أَكْلِ النَّاسي. وهذا كما قال: إذا أكل ناسيًا لم يفطر ولا قضاء عليه وليس في الصيام ما يقضي إذا فعله ناسيًا أو جاهلًا إلا في الناسي لطلوع الفجر وإن جامع ناسيًا فقد نقل المزني أنه لا كفارة قياسًا على أكل الناسي للخبر في ذلك وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "من أكل أو شرب في الصوم فليتم صومه فالله أطعمه وسقاه" (¬2). وروي عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في الذي صام ثم جامع أشياء مثل الذي يأكل ناسيًا وبقولنا قال على وابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهم والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة [292 أ/4] ومن أصحابنا من غلط المزني فيه وقال: لا نص فيه الشافعي فيحتمل أن يخرج على قولين كما نقول في جماع الناسي في الحج قولان ذكره أهل خراسان وحدهم أحدهما: لا تلزمه الكفارة لأنها تسقط. والثاني: تلزمه الكفارة لأن الأعرابي جاهل بحكم الفطر والرسول صلى الله عليه وسلم أوجب الكفارة عليه والناسي هو مثل الجاهل وهذا أصح، ومن قال بالأول فرق بين الحج وهذا بأن المحظورات هناك تنقسم إلى ما هو استمتاع كاللباس وإلى ما هو إتلاف كالحلق ويستوي في هذا حكم العامد والناسي دون ذاك فجاز أن يلحق الجماع بما يستوي فيه السهو والعمد ومحظورات الصوم كلها على قسم واحد لا تختلف وكلها ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 7). (¬2) أخرجه البخاري (1933)، ومسلم (171/ 1155).

تفترق بالسهو والعمد فيختلف هذا أيضًا، وقال مالك وربيعة: عليه القضاء في الأكل والجماع ولا تلزم الكفارة، وقال أحمد: تجب بالجماع الكفارة والقضاء ولا تجب بالأكل شيئًا، وقال في "الحاوي" (¬1): عن أحمد إذا أكل ناسيًا فإنه يلزمه القضاء دون الكفارة، وقال عطاء والأوزاعي والليث يجب القضاء في الجماع دون أكل ولا كفارة فيهما [292 ب/4] واحتج مالك بأنه قاس على ترك النية وهذا غلط والفرق أن النية مأمور بها والأكل منهي عنه فيختلفان كما في الصلاة لو تكلم ناسيًا لا تبطل، ولو ترك الركوع ناسيًا بطلت واحتج أحمد بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسأل المجامع في رمضان هل كان عامدًا أو ناسيًا وهذا غلط، لأنه روي أنه قال: "هلكت وأهلكت" وروي أنه قال "احترقت" فدل أنه كان عامدًا. فرع لو أكل ناسيًا فظن أنه قد أفطر ثم جامع عامدًا أو أكل عامدًا حكي القاضي أبو علي البندنيجي عن الشيخ أبي حامد أنه قال: لا يبطل صومه كمن سلم من اثنتين من الظهر فتكلم فاعتقد أنه خرج من الصلاة لم تبطل صلاته، ونص الشافعي في "الأم" (¬2): أنه لا كفارة ولم يتعرض للقضاء، وكذلك لو احتجم أو اغتاب أو قبل ولم يُنزل واعتقد أنه يفطره أو اعتقد أنه نسي النية من الليل فوطئ ثم تذكر النية الباب كله واحد، وقال سائر اصحابنا: يلزمه القضاء ولا كفارة لأن الكفارة تسقط بالشبهة دون القضاء، ولم يذكر صاحب "الحاوي" (¬3) [293 أ/4] غيره والمسألة معروفة بالوجهين والأقيس الأول، وقال القاضي الطبري: يحتمل عندي أنه يلزمه الكفارة، لأن الذي ظنه لا يبيح له الوطء بخلاف ما لو جامع طانًا أن الشمس غربت لأن ظنه هاهنا يبيح الوطء، ولو علم أنه على صومه فجامع فإنه تلزمه الكفارة، وقال أبو حنيفة: لا كفارة وجعل المتقدم شبهةً وهذا غلط، لأن كل وطء يوجب الكفارة إذا لم يتقدمه بعفو عنه يوجب الكفارة، وإن تقدمه معفو عنه كالوطئ في الحج. فرع آخر لو استكثر الأكل ناسيًا قيل: فيه وجهان لأنه نادر. فرع آخر لو تقيأ عامدًا وهو جاهل ببطلان الصوم قال القاضي الحسين رحمه الله: يبطل صومه إلا أن يكون حديث العهد بالإسلام وهكذا المحرم إذا تطيب جاهلًا تلزمه الفدية إلا أن يكون حديث عهد بالإسلام قلت: ويحتمل أن يقال لا يفطره لأن هذا مما يشتبه على من نشأ في الإسلام أيضًا. ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (3/ 432). (¬2) انظر الحاوي للماوردي (3/ 431). (¬3) انظر الأم (2/ 85).

مسألة: قال (¬1): وَالكَفَّارةُ عِتْقُ رَقَبَة. وهذا كما قال: أراد سليمة مؤمنة خلاف قول أبي حنيفة لأنه أجاز الكفارة وهي على الترتيب [293 ب/4] عندنا على ما ذكرنا وحكي عن الحسن أنه قال: يتخير بين عتق رقبة وبين أن ينحر بدنة واحتج بما روى ابن المسيب في حديث الأعرابي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "هل تستطيع أن تُهدي بدنة" وروي عطاء بن أبي رباح عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أفطر يومًا من شهر رمضان في الحضر فليهد بدنة فإن لم يجد فليطعم ثلاثين صاعًا" (¬2)، وهذا غلط لما ذكرنا من الخبر المشهور وخبر الجماعة أولى من خبر عطاء الخراساني، وحديث جابر رواية الحارث بن عبيدة هو ضعيف، ثم قال: فإن لم يجد أي: فإن لم يجد الرقبة ولا ثمنها فصيام شهرين متتابعين لايفطر في شيء منها نهارًا من غير عذر ذكر بعد هذا أن لكل مسكين مدًا بمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصد به الرد على أبي حنيفة حيث قال: لكل مسكين مدان من الحنطة ومن الشعير والتمر صاع وقد وجد في خبر الأعرابي أنه أتى بعرق قال سفيان: والعرق هو المكتل [294 أ/4]. قال الشافعي: والمكتل خمسة عشر صاعًا وهي ستون مدًا، وروي هذا في الخبر فدل على صحة قولنا، ثم قال: وإن دخل في الصوم ثم وجد الرقبة فله أن يتم صومه وقصد به خلاف قول أبي حنيفة والمزني: يلزمه العود إلى الرقبة ويستحب أن يعتق نص عليه وفي التيمم إذا رأى الماء هل يستحب له الخروج من الصلاة وجهان والأصح أنه يستحب والفرق على الوجه الآخر أنه يخير المسافر في الصوم بعد الشروع بخلاف الصلاة، وإن وجد الرقبة قبل الشروع في الصوم فيه قولان بناء على أن الاعتبار بحال الوجوب أو بحال الأداء والأظهر أنّ الاعتبار بحال الأداء. مسالة: قال (¬3): وَنْ أَكَلَ عَامِدًا فِيْ صَوْمِ رَمَضَانَ فَعَليْهِ الْقَضَاءُ وَالعُقُوبَةُ. الفصل وهذا كما قال: إذا أفطر بالأكل أو الشرب أو بما دون الجماع لا يلزم الكفارة ويلزمه القضاء والعقوبة يعني التعزيز ولا تلزم الكفارة العظمي عندنا إلا بجماع تام دون غيره ولو وطئ دون الفرج فلا كفارة أنزل أو لم ينزل وبه [294 ب/4] قال سعيد بن جبير والنخغي ومحمد بن سيرين وحماد وأحمد وداود وقال الأوزاعي والثوري والحسن والزهري وإسحاق وعطاء وأبو حنيفة: إنه تلزم الكفارة في صوم رمضان بالجماع التام والأكل التام وتفسيره عند أبي حنيفة أن يكون الفطر بمتبوع الجنس وهو الجماع التام أو ما يقصد به التغذي أو التداوي. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 7). (¬2) أخرجه ابن عساكر (تهذيب تاريخ دمشق) (7/ 5)، وانظر تنزيه الشريعة لابن عراق (2/ 147). (¬3) انظر الأم (2/ 9).

فأما إذا ابتلع حصاة أو لؤلؤة أو جوزة فلا كفارة، وقال: ولو ابتلع لوزة رطبة بقشرها يلزمه الكفارة لأنها تؤكل بقشرها، ولو ابتلع جوزة رطبة بقشرها فلا كفارة لأنها لا تؤكل بقشرها في العادة، وقال مالك: كل من أفطر بمعصية تلزمه الكفارة فدخل في هذا الفطر بالجماع دون الفرج إذا أنزل والقبلة إذا كان معها إنزال والنظر بالشهوة عمدًا حتى ينزل وابتلاع الحصاة والقيء عمدًا، وبه قال أبو ثور وناقض فقال: لو ارتد لا تلزم الكفارة، وقالت طائفة: أنه يغلّط فيه بالقضاء دون الكفارة ثم اختلفوا في قدر التغليظ فقال ربيعة: يصوم اثنى عشر يومًا مكان يوم وقال ابن [295 أ/4] المسيب: يصوم شهرًا مكان يوم، وقال النخعي: يصوم ألف يوم عن كل يوم، وروي عنه ثلاثة آلاف يوم وهو الصحيح عنه، وقال علي وابن مسعود رضي الله عنهما: لو صام الدهر لم يقض حرمة ذلك اليوم. واحتج ربيعة بأن السنة اثنا عشر شهرًا، وصوم رمضان يجزي عنها وهذا غلط لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم في قصة الأعرابي: "وصم يومًا مكانه" وروى أبو داود: وصم يومًا واستغفر الله ولأن قضاء العبادة لا يختلف بالترك بعذر وغير عذر كقضاء سائر العبادات، وحكي عن مالك أنه قال: لو تقيأ عمدًا لا كفارة واعتذر أصحابه بأن في الاستقاءة مشقة وأذى فلا يفعله لغرض صحيح وضرر كبير حتى لو أن ماجنًا استقاء من غير حاجة .... (¬1) فإذا تقرر هذا فظاهر المذهب أنه لا فدية عليه أيضًا، وقال ابن أبي هريرة تلزمه الفدية فقال بعضهم: مد من طعام عن كل يوم، وقال بعضهم: يلزمه أن يطعم فوق فدية الحامل دون كفارة المجامع [295 ب/4] لأن هذا غير معذور والحامل معذور، وحكي هذا عن أبي هريرة وهذه آراء لا ترجع إلى خبر ولا قياس فإذا تقرر هذا فكل وطء أوجبنا فيه الكفارة نظر فإن تكرر منه في يوم واحد فعليه بالأول ولا كفارة عليه بالثاني، وقال أحمد: إن كفَّر عن الأول وجبت بالثاني كفارة، وإن لم يكفر لم يجب ويوقف في اليومين إذا لم يكفر عن الأول واختلف أصحابه فيه واحتج بأنه وطء محرَّم كالأول وقاس على الحج إذا وطئ فيه مرتين، وقال: يلزمه الإمساك كما يلزمه قبل الجماع وهذا غلط، لأن الوطء الثاني لم يصادف الصوم فأشبه إذا كان ليلًا، وأما الأول فقد خالف الصوم وأفسده فلا يصح القياس عليه، وأما الحج فالوطء لا يرفع لإحرامه ولا يخرج عنه بالفساد بخلاف هذا، وأما الإمساك فلحرية الوقت لا لبقاء العبادة، ألا ترى أنه لو لم ينو من الليلة يلزمه الإمساك فلحرية الوقت لا لبقاء العبادة ألا ترى أنه لو لم ينوِ من الليلة يلزمه الإمساك فلحرية الوقت لا لبقاء العبادة ألا ترى أنه لو لم ينوِ من الليل [296 أ/4] يلزمه الإمساك ولا صوم وإن تكرر ذلك في كل يوم فعليه بكل وطء كفَّارة حتى قال في البويطي: لو جامع ثلاثين يومًا فإنه يلزمه ثلاثون كفارة سواء كفَّر عن الوطء الأول أو لم يكفر، وبه قال مالك وقال أبو حنيفة: إن لم يكفر عن الأول فلا كفارة للثاني، وإن كفر عن الأول ففيه روايتان، قال: ولو ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل.

كان في رمضانين ففيه روايتان والأشهر أنها تتكرر وهذا غلط لأن كل يوم ....... (¬1) مسألة: قال (¬2): وَإِنْ تَلَذَّذَ بامرأتهِ حَتى يَنْزلَ فَقَدْ أَفْطَرَ وَلاَ كَفَّارَةَ. وفي ذكرنا الخلاف فيه مع مالك، وقال أحمد: تجب الكفارة بالوطء دون الفرج وفي القبلة واللمس إذا أنزل روايتان وهذا غلط، لأنه وطء غير تام كما لو قبّل. فرع لو حك ذكره لعارض فأنزل هل يلزمه القضاء؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه لأنه لم يتعمد، والثاني يلزمه لأنه اختار سببه ذكره في "الحاوي". فرع آخر ذكره والدي رحمه الله لو لمس شعرها فأنزل هل يبطل [296 ب/4] صومه وجهان: أحدهما: يبطل لأنه جزء من بدنها، والثاني: لا يبطل لأن لمس شعرها كالنظر، ولهذا فإنه لا ينتقض الوضوء ولو لمس أذنها الملصقة بالدم فأنزل فإنه يحتمل وجهين، ولو أنزل عن لمس العضو المنفصل عنها لم يبطل الصوم بلا خلاف. مسألة: قال (¬3): وَإِنْ أَدْخَلَ فِيْ دُبُرِهَا. الفصل وهذا كما قال: إذا لاط بغلام أو أتى امرأة في الموضع المكروه فإنه يفسد صومه ويلزمه القضاء والكفارة، وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: في أشهر الروايتين لا تلزمه الكفارة وذكر شيخنا الإمام ناصر رحمه الله قولًا مخرجًا: أنه يعزر به ولا يحد وفي وجوب الكفارة على هذا القول وجهان وهذا غير صحيح، وأما إذا أتى بهيمة فمن أصحابنا من قال: فيه قولان، كما في اللواط أحدهما: يلزمه القتل بكل حال، والثاني: أنه كالزنا يجلد إن كان بكرًا ويرجم إن كان محصنًا ومن أصحابنا من قال: فيه ثلاثة أقوالٍ [297 أ/4] ..... (¬4) والثالث: يجب به التعزيز فإذا أوجبنا الحد أوجبنا الكفارة، وإذا أوجبنا التعزيز هل تلزم به الكفارة؟ وجهان أحدهما: لا يجب لأنه جماع لا يوجب الحد كالجماع دون الفرج، والثاني: يجب لأنه فرج يلزم بالإيلاج فيه الغسل كفرج المرأة ومن أصحابنا من قال قول واحد: تجب الكفارة لأن لا يعتبر فيه الغسل كفرج المرأة ومن أصحابنا من قال قول واحد: تجب الكفارة لأن لا يعتبر بالحد كما في وطء زوجته في رمضان تلزم الكفارة ولا يتصور به وجوب الحد، وقال أبو حنيفة: تلزم الكفارة به وربما يقولون: لا يلزم به الغسل إذا لم ينزل. مسألة: قال (¬5): وَالحَامِلَ والمُرْضِعُ إِذَا خَافَتَا عَلَى وَلَدِهِمَا أَفْطَرَتَا وَعَليْهِمَا القَضَاءُ. وهذا كما قال: الحامل والمرضع إذا خافتا من الصوم فإن كان خوفهما على أنفسهما يلزمهما القضاء ولا فدية عليهما كالمريض والمسافر، وإن كان خوفهما على ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) انظر الأم (2/ 9). (¬3) انظر الأم (2/ 9. (¬4) موضع النقط بياض بالأصل. (¬5) انظر الأم (2/ 9).

ولدهما قال الشافعي: أفطرتا وتصدقتا عن كل يوم مدّ من حنطة، وأراد إذا كان قوت مثلهما الحنطة وإلا فمن قوتهما إلا أن يتطوعا بالحنطة وصامتا إذا أمنتا على [297 ب/4] ولديهما وبه قال مجاهد وأحمد، إلا أن أحمد يقول: مد من بر أو نصف صاع من تمر أو شعير وهذا هو الصحيح. وقال في البويطي: يجب على المرضع القضاء والفدية ويجب على الحامل القضاء دون الفدية والفرق أن حملها متصل بها فصارت كأن العذر في نفسها كالمريضة بخلاف المرضع، وبه قال مالك في أصح الروايتين والليث بن سعد، وقال صاحب "الإصلاح": قال الشافعي في موضع الكفارة عليهما استحباب وبه قال الحسن وعطاء والزهري وربيعة والثوري والأوزاعي وأبو ثور وأبو عبيد وداود وهو اختيار المزني وابن المنذر وهو قول أبي حنيفة، وروي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا: عليهما الفدية ولا قضاء وهو الأصح، لأن القضاء لزم المريض بالنص ففيه تنبيه على وجوبه على الحامل وقد روي أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أفطرتا وأطعمتا مكان كل يوم نصف صاع". وقال [298 أ/4] القفال قول واحد في المرضع: يلزمها الفدية والقولان في الحامل والفرق ما ذكرنا وأيضًا الضرر الذي تخاف الحامل لو لحق ربما يتصل بالأم فإن الحمل هو جزء منها والأصل الضرر من ولد المرضع إلى بدنها، فليس فيها معنى المرض بل هي رخصة مخصوصة بشرط الفدية، واحتج المزني فقال: كيف يكفَّر من أبيح له الأكل والإفطار ولا يكفر من لم يبح له الأكل فأكل وأفطر؟ قلنا: من أصحابنا من لم يسلم ذلك الأكل عمدًا على ما ذكرناه، ومن أصحابنا من سلم وهو المذهب والفرق أن االمستمتع بالفطر شخص واحد فلم يلزم بذلك الفطر إلا بدل واحد وهو القضاء وهاهنا المستمتع بالفطر شخصان الأم والولد، فجاز أن يتعلق بهذا الفطر بدلان القضاء والفدية كما لو جامع؛ ولأن مدار الكفارة ليس على الإثم لأن المحتقن والمستعط وتارك النية عامدًا من الليل هو مأثوم ولا كفارة عليه، ثم قال المزني: وفي القياس أن الحامل كالمريض والمرضع كالمسافر، وكل مباح له [298 ب/4] الفطر وأراد به أن المريض إنما يفطر لضعف في نفسه لا لعجز عن أمر كان يباشره، كذلك الحامل، وأما المسافر فإنما يفطر لا لضعف في نفسه ولكن لعجز عن أمر يباشره وهو قطع المسافة، وكذلك المرضع إنما تفطر للعجز عن الإرضاع فهو في القياس سواء والجواب ما ذكرنا من الفرق ثم احتج أيضًا بما حكاه عن الشافعي فقال: واحتج بالخبر من استقاء عامدًا هل عليه القضاء؟، قال عليه القضاء قال المزني: ولم يجعل عليه أي: على المستقيء عامدًا هل أحد من العلماء علمته فيه كفارة وقد أفطر عامدًا، وكذلك قالوا: في الحصاة يبتلعها الصائم والجواب من وجهين: أحدهما: أنهم إنما لم يوجبوا هناك الكفارة العظمى، فأما الفدية فغير مسلمة، والثاني: مثل ما قلنا إن المستمتع بالفطر هناك شخص واحد وهاهنا بخلافه.

فرع إذا كانت ترضع ولد الغير بالأجرة لها أن تفطر وتفتدي كما في السفر إذا كان قبيحًا له أن يفطر. فرع آخر إذا أفطر ليخلص الغريق فيه [229 أ/4] وجهان، والظاهر أنه لتزمه الفدية لأن العذر في غيره. فرع آخر لو كانت حبلى بولدين هل يلزم فديتان؟ وجهان: أحدهما: تلزم فديتان لارتفاق شخصين عاجزين عن الصوم، والثاني: وهو الأظهر يلزم فدية واحدة لأنه تحصل المزية بها على فطر المريض. مسألة: قال (¬1): وَمَنْ حَرَّكَتِ القُبلةُ شَهْوَتَهُ كَرِهْتُهَا لَهُ. الفصل وهذا كما قال: إذا كان الصائم شابًا لا يأمن من القبلة الإنزال فإنه تكره القبلة ولا تباح وهل تطلق أنها حرام فيه وجهان: أحدهما: أنها حرام لأنه يخاف الفطر كالخلوة بالأجنبية هي حرام، والثاني: أنها إن أفضت إلى إنزال الماء كانت حرامًا وإلا فلا يكون حرامًا، وهذا أصح لقوله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه حين سأله عن القبلة: "أرأيت لو تمضمضت" فإن قبَّل ولم ينزل لم يفسد صومه، وإن كان شيخًا يأمن الإنزال لم يكره له ذلك والأفضل له تركها، قال الشافعي في "الأم" ومالك يكره في الحالين جميعًا عنها أفضل لأنه مع شهوة يرجى من [299 ب/4] الله تعالى ثوابها وفيما نقل المزني خلل لأنه قال: كرهتها له فإن فعل لم ينتقض صومه وتركها أفضل، لأن من تحرك القبلة شهوته لا يقال تركها أفضل لأن فعلها مكروه وسقط عن المزني نقل الشافعي ومن لم تحرك القبلة شهوته فلا بأس وترك هذا أفضل على ما ذكرناه من لفظه، وقال القاضي الطبري: هذه الكراهة في الحالة الأولى هي كراهة تحريم لأنه إذا كان يخاف منها إنزال الماء يخاف إفساد الصوم فلا يجوز له أن يعرض الصوم للإفساد في الغالب من حاله. وقال محمد ابن الحنفية وابن شبرمة: القبلة تفطر الصائم بكل حال، وقال مالك: القبلة مكروهة للصائم بكل حال، وعند أحمد روايتان، وروي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما أنه لا تكره القبلة للصائم سواء كانت تحرك الشهوة أو لا، وهذا كله غلط، لما روي "أن رجلًا أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله عن قبلة الصائم فنهاه ثم أتاه آخر فسأله فأباحها له" قال أبو هريرة رضي الله عنه فنظرنا فإذا الأول [300 أ/4] شاب والآخر شيخ (¬2)، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقبل وهو صائم" وبينت عائشة رضي الله ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 10). (¬2) أخرجه أبو داود (2387)، وأخرجه ابن ماجه (1658) من حديث ابن عباس.

عنها أن ذلك إنما كان منه لأنه لا يخاف على نفسه فقالت بعد رواية الخبر:- وكان تعني النبي صلى الله عليه وسلم - أملككم لإربه بأبي هو وأمي، أي: أنه كان يملك حاجته ولا تغلبه نفسه وشهوته فقيل لها نظن أنك هي فضحكت (¬1) فعلموا أنها إنما تعني نفسها، ويقال: أرب مفتوحة الألف والراء وإرب مكسورة الألف ساكنة الراء معناهما واحد وهو حاجة النفس ووطرها والإرب الوضوء أيضًا، وروي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل عائشة ويمص لسانها وهو صائم"، وقالت عائشة رضي الله عنها: "تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم مني قبلة وأنا صائمة فقلت: إني صائمة فقال: ناوليني قرصًا فناولته كسرة فوضع على فيه ثم قال: ترى هذا فطرني". وقالت أم سلمة: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلني وهو صائم وأنا صائمة"، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الصائم يقبل قال: "ذاك ريحانة [300 ب/4] تشمها ولا بأس بذلك" وروي أنه قال: "لا بأس إنما هي ريحانة تشمها" (¬2)، وروي عن جابر رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه قال: "هششت يومًا فقبلت وأنا صائم قال: فقلت: يا رسول الله صنعت اليوم أمرًا عظيمًا قبلت وأنا صائم قال: أرأيت لو تمضمضت من الماء وأنت صائم، وروي أنه قال لو تمضمضت أيضرك؟ قال لا قال ففيم إذاً" (¬3) يعني: أن القبلة الخالية من الإنزال كمضمضة خلت عن سبق الماء إلى الجوف وهذا دليل على أن القياس حجة وروي أن امرأة أتت أم سلمة رضي الله عنها فقالت: بعثني زوجي لأسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قبلة الصائم، فقالت أم سلمة: إنه كان يقبل إحدانا وهو صائم فرجعت إلى زوجها فلم تزده إلا شرًا وقال: إنه ليس مثلنا إنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت أم سلمة فأخبرته به أم سلمة فقال: [301 أ/4] ألم تخبريها أني أفعل ذلك وأنا صائم قالت: نعم رجعت إلى زوجها فما زاد إلا شرًا وقال: كذا وكذا فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "إني أرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي" (¬4). وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام فأعرض عني فقلت له ما لي فقال: إنك تقبل وأنت صائم". وروي عن أبي هريرة وعائشة مثل قولنا وبه قال عطاء والشعبي والحسن. وروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما كرهاها للشاب ولم يكرهاها للشيخ وهذا لأنه يخاف لتحرك الشهوة في الشباب دون الشيخ في الغالب وروي عن ابن مسعود - رضي الله عنه: من فعل ذلك يصوم يومًا مكانه (¬5). أورده الإمام البيهقي وهذا أصح مما تقدم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1928)، ومسلم (1106). (¬2) اخرجه الخطيب في "تاريخه" (14/ 113). (¬3) أخرجه أحمد (1/ 21، 51). وعبد الرزاق في "المصنف" (20534)، وابن أبي شيبة في "المصنف" (3/ 61)، والبيهقي في "الكبرى" (8018). (¬4) أخرجه مسلم (74/ 1108)، والبيهقي في "الكبرى" (8105). (¬5) أخرجه البيقهي في "الكبرى" (8106).

عن ابن عمر وابن مسعود وتلك الرواية رواها أهل العراق وحكم الملامسة حكم القبلة. فرع لو قبل فوق خمار فأنزل لا يفطره. فرع آخر لو قبل امرأته وفارقها ساعة أو ساعتين، ثم أنزل فيه وجهان، والأصح أنه يفطره إن [301 ب/4] كانت الشهوة مستصحبة والذكر قائمًا حتمًا أنزل. ولو قليل، أو يمسح فأمذى لم يفطر خلافًا لأحمد، لأنه خارج لا يوجب الغسل كالبول، ويفارق المني لأنه يلنذ بخروجه ويوجب الغسل. مسألة: قال (¬1): "وإِنْ وَطاءَ دُونَ الفَرْج فَأَنْزَلَ أَفْطَرَ وَلَم يُكَفَّر". الفصل وهذا كما قال، قد مضت هذه المسألة، وهل أراد بقوله ولم يكفر الكفارة العظمى أو الكل من العظمى والصغرى؟ فيه خلاف بين أصحابنا، ثم قال: "وإِنْ تَلَذَّذ بِالنَّظَر [فَأَنْزَل] لَمْ يُفْطِر" وقصد به الرد على مالك حيث قال: إن أنزل في أول النظر قضي ولم يفكر، وإن كرر النظر حتى أنزل قضى وكفر. واختلف أصحاب مالك فيمن أنزل بالفكر وهل يفطر أم لا؟ وأكثرهم يسلمون ذلك وعندنا لا يفطر بحال، لأنه حديث النفس من غير مباشرة كالاحتلام. وأما الإثم فإنه جاءه نظر فأنزل لم يأثم، وإن كرر النظر أثم ولو استنزل الماء بكفه أفطر وعليه القضاء دون الكفارة خلافًا لمالك، والأصل ما ذكرنا أنه لا كفارة في غير الجماع. وقد روي عن عمر - رضي الله عنه -[302 أ/4] أنه أتي بسكران في رمضان فعاقبه وقال للمنخرين والفم أو لليدين والفم ولو أننا صيام وأنت مفطر ولم يأمره بكفارة ولا أحد من الصحابة أمره بها. مسألة: قال (¬2) الشافعي: وَإِذا أُغْمٍىَ عَلَى رَجُلٍ فَمَضَى لَهُ يَوْمٌ أَوْ يَوْمَانِ مِنْ شَهْرِ رمضانَ وَلَم يَكُنْ أَكَلَ وَلاَ شَرِبَ فعليه القضاءُ. إِلى آخر كلام المزني. وهذا كما قال: أراد به إذا أغمي على صائم لا أن الرجل يختص به وجملته أنه إذا أغمي على إنسان في رمضان في الليل ولم يفق إلا في النهار لم يصح صومه من الغد لأنه لم ينو من الليل وإن أغمي عليه بالنهار وكان قد نوى من الليل فإن استغرق النهار كله لم يصح صومه قولًا واحدًا. وقال أبو حنيفة والمزني يصح صومه كما لو نام في كل النهار وهذا غلط لأن النية قد انفردت عن الإمساك فلم يجز كما لو انفرد الإمساك ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 11). (¬2) انظر الأم (2/ 11).

عن النية وأما النائم فقال أبو سعيد الإصطخري: لا يصح صومه إذا نام في كله. وقال عامة أصحابنا يصح صومه والفرق أن النوم جبلة وعادة لا يزيل العقل لأنه متى نبه تنبه ويلزم [302 ب/4] قضاء الصلوات بخلاف الإغماء وإن لم يستغرق جميع النهار. قال في كتاب الصوم إذا أفاق في بعض النهار أجزأه، وقال في كتاب الظهار إن كان في أول النهار مفيقًا صح صومه وإن لم يكن مفيقًا في أوله لم يصح صومه. وقال في كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى: إن أغمى عليها وهي صائمة أو حاضت فإنه يبطل صومها فجعل الإغماء منافيًا للصوم كالحيض واختلف أصحابنا فيه على طرق فقال أبو إسحاق: فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يحتاج أن يكون مفيقًا في أوله وبه قال مالك لأن الصوم يفتقر على الإفاقة كما يفتقر إلى النية ثم محل النية ابتداء الصوم كذلك الإفاقة. والثاني: إذا كان مفيقًا في جزء من الصوم أجزأه لتحصل النية مع الإفاقة في جزء منه كما لو أفاق في أوله. والثالث: أنه إذا أغمي عليه في جزء من الصوم بطل صومه لأنه معنى يُزيل العقل، ويفسده إذا وجد في جميعه فكذلك في بعضه كالجنون. والطريق الثاني: قال ابن سريج المسألة على قول واحد يحتاج [303 أ/4] أن يكون مفيقًا في أوله على ما ذكر في الظهار وما قال في الصيام أجمل ولم يفصل وبينه في الظهار وأما ما قال في اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى فله تأويلان، أحدهما: أنه ذكر الحيض والإغماء وأجاب عن الحيض. والثاني: أنه أراد بالإغماء الجنون. ثم خرج ابن سريج قولًا آخر أنه إذا اعتبرت في أوله اعتبرت في آخره لأنه أحد الطرفين كنية الصلاة تعتبر في طرفها أولها وآخرها. والطريق الثالث: المسألة على قول واحد تعتبر الإفاقة في جزء منه حتى يحصل القصد إلى الإمساك إلا أنه ذكر في الظهار أول النهار لأنه جزء منه ولم يرد أن الأول بخلاف الاثنان والذي ذكر قال في اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى تأويله ما ذكرنا وبه قال أحمد. والطريق الرابع: فيه أربعة أقوال ثلاثة منصوصة وواحد مخرج وهو ما خرجه ابن سريج. والطريق الخامس: فيه خمسة أقوال ثلاثة منصوصة وقولان مخرجان أحدهما ما ذكره المزني والثاني ما ذكره ابن سريج وهذا والذي قبله ضعيف. فرع لو شرب بالليل وبقي سكران طول نهاره يلزمه القضاء [303 ب/4] فإن صحا في بعض النهار فهو كالإغماء، وكذلك لو شرب دواءً سفاهة فزال عقله فهو كالسكران. فرع لو جن في أثناء الصوم فيه قولان، قال في الجديد: يبطل الصوم لأنه عارض يسقط فرض الصلاة فابطل الصوم كالحيض وهو الصحيح. وقال في القديم لا يبطله كالإغماء لأن كليهما يزيل العقل والولاية وهذا لا يصح لأن حكم الجنون أغلظ، فعلى قوله

القديم فيه طرق كما ذكرنا في الإغماء. وذكر القاضي أبو علي البندنيجي أن المذهب هو قوله القديم ذكره في البويطي أيضًا. وقيل في المسألة وجهان وكلاهما غلط ولو امتد الإغماء إلى الليلة القابلة واليوم بعد ..... (¬1) وإن أفاق في بعضه لفقد النية من الليل، وعند أبي حنيفة لو كان قبل الزوال فنوى فإنه يصح صومه. مسألة: قال (¬2): وَإِذَا حَاضَتِ المَرْأَةُ فَلا صَوْمَ عَلَيْها فإذَا طَهُرَتْ قَضِيت الصَّومَ. وهذا كما قال لا يصح الصوم من الحائض ولكن يلزمها في ذمتها، ومعنى قوله فلا صوم عليها أي: لا يصح منها مباشرة الصوم [304 أ/4] في الحيض ولو قصدت الصوم تأثم ثم إذا طهرت قضت الصوم ولا تقض الصلاة إلا ما أدركت في وقت العذر والضرورة وهذا إجماع. وروت معاذة العدوية عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان يصيبنا الحيض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة" وإنما افترق حكم الصوم والصلاة في ذلك لأن الصوم لا يشق قضاؤه لأنه في السنة مرة واحدة والصلاة تكثر ويشق قضاؤها فافترقا. مسألة: قال (¬3): وأحبُّ تَعْجِيلَ الفِطْرِ وَتَاخِيرَ السّحورِ. وهذا كما قال: يستحب ذلك إذا تحقق الأمر وهو بقاء الليل أو دخوله لما روى سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر وأخروا السحور" (¬4) وروي أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث من سنن المرسلين تعجيل الفطر وتأخير السحور ووضع اليمين على الشمال في الصلاة" (¬5)، وروي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: "كنت أتسحر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم [304 ب/4] ثم أقوم إلى الصلاة فقيل له كم كان بينهما قال قدر قراءة خمسين آية" (¬6). وروي أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وزيد بن ثابت رضي الله عنه تسحرا فلما فرغا من سحورهما قام نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة فقيل لأنس كم كان بينهما فقال: "قدر ما بينهما قدر ما يقرأ الرجل خمسين آية" (¬7) وفي تأخير السحور تقوية على الصوم ولهذا سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم الغداء فقال لبعض أصحابه - وهو العرباض بن سارية-: "هلم إلى الغداء المبارك" (¬8). وفي تعجيل الفطر مخالفة اليهود والنصارى لأنهم يؤخرون الإفطار. ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) انظر الأم (2/ 12). (¬3) انظر الأم (2/ 13). (¬4) أخرجه البخاري (1957)، ومسلم (48/ 1098). (¬5) لم أجده بهذا اللفظ، لكن قال ابن حجر في "التلخيص" تعليقًا على الحديث أخرجه الدارقطني والبيهقي من حديث ابن عباس بلفظ: "إنَّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نؤخر. . . " فذكره. انظر تلخيص الحبير (331). (¬6) أخرجه البخاري (1921)، ومسلم (47/ 1097). (¬7) أخرجه البخاري (576). (¬8) أخرجه أحمد (4/ 126)، وأبو داود (2244)، والنسائي (4/ 146، 181)، والطبراني في "الكبير" =

واعلم أنا نريد بتعجيل الإفطار الأكل والشرب لأن الإفطار يحصل بغروب الشمس من طريق الحكم لقوله صلى الله عليه وسلم "إذا أدبر النهار وأقبل الليل وغابت الشمس فقد أفطر الصائم"، وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحقق الفطر بفعله حتى يوافق فعله الحكم ويحصل به الشارع إلى قبول الرخصة وإظهار الفرق بين الوقتين وقت الإمساك ووقت الفطر، فلو أخر قال في "الأم" (¬1): إذا تعمد [305 أ/4] ذلك ورأى الفضل في تأخيره كرهت ذلك وإن لم ير ذلك فلا بأس لأنه لا يصير صائمًا بالليل وإن نواه ولو شك في طلوع الفجر الثاني، قال في "الأم" (¬2): أستحب له قطعه والامتناع منه، قال أصحابنا: ويكره له الأكل ولكنه يجوز لأن الأصل بقاء الليل. وأعلم أن السحور سنة لما روي أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تسحروا فإن في السحور بركة" (¬3). وروي ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استعينوا بقايلة النهار على قيام الليل وبأكل السحور على صيام النهار" (¬4). فرع قال في "سنن حرملة" أحب أن يفطر على التمر فإن لم يجد فعلى الماء والأصل فيه لما روي سلمان بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا كان أحدكم صائمًا فليفطر على التمر فإن لم يجد فعلى الماء فإنه طهور" (¬5)، وروي أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات قبل أن يصلي فإن لم يكن فعلى تمرات فإن لم يكن حسا حسوات من الماء" (¬6). وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أفطر [305 ب/4] على تمر زيد في صلاته أربع مائة صلاة" (¬7). فرع آخر يستحب في زماننا هذا أن يفطر بكف من الماء يأخذه بيده من نهر ليكون أبعد من الشبهة فإن الشبهات كثرت فيما في أيدي الناس قاله القاضي الحسين. ¬

_ (¬1) = (7/ 180373/252)، وعبد الرزاق (7600)، والبيهقي في "الكبرى" (8081). () انظر الأم (2/ 83). (¬2) انظر الأم (2/ 83). (¬3) أخرجه البخاري (1923)، ومسلم (45/ 1095). (¬4) أخرجه ابن ماجه (1693)، والحاكم في "المستدرك" (1/ 425). (¬5) أخرجه أحمد (4/ 17)، وأبو داود (2355)، والترمذي (658)، وابن ماجه (1699)، والدرامي (2/ 27)، وعبد الرزاق (7586)، والبيهقي في "الكبرى" (8136، 8137)، وفي "معرفة السنن" (2507). (¬6) أخرجه أحمد (3 م 146)، وأبو داود (2356)، والترمذي (696)، والبيهقي في "الكبرى" (8130). (¬7) أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 194)، وابن عدي في "الكامل" (6/ 2350)، والقيس في "تذكرة الموضوعات" (746).

فرع آخر قال في "سن حرملة": وأحب للصائم أن يدعو عند إفطاره فإن له دعوة مستجابة. روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: "اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت" (¬1)، وكان يقول في رواية ابن عمر إذا افطر: "ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله" (¬2)، وروى عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يقول إذا أفطر: "يا واسع المغفرة أغفر لي" (¬3)، وري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قدم أحدكم عشاه فليذكر أسم الله تعالى وليقل اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت سبحانك وبحمدك تقبل منا إنك أنت السميع العليم". فرع آخر قال أصحابنا: يستحب أن يفطر الصائم لما زيد بن خالد الجهيني رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من فطر صائمًا فله مثل أجره ولا ينقص من أجر الصائم [306 أ/4] شيء" (¬4).وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبته: "من فطر صائمًا كان مغفرة لذنوبه وعتق رقبته من النار وكان له مثل أجره" (¬5) هذا إن قدر عليه فإن لم يقدر يفطره على تمرة أو شربة من الماء أو اللبن، لما روى أن واحدًا من الصحابة قال: "يا رسول الله ليس كلنا نجد نفطر به الصائم فقال: يعطي الله تعالى هذا الثواب من فطر صائمًا على تمرة أو شربة ماء أو مذقة لبن" (¬6). فرع آخر جرت عادة بعض الناس بترك الكلام في شهر رمضان وليس له أصل في الشرع، والرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة لم يفعلوا إلا أن له أصلًا في شرع من قبلنا، قال الله تعالى لزكريا عليه السلام {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًا} [مريم: 10]، وقالت مريم عليها السلام {إنيِّ نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ اليَوْمَ إنسِيًا} [مريم: 26]، وقد قال بعض أصحابنا إن شرع من قبلنا يلزمنا فيكون هذا قربة تستحب. ومن قال: إنه لا يلزمنا شرع من قبلنا قال: هذا لا يستحب. مسألة: قال (¬7): وإذا سافر الرجل بالمرأة [306 ب/4] سفرًا يكون ستة وأربعين ميلا بالهاشمي كان لهما أن يفطرا. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2358) من حديث معاذ بن زهرة، وهو مرسل. (¬2) أخرجه أبو داود (2357)، والنسائي (3229)، والدارقطني (2/ 185)، والحاكم (1/ 422) (¬3) أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (3/ 44). (¬4) أخرجه أحمد (4/ 114، 115، 116)، والترمذي (807)، وابن ماجة (1746)، وابن حبان (795). (¬5) أنظر كشف الخفا للعجلوني (2/ 370) (¬6) أوده السيوطي في " الدار المنثور" (1/ 184)، والمنذري في الترغيب والترهيب (2/ 95، 145). (¬7) انظر الأم (2/ 13).

الفصل وهذا كما قال قد ذكرنا حد السفر الذي يجوز فيه الفطر والقصر فإذا خرج إلى مثل هذا السفر له أن يفطر فيأكل أو يجامع وهذا لقوله تعالى {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]، وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "غن الله وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة" (¬1). وقال أحمد: لا يجوز الإفطار بالجماع وإن جامع وجبت عليه الكفارة لأنه أبيح له الأكل والشرب للحاجة إليه ولا حاجة به إلى الجمال وهذا غلط لأنه لو كان لا يحتاج إلى الأكل فأجل فجاز له صوم يجوز أن يفطر فيه بالأكل يجوز أن يفطر فيه بالجماع كصوم التطوع، وإن صام في سفره أجزاه. وروى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: إن صام في السفر قضى في حضر وبه قال داود وقال يحرم عليه الصوم. واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم "ليس البر الصيام في السفر (¬2) كالمفطر في الحضر"، وهذا غلط لما روت عائشة رضي الله عنها أن حمزة بن عمرو الإسلامي قال للنبي صلى الله عليه وسلم [307 أ/4]: يا رسول الله إني رجل أسرد الصوم أفأصوم في السفر فقال: "صم إن شئت وأطر إن شئت" (¬3). وروى عن أنس قال: "سافرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصام بعضنا وأفطر بعضنا فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق مكة فر رمضان فلما انصرفنا قال لي:"ماذا فعلت قلت: صمت وما أفطرت وأتممت وما قصرت فقال: أحسنت" (¬4) ولأن من لا يترك الصلاة لا يكون فطره عزيمة كالمريض. وأما الخبر الأول قلنا روى ابن المنذر بإسناده عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر فرأى زحاما على رجل قد ظلل عليه فقال: ما هذا؟ فقالوا: صائم فقال: هذا وعندنا إذا أضعفه الصوم لا يكون له الصوم برآ. وأما الخبر الأخر أراد من لم ير الفطر رخصة في السفر كمن لم ير الصوم في الحضر، وروى؟ أنهم كانوا في الحرب فأمرهم بالفطار ليتقووا على عدوهم في الحرب فصام قوم منهم فقال: هذا وقال أيضًا: أولئك العصاة وأما الأفضل فإنه إن كان يلحقه [307 ب/4] مشقة شديدة في الصوم فالأفضل له الفطر، وإن كان لا يلحقه ذلك فالأفضل له الصوم. وبه قال أبو حنيفة ومالك والثوري وأبو ثور وروى ذلك عن أنس بن مالك وعثمان بن أبي العاص. وروى عن ابن عباس وابن عمر المسيب رضي الله عنهم وأنهم قالوا: الفطر أفضل بكل حال، وبه قال الاوزعي والشعبي وأحمد وإسحاق كالقصر أفضل من الإتمام، وروى هذا عن مالك أيضًا وهذا غلط لما روى يلمه بن المحبّق رضي الله ¬

_ (¬1) أخرجه احمد (5/ 29)، والترمذي (715)، والنسائي (2267). (¬2) أخرجه البخاري (1946)، ومسلم (92/ 1115). (¬3) أخرجه البخاري (1942، 1943)، ومسلم (103، 1121). (¬4) أخرجه النسائي (1456)، والدارقطني (2/ 188).

عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من كانت له حمولة تتساوى غلى شبع فليصم حيث أدركه " (¬1)، ورزة أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " أفطرت فرخصة الله، وإن صمت فهو أفضل"، وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصوم في السفر أفضل" ولأن من خير بين الصوم والإفطار كان الصوم له الأفضل كالمتطوع". وأما القصر فيه قولان، أحدهما: الإتمام أفضل وإن سلمنا وهو الصحيح فإنه لا يلزم القضاء الركعتين المتروكتين يلزم القضاء ها هنا في الذمة في الذمة فافترقا. فرع قال بعض أصحابنا [308 أ/4] بخراسان: لو أفطر المسافر بالجماع غير مترخص به فيه وجهان: أحدهما: لا تلزمه الكفارة لأن هذا الصوم غير لازم فهو كالمترخص. والثاني: تلزمه الكفارة وبه قال أحمد لأنه إذا لم يترخص صار كمقيم جامع فأفسد صومه فهو كما لو نوى القصر مترخصًا جاز ولو بدا له أن يتم في خلال الصلاة فقام بنية الإتمام جاز، ولو قام متعمدًا لا بنية الإتمام بطلت صلاته، والأول أظهر وأصح. فرع آخر ذكره والدي رحمه الله أن الحامل إذا كانت سافرة فأفطرت نظر فإن كان للترخص برخصة السفر لا يلزمها الفدية، وإن كان للولد يحتمل وجهين، أحدهما: لا يلزمها أيضًا لأن الفطر جائز لها لا لأجل الولد. والثاني: يلزم كالشيخ الهرم إذا أفطر في السفر، والأول أصح. فرع آخر ذكره والدي رحمه الله أيضًا إذا وطئ امرأته الحامل وهي ممن يباح لها الفطر للولد فلا كفارة عليها وإن قلنا تلزم الكفارة على المرأة لأن الفطر مباح لها في الجملة كالمسافرة فإن قيل هل يباح لها الفطر على هذا الوجه قلنا الأوضح أنه مباح كحالة السفر ولا يصح أن يقال الفطر] 308 ب/4] إنما أبيح للولد فلا يباح إلا بما يعود نفعه إلى الولد وليس في الجماع نفعه لأن الفطر إذا أبيح بجهة فلا تخصيص، كما في المسافر أبيح له الفطر ليقوى على السفر ثم له أن يجامع. وإن لم يكن فيه هذا المعنى قلت: ويحتمل وجهًا آخر قياسًا على ما تقدم من الوجه في المسافر إذا جامع غير مترخص به. فرع آخر ذكره والدي أيضًا إذا شرع السافر في صوم رمضان ثم نذر الإتمام، قال: عندي لا يلزمه الإتمام لأن الإيجاب شرعًا هو أقوى من الإيجاب نذرًا وذلك لا يوجب الإتمام ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (3/ 476)، وأبو داود (2410)، والعقلي (3/ 83)، وابن الجوزي في "العلل" (2/ 48).

ولهذا أنه لو نذر المسافر أن يقصر الصلاة أو يتمها لم يتغير الحكم بهذا النذر لأن الإيجاب الشرعي إذا لم يوجب أحد هذين على التعيين لم يصح التعيين فيه بجهة النذر. وقال الشيخ الإمام أبو إسحاق الشيرازي رحمه الله ويحتمل عندي ..... (¬1) أدخل المسافر في الصوم أن يفطر بعده لأنه دخل في فرض المقيم كما لو دخل في الصلاة بنية الإتمام ثم أراد القصر لا يجوز ولم يقله غيره. مسألة: قال (¬2) وليس لأحد أن يصوم في شهر رمضان نذرًا الفضل وهذا كما قال [309 أ/4] وفي نسخة دينا أراد بقوله دينًا صومًا كان عليه دينًا عن كفارة أو نذرًا وغيرهما ثم قال ولا قضاء لغيره وأراد قضاء رمضان غيره. وجملته: أن عندنا لا يجوز للمسافر أن يصوم عن غير رمضان بحال لأن زمان رمضان هو مستحق لصوم رمضان وحده فلو نوى المسافر صومًا آخر لا ينعقد له ذلك الصوم ولا صوم رمضان. وقال أبو حنيفة: له أن يصوم عن النذر والقضاء والكفارة وعن التطوع روايتان، وخالفه أبو يوسف ومحمد وقالا ت يقع عن رمضان وهذا غلط لأنه يجوز له الإفطار للعذر فلا يجوز له أن يصوم عن غيره كالمريض والشيخ الهرم. مسألة: قال (¬3): وإن قدم رجل من سفره نهارًا مفطرًا كان له أن يأكل حيث لا يراه أحد. وهذا كما قال الأصل في هذا الباب هو أن كل من لم يلزمه صوم أول النهار ظاهرًا وباطنًا لا يلزمه إمساك باقي النهار، فإذا قدم المسافر في نهار رمضان بلده أو بلدًا يريد المقام فيه غير بلده فإن كان مفطرًا أو تاركًا للنية يستحب له أن يمسك باقي النهار ولا يلزمه ذلك وهكذا المريض [309 ب/4] إذا بدأ في أثناء النهار والحائض والنفساء إذا طهرتا في أثنائه، والصبي يبلغ، والمجنون يفيق، والكافر يسلم. وقال بعض أصحابنا بخراسان: الصحيح في الحائض أنه لا يلزمها التشبه لأن عذرها أعظم. ونص في "حرملة" أن الكافر إذا أسلم كان الكفر بمنزلة الأعذار. وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم "يجب ما قبله". وبه قال مالك وأبو ثور وداود وأحمد في إحدى الروايتين، وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: لا يجوز لهم أن يأكلوا في بقية النهار وهذا غلط لأنه أبيح له الإفطار ظاهرًا وباطنًا فإذا أفطر كانت له استدامته إلى آخر النهار كما لو داوم عذره. ومن أصحابنا من قال: يجب الإمساك على الصبي والمجنون إذا بلغ وأفاق وكذلك على الكافر إذا أسلم لأنه لا يجب القضاء عليهم، ولأن الكافر كان مخاطبًا بالصيام مفرطًا بتركه. وقال القفال: هل يلزم قضاء ذلك اليوم على هؤلاء وجهان: فإن قلنا يلزمهم القضاء لا يلزمهم التشبه. ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) أنظر الأم (2/ 13). (¬3) انظر الأم (2/ 14).

وإن قلنا لا يلزمهم القضاء فيلزمهم التشبه، ومن أصحابنا بخراسان من قال: فيه أربعة أوجه، [310 أ/4] اثنان: وهو ما ذكرنا، والثالث: يلزم الكافر التشبه وحده دون الصبي والمجنون لأنه غير معذور. والرابع: يلزم الكافر والصبي ذلك دون المجنون لأنه يصح منهما الصوم إذا أتيا بالشرائط، بأن ينوي الصبي ويسلم الكافر وينوي، والمجنون لا يمكنه ذلك فكان معذورًا. ومن أصحابنا من فال في المريض: إذا صح أنه يلزمه الإمساك، بخلاف المسافر لأنه أبيح له الفطر لعجزه عن الصوم. فإذا زال العجز ارتفع معنى الإباحة فيلزم الإمساك والمسافر يفطر وإن أطاق الصوم وهذا هو اختيار البصريين من أصحابنا وقالوا: هذا أشبه ذكره في "لحاوي" (¬1) ونص في "البويطي" في المغمى عليه يفيق ليس عليه الإمساك فلا يصح هذا التخريج على المذهب. وحصل خمسة أوجه في الجملة والمنصوص ما تقدم. وقال الشافعي: وإن كانت امرأته حائضًا فطهرت أي امرأة هذا القادم قد طهرت في هذا اليوم كان له أن يجامعها ولو ترك ذلك كان أحب إلىَّ أيْ: للاحتياط أو الخروج من الخلاف ثم اعلم أن الشافعي قال: له أن يأكل حيث لا يراه أحد لا لأنه لا يجوز له الأكل حيث يراه الناس ولكن [310 ب/4] لئلا يتهم بأنه ترك فرض الله تعالى إذ ليس كل أحد يعلم إباحة الأكل له. فرع قال بعض أصحابنا؛ إذا تبين يوم الشك أنه من رمضان ولم يكن أكل فحكي البويطي عن الشافعي أنه قال: أحببت له الإمساك لأنه أصبح ولم يكن الفطر محرمًا عليه ولو كان أكل، فإن قلنا هناك لا يحرم الأكل فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك يحرم الأكل فهل يحرم هاهنا؟ وجهان، والصحيح أنه يحرم لأنه بان أنه لم يكن الأصل مباحًا وعلى هذا فإذا قلنا أنه يلزمه الشبه يلزمه القضاء على الفور، لأن قلنا لا يلزمه التشبه فالقضاء على التراخي. فرع لو دخل المسافر أو المريض في الصوم ثم زال العذر في أثناء النهار فظاهر ما ذكره في المختصر أنه يلزمه الإتمام ولا يجوز له أن يفطر لأنه قال. لأن قدم من سفره نهارًا مفطرًا فشرط أن يقدم مفطرًا، وبه قال أبو إسحاق وهذا لأن عذره زال قبل الترخص فهو كالمسافر إذا أقام قبل أن يقصر الصلاة لم يجز له القصر، وهذا هو الصحيح. وقال القفال: لا خلاف فيه، وقال ابن أبي هريرة: يجوز له الإفطار وهو القياس. [311 أ/4] وقيل نص عليه في البويطي لأنه لما أبيح له الإفطار في أول النهار مع علمه ¬

_ (¬1) أنظر الحاوي للمارودي (3/ 448).

بالحال بقيت الرخصة إلى آخر النهار كما لو أفطر ثم أقام فحصل قولان وقيل وجهان، وهو غلط. وقال يعض أصحابنا بخراسان: إن أصبحا تاركين للنية لم يكونا أكلا فزال العذر هل يلزم التشبه لأنه لم يلحقه الرخصة في السفر. لأن أكلا لم يلزم التشبه، وإن صاما فلا يجوز الفطر وهذا لا يصح لأنه إذا لم ينو من الليل كان مفطرًا، ولو شرع الصبي في المحرم ثم بلغ لا يلزمه الإتمام قولًا واحدًا. وفي هذا نظر لأنه ليس من أهل اللزوم وقت الشروع وذكر في "الشامل" في المريض إذا صام ثم زال المرض لا يجوز أن يفطر قولًا واحدًا ولا وجه للفرق بينه وبين المسافر عندي. فرع آخر هل يثابون على الإمساك في بقية النهار فيه ثلاثة أوجه: احدها: لا يثابون لأنه لا يعتد به، والثاني: وهو الأصح يثابون عليه لأنهم يستحقون العقاب بتركه، والثالث: أنهم لم يكونوا مفرطين بالفطر، فإنهم يثابون عليه وإلا فلا عقوبة على تعديه [311 ب/4]. مسالة: قال (¬1): ولو أن مقيمًا نوى الصوم قبل الفجر ثم خرج بعد الفجر مسافرًا لم يفطر يومه. وهذا كما قال إذا أصح في رمضان وهو مقيم صائم ثم سافر ذلك اليوم لا يجوز له أن يفطر في بقية اليوم بخلاف ما إذا مرض لأن المرض ضرورة والسفر اختيار، وبه قال أبو حنيفة ومالك والأوزاعي والنخعي ومكحول والزهري وأبو ثور، وقال إسحاق وداود والمزني وابن المنذر وهو رواية عن أحمد: يجوز له الفطر وهذا غلط لأنه عبادة تختلف بالحضر والسفر فإذا أنشأه في الحضر ثم سافر فوجب أن يغلب حكم الحضر كالصلاة. واحتج المزني بما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم صام في مخرجه إلى مكة في رمضان حتى بلع كراع الغميم وصام الناس معه ثم أفطر وأمر من صام معه بالإفطار" (¬2)، فلو كان لا يجوز له الفطر ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي ما أفطر. قلنا ظن المزني أن كراع الغميم قريب من المدينة وأن النبي صلى الله عليه وسلم أصبح في المدينة ثم خرج إلى كراع الغميم فأفطر وليس كما توهم بل بين المدينة وبين كراع الغميم ثمانية أيام فصام رسول الله [312 أ/4] صلى الله عليه وسلم في السفر مع الناس ثم أفطر في هذا اليوم حين رأى رجلًا يظلل عليه وينفح بالماء فقال: ما ذاك؟ فقيل: صائم جهده الصوم فأفطر وأمر الناس بالإفطار، وقيل: لما احتج المزني بهذا الخبر قيل: له هذا فقال: خطوا عليه وفي بعض النسخ خط عليه وفي بعضها لم يخط وأمر بالخط على هذا الاحتجاج لا على مذهبه، وقيل خط على مذهبه في المنثور ووافق الشافعي، فإذا تقرر ما ذكرنا فلو خالف فأفطر فإن أفطر بالأكل فلا كفارة ووجب القضاء لأن أفطر بالجماع يلزمه القضاء والكفارة. وقال أبو حنيفة ومالك في رواية أنه لا كفارة وكذلك عبد الملك إذا أنشأ الصوم في الفر ثم أفطر ففي ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 14). (¬2) أخرجه مسلم (90/ 1114).

الكفارة روايتان وهذا غلط لأن الفر الذي لا يبيح الفطر لا يسقط الكفارة كالسفر القصير. فرع لو شك هل سافر قبل طلوع الفجر أم بعده؟ ليس له أن يفطر لأنه في شك من تقدم السفر وبالشك لا تباح الرخص. فرع آخر لو قدم من سفره مفطر فجامع امرأته وهي صائمة فإنه يلزمه الكفارة عنها فلو حاضت في آخر النهار فإنه تسقط الكفارة عنه في الصحيح من المذهب. وقال في اختلاف العراقيين:] 213 ب/4] قد قيل عليه عتق رقبة، وقيل لا شيء عليه فحمل قولان: لا يسقط، وبه قال مالك وابن أبى ليلى وأحمد وإسحاق وأبو ثور وداود قياسًا على ما لو جاع ثم سافر سفرًا يبيح له الفطر. والثاني: يسقط، وبه قال أبو حنيفة والثوري لأنه خرج هذا اليوم من أن يكون صومه مستحقًا فلا كفارة وهكذا الخلاف إذا وطئ في أول النهار وطئًا يوجب الكفارة ثم جن في آخر النهار أو مات أو مرضًا يبيح له الفطر وقيل في الجنون والحيض الصحيح إنما تسقط؛ لأن الجنون ينافي الصوم فقد بان أنه لو لم يفطر ما كان يحصل له الصوم بخلاف المرض وقوله إنه غير مستحق لا نسلم بل كان الصوم مستحقًا قبل وجود هذا القدر. وقال زفر: الحيض والجنون يسقطانها والمرض لا بمثلها لأن المرض لا يبطل الصوم بخلاف الحيض والجنون وهذا غلط لأن هذا السفر الطارئ لا يبيح له الفطر وهو إلى اختياره بخلاف ذلك. مسألة: قال (¬1): ومن رأى الهلال وحده وجب عليه الصيام. وهذا هو كما قال: إذا رأى هلال رمضان وحده يلزمه أن يصوم [313 أ/4] سواء شهد عند الحاكم فرد شهادته أو لم يشهد بلا خلاف. وقال عطاء والحسن وشريك وإسحاق لا يلزم الصوم حتى يحكم الحاكم برؤية الهلال وهذا غلط لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته"، ولم يعتبر حكم الحاكم ولأنه إذا رأى الهلال بنفسه فقد تعين دخول رمضان وإذا شهد الشهود عرف ذلك بغلبة الظن،. فإذا لزم هناك فهاهنا أولى فإذا تقرر هذا فلو فطر في هذا اليوم بالجماع فإنه يلزمه الكفارة. وقال أبو حنيفة: لا كفارة لأنها تسقط بالشبهة وهذا غلط لأن هذا اليوم قد لزمه صومه من رمضان فتلزمه الكفارة بالجماع فيه كما لو قبلت شهادته. مسألة: قال (¬2): فلا رأى هِلاَلَ شَوَّالَ حَلَّ لَهُ أَنْ يَأكُلَ حَيْثُ لا يراه أحد. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 15). (¬2) انظر الأم (2/ 15).

وهذا كما قال: إذا رأى هلال شوال وحده ورد الحاكم شهادته حل له أن يأكل حيث لا يراه أحد وهذا لئلا يلحقه إنكار من السلطان وممن لا يعرف حاله، وقال أبو حنيفة: لا يحل له أن يفطر بل عليه أن يصوم مع الناس فلو أفطر فلا كفارة. وقال مالك وأحمد لا يحل له [313 ب/ 4] الفطر ويخالف الابتداء للاحتياط وهذا غلط لأنه تبقيه من شوال فجاز له الأكل كما لو قامت البينة. وأما الاحتياط الذي ذكره فإنه ينتقض به إذا شك في الفجر يجوز له الأكل بالجماع والاحتياط بالإمساك. فرع لو رئي هذا الرجل يأكل فقال: كنت رأيت الهلال فإنه لا يعذر بل يعزر ولا يبلغ بالتعزيز الحد إلا أن يكون فطره بشرب الخمر فيحد ويندرج التعزيز تحته وإن أراد أن يشهد الآن لا تقبل شهادته لأنه منهم في دفع التعزيز عن نفسه ولا تقبل شهادة الظنين وهو المتهم والأصل في مثل هذا ما روي "أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه استأذن على عمر رضي الله عنه فلم يجبه أحد فأعاد الاستئذان مرة ثانية وثالثة فلم يجبه أحد وكان عمر في بيته مشتغلًا ببعض أشغاله ويسمع صوته فانصرف أبو موسى فبعث عمر في أثره وقال: ما دعاك إلى الانصراف فقال: لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول الاستئذان ثلاث مرات فإن أذن لكم وإلا فانصرفوا (¬1)، فقال ائتني بمن يشهد لك وإلا [314 أ/4] أذيتك فانصرف أو موسى إلى الأنصار وقال: من يشهد لي فقالوا: لا يقوم معك إلا أصغرنا فقام أبو سعيد الخدري رضي الله عنه فشهد بذلك عند عمر رضي الله عنه لأبي موسى فقال: عمر لأبي موسى: أما أني لا أتهمك ولكن خشيت أن لا أراجع أحدًا في أمر إلا ويروي لي خبرًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقبل رواية أبي موسى لأنه أراد أن يدفع عن نفسه بذلك عتاب عمر رضي الله عنه ذكره القفال. مسألة: قال (¬2): وَلاَ أقْبَلُ علي رُؤيَةِ الهِلاَلَ للفِطْرِ إلاَّ عدلين. قال المزني: هذا يقضي لأحد قوليه أن لا يقبل في الصوم إلا عدلان وقد ذكرنا هذا فيما تقدم واختيار المزني السوره بين الطرفين في الشهادة والفرق ظاهر وهو أن التهمة متمكنة في الطرف الأخير دون الأول. مسألة: قال: (¬3) وإن صحا قبل الزوال أفطر وصلى بهم. وهذا كما قال: أراد بقوله: صحا أي: صحت عدالة الشاهدين على رؤية الهلال قبل الزوال من يوم الثلاثين وإذا صح ذلك أفطر، وهذا يقضي صلاة العيد، واحتج بأنه لا يقضي [314 ب/4] بعد الزوال ولا يقضي بعد شهر وقد ذكر بعض أصحابنا ..... (¬4) وقال القفال: عندي ينبنى القولان في قضاء صلاة العيد على أن صلاة العيد كالجمعة لا تُقضى أو كسائر النوافل هل يقضي وفيه قولان. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (34/ 3153). (¬2) انظر الأم (2/ 15) (¬3) انظر الأم (2/ 15) (¬4) موضع النقط بياض بالأصل.

مسألة: قال (¬1): وَمَنْ كَانَ عَلَيهِ صوم رمضان لسفر أو مرض فلم يقضه يقدر عليه حتى دخل شهر رمضان آخر كان عليه أن يصوم الشهر ثم يقضي من بعد الذي عليه ويكفر لكل يوم بعد. وهذا كما قال: كل من أفطر في رمضان بعذر أو بغير عذر وأوجبنا عليه القضاء فوقت القضاء ما بين رمضان الذي يقضيه وبين رمضان الذي يليه كان قضاؤه في وقت القضاء فلا شيء عليه وإن أخره عن وقته فإن كان لعذر مثل أن استدام السفر أو اتصل به المرض قضاه ولا شيء عليه وإن كان بغير عذر صام الشهر الذي أدرك عن فرضه ولا يجوز له إيقاع القضاء فيه كما يتذكر الفائتة في وقت لضيق الحاضرة فليس له الاشتغال بالفائتة وقضى الذي أفطر ولا يسقط عنه بتداخل الأحوال وعليه لكل يوم لأجل التأخير مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم. [315 أ/4] يتصدق به على مسكين واحد، ولا يجوز أن بدفع إلى مسكينين ولو دفع مدين ليومين إلى مسكين واحد جاز بخلاف ما لو دفع مدين من كفارة بمد إلى مسكين واحد لم يجز. والفرق: هو أن كل مد يوم من رمضان كفارة على حدة فكأنه أعطاه من كفارتين بخلاف ذلك وبه قال مالك والثوري وأحمد وإسحاق والأوزاعي. وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة والزهري، وقال يحيى بن أكثم القاضي وحدثه عن ستة من الصحابة ولم يذكر أسماءهم. وقال أبو حنيفة: لا فدية عليه وهو اختيار المزني وهذا غلط لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أفطر في رمضان لمرض فلم يقضه حتى دخل رمضان آخر صام الذي أدركه وقضى ما فاته وأطعم عن كل يوم مسكينًا" (¬2)، وقال بعض أصحابنا إنما قيد الشافعي من كان عليه ذلك بسفر أو مرض لأن من أفطر بغير عذر يتضيق عليه القضاء عند الإمكان ومن أفطر بعذر كان في فسحة من قضائه إلى رمضان آخر لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان يكون علي الصوم من [315 ب/4] شهر رمضان فلا أقضيه لمكان رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يدخل شعبان" (¬3) وهذا خلاف ما عليه أهل العراق. فرع لو أخره سنتين أو ثلاث فيه وجهان: أحدهما: يجب لكل سنة مد قياسًا على السنة الأولى، وبه قال عامة أصحابنا واختاره القاضي الطبري وهذا لأن كل واحد من المتأخرين لو انفرد لوجب المد فإذا اجتمعا لم يتداخلا. الثاني: وبه قال ابن سرج يكفيه مد واحد لأن القضاء موقت بما بين رمضانين فإذا آخر عن السنة الأولى فقد أخره عن وقته فوجب الكفارة وهذا المعنى لا يوجد فيما بعد السنة الأولى فلم يجب بالتأخير كفارة، قال القاضي أبو علي البندنيجي: هذا هو المذهب والوجه الآخر ليس بشيء وهذا أظهر عندي. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 16) (¬2) أخرجه الدارقطني (2/ 197). (¬3) أخرجه البخاري (1950)، ومسلم (151/ 1146).

فرع آخر ذكره والدي رحمه الله لو كان عليه قضاء يوم من رمضان فلما طلع الفجر من اليوم الثاني من شوال سافر بعده وامتد السفر إلى رمضان ثان ولم يقض، هل تلزمه الفدية؟ يحتمل أن يقال يجب كفارة التأخير لأن السفر الحادث بعد الفجر لا يمنع وجوب الكفارة بالجماع لأنه لو سافر بعد طلوع [316 أ/4] الفجر لا يجوز الفطر ولو جامع فيه يلزمه الكفارة فلا يمنع أيضًا وجوب كفارة التأخير لأن كل واحدة من الكفارتين تسقط عند وجود العذر وتلزم عند فقده ويحتمل أن يقال: لا يلزم الكفارة لأن حكم القضاء أضعف من حكم الأداء، قلت: هذا أصح عندي لأنه لم يحصل إمكان القضاء فلا يلزم الفدية إلا بوجود القضاء. مسألة: قال (¬1): فإذا مات أطعم عنه. وهذا كما قال: إذا أفطر في رمضان لعذر سفر أو مرض فلم يقض حتى مات. قال الشافعي: في كتبه القديمة يصوم عنه وليه، وقال فيه إن صح الخبر قلت به وقد صح الخبر فحصل قولان: أحدهما: لا يصوم عنه وليه وهو المذهب، وبه قال أبو حنيفة ومالك والثوري. وقال مالك لا يلزم الولي أن نطعم عنه أيضًا حتى يوصي بذلك. وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم ووجهه ما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام شهر فليطعم عنه مكان كل يوم مسكين" (¬2) ولأن الصوم لا تدخله النيابة حال الحياة فكذلك بعد الموت كالصلاة. والثاني: يصوم عنه [361 ب/ (4)] وليه. وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: ركبت امرأة البحر فنذرت أن الله تعالى إن نجاها أن تصوم شهرًا فأنجاها الله تعالى فلم تصم حتى ماتت فجاءت قرابة لها إلى النبي. فذكرت ذلك له فقال لها: "صومي عنها" (¬3)، ولأنها عبادة يدخلها الجيران بالمال فجاز أن يدخلها النيابة بعد الوفاة كالحج وهذا غلط لأن في الخبر كلامًا لأن صح يحمله على أنه أراد به أدى عنه وليه ما يقوم مقام الصوم بدليل خبرنا، ولا يجوز قيامه على الحج لأنه يجوز الاستئجار عليه بخلاف هذا وروي عن أحمد وإسحاق، أنه إن كان صوم نذر صام عنه وليه وإن كان صوم رمضان أطعم عنه جمعًا بين الخبرين، وهذا أيضًا غلط لأنه لا فرق في القياس بينهما وعندنا كل صوم وجب عليه ثم مات بعد إمكان الأداء، فحكمه الإطعام عنه. وذكر في " الحاوي" (¬4) عن أحمد ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 17). (¬2) أخرجه الترمذي (718)، وابن ماجة (1757). (¬3) أخرجه البخاري (1953)، ومسلم (156/ 1148). (¬4) انظر الحاوي للمارودي (3/ 452)

وإسحاق وأبي ثور أنه يصوم عنه وليه في صوم رمضان إن شاء أو يستأجر من يصوم عنه. ومن أصحابنا من قال: المسالة على قول واحد وأنكر أصحابنا [317 أ/4] أن يكون قوله القديم مذهباً له فإذا قولنا بقوله القديم بعض أصحابنا: يصوم عنه وارثه أي قدر كان. وقال بعضهم: لو أمر أجنبياً في أحد فصام عنه بأجره أو بغير أجرة فإنه يجوز كالحج عن الميت يجوز من الأجنبي في أحد الوجهين. وإذا قلنا بالمذهب لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يموت قبل فوات وقت القضاء وهو بعد دخول رمضان آخر فإن مات قبل فوات القضاء أطعم عنه وليه عن كل يوم مسكينا مداً. وعند أبي حنيفة يطعم صاعاً من تمر أو نصف صاع من برَّ إن أوصى به وهذا غلط لما روينا في الخبر أطعم عنه كل يوم مد وإن مات بعد فوات وقت القضاء فيه وجهان: أحدهما: انه يطعم عنه وليه عن كل يوم مدين مداً عن الصوم ومداً عن التأخير وهو الصحيح من المذهب لأن كل واحد منهما لو انفرد فإنه يوجب مداً. والثاني: قاله ابن سريج، وبه قال مالك يجزيه مد واحد لأنه إذا أخرج بدل الصوم فقد زال التفريط بالتأخير فلم يجب لأجله شيء وحكي عن ابن سريج أنه قال يجزيه مد التأخير ويسقط المد الذي [317 ب/4] هو بدل عن الصوم وهذا غلط عليه وقد روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أفطر في رمضان بمرض فلم يصمه حتى مات أطعم عنه كل يوم مدان" (¬1)، فأراد ما ذكرنا وغن كان هذا الموت قبل أن يتمكن من القضاء بان أفطر في السفر، ثم استدام المرض حتى مات فلان شيء. وحكي عن طاووس، وقتادة أنهما قالا: يجب الإطعام عنه. وهذا غلط لأن العبادة تجب عند وجود شرط الوجوب، ولكن لا يستقر غلا بإمكان الأداء كالصلاة، وها هنا لا تستقر فتسقط بالعذر، فإن قيل: أليس يلزم الفدية على الشيخ الهم مع العجز؟ قلنا: لا يجوز ابتداء الوجوب عليه بخلاف الميت. فرع لو كان عليه قضاء عشرة أيام فاخرها حتى بقي بينه وبين رمضان خمسة أيام هل يجب في الحال فدية خمسة أيام قبل دخول رمضان حتى لو مات يقضي من تركه فدية التأخير؟ فيه وجهان: أحدهما: نحكم بالوجوب لانا غرفنا عجزه عن القضاء قبل رمضان. والثاني: لا نحكم بوجوب لأنه لم يدخل وقت مثله. [318 أ/4] وأصل هذا إذا قال: والله لأشربن هذا الماء غداً فأنسي اليوم هل يحل حانثا في الحال؟ وجهان. ¬

_ (¬1) أخر البيهقي في (8215).

فرع إذا أدرك رمضان آخر وأخر القضاء. فإن قلنا: يصوم عنه وليه يصوم يوماً مكان يوم ويخرج مد التأخير. وإذا قلنا يطعم عنه فقد مُد بدلاً عن الصوم، ومدُ بالتأخير هل يتداخلان؟ وجهان، أحدهما: يتداخلان لأنهما لله تعالى والجنس واحد. والثاني: لا يتداخلان بينهما. فرع آخر ذكره والدي- رحمه الله- لو كان عليه قضاء يومين فتمكن من قضاء أحد اليومين، وبقي الإمكان إلى نصف اليوم الثاني، ثم مات وجب الإطعام عنه لليوم الأول، وفي اليوم الثاني وجهان: أحدهما: يلزم الإطعام عنه. والثاني: لا يلزم. وأصل هذا إذا نذر صوم نصف يوم هل يلزمه صوم يوم أم لا يلزمه شيء؟ وفيه وجهان وهو في الكافر يسلم في أثناء اليوم. مسألة: قال (¬1): "ومن قضى متفرقا أجزأه ومتتابعا أحب إليَّ". وهذا كما قال، إذا كان عليه قضاء أيام من رمضان فالمحتسب أن [318 ب/4] يقضيها متتابعاً فإن قضاها متفرقاً أجزاه، وبه قال ابن عباس، ومعاذ وأبو هريرة، وأنس. وقال علي وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم يجب قضاؤها متتابعا وبه قال النخعي والحسن وداود وروى أصحابنا بخرسان عن أحمد ولا يصح عنه بل مذهبه مثل مذهبنا. وقال الطحاوي: التتابع والتفريق سواء وهذا غلط لأنه إذا تابع يكون فيه مبادرة إلى الطاعة، واحتجوا بما روي "أن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان عليه صوم رمضان فليسرده ولا يقطعه" (¬2) وهذا غلط لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان عليه شيء من قضاء رمضان فإن شاء صامه متتابعا وإن شاء صامه متفرقا" (¬3)، ولأن صيام شهر رمضان يتابعها من حيث الوقت لا من حيث العبادة بدليل أن فساد بعضها لا يفسد الباقي، فإذا فات الوقت لا معنى لمراعاة التتابع فيه بخلاف صوم الشهرين في الكفارة وهذا بقضاء الصلوات يجوز من غير ترتيب لهذا المعنى. وأما [319 أ/4] خبر عائشة فروي عنها أنها قالت: نزلت {سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] متتابعات ثم سقط متتابعات (¬4) وهذا يدل على أنه صار منسوخا وأما الخبر الآخر فنحمله على الاستحباب. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 17). (¬2) أخرجه الدارقطني (2/ 192)، والبيهيقي في "الكبرى" (8244). (¬3) أخرجه الدارقطني (2/ 193). (¬4) أخرجه البيهيقي في "الكبرى" (8234)، وفي "معرفة السنن) (3/ 407).

مسألة: قال (¬1): ولا يصام يوم الفطر. الفصل وهذا كما قال: روي في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه "نهى عن صيام ستة أيام" على ما ذكرنا فأما العيدان فلا يجوز صيامهما، ولا ينعقد الصوم فيهما وإن نذر صيامهما لا ينعقد النذر خلافا لأبي حنيفة حيث قال: ينعقد ويصوم يوما آخر ولو حلف بالطلاق أن يصوم يوم الفطر، قال بعض أصحابنا: لا يصح فيه الصوم وطلقت امرأته ولزمه الجنث ..... (¬2) أمسك وفي زمان ..... (¬3) كان احدهما: بمضي اليوم كله، والثاني: يحنث في الحال. وأما أيام المنى وهي أيام التشريق قال في الجديد: لا يجوز صومها بحال فرضاً كان أو تطوعاً. وقال في "القديم": يجوز للمتمتع أن يصوم الثلاثة فيها فإذا قلنا بهذا عل يجوز لغير المتمتع فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز وإنما هو رخصة للمتمتع خاصة وبه قال مالك، وروي عن عمر وعائشة رضي الله عنهما قالا: "لم يرخص في [319 ب/4] صوم أيام التشريق إلا لمتمتع لم يجد الهدي"، وقال أبو إسحاق: يجوز فيها كل صوم له سبب من نذر أو كفارة وقضاء او تطوع راتب. فأما الصوم الذي لا سبب له لا يجوز بلا خلاف. وأما صوم يوم الشك فقد ذكرنا. فرع قال المزني: في "جامعه"، قال الشافعي: ولا يبين لي أن أنهي عن صيام يوم الجمعة إلا على اختياره لمن كان إذا صامه منعه عن الصلاة التي لو كان مفطراً فعلها وذهب أبو حامد وجماعة من أصحابنا إلى أنه يكره صومه منفردا لما روي أن أبا هريرة رضي الله عنه سأل عن صيام الجمعة فقال: على الخبير رجعت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن يوم الجمعة يوم عيد وذكر فلا تجعلوا عيدكم يوم صيامكم ولكن اجعلوه يوم ذكر إلا أن تخلطوا بأيام" (¬4). وروي عن أبي الأوبر أنه قال: كنت عند أبي هريرة فأتاه رجل فقال: يا أبا هريرة أأنت نهيت الناس أن يصوموا يوم الجمعة قال: لا لعمرو الله ما نهيتهم أن يصوموا يوم الجمعة ولكن ورب هذه الحرمة ثلاث مرات لقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يصومن أحد منكم يوم الجمعة إلا أياما يصومه [320 أ/4] معها أو يصومها معه" (¬5). وروي عن أبي قتادة العدوي قال: ما يوم أكره إلي أن أصومه من يوم الجمعة ............ (¬6) من يوم الجمعة، فقيل وكيف في أيام متتابعة لما أعلم من فضيلته وأكره أن أخصه من بين الأيام. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يكره فإن وصله بيوم ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 17). (¬2) موضع النقط بياض بالأصل. (¬3) موضع النقط بياض بالأصل. (¬4) أخرجه الحاكم (1/ 437)، وقال: أبو بشر لا أعرفه. (¬5) أخرجه البخاري (1985)، ومسلم (147/ 1144). (¬6) موضع النقط بياض بالأصل.

قبله أو بيوم بعده لم يكره لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يصومن أحدكما يوم الجمعة إلا أن يصوم قبله او يصوم بعده"، وروي عن جويرية بنت الحارث رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الجمعة وهي صائمة فقال: "صمت أمس قالت: لا قال: وتريدين أن تصومي غداً قالت: لا قال: فأفطري" (¬1). وروي عن محمد بن عباد بن جعفر أن رجلا سأل جابر بن عبد الله وهو يطوف فقال أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام يوم الجمعة قال: نعن ورب هذا البيت" (¬2)، وبهذا القول قال أحمد وإسحاق وأبو يوسف واختاره ابن المنذر. وقال بعض أصحابنا: هذا خلاف ما حكاه المزني عن الشافعي، وفي التحقيق مذهب الشافعي أن معنى النهي فيه أن يضعف عن حضور الجمعة والدعاء فيها فإن كان هكذا فإنه يكره له صومه وإلا فلا بأس، ومن أصحابنا من قال: إنما يكره لأنه يوم عيد كيوم الفطر وهذا [320 ب/4] ليس بشيء ولا يكره إقرار عيد من أعياد أهل الملل بالصوم كيوم الشعانين وفصح النصارى وفطر اليهود ويم النيروز ويوم المهرجان. مسألة: قال (¬3): وإن بلع حصاة أو ما ليس بطعام. الفصل وهذا كما قال الصائم إذا أكل أو شرب ما يعتاد أكله أو شربه أفطر بلا خلاف وإن أكل ما لا يؤكل في العادة أو شرب ما لا يشرب في العادة كابتلاع الحصاة أو الزجاجة أو التراب أو التبن، ونحو ذلك أفطر وبه قال العلماء. وروي عن أبي طلحة الأنصاري أنه كان يستف البرد في الصوم ويقول: هذا ليس بطعام أو شراب وهذا غلط لقول تعالى: {ثم أتموا الصيام إلى الليل} [البقرة: 187]، والصيام هو الإمساك عن كل شيء ولأنه ذاكر لصومه وصل إلى جوفه باختياره ما يمكنه الاحتراز عنه فيفطره كالمعتاد. مسألة: قال (¬4): ولو احتقن أو داوى جرحه حتى وصل إلى جوفه. الفصل وهذا كما قال: الحقن يفطر الصائم وقال مالك: إن كان كثيرا فطر وإلا فلا، وقال الحسن بن صالح وداود: لا يفطر به وإنما يفطر بما يصل إلى جوفه من فمه وهذا غلط لأنه وصل إلى جوفه باختياره مع ذكر الصوم ما يمكن الاحتراز منه فيفطره كما لو وصل من الفم فإن قيل: أليس قلتم: إنه لو حقن الصبي باللبن [321 أ/4] لا يثبت الحرمة في أحد القولين، فما الفرق؟ قلنا: الفرق هو أن الرضاع لإنبات اللحم وانتشار العظم وذلك لا يحصل بالحقنة والفطر لوصول الواصل إلى حرف الجوف وقد وصل. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1986). (¬2) أخرجه البخاري (1987)، ومسلم (146/ 1143). (¬3) انظر الأم (2/ 17). (¬4) انظر الأم (2/ 18).

وأما إذا رزق في إحليله شيئا أو دخل فيه ميلاً أو قطعه يفطره قولا واحداً لأنه منفذ يتعلق الفطر بالخارج منه وهو المني ُّ يتعلق بالواصل إليه كالفم، ولا فرق بين أن يصل إلى مثانته أولاً. ومن أصحابنا من قال فيه وجهان: أحدهما: هذا، والثاني: لا يفطره، وبه قال أبو حنيفة وأحمد لأن ما يصل إلى المثانة لا يصل إلى المثانة لا يصل إلى الجوف فصار كما لو أوصل إلى فمه لا يفطره. وقال القفال: لا نص فيه والأظهر هذا واختاره القاضي الحسين، وقال القفال: الوجه الأول خرجه ابن أبي أحمد قال: ويفارق نقض الطهارة بخروج الخارج منه لأن ذلك بخروج الخارج من محل الحدث، والفطر بوصول الواصل إلى الجوف وهذا ليس بجوف. وقال بعض أصحابنا بخراسان إن وصل إلى المثانة فطره، وإن وصل إلى القضيب دون المثانة وجهان/ والمذهب الأول وهو المنصوص عند أهل العراق. وأما إذا كانت في بطنه جراحة فداوها به واتصل إلى الجوف فطره سواء كان الدواء رطبا أو يابساً، [321 ب/4] وبه قال أحمد وأبو حنيفة. وروى أصحابنا عن أبي حنيفة أنه كان رطبا فطره وإن كان يابساً لم يفطره وهذا لأن الغالب من الرطب أنه يصل إلى الجوف ومن اليابس أنه يقف ولا يصل إلى الجوف. وعلى هذا يرتفع الخلاف، وقال مالك: لا بفطره وهذا غلط لما ذكرنا من العلة ولو أسقط الدهن أو غيره حتى وصل إلى جوف رأسه فطره، ويعني به إن تجاوز ذلك خياشيمه لا أن يصل إلى خريطة الدماغ، وهكذا إذا كانت برأسه شجة مأمومة فأوصل دواء ألى باطن الرأس وإن لم يوصل إلى باطن الأمعاء فطره. قال أبو يوسف ومحمد لا يفطره لأنه يستعمله علاجاً لا اعتداء فجرى مجرى الضرورة، وقال الأوزاعي ومالك وداود السعوط لا يفطره إلا أن ينزل إلى حلقه وهذا غلط لقوله صلى الله عليه وسلم: "بالغ في الاستنشاق، إلا أن تكون صائماً" فيرفق وهذه الحشية للفطر فأما إذا أوصل إلى ما ليس بجوف وإن كان له حكم الباطن لا يفطره مثل جراحه في فخذه أو يده فأوصل إلى باطنه شيئا وإن أوصل إلى باطن العظم حيث يكون فيه المخ وكذلك لو اقتصد وأوصل المبضع إلى باطن العرق ولو أوصل بالسعوط إلى باطن الأنف ولم يتصعد إلى جوف الرأس لا يفطره بخلاف [322 أ/4] ما لو غيب في إحليل الذكر فإنه يفطره، والفرق أن ذلك جوف بدليل أنه لو جرح جراحة وصلت إلى جوف الذكر كانت جائفة فوجب ثلث الدية ولو أجاف أنف رجل أو جلدة خده حتى وصل إلى فمه يجب الحكومة على الصحيح من المذهب ولو جرح نفسه بالسكين أو جرحه غيره باختياره حتى وصل إلى جوفه فطره، وقال أبو يوسف ومحمد وداود: لا يفطره. وقال أبو حنيفة: إن وصلت الطعنة إلى الجانب الآخر فطره وإلا فلا يفطره وهذا غلط لما ذكرنا. ولو صب في أذنه شيئا فوصل إلى الدماغ بطل صومه لأن الدماغ هو أحد الجوفين على ما ذكرنا/ ولو لم تصل إلى الدماغ بأن أدخل أصبعه أو خشبة للحك لا يبطل صومه، وإن غاب عن رأى العين. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا يفطره أصلا لأنه لا منفذ من الأذن إلى الدماغ

وإنما يصل إليه في المسام كما يصل الكحل من العين إلى الحلق حتى يجد طعمه في حلقه ولا يفطره، وكذلك لو دهن بطنه يتشرب ذبك الدهن ويتحقق أنه وصل إلى الباطن لا يفطره لهذه العلة وهذا غريب بخلاف المذهب المشهور. فرع لو ابتلع خطياً ورأس الخيط بيده لم يبتلعه فطره إذا وصل شيء منه إلى الجوف خلافا [322 ب/4] لأبي حنيفة حتى قال: لو شد خرزة في رأس خيط وابتلعها والخيط بقي خارجا لم يفطره فإن قطع الخيط بقى خارجا لم يفطره فإن قطع الخيط وبقي الخرزة داخل الجوف فطره وعلى هذا عندنا لو أدخل في حلقه أصبعاً حتى وصل إلى حد الباطن من حلقومه فطره خلافاً لأبي حنيفة وكذلك الخلاف إذا أدخلت أصبعها في فرجها. فرع لو ابتلع خيطا وبقى طرفه خارجا فإن ابتلع الباقي فسد وإن أخرجه كان كالقيء يبطل صومه أيضاً وإن ترك كذلك لا تصح صلاته، فلو جاء رجل وأخرجه قهراً أو في حال نومه لا يبطل صومه وإذا لم يكن هناك من يخرجه قهراً يمتنع الصلاة والصوم فإنهما يراعي فيه وجهان: أحدهما: يراعي الصلاة فيخرج لأن حرمة الصلاة أعظم لأن بترك إخراجه تفوت صلوات ثلاث وبإخراجه لا يفوت إلا صوم واحد فكان اعتبار الصلاة أولى. والثاني: يراعي الصوم لأنه شرع فيه دون الصلاة فمراعاة المشروع فيه أولى فيصلى على حاله ويعيد بعد الغروب. فرع آخر لو ابتلع ريقا نجسا فإن كانت نجاسته لاختلاط شيء به فطره لان غير الرفق فيه وإن جاوزه نجس ولم يخالطه فابتلع الريق النجس مفردا فيه وجهان، أحدهما: لا يفطره وهو [323 أ/4] اختيار القفال لأنه ليس في الريق غيره وإنما نجاسته من طريق الحكم فلا يضر الصوم وهذا أصح، والثاني: يفطره لأنه مأمور بإلقائه وإبعاده عن فمه فصار كالطعام في فيه، وهكذا لو تناول بالليل نجسا ثم أصبح وابتلع الريق. مسألة: قال (¬1): وإن استنشق رفق. الفصل وهذا كما قال: إذا أراد الصائم المضمضة والاستنشاق يكره له المبالغة فيهما وهي المراد بقوله: رفق لما رويناه في حديث لقيط بن صبره فإن خالف ففعل فسبق الماء إلى جوفه فإن كان ناسيا للصوم لا يبطل صومه وإن كان ذاكراً للصوم اختلف أصحابنا فيه على طرق، فمنهم من قال: قولان لأنه منهي عنه مع ذكره للصوم وإن لم يبالغ فقول واحد لا يفطره ذكره القفال، ومنهم من قال: إذا بالغ يفطره قولاً واحداً وهو الصحيح ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 18).

لخبر لقيط بن صبره ولأنه حادث بسبب مكروه فأشبه الإنزال مع القبلة وإن لم يبالغ فيه قولان: احدهما: يفطره وبه قال أبو حنيفة ومالك والمزني لأن الماء وصل إلى جوفه بفعله مع ذكره للصوم فوجب أن يفطره، كما لو بالغ. والثاني: لا يفطر وبه قال الأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وهو اختيار الربيع وهو الصحيح لأنه وصل [323 ب/4] إلى جوفه بغير اختيار فلا يفطر كغبار الطريق وغربلة الدقيق، وقال الشعبي والنخعي وابن أبي ليلى وهو قول ابن عباس رضي الله عنهم: أنه إن توضأ لمكتوبة لا يفطره وإن كان لنافلة فطره لانه في الفريضة مضطر بخلاف النافلة. ومن أصحابنا من قال: بالغ او لم يبالغ فيهما قولان لأن وصول الماء لا يكون غلا بزيادة على المحدود فيهما وهو مغلوب في كلتا الحالتين ولأن الشافعي لم يفصل بين ان يكون بالغ او لم يبالغ وهذا أضعف الطرق. ومن أصحابنا من قال: المسألة على حالين لا على قولين فالذي قال في "الأم": لا يفطره أراد أنه إذا لم يتعمده والذي قال في راوية المزني والقديم يفطره أراد إذا تعمد وفسر في كتاب ابن أبي ليلى فقال: لا يلزمه حتى يحدث ازدراداً أي: يقصد ذلك. ومن أصحابنا من قال: المسألة على حالين من وجه آخر فإن بالغ فإنه يفطره قولاً واحداً وإن لم يبالغ لم يفطره قولاً واحداً واحتج المزني بالغلط في الوقت يفطره. فقال: إذا كان الآكل لا يشك في الليل أي: في بقاء الليل فيوافي الفجر مفطراً بالإجماع وهو بالناسي أشبه، ووجه الشبه أن كليهما لا يعلم [324 أ/4] أنه صائم وقت أكله وهذا السابق إلى جوفه يعلم أنه صائم فإذا أفطر في الأشبه بالناسي كان الأبعد من الناسي وهو هذا المستنشق بالفطر أولى والجواب عن هذا أن يقول: تشبيهك أولا المخطئ في الوقت بالناسي غير صحيح لأنه لو كان كذلك لكان المخطئ لا يفطر كالناسي، ثم الفرق بين مسألتنا وبين المخطئ في الوقت هو أن الفطر إنما يقع بشيئين الازدراد مع ذكر فالمخطئ في الوقت ذاكر للصوم قاصد إلى الازدراد ففطره وهذا المستنشق ذاكر للصوم ولكته غير ذاكر للصوم فلم يجتمع فيه المعنيان فلم يفطره ثم يبطل ما ذكره بما لو صب الماء في حلقة فإنه ذاكر للصوم ولا يفطره. فرع لو غلبه العطش فأدخل الماء في فمه ليسكن عطشه أو أدخل الماء في فمه لا لغرض فسبق إلى جوفه فيه طريقتان، أحدهما: فيه قولان، والثانية: قول واحد يفطره لأنه لا حاجة إليه. مسألة: قال (¬1): وإن اشتبهت الشهور على أسير. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 20).

الفصل وهذا كما قال: هذا الحكم لا يختص بالأسير بل الأسير وغيره سواء، ولكن الشافعي فرض المسألة في أسير من المسلمين في مطورة المشركين لأن الغالب أن الشهر إنما يشتبه على مثل هذا [324 ب/4] والمذهب فيه أنه إذا غلب على ظنه دخول رمضان يلزمه أن يصوم فإن وافق شهر رمضان يجزئه، وبه قال جماعة العلماء وقال الحسن بن صالح بن حي لا يجزئه لأنه صامه على الشك كما لو صام يوم الشك لا يجزئه. وإن بان أنه من رمضان وهذا غلط لأنه أداه بالاجتهاد فإذا وافق الصواب أجزأه كنا في القبلة. ويفارق صوم يوم الشك لأنه أداه من غير إمارة حتى لو صام بالإمارة مثل أن أخبره عدل برؤية الهلال أو بمعرفة منازل القمر أجزأه، ولو صام ها هنا من غير أمارة ولكنه وقع في نفسه أنه الشهر لا يجوز والإمارة مثل الحر والبرد والخريف والربيع وإدراك الثمار ونحو ذلك وإن بان أنه كان يفطر بالنهار ويصوم بالليل فإنه يلزمه القضاء بلا خوف وإن وافق ما قبل رمضان فإن علن قبل مضي رمضان صامه قولاً واحداً وإن علم وقد مضى رمضان كله فيه طريقان: أحدهما: يلزمه القضاء قولاً واحداً لأن الشافعي قال "الأم": ولو قال قائل يجزيه كان مذهبا وأرد مذهب الغير لا مذهبه ومفهوم ما ذكر هنا انه لا يجزئه لأنه قال: فوافقه أو ما بعده ولم يقل أو ما قبله [325 أ/4] ومنهم من قال: فيع قولان وبه قال عامة أصحابنا لأن الشافعي قال في "القديم" صريحا: فإن وافق قبله ثم تبين له بعد انقضاء رمضان ذلك أجزأه ووجه هذا أنه لو اشتبه يوم عرفة فأحرموا ووقفوا ونحروا فوافق ما قبله فإنه يجوز بالإجماع والصحيح انه لا يجوز، وبه قال جماعة العلماء لأنه أدى العبادة المفروضة قبل وقتها فلا يجوز كالصلاة. وأما خطأ عرفة فذاك للجمع الكثير يشق عليهم القضاء ولا يؤمن مثله في القضاء بخلاف هذا. وقال القفال: معنى القولين عندي أنه إذا وافق شهراً بعد رمضان أجزأه بذلك على معنى القضاء أو الأداء فإن كان على معنى الأداء جاز ها هنا لأنه إذا صار الشهر أداء بالاجتهاد فما قبل رمضان وبعده سواء وإن كان على معنى القضاء فالقضاء قبل الوقت لا يجوز قال: ويبني على هذين المعنيين انه إذا صام شهراً بعد رمضان يجوز بلا خلاف ثم الاعتبار بعدد أيام رمضان أو بعدد أيام الشهر الذي صامه، فإن جعلناه قضاء اعتبرنا أيام رمضان فإن كان رمضان ثلاثين والشهر الذي صامه تسعة وعشرين فعليه صوم يوم آخر وإن كان رمضان تسع وعشرين وصام شهراً هو ثلاثون ولكنه أفطر منه يوماً كفاه ما صام [325 ب/4] وإن جعلنا أداء اعتبرنا أيام الشهر الذي صامه، ففي المسألة الأولى يكفيه ما صام، وفي المسألة الثانية عليه قضاء اليوم الذي أفطر فيه. وقال أهل العراق: إن كان رمضان تاماً والشهر الذي صامه بين الهلالين ناقصاً يحتمل أنه يجزئه وبه قال الحسن بن صالح ويحتمل أن لا يجزئه لأن بفوات رمضان استقر عليه عدده. وقال أبو حامد: والأول أشبه لأن الشافعي نص في "الأم" أنه يجزئه

فقال: ولو اشتبهت الشهور على أسير فيجزئ شهر رمضان فوافقه، أو ما بعده فصام شهراً أو ثلاثين يوماً. وقال القاضي الطبري: المذهب أنه لا يجزئه لأنه إنما يجب عليه قضاء ما ترك ألا ترى أنه إذا فاته بعضه يجب أن يقضي قدر ما فاته لا كله ولا يقال: يلزمه أن يكمل ثلاثين لأنه فرق صومه. وأما قول الشافعي في"الأم" أراد يجزئه إذا لم يفصل بين أن يوافق شوالاً وأشهراً أخر ومعلوم أنه لو وافق شوالاً أنه يجزئه حتى يتم عدد الشهر الماضي [326 أ/4] لأن في هذا الشهر ما لا يصح صومه فيه فإن قيل: أليس لو نذر صوم شهر أجزأه ما بين الهلالين؟ قلنا: لأن الإطلاق يحمل على ما يتناوله الاسم وقد تناوله وها هنا يجب قضاء ما فات وتركه فيجب أن يراعي عدد ما ترك. ألا ترى أنه لو نذر صلاة لزمه ركعتان، ولو ترك صلاة لزمه ركعتان، ولو ترك صلاة لزمه بعددها وإن لم يتبين، ولو بان له ذلك وقد مضى بعض رمضان صام الباقي وفيما مضى قولان، وقيل قول واحد يلزم قضاء ما مضى وما تقدم أصبح فإن قيل: إذا وافق ما بعد رمضان فقد صام القضاء بنية الأداء فيجب أن لا يجوز؟ قلنا: أداء القضاء بينة الأداء يجوز ألا ترى أنه لو دخل في الصلاة في وقتها ثم خرج وقتها صحت صلاته، وإن كان بعضها قضاء والنية كانت للأداء. وإن اتفق صومه ذا الحجة لم يجزئه صوم النحر وأيام التشريق وحسب الباقي من جملة ما ترك. فرع لو لم يغلب على ظن هذا الأسير شهر رمضان عن أمارة، قال أبو حامد: يلزمه أن يصوم على سبيل التخمين إذا وقع في نفسه أنه شعر رمضان ويلزمه القضاء متى تيقن الحال [326 ب/4] كالمصلي إذا بم يغلب على ظنه القبلة يصلي على حسب حاله ويعيد. وقال بعض أصحابنا وهو الأصح أنه لا يلزمه ذلك لأنه لا يعلم دخوله لا يقيناً ولا ظناً كمن شك في دخول وقت الصلاة لا يلزمه الصلاة ويفارق القبلة لأن وقت الصلاة معلوم فلا يجوز أن يخيله من فعلها وها هنا لا يعلم وجود وقت العبادة فلم يجب عليه الشك في سبب الوجوب. فرع آخر لو شرع في الصوم بالاجتهاد ثم جامع يلزمه الكفارة لأن الوقت موجود وإن علمه بنوع اجتهاد، وإن صادف شهراً غير رمضان فلا كفارة. فرع آخر ذكره والدي رحمه الله لو صام الأسير بنية قضاء رمضان شهراً لظنه بالاجتهاد أن رمضان قد مضى ثم بان أن صومه وافق رمضان صح صومه عن الأداء اعتباراً. بما قاله الشافعي: لو أنه صام على أنه أداء ثم تبين له أنه صام بعد رمضان جاز، ووجه الجمع أن الأداء لا يصح بنية القضاء مع العلم بالحال وكذلك القضاء بنية الأداء ثم جاز

القضاء بنية الأداء في الأسير للعذر الموجود فيصح منه الأداء بنية القضاء لهذا [327 أ/4] العذر ولا فرق بينهما بل جواز هذا أولى؛ لأن القضاء بنية الأداء ترك نية القضاء، وفعل الأداء بنية القضاء زيادة القضاء والزيادة أخف من الترك. مسألة: قال وللصائم أن يكتحل. الفصل وهذا كما قال لا يكره الكحل للصائم بالإثمد والصبر سواء وجد طعمه في حلقه أو لا، وسواء وجد لون الكحل في نخامته أو لا، العين لا مجرى لها إلى الحلق إلا من طريق العروق ولا حكم لمجرى العروق ولهذا فإنه يدلك أسفل رجله بالحنظل فيجد طعمه ولا يفطره. وإذا قبض البلح بيده وجد برده في فؤاده. وقال مالك وأحمد: يكره له ذلك ولكن لا يفطره، وقال مكحول وابن أبي ليلى وابن شبرمة: إذا وجد طعمه في حلقه، ويرويه أصحاب مالك عن مالك وهذا غلط لما روى أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ونزلت معه فدعا بكحل واكتحل به في رمضان وهو صائم" (¬1). وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم "كره السعوط للصائم"، أو أن يصب في أذنه شيء ولم يكره الكحل (¬2). وروى مثل قولنا عن ابن [327 ب/4] أبي أوفي وسئل ابن عمر رضي الله عنه عن هذا فقال: هل هو إلا مثل الغبار ينزل في الحلق ولا يعرف لهما مخالف وبه قال جماعة العلماء وهو مذهب عطاء والحسن والنخعي والشعبي. وكذلك لو دهن رأسه حتى وجد طعم الدهن في حلقه أو انغمس في الماء فوجد برده في دماغه أو في كبده لم يضره ولا يكره ذلك. ومعنى قوله: وينزل الحوض فيغطس فيه أي: ينغمس ليقطع العطش، يقال هما متغاطسان ويتماقلان في الماء. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان يصبح جنباً من جماع ثم يغتسل ويصوم" (¬3) وروي عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام أنه قال: "حدثني من رأى أن النبي صلى الله عليه وسلم في يوم صائف يصب على رأسه الماء من شدة الحر والعطش وهو صائم" (¬4). وروي عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما "أنهما كانا يتماقلان في الماء وكانا صائمين". فرع إذا غاص في الماء فدخل الماء إلى دماغه ولم يدخله بنفسه قيل: فيه قولان، وقيل قول واحد أنه يفطره. قال أصحابنا: ويجوز أن يتمضمض أيضاً كذلك ولا يكره وحكي عن بعض [328 أ/4] أصحابنا أنه إن دهن رأسه بالنهار بعد الصلاة فدخل جوف ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (726)، والبهيقي في"الكبرى" (8258). (¬2) أخرجه أبو داود (2378). (¬3) أخرجه البخاري (1925)، ومسلم (1109). (¬4) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8261).

الرأس بالليل فيجوز، وإن دهن بالليل فدخل جوف رأسه بالنهار فلا يجوز وهذا ليس بشيء. مسألة: قال (¬1): ويحتجم. وهذا كما قال: يجوز للصائم أن يحتجم، قال في "الأم" (¬2): ولو ترك كان أحب إلى وهذا لأنه يضعفه وربما أحوجه إلى الأفطار. وروى عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا: "إنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحجامة والوصال في الصوم إبقاء على أصحابه". وقال بعض أصحابنا: يكره له ذلك وظاهر المذهب أنه لا يكره لأنه قال: ويحتجم بعد قوله وينزل الحوض وذلك لا يكره كذلك هذا وبهذا قال ابن عمر وابن عباس وابن مسعود والحسن بن علي وأبو سعيد الخدرى وزيد ابن أرقم وأنس وأم سلمة وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وطاوس والقاسم بن محمد وسالم وعروة والشعبي والنخعي وأبو العالية وجماعة الفقهاء رضي الله عنهم. وروى عن على بن أبى طالب وعائشة وأبى هريرة رضي الله عنهم وهو مذهب الحسن وعطاء والأوزاعي وأحمد [328 ب/4] وإسحاق وداود أن الحجامة تفطر الحاجم والمحجوم جميعًا واختاره ابن المنذر ومحمد بن إسحاق بن خُزيمة، وقال أحمد في رواية يلزم بها الكفارة واحتجوا بماروى رافع بن خديج وثوبان رضي الله عنهما" أن النبي صلى الله عليه وسلم مر برجل يحجم رجلًا فقال: أفطر الحاجم والمحجوم" (¬3)، وهذا غلط لما روى مقسم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرمًا في حجة الوداع بالقاحة" (¬4). وقال أنس: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم في رمضان بعد ما قال: أفطر الحاجم والمحجوم"، وقال أنس إنما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجامة للصائم مخافة الضعف. وروى البخارى مفصلاً فقال: "روى أنه احتجم وهو صائم"، وروى أنه احتجم وهو محرم. وروى أبو عريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاث لا يفطرن الصائم، الحجامة والقيء والاحتلام". وأما خبرهم أنهما قلنا: هو منسوخ بخبرنا ويحتمل أن يريد بذلك تعريفهما بذلك لأنه روى أنهما كانا يغتابان واحدًا فقال: هذا على طريق المجاز ومعناه [329 أ/4] بطل أجر صومهما كما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا صيام لأهل بيت اللحم، قيل: من هم يا رسول الله، فقال: الذين يصبحون يأكلون لحوم الناس" أي يغتابون، والذي يدل على هذا أن الحاجم لا يفطر إذا لم يصل إلى حلقه شيء على الصحيح من مذهبهم. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 20). (¬2) انظر الأم (2/ 83) (¬3) أخرجه أبو داود (2367، 2369، 2370، 2371)، والترمذي (774)، وابن ماجخ (1679، 1680، 1681)، وأحمد (2/ 364، 365)، والدارمي (2/ 14، 15)، وعبد الرزاق (2523، 2525، 7519). (¬4) أخرجه البخاري (1938، 1939)، وأبو داود (1836)، والترمذي (775)، والنسائي (2845).

مسألة: قال (¬1): وَأَكْرَهُ العَلْكَ لأَنَّه يَجْلِبُ الرِّيقَ. وهذا كما قال، يكره للصائم أن يمضغ العلك وهو الموميا الذي مضغه وعلكه وصلب وقوي ....... (¬2) الذي لا ينحل ولا ......... (¬3) فإن خالف وفعل فجلب الريق واجتمع وابتلعه لم يفطره وجد في حلقه طعمه أو لم يجد كالكحل سواء. وإن كان علكًا يتفتت بالمضغ وهو الكندر نظر فإن لم ينزل إلى حلقه شيء لم يفطره، وإن نزل في حلقه فطره. وقيل: معنى قوله: يجلب الفم أي: يطيب النكهة ويزيل الخلوف. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لخلوف فم صائم أطيب عند الله من ريح المسك" (¬4)، فلهذا كره وقيل: معناه تجمع الريق في الفم ويفطر بابتلاعه في قول بعض أصحابنا يكره ذلك، وقيل: يحلب بالحاء فمعناه يمتص الريق ويجهد الصائم فيورث العطش فكره لذلك. وقال [329 ب/4] أصحابنا: ويكره أن يمضغ الخبز للصبي فإن كان له ولد صغير ولم يكن له من يمضغ له غيره لا يكره له ذلك ولو فعل ولم ينزل منه شيء إلى حلقه لم يفطر. مسألة: قال (¬5): وَصَومُ شَهْرِ رَمَضَانَ واجبُ عَلى كل بالغٍ مُحْتَلِمٍ. الفصل وهذا كما قال: صوم رمضان يجب على المكلفين من المسلمين ذكوروهم وإناثهم وأحرارهم وعبيدهم لقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، ولا يلزم على الصبي والمجنون لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى يستيقظ". وذكر الشافعي البالغ ولم يذكر العاقل لأنه مفهوم في ذكره البالغ فإذا تكرر هذا فالصبي إذا بلغ حد التمييز وهو سبع سنين أو ثمان سنين يؤمر بالصوم ويعلم ذلك. وإذ بلغ عشراً فإنه يضرب عليه كما قلنا في الصلاة وإذا صام كان صومه شرعياً خلافاً لأبي حنيفة وهذا لأن كل من صحت طهارته صح صومه كالبالغ، وصوم في رمضان لا يصح إلا بالنية من الليل وليس على أصلنا صوم نفل لا يجوز إلا بالنية من الليل إلا هذا. مسألة: قال (¬6): وَمَن احْتَلَمَ مِنَ الغِلْمَانِ أَوْ أّسْلّمَ مِنَ [330 أ/4] الكُفَّارِ بَعْدَ أَيَّامٍ مِنْ شَهْرِ رمضانَ فَإِنَّهُمَا يَسْتَقْبِلاَنِ الصَّومَ ولا قضاءَ عليهما. وهذا كما قال: الصبي إذا بلغ بعد مضى شهر رمضان فلا قضاء عليه بالإجماع. وإن بلغ في خلال رمضان فإن كان ليلًا استقبل الصوم فيما بقى ولا قضاء عليه مما مضى. وإن بلغ نهارًا فإن كان مفطرًا كان له أن يستديم الإفطار ويستحب له الإمساك وهل يجب عليه قضاؤه؟ فيه وجهان: ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 21). (¬2) موضع النقض بياض بالأصل. (¬3) موضع النقض بياض بالأصل. (¬4) أخرجه البخاري (1894)، ومسلم (163/ 1151). (¬5) انظر الأم (2/ 21). (¬6) انظر الأم (2/ 21).

أحدهما: لا يجب وهو المنصوص في "مختصر البويطي"، وبه قال أبو حنيفة لأنه سقط عنه حكم هذا اليوم في أوله فسقط في آخره أيضاً لأن الآخر تابع الأول. والثاني: يلزم القضاء لأنه صار من أهل التكليف في آخره فلزمه ذلك القدر من الصوم ولا يمكن الشروع في ذلك القدر فيقضي ولا يمكن القضاء إلا بيوم كامل، والأول أصح وإن بلغ صائماً في هذا اليوم لزمه إتمامه ولا يجب القضاء إذا قلنا لا تجب إذا كان مفطرًا. وإن قلنا يجب القضاء إذا كان مفطرًا فهاهنا وجهان: أحدهما: يقضي لأنه لم يبق الصوم الواجب من أوله، والثاني: هو اختيار أبي إسحاق أنه لا يلزمه القضاء لأنه حصل في الصوم من أوله. ويمكن بناء الباقي على الأول إلا أنه يكون متنفلًا [330 ب/4] في أوله مفترضًا في آخره ولا يمتنع مثل ذلك كما لو شرع في الصوم ... (¬1) إذا أسلم بعد انقضاء الشهر فلا قضاء عليه. وإن أسلم في أثنائه فما مضى لا يقضيه. وأما اليوم الذي أسلم فيه هل يلزمه قضاؤه؟ وفيه وجهان كما ذكرنا في الصبي، وقيل: قول واحد يلزمه القضاء لأنه متعد واختلف أصحابنا هل يوصف بالوجوب عليه أم؟ وقد مضى هذا وحكي عن الحسن وعطاء أنهما قالا: إذا أسلم الكافر في شهر رمضان يلزمه قضاء ما مضى وهذا غلط، لأن الصيام هو في حكم عبادات فوجوب بعضها لا يستدعي وجوب الباقي. وقال القفال من أصحابنا من قال: يجب قضاء هذا اليوم على الكافر يسلم والصبي يبلغ لأنهما مفرطان بترك الصوم ولا يجب على المجنون إذا أفاق، وقيل: لا يجب إلا على الكافر إذا أسلم لأنه عاص بخلاف غيره وأما المجنون إذا أفاق بعد مضي الشهر لا قضاء عليه. وقال مالك: يلزمه القضاء وحكي هذا عن ابن سريج وقد تفرد به من بين أصحابنا وهو رواية عن أحمد قياساً على الإغماء، وقيل: هذا لا يصح عن ابن [331 أ/4] سريج وهذا خطأ ظاهر بخلاف الإجماع، ولأن التكليف عنه ساقط بخلاف المغمى عليه وإن أفاق في أثناء الشهر لا قضاء عليه لما مضى وفي اليوم الذي أفاق فيه وجهان على ما ذكرنا. وقال أبو حنيفة: يلزمه قضاء ما مضى وإذا بلغ مجنونًا ثم أفاق في أثناء شهر رمضان فيه روايتان عنه وهذا غلط لأنه معنى لو دام الشهر كله لا يلزمه القضاء، فإذا زال في بعض الشهر لا يلزمه قضاء ما مضى كالصَّغير. وحكي عن المزني أنه قال في "المنثور" إذا أفاق في أثناء الشهر يقضي ما مضى في قول للشافعي وأهل الكوفة ولم يقبله أصحابنا أجمع وقالوا: لا نعرف هذا للشافعي، وأما المغمى عليه فإنه يلزمه القضاء بكل حال. وحكي عن أبى حنيفة أنه قال: إذا امتد الإغماء شهرًا كالمجنون فإذا أفاق ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل.

بعد مضي تمام الشهر لا يلزمه القضاء. مسألة: قال (¬1): وَأُحبُّ للصَّائِمِ أنْ يُنَزَّه صيامَهُ عنِ اللَّغَطِ القَبِيحِ. الفصل وهذا كما قال: أراد أنه يستحب له أن يطهر صومه ويصونه عن اللغط القبيح من الغيبة والنميمة والكذب والمشاتمة ويكره له ذلك والكراهة في [331 ب/4] المشاتمة أشد لأنها أقطع، وقيل يجب عليه أن يصون سمعه وعينه فلا ينظر إلى ما لا يحل ويسمعه فلا استمع إلى ما لا يحل وبلسانه فلا ينطق إلا بخير وهذه الأشياء وإن كانت حراماً ففي رمضان هي أشد تحريمًا وهذا لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لم يدع قول الزور والعمل به- يريد العمل بالزور وهو الربا - فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" (¬2) ويستجب إذا شوتم أن يقول: إني صائم فقيل يقول ذلك باللسان أو لا يشتغل بالانتصار وقيل أراد فليعلم أنه صائم ليمنعك ذلك من المقابلة لأن ستر الطاعة أولى. وقال الشافعي للخبر في ذلك وأراد ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الصوم جنة وحصن حصين من النار فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يفسق ولا يرفث فإن امرؤ شاتمه أو سابه فليقل إني امرؤ صائم" (¬3). وقيل: لقوله إني صائم ثلاث تأويلات: أحدها: أن في قوله هذا شفاء لغيظه وسكوناً لنفسه، والثاني: ليتذكر صوم نفسه فيمتنع من جواب خصمه، والثالث: ليعلم خصمه صيامه فيكف عن شتمه وإذائه. ومن أصحابنا [332 أ/4] من قال: أنه في صوم رمضان يقول ذلك بلسانه وفي صوم التطوع وجهان، والفرق أنه لا يؤدي هناك إلى إظهار الطاعة والرياء ليعلم الناس أنه صائم في ظاهر الحال وفي التطوع يؤدي إلى ذلك فلا يقول هذا باللسان ولكن ليعلم في نفسه ذلك وهذا حسن فإن اغتاب أو شتم أو قذف لا يبطل صومه. وقال الأوزاعي وبعض الشيعة: يبطل صومه، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "خمس يفطرن الصائم وينقضن الوضوء، الغيبة والنميمة والكذب والنظر بالشهوة واليمين الفاجرة" (¬4). وهذا غلط لأن ما لا يفطره مباحة لا يفطره محظورة كالقبلة أو نوع كلام لا يخرج به عن الإسلام كغيره وأمَّا الخبر فمحمول على بطلان الأجر كما قال صلى الله عليه وسلم "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع ورب قائم ليس حظه من قيامه إلا السهر" (¬5)، وأراد به لبطلان أجره. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 21). (¬2) أخرجه البخاري (1903)، وأبو داود (2362)، والترمذي (707)، والنسائي (3245)، وابن ماجه (1689). (¬3) أخرجه البخاري (1904)، ومسلم (160/ 1151). (¬4) أخرجه ابن الجوزي في "الموضوعات" (2/ 196). (¬5) أخرجه أحمد (2/ 373)، وابن ماجه (1690)، والحاكم (1/ 431)، والبيهقي في "الكبرى" (8313).

مسألة: قال (¬1): وَالشَّيْخُ الكبيرُ الذي لاَ يَسْتَطِيعُ الصَّوَّمَ. الفصل وهذا كما قال: الشيخ الهرم والشيخة الهرمة إذا عجزا عن الصوم يجوز لهما أن يفطرا وهل يجب عليهما لكل يوم مد من طعام فيه قولان، قال في عامة كتبه: يلزمه ذلك وهو الصحيح وبه قال جماعة العلماء، [332 ب/4] وهو قول سعيد بن جبير وطاوس وقال ابن عباس وابن عمر يطعم كل يوم مسكينًا (¬2) وقال أبو هريرة: عليه لكل يوم مد قمح (¬3). وروي أن أنسًا ضعف عن الصوم عاماً قبل وفاته فأفطر وأطعم مكان كل يوم مسكينًا (¬4)، وعن أحمد أنه يطعم مدًا من بر أو نصف صاع من تمر أو شعير، وقال في "حرملة" و "البويطي": يستحب له الفدية ولا يجب، وبه قال مالك وربيعة ومكحول وأبو ثور واحتجوا بأن من جهده العطش يفطر ويفضي ولا فدية كذلك هاهنا، واحتج الشافعي بما روي أن ابن عباس أوجب الفدية وقرأ {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة:184]، قال: أراد به المرأة الهرمة والشيخ الكبير يتكلفان الصوم فلا يطيقان يفطران ويطعمان لكل يوم مسكيناً، ثم إن الشافعي خالفه قراءة وتأويلاً ولم يخالفه مذهباً فقال وغيره من المفسرين يقرؤونها يطيقونه، وكذلك يقرأها ويزعم أنها نزلت حين نزل فرض الصوم ثم نسخ ذلك قال الشافعي: وآخر الآية يدل على هذا المعني لأن الله تعال قال: {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا} [البقرة:184] وزاد على مسكين، أي: أطعم مسكينين فهو خير له. ثم قال: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] [333 أ/4] قال فلا يؤمر بالصوم من لا يطيقه أي: لو كان المراد بالآية ما قاله ابن عباس عن الشيخ الهرم لكان لا يأمره بالصوم لأنه لا يطيقه قال ثم بيّن من نسخه فقال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185] قال وإلى هذا يذهب وهو أشبه بظاهر القرآن. قال المزني: هذا بين في التنزيل أي: في ظاهر القرآن مستغنى فيه عن التأويل وهو على ما ذكر. واحتج بعض أصحابنا بأن الله تعال خير في ابتداء الإسلام على ما ذكرنا ثم ختم الصوم بما ذكرنا من الآية فالشيخ الكبير تناول من يحتم عليه الصوم دون الشيخ الهرم فهو باق على أصل التخيير فإذا تكرر هذا قال في "الأم" (¬5): والحال الذي يترك به الكبير الصوم هو أن يجهده الجهد غير المحتمل وكذلك إذا كان الصوم يزيد في مرض المريض يفسده وزيادة بينة أفطر، وإن كانت زيادة محتملة لم يفطر وكذلك المرضع إذا ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 21). (¬2) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8318)، وفي "معرفة السنن" (3/ 416). (¬3) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8319)، وفي "معرفة السنن" (2553). (¬4) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8320)، وفي "معرفة السنن" (2554). (¬5) أنظر الأم (2/ 84).

أضر الصوم بلبنها الإضرار البين. فأما ما كان من ذلك محتملًا فلا يفطر والصوم قد يزيد في عامة العلل ولكن زيادة محتملة وينقص بعض اللبن ولكن نقصاناً محتملاً فإذا تفاحش أفطر. هذا كل لفظ الشافعي [333 ل/4] رحمه الله ولم يرد بما ذكر في "المختصر" لا يستطيع الصوم بحاله ولكن أراد ما فسرها هنا وهذا الذي ذكرنا هو إذا انتهى إلى حد الهرم بيقين لا يرجى قدرته في المستقبل على القضاء فإنه إن كان يرجى ذلك فحكمه حكم المريض ثم هذا الذي ذكرنا هو إذا كان قادراً على الإطعام فإن كان فقيراً لا يقدر على الإطعام حتى مات فلا شيء عليه وإن أيسر بعد الإفطار فقد وجب عليه الإطعام فإن مات قبل أن يطعم وجب الإطعام عنه لأن الإطعام من الشيخ الهرم هو بمنزلة القضاء في المريض والمسافر لو ماتا قبل زوال عزرهما ويمكنهما من القضاء لا يجب عليهما شيء، وإن زال عزرهما وقدر على القضاء لزمهما القضاء، وإن ماتا قبل القضاء وجب أن يطعم عنهما مكان كل يوم مُداً من الطعام فلذلك هاهنا. فإن قيل: قال الشافعي هاهنا: والشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوم ويقدر على الكفارة يتصدف. فقيل: وجوب الكفارة بالقدرة عليها، وهذا يقتضي أنه لو كان معصرًا لم يلزمه ذلك. قلنا: مذهب الشافعي وغيره أن الكفارة لا تسقط بوجود الاعتبار عند [334 أ/4] سبب وجوبها وأراد الشافعي بهذا التقييد تعجيل المباشرة حتى إن كان موسرًا فأفطر عجل مباشرة الكفارة ولم يرد بذلك أنه إذا كان معصرًا ثم أيسر لا يلزمه. وقد حكي الشافعي حديث الأعرابي المجامع، ثم قال: لما أمره بصرفه إلى عياله احتمل أن يقال: لا تجب الكفارة على معصر، واحتمل أنها واجبة ولكن لم يكن مخاطباً بها في الحال للعصرة، والصحيح أنه لم يذكر هذين الاحتمالين على معنى تخريج القولين، بل تكلم على الخبر بما يحتمل ثم بين مذهبه على ما سبق ذكره. وقال داود: كيف ما كان المرض يسيرًا أو شديدًا فله النظر، وقال الحسن والنخعي: إن كان مرضه بحيث له أن يصلى قاعدًا فله الفطر وإلا فلا. وسمعت بعض أصحابنا يفتى بهذا الصحيح ما تقدم. فرع لو أفطر الشيخ الهرم فأوجبنا الفدية، ثم قدر على القضاء بعده تلزمه الفدية، وهو كالمغضوب إذا أحج رجلًا عن نفسه ثم قدر على الحج يلزمه أداؤه بنفسه. فرع آخر ذكره والدي- رحمه الله - لو كان على الشيخ الهرم صوم نظر أو قضاء فعليه الإطعام عن كل يوم مُدًّا، ولو نظر الصوم [334 أ/4] وهو شيخ هرم هل ينعقد نظره؟ يحتمل وجهين: أحدهما: يصح ويلزمه الإطعام وهذا أصح، والثاني: لا يصح. وقيل: الوجهان مبنيان على أنه يلزمه صوم رمضان ثم بالعجز يفتدي أو الواجب عليه الفدية أولًا ابتداء، وفيه وجهان، فظاهر المذهب أنه يلزمه الصوم لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183] فعلى هذا ينعقد بدؤه، ليس من أهل وجوب الصوم ولم ينظر الفدية حتى يوجبها. فرع آخر ذكره والدي رحمه الله لو شرب شراباً قصداً منه إلى المرض قبل الفجر فطلع الفجر وهو مريض قال: عندي يحل الفطر لأن المرض من فعله الله تعالى وإن كان سببه معصية وعلة الإباحة وجود المرض. ويفارق هذا إذا جُن فشرب دواء قصداً منه إلى زوال العقل فإنه يلزمه قضاء الصلوات لأن لو علقنا الحكم على ذلك أدى إلى إسقاط الصلاة، وهاهنا لا يؤدي إلى إسقاط الصوم وإنما يؤدي إلى التأخير فلهذا فصلنا بينهما. ومثاله: إذا وجد نصف الرقبة في الكفارة لم يلزمه إعتاقه ولو وجد نصف الصَّاع دون الثاني ويفارق سفر المعصية لأن السفر فعله بخلاف المرض. يؤكده أنه يمكنه أن يقطع نية المعصية ويفطر فإذا لم يقطع كان هو الجاني على نفسه ولا يمكنه أن يقطع بسبب المرض فإن المرض لا يختلف ولا يتغير حاله بذلك فأبيح الفطر للضرورة ولهذا لا يجوز للمسافر العاصي بسفره أن يقصر الصلاة ويجوز لهذا المريض أن يصلي الفرض قاعدًا فهما يفترقان. فرع آخر ذكره والدي رحمة الله إذا أدى الشيخ الهرم الفدية قبل دخول رمضان لصومه لم يجز. وغن أداها بعد دخول رمضان فإن أداها بعد الفجر لذلك اليوم جاز، وإن أداها قبل الفجر يحتمل أن يقال: يجوز كما تجوز فيه النية لو كان قادرًا على الصوم قلت: ويحتمل أنه لا يجوز لأنه لم يدخل وقت وجوب الصوم. قال: وإن أداها بعد الفجر لذلك اليوم واليوم الثاني يجوز للأول وهل يجوز لليوم الثاني؟ يحتمل أن يقال: كما يجوز أداء زكاة الفطر بعد دخول رمضان، ويحتمل أن يقال: لا يجوز والأصل فيه أن سبب وجوب الفدية هو الإياس من القدرة [335 ب/4] على الصوم وله سبب آخر وهو دخول زمان رمضان وحالة وجوب وهي إذا غربت الشمس ي اليوم أل ترى أنه لو مات قبل غروب الشمس لم يلزم في ماله فدية ذلك اليوم لعدم القدرة، فإذا أدى الفدية بعد وجود السبب الأول وبعد دخول زمان السبب الثاني جاز وإلا فلا يجوز كما جاز أداء زكاة المال بعد وجود النصاب قبل الحول ولا يجوز قبل النصاب وأما الحامل إذا احتاجت إلى الفطر فلا يجوز لها تقديم الفدية. فرع آخر قال: رأيت في تعليق الإمام الزيادي رحمه الله أنه يجوز لأنه لما رخص لها في فعل سبب الفدية هو الفطر وجب أنه يجوز تقديمها كتقديم كفارة اليمين على الحنث بعد اليمين ولا يجوز لها إلا تقديم فدية يوم واحد فلو قدمت فدية يومين أو أيام لا يجوز

لأن العارض الذي يبيح الفطر في هذا اليوم قد يزول في اليوم الثاني. فرع ذكره والدي رحمه الله إذا تركت الصوم خوفاً على الولد ولم تشرع فيه هل يلزمها الفدية يحتمل وجهين: أحدهما: يلزم وهو الأظهر كما في الشيخ الهرم، والثاني: لا يلزم [336 أ/4] وهو ظاهر كلام الشافعي لأنه ذكر المسألة بلفظ الإفطار وليس كالشيخ الهرم لأن لو أسقطنا الفدية هناك أدى إلى إسقاط بدل الصوم رأساً ولا يؤدي إلى هذا هاهنا لأن القضاء يلزمها. فرع آخر لو رأى الصائم من يفرق في ماء ولا يمكنه تخليصه منه إلا بأن يفطر فيقوى له الفطر وهل تلزمه الفدية فيه وجهان، أحدهما: تلزمه الفدية لأنه بسبب الغير كفطر الحامل، والثاني: لا يلزمه لأنه ليس ذلك من طريق الخلقة والاتصال به. مسألة: قال (¬1): ولا أَكْرًهُ في الصَّوْمِ السَّوَاكَ بالعُودِ الَّطْبِ وغيره. وهذا كما قال: السواك مستحب لغير الصائم في جميع الأوقات. وأما للصائم قال الشافعي: يستحب له أن يصوم بالغداة ويكره له ذلك بالعشي، ولم يجده الشافعي بالزوال ولكن قال أصحابنا يستحب له إلى أن تزول الشمس فإِن زالت الشمس يكره له إلى آخر النهار وبه قال: على علي وابن عمر وعطاء ومجاهد والأوزاعي وأحمد وإسحاق، وقال مالك وأبو حنيفة لا يكره أصلاً واحتجوا بما روى أبو إسحاق الخوارزمي قال: سألت عاصم الأحوال أيستاك الصائم؟ قال: نعم قلت: [336 ب/4] برطب السواك ويابسه قال: نعم قلت: أول النهار وآخره، قال: نعم، قلت: عمن، قال: عن أنس، قال: عمن، قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم (¬2) وهذا غلط لما روى خباب ابن الأرت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا صممت فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي فإنه ليس من صائم تيبس شفتاه إلا كانتا نورًا بين عينه يوم القيامة" (¬3)، ولأن الخلوف تكره إزالته لقوله صلى الله عليه وسلم: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك". وروى عن على رضي الله عنه أنه قال: إذا صممتم فاستاكوا بالغداة ولا تستاكوا بالعشي (¬4). وروى عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يستاك ما بينه وبين الظهر ولا يستاك بعد ذلك (¬5). وأما خبرهم قال الدارقطني أبو إسحاق الخوارزمي [ضعيف] ويحتمل ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 24). (¬2) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8327)، وقال: ينفرد به أبو إسحاق إبراهيم بن بيطار قاضي خوارزم، حدث ببلخ عن عاصم الأحول بالمناكير، لا يحتج به. (¬3) أخرجه الدارقطني (2/ 204)، والبيهقي في "الكبرى" (8337). (¬4) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8336)، وفي "معرفة السنن" (3/ 417). (¬5) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8330).

باب صيام التطوع والخروج منه قبل إتمامه

أن يكون ذلك استدلالًا من عاصم الأحوال لا سماعًا فإذا تكرر هذا لا فرق عندنا بين رطب السواك ويابسه، وبه قال جماعة العلماء، وقال مالك وإسحاق وأحمد في رواية يكره بالعود الرطب لأنه يجلب الفم كالعلك وهو مذهب عباة والشعبي والحكم. وهذا غلط لأنه روي عن ابن عمر رضي الله عنه [337 أ/4] أنه قال: لا بأس بالسواك الرطب واليابس (¬1). قال علي رضي الله عنه: لا بأس بالسواك الرطب الأخضر، وأما ما قالوا قلنا رطوبة ليست بأكثر من رطوبة الماء ولا يجاوز به الأسنان فلا يجلب الفم والعلك يدعو القيء ويورث العطش ويجلب الفم فافترقا. وقال القفال: إن كان رطبًا يخاف أن يصل إلى جوفه يكره السواك وبه ولو وصل ذلك فطره. وحكي بعض أصحابنا عن أحمد أنه قال: يكره ذلك في الفرض دون النفل لتخفيف حكم النفل فلا بأس بإزالة الخلوف فيه وهذا لا يصح لأن ما يكره في الفرض فإنه يكره في النفل كالمبالغة في المضمضة. باب صيام التطوع والخروج منه قبل إتمامه قال أخبرنا سفيان ..... الخبر. وهذا كما قال: إذا دخل في صوم التطوع أو صلاة التطوع فهو مخير إنشاء أتمه وإن شاء خرج منه والإتمام أفضل. وقال بعض أصحابنا: يكره له الخروج منهما فإن خالفا وخرج لا يأثم ولا يلزمه القضاء، وبه قال الثوري وأحمد وإسحاق وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس وابن مسعود رضي الله عنه. وقال أبو حنيفة: يجب المضي في ولا [337 ب/4] يجوز له الإفطار إلا بعذر وهو شفاعة الصديق والوالدين وإذا أخرج يلزمه القضاء وبه قال الأوزاعي وقال مالك يجب بالدخول فيه ولا يخرج إلا بعذر فإن خرج بعذر لا يلزمه القضاء وإن خرج بغير عذر يلزم القضاء، واحتجوا بما روي أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما أصبحتا صائمتين متطوعتين فأهدي لهما حيس فأفطرتا ثم سألتا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "اقضيا يومًا مكانه" (¬2)، وهذا غلط للخبر الذي رواه الشافعي عن عائشة رضي الله عنهما قالت: دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا خبأنا لك حيسًا فقال:"أما أني كنت أريد الصوم ولكن قربيه" (¬3) والحيس طعام يتخذونه من سويق وخبز وقيل من تمر وأقط وفيه نظر. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هل عندك شيء قلت: لا، قال: إذا أصوم ثم دخل علي يومًا آخر فقال: عندك شيء فقلت نعم فقال إذا فطر وإن فطر وإن كنت قد فرضت الصوم" (¬4)، واحتج بخبر آخر وهو"أن النبي صلى الله عليه وسلم ¬

_ (¬1) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (3/ 35). (¬2) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 306)، وأحمد (6/ 263)، والترمذي (375)، وعبد الرزاق (7790)، والبيهقي في "الكبرى" (8363، 8364). (¬3) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8340)، وفي "معرفة السنن" (2559). (¬4) أخرجه مسلم (169/ 1154)، والدارقطني (2/ 177)، والبيهقي في "الكبرى" (7913، 7914).

صام في [338 أ/4] سفر حتى بلغ كراع الغميم ثم أفطر" ووجه الدليل أن المسافر هو مخير في ابتداء نهاره بين الشروع في الصوم وبين الفطر وإذا شرع كان مخيرًا أيضًا كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فكذلك هاهنا، واختلف أصحاب أبى حنيفة في هذا وظاهر مذهبهم جواز الفطر له ثم احتج بعده بآثار الصحابة في الصوم والصلاة فقال: وركع عمر ركعة ثم انصرف فقيل له في ذلك أي: روجع فيه فقال: إنما هو تطوع فمن شاء زاد ومن شاء نقص وعند أبي حنيفة ليس له أن ينقص عما نواه. قال الشافعي: ويخالف هذا الحج والعمرة فإنه إذا شرع فيهما ثم أفسدهما فإنه يلزمه القضاء لأنهما أكد لزوماً وأغلظ حكماً ترى أنه يلزم المضي في فاسدهما بخلاف غيرهما واحتج في سقوط القضاء بما روت أن هانئ رضي اللهم عمها قالت: دخل رسول صلى الله عليه وسلم وأنا صائمة فناولني فضل شرابه فشربت ثم قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إني كنت صائمة وإني كرهت أن أرد سؤرك فقال: إن كان قضاء من رمضان فصومي يوماً مكانه وأن كان تطوعاً [338 ب/4] فإن شئت فاقضيه وإن شئت فلا تقضيه" (¬1)، وأما خبر عائشة وحفصة فنحمله على الاستحباب بدليل هذا الخبر. فرع إذا دخل في صوم واجب أداء أو صلاة واجبة أداء أو صوم نذر بعينه لم يكن له الخروج فيه من غير عذر لأنه أوجب عليه فيه بعينه، وإن كان في الذمة غير متعين كقضاء الصوم والصلاة والنذر المطلق والكفارة لا يجوز له الخروج منه إذا دخل فيه، نص عليه "الأم"، لأن هذا واجب عليه في زمان لا يعينه وإذا تلبس به كان تعييناً كذلك الزمان وصار بمنزلة الفرض المعين بخلاف النافلة. وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دخل أحدكم على أخيه وهو صائم فسأله أن يفطر إلا أن يكون ذلك الصوم نذراً أو كفارة أو قضاء من صوم شهر رمضان" (¬2). ومن أصحابنا بخراسان من قال: إن كان يفطره في رمضان عاصيًا عصى بفطره في القضاء لأن قضاءه مضيق الوقت فما من يوم يؤخر القضاء فيه إلا وهو عاصٍ به، وكذلك الكفارة إذا لزمته بسبب غير مباح لا يجوز له الفطر لأنه مضيق الوقت، وإن كان يفطره معذورًا [339 أ/4] كالمريض والمسافر لا يعفي إذا أفطر في القضاء لأن وقته موسع وهو متبرع بالشروع فيه وهو اختيار القفال، وكذلك لو لزمته الكفارة بسبب هو غير عاصٍ به وهذا حسن، ولكنه خلاف المنصوص. فرع ذكره والدي رحمة الله: لو كان عليه قضاء رمضان فسهي عنه حتى دخل رمضان ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6/ 343، 344)، وأبو داود (2456)، والترمذي (731)، والنسائي (3305)، والدارقطني (2/ 174)، والبيهقي في "الكبرى" (8360). (¬2) أخرجه أحمد (2/ 489).

آخر، فإن كان الإفطار الذي وجب به القضاء لعذر لم يلزم الإطعام، وإن كان لغير عذر يحتمل وجهين أحدهما: يلزمه الإطعام مع القضاء، والثاني: لا يلزم. فرع آخر ذكره والدي رحمه الله لو نوى في النهار قبل الزوال صوم القضاء لم يجز عنه وهل يجوز عن النفل؟ وجهان والصحيح جوازه كما لو أحرم بالصلاة قبل وقتها انعقدت نفلًا. فرع آخر قال والدي رحمه الله: لو شك في الليل هل نوى أو لم ينو فعليه إعادة النيَّة، وإن كان الشك بعد الفجر فإن كان من صوم النفل يلزمه إعادة النية قبل الزوال، وإن كان في الفرض في وجهان أحدهما: لا معنى لصومه، والثاني: لا تأثير للشك في صومه وصومه صحيح. فرع آخر ذكره والدي رحمه الله أيضًا: [339 ب/ 4] لو نوى لصوم كفارة اليمين قبل الحنث ثم حنث قبل طلوع الفجر هل يصح أداء صوم الغد عن الكفارة بتلك النية يحتمل وجهين. فرع آخر لو قال: لله عليَّ إتمام كل صوم أدخل فيه فنوى صوم يوم بعد الفجر صح وصار فرضًا بعد الشروع، لأن ابتداءه نفل ولهذا لو قال: لله علىَّ إتمام كل صلاة أشرع فيها كان له الشروع في صلاة بعد أداء الفريضة بتيممه الأول، وقال القاضي الحسين لو قال: هذا على وجه اللجاج يعني لا أشرع فيه فموجبه موجب نذر اللجاج يخرج عنه بكفارة يمين في أحد الأقوال. فرع آخر ذكره والدي رحمه الله: إذا كان صائمًا صوم القضاء فاعتذر بعد الفجر أنه صائم عن النفل أو النذر غربت الشمس وهو على هذا الاعتقاد هل يصح صومه عن القضاء أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصح وهذا إذا قلنا: إذا نوى إبطال الصوم يبطل وهو أصح الوجهين وينبغي أن يقال على هذا الوجه لا فرق بين علمه أنه في صوم القضاء ........... غيره ولا فرق بين أن يمضي على هذا الاعتقاد إلى الليل أولًا لأن الاحتساب لا يقع بالنذر الذي [340 أ/ 4] قارنه هذا الاعتقاد، وإذا لم يكن صوم بعض اليوم محسوبًا من صوم الفرض لم يصح باقيه ويفارق الصلاة إذا كان في فرض فاعتقد أنه في النافلة ثم يذكره قبل التحلل لم يبطل، لأنه يمكنه إعادة ما فعله بنية النفل

باب الوصال

على الاتصال، فإذا أعاده صحت صلاته ولا يمكنه في الصوم إعادة ما فعله بنية النفل على الاتصال لأن زمان الليل لا يقبل الصوم بحال فبطل وعلى هذا لو كان في صوم النفل فاعتقد بعد الفجر أنه في صوم الفرض، وإن تعمد إلى هذه النية ففي بطلان الصوم عن النفل وجهان وأصلهما إذا نوى إبطال الصوم، وإن لم يتعمد إلى هذه النية بل ظن أن شروعه كان في صوم الفرض ومضى على ذلك حتى غربت الشمس فهل يقع الاحتساب بالقدر الذي قارنه الفرض؟ عندي يقع الاحتساب به لأن الصوم المفعول بنية الفرض إذا لم يصح عن الفرض صح عن النفل إذا كان الزمان قابلًا للنفل، كما لو كان عنده أن علي صوم القضاء فشرع فيه بنية القضاء ثم بان أنه لم يكن عليه صوم [340 ب/ 4] القضاء صح عن النفل ويفارق ما ذكرناه، إذا كان في صوم القضاء فظن أنه في النفل واعتقد ذلك بعد الفجر لم يقع الاحتساب لصوم ذلك اليوم في أحد الوجهين لأن الصوم بنية النفل لا يصح أداء القضاء به بوجه من الوجوه والمفعول ... الفرض قد يؤدي به النفل فهما يفترقان، وهذا واضح. فرع آخر قال والدي رحمه الله: إذا نوى في الليل أنه يصوم هذا عن قضاء رمضان وهو يعلم أن لا قضاء عليه هل يقع صومه عن النفل وجهان: أحدهما: لا يقع كما لو أحرم بالصلاة بنية القضاء وهو يعلم أنه لا قضاء عليه لم يصح عن النافلة، وإن صح عنها عند الخطأ فكذلك يفصل بين العلم والخطأ في الصوم، وهذا إذا قلنا: إن طريان نية الفرض على صوم النفل مع التعمد لا يبطل الصوم لأن هذ النية لما لم تقدح في حال الاستدامة لم تقدح في حال الابتداء. فرع ذكره والدي إذا شرع في صوم التطوع ثم نذر إتمامه يلزمه الإتمام في أصح الوجهين ولا فرق بين ما قبل الزوال أو بعده لأن ما يلزم به الإتمام لا فرق بين وجوده قبل الزوال أو بعده [341 أ/ 4] كالإقامة الطارئة على السفر يلزم بها الإتمام في أحد الوجهين، ولا فرق بين ما قبل الزوال أو بعده في ذلك فإن لم يكن صائمًا فنذر صوم ذلك اليوم فإن كان قبل الزوال صح النذر في أحد الوجهين وهو الصحيح، وإن كان بعد الزوال فإن قلنا: صوم النفل يصح بعد الزوال صح النذر، وإن قلنا بالقول الآخر وهو الأصح لم يجز النذر والله أعلم. باب الوصال قال: أحبرنا مالكُ .... وذكر الخبر. وهذا كما قال: أعلم أن معنى الوصال وصل صوم الليل بصوم النهار، وقد كان

ذلك جائز لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة دوننا لأخبار جاءت فيه روى الشافعي منها واحدًا في هذا الباب بإسناده عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال فقالوا: يا رسول الله إنك تواصل أي: كيف تنهانا عن أمر أنت تفعله؟ فقال: "إني لن مثلكم إني أطعم وأسقى (¬1) "وروي: "أني أبيت يطعمني ربي ويسقيني "وقيل في ذلك معان. أحدها: أنه كان يُطعم ويسقى من طعام الجنة. والثاني: أنه أراد [341 ب/ 4] إني على ثقة من أن يطعمني طعام الجنة. والثالث: وهو الأصح معناه: إني أعطى قوة الطاعم والشارب، لأنه لو كان ذلك إطعامًا على الحقيقة لم يكن مواصلًا وقيل: أراد محبة ربي تمنعني من الطعام والشراب، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله لم يكتب عليكم صيام الليل فمن شاء فليُعن نفسه ولا أجر له (¬2) " وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم واصل فواصلوا فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم فلم ينتهوا فقال: "لو أن الشهر مدَّ لي لواصلت وصالًا يدع المتعمقون تعمقهم إني لست مثلكم إني يطعمني ربي ويسقيني (¬3) "ولأن فيه ضعفَا ومشقة في أداء الفرائض والعبادات فيكره ثم بيَن الشافعي جواز تخصيص رسول الله صلى الله عليه وسلم بحكم لا يشاركه فيه غيره من أمته فقال وفرق الله تعالى بين رسوله وبين خلقه في أمور أباحها له وحظرها عليهم، وفي أمور كتبها عليه وخففها عنهم، فإذا تقرر هذا فالوصال المكروه هو أن لا يطعم بالليل بين يومي الصوم ويستديم جميع أوصاف الصائمين فلو ذاق يئًا وإن قل [342 أ/ 4] فقد خرج عن الكراهة، ولو ترك الأكل بالليل لا على قصد التقرب ولا نوى أن يصوم من الغد لا يكون مواصلًا، ولو واصل من سحر إلى سحر جاز لما روى ابن المنذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر ". فرع هل هذا النهي نهي تحريم أم تنزيه؟ ظاهر كلام الشافعي أنه تحريم لأنه قال: فرق الله تعالى بين رسوله وبين خلقه في أمور أباحها له وحظرها عليهم فقد ذكر الوصال وهو ظاهر النهي في الخبر يدل على تحريمه، ومن أصحابنا من قال: النهي نهي تنزيه لأنه ترك أكل المباح فنهى عنه لما يلحقه من الضعف والمشقة وذلك لا يقتضي التحريم، وروي أن ابن الزبير كان يواصل وعلى كلى الوجهين لو خالف وفعل لم يكن بالليل صائمًا بل يكون مفطرًا ممسكًا لأن الفطر يحصل بدخول الليل نوى الإفطار أو لم ينو، وإذا أصبح من غده صائمًا صح صومه لأن النهي ما تناوله وإنما تناول ترك الأكل ليلًا. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1965، 6851، 7242، 7299)، ومسلم (58/ 1102) (¬2) أخرجه أبن أبي حاتم في "العلل"، (656)، وابن عدي في "الكامل"، (7/ 2725). (¬3) أخرجه مسلم (59/ 1104)، والشافعي في "المستند" (684)، وابن أبي شيبة (3/ 82)، والبيهقي في "الكبرى" (8377)، وفي "معرفة السنن" (2573).

باب صوم يوم عرفة وعاشوراء

باب صوم يوم عرفة وعاشوراء قال: أخبَرَنا شفيانُ ... وذكر الخبر. وهذا كما قال: [342 ب/ 4] جملته أن صوم يوم عرفة هو مستحب لغير الحاج الواقف بعرفة، فأما الحاج فيستحب له أن يفطر يوم عرفة بكل حال، قال الشافعي: لأن الحاج مسافر مُضح وأراد به أنه متعرض للشمس، فإذا صام ضعف عن الدعاء يوم وأفضل الدعاء يوم عرفة فحيازة فضيلة الدعاء في ذلك الوقت أفضل من الصوم فيه، وقبل: يستحب أن يصوم يوم التروية معه للاحتياط حتى لا يفرته فضيلة يوم عرفة، وقيل: غلط المزني في حكاية هذا التعليل في قوله: مضح وإنما هو ضاح ذكره في "الإملاء "، أي: تأزر للمس ومنه قوله تعالى: {وأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا ولا تَضْحَى} [طه: 119] أي: لا تصيبك الشمس فتؤذيك فأما المضحي فهو الداخل في وقت الضحوة وليس ذلك وقت الوقوف بعرفة، وقيل: المضحي هو الواقف في الضحى والضحى هو الفضاء، وقال عطاء: إن كان صيفًا فالأولى له الإفطار، وإن كان شتاًء فالأولى له الصوم، وقد قال به بعض أصحابنا، وهذا لأنه إذا كان قويًا في الشتاء لا يؤثر فيه الصوم فيكون [343 أ/ 4] جامعًا بين العبادتين، وروي أن عائشة رضي الله عنها كانت تصوم يوم عرفة (¬1)، وقال هذا القائل هذا اصح وأنا أقول به مثله، وبالله التوفيق وذا غلط، بدليل ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن صوم يوم عرفة (¬2) "، وقال ابن عمر: حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصمه ومع أبي بكر فلم يصمه ومع عمر فلم يصمه ومع عثمان فلم يصمه، وأنا لا أصومه ولا آمر بصيامه ولا أنهي عنه (¬3)، وروي عن سعيد بن جبير قال: أتيت ابن عباس بعرفة وهو يأكل رمَّانَا فقال: ادن فكل لعلك صائم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يصم هذا اليوم (¬4)، وحكي عن أبي حنيفة أنه يستحب له صومه إلا أن يضعفه عن الدعاء ويقطعه عنه، وروت أم الفضل بنت الحارث: أن أناسًا اختلفوا عندها في يوم عرفة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال بعضهم: هو صائم، وقال بعضهم: ليس بصائم فأرسلت إليه بقدح لبن وهو قائم بعرفة فشرب (¬5)، وأما صوم يوم عاشوراء يستحب أيضًا وهو صوم اليوم العاشر من المحرم والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم [343 ب/ 4] قال: "صيام يوم عرفة كفارة السنة والسنة التي تليها وصيام يوم عاشوراء كفارة سنة (¬6) " وأراد بقوله كفارة السنة والسنة التي تليها ما جاء في ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "معرفة السنن" (2578، 2579). (¬2) أخرجه أحمد (2/ 304)، وأبو داود (2440)، والنسائي (2830)، وابن ماجة (1732)، والحاكم (1/ 434)، والبيهقي في "الكبرى" (8389، 8390). (¬3) أخرجه الترمذي (751)، والنسائي (2825، 2826)، وابن حيان (3595). (¬4) أخرجه البيهقي في "الكبرى"، (8387)، وفي "معرفة السنن" (3/ 428). (¬5) أخرجه البخاري (1988)، ومسلم (110/ 1123). (¬6) أخرجه مسلم (196/ 1162)، والترمذي (649)، وابن ماجه (1730)، والبيهقي في "الكبرى".

خبر آخر مفسرًا صيام يوم عرفة يكفّر سنة قبلها وسنة بعدها، ولا يوجد في ثواب شيء من العبادات أن يكون تكفير ذنوب زمان لم يأت بعد، وإنما حض الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك حيث قال الله تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ ومَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، وقيل: أراد به أنه كفارة سنتين ماضيتين وقيل: صوم يوم عرفة هو أفضل من كل يوم يتطوع به الإنسان لهذا المعنى، وقال زؤيبة: كان النبي صلى الله عليه وسلم يأمرنا في يوم عاشوراء أن نتفل في أفواه الصبيان، وقال: "لا تسقوهم شيئًا إلى الليل ". قال أصحابنا: ويستحب أن يصوم اليوم التاسع من المحرم مع اليوم العاشر لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما صام يوم عاشوراء وأمر الناس بصيامه قالوا: يا رسول الله إنه يوم يعظمه اليهود والنصارى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فإذا كان في العام المقبل صمنا اليوم التاسع "ثم لم [344 أ/ 4] يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1) وأراد بقوله صمنا اليوم التاسع أي: مع العاشر. وقال بعض أصحابنا: الأكمل أن يصوم اليوم التاسع معه فإن لم يصمه يصوم الحادي عشر معه حتى يخالف اليهود وإذا قلنا: يؤمر به احتياطًا لما روى شعبة مولى ابن عباس عن ابن عباس أنه كان يصوم عاشوراء يومين يوالي بينهما مخافة أن يفوته (¬2). فعلى هذا لو لم يصم التاسع لا يصوم الحادي عشر بدله، وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن عشت إن شاء الله إلى قابل صمت التاسع مخافة أن يفوتني يوم عاشوراء "، وقيل: أمر بصوم يوم تاسوعاء للاحتياط من أن يخرج ذو الحجة ناقصًا وهو لا يعلم ذلك فيفوت عنه صوم العاشر ومن العلماء من قال: صوم يوم عاشوراء هو صوم اليوم التاسع من المحرم وهذا غلط لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المدينة وجد اليهود يصومون يومًا فقال: "ما هذا "قالوا يوم أنجى الله تعالى فيه موسى عليه السلام وأغرق فرعون فقال: "أنا أحق بموسى منهم "فأمر مناديه "ألا من [344 ب/ 4] أكل فليمسك بقية نهاره ومن لم يأكل فليصم (¬3) "، وكان غرق فرعون في اليوم العاشر من المحرم، وروي أنه "سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اليوم الذي يصومون فيه فقالوا: هذا يوم أنجى الله فيه موسى وأغرق فرعون فسكت حتى أصبح يوم عاشوراء فأمر الناس بالصيام وأخبر .... (¬4) موسى هذا وإن اليهود ضلوا عنه كما ضلوا عن يوم الجمعة "قال القفال: وهذا أصح لأن اليهود لا يصومون الآن يوم عاشوراء بل يصومون يومًا آخر وقد ذكرنا أنه لم يكن واجبًا قط، وهو ظاهر المذهب لما روى الشافعي عن حميد بن ¬

_ (¬1) = (881)، وفي "معرفة السنن" (2574). () أخرجه مسلم (133/ 1134)، والبيهقي في "الكبرى" (8401). (¬2) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8402). (¬3) أحرجه البخاري (3297، 3943، 4680، 4737)، ومسلم (127/ 1130). (¬4) موضع النقط بياض بالأصل.

عبد الرحمن: أنه سمع معاوية رضي الله عنه يوم عاشوراء على المنبر يقول يا أهل المدينة أين عطاؤكم سمعت رسول الل صلى الله عليه وسلم يقول: "هذا يوم عاشوراء لم يكتب الله عليكم صيامه، وأنا صائم فمن شاء فليصم ومن شاء فليفطر (¬1) "، ومن أصحابنا من قال: إنه كان واجبًا وهو قول أبي حنيفة، ومن أصحابنا من قال: صوم المحرم أفضل من صوم سائر شهور السنة لأن النبي صلى الله عليه وسلم سئل أي: الصوم أفضل [345 أ/ 4] بعد رمضان؟ فقال: "شهر الله المحرم (¬2) ". فصل قال أصحابنا: يستحب لمن صام رمضان أن يتبعه بستة من شوال ليكون جميع صيامه سنة وثلاثين يومًا فيكون له صيام السنة كلها كما قال تعالى: {مَن جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان وأتبعه بستة من شوال فكأنما صام الدهر (¬3) "، وبه قال أحمد وجماعة العلماء، وقال أبو يوسف: كانوا يكرهون أن يتبعوا رمضان صيامًا خوفًا من أن تلحق ذلك بالفرض وحكاه محمد عن مالك ولم يذكر خلافه، وقال في الموطأ: يكره له ذلك وما رأيت أحدًا من أهل الفقه يصومها ولم يبلغني ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته، وأن يلحق أهل الجهالة برمضان ما ليس منه وهذا كله غلط، لما ذكرنا والأولى أن تكون متتابعة عقيب الفطر فإن ... (¬4) الفضيلة، وقد روى أبو حنيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من صام ستة أيام بعد الفطر فكأنما صام السنة (¬5) "، وهذا خبر غريب، وروى ابن عباس [345 ب/ 4] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصائم الستة بعد رمضان كالكار بعد الغار "قال أصحابنا: ومن أراد أن يصوم شهرًا فأفضل الشهور بعد المحرم شهر رجب لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: أي الصوم أفضل بعد شهر رمضان؟ فقال: "شهر الله الأصم "وروي: "الأصم "لأن الله تعالى يصب فيه الرحمة صبًا. وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوم أول يوم من رجب كفارة ثلاث سنين، وصوم الثاني منه كفارة سنتين، وصوم اليوم الثالث منه كفارة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2003)، ومسلم (126/ 1129). (¬2) أخرجه مسلم (202/ 1163)، وأبو داود (2429)، والترمذي (740)، وأحمد (2/ 244)، والدرامي (2/ 21)، والبيهقي في "الكبري" (8422). (¬3) أخرجه مسلم (204/ 1164)، من حديث أبي أيوب، وأبو داود (2433)، والترمذي (759)، وابن ماجة (1716)، والدرامي (2/ 21)، وأحمد (3/ 308، 324)، من حديث ثوبان. (¬4) موضع النقط بياض بالأصل (¬5) أخرجه ابن ماجة (1715)، والطبراني في "الكبيرة" كما في "مجمع الزواند" (3/ 183)، وقال الهيثمي: "وعبد الرحمن بن غنام لم أعرفه".

سنة ثم صوم كل يوم منه كفارة سنة ثم بعد رجب شهر شعبان (¬1) "، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سره أن يذهب كثير من وحر صدره فليصم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر "وأراد بشر الصبر شعبان، وقيل: رمضان (¬2)، ومعنى وحر صدره أي: غل صدره وبلابله ومن أراد أن يصوم أيامًا فيستحب له أن يصوم أيام البيض، قال أعرابي: يا رسول الله إني أصوم ثلاثة أيام من الشهر فقال: "إن كنت صائمًا فصم الغر (¬3) "، قال ابن قتيبة [346 أ/ 4] الغر: البيض بطلوع القمر في جميعها. وروى أبو ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان صائمًا من الشهر فليصم الأيام البيض (¬4) "، وروي أنه قال: "هي كهيئة صوم الدهر "يعني: أن صوم ثلاثة أيام بشهر وإن صام ثلاثة من الشهر غيرها فيستحب أيضًا لما روي عن أبي هريرة قال: أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث لا أدعهن حتى أموت منها صوم ثلاثة أيام من كل شهر (¬5) "، وقالت حفصة رضي الله عنها: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم ثلاثة أيام من الشهر الاثنين والخميس والاثنين من الجمعة الأخرى (¬6) "، وروت عائشة رضي الله عنها قالت: "ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبالي أي أيام الشهر يصوم هذه الثلاثة (¬7) " فقيل: هذه الثلاثة صوم أيام البيض وقيل: إنها يوم الاثنين والخميس والاثنين الآخر من الجمعة الأخرى، ويستحب أن يصوم يوم الاثنين والخميس، قال أسامة بن زيد رضي الله عنه، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع صيام يوم الاثنين والخميس، وقال: هما يومان [346 ب/ 4] تعرض فيهما الأعمال فأحب أن يعرض لي فيهما عمل صالح (¬8). وروى أبو قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم الاثنين فقال: "فيه ولدت وفيه أنزل القرآن (¬9) " ويستحب لمن قدر أن يصوم صوم داود عليه السلام وقيل: إنه أفضل من صوم الدهر لما روى عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أحب الصيام إلى الله تعالى صيام أخي داود صلى الله عليه وسلم كان يصوم يومًا ويفطر يومًا وأحب الصلاة إلى الله صلاة داود وكان يرقد شطر الليل ويقوم ثلثه ثم يرقد آخره (¬10) ". ¬

_ (¬1) انظر: كنز العمال للهندي (24261). (¬2) أخرجه أحمد (5/ 78)، وابن سعد في "الطبقات" (1/ 2/ 30). (¬3) أخرجه أحمد (2/ 336)، والنسائي (4/ 222)، وابن حيان (945)، والحاكم (4/ 135). (¬4) أخرجه الخطيب في "تاريخه" (11/ 120). (¬5) أخرجه البخاري (1981)، ومسلم (85/ 721). (¬6) أخرجه أبو داود (2451). (¬7) أخرجه مسلم (194/ 160). (¬8) أخرجه أحمد (5/ 200)، وأبو داود (2436)، والنسائي (2781، 2782، 27823، 2785). (¬9) أخرجه مسلم (198/ 1160)، وأحمد (5/ 299)، والبيهقي في "الكبرى" (8434). (¬10) أخرجه مسلم (189/ 1159)، وأبو داود (2448)، والنسائي (3/ 214)، ابن ماجه (1712)، والحميدي (589).

فرع قال أصحابنا: لا يكره صوم الدهر إذا أفطر في أيام النهي ولم يترك فيه حقًا ولم يخف ضررًا ولفظ الشافعي في "مختصر البويطي "لا بأس بسرد الصيام إذا أفطر الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها وبه قال عامة الفقهاء، وهذا لما روت أم كلثوم مولاة أسماء رضي الله عنها قالت: قيل لعائشة رضي الله عنها: تصومين الدهر وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام الدهر؟ قالت: نعم وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم [347 أ/ 4] ينهى عن صيام الدهر ولكن من أفطر يوم النحر ويوم الفطر فلم يصم الدهر وحكي عن أبي يوسف أنه قال: إنما نهى رسول الله صلى الله علي وسلم عن صوم الدهر لأنه يضعف عن العبادات وهو يشبه النفل الذي نهى عنه ولو أراد بالنهي صوم هذه الأيام كلا ما كان لتخصيص الأيام الستة بالنهي معنى ولما خص الأيام الستة دل على أن صوم الباقي جائز وهكذا إذا خاف ضررًا وضعفًا في أداء العبادات لا يستحب ما ذكرنا من صيام الأيام المستحبة لما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم آخى بين سليمان وبين أبي الدرداء فجاء سليمان يزور أبا الدرداء فرأى أم سلمة متبذلة فقال ما شأنك فقالت: إن أخاك ليست له حاجة في شيء من الدنيا فقال: سليمان يا أبا الدرداء إن لربك عليك حقًا ولأهلك عليك حقًا وعبيدك عليك حقًا فصم وافطر وقم ونم وآت أهلك وأعط كل ذي حق حقه فذكر أبو الدرداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال سليمان، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "مثل ما قال سليمان. والدليل على ما ذكرنا أن أبا طلحة الأنصاري كان لا يفطر في حضر ولا في سفر فلم يعبه رسول الله [347 ب/ 4] صلى الله عليه وسلم ولا نهاه عن ذلك، ومن العلماء من قال: يكره ذلك لما روى أبو قتادة رضي الله عنه أن رجلًا قال: يا رسول الله كيف تصوم؟ فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله فلما رأى ذلك عمر رضي الله عنه قال: رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد نبيًا نعوذ بالله من غضب الله ومن غضب رسوله، فلم يزل عمر يرددها حتى سكن غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال عمر: يا رسول الله كيف من يصوم الدهر كله؟ قال: "لا صام ولا أفطر "قال: يا رسول الله كيف بمن يصوم يومين ويفطر يومًا؟ قال: "أو يطيق ذلك أحد "قال: كيف يا رسول الله كيف بمن يصوم يومًا ويفطر يومًا؟ قال: "ذلك صوم داود "قال: يا رسول الله كيف بمن يصوم يومًا ويفطر يومين؟ قال: "وددت لو أني أطقت ذلك "، قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثلاثة من كل شهر ورمضان إلى رمضان فهذا صيام الدهر كله (¬1) "قلنا: يشتبه أن يكون غضب النبي صلى الله عليه وسلم من كراهة أن يقتدي به السائل في صومه فيتكلفه ثم يعجز عنه أو يمله بقلبه فيكون صيامًا من غير إخلاص، وقوله: "لا صام ولا أفطر "معناه لم يصم ولم يفطر [348 أ/ 4] ومعناه الدعاء عليه كراهة لصنيعه وزجرًا له عن ذلك إذا لم يفطر في شيء من الأيام، وإن نهى عن صيامها أو إذا لم يقوِ على ذلك على ما ذكرنا. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (196/ 1162)، وأبو داود (2425، 2426)، والنسائي (4/ 206، 207)، والترمذي (767)، وأحمد (4/ 25)، والدرامي (2/ 18)، وابن حيان (937)، والحاكم (1/ 435).

فرع آخر ذكره ابن سريح إذا نذر صوم الدهر انعقد نذره إلا زمان العيدين والتشريق فإن أفطر في رمضان لعذر من سفر أو مرض فعليه القضاء ولا وقت للقضاء غير زمان النذر فيقضي من رمضان ويدع النذر وهل يدخل زمان القضاء تحت نذره فيه وجهان: أحدهما: لم يدخل تحت نذره لأنه بان أنه مستحق للقضاء فلم يدخل في النذر كشهر رمضان، والثاني: دخل زمان القضاء تحت نذره لأنه لو صامه عن نذره أجزأه، فإذا قلنا: بهذا هل تلزمه الفدية عن هذه الأيام التي فاتته من نذره؟ قال: يحتمل وجهين: أحدهما: يلزمه لأنه بسقط إلى مال لتعذر صومه عليه بكل حال كما يقول في الشيخ الهرم، والثاني: لا يلزمه لأنه لا يمكنه فعله فهو كالمريض إذا أفطر واتصل مرضه بموته لا تلزمه الفدية. فرع آخر ذكره والدي رحمه الله: أنه لو نذر صوم الدهر فأفطر يومًا منه هل يقضيه في يوم من الأيام المستقبلة؟ قال: [348 ب/ 4] قال أصحابنا: لا يقضيه ويصوم عن أداء النذر في الأيام المستقبلة لأنه لو قضاه في يوم وجب عليه قضاء ذلك اليوم ثم إذا قضاه يلزمه قضاء ذلك اليوم أيضًا فيؤدي إلى إخراج كثير من صيامه عن الوقت وهو نظير ما قلنا في قضاء إحرام دخول مكة لا يلزمه لهذا المعنى. فرع آخر قال والدي: لو قضاء في يوم آخر هل يصح عن القضاء فيه وجهان: أحدهما: يصح عن القضاء في الحال، والثاني: لا يصح لا عن القضاء ولا عن الأداء فعلى هذا يلزمه الإطعام في الحال لأنه آيس من استدراك هذا الصوم بالقضاء، قلت: ويحتمل وجهًا آخر على ما ذكرنا: ولو سافر هذا الرجل يحل له الفطر وهل عليه الإطعام في الحال وجهان. فرع آخر إذا نذر أن يصوم يوم الخميس أو يصلي فيه لم يكن له أن يصوم يوم الأربعاء ولا أن يصلي يوم الأربعاء خلافًا لأبي يوسف، ولو نذر أن يتصدق بدرهم يوم الخميس له أن يتصدق به يوم الأربعاء، وهذا لأن إطلاق النذر يحمل على المعهود الشرعي والصوم والصلاة الشرعيان لا يجوز تقديمهما على الوقت بخلاف الزكاة كذلك هاهنا. فرع آخر قال ابن سريج: لو نذر صوم يوم بعينه ثم أراد أن يأتي فيه بصوم النفل أو فرض آخر غير النذر فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز كما في رمضان، والثاني: يجوز وهو الأوضح وعليه قضاء المنذور والفرق أن زمان رمضان لو لم يلزم صومه لم يجز فيه غير صوم رمضان وهو في حق الصبي فإذا تعين كان مثله وفي هذا اليوم لو لم يلزم الصوم

فيه لفقد النذر صح فيه صوم التطوع فكذلك إذا لزمه صومه بالنذر. فرع لو كان عليه قضاء رمضان فأخره بعذر إلى رمضان ثانٍ ثم قدر على القضاء عقيب انقضاء رمضان ثم أخره فمات قبل دخول رمضان ثالث لا تلزمه الفدية للتأخير. فرع لو قال: لله عليَّ أن اصوم شعبان أبدًا فأسر هذا الناذر فكان يتحرى فصام رجبًا على أنه شعبان وصام شعبان على أن رمضان ثم تبين له الأمر بعد سنين يلزمه قضاء شهرين أحدهما عن شعبان والثاني عن رمضان ولا إطعام علي للتأخير. فرع لو كان عليه صوم ثلاثة أيام أحدهما عن قضاء يومان عن نذر فصامهما ثم على أنه ترك النية في أحدها ولا يدري عين ما ترك له [394 ب/ 4] النية يلزمه أن يعيد صوم يومين أحدهما عن النذر والثاني عن القضاء ليتيقن سقوط الفرض عنه كما لو كانت عليه ثلاث صلوات إحداها صبح واثنتان ظهر فصلاها ثم علم أنه ترك النية في إحداهما يلزمه أن يعيد الصبح وظهرًا واحدًا. فرع آخر لو صام يومين أحدهما عن نفل ثم علم أنه أضلَّ بالنية في أحدهما ولا يدري هل كان في الفرض أم في النفل، قال أصحابنا: يلزمه إعادة الفرض وقال والدي: لا يلزمه إعادته لأنه شاك في وجوب الإعادة والشك في وجوب الإعادة لا يوجبها. فرع آخر ذكره والدي: إذا وطئ زوجته وهي ناشزة في رمضان وقلنا بقول: التحمل هل يتحمل عنها الكفارة وجهان أحدهما: لا يتحمل لزكاة الفطر والنفقة، والثاني: يتحمل والفرق أن ذلك يلزم بمقابلة التمكين وبالنشوز زال التمكين والكفارة تلزم الجماع لأن التمكين وإن وجد لا يلزم الكفارة ما لم بجامع وقد حصل الجماع في حال النشوز كحصوله في حال الطواعية فلزمته الكفارة عنها في الحالين، ويؤكده إن تعلق هذه الكفارة غذ كان الجماع وقد حصل في حال النشوز زال النشوز من الجهة المقصودة [350 أ/ 4] فوجبت الكفارة كما لو تزوج امرأة لا يلزمه دفع المهر، وإن كانت باقية على النشوز لما ذكرنا وهذا أشبه بكلام أصحابنا، والأول أقيس. فرع آخر لو جامع العبد امرأته الحرة والزوج الكفارة ل يتحمل عنها، قال والدي رحمه الله: يحتمل وجهين: أحدهما: لا يتحمل لأن التحمل إذا لم يثبت في الحال يثبت بعده، والثاني: يتحمل لأن سبب التحمل حصل وإنما امتنع لعارض فإذا زال العارض كان عليه التحمل إذا كان الوجوب باقيًا، وهذا إذا قلنا الاعتبار في الكفارة بحال ...

باب الأيام التي نهي عن الصوم فيها

فأما إذا قلنا بحال الوجوب فلا تتحمل لسقوط التحمل في حال الوجوب. فرع آخر الصبي إذا جامع في رمضان لا تلزمه الكفارة بحالِ، وهل يبطل صومه بالجماع عن قصد، قال والدي- رحمه الله- فيه وجهان مبنيان على القولين من أن عمده عمدَا وخطأ، وإنما قلت هذا لأنه صاحب الإفصاح ذكر من جماع الصبي عمدًا في الحج هل يفسد الحج؟ وجهين. فرع آخر إذا شهد عدل بطلوع الفجر في رمضان هل يلزمه الإمساك عن الطعام أم يعتبر قول اثنين إذا لم يمكنه معرفة الحال؟ قال: يحتمل وجهين وهما مبينان على قبول شهادة الواحد [350 ب/ 4] في هلال رمضان، وهذا لأن مقتضاه وجوب الصوم والإمساك كذلك وفي الشهادة على غروب الشمس لابد من اثنين كالشهادة على هلال شوال. فرع آخر لو نذر صوم شهر شعبان فشهد عدل واحد برؤية هلاله هل يلزمه الصوم؟ إن قلنا في هلال رمضان يقبل واحد فهاهنا وجهان: أحدهما: يقبل. والثاني: لا يقبل لأن وجوبه يختص به الواحد ولا تشترك فيه العامة بخلاف صوم رمضان، ولأن صوم رمضان أكد والأول اصح. ذكره والدي- رحمه الله. فرع آخر إذا اتمضمض فشق الماء إلى جوفه لا عن مبالغة قبل الزوال، ثم أراد أن يبتدئ بصوم التطوع فيه وجهان بناء على القولين في بطلان الصوم غذا طرأ عليه، والأصح أنه لا يبطل ولا يجوز ابتداء هذا الصوم. باب الأيام التي نهي عن الصوم فيها مسألة: قال (¬1): "وأنهي عنْ صِيامِ يَوْم الفطْرِ ". فصل وهكذا كما قال، قد ذكرنا هذا فيما تقدم. وروي عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صوم يومين يوم الفطر ويوم الأضحى (¬2). أما يوم الأضحى فتأكلون من لحم نسككم. وأما [351 أ/4] يوم الفطر ففطركم من صيامكم وما ذكره الشافعي دليل على أن ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 27). (¬2) أخرجه مسلم (143/ 1140)، والبيهقي في "الكبرى" (8457)، وفي "الصغرى" (1474).

باب الجود والأفضال في شهر رمضان

النهي بظاهره يدل على فساد النهي عنه على مذهبه. فرع روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى يدخل رمضان (¬1) "وروي: "فلا صوم إلا لرمضان "قال أصحابنا: إذا ابتدأ الصوم قبل انتصاف شعبان ثم وصله برمضان أو وافق آخر أيام شعبان وردًا له فصام لا يكره ويجوز له ذلك ولو ابتدأ صيام نفل من غير سبب بعد انتصاف شعبان ووصل برمضان كره ذلك، وإن لم يكن شك لأنه يشبه استقبال الفرض وقد ورد عنه وهذه الكراهية هي كراهة تنزيه عندي ويحتمل أنه استحب إتمام الصيام في بقية شعبان ليتقوى به على صيام رمضان فإنه ربما يضعف عن صوم رمضان، ومن أصحابنا من قال: لا يكره ذلك بحال لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يتقدموا رمضان بيوم أو يومين (¬2) "فنهى عن صوم يومين قبل رمضان والخبر الذي ذكرنا غير ثابت. باب الجود والأفضال في شهر رمضان قال: أخبرنا إبراهيم بن سعد ... الخبر. وهذا كما قال: [351 ب/ 4] هذا كتاب ليس من أحكام الصيام وقصد به الندب لأولي السعة والغنى على الزيادة والجود والأفضال في شهر رمضان وهو مستحب في شهر رمضان، وفي كل وقت ولكنه في رمضان أكد استحبابًا والأصل ما رواه الشافعي بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنه " أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أجود الناس بالخير "، أي: في عموم الأوقات "وكان أجود ما يكون في شهر رمضان (¬3) وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن "أي: يدرس عليه فيعارضه كما يقرأ الإنسان على المقرئ "فإذا لقيه كان أجود بالخير من الريح المرسلة "فمنهم من قال: يريد أنه كان أسرع إلى الخير من الريح المرسلة فإنها تعم كل شيء، ثم قال الشافعي: ولحاجة الناس فيه إلى مصالحهم ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم وأراد أن الحاجة بالناس إلى معايشهم في هذا الشهر مثلها في غيره وزيادة وفيه من أمر الصلاة والصيام الذي يشغلهم عن معاشهم ما ليس في غيره، فكذلك استحب الزيادة في هذا الشهر، وفي [352 أ/ 4] هذا الخبر الذي ذكرنا دليل على استحباب الزيادة تلاوة القرآن إذا دخل شهر رمضان وعلى أن من أراد قراءة القرآن في شهر رمضان خاصة وفي سائر الشهور عامة يستحب له أن يقرأ على غيره معارضة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض على جبريل عليه السلام في شهر رمضان، فأما من أراد التهجد به فهو مأمور به حينئذِ بأسكن وقت وأخلا زمان. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2327)، والبيهقي في "الكبرى" (4/ 209)، وابن عدى في "الكامل" (2/ 476، 4/ 1617). (¬2) أخرجه البخاري (1914)، ومسلم (21/ 1082). (¬3) أخرجه البخاري (6، 1902، 4997)، ومسلم (50/ 2308).

فصل إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شهرا عيد لا ينقصان رمضان وذو الحجة (¬1) "رواه أبو بكرة رضي الله عنه واختلف العلماء في تأويله على وجوه أحدها: أنهما لا يكونان ناقصين في الحكم وإن وجدا ناقصين في عدد الحساب، والثاني: معناه أنهما لا يكادان يوجدان في سنة واحدة مجتمعة في النقصان إن كان أحدهما تسعًا وعشرين كان الأخر ثلاثين على الكمال ذكره أحمد بن حنبل وأراد به في أغلب العادة، والثالث: معناه تفضيل العمل في العشر من ذي الحجة فإنه لا ينقص في الأجر والثواب عن شهر رمضان. فصل روى أبو صالح عن أبي سعيد رضي الله عنه أن امرأة [352 ب/ 4] جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله إن زوجي صفوان بن المعطل يضربني إذا صليت ويفطرني إذا صمت ولا يصلي صلاة الفجر حتى تطلع الشمس فسأله عما قالت فقال: يا رسول الله أما قولها يضربني إذا صليت فإنها تقرأ سورتين وقد نهيتها فقال: لو كانت سورة واحدة لكفت الناس وأما قولها يفطرني فإنها تنطلق فتصوم وأنا رجل شاب ولا أصبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: "لا تصوم امرأة إلا بإذن زوجها "وأما قولها إني لا أصلي حتى تطلع الشمس، فإنا أهل بيت قد عُرف لنا ذاك لا نكاد نستيقظ حتى تطلع الشمس، قال: "إذا استيقظت فضلَّ (¬2) " وفي ذا الخبر دليل على أن منافع المتعة من الزوجة مملوكة للزوج في عامة الأحوال، وأنها لا تصوم تطوعًا إلا بإذنه وللزوج أن يمنعها من حج التطوع وتعجيل حج الفرض، وله أن يضربها إذا امتنعت في إيفاء حقه، وإنما قال: "إذا استيقظت فصل "فإنه كان كالمعجوز عنه وصاحبه في ذلك هو بمنزلة من يغمى عليه فيعذر فيه أو أراد به في بعض الأوقات لأنه يبعد أن يبقى الإنسان على مثل [353 أ/ 4] هذا ولا يكون بحضرته من يوقظه، والله أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (32/ 1089)، وأبو داود (2323)، والترمذي (692)، وابن ماجه (1660)، وأحمد (5/ 51). (¬2) أخرجه أبو داود (2459)، وأحمد (3/ 80)، وابن حيان (956)، والبيهقي في "الكبرى" (8499).

كتاب الاعتكاف

كتاب الاعتكاف قال: أحبَرَنَا مالكُ ... وذكر الخبر. وهذا كما قال الشافعي في "سنن حرملة ": الاعتكاف ولزوم المرء الشيء وحبس النفس عليه برًا كان أو مأئمًا والدليل عليه قوله تعالى: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ} [الأعراف: 138]، وقوله تعالى: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52]، قال الخليل بن أحمد: الاعتكاف هو: المقام على الشيء يقال: عكف يعكف ويعكِف بكسر الكاف وضمها وهو قول الأزهري، وقيل: الاعتكاف الاحتباس في المسجد يقال: عكفته أي: حبسته، قال الله تعالى: {والْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]، أي: محبوسًا، وأما المراد بالاعتكاف الشرعي فإنه المكث في بيت الله تعالى وهو المسجد تقربًا به إلى الله تعالى، وهو من الشرائع القديمة، والأصل فيه قول الله تعالى: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والْعَاكِفِينَ والرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125]، قيل طهرا من الكفر، وقيل: من الأصنام، وقال الله تعالى: {ولا تُبَاشِرُوهُنَّ وأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ} [البقرة: 187]. وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر إلى أن قبضه الله تعالى (¬1) [353 ب/ 4]، وروي أنه كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان فلما كان في العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يومًا (¬2)، فإذا تقرر هذا فالاعتكاف سنة حسنة وقربة وطاعة مندوب إليها مؤكدة ولا يصح إلا بالنية والكون في المسجد وترك مباشرة النساء ولا يجب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ومن أراد أن يعتكف فليعتكف العشر الأواخر (¬3) "فعلق بالإرادة ويستحب في عموم الأوقات خصوصًا في العشر الأواخر من رمضان فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم دوام على ذلك في آخر عمره وذلك أنه روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأوسط من شهر رمضان، أي: كان يتحرى فيه ليلة القدر فلما كانت ليلة إحدى وعشرين وهي التي كان يخرج في صبيحتها من اعتكافه يريد أنه كان لا ينصرف ليلة الحادي والعشرين، وإن كانت العشر قد تمت له حتى يصبح منها على الصبح قم ينصرف، قال عليه الصلاة والسلام: "يعني في هذه الليلة من كان اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر "، أي: فلا ينصرف حتى يعتكف [345 أ/ 4] العشر الأواخر. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2025)، ومسلم (5/ 1172). (¬2) أخرجه البخاري (4998)، وأحمد (2/ 336)، والدرامي (2/ 37)، وابن ماجه (1769). (¬3) أخرجه البخاري (2027، 2036)، ومسلم (213/ 1167).

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جاءني جبريل عليه السلام فقال: إن ما تطلبه أمامك "يعني ليلة القدر قال: "أي في هذه الليلة واريت هذه الليلة "أي: ليلة القدر "أريتها في المنام أية ليلة هي من هذه العشر ثم أنسيتها "ولم يرد أنه رأى الملائكة والأنوار عيانًا ثم نسى في أية ليلة رأى لأن مثل ذلك قلما ينسى، وروي "فخرجت لأخبركم بها فتلاحي فلان وفلان فأنسيتها ولعله خير لكم "أي: ولعل نسيانيها حير لكم يعني: لو لم أنسها وأخبرتكم بها لاعتمدتم على تلك الليلة واقتصرتم على التعبد فيها قلما أنسيتها تطلبون الآن فيها كلها فصارت الليلة كلها الواحدة بسبب نسياني عشرًا، وروي أنه قال: أريت هذه الليلة فخرجت لأخبركم به فتلاحى فلان وفلان .. وذكر الخبر ... ثم ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما رأى من علامات هذه الليلة فقال: "ورأيتُني أسجد في صبيحتها في ماء وطين "فأمطرت السماء من تلك الليلة يعني هذه الليلة التي كان يخبر فيها بذلك وهي ليلة الحادي والعشرين وكان المسجد [354 ب/ 4] على عريش أي: لم يكن مطين السطح فوكف المسجد (¬1) قال أبو سعيد: فأبصرت عيناي رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف علينا وعلى جبته وأنفه الماء والطين في صبيحة إحدى وعشرين. قال أصحابنا: فمصادقة حقيقة الرؤيا وعلامتها في هذه الليلة مما يدل على أنها ليلة القدر. تغليبًا لا يقينًا، وقال الإمام الجويني: هذا الخبر هو دليل على جواز النسيان عليه وجواز النسيان في أصل الوحي إذا كانت المصلحة فيه عند الله تعالى بدليل أن الرؤيا كانت وحيًا له ثم أنساها الله تعالى إياه وهو معنى قوله تعالى {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} [البقرة: 106] الآية، وكذلك قال عليه الصلاة والسلام: "لا يقولن أحدكن نسيت آية كذا وكذا وليقل أنسيتها (¬2) "، ثم قال الشافعي: وحديث النبي صلى الله عليه وسلم يدل على أنها في العشر الأواخر يعني ليلة القدر، ثم قال: والذي يشبه أن تكون ليلة إحدى أو ثلاث وعشرين يعني: يشبه حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن تكون ليلة القدر في إحدى هاتين الليلتين. وإنما جعل الشافعي ليلة ثلاث وعشرين عديلًا لليلة الحادي والعشرين [355 أ/ 4] فيه لخبر رواه في "الجامع الكبير "ولم ينقله المزني وكان من حقه أن ينقل ليحسن عطف هذا الكلام عليه وهو أنه روى بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر أية ليلة هي فقال: "كم بقي من الشهر "وكان ذلك يوم الثاني والعشرين، فقال: ثمان يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: "أو سبع "فقال الرجل بقي ثمان يا رسول الله فقال: "أو سبع "ثم قال: "الشهر هكذا وكذا "وأشار بأصابعه العشر مرتين وقبض واحدة في المرة الثالثة يعني أن هذا الشهر ينقص يومًا ثم قال: "لا آمن أن تكون هذه الليلة (¬3) "يعني ليلة الثالث والعشرين فلهذا عدل الشافعي ليلة الثالث ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2016، 2018، 2036)، ومسلم (213/ 1167). (¬2) أخرجه الطبراني في "الكبرى" (10/ 169، 239). (¬3) أورده السيوطى في "الدر المنثور" (1/ 360).

والعشرين (بليلة) الحادي والعشرين ثم قال: ولا أحب ترك طلبها فيها كلها، يعني ما من ليلة من هذ العشر إلا وطلبت ليلة القدر فيها خصوصًا في ليلة السابع والعشرين، فإن أكثر الصحابة على أنها هي ليلة القدر، وأعلم أن الشافعي أدخل هذا في هذا الباب وليس من مسائل وجملته أن ليلة القدر ي ليلة شريفة فاضلة ومعناه [355 ب/ 4] أنه قدر فيها ما هو كائن في تلك السنة وقيل معناه: ليلة الشرف والفضيلة لها قدر وشأن من قولهم رجل له قدر. وأعلن أنها ثابتة غلى يوم القيامة غير منسوخة، وإنما يعتكف طلبًا لها في الغالب، قال الله تعالى: {لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3]، أي: خير من ألف شهر ليس فيها ليلة القدر وهو قول قتادة، وقيل: خير من عمل ألف شهر وهو قول الربيع، وقال مجاهد: أراد العمل في ليلة القدر خير من العمل في ألف شهر ليست فيها ليلة القدر فصيام نهارها وقيام ليلها، وروي هذا عن ابن عباس أيضًا، وقوله تعالى: {إنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القَدْرِ} [القدر:1]، يعني: القرآن، وذلك أن الله تعالى أنزل القرآن ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة واحدة ثم أنزل من السماء الدنيا نجومًا الآية والآيتين والثلاثة والسورة على ما علم الله تعالى من المصالح، وقوله: {تَنَزَّلُ المَلائِكَةُ والرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4]، قيل: أراد به جبريل عليه السلام، وقيل: أراد به العلم كقوله تعالى: {يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ} [النحل: 2]، وقيل: قوله: {بِإذْنِ رَبِّهِم} [القدر: 4] أي: بأمر ربهم من كل أمر سلام، قال ابن عباس يسلمون [356 أ/ 4] على كل مؤمن ومؤمنة إلا على مدمن خمر أو مصر على الزنا أو ساحر أو كاهن فمن إصابته التسليمة غفر له، وقوله: {هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الفَجْرِ} [القدر: 5] يريد ليلة القدر من حين غروب الشمس إلى طلوع الفجر. وأعلم أنها باقية لم ترفع لما روى عن أبي ذر رضي الله عنه قال قلت: يا رسول الله ليلة القدر رفعت مع الأنبياء قال: بل ي إلى يوم القيامة، قلت: هي في رمضان أو في عيره من جميع السنة؟ قال: "في رمضان "قلت: في العشر الأول أو الثاني أو الأخير؟ قال: "في العشر الأواخر"وقال بعض أصحابنا: الأصح أنها لم تكن إلا لهذه الأمة روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلًا من بني إسرائيل لبس لأمته وقاتل في سبيل الله ألف شهر لا ينزعها فاستعظمت الصحابة ذلك وتمنوا أن يكون لهم مثل هذا العمر وهذه القوة فأنزل الله هذه السورة. وروي أن الصحابة شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قصر أعمارهم وقالوا: إن الرجل ممن كان قبلنا كان يعمر ألف سنة وأعمارنا قصيرة فلو عمرنا مثل أعمارهم لعبدنا الله تعالى فنزلت هذه السورة، فإذا [356 ب/ 4] تقرر هذا قال الشافعي رحمه الله: ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان والمستحب أن يطلب في جميع العشر وطلبها في الوتر منها أكد استحبابًا منه في الشفع وطلبها في الحادي والعشرين والثالث والعشرين أكد استحبابًا من طلبها في سائر الأوقات.

وقال أبو حامد: المذهب أنها ليلة الحادي والعشرين نص عليه في "الإملاء "فلو قال: لامرأته أنت طالق ليلة القدر فإن كان ذلك في رمضان قبل مضي ليلة من ليالي العشر حكم بطلاقها في أول ليلة التاسع والعشرين لأنه اليقين، وإن كانت قد مضت ليلة من ليالي العشر لا تطلق حتى يأتي رمضان آخر من السنة القابلة فإذا مضت تلك الليلة من العشر الأواخر حكم بطلاقها، وحكي عن أبي حنيفة أنها في جميع السنة وهو قول بعض العلماء وأصحاب أبي حنيفة منكرون ذا وهو ... (¬1) أن مذهبه أنها في جميع شهر رمضان لا يختص بهذا المذهب (¬2) ... هذا إلى أبي حنيفة من مثله قالها أبو حنيفة لو قال: في أول يوم من رمضان لامرأته أنت [357 أ/ 4] طالق ليلة القدر لم تطلق إلى تمام السنة من ذلك اليوم فظن أن ليلة القدر ممكنة في جميع السنة وغنما قال أبو حنيفة ذلك لاحتمال أن الليلة الأولى من الشهر كانت هي ليلة القدر فالأصل أن الطلاق لا يقع ما لم تمض سنة ثم اختلفوا هل يتبدل وقتها فتكون في عام في ليلة وفي عام في ليلة أخرى فمنهم من قال: يتبدل قال المزني أرى والله أعلم أنها في كل سنة تختلف في العشر ونقل النيسابوري أبو بكر ذلك عن المزني في بعض النسخ، وقال القفال: أكثر العلماء على أنها لا تتبدل بل هي ليلة بعينها واختلفت الصحابة فيها فقال ابن عمر رضي الله عنهما: أنها ليلة ثلاث وعشرين، وقال أُبي بن كعب: هي ليلة سبع وعشرين وبه قال أبو حنيفة، وقال مالك: هي في العشر الأواخر وليس فيها تعيين، وروي في بعض الأخبار أنها ليلة السابع عشر، وروي عن ابن عباس أنه قال سورة القدر ثلاثون كلمة السابعة والعشرون منها قوله هي، فدل أنها ليلة سبع وعشرين ولا حجة في هذا لأن قوله ليلة القدر هي الكلمة الخامسة وهي أصرح من هي ولا تدل على وجودها في ذلك [357 ب/ 4] العدد كذلك هذا؛ ولأنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اطلبوها في كل وتر لتسع بقين أو لسبع بقين أو لخمس بقين أو لثلاث بقين أو الليلة الأخيرة (¬3) "، وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من يقم الحول يصبها فقال بعض السلف رحم الله ابن مسعود قد علم أنها في شهر رمضان، ولكن أراد أن لا يتكل الناس. وقيل: ليلة القدر في الوتر هي ليلة الثاني والعشرين والرابع والعشرين والسادس والعشرين والثامن والعشرين وليلة الثلاثين لأن هذه الليالي هي أوتار بالإضافة غلى ما بقي من الشهر وغن كانت أشفاعًا بالإضافة غلى ما مضى والصحيح خلافه. وقال الشافعي في "القديم ": استحب أن يكون اجتهاده في العبادة في يومها كاجتهاده في ليلتها، وأما علامة ليلة القدر فقال أبو ذر رضي الله عنه: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن علامتها فقال: "إن الشمس تطلع في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها مثل الطست ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) موضع النقط بياض بالأصل. (¬3) أخرج أحمد (5/ 313).

وتكون ليلة طلقة لا حارة ولا باردة (¬1) ويستحب لمن رأى ليلة القدر أن يكتمها ويدعو بإخلاص نية وصحة يقين بما أحب من أمر ودين ودنيا وقال رسول الله [358 أ/ 4] صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: "إذا رأيت ليلة القدر فاسألي الله العافية في الدنيا والآخرة (¬2)، وروي: "قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فأعف عني (¬3) "، وقال في القديم: ومن شهد العتمة والصبح ليلة القدر فقد أخذ بحظه منها. مسألة: قال (¬4): وروي عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالتْ: كانَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكَفَ يُدْنيِ إليَّ رَأسِهِ فأُرَجِّلُهُ (¬5). الفصل وهذا كما قال: عاد الآن إلى ذكر مسائل الاعتكاف وافتتح ببيان أنه ليس للمعتكف الخروج من المسجد إلا لحاجة الإنسان، وأنه إن أخرج بعض البدن فليس بخروج. وجملته: أن الاعتكاف لا يصح إلا في المسجد في الجملة لقوله تعالى: {وأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ} [البقرة: 187] فخص بالمساجد ورد عن عائشة رضي الله عنها أنه كان صلى الله علي وسلم لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان (¬6)، ثم يجوز الاعتكاف في كل مسجد يني للصلاة والجماعة سواء كانوا يصلون فيه أو لا، وبه قال مالك وقال علي رضي الله عنه وبه قال حماد إلا في المسجد الحرام ومسجد المدينة، وقال حذيفة: لا يجوز إلا في ثلاثة مساجد مسجد الحرام ومسجد بين المقدس [358 ب/ 4] ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال الزهري: لا يصح إلا في الجامع، وروي عنه لا يصح غلا في مسجد الجماعات، وقال أبو حامد: أومأ الشافعي إلى هذا في القديم، وقال أحمد: لا يصح إلا في مسجد تقام فيه الجماعة بناء على أصله أن الجماعة واجبة وهذا كله غلط، لقوله تعالى: {وأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ} [البقرة: 187]، ولم يفصل، وروي ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الاعتكاف في كل مسجد تقام فيه الصلاة "ولأنه موضع مبني للصلاة والجماعة فصح فيه الاعتكاف كالمتفق عليه فإذا تقرر ذا فلا فرق فيه بين الرجل والمرأة ولا يجوز للمرأة أن تعتكف إلا في المسجد، وبه قال مالك وأحمد. وذكر الشيخ أبو حامد: أن الشافعي قال في القديم: وأكره للمرأة أن تعتكف إلا في مسجد بيتها أي: في موضع صلاتها من بيتها، وذكر القفال عن القديم أنه قال: يجوز لها ذلك ولكن في المسجد أفضل، وقال أبو حنيفة: يجوز اعتكافها في المسجد وفي ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 130)، والحميدي (375)، وابن أبي شيبة (2/ 515). (¬2) أخرجه أحمد (6/ 171، 182، 308، 258)، والترمذي (3513)، وابن ماجه (3850)، والحاكم (1/ 530). (¬3) أخرجه أحمد (6/ 171، 183)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (763، والخطيب في تاريخه (12/ 18). (¬4) انظر الأم (2/ 31). (¬5) أخرجه البخاري (2028)، ومسلم (6/ 297). (¬6) أخرجه البخاري (2029)، ومسلم (7/ 297).

بيتها وهي في بيتها أفضل كصلاتها، وهذا غلط، لأن الاعتكاف لا يعتبر بالصلاة بدليل أن صلاة الرجل النافلة في بيته أفضل، ولا [359 أ/ 4] يصح اعتكافه فيه. وقال القاضي الطبري: لفظ الشافعي في القديم: واكره للمرأة الشابة أن تعتكف في المسجد، وغن كان لا يصح اعتكافها إلا في المسجد كما اكره لها حضور المسجد الجامع لأداء الجمعة، وإن كان لا يجوز لها أن تصلي الجمعة إلا في الجامع فالمسألة على قول واحد في المرأة وغلط من قال فيه قولان، وقال القفال: إذا قلنا: بالقول القديم إن صح فلو اعتكف الرجل في مسجد بيته وجهان: أحدهما: يجوز اعتبارًا بأن صلاة نفله في بيته أفضل وأصل الاعتكاف نفل ففي البيت أفضل، والثاني: لا يجوز ويعتبر بفرضه وفرضه في المسجد أفضل بخلاف المرأة. فرع قال في البويطي: لو اعتكف فوق ظهر المسجد أجزأه لأن كله مبني للجماعة الواحدة ولهذا إن من صلى فوق المسجد لصلاة الإمام في المسجد أجزأه، وإن كان لا يراه، وقال أصحابنا: لو جعل بيتًا من داره مسجدًا فاعتكف فيه وعلى ظهره أجزأه أيضًا. مسألة: قال (¬1): ولا بأسَ أنْ يُدْخِلَ المُعتكِفُ رأسَهُ في البيت ليغتَسِلَ. الفصل وهذا كما قال: يجوز للمعتكف أن يخرج رأسه من المسجد ليرجل أو يغتسل، وكذلك يخرج [359 ب/ 4] رجليه ليدهن ونحو ذلك وهذا لأن إخراج بض بدنه من المسجد ليس كإخراج كله خلافًا لمالك حيث قال: يصير خارجًا من المسجد بإخراج بعض يديه، ولا يصير داخلًا فيه بإدخال بعض بدنهن لأن الخروج من بعض المأمور به خروج من كله وليس الدخول في بعض المأمور به دخولًا في كله وهذا كما أن بعض المعصية معصية، وليس بعض الطاعة طاعة، وهذا غلط لخبر عائشة الذي ذكرناه. وقالت أيضًا: "اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدخل إليَّ رأسه ففلسته وأنا حائض (¬2) ". قال أصحابنا: فيه فوائد أحدها: يجوز للمعتكف أن يغسل رأسه، والثانية: يجوز له ترجيل الرأس وتدهينه، والثالثة: يجوز له أن يتزين لأن ذلك في معنى التدهين والترجيل، والرابعة: إخراج بض البدن وإدخاله لا يجري مجرى إخراج كله، والخامسة: الحائض ليست بنجية، والسادسة: يد المرأة ليست بعورة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخرج غليها رأسه ولم يكن المسجد ينفك من أن يكون فيه بعض الصحابة فإذا غسلت رأسه شاهد يدها ورأها، والسابعة: أنه لا يجوز له الخروج من المسجد لأنه لم يخرج غلى بيته لهذا المهم، والثامنة: [360 أ/ 4] كمسّ المرأة المعتكف بغير شهوة يجوز. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 31). (¬2) أخرجه البخاري (2031).

مسألة: قال (¬1): ويَجُوزُ بغيرِ صَوْم. وهذا كما قال: يجوز الاعتكاف من غير صوم إلا أن الأفضل أن يصوم معه، وكذلك يصح في الزمان الذي لا يصح كزمان الليل ويومي الفطر والأضحى وأيام التشريق، وروي هذا عن علي وأبي مسعود البدري رضي الله عنهما، وبه قال الحسن وإسحاق وأحمد في الرواية المشهورة. وقال أبو حنيفة: لا يجوز غلا بصوم ولا يجوز إفراد الليل بالاعتكاف ولا يجوز في الأيام الخمسة، وبه قالت عائشة وابن عمر وابن عباس رضي الله عنهما، ومالك والثوري والأوزاعي، وذكر القفال أن الشافعي علق الصوم في القديم فقال: ويحتمل أن لا يجوز الاعتكاف إلا بصوم، واحتجوا بما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا اعتكاف إلا بصيام (¬2) " وهذا غلط، لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على المعتكف صيام إلا أن يجعل على نفسه (¬3) "وروى ابن عمر رضي الله عنه نذر أن يعتكف ليلة في الجاهلية فقال له رسول الله صلى الله عليه: "أوف بنذرك (¬4) "وخبرهم محمول على نفي الكمال والفضيلة. واحتج المزني للشافعي بثلاثة أشياء أحدها: أنه قال: لو كان الاعتكاف يوجب الصيام وغنما هو تطوع أي: وإنما الاعتكاف تطوع ولكنه يوجب الصوم عنده لم يجز صوم [360 ب/ 4] رمضان عن تطوع أي: عن تطوع يوجبه الصوم كما لو تطوع بنذر صيام أيام لم يجز عنها صيام شهر رمضان، وفي اعتكافه صلى الله عليه وسلم في رمضان دليل على أنه لم يصم للاعتكاف فيفهموا، والثاني: لو كان الاعتكاف لا يجوز إلا مقارنًا بالصوم يخرج الصائم بالليل من الاعتكاف بخروجه فيه من الصوم فلما كان على خلاف هذا دل أنه يجوز منفردًا بغير صوم، والثالث: قال: وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر رضي الله عنه أن يعتكف ليلة وقد ذكرناه، وهذه الاحتجاجات كلها صحيحة. مسألة: قال (¬5): ومَنْ أرَادَ أنْ يعتَكِفَ العَشَرَ الأواخِرَ دَخَلَ قَبْلَ الغُروبِ. الفصل وهذا كما قال: إذا نذر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان أو أراد أن يعتكف ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 31). (¬2) أخرجه الدارقطني (2/ 200)، والحكام (1/ 440)، والبيهقي في "الكبرى" (8579)، وفي "معرفة السنن" (3/ 460). (¬3) أخرجه الدارقطني (2/ 199)، والحكام (1/ 439)، والبيهقي في "الكبرى" (8587)، وقال "نفرد به عبد الله محمد الرملي هذا". قال ابن التركمان: ذكر ابن القطان أنه مجهول الحال. (¬4) أخرجه البخاري (2032، 2043)، ومسلم (67/ 1656)، وأبو داود (3312)، والترمذي (1539)، وابن ماجه (2130)، وأحمد (1/ 37)، والبيهقي في "الكبرى" (8586)، وفي "معرفة السنن" (2638). (¬5) انظر الأم (2/ 33).

ذلك من يرتد ويدخل فيه قبل غروب الشمس من يوم العشرين بلحظة فإذا أهل شوال فقد تم العشر حكمًا, وإن نقص رمضان يومًا حتى يكون اعتكافه تسعة ولم يتمها حسابًا عشرًا وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "شهرا عيد لا ينقصان" أراد لا ينقصان حكمًا وثوابًا لا حسابًا, ثم إذا أهل شوال وإن كنا حكمنا له بتمام العشر فالمستحب أن لا يخرج من معتكفه ليلة العيد حتى [361 أ/ 4] يصبح فيخرج منه إلى العيد الشهر أو تم ذكره في البويطي. ولو قال في نذره: لله على اعتكاف عشرة أيام فخرج الشهر في هذه المسألة ناقصًا يلزمه أن يكمل عشرة والفرق أن هناك علق بالعشر وهو اسم لما بين العشرين وآخر الشهر تامًا كان أو ناقصًا, وها هنا علق الاعتكاف بعدد فيلزم الإتيان بتمام العدد ويدخل في هذه المسألة قبل طلوع الفجر بلحظة لأن اسم الأيام يقع على بياض النهار, وإنما تدخل الليالي بين النهار تبعًا, وبقولنا قال أبو حنيفة ومالك والثوري, وقال الأوزاعي وإسحاق وأبو ثور: وهو ظاهر كلام أحمد يدخل في أول يوم الحادي والعشرين في المسألة الأولى واحتجوا بما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان إذا أراد أن يعتكف صلى الصبح ثم اعتكف" (¬1) وهذا غلط, لما روى أبو سعيد الخدري قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الوسط من شهر رمضان فاعتكف عامًا حتى إذا كانت ليلة الحادي والعشرين وهي التي يخرج فيها من اعتكافه, قال: "من اعتكف معي فليعتكف العشر الأواخر" (¬2) فوجه الدليل أنه أمرهم باعتكاف العشر [361 ب/ 4] الأواخر ليلة الحادي والعشرين واعتكف معهم فيها فثبت أنها أول العشر, ولأن كل ليلة هي تابعة لليوم الذي يليها في الحكم, ألا ترى أن ليلة رمضان تابعة له, فإذا لزم اعتكاف ذلك اليوم لزم اعتكاف ليلة, وإنما قلنا: يدخل قبل الغروب ليستوعب حكم النذر كما يلزم غسل بعض الرأس ليتوصل إلى غسل تمام الوجه. مسألة: قال (¬3): وَلاَ بَأسَ أَن يَشتَرِطَ في الاعتِكَافِ الذي أوجَبَهُ أنه إِن عَرَضَ لِي عَارِضٌ خَرَجتُ. وهذا كما قال: إذا نذر أن يعتكف عشرة أيام وشرط فيه شرطًا ثبت شرطه قولاً واحدًا وه مثل أن يقول: أُخرج لشهود جنازة أو لمقدم غائب, ويذكر في نذره, فإذا ذكره وخرج لم ينقطع تتابع اعتكافه, وإذا عاد إليه بعد الفراغ يبني على اعتكافه ويجزيه وهذا لأن الاعتكاف يجب بإيجابه فوجب على الصفة المشروطة, ألا ترى أن الوقف لما كان يجب بعقده كان وجوبه على حسب شرطه فإن قال: إن عرض لي عارض فيما ذكرنا قطعت الاعتكاف فإذا عرض عارض وخرج لم يلزمه إتمامه, ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2033) , ومسلم (6/ 6/ 1173). (¬2) أخرجه البخاري (2027) , ومسلم (217/ 1167) (¬3) انظر الأم (2/ 33).

والفرق بين هذا وبين المسألة الأولى وهو أن هناك قال خرجت إذا [362 أ/ 4] خرج والخروج يكون مع بقاء حكمه والقطع لا يكون مع بقاء حكمه فافترقا ولو خص عارضًا مثل أن قال: اخرج لزيارة فلان لا يجوز أن يخرج رجل آخر وهكذا لو نذر صومًا أو صلاة وشرط إن عرض عارض خرج يثبت الشرط فيهما كما قلنا في الاعتكاف, ذكره وقال مالك: لا يصح شرط الخروج كما لو شرط الجماع والأكل في الصوم وهذا غلط, لأنه شرط الاعتكاف في زمان دون زمان فيجوز ويفارق ما ذكره لأنه شرط أن يأتي بمهني عنه في العبادة فلم يجز, وأما إذا نذر حجًا وشرط مثل هذا الشرط لا يجوز في أحد القولين, والفرق أن الحج يلزم بالدخول فإذا وجد العذر المشروط زال الإيجاب بالنذر ونفي الوجوب بالدخول فلم يكن له الخروج منه والاعتكاف لا يلزم بالدخول وإنما بالنذر فالموضع مستثنى من النذر فإذا خرج من النذر لم يجب لأجل الدخول. فرع لو شرط المحظور فإن كان ينافي الاعتكاف كالوطء فإن خرج بوطء بطل اعتكافه كالوطء في صومه, وإن كان لا ينافي الاعتكاف كالسرقة وقيل: التعيين المحرمة فشرط أن يخرج لأجله فيه وجهان أحدهما: يبطل اعتكافه لأن أشرط المعصية [362 ب/ 4] كلا شرط فصار بمثابة من خرج بغير شرط, والثاني: لا يبطل وبين لأن نذره إنما ينعقد على ما سوى مدة الشرط فلم تكن تلك المدة مقصودة بالعمل. مسألة: قال (¬1): وَلاَ بَأسَ أَن يعَتَكِفَ وَلاَ يَنوِي أَيَامَاً مَتَى شَاءَ خَرَجَ. وهذا كما قال: إذا أراد أن يعتكف فإن لم يكن نذر يدخل فيه ومتى أراد قطعه قطعة ويكون له اجر ما احتسب منه قليلاً كان أو كثيرًا لأن اسم الاعتكاف يقع على القليل والكثير, وقال ابن سريج: لا نريد بقولنا قليلاً ما يقع عليه اسم الجلوس بل ما يسمى به معتكفًا ... (¬2) ويقوم عقبيه فلا يجوز, وقال أبو حامد: أجاد ابن سريج في هذا, وروي عن يعلى بن أمية أنه كان يقعد في المسجد ساعة ينوي بها الاعتكاف, ومن أصحابنا من قال: أقله المكوث في المسجد مارًا كان أو جالسًا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان أحدهما: يكفي ساعة مع النية, والثاني: يحتاج إلى يوم أو قريب منه ليخالف العادة وهذا غير صحيح والاعتماد على ما ذكرنا أولاً لقوله صلى الله عليه وسلم: "من [363 أ/ 4] اعتكف قدر فواق ناقة فكأنما أعتق نسمة" (¬3) وإن نذر فإن أطلق يكفي ما يقع عليه الاسم على ما ذكرنا, وإن قدره في النذر يلزمه فما قدره قليلاً كان أو كثيرًا, ويلزمه في النية تعيين الفرص, وقال في البويطي: يستحب أن لا ينقص عن يوم وليلة وأكثره لا نهاية له وإنما استحب له ذلك ليخرج من الخلاف, فإن ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 33). (¬2) موضع النقط بياض بالأصل. (¬3) أخرجه العقيلي في "الضعفاء" (1/ 22).

أبا حنيفة لا يجيز اقل من يوم وبه قال مالك, وروى محمد عنه أنه قال: يجوز بعض يوم, يعني: معظم الشيء يقوم مقامه كله عنده كما قال في نية صوم رمضان قبل الزوال, وعن أحمد روايتان ولو دخل المسجد ونوى أن يعتكف فيه ثلاثة أيام ولم ينذر فالمستحب أن يتم ما نواه فإن قطعه قبل إتمامه فلا شيء عليه كما لو دخل في صوم التطوع أو صلاة ينوى ركعتين أو أربعًا فقطعهما قبل الإتمام لم يجب شيء. فرع لو كان يدخل ساعة ويخرج ساعة مرارًا وينوي الاعتكاف كلما دخل صح اعتكافه, ومن أصحابنا بخراسان من ذكر وجهًا آخر: أنه لا يجوز لأن عادة الإنسان جرت بها وهذا ضعيف, وقيل: هل يجوز ... (¬1) القدر على وجه الاعتكاف [363 ب/4] لانتظار الصلاة أو لمذاكرة العلم ويقرب هذا من النية في صوم النفل بعد الزوال هل يجوز أم لا؟ مسألة: قال (¬2): واعتِكَافُه فِي المَسجِدِ الجَامِع أَحَبُ إلىَ. وهذا كما قال: قد بينا انه يجوز الاعتكاف في كل مسجد ولكنه في الجامع أفضل منه في سائر المساجد, لأنه تكثر فيه الجماعة في العادة ولا يحتاج أن يخرج منه للجمعة ويخرج من خلاف من قال: لا تصح في غيره وفيه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه اعتكف في الجامع, وقال بعض أصحابنا: لو كانت الجماعة في بعض مساجد العشائر أكثر من جماعة الجامع فالمسجد الذي يكثر فيه جماعة وينتابه الناس هو أحب إلينا من الجامع, ذكره الإمام الجويني رحمه الله. وإن اعتكف في مسجد آخر فإن كان اعتكافه تطوعًا مطلقًا ولم يشترط التتابع يخرج ويصلي الجمعة ثم يعود ويبني على ما ذكرنا, وإن نذر اعتكافًا متتابعًا عشرة أيام واعتكف في غير الجامع يلزمه الخروج للجمعة ثم إذا خرج يبطل اعتكافه ويجب الاستئناف وبه قال مالك, وفيه وجه آخر أنه لا يبطل بل [364 أ/ 4] يرجع ويبني وهو قول أبي حنيفة لأنه مضطر إله فأشبه إذا خرجت العدة وقيل: ذكره في البويطي ففي المسألة قولان, وهذا صحيح حكاه أبو حامد, والمذهب الأول, لأنه كان يمكنه أن ينذر دون سبعة أيام حتى لا تفوته الجمعة, أو كان يمكنه أن يعتكف في الجامع ولا يمكن الاحتراز من العدة فافترقا, وإن شرط أنه يخرج بعارض فهذا عارض فيخرج له ولا يبطل اعتكافه. قال في "الأم" (¬3): الاعتكاف في المسجد الحرام أفضل من الاعتكاف فيما سواه, وكذلك في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم وكلما عظم المسجد وكثر أهله فهو أفضل, وإذا نذر أن يعتكف في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم أو في مسجد بيت المقدس هل يتعين ما عين أو يجوز ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) انظر الأم (2/ 33). (¬3) انظر الأم (2/ 93).

في مسجد آخر بدل ذلك؟ في قولان أحدهما: لا يتعين لأنه لا يتعلق به وجوب شرعي, والثاني: يتعلق به لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي" (¬1) , وبه قال أحمد ولو نذر أن يعتكف في سائر المساجد لا يجب ذلك عليه وله أن يعتكف في أي [364 ب/4] مسجد شاء قولاً واحدًا, لأنه نص في البويطي على أنه لو نذر أن يصلي بمكة لم يجز في غيرها, ولو نذر أن يصلي في مسجد المدينة جاز أن يصلي بمكة ولا يجوز أن يصلي في مسجد بيت المقدس وتجزية المدينة من بيت المقدس. ووجهه: أن الصلاة بمكة هي أفضل من الصلاة في هذين المسجدين والصلاة بالمدينة أفضل من الصلاة ببيت المقدس, فالاعتكاف يجب أن يكون مثله. وقال بعض أصحابنا بخراسان: المنصوص أنه يتعين سائر المساجد بالتعيين لأنه الشافعي قال في "الأم" (¬2): إذا أوجب اعتكافًا في مسجد فانهدم المسجد رجع إذا بني المسجد وبني على اعتكافه, فلولا تعين المسجد لأمر بالخروج إلى مسجد آخر حتى يتم هناك لأنه لم يفعل هذا يبطل ما مضى إذا كان متتابعًا, وقال صاحب "التقريب": لا يتعين كما .... (¬3) هذا المنصوص فرق بين الاعتكاف والصلاة فإن الصلاة قربة في أي موضع كانت ولا يؤثر فيها المسجد فلا يتعين لها المسجد, والاعتكاف غنما يصير قربة بالمسجد فله أثر في الاعتكاف, فإذا عين بالنذر تعين, وهكذا ذكر بن أبي أحمد في "المفتاح", وفرق بين الاعتكاف والصلاة [365 أ/ 4] وقيل: فيه وجهان وهذا كله غير صحيح, والمسألة على قول واحد على ما ذكرنا, ومعنى ما ذكر في "الأم" إذا نذر أن يعتكف أيامًا مطلقة من غير شرط التتابع في مسجد يعنيه يدخل في الاعتكاف في ذلك المسجد فالمستحب له أن لا يخرج من ذلك المسجد إلى مسجد آخر, وإذا أنهدم فإن أمكن أن يعتكف في موضع منه فعل, وإن لم يقدر خرج, ثم إذا بني رجع فيبني لأنه لا يضره التفريق وقصد الشافعي به الاستحباب لأنه عينه بالنذر ولا يجوز الخروج منه إلا للضرورة فإذا انهدم فلم يقدر على اللبث فإنه يخرج, ثم إذا قدر بني في ذلك المسجد وهذا لا باس به إلا أنه يعيد؛ لأن الشافعي قال: "وإذا أوجب على نفسه اعتكافًا في مسجد فانهدم المسجد" فالظاهر أنه أراد العموم. فرع آخر قال ابن أبي أحمد في "التلخيص" الاعتكاف جائز في المساجد كلها إلا في مسألتين: إحداهما: إذا نذر اعتكافًا في مسجد يعينه لم يجز له في غيره إذا دخل فيه. والثانية: إذا نذر اعتكافا أكثر من سبعة اياك لا يجوز له أن يعتكف إلا في الجامع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1189, 1197) , ومسلم (511/ 1397). (¬2) انظر الأم (2/ 90). (¬3) موضع النقط بياض بالأصل.

إذا كان ممن تجب عليه الجمعة وهذا صحيح, ومعناه إذا تقرر أن يعتكف [365 ب/4] في مسجد بعينه أيامًا متتابعة لا يجوز له الخروج منه؛ لأن خروجه يقطع التتابع ويبطل الاعتكاف, كذلك إذا نذر أن يعتكف أكثر من سبعة أيام متتابعة لا يجوز أن يعتكف في غير الجامع, لأنه إذا اعتكف في غيره يحتاج أن يخرج للجمعة, فإذا خرج بطل التتابع, وإذا بطل التتابع بطل الاعتكاف. ولو اعتكف في غيره يجوز ولكن لا يمكنه أداء ذلك إلا بأن يمرض فتسقط عنه الجمعة. وقال أصحابنا: لو اعتكف في المسجد ثم خرج لقضاء حاجة فعاد إلى مسجد آخر من طريقة جاز ولا يتعين عليه الأول, لو خرج إلى مسجدًا آخر في غير طريقه أو أبعد من الأول لم يجز لأنه يكون تركًا للاعتكاف. مسألة: قال (¬1): "ويخرجُ للغائِطِ والبَولِ إلى منزله وإنُ بَعُدَ". وهذا كما قال, هذا تفريغ على الاعتكاف الواجب المتتابع, لأن الخروج في غير المتتابع لا يؤثر, فإذا نذر اعتكافًا متتابعًا له أن يخرج لحاجة الإنسان وهي الغائط والبول إلى منزله, وله أن يتوضأ هناك؛ وإن جاز في المسجد, لأن الأولى أن لا يتوضأ في المسجد لما روي عن عائشة- رضي الله عنها- أنها قالت: [366 أ/4] كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلى رأسه وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان" فإذا تقرر هذا قال أصحابنا: ينظر فإن كان منزله قريبًا لا بأس به, وإن كان بعيدًا متفاحشًا فالمذهب أنه لا يجوز له ذلك وما نقل المنزني "وإن بعد" لا يعرف للشافعي, وإنما هو من المزني لأنه ربما يبعد منزله من المسجد بعدًا لو رجع إليه لحاجة الإنسان فإلى أن يعود إلى المسجد لعله يحتاج مرة أخرى إلى الرجوع فيبقى من طريق المسجد ذاهبًا وراجعًا ويكون طول نهاره في قطع المسافة. وقيل: إن صح هذا اللفظ عن الشافعي أراد به التطوع الذي لا متابعة فيه أنه لا يجوز. فرع لو كانت في المسجد سقاية ومنزله بعيدًا لا يتفاحش له أن يخرج إلى منزله لأنه يحتشم من دخول السقاية من المسجد وتنقص مروءته به فلا يكلف ذلك, وكذلك إذا كانت بقربه دار الصديق فبذل له قضاء الحاجة فيها لا يكلف الدخول إليه, وهذا أولى, لأن الحشمة ها هنا أكثر. فرع آخر لو كان منزلان أحدهما ابعد من الآخر فالمذهب أنه لا يجوز له المضي إلى الأبعد لأنه لا حاجة به على المضي إلى الأبعد [366 ب/4] وقال الداركي: سئل ابن أبي هريرة عن هذا فقال: له الخروج إلى الأبعد وهذا بعيد. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 33).

فرع آخر إذا خرج لقضاء الحاجة لقضاء الحاجة ثم عاد لا يلزمه تجديد النية لأنه لم يقطع اعتكافه فكان في حكم المعتكف وقت خروجه وذلك الوقت محسوب له من الزمان الذي أوجبه فيه بنذره, ولو لم يكن الاعتكاف نذرًا فخرج لحاجة الإنسان ثم عاد فإنه يلزمه تجديد النية لأن النية الأولى بطلت وانقطع الاعتكاف. فرع آخر لو خرج لحاجة الإنسان فرأى غريمًا له فوكل من يطالبه بحقه لا يبطل اعتكافه لأن خروجه كان للحاجة وتوكيله بالمطالبة كلام لا يؤثر فيه نص عليه في "الأم", إلا أن يخرج من المسجد كذلك فيبطل حينئذٍ اعتكافه. فرع آخر إذا دخل منزله لقضاء الحاجة وهناك مريض له أن يسأل عن المريض في اجتيازه ولا يجلس إليه ولا يعرج عليه وليس له أن يعدل عن ممره إلى المكان الذي فيه المريض وهذا لما روي عن عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المنزل لحاجته يمر بالمريض فيمر كما هو ولا يعرج عليه (¬1)؛ بل يسأل ويمضي" وقيل: إن [367 أ/ 4] كان العدول عن ممره قليلاً فيه وجهان, ولو وقف لعيادته قليلاً فوجهان, لأن فيه غرضًا صحيحًا. فرع آخر المرجع في القليل والكثير إلى العرف, فإن كان المريض في الدار وطريقه في الصحن إلا أن المريض في بيت الدار أو حجرتها فهو قريب, وإن كان في بيت آخر فهو كثير وعلى هذا لو زار قادمًا في طريقه فالحكم هكذا. فرع آخر إذا خرج لقضاء الحاجة ثم أراد الأكل في منزله نقل المزني انه لا شيء عليه وظاهرة يقتضي أن له الخروج ابتداء للأكل, واختلف أصحابنا في هذا, فقال ابن سريج وجماعة: لا يجوز له الخروج للأكل, لأنه يمكنه الأكل, لأنه يمكنه الأكل في المسجد, قال الشافعي: وينصب المعتكف المائدة ويأكل وبه قال أبو حنيفة ومالك, وإنما أمر بالمائدة أو السفرة لأنه أصون للمسجد من التلوث بالمطعوم وأقرب إلى النظافة وما نقله المزني أراد به أنه يأكل اللقمة واللقمتين بحيث لا يطول فإن أطال بطل, ولو قعد في طريقه قعدة خفيفة وأكل هذا القدر فلا بأس به في التتابع, ولو عدل في ممره إلى صفة من المنزل للأكل انقطع اعتكافه طال الزمان في هذا [367 ب/4] أو قصر, وهذا اختيار القفال, وقال أبو إسحاق: له أن يخرج من المسجد إلى بيته للأكل وإذا خرج لقضاء ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (2472).

الحاجة له أن يستوفي تمام الأكل, وبه قال أكثر أصحابنا وهو الصحيح, ونص عليه الشافعي في "الإملاء" وهذا لأن في أكله في المسجد بذلة وسقوط مرؤة وقد يحتشم من أكله المصلون فيدعوهم ذلك على الخروج, ولأنه ربما يكون في طعامه قلة فيستحي من إظهاره أو كان يفسد إن أخرج إلى المسجد. فرع آخر فأما شرب الماء فإن اشتد عطشه وعدم الماء في مسجده يجوز أن يخرج إلى منزله, وإن كان واجدًا للماء في مسجده فمن أصحابنا من جعله كالأكل فله الخروج ومنهم من منعه بخلاف الكل, لأنه ليست فيه بذلة ولأن استطعام الطعام مكروه والاستسقاء للماء غير مكروه وقد استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم الماء ولم يستطعم الطعام. فرع آخر لو أقام بعد فراغه من قضاء الحاجة أو من الأكل في البيت بطل اعتكافه قليلاً كان أو كثيراً, لأنه لا حاجة به إليه وبه قال جماعة العلماء, وقال أبو يوسف ومحمد: لا يبطل [368 أ/4] حتى يكون أكثر من نصف يوم لأنه قليل كما لو خرج لحاجته وتأنى في مشيه وكان يمكنه الإسراع جاز وعفي عنه لقلته وهذا غلط, لأن المشي يختلف بعادة الناس فيجب أن يمشي على سجيه مشيه لأن عليه مشقة في تعيين ذلك, وهاهنا لا حاجة به إلى خروجه. فرع آخر إذا خرج لقضاء الحاجة يكره له أن ينقص عن سجيه مشيه فلو تأني في مشيه عن حد العادة, المذهب أنه يبطل اعتكافه ويكون كما لو قعد ساعة بعد قضاء الحاجة. فرع آخر لو خرج من المسجد ناسيًا لم يبطل اعتكافه نص عليه في "الأم" خلافًا لأبي حنيفة, وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان" ولأنه لو أكل في الصوم ناسيًا لم يبطل صومه كذلك ها هنا, ومن أصحابنا من قال: بطل اعتكافه لأن اللبث مأمور به فلا يعذر فيه الناسي كالنية في الصوم والأول أصح, وقال: والدي رحمه الله لو أطال المكث ...... (¬1) كالوجهين في الأكل الكثير في الصوم والكلام الطويل في الصلاة, وقال أيضًا: هل يحسب له القدر الذي كان هو فيه خارجًا؟ [368 ب/4] يحتمل وجهين: أحدهما: يحسب كما لو كان خرج لحاجة الإنسان المدة التي هو فيها خارج المسجد هي غير محسوبة, والثاني: وهو الظهر أنه لا يحسب بل عليه إعادة ذلك القدر قال: ولو خرج ناسيًا واعتكافه متتابع فدخل مسجدًا آخر ثم تذكر وهو في ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل.

المسجد الثاني هل له العود إلى الأول أم يبقى على اعتكافه في المسجد الثاني فالأصح على القياس أنه لا يعود إذا لم يكن في اللبث ويحتمل أن يقال: أن له العود. مسألة: قال (¬1): وَلاَ بَأس أَن يَشتَرِي وَيَبِيعَ. الفصل وهذا كما قال: المستحب لكل من في المسجد أن لا يشتغل إلا بذكر الله تعالى والصلاة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فقال: لا وجدتها إنما بنيت المساجد لذكر الله والصلاة" (¬2) , والمستحب لكل من يلبث بعبادة أن يشتغل بها ولا يعرض عنها إلى غيرها فالمعتكف يستحب أن يكون عليه السكينة والوقار ويشتغل بالطاعات من الصلاة وقراءة القرآن والدعاء والنظر في العلم ومذاكرة العلماء, فإنه أفضل من صلاة التطوع نص عليه في البويطي ويتكلم [369 أ/4] المعتكف في العلم وبكتبه فجعل كتابه العلم في المسجد بمنزلة المذاكرة. وقال أحمد: لا يستحب له قراءة القرآن وتعليمه ويدرس العلم بل يشتغل بذكر الله عز وجل والتسبيح والصلاة, واحتج بأنه عبادة يشرع لها في المسجد فلا يستحب فيها إقراء القرآن وتدريس العلم بالصلاة, وروي عن أحمد مثل قولنا, وقال مالك: تكره له مذاكرة العلماء وهذا غلط, لأن المذاكرة بالعلم قربة وقد قال تعالى: {بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} [النور: 36] , وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلم الأحكام في اعتكافه ويجبهم عن الأسئلة. وأما الصلاة فقد شرع فيها أذكار مخصوصة وخشوع واشتغاله بذلك يقطعه, وفي الطواف لا يمكنه إقراء القرآن ودراسة العلم وشرع فيه ذكر مخصوص بخلاف هذا, فافترقا وقيل: لا يكره التعليم في الطواف كما في الاعتكاف, وأما البيع والشراء والخياطة فلا تبطل للاعتكاف لأن ما لا يبطل الصوم لا يبطل الاعتكاف في المسجد كالصوم, وقال في البويطي يكره له البيع والشراء في المسجد فإن [369 ب/4] باع معتكف أو غيره كرهت له ذلك لهما والبيع جائز وهذه الكراهة لأجل المسجد دون الاعتكاف والكراهة هي كراهية تحريم لا تنزيه وإنما كرهنا لما ذكرنا من الخبر, وقال في "الأم" والقديم: لا بأس به, وقال في القديم: ولا يكثر التجارة لئلا يخرج عن حد الاعتكاف فالمسألة على قولين. أحدهما: يكره لما روي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن البيع والشراء في المسجد" (¬3). والثاني: لا يكره لأنه كلام مباح كالحديث, والأول اصح. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 34). (¬2) أخرجه مسلم (79/ 568) , وابن ماجه (765) , واحمد (5/ 361). (¬3) أخرجه أحمد (2/ 212) , وابن أبي شيبة (2/ 419).

وقوله: لا بأس به أي: لا يؤثر في اعتكافه إلا أنه لا يكره, فإن كان محتاجًا إلى شراء قوته أو لقريبه لا يكره, وكذلك عن خاط ثوبه الذي يحتاج إلى لبسه لا يكره, وإن كان كثيرًا فتركه أولى, وحكي عن مسروق أنه رأى رجلين يتساومان في المسجد شيئًا فحضهما وقال: أخرجا إلى سوق الدنيا فإن هذا سوق الآخرة, وقال بعض أصحابنا: إن كان البيع والشراء يسيرًا لا يكره, وإن كان كثيرًا فقولان وقال مالك: من شرط ... (¬1) ويخالف عادته الاعتكاف فإن لم تكن حرفته [370 أ/ 4] فلا بأس أن يخيط فيه شيئا وهذا غلط, لأن الاعتكاف هو اللبث في المسجد وقد حصل ذلك مع هذا ولا يخالف العادة حصلت بالانتقال من حانوته إلى المسجد, ولا يقدح في الحج أن تقترن به التجارة الدائمة فلا يقدح في الاعتكاف أن تقارنه الحرفة الدائمة, ثم قال: ويحدث بما أحب فيجوز منه محادثة الإخوان لما روت صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متعكفًا فأتيت ليلاً أزوره فحدثته فلما انقلبت قام ليقلبني فإذا رجلان من الأنصار فلما رأيا رسول الله صلى الله عليه وسلم أسرعا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "على رسلكما إنها صفية بنت حُيي فقالا سبحان الله يا رسول الله, فقال: إن الشيطان يجزي من الإنسان مجرى الدم فخشيت أن يقذف في قلوبكما شراً" (¬2)؛ ولأن الاعتكاف والحديث لا يتنافيان فظاهر ما ذكره هل هنا أنه لا يكره, والأولى له تركه. وقيل: يكره ذلك لما ذكرنا من الخبر ثم قال: ما لم يكن مأثمًا, وهذا النهي لا يختص بالاعتكاف لأنه في غير الاعتكاف مثله, وقال في "الأم" و "الجامع الكبير": لا بأس بأن يقص لأن القصص وعظ وتذكير, ويجوز أن يأمر بالأمر [370 ب/4] الخفيف في ماله وضيعته ولا يكثر منه فإنه مكروه, وحكي أن الشافعي قال في القديم: لو فعل ما ذكرنا من البيع والشراء المكروهين رأيت أن يستقبله لأنه صار قعوده للتجارة وهذا مرجوع عنه فلا يجعل قولاً آخر. فرع لا منع المعتكف من النوم في المسجد والاضطجاع والاستلقاء في غير حالة النوم لما روي عن عباد بن تميم عن عمه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد مستلقيًا واضعًا إحدى رجليه على الأخرى". مسألة: قال (¬3): وَلاَ يُفسِدُهُ وَلاَ جِدالٌ. كما قال يكره له السباب والخصومة كما قلنا في الصائم ولا يبطل به الاعتكاف لأنه ليس من خصائص محظورات الاعتكاف كما لا يفسد به الصوم لأنه ليس من ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) أخرجه البخاري (2035) , وأحمد (6/ 337) , وابن ماجه (1779) , والبيهقي في "الكبرى" (8598). (¬3) انظر الم (2/ 34).

محظوراته, ولكن يذهب أجره بذلك ويفوته الفضل كما في الصوم. مسألة: قال (¬1): وَلاَ يَعُودُ المَريضَ وَلاَ يَشَهد الجَنَائِز إذا كَانَ اعتكافُه واجباً. وهذا كما قال في اللفظ إشكال لأنه ذكر الواجب ولم يذكر التتابع ولابد من تقييد المسألة بالتتابع لأن الاعتكاف الواجب إذا لم يكن متتابعاً فخرج إلى جنازة لم يبطل ما مضي [371 أ/4] منه وإذا عاد بني على ما سبق, وإذا كان متتابعًا فخرج للجنازة بطل الاعتكاف ويجب الاستئناف والأولى إذا كان اعتكافه نفلاً أن يخرج إلى الجنازة ويصلي عليها وهو أفضل من الاعتكاف, لأنه فرض على الكفاية والاعتكاف نفل. وأما عيادة المريض قال بعض أصحابنا: هي والاعتكاف سواء فاجل أيهما شاء لأن كل واحد منهما قربة مندوب إليها, وإذا خرج بطل اعتكافه لأنه لا يضطر إليه, ومن أصحابنا من قال: الأولى أن يخرج لعيادة المريض لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرج على المريض ولم يكن اعتكافه واجبًا, وإن كان اعتكافه واجبًا متتابعًا لا يجوز له أن يخرج للعيادة ولا للجنازة, ولو خرج لحاجة الإنسان فسأل عن المريض في الطريق فقد ذكرناه ولو اتفقت جنازة في الطريق فوافق تكبير الناس عليها فكبر معهم وصلى قال القفال: قال مشايخنا: لا ينقطع اعتكافه المتتابع بهذا القدر لأن ذلك لا يزيد على الوقفة اليسيرة التي أبحنا له فيها الأكل على طريقة من منزله إذا دخله لقضاء الحاجة [371 ب/ 4] فإن احتاج إلى زمان لانتظار الجنازة أو عدل عن طريق قضاء الحاجة إلى مكان آخر فصلى عليها ينقطع التتابع, وإن أدخلت الجنازة في رحبة المسجد فصلى عليها جاز. مسألة: قال (¬2): وَلاَ بَأسَ إِذَا كان مُؤَذَنًا أن يَصعَد المنارَةَ وإن كانت خارجة. وهذا كما قال: فيه أربع مسائل إحداها: أن تكون المنارة في المسجد فيصعد إليها ويؤذن ويستحب ذلك لأنه ذكر مستحب وطاعة وهو للمعتكف أشد استحبابًا, وقد قال في البويطي: وللرجل أن يعتكف في منارة المسجد. والثانية: أن تكون المنارة في رحبة المسجد يصعد إليها ويؤذن أيضًا لأن رحبة المسجد هي من المسجد لو اعتكف فيها يصح الاعتكاف. والثالثة: أن تكون المنارة خارج المسجد متصلة ببناء المسجد ولها باب إليه فله أن يؤذن فيها لاتصالها بالمسجد وكونها من جملته. والرابعة: أن تكون خارجة من المسجد والرحبة ولا تتصل به وقال عامة أصحابنا: يجوز له أن يصعد غليها ويؤذن فيها ولا يبطل اعتكافه وهو ظاهر قول الشافعي لأنه قال: وإن كانت خارجة ولم يفصل [372 أ/ 4] ولأنه إذا كانت العادة أن يؤذن لهذا المسجد في هذه المنارة فقد صارت من حقوق المسجد فلا فرق بين أن تكون في وجه المسجد أو خارجة منه, ومن أصحابنا من قال: لا يجوز ذلك لأنه يقطع بينهما ما ليس ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 34). (¬2) انظر الأم (2/ 34).

منهما بخلاف الرحبة وأراد الشافعي وإن كانت خارجة أي: في الرحبة أو خارجة عن مرتفع المسجد, ولكن بابها في المسجد أو رحبة المسجد ولا يختص هذا بالمؤذن, ولكن صورة في المؤذن لأنه هو الذي يحتاج إلى الخروج إلى المنارة للأذان وهو كقوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] , ولا يختص جواز الارتهان بالسفر, ولكن ذكره لغالب الاحتياج وهذا اختيار القفال وهو الصحيح, وهذا لأنه خروج لما له منه بد فأشبه الخروج للجنازة ومن أصحابنا من قال: فيه ثلاثة أوجه, والوجه الثالث: أنه إن كان المؤذن ممن قد ألف الناس صوته جاز أن يخرج ولا يبطل اعتكافه لأن الحاجة تدعوا إليه لإعلام الناس بالوقت, وإن لم يألفوا صوته لم يجز ذكره أبو إسحاق المروزي, وقيل: إن كانت عادته فيما سبق الصعود إليها [372 ب/ 4] للأذان أن لا يبطل اعتكافه لأن الخروج المعتاد يصير كالمستثنى, وإن لم يستثن صريحًا كالخروج للحاجة المعتادة وإن لم تكن عادته الأذان لا يجوز ويبطل اعتكافه ذكره الإمام الجويني في "المنهاج", وقال مالك: يكره له صعود المنارة أصلاً وهذا غلط لما ذكرنا. مسألة: قال (¬1): وَأَكرَهُ الأَذَانَ بِالصَلاة للولاَةِ. وهذا كما قال: اختلفت أصحابنا في تأويل هذا الكلام فمنهم من قال: أراد به أن لا يقول في أذانه حي على الصلاة أيها الأمير أو الوالي لأن ذلك زيادة في الأذان, ولا يختص هذا بالمعتكف, ويكره أن يقول هذا أيضًا بعد الفراغ من الأذان للمعتكف, لكن لو قال بعد الفراغ من الأذان الصلاة أيها الأمير لا يكره لأن هذا ليس هو من ألفاظ الأذان, وكان بلال يفعل برسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا لأن الأذان هو مشروع لعامة المسلمين فتخصيص بعضهم به هو نوع رياء وإيقاع لشريك في العبادة, وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لمؤذنه: حين أتاه يومًا بعد الأذان, وقال: حي على الصلاة أما يكفيني [373 أ/ 4] أذان العامة وعلاه بالدرة, ومن أصحابنا من قال: أراد به الخروج من المسجد ليعلم الوالي بالصلاة فهذا لا يجوز للمعتكف ويختص الحكم به وهذه الكراهة كراهية تحريم, إذا كان الاعتكاف متتابعًا واجبًا. فرع لو خرج من المسجد للأذان وجوزنا ذلك ثم لما فرغ من الأذان قال هذا إعلامًا للوالي يجوز ذلك لأن خروجه كان للأذان, وإنما أتى به على وجه التبع فلا يضر الاعتكاف. مسألة: قال (¬2) وَإِن كَنَت عَلِيهِ شَهَادَةٌ فَعَلَيهِ أَن يُجِيب. هذا كما قال: إذا طولب المعتكف لأداء الشهادة وكان اعتكافه متتابعًا واجبًا فإن ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 34) (¬2) انظر الأم (2/ 34)

كانت الشهادة قد تعينت عليه في الطرفين عند التحمل وعند الأداء يلزمه الخروج لأدائها ولا يبطل اعتكافه قولاً واحدًا والتعين بأن لا يكون وقت التحمل والداء إلا هو ورجل آخر وهذا لأنه واجب عليه لأنه لم يكتسب سببه باختياره فدعت الحاجة إليه. وقال القفال وجماعة: يبطل اعتكافه لظاهر لفظ الشافعي فإنه لم يفصل [373 ب/ 4] بين التعيين وعدمه وهذا لأنه ليس من ضرورة أداء الشهادة الخروج من المسجد ويمكن أن يأتيه الحاكم فيسمع منه الشهادة ولزمه الابتداء بفعله. ومن أصحابنا بخراسان من قال: إن لزمته الشهادة باختياره تبطله وإلا فلا, وهذا ضعيف والصحيح الأول والفرق بينه وبين الخروج للجمعة يبطله لأن هناك يمكنه أن يعتكف في الجامع, فإذا اعتكف في غيره فقد دخل فيه مع علمه بأن يحتاج أن يخرج منه لا محالة ويمكنه الاحتراز منه فصار كالخروج باختياره, وها هنا لا يمكنه الاحتراز منه ولا يعلم وقت مطالبة الشهادة إياه بأدائها, ومجيء الحاكم إليه هو أمر مستبعد فلا يبطل اعتكافه به كالخروج لحاجة الإنسان وإن لم يتعين عليه في الطرفين فإن كان وقت التحمل والأداء شهود كثيرة فخرج لأدائها بطل اعتكافه قولاً واحداً كالخروج بغير شهادة, وإن لم يتعين وقت التحميل وتعينت عليه عند الأداء بأن كانت وقت التحمل جماعة من الشهود وعند الأداء لم يبق إلا هو وآخر. قال الشافعي: عليه أن يخرج وإذا خرج بطل اعتكافه, وقال في المعتكفة [374 أ/4] إذا مات زوجها خرجت للعدة ولا يبطل اعتكافها فإذا انقضت عدتها رجعت فبنت فاختلف أصحابنا فيه فقال ابن سريج: لا فرق بينهما لأن الشهادة تعينت عليه في الأداء دون التحمل, والعدة تعينت في الحال ولم تتعين عند النكاح فكان كل واحد منهما متعينًا في الطرف الثاني دون الأول صحت أن تكون المسألتان على قولين على سبيل نقل القول والتخريج. وقال أبو إسحاق: الخروج لأداء الشهادة يبطل بخلاف العدة وهو الصحيح والفرق أن المقصود من الشهادة الأداء فإذا تحملها مختارًا ............. (¬1) وليس المقصود من النكاح الفرقة الموجبة للعدة وإنما يقصد به الإلفة فكان اختيارها للنكاح اختيارًا لوجوب العدة, وفرق آخر أن بالمرأة ضرورة إلى النكاح لتحصين الفرج والدين والنفس والاكتساب ولا ضرورة إلى دخوله في الشهادة عند التحمل فوزانها من العدة أن تضطر إلى الشهادة من حال التحمل لا يبطله ودون الشهادة من أن يجعل إليها طلاقها فاختارت الطلاق ثم خرجت للعدة بطل اعتكافها. وحكي عن مالك أنه قال: في المعتدة كمل اعتكافها ثم تخرج لقضاء عدتها وهذا غلط, لأن المسجد ليس [374 ب/ 4] بمكان العدة وقد اضطرت إليها, وإن كانت متعينة عليه عند التحمل ولم يتعين وقت الأداء فخرج لأدائها يبطل بلا خلاف. ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل.

مسألة: قَالَ (¬1): وَإِن مَرِضَ أَو أَخرَجَهُ السُلطَانُ وَاعتِكَافه وَاجبٌ فَإِذَا بَرِئ أَو خُلَي عنه بني. وهذا كما قال: معنى قوله واجب أي: متتابع وجب عليه بنذره وجملته أن ينظر في المرض فإن كان خفيفًا مثل الصداع ووجه السن والحمى الخفيفة ونحو ذلك, لم يجز له أن يخرج من المسجد فإن خرج من المسجد بطل اعتكافه قولاً واحدًا, لأنه خرج من غير ضرورة إلى الخروج, وإن كان المرض شديدًا ينظر فإن كان مما, لا يمكن المقام معه في المسجد كسلس البول والقيام الدائم والقيء يلومه أن يخرج فإذا خرج يبطل اعتكافه قولاً واحدًا ويبني إذا عاد, وإن كان يمكن المقام معه ولكنه تلحقه مشقة شديدة غير محتملة يحتاج إلى فراش وخادم يخدمه وطبيب يداويه له الخروج منه لأن مضطر إليه برأ من علته وأمكنه القعود في المسجد يرجع إليه, ونص في عامة كتبه أنه يبني على ما مضى من اعتكافه لأنه محتاج إليه, ومن أصحابنا من خرج فيه قولاً آخر: أنه يستأنف كما يقول في المظاهر [375 أ/ 4] إذا دخل في صوم الشهرين فمرض فأفطر هل يبطل التتابع؟ فيه قولان, وهذا ضعيف وذكر بعض أصحابنا القيام الدائم في جملة هذه العلة وهو غلط, والصحيح أن في القيام الدائم قولاً واحدًا على ما ذكرنا, وإن مكث بعد برئه شيئًا من غير عذر استأنف بلا خلاف. فرع لو مرض ذو رحمه وليس له من يقوم بمرضه أو مات وليس هناك من يدفنه فهو مأمور بالخروج, وإذا خرج عاد وبني كما قلنا في العدة وفيه وجه آخر يستأنف, وأما الفصد والحجامة فلا تجوز في المسجد, وإن كانت في الطست كالبول في الطست لا يجوز فيه. ومن أصحابنا من قال: يجوز الفصد والحجامة في الطست إذا لم يلوث به المسجد والأولى تركه ويحتمل أن يجري البول في الطست مجرى الفصد ويحتمل الفرق بأن ذلك مما يستخفي به ويستصبح في المسجد بخلاف الفصد, وإن كانت به علة لابد لأجلها من إخراج دم فهو على ما فصلناه من العلة. فرع آخر إذا احتاج إلى النخامة أخذها بخرقة فإن أراد دفنها في المسجد قيل: يجوز, وقيل: لا يجوز حتى يخرج عن المسجد لأن العلماء [375 ب/4] اختلفوا في قوله صلى الله عليه وسلم "كفارة النخامة في المسجد دفنها" فقال بعضهم: أراد دفنها في المسجد فأخرج .... (¬2) لا يبطل اعتكافه واحدًا لأنه لم يخرج باختياره, ولو أقام في المسجد مرة وهو مغمى عليه لا تحتسب مدة الإغماء من الاعتكاف لأن فعله كلا فعل, وهكذا لو جُنَ المعتكف ¬

_ (¬1) انظر الم (2/ 34). (¬2) موضع النقط بياض بالأصل.

ثم أفاق يبني سواء خرج من المسجد أو لا لأن فعله كلا فعل وإن دام سنين نص عليه في "الأم"، بخلاف المريض في قول لأن خروج المريض باختياره, وإن كان مرضه من غير اختياره. وقال والدي:- رحمه الله- في الإغماء وجه آخر: إن مدته محسوبة كمدة النوم وهو ضعيف, وإن كان اختيار كثير من أصحابنا بخلاف الجنون. ومن أصحابنا من قال: إذا أخرجه الولي في حال إغمائه فإن كان لا سبيل إلى مراعاته في المسجد بطل اعتكافه, ولو نام طول يومه يعتد بمدة النوم من الاعتكاف لأن النائم كالمستيقظ في جريان الحكم عليه. فرع آخر لو أخرج منه محمولاً لا يبطل اعتكافه ولو أكره حتى خرج بنفسه فيه قولان: كالصائم [376 أ/4] إذا أكره على الكل بنفسه ولو أخرجه السلطان لاستيفاء الحق منه فإن كان ظالماً في منعه وهو يمكنه إيفاؤه من غير أن يخرج من المسجد يبطل اعتكافه, وإن كان مظلومًا لأنه ليس عليه دين أو عليه دين إلا أنه لا يجد ما يقضيه لم يبطل اعتكافه قولاً واحدًا, وإن وجب إخراجه لإقامة الحد عليه مثل حد الزنا أو القذف أو الشراب أو القطع في السرقة فأخرج فإنه لا يبطل اعتكافه لأن إقامة الحد في المسجد لا تجوز فإذا وجب إخراجه له كان مكرهًا عليه. وقال القفال فيه قولان: بناء على ما لو خرجت للعدة هل تبني؟ قولان وهذا لا يصح لأنه لا منع له أصلاً في الإخراج, ولم يخرجه باختياره بخلاف المعتدة, ومن أصحابنا من قال: إن ثبت الحد عليه بإقراره بطل اعتكافه وإن ثبت بالبينة فيه وجهان؛ لأنه اختار سببه وهو الزنا والشراب ونحو ذلك. وقال والدي, رحمه الله: إن وجب قبل اعتكافه ثم أخرج لإقامة الحد لا يبطل, وإن وجب في حال اعتكافه فاخرج هل يبطل؟ فيه وجهان أحدهما: يبطل لأن سبب الإخراج كان منه في حال الاعتكاف [376 ب/4] والمذهب الطريقة الأولى. فرع آخر لو حاضت المرأة في اعتكافها خرجت فإذا طهرت رجعت مقام الحائض في المسجد لا يجوز فهي مضطرة إلى الخروج نص عليه في البويطي, قال أصحابنا: هذا إذا كان اعتكافها مدة لا تخلو عن الحيض غالبًا كالشهر فإن كان اعتكافها مدة قليلة يحتمل صورتها عن الحيض ينقطع اعتكافها بها, وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجه آخر أنه ينقطع اعتكافها بالحيض ولا يمكنها أن تؤدي الاعتكاف إلا أن تيأس من الحيض وهذا ليس بشيء. فرع آخر قال بعض أصحابنا بخراسان: لو إذن لها الزوج في اعتكاف عشرة أيام ثم مات

الزوج هل لها أن تقيم تمام العشرة في المسجد معتكفة أم عليها الخروج إلى البيت للعدة؟ قولان, فإذا قلنا: لها الإقامة هناك فخرجت انقطع التتابع, وإن قلنا: عليها الخروج فخرجت هل تبني؟ قد ذكرنا قولين وفي هذا نظر والمذهب الصحيح أنه يلزمها الخروج وتبني. فرع لو أحرم المعتكف بالحج وخاف فوته خرج ومضى في حجته ثم استأنف الاعتكاف لأنه لا يسمى [377 أ/ 4] خارجًا حتى يخرج قدميه وهذا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب رضي الله عنه: "والله لا أخرج عن المسجد حتى أخبرك بسورة لم تنزل مثلها في التوراة والإنجيل والقرآن ثم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقصد الخروج من المسجد وأخرج إحدى قدميه" فقال أبي بن كعب يمينك يا رسول الله فقال: "ظننتني نسيتها ثم يستفتح الصلاة فقال بالحمد لله رب العالمين فقال: هي هي " فدل على أن الخروج بإخراج القدمين جميعًا. فرع آخر لو شرع الجنب في الاعتكاف صح شروعه وعليه الاغتسال فإن خرج للاغتسال, قال والدي رحمه الله: فيه وجهان والأشبه أنه ينقطع تتابعه قال: ويحتمل وجهًا آخر: أنه لا يصح شروعه فيه لأن لبثه في المسجد معصية وطريق الاعتكاف القربة فهما متضادان وهذا اصح عندي. فرع آخر لو احتلم فيه يلزمه الخروج في الوقت فإن أقام مع القدرة فإن امتد مقامه بطل اعتكافه لأن مقامه فيه معصية, وإن لم يمتد فالمذهب أنه لا يبطل لأن الشافعي نص في الردة أنها لا تبطل الاعتكاف, وإن كان [37 ب/ 4] الماء في المسجد وأراد الاغتسال يأخذ الماء ويغتسل خارج المسجد, وإن اغتسل في المسجد فهو كما أقام, وإن لم يقدر على الخروج فإن كان باب المسجد مغلقًا فإن الماء في المسجد اغتسل فيه, وإن لم يكن فيه ماء فإنه يتيمم ويقيم في المسجد ولا يبطل اعتكافه. فرع آخر قال في "الأم": إذا سكر المعتكف ليلاً أو نهارًا أفسد اعتكافه وعليه أن يبتدئ إذا كان واجبًا, وقال بعد هذا: ولو جعل لله على نفسه اعتكافًا فارتد ثم اسلم بني على اعتكافه فاختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: لا فرق بين السكر والردة ولا يبطل واحد منهما الاعتكاف وأراد بما ذكر في السكران إذا أخرج فقامة الحد عليه أو أخرج لأنه لا يجوز إقرار السكران في المسجد فيصير كأنه اختار الخروج ويغلظ على السكران في الأحكام, وهذا لأن زوال العقل بالسكر من قبل الله تعالى دون فعله فلا يبطل اعتكافه, ومن أصحابنا من فرق بينهما على ظاهر النصين والفرق أنه لا يجوز إقرار

السكران في المسجد فيصير كأنه اختار الخروج, وإن لم يخرج لخروجه [378 أ/ 4] من أهل المسجد والكافر يجوز إقراره في المسجد لاستماع القرآن والوعظ فلم يخرج عن كونه من أهل المسجد فلا يبطل اعتكافه لهذا, ومن أصحابنا من قال: يبطل بهما لأن السكران خرج عن أن يكون من أهل المسجد, والمرتد خرج عن أن يكون من أهل العبادات وتأويل قوله في المرتد إذا لم يكن الاعتكاف متتابعًا فأسلم فتمم ما بقي وهذا اختيار القفال, قال: وفي السكران لا يبطل ما مضى أيضًا إذا لم يكن متتابعًا بل إذا أفاق يبني وقصد الشافعي به أن الردة لا تبطل الأعمال الماضية خلافًا لأبي حنيفة. وحكي أن الربيع قال: حين قرئ عليه بهذه المسألة اضربوا عليها لأن الشافعي قال في السكران: يبطل اعتكافه والمرتد أسوأ حالاً منه والصحيح ما تقدم وما ذكره القفال لا يساعده النص الذي ذكرنا, ومن أصحابنا من قال: يبطل بالسكر الاعتكاف ويبطل به التتابع وأراد بالردة إذا لم تطل حتى لو طالت استأنف أيضًا وهذا [378 ب/ 4] هو أضعف مما تقدم لن ما يبطله لا فرق بين قليله ولا كثيره كالخروج من المسجد. فرع آخر لو كان من ظالم فخرج واستتر لا يبطل اعتكافه لأنه مضطر إلى الخروج بسبب هو معذور فيه. مسألة: قال (¬1): وَإن نَذَرَ اعتكافًا بِصَومٍ فَأفطَرَ استأنفَ. وهذا كما قال: إذا نذر اعتكاف أيام يصوم متتابعًا فأفطر يومًا استأنف الاعتكاف بالصوم لأن الاعتكاف مع الصوم أفضل والثواب فيه أكثر, فكان الصوم صفة مقصودة في الاعتكاف فإذا نذره على هذه الصفة لزمه على صفته كالتتابع ويفارق هذا إذا نذر أن يعتكف مصليًا له أن يفرد الصلاة عن الاعتكاف, لأن الصوم والاعتكاف هما عبادتان متجانستان أو كل واحد منهما إمساك مخصوص بخلاف الاعتكاف, لأن الصوم والاعتكاف هما عبادتان متجانستان أو كل منهما إمساك مخصوص بخلاف الاعتكاف مع الصلاة. وقال صاحب "الإفصاح": يستأنف الصوم دون الاعتكاف لأن الاعتكاف يصح بغير الصوم يصح بغير الاعتكاف فهما عبادتان مختلفتان, قال القفال: وهذا أقيس وهذا خلاف نص الشافعي في "الأم" حيث قال: استأنف الاعتكاف وعلى هذا النص لا يجوز له في الابتداء أن يفرق بينهما على ما ذكره صاحب [379 أ/ 4] "الإفصاح": يجوز له أن يفرق بينهما وجهان والصحيح أنه لا يلزم الجمع ها هنا وجهًا واحدًا لأن بين الاعتكاف والصوم مناسبة لأن كليهما كف وإمساك بخلاف الصلاة مع الاعتكاف, وهكذا لو نذر أن يعتكف شهرًا محرمًا فيه طريقان. فرع لو نذر أن يعتكف عشرة أيام هو فيها صائم لا خلاف أنه لا يصح اعتكافه دون ¬

_ (¬1) انظر الم (2/ 35).

الصوم لأنه التزم العبادة على صفة فلا يجوز إلا بتلك الصفة إلا أنه لا يعتبر أن يكون الصوم للاعتكاف حتى لو اعتكف في رمضان يجوز الوجهان, إذا قال: على أن أعتكف صائمًا ذكره بعض أصحابنا. فرع آخر إذا نذر أن يعتكف جميع عمره ينعقد فإن فك في بعض الأيام فالحكم في القضاء هو كالحكم فيمن نذر أن يصوم الدهر ثم أفطر, ولو مات وفي ذمته قضاء الاعتكاف لم يلزمه إخراج البدل كما في الصلاة سواء. مسألة: قَالَ (¬1) المُزَني: وَقَال فِي بَابِ مَا جمعتُ لَهُ مِن كِتَابِ الصيَامِ وَالسُنَنِ والآثارِ: لاَ يُبَاشر المعتَكِفُ. الفصل وهذا كما قال: كأن المزني جمع مشكلات كانت له في هذه المواضع فكان يقرأها على الشافعي ويستكشفه فحكي أن الشافعي قال في قراءته [379 ب/ 4] ذلك عليه هذه المسألة وظاهرة يقتضي أن كل مباشرة بشهوة تفسد الاعتكاف إلا ما يوجب الحد من الوطء يعني الجماع الذي لو كان حرامًا يوجب الحد. وجملته: أن المباشرة هي على ثلاثة أضرب: مباشرة لا تبطل الاعتكاف وتجوز وهي ما كان بغير شهوة مثل أن يقبل زوجته إكرامًا لها, أو ناولها شيئًا فوقعت يده على يدها ونحو ذلك وهذا لما روي أن عائشة رضي الله عنها كانت "ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم في اعتكافه" ولا شك أنه تصيب يدها رأسه. والثاني: مباشرة تبطله قولاً واحدًا وهي الوطء في الفرج عمدًا قال الله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ولأنه عبادة بدنية فيفسدها الوطء كالصوم. والثالث: مباشرة اختلف قول الشافعي فيها وهي اللمس بشهوة والوطء دون الفرج فيها قولان احدهما: وهو المشهور لا تبطله أنزل أو لم ينزل لأنه عبادة تختص بمكان فلم يفسد بالوطء دون الفرج كالحج, ولأنه لابد من مزية الوطء فلو أبطلنا بها لا يبقى للوطء مزية, والثاني: يبطله أنزل أو لم ينزل نص عليه في "الإملاء" وبه قال مالك لأنها [380 أ/ 4] مباشرة محرمة على المعتكف فتبطله كالوطء في الفرج وهذا هو اختيار كثير من أصحابنا, وقال بعض أصحابنا بخراسان في تحريمها: قولان أيضًا وهو غلط ظاهر, وقال بعض أصحابنا: القولان إذا لم ينزل فإن فقول واحد أنه يبطل, وقيل: قول واحد لا يبطل بغير الوطء وهو اختيار المزني. وقول الشافعي "لا يباشر", أي لا يجامع وهو المراد بالآية أيضًا, وهذا كله غير ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 35).

صحيح, واحتج المزني بالصوم والإحرام فإنهما لا يبطلان بدون الوطء والجواب عن هذا أن الصوم مشترك يبطل إذا أنزل وفي الإحرام لا تعرى المباشرة بالشهوة عن حكم وهو الفدية, فكذلك في الاعتكاف وجب أن لا يعرى عن حكم وليس ذلك إلا الفساد وأيضًا القبلة في الصوم غير محرمة بل هي مكروهة لمن تحرك شهوته, فلما لم تساو القبلة الوطئ فيه في التحريم لم تساوه في الإفساد وها هنا القبلة بالشهوة محرمة بكل حال كالوطئ فجاز أن تساويه في الإفساد ذكره أبو إسحاق. فرع آخر لو استمنى فيه قال أصحابنا إن قلنا: لا يبطل بالمباشرة دون الفرج فهذا أولى أن لا يبطله وإن قلنا: يبطل بها إذا أنزل ففي هذا وجهان. فرع آخر كل موضع أبطلنا الاعتكاف به لا يلزم الكفارة يل يجب القضاء فقط فإن مات قبل أن يقضي سقط ولا يجب [380 ب/ 4] الإطعام عنه وبه قال الكافة, وقال الحسن البصري والزهري: يلزم بالوطء فيه الكفارة مثل كفارة الوطء في رمضان وهذا غلط, لأنه عبادة لا يدخل المال في جزائها فلا تجب الكفارة بإفسادها. فرع آخر لو جامع فيه ناسيًا لا يبطل اعتكافه قولاً واحدًا, وإن كان في الحج قولان وكذلك لو كان جاهلاً بتحريمه, وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يبطله وهذا غلط, لأن هذه مباشرة لا تفسد الصوم فلا تفسد الاعتكاف كالمباشرة دون الفرج. فرع آخر لو كان اعتكافه واجبًا ولم يشترط التتابع لا يبطل ما مضي بالوطئ وله أن يتمم ما بقي ولو نذر أن يعتكف عشرة أيام متتابعة فشرع فيه ثم خرج وجامع انقطع اعتكافه فإذا عاد لا يلزمه تجديد النية لأن الوقت متعين للاعتكاف وقد نوى الاعتكاف عند الشروع فيه ذكره أصحابنا بخراسان. فرع آخر لو قال: لله على أن أعتكف شهرًا بصوم ثم مات قبل لأن يقضيه يطعم عنه مكان كل يوم مدًا, لأنه صوم واجب ولو أوجبه وهو مريض فمات قبل أن يصح من مرضه لم يجب أن يطعم عنه. فرع آخر لو قال: لله على اعتكاف رجب صائمًا فعليه قضاء شهر بصيام فلو قضى في رمضان لم يجز لأنه يلزمه الصوم [381 أ/ 4] بالنذر وصوم رمضان واجب شرعًا فلا يسقط به فوجب النذر فهل يسقط عنه فرض الاعتكاف أم يبقى فرضه أيضًا؟ اختلف أصحابنا فيه بناء على ما ذكرنا إذا نذر اعتكافًا بصوم هل يجوز إفراد أحدهما عن الآخر.

فرع آخر لو نذر اعتكافًا وقال: إن اخترت جامعت أي إن اتفق لي وطئ فعلت لا ينعقد هذا النذر لأنه يخالف مقتضاه ذكره أصحابنا. مسألة: قال (¬1): وَإِن جَعَلَ عَلَى نَفسِهِ اعتِكَافَ شَهرٍ وَلَم يَقُل مُتَتَابِعَاً أحببته مُتَتَابِعَاً. وهذا كما قال: إذا نذر أن يعتكف شهرًا متتابعًا يلزمه ذلك وأي شهر اعتكف فيه أجزأه لأنه نذره بشرط التتابع فيلزمه كما نذر فإنه زيادة عبادة وله أن يعتكف ما بين الهلالية سواء كان الشهر تمامًا أو ناقصًا, وله أن يعتكف شهرًا فالأيام ثلاثين يومًا, لأن اسم الشهر يقع عليهما وإن أفسد بعضها استأنف سواء اعتكف عددًا أو ما بين الهلالين ولو نذر شهرًا متفرقًا أجزأه متفرقًا, فإن اعتكف متتابعًا قال القاضي الطبري: أجزأه عندي لأن التتابع أفضل من التفريق فكان له أن يأتي متتابعًا, وسمعت بعض أصحابنا بخراسان قال: لا يجوز متتابعًا ويلزمه كما نذر ورأيته عن والدي رحمه الله وفرع عليه فقال: إذا نذر اعتكاف عشرة أيام متفرقة الأيام [381 ب/ 4] فاعتكف عشرة أيام متتابعة أصح منها خمسة الأول, والثالث, والخامس, والسابع, والتاسع, لأن التفريق يحصل بيوم واحد وفي هذه الأيام المتحللة صح الاعتكاف فيها وإن لم يقع محسوبًا والأول عندي ولو نذر شهراً مطلقًا: قال الشافعي: أحببته متتابعًا, قال المنزني: لما جعل الشافعي التتابع مستحبًا دل على أن التفريق جائز, وهذا بين في كلام الشافعي فلا فائدة في بيان المنزني, ولا يختلف أهل العراق في هذا. وقال أصحابنا بخراسان: فيه قول آخر خرجه ابن سريج أنه يلزمه متتابعًا, وبه قال أبو حنيفة, ومالك وأحمد وفي الصوم عن أحمد روايتان, وقال ابن سريج, وقول الشافعي: أحببته أي أوجبته والفرق بين هذا وبين الصوم أن من ضرورة الصوم التفريق بتخلل الليالي بخلاف الاعتكاف, وهذا غلط لأنه عبادة تصح فلا تفريقها فلا يجب فيها التتابع بمطلق النذر كالصيام وفي الصوم قد يجب التتابع, وإن كان يتفرق بالليل وهو في الكفارات, وإذا قيد نذر الصيام بالتتابع فيستوي عند الإطلاف بينهما, ولأن ظاهر نص الشافعي لا يحتمله مع ما ذكر المزني والاستحباب لا يدل على الوجوب كما يستحب التتابع في قضاء رمضان ولا يجب وكل أمر يتوجه على الإنسان [382 أ/ 4] فالأولى المعالجة والمبادرة إليه, وإن سوغت الشريعة التأخير. فرع لو لم يذكر التتابع لفظًا ونوى بقلبه التتابع هل يلزمه التتابع وجهان: أحدهما: يلزمه؛ لأن النية إذا اقترنت باللفظ تحملت كما لو قال: أنت طالق ونوى ثلاثًا وهو الأصح عندي. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 37)

والثاني: لا يلزمه, وهو ظاهر ما نقله المنزني, لأنه قال: ولم يقل متتابعًا أحببته متتابعًا, وعلى هذا لو قال: لله على اعتكاف مطلقًا ونوى بقلبه عشرة أيام هل يلزمه العشرة؟ وجهان: ولو نذر شهرًا محدودًا بعينه فقال: شهر رمضان أو شهر شعبان فعليه أن يعتكف ذلك الشهر عن الهلالين تاما كان أو ناقصًا, فإن أفسد يومًا منه نظر, فإن لم يكن شرط متتابعًا بني على ما مضى وقضى يومًا ولا يجب الاستئناف وقال أحمد في رواية: يجب الاستئناف لأن المتابعة واجب كما شرط. وهذا غلط, لأن هذه المتابعة كانت من حيث الوقت كما في صوم رمضان فلا توجب الاستئناف إذا أفسد يومًا منها كما لو أفطر يومًا من رمضان ولو ترك أيامًا منه يجوز أن يقضي متفرقًا كما يجوز أن يقضي صوم رمضان متفرقًا. وحكي أبو يعقوب الأبيوردي, عن ابن سريج أنه قال: يقضيه متتابعًا والمستحب أن يصوم معه, ثم قال: ويحتمل أن [382 ب/ 4] يكون معناه فيمن نذر ذلك متتابعًا فيلزم التتابع في قضائه لمكان الشرط, وهكذا إذا قال: إذا اعتكف جزء من وقتي هذا فإن وافق أو شهر الهلال أجزأه ما بين الهلالين فإن أفسد بعضه بني أيضًا, وإن لم يوافق ما بين الهلالين اعتكف ثلاثين يومًا من وقته, فإن أفسد بني أيضًا, وإن شرط التتابع فقال: شهر رمضان متتابعًا فإن أفسد بعضه استأنف متابعة, ويلزم التتابع في القضاء وفيه وجه آخر ذكره أصحابنا بخراسان: أنه لا يلزمه التتابع في قضائه ها هنا أيضًا, لأن ذكر التتابع كان لتعيين الوقت وهذا ضعيف. فرع آخر إذا جامع في ليالي الاعتكاف المتتابع يبطل كما في الأيام بخلاف ما لو جامع في ليالي صوم شهرين متتابعين, والفرق أن الاعتكاف يدوم ليلاً ونهارًا فمتى صادف جماعة اعتكافه تقطع تتابعه, وأما الصيام فيختص بالأيام دون الليالي فإذا صادف ليلاً لم يصادف جماعة صيامه ولا تتابع صيامه وكيف تصادف التتابع وهو صفة الصوم والصوم بالليل معدوم, فلهذا لا يؤثر في تتابعه. فرع آخر لا فرق في هذا الجماع بين أن يوجد في المسجد أو في طريق المسجد عند خروجه لقضاء الحاجة لأنه حين خرج لحاجة الإتيان فهو في الاعتكاف حكمًا وخرجه عن المسجد [383 أ/ 4] لا يخرجه ...... (¬1) العبادة وسمعت وجهًا آخر في النظر أنه إذا جامع في طريقه ولم يثبت له لا يبطل اعتكافه وهو ضعيف. فرع آخر لو جعل لله على نفسه اعتكاف شهر سماه فإذا الشهر قد مضى فلا شيء عليه لأن ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل.

الاعتكاف في شهر مضى محال فلا ينعقد نذره، وهكذا لو قال: عليَّ أن اعتكف شهر رمضان سنة مت وكان في سنة سبع. فرع آخر لو قال: عليَّ أن اعتكف شهرًا بالنهار فله أن يعتكف بالنهار دون الليل نص عليه في" الأم" لأن الشهر ...... (¬1) فهو كما لو قال: لله عليَّ اعتكاف شهر إلا عشرة أيام، وهكذا لو قال: والله لا أكلم فلانًا شهرًا بالنهار وكذلك لو قال: لله عليَّ أن أعتكف أيام هذا الشهر. مسألة: قال (¬2): وَلَوْ نَوَي يَوْمَاً فَدخَل في نِصْفِ النَّهار اعتكف إلى مثْلهِ مِنَ الغَد. وهذا كما قال: قال أصحابنا تأويل المسألة أنه قال: في نصف النهار لله عليَّ أن أعتكف يومًا من هذا الوقت فيلزمه أن يعتكف بقية النهار والليل ومن الغد إلى مثل ذلك الوقت، وإنما دخل الليل فيه؛ لأن كل زمان لا ينفك من الليل إذا نذر الاعتكاف فيه دخل الليل دخل فيه على طريق التبع، فأما إذا نذر اعتكاف يوم مطلقًا فإن اليوم هو اسم لبياض النهار من حين طلوع الفجر الثاني إلى [383 ب/4] غروب الشمس فيلزمه أن يدخل في الاعتكاف قبل طلوع الفجر الثاني بلحظة إلى ما بعد غروب الشمس بلحظة فيكون قد استوفي اعتكاف يوم. وهل يجوز تفريق اليوم الواحد؟ فيه وجهان أحدهما: يجوز وهو ظاهر المذهب كما يجوز تفريق الأيام والشهور، والثاني: لا يجوز والفرق بينهما أن اسم أيام متفرقة كما يقع على أيام متتابعة ويؤكده أن في الصوم يجوز تفريق الأيام في قضاء رمضان ولا يتصور فيه تفريق اليوم الواحد، وهذا هو ظاهر قوله هاهنا، اعتكف إلى مثله من الغد ولم يفصل، ومن قال بالأول أجاب عن هذا بأنه أراد الشافعي مما ذكرنا أراد إذا نوى يومًا متتابعًا لا إذا أطلق وهذا الوجه الثاني: هو اختيار أبي إسحاق، فإذا قلنا: يجب التتابع أو قلنا: بالخيار فاختار التتابع فعليه أن يكون كل نهاره في المسجد وإنما يقدر على هذا بما ذكرنا أنه يدخل قبل طلوع الفجر الثاني إلى الغروب، وإن قلنا: يجوز له التفريق ففي أي يوم دخل يلزمه أن يعتكف الليلة التي بينهما المذهب، أنه لا يلزمه ذلك ويكفيه النصفان من يومين، وأراد الشافعي بما ذكر في" المختصرة" إذا نوى اعتكاف يوم وليلة أو إذا قادت من وقتي هذا ومن أصحابنا من قال: المذهب أنه يلزمه وفيه وجه آخر [384 أ/4] وهو غلط لأن الليل إنما يلزم عند وجوب التتابع فإنه لا ينفك عنها إذا دخل في نصف اليوم فأما إذا جوّزنا التفريق فلا حاجة إلى إلزام الاعتكاف في الليل بإطلاق لفظ اليوم وهذا اختيار القفال. مسألة: قال (¬3): وَإنْ قَال: يَوْمَيْنِ فَإِلَي غروبِ الشَّمْسِ مِنْ اليَوْمِ الثاني. ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل. (¬2) انظر الأم (2/ 37). (¬3) انظر الأم (2/ 38).

وهذا كما قال: قد ذكرنا إذا نذر اعتكاف يوم ماذا حكمه ولا فرق بين أن يعين اليوم أو لا يمن، وأما إذا نذر اعتكاف يومين فلا يخلو إما أن يطلق، ها أن يشترط التتابع فإن شرط التتابع يقال: لله عليَّ اعتكاف يومين متتابعين يلزمه أن يعتكف يومين وليلة بينهما لا يختلف أصحابنا فيه إلا أن يكون له نية النهار دون الليل فلا يلزمه الليلة، وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: يلزمه يومان وليلتان لأن لفظ الإمام على الأيام على طريق الجمع والتثنية يدخل فيه مثله من الليالي، وكذلك لفظ الليالي بدليل قوله تعالى:" قَالَ آَيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا " [آل عمران:41]، وقال في موضع آخر" ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا " [مريم:10]، وهذا غلط لأن اليوم هو اسم لبياض النهار والتثنية هي تكريرًا لواحد فإذا لم يدخل في الاسم ولا تخلله لم يدخل فيه، وأما ما ذكره قلنا: يجوز دخول [384 ب/4] فيه بالإرادة، فأما باللفظ فلا ومن أصحاب أبى حنيفة من قال: قاله أبو حنيفة استحبابًا والواجب يومان وليلة فعلى هذا ارتفع الخلاف لأن عندنا يستحب ذلك أيضًا. وإن نوى بلياليهما يلزم ليلتان عندنا أيضًا وإن أطلق وقال: يومين أو عشرة أيام فلا يختلف أصحابنا أن التتابع لا يجب ولكن اختلفوا في وجوب الاعتكاف في الليل فقال عامة أصحابنا: يدخل الليل فيه ويلزمه أن يأتي بيومين وليلة وهذا هو ظاهر المذهب لأن كل زمان لا ينفك من الليل فإذا نذر اعتكافه دخل الليل فيه تبعًا، ومن أصحابنا من قال: لا يدخل الليل فيه لأن اسم اليوم لا يقع إلا على بياض النهار فلا يدخل الليل فيه من غير شرط، وتأويل نص الشافعي أنه أراد به يومين متتابعين وعلى هذا لو قال: لله علي أن أعتكف ليلتين فإنه يلزمه أن يعتكف ليلتين ويومًا ويجوز متتابعًا ومتفرقًا على قول بعض أصحابنا وهو الصحيح، وفيه وجه آخر؛ أنه يلزمه أن يعتكف ليلتين من غير يوم. ومن أصحابنا من قال: إذا كان يومين في الليلة التي بينهما ثلاثة أوجه، وإذ قال ليلتين ففي اليوم الذي بينهما ثلاثة أوجه اثنان: مما ذكرنا، والثالث: أنه إن شرط [385 أ/4] التتابع يلزمه عنه لأنه قد لا ينفك منه اليومان أو الليلتان. فرع آخر دخل في الاعتكاف ثم نوى الخروج منه فيه وجهان أحدهما: يبطل لأنه قطع شرط صحته كما لو قطع نية الصلاة، والثاني: لا يبطل لأنه قربة تتعلق بمكان فلا يخرج منها بنية الخروج كالحج والأول أظهر. فرع لو قال: لله عليَّ أن أعتكف العشر الأواخر يلزمه ذلك مع الليالي لأن العشر اسم الأيام بلياليها بخلاف الأيام، ولو قال: لله عليَّ أن أعتكف آخر شهر في هذه السنة

اعتكف ذا الحجة من أوله إلى آخره تامًا كان أو ناقصًا، ولو قال: لله عليَّ أن أعتكف ثلاثة أيام قال القفال: يدخل فيها الليالي بخلاف ما إذا قال: يومين والفرق أن العرب تطلق الأيام وتريد مع الليالي وفي اليومين لا تريد إلا النهار وهذا أحسن ولكنه خلاف ظاهر المذهب. مسألة: قال (¬1): وإن قال: لِلّهِ عَليَّ أَنْ أعْتَكِفَ يَوْمَ يَقْدُمُ فيه فُلانٌ فَقَدِمَ في أولِ النَّهارِ اعتَكَفَ في مَا بَقِيَ. وهذا كما قال: إذا نذر أن يعتكف اليوم الذي تقدم فيه فلان لا يصح نذره في أحد القولين، لأن الصوم لا يصح في بعض النهار، فإذا قدم لا يمكنه أن يصوم فيه والاعتكاف يصح في بعضه ثم ينظر فإن قدم [385 ب/4] ليلًا لم يلزمه الاعتكاف لأن الشرط لم يوجد، وإن قدم نهارًا يلزمه أن يعتكف ما بقي قولًا واحدًا ويجزيه قليلًا كان أو كثيرًا ولا يلزمه قضاء ما مضي منه، وقال المزني: يلزمه قضاء ما مضى من نهاره فقال: يشبه ....... (¬2)، إذا قدم في أول النهار يقضي بمقدار ما مضى من ذلك اليوم من يوم آخر حتى يكون قد أكمل الاعتكاف يومًا ثم أوضح ذلك فقال: وقد يقدم في أول النهار بطلوع الشمس وقد مضي بعض يوم فلا بد من قضائه حتى يتم يومًا، قال المزني: ولو استأنف اعتكاف يوم حتى يكون اعتكافه موصولًا كان أحب إليَّ أي حتى لا ينقطع بدخول الليل، وقال أصحابنا هذا غلط، لأن اعتكاف باقي هذا النهار وإتمامه من يوم آخر أولى من استئناف اعتكاف يوم ليكون البعض في وقته هناك والأفضل أن يعتكف باقي اليوم الذي قدم فيه وقضى الباقي من الغد، وإن أراد غاية الفصل والتمام استأنف يومأ آخر على الكمال. ومن أصحابنا من قال: إذا قدم وبقي من النهار دون الصف فيه أربعة أوجه أحدها: لا يلزمه شيء وهذا على قول من قال: قعود ساعة لا يكون اعتكافًا، وأنه إذا نذر صوم يوم [386 أ/4] يَقدُم فيه فلان فَقَدِمَ وهو مفطر لا ينعقد نذره، والثاني: يلزمه اعتكاف بقية النهار وهذا على قول من يقول قعود ساعة يكون اعتكافًا، والثالث: عليه اعتكاف يوم كامل فيضيف إليه من الليل ما يتم قدر يوم فإن لم يفعل يقضي يومأ كاملًا، والرابع: يضيف إليه من الليل قدرًا يحتسب بذلك من الزمان اعتكافًا وهذا على قياس قولنا في الصوم يلزم ما هو صوم في الشرع، وهو يوم كامل. واحتج المزني بأنه لو قال: للَّه عليَّ أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه وقلنا: يصح نذره فقدم في بعضه يجب ..... (3) وهذا غلط، لأن هذا الزمان ... (4) فصار كما لو أوجب على نفسه اعتكاف زمان ماضٍ لا يلزمه ويفارق الصوم لأنه لا يمكنه أن يأتي بالصوم فيما بقي من النهار ولا يمكنه آن يقضيه متميزًا عما قبله فلزمه قضاء يوم كامل وفي الاعتكاف يمكنه أن يأتي فيما بقي من اليوم اعتكافًا صحيحًا فأجزأه ذلك، ولو قدم ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 38). (¬2) (3) (4) موضع النقط بياض بالأصل.

والناذر محبوس أو مريض جاز له ترك الاعتكاف ويلزمه أن يقضي ذلك القدر الذي فاته من ذلك اليوم نص عليه في كتبه. وقال بعض أصحابنا: إن كان الحبس بحق وهو مفرط في منع الحق يلزمه القضاء، وإن كان [386 ب/4] يظلم فيه قولان مخرجان ذكره الإمام القاضي الطبري، وقال القاضي أبو حامد في" جامعه"، وصاحب" الإفصاح": فيه وجهان أحدهما: لا يلزمه القضاء لأنه تعذر عليه الاعتكاف حين الوجوب وهذا خلاف نص الشافعي وهو غلط، لأن ما وجب على الصحيح من العبادة إذا تركه لمرض آو غيره من الأعذار يجب قضاؤه كصوم رمضان، وقال المزني: يقضي جميع اليوم، وقال القفال: ينبغي أن يذكر حكم الصوم لو نذره في هذا اليوم ثم يرتب عليه حكم الاعتكاف فاعلم أنه إذا قال: لله عليَّ أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان فقدم لا يمكنه الصوم في باقي نهاره لأن صوم نصف النهار لا يكون صومًا، وقد فاتت النية من الليل، ولكن هل يجب عليه قضاء صوم يوم آخر؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجب لأنه لم يحصل إمكان الأداء. والثاني: يجب ثم اختلف أصحابنا على أي معنى يجب منهم من قادت يجب لأن اليوم عبارة عن جميع النهار وقد لزم النذر من أول اليوم الذي قدم فيه فلان في إثنائه، ولكن لم يعلم ومنهم من قال: لم يلزمه إلا ما بعد قدوم فلان ولكنه لا يمكنه أداء صوم يوم فلزمه صوم يوم كامل ليقع [387 أ/4] هذا القدر فيه فإذا قلنا بالأول: هناك لا يلزمه القضاء أصلًا ففي الاعتكاف يلزمه باقي النهار أيضًا لأن اعتكاف نصف يوم صحيح بخلاف الصوم، ماذا قلنا بالثالث: إن في أوله لزمه كل الصوم ولكن لم يعلم فهاهنا يلزمه اعتكاف كل النهار فيعتكف باقي نهاره من يوم آخر ليتم يومأ فحصل قول آخر مخرج قال: وعلى هذا المعنى يخرج لو قال لعبده: أنت حر اليوم الذي يقدم فيه فلان فأصبح يومًا فباع العبد ثم قدم فلان في خلال اليوم، فإن جعلنا ذلك عبارة عن وقت اللزوم أعني ساعة القدوم لم يعتق العبد، وإن قلنا: إنه عبارة عن جملة اليوم فعما طلع الفجر عتق وبعد ذلك باطل، وكذلك لو علق الطلاق مثل هذا فأصبحت يومًا وماتت ثم قدم فلان فإنما ما؟؟؟ مطلقة أو زوجة على هذين الوجهين وعلى هذا إذا قال: يحصل العتق والطلاق في مسألة الصوم وأصبح صائمًا عن نذره وقدم فلان أجزأه صومه عن نذره وليس هذا التخرج عند أهل العراق. فرع قال في" الجامع الكبير": إذا جعل المعتكف على نفسه اعتكاف أيام نذر لله تعالى إن كلم فلانًا فكلمه فعليه أن يعتكف، قال أصحابنا: أراد إذا أخرجه يخرج نذر ..... (¬1) والسؤال من الله تعالى [387 ب/4] كأنه قال: إن رزقي الله تعالى ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض بالأصل.

كلام فلان فلله عليَّ أن أعتكف شهرًا فإذا رزقه الله تعالى ذلك يلزمه الوفاء قولًا واحدًا ويحتمل أن يكون هذا أحد القولين في نذر الحاج. فرع آخر قال فيه أيضًا: لو قال: .... (¬1) قال المزني: لم يجعل ..... (¬2) في كتاب الكفارات في مثل هذا إلا كفارة اليمين قال أصحابنا: هذا علق اليمين وذلك أحد القولين فيه، وقال بعض أصحابنا: هذا على ثلاثة أضرب: فإن علق به طلاقًا أو عتقًا من قياعه قولًا واحدًا، وإن علق به عبادة كالاعتكاف والصوم والصلاة فهو بالخيار بين الوفاء به وبين كفارة اليمين، وإن علق به الحج فيه قولان أحدهما: يلزمه الوفاء به، والثاني: بالخيار. مسألة: قال (¬3): وَلَا بَاسَ الْمُعْتِكف وَالْمُعْتَكِفَة. الفصل وهذا كما قال: قصد به أن الاعتكاف لا يحرم اللبس والطب وعقد النكاح بخلاف الإحرام بالحج، وقال عطاء وطاوس: المعتكف ممنوع من الطب تشبهًا بالمحرم وهذا غلط، لأن النبي (صلي الله عليه وسلم) " رجَّل شعر رأسه في الاعتكاف" ولا يجوز اعتباره بالإحرام لأنه شرع فيه الكشف والتجريد بخلاف هذا، وقال أحمد: يستحب أن لا يلبس الرفع من الثياب [388 أ/4] ولا يطيب نفسه كما في الإحرام يعتبر تغيير الزينة وهذا غلط، لقوله تعالى: {يَا بَنِي آَدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31]، ويقيس على الصوم فإنه لا يكره فيه ذلك ثم قال: وإن هلك زوجها خرجت فاعتدت ثم بنت وقد ذكرنا ذلك. مسألة: قال (¬4): ولا بأس بِأَنْ تُوْضَع المَائِدَةُ في المَسْجِدِ وَغَسْلُ اليَدينِ في الطَّستِ. وهذا كما قال: الأكل جائز في المسجد وأكله على المائدة أولى لحماية المسجد من أن يتلوث بما يأكله أو يشربه فتجتمع عليه الهوام، وكذلك يغسل يديه في الطست حتى لا يتلوث المسجد بما يغسل به يديه وبما ينزل منها فإن غسل في غير طست ..... (¬5) لا بأس كالوضوء في طست ويكره في غير طست .... (¬6) الطهارة .... (¬7) كغسل اليدين. مسألة: قال (¬8): وَالمَرْأَةُ وَالعَبْدُ والمًسافِرُ يَعْتَكِفُونَ حَيْثُ شَاؤوا. وهذا كما قال: أراد حيث شاؤوا من المساجد وهذا لأنه لا جمعة عليهم بخلاف الرجل فإن الجامع له أفضل وللزواج وسيد العبد والمدبر وأم الولد منعهم فإن أذن لهم ثم أراد ..... (¬9) له قال أصحابنا: هذا إذا كان الاعتكاف مطلقًا لم يشترط فيه التتابع فإن اشترطوا التتابع ودخلوا بإذن الولي أو الزوج لم يكن له منعهم فيه قبل ¬

_ (¬1) موضع النقط بياض الأصل. (¬2) موضع النقط بياض الأصل. (¬3) انظر الأم (2/ 38). (¬4) انظر الأم (2/ 39). (¬5) موضع النقاط بياض الأصل. (¬6) موضع النقاط بياض الأصل. (¬7) موضع النقاط بياض الأصل. (¬8) انظر الأم (2/ 39). (¬9) موضع النقاط بياض الأصل.

الإتمام لأن ذلك يفسد ويوجب [388 ب/4] الاستئناف. وقال أبو حنيفة: له منع العبد دون الزوجة، وقال مالك: ليس له منعهما وهذا غلط، لأنه بالإذن كالمعير وللمعير الرجوع وليس للسيد أن يمنع المكاتب من الاعتكاف لأنه قد ملك نفسه وكسبه، ومنعه في الكتابة الفاسدة. ومن أصحابنا بخراسان من قال: فيه وجه آخر له أن يمنع المكاتب لأن عليه أن يكتسب ويحصل ...... (¬1)، السيد فليس له أن يقعد في المسجد ويبطل حقه وهذا ليس بشيء لأن السيد لا يجبره على الاكتساب ..... (2)، وقيل: هذا مذهب أبي حنيفة أن له منعه، وأما العبد المعتق ... (3) قال في الجامع الكبير: له أن يعتكف يومًا حتى يتم اعتكافه. قال أصحابنا: تأويل المسألة أنه كان بينهما مهايأة فأما إذا لم يكن بينهما مهايأة فإن للسيد منعه منه لأن كل جزء من تصرفه بينه وبين سيده، ولو أذن المسجد لعبده بنذر الاعتكاف ولم يأذن له في دخول المسجد فدخل .... (4)، هل لسيده منعه فيه وجهان والصحيح ليس له منعه والفرق آن هذا النذر .... (5)، سواء في الفضل أو ليس له وقت .... (6)، في الشرع ... (7)؛ وقت مخصوص [389 أ/4] وأما الصلاة فإنها في أول وقتها أفضل منها في آخر وقتها فإن قيل هذا منعه من الفضل كما يمنعه من النوافل، وقيل: ليس له منعه من النوافل التي من رسول الله (صلي الله عليه وسلم) في ... المكتوبات وبينها هما يمنعه .. ذكره أصحابنا ... فيه وجه آخر والفرق أن الصلاة وجبت في أول الوقت ولو لم يفعل في أوله احتاج إلى الفعل في آخره فلا يمنعه منه بخلاف ........ باعتكافه عشرة أيام ..... بزمان يعينه وأذن له بالدخول ... فيه وجهان أحدهما: لا لأنه وجب بإذنه ....... لأنه لا يجوز له ........ وإن لم يكن متتابعًا جاز إخراجه لأنه يجوز له الخروج ...... إخراجه والله أعلم. وهذا آخر الجزء وهو الجزء الرابع من كتاب بحر المذهب [حسب الأصل]. ¬

_ (¬1) (2) (3) (4) (5) (6) (7) موضع الأصل بياض الأصل.

باب إثبات فرض الحج على من استطاع إيه سبيلا

[2/أ] كتاب الحج بابُ إثبات فرض الحج على من استطاعَ إيه سبيلًا اعلم أن معنى الحج في اللغةِ: القصد، ومنه يسمّى هذا الحج الشرعي حجًا، لأن فيه قصْدًا إلى بيت الله الحرام ومَشاعره، وقالَ الخليل بن أحمد: الحج كثرة القصد إلى من تعظم، والحج: المسير إلى بيت الله خاصّة، يقال: حَجة وحِجة، والحِج والحِج بالكسر والفتح، والفتح أحسن والحاج: اسم الفاعل، والحجاج من كثر الحج منه، والحجاج والحجيج: جمع الحاج، والمحجة: قَارعة الطريق، وسميت بذلك لكثرة التردد فيها، وقيل: من قصد البيت مرةً واحدةً، قيل: حجّ إليه لأنّ البيت يكثر قصده من كل أحد، فإذا قصده مرةً، قيل: حجّ البيت، فأما غير البيت، فإنما يقال ذلك إذا كثر إتيانه، ومنه قول الشاعر (¬1): وأشهد من عوفٍ حُلولًا كثيرة ... يحجون سب الزبرقان المزعفرا وكان الزبرقان سيّد قومهِ، والسبب: العمامة، والمزعفر: منَ الزعفران، فكأنه عبّر بعمامته عَنه لأنها معظمة. فإذا تقررّ هذا، فالأصل في وجوب الحج الكتاب والسنّة والإجماع. أمّا الكتاب: فقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: (196)]، وروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنّهما قالا: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك، وأيضًا قوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَاتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: (27)]، يعني: مشاةً ورُكبانًا، وقيل: إن إبراهيم عليه السلام لما أمر بالحج صعد المقام، فنادى: عبادَ الله أجيبوا داعي اللهِ [2/ب] فأجابوه حتى أجابه من في أصلاب الرّجال وأرحام النساء، فكلّ من حجّ ولّبي فهو الذي أجاب دعوة إبراهيم عليه السلام، وهذا مبني على أن شريعة مَن قبلنا تلزمنا. وقيل: شريعة إبراهيم عليه السلام خاصّة تلزمنا لقوله تعالى: {وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النساء:125]، وأيضًا قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران:97]، وعلى كلمة إيجاب. وتكلم الشافعي على قوله:" وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ" [آل عمران:97]، فروي عن مجاهدٍ (¬2) أنه قال: أرادَ به من أدّى الحج، ولم يره براٌ وتركه: ولم يره مأثمًا يكفر بذلك، لأنه ¬

_ (¬1) لبيت من الطويل، وهو للمخبل السعدي في ديوانه (294)، لسان العرب (1/ 457) سبب، (2/ 226) حجج، (10/ 138 زبرق)، التنبيه والإيضاح (1/ 92،196)، مجمل اللغة (2/ 32)، المخصص (2/ 46 - 12/ 302)، تهذيب اللغة (3/ 388 - 2/ 313)، جمهرة اللغة (ص 86). (¬2) أخرجه البيهقي في" الكبرى" (86087).

ترك اعتقاد وجُوبه، وأجمع الملمون على وجُوبه فوجب الكفر. وقال عكرمةُ: لما نزل قوله تعالى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:97]، قالت اليهود نحن المسلمون، فأوحى الله تعالى إلى نبيّه حجهم، يعني: مرهم بالحج فأمرهم بالحج، فقالوا: لم يكتب علينا، فنزل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} إلي قوله: {وَمَنْ كَفَرَ} [آل عمران:97] يعني من أهل الكتاب (¬1)، وقال ابن عباس: أراد ومن كفر باعتقاد أنه غير واجب. وأما السنّة، فخبر ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي (صلي الله عليه وسلم) قال:" بني الإسلام على خمسٍ"، الخبرُ وروي أن ضمام بن ثعلبة وردَ على رسول الله (صلي الله عليه وسلم) وافدًا لقومهِ، فلما دخل المسجد، قال: أيّكم ابن عبد المطلب؟ قالوا: ذاك الأبيض المرتفق، وكان رسول الله (صلي الله عليه وسلم) متكئًا، فأتاه حتى وقف عليه، فقال: أنتَ ابن عبد المطلب؟ فقال: وَجدته، فقال: إني سائلك ومغلظ عليكَ في السؤال، فلا [3/أ] تجد عليّ، فقال: أنشدك الله، الله أرسلك إلينا رسولًا؟ قال:" اللهم نعم"، قال: أنشدك الله، الله أمركَ أن تأمرنا أن نصلي خمس صلوات في اليوم والليلة؟ قال:" اللهم نعم"، قالَ: أنشدك الله، الله أمركَ أن تآمرنا أن نؤدي زكاة أموالنا؟ قال:" اللهم نعم"، قال: أنشدك الله، الله أمرك أن تأمرنا أن نحج البيت إذا استطعنا إليه سبيلًا؟ قال:" اللهم نعم"، قال: أنشدك الله، الله أمرك أن تآمرنا أن نصوم شهر رمضان؟ قال:" اللهم نعم"، ثم أسلم وحّسن إسلامه. وروى ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما، قال: كنا ذا ت يوم عند رسول الله (صلي الله عليه وسلم) إذ أقبل رجل لم ير أشد بياضًا من ثيابهِ ولا أشد سودًا من شعره لا نعرفه حتى دنا من رسول الله، فوضع ركبتيه على ركبتيه ويديه على فخذيه، ثم قال: يا محمد ما الإسلام؟ قال: "أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وأن تقيم الصلاة وتؤدي الزكاة وتصومَ رمضان وتحج البيت إن استطعت" قال: فإذا فعلت هذا فأنا مسلم، قال:" نعم"، قال: صدقت. وكان الرجل جبريل عليه السلام، وروى أبو أمامة الباهلي أن النبي (صلي الله عليه وسلم) قال:" من لم يمنعه من الحج مرض حابس أو سلطان جائر، أو حاجة ظاهرة، فلم يحج حتى مات فليمت يهوديًا أو نصرانيًا" (¬2)؛ وأخذ بعض أهل العلم بهذا الظاهر، وقال: يكفر بتأخير الحج، وهذا غلط، وتأويله: إذا لم ير الحج واجباً. وأما الإجماع فلا خلاف فيه بين الأمّة. وأعلم أن الحج من الشراع المقدمة، وأول من حجّ البيت آدم صلوات الله عليه، وقيل: ما من نبي إلا وقد [3/ب] حجّ هذا البيت، وقال محمد بن إسحاق: ما من نبي هلك قومه إلا انتقل بعد هلاكهم إلى مكة وعبد الله تعالى عند البيت إلى أن أتاه أجله. وروي أن النبي. قال:" مر موسى عليه الملام بالرّوحاء في سبعين نبيًا عليهم العبَاء يؤمون البيت وصَفَائح الروحاء تجاوبهم". وروي:" مر موس عليه السلام بالروحاء على ناقةٍ زمَامها من ليفٍ"؛ وكانَ رسول الله (صلي الله عليه وسلم) يحج قبل الهجرة كل ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في" الكبرى" (8607). (¬2) أخرجه ابن الجوزي في" الموضوعات" (2/ 209).

سنةٍ، واختلف أصحابنا هل كان واجبًا قبلَ الهجرة؟ منهم من قال: نزل فرضه قبل الهجرة، ومنهم من قال: لا بل بعدَ الهجرة سنة خمسٍ من الهجرة. مَسْألَةٌ: قال الشافعي (¬1): فرض الله تعالى: الحج على كل حرّ بالغ. الفَصلُ الكلام الآن في بيان شرائط وجُوب الحج، والحج لا يجب إلا بوجود سبع شرائط. والمزني أخلّ بالنقل حيث اقتصرَ على ذكر ثلاث شرائط، والشافعي زاد على هذا فذكَرَ البلوغ، والعقل، والإسلام، والحريّة، ووجودُ الزادِ، والراحلةِ، وتخليه الطريق، وإمكان السير على العرف، والعادة، فإن عدم شرط من هذه الشرائط لا يجبُ الحج، فالصبي لا يلزمه الحج لقوله (صلي الله عليه وسلم):" رفع القلم عن ثلاثة .... " الخبر. وروي أنه قال:" أيّما صبيّ حج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام" (¬2)، فثبت أن الوجوب يتعلق بالبلوغ، لأنه عبادة على البدن فلا يلزم الصبيّ، كالصّوم، والصّلاة، وكذلك المجنون لا حجّ عليه لما ذكرنا. وأمّا العبد، فلا يلزم لما روى ابن عباسٍ رضي الله عنهما أن النبي (صلي الله عليه وسلم)، قال:" أيّما عبدٍ حجّ ثم أعتق فعليهِ [4/أ] حجة الإسلام" (¬3)، ولأن الحج إنما يجب بوجود الزاد والراحلة، ولا مال للعبي، ولهذا لا يلزمه الجهاد أيضًا. وأما الكافر هل يخاطب بالحج؟ وجهان، ولا خلاف أنه لا بصحّ منه لقوله (صلي الله عليه وسلم) "أيّما أعرابي حجّ ثم هاجرَ فعليه حجة الإسلام"، ولأن الحج عبادة والكفر ينافيها. وأمّا الزاد والراحلة فشرط في وجوبه لِما روي أن النبي (صلي الله عليه وسلم) سُئل عن الاستطاعةِ، وروي أنه سئل عن السبيل، فقال:" الزاد والراحلة" (¬4)؛ ولا تجب إذا لم يكن الطريق مأمونًا لأنه لو دخل في الحج ثم منع منه كان له الخروج، فلأن لا يلزمه الدخول فيه عند اقتران المنع أولى، وفيه ورد قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة:196]، ولا يجب إذا ضاق الوقت، ولا يمكنه المسير إليه في تلك السّنة، فإن بقي إلى السّنة الأخرى، وبقيت الشرائط التي ذكرناها وَجَبَ الحج واستقرّ هذا لأن العبادة لا تجب معَ عدم الإمكان. ثم أعلم أن هذه الشرائط على ثلاثة أضرب: ضربٌ يمنع الوجوب والصحّة، وهو الإسلام والعقل، وضربٌ هو شرط في الوجُوب دون الأجزاء، وهو الاستطاعة وتخليه الطريق، وإمكان المسير، فإنه لو استقرَضَ الزادَ والراحلة ودفع العدو بالقتال أو المال، وسار أسرع من المسير المعتاد حتى حج أجزأه، ووقع واجبًا، ومنها ما هو شرط في الوجوب والأجزاء عن الفرض، وهو البلوغ والحرية. وقيل: أريع منها شرط في وجوبه، وجوازه عن الفرض، وهي البلوغ والعقل والإسلام والحرية [4/ب] وشرطان منها لا يمنع فقدهما الجواز كما يمنع الوجوب على ما ذكرنا، والباقيان منها لا يمنع فقدهما الجواز والثلاث الأخر شرط في الوجوب دون الجواز. وقال أحمد: شرائط ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 93). (¬2) أخرجه البيهقي في" الكبرى" (8631). (¬3) أخرجه ابن خزيمة (3050)، والحاكم (1/ 481)، والخطيب في" تاريخه" (8/ 209). (¬4) أخرجه الترمذي (813)، وابن ماجه (2896)، والدراقطني (2/ 216)، والحاكم (1/ 442)، والبيهقي في" الكبرى" (8639).

الوجوب خمس، فأما تخليه الطريق، وإمكان المسير فهما من شرائط الأداء دون الوجوب حتى لو مات حجّ عنه من ماله، ولو وجدت الشرائط الخمس، وكان الطريق مخوفًا، والوقت ضيقًا ثبت الحج في ذمته لأن إمكان الأداء لا يكون شرطًا في وجوب العبادة كما في الصلاة والزكاة، وهذا غلط لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} [آل عمران:97]، وهذا غير مستطيع، ولأنه معنى يتعذر مع عدمه فعل الحج، فكان شرطًا في وجُوبهِ كالزاد، والراحلة. وأما الصلاة والصوم والزكاة لا نسلم لأن إمكان الأداء شرط في وجوبها، وإن سلّمنا في الزكاة في أحد القولين، فلأنها حقّ في المال، ووجوبها أوسع لأنها تجب على الصبيّ والمجنون. مَسْألَةٌ: قال (¬1): ومن حجّ مرةً واحدةً في دهره، فليس عليهِ غيرها. لا يجب الحج بابتداء الشرع إلاّ مرة واحدةً، وإذا حجّ حجة الإسلام فقد سقط عنه فرض الحج سواء بقي على الإسلام، أو ارتد ثم أسلم. وقال أبو حنيفة: من ارتد بعدما حج ثم عاد إلى الإسلام يلزمه الحج مرةً أخرى، وهذا على أصلهِ أن مجرد الردة يحبط ما مضى من الأعمال، فإذا عاد إلى الإسلام كان كيوم وَلدته أمه مستأنف الأمر، وعندنا لا تحبط الأعمال إلا باقتران الموت بالردة، واحتج بقولهِ تعالى: [3/ب] {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة:5]، وهذا غلط لقوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} [البقرة: 217]، وأما الآية التي احتجوا بها، أراد بها إذا مات عليها، بدليل هذه الآية، والأصل فيما ذكرنا ما روي أن الأقرع بن حابس، قال: يا رسول الله أحجتنا بها لعامنا هذا أم للأبد؟ فقال:" بل للأبد ولو قلت: لعامنا هذا لوجب، ولو وجب لم تطيقوه" (¬2)، وفي رواية ابن عباس أن الأقرع قال: يا رسول الله الحج في كل سنةٍ مرةٍ واحدة؟ فقال:" بل مرةً واحدةً، فمن زاد فتطوعٌ"، وإنما سأل لأن ظاهر قوله تعالي: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران:97]، يوهم التكرار لما ذكرنا أن الحج في اللغة: اسم يقصد فيه تكرار. فَرْعٌ لو أحرم ثم ارتد ثم عاد إلى الإسلام هل يبني على إحرامه أم يستأنف؟ وجهان: أحدهما: يبطل إحرامه كما يبطل بها الصوم والصلاة. والثاني: لا يبطل لأنه لا يبطل بالجنون، والموت، فكذلك بالردة، فإذا أسلم بنى عليه، والصحيح عندي الأول. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 94). (¬2) أخرجه أبو داود (1721)، وأحمد (1/ 255، 290، 302،371)، والدارمي (2/ 29)، والحاكم (1/ 441،470)

فَرْعٌ آخرُ إذا قلنا: يبطل، هل يلزمه المضيّ على حكم البطلان؟ وجهان: أحدهما: يلزمه كما في الوطء. والثاني: لا يلزمه بخلاف الوطء لأن الواطء إذا قارن ابتداءه لا يمنع انعقاده، فإذا طرأ لا يقطعه بخلاف الردة، فعلى هذا لو عادّ إلى الإسلام ووقت الحج باقٍ له أن يستأنف الإحرام. مَسْألَةُ: قال (¬1): والاستطاعة وجهان. الفَصْلُ لا خلاف بينَ العلماء أن الاستطاعةَ معتبرة في وجوب الحج، ولكن اختلفوا في كيفيتها [4/أ]، فمذهب الشافعي إلى أن الاستطاعة قسمان: أحدهما: أن يكون مستطيعًا ببدنهٍ بحيث يلزمه الحج بنفسه، وهو أن يكون قويًا يمكنه أن يثبت على المركبِ من غير مشقة فادحة، ويكون واجدًا للزاد والراحلة، فإن عدم أحدهما لا يجب عليه أن يحج ينفسه. وقال في" الأم" (¬2): وقد صار للنّاس محامل لم يكن، فإن أمكنه في غير محمل ولا يضرّ به ولا يشق عليه لزمه الحج، وإن كان ضعيفًا لا يمكنه الثبوت على القتب أو الزاملة، وثبت علي المحمل أو امرأة، فلا يلزمه إلا أن يجد محملًا. قال أصحابنا: وإن كان يلحقه مشقة غليظة في ركوب المحمل اعتبر في حقه وجود الكسبة لأن اعتبار الراحلة لما يلحقه من المشقة في الطريق، فإذا كان يلحقه المشقة في الراحلة اعتبر وجود ما يزول به المشقة. وأما الزاد فإن كان له أهل يلزمه أن ينفق عليهم، فلا يختلف المذهب أن زاده أن يجد نفقة نفسه في الطريق في ذهابه، ورجُوعهِ إلى بلده، ونفقة من تلزمه نفقته في مدة غيبته، وإنما قلنا كذلك لأن نفقتهم اّكد من الحج، فإن نفقتهم في كسبهِ، ولا يجب الحج في كسبه ونفقتهم مضيقة في الحال بخلاف الحج، ونفقتهم متعلقة بحقوق الآدميين، وهم أحوج إليها، وقد قال (صلي الله عليه وسلم):"كفي بالمرء إثمًا أن يضيعَ من يقوت" (¬3)، وإن لم يكن له أهل، فلا يختلف المذهب أنه يعتبر ما يكفيه لذ هابهِ، وهل تعتبر نفقة رجوعه إلى بلده؟. اختلف أصحابنا فيه، منهم من قال: لا تجب حتى يجد ما يكفيه لرجوعه أيضًا، وهو ظاهرُ المذهب نص عليه في" الإملاء"، لأنه لا يكلفّ [6/أ] الانقطاع عن وطنه، فإن فيه بعد، ولهذا يغرب الزاني. ومن أصحابنا من قالَ: يلزمه الحج لأنه واجد للسبيل، ولا ضرر عليه في الانقطاع عن وطنه لأن الرازق واحد في جميع البلاد. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن كان في بلده أحد من أقاربه يعتبر نفقة الرجُوع، وإن لم يكن فوجهان. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 96). (¬2) انظر الأم (2/ 97). (¬3) أخرجه أبو داود (1692)، والحاكم (1/ 415).

فَرْعٌ لا فرقّ بين أن يكون واجدًا لهذه النفقة ناضًا أو محلفه، أو غير ذلك أو يكون مال في يده أو دين حال على ملي يقدر على قبضهِ منه لأن الدين الحال على ملي يميز له العين في يده، لأن كان له دين مؤجل على رجل أو حال على غير ملي فوجوده وعدمه سواء وعلى هذا نتصور الحيلة في إسقاط فرض الحج مع اليسار بأن يبيع ماله قبل وقت الحج مؤجلًا إلى وقتٍ إذا أخذه لا يمكنه المسير إلى الحج. ولو كانت للرجل دار وهو يحتاج إلى تلك الدار للسكنى لا يلزمهُ بيعهُا لأنه يحتاج إليها للسكنى فهي كثياب بدنهِ. وكذلك إن كان له خادم وهو ممن يخدمه لم يلزمه بيعه، وحكي الشيخ الكشي أيضًأ عن الشافعي أنه قال: لا يباع فيه المسكن، ولا الخادم بخلاف المفلس، قال: وهكذا لأجل زكاة الفطر، وقال أبو حامدٍ: هكذا ذكره أصحابنا قياسًا على من لزمته كفارة لا يلزمه بيع المسكن والخادم الذي يحتاج إلى خدمته لمروةٍ، أو زمانة، ولا نص فيه والمذهب أنه يلزمه بيعُ الدار والخادم، وأداء الحج بثمنه، ويكتري مسكنًا وخادمًا لأهله لأن النبي (صلي الله عيله وسلم) اعتبر الزاد، والراحلة، وهذا واجد وكما قلنا في صدقة الفطر أنه إذا فضلت عن كفاية [6/ب] يومه، وجبت عليه ولأنا لو اعتبرنا الفاضل عن المسكن والخادم لاعتبرنا الفاضل عن كفايته على الدوام، وذلك لا يعتبر كذلك ههنا، وليس كالكفارة لأن لها بدلًا تنتقل إليه فخفّف أمرها بخلاف هذا، ولأنه يلزم بيعها في حق الغرماء كذلك للحج، وزكاة الفطر، والأصحّ الأوّل لأن هذا من حق الله تعالى فلا يضيقُ عليه كل التضييق، بخلاف حق الغرماء، ولهذا يعتبر ههنا نفقة الذهاب والرجوع له، ولعياله، ولا يعتبر ذلك في حق الغرماء عند بيع مَال المفلس لهم. ومن أصحابنا من سلم الفطرة أنه يلزمه أداؤها من المسكن والخادم، واعتذر بأنها تجب على الفقير وتتحملها الغير عنه بخلاف هذا، والأصحّ عندي ما تقدم. وأما الكفاية على الدوام من أصحابنا من يعتبرها، وهو القياس، فلا سلم. فَرْعٌ آخْرُ لو كانت دار كبيرة، يمكنه أن يبيع بعضها ويسكن في باقيها يلزمه بيعها وصرف ثمنها إلى الحج. قال أصحابنا: ولا يجب عليه بيع كتبه إذا كان فقيهًا يحتاج إليها، فإن كانت له كتب لا يحتاج إليها، أو كانت له نسختان من كتاب واحدٍ يلزمه بيعها وبيع إحدى النسختين، وكذلك إذا كان له خادم كثير الثمن يكفيه خادم بدون ذلك الثمن يلزمه بيعه. فَرْعٌ آخرُ لو لم يكن له مسكن ومعه نقد يكفيه لحجّه، هل يجوز له أن يشتري بهِ مسكنًا؟ فإن قلنا: يبيع المسكن له لا يشتري، وإن قلنا: لا يبيعه، فالقياس أنه يجوز له أن يشتري يه المسكن الذي يحتاج إليه [7/أ]. وحُكي عن أبي يوسف أنه قال: لا يبيعُ مسكنه ولا يشتري المسكن أيضًأ، بل يصرف النقد إلى الحج، وهذا غلط لأنه إذا لم يلزمه بيعه للحاجة له شراؤه عند الحاجة كثياب بدنه.

فَرْعٌ آخرُ إذا كانت له بضاعة يكفيه ربحها أو ضيعة يكفيه غلتها، ولو باعها وصرف ثمنها إلى الحج لم يبق له ما يتجر به، ولا ما يستغل منه، وليس له معيشة ولا ضيعة عن التجارة أو الزراعة. اختلف أصحابنا فيه، منهم من قال: لا يلزمه صرفها إليه، وبه قال أحمد، وهو اختيار ابن سريج، والقاضي الطبري وجماعة، لأن فيه إلحاق ضرر عظيم به، فإنه يؤدي إلى الفقر، ومسألة الناس وذهاب الحشمة، وهذا ظاهر لا شكّ فيه، ولأنه لم يجب بيع المسكن والخادم وكتب العلم للحَاجة إليها على ما قررنا فلا يجب بيع البضاعة، والضيعة أيضًا. ومن أصحابنا من قال: يلزمه صرفها إليه. وبه قال أبو حنيفة وقال في" الحاوي" (¬1): وهذا مذهب الشافعي، وجمهور أصحابه لأن الشرط في وجُوبه الزاد والراحلة ونفقة أهله في ذهابه ورجوعه، ولا اعتبار بما بعده. قال هذا القائل: ويفارق هذا المسكن والخادم، لأن السكنى والخادم يجبان على الغير ولا يجب على الإنسان أن يعطى غيره بضاعة يتجر فيها. وقال أبو حامد: هذا هو المذهب، ولا أعرف ما حكي عن ابن سريح عنه، ولا أجده في كتبه، وهو خلاف الإجماع أيضًا، قال: والحج كزكاة الفطر تلزمه الفطرة في الفاضل عن قوتِ يومه وليلته، كذلك الحج يلزمه في الفاضل عن قوته، وقوت عياله. قال: والدليل على صحة هذا أن الرجل لو كان [7/ب] ممن لا يمكنه التجارة إلا بألف دينار، لا يقال: يترك له ذلك، ولا يخاطب بالحج لأن هذا ظاهر الفساد ومن نظر قول ابن سريج، وهو الصحيح عندي، أجاب علي هذا الفرق بأنه كما لا يلزم الغير أن يدفع البضاعةِ إلى الغير لا يلزمه أن يسكنه ملكًا بل يلزمه أن يحصل له منافع السكنى، وكذلك يلزمه أن يكفيه منفعة البضاعة، فلا فرق. فَرْعٌ آخرُ قال أبو حَامد: حكي عن الشافعي أنه قال: يترك للمفلس بضاعة يتّجر فيها ثم يقسم باقي ماله على غرمائه، وأراد به استحبابًا إذا رضي الغرماء بهِ، فأما إذا لم يرضوا لا يترك له إلا قوت أهله وقوته ما يكفيهم يومهم وليلتهم. فَرْعٌ آخرُ لو كان عليه دين لا يفضل عنه ما يكفيه لحجه لم يجب عليه الحج حالًا كان أو مؤجلًا، نصّ عليه في" الإملاء"، وإنما كان كذلك لأن الحال مقدم لأنه على الفور ويتعلق به حق الآدمي ويلحقه ضرر ببقائه في ذمته، وكذلك المؤجل لأن عليه في بقائه إضرارًا عظيمًا، ولهذا لا يلزمه الحج حتّي يفضل عن نفقةِ أهله إلى حين عودهِ، وإن لم تكن واجبة في الحال. وقال بعض أصحابنا: إن كان الدين المؤجل يحلّ عليه قبل عرفة لا يلزمه الحج، وإن كان يحلّ عليه بعد عرفة هل يلزمه الحج؟ وجهان: أحدهما: لا يلزمه. ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (4/ 13).

والثاني: يلزمه لأن الدين المؤجل غير مستحق عليهِ قبل حلوله، والظاهر السّلامة والحج وجب في الحال، والدين متأخّر. فَرْعٌ آخرُ لا يلزمه أن يستقرض ولا أن يسأل الناس لأنه غيرُ واجدٍ للزاد والراحلة، ولو بذل له غيره أن يحمله مع نفس ليحج وينفق عليه [8/أ] لم يلزمه قبول ذلك، لأن عليه منة في ذلك فإن فعل وحج في مؤنة غيره أجزأه. قال الشافعي: حجّ رسول الله (صلي الله عليه وسلم) بقوم حملهم، فأجزأ ذلك عنهم، ولو قدر أن يؤاجر نفسه لمن يحج به لم يلزمه ذلك، لأن طريقه الاكتساب، ولا يجبر الإنسان على الاكتساب ليحصل الحج، فإن فعل ذلك أجزأه لأنه باشر الأعمال كُلها بنفسه. وروي أن رجلًا سأل ابن عباسٍ رضي الله عنهما، فقال: إن هؤلاء القوم يستأجروني لأحجّ، أفيجزي عني؟ فقال: نعم (¬1)، وتلا قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة:202]، وبهذا قال ابن عمر وابن عباس، وسعيد بن جبير والحسن وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق رضي الله عنهم، وقال مالك: لا تعتبر الراحلة في وجوب الحج، فإذا كان الإنسان صحيحًا يمكنه المشي يلزمه الحج، ولا يعتبر وجود الراحلة في حقه. وأما الزاد فلا يعتبر ملكه بل يعتبر القدرة عليه، فإن كانت له صنعة يكتسب بها في الطريق لزمه ذلك، وإن لم يكن له صنعة، وكان ممن جرت عادته بمسألة الناس لزمه أيضًا، وإن لم يكن ممّن جرت عادته بالسؤال لم يلزمه. وروي عن عكرمة وابن الزبير والضحّاك أنهم قالوا: الاستطاعة صحة البدن فقط، وهذا غلط لما روينا من الخبر في تفسير الاستطاعة، والسبيل. فَرْعٌ آخرُ قال في" الأم" (¬2): ومن قدر أن يحج ماشيًا من رجل أو امرأة ولا يجد الراحلة أحببت له أن يحجّ، والرجل في ذلك أقل عذرًا، قال أصحابنا: هذا يدل على أن الرجل أكد في الاستحباب من المرأة، لأن المرأة عورة بخلاف الرجل. فَرْعٌ آخرُ قال في" الأم" (¬3) و"الإملاء": [8/ب] إن كان مطبقًا للمشي، وله صنعة يكتسبُ بها في طريقه أحببت له أن يحج للخروج من الخلاف، ولأنه يحمل المشقة لأداء العبادة، فأشبه الصوم في السفر، وإن لم يكن كسوبًا، وأراد أن يخرج ويسأل الناس في الطريق أحببت له أن لا يفعل، ويكره له ذلك لأن كرامته المسألة أبلغ من كراهية ترك الحج، ولأن فيه إلقاء نفسه في التهلكة، ولو حجّ معَ هذا أجزأه. فَرْعٌ آخرُ لو كان له طريقان في إحداهما خوف ولا خوف في الآخر لكنه أطول، وهو ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في" الكبرى" (8655)، وفي "معرفة السنن" (3665). (¬2) انظر الأم (2/ 99). (¬3) انظر الأم (2/ 102).

يجد نفقته، فيه وجهان: أحدهما: يلزمه لأنه قادر على تحصيله من غير مخاطرة بروحهِ ومالهِ. والثاني: لا يلزَمه لأنه لا يتمكن من أدائه إلا بالتزام زيادة مؤنة، ولو كان يتمكن من الأقرب بزيادة مال ببذلها لها لا يلزمهُ الحج، فههنا أولى. فَرْعٌ آخرُ لو قصد الحرم لتجارة وحج أجزأه عن حجة الإسلام، قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: (198)]، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ابتغاء الفضل: التجارة والثوابُ في ذلك على حسب العمل، فثواب من حج بلا تجارة، ولا إجارة أكثر من ثواب غيره. فَرْعْ آخرُ لو مَلكَ ما يكفيه لنفقة الحج، ولكنه يحتاجُ إلى النكاح، ولو تزوج يبعضه لم يكفهِ الباقي للحج لا يختلف المذهب أن الحج قد وجبَ عليه، وإنما كان كذلك لأن النكاح طريقه الملاذ والشهوات، ولكن له أن يتزوج ويؤخر الحج، لأن وجُوبه على التراخي، وأيهما أفضل؟ نُظر، فإن كان يخاف العنت، فالأفضل له أن يتزوج، وإن كان لا يخاف العنت، فالأفضل له أن يحج لأنه فرض في ذمته، [9/أ] وقالَ أبو حامدٍ: لا نصّ في هذا، وذكره الأوزاعي، وهو قياس مذهبنا. فَرْعٌ آخرُ لو كان قريبًا من مكة ومن أهلِ مكة فوجد الزاد يلزمهُ الحج، وإن لم يجد الراحلة لأنه يمكنه المسير إلى عرفات ومِنى ماشيًا من غير مشقة شديدة، وإنما تعتبر الراحلة في حق البعيد. والفَرق الفاصل بين القرب والبعيد مقدارُ المشاقة التي تقصر فيها الصلاة. وإن كان لا يقدر على المشي، ولكن يمكنه الزحف إلى الموقف لا يلزمه لأن عليهِ مشقة في ذلك، ويعتبر في حقه وجود الراحلة أيضًا. وإن لم يكن معه زاد، ولكنه مكتسبٌ، فإن كان يكتسبُ في يومه ما يكفيه لمدة يلزمه، وإن كان كسبهُ كل يوم قدر نفقته في ذلكَ اليوم لا يلزمه، لأنه إذا حجَ يعطل كسبهُ، وضاعَ عياله. فَرْعٌ آخرُ إذا غصب مالًا يحج به أو غصب حمولة فركبها حتى أوصلته أثم بذلك، ووجب عليه أجرة الحمولة وضمان المال، وأجزأ الحج ويجب عليه أداء الحج متى حضر عرفة. وحكي عن أحمد أنه قال: لا يجزئه الحج، لأن الزاد والراحلة من شرائط الحج، فإذا وجد على غير الوجه المأذون به لم يجزه كأفعاله. وهذا غلط لأن الحج يؤدى بالبدن، والمال يراد للتوصل إليه، فإذا أدّى عمل البدن لا يقدح ما تقدمه من التوصل إليه به كما لو خرج بنفسه خائفًا وحجّ جاز، وإن ارتكب المنهي. وأما الأفعال، فدليلنا لأنه لو أداها على وجهٍ منهيّ عنه جاز إلا أن يترك ركنًا أو شرطًا. وههنا الحمولة ليس بركن ولا شرط، ولهذا لا يجب ذلك في حق المكي. والقسم

الثاني من المستطيع [9/ب] أن يكون مستطيعًا بغيره، ويعتبر فيه شرطان: أحدهما: أن يلحقه مشقة شديدة غير محتملة في الكون على الراحلة والثاني: أن يكون ذلك سببٍ لا يرجى زوَاله كعصبٍ أو ضعف خلقه، فيوصف عند وجود هذين الشرطين بنفسه، بل يستطيع بغيره يعني بأن يحج غيره عن تقسه، ثم لا يخلو حاله من أربع أحوال، إما أن يجد من يحج عنه، ولكن لا يجد مالًا يستأجره به، أو لا يجد من يستأجره، ولكن يجد مالًا، أو يجد مالًا ويجد من يستأجره، أو لا يجد مالًا ويجد من يبذل له الطاعة في الحج عنه بغير مالًا، فإن وجد من يستأجره، ولا يجد مالًا، فلا حج عليه كما لو كان صحيحًا لا يجد زادًا ولا راحلة، وإن وجد مالًا، ولا يجد من يحج عنه لا يلزمه أيضًا، لأنه غير مستطيع كما لو تعذر الخروج على القادر للخوف، أو لضيق الوقت. فإن وجد مالًا، ووجد من يستأجره بأجرةٍ مثله وجبَ عليه الحج، فإن فعل، وإلا استقر في ذمته يؤدى من تركته، وبه قال الثوري وأحمد وإسحاق. وقال مالك: لا حج عليه بحال ولا يجوز أن يستأجر عنه في حياته، فإن أوصى به بعد وفاته يجوز. وقال أبو حنيفة في إحدى الروايتين: لا يلزمه الحج أصلًا، وإن كان موسرًا، وهذا غلط لما روي ابن عباس رضي الله عنهما: أن امرأة من خثعم أتت النبي (صلي الله عليه وسلم)، فقالت: يا رسول الله إن فريضة الله في الحج على عباده أدركت أبي شيخًا كبيرًا لا يستطيع أن يستمسك على راحلته أفأحج عنه؟ قال:" نعم"، قالت: أفينفعه ذلك؟ قال:" نعم"، كما لو كان على أبيك دين فقضيتهِ [10/أ] نفعه" (¬1)، ولم ينكر عليها وجوب الحج على أنها في حال الكبر والعجز. وروي عن أبي رزين العقيلي أنه قال: يا رسول الله إن أبي شيخ كبير لا يستطيع الحج، ولا العمرة، ولا الطعن، فقال: "حجّ عن أبيك واعتمر" (¬2)، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه لشيخ كبير: إن شئت فجهّز رجلًا عنك، وأما إذا وجد من يطيعه ولا مال يلزمه الحج، وقال أبو حنيفة: لم يلزمه الحجّ، ببذل الطاعة ويتصور الخلاف معَه إذا وجب عليه الحج، ثم صارَ معصوبًا معسرًا، فقال ابنه: أنا أحجّ عنك لا يلزمه الأمر به عنده. وبه قال أحمد واحتج بأنه عبادة تجب بوجود المال، فلا يجب ببذل الطاعة كالعتق في الكفارة، وهذا غلط لما قال الشافعي (¬3)، ومعرُوف من لسان العرب أنهم يقولون: أنا مستطيع لأن أبني داري وأخيط ثوبي يعني بالإجارة، أو من يطيعني، وأراد به أنه لما وقع عليه اسم الاستطاعة دخل تحت قوله:" وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا" [آل عمران:97]. وأما الكفارة، فالفرق من وجهين: أحدهما: أن عليه منة في قبول الرقبة دون الطاعة، لأن العادة جارية بأن الناس ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1513)، ومسلم (407/ 1334) بلفظ:" يثبت" بدل" يستمسك" وفي رواية للبيهقي في" الكبرى" (8629): يستمسك، ومن الرواة من يجعله عن ابن عباس عن أخيه الفضل. (¬2) أخرجه أحمد (1/ 244)، والترمذي (930)، والنسائي (2621)، وابن ماجه (2904)، والدارمي (2/ 41)، وابن حبان (961)، والبيهقي في" الكبرى" (8633). (¬3) انظر الأم (2/ 96 (.

ينوب بعضهم عن بعضٍ بأبدانهم، وأيضًا الكفارة تجب على من يملك الرقبة، فلو قلنا: يجبرُ على قبولها وتملكها ليعتق أجبرناه على سببٍ يلزمه به العتق، فيكون بمعنى الإجبار على الاكتساب، فلم يجب ذلك وههنا إذا علم الطاعة ممن يطيعه، فألزمنا لم تجبره على سبب يجب به الحج لأن الوجوبَ يتقدم، فلهذا أوجبناه. نم اعلم أنَّ المعصوب مقرًا بالصاد غير المعجَمة، ومعناه مقطوع العصَب لا يثبت على المركب [10/ب]،ثم تكلم بعد هذا إلى آخر الباب في جواز النيابة في الحجّ في حال الحياة، فاحتج بخبر الخثعمية على ما ذكرنا، فجعل قضاءها الحجّ عنه كقضائها الدّين، فلما جاز قضاء الدين عن الحي جاز محاء الحج أيضًا، ثم احتج على مالك بخبر مرسل، وهو ما روي عن عطاء عن النبي (صلي الله عليه وسلم) أنه سمع رجلًا يقول: لبيك عن فلان وروي أنه يلبي عن شبرمة، فقال: ومن شبرمة؟ فقال: أخٌ لي أو قريب، فقال: "حجّ عن نفسك، ثم حجّ عن شبرمة"، وروي أنه قال: أحججت عن نفسك؟، فقال: لا، فقال: هذا (¬1)، ورواه ابن عباسٍ وعائشة رضي الله عنهما مسندًا. فإذا تقرر هذا، قال أصحابنا: حكم المعصوب الموسر وحكم الصحيح في أن الحج يلزمهما، فحجّ هذا عن نفسه وينوب هذا سواء لا يفترق حكمهما إلا في مسألتين: أحداهما: أن القارن الصحيح لا يلزمه الحجّ إلا أن يجد نفقة الذهاب والرجوع على ما ذكرنا، ولو وجد المعصُوب من يحج عنه بنفقة الذهاب دون الرجوع وبدون نفقة من تلزمه نفقته إلى أن يذهب هو ويحجّ عنه يلزمه، ونظيره أنه إذا وجد من يحج عنه ماشيًا يلزمهُ أن يستأجر وإن كان هو بنفسه لا يلزمه الحجّ ماشيًا. وفيه وَجه آخر لا يلزم كما في الابن الفقير إذا قال: أحجّ عنك ماشيًا. والثانية، لو كان قادرًا لا يمكنه أن يحجّ إلا في المحمل ولا يجد كفاية المحمل ويجد كفاية الراحلة لا يلزمه، ولو كان معصوبًا، ووجد من يحجّ عنه على الراحلة يلزمه، فإذا تقرر هذا رجعنا إلى وجوب الحج بطاعة الغير، فأعلم أنه لا فرق [11/أ] بين أن يبذل له الطاعة، وبين أن يعلم منه أنه يطيعه إذا أمره به نصّ عليه في" الأم" (¬2) و"الإملاء"، وغيرهما، فقال: وإذا وجد الزاد والراحلة، أو من إذا أمره امتثل أمره وأطاعه لزمه الحج، فاعتبر العلم بطاعتهِ دون البذل. ومن أصحابنا من قال: لا يلزمه ما لم يظهر الطاعة لأن ظن الأدب أن يطيعه إذا أمره، وقد يخطئ، وهذا اختيار القاضي الحسين ثم الكلام في فصلين: أحدهما: في صفة المطاع الذي يلزمه الحج بطاعةِ الغير. والثاني: في صفة المطيع. وأما صفة المطاع فهي أن يجتمع ثلاث شرائط: أحدها: أن يكون معصوبًا. والثانية: أن يكون فقيرًا. ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1811)، وابن ماجه (2903)، وابن حبان (3977)، والدر اقطني (2/ 269)، والبيهقي في" الكبرى" (8676،8675). (¬2) انظر الأم (2/ 106).

والثالثة: أن يكون حجّ حجّة الإسلام، وأما صفة المطمع فثلاث أيضًا: أحدها: أن يكون على صفةٍ يلزمه فرضُ الحجّ بنفسهِ، وقد ذكرنا شرائط ذلك لا بالجعل بذله كاستطاعته في نفسهِ، فيحتاج إلى أن يكون على صفة وجوب الحج أيضًا. والثانية: أن يكون قد حجّ عن نفسهِ حجّة الإسلام لأن من لم يحجّ عن نفسه لا يحجّ من غيره. والثالثة: أن يكون موثوقًا بطاعته، وأنه إذا آمره به امتثل أمره، فأمّا إذا لم يثق به لا يلزمه، لأنه لا يتيقن قدرته عليه. فَرْعٌ لو كان هذا المطيع زمنًا موسرًا، وهو يطيعه في تجهيز من يحجّ عنه، قال أصحابنا: يلزمه الحجّ لأنه لما كان مستطيعًا بنفسه وجب أن يستطيع غيره به ذكره أبو حامد والقاضي الطبري وغيرهما. فَرْعٌ آخرُ إذا كانَ له من يطيعه في الحجّ عنه، وهو لا يعلم بطاعته، أو ورث مالًا ولم يعلم، قال بعضُ [11/ب] أصحابنا: هو بمنزلة أن يكون له مالٌ ولا يعلم به بأن يموت مورثه، فلا يلزمه الحج، وقال بعضهم: هو بمنزلة من نسي الماء في رحله أو لم يعلم بكونه في رحله فتيمم وصلى هل تجوز صلاته؟ فيه قولان: فإذا قلنا: يلزمه يحج عنه بعد موته من تركته الموروثة. فَرْعٌ آخرُ المعصوب إذا كان من سكان مكة، أو من دون مسافة القصر لا يجوز له أن يستنيب لأنه لا يكثر المشقة عليه في أداء الحجّ ولهذا لو كان قادرَا لا يعتبر في حقه الراحلة، ذكره أصحابنا. فَرْعٌ آخرُ لا فرق بين أن يكون المطيع ولدًا أو ولد ولدًا وكان غير الولد من العم والأخ والأب والجد والأجنبي. نصّ عليه في" الأم" ولا "الإملاء"، وقال في" المختصر": من يطيعه ولم يفصل، وهذا لأن المعتبر إمكان تحصيل الحجّ، وهو موجود في بذل الكلّ والمنة لا يعظم بمعونة البدن ومن أصحابنا من قال: لا يلزمه إلّا بطاعة الولد أو ولد الولد، لأن الولد يختصّ مع الوالد بأحكام كثيرة، فإن الوالد لا يقتل بولده، ولا يحد بقذفه، ولو وهبَ منه شيئًا، وأقبضه له الرجوع فيه، وهو كسبه كما قال (صلي الله عليه وسلم): بخلاف الأجنبي، وهذا ليس بشيء، هكذا ذكره أهل العراق. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان: والصحيح، لا يلزمه في بذل غير الولد، وهو غلط بخلاف النص.

فَرْعٌ آخرُ لو بذل له المال دون الفعل وجهان: أحدهما: يلزمه قبوله لأنه قادرٌ على تحصيل الحجّ بالغير فأشبه بذل الطاعة. والثاني: لا يلزمه قبوله، وهو الأصحّ والمذهب لأنه تملك مالًا لوجوب الحجّ، فلا يحبُ [12/أ] كالاستقراض والإيهاب، ولأنه يعظم المنة في ذلك، ولا فرق على الوجهين بين أن يكون المبذول له معصوبًا بذل له المال ليأمر من يحجّ عنه وبين أن يكون صحيحًا فقيرًا بذل له المال ليحجّ، بنفسه عن نفسهِ، وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن كان الباذل للمال أجنبيًا لا يلزمه وجهًا واحدًا، وإن كان ابنًا، فوجهان لقوله (صلي الله عليه وسلم):" أنتَ ومالك لأبيك" (¬1)، وقوله (صلي الله عليه وسلم): أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، وإن ولده من كسبه" (¬2). فًرْعٌ آخرُ لو كان الولد معسرًا فبذل الطّاعة لأبيه هل يلزمه الحج؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه بخلاف ما لو كان صحيحًا معسرًا لا يلزمه في نفسه لأنه لم يرض بالمخاطرة والتغرير بنفسهِ، وقد طاب نفس الابن بهذه المخاطرة، ولا ضررَ على الأب أن يأمره. والثاني: لا يلزمه لأنه لا يلزمه في نفسهِ لفقره، فلا يلزمه على أبيه لسببه، وهذا أقيس عندي. فَرْعٌ آخرُ لو حجّ المطيع عنه بغير أمره لم يجز، وكان عن نفسه، وحكي عن القاضي أبي حامد أنه يجوز كما عن الميت والصحيح ما ذكرنا، ولو امتنع من الأمر به هل يقوم الحاكم مقامه في الأمر بهِ؟ وجهان: أحدهما: يقوم مقامه كما في الزكاة والدين، قال: بعض أصحابنا بخراسان: وهذا هو الصحيح لأن الحجّ، وإن كان على التراخي إذا كان صحيح البدن، فعند الرمانة يضيق وقته ولا يجوز له التأخير. والثاني: لا يقوم مقامه، وهو المذهب، والصحيح عند أصحابنا بالعراق، لأن الحجّ يفتقر إلى النية والإذن ممن عليه، ولا يوجد [12/ب] ههنا. ولا إشكال أنه أثم ويعصي إذا لم يأمره بهِ حَتي مات، كما لو قدر أن يحجّ، فمات قبل الأداء مع الإمكان. فَرْعٌ آخرُ متى يلزم الباذل الحج ببذله؟ ينظر، فإن كان قد أحرم عنه وجب عليه المضي فيه لأن الإحرام يلزم بالشروع فيه، فإن كان قبل الإحرام عنه، قال جمهور أصحابنا: ¬

_ (¬1) أخرجه ابن ماجه (2291)، وابن حبان (4262)، والطحاوي في" شرح معاني الآثار" (4/ 158). (¬2) أخرجه أحمد (6/ 31،153،127،42)، وأبو داود (3528)، والترمذي (1358)، والنسائي (4449)، وابن ماجه (2290)، وابن حبان (4245)،والحاكم (2/ 46).

المذهب أنه لا يلزمه الرجوع عن البذل، لأنّه متبرع بالبذل، فلا يلزمهُ حكم كما لو بذل له الماء للطهارة له الرجوع قبل الإقباض، وعن أصحابنا عن قال: يلزمه ذلك، وليس له لرجوع لأن بذل الطاعة للحج أوجب عليه فرض الحج عند قبوله، ويفارق بذل الماء لأنه لا يوجب الطهارة بل يغير صفة الفرض، ولأن هناك إذا رجع يرجع إلى بدل، وهو التيمم بخلاف ههنا، قال صاحب" الحاوي" (¬1): وهذا هو المذهب، وعندي الأصحّ ما سبق، لأنه وإن وجب عليهِ الحجّ بطاعته لا يلزم هذا المطيع أن يحجّ عنه، وقوله: أحجّ عنك وعدًا لرد، فلا يلزم بمجرده. فَرْعٌ آخرُ من يرجو مباشرة الحجّ بنفسه لا يلزمه الحج ببذل الغير له الطاعة والمجنون لا يحجّ، ولا يحجّ عنه أيضًا لأنه يرجى إفاقته، وأداؤه بنفسهِ، وأمّا المريض الذي لا يستمسك في الحال على الراحلة، ولكنه يرجى زوال مرضه لا يجوزُ له أن يحجّ غيره عن نفسه، وإن كان محرمًا، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: يجوز له أن يستأجر من يحجّ عنه كالمعصُوب، وإن كان يرجو سلامته، ثم إن صحّ لم يجز عن فرضه. وهذا غلط لأنه غير ميؤوس من أدائه بنفسه كالفقير، [13/أ] وكذلك الخلاف إذا كان مجنونًا لا يرجو خلاصه. فَرْعٌ آخرُ لو خالف وجهز من يحجّ عنه فإن برا من مرضه تلزمه إعادة الحج قولًا واحدًا، وإن مات من ذلك المرض، أو صار ميئوسًا منه هل يجزئه؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجزئه وتلزمه الإعادة، قال الشافعي: وبه أقول، وهو الصحيح لأنه أحج غيره في حال لم يجز له ذلك، فلا يعتدّ به. والثاني: يجزئه ولا تلزمه الإعادة لأنه لما اتصل به الموت تبينا أنه كان ميئوسًأ منه. فَرْعٌ آخرُ لو مرض مرضًا لا يرجى زواله وشهد بذلك طبيبان ملمان عدلان جاز له أن يحج غيره عن نفسه، فإن أحج غيره عنه، ثم مات من علته أجزأه، وإن برأ من علته نصّ الشافعي أنه يعيد الحج لأنا جوّزنا له ذلك على ظنّ أنه لا يقدر على الحج، فإذا برأ أيقنا الخطأ فيما ظننا، فيبطل ذلك كالحاكم إذا حكم بخلاف النصّ ينقض حكمه ومن أصحابنا من قال: لا يلزمه إعادة الحج في أحدِ القولين بناء على المسألة قبلها، لأن هناك اعتبرنا في أحد القولين حالة الابتداء، فعلى هذا لا يلزمه الإعادة ههنا وفي القول الثاني، اعتبرنا المال هناك، فيلزم ههنا الإعادة على هذا وهذا لا يصحّ بل ههنا وفي قول واحد لا يجوز وتلزمه الإعادة لأنا وإن اعتبرنا الابتداء، فقد بينا بحدوث البراءة أنه لم يكن في تلك الحالة آيسًا من مباشرة الحج ينسه، فلا يجوز بحال. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان مبنيان على أنهم إذا رأوا سوادًا فظنّوه عدوًا، فصلوا صلاة شدة الخوف ثم بان خلافه هل تلزم ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (4/ 11).

إعادة [13/ ب] الصلاة؟ فيه قولان، وهذا غير صحيح أيضًا لأنا لا نتيأس هناك أنه لم يكن الخوف موجودًا وههنا تبينا أن الإياس لم يكن موجودًا. فَرْعٌ آخرُ إذا قلنا: تلزم الإعادة هل يستحق الأجرة؟ قولان: أحدهما: يستحق لأن في اعتقاده أنه يعمل له. والثاني: لا يستحق لأنهه لم يقع للمستأجر، ولو استنيب عن المجنون في حال جنونه، ثم أفاق تلزمه الإعادة قولًا واحدًا، وإن ماتَ على حالته ينبغي أن يكون على القولين. فَرْعٌ آخرُ هل يجوز للمعصُوب إذا كان قد أدى فرض الحج عن نفسه أن يستنيب في التطوع أو الوصية بحجّة التطوع بعد موته؟ فيه قولان: أحدهما: لا يجوز لأنه لا حاجة به إليه، وإنما جوزت الاستنابة في حال الضرورة، ولهذا لا يجوز للصحيح أن يستنيب، لأن الأصل في عبادات الأبدان أن لا يدخلها النيابة، وقد خرج الحج المفروض منها بالسنّة، فلقي التطوع على الأصل. والثاني: يجوز وهو الصحيح. وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، ومالك، لأنه لما دخلت النيابة في فرضها كذلك في نفلها كالزكاة، وقال أبو حامد: الأول أشبه بالمذهب والثاني، أقيس. فَرْعٌ آخرُ إذا قلنا: يجوز، فاستأجر كذلك وقع الحج عن الأمر، واستحق المسمّى، وإذا قلنا: لا يجوز فاستأجر رجلًا ليحج عنه حجة التطوع فحج وقع الحج عن الحاج، وهل يستحق الأجرة على الأمر قولان: أحدهما: لا يستحق لأنه وقع عن نفسه، فأشبه الضرورة إذا حجّ عن غيره بالأجرة لا يستحق الأجرة. والثاني: يستحق الأجرة لأنه أتلف عمله [14/ أ] بإذنه على وجه العوض، وفارق الصرورة لأن السبب هناكَ في انتقال الحج إلى نفسهِ كان من جهته لا من جهة غيره، ولأن عمله هناك لم يتلف لأنه أسقط به فرضًا عليه بخلاف ههنا، وهذا كما لو استأجر رجلًا ليحمل له طعاماً غصبه يستحق الحامل الأجرة على الآمر، وهذا اختيار أبي حامد، وهو الأقيس. ومن قال بالأول أجاب عن هذا: بأن من حَمل طعامًا مغصُوبًا بأمر الغاصب لم يقع الفعل عنه، وليس بمفرط لأنه لم يعلم الغصب، والظاهر أنه ملكه، وههنا كان يلزمه أن يعلم حكم الإجازة، وصحتها من فسادها، ووقع الفعل عنه، فلا يرجع على غيره بشيء. وهذا اختيار جَماعَة من أصحابنا. فإذا قلنا: يستحق بالأجرة، فلا إشكال أنه لا يستحق المسمّى لأنه إجازة فاسدة، ولكنه يستحق أجرة المثل، ولو استأجر الوصي بذلك يلزمه الضمان لأنه فعل ما لا يجوز له فعله سواء قلنا: له أجرة المثل، أو لا، وقال بعض أصحابنا: لا شيء على الموصي لأنه لم ترجع فائدته إليه، ولا إلى غير فاعل.

فَرْعٌ آخرُ لو استأجر المعصوب بحجة منذورة أو قضاء حج يجوز قولًا واحدًا، لأنها واجبة، وتلزم أيضًا ببذل الطاعة كحجّة الإسلام سواء. فَرْعٌ آخرُ لو استأجر المعصوب رجلًا ليحج عنه حجة الإسلام، فأحرم الأخير عن المعصوب ثم نوى أن يكون الحج عن نفسه كان الحج عن المعصوب لأن الإحرام انعقد عنه، فلا يجوز صرفه إلى غيره، وهل يستحق الأجرة، قال في «المناسك الكبير» فيه قولان: أحدهما: يستحق، وهو الصّحيح لأنيته [14/ ب] لما لم يكن لها تأثر في صرف الحج عن المعصوب لا يكون لها تأثر في إسقاط أجرته، كما لو استأجر رجلًا ليخيط له قميصًا، أو يبني له حائطًا، فخاط القميص أو بنى الحائط بنية أن يكون له استحق الأجرة كذلك ههنا. والثاني: لا أجرة له لأنه عمل متبرعاً به من غير أجرة، فسقط حقه، ولا يجوز له أن يطالبه بالأجرة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: القولان في المسألة المقدّمة مبنيان على القَولين في هذه المسألة، فإن قلنا في هذه المسألة: يستحق الأجرة، ففي المسألة الأولى، لا يستحق لأن الحج لم يقع عن الآمر هناك. وإن قلنا في هذه المسألة: لا يستحق الأجرة فهناك يستحق لأن عنده أنه يعمل الآمر، قالوا: وإذا قلنا: يستحق ههنا هل يلزم أجر المثل أم المسّى؟ وجهان: أحدهما: المسمى لأنه عقد إجارة لم يبطل. والثاني: أجر المثل لأنه عقد غيره من موضعه، فيستحق فيه عوض المثل، والصحيح عندي الأول، قالوا: وعلى هذين القولين لو جحد الصبّاغ الثوب، ثم صبغ، هل يستحق الأجرة على المالك إذا رد؟ قولان: أحدهما: لا، لأنه عنده أنه يعمل لنفسه. والثاني: بلى، لأن الصبغ حصل للمالك، ولو كان صبغ قبل الجحود استحق الأجرة على هذا لو استأجر رجلًا ليعمل في معدنهِ على أن ما أخرجه للأجير لم يكن للأجير، وهل يستحق أجرة المثل؟ قولان: بناء على هذين القولين. فَرْعٌ آخرُ لا يجوز للصّحيح ان يستنيب لا في الفرض ولا في التطوع. وقال أبو حنيفة وأحمد: يجوز أن يستنيب في التطوع، لأنها حجّة لا يلزمه أداؤها بنفسه كالفرض في حق المعصوب، وهذا غلط [15/ أ] لأنه غير ميئوس من أداء الحج بنفسه، فأشبه الحج المفروض في حق الصحيح. فَرْعٌ آخرُ لو كان على المعصوب حجتان: حجة الإسلام، وحجة منذورة، فاستأجر في

سنة واحدة رجلين يحج أحدهما عنه حجة الإسلام، والآخر الحجة المنذورة فيه وجهان: أحدهما: يجزئه حجة الإسلام دون حجة النذر، لأنه لا يحج بنفسه في سنة حجتين. والثاني: يجزئه الحجتان، وهو الصحيح، وهو المنصوص في «الأم» (¬1) لأنه لا يؤدي إلى تقديم المنذورة على الشرعية بل يقعان معًا، فأجزأ. فَرْعٌ آخرُ قال والدي رحمه الله: إذا جوزنا ينبغي أن يكون الإحرام بحجة الإسلام أسبق لأن تقدم النذر لا يجوز، فإن أحرم الآخر بحج النذر أولًا انصرف إحرامه إلى حجة الإسلام في قياس قول أصحابنا، ثم إذا أحرم الآخر بحجة الإسلام انصرف إلى حج النذر. فَرْعٌ آخرُ إذا وجد الأعمى زادًا وراحلة وقائدًا يقوده ويهديه ويسدّده يلزمه الحج، ويلزمه أن يحج بنفسه، وليس له أن يستنيب غيره، وبه قال أبو يوسف ومحمد وأحمد. وقال أبو حنيفة في أصح الروايتين عنه: يجوز له أن يتسنيب لأنه لا يمكنه الصعود والنزول بنفسه، فجاز له أن يستنيب كالمعصوب، وهذا غلط، لأنه لا يلحقه مشقة شديدة في الثبوت على الراحلة، فلا يجوز له أن يستنيب كالأطروش. فَرْعٌ آخرُ لو كان مقطوع الرجلين أو أحديهما يلزمه أن يحج بنفسه لأنه يستمسك على الراحلة من غير مشقة شديدة كالصحيح، وعند أبي حنيفة هو كالأعمى فيه روايتان. فَرْعٌ آخرُ قالَ [15/ ب] الشافعي: لو أحرم بالمجنون بقيمه وحج في حال جنونه به، ثم أفاق فعليه حجة أخرى كالصبيّ يبلغ، وقال أيضًا: لو أحرم ولي المجنون به، فلما انتهى إلى الميقات أفاق، فأحرم بنفسه ودامت له الإفاقة حتى فرغ من أركان حجّه، ثم عاوده الجنون، أو لم يعاوده كان على قيمه أن يغرم ما بين نفقة مقام المجنون ونفقة سفره، وأجزأه عن حجّة الإسلام، لأنه خاطر بماله بغير وجوب، ولو كان سبق الوجُوب، وكان لإفاقته وقت معلوم فعرف أنه لو خرج به أدرك الحج في وقت الإفاقة، ففعل لم يغرم لأنه لم يخاطر به. حكاه الإمام الجويني. فَرْعٌ آخرُ قال بعض أصحابنا في تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: «أيما أعرابي حجج، ول عشر حج ثم هاجر ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 109).

باب إمكان الحج وأنه من رأس المال

فعليه حجة الإسلام» (¬1)، ذكره حين كانت الولاية منقطعة بين المهاجر وغير المهاجر في التوارث والأحكام، فكانت حجة الأعرابي الذي لم يهاجر نفلًا، والأصح أنّه عبر عن المسلم بالمهاجر، وعن الكافر بالأعرابي ذكره القفال. فَرْعٌ آخرُ النساء صالحات للنيابة من الرجال في الحج بدليل خبر الخثعمية، وفيه دليل على أن المستناب متى حجّ عن المستنيب نفعته نيابته ظاهرًا، وباطنًا وبرئت ذمة المتستنيب كما يبرئ عن الدين إذا قضى عنه وكيله بأمره بماله ويدلّ على جواز القياس لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاس على الدين ويدل على جواز قياس العبادة البدنية على الأموال، وإن كانتا غير متجانستين من وجوه كثيرة لأن شرط القياس اجتماع الفرع والأصل من حيث جمعهما القياس، وإن افترقا من غير ذلك الوجه. ومن العلماء من قال: لا يجوز نيابة المرأة عن الرجل في الحج لأنها تخالف الرجل في الستر [16/ أ] والكشف وليس بشيء. بابُ إمكان الحج وأنه من رأس المال مَسْألَةٌ: قال (¬2): وإذا استطاع الرجل فأمكنه مسير الناس من بلده فقد لزمه الحج. الفَصْلُ إذا وجدت شرَائط وجوب الحج، فإن كان الوقت واسعًا يمكنه أن يسير إلى مكة، على عرف الناس وعادتهم في المسير، فلم يسر، ولم يحج حتى مات بعد فراغ الناس من الحج وإن لم يرجعوا فإنه ماتَ وعليه حجة الإسلام، ويجب أن يقضى الحج من تركته كما قلنا: إذا زالت الشمس وأمكنه أن يصلي أربع ركعات، فلم يصل حتى جنّ، ثم رجع إليهِ عقله بعد فوات الوقت لزمه قضاؤها. وإن مات قبل فراغ الناس من الحج أو سار مع الناس ومات في الطريق ماتَ، ولا حجّ عليه، ولا يجبُ أن يقضي من ماله. وهكذا لو وجد الاستطاعة ببغداد في يوم عرفة، وماتَ قبل مجيء السنة الثانية، فإنه ماتَ ولا حج عليهِ ولا يجب قضاؤه من ماله. وهكذا إذا وجد الاستطاعة، وأمكنه أن يسير إلى مكة فلم يسر حتى تلف ماله، وانقطع الطريق بالعدو، فإن كان ذلك بعد إمكان الحج، فالحج في ذمته يلزمه أن يأتي به إذا أمكنه، وإن كان ذلك قبل إمكان الحج، فلا حجّ عليه على ما بيّناهُ، وهذا لأنه وإن وجبَ لا يستقر وجوبه إلا بإمكان الأداء. ونقل المزني كلامًا ليس على ظاهره، فقال: إذا استطاع الرجل الحج، فأمكنه مسير الناس من بلده فقد لزمه الحج، فإن مات قضى عنه. وهذا ليس على ظاهره لأنه إنما يقضى عنه إذا عاش إلى مدة كان يمكنه الحج فيها، وإذا مات قبل مضي تلك المدة لا يقضى عنه. ولو قدر على المسير فوق العادة بأن يجعل المرحلتين مرحلة واحدة ونحو ذلك لا يلزمه لأنه يلحقه [16/ ب] مشقة غير ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (8613)، وأورده الهيثمي في «مجمع الزوائد» (3/ 206)، ورجاله رجال الصحيح. (¬2) انظر الأم (2/ 96).

محتملة في ذلك، وهكذا لو أمكنه المسير، ولكن تعذر عليه تحصيل الآلة التي يحتاج إليها في الطريق من الدلو، والقربة، ونحو ذلك، أو كانت تباع بأكثر من ثمن المثل، أو يكري الراحلة بأكثر من كري المثل لم يستقر عليه أيضاً، ولو قدر على المسير وحده لا يلزمه أيضًا حتى يمكنه المسير مع الرفقة، فيخرج في رفقتهم لأنه إذا سافر وحده فقد خاطر بنفسه، وماله. ولو كانت بينه وبين مكة طريق آهلة يستغني فيها عن الرفقة إلا من يلزمه الخروج لأن القصد من مسير الناس التماس الأمن، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا تخاف إلا الله والذئب». قال عدي بن حاتم راويه: لقد رأيت الظعينة تخرج من الحيرة وتطوف بالكعبة بلا جوار (¬1). وروي أنه قال: «يا عدي بن حاتم لا تقوم الساعة حتى تأتي الظعينة من الحيرة، ولم يكن يؤمئذٍ كوفة حتى تطوف بهذه الكعبة» (¬2)، فأثنى عليها إذا خرجت والطريق آهلة»، وهذا يدل على أن الرجل والمرأة يستويان في وجوب الحجّ من غير انتظار الرفقة إذا كانت الطريق آهلة إن تصور ذلك، ولو أن الناس ساروا، وتقاعد عنهم هذا المستطيع، فأحصر الناس في عامهم ذلك، فانصرفوا خائبين، ثم مات هذا المتسطيع في تلك السنة لقي الله تعالى ولا حج عليه لأنه لو خرج معهم لصدّ كما صدوا، ولم يعش ليتمكن في السنة القابلة من الحج. فإذا تقرر هذا فكل موضع، قلنا: مات وعليه حجة الإسلام، فإن كان خلف مالًا يلزم قضاء الحج من تركته، وإن لم يخلف مالًا، فإن حجّ وارثه متبرعًا، أو أمر أجنبيًا فحجّ عنه فقد سقط الفرضُ [17/ أ] عن الميت، وقال الشافعي في كتاب «المناسك»: إذا مات الرجل وقد وجبت عليه حجة الإسلام فتطوع متطوع قد حجّ حجّة الإسلام بالحجّ عنه أجزأ عنه، ثم لا يكون لوصية أن يخرج من ماله شيئًا ليحج عنه غيره ولا أن يعطي هذا عنه شيئًا لأنه حج متطوعًا، وهذا نص على أنه يجوز حجّ الأجنبي عنه، ويفارق العتق عنه في الكفارة في أحد الوجهين لأنه يقتضي الولاء وثبوت الولاء يقتضي الملك، فلا يمكن ذلك. فإن قيل: أليس في حال الحياة لو حج عنه بغير أمره لا يجوز وفي قضاء الدين لا يفرقون بين أن يؤدي عنه الأجنبي في حياته، أو بعد وفاته في الجواز؟ قلنا: الفرق أن في حال الحياة هو من أهل الإذن وبعد الموت خرجَ أن يكون من أهله، ولا يشبه الدين لأنه لا يفتقر قضاء الدين إلى النيّة بخلاف الحج، فلا يجوز أداؤه من غير نيته إذا كان هو من أهل النية، ويجوز إذا لم يكن هو من أهل النية، وقال أبو حنيفة ومالك: إذا مات سقط عنه الحج، ولا يحج عنه إلا أن يوصي فيحج عنه من يليه، وقيل: إنه قول للشافعي لأنه عبادة بدنية، وهو غيريب وبقولنا المشهور، قال أحمد والثوري وإسحاق: والدليل عليه ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا قال: يا رسول الله إن أختي نذرت وماتت قبل أن تحج، أفأحجّ عنها؟ فقال: «لو كان على أختك دين أكنت قاضيه»، قال: نعم: قال: «فاقضوا الله تعالى فهو ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني (2/ 222). (¬2) أخرجه البخاري (3595)، وأحمد (4/ 257، 378)، والدارقطني (2/ 221)، والطبراني في «الكبير» (17/ 69).

أحق بالقضاء» (¬1)، وروى بريدة قال: جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: إن أمي ماتت ولم تحج، أفأحجّ عنها؟ قال: «نعم حجّي عنها» (¬2). مَسْألَةٌ: قالَ (¬3): وإن كان عام جدبٍ أو عطشٍ. الفَصْلُ قد ذكرنا أن وجُود الزاد شرط في وجوبه، فإذا كان في الطريق [17/ ب] قحط لا يوجد فيه الزاد والماء، وعلف الراحلة لا يجب الحج ويعتبر وجود الزاد في البلاد التي جرت العادة بحمل الزاد منها مثل بغداد والكوفة، والبصرة ويعتبر وجود الماء في المراحل التي جرت العادة بحمل الماء منها مثل الواقصة والزبالة والثعلبية. وقيل: وسائر المراحل، فإن كان لا يجد الماء في المنازل، ولكنه يجده في أقرب البلدان إليه لا يلزمه لأن العادة لم تجر بنقل الماء من أقر البلدان إليه لأن الحاجة إليه أكثر ويفارق الزاد والراحلة، لأن العادة جرت في نقله. وعلف الدواب والماء الذي يشربه حكمه حكم الماء في حق الناس فينبغي أن يوجد ذلك في كل منزل، أو منزلين، فأما إن كان لا يجده في المنازل بحال، فغير واجد، وإن كان يجده في أقرب البلدان إليه لأنه العادة، وهذا إذا كان على مسافة يشق نقل الماء بجميعها، ونقل علف البهائم لجميعها، فأما إن كانت المسافة على صفة لا يشق نقل لجميعها، ونقل علف البهائم لجميعها مثل أن يكون بينه وبين مكة عشرون أو ثلاثون فرسخًا يلزمه ذلك، وكذلك إذا وجده في أقرب البلدان إليه فقد وجده، وإن كان لا يجده في شيء من هذه البريّة، فالماء ههنا كالزاد في بعد المسافة، وإن كان الزاد موجودًا، ولكنه لا يباع من الحاج إلا بأكثر من ثمن مثله في ذلك الموضع لا يلزمُهم أن يشتَروهُ، ولا يجبُ عليهم الحج كانت الزيادة يسيرة أو كثيرة، كما في ماء الطهارة والرقبة في الكفارة، وهكذا في حكم الماء إذا وجد بأكثر من ثمن مثله، ولو كان ثمن مثله، ولكن السعر عالٍ يلزمه إذا وجد ثمنه، ولا يجب إذا لم يجد إلا كفاية الرخص والخصب. وقول الشافعي: أو لم يقدر [18/ أ] على ملا بدّ منه. أراد به السطيحة والقربة والحبل والمزود التي لا بدّ منها في طريقه فقد ذكرنا حكمه. وأمّا قوله: أو كان خوف عدوٍّ. أراد عدوًا يقصد نفسه أو ماله، وإن قل حتى قال الشافعي ما هذا معناه: أنه لو خرج عليه من لا يخليه إلا بدرهم يبذله لم أحب له أن يبذل وله أن ينصرف، ويكره ذلك لما فيه من الصغار، ولا يحرم البذل لأنه كالهدية لهم، وإن كان هذا الطلب من المسلم، فظاهر المذهب لأنه لا يكره له البذل لأنه يكره في المشركين لأنه يضارع الجزية، وهذا غير موجود ههنا، وإن كان قد أحرم كان له أن يحل كالمحصر. وقال بعض أصحابنا: لو كان في طريقه رصدي يأخذ عن جمله شيئًا، وإن قل كدانق لا يلزمه الحجّ لأنه يتعوّد ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 345)، والدارمي (2/ 24، 123)، والبيهقي في «الكبرى» (6/ 277). (¬2) أخرجه مسلم (157/ 1149)، والترمذي (929). (¬3) انظر الأم (2/ 97).

الأخذ ويوكله الحرام، ولا يجوز ذلك، وهذا لو وجب حمل اليسير لوجب حمل الكثير أيضًا عند الإمكان، وهو يؤدي إلى ما لا سبيل إليه. ولو دفع الإمام شيئًا من مال بيت المال إلى قوم ليدفعوا اللص عن الطريق جاز لأنه من المصالح، وكذلك لو دفع واحد من الرعية من ماله خاصة، ولا يكره ذلك وله فيه ثواب كثير. ولو كان يجن ويفيق فدامت إفاقته، وله مال إلى أن خرج حجاج بلده وفرغوا من الحج حكمنا باستقرار وجوب الحج عليه، فإن جنّ في خلال ذلك حج عليه، ولو كان سفيهًا مبذرًا، وله مال، فالحجّ يلزمه وعلى الولي أن يخرج به إلى الحج أو يستأجر من يحمله إلى الحج ولا يدفع المال إليه، بل ينفق عليه ذلك الأمين المشرف عليه. مَسْألَةٌ: قالَ (¬1): ولا يتبين لي أن أوجب عليه ركوب البحر للحج. الفَصْلُ إذا كان بينه وبين مكة بحر [18/ ب]، ولا طريق له في البر، فقد قال الشافعي ههنا: ولا يتبين لي أن أوجبه عليه، وهكذا قال في «الأم» لأن الأغلب من ركوب البحر الهلكة، وقال في «الإملاء»: واجب لمن قدر على المشي أن يمشي، وكذلك إن قدر على ركوب البحر، ولا يجب عليه إلا أن لا يكون له طريق أبدًا إلا في البحر، ويكون طلب معاشه في البحر فيكون هذا سكن مسكنًا طريقه في البحر كطريق أهل البر في البر». وقال في موضع آخر: وإذا اتّجر قومٌ في بحر، وكانت تجارتهم ومعاشهم فيه فلا يتبين لي إن أسقط عنهم فرض الحج، فمن أصحابنا من قال: في المسألة قولان: أحدهما: لا يلزمه لأن خوف البحر كخوف العدو أو كثر، وبه وصف الله تعالى أمر البحر في كتابه في مواضع. والثاني: يلزمه؛ لأن الناس يتعودونه، والغالب منه السلامة، فهو كالبرّ، ولا فرق على هذه الطريقة بين أن يكون بحرًا، أو نهرًا عظيمًا يحتاج فيه إلى ركوب السفينة وبين أن يكون قد تعود ركوب السفينة، أو لم يتعود لأن الخوف موجودٌ كما لو كان في الطريق عدو، لا يلزمه سواء كان الرجل جبانًا، أو شجاعًا، وإن اضطرب البحر في ذلك الوقت وتموّج بخلاف العادة لا يجب عليه ركوبه قولًا واحدًا لأن الغالب الهلاك في هذا الوقت، ومن أصحابنا من قال: هذا على اختلاف حالين، فإن كان الغالب الهلاك مثل البحار الكبار، فلا يجب وإن كان الغالب السلامة مثل الأنهار العظام والبحار في بعض المواضع يجب، وهو ظاهر عليه في الأمر، وهو اختيار أبي إسحاق والاصطخري. وبه قال أبو حنيفة. ومن أصحبانا من قال: هذا على اختلاف حالين من وجه آخر، فإن كانت عادته ركوب البحر ومعيشته [17/ ب] فيه يلزمه، وإلَّا فلا وأشار إلى هذا في «الإملاء». قال في «الحاوي» (¬2): هذا هو المذهب. ومن أصحابنا من قال على حالين من وجه آخر، فإن كان أهل جزيرة في البحر، وطريقه في البحر كطريق أهل البر في البر لا يخاف الغرق أسلمه بالسباحة وحدته في ذلك، وصار ذلك انتقاله، وعادة تلزمه، وإلا ¬

_ (¬1) انظر الأم: (2/ 98). (¬2) انظر الحاوي للماوردي (4/ 18).

فلا. وقيل: إن كان الغالب الهلاك لا يلزمه قولًا واحدًا، وإن كان الغالب السلامة، فقولان، وقيل: قول واحد لا يلزمه ركوب البحر، وتأويل قوله: إلا أن لا يكون له طريق أبدًا إلا في البحر أنه إن خرج إلى الشطّ الذي يلي مكة، وأدرك الوقت فقد لزمه، ولا يسقط عنه بعد ذلك بعوده إلى وطنه، ذكره القفال: وأراد إذا دنا من الشطّ الذي يلي مكة، فيلزمه أن يجري السفينة إلى ذلك الجانب. قال هذا القائل: وعلى هذا لو توسط البحر لا للحج بحيث يكون الماء أمامه مثل ما هو خلفه هل يجب عليه الحج؟ وجهان: أحدهما: لا يجب لأنه يؤدي إلى وجوب ركوب البحر للحج. والثاني: يجب وهو الأصح؛ لأن قدامه ووراءه والجوانب كلها استوت في الخوف فيجب كما لو استوت الجوانب كلها في الأمن. والوجهان يبنيان على أنه إذا أحاط به العدو من الجوانب الأربعة، هل له أن يحلل من إحرامه؟ وجهان. فَرْعٌ قال أبو حامد: إذا قلنا: لا يلزمه يستحب له ركوبه إن كان رجلًا وإن كان امرأة، فهل يستحب لها؟ قولان: أحدهما: يستحب لها كالرجل. الثاني: لا يستحب لها لأنها عورة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: قال الشافعي في موضع: «يستحب»، وقال في موضع: «لا يستحب لها» فالمسألة على حالين، فإن كانت تحتاج [19/ ب] إلى عبور نهرٍ كجيحون يكون مدةً يسيرة، فيستحب لها، وإن كانت تحتاج إلى ركوب البحر أيامًا لا يستحب لها لأنها لا تخلو عن التكشف في قضاء الحوائج والطهارة والصلاة. فَرْعٌ آخرُ قال القفالُ: إذا لم نوجب ركوب البحر على الرجال فالنساء أولى، وإذا أوجبنا عليهم فهل يجب على النساء؟ قولان منصوصان: أحدهما: لا يجبُ، وبه قال مالك، لأنهن عورةٌ على ما ذكرنا. والثاني: يجب كالرجال وهذا غريبٌ لم يذكره أهل العراق. ولو كان له طريق في البحر وطريق في البرّ يلزمه الحج قولًا واحدًا، وإن كان أطور طريق إذا كان له كفاية ذاك الطريق. فَصْلٌ المرأة كالرجل في أن الحج يلزمها إذا وجدت الشرائط التي ذكرناها في الرجل، فإذا وجدت الاستطاعة والأمن وجب الحج عليها، ولها أن تحجّ من غير محرم، واشترط الشافعي صحبة النساء الثقات في حقها، فمن أصحابنا من قال: هو استحباب أو أراد إذا لم يحصل الأمن إلا بصحبة النساء الثقات، وهو الأقيس والصحيح، وبه قال الأوزاعي لخبر عدي بن حاتم الذي ذكرنا. وذكر الكاربيسي عن الشافعي أنه إذا كان الطريق آمنًا جاز لها أن تخرجَ وحدها. ومن أصحابنا من قال: لا تخرج إلا أن يكون في الصحبة امرأة ثقة لئلا يخلو بها رجل، وهذا أشبه بكلام الشافعي نصّ عليه في «الإملاء». وقال مالك: لا تجب إلا أن يكون هناك صحبة نسوة ثقات. وقال أبو حنيفة

وأحمد لا عبرة بالنسوة الثقات ولا يلزمها إلا مع زوج أو ذي رحم محرم، وربما يقولون: يجبُ من غير وجود المحرم، ولا يلزم الخروج إلا مع المحرم [20/ أ]، وكذا عن أحمد في رواية، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحلّ لامرأة مسلمة أن تسافر مسيرة ليلة إلا ومعها رجل ذو حرمة منها» (¬1)، وبهذا قال النخعي والحسن وأحمد وإسحاق وهو اختيار أبي سليمان الخطابي. وهذا غلط لظاهر الآية وهي تصير مستطيعَة بما ذكرنا، والخبر محمول على سفر التطوع، أو إذا لم يحصل الأمن إلَّا به، وقال القفالُ: لا بدّ أن يكون لإحداهن محرم حتى إذا استعانت هذه بتلك استعانت تلك بمحرمها، لأنه إذا لم يكن لإحداهن محرم، فكثرة النساء زيادة عورة وضعف، فلا يجوز لهن الخروج. وهكذا حكم الخلوة، فإن نسوة لو خلون برجل وإحداهن برجل وإحداهن محرم له جاز، وإلا فلا، وكذلك لو خلت امرأة برجال وأحدهم محرم لها جاز، وإلا فلا حتى لو خلا عشرون رجلًا بعشرين امرأة وإحداهن محرم لأحدهم كفي ذلك، وقد نصّ الشافعي على أنه لا يجوز للرجل أن يؤم بنساء مفردات، فيصلي بهن إلا أن تكون إحداهن محرمًا له، وهذا حسنٌ، ولكنه خلاف النصّ. والدليل على صحة اعتبار الجمع منهنّ أن أطماع الرّجال ينقطع عنهُن إذا كثرن وصرن جماعة، فيحصل الأمن لهنّ، ولا يؤدي إلى الفساد، وهذا معروف العرف المستقيم الجاري. فَرْعٌ قال أبو حامدٍ: لا تخرج في السّفر المباح إلا مع محرمها، ولا تخرج مع النسوة الثقات نصّ عليه، وهو المذهب لأن سفر الحج آكد لكونه فرضًا من غيره، ومن أصحابنا وجهًا آخر أنه وسفر الفرض سواء، وليس بشيء، وقال القفال: جميع الأسفار في هذا سواء، ومذهب الشافعي أنه لا يشترط المحرم في شيء منها، وهذا أصحّ، [20/ ب] وأقيس عندي. فَرْعٌ آخرُ لو كانت المرأة في دار الحرب عليها أن تهاجر إلى دار الإسلام وحدها ومع محرم سواء كانت الطريق مسلوكة أو لا، إن أمكنها ذلك بخلاف الخروج للحج، لا يلزم إذا كانت الطريق، غير مسلوكة؛ لان ذلك انتقال من الخوف لقصد الأمن فلا بأس، وإن كان الخوف في الطريق والسفر إلى الحج انتقال من الأمن فلا يجب إلا أن يكون الأمن موجودًا في الطريق. مَسْألَةٌ: قالَ (¬2): وروي عن عطاء وطاوس أنهما قالا: الحجة الواجبة من رأس المال، قال: الحجة الواجبة من الميقات لا من بلده لأن الحج إنما يجب من الميقات، وما وراءه فإنما هو نسب إليه، فبعد الموت يقضي عنه من ذلك الموضع واستأنس الشافعي في ذلك بقول عطاء وطاوس رضي الله عنهما، ثم قال: وهو القياس ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1995)، ومسلم (413/ 1338). (¬2) انظر الأم (2/ 99).

يريد به أنه دين عليه، والدين يقضى من رأس المال أوصى أم لم يوص كديون الآدميين، وفي هذا الذي ذكره بيان أن الحج والعمرة في الاستئجار سواء عليهما كما أنهما في الأركان وأحكام المحظورات سواء ثم ينبغي أن يستأجر عليه بأقل ما يوجد لأنه تصرف على الظاهر، وظاهر الشافعي بأقل ما يوجد من ميقاته يدلّ على أن عين ميقاته شرط في الحج، وليس المذهب على ما يقتضيه ظاهر اللفظ ومراد الشافعي بهذه العبارة، إما من عين ميقات بلد ذلك الميت، وإما أن يتحرى مقدار تلك المسافة التي بين ميقات الميت وبين مكة، فيحرم متيامنًا لذلك الميقات أو متياسرًا، ولو أحرم قبل محاذاته زاد خيرًا، ولا يجوز مجاوزته، ولو مرّ هذا الأخير على ميقات غير ميقات بلد الميّت [21/ أ] لم يجز له مجاوزته بغير إحرام سواء كان ذلك الميقات مثل ميقات الميت من المسافة أو أطول من ميقات الميت، فأما إذا مرّ على ميقات قريب من مكة، وميقات الميت أبعد منه مثل أن يكون الميت من أهل المدينة، وأحرم أحد من يلملم كان تاركًا لبعض الأمر لأن ما بين ذي الحليفة ومكة أضعاف ما بين يلملم ومكة، وإذا ترك بعض النسك، فماذا يكون حكمه؟ سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا ظاهر المذهب، وقال الشافعي في موضع آخر: قد قيل هذا، وقيل: إنه إن لم يوص به لا يحج عنه، وإن أوصى حجّ عنه من الثلث فحصل قولان، وهذا غير صحيح عندي، وقوله: وقيل كذا حكاية مذهب أبي حنيفة. فَرْعٌ النذور والكفارات وما وجب عليه باختياره فيه قولان: أحدهما: يخرج من رأس المال كالحج الشرعي، وهو الصحيح. والثاني: يخرج من الثلث لأنها أضعف حالًا مما وجبَ شرعًا، وهذا يبطل بالدين، فلا يصح القول به. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن كان هذا الإيجاب في مرضه، فهو من التلف، وإن كان في الصحة، فقولان مشهوران: أحدهما: من الثلث لأنه متهم في التزامه في حق وارثه لأنه مطالب به في الدنيا. فَرْعٌ آخرُ إذا ضاق المال عن ديون الآدميين، وحجة الإسلام فيه ثلاثة أقاويل: أحدهما: يقدم حجة الإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم: «فدين الله أحقّ أن يقضى». والثاني: يقدم الدين. والثالث: يقسم بالحصص. فَرْعٌ آخرُ إذا أوصى في الحج الواجب أن يؤدي من الميقات من الثلث، [21/ ب] فمعلوم أنه لو لم يرض به لكنا نأمره بذلك من رأس المال، ففائدة قوله: من الثلث أنه يزاحم أهل الوصايا بإدخال النقص عليهم، ثم إذا أصاب الحج قدر لا يكفي للحج من الميقات جبر ذلك بشي من رأس المال حتى يتم المال الذي للحج.

فرع آخر لو قال: يحج عني من بلدي من ثلثي فإنه يزاحم أهل الوصايا مما يصيبه أحج عنه رجل من حيث يبلغ ويفي به المال إلا أن لا يفي من المقيات لقلة ما أصابه بسبب كثرة الوصايا، فحينئذ يكمل من رأس المال. فرع آخر لو قال: يحج عني من بلدي ولم يقل: من الثلث، وقدر الحج من الميقات من رأس المال، وما من البلد والميقات يزاحم به أهل الوصايا فما يخصه يضم إلى ما أخرج للحج من الميقات ويحج عنه من حيث بلغ. فرع آخر إذا أوصى بحج التطوع وجوزنا يكون من الثلث، وهل يقدم على سائر الوصايا؟ قولان: كالعتق هل يقدم على الوصايا؟ قولان: أحدهما: يقدم لما فيها من القربة. والثاني: وهو الأصح لا يقدم فرع آخر إذا قلنا: لا يقدم فإن كان ما يخصه يكفي للحج من الميقات يفعل ذلك، وإن كان لا يكفي بطلت الوصية، وتبقى سائر الوصايا لأن الحج لا يتبعض بخلاف العتق، فإنه يتبعض فيعتق بما يخصه ثلث العبد أو نصفه. مسألة: قال (¬1): ولا يحج عنه إلا من أدى الفرض مرة. الفضل لا يجوز لمن لم يحج عن نفسه أن يحج عن غيره ويسمى ضرورة وكانوا يسمون بهذا الاسم في الجاهلية. قال الشافعي في "الأم": وأكره أن يقال ضرورة، وهذه كراهية تنزيه لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا صرورة في الإسلام" (¬2)، وروى أنه نهى أن [22/أ] ويسمى المسلم صرورة (¬3). ومعنى الخبر أن سنة الدين أن لا يبقى أحد من الناس يستطيع الحج فلا يحج حتى لا يكون صرورة في الإسلام. وقيل: معناه أن الصرورة إذا شرع في الحج من غير صار الحج عنه ليحصل معنى التقى فلا تكون صرورة، وبه قال الأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، وروى ذلك عن ابن عباس. الصرورة: الرجل الذي انقطع عن النكاح وتبتل على مذهب الرهبانية والنصارى. وعن أحمد رواية أنه لا يقع ذلك عنه ولا عن غيره. وقال أبو حنيفة ومالك نحو ذلك، ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 42). (¬2) أخرجه أحمد (1/ 312)، وأبو داوود (1729)، والحاكم (1/ 448)، والبيهقي في "الكبرى" (9768). (¬3) أخرجه البهيقي في "الكبرى" (9769).

ويقع عن غيره، وبه قال الحسن وعطاء والنخعي. وقال سفيان الثوري: إن أمكنه أن يحج عن نفسه ليس له أن يحج عن غيره، وإن لم يمكنه ذلك يجوز له أن يحج عن غيره. وهذا غلط لما ذكرنا من خبر شبرمة، وروي فيه: "اجعل هذا عن نفسك ثم حج عن شبرمة". وأدعى أصحاب أبي حنيفة بأنه مرسل غير متصل، وأن هذا القصة جرت بين ابن عباس وبين شبرمة لا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين شبرمة، لأن الشافعي روى ههنا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا غير صحيح، لأن الشافعي رواه موصولا، وذلك أنه قال: عن ابن عباس أنه سمع رجلاً، والهاء من قوله أنه كناية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عن ابن عباس، ولو قال: وروى ابن عباس أنه سمع رجلاً لكان كلاماً مستقيماً، فحسنت هذه الكناية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقيل: الظاهر من لفظ "المختصر" أن الشافعي وقفه على ابن عباس، ووجه دفع هذا السؤال أن يقال: قد روى جماعة هذا الخبر عن ابن عباس موقوفاً، ورواه أبو قلابة عن ابن عباس مرفوعاً فثبت مسنداً. فإن قيل: [22/ب] وهل تتفق قصتان لشبرمتين تتفقان من أولهما إلى آخرهما فهذا نوع يضاد الرواية. قلنا لا ندعي قصتين لشبرمتين، ولكنا متى وجدنا حديثاً يرسله بعد الرواة ويسنده بعضهم، والحديث حديث واحد، فمتابعة المسند أولى من متابعة المرسل، لأنه إثبات زيادة والزيادات في أسانيد الأخبار ومتونها مقبولة عن الثقات بالإجماع. فرع قال أصحابنا: ويستحب أن يحج بعد حجة الإسلام حجة ثانية عن نفسه ثم يشتغل بالنيابة عن غيره ليكون قد قدم نفسه في الفرض. فرع آخر إذا حج عن نفسه حجة الإسلام ولكن عليه حجة أخرى، أما بالنذر أو بالقضاء لا يجوز له أن يحج عن غيره، فإن حج انصرف ذلك إليه ولا أجرة له. فرع آخر لو كانت عليه حجة الإسلام وحجة منذورة لم يجز له تقديم الحجة المنذورة على حجة الإسلام، فإن أحرم بالمنذورة أولاً انعقد عن حجة الإسلام، وهكذا إذا مات فاستأجر وليه من يحج عنه الحجة المنذورة قبل حجة الإسلام وقعت عن حجة الإسلام دون المنذورة، وتقدم حجة القضاء على المنذورة على هذا الوجه الذي ذكرنا، وتقدم حجة الإسلام على حجة القضاء أيضا، وإنما يتصور اجتماع حجة الإسلام وحجة القضاء في مسألة واحدة لا نظير لها، وهي أن يحرم العبد البالغ بحج ثم يجامع، فإذا أكمل أفسده وعتق ووجد مالاً تجب حجة الإسلام والقضاء في ذمته قبل ذلك. فرع آخر إذا قلنا العمرة واجبة فحكمها حكم الجمع فيما ذكرنا، فإذا كانت عليه عمرة الإسلام لا يعتمر عن غيره، فإن اعتمر عن غيره كانت عنه، وإن حج ولم يعتمر له إن يحج عن غيره ولا يعتمر [23/أ] عن غيره، ولو اعتمر ولم يحج، له أن يعتمر عن

غيره، ولا يحج عن غيره. فرع آخر من حج عن نفسه ولم يرد به فرضاً لا يجوز له أن يحج عن غيره، كالعبد والصبي لأنهما ليسا من أهل الفريضة، وقال أبو حنيفة في العبد: يجوز ذلك. فرع آخر إذا استأجر عبداً ليحج عنه حجة النذر، فإن قلنا: يسلك به مسلك النفل يجوز وإن قلنا يسلك به مسلك القرض لا يجوز وفي هذا نظر لأن العبد لو نذرها وحج بإذن سيده يجوز، فهو من أهل أداء الحجة المنذورة، فيجب أن يجوز له أداؤها عن الغير. فرع آخر قال في "الجامع الكبير": قال الشافعي: لو كان قد حج عن نفسه، ولم يعتمر فحج عن غيره واعتمر أجزأه الحج دون العمرة، قال المزني: هذا غلط، لأنه إذا قرن بينهما فقد تداخلا وصارا كالعبادة الواحدة، فلا يجوز أن يقع بعضها عنه، وبعضها عن غيره، فيقعان عنه. قال أصحابنا: الأمر على ما ذكره المزني، ولم يرد الشافعي به إذا قرن بينهما، وإنما أراد به إذا أفرد فحج، ثم اعتمر عقيبه، فيكون الحج عن غيره والعمرة عن نفسه. فأما إذا أقرن بينهما جميعاً، فيقعان عنه لأن القران كالنسك الواحد عند الشافعي. فرع آخر لو استأجر ضرورة لأداء الحج ولم يعين العام الذي يحج فيه، بل ألزم ذمته ذلك يجوز، فيحج عن نفسه في هذا العام، ثم بالإجارة عاماً آخر فرع آخر ذكره والدي إذا قال: إذا كلمت فلاناً فلله على أن أحج فكلمه، فهو مخير في القول الصحيح بين الوفاء وبين الكفارة باليمين، وكان حج حجة الإسلام له أن يحج عن غيره ههنا قبل اختياره أحد الأمرين أم لا؟ يحتمل أن لا يجوز لأنه لو حج وأطلق النية [23/ب] صح عن المنذور، فإذا كان حجه عند الإطلاق يتصرف لم يكن له أداء حج عن غيره، ويحتمل أن يجوز لأنه لم يتعين عليه، وعندي الأول أقيس. فرع آخر قال أيضاً: إذا كانت على العبد حجة النذر، فصار معصوباً هل يجوز للحر أن يحج عنه إذا حج حجة الإسلام أم لا؟ يحتمل جوازه، لأن قضاء الدين عن العبد صحيح بصحته عن الحر، ويحتمل أن لا يجوز، ولو مات هذا العبد هل يحج عنه المنذور؟ إن أوصى به جاز، وإن لم يكن أوصى فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز.

والثاني: يجوز كما يجوز لوارث الحر أن يحج عنه حج الفرض، وإن لم يترك مالاً، ولم يوص به والسيد في العبد كالوارث في الحر، فإذا قلنا: يجوز أن يحج عنه، فإن حج السيد عنه صح، وإن حج غيره عنه، فإن كان بإذن السيد صح، وإن كان بغير إذنه فيه وجهان، وأصل هذا أن الحر إذا مات فحج عنه أجنبي بغير إذن الوارث فهل يصح عنه؟ فيه وجهان، وأصل الوجهين في الأصل أن خيار الثلاثة ينتقل من الحر إلى وارثه قولاً واحداً، وهل ينتقل من المكاتب إلى سيده بموته؟ وجهان. فرع آخر وقال أيضاً: إذا قلنا: العمرة غير واجبة هل يجوز فعلها من الغير، وقبل فعلها عن نفسه؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز لأن العمرة على هذا القول كحجة التطوع وتصح النيابة فيها، قبل فعلها عن نفسه بعد أداء الفرض كذلك القول في العمرة. والثاني: لا تجوز لأن العمرة إحدى نسكي القران، فلا يجوز فعلها عن الغير، قبل فعلها عن نفسه كالحج. فرع آخر وقال أيضاً: إذا حج حجة الإسلام ثم نذر أن يحج في العام الثالث هل يجوز له في العالم الثاني [24/ أ] أن يحج حجة التطوع أو يحج عن غيره؟ له ذلك، لأن حجة الإسلام سقطت عنه والمنذور لم يتوجه عليه، فكان له التطوع في الحج عن الغير كما لو لم يوجد منه هذا القول، وقيل: يجوز له أن يتطوع بالحج، ولا يجوز له أن يحج عن غيره لأن حجة النذر غير واجبة في العام الثاني ولها حالة الوجوب، في العام الثالث فصح في العام الثاني. إذ التطوع وإن لم يصح الأداء عن الغير كالصبي يجوز لهما أداء حج التطوع لا فرض عليهما، ولا يجوز لهما أن يحجا عن غيرهما لأن لهما حالة وجوب حجة الإسلام. فرع آخر وقال أيضاً: إذا قلنا: يلزم الإحرام لدخول مكة، وإذا ترك لا قضاء على قول ابن أبي أحمد حتى يصير خطاباً هل يجوز له أن يحج عن الغير أم يتطوع قبل أن يصير خطاباً؟ يحتمل وجهين: أحدهما: لا يجوز لأن الفرض لازم عليه، ولكنه لا يتمكن من تحصيله في الحال ألا ترى أنه إذا صار خطاباً يلزمه القضاء؟ والثاني: يجوز لأنه لو لم يجز عن حجة التطوع وعن الغير وجب أن يصح عن الفرض كما في الفقر الذي حج حجة الإسلام إذا نذر حجاً ثم تطوع أو حج عن الغير ما لم يصح عما نواه لأجل الفرض صح عن الفرض فلما لم يصح ههنا عن القضاء وجب أن لا يكون وجوب القضاء في ذمته مانعاً من التطوع والنيابة عن الغير، وهذا أوضح لأن الأول يؤدي إلى أن لا تصح حجة هذا الرجل ما لم يصر خطاباً لأن إحرامه لا يصح عن القضاء أيضاً، ويبعد أن لا يصح حج العاقل المسلم البالغ ما لم يصر.

خطاباً، فإذا صح هذا فليس على أصلنا مسلم صح التطوع فيها بالحج والنيابة مع وجوب الفرض عليه إلا في هذا الموضع. فرع آخر [24/ب] إذا نظر حجاً في عام معين، وكان حج حجة الإسلام، فلم يحج في ذلك العام ثم نذر حجاً آخر فهل عليه أن يقدم حجة القضاء أم له الإتيان بالمنذور ثانياً؟ قال والدي رحمه الله: عندي له أن يأتي بحجة القضاء وله الإتيان بالمنذور الثاني، لأن كل واحد منهما واجب عليه بالنذر، فلو منع القضاء من الثاني لمنع الثاني من القضاء، فيؤدي إلى أن لا يمكن تحصيلهما، وهذا محال. ويفارق هذا حجة الإسلام مع حجة النذر لأن إحديهما وجبت بإيجاب الله تعالى على الانفراد، فيكون أكد وتقدم الأكد واجب وفي هذا الموضع هما واجبان بإيجابه ونذره، فاستويا في القوة، ويحتمل أن يقال: يقدم حجة القضاء لأنها استوت وجوباً، وللسابق في الأصول مزية. فرع آخر وقال أيضاً: إذا نذر العبد حجاً فشرع فيه ثم اعتق في أثنائه، فإن كان قبل الوقوف انصرف إلى حجة الإسلام، وإن كان بعد الوقوف صح عن النذر اعتباراً بما لو اعتق في أثناء حج التطوع ووجه الجمع أن تقديم حجة التطوع على حجة الإسلام لا يجوز، ولذلك تقديم حج النذر عليها لا يجوز، فلما وجب في أحديهما صرف الإحرام إلى حجة الإسلام إذا كان العتق قبل الوقوف كذلك القول في الآخر مثله. فرع آخر وقال أيضاً: إذا شرع في حجة النفل، ثم نذر حجاً فإن كان بعد الوقوف لا ينقلب إلى المنذور وإن كان قبل الوقوف فيه وجهان: أحدهما: ينصرف إلى المنذور كما لو شرع العبد في حج التطوع ثم اعتق قبل الوقوف انصرف إلى حجة الإسلام، ولا فرق بين طريان وجوب المنذور وبين طريان وجوب حجة الإسلام، لأن [25/ أ] كل واحد منهما من فعل تطوع الحج. والثاني: لا ينصرف إليه لأنا لو صرفناه إليه وجب القول بأن الإحرام انعقد عن النذر، وهذا محال لأن إحرام المنذور لا يسبق النذر بحال فيبقى عن التطوع كما كان، ويفارق حجة الإسلام لأن فعلها قبل وجوبها صحيح في الجملة، فأمكن القول بأن الإحرام انعقد عنهما حكماً، وإن لم يكن واجب عليه في تلك الحالة، وهذا واضح. وقيل: هذا بناء على أن الصبي إذا أحرم، ثم بلغ هل ينقلب فرضاً في الوقت؟ إن تبينا أن إحرامه انعقد فرضاً، فالنذر لا يمكن إفساده، فلا يحتسب به عن النذر ومن قال بالأول كان يفترض على هذا، فيقول: حالة العبودية ينافي حجة الإسلام، كما أن قبل النذر الحالة حالة تنافي المنذور، فإذا جاز في إحداهما أن يجعل كأن الإحرام وقع بحج الإسلام، وإن لم تكن تلك الحالة وقتاً لأداء حج الإسلام وجاز في الآخر أن يجعل لأن الإحرام وقع بحج النذر، وإن لم تكن تلك الحالة وقتاً لأداء المنذور ولا فصل بينهما.

فرع آخر قال: لو نذر حجاً بعدما شرع في الحج عن غيره، وكان حج الإسلام لم ينصرف الحج إليه، وإن كان مثل الوقوف لأن الحج إذا انعقد عن شخص لا ينصرف إلى شخص آخر، ويفارق هذا إذا شرع في حج النفل، ثم نذر حجاً حيث صرفنا إلى المنذور في أحد الوجهين، لان جواز ذلك في حق الشخص الواحد لا يدل على جوازه في حق الشخصين ألا ترى أن الصبي إذا بلغ في أثناء الصلاة انصرفت إلى الفرض ويستحيل ذلك في شخصين لامتناع النيابة فيها. فرع آخر إذا كانت عليه حجة الإسلام، فقال: لله على أن أحج هذا العام [25/ب] إن شفي الله مريضي لم يصح النذر، لأن هذا العام متعين لحجة الإسلام لا يجوز إيقاع غيرها فيه، فلا يصح نذر حج آخر فيه، كما لو نذر صوماً في رمضان لم يصح النذر، ولو نذر، ولو نذر حجاً في عام، ثم نذر حجاً آخر في ذلك العام، وكان حج حجة الإسلام فيه وجهان: أحدهما: عليه حجة واحدة. والثاني: تلزمه حجتان. وهما مبنيان على أن العام الذي عينه بالنذر لحجة هل يجوز إيقاع حجة أخرى منذورة فيه؟ وفيه وجهان. فرع آخر قال: إذا بقيت عليه ركعتا الطواف، وقلنا: هما واجبتان وفرغ من سائر أعمال الحج هل يجوز له أن يحرم عن الغير؟ عندي أنه يجوز، ويجوز أيضاً أن يحرم عن نفسه بحجة التطوع، لأن بقاء الصلاة عليه لا يمنع من النيابة والتطوع، فكذلك واجبة بالشرع، ومنذور الصلاة لا يمنع النيابة، فكذلك واجبه شرعاً بحق الإحرام. فرع آخر قال: إذا أحرم عن المعصوب بحجة النفل في أصح القولين فنذر المعصوب بالحج قبل وقوف النائب بعرفة، فهل ينصرف ذلك الحج إلى المنذور أم لا؟ فيه وجهان مبنيان على أن الشارع في التطوع لنفسه إذا نذر الحج هل ينصرف إليه؟ وجهان. وهذا لأن الإحرام عن المعصوب كإحرام المعصوب بنفسه، ولو كان متمكناً من الحج بنفسه. فرع آخر إذا بذل الطاعة لأحد أبويه، فلزمه أداء الحج لو أراد أن يحج عن غيره، قال بعض أصحابنا: يجوز لأنه الأداء بنفسه لأنه إن شاء فعله بنفسه، وإن شاء استأجر غيره ليحج عنه، ونظيره أن يموت على حج، ثم أراد الوارث [26/ أ] الحج عن غيره قبل فرض الميت كان له ذلك، فكذلك فيما ذكرناه. فرع آخر قال: إذا ارتد بعد وجوب الحج عليه واستقراره لم يسقط عنه، فلو مات على الرد يحتمل أن يقال: يقضي عنه كالزكاة، والأقوى أنه لا يقضي عنه لأن الحج عبادة على

باب تأخير الحج

البدن فمن شرطها أن يقع قربه، ولا يحصل ههنا، لأن المرتد ليس من أهل القرية، والحج يقع عنه والزكاة حق المال قد يستوفي على طريق الغرامة كما يستوفي قربة. فرع آخر قال: إذا بذل الطاعة لوالده، وقلنا: ليس له الرجوع، فلو بذل الوالد الطاعة لوالده يجب الحج على الابن في أصح الوجهين، وهل للأب الرجوع؟ وجهان: أحدهما: لا يرجع كالابن فيما ذكرناه. والثاني: له الرجوع كما يرجع في الهبة بعد إبرامها بالقبض بخلاق الابن. ومن قال بالأول أجاب عن هذا بأن للأب حقاً في مال الابن بالنفقة والإعفاف أو الولاية، فصح إثبات الرجوع له في الهبة على الاختصاص، ولا دخل للأب في حج الابن، فلا رجوع له كما يرجع الابن. مسألة: قال (¬1): وكذلك لو أحرم تطوعاً وعليه حج. الفضل من عليه فرض الحج إذا أحرم به ينوي تطوعاً يقع عن فرضه، وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: يقع تطوعاً، وهذا غلط لأنه لو أطلق الإحرام يقع عن فرضه في رواية الأصول، فكذلك إذا قيد بالنفل لأن إطلاق النية كالمقيد في هذا الباب ألا ترى أنه لو أطلق الإحرام بالصلاة، وعليه فرضها يقع عن النفل كما لو قيد بالنفل؟ وكذلك لا يجوز أن يتطوع بالعمرة، وعليه فرضها، فإن أحرم بها بنية التطوع [26/ب] وقع عن الفرض. باب تأخير الحج مسألة: قال (¬2): أنزلت فريضة الحج. الفضل وقت الحج عندنا موسع وهو ما بين أن يحيا إلى أن يموت، فإن حج بنفسه فقد أدى الفرض في وقته، وإن مات قبل أن يحج، وكان مستطيعاً للحج، فقد مات عاصياً والمستحب تعجيله بلا أشكال. وبه قال الثوري والأوزاعي ومحمد، وقال مالك وأحمد وأبو يوسف: هو على الفور فيجب على من قدر أداءه، فإن أخره أثم وعصى، وهو اختيار المزني، وقال الكرخي: مذهب أبي حنيفة أنه على الفور، وقيل: لا نص فيه عنه، وأصحابه يقولون: مذهب مثل مذهب أبي يوسف، وهو اختيار المزني إلا أن عند مالك إذا أخره عن السنة التي وجب فيها، ثم حج في غيرها صار قاضياً كمن أخر الصلاة عن وقتها، وعندهم متى حج في عمره يكون مؤدياً لا قاضياً. وأصل هذه المسألة أن الأمر المطلق هل هو على الفور أم التراخي؟ واحتج الشافعي بأن قال: "أنزلت فريضة الحج بعد الهجرة" يريد قوله تعالى: {آمِنًا ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ} [آل عمران: 97]، الآية، فإنها مدنية، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر على الحج يريد سنة ثمان ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 44). (¬2) انظر الأم (2/ 44).

من الهجرة، وتخلف النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة بعد منصرفه من تبوك لا محارباً ولا مشغولاً بشيء، وتخلف أكثر المسلمين قادرين على الحج وأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلفن أيضاً عن الحج مع الإمكان، فلو كان ترك الحج كترك الصلاة حتى يخرج وقتها ما ترك النبي صلى الله عليه وسلم [27/أ] الفرض ولا ترك المتخلفون عنه من أصحابه وأزواجه. ولم يحج رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فرض الحج إلا حجة الإسلام، وهي حجة الوداع سنة عشرة، وهي أخر عمرة ودع فيها الناس وعاش بعد ثمانين يوماً، ثم قبض إلى رحمة الله تعالى، ثم أوضح هذا بما روي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام بالمدينة تسع سنين لم يحج ثم حج، وقصد الشافعي بهذا إسقاط سؤالين لأبي حنيفة. أحدهما، يقول: الحجة التي حجها في آخر عمره عساها كانت تطوعاً، وكان قد حج حجة الإسلام بعد الفتح قبل حجة المدينة إذا كانت له أسفار كثيرة إلى مكة. والثاني يقول: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم حججاً كثيرة أجزأته واحدة منها عن حجة الإسلام، قال جابر رضي الله عنه: حج رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حجج، حجتين قبل أن يهاجر، وحجة بعدما هاجر معها عمرة، فأشار، الشافعي إلى إسقاط الثاني، بقوله: إلا حجة الإسلام، وهي حجة الوداع، فأخبر أن الحجة إلى سميت حجة التي سميت حجة الوداع لتوديعه فيها الناس هي حجة الإسلام لأنها أول حجة فعلها بعد نزول الفرض، فأما ما فعل بمكة قبل الهجرة، وقبل نزول الفرض فلا يتصور أن ينصرف إلى حجة الإسلام كما يصلي صلاة تطوع قبل دخول وقت المكتوبة، فلا ينوب تطوعه مناب المكتوبة. وقد قال قتادة: قلتُ لأنس: كم حج النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: حجة واحدة، واعتمر أربع عمر: [27/ ب] عمرة في ذي القعدة، وعمرة الحديبية، وعمرة مع حجته وعمرة الجعرانة، إذا قسم غنائم حنين، فإذا تقرر هذا، اختلف أصحابنا في أول وقت العصيان إذا مات بعد الإمكان، فقال أبو إسحاق: يكون عاصياً من السنة الأخيرة لأنا نجيز له في كل سنة أن يؤخره بشرط أن لا يفوته فعله، فإذا أخره عن السنة الأخيرة لأنا نجيز له في كل سنة أن يؤخره بشرط أن لا يفوته فعله، فإذا أخره عن السنة الأخيرة، ومات فقد علمنا أنه لم يكن جاز له تأخيره. ومن أصحابنا من قال: كان عاصياً من السنة الأولى لأنا إنما أجزنا له التأخير من أول حال الإمكان بشرط أن لا يفوته، فإذا فاته صار عاصياً بتأخيره من أول حال الإمكان. وقيل: فائدة الوجهين أنه لو شهد عند القاضي، وحكم بشهادته، ثم مات، ولم يحج، فإن قلنا: نحكم بالعصيان من آخر السنة فهذا فسق ظهر بعد الحكم فلا يؤثر فيه، وإن قلنا: نحكم به من أول السنة يصير كما لو بان فيقهم عند الحاكم، ومن أصحابنا من قال: بقول: يعصي بتأخيره إلى الموت في الجملة من غير تعيين وقت، فيقول لمن لزمه الحج وقدر لك أن يؤخره بشرط السلامة، وهو أن يفعله من بعد، فإن لم نفعل عصيت، وهذا كما تقول للزوج أن يضرب زوجته بشرط السلامة، فإذا أدى إلى التلف تبيناً أنه لم يكن مأذوناً، ومن أصحابنا من قال: لا يصير عاصياً، ولكن يقول: إنه كان مفرطاً كما تقول للزوج أن يضرب زوجته بشرط السلامة، فإذا أدى إلى التلف تبينا أنه لم يكن مأذوناً، ومن أصحابنا من قال: لا يصير عاصياً، ولكن يقول: أنه كان مفرطاً كما ينسب تارك الصلاة عن أول وقتها حتى يعجز إلى التفريط دون العصيان، وهذا اختيار صاحب "الإفصاح" لأنا جوزنا له

باب وقت الحج والعمرة

التأخير، ولا يعرف هو وقت الموت، فلا ذنب له ثم على هذا القول فيه وجهان: أحدهما: أنه مفرط من أول وقت إمكانه [28/أ]. والثاني: أنه غير مفرط من آخر وقت إمكانه. وقال أبو ثور: لا نحكم بعصيانه أصلاً، ومن أصحابنا من قال: إذا غلب ظنه بالإمارات أنه إذا أخرها عن تلك السنة يصير عاجزاً بالكبر والضعف والفقر يصير عاصياً من تلك السنة عند الإمكان، وإن أدركه قضاء الله تعالى فجأة، أو مع رجاء الحياة وبقاء القوة واشتغاله بأمر المعاش لا يصير عاصياً، ولا يمتنع أن يتعلق الحكم بالظن الغالب كما أن الله تعالى كتب الوصية في الابتداء على حضر الموت يعني أمارته الدالة عليه لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إن تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] وكان الحكم أنه يعصي بتركها عند وجودها، ولا يعصي من دون ذلك. كذلك ههنا، وهذا أصح عندي. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لو كان يخشى الزمانة، أو تلف ماله، هل له تأثير الحج؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك كما لو لم يخش الزمانة، فإنها موهومة وأصل وجوبه على الفور، فلا يتعين بالوهم. والثاني: ليس له ذلك، ويصير عاصياً به لأنه لا يمكنه أداء الحج عند الزمانة. فرع لو وجب عليه الحج، فلم يحج حتى صار معصوباً، وله مال هل يلزمه أن يستنيب على الفور؟ وجهان: أحدهما: لا يلزمه ذلك بل هو على التراخي لأنه في القادر على التراخي. والثاني: أنه على الفور، لأن الحج فات، وهذا بدل الحج، فهو كقضاء الصلاة على الفور إذا فاتته الصلاة بغير عذر، فعلى هذا لو امتنع يستأجر الحاكم من ماله من يحج عنه. فرع آخر قال أبو إسحاق: [28/ب] إذا أخر قضاء الصلوات حتى مات قبل قضائها يصير عاصياً، لأن آخر وقت القضاء غير معلوم، كآخر وقت الحج غير معلوم، كآخر وقت الحج غير معلوم، وإنما يجوز له أن يؤخرها بشرط أن لا تفوته، ولو أخر الصلاة عن أول وقتها إلى آخره، فمات قبل أن يصلي لا يصير عاصياً، لأن آخر وقتها معلوم، فلا يراعي فيه شرط السلامة عند الإذن بتأخيرها إليه، وهو كالحد الذي هو مقدر الطرفين إذا أدى إلى التلف لا يوجب الضمان بخلاف التعزيز المؤدي إلى التلف فإنه يوجب الضمان. باب وقت الحج والعمرة مسألة (¬1): قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]. قال: وأشهر الحج شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة. القصد من هذا الباب بيان معرفة وقت جواز أفعال الحج والعمرة من السنة، فلا خوف أن وقت أفعال الحج سوى ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 48).

الإحرام إنما هو أشهر الحج التي ذكرها الله تعالى في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، وتفسير هذه الأشهر ما ذكره الشافعي بعد الآنية، وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة، وهو يوم عرفة يعني: والتاسع هو يوم عرفة، وفيه معظم الحج، كما قال صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة" (¬1) يعني الوقوف بعرفة يوم عرفة، ويكون عشر ليالي من ذي الحجة، فإذا طلع الفجر ليلة النحر خرجت أشهر الحج. وروي هذا ابن الزبير (¬2) وابن مسعود (¬3) رضي الله عنهما، وهو مذهب أبي يوسف. وقال أبو حنيفة: الحج: شوال [29/ أ] وذو القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة، فأدخلوا يوم النحر فيه. وبه قال أحمد، وقال مالك: أشهر الحج: شوال وذو القعدة وذو الحجة، وقيل: نص عليه الشافعي كتاب "الإملاء"، وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما روايتان: أحدهما: مثل قولنا. والثانية: مثل قول مالك، وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: روي نحو قولنا عن أبن مسعود وابن عمر وابن عباس وابن الزبير، ولا يتعلق بهذا الاختلاف حكم، والدليل على ما ذكرنا قوله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ} [البقرة: 197]، فلا يخلو، أما إن أراد به الإحرام، أو الأفعال، وكلاهما لا يختص بثلاثة أشهر، ولأن الرفث وهو الجماع، يحل يوم النحر، وفي باقي الأيام من ذي الحجة، فدل أنها ليست من أشهر الحج، ولأن بعد يوم النحر وقت لو اعتمر فيه مضافاً إلى حجة من سنته لا يلزمه دم، فلا يكون من أشهر الحج كشهر رمضان. واحتج مالك بأن الله تعالى ذكر الأشهر بلفظ الجمع، وأقله ثلاثة، قلنا: قد يعبر عن الاثنين وبعض الثالث بلفظ الجمع، كما قال تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، وأراد به الأطهار عندنا، وعنده، وهي طهران وبعض الثالث، كذلك ههنا، فإن قيل: ما معنى قوله: وتسع من ذي الحجة؟ أيريد بالتسع تسع ليال أو يريد الأيام؟ فإن أراد الليالي، فهي عشر، وإن أراد الأيام، ففيه خلل من وجهين. أحدهما: أن العبادة عن الأيام بإثبات الهاء لا بحذفها إذا العرب تقول: تسعة أيام وتسع ليال. والثاني: أن وقت الحج لا ينقضي بانقضاء اليوم التاسع، بل يبقى، وفيه الليلة العاشرة حتى يطلع فجرها. قلنا: االمراد [29/ ب] بقوله: وتسع من ذي الحجة إلى تسع ليال، والعرب إذا أطلقت حساب الليالي إنما تريد الليالي بأيامها لقوله تعالى {ووَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142]، أي: بعشر ليال مع أيامها، فدخل يوم عرفة تحت قوله: وتسع ذي الحجة وبقيت ليلة النحر غير داخلة تحت هذه العبادة، فألحقها ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 309، 310)، وأبو داود (1949)، والترمذي (889)، والنسائي (3044)، وابن ماجة (3015)، وابن حبان (3881)، والحاكم (2/ 278)، والدارقطني (2/ 240، 241). (¬2) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8714). (¬3) أخرجه البيهقي في الكبرى" (8712).

به، فقال: "فمن لم يدركه إلى الفجر من يوم النحر، فقد فاته الحج" ولا فرق بين الاقتصار على ذكر التسع، ثم إلحاق الليلة العاشرة بها، وبين ذكر العشر ثم استثناء اليوم العاشر منها إذ لو قال: وعشر من ذي الحجة لدخل يوم النحر تحت الجملة، ولاحتاج إلى الاستثناء يوم النحر لأنه ليس من وقت الحج، وإنما هو وقت بقايا مناسكه. فإن قيل: إذا دخل يوم عرفة تحت قوله: وتسع من ذي الحجة، فما معنى قوله بعده: وهو يوم عرفة، وهل هذا إلا إعادة الكلام المستغني عن إعادته؟ قلنا: مقصوده بإعادة هذه اللفظة تخصيص يوم عرفة بوقوع الحج فيه لأن الأيام التي قبله وقت الإحرام، وليست بوقت الوقوف فإذا دخل يوم عرفة دخل وقت الوقوف، وقيل: إنما أفردها لأن الإحرام يستحب قبلها ليبقى من النهار بعد إحرامه ما يقف فيه، أو أفردها لتعلق الفوات بها. مسألة: قال (¬1): ولا يجوز لأحد أن يهل بالحج قبل أشهر الحج. فإن أحرم به قبلها انعقد بالعمرة، ولا ينعقد بالحج كما لو أحرم بالظهر قبل وقتها ينعقد نافلة. وبه قال ابن عباس (¬2) وجابر (¬3) والأوزاعي وأحمد وإسحاق، وقال أبو حنيفة ومالك والثوري: ينعقد بالحج، ولكنه يكره، وبه قال أحمد، واحتجوا بقوله تعالى [3/أ]: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والْحَجِّ} [البقرة: 189]، فجعل جميع السنة للحج، وهذا غلط لقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197]، وتقديره وقت الحج، أو أشهر الحج، فحذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، فلو كان جميع السنة، وقتاً له، ما كانت للمعلومات فائدة تظهر. واحتج الشافعي بعد هذا بقول جابر وذلك أنه سئل: أيهل بالحج قبل أشهر الحج؟ فقال: لا، وأستأنس بقول عطاء لمن أحرم بالحج قبل أشهره: أجعلها عمرة (¬4)، أي: ائت بأعمال العمرة، فإن إحرامك انعقد بها، وأما الآنية التي ذكروها دليلنا لأنها تقتضي أن يكون بعض للناس، وبعضها للحج، أو نحملها على هذا بدليل ما ذكرنا، وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا أحرم بالحج قبل أشهره لا ينعقد عمرة، لأن الشافعي يتحلل بعمل عمرة فحصل قولان: أحدهما: ينعقد عمرة حتى لو كانت عليه عمرة الإسلام تسقط بهذه العمرة. والثاني: لا تنعقد عمرة بل هو إحرام لا يصلح لحج، ولا لعمرة لأنه يصح حجاً، ولم ينو العمر فيتحلل بعمل العمرة من الطواف، والسعي والخلاف كمن فاته ولا يحتسب له، ومن أصحابنا من ذكر قولاً ثالثاً أنه انعقد في الجملة، فإن شاء صرفه إلى العمرة، ويصح العمرة عن عمرة الإسلام، وإلا فلا يصح، ومن أصحابنا من قال: لا تجزئ عن عمرة الإسلام قولاً واحداً، وحيث قال: تجزئ صورته أنه أطلق الإحرام، ولم يعين حجاً، ولا عمرة فيصرف إلى ما يصلح الوقت له، وهو العمرة والمشهور الأول، وهو المذهب. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 47). (¬2) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8719، 8721). (¬3) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8718). (¬4) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8723).

وقال داود: يبطل إحرامه، ولا ينعقد بواحد منها. فرع لو أحرم [30/ب] بالحج ليلة النحر، ووقف بعرفة، هل يكون مدركاً للحج، وجهان: أحدهما: يكون مدركاً، لأن كل زمان كان صالحاً للوقوف كان صالحاً لإنشاء الإحرام بالحج فيه كيوم عرفة. والثاني: لا يكون مدركاً، لأن ليلة النحر كالتبع ليوم عرفة في رخصة الإدراك وتوسعة الأمر، فما لم يحصل إحرامه قبل هذه الليلة لم يدرك الحج بالوقوف فيها. ذكره أصحابنا بخراسان، قالوا: ومعنى الوجهين أن ليلة النحر هل تعد من أشهر الحج أم لا؟ مسألة: وقال (¬1): ووقت العمرة متى شاء. وقت العمرة ليس بمحصور كوقت الحج بل هي في جميع السنة جائزة متى شاء اعتمر وتستحب له أن يكثر منها، ولا يكره فعلها في شيء من أوقات السنة. وبه قال أحمد. وحكي عن مالك أن يكره العمرة في أشهر الحج، وهي ثلاثة أشهر كوامل، وفائدة قوله: أشهر الخرم ثلاثة أشهر كوامل، هذا وحكي عنه أنه قال: لا يجوز فعل العمرة في السنة إلا مرة واحدة. وبه قال سعيد بن جبير والنخعي وابن سيرين. وحكى عن أبي حنيفة أنه قال: يكره في خمسة أيام: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق. وقال أبو يوسف: يكره في أربعة أيام: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، واحتجوا بقول عائشة: السنة كلها وقت العمرة، إلا خمسة أيان: يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق، وهذا غلط لأن كل وقت لا يكره في القرآن بين الحج والعمرة لا يكره فيه إفراد العمرة بالإحرام أًله قبل يوم عرفة، وأما [31/أ] خبر عائشة قلنا: ليس فيشيء من الأصول، وإن صح فحمله على أنه أراد إذا كان متلبساً بإحرام الحج، واحتج الشافعي على مالك فقال: "ومن قال لا يعتمر في السنة إلا مرة خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه أعمر عائشة في شهر واحد من سنة واحدة مرتين، وخالف فعل عائشة نفسها، وعلي، وابن عمر، وأنس رضي الله عنهم". وأما السنة فما روت عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في سنة واحدة عمرتين، أحديهما في شوال والثانية في ذي القعدة. وكذلك أمر عائشة بالقرآن لما نفست بمكة، ثم لما فرغت من القرآن قال لها: "طوافك بالبيت يكفيك لحجك وعمرتك" فقالت: يا رسول الله، أكل نسائك ينصرفن بنسكين وأنا أنصرف بنسك واحد - ومعناه أنهن ينصرفن بعمل نسكين وأنا أنصرف بنسك واحد - فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر فأعمرها من التنعيم (¬2). ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 47) (¬2) أخرجه البخاري (319، 328، 1516، 1556، 1560، 1562، 1773، 1783)، ومسلم (437/ 1349).

فهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرتين يجمعها في سنة واحدة، إحديهما هي المقرونة بالحج، والثانية هي المفردة عن الحج. وأما فعل عائشة نفسها فهو ما روي عن سعيد بن المسيب قال: اعتمرت عائشة في سنة واحدة مرتين، مرة من ذي الحليفة، ومرة من الجحفة (¬1). وروى صدقة بن يسار، عن القاسم بن محمد، قال: اعتمرت عائشة في شهر واحد مرتين. قال صدقة: قلت للقاسم: ولم يعب عليها (أحد) فقال: سبحان الله أم المؤمنين (¬2). أي أم المؤمنين تفعل ما يعاب. وأما فعل على فهو ما [31/ب] روى سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: في كل شهر عمرة (¬3). ومثله لا يندب إلى خير إلا ويقصد بنفسه فعله إذا تمكن منه. وأما فعل ابن عمر فهو ما روى موسى بن عقبة، عن نافع قال: اعتمر ابن عمر - رضي الله عنهما - أعواماً في إمارة ابن الزبير في كل سنة مرتين (¬4). وروى: ابن عمر كان يعتمر في كل يوم من أيام بن الزبير. ذكره في "الشامل" وذكر أيضاً عن على رضي الله عنه أنه كان يعتمر في كل يوم مرة. وأما فعل أنس فهو ما روى سفيان، عن ابن أبي حسين، عن بعض أولاد أنس قال: كان أنس رضي الله عنه كلما حمم رأسه اعتمر (¬5). أي كان لا يحلق إلا في عمرة، ويروى بالجيم من الجمة، ويروي بالحاء من الحمة. والدليل على أنه لا يكره في شيء من السنة، ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العمرة إلى العمرة تكفر ما بينهما، والحج المبرر ليس له جزاء إلا الجنة" (¬6). والمبرور: الذي لا يخالفه إثم. وروى البراء بن عازب أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر في ذي القعدة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: والله ما أعمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة في ذي الحجة ألا ليقطع بذلك أمر أهل الشرك، فإن هذا الحي من قريش كانوا يقولون: إذا عفا الوبر وبر الدبر ودخل صفر فقد حلت العمرة لمن اعتمر (¬7). وقوله: "عفا الوبر": أي كثر وكانوا لا يعتمرون في الأشهر الحرم حتى تنسلخ. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8726)، وفي "معرفة السنن" (2700). (¬2) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8727)، وفي "معرفة السنن" (2699). (¬3) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8728)، وفي "معرفة السنن" (2697). (¬4) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8729)، وفي "معرفة السنن" (2701). (¬5) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8730)، وفي "معرفة السنن" (2698). (¬6) أخرجه البخاري (3/ 2)، ومسلم (437/ 1349)، والترمذي (933)، والنسائي (2622)، وابن ماجة (2888)، وأحمد (2/ 246). (¬7) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8732)، وفي "معرفة السنن" (3/ 499).

باب وجوب العمرة

وقالت أم معقل: يا رسول الله، أني امرأة قد كبرت وسقمت، فهل من عمل يجزي عني من حجتي؟ فقال: عمرة [32/أ] في رمضان تجزي حجة" (¬1). وروي: "تعدل حجة". باب وجوب العمرة مسألة (¬2): قال الله تعالى: {وأَتِمُّوا الحَجَّ والْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]. اختلف قول الشافعي في وجوب العمرة، قال في "الأم" ونقل المزني أنها واجبة، وهو المشهور والصحيح، فإذا وجد الزاد، والراحلة، فقد لزمه الحج والعمرة لأن الاستطاعة الواحدة تمكن أداء كليهما. وبه قال عمر وابن عمر وابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد وسعيد بن المسيب والثوري وأحمد وإسحاق، وقال في "القديم" و"أحكام القرآن من الجديد" ليست بواجبة بل هي سنة لا أخرص في تركها لمن قدر. وبه قال ابن مسعود والشعبي ومالك وأبو حنيفة، واحتجوا بما روى أبو صالح الحنفي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "الحج جهاد والعمر تطوع" (¬3)، وروى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن العمرة: أواجبة؟، قال: لا، وإن تعتمروا فهو أفضل" (¬4) أورده أبو عيسى. وروى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال" دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" (¬5) يعني فرضها ساقط بالحج وهذا غلط لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "الحج والعمرة فريضتان واجبتان" (¬6)، وروى عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال "تابعوا بين الحج والعمرة، فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد" (¬7)، واحتج الشافعي على وجوبها بقوله تعالى: {وأَتِمُّوا الحَجَّ والْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، فقرن العمرة به، فكانت [32/ب] واجبة للقرآن بينهما في الأمر بهما، ولهذا احتج أبو بكر الصديق رضي الله عنه باقتران الصلاة والزكاة في القرآن على اقترانهما في الافتراض واستحقاق القتال بالامتناع منهما، ثم قال (¬8): واعتمر النبي صلى الله عليه وسلم قبل الحج، وأراد لو لم تكن واجبة لكان الأشبه أن يبادر إلى الحج الذي هو واجب. ثم قال (¬9): ومع ذلك قول ابن عباس: والذي نفسي بيده، إنها لقرينته في كتاب الله أي أن العمرة لقرينة الحج ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1988)، والترمذي (939)، والنسائي (4227)، وابن ماجة (2993)، والحاكم (1/ 482). (¬2) انظر الأم (2/ 48) (¬3) أخرجه ابن ماجة (2989)، والطبراني في "الكبير" (11/ 442)، والبيهقي في "الكبرى" (4/ 184)، وفي "معرفة السنن" (3/ 502). (¬4) أخرجه الترمذي (931)، وانظر نصب الراية (3/ 150). (¬5) أخرجه مسلم (147/ 1218) وأبو داود (1790)، والترمذي (932)، وابن ماجة (3074)، وأحمد (1/ 236)، والدارمي (2/ 47). (¬6) أخرجه الدارقطني (2/ 284)، والبيهقي في "الكبرى" (8761). (¬7) أخرجه ابن ماجة (2887)، والطبراني كما في "مجمع الزوائد" (3/ 277): وقال الهيثمي: "فيه عاصم من عبيد الله وهو ضعيف". (¬8) انظر الأم (2/ 113). (¬9) انظر الأم (2/ 113).

باب ما يجزئ من العمرة إذا جمعت إلى غيرها

في الأمر بهما في كتاب الله تعالى، وهو فيما ذكرنا من الآية. ثم استأنس بقول عطاء غيره، فقال (¬1): وعن عطاء أنه قال: ليس أحد من خلق الله ألا وعليه حج وعمرة واجبتان، ثم قال: وقال غيره من مكيينا أي: من فقهاء المكين غير عطاء، ثم قال (¬2): وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يعني شرع وأوجب في قرن العمرة مع الحج هدياً، فلو كانت نافلة لكان الأشبه أن لا تقترن مع الحج كأنه يقول: إنما أوجب النبي صلى الله عليه وسلم في القرآن هدياً جبراً، ولو كانت العمرة نافلة لكان الأشبه أن لا يدخل النقص بشببها حتى يحتاج إلى جبره بالهدي. وفي هذا الاحتجاج ضعف لأن الفارغ من عمرة الإسلام لو أراد القرآن بشرط الدم يباح له، وإن كانت العمرة نفلاً في حقه. ثم قال (¬3): وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة"، كأنه ذهب إلى أن المراد به دخل وجوب العمرة في وجوب الحج أبداً فهما واجبان. وقيل: معناه دخلت أعمال حتى يجوز للقارن طواف واحد لهما، وقيل: [33/أ] معناه دخل في وقت الحج وشهوره رداً على أهل الجاهلية، فإنهم كانوا لا يعتمرون في أشهر الحج. ثم قال (¬4): وروى أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم: أن العمرة هي الحج الأصغر، وكأن وجه استدلاله منه أنه لما سماها حجاً دخل وجوبها تحت قوله تعالى: {ولِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ} [البقرة: 97]، وأما خبرهم الأول رواه أبو صالح الحنفي، ولم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو مرسل، ثم أراد أن الحج يشق كالجهاد والعمرة تسهل فتتطوع بها النفس، وأما الخبر الثاني يحتمل أنه أراد به العمرة الثانية، وفي هذا التأويل نظر، ويحتمل أنه كان في الأول، ثم أوجب من بعده. باب ما يجزئ من العمرة إذا جمعت إلى غيرها مسألة: قال (¬5): يجزئه أن يقرن العمرة مع الحج. إذا أراد الرجل تحصيل النسكين معاً: الحج والعمرة، فهو بالخيار بين ثلاثة أشياء: القران، والإفراد والتمتع، فالإفراد أن يقدم الحج، فإذا فرغ منه اعتمر. وأما التمتع، فهو أن يقدم العمرة، فيأتي بها في أشهر الحج، فإذا فرغ منها أحرم بالحج من سنته. وأما القران فمن وجهين: أحدهما: أن يحرم بالحج والعمرة ويلبي بهما. والثاني: أن يحرم بالعمرة، ثم يدخل الحج عليها حجاً فيصير قارناً، لما روى عن عائشة قالت: كنت ممن أخرم بعمرة، فلما دخلت مكة حضت، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقال: "ما لك، أنفست"؟ أي حضت، قلت: نعم، قال: "ذلك شيء كتبه الله تعالى على بنات آدم، فاغتسلي وامتشطي [33/ب] وارفضي عمرتك ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 113) (¬2) انظر الأم (2/ 113). (¬3) انظر الأم (2/ 114). (¬4) انظر الأم (2/ 114). (¬5) انظر الأم (2/ 50).

وأهلي بالحج"، ففعلت ذلك، فلما كان يوم النحر قال لي: طوافك بالبيت يكفيك لحجك وعمرتك (¬1)، فصارت مدخلة بالحج على العمرة وصارت قارنة. وروت عائشة، قالت: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنا من أهل بعمرة ومنا من أهل بحج وعمرة ومنا من أهل بحج"، وهذا هو التمتع والقران والإفراد. فرع يجوز إدخال الحج على العمرة قولاً واحداً لخبر عائشة الذي ذكرنا، فإن قيل: قال لها: "ارفضي عمرتك وأهلي بالحج"، فما معناه، قلنا: أراد به: ارفضي أفعال عمرتك، فإن الحيض يمنعها من الطواف دون الإحرام بذلك أنه قال لها: طوافك بالبيت وسعيك بين الصفا والمرة يكفيك لحجك وعمرتك. فرع آخر إذا أحرم أولاً ثم أدخل عليه بالعمرة، هل يجوز؟ فيه قولان: أحدهما: يجوز قاله في "القديم"، ويصير قارناً. وبه قال أبو حنيفة لأنه أحد النسكين فجاز إدخال الآخر عليه كالعمرة. والثاني: قاله في "الأم" و"الإملاء": لا يجوز وبه قال أحمد. ولا يجوز هذا الإحرام بالعمرة، وهو الأصح لأن الحج أكد من العمرة فيجوز إدخال القوي على الضعيف، ولا يجوز إدخال الضعيف على القوي ذلك اليمين يطرأ على ملك النكاح، فيرفعه وملك النكاح لا يطرأ على ملك اليمين، فيرفعه، ولأنه لا يفيد إدخال العمرة على الحج شيئاً لأن الأفعال قد بقيت عليه بإحرام الحج، فلا يفيد إدخال العمرة إلا إسقاط فرضها خاصة، فلم يجز، وإذا أدخل الحج على العمرة يتعلق به واجبات ليست في العمرة، ويتعلق به إدخال أفعال العمرة [34/أ] في الحج فجاز. فرع آخر وقت إدخال الحج على العمرة ما لم يطف بالبيت، فإذا ابتدأ الطواف لا يجوز ذلك. نص عليه الشافعي، واختلف أصحابنا في تقليد ذلك، فمنهم من قال: لا يجوز، لأنه أتى بمعظم العبادة، فإن الطواف معظم العمرة. ومنهم ن قال: لا يجوز، لأنه شرع في التحلل من العمرة لأن الطواف يتحلل من العمرة، فلا يكون عقدها تاماً. فرع آخر إذا جوزنا إدخال العمرة على الحج، فأي وقت يجوز؟ مبني على اختلاف التعليلين في المسألة السابقة، فإذا قلنا بالعلة الأولى، يجوز إدخال العمرة على الحج ما لم يقف بعرفة، فإذا وقف لا يجوز لأنه تلبس بمعظم الحج، وإذا قلنا بالعلة الثانية يجوز ذلك ما لم يطف، أو يرم لأن التحلل به يكون. وقال بعض أصحابنا بخراسان: في

وقت إدخال العمرة ثلاثة أوجه: أحدهما: ما لم يأت بشيء من الأعمال فرضا، أو نقلاً حتى لو أتى بطواف القدم أو بشيء منه لم يجز ذلك. والثاني: ما لم يأت بفرض حتى إن وقف أو سعي عقيب طواف القدوم لم يجز ذلك، لأن حكم السعي بعد طواف القدوم أن يحتسب به عن فرضه يوم النحر. والثالث: لم يأخذ في أعمال التحلل والاعتماد على ما سبق. فرع آخر إذا قلنا: لا يجوز إدخال العمرة على الحج، فإذا شرع في طواف الحج لا يجوز أن يعتمر، وكذلك ما دام بقى عليه شيء من أفعال الحج لا يجوز أن يعتمر، فأما يوم النحر لا يجوز أن يعتمر لأن عليه طوافاً، وحلقاً وغير ذلك، وفي اليوم الأول من أيام التشريق لا يجوز أيضاً، لأنه فيه رمياً، وفي اليوم الثاني يكون النفر الأول، [34/ب] فإن أراد أن ينفر فيه يرمي في هذا اليوم بعد الزوال ثم ينفر وقد فرغ من أفعال الحج، فيجوز أن يعتمر، ولا يجوز أن يعتمر قبل النفر لأن الاعتبار بفعل النفر لا بنية النفر، وإن أراد أن ينفر في النفر الثاني يحتاج إلى أن يقيم إلى اليوم الثالث من أيام التشريق، ثم يرمي بعد الزوال، ثم يعتمر بعده، وإن لم ينفر، وإن أراد أن ينفر في النفر الأول، فرمى بعد الزوال في ذلك اليوم، ثم لم ينفر وأقام حتى غربت الشمس لم يجز النفر بعد ذلك، بل يحتاج إلى أن يصير إلى أن يرمي في اليوم الثاني ثم ينفر بعد ذلك. فرع آخر قال صاحب "الإفصاح": إذا أحرم بعمرة، ثم أفسدها بالوطء، ثم أدخل عليها حجاً فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز وهو اختيار ابن أبي أحمد، وهو الأصح لأن الأصل فيها الإفراد، ثم وردت الرخصة في إدخال الحج على عمرة سليمة وحدها، ولأن هذا الحج لا يجوز أن ينعقد فاسداً، لأنه لم يطرأ عليه ما يفسده، ولا يجوز أن ينعقد صحيحاً ويقارنه عمرة فاسدة، فلا وجه إلا الإبطال. والثاني: يجوز. وبه قال ابن الحداد، لأن العمرة الفاسدة كالصحيحة في وجوب الإتمام، فكذلك في جواز القران، فعلى هذا لا يكونان فاسدين، فيلزمه قضاءهما. وقال بعض أصحابنا: يلزمه قضاء العمرة وفي قضاء الحج وجهان: أحدهما: لا قضاء عليه لسلامة الحج من الوطء. والثاني: عليه القضاء لأن الشرع قدر إدخال الحج على العمرة كالإحرام بهما، فصار كالواطئ فيهما. مسألة: قال (¬1): ويهريق دماً. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 50).

لا يجب الدم على المفرد [35/أ] بالإجماع، ولكن يستحب له. وقال بعض أصحابنا: يستحب له سوقه مع نفسه إلى مكة، لأن أهل مكة إذا رأوا متمتعاً، أو قارناً، فرحوا به لعلمهم بأنه يذبح الهدى، وإذا رأوا مفرداً لم يفرحوا به، لأنه لا دم عليه، فإذا ساق الهدى مع نفسه أدخل السرور، وأما المتمتع، فيجب عليه الدم لقوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِن الهَدْيِ} [البقرة: 196] وأما القارن فيجب عليه الدم، وقال داود: لا يلزمه الدم. وروي ذلك عن طاوس، وقال الشعبي: يلزم القارن بدنة، وحكام بعض أصحابنا عن مالك، وهو غلط والدليل على بطلان قول داود قوله صلى الله عليه وسلم: "من قرن بين حج وعمرة فليهرق دماً" (¬1)، وروي مثله عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهما، ولأنه إذا وجب الدم على المتمتع، لأنه جمع بين النكسين في وقت أحدهما، فلأن يجب على القارن، وقد جمع بينهما في الإحرام أولاً. وحكي ابن المنذر: أن ابن داود لما دخل مكة سئل عن القارن: هل يلزمه الدم؟ قال: لا، فجزوا برجله، وهذا لشهرة هذا الأمر بينهم. وأما قول الشافعي (¬2): "والقارن أخف حالاً من المتمتع" يحتمل أن يكون مراده تداخل الأعمال، فكأنه قال: إذا قرن بينهما كانت المشقة عليه أقل منها على المتمتع، وقد أوجبنا على المتمتع بالدم بالنص، فلأن يجب على القارن أولى، فيكون دليلاً على داود. وقيل: بين بهذا الاقتصار على جواز الشاة، وسقوط البدنة عنه، فكأنه قال: إذا لم يلزم البدنة على المتمتع مع استمتاعه بمحظورات النسكين بين العمرة [35/ب] والحج، فالقارن الذي لا يستمتع حتى يفرغ منهما أخف حالاً أولى أن لا يلزمه البدنة، ويكفيه دم شاة، فيكون دليلاً على الشعبي. وهذا الذي نقله المزني ضرب من الترجيح، وإنما يحسن الترجيح بعد تقدم القياس الجامع، ولا عيب في ذلك على الشافعي، لأنه فرع من القياس، ثم اشتغل بالترجيح (¬3)، فقال: ويجزئه أن يقرن ويهريق دماً قياساً على قوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ} [البقرة: 196] الآية، والقارن أخف حالاً من المتمتع، ثم بين الشافعي كيفية مشابهتهما، فقال (¬4): المتمتع وصل الحج بالعمرة، فسقط عنه ميقات أحدهما، فلا يكون القارن أكثر من المتمتع فيما يجب عليه من الهدي، ففي أول المسألة إثبات الدم رداً على أصحاب الظاهر وفي آخر المسألة دليل صفة الدم رداً على من أوجب البدنة. والدليل على بطلان قولهما أيضاً ما روى عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أزواجه بقرة، وكن قارنات (¬5) فدل على وجوب الدم، وأن البدنة لا تجب. مسألة: قال (¬6): وإن اعتمر قبل الحج، ثم أقام بمكة حتى ينشئ الحج أنشأه من مكة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 67) (¬2) (3) (4) انظر الأم (2/ 114). (¬5) أخرجه البخاري (1709، 1720)، ومسلم (125/ 1211)، والنسائي (4126، 4127)، وابن ماجة (3133). (¬6) انظر الأم (2/ 50).

الفصل القصد به ذكر صورة التمتع وبيان الميقات الذي يحرم منه المتمتع، فيلزمه الإحرام بالعمرة من ميقات بلده، والقارن يحرم بالحج والعمرة من ميقات بلده، والمفرد يحرم بالحج من ميقات بلده لأن ابن عباس رضي الله عنهما، روى "أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت المواقيت، ثم قال: هذه المواقيت لأهلها ولمن أتى عليها من غير أهلها [36/أ] ممن أراد حجاً أو عمرة" (¬1)، فإذا أحرم المتمتع بالعمرة من ميقات بلده ثم دخل مكة وطاف وسعى وحلق وفرغ من عمرته، ثم يحرم بالحج إذا أراد من جوف مكة، ولا يلزمه الرجوع إلى الميقات، ولا إلى الخروج إلى الحل، فإن لم يحرم من جوف مكة، وخرج منها، وأحرم بالحج، فإن رجع إلى مكة محرماً، فلا دم عليه كما إذا جاوز الميقات، وأحرم دونه، ورجع إليه محرماً لم يلزمه الدم، وإذا خرج إلى عرفة، ولم يرجع إلى مكة نظر في موضع إحرامه، فإن كان في الحل أحرم لزمه قولاً واحداً، وإن كان أحرم في الحرم خارج البنيان. اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: لا دم عليه لأن ما لا يتعين موضعه في بنيان مكة يشرك فيه جميع بقاع الحرم أصله ذبح الهدى، ومنهم من قال: عليه الدم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بعد الفراغ من العمرة بالإحرام بالحج من بنيان مكة، وهو كمن ترك عمارة ذي الحليفة أو الجحفة، والأول أفيس. وقال بعض أصحابنا: فيه قولان، والصحيح لزوم الدم. فرع قال بعض أصحابنا بخراسان: في موضع استحباب إحرام الحج في المتمتع قولان: أحدهما: الأفضل أن يطوف بالبيت سبعاً ويصلي ركعتين ثم يحرم. والثاني: الأفضل أن يحرم من جوف منزله بمكة، ويخرج فيطوف بالبيت محرماً، ويصلي ركعتين الطواف، ثم يقصد عرفة. فرع آخر قال في "الإملاء": يستحب للمتمتع أن يحرم بالحج يوم التروية مكياً، كان أو غريباً، ويخرج بعد الزوال متوجهاً إلى منى من المسجد. وحكي عن مالك: يستحب [36/ب] عند إهلال ذي الحجة لقول عمر رضي الله عنه لأهل مكة أهلوا بالحج إذا أخل ذو الحجة. وهذا غلط لما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا توجهتم إلى منى فأهلوا بالحج" (¬2)، قال أصحابنا: هذا إذا كان واجداً للهدى، وإن كان عادماً يستحب له الإحرام بالحج في اليوم الخامس، أو السادس من ذي الحجة ليصوم اليوم السادس والسابع والثامن بدلاً من الدم، ويفطر يوم عرفة. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1524، 1526، 1530، 1645)، ومسلم (1181). (¬2) انظر بدائع المنن للساعاتي (944، 1059).

مسألة: قال (¬1): ولو أفرد الحج وأراد العمرة بعد الحج خرج من الحرم ثم أخل من أين شاء. إذا كان مفرداً، فقدم الحج، وفرغ منه، ثم أراد أن يحرم بالعمرة، فإنه يخرج إلى الحل، ويحرم منه، ولا يلزمه أن يرجع إلى الميقات الذي أحرم بالحج منه لأنه إذا دخل مكة، فقد صار ميقاته ميقات أهلها، وهذا لأن عائشة رضي الله عنها لما أرادت أن تعتمر بعد التحلل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أخاها عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم وهو من الحل. فإذا تقرر هذا، فمتى خرج من الحرم، وانفصل منه، وأحرم في بادئ الحل صح إحرامه، ثم يدخل مكة، ويطوف ويسعى ويحلق، وقد تحلل من العمرة بذلك، ولا يلزمه الخروج إلى مسجد عائشة، ولا إلى غيره من المساجد، إنما ذلك استحباب لا واجب، ولا فرق بين المكي في ذلك وبين الغريب الذي ورد محرماً بحج وبين من يريد العمرة في مكة ابتداء، فإن خالف، وأحرم بها من جوف مكة فإنه ينعقد إحرامه بها، فإن خرج إلى الحل على ما هو عليه قبل الطواف، ثم عاد [37/أ] وأكملها، فلا شيء عليه، وقد زاد خيراً، وإن لم يخرج بل طاف وسعى وحلق. نص في "الأم" (¬2) على قولين: أحدهما: عمرته صحيحة، وإنما أخل بالإحرام بها من الميقات، فعليه لتركه دم، وهو الصحيح، وبه قال أبو حنيفة. والثاني: لا تجزئه عمرته لأنه نسك فكان من شرطها الجمع بين الحل والحرم، كما قلنا في الحج. فعلى هذا لما حلق، حلق فبل وقته، فعليه دم، وإن وطئ بعد الحلق معتقداً أنه قد فرغ منها، فهو وطء من جاهل أنه محرم هل يفسدها؟ قولان، فإذا قلنا: لا يفسدها كان وجود الوطء وعدمه سواء، فيخرج إلى الحل على ما هو عليه، ثم يعود فيكملها. وإذا قلنا: أفسدها، فعليه المضي في فاسدها، وهو أن يخرج إلى الحل على صورته، ثم يعود فيكملها، وعليه بدنه لأجل الفساد، وعليه القضاء، وإذا قضاها نظر في التي أفسدها فإن كانت عمرة الإسلام جاز هذا القضاء عنها، وإن كانت غيرها أجزأ عن التي أفسدها فإذا تقرر هذا هذا، قال الشافعي (¬3) ههنا: فسقط عنه بإحرامه بالحج من الميقات أي: وسقط عنه الإحرام من الميقات بإحرامه الأول بالحج منه، فلا يلزمه العود إليه بالعمرة. وفي بعض النسخ: وسقط عنه بإحرامه بالحج من الميقات، وهو الأصح، وزاد في "الإيضاح"، فقال (¬4): فأحرم بها أي: بالعمرة بعد الحج من أقرب المواضع من ميقاتها، ولا ميقات لها دون الحل كما يسقط ميقات الحج إذا قدم العمرة قبله لدخول أحدهما في الآخر في سفر واحد، فإن قيل: أليس قلتم في المتمتع: يحرم بالحج من جوف مكة، وفي المنفرد قلتم: يحرم بالعمرة من الحل لا من جوف مكة، ما الفرق؟ قلنا: [37/ب] الفرق أنه لابد للحاج من الخروج إلى الحل للوقوف، فإذا أحرم به في الحرم يصير جامعاً بين الحل والحرم في النسك بكل حال، والمعتمر يأتي ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 50). (¬2) انظر الأم (2/ 116). (¬3) (4) انظر الأم (2/ 114).

باب الاختيار في إفراد الحج

بالأفعال كلها في الحرم، فإذا أحرم بها في الحرم لا يصير جامعاً بين الحل والحرم في النسك، فلهذا، لا يجوز لنا إلا أن نخرج إلى الحل، ولأن النبي صلى الله عليه وسلن فسخ على أصحابه الحج إلى العمرة ثم أمرهم بعد الفراغ منها أن يحرموا بالحج من جوف مكة. فرع لو مر بالميقات وهو يريد الحج والعمرة ثم أحرم بالحج، ثم اعتمر من أقرب الحل جاز كما لو لم يرد إلا الحج وحده جاز. وقال أبو حنيفة: إذا أرادهما، ثم أحرم بالحج وحده، فعليه أن يرجه لإحرام العمرة إلى الميقات، فإن لم يفعل فعليه دم ترك الميقات فيحتج عليه بضده، وهو أن المريد المتمتع مريد للحج والعمرة، ثم لا يحرم إلا بالعمرة، ولا يلزمه دم إلا شاة، فكذلك ههنا، وهذا لأنه يكفيه قضاء حق الميقات بنسك واحد، وإن كان مزيداً لها. مسألة: قال (¬1): وأحب إلى أن يعتمر من الجعرانة. الفصل القصد بين بيان الموضع الذي يستحب له أن يحرم بالعمرة منه إذا قدم الحج عليها، فكل من أراد العمرة ممن هو من مكة، أو من غيرها ممن دخلها حاجاً، وأراد الاعتمار، فالمستحب أن يحرم بها من الجعرانة، فإنه أبعد الحل من الحرم، ومنها اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن فاتته فمن التنعيم، وهو أدنى الحل من الحرم لأن النبي صلى الله عليه وسلم أعمر عائشة منها على ما ذكرنا قال: وهي أقرب الحل إلى البيت، [38/أ] الحرام، وفيه اليوم مسجد عائشة، ومنه يعتمر الناس اليوم لخفة المسافة، فإن لم يتفق له ذلك، فمن الحديبية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بها، وأراد المدخل بعمرته منها، يريد به عام صده المشركون عن مكة، فقد قدم الشافعي في الاستحباب فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ما أمره، ثم ما أراد أن يفعله فمنع منه، ولم يعتبر المسافة لأن التنعيم على فرسخ من مكة والجعرانة والحديبية على ستة فراسخ منها، وهذا مثل ما قال الشافعي في الاستسقاء في تقليب الرداء أحب أن أفعل ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم من تحول الرداء، وما أراد أن يفعله فيقلب عليه من التنكيس، فإن قيل: أليس قلتم في الاستقساء: يقدم ما يتم رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما فعل؟ كذلك ههنا وجب أن تقدموا ما يتم من الإحرام بالحديبية على غيره، قلنا: لأن ما يتم به يشتمل على فعل هناك، فإن التنكيس يشتمل على التحويل، والعمرة من الحديبية لا يشتمل على العمرة من الجعرانة، فما فعل أولى مما يتم، والله أعلم. باب الاختيار في إفراد الحج مسألة: قال (¬2): وأحب إلى أن يفرد. الفضل القصد من هذا الباب أن يبين ما هو المختار من الثلاثة التي يؤدي بها الحج ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 51). (¬2) انظر الأم (2/ 52).

والعمرة. وهي مسألة خلافية فعندنا القران هو المؤخر والإفراد، والتمتع أفضل منه، وأيهما أفضل؟ فيه قولان: أحدهما: الإفراد أفضل، وهو المشهور من مذهبه. وبه قال مالك. والثاني: التمتع أفضل. نص عليه في "القديم"، [38/ب] وفي اختلاف العراقيين و"مختصر الحج الصغير". وبه قال أحمد وأصحاب الحديث. وقال أبو حنيفة والثوري: القران أفضل، وهو اختيار المزني وأبي إسحاق المروزي. وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال: القرآن أفضل، ثم الإفراد، ثم التمتع. وقال أبو يوسف ومحمد: التمتع أفضل ثم القران ثم الإفراد. وعندنا الإفراد الذي هو أفضل أن يحرم بالحج مفرداً، ثم يأتي عقيبة بعمرة في عامة، فأما إن أراد تأخير العمرة عن حجة، فالقران والتمتع أفضل منه لما يحوزه من فضل المبادرة وأن تأخير العمرة عن الحج مكروه، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "تابعوا بين الحج والعمر" الخبر، والكلام في هذه المسألة في ثلاثة فصول: أحدها: في أن حج النبي صلى الله عليه وسلم على أي صفة كان. والثاني: أن الإفراد أفضل، أو القران؟ والثالث: أن دم القران هل هو دم نسك أو دم حبر؟ وقد ذكرنا كلها في الخلاف، فإذا تقرر هذا رجعنا إلى بيان ما ذكر في "المختصر"، فإذا قال: في "مختصر الحج"، وأراد "المختصر الأوسط" دون "المختصر الصغير" (¬1)، وأحب إلى أن يفرد لأن الثابت عندنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد. فممن روى عنه الإفراد عائشة وابن عمر وجابر وغيرهم رضي الله عنهم، وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حج لم يجب عليه في حجة دم، وهذا أدل الدليل على أنه كان مفرداً لأن القارن والمتمتع يلتزمان الدم، ثم قال (¬2): في اختلاف الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم، [39/أ] قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي ولجعلتها عمرة" (¬3)، وتمام هذا الخير ما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج عام حجة الوداع أحرم إحراماً مبهماً لا يحج ولا بعمرة (¬4)، وكان ينتظر القضاء في اختيار ما وضع الله تعالى له من الثلاثة التي ذكرناها، وكان قد ساق مع نفسه هدياً، فنزل عليه القضاء، وهو فيما بين الصفا والمروة، فأمر بالحج، وقال لأصحابه، وكانوا قد أحرموا بالحج: من لم يسق الهدي، فليجعلها عمرة، فقيل: يا رسول الله كيف نحل ولم تحل أنت؟ فقال: "أني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى يحل هديي". وروى أنه صلى الله عليه وسلم قال: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 52). (¬2) انظر الأم (2/ 52). (¬3) أخرجه البخاري (1651، 1785)، ومسلم (1216) / والنسائي (5/ 246)، وابن ماجة (2982)، وأحمد (3/ 292)، والبيهقي في "الكبرى" (8825). (¬4) أخرجه الشافعي "ترتيب المسند" (1/ 372)، والبيهقي في "الكبرى" (8825)، وفي "معرفة السنن" (2720)، وقال ابن حجر: لا أصل له.

عمرة" أي: لو علمت من قبل أن التمتع الذي أمرتكم به، أفضل ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة"، أي للتمتع فهذا دليل على أن التمتع أفضل من الإفراد لأنه تمنى ذلك، فلولا أنه أفضل من غيره ما تمناه، وقيل: إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا لأنه تداخلهم شيء من تحللهم مع بقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم على إحرامه وودوا لو كانوا محرمين زمان إحرامه ومحلين زمان إحلاله، فأراد تطييب قلوبهم بهذا القول. وأيضاً كانوا في الجاهلية يستنكرون العمرة في شوال وذي القعدة وذي الحجة يستعظمونها ويعدونها من أكبر الكبائر، وأفجر الفجور، فلما أمروا بخلاف عادتهم، وخلاف فعل الرسول صلى الله عليه وسلم شق عليهم، فقالوا: يا رسول الله أنروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر [39/ب] منياً؟ أي: لقرب عهدنا بالجماع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا أي: أن سوق الهدى يمنعني عن مساعدتكم على العمرة، ولو عرفت في ابتداء الإحرام لما سقت الهدى ولجعلت إحرامي عمرة كما أمرتكم به، فهذا لم يكن لتمني التمتع، بل لهذا، فلا يدل ذلك على أن التمتع أفضل. ثم أعلم أن مذهب أبي حنيفة وأحمد أن من ساق الهدي من المتمتعين لا يتحلل من عمرته، بل يطوف ويسعى، ثم يترك الحلق، ويقيم على إحرامه، ثم يحرم بالحج من جوف مكة، ثم يوم النحر من الحج والعمرة معاً، واحتج بهذا الخبر ذكرنا، لأن سوق الهدى منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من التحلل، وعندما لا فرق بين أن يكون ساق أو لم يسق في أنه يتحلل بأعمال العمرة، وبه قال مالك. والقصد من الخبر الذي ذكرنا أن من ساق لا يتمتع بل يحج حتى يبقى هدية متطوعاً به، فإنه لو تمتع احتاج إلى ذبحه عن متعته، ومن لم يسق الهدي لا تفوته فضيلة هدي التطوع، فلهذا فصل بينهما لا لما ذكره، والدليل على ما ذكرنا أن العمرة إحدى نسكي التمتع فسوق الهدى لا يمنع التحلل منه كالحج. ثم قال الشافعي (¬1): ومن قال: إنه أفرد الحج يشبه أن يكون قاله على ما يعرف أهل العلم الذين أدرك دون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: من الصحابة أن أحداً لا يكون مقيماً على حج، وإلا وقد ابتدأ إحرامه بحج وأحسب عروة حين حدث أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم بحج ذهب إلى أنه سمع عائشة تقول: يفعل في حجه على هذا المعنى، فأول خبر من [40/أ] روى مطلقاً أن النبي صلى الله عليه وسلم أفرد الحج. فإن قيل: أليس مال الشافعي إلى الإفراد، وفضله على غيره، فكيف استعمل في هذا الفصل بتضعيف رواية من روى الإفراد؟ وقال: لما كثر سماعه لذكر الحج المفرد استجاز أن يروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان مفرداً، قلنا: إنما اشتغل الشافعي بالاعتراض على التمسك بأحاديث الإفراد لأن الذي ثبت عنده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجمل الإحرام في الابتداء، ثم فسره بحج مفرد في الانتهاء. وهكذا روى جابر رضي الله عنه، وهو أحسن الصحابة سياقاً لحديث الحج من أوله إلى آخره، فلما رأى الشافعي عروة وغيره رووا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم حين أحرم بحج اشتغل بتقديم رواية جابر على رواياتهم لا أنه ناقض هذا الفصل أول الباب في أخبار الإفراد وتفضيله على غيه وأكثر الغلط في الإخبار إنما ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 52، 53).

يقع عن جهة أن بعض الرواة يسمع حديثاً مفسراً، فيرويه مجملاً، أو محملاً، فيرويه مفسراً مثل أن يقول قائل: مررت نفلاً، وقد زالت الشمس فأذن وأقام وصلى أربع ركعات، فيروي السامع أن فلاناً صلى الظهر، وهذا على ظاهر ظنه يروي، فلعل فلاناً قضي فائتة، أو صلى بفلاة، أو غير ذلك، وكذلك وقع في أمر الزكاة لما قال صلى الله عليه وسلم: "إذا زادت الإبل على مائة وعشرين استؤنفت الفريضة"، قال الراوي في خمس شاه لأن الظاهر من الأسباب هكذا ذكره أصحابنا والقفال معهم في الاعتذار عن هذا الفصل. وقال بعض أصحابنا: [40/ب] يحتمل أن يكون له مقصود غير هذا، وذلك أن الشافعي ذكر في أول الباب، اختيار الإفراد، واستدل عليه بالحديث ثم حكى المزني ما قال في اختلاف الأحاديث من تفضيل التمتع على الإفراد، ثم عطف عليه الاعتراض على حديث الإفراد، فكأنه لما اختار التمتع في قوله الثاني اشتغل بالاعتراض على أحاديث الإفراد، وهذا هو النظم المستقيم في الكلام، وإنما يتناقض لو عطف اعتراضه هذا على اختيار الإفراد، وأما إذا عطفه على اختيار التمتع فلا تناقض في ظاهره. ثم بين الشافعي أن الأخبار وإن اخنتلف في كيفية حج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليس ذلك مما يضر شيئاً، فقال (¬1): وقال فيما اختلفت فيه الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في مخرجه يعني عند خروجه إلى الحج ليس شيء من الاختلاف أيسر من هذا وإن كان الغلط فيه قبيحاً من جهة أنه مباح لأن الكتاب ثم السنة ثم ما لا أعلم فيه خلافاً يدل على أن التمتع بالعمرة إلى الحج، وإفراد الحج والقران واسع كله، وأراد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حج حجة الوداع قال لأصحابه: "خذوا عني مناسككم"، فنقلوا عنه مناسكه فاتفقت رواياتهم في بعض المسائل، واختلفت في بعضها. قال الشافعي: أيسر الاختلاف ما وقع من اختلاف الروايات في إحرام رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن بعض الرواة روى أنه كان قارناً، وروى آخرون أنه كان مفرداً، وروت طائفة أنه كان متمتعاً وإنما هان أمر [41/أ] هذا الاختلاف لأن جميع ذلك مباح بالقران والسنة والإجماع. وأراد بالكتاب قوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ} [البقرة: 196] الآية، تدل على إباحة الإفراد، وقوله تعالى: {وأَتِمُّوا الحَجَّ والْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، تدل على إباحة القران. وأراد بالسنة ما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بعض أصحابه بالتمتع وهو من لم يسق الهدى، وأمر علياً رضي الله عنه بالإفراد، وكان قد ساق الهدى، وأمر عائشة بالقران على ما رويناه من قبل فثبت بالسنة أن كل ذلك مباح، وأراد بما لا علم فيه خلاف الإجماع، ولا خلاف بين الأمة في إباحة الكل، وكلن هذا الاختلاف قبيح جداً ممن يروي كيفية إحرامه لأنه حج تلك الحجة الواحدة، وكانوا حافين حوله، ثم اختلفت رواياتهم كل هذا الاختلاف ثم قال: وثبت، أي وثبت الحديث أنه صلى الله عليه وسلم خرج ينتظر القضاء، فنزل عليه القضاء على ما ذكرنا، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لو استقبلت من أمري" الخبر، وأراد أن من سنة من ساق الهدى أن يذبحه عند محله ومحل المعتمر إنما يكون عند المروة، فكرة النبي صلى الله عليه وسلم أن يذبح في ذلك ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 53، 54).

الموضع، فيصير مذبحاً يؤدي إلى تنجيس المسجد، فلذلك صرف إحرامه إلى الحج ليكون محله بمنى عند الجمرة، فإنه المذبح المسنون. ثم أن الشافعي طالب نفسه بإثبات تقديم حديث جابر وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم في الإفراد على حديث أنس في القران، [41/ب] فإنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعاً يقول: "لبيك عمرة وحجاً، لبيك عمرة وحجاً" (¬1). فإن قال قائل (¬2): فمن أين أثبت حديث عائشة وجابر وابن عمر دون حديث من قال: قرن؟ ثم أجاب، فقال: قيل لتقدم صحبة جابر للنبي صلى الله عليه وسلم وحسن سياقه لابتداء الحديث وآخره يعني أن جابراً أقدم صحبة من أنس، فإنه كان معتمراً في ذلك الوقت، وأنه استقصى في الرواية على ما ذكرنا بخلاف غيره. وروي عن جابر، قال: أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحج خالصاً لا يخالطه شيء (¬3). قال (¬4): ولرواية عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم معنى كل حديث روته عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورواه غيرها يرجح روايتها على رواية غيرها خاصة فيما صاحبت فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنها عنيت بالحفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقعت زيادة توفيق، وقد روى مسلم بن الحجاج: أن عائشة راجعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث لتمام استفهام، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم يا موفقة"، قال (¬5): وقرب ابن عمر منه يريد أن أخته حفصة كانت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قيل: أليس الشافعي فصل قبل ذلك بين حديث جابر وطاوس وبين حديث عائشة وابن عمر لأن جابراً وطاوساً يرويان الإجمال في الإحرام، وعائشة وابن عمر، يرويان الإفراد صريحاً، فلما جاء إلى هذا الفصل جمع بين رواية هؤلاء الأربعة، فاختارها دون رواية الإفراد صريحاً، فلما جاء إلى هذا الفصل جمع بين رواية هؤلاء الأربعة فاختارها دون رواية من روى القران، [42/أ] واشتغل بالترجيح، فكيف الجمع؟ قلنا: هؤلاء وإن اختلفت رواياتهم في آخر إحرام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد اتفقت رواياتهم في آخر إحرامه على أنه كان مفرداً، فحيث ميز الشافعي بعض روايات هؤلاء الأربعة عن بعض، فإنما قصد به أول إحرام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال (¬6): ولأن من وصف انتظار النبي صلى الله عليه وسلم القضاء إذا لم يحج من المدينة بعد نزول فرض الحج طلب الاختيار، أي: كان بانتظاره للقضاء طلباً للاختيار فيما وسع الله تعالى له في الحج والعمرة يشبه أن يكون أحفظ، أي: الذي يرون مثل هذا يكون أحفظ من غيره، لأنه قد أتى بالمتلاعنين فانتظر القضاء كذلك حفظ عنه في الحج انتظار القضاء، وكان انتظار القضاء عادته في كثير من الأحكام، وهذا لأنه لا يعلم انتظاره للقضاء إلا بمراعاة حاله وكثرة مطالعته ومراقبته، فتكون روايته أولى فهذا بيان ترجيح رواية الإفراد. ثم اختار المزني طريقة في المسألة، فقال (¬7): "إن ثبت حديث أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرن حتى يكون معارضاً للأحاديث سواه فأصل قول الشافعي أن العمرة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1562، 2986، 4353، 4354)، ومسلم (1211/ 1232). (¬2) انظر الأم (2/ 55). (¬3) أخرجه البخاري (2505، 2506)، ومسلم (1218)، وأبو داود (1787)، وابن ماجة (2980). (¬4) انظر الأم (2/ 55). (¬5) انظر الأم (2/ 55). (¬6) انظر الأم (2/ 55). (¬7) انظر الأم (2/ 56).

فرض وأداء الفرضين في وقت الحج أفضل من أداء فروض واحد لأن ما كثر عمله لله كان أكثر في ثواب الله" يريد أن القياس يدل على تفضيل القران، ولكن إنما يصار إلى القياس بشرط وهو أن يثبت حديث أنس في قران رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يعارض أحاديث من يروي الإفراد [42/ب]، ثم إذا تقابل الأحاديث صرنا إلى القياس، ثم كشف قياسه الذي احتج به أن القارن يأتي بالنسكين معاً في الوقت الأفضل، وهو وقت الوقوف، ويوم النحر، ولا يتأتى في ذلك للمفرد والعمل الأكثر في الوقت الأفضل أفضل من الاقتصار على العمل القليل في الوقت الأفضل، وجوابه: أن القارن يقتصر يوم عرفة على الوقوف والمفرد يفعل ذلك، ثم إن القارن يطوف يوم النحر فيباشر سائر مناسك ذلك اليوم، والأيام التي تليه، والمفرد يفعل ذلك أيضاً، ثم يحرم المفرد بعمرة، ويكملها على حدة فكثرة العمل مع المفرد لا مع القارن، وقد قال عليه السلام: "عمرة في رمضان تعدل حجة" (¬1). وأعلم أن مذهب المزني مثل مذهب الشافعي أن القارن يطوف طوافاً واحداً، ويسعى سعياً واحداً، ولا يكاد يبين ترجيحه مع هذا المذهب. وقيل: أن المزني توهم أن الشافعي جعل الحجة المفردة بلا عمرة أفضل من الحجة المقرونة بالعمرة، فاعترض بهذا. قلنا: ليس على ما توهمت، بل الإفراد الذي هو أفضل خلاف هذا على ما تقدم بيانه، وذلك أكثر عملاً بلا إشكال، لأن أعمال العمرة في القران تدخل في أعمال الحج، وحكى عن ابن سريج أنه كان يقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم متمتعاً. فمن روى أنه أفرد حجه بعدما اعتمر، ومن روى قرن أراد جمع بينهما في عام واحد، وكان جمعهما على التوالي، أو على المقارنة فعلاً عقيب فعل، واحتج من قال: التمتع أفضل [43/أ]، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان متمتعاً بما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هذه عمرة استمتعنا بها فمن لم يكن عنده فيحل الحل كله، وقد دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" (¬2). قلنا: أراد به أنه تمتع مع أصحابه، وهو كما يقول الرجل الرئيس في قومه: فعلنا كذا، وهو لا يباشر بنفسه فعل شيء من ذلك، وإنما هو حكاية عن فعل أصحابه يضيفها إلى نفسه على معنى أن أفعالهم صادرة عن رأيه. واحتج من قال: القران أفضل بما روى عن البراء بن عازب، قال: كنت مع علي رضي الله عنه حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم على اليمن، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال له: "كيف صنعت"؟ فقال: قلت: أهللت بإهلال النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "فإني سقت الهدي وقرنت" (¬3)، قال الإمام أبو سليمان الخطابي: وهذا صريح البيان بأنه كان قارناً، لأنه صلى الله عليه وسلم أعلم بما كان نواه قلنا: يحمله على قران الموالاة والضم دون الجمع. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي (4225)، وابن ماجة (2992)، وابن عبد البر في "التمهيد" (22/ 60). (¬2) أخرجه مسلم (203/ 1241) وأبو داود (1790)، وأحمد (1/ 236، 341)، والدرامي (2/ 51)، والبيهقي في "الكبرى" (8863). (¬3) أخرجه البخاري (1559، 1565، 1795)، ومسلم (154/ 1221).

واعلم أن جماعة من الجهال طعنوا فيما ذكرنا، وقالوا: لم يحج النبي صلى الله عليه وسلم بعد قيام الإسلام إلا حجة واحدة، فكيف يجوز أن يكون في تلك الحجة مفرداً وقارناً ومتمتعاً، وأفعال نسكها مختلفة، وأحكامها غير متفقة، وأسانيدها كلها عند أهل الحديث جياد صحاح، ثم قد وجد فيها التناقض؟ ويريدون تهوين الإخبار، والجواب عن هذا ذكر الشافعي: أن العرب [43/ب] في لغتهم، يجوزون إضافة الفعل إلى الآمر به كما يجوزون الإضافة إلى الفاعل، كما يقولون: بني فلان داراً إذا أمر ببنائها وضرب الأمير فلاناً إذا مر بضربه، وروي: رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزاً وقطع سارق رداء صفوان ولم يباشره ولا شهده، ولكنه أمر به، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم المفرد، ومنهم القارن، ومنهم المتمتع، وكل واحد منهم أخذ أمر نسكه عن تعليمه فجاز أن تضاف كلها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على معنى أنه أمر بها وأذن فيها، وكل قال صدقاً، وروى حقاً، ولا ينكره إلا من جهل، أو عاند، والله الموفق. ويحتمل أن يكون الراوي سمع قوله: لبيك، بحجة وعمرة على سبيل التعليم لغيره وتلقينه ذلك. فإن قيل: رأي سعيد بن المسيب أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أتى عمر بن الخطاب، فشهد عنده، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي قبض فيه، ونهى عن العمرة قبل الحج (¬1)، فما معناه؟ قلنا: قد قيل: هذا الخبر لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرتين قبل حجة، وجواز هذا إجماع، فلا يترك الأمر الثابت المعلوم بالأمر المظنون، ثم يحتمل أنه نهى اختيار، أو أنه أمر بتقديم الحج لأنه أعظم الأمرين وأهمهما، ووقته محصور، والعمرة ليس لها وقت موقوت، وقد قدم الله تعالى اسم الحج عليها، [44/أ] فقال: {وأَتِمُّوا الحَجَّ والْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]. فإن قيل: أليس قد قال معاوية بن أبي سفيان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم هل: تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ركوب جلود النمور وعن كذا وكذا؟ قالوا: نعم، قال: فتعلمون أنه نهى أن يقرن بين الحج والعمرة؟ قالوا: أما هذا فلا، فقال: أنها معهن ولكنكم نسيتم (¬2)، فما معناه؟ قلنا: يشبه أن يكون ذلك على معنى الإرشاد ويجري الآخر ليكثر العمل، ويتكرر القصد إلى البيت، كما روى عن عثمان رضي الله عنه أنه سئل عن التمتع بالعمرة إلى الحج، فقال: إن أتم الحج والعمرة أن لا يكونا في أشهره فلو أفردتم هذه العمرة حتى تزورا هذا البيت زورتين كان أفضل، وقال عمر رضي الله عنه: أفصلوا بين الحج والعمرة، فإنه أتم لحجتكم وعمرتكم، وقيل: لم يوافق الصحابة معاوية على هذه الرواية، ولم يساعدوه عليه، ويشبه أن يكون ذهب في ذلك إلى تأويل قول حين أمر أصحابه في حجته بالإحلال فشق عليهم: "لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي"، وكان قارناً عند فحمل معاوية هذا الكلام منه على النهي. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8868). (¬2) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8869).

باب صوم التمتع بالعمرة إلى الحج

باب صوم التمتع بالعمرة إلى الحج مسألة: قال (¬1): قال تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ} [البقرة: 196] فإذا أهل بالحج في شوال أو ذي القعدة أو ذي الحجة صار متمتعًا. أعلم أن التمتع جائز في قول الكافة إلا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: متمتعان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا أنهي عنهما بل أعاقب عليهما متعة النساء ومتعة الحج، والدليل [44/ب] على جواز هذه الآية. وروى عن عائشة رضي الله عنها قالت: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "من أراد أن يهل بالحج، فليفعل ومن أراد أن يهل بالعمرة، فليفعل، ومن أراد أن يهل بالحج والعمرة، فليفعل" (¬2) والأخذ برواية الرسول صلى الله عليه وسلم أولى من الأخذ بقول عمر رضي الله عنه. وتأول بعض الناس حديث عمر رضي الله عنه أنه أراد ما كان في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإحرام بالحج، ثم الفسخ بالعمرة، وهذا التأويل ليس بشيء لأنه روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: يأتي أحدكم من أفق من الآفاق شعثًا نصبًا فيحرم بالعمرة، ثم يطوف، ويسعى ويحلل، فيذهب شعثه ونصبه، ثم لا يحج لا شعثًا ولا نصبًا، والحج أفضل من العمرة فعمر رضي الله عنه ذهب إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "الحاج أشعث أغبر" فاستحب أن يكون ذلك في الحج، فلا يصح هذا التأويل فيحتمل على أنه نهي عن ذلك تنزيهًا واستحبابًا، وهو مع هذا متروك على اجتهاده وحده. فإذا تقرر هذا فالمتمتع يلزمه الدم لما ذكرنا من الآية وإنما يلزمه الدم بخمس شرائط: أحدهما: أن يعتمر في أشهر الحج. والثاني: أن يحج من سنته. والثالثة: أن يقول: الإحرام بالحج من الميقات، فيحرم به من مكة، ولا يرجع إلى الميقات. والرابعة: أن لا يكون من حاضر المسجد الحرام. والخامسة: أن ينوي التمتع عند الإحرام بالعمرة ومروره على الميقات، وذكر أبو حامد شرطًا سادسًا، قال: قال الشافعي في "القديم": إذا مر على الميقات ولم يحرم [45/أ] بالعمرة حتى صار بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فأحرم فإنه لا يجب عليه التمتع لأنه صار كأنها من حاضري المسجد الحرام، ولكنه يجب عليه الدم لتركه الإحرام بالعمرة من الميقات مع إرادتها، وهذا ضعيف. وذكر القفال شرطًا آخر، وهو أن يشترط أن يكون الحج والعمرة جميعًا من شخص واحد، فإن اعتمر عن غيره وحج عن نفسه، أو بالضد منه، فلا دم عليه قولًا واحدًا، واختيار الحضري. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 56). (¬2) أخرجه مسلم (114/ 1211)، وأحمد (6/ 350)، والحميدي (203)، والبيهقي في "الكبرى" (8806).

وقيل: فيه قولان، هل هو شرط أم لا؟، وقال أبو حامد: نص الشافعي في أخريات المواقيت من "القديم" أنه يلزمه الدم سواء حج عن غيره، واعتمر عن نفسه، أو اعتمر عن غيره وحج عن نفسه. قال: وقال بعض الناس لا يلزمه الدم إذا فعل هكذا. واحتج الشافعي بأن فعله للحج والعمرة عن غيره بمنزلة فعل ذلك الغير عن نفسه، وصار فعله في حق نفسه كالمعدوم، فإذا اعتمر بعده من أدنى الحل، فهو مريد للإحرام بالعمرة، مر على الميقات، ولم يحرم، ثم أحرم فعليه دم، وكذلك على العكس، وهذا أصح. فإذا تقرر هذا، فأما الأول، فإنه أن أحرم بالعمرة وأتى بأفعالها في غير أشهر الحج، ثم أحرم بالحج في أشهر الحج لم يكن مضيعاً، ولم يجب عليه الدم لأنه لم يأت بالعمرة في زمان الحج كالمفرد، فإنه لما أتى بالعمرة بعد أشهر الحج لم يجب عليه الدم بالإجماع. وأما إذا أحرم بالعمرة في رمضان، ثم أتى بأعمالها في شوال، فيه قولان: قال في "القديم" و"الإملاء": يجب عليه الدم، ويكون متمتعاً، ووجه أنه أتى بأفعال العمرة في [45/ب] أشهر الحج، واستدامة الإحرام بها بمنزلة ابتدائه، فهو كما أحرم بها في أشهر الحج. وقال في "الأم": لا يجب عليه الدم. وبه قال أحمد أنه أتى بنسك لا يتم العمر إلا به في غير أشهر الحج، فلا يكون متمتعاً كما لو طاف، وهذا أصح لأنه لو حصل الاستدامة كالابتداء لوجب إذا أحرم بالحج قبل أشهره واستدامته يجوز، وقال أبو حنيفة: إذا أتى بأكثر أعمالها في أشهر الحج يكون متمتعاً، فقوله خارج عن قولنا وحكي عن مالك أنه قال: إذا لم يتحلل من إحرام العمرة حتى دخلت أشهر الحج صار متمتعا، وهذا غلط لأنه أتى بأفعال العمرة في غير أشهر الحج، فلا يجب الدم كما لو تحلل قبلها. وذكر بعض أصحابنا بخراسان: أنا إذا جعلناه متمتعاً إذا أتى الإحرام في رمضان لو أتى بأكثر الأعمال في رمضان، ولكن الفراغ منها كان في شوال، فيكون متمتعاً أيضاً حتى إذا قلنا: الخلاف من النسك، ولم يوجد ذلك إلا في شوال يكون متمتعاً، الاعتبار بالفراغ، وهذا غلط قبيح، وإنما هو قول مالك، والشافعي حين جوز الإحرام في رمضان على معنى أنه يستديم للإحرام إلى أشهر الحج، فيكون كابتدائة فيها، وفي الأعمال لا يمكن أن يقال مثله، فلا يصح هذا القول بحال. وقال ابن سريج: أن أحرم بالعمرة ومر بالميقات بعدما دخل أشهر الحج كان متمتعاً، وأن مر به قبل ذلك لم يكن متمتعاً، لأن ما قبل أشهر الحج لا يقدر على الإحرام بالحج [46/أ]، وفي أشهر الحج يقدر عليه، فإذا أخل به مع القدرة يلزمه دم، وهذا خلاف نص الشافعي. فإن قيل: أليس المتمتع إذا لم يطف طواف الزيارة إلا بعد أشهر الحج لم يبطل بذلك تمتعه لأنه أتى بأكثر أعمال الحج في أشهره؟ قلنا: فرق بين التقديم والتأخير، ألا ترى أن تقديم إحرام الحج على أشهره لا يجوز عندنا، ويكره عند أبي حنيفة، ولا يكره التأخير؟ فكذلك في حق المتمتع. وأما الشرط الثاني: لو لم يتوجه بأن أقام بمكة إلى العام الثاني، ولم يحج في ذلك السنة، أو رجع إلى بلده، ثم عاد إلى الحج في السنة الثانية، فلا دم عليه لأنه أبعد حالاً من المفرد، لأن المفرد يأتي بالحق والعمرة في سنة واحدة، وهذا أتى بها في

سنتين، ولأن الله تعالى قال: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ} [البقرة: 196]، وهذا يقتضي الموالاة بينهما. وقال بعض أصحابنا بخراسان: قال ابن خيران: ونص الشافعي عليه في رواية حرملة بشرط أن يكونا في شهر واحد، أما في شوال، وإما في ذي القعدة، وإما في ذي الحجة، فيعتمر في ذلك الشهر ويحرم بالحج فيه، وهذا قول لا يحكي ولين وليس بشيء. وأما الشرط الثالث فلا خلاف فيه، فإن أحرم بالحج من جوف مكة ومضي إلى عرفات استقر عليه دم المتمتع، ولو عاد إلى الميقات، أو حرم بالحج منه لم يجب الدم، وإن أحرم بالحج من مكة، ثم عاد إلى الميقات محرماً، ثم مر بعرفات، فهل يسقط عنه دم التمتع؟ وجهان: أحدهما: يسقط لأنه كان يلزمه للترفه بترك الإحرام من الميقات، والآن أتى بأكثر من ذلك، ولم يترفه بشيء [46/ب]. والثاني: لا يسقط لأنه لزمه الدم بإحرام الحج من مكة، فلا يسقط بعده، وبهذا قال مالك. وقال أبو حنيفة: لا يسقط حتى يعود إلى بلده. وهذا غلط لأن بلده لا يجب عليه الإحرام منه ابتداء بالشرع، فلا يتعلق سقوط دم التمتع بالعود إليه كسائر البلاد. وقال القفال: وهكذا القارن إن دخل مكة، ثم خرج منها إلى عرفة، استقر عليه دم القران. ولو خرج إلى الميقات محرماً، ثم خرج إلى عرفات، هل يسقط دم القران؟. وجهان، والأصح هنا أنه لا يسقط، لأن اسم القران لم يزل، وهناك يحتمل أن يقال التمتع اسم لمتعته بترك الميقات في الحج فيزول الاسم بعوده إليه. فإذا تقرر هذا فإن هذا المتمتع إذا لم يرد العود إلى ميقات بلده صارت مكة ميقاته، ولزمه الإحرام بالحج منها لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه المتمتعين بذلك، فإن أحرم بالحج من مكة، فلا كلام، وعليه دم التمتع، وأن خرج من مكة، فأخرم غي الحل خارج الحرم، فقد ترك ميقاته فإن عاد إلى مكة محرماً، فلا شيء عليه، وصار كما لو أحرم من مكة، وإن لم يعد ومضى إلى عرفات. قال أصحابنا: يلزمه الدم، وقد ذكرنا هذا. وقيل: يجب عليه هذا الدم، ويكون دماً غير دم التمتع، وهذا لا يصح لأن دم التمتع إذا كان لترك الميقات لا يلزمه دم آخر لذلك أيضاً. ولا فرق بين أن يترك من مسافة إحرامه [47/أ] قليلاً أو كثيراً في إيجاب دم واحد فقط. وقال القفال: لو لم يرجع المتمتع لإحرامه بالحج إلى ميقاته الذي مر به، ولكن رجع إلى مثل تلك المسافة من ناحية أخرى يكون كما لو رجع إلى الميقات، وخرج عن أن يكون متمتعاً. وقال أيضاً: يخرج إلى موضع يقصر إليه الصلاة من مكة، فيكون كالرجوع إلى الميقات، ولهذا وجه كأنه اعتبر أن يكون من غير الحاضرين. وذكر أيضاً أن الشافعي قال: فمن أراد التمتع، فجاوز الميقات غير محرم، ثم أحرم بالعمرة، ثم لما فرغ منها أحرم بالحج، فهو متمتع، وأن رجع إلى الميقات، فليس بمتمتع. وقال أصحابنا: إذا لم يرجع فعليه دمان: دم التمتع، ودم الإساءة بترك الميقات في العمرة، وهذا صحيح. وأما الشرط الرابع: فلا خلاف فيه لقوله تعالى: "ذلك لمن لم

{يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المَسْجِدِ الحَرَامِ} [البقرة: 196] , وهذا شرط عاد إلى إيجاب الدم دون التمتع في قوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ} [البقرة: 196] , لأن الاستثناء يعُود إلى الحكم لا الخبر الذي يقدم, ولأن الدّم إنما يلزم لترك الميقات, وهو لم يترك, وهؤلاء من كان بينهم وبين الحرم مسافة لا تقتصر فيها الصلاة من كل ناحية. وأما الشرط الخامس: وهو نية التمتع اختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: لا يشترط, وهو اختيار القفال لأن وجود الحجّ من في سنتهِ يغني عن هذه السنة. والثاني: أنها تشترط حتى يلزمه حكم الميقات للإحرام بالحجّ بتلك النيّة, [47/ ب] فيلزمه الدم إذا أحرم بالحجّ من مكة, وهذا لأنه جمع بين العبادتين في وقت أحدهما, فلا بدّ من النيّة كالجمع بين الصلاتين, ومتى تجب هذه النية؟ فيه وجهان: أحدهما: عند الإحرام بالعمرة. والثاني: قبل التحلل منها, فإذا نوى من حين الإحرام بالعمرة إلى أن يفرغ منها جاز, وأصل الوجهين أن من جمع بين الصلاتين في وقت أحدهما لابدّ من أن ينوي الجمع, ومتى ينوي؟ قولان على ما ذكرنا. فَرْعٌ في وجوب دم التمتع هل يشترط أن يكون النسكان من واحد؟ وجهان, فإذا قلنا: لا يشترط فاستأجره رجلان ليحجّ عن أحدهما, ويعتمر عن الآخر, وكانا أذنا جميعًا في التمتع. من أصحابنا من قال: يجب الدم عليهما نصفين لأن التمتع ركنان حجّاً وعمرة, وقد أذنا فيه, فصار موجبة بينهما, والصحيح أن الدم على الأمر بالحجّ؛ لأن عندنا هو دم جبر ولم يقع من مسك العمرة فقصر لأنه أحرم بها في الميقات, وأتى بأفعالها كاملة, وإنما التقصير, وقع في الحجّ لترك الإحرام به من الميقات. فَرعٌ آخرُ لا يكره للمكي ولا لمن أهله حاضري المسجد الحرام تمتع, ولا قران, ولكن لا دم عليهم. وقال مالك: وهذا لأن دم القران والتمتع إنما يلزم لذبح سفر, والمكي لا يلزمه السفر, ولا يلزمه أن يحرم من الميقات لأنه يحرم بالقران من جوف مكة لأنه إذا خرج إلى عرفة حصل له الجمع بين الحلّ والحرم, ويحرم في التمتع بالعمرة من أقرب الحل, والحجّ من جوف مكة. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: [48/ أ] لا يصحّ منهم تمتع, ولا قران, وإذا أحرم بهما, أو انقضت عمرته, وإن أحرم بالحجّ بعدما فعل شوطًا من الطواف للعمرة, أو نقض حجّه في قول أبي حنيفة, نقضت عمرته في قول أبي يوسف ومحمد, وإن أحرم بعد أكثر فعل الطواف مضى فيهما, ووجب عليه دم جبران, واحتجوا بما روي عن ابن عمر, قال: ليس لأهل مكة تمتع ولا قران, وهذا غلط لأن كل من لا يكره منه الإفراد لا يكره منه القران. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: يكره له القران والتمتع, فإن فعل يلزمه دم الإساءة بارتكاب فعل منهي عنه, وليس بدم التمتع.

مسألة: قال (¬1): وله أن يصوم حين يدخل الحجّ. الفَصْلُ الكلام الآن في حكم الهدي والصوم الواجب على المتمتع, والكلام في الهدي في فصلين: أحدهما: في وقته, ووجوبه. والثاني: في وقت جوازه. فأما وقت وجوبه إذا فرغ من العمرة, وأحرم بالحجّ يلزمه الدم لقوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إلَى الحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِن الهَدْيِ} [البقرة: 196] , وإنما يسعى متمتعًا إذا أحرم بالحجّ, وأراد بما استيسر: دم شاه, أو سبع بدنة وبقرة, فإن أهدى بدنة أو بقرة كان أفضل. وحكي عن عطاء أنه قال: لا يلزمه الدم حتى يقف بعرفة وحكي عن مالك أنه قال: لا يلزمه الدم حتى يرمي جمرة العقبة, فاعتبر إكمالها. وأمّا وقت جواز إخراجه فإن ذبح بعد الوجوب جاز, وهو بعدما أحرم بالحجّ, والمستحب تأخيره إلى يوم النحر. وهذا غلط لأنه دم يتعلق بالإحرام, وينوب عنه بصوم, فجاز قبل يوم النحر كدم الطمث, ولو ذبح قبل الفراغ من العمرة لا يجوز قولاً واحدًا لأنه لا ينطلق عليه اسم التمتع, وإن ذبح بعد التحلل من العمرة قبل الإحرام بالحجّ قد قيل فيه قولان, وهو الأظهر, وقيل: وجهان: أحدهما: لا يجوز لأنه لم يحرم للحجّ, فأشبه ما إذا لم يفرغ من عمرته, أو الهدي يتعلق به عمل البدن, وهو يفرق لحمه, فلا يجوز تقديمه على وقت وجوبه كالصوم. والثاني: يجوز, وهو الأصحّ لأنه حق هو مال يجب بأسباب, فجاز تقديمه على بعض أسبابه: كالكفارة والزكاة. وقال القفال: هل يجوز قبل فراغه من العمرة؟ وجهان: أحدهما: لا يجوز لأن أحد السببين لم يتم بعد. والثاني: يجوز, لأن السبب هو: الإحرام بالعمرة في أشهر الحجّ لا الفراغ منها, وهذا خلاف المنصوص, ثم إذا عدم الهدي يجوز الانتقال إلى الصوم وإن واجدًا في بلده, وما دام واجدًا له لا يجوز الصوم لقوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [البقرة: 196] , وبفارق هذه الكفارة إذا كان واجدًا للرقبة في بلده لا يجوز له الانتقال إلى الصوم في مكانه؛ لأن البدل هناك غير مؤقت, وههنا البدل مؤقت, فاعتبر القدرة والعجز في موضعها كما في الوضوء مع اليتيم. وفي كفارة الظهار وجهان: أحدهما: يعتبر القدرة على الرقبة في مكان دون [49/ أ] بلده, لأن عليه إضرارًا في تأخيرها لأن إباحة الوطء يتعلق بها. والثاني: يعتبر عدمها على الإطلاق لما ذكرنا من عدم الوقت. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 56).

وإذا عدم المتمتع المال, ولا يرجو وجود المال في أيام الحجّ, فلأولى أن يعجل الصوم لأن المبادرة إلى أداء العبادة أولى, وإن كان لا يجد المال في الوقت, ولكنه بناء على ما لو لم يجد الماء إلا أنه يتحقق الماء في آخر الوقت, ولو كان لا يتحقق وجود الهدي, ولكن يرجو وجُده له أن يصوم, وهل الأفضل له أن يعجل أم يؤخر؟ وجهان: كالحكم فيمن يرجو وجُود الماء بعد دخول وقت الصلاة وهو يرجو وجود الماء في آخر الوقت, قولان. ثم إذا انتقل إلى الصيام, فهي عشرة أيام ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة إذا رجع ووقت صيام الثلاثة ما بين الإحرام بالحجّ, ويوم النحر يكون آخره يوم عرفة, لأن الصوم لا يصحّ بعده, فإن أراد صيام الثلاثة قبل إحرامه بالحجّ لا يجوز. وقال أبو حنيفة: يجوز أن يصوم إذا أحرم بالعمرة, وناقض في ذلك حين لا يجوز الهدي في ذلك الوقت مع أنه ماليًا, ويجوز الصوم مع كونه عبادة بدنية, وهو بدل الهدي, أو يقول: كل وقت لا يجوز فيه المبدل [49/ ب] لا يجوز فيه البدل أصله قبل الإحرام بالعمرة, أو صوم ولجب, فلا يجوز تقديمه على وقتِ وجوبه كصوم رمضان. وعن أحمد روايتان: أحدهما: كقول أبي حنيفة. والثانية: يجوز بعد التحلل من العمرة, فإذا تقرر هذا, فإن لم يصم الثانية حتى جاء يوم النحر, فالمذهب أنه يصوم بعده, ولا يفوت بفوات يوم عرفة. وبه قال مالك: لأنه صّوم واجب, فلم يسقط بفواتِ وقتهِ كصوم رمضان. وقال ابن سريج: يحتمل قولاً مخرجًا أنه يسقط بفواتِ وقته إلى الهدي, ولا يجوز الصوم بحالٍ, ويستقر الهدي في ذمته, ولا يلزمه لتأخير الصوم شيء. وبه قال أبو حنيفة, إلا أنه يقول: يلزم دم آخر للتأخير, وهذا التخريج من ابن سريج مما قال الشافعي إذا وجب عليه الصوم بالإحرام بالحجّ, فمات عقيبه فيه قولان: أحدهما: عليه الهدي. والثاني: لا شيء عليه, فأسقط عنه بالموت, فكذلك بفوات الحجّ, وهذا تخريج بعيد لأن صوم رمضان يسقط بالموت إذا مات قبل التمكن من أدائه, ولا يسقط بفوات وقته, كذلك ههنا. وحكي عن أحمد أنه قال: إن أخّر الصوم من غير عذر وجب عليه دم آخر للتأخير. وهذا غلط لأنه صّوم يجب بفواته القضاء, فبم تجب به كفارة كصوم رمضان, ولأنه يستحيل وجوب مثل المبدل معه في الأصول, فإذا قلنا: له الصيام بعده لم يجز أن يصوم يوم [50/ أ] النحر. وفي أيان التشريق قولان: أحدهما: قاله في "القديم": يجوز له أن يصومها, وبه قال ابن عمر وعائشة ومالك وأحمد في رواية لما روي عن عائشة رضي الله عنها, قالت: رَخص رسول الله صلى الله عليه وسلم

للمتمتع إذا لم يجد الهدي, ولم يصم الثلاثة من العشرة أن يصوم أيام التشريق (¬1). والثاني: قاله في "الجديد", وهو الصحيح أنه لا يجوز, وروي ذلك عن علي رضي الله عنه. وبه قال أبو حنيفة, والقَول الآخر مرجوع عنه لأن الشافعي قال ههنا: وكنت أراه, أي كنت في "القديم" أرى جواز ذلك, وقيل: إن الشافعي رضي الله عنه قال في "الجديد": قال قوم: يصوم أيام منى, وقد كنت أراه, وأما الآن لا أراه. ثم تأول ما روي عن بعض الصحابة, فقال: وقد يكون من يصوم أيام منى ذهب عنه نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها يعني ما رواه أبو هريرة, أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صيام ستة أيام (¬2) .... الخبر. وروى أبو هريرة أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حذافة السهميى يطوف قي منى أن لا تصوموا هذه الأيام, فإنها أيام أكل وشرب, وذكر الله تعالى (¬3). وأما خبرهم رواه يحيى بن سلام, وهو ضعيف وربما يروون عن عبد الغفار بن القسم عن الزهري عن عمرو, وعن عائشة وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا: لم يرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد في صيام أيام التشريق إلا ممتع, أو محصر وعبد الغفار هذا أخطأ في إسناده, وهو ضعيف أيضًا, ثم إن المزي أيّد [50/ ب] هذا القوي, فقال: قوله هذا أقيس, لأن النبي صلى الله عليه وسلم سوى في نهيه عنها وعن يوم النحر, فإذا لم يجز صيام يوم النحر للنهي, فكذلك أيام منى, فإذا قلنا: لا يجوز صيام أيام التشريق أتى بها بعدها قضاء. وإذا قلنا: يجوز لها أن يصومها أتى بها في أيام التشريق أداء فإن فاته فيها أتى بها بعدها, وكان قضاء, فكان آخر وقت الأداء قولين, ففي القديم وقت الأداء إلى آخر أيام التشريق. وفي "الجديد": إلى آخر يوم عرفة. فَرْعٌ لو وجد المتمتع الهدي بعد العدم, فإن وجَده بعد الفراغ من الصوم لم يلزمه ذبحه, وإن وده وهو في الصوم, فلا فصل له أن ينتقل إلى الهدي, فإن مضى في صومه أجزأه كما يقول في المتيمم إذا رأى الماء في صلاته يمضي فيها, ولا فرق بين أن يجده في أثناء صوم الثلاثة, أو في أثناء صوم السبعة. وبه قال مالك وأحمد في روايته, وقال المزني: يلزمه العود إلى الهدي بكل حال, وقال أبو حنيفة: إن وجده في صوم الثلاثة يلزمه العّود إلى الهدي, وإن وجده في صوم السبعة لا يلزمه العَود إلى الهدي, لأن صوم الثلاثة بدل عن الهدي دون صوم السبعة, وهذا غلط لأن الله تعالى جعل جميع العشرة بدلاً عن الهدي لأنه أوجبها عند عدم الهدي, فلا يلزمه الخروج منه بوجود الهدي كالسبعة. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: لو وجد الهدي بعد أن صام الثلاثة [51/ أ] قبل يوم النحر يلزمه العود إليه ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1997, 1998) , والدارقطني (2/ 186). (¬2) أخرجه الدارقطني (2/ 157) , والبهيقي (4/ 208). (¬3) أخرجه الدارقطني (2/ 282).

أيضًا, وإن وجده بعد مضي أيام النحر أجزأه الصوم, وإن لم يتحلّل, لأنه مضى زمان التحلّل وقبل ذلك كان زمان التحلّل, وهذا غلط أيضًا لمل ذكرنا. فَرعٌ آخرٌ لو أحرم بالحجّ, وهو معسر فكان فرضه الصوم, ثم أيسر قبل دخوله في الصوم, ووجد الهدي فيه قولان بناء على أن الإعسار في الكفارات بحالة الأداء أم بحالة الوجُوب, فإن قلنا: الاعتبار بحالة الوجوب لا يلزمه ذبحه, ويجوز الصوم له, وإن قلنا: بحالة الأداء يلزمه ذبحه, ولا يجوز له الصوم, وقيل: في الكفارة قولٌ ثالث, يعتبر بأغلظ الأحوال, فعلى هذا ههنا يعتبر بالأغلظ, ويلزمه الهدي, وكذلك لو أحرمَ به, وهو موسور, ثم أعسر قبل الإتيان بالدم, هل يجزئه الصيام؟ على الاختلاف. فَرعٌ آخرٌ لو لم يصم المتمتع حتى مات, قال القاضي في كتبه الجديدة: إن كان لم يمكنه أن يصوم لم يجب شيء, وإن أمكنه أن يصوم, فلم يصم تَصَدّق عنه مكان كل يوم مُدّ من حنطةٍ, ثم فيه قولان: أحدهما: يلزمه أن يفرقه على مساكين الحرم لأنه مال وجب بالإحرام كالدم. والثاني: الأولى أن يفرق فيهم, فإن فرقه في غيرهم جاز لأن الإطعام بدل عن الصوم الذي لا يختص بالحرم, وقال في "القديم": يصوم عنه وليه, والمذهب الأول. فإن مات بعد القدرة على بعضها دون بعض أطعم عن كل يوم قدر ما كان عليه مدّاً, ولا شيء في الباقي, وفال أبو إسحاق: ذكر الشافعي في "مختصر الحجّ" في هذه المسألة قولين: أحدهما: يتصدق عنه [51/ ب] عن كل يوم بدرهم, فيكون عن العشرة عشرة دراهم, والثاني: يخرج عن يوم ثلث دم وعن يومين ثلثي دم وعن ثلاثة فصاعدًا شاة, وهذا أيضًا غير صحيح. وإنما ذكر أصحابنا هذه الأقاويل في إتلاف الشعر والظفر, وترك الحصيات لا في هذا الموضع, وقال في "الأم": من لم يجد الهدي, ففرضه الصيام, فإن مات من ساعته فيه قولان: أحدهما: عليه الهدي, ومعناه يطعم عنه, لأن الهدي لم يجب عليه أصلاً, لأنه لم يجد. والثاني: لا شيء عليه, وهو الأصحّ لأن الهدي لم يجب عليه, ولم يتمكن من الصوم والإطعام لفوات صوم مقدور, وههنا لم يقدر, ووجه القول الأول أنه لا يمكن أن يصام عنه, ويمكن أن يهدي, فوجب الهدي على ما ذكرنا من التأويل. وقيل: يقضي عنه الدم بعد موته ببيع عروضه التي لم يلزمه بيعهما في حياته. وأما وقت صوم السبعة, قال تعالى: {وسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] , واختلف فيه قول الشافعي, فقال حرملة ونقلة المزني: يصوم إذا رجع إلى أهله واستقر (¬1) وهو الصحيح لأن الرجوع إذا أطلق فيمن خرج من أله يقتضي رجوعًا إليهم لأن الرجوع في ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 58).

الحقيقة رجوع إلى المكان الذي خرج منه. وقال في "الإملاء": يصوم السبعة إذا رجع من حجّه بعد كمال مناسكه. ثم اختلف أصحابنا في هذا, فقال جماعة: مذهبه في "الإملاء": أنه يصومها إذا أخذ في الخروج من مكة راجعًا إلى بلده, ولا يجوز له أن يصوم بمكة قبل خروجه, وهو اختيار أصحابنا بالبصرة. وقيل: إنه قول مالك, وهو اختيار أبي إسحاق, وقال أصحابنا البغداديون: مذهبه في "الإملاء" أنه يصومها إذا رجع إلى مكة بعد فراغه من مناسكه ورميه سواء أقام بمكة, أو خرج منها. وبهذا قال ابن عباسٍ والحسن وعطاء [52/ أ] ومالك وأبو حنيفة وأحمد, واحتجوا بأن كل من لزمه صوم, وله أن يؤديه إذا رجع إلى وطنه له أن يؤديه قبل ذلك لقضاء رمضان, وهذا غلط لما روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المتمتع: "من كان معه هدي فليهده ومن لم يكن معه هدي فليصم ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة إذا رجع إلى أهله". وهذا نص صريح, فإذا قلنا بالقول الصحيح, فالمراد بالوطن موضع العزم على الاستيطان فيه سواء كان البلد الذي خرج منه, أو غيره حتى لو أقام بمكة كانت وطنه وصامها فيها, فعلى هذا وقت جواز فعلها حصوله في موضع الاستيطان, ولو صام قبل ذلك لم يجهزه لأنه لا يجوز أداء العبادة البدنية قبل دخول وقتها ولو أخّر صيامها مع القدرة عن هذا الوقت كان مسيئًا وأجزأته, وإذا قلنا بقول "الإملاء" على اختيار أبي إسحاق يصومها إذا خرج من مكة, فإن صام قبله لا يجوز, ولو أخّرها حتى رجع إلى أهلهِ كان مسيئًا وأجزأته. هكذا قال "الحاوي" (¬1) , وقال سائر أصحابنا: أجزأته, وهل الأفضل له التأخير إلى الرجوع إلى أهله أم التقديم على ذلك؟ قولان: أحدهما: الأفضل له التقديم لأن تعجيل العبادة في أول وقتها أفضل عند القدرة. والثاني: التأخير أفضل. وبه قال مالك لأنه مختلف في جوازه قبل ذلك وفعل العبادة على الوجه المجمع أولى. وإذا قلنا بقول "الإملاء" على اختيار البغداديين يصومها إذا فرغ من أعمال حجّه, فإن صام قبل فراغه من جميع أعمالهِ لم يجز, وإن صام بعد فراغه من جميع أعمال حجّه, وهو بمكة, أو في طريقه أجزأه, وأما متابعة صيام الأيام الثلاثة في الحجّ, والسبعة الأيام إذا رجع فمستحبة وفي وجوبها وجهان مخرجان [52/ ب] من القَولَين في التتابع في صوم كفارة اليمين ذكره الإمام والدي, وصاحب "الحاوي" (¬2) وسائر أصحابنا ذكروا: أنه يجوز متتابعًا ومتفرقًا بلا خلاف لأن الله تعالى أطلق ولم يشترط التتابع, وإن لم يصم الثلاثة في الحجّ, فمتى عاد إلى وطنه يلزمه صَوم العشرة ثلاثة أيام قضاء وسبعة أداء, فهل يلزمه أن يفرق بين الثلاثة أو السبعة؟ المنصوص أنه يلزمه التفريق بينهما, وهو قول الأكثرين من أصحابنا. ومن أصحابنا من قال: لا يلزمه, وله أن يصوم العشرة متابعة, لأن التفريق وجب في الأداء لأجل الوقت, فإذا فات الوقت يسقط كترتيب الصلوات في أوقاتها تسقط بفوات الوقت. ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (4/ 76) (¬2) انظر الحاوي للماوردي (4/ 57)

وبه قال أحمد, وهذا غلط لأن التفريق في الأصل من ناحية الفعل دون الوقت لأنه قيل له: صم الثلاثة قبل الفراغ من الحجّ وصُم السبعة بعد العود إلى الوطن وعوده فعل من جهته قد يعود في مدة يسيرة, ومدة كثيرة, وما كان مستحقًا من ناحية الفعل يفوت بفوات الوقت كترتيب أفعال الصلاة. فإذا قلنا بالقول الأول يصوم كيف شاء, ولو قدم السبعة على الثلاثة يجوز. وقال والدي: فيه وجهان, والأصحّ ما ذكرت. وإذا قلنا بالقول الثاني, وهو الصحيح, يجب التفريق بينهما بالمقدار الذي كان يفرق بينهما بالأداء, وذلك مبني على القولين في صوم السبعة, والقولين في صيام أيام التشريق, فإن قلنا بقوله الجديد: إن صيام التشريق لا يجوز وصوم السبعة لا يجوز إلا بعد الرجوع إلى الوطن وجب التفريق بينهما بأربعة أيام ومدّة السفر. وإن قلنا بقوله القديم: إن صيام أيام التشريق يجوز والرجوع إلى الوطن [53/ أ] وهو المراد وجب التفريق بينهما بقدر المسافة, وإن قلنا: صوم السبعة يجوز بعد الفراغ من الحجّ, وقلنا: لا يجوز صيام أيام التشريق ففرق بينهما بأربعة أيام, وإن قلنا: يجوز صيام أيام التشريق لا يفرق بينهما بشيء لأنه كان يمكنه في الأداء أن يؤخّر صيام الثلاثة, ويصومها في أيام التشريق, ثم يصوم السبعة عقبها من غير فصلٍ. وهكذا إن قلنا: الرجوع هو الأخذ في السير, وهذه الأقوال كلها مخرجة. ونصّ في "الإملاء" أن أقلّ ما يفرق بينهما بيوم. ثم اختلف أصحابنا في أصل هذا القول, فمنهم من قال: إنما قاله على القول الذي يقول: يجوز للمتمتع صيام أيام التشريق, ويجوز فيها أيضًا, كل صوم له سبب ولصوم السبعة سببٌ ظاهرٌ, فيفصل بينهما بيوم النحر, وهذا خطأ من قائله, لأن صوم السبعة لا يجوز في أيام التشريق بالإجماع, لأنه إنما يجوز بعد الفراغ من أفعال الحجّ, وفي أيام التشريق ففعل بقية أعمال الحجّ, والصحيح أن يقال: نص على هذا القول, وهو أصل في نفسه, ولم ينبه على غيره, ووجهه أنه إذا أوجب التفريق في الأصل وجب في القضاء وأقل التفريق يوم. فحصل في المسألة خمسة أقوال: أحدهما: لا يفرق بينهما أصلاً. والثاني: يفرق بيوم. والثالث: بأربعة أيام. والرابع: بأربعة أيام وقدر المسافة. والخامس: يفرق بقدر المسافة فقط. وذكر بعض أصحابنا بخراسان قولاً آخر: يفرق بينهما بخمسة أيام إذا قلنا: أراد الرجوع إلى مكة في قوله تعالى {إذَا رَجَعْتُمْ} , ولا يجوز صيام أيام التشريق ويوم الرجوع إلى مكة. وهذا ليس بشيء. فَرْعٌ إذا قلنا: [53/ ب] التفريق واجب بحسب الترتيب, فلا يجوز السبعة قبل الثلاثة ولو شرع في السبعة, هل يحتسب عن الثلاثة؟ وجهان, كما لو لم يفرق بين السبعة والثلاثة, وقد قلنا يجب التفريق بيوم, هل تحتسب له الأيام الستة؟ وجهان.

فَرْعٌ آخرُ لو صام هذه العشرة متتابعة من غير تفريق صحت الثلاثة, وأمّا السبعة فمبنيّة على الأقوال الخمسة, فكل زمان لزمه أن يجعله فصلًا بين الصومين لم يصحّ صيامه فيه, فإذا قلنا: لا يجب الفصل بينهما أجزأه الكل, فإن قلنا: يفصل بيوم بطل من السبعة يوم, وإن قلنا: بأربعة أيام بطلت منها أربعة. وإن قلنا: بأربعة أيام, وقدر المسافة, فإن كانت الأربعة, وقدر المسافة سبعة أيام فأكثر لم يصحّ من السبعة شيء, وإن قلنا: بقدر المسافة, فإن كانت المسافة سبع أيام فأكثر لم يصحّ منها شيء, وإن كانت دون السبعة بطل منها بقدر المسافة, وصحّ ما عداه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا يجوز السبعة بحال؛ لأن اليوم الرابع لا يجوز لا محالة, فإذا صام اليوم الخامس فعنده أن اليوم الثاني من السبعة فلم يجزه, ولا يجوز ما بعده على هذا القياس, وهذا ليس بشيء. وقال الإصطخري: إن صام اليوم السابع بعد صيام الثلاثة أجزأته الثلاثة, والكلام في السبعة وإن نوى السابع صيام الثلاثة عند دخوله فيها لم يجز ويكون فساد نيته قادحًا في صومه. وهذا غلط فاحش لأن طرد الفساد على صوم بعض الأيام لا يقتضي فساد الصوم في غيره. ثم قال المزني: قال (¬1): فإن لم يصم حتى مات يصدق ما أمكنه, وقد ذكرنا هذا, وقال في "الحاوي" (¬2): إذا مات المتمتع قبل [54/ أ] فراغهِ من أركان الحجّ, فإن كان معسرًا لا شيء عليه, وإن مات موسرًا ففي وجوب الدم قولان: أحدهما: لازم لأن الدم إنما وجب للمتعة بالحجّ, فإذا مات قبل إكمال أركانه لم يكمل الحجّ, فلا دم. والثاني: وهو الأصحّ يجب الدم, لأنه وجب بدخوله في الحجّ, والدم إذا وجب في الحجّ لم يسقط بموته قبل كماله لدم الوطء. مَسأَلَةٌ: قالَ (¬3): وحَاضرو المسجد الحرام الذين لا متعة عليهم من كان أهله دون ليلتين. الفَصلُ القصدُ به بيان حاضري المسجد الحرام من هم؟ وقد قال ههنا: من كان أهله دون ليلتين أي داره من مكة على دون مسافة القصر. وبه قال أحمد, ثم أوضح ذلك, فقال: وهو حينئذٍ دون أقرب المواقيت, أي: أقرب إلى مكة من أقرب المواقيت, لأن أقرب المواقيت فيما قبل هو ذات عرق, وهي على مسافة ليلتين, ثم زاد في "الإيضاح", فقال: ومن سافر إليه, أي: إلى هذا الموضع الذي جعلناه من حاضري المسجد الحرام صلى صلاة الحضر لا يجوز فيه القصر, ثم زاد أيضًا فقال: ومنه يرجع من لم يكن آخر عهده بالبيت حتى يطوف, وأراد أن على من أراد الخروج من مكة أن يودع البيت بالطواف فمن نفر قبل الداع عليه الرجوع ما لم يبلغ سفره مسافة ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 58). (¬2) انظر الأم (2/ 59). (¬3) انظر الحاوي للمارودي (4/ 60).

القصر، فإن جاوز ذلك لا يلزمه الرجوع، وأجزأه دم. جملة هذا أن الطواف في الحجّ ثلاثة طواف القدوم، وطواف الزيارة وطواف الوداع، فأمّا طواف القدوم، فهو أن الحجّ أو المقيم، أو غيرهما إذا دخل مكة يستحب له أن يطوف بالبيت عند قدومهِ، وهذا الطواف ليس من مسنونات الحجّ، ولا من أفعاله الراتبة، بل هو تحية المسجد ألا تري [54/ب] أن المكي لا يفعله، فإن تركه لم يلزمه شيء، وذكر القفال في "شرح التلخيص" قولا مخرجًا يلزم دم قياساً علي طواف الوداع، وليس بشيء، وأمّا طواف الزيارة هو أن الحاج إذا فرغ من الوقوف، والمبيت بمزدلفة عاد إلي مكة وطاف طواف الزيارة، وهذا ركن في الحج تركه يبطل الحجّ، ولا يجبر بالدم بحال، وأما طواف الوداع فهو ما ذكرنا. وهل يجب الدم بتركه؟ قولان: أحدهما: يجب، نصّ عليه في " الأم". والثاني: لا يجب، نصّ عليه في "الإملاء". فإذا قلنا: يجب، فإن ذكر قبل أن يجاوز ما لا يقصر إليه الصلاة يلزمه أن يرجع، لأنه بعيد من حاضري المسجد الحرام، فأشبه إذا ذكر، وهو بمكة، وإذا رجع وودعَ لا يلزمه الدم، وإن ذكر، وقد جاوزه استقر عليه الدم، فإن رجع وودع لم يسقط عنه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجه آخر أنه يسقط عنه الدم، وإذا قلنا: لا يجب استحببنا له العود، وإن ذكر بعدما جاوز استحببنا له الدم، وقال مالك: حاضر المسجد الحرام من كان أهله في الحرم. وروي هذا عن ابن عباسٍ ومجاهد والثوري، وحكي عن مالك أنه قال: من كان بمكة وذي طوي. وقال أبو حنيفة: من كان في المواقيت، أو دونها مما يلي مكة. وهذا غلط لأن الحضور عند العرب عبارة عن المقاربة، فمن حلّ بالحرم والميقات لزمه أن يعد القرب من الغائبين، وهو إذا كان يسكن التنعيم فإنه حلّ أو يسكن العقيق، فإنما قبل الميقات ويجعل البعيد من الحاضرين، وهو من يسكن ذا الحليفة من الحاضرين عند أبي حنيفة وبينه وبين مكة قريب مائة فرسخ. وهذا محال، ولأن اعتبارنا أولي لأنه بمنزلة الحاضر فيه [55/أ] في أنه لا يترخّص ترخّص المسافرين إذا قصده. فَرّعُ يعتبر مسافة القصر في حق حاضري المسجد الحرام من عمارة مكة، أو من الحرم وجهان: أحدهما: من عمران مكة لأن الله تعالي قال: {لَيْلاً مِّنَ المَسْجِدِ الحَرَامِ} [الإسراء:1]، وإنما أسري به من بيت أمّ هانئ. والثاني: من الحرم لأن الله تعالي قال: {فَلا يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرَامَ} [التوبة:28]، وأراد جملة الحرم. فَرّعُ آخرُ لو كان للإنسان منزلان، منزل في موضع لا تقتصر إليه الصلاة من الحرم، ومنزل تقصر إليه الصلاة منه، فإن كان في مقامه في أحدهما أكثر كان الاعتبار به. وإن كان مقامه فيهما

سواء نظر الي ماله، فان كان ماله في أحدهما، أو في أحدهما أكثر اعتبرنا به. وإن كان ماله فيه سواء اعتبرنا عزمه علي إقامته بعد فراغه من التمتع، فإن عزم علي الإقامة في أحدهما، فالاعتبار به. نصّ عليه في "الإملاء". وقال أصحابنا: فإن كان عزمه سواء اعتبرنا موضع إحرامه منه، فيكون من أهل ذلك المنزل، وقيل ذكر هذا ايضًا في "الإملاء". وقال في "الحاوي" (¬1): قال أصحابنا: غلب حكم المنزل الذي خرج منه، وقال القاضي حسين: الاعتبار بالعبور علي الميقات، فإن كان في مكة وقت أداء النسك، فهو من الحاضرين، وإن كان عابراّ علي الميقات فحكمه حكم الآفاقي. فَرّعُ آخرُ لو استوطن المكي العراق أو استوطن العراق مكة، فإن الاعتبار بما آل إليه أمره لأن الدم إنما يجب لترك الإحرام من الميقات. والمكي اذا استوطن العراق صار ميقاته ميقات أهل العراق، فإذا تمتع فقد ترك الإحرام، وكذلك علي الضّد إذا استوطن العراق. فَرّعُ آخرُ لو تمتع العراقي فدخل مكة معتمرًا، فلما فرغ من العمرة نوي الاستيطان بها، قال في "الإملاء": لا يسقط عنه الدم لأنه لا يصحّ فيه المقام إلا مع وجود اللبث، وهو لا يمكنه اللبث [55/ب] لأن عليه الخروج إلي مني وعرفات، ولأنه لما مرّ بالميقات فقد لزمه حكم الميقات للحجّ والعمرة، فإن أحرم بالحجّ من مكة، أو من مني لزمه الدم لتركه الميقات الذي لزمه حكمه وهكذا لو خرج من بلده ناويًا للمقام بمكة بعد فراغه من التمتع. فَرّعُ آخرُ لو طال مقام مكي في بلد ولم يزمع أن يتخذه وطنًا لم يكن عليه دم المتعة لأنه لم يخرج عن كونه مكيًا. فَرّعُ آخرُ اختلف العلماء في فسخ النبي صلي الله عليه وسلم الحجّ علي أصحابه، فالذي أشار إليه الشافعي "الأم" أنه لم يكن فسخاً بل كان أحرم هو وأصحابه إحراما موقوفًا لا بحجّ ولا بعمرة، ثم أمر من لم يكن معه هدي أن يجعله عمرة، ومن كان معه هدي أن يجعله حجّاً، وذكر رواية جابر في ذلك. ومن أصحابنا من قال: فسخ عليهم الحجّ وأمرهم أن يتحلّلوا بعمل العمرة، وعليه يدل ظاهر النقل والأخبار. قال أبو سعيد الخدري: "خرجنا مع رسول الله صلي الله عليه وسلم نصرخ بالحجّ صراخا، فلما أتينا أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم من لم يكن معه هدي أن يطوف، ويسعى ويتحلّل فتحلّلنا، ثم خرجنا يوم التروية نصرخ بالحج صراخا"، فإن كان ذلك علي ما أشار الشافعي، فهو جائز في زماننا، وإن كان علي ما نقل في الخبر، فلا يجوز الآن بل كان خاصاً لهم بدليل ما ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (4/ 64).

باب مواقيت الحج

روى الحارث بن بلال بن الحارث عن أبيه بلال بن الحارث أنه قال: قلت: يا رسول الله فسخ الحج لنا أو لنا ولمن بعدنا، فقال: (لا، بل لكم خاصًا) (¬1)، وقال أبو ذر: لم يكن ذلك إلا للركب الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما فسخ ذلك إلي العمرة لأن الجاهلية كانت تكره الاعتمار في أشهر الحج ويعدونه من أفجر الفجور، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأمرهم بالعمرة في زمان الحج ليتركوا سنة الجاهلية. وقال أحمد: يجوز فسخ الحج إلي العمرة [56/أ] لمن لم يسق الهدي في زماننا هذا، وهذا غلط لما ذكرنا، والله أعلم. بَابُ مواقيت الحجّ مسألة: قال (¬2): ميقات أهل المدينة من ذي الحليفة. الفَصْلُ اعلم أن للحج ميقاتين: أحدهما من جهة الزمان والآخر من جهة المكان، فأما ميقاته من جهة الزمان فقد مضي بيانه، وذلك الميقات لئلا يقدم الإحرام عليه. وأما ميقاته من جهة المكان، فهو ما بينه في هذا الباب. وهذا الميقات إنما هو لئلا يؤخر الإحرام عنه لا لئلا يقدم، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم بين لأهل كل ناحية ميقاتا علي ما ذكره الشافعي، فميقات أهل المدينة من ذي الحليفة، وهو موضع قريب من المدينة، وأهل الشام والمغرب ومصر وغيرها من الجحفة، وأهل نهامة اليمن يلملم، وأهل نجد اليمن ونجد قرن يريد أن تهامة تهامتان، ولكل واحد منهما ميقات علي حدة، والنجد نجدان وميقاتهما واحد، وهو قرن، وذلك أن الحجاز يشتمل علي نجد وغور، فالنجد بلاد فيها ارتفاع، والغور بطونها والنجد أغلب. وكذلك اليمن يشتمل علي نجد وغور، ويسمي الغور تهامة، فهما تهامتان/ تهامة اليمن، وتهامة الحجاز ومكة من تهماة الحجاز، وجملته أربعة مواقيت منصوصة بلا خلاف. روي عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يهل أهل المدينة من ذي الحليفة، وأهل الشام من الجحفة، وأهل نجد من قرن. هذه الثلاثة سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرت أنه قال: (ويهل أهل اليمن من يلملم" (¬3) [56/ب] لأهل المدينة ذا الحليفة وأهل الشام: الجحفة، وأهل نجد من قرن وأهل اليمن يلملم، وأما ذات عرق، قال الشافعي: وأهل المشرق ذات عرق وهذا الميقات الواحد مما اضطربت فيه الأخبار، واختلفت فيه العلماء وهو ميقات أهل العراق وخرسان ولم يكونو أسلموا علي عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك أشكل الأمر في ميقاتهم إلا أن أكثر أهل العلم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلذلك أشكل الأمر في ميقاتهم إلا أن أكثر أهل العلم علي ما قال الشافعي، وهي علي مسيرة ليلتين من مكة، وروي عن طاوس أنه قال: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات عرق ولم يكن حينئذ أهل ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1808). (¬2) انظر الأم (2/ 59). (¬3) أخرجه البخاري (1525)، ومسلم (13/ 1182).

العراق، وإنما وقت بعده ذات عرق (¬1)، وقال الشافعي في موضع: ولا أراه إلا كما قال طاوس. وروى أبن جريج عن عطاء قال: وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المشرق ذات عرق (¬2)، قال ابن جريج: فراجعت عطاء، فقلت: إن الناس يقولون: لم يوقت ذات عرق، فقال: سمعنا له وقت لأهل المشرق ذات عرق، والعقيق، فكان عطاء يذهب إلي أن ذلك منصوص عليه وطاوس يذهب إلي أن ذلك غير منصوص عليه. والشافعي اختار في (الأم) هذا، فقال: لم يبنيه النبي صلى الله عليه وسلم وإنما أجمع عليه الناس، ووجه ما روي أنه قيل لعمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يوقت لأهل المشرق، ولو أردنا قرن شق علينا، فقال بعضهم: ذات عرق. وقال بعضهم: العقيق، فوقت عمر رضي الله عنه لهم ذات عرق. وهذا كان بعد فتح العراق لأهل العراق (¬3)، ومن أصحابنا من قال بقول عطاء، وقال: قد صح الحديث، ولكنه لم يكن وقع إلي الشافعي [57/أ] ولو وقع لقال به، وهو ما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق (¬4). أورده أبو داود. وكذلك رواه الحارث بن عمروا السهمي. وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المشرق العقيق (¬5). قال أبو سليمان الخطابي: وهذا أثبت منه في ذات عرق. قال الشافعي: (ولو أهلوا من العقيق كان أحب إلي" لرواية ابن عباس رضي الله عنهما، ولأنه أبعد من ذات عرق، فالإهلال منه أحوط، وذات عرق اسم قرية، والعقيق واد قبل ذات العرق بقريب. ثم المستحب في كل قرية هي ميقات أن يحرم من طرفها الأقصى ليقطع عمارة تلك القرية محرمًا، فإن أحرم من طرفها الأدني إلي مكة قبل أن يفارق عمارتها جاز. فإن قيل: كيف تصح الراوية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذات عرق وأهل العراق كانوا مشركين؟ قيل: إنه وقت ذلك لعلمه بأنهم يسلمون وأنها تصير دار الإسلام كما قال لعدي بن حاتم: (يوشك أن تخرج الظعينة من الحيرة تؤم البيت لا جور معها لا تخاف إلا الله) وبهذا قال أحمد وأصحاب أبي حنيفة. وأعلم أن بعد المواقيت ذو الحليفة علي عشر مراحل من مكة علي ميل من المدينة ويليه في البعد الجحفة، والمواقيت الثلاثة على مسافة واحدة بينها وبين مكة ليلتان قاصدتان. مسألة: قال (¬6): (والمواقيت لأهلها، ولكل من يمر بها ممن أراد حجًا أو عمرة). من كان مقيماً بالمقيمات إذا أراد أن يحرم بالحج أو بالعمرة فإنه يحرم من الميقات الذي هو به، وكذلك من كان بلده وراء الميقات يحرم منه، وكذلك من مر بالميقات ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي (1/ 291) ترتيب المستند. (¬2) أخرجه مسلم (18/ 1182). (¬3) أخرجه البخاري (1531). (¬4) أخرجه أبو داود (1739)، والنسائي (2656). (¬5) أخرجه أحمد (1/ 344)، وأبو داود (1740)، والترمذي (832)، والعقيق: واد يدفق مأوه في غوري تهامة. قال الأزهي: هو حذا ذات عرق. (¬6) أنظر الأم (2/ 60)

ولبلده ميقات آخر يلزمه الإحرام من هذا الميقات سواء كان حاجاً أو معتمراً أو فارنًا [57/ب] ولا يحتاج إلي أن يخرج إلي ميقات أهل بلده لما روي في خبر ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما ذكر في المواقيت لأهلها: "ولكل آتٍ أتي عليها من غير أهلها ممن أراد حجًا أو عمرة" ومن كان دون ذلك، فمن حيث أنشأ حتى أهل مكة يهلون منها، ومن كان أهله دون هذه المواقيت ما بينها وبين مكة فدويرة أهله ميقاته سواء كان في قرية أو حلل بادية حتى يأتي ذلك على أهل مكة فإن ميقاتهم من جوف مكة، ولا يزمهم المضي إلي الميقات للإحرام. قال في "الأم" (¬1): "وأقل ما يلزمه أن لا يخرج من بيوتها حتى يحرم، "وأقل ما يلزمه أن لا يخرج من بيوتها حتى يحرم، وأحب إليّ أن يحرم من أقصى بيوتها". وحكي عنه أنه قال في "الإملاء": "يحرم من بيته أو من مسجد قريته وهذا فلا بأس به". وإذا كان في الحلة فلا يفارق البيوت إلا محرماً وتكون الحلة بمنزلة القرية، وإن كان قاطنًا بمكة فلا يخرج من بابها بأعلي عرفة إلا محرمًا، فإن خرج من البنيان في هذه المواضيع غير محرم كان كمن جاوز الميقات غير محرم، والأفضل أن يحرم من الطرف الذي هو من عرفة أبعد، ولو أن مدنياً وافي من المدينة فميقاته ذو الحليفة لا يلملم دون ذي الحليفة، وإن كان اليمني بالمدينة فميقاته ذو الحليفة لا يملم، وإن سلك طريقاً آخر فقد بينا حكم من مر بميقات الغير، وكل ميقات وقته رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الأفضل، فإن نقلت تلك القرية إلي مكان آخر فالميقات مكان الأولى دون المحدثة، فإن ذات عرق قد غيرت، فالميقات ذات عرق للأولى. وروى الشافعي بإسناده أن سعيد بن جبير رأي رجلًا يريد أن يحرم من ذات عرق فأخذ [58/أ] بيده حتى أخرجه من البيوت، فقطع به الوادي وأتى به إلي المقابر، ثم قال: هذه ذات عرق الأولى. فإن قيل: قال الشافعي عقيب هذه المسألة (¬2): وأيهم مر بميقات غيره ولم يأت من بلده، كان ميقاته ميقات ذلك البد الذي مره به، وقد سبق هذا المعني في قوله، والمواقيت لأهلها ولمن عبر عليها ممن أراد حجًا، أو عمرة فما فائدة هذا العطف؟ قلنا: ربما يختلف النسخ، ففي بعضها فأيهم مر بميقات غيره بالفاء، وفي بعضها بالواو، فإن كان بالفاء فهذا السؤال ساقط والإشكاك زائل لأن آخر الكلام يصير تفسيراً لأوله على نوع من البسط وترك الإيجاز، وإن كان بالواو، فلا بد من زيادة فائدة، وتلك الفائدة أن يقال: المجتازون بالميقات ثلاثة: منهم من أقبل من بلده، ولبلده ميقات معلوم، فعليه أن يحرم من ميقاته. وهذه غير مقصودة بالمسألة الأولى التي ذكر بها المرور ولا بالمسألة الثانية، وإنما هي مقصودة بقوله: والمواقيت لأهلها. والثاني، قوم ليس لهم ميقات، ولا بقربهم. فبين بقوله: ولم يمر عليها أن كل ميقات مر عليه هؤلاء فهو ميقاتهم بمرورهم. والثالث: قوم لبلدهم ميقات معلوم أقبلوا من طريق غير طريق بلدهم فربها يتوهم متوهم أن عليهم التحري بمحاذاة ميقات بلدهم بخلاف قوم ليس لبلدهم ميقات قريب، ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 119). (¬2) أنظر الأم (2/ 60).

فقطع الشافعي بالمسألة الثانية هذا التوهم، وألحقهم بالفريق الثاني وسوى بين من لبلده ميقات وبين من لا ميقات له إذا جاؤوا من طريق سوى طريق البلدتين. فَرْعّ لو كان مسكنه بين ميقاتين: أحدهما: أمامه، والآخر، وراءه كأهل الأبواء والعرج [58/ب] والروحاء وبدر والصفراء، فمسكنهم بين ذي الحليفة والجحفة وهما ميقاتان فذو الحليفة وراءهم والجحفة أمامهم، فمن كان منهم في جادة المغرب والشام الذين هم علي طريق الجحفة كأهل بدر والصفراء فميقاتهم من الجحفة التي هم أمامهم لأن الجحفة لما كانت ميقاتاً لأهل المغرب والشام الذين أبعد داراً منهم، فأولى أن يكون ميقاتًا لهم، ومن كان منهم في جادة المدينة، وعلى طريق ذي الحليفة كالأبواء والعرج فميقاتهم من موضعهم كان منهم بين الجادتين كأهل بني حرب، فإن كانوا إلي جادة المدينة أقرب أحرموا من موضعهم، وإن كانوا إلى جادة الشام أقرب أحرموا من الجحفة، وليس الاعتبار بالقرب من الميقاتين، وإنما الاعتبار بالقرب من الجادتين، وإن كانوا بين الجادتين علي سواء ولم تكن إحدي الجادتين أقرب. فيه وجهان: أحدهما: يحرمون من موضعهم لمن هو إلى جادة المدينة أقرب تغليبا لحكم الاحتياط. والثاني: أنهم بالخيار بين الإحرام من موضعهم وبين الإحرام من الجحفة، لأن تساوي الحالتين يوجب تساوي الحكمين. مسألة: قال (¬1): والمواقيت في الحج والعمرة والقران سواء. أراد به سواء في أنه ليس له المرور إلا محرماً بما قصده من حج أو عمرة أو قران، ولا يختلف ذلك، وإن اختلفت المناسك، وإنما أعاد ذكر هذه المسألة لأن القران لم يكن مذكورًا في المسألة الأولى كما كان مذكوراً في هذه المسألة. مسألة: قال (¬2): ومن سلك برًا، أو بحرًا توخي حتى يهل من حذو المواقيت، أو من ورائها إذا سلك طريقًا [59/أ] لا ميقات فيه من بر أو بحر تجري في طلب محاذاة الميقات لئلا يجاوزه غير محرم، وإحرام من موضع يعلم أنه حذو الميقات، وإنما جوزنا له الإجتهاد لأن البقين متعذر والإجتهاد في ذلك أمارات ودلائل كما جوزنا الاجتهاد في مواقيت الصلاة وجهات القبلة عند الإشكال. وقوله: من ورائها معناه أنه بالخيار في التحري إن شاء صبر حتى يحاذي ثم أحرم وإن شاء أحرم قبل محاذاة الميقات، والاحتياط في تقديم الإحرام كما أن المجتهد في وقت الصلاة إذا أراد الاحتياط كان احتياطه في تأخير الصلاة يسيرًا عن أول الوقت، فتقديم الإحرام علي ميقات المكان عند التحري نظير تأخير الصلاة عن أول الوقت عند التحري، ولو كان طريقه بين ميقاتين أحدهما أقرب من الآخر، فإنه ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 60). (¬2) انظر الأم (2/ 60).

يحرم من حيال قرب الميقاتين إليه لأثر عمر رضي الله عنه الذي ذكرنا، فإن تساويا في القرب أحرم من حذوا أيهما شاء، ولو كان بين ميقاتين: أحدهما: عن يمينه وبين الرجل وبينه خمسة أميال، وبين ذلك الميقات وبين مكة مسيرة ثلاثة ليال وبينه وبين الميقات الذي على يساره ثلاثة أميال إذا حاذاه، وبين مكة وبينه مسيرة ليلتين، فإذا انتهى الرجل إلى محاذاة الميقات الذي مر على يمينه لزمه الإحرام. ولا يجوز له تأخير الإحرام إلى محاذاة الميقات الثاني، وإن كان بين طريقه وبين الثاني أقل بين طريقه وبين الأول. مسألة: قال (¬1): ولو أتى علي ميقات لا يريد حجًا ولا عمرة، فجاوزه، ثم بدا له أن يحرم. الفضل المجتاز بالميقات علي ثلاثة أضرب: أحدهما: يكون مريدًا النسك، إما الحج أو العمرة، فيلزمه أن يحرم منه، ولا يجوز له أن [59/ب] يتجاوزه إلا محرمًا، فإن جاوزه غير محرم، فإن قدر علي الرجوع لزمه الرجوع إلي الميقات، فإن لم يرجع، قال في "الأم" (¬2): كان مسيئا يعني يأثم به، وعليه دم، وإن رجع وأحرم من الميقات لم يلزمه الدم قولًا واحدًا، وإن أحرم دونه، ثم رجع إلى الميقات محرماً. اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: لا يلزمه الدم، وهو الصحيح، وظاهر المذهب. وبه قال الحسن وأبو يوسف ومحمد، فعلة هذا من أراد النسك مخير بين ثلاثة أشياء بين أن يحرم قبل الميقات وبين أن يحرم من الميقات وبين أن يحرم دونه، ثم يعود إليه، ولا يكون مسيئًا في واحدٍ منهما. ومن أصحابنا من قال: يلزمه الدم، ولا يخرج عن الإساءة بذلك. وبه قال مالك وزفر لأنه قد استقر عليه بإحرامه دون الميقات، فلا يسقط عنه بالرجوع إليه كما لو رجع بعد أن تلبس بالوقوف، أو طاف لا يسقط عنه الدم بلا خلاف. وهذا غلط لأنه حصل في الميقات محرماً قبل التلبس بشيء من أفعال النسك، فلا يلزمه الدم كما لو أحرم فيه. وأما الذي قاسوا عليه لا يصح لأن هناك حصل في الميقات في غير وقت إحرامه. وههنا حصل في الميقات في وقت إحرامه لأن الإحرام يتقدم أفعال الحج كلها. وقال أبو حنيفة إن عاد إلي الميقات ولبى، فلا دم عليه، وإن لم يلب يلزمه الدم وإن عاد، وهذا غلط لما ذكرنا، ونقيس علة ما لو عاد ولبى، وإن كان له عذر يمنعه من العود بأن يخاف الانقطاع عن الرفقة، أو كان الطريق مخوفًا، أو خاف فوت الحج لا يلزمه العود، وله الخروج على وجهه ويلزمه مع ذلك دم لأنه ترك قطع مسافة يلزمه قطعها بإحرام. وروى ابن عباس موقوفًا ومرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم [60/أ] قال: "من ترك نسكاً، ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 60). (¬2) انظر الأم (2/ 120).

فعليه دم" (¬1)، وقال أبو الشعثاء: رأيت ابن عباس يرد من جاوز الميقات غير محرم إليه. وروي عن الحسن والنخعي أنهما قالا: الإحرام من الميقات مستحب، فإن تركه لا شيء عليه، وقال سعيد بن جبير: إذا أحرم قبل الميقات لا ينعقد كإحرام الصلاة، إذا وقع فاسدًا وهذا غلط لانه لو أحرم بالصلاة بعد خروج وقتها لم تبطل كذلك ههنا ولو مر بالميقات مريدًا للنسك فجاوزه ناسيًا، أو جاهلًا، ثم علم فإن قدر علي العود يستحب له العود، فإن لم يعد، وأحرم دونه يلزمه الدم لأنه ترك المأمور، فلا فرق فيه بين السهور وبين العمد. والثاني: أن يجتاز به ولا يريد حجًا ولا عمرةً، ولا دخول الحرم وإنما يريد قضاء حاجةٍ بين الميقات والحرم لا يلزمه الإحرام، فإن جاوزه، ثم بدا له أن يحرم بنسك أحرم من موضعه لأن حكمه حكم من هو من أهل ذلك الموضع. وقال أحمد: يلزمه العود إلي ميقات بلده، فإن لم يعد يلزمه دم. وهذا غلط لأن العود إنما يجب علي من لزمه الإحرام من الميقات، وهذا لم يلزمه. والثالث: أن يجتاز به ولا يريد النسك، ولكنه يريد دخول الحرم؟ فهل يلزمه الإحرام لدخول الحرم. واختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: لا يلزمه الإحرام، ولكنه يستحب، وبه قال أبو إسحاق، ومنهم من قال: فيه قولان، فإذا قلنا: يلزمه الإحرام لدخول الحرم. واختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: لا يلزمه الإحرام، ولكنه يستحب. وبه قال أبو إسحاق، ومنهم من قال: فيه قولان، فإذا قلنا: يلزمه الإحرام فعليه أن يحوم منه، فإن جاوزه غير محرم لزمه دم علي ما ذكرنا، وإذا قلنا: لا يلزمه الإحرام، فلو بدا له بعد المجاوزة الإحرام أحرم من موضعه علي ما ذكرنا، وعلي مثل هذا حمل الشافعي ما روي عن أبن عمر رضي الله عنه، أنه أهل من الفرع (¬2). قال: تأويله أنه مر بميقاته لا يريد إحراما ثم بدا له فأهل منه أو جاء إلى الفرع مكة، أو غيرها، ثم بدا له الرجوع إلى مكة. مسألة: قال (¬3): وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [60/ب] أنه لم يكن يهل حتي يبعث به راحلته (¬4). المستحب للإنسان أن لا يحرم قبل التوجه إلي البيت ويأخذ في السير، فإن كان راكبًا يحرم إذا انبعثت به راحلته إلي مكة، وإن كان ماشيًا يحرم إذا أخذ في المسير من المسجد الذي صلى فيه ركعتين نص عليه في "المناسك الكبير" لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ركب راحلته فلما ابعتث لبى، وروي خلاف هذا، وهو أنه لما استوت به راحلته علي البيداء لبى حينئذ. وبه قال مالك، وروي أنه صلى بالميقات ركعتين، ثم أهل عقيبهما، وقد قال الشافعي في "القديم": والمناسك الصغير من "الأم": إذا صلى في موضعه ركعتين احرم في مصلاه، وهو قاعد، وهذا قول أبي حنيفة، وأحمد. وروي عن ابن عباس أنه جمع بين هذا كله. وقال: كل ذلك قد فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم فكل ¬

_ (¬1) أما الموقوف فرواه مالك (1/ 419)، وابيهقي في "الكبرى" (9688)، واما المرفوع فرواه ابن حزم من طريق علي بن الجعد، وأعله بالراوي عن علي بن الجعد فقال: انه مجهول. انظر تلخيص الحبير (973). (¬2) أخرجه مالك في "الموطأ" (732)، والبيهقي في "الكبرى" (8932)، وفي "معرفة السنن" (2762). (¬3) انظر الأم (2/ 61). (¬4) أخرجه البخاري (1514، 1515، 1541)، ومسلم (1184، 1187).

واحد من الرواة روى ما سمع وحفظ، وأيم الله لقد أوجب في مصلاه وأهل حين استقلت به ناقته، وأهل حين علا شرف البيداء وكل ذلك جائز. وقال سعيد بن جبير: با ابن عباس عجبت لاختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أوجب، فقال: "أنا أعلم الناس بذلك". خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حاجًا فلما صلى بذي الحليفة ركعتيه أوجبه في مجلسه، وسمع ذلك منه أقوام، وذلك أن الناس كانوا يأتونه أرسالًا ويسمعوه حين استقلت به ناقته، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما علا علي البيداء أهل وأدرك ذلك منه أقوام، وايم الله .... الخبر، ومن قال: بالأول، قال: اختلفت الراوية عن ابن عباس، فروى عنه أنه قال: اغتسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم لبس [61/أ] ثيابه، فلما أتى ذا الحليفة صلى ركعتين، ثم قعد علي بعيره، فلما استوي به علي البيداء أحرم بالحج (¬1)، وقد روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأهل مكة: "إذا رحتم متوجهين إلي منى فأهلوا بالحج" (¬2)، ولم تختلف عنه الراوية، وهذا متأخر لأن إحرام أهل مكة كان بعد دخولها يوم السابع، فالأخذ به أولى، فإذا تقرر هذا، وأخذ في السير، فالمذهب أن الأفضل له أن يحرم من دويرة أهله، وإن كان بعيدا من الميقات يكثر. نص عليه في "الإملاء". وبه قال أبو حنيفة لأن ذلك أكثر في الطاعة والثوانب. وفيه قول آخر نصّ عليه في "الجامع الكبير"، والأفضل له أن يحرم من الميقات. وروى البويطي عن الشافعي أنه قال: إن أهل رجل بالحج قبل الميقات، فهو جائز، والميقات أحب إلي ووجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحرم قبل الميقات فالاقتداء به أولى، لأن ترك الإحرام قبل الميقات مباح، وإذا أحرم قبله لا يأمن مواقعة المحظور فكان الإتيان بالمباح مع الأمن من الغرر أولى، وبهذا قال مالك وأحمد. وقد روي أنه سئل أبن عباس عن رجل كثير الطاعات كثير المعاصي وآخر قليل الطاعات قليل المعاصي، فقال: السلامة لا يعدلها شيء. ومن أصحابنا من قال: قول واحد: إنه يسحب له قبل الميقات من دويرة أهله، وحيث قال: لا أحب قبل الميقات، أي: لا يتجرد عن ثيابه، ولا يتشبه بالمحرمين قبل إحرامه، والدليل على صحة هذا ان الله تعالي قال: {وأَتِمُّوا الحَجَّ والْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، وروي عن عمر وعلي (¬3) وأبي هريرة (¬4) رضي الله عنهم أنهم قالوا: إتمامهما أن تحرم بهما من جويرة أهلك. وروت أم سلمة رضي الله عنها، [61/ب] قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من أهل حجة أو عمرة من المسجد الأقصى إلي المسجد الحرام غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ووجبت له الجنة" (¬5). رواه أبو داود، ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8945). (¬2) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8938). (¬3) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8928)، وفي "معرفة السنن" (2771). (¬4) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (8929). (¬5) أخرجه أبو داود (1741)، وابن ماجه (3001، 3002) وأحمد (6/ 299)، وابن حبان (3693)، والدارقطني (2/ 283).

باب الإحرام والتلبية

وأما إحرام النبي صلى الله عليه وسلم لأجل أن ميقاته كان قريبًا من المدينة. وأما التغرير فلا يصح لأنه ينبغي أن يحرم من أدني الحل ويتقدم عليه أيضًا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يكره له الإحرام قبل الميقات؟ فولان قال الجديد: يكره. وقال في "القديم" لا يكره، وقال القفال: قول واحد لا يكره، بل يستحب. وحيث قال: يكره أراد به التشبه بالمحرمين قبله. وهذا غلط ظاهر لأن لفظه في "الجديد" وفي "القديم" ما ذكرنا، ولا يحتمل هذا القول بوجه. وروى الكراهية في ذلك عن عمر بن الخطاب فإنه أنكر علي عمران بن حصين رضي الله عنه إحرامه من البصرة (¬1). وروى الكراهية عن الحسن وعطاء ومالك. فَرْعُ الحج راكبًا أفضل علي المشهور من مذهب الشافعي نص عليه في "الإملاء" لأن النبي صلى الله عليه وسلم حج راكبًا ولأنه يكثر المؤنة في ذلم ويقوى علي الدعاء، والذكر وشهود المشاهد فكان أولى، وهو كالفطر يوم عرفة أولى ليقوى علي الدعاء. وقيل فيه قول آخر: إن الحج ماشيًا أفضل كالصوم في الصيف لأنه أشق. ولأن الشافعي قال: لو أوصى أن يحج عنه ماشيًا حج ماشيًا، ولو نذر الحج ماشيًا لزمه ماشيًا. ومن قال بالأول أجاب عن هذا بأن نصه في الوصية والنذر لا يدل على أنه ماشيًا أفضل لأن الناذر يلزمه ما نذر، وإن كان غيره أفضل كما لو نذر التصدق بدراهم، أو أوصى بها لا يجوز الإبدال بالدنانير وإن كان الدنانير أولى. باب الإحرام والتلبية [63/أ] مسألة: قال (¬2): وإذا أراد الرجل الإحرام اغتسل من ميقاته. الفَصْلُ استحب لمن أراد أن يحرم بالحج، أو بالعمرة أن يغتسل من الميقات لإحرامه لما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: "تجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه، واغتسل" (¬3). وقال الشافعي (¬4): ما تركت الغسل بالإهلال قط، ولقد كنت أغتسل له مريضًا في السفر وإني أخاف ضرر المرض، وما صحبت أحدًا اقتدى به، فرأيته تركه، وليس ذلك بواجب لأنه غسل لأمر مستقبل. وقال في " الأم" يستحب ذلك للرجل والمرأة والصبي والحائض والنفساء لأن هذا الغسل يراد للتنظيم فاستوي فيه هؤلاء. وروى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "النفساء والحائض إذا أتتا على المواقيت تغتسلان وتحرمان وتقضيان المناسك كلها غير الطواف بالبيت". قال في "الأم" (¬5): ولو كان الوقت موسعًا علي الحائض والنفساء لم يخافا فوت الحج ¬

_ (¬1) أخرجه البيقهي في "الكبرى" (8932)، وفي "معرفة السنن" (3/ 539). (¬2) أنظر الأم (2/ 61). (¬3) أخرجه البيقهي في "الكبرى" (8944). (¬4) أنظر الأم (2/ 124). (¬5) انظر الأم (2/ 124).

فالأفضل لهما أن لا تحرما حتى يطهرا حتى يجمعها بين التنظيف ورفع الحدث، وتكون كل واحدة منهما على أكمل حالها عند الإحرام. ويستحب للرجل والمرأة أن يتأهبا لحلق الشعر وتقليم الظفر وتنظيف الجسد لما روى جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يتأهبوا للإحرام بحلق شعر العانة ونتف الإبط وقص الشارب والأظفار وغسل الرأس. ووردت عائشة قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يحرم غسل رأسه بأشنان وخطمي" (¬1) فإن لم يجد من أراد الإحرام الماء تيمم لأن التيمم ينوب عن الغسل الواجب فناب عن الغسل المسنون، وإن وجد ما يكفيه للوضوء ولا يكفيه للغسل توضأ. وقال في "الأم" (¬2) الاغتسال في الحج سبعة للإحرام ولدخول مكة وللوقوف بعرفة [62/ب] وللوقوف بمزدلفة ولري الجمار في أيام منى الثلاثة. ولا يغتسل لجمرة يوم النحر لأن رمي أيام منى بعد الزوال في وقت اشتداد الحر والعرض وازدحام الناس، ورمي جمرة العقبة من حين منتصف الليل من ليلة النحر إلي آخر النهار، ومن يوم النحر وإنما يسن في أول النهار قبل أن يشتد الحر وتعرق الأبدان، ولا يكاد الناس يجتمعون لها بل يتفرقون، ولا يستحب له الغسل نص عليه. وقال الشافعي (¬3): وأستحب الغسل بين هذا عند تغيير البدن بالعرق وغيره تنظيفا للبدن. وزاد الشافعي في "القديم" ثلاثة اغتسالات لطواف الزيادة وللحلق ولطواف الصدر. حكاه القاضي الطبري وغيره، ولم يذكر أبو حامد عن "القديم" الغسل للحلق. مسألة: قال (¬4): ويتجرد ويلبس إزازًا ورداء أبيضين. إذا فرغ من الاغتسال تجرد عن الثياب المخيطة، وذاك ما يخاط علي قدر الملبوس عليه مثل القميص والسراويل والجبة، ونحو ذلك، ويلبس ما ليس بمخيط وهو ما لا جيب له ولا كمين كالإزار، والرداء ويجب عليه كشف رأسه، فلا يلبس عليه مخيطًا، ولا غيره، والأصل في ذلك ما روى ابن عمر رضي الله عنهما، قال: سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يجتنب المحرم من الثياب، فقال: "لا يلبس القميص ولا السراويل ولا البرنس ولا العمامة ولا ثوبًا مسه الورس ولا الزعفران (¬5) ويلبس إزازًا ونعلين (¬6) ولا يلبس الخفين إلا أن لا يجد النعلين فليلبس الخفين وليقطعهما حتى يكونا أسفل من الكمين"، وإذا لبس الإزار، وهو المئزر والرداء يستحب أن يكون الأبيض، [63/أ] لأنه أحب الثياب إلي الله تعالى. قال: والجديد أحب إليّ من المغسول فإن لم يكن جديدًا ليس مغسولًا، ويلبس نعلين فإن لم يجد مشى حافيًا إلا أن يريد الترخيص فيذكر حكمه. وقيل: السنة أن يحرم في إزاز ورداء ونعلين لما روى ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يلبس إزازًا، ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني (2/ 226). (¬2) انظر الأم (2/ 125). (¬3) انظر الأم (2/ 125) (¬4) انظر الأم (2/ 61). (¬5) أخرجه البخاري (1542)، ومسلم (1/ 1177). (¬6) أخرجه أحمد (2/ 34).

ورداء، ونعلين" ولا يشترط أن يكون الرداء أو الإزار يقطعه، بل لو أخذ حرفًا وخالط بعضها إلى بعض جاز، ولو عدل الثوب المصبوغ فما صبغ غزله قبل النسج كعصب اليمن والأبراد الحبرة يجوز، لأنه بالرجال أشبه. وما صبغ بعد نسجه لو لبسه كان عادلًا عن الاختيار يجوز أيضًا لما روي أن ابن عمر رضي الله عنهما أحرم في ثوب معصفر (¬1). وروي أن عبدالله بن جعفر أحرم في ثوبين مضرجين (¬2). وروي أن عقيل بن أبي طالب أحرم في موردتين (¬3). مسألة: قال (¬4): "ويتطيب لإحرامه إن أحب قبل أن يحرم". قال أصحابنا: يستحب لكل من أراد الإحرام أن يتطيب قبل الإحرام، وكذلك أراد التحلل يستحب له أن يتطيب قبل تحلله. وبه قال أحمد، وإسحاق. وروي ذلك عن ابن عباس، وابن الزبير، وسعد بن أبي وقاص، وأم حبيبة، وعائشة، ومعاوية رضي الله عنهم. وقال مالك: لا يجوز له ذلك قبل الإحرام، وإن تطيب أمر بغصله، فإن لم يغسل وأحرم فقد فعل محرمًا ولا يلزمه الفدية. وبهذا قال عمر، والحسن، وابن سيرين، وعطاء، وسعيد بن جبير، ومحمد رضي الله عنهم. وقيل مثله عن ابن عمر، ولا فرق عندنا بين أن يكون الطيب عينًا قائمة كالمسك والغالية، أو أثرًا كالبخور بالعود والند. واحتج بما روي عن يعلى بن أمية قال: كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم [63/ب] بالجعرانة فأتاه رجل عليه ثياب وهو متضمخ بالخلوق، وروي: عليه ردغ من زعفران، فقال: يا رسول الله إني أحرمت بالعمرة وهذه عليّ فأنزل عليه الوحي، فلما أسرى عنه قال: "أين السائل عن العمرة"؟ وقال له: "اغسل عنك أثر الخلوق - أو قال: أثر الصفرة- واخلع الجبة عنك، واصنع من عمرتك ما صنعت في حجك" (¬5) وهذا غلط لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرمن ولحله قبل أن يطوف بالبيت قبل النحر بطيب ومسك (¬6). وروي أنه قيل لها: بأي طيب؟ فقالت: بأطيب الطيب، وهو المسك. وقالت أيضًا كأني أنظر إلى وبيص المسك في مفرق رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محرم (¬7). ووبيص المسك: بريقه. ورؤي ابن عباس محرمًا وعلى رأسه مثل الرب من الغالية (¬8). وقال مسلم بن الزبير وهو محرم وفي رأسه ولحيته ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 539). (¬2) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9115)، والمضرج: المصبوغ بالحمرة. (¬3) أخرجه ابن أبي شبيه في "المصنف" (3/ 242). (¬4) انظر الأم (2/ 61.) (¬5) أخرجه مسلم (9/ 1180)، والنسائي (5/ 142). (¬6) اخرجه البخاري (1539، 1754، 5922)، ومسلم (31/ 1189). (¬7) أخرجه البخاري (1538)، ومسلم (39/ 1190). (¬8) أخرجه الشافعي في "المسند" (782)، والبيهقي في "الكبرى" (8965)، وفي "معرفة السنن" (2786).

من الطيب ما لو كان لرجل لاتخذ منه رأس مال. وأما خبرهم قلنا: هذا كان لأن التضمخ بالزعفران حرام على الرجل في حال إحرامه وحله، وروى أنس: نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتزعفر الرجل (¬1). وفي هذا الخبر دليل على أنه إذا أحرم في ثوب مخيط لا يجب عليه تمزيقه، وأنه إذا نزعه من رأسه لا فدية عليه، لأنه روي أن هذا الأعرابي خلع الجبةً من رأسه، وقال النخعي: يشقه، وقال الشعبي: يمزق عليه، وقال صاحب "الحاوي" (¬2): عندنا لا يكره ذلك وهل يستحب؟ وجهان: أحدهما: يستحب اقتداء بفعله والثاني: وهو الأشبه بالمذهب لا يستحب بل يباح، لأنه فعله ولم يأمر به. فرع لو لبس إزاره أو رداءه وأحرم فيه ثم نزعه ثم لبسه، قال أبو الحسن [64/ أ] الماسرجسي الإمام رحمه الله يلزمه الفدية قولا واحدًا لأنه ابتدأ لبس ثوبه مطيب في حال الإحرام. وقال بعض أصحابنا بخراسان فيه وجهان: أحدهما: هذا. والثاني: لا فدية عليه، ويجوز له لبسه ثانيًا، لأن ذلك صار مستهلكًا كما لو كان استعمله في بدنه. وحكي عن الشافعي أنه قال في موضح: ويتجمر رحله وثوبه بالبخور فقد قيل: في المسألة قولان، وذكر بعض أصحابنا وجهاً أنه لا يجوز أن يحرم في ذلك الثوب لأن الطيب يبقى على الثوب ولا يصير مستهلكا، فهو كما لو شد مسكا على ثوب لا يجوز لبسه، وإذا طيب بدنه يصير مستهلكا، وهذا ليس بشيء، وقيل: إذا قلنا: له لبسه فلبسه ثم نزعه ثم لبه ثانياً فيه وجهان: أحدهما: ما ذكرنا أنه يجوز ذلك ولا فدية عليه لأن العادة في الثوب لبسه كل وقت بعد نزعه والثاني: لزمته الفديةً لأنه يشبه ابتداء الطيب. فرع أخر لو طيب بالغالية موضعًا من بدنه، ثم أحرم ثم أخذ الغالية من موضعها واستعملها في موضع آخر من بدنه لزمته الفدية قولًا واحداً، ولو تطيب قبل الإحرام بالغاليةً، ثم أحرم فعرق بدنه، فسال الطيب من موضعه إلى موضع آخر، فالمذهب أنه لا فديةَ عليه لأنه لما تهرب به صار في حكم المستهلك، وهذا ليس يتطيب من جهته، ومن أصحابنا من خرج فيه وجهاً آخر أنه تلزمه الفدية لأنه كالتطيب الجديد بالانتقال من موضعه، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري ((5846))، ومسلم ((77) / (210))، وأحمد (3/ 101)، وابن خزيمة ((2674))، والنسائي ((1475))، والبيهقي في "الكبرى" ((8969)). (¬2) انظر الحاوي للمواردي (4/ (80)).

وحصل ذلك بسبب فعله، وهذا ضعيف. مسألة: قال (¬1): ثم يصلي ركعتين ثم يركب، فإذا توجهت به ناقته لبّى. إذا تطيب، وأراد الإحرام، فالمستحب له أن يصلي ركعتين لما روى ابن عباس وجابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أتى ذا الحليفة [64/ب] فصلى ركعتين ثم أحرم، وقد ذكرنا فيما سبق متى يلبّي مسألة: قال (¬2): ويكفيه أن ينوي حجا أو عمرًة عند دخوله فيه، والإحرام بالحج والعمرةَ يعقد، والدخول فيه وإنما سمى ذلك إحراماً لدخول الناس به فيما حرم عليهم في الحج من قبل الصيد ولبس المخيط ومس الطيب والاستمتاع، وغير ذلك ويسمى الإحرام، إهلالا يقال: أهل فلان بالحج، يعني أحرم وينعقد الإحرام بمجرد النية، قال في " لأم " (¬3): لما كانت نيةً المصلي كافيةً له من إظهار ما ينوي فكذلك نية المحرم بالحج كافيةً من إظهار ما ينوي ويستحب له التلبية مع النيةَ ولا يجب ذلك سواء ساق الهدي أو لم يسق. وبه قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: إن ساق الهدي لا تجب التلبية وإن لم يسق الهدي لا بد من التلبيةً، ومعنى التلبيةُ عنده أن يذكر الله تعالى، ولكن قال: شرعت في الحج، أو أحمرت بالحج كفي، ففي هذا يخالف إحرام الصلاةً، واحتج بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أتاني جبريل عليه السلام فأمرني أن آمر أصحابي أن يرفعوا أصواتهم بالإهلال والتلبية" (¬4)، وهذا غلط لأنها عبادةً ليس في آخرها نطق واجب، فلا يكون في أولها نطق واجب كالصوم، وأما الخبر فمحمول على الاستحباب بدليل أن رفع الصوت لا يجب بالإجماع، وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا بد من التلبيةً مع النيةً، ومعنى قول الشافعي يكفيه أن ينوي حجًا أو عمرةً أي بعدما لبّى لا يحتاج أن يذكر الحج، والعمرةً، فيقول: لبيك بحجةً أو لبيك بعمرةً، وهذا اختيار ابن خيران، وابن أبي هريرة، وهذا غريب. والدليل على استحباب التلبيةً ما روى أبو بكر الصديق رضي الله عنه [(65) /أ] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل: أي الحج أفضل؟، فقال: "الحجّ والثجّ" (¬5)، والعج رفع الصوت بالتلبيةً، والثج نحر البدُن، وقيل: إراقةُ الدم. وروى سهل بن سعد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من مسلم يلبّي إلا لبّى عن يمينه وشماله من حجرٍ أو شجرٍ أو سدر حتى تقطع الأرض من ههنا وههنا (¬6) "، ويستحب عندنا أن يقول عند إحرامه: اللهم أحرم لك شعري وبشري ولحمي وعظمي ودمي لله رب ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ (61)). (¬2) انظر الأم (2/ (61)). (¬3) انظر الأم (2/ 132). (¬4) أخرجه مالك في "الموطأ" ((334))، وأحمد (4/ 55)، وأبو داود (1814)، والترمذي ((829))، وابن ماجه ((2922))، والنسائي ((2703))، وابن حبان ((3791))، والحاكم ((4008))، والبيهقي في "الكبرى" (9008) (¬5) أخرجه الترمذي ((827))، وابن ماجه ((2924))، والحاكم ((4018))، والبيهقي في "الكبرى" ((9016))، واستغربه الترمذي، وحكي الدارقطني الاختلاف فيه (¬6) أخرجه الترمذي ((828))، وابن ماجه ((2921))، وقال الترمذي: حديث غريب

العالمين لا شريك له فقد روي ذلك عن السلف. ثم إن النيةً لا يجوز أن تتقدم على الميقات بل يلزمه ضم النيةً إلى أسباب الإحرام عند الميقات، وهذا معنى قوله عند دخوله فيه ثم روى المزني ههنا يعفي ما روى الشافعي من دليل بعض المسائل السابقة في أول هذا الباب، فقال: وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بالغسل وتطيب لإحرامه يعني أنه أمر أسماء بالغسل، وكانت نفساء ولدت محمد بن أبي بكر. واحتج الشافعي به على أن الاغتسال للإحرام غير واجب، فقال في "الكبير": ولما أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - النفساء بالاغتسال، والاغتسال لا يطهرها علم أن من كان مطهرةً للاغتسال فهو به أولى، واعلم أن الاغتسال غير واجب لأنه لا يطهرها، وقوله " وتطيب يعني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تطيب لإحرامه وتطيب ابن عباس وسعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما. مسألة: قال (¬1): فإن لبى بحج وهو يريد عمرةً فهو عمرةً، وإن لبّى بعمرةً وهو يريد حجًا فهو حج. إذا أراد الحج أو العمرةً ونوى ما يريده ولبّى به أجزأه، وهو الأولى وإن نوى الحج ولبّى بعمرةً أو نوى العمرةً ولبّى بحج انعقد الذي نواه يرد؛ لأن العبرة في عقد العبادةَ بالقلب والنيات [65/ب] كما تحصل بالألسنةُ وعمادها الأفئدة. مسألة: قال (2): وإن لم ينو حجًا ولا عمرةً فليس بشيء. ليس على ظاهره، لأنه إذا لم ينو حجاً ولا عمرةً ولكن نوى إحرامًا مطلقًا انعقد إحرامه موقوفًا ثم يصرفه بعد ذلك إلى ما شاء فيقول: أراد أنه إذا لم ينو بقلبه شيئًا أصلًا فلا يلزمه شيء لأنه عقده باليةً ولم يوجد ذلك، وحكي الربيع في المسألة قولًا آخر إن ما ذكر بمائه يلزمه وإن كان قلبه ساهيًا، ومن أصحابنا من قال: المسألةَ على حالين فصورة ما قال ههنا أنه نفي بقلبه ما ذكره بلسانه فلا يكون شيئًا وصورة ما ذكره الربيع أنه نوى بقلبه الإحرام ولم يعين حجًا ولا عمرةً فإن إحرامه ينصرف إلى ما ذكر بلسانه، وعندنا لا يكره آن يذكر التلبية ولا ينوي شيئًا، وقال مالك: يكره لأنه شعار الإحرام، فيكره للحلال كرمي الجمار، وهذا غلط لما روى ابن مسعود رضي الله عنه، لقي ركبانًا بسالحين محرمحين فلبوا، فلبّى ابن مسعود، وهو داخل الكوفةَ، ولأنها تشتمل على حمد الله تعالى والثناء عليه وحده. مسألة: قال (3): وإن لبى يريد الإحرام ولم ينو حجًا ولا عمرةً فله الخيار. الإحرام الموقوف المبهم يجوز وهو على ضربين: أحدهما: أن يحرم لا بحج ولا بعمرةً بل مطلقًا. والثاني: أن يقول: إهلال كإهلال فلان، فإن أطلق انعقد وله أن يصرفهما إلى أيهما شاء من الحج والعمرةً إن كان الوقت صالحا لهما، وإن كان الوقت ضاق، وخاف فوت الحج أو كان فات وقت الحج صرفه إلى العمرةً، وإن كان هذا غير وقت إحرام الحج انعقد ¬

_ (¬1) (2) (3) انظر الأم (2/ 62).

بعمرةً ولم ينعقد مطلقًا، ولأن هذا الإحرام لا يصلح لغيرها، هما جوّزنا هذا للخبر الذي تقدم، لأن الإحرام بالحج [65/أ] يخالف غيره لأنه لم يخرج منه بالفساد وإذا عقد عن غيره ينقلب إليه إذا لم يكن حج عن نفسه، فجاز أن ينعقد مبهمًا لهذا المعنى. وأما إذا قال: إهلال كإهلال فلان، فإن علم بحكم إحرامه عمل عليه، ويجوز، وإن لم يعلم كيف أحرم فلان في الحال، ثم علم بعد ذلك عمل عليه أيضًا، بان لم يمكن معرفته بأن يموت آو يجئ، أو غاب انعقد إحرامه نص الشافعي في "القديم" و"الجديد": أنه يلزمه أن ينوي القران، ولا يجوز له التحري لجواز أن يكون زيد قارنًا، قال أصحابنا: هذا يدل على أنه إذا شكَ في إحرام نفسه هل كان قارنًا أو مفرداً؟ يكون قارنًا قولًا واحدًا لأنه يجوز أن يكون قد قرن كما جاز آن يكون زيد قد قرن، فلا فرق، ومن أصحابنا من قال: ههنا قول واحد، وبه قال أهل البصرةَ، وهناك في أحد القولين يتحرى، والفرق أن الاشتباه إذا وقع في فعل غيره لم يكن له طريق إلى التحري والاجتهاد فيه، وهناك الاشتباه وقع في فعل نفسه، فكان الطريق إلى التحري والاجتهاد فيه، بان علم أن فلانًا لم يكن أحرم، فإن إحرامه ئد صحّ مطلقًا من غير تعين فله صرفه إلى ما شاء من حج أو عمرة أو قران. فإن قيل: ينبغي أن يكون مثل فلان حلالا، قلنا: هو عقد إحرام نفسهِ، ولم يقل: أنا محرم إن كان فلان محرمًا، هما جعل صفة إحرامه كصفةً إحرام فلان، فإذا لم يكن فلان محرمًا لم يكن إحرامه موصوفًا، وكان موقوفًا فوجب عليه أن يصرفه إلى ما شاء على ما ذكرنا. والأصل في هذا ما ذكرنا من خبر علي رضي الله عنه حين أهل، فقادت إهلال كإهلال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروي أنه قال له: ائت على إحرامك، أي- صلى الله عليه وسلم - على الحج، وإذا كان فلان أحرم بإحرام مطلق، فله إحرام مطلق ثم إن صرف فلان إحرامه المطلق إلى حج لا يلزمه، [(86) /ب] صرفه إلى الحج، بل له صرفه إلى العمرةً، وإن كان فلان معتمرًا بنيةً التمني لم يلزمه التمني، بل يكون معتمرًا لا غير، وقال والدي رحمه الله: لو قادت إحرامي كإحرام زيد نم تبين أنه كان ميتًا انعقد إحرامه، ويصرفه إلى ما أراد على ما ذكرنا، وفيه وجه آخر لا ينعقد إحرامه، والأول أصح لما ذكرنا إذا كان فلان حلالا. وقال أيضًا: لو قال: إحرامي كإحرام فلان الكافر، وكان أحرامه بالعمرة أو بالحج، ذلك الكافر وفيه وجهان: احدهما: يلزمه ما أحرمه الكافر. والثاني: ولا يصح، ويبقى مجرد إحرامه مطلقًا، فيصرفه إلى ما شاء. قال أصحابنا: قد ذكرنا أنه إذا أحرم مطلقًا له أن يحرفه إلى القران بالإجماع، وعندنا القارن متلبس بإحرام واحدٍ، وعند أبي حنيفةَ رضي الله عنه هو متلبس بإحرامين فنقول لأبي حنيفةَ إذا سلمت أنه يجوز له صرف الإحرام المطلق دل على أن الإحرام واحد. فرع لو قال: إحرامي كإحرام زيد وعمرو، وكان أحدهما محرمًا بحج، والآخر بعمرةً كان قارنًا، ولو كان أحدهما قارنا، والآخر حاجاً كان قارنًا، ولو كان كل واحد منهما

محرمًا بحج، كان حاجًا لا غير، وكذلك لو كانا معتمرين كان محرمًا بعمرة واحدة. فرع أخر لو قال: أنا محرم غدا أو رأس الشهر يجوز كما جاز تعليقه بإحرام فلان، وعلى هذا قال أصحابنا: لو قال: أحرمت يومًا أو يومين ينعقد مطلقا كالطلاق، ولو قال: أحرمت بنصف نسك كامل كما لو قال: أنت طالق نصف طلقة. فرع أخر هل الأفضل له عقده مطلقًا أو معينًا؟ قال في "الأم": وهو المذهب عقده معينًا أفضل، لأن التعيين [76/ أ] مستحق في سائر العبادات، وأشار في "الإملاء" إلى أن الإطلاق أولى، قال القاضي الطبري: هذا لا يعرف. والمسألةُ على قول واحد، وقال غيره: فيه قولان. وجه ما قال في " لإملاء": أنه أحوط؛ لأنه إن كان الوقت ضيقًا، وخاف فوت الحج صرفه إلى العمرةَ وإن كان الوقت واسعًا اعتمر دفعات، ثم حج، وإذا عين بالحج يمكنه هذا. قال طاوس: أحرم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسمّ حجًا ولا عمرةً وجه ما قال في " لأم "ما روى جابر وابن عباس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحرم بالحج وكذلك أصحابه عينوا الإحرام، وخبر طاوس مرسل، وروايةَ جابر أولى والاحتياط ممكن بأن يحرم بالعمرة، ثم إن شاء تمتع وإن شاء قرن، وإن شاء اقتصر عليها ثم حج في وقت آخر. فرع أخر إذا عين هل يستحب له إظهار ما نواه بلسانه؟ اخلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: لا يستحب إظهاره نطقًا، وهو قول الشافعي في عامةِ كتبه. قال أحمد لما روى جابر قال: لم يسلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حجًا في تلبيته ولا عمرةً قط. وروي أن ابن عمر سمع رجلًا يقول: لبيك بحجّة، فضرب في صدره وقال: يعلم الله ما في نفسك، ولأن التلبيةَ ذكر الله تعالى وتسمية ما نواه ليس بذكر الله تعالى، فالاقتصار على ذكر الله تعالى أولى، ولأنه أبعد من الرياء ومنهم من قال: يستحب إظهاره نطقًا ليكون أبعد من النسيان، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال وهو بالعقيق: "أتاني الليلةَ آتٍ من ربى وقال: صل في هذا الوادي المبارك وقل حج وعمرةٍ (¬1)،، ومن قال بالأول أجاب عن هذا بأنه أراد أن يبين أن العمرة دخلت في الحج، [67/ ب] وأما النسيان، فيبطل سائر العبادات التي لا يستحب إظهارها باللسان. مسألة: قال (¬2): وإن لبّى بأحدهما فنسيه، فهو قارن. إذا أحرم بشيء ثم نسي بماذا أحرم فإن ذكر أنه أحرم بشيئين، ولا يعلم عينهما انعقد إحرامه بالقران، وإن لم يعلم هل أحرم بحج أو عمرةً أو بهما؛ فيه قولان، قال في "القديم ": استحب له أن يقرن فإن تحرى رجوت أن يجزئه إن شاء الله فقد أجاز له ¬

_ (¬1) أخرجه باري (2/ 167)، وأبو داود (1800)، وأحمد (1/ 24)، وابن خزيمة ((3617)). (¬2) انظر الأم (2/ 63)

الاجتهاد والتحري. وبه قال أبو حنيفة رحمه الله ووجهه أنه يمكنه التوصل إلى عين ما أحرم بالاجتهاد، فجاز له ذلك كما لو شك في عين القبلةِ يجتهد، ويعمل على ما يؤدي اجتهاده إليه، وقال في "الأم" و"الإملاء": عليه أن يأخذ باليقين، وهو أن يقرن، وهو الصحيح لأنه شك في العبادةً بعد التبس بها، فلا يجوز له الاجتهاد فيها كالمصلي إذا شك في عدد ركعات الصلاةَ لا يتحرى، وقال أحمد: يجعل ذلك عمرةً وبناه على أصله في جواز فسخ الحج إلى العمرةِ، فإذا قلنا بالقول الأول تحرى، فإذا غلب على ظنه شيء عمل عليه من إفراد أو تمتع أو قران، ويستحب له أن ينوي القران أيضًا، وإذا قلنا بالمذهب، فعليه أن يحدد نية القران ولا يكفيه أن يقرن من دون هذه النيةَ، وقد نقل المزني: فهو قارن وليس على ظاهره، بل المراد به ما ذكرنا لأنه إذا أقرن أتى القران على ما كان أحرم به، فإذا نوى ذلك بقي الكلام في فصلين: أحدهما: فيما يصح من نسكه (0) والثاني: فيما عليه من الدم، فأما النسك، فالحج يصح بلا إشكال لأنه خرج مما دخل فيه بيقين لأنه إن كان أحرم به [68/ أ] فقد انعقد، وإن كان أحرم بالعمرةَ فقد أدخل عليها الحج، ويجوز إدخاله على إحرام العمرةَ، فإن قلنا: يجوز إدخال العمرةَ على الحج أجزأته، وإن قلنا: لا يجوز ذلك لم تجزيه ثمرته، وعليه أن يقضيها وقال أبو إسحاق: تجوز عمرته ههنا قولًا واحدًا لأنا إنما قلنا لا يجوز إدخال العمرةَ على الحج في غير حال الاشتباه لعدم الحاجةَ، فأما في حال الاشتباه فيجوز للحاجةَ، وهذا ضعيف، وأما الدم فكل موضع قلنا: هو قارن وتجوز عمرته مع الحج، فعليه دم القران، وكل موضع قلنا: صح له الحج دون العمرةَ، فالمذهب أنه لا يلزمه الدم لأنه لم تجز عمرته لا يصير قارنًا، فلا يلزمه دم القران، ومن أصحابنا من قال: يلزمه الدم احتياطًا. قال صاحب "الحاوي" (¬1): وهذا أصح لأنا أمرناه بإعادة العمرة احتياطًا للفرض أيضًا، وكان المضي فيهما واحدًا، وقد نوى القران بلا إشكال هذا إذا اشتبه قبل التلبس بشيء من أعمال الحج، فأما إذا طرأ هذا الشك بعد وقوفه بعرفه، فعليه أن يمضي في أفعال الحج، فيطوف ويسعى، ويحلق ويرمي، وقد حل إحرامه بيقين لإتيانه بأفعال النسكين كمالاً (¬2)، ولا يسقط عنه فرض الحج ولا العمرةَ بحال لأنه إن كان حاجّاً أدخل العمرةَ عليها بعد الوقوف، فلم تجزه العمرة، وإن كان معتمراً، فقد دخل الحج بعد فوات الوقوف، فلم يجزه الحج، وكذا لو طرأ هذا الشك قبل الوقوف بعد الطواف، فيحتمل أن يكون هذا طواف العمرةَ، ويحتمل أن يكون طواف القدوم، فإذا نوى القران بني ذلك على القران في إدخال العمرة على الحج، فإن قلنا: لا يجوز؛ فلا يحتسب له بحج ولا عمرةً، لأنه يحتمل أن يكون حاجّاً، فالعمرةَ لم تنعقد له ويحتمل أن يكون معتمراً، والمقيم إذا طاف لا يجوز له إدخال الحج على عمرته، ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (4/ 86). (¬2) ما بين المعقوفتين سقط في المخطوط استدركتاه من الحاوي للما وردي (4/ (86)).

وإذا كان كل واحد من النسكين [68/ ب] يحتمل أن يصحّ، ويحتمل أن لا يصحّ لم يحتسب له بالشك، وإذا قلنا بقوله القديم، وأنه يجوز إدخال العمرةً على الحج احتسب له بالعمرةَ لأنه إن كان معتمرا فقد حصلت له، وإن كان حاجّاً فقد أدخل عليه العمرةَ، ولا يحتسب له الحج، لأنه يجوز أن يكون معتمرا، وإدخال الحج على العمرةَ بعد الطواف لا يجوز فإن أراد هذا الشاكَ أن يحصل لنفسه الحج حلق عقيب الطواف والسّعي وأحرم بالحج فيحصل له بالحج، لأنه إن كان إحرامه لعمرةً فقد تحلل منه وأحرم الحج، وإن كان بالحج فلا يضره هذا التحلل، ويلزمه دم، لأنه إن كان محرمًا بالعمرةَ أولًا، فهو متمتع، وإن كان محرمًا بالحج فقد وجب عليه دم الحلاق، وإن كان قارنًا أو صار قارنًا، فعليه دم القران فقد وجب دم بيقين لأنه لا ينفك عن قران، أو تمني أو حلاق، وهو محرم، وفي الدم الآخر وجهان: أحدهما: لا يجب لأنه لا يجب إلا بيقين. والثاني: يجب احتياطًا، وقد مضى نحو هذا فيما تقدم، والصحيح الأول لأن وجوب الدم بالحلق مشكوك فيه، ولا يجب بالشك. وقال القفال: هكذا ذكر ابن الحداد، ولكن قال أصحابنا: هو غلط؛ لأنه كيف يأمر بالحلق ولا ندري هل يجوز له الحلق أم لا؟ ولكن لو فعل ذلك فالحكم على ما ذكره ولا يجزئه هذه العمرة قولًا واحدًا لأنه لم ينو العمرةَ الآن ولا ثبت أنه كان معتمرًا في الابتداء. وقال أبو حامد: إن كان هذا الشق بعد الوقوف قبل طواف القدوم أجزأه الحج لأنه إن كان حاجًا، أو قارناً فقد انعقد إحرامه بالحج، وإن كان معتمرا فقد أدخل الحج على العمرةَ قبل طواف العمرةَ، فيصح حجه [69/ أ] ولا تجزيه العمرةْ لأن إدخال العمرةَ على الحج لا يجوز إذا وقف بعرفةً قولًا واحدًا. وهكذا ذكر صاحب "المهذب"، وهو غلط ظاهر؛ لأن إدخال الحج على العمرةُ قبل طواف العمرةً وإن صح فلا يصح الحج بعد فوات الوقوف، وإن كان مراده مع بقاء زمان الوقوف وقف بعدما نوى القران فلا إشكال فيه. مسألة: قال (¬1): "ويرفع صوته بالتلبية". الكلام الآن في كيفيةَ التلبيةَ وما يستحب فيها والأصل في التلبية ما ذكرنا. وروى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أهل مهل قط إلا بشر، ولا مكبر قط إلا بشر" قيل: يا رسول الله بالجنة؟ قال: "نعم" (¬2). وروى سيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: التلبية زينة الحج. ويستحب رفع الصوت بها لما ذكرنا من الخبر، ولأن معناه معنى الأذان الذي لا يسمعه شيء إلا شهد له، ولا يزيد في رفع صوته بحيث ينقطع صوته أو ينطبق حلقه يل ينبغي أن يكون صوته بين الصوتين وسطًا لما روي عن بعض الصحابة أنه قال: آمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برفع الصوت في التلبية فرفعنا أصواتنا، فما بلغنا الروحاء حتى بحت حلوقنا، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تنادون أصم ولا غائبًا" (¬3). ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 63) (¬2) أخرجه ابن ماجه ((2892))، والبيهقي في "الكبرى" ((0387) (1)). (¬3) أخرجه البخاري ((5) (0) (42))، ومسلم (45/ 2704)، وأحمد (4/ 402).

وروى عبد العزيز أبي حزم، عن أبيه قال: ما كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يبلغون الروحاء حتى تبح حلوقهم من التلبية (¬1) وفي التلبية أقاويل: أحدها: أنها مأخوذةً من قولهم: ألب فلان بالمكان، ومعنى لبيك أنا مقيم على طاعتك وعلى أمرك غير خارج عن ذلك ولا شارد عليك. وقوله "لبيك" تثنيةُ ليس لها [69/ب] واحد، وإنما ثنوه لأنهم أرادوا به إقامةَ بعد إقامةً، وطاعةً بعد طاعةَ، كما قالوا: "حنانيك ربنا" أي هب لنا رحمةً بعد رحمةً. الثاني: مأخوذةً من الإجابةَ ومعناها إجابتي لك. والثالث: مأخوذة من اللب الذي هو خالص الشيء، ومعناها الإخلاص أي أخلصت لك الطاعةَ. والرابع: مأخوذة من لب العقل، ومعناها: أي منصرف إليك وقلبي مقبل عليك. والخامس: أنها مأخوذةً من المحبة يقال: امرأة لبةً إذا كان لولدها محبةً ويكون معناها: محبتي لك (0) مسألة (¬2): قال: "ويلبي المحرم قائمًا أو قاعدًا". الفصل التلبيةُ مستحبةً في الإحرام في عموم الأحوال لكل من أحرم من الرجال والنساء والصبيان طاهرة كانت المرأة أو حائضًا جنبًا كان أو متطهرًا، وعلى كل حال قائمًا وقاعدًا ومضطجعًا، وراكباً ونازلًا بالأرض وسائرًا، لأنه ليس في الخبر ولا عن الصحابةُ تخصيص يعفي هذه الأحوال وقد ثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه ما كان يمنع عن ذكر الله تعالى مع الجنابةَ، وإنما كان يمنع عن تلاوةَ القرآن. وقوله: "وعلى كل حالٍ" أراد به ما عدا الحالات المعلومةَ الني يكره فيها ذكر الله تعالى، ويختص بها أحوال حدوث أمرٍ ويريدها تكرارًا مثل ركوب ونزول، وظهور على نشزٍ، أو اضطمام رفقةً، أو دخول مسجد، أو فراغ من صلاةً، أو إقبال الليل والنهار ووقت السحر، فقد روي في ذلك عن السلف، قال جابر: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلبي في حجه إذا لقي راكباً أو علا أكمةً أو هبط وادياً وفي إدبار [69/ أ] المكتوبة، ومن آخر الليل. وقال نافع: كان ابن عمر يلبي راكبًا ونازلا ومضطجعًا (¬3)، ويستحب رفع صوته بها في ثلاثةً مساجد: المسجد الحرام، ومسجد إبراهيم بعرفة، ومسجد الخيف بمنى، لأن العادةَ جرت برفع الصوت فيها بالتلبيةً، وأنا فيما عدا هذه الثلاثةَ من المساجد، قال في "الجديد" يكره رفع الصوت بها فيها لأنه يؤذي المصلين فيها، وليست مواضع التلبيةَ. وبه قال مالك: وقال في "الجديد"، يستحب رفع الصوت بها في كل سجد لأنها ذكر الله تعالى، وهكذا نقل المزني، فقال: وفي جميع المساجد، ولأنه موضع ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9018)، وفي "معرفة السنن" ((2806)) عن عائشة رضي الله عنها. (¬2) انظر الأم (2/ 64). (¬3) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9023)، وفي "معرفة السنن" ((2) 804)

سنت فيه الصلاة، والجماعة فسن فيه رفع الصوت بالتلبيةَ كالمساجد الثلاثة. وحكي القفال عن مالك أنه قال: لا يرفع صوته بها في المساجد الثلاثةَ أيضًا. فرع هل يلبّي في أثناء الطواف والسعي؟ قال في "القديم": يلبّي، ولكنه يخفض صوته. وبه قال ابن عباس وأحمد، وقال في "الجديد": وأحب للمحرم ترك التلبيةَ في الطواف والسعي، لأن في هذا الموضع ذكرا يختص به غير التلبيةَ، فكان الاشتغال به أولى، ولو لبّى لم يكنعليه شيء، ذكره في "الإملاء". قال الشافعي: وإنما قلت ذلك للأثر، ولما قال سفيان، أما الأثر فقد قال ابن عمر: لا يلبّي الطائف حول البيت. (¬1) وقال سفيان; ما رأيت أحدًا لبّى حول البيت إلا عطاء بن السائب، فأومأ إلى أنه خالف الإجماع بذلك، وهذا في طواف القدوم، لأنه تلبيةً بعد جمرةَ العقبةً، وطواف الزيارة بعد ذلك. فرع أخر قل في "الأم" (¬2): يستحب أن يلبّي ثلاثاً، [70/ أ] فقد قيل: أراد يكرر قوله: لبيك ثلاث مرات، وقيل: أراد يكرر قوله: لبيك اللهم ثلاث مرات، وقيل: أراد يكرر جميع التلبيةَ ثلاث مرات، وذكر بعض أصحابنا: أنه إذا لبّى في دبر الصلاةَ يلني ثلاثًا نسقاً كما يكبر في أيام التشريق بعد التلبية ثلاثا نسقًا. مسألةَ: قال (¬3): والتلبيةُ أن يقول: لبيك اللهم لبيك. الفصل القصد من هذا بيان ألفاظ التلبيةَ، وهي تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لبيك اللهم لبيكَ، لبيك لا شريك لكَ لبيك، إن الحمد والنعمةَ لكْ والملك، لا شريك لكَ" (¬4). وهكذا رواه جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر رض الله عنه، وقوله: إن الحمد بكسر إن؛ وقد تصح أن، فعلى الأول يبتدئ هذا اللفظ بعد الوقف، وعلى الثاني: يوصل به ما قبله، والكسر أولى وأجود. قال أبو العباس وأحمد بن يحيى من قال: إن بكسر الألف، فقد عمّ، ومن قال: أن بفتحها فقد خصّ، وقيل: معنى الفتح لأن الحمد لك، وقال محمد بن الحسن: الكسر أحب إليّ لأنه ثناء، والفتح صفةً، وإذا قال: والملك وقف، ثم قال: لا شريك لك، ثم بين أنه يجوز الزيادة عليها، ولكن المستحب أن لا يزيد، فقال: ولا يفيق أن يزيد عليه، واختار أن يفرد تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[70/ ب] لا يقصر عنها، ولا يجاوزها، وهذا لما ردي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقتصر عليها ولا يزيد، وقد قال: "خذوا عني مناسككم". وروي أن ابن عباس رضي الله عنه علم رجلًا التلبية، فلما أتم ما ذكرنا قال له ابن ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" ((9024)). (¬2) انظر الأم (2/ 133). (¬3) انظر الأم (2/ (63)). (¬4) أخرجه البخاري ((1549))، ومسلم (19/ 1184).

عباس: انتهِ، يعني أمسك، فإنها تلبية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[71/ أ] لم يزد على ذلك، وقال أحمد وإسحاق وسفيان؛ لا يزيد على تلبيةَ رسول الله، وقال أبو حنيفة: إن زاد عليها، فهو مستحب كما في تكبيرات أيام التشريق، وهذا غلط؛ لأن إعادتها أفضل من الزيادة فيها بخلاف التكبير، وقد روي عن سعيد بن أبي وقاص أنه سمع بعض بني أخيه يلبّي يا ذا المعا رج، فقال سعد: إنه لذو المعارج، وما هكذا كنا نلبّي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (¬1)، وإنما قلنا: لا تضيق الزيادةَ لما روي عن ابن عمر: أنه كان يزيد فيها، لبيك لبيك لبيك، وسديك، والخير بيديك، لبيك والرغباء إليك، والعمل (¬2) والرغباء؛ الرغبةَ والمسألةَ وفيه لغتان، يقال: الرغباء مفتوحةَ الراء ممدودة والرغبى مضمومةَ الراء مقصورةَ، وروي عن أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في التلبية: "لبيك حقًا حقًا تعبدا ورقًا (¬3) " ولو قال: لبيك إله الحق (¬4)، قال الشافعي: ليس فيه زيادةً، لأن معناه: لبيك اللهم. وحكي عن بعض صلحاء السلف أنه كان يقول: لبيك أنت مليك من ملك، ما خاب عبد أملك. وهذا حسن، ولكنه ليس بمسنون عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والصحابة، ثم استثنى الشافعي حالةَ الزيادةً لفظةَ مرويةً فيها، فقادت إلا أن يرى شيئًا يعجبه، فيقول: " لبيك إن العيش عيش الآخرة" (¬5)، فإنه لا يروى عنه من وجه يثبت أنه زاد غير هذا، وإنما رويت هذه الزيادةَ عند إفاضته من عرفات لما رأى اجتماع أصحابه عليه، واحترامهم له فكأنه أعجبه ذلك، فروي أنه يقال عند ذلك في نفسه حتى كاد الرحل يواريه، [71/ ب] ثم رفع رأسه، فقال هذا: وقيل: إنه قال هذا في أشد حالةً كان فيها وفي أشد حالةً كان فيها وهو يوم حفر الخندق كان هو وأصحابه في تعب، فقال: "اللهم لبيك لبيك، إن العيش عيش الآخرةً، فارحم الأنصار والمهاجرةً". وقال أنس: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتى ذا الحليفةَ وعلى رحله قطيفةُ ما تساوي درهمين، فلما استوت به راحلته تواضع في رحله، ثم قال هذا. ويستحب أن لا يتخللها كلام. وقال في "الإملاء": ولا بأس أن يرن الملبي السلام بين ظهرانى التلبية، ويأمر بالحاجة، ولو ترك الأمر بالحاجة حتى يقضي التلبية كان أحب إليّ. فأما السلام فأحب إلي أن يرده ولا يتركه لأنه فرض فلا يترك للسنةَ، ثم ذكر ما يستحب له أن يختم به التلبيةً، فقال (¬6): وإذا فرغ من التلبية صلى على النبي- صلى الله عليه وسلم -، وسأل الله رضاه ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في "الأم" (2/ 133)، وفي "المسند" ((123))، والبيهقي في "الكبرى" ((9036))، وفي "معرفة السنن"؛ ((2814)). (¬2) أخرجه مسلم (19/ 1184)، والبيهقي في "الكبرى" ((9027))، وفي "معرفة السنن" ((281) 0) (¬3) أخرجه البزار كما في "مجمع الزوائد" (2/ 22)، والخطيب في "تاريخه" ((4) ا/ 251، 216). (¬4) أخرجه الحاكم ((4498))، والدارقطني ((2208))، والبيهقي في "الكبرى" ((9033))، وأحمد (2/ 341)، والبيهقيفي "الكبرى" ((9030))، وفي "معرفة السنن" ((2813)). (¬5) أخرجه الشافعي في "الأم" (2/ 153)، وفي "المسند" (122)، وابن خزيمة (2831)، والحاكم (1/ 465)، والبيهقي في "الكبرى" (9035)، وفي "معرفة السنن" (2813). (¬6) انظر الأم (2/ 134).

والجنةَ، واستعاذ برحمته من النار، فإنه يروى ذلك عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهذا لأن ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجري مجرى ذكر الله تعالى، فكل موضع وجب فيه ذكر الله تعالى وجب فيه ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو في الصلاة وكل موضع سُنّ فيه ذكر الله تعالى سُنّ فيه ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كالأذان والوضوء والإحرام من هذه الجملةً، وروي عن القاسم بن محمد أنه كان يأمر إذا فرغ من التلبيةً أن يصلي على النبي - صلى الله عليه وسلم (¬1) -، ولأن رجاء استجابةُ الدعاء مقرون بالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم -على ما ورد في الخبر فاستحب ذلك، وروي عن خزيمة بن ثابت رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا فرغ من تلبيته سأل الله تعالى رضوانه والجنة، واستعاذ برحمتهِ [72/ أ] من النار (¬2)، قال (¬3): ولأن هذا أعظم ما يسال، ويسال بعد ذلك ما أحب قال والأعجمي إن أحسن بالعربية لبّى بها وإلا لبّى بلسانه، ومن ترك التلبيةَ متعمدًا فقد أساء ولا فديةَ عليه، ولا قضاء وحجته تامة. وعند أبي حنيفة يلبّي بأي لسان شاء وإن كان يحسن العربية، وقيل: الأصل في التلبية أنها إجابة دعوة لإبراهيم عليه السلام حين بني البيت أمره ربه عز وجل أن يدعو الناس إلى الحج، فقال: إلهي كيف يسمعون دعوتي، فقال: عليك الدعاء، وعلتي الاستماع، فصعد إبراهيم الحجر الذي فيه اليوم مقام إبراهيم عليه السلام -أعني أثر قدمه-، وقال: أيها الناس إن الله تعالى قد بني لنفسه بيتًا، وأمركم آن تحيوا بيته، فأجيبوه، فأجابه من أصلاب الرجال وأرحام الأمهات من يحج إلى يوم القيامة، وإنما قال عليه السلام: لبيك لا شريك لك مخالفاً للمشركين، فإنهم كانوا يقولون: لبيك اللهم لبيك، لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك. مسالة: قال: (¬4) والمرأة في ذلك كالرجل. الفصل المرأة كالرجل في الإحرام، والتلبية والأركان والمسنن، ولا يختلفان إلا في ثلاثةً أشياء: أحدها: في رفع الصوت بالتلبية، فإنه يكره لها ذلك كما يكرم لها الجهر بالقراءةً في الصلاةً، فلا تزيد على أن تسمع نفسها، فإن خالفت، فرفعت صوتها لم تحرم لأن صوتها ليس بعورة كما يكره لها كشف وجهها، وإن لم يكن عورةً، وهذا لأن النساء كن يقصدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيستفتينه، فلو كان حرامًا لمنعهن منه، والكراهة بخوف الافتتان. والثاني: في حكم اللباس، فإن لها أن تلبس المحيط من القميص والسراويل [72/ ب] لما روي في خبر ابن عمر حين ذكر ما لا يلبس الرجل المحرم، قال: ولا تنتقب المرأة المحرمة ولا تلبّى القفازين وما مسه الورس من الثياب (¬5) ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" ((9038))، وفي "معرفة السنن" ((2817)). (¬2) أخرجه الشافعي في "الأم" (2/ (134))، والبيهقي في "الكبرى"، ((9038))، وفي "معرفة السنن" (¬3) انظر الأم (2/ 134). (¬4) انظر الأم (2/ 64). (¬5) أخرجه البخاري ((1542))، ومسلم (1/ 1177).

وفي رواية أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "ولتلبس بعد ذلك ما أحبّت من ألوان الثياب" وفي لفظ لا تنتقب المحرمةُ ولا تتبرقع ولا تتقفز"؛ ثم فيها ثلاث مسائل: أحدها: أن الوجه منها كرأس الرجل عليها كشفه بكل حال إلا القدر الذي لا يمكنها تغطية الرأس إلا بستر بعض من الوجه. وقال في "الأم" (¬1): ولا تغطي جبهتها، ولا شيئًا من وجهها إلا ما لا يستمسك الخمار إلا عليه مما يلي قصاص شعرها، فإن قيل: هلا قلتم بكشف جميع الوجه، ولا يمكن ذلك إلا بكشف جزء من الرأس، فكشف ذلك القدر أيضًا، ولم قدمتم الستر على الكشف؟ قلنا: لأن الرأس يجب ستره من امرأة، لأنه عورةً، وهذا المعنى موجود في جميعه. وفي الوجه نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن النقاب، وهذا القدر من الستر لا يكون نقابًا، ولا في معناه، ولأن الفرض بذلك إظهار شعار الإحرام، وذلك لا يفوت بفوات هذا الجزء، ولأن الستر أكد فغلب حكمه، ثم لها أن تسدل على وجهها ثوبًا، وتجافيه عنه حتى لا يباشر الوجه، وذلك بأن تربط خشبتين على جاب رأسها، وتدل الثوب عليهما، وهذا لأنه لا يسمى سترًا، ولهذا يجوز للمحرم أن يتظلل بالكنيسة والمحمل، ولا يكون ذلك سترًا لرأسٍ. وروى مجاهد عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كنا نكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن محرمات فيمر بنا الركبان، فإذا حاذونا سدلت إحدانا جلبابها من فوق رأسها على وجهها، فإذا جاوزونا كشفناه ولا تربط الخشبةَ على صدرها حتى ترفع الجلباب [73/ أ] على رأسها، لأنه ربما ماس وجهها، فإن خمرت وجهها عامدةً افتدت يعنى بشاةً لمساكين الحرم، لأنها هتكت حرمةُ إحرامها بتخمير وجهها، فإن كانت ناسيةً لإحرامها فغطت وجهها فلا فديةَ وإن سدلت ثوبًا وجافت بخشبةٍ، فرفعت الخشبة وأصاب الثوب وجهها فإن تعمدت افتدت وإن كان بغير اختيارها، فلا فدية إن رفعتها في الحال وإن تركت واستدامت افتدت والثانية: لها أن تغطي جميع رأسها لأنها شخص لؤمه حكم الإحرام فلا يلزمه أكثر من كشف عضو واحد كالرجل، والرجل يستر وجهه ولا ستر رأسه لأن حرمته في رأسه وحرمتها في وجهها، وقال مالك وأبو حنيفة: ليس للرجل أن يستر الوجه أيضًا، وهذا غلط لما روي في خبر المحرم الذي وقصت به ناقته فمات. إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خمروا وجهه ولا تخمروا رأسه، فإنه يبعث يوم القيامة محرما (¬2) "، رواه ابن عباس، قالوا: روي " لا تخمروا وجهه ولا رأسها، قلنا: ليس بمشهور ثم نحمله على ما لا بد من محترم من الوجه، وروي عن ابن عمر أنه قال: حرم الرجل في رأسه وحرم المرأة في وجهها، ولها أن تضع وجهها على الوسادةً وللرجل أن يضع رأسه عليها، ولا يكون سترًا حتى لو وضع الرأس على العمامةَ جاز بخلاف ما لو وضع العمامةَ على الرأس. والثالثة: القفازين وهما غلاف الكفين. نص الشافعي في "الأم" و"الإملاء" و"القديم" و"مختصر الحج الصغير": لا يجوز أن تلبس القفازين. وروي عن علي وابن عمر وعائشةُ وعطاء وطاوس ومجاهد والنخعي ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ (171)). (¬2) أخرجه البخاري (1265)، ومسلم (93/ 1206)

ومالك وأحمد وإسحاق رضي الله عنهم. وقال في" مختصر الحجّ الكبيرة ونقله المزني: لها ذلك. وبه قال الثوري وأبو حنيفة، وروي عن سعد بن أبى وقاص رضي الله عنه: أنه أمر بناته [73/ ب] أن بلبسن في الإحرام ذلك، وقد روي النهي به عن ابن عمر مرفوعًا على ما ذكرنا، وقيل: النهي عن القفازين من قول ابن عمر؟ إلَّا أن بعض الرواةً أدرجه في متن الحديث. وروي نحوه عن عمر وعائشة رضي الله عنهما، والمشهور في المذهب القول الأول، ولأن هذا ليس بعورةً منها منعت به حرمةً الإحرام كوجهها، وقال القاضي الطبري: طريق تحريم لبس القفازين عليها مشكل جدًا والذي عندي بعد تأملي كلام الشافعي في كتبه أنه ذهب في "الإملاء" إلى أن تحريم القفازين عليها لأجل أنهما مخيطان على قد الكفين، فحرم ذلك عليها كما حرم على الرجل لبس الخفين واقتفي كلامه في "الأم": أن تحريم لبس القفازين لأجل أن حرمها يتعلق بكفيها كما يتعلق بوجهها، فإذا قلنا بهذا فوجهه ما ذكرنا في القياس، فإن قيل: هذا ينتقص برأس الأمة، فإنه ليس بعورةً منها ولا تتعلق به حرمةَ الإحرام، قلنا: فيه وجهان، فلا نسلم أنه يتعلق به حكم الإحرام، فإن قيل: لو كان حكم الكفين حكم الوجه في تعلق الإحرام بهما لوجب كشفهما كما يجب كشف الوجه، ولكانت إذا غطتهما بكميها أن يلزمها الفديةَ كما يلزمها ذلك إذا غطت وجهها بكمها، قلنا: إنما أبحنا لها أن تغطيهما بالكمين للضرورة، وذلك لأنا إذا أبحنا لها لبس القميص وجعلناها كذلك أفضل لما فيه من الستر يشق عليها التحرر من الكمين، فأبح لها ذلك للضرورة، وليس كذلك الوجه فإنه لا يتعذر كتفه من كل ما يستر، فلم يجز ستره بشيء، وإذا قلنا: إن طريق تحريم القفازين أنهما مخيطان على قدر الكفين كالخفين في حق الرجل فوجهه أن المرأةً لما لزمها كشف عضو ليتعلق الإحرام بها جاز أن يحرم المحيط عليها كالرجل. فإن قيل: لو كانت المرأة كالرجل في [74/ أ] تحريم المحيط لوجب أن يحرم عليها لبس القميص والجبةُ والسراويل والخفين، قلنا: جمع بدن المرأة عورةً إلا وجهها وكفيها، وقد تعلق بوجهها التحريم، فأما الكفان منها فهما بمنزلةً بدن الرجل في أن كل واحدة منهما ليست بعورةً فاستويا في تحريم المحيط، وكان حكم كفيها بمنزلةَ رجليه وسائر بدنه فإن قيل: لو كانت كذلك لكان للرجل أن يلبى السراويل لأن ما تحت السراويل عورةً، وحكمه حكم سائر بدن المرأةَ. قلنا: لبس السراويل لا يمكن إلا بستر ما ليس بعورةً منه، وهو القدمان والساقان والركبتان ففرقنا، فإن قيل: لو كان الأمر على ما قلتم لوجب أن لا يجوز لها سترهما بالكمين، لأنهما مخيطان على قدر الكفين، ومشتملان عليهما بالخياطة، قلنا: إنما لم يحرم ذلك عليها للضرورةً التي بيناها، ومن أصحابنا من قال: لبس الكمان معمولين على قدر الكفين، وإنما القفازان معمولان على قدر الكفين، فاختصا بالتحريم، ألا ترى أن للرجل ستر الرجلين بالمئزر ولا يجوز له سترهما بالخفين؟ فإن قيل: من أين استخرجت، هذين القولين في جهة تحريم القفازين؟ قلنا: إني وجدت الشافعي قال في

"الأم " وإن اختضبت المحرمةَ ولفت على يدها خرقةً رأيت عليها أن تفتدي، وقال في "الإملاء": لا يتبين لي أن عليها الفديةَ، ونقل أبو حامد إلى "الجامع" ذلك، فلما خرج الشافعي القولين في وجوب الفديةً إذا لفت عليهما خرقةً مع تحريم لبس القفازين عليها علمت أن ذلك لاختلاف قوله في جهةَ تحريم لبس القفازين فحيث جعل الكفين بمنزلةُ الوجه اوجب الفديةَ، وحيث جعل تحريم لبس القفازين لأجل كونهما مخيطين على قدر الكفين لم يوجب عليهما الفديةً، ألا ترى أن مذهب الشافعي أن المحرم [74/ ب] إذا أخضب لحيته ولفها بخرقة أنه لا فدية عليه؟ وقد قال الشافعي: ويداوي المحرم جرحه بما لا طيب فيه ويلصق الدواء على جمح بدنه بالخرقةً، وغيرها ما خلا رأسه وإن كان المسح في الرأس فألصق عليه خرقةً صغيرةً أو كبيرةً افتدى وهكذا لو كان جرح في وجه امرأةً فألصقت عليه خرقةً افتدت، وإن كان في رأسها فألصقت خرقة عليه، فلا شيء عليها، فدل ذلك على ما استنبطته من القولين في جهةُ تحريم القفازين، والثالث: من الفصول أنها تطوف ليلًا ولا رمل عليها في الطواف ولا المشي الشديد بين الصفا والمروةَ؛ وهذا لأن ذلك أستر لها. وقال في "المختصر": ولكنها تطوف على هيئتها وفي نسخةً على هنتها أي: على سكينتها، ولأن الزحام يقل في الليل ويمكنها أن تقرب من البيت، فإن القرب من البيت أفضل للطائف ثوابًا، فلهذا انسب لها ذلك ليلًا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا في طواف القدوم، فأما طواف الإفاضةَ لا يكون إلا يوم النحر فلا تؤخره. وقيل: أراد طواف الإفاضة تصير إلى الليل، فأما طواف القدوم فإنه تحية، فلا تؤخره لأنه يبطل التحيةَ بالتأخير. مسألة: قال (¬1): وأحب إلي أن يخضب للإحرام قبل أن يحرم. ويستحب للمرأةً أن تختضب بالحناء قبل الإحرام خلافًا لأبي حنيفةَ لما روي عن عبد الله بن عبيدة وعبد الله بن دينار أنهما قالا: من السّنة أن تمسح المرأة بيديها شيئًا من حناء ولا تحرم وهي غير مخضبةً (¬2)، ومثله عن ابن عمر رضي الله عنهما وأما إذا أحرمت لا يستحب لها ذلك بل يكره، لأنه يزيل الشعث، فإن اخضبت فلا فدية عليها لأنه ليس بطيب. وحكي عن آبى حنيفة أنه قال: تلزمها الفدية، ولا فرق بين أن تكون شابة أو شيخه [74/ أ] لأن الخروج إلى الحج واجب بخلاف الجمعةً ولا فرق بين أن تكون ذات زوج أو لم تكن، وقد قال عكرمة: كانت عائشةَ وأزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - تخضبن وهن محرمات (¬3) وذلك بعلم النبي - صلى الله عليه وسلم -، واحتج بقوله لأم سلمه: "لا تمس الحناء وأنت محرمةٍ فإنه طيب (¬4) " قلنا: راويه ابن لهيعة، وهو ضعيف. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل هو ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 65) (¬2) أخرجه البيهقي في "الكبرى" ((53) (90)). (¬3) أخرجه البيهقي في "معرفة السنن" (4/ 26). (¬4) أخرجه البيهقي في "معرفة السنن" (2861).

باب ما يجتنبه المحرم من الطيب ولبس الثياب

طيب؟، قولان، وليس بشيء، ولو اختصت بعد الإحرام ولفت على اليد خرقةً فقد ذكرنا قولين وقال أبو حامد: إن لم تشد الخرقةَ لم تجب الفديةَ، وإن شدت فهي على القولين كالقفازين. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن جوزنا لبس القفازين فهذا أولى، وإلا فيه وجهان، وذكروا أيضًا أنه لو خضب لحيته بالحناء، قال الشافعي في موضع: لا شيء عليه وإن لفّ عليها خرقةً أو جعلها في كيس خاطه لها، وقال في موضع: وعليه، ومعنى القولين إن خضاب الشعر بالحناء هل يحصل ترحيلًا له كالترحيل بالدهن، أم لا؟ ذكروا أيضًا أنه يستحب للمرأة أيضًا إذا أرادت الإحرام أن تمسح بوجهها شيئًا من الحناء ليستر حسن بشرتها، فإن قيل: إذا لم يكن الحناء طيبًا فما معنى تقييد الشافعي ذلك بما قبل الإحرام؟، قلنا: قد علم الشافعي اختلاف الماس والأخبار في ذلك، فاحتاط أو علم أن عادتهن لفّ الخرقة عليها، وهو ممنوع لتحريم القفازين، والله أعلم. وأما إذا لم ترد الإحرام فإن كان لها زوج لا يكره لها الاختضاب، وإن لم يكن لها زوج كره. وكذا قال أصحابنا بالعراق. وقال القفال: يستحب لها الخضاب بالحناء بكل حال، فتختضب في يديها إلى الكوعين، وذلك في جملةُ ما أقرت به من الستر؛ لأن ذلك يخفي لون بشرتها ولا تطرف، [75/ب] فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن التطريف (¬1) وهو أن تخضب أطراف الأصابع، وروي أن امرأةً أرادت أن تبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأخرجت يدها، فقال: "أريد رجل أم يد امرأة"؟ فقيل: يد امرأةً، فقال: "فأين الحناء (¬2) " قال: واستحباب ذلك عند الإحرام أكثر ولا يزيد على الكوعين لأن ذلك القدر يجب عليها كشفه في الصلاة في قول. قال: ولا تتخذ من الحناء نقوشًا بل تلطخ يدها بالحناء لطخًا. فرع يستحب لها أن تتطيب للإحرام كما قلنا في حق الرجل لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "كنا نخرج مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة فنضمد جباهنا بالمسك عند الإحرام، فإذا عرقت إحدانا سال على وجهها فيراه رسول الله - صلى الله عليه وسلم، فلا ينهانا" (¬3) وروي: فلا ينكر علينا، وغلط بعض أصحابنا حيث قالوا: لا يجوز لها ولا للرجال أن يتطيبا قبل الإحرام بطيبٍ له أثر، والكبيرةَ والشابةً في هذا سواء، فإن قيل: أليس قلتم إذا أرادت حضور الجمعةَ تجتنب الطيب وإن استحي للرجل؟ قلنا: إن الفرق أن الحكم هناك أضيق لأنه يكره للشابةً حضور الجمعةَ ولا يكره لها الخروج للإحرام، ولأن هناك يضيق المكان بالازدحام، وفي الحج لا يضيق المكان ويتسع الانفراد فافترقا. باب ما يجتنبه المحرم من الطيب ولبس الثياب مسألةً: قال (¬4): ولا يلبس المحرم قميصا ولا عمامةً. ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في "التلخيص" (2/ 453).: لم أجده. (¬2) أخرجه أبو داود ((4165))، والنسائي ((5089))، وأحمد ((2628)). (¬3) أخرجه البيهقي في "الكبرى" ((9052)). (¬4) انظر الأم (2/ 66).

الفصل المحرم ممنوع من ستر رأسه بالمحيط كالقلنسوة والبرنس أو غير المحيط كالعمامةَ والمنديل، وممنوع من لبس المحيط في بدنه وغير ممنوع من لبس غير المخيط من الرداء والإزار والنعلين، ولا فرق بين أن يكون مخيطًا على قدر بدنه كالقميص والجبةُ [76/ أ] آو مخيطًا على قدر عضو من أعضائه كالسراويل والخفين ونحو ذلك. ولا فرق بين أن يكون معمولًا بالخياطة أو منسوجًا على هيئته، أو ملزقًا بلزاق. والدليل على هذا حديث ابن عمر الذي ذكرنا والنص على تحريم القميص ينبه على الجبةَ والدراعةً والنص على تحريم السراويل تنبيه على تحريم الثياب والبرانس، والنص على تحريم البرنس دليل على تحريم القلنسوة، ويريد به اللبس على الوجه الذي يلبس في العادةً فلو اتزر بالقميص، أو ارتدى به، آو اتزر بالسراويل لم يضره ذلك، ولا شيء عليه، لأنه في معنى الرداء والإزار نص عليه في "الأم" (¬1). فرع لا يلبس القباء ولو لبه بأن أدخل كفيه سواء أخرج يديه من كميه أو لم يخرج يديه من كميه. نحز عليه في "الأم" (¬2)، وبه قال مالك وأحمد وقال أبو حنيفة: لا تجب الفدية، كما لو توشح بالقميص، وهذا غلط لأنه مخيط لبسه المحرم على العادةً في لبسه، فيلزمه الفديةَ كما لو لبس القميص، ولا يشبه هذا التوشح بالقميص، لأن ذلك يخالف لبس القميص فهو كما لو توشح بالقباء ولم يدخله في كفيه، لا يلزمه الفدية. وقال في "الحاوي (¬3) ": إن كان من أقبيةَ خراسان قصير الذيل ضيق الأكمام يلزمه الفديةَ لأنه يلبس هكذا، وإن كان من أقبية العراق طويل الذيل واسع الأكمام لا فديةَ إذا لم يدخل يديه في الكمين لأنه لم تجر العادةَ بهذا اللبس ولا يتحفظ به. فرع أخر قال: ولا بأس بأن يعقد إزاره لأن ذلك صلاحه، وبه يثبت. قال: ولا يعقد رداءه ويجوز له أن يغرز في إزاره، وروي نحو هذا عن ابن عمر رضي الله عنهما، ولو عقد رداءه من ورائه افتدى لأنه إذا عقده صار كالقميص يحفظ نفسه، وهذا لأن ما لا يحفظ نفسه تبعثه نفسه [(86) /ب] على مراعاته، فيتذكر بذلك على ما هو عليه من إحرامه فيتجنب عن المحظورات، فاختص التحريم بهذا، ولو كان حاجًا له أن يتطلس به غير أنه لا يعقد طرفيه على نفسه ولا يزره ولا يحلله ولا يعلقه بشوكة ولا مخيط؛ فإنه يصير في معنى المحيط، فإن فعل ذلك افتدى، وله أن يشتمل ذلك على نفسه طاقين وثلاثةً وأكثر. فرع أخر قال أصحابنا: له أن يشد فوق الإزار عمامة أو تكة، ولو أصلح للإزار حجزه ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 128) (¬2) انظر الأم (2/ 128) (¬3) انظر الحاوي للماوردي (2/ 97)

وأدخل فيها تكة واتزر به جاز، وكذلك لو اتزر ثم شذ فوقه تكة جاز. وقال في "الأم" (¬1): ولو زره أو خاطه أو شاكه لم يجز لأنه يصير كالمخيط. فرع آخر قال في "الأم (¬2) " ولا يجوز أن يأترز ذيلين، ثم يعقد الذيلين من ورائه لأنه يصير كالسراويل، فإن انعقد افتدى، وقال بعض أصحابنا: معناه أن يشق إحدى حاشيتي الإزار ويشذ الحاشية من الطرف الذي لم يشقه في وسطه، فيكون للإزار ذيلان يعقد أحد الذيلين على أحد ساقيه أو فخذيه، ويعقد الآخر على مائه الآخر فيصير بمنزلة البابكتين وهو فارسية بغداد. وقال بعض أصحابنا: إذا شق إزاره إلى النصف ثم لف كل شق من الإزار على إحدى فخذيه كره ذلك لأنه يشبه السراويل ولا فديةً لأنه لا يقصد عادةً الارتفاق. فرع أخر لو زر السلاح على نفسه لزمته الفدية، لأنه في معنى القميص، ولهذا اتخذ الناس لبس المزرة. وروي أن ابن عمر رضي الله عنهما رأى قوما في الحج في هيئة أنكرها، فقال: هؤلاء الداج فأين الحاج، وفي هذا وجهان: احدهما: الحاج إذا أقبلوا، والداج إذا رجعوا. والثاني: الحاج القاصدون للحج من أصحاب الشأن والداج [77/ أ] الأتباع من تاجر ومكار. وقال ثعلب: والثالث، الزاج وهم المراؤون. فرع آخر إذا لم يجد النعلين لبس الخفين بعد أن يقطعهما ويجعلهما مثل النعلين، ولا يجوز أن يلبهما قل القطع، وبه قال جماعةُ العلماء، وقال: يجوز أن يلبسهما غير مقطوعين عند عدم النعلين. وبه قال عطاء بن رباح وسعيد بن سالم القداح، واحتج بما روى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "السراويل لمن لم يجد إزارا والخف لمن لم يجد نعلين" (¬3)، ولأنه لا يلزمه فتق السراويل فكذلك قطع الخفين، وهذا غلط لما روي في خبر ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لم يجد نعلين فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين " (¬4)، ومعناه فليقطعهما أولا ثم يلبسهما، لأنه لو لبسهما غير مقطوعين ثم قطع الساقين ونزعهما لزمته الفدية باللبس والعرب تقدم الكلام مؤخرًا، وتؤخر مقدمًا. قال الله تعالى "إنِّي مُتَوَفِّيكَ ورَافِعُكَ إلَيَّ" [آل عمران: (55)] معناه إني رافعك إلي ومتوفيك لأن رفع عيسى عليه السلام قد كان، ووفاته ستكون في المستقبل، ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ (127)). (¬2) انظر |لأم (2/ (127)). (¬3) أخرجه مسلم (4/ (1178))، وأبو داود ((1829))، والنسائي ((1375))، وابن الجارود في "المنتقى" ((417))، وابن خزيمة ((2681))، والطبراني في "الكبير" ((17882)). (¬4) أخرجه مالك في "الموطأ" ((325))، والبخاري ((1842))، ومسلم (3/ (1) 77 (7)). وأحمد ((2218)، (279)، (2285))، والحميدي (469)

لأن ما جاوز الكعبين داخل في حدٌ الخف، ألا ترى أن المسح عليه جائز حينئذ؟ فلهذا قدرنا القطع بهذا التقدير، وأما خبرههم مطلق وخبرنا مقيد، والمقيد أولى، وأما السراويل فلا يمكن لبسه بعد فتقه بخلاف الخفين فافترقا قالوا: فيه تضيع المال، قلنا: هذا من باب المصلحةَ لا من صاحب الشمع، فلا يعن تضييعًا. فرع أخر لو لم يجد المحرم النعل فلبس المكعب، فلا فديةَ عليه لأنه ما بقي من الخفين المقطوعين أسفل الكعبين مكعب أباح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لبسه [77/ ب] في حال الضرورةً، ولو لبسه مع وجود النعل افتدى، وإنما ورد الخبر بلفظ: الخف المقطوع، ويرد بلفظ المكعب والشمشك، وإن كان هو ذاك في الحقيقة لأنه لم يكن للعرب ذلك، ولا يعرفون إلا بهذا اللفظ. وروي عن عبد الرحمن بن عوف أنه أجاز لبس الخفين مع وجود النعلين. فرع أخر إذا قطع الخفين وجعلهما كالشمشكين ولبسهما ثم وجد النعلين، قال في "الأم" (¬1): يلزمه نزعهما فإن استدام لبسهما لزمته الفديةَ، ومن أصحابنا من قال: هو بالخيار بين أن يلبس نعلين وبين أن يستديم ذلك، ولا شيء عليه لأنهما صارا بمنزلةُ النعلين، ولهذا لا يجوز المسح عليهما، وقال هذا القائل: لو كان له نعلان وشمشك يخير بينهما، وهذا غلط؛ لأن في الخبر شرط فيه عدم النعلين، ولأنه مأذون في لبسه لعدم غيره، فإذا وجد الأصل لم يجز له استدامته ويلزمه نزعه كالسراويل، إذا لبسه لعدم الإزار ثم وجده فاستدم لسه يلزمه الفديةَ، وما قالوا يبطل بالخف المخرق القدم لا يجوز المسح عليه، ولا يجوز للمحرم لبسه. مسألة: قال (¬2): فإن لم يجد إزارًا لبس سراويل. الفصل إذا لم يجد المحرم إزارًا لبس سراويلًا، ولا فديةَ عليه، ولا يجوز له لبس القميص مع عدم الرداء والإزار، فإن لبسه وجبت الفديةَ، لأنه يمكنه أن يتزر بالقميص، أو يطرحه على كتفه كالرداء ويمكنه فتقه والانتفاع به، فلم يكن بحاجةَ إلى لبه قميصًا بخلاف السراويل. وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز له أن يلبس السراويل بحال، فإن لبسه تلزمه الفديةً ويلزمه أن يفتقه ويتزر به. وقال أبو بكر الرازي؛ لا يلزمه الفتق، ويباح له لبسه بشرط الفدية وهذا غلط للخبر الذي ذكرنا [78/ أ] ولم يذكر الفتق ولا الفدية، وإنما فرقنا بين السراويل والخف في وجوب القطع هناك دون الفتق ههنا لأن فتق السراويل تمنع ستر العورةً بخلاف قطع الخف. وقال القفال: لو كان سروال واسعًا يمكن اتخاذ الإزار منه ويجد آلة الخياطة ولا يخاف التخلف عن الرفقة لو اشتغل به يلزمه ذلك. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ (12) 8). (¬2) انظر الأم (2/ 66).

مسألة: قال (¬1): ولا يلبس ثوبًا منه ورس أو زعفران. الفصل لا يجوز للمحرم والمحرمة لبس ثوب منه ورس أو زعفران، وقد ورد الخبر بذلك. قال الشافعي (¬2) قياسًا عليه؛ ولا شيء من الطيب وإذا حرم ذلك، فإن الثوب الممسك والمعتبر والمكفر والمورد والمبخر بالند أولى بالتحريم لأن هذا كله أطيب ورائحته أذكى وأعجب. فرع لو صبغ الثوب بما عصر من النبات فإن كان مما يعد طيبًا ويحرم على المحرم شمه لم يجز له لبسه، وإن كان مما لا يعد طيبًا ولا يحرم عليه شمه لم يحرم عليه لبسه، كالعنبر والعصفر، وإن كان مما في تحريم شمه قولان، كالريحان كان في تحريم لبسه قولان، نص عليه في "الأم" (¬3) فرع أخر لو كان الطيب على بعض الثوب، وان قل حرم عليه لبسه. فرع أخر لو ذهب ريح الطيب لطول الزمان لا يحرم لبسه وإن بقي لونه لأن القصد من الطيب الريح، فإذا ذهبت ريحه خرج من أن يكون طيبًا وعلامة زوال رائحته أن لا توجد له ريح في حال جفافه، وإذا رشّ عليه الماء، فإن كان بحيث إذا رشّ عليه الماء ظهر ريحه، وإن شيء لم يجز لبسه. فرع آخر لو صبغ موضع الزعفران أو الورس بالسدر أو السواد فانقطعت رائحته ولم تظهر في حال الجفاف [78/ ب]، والرطوبةً لم يحرم لبسه. فرع أخر لو نام على ثوب مطيب أو جلس عليه تلزمه الفديةَ، ولو مدّ عليه ثوبًا ونام عليه، فإن كان الثوب صفيقًا لا يشف لا يكره له ولا فديةَ عليه، وإن كان رقيقًا يشف كره لما يصعد من رائحته، ولا فديةَ عليه للحائل الذي بينهما فيكون وجوده لرائحته بالمجاورةَ لا بالمباشرةً، فهو كما لو شمه من حانوت العطار، نص عليه في "الإملاء". وحكي عن أبي حنيفة: إن كان الطيب رطبًا على بدنه أو يابسًا ينقض تلزمه الفديةَ، وإن كان لا يلي بدنه بل هو على ظاهر ثوبه لم تلزمه الفدية رطبًا كان أو يابسًا، وكذلك إذا بخر نفسه أو ثوبه، لا تلزمه الفديةَ وهذا غلط؛ لأنه محرم استعمل ثوبًا مطيبًا عامدًا فلزمته الفديةَ، كما لو نفض عليه، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن لبس ما منه زعفران، ولم يفرق بين ما ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 66). (¬2) انظر الأم (2/ (12) 7). (¬3) انظر الأم (2/ (12) 7).

ينفض وبين ما لا ينفض فرع آخر قال بعض أصحابنا بخراسان؛ لو لبس ثوبًا مخيطًا مطيبًا أو ستر رأسه بثوب مطيب فيه وجهان: أحدهما: تلزمه فديةً واحدةً لأنه فعل واحد. والثاني: وهو الأصح تلزمه فديتان، وقال أصحابنا بالعراق: المذهب أنه تلزمه فديةَ، وكذلك لم طلي, رأسه هل بطيب ثخين تلزمه فديتان للطيب وستر الرأس، بلا إشكال. مسألة: قال (¬1): ولا يغطي الرأس الفصل حرم الرجل في رأسه على ما ذكرنا ولا يعصب رأسه من علةٍ ولا غيرها فإن فعل افتدى هذا لأن كشف جمع الرأس واجب عليه، فلا يجوز له ستر بعضه. فرع آخر لو حمل المكتل على رأسه هل تلزمه الفدية؟ حكي الشافعي في "الأم" (¬2) عن ابن جريج أنه قال: سألت عطاء عن المحرم يجعل [79/ أ] المكتل على رأسه، فقال: لا بأس بذلك، ولم يصوبه الشافعي ولا أنكره، والظاهر من روايته وترك اعتراضه عليه، أنه مذهبه، وحكي ابن المنذر في "الإشراف" عن الشافعي أنه قال: عليه الفدية وقال أبو حامد نص في بعض كتبه، أنه تلزمه الفديةً، وحكاه عن أبى حنيفة. وقال سائر أصحابنا: هذا لا نعرفه في شيء من كتبه، والصحيح أن لا فديةَ عليه، وهو اختيار القاضي الطبري والصحيح عن أبي حنيفة هذا القول أيضًا ووجهه؛ أنه لا يقصد به ستر الرأس، وإنما يقصد حملةً وهو كالمحدث لا يحمل المصحف ولو حمله الحمال في جملةَ الكتب أو المتاع جاز لأنه لم يقصد حمله لذلك؛ هذا ولا لأنه لا يترفه حامل المكتل تغطية رأسه به وقال: القفال: فيه قولان، ووجه القول الآخر أنه تلزمه الفديةَ بستره بالبرنس، وإن كان يقصد به ستر الوجه لا الرأس، وهذا اختيار أبى سليمان الخطابي وجماعة. وقال في "الحاوي"، (¬3)، إن قصد تغطيةُ رأسي به تلزمه الفدية وإن لم يقصد ذلك فيه وجهان، وهذا أسن عندي، وهكذا الخلاف لو وضع على رأسه طبقًا أو كارة ثياب. فرغ آخر يجوز للمحرم أن يضع يده على رأسه ويتركها عليه ولا شيء عليه لأن ذلك لا يراد للتغطيةً، ولهذا لا يجوز أن يستر عورته بيده، ولأن المحرم مأمور بمسح الرأس مندوب إلى إمرار يده عليه ثلاث مرات. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 66). (¬2) انظر الأم (2/ 128). (¬3) انظر الحاوي للمواردي (2/ 102).

فرْعٌ آخرُ لو غطّي رأسه بكف غيرهِ وجهان: أحدهما: لا تلزمه الفدية كما في نفسه. والثاني: تلزمه الفدية لأن كفه بعض من أبعاضه بخلاف كف غيره وهو كما لو سجد على كفّ نفسه لا يجوز، ولو سجد على كفّ غيره جاز ذكره في "الحاوي" (¬1). فَرْعٌ آخرُ قال في "الإملاء": لو خضّب [79/ ب] رأسه افتدى. وقال أصحابنا: هذا إذا كان الخضاب ثخينًا يمنع النظر إلى الرأس. قال: فإن كان رقيقًا لا يمنع النظر فلا فدية عليه لأن الشافعي جوز للمحرم أن يغسل رأسه بماء وسدر. وقد وردت السنة بذلك أيضًا، وكذلك إذا وضع على رأسه دواًء ثخينًا كالمرهم الثخينة، فهو كالحناء، وإن كان المرهم رقيقًا فلا فدية، ولو كان معه قرطاس وجبت الفدية بلا إشكال. وقال في "الأم" (¬2): لو طلاه بغسل أو لبن لا تلزمه الفدية لأنه يجري مجرى السّدر، ولا يجري مجرى الحناء لأن الحناء جرم قوي يجف ويكون ساترًا بخلاف الدواء، ولو طلاه بالطين أو النورة، فهو كالحناء. فَرْعٌ آخرُ لو تعصّب عريضة كما جرت العادة يلزمه الفدية، ولو تعصّب بخيط، فلا بأس لأنه لا يقصد به ستر الرأس، ولا يحصل به الستر. فَرْعٌ آخرُ تلزمه الفدية بتغطية جزء من الرأس، وإن قلّ، وكذلك لو غطّى البياض الذي حول الأذن، أو لبس أحد الخفّين. وقال أبو حنيفة لا فدية ما لم يغطِ ربع الرأس ولكن تلزمه الصدقة، وهذا غلط، لأنه لم يرد التوقيف بهذا التقدير ولا يدل عليه القياس، فلا يجوز القول به. فَرْعٌ آخرُ إذا غطّى الخنثي المشكل رأسه لا فدية لا حتمال أن يكون امرأة، وكذلك لو غطّى وجهه لا فدية لا حتمال أن يكون رجلًا. فَرْعٌ آخرُ وعلى هذا لو أولج الخنثي ذكره في فرج لم يفسده حجّه ولم تجب الفدية لا حتمال أن يكون امرأة، ولو أولج رجل في قبله لا يفسد حجّه أيضًا [80/ أ] لا حتمال أن يكون رجلًا فإن أولج هو وأولج فيه فسد حجه. وكذلك إذا غطى رأسه ووجهه تلزمه الفدية. ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للمارودي (4/ 101). (¬2) انظر الأم (2/ 130).

مسألة: قال (¬1): "وإن احتاج إلى تغطية رأسه ولُبْسِ ثوبٍ مخيطٍ أو خفين ففعل ذلك من شدة حرِّ او بردٍ". الفصل إذا احتاج المحرم إلى شيء من محظورات الإحرام من اللباس أو الطيب أو الحلق أو قتل الصيد حل له فعله وتلزمه الفدية، لقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَاسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] الآية والأذى: القمل، وفي المرض تأويلان، قال ابن عباس: البثور. وقال عطاء: هو الصداع. وروى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر به زمن الحديبية فقال: "قد آذاك هوام رأسك؟ " قال: نعم. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "احلق ثم اذبح شاة نسكًا، أو صم ثلاثة أيام أو اطعم ثلاثة آصع من تمرٍ على ستة مساكين" أورده أبو داود وروي: "أو أطعم ستة مساكين فرقًا من زبيب، أو انسك شاة" قال: فحلقت رأسي ثم نسكت (¬2). والفرق: ستة عشر رطلًا وهو ثلاثة آصع، وهذا نص في الزبيب، وذلك نص في التمر. وعند أبي حنيفة وسفيان يلزمه إطعام رجل واحد من التمر أو الزبيب صاعًا وهذا خلاف النص الظاهر. فإن قيل: هلا قلتم في لبس السراويل عند عدم الإزار تلزمه الفدية أيضًا لأنه أبيح بعذر. قلنا: لأن الرخصة وردت فيه مطلقًا. بخلاف هذا ولأن هذا يراد للدين فإن ستر العورة واجب بخلاف هذا. فإن تقرر هذا ففعل شيئًا بعد شيء وتكرر ذلك منه، فإن كان من أجناس مختلفٍة [80/ ب] مثل أن يلبس ويحلق ويقلّم الأظفار ويتطيب ويستمتع ويقتل الصيد فإن عليه لكل فعل فدية ولا يتداخل حكمها قولًا واحدًا، وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن كانت من جنس واحد يتداخل لأن المكان واحد، وليس بشيء وإن كانت من جنسٍ واحدٍ مثل أن يلبس القميص والجبّة والسراويل والعمامة والخفين أو يحلق رأسه وشعر شاربه وغيره أو يقلم أظفار يديه ورجليه، أو يتطيب بالبخور والغالية والمسك والكافور، وغير ذلك أو يقبّل ويضاجع ويطأ دون الفرج، وفي الفرج أو يقتل صيود كثيرة فإن كان قد قتل الصيود، فعليه لكل صيد جزاء كامل ولا يتداخل سواء كان في وقتٍ متصل، أو في أوقات مختلفة. وقال داود: لا يجب والثاني جزاء، وهذا غلط لقوله صلى الله عليه وسلم في الضبع كبش (¬3) ولم يفصل وإن كان غير القتل فإن كان في وقتٍ متصل من غير تقطيع فإنها تتداخل ويلزمه في الجميع فدية واحد، وإن كان في أوقاتٍ مختلفة، فإن كان فعل الثاني بعدما كفر عن الأول فإن عليه للثاني كفارة أخرى قولًا واحدًا، وإن لم يكن كفّر، ففيه قولان: أحدهما: يتداخل ويلزمه للجميع فدية واحدة. قال في "القديم": ووجهه أنه جنس ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 71) (¬2) أخرجه البخاري (1814، 1815)، ومسلم (83/ 1201)، وأبو داود (1856، 1860)، والترمذي (953)، والبيهقي في "الكبرى" (5/ 5). (¬3) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9875).

استمتاع متكرر منع المحرم منه ولم يتخلله التفكير فيوجب أن يتداخل كما لو توالى في مكانٍ واحدٍ. والثاني: قاله في "الجديد" أنه لا يتداخل ويلزمه لكل واحدٍ فدية، وهو الصحيح لأنها أفعال تفرقت في أوقاتٍ لو انفرد كل واحدٍ منها لزمته الفدية، فإذا اجتمعت وجبت الفدية لكل واحدٍ كما لو كفّر عن الأول. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن كانت في مجلس واحدٍ وجبت فدية واحدة، [81/ أ] وإن كانت في مجالس وجبت لكل واحدة كفارة سواء كفر عن الأول أو لم يكفر إلا أن يكون تكراره لأمر واحدٍ، وهو أن يكون تكراره لأمر واحدٍ، وهو أن يكون لرفض الإحرام، أو لمرض واحد أو لحاجة واحدة حتى قال: لو قتل صيودًا بنية رفض الإحرام يكفيه جزاء واحد وهذا غلط لما ذكرناه، ومن أصحابنا من قال: هذا إذا كان سبب الحاجة واحدًا فإن كان أسبابًا مختلفة، فكل موضع، قلنا: في السبب الواحد تلزم فدية واحدة، ففي الأسباب وجهان: أحدهما: تجب فديات لأن اختلاف الأسباب يجري مجرى اختلاف الأجناس والأسباب المتفقة أن يلبس مرات لشدّة حر أو برد والأسباب المختلفة أن يلبس لشدّة حرّ ثم أصابته حمى ورعدة فاحتاج أن يلبس للبرد رأسه جراحة، فاحتاج إلى ستر رأسه للمعالجة ونحو ذلك وهذا غير صحيح. وليس للشافعي ما يدلّ على هذا. وقال بعض أصحابنا: هذا على ثلاثة أضرب: أحدهما: ما هو إتلاف يضمن بمثله وهو قتل الصيد فحكمه ما ذكرنا. والثاني: ما ليس بإتلاف كالاستماع واللبس فحكمها ما ذكرنا. والثالث: ما هو إتلاف لا يضمن بالمثل كحلق الشعر وتقليم الأظفار، وإن كان في مجالس تجب كفارات قولًا واحدًا سواء كفّر عن الأول أو لم يكفّر ذكره أبو حامد لأن هذا إتلاف، فلا يتداخل حكمه لقتل الصيد ولا يلزمه إذا كان في مجلس واحد لأنه لا يتداخل، ولكنه واحدٌ فيجب فدية واحدة، ولهذا لو حلف فقال: والله، لا حلقت رأسي اليوم إلا مرة فحلق من أول النهار [81/ ب] إلى آخره متواليًا لا يحنث، وأيضًا الحلاق وتقليم الأظفار أخذ شبهًا من قتل الصيد في أنه إتلاف وأخذا شبهًا من الاستمتاع لأن ما يجب به لا يجب عن طريق البدل فألحقنا بهما، فقلنا: إنه إذا كان متواليًا في مجلس لا تجب إلا فدية واحدة، وإذا تفرق يلزم فديات. فَرْعٌ اللباس والطيب جنسان نص عليه الشافعي، فلا يتداخل حكمهما بحال، وقال ابن أبي هريرة: يتداخل لأنهما من جنس الاستمتاع، وهذا غلط لأنه يقصد بهما أمران مختلفان، ولو جاز أن يقال هذا لجاز أن يقال: الحلق وتقليم الأظفار جنس واحد لأنهما إتلاف، وأجمعنا على أنهما جنسان وقال بعض أصحابنا بخراسان فيه قولان وهو غلط. فَرْعٌ آخرُ لو أبيح جنسان لحاجة واحدة مثل أن يمرض، فاحتاج إلى المداواة باللبس والطيب تجب فديتان قولًا واحدًا، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان:

أحدهما: تجب فدية واحدة لأن السبب واحد، ذكره الاصطخري، وفيه نظر. فَرْعٌ آخرُ شعر الرأس والبدن جنس واحد قولًا واحدًا، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان، وهذا غلط لأن القول بأنهما جنسان ذكره الأنماطي وحده، واحتج بأن النسك يتعلق بحلق شعر الرأس دون شعر البدن، وهذا لا يصحّ لأن حكم اللباس في الرأس يخالف حكمه في البدن، ولا يقال: هما جنسان. فَرْعٌ آخرُ لو جامع مرارًا فبالمرة الأولى فسد حجّه ووجبت فدية، ثم إن كانت المرة الأخرى [82/ أ] في هذا المكان لا يجب شيء آخر وإن كانت في أماكن فحكمه ما ذكرنا في ارتكاب المحظورات من جنسٍ واحدٍ في أماكن، فإن قلنا: تجب الفدية في كل جماع، هل تجب شاة أو بدنة؟ فيه قولان: أحدهما: تجب بدنة واحدة كما في الأول. والثاني: يكفيه دم شاة لأنه لم يتعلق بالجماع الثاني فساد الحجّ بخلاف الأول وقال القاضي الطبري: إن كان كفر عن الأول تجب للثاني فدية، وإن لم يكفر فالأصحّ أن عليه فدية آخر وقال في اللقديم: يتداخل، ولا فرق بين أن يكون في مكان واحد أو في أماكن، وهذا أصح مما تقدم. فَرْعٌ آخرُ قال بعض أصحابنا بخراسان: إذا قلنا: تجب فدية واحدة للكل لو نوى بالفداء عن المحظورة الأول أن يفدي عنه وعن محظور آخر من جنسه سيرتكبه مرة أخرى، فحكم هذا حكم ما لو قدم الفدية على ارتكاب المحظور، هل يجوز أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأن في ذلك تسببًا إلى ارتكاب المحظورات، فصار كتقديم كفارة الجماع في رمضان على الجماع لا يجوز بالإجماع. والثاني: يجوز هذا في الحجّ والفرق بينه وبين كفّارة الجماع في رمضان، أن الجماع الموجب للكفارة قطّ لا يباح وقد يباح الحلق في الإحرام للأذى واللبس للبرد والحر، فيباح أيضًا تقديم الفدية على الوجوب إذا وجد سبب وجوبه، وهو الإحرام، وهذا غير صحيح، بل المذهب المنصوص أنه لا يجوز ذلك بحال. مَسْأَلَةٌ: قالَ (¬1): وإن تطيب ناسيًا فلا شيء عليه. لا يجوز للمحرم أن يبتدئ استعمال الطيب بحال، فإن استعمله ذاكرًا لإحرامه مع العلم بتحريمه، تلزمه الفدية سواء استعمله [82/ ب] أو مسه بشيء من بدنه، قال في "الأم" (¬2):فإن سعط به أو حقن تلزمه الفدية، فمنع منع في ظاهر البدن وباطنه، وذلك لأن هذا أكثر من استعماله في ظاهر بدنه ومن أصحابنا من قال: قال في "الأم": إذا ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 67). (¬2) انظر الأم (2/ 129).

احتقن به، تلزمه الفدية لأنه أكثر من الأكل ولو استعط تلزمه أيضًا، لا يمكن إلا بأن يمسه، فيلزمه الفدية بالمسّ لا بالأكل، وهذا يقتضي أنه استعط لا فدية، وهذا غير صحيح عندي، لأنه وإن استعط فقد استعمل الطيب باطن بدنه ولا فرق بين أن يطيب كل عضو أو بعضه ولا بين أن يكون عضوًا جرت العادة بتطييبه كالرأس والبدن أو لم تجر العادة به كالرجل والعقب، ولا فرق بين أن تكون مدة قليلة أو كثيرة، وكذلك في حكم اللباس، لا فرق بين أن يكون قليلًا أو كثيرًا. وقال أبو حنيفة: إن طيب عضوًا كاملًا تجب فدية كاملة، وإن طيب أقل من ذلك تجب صدقة وأراد بالصدقة إطعام مسكينٍ واحدٍ إما صاعًا من تمرٍ أو نصف صاع من برّ، وقال في اللباس: إن استدام يومًا كاملًا تلزمه الفدية، وإن كان أقل من ذلك تلزمه صدقة، وقال محمد: إن لبس جميع النهار تلزمه فدية كاملة، وإن كان أقل فبحسبانه من اليوم، وكذلك، قال في ستر الرأس وإن تطيب ناسيًا لإحرامه، أو لبس ناسيًا فلا فدية، وكذلك إن كان جاهلًا بتحريمه لا فدية، وبه قال عطاء وسفيان وأحمد وإسحاق، وقال المزني: تلزمه الفدية، إذا كان جاهلًا بالتحريم، وقال مالك وأبو حنيفة: تلزمه الفدية ناسيًا كان أو جاهلًا، وعن أحمد روايتان، وقيل: مذهب [83/ أ] المزني كمذهب أبي حنيفة في الناسي أيضًا. واحتجوا بالقياس على قتل الصيد والحلق وتقليم الأظافر، وهذا غلط لما قال الشافعي: الفرق بين العامد والجاهل أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأعرابي وقد أحرم وعليه خلوق بنزع الجبة وغسل الصفرة ولم يأمره بفدية، وتمام هذا الخبر قد ذكرناه. وروي فيه زيادات وهو أن يعلي بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إني أحب أن أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوحى إليه، فلما كنا بالجعرانة جاء أعرابي وعليه مقطعات وهو متضمخ بالخلوق، فقال: يا رسول الله، أحرمت بالعمرة وأنا هكذا فماذا تأمرني؟ فأخذه ما كان يأخذه في حال الوحي فتغطى بكساءٍ. قال يعلى: فدعاني عمر وقال لي: أتحب أن ترى رسول الله وهو يوحى إليه؟ فقلت: نعم، فرفع لي طرف الكساء فنظرت، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أربد وهو يغط غطيط الفحل فلما سري عنه قال: "أين السائل عن عمرته"؟ فقال الأعرابي: ها أنا ذا يا رسول الله، فقال ما ما قال ولم يأمره بالفدية إذ كان جاهلًا بما صنع. فكذلك الناسي في حكم الجاهل. فَرْعٌ قال في "الأم": لو فعله ناسيًا أو جاهلًا ثم علمه فتركه ساعة عليه، وقد أمكنه إزالته عنه نزع أو غسل طيب افتدى، فإن قيل قلتم: إذا تطيب قبل إحرامه ثم أحرم واستدامة لا فدية واستدامة هذا الطيب ليست كابتدائه فكيف تقولون ههنا: هذا الطيب ليست كابتدائه فكيف تقولون ههنا: تلزمه الفدية باستدامته واستدامة كابتداء؟ قيل: الطيب قبل الإحرام كان مباحًا فأبحنا الاستدامة أيضًا، وههنا الابتداء لم يكن مباحًا، وكان محرمًا، وإنما أسقطنا الفدية للعذر فإذا زال العذر [83/ ب] وتمكن من إزالته جعل بمنزلة الابتداء به وهو كما لو وطئ امرأة بشبهة لا يلزمه الحد، فإذا علم لزمته مفارقتها والنزول عنها كذلك ههنا.

فَرعٌ آخرُ لو لم يمكن نزع نوع الثوب لعلة أو مرض أو غصب في يده وانتظر من ينزعه فهذا عذر فمتى أمكن نزعه نزعة وإن لم ينزع مع الإمكان افتدى، وهذا لأنه إذا لم يمكنه نزعه فهو مضطر ولا فدية على المضطر كما لو أكرهه إنسان على لبس المخيط، أو مسّ الطيب لا تلزمه الفدية. فَرْعٌ آخرُ لو لم يجد ما يغسل به الطيب عن بدنه أزاله بما يقطع رائحته لأن المقصود من الطيب الرائحة فبأي شيء قطعها أجزأه. فَرْعٌ آخرُ لو وجد ما يكفيه لإزالة الطيب عن جسده أو لوضوئه من حدثه، قال في "الأم" (¬1): أزال به الطيب لأن للوضوء بديلًا وهو التيمم، فعلى هذا يستحبّ أن يبدأ باستعمال الماء في إزالة الطيب ثم يتيمم ليكون تيممه بعد عدم الماء، فإن قدّم التيمم قبل استعمال الماء في إزالة الطيب جاز لأن ما معه من الماء لا يلزمه استعماله في حدثه كما لو احتاج إلى شربه وإن أمكنه قطع رائحة الطيب بشيء غير الماء فعل ذلك وتوضأ بالماء. فَرْعٌ آخرُ إذا أراد أن يغسل الطيب في يده أو ثوبه، فالمستحب له أن يستعين بغيره حتى لا يباشر الطيب بنفسه في حال إحرامه، فإن غسله بنفسه وباشر الطيب بيده لم تلزمه الفدية لأنه إنما يباشره ليتركه لا ليتطيب به. نصّ عليه في "الأم" (¬2): وهذا كما لو دخل دار رجل بغير إذنه، كان عليه الخروج منها، ولا يقال: يخرج بالخروج، وإن كان يمشي فيها لأن المشي للخروج لا للزيادة فيه وكذلك، لو انتقل في حال غسله من يدٍ إلى يدٍ، وكان ابن المرزبان يقول: في الطيب حيلة لم يذكرها الشافعي [84/ أ] وهي أن يأخذ خرقة فيبلها بريقه ثم يزيله، فإن قال قائل: أليس قلتم في حلق الشعر وتقليم الأظافر بين القليل والكثير ففرقوا بينهما في اللباس والطيب أيضًا، قلنا: التحريم تناول حلق الشعور بقوله تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة: 196] بمعنى شعوركم، وأقلّ الجمع ثلاثة فيتعلق به ما يقع عليه اسم الدم في الطيب واللباس التحريم مطلق غير مقيد فيتعلق وجوب القدر بإطلاق الاسم من غير تقدير. فَرْعٌ آخرُ قال: لو داس الطيب بنعله عامدًا فعلق بنعله تلزمه الفدية لأنه صار لابسًا للطيب كما لو كان على بدنه فإن لم يقصد ذلك، لم يلزمه شيء إلا أن يستديم بعد الذكر. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 129) (¬2) انظر الأم (2/ 129)

فَرعٌ آخرُ قال أصحابنا: إذا أراد الرجل الإحرام يجوز له أن يحلق شعر رأسه، والأولى أن يلبده ويعقصه كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجّه. قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يهلّ ملبدًا، وتلبيد الشعر قد يكون بالصمغ وقد يكون بالعسل، وإنما يفعل ذلك ليجتمع الشعر ويتلبد، فلا يتخلله الغبار ولا يصيبه الشعث، ولا يقع فيه الدبيب فإن حلق قبل إحرامه، ولم يلبد كان له إذا حل أن يحلق أو يقصر، وإن لبده وعقصه فيه قولان: أحدهما: قاله في (القديم": عليه أن يحلقه ولا يقصره، وذلك فائدة التلبيد والإطالة. وروى نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لبد رأسه فقد وجب عليه الحلق" (¬1). والثاني: قاله في "الجديد" وهو الأصح إن شاء حلق وإن شاء قصر لقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27]. مَسْألَةٌ: قالَ (¬2): وما شم من نبات الأرض مما لا يتخذ طيبًا. الفَصْلُ أصناف الطيب معروفة والمسك طيب [84/ ب] وما عداه فأكثره نبات الأرض، وكل نبات له رائحة طيبة فعلى ثلاثة أضرب: أحدهما يقصد شمه ويتخذ منه الطيب مثل الورد والياسمين والخيري ونحو ذلك فلا يجوز للمحرم شمه، فإن شمه تلزمه الفدية، ومن جملته الورس والزعفران والعنبر والكافور فإنه يخرج من الشجر مثل الصمغ. والنصّ في الخبر على الورس والزعفران تنبيه على غيرهما، والثاني، يقصد شمّه ولا يتخذ منه الطيب كالريحان والمرزنجوش قال الشافعي في كتبه الجديدة له لا يجوز شمه وعليه الفدية كالضرب الأول، وقال في "القديم": اختلف أصحابنا في الريحان، فقال بعضُهم: هو طيب، وروي ذلك عن عمر رضي الله عنهما، وفيه احتياط. وبه أخذ، وقال بعضهم: ليس بطيب، وهو قول عطاء ففي المسألة طريقان: أحدهما: المسألة على قول واحد، أنه تلزمه الفدية، لأنه قال: وبه آخذ واعترض على قول عطاء، فقال من قال بهذا: إذا دهن الشقاق كالزئبق لا فدية عليه ولا خلاف في وجوبها به عند الشافعي. والثاني: في المسألة قولان، لأن أحدهما ليس بطيب، ولا فدية. وبه قال عثمان وابن عباس رضي الله عنهما. أبان بن عثمان عن عثمان رضي الله عنه أنه سئل عن المحرم أيدخل البستان؟ فقال؟ نعم ويشمّ الريحان، وبه قال مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما، والثاني: أنه طيب، وفيه الفدية. وبه قال جابر، وهو الصحيح لأنه يعدّ طيبًا في ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9583)، وفيه عبد الله بن نافع ليس بالقوى، قال البيهقي: والصحيح أنه من قول عمر وابن عمر رضي الله عنهما. (¬2) انظر الأم (2/ 68).

العادة وينبت للطيب، وأما ما رووا عن عثمان روى الشافعي بإسناده عن ابن الزبير عن جابر رضي الله عنه أنه سئل يشمّ المحرم الريحان؟، فقال: لا، فتعارضا. والثالث: ما لا يقصد شمه، ولا يتخذ منه الطيب، فهو على ضربين [85/ أ]: أحدهما: ما ينبته الآدميون كالدارصيني والقرنفل، وفي معنى ذلك التفاح والسفرجل والخوخ والأترج، والنارنج ونحو ذلك. والثاني: ما ينبت بنفسه كالشيح والقيصوم والعليق، ونحو ذلك. ولا يحرم على المحرم شمّها، ولا فدية عليه بها، وكذلك ورد هذا كله لأنه لا يتطيب بشمه في العادة، ولا يتخذ لأجله وليس كذلك الضرب الأول والثاني فإنه ينبت ويتخذ للطيب دون غيره، فافترقا. فَرْعٌ قال في "الأم" (¬1): وليس البنفسج بطيب وإنما يربب للمنفعة لا للطيب، وأراد به البنفسج، واختلف أصحابنا فيه على ثلاثة مذاهب، فمنهم من حمل كلام الشافعي على ظاهره، فقال: لا يحرم عليه شمّه، ولا فدية فيه قولًا واحدًا لأن المقصود من شمّه المنفعة للتداوي دون التطيب. وبه قال الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه، ومنهم من قال: هو بمنزلة الورد قولًا واحدًا، لأنه يتخذ طيباً ويتخذ منه الطيب، وتأول قول الشافعي على أنه أراد البنفسج إذا جفّ فإنه يكون دواء، أو أراد به المربب بالسكر الذي ذهبت رائحته، وهذا اختيار القفال، وقيل: أراد به أن دهنه ليس بطيب، وهذا ليس بشيء لأنه إن كان طيبًا، فدهنه مثله، وقيل: ذكره الشافعي على عادة أهل الحجاز لأنهم لا يقصدون به الطيب، فلو جرت عادة أهل بلدٍة بالتطيب به كان طيبًا يلزم به الفدية، وهذا غير الصحيح أيضًا، ومنهم من قال: فيه قولان، كالريحان، وهذا والذي قبل خلاف مذهب الشافعي، والصحيح الأول. فَرْعٌ آخرُ قال بعض أصحابنا النيلوفر في معنى الورد، وقال بعضهم هو كالريحان، وهذا أظهر عندي، وقال بعضهم: فيه ثلاثة أوجه [85/ ب] كالبنفسج سواء. فَرْعٌ آخرُ الجلنجبين المربى بالورد إن كانت رائحة الورد فيه ظاهرة يمنع منه المحرم وتلزمه الفدية، وإن كانت الرائحة استهلكت فيه، لا يمنع منه ولا فدية. مَسْألَةٌ: قالَ (¬2): وإن دهن رأسه ولحيته بدهن غير طيب، فعليه الفدية. قال في "الأم" (¬3): الادهان على ضربين: دهن هو طيب، فإذا ادهن به من جسده شيئًا قل أو كثر تلزمه الفدية، وهو مثل ألبان المنشوش بالطيب والزنبق ودهن الورد وغيره، ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 129). (¬2) انظر الأم (2/ 68). (¬3) انظر الأم (2/ 129).

ودهن ليس بطيب مثل البان غير المنشوش والزيت والشيرج والسمن والزبد، فإن دهن به جسده غير رأسه ولحيته أو أكله أو شربه، فلا فدية عليه، وإن دهن به رأسه أو لحيته افتدى لأنهما موضع الدهن وهما يترجلان فيذهب شعثهما، وقال أبو حنيفة ومالك: تلزمه به الفدية، وإن استعمله في جسده إلا أن يداوي به جرحه، أو شقوق رجليه لأنه استعمله للتداوي لا للطيب، ويفارق الطيب إذا استعمله في جرحه لأنه طيب في نفسه، وبالدهن تجب الفدية لأنه استعمله استعمال الطيب لا أنه طيب في نفسه، وعن أحمد روايتان: إحداهما: مثل قول أبي حنيفة. والثانية: أنه لا تجب الفدية، وإن استعمله في رأسه ولحيته. وبه قال الحسن بن صالح بن حي، وهذا غلط لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحاجّ أشعث أغبر" (¬1)، وتدهين الرأس يزيل ذلك، وروى ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم أدهن في إحرامه بزيت غير مقتت"، قال أبو عبيد أراد غير مطيب، وهذا محمول على التدهين في الجسد، ولأن هذا الدهن لا يستطاب، ولهذا [86/ أ] لو حلف لا يستعمل طيبًا، فاستعمل هذا الدهن لم يحنث، فإذا استعمله في غير شعره لم تجب الفدية كالسمن في الرأس واللحية المعنى ما ذكرنا في وجوب الفدية لا أنه طيب. فَرْعٌ آخرُ لو دهن رأسه بالدهن الذي ليس بطيب وهو أقرع أو أصلح لا تلزمه فدية، لأن هذا الموضوع منه كسائر بدنه، وليس فيه ترجيل الشعر، وكذلك الأمر إذا لم يكن على وجهه شعر لا شيء عليه لأنه لم يلق الشعر، ولا أصوله، وكذلك إذا دهن وجنتيه به لا فدية. فَرْعٌ آخرُ قال المزني: يدهن المحرم الشجاج في الرأس بالزيت، ولا فدية. قال أصحابنا: أراد به إذا ادهن داخل الشجّة. فَرْعٌ آخرُ لو حلق رأسه ودهن وجبت الفدية، ويخالف الأقرع والأصلع، لأن هذا يوجب تحسين شعره وترجيله، فإنه ينبت مرجلًا، وإن لم يكن في الحال شعر بخلاف ذاك، وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا فرق، لأن الرأس محل استعمال الدهن سواء كان عليه شعر أو كان الشعر منحسرًا عنه بالصلع والقرع، والمفرق مذهب المزني اختياره لنفسه. وقال بعضهم في المحلوق: لا شيء عليه في أصحّ الوجهين أيضًا، وهو اختيار المزني، وهذا ليس بشيء. فَرْعٌ آخرُ الشحم والشمع إذا أذينا كالدهن يمنع المحرم من ترجيل الشعر بهما ذكره ¬

_ (¬1) أخرجه البزار كما في مجمع الزوائد (3/ 218).

في "الحاوي" (¬1). فَرْعٌ آخرُ دهن البنفسج والريحان على اختلاف المذهب في منع المحرم من أصله. فَرْعٌ آخرُ في دهن الأترج وجهان: أحدهما: لا يمنع لأن الأترج ليس بطيب، بل هو مأكول. والثاني: هو طيب، وإن كان أصله مأكولًا لأن قشره يربي به الدهن كالورد. مَسْألَةٌ: قالَ (¬2): وما أكل من خبيص فيه زعفران فصبغ اللسان، فعليه الفدية. الفَضلُ إذا جعل الطيب [86/ ب] في مأكول أو مشروب نظر فإن كانت أوصافه بحالها لونه وريحه وطعمه، فهو طيب كما لو لم يطبخ وتجب به الفدية بأكله أو شربه، وإن ذهبت أوصافه كلها لونه وريحه وطعمه فلا شيء فيه وإن ذهب بعضها وبقي البعض نظر فإن بقي ريحه فهو طيب قولًا واحدًا وإن لم يبق إلا لونه، قال في "الأوسط" من الحجّ هو طيب، وكذلك رواه المزني، وقال في "المناسك الكبير": ليس اللون معنى، وإنما الفدية من قبل الريح والطعم، وكذلك قال في "الإملاء" و "القديم"، فقال أبو العباس: المسألة على قولين: أحدهما: لا تلزمه الفدية لأن المقصود من الطيب الرائحة، وإذا جعل في الطبيخ صار الطعم مع الرائحة مقصودًا واللون المجرد، فليس بمقصود، وقال الشافعي: إذا لبس ثوبًا مسّه الطيب وذهبت رائحته حتى إذا رشّ الماء عليه لم تظهر لا تلزمه الفدية للطيب كذلك ههنا، وحكي القاضي الطبري أن الشافعي قال: لو لبس ثوبًا مصبوغًا بزعفران ذهب ريحه لا فدية عليه لأجل الزعفران، والثاني: تلزمه الفدية، لأن اللون إذا بقى، فالظاهر بقاء الرائحة ولا يخلو من الرائحة وإن قلت، ولم تظهر، ومن أصحابنا من قال: وهو اختيار أبي إسحاق، لا فدية فيه قولًا واحدًا وتأول ما رواه المزني على بقاء اللون مع الرائحة. وهذا هو الصحيح لما ذكرنا، وهو اختيار القفال. فَرْعٌ آخرُ لو لم يبق إلا الطعم، قال القاضي الطبري: تلزمه الفدية قولًا واحدًا لما ذكرنا من العلة، وقال سائر أصحابنا: فيه ثلاثة طرق: أحدهما: هذا، والثاني: لا تلزم الفدية قولًا واحدًا، والثالث: فيه قولان. فَرْعٌ آخرُ لو أكل طيبًا من المسك، [87/ أ] أو غيره تلزمه الفدية وقال أبو حنيفة: لا فدية فيه، ولكنه يكره لبقاء ريحه، وهكذا قال في الخبيص إذا أكله وفيه زعفران لأنه استحال بالطبخ من أن يكون طيبًا، وهذا غلط لأن الاستمتاع به حصل في يده مباشرة فتلزمه الفدية. ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (4/ 110). (¬2) انظر الأم (2/ 69).

فرع آخر لو أكل العود لا تلزمه القديمة لأنه لا يكون متطيباً به إلا بأن يتبخر به بخلاف المسك ذكه في "الحاوي" (¬1). مسألة: قالَ (¬2): والعصف ليس من الطَّيب. قد ذكنا أن العصف ليس بطيب ويجوز للمحرم لبس العصف, ولا فدية, وإن كان المستحب البياض, ويه قال احمد, وقد وروى في خبر ابن عم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وليلبسن بعد ذلك ما أحببن من ألوان الثياب من العصف أو الخز", وقال القاسم بن محمد: كانت عائشة رضي الله عنها تلبس الأحمرين وهى محرمة: الذهب والمعصفر، وقال أبو حنيفة: إذا لبس ثوباً معصفراً، فإن كان مفض لزمته الفدية, وإلا فلا فدية, وهذا غلط لأنه كونه لم يفض، فلا تلزمه الفدية, فكذلك إذا نفض كالنيل فإذا تقرر هذا, قال الشافعي: يكره لبسه في إحرامه, لأنه ربما يغتر به الجاهل, ولا يرى الفرق بينه وبين الزعفران, وروى عن عمر رضي الله عنه أنه رأى على طلحة ثوبين مصبوغين, وهو محرم, فقال: أيها الرهط أنتم أئمة يقتدي بكم, ولو أن رجلاً رأى عليك ثوبك لقال: قد كان يلبس الثياب المصبغة وهو محرم, فلا يلبس أحدكم هذه الثياب المصبغة في أحلام شيئا. مسألة: قال (¬3): وإن مسّ طيباً يابساً لا يبقى له أثر. الفصل المحرم إذا مس طيباً يابساً مثل المسك والكافور, ونحو ذلك فإن لم يعلق بيده ريحه, ولا أثره, فلا فديه, وان علق به أثره وريحه تلزمه الفدية, لأن الطيب يستعمل هكذا, وإن علق [87/ب] بيده ريحه ولم يعلق أثره, فظاهر ما نقله المزني أنه لا فدية. وقال في كتاب "المناسك الكبير": وإن مس منه شيئاً يابساً لا يبقى له أثر في يده, ولا ريح كرهته ولم أر عليه الفدية, ظاهر هذا أنه بقى ريحه وجبت الفدية, فالمسألة على قولين: احدهما: تلزمه الفدية, وهو الصحيح لأن الاعتبار بالرائحة, وهى المقصود من الطيب ألا ترى أن ماء الورد والدهن إذا انقطعت رائحتهما جاز استعمالهما وههنا علقت به الرائحة. والثاني: لا تلزمه الفدية لأن الرائحة إنما تعلق بالمجاورة, فهو كما لو شم الطيب من دكان العطار, وهذا لا يصح لأن هناك لم يباشر الطيب, وههنا باشر الطيب وحصل مقصوده من الرائحة في بدنه فافترقا, وقال أبو بكر المحمودى من أصحابنا: صحف المزني, وإنما هو مس طيبا ناسيا, فلا شئ عليه, فأما إذا كان عامداً وعلق بيده ريحه تلزمه الفدية قولاً واحداً. فرع آخر قال في "الأم" (¬4): لو عقد طيباً فحمله في خرقة أو غيرها وله رائحة تظهر منها لم ¬

_ (¬1) أنظر الحاوي للماوردى (4/ 111). (¬2) انظر الأم (2/ 69). (¬3) انظر الأم (2/ 69). (¬4) انظر الأم (2/ 129).

يكن عليه فدية وكرهت له ذلك. قال بعض أصحابنا: أراد إذا لم يقصد شمه, فأما إذا قصد شمه تلزمه الفدية لأنه يكون بمنزلة الورد والريحان. ومن أصحابنا من قال: وان شمه لا فدية أيضاً, لا بالمجاورة ولا بالمباشرة, والصحيح عندي الأول, ولو شمه من غير حائل تلزمه الفدية بلا إشكال, ومن أصحابنا من قال: لا فدية فيه أيضا لأنه لا يستعمل هكذا إرادة التطيب به, ويخالف التبخر بالعود لأنه هكذا يتطيب به, وهذا غلط عندي, ولو شم عوداً, قيل: فيه وجهان, والأصح أنه تلزمه الفدية. مسألة: قال (¬1): وله أن يجلس عند العطار, لا بأس أن يجلس المحرم والمحرمة عند العطارين ويدخلا [88/أ] حانوته ويشتريا الطيب ما لم يمساه نشئ من أجسادها، ولا يكره ولهما أن يجلسا عند الكعبة وهى تجمر أي: تبخر بالعود لأنه لا يمكن الاحتراز من هذه الأشياء فعفا عنه وهل يستحب له الاجتناب عن هذه الأشياء؟ قال: ههنا له أن يجلس عند العطارين وقال في موضع من " الأم" (¬2)، وأحب أن يجتنب العطارين, وكل موضع فيه طيب إلا في موضع من الكعبة والطواف ويجتنب أن يستنشقه, فإن فعل فلا شئ عليه فحصل من هذا أنه يستحب له التوقي في غير موضع البر, ولا يستحب له ترك موضع البر كذلك لأنه مباح وقال بعض أصحابنا: إن جلس عند العطار لغير شم الطيب لا يكره قولا واحداً, وإن كان يشم الطيب فيه قولان, قال في "مختصر الحج": لا يكره، وقال في "الأم": يكره ذلك. ذكره أبو حامد لأنه يوصل إلى تحصيل المقصود من محظور عبادته. وقال القاضي الحسين: إذا قصد القعود للرائحة يكره, والخلاف في وجوب الفدية, ونظيره لو غربل الدقيق في الصوم وفتح فاه عمدا حتى وصل غبار الدقيق الى جوفه, هل يفطره؟ قلنا: وكذلك لو جلس جماعة من المحرمين ووضع المجمر فيما بينهم من غير أن يتخذ أحدهم تحت ثوبه متطيباً به، فلا شئ عليهم, فإن قيل: قلتم المحرم لا يعقد النكاح ويشرى الطيب, فما الفرق قلنا: الفرق أن المقصود من النكاح الاستمتاع, فإذا حرم المقصود به حرم في نفسه, ولا يقصد بشراء الطيب التطيب, فإنه يقصد به التجارة كما يشترى الثياب المخيطة والجواري, وإن كان الاستمتاع بها محرماً, فإن قيل: أليس لا يجوز له شرى الصيد وليس المقصود به الأكل؟ قلنا: لم يحرم أكل الصيد وحده, وإنما ورد الشرع بتحريم الاصطياد, وهو [88/ب] يملك الصيد, والشراء ضرب من تملكه, فلم يجز بخلاف هذا. فرع آخر لو مسّ الطيب لا للتطيب لكن لحمله أو نقله لم يضرّه, قاله أكثر أصحابنا, وقال بعضهم: إذا مسّ شئ من بشرته عين الطيب تلزمه القديمة, وإنما تلزمه إذا تلزمه إذا مسّه بطرفه. فرع آخر لو حمل نافحة فيها المسك, قال أبو حامد: على قياس ما ذكرنا في "الأم" من أنه لا فدية عليه لأن بينه وبين الطيب حائلاً, وكذلك لو ترك طيباً في قارورة وشد رأسها ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 69). (¬2) أنظر الأم (2/ 173).

وحملها لا فدية. وقال القفال: تلزمه الفدية لأنه يطيب به, والأول أقيس عندي. مسألة: قال (¬1): وإن مسها, وهو لا يعلم أنها رطبة. الفصل إذا مس طيباً رطباً فعلق بيده منه شيء, فإن كان عالما برطوبته ذاكراً لإحرامه فعليه الفدية, وإن كان ناسياً لإحرامه, فلا شيء عليه, وكذلك إذا لم يعلم أن الكعبة مطيبة فمسها فعلق بيده منها طيب غسله ولا شيء عليه, وإن كان عالماً بأنها مطيبة, ولم يعلم أن الطيب رطب فمسَه, فكان رطباً, فيه قولان: احدهما: لا فدية عليه. رواه المزني ونص عليه في "مختصر الحج": أنه علق من غير اختياره, فهو كما لو ترشش عليه الطيب, وقال في "القديم": تلزمه الفدية لأنه قصد مس الطيب ومباشرته, فإذا علق به تلزمه الفدية, ومثل هذه المسألة إذا تمضمض الصائم, فسبق الماء إلى جوفه هل يفطره؟ قولان, ثم قال الشافعي (¬2) في "المختصر": وإن حلق وتطيب عامداً, فعليه فديتان, وقد ذكرنا هذه المسألة, وقوله: عامداً راجع إلى الطيب لا إلى الحِلاق, فإن في الحلاق يستوي العمد والخطأ. مَسْألَةٌ: قال (¬3): وإن حلق شعره فعليه مُد. الفصل لا يجوز للمحرم أن يأخذ من شعر جسده شيئاً, ولا من أظفاره لغير حاجة, فإن دعته الحاجة إليه مثل إن كثرت هوام رأسه, أو كان به مرض [89/أ] أو جراحة أحوجه إلى حلقه كان له حلقه بشرطي الفدية على ما ذكرنا والأصل فيه قوله تعالى: {ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] الآية, فإذا تقرر هذا لو حلق شعر رأسه تلزمه الفدية, وكذلك لو حلق شعر بدنه تلزمه الفدية أيضاً، وقال داود: وهو رواية عن مالك: لا شيء في شعر البدن, ولا فيما عدا شعر الرأس لأن الله تعالى خص الرأس بقوله: {ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ}، وهذا لا يصح لأنه يحصل له التنظيف والترفه بحلق شعر البدن فأشبه شعر الرأس, ولو جمع بين حلق شعر الرأس وحلق شعر البدن في وقت واحد تلزمه الفدية الواحدة, وقال الأنماطى: تلزمه فديتان، وهذا غلط لأن الكل في اسم الشعر والحلق سواء فإذا تقرر هذا فأقل ما يجب فيه فدية كاملة ثلاث شعرات لأنها أقل حد الكثرة فيتعلق بها تمام الفدية, وقال أبو حنيفة: لا يلزمه الدم إلا في حلق النصف, وقال مالك: إذا حلق قدراً أماط به الأذى عن نفسه وجب الدم قل أو كثر, وعن أحمد روايتان: إحداهما, مثل قولنا, والثانية, يتعلق الدم بأربع شعرات, واحتج مالك بأن بثلاث شعرات لا تحصل إماطة الأذى فأشبهت الشعرة والشعرتين, واحتج أبو حنيفة بأن الربع يقوم مقام الكل, ولهذا إذا رأى رجلاً يقول: رأيت فلاناً, وإنما رأى إحدى جهاته الأربع, وهذا غلط لأن بحلق الربع والثلث لا يحصل إماطة الأذى على التمام أيضاً, ولا يكون الأذى مربعاً حتى يكون كما قال أبو حنيفة, وإنما يقول: رأيت رجلاً ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 70). (¬2) أنظر الأم (2/ 70). (¬3) أنظر الأم (2/ 70).

إذا رأى رجلاً ما عرفه به لأنه يقول ذلك, وإن رأى صفحة وجهه, فلا يصح ما ذكروا, وأما إذا حلق أقلّ من ثلاث شعرات يلزمه الضمان, وإن لم يلزمه الدم [89/ب]. وقال مجاهد: لا شيء عليه, وحكاه ابن المنذر عن عطاء, وحكي عن عطاء مثل مذهبنا لأن كل جملة كانت مضمونة فأبعاضها مضمونة فأبعاضها مضمونة كالعبد, فإذا تقرر أنه مضمون اختلف قول الشافعي في تضمينه, فقال: ههنا في شعرة مد وفي شعرتين مدان, وفي ثلاث شعرات دم, وحكي الحميدى عن الشافعي أنه قال: إذا ترك حصاة يلزمه ثلث دم, وفي حصاتين ثلثا دم, وفي ثلاث حصيات دم. وقال الشافعي في موضع أخر: إذا ترك ليلة من ليالي منى يلزمه درهم, وان ترك ليلتين فدرهمان وان ترك ثلاث ليال فدم, ولا فرق بين الحلق وترك الحصاة وترك ليالي منى, فإذا حلق شعرة واحدة أو قلم ظفراً واحداً, أو ترك ليلة أو ترك حصاة فيه ثلاثة أقوال: أحدها: يلزمه مد من طعام, وهو المذهب المشهور لأن في إيجاب ثلث الدم مشقة, والأصل ذلك فعدلنا إلى ما هو أقرب إليه, وهو الطعام والمد أقل ما يجب فدية, والثاني: يلزمه ثلث دم, وهو الأقيس, لأن كل جملة ضمنت بجنس فأبعاضها تضمن بذلك الجنس كسائر المتلفات, والثالث: وهو قول عطاء: يلزمه درهم لأنه إذا عدل عن الأصل, فالأصل في التقويم الدراهم. فرع آخر لو قطع نصف شعرة فيه وجهان: أحدهما: عليه نصف مدّ بالقسط, وهذا أصحّ, وهو المذهب, وعليه عامة أصحابنا. والثاني: يلزمه مد كامل, لأن الإخلال يقع بتقصير بعض الشعر, وإن لم يستأصله, ذكره في "الحاوي" (¬1). فرع آخر إذا قلنا: لو حلق شعره يلزمه ثلث شاة في أحد الأقوال مقتضى المذهب أنه يتخير بين ثلث شاة وبين التصدق بصاع وبين يوم كامل, كما لو حلق ثلاث شعرات تخير بين شاة وثلاثة آصع وبين صيام ثلاثة أيام إلا أن من جهة المذهب في هذا القول إشكال لأنه نص فيمن جرح ظبيه فانتقص عشر قيمتها عليه ثمن عشر شاة, وما أوجب عليه مثله, فالقياس [90/أ] أن يلزمه صاع أو صوم يوم. فرع آخر لو حلق ثلاث شعرات في ثلاثة أوقات في مجلس نص الشافعي أن لكل شعرة حكم نفسها لا يتدخل ولا ينقلب داماً, وقال صاحب "الإفصاح": يمكن أن يقال يبنى على قولين في اللباس إذا فرق فإن قلنا بقوله القديم: إنه بتداخل, ويكون المفرق من اللباس بمنزلة المجتمع ينقلب ههنا دماً. وإن قلنا: هناك ينفرد كل بحكمة, فكذلك ههنا تنفرد ¬

_ (¬1) أنظر الحاوي للماوردى (4/ 116

كل شعرة بحكمها وهذا أصح وعلى هذا إذا حلق ثلاث شعرات ثم ثلاث شعرات يبنى القولين, وقد ذكرنا ما قال أبو حامد والمذهب هذا وإن أتلف شعرة وفدى ثم أتلف أخرى, وفدى لا يتداخل بحال, كما قلنا في اللباس, وقال بعض أصحابنا بخراسان: لو حلق شعرات من ثلاثة مواضع, فيه وجهان, لأن المواضع كالأماكن, وليس نشئ. فرع آخر قال: لو قطع المحرم عضواً عليه شعر أو قشط جلدة عليها شعر لم يلزمه للشعر شيء ويكون تابعاً للعضو, ولا يلزمه للعضو فدية, فكذلك للتابع, ولو افتدى كان أحب إلى. قال القاضي الطبري, ولهذا قال أصحابنا: إذا لبس ثوبا مطيباً لا يلزمه للطيب فدية ويصير تابعا للثوب, ولم يذكر خلافاً. وقد ذكر أصحابنا بخراسان في هذه المسألة, ولم يذكروا هذه العلة, وظاهر المذهب هذا. فرع آخر لو نبت في عينه شعرة فقلعها أو أسبلت علينه بمعنى طرته أو عزر حاجبيه, فقصه لم يلزمه شيء, وكذلك لو انكسر ظفره, فقلم للتكسر لم يلزمه شيء لأنه اضطر إليه من جهة الشعر, فأشبه إذا قتل الصيد دفاعاً عن نفسه, وبفارق هذا إذا حلق شعر رأسه للهوام لأنه حلقه لمعنى في غيره, وهو الهوام, فتلزمه الفدية كما لو قتل صيداً للأكل عند المجاعة تلزمه الفدية, لأن الضرورة من جهة الجوع دون الصيد, فإن قتل فقد يمثر الشعر فيؤذيه ويحميه, فينبغي أن لا [90/ب] تلزمه الفدية بحلقه, قبل ما يحصل بذلك من الحمى مضاف إلى الزمان دون الشعر وإن كان الشعر سبباً, ألا ترى أنه في زمان الشتاء لا يؤذيه ذلك. فرع آخر فدية الحلق على التخيير وإن لم يكن معذوراً, وقال أبو حنيفة: هي على الترتيب في حق غير المعذور, لأن النص بالتخير ورد في المعذور, وهذا غلط لأن كل كفارة ثبت فيها التخير عند العذر كذا عن عدم العذر كجزاء الصيد وكفارة اليمين. مَسْألَةٌ: قالَ (¬1): وكذلك الأظفار. حكم الأظفار حكم الشعر, لأنه قطع جزء من البدن يترفه به كالشعر فإن قلك ظفراً, ففيه الأقوال التي ذكرناها في الشعر, وإن قلّم ثلاثة أظفار في مجلس واحدٍ يلزمه دمّ. وقال أبو حنيفة: الاستحسان هذا ثم رجع فقال: إن قلّم خمسة أظافر من يد واحدة, يلزمه دمّ, وإن قلّم دون خمسة من يد واحدة, أو أكثر من خمسة من يديه يلزمه صدقة, ويه قال أبو يوسف, وقال محمد: إذا قلّم خمسة أظافر يلزمه دمّ سواء كانت من يد واحدة أو من يدين, واحتجّ أبو حنيفة بأنه لا يستكمل الترفه ومنفعة اليد بدون ذلك, وهذا غلط لأن بحلق ربع الرأس لا يملك الترفه ويجب به دم عنده. ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 70).

فرع آخر لو قلم بعض الظفر تجب بقسطه الفدية, ولو انكسر ظفره, فقلّم المنكسر لم يلزمه شيء لأنه اضطر إليه بمعنى من جهة الظفر, ولو قلّم المنكسر مع قطعه من الصحيح تلزمه بذلك صدقة, نصّ عليه في "الأم" (¬1) و"الإملاء", لأن قلم الصحيح لو انفرد تجب به صدقة, فكذلك إذا قلّمه مع غيره, وذكر في "الشامل": أن الشافعي قال: لو قلّم بعض ظفره بأن لم يستوفه بل خففه أو أخذ بعضه تلزمه القديمة, لأن هذا بعض عن جملة مضمونة, وضمنه بالمدّ لأن المدّ لا ينتقص في الشرع. وقال أبو حامد: إذا أخذ بعض شعره ينبغي أن يكون حكمه حكم الظفر. فرع آخر لو [91/أ] قلم جانباً من جوانبه تلزمه الفدية, فإن قلنا فيه ثلث شاة تجب شاة بقدر ما قلم, وإن قلنا يجب مد, قال أصحابنا: يجب في بعض الظفر مد, لأن طريق إيجابه المد أنه أقل ما وجب لمسكين واحد فلا يمكن تبعيضه, والفدية في الحج معناها على التغلب فغلبنا الإيجاب. مسألة: قال (¬2): "والعمد والخطأ فيهما سواء". الصحيح المشهور من المذهب الشافعي أن في حلق الشعر وتقليم الأظافر وقتل الصيد يستوي العند والخطأ والذكر والنسيان, لأنه لم يحرم منه جهة الترفه وإنما حرم من جهة الإتلاف, وفي الإتلاف يستوي العمد والخطأ كالأكل في الصوم. وقال ابن أبى هريرة: في الكل قولان: أحدهما: هذا. والثاني: يفرق فيها بين السهو والعمد أيضاً وقال أبو حامد, قال الشافعي: لو زال عقله بجنون أو إغماء, فحلق أو قتل الصيد, فيه قولان, فعلى هذا في مسألتنا, طريقان: أحدهما: فيها قولان أيضاً, لأن النسيان كالجنون في عد العضد الثاني: ههنا قول واحد تلزمه الفدية، ويفارق الجنون لأنه لو حلف لا يدخل داراً, فدخلها ناسياً فيه قولان, ولو دخلها مجنوناً لا يحنث قولا واحداً, وهذا لأن الجنون يزيل التكليف بخلاف النسيان. مسألة: قالَ (¬3): ويحلق المحرم شعر المحلّ. المحرم غير ممنوع من حلق شعر المحل، وإذا حلق لا شيء عليه, ويه قال مالك وأحمد, وروى ذلك عن مجاهد, وقال أبو حنيفة: لا يجوز له أن يحلقه, فإن حلقه تلزمه صدقة, ولا يلزمه فدية كاملة, وهذا غلط لأنه لم يتعلق بمنبته حرمة الإحرام, فجاز للمحرم حلقه كشعر البهيمة. فرع آخر لو حلق حلال رأس محرم ميت لا فدية, وفيه وجه أخر تلزمه الفدية. ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 174). (¬2) أنظر الأم (2/ 70). (¬3) أنظر الأم (2/ 70).

مسألة: قالَ (¬1): وليس للمحلّ أن يحلق [91/ب] شعر المحرم. الفصل لا يجوز للمحرم أن يحلق شعر المحرم ولا للمحلّ أن يحلق شعر المحرم لقوله تعالى: {ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ} [البقرة:196] , والمراد منه أن لا يحلق بنفسه ولا بغيره وانصراف هذا إلى حلقه بغيره أظهر, ولأن العرف جرى بذلك, فإن الإنسان لا يمكنه أن يحلق رأس نفسه إلا نادراً, ولأن حرمة الإحرام تعلقت بهذا الشعر, فلا يجوز حلقه لا لمحرم ولا لمحلّ لا بإذنه ولا بغير إذنه فإن حلقه الحلال نظر فإن كان بأجرة فالفدية على المحلوق رأسه, ولا شيء على الحالق لأنهما, وإن اشتركا في المحظور فقد انفرد المحرم بالترفيه به فليزمه الفدية وحده وقال أبو حنيفة يجب على الحالق أيضاً صدقة, وإن حلقه بغير أمره إلا أنه علم به فسكت ولم يمنعه منه اختلف أصحابنا فيه على طريقين: أحدهما: فيه قولان كما حلقه وهو نائم أو مكره لأن ما طريقه الإتلاف لا فرق بين أن يتلفه بغير علم صاحبه وبين أن يتلفه بعمله, ولكن لم يأذن فيه كما لو أتلف على رجل ثوبه بغير علمه يلزمه الضمان كما لو أتلفه وهو ساكت يلزمه الضمان, ومنهم من قال: يلزم الضمان على المحلوق قولاً واحداً، ويكون سكوته اختياراً منه, وهذا هو الصحيح, لأن شعره لا يخلو إما أن يكون بمنزلة الوديعة عنده أو بمنزلة العارية, وأيهما كان فإذا أتلفه متلف, وهو قادر على منعه, ولم يمنع ضمن. فإن قيل: أليس لو أمر غيره بقتل الصيد فقتله لم يضمن الأمر, وكذلك لو قتله مع عمله, وهو ساكت لا يضمن الساكت, وان قدر على منعه؟ قلنا: لأن الصيد ليس في يده, والشعر في يده, ولو كان الصيد في يده يضمن أيضاً بهذا, وأما إذا حلقه نائماً أو مكرهاً, فالفدية تجب على الحالق دون المحلوق رأسه, قال أصحابنا: ولكن له أن يطالب الحالق بإخراج الفدية لأنه كان في حفظه, ولأنه يتعلق بمصلحة نفسه, وفدية رأسه فكانت [92/أ] له المطالبة به وإن لم يصل إليه فلا شيء عليه, لأنه وجد بغير اختياره كما لو تمعط شعره وهذا هو الصحيح ويه قال أحمد ومالك. وقال بعض أصحابنا: هذا صحيح إلا قوله: للمحلوق مطالبة الحالق بإخراجها" لأن هذا الوجوب على الحالق لحق الله تعالى دون حق المحلوق, فكيف نطالبه بإخراجها؟ قال المزني: فيه قول أخر: تلزم الفدية على المحلوق رأسه, قال المزني: أصبت ذلك في سماعي عليه ثم حط, وهذا أشبه بمعناه عندي. وقال القاضي الطبري رأيت الشافعي ذكره في المناسك الأوسط (¬2) في أخر الباب الذي ترجمه ب: "باب ما ليس للمحرم فعله" فقال: افتدى المحرم ورجع بالفدية على الحالق. ولم يخط عليه. وذكره في "البويطى" غير مخطوط عليه, فالمسألة على قولين, قال أبو حامد: وأصل القول أن المحرم مأمور بحفظ شعره وهل يجرى ذلك مجرى حفظ الوديعة, أو مجرى حفظ العارية؟ قولان فإن قلنا: يجرى مجرى حفظ الوديعة, فالفدية ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 70). (¬2) أنظر الأم (2/ 175).

على الحالق وحده كما لو أتلف الوديعة في يد المودع, وإذا قلنا: يجرى مجرى حفظ العارية يلزمه الضمان على أيّ وجه أتلف, فإن قيل: فينبغي على هذا إذا أتلف شعره بنار أو تمعط شعره ضمن أيضا كالعارية قلنا: العارية مضمونة على المستعير بكل حال إلا إذا كان التلف من الجهة التي ينصرف الضمان إليها, إلا ترى أن صاحبها لو أتلفها, لا ضمان على المستعير لأن الإتلاف حصل من الجهة التي ينصرف الضمان إليها, وههنا ضمان شعر المحرم ينصرف إلى الله تعالى, فإذا حصل الإتلاف من جهته بإحراق شعره وإتلافه لم يجب الضمان, وقال القاضي الطبري: هذا خطأ عندي, وينبغي أن يكون شعره كالوديعة عنده, لأن العارية ما أمسكه لمنفعة نفسه, وههنا منفعته في إزالته. واختلف أصحابنا في ترتيب المذهب, فقال أبو إسحاق في أصل وجوب الفدية قولين [92/ب]: أحدهما: تجب على الحالق دون المحلوق. والثاني: تجب على المحرم ويجع بها على المحل الحالق. وقال ابن أبى هريرة: لا يختلف المذهب أن الوجوب في الأصل على المحل الحالق, فإن كان حاضراً عاد عليه أمره بإخراجها, وإن غاب أو عجز فهل يجب على المحرم إخراجها, قولان وهذا لأنه حصل له الترفيه بحلقة والصحيح ما قال أبو إسحاق, وقال أبو حنيفة تجب على المحلوق وهل يرجع بها على الحالق, قال أكثر أصحابه: لا يرجع, وقال أو حازم: من أصحابه يرجع فإذا قلنا: يرجع على الحالق فقط, فهو كما لو حلق شعر نفسه تلزمه القديمة, فإن عجز فحتى يقدر ولا يعترض عليه إلا أن يكون ممتنعاً من الإخراج مع القدرة فيطالبه على ما ذكرنا, فإن أراد المحرم المحلوق إخراج الفدية عنه لم يجز إلا بإذنه, وإذا أذن فيه جاز له أن يفدى بشاة, أو بطعام, ولا يجوز بالصيام, وإذا قلنا: تجب على المحرم المحلوق، فظاهر المذهب أن له أن يطالب الحالق بإخراجها لأنه السبب في وجوبها عليه, قال أبو حامد: فإن كان قادراً على الفدية بالمال افتدى, ولا يجوز له أن يصوم لأن يؤدى ذلك على وجه التحمل في الصوم, فإن لم يصل إليه لزمه إخراجها, ثم إذا وصل إليه يرجع بها عليه إلا انه يرجع بأقل الشاة أو الإطعام لأنه إذا اختار أكثرهما قيمة كان هو بالزيادة متبرعاً, ولا يرجع بها على غيره وإن صام اختلف أصحابنا فيه, فمنهم من قال: لا يرجع عليه شيء لأنه لا قيمة للصوم في حق الآدمي, ومنهم من قال: يرجع عليه ببدله لأنه افتدى بأحد أنواع الفدية, فيرجع على من أوقعه فيها كما لو ذبح أو أطعم فمن قال بهذا, قال: فيه وجهان: أحدهما: يرجع بأقلّهما قيمة من الإطعام والذبح والثاني: يرجع كل يوم بمدّ من طعام, لأن هذا بدل الصوم في الشرع [93/أ] , والصحيح أنه لا يرجع نشئ. ومن أصحابنا من قال: سواء كان الحالق حاضراً أو غائباً على المحرم إخراجها, ثم يرجع على الحالق على ما ذكرنا والأول أصح. ولو حلق المحرم شعر المحرم فالحكم كما لو حلقه على ما ذكرنا, وقال المزني: الذي خط عليه أشبه يمعناه عندي, لأنه المنتفع

بحلقه, فعليه الفدية عن نفسه, ثم يرجع على من أوقعه إن وصل إليه. فرع لو أمر حلال حلالاً أن يحلق شعر محرم كانت الفدية على الأمر دون الحالق لأن الحلق منسوب إلى الأمر, والحالق كالآلة ألا ترى أنه لو كان المحرم هو الأمر كانت الفدية عليه دون الحالق, فكذلك إذا كان الأمر أجنبيا, ذكره في "الحاوي" (¬1). وعندي هذا إذا كان المحلوق نائماً والحالق لا يعرف الحال. فرع آخر إذا وجبت عليه فدية الأذى, فمات قبل الأداء, فقالت الورثة: إن شئت أديت بدل الصيام ثلاثة أمداد لأكون مخيراً بين ثلاثة أشياء, كما كان المورث مخيراً بين ثلاثة أشياء ليس له ذلك, وعليه أن يذبح شاة, أو يطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع, لأن المورث كان مخيراً بين ما ذكرنا, وصوم ثلاثة أيام فإذا عجز أحدهما تعين أحد الشيئين الأخريين كما لو عجز من عليه كفارة اليمين عن الإطعام تعين عليه الإعتاق والكسوة ذكره والدي. فرع آخر لو طارت شرره إلى رأسه فأحرقت شعره, فإن لم يمكنه تطفئة النار فلا شيء عليه كحلال حلق رأسه قهراً، وإن قدر على التطفئة, فهو كما لو حلق رجل رأسه, وهو ساكت مسألة: قالَ (¬2): ولا بأس بالكحل ما لم يكن فيه طيب. الكحل ضربان: ضرب فيه طيب, فيحرم على المحرم استعماله, فإن استعمله تلزمه الفدية للطيب لا للكحل, وضرب لا طيب فيه, فإن كانت بالمحرم حاجة إليه كان له أن يكتحل به [93/ب]. وان لم يكن له حاجة, فالأفضل له تركه. قال في "الأم": " والاستحباب للمرأة أشد" هكذا ذكره القاضي الطبري, وقال غيره: إن كان ما يحسن العين, وهو الإثمد, نقل المزني: لا بأس به ونص في الإملاء على أنه يكره, وهو ظاهر قوله في "الأم" (¬3)، قال الشافعي: والكحل في المرأة أشد يعنى في الكراهية فإن صح ما نقله المزني, فالمسألة على قولين, وإلا فالمعروف في كتبه أنه مكروه ولا فدية بحال, لأن أكثر ما فيه حصول الزينة, فهو كلبس اللباس الحسن, والاغتسال وليس كالمفسدة, ينهى عن الكحل كما ينهى عن الثياب المشتهرة من المصبوغ وغيره, وروى عن عطاء أنه سئل: أنكتحل فقال: لا نكتحل لأنه زينة, وقال الشافعي في "الأم" (¬4): أخبرنا سعيد بن سالم عن ابن جريج أن إنساناً سأله عن كحل الإثمد للمرأة المحرمة, فقال: أكرهه لأنه زينة, وإنما هي أيام تخشع وعبادة, وقال الثوري وأحمد وإسحاق: يكره الإثمد للمحرمة, ولا بأس به للرجل. وروى عن ابن عمر أنه قال: يكتحل المحرم بأي كحل شاء ما لم يكتحل طيباً, وإن كان كحلا ¬

_ (¬1) أنظر الحاوي للماوردى (4/ 120) (¬2) أنظر الأم (2/ 71) (¬3) أنظر الأم (2/ 128). (¬4) أنظر الأم (2/ 128).

لا يحسن العين, وهو التوتيا ونحوه لا يكره, فإن اشتكت عينه كان له علاجها بالصبر ونحوه لأنه ليس بطيب, وإن احتاج إلى مداواتها بطيب فعل, وافتدى, وروى عن نبيه بن وهب قال: اشتكت عين عمر بن عبد الله بن معمر وهو محرم, فسأل أبان بن عثمان عن ذلك, فقال: أضمدها بالصبر, فإني سمعت عثمان رضي الله عنه يحدث ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (¬1)، أورده أبو داود, وروى: فأراد أن يكحلها فنهاه أبان بن عثمان رضي الله عنه, وقال (¬2): هذا أورده مسلم. مسألة: قال (¬3): ولا بأس بالاغتسال ودخول الحمام. للمحرم أن يغتسل من غير جنابة, ولا ضرورة, ولا فرق إن يصب على رأسه أو بغوص في الماء حتى يغمر رأسه لما روى أن عبد الله بن عباس والمسور بن مخرمة اختلفنا بالأبواء, فقال ابن عباس: [94/أ] يغسل المحرم رأسه, وقال المسور: لا يغسل, قال عبد الله بن حنين راوي الحديث فأرسلني عبد الله بن العباس إلى أبى أيوب الأنصاري أسأله فوجدته يغتسل بين القرنين, وهو يستتر بثوب قال: فسلمت عليه. فقال: من هذا؟ فقلت: أبا عبد الله أرسلني إليك ابن عباس ليسألك كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغسل رأسه، وهو محرم قال: فوضع أبو أيوب يده على الثوب فطاطا حتى بدا لي رأسه ثم قال لإنسان يصبّ عليه الماء: أصيب"، قال: فصب على رأسه ثم حرك رأسه بيديه, فأقبل يهما وأدبر ثم قال: هكذا رأيته يفعل ذلك صلى الله عليه وسلم (¬4)، وأراد بالقرنين العمودين اللذين تشد فيهما الخشية التي تعلق عليها البكرة. وروى الشافعي بإسناده: أن النبي صلى الله عليه وسلم " اغتسل وهو محرم" (¬5). وروى عن يعلى بن أمية أن عمر رضي الله عنه أغتسل إلى بعير وهو محرم، وقال: ما يزيد الماء الشعر إلا شعثاً (¬6)، وروى عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه دخل حمام الجحفة, وهو محرم, وقال ما يعبأ الله تعالى بأوساخكم شيئاً (¬7)، أي: لا بأس بإزالته, وروى أن قوماً من المحرمين كانوا يتماقلون في الماء وعمر بن الخطاب رضي الله عنه ينظر إليهم (¬8)، وقال مالك: إن أزال الوسخ عن نفسه في الحمام تلزمه الفدية, وروى عنه: تلزمه صدقة, واحتج عليه الشافعي, فقال: وليس في الوسخ نسك ولا أمرٌ ولا نهي عنه. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلكم قال: "المؤمن نظيف", وروى عن الزبير رضي الله عنه أنه كان ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1838) , والترمذي (952) , والبيهقي في "الكبرى" (9127) , وفي "معرفة السنن" (4/ 28). (¬2) أخرجه مسلم (89/ 1204) , والبيهقي في "الكبرى" (9126) , وفى "معرفة السنن" (2864). (¬3) أنظر الأم (2/ 71). (¬4) أخرجه مالك (710) , والبخاري (1840) , ومسلم (91/ 1205). (¬5) أخرجه الشافعي في "الأم" (2/ 174) , وفى "معرفة السنن" (4/ 31). (¬6) أخرجه البيهقي في "ألكبري" (9133) , وفى "معرفة السنن" (2867). (¬7) أخرجه البيهقي في "ألكبري" (9136) , وفى "معرفة السنن" (2875). (¬8) أخرجه البيهقي في "ألكبري" (9135).

على صلبه وسخ وهو محرم، فاغتسل وأمر بقلع الوسخ عنه (¬1)، فإذا تقرر هذا، قال الشافعي رضي الله عنه في "الأم" (¬2): إن كان يريد الاغتسال لتبرد أو تنظيف لم يحرك شعره بيده ويدلّك جسده بالماء [94/ب] لينقيه ويذهب بغيره لأن شعر بدنه لا ينتف بالدلك، وإذا غسل رأسه أفرغ الماء عليه إفراغًا، فإن حرك شعره بيده رجوت أن لا يكون عليه فيه ضيف وإن كان يريد غسله من جنابة أن يغسله ببطون أنامل يديه ويشرب الماء عليه إفراغًا، فإن حرك شعره بيده رجوت أن لا يكون عليه فيه ضيق وإن كان يريد غسله من جنابة أن يغسله ببطون أنامل يديه ويشرب الماء أصول شعره ولا يحكه بأظفاره، ويتوفي أن يقطع منه شيئًا فإن حركه تحريكًا خفيفًا أو شديدًا، فخرج في يده من الشعر شيء، فالاحتياط أن يفديه، ولا يجب عليه حتى يستيقن أنه قطعه أو نتفه بفعله لأن الشعر قد ينتف ويتعلق بين الشعر فإن غسل وحك خرج المنتف، وكذلك هذا في لحيته، ومن أصحابنا من ذكر وجهًا أنه تلزمه الفدية، لأنه وجد منه سبب في الظاهر والأصل بقاء الشعر في منبته وإن زال بسبب غسله. وحكي عن مالك أنه كره تغييب الرأس في الماء لأنه يشبه تغطيته بالثياب، وهو غلط لما ذكرنا. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لابن عباس رضي الله عنهما: تعال حتى أباقيك في الماء أيّنا أطول نفسًا وهما محرمان (¬3). فرع يجوز أن يغسل رأسه بالسدر والخطمي وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: لا يجوز ذلك، ولو غسله بالخطمي يلزمه الفدية، واحتج بأن الخطمي تستلذّ رائحته، ويزيل الشعث ويقتل الهوام فتجب به الفدية كالحناء، وهذا غلط لأنه ليس بطيب، ولا يحصل به ترجيل الشعر، فلا يمنع منه المحرم كالاغتسال بالماء. وقولهم: يستلذّ رائحته يبطل بالفواكه ولا تستلذّ رائحته غالبًا، وقولهم: يزيل الشعث باطل بالماء وقتل الهوام به لا يعلم، والأصل غير مسلم. فرع آخر قال في "الأم" (¬4): ولا يغسل رأسه بسدر ولا خطمي لأن ذلك يرجله، فإن فعل أحببت أن يفتدي، ولا أوجبه عليهِ وظاهر هذا أنه يكره له ذلك. فرع آخر قال الشافعي (¬5) رضي الله عنه: [95/أ] لا أكره له دخول الحمام لأنه غسل، والغسل مباح للطهارة والتنظيف، وقال في "القديم": أكره له دخول الحمام لأنه يذهب القشف، وهذا غلط لما ذكرنا. فرع آخر لا بأس للمحرم والمحرمة أن ينظرا في المرآة. وقال في سنن حرملة: يكره لها ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9138). (¬2) انظر الأم (2/ 125). (¬3) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9134). (¬4) انظر الأم (2/ 125). (¬5) انظر الأم (2/ 125).

ذلك، وقال عطاء الخراساني: يكره ذلك بكل حال، وقال مالك: يكره إلا لحاجة، وهذا غلط لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينظر في المرآة وهو محرم (¬1). مسألة: قالَ (¬2): ولا بأس أن يقطع العرق ويحتجم ما لم يقطع شعرًا أراد بقطع عرق الافتصاد، وهو مباح كالحجامة. وقال مالك: يمنع المحرم من الحجامة لأنه يقطع شعرًا، وبه قال ابن عمر والحسن، وهذا غلط لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم بلحى جمل وهو محرم في وسط رأسه (¬3)، وهذا تنبيه على الفصد وبسط الجرح وقطع السلم من جسده والإحسان، ونحو ذلك، فإن حجّ أقلف أجزأه نصّ عليه، ولو قطع فيما ذكرنا شعرًا يلزمه، وقال محمد: لا شيء عليه إذا حلق موضع الحجامة، وهذا غلط لظاهر الآية التي ذكرناها له أن يغسل ثيابه وثياب غيره. مسألة: قالَ (¬4): ولا يُنكح المحرم ولا يَنكح. الفصل الإحرام يمنع النكاح، فلا يجوز للمحرم أن ينكح، ولا للمحرمة أن تتزوج، ولا يجوز للمحرم أن يزوج الغير لا بالولاية ولا بالوكالة، فإن نكح أو أنكح كان باطلًا، وفرق بينهما، فإن كان قبل الدخول بها، فلا شيء عليه، وإن كان بعد الدخول بها، فلها مهر مثلها، وعليها العدة، فإن تحلل من إحرامه قبل انقضاء عدتها، قال الشافعي: كرهت له أن يتزوج بها في هذه العدة لأنها عدة من وطء محرم، فإن تزوج بها كان النكاح صحيحًا لأنها معتدة [95/ب] من مائه. وروي ذلك عن عمر وعلي وابن عمر وزيد بن ثابت وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والزهري ومالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق رضي الله عنهم، وقال أبو حنيفة والثوري والحكم: الإحرام لا يمنع النكاح بحال، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما، وحكي عن مالك أنه يحرم عليه النكاح، ولكن لو نكح انعقد، فيجبر على المفارقة، ولا يحلّ بذلك للزوج الأول، وهذا غلط لما روي أن عمر بن عبيد الله أرسل إلى أبان بن عثمان بن عفان، وأبان يومئذٍ أمير الحاجّ وهما محرمان إني أردت أن أنكح طلحة بن عمر بن شيبة بن جبير وأردت أن تحضر ذلك، فأنكر ذلك عليه أبان، وقال: سمعتُ عثمان بن عفان يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح المحرم، ولا يُنكح" (¬5)، وروى الدارقطني بإسناده عن ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (798)، والبيهقي في "الكبرى" (9144)، وفي "معرفة السنن" (2877)، موقوف على ابن عمر من فعله. (¬2) انظر الأم (2/ 72). (¬3) أخرجه البخاري (5698)، ومسلم (88/ 1203). (¬4) انظر الأم (2/ 72). (¬5) أخرجه مسلم (45/ 1409)، وأبو داود (841)، والنسائي (2842، 2843)، وأحمد (1/ 92)، والبيهقي في "الكبرى" (9151)، وفي "معرفة السنن" (2885).

النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتزوج المحرم، ولا يزوج" (¬1)، ولأن ما قاله مالك محال، لأنه إن كان النكاح صحيحًا وجب أن تحلّ للزوج الأول، وإن كان فاسدًا، فلا معنى للإخبار على المفارقة والطلاق، واحتج أبو حنيفة بما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة، وهو محرم، قلنا: قال سعيد بن المسيب: وهم ابن عباس في تزوج ميمونة، وهو محرم (¬2)، وروي يزيد بن الأصم عن ميمونة رضي الله عنها أنها قالت: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن حلالان بسرف" (¬3)، وروت ونحن حلالان بما يقال له سرف وروت: ونحن حلالان بعدما رجعنا، قال الحضرمي: يعني رجعنا من مكة، وميمونة أعلم بشأنها من غيرها وأخبر بحالها، فكان أولى، وقال يزيد بن الأصم: تزوجها، وهو حلال وبني بنها وهو حلال وخطبها وهو حلال بسرف [96/أ] وماتت بسرف، ودفناها في الظلّة التي بنى بها فيها، ويزيد هذا ابن أخت ميمونة وقالت صفية بنت شيبة مثل ذلك، ثم يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان مخصوصًا بذلك. فرع قال الشافعي: يجوز له أن يشهد النكاح وينعقد النكاح بشهادته لأن الشاهد لا صنع له في العقد، وإنما الصنع للولي، والقائل، وقال الإصطخري: لا ينعقد بشهادته النكاح لما رُوي في الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينكح المرحم ولا ينكح ولا يخطب ولا يشهد"، ولأنه ركن في النكاح كالزوج، وهذا غلط لما ذكرناه وهذه من الزيادة في الخبر غير مشهورة، وليس كالزوج، لأنه يتعين فيه فيؤكد حكمه، وله صنع في العقد بخلاف الشاهد. فرع آخر هل يجوز للمحرم الخطبة؟ قال الشافعي: لو توقى المحل أن يخطب محرمة كان أحبّ إلى، فإن خطبها في الإحرام وتزوجها بعد الإحرام صحّ النكاح، وظاهر هذا يدلّ على الكراهة، وكذلك يحرم للمحرم أن يخطب لنفسه ولغيره أيضًا، ولفظ الشافعي: يستحبّ له أن لا يخطب لغيره كما لا يزوج غيره، فإن فعل وعقد الغير بتلك الخطبة، وهو حلال انعقد النكاح وخطبة المحرمة ليست بمحرمة، وإن كرهنا بخلاف خطبة المعتدة، فإنها محرمة والفرق أنها مؤتمنة على قضاء عدّتها، فإذا خطبها لم يأمن أن يكذب في انقضاء عدّتها استعجالًا للنكاح، وليست كذلك المحرمة، فإن قضاء الإحرام بأفعال ظاهرة لا يحتمل فيها الكذب، والاستعجال، فلهذا لا تحرم خطبتها فيه. وقال صاحب "التقريب": فيه وجه آخر تحرم خطبتها في الإحرام حتى لو خطب المحرم امرأة حلالًا له، فرضيت به، يجوز [96/ب] كحلال آخر خطبها، لأن الخطبة ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني (3/ 261)، وفيه محمد بن دينار الطاحي، قال النسائي وأبو زرعة: لا بأس به، واختلف كلام ابن معين فيه. (¬2) أخرجه البخاري (1837)، ومسلم (46/ 1410)، والبيهقي في "الكبرى" (9157)، وفي "معرفة السنن" (2981). (¬3) أخرجه مسلم (48/ 1411)، والبيهقي في "الكبرى" (9160)، وفي "معرفة السنن" (2887).

الأولى لم تقع الموقع، وقد ورد في الخبر، ولا يخطب ولا يخطب عليه، وهذا غلط والخبر محمول على الكراهة. فرع آخر الإحرام الفاسد كالصحيح في تحريم النكاح سواء لأن الفاسد منعقد كالصحيح، وإنما الفساد يمنع من جوازه عن حجّة الإسلام. فرع آخر الأمام إذا أحرم لا يجوز أن يزوّج أحدًا بالولاية الخاصة، وهي الولاية بالنسب أو الولاء أو الملك، وهل له أن يزوج بالولاية العامة فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لظاهر الخبر، وقياسًا على الولاية الخاصة. والثاني: يجوز للضرورة، ولأن الولاية العامة أوسع تصرفًا بدليل أنه تزوج بها المشركات دون الولاية الخاصة. فرع آخر الحاكم إذا أحرم من أصحابنا من قال: حكمه حكم الإمام ومن أصحابنا من فرق بينه وبين الإمام بأنا لو منعنا الإمام منها لوجب منع خلفائه فيؤدي إلى الضرر بالمسلمين، وفي الحاكم لا يوجد هذا المعنى، وهذا غلط، لأن الإمام إذا منع لا يجب منع خلفائه، لأنهم ليسوا بمنصوبين من قبله وإنما نصبهم لمصالح المسلمين، ولهذا لو مات لا ينعزل الحاكم بموته. فرع آخر لو وكّل محلّ وكيلًا ليزوجه محله فأحرم الموكل ثم قبل له الوكيل النكاح كان باطلًا سواء كان حاضرًا أو غائبًا علم به الوكيل، أولم يعلم لأن المحرم لا يجوز أن يعقد النكاح له، وهذا إذا قامت البيّنة له بذلك، أو تصادق الزوجان على ذلك. فرع آخر لو اختلفا، ولم تكن بينة، فقال الزوج: كان العقد قبل أن أحرمت فالنكاح صحيح، وقالت المرأة: كان بعد الإحرام، فهو باطل، فالقول قول الزوج مع يمينه، لأن [97/أ] الظاهر من العقود الصحّة، وإن قال الزوج: عقد النكاح بعد أن أحرمت، قالت المرأة: قبله، فالنكاح صحيح، فإن قول الزوج مقبول في تحريمها وعدم العقد بينهما، ولكن عليها نصف مهرها المسمّى، لأن الظاهر صحّة النكاح، فلم تقبل دعواه في إسقاط ما عليه في الظاهر. فرع آخر لو قال الزوج: لا أدري عقد النكاح قبل الإحرام أم بعده، كان النكاح صحيحًا لأن العقد قد ظهر، والإحرام طار يجوز أن يكون حدث بعده ويجوز أن يكون قبله، فلا يرجع ما صحّ في الظاهر بالشكّ، ويستحبّ أن لا يقيم على هذا النكاح مخافة أن يكون بعد الإحرام ويبينها بطلقة حتى إن كان العقد فاسدًا لم يضر الطلاق وإن كان صحيحًا تبين فتحلّ للغير.

فرع آخر لو اختلف الزوجان، فقال الزوج: تزوجت بك وأنت حلالٌ، وأنا كذلك، وقالت المرأة: تزوجت بي، وأنا محرمة، فالقول قول الزوج نص عليه كما لو قالت: أنا أختك من الرضاعة، وأنكر الزوج، كان القول قوله مع يمينه، وكذلك إذا تزوج بأمٍة، فقالت الأمة: ومولاها تزوجت بها، وهي محرمة، وأنكر الزوج، كان القول قوله مع يمينه، لأن النكاح قد صحّ في الظاهر. فرع آخر قال في "الأم": لو وكّل المحرم حلالًا في تزويجه، فالوكالة فاسدة، لأنه لا يجوز له ذلك في حال إحرامه، فإن زوجه الوكيل بعد تحلله من الإحرام صحّ النكاح، لأن الاعتبار بحال العقد لا بحال التوكل، ولأن إذنه قد حصل، فإذا عقد عقدًا بإذنه، يصحّ، فإن قيل: أليس قلتم: لو وكل صبيًا في النكاح، فبلغ وزوج لا يصحّ حين كانت الوكالة فاسدة، فما الفرق، قيل: الفرق أن الصّبي ليس من أهل الإذن والعقد في الجملة بخلاف المحرم [97/ب]. مسألة: قالَ (¬1): ولا بأس أن يراجع امرأته إذا طلّقها تطليقة. للمحرم أن يرق زوجته ويراجعها سواء طلقها، ثم أحرم، أو أحرم ثم طلّقها. وبه قال جماعة العلماء، وقال إسحاق وأحمد في رواية: لا تجوز رجعته، وهذا غلط، لأن الرجعة تجري مجرى استدامة النكاح، والإحرام لا يمنع من استدامته، ألا ترى أن المولى كما لا يمنع عبده من استدامة النكاح لا يمنعه الرجعة، لأنها عقد لا تفتقر صحّته إلى الشهود، فلا يمنع منه المحرم كالبيع، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان، وهذا ليس بشيء، فإن قيل: ما الفائدة في تقييده بالطلقة الواحدة عند قوله: ولا بأس أن يراجع، قيل: أراد تعميم الحرّ والعبد في ذلك إذ العبد كالحرّ في الرّجعة بعد الطلقة الواحدة، ولا يشبهه بعد الطلقتين، وكذلك ذكر العدة ليستقيم حدّ الرجعة في الأحرار والعبيد. مسألة: قالَ (¬2): ويلبس المحرم المنطقة للنفقة. المحرم يلبس المنطقة ويشدّ الهميان في وسطه احتاج إليه للنفقة أو لم يحتج إليه، ولو جعل في طرفي المنطقة سيورًا، فعقد بعضها إلى بعض لم يضره، نصّ عليه في "الأم" (¬3)، وقال بعض أصحابنا: الأولى، تركها لما فيها من الإحاطة بالبدن، وقال مالك: إذا عقدها بشرائحها فهي كالمخيط يلزمه الفدية، وحكي أصحابنا عنه مطلقًا أنه لا يجوز له ذلك، وحكي بعض أصحابه عنه: أنه يجوز نحو مذهبنا، ويجوز أن يشدّ في وسطه حبلًا، أو يحتزم بعمامة. وقال مالك: لا يجوز ذلك من حاجةٍ ماسةٍ، وهذا غلط لما روي عن عمر رضي الله عنه، أنه كان يحتزم لإحرامه (¬4)، والدليل على ما ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 73). (¬2) انظر الأم (2/ 73). (¬3) انظر الأم (2/ 128). (¬4) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9070)، وفي "معرفة السنن" (2833).

ذكرنا في المنطقة ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: [98/أ] رخّص للمحرم أن يشدّ المنطقة في وسطه، وإطلاق الرخصة يقتضي رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يفرق، وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن المحرم يشدّ الهميان على وسطه، قالت: نعم، ويستوثق من النفقة (¬1) ومثله عن ابن عباس (¬2)، ولأنه محتاج إلى ذلك، ولا يستمسك إلا بعقد فجاز له عقده كالمئزر، قال: ويتقلّد السيف ويتكتف بالمصحف لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم "صالح مع الكفار عام الحديبية أن يعود إليهم في السنة الثانية معتمرًا ويقيم بمكة ثلاثًا، وأن يدخل، وهو ومن معه إلا وعليهم جلبان السلاح، قال البراء بن عازب راوي الخبر: الجلبان: القراب بما فيه، وإنما سُمي جلبانًا لخفائه، وهذا الشرط، لأنهم لم يأمنوا أن يخفروا الأمان. مسألة: قالَ (¬3): ويستظلّ المحرم في المحمل. له أن يستظّل بما لا يباشر رأسه كالخيمة والمحمل والعمارية، ولو أمسك شاشًا فوق رأسه بحيث لا يمارس رأسه، يجوز ولا فدية عليه مثل الخبرن وحكي عن مالك أنه يجوز أن يستظل نازلًا، ولا يجوز أن يستظلّ سائرًا، لأن ذلك الظل منسوب إليه كالعمامة، وتلزمه الفدية بذلك، وعن أحمد روايتان، واحتج بأن محرم ستر رأسه بما يقصد به الترفه كما لو غطّاه، وهذا لما روت أم الحصين، قالت: حججت مع النبي صلى لله عليه وسلم حجّة الوادع، فرأيت أسامة وبلالًا، أحدهما آخذًا بخطام ناقته، والآخر، رافعًا عليه ثوبه يستره من الحر حتى رمى جمرة العقبة (¬4)، وروي أن الآخذ بالخطام كان بلالًا والرافع للثوب أسامة، ولأنه تظلّل بما لا يماس رأسه، فأشبه إذا تظلّل بالسقف، وروي جابر في خبر [98/ب] حجّة الوداع "أن النبي صلى الله أمر بقبة من شعر فضربت له فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى عرفة، فوجد القبة وقد ضربت له بنمرة فنزل بها". فإذا تقرر هذا، فالمستحب للرجل البروز للشمس، وإن كانت امرأة فالسراويل أولى وروي أحمد بن حنبل عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه رأى رجلًا قد جعل على محمله عمودًا له شعبتان وجعل عليه ثوبًا يستظلّ به، وهو محرم، فقال له ابن عمر: أضح للذي أحرمت له (¬5) أي: أبرز للشمس، وقال الرياشي: رأيت أحمد بن المعذل في الموقف في يوم شديد الحرّ، وقد ضحى الشمس، فقلت له: يا أبا الفضل هذا أمر قد اختلف فيه، فلو أخذت بالتوسعة فأنشد يقول: ضَحيتُ لهُ كي أستَظلّ بظلّهِ إذا الظلّ أمسى في القيمة قالصا ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9186)، وفي "معرفة السنن" (4/ 43). (¬2) أخرجه البيقي في "الكبرى" (9187)، وفي "معرفة السنن" (4/ 43). (¬3) انظر الأم (2/ 73). (¬4) أخرجه مسلم (312/ 1298)، وأبو داود (1834)، والبيهقي في "الكبرى" (9190). (¬5) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9192).

باب دخول مكة

فوا أسفا إن كان سعيك باطلًا ويا حسرتا إن كان حجّك ناقصا وأحمد هذا بصري، مالكي المذهب بعدّ من زهّاد البصرة وعلمائها. بَابُ دُخول مكّة مسألة: قالَ (¬1): وأحب للمحرم أن يغتسل. يستحبّ للمحرم إذا أراد دخول مكة أن يغتسل بذي طوى، وهو من سواد مكة قريب منها، ولا فرق بين الرجل والمرأة في ذلك لما روى ابن عمر رضي الله عنه، قال: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة أحرم من ذي الحليفة، ثم أتى طوى فبات بها، فلما أصبح اغتسل ثم دخل من كداء من أعلى مكّة وخرج من كداء من أسفل" مكة (¬2) [99/أ]، وروي نافع عن ابن عمر: أنه إذا كان خرج حاجًّا أو معتمرًا بات بذي طوى حتى يصبح ويغتسل، ثم يدخل مكّة نهارًا، ويذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم (¬3) فعله وقال في "الأوسط" (¬4): أحبُّ للمحرم إذا أراد دُخول مكة أن يغتسل في طرفها وأراد ما ذكرنا، وهذا لأنه موضع جمع وزينةٍ، فالمستحبّ أن يكون على أكمل أحواله من التنظيف والغسل، ولا يجب ذلك لأنه غسل لأمرٍ مستقبلٍ، وهو دخول مكة فأشبه غسل العيدين، ويستحبُّ ذلك للحائض، والنفساء كما يستحب للطاهرة والصغير والكبير لحديث أسماء وعائشة رضي الله عنهما حين حاضت، وقال عليه السلام لعائشة رضي الله عنها حين حاضت: "افعلي ما يفعل الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت"، ويختار للغسل ذو طوى لأن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل مسألة: قالَ (¬5): ويدخل من ثنية كداء. المستحبّ أن يدخل مكة من ثنية كداء من أعلى مكّة ويخرج من ثنية كداء من أسفل مكة والأعلى عند طريق منى، والأسفل عند طريق العمرة "لما روت عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل مكة من أعلاها، ويخرج من أسفلها" (¬6)، وروي عنها أنها قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح من كداء أعلى مكّة ودخل في العمرة من كداء (¬7). وكداء ممدود وكداء ثنيتان، ثم النزول بذي طوى والدخول من ثنية كداء لمن جاء من طريق المدينة، فأمّا من سائر الأقطار يحتاج إلى أن يدور حول مكة حتى يدخل من هذا الطريق ويشقّ عليه ذلك، فلا يستحب ذلك وبمثله [99/ب] يستحبّ لجميعهم الدخول في المسجد من باب بني شيبة، والفرق من وجهين: أحدهما: أن ذلك القدر لا يشقّ، وهو أن يدور حول بعض المسجد إلى أن يصل إلى باب بني شيبة وهناك يشقّ. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 73). (¬2) أخرجه البخاري (1573)، ومسلم (30/ 1118). (¬3) أخرجه البخاري (1574). (¬4) انظر الأم (2/ 177). (¬5) انظر الأم (2/ 73). (¬6) أخرجه البخاري (1578). (¬7) أخرجه البخاري (1577).

والثاني: أن ثنية كداء كان على طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخوله منه كان اتفاقًا لا قصدًا، وباب بني شيبة لم يكن على سمت دخوله فإن الداخل من طريق المدينة أول ما يصل يصل إلى باب إبراهيم، فدل أن الفصل في باب بني شيبة أشد حيث تكلّف النبي صلى الله عليه وسلم ذكره الفقال. فرع لا فرق بين الليل والنهر، فإن شاء دخل ليلًا، وإن شاء دخل نهارًا، ولا فرق لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها ليلًا حين اعتمر من الجعرانة ودخلها في عمرة القضاء، وعام الفتح نهارًا، وقال جابر: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة حين ارتفعت الضحى، وقال أبو إسحاق: دخولها نهارًا أولى. وبه قال ابن عمر والنخعي وإسحاق، وقالت عائشة وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير: دخولها ليلًا أولى. فرع آخر لا فرق بين أن يدخلها راكبًا أو ماشيًا أو حافيًا في الإباحة والمشي أفضل، وقال بعض العلماء: المستحبّ أن يَدخلها راكبًا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم راكبًا. وقال بعضهم: المستحبّ أن يدخلها ماشيًا حافيًا لقوله تعالى لموسى عليه السلام: {فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إنَّكَ بِالْوَادِ المُقَدَّسِ طُوًى} [طه: 12]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد حجّ هذا البيت سبعون نبيًا كلهم خلعوا نعالهم من ذي طوى تعظيمًا للحرم" (¬1)، قال أصحابنا: ويستحبّ أن يدخلها بخشوع قلب وخضوع جسد داعيًا بالمعونة والتيسير [100/أ]، ومكّة وبكّة واحدة، وقيل مكّة الحرم كله وبكّة اسم البيت، وقيل: مكة الحرم وبكة المسجد كله. مسألة: قالّ (¬2) وإذا رأى البيت. الفصل إذا دخل مكة يبدأ بالقصد نحو البيت لا يشتغل بشيء آخر. وقال إذ رأى البيت: اللهم زد هذا البيت تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا ومهابة وزد في شرفه وعظمة ممن حجّة أو اعتمر تشريفًا وتعظيمًا وتكريمًا وبرًا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رأى البيت قال ذلك (¬3)، ونقل المزني: لمن عظم البيت تكريمًا ومهابةً كما ذكر البيت، وهو غلط، ولفظ الشافعي في "الأم": وبرًا على ما ذكرنا، وهذا لفظ الخبر، وهو الأليق لأن المهابة للبيت لا لمن عظمه والبر به أليق، وقيل: ما ذكر المزني مروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم مرسلًا، رواه ابن جريج، وهذا الدعاء لما روي أبو أمامة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تفتح أبواب السماء وتستجاب دعوة المسلمين عند رؤية الكعبة". قال الشافعي (¬4): ونقول بعد هذا الدعاء: اللهم أنت السلام ومنك السلام فحينا ربنا ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 232)، وابن ماجه (2939). (¬2) انظر الأم (2/ 74). (¬3) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9213)، وفي "معرفة السنن" (2907). (¬4) انظر الأم (2/ 144).

بالسلام، وهذا لما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول ذلك (¬1)، وروي مثله عن سعيد بن المسيب (¬2) ويليق بهذا المكان، وقوله: أنت السلام اسم من أسماء الله تعالى، ومنك السلام يعني من الآفات، فحينا ربنا بالسلام، يعني أجعل تحيتنا في وفودنا عليك السلام من الآفات. وقال سعيد بن المسيب: سمعت عمر يقول كلمة ما سمعها منه غيري، سمعته يقول هذا حين رأى البيت، وروي ابن جريج [100/ب] عن بعض السلف أنه كان إذا رأى البيت يقول: اللهم إنا نحلّ عقدة ونشدّ أخرى ونهبط واديًا ونعلو آخر حتى آتيناك غير محجوب أنت أعنا إليك خرجنا - وقيل حججنا - فارحم ملقى رحلنا بفناء بيتك، قال الشافعي: وأحبّ أن يقول هذا ذكره القفال ويستحب أن يرفع يديه إذا رأى البيت، ثم يقول هذا الدعاء، نصّ عليه في "الجامع الكبير"، وذكره القاضي أبو حامد في "جامعه". وقال في "الإملاء": ليس في رفع اليدين شيء أكرهه ولا أستحبه ولكنه حسن للخبر في ذلك، والمراد بالخبر ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ترفع الأيدي في سبعة مواطن: افتتاح الصلاة، واستقبال البيت وعلى الصفا والمروة، والموقفين، والجمرتين" (¬3). وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ترفع الأيدي في استقبال البيت" (¬4). وروي عن ابن عمر أنه كان يرفع اليد عند رؤية البيت، ومثله عن مالك أنه كان لا يرى ذلك، واحتجّ بما روي عن المهاجر المكّي قال: سئل جابر رضي الله عنه عن الرجل يرى البيت يرفع يديه، فقال: ما كنت أرى أحدًا يفعل هذا إلا اليهود، وقد حججنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكن يفعله" (¬5)، وهذا غلط لما ذكرنا، لأنه زائد ومثبت وهو أولى، وقد قيل المهاجر المكي مجهول، وأما التكبير عند رؤية البيت لا يعرف للشافعي أصلًا، وقال بعض أصحابنا: إذا رآه كبّر وليس بشيء. مسألة: قالَ (¬6): ويبتدئ الطواف باستلام الحجر. إذا دخل مكة يدخل المسجد ولا يعرج على شيء غير الطواف بالبيت، ويؤخر تغيير ثيابه واكتراء منزل [101/أ] ينزلهُ حتى يفرغ من الطواف لأنه تحية البيت فيبدأ به كما يبدأ إذا دخل المسجد بركعتين تحية، وهذا لأن البيت أفضل من سائر المساجد، فكانت تحيته أفضل من تحية سائر المساجد، والطواف أفضل من الصلاة، ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9216)، وفي "معرفة السنن" (2908). (¬2) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9215)، وفي "معرفة السنن" (2909). (¬3) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9210)، وفي " معرفة السنن" (2910). (¬4) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (5/ 73)، وفي " معرفة السنن" (4/ 49). (¬5) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9211، 9212)، وفي "معرفة السنن" (4/ 49). (¬6) انظر الأم (2/ 74).

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ينزل الله تعالى على هذا البيت عشرين ومائة رحمة، ستون منها للطائفتين وأربعون للمصلين، وعشرون للناظرين" (¬1). وروى أبو هريرة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أكرم سكان أهل السماء الذين يطوفون حول عرشه، وأكرم سكان أهل الأرض الذين يطوفون حول بيته" وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من طاف بهذا البيت أسبوعًا فأحصاه كان كعتق رقبته" (¬2). وقال أيضًا: "لا يرفع قدمًا، ولا يضع أخرى إلا حطّ الله عنه بها خطيئة، وكتب له بها حسنة"، وروي ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من طاف بالبيت خمسين مرة خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه" (¬3). وروي جابر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة عند ارتفاع الضحى، فأناخ راحلته عند باب بني شيبة ودخل المسجد، فاستلم الحجر، ثم طاف" ويسمى هذا الطواف طواف القدوم، وطواف الورود، وطواف التحية. فإن قيل: فهلا قلتم: إنه يركع ركعتين تحية لدخول المسجد؟ قلنا: لأن المقصود من دخول هذا المسجد الكعبة، فأمرنا بالطواف الذي هو تحية الكعبة، فإن قيل: إذا طاف ينبغي أن يركع ركعتين تحية المسجد؟ قلنا: إذا فرغ من الطواف ركع خلف المقام ركعتين وتسقط تحية المسجد بها ألا ترى أنه إذا دخل المسجد والإمام في المكتوبة يصلى المكتوبة معه وتسقط تحية المسجد؟ ولأن المقصود من تحية المسجد ألا يدخل المسجد لاهيًا، [101/ب] فإذا طاف فقد زال هذا المعنى، فإذا تقررّ هذا، فاعلم أنه لا يختص هذا الحكم بالحاج بل هول يستحب لكلّ من دخل مكّة، وإن كان تاجرًا، ويستحبّ أن يدخل من باب بني شيبة لما روى عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل من باب بني شيبة، وخرج من باب نبي مخزوم (¬4)، ولو دخل والإمام في الفريضة. قال الشافعي (¬5): يبدأ بالصلاة لأن الجماعة في المكتوبة سنة مؤكدة وفي بدايته بالطواف فوات الجماعة، وليس في بدايته بالجماعة فوات الطواف، فكان الأولى البداية بالصلاة، قال (¬6): وإن دخل، وقد تقاربت إقامة الصلاة، بدأ بالصلاة، فإن بدأ بالطواف ثم أقيمت الصلاة، قطع الطواف وصلى ثم بني على طوافه وأتمه ويختار أن يقطعه على وتر فإن قطعه على شفع جاز ويخرج من الطوفة عند الحجر الأسود ليكون قد أكملها. وروي عن ابن عمر أنه كان يطوف، فإذا أقيمت الصلاة صلى مع الإمام ثم بني على طوافه، وإن دخل، وقد ضاق وقت المكتوبة بدأ بها لأن إخراج المكتوبة عن وقتها لا يجوز وهكذا إذا خاف فوت الوتر بطلوع الفجر بدأ بالوتر، وكذلك إذا خاف فوت ركعتي الفجر بدأ بهما لأنهما نافلتان مؤكدتان، وقد قال الشافعي: ومن تركها كان ¬

_ (¬1) أخرجه الفاكهي في "أخبار مكة" (ص 325، 326)، وفيه ابن جريج مدلس. (¬2) أخرجه أحمد (2/ 95)، والحاكم (1/ 489)، والطبراني في "الكبرى" (2/ 392). (¬3) أخرجه ابن عدي في "الكامل" (4/ 1338). (¬4) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9209). (¬5) انظر الأم (2/ 145). (¬6) انظر الأم (2/ 145).

أسوأ حالًا ممن ترك جميع النوافل فيبدأ بهما لقوتهما، وفضّل تأكدهما وكل موضع، قلنا: يبدأ بالصلاة، فإذا فرع منها طاف، فإن قيل: هلا أسقطتم الطواف كما إذا دخل المسجد، والإمام في المكتوبة فصلاها معه سقطت ركعتا التحية؟ قيل: لأن الصلاة والطواف جنسان مختلفان، فلم يتداخلا وركعتي التحية والصلاة المكتوبة جنس واحد فيتداخلان، ثم قال في "الأم" (¬1): ولا فرق بين الرجال والنساء في ذلك إلا امرأة لها [102/أ] شباب ومنظر، فأحبّ لها أن تؤخر الطواف حتى الليل ليستر الليل منها وهذا الطواف غير واجب، فإن تركه لا شيء عليه. وقال أبو ثور هو نسك ويجب بتركه دم، وقال مالك: إن تركه مرهقًا مستعجلًا فلا شيء عليه وإن تركه مطيقًا يلزمه دم، وهذا غلط، لأنه لا يلزمه إعادته، فلا يكون نسكًا وإنما هو تحية على ما ذكرنا، فلا يجب الدم بتركه. فرع إذا أراد الطواف يستحبّ أن يبتدئ من الركن الذي فيه الحجر الأسود ثم يصنع خمسة أشياء أن يحاذيه ببدنه، والثاني أن يستلمه بيده، والثالث أن يقبّل بفيه، والرابع، أن يسجد عليه إن أمكنه، والخامس، أن يقول عند استلامه: بسم الله، والله أكبر إيمانًا بك، أي: أطوف إيمانًا بك وأراد بالتصديق بكتابه قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ} [الحج: 29]، وأراد بالعهد قوله تعالى: {ومَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إبْرَاهِيمَ إلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130]، وقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل: 123]، فإتباع ملّة إبراهيم من عهد الله تعالى إلينا ويريد بإتباع سنّة النبي محمد صلى الله عليه وسلم أنه قد ثبت عنه أنه طاف بالبيت، كما بينا، وإنّما يستحبّ ذلك لما روى عبد الله بن السائب ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: كلها هيئة لا محاذاة الحجر الأسود. ورُوي أن عمر رضي الله عنه جاء إلى الحجر الأسود، فقبّله، ثم سجد عليه، ثم قال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعله ما فعلته (¬2). فرع آخر البداية بالحجر عند الطواف لشرفه. وروي جابر أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بدأ بالحجر فاستلمه، وفاضت عينه من البكاء (¬3). وروي نحو ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما (¬4). وروي ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم [102/ب] قال: "الحجر الأسود من الجنة، وهو أشد بياضًا من اللبن فسودته خطايا بني آدم" (¬5). روي عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الركن والمقام ياقوتتان من يواقيت الجنة طمس الله نورهما ولو لم يطمس ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 145). (¬2) أخرجه البخاري (1597)، ومسلم (248/ 1270). (¬3) أخرجه الحاكم (1/ 455). (¬4) أخرجه الحاكم (1/ 455). (¬5) أخرجه الترمذي (877)، وابن خزيمة (2733).

نورهما لأضاءتا بين المشرق والمغرب" (¬1). وروي ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الحجر: "والله ليبعثنه الله يوم القيامة له عينان يبصر بهما ولسان ينطق به، يشهد على من استلمه بحق" (¬2)، واعلم أن متابعة السنّة واجبة ولو لم يوقف على علّتها، وقد فضل الله تعالى بعض الأحجار على بعض كما فضّل بعض البقاع والبلدان والأيام على بعض. فرع آخر الاستلام افتعال في التقدير مأخوذ من السلام، وهي الحجر، فالسلام الحجارة السود والبصرة الحجارة البيض وبها سميت البصرة لما في أرضها من عروق الحجارة البيض، فقوله: استلم، أي: مسّ السلم، وقيل: إنه مأخوذ من السّلم أي إنه يحي نفسه عن الحجر، فإن الحجر لا يحييه كما يقال: اختدم إذا لم يكن له خادم فخدم بنفسه، وقيل: مأخوذ من السلم كأنه يسلّم عليه ويحييه به، والكمال في الاستحباب أن يستقبل الحجر فيضمه إلى الصدر مع تقبيله، وقد روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الحجر يمين الله في الأرض يصافح به عباده" (¬3)، والمعنى أن من صافحه في الأرض كان له عند الله عهد، فكان كالعهد تعقده الملوك بالمصافحة لمن يريد موالاته، وكما يصفق على أيدي الملوك للبيعة، وكذلك تقبيل اليد من الخدم للسادة والكبراء، فهذا كالتمثيل بذلك والتشبيه به. فرع آخر قال الشافعي: يقبل الحجر بلا تصويت ولا تطنين. هكذا السّنة فيه، وقال مالك: يكره [103/أ] ذلك، بل يستلمه ثم يقبل يده وهذا غلط لما روى ابن عباس أن عمر رضي الله عنه مال على الحجر، قال: أما أني لأعلم أنك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك لما قبّلتك. وقرأ: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ" [الأحزاب:21]. وروي أنه لما قال هذا قال له أبي بن كعب: أما سمعت رسول الله يقول: "إن الحجر الأسود يأتي يوم القيامة، وله لسان ذلق يشهد لمن قبَله واستلمه"، قال: نعم، قال: وبهذا منفعته. فرع آخر قال: لو لم يتمكن من التقبيل استلم، وقبل اليد، فإن لم يتمكن من الاستلام والتقبيل. قال الشافعي: أشار ولا يشير إلى القبلة بالفم لما روي عن طارق، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف حول البيت، فإذا ازدحم الناس على الطواف استلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمحجن بيده"، وقال في الحاوي (¬4): إذا ازدحم الناس أومأ بيده، ثم يقبلها. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 213)، وابن خزيمة (2731)، وابن حبان (1004)، والحاكم (1/ 456)، والبيهقي في "الكبرى" (9328). (¬2) أخرجه أحمد (1/ 291)، والترمذي (961)، والدرامي (2/ 4)، والبيهقي في "الكبرى" (9232). (¬3) أخرجه الخطيب في "تاريخه" (6/ 339)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 85)، وانظر كشف الخفا (1/ 417). (¬4) انظر الحاوي للماوردي (4/ 136).

وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في حجّة الوداع يستلم الركن بمحجن" (¬1) المحجن: عود معقف الرأس يكون مع الراكب يحرّك به راحلته، ومعنى طوافه على البعير ليراه الناس، ويشاهدوه فيسألونه عن أمر دينهم، ويأخذوا عنه مناسكهم، فاحتاج إلى أن يشرف عليهم. وقد روي هذا المعنى عن جابر (¬2)، أدرجه في الخبر، وروي: أشار إليه بشيء في يده وكبّر وقبّله. فرع آخر الزحام عليه مكروه، وقالت طائفة من العلماء الزحام عليه أفضل لأن سالم بن عبد الله، قال: كنا نزاحم عبد الله بن عمر على الركن، وكان عبد الله لو زاحم الإبل لزحمها، وقال طلحة بن يحيي بن طلحة: سألت القاسم بن محمد عن استلام الركن، فقال: استلمه يا ابن أخي وزاحم عليه، فإني رأيت ابن عمر [103/ب] يزاحم عليه حتى يُلقى، وقيل لابن عمر: إنك تزاحم على الركنين زحامًا، فقال: لأني سمعتُ رسوله الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إن مسحهما كفّارة للخطايا" (¬3) وهذا غلط لما روي عن عمر رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنك رجل قوي تؤذي الضعيف، فإذا أردت أن تستلم الحجر، فإن كان خاليًا، فاستلمه وإلا فاستقبله وكّبر" (¬4)، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: لا تزاحم على الحجر لا تؤذي ولا تؤذي لودَدت أن الذي يزاحم على الحجر نجا منه كفافًا. فرع آخر إذا أرادت المرأة تقبيل الحجر، فعلت ذلك في الليل عند خلو الطواف وليس لها ذلك عند زحمة الناس. فرع آخر الكمال أن يستقبل الحجر بكل جزء من بدنه، وهو أن يأتي البيت، ويجعل الحجر عن يمين نفسه، ثم يمرّ به مستقبلًا له، فإذا جاوزه صار البيت عن يساره، فأما الإجزأ فأن يحاذي بكل بدنه كل الحجر، أو بكلّ بدنه بعض الحجر إن أمكن كما لو استقبل بجميع بدنه بعض البيت في الصلاة يجوز ولو حاذى ببعض بدنه كل الحجر، أو بعض الحجر فيه قولان. قال في "القديم": يجزئه لأن محاذاته بجميع بدنه، ومعرفة ذلك مما يشقّ فسومح له فيه، ولأنه حكم يتعلق بالبدن، فاستوي فيه حكم جميع البدن وبعضه كالحد، وقال في ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1607)، ومسلم (253/ 1272). (¬2) أخرجه البخاري (1515)، ومسلم (254/ 1273). (¬3) أخرجه الترمذي (959)، والنسائي (2919)، والحاكم (1/ 489). (¬4) أخرجه مالك (819)، وأحمد (1/ 28)، والحاكم (3/ 306، 307)، والبيهقي في "الكبرى" (9261)، وفي "معرفة السنن" (2934).

"الأم" (¬1): لا يجزئه، لأن الطواف بجميع البدن، فإذا حاذاه ببعض بدنه، فلم يبدأ بالطواف من عند الحجر بجميع بدنه، فعلى هذا إذا طاف سبعًا لم يحتسب بالسبع الأول، واحتسب بما بعده لأنه إذا دار فقد حاذي الحجر بجميع بدنه من غير شكّ، وهذا أصحّ لأن ما لزمه استقباله لزمه بجميع بدنه كالقبلة. فرع آخر يستحبّ له أن يكبّر عند محاذاة الحجر كل مرة، لما روي ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم [104/أ] طاف على بعير كلما أتى على الركن أشار إليه بشيء في يده، وكبّر (¬2)، وقال في "الأم" (¬3): أحب أن يقول كلّما حاذى الركن: الله أكبر، ولا إله إلا الله. فرع آخر قال أصحابنا: يستحبّ أن يقبّله ويسجد عليه، ثم يقبّله ويسجد عليه ثلاثًا ويمسح وجهه بيديه، وقد قال الشافعي في "الأم" (¬4): جاء ابن عباس يوم التروية مسبدًا رأسه، فقبّل الركن، ثم سجد عليه ثلاث مرات (¬5)، وأنا أحب إذا أمكنني ما صنع ابن عباس من السجود على الركن لأنه يقبّله، وزيادة سجود لله تعالى، قال أبو عبيد: التسبيد ترك التدهين والغسل. مسألة: قالَ (¬6): ويستلم اليماني بيده ويقبّلها ولا يقبّله. أراد باليماني الركن الأسفل عن يمين البيت، فإن الحجر في الركن الأعلى عن يمين البيت نحو اليمين فيستحب استلامه بيده، ويقبل يده ولا يقبله بخلاف الركن الأسود، لأنه أشرف لأن ابتداء الطواف منه والحجر الأسود فيه، وقال أبو حنيفة: لا يستلمه أصلًا، وقال مالك: يستلمه ويضع يده على فيه، ولا يقبل يده، وهذا غلط لما روي عن أبي الطفيل، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الركن اليماني بمحجنه ثم يقبّله (¬7). قال أصحابنا: لما استلمه بمحجنه قبّل المحجن، فمن استلمه بيده قبّل يده. وروي ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستلم الركن اليماني والحجر الأسود في كل طوفة، ولا يستلم الركنين اللذين يليان الحجر (¬8)، وقال ابن عمر: ما أراه لم يستلم الركنين اللذين يليان الحجر إلا أن البيت لم يبنَ على قواعد إبراهيم عليه السلام (¬9)، وروي عن جابر وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهم كانوا يستلمون الركن اليماني ويقبلون أيديهم، وقال بعض أصحابنا بخراسان: [104/ب] فيه وجهان: أحدهما: يقبّل يده أولًا ثم يضعها على الركن، فكأنه ينقل القُبلة إليه. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 145) (¬2) أخرجه البخاري (1613). (¬3) انظر الأم (2/ 145). (¬4) انظر الأم (2/ 146) (¬5) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9224)، وفي "معرفة السنن" (2914). (¬6) انظر الأم (2/ 74) (¬7) أخرجه مسلم (257/ 1275)، وأبو داود (1879). (¬8) أخرجه البخاري (1609)، ومسلم (244/ 1267)، وأبو داود (1876)، والنسائي (2947). (¬9) أخرجه البيقهي في "الكبرى" (9242)، وفي " معرفة السنن" (4/ 55).

والثاني: يضعها على الركن ثم يقبّلها كأنه ينقل بركته إلى نفسه، وهذا غريب. وقال الشافعي (¬1): لم أعلم. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قبّل الحجر الأسود، وروي الخرقي (¬2) عن أحمد أنه يقبّله، وهو غلط لما ذكرنا، وقال أبو حامد: إن كانت للبيت أربعة أركان، الركن الأسود ويسمى أسود لأن الحجر الأسود فيه، والركن الثاني والثالث يليان الحرج، والميزاب بينهما نصب إلى الحجر، وهما الشاميان، والرابع اليماني، ومن الناس من قال: الثاني العراقي، والثالث الشامي، وليس كذلك، بل هما الشاميان، هكذا سماهما في "الأم"، لأن الميزاب إلى الشام، وليس كذلك، بل هما الشاميان، هكذا سماهما في "الأم"، لأن الميزاب إلى الشام، وقبلة المدينة إلى الميزاب، والمدينة بين مكة والشام، وباب البيت بين الأسود والثاني، وهو إلى الأسود أقرب والملتزم بين الحجر والباب فالأول قبلة خراسان، وباب البيت قبلة العراق، واللذان يليان الحجر قبلة الشام، واليماني قبلة اليمن. فرع لا يستلم الركن العراقي ولا الشامي، أو الشاميين، وهما الركنان اللذان بينهما الحجر. وبه قال جماعة العلماء لما ذكرنا من خبر ابن عمر، وقال أبو الطفيل كنت مع ابن عباس ومعاوية، فكان معاوية لا يمرّ بركن إلا استلمه، فقال له ابن عباس: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يستلم إلّا الحجر الأسود، والركن اليماني، فقال معاوية: ليس في البيت شيء مهجور (¬3). وأجاب الشافعي (¬4) بأن من طاف بالبيت فما هجره لأن ما بين الركنين لا يستلم، وليس بهجران، وروي عن جابر أنه كان يستلم الأركان كلها. وقد قال ابن عباس: لم يستلم [105/أ] رسول الله صلى الله عليه وسلم غير الركنين اليمانيين (¬5)، فالصحيح هذا، والفرق ما قال ابن عمر رضي الله عنهما: أن الركنين اليمانيين على قواعد إبراهيم عليه السلام بخلاف الركنين الآخرين، فكانت لهما فضيلة على غيرهما. فرع آخر يستحب أن يكبَر عند الركن اليماني، ويدعو. وروي ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "على الركن اليماني ملكان موكلان يؤمنان على دعاء من يمرّ به وعلى الأسود ما لا يحصي" (¬6). ويختار أن يكون من دعائه ما روى سعيد بن المسيب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا مرّ بالركن اليماني يقول: اللهم إني أعوذ بك من الكفر والفقر والذلّ وفي مواقف الخزي في الدنيا والآخرة، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، فقال رجل: يا رسول الله أقول هذا وإن كنت مسرعًا؟ قال: "نعم"، ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 145) (¬2) انظر متن الخرقي (ص 57) ط. دار الصحابة. (¬3) أخرجه البخاري (1608)، وأبو داود (1874)، والنسائي (2947). (¬4) انظر الأم (2/ 146). (¬5) أخرجه البخاري (1609)، ومسلم (247/ 1269). (¬6) أخرجه أبو نعيم في "حلية الأولياء" (5/ 82)، والخطيب في "تاريخه" (12/ 227).

وإن كنت أسرع من برق الخلب" (¬1). فرع آخر يستحب أن يدعو بين الحجر والركن اليماني، وروي الحسن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين الركن اليماني والركن الأسود روضة من رياض الجنة"، ويكون من دعائه ما روى عبد الله بن السائب، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بين الحجر والركن، ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار" (¬2). وقال ابن عباس عند الركن اليماني ملك قائم يقول: آمين، آمين، فإذا مررتم به، فقولوا: ربنا آتنا ...... إلى آخره. فرع آخر كل ركن، قلنا: يستلمه، فالمستحبّ في كل طوفة لما ذكرنا من خبر ابن عمر، فإن لم يمكنه، ففي كل وترٍ، قال في "الأم" (¬3): وأحب الاستلام في كل وترٍ أكثر مما أستحبّه في كل شفع، وروي عن مجاهد أنه كان [105/ب] لا يكاد يدع استلام الركن والحجر في كل وتر. فرع آخر قال (¬4): وأحب استلامه ما لم يؤذ غيره بالزحام أو يؤذه غيره إلا في ابتداء الطواف، فاستحبّ له الاستلام وإن كان بالزحام، ثم اعلم أن الشافعي قال بعد هذا: وأنه أي وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرج على شيء دون الطواف، أي: لم يشتغل إلا بالطواف. ثم أوضح الشافعي ذلك، فقال (¬5): ولا يبتدئ بشيء غير الطواف إلا أن يجد الإمام في مكتوبة وقد ذكرنا ذلك، ثم قال: ويقول عند ابتداء الطواف والاستلام: بسم الله، والله أكبر. وقد ذكرنا ذلك. مسألة: قالّ (¬6) ويضطبع للطواف. الفصل المستحب أن يضطبع للطواف قبل أن يبتدئ الطواف حتى يكون في جميع طوافه مضطبعًا. والاضطباع: هيئة فيه، وهو أن يشتمل بردائه على منكبه الأيمن، ويكون منكبه الأيمن بارزًا مكشوفًا. قال الشافعي: حتى يكمل سعيه، وفي بعض النسخ "حتى يكمل سبعة"، فمعنى الأول أن يستديم الاضطباع إلى أن يفرغ بعد الطواف من السعي بين الصفا والمروة، ومعنى الثاني، أنه يستديم الاضطباع إلى أن يفرغ من أشواط الطواف، وهي سبعة. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 36، 39)، والنسائي (5485)، وابن حبان (2438)، والحاكم (1/ 35، 252)، وابن السني في "عمل اليوم والليلة" (67، 109). (¬2) أخرجه أحمد (3/ 411)، وأبو داود (1892)، والحاكم (1/ 455)، وعبد الرزاق (8963). (¬3) انظر الأم (2/ 146). (¬4) انظر الأم (2/ 146). (¬5) انظر الأم (2/ 145). (¬6) انظر الأم (2/ 75).

والأول أصح، وهو المراد، فعلى هذا إذا فرغ من الطواف ترك الاضطباع، وغطى منكبيه حتى يصلي ركعتي الطواف، فإنه يكره أن يكون في الصلاة مضطبعًا، فإذا استلم كشف منكبه الأيمن، واضبطع للسعي، ففي اللفظ إضمار، وهو إلاّ في حالة ركعتي الطواف ويستديم ذلك إلى أن يفرغ من السعي بين الصفا والمروة، واشتقّ الاضطباع من الضبع، وهو عضد الإنسان، وأصله: اضتبع، [106/أ] افتعل من، فقلبت التاء طاء، فقيل: اضطبع. وقال مالك: لا يسنّ الاضطباع وهذا غلط لما روي عن يعلي بن أميّة، قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت مضطبعًا، وعليه برد أخضر" (¬1). وروي ابن عباس قال: لما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطوف جلست قريش في الحجر لينظروا إليه، فاضطبع وطاف، وقد قال في "المختصر" (¬2) لأن النبي صلى الله عليه وسلم اضطبع حين طاف، ثم عمر ولم يرد الشافعي بتخصيصه عمر رضي الله عنه الذكر أن غيره من الخلفاء لم يضطبع، ولكنه بين سبب الاضطباع حين اضطبع وذلك أن عمر رضي الله عنه لما حجّ اضطبع للطواف، ثم قال: فيم الرملان والكشف عن المناكب، وقد أضاء الإسلام ونفي الشرك، ولكني لا أدع شيئًا. رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله (¬3) هكذا ذكره أصحابنا، وقد أضاء الله الإسلام وهذا مُصحّف، وإنما هو وقد أطأ الله الإسلام، وهذا في الأصل وطأ الله، أي: أثبته وأرساه، ولكن الواو قد تبدل الفاء، ويريد بالرملان، الرمل في الطواف والسعي ويريد بالكشف عن المناكب للاضطباع. وروي ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نفعل ذلك، نرائي المشركين، فاليوم من نرائي، ولكن لا ندع شيئًا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، ومعنى مراءاتهم المشركين من نرائي، ولكن لا ندع شيئًا رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله، ومعنى مراءاتهم المشركين بالاضطباع والرمل هو ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتمر سنة سبع عمرة القضاء. كان المشركون قد خلوا له مكة وصعدوا حراء ينظرون إلى المسلمين. وكان المسلمون إذ ذاك قد أصابتهم سنة قد ضعفوا فيها واصفرّت ألوانهم وأنهكت أجسادهم، فلما رآهم على تلك الهيئة توامروا فيما بينهم، فقالوا: [106/ب] قد وهنتم حمى يثرب فبنا أن نحمل عليهم فنستأصلهم، فنزل جبريل عليه السلام في الحال، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما توامر به المشركون على الجبل، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بلاضطباع والرمل، فلما رأي المشركون ذلك، قالوا: إن فيهم بعد بقية أو قوة، فنقضوا ما توامروا به. وروي أنهم قالوا: هم أجلد منّا (¬4). وحكي عن أحمد قال: لا يضطبع للسعي بين الصفا والمروة لأنه لم ينقل، وهذا غلط لأنه في معنى الطواف. بدليل ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: إنما سعى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبيت وبين الصفا والمروة ليرى المشركين قوته. ثم قال الشافعي (¬5) في "المختصر" والاستلام في كل وتر أحب إلى منه في كل ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9253)، وفي "معرفة السنن" (2927). (¬2) انظر الأم (2/ 75) (¬3) أخرجه الشافعي في "المسند" (128)، والبيهقي في "الكبرى" (9258)، وفي "معرفة السنن" (2929). (¬4) أخرجه أبو داود (1886)، والنسائي (2945). (¬5) انظر الأم (2/ 76).

شفع، وقد ذكرنا هذا، وهذا لأن الوتر في السبعة أكثر من الشفع، ولأن الوتر يمتاز بالفضل في كثير من المواضع عن الشفع. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله وتر يحب كل وتر" (¬1)، واعلم أن ههنا إشكالًا وهو أن ظاهر هذا اللفظ يدلّ على أن الاستلام يفعل في بعض الأشواط دون بعض، وليس كذلك، بل يستحبّ ذلك في كل شوط مع القدرة، والمزني ذكر هذا في حال العجز، وأعرض عن بيان حال القدرة، فإن استلم في وتر، ثم تمكن في الشفع، فيستحبّ أن يستلم كما استلم في الوتر. مسألة: قالَ (¬2): ويرمل ثلاثًا. الرمل: هيئة في الطواف كالاضطباع، وهو سرعة المشي مع تقارب الخطى. قال الشافعي (¬3): الرمل، هو الخبب لا شدة السعي، ولا أحب أن يثب من الأرض وثوبًا، ويرمل في ثلاثة أطواف ويمشي في الأربعة الباقية، وإذا رمل في الثلاثة لا يفصل بنيها بوقوف [107/أ]، إلَّا أن يقف عند استلام الركنين ثم يمضي خببًا، والرمل في الثلاثة، الأولى والمشي في الأربعة الأخيرة. هكذا فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أوضح الشافعي ذلك، فقال (¬4): ويتبدئ الطواف من الحجر الأسود فيرمل ثلاثًا، لأن النبي صلى الله عليه وسلم رمل من الحجر الأسود حتى انتهى إليه، قلنا: أي رمل ثلاثًا من الحجر إلى الحجر، على ما روي جابر (¬5) خلاف ما حكي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرمل فيما الركن اليماني والحجر الأسود إذ البيت كان يسترهم عن رؤية المشركين على الجبل إياهم. والمروي أنه إنما مشى في الأربع الأخيرة، وترك فيها الرمل إبقاء على أصحابه. وذكر بعض أصحابنا بخراسان: ما قال ابن عباس، وذهب إليه، وهو غير صحيح، وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رمل في عمرته كلها، وفي حجّة، وكذلك قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، ومن بعدهم. وروي عنه أنه قال: ليس بسنة اليوم (¬6)، أورده أبو داود، فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبًا، فكيف رمل، قلنا: إنما طاف راكبًا طواف الزيارة دون طواف القدوم، ثم الراكب يطوف ثلاثًا خببًا، فإن قيل: الحكم إذا تعلق بعلة زال بزوالها، وقد زالت علة الرمل. قلنا: قد يذهب السبب، ويبقى الحكم كما في استحباب غسل اليدين ثلاثًا قبل إدخالهما الإناء، ثم الرسول صلى الله عليه وسلم اضطبع ورمل في عمرة الجعرانة، وذلك بعد فتح مكة، وكذلك في حجّته، وكانت بعد الفتح فثبت أنه سنّة ثانية. مسألة: قالَ (¬7): والدنو من البيت أحبّ إليّ. أراد أنه وإن كان في التباعد من البيت زيادة الخطى، فالدنو من البيت أحبّ إلى لأنه أقرب إلى المقصود [107/ب]، وهو البيت، وأسهل عليه، ثم قال (¬8): فإن لم يمكنه ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (5/ 2677)، والترمذي (453)، وابن ماجه (1170)، وأحمد (2/ 109، 155، 277)، وابن خزيمة (1071)، وابن حبان (131). (¬2) انظر الأم (2/ 76) (¬3) انظر الأم (2/ 149) (¬4) انظر الأم (2/ 77) (¬5) أخرجه النسائي (2944). (¬6) أخرجه أبو داود (1885). (¬7) انظر الأم (2/ 76). (¬8) انظر الأم (2/ 76).

الرَمل، فكان إن وقف وجد فرجة وقف ثم رمل، أي: وقف لينفرج ما بين يديه، ثم رمل في تلك الفرجة، وإن لم يمكنه الوقوف ليجد الفرجة، قال: أحببت أن يصير في حاشية الطواف، وقيل: هذه العبارة غلط من المزني إذ الطواف لا يكون له حاشية، وإنما قال الشافعي (¬1): أحببت أن يصير حاشية في الطواف، أي يصير حاشية الناس في حال الطواف، ثم استثني، فقال (¬2): إلا أن يمنعه كثرة النساء، فيتحرك حكرة مشية متقاربًا يريد به أن النساء في الطواف يكن على حاشية، فربما لا يمكن هذا العاجز عن الرمل أن يخالط النساء، فحينئذٍ يتشبه بمن يرمل قدر ما يمكنه كما فسر الشافعي من تحركه في مشيه متقاربًا، ومعناه أن يرى أنني لو أمكنني الرّمل رملت، فإن قيل: أليس قال: والدنو من البيت أولى، فلم ترك ههنا لأجل الرمل، وهما هيئتان؟ قلنا: إذا لم يكن الجمع بينهما فمحافظة الرمل أولى لأن السنّة فيه ثابتة، وليست في المقاربة سنّة مأثورة إن شاء الله، ولا شك أن الصحابة حين طافوا تقارب بعضُهم وتباعد البعض، واستووا في محافظة الرّمل، ثم قال (¬3): ولا أحب أن يثب من الأرض، أي: يقفز لعجزه من الرّمل. وقال في "الأم" (¬4): وإذا كاف راكبًا، فلم يؤذِ أحدًا أحببت أن [تخبب] (¬5) دابته في موضع الرمل. فرع قال (¬6): إذا طاف الرجل بالصبي أحببت أن يرمل به، وإن طاف النفر بالرجل في محفة أحببت إن قدروا على الرمل أن يرملوا به، لأنهم ينوبون عنه، ويتحرك هو بحركتهم. وقال في القديم": لا يرملون به، لأن فعل الحاملين [108/أ] لا يثبت إليه، فحصل قولان فيهما، والأول أصحّ. فرع آخر قال في "الأم" (¬7): سواء في هذا طواف نسكه قبل عرفة، وبعدها، وفي كل حجّة وعمرة إذا كان الطواف الذي يصل بينه وبين السعي بين الصفا والمروة. قال: فإن قدم حاجّا أو قارنًا، فطاف بالبيت وسعى بين الصفا والمروة، ثم زار يوم النحر، أو بعده لم يرمل، لأنه قد طاف [الطواف] (¬8) الذي يصل بينه وبين السعي بين الصفا والمروة، وإن قدم حاجّا، فلم يطف حتى يأتي منى رمل في طوافه بالبيت بعد عرفة. فرع آخر إذا طاف طواف القدوم، ورمل فيه، واضطبع وأخر السعي بين الصفا والمروة إلى ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 77). (¬2) انظر الأم (2/ 77). (¬3) انظر الأم (2/ 77). (¬4) انظر الأم (2/ 149). (¬5) ما بين المعقوفتين وردت في "الأم": يحث. (¬6) انظر الأم (2/ 149). (¬7) انظر الأم (2/ 149). (¬8) ما بين المعقوفتين سقط في الأصل استدركناه من الأم (2/ 149).

طواف الزيارة رمل واضطبع في طواف الزيارة. ذكره أصحابنا من غير خلاف لأنه يحتاج إلى الرمل والاضطباع في السعي، والسعي تابع للطواف، فلا يكون التابع أكمل، فيفعل في الطواف أيضًا. فرع آخر إذا طاف للقدوم وسعى خلفه وترك الرّمل والاضطباع فيهما، فإنه إذا طاف طواف الزيارة لا يسعى عقيبه بل يكفي ما تقدم، وهل يرمل في هذا الطواف ويضطبع قال أبو حامد: يرمل فيه ويضطبع لأنه لم يأتِ به في موضعهِ فيقضيهِ الآن، ولو لم يفعل ذلك فاتته سنة الرمل والاضطباع. وقال القاضي الطبري: هذا عندي غير صحيح لأن كلام الشافعي في "الأم": يقتضي أنه إنما يستحبّ له الرمل والاضطباع في الطواف الذي يسعى بعده على ما ذكرنا وههنا لا يسعى بعد هذا الطواف لأن هذا القائل، قال: إذا لم يأتِ به في موضعه قضاه، والرّمل لا يقضي لأنه هيئة، ولو كان يقضي لكان الأولى أن يقضي في الأربعة من ذلك الطواف، فإن قيل: [108/ب] فأنت تقول: إذا لم يسع بعد طواف القدوم رمل في طواف الزيارة، وهذا قضاء، قلت: هذا ليس بقضاء وإنما السنّة أن يرمل في الطواف الذي يسعى بعده سواء كان في طواف القدوم أو طواف الزيارة، وقد ذكرت فيه نص الشافعي، فبطل ما قاله هذا القائل، وقيل: فيه وجهان. فرع آخر ليس (¬1) على النساء رمل ولا اضطباع لأن معناه لا يوجد فيهن، ولأن ذلك يقدح في سترهن. مسألة: قالَ (¬2): وإن ترك الرمل في الثلاث لم يقضِ في الأربع. أراد به أن المشي في الأربع الأخيرة سنّة، كما أن الرمل في الثلاث الأولى سنّة، فليس له قضاء ما فاته من سنة الثلاث الأولى بترك السنّة في الأربع الأخيرة، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: يقضي. فرع لو ترك الرمل في الأول أتى به في الثاني، ولو ترك في الثاني، أتى به في الثالث، ولو ترك الاضطباع في بعض السبع اضطبع في باقيه، ولو كان مرتديًا بقميص أو سراويل اضطبع به، وإن كان مؤتزرًا بادي المنكبين، ولا ثوب غيره اضطبع بأي أمكن. فرع آخر روى الشافعي عن مجاهد أنه كره أن يقول: شوط ودور، ولكن ليقل طوف أو طواف، وطوافان، وأطواف. قال الشافعي (¬3): وأكره من ذلك ما كره مجاهد لأنّ الله ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 150). (¬2) انظر الأم (2/ 77). (¬3) انظر الأم (2/ 150).

تعالى قال: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ العَتِيقِ} [الحج: 29]. فرع آخر يكره أن يضع يده على فيه في حال الطواف، وهذا لأنه يكره ذلك في الصلاة. وقد روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطواف حول البيت مثل الصلاة إلا أنكم تتكلمون فيه، فمن تكلم فيه فلا يتكلّمن إلاّ بخير" (¬1). فرع آخر قال الشافعي: كره قوم أن يعد [109/أ] في الطواف، وعندي لا يكره ذلك. وروي الأوزاعي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال بعد الرحمن، وهو معه في الطواف: "لم تعد"، ثم قال: "تدري لما سألتك إنما سألتك لتحفظه". مسألة: قالّ (¬2): وإن ترك الاضطباع والرمل والاستلام فقد أساء، ولا شيء عليه". هذه الأشياء إذا تركها عامدًا، أو ساهيًا بعذر أو بغير عذر لا قضاء عليه ولا جبر، وهكذا لو ترك التقبيل والدعاء لأنها هيئات كهيئات الصلاة سواء، ولكنه أساء بذلك إذا تعمد تركه من غير عذر والحجّ ينقسم ثلاثة أقسام أركان وأبعاض وهيئات، فالأركان أربعة: الإحرام، والوقوف، والطواف، والسعي. وإذا قلنا: الحلاق من النسك في أحد القولين، فهو ركن أيضًا، لأنه لا يقوم غيره بمقامه، فإذا ترك أحدًا واحدًا منها لم يجزِ حجّه والأبعاض: الرمي والمبيت بمزدلفة والمبيت بمنى. ليالي منى، فيجب الدم بتركها، وما سوى ذلك هيئات لا شيء في تركها، وحكي عن الحسن والثوري، وعبد الملك الماجشون أن عليه الدم في ترك الرمل والاضبطاع لأنه نسك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من ترك نسكًا فعليه دم"، وهذا غلط لما روي عن ابن عباس، قال: ليس على من ترك الرمل شيء، ولا يقول مثل هذا إلا توفيقًا، ثم قال (¬3): وكلما حاذى الحجر الأسود كبّر، وقد ذكرنا هذا ويقول مع التكبير ما ذكرنا من الدّعاء. مسألة: قالّ (¬4): وقال في رمله: اللهم اجعله حجًا مبرورًا أي: متقبلًا وذنبًا مغفورًا، وسعيًا مشكورًا، أي: مثابًا عليه، ويقول في سعيه في الأربعة الأشواط: ربّ اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعزّ الأكرم ربنا آتنا في [109/ب] الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار. وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك، وذكر الشافعي في موضع بدل قوله، وتجاوز عما تعلم واعف عما تعلم ومعناهما واحد، وقال بعض أصحابنا بخراسان: معنى قوله ويقول في سعيه، أي: بعد الطواف في سعيه بين الصفا والمروة. وقيل: أراد ¬

_ (¬1) أخرجه الترمذي (960)، والنسائي (2922)، والدرامي (2/ 44)، وابن حبان (998)، والحاكم (1/ 459 - 2/ 267)، والطبراني في "الكبير" (11/ 34)، والبيهقي في "الكبرى" (9303). (¬2) انظر الأم (2/ 78). (¬3) انظر الأم (2/ 77). (¬4) انظر الأم (2/ 78).

في سعيه فيهما وهذا أقرب عندي وذاك غلط. فرع قال في "الأم" (¬1): وقوله: ربنا آتنا .... إلى آخره. أحب ما يقال في الطواف إلّي وأحبّ أن يقال في كله. فرع آخر قال: ويدعو فيما بين ذلك، بما أحبّ من أمر دين ودنيا، وأراد أن ما ذكرناه من الدعوات مسنون، فلا يضيق عليه أن يزيد عليه ما أحبّ ما لم يكن مأثمًا ولا تقدير في شيء من الدعوات. وروي القاسم بن محمد عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار لإقامة ذكر الله تعالى" (¬2). فرع آخر قال في "الأم" (¬3): واستحبّ قراءة القرآن في الطواف، والقرآن أفضل ما تكلم به المرء، وهذا يدل على أن قراءة القرآن أفضل في الطواف من الدعاء. قال: ويكفيني أن مجاهد كان يقرأ عليه القرآن في الطواف. وقال مالك: يكره قراءة القرآن في الطواف. وبه قال الحسن وعروة بن الزبير، واحتجّوا بما روي أن ابن عمر سمع رجلًا يقرأ في الطواف، فصك في صدره، وهذا غلط لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الطواف بالبيت صلاة"، وأفضل الذكر في الصلاة القرآن، ولأنه ثبت أنه كان صلى الله عليه وسلم يقول في طوافه: "ربّنا آتنا .... " إلى آخره. ووافقنا فيه مالك. وهذا بعض آية من القرآن. فرع آخر [110/أ] قال في "الحاوي" (¬4): قال أصحابنا: أراد الشافعي، أن قراءة القرآن أفضل من الدعاء الذي لم يسن فيه، فأما الدعاء المسنون فيه، فهو أفضل من قراءة القرآن فيه اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء (¬5) ولأن في الركوع الذكر أفضل من القراءة كذلك ههنا وهذا حسن. فرع آخر يباح فيه الكلام، ولكنه يستحبّ إقلال الكلام. قال الشافعي (¬6) لأني أستحبّ إقلال الكلام في الصحراء والمنازل إلا بذكر الله تعالى لتعود منفعة الذكر إلى الذاكر، أو ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 147). (¬2) أخرجه أبو داود (1888)، وأحمد (6/ 75، 139)، وابن خزيمة (2882، 2970). (¬3) انظر الأم (2/ 147). (¬4) انظر الحاوي للماوردي (4/ 143). (¬5) أخرجه ابن الجوزي في "العلل المتناهية" (1/ 304). (¬6) انظر الأم (2/ 147).

يكون الكلام في شيء من صلاح أمره، فكيف قرب بيت الله تعالى مع عظيم رجاء الثواب فيه من الله تعالى. قال ابن عمر: أقلوا الكلام في الطواف، فإنما أنتم في الصلاة (¬1)، قال أصحابنا: والأفضل أن لا يتكلم أصلًا لما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من طاف سبعًا لم يتكلم فيه، إلا سبحان والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله، كتب له عشر حسنات، ومحى عنه عشر سيئات ورفع له عشر درجات" (¬2). فرع آخر قال: إنشاد الشعر والرجز في الطواف يجوز إذا كان مباحًا، وروي محمد بن السائب عن أمه، قالت: طفت مع عائشة رضي الله عنها، فذكروا حسان في الطواف فسبوه، فقالت عائشة: لا تقولوا: أليس هو الذي يقول: هجَوت محمدًا فأجبت عنه وعند الله في ذلك الجزاء فإن أبى ووالده وعرضي لعرض محمدٍ منكم وقاء فقيل لها: أليس هو الذي قال ما قال في الإفك؟ فقالت: أليس قد تاب؟ ثم قالت [110/ب] عائشة: إني لأرجو له ما قال، ولكنه يستحبّ ترك إنشاد الشعر وإن كان مباحًا أيضًا والكلام أيسر منه. وقال مجاهد: كان النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالبيت وهو متكيئ على أبي أحمد بن جحش وأبو أحمد يقول: حبّذا مكّة من وادي بها أهلي وعوادي بها أمشي بلا هاد قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم كأنه يعجب من قوله: بها أمشي بلا هادي والأولى تركه لما روي إبراهيم بن أبي أوفي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يطوف بالبيت ويرتجز بهذا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قل الله أكبر، الله أكبر". فرع آخر قال: الأكل والشرب فيه مكروه والشرب أخف حالًا، قال ابن عباس: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب ماء في الطواف (¬3)، وكان ابن عباس يشرب الماء فيه. وقال في "الإملاء": لا بأس بشرب الماء فيه والأحسن في الأدب أن يتركه. فرع آخر يكره أن يبصق في الطواف أو يتنخم أو يغتاب ولا تفتد به. ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9294)، وفي "معرفة السنن" (2954). (¬2) أخرجه ابن ماجه (2957)، والبيهقي في "الكبرى" (9429). (¬3) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9297)، وفي "معرفة السنن" (2960).

فرع آخر الكمال في الطواف أن يطوف خارج البيت وراء الحجر دون زمزم والخطيم، وإن طاف في المسجد وراء زمزم وسقاية العباس دون الجدار يجوز، ولكن الأول أكمل هيئة لأنه ليس بينه وبين البيت حائل، وإن كان بينه وبين الكعبة حائل يجوز إذا لم يخرج من المسجد كما لو صلى في المسجد بصلاة الإمام، وبينهما حائل يجوز وإن خرج عن المسجد وطاف لم يجز لأنه لو جاز ذلك لجاز إذا خرج من مكّة وطاف حولها. فرع آخر لو طافَ على سطح المسجد الحرام يجوز لأنه معلوم أن سقف المسجد اليوم دون سقف الكعبة، فكان طائفًا بالبيت حتى لو علا سقف المسجد لا يجوز بخلاف الصلاة لأن المقصود في الصلاة جهة بنائها، فإذا علا عليه لم يكن طائفًا ضمن بنائها فلم يجز. فرع آخر يكره أن يقال: حجّة الوداع لأن الحجّ طاعة فيكره أن يعتقد أن يودعها ولا يعود إليه ويكره أن يسمى المحرم صفر لأن العرب كانت في الجاهلية تحرم القتال سنةً في المحرم وسنة في صفر، في السنة التي لا يحرمونه في المحرم يسمون المحرم صفر. مسألة: قالَ (¬1): ولا يجزاء الطواف إلا بما يجزاء به الصلاة من الطهارة. الفصل الطهارة من الحدث والتنجس شرط في جواز الطواف حتى قال في "الأم" (¬2): ولو طاف وفي نعله نجاسة لم يعتد بما طاف، وكذلك ستر العورة وطهارة المكان شرط فيه. وبه قال مالك وأحمد في رواية، وقال أبو حنيفة: إنها ليست بشرط، واختلف أصحابه في وجوبها فكحي عن ابن شجاع أنها سنّة. وقال غيره: إنها واجبة، فإذا طاف بغير طهارة تلزمه إعادته ما دام بمكة، فإن خرج منها وكان محدثًا تلزمه شاة، وإن كان جنبًا تلزمه بدنة، وحكي عن أحمد أنه قال: إن أقام بمكة أعاد فإن رجع إلى أهله جبره بدم، وهذا غلط لما ذكرنا من الخبر، ولأنه عبادة متعلقة بالبيت، وكانت من شرطها الطهارة، كالصلاة، فإذا تقرّر هذا، فإن كان بمكّة تطهّر وطاف، وإن عاد إلى بلده لم يحل حتى يعود ويطوف، ولا يفتقر الطواف إلى نية جديدة في ظاهر المذهب لأن نية الحجّ تأتي عليه كما يأتي على الوقوف وقيل: فيه وجهان، لأنه عبادة تفتقر إلى النية. مسألة: قالَ (¬3): وإن أحدث فيه توضأ وابتدأ. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 78). (¬2) انظر الأم (2/ 78). (¬3) انظر الأم (2/ 153).

الفصل إذا رعف أو قاء في أثناء الطواف. قال في "الأم" (¬1): انصرف فغسل الدم عنه، ثم رجع وبنى، وكذلك إن غلبة الحدث انصرف، فتوضأ ورجع وبنى، وأحبّ إلّي [111/ب] في هذا كله لو استأنف فأجاز البناء، واستحبّ الاستئناف. وقال أصحابنا وإن تعمد الحدث، فكذلك، لأن مذهبه في الجديد إن سبق الحدث وعمده سواء في بطلان الصلاة، فذلك حكمهما سواء ههنا. وقال القاضي أبو حامد في "الجامع": قال الشافعي في "القديم": إذا قطع الطواف لغير عذر فزايل موضعه، وهو في المسجد استأنف قياسًا على الصلاة، فإذا أمره بالاستئناف إذا قصد قطعه وزايل المطاف، وهو في المسجد قياسًا على الصلاة، فلأن يبطله الحدث العمد بذلك أولى فعلى هذا يجب أن يكون في الحدث العمد قولان. أحدهما: يبطله ويلزمه استئنافه على قياس قوله في "القديم". والثاني: لا يبطله، والمستحبّ أن يستأنفه فإن بني عليه أجزأه، ولا فرق بين أن يتطاول الفصل أو لم يتطاول، ومن أصحابنا من قال في حدث العمد: يستأنف قولًا واحدًا، وفي السبق قولان، والقول الجديد في الكلّ إنه لا يبطل به الطواف، وإن طال الفصل. وقال أبو حامد: إن سبقه الحدث، وقلنا: لا تبطل الصلاة به. لا يبطل الطواف به، وإن طال الفصل، وإن تعمد، فإن لم يطل الفصل بني وإن طال الفصل هل يبطل الطواف؟ قولان، قال في "القديم" يبطل ووجهه أنه يتعلق بالبيت، فيبطله التفريق الكثير كالصلاة. وقال في "الحديد": لا يبطل لأنه لا يبطله التفريق اليسير، فلا يبطله التفريق الكثير بخلاف الصلاة، وقيل: إذا طال الفصل لا فرق بين أن يتعمد الحدث أو يسبقه. فرع قال في "الأم" (¬2): واختار إن قطع الطائف الطواف فتطاول رجوعه أن يستأنف، ذلك احتياط ولو طاف اليوم وغدًا أجزأ عنه وظاهر ما قال في "القديم": أنه يلزمه الاستئناف، فالمسالة على قولين: وقال أحمد: الموالاة فيه شرط [112/أ] فإن فرق وطال الفصل استأنف. فرع آخر إذا أحدث في الطواف وقلنا: يبنى على أحد القولين لو كان ذلك في بعض طوفته قبل انتهائه إلى الحجر الأسود فيه وجهان: أحدهما: يستأنفها ولا يبني لأن لكلّ طوفة حكم نفسها، والطوفة الواحدة يجوز تبعيضها. والثاني: وهو الأصح. يبني على ما مضى لأنه لا فرق بين الطوفة والأطواف. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 153). (¬2) انظر الأم (2/ 153).

وهكذا الحكم لو قطع الطواف لحاجة في بعض الشوطة لا للحدث. فرع آخر إذا لم يجز التفريق الكثير فيه، فاحتاج إلى قطع الطواف لصلاة الجماعة هل يبني إذا عاد أم يستأنف؟ وجهان ذكره القفال، وهذا غير صحيح لأن النصّ أنه يبني فلا معنى للوجهين. فرع آخر قال في "الأم" (¬1): إذا كان في طواف الفرض، فأقيمت الصلاة يخرج ويصلي ويعود إلى طوافه، لأن الطواف لا يفوت بخلاف الصلاة، وأما إذا أراد الخروج لصلاة الجنازة أو للوتر أو لركعتي الفجر يكره لأنه نفل أو فرض على الكفاية والطواف فرض على الأعيان، فلا يترك بذلك. فرع آخر قال: وأحبّ أن لا يدخل في سعيه وطوافه صلاة جنازة إلا أن يكون في المسعى فتتقدم جنازة في سمته، فصلى عليها من غير أن ينحرف ليكون ذلك أخفّ حالًا. فرع آخر لو طاف بالكعبة واضعًا يده على الكعبة. قال بعض أصحابنا بخراسان: هل يجوز ذلك؟، قولان، كما لو حاذى الكعبة ببعض بدنه في الصلاة أو الحجر في الطواف، وهذا لأنه إذا وضع يده يكون بعض بدنه في البيت. فرع آخر قال في "الأم" (¬2): لو أغمى عليه في الطواف ثم أفاق ابتداء الوضوء والطواف قريبًا كان أو بعيدًا، فجعل الإغماء قطعًا للطواف، وفرق بينه وبين الحدث، وهذا صحيح، وعلى ظاهره محمول. والفرق أن [112/ب] تكليفه يزول بالإغماء فزال به حكم البناء بخلاف الحدث. فرع آخر لو أحرم بالعمرة من الميقات، وفرغ من أعمالها وتحلّل ثم أحرم بالحجّ وفرغ من أعماله وتحلّل منه، ثم ذكر أنه طاف أحد الطوافين بلا طهارة، وأشكل عليه فعليه أن يطوف ويسعى، وعليه دم شاة وأجزاه عن الحجّ والعمرة، لأنه يجوز أن يكون محدثًا في طواف الحجّ، فإن كان محدثًا في طواف العمرة لم يعتد بطوافه ولا بسعيه، وعليه دم الحلاقة، وقد صار قارنًا لإدخال الحجّ على العمرة تحلله منه، وعليه دم للقران وطوافه في الحجّ يجزئه عنهما لأن القارن يجزئه طواف واحد وسعي واحد فعلى هذا التنزيل يلزمه دمان للحلاق والقران، ولا يلزمه طواف ولا سعي وأجزأه الحجّ والعمرة، وإن كان محدثًا في طواف الحجّ فقد أكمل العمرة، ثم أحرم بعدها بالحجّ فصار ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 145). (¬2) انظر الأم (2/ 151).

متمتعًا، فعليه دم التمتع، وقد طاف وسعى على غير طهارة، فلا يعدّ طوافه وسعيه وعليه أن يطوف ويسعى، فعلى هذا التنزيل يلزمه دم لتمتعه وطواف وسعي ويجزئه الحجّ والعمرة، فعلى هذين التنزيلين يلزمه طواف وسعي ليصح أداؤه لفرض النسكين يقينًا أجزأه الحجّ والعمرة معًا وعليه دم واحد يقينًا لأنه لا يخلو من أن يكون قارنًا أو متمتعًا، وأمّا دم الحلاق، فلا يلزمه لأنه مشكوك في وجوبه. فإن قيل: أوجبتم عليه الطواف والسعي مع الشكّ في وجوبها، فما الفرق؟ قلنا: الفرق أنها من أركان الحجّ، فإذا شكّ الإتيان كما لو شكّ في الصلاة في بعض أركانها ودم الحلاق من النسك ومن شكّ فيه كان كمن شك في صلاته هل تكلم أم لا؟ فلا سجود عليه. فرع آخر لو أحرم بالعمرة وتحلّل منها ووطئ بعدها، ثم أحرم بالحجّ وتحلّل منه ثم تيقن أنه كان محدثًا، إما في العمرة أو في الحجّ، فإن [113/أ] قلنا: وطء الجاهل لا يفسده، فكأنه لم يطأ وحكم هذه المسألة ما سبق، وإذا قلنا: يفسده فعليه طواف وسعي، وهل يجب عليه دم معهما؟ فيه وجهان، وإنما كان كذلك لأنه يجوز أن يكون محدثًا في طواف العمرة: فلم يعتد بطوافه وسعيه فيها، ولزمه دم لحلقه لأنه حلق لم يتحلل به، ثم وطئ وهو باقٍ على إحرامه بالعمرة وأفسد عمرته ولزمه قضاؤها وبدنة لإفسادها ثم أحرم بعده بالحجّ وطاف وسعى فيه، وقد اختلف أصحابنا فيمن أدخل حجًا على عمرة فاسدة هل يصير قارنًا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يصير قارنًا ويكون إحرامه بالحجّ باطلًا لكن طوافه وسعيه في الحجّ نائبًا عن طوافه وسعيه في العمرة، وقد تحلّل منها. والثاني: يصير قارنًا، فعلى هذا طوافه وسعيه في الحجّ يجزئه عن العمرة والحجّ، ويلزمه قضاء العمرة، وهل يلزمه قضاء الحج؟ فعلى هذا التنزيل قد لزمه قضاء العمرة وقضاء الحجّ على أحد الوجهين وبدنة للوطء ودم للحلق ودم القران في أحد الوجهين، فهذا حكمه إن كان محدثًا في طواف العمرة، وقد يجوز أن يكون محدثًا في طواف الحجّ فعلى هذا قد سلمت العمرة ووطئ قبل إحرامه بالحجّ، ثم طاف في الحجّ محدثًا فلم يعتدّ بطوافه وسعيه، فعلى هذا يصير متمتعًا، فعليه أن يطوف ويسعى وعليه دم لتمتعه، فعلى هذين التنزيلين يجب عليه طواف وسعي ليكون متحلّلًا من إحرامه بيقين وهل عليه دم أم لا؟ فيه وجهان، فإن قلنا: يصير قارنًا بإدخال الحجّ على عمرة فاسدة، فعليه دم لأنه يتردد بين أن يكون قارنًا، فيلزمه دم، وبين أن [113/ب] يكون متمتعًا، فيلزمه دم، فكان وجوب الدم عليه يقينًا من هذا الوجه، وإن قلنا: لا يكون قارنًا بإدخال الحجّ على عمرة فاسدة، فلا دم عليه لأنه تردد بين أن يكون متمتعًا، فيلزمه دم، وبين أن يكون معتمرًا فلا يلزمه دم الدم لا يجب بالنسك. وقيل: وجه واحد يلزمه دم شاة، لأن وجوبه بيقين لأن الطهارة إن كانت متروكة من العمرة فدم الحلق واجب وإن كانت متروكة من الحجّ فدم المتعة واجب، فأمّا قضاء

الحجّ والعمرة ووجوب كفارة الوطء فلا تجب بحال، لأنه قد تردد بين أن لا يجب وبين أن يجب وبالشك لا تجب وأما إجزاء الحج والعمرة عن فرض الإسلام، فالعمرة لا تجزئ ويجب قضاؤها لأنها تردد بين أن يكون عارية عن الفساد وبين أن تكون فاسدة، فلا يسقط فرضها بالشكّ، وإن لم تكن العمرة واجبة عليها. قال بعض أصحابنا: لا يلزمه قضاؤها للشكّ في سبب القضاء، وقال أكثرهم: يجب قضاؤها للشكّ في إحرامها، وأما الحجّ، فيه وجهان مبنيان على اختلاف الوجهين هل يكون قارنًا أم لا؟ ثم على اختلاف الوجهين فإذا صار قارنًا هل يلزمه قضاء الحجّ أم لا؟، فإن قلنا: لا يكون قارنًا لم يجزه فرض الحجّ لأنه يتردد بين أن يكون قد أحرم بالحجّ أم لا، وإن قلنا: يكون قارنًا، فإن قلنا: إن من أدخل الحج على عمرة فاسدة يلزمه قضاء الحجّ والعمرة لم تصحّ حجّة الإسلام لأنه تردد بين أن يكون حجّ حجًا صحيحًا وبين أن يكون قد حجّ حجًا فاسدًا، فلذلك لم يجز، وإن قلنا: إن من أدخل الحجّ على عمرة فاسدة لم يلزمه قضاء الحجّ أجزأه ذلك عن حجّة الإسلام، لأنه تردد بين أن يكون قارنًا فيصحْ حجّه وبين أن يكون متمتعًا فيصحّ حجّه أيضًا، فيكون فرض الحجّ على هذا الوجه ساقطًا بيقين. مسألة: قالَ (¬1): وإن طاف فسلك الحجر أو على جدار الحجر، أو على شاذروان الكعبة وفي نسخه أو على شذروان الكعبة لم يعتد به. أراد بالحجر موضعًا شبه الخطيرة على يسار البيت [114/أ] الحرام مما يلي الشام بين الركنين الشاميي والعراقي حظر حوله بجدار قصير، وقيل: إنه قدر ستة أذرع من الحجر كان من جملة البيت، فأخرج منها لقصر البقعة بهم. قال الشافعي: سمعت عددًا من أهل العلم من قريش يذكرون، أن من الكعبة في الحجر نحو ستة أذرع. وقال عددًا من أهل العلم من قريش يذكرون، أن من الكعبة في الحجر نحو ستة أذرع. وقال أبو حامد: ست أذرع أو سبع أذرع. والصحيح ما ذكرنا بلا إشكال، وأما جدار الحجر هو الجدار القصير الذي حظر به حوله، وأما شذروان الكعبة. قال المزني هو تأزير البيت. قال أبو حامد: لا يفهم معناه بل هو أساس البيت العالي عن وجه الأرض لأنه وضع على قواعد إبراهيم عليه السلام، فلما علا عن وجه الأرض بقدر شبر اقتصر بحائط الكعبة عن كل الأساس، وترك بعض الأساس خارجًا عن الحائط على عادة الأبنية فهو الذي يسمى شاذروان الكعبة ولا يعجز الرجل عن أن يصعده، فيمشي عليه، والدليل على هذا ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "ألم تري أن قومك حين بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم"، فقلت: يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ فقال: لولا حدثان قومك بالكفر لرددتها على ما كانت عليه، وروي: "ولبنيتها على قواعد إبراهيم وألصقها بالأرض ولجعلت له بابين بابًا شرقيًا يدخل الناس منه وبابًا غربيًا يخرج الناس منه". وروت أنها قالت: يا رسول الله وما دعاهم إلى إخراج بعض البيت إلى الحجر؟ فقال: قصرت بهم النفقة، قالت: فلم رفعوا الكعبة عن الأرض؟ قال: ليأذنوا من شاءوا ويمنعوا من شاءوا"، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 78).

"قصرت بهم النفقة" ليس أن مال قريش لم يسع لبناء البيت أو يخلو به، ولكن كانت للكعبة أموال من النذور والهدايا، فقالوا: لا ننفق في البيت [114/ب] من أموالنا التي جرى فيها الربا، وإنمّا ننفق من مال البيت، فلهذا قصر المال عن ذلك وقيل: ما فضل من حجارة البناء وضعوه في جوف الكعبة، فلذلك ارتفعت عن وجه الأرض. وروي أن البيت هدم قبل البعث بعشر سنين ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن ثلاثين سنة فلما بنوه تنازع بنو عبد مناف بن هاشم بن عبد المطلب وعبد شمس ونوفل في وضع الحجر الأسود في موضعه، وقال كل واحد منهم: نحن نضعه وكاد يقع بينهما قتال فتواضعوا على أن يرضوا بحكم أول من يدخل من باب بني شيبة، فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يسمونه في الجاهلية محمد الأمين فلما رأوه قالوا: محمد الأمين أتاكم من لا يميل فحكموه فحكم بأن يبسط رداء ويوضع الحجر عليه، ثم يأخذ كبير كل رهط بطرف منه حتى يحملوه إلى موضعه، فبسط رداءه ووضع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجر بيده عليه، فأخذوا بأطراف الثوب، فوضعه في موضعه بيده وكان بناؤهم على الصورة التي هو عليها اليوم، وقبل ذلك كان لاصقًا بالأرض ذا بابين شرقي وغربي، فلما خرج ابن الزبير بمكة هدم البيت وبناه كما كان قديمًا، وكما قال صلى الله عليه وسلم: "لولا حدثناهم بالكفر لفعلت ذلك"، فلما ظهر عليه الحجاج وقتله هدم البيت بالمنجنيق، وبني هذه البينة التي هو عليها اليوم، فلما ولّى هارون الرشيد هم بأن يهدمه ويبنيه كما بناه ابن الزبير، فقال له مالك بن أنس: لا تفعل هذا، فإن الملوك يتنافسون بعدك بناءه، فلا يزال بيت الله مهدومًا، فتركه فهو اليوم على بناء الحجاج وقدر شبرًا أو شبرين شاذروان البيت فإذا ثبت هذا، قال الشافعي في "الأم" (¬1): كمال الطواف أن يطوف [115 أ/] من وراء الحجر، فإن طاف وسلك الحجر أو على جداره، أو على شاذروان الكعبة كان في حكم من لم يطف، وهذا لأنه طاف في البيت لا بالبيت. وقال تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ} [الحج: 29] الآية. وقال أصحابنا: إذا سلك الحجر فإن طوافه من الحجر إلى الحجر معتد به وما سلكه في الحجر وباقي الطواف إلى أن جاء إلى الحجر الأسود لم يعتّد به لأنه إذا لم يعتدّ بما قبله لا يجوز أن يعتدّ به لأن الترتيب مستحقّ فيه. وقوله: فسلك الحجر وهو تعميم الحجر بهذا الحكم، وليس كذلك لأن ما وراء ست أذرع ليس من الكعبة، فلو تسلق الطائف جدار الحجر في الذراع السابعة أو الثامنة، وخرج من الجانب الثاني كذلك، ولم تدخل الذراع السادسة يصحّ طوافه بالبيت، ولو سلك الحجر من أحد بابيه إلى الآخر تحت الميزاب لم يجز لأن ذلك الموضع من البيت، وقالت عائشة رضي الله عنها: كنت أحب أن أدخل البيت فأصلي فيه، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، فأدخلني الحجر. وقال: صلي في الحجر إن أردت دخول البيت، فإنما هو قطعة من البيت (¬2)، ولكن قومك استقصروه حين بنوا الكعبة، فأخرجوه من البيت، وكذلك لو كان يمشي ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 150). (¬2) أخرجه أحمد [6/ 96، وأبو داود (2028)، والترمذي (876).

وبعض بدنه فوق الشاذروان لم يجز وهذا المرتفع عن وجه الأرض شبه الدكان عند الحجر الأسود غير ظاهر، فيحتمل أن هناك من الأساس خارج البيت ما في موضع آخرن ولكن رفع لئلا يشقّ على الناس استلام الركن. قال القفال: فيدع قدر الشاذروان، فلا يمشي فيه. وقال: شيخنا ناصر رحمه الله أنا شاهدته ويشبه أنه ليس قرب الحجر من الشاذروان وعليه دم، وهذا على أصله شيء لأن الشاذروان ظاهر عند الركن اليماني، ثم يقل ويتداخل تحت الجدار حتى إذا كان بقرب الحجر لا يبقي منه شيء [115/ب] وجعل الشاذروان هناك تحت الجدار والركن فيه الحجر جعل أكثر خروجًا ليكثر الناس من الاستلام، وهكذا شاهدته أيضًا. وقال أبو حنيفة: يحسب طوافه إذا سلك الحجر أو مشى على الشاذروان، وعليه دم، وهذا على أصله أن أكثر الطواف يقوم مقام الكل ويجبر بدم وعندنا لا يعفو عن خطوة، وأقل من ذلك وبقولنا: قال مالك وأحمد، وهذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم طاف حول البيت سبعًا، وقال: "خذوا عني مناسككم". مسألة: قالَ (¬1): وإن نكس الطواف لم يجزه بحال. إذا طاف فترك البيت عن يمينه فقد نكس الطواف، ولا يعتدّ بما طاف بالبيت منكوسًا والترتيب فيه شرط، وهو أن يجعل البيت عن يساره ويطوف عن يمين نفسه. وبه قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة: إذا طاف منكوسًا فقد أساء وإن كان بمكة يلزمه الإعادة، وإن فارقها يجزئه، وعليه دم واحتج بانه أتى بالطواف، وإنما ترك هيئة من هيئاته، فأشبه إذا ترك الرّمل، وهذا غلط لأن النبي صلى الله عليه وسلم ترك البيت في طوافه عن جانب اليسار، وقال: "خذوا عني مناسككم"، ولأن هذه عبادة بالبيت فكان الترتيب فيها شرط كالصلاة. فرع لو طاف وجعل ظهره إلى البيت لا نص فيه ولكن قال أصحابنا: يجزئه، لأنه حصل الطواف بالبيت والترتيب. فرع آخر لو مشي في الطواف متقهقرًا إلى خلف بأن جعل يمينه نحو البيت ومشى إلى خلف من جانب الركنين الشاميين، فقد أساء ويجزئه لأن دورانه موافق لما ورد به الشرع، ولكن مشيه بخلاف العادة. فرع آخر قال في "الأم" (¬2): وأكثر ما طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم [116/أ] ماشيًا بالبيت وبالصفا والمروة فأحبّ ذلك إلا من علّة وإن طاف راكبًا من غير علة فلا إعادة عليه ولا فدية، ولأنه إذا طاف راكبًا ربما لوّث المركوب المسجد ويؤذي الناس، فكان المشي أولى، وقال مالك وأبو ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 78). (¬2) انظر الأم (2/ 148).

حنيفة: إن طاف راكبًا لعذر فلا شيء عليه، وإن كان لغير عذر يكره رجلًا كان أو امرأة وعليه دم، وحكي ذلك عن أحمد، وهذا غلط لما روى جابر قال: طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على راحلته بالبيت وبالصفا والمروة ليراه الناس وليشرف عليهم ليسألوه، فإن الناس كانوا غشوة وصحف في المسائل، وقال: فإن الناس كانوا عشرة آلاف، وما ذكرته في صحيح مسلم رحمه الله (¬1)، فإن قيل: روى ابن عباس أن الني صلى الله عليه وسلم طاف راكبًا لشكاية به (¬2). قلنا: في خبرنا ما يدلّ على خلافه. وقيل: ما روى ابن عباس كان في طواف القدوم. وما روى جابر كان في طواف الإفاضة، وهذا لا يصحّ لأنه لم يكن راكبًا في طواف القدوم على ما بينا وأما عند العذر. رأت أم سلمة أنها قدمت مكة مريضة، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «طوفي وراء الناس وأنت راكبة» (¬3). فَرْعٌ آخرُ لو طاف وشكّ في عدد ما طاف بنى على اليقين كما في الصلاة وفرع عليه في «الإملاء»، فقال: إذا اعتقد أنه طاف سبعًا، فأخبره شاهدان أنه طاف خمسًا أو ستًا أحب أن يرجع إلى قولهما، ويكمل الطواف لأن الزيادة في الطواف لا تبطله، ويفارق الصلاة لأن الزيادة فيها تبطلها، فإن لم يفعل وبنى على يقين نفسه جاز لأن الطواف فعله، فالمرجع فيه إلى اعتقاده دون اختيار غيره. فَرْعٌ آخرُ المكّي إذا أراد أن يطوف يلزمه، ولا يحتاج إلى الإحرام، فلو أراد أن يطوف عن الغير، فإن كان نذر في وقت بعينه لا يجوز في ذلك الوقت [116/ أ] أن يطوف عن الغير لأن الزمان مستحقّ لفرضه، وإن أراد أن يطوف وقت آخر أو كان زمان النذر غير متعين فيه وجهان: أحدهما: يجوز، لأن الطواف لا يختصّ بزمان مخصوص وإن لم يكن الزمان متعينًا لم يكن فيه حجر فجاز أن ينوب عن الغير، وإن كان عليه فرض والثاني: لا يجوز، وهو الأصحّ، لأن العمرة لا تختصّ بوقت، ومن عليه العمرة لا يعتمر عن الغير فكذا الطواف. فَرْعٌ آخرُ قال: لو طاف، وهو لابس لبسًا محرمًا أو مخيطًا أو مطيبًا أجزأه الطواف لأن تحريم ذلك لا يختص بالطواف إلا أنه يلزمه بذلك فدية. فَرْعٌ آخرُ لو كان عليه طواف الزيارة فطاف بنيّة التطوع انصرف إلى الفرض كالقول في أصل الحجّ. ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (254، 1273). (¬2) أخرجه أحمد (1/ 304)، وأبو داود (1881) بإسناد ضعيف. (¬3) أخرجه البخاري (1619)، ومسلم (258/ 1276).

فَرْعٌ آخرُ لو كان الرجل محرمًا، فطاف بصبي محرم أو كبير محرم فحمله ينوي بذلك أن يقضي عن الكبير أو الصغير طوافًا وعن نفسه لم يجزِ عنهما بخلاف الخبر. وقال في «الأم» (¬1): الطواف طواف المحمول لا طواف الحامل، وعليه الإعادة عن نفسه لأن الحامل كالراحلة، وقال في «الإملاء»: الطواف للحامل دون المحمول لأنا إنما نبدأ أبدًا في الحجّ بالواجب عن العامل، والعمل لم يوجد من المحمول بل وجد من الحامل، وهذا اختيار أبي حامد، وهو الأصحّ. وقال أبو حنيفة: يحصل للحامل الطواف والمحمول كالطائف راكبًا لأنهما حصلا طائفين بالبيت، وهذا غلط لأن الفعل الواحد لا يقع عن اثنين ولا يلزم على هذا إذا حمل غيره في الوقوف لأن هناك لا يعتبر الفعل بل يعتبر الكون في مكان الوقوف، وهما كائنان فيه. وفي الطواف يعتبر الفعل، فإن كان للحامل لا يقع عن غيره، وإن كان للمحمول فالحامل مركوبة، كالبهيمة فلا يقع عن غيره. مَسْألَةٌ: قالَ (¬2): فإذا فرغ صلى ركعتين خلف المقام. إذا فرغ من الطواف [117/ أ] صلّى ركعتين خلف مقام إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما روى جابر، قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكّة دخل المسجد فاستلم الحجر، ثم مضى على يمينه فرمل ثلاثًا، ومشى أربعًا ثم أتى المقام، فقال: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125] فصلّى ركعتين والمقام بينه وبين البيت، ثم أتى البيت بعد الركعتين، فاستلم ثم خرج إلى الصفا (¬3)، وقال: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]. فَرْعٌ السنّة أن يقرأ في الأولى منهما بعد الفاتحة: {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} وفي الثانية: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} لما روي جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعتي الطواف بسورتي الإخلاص، و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}. فَرْعٌ آخرُ السنّة أن يصلّيها خلف المقام، وفي هذا المقام يقف الإمام في جميع الصلوات، فإن لم يكن ففي الحجر تحت الميزاب، فإن لم يكن ففي الحرم، وحيثما صلّى جاز. وقال الثور: لا يجوز فعلهما إلّا خلف المقام لقوله تعالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} [البقرة: 125]، وهذا غلط لأنهما صلاة فلم تختصّ بمكان دون مكان كسائر الصلوات. وروي أن عمر كان يطوف بالبيت ويصلّي ركعتين في البيت. وروي أنه طاف بعد الصبح ثم ركب لأن الشمس لم تطلع، فلما أتى ذا طوى أناخ فصلّى ركعتين (¬4)، ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 178). (¬2) انظر الأم (2/ 79). (¬3) أخرجه مسلم (147/ 1218)، والبيهقي في «الكبرى» (9324)، وفي «معرفة السنن» (2970). (¬4) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (9327).

والآية محمولة على الاستحباب. فَرْعٌ آخرُ هاتان الركعتان هل هما واجبتان أم مسنونتان؟ فيه. قولان: أحدهما: هما مسنونتان وبه قال مالك وأحمد: لأنهما صلاة ذات الركوع وليس لها وقت راتب، فلا تكون واجبة شرعًا كتحية المسجد، وهذا أظهر، والثاني: هما واجبتان. وبه قال أبو حنيفة: لأنهما ركن من أركان الحجّ فوجب أن يكونا من توابعه ما هو واجب كالوقوف. فَرْعٌ آخرُ إذا قلنا: هما واجبتان، ففاتتا يلزمه قضاؤهما ويجوز في الحرم وغيره [117/ ب]. وقد قال الشافعي في موضع: يصلّيهما حيث ذكرهما من حلّ أو حرم، وقول سفيان: إن قضاهما من غير الحرم لم يجزئه، وقال مالك: إن قضاهما في غير موضعهما يلزمه دم، وهذا غلط لأنهما ليستا بأوكد من سائر الصلوات المفروضات، وقضاؤهما يجوز في كل مكان، كذلك هذه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: قال الشافعي: إن لم يصلّ ركعتي الطواف ورجع إلى بيته صلاهما أو أراق دمًا. وقال أصحابنا: الدم مستحبّ لا واجب، وهذا إذا قلنا: إنهما واجبتان، وهو غريب. فَرْعٌ آخرُ القولان إذا كان الطواف فرضًا فإن كان الطواف نفلًا فالركعتان نفل قولًا واحدًا، وهذا كالتشهد إذا كان واجبًا، فالصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم بعده واجبة، وإن كان نفلًا فالصلاة عليه مسنونة، وقال ابن الحداد: في الركعتين قولان، هل هما واجبتان أم مسنونتان؟ وإن كان الطواف نفلًا وهو غلط. فَرْعٌ آخرُ لو أتى بصلاة فريضة عقيب الطواف قامت مقام ركعتي الطواف. روى الشافعي هذا عن ابن عمر في كتابه «القديم»، ولم يذكر مخالفًا، وهذا دليل على أنهما لا يجبان إذ الواجبان لا يتداخلان. فَرْعٌ آخرُ إذا قلنا: إنهما مسنونتان، هل يجوز قاعدًا مع القدرة على القيام فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبًا، ثم نزل وصلى خلف المقام، فلو جاز قاعدًا جاز راكبًا. والثاني: يجوز لأنهما تابعتان للطواف، ويجوز أن يطوف راكبًا مع القدرة، فهذا أولى وهذا عندي أصحّ، والأول ضعيف ذكره في «الحاوي» (¬1)، وقيل: إذا قلنا: إنهما واجبتان، هل يجوز قاعدًا؟ وجهان، وليس بشيء. ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (4/ 154).

فَرْعٌ آخرُ يختار أن يدعو عقيبهما [118/ أ] لما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم عمد إلى مقام إبراهيم فصلّى خلفه ركعتين، ثم قال: «اللهم هذا بلدك ومسجدك الحرام وبيتك الحرام، أنا عبدك ابن أمتك أتيتك بذنوب كثيرة وخطايا جمّة وأعمال سيئة وهذا مقام العائذ بك من النار فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم إنك دعوت عبادك إلى بيتك الحرام وقد جئت طالبًا رحمتك مبتغيًا مرضاتك وأنت مننت عليّ بذلك فاغفر لي وارحمني، إنك على كلّ شيء قدير». مَسْألَةٌ: قالَ (¬1): ثم يعود إلى الركن، فيستلمه. الفَصْلُ إذا فرغ الطائف من الركعتين يعود إلى الركن فيستلمه يعني الحجر الأسود حتى يودّع بالاستلام، ثم يخرج، وهذا أن ممن خرج مكّة أمر بأن يجعل آخر عهده بالبيت، ولا يستلم اليماني الآن والدليل عليه ما ذكرنا من الخبر. فَرْعٌ قال في «الحاوي» (¬2): ويستحبّ أن يأتي الملتزم فيدعو عنده. روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما بين الركن والمقام ملتزم من دعا من ذي حاجة أو ذي كربة أو ذي غمّ فرّج عنه بإذن الله» (¬3) ويختار أن يلصق صدره ووجهه بالملتزم وهو ما بين الحجر الأسود والباب في وجه الكعبة وليكن من دعائه ما روى بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اللهم إنك تعلم سرّي وعلانيتي فاقبل معذرتي وتعلم حاجتي، فأعطني سؤالي وتعلم ما عندي فاغفر لي ذنوبي أسألك إيمانًا يباشره قلبي ويقينًا صادقًا حتى أعلم أنه لن يصيبني إلا ما كتبته عليّ وأرضني بقضائك لي» (¬4). وكان سعيد بن جبير يستحبّ أن يدعو في الملتزم بين الحجر والباب: رب اغفر لي ذنوبي وقنّعني بما رزقتني وبارك لي واخلف على كل عاقبة بخير. فَرْعٌ آخرُ وقال أيضًا (¬5): يختار أن يدخل [118/ ب] الحجر ويدعو تحت الميزاب. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما من أحد يدعو عن الميزاب إلا استجيب له» (¬6). وقال الحسن: أقبل عثمان رضي الله عنه ذات يوم، فقال: لأصحابه ألا تسألوني من أين جئت. قالوا: ومن أين جئت يا أمير المؤمنين؟ قال: ما زلت قائمًا على باب الجنة، وكان قائمًا تحت الميزاب يدعو الله عنده. وروي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا حاذى ميزاب الكعبة، وهو ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 79). (¬2) انظر الحاوي للماوردي (4/ 154). (¬3) أخرجه الطبراني كما في «مجمع الزوائد» (3/ 246)، وقال الهيثمي: «فيه عبادة بن كثير الثقفي وهو متروك»، وابن عدي في «الكامل» (4/ 1641). (¬4) أخرجه ابن عساكر في «تهذيب تاريخ دمشق» (2/ 358). (¬5) انظر الحاوي للماوردي (4/ 155). (¬6) انظر إتحاف السادة المتقين (4/ 350).

في الطواف: «اللهم إني أسألك الراحة عند الموت والعفو عند الحساب» (¬1). مَسْألَةٌ: قالَ (¬2): ثم يخرج من باب الصفا فيرقى عليه. الفَصْلُ جملته أن السعي بين الصفا والمروة واجب وهو ركن من أركان الحجّ والعمرة ولا ينوب عنه الدم. وبه قال مالك وإسحاق. وقال أبو حنيفة والثوري وابن سيرين: هو واجب إلا أنه ليس بركن فينوب عنه الدم. وروي ذلك عن ابن مسعود وأبي بن كعب وابن عباس رضي الله عنهم، وروي عنهم لا يجب أصلًا بل هو سنّة، وهو قول أحمد في رواية، وفي رواية أخرى عنه مثل قولنا، وهذا غلط لما روي عن حبيبة بنت أبي تجراة إحدى نساء بني عبد الدار، قالت: دخلت مع نسوة من قريش دار أبي حسين، فنظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسعى بين الصفا والمروة، فرأيته يسعى وإن مئزره ليدور بساقه من شدة سعيه وروي عدوه حتى لأقول إني لأرى ركبتيه، وسمعته يقول: «اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي» (¬3)، واحتجوا بأن الله تعالى قال: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158]، وكلمة لا جناح لا تستعمل في [119/ أ] الأركان، قلنا: رفع الجناح لا ينصرف إلى نفس الفعل، ولكن إلى محلّ الفعل، وذلك أنهم كانوا يعبدون في تلك البقعة الأصنام، فتحرجوا أن يتخذوها متعبدًا لله تعالى قال عروة: قلت لعائشة رضي الله عنها: أرأيت قول الله عز وجلّ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، فما أرى على أحد شيء ألا يطوّف بهما، قالت عائشة: كلا، لو كان كما تقول: كانت، فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، وإنما أنزلت الآية، لأنن مناة كانت حذو قديد وكانوا يتحرجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة، فلما جاء الإسلام سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية (¬4)، ومذهب عائشة أنه فرض كمذهبنا، فإذا تقرر هذا فمن شرط السعي تقدم الطواف عليه ثم فيه وجهان: أحدهما: وبه قال البغداديون: يجوز التراخي بينهما فإن سعى بعد طوافه بشهر أجزأه لأن الموالاة بين أركان الحجّ لا يجب كالوقوف والطواف، وهذا ظاهر المذهب. والثاني: وبه قال البصريون من أصحابنا: لا يجوز التراخي البعيد بينهما، ويجب فعل السعي على الفور، ولو بعد لا يجوز لأن السعي لما افتقر إلى تقدم الطواف عليه ليمتاز عما لغير الله افتقر إلى فعله على الفور ليقع به الامتياز عما لغير الله، لأنه لا يحصل بفعله على التراخي، فإذا تقرّر هذا، فمتى خرج إلى الصفا يستحبّ أن يرقى على الصفا قدر قامة رجل حتى يتراءى له البيت منه ثم يستقبل البيت، فيكبّر فيقول: الله ¬

_ (¬1) انظر إتحاف السادة المتقين (4/ 350). (¬2) انظر الأم (2/ 79). (¬3) أخرجه أحمد (6/ 421، 422)، والحاكم (4/ 70)، والدارقطني (2/ 255)، وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 159). (¬4) أخرجه البخاري (1643)، ومسلم (259/ 1277)، وأبو داود (1901).

أكبر، الله أكبر، الله أكبر ثلاثًا، الله أكبر، ولله الحمد، الله أكبر على ما هدانا، والحمد لله على ما أبلانا وروي أولانا لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، [119/ ب] وله الحمد يحيي ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده، لا إله إلا الله، ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون. وقد روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم يدعو بعده ويلبي إن كان حاجًّا ثم يقول ذلك ثانيًا، ويدعو بعده بما له من أمر دين ودنيا، ثم يقول ذلك ثالثًا، ويدعو بعده حتى يقوله ثلاثًا ويدعو في أثنائه بما سنح له من أمر دين ودنيا، ويختار أن يكون من دعائه ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كان يدعو: اللهم اعصمني بدينك وطواعيتك وطواعية رسولك، اللهم اجعلني ممن يحبّك ويحبّ ملائكتك ورسلك وعبادك الصالحين، اللهم آتني من خير ما تؤتني عبادك الصالحين في الدنيا والآخرة، اللهم يسّرني لليسرى وجنّبني العسرى واغفر لي في الآخرة. والأولى، اللهم أوزعني أن أوفي بعهدك الذي عاهدتني عليه، اللهم اجعلني من أئمة المتقين واجعلني من ورثة جنة النعيم، واغفر لي خطيئتي يوم الدين (¬1). ثم ينزل، وإذا نزل من الصفا يمشي حتى إذا كان دون الميل الأخضر المعلق في ركن المسجد بنحو من ستة أذرع سعى سعيًا شديدًا حتى يحاذي الميلين الأخضرين اللذين بفناء المسجد ودار العباس ثم يمشي حتى يرقى على المروة يريد قدر قامة الرجل كما قلنا على الصفا حتى يبدو له البيت، ثم يصنع عليها كما صنع على الصفا حتى يكمل سبعًا يبدأ بالصفا، ثم يختم بالمروة ويستحبّ فيه شدّة السعي لما ذكرنا من خبر حبيبة [120/ أ] بنت أبي تجراة، وأقلّ ما عليه في ذلك أن يستوفي ما بينهما مشيًا وسعيًا، وإن لم يظهر عليهما، ولا على واحد منهما، ولم يكبّر، ولم يدع ولم يسعَ في المسعى فقد ترك فصلًا ولا إعادة عليه، ولا فدية، ولا بدّ من أن يلصق عقبه بالصفا أصابعه بالمروة، ثم عقبه بالمروة وأصابعه بالصفا. وقال القفال: غير أن درجة واحدة إنما بنيت بين حدي الجبل، فالاحتياط أن يصعد كي يتصل بالجبل، وقال أبو حفص بن الوكيل: لا يصح سعيه بين الصفا والمروة، حتى يصعد على الصفا والمروة بقدر ما يستوفي السعي بينهما، لأنه لا يمكن استيفاء ما بينهما إلا بذلك كما لا يمكنه استيفاء غسل الوجه إلا بغسل جزء من الرأس، وهذا ليس بشيء لما روي عن عثمان رضي الله عنه أنه سعى فوقف في حوض في أسفل الصفا، ولم يظهر عليه، والمهاجرون والأنصار متوازرون ولم ينكر منهم منكر (¬2)، ولأنه يمكن استفاء ذلك بما ذكرنا من إلصاق العقب وأطراف الأصابع. قال الشافعي: والموضع الذي مشى فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم والموضوع الذي رمل فيه معروف، ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في «الكبرى» (9346). (¬2) أخرجه الشافعي في «الأم» (2/ 178).

ولم يكن الموضع على هذه الصفة التي هو عليها اليوم، بل كان ضيقًا فوسع وجعل الأميال علامة على موضع الرمل وموضع المشي، وإنما رمل في هذا الموضع لأنه كان يشرف على الناس بحذاء السور فكان يرمل ليظهر الجلادة، فإذا غاب عنه مشى على سحية مشيه، وليست هناك اليوم دار تعرف بدار العباس بل تغير الاسم، وقيل: الأصل في السعي هو أن إبراهيم عليه السلام حمل هاجر وابنها إسماعيل عليه السلام إلى مكة. وقال: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] الآية. ثم انصرف ففني [120/ ب] زادها وماؤها، فقامت هاجر تطلب الماء لإسماعيل، فسمعت صيحة عند الصفا فابتدرت نحوها وصعدته، فسمعت مثل ذلك من المروة، فنزلت فلما كانت ببطن الطريق سعت سعيًا شديدًا كراهة أن ترى ولدها في الحال الشديد من العطش، فصعدت المروة، ثم سمعت صوتًا من الصفا، فنزلت نحو الصفا، فلما أكملت السعي سبعًا رأت الطير تنقض على الموضع الذي فيه إسماعيل، فابتدرت نحوه فرأت الماء قد انفجر من موضع عقبه وهو ماء زمزم. فأحاطت عليه بالتراب قال رسول الله صلى الله عليه سولم: «فصار بئرًا ول لم تفعل ذلك لكان عينًا معينًا»، وروى كثير بن جمهان أنه قال: رأيت ابن عمر رضي الله عنه يمشي في المسعى، فقلت له: أتمشي في المسعى بين الصفا والمروة؟ فقال: لئن سعيت لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسعى ولئن مشيت لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي (¬1). فَرْعٌ الترتيب فيه شرط، وهو أن يبدأ بالصفا، فإن بدأ بالمروة لم يعد بما قبل الصفا، ولو طاف سبعًا ههنا لم يجزئه السعي الأول لأنه بدأ بالمروة، ويجوز الثاني فيحصل سبعة، ويبقى السابع، فيبدأ بالصفا ويختم بالمروة، وروى محمد بن شجاع عن أبي حنيفة أنه يجوز ذلك من غير ترتيب، وروي عنه أنه إذا طاف هكذا لا يحصل له ستة، وإذا أكمل سبعة وبدأ بالصفا وختم بالمروة لا يجوز، وهذا غريب لأنه زال التنكيس وحصل الترتيب والعجب من هذا أنه قال: السعي ليس بركن ولو نكس لا يجوز، والطواف ركن ولو نكس جاز، والأصل فيما ذكرنا مما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى الصفا، قال: «نبدأ بما بدأ الله به» (¬2)، فبدأ بالصفا [121/ أ] وقرأ: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: 158]، الآية. وروى أنه قال: «ابدؤوا بما بدأ الله به» (¬3)، وهذا أمر، والأمر على الوجوب. فَرْعٌ آخرُ لو نسي السعي السادس وسعى السابع احتسب بخمسة ولم يحتسب بالسابع، لأن الترتيب في السعي، واجب، فلم يحتسب بالسبع الذي يبدأ فيه بالصفا، ويختم ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1904)، والبيهقي في «الكبرى» (9371). (¬2) أخرجه مسلم (1/ 372)، وأحمد (3/ 394)، وأبو داود (1905)، والترمذي (862)، والنسائي (2961)، وابن ماجة (3074)، وابن حبان (3932). (¬3) أخرجه مسلم (147/ 1218)، والنسائي (3968).

بالمروة، إلا أن يتقدمه السادس الذي يبدأ فيه بالمروة، ويختم بالصفا، فلما نسي السعي لم يحصل الترتيب في السابع، ولزمه أن يسعى السادس يبدأ فيه بالمروة، ويختم بالصفا، ويسعى السابع يختم فيه بالمروة ويبدأ فيه بالصفا، ولو نسي الخامس لم يعتدّ بالسادس وجعل السابع خامسًا وأكمل ذلك سبعًا. فَرْعٌ آخرُ قال: إذا بدأ بالصفا ووصل إلى المروة، جعل له شوط من السعي، فإذا أكمل سبعة كمل سعيه، فيأتي من الصفا إلى المروة أربع مرات ويرجع من المروة إلى الصفا ثلاث مرات، وقال الزيادي من أصحابنا: لو أتى من الصفا إلى المروة سبع مرات، والرجوع من المروة إلى الصفا ليس بمقصود وإنما هو للحصول بالصفا حتى لو كان يدخل مكّة بقرب المروة، ويخرج من مكّة إلى الصفا، ولم يقطع السعي برجوعه إلى الصفا جاز، وهذا غريب بعيد. وحكي أن ابن جرير سئل عن هذه المسألة، فأجاب: بأنه إذا عاد إلى الصفا حصل له سعي واحد واستفتى أبو بكر الصيرفي عن ذلك، فأجاب مثل جواب ابن جرير، فعرض ذلك على أبي إسحاق، فضرب على فتواه، وقال: هذا غلط في المذهب، وإنما اتبع هوى ابن جرير يعني قلّده، فبلغ ذلك أبا بكر الصيرفي، فأقام على تلك الفتوى، وقال: الصحيح هذا فقاسه على الطواف، أنه إنما يحصل له شوط إذا عاد إلى الموضع الذي بدأ منه. كذلك ههنا، وهذا غلط مذهبًا وحجاجًا، أما المذهب، فإن الشافعي قال: ويبدأ بالصفا ويختم بالمروة [121/ ب]، وعلى ما ذكر الصيرفي: يبدأ بالصفا ويختم بالصفا. وأما الطواف حجّة عليه، وذلك أن الطائف يبتدئ من الحجر الأسود بالطواف، فإذا استوفي المشي في محلّ الطواف اعتدّ له بطوفة، ولا يلزمه أن يمشي في الموضع الذي قد مشى فيه كذلك، في السعي إذا استوفي السعي في محلّ السعي وجب أن يعتدّ له بسعي واحدٍ، ولا يلزمه أن يسعى ثانيًا في الموضع الذي كان قد سعى فيه. فَرْعٌ آخرُ لو فرّق سعيه فسعى سبعًا في سبعة أوقات، فإن كان الفصل قريبًا أجزأه، وإن كان بعيدًا، قال بعض أصحابنا: إن كان لعذر بنى وإن كان لغير عذر فيه قولان: كما ذكرنا في الطواف والمذهب أنه يجوز لأن الشافعي قال: لو ترك منه شيء حتى عاد إلى وطنه عاد وأتمّه ولم يستأنف لأنه لا يبطل بالتفريق. وقال بعض أصحابنا: إن قلنا في الطواف يجوز ذلك، فههنا أولى وإن قلنا: هناك لا يجوز، فههنا وجهان، لأن السعي أخفّ لجوازه بغير طهارة. فَرْعٌ آخرُ قال أصحابنا: يستحبّ أن يقول في سعيه: ربّ اغفر وارحم واعف عمّا تعلم، إنك أنت الأعزّ الأكرم، وهذا لما روت صفية بنت شيبة عن امرأة من بني نوفل أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال ذلك.

فَرْعٌ آخرُ لو ترك شيئًا من السعي، وإن كان ذراعًا، قال الشافعي: لم تحلّ له النساء حتى يكمله، وإن عاد إلى بلده، وإن كان قد سعى مع طواف القدوم أجزأه، وحصل التحلّل بالطواف، وحلّ النساء. وقال أصحابنا: إن ترك ذراعًا من آخره من ناحية المروة عاد وأتى، وإن كان من أوله يأتي بالسعي كله لأنه لا يحتسب بآخره إلا بعد حصول أوله، وإن كان ما تركه من وسط المسعى احتسب [122/ أ] بما ترك عليه، وأعاد ما بعده، ولو ترك ذراعًا من السعي السادس لم يحتسب بالسابع لأنه فعله قبل إكمال السادس، وكان الحكم في السادس على ما ذكرنا. فَرْعٌ آخرُ قال (¬1): وأحبّ إليّ أن يكون طاهرًا في السعي بينهما، وإن كان غير طاهر جنبًا أو على غير وضوء لم يضره وأجزأه، وهذا لأنه نسك لا يتعلق بالبيت، فلا تجب فيه الطهارة كالوقوف. فَرْعٌ آخرُ قال في «القديم»: لو التوى بشيء يسير أجزأه، وإن عدل حتى يفارق الوادي اليوم في زقاق العطارين لم يجزِ. فَرْعٌ آخرُ قال الشافعي (¬2): وإذا كانت المرأة مشهورة بالجمال، فالمستحبّ لها أن تطوف وتسعى ليلًا، فإن طافت نهارًا، سدلت على وجهها سترًا متجافيًا ومشت في موضع السعي. فَرْعٌ آخرُ إذا أقيمت الصلاة، وهو في المسعى يقطع السعي ويصلّي، لأن الصلاة تفوت، فإذا فرغ منها، قال الشافعي (¬3): بنى عليه من حيث قطع، وهذا لأن الموالاة لا تجب، لما روي أن ابن عمر كان يطوف بين الصفا والمروة، فأعجله البول فتنحى ودعا بماء فتوضأ، وأتمّ على ما مضى. مَسْألَةٌ: قالَ (¬4): وإن كان معتمرًا، أو كان معه هدي نحر وحلق، أو قصر. الفَصْلُ إذا كان معتمرًا عمرة مفردة أو عمرة التمتع، فإذا سعى هل يحلّ بأعمال سعيه؟ قولان، بناء على أن الحلاق، هل هو نسك أم إطلاق محظور؟ وفيه قولان: أحدهما: أنه نسك يثاب عليه بمنزلة الرمي ومناسك الحج. وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد، وهذا أظهر لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رحم الله المحلقين»، قيل: ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 178). (¬2) انظر الأم (2/ 178). (¬3) انظر الأم (2/ 178). (¬4) انظر الأم (2/ 80).

يا رسول الله والمقصرين؟، فقال: «رحم الله المحلقين»، قيل: يا رسول الله والمقصرين؟ إلى أن قال في الثالثة، أو الرابعة: «والمقصرين» (¬1). وهذا التفصيل يدلّ على أنه نسك. والثاني: أنه إطلاق محظور كاستباحة اللباس والطيب لأن كل ما كان محرمًا في [122/ ب] الإحرام أبيح له كان إطلاق محظور كاللباس، فإذا قلنا بالقول الأول، فأعمال العمرة أربعة: الإحرام والطواف والسعي والحلاق، ولا ينوب عن الحلاق شيء يوجد فإذا أكمل هذا فقد حلَّ من عمرته، وإذا قلنا: إطلاق محظور فأعمال العمرة ثلاثة: الإحرام والطواف والسعي. فَرْعٌ آخرُ إذا أكمل العمرة وحلّ منها، فإن كان متمتعًا واجدًا للهدي فالوجوب إذا أحرم بالحجّ، هل له إخراجه بعد الفراغ من العمرة قبل الإحرام؟ قد ذكرنا قولين ونص ههنا على جوازه. فَرْعٌ آخرُ يستحبّ له أن يذبحه أو ينحره عند المروة لأنها موضع تحلّله وأي موضع نحر فيه من مكّة أجزأه لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل فجاج مكّة طريق ومنحر» (¬2)، وهذا الذبح ينبغي أن يكون قبل الحلق أو التقصير. فَرْعٌ آخرُ. إذا فرغ من الهدي حلق رأسه أو قصر وهو مخير بينهما على كلا القولين لقوله تعالى: {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] الآية. قد ذكرنا ما قيل فيه إذا لبّد رأسه وعقصه. فَرْعٌ آخرُ الأفضل للرجل حلق جميع الرأس من التقصير لأن الله تعالى بدأ بالحلاق قبل التقصير، ومن شأن العرب البداية بالأهم، ولما ذكرنا من الخبر، ولأن الحلق يستوفي في جميع النسك، والتقصير يأخذ بعض النسك فكان الحلق أولى. فَرْعٌ آخرُ إذا أراد أن يحلق يستحبّ أن يبدأ بشقّه الأيمن، وإن كان على يسار الحالق فيحلقه ثم يحلق ما على الأيسر، وقال أبو حنيفة يبدأ بشقّه الأيسر لأنه على يمين الحالق، فاعتبر يمين الحالق. والشافعي اعتبر يمين المحلوق. وهذا غلط لما روى ابن عباس رضي الله عنهما، قال لما رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة وفرغ من نسكه ناول الحالق شقّه الأيمن، ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1727)، ومسلم (317/ 1301). (¬2) أخرجه أحمد (3/ 326)، وأبو داود (1937)، وابن ماجة (3048)، وابن خزيمة (2787)، والحاكم (1/ 460).

فحلقه فأعطاه أبا طلحة ثم ناوله شقّه الآخر فحلقه ثم قال: "اقسمه بين الناس". فرْعٌ آخرُ [123/أ] قال أصحابنا: في الحلق أربع سنن أن يستقبل القبلة, وأن يبدأ بشقّه الأيمن, وأن يكبّر عند فراغه, وأن يدفن شعره. فرْعٌ آخرُ قال الشافعي (¬1): واستيفاء الحلاق أن يحلق من مقدمة رأسه إلى العظمين المشرفين على القفا, لأن هذا جميع الرأس, فاستحبّ استيفاء ذلك, قال: وسواء حلقه بالحديد, أو نتفه أو قرضًا أو طلاه بالنورة يجزئه لأن القصد إتلاف الشعر فعلى أي وجه حصل ذلك أجزأه. فرْعٌ آخرُ أقل ما يجزئ من الحلق أو التقصير ثلاث شعرات. وقال أبو حنيفة لا يجزئه إلا قدر ربع الرأس, وقال مالك: يجب الكل, أو الأكثر, وهذا خلاف مبنى على قدر مسح الرأس في الوضوء فرْعٌ آخرُ إذا أراد التقصير أخذ من شعره مما علا المشط وكيف ما أخذه بمقراض أو قطعه بيده أو قرضه بسنه أجزأه. فرْعٌ آخرُ لو كان الشعر مسترسلًا عن حد الرأس أجزأه التقصير من أطرافه, وإن لم يحاذ بشرة الرأس. ولا يجزئه أن يمسح عليه في الوضوء نص عليه لأنه قال (¬2): ويأخذ من شعره قدر أنملة, وذلك لا يكون إلا مسترسلًا عن بشرة الرأس, والفرق بينه وبين مسح الرأس في أنه لا يجوز على المسترسل, أنه مأمور بالمسح على الرأس, وهو اسم لما ترأس وعلا, فلا يقع هذا الاسم على المسترسل من الشعر, وههنا مأمور بحلق شعر الرأس, وهذا المسترسل من جملة الشعر. ومن أصحابنا من ذكر وجهًا أنه لا يجوز إلا التقصير في حدّ الرأس, وهو غلط. فرْعٌ آخرُ قال (¬3): وإن كان الرجل أصلع لا شعر على رأسه أو محلوقًا أمرّ الموسى على رأسه استحبابًا, ولا يلزمه ذلك, وقال أبو حنيفة: يلزمه ذلك, وهذا غلط لأنه لو كان إمرار الموسى على الرأس حلقًا, لوجب إذا فعله قبل تحلّله يلزمه الفدية, وإذا لم يكن حلقًا لا يلزمه ذلك. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 179). (¬2) انظر الأم (2/ 179). (¬3) انظر الأم (2/ 179).

فرْعٌ آخرُ (¬1) [123/ب] وأحبّ إليّ لو أخذ من لجيته وشاربه حتى يضع من شعره شيئًا لله تعالى, فإن لم يفعل فلا شيء عليه, لأن النسك إنما هو في الرأس لا في اللحية. قال أصحابنا: وهذا كما لو كان أقطع اليد من فوق المرفق يغسل العضد استحبابًا لئلا يخلو الوضوء من غسل اليد. فرْعٌ آخرُ ليس على النساء حلاق, قال الشافعي (¬2) فتأخذ المرأة من شعرها قدر أنملة وتعم جوانب رأسها كليًا, وهذا لما روى علي وعائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهاهن أن تحلق المرأة رأسها. وقال أيضًا: "ليس على النساء حلاق, ولكن يقصرن" (¬3) , ولا تقطع ذوائبها لأن ذلك يشينها ولكن تشيل الذوائب وتأخذ من تحتها من قصاصها ومن الموضع الذي لا يتبين قبحه. فإن أخذت أقل من ذلك. أو من ناحية من نواحي الرأس ما كان ثلاث شعرات فصاعدًا أجزأ عنهن وعن الرجل. وروى أن بعض أصحابه أمر أن تأخذ المرأة من شعرها قدر أصبع, فأنكرت عائشة. وقالت: هلا أمرهن بالحلق؟! كنا لا نزيد في عهد رسول الله صَلَى الله عليه وسلم على قدر أنملة, وقيل: الأصل في ذلك أن النبي صَلَى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه بالتحلّل عام الحديبية ثقل ذلك عليهم فتاونوا في التحلّل والحلاق فأمرهم ثانيًا وثالثًا, فلم يفعلوا, فدخل على أم سلمة, وقال: ألم ترى إلى قومك: آمرهم بالتحلّل فلا يفعلون؟ فقالت له: اخرج ولا تحدث أمرًا حتى تدعو بحالقك, فتحلق شعرك وبجازرك فينحر هديك, فخرج وفعل فابتدر الناس إلى الحلاق وإلى النحر, حتى كادوا يقتتلون فكان منهم من حلق ومنهم من قصّر, فقال: رحم الله المحلقين, الخبر. وقيل: ما أشارت امرأة بالصواب إلا أم سلمة في هذا الأمر رضي الله عنها. فَرْعٌ آخرُ لو نذر فقال: لله عليّ أن أحلق إذا أدت التحلّل لم يجزئه التقصير لأن الحلق قربة, فيلزم بالنذر ثم بيّن الشافعي أنه لم يبقَ عليه بعد ذلك من [124/أ] العمرة شيء, فقال: وقد فرغ من العمرة يعني بعد الحلق أو التقصير. مَسْألَةٌ: قالَ (¬4): ولا يقطع المعتمر التلبية حتى يفتتح الطواف مستلمًا, أو غير مستلم. إذا ابتدأ المقيم بالطواف قطع التلبية لأنه لا يتحلّل به, فإذا شرع في التحلّل قطع التلبية لأنها إجابة إلى العبادة وشعار الإقامة, وقد بينا معناها والأخذ في التحلّل ينافيها, وحكي أصحابنا عن مالك, أنه إذا أحرم بها من الميقات قطع التلبية حين يرى البيت, وهذا غلط لما روى ابن ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 179). (¬2) انظر الأم (2/ 179). (¬3) أخرجه أبو داود (1985) , والدرامي (2/ 64) , والدارقطني (2/ 271) , والطبراني في "الكبير" (12/ 250). (¬4) انظر الأم (2/ 80).

عباس أن النبي صَلَى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث ولم يزل يلبّي في كلها حتى استلم الحجر (¬1) , وروى نحو هذا عن ابن عباس وقوله: مستلمًا, أو غير مستلم, أي: ليس الاستلام شرط في حصول الشروع من الطواف, ولعل بعض أهل العلم يشترطه, فلذلك جمع الشافعي بينهما, ثم قال الشافعي: وليس على النساء حلق, وقد ذكرناه. مَسْألَةٌ: قالَ (¬2): وإن كان حاجّاً أو قارنًا أجزأه طواف واحد لحجّته وعمرته. الفَصْلُ أراد بالحاجّ المفرد وبالقارن الجامع بين الحجّ والعمرة, وقد ذكرنا أعمال العمرة, وأعمال الحجّ من الأركان أربعة: الإحرام والوقوف والطواف والسعي, وما عداها ليس بأركان فمن أفرد الحجّ والعمرة يأتي بأفعال كل واحد منهما على الكمال, ولا يجوز الإخلال بشيء منها, وإن قرن بينهما يسقط ترتيب العمرة, ويدخل في ترتيب الحجّ فيأتي من الأفعال مثل ما يأتي به المفرد إحرام واحد ويجزئه عن الحجّ والعمرة معًا ويعنى به طواف الفرض يكفيه واحد وموضعه بعد الوقوف, فإن طاف قبله فذلك طواف القدوم, وبه قال ابن عباس [124/ب] وابن عمر وجابر والحسن وعطاء وطاوس ومجاهد وربيعة ومالك وإسحاق وأحمد في رواية رضي الله عنهم, وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا تدخل أعمال العمرة في أعمال الحجّ فيلزمه أن يأتى بطوافين وسعيين, فيطوف ويسعى بعد الوقوف للحجّ. وبه قال ابن مسعود والشعبي والثوري, ثم قال أبو حنيفة: فإن لم يطف حتى وقف بعرفة صار رافضاً لعمرته, وليه شاة وقضاء العمرة, وهكذا قال في القارنة تحيض قبل الطواف, وقد دنا وقت الوقوف, تقف وتصير رافضة للعمرة, وعليه اقضاء والشاة, وعندنا رفض العمرة لا يكون بحال, واحتجّوا بما روى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي رضي الله عنه أنه جمع بين الحجّ والعمرة, وطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين, وقال: هكذا رأيت رسول الله صَلَى الله عليه وسلم يفعل (¬3). واحتجّ في الرفض بما روي أن النبيّ صَلَى الله عليه وسلم قال لعائشة: "ارفضي عمرتك وانفضي رأسك, وامتشطي وأهلّي بالحجّ", وهذا لأنها كانت حاضت فلم يمكنها الطواف وهذا غلط, لما روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيّ صَلَى الله عليه وسلم قال: "من أحرم بحجّ وعمرة أجزأه لهما طواف واحد وسعي واحد, لا يحلّ من واحد منهما حتى يحلّ منهما" (¬4). وأمّا خبر على رواه جعفر بن أبي داود وهو ضعيف ثم نحمله على الاستحباب, ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1817) , والبيهقي فى "الكبرى" (9409) (¬2) أخرجه البيهقي فى "الكبرى" (9413) (¬3) أخرجه البيهقي فى "الكبري" (9427). (¬4) أخرجه الترمذي (948) , وابن ماجه (2975) , والدارقطني (2/ 257).

وأما الرفض فلا يصحّ لأن هذه العبادة لا ترتفض بفعل محظوراتها ولا بقوله: رفضتها فكيف ترفض بفعل عبادة أخرى فيها, وامّا خبر عائشة, قلنا: أراد لا تشتغلي بأفعالها, لا أنها تخرج من إحرامها بدليل أنه ليس لها لخروج مها بقولها, والخبر يقتضي الرفض قبل الوقوف, ثم بيّن الشافعي ما يختصّ به القارن من المفرد, فقال: غير أن على القارن [125/أ] الهدى لقرانه أي: يجب عليه ذلك, بخلاف المفرد, وقد ذكرنا ذلك, ثم قال: ويقيم على إحرامه حتى يتمم حجّه مع إمامه يريد به الفرق بين المتمتع الذي يتحلّل من العمرة فيحلّ له كل شيء ما لم يحرم بالحجّ, وبين القارن الذي يقيم على إحرامه حتى يحلّ يوم النحر ولا يتحلّل من العمرة حتى يتحلّل من الحجّ الذي قرنه بها لخبر ابن عمر ولا يحلّ من واحدٍ منهما حتى يحلّ منهما, وأما قوله: حتى يتمّ حجّه مع إمامه ذكره على وجه الاستحباب, لأنه يستحبّ للمحرم أن لا يسبق إمامه في الأفعال بل يكون فراغه معه فإن تقدم عليه جاز. مَسْألَةٌ: قالَ (¬1) ويخطب الإمام يوم السابع من ذي الحجّة بعد الظهر بمكّة. الفَصْلُ اعلم أن في الحجّ أربع خطب يخطبها إمام الحاجّ, ذكرها الشافعي واحدة بعد واحدة على الترتيب ووصل بكل واحدة منها ما يترتب عليها من المناسك, فأولها ما ذكرها هنا وقد ذكرنا أن من دخل مكّة مفردًا أو قارنًا أو متمتعًا يطوف طواف القدوم ويسعى ثم إن كان مفردًا أقام على إحرامه إلى أن يقف, وكذلك إن كان متمتعًا يأتى بأفعال العمرة ثم يتحلّل ويقيم بمكّة إلى وقت خروجه إلى عرفة ثم يحرم من جوف مكّة بالحج ويخرج إلى عرفة, فيخطب الإمام اليوم السابع بمكّة بعد الظهر خطبة واحدة في المسجد الحراج, فإنه أولى المواضع, وذلك قبل يوم التروية بيوم ويأمرهم في الخطبة بالغدو من الغد إلى منى ليوافوا الظهر, ويعلمهم ما يفعلون إلى عرفات. لما روى موسى بن عقبة عن أبيه أنه قال: خطب رسول الله صَلَى الله عليه وسلم اليوم السابع بمكّة بعد الظهر وعلمهم المناسك, ويستحبّ إن كان الإمام من أهل مكّة أن يحرم [125/ب] اليوم السابع, ويخطب محرمًا قال الشافعي: فإن كان عالمًا فقيهًا لا يتعرض لذلك لأنه ربما سئل فلا يعرف, فيكون فيه شين وقباحة, ولا ينبغي للإمام أن يكون إلا بمنزلة من إذا سئل أجاب ثم إذا خطب هكذا يقيمون بمكّة اليوم السابع ويبيتون بها ليلة الثامن ويصلّون الصلاة بها, فإذا كان اليوم الثامن, وهو يوم التروية, قال الشافعي: غدوا إلى منى, وقال في موضع آخر: راحوا إلى منى والكل قريب, وعلى كل حال يصلّون بمنى خمس صلوات: الظهر والعصر والمغرب والعشاء من يوم التروية ويبيت بها ويصلّي الصبح بها من يوم عرفة ويقيم بها حتى تطلع الشمس والسنّة الرواح لأن النبيّ صَلَى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالرواح إلى منى. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 81)

وروى جابر أن رسول الله صَلَى الله عليه وسلم أتى منى فصلّى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح, ثم مكث قليلًا حتى طلعت الشمس, ثم سار, وقال في "الحاوى" (¬1): الإمام في غد يوم التروية, يطوف بالبيت توديعًا له ويصلّي ركعتين فإذا زالت الشمس خرج إلى منى ولم يصلّ الظهر بمكّة, فإذا حصل بمنى صلّى بها الظهر وغيرها, واستحبّ أن يكون صلاته بمنى بمسجد الخيف عند الأحجار التي بين يدي المنارة, فإنها مصلّى رسول الله صَلَى الله عليه وسلم, ويقال له: مسجد العيشومة وذلك أن فيه عيشومة خضراء في الجدب والخصب بين حجرتين من لقبلة وتلك العيشومة قديمة لم تزل هناك ويختار له ان ينزل الخيف الأيمن من منى بين الأخشبين, وهذا كله هيئة فإن تركه فلا شيء عليه. قال أصحابنا: المبيت بمنى في هذه الليلة للاستراحة ويجري مجرى الهيئة دون النسك المقصود. وقال الشافعي (¬2): لو ترك المرور بمنى, فلا شيء عليه, وكذلك [126/أ] إن مرّ بها, وترك المبيت, فإذا طلعت الشمس يوم عرفة على ثبير وذلك أول بزوغها سار إلى نمرة, وهى وادي عرفة فنزل بها إلى زوال الشمس, فإذا زالت الشمس صار إلى المسجد للصلاة وليس وادي عرفة ولا نمرة, ولا المسجد وتلك الأسواق من عرفة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: صدر هذا المسجد من عرنة لا يجوز الوقوف فيه ومؤخرة من عرفات, فإن وقف في قاصية المسجد أجزأه حجّه, وقيل: موضع المحراب والصف الأول من عرنة, والباقي من عرفة. وقد قال الشافعى في "القديم": وعرفة ما بين الجبل المشرف على بطن عرنة إلى الجبال القابلة يمينًا وشمالً, وقال في "المختصر الأوسط" (¬3): وعرفة ما جاوز وادي عرنة وليس وادي عرنة, ولا المسجد من عرفة, فإذا أجزت بطن عرنة، فهو من عفة إلى الجبال العالية على عرفة كلها مما يلي حوائط بنى عامر وطريق الحصن, وما جاوز ذلك فليس من عرفة والحدّ الأول أصحّ. وهذا لما روى جابر رضي الله عنه قال: صلّى رسول الله صَلَى الله عليه وسلم الصبح بمنى ثم لما طلعت الشمس أمر بقبة له حمراء من شعر حتى ضربت له بنمرة وسار في أول بزوغ الشمس, فلم تشكُّ قريش أنه يقف على المشعر الحرام كما كانت الجاهلية تفعله في أيامها حتى رأوا قبته بنمرة, فلما أتى نمرة أقام بها إلى أن زالت الشمس، ثم سار منها إلى المسجد الذي بعرنة قرب الموقف وصلّى الظهر والعصر هناك بأذان وإقامتين, ولهذا قلنا: إذا اجتاز بالمشعر الحرام لا يقف عليه, ولا يدعو بخلاف ما يفعل عند رجوعه من الموقف, فإذا تقرّر هذا وأتى المسجد بعد زوال الشمس ابتدأ فخطب خطبة يعلم الناس الوقوف ووقته ووقت الدفع من مزدلفة, وما يصنع فيها [126/ب] , فإذا فرغ من الخطبة الأولى جلس جلسة خفيفة قدر قراءة, {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ثم يأخذ في الخطبة الثانية, وابتدأ المؤذنون بالأذان, ويكون فراغهم من الأذان مع فراغ الإمام من الخطبة والنزول ثم أقام المؤذن, فيصلّي الظهر ثم يقيم للعصر فيصلّي العصر ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للمارودي (4/ 167). (¬2) انظر الأم (2/ 179). (¬3) انظر الأم (2/ 179).

فتكون صلاة الظهر بأذان وإقامة والعصر بإقامة من غير أذان, ولا يقتصر في الخطبة بعرفة على خطبة واحدة كما في اليوم السابع, بل يخطب خطبتين كما في الجمعة. وقال أبو حنيفة: يؤذن المؤذنون, قبل الخطبتين لتكون خطبتاه بعد الأذان كخطبة الجمعة. وحكي عنه أنه قال: لا يقيم للعصر, وقال مالك: يؤذن لكل واحدةٍ منهما, ويقيم, وقال أحمد: يقيم لهما ولا يؤذن, وهذا كله غلط لما ذكرنا من خبر جابر, وقال ابن عمر رضي الله عنه جمع رسول الله صَلَى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين. وقال بعض أصحابنا: في كلام الشافعي رضي الله عنه في هذا الموضع دلالة على أن الخطيب إذا فرغ من الخطبة الثانية ينبغى أن ينزل من المنبر، ثم يكون افتتاح الإقامة بعد نزوله على خلاف ما جرت به العادة اليوم في المساجد, فلعل هذه الحادثة إنما استحدثت لارتفاع درجات المنابر المستحدثة فإنها أعلى وأرفع, وأكثر درجات من درجات منبر رسول لله صَلَى الله عليه وسلم, وذكر الشافعي رضي الله عنه إذا جلس الإمام أخذ المؤذنون في الأذان, ثم قال في الإقامة, ويقيم المؤذن, ولم يقل ويقيم المؤذنون, وفي هذا دلالتان اثنتان: إحداهما: أن الإقامة لمؤذن واحد والأذان يجوز أن يكون بعدد بين المؤذنين. والثانية: أن المؤذنين إذا ضاق بهم الوقت [127/أ] , جاز لهم المراسلة بالأذان, وإذا كان الوقت واسعًا, ولم يكن لهم عذر المبادرة إلى دعاء يوم عرفة, فالمستحبّ أن يؤذنوا واحداً بعد واحد متعاقبين غير متراسلين. فرْعُ ينبغي أن يخطب قائمًا ولا يقعد إلّا بعذر, وينبغي أن يخطب بعرفة على منبر أو على مكان عالٍ ليكون أبلغ في الأسماع, وإذا صعد المنبر جلس قبل أن يبتدئ بالخطبة, وليس مع هذه الجلسة أذان كما في الجمع. وقال بعض أصحابنا: جلس بقدر أذان, وروى هذا الجلوس في خبر جابر ويخفف الخطبة الأولى ولا يطولها. قال سالم بن عبد الله للحجاج: إن كنت تريد أن تصيب السنة فاقصر الخطبة وعجل من الخطب لا يتولاها غيره إلا أن يعرض له عذر, فيستخلف كما في الصلاة لأن النبيّ صَلَى الله عليه وسلم باشر هذا بنفسه. وقال بعض أصحابنا: ويضرب للإمام الآن خباء أو قبة اقتداء برسول الله صَلَى الله عيه وسلم. فرْعٌ آخرُ اعلم أنه روى عن حارثة بن وهب الخزاعي رضي الله عنه قال: صليت مع رسول الله صَلَى الله عليه وسلم بمنى آمن ما كان الناس وأكثره ركعتين في حجّة الوداع (¬1). وروى عن عبد الرحمن بن يزيد رضي الله عنه, قال: صلّى بنا عثمان رضي الله عنه بمنى أربعاً, فقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: صليت مع النبيّ صَلَى الله عليه وسلم بمنى ركعتين ومع أبي بكر ومع ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1083) , ومسلم (21/ 696).

عمر ركعتين ومع عثمان رضي الله عنهم صدرًا من إمارتين ركعتين, ثم أتمها ثم تفرقت بكم الطرق (¬1). وروى أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه صلّى أربعًا, فقال: الخلاف شرّ. قال الشافعي رضي الله عنه: إذا كان الإمام مكّيًا [127/ب] ,لا يجوز له القصر فيتم, ومن خلفه من المسافرين والمقيمين يتمّون أيضًا, وإن كان الإمام مسافرًا قصر, ومن خلفه من المسافرين وأما من خلفه من المقيمين يتمّونها أربعا, وبهذا قال عطاء ومجاهد الزهري والثوري وأبو حنيفة وأحمد, وقال مالك والاوزعي وإسحاق وسيفان بن عيينة وعبد الرحمن بن مهدي رضي الله عنهم: لا بأس لأهل مكّة أن يقصروا الصلاة بمنى. وروى عنهم رضي الله عنهم أنهم قالوا: إذا قصر الإمام قصر جميع الناس معه سواء كانوا من أهل مكّة أو غيرهم, واحتجوا بالخبر الذي ذكرنا. وهذا غلط لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صَلَى الله عليه وسلم قال: "يا أهل مكّة لا تقصروا في اقلّ من أربعة برد" (¬2) ولأنها مسافة لا يلحقها المشقّة في قطعها غالبًا فلا يستبيح بها القصر كما لو خرج لمكّي إلى منى. وأما الخبر لا حجّة فيه لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مسافرًا بمنى فصلّى صلاة المسافر, ولم يقل لأهل مكّة: "لا تقتصروا" اقتصارًا على ما تقدّم من البيان السابق. وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه صلّى بهم فقصر ثم لما سلّم التفت فقال: يا أهل مكة أتمّوا فإنا قوم سفر (¬3) , وإما عثمان فقد قيل: إنه كان مسافرًا وأتمّ ليدل على جواز الإتمام خلاف قول أبي حنيفة, وإن كان الاختيار القصر ولهذا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أتمّ الصلاة بعد ذلك واعتذر بقوله: الخلاف شرّ, فلو كان الإتمام لا يجوز لكان الخلاف له خيرًا لا شرًا. وقال إبراهيم النخعى: إنّما صلّى عثمان أربعًا لأنه اتخذها وطنًا, وقال الزبيري: إنما فعل ذلك لأنه اتخذ الأموال بالطائف وأراد أن يقيم بها, وكان ابن عباس يقول: المسافر [128/أ] إذا قدم على أهل أو ما شبه أتمّ الصلاة, وبه قال أحمد. وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه أتمّ الصلاة وقصر بمنى وتأويله عندنا أنه كان في مكّة على نية الإقامة, فأتمّ الصلاة فلما خرج من مكّة نوى السفر, فخرج إلى عرفة نيته السفر ليقضى نسكه وينصرف وإذا كان بهذه الصفة, له القصر عندنا. وقال الوليد بن مسلم: وافيت مكّة وعليها محمد بن إبراهيم, فكتبت إليه أن يقصر الصلاة بمنى وعرفة يقصر, فقام سفيان الثورى وأعاد الصلاة, وقام ابن جريج فأتمّها, ثم دخلت المدينة, فلقيت مالك بن انس, فذكرت ذلك له, فقال: أصاب الأمير وأصاب مالك, ثم دخلت مصر فلقيت الشافعي رضي الله عنه فقال: أخطا الأمير ومالك ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1082) , ومسلم (19/ 695) (¬2) أخرجه الطبراني فى "لكبير" (11/ 97) , والدارقطني (1/ 387). (¬3) أخرجه مالك (1/ 149) , وأبو داود الطيالسي (ص 113) , والبيهقي في " الكبرى" (5404)

وأصاب سفيان وابن جريج, فابن جريج أتمّها لأن عنده يجوز أن يصّلي الفرض خلف من يصلّي النفل وأعاد سفيان لأنه لا يجوز ذلك. فرْعٌ آخرُ قد ذكرنا في كتاب الصلاة ما قيل في كتاب الجمع بين الصلاتين بعرفة, وأن المقيمين بعرفة لا يجوز لهم الجمع أصلًا, وهو ظاهر المذهب, ومن أصحابنا من قال: يجوز الجمع هناك ليتصل له الدعاء بالوقوف بخلاف القصر وعملهم على هذا اليوم. وذكر هذا في "الحاوي" (¬1) ولم يذكر الخلاف عن أحد. فرْعٌ آخرُ قال في "لحاوى" (¬2): يجب على الإمام نية الجمع عند افتتاح الأولى, وفي مأمومين وجهان: أحدهما: عليهم النية أيضًا, وهو الأصح, ويوصي الناس بعضهم بعضًا بها حتى يعرف من يجهل [128/ب]. والثاني: يجوز ذلك لهم بلا نية لاختصاص الموضع بجواز الجمع ولحوق المشقّة في إعلام الكل والرسول صَلَى الله عليه وسلم لم ينادِ فيهم بالجمع, وجمع. فرْعٌ آخرُ وقال: فيه أيضًا (¬3) من جاء وقد فاتته الصلاة مع الإمام يجوز له أن يجمع إذا كان مسافرًا, وهل يجوز إن كان مقيمًا بمكّة؟ قولان بناء على جواز الجمع في السفر القصير, ولا يجوز هذا الجمع إلا بالنية. وقال أبو حنيفة: لا يجمع إلا مع الإمام كالجمعة, لأن لكل واحدة من هاتين الصلاتين وقتًا مؤقتًا, وإنما ردد الشرع بالجمع مع الإمام فقط, وهذا غلط لأنه روي عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه كان إذا فاته الجمع بين الظهر والعصر مع الإمام بعرفة جمع بينهما منفردًا. فرْعٌ آخرُ قال الشافعي: ولا يجهر الإمام بالقراءة فيها لأنها ليست بجمعة. وقال أبو حنيفة: يجهر فيها بالقراءة كالجمعة لتقدم الخطبة, وهذا غلط لأن من نقل حجّ الرسول صَلَى الله عليه وسلم روى أنه أسّر بالقراءة, وقال النبيّ صَلَى الله عليه وسلم: "صلاة النهار عجماء إلّا الجمعة والعيدين" (¬4) فرْعٌ آخرُ قال في "الإملاء": لو اتفق يوم الجمعه يوم التروية فرْالت الشمس, فعليهم الإهلال ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (4/ 169) (¬2) انظر الحاوي للماوردي (4/ 170) (¬3) انظر الحاوي للماوردي (4/ 170) (¬4) انظر: كشف الخفا (2/ 37) , الأسرار المرفوعة (234) , تذكرة الموضوعات (38) , الدرر المنتثرة (102)

والخروج منها إلى منى ليوافق الظهر بها, ولا نأمرهم بالتقاعد للجمعة, وهكذا ذكره الإمام أبو محمد الجوينى في "المنهاج". وقال بعض أصحابنا بالعراق: آمرهم أن يخرجوا قبل طلوع الفجر لأن الفجر إذا طلع لم يجز الخروج إلى السفر وترك الجمعة في أحد القولين. فرْعٌ آخرُ قال الشافعي: ولا يصلّون الجمعة بمنى لا بعرفات إلا أن يحدث قرية مجتمعة البناء يستوطنها أربعون رجلًا. وقال مالك: وافق يوم عرفة في حجّ رسول الله صَلَى الله عليه وسلم يوم الجمعة فلم يصلّ صلاة الجمعة في عرفة, فإن قيل: وما يدريك أنه صَلَى الله عليه وسلم لم يصلّ [129/أ] الجمعة أليس خطب خطبتين, ثم ركع ركعتين؟ قلنا: لو كانت صلاة جمعة لجهر فيها بالقراءة فإنه سنة الجمعة. مَسْألَةٌ: قال (¬1): ثم يركب, فيروح إلى الموقف عند الصخرات. الفَصْلُ إذا فرغ من صلاة العصر توجه إلى المسجد, وهو مسجد إبراهيم عليه السلام إلى عرفة ويقصد الموقف الذي وقف به النبيّ صَلَى الله عليه وسلم وذلك عند الصخرات اتباعًا للنبيّ صَلَى الله عليه وسلم, وهو موضع معروف هناك, والأفضل أن يقف على جبال الرحمة أو بالقرب منها, وإنما ينتقل من موضع الصلاة والمسجد, لما ذكرنا أنه ليس من عرفة, واعلم أن الوقوف ركن من أركان الحجّ لا يدرك الحجّ إلا به, فمن فاته الوقوف في وقته في موضعه فقد فاته الحجّ لما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبيّ صَلَى الله عليه وسلم, قال: "الحجّ عرفة, فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحجّ ومن فاتته عرفة فقد فاته الحجّ" (¬2) وروي في خبر جابر أن النبيّ صَلَى الله عليه وسلم لما صلّى الظهر والعصر ركب ناقته القصواء, وسار إلى عرفة, وسميت ناقته قصوى لما قطع من أذنها, يقال: قصوت الناقة إذا قطعت أذنها, فإذا تقرر هذا, فالكلام في فصلين في مكانه وزمانه. فأما مكانه فقد ذكرنا: ولو وقف في عرفة ساهيًا أو جاهلًا لم يجزه. وقال مالك يجزئه وعليه دم, وحكي انه قال: بطن عرنة كله عرفة, وإذا وقف فيها جاز, وأصحابه ينكرون هذا, وهذا غلط لما روى نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه, أن النبيّ صَلَى الله عليه وسلم قال يوم عرفة "كل عرفة موقف وارتفعوا عن عرنة وكل المزدلفة موقف وارتفعوا عن بطن مسحر, وكل أيام التشريق ذبح, وكل فجاج مكّة منحر" (¬3) , وأراد بفجاج مكّة الحرم كله. وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبيّ صَلَى الله عليه وسلم قال: "من ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 82) (¬2) أخرجه أحمد (4/ 310,309) , وأبو داود (1949) , والترمذي (889) , والنسائي (3044) , وابن ماجه (3015) , وابن حبان (3881) , والحاكم (2/ 278) , والارقطني (2/ 241,240). (¬3) أخرجه ابن حبان (3843) , والطبراني فى "الكبير" (2/ 138) , والبيهقي فى "الكبرى" (19239).

أفاض من عرفة قبل الصبح فقد تم حجه, ومن فاته فلا حجّ له" (¬1) , وحكي [129/ب] سفيان أن قريشًا كانت تسمى الحمس وكانوا لا يخرجون يوم عرفة, من الحرم, ويقفون بنمرة دون عرفة في الحرم، ويقولون: لسنا كسائر الناس, نحن أهل الله فلا نخرج من حرم الله. وكان النبي صَلَى الله عليه وسلم لا يقف مع قريش في الحرم ويخرج مع سائر الناس إلى عرفة, وأنزل الله تعالى في ذلك: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 199] , وفي الناس قولان: أحدهما: أنه أراد إبراهيم عليه السلام, لأنه كان يقف بعرفة. والثاني: أنه رسول الله صَلَى الله عليه وسلم حيث وقف بها وفي تسمية قريش الحمس قولان: أحدهما: لأنهم تحمسوا في دينهم, أي: تشدّدوا. والثاني: أنهم سمّوا الحمس بالكعبة لأنها خمسًا حجرها أبيض يضرب إلى السواد, وأفضل موضع الوقوف ما ذكرنا وحيث ما وقف الناس من عرفة أجزأهم. وقال عليه السلام: " هذه عرفه كلها موقف إلّا وادي عرنة " (¬2). وقال الشافعي: والأفضل أن يقف من الإمام في الموضع الذي يقف فيه. وروى عن يزيد بن شيبان أنه قال: أتانا ابن مربع الأنصاري ونحن بعرفة بعيد عن الإمام, فقال: إني رسول رسول الله صَلَى الله عليه وسلم فقال: يقول لكم: قفوا على مشاعركم, فإنكم على إرث من إرث إبراهيم (¬3) والمشاعر المعالم, وأراد: قفوا بعرفة خارج الحرم, فإن إبراهيم عليه السلام هو الذي جعلها مشعرًا وموقفًا للحاج خلاف قول قريش, حيث قالوا: لا نخرج من الحرم, وسمّوا أنفسهم الحمس فبين صَلَى الله عليه وسلم أن ذلك من قبلهم أحدثوه وأن الذي أورثة إبراهيم من سنته, هو الوقوف بعرفة. فرْعٌ قال في "القديم" و"الإملاء": الأفضل أن يقف راكبًا ويجوز راكبًا ونازلًا. وبه قال أحمد, وقال في "الأوسط" (¬4): الوقوف راكبًا ونازلًا سواء. [130/أ] قال أصحابنا: قوله القديم أصحّ, لأن النبيّ صَلَى الله عليه وسلم وقف راكبًا, ولأن الراكب أقوى على الدعاء, ولهذا أمر الحاجّ ترك الصوم يوم عرفة وقيل تأويل ما قال في "الأوسط": أنه أراد القوي الذي لا يعيى إذا وقف على قدميه ولا يقطعه ذلك عن استكثار الدعاء والاجتهاد فيه. فرْعٌ آخرُ يستحبّ أن يستقبل القبلة في وقوفه ويدعو حتى الليل, ويصنع ذلك الناس مع الإمام, وروي: "أنه صَلَى الله عليه وسلم وقف واستقبل القبلة وجعل بطن ناقته إلى الصخرات" (¬5) وهي ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي فى "الكبرى" (9815). (¬2) أخرجه الترمذي (885) , والطحاوي في "مشكل الآثار" (2/ 73). (29) (¬3) أخرجه أبو داود (1919). (30) (¬4) انظر الأم (2/ 180). (31) (¬5) جزء من حديث جابر الطويل فى مسلم (1218). (32)

جبل الرحة ويجتهد في الدعاء والتضرّع والإكثار منه بقوله صلى الله عليه وسلم: "أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة" (¬1)، وروى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بعرفة ويداه إلى صدره كاستطعام المسكين" (¬2). وروى عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: فيما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع: "اللهم إنك تسمع كلامي وترى مكاني وتعلم سرّي وعلانيتي، ولا يخفي عليك شيء من أمري، أسألك مسألة المسكين وأبتهل إليك ابتهال الذليل، وأدعوك دعاء الخائف الضرير، دعاء من خضعت لك رقبته وفاضت لك عبرته، وذلّ لك جسده ورغم لك أنفه، اللهم لا تجعلني بدعائك شقيًا وكن بي رؤوفًا رحيمًا يا خير المسؤولين ويا خير المعطين". وروي: كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير" (¬3). وسئل سفيان بن عيينة عن دعائه يوم عرفة، فروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أفضل الدعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت [124/أ] أنا، والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله، وحده، لا شريك له"، فقيل له: إن هذا ثناء وليس بدعاء، فقال: أما سمعت قول الشاعر: إذا أثنى عليك المرء خيرًا كفاه ما يعوّضه الثناء يريد به أن الثناء قائم مقام الدعاء، وأنه يعوّض ما يعوّض الدعاء. فَرْعٌ آخرُ ليس معنى الوقوف أن يقف على رجليه بل القاعد والراكب والمضطجع فيه سواء، والمراد به الحصول بعرفة. فَرْعٌ آخرُ قال أصحابنا: يستحبّ أن يكثر من قراءة سورة الحشر في عرفة فقد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ذلك، ذكره في "الحاوي" (¬4). فَرْعٌ آخرُ لو اجتاز بعرفة، وهو لا يعلم أنها عرفة أحزأه نصّ عليه، لأنه وقف، وهو من أهل الوقوف. وقد تقدمت نيّة الحجّ، فأجزاه. وقال أبو حفص بن الوليد وأبو الحسين القطان في "مختصره": فيه وجهان، وفيه نظر. فَرْعٌ آخرُ قال في "المناسك الأوسط" (¬5) ومن لم يدخل عرفة إلا مغمى عليه لم يعقل ساعة ¬

_ (¬1) أخرجه مالك (1/ 422)، والترمذي (3585)، والبيهقي في "الكبرى" (9473). (¬2) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9474). (¬3) أخرجه الطبراني في "الكبير" (11/ 174)، وابن الجوزي في "العلل المتناهية" (2/ 360)، والخطيب في "تاريخه" (6/ 163). (¬4) انظر الحاوي للماوردي (4/ 173). (¬5) انظر الأم (179).

ولا طرفة عين، وهو بعرفة، فقد فاته الحجّ، ولو عقل بعرفة ساعة لم يضره. وقال أصحابنا: لو حصل بعرفة نائمًا صحّ وقوفه بأن سار به الجمل، وهو في محمله نائم، أو نام بعرفة قبل الزوال، ومرّ عليه الوقت وهو نائم. والفرق أن النائم بمنزلة اليقظان، ألا ترى أنه لو نام في جميع نهار الصوم صحّ صومه بخلاف ما لو أغمي عليه في الصوم تمام اليوم، وحكى ابن القطان في النائم وجهًا آخر أنه لا يجوز وقوفه لأنه لم يوجد القصد إلى العبادة [131/أ] وأصل هذا أن كل ركن من أركان الحجّ هل يحتاج إلى نية مفردة؟ فيه طريقان: أحدهما: لا يحتاج إليها كأركان الصلاة. والثاني: يحتاج لأن أركانها تنفصل بعضها عن بعض، وهو ضعيف، ولو حصل بالموقف مجنونًا حتى خرج الوقت فقد فاته الحجّ بلا خلاف. وقال ابن القطان: فيه وجه آخر، وكذلك في المغمى عليه، وليس بشيء وأما زمان الوقوف، فالأفضل أن يقف من الوقت الذي ذكرنا إلى الليل، وهو أن تغرب الشمس حتى يجمع بين النهار وجزء من الليل في الوقوف، وأقل ما يكفيه حتى يكون مدركًا للحجّ أن يدخلها وإن لم يقف، ووقته من وقت زوال الشمس إلى طلوع الفجر من ليلة النحر، فأي وقت ما بين هذين الوقتين أجزأه، وذلك نصف يوم وليلة كاملة. وبه قال أبو حنيفة، وقال مالك: الأولى أن يجمع في الوقوف بين الليل والنهار فإن اقتصر على أحدهما، فالاعتماد على الليل حتى إن وقف بالنهار، لم يجز. وقال أحمد: وقت الوقوف من طلوع الفجر يوم عرفة إلى طلوع الفجر يوم النحر، واحتجّ مالك بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك عرفات بليل فقد أدرك ومن فاتته عرفات بليل فقد فاته الحجّ ومن فاته الحج فليحل بعمرة، وعليه الحجّ من قابل". واحتجّ أحمد بما روي عن عروة بن المضرس الطائي قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة، فقلت: يا رسول الله إني جئت من جبلي طيئ أكللت راحلتي وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حجّ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من شهد صلاتنا هذه ووقف معنا حتى يدفع وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلًا أو نهارًا، فقد تم حجه وقضى ثفته" (¬1) والحبل هو التلّ من التراب، والتلّ إذا كان من حجارة فهو جبل، ومعنى قضى ثفته أي: نسكه وقيل: التفث الأخذ [131/ب] من الشارب وتقليم الظفر والخروج من الإحرام إلى الإحلال. وقال ابن الأعرابي في قوله: {لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} [الحج: 29] أراد قضاء حوائجهم من الحلق والتنظيف. وقوله: "فقد تمّ حجّه"، أي: معظم الحجّ، ولم يفصل بين أن يكون قبل الزوال أو بعده، وهذا غلط، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قصد الموقف نهارًا بعد الزوال، وشرع هكذا إذا انصرف منه ليلًا، فجعل النهار وقتًا للوقوف وجعل الليل وقتًا لترك الوقوف، فعلم أن النهار مقصود، والليل يسع. وأما الخبر الذي احتجّ به مالك، لا يصحّ لأنه ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 15)، وأبو داود (1950)، والترمذي (891)، والنسائي (3039، 3040، 3041) وابن ماجه (3016)، وابن حبان (3840)، والحاكم (1/ 463)، والدارقطني (2/ 239، 240).

إنما خصّ الليل لأن الفوات يتعلق به، ثم يعارض بما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى عرفة قبل ذلك من ليل أو نهار فقد تمّ حجّه". وأما ما احتجّ به أحمد نحمله على ما بعد الزوال بدليل ما ذكرنا ولأنه وقف بعرفة قبل الزوال فلم يجزئه كما لو وقف قبل طلوع الفجر. فَرْعٌ لو اقتصر في الوقوف على الليل دون النهار، فلا دم عليه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان: أحدهما: لا يجوز لأن أشهر الحجّ تسع من ذي الحجّة، وقد مضت حين غربت الشمس، وهذا ليس بشيء، ولو اقتصر على النهار دون الليل فيه قولان. قال في "الإملاء": لا دم عليه ويستحبّ لأنه جزء يتعلق به الإدراك، فلا يلزمه دمّ كما لو وقف جزءًا من الليل. وقال في "القديم" و "الأم": يلزمه دم. وبه قال أبو حنيفة وعطاء والثوري وأحمد لأنه نسك لفعل الرسول صلى الله عليه وسلم. وقال: "خذوا عنّي مناسككم". وقال عليه السلام: "من ترك نسكًا فعليه دم"، ولأنه أخلّ ببعض النسك، ولم يأت به على الوجه المشروع، فيلزمه [132/أ] دمٌ كما لو أحرم دون الميقات، فإن قيل: هلاّ قلتم: إذا وقف ليلًا دون النهار، يلزم الدم أيضًا لهذا المعنى. قلنا: الفرق أن من أدركه نهارًا يمكنه الوقوف نهارًا، فلم يلزمه ذلك، ولم يجب عليه الدم بتركه. وقال الحسن: يلزمه هدي من الإبل ويصحّ حجّه، وهو غلط لما ذكرنا. فَرْعٌ آخرُ إذا قلنا: يلزمه الدم، فلو عاد فوقف ليلًا فلا شيء عليه. نصّ عليه، وقيل: فيه وجهان، وليس بشيء. وقال أبو حنيفة: لا يسقط عنه الدم. وبه قال أحمد، لأن النسك أن تغيب الشمس، وهو واقف فيجمع بين الليل والنهار، فإذا دفع قبل الغروب وجب الدم، فلا يسقط بعده حتى لو رجع نهارًا، وأقام حتى غربت الشمس لا شيء عليه، وهذا غلط، لأنه جمع بين الليل والنهار في الوقوف، فلا دم عليه، كما لو وقف حتى غربت الشمس. فَرْعٌ آخرُ لو غمّ الهلال ليلة ثلاثين من ذي القعدة ووقف الناس اليوم التاسع من ذي الحجّة ثم قامت البينة أنه اليوم العاشر أجزأهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "حجّكم يوم تحجّون" (¬1)، ولأنا لو قلنا بخلافه أدى إلى لحوق المشقّة بالخلق الكثير والجمع الغفير لا نؤمن مثله في القضاء، ولو وقفوا يوم التروية نسيانًا لا يجوز لأنه لا يقع فيه الخطأ غالبًا، ولا يتصور نسيان العدد في ¬

_ (¬1) قال ابن حجر في "التلخيص": لم أجده هكذا. انظر تلخيص الحبير (1503).

الخلق الكثير والعدد القليل لا يعذرون بذلك للتفريط ويؤمن مثله في القضاء. فَرْعٌ آخرُ لو كان في الموقف عدد فيهم قلة خلاف المعهود وتغلطوا ووقفوا يوم العاشر فيه وجهان: أحدهما: تلزم الإعادة لأنه نادر وليس في إيجاب القضاء عليهم مشقة عامة. والثاني: لا يلزم الإعادة لأنهم [132/ب] لا يأمنون الغلط في الإعادة. فَرْعٌ آخرُ قد ذكرنا أنهم لو وقفوا اليوم الثامن بالغلط لا يجوز. وفيه وجه آخر مخرج من الأسير إذا تحرّى فصام قبل رمضان يجوزانه يجوز ههنا أيضًا، وهذا لأنا جعلنا ذلك الصوم أداء إذا كان بعض رمضان والوقوف اليوم العاشر أداء لأنه لا يدخل القضاء فيه، وإذا جعل الزمان بعد الفوات زمان الأداء للعذر جاز أن يجعل الزمان قبل الفوات زمان الأداء للعذر، وهذا المذهب أقرب إلى القياس وصورة الغلط أن يشهد الشهود ليلة الثلاثين من ذي القعدة برؤية الهلال، فاعتقدوا دخول الشهر ثم بين أن الشهود كانوا كفارًا بعد فوات اليوم التاسع. وإذا قلنا بظاهر المذهب، فالفرق بين الغلط في العاشر أو في الثامن من وجهين: أحدهما: إن غلط التأخير لا يمكن الاحتراز منه، لأن وقوعه بوجود الغيم في أول الشهر، وانكشافه بأن يخرج الشهر ناقصًا فيرى الهلال الثمانية وعشرين من حين حسبوا الشهر، فيعلم قطعًا أنهم تركوا يومًا من أول الشهر في الحساب، ووقفوا في اليوم العاشر. وأما خطأ الوقوف اليوم الثامن، وهو يوم التروية، وإما لغلط في الحساب أو الخلل في الشهود والاحتراز منهما ممكن. والثاني: أن العبادة يجوز قضاؤها بعد فوات. وفيها في الجملة يجوز في الحجّ أيضًا قضاء الوقوف على قرب الزمان بنوع عدد، ولا تصحّ العبادة البدنية قبل وقتها، والوقوف يوم التروية قبل الوقت، فلم تحتسب به. فَرْعٌ آخرُ لو شهد شاهدان عشية عرفة برؤية الهلال ولم يبق من النهار والليل ما يمكن الجمع الغفير إتيان عرفة، وقفوا من الغد كما قال الشافعي: إذا شهد [133/أ] شاهدان برؤية الهلال ليلة العيد أو بعد الزوال في زمان لا يمكن اجتماع الناس لصلاة العيد يصلون صلاة العيد من الغد، ويكون أداء لا قضاء. فَرْعٌ آخرُ إذا شهد واحد برؤية هلال ذي الحجّة أو اثنان ورد الحاكم شهادتهما، فإنهما يقفان بعرفة اليوم التاسع على يقين رؤيتهم، وإن وقف الناس اليوم العاشر، وهو كما قلنا: إذا رأى هلال شوال وحده، وردّت شهادته له أن يفطر. وقال محمد: لا يجزئه حتى يقف مع الناس اليوم العاشر، لأن الوقوع لا يكون في يومين. قلنا: لا يمتنع ذلك في حق

شخصين لاختلاف سبب الوجوب في حقّهما كما قلنا في صوم شهر رمضان، وفطر شوال إذا رأى الهلال وحده. فَرْعٌ آخرُ قال والدي الإمام رحمه الله: إذا أحرم الناس بالحجّ في أشهر الحجّ ثمّ بان الخطأ بالاجتهاد في الهلال، وكان خطأ عامًا، هل ينعقد الإحرام بالحجّ؟ فيه وجهان: أحدهما: ينعقد كما لو وقف بعرفة اليوم العاشر جاز، وإن بان الخطأ بالاجتهاد، لأن كل واحد منهما ركن يفوت الحجّ بقواته. والثاني: ينعقد بالعمرة، والفرق أنا إذا فات الوقوف لم يبق حكمه، وقد وجب إسقاطه رأسًا، وههنا لا يؤدي إلى إسقاطه رأسًا، فإنه يصّح عن العمرة فصّح القول ببطلان الإحرام عما قصده لظهور الخطأ في الاجتهاد ثم قال الشافعي: وأحّب للحاجّ ترك صوم يوم عرفة، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. مَسْألَةٌ: قالَ (¬1): وإذا غربت الشَّمس دفع الإمام وعليه السكينة والوقار. الفَضلُ قال في "القديم": إذا غابت الشمس وتبين مغيبها وسقط شعاعها دفع. والسنة أن يسير وعليه السكينة والوقار ما دام الزحام موجود لئلا يضرّ بالناس [133/ب] فإن زال الزحام وخفّ الناس أو وجد فرجه أسرع حتى يأتي المزدلفة، وحدها ما بين مأزمي عرفة وقرن محسر، وليس المأزمان وراء محسر من المزدلفة وقرن محسر، وعن يمينك، وشمالك من تلك البواطن والقوابل، والظواهر والشعاب كلها من مزدلفة نصّ عليه في "الأوسط" (¬2). وقال بعض أصحابنا: قرن محسر ليس منها، وهذا غلط بخلاف النصّ والمستحبّ أن يسلك طريق المأزمين، فإن ترك السكينة، أو سلك غير هذا الطريق فلا شيء عليه، وأول من يدفع من عرفة هو الإمام، والناس له تبع، ولا يستحبّ لأحدٍ أن يسبق الإمام ويعاجله في الإفاضة وفي تسمية مزدلفة تأويلان (¬3): أحدهما: أنهم يقربون فيها من منى والازدلاف: التقريب، ومنه قوله تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء: 90]، أي: قربت. والثاني: أن الناس يجتمعون بها، والازدلاف: الاجتماع. ومنه قوله تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآَخَرِينَ} [الشعراء: 64]، أي: جمعناهم، ولذلك قيل: لمزدلفة جمع، والدليل على ما ذكرنا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: أفاض رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة، وعليه السكينة، ثم أردف الفضل بن العباس، وقال: يا أيها الناس ليس البر بإيجاف الخيل والإبل، فعليكم بالسكينة" (¬4). وقوله: أفاض، أي: صدر راجعًا إلى ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 84). (¬2) انظر الأم (2/ 179، 180). (¬3) انظر الحاوي للماوردي (4/ 175). (¬4) أخرجه أحمد (1/ 277).

منى، وأصل الفيض: السيلان، والإيجاف: الإسراع في السير. وقال عروة رضي الله عنه: سئل أسامة بن زيد وأنا جالس كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في حجّة الوداع حين دفع؟ قال: كان يسير العّنّق، فإذا وجد فجوة نص (¬1). العنق السير الوسيع، والنصّ: أرفع السير، وفي هذا بيان أن السكينة الأمور بها إنما هي من أجل الرفق بالناس لئلا يتصادموا، فإذا لم يكن زحام، وكانت في الموضع سعة سار كيف شاء والإسراع أفضل [134/أ] ليكون أسرع وصولًا إلى المزدلفة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة، فقال: "هذا عرفة وهو الموقف وعرفة كلها موقف"، ثم أفاض حين غربت الشمس وأردف أسامة بن زيد خلفه، وجعل يشير بيده على هينته، ويقول: أيها الناس عليكم بالسكينة ثم أتى جمعًا، فصلى بهم الصلاتين جميعًا، فلما أصبح أتى قزج، ووقف عليه، وقال هذا قزج، وهو الموقف وجمع كلها موقف، ثم أفاض حتى انتهى إلى وادي محسر، فقرع ناقته فحنت حتى جاز الوادي فوقف وأردف الفضل، ثم أتى الجمرة فرماها، ثم أتى المنحر، فقال: هذا المنحر ومنى كلها منحر واستفتته جارية شابة من خثعم، فقالت: إن أبي شيخ كبير، قد أدركته فريضة الله تعالى في الحجّ، أفيجزئ أن أحجّ عنه؟ قال: حجّي عن أبي. قال: ولوى عنق الفضل. فقال العباس: يا رسول الله لو لويت عنق ابن عمك؟ قال: رأيت شابًا وشابة، فلم آمن الشيطان عليهما، وأتاه رجل فقال: يا رسول الله إني أفضت قبل أن أحلق، قال: "احلق أو قصر ولا حرج"، قال جاء آخر فقال: يا رسول الله إني ذبحت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، قال: ثم أتى البيت فطاف به، ثم أتى زمزم، فقال: يا بني عبد المطلب لولا أن تغلبكم الناس لنزعت وروي أنه عليه السلام دفع منها، ولم يكن بين يديه ضربه ولا طرد ولا إليك إليك. مَسْألَةٌ: قالَ (¬2): فإذا أتى المزدلفة جمع مع الإمام المغرب والعشاء بإقامتين. الفَصْلُ السنة أن لا يصلّي المغرب والعشاء حتى يأتي المزدلفة ثم يصلّيهما، فيجمع بينهما بإقامتين ليس معهما أذان، وهذا لأن سن لصلاة الوقت وصلاة المغرب لم تصل في وقتها، فلا يؤذن لها كما لا يؤذن للعصر بعرفة. وبه قال أبو إسحاق، [134/ب] وفيه قول ثانٍ. قاله في "القديم": يجمع بينهما بأذان وإقامتين وهو اختيار أبي حامد. وبه قال أبو حنيفة ومالك، وهذا لما روى جابر: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى المزدلفة فأمر بلالًا، فأذن وأقام وصلّى الصلاة الأولى، ثم أمره، فأقام وصلّى الصلاة الثانية". وهذا الخبر أولى لأنه زائد. وقال سفيان الثوري: يجمعان بإقامة واحدة، لما روى ابن عمر رضي الله عنه، قال: ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1666)، ومسلم (283/ 1286). (¬2) انظر الأم (2/ 284).

صليتهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقامة واحدة (¬1)، وهذا غلط لما ذكرنا. وروي عن أسامة بن زيد أنه قال: دفع رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة حتى إذا كان بالمشعب نزل فبال وتوضأ، ولم يسبغ الوضوء، فقلت له: الصلاة، فقال: الصلاة أمامك، فركب، فلما جاء المزدلفة نزل وتوضأ، وأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة، فصلى المغرب ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله ثم أقيمت العشاء فصلاهما، ولم يصلّ بينهما شيئًا" (¬2)، وظاهره أنه أعيدت الإقامة للعشاء. وأما خبرهم، قلنا: روينا عن ابن عمر أنه جمع بينهما بإقامةٍ لكل صلاة، ولم ينادِ في الأولى، ولم يسبح على أثر واحدةٍ منهما (¬3). فَرْعٌ المستحبّ أن يصلّيهما بالمزدلفة على ما ذكرنا، وقال في "الإملاء" لو خاف فوت النصف الأول من الأولى قبل أن يوافي المزدلفة نزل وصلى أي موضع كان فإنهما قال ذلك لأنه يفوت وقتها المختار. قال: فإذا وافي المزدلفة صلّى قبل حط رجلهِ فينيخ الجمال ويعقلها لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا فعلوا. فَرْعٌ آخرُ لو صلّوا المغرب في الطريق والعشاء الآخرة بالمزدلفة أو جمعوا بينهما في الطريق في وقت المغرب فقد تركوا السنة وأجزأتهم الصلاة، لأن الجمع بينهما إنما جاز لأجل السفر. وبه قال مالك وأحمد [135/أ] وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة ومحمد: لا يجوز أن يصلّي المغرب في وقتها، فإن صلّاها في وقتها أعاد في وقت العشاء، والجمع بينهما واجب لا يجوز تركه لخبر أسامة بن زيد، وهذا غلط لأن كل صلاتين جاز الجمع بينهما جاز فعل كل واحدة منهما في وقتها كالظهر والعصر، وأمّا الخبر فمحمول على الاستحباب لئلا ينقطع سيره. فَرْعٌ آخرُ الأفضل أن يجمع مع الإمام، وله أن يجمع بينهما في رحله، وقال أبو حنيفة: لا يجمع إلا مع الإمام، فإن قال قائل: قال الشافعي: جمع مع الإمام، وهذا يدلّ على أن الشرط أن يجمع مع الإمام، قلنا: قصد الشافعي به بيان الأفضل. فَرْعٌ آخرُ إذا جمع بينهما، قال الشافعي: ولا يسبّح بينهما، أي: لا يتنفل بالصلاة بين المغرب والعشاء، ولا على إثر واحدة منهما ومعناه إذا فرغ منهما فليس على أثرهما نافلة، وقوله: ولا على إثر واحدة منهما نوع تأكيد في المغرب وابتداء بيان في العشاء الآخرة لأن حكم المغرب في النافلة دخل تحت قوله: ولا يسبح بينهما، وهكذا ورد ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (288/ 1286). (¬2) أخرجه البخاري (1669، 1672)، ومسلم (281/ 1280). (¬3) أخرجه البخاري (1673).

الخبر على ما ذكرنا. مَسْألَةٌ: قالَ (¬1): ويبيت بها، فإن لم يبت بها فعليه دم شاة. الفَضلُ إذا فرغ من الصلاة، فالسنة أن يبيت بالمزدلفة حتى يطلع الفجر، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الصلاتين بات حتى أصبح، فإن خرج منها قبل نصف الليل افتدى بشاة. وقال في "الإملاء" أحب أن يريق شاة، فحصل قولان، وهذه أربع مسائل فيها قولان من ترك طواف الوداع، هل يلزمه الدم أم لا؟ ومن دفع من عرفة قبل غروب الشمس، هل يلزمه الدم أم لا؟ ومن ترك المبيت بمزدلفة هل يلزمه الدم أم لا؟ ومن ترك المبيت بمنى هل يلزمه الدمّ أو لا؟ [135/ب] ولذلك لو ترك المزدلفة أصلًا، فلم ينزلها ولم يدخلها، هل يلزمه الدم؟ قولان: أحدهما: يلزمه دم. وبه قال مالك وأحمد في رواية لقوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك نسكًا فعليه دم. والثاني: لا يلزمه شيء لأنه ترك مبيت بمكان، فلا يلزمه به دم كما لو ترك المبيت بمنى ليلة عرفة، وقال علقمة والشعبي والنخعي والأسود الوقوف بمزدلفة ركن لا يتمّ الحجّ إلا به، فمن فاته ذلك، فقد فاته الحجّ وصار إحرامه عمرة (¬2). وبه قال أبو عبد الرحمن الشافعي ومحمد بن إسحاق بن خزيمة، ويحكى عن ابن جرير واحتجّوا بقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198]، والأمر على الوجوب ولخبر عروة بن مضرس الطائي وبقوله صلى الله عليه وسلم: "من ترك المبيت بمزدلفة فلا حجّ له" (¬3). وهذا غلط لقوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك عرفة فقد أدرك الحجّ". وأما ما ذكروا فمحمول على الاستحباب بدليل ما ذكرنا. ولو خرج من مزدلفة في النصف الثاني من الليل، فلا دم عليه لأن المقصود الكون بالمزدلفة في النصف الثاني من الليل، ولهذا نقول إنه إذا جاء من عرفات بعد نصف الليل، وحصل بالمزدلفة ساعة في النصف الأخير لم يلزمه الدم، وآخر وقتها ما دون طلوع الشمس نصّ عليه في "القديم" و "الإملاء" هكذا ذكر في البندنيجي، وقال في "الحاوي" (¬4): لو دفع من عرفة ليلًا وحصل بمزدلفة بعد نصف الليل يلزمه دم لأنه لم يبت بها إلا أقلّ الليل. وهذا غريب، وقال أبو حنيفة: إن دفع منها بعد النصف الأول من غير عذر عامدًا يلزمه دم، وإن غلط في الوقت أو كان له عذر فدفع، فلا شيء عليه. قال: والمأخوذ عليه أن يكون فيها بعد طلوع الفجر، قبل طلوع الشمس، [136/أ] وهذا غلط لما روى هشام بن عروة عن أبيه، قال: دار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمّ ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 84). (¬2) قال ابن حجر: وقال عطاء، والزهري، وقتادة، والشافعي، والكوفيون، وإسحاق، عليه دم، قالوا: ومن بات بها لم يجز له الدفع قبل النصف. وقال مالك: إن مر بها فلم ينزل فعليه دم، وإن نزل فلا دم عليه متى دفع. انظر فتح الباري (3/ 616). (¬3) قال ابن حجر: لم أجده. وقال النووي: ليس بثابت ولا معروف. انظر تلخيص الحبير (1053). (¬4) انظر الحاوي للماوردي (4/ 177، 178).

سلمة يوم النحر فأمرها أن تعجل الإفاضة من جمع حتى تأتي مكّة فصلّى بهذا الصبح، وكان يومها فأحب أن توافيه (¬1) ومعقول أنها لو صبرت بمزدلفة حتى يطلع الفجر، ثم قصدت منى ورمت جمرة العقبة، ثم قصدت مكّة لم تدرك صلاة الصبح في المسجد الحرام كما أمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرفنا أن إفاضتها من مزدلفة كانت ليلًا. وقالت عائشة رضي الله عنها: استأذنت سودة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تفيض من المزدلفة في النصف الأخير من الليل، وكانت امرأة ثبطة، فأذن لها وليتني كنت استأذنته (¬2)، وكان عائشة لا تفيض إلّا مع الإمام. فَرْعٌ السنّة تقديم الضعفة من النساء والولدان من مزدلفة إلى منى (¬3)، قال ابن عباس رضي الله عنهما: كنت فيمن قدم النبي صلى الله عليه وسلم من ضعفة أهله من المزدلفة إلى منى، وروي عنه، أنه قال: قدمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات وجعل يلطخ أفخاذنا، ويقول: يا بني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس (¬4)، وهذا لئلا يصيبهم الحطمة واللطخ: الضرب الخفيف باليد. فَرْعٌ آخرُ لو دفع منها قبل نصف الليل، ثم عاد إليها بعد نصف الليل ووقف لحظة أجزأه ولا دم عليه قولًا واحدًا. مَسْألَةٌ: قالَ (¬5): ويأخذ منها الحصى للرمي. المستحبّ أن يأخذ من مزدلفة بالحصى الذي يرمى به جمرة العقبة يوم النحر وهو سبع حصيات. والمزني أطلق ذلك، وظاهره أنه يأخذ منه جميع الحصى وهو سبعون حصاة [136/ب]، وقد ذكر ابن أبي أحمد في "المفتاح"، وليس على ما أطلق بل بلفظ سبعًا، والشافعي نصّ عليه وإن ل يأخذ من المزدلفة، وأخذ من غيرها أجزاه وكره ذلك، وهذا لأن المنقول أن يبادر إلى الرمي إذا وصل إلى منى، ولا يعرج على أمر آخر إذا جاء وقت الرمي، وقال قوم: يأخذها من المأزمين. وهذا لا يصحّ لأنه صلى الله عليه وسلم أخذها من المزدلفة، قال: ويلقط الحصى، ولا يكسر لئلا يؤذي الكسر غيره، وقال قوم الاختيار أن يكسرها، وهذا غلط لقوله صلى الله عليه وسلم: "التقطوا ولا تنهبوا النوام"، وقد ذكر بعض أصحابنا بخراسان أنه يأخذها من موضع بين عرفة والمزدلفة قريب من مزدلفة، فإن هناك جبالًا في أحجارها رخاوة، فيسهل كسرها، فإن أخذ الكل كيلا يحتاج في ¬

_ (¬1) أخرجه الشافعي في "المسند" (369، 370)، وفي "معرفة السنن" (3040). (¬2) أخرجه البخاري (1680، 1681)، ومسلم (293/ 1290). والثبطة: الثقيلة. (¬3) أخرجه البخاري (1678)، ومسلم (301/ 1293). (¬4) أخرجه أحمد (1/ 234، 277)، والترمذي (893)، وابن ماجه (3025)، والدارقطني (2/ 273)، والطبراني في "الكبير" (11/ 387). (¬5) انظر الأم (2/ 85).

الأيام الأخر إلى تحصيل الحصى جاز، وهذا خلاف النصّ، والدليل على ما ذكرنا ما روي عن ابن عباس أنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم غداة العقبة: "التقط لي سبع حصيات من حصى الخذف"، قال: فلقطتها فلما وضعتها في يده، قال: بمثل هذا فارموا وإياكم والغلو في الدين، فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين" (¬1) وروس نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما. قال: كانوا يتزودون بالحصى كراهية النزول. فَرْعٌ قال الشافعي (¬2): ويكون قدر حصى الحذف، وأراد تكون الحصيان بقدر ما يمكن رميها برؤوس الأصابع، والخذف: ما حخذف به الرجل، وقدر ذلك أصغر من الأنملة طولًا وعرضًا قدر الباقلاء، وبضعها على ظفر سبابته، ويضع بطن إبهامه عليها، ثم يخذف خذفًا، والخذف يكون بالسيف أو بالعصا إذا ضرب به، وقيل: قدر النوى، وهو قريب من الأول. فَرْعٌ آخرُ [137/أ] قال (¬3): ولو رمى بحجر أصغر من ذلك، أو أكبر كرهت ذلك له، ولا إعادة لقوله صلى الله عليه وسلم: "إياكم والغلو في الدين"، يعني الزيادة، ولأنه إذا كان كبيرًا ربما يخرج من نصيبه، وإنما قلنا: الإعادة لما روي أن عمر رضي الله عنه رمى الجمار بمثل البعر. فَرْعٌ آخرُ قال الشافعي (¬4): وفي أيام منى كلها من حيث أخذه أجزأه إلا أني أكرهه من مواضع، أكرهه من المسجد لئلا يخرج حصى المسجد، وأكرهه من الحش لنجاسته ومن كل موضع نجس، وأكرهه من الجمرة لأنه حصى غير متقبل، وأنه قد رمى به مرة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عن الحصى ليسبح في المسجد". مَسْألّةٌ: قالً (¬5): ومن حيث أخذه أجزأه إذا وقع عليه اسم حجر مرمرٍ أو برام أو كذان أو فهر. هذا بيان أن محسر أو فجاج مكة أو من منى فلا حرج بعد أن يتوقى ما ذكرنا. وأما قوله: إذا وقع عليه اسم حجر قصد به الردّ على أهل العراق حيث قالوا: لو رمي بغير الحجر من مدرٍ أو خرق أو كحل يجوز، ولا يجوز بما ليس من جنس الأرض كالذهب والفضة والخشب، ونحو ذلك. وقال داود: يجوز الرمي بكل شيء حتى لو رمى بعصفور ميت أجزأه وعندنا لا يجوز إلا بالأحجار من أي نوع كان على ما ذكر، وبه قال مالك وأحمد، والمرمر: الرخام، وكل حجر أملس لين يقال له: مرمر والبرام: جمع برمة. وهي القدر يعني يتخذ منه ذلك. ¬

_ (¬1) أخرجه النسائي (3057)، وابن ماجه (3029)، وابن حبان (3860)، والحاكم (1/ 466)، والطبراني في "الكبير" (18/ 272، 273). (¬2) انظر الأم (2/ 85). (¬3) انظر الأم (2/ 181). (¬4) انظر الأم (2/ 180). (¬5) انظر الأم (2/ 85).

والكذان: الحجارة الرخوة التي تتفتت ومنه حجارة الرخا. قال في "الأم" (¬1): وصوان. والصوان: حجر صلب إذا وقع على بعضه تقعقع, والصفوان: الأملس, وكذلك الجواهر التي بين حجر كالياقوت والعقيق والفيروزج والزبرجد والبلور يجوز لأنها أحجار, ولا يجوز باللؤلؤ, ولا بقطعة صدف, وهذا [137/ ب] غلط, لما روي في خبر ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "بمثل هذا فارموا ومثل الحجر الحجر", ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الأحجار, وقال: "خذوا عني مناسككم وهذا إرث من إرث إبراهيم عليه السلام", والمعنى في الجمار غير معقول حتى يسوغ فيه القياس إذ لو كان المعنى الكراهة لقامت الجواهر والدنانير مقام الأحجار, ولو كان للمهانة لكان رمي النجاسات ينوب عن رمي الحجر, ولو كان للنكاية لكان رمي السهام أولى. فلما لم يكن معقول المعنى لم يجز سوى ما ورد به الشرع؟ فإن قيل: روي أن سكينة بنت الحسن رمت بست حصيات فأعوزتها السابعة, فرمت بخاتمها, قلنا: لا حجة في فعلها, ثم محتمل أنه كان فصه عقيقًا أو فيروزجًا, فيجوز ذلك عندنا, والمقصود: الفص والفضة تبع. وقيل: ألقت خاتمها إلى سائل كان هناك. مسألةٌ: قال (¬2): وإن رمى بما قد رمى به, مرة كرهته وأجزأ عنه. يكره للإنسان أن يرمي بحجر قد رمى به مرة على ما نصّ عليه. وهذا لما روي أن ما يقبل من الحصيات المرمية ترفعها الملائكة من ذلك الموضع, فلا يبقى هناك إلا ما هو غير متقبل, وأثر ذلك بيّن هناك لأنه لا يرى في ذلك الموضع من الحصيات المرمية إلا القليل, فلولا حقيقة ما ذكرنا لصار في ذلك الموضع أمثال الجبال من كثرة الرمي على مر الدهور. وقال أبو سعيد الخدري: قلنا: أما إنه ما يتقبل منها يرفع وما لا يتقبل يترك, ولولا ذلك لرأيتها مثل الجبال (¬3). وقال ابن عباس رضي الله عنهما: [138/ أ] الرمي قربان فما يقبل يرفع وما لا يقبل يترك (¬4)، فإن خالف ورمى به فإن كان قد رمى به غيره أجزأه, وحكي عن أحمد أنه قال: لا يجزئه. وبه قال طاوس: وإن كان قد رمى هو به, فالمذهب أنه يجوز أيضًا, وقال المزني: لا يجزئه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان, وهو غلط, وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه أخذ الحصى من المرمى, ورمى ولم يفصل, ولأن كل حجر لو رمى به, جاز. فإذا رمى هو به جاز كسائر الأحجار, فإن قيل: أليس لو توضأ بماء لا يجزئه ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 181). (¬2) انظر الأم (2/ 85). (¬3) أخرجه الحاكم (1/ 476) , والدارقطني (2/ 300) , والبيهقي في "الكبرى" (9545). (¬4) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9543) , وفي "معرفة السنن" (4/ 117).

أن يتوضأ به ثانيًا؟ كذلك هاهنا قلنا: الفرق أن الوضوء إنما يجوز بماء طاهر مطهر والمستعمل غير مطهر لأن الاستعمال يسلب التطهير, فلم يجرِ التطهير به. والرمي ينبغي أن يكون بحجر, وقد حصل به ذلك ثانيًا, فجاز ذلك. وقال القفال: ظاهر لفظ "المختصر" يوهم أن لا فصل بين ما رماه هو بنفسه وبين ما رماه غيره. وليس كذلك, وتفصيل المذهب فيه أن يقال: لا بدّ من أن يبتدل فيه الشخص, أو اليوم أو المكان, فإن لم يبتدل من هذه الثلاثة شيء لم يحتسب للرامي, رمي ذلك الحجر, وتفسير ذلك كأن رجلاً رمى النفر بحصاةً إلى الجمرة, ثم أحدها بعينها هذا الرامي بعينه فرماها إلى تلك الجمرة بعينها لم تحتسب له الرمية الثانية, لأن المكان والشخص والحجر واحد, فلو أن هذا الرجل أخذ تلك الحصاة ورماها إلى الجمرة الثانية أجزأه مع الكراهية لأنه أدى واجب رميه به. هذا تبدل المكان ولو أ، رجلاً آخر أخذها, فرماها إلى الجمرة الأولى التي رماها الأول إليها حسب الثاني أيضًا. هذا تبدل الشخص ولو أن الرامي الأول أخذها ورماها في يوم النفر الأول في تلك الجمرة بعينها أجزأه. هذا تبدل اليوم غير تبدل الشخص ولا تبدل المكان. مَسأَلةٌ: قال (¬1) ولو رمى فوقعت حصاة على محمل ثم استنت [138/ ب]. الفَصلُ إذا رمى بحصاة فأصابت إنسانًا أو محملاً أو عنق ثم استنت, أي: رجعت إلى سنن القصد, والسنن: الطريق, فوقعت في موقع الجصى أجزأه بها لما صكت المحمل صكت بعل الرامي, ثم لما ظفرت من المحمل واستنت ووقعت في الجمرة, كان ذلك بفعل الرامي إذ لا ينسب إلى المحمل فعل فجاز, ويفارق هذا إذا أصاب السهم في السبق حجرًا, ثم ازدلف, فأصاب العرض لا يحتسب على أحد القولين, لأن القصد من ذلك, صدق الرامي ولم يصب ذلك بحذفه إذا أصاب الحجر, ثم أصاب العرض, بل يحتمل أنه بإصابة الحجر ذلك, فلا يعتدّ به, وههنا لا يعتبر الحذف, بل يعتبر الحصى في المرمى بفعله, وقد وجد ذلك. فَرْعٌ لو وقعت في ثوب رجل فنفضها, فوقعت في المرمى لم يجز لأنها حصلت في المرمى بفعل الثاني دون الأول, كما لو رمى بسهم إلى صيد, فأخذها مجوسي في الطريق, ورمى به إلى صيد لا يؤكل لأن قتله لم يفعله. وقال أحمد: يجزئه لأن ابتداء الرمي كان من فعله, كما لو أصابت موضعًا صلبًا, ثم وقعت في المرمى. وهذا غلط لما ذكرنا وبفارق ما قاسوا عليه الفعل كله له, فأجزأه بخلاف ههنا. فَرْعٌ آخرْ لو وقعت على عنق بعير فنفضها البعير لم يجز, نضّ عليه في "الأوسط" (¬2). ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 85). (¬2) انظر الأم (2/ 180).

وقال أحمد: يجوز. فَرْعٌ آخرْ لو رمى بها, فأصابت عنق بعير, فتحرك ثم وقعت الجمرة, ولم يعلم, هل وقعت في المرمى بالرمي, أو بتحرك البعير فيه وجهان: أحدهما: لا يجزئه لأن الرمي إلى المرمى واجب عليه, فإذا شكّ هل حصل فيه بفعله, أو فعل غيره فالأصل بقاء وجوبه. والثاني: لا يجوز لأن الفعل الأول متحقق وحدوث الفعل الثاني, بتحريك البعير مشكوك فيه, فلا يسقط المتحقق بالمشكوك. والأول أشبه بما قال في "الأوسط", لأنه أطلق, ولم يفرق [139/ أ]. فَرْعٌ آخرْ لو رمى بحصاة فغابت عنه, ولم يدرِ أين وقعت أعادها حتى يعلم أنها وقعت موقع الحصى. وقال في "القديم": يعتدّ بها, لأن حصولها في الموضع. وقال أبو حامد: فيه قولان, والصحيح أن المسألة على قول واحد لا يجوز, لأن الأصل أن لا رمي, ولعل ما ذكر في "القديم": حكاه عن غيره, وقيل القولان إذا غلب على ظنّه وقوعها في المرمى, ولكنه لم ينتقص. فَرْعٌ آخرْ لو رمى, فوقعت فوق المرمى على موضع عالِ, ثم تدحرجت إليه, فيه وجهان: أحدهما: يجزئه وهو المذهب لأنه لم يحدث فعل عن فعله. الثاني: لا يجزئه, لأنه تدحرجَ لانحدار الموضع وتصويبه دون فعله, وهذا غلط, لأن التدحرج منسوب إلى فعله السابق, وهذا الخلاف لو وقعت دون الجمرة, ثم تدحرجت بنفسها, وانحدرت حتى وقعت في الجمرة. فَرْعٌ آخرْ لو رمى حصاة ثم حصاة, فوقعنا في حالة واحدة فيه وجهان: أحدهما: تحسب حصايان, لأنه لا فرق في الرمي. والثاني: تحسب واحدة, لأن الاحتساب الحصول في المرمى وحصولها في المرمى دفعة واحدة. فَرْعٌ آخر لو رمى, فوقعت حصاته على حصاة أخرى فظفرت الأخرى إلى المرمى من دون التي رماها لم يجز عنه لأنه لم يقصد إلى رميها كما لو رمى بحصاة في الجو, فوقعت في المرمى لم تجز عنه, ويخالف هذا رمي الصيد, فإنه لو رمى إلى الصيد بسهم, فوقع على سهم وظفر السهم الثاني, فأصاب صيدًا حلّ أكله, وكذلك لو رمى في الجو, فأصاب صيدًا حلّ لأن القصد لا يعتبر فيه, ذكره أصحابنا.

فَرْعٌ آخر لو رمى, فوقعت في المرمى ثم استنت منه, فوقعت موضعًا آخر أجزأه, وكذلك لو [139/ ب] ازدلفت بجمرتها وسقطت وراء الجمرة أجزأه, لأن المقصود وقوعها فيه دون استقرارها كما لو أطرأته الريح, وفيه وجه آخر لا يجوز لأنها استقرت بانتهاء الرمي خارج الجمرة. فَرْعٌ آخر لو دفع الحصى برجله وحصل في موضعه لم يجز لأن عليه رمي الحصى فيه, وكذلك لو رماه عن قوس لم يجزئه, وكذلك لو أخذ الحصى ووضعه لم يجز لأنه ما رمى فيه من يده يجوز لأنه رمى. فَرْعٌ آخر الاختيار أن يغسل الحصيات, وكره قوم غسلها, وهذا غلط لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تغسل جمار رسول الله صلى الله عليه وسلم. فَرْعٌ آخر يلزمه أن يقصد الرمي إلى المرمى, فإن رمى حصاة في الهواء, فوقعت في المرمى لم يجزئه لأنه لم يقصد الرمي إلى المرمى. فَرْعٌ آخر لو رمى سبع حصيات دفعة واحدة أجزأته واحدة منها, وقال الأصم: يجزئه ذلك عن الشفع, ويحكى عن أبي حنيفة: هذا إذا نفرت في المرمى, وهذا غلط لأن عدد المرمى معتبر, ولم يحصل ذلك. وقال عطاء: المقصود أعداد التكبير والحصى, فإن رمى دفعة واحدة يجوز إذا كبّر سبعًا, وإلا فلا يجوز. فَرْعٌ آخر لو أخذ من المسجد الحصى, ورمى به جاز مع الكراهة, ولو أخذ حجرًا نجسًا وغسله ورمى به. جاز ولا يكره, ولو شكّ في نجاسته يستحبّ أن يغسله ليكون على يقين من طهارته, وإن رمى به مع علمه بنجاسته جاز مع الكراهة ويفارق الاستحباب حيث لم يجز بحجر نجس مخصوص, وقد حصل ذلك فجاز. مسألة: قال (¬1): فإذا أصبح صلّى الصبح في أول وقتها. اعلم أن الشافعي رضي الله عنه كان في بيان أحكام المزدلفة والمبيت بها, [140/ أ] وأخذ الحصى منها, فلما انتهى إلى حكم الحصى, خاض في مسائل الرمي, فذكر منها ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 86).

جملة, ثم عاد إلى نظم كلامه في أحكام المزدلفة, فقال هذا, واعلم أن المستحبّ تعجيل صلاة الصبح في أول وقتها كل يوم والسنة أن يبالغ في التغليس بصلاة الصبح لما روي عن ابن مسعود. قال: ما صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة قبل وقتها إلا الصبح بجمع (¬1)، وأراد صلّاها قبل وقتها المعتاد. وذلك أن في سائر الأيام يصليها إذا استبان الفجر بجميع الناس. وفي هذا اليوم صلّاها حين استبان الفجر له دون العامة, وروي أنه صلّاها, وقائل يقول: طلع الفجر, وقائل يقول: لم يطلع الفجر. مسألة: قال: (¬2) ثم يقف على قزح. الفَصلُ المستحبّ إذا صلى الصبح أن يقف على قزح وهو جبل المزدلفة, وهو المشعر الحرام, ويسمى هذا الموضع جمعًا, وقزح ومشعرًا, وهذا لقوله تعالى: {فَإذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ} [البقرة: 198] , ولخبر علي رضي الله عنه, وقد ذكرناه. وهذا الجبل أقصى المزدلفة مما بلب منى فيرقى فوقه إن أمكنه, أو وقف عنده, أو بالقرب منه إن لم يمكنه, ويحمد الله تعالى ويهلله ويكبره ويوحده, ولا يزال كذلك, حتى يسفر جدًا, ثم يدفع قيل طلوع الشمس, وهذا الوقوف مسنون. وقال مال: هذا واجب, ويكفي المرور كما في عرفة, وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كان أهل الشرك والأوثان يدفعون من عرفة قبل غروب الشمس ولا يدفعون من المزدلفة حتى تطلع الشمس وتقيم بها رؤوس الجبال كأنها عمائم الرجال في وجوههم, وإنَّا ندفع قبل أن نطلع, وهدينا يخالف هدي الشرك والأوثان". ويقول قائلهم: أشرق ثبير كيما نغير (¬3)، أي: فلتطلع الشمس عليك يا ثبير كيما يدفع, [140/ ب] وأخَّر الله تعالى الخروج من عرفة إلى غروب الشمس, وقدم الخروج من المزدلفة. فَرْعٌ قال: لو وقفت في مزدلفة في موضع آخر أجزأه وإن استأخر في مزدلفة إلى أن تطلع الشمس كرهت له ولا فدية عليه. مسألة: قال (¬4): فإذا صار في بطن محسر حرّك دابنه قدر رمية حجر. المستحبّ أن يدفع من المزدلفة, وعليه السكينة والوقار, فإذا وجد فرجة أسرع, كما قلنا في الدفع من عرفات, ثم إذا بلغ وادي محسر أسرع ماشيًا, وإن كان راكبًا حرّك دابته قدر رميهِ بحجر هكذا. ذكر الشافعي رضي الله عنه. وقال بعض أصحابنا: قدر رميه بسهم, وإن لم يفعل, فلا شيء عليه. وهذا لما ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1682, 1683) , ومسلم (29/ 1289). (¬2) انظر الأم (2/ 86). (¬3) أخرجه الحاكم (2/ 277 _ 3/ 523) , والبيهقي (9521). (¬4) انظر الأم (2/ 86).

روى أسامة بن زيد, قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم وادي محسر حرك دابته. وقال العباس رضي الله عنه لما بلغ وادي محسر أوضع, والإيضاع: الإسراع. وهذا بخلاف أهل الجاهلية, فإنهم كانوا يقفون هناك. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما أتى محسرًا أسرع, وقال: تشكو إليك قلقًا وضينها مخالفًا دين النصارى دينها معترضًا في بطنها جنينها (¬1) مسألة: قال (¬2): فإذا أتى منى رمى جمرة العقبة بسبع حصيات. الفَصلُ القصد به بيان ما يلزمه أن يفعل إذا بلغ منى, ومنى ما بين العقبة وبطن محسر سهل ذلك وجبله مما أقبل على منى فأما ما أجبر من الجبال فليس من منى وليس بطن محسر, ولا العقبة من منى, فإذا وافى منى يستحبّ أن لا يعرج على شيء دون الرمي لأنه تحية منى كتحية المسجد, وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا فعل, [141/ أ] وهذا الرمي من واجبات الحج, والمستحبّ أن يرمي راكبًا, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينزل يومئذٍ حتى رمى راكبًا ولأنه راكبًا أمكن, وروى قدامة بن عبد الله الكلابي, قال: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمار على ناقة طرود ليس ضرب, ولا طرد, ولا إليك إليك (¬3). وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر راكبًا, فإن قيل: أليس روى نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا رمى الجمار مشى إليه ذهابًا وراجعًا (¬4)،قيل: هذا خبر صحيح, ووجه الجمع أنه مشى في الأيام التي بعد يوم النحر أو ركب مرة ومشى مرة ليتبين جوازهما, ولا يرمي في يوم النحر سوى جمرة العقبة, وهي الجمرة القصوى, وإنما سميت بهذين الاسمين، لأن من فارق حضيض منها انتهى إلى الجمرة الأولى أولاً, فإذا تخطاها سيرًا, انتهى إلى الجمرة الثانية, فإذا صعد يسيرًا, انتهى إلى الجمرة الثالثة, وهي لأقصاها وأعلاها بقرب العقبة في أقصى منى مما يلي مكة على سنن الطريق, وهي أول الجمرات مما يلي مكة وآخرها مما يلي منى, ولا يرمي في هذا اليوم غيرها, وسميت جمرة لاجتماع الناس بها, ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن التجمير يعني اجتماع النساء في الغزوات. وقيل: سميت بها لأن إبراهيم عليه السلام لما عرض له إبليس هناك فحصبه أجمر من بين يديه, أي أسرع, والإجمار: الإسراع. وقيل: سميت بها لأنها نجمر بالحصى, والعرب تسمي الحصى الصغار جمارًا, وإذا أراد الرمي إلى جمرة العقبة, ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" 095279 ز (¬2) انظر الأم (2/ 86). (¬3) أخرجه الشافعي في "الأم" (2/ 180) , وفي "المسند" (370) , والبيهقي في "الكبرى" (9556) , وفي "معرفة السنن" (3052). (¬4) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9557, 9558) , وفي "معرفة السنن" (4/ 121).

فينبغي أن يرمي من بطن الوادي, ويستحبّ أن يستدبر الكعبة [141/ ب] عند الرمي, ويستقبل الجمرة ومنى, فإن لم يرم من الوادي وجعل الكعبة عن يساره ومنى عن يمينه, جاز لما روى أن ابن مسعود رضي الله عنه رمى والكعبة عن يساره ومنى عن يمينه, فقالوا له: إن الناس يرمون من فوق, فقال: والله الذي لا إله إلا هو, إن هذا المقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة (¬1): وذكر القاضي أبو حامد أنه يستقبل القبلة عند الجمار, وهذا غريب, والنصّ المشهور ما ذكرنا, وعدد الحصيات في هذا الرمي سبعة, والمستحبّ أن يرفع يديه كلما رمى, ويدعو الله تعالى, لأنه يكون أقوى لرميه. وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رفع اليدين في سبعة أماكن, منها في رمي الجمار, ويبالغ في رفعها حتى يرى بياض ما تحت منكبيه, فإن ذلك أبلغ في المسألة والاستنجاح ويكبر مع كل حصاة, وهذا وقت ترك التلبية, وتبديلها بالتكبير, والنبي صلى الله عليه وسلم كان يلبي إلى هذا الوقت في عرفة ومزدلفة, وهذا لأنه أخذ في التحلّل, فيترك التلبية. وقالت أم سلمة: رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يرمي الجمرة من بطن الوادي, وهو راكب يكبّر مع كل حصاة (¬2). وقال الفضل بن عباس لبى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رمى جمرة العقبة. وقال أحمد وإسحاق يلبي حتى يرمي تمام الجمرة ثم يقطعها, وقال مالك: يلبي حتى تزول الشمس يوم عرفة, فإذا راح إلى المسجد قطعها, وروي عنه يقطعها عند دخوله منى قبل التوجه إلى عرفة. وقال الحسن: يلبي حتى يصلي الغداة أمسك عنها, وقيل: السبب في [142/ أ] هذا الرمي ما روي في قصة إبراهيم عليه السلام حيث أري في المنام ذبح الابن, وقصد تصديق الرؤيا اعترض إبليس لعنة الله في الطريق, فرماه, والقصة معروفة, فجعل ذلك سنة. فَرْعٌ قال في "الإملاء": أحب لمن كان محرمًا أو محللا أن يكون كلامه ذكر الله تعالى, فإن تكلم بما لا إثم عليه جاز, والشعر كلام حسنه وقبيحه كقبيحه. وروي عن القاسم الزرقي, قال: رأيت عمر رضي الله عنه على ناقته, وهو محرم يقدم يدًا ويؤخر أخرى, ويقول: كأن راكبها غصن مروحة تدلت به أو شارب ثمل الله أكبر, الله أكبر, فدل على جواز غير المستقبح من الشعر. مسألة: قال (¬3): وإن رمى قبل الفجر بعد نصف الليل أجزأ عنه. الكلام الآن في وقت رمي جمرة العقبة يزم النحر, والكلام فيه فصلين في وقت الاستحباب, ووقت الجواز, فأما وقت الاستحباب, فبعد طلوع الشمس من يوم ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1447) , والبهيقي في "الكبرى" (9547) , وفي "معرفة السنن" (4/ 122). (¬2) أخرجه أحمد (5/ 379) , والبيهقي في "الكبرى", وفي "معرفة السنن" (3054). (¬3) انظر الأم (2/ 86).

النحر لأن جابرًا رضي الله عنه قال: رمى رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى يوم النحر, ورمى في سائر الأيام بعد زوال الشمس. وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس" (¬1)، وأراد جمرة العقبة, لأنها التي ترمى وحدها يوم العيد. وأما وقت الجواز, قال الشافعي من بعد نصف الليل من ليلة النحر إلى غروب الشمس من يوم النحر. وبه قال عطاء وعكرمة وأحمد. وقال أبو حنيفة زمالك وإسحاق: لا يجوز الرمي إلا بعد طلوع الفجر الثاني. وقال مجاهد وطاوس والنخعي والثوري: [142/ ب] لا يجوز إلا بعد طلوع الشمس, واحتجوا لخبر ابن عباس, وهذا غلط لما روينا من خبر أم سلمة, ولا يمكنها موافاة طلوع الشمس الصبح بمكة إلا أن تكون رمت قبل الفجر. وقوله في الخبر, وكان يومها فيه معنيان: أحدهما: أراد, وكان يوم نوبتها من النبي صلى الله عليه وسلم, فأحب عليه السلام أن يوافي التحلّل, وهي قد فرغت. والثاني: أراد, وكان يوم حيضها, فأحب صلى الله عليه وسلم أن توافي أم سلمة التحلّل قبل أن تحيض, فمن قرأ بالأول, قرأ يوافي بالياء, ومن قال: قرأ بالثاني بالتاء وأما الخبر فمحمول على الاستحباب. مسألة: قال (¬2): ثم ينحر الهدي إن كان معه ثم يحلق أو يقصر. إذا فرغ من الرمي يوم النحر, نحر الهدي, ثم حلق لما روى أنس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى جمرة العقبة يوم النحر, ثم رجع إلى منزله بمنى, فدعا بذبح فذبح, ثم دعا بالحلاق فأخذ شق رأسه الأيمن فحلقه, فجعل يقسم بين من يليه الشعرة والشعرتين, ثم أخذ نسق رأسه الأيسر, فحلقه, ثم قال: ههنا أبو طلحة, فدفعه إليه" (¬3)، والذبح: مكسور الذال ما يذبح من الغنم, والذبح: الفعل, والنسك بالتسكين العبادة وبالتنقيل الذبيحة. وروي في خبر جابر قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الجمرة التي عند الشجرة, فرمى سبع حصيات ثم انصرف إلى المنحر, فنحر ثلاثًا وستين بدنة بيده, ثم أعطى عليًا رضي الله عنه فنحر ما غبر وأشركه في هديه. فَرْعٌ قال الشافعي: ويتولى ذبح نسكه لهذا الخبر, فإن كان لا يحسن يستحبّ له أن يحضر ويسمي الله تعالى, ويقول: اللهم تقبل مني, فإن سمى الذي يتولى ذبحها, فلا بأس, وجميع ما [143/ أ] يفعل يوم النحر أربعة أشياء: الرمي والنحر والحلق ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 234) , والترمذي (893) , وابن ماجه (3025) , والطبراني في "الكبرى" (11/ 35, 385) , والدارقطني (2/ 273). (¬2) انظر الأم (2/ 287). (¬3) أخرجه البخاري (171) , ومسلم (333/ 1305).

والطواف. ويفعل ثلاثة منها بمنى, ويستحبّ الترتيب فيها هكذا, فإن تقدم النحر على الرمي أجزأه, ولا دم عليه, وكذلك إن قدم الحلق على النحر, لا شيء, وإن قدم الحلق على الرمي, فإن قلنا: الحلق نسك, فلا شيء عليه, وإن قلنا: إطلاق محظور, فعليه دم لأنه أتى بمحظور الإحرام قبل التحلّل. وقال أبو حنيفة: إذا قدم الحلاق على الذبح يلزمه دم إن كان قارنًا, أو ممتعًا, وإن كان مفردًا, فلا شيء عليه, وإذا قدمه على الرمي وجب دم. وقال مالك" إذا قدم الحلاق على الذبح, فلا شيء عليه, وإذا قدمه على الرمي وجب دم. وقال أحمد: هذا الترتيب على ما ذكرنا واجب, فإن قدم الحلاق على الرمي, أو الذبح, فإن كان ساهيًا أو جاهلاً, فلا شيء عليه, وإن كان عامدًا, ففي وجوب الدم روايتان, واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بهذه الأشياء على الترتيب. وقال: "خذوا عني مناسككم", وهذا غلط لما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عام حجة الوداع بمنى ليسأله الناس, فقال رجل: يا رسول الله لم أشعر نحرت قبل أن رميت, فقال: "افعل ولا حرج" (¬1). قال عبد الله بن عمرو ابن العاص, فما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ عن شيء قدم ولا أر إلا قال: "افعل ولا حرج", وأما فعله فمحمول على الاستحباب بدليل هذا الخبر. مسألة: قال (¬2): ويأكل من لحم هديه. لا يجوز أن يأكل من الهدي الواجب عليه في الإحرام, وهو هدي القران والتمتع وجزاء الصيد وغير ذلك من محظورات الإحرام. وقال أبو حنيفة: يجوز [143/ ب] أن يأكل من دم القران والتمتع دون غيرهما, وقال مالك: يجوز أن يأكل من كلها إلا من جزاء الصيد, وفدية الأذى لأنهما وجبا بالإتلاف, ويجوز أن يأكل عندنا من التطوع من الهدي, والأضحية, ولكن لا يجوز أن يأكل جميعها, ولا بد أن يتصدق بشيء منهما, وإن قل والهدي المطلق المتطوع به. ويسمى هديًا, وهديه اشتقاقًا من الإهداء. وقال ابن سريج: يجوز أن يأكل كلها, وليس هـ 1 ابمذهب الشافعي, ولا يجب الأكل منها. وقال أبو حفص بن الوكيل: يجب أكله, فلو أطعم كله الفقراء لم يجز لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا} [الحج: 28] , وهذا غلط لأن المقصود به: القربة, ولذلك سمي قربانًا, والقربة في إطعام الفقير لا في أكله, وأما الآية فهي أمر إباحة, لأنه بعد حظر فلا يكون واجبًا. وأما في القدر المستحبّ قولان: أحدهما: المستحبّ أن يأكل النصف, ويتصدق بالنصف, لأن الله تعالى قال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} [الحج: 28] , وظاهر هذا أن يكون نصفين. ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في "الموطأ" (421) , والبخاري (83, 121, 1736, 1738, 6665) , ومسلم (327/ 1306) , وأحمد (2/ 159, 192) , وابن خزيمة (2951). (¬2) انظر الأم (2/ 86).

والثاني: المستحبّ أن يأكل الثلث, ويتصدق بالثلث, ويهدي الثلث إلى المتحملين من جيرانه. وهو الصحيح وعليه نص في "الأوسط" (¬1) لقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا القَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] والقانع الذي يقنع بالقليل ولا يسأل, وقيل: القانع: السائل, يقال: قنع الرجل إذا سأل, والمعتر: هو الذي يعترض بالسؤال ولا يسأل. فَرْعٌ هل يجوز الأكل من الهدي المنذور؟ قال أصحابنا: فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز الأكل منه, لأنه واجبٌ. والثاني: وهو اختيار أبي إسحاق وكثير من أصحابنا: يجوز أن يأكل منه, لأنه متطوع [144/ أ] بإيجابه على نفسه, فكأن إلحاقه بالتطوع أولى. وقال القاضي الطبري: نصّ في "الأوسط": أنه لا يجوز له الأكل منه, فقال (¬2): ما كان واجبًا من الهدي ليس له حبسه ولا أكل شيء منه كهدي الفساد وجزاء الصيد والنذور والمتعة. ومن أصحابنا من قال: يجوز, وهو خلاف النص, وهذا أصوب. مسألة: قال (¬3): وقد حل من كل شيء إلا النساء فقط. في الحج تحللان, فإن قلنا: الحلاق ليس من المنسك, وإنما هو إطلاق محظور يحصل التحلّل الأول برمي جمرة العقبة يوم النحر, والتحلّل الثاني بالطواف والسعي إن لم يكن سعى, وإن قلنا: إن الحلاق من النسك, وأنه من أعمال التحلّل, كأن أعمال التحلّل ثلاثة: الرمي والحلق والطواف. وأكثر أصحابنا على أن التحلّل الأول يحصل على هذا القول باثنين من الثلاثة, إما بالرمي والحلق, أو الرمي والطواف, أو الحلق والطواف. وقال القاضي أبو حامد: قال القاضي في "المختصرين الكبير" و "الصغير": التحلّل الأول يحصل بالرمي وحده, وهو يذهب في هذين الكتابين إلى أن الحلق من النسك, فمن أصحابنا من جعل هذا قولاً آخر على هذا القول, وأما العمرة فلها تحلل واحد, وهو الفراغ, فغن قلنا: الحلاق من النسك تحلل بأربعة أفعال, وإن قلنا: الآخر تحلل بثلاثة أفعال, فإذا تقرر هذا, فالكلام الآن فيما يحل بالتحلّل الأول والثاني. فاعلم أن محظورات الإحرام عشر, خمسة من الزينة, وهي اللباس والطيب, وترجيل شعر الرأس واللحية بالدهن, وحلق الشعر وتقليم الأظافر, وثلاثة في الزوجية: الوطء والاستمتاع بدون الوطء من اللمس بالشهوة والقبلة, والوطء دون [144/ ب] الفرج, وعقد النكاح واثنان في الصيد, فيدخل فيه الاصطياد. وقيل: تسعة, فجعل الاستمتاع بشهوة الوطء وما دونه. والصواب عندي إحدى عشر فنضم ستر الرأس إلى ما ذكرنا أولاً, فإذا تقرر هذا, فمنها ما يحل بالتحلّل الأول, ومنها ما يحل بالتحلّل ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 184). (¬2) انظر الأم (2/ 184). (¬3) انظر الأم (2/ 87).

الثاني. ومنها ما اختلف فيه، فإما ما يحلّ بالتحلّل الأول، فاللباس والترجيل والحلق والتقليم. وأما مايحل بالتحلّل الثاني، فالوطء في الفرج قولًا واحدًا. وأما المختلف فيه فعقد النكاح والاستمتاع دون الوطء. وقتل الصيد. قال في ((الجديد)): تحلّ كلها بالتحلّل الأول لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: (إذا رميتم جمرة العقبة وحلقتم فقد حلّ لكم كل شيء إلا النساء)) (¬1)، ولأن كل ما فعله في ملكه لم يلزمه به غرم يحلّ بالتحلّل الأول كاللباس. وهذا أصحّ. وبه قال أبو حنيفة، ووجه الثاني فوله صلي الله عليه وسلم ((لا يَنكح، ولا يُنكح)). وهذا محرم، ولأن الاستمتاع دون الفرج من دواعي الوطء، فهو في حكم الوطء. وأما الطيب، من أصحابنا من قال: فيه قولان أيضًا، لأنه قال في ((القديم)): لا يحلّ بالتحلّل الأول، وهذا لأنه من دواعي الوطء كالقبلة. وقال صاحب ((الإفصاح)): ذاك حكاية عن الغير، وهو مالك، وهو قول واحد إنه كاللباس يحلّ بالتحلّل الأول. وقد قالت عائشة رضي الله عنها ((طّيبت رسول الله صلي الله عليه وسلم لإحرامه [145/ أ] ولحلّه قبل أن يطوف بالبيت)) (¬2). فَرْعٌ إذا دخل وقت الرمي لا يحصل التحلّل الأول به، ما لم يرم. وقال الاصطخري: يحصل له التحلّل الأول لأنه يتحلّل بفوات وقته، وإن لم يرمِ، وهذا لا يعرف للشافعي، وهو غلط لقوله صلي الله عليه وسلم: ((إذا رميتم وحلقتم فقد حلّ لكم كل شيء إلا النساء))، فعلق ذلك بالرمي دون وقته، ولأن ما يقع به التحلّل لا يحصل التحلّل بدخول وقته كالطواف. وأمّا خروج وقته، فيسقط به فعل الرمي. وههنا فرض الرمي باقٍ فلم يحصل التحلّل بوقته، ولأنه يتحلّل من صوم رمضان بفوات وقته، ولا يتحلّل منه بدخول وقته. فَرْعٌ آخرُ لو ترك الرمي يوم النحر حتى فات وقته وجبه الهدي في ذمته بدلًا عنه. قال أصحابنا: ولو ترك حصاة من جمرة العقبة يلزمه دم، لأن رمي جمرة العقبة من أسباب التحلّل. ولا يحصل التحلّل إلا بتمام السبع، فإذا فات يحتاج أن يوجب بدلها ليحصل التحلّل، ولا يحصل التحلّل إلا بهدي كامل. وحكي عن أبي حنيفة رضي الله عنه: أنه إذا ترك الأقلّ من السبع بأن رمي الأربعة وترك الثلاث لا يلزمه شيء، وهل ثبوت الهدي في ذمته بمنزلة فعل الرمي؟. قال ابن سريج: فيه وجهان، بناء علي ((المختصر)) إذا عدم الهدي وجب الصوم في ذمته، هل يحلّ قبل أداء الصوم؟ قولان. وقال أبو حامد: عندي أنه لا يكون بمنزلة فعل الرمي قولًا واحدًا، فعلي هذا الحكم كما لو لم ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6/ 143) , وأبو داود (1987) , والدارقطني (2/ 276) , والبيهقي (9597). (¬2) أخرجه البخاري (1539) , ومسلم (1189).

يرمِ جمرة العقبة، ثم تبين أن قطع التلبية يتعلق بإول أسباب التحلّل، فقال: ولا يقطع التلبية حتى يرمي الجمرة بأول خصّاة. وقد ذكرنا ذلك، وروي عن عمر وابن عباس وعطاء وطاوس ومجاهد أنهم [145/ ب] لم يزالوا يلبّون حتى رمي الجمرة، أي: حتى ابتدؤوا رمي الجمرة ثم بينّ أن له التطيب بعد التحلّل الأول، فقال: ويتطيب إن شاء لحله، أي بعد حلّه الأول. وهذا هو المشهور من المذهب، وقد ذكرنا هذا فيما مضي. مَسألَةٌ: قالَ (¬1): ويخطب الإمام بعد الظهر يوم النحر. هذه هي الخطبة الثالثة في الحجّ، فيخطب بمني بعد الزوال إذا صلي الظهر، خطبة واحدة يعلمهم النحر والرمي والطواف والمبيت بمني، والرخصة لأهل السقاية، والتعجيل لمن أراد في يومين بعد النحر. قال الله تعالي: (واذكروا الله في إيام معدودات) [البقرة: 203]،يريد أيام التشريق بعد يوم النحر، وهي ثلاثة أيام، ثم قال: (فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه) [البقرة: 203]،أي: نفر من مني في اليوم الثاني من إيام التشريق فلا إثم عليه، فالمستحبّ للإمام أن يعلمهم كل ذلك لأن الناس يحتاجون إلي معرفة ذلك، فلابّد من الخطبة. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: لا تستحبّ الخطبة يوم النحر. وهذا غلط لما روي الهرماس بن زياد الباهلي. قال: رأيت رسول الله صلي الله عليه وسلم يخطب علي ناقته العضباء بمني يوم الأضحي (¬2) وراه أبو أمامه (¬3) وعبد الله بن عمرو (¬4) رضي الله عنهما أيضًا، ثم بيّن أن فيما كان من أسباب التحلّل يوم النحر لا يجب الترتيب، فقال: ومن حلق يوم النحر قبل أن يذبح أو نحر قبل أن يرمي، فلا فدية، وقد ذكرنا ذلك. مَسألَةٌ: قالَ (¬5): ويطوف بالبيت طواف الفرض. الفَصلُ القصد بهبيان ما يقع به التحلّل الثاني، فإذا فرغ من رمي جمرة العقبة ينصرف إلي مكّة، فيطوف طواف الزيارة. وهذا الطواف يسمي طواف الفرض، لأنه لا فرض غيره فيه، ويسمّي طواف الصدر، [146/ أ] لأنهم يصدرون عن مني ويسمّي طواف الإفاضة، لأنهم يفيضون من مني إلي مكّة، ولا يسمّي طواف الزيارة، لأنهم يأتون من مني فيزورون البيت، ثم يرجعون إلي مني، وقيل: لإنه يزور البيت بعد غيبته عنه، وقيل: تسميته طواف الصدر غير مشهورة، وإنما طواف الصدر طواف الوداع، لأنه يصدر عنه بعد الطواف، ويسمّي طواف الوداع، لأنه يودعه، فإذا تقرر هذا، فاعلم أن هذا ¬

_ (¬1) امظر الأم (2/ 88) (¬2) أخرجه البيهقي في (الكبرى) (9616). (¬3) أخرجه البيهقي في (الكبرى) (9617) (¬4) أخرجه البيهقي في (الكبرى) (9613) (¬5) انظر الأم (2/ 85)

الطواف ركن من أركان الحجّ، لا يتم الحجّ إلا به، ولا ينوب عنه الدم بلا خلاف، لقوله تعالي: (وليطوفوا بالبيت العتيق) [الحج: 29]،وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لما طاف رسول الله صلي الله عليه وسلم ذكر صفية بنت حييّ، فقالوا: إنها حاضت، فقال: ((عقري حلقي، أحابستنا هي))،فقلنا: إنها قد أفاضت، فقال: ((فلا إذن)) (¬1)،فدلّ علي إنه لابدّ من هذا الطواف، وأنه حابس لمن لم يأت به. فإذا ثبت هذا. قال الشافعي رضي الله عنه: وقد حلّ من كل شيء إلا النساء وغيرهن وأراد خرج من إحرامه تمام الخروج، ولم يبق عليه من الحجّ إلا ما هو التوابع وهي البيتوتة بمني في ليالي أيام التشريق والرمي في أيامها، وهذا إذا كان قد سعى عقيب طواف القدوم، ورمي جمرة العقبة، وحلق أو لم يحلق. وقلنا: الحلاق ليس بنسك، وهذا الطواف من الأعمال الأربعة التي تفعل يوم النحر، فأن طاف أولًا ثم أتي بالأفعال الثلاثة فلا حرج ولا دم علي ما ذكرنا أن الترتيب غير واجب، فإذا تقرر هذا، فالكلام الآن في بيان وقت استحباب الطواف. وفي بيان وقت الجواز فإما وقت الاستحباب، فيستحبّ فعله يوم النحر، قبل: الزوال لما روي أن النبي صلي الله عليه وسلم لما رمي جمرة العقبة ذبح وحلق ثم أفاض وطاف، ثم رجع لصلة الظهر [146/ ب] إلي مني، وأما وقت الجواز، فإذا ذهب النصف الأول من ليلة النحر، وليس آخر وقته بموقت، فأي وقت طاف أجزأه ولا دم عليه، لأجل التأخير، وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: أول وقته من حين طلوع الفجر الثاني من يوم النحر وآخره اليوم الثاني من أيام التشريق، فإن أخّره إلي اليوم الثالث يلزمه دم، وهذا غلط، لأنه إذا طاف اليوم الثالث، وقد طاف طوافًا صحيحًا، فلا يجب به دم كما لو طاف في اليوم الثاني، ولو رجع إلي موضعه، ولم يطف نظر، فإن كان طاف طواف الوداع أجزأه عن الفرض لأن طواف الوداع، نفل في أحد القولين، ولا يجوز النفل منه وعليه وفي القول الثاني هو فرض، لكن طواف الزيارة آكد لكونه ركنا ويقدّم الأقوى كما يقدّم حجّة الإسلام علي الحجّة المنذورة، وإن لم يكن طاف طواف الوداع لم يحلّ الإحلال الثاني إلا بأن يرجع ويطوف، وإن طال الزمان وخرج الوقت. فَرْعٌ لو نوي النفل به يقع عن الفرض. وقال أحمد: لا يقع عن الفرض ويفتقر إلي تعيين النية، وهذا غلط لأنه ركن من أركان الحجّ، فلا يفتقر إلي تعيين النية كالإحرام والوقوف. فَرْعٌ آخرُ قال الشافعي رضي الله عنه في ((الإملاء)):, وأحب دخول البيت لما روي عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه قال: ((من دخل البيت فقد دخله في حسنة ومن خرج منه خرج عن سيئة ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1772) , ومسلم (382/ 1211) , وأحمد (6/ 58, 126, 224, 253, 266) , وابن ماجه (3073) , والبيهقي في (الكبرى) (9755)

وخرج مغفورا له)) (¬1)، وقالت عائشة رضي الله عنها: خرج رسول الله صلي الله عليه وسلم من عندي وهو قرير العين طيب النفس، فرجع إليّ وهو حزين، فقلت له، فقال: ((أني دخلت الكعبة وودت أني لم أكن فعلت، إني أخاف أن أكون قد أتعبت أمتي من بعدي)) (¬2)، قال وأحّب أن يصلي فيه ركعتين لما روي بلال أن [147/ أ] النبي صلي الله عليه وسلم دخل البيت، فصلي ركعتين في جوف الكعبة. مَسألَةٌ: قالَ (¬3): ثم يرمي أيام مني الثلاثة. الفَصلُ إذا فرغ من الطواف عاد إلي مني قبل الظهر للمبيت، ويصلّي الظهر بمني نصّ عليه في ((الإملاء))، لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم هكذا فعل علي ما ذكرنا يبيت بها ثلاث ليال أيام التشريق، ويرمي كل يوم بعد الزوال. واعلم أن الأيام أصناف، العشر الأول من ذي الحجّة معلومات وثلاث بعدها معدودات وهي أيام التشريق، وأيام مني وأيام الذبح وأيام الذكر وأيام الرمي وسمّيت أيام التشريق لإشراقها نهارًا بنور الشمس وليلًا بنور القمر. وقيل: لأن الناس يشرقون اللحم فيها في الشمس واليوم الثامن من العشر يوم التروية، واليوم التاسع منها يوم عرفة، واليوم العاشر يوم النحر، وهو يوم الحجّ الأكبر وأول أيام التشريق يوم العاشر والثاني منها يوم النفر الأول والثالث منها يوم النفر الثاني، وليلة الرابع عشر ليلة المحصب، وإنما يرمي الجمرات الثلاث في أيام مني في كل يوم إذا زالت الشمس بإحدى وعشرين حصاة في كل جمرة سبع حصيات. وقال في ((الإملاء)) يرمي عقيب الزوال قبل الزوال، لأن عائشة رضي الله عنها قالت: رمي رسول الله صلي الله عليه وسلم حين زالت الشمس، وجملة ما يرمي من عدد الحصى هي سبعون حصاة سبع يوم النحر في جمرة العقبة وثلاثة وستون في أيام مني يبتدئ بالتي هي إلي مني أقرب ويختم بالتي هي إلي مكّة أقرب، وهي العقبة، قال: فيبدأ بالجمرة الأولي فيعلوها علوًا وكذلك في الثانية ثم يأتي في الثالثة فيرميها في بطن الوادي، وهي جمرة العقبة، ولا يعلوها كما علا الجمرتين قبلها، لأنها علي أكمة لا يمكنه غير ذلك. وقال مالك: يرمي الجمرات كلها من أسفلها [147/ ب]، وما قلناه أولي، لأن الرسول صلي الله عليه وسلم فعله، ثم السلف بعده، وإذا رمي الجمرة الأولي يجعلها علي يساره، ويستقبل القبلة، ويكبّر مع كلّ حصاة، ثم يتجاوزها إلي التي تليها بحيث لا تناله حصى الأولي، فيدعو ويتضرّع إلي الله تعالي بسورة البقرة، ثم يتقدّم إلي الثانية، فيرميها بسبع حصيات، ثم يتجاوزها، فيقف بحيث لا تناله الحصى الثانية يدعو ويتضرّع ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في ((الكبير)) (11/ 201)،وابن خزيمة (3013)، والبيهقي في ((الكبري)) (9725)، وفي ((معرفة السنن)) (3090). (¬2) أخرجه أحمد (6/ 137)، والترمذي (873)، وابن ماجه (3064)، وابن خزيمة (3014)، والبيهقي في ((الكبري)) (9729). (¬3) انظر الأم (2/ 89).

ويذكر بقدر سورة البقرة ويوليّ ظهره إلي التي رماها في الوقوف الأول والثاني، ثم يتقدّم إلي الثالثة، فيرميها سبع حصيات ولا يقف عندها. والأصل في ذلك ما روي عن عائشة رضي الله عنها، قالت: أفاض رسول الله صلي الله عليه وسلم من مني ثم رجع إلي مني، فمكث بها ليالي أيام التشريق يرمي الجمرة إذا زالت الشمس كل جمرة بسبع ويكبّر مع كل حصاة، ويقف عند الأولي والثانية، فيطيل القيام ويتضرّع، ويرمي الثالثة، ولا يقف عندهما، ولأن الجمرة الأولي والثانية واسعتان، لا يضيق الوقوف بقربهما للدعاء والذكر، والثالثة ضيقة يستضر الناس بوقوفهم، فيستحبّ له أن لا يقف، وينصرف، وإذا ترك الوقوف للدعاء، فلا إعادة، ولا فدية، فإذا تقرر هذا قال أصحابنا: الواجب الذي لا بدّ منه في جواز الرمي الوقت والعدد وترتيب الجمرات، فأما الوقت فبعد زوال الشمس علي ما ذكرنا، فإن رمي قبل الزوال لم يعتدّ به. وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يجوز في اليوم الثالث أن يرمي قبل الزوال استحباباّ. وروي الحاكم في المنتقي: أنه يجوز ذلك في اليوم الأول والثاني أيضاّ، والأول أشهر، [148/ أ] وعلته أنه إذا طلع الفجر في اليوم الثالث لم يجز له أن ينفر، فدلّ علي أن وقت الرمي هذا، وهذا غلط، لأنه رمي في يوم من أيام التشريق، فكان بعد الزوال كاليوم الأول. وأما وجوب الإقامة بمني لا يكون بطلوع الفجر، بل بغروب الشمس اليوم الثاني، لأن وقت التعجيل فات به. وقال طاووس وعكرمة: يجوز أن يرمي قبل الزوال في كلها كما في يوم النحر، وهذا غلط لما روي جابر، قال: رمي رسول الله صلي الله عليه وسلم علي ما ذكرنا. وأما الترتيب، فمستحقّ أيضًا هذا بالجمرة الأولي ثم بالثانية، ثم بالثالثة، فإن ترك الترتيب فبدأ بجمرة العقبة ثم بالوسطي، ثم بالأولي اعتدّ بالأولي، ثم يعتد بالوسطي، ثم يعيد جمرة العقبة حتى يأتي بها علي الترتيب، وكذلك إن رمي حصاة من الأولي، ورمي الثانية والثالثة لم يعتد بذلك حتى يكمل الأولي ثم يرمي الثانية والثالثة لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلي الله عليه وسلم رمي علي هذا الترتيب، وقال: ((خدوا عني مناسككم))، وقال عطاء والحسن: ترتيب الجمرات ليس بواجب وبأيتها بدأ أجزأ. وبه قال أبو حنيفة، ولكنه قال: إذا نسك يلزمه أن يعيد، فإن لم يعد فلا شيء عليه، وأما العدد، فشرط أيضًا، فإن رمي أقل من سبع حصيات في كل جمرة لم يصحّ ما بعدها من الرمي حتى يعود فيكمل. فَرْعٌ لو رمي جمرة بستّ حصيات، ولم يدرِ أي جمرة رماها بست رمي الجمرة الأولي بواحدة حتى يصير علي يقين من إكمال رميها، ثم يعيد الرمي فيما بعد من الجمرتين، لأنه يجوز أن تكون المتروكة من الجمرة الأولي، فلا تحتسب بما بعدها قبل إكمالها، فكان الاحتياط بما ذكرنا. فَرْعٌ آخرُ لو ترك ثلاث حصيات من [148/ ب] جملة الأيام، ولا يدري كيف تركها يأخذ

بأسوأ الأحوال، فيجعل كأنه ترك حصاة من جمرة العقبة يوم النحر، وحصاة من الجمرة الأولي يوم النفر وحصار من الجمرة الثانية يوم النفر الأول، وإيش الذي يحسب له؟ إن قلنا: الترتيب شرط، وما يرميه بنية، وظيفة الوقت لا يحتسب بها، وعليه من الدماء، ما يلزم من ترك الرمي في الأيام كلها، وقد ذكرنا، وإن قلنا: الترتيب شرط، ولكن ما يرميه بنية وظيفة الوقت يحسب من الفائت يحتسب حصاة مما رماه يوم القرّ من جمرة العقبة، فيتم له ذلك. وباقي الريات تلغو، فلما رمي في النفر الثاني احتسب له الجمرة الأولي وست حصسات من الثانية من فرض يوم القرّ، ولم يحتسب له مايرمي إلي الجمرة الأخيرة، فلما رمي في اليوم الثالث، تم له رمي يوم القرّ وبقي عليه رمي يومين. وقد بيّنا حكم من ترك رمي يومين، وإن قلنا: الترتيب لا يجب إلا أن ما يرميه بنيه وظيفة الوقت لا يحتسب من الفائت، فالحكم علي ما سبق ذكره في التقدير الأول، فلا يحصل له إلا ست حصيات من وظيفة يوم النحر، فلما رمي في يوم القرّ احتسب في الجمرة الأولي ست حصيات، ولم يصحّ له ما يرميه إلي الجمرة الثانية والثالثة، لوجوب الترتيب بين الجمات، إلّا حصاة واحدة يقع عما بقي عليه من رمي جمرة العقبة يوم النحر، وبقيت عليه حصاة من وظيفة يوم القرّ في الجمرة الأولي، وفرض جمرتين، فلما رمي في اليوم الثالث من أيام التشريق [149/ أ] احتسب له ما بقي علي من فرض يوم القرّ في الجمرة الأولي، واحتسب له ست حصيات إلي الجمرة الثانية، فلما رمي في اليوم الثالث ما ترك شيئًا، فيسقط ما بقي عليه من فرض يوم القرّ، وبقي عليه من رمي يومين. فَرْعٌ آخرُ لو ترك حصاة من الجمرة الوسطي في اليوم الأخير يلزه دم كامل، لأنه صار تاركًا ثماني حصيات، فإن الترتيب بين الجمرات واجب، فلا تصحّ الجمرة الأخيرة، وقد بقي من التي قبلها شيء. فَرْعٌ آخرُ قال في ((الإملاء)): أيام الرمي أربعة: يرمي في الأول راكبًا وفي الأخير راكبًا، وفيما بينهما ماشيًا لاتصال ركوبه به من المزدلفة، ويوم النفر الثاني لاتصال ركوبه بالصدر، لأنه لا يخرج من منزله، فيرجع إليه كفعله في اليومين، بل ويخرج إلي مكّة. وهذا مستحبّ في جيعها فلا شيء عليه. قال: ويستحبّ أن يكون توجهًا إلي القبلة. وكذلك في الوقوف بعرفة والمزدلفة وغير ذلك. وهذا يوافق ما قال القاضي أبو حامد، وفيه نظر. مَسألَةٌ: قالَ (¬1): وإن رمي بحصاتين أو ثلاث في مرة واحدة، فهن كواحدة. قد ذكرنا هذا، فإن قيل: أليس لو جع الأشواط في الحدّ وضربه بها ضربة واحدة، جاز، فقولوا مثله. ههنا قلنا: الفرق أن المقصود منه إيصال الألم بالضرب، ويحصل ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 89).

به ذلك عند الجمع، وههنا لا يعقل معني هذا الرمي، فلا يعدل به عما ورد به الشرع. مَسألَةٌ: قالَ (¬1): وإن نسي من اليوم الأول شيء من الرمي رماه في اليوم الثاني. الفَصلُ لا خلاف أن لو رمي الجمار وقتًا يفوت، وهو إذا مضت أيام التشريق، وهذا لأنه تابع للوقوف وقت يفوت، فكذلك للرمي وقت يفوت، وإن نسي الرمي في اليوم الأول. نصّ في ((الأم)) (¬2): [149/ ب] ونقله المزني: أنه يرميه في اليوم الثاني، وما بقي في اليوم الثاني يرميه في اليوم الثالث. وقال في ((الإملاء)): رمي كل يوم محدود الأول والآخر، وأن أوله إذا زالت الشمس وآخره إلي يوم فيه رمي فجاز أن يأتي به كالرعاء إذا تركوا الرمي في اليوم الأول من أيام التشريق يرمون في اليوم الثاني. والثاني: يقضي الرمي ويريق دمًا للتأخير. وبه قال أبو حنيفة، لأن الرمي عبادة، فجاز أن يجب بتأخيرها كفّارة كقضاء رمضان، والثالث: يريق دما ولا يقضي، وهذا أصحّ لأنه رمي مرتين في وقته، فإذا أخّره عن ذلك اليوم يسقط إلي دم، كالرمي في اليوم الثالث، وهذا القول وما خرج عليه من أداء الأقاويل منصف. والصحيح أنه لا يدخلفيه القضاء فيرميه في اليوم الثاني والثالث أداء ولا يفوت ذلك، لأن الثلاثة كلها كاليوم الواحد كما في الرعاء، ولا فرق بين المعذور وغير المعذور في مثل هذا. وأما رمي يوم النحر، فالمذهب المنصوص أنه بمنزلة الرمي في سائر الأيام، وأنه علي قولين كما ذكرنا في رمي كل يوم من أيام التشريق. ولفظ الشافعي أنه إذا أخّر جمرة العقبة حتى غربت الشمس كان له أن يرميه في أيام التشريق. ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا: إن مانسي في اليوم الأول يرمي في اليوم الثاني والثالث ففي رمي يوم النحر وجهان: أحدهما: ما ذكرنا. والثاني: أنه لا يرميه أصلًا، لأن هذا الرمي مخالف لرمي سائر الأيام في المقدار والوقت، فهما كجنسين، ففيه قول واحد [150/ أ] إنه يفوت بفوات وقته، وهذا تخريج بخلاف النصّ. فَرْعٌ إذا قلنا: يسقط حكم الرمي بدخول الرمي بعده، فإذا تذكره بالليل، فيه وجهان: أحدهما: لا يأتي به، لأن وقته إلي الغروب بدليل اليوم الأخير، فيسقط حكمه بالغروب. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 89) (¬2) انظر الأم (2/ 181)

والثاني: يأتي به, لأن الرمي تابع للوقوف الليلة المستقبلية, وهي ليلة العيد يجعل في حكم النهار الماضي حتى يجوز فيها الوقوف, وبعد طلوع الفجر لا يجوز. فَرْعٌ آخر قال بعض أصحابنا بخراسان: لو عجّل رمي يوم النفر إلى يوم القرّ, هل يجوز أم لا؟ فإن قلنا: من فاته رمي يوم لا يجوز تعجيله, وإن قلنا: يقضي, هل له التعجيل؟ وجهان بناء على أنه إذا رمى الفائت من الغد, هل يكون قضاء أم أداء؟ فإن قلنا: أداء يجوز, وكان رمي الأيام كلها عبادة فيكون كالرمي في أول الوقت, وإن قلنا: قضاء, فلا يجوز, لأن الرمي بعد لم يجب حتى يجوز قضائه, وعلى هذا رمي كل يوم عبادة منفردة. والصحيح أنه لا يجوز تعجيله قولًا واحدًا. مسألة: قال (¬1): ولا بأس إذا رمى الرعاء الجمرة يوم النحر إن يصدروا ويدعو المبيت بمنى. الفَصلُ قد ذكرنا أن المبيت بمنى ليالي أيام التشريق من جملة النسك للخبر, ولكن يجوز للرعاء وأهل السقاية التي هي سقاية العباس دون غيرهما من السقايات إذا رموا يوم النحر أن يصدروا من شاء إلى مكة, ويدعوا المبيت بمنى, ويتركوا الرمي في أول يوم من أيام التشريق, وهو النفر الأول, فرموا عن اليوم الأول والثاني على الترتيب ثم ينفرون مع الناس إن شاؤو في النفر الأول. وبه قال مالك, وقال بعض العلماء إن شاؤو قدّموا الرمي, وإن شاؤو أخروه. وهذا غلط, لأنه لا يقضي حتى يجب, وهذا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم [150/ ب] أرخص لرعاة الإبل, وأهل سقاية العباس ذلك)). وروى أنه أرخص للرعاة أن يرموا يومًا, ويدعوا يومًا (¬2). وقال عاصم بن عدي رخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم لرعاء الإبل في البيتوتة أن يرموا يوم النحر, ثم يجمعوا رمي يومين بعد يوم النحر, فيرمونه في أحدهما (¬3). وقال مالك: ظننت أنه قال في الأولى منهما, ثم يرمون يوم النفر, وقال ابن عمر رضي الله عنهما استأذن العباس رضي الله عنه: رسول الله صلى الله عليه وسلم في ترك المبيت بمنى في لياليها لأجل سقايته, فأذن له (¬4). ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 90). (¬2) أخرجه أبو داود (1976) , والنسائي (3068) , والبيهقي في ((الكبرى)) (9675). (¬3) أخرجه مالك في ((الموطأ)) (1/ 408) , وأحمد (5/ 450) , وأبو داود (1975) , والترمذي (955) , والنسائي (3069) , وابن ماجه (3037) , وابن حبان (3877) , والحاكم (1/ 478) , والبيهقي في ((معرفة السنن)) (3079). (¬4) أخرجه البخاري (1743, 1744, 1745) , ومسلم (346, 1315).

فَرْعٌ كل معذور بمنزلة أهل السقاية والرعاء في هذه الرخصة بأن يكون عنده مريض منزول به يحتاج إلى القيام عليه, ويعهده أو كان به مرض يشق عليه البيتوتة بمنى أو له بمكة مال يخاف ضياعه إن بات بمنى ونحو ذلك. وقال بعض أصحابنا: فيه وجهان: أحدهما: ما ذكرنا, وهو القياس لأن كلهم في العذر سواء, وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما. والثاني: ليس له ذلك, والرخصة خاصة للرعاة وأهل السقاية, فلا يتعداهم. وروي أن عبد الرحمن بن فروخ قال لابن عمر: إنا نتبايع بأموال الناس, فيأتي أحدنا مكة فيبيت على المال, فقال: أما رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بات بمنى وظل (¬1). فَرْعٌ لو عمل أهل العباس أو غيرهم في غير سقايته, هل يجوز لهم ترك المبيت والرمي؟ فيه وجهان: أحدهما: لا. والثاني: بلى, قياسًا عليهم, هكذا ذكر أبو حامد, وقد نص في ((الأوسط)) على أنه يشاركه سائر السقايات على ما ذكرنا. فَرْعٌ آخر في سقاية العباس لا فرق بين أن يكون الذي يتولى أمرها من ولد العباس أو غيرهم من الناس, وكانوا [151/ أ] يعدون السويق والنبيذ النقيع للحاج. ومن أصحابنا من قال: هذه الرخصة للرعاء وأهل السقاية إذا كانوا من أهل النبي صلى الله عليه وسلم, وهذا غير صحيح, وقال مالك وأبو حنيفة: الرخصة لآل العباس دون غيرهم, وهذا غلط, لأنه لا رخصة لآل العباس إذا لم يكونوا من أهل السقاية, فدل أن الاعتبار بالعمل الشاغل لا بالنسب, وهو معنى قول الشافعي بعد هذا, ولا رخصة فيها إلا لمن ولّي القيام عليها منهم, وسواء كان من استعملوا عليها ن=منهم, أو من غيرهم في ثبوت الرخصة له. فَرْعٌ آخر لا تلزمهم الفدية بترك المبيت هناك, لنه أبيح لهم تركه بظاهر عذرهم وعموم منفعتهم العائدة إلى الوقفة, وذلك أن الإبل لو أضحت ضاقت بها منازلهم وثقلت عليها مؤنتها, واختلطت البهائم بالناس عند المشاعر والمناسك. فَرْعٌ آخر لا رخصة للرعاة في ترك الرمي يوم النحر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرخص في ذلك لأحد, ¬

_ (¬1) أخرجه البهيقي في ((الكبرى)) (9689).

ولأن أرباب الإبل إنما يمشي إلى الرعي بعدما نزلوا, واطمأنت بهم الدار بمنى, وذلك لا يكون في بكرة النهار, ولذلك لا يرخّصون في تأخير الطواف الواجب, لأنه مؤقت بذلك اليوم يكره تأخيره عنه. فَرْعٌ آخر لو لم يصدروا حتى غربت الشمس يوم النحر, قال أصحابنا: كان لأهل السقاية أن يصدروا, وليس للرعاء أن يصدروا. والفرق أن عذر السقاية بالليل والنهار واحد, والرعي إنما يكون بالنهار دون الليل. فَرْعٌ آخر من لا عذر له إذا لم يبت ليلة اليوم الأول من أيام التشريق, وليلة اليوم الثاني, وجاء في اليوم الثاني, وهو النفر الأول, فأراد أن يرمي وينفر مع الناس. قال أصحابنا: ليس له [151/ ب] ذلك, لأنه لا عذر له, وإنما جوّز للرعاء وأهل السقاية للعذر وجوّز لسائر الناس أن ينفروا لأنهم قد أتوا بمعظم الرمي والمبيت, وهذا فلا عذر له, ولم يأت بالمعظم, فلا يجوز له أن ينفر. مسألة: قال (¬1): ويخطب الإمام بعد الظهر اليوم الثالث من يوم النحر, وهو النفر الأول, فيودع الحاج ويعلمهم أن من أراد التعجيل, فذلك له. هذه هي الخطبة الرابعة, وهي خطبة واحدة يستحب للإمام ذلك يوم النفر الأول بعد الظهر, فيودع الحاج لأنها آخر خطب الحج ويعلمهم أن من أراد التعجيل, ف لك له يأمرهم أن يختموا حجتهم بتقوى اللع وطاعته واتباع أمره, لأن الأمور بخواتيمها. وقال أبو حنيفة: لا تستحب هذه الخطبة وهذا غلط لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في أوسط يوم من أيام التشريق أورده أبو داود, ولأن بالناس حاجة بمعرفة ما ذكرنا, فلا بدّ من الخطبة. مسألة: قال (¬2): ومن لم يتعجل حتى يمسي رمى من الغد. الفَصلُ قد بينا أنه يجوز أن يرمي يومين من أيام التشريق وينفر في اليوم الثاني بعد الرمي قبل غروب الشمس, ولا يرمي في اليوم الثالث, فإن لم يتعجل حتى غربت الشمس يلزمه أن يبيت بها, ويرمي من الغد. والأصل فيه قوله تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] , فقيد التعجيل باليوم, فدل أنه إذا انقضى اليوم, انقضى وقت التعجيل, فإن قبل: في التعجيل يجوز أن يقال: لا إثم عليه, فما معنى قوله تعالى: {ومَن تَأَخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ} , وإذا تأخر ورمى في اليوم الثالث, فلم يترك شيئًا من الرمي بل أتى بكماله, وهذا التأخير فضيلة, فلماذا قال: ((فلا إثم عليه)) [152/ أ]. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 90). (¬2) انظر الأم (2/ 90).

قلنا: قال ابن مسعود رضي الله عنه: من تعجل فلا إثم عليه، أي: كفرت سيئاته، وذلك من تأخر ورمى كفرت سيئاته، وقيل: فلا إثم عليه بالتعجيل، وقوله: {ومَن تَأَخَّرَ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ} من المواجهة في الكلام، وقيل: ورد علي سبب، وهو أن قومًا قالوا: لا يجوز التعجيل، وقومًا قالوا: لا يجوز التأخير، فوردت الآية علي ذلك. وقيل: أراد، لا إثم عليه لترك الرخصة بالخروج يوم النفر الأول. وحكي عن الحسن البصري أنه قال: إذا دخل عليه وقت العصر في اليوم الثاني لا يجوز له أن ينفر. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: يجوز له أن ينفر ما لم يطلع الفجر، لأنه لم يدخل وقت الرمي بعد، وهذا غلط لقوله تعالي: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203]، واليوم اسم للنهار، وإذا غربت الشمس فقد خرج اليومان. وقال عمر رضي الله عنه: من أدركه المساء في اليوم الثاني، فليقم إلي الغد حتي ينفر مع الناس (¬1)، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: لا يلزمه الرمي من الغد إلا أن يمكث حتى تزول الشمس من الغد، فيلزمه الرمي حينئذ، وفيه نظر. فَرْعُ لو خرج منها، قيل أن تغرب الشمس نافرًا، ثم عاد إليها مارًا أو زائرًا لم يكن عليه أن بيت، ولا يلزمه لو بات أن يرمي من الغد، نص عليه في "الأوسط" (¬2)، لأنه ترخص بالتعجيل، فلا يتغير حكمه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يلزمه المبيت هذه الليلة والرمي من الغد؟ وجهان. فَرْعُ آخرُ قال أصحابنا: لو رحل من منى فغربت الشمس، وهو راحل قبل انفصاله من منى لم يلزمه المقام، لأن عليه مشقة في الحط بعد الترحال، وإن كان مشغولًا بالتأهب، وحمل رحله، فغربت الشمس قبل أن يرحل فيه وجهان: أحدهما: ليس له [152/ب] أن يتعجل، لأنه أدركه الليل قبل الرحيل، وهو المذهب. والثاني: له أن يتعجل، لأنه أخذ في التعجيل، ولعله شد متاعه، وعليه في حله مشقة. فَرْعُ آخرُ إذا نفر وتعجل بطرح الحصى الذي معه لليوم الثالث، أو يدفعه إلي من لم يتعجل، فأما ما يفعله الناس اليوم من دفنه، لا يعرف فيه أثر. فَرْعُ آخرُ السنة في اليوم الذي يريد النفر. إما النفر الأول، أو الثاني أن يرمي عقيب زوال ¬

_ (¬1) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 407)، والبيهقي في "الكبرى" (9686). (¬2) أنظر الأم (2/ 180).

الشمس، ويخرج فيصلي الظهر خارجًا من منى كما قال الشافعي، والصبح آخر صلاة بمنى. مسألة: قال (¬1): وإن تدارك عليه رميان في أيام منى أبتدأ الأول حتى يكمل. الفصْلُ إذا ترك الرعاة وأهل السقاية الرمي في اليوم الأول، وأرادوا الرمي عن الأول في اليوم الثاني، أو نسي رجل شيئًا من رمي الأول، وأراد أن يرميه في اليوم الثاني، أو تركه عامدًا. وقلنا: يرمي في اليوم الثاني، فالحكم في الكل واحد، فقد اجتمع ههنا رميان عن يومين، فالمستحب أن يأتي به علي الترتيب فيبدأ برمي اليوم الأول، ثم بالثاني، وهل يستحق هذا الترتيب؟ قولان بناءً على أن الرمي محدود الأول والآخر، أو محدود الأول دون الآخر، فإن قلنا بهذا القول، وهو المذهب علي ما ذكرنا، فما يأتي به في أيام التشريق يكون أداء يلزمه الترتيب فيه، ولا يجوز إلا مرتبًا، وإذا قلنا بالقول الآخر، لا يلزمه الترتيب، لأن ترتيب الجمار من ناحية الوقت، وهو تابع الأيام، فإذا فات الوقت سقط الترتيب كالترتيب في الصلوات. وقيل: إذا قلنا: لا ترتيب علي غير المعذور، فعلى المعذور وجهان بناء علة أن من أخر الظهر إلي [153/أ] العصر في السفر، هل عليه الترتيب وجهان، فإذا قلنا: لا ترتيب، فهو بالخيار إن شاء بدأ بالثاني، ثم بالأول، وإن شاء رمى أربع عشرة حصاة في جمرة وأربع عشرة في جمرة أخرى. وإذا قلنا: يلزمه الترتيب فعليه أن يبدأ بالأول، ثم بالثاني، ولا يجوز أن يرمي بأربع عشرة حصاة في مقام واحد يعني عن اليومين كما نص عليه ههنا. فَرْعُ لو بدأ بالرمي عن اليوم الثاني، ونوى ذلك، هل يقع عن اليوم الأول؟ وجهان: أحدهما: يقع عن اليوم الأول، وهو الصحيح كما لو طاف عن غيره، وعليه طواف الفرض، أو طواف الوداع، وعليه طواف الزيارة، أو رمى عن المريض قبل أن يرمي عن نفسه كان عن نفسه. والثاني: لا يجوز أصلًا، لأنه رمى عن الثاني قبل الأول، والترتيب واجب فلا يقع عن الثاني، ولا يقع عن الأول، لأنه يم ينوه، وهو كما لو بدأ بالعصر قبل الظهر في يوم عرفة لم يجز عن العصر، ولا عن الظهر. فَرْعُ آخرُ لو رمى عن اليوم الأول في ليلة اليوم الثاني يجوز، لأن وقته سابق، ولا يجوز أن رمي عن اليوم الثاني إلا بالنهار بعد زوال الشمس. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 91).

أحدهما: هذا ويجعل الليلة تبعًا لليوم الذي مضى كما يجعل ليلة النحر تبعًا ليوم عرفة في حكم الوقوف. والثاني: لا يجوز حتى يأتي الغد، فإن وقت الرمي بعد الزوال نهارًا وكل ليلة لليوم المستقبل، قالوا: وهذا أصح، وليس كذلك، بل الصحيح ما ذكرنا. فَرْعُ آخرُ قال بعض أصحابنا بخراسان: ولو رمى عند الجمرات سبعًا سبعًا مرتين، ولكنه نوى في الدفعة الأولى أن يكون رمى يومه. وفي الثانية أن تكون عن اليوم الأول. وقلنا: يلزم [153/ب] الترتيب، هل تجزئه السبع الأول الذي نواه عن اليوم الثاني؟ لا يقع عن اليوم الثاني لأن عليه رمي اليوم الأول، وهل يقع عن اليوم الأول علي ما ذكرنا من الوجهين؟، فإن قلنا: يقع عن اليوم الأول، فالسبع الثاني يسقط لأن الفرض في هذه سقط. وإن قلنا: يقع عن اليوم الأول، فالسبع الثاني يسقط لأن الفرض في هذه الجمرة سقط. وإن قلنا: لا يقع كان السبع الذي نواه عن اليوم الأول تحريه عنه، لأن الأول صار كالمعدوم. فَرْعُ آخرُ يوالي الحصيات، فإن فرق، فإن لم يطل الفَصْلُ أجزأه، وإن طال الفصل فيه قولان، كما قلنا: في تفريق الوضوء، وكذلك يوالي بين الجمرات، ولا يفصل بينها إلا بقدر وقفة الدعاء، فإن طول فيه قولان. مسألة: قال (¬1): إن أخر ذلك حتى تنقضي أيام الرمي. الفَصْلُ إذا انقضت أيام التشريق، وعليه شيء من الرمي، فإن عليه في حصاة واحدة مدًا من طعام في أشهر أقاويله. وقد ذكرنا قولين آخرين، وإذا بقيت عليه حصاتان، فمدان، وإن بقيت عليه ثلاث حصيات، فدم والغافل والناسي في ذلك سواء، ولا يجوز أن يكون المد من غير القوت هذا معنى قوله حيث قال: فعليه مد من طعام، وأراد به الحب، والأفضل أن يكون حنطة، ولا يجوز سوى ذلك إذا كانت أقواتهم في ذلك الموضع حنطة، والاعتبار في ذلك بمد الرسول صلى الله عليه وسلم كما قلنا في زكاة الفطر، وهذا المد مصروف في مسكين واحد، ولا يجوز دفعه إلي مسكينين، والمدان في ترك حصاتين يلزنه دفعهما إلي مسكينين، ولا يجوز دفعهما إلي مسكين واحدٍ. هكذا [154/أ] ذكره بعض أصحابنا، وفيه نظر عندي لأنهما في حكم كفارتين كالمدين لصومين في حق الشيخ الهرم. فإذا تقرر هذا، ففي لفظ "المختصر" إشكال، وذلك أن ظاهره يقتضي بأنه لا فرق بين أن يترك حصاة واحدة من اليوم الأخير، أو يتركها من اليوم قبله، وليس مذهبه علة هذا الإطلاق، لأنه أوجب الترتيب في هذا الباب مرتين، وعلى هذا لو ترك حصاة واحدة من الجمرة الأولى يوم القر لم تحتسب له في ذلك اليوم الجمرة الثانية، ولا ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 91)

الثالثة، فإذا رمى في يوم النفر الأول إلي الجمرة الأولي بسبع حسب له ههنا واحدة ويكمل بها رمي أمسه إلي الجمرة الأولى وألغينا الحصيات الست، فلما رمى إلي الجمرة الثانية والثالثة، وعنده أنه يرمي رمي يوم النفر الأول، رجع ذلك كله إلي يوم القر، وبقي عليه رمي يوم النفر الأول بكماله، فإذا رمى يوم النفر الثاني إلي الجمرات الثلاث ظانًا أنه يعمل نسك يومه انصرف ذلك كله إلي أمسه، فتغرب الشمس عليه آخر أيام التشريق، وعليه إحدي وعشرون حساة بسبب حصاة واحدة تركها من يوم القر، فلا يتصور ترك حصاة واحدة على هذا إلا أن يتركها في اليوم الأخير من الجمرة الأخيرة، فيلزمه لها مد، وإذا لم يوجب الترتيب في الأيام خرج الجواب سهلًا، فيتصور ذلك سواء تركها من الأولى أو الثانية. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قول آخر لا دم إلا في جمرة كاملة، ويلزم في حصاة واحدة من جمرة واحدة سبع دم أو درهم، أو مد [154/ب] علي اختلاف الأقوال، وهذا ليس بشيء. وقال أبو إسحاق: قال الشافعي في موضع من "الإملاء": إذا ترك رمي يوم فعليه مد، وإن ترك رمي يومين فعليه مدان، وإن ترك رمي الثلاثة فعليه دم. قال أبو إسحاق: فعلى هذا يجب في الحصاة، والحصاتين وأكثر، أي: تمام كل يوم مد، فإذا ترك رمي الثلاثة وجب الدم، ويكون رمى كل يوم من أيام منى بمنزلة مبيت ليلة من لياليه، ويجب على هذا أن يقول في كل يوم درهم وفي يومين درهمان، وفي الثلاثة دم أو في يوم ثلث دم، وفي يومين ثلثا دم، وفي الثلاثة دم علي اختلاف الأقوال. وقال أبو حنيفة: إذا ترك أكثر الجمرات، وهو أربع حصيات يلزمه دم، وفي واحدة نصف صاع، وفي اثنين صاع، وفي ثلاث صاع ونصف. فَرْعُ لو ترك الرمي في الأيام الثلاة، فإن قلنا بالقول المشهور إن الأيام الثلاثة كاليوم الواحد، يلزمه دم واحد، وإن قلنا بقوله في "الإملاء" إن رمى كل يوم مؤقت بيومه، يلزمه ثلاثة دماء. فَرْعُ آخرُ لو ترك الرمي في يوم النحر وأيام التشريق، فإن قلنا بالقول المشهور يكفيه دم واحد، وإن قلنا: إنه ينفرد رمى يوم النحر عن أيام التشريق، وهما جنسان يلزمه دمان: دم لرمي يوم النحر، ودم آخر لرمي أيام التشريق، وإن قلنا: رمي كل يوم مؤقت بيومه لزمه أربعة دماء. فَرْعُ آخرُ المريض الذي لا يستطيع الرمي، فإن المستحب له أن يناول الحصاة غيره حتى يرمي عنه. وقال في "الأوسط" (¬1): ويرمي المريض في يد [155/أ] الذي يرمي عنه، ويكبر، ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 180)

وإن لم يناوله، ورمى عنه بأمره جاز، وهذا لأنه لو عجز عن أصل الحج جازت النيابة، فكذلك لو عجز عن بعض أفعاله، فإن قيل: أليس لا تجوز الاستنابة في الحج إلا بعد اليأس؟ وههنا تجوزن قبل اليأس، قلنا: الفرق أنه لا يتعين عليه الدخول في الحج، فلا تجوز الاستنابة فيه مع الرجاء، وههنا تعين عليه الرمين ويفوت وقته بالتأخير، فجازت الاستنابه فيه للعجز في الحال، وإن لم يوجد اليأس، ولا يجوز أن يرمي عنه إلا بإذن لأنه رمى يمكن استئذانه. فَرعَ آخرُ لو رمى عن المريض من لم يرم عنه نفس؟ ثم عن نفسه أجزأه رميه عن نفسه، ثم أي الرميتين تجوز عن نفسه، هل هو الرمي الأول الذي رماه عن المريض، أو الثاني الذي رماه عن نفسه؟ فيه وجهان: أحدهما: الثاني لوجود القص فيه. والثاني: الأول، لأن من كان عليه نسك، ففعله عن غير وقع عن نفسه كالطواف، وأما رميه عن المريض، هل يجوز أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأنا إن جعلنا الرمي الأول عنه، فالثاني لم يقصد به المريض، وإن جعلنا الثاني عنه فقد وجد الأول قبل رميه عن نفسه، فلم يجزه عن المريض. والثاني: يجوز لأن الرمي يفارق سائر أركان الحج، فجاز أن يفعله عن المريض قبل فعله عن نفسه. فَرْعُ آخرُ لو رمى عنه غيره ثم برأ من مرضه في أيام التشريق. قال في "القديم": أحببت له أن يعيد الرمي عن نفسه، وإنما قلنا ذلك لبقاء وقت الرمي، فإن لم يعد أجزأه لأن الفرض سقط عنه [155/ب] بفعل غيره. قال والدي رحمه الله: فيه قولان: أحدهما: هذا. والثاني: تلزمه الإعادة كالمغضوب إذا حج عن نفسه رجلًا، ثم برأ تلزمه الإعادة. فَرْعُ آخرُ قال أصحابنا: والمحبوس عن الرمي بحق أو بغير حق إذا كان لا يقدر علة التخلص منه، ومباشرة الرمي بمنزله العاجر المريض، ولا يجوز للمحبوس أن يجهز من يحج عنه، لأنه لا يخاف فوت الحج ويخاف فوت الرمي، ولهذا جاز عن المريض بخلاف الحج. فَرْعُ آخرُ لو أغمي عليه قبل الرمي، فإن لم يكن أذن في الرمي لغيره في الرمي عنه، لم يجز أن يرمي عنه غيره، وإن كان أذن لغيره في أن يرمي عنه، ثم أغمي عليه جاز أن يرمي عنه.

قال أصحابنا: هذا إذا عجز عن الرمي بهجوم المرض، فأذن به قبل تمكن الإغماء فيجوز أن يرمي عنه، لأنه فعل عن إذن من يصح إذنه، وإن كان مطيقا للرمي فأذن قبل إغمائه لا يجوز، لأنه لا يصح الإذن في هذه الحالة، فإن قيل: هلا قلتم إن هذا الإذن يبطل بالإغماء؟ قلنا: إنما يبطل بالإغماء الإذن الذي لا يتعلق بالنسك فلا لأنه يلزمه كالمعصوب إذا أذن لغيره بالحج عنه، ثم أغمي عليه بعده لم يبطل الإذن. فَرْعُ آخرُ إذا رمي الرجل ريما عن نفسه ورميا عن غيره أكمل الرمي عن نفسه، ثم عاد فرمى عن غيره كما يفعل ذلك إذا تدارك عليه رميان. فَرْعُ آخرُ قال أصحابنا: وإذا نفر النفر الأول، ثم ذكر أنه نسي شيء من الحصى، قال في "مختصر الحج" (¬1): أحب أن يأتي به، وعليه دم، لأنه إنما يجوز الرمي في اليوم الثالث ما دام هو في الحج، فإذا تقرر النفر الأول، فقد خرج من الحج بدليل [156/أ] أنه يصح إحرامه بالعمرة الآن فلم يعتد بالرمي بعده، فعلى هذا يفوت الرمي أمرين: خروج وقته والخروج من الحج قبل خروج وقته. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان: أحدهما: هذا. والثاني: إن عاد بعد غروب الشمس لم ينفعه وتقرر الدم، وإن عاد قبل الغروب ذلك اليوم ورمى سقط الدم، كما لو ترك في يوم النحر، أو يوم القر، وعاد قبل الغروب ذلك اليوم ورمى لا يلزمه شيء، وهذا خلاف النص الذي ذكرناه والفرق ظاهر. مسألة: قال (¬2): وإن ترك المبيت ليلة من ليالي منى، فعليه مد. قد ذكرنا ما قيل فيه، وعند أبي حنيفة، لا يلزمه شيء والمنصوص ههنا المد، وفي الثلاثة الدم، ثم فسر الشافعي الدم، فقال: والدم شاة يذبحها لمساكين الحرم، وهو صحيح، وهكذا كل دم يلزمه في النسك، فإنما هو لمساكين الحرم. ولفظه يدل علي أنه لا يجوز شوي اللحم والتصدق به بل يجب إراقة الدم، ولا يجوز أن ينقل اللحم عن مساكين الحرم إلي غيرهم خلافًا لأبي حنيفة، ثم بين من رخص له ترك المبيت بمنى، فقال: ولا رخصة في ترك المبيت بمنى إلا لرعاء الإبل وأهل سقاية العباس. وقد ذكرنا ذلك والكمال أن يبيت ليالي أيام التشريق كلها، فإن بات ليلتين وتعجل وترك الثالثة كان له ما لم تغرب الشمس على ما ذكرنا في الرمي، فإن قال قائل: أليس له تعجيل يوم النفر الأول، فإذا ترك ثلاث ليالٍ وجب أن لا يلزم الأخير أن ليلتين، لأنه يجوز له ترك الليلة الثالثة ولبى له هذه الرخصة بشرط أن يبيت الليلتين، فأما إذا ترك ذلك صار تاركًا للكل، فعليه الدم [156/ب]. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 187). (¬2) انظر الأم (2/ 91).

فَرْعُ كل من رمى اليوم الثالث راكبًا بعد الزوال سار علي وجهه إلى منى، فإذا انصرف الليلة الرابعة عشر وأتى المحصب، وهو الأبطح، وهو خيف بني كنانة وحده من الحجون وما عن الجبل الذي إليه المقبرة إلي الجبل الذي يقابله وسمي المحصب لأن حصى جمرة العقبة يسيل إليه، وقيل: سمي به لأنه موضع كثير الحصى نزل هناك استحبابًا. هكذا ذكره أبو حامد، وظاهر كلام الشافعي، أنه لا استحباب فيه، وصلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء، إن اختار ذلك، ثم أفاض في جوف الليل إلي مكة. هكذا فعل عمر رضي الله عنه، قال الشافعي: وليس المحصب بنسك، وإنما هو منزل نزله رسول الله صلى الله عليه وسلم فمن شاء نزله ومن شاء لم ينزله. وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالبطحاء ثم هجع بها هجعة، ثم دخل مكة (¬1)، قالت عائشة رضي الله عنها: إنما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم المحصب ليون أسمح لخروجه وليس بسنة من شاء نزله ومن شاء لم ينزله (¬2). وقال أبو رافع وكان علي ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما ضربت له قبة بالمحصب، ولم يأمرني بذلك، ثم نزل فيها (¬3). وروي عن عم أنه قال: هو نسك. ويروى أيضًا عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. مسألة: قال (¬4): ويفعل بالصبي في كل أمره ما يفعل الكبير. عندنا للصبي حج شرعي صحيح، وكذلك العمرة، فإن بلغ حد التمييز فأحرم بحج، أو عمرة صح إحرامه، وانعقد [157/أ] وإن كان غير مميز فأحرم عنه وليه، انعقد الإحرام وصار الصبي محرمًا به، ويتجنب ما يتجنبه المحرم، فإن فعل شيئًا من محظورات الإحرام تلزمه الفدية، وإن بلغ الوقوف أجزأه عن حجة الإسلام، ولا يحتاج إلي استئناف الإحرام. وبه قال مالك وأحمد وقال أبو حنيفة: ليس له حج شرعي، ولا ينعقد إحرامه به. ولا يصير محرمًا بإحرام الولي عنه، ولكنه لو أحرم الولي عنه يتجنب ما يتجنبه المحرم امترانًا واعتيادًا، ولا تلزمه الفدية بارتكاب محظوراته، وهذا غلط لما روى ابن عباس، قال: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بركبه في الروحباء، فقالوا: من القوم؟ فقالوا: المسلمون، فمن القوم؟ فمن القوم؟ فقالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرفعت إليه امرأة صبيًا لها من محفتها، فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ فقال: "نعم، ولك أجر" (¬5)، وقال السائب بن يزيد: حج بي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وأنا ابن تسع سنين (¬6). وقال عقبة بن ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1758). (¬2) أخرجه البخاري (1765)، ومسلم (340/ 1311). (¬3) أخرجه مسلم (242/ 1313). (¬4) انظر الأم (2/ 92). (¬5) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 422)، ومسلم (409/ 1336)، وأبو داود (1736)، والترمذي (942)، والنسائي (5/ 121)، وابن ماجه (2910)، وأحمد (1/ 219). (¬6) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (9711).

عامر: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: أحج بابني وهو مرضع أو صغير، قال: "نعم"، فإذا تقرر هذا، فالكلام في حج الصبي في ثلاثة فصول: في الإحرام منه أو عنه، وما يفعله بنفسه أو بغيره، والحكم في محظورات إحرامه، وقيل: في أربعة فصول، والرابع في النفقة عليه في حجه، فأما الإحرام عنه. قال الشافعي: أحرم عنه وليه، والولي: الأبوان. واختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: ينعقد بالأبوين فقط والعلة في الولاية البعضية. وبه قال أكثر أصحابنا البصريين وأشار إليه أبو إسحاق، [157/ب] وعلي هذت يصح من الجد والجدة من قبل الأب أو الأم، ولا يصح من الإخوة والأعمام. وقال بعضهم: يعقد الأب والجد من قبل الأب، فإن لم يكونا، وله أم فعلى مذهب الاصطخري تنتقل ولايته المال إلي الأم إذا لم يكن له أب ولا جد فيجوز لها عقد الإحرام عنه أيضًا، وعلي قول سائر أصحابنا لا تلي الأم المال، فعلى هذا لا تحرم عنه كالأخ، وهو المذهب والعلة الولاية في المال، وعلى هذا لا يصح من الجدة أصلًا، ومن قال بهذا أحاب عن الخبر، فإن يحتمل انه أحرم عنه وليه، والأم وحملته لإتمام حجه. ومن أصحابنا من قال: العلة، التعصيب، فلا يصح إحرام من ليس بعصبة عنه، وهو قول كثير من أصحابنا البغداديين، فعلى هذا لا يصح من الأم والجدة والجد أب الأم، ويجوز من الأخ والعم، ومن أصحابنا من قال: كل من له ولاية في ماله يحرم عنه سواء كانت الولاية بالتولية أو شرعًا، وهو مثل الأب والجد والوصي وأمين الحاكم، وأما الأخ والعم إن نصبه الحاكم وليًا عليه في المال، أو كان وصيًا من قبل الأب يحرم عنه، وإن لم يكن، كذلك فيه وجهان: أحدهما: له الإحرام عنه لأن له تأديبه والتصرف فيه بما يردي إلى مصلحته من حمله إلي الكتاب والحرفة وسماع الأحبار، وهذا أضرب من الولاية، فكذلك عقد الإحرام عليه. والثاني: ليس له ذلك، لأنه يتعلق بالحج إنفاق المال والمسافرة به، فلا يجوز ذلك إلا لمن له ولاية تامة. وقال القفال: لا خلاف في الأم أنه يجوز لها ذلك للخبر، ولا يجوز ذلك للأجنبي، وإن كان يلي المال بالوصاية [158/أ] والتولية من الحاكم قولًا واحدًا. وقال في "الحاوي" (¬1): لا يجوز من أمين الحاكم بحال قولًا واحدًا، وفي وصي الأب وجهان: أحدهما: يجوز، لأنه ينوب عن الأب. والثاني: لا يجوز، وهو الأصح لأنه لا يلي بنفسه ويختص ولايته بالمال كأمين الحاكم. فَرْعُ إذا أحرم عنه وليه يجوز سواء كان الولي محلًا أو محرمًا، وسواء كان حج حجة الإسلام أو لم يحج ويفارق الأجير لا يحرم عن الغير، وعليه فرضه لأنه يصير الأجير حاجًا دون المستأجر وههنا الولي لا يصير حاجًا، بل يعقد النكاح والبيع له. ومن ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (4/ 208).

أصحابنا من قال: إذا أحرم وهو محرم، فيه وجهان: أحدهما: ما ذكرنا. والثاني: لا يجوز منه ذلك لأن من كان في نسك لم يجز أن يفعله عن غيره ذكره في "الحاوي" (¬1). فَرْعُ آخرُ في كيفية إحرامه عنه وجهان. قال البصريون: يقول عند الإحرام: اللهم إني قد أحرمت عن ابني، وعلى هذا يجوز أن يكون غير مواجه للصبي بالإحرام ولا مشاهد له إذا كان الصبي حاضرًا بالميقات. والثاني، قاله البغداديون يقول عند الإحرام: اللهم إني قد أحرمت بابني، وعلى هذا لا يجوز أن يكون غير مواجه للصبي بالإحرام. وأما حكم الأفعال فجملته أن كل ما يمكنه فعله بنفسه لا يجوز أن يفعل عنه، ولا يمكنه فعله بنفسه يفعل عنه. أما الإحرام، فإن كان مميزًا أحرم بنفسه، ثم إن كان بإذن وليه، فلا إشكال في جوازه، وإن كان بغير إذنه اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: ينعقد إحرامه كما ينعقد صومه وصلاته. وقال أكثر أصحابنا، [158/ب] وهو اختيار القفال، وأبي حامد لا ينعقد لأن هذا العقد يؤدي إلي لزوم ماله فيه، أو عند التحلل عن الإحصار، ولفظ الصبي لا يصلح للزوم. وهذا الأذن إنما يصح من الولي الذي يصح إحرامه عنه إذا لم يكن مميزًا، وقد ذكرنا ذلك، وإن لم يكن مميزًا فقد ذكرنا أنه يحرم عنه وليه، وقد قيل: فيه وجه يحرم عنه وليه وإن كان مميزًا ولا يحرم هو وأما الوقوف والمبيت بمزدلفة ومنى، فلا يفعل عنه، لأنه ليس في أكثر من الحضور والوقوف، فكان المميز ومن لا تمييز له فيه سواء. وأما الرمي، فإن كان يطبقه رمى بنفسه، وإن لم يطقه رمى عنه وليه علي ما بيناه في المميز المريض. وقد روى جابر رضي الله عنه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهللنا عن الولدان ولبينا عنهم ووقفنا ثم رمينا عنهم الجمار" (¬2). فَرْعُ آخرُ لو كان الولي محرمًا فرمى عنه، فإن كان هو رمى عن نفسه صح رميه عن الطفل، وإن لم يكن رمى عن نفسه صح ما رماه عن نفسه ثم يلزمه الرمي عن الصبي. وفيه وجه آخر. قد ذكرنا من قبل في نظير هذه المسألة. وأما الطواف فإن كان مطيقا طاف بنفسه وإن لم يطقه طاف به الولى، فإن كان قد طاف عن نفسه، أو كان حلالًا أجزأه عنه، وإن كان محرمًا، ولم يطف عن نفسه فقد ذكرنا قولين. وقال القفال: أصل [159/أ] القولين إن الطواف هل يفتقر إلى النية وجهان: أحدهما: لا يفتقر إلى النية حتى لو حصل طائفًا، وهو يطلب غيره بماله جاز، فعلى هذا يقع عنه. ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (4/ 210). (¬2) أخرجه الترمذي (927)، وابن ماجه (3083).

فَرْعُ لو أركبه الولي دابته فطافت به لم يجز حتى يكون الولي معه سائقًا أو قائدًا، لأن الصبي غير مميز، ولا تصح العبادة من الدابة. فَرْعُ آخرُ إذا طاف به فإن كانا محدثين لم يجز، وإن كان الولي محدثًا، والصبي متطهرًا لم يجز أيضًا، لأن الطواف بمعونة الولي يصح ولا يصح إلا بطهارة، وإن كان الولي متطهرًا والصبي محدثًا، فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأن الطواف بالصبي أخص منه بالولي، فإذا لم يجز أن يكون الولي محدثًا، فالصبي أولى. والثاني: يجوز، لأن الصبي لو لم يكن مميزًا لا يصح منه فعل الطهارة تنوب عنه طهارة الولي كما في الإحرام، فيجوز أن لا يكون هو متطهرًا. فَرْعُ آخرُ لو كان مميزًا يصلي خلف المقام ركعتين، وإن لم يكن مميزًا يلزم علي وليه أن يصلي عنه ركعتي الطواف، لأن ذلك مخصوصًا بجواز النيابة فيها تبعًا لأركان الحج. فَرْعُ آخرُ لو طاف الولي به، وهو محرم، ونوى عن طواف نفسه وطوافه يجزئه عن طوافه وهل يجوز عن الصبي؟ فيه وجهان تخريجًا من القولين فيما لو كان عليه طواف فطاف، ونواه عن الصبي ذكره في "الحاوي" (¬1). وأما المحظورات وأحكامها، فإن تطيب أو لبس ناسيًا، أو جاهلًا، فلا شيء عليه، وإن كان عامدًان فإن قلنا: عمد الصبي خطأ، فلا شيء عليه أيضًا، وإن قلنا: عمده عمد ففيه الفدية. وقد قال الشافعي رضي الله عنه في [159/ب] "التقديم": لو ذهب ذاهب إلي أن الطيب واللباس لا يلزمه الفدية على الصبي كما لا يلزم علي الكبير عند الجهالة والنسيان، كان مذهبًا. وأما إذا قتل صيدًا أو حلق شعرًا، فهل يستوي الخطأ والعمد فيه؟ ذكرنا قولين، فإن قلنا: يستوي، تلزمه الفدية به، وإن قلنا: لا يستوي، فالحكم مثل ما ذكرنا في الطيب واللباس. وأما الوطء واللمس بالشهوة، فإن كان ناسيًا أو جاهلًا، كان كالبالغ الناسي والجاهل، وفيه قولان، قال في "القديم" يفسد حجة ويلزمه بدنة، وقال في "الجديد": لا شيء عليه، وإن كان عامدًا، فإن قلنا: عمده عمدًا، وهو الأصح فسد حجة ووجبت البدنة قولًا واحدًا، وإن قلنا: عمده خطأ، فعلى القولين على ما ذكرنا. فَرْعُ إذا أفسدنا حجه بالوطء، هل يلزمه قضاؤه؟ فيه قولان منصوصان: أحدهما: يلزمه القضاء لأنا إذا جعلناه مفسداً لزمه المضي في الفاسد، ومن أفسد ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (4/ 210).

الحج ولزمه أن يمضي في فاسدةً يلزمه القضاء. والثاني: لا يلزمه ذلك، لأنه لا يجوز أن يتوجه عليه ابتداء فرض الحج لعدم التكليف، هكذا ذكر في "الحاوي" (¬1). والمسألة معروفة بالوجهين. فرع آخر إذا أوجبنا القضاء هل يجوز في حال صغره؟ اختلف أصحابنا فيه، منهم من قال: يجوز وهو المذهب. وقيل إن الشافعي رضي الله عنه نص عليه لأنه لما جاز أن يتعلق فرض القضاء بذمته قبل بلوغه جاز أن يصحّ منه فعله قبل بلوغه، ومنهم من قال: لا يجوز. وبه قال مالك وأسد، وقيل؛ نص عليه في "الإملاء"، لأنه لا يجوز أن يؤدي الفرض قبل البلوغ. وقال القاضي الطبري: فيه قولان: وهذا أظهر، وهذا [160/ أ] ينتقض المضي في فاسدةً، فإنه يلزمه في صغره. فرع أخر إذا قلنا: يجوز أن يقضي في صغره فلم يقض حتى بلغ، أو قلنا: لا يجوز أن يقضي في صغره، فقضى بعد بلوغه يجزئه عن حجةَ الإسلام، نظر في التي أفدها، فإن كانت لو سلمت عن الفساد أجزأته عن حجةُ الإسلام مثل إن بلغ قبل فوات وقت الوقوف، فوقف فالقضاء. يجزئه عن حجةَ الإسلام وإن كانت لو سلمت لم تجزئه عن حجة الإسلام مثل إن بلغ بعد فوات وقت الوقوف لا يجزئه القضاء عن حجةَ الإسلام، ولكنه إذا أحرم به انعقد عن حجةَ الإسلام، فيقع عن حية الإسلام، ويكون القضاء في ذمته. فرع أخر إذا قلنا: على الصبي، كانت الفديةَ على التخيير، فإن أراد أن يصوم في صغره؛ هل يجوز؟ وجهان بناء على قضاء الحج في الصغير. وأما حكم النفقةَ، فالقدر الذي كان يلزمه في الحضر في مال الصبيّ، وأما ما زاد عليه بسبب السفر نص في "الإملاء" أنه في مال الولي، لأنه الذي أدخله فيه، والحج لم يكن واجبًا عليه، ويفارق الإنفاق للتأديب من ماله، لأن بالصبي حاجةً إلى تعليم ذلك في صغره للاعتياد والامتران، فجاز أن ينفق من ماله في ذلك، وليس به حاجةً إلى تعليمه الحج في الصغر، لأن العادةَ أن من كبر يدعوه طبعه إلى مصاحبة [160/ أ] الرفقة والخروج إلى الحج، وتعلم المناسك، فلا حاجةً به إلى تعلم، ذلك في الصغر، فلا يجوز إنفاق المال عليه في ذك، وأيضًا الصبي إذا بلغ تلزمه الصلاةً على الفور، ولا يمكنه أن يؤديها إلا أن يكون قد تعلم ذلك بلوغه في الصغر، فجاز الاتفاق عليه لتعلمه ولا يستحق عليه أداء الحج عقيب البلوغ، لأنه على التراخي فيمكنه تعلمه بعد البلوغ، ولا يفوت ذلك، فلا يجوز الإنفاق عليه من ماله لتعلمه. وبه قال مالك وأحمد ومن أصحابنا من قال: إنه من مال الصبي كأجرةُ تعليم القرآن، لأنه من مصلحته، وهذا ضعيف. والفرق ظاهر، وقال القاضي الطبري: فيه قولان، وهذا ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (4/ 211).

غريب، ولو أحرم بغير إذن الولي. وقلنا: يصح. وقلنا: إذا أحرم بإذن الولي كانتا الزيادةَ على نفقةُ المقام في مال الولي، فهنا إذا لم يرد الولي أن يحلله ينفق عليه قدر نفقةَ الإقامةً، فإن أمكنه آن يحج به يحج وإلا يتحلل، وعلى هذا لو أراد الولي أن يفتدي عنه بالمال، فالمذهب أنه لا يجوز، لأن المال فيه غير متعين، فلا يصرف ماله فها. رفع حكم المجنون في هذا الباب حكم الصبي غير المميز. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز الإحرام عن المجنون بحال، وهذا كما أنه يزوج ابنه الصغير ولا يزوج ابنه المجنون إلا لحاجة ذكره والدي رحمه الله. فرغ أخر لو أحرم مفيقًا، ثم جُن وجامع، فيه قولان. وقال بعض أصحابنا بخراسان: الأصح ههنا أنه لا يفسد إحرامه به، ولا تجب البدايةَ عليه بجماعةً الأنه لا أثر لأفعال المجنون في العبادات. فرع آخر العبد المحرم [161/ أ] إذا وطاء عامدًا فسد حجّه المنصوص أنه يلزمه القضاء. ومن أصحابنا من قال: يلزمه القضاء، لأنه لا يلزمه الحج شرعًا، وهذا غلط، لأنه يلزمه الحج نذرًا، ويلزمه المضي فيه للتكليف. فرع أخر إذا قلنا: يلزمه القضاء، هل يصح منه في حال رقّه المنصوص أنه يصحّ، وهو بالخيار بين القديم والتأخير. ومن أصحابنا من قال: لا يصح منه في حال رقّه. فرع أخر إذا قلنا يصح منه في حال رقه وهل للسيد منعه منه؟ لم يكن أذن السيد في الأصل كان له منعه منه، وإن كان أحرم في الأصل بإذنه، فيه وجهان، والأشبه أنه لا يقضي بغير إذنه، لأنه أذن بالإحرام الصحيح دون الفاسد الذي يوجب القضاء، وفيه وجه آخر القضاء على التراض، فعلى السيد منعه منه وجهًا واحدًا. فرع آخر إذا قلنا: لا يقضي في حال رقه، أو قلنا: يقضي في حال رقه، فلم يفعل حتى أعتق قضاه بعد العتق، ولكنه لا يقضي قبل حجّة الإسلام، لأنه ممن يصح منه حجّة الإسلام، فلا ينعقد له غيرها، فإن أعتق قبل التحلل منها، فإنه يمضي في فاسدةً ويكمله، ثم لا فرق بين أن يكون أفسد قبل العتق أو بعده في إذ عليه القضاء فإذا قفاه نظر، فإن كان الذي أفسده يجزئه عن حجّة الإسلام لو سلم عن الفساد مثل أن أعتق قبل فوات وقت الوقوف وقف قبل طلوع الفجر من يوم النحر بعد العتق يجزئه القضاء عن حجّة الإسلام فرع أخر لو أغمي على واحد من الرفقاء لا يجوز لرفقائه أن يحرموا عنه قولًا واحدًا، لأن

للمغمى عليه حالًا أحسن منا هو عليه، وإنما دخل [161/ب] عليه ذلك لعارض فكان بمنزلة النائم. وفارق الصبي لأنه لا حال له أحسن مما هو عليه فجاز لوليه أن يعقد عليه الإحرام. وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: يجوز للرفيق أن يحرم عنه، ويصير مُحرمًا بإحرامه عنه استحسانًا، لأنه علم منه الرضي بذلك عند المرافقة، وهذا غلط، لأنه لو أذن في ذلك صريحًا لا يجوز فكيف يجوز بدلالة الحال؟!. فرع أخر قال والدي رحمه الله: لو أذن الأب لرجل أن يحرم عن ولد، الصغير، هل يجوز للمأذون له الإحرام عنه؟ وجهان: أحدهما: يجوز، وهذا إذا قلنا: لا يختص الآباء والأجداد وبالإحرام عنه. والثاني: لا يجوز، وهذا إذا قلنا: الآباء والأجداد يختصون بهذه الولايةَ، وهو كما لو وكّل رجلًا أن يبيع ماله من ابنه الصغير يفعله كما يفعله الأب لا يجوز ذلك، لأن هذا يختص بكامل الشفقةً بأم الولاية. فرع أخر قال أيضا: لو اعتقد صبي الكفر، فلم يحكم بكفره لكونه تابعًا لأبويه في الإسلام فحج، أو اعتمر معتقدًا الكفر، هل يصح حجّه أم عمرته؟ الأصح عندي أنه يجوز لأن اعتقاده لم يجعله كافرًا، وحكمه حكم المسلم يرث عن المسلم ويورث عنه، وليس الحج فيما يبطل بنيةَ الإبطال، فيجعل اعتقاده الكفر لنيةُ إبطاله، ويخالف الصلاةَ في هذا المعنى، وعندي أنه لا يصح ذلك لأن اعتقاده هذا أيضًا بنيةَ القربةً، فصار كما لو زى الإحرام نافيًا له إن قال في نيته: أحج ولا أحج ونحو ذلك. مسالة (¬1): قال: وليس على الحاج بعد فراغه من الرمي أيام منى إلا وداع البيت. الفصل إذا فرغ من رمي أيام منى، فإن [162/أ] كان مليًا أو غير مليّ، ولكنه يريد المقام بمكةً، فليس عليه طواف الوداع، لأنه يحثه لوداع البيت، فإذا كان مقيمًا لا يحتاج إلى الوداع، بان كان من غير أهل مكة ونوى الانصراف إلى بلده، فليس له أن ينفر حتى بوداع البيت بسبعةَ أطواف، ويصلي ركعتين لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانوا ينصرفون من كل جهةً، فقال: - صلى الله عليه وسلم - "لا ينصرفن أحد حتى يكون آخر عهد، بالبيت" (¬2). وقال الحارث بن عبداه بن أوس، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من حج هذا البيت أو اعتمر، فليكن آخر عهده بالبيت" (¬3)، ولأنه يجب أن يكون آخر أعمال الحج بمكة وداع البيت عند الانصراف كما كان أول أعماله عند دخوله مكة تحيةَ البيت، ولا ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ (93)). (¬2) أخرجه مسلم (379/ 1327)، وأبو داود ((02) (20))، وابن ماجه (3070)، والدارمي (2/ 72)، والبيهقي في "الكبرى" ((9744))، وفي "معرفة السنن" ((3095)). (¬3) أخرجه الترمذي ((946)).

شك أن هذا ليس بركن في صحة الحج، وإذا نفر بلا وداع فقد بينا حكمه فيما سبق، وقد قال في "الأم" (¬1)، و"القديم": يلزم الدم يتركه. وبه قال أبو حنيفة وأحمد، وقال في "الإملاء" لا يجب بتركه الدم، وهو القياس لأنه كطواف القدوم. فرع لو ودع البيت بالطواف وصلى ركعتين وخرج من غير لبث فقد حصل الوداع، ولو أقام بعد ذلك على زيارةَ صديق أو شري متاع أو عيادةَ مريض فيها لبث بعد الوداع فلا يجزئه الأول. وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفةَ: لا يعيد الوداع، وإن أقام شهرًا، وهذا غلط لظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم - "لا ينصرفن أحدكم حتى يكون آخر عهده بالبيت"، وهذا لا يوجد فيما قلتم. فرع آخر قال في "الإملاء": ولو أقيمت الصلاةً صلاها، ولم يعد وعلى هذا قال أصحابنا: إذا ودع، ثم أخرج رجله من منزله، وشدةً واشترى في طريقه خبزًا، فأكله في الطريق يجب أن لا يكون [126/ ب] قطعًا للوداع، لأن ذلك أخذ في الانصراف وتأهب للخروج. فرع أخر قال: وأحبّ أن يشرب من نبيذ السقايةَ، لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه لما فرغ من حجّه أتى السقاية، واستسقى نبيذًا، فقال العباس: إنه نبيذ قد خاضت فيه الأيدي، ووقع فيه الذباب، ولنا في البيت نبيذ صاف، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هاته، فأخذه وشربه"، وروى ابن طاوس عن أبيه طاوس آن قال: من تمام الحج شرب النبيذ، وروي أن رجلًا قال لا بن عباس: ما بال أهل هذا البيت يسقون النبيذ وبنو عمهم يسقون اللبن والعسل والسويق؟ أبخل بهم أم حاجه؟ فقال: ما بنا من بخل ولا حاجةَ، ولكن دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على راحلته، فدعا بشراب، فأتي بنبيذ، فشرب منه ورفع فضله إلى أسامةَ، فشرب، ثم قال: وأحسنتم وأجملتم كذلك فافعلوا، فنحن لا نريد أن نغير ما قال رسول الله، واعلم أن النبيذ الذي يستحب شربه هو النبيذ الذي كان ينبذ على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وشربه هو وغيره، وهو الحلو الذي يشتد به بأن يكون قد نبذ بالغداةً، فيشربه بالعشي أو بالعشي، فيشربه بالغداةً، فإن جاوز ذلك، وزالت الحلاوةَ منه كره شربه خوفًا من أن يكون مسكرًا، ولا يعلم هو به، وإن حدثت فيه الشدةً المطربةَ صار نجسًا محرمًا. فرع قال أصحابنا: ويستحب أن يشرب من ماء زمزم لما روى ابن عباس أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "للمتضلع من ماء زمزم براءةً من النفاق ". وقال أيضًا: "ماء زمزم لما شرب لها" (¬2)، وروى عطاء أن النبي [163/أ] لما أفاض نزع هو لنفسه دلوًا، ولم ينزع ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 153). (¬2) أخرجه الحاكم (1/ 473)، والدارقطني (2/ 289).

معه أحد، فشرب ثم أفرغ باقي الدلو في البئر، وقال بعض أصحابنا: يستحب أن يفعل مثل ما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيتقي شمسه ماء زمزم ويشرب منه، ثم يفرغ باقيةُ في البئر، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي ذر: منذ كم أنت ههنا؟ فقال: منذ ثلاثين يومًا وليلةً، قال: فما كان طعامك؟ فقال: ما كان لي طعام ولا شراب إلا ماء زمزم، ولقد سمنت حتى تكسرت علي بطني، فقال: إنها مباركة، وهي طعام طعم وشفاء سقم، أورده مسلم في صحيحه - وقال علي رضي الله عنه: خير بئر الأرض بئر زمزم وشر بئر في الأرض برهوت بئر بحضرموت، يقال: إن فيها أرواح الكافرين. مسالة (¬1): قال: وليس على الحائض وداع. لا يلزم الخائض طواف الوداع، ولها أن تنفر بلا وداع ولا دم عليها قولًا واحدًا لما روي في خبر ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إلا أنه رخص للمرأةً الحائض وذكر في "المختصر" أنه رخص لها أن تنفر بلا وداع وأراد به ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خبر صفية حين حاضت، وقيل: إنها قد أفاضت بلا إذن "فلتنفر بلا وداع". وروي أن ابن عباس كان يفتي بذلك، فأنكره زيد بن ثابت، فقال له ابن عباس: سل فلانة الأنصاريةَ هل أمرها بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ وهي أم مليم بنت ملحان كانت حاضت بعدما أفاضت يوم النحر، فأذن لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرجت، فرجع، فضحك وقال: ما أراك إلا قد صدقت، ولأنها كيف تطوف في المسجد والحيض يمنع دخول المسجد. فرع لو طهرت في سوق مكة كان عليها الوداع وإن خرجت من [163/ب] بيوت مكة كلها، ثم طهرت لم يكن عليها الوداع، ولا يلزمها أن تعود فإن قيل: هلا قلتم تعود ما لم تبلغ مسافةَ القصر كما قلتم فيمن ترك طواف الوداع، وخرج؟ قلنا: الفرق بينهما أن من ترك طواف الوداع فقد ترك واجبًا عليه، فلا يسقط بمفارقته البنيان حتى يشق عليه الانصراف بالبعد عنها سفرًا تامًا. وههنا يجب عليها الطواف، فلا يجب العود إذا فارقت البيان كإتمام الصلاةً لا تجب على المسافر إذا فارق البنيان. وقال بعض أصحابنا بخراسان: نص ههنا أنها لا ترجع بعد مفارقةَ البنيان، ونص في غيرها أنها ترجع، فمن أصحابنا من قال فيهما قولان: أحدهما: لا يرجعان، ولكن لا شيء على الحائض، ويلزم غيرها الدم، ولا ينفعه الرجوع، وهذا لا يصح عندي، والفرق ظاهر على ما ذكرنا. فرع لو طهرت في البيوت ولم تجد ماء تغتسل به كان عليها الوداع كما يكون عليها الصلاة فتتيمم وتطوف. ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 93).

فرع آخر لو كانت مستحاضةً طاقت في الأيام التي تصلي عليها، وإن خرجت في يوم حيضها، فلا شيء عليها، ولو بدت بها الاستحاضةً، فنظرت فإن كان اليوم الذي نفرت فيه يوم الطهر وجب عليها الدم، وإن كان يوم الحيض، فلا دم عليها - نص عليه في " المناسك الكبير " (¬1)، ولو رأت الدم بمكةً يومًا وليلةً، ثم خرجت، فإن انقطع دمها دول؛ خمسةَ عشر يومًا علمنا أنه لا شيء عليها، وإن استمر بها الدم، فإن قلنا: تحيض يومًا وليلةً، فعليها الدم متى أوجبنا الدم في تركه. فرع أخر الحاج إذا قدم مكة فلما فئ من أفعال الحج نوى الإقامة بمكةً، فلا وداع عله. وبه قال [164/ أ] أبو يوسف، وقال أبو حنيفة: إذا نوى ذلك بعد أن حل له النفر الأول لم يسقط عند طواف الوداع، وهذا غلط، لأنه غير مفارق للبيت، فلا يلزمه الوداع كما لو نوى ذلك في الأول. فرع آخر قال في "المختصر الصغير" (¬2):وأحب إذا طاف طواف الوداع أن يقف في الملتزم بين الركن والباب، ويقول: اللهم، البيت بيتك، والعبد عبدك، وابن أمتك، حملتني على ما سخرت لي من خلقك حتى سيرتي في بلادك، وبلغتني بنعمتك، وأعنتني على قضاء نسكك، فإن كنت رضيت عني، فازدد عني رضيّ، وإلا فمن الآن قبل أن تنأى عن بيتك داري هذا أوان انصرافي إن أذنت لي غير متبدل بك، ولا ببيتك، ولا راغب عنك ولا عن بيتك، اللهم فاصحبني العافيةً في بدني والعصمةَ في بدني وأحسن منقلبي وارزقني طاعتك ما أبقيتني (¬3)، وما زاد فحسن، وقد روي هذا عن السلف، ولأنه دعاء يليق بالحال، ثم يصلي على رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وينصرف، وزاد أبو حامد في " جامعه": واجمع لي خير الدنيا والآخرةً إنك على كل شيء قدير. وقال الزهري في كتابه: ويخرج وبصره يتبع البيت حتى يكون آخر عهده به وقال بعض أصحابنا: يلتزم الملتزم ويفع خده عليه ويدعو. مسألةً: قال (¬4): وإذا أصاب المحرم امرأتهِ المحرمةَ، فغيب الحشفة ما بين أن يحرم إلى آن يرمي جمرةَ العقبةَ فقد أفسد حجه. ذكر بعد الفراغ من أفعال الحج حكم الجنايات، واعلم أن الوطء في الفرج محرم على المحرم لقوله تعالى: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحَجَّ فَلا رَفَثَ ولا فُسُوقَ ولا جِدَالَ فِي الحَجِّ} [البقرة: (197)]. قال ابن عباس: الرفت: الجماع، والفسوق: المنابذة بالألقاب [164/ب] بأن تقول لأخيك: يا ظالم، يا فاسق، والجدال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه فإن وطيء لا يخلو إما أن يكون قبل الوقوف أو بعده، فإن كان قبل الوقوف فسد حجّه ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 150). (¬2) انظر الأم (2/ (185)). (¬3) أخرجه البيهقي في "الكبرى" ((9767)). (¬4) انظر الأم (2/ 94).

بالإجماع لظاهر الآية، والنص يقتضي الفساد، ولأن كل عبادةً حرمت الوطء وغيره كان الوطء فيها مزيةً ولا مزيةً ههنا إلا الفساد، لأن البدنةً قد تجب بغير الوطء، وهو بقتل النعامةً وتجب الكفارة به لما روي عن علي وابن عمر وابن عباس وعبداه بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم أنهم أوجبوا فيه الكفارة، وقالوا: يقضي من قابل فلأنه، إذا وجبت الكسارة في الحلق، فلان تجب في الوطء أولى، وعندنا هذه الكفارةَ بدنةً، وقال أبو حنيفة: يلزمه، لأن القضاء والبدنةَ تغليظان، فلا يجتمعان، وهذا غلط؛ لأنه وطء عمد صادف إحرامًا تامًا، فيلزم به بدنةَ كما لو كان بعد الوقوف، وإن كان بعد الوقوف قبل التحلل الأول فد حيه أيضًا، ويلزمه القضاء والبد نة، وبه قال مالك وأحمد وقال أبو حنيفة: لا يفسد حجه، ويلزمه بدنةً، وهذا غلط؛ لأنه وطء عمد صادف إحرامًا تامًا فأفسده كما لو كان قبل الوقوف، ولو أحرم مجامعًا. قال بعض أصحابنا فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا ينعقد. والثاني: ينعقد فاسدًا، ويلزمه المضي فيه. والثالث: ينعقد صحيحًا ثم فسد عند الاستدامة، فإذا تقرر هذا لا يخرج عنه الإفساد، ل يكون عبد الإحرام باقيًا، وعليه أن يمضي فيه على الوجه الذي كان يمضي لو كان صحيحًا، ولكنه لا يجزئه عن فرضه، وعليه أن يقضيه، وقال داود: يخرج منه بالفساد، ولا يلزمه المضي فيه، وهذا غلط لما [(165) /أ] روي عن عمر وعلي وابن تماس وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهم قالوا: من أفسد حجّه مضي في فاسدةُ، ويقضي من قابل، ولا مخالف لهم، ولأنه معنى يتعلق به وجوب قضاء الحج، فلا يخرج منه كالفوات، فإن قيل: إذا أوجبتم المضي فيه، فلم أوجبتم القضاء؟ قلنا: لأنه لم يأت, به على الوجه الذي لزمه بإحرامه، وهو كما لو ضاق عليه وقت الصلاةً، ولم يجد ماء يتطير به يأتي بها على الإمكان ثم يعيدها. فرع هذا القضاء هل يجب على الفور أم على التراخي؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم عن قال: يجب على الفور في أول حال الإمكان، وهو آن يقضيه من العام القابل وهذا ظاهر مذهب الشافعي؛ لآن الذي أفسده كان قد يضيق عليه بالدخول فيه، فيلزمه قضاؤه مضيقًا، ولما ذكرنا من الأثر من الصحابةَ، ومنهم من قال: هو على التراخي لأن أداءه كان على التراخي، فكذلك قضاؤه كما في الصوم المنذور، وهذا ضعيف، لأن الصوم المدور على التراخي قبل الشروع، وههنا شرع فيه وتعين والخفاء بدله، وعلى هذا الوجهين إذا أرادت قضاء الحجّ، هل للزوج منعها؟. فرع أخر لو وطاء بعد التحلل الأول لا يفسد حجّه. وقال مالك وأحمد: يفسد ما بقي من حجّه، ولا يفسد ما مضى، فيلزمه قضاء عمرةً من التنعيم، لأن الباقي من حجّه طواف وسعي وحلاق، وذلك عمرةً، وهذا غلط لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال مثل قولنا. وآما ما ذكروا لا يصح، لأنه لو جاز ذلك لجاز آن يقال: إذا وطء قبل

الوقوف يفسد باقي الحج دون ماضيه، ولأنه وطاء بعد التحلل الثاني. فرع آخر تلزمه الكفارةَ وإن لم يفسد به حجّه، لأنه وطء ممنوع منه لحرمةُ الإحرام، فتجب به الكفارة [165/ب] كما لو وطاء قبل التحلل.، واختلف قول الشافعي في قدر الكفارةً، قال في أحد القولين: تجب بدنةً وبه قال مالك وأحمد، وروي ذلك عن ابن عباس، ولأنه وطء ممنوع منه لحرمةَ الإحرام، فيوجب بدنةَ كما لو كان قبل التحلل، والقول الثاني تجب شاةً، لأنه استمتاع لا يفسد الحج فلا تجب به بدنةً كالاستمتاع دون الفرج. وقيل: إن هذا قول مخرج، وليس بمنصوص. مسألة (¬1): قال: وسواء وطاء مرةً أو مرتين، لأنه فساد واحد. أراد بهذا أن الفاسد لا يفسد والفساد لا يتكرر، وهذا لا يختلف القول فيه إن كانتا وطئاته في مكان واحد حالةً واحدةً، فإن كانت في أماكن فئد ذكرنا حكمه، فيما سبق. وقال مالك: لا يجب بالوطء الثاني شيء، وقال أحمد: إن كفر عن الأول يجب بالثاني بدنةً، والدليل على مالك أنه وطء صادف إحرامًا لم يتحلل منه شيء، وجب الكفارةً كما لو كان الإحرام صحيحًا. مسألةً: قال: ويحج من قابلٍ بامرأته ويجزئ عنهما هدي واحد. قد ذكرنا حكم الوطء فيه قبل التحلل الأول، ولا فرق بين أن يكون حجه واجبًا أو تطوعًا، لأنه إن كان واجبا، فالفاسد لا يجوز عن الواجب، وإن لم يكن واجبًا، فقد لؤمه بالدخول فيه وصار واجبًا عليه، فإذا أفسده أفد واجبًا بخلاف ما لو أفسد سائر العبادات المطيع به لا يلزمه قضاؤه، لأنه لا يلزم بالدخول فيه ولفظه ههنا يقتضي وجوب القضاء على الفور، ولو أخره يأثم ثم إن كان وطاء زوجته، وهي محرمةً يلزمها القضاء أيضًا، وهل يلزمه أن ينفق عليها في الحجّة التي يقضيها؟ أعني ما بين نفقةً مقامها وفرط ظاهر المذهب أنه [(66) ا/أ] لا يلزمه ذلك، لأنه لما لم يلزمه الإنفاق عليها في حجّةَ الإسلام كذلك في القضاء، ولأنها تقضي بذلك نسكها، فكانت النفقة عليها، ومن أصحابنا من قال: يلزمه ذلك لأن القضاء أوجبه الوطء، ولا بد فيه من إنفاق المال، وكل حق هو دال وجب بالوطء يتحمله الزوج عن الزوجة ككفارةَ رمضان. قال في "الحاوي (¬2) ": وهذا ظاهر المذهب، وهو كالوجهين في ثمن ماء الاغتسال، وقد قال الشافعي: ويحج بامرأته من قال فأمره بذلك. والأول أصح، ومعنى هذا اللفظ أنه لا يجوز للزوج منعها من القضاء، أو أراد به استحبابًا أنه يوافقها يصح في صحبته، وهل تجب بدنةً واحدة أم بدنتان؟ وهل يتحلل عنها؟ على ما ذكرنا في كفارةَ الجماع في صوم رمضان؟ ومن أصحابنا من قال: يلزمها بدنةً بالوطء قولًا واحدًا، لما روى مجاهد عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "على كل واحدٍ منهما بدنةً"، ويفارق كقارةَ الجماع في الصوم لأن فساد صومها لا يختص بالجماع، لأن الإيلاج يتضمن ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ (94)) (¬2) انظر الحاوي للماوردي (4/ 221)

وصول الواصل إلى باطن الفرج، وهو مبطل للصوم من دون الجماع وفطر الرجل يختص بالجماع، لأنه لو أدخل ماء فرجها بشيء آخر لا يفطر، فاختص الرجل بالكفارةَ وفساد حجها يخص بالجماع كفساد حج الرجل سواء وما بينهما في الكفارةً. فرع إذا حج بها وكانا في محمل واحدٍ، فوصلا إلى الموضع الذي وطئها، قال الشافعي: افترقا، فلا يلتقيان حتى يفرغا من حجّهما، وهل هو واجب أم مستحب؟ فيه أحدهما: واجب، وبه قال مالك وأحمد إلا أن مالكًا يقول: يفترقان من حيث يحرمان. وهذا لما روي عن عثمان وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا: إذا وطاء الرجل زوجته وقضي من [166/ب] قابل eم بلغا الموضع الذي وطئها فيه، فرق بينهما، ولأنهما إذا بلغا ذلك الموضع يتذاكران ما كان منهما في ذلك الموضع فربما دعته نفسه إلى معاودة مثله، فيفسد حجّه، فيفرق ينهما لئلا يؤدي إلى الإفساد ثانيًا. والثاني: يستحب له ذلك، ولا يجب وهو الأصح وبه قال أبو حنيفة: ويستحب عندنا أن يفترقا من وقت الإحرام وإن لم يجب، وروي عنه أنه قال: لا يستحب، ولا معنى لهذا التفريق، وهذا غلط لما ذكرنا من الأثر، وهو نوع تأديب وسياسةً ولا يصح ما ذكر مالك لا يشق التفريق من مكان الإحرام. فرع آخر لو وطاء ناسيا أو جاهلًا، في "القديم": يفسد حجّه، وعليه بدنةً. وبه قال مالك وأبو حنيفةَ إلا أنه لا يوجب البدنةَ مع الإفساد، وقال في "الجديد": لا يفسد حجه، ولا يلزمه شيء، وهو القياس والأصح لقوله - صلى الله عليه وسلم -"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان .... "، الخبر، ولأنه عبادةً تتعلق الكفارةَ بإفسادهما، فيفرق فيها حكم العامد والناسي كالصوم، ولو وطاء امرأته ناسيةً أو مكرهةً، ففي فساد حجّها وجهان بناء على القولين في الناسي. فرع آخر إذا جامع في قضاء الحج تلزمه بدنةً، ولا يلزمه إلا قضاء حجة واحدةٍ، لأن المقضي واحد، فلا يلزمه أكثر من واحدٍ، وإذا أفسده لم يصح له القضاء، فيأتي بالأصل الذي عليه، وليس في موضع يفسد الحج ولا قضاء إلا في هذا الموضع. فرع أخر المقيم إذا وطئء قبل تحلله فسدت عمرته، ويلزمه القضاء وبدنة وقال أبو حنيفة: لو وطاء بعدما طاف أربعة أشواط لا تفسد عمرته، ويلزمه شاةً، وإن وطاء قبل ذلك فسدت عمرته ويلزمه القضاء وشاةً، واحتج بأنها عبادةً لا تتضمن [167/ أ] الوقوف فلا يجب بالوطاء فيها بدنةً، وهذا غلط، لأنها عبادةً تشتمل على طواف وسعي، فوجب بالوطاء فيها بدنةً كالحج، ولأن في محظورات الإحرام مثل الطيب، واللباس. وقتل

الصيد يستوي الإتيان بأكثر الطواف وأقله كذلك في الوطء، وقال أحمد يجب بالوطاء فيها القضاء وشاةً، وهذا غلط لأنها قياس الحج بالعلةَ الني ذكرناها. فرع أخر القارن إذا فسد حجّه يمضي في فاسدةُ، وعليه بدنةَ واحدة وشاةً لقرانه، وعليه القضاء، فإن قضى قارنًا أجزأه، وعليه شاةً أخرى لقرانه، وبه قال أحمد، ولو قضى حجًا مفردًا أو عمرةً مفردةً أجزأه، لأنه إذا جاز أن يقضي قارنًا فالإفراد أولى بالجواز. قال أصحابنا: إلا أن عليه شاةً أخرى لأن القضاء إنما وجب قارناً على حسب ما أفرده، فإذا قضاه مفرداً لم يسقط عنه دم القران، وحكي عن الشافعي أنه قال: إذا قضاه مفردًا لم يكن له ذلك. قال أصحابنا: معناه لم يكن له ذلك من غير دم، وقال أحمد: لا يلزمه دم، لأنه أتي بالأفضل، وهذا غلط لأنه وجب في القضاء مثلما وجب في الأداء، فإذا أتى على وجه آخر لا يسقط عنه الدم كما لو نذر آن يحج قارنًا فأتي بهما مفردًا لا يسقط عنه الدم. وقال أبو حنيفة: إن وطاء قبل طواف العمرةً أفسد الحج والعمرةَ معًا، وعليه قضاؤهما، ويلزمه شاةَ لإفساد الحج وشاة لإفساد العمرةً، لأن عنده إذا فسد النسك لا يجب إلا شاةً، لأن وطاء بعدما طاف للعمرةً أفسد حجّه وعليه قضاؤه وشاةً لأجل الحج، وآما الحج؛ فلا يجب لها القضاء ويجب شاةً، لأنه وطاء بعدما أش بمعظم الركن والخلاف معه في قولين: احدهما: هل تلزمه كفارة أو كفارتان؟ وهذا بناء على أن أعمالها تتداخل عندنا خلافًا لهم [167/ب]. والثاني: أن دم القران لا يسقط عندنا بالإفساد. وذكر بعض أصحابنا بخراسان: وجهين في هذا، وهذا ليس بشيء، والمنصوص أن دم القران لا يسقط به على ما ذكرنا. فرع أخر لو باشر امرأته فلزمته شاة ثم وطئها، فلزمته الفدية، هل تسقط الشاةً وجهان بناء على المحدث إذا أجب، هل تسقط جنابته حدثه؟ وجهان ذكره في "الحاوي" (¬1) وقيل: إن كان قصده بالمباشرة الوطء يكفيه بدنةً، وإن باشر ثم عزم الوطء يلزمه شاةً وبدنةً، وقيل: إن طال الفصل يلزمه شاةً وبدنةً، وإن كان كالمتصل يكفيه بدنةً ولا يعتبر القصد. مسألةً: قال (¬2): وما تلذذ منها دون الجماع فشاة تجزئه. الوطء الذي يفسد الحج هو الوطء الذي يجب به الحد بحال، وهو الوطء في الفرج. وأما الوطء دون الفرج والمباشرةً بشهوةً لا يفسدان الحج أنزل أو لم ينزل. وقال مالك: إن أنزل فسد حجّه كالصوم، وهذا غلط؛ لأنه استمتاع لا يجب به الحدُ، فلا يفسده كما لو لم ينزل، وأما الصوم، فحكمه أخف وحكم الإحرام أكد لأنه لو جامع في الإحرام لا ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (4/ (220)) (¬2) انظر الآم (2/ 94).

يخرج عنه به، حتى لو قتل صيدا بعده يلزمه الجزاء بخلاف الصوم، والصوم يبطل بالأكل بخلاف الإحرام، فإذا تقرر هذا، يلزمه به شاة أنزل، أو لم ينزل، وهذا إذا بها وحقيقةً ذلك التقاء البشرتين من غير التقاء البشرتين لا تلزم الفديةَ للحائل بينهما. فرع لو قتل المحرم زوجته عند قدومه من سفر فإن قصد بها تحيةَ القادم لغير شهوةً، فلا شيء، وإن قصد الشهوةَ تلزمه الفديةَ، فإن كان ناسيًا لا فديةَ قولًا واحدًا، لأنه لا إتلاف [168/ أ] فيه بخلاف الجماع في أحد القولين، وإن لم يكن قصد شيئا، هل ينصرف إلى قبلة التحيةً أو الشهوةً؟ وجهان: أحدهما: إلى التحية، اعتبار بظاهر الحال. والثاني: ينصرف إلى الشهوة اعتباراً بموضوع القبلةَ، ذكره في "الحاوي" (¬1):وفي هذا نظر، والصحيح ما ذكرت أنه يعتبر أن يتلذذ بها. فرع لو وطاء امرأته في دبرها أو تلوّط بغلام أو أتى بهيمةً فحكمه حكم الوطء في الفرج. وقال أبو حنيفة: لا يفسد حجّه بشيء من ذلك، وهذا غلط، لأنه فرج يجب بالإيلاج فيه الغسل، فيفسد الحج بالإيلاج فيه كفرج المرأةً. وقال مالك: لا يفسد بإتيان البهيمة، ويفسد باللواط. وبه قال أبو يوسف ومحمد. فرع الاستمناء كالمباشرةَ دون الفرج في هذا الحكم، لأنه بمنزلتها في التحريم والتعزيز، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان: أحدهما: هذا. والثاني: لا يلزم به شيء لأنه لم يشاركه في الاستمتاع غيره، فأشبه الإنزال بالنظر، والأول ظاهر المذهب. مسألة: قال (¬2): فإن لم يجد المفسد بدنةً فبقرةً. الفصل قد ذكرنا أنه يلزم على المفسد بدنةً، فإن لم يجد بقرةً يلزمه سبع من الغنم، لم يجد قومت البدنةَ بالدراهم عليه، وبالدراهم طعامًا يتصدق به، لم يجد صام عن كل مد يومًا. واختلف أصحابنا في هذا فمنهم من قال: هو على الترتيب، وهو قول الشافعي الذي لا يجوز أن يقال غيره. وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما، وهذا لأنها كفارة لإفساد عبادةً، فكانت على الترتيب ككفارة الجماع في رمضان. ومن أصحابنا من [168/ ب] قال: فيه قول آخر إنها على التخيير البدنةَ أو البقرةً أو ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (4/ 224). (¬2) انظر الأم (2/ (94)).

السبع [من] الغنم أو الطعام عند التعديل والصوم. وبه قال أحمد في رواية، وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما - وهذا لأنه سبب تجب به الفديةَ، فكان فيها التخيير كقتل النعامةً. وهذا لا يصح لأن في قتل النعامةَ تجب الفديةً على طريق البدل، ولا يتعلق بها إفساد العبادةً بخلاف هذا. وقال القفال: القولان مبنيان على أن الوطء إتلاف أم لا؟ فإن قلنا: إتلاف، فالحكم التخيير في فدية الحلق، وإن قلنا: استمتاع، فلا ترتيب كما في فدية الطيب، وهذا ليس بشيء، وقال القاضي الطبري: لا يختلف أصحابنا أنه لا يجوز أن ينتقل عن الثلاث البدنة، والبقرة، والأغنام إلى الصيام والإطعام مع وجودها، وإذا لم يقدر على هذه الثلاث ينتقل إلى الإطعام والصيام، وهل يجب الترتيب في الثلاث؟ نص الشافعي على أنه يجب، وهو الصحيح، لأنه قال في "الأوسط" (¬1): وإذا كان معتمرًا عن هذا كله قومت البدنةُ بمكة دراهم، والدراهم طعامًا، ثم أطعم، فإن كان معسرًا عن الطعام صام عن كل مد يومًا، وفيه قول آخر لا يجب بل يتخير. وذكر في "الحاوي" (¬2) أنه قول ابن عباس. فرع إذا قلنا: أنه على التخيير، فعند العدم قوم أي الثلاث شاء وإذا قلنا: على الترتيب فقد بّينا انه يقوم البدنة نص عليه، وقال ابن سريج يقوم السبع من الغنم، لأنها أقرب الواجبات المذكورةً وهذا لا يصح لأن الغنم في البدنةً عند وجودها، فإذا عدما كان اعتبار الأصل أولى [169/ أ]. فرع أخر هل ينتقل عن الإطعام إلى الصيام على الترتيب أم التخيير؟ وجهان، هذا ذكره صاحب "الحاوي" (¬3) والمنصوص ما ذكرنا أنه على الترتيب. فرع أخر تقوم بمكة أو منى في الموضع الذي ينحرها فيه لو وجدها ويراعى غالب الأسفار في أهم الأحوال. مسألة: قال (¬4): وهكذا م واجب عليه يعسر به ما لم يأت فيه نصّ خبر. الفصل هكذا وجوب الترتيب بين الهدي والإطعام والصيام. وقوله: ما لم يأت فيه نص خبر أراد في فدية الأذى ورد عن الخبر بالتخيير، وفي جزاء الصيد ورد نص القران بمثله فثبت الفرق في بين المبلغات وغيرها من التخيير والترتيب وجملته أن الدماء الواجبةُ في الحج كثيرة بعضها ثبت بالنص، وبعضها ثبت بالاجتهاد، فأما الذي ثبت بالنص، فأربعهَ دماء: دم التمتع وراء الصيد ودم الحلق ودم الإحصار، فأما دم التمتع ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 184). (¬2) انظر الحاوي للماوردي (4/ 225). (¬3) انظر الحاوي للماوردي (4/ 224). (¬4) انظر الأم (2/ 94).

فهو شاةً، فإن لم يجد شاةً، فصيام عشرةَ أيام على ما بينا، والترتيب فيه واجب. وأما جزاء الصيد، فإنه على التخيير إن شاء أخرج المثل من النعم، وإن شاء قوم المثل دراهم، والدراهم طعامًا يتصدق به. وإن شاء صام عن كل مد يومًا، وأما دم الحلق فهو على التخيير بين أن ينسك شاةً أو يصوم ثلاثةَ أيام أو يطعم على ما ذكرنا. وأما دم الإحصار فسيأتي حكمه، وأما المجتهد فيه فديةَ الطيب واللباس فسيأتي حكمه وأما دم الحلق لأنه وجبت للترفه. وقال أبو إسحاق: هذا أيضًا منصوص عليه، لأن الله تعالى، قال: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّاسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 169]، وأراد، فحلق أو لبس أو تطيب ففديةً، والأول أولى. وهكذا دم القبلة والوطء [169/ ب]. دون الفرج ودم ترجيل الشعر وستر الرأس، لأن طريق ذلك الترفه. وهذا هو الصحيح نص عليه في كتبه الجديدةُ والقديمةَ. وفيه قول آخر إنه يجب فيه الترتيب والتعديل، فإن قدر على الشاةَ ذبحها، وإن لم يقدر عليها قوم الشاةَ دراهم، والدراهم طعاما، وتصدق به، وإن لم يجد صام عن كل مد يومًا نص عليه في "الأوسط" (¬1)، وذلك أنه قال: بعدما ذكر الترتيب والتعديل في المفسد هكذا كله وجب عليه دم، فاعتبر به ما لم يأت فيه نصّ خبر منع له؛ هذا وما جاء فيه نص خبر، فهو على ما جاء فيه. ونقل المزني إلى المختصر هذا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل هو على التخيير أو الترتيب؟ قولان، ولكن إذا قلنا إنه على التخيير يفارق صورةَ فديةً الأذى ويراعى فيه التعديل في جزاء الصيد، وإذا قلنا: إنه على الترتيب يلحق بدم التمتع لأنه استمتاع. وهذا خلاف النص الذي حكينا عنه، وأما دم القران والدماء الواجبةَ ترك نسك من الميقات والوقوف والمبيت بمنى والحصاةً، فهو بمنزلةُ دم التمتع على الترتيب، لأنه دم وجب درك نسك كذلك، فيلزم دم، فإن لم يجد فصيام عشرةً أيام. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هو على الترتيب الدم ثم الإطعام، ثم الصيام يعني صيام التعديل، وهذا محتمل. فرع قال في "الحاوي" (¬2): دم الاستمتاع الذي لا يفسده دمان. أحدهما: أنه يجب بدون الفرج، فيلزمه شاةً وهل بجري ذلك مجرى الرقبةَ أم مجرى الإتلاف؟ وجهان: أحدهما، ترفيه، [170/أ] فيكون لفدية الأذى على التخيير- والثاني: أنه إتلاف فيكون كجزاء الصيد في التعديل والتخيير، والثاني: أنه يجب بالوطء في الفرج بعد التحلل الأول، فإن قلنا: يلزم بدنةً كان حكمها حكم البدنة في الإفساد، بان قلنا: يلزم شاةً كان حكمها حكم الشاةَ في الاستمتاع، ذكره (في) "الحاوي" (¬3) ¬

_ (¬1) انظر الأم (2/ 184). (¬2) انظر الحاوي للماوردي (4/ 227). (¬3) انظر الحاوي للماوردي (4/ 228).

فرع أخر الدم الذي بجب فيما يجوز استباحةَ موجبه كالطيب واللباس، هل يجوز تقديمه قبل وجوبه؟ وجهان: أحدهم: وهو ظاهر قوله في "الأم" و"الإملاء": يجوز، لأنه مال يتعلق وجوبه بسببين، وهما، الإحرام والفعل فجاز بعد وجود أحد السببين. والثاني: لا يجوز لأن الإحرام لا يراد لوجوب الدم به، بل يراد لغيره، وهو إذا نسكه، فلم يكن وجوده مبيحًا لتقديم الدم قبل وجوبه كالإسلام في الزكاة قبل وجود النصاب. فرع أخر إذا بلغ أمدادا أو كسر مد لزومه أن يصوم عن كسر المد يومًا كاملًا، والواجب على الحقيقة مقابلة بعض المد ببعض الصوم، ولكن صوم اليوم الواحد لما لم يقبل التبعيض كمل الواجب يومًا بكماله. فرع أخر في قدر ما يعطى الطعام م فقير وجهان: أحدهما: لا يتقدر، فيجوز أقل من مد وأكثر كاللحم. والثاني: بمد فإن أعطى زيادةً لم يحتسب بالزيادة وإن أعطاه أقل لم يحتسب بشيء منه إلا أن يتمه. فرع أخر الإطعام في كفارة التعديل، هل تنحصر أعداد مستحقيه؟ وجهان بيان على أنه هل يتعذر ما يدفع إلى كل مسكين، [170/ب] قلنا: لكل مسكين مد مقدر، وينحصر عددهم بعدد الأمداد، فإن كانت عشرةً فلعشرةً. والثاني: لا يتقدر فعلى هذا عدد المساكن غير محصور، ولكن إن كان ثلاثةً أمداد فصاعداً لم يجز دفعها إلى أقل من ثلاثةَ مساكين، لأنهم أقل الجمع المطلق، وإن كان مدين لم يجز دفعهما إلى أقل من مسكينين ويجوز دفعهما إلى مسكينين؛ لأن أقل يؤاسي به كل مسكين مد، دفع إلى ثلاثةَ أجزأه وإن كان مدًا واحدًا صرفه إلى مسكين، فإن صرفه إلى أكثر أجزأه، ويستحب على هذا الوجه أن لا ينقص المسكين من مد، لأنه أقل ما يؤاسي به، ولا. زد على ض، لأنهما أكثر ما يؤاسى به، ذكره في "الحاوي" (¬1)، وقد ذكرنا فيما تقدم عن أصحابنا بخراسان خلاف هذا مسألة: قال (¬2): ولا يكون الطعام والهدي إلا بمكة أو منى. الفصل كل دم وجب بسبب الإحرام سوى دم الإحصار يجب ذبحه في الحرم ويجب تفرقةُ ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (4/ 231). (¬2) انظر الأم (2/ 95).

لحمه على مساكين الحرم، ولا يختص بمنى، بل كل احرم فيه سواء فإن ذبحه في الحرم وفرقه في الحرم، فقد أدى الأكمل، وإن ذبحه في الحل، وفرق اللحم في الحرم، فإن كان اللحم قد تغير لم يجزئه، لأنه ناقص، وإن لم يتغير نص الشافعي لا يجوز لأن الذبح مستحق في الحرم، ومن أصحابنا من قال: فيه قول آخر يجوز لأن المقصود هو اللحم هذا، ولا يعرف لأن الذبح أحد مقصودي الهدي فاختص بالحرم كتفرقةُ اللحم، وإن ذبحه في الحرم، ثم سرق منه يجب عليه أن يذبح آخر، ولا الواجب حتى يذبح في الحرم ويفرقه على مساكين الحرم. وقال أبو حنيفة: يجب الذبح في الحرم، وأما تفرقة اللحم تجوز في الحل، وكذلك تفرقة الطعام تجوز على [171/أ] مساكين الحل، وهذا غلط لأن تفرقة اللحم أعظم المقاصد، فاختصاصه بالحرم أولى. وحكي عن الشافعي أنه قال في "القديم": إذا اضطر إلى قتل الصيد أو الطيب أو اللباس في الحل، ففعل، كان الهدي في الحل، وبه قال أحمد، لأن سببه كان في الحل، فأشبه دم الإحصار، وهذا غلط، لأنه تعلق بالإحرام، فأشبه إذا أوجب في الحرم، ويفارق دم الإحصار، فإنه يتعذر عليه الإيصال إلى الحرم، ويتحلل به من الإحرام بخلاف هذا. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: إذا ذبح في الحرم، ثم سرق منه يجزئه ولا إعادةً عليه، وهذا غلط، لأنه أتلف الهدي قبل وصوله إلى مستحقه فلا يجزئه عما في ذمته كما لو أكله، وأما الصوم، فيجوز في الحرم والحل. وقال عطاء: لا يجوز إلا في الحرم. ويحكى عن أحمد، وهذا غلط لما ذكر الشافعي أنه لا منفعةَ لأهل الحرم في الصوم بخلاف هذا. فرع يستحب أن يخص بتفريق اللحم من كان قاطنا في الحرم دون من كان طارئاً، لأن القاطن أوكد حرمه. فرع أخر إذا ارتكب في الحل ما يوجب دماً أو دفع من عرفة ثل الغروب هل يخض الهدي بالحرم؟ المذهب أنه يختص. وقال في "القديم": قولًا آخر انه لا يختص حتى لو ذبح في الحل وفرق اللحم في الحال جاز، لأن ذبحها لا يخض بزمان النسك حتى يجوز قبل يوم عرفة، فلا يختص بمكان النسك بخلاف دم التمتع، والصحيح الأول، لأن سبب وجوبه النسك، فاختصت النسيكةُ بأهل الحرم. مسألة: قال: (¬1) ومن وطاء أهله بعد رمي الجمار فعليه بدنةً. قد ذكرنا هذه المسألة، واختيار المزني أنه يلزمه شاةً، قال: قرأت عليه [171/ب] هذه المسألة، لأنه يلزمه بدنةً، ولكن إن لم تكن البدنة إجماعاً أو أصلًا، فالقياس شاةً، وأراد بالإجماع إجماع الصحابةَ، وبالأصل الكتاب والسنةً وبالقياس أنه استمتاع لا ¬

_ (¬1) انظر الآم (2/ 95).

يفسد الإحرام كما دون الفرج، وفي ضمن هذا اللفظ الذي ذكره الشافعي في التحلل الأول، يصحل برمي الجمار، وهذا على قول الذي يقول: الحلاق ليس بنسك. مسألة: قال (¬1): ومن أفسد العمرةً فعليه القضاء من الميقات الذي ابتدأها منه. إذا أحرم بالحج ثم أفسده يلزمه القضاء ويلزمه الإحرام من أغلظ الآخرين مما يلزمه في الشرع. وهو الميقات المعروف، أو مما ألزمه على نفسه، فإن كان أحرم من الميقات، ثم أفسده يلزمه في القضاء الإحرام من الميقات، وإن كان أحرم قبل الميقات فقد ألزم نفسه الإحرام من ذك الموضع، فإذا أفسده يلزمه القضاء من ذلك الموضع، فإن أحرم دونه يلزمه دم، وكذلك إذا أحرم بالعمرةً، ثم أفسدها يلزمه الإحرام في القضاء من الموضع الذي أحرم، وإن بعد من الحرم بكثير. وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة ومالك، أما في الحج يلزمه القضاء من الميقات، وفي العمرة يلزمه القضاء من أدنى الحل، وهذا غلط، لأن في كل مسافة وجبا عليه قطعهما محرماً في الأداء وجب عليه ذك في القضاء كما لو كان أحرم من الميقات. فرع المتمتع إذا أحرم بالحج من مكة ثم أفسده، ففي القضاء يحرم من مكة لأنها ميقاته فرع أخر الطريق الذي سلكه في [172/أ] الأداء لا يتعين عليه في القضاء، وإما يتعلق عليه قدر مسافته، فلو سلك طريقًا آخر جاز ألا ترى أن من عليه الحج لا يلزمه أن يحرم بميقاته؟! بل يلزمه أن يحرم منه، أومن محاذاته كللك ههنا. فرع آخر عندنا لا يلزمه قضاء العمرةَ مع الحج، وعند أبي حنيفة: يلزمه ذلك، وهذا غلط قياسًا على ما لو فات لا يلزمه ذلك، فإذا تقرر هذا، ففي لفظ "المختصر" إشكال. وذلك أنه قال: من الميقات الذي ابتدأها منه، وهذا توهم أن الميقات الذي ابتدأها منه يتعين عليه حتى لا يجوز له غيره، وليس مراد الشافعي هذا، ولكن مراده تعيين المسافة وتقديرها حتى لو أحرم بعمرةً من ذات عرق أجزأه على ما ذكرنا، ثم أفسدها فرجع إلى مكان غير ذات عرق، وبين ذك المكان وبين مكة ما بين مكة وبين ذات عرق، أجزأه ذلك على ما ذكرنا، ثم ألزم الشافعي سؤالا على نفسه، فقال: فإن قيل: فقد أمر النبي- صلى الله عليه وسلم - عائشةً رضي الله عنها أن تقضي العمرةً من التنعيم، فليس كما قال: إنها كانت قارنة وكذلك عمرتها شيئا استحسنته، فأمرها النبي - صلى الله عليه وسلم - وبها لا أن عمرتها كانت قضاء لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "طوافك يكفيك لحجك وعمرتك" واعلم أن أهل البراق حملوا حديث عائشةُ رضي الله عنها على وجه بعيد، وحمله أهل المدينةً على وجه آخر وبين كل ¬

_ (¬1) انظر الآم (2/ 95).

فريق فروع مذهبه على وجه تأويله، ونبين ذلك ليظهر الإشكال وتمام هذا الحديث، أولًا ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دخل على عائشة بمكة عام حجه، [(172) /ب] فرآها تبكي، فقال لها مالك: أنفست؟ فقالت: نعم، فقال: "ذاك شيء كتبه الله على بنات ادم، فاغتسلي وامتشطي وارفضي عمرتك وأهلي بالحج واصنعي ما يصنع الحاج غير أن لا تطوفي بالبيت" فروى في الخبر أن عائشة طافت يوم النحر طواف الإفاضةَ، فقال لها - صلى الله عليه وسلم -"طوافك بالبيت يكفيك بحجك وعمرتك". فقالت عائشَة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أكل نسائك يصرفن بنسكين، وآنا أنصرف بنسك واحد، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر، فأردفها فأعمرها من التنعيم، قالت عائشة: فكانت عمرتي التي رفضتها. هذا هو الحديث على وجه فأما أهل العراق قالوا: عائشةً كانت محرمة بالعمرةَ؛ فلما حاضت قبل الطواف والسعي أمرت برفض العمرةَ، فرضت إحرام عمرتها وأعمال عمرتها، ثم لما راهقت وقف الإحرام بالحج أهلت بالحج المفرد وأكملته، ثم لما فرغت من حجها رغبت في العمرةَ، فأمرها رسول الله بالعمرةَ، فخرجت إلى التنعيم وقضت تلك العمرة التي كانت رفضتها لنا حاضت فزعموا أن الحيض يوجب رفض إحرام العمرةَ بهذا الخبر، وأن من خرج من عمرته يرفض، أو أفسدها، فأراد قضائها لم يلزمه العود إلى ميقاتها بل يلزمه الخروج إلى الحل أينما كان الحل. وأما أصل الشافعي في هذا الخبر أن عائشَة كانت محرمة بالعمرة؛، فلما حاضت عجزت عن طواف عمرتها بسبب حيضتها، فرفضت أعمال عمرتها بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -دون إحرامها، واغتسلت، وامتشطت إذ يجوز للمحرمة ذلك، وإن منعها الإحرام من الترجيل والتطيب، وهذا معنى قولها: [(17) 3/أ] عمرتي التي رفضتها، أي: رفضت، أعمالها دون إحرامها، فلما أهلت بالحج صارت قارنةً بإدخال الحج على العمرةَ؛، ألا ترى أنها لما طافت يوم النحر، قال - صلى الله عليه وسلم - "طوافك بالبيت يكفيك لحجك وعمرتك" ولو لم تكن قارنة لما كان لهذا معنى، ثم إن عائشة لما شاهدت سائر أزواج رسول الله- صلى الله عليه وسلم -، وقد حصل لهن طواف في الحج وطواف في العمرةً ولم يحص ذلك رغبت في كثرةَ الخطوات وثواب الأعمال الكثيرةَ، فقالت: أكل نسائك ينصرفن بنسكين، وأنا أنصرف بنسك واحد، فأمرها العمرة حينئذ. وهذا معنى قول الشافعي، فكانت عمرتها شيئًا استحسنته، فعلى هذا التأويل قلنا: من أفسد العمرة لزمه قضائها من ميقات إحرامها، والحيض لا يقتضي رفض الإحرام، وإن لم يرتفض إحرام بحالٍ، وإنما يباح التحلل عند الإحصار بالعذر. مسألة: قال (¬1): ومن أدرك عرفة قبل الفجر من يوم النحر، فقد أدرك الحجَ. الفصل فوات الحج فوات الوقوف بعرفة، وقد ذكرنا وقت الوقوف ومتى فاته الوقوف يلزمه أن يتحلل بعمل عمرةً، ولا ينقلب إحرامه عمرة، فيطوف ويسعى ويحلق، إن قلنا ¬

_ (¬1) انظر الآم (2/ 96).

الحلاق من (النسك)، وقد حل؛ وعليه الهدي والقضاء من قابل، وإن قلنا: ليس من النسك، قد حل بالسعي وسقط عنه توابع الوقوف من المبيت، بمزدلفة، ورمي الجمار والمبيت بمنى. وبه قال مالك، وروي ذلك عن صر وابن عمر رضي الله عنهما. وقال القفال في "القديم": يتحلل بالطواف والحلاق، ولم يذكر السعي، فقد قيل قولان: أحدهما: لا يلزم السعي لأنه تابع للطواف فقط كما سقط الرمي، وهذا لا يصح، [(17) 3/ب] لأن الشافعي رضي الله عنه أراد في "القديم": إذا كان سعى عقيب طواف القدوم، فيحتسب بذلك، وهو إذا كان تابعا للطواف، فالطواف لم يسقط، فيستحيل سقوطه وقال أبو حنيفة وسعد مثل ذلك إلا أنهما قالا: لا هدي عليه. وقال أبو يوسف وأحمد: ينقلب إحرامه عمرة ويتحلل بها، ويروى هذا عن أبى حنيفةَ، وهذا غلط؛ لأن إحرامه انعقد بأحد النسكين، فلا ينقلب إلى الآخر كالعمرة لآ تنقلب حجاً قال الشافعي: وإن حل هذا بعمل عمرة، فليس أن حجه صار عمرةً، وكيف يصير عمرة، وقد ابتدأه حجا؟ وأراد آن الإحرام المنعقد عن الحج لا ينقلب إلى العمرة كما قبل الفوات، ثم إن المزني أخذ هذا الاحتجاج من الشافعي، وجعله مقتضيا للإتيان بأعمال الحج، فقال: قلت: إذا [كان] عمله عنده، أي: إذا كان عمل من مرة الحج عندد الشافعي عمل حج لم يخرج منه إلى عمرة، فقياس قوله: أن يأتي بباقي أعمال الحج مع التوابع من الرمي والمبيت بمزدلفة ومنى، وهذا مذهبه. وبه قال أحمد، ثم أوضح ذلك تأول الشافعي من قول ابن عمر رضي الله عنهما، فقال: وتأول قول عمر رضي الله عنه افعل ما يفعل المعتمر إنما أراد الطواف والسعي من عمل الحج لا أنها عمرة، فكان المزني بقول: لما ثبت أن الطواف والسعي من عمل الحج، فكذلك يلزمه أن يأتي بما بعدهما من أعمال الحج، وأجابه أصحابنا بأن بقية أعمال الحج من المبيت والرمي تابعةُ للوقوف فإذا سقط المبتدع سقط التابع ولهذا لم يشرع ذك في العمرةَ لأنه لا وقوف فيها بخلاف الطواف والسعي، لأنهما ليسا بتابعين، بل هما من أسباب التحلل من الإحرام، فيلزم الإتيان بهما. وأما الدليل على وجوب الهدي عليه ما روي أن هبار بن [174/أ] الأسود أتى عمر بن الخطاب رض الله يوم النحر، فقال: أخطأت أو نسيت العدد، فما تأمرني، فقال: افعل ما يفعل المعتمر، وعليك القضاء من قابل، وما استيسر من الهدي. وروي أن ابن عمر وابن عباس وزيد ين ثابت رضي الله عنهم أنهم قالوا: من فاته الحج تحلل بطواف وسعى وعليه القضاء من قابل، وما استيسر عن الهدي، ولا مخالف لهم، وعن مالك ثلاث روايات إحداها: مثل قولنا. بالثانية: لا قضاء عليه، وبه قال عطاء. والثالثة،: يبقى محرمًا إلى العام القابل ثم يأتي بالوقوف وأعمال الحج، وهذا غلط لما ذكرنا. فرع هل يجب القضاء على الفور؟ وجهان، والظاهر أنه على الفور لما ذكرنا من الأثر.

فرع (آخر) الهدي الواجب عليه به شاة، فإن لم يجد فحكمه حكم دم إذا لم يجد، ومنى يجب هذا الهدي؟ فيه وجهان: احدهما: يجب بالتحلل عن الفائت كما يجب على المحصر بالتحليل والأولى أن يأتي به في عام القضاء، فإن أخرجه في عام الفوات جاز، ولأن جبران النسك، فيكون في سنة النسك كالبدنةَ الواجبةً بالإفساد. والثاني: يجب إذا أحرم بالقضاء في السنةَ الثانية، وهو اختيار أبي إسحاق، وظاهر قول الصحابةُ، لأنه في الشرع كالمتمتع، لأن النسك الثاني، مضموم إلى الأول، لأنه قضاؤه، ويسقط الفرض الأول بهما، والهدي الواجب على المتمتع يلزم بالإحرام الثاني، كذلك ههنا فعلى هذا لا يجوز إخراجه قبله. وقال أبو حامد: في وقت الإخراج قولان، فإذا قلنا: يخرجه في سنةَ القضاء، فهل وجب فيها أم في سنةُ الفوات؟ وجهان. وقال القفال: هل يجوز قبله؟ قولان [174/ب]: أحدهما: يجوز لوجود سببها. والثاني: لا يجوز لأنها تبع القضاء، ولا يصح القضاء في عام الفوات، وإذا جوزنا، فهل يجوز قبل الفراغ من الفائت؟ وجهان، وعلى هذا لا يحوز الصوم إلا في القضاء، ومن أصحابنا من قال: يخرجه في السنة الثانيةَ، ولكن هل يتعلق وجوبه السنةَ الثانيةً أم الأولى؟ وجهان: أحدهما: يتعلق بالأولى الوجوب، لكن يخرجه في الثانية، كالقضاء. والثاني: يجب في الثانية، لأنه لو وجب في الأولى أوجب إخراج فيها. فرع آخر إذا كان محرما بالعمرةَ وحدها، فالعمرةَ لا يلحقها الفوات، وإن كان محرماً بالحج وحده فالحج يلحقه الفوات، والحكم على ما مضى، وإن كان متمتعا، فالعمرة لا تفوت، وأما بالحج بعدها، فالفوات يلحقه، وإذا فات فعليه دم التمتع، ودم الفوات معاً، ويقضي الحج دون العمرةَ، لأن العمرةَ ما فاتت فإذا قضى الحج أحرم به من جوف مكة، لأن هذا ميقاته، ولا يلزم في القضاء شيء أخر وإن كان قارناً، فالفوات يلحق النسكين معا، لأن العمرةَ صارت تبعًا للحج ففاتت بفواته، فإذا فاته القران، فوجب عليه الهدي والقضاء قارنًا، وهدي القران الثابت في ذلك، فيكون عليه ثلاثة دماء: دم القران، ودم الفوات، ودم القران الثابت في ذمته. ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان: أحدهما: هذا. والثاني: لا يلزمه قضاء العمرةَ ويجزئه عن عمرةَ الإسلام، لأنها لا تفوت، وقد أكمل أعمالها بالطواف والسعي والحلق.

ذكره القفال وصاحب " الحاوي" (¬1)، ولأن العمرة لا تختص بوقت وأصل المسألة أن العمرة يسقط اعتبارها في حق القارن أو يقع العمل عنهما، فيه وجهان: فإن قلنا: يسقط اعتبارها من [(175) /أ] بفواته، والصحيح ما ذكره، وهو المذهب المنصوص فعلى هذا، إذا قضى لا يخلو من ثلاثة أحوال، إما أن يقضي قارناً، أو مفردًا، أو متمتعًا، فإن قضى قارناً، فقد قضى على الوجه الذي فاته، وعليه الدماء الثلاثة، وإن قضى مفردًا حجه مفردةً وعمرة مفردةً أجزأه ولكنه لا يسقط عنه دم القران الذي يجب في القضاء. وحكي ابن المرزبان هذا عن "الإملاء": فعليه الدماء الثلاثة. وقال أحمد: لا دم عليه، وإذا قضى مفردًا آو آتى بالعمرة بعد الحج، قال في "الإملاء": لا يحرم بها من الميقات، لأنه كان قد أحرم بها منه، فإن لم يفعل، وأحرم بها من أدنى الحل لم يجب عليه أكثر من الدماء الثلاثة، لأنه وإن ترك الإحرام بالعمرةً من الميقات كان الدم الواجب لأجل الميقات ودم القران لأجل الميقات فتداخلا، وإن قضى متمتعا أجزأه إلا أنه يحرم بالحج من الميقات، فإن أحرم به من جوف مكة وجب دم التمتع ودخل دم القران فيه. فرع أخر المكي وغير المكي في وجوب الهدي بالفوات سواء بخلاف دم التمتع والفرق أن الفوات يحصل من المكي كما يحصل من غيره ودم التمتع يجب بترك الميقات والمكي لم يترك الميقات، لأن ميقاته بلده. فرع أخر قال ابن المرزبان: الفائت حجه بمنزله من تحلل التحلل الأول، لأنه لما فاته الوقوف سقط عنه الرمي فيصير بمنزلة من رمى، فإن وطاء لم يفسد إحرامه، وإن تطيب أو لبس لم تلزمه الفديةَ، وهذا على القول الذي يقول: الحلاق إطلاق محظور، فأما إذا قلنا: إنه نسك يحتاج أن يحلق أو يطوف حتى يقع التحلل الأول. فرع أخر قد ذكرنا أن العمرة تابعة للحج في الفوات، فعلى هذا [175/ب] هي تابعة للحج في الإدراك أيضًا، حتى أن القارن لو رمى وحلق، ثم جامع لم تفسد عمرته كما لم يفسد حجّه، وإن لم يأت بأعمال العمرة أصلًا. مسألة: قال (¬2): ولا يدخل مكةَ إلا بإحرام في حج آو عمرةً. الفصل الداخل في الحرم على أربعة أضرب لنسك أو قتال آو حاجة لا تتكرر، كان دخوله لنسك حج آو عمرةً لم يجز إلا بالإحرام وقد مضى وإن كان لقتال لا بد منه ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (4/ (239)). (¬2) انظر الأم (2/ 97).

مثل إن لجأ إلى الحرم قطاع الطريق أو قوم ارتدوا أو بغوا على الإمام جاز أن يدخلوها محلّين، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخلها يوم الفتح وعلى رأسه المغفر، ولو كان محرمًا لم يغط رأسه وجاز له الدخول من غير إحرام. فإن قيل: أليس عندمك دخلها صلحًا؟ فكيف تقولون: دخلها للقتال؟ قلنا: كان الصلح واقعًا مع أبي سفيان، ولم يكن آمنًا من غدرهم، فلأجل خوفه من ذلك احتاط. وفي الخبر: ولا يدخلها إلا بجلبان السلاح وهو السيف والتراس ونحوهما، وقيل: هو شبه جراب من أدم يضع فيه الراكب سيفه بقرابه وسوطه يعلقه في وسط رحله أو في آخره، فإن قيل: كان هذا خاصّاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنه قال: "إن الله تعالى حرّم مكّة يوم خلق السماوات والأرض، لم تحلّ لأحد قبلي ولا تحلّ لأحدٍ بعدي، وإنما أحلّت لي ساعةً من نهار، ثم عادت حرمتها كيوم خلق الله السماوات". قلنا: يحتمل أن يكون معناه: أحلّت لي ولمن هو في مثل حالي، ولا يثبت بذلك التخصيص، وإذا كان المعنى الذي لأجله جاز تركه موجود في حق غيره. قال الشافعي في "المناسك الكبير": ويجوز عندي لمن دخلها خائفًا من سلطان أو من أمر لا يقدر على دفعه ترك الإحرام [76/أ] إذا خافه في الطواف والسعي، وإن لم يخافه فيهما لم يجز له. وجملة هذا أن يخاف من غريم يلازمه ويحبسه، ولا يتمكن هو من أداء حقّه، وإن كان دخولها لحاجةٍ لا تتكرر مثل إن دخل لرسالة أو لتجارة أو لزيارة أو للمقام بها مجاوراً أو غير مجاور، ففيه قولان. قال في مواضع: يجب الإحرام، وهو الأشهر. وبه قال ابن عمر رضي الله عنه، لأن مكّة مباينة لسائر البلدان في الفضل والحرم'. ولهذا لو نذر أن يدخل مكّة لزمه الإحرام، وأومأ في بعض كتبه إلى أن الإحرام استحباب. قال أبو إسحاق: وهذا هو الصواب لأنه تحية المكان، فلا يجب كتحية المسجد. وقال أبو حامد قال في عامة كتبه لا يجب الإحرام وله كلام في "الأم" يدلّ على الوجوب فقد قيل: قول واحدٌ لا يجب، وكلام القفال يدلّ على هذا، وما تقدم أصحّ، ولا فرق عندنا في هذا بين أن يكون أهله دون الميقات أو وراء الميقات. وقال أبو حنيفة إن كانت داره وراء الميقات لا يجوز له دخولها إلا بالإحرام سواء كان للقتال أو غيره وإن كانت داره دون الميقات يجوز له دخولها من غير إحرام، وهذا غلط لأن الحرمة في ذلك للمحرم لا للميقات ألا ترى أن من مرّ من بالميقات ولا يريد الحرم لا يشرع له الإحرام، فلا معنى لما قالوه، وروي عن ابن عباس انه قال: لا يدخل أحد مكّة إلا محرماً، ورخّص في ذلك للحطابي، وإن كان دولها لحاجةٍ تتكرر مثل الرعاة والحطابين. ويقال: الميرة وكل من تكرر دخوله من أهل السواد لمنافع أهلها. قال في "الإفصاح": هل يجب عليهم الإحرام؟ مرتبًا على القولين في غيرهم، فإن قلنا: إن غيرهم لا يجب عليهم الإحرام، ففي هؤلاء وجهان: أحدهما: يجب. والثاني: لا يجب، لأنا لو كلفناهم لأدى إلى الحرج [176/ب] والمشقة لتكرر

دخولهم في كل يوم. ومن أصحابنا من قال: المسألة على قول واحدٍ، إنه لا يلزمهم الإحرام. وبعض أصحابنا خرج قولاً آخر لأن الشافعي علّق القول فيه في (المناسك الكبير). وقد قال الشافعي: أحبّ لهم أن يحرموا في كل سنةٍ مرة. وهذا هو الصحيح. ومن أصحابنا من قال: قول واحد لا يرخّص للحطابين، وأول قول الشافعي بخلافه، فقال: ولعل حطّابيهم عبيد، والعبيد لا يلزمهم الإحرام لدخول مكّة لأنهم لا يلزمهم الإحرام شرعاً، فبالدخول أولى أن لا يلزم، وهذا أضعف الطرق. وقال أبو إسحاق: قال الشافعي في "الإملاء": يحرمون في كل سنة مرّة لئلا يستهان بالحرم. وحكاه أبو حامد أن عليه ذلك. وهذا ليس بمشهور، ولا وجه له لأنه يستحيل أن يجب في وقت دون وقت، ومراده بما ذكر في "الإملاء" الاستحباب على ما نقلناه صريحاً. فَزعٌ البريد يتكرر دخوله فمن أصحابنا من قال: هو كالحطابين، ومنهم من قال: إذا قلنا: لا يجب على الحطابين، ففي البريد وجهان، ذكره القاضي الطبري. مَسْألَةٌ: قالَ (¬1): ومن دخلها بغير إحرام، فلا قضاء عليه. إذا أوجبنا عليه الإحرام، فدخل بغير إحرام لا يلزمه القضاء، وقال أبو حنيفة: يلزمه القضاء، فعليه أن يأتي بحجّة أو عمرة، فإن أتى في سنة بحجّة للإسلام، أو حجّة منذورة، أو عمرة منذورة أجزأه ذلك عن عمرة الدخول استحساناً، وهذا غلط لأن هذا مشروع لتحية البقعة، فإذا لم يأتِ به سقط كتحية المسجد، فإن قيل: تحية المسجد لا تجب، قلنا: النوافل المترتبات لا تجب وتقضى، [177/أ] وإنما سقطت لما ذكرنا لا للوجوب، ومن أصحابنا من علّل، وقال: لا يجب القضاء، لأنه يؤدي إلى أن يتسلسل القضاء، لأنه كلمّا أراد دخولها يجب عليه أن يحرم لذلك الدخول فلا يمكنه دخولها بإحرام القضاء، وهو كم نذر صوم الدهر، فأفطر لا يمكنه القضاء، وكذلك إذا فرّ مسلم من كافرين لا يمكنه القضاء لأنه كلما يلقى كافرين يلزمه الثبات لهما، فلا يمكنه أن يقضي ما تركه من الثبات. قال صاحب "التلخيص": وعلى هذا لا يقضى إلّا في مسالة واحدة، وهو أن يصير حطاباً من بعد، فيلزمه القضاء، لأنه لا يلزمه الإحرام بالدخول في ظاهر المذهب. وقال القفال: ليس المعنى هذا، بل المعنى ما ذكرنا، وأيضًا الفرض الذي يلزمه لشهود مشهود، فتركه لا يوجب القضاء كالثبات لكافرين، وعلى هذا لا قضاء عليه، وإن صار حطّابًا أيضًا، وأيضًا الدخول إذا كان بإحرام يكفي سواء كان لأجله أو لأجل غيره كالصوم في الاعتكاف وبمثل هذا قلنا إذا فسد القضاء لا يجب عليه قضاءان ويكفيه قضاء واحد. ومن أصحابنا من قال: وهو الأقيس نأمره بالقضاء على قولنا: إنه واجبٌ، ويدخل حقّ الدخول الجديد في القضاء كمن دخل مسجدًا فقضى فائته حصلت به تحية المسجد، كما قال أبو حنيفة. ومن أصحابنا من قال: تحقيق المذهب أن الإحرام إنما يجب على أحد القولين على من أراد الدخول فيقال له: إن أردت الدخول فأحرم كما ¬

_ (¬1) سورة يوسف الآية: 2.

باب فوات الحج بلا إحصار

يقال لمن أراد صلاة التطوع: إن أردت الصلاة فتطهّر، فإذا ترك ذلك فلا قضاء. بَابُ فوات الحجّ بلا إحصار اعلم أن القصد من هذا الباب شيء واحدٌ، وهو الكلام في أنّ [177/ب] من فاته الحجّ لا ينقلب إحرامه عمرة، كما قال أبو حنيفة، فذكر حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "من لم يدرك عرفة قبل الفجر فقد فاته الحجّ، فليأت البيت، فليطف به وليسع بين الصفا والمروة، ثم ليحلق أو ليقصّر إن شاء وإن كان معه هدي فلينحره قبل أن يحلق ورجع إلى أهله، فإذا أدرك الحجّ قابلًا، فليحجّ وليهد". وقال عمر رضي الله عنه لأبي أيوب الأنصاري، وقد فاته الحجّ: اصنع ما يصنع المعتمر، ثم قد حللت، فإذا أدركت الحجّ قابلًا فاحجج واهدِ ما استيسر من الهدي. وقال أيضًا: لها مثل معنى ذلك، وزاد "فإن لم يجد، فصيام ثلاثة أيام في الحجّ وسبعة أيام إذا رجع إلى أهله"، ثم قال: وفي حديث عمر دلالة أنه استعمل أبا أيوب عمل المعتمر لا إن إحرامه صار عمرة يريد أنه لما قال لأبي أيوب: اصنع ما يصنع المعتمر، ثم قد حللت دلّ على أنه إنما أمره بان يعمل عمل المعتمر وهو الطواف والسعي لأن إحرامه صار عمرة، ولو كان معه هدي ساقه للتطوع، فعليه أن ينحره قبل الحلق كما يفعل من لم يفته الحجّ. وقد ذكرنا سائر ما يتعلق بهذا الفصل. تم الجزء الثالث حسب تقسيم المحقق ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الرابع وأوله: باب حج الصبي يبلغ والمملوك يعتق والذمي يسلم

بحر المذهب في فروع المذهب الشافعي تأليف القاضي العلّامة فخرُ الإسلاَم شيخ الشافعيّة الإمام أبي المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني المتوفى سنة 502 هـ تحقيق طارق فتحي السيد الجزء الرابع يحتوي على الكتب التالية: تتمة الحجّ - الصّيد والذّبائح - الضّحايا - الأطعمة السّبق والرمي - البيُوع دار الكتاب العلمية Dar Al-Kotob Al-ilmiayh DKI أسسها محمد حلمي بيضون سنة 1971 بيروت - لبنان Est. by Mohammad Ali Baydoun 1971 Befaut- Lebanon Etablic par Mohamad Ali Baydoun 1971 Beyrouth - liban

باب حج الصبي يبلغ والمملوك يعتق والذمي يسلم

بسم الله الرحمن الرحيم بَابُ حج الصبيّ يبلغ والمملوك يعتق والذميّ يسلم مسألة: قال وإذا بلغ غلام أو أعتق عبد أو أسلم ذميّ. وقد أحرموا. الفصل إذا أتى الكافر الميقات مريدًا للنسك، فأحرم منه لم ينعقد إحرامه. وذكر في "الشامل"، هل ينعقد إحرامه؟ قولان، وهو غلط عندي ولم يذكر غيره، فإن أسلم بعد هذا لا يخلو إما أن يُسلم قبل فوات وقت الوقوف أو بعده، فإن أسلم بعده، فالحجّ لا يلزمه في هذه السنة، لأن وقته قد [178/ أ] فات، ولا يمكنه فعله، فتلزمه العمرة، لأنه قادر على فعلها، ولكنها على التراخي، فإن شاء اعتمر في هذه السنة، وإن شاء أخّرها إلى وقت آخر وإن أسلم قبل فوات وقت الوقوف، فعليه الحجّ والعمرة معًا، إلا أنهما يجبان على التراخي، فهو بالخيار بين أن يأتي بهما في هذه السنة وبين أن يؤخّرهما لأن فرض الحجّ والعمرة على التراخي، فإن أخّرهما فلا دم عليه، لأن من جاوز الميقات يريد الحجّ، فلم يحرم، ولم يحجّ من سنة فلا دم عليه، وإن أحرم بالحجّ أو العمرة، فإن عاد إلى الميقات محرمًا، أو حلالًا، ثم أحرم، فلا دم عليه، وإن أحرم من موضعه، ومضى على وجهه، ولم يعد إلى الميقات، فعليه دم، لأنه جاوز الميقات، وهو يقدر على الإحرام منه، فلم يحرم وأحرم دونه. وقال أبو حنيفة والمزني: لا دم عليه، وعن أحمد روايتان، واحتجوا عليه بأنه مر على الميقات، وليس من أهل النسك، فإذا أحرم دونه لم يلزمه الدم، وهذا غلط، لأنه جاوز الميقات مريداً للنسك وأحرم دونه ولم يعد إليه، فيلزمه الدم كالمسلم والكافر، وان لم يكن من أهل النسك، ولكنه أراد النسك، ويمكنه الإتيان به صحيحا، بأن يلم، ثم يحرم. وأما الصبي والمملوك إذا أحرما فإحرامهما منعقد صحيح، فإن بلغ الصبي، وأعتق العبا نظر، فإن كان بعد الوقوف لم يجز لهما عن حجة الإسلام، وكذلك إن كان بعد الفراغ من الحج، وان كان قبل فوات وقت الوقوف قبل الوقوف وقفا بعرفة بعد الكمال أجزأهما عن حجة الإسلام. وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة في العبد: يكون حجه تطوعاً وبناؤه على أصله يجوز

التطوع بالحج قبل الفرض، (178/ ب) وأما الصبي لم ينعقا إحرامه، فعليه استئناف الإحرام والوقوف بعده. وقال مالك: يكون حجهما تطوعاً لأن من أصله أن إحرام العبد والصبي صحيح، ولكن التطوع يسبق الفرض في الحج وان كان بعد الوقوف قبل فوات وقت الوقوف بأن رجعا إلى مزدلفة، ثم كملا، فإن رجعا ووقفا أجزأهما عن حجة الإسلام، وان لم يرجعا فمذهب الشافعي أنه لا يجزئهما. وقال ابن سريج: يجزئهما عن حجة الإسلام، لأنه إذا أحرم في حال الرق أو الصغر، ثم أعتق أو بلغ في وقت يجوز ابتداء الإحرام فيه أجزأهما عن حجة الإسلام، وكان بمنزلة الإحرام المستأنف في هذا الوقت، فكذلك الوقوف. وهذا غلط والفرق بينهما أنه مستديم الإحرام، فكانت استدامته بمنزلة ابتدائه، وليس كذلك الوقوف، فإنه في حال الحرية عن مقيم عليه، ألا ترى أنا لا نقول إنه واقف كما يقول إنه محرم، فلهذا لا يحتسب له. وأما إذا سعى عقيب طواف القدوم، ثم بلغ أو أعتق في يوم عرفة يلزمهما إعادة السعي. وقال ابن سريج: لا يلزمهما إعادته. وهذا غلط لما ذكرنا أنه لم يأت به في وقت الفرض. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان، بنا، على الوجهين في تقدير إحرامه، فإن قلنا: إحرامه وقع موقوفاً ولا يتبين أنه انعقد فرضاً لا يلزمه إعادة السعي، وان قلنا: إحرامه انعقد فعلاً، ثم انقلب فرضاً بعد بلوغه يلزمه إعادة السعي، ولا معنى لهذا مع النص، فإذا تقرر هذا، فكل موضع، قلنا: حجهما تطوع لا يجوز عن حجة الإسلام، فلا دم عليه، لأنه أحرم بحجة (179 / أ) التطوع، ومضى على ذلك الإحرام، فلا يلزمه الدم، وكل موضع قلنا: يجزئهما عن حجة الإسلام، فهل عليهما دم؟. اختلف أصحابنا فيه على طريقين، فقال أبو إسحاق وغيره فيهما قولان: أحدهما: عليهما الدم لأنهما ما أحرما بالغرض من الميقات. والثاني: لا دم لأنهما أكملا حجة الإسلام بالإحرام من الميقات، وهو اختيار القاضي أبي حامد، وهو الصحيح. وقال الإصطخري وأبو الطيب بن سلمة: لا يلزمهما الدم قولاً واحداً، وقول الشافعي: يجب الدم، أراد إذا جاوزا الميقات مريدين النسك، ثم أحرما دونه ويفارق الكافر لأن إحرامهما من الميقات صحيح، وان لم يكونا من أهل الفرض، وهو البلوغ والعتق ليس إليهما فهما فيه معذوران. وإحرام الكافر غير صحيح، وكان يمكنه أن يحقق مقصوده بالإسلام، فهو غير معذور في ذلك، فإذا أسلم بعد ذلك وحقق إحرامه بالاستئناف يلزمه الدم، لتأخيره عن الميقات من غير عذر واحتج المزني بما ذكر الشافعي في الصبي على مسألة الكافر، فقال: إذا لم يبن عنده أن على العبد والصبي دماً وهما مسلمان، فالكافر أحق أن لا يكون عليه دم، لأن إحرامه مع الكفر ليس بإحرام، والإسلام يجب ما كان قبله، وإنما وجب عليه مع الإسلام بعرفات، فكأنها منزله، قلنا: لا إحرام له، ولكن له إرادة صحيحة للحج والإسلام يجب ما قبله، ولكن نحن لا نوجب عليه الدم بشي، كان قبل الإسلام بل توجب لحج في الإسلام ترك

الإحرام له من الميقات، فلا يصح ما ذكره. مسألة: قال: ولو أفسد العبد حجه قبل عرفة، ثم أعتق، والمراهق بوطءٍ عرفة، ثم احتلم (179 / ب). الفصل إذا أحرم العبد بغير إذن سيده انعقد إحرامه. وقال أهل الظاهر: لا ينعقد إحرامه. وهذا غلط لما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أيما عبد حج ثم أعتق فعليه حج الإسلام"، فأضاف الحج إليه، وأثبته له، ولم يفرق بين أن يكون بإذن السيد أو بغير إذنه، ولأنه عبادة على البدن، فصح منه بغير إذن سيده كالصوم واحتج بأنه لا يجوز نكاحه وعقوده إلا بإذن (180 / أ) السيد كذلك هذا. قلنا: الفرق أن الإحرام قد ينعقد موقوفاً، ويقف على البيان في الثاني، فجاز أن ينعقد إحرامه، ويقف على فسخ السيد، وإجازته بخلاف النكاح، فإذا تقرر هذا، قال الشافعي: أحببت له أن يدعه ليمضي في نسكه ويتمه، لأنه طاعة وقربة، فإن لم يفعل ولم تطب نفسه بذلك، فله منعه ويفسخ عليه الإحرام، لأن منفعته مستحقة له في جميع الأوقات إلا في الأوقات التي يستحق العبادة فيها شرعاً، والحج لا يلزمه شرعاً، فلا يجبر السيد على تعطيل منفعته فيه، ثم إذا حلله، فهو كالمحصر، فإن ملكه السيد الهدي. وقلنا: العبد يملك بالتمليك في أحد القولين لم يكن له أن يتحلل حتى يذبح كالحر. وإن قلنا: لا يملك على القول الصحيح، أو لم يملكه اليد فالحز المحصر إذا لم يجد الهدي، فيه قولان: أحدهما: أنه لا بدل لهدي الإحصار، فيكون الهدي في ذمته، وعلى هذا هل يتحلل أم يبقى على إحرامه حتى يجد الهدي، ويذبح قولان. والثاني: له بدل، وهو الصوم، وهل يبقى محرماً حتى يفرغ من الصوم أم يتحلل، ثم يصوم؟ قولان. قال أبو إسحاق والعبد في ذلك مخالف للحز، فالعبد يتحلل في الحال. وان قلنا: الحر لا يتحلل حتى يجد الهدي ويذبح، أو حتى يصوم لأن في تقييده العبد على الإحرام إلى ذلك الوقت ضرراً بالسيد، فلا يجوز ذلك، وكذلك في الصبر إلى أن يعتق ضرر بالعبد والحر يمكنه أن يحتال، فيكتسب ويستوهب ويتكدى ويحصل الهدي فيذبح، فلا يلحقه (180 / ب) كثرة مشقة، فافترقا. ومن أصحابنا من قال: العبد والحز في هذا سواء. وقال بعض أصحابنا بخراسان: الصوم في حق الحز مرتب على الهدي، فإن قلنا: يحل ثم يهدي، فأولى ذلك في الصوم. وان قلنا: يصير إلى أن يهدي، فهل يلزمه الصبر في الصوم؟ حتى يفرغ منه، قولان. والفرق أن الصوم تطول مدته بخلاف الهدي، ثم العبد مرتب على هذا، فإن قلنا: في الحر لا يلزم الصبر، ففي العبد أولى، وإلا فوجهان.

فرع من نصفه حز ونصفه عبد إذا كان بينهما مهايأة، فأحرم في يوم نفه ليس للسيد منعة. ذكر أصحابنا، وفيه نظر عندي. وأما إذا كان أذن السيد لعبده بالإحرام، فأحرم لم يكن للسيد منعه، وتحليله. وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: له أن يحلله، وهذا غلط، لأنه عقد لازم عقده بإذن سيده، فلم يكن لسيده منعه منه كالنكاح. فرع آخر لو أذن لعبده بالحج، ثم رجع عن إذنه نظر، فإن رجع قبل أن يحرم العبد وعلم به العبد، بطل الإذن، ولو أحرم العبد بعد ذلك كان له أن يحلله وان أحرم العبد قبل أن يعلم برجوعه، فهل له أن يحلله؟ وجهان بناء على الموكل إذا عزل الوكيل وتصرف الوكيل قبل أن يعلم بعزله، هل ينفذ تصرفه؟ قولان. فرع آخر لو باعه بعدما أحرم بإذنه صح بيعه، لأن الإحرام لا يمنع التسليم ويفارق بيع المستأجر لا يصخ في أحد القولين، لأن الإجارة تمنع التسليم، ولهذا عقد النكاح لا يمنع البيع لهذا المعنى، فإذا صح هذا، فإن كان عالماً بإحرامه، فلا خيار له، وان لم يكن عالماً ثبت له الخيار، لأن بقاءه على الإحرام يضر بالمشتري [181 / أ]. وقال أبو حنيفة: لا خيار له، لأن عنده له أن يحلله كما كان لبائعه وقد دللنا عليه. فرع آخر لو كان أحرم بغير إذن سيده وباعه لم يكن للمشتري الخيار سواء علم بإحرامه، أو لم يعلم، لأن له أن يحلله، لأن البائع كان له أن يحلله، فقام المشتري مقامه في ذلك، ولا يسقط ذلك بعلمه به. والمشتري بالخيار بين تمكينه ومنعه وان لم يكن بالإحرام في ملكه لما فيه من تفويت منفعة ملكه، ولم يكن إحرامه مستقر. فرع آخر لو أذن له بالإحرام، ثم باعه ولم يعلم بإحرامه حتى حل منه، ففي خياره وجهان: أحدهما: الاختيار له اعتباراً بالحال. والثاني: له الخيار اعتباراً بما وجب. ذكره في "الحاوي"، وعندي الوجه الثاني هو المذهب، لأن الخيار للضرر، وقد ارتفع الضرر. فرع آخر لو أذن له بالإحرام بالحج مفرداً، فقرن كان قراناً صحيحاً، وليس للسيد منعه، لأن عمل القارن كعمل المفرد، ولو أذن له بالإحرام في ذي الحجة، فأحرم في ذي القعدة له منعه.

فرع آخر ليس للسيد أن يجبر عبده على الإحرام. وقال بعض أصحابنا: للسيد أن يجبر عبده على الإحرام بالحج، وعلى العبد امتثال أمره فيه، لأن ثوابه راجع إلى السيد ذكره في "الحاوي"، وهذا غلط، لأنه لا يجبره على الصلاة والصيام، كذلك على هذا. فرع آخر إذا قال السيد: حللتك تحلل، فإن ألبسه مخيطاً أو ضمخه بطيب، فليس ذلك بتحليل خلافاً لأبي حنيفة. مسألة: قال: ولو أذن له أن يتمتع، فأعطاه دماً لتمتعه لم يجز عنه، وعليه الصوم. الدماء التي تجب على العبد في الحج تنظر، فإن (181 / ب) لم تكن مما اقتضاه الإذن مثل دم الفساد والفوات وجزاء الصيد واللباس، فلا يلزم السيد، فإن قلنا: العبد إذا ملك، ملك يجوز للسيد أن يتطوع بالهدي عن العبد، ويسقط عنه الفرض، وإن قلنا: لا يملك إذا ملك، وهو الذي أجاب به ههنا، أو قلنا: يملك ولكن السيد لم يملكه، ولا أهدى عنه ففرضه الصوم، وللسيد منعه من هذا الصوم، لأنه لم يتضمنه إذنه وان كان مما يتضمنه إذن السيد مثل دم التمتع والقران، إذا أذن له في ذلك، فإن قلنا: لا بملك إذا ملك ففرضه الصوم، ولا يجوز الهدي، فإن مات العبد قبل أن يصوم، قال الشافعي ههنا: ويجزى، أن يعطي عنه ميتاً، وأراد أنه يجوز أن يهدي عنه، أو يطعم، وهذا لأنه قد أيس صومه. وقال المزني: لا يجوز ذلك، كما لا يجوز له ذلك عنه حياً، لأنه لا يملك. قلنا: الفرق ما ذكرنا، وأيضاً الإعطاء عن الميت لا يقتضي تمليكه، بل هو إسقاط الفرض عنه، فجاز بخلاف الحي وهي كالفرق بين الحج عن الميت، يجوز من غير إذنه ولا يجوز عن الحي من دون الإذن وأيد الشافعي هذا بالخبر، فقال: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر سعداً أن يتصدق عن أمه بعد موتها، وأراد به ما روي أن سعداً قال: يا رسول الله إن أمي افتلتت، أي: ماتت فجأة، ولو قدرت لأوجبت، فهل ترى أن أتصدق عنها؟ فقال: "نعم"، وإن قلنا: العبد يملك نمق الشافعي في "القديم" على قولين: أحدهما: أن هذا الدم يكون في مال السيد، لأنه لما أذن له في التمتع كان تحملاً للهدي كالإذن في النكاح باكتساب المهر والنفقة (182 / أ). والثاني: لا يجب في ماله بل يكون فرضه الصوم، لأنه ينفك ذلك عن وجوب المال، بأن يكون الفرض الصوم، فافترقا، وله أن يصوم من غير إذن السيد، لأنه لزمه بسبب تضمنه إذنه ولو عتق هذا العبد قبل أن يصوم عن متعته، فأراد أن يريق دماً، له

باب من أهل بحجتين أو بعمرتين

ذلك على الأقوال كلها، وهو معنى قوله ما دام مملوكاً، ولكنه جواب على القول الذي يقول: الاعتبار في الكفارات بوقت الأداء إلا بوقت الوجوب، والله أعلم. باب من أهل بحجتين أو بعمرتين مسألة: قال: ومن أهل بحجتين أو عمرتين معاً أو بحج، ثم أدخل عليه حجاً آخر. الفصل إذا أحرم بحجتين أو بعمرتين آو بواحدة منهما، ثم أدخل الأخرى عليها، فلا ينعقد إحرامه إلا لواحدة، ولا تنعقد الأخرى، ولا يجب قضاؤها، ولا دم عليه. وبه قال مالك وأحمد، وقال أبو حنيفة وأصحابه: ينعقد بهما إلا أنه لا يمضي فيهما، بل يرفض إحداهما، ويمضي في الأخرى ثم يقضي الثانية بعد ذلك، واختلفوا في وقت الرفض، فقال أبو يوسف: ترفض الثانية عقيب الإحرام. وقال أبو حنيفة ومحمد: ترفض إذا أخذ في العمل حتى لو ارتكب محظوراً قبل ذلك يلزمه جزءان، والحجة ما ذكره المزني وتحريره أنهما عبادتان لا يصح المضي في عملهما، فلا يصخ الإحرام بهما كالصلاتين، ويفارق الحج والعمرة ينعقد الإحرام بهما، لأنه يمكنه المضي فيهما، وههنا لا يصح المضي فيهما، فلا ينعقد بهما. وقد ذكرنا قبل هذا أن إدخال العمرة (182 / ب) على الحج لا يجوز قولا واحداً على أحد الطريقين. والصحيح عند الشافعي أن إدخال أحدهما على الآخر قبل التلبس بشيء من أعماله يجوز سواء كان إدخال الحج على العمرة أو العمرة على الحج. وإذا قلنا: لا يجوز لو رمى يوم النفر الأول له الانصراف، ثم أحرم بالعمرة، فإن كان قبل أن ينصرف لم تنعقد عمرته، وقد ذكرنا ذلك. باب الإجارة على الحج والوصية به مسألة: قال: ولا يجوز أن يستأجر الرجل من يحج عنه إذا لم يقدر على مركب لضعفه أو كبره إلا بأن يقول: يحرم عنه من موضع كذا وكذا. الفصل يجوز لمن عجز عن الحج بنفسه عجزاً ميئوساً منه أن يجهز من يحج عنه، فإن تطوع عنه بلا رزق ولا أجرة جاز، وإن حج عنه بنفقة، وهو أن يقول: حج عني وأعطيك نفقتك جاز، وان استأجره إجارة صحيحة، بأجرة معلومة جاز وتكون الإجارة لازمة مستقرة، ويقع الحج عن المحجوج عنه، ويسقط فرضه ويستحق الأجير الأجرة المسماة. وقال أبو حنيفة: الأجرة عليه لا تجوز، ولكن يجوز أن يعطيه نفقة ليحج عنه، فإذا

حج كان الحج عن الفاعل، وثوابه له، ويحصل للمستأجر ثواب النفقة. وبه قال أحمد ومالك قال مالك: والدليل عليه أن هذا عمل يدخله النيابة، فجاز أخذ الأجرة عليه كتفريق الزكاة. فرع هل من شرطها أن يبين موضع الإحرام في العقد؟ اختلف أصحابنا فيه على طرق. وقال أبو إسحاق وغيره: فيه قولان [183 / أ]: أحدهما: لا يصخ إلا بأن يبين موضع الإحرام، لأن الإحرام يجوز من كل موضع، فتكون الإجارة مجهولة، فلا بد من البيان، وهو الذي نص عليه ها هنا. والثاني: قاله في "الإملاء": يصح مطلقاً، لأنه مبين بالشرع، وهو الميقات، فيحمل عليه كموضع الوقوف، والطواف والسعي وكالثمن في البيع والسير في الإجازة يحمل على العرف ويصح العقد مطلقاً به. ومن أصحابنا من قال: المسألة على اختلاف حالين، فالموضع الذي قال يحتاج أن يبين أراد إذا كان منزله بين ميقاتين يصلح أن يكون كل واحد منهما ميقاته، والموضع الذي قال: لا يحتاج إلى بيانه إذا كان ميقات بلاه معروفاً، وهذا لا يحتمل كلام الشافعي، لأنه لما قال: لا يجوز حتى يبين من العلة التي ذكرناها. ومن أصحابنا من قال: المسألة على اختلاف حالين من وجه آخر، فإن كان المحجوج عنه ميتاً لا يشترط ثباته، لأنه لا اختيار له، ولا يتوصل إلى عرضه، وان كان المحجوج عنه حياً شرط لاختلاف عرضه. وله اختيار يتوصل إليه، فإذا قلنا: لا يشترط ذلك، فإن عين موضعاً، إما الميقات أو قبله صحت الإجارة، وتعين ذلك، وان أطلق يلزمه الإحرام من الميقات، فإن أحرم قبلها استحق المسمى، ولا يستحق شيئاً أخر للزيادة، وإذا قلنا: يشترط، فإن عين موضعاً صحت الإجازة، ويلزمه الإحرام، وان لم يعين بطلت الإجازة إلا أن الأجير إن حج عن المستأجر أجزأ ذلك الحج عنه، لأنه قد أذن له فيه، وان كان العقد فاسداً كما لو وكل في بيع شيء وكالة فاسدة، فباع صح، [183 / ب] ولا يستحق الأجير الأجرة المسماة لأن المنى يستحق بالعقد الصحيح دون الفاسد، فيلزم أجر المثل. مسألة: قال: وان وقت (له) وقتاً فأحرم قبله، فقد زاده خيراً. الفصل إذا عين الأجير موضعاً يحرم منه، فأحرم قبله، فقد زاده خيراً، وان أحرم من ذلك الموضع فقد وفى بموجب العقد، وأجزأه وان جاوزه وأحرم دونه، فإن رجع إليه محرماً ومضى في حجه فقد زاده خيراً، وان مضى على وجهه، ولم يرجع إلى الموضع الذي

عينه، فلا يختلف المذهب أن عليه دماً، لأنه ترك الإحرام من الموضع الذي يلزمه الإحرام منه، فهو كما لو ترك الإحرام من الميقات الشرعي، فإذا ثبت هذا، فهل عليه أن يرد من الأجرة بقسط ما ترك. قال في " الأم": يلزمه ذلك، وعليه دم. وقال في "القديم": عليه دم وسكت عن رد الأجرة. واختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال قولاً واحداً، إنه يرد بقدره من الإحرام، وما قاله في "القديم" محمول على ما فسره في "الأم"، فيقال: كم تسوي الحجة من بلده على أنه يحرم من الموضع الذي عينه؟ فيقال ثلاثمائة، فيقال: وكم تسوي الحجة من بلده على أن يحرم من الموضع الذي أحرم منه؟ فيقال: مائتان، فيرد مائة درهم، وهذا لأنه استؤجر على سفر وعمل، فلم يفعل ذلك على التمام نص عليه في "الإملاء"، وفيه قول آخر نص عليه في الجديد يعتبر بقسط للأجرة من الموضع الذي نص عليه دون البلد الذي خرج منه لتكون الأجرة مقسطة على أفعال الحج دون السفر الموصل إليه، ذكره في "الحاوي". ومن أصحابنا من قال: فيه قولان [184 / أ]. أحدهما: لا يرد من الأجرة شيئاً، لأنه جبر نقصه بدم. وهذا ضعيف. والثاني: يلزمه ذلك على ما ذكرنا، لأنه لم يوفه جميع العمل، فلم يستحق كمال الأجرة كما لو استأجره ليبني له عشرة أذرع فبنى تسعة أذرع لا يستحق كمال الأجرة. وهذه الطريقة أصح، لأن الشافعي قال في "القديم": يهريق دماً وحجه تام، وتمام الحج يدل على أنه لا نقصان فيه والأجرة إنما ترد عند النقصان، فإذا لم يكن نقصان لا يلزمه رد شيء. فرع لو ترك الرمي هل يرد من الأجرة؟ يسقط ذلك على هذين الطريقين. فرع آخر لو تطيب ولبس المخيط وقتل الصيد لزمته الفدية في ماله، ولا يرد من الأجرة شيء، لأن ذلك ينقص الثواب دون العمل، فلا يمكن تقسيط الأجرة عليه، وههنا ينقص الثواب والعمل معاً، فيلزمه الدم جبراً لنقص الثواب، ويلزمه رد الأجرة جبراً لنقص العمل. فرع آخر لو ترك طواف القدوم ونحوه الذي لا يوجب الدم، فعليه أن يرد بقسطه من الأجرة قولا واحداً، لأنه عمل في مقابله عوض لم يأت به ولا ببدله، ذكره في "الحاوي". فرع آخر لو ترك المبيت بمزدلفة ونحوه، فإن قلنا: عليه دم، فهل يرد بقسطه من الأجرة؟ على

الخلاف الذي ذكرناه، وإن قلنا: لا دم عليه يلزمه رد قسطه قولاً واحداً. وقال ابن سريج محل القولين فيما ذكرنا إذا كان النقص الداخل في الإحرام أكثر من قيمة الشاة التي ذبحها، فأما إذا كان عليه أقل، فعليه رد الزيادة قولا واحداً. وقال غيره: سواء كان مثل قيمة الشاة، أو أقل (184 / ب) أو أكثر، فيه قولان: لأنا لا نتحقق أن دم الشاة قد جبر النقص وتحققنا وجود النقص، لأن دم الشاة حق الله تعالى. وهذا يرد حق الآدمي. فرع آخر قال في "الأم": لو استأجره ليحج عنه من الميقات، فلما بلغ الميقات أحرم بالعمرة عن نفسه واعتمر ثم أحرم بالحج عن المستأجر من جوف مكة، فإنه يجزى، عن المستأجر، وعلى الأجير دم ويرد بقدره من الأجرة على المذهب الصحيح، وكيفيته على الخلاف الذي ذكرنا، ففي أحد القولين، يقال: حجة من الميقات كم تسوي وحجة من مكة كم تسوي فيرد ما بين ذلك. وقال في "الإملاء": يرد ما بين بلده إلى مكة لأنه يصير بسيره من بلده إلى مكة لنفسه دون المستأجر إذا بدأ بالعمرة لنفسه، فوجب أن يرد من الأجرة بقدر ما بين حجه من بلده وبين حجه من مكة، والمذهب الأول، لأن الإجارة عقدت على الحج وأفعاله، وهو الإحرام من الميقات، وما قبل ذلك من قطع المسافة إلى الميقات تسبب إلى الحج والأجرة إنما تسقط على العمل الذي وقع العقد عليه دون المسبب إليه ألا ترى أنه لو استأجر أجيراً ليخبز له خبزاً، فالأجرة تكون في مقابلة الخبز دون التسبب إليه من إحضار الماء وإصلاح النار، وغيرهما، فكذلك ههنا. وقال أبو حامد: المذهب أنه يقال: حجة من بلده أحرم بها من الميقات كم تسوي؟ فيقال: مائة وحجة من بلده أحرم بها من مكة كم تسوي، فقال: تسعين فيسقط عشر للأجرة المسماة. وقول هذا القائل. الثاني، أن سيره لنفسه لا يعلم فربما يعبر عرفة في الميقات. وقال أبو حنيفة: يلزمه أن يرد جميع النفقة لأنه أدى بالسفر غير المأمور به وفعل الحج من غير مشقة، وهذا غلط، [185 / أ] لأنه أتى عنه بحج صحيح، وإنما أخل بما يجزئه الدم، فلا تسقط نفقته. فرع آخر لو رجع إلى الميقات في هذه المسألة التي ذكرناها، وأحرم بالحج عن المستأجر، فعلى قوله في "الأم": لا يلزمه رد شيء من الأجرة، وعلى قوله في "الإملاء" يرد من الأجرة بقدر ما بين بلده إلى الميقات. وقيل: قول واحد لا يلزمه رد شيء. وبه يظهر أن سفره لم يكن لنفسه.

فرع آخر لو أحرم الأجير موقوفاً ثم عزاه إلى مستأجره قبل شروعه في العمل، فيه وجهان: أحدهما: أنه يقع عنه، ولا يجوز صرفه إلى المستأجر. والثاني: يقع عن المستأجر. فرع آخر لو استأجره على فعل القران أو التمتع يلزم الدم في مال المستأجر دون مال الأجير، لأن هذا الدم موجب النسك، فإذا أذن له فيه لزمه في ماله. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قول آخر يلزم النائب، لأن هذا الدم دم جبر ودم الجبر على الأجير في ماله كدم الطيب، وهذا غريب ضعيف. فرع آخر لو استأجره ليقرن عنه أو يتمتع على أن يكون الدم على الأجير لم تصخ الإجارة لأن ذلك يكون في معنى بيع، وإجارة وفي ذلك قولان: إلا أن ههنا تفسده قولاً واحداً، لأن المبيع فيها غير مضبوط بالصفة، ولا بالعيان. فرع آخر لو استأجره على أن يحرم عنه من بستان بني عامر. قال ابن المرزبان: لا يصخ عقد الإجارة لأن مجاوزة الميقات لا تجوز من غير إحرام. فرع آخر قال في "المناسك الكبير": لو استأجر رجلاً ليحج عنه من ميقات ذكره، فلك المستأجر غير الطريق الذي ذكره وأحرم من ميقات آخر وقع عن المستأجر، ولا يلزمه رد شي، من الأجرة، وان كان الميقات [185 / ب] الذي أحرم منه أقرب إلى الحرم من الميقات الذي عينه، لأن الشرع جعل هذه المواقيت يقوم بعضها مقام بعض بالشرع من غير نقص، وان كان بعضها أقصر من بعض. وقيل: لا أجرة له لأنه خالف. فرع آخر قال: لو استأجر بنفقته لم تصخ الإجارة، لأن الأجرة مجهولة، وكذلك لو كان النسك مجهولاً مثل أن يقول: استأجرتك لتحج عني أو تعتمر، فالإجارة باطلة، ولكن لو حج عنه وقع عنه بمجرد إذنه، ويستحق أجرة المثل، لأنه فعل ذلك على سبيل المعاوضة. فرع آخر لو قال: أول من يحج عني فله مائة، فحج عنه رجل. قال الشافعي: استحق المائة، وقال المزني في "المنثور"، هذا غلط، ينبغي أن يستحق أجرة المثل، لأن هذه إجارة،

والإجارة تفتقر إلى تعيين الأجير، والأجير غير معين ههنا. وقال أبو إسحاق: غلط المزني في هذا. والصحيح أنه يستحق المائة، وأخطأ المزني حيث ظن أنه إجارة وهي جعالة، وليست بإجارة، والجعالة تفتقر إلى تعيين المجعول، ألا ترى أنه لو قال: من جاء بعبدي الآبق من البلد الفلاني فله مائة درهم، فبادر واحد، وجاء به استحق المائة؟ وان لم يكن المجعول له معينا كذلك ههنا. فرع آخر تعيين وقت الإحرام لا يشترط في الإجارة، لأن الشرع بين وقته، فلو قال: استأجرتك لتحج عني هذه السنة على أن تحرم من أول يوم من شوال جاز ويلزمه كما لو نذر لأن فيه زيادة قربة، وعلى هذا إذا أفسده يلزمه في القضاء أن يحرم من أول يوم من شوال، ذكره القاضي الحسين. فرع آخر لا يحتاج إلى بيان الأعمال إذا كانا عالمين [186 / أ] بتفصيل أعمال الحج، وإن كانا جاهلين، أو أحدهما لا يجوز، لأنه مجهول. فرع آخر لو قال: من حج عني أو اعتمر فله مائة درهم فحج عنه رجل أو اعتمر استحق المائة، لأن في الجعالة يجوز أن يكون العمل مجهولاً، نص عليه ذكره القاضي الطبري. فرع آخر أي وقت يجوز الاستئجار؟ وعليه فهو مبني على عقد الإجارة في غير هذا الموضع والإجارة ضربان معينة، وفي الذمة فالمعينة أن يقول: أجرتك داري هذه شهراً بعشرة من وقتي هذا، فمتى مضى شيء من المدة قبل القبض انفسخ منها بقدر ما مضى منها، وإن مضى كلها زالت الإجارة. وأما التي في الذمة، فأن يقول: استأجرتك لتخيط لي كذا وكذا، أو تحمل لي كذا وكذا، فهذه تقتضي أن يكون العمل معجلاً، فإن تأخر العمل لم يقدح في الإجارة، ويصح أن يسلم في المنافع أيضاً، فيقول: أسلمت إليك هذا في ظهر تحملني عليه إلى مكة بكذا، فإذا ثبت هذا، فالإجارة المعينة في الحج أن يقول: استأجرتك لتحج عني بنفسك أو لم يقل: بنفسك، فإن قوله: لتحج عني يقتضي فعله دون فعل غيره، فهذه إجارة متعلقة بفعله بعينه فيجب تعجيل تسليمه في السنة الأولى، وان شرط أن يحج في سنته كان تأكيداً كما لو اشترى شيئاً بعينه وجب تعجيل تسليمه، فإن شرط أن يعجل تسليمه في الحال كان تأكيداً لما تضمنه العقد، وجاز، ولا يجوز أن يشترط فيه التأجيل، وهو أن يقول: استأجرتك لتحج عني في السنة الثانية، كما لا يجوز شرط تأخير التسليم في بيع العين، ولا يجوز هذا العقد إلا في وقت يمكن تعجيل العمل، أو يحتاج [186 / ب] فيه إلى التسبب ليحصل العمل، فإن كان

ذلك بمكة، فلا يجوز قبل أشهر الحج، لأنه لا يمكن فيه تحصيل العمل إذ الإحرام بالحج قبل أشهره لا يجوز، ولا يحتاج فيه إلى التسبب، وهو السير، وإن كان في غير مكة من البلاد، فإن كان يحتاج فيه إلى تقديم السير على أشهر الحج مثل بلاد خراسان، فإنه يجوز تقديم العقد على أشهر الحج حسب الحاجة، ولو استأجره ليحج عنه ماشياً، وكان المشاة يخرجون قبلها يجوز للحاجة. وأما عقده في أشهر الحج، فيجوز في كل موضح لإمكان تسليم العمل عقيبه، وهو الإحرام، وفي هذا العقا إذا لم يحج من سنته بطل العقد، وليس في موضع تأخير تسليم المعقود عليه يبطل العقا إلا في العقا على المنافع، لأنها يتلف بمضي الزمان. وقال القفال: لا كون من شرطه الخروج عقيب العقد بل له أن ينتظر أيام خروج الحاج، أو يشتغل بتحصيل عدة السفر والاشتغال بأسبابه اشتغال به. ولو أحرم عنه، ثم أفسده فقد وقع الحج عن الأجير، وعليه قضاؤه وفسد عقد الإجارة وعليه رد الأجرة على المستأجر، وإن كانت الإجارة في الذمة وهي أن يقول: استأجرتك على حجة في ذمتك، أو لتحصل لي حجة أو توافيني حجة أو تسقط عني حجة الإسلام، فإن هذه الإجارة لا تتعلق بفعله، فإذ شاء حج بنفسه وإن شاء حج عنه غيره كما لو أسلم إليه في طعام في ذمته إن شاء أعطاه من طعام نفسه، وان شاء أعطاه من طعام غيره، ويشترط فيه قبض الأجرة في المجلس لأنه سلم، وقيل: إذا أطلق فيه قولان: أحدهما: يبطل. والثاني: يصح ويكون كالمتعين بالحلول، والشرط في انعقاده أن يكون بقي من الزمان مقدار ما يقطع فيه المسافة [187 / أ] من غير مشقة، وإن شرط فيه التأجيل ثبت وصح العقد، وهو أن يقول: تحصل في السنة الثانية، أو الثالثة، كما يقول: إن العلم الحال يجوز، والسلم إلى أجل يجوز، وهذا بمنزلة السلم، فعلى هذا إذا كان مطلقاً، كانت له مطالبته في السنة الأولى كما يقول في السلم المطلق أنه يقتضي تعجيل التسليم في الحال، وله مطالبته في السنة الأولى به، فإن أخر عن السنة الأولى لم تبطل الإجارة، ولكن قال أبو إسحاق: إن كان المستأجر حياً أو كان ميتاً، ولم يكن أوصى به أن يحج عنه، وإنما تبرع الوارث بأن دفع إليه مالاً يحج عن الميت، فإن للمستأجر الوارث فخ العقد واسترجاع الأجرة، لأن لهما غرضاً في ذلك، وهو أن ينتفعا بذلك المال ويتصرفا فيه إلى السنة الأخرى، وهذا كما قال الشافعي: إذا أسلم في الرطب، فانقطع الرطب في ذلك البلد كان بالخيار إن شاء أخره إلى القابل، وإن شاء فسخ واسترجع رأس المال، وفيه قول آخر: ينفسخ كما قلنا في المسلم فيه إذا انقطع في قول، وان كان الحج عن الميت بوصية منه لم يجز له فسخه واسترجاع الأجرة منه، لأن الأجرة لا يجوز للوصي أو الوارث التصرف فيها والانتفاع بها، بل يجب صرفها في هذه الجهة، فلم يكن لفخ العقد واسترجاع الأجرة فائدة، ولا غيره، وقيل: يفعل ما فيه النظر للميت فإن رأى أن غيره من الأجراء أصلح له يفسخ ويستأجر غيره، فإن

قيل: إذا كانت الحجة في الذمة لم جاز له فسخ العقد بتأخره عن السنة الأولى؟ قلنا: لأنها وان كانت في الذمة، فإن تعجيلها في السنة الأولى واجب، فإذا أحرم لم يفسخ العقد وثبت له خيار الفخ كما نقول في اللم في الرطب إذا انقطع على أحد القولين. فرع آخر لو كانت المدة طويلة، فعجل [187 / ب] الحج جاز لأنه لا غرض في التأخير كما لو كان عليه دين مؤجل، فعجله يلزمه قبوله في ظاهر المذهب. فرع آخر لو أحرم به في السنة الأولى في هذه المسألة وأفسده فقد وقع ذلك عن الأجير، ولم يصح تسليمه إليه، لأن الإجارة تقتضي حجة صحيحة فيصير في معنى ما لو أخر تسليمها عن السنة الأولى. وقال أصحابنا: ههنا له فسخ الإجارة واسترجاع الأجرة سواء كان الحج عن الحي أو الميت بوصية، أو تطوع من الوارث، لأن لهم فيه غرضاً صحيحاً، وذلك أن هذا الأجير يحتاج إلى القابل أن يقضي عن نفه هذه الحجة ثم يحج عن المستأجر في الثالثة، فيؤدي إلى تأخير الحجة إلى السنة الثالثة، وإذا استرجعوا الأجرة منه استأجروا من يحج في العام القابل، فاستفادوا به تعجيل الحج. وقال القاضي الطبري: لا نمق فيه، ويجب أن يكون بمنزلة التأخير من غير إفساد على ما بيناه، لأن الحجة إذا كانت في الذمة، فله أن يحج غيره عنه، فإذا كان القابل حج عن نفسه القضاء، واستأجر من يحج عن الميت، فبطل ما قال: هذا القابل، فإذا ثبت هذا، فلم تنفسخ الإجارة وصبر عليه، فإنه في القابل يحج عن نفسه قضاء عما أفسده فإن حج عن المستأجر كان عما عليه من القضاء، نص عليه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجه يقع القضاء عن المحجوج عنه، ويجعل الفاسد كأن لم يكن، ولا يجب رد الأجرة، وهذا غريب بعيد. فرع آخر لو استأجره رجلان ليحج كل واحد منهما، فأحرم عنهما جميعاً في سنة واحدة انعقد الإحرام عن نفه، لأن الجمع بين إحرامي في الحج لا يجوز دفعة واحدة، فلم يجز أن ينعقد بهما، فانعقد بأحدهما، وليس أحدهما بأولى من الآخر، فكان الأولى أن ينعقد عن الأجير، وكذلك لو أحرم الولد للأبوين انعقد عن نفسه [188 / أ]. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا أحرم عن أبويه صح، وكان له أن يجعله عن أيهما شاء استحساناً، واحتج بأن المقصود بذلك جهة واحدة، وهي جهة الثواب والجهالة لا تؤثر في حق الله تعالى، وهذا غلط، لأنه قصد الإحرام الواحد عن اثنين، فأشبه إذا أحرم عن أجنبيين. فأما ما قالوه، فلا يصخ، لأن الحج يقع عن الأب كما يقع عن الأجنبي والقصد من الكل الثواب، وحصول القربة، فلا فرق. وهذا لو استأجره رجل

واحد يصح، فأحرم الأجير عنه وعن نفسه، انعقد إحرامه دون المستأجر. فرع آخر لو أمره بالحج عنهما، فأحرم عن أحدهما لا يعينه، انعقد إحرامه عن نفسه دون المستأجر، وكان له صرفه إلى أيهما شاء قبل أن يتلبس بشيء من أفعال الحج. وبه قال أبو حنيفة ومحمد، وقال أبو يوسف: يقع عن نفسه، وهذا غلط قياساً على ما أطلق للإحرام عن نفسه، ثم عينه بالحج أو بالعمرة يجوز. مسألة: قال: فإن أفسد حجه أفسد إجارته. الفصل إذا استأجره ليحج عنه، فأحرم عنه، وأفسده يتعلق بالإفساد أربعة أحكام: أحدها: أن الحج ينقلب إلى الأجير. والثاني: يلزمه فيه عن نفسه. والثالث: يلزمه القضاء عن نفسه. والرابع: يلزمه بدنه لأجل الإفساد. وقال المزني: لا يجب قضاؤه على الأجير ويمضي في حجه على الفساد عن المستأجر، لأن الحج عن المحجوج عنه، وهو لم يفسده، فكيف يجب قضاؤه عليه. وأما الأجير، فليس الحج عنه، فلا يقضيه أيضاً، وهذا غلط لأن الحج عن الغير إنما يجوز بالإذن، وهو استأجر ولم يحج عنه حجة شرعية سليمة من الفساد، فإذا أفسدها خرج الحج عن أن يكون مأذوناً فيه، فلم يقع عنه وينصرف إليه، لأنه لو أحرم بهذه الحجة عن نفسه ابتداء صح، فإذا أحرم به عن الغير، [188 / ب] ولم يقع عن ذلك الغير، انصرف إليه كما لو وكله بأن يشتري عبداً، فاشترى جارية، فالشراء ينصرف كذلك ههنا. وقال الشافعي ههنا: أفسد إجارته، وأراد إذا كانت الأجارة معينة على ما ذكرنا. مسألة: قال: ولو لم يفسد، فمات قبل أن يتم الحجء فله بقدر عمله. الفصل إذا استأجر رجلاً ليحج عنه، ثم مات الأجير لم يخل من ثلاثة أحوال: إما أن يموت قبل الإحرام، أو بعد الفراغ من أركان الحج كلها، أو بعدما أتى ببعض الأركان، وبقي البعض، فإن مات قبل الإحرام مثل إن بلغ إلى أقرب الميقات، ولم يحرم بالحج، ثم مات، فلا يختلف قول الشافعي إنه لا يستحق من الأجرة شيئاً، لأن السفر تسبب إلى الحج والأجرة مقابل أعمال الحج دون التسبب. وحكى الماسرجسي عن ابن أبي هريرة أنه قال: لما وقع من القرامطة ما وقع

اجتمعت أنا والمحاملي والإصطخري، واتفقنا على أن نفتي أن كل من كان حاجاً عن الغير لا يستحق الأجرة، إلا أنه يرضخ له بشيء. هكذا حكاه القاضي الطبري، وذكر الشيخ أبو حامد: أنهم أفتوا بأن له الأجرة بقدر ما قطع من المسافة، وهذا يخرج على ما ذكره الشافعي في "الإملاء" إذا أحرم بالعمرة عن نفسه، ثم أحرم بالحج عن المستأجر من مكة أنه يلزمه أن يرد من الأجرة بقار المسافة، وما ترك هن الإحرام، فيكون في المسألة قولان: أحدهما: ما ذكرنا، وهو الصحيح. والثاني: يستحق بقدر، فتسقط الأجرة عليها. ثم في مسألة "الإملاء" من أصحابنا من يعتبر الفراسخ ويقتصر عليه. ومنهم من يعتبر مع الفراسخ سهولة الطريق وحزونتها، فربما يجعل أجرة فرسخ خمسة دراهم، وأجرة فرسخ درهماً، وهذا أصح، وإن مات بعد الفراغ من الأركان [189 / أ]، وبقي الرمي والمبيت، فإن ورثته يريقون دماً عما تركه، وهل يردون بقدر ذلك من الأجرة؟ على اختلاف أصحابنا في تخريجه قولين، أو قول واحد على ما بيناه في مجاوزة الموضع الذي عينه للإحرام، وان مات في خلال الأركان مثل إن أتى بالإحرام والوقوف، وبقي عليه الطواف والسعي، فهل يستحق الأجرة) نص في "الإملاء" على قولين: أحدهما: يستحق بقدر، وهو الصحيح. ونقله المزني إلى "المختصر"، لأنه أوفاه بعض المقصود بعقد الإجارة، فأشبه من قال: من رد أبقى مكة كذا، فرده في بعض الطريق، ثم انفلت لا يستحق الأجرة، لأن المقصود لم يحصل كذلك ههنا. ومن قال بالأول أجاب عن هذا بأن في مسألة الأبق لم يحصل شي، من المقصود، وههنا حصل، لأن في أحد القولين، يبني الغير عليه. وفي القول الثاني: يحصل الثواب له في قدر ما فعل، فإذا قلنا بالمذهب الأول، قال أبو إسحاق: فيه قولان: أحدهما: يسقط على العمل والمسير، وان كان لو انفرد المسير لم يسقط عليه، لأن ههنا تابع للأفعال، ويجوز أن يتناول العقد شيئاً على وجه البيع، ولا ينفرد به كأساس الحيطان وطي الآبار، يصخ بيعهما مع الدار تبعاً، ولا يفردان بالبيع. والثاني: يسقط على الأعمال، فيقال: كم تسوي الحجة من الميقات) فيقال: مائة، ثم يقال: وكم قدر ما عمله من الحج؟ فيقال: نصفه، فتجب نصف الأجرة، وهذا لأنه لو قابله عوض لكان له عوض بانفراده والمقصود الأعمال لا غير. وذكر القفال: أن الأول هو المنصوص. والثاني، قول مخرج. وقال ابن سريج: ليست على قولين، بل هما على اختلاف حالين، فإن قال: استأجرتك لتحج عني فالتوزيع من يوم الإحرام. وان قال: لتخرج حاجاً عني، فمن يوم [189 / ب] الخروج هذا في مقدار ما يستحقه من الأجرة. وأما في جواز الثناء في الحج على فعل الغير قولان:

أحدهما: يجوز للمحل أن يبني عليه ذكره في ((القديم اا، لأن فعل الحج يجوز من اثنين، ألا ترى أن الولي إذا أحرم عن الصغير، ثم صار الصبي مميزاً في وقت الحج، وأمكنه الطواف بالوقوف والرمي بنفسه لزمه أن يتولى ذلك بنفسه؟ فيكون الإحرام من الولي وسائر الأعمال من الصبي. وقال في "الجديد": لا يجوز، وهو الصحيح، لأنه عبادة على البدن، فلا يجوز للغير أن يبني فيها على فعل الغير كالصوم والصلاة، ولأنه لو جاز هذا، جاز أن يستأجر في الابتداء اثنين يفعلان الحج عنه، فإن قيل: أليس لو وضاه نفسان أو توضأ بعض الوضوء، ثم أكمله غيره يجوز؟ قلنا: هذا لا يكون بنا، على فعل الغير، لأنه هو المتطهر دون الموضئ، وإنما هو معين له عليه، فلم يكن ذلك بناء وليس كذلك الأجير، فإنه إذا أحرم عن غيره، فهو المحرم، فإذا جاء حلال ليبني عليه احتاج إلى إحرام مستأنف، فيصير محرماً به، فيكون قد بنى فعل غيره، فإذا قلنا بقوله الجديد نظر في الإجارة، فإن كانت معينه بفعله بطلت الإجارة ورد الأجرة على ما ذكرنا، وان كانت في الذمة، فإن كان وقت الحج باقياً كأن مات قبل فوات وقت الوقوف استأجر ورثته من يحج في هذه السنة عن المستأجر، فإن أحرم هذا الثاني من حيث بلغ المورث وجب الدم لترك الميقات، وهل يرد من الأجرة بقدره؟ قد بينا، وان رجع إلى الميقات سقط الدم، وان كان قد فات وقت الوقوفء فمان الحج يتأخر إلى السنة الثانية، فإن اختار المستأجر فخ الإجارة لتأخرها عنه جاز. وان اختار إقرارها استأجر عنه في السنة الثانية من يحج من مال المورث [190 / أ] جاز، وهذا إذا كان الحج عن حي، فإن كان الحج عن ميت لا يجوز للوصي أن يفسخ الإجارة على ما بينا. وإذا قلنا بقوله القديم، فإن كانت الإجارة معينة بطلت الإجارة، فإن كان قبل فوات الوقوف يستأجر الآمر من يحرم عنه، ويبني على ما مضى من أعماله، وهذا الثاني يحرم مكانه، ويقف، ولا يجب الدم بترك الميقات، لأنه بنى على إحرام أتى به من الميقات، وسقوط الدم مهنا هو الفرق من القولين، فإن في القول الأول، يجب الدم على ما ذكرنا، وان مات بعد الوقوف، فالمستأجر يستأجر من يكمل الحج على ما يأتي بيانه، وان كانت الإجارة في الذمة، فإن ورثة الأجير يتمون النسك، فإن كان مات قبل الوقوف استأجروا من يحرم، ويقف ويتم الحج، أو يفعله الوارث بنفسه، وان كان بعد الوقوف، فكذلك إن كان وقت الوقوف باقياً، إلا أنه يحرم عنه بالحج، ولا يقف ويأتي بالباقي. وقال أبو إسحاق: يحرم الثاني بالعمرة، ويأتي بالطواف والسعي، ولا يأتي بالرمي، لأنه ليس في العمرة رمي ويريق عن الرمي والمبيت دماً، لأن الدم ينوب عنهما، وهذا لأنه لا يجوز الإحرام بالحج قبل أشهره. وقال الشيخ أبو حامد: والوجه الأول الذي ذكره أصحابنا ضعيف من هذا الوجه، وهو أن إحرام الحج لا يجوز في غير أشهره. وما قاله أبو إسحاق أفسد، لأنه يأتي بطواف العمرة، ويقع عن الحج.

وقال سائر أصحابنا: الصحيح الوجه الأول، وهذا الإحرام مبني على إحرام ابتدئ، في أشهر الحج، وإنما لا يجوز ابتداء الإحرام في غير أشهر الحج، ولأن هذا الإحرام تابع للأفعال، وهذه الأفعال الباقية تجوز في غير أشهر الحج، وما قاله أبو إسحاق لا يصح لما ذكره ومن وجه آخر، أنه لو صح ما قاله لوجب إذا أحرم الثاني بالحج (190 / أ) عند بقاء وقت الوقوف، وكان الأجير الأول، قد وقف أن يلزمه الوقوف، لأن الإحرام بالحج يوجب بذلك، ولا يقول هذا قليل. وقال بعض أصحابنا بخراسان: نص الشافعي على أن البناء على الحج جائز حتى لو وقف الأجير، ثم مات استؤجر عنه من يحرم إحراما ًناقصاً، ولا يحرم عليه في إحرامه إلا النساء، فيطوف بالبيت، ويتم الحج. وهذا قول غريب خلاف ما ذكر أبو إسحاق. وقيل: جملة ما ذكرناه ثلاثة أقوال: أحدهما: الوارث يبني على فعل الأجير، ويستحق تمام الأجرة. والثاني: لا يبني ولا يستحق شيئاً من الأجرة. والثالث: لا يبني ويستحق بقدر ما فعله الأجرة، وهكذا القولان، فيمن حج عن نفسه، ومات في خلاله هل يبني عليه أم لا؟ ولا يختص ذلك بموت الأجير. فرع لو استأجره للحج فأحصر بعد وفاته يتحلل، ولا قضاء عليه كالمستأجر لو كان أحرم فأحصر. فرع آخر هل يستحق من الأجرة بقدر ما أتى به إلى وقت الإحصار؟ قولان، كما لو مات. فرع آخر لو لم يتحلل حتى فاته الحج، ثم دخل مكة فطاف وسعى وحلق، فما فعله بعد الفوات لا أجرة له لأنه للتحلل لا عن المحجوج عنه، وفيما فعله قبل ذلك إلى أن أحصر هل يستحق الأجرة؟ على ما مضى من القولين. فرع آخر لو فاته الحج بخطأ العدد يلزمه دم الفوات، والقضاء عند الفوات. وقال أبو حامد: يجيء على قياس ما ذكرنا في الأجير إذا أفد الحج أن لا يستحق الأجير ههنا شيئاً من الأجرة، لأن القضاء يلزمه كما في الإفساد. وقال القاضي الطبري: نص على هذا في "المناسك الكبير". ويفارق إذا أحصر يستحق الأجرة إلى أن أحصر، لأن الحبس من جهة غيره والفوات [191 / أ] حصل بمعنى من جهته فافترقا.

فرع آخر قال أبو حامد: قال في "الأم": إذا أحصر الأجير بعد الإحرام يتحلل على ما ذكرنا وما أتى به عن المستأجر، ويفارق الإفساد، لأنه أتى فيه بما يوجب القضاء، فوقع عليه بخلاف ذاك، فعلى هذا ينبغي أن يكون دم الإحصار على المستأجر. وقال القاضي الطبري: يقع عن الأجير المحصر، والدم عليه وهو ا~قيس المشهور، وهل يكون له الأجرة إلى أن أحصر: على ما ذكرنا. الفصل قال الشافعي في "المناسك الكبير": لو استأجره على أن يتمتع عنه، فأفرد أجزأت الحجة عنه، وقد زاده خيراً، بأن أحرم بالحج من الميقات، فإن التمتع يحرم بالحج من جوف مكة، وجملة هذا أنه إذا عين له الإحرام بنسك، فأحرم بغيره، فهو على أربعة أقسام: أحدها: أن يعين الحج فيحرم بغيره. والثاني: أن يعين العمرة، فيحرم بغيرها. والثالث: أن يعين القران فيحرم بغيره. والرابع: أن يعين التمتع فيحرم بغيره. فأما لأول، وهو إذا عين الحج، فأحرم بغيره ففيه ثلاثة أقسام: أحدها: أن يحرم بعمرة. والثاني: أن يحرم بالقران. والثالث: أن يحرم بالتمتع، فإن اعتمر فهذه العمرة لا تسقط ما لزمه من الحج، ثم لا يخلو حال المحجوج عنه، إما أن يكون حياً، أو ميتاً، فإن كان حياً كانت العمرة عن الأجير، لأنه لم يأذن، وإن كان ميتاً، فإن كانت عمرة الإسلام واجبة عليه، كانت واقعة عن الميت، لأن الأجير نواها عنه، ويجوز ذلك من غير إذن، والأجرة له، وعليه أن يحج عنه بعقد الإجارة، وان كانت عمرة الإسلام غير واجبة عليه، فيه قولان بناء على القولين في جواز النيابة في حج التطوع، فإن قلنا: لا يجوز يقع عن الأجير. وان قلنا: يجوز يقع عن الميت دون الأجير، وهو مقطوع لا أجرة له [191 / ب]. والثاني، من القسم أن يقرن. قال في "المناسك الكبير": جاز واستحق الأجرة المسماة. وقد زاد عمرته على المستأجر دم القران، وهو كرجل استؤجر على أن يعمل عملاً فعمله وزاد آخر معه، ولا شيء له في زيادة العمرة، لأنه متطوع بها. قال أصحابنا: تأويل هذه المسألة، أن المحجوج عنه ميت والعمرة واجبة عليه، فيجوز لكل أحد أن يعتمر عنه، وان لم يأذن الوارث فيقع كلاهما عنه، ويستحق الأجرة المسماة، ويجب دم القران في مال الأجير، لأنه تطوع به، ولو كان هذا عن حي يقع

عن الأجير، لأنه لم يأذن في العمرة، فوقعت عن الأجير، وإذا وقعت عن الأجير كان الحج تبعاً لها، فتقع عن الأجير أيضاً، لأنه لا يتبعض، ولو كان عن ميت، ولم تكن العمرة واجبة عليه، فهو على ما ذكرنا من القولين في جواز التطوع به عن الميت، أحدهما: يكونان عن الميت. والثاني: كلاهما عن الأجير لما ذكرنا أن العمرة لم تصح عن الميت، فيقع عن الأجير والحج يتبعها أيضاً. وقال بعض أصحابنا: تأويل المسألة أنه استأجره الحي ليحج عنه، وكان في كلامه الإذن بالقران مثل أن يقول: أقرن عني بمائة دينار، فقال: لا. فقال: الحج بمائة دينار فرضي به، فإذا أقرن عنه كان بإذنه ورضاه، فيجوز الحج والعمرة عنه، قال هذا القائل: والدم على المستأجر، وان لم يكن في كلامه ما يدل على هذا الإذن، فحكمه ما ذكرنا. وهذا التأويل أمخ، لأنه إذا كان المحجوج عنه ميتاً، والعمرة واجبة عليه يكون الدم على الأجير على ما ذكرنا، وقد نص أن الدم على المستأجر. ومن أصحابنا من قال: تأويل المسألة في الحي، وان لم يوجد منه ما يدل على الإذن، لأنه لا يجوز أن يعتمر عن الحي من غير أشهره عمرة مفردة، فأما إذا أقرن بالحج المأذون عمرة تقع العمرة عنه [192 / أ] كالنسك الواحد. وهذا أيضاً غير صحيح، لأنه يفيد وجوب الدم على الأجير، وقد نمق على وجوب الدم على المستأجر، فخرج من هذه الجملة أنه إذا كان المحجوج عنه ميتاً وقعا معاً عن المستأجر والدم على الأجير، وان كان حيا وجرى في كلامه ما يدل على الإذن فيه وقعا معاً عنه، والدم عليه كما لو صرح به، وإن كان حياً، وليس في كلامه ما يدل على الإذن، فعلى وجهين: أحدهما: النسكان عن الأجير، ولا شيء له. والثاني: النسكان عن المستأجر، والدم على الأجير، وذكر الشيخ أبو الحسن المحاملي رحمه الله: إذا وجد منه ما يدل على الإذن به يجوز عن المستأجر كلاهما، ولكن الدم على الأجير، لأن المستأجر لم يأذن في إحرام يتضمن الدم، وهو غلط بخلاف النص، ولأنه إذا لم يؤذن وجب أن لا يقع عنه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا لم يوجد منه دلالة للإذن، فالعمرة عن الأجير. وفي الحج قولان: وهذا أيضاً غلط، وقيل: أصل الوجهين مما قال الشافعي في الوكالة: إذا دفع إليه ألفاً ليشتري له به عبداً، فاشترى عبدين يصخ العقد فيهما للعقد، وزاده خيراً في أحد القولين. والثالث، من القسم أن يتمتع، فالكلام في العمرة على ما مضى في القسم الأول، لأنها مفردة، والحج واقع عن الأمر حياً كان أو ميتاً لإفراده لأنه استؤجر ليحرم به من الميقات، فأحرم به من مكة فعليه دم لمجاوزة الميقات وهل يرده من الأجرة بقسط ذلك؟ وجهان، ولا دم على الأجير في تمتعه لأن دم التمتع إنما يجب إذا وقع النسكان

معاً عن شخص واحد وههنا وقعا عن شخصين إلا أن يقع عن المحجوج عنه العمرة أيضاً، لكونه ميتاً، فيجب دم التمتع على الأجير، فيكون عليه دمان: دم المتعة ودم مجاوزة الميقات [192 / ب] ومن أصحابنا من قال: إن كان في كلامه ما يدل على الإذن به، فقال: أفرد فإن تمتعت فقد أحسنت. وقع النسكان عنه، وان لم يكن في كلامه ذلك فعلى ما ذكرنا. وأما القسم الثاني من الأصل أن يأذن له بالإحرام بعمرة، فأحرم بغيرها فيه ثلاثة أقسام: أحدها: يحرم بحج. والثاني: يقرن عنه. والثالث: أن يتمتع عنه، فأما الأول، فإن كان عن حي يقع عن الأجير، وان كان عن ميت فحكمه على ما مضى من اعتبار حال الميت في بقا، فرض الحج عليه أو سقوطه عنه. وأما الثاني، فحكمه كما لو استؤجر بحجة مفردة فأحرم قارناً على ما ذكرنا، فان قيل: العمرة لا تفوت فيمكنه أن يعتمر بعد حجه. قلنا: عين له الزمان، وقد فات ذلك الزمان فبطلت الإجارة، فإذا فعل ذلك لا يستحق الأجرة، نص عليه في "المناسك الكبير"، وقال: رد الأجرة، ومعناه هذا وقيل معناه لا أجرة له بما فعل، ولم يتعرض لحكم آخر لو اعتمر بعده. وأما الثالث، فإذا تمتع، فالعمرة عن الآمر حياً وميتاً لانفرادها وله الأجرة، والحج يختلف بين أن يكون حياً أو ميتاً، وبين أن يكون عليه فرضه أو لا، وبين أن يوجد ما يدل على الإذن أو لا، فإن أوقفنا الحج عن الأجير لم يجب دم التمتع، وإن أوقعنا عن الميت يلزمه دم التمتع لوقوعهما عن شخص واحد. وأما القسم الثالث من الأمل أن يعين له القران، فأحرم بغيره ففيه ثلاثة أقسام: أحدها: أن يحرم بحجة مفردة، فيقع الحج عن الآمر، وبقي الثاني، وهو العمرة فبعث غيره ليعتمر عنه، وإن كانت العمرة واجبة عليه ورجع عليه يخصة العمرة من الإجارة، فإن اعتمر هذا الأجير عنه بعد ذلك يجوز عن الآمر، وزاده من وجه بإفراد كل واحدٍ منهما [193 / أ] ونقصه من وجه وهو أنه أحرم بالعمرة من أدنى الحل دون الميقات فيلزمه الدم، وهل يرد من الأجرة بقدر ما ترك من عمل العمرة وهو ما بين الميقاتين؟ على قولين. وإن عاد إلى الميقات وأحرم بها فلا دم عليه واستحق كل الأجرة؛ لأنه أتى بالنسكين من الميقات مع زيادة العمل في الإفراد. ومن أصحابنا من قال: يلزمه أن يرد من الأجرة بقسط العمرة بكل حال؛ لأنه عين له وقت العمرة، بأن يأتي بها في أشهر الحج وقد فات ذلك الوقت، وهو ظاهر ما قال في "المناسك الكبير".

والثاني: أن يحرم بعمرة مفردة فيقع عن الأمر، ثم بأن لم يأت بالحج فرداً يلزمه رد ما قابله من الأجرة، وان أتى به سقط النسكان ثم يعتبر موضع إحرامه بالحج على ما ذكرنا وذلك على قولين ويلزم دم آخر لتمتعه. فإن قيل: فدم المتعة وجب لترك الإحرام بالحج من الميقات فمعنى وجوبها مختلف؛ لأن أحدهما وجب بالعقد والثاني بالشرع، فإذا ثبت وجوب الدمين فدم وجوب المجاوزة واجب على الأجير. وأما دم المتعة قال أكثر أصحابنا: يلزم المستأجر بدلاً من دم القران؟ لأنه أذن له في نسكين موجبهما دم وقد فعل، فهو كما لو قرن. وقال بعض أصحابنا: فيه وجهان؛ أحدهما: هذا. والثاني: لزم الأجير لأنه لم يأذن في التمتع فلا يلزمه موجبه. ذكره في "الحاوي" ولو عاد إلى الميقات وأحرم منه بالحج فلا دم على أحد؛ لأن دم التمتع كتركه الإحرام بالحج من الميقات ولم يترك. وأما القسم الرابع من الأصل: أن يأمره بالتمتع فأحرم بغير ففيه ثلاث أقسام: أحدهما: أن يحرم بحجة مفردة على ما ذكرنا عن الآمر، وبقى النسك الثاني فإن أتى به سقط عنه أيضاً ثم ينظر فإن أحرم به من الميقات فقد أكمل وان أحرم به من أدنى [193 / ب] الحل فقد كان يلزمه بالإجارة أن يحرم به من الميقات فترك، وكان يجوز له أن يحرم من جوف مكة فأحرم به من الميقات فتطوع بالزيادة فيلزمه دم العمرة وهل يرد بقسطه من الأجرة؟ على ما مضى. وإن لم يأت بالعمرة يرد بقطها من الأجرة فيسقط الأجرة على الحج، والعمرة على الحج الذي أتى به، فيقال: عمرة من الميقات وحجة من نسكه بكم؟ فيقال: بمائة، ويقال: حجة بمكة بكم؟ فيقال: بخمسين فيستحق نصف الأجرة ولا تسقط الأجرة على حجة من الميقات لأنه متطوع بزيادة الإحرام من الميقات بالحج إلى مكة فلا تستحق لأجله الأجرة. فإن قيل: أفيلزمه أن يحرم بالعمرة؟ قيل: يلزمه ذلك لأنه استؤجر على عملين فعمل أحدهما، إلا أنه كان عن ميت فلا خيار لمستأجره، وان كان عن حي كان مستأجره بالخيار على ما سبق نظيره. والثاني: أن يأمره بالتمتع فأحرم بعمرة مفردة فالعمرة عن الآمر وبقي الآخر، فإن أتى أو لم يأت كان على ما مضى. والثالث: أن يستأجره ليتمتع فقرن فيقع كلاهما عن الآمر ولكن يلزمه دم لأجل ما ترك من العمل في إفرادهما ولو أنه طاف لهما طوافين وسعى سعيين لا يسقط ادم عنه أيضاً؛ لأنه قد كان يجزئه أحدهما فصار متطوعاً بالثاني، على أنه قد ترفه بسقوط أحد الإحرامين فكان عليه أن يجبر ذلك بدم، وهل يرد من الأجرة بقسطه؟ على الخلاف وعليه دم القران، فيجب بقرانه دمان: أحدهما: بترك العمل في إفرادهما، وهو واجب على الأجير.

والثاني: بالقران وفيه وجهان: أحدهما: على الأمر بدلاً من دم التمتع على ما ذكرنا. والثاني: يلزم الأجير لتركه ما أذن فيه وتطوع بفعل ما لم [194 / أ] ويؤذن فيه. ذكره في "الحاوي". وسائر أصحابنا ذكروا قولاً واحداً إنه يسقط عنه فرفهما، ويستحق جميع الأجرة ويلزم دم القران في مال المستأجر، لأنه زاده خيراً من وجه، وهو أنه أحرم بالحج من الميقات ونقصه من وجه ولم يؤثر ذلك في إسقاط فرض النسكين عنه. وقد رضي هو بإسقاط النسكين على وجه يقتضي وجوب الدم، ودم القران متعلق بالإحرام كدم التمتع سواء. نص عليه في "المناسك الكبير"، وقال: لا يلزمه أن يرد شيئاً من الأجرة لما خف عنه من العمل بتداخل النسكين، لأن الشرع جوز ذلك القدر من العمل على العبادتين معاً. وقال أبو حنيفة: إذا أمره بالمأمور وزاد أن يحج عن ميت أو يعتمر، فقرن يضمن الذي أخذه، لأنه فعل ما لم يؤمر، وهذا لا يصح لما ذكرنا أنه أتى بالمأمور وزاد. فرع لو استأجر رجلاً ليحج عنه، فأحرم بالعمرة عن نفسه، وبالحج عن المستأجر نص في "المناسك الكبير": إن كليهما عن الأجير، وقد ذكرنا من قبل. وقال أبو حامد: أشار الشافعي في "القديم" إلى أنهما يقعان على ما نوى العمرة عنه، والحج عن المستأجر. قال القفال: وعلى هذا يجوز أن يحرم عن زيد بالحج وعن عمرو بالعمرة في أحد القولين. ومن أصحابنا من قال: يقعان عن الأمر، لأن العمرة تبع الحج، والصحيح الأول، لأن الإحرام واحد، فلا يجوز أن يقع عن اثنين، ولا يتبع الحج، لأنه يؤدي إلى أن ينوي نسكاً عن نفسه، ثم يقع عن غيره. وهذا محال. فرع آخر لو كانت عليه حجة الإسلام وحجة منذورة، فاستأجر من يحج عنه وأمره أن ينوي الحجة المنذورة، فنواها وقعت عن حجة الإسلام، لأنه لو أحرم عن نفه [194 / ب] بالمنذورة وقعت عن حجة الإسلام كذلك النائب عنه. فرع آخر الإجارة على زيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يجوز، لأنه عمل غير مضبوط بوصف ولا مقدر بشرع. وأما الجعالة على زيارة قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقعت بالجعالة على نفس الوقوف

هناك عند القبر ومشاهدته لا تجوز، لأنه لا يجوز فيه النيابة عن الغير، وإن وقعت الجعالة على الدعاء عند زيارة قبره تجوز، لأن الجهل بالدعاء لا يبطله، والدعاء مما تصح فيه النيابة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مات ابن أدم انقطع عمله إلا من ثلاث"، وذكر منها: "ولد صالح يدعو له". فرع آخر لو كانت عليه حجة الإسلام وحجة النذر فاستأجر رجلين في عام واحد، وأحرما عنه في حالة واحدة من غير أن يسبق أحدهما الآخر يحتمل وجهين: أحدهما: أن يعتبر أسبقهما إجارة، وإذناً فينعقد إحرامه بحجة الإسلام، وما بعده بالنذر. والثاني: يحتسب الله له بأحدهما عن حجة الإسلام لا بعينها والأخرى عن حجة النذر. فرع آخر إذا وجب عليه الحج، فمات قد ذكرنا أنه يلزم أداء الحج عنه من الميقات، وقد نص على هذا في "المناسك الكبير"، وصرح أنه لا يلزمه أن يستأجر رجلاً من بلده ونص في كتاب الوصايا أنه يحج عنه من بلده، ونص في "الأم" ما يدل على هذا فحصل قولان: أحدهما: يجب من الميقات، لأن ما قبله نسب إلى الإحرام من الميقات، فإن الحي لا يمكنه أن يحرم من الميقات حتى يسير من بلده، فإذا مات سقط ذلك، وهو الصحيح. والثاني: يستأجر من بلده من رأس المال، لأن الذي وجب عليه أن يسير من بلاه ويحرم من الميقات، [195 / أ] فإذا مات وجب أن يفعل عنه على الحد الذي وجب عليه في حياته. وقال ابن المرزبان: فيه وجهان، ولا معنى للوجهين على ما ذكرنا. مسألة: قال: ولا يحرم عن رجل إلا من قد حج مرة وقد ذكرنا هذه المسألة. فرع ذكره والدي رحمه الله إذا أذن المعصوب للأخر بالإحرام عنه يوم الجمعة، فأحرم عنه يوم الخميس جاز قياساً على ما قال الشافعي، لو عين مكاناً للأجير ليحرم عنه فيه، فأحرم قبله جاز، وقد زاده خيراً. ويحتمل أن يقال: لا يجوز، لأن الميقات الشرعي من جهة الزمان يجوز تقديم الإحرام عليه كالإحرام بالحج قبل أشهره فالميقات الذي عينه الأمر مثله، وهذا أصح الفعل بين الزمان والمكان. فرع آخر وقال أيضاً: لو أحرم إحراماً موقوفاً في أشهر الحج، وكان حج حجة الإسلام

وعمرة الإسلام، فمات قبل التعيين وترك مالأ وكان الموت بعد أشهر الحج، ولم يعمل أعمال واحدٍ منهما، فالوارث ما الذي يقضي الحج أم العمرة أم القران؟ فإن الميت كان شرع في الإحرام، وأمكنه الأداء، ولم يؤده حتى مات يحتمل وجهين: أحدهما: يقوم الوارث مقامه في التعيين كما يقوم مقامه في جميع أموره، فإن عينه في الحج لزمه قضا، الحج، وان عينه في العمرة لزمه قضاء العمرة. وهل يبني الوارث على إحرام المورث أم يحتاج إلى إحرام جديد؟ قولان، والأصح أنه يلزمه تحديا الإحرام والثاني: لا يقوم مقامه في التعيين بل يكون عليه القران عنه للاحتياط في إسقاط الفرض وأصل هذا إذا طلق إحدى امرأتيه لا يعينها، [195 / ب] فمات قبل التعيين، هل يقوم الوارث مقامه في التعيين؟ قولان. مسألة: قال: ولو أوصى أن يحج عنه وارث لم يسم شيئاً أحج عنه بأقل ما يوجد أحد يحج به. الفصل إذا أوصى أن يحج عنهء وأطلق ولم يعين من يحج عنه ولا الأجرة، فإنه يستأجر من يحج عنه من الميقات بأقل ما يوجد من الحج عنه إذا كان ثقة أميناً، لأن الواجب هو أقل ما يمكن كما لو قال: أعتقوا عني عبداً كان الواجب أن يعتق عنه ما يقع عليه اسم العبد بأقل ما يوجد من الثمن، ولا فرق بين أن يحج عنه وارث أو أجنبي، لأنه يحج بعوض لا مسامحة فيه، فكان الوارث والأجنبي في ذلك سواء كما إذا باع في مرضه شيئاً بثمن مثله جاز البيع سواء كان من الوارث، أومن الأجنبي، وكذلك إذا أوصى بأن يباع من وارثه بثمن مثله صح، وقال الماسرجي: الأولى أن يستأجر الوارث، لأنه أشفق على مورثه وأحوط على تأدية فرضه، ولو أوصى بأن يحج عنه رجل بعينه، ولم يم له أجرة. قال الشافعي: يحج عنه بأقل ما يوجد أحد يحج به. وقال بعده: ولو أوصى لرجل بمائة دينار يحج بها عنه، فما زاد على أجر مثله، فهو وصية، فجعل ما زاد على أجرة مثله وصية، ولم يقل: ما زاد على أقل ما يوجد. واختلف أصحابنا، فمنهم من قال: يعطى أجرة المثل من المسألتين جميعاً، وقول الشافعي: أحج محنه بأقل ما يوجا أحد يحج به، يريد من كان في مثل حاله ودينه وأمانته وعلمه، فلو كان المعين أفقه من غيره، فطلب مائة وغيره يحج بأقل أعطى المائة، لأن العالم أحسن قياماً بها ممن يجهلها في المسألة الأولى لو كان المعين أفقه، فطلب ألفين، وغيره يحج بألف أعطى الألفين. وهذا اختيار القاضي الطبري، [196 / أ] وهو الأقيس، ومنهم من فرق بين المسألتين، فقال في المسألة الأولى: وكل الأجرة إلى الوصي، فلم يجز أن يدفع إلا لأقل الذي يحج به.

وفي الثانية: قطع الأجرة بنفسه، ولم يكلها إلى الاجتهاد، فكان ما زاد على أجرة المثل وصية، وهذا كما لو أوصى أن يباع عبده الفلاني من فلان، ويتصدق بثمنه يباع منه بأكثر ما يوجد له ثمناً، ولو أوصى بأن يباع منه بقدر بيع منه، فإن نقص ثمن المثل احتسب من ثلاثة، وإذا لم يحج عنه بأقل ما يوجد أو أجرة المثل على ما بيناه أحج عنه غيره بأقل ما يوجد أحد يحج عنه به، لأنه صار موكولا إلى اجتهاد الوصي، وبطل ما أوصى به الميت من تعيين من يحج عنه. ولو قال: أحجوا عني فلاناً بمائة دينار فعين من يحج عنه، ومدار الأجرة، فلا يختلف المذهب أنه يعطي أجرة مثله، فإن كان ما سفاه أجرة مثله لا يزيد عليها أعطي ذلك من رأس المال سواء كان وارثاً أو أجنبياً، لأنه معاوضة بعوض المثل، وان كانت أجرة مثله خمسين ديناراً كان ما زاد عليها وصية، فإن كان وارثاً كان إلى إجازة باقي الورثة، فإن أجازوه جاز وان ردوه بطل، وإن كان أجنبياً نظر، فإن كانت الزيادة تخرج من الثلث. جاز وان لم تخرج من الثلث كان ما زاد على ثلاثة إلى إجازة الورثة، فإن أجازوه جاز، وإن ردوه بطل، فإذا أراد الموصى له أن يحج بالكل عند الإجازة أو بالبعض عند الرد أحج عنه وان امتنع أحج غيره بأقل ما يوجد أحد يحج عنه. فرع لو قال: أعطوني ما أوصى له به، وهو ما زاد على أجرة مثلي لم يدفع إليه، لأنه إنما أعطاه إذا حج عنه، فأما إذا لم يحج عنه، فلا يستحق شيئاً، وهذا كما لو قال: بيعوا عبدي من فلان بمائة وتصدقوا بثمنه، [196 / ب] والعبد يسوي مائتين، فامتنع من شرائه بيع العبد من غيره بالمائتين، ويتصدق بثمنه، ولا يجوز أن يقول: أعطوني المائة التي كانت وصية لي، لأنه إنما جعلها له إذا اشترى العبد. فرع آخر لو قال: أحجوا عني من يرضاه فلان، فرضي فلان إنساناً كان كما لو عينه الموصي، فإن كان في حج واجب، كان كالمعين في حج واجب، وان كان في حج تطوع كان كالمعين في حج التطوع. فرع آخر لو أوصى بحج التطوع، وقلنا: يصخ في أحد القولين ويكون جميع الأجرة معتبرة من الثلث سواء أمر بأن يحج عنه مطلقاً، فاستؤجر بأقل ما يوجد من يحج به عنه، أو عين الأجرة والحاج، أو عين الحاج ولم يعين الأجرة، ولو قال: أحجوا عني فلانا بمائة، فإن رضي فلان أن يحج بها عنه أحج عنه، وان امتنع من الحج، وكان حج التطوع، فهل تبطل الوصية؟ وجهان: أحدهما: تبطل، ولا يحج عنه، لأنه قصد الإرفاق بهذا الموصى له، فإذا ردها بطلت كما لو أوصى بثلث ماله لرجل فرد الوصية رجع المال إلى الورثة.

والثاني: لا تبطل ويحج بأقل ما يوجد كما بيناه، لأنه قصد به القربة لنفسه ومنفعة من عينه، فإذا أراد الموصى له حملت القربة بغيره كما لو قال: بيعوا هذا العبد من فلان بمائة درهم، وهو يساوي مائتي درهم، وتصدقوا به، فإن امتنع الفلان من شرائه بيع العبد من غيره بما يسوي وتصدق بثمنه، وهذا أصح. فرع آخر لو قال: أول من يحج عني، فله مائة دينار فحج عنه غير وارث، فله أقل ما يوجد به من يحج عنه، وما زاد مردود، لأنه وصية لوارث نص عليه في "الأم". قال أصحابنا: إن حج عنه أجنبي أولاً، والزيادة على أجرة المثل [197 / أ] إلى تمام المائة يزيد على الثلث تتوقف هذه الزيادة على إجازة الورثة. والثاني، أن له أجرة المثل فقط لا أقل ما يوجد به من يحج عنه. وأراد الشافعي هذا ثم اعترض المزني، فقال: يجب أجر المثل لمن حج، ولا زيادة على ذلك، وان خرجت من الثلث، لأن من شرط الإجارة أن يكون الأجير معيناً، وإذا لم يعين كانت الإجارة فاسدة ويصير المسمى فاسداً، فتجب أجرة المثل. وقال أبو إسحاق: هذا غلط من المزني، لأن هذه ليست بإجارة بل هي جعالة، ويجوز في الجعالة مثل هذا على ما ذكرنا من قبل. وعند المزني الجعالة على الحج لا تجوز، وهذا غلط، أن كل عمل تجوز الإجارة عليه تجوز الجعالة عليه. فرع آخر لو استأجره ليحج عنه ماشياً فحج راكباً، فإن قلنا: الحج راكباً أفضل، فقد زاد، وإن قلنا: الحج ماشياً أفضل فقد أساء وعليه دم، وهل يلزمه أن يرد التفاوت بين أجرة الراكب والماشي؟ وجهان. فرع آخر لو قال: أحجوا عني من شاء زيد، فعين زيد شخصاً، فامتنع، ثم أراد زيد أن يعين شخصاً أخر فيه وجهان: أحدهما: له ذلك، لأنه لم يحصل المقصود بتعينه. والثاني: ليس له ذلك، لأنه فوض إليه التعيين، وقد عين، والتعدد حصل من جهة أخرى، فليس له أن يعين أخر، بل الولي يستأجر من يريد. فرع آخر لو قال: أحجوا محني فلاناً، فمات أحج غيره، لأن القصد من ذلك إيقاع العبادة كما لو قال: أعتقوا عني رقبة، فاشتريت رقبة، فماتت يشتري أخرى، ويعتق. فإن قيل: أليس لو أوصى بعتق عبد بعينه، فمات سقطت الوصية؟ قلنا: العتق حقاً للموصى

بعتقه، فإذا عين له، فإذا مات سقط، لأن المغلب حقه. وههنا المغلب حكم العبادة فافترقا [197 / ب]. فرع آخر لو أوصى بثلثه للحجيج. قال الشافعي: أمرت أن يعطي فقراء الحاج، ولا أعلمه يحرم أن يعطاه غني منهم، وهذا لأن اسم الحاج ينطلق على كلهم. فرع آخر قال في "الإملاء": لو حج وفرغ، أو اعتمر وفرغ منها، ثم شك، هل طاف على طهارة أم لا؟ أحببت أن يعيد، ولم يوجب الإعادة، لأن الشك الطارئ بعد الفراغ من العبادة لا يقدح في العبادة، لأنها قد صحت في الظاهر، ولهذا يقول: لو فرغ من الصلاة ثم شك، هل ركع أم لا؟ لم تلزمه الإعادة، ولو شك قبل الفراغ منها يلزمه البناء على اليقين. فرع آخر إذا أوصى، وقال: أحجوا عني مطلقاً. قال أبو إسحاق: يحج عنه من بلده، وان قلنا: الحج عنه يجب من الميقات إذا لم يوص به، لأنه لما أوصى علمنا أنه قصد خلاف ما عليه الأصل. وقال غيره يحج عنه من الميقات كما لو لم يوص به، وهو المذهب. فرع آخر إذا قلنا: يجب أن يحج عن الميت من بلده، أو قلنا: من الميقات، فأوصى به مطلقاً، قال أكثر أصحابنا: يحج عنه من رأس المال، والوصية أفادت التذكار فقط، لأن المطلق يجب حمله على ما ثبت بالشرع، ومن أصحابنا من قال: يحج عنه من الثلث ما لم يعجز ثلاثة عن الميقات نص عليه المزني في كتاب الوصايا، فقال: لو أوصى أن يحج عنه، ولم يحج حجة الإسلام، فإن بلغ ثلاثة حجاً من بلده حج عنه من بلده، وان لم يبلغ أحج عنه من حيث بلغ، ولأن الظاهر من الوصية أنه جعله في ثلاثة رفقاً بالورثة، ولو قال: أحجوا عني ثلثي أجج عنه من الثلث، ويجب أن يحج عنه من بلده من الثلث، فإن [198 / أ] لم يبلغ، فمن حيث بلغ، فإن الظاهر أنه أمر بصرف ثلثه في الحج، وان قال: أحجوا عني من بلدي، فإن قلنا: يجب الحج من البلد أحج عنه من رأس المال. ومن قال من أصحابنا: إن الظاهر من الوصية الثلث يجب أن نقول: يحج من ثلثه، فإن كفى وإلا أتم من الثلثين، وإذا قلنا: الواجب من رأس المال، فإنه يحج من البلد ذكره صاحب الإفصاح. وقد قيل: يحج من الميقات من رأس المال، ومن البلد إلى الميقات من الثلث.

قال القاضي الطبري: وهذه المسائل قد تعبت في طلبها من كلام الشافعي، والذي تحصل من كلامه من الحج وفي الوصايا ما ذكرته. فرع آخر هذا الذي ذكرنا إذا لم يكن مع الحج في الوصية غيره، فأما إذا كان معه غيره، فأوصى بأن يحج محنه من بلده وتصدق بصدقات، فمن أصحابنا من قال: إذا أوصى به من الثلث كان اعتبار الجميع من الثلث واحداً، فإذا قسم الثلث على الجميع، فإن وفى ما يخضه من الثلث وإلا تمم من رأس المال. ولو قال: أحجوا عني، ولم يقل من ثلثي وتصدقوا بكذا وكذا فقد بينا أن المطلق من قوله: أحجوا عني يحمل على رأس المال دون الثلث في قول أكثر أصحابنا. وفي قول بعضهم: يحمل على الثلث. فمن قال بالأول: وأنه يحمل على رأس المال اختلفوا في هذا الموضع، فقال ابن أبي هريرة: ههنا يحمل على الثلث، لأنه لما جمع بينه وبين الصدقة أن تخرج من الثلث دل على أنه قصد بالوصية بالحج من الثلث وقصد به الترفيه على الورثة، وقال غيره: وهو الأصح يخرج من رأس المال، ويجعل الصدقة في الثلث. فرع آخر قال بعض أصحابنا بخراسان: إذا قال: أحجوا عني رجلاً بألف وأجر المثل [198 / ب] أقل ولم يعين الرجل، فيه وجهان: أحدهما: لا يحج إلا بقدر أجر المثل، لأنه لم يتعين ذلك الشخص حتى يكون الباقي وصية به، بل الباقي وصية للوارث. والثاني: أنه وصية لشخص موصوف بصفة، وهو أن يحج عنه، فمن حج عنه دفع إليه كل الألف إذا أخرجت الزيادة عن أجر المثل من الثلث. فرع آخر قال القفال: وقعت مسألة بمرو هي نظير ما تقدم. وتلك أن رجلاً أوصى أن يشتري عشرة أقفزة حنطة بمائتي درهم، فيتصدق بها، فوجدوا من أجود الحنطة عشرة أقفزة بمائة درهم، فمنهم من قال: ترد الزيادة إلى الورثة، ومنهم من قال: هو وصية لبائع الحنطة، ومنهم من قال: نشتري بالزيادة زيادة الحنطة بهذا السعر، فيتصدق بها، وهذا الوجه الثالث، لا يتصور في الحج. فرع آخر قال القفال: قال الشافعي في "الكبير": لو استأجره على أن يحج في هذا العام، فحج من عام آخر، فقد أساء ويجزئه. قال أصحابنا: هذا إذا ثبت الحج في ذمته، فأما

إذا كان عين الزمان بطلت الإجارة بانقضائه، ولا يكون الحج عن الآمر، وقد بينا هذا من قبل. فرع آخر إذا قلنا: لا وداع على الحائض، فالمستحب لها أن تقف على باب المسجد، وتدعو بذلك الدعاء الذي يدعى به عند الملتزم على ما سبق بيانه. قال في "الإملاء": وأحب للحائض أن تقول هذا، وأكثر منه على باب المسجد. فرع آخر قال والدي رحمه الله: لو حج رجل وعنده أنه صبي لم يبلغ أو أنه عبد فتبين أنه كان حراً بالغاً مخ حجه عن حجة الإسلام، ولو تيمم العادم للماء ظناً منه أن وقت الغرض لم يدخل، وكان قد دخل الوقت، فيه وجهان: أحدهما: يصخ كالحج. والثاني: لا يصخ، والفرق أن الحج يلزم بالدخول، [199 / أ] ولا يجوز أن تسبق حجة النفل حجة الإسلام في وقت تصح منه، فيه حجة الإسلام فجوزنا هذه الحجة عن الفرض، لأن إبطالها لا يمكن تصحيحها عن غير الفرض والتيمم لا يلزم بالدخول، فجاز إبطاله عن الفرض في وقته لوقوع الاشتباه فيه حين الفعل، ويؤكده أن إحرام الصبي والعبد قد يؤدي به حجة الإسلام، وهو إذا بلغ أو أعتق قبل الوقوف، ولهذا لم يمنع اعتقاد حالة الصغر والرق من جواز الإحرام عن الفرض، والتيمم الواقع قبل الوقت لا يؤدي به فرض الوقت بحال، فلهذا منع اعتقاده وبقي دخول الوقت من جواز التيمم عن الغرض، وإن صادفت الحقيقة خلاف ما يقتضيه اعتقاده. فرع آخر قال: إذا ارتد الرجل بعل ما وجد الزاد والراحلة وقبل إمكان الأداء، ومضى وقت الحج في حال ارتداده، هل يلزمه الحج، حتى إذا أسلم ومات في الحال يقضى عنه أم لا؟ فيه قولان بنا، على أن الردة تزيل الملك أم لا؟ فإن قلنا: تزيل الملك لا يلزمه الحج، لأنه ملكه زال عن الزاد والراحلة قبل استقرار الحج عليه، وهما شرطان في وجوب الحج، فصار كزوال الملك بالتلف، وإن قلنا: لا يزيل الملك يلزمه الملك لأن الردة لا تسقط الفرائض، ولهذا الأصل اختلف القول في زكاة مال المرتد. فرع آخر قال: إذا أحرم بالعمرة في غير أشهر الحج ثم دخل أشهر الحج، ولم يطف بعد، فما أدخل عليها حجاً، هل يصخ هذا الإدخال؟ وجهان: أحدهما: لا يصخ، لأنه لو كان أحرم بهما في الابتداء لم يجز لأن الزمان ليس بزمان إحرام الحج، فلو جوزنا هذا الإدخال وجب أن نجعله كأنه أحرم بهما في الابتداء. وهذا محال في هذا الموضع.

والثاني: يجوز، لأنه لو أحرم بهما، الآن صح، [199 / ب] فلذلك يصح الإدخال في هذا الزمان كما لو أحرم بالعمرة في أشهر الحج صح له إدخال الحج عليها لهذا المعنى. فرع آخر قال: إذا أحرم بالحج، ثم شك وهو في أشهر الحج، هل أحرم في أشهر الحج، أو قبل أشهره، هل يلزمه الحج أو العمرة أو هما؟ فيه وجهان: أحدهما: يتحرى ويبني على غالب ظنه. والثاني: يأتي بالحج ليتيقن سقوط الفرض وأصل هذين الوجهين إذا أحرم في وقته، ثم بنى بماذا أحرم ما الذي يلزمه؟ قولان، هذا إذا لم يعرف وقت الإحرام، ووقت دخول الأشهر، فإن عرف وقت دخول الأشهر وشك في وقت الإحرام وجب الحج، لأن الأصل أن الإحرام، وذلك يقتضي و_ع الإحرام في الأشهر، وان عرف وقت الإحرام وشك في وقت دخول الأشهر لزمته العمرة، لأن الأصل أن الأشهر لم تدخل، وذلك يقتضي هذا الذي نقلناه. فرع آخر قال: إذا أحرم مطلقاً في غير أشهر الحج، فقبل أن يعينه عن العمرة دخل أشهر الحج، فأراد أن يصرفه إلى الحج لم يكن له، لأن إحرامه مخ عن العمرة ولا يقع موقوفاً في الابتداء، لأن الزمان لا يقبل إلا إحرام أحد النسكين، وإنما يقبل الوقوف إذا قبل الزمان كل واحد منهما، فإن كان يريد إدخال الحج على هذه العمرة فقد ذكرنا وجهين. فرع آخر إذا أحرم بالعمرة في أشهر الحج، ولم يعمل شيئاً من أعمالها حتى دخل أشهر الحج في العام الثاني، ثم أراد إدخال الحج عليها، هل يجوز؟ يحتمل وجهين: أحدهما: لا يجوز لأنه حديث حالة، لا يصخ فيها الإدخال كما لو طاف للعمرة لم يصح للإدخال في حالة الطواف، ولا بعده. والثاني: يجوز كما لو أحرم بهما في العام الثاني كان صحيحاً، وهذا كما قلنا فيمن أحرم [200 / أ] بالعمرة في غير الأشهر، ثم أراد إدخال الحج عليها في الأشهر، فيه وجهان، فإن جوزنا هناك، فههنا أجوز. وان قلنا: لا يجوز هناك، فههنا وجهان: أحدهما: لا يجوز اعتباراً بذاك. والثاني: يجوز لأنه لو أحرم بهما في الابتداء هناك لم يصخ إحرام الحج وههنا لو كان أحرم بهما في الابتداء صح إحرامه بهما، وهذا أوضح. فرع آخر إذا طاف في الحج وعنده أنه في العمرة، ونوى فعله عن العمرة يصح عن الحج،

لأنه لو طاف بنية الغير يقع عن فرضه، وإن تعمد ذلك فهذا أولى. فرع آخر إذا كان محرماً بالحج فأحرم بالحج ثانياً قبل الإتيان بشيء من أركانها، هل ينقلب إحرامه الثاني إلى العمرة على القول الذي يجوز إدخال العمرة على الحج، فيه وجهان محتملان: أحدهما: يجوز عن العمرة، لأن هذه الحالة صالحة للعمرة دون الحج. والثاني: لا يجوز، وهو الذي يقتضيه كلام أصحابنا، لأن الوقت قابل للحج في الجملة، فإذا لم يصخ الإحرام به عنه لم ينصرف إلى غيره، كالصلاة في وقتها إذا لم تصخ عن الفرض لم تصخ أيضاً عن التطوع، وبهذا فارق إذا أحرم بالحج قبل أشهره: لأن الوقت غير قابل للحج ينعقد عمرة، وهذا غير صحيح لأن حالة كونه في الحج حالة لا تصلح للحج في حقه ولا اعتبار بحال غيره في معرفة حكمه، فصار كالزمان قبل أشهر الحج في حق الجماعة ويؤكده أن الإحرام بالصلاة في الوقت قد تصخ عن التطوع إذا لم تصخ عن الفرض، وهو إذا أدرك الإمام راكعاً، فأحرم خلفه وهو يهوي راكعاً، صح عن النفل، لأن حالته هذه غير قابلة للفرض ويقبل النفل، فكذلك ههنا. فرع آخر إذا أحرم بحجتين، هل ينعقد بحج وعمرة) يحتمل وجهين [200 / ب] أحدهما: لا ينعقد كما لو أحرم بصلاتين لا ينعقد بفريضة ونافلة. وهذا هو الأشبه بكلام أصحابنا. والثاني: ينعقد لأن إحرامه بالحج الثاني ينصرف إلى العمرة، كما لو أحرم بالحج قبل أشهره، لأن الحالة لا تقبل حجة أخرى وتقبل العمرة، ويفارق الصلاة، لأن الجمع بين فرضها ونفلها بإحرام واحد غير صحيح، ويصخ الجمع بين الحج والعمرة بإحرام واحد، فبان الفرق، ولهذا إذا أحرم بصلاتي فرض لم ينعقد بأحد الفرضين بخلاف ههنا. فرع آخر إذا أحرم بالحج، ثم أحرم ثانياً مطلقاً صح الثاني بالعمرة على القول الذي يجوز إدخال العمرة على الحج، وهو أصخ القولين، وهكذا إذا أحرم بالعمرة، ثم أحرم ثانياً إحراماً موقوفاً، صح الثاني عن الحج، لأن الحالة لا تقبل إلا نسكاً واحداً، إما الحج أو العمرة، فانصرف الإحرام المطلق إلى ذلك الواحد الذي يصخ في هذه الحالة، وفيه وجه آخر، أن إحرامه المطلق بعد إحرامه بالعمرة لا ينصرف إلى الحج، ولكن يقال له: عين، فإن عينه في العمرة كان الإحرام الثاني باطلاً، وان عينه في الحج مخ، وكان قارناً، كما لو قال لامرأته وأجنبية: إحداكما طالق، لا يقع الطلاق على الزوجة، بل يقال له: عين، فإن عينه في الأجنبية لا حكم له، وكذلك في المسألة الأولى، إذا أحرم

بالحج، ثم أحرم مطلقاً، يقال له: عينء فإن عين في الحج لم يصح عنه، ولم ينصرف إلى العمرة، وان عينه في العمرة صح عنها، وصار قارناً، فحصل في هذا أن في الإحرام المطلق بعد إحرام العمرة وجهين: أحدهما: ينصرف إلى الحج والثاني: يوجع إليه في التعيين وأما الإحرام المطلق بعد إحرام الحج، فإن قلنا: إن الإحرام الثاني لو كان الحج انصرف إلى العمرة، فههنا ينصرف إلى العمرة أيضاً وجهاً واحداً. وإن قلنا: إنه لو وقع بالحج بطل، فعند الإطلاق وجهان [201 / أ]: أحدهما: ينصرف إلى العمرة. والثاني: يرجع إليه في التعيين على ما ذكرنا. فرع آخر لو أحرم بالحج عن رجلين: أحدهما: أذن له في الإحرام، والآخر لم يأذن، فيه وجهان: أحدهما: يقع عن نفسه كما لو أذن له به، فأحرم عنهما. والثاني: يقع عمن أذن له بالحج دون الآخر. فرع آخر إذا أذن لعبد بالحج عنه فحج عنه، ثم تبين أنه كان حراً وكان حج عن نفسه، وكان حراً في ذلك الوقت تصح هذه الحجة عن الإذن واعتقاده أنه عبد لا يمنع صحتها، وعلى هذا لو أحرم بالحج وعنده أن أشهر الحج لم تدخل، ثم بان أنه كان قد دخل انعقا إحرامه بالحج، ولا تأثر لاعتقاده. فرع آخر المستحاضة التي لا تعرف وقت حيضها من طهرها بوجه تطوف طواف الوداع إذا أرادت الخروج، فإن لم تفعل لا دم عليها، لأن الأصل أنه غير واجب، فلا يلزمها إلا بتعيين، ويحتمل أن يقال: يلزمها الدم، لأن الاحتياط في إراقة الدم كما يوجب الصوم عليها احتياطاً. فرع آخر حجة فيها قتل صيد أو عمرة ليس فيها قتل صيد، أيتها أفضل؟ فيه وجهان: أحدهما: الحج أفضل، لأن أعماله أكثر. والثاني: العمرة أفضل، لأن العمر المستغنية عن الجبران أفضل من العبادة المحتاجة إليه، ولهذا صار الإفراد أفضل من القران والأول أصح. فرع آخر إذا نذر العبد حجا، هل له فعله قبل الإعتاق؟ وجهان. فرع آخر إذا عدمت الحائض الماء بعد انقطاع الدم فتيممت وطافت، ثم وجدت الماء، هل

باب قتل المحرم الصيد

يلزمها إعادة الطواف؟ وجهان [201 / ب]: أحدهما: يلزم، لأن الطواف كالصلاة، ولو ملى المقيم بالتيمم لعدم الماء وجبت الإعادة عند وجوده، فكذلك الطواف. والثاني: لا يلزم الإعادة، لأن الحائض لو طافت للوداع بعد انقطاع دمها بالتيمم لعدم الماء، ثم فارقت مكة لم يلزمها الدم. وإذ قلنا: يلزم الدم بترك طواف الوداع في أظهر القولين، فلو كان ذلك الطواف غير محسوب لوجب الدم على هذا القول، وهكذا إذا طاف الرجل بالتيمم لعدم الماء، ثم وجد الماء، هل تلزمه إعادة على هذا الخلاف والله أعلم. باب قتل المحرم الصيد مسألة: وعلى من قتل الصيد الجزاء عمداً كان أو خطاً. الأصل في تحريم قتل الصيد على المحرم ووجوب الجزاء بقتله الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة: 95] الآية. وقوله تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96]. وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمْ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنْ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} قال مجاهد: يريد بما تناله الأيدي: من البيض والصغار وبما تناله الرماح: الكبار. وأما السنة: فما روى جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الضبع، فقال: "هو صيد وفيه كبش إذا أصابه المحرم"، وروي عن ابن أبي عمار، قال: قلت لجابر رضي الله عنه: الضبع أصيد هي؟ قال: نعم، قلت: آكلها، قال: نعم، فإن قلت: أقاله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: نعم. وأما الإجماع: فلا خلاف بين المسلمين فيه، فإذا تقرر هذا فالجزاء [202 / أ] يجب بقتله سواء كان عامداً، أو مخطئاً، أو عائداً. وبه قال عامة الفقهاء، وقال مجاهد: لا يجب الجزاء على العامد في قتله الذاكر لإحرامه، أو المخطئ في قتله الناسي لإحرامه. وقال داود: لا جزاء على المخطئ أصلاً، وإنما يجب على العامد. وبه قال أحمد في روايته وأبو ثور وروي ذلك عن ابن عباس وسعيد بن جبير رضي الله عنهما، واحتجوا بأن الله تعالى نص على العمد في قوله: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا

قَتَلَ} [المائدة: 95] الآية، فدل من طريق دليل الخطاب على أنه إذا كان مخطئاً لا جزاء عليه، وهذا غلط، لما ذكرنا من الخبر، ولم يفصل، ولأنه حيوان يجب بقتله الكفارة أو المخطئ في قتله الناسي لإحرامه. وقال داود: لا جزاء على المخطئ أصلاً، في قتل الآدمي خطأ ونبه به على وجوب الجزاء في الصيد عند الخطأ. وقيل: إنما شرط العمد، لأنه عقبة بالعقوبة في العود لا للمخالفة بين الخطأ والعمد، وأما ما قاله، فهو خلاف ظاهر نص الكتاب. وحكي عن ابن عباس ومجاهد وسريج والحسن وقتادة والنخعي: أنه لا جزاء على العامد. وبه قال داود: والعائد أن يقتل صيداً فيفديه أولاً بفدية، ثم يقتل صيداً ثانياً، فعليه جزا، آخر وعندهم لا جزاء، ولو عاد مائة مرة، واحتجوا بقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} [المائدة: 95] فجعلوا الانتقام جزاؤه، وهذا غلط، لأنه كفارة تجب بقتل حيوان محترم، فأشبهت كفارة قتل الآدمي. وأما الآية قلنا: قال عطاء وغيره: أراد ومن عاد في الإسلام، فينتقم الله منه بالجزاء [202 / ب]. وحكي عن أحمد في رواية أنه إن كفر عن الأول، وجب للثاني الجزاء، وإلا تداخل، ثم اعلم أن الشافعي قال: ولا يعاقبه الإمام فيه، لأن هذا ذنباً جعلت عقوبته فديته إلا أن (يفعل ذلك) مستخفاً، ثم قال المزني: وقاس ما اختلفوا فيه من كفارة قتل المؤمن عمداً على ما أجمعوا عليه من كفارة قتل الصيد عمداً، وقصد به الاحتجاج على أبي حنيفة حيث قال: تلزم الكفارة في قتل الآدمي خطأ، ولا تلزم إذا قتله عمداً ووافقنا في الصيد أنه يلزم الجزاء بقتله عمداً، أو خطأ والمعنى الجامع بينهما أنه حيوان ذو حرمة تعلقت بقتله الكفارة في حاله، فوجب أن يستوي فيه عمد القتل، وخطأه كقتل الصيد، ثم أيد الشافعي ذلك، فقال: والعامد أولى بالكفارة في القياس من المخطئ يريد به أن العامد أعظم ذنباً، وأكبر جريمة، فهو بالكفارة الموضوعة لتغطية الإثم أولى. فرع آخر لو دخل الذمي الحرم، فقتل صيداً في الحرم يلزمه الجزاء، لأنه ضمان يتعلق بالإتلاف، فيلزمه ضمان الأموال، ويفارق هذا إذا أحرم ثم قتل الصيد لا جزاء عليه، لأنه لم ينعقد إحرامه، فلا يوجد هتك حرمة الإحرام، وحرمة الحرم موجودة، وقد هتكها بقتله. ومن أصحابنا المتأخرين من قال: لا جزاء عليه هناك أيضاً، لأنه غير ملتزم بحرمة الحرم، فلا يضمن صيده.

باب جزاء الصيد

باب جزاء الصيد مسألة: قال: قال الله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، قال: والنعم: الإبل والبقر والغنم. الفصل الصيد على ضربين ضرب له مثلء وضرب لا مثل له، فما له مثل من النعم يضمن بمثله وذلك مثل النعامة مثلها [203 / أ] بدنة وحمار الوحش بقرة والضبع مثلها شاة ونحو ذلك. وما لا مثل له كالعصافير ونحوها يضمن بالقيمة فيجري ضمان الصيد مجرى ضمان الآدميين ما له مثل يضمن بالمثل، وما لا مثل له يضمن بالقيمة، فإذا قتل صيداً له مثل، فإنه مخير بين ثلاثة أشياء إن شاء أخرج المثل، وان شاء قوم المثل دراهم يشتري بالدراهم طعاماً، ويتصدق به، وإن شاء صام عن كل مد يوماً، وان كان مما لا مثل له يخير بين شيئين بين أن يقوم الصيد بدراهم في الموضع الذي أصيب فيه، والدراهم طعاماً بمكة، ويتصدق به، وبين أن يصوم عن كل مد يوماً، ولا يجوز إخراج القيمة، ووافقنا مالك في جميع ذلك إلا: في فصل واحد، وهو أن عندنا إذا أراد إخراج الطعام، يقوم المثل دراهم، والدراهم طعاماً وعنده يقوم الصيد، ويقوم تلك القيمة طعاماً. وقال أحمد في رواية مثل قولنا. وقال في الرواية الثانية: هو على الترتيب، فإن عدم المثل أخرج القيمة. وقال أبو حنيفة: الصيد مضمون بقيمته بكل حال، إلا أنه إذا قومه يتخير بين أن يشتري بقيمته النعم ويخرجه، ولا يجوز منه إلا ما يجوز في الأضحية، وبين أن يشتري بالقيمة طعاماً، ويتصدق به، وبين أن يصوم عن كل نصف صاع يوماً. وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز أن يشتري بالقيمة من النعم ما يجوز في الأضحية، وما لا يجوز، واحتج الشافعي عليه بإجماع الصحابة، فقال: وقد حكم عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم في بلدان مختلفة وأزمان شتى بالمثل من النعم، فحكموا في النعامة ببدنة وهي لا تستوي بدنة، وفي حمار الوحش ببقرة وهو لا يسوي بقرة، وفي الضبع بكبش وهو لا يسوي كبشاً، [203 / ب] وفي الغزال بعنز [وقد يكون أكثر من ثمنها أضعافاً ودونها ومثلها] وفي الأرنب بعناق، وفي اليربوع بجفرة [وهما لا يساويان عناقاً ولا جفرة]، فدل ذلك على أنهم نظروا إلى أقرب ما يقتل من الصيد شبهاً بالبدن من النعم لا بالقيمة، ولو حكموا بالقيمة لاختلف لاختلاف الأسعار وتباينها في الأزمان. وهذا واضح واحتج مالك بأن التقويم إذا وجب لأجل الإتلاف قومه المتلف كما لا مثل له. وهذا غلط، لأن كل

متلف وجب مثله، فإذا قوم لزمت قيمة المثل في المثليات في حق الآدمي. وأما ما ذكره يبطل الصيام يعدل بالإطعام، ولا يعدل بالقيمة. مسألة: قال: وكل دابة من الصيد لم يسمها ففداؤها قياساً على ما سميا فداءه الصيد الذي له مثل على ضربين، فما حكمت فيه الصحابة بالمثل لا يعدل عنه إلى غيره، لأن حكم الصحابة والرجوع إلى قولهم أولى من غيرهم، لأنهم شاهدوا التنزيل وحضروا التأويل، فهم أعلم من غيرهم، وما لم تحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى اجتهاد عدلين، فينظر إلى أقرب الثلاثة للأجناس من النعم شبهاً بالصيد المقتول فأوجبناه. وقال مالك: يجب التحكم فيما حكمت فيه الصحابةء وفيما لم تحكم، وهذا غلط، لأن الله تعالى قال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]، وقد حكم به ذوا عدل، ولأن الحكم بخلاف ما حكموا به يؤدي إلى تخطئتهم في المثلية، فلم يجز ذلك، وقال قبيصة بن جابر الأسدي: أصبت ظبياً وأنا محرم، فأتيت عمر رضي الله عنه، ومعي صاحب لي، فذكرت له، فأقبل على رجل إلى جنبه فشاوره، فقال لي: اذبح شاة، فلما انصرفنا، قلت لصاحبي: إن أمير المؤمنين لم يدر ما يقول [204 / أ]، فسمعني عمر، فأقبل علي ضرباً بالدرة، فنقال: أتقتل الصيد وأنت محرم، وتغمض الفتيا؟ قال الله تعالى في كتابه: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95] الآية. ها أنا ذا عمر وهذا ابن عوف. فرع قال الشافعي: وأحب أن يكونا فقيمين، ويجوز أن يكون القاتل أحد العدلين، وإنما يكون القاتل عدلاً إذا أخطأ فيه، فأما إذا تعمد فسق، فلا يقبل قوله فيه. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز ذلك كما لا يجوز في تقويم المتلفات. وبه قال مالك: وهذا غلطء لأن الجزاء يتعلق بحق الله تعالى، فكان مخالفاً لحقوق الآدميين من تقويم المتلفات، وهو كما يقبل قوله في الزكاة لهذا المعنى، وعلى هذا قال أصحابنا: يجوز أن يكونا قاتلين. فرع آخر لو اختلف فيه اجتهاد عدلين من الفقهاء ولم يؤخذ بقول واحد حتى ينضم إليه قول غيره فيصير اثنين. فرع آخر لو حكم عدلان بمثل وحكم آخران بمثل آخر، فيه وجهان:

أحدهما: يتخير في الأخذ بأيهما شاء. والثاني: يأخذ بأغلظهما كالوجهين في فتوى الفقيهين. فرع آخر لو حكم عدلان بالمثل، وآخران بأنه لا مثل له، فالمثل أولى، لأن النفي لا يعارض الإثبات. فرع آخر قد ذكرنا أن الصحابة حكموا في بعض الصيود بما ذكرنا. أما في النعامة روى عن سبعة منهم: عمر وعثمان وعلي وابن عباس وزيد بن ثابت وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم، قالوا: فيها بدنة. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: في حمار الوحش بقرة. قال الشافعي: وفي بقر الوحش بقرة، لأنها في معنى الحمار [204 / ب]. وقال عمر وعلي وابن عباس وجابر رضي انأ عنهم: في الضبع كبش، وفي الأرنب عناق، وفي اليربوع جفرة والظبي الغزال الكبير الذكر والغزال للأنثى من الظبي، واليربوع الفار الكبير يكون في الصحراء أو الجفرة من أولاد المعزى إذا فصلت من أمها. وقيل: هي التي طعمت والذكر جفر والعناق الأنثى من أولاد المعزى إذا قويت قبل تمام الحول. وقيل: الجفرة: ولد الضأن، وفيه نظر، وروي عن ابن عباس أنه قال: في الظبي تيس أعفر أو شاة مسنة. قال الشافعي: وبهذا نأخذ والتيس من أولاد المعزى الذي أتت عليه سنة، وقوي على الضراب. وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه حكم في أم حبين بحلان من الغنم وأم حبين دابة من حشرات الأرض تشبه الضب وسميت أم حبين لعظم بطنها وانتفاخها، وهو تصغير أحبن، وهو الذي استسقى وانتفخ بطنه. ومن العرب من يعاف أكلها. قال رجل في البادية لأعرابي: ما تأكلون؟ فقال: نأكل ما دب ودرج إلا أم حبين فقال: لتمتع أم حبين العافية، قال الشافعي في "المناسك الكبير": وهو الحمل، فإن كانت العرب تأكلها، ففيها حلان، وقال الأزهري: قد قيل: هو الذكر من أولاد المعز إذا قوي (وهو) بمنزلة الجدي، وهذا هو الصحيح. وأما الضب، قال الشافعي: فيه جدي جمع الماء والشجر، وروي بإسناده عن طارق بن شهاب. قال: خرجنا حجاجا فوطأ رجل منا، يقال له: أربد ضباً فقدمنا على عمر رضي الله عنه، فسأله أربد، فقال عمر: احكم يا أربد فيه، فقال: أنت خير مني يا

أمير المؤمنين، وأعلم، فقال له عمر: إنما أمرتك أن تحكم، ولم آمرك [205 / أ] أن تزكيني، فقال اربد: أرى فيه جدياً قد جمع الماء والشجر، فقال عمر: فذاك فيه. وقال عطاء: في الضب شاة، فإن أراد شاة صغيرة فبذلك نقول، وإن أراد مسنة خالفناه، وقلنا بقول عمر رضي الله عنه. فرع آخر قال في "المناسك الكبير": إن كانت العرب تأكل الوبر، ففيه جفرة، لأنه ليس بأكبر منها بدناً، قال ابن الأعرابي: الوبر: الذكر والأنثى وبرة، وهو في عظم الجرد إلا أنه أنبل وأكبر منه، وهي طحلاء، وجمعها وبار، وهو في جنس بنات عرس، والجرذ: الضخم من الفار، تكون في الفلوات يأكله بعض أهل البادية. وذكر الشافعي عن عطاء ومجاهد أنهما حكما فيه بشاة. فرع آخر قال في "المناسك الكبير"، وفي الثعلب شاة ورواه عن عطاء أنه حكم بها فيه. وقال سريج: لو كان معي حاكم لحكمت في الثعلب بجدي. فرع آخر قال في "الأم": والأروي دون البقرة المسنة، وفوق الكبش، ففيه عضب ذكراً كان أو أنثى، قال الأزهري: العضب ما بلغ أن يقبض على قرنه من البقر، وهو دون الجذع منه، فإنه يجاع لسنتين وإنما وجب العضب، لأنه مثله، قال وفي الثيتل والوعل بقرة، ولم يروه عن أحد. فرع آخر قد ذكرنا أن جزاء الصيد على التغيير نمق عليه في كتبه، وروى أبو ثور عنه أنه على الترتيب، فقيه قولان، وقيل: لا يعرف هذا عن الشافعي في شي، من كتبه، فالمسألة على قول واحد، وهو الأصح. مسألة: قال: "ولا يفدي إلا من النعم، وفي صغار أولادها صغار أولاد هذه". أراد به لا يفدي فداء إلا بمثله من النعم، ولم يرد أنه لا يجوز إخراج الفداء إلا من

النعم، [205 / ب] لأنه قد ذكر التخيير بعد هذا وأراد في صغار أولاد ذوات الصيد إذا قتلها صغار أولاد المثل من النعم، وقال مالك: يجب في الصغار كبار النعم. وقال أبو حنيفة: تجب قيمة ذلك بقدره، واحتج مالك بقوله تعال: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة: 95]، والصغير لا يسمى هدياً، ولأنه جبر نقص من نقائص الإحرام، فلا يجوز إلا بالكبير كدم الحلق، ولأن كفارة قتل الآدمي لا تختلف بصغر المقتول، وكبره كذلك هذه الكفارة، وهذا غلط لقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، ومثل الصغير صغير، ولأن ما ضمن باليد والجناية يختلف ضمانه بالصغر والكبر كالعبد والبهيمة. وأما الآية التي ذكروها، قلنا: هذا إذا أطلق، وههنا قياس بالمثل فاقتضى مثله، كما لو نذر أن يهدي صغيراً يلقى الصعر، ولأن الصعر يسمى هديا، لأنه مما يهدى، وأما دم الحلق يجب بالجناية على الإحرام، فيجب على الكمال، وهذا يجب على طريق المقابلة والتعديل يختلف باختلاف المقتول، وأما كفارة قتل الآدمي يفارق هذا، لأنها لا تتبعض، ولا يلزم في أبعاضه بخلاف هذا. مسألة: قال: وإذا أصاب صيدا أعوراً أو مكسوراً فداه بمثله. الفصل يفدي الصحيح بالصحيح والمعيب بالمعيب. قال الشافعي ههنا: والصحيح أحب إلي، قال أصحابنا: وعلى قياس هذا في المسألة الأولى الكبير أولى من الصغير. وقال الشافعي: فإن قال بعض الناس يفديه بصحيح، وعنى به مالكاً، وقد قال به بعض أصحابنا، وهذا غلط، لأن الله تعالى قال [206 / أ]: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، ومثل الأعور أعور. فرع لو كان الصيد أعور اليمنى، فداه بأعور اليمنى، فإن فداه بأعور اليسرى، هل يجوز أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز، لأن اعتبار ذلك يشق، ولأن اختلاف العور لا ينقض حق الفقراء، لأن قدر اللحم في الكل واحداً وهو اختيار ابن المرزبان وجماعة. والثاني: لا يجوز، ويكون متطوعاُ به، لأن اختلاف المعيب يجري مجرى اختلاف الجنس، ولو كان الصيد أعور ففداه بأعرج لا يجوز حتى يكون من جنس ذلك العيب. فرع آخر قال الشافعي: ولو أصاب بقرة رقوباً، فعليه بقرة رقوب يعني الحامل التي قربت ولادتها، فصارت شرفية. قال أصحابنا: أراد به يقومها حاملاً إذا كانت الحامل الشرفية

من الحايل، ويشتري بقيمتها طعاماً، ويتصدق به. قال الشافعي: لأني لو قلت: يذبح شاة ماخضة كانت شراً من شاة غير ماخض للمساكين، ولكن الشاة الماخض أزيد ثمناً. مسألة: قال: ويفدي الذكر بالذكر، والأنثى بالأنثى. الفصل إذا قتل صيداً أنثى يفدي بالأنثى من النعم، وإذا قتل ذكراً يفدي بالذكر منه هذا هو الواجب، فإن فدى الذكر بالأنثى. قال الشافعي: كان أجب إلي. واختلف أصحابنا في هذا، فقال أبو حاما في "الجامع" أراد به إذا لم يرد ذبح الجزاء، وإنما أراد تقويمه، لأن الأنثى أكثر ثمناً وأزيد في الطعام أمداداً وأزيد في الصيام أياماً، فأما إذا أراد ذبحه، فالذكر أولى، لأنه أطيب لحماً من الأنثى. وقال بعض أصحابنا: إذا أراد ذبح الأنثى، هل يكون؟ أفضل قولان: أحدهما: أنها أفضل، لأنها أرطب لحماً. وبه قال ابن أبي هريرة [206 / ب]. والثاني: لا يكبرن أفضل وان جازت، لأن لحمهما قد يتقاربان. وبه قال أبو إسحاق، وظاهر هذا أنهما متساويان. وقال القفال: والقول الثاني الذكر أفضل، لأنه أطيب لحماً. وقال أبو حامد: هل يجوز الذكر مكان الأنثى؟ وجهان: أحدهما: لا يجوز لأن لحم الأنثى أرطب. والثاني: يجوز، لأن لحم الذكر أوفر، والمنصوص جوازه، ولا معنى للوجهين عند أصحابنا. وقال القفال: أراد الشافعي إذا لم تلد الأنثى، ولم تكبر سنها، فأما إذا ولدت، فلا يكون أفضل، لأن لحم الذكر حينئذ أطيب من لحمها، ففي معناها الكبش الذي قد نزا تكون الأنثى أطيب لحماً منه والمقصود من الهدايا لحامها لا نسكها، ولو فدى الأنثى بالذكر، فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، لأن الأنثى أطيب لحماً وأطيب. والثاني: يجوز، لأنهما في قدر اللحم سواء وربما يكون الذكر أكثر لحماً، والصحيح الأول، لأن الحنذ القليل خير من الكثير الذي هو دونه، وقيل: الوجه الثاني ظاهر المذهب. مسألة: قال: وان جرح ظبيا فنقص من قيمته العشر، فعليه عشر من ثمن شاة. إذا جرح ظبياً أو قطع طرفاً من أطرافه ضمنه بالجزاء. وقال داود: لا يضمن، وإنما يضمن القتل فحسب، وهذا غلط، لأن ما حرم إتلافه من الصيد كان مضموناً لنفسه، ولأنه حيوان مضمون، فيضمن بالجناية عليه كالآدمي واحتج بأن الله تعالى قيد الجزاء بالقتل، فقال: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} [المائدة: 95]، فدل أنه لا يلزم الجزاء بغيره، ولأن الكفارة لا تجب بقطع طرف الآدمي، فكذلك ههنا قلنا دليل خطاب الآية يقتضي أن لا

يجب المثل بغير القتل، وكذا نقول. وأما الكفارة، فالجزاء يفارقها، لأنه يجري مجرى الغرامات، [207 / أ] به يى أنه يلزم باليد بخلاف الكفارة، فإذا تقرر هذا، فإذا جرح صيداً يقوم وهو صحيح، ثم يقوم وهو مجروح، فينظر كم نقص من قيمته، فإذا نقص عشر قيمته، قال الشافعي: عليه عشر ثمن شاة. وقال المزني: عليه عثر شاة، فيدفع إلى المساكين ذلك مشاعاً واختلف أصحابنا في هذا، من قال: الأمر على ما قال الشافعي، لأنه نقص مضمون فكان بالقيمة كما لو غصب طعاماً فتلف أو سوس في يده، ولأن مراعاة الخلقة في الأبعاض متعددة، ولو اعتبرنا ذلك يلزمنا مقابلة الرجل بالرجل، إذا كانت الجناية على الرجل ومقابلة اليد باليد، وهذا محال، وهذا كالعدول في زكاة خمس من الإبل عن الجنس إلى الشاة للمشقة، فعلى هذا يتخير بين أربعة أشياء بين أن يشتري عشر الشاة، كما قال المزني، وبين أن يشتري به طعاماً، ويتصدق بهء وبين أن يصوم عن كل مد يوماً. وقال صاحب "التقريب": هذا لا يصح، لأنه لو كان كذلك لأوجب عشر ثمن الظبي لا عشر ثمن الشاة. والصحيح ما قال المزني، لأنه إذا أوجب المثل في تمامه وجب المثل في أبعاضه غير أن جزاء الصيد على التخيير. قال الشافعي: ذكر الأسهل، وهو القيمة إذ في إخراج جز، من الحيوان مشقة، ولعله لا يجد شريكاً يساعده فيه. والمزني بين ما هو الأمل، فلا اختلاف بينهما، وعلى هذا لا يؤدي القيمة، بل يصرف إلى الطعام، فيتصدق به، وإن وجد عشر شاة، فله أن يتصدق به. ومن أصحابنا من قال: المذهب ما ذكر الشافعي، ولكنه بالخيار بين شيئين بين أن يخرج بعشر ثمنه طعاماً، فيتصدق به أو يصوم عن كل مد يوماً، ولو أخرج عشر شاة أو عشر قيمة الشاة، لا يجوز، وهذا اختيار أبي إسحاق وجماعة، فإذا تقرر هذا لا يخلو إذا جرح صيداً من ثلاث أحوال: إما [207 / ب] أن يري إلى نفسه فيموت، أو يندمل، أو يعيب الصيد، ولا يدري، هل سرت الجراحة إلى نفه أم لا؟ فإن سرت إلى نفسه، فعليه جزاؤه بلا إشكال كما لو قتله وان اندمل نظر، فإن كان غير متنح برجله كالغزال، أو يجناحيه كالحمام أو بهما كالتذرح والدراج فكسر ساقه وجناحيه، فعليه جزاء كامل، لأنه قد عطله أو جعله في حكم التالف، نص عليه في "الجامع الكبير"، وبه قال أبو حنيفة. وفيه قول آخر يلزمه ما نقص فقط، لأنه لا يضمن الموجود، وإنما يضمن الغائب، ولو جاء محرم آخر وأبلغه يلزمه الجزاء على الجارح، وان اندمل ممتنعاً، فعليه ما بين قيمته صحيحاً، وبين قيمته مندملاً. وأما الذي يجب على ما ذكرنا من الخلاف وان اندمل ولم يبق بعض بوجه، هل عليه أرش الجرح؟ وجهان، كما لو جرح آدمياً، فاندمل، ولم يبق شيء، ففي الحكومة وجهان.

وقال القفال: عليه شيء بمقدار ما يجتهد القاضي كذلك الوجع الذي أصابه، وإن غاب قبل الاندمال، لم يضمن جملته وعليه ما نقص، ولكن يقوم ههنا صحيحاً، وجريحاً غير مندمل هلا اعتبرتم الاندمال ههنا؟ غير معلوم، فقومناه مجروحاً قبل الاندمال. وقال مالك: يلزمه كمال قيمته حكاه الشيخ أبو حامد وأصحابه ينكرونه، لأن الظاهر يكفيه بها، وهذا غلط، لأنه يجوز أن يكون قد اندمل، ويجوز أن يكون قد سري، ولا يلزم الضمان بالشك. قال الشافعي: والاحتياط أن يفديه كامله، ولكن لا يلزم إلا اليقين، وقيل: مذهب مالك، إذا وجد ميتاً بعد ذلك، [208 / أ] ولا يدري هل مات من سراية الجراحة أم من سبب آخر؟ وإذا لم يعلم موته لا يلزم التمام. فرع لو رمى إلى صيد فجرحه، ثم قتله آخر قبل الاندمال، فإن كان القاتل محلاً، فالحكم فيه كما لو انفرد المحرم يجرحه، وقد ذكرنا حكمه، وان كان محرماً، فعلى الجارح ضمان ما نقص، وعلى المحرم مثله جريحاً من النعم، وإن لم يجد جريحاً من النعم عدل إلى القيمة. فرع آخر لو رمى سهماً إلى صيد فأصابه ونغذ منه إلى صيد أخر فقتلهما كان عليه جزاؤهما، نص عليه في "القديم"، لأن لأول عمد، والثاني خطأ، وهما سواء. فرع آخر قال في "القديم" أيضاً: لو رمى إلى صيد، فوقع على ولد له أو بيض، فتلفا، يضمن الصيد والولد والبيض، لأنه تلف لسبب فعله، ولو وقع على صيد آخر، فماتا يلزم ضمانهما أيضاً. قال أصحابنا: ينظر فإن تحامل المجروح فمشى بعد الإصابة قليلاً، ثم سقط على صيد آخر يلزمه جزا، الصيد الذي رماه دون الآخر، لأنه مات من فعل الصيد، وكذلك لو عدا الصيد، وصدم الصيد الثاني لا شيء عليه في الثاني، وان لم يتحامل، بل سقط من حد الجراحة ففي الحال على صيد أخر يلزمه جزأهما، لأن سقوط الصيد المرمي من فعله. فرع آخر قال في "المناسك الكبير": لو ضرب بطن بقرة رقوب، فألقت جنيناً نظر، فإن ألقت جنيناً ثم ماتت يفدي أمها ببقرة وولدها ببقرة مولودة أصغر ما يمكن من ولد مثله، وإن مات أحدهما دون الأخر، فعليه مثل ما مات منهما، وإن ألقت جنيناً ميتاً وسلمت

الأم، فلا شيء عليه في الأم، لأنها لم تتلف، وآما الجنين فلا يمكن إيجاب المثل فيه، لأنه خرج ميتاً، ولكن يلزمه ما نقصت الآم بالإسقاط، فيقال: [208 / ب] كم قيمتها ماخضاً؟ فيقال: مائة، ويقال: كم قيمتها، وقد أسقطت؟ فيقال: تسعون، فيلزمه عشر قيمتها. وحكي عن آبي ثور أنه قال: يلزم في ولدها عشر قيمته للآم كما في جنين الأم. وهذا غلط. والفرق بينهما أن الحمل زيادة في البهائم، فأمكننا أن نوجب ما نقصت الأم بالوضع، والحمل نقص في بنات آدم والوضع زيادة، فلا يمكننا آن نلزم النقص، فأوجبنا فيه بالشرع شيئاً، مقدراً وان سقطت ميتاً، ثم ماتت الأم أوجبنا عليه ما نقصت في الأم لأجل الإسقاط، ثم أوجبنا في الأم مثلها من النعم. فرع آخر قال في "الأم": لو كان المحرم راكباً على دابة فأتلفت صيداً بفيها آو رمحته بيدها أو رفسته برجلها يلزمه الضمان، لأن يده عليها فيضمن جنايتها. فرع آخر قال ابن المرزبان: لو قتل نعامة وأراد أن يخرج من الجزاء بقرة أو سبعاً من الغنم، فيه وجهان: أحدهما: يجوز، لأنها تقوم مقام البدنة. والثاني: لا يجوز مع وجود البدنة كما يقول في المفسد حجته، وهذا أظهر عندي. فرع آخر لو حلب من صيد لبناً، فأتلفه، قال أصحابنا: لا جزاء عليه، والفرق بينه وبين البيض أن يكون من البيض الصيد واللبن بمنزلة ريقه وبوله وبعره وورق الشجر، وذكر في "الشامل" أنه يضمنه، لأنه أتلف شيئاً من الصيد كالريش، وحكي عن أبي حنيفة أنه إن نقص الصيد بذلك ضمنه وإلا فلا. فرع آخر لو رمى محل سهماً إلى صيد، فقبل وقوعه عليه أحرم، ثم أصابه السهم. قال أصحابنا: لا جزاء عليه، لأنه كان حلالاً وقت الرمي وأبيح له ذلك. وقال والدي رحمه الله: ويحتمل أن يقال: ويلزمه الجزاء، لأن الاعتبار بحالة الإصابة، كما لو رمى [209 / أ] إلى مرتد فأسلم، ثم أصابه ومات يلزمه الدية، وهذا أمح. ن تمكنه آن يحرم بعد الإصابة. فرع آخر لو رمى، وهو محرم، ثم تحلل، فإن قصر شعره، ثم أصابه، وهو حلال، فيه وجهان: اعتباراً بالإصابة أو بوقت الرمي.

فرع آخر لو نفر صيداً من الحرم حتى خرج إلى الحل فصاده آخر، فقتله، فإن كان القاتل محرماً، فالجزاء على القاتل دون المنفر، وان كان القاتل حلالاً، فلا جزا، عليه. وأما المنفر، قال أصحابنا: إن كان حين نفره ألجأه إلى الحل ومنعه من الخرم يلزمه الجزاء وان كان حين نفره لم يلجئه إلى الخروج إلى الحل، ولا منعه من العود إلى الحرم، فلا ضمان على المنفر، لأن الصيد غير ملجأ وفعل المباشرة أقوى، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الصيد لمن صاده لا لمن أثاره". فرع آخر لو حفر المحرم بئراً في ملكه، فوقع فيها صيد لا نص فيه. وقال أصحابنا: ظاهر المذهب أنه لا يضمن سواء حفرها قبل إحرامه أو بعد إحرامه. وقال بعض أصحابنا: يحتمل أن يضمن بخلاف الآدمي إذا وقع فيه. ذكره ابن أبي أحمد، والغرق أن الآدمي مفرط في دخول ملكه بغير حق، فكان ضمانه هدراً بخلاف الصيد، لأنه غير منسوب إلى التفريط في دخول ملك غيره، فكان الضمان على الحافر. فرع آخر لو حفر في الحرم فتلف فيه الصيد. قال القفال: نص الشافعي أن يضمن لحرمة البقعة، ولأن الحرم مأمن الصيد فلا يجوز أن يحدث ما يفوت به أمنه. وقال سائر أصحابنا: فيه وجهان: والقياس أن لا يضمن كما لو معد صيد إلى سطحه، وتردى إلى داره لم يضمنه، وقال في "الحاوي": [209 / ب] إن حفرها لأجل الصيد يضمن كما لو نصب شبكة وإن حفرها في ملكه لا للصيد، فيه وجهان. فرع آخر لو كان راكباً على دابة فبالت في الطريق فزلق به صيد فتلف يلزمه الجزاء، نص عليه، وكذلك لو حفر بئراً في غير، فمات فيها صيد. فرع آخر لو نصب شبكة أو أحبولة، وهو محرم فوقع فيها صيد، فتلف يلزمه الجزاء، ولو نصبها، وهو حلال، فوقع فيها صيد، وهو محرم، فظاهر المذهب أنه لا يضمن، لأن الشافعي قال: ولو جعل المحل في رأسه زاووقا أي: زيقا فقتل الدواب في رأسه، فلا فدية عليه، لأنه جعله في وقت كان له قتلها فيه. وقال القفال: ما يحتمل في نصب الشبكة أن يغرق بين أن يكون في الحرم أو للإحرام كحفر البئر سواء ولم يصرح بهذا. مسألة: قال: وإذا قتل الصيد فإن شاء جزاه بمثله.

الفصل قد (ذكرنا) أن جزاء الصيد على التخيير، وبه قال كافة الفقهاء، وروي عن ابن عباس والحسن وابن سيرين وزفر وأحمد في رواية أنه على الترتيب، لأن هدي المتعة على الترتيب، وهذا أكد منه لأنه يجب بفعل محظور، وهذا غلط، لأن الله تعالى قال: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} [المائدة: 95]، ولفظه أو إذا دخلت في الأمر كان للتخيير كما في فدية الأدنى، وأما ما ذكره يبطل فدية الحلاق، وروي عن أحمد أنه قال. لا يخرج الطعام، وإنما التقويم بالطعام لأجل الصيام، وهذا غلط، لأن الله تعالى سمى الإطعام كفارة، ولا يصير كفارة إلا بإخراجه، وإذا أراد تقويم المثل فيقومه حال ما يريا الاشتغال عنه إلى القيمة، فينظر كم قيمته في تلك الحالة) فيشتري بها [210 / أ] الطعام، ولا يعتبر قيمته حال إتلاف الصيد بلا خلاف، لأنه لما قتل الصيد وجب المثل في ذمته، فإذا أراد العدول عنه يعتبر القيمة حالة العدول لأنها في التقدير حالة وجوب القيمة ويقوم بسعر مكة سواء قتل الصيد بمكة أو في الحل، لأنه يجب إخراج الجزاء فيه وإن لم يكن له مثل هل يعتبر قيمته حالة الوجوب أم حالة الإخراج للطعام؟ قال في موضع: يعتبر حالة الإتلاف، وقال في موضع: يعتبر حالة الإخراج، فمن أصحابنا من قال: يعتبر حالة الإتلاف قولاً واحداً، والموضع الذي قال: يعتبر حالة الإخراج، أواد في الصيد الذي مثل. ومن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: الاعتبار بحالة الإخراج، لأنها حالة إسقاط الفرض. والثاني: تعتبر بحالة الإتلاف، لأنها حالة الوجوب، وهو الصحيح. والفرق بينه وبين الصيد الذي له مثل أن الواجب ههنا القيمة، وحالة وجوب القيمة حالة الإتلاف، فاعتبرنا القيمة في تلك الحالة وهناك الواجب المثل، واستقر في ذمته عند الإتلاف، فإذا أراد الانتقال إلى القيمة يعتبر في تلك الحالة على ما بيناه، ويعتبر القيمة ههنا في موضع الإتلاف نص عليه في "الأم" في باب جزاء الطائر وذكره في "القديم" وفي موضع من "الإملاء"، وهو الصحيح، لأنه لما وجب اعتبار قيمته وقت القتل دون وقت التكفير كذلك تعتبر قيمته في موضع القتل دون موضع التكفير. وقال في "الإملاء": عليه قيمته بمكة لأنها وجبت لمساكين الحرم، وهو ضعيف. مسألة: قال: لا يجزئه أن يتصدق بشيء من الجزاء إلا بمكة. قد ذكرنا أن كل دم تعلق بالإحرام يجب تفريق لحمه على مساكين الحرم، وأن قوله: مكة ومنى، [210 / ب] ولم يذكو سائر الحرم ليس لتخصيص هذين الموضعين بهذا الحكم من جملة بقاع الحرم، وإنما خرج كلامه على العادة الجارية في تفريق اللحم، فإن عادة السلف تفرقته بمنى إذا كان الذبح بمنى وبمكة إذا كان الذبح بالمروة،

ولم ينقل عنهم نقل اللحم من منى ومكة إلى سائر بقاع الحرم إذ المساكين يزدحمون في أيام النحر على هذين البقعتين اللتين هما محل النحر في العادة، فالمستحب الاقتداء في ذلك بالسلف، وإذا أراد التكفير بالمثل لا يعطيهم إياه إلا بعد الذبح، وهكذا سائر الهدايا، فإن دفع إليهم حياً لم يجز حتى ينحره في الحرم سواء أصاب الصيد في حل أو حرم، ثم ينظر بعدما دفع حياً فإن أعلمهم أنه هدي له استرجاعه، وإن استرجع ونحره يتخير بين دفعه إليهم أو إلى غيرهم ولا يتعينون بالدفع الأول إليهم، لأنه لم يتح موقع الأجزاء، وان لم يعلمهم ليس له الاسترجاع إلا أن يصدقوه، والقول قولهم مع اليمين. قال القاضي الطبري: وسمعت بعض شيوخنا يقول: إن شاء فرق لحمه وإن شاء سلم المذبوح إلى ثلاثة منهم وملكهم إياه، وهكذا عملت أنا بمنى لأني رأيته أخفت وأقرب إلى التسوية بينهم فيها. فرع أقل ما يجزئه أن يفرقه عليهم ثلاثة نفر إن كان قادراً إن دفع إلى اثنين مع قدرته على الثالث كان ضامناً لذلك، لأنه دفع واجباً عليه إلى غير مستحقه، وفي قدر ضمانه وجهان: أحدهما: يضمن الثلث مساواة بين جميعهم فيه. والثاني: يضمن أقل ما يجزئ أن يعطي أحدهم من غير تقدير بالثلث، لأن المساواة بينهم والتفرقة لا تلزم. فرع آخر قال في "المناسك": يجزئه من فوره، فإن صدر من الحرم قبل أن يجزئه [211 / أ] وجه من يجزئه في الحرم. فرع آخر إذا أراد أن يفرق الطعام. حكى ابن المرزبان عن ابن أبي هريرة أنه يطعم مداً كداً كما في سائر الكفارات، ويحتاج أن ينوي عند تفرقتة ذلك كما ينوي في الكفارة. وقد ذكرنا قبل هذا أنه لا يتعذر بمد ويجوز أقل منه ذكره في "الحاوي". فرع آخر ذكرنا في كيفية الصيام في جزا، الصيد. وقال طاوس والقاشاني: الاعتبار في الصوم بقدر ما يشبع الناس من الصيد، فإن كان الصيد مما يشبع منه واحد وجب على قاتله أن يصوم عنه يوماً، وان كان يشبع منه عشرة وجب على قاتله صوم عشرة أيام، وهذا غلط لأن قوله تعالى: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} [المائدة: 95] ما يقتضي ما ذكرنا.

مسألة: قال: وإن أكل من لحمه فلا جزاء عليه. أعلم أنه إذا اصطاد الحلال صيداً للمحرم لا يجوز لهذا المحرم أكله وحل لغيره من المحلين والمحرمين سواء علم هو أو لم يعلم أمره أو لم يأمره أشار إليه آو لم يشر، وبه قال مالك وأحمد، وهكذا لو أعطاه سلاحاً حتى قتله. وقال أبو حنيفة: إن كان الصيد ظاهراً لا يحتاج إلى دلالة لا يحرم عليه بدلالته، وكذلك إن دفع إليه سلاحاً، وهو يستغني عنه لا يحرم به، وان اصطاد له الحلال لا يحرم أيضاً ما لم يكن له فيه معونة أو أمر به واحتج بما روي أن أبا قتادة رأى حمار وحش، وهو محل وأصحابه محرمون، فركب فرسه. وقال لأصحابه: ناولوني السوط، فلم يفعلوا، فقال: ناولوني الرمح، فلم يناولوه فأخذ الرمح وثمل على الحمار، فقتله. وقال لأصحابه: كلوا فامتنعوا، فلما لحقوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخبروه بالك [211 / ب]، فقال لهم: "هل أعنتم؟ هل أشرتم؟ "، قالوا: لا، قال: "فكلوا ما بقي"، فدل على أن التحريم إنما يتعلق بالإشارة والإعانة، وهذا غلط لما روى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "لحم الصيد حلال لكم ما لم تصيدوه أو يصد لكم". وروى "صيد البر لكم حلال ما لم تصيدوه أو يصد لكم "، لأنه صيد للمحرم، فكان محرماً عليه كما لو أمر أو أعان. وأما خبر أبي قتادة، فلا حجة، لأنه لم يصطد لم، فلهذا أباح لهم، وإن لم يصطد له، ولا كان من جهته تأثير فيه كان له أن يأكل منه، وبهذا قال جماعة الفقهاء والصحابة. وروي عن علي وابن عباس وطاوس رضي الله عنهم أنهم قالوا: لحم الصيد حرام على المحرم بكل حال وكرهه سفيان والثوري واسحاف واحتجوا بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بالصعب بن جثامة بالأبواء أو بودان، فأهدى له حماراً وحشياً فرده عليه، فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في وجهه الكراهية، قال: "ليس بنا رد عليك، ولكنا حرم". وروي: أهدى إليه رجل حمار وحش، والأول أصح. وروي آن الحارث كان خليفة عثمان على الطائف فصنع لعثمان طعاماً فيه الحجل واليعاقيب واليعاقيب ذكر الحجل ولحوم الوحش، فبعث إلى علي رضي الله عنه فجاء، فقالوا له: كل، فقال: أطعموه قوماً حلالاً، فأنا حرم، ثم قال علي: أنشد الله من كان هنا من أشجع أتعلمون أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما أهدى إليه رجل حمار وحش أبى أن يأكله، قالوا: نعم، وهذا غلط

لما روي من خبر أبي قتادة، وروي فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما هي طعمة أطعمكموها الله [204 / ب]. وروي أنه قال: " هل معكم من لحمه شيء". وأيضاً خبر جابر الذي ذكرنا. وأما ما ذكروا إنما رد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه ظن أنه صيد من أجله وتركه على التنزه، أو كان حياً، لأنه قال: "حمار وحش"، فإذا تقرر هذا فلو أكل من هذا الصيد الذي حرمنا عليه أكله، هل يلزمه الجزاء بأكله؟ فيه قولان، قال في "القديم": يلزمه الجزاء بقدر ما أكله. وبه قال مالك وأحمد، وقال في "الجديد": لا جزاء عليه. وهذا أصخ، لأنه أكل من لحم صيد، فلا يلزمه الجزاء به، كما لو قتله وأكله لم يلزم الجزاء بالقتل دون الأكل واحتج مالك بأنه محظور إحرامه كما لو قتله. قلنا: لأنه بالقتل أتلف صيداً نامياً بخلاف هذا. فرع إذا قلنا: يلزمه الجزاء، فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يكون ضامناً مثله لحماً من لحوم النعم يتصدق به على مساكين الحرم. وبه قال أحمد. والثاني: يضمن بمثله من النعم، فإن أكل عشر لحم الظبي يلزمه عشر شاة. والثالث: يضمن بقيمة ما أكل دراهم يتصدق بها إن شاء، أو يصرفها في طعام ويتصدق به، ذكره في "الحاوي". فرع آخر إذا باشر المحرم قتل الصيد لم يحل له أكله، وهل يحل لغيره من المحرمين والمحلين؟ قولان. قال في "القديم": يحل، وذكاته مبيحة له. وقال في "الجديد": لا يحل، وتكون ميتة. وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد. وقال أصحابنا: قول "القديم" أصح في هذه المسألة لأن كل من أباحت ذكاته غير الصيد أباحت الصيد كالمحل، فإذا قلنا بالأول يلزمه الجزاء في حق الله تعالى، وما نقص الذبح للآدمي. وإذا قلنا بالثاني يلزمه تمام القيمة في حق المالك [212 / ب]. فرع آخر إذا قلنا بالقول الأول، أو الثاني: لو أكل منه لا يلزمه الجزاء ويفارق المسألة قبلها في أحد القولين، وذلك أن هناك لم يجب بالقتل شيء، فجاز أن يلزمه الجزاء بالأكل. وههنا وجب بالقتل الجزاء، فلا يجب بالأكل شي، آخر. وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف ومحمد.

وقال أبو حنيفة: يلزمه قيمة ما أكل، وهذا غلقالأنه صيد ضمنه بالقتل، فلا يضمنه بالأكل كصيد الحرم أو يقيس على ما لو جاء محرم أخر وأكله لا جزاء، وكذلك لو شوى بيضة وأكلها لا يلزمه بالأكل شيء، ولأن عنده ذبيحة الحرم ميتة، فكيف يلزم الضمان بإتلاف الميتة؟. فرع آخر إذا حلّ من إحرامه لا يحل له أكله أيضًا قولًا واحدًا. ومن أصحابنا من ذكر وجهًا آخر أنه يحل له أكله على القول الأول. فرع آخر لو قتل الحلال صيدًا في الحرم، فيه طريقان: إحداهما: فيه قولان. والثاني: يصير ميتة قولا واحدًا، والغرق أن صيد الحرم ممنوع على سائر الناس، فصار كالحيوان الذي لا يؤكل بخلاف صيد الحل فإنه حلال لقوم دون قوم، وقيل: أن الشافعي نص في "الإملاء" على هذا الفرق، وهو ضعيف، لأن هذا الصيد في حق المحرم كصيد الحرم في حق الكافر وكما يزول هذا التحريم عند التحلل يزول تحريم ذاك عند مفارقة الحرم. مسألة: قال: لو دل على صيد كان مسيئًا ولا جزاء عليه. الفصل عندنا الصيد لا يضمن بالدلالة، إنما يضمن بالجناية، أو اليد فإذا دلّ المحرم محرمًا على صيد في الحلّ فقتله وجب الجزاء على القاتل دون الدال، وكذلك لو دلّ الحلال محرمًا، فقتله، ولو دل المحرم حلالًا على [213/ أ] صيد، فقتله لا جزاء على واحدًا منهما، وهو مسيء في ذلك، لأن عقد الإحرام أوجب عليه احترام الصيد فإذا دلّ عليه ناقض أصل موضوعه. وبه قال مالك وأبو ثور. وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما. وقال مجاهد وعطاء وحماد: أن دلّ محرم محرمًا يلزم الجزاء عليهما، نصفين، وإن دلّ محلّ محرمًا وجب تمام الجزاء على المدلول، وإن دلّ محرم حلالًا وجب تمام على الدّال. وقال أبو حنيفة والثوري: يلزم على كل واحٍد منهما جزاء كامل إذا كانا محرمين وإن دل محرم حلالًا وجب الجزاء على الدال وحده، وإن دلّ محلّ محرمًا وجب الجزاء على المحرم دون الدال. واحتج الشافعي عليهم بقوله: "كما لو أمر بقتل مسلم لم يقتص منه، كان مسيئًا"، كذلك ههنا وتحريره أن ما ضمن بالجناية، لا يضمن بالدلالة كالآدمي وصيد الحرم.

فرع لو أمسك المحرم صيدًا ثم جاء حلال فذبحه، قال أصحابنا: الجزاء على الممسك دون القاتل، لأن المحرم ضمن بالإمساك، فإذا تلف في يده بذبح الحل استقرّ عليه الضمان كما لو مات حتف أنفه، وهذا المحل القاتل أتلف صيدًا ليس بمملوك، لأحد لأن المحرم لم يملكه بإمساكه، فلا ضمان عليه ولو كان القاتل محرمًا، فيه وجهان: أحدهما: يجب الجزاء على القاتل دون الممسك، لأن الإمساك سبب غير ملجئ اجتمع مع المباشرة، فتعلق الضمان بالمباشرة دون السبب كما لو أمسك أدصيٍد، ثم جاء آخر قتله. والثاني: يجب عليهما نصفين، لأن الإمساك لو انفرد تعلق به الضمان، وكذلك القتل لو انفرد، فإذا اجتمعا تعلق الضمان بهما كما لو جرحا صيدًا، ويفارق إمسال الآدمي، لأنه لو انفرد لا يتعلق به الضمان. [213/ ب] وهكذا الحكم في المحل إذا أمسك صيدًا في الحرم ثم جاء آخر فقتله يجب الجزاء وعلى من يجب، فيه وجهان. وقال القاضي الطبري: لم يرد أصحابنا على هذا، ولا أعرف كلتا المسألتين للشافعي الذي يجب عناي على أصل الشافعي، أن يجب الجزاء على المحرم في المسألة الأولى، لأنه ضمنه باليد، ولكن إذا أحرمه رجع به على الحلال، لأنه هو المتلف له، وهو السبب في وجوب الضمان عليه، والحكم في كيفية الرجوع كما بيناه في الحلال إذا حلق رأس المحرم بغير أمره مكرهًا، أو نائمًا. وفي المسألة الثانية، كل واحد منهما صار ضامنًا له، أمّا الممسك فقد ضمنه باليد. وأمّا القاتل فقد ضمنه بالإتلاف، فكل واحد منهما مخاطب بالغرامة، والضمان، فإن أخرج الممسك رجع على المتلف لأنه هو المباشر لإتلافه وإن أخرج القاتل لم يرجع به على الممسك كما نقول فيمن غصب مالًا فجاء آخر وأتلفه في يد الغاصب لصاحبه أن يغرم أيهما شاء فإن غرم الغاصب رجع على المتلف وإن غرم المتلف لم يرجع على الغاصب، وقيل: ما قاله القاضي في المسألة الثانية، أقيس. وما قاله سائر أصحابنا في المسألة الأولى، أقيس. فرع آخر صيد الحرم محرم مضمون على كل أحد كصيد الحل مضمون على المحرم، فيلزمه الجزاء ويتخير بين الأنواع الثلاثة. وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: لا يدخل الصوم في جزائه، وهذا غلط، لأن ما ضمن به الصيد في حق المحرم ضمن صيدًا يحرم كالهدي والإطعام. وقال داود: لا جزاء في صيد الحرم، وهذا غلط، لأن هذا الصيد ممنوع من قتله لحق الله تعالى فأشبه الصيد [214/ أ] في حق المحرم.

فرع آخر لو ملك الحلال صيدًا في الحل ثم أدخله الحرم حل له ذبحه وأكله والتصرف فيه بالبيع والهبة. وبه قال مالك، وقال أبو حنيفة وأحمد: لا يجوز له التصرف فيه، ويلزمه الجزاء بقتله، وهذا غلط، لأنه ملكه أدخله الحرم كما لو قلع شجرة من الحلّ وأددخلها الحرم. مسألة: قال: ومن قطع من شجر الحرم شيئًا جزاه. الفصل لا يجوز قطع شجر الحرم والدليل عليه ما روى أبو هريرة رضي الله عنه، قال: لما فتح الله تعالى على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكة قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهمء فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "إن الله تعالى حبس عن مكة الفيل، وسلّط عليها رسوله والمؤمنين، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم هي حرام إلى يوم القيامة لا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشٍد"، فقال العباس: يا رسول الله إلا الإذخر، فإنه لقبورنا وبيوتنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إلا الإذخر، إلا الإذخر"، فقام أبو شاه، رجل من أهل اليمن، وقال: اكتبوا لي يا رسول الله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اكتبوا لأبي شاه"، يعني هذه الخطبة. وقوله: "لا يعضد"، أراد: لا يقطع. والعضد: القطع. وقوله: لا ينفر، يعني: لا يتعرض له بالاصطياد. وقال سفإن بن عيينة: معناه أن يكون الصيد أيضًا في ظل الشجرة، فلا ينفره الرجل ليقعد، فيستظل مكانه، والمنشد: المعرف. وروى ابن عباس في هذا الخبر: لا يختلى خلاؤها، والخلا: الحشيش، فإذا تقرر هذا، فهو مضمون على المحرم والمحل [214/ ب]. وقال مالك وداود وأهل الظاهر وأبو ثور: هو ممنوع منه، ولكن لا يلزم الجزاء بقطعه. وذكر بعض أصحابنا بخراسان: أن الشافعي قال في "القديم ": لا جزاء إلا في ذي روح، وهذا غلطء لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: في الدوحة بقرة وفي الجزلة شاة، والدوحة: الكبيرة والجزلة: الصغيرة. وقال ابن الزبير في "الكبيرة ": بقرة وفي "الصغيرة ": شاة، ولا مخالف لهما. فرع الشجر الذي أنبته الله تعالى في الموات في الحرم حكمه ما ذكرنا، وكذلك لو أنبته الله تعالى في الأملاك، ويريد ههنا: ضمان القيمة للآدمي، ولو غرسه الآدمي في موات

الحرم ظاهر المذهب، أنه يلزم فيه الجزاء، ومن أصحابنا من قال: لا جزاء فيه، لأن ما كان من غرس الآدمي نهو كالحيوان الأهلي. وأشار الشافعي إلى هذا في "الإملاء"، لأنه قال: ومن قطع من شجر الحرم فعليه الجزاء لأنه لا مالك له، وقيل: هذا لا يدل على ما ذكره هذا القائل، وإنما علل بهذا في وجوب الجزاء خاصة، لأن في الجر المملوك يجب مع الجزاء القيمة. وقال أبو حنيفة: ما نبته الآدميون يجوز تطعه وما لا نبته الآدميون ينظر فيه، فإن أنبته أدمي جاز قطعه، وإن نبت بنفسه لم يجز قطعه لظاهر الخبر الذي ذكرنا، ولم يفرق، ولأنه شجرة نابتة غير مؤذية نبت أصلها في الحرم، نوجب أن يحرم قطعها أصله ما نبت بنفسه مما لا ينبته الآدميون. فرع آخر الجزاء إنما يجب في الشجر الذي يكون غضًا لا شوك فيه كالبلوط وشجر الجبال، فأما إذا قطع شجرة يابسة، فلا جزاء فيه، لأنها بمنزلة الصيد الميت، وكذلك [215/ أ] لو قطع الشوك والعوسج، فلا جزاء أيضًا، لأنه يؤذي كالسبع والبهائم المؤذية. فرع آخر قال بعض أصحابنا: لو كانت الشجرة قد انتشرت أغصانها ومنعت الناس الطريق وآذتهم، يجوز أن يقطع منها ما يؤذي. فرع آخر قال الماسرجسي: الأشجار الثابتة في الحرم ضربان: ضرب أنبته الآدميون مثل الكمثرى والتفاح، ونحوهما مما يتولى بنو آدم زراعته وغرسه لا جزاء فيه. هكذا ذكره الداركي من أصحابنا، وأهل خراسان. وهذا خلاف مذهب الشافعي، لأنه أطلقه من غير تفصيل وعليه أكثر أصحابنا، ونص عليه في "القديم" فقال: ويقطع السواك من فرع الشجرة ويأخذ الثمر والورق فيه للدواء إذا كان لا يميته، فدّل هذا على أنه يلزم الجزاء في الثمرة. وقال أبو حامد: فيه طريقان: أحدهما: فيه قولان. والثاني: يلزم فيه الجزاء قولا واحدًا. فرع آخر لو حمل من الحل شجرة وأنبتها في الحرم لا جزاء فيها لأن ذلك، ليس من شجر الحرم وإنما شجر الحرم ما نبت أصله فيه، وهو كما لو أدخل صيدًا في الحرم لا يحرم ذبحه. فرع آخر لو قلع شجرًا من الحرم وغرسه في الحلّ، فإن مات يلزمه الجزاء، وان نبت وجب

عليه قلعه ونقله إلى الحرم وغرسه فيه، فإن نقله وغرسه ونبت، فلا شيء عليه، وإن مات فعليه الجزاء، فإن جاء غيره فقلعه من الحل، فمات يضمنه القالع بإلجزاء، فإن قيل: أليس قلتم لو نفر صيدًا من الحرم حتى رجع إلى الحلّ فاصطاده صائد في الحل لا يضمن؟ فقولوا: في الشجر مثله!! قلنا: الاعتبار في الشجر بمنبته وقد ثبت له حكم الحرم، ولهذا يجب ردّه إليه، [215/ أ] لأن الشجر لا ينتقل من محل إلى محل، وليس كذلك الصيد، فإن الاعتبار فيه بنفسه، لأنه تارة يكون في الحل وتارة يكون في الحرم، فإذا فارق الحرم لم يثبت له حكمه، ولهذا لا يجب ردّ الصيد إلى الحرم، لأنه يقدر على الرجوع بنفسه إلى الحرم. فرع آخر لو قلع شجرة من الحرم وغرسها في موضع آخر من الحرم، فإن نبت في الموضع الذي حولها إليه، فلا شيء عليه، وإن لم ينبت فعليه الجزاء، ولأن عليه نقلها إلى موضعها لأن حرمة جميع الحرم واحدة. فرع آخر لو نبتت شجرة بعض أصلها في الحلّ. والثاني في الحرم فالحكم فيه كما لو كان كل أصلها في الحرم تغليبًا للتحريم. فرع آخر لو كان أصلها في الحرم وأغصانها في الحلّ فقطع غصنًا منها يلزم الجزاء اعتبارًا بأصلها، ولو كان على هذا الغصن صيدًا يعتبر مكان الصيد في وجوب الجزاء، فإن كان في الحرم يلزم الجزاء، وإن كان في الحل لا جزاء. فرع آخر في كيفية الجزاء، قال الشافعي في "الإملاء": القياس أن يلزم فيها القيمة، ولكنا تركناها لما روينا عن الصحابة، ففي الصغير شاة، وفي الكبير بقرة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: في الكبير بقرة، وفي أصغر منها شاة، وفي أصغر منها قيمته. وقال أبو حنيفة: لا يتعذر الجزاء فيها ويضمن بقيمتها. فرع آخر لو قطع غصنًا منها، قال الشافعي في موضع: فيه درهم وليس هذا بمذهبه، بل حكاه عن قوم ومذهبه فيه، أنه يلزمه ما نقص من قيمته أن لم يستخلف كما لو جرح صيدًا، وإن استحلف، فيه قولان: أحدهما: لا شيء عليه، لأنه عاد إليه كالذي كان وقد قال الشافعي في "القديم": ويقطع السواك من فرعها، وأراد إذا كان مما يستخلف. والثاني: يلزمه ضمانه، لأن الذي عاد غير الذي أتلفه [216/ أ].

فرع آخر لو أراد أن يأخذ الورق للدواء والعلف والأغصان الرطبة لا لعطبة التي تحل محل الورق. نص في "القديم": أن له ذلك. وقال في "الإملاء": لا يخبط ورق الشجر للدواب، لأن عمر رضي الله عنه رأى رجلًا يخبط شجرًا في الحرم، فنهاه عنه، وليست المسألة على قولين، بل هي على اختلاف حالين، فالذي قال: له ذلك إذا أخرط أوراقها، ولا يفسد الأغصان الكبار، والذي قال: ليس له ذلك أراد إذا خبط أغصانها فخدش به الأغصان، والشجر ويضر بها وربما يكسرها. وهذا لأن الورق مما يستخلف، فهو بمنزلة لبن الصيد لا يمنع منه المحرم كنتف ريش الطائر، لأنه يضر به ويمنعه الطيران بخلاف أخذ الأوراق. وقال في "الحاوي": أن كان الورق جافًا يجوز أخذه وإن كان رطبًا لا يجوز، لأن فيه إضرارًا بالشجر، فإن فعل، ولم يمت الشجر فقد أساء ولا شيء لأنه استخلف مع بقاء الشجر، وكذلك أن أخذ مسواكًا من أراك. فرع آخر حشيش الحرم، ممنوح من أخذه وبيعه إلا الإذخر، فإنه يجوز أخذه لما ذكرنا، فإن أخذ من غير الإذخر شيئًا فقد آساء، ونظر فإن كان مما استخلف، فلا جزاء عليه، وإن كان مما لا يستخلف، فعليه الجزاء، وهو ما نقصه بالقطع، وكذلك إذا قلعه من أصله، وإن استخلف ناقصًا ففيه ما نقص، وقيل: يتصدق عنه بشيء، ويفارق هذا النقص إذا عاد بعد القطع هل يلزم الجزاء؟ فيه قولان: وههنا قول واحد أنه لا جزاء لأن الأغصان لا تستخلف في غالب العادة بخلاف الحشيش، وهو كما قلنا في سن من لم يتغير إذا نبتت لا دية قولًا واحدًا. وفي سن من قد تعد إذا نبتت قولان لهذا المعنى. فرع آخر يجوز رعي حشيش الحرم، فيرسل [216 / ب] عليه الأغنام. وقال أبو حنيفة: لا يجوز ذلك، لأنه لا يجوز إتلاف فلا يجوز أن يرسل عليه من يتلفه، وهذا غلط، لأن، الهدايا كانت تحمل إلى الحرم، وتكثر فيه، ولم ينقل: أنه كان يد أفواهها لئلا ترعى، ولأن بهم حاجة إلى ذلك فجاز كما قلنا في قطع الإذخر والعوسج، ولآن الناس كانوا يرعون بهائمهم فيه من لدن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا، ولم ينكر منكر. وقد روى في خبر أبي هريرة رضي الله عنه إلا علف الدواب. فرع آخر قال في "القديم" فأما ما، زمزم، فلا أكره الخروج به. وقد روي أن سهيل بن عمرو

أهدى للنبي - صلى الله عليه وسلم - راوية منه. وروي أن عائشة رضي الله عنه كانت تنقل ماء زمزم وتخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحمله، وهذا لأن الماء يستخلف مكانه. فرع آخر قال في "الجامع الكبير": ولا جبر في أن يخرج من حجارة الحرم ولا من ترابه شيء إلى الحل، لأن له حرمة. وقال في "القديم ": وأكره أن يخرج من حجارة الحرم، أو ترابه شيء إلى غيره. وقال: ورخص ذلك بعض الناس، واحتج بشراء البرام من مكة، والبرام في الحل على يومين وثلاثة من الحرم يريد به أن البرام ليست من حجارة الحرم، وهذا يدل على أنه يجوز ذلك ويكره. وذكر بعض أصحابنا: ما يدل على أنه حرام، ولكنه لا يضمن، وهو خلاف المذهب. وروي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أنهما كانا يكرهان أن يخرج من تراب الحرم إلى الحل أو يدخل من تراب الحل إلى الحرم. وروي عن عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر، قال: قدمت مع أمي ومع جدي مكة فأتينا صفية بنت شيبة، فأهدت لنا حجرًا من أحجار الدار [217/ أ] إكرامًا لنا، فأخرجناه من الحرم فمرضنا كلنا، فقالت أمي وجدي: ما أرانا أصبنا هذا إلا أنا أخرجنا هذه القطعة من الحرم وكنت أمثل القوم، فقالت لي: ردها إلى الحرم، وقل لصفية: أن الله وضع في حرمه شيئًا، فلا ينبغي أن يخرج منه، فرددته إليها، فلما رجعت إلى أصحابي فكأننا نشطنا من عقال. مسألة: قال: وسواء ما قتل في الحرم أو الإحرام. مفردًا كان أو قارنًا، فعليه جزاء واحد القصد به أن الحرمات الموجبات للفدية إذا اجتمعت تداخلت وصارت كالحرمة الواحدة، فإذا قتل صيدًا في الحرم والإحرام في الإفراد أو القران، يلزم جزاء واحد، وكذلك القارن إذا تطيب أو ليس يلزمه جزاء واحد. وبه قال أحمد في أشهر الروايتين عنه. وقال أبو حنيفة: يلزم القارن جزءان، وهذا غلط، لأن المقتول واحد، فلا يجب بقتله إلا جزاء واحد. مسألة: قال: ولو اشتركوا في قتل صيد لم يكن عليهم إلا جزاء واحد. إذا اشترك جماعة من المحرمين في قتل لا يلزمهم إلا جزاء واحد. وبه قال عمر وابن عمر وعبد الرحمن بن عوف وعطاء وحماد والزهري وأحمد واسحاق وأبو ثور. وقال مالك وأبو حنيفة: يلزم على كل واحد منهم جزاء كامل. وبه قال الحسن والشعبي والثوري،

واحتجوا بأن هذه كفارة يدخلها الصوم ككفارة قتل الآدمي، وهذا غلط، لأن المقتول واحد، فيلزم بقتله جزاء واحد كما لو اشتركوا في قتل صيد الحرم يلزمهم جزاء واحد بالاتفاق. وروي أن موالي لابن الزبير أحرموا فمرت بهم ضبع فحذفوها بعصيهم، فأصابوها، فأتوا ابن عمر رضي الله عنه، فذكروا ذلك له، فقال: عليكم كبش، فقالوا: على كل واحد منا كبش [217/ ب]، فقال: إنكم لمعزرتكم، أي: مشدد عليكم أن ألزم كل واحد منكم كبشًا عليكم جميعًا كبش، وأما كفارة قتل الآدمي. قال صاحب "الإفصاح": قال الشافعي في كتاب "الشاهد واليمين": يلزمه كفارة واحدة والمشهور أنه يلزم على كل واحد منهم كفارة كاملة. والفرق أن ذلك كفارة لا يختلف باختلاف المقتول من الصغير والكبير ولا ينقص، وهذا يشبه الغرامة من جهة البعض والاختلاف بالصغر والكبر، فيلزمهم واحد وعلى هذا المحل والمحرم إذا اشتركا في قتل صيد في الحل يلزم على المحرم نصف الجزاء، ولا شيء على المحل وعند أبي حنيفة يلزمه كل الجزاء. مسألة: قال: وما قتل من الصيد لإنسان، فعليه جزاؤه للمساكين وقيمته لصاحبه. قصد به الرد على مالك حيث قال: إذا قتل صيدًا مملوكا تلزمه القيمة لصاحبه ولا جزاء فيه بحال لأنه بملكه، خرج عن الصيد الوحشي إلى حكم الإنسي. وبه قال المزني في "المنثور" وأصحاب مالك الآن ينكرون هذا من مذهبه، والدليل على ما ذكرنا أنه كفارة تجب بقتل الحيوان الذي ليس بمملوك، فجاز أن يجب بالمملوك ككفارة قتل للآدمي، ولأن الجزاء والقيمة حقان لمستحقين، فجاز اجتماعهما، واحتج الشافعي بأن قال: لو جاز إذا تحولت حال الصيد عن التوحش إلى الاستئناس أن يصير حكمه حكم الأنفس جاز أن يضحي به ويجزي به ما قتل من الصيد، أي: يجعله جزاء إذا قتل وحشيًا مثله، ويجوز أن يقال: إذا توحش الإنسي من البقر والإبل أن يكون صيدًا في الحكم يجزئه المحرم، ولا يضحي به، وكل على أصله، أي: لا يتغير [218 /أ] حكم الوحشي بالاستئناسء ولا حكم الإنسي بالتوحش. مسألة: قال: وما أصاب من الصيد فداه إلى أن يخرج من إحرامه. قصد به بيان الإحلال الذي يبيح له قتل الصيد بلا جزاء وفسر خروجه من العمرة على القول المشهور أن الحِلاق من النسك، وكذلك الخروج من الحج ذكر على القول المشهور، وأفتى على ظاهر مذهبه أن قتل الصيد يحل بالخروج الأول من الحج وقد شرحنا ذلك وههنا إشكال وذلك أنه أجاب على أن الحلاق من النسك، ثم ذكر أن للعمرة خروجًا واحدًا، وللحج خروجين، وعلى هذا القول للعمرة خروجان أيضًا، فالأول، بالطواف والسعي. والثاني، بالحلاق، فلو وطئ قبل الحلاق لا تفسد عمرته،

ولكن يلزمه بدنة كما لو وطئ بعد الوقوف في الحج لأنه أتى بمعظم أفعالها، وكان الأولى أن يذكر للعمرة خروجين أيضًا، ذكره الشيخ أبو محمد الجويني في "المنهاج". فرع لو رمى مُحِلّ في الحل إلى صيد في الحرم، فقتله يلزمه الجزاء، وكذلك إذا كان في الحرم والصيد في الحل فرماه، فقتله وجب عليه الجزاء لأن من كان في الحرم لا يجوز له قتل الصيد في الحرم ولا في الحل. فرع آخر لو كان الحلال في الحل فرمى إللى صيد في الحل، فدخل السهم الحرم ونفذ إلى الحل وأصاب الصيد. قال الشافعي: لا جزاء عليه لأن الرامي في الحلّ والصيد في الحلّ. ومن أصحابنا من قال: عليه الجزاء، لأن السهم عبر على الحرم، فصار كأنه ابتدأ منه. فرع آخر قال في "الإملاء": لو حس الحلال في الحل صيدًا له فرخ في الحرم، فمات الصيد والفرخ في الحرم، فمات الفرخ من الجوع يلزمه الجزاء في الفرخ دون [218/ ب] الأم، لأن الأم قتلها في الحل، فلم يضمنها، والفرخ مات بسبب من جهته في الحرم، فلزمه ضمانه. فرع آخر قال: وإن كان الحلال في الحرم فحس طيرًا في الحرم، وله فرخ في الحلّ، فماتت الأم والفرخ وجب الجزاء فيهما، لأنه قتل الطير في الحرم، ومات الفرخ في الحل بسبب كان من جهته، وهو في الحرم، وقد قلنا: أنه لا يجوز أن يقتل صيدًا في الحل، وهو في الحرم، وحكي عن أبي ثور أنه قال: العبرة بكون الصيد في الحرم. فرع آخر لو أرسل المحرم كلبه على صيد وهما في الحل فقتله كلبه وجب عليه الجزاء لأن الكلب بمنزلة الآلة له فإن قتل: إذا حرش كلبه على إنسان، فقتله، قلتم: لا شيء عليه، فما الفرق؟ قلنا: لأن الكلب يعلم الاصطياد، فهو آلة فيه وليس كذلك في قتل الإنسان فوزانه أن الحرس كان كلبًا غير معلم على الصيد، فلا جزاء عليه، لأنه لا يكون آلة له ولا فعله منسوبًا إليه. فرع آخر لو كان حلالًا في الحرم، فأرسل كلبه على صيٍد في الحلّ، فقتله، فعليه الجزاء، وإن كان حلالًا، فأرسل كلبه على صيد في الحلّ، فدخل الصيد الحرم، فتبعه الكلب ودخل فيه، فقتله في الحرم. قال الشافعي: لا جزاء عليه، لأنه إنما أرسله على صيٍد في الحل وعدوله إلى الحرم كان باختيار الكلب لا باختيار صاحبه ويفارق هذا الحلال

إذا رمى إلى صيد في الحل، وهو في الحلّ، فجاز السهم إلى الحرم، وقتل فيه صيدًا آخر يلزمه الجزاء، لأن السهم لا اختيار له. فرع آخر لو وقف صيد بعضه في الحل وبعضه في الحرم فرمى من الحل، فقتله يلزمه الجزاء. وهكذا لو كان جميع قوائمه [219 / أ] في الحرم ورأسه في الحل، فرماه فأصاب رأسه فقتله، يلزمه الجزاء. وقال أصحاب أبي حنيفة: أن كان بعض قوائمه في الحرم ضمن، وإن كان جميع قوائمه في الحل لم يضمن. فرع آخر لو كان طائر يطير في هواء الحرم كان كالواقف في الحرم يلزمه الجزاء. فرع آخر لو نَفّر صيدًا في الحل وهو محرم، فأصابته آفة فمات بأن انتهشته حيّة أو جارحة غيرها، فعليه الجزاء نص عليه. وكذلك المحل إذا نفر صيدًا من الحرم، فصدم حائطًا، أو شجرًا يلزمه الجزاء، وإن لم يصدمه مما لم يألف موضعًا من حل أو حرم حتى تلف ضمنه أيضًا، وإن ألف موضعًا خرج من ضمانه. فرع آخر لا جزاء في صيد البحر بحال سواء كان البحر في حل أو حرم وسواء كان البحر كبيرًا، أو صغيرًا، سوا، كان الماء عذبًا أو أجاجًا. قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] الآية. وصيد البحر ما لا يعيش إلا فيه، ومأواه فيه والسلحفاة من صيد البحر. قال في "الأم": وطعامه عندنا ما ألقاه وطفا عليه، والله أعلم. والآية لا تحتمل إلا هذا المعنى أو كون طعامه دواب تعيش فيه فتؤخذ بالأيدي بغير تكلف كتكلف صيده، وحكي عن الصيمري أنه قال: صيد الحرم حرام على الحلال، والمحرم وإن كان البحر في الحرم وصيد البحر في الحل لا يحرم على المحرم. فرع آخر قال الشافعي: ولا يحرم قتل الصيد إلا صيد الحرم، وأكره قتل صيد المدينة. قال أصحابنا: هذه الكراهية كراهية تحريم. وبه قال مالك وأحمد: فيحرم صيدها، وقطع شجرها ولم يذكروا خلافًا. وقيل: ظاهر كلام الشافعي كراهية التنزيه، لأنه قال: لا يحرم إلا صيد [219 / ب] الحرم. وحكى عن أبي حنيفة هذا، واحتج بأنه لو كان محرمًا لنقل تحريمه نقلًا عامًا مستفيضًا، وهذا غلط لما روى أبو هريرة رضي الله عنه

أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "حرم إبراهيم مكة وإني حرمت المدينة مثل ما حرم إبراهيم مكة لا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها، ولا يختلى خلاؤها، ولا تحل لقطتها إلا لمنشد". وروي علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: "المدينة حرام ما بين عائر إلى ثور، وهما جبلان لا ينفر صيدها ولا يعضد شجرها ولا يختلى خلاؤها إلا رجل يعلف بعيره ". وأمّا ما ذكروه لا يصح، لأنه يجوز أن ينقل نقلًا خاصًا، وإن كان شرعًا ظاهرًا كالأذان والإقامة. فرع آخر لو خالف وقتل فيها صيدًا، قال في "الجديد": لا جزاء عليه. وبه قال مالك، لأنه موضع يجوز دخوله بغير إحرام، فلا يضمن صيده كالعرج، وهو وادٍ بالطائف، وقرب اليمن. وقال في "القديم ": يلزمه الجزاء فيه. وبه قال أحمد وابن أبي ذئب. فرع آخر إذا قلنا بقوله "القديم "، فالجزاء أن يسلب القاتل لما روي أن سعيد بن أبي وقاص رضي الله عنه رأى رجلًا يصيد بالمدينة، فأخذ سلبه، وروي: فسلبه ثيابه، فجاءه مواليه فكلموه فيه، فقال: لا أرد طعمة أطعمنيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول: "من وجدتموه يقتل صيدًا في الحرم، فاسلبوه، فإن أردتم ثمنه، فخذوه". وروي أنه قال: هذا شيء طيّبه لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلا أعطيه لأحد، ولكن خذوا من مالي ما شئتم. وروي أنه قال: واته لا أردها. ومن قال بقوله الجديد أجاب عن هذا بأن هذا كان في أول الإسلام حين كانت العقوبات بأخذ المال، [220/ أ] ثم نسخ. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجه جزاؤه مثل جزاء صيد مكة. فرع آخر إذا أخذنا سلبه، قال ابن المرزبان: يحتمل أن يقال: يكون للسالب للخبر الذي ذكرنا، وهو اختيار القاضي الطبري، ويحتمل أن يكون لفقراء المدينة كجزاء صيد الحرم في مكة لأهلها من الفقراء. فرع آخر إذا قلنا بالسلب، ففي حليته وزينته كالخاتم والطوق والسوار وجهان. وأمّا ثيابه وأفراسه للسالب وجهًا واحدًا حكمه حكم سلب الكافر إذا قتل مقتلًا في الحرب، ولو كانت عليه ثياب مغصوبة لا تؤخذ.

باب جزاء الطائر

فرع آخر قال بعض أصحابنا: لو كان على القاتل سراويل أخذ منه، وقيل له: احتل فيما تستتر به. وذكر في "الحاوي": أنه يترك عليه ما يستر عورته، وهذا أقرب عندي. فرع آخر قال في "الإملاء": أكره صيد وج وقال أصحابنا: يكره ذلك كراهية تحريم لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن صيد وج حرام محرم" لا ينفر صيدها، ولا يعضد شجرها، ولا نص فيه أنه يلزم الجزاء بقتل صيده، وظاهر المذهب أنه لا يلزم أصلًا. وقال بعض أصحابنا: يحتمل أن يكون تحريمه على سبيل الحمى كنوع من منافع المسلمين، ويحتمل أن يكون إلى وقت معلوم، ثم نسخ، لأنه روى أنه قال ذلك قبل نزوله الطائف، وذلك أن عسكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نزلوا بالطائف وحصلوا أملها ارتفقوا بما نالته أيديهم من شجر وصيٍد. قال الإمام أبو سليمان: ولا وجه إلا هذا. فرع آخر البقيع موضع حماة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجوز الاصطياد فيه، ولا يجوز للأغنياء أن يحتشوا من حشيشه، فمن احتّش، فعليه غرمه، ذكره أصحابنا [220/ ب]. فرع آخر مكة أفضل عند الشافعي من جميع البقاع. وقال مالك: المدينة أفضل. وبه قال أهل المدينة، وهذا غلط، لأن مكة حرم الله تعالى، والمدينة حوم الرسول - صلى الله عليه وسلم - فهي أفضل، ولأن الصلاة فيها أفضل من غيرها. باب جزاء الطائر مسألة: قال: والطائر صنفان: حمام وغير حمام. الفصل الطائر ضربان: مأكول وغير مأكول. فأمّا غير المأكول فلا جزاء فيه سواء كان مما يصطاد، كالبازي والصقر ونحوهما، أو لا يصطاد كالحدأة والغراب، وعند أبي حنيفة: يلزم الجزاء في غير المأكول. وأمّا المأكول، ففيه الجزاء إذا كان وحشيًا، أو يتولد من وحشي وأهلي، وهو على ثلاثة أضرب حمام، ودونه وفوقه، فأمّا الحمام، فالواجب فيه شاة سواء كان حمام مكة أو حمام غير مكة إذا قتله محرم. قال الشافعي: والقياس أن تجب فيه القيمة، ولكن أوجبت فيه شاة إتباعًا لأقاويل الصحابة. وروي ذلك عن عمر وعثمان وابن عباس وابن عمر ونافع بن عبد الحارث

وعاصم بن عمر وسعيد بن المثيب رضي الله عنهم، وهو قول أحمد، وقال أبو حنيفة: تجب فيه قيمته. وقال مالك: يلزم في حمام الحرم شاة وفي حمام الحل القيمة، واحتج بقول ابن عباس رضي الله عنهما في كل شي، ثمنه إلا حمام مكة، وهذا غلط، لأنه حمام مضمون بالجزاء، فتجب فيه شاة كحمام الحرم. وأما قول ابن عباس روينا عنه أنه قال: فيه شاة مطلقًا، ثم القياس مقدم على قوله [221/ أ]. وروي عنه أنه قال: في حمامة الحل شاة. وروي عن نافع بن عبد الحارث، قال: دخل عمر بن الخطاب رضي الله عنه مكة يوم الجمعة، فدخل دار الندوة يستقرب [منها] الرواح، فوضع رداءه على واقف في البيت، فوقعت عليه حمامة فنفرها مخافة أن تنجسه، فسقطت على واقف آخر فانتهشتها حيّة، فماتت، فدخلت عليه أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه، فقال: إني قد فعلت اليوم شيئًا، فاحكموا فيه. قلنا: وما هو قال: دخلت دار الندوة لأستقرب [منها] الرواح، فطرحت ردائي على واقٍف في البيت، وروى: فعلق رداءه على وتد، فوقعت عليه حمامة فنفوتها فسقطت على واقف آخر فانتهشتها حيّة وأوى أن علي جزاؤها، لأني نفرتها من موضعها الذي كانت فيه إلى موضع كان فيه حتفها، فقال نافع: ترى أن نحكم على أمير المؤمنين بعنز ثنية عفراء، فقال: نعم، فحكمنا عليه بذلك، فرضي به عمر رضي الله عنه. وروى: فحكموا عليه بشاة وروي أن رجلًا قال لابن عمر رضي الله عنهما: إني أغلقت بابًا على حمامة وفرخها في الموسم، فرجعت وقد متن، فقال: عليك بثلاث شياه. فرع قال الشافعي: والحمام كل ما عبّ وهدر، والهدير: تغريده وترخية صوته نسقًا متتابعًا، والعبّ: عبّ الماء إذا شربه، فإن الحمام يشرب الماء جرعًا وسائر الطيور تشرب قطرة قطرة كشرب الدجاج، فليس بحمام. وقال الكتاني: والحمام ما كان وحشيًا، واليمام ما كان أهليًا يألف البيت. قال الشافعي: والقماوي والدباسي والفواخت والسقاس حمام، [221/ ب] وقال الكتاني: والحمام ما كان وحشيًا، فدخل تحت هذا ما ذكرنا والقطا والورشان مثله. وقد كان من العرب يقول: حمام الطير ناس الطير، أي يعقل عقل الناس، وذكر

العرب الحمام في أشعارهم تشبيهًا بالناس، وكان الحمام عند العرب أشرف الطائر وأعلاه ثمنًا، وكانت تألف منازلهم، ويقولون: أعقل الطائر وأجمعه للهداية، وكانوا يستمتعون بأصواتها، وهدايتها، وكانت مع ذلك موكولة، فقالوا: فيها شاة لهذا المعنى. فرع آخر الشاة الواجبة في الحمام، هل وجبت توقيفًا أم من جهة المماثلة والشبه؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو المنصوص وجبت إتباعًا للأثر. والثاني: وجبت من حيث الشبهة والمماثلة، لأن فيهما إنسا وألفًا ويعبّان في الماء عبًّا. فرع آخر في فرخ الحمام شاة صغيرة، هكذا ذكر أكثر أصحابنا، وهو المذهب. وقال في "الحاوي": فيه وجهان: أحدهما: فيه شاة كما في أمه. والثاني: فيه ولد شاة صغير راضع أو فطيم، يكون قدر بدنة من الشاة بقدر بدن الفرخ من أمه وهذان الوجهان مبنيان على اختلاف أصحابنا في الشاة الواجبة فيه، هل وجبت توقيفًا أم من طريق الشبه؟. وأما ما دون الحمام، كالقنابر والعصافير، ففيها قيمتها، ولا يتصدق بالقيمة بل يشتري بها طعامًا على ما ذكرنا وكذلك البلابل ونحوها. وقال داود: لا يجب ضمانها، أن الله تعالى قال: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، فدل على أن ما لا مثل له لا يضمن، وهذا غلط، لأن الله تعالى قال {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] وهذا صيد. وروي عن عمر رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنه [222/ أ]، أنهما أوجبا الجزاء في الجراد. وروي أن مروان سأل ابن عباس عن الصيد يصيده المحرم ولا مثل له من النعم، فقال: عليه ثمنه يهدى إلى مكة، وأما الآية فلا حجة فيها، لأنا نقول في وجوب الجزاء بما له مثل، وليس فيها حكم بالأمثل له وعرفنا حكمه بدليل آخر. فرع قال في "الأم": والصرد طائر دون الحمام، ففيه قيمته. وروي أنه سأل عطاء عن ذلك، فقال: لا أدري هو أصغر من الحمام أو أكبر، فإن كان أكبر، ففيه شاة. قال الشافعي: وأنا رأيته، فهو أصغر من الحمام، وفيه قيمته، وقيل: الصرد من جوارح الطير يصطاد العصافير ذكره البندنيجي.

فرع آخر ظاهر قوله في "الأم" أنه يؤكل الهدهد وفيه قيمته، لأنه ليس بذي مخلب وإنما له منقار. فرع آخر قال في "الأم": الوطواط فوق العصفور ودون الهدهد، ففيه أن كان مأكولًا قيمته. وذكر عن عطاء أنه قال: فيه ثلاثة دراهم، وأمّا ما هو أكبر من الحمام كالحبارى والكركي والكروان والبطوط ونحو ذلك. قال الشافعي في موضع من "الجديد" ما لا يقع عليه اسم حمامة، فما دونها أو فوقها، ففيه قيمته في الموضع الذي يصاب فيه. وقال في "القديم": فيها شاة، لأن الشاة إذا وجبت في الحمام كان وجوبها فيما هو أكبر منها أولى تحصل قولان، ووجه الأول أن القياس في الحمام القيمة أيضًا، ولكنا تركناها للآثار، ففي الثاني على موجب القياس، فإن قيل: البّط من صيد البحر، وقد قال تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] قيل: هو من صيد البر، ويأوي إلى البر ويرعى في البحر تعيشًا بالسمك [222 /ب]. فرع الإوز كالبط سواء، وذكر في "الحاوي": أنه ينظر فيه، وفي البط فإن كان نهض طائرًا بجناحيه، فلا يكون صيدًا، وهو كالدجاج. وهذا هو القياس، وقول الشافعي متأول عندي. فرع آخر قال في "القديم ": الفنج كالحمامء وقال أصحابنا: أن كان يشرب الماء عبًا، فهو كما قال، وإن كان يأخذ قطرة قطرة، فهو على القولين على ما ذكرنا. فرع آخر يلزم الجزاء في الدجاج الحبشي لأنه وإن تأنس فهو وحشي الأصل بغير أصله ويسمى بعداد الدجاج السندية، ويشبه الدجاج. وحكي عن أحمل أنه قال: لا جزاء فيه، وهكذا التذرح والدراج وطير الماء الذي يؤنس وفي قدر الجزاء قولان، لأنها أكبر من الحمام. فرع آخر ما تولد من وحشي وأهلي كالمتولد من بين القبج والدجاج والدراج والدجاج يلزم فيه الجزاء سواء كان الأب وحشيًا أم الأم.

فرع آخر الحمام الأهلي الذي يسمى [الزاعبي]، وهو ما يكون في المنازل مستأنسًا، ولا ينهض طائرًا فيه وجهان: أحدهما: أنه من جملة الحمام للاسم. والثاني: لا جزاء فيه، لأنه أنيس كالدجاج وهو اختيار ابن أبي صريرة ذكره في "الحاوي". فرع آخر إذا قتل المحرم جاموسًا لا جزاء عليه، لأنه من النعم، ولهذا لا تجب الزكاة فيه. مسألة: قال: وما أصيب من الطير، ففيه قيمته في المكان الذي أصيب فيه. قد ذكرنا أن الصحيح فيما لا مثل له أن يقوم في موضع الاتلاف. وقال أبو إسحاق: قال الشافعي في بعض أماليه: يقوم بمكة. مسألة: قال: وقال عمر لكعب في جرادتين: ما جعلت في نفسك، قال: درهمين، [223 / أ] قال: بخ بخ، درهمان خير من مائة جرادة. الجراد مضمون بالجزاء، ويلزم قيمته. وبه قال عمر وابن عباس وكافة العلماء. وقال أبو سعيد الخدري: لا جزاء فيه. وبه قال عروة وابن الزبير وداود، واحتجوا بأنه من صيد البحر لأنه أول ما خلق خرج من منخر حوت، فهو بحري. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حج أو عمرة، فاستقبلنا رجل من جراد، فجعلنا نضربه بأسياطنا، وعصينا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كلوه فإنه من صيد البحر"، وهذا غلط، لأن الجراد من صيد البر مشاهدة، فصار ممنوعًا بحرمة الحرم يلزم الجزاء بقتله. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال لكعب في جرادتين ما ذكرنا، وقال له: أفعل ما جعلت في نفسك، يريد به تأويل قوله تعالى {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ} [المائدة: 95]. وقال عمر رضي الله عنه: في جرادة تمرة. وقال ابن عباس: في جرادة تصدّق بقبضة طعام وليأخذن بقبضة جرادات. وفي هذا إيهام الإباحة، وليس هذا مراده، ولكنه أراد أن يبين حكم القبضة كما بين حكم الجرادة. قال الشافعي: فدل ذلك على أنهما رأيا في ذلك القيمة وأمر بالاحتياط إلى

إخراج ما يعلم أنه أكثر قيمة من المتلف، وأمّا ما ذكروا من ابتداء خلقه، قلنا: لا اعتبار بهذا، بل الاعتبار يكون جنسه بريًا أو بحريًا، وقيل: الخيل كانت متوحشة. فأنسها إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ولا يجب الجزاء بقتلهما. وأما خبر أبي هريرة رواه أبو المهزم، وقد تكلم فيه سبعة ثم نحمله على ما لو سد عليه طريقه في قول، وهكذا الجواب أن رووا مطلقًا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن المحرم يقتل الجراد، [623 / ب] فقال: "هو من صيد البحر"، وهذا تأويل بعيد، والخبر مذكور في صحيح أبي عيسى فيلزم القول به. فرع لو افترس الجراد في الطريق حتى لا يمكنه سلوكه إلا بوطئه وقتله، وأما في "الأم" إلى قولين: أحدهما: لا جزاء. وبه قال عطاء لأنه ألجأه إلى قتله كالصيد إذا صال. والثاني: يلزمه الجزاء إلا أنه قتله لمنفعة نفسه كما لو اضطر إليه فقتله، ويمكنه المشي في طريق آخر. فرع آخر قال في "الأم": والدباء جراد صغار، ففي الدباءة منه أقل من تمرة أو لقيمة صغيرة إن شاء وما فديت به، فهو خير منها. وقال في موضع: في الدباءة نصف ثمرة وكل ما فداها به فهو خير. فرع آخر جراد الحرم حرام على المحرم والمحل، وتلزم الفدية محليهما بقتله، وحكي أن رجلًا سأل ابن عباس رضي الله عنهما عن ذلك، فقال: مضمون، فقال: أن قومك يأخذونه وهم محتبون في المسجد، فقال: أن قومي لا يعلمون. فرع آخر قال في "المناسك الكبير": وإذا كسر بيض الجراد فداه وما فداه به كل بيضة منه من طعام، فهو خير منها وإن أصاب بيضًا كثيرًا احتاط حتى يعلم أنه أدى قيمته أو أكثر من قيمته قياسًا على بيض كل صيد.

فرع آخر قال أبو حامد في "الجامع": والذي للمحرم حمل للبازي وكل صائد فإن حمله فأرسله على طير فقتله يلزمه الجزاء وإن أرسله فلم يقتله، فلا جزاء، وإن انفلت من غير إرساله فقتله لا جزاء فرط أو لم يفرط. فرع آخر قد ذكرنا أن المحرم ممنوع من الاصطياد، فإذا اصطاد صيدًا لم يملك لأنه حصل في يده بسبب محرم وعليه إرساله، لأنه تعدى بأخذه ولو تلف في يده يلزمه ضمانه، لأن يده يد تعدي كيد الغصب، ولو أرسله حتى لحق الوحش زال عنه الضمان كما لو ردّ [224/ أ] المغصوب إلى المغصوب منه، ولو أحرم وفي ملكه صيٍد، فيه قولان، نص عليهما في "الإملاء": أحدهما: لا يزول ملكه. وبه قال مالك وأحمد وأبو حنيفة، لأنه ملكه فلا يزول بإحرامه كاستمتاع زوجته أو لأن الحج عبادة فلا تزيل ملك الصيد كالصوم. والثاني: يزول ملكه، وهو الأظهر، لأنه معنى لا يراد للاستدامة والبقاء منع الإحرام أم من ابتدائه فمنع من استدامته كاللباس، ويفارق النكاح، لأنه يراد للبقاء والدوام، وكذلك الطيب. فرع آخر إذا قلنا بالأول: يلزمه إرساله حتى يلحق بالوحي، فإن مكه إرساله، فلم يرسله فمه حتى إذ مات حتف أنفه أو أتلفه متلف لزمه ضمانه، وإن أرسله أخر من يده لم يلزمه الضمان، وعند أبي حنيفة، أنه يلزمه الضمان. وهذا مبني على أمله، أنه لم يزل ملكه عنه، وإن أتلفه من كان في ملكه ضمه سواء أمكنه إرساله أو لا. فرع آخر إذا حل من إحرامه المنصوص في "الإملاء": أنه لا يعود ملكه ويلزمه إرساله حتى يلحق بالوحش، وهو اختيار ابن أبي هريرة وجماعة، لأنه كان متعديًا بإمساكه فلا يزول التعدي إلا بإرساله وعلى هذا لو لم يخله وقتله أو مات، يلزمه الجزاء، ولأنه لا خلاف أنه إذا اصطاد في الإحرام، ثم حل من إحرامه يلزمه تخليته حتى يصير ممتنعا بنفسه، كذلك ههنا. وقال أبو إسحاق: عاد ملكه بإحلاله ولا يلزمه إرساله كالعصير إذا صار خمرًا، ثم إذا عادت خلّا عاد ملكه، وهذا لأنه زال ملكه بسبب إحرامه، وقد زال إحرامه، فوجب عود ملكه. فرع آخر إذا قلنا بالقول الآخر: يجوز التصرف فيه بالبيع والهبة ولا تزال يداه عنه لا يد الحكم ولا يد المشاهدة إلا أنه [224 /ب] لا يجوز له ذبحه، فإن ذبحه يلزمه الجزاء،

وإن أرسله غيره كان هو أحق به، فإن ضاع وجب في المرسل قيمته، وإن حلّ من إحرامه حلّ له ذبحه ولم يجب جزاؤه عليه، لأنه ملكه فلا تزال يده عنه. وقال أبو حنيفة وأحمد: يلزم إزالة يد المشاهدة عنه دون الحكمية، فلو سلمه إلى الغير ليحفظه له جاز، وكذلك لو أرسله في داره أو في بيته كفاه، لأن إمساكه بيده فعل منه في الصيد، وهو محرم، فلا يجوز كالذبح، وهذا غلط، لأنه إذا لم يلزم إزالة يد الحكمي لا يلزم، إزالة يد المشاهدة كسائر أملاكه ويخالف القتل لأنه إتلاف له ممتنع كما يمنع من استعمال الطيب دون إمساكه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يلزمه إرساله؟ قولان، فإذا قلنا: يلزمه إرساله، هل يزول ملكه؟ قولان. فرع آخر لو وهب للمحرم صيد، لا يجوز له أن يقبله، فإن قبله لم يملكه وعليه إرساله، وإن لم يرسله حتى مات يلزمه الجزاء، نص عليه في "الإملاء". وقال أصحابنا: معنى قوله: يلزمه إرساله أي: ردّه لصاحبه، وكذلك إن اشتراه لم يملكه وإن قبضه ضمنه بالجزاء أو القيمة إلى صاحبه، لن البيع يقتضي الضمان دون الهبة. ومن أصحابنا من قال: قول الشافعي: عليه إرساله يدلّ على أنه ملكه بالهبة، ولهذا أمره بإرساله، وهذا غلط، لأنه ما أراد ما ذكرنا وهو صريح في لفظه، ثم قال أصحابنا: إذا ردّه إلى بائعه أو واهبه سقط عنه الضمان للآدمي في البيع، ولكن لا يزول عنه حكم الجزاء لله تعالى حتى يرسله، فيمنع ويتوحّش ويلزمه ذلك، فإن قيل: إذا لم يزل ملك مالكه عنه بالبيع والهبة كيف يجوز له إرساله ليتوحش؟ قلنا: سقط حق البائع والواهب في ذلك، لأنه كان في السبب في ثبوت يد المحرم عليه [225/ أ]، وإيجاب إرساله عليه، ويحصل للبائع بدله إذا أرسله هو، فيكون جامعاً إبقاء حق الله تعالى وإبقاء حق الآدمي، فهو كالمضطر يأكل مال غيره بالبدل ذكره في "الشامل"، وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يملك بالشراء والإيهاب؟ قولان، كما لو اشترى الكافر عبدًا مسلمًا، هل يصحّ الشراء؟ قولان، وعلى كلا القولين، يلزمه إرساله ولو باعه من الغير وصحّحنا شراءه صحّحنا بيعه، ولكنه في ضمانه إلى أن يرسله المشتري، فحينئٍ يخرج من ضمانه وما تقدم أصحّ لما ذكرنا من خبر الصعب بن جثامة، وإن قبول البيع والهبة سبب يملك به الصيد، فيمنه منه المحرم كالاصطياد. فرع آخر لو مات مورثه وله صيد، وهو محرم، هل يرث الصيد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يرثه لأن الإرث جهة من جهات التملك، فلا يملك بها المحرم الصيد كالبيع والهبة. والثاني: يرثه ويملك، لأنه يحصل هذا الملك بغير اختياره وهو كما يملك الكافر

العبد المسلم بالإرث دون الشراء وكذلك المجنون يملك بالإرث دون الشراء. ومن قال بالأول أجاب عن هذا بأنه غلظ حكم المحرم في باب الصيد، ما لم يغلظ في غيره، فجعل المحرم في الصيد كالابن القاتل في الميراث، وعلى هذا يكون الصيد لباقي الورثة. وقال القافي الطبري: هذا على الوجه الذي يقول: ملكه لا يزول عن الصيد، فأما إذا قلنا: يزول ملكه، فلا يرثه لأنه إذا منع استدامة الملك منع الإرث. ومن أصحابنا من قال: هل يملكه في الحال؟ وجهان: أحدهما: بلى. والثاني: يكون موقوفًا على ملك الميت حتى يحل، فإذا حل ملكه. فرع آخر [225/ ب] إذا اشترى صيدًا وهو حلال من حلال، ثم أحرم البائع ثم وجد به عيبًا، فأراد رده عليه جيء ذلك على مسألة الإرث، فإن قلنا: يرثه رده عليه، لأنه يرده إلى ملكه بغير اختياره، موان قلنا: لا يرثه، فيه وجهان: أحدهما: يرده لأنه حق المشتري، فلا يسقط بإحرامه. والثاني: لا يرده. ثم قال القافي الطبري ههنا: يرد عليه الثمن ويوقف الصيد حتى يتحلل ثم يرد عليه. وقال غيره: هذا بعيد، لأنه إذا ملك المشتري الثمن بالاسترداد، وزال ملكه عن الصيد ينبغي أن يعود إلى البائع، وينبغي أن يقال: المشتري بالخيار بين أن يقف حتى يتحلل ثم يرده أو يرجع بأرش العيب لتعذر الرد في الحال. فرع آخر لو باع الحلال صيدًا من حلال بثمن ثم أفلس المشتري والبائع أحرم والصيد باقٍ بحاله لا يجوز له الرجوع فيه، لأنه ممنوع من تملك الصيد ابتداء باختياره. فرع آخر لو استعار المحرم صيدًا من محل فتلف في يده فعليه الجزاء والقيمة، ولو استعار المحل صيدًا من المحرم، فتلف في يد المستعير، فإن قلنا: زال ملكه، فعلى المحرم المعير الجزاء، ولا قيمة على المستعير المحل، لأنه خرج من ملك المستعير، وإن قلنا: لم يزل ملكه فلا جزاء على المحرم المعير، لأنه لا يضمنه إلا بالجناية وعلى المستعير المحل القيمة، لأنه عارية مملوكة، ذكره في "الحاوي". فرع آخر لو كان لرجل على آخر صيد فوكل محرمًا بقبضه فقبضه، هل يصحّ القبض؟ نظر، فإن كان الصيد معينا في يد المقبوض منه، ففي جوازه على معنى سقوط المطالبة عمن كان في يده، ويحتمل وجهين: أحدهما: لا يجوز كما لا يجوز شراءه لنفسه أو بوكالة.

والثاني: يجوز، لأنه من أهل ملك [226/ أ] الصيد فصح منه قبضه كالحلال، وهذا خارج على القول الذي يقول: لا يزول ملكه عن الصيد بالإحرام، وإن كان الصيد في الذمة فعينه من عليه يدفعه إلى الوكيل المحرم هل يبرأ وجهان، ذكره والدي رحمه الله. فرع آخر قال الشافعي: لو خلصت حمامة من فم هرة أو سبع أو شقّ حائط لحجت فيه، أي: تعسرت أو أصابها لدغة فسقاها ترياقًا أو غيره ليداويها به، فماتت لم يضمن لأنه أراد إصلاحها ومداواتها، ولو قال رجل: هو ضامن لها، لأنه وإن كان أراد إصلاحها فقد تلفت في يده فضمنها باليد كان وجهًا محتملاً. قال أصحابنا: فيه قولان: أحدهما: لا ضمان. وبه قال عطاء، وهو الصحيح. والثاني: يلزمه الضمان. وبه قال أبو حنيفة. فرع آخر قال: روي عن ابن جريج أنه قال: قلت لعطاء: بيضة حمامة وجدتها على فراشي، فقال: أمطها عن فراشك. قال الشافعي: وهذا وجه يحتمل [من] أن له أن يزيله عن فراشه إذا لم يكسرها، ولو فسدت بإزالته ونقل الحمام عنها لم يكن عليه فدية، ويحتمل أنها أن فسدت بإزالته تلزم الفدية، ومن قال بهذا، قال: لو وقع الحمام على فراشه فأزاله عن فراشه، تلزمه فيه الفدية كما زال عمر بن الخطاب رضي أنه عنه الحمام عن ردائه، فتلف بإزالته ففداه فحصل قولان، وإن كان في رواية بيته معتزلًا عنه، فأزاله ضمنه. مسألة: قال: وما كان من بيض طير يؤكل، ففي بيضه قيمتها. كل صيد يجب بقتله الجزاء فبيضه مضمون بالجزاء أيضًا، فإذا كسره المحرم يضمن قمته. وقال المزني: لا جزاء في البيض لأنه كاللحم. وبه قال داود وأهل الظاهر، وهذا غلط لما روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "وفي بيض النعامة ثمنها إذا أصابها المحرم"، ولأن البيض صيد، لأنه يكون منه مثل أصله [226 / ب]. فرع قيمته معتبرة باجتهاد فقيهين عدلين. وقال مالك: يلزم فيها عشر قيمة الصيد كجنين الاصطرام فيه عشر قيمة الأم، وهذا غلط، لأن للجنين حرمة ما ليس لغيره، ولهذا

يضمن المملوك بقيمة مقدرة باليقين بخلاف طرف البهيمة. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: من أتلف بيض صيد، فعليه أن يلقح على نوق بعدد البيض فما نتج من شيء تصدّق به، ولعله أراد في بيض النعامة. فرع آخر قال الشافعي: في بيض النعامة أن كان فيه فرخ كان عليه قيمة بيضة فيها فرخ، وهي أكثر من قيمة بيضة لا فرخ فيها. قال أصحابنا: هذا إذا كان الفرخ ضعيفًا ليست فيه حياة مستقرّة، فأما إذا كان الفرخ حيًا قويًا يعيش مثله كان عليه فصيل صغير ولو خرج وطار وسلم لا شيء عليه وقد أساء. فرع آخر قال: ولو كانت البيضة مدرة فاسدة يقوّمها فاسدة أن كانت لها قيمة كبيض النعامة، فإن لم يكن لها قيمة لا شيء عليه فيها. فرع آخر قال: لو أخذ بيض صيد وتركه تحت الدجاجة، فإن أنقضه وخرج الفرخ سليمًا، وطار فقد أساء بفعله ولا شيء عليه، وإن أفسدته يلزمه الجزاء، لأنه تلف بجنايته وسببه وإن أخذ بيض الدجاجة وتركه تحت الصيد، فذعر الصيد منه ونفره وترك بيض نفسه ضمنه، لأنه تلف بجنايته، وإن لم ينفر وحصن الجميع إلا أنه لم يتمكن من قلبه وإدارته ففسر ضمن أيضًا. فرع آخر قال: ولا يأكلها محرم، لأنها من الصيد، وقد يكون منه الصيد. قال أصحابنا: إذا كسر بيض صيد فحكم البيض حكم الصيد إذا ذبحه، وهو أنه يحرم عليه قولًا واحدًا، وهل يحرم على غيره؟ قولان، [227/ أ] وإذا كسر في الحرم لم يحل على ما ذكرنا. قال: وأهل الحرم لا يأكلون من بيض طير في الحرم، وإنما يدخلون البيض من الحل إلى الحرم، وعلى هذا قال أصحابنا. وكذلك إذا قتل المحرم الجراد، فحكمه هكذا. وقال بعض أصحابنا يحل لغيره قولًا واحدًا، ويفارق ذبيحة المؤمن، لأن في أحد القولين صارت بذبحه ميتة وإباحتها تقف على الذكاة بخلاف البيض، ولهذا لو بلعه رجل قبل كسره لا يحرم، وهذا اختيار القاضي الطبري، وهو الصحيح وذاك ذكره الشيخ أبو حامد.

فرع آخر لو صال الصيد عليه، فقتله دفعًا عن نفسه لا جزاء عليه، وحكي عن أبي حنيفة الله قال: يلزمه الجزاء أن كان مأكولًا، وهذا لا يصح عنه، بل الصحيح عنه مثل مذهبنا وعند زفر يضمن عند الصول جميعه. فرع آخر لو أكره على قتل صيد، قال ابن المرزبان: حكمه حكم ما لو أكره على قتل المؤمن. فرع آخر لو ركب صيدًا، ثم صال على محرم، فقتل المحرم الصيد يلزمه الجزاء، لأن الصول لم يكن من الصيد. مسألة: قال: وإن نتف طيرًا، فعليه بقدر ما نقص من النتف. إذا نتف ريش صيد أو جرحه أو كسر رجله أو عضوًا من أعضائه، فلا يخلو إما أن يكون باقيًا على امتناعه كما كان قبل الجناية أو صيره غير ممتنع، فإن كان باقيًا على امتناعه، وطار وغاب عنه، ولم يعلم هل مات منه أم لا؟ يضمن ما نقص على ما سبق بيانه، وإن طار وغاب عنه، ثم وجده ميتًا. قال الشافعي: الاحتياط أن يجزئه جزاء كاملًا، لأنه يجوز أن يكون مات من جنايته، والقياس أن لا يلزمه، لأن موته من جنايته [227/ ب] مشكوك فيه، ولهذا قال الشافعي: لا يؤكل، لأنه يجوز أن يكون موته من غيره. وقال أصحابنا: الظاهر أنه إذا طار، وكان ممتنعًا أن الموت لم يحصل من فعله، فلهذا قال: القياس أن لا يلزمه إلا ما نقص. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان، كما في حل أكله قولان. وقال أبو إسحاق: يلزم على هذا إذا غاب، وهو غير ممتنع، ولم يدر أنه مات أم لا أن يلزمه تمام الجزاء، لأنه لما كان غير ممتنع، فالظاهر أنه باقٍ على ذلك، ولم يسلم، وهذا غلط، لأن الشافعي نص ههنا أنه لا يلزمه إلا ضمان النتف، لأن الزيادة شكّ، وإن طار ثم وقع من شدّة ما حمل على نفسه يلزمه الجزاء، وإن صيره غير ممتنع فقد ذكرنا أنه يلزمه كمال الجزاء، وإن قتله محرم آخر بعد ذلك، فالأول، جارح. والثاني، قاتل فعلى الأول ما نقص لجرحه وعلى الثاني جزاؤه نص عليه. وقال في موضع آخر: على الأول جزاؤه كاملًا، وعلى الثاني جزاؤه مجروحًا واختلف أصحابنا فيه على طرق، فقال بعضهم: فيه قولان: أحدهما: يجب على الجارح تمام الجزاء، وعلى الثاني جزاء ناقص كما لو قطع يدي عبد ثم جاء آخر وقتله، يلزم الأول تمام قيمته، ويلزم الثاني قيمة ناقصة. والثاني: يجب على الجارح ما نقص، وعلى الثاني جزاء ناقص. وهذا أصح، لأن

الأول لم يتلفه، فيلزمه جزاؤه كاملًا، بل نقص منفعته ويخالف هذا قطع يدي العبد يجب به تمام القيمة، لأن ذلك لحرمة الآدمي. ومن أصحابنا من قال: القول الثاني أنه يلزم على الأول ما نقص، وعلى الثاني جزاء كامل، وهو ضعيف. ومن أصحابنا من قال: القول الثاني يلزم على الأول تمام الجزاء [228/ أ]، وعلى الثاني تمام الجزاء، ومن أصحابنا من قال: المسألة على قول واحد، وهو أنه يلزم على الأول ما نقص وعلى الثاني جزاء ناقص، والقول الآخر احتياط. فرع قال: وإن كان جبر أعرج لا يمتنع فداه كاملًا، لأنه صيره غير ممتنع، ثم قال: وهذا احتياط، وهو أحب إليّ. فرع آخر لو نتف ريشه، ثم حبسه وأطعمه وسقاه حتى نبت وعاد كما كان، هل يسقط الضمان؟ قولان، وقيل: وجهان بناء على السن إذا عاد بعد القلع، هل يلزم ردّ الأرش؟ قولان، فإذا قلنا: لا يسقط، فالمذهب أنه يلزم ما بين قيمته صحيحًا ومنتوفًا قد نبت ريشه. ومن أصحابنا من غلط، وقال: تلزمه قيمته صحيحًا ومنتوفًا، والدم سائل، وهذا غلط، لأنه لو جنى على عبد يضمن ما نقص بعد الاندمال كذلك ههنا. فرع آخر إذا اضطر ومعه ميتة وصيد وهو محرم، فأيهما يأكل هنا؟ على القولين في الحرم إذا ذبح الصيد، هل يصير ميتة أم لا؟، فإن قلنا: يصير ميتة لا يذبح الصيد، لأنه لا فائدة في ذلك، لأنه قادر على ميتة أخرى، فإن قلنا: لا يصير ميتة لا يأكل الصيد، ولا يأكل الميتة. وقال أبو يوسف رضي الله عنه: يذبح الصيد ويأكله مع قوله أنه يصير ميتة، واحتج بأن الميتة مجمع على تحريمها، والصيد مختلف في إباحته كان أخف حكما، وهذا غلط، لأن أخذ الصيد وذبحه وأكله محرم عليه، فإذا فعل ذلك، فقد ارتكب ثلاثة أشياء محرمة، وإذا ذبحه صار ميتة، فلا وجه لارتكاب هذه المحرمات مع استغنائه بالميتة الموجودة. فرع آخر لو وجد ميتة وصيدًا قد [228/ ب] ذبحه محرم، فإن قلنا: لا يكون ميتة يأكله دون الميتة، وإن قلنا: يكون ميتة. قال بعض أصحابنا: يأكل لحم الصيد، لأنه مختلف في كونه ميتة، ويحتمل أن يقال: يأكل الميتة، لأنه ممنوع من أكل لحم الصيد لحرمة الإحرام إذا صيد له، ولكونه ميتة، فكان التحريم لسببين بخلاف الميتة، والله أعلم.

باب ما للمحرم قتله

بَابُ ما للمحرم قتله مسألة: قال: وللمحرم أن يقتل الحية. الفصل الحيوان ضربان: مأكول وغير مأكول، فالمأكول ضربان: إنسي ووحشي، فالإنسي أكله لا جزاء فيه بهيمة كان أو طائرًا، وفي الوحشي الجزاء بهيمة كان أو طائرًا، وأما لا يؤكل لحمه فعلى ثلاثة أضرب: منها ما فيه الجزاء قولًا واحدًا، وهو السمع، ومنها ما لا جزاء فيه قولًا واحدًا وهو ما وردت به السنة: الحية والعقرب والفويسقة والغراب والحدأة والكلب العقور. ومنها ما هو مختلف فيه، وهو سباع البهائم كلها وجوارح الطير بأسرها لا جزاء غر شيء منها. وبه قال أحمد وقال أبو حنيفة: يجب الجزاء في كلها إلا الذئب، فإنه لا جزاء فيه، ثم جزاؤه أقل الأمرين من قيمته أو شاة. وقال مالك: ما لا يبتدئ منه بالأذى كالبازي والصقر والكلب وصفار السباع يضمن بالجزاء، وهذا غلط لما روى أبو سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "يقتل المحرم السبع العادي"، قال أصحابنا: والأسد والنمر من جملته، فإذا تقرر هذا، فالحيوان ضربان: أنسي وحشي، فالإنسي لا تأثر فيه للإحرام ولا للمحرم، فإن كان مأكول اللحم كالنعم والدجاج ونحوهما، فالمحل والمحرم. ومن في الحرم ومن في الحل [229/ أ] في ذبحه سواء وإن كان مما لا يؤكل لحمه لم يحل ذبحه ولا قتله، كالبغال والحمير. وأمّا الوحشي، فعلى ضربين: ما فيه الجزاء وما لا جزاء فيه، فما فيه الجزاء يحرم قتله بحرمة الإحرام، وحرمة الحرم سواء كان مأكولًا كظباء أو غيره مأكول كالسمع ونحوه. وأمّا ما لا جزاء فيه، فعلى ثلاثة أضرب: منها: ما يستحبّ قتله ويثاب عليه. ومنها: ما يكره قتله. ومنها: ما هو مباح قتله، ولا يكره ولا يستحبّ. فأما ما يستحبّ قتله، فهو كل ما يضر ولا ينفع كالحية والعقرب والفأرة والحية والكلب العقور والنمر والذئب والدب والخنزير. وفي هذا المعنى: الزنبور والبق والبعوض والبراغيث والقراد، ونحو ذلك. قالت عائشة رضي الله عنها. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم: الفأرة والعقرب والغراب والحدأة والكلب العقور"، وهذا تنبيه على ما هو شر منها. وقال سويد بن غفلة: كان عمر رضي الله عنه يأمر بقتل الزنبور ونحن محرمون. وروى أبو سعيد الخدوي في الخبر: ويرمى الغراب ولا يقتله، فقيل: أراد به الغراب الصغير الذي يأكل الحب، وحكى عن النخعي: أنه لا يقتل الفأرة، وهو خلاف نصّ الخبر.

باب الإحصار

وأمّا ما يكره قتله، فهو كل ما لا يضر ولا ينفع كالخنافس والديدان والجعلان. والقطا والحسكاء. قال الشافعي رضي انأ عنه في "الأم ": لا أحبّ قتلها، فإن قتل: فلا شيء فيه. وفي هذا المعنى الذباب والنحل والبغاث والرخمة، وإن كان في النحل منفعة العسل، فيكره قتلها، ولا يحرم. وأما ما يباح قتله، ولا يكره ولا يستحبّ، فكل ما فيه نفع من وجه وضرر من وجه، وهو جوارح الطير كالعقاب والبازي والصقر والشاهين [229/ ب] والباشق يغدو على أموال الناس، وفيه منفعة الاصطياد. وقال أبو إسحاق: يحرم قتل ما لم يكن مؤذيًا منها، وإن لم يلزم الجزاء لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "في كل ذات كبد حرى أجر" وهذا خلاف النص. فرع آخر لو قتل قملة ظاهرة على جسده، أو ألقاها أو قتل قمل حلال، فلا فدية عليه، والقملة ليست بصيد نص عليه في "المناسك الكبير". قال: ولو أخرجها من رأسه، فقتلها أو طرحها يفتدي، لأنها كإماطة الأذى فكرهناه كراهية قطع الظفر والشعر. وقال: افتدى بلقمة وكل ما افتدى به، فهو أكثر منها. قال: والصبئان كالقمل فيما أكره من قتله وأجيز، وهو صغار القمل وبيضه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: قال الشافعي في موضع لا فدية فيه. وقال في "الأم ": فيه الفدية لإماطة الأذى بها كحلق الشعر، فقيل: قولان. وقيل: قولا واحدًا لا تجب الفدية، وأراد بما ذكر من الفدية الاستحباب، وهذا أصحّ. وقيل: أن الشافعي قال: وإن كان القمل على ظاهر بدنه، أوثوبه أماطه عنه، وإن كان في رأسه أو لحيته أكره أن يتوقى ذلك. وقال بعض أصحابنا: وكذلك البق والبعوض والقردان، ولا فرق هذا بين الرجل والمرأة. وقال مالك: لا يقرد المحرم بغيره. وروي عن ابن عمر أنه نهى عن ذلك، وهذا غلط، لأنه يتأذى به، فأشبه الحية، وأما ما روي عن ابن عمر أنه نهى عن ذلك، روينا عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقرد بغيره بالسقيا بالطين. فرع آخر لو نزا حمار وحش أتانا أهلية أو حمار أهلي أتانا وحشية فولدت يلزمه الجزاء في الولد، وإن لم يحل أكله، تغليبًا للتحريم [230/ أ]، ووجوب الجزاء. قال الشافعي رضي الله عنه: فإن أشكل شيء من هذا على قاتله، فلم يدر أخالطه وحشي مأكول أم لا؟ فداه احتياطًا، ولا يجب فداؤه حتى يعلم أنه قد قتل وحشيًا، أو ما خالطه وحشي، لأن الأصل براءة الذمة. باب الإحصار مسألة: قال الله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] الآية

الفصل اعلم أن الحصر والإحصار في هذا الباب هو أن يمنع المحرم من المضي في نسكه، فإذا أحرم الناس بحج أو عمرة أو بهما، ثم أحصرهم العدو، فصدهم عن البيت ومنعهم من الوصول إليه كان لهم التحلل عنه سوا، كان العدو مسلمًا آو مشتركًا، والأصل فيه هذه الآية، وهي قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ}. وهذه الآية نزلت في حصر المشركين، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج سنة ست إلى مكة معتمرًا، فحصره المشركون بالحديبية وصدّوه عن البيت، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فتحلل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه من العمرة وصالحوا قريشًا على أن يعودوا في العام القابل معتمرين ويدخلوا مكة ويقيموا بها ثلاثة أيام. وقال جابر: أحصرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية، فنحرنا البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة. وروي أن ابن عمر خرج إلى مكة للعمرة في زمان الفتنة. وقال: أن أحصرنا صنعنا ما صنعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والآية وإن وردت في المشركين، فحصر المسلمين قياسه، ولأنا لو قلنا: لا يجوز التحلل به لأدى إلى مشقّة عظيمة [230/ ب]. وقد قال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}، فإذا تقرر هذا، فإنه ينظر فإن لم يكن لهم طريق سوى هذا تحللوا أو انصرفوا، ولا قضاء عليهم، وإن كان لهم طريق سوى هذا لا يحلو، إمّا أن يكون برًا أو بحرًا، فإن كان بحرًا فهو مشي على ركوب البحر للحج، فإن قلنا: يلزمه ركوبه للحج يلزمه سلوكه، ولا يجوز لهم التحلل. وإن قلنا: لا يلزمه ركوبه لم يلزمه سلوكه. قال في "الأم ": وأحبّ لو سلكه، ولو كان برًا نظر، فإن كانوا يخافون على أبدانهم وأموالهم فيه كان لهم التحلل ولا قضاء كما لو لم يكن لهم طريق بحال، وإن كان هذا الطريق آمنًا، فإن كان كالذي صدوا عنه في السهولة، والقرب فهؤلاء ليسوا بمحصرين، وإن كان أبعد فإن لم يكن لهم نفقة هذا الطريق، فإنه يتحلل ولا قضاء أيضًا، فإن كان لهم نفقة هذا الطريق لا يجوز لهم أن يتحللوا أصلًا سواء علموا انهم إذا سلكوه أدركوا الحج، أو لم يدركوه نصّ عليه في "مختصر الحجّ"، فإذا سلكوا نظروا، فإن كان إحرامهم العمرة أقاموا على الإحرام حتى يتحللوا منها آمنوا الفوات وليسوا بمحصرين. وإن كان إحرامهم بالحج نظروا، فإن ألحقوه فقد تم حجهم، وإن فاتهم الحج تحللوا بعمل العمرة، وهل يلزم القضاء أن كان تطوعًا؟ فيه قولان: أحدهما: يلزم. وبه قال أبو حنيفة كما لو أخطأ العدد آو ضل الطريق. والثاني: لا يلزم. وبه قال مالك وأحمد، لأن الفوات لم يكن بتفريط منه بخلاف ما قاسوا عليه، وهو الصحيح. هذا في الحصر العام وآما الحصر الخاص، كأنه أحرم بالحج فحبسه السلطان وحده، فان كان بحق، فلا يجوز له التحلل، لأن الامتناع من جهته، وان بقي في الحبس حتى [231/ أ] فاته الحجّ تحلل بعمل العمرة، وعليه القضاء، وإن كان الحبس بغير حق مثل أن كان عليه دين لا يقدر على قضائه ونحو

ذلك. قال في "الأم ": نظر فإن كان لحبسه غاية وأن يدرك معها الحجّ، وكانت طريقه آمنة [بمكة] لم يتحللّ، فإن [أرسل] مضى، وإن كانت مدة حبسه مغيبة عنه لا يدري غايتها، أو كانت غايتها بحيث لا يدرك معها الحجّ متى أطلق كان له التحلّل كما في الحصر العام. وقال جماعة من أصحابنا: لا فرق بين الحصر العام والحصر الخاص في التحلل، ولكن يفترقان في لزوم القضاء، فهل يلزم القضاء في الحصر الخاص؟ قولان: أحدهما: يلزم القضاء، لأنه لا يعم المشقّة والضرورة. والثاني: لا يلزم، وفي الحصر العام لا يلزم قولا واحدًا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يتحلل في الحصر الخاص؟ قولان، وهذان القولان مبنيان على أنه إذا حبس أهل بلده عن الحج في أول ما يجب عليهم لا يستقر الحج في ذممهم، ولو حبس واحد منهم دون الجماعة هل يستقر؟ قولان. والأصح أنه لا يستقر وهذا لأنه عذر نادر كالخطأ في العدد والاعتماد على ما سبق، فإذا تقرر هذا، لا يجوز له التحلل ما لم يهد. وبه قال أبو حنيفة وأحمد، وقال مالك: يتحلّل ولا دم عليه، لأنه غير مفرط، وهذا غلط لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} [البقرة: 196]، والأخبار التي ذكرناها، ولأنه خرج من نسكه قبل تمامه، فيلزمه الدم كالفائت حجّه. فرع قد ذكرنا أنه يجوز التحلل بالإحصار عن العمرة، وحكي عن مالك، أنه قال: لا يجوز له أن يتحلّل منها، لأنه لا يخاف فواته، وهذا غلط لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} [البقرة: 156]، [231/ ب] وهذا يرجع إلى الحج والعمرة لقوله تعالى في الابتداء: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان محرمًا عام الحديبية وتحلل، لأن التحلل جاز للمشقة بالمقام على الإحرام وهذا موجود في العمرة. فرع آخر لو أحاط بهم العدو من جميع الجوانب، فهل يتحلل؟ وجهان: أحدهما: لا يتحلل لأنه لا يستفيد بالتحلل شيئًا. والثاني: يتحللّ لأنه يأمن بذلك من العدو ومن أحد الجوانب. فرع آخر لو أحصر في الحرم كأنه أحرم بمكة ثم أحصر، فإن مكن من البيت ومنع ما عداه من الوقوف وغيره كان له التحلل، فإن أقام على إحرامه حتى فاته الحج. قال أصحابنا: يتحلل بعمل عمرة، وعليه القضاء وشاة إن تحلل قبل الفوات، قال في "الأم": تحلل بطواف وسعي وحلاق وذبح، ويلزمه دم التحلل، وهل يلزمه القضاء؟

نص في "الأم" على القولين: أحدهما: لا يلزمه القضاء. والثاني: يلزمه، لأن القضاء إنما يسقط عن الذي صد عن البيت، وهذا متمكن من البيت، وهذا ضعيف، والأول أصحّ، لأنه محصر كالمحصر في الحل. وقال أبو حنيفة ومالك: ليس له التحلل كما لو أحصر عن البيت ولا فرق بين أن يكون المحصر غريبًا أو مكّيًا أو مقيمًا بها أحرم بالحج ثم صد عن أعماله، فالكل على قولين. فرع آخر لو أحصر بعد الوقوف نظر، فأن منع من بقية أفعال الحج كلها كان له التحلل، وهو بالخيار بين التحلل وبين تركه، فإن أراد التحلل، فعليه الهدي ولا قضاء ولا يجزئه عن حجه، لأنه ما أكمله، فإن أمكنه أن يستأجر من يكملها، فعلى قولين على ما ذكرنا في جواز البناء على الحجّ [232/ أ]. فرع آخر لو أقام على إحرامه في هذه المسألة حتى فاته المبيت بمزدلفة ومنى وفاته الرمي، فهل عليه دم بترك المبيت بمزدلفة ومنى؟ فعلى القولين. وأمّا الرمي، فعل يلزمه بترك الكل أربعة دماء أم دون ذلك؟ فعلى ما ذكرنا فما سبق، وهل يجعل فوات الرمي في حكم فعل الرمي في باب التحلل الأول؟ مبني على القولين في أن الحلق، هل هو نسك أم لا؟ فإن قلنا: نسك لم يحل التحلل الأول حتى يحلق، وإن قلنا: ليس بنسك فقد حل التحلل الأول، وبقي عليه الطواف، فإن أقام على ما هو عليه حتى يطوف أجزأه عن حجة الإسلام، وإن كان الحصر قائمًا، فأراد أن يتحلل، فالذي يجيء على المذهب أن له ذلك، لأن النساء لا يحللن له إلا بالتحلل. فرع آخر لو أحصره بعد خروجه الأول له التحلل، فإن انكشف العدو أحرم إحرامًا ناقصًا، وأتى بما عليه من الرمي والطواف قولًا واحدًا. فرع آخر لو أحصر بعد الوقوف عن بعض أفعاله نظر، فإن مكن من البيت، ومنع ما سواه لم يكن له التحلل لأنه يحصل له التحللان معًا بالطواف والحلق وفوات الرمي بمنزلة فعل الرمي ويجزئه عن حجة الإسلام، وإن مكن من كل شيء ومنع من البيت كان له التحلل، لأنه لا يقدر على التحللين معًا مع المنع من البيت، فإذا تحلل، فلا قضاء ولا يجزئه عن حجة الإسلام. وقال أبو حنيفة: إذا أحصر بعد الوقوف لم يجز له التحلل، وإنما التحلل لمن أحصر عن الوقوف والبيت جميعًا، وهذا غلط، لأنه مصدود عن المضي. وفي إحرامه

بغير حق فجاز له التحلل كما لو كان قبل الوقوف. فرع آخر قال [232/ ب]: والمحصر إن كان يرجو زوال العدو وكان الوقت واسعًا، لا يخاف فوات الحج، فالمستحب له أن لا يتحلل ويؤخر التحلل حتى يأتي بها على الكمال، وإن كان الوقت قد ضاق وخاف فوات الحج وإن لم ينكشف العدو، فالمستحب له أن يتحلل لئلا يفوته الحج، فإن لم يتحلل حتى فاته الحج نظر، فإن كان الحصر باقيًا تحلل منه، وعليه هدي للفوات وهدي الإحصار، وعليه القضاء، وإن كان قد زال الحصر، فلا يجوز أن يتحلل إلا بعمل العمرة وعليه القضاء وهدي الفوات فقط. فرع آخر يجوز للمحرمين ترك قتال العدو، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقاتلهم وإن أرادوا قتالهم، فإن كان الحط للمسلمين في قتالهم، فهو الأفضل، وإن كان الحط للمسلمين في ترك قتالهم، فالترك أفضل. فرع آخر لو كان العدو من المسلمين، فالمستحب ترك قتالهم سواء كانوا أكثر منهم أو أقل، لأن التحلل من النسك أخف من قتال المسلمين. فرع آخر إذا أفسد حجة ثم أحصر تحلل من فاسدة وعليه شاة للتحلل وبدنه الإفساد والقضاء من سنته إذا تحلل قبل الوقوف، وليس في الشريعة موضع يمكن المفسد قضاء الحج من سنته إلا في هذه المسألة، وهكذا إذا فاته الحج، ثم أحصر تحلل، وعليه هديان والقضاء. فرع آخر قال وإذا أحصرهم العدو ثم أعطوهم الأمان وأذنوا لهم في الميسر، فإن كانوا يأمنون غدرهم لم يجز لهم أن يتحللوا، وإن لم يأمنوا غدرهم لقلة وفائهم، وسوء معاملاتهم جاز لهم التحلل. فرع آخر إذا أراد التحلل فعليه هدي يتحلل به بقيمة مقام [233/ أ] ما بقي من أفعال الحج، فإن كان واجدًا له، تعين عليه إخراجه، ولا يملك التحلل حتى يذبحه قولًا واحدًا، وهذا لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ومعناه، فإن أحصرتم وأردتم التحلل فما استيسر من الهدي. وقال أيضاً {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]، ولأن هذا الهدي قائم مقام الأفعال، لأنه وجب عليه لتعذر آدائها ولو قدر عليها لم يتحلل إلا بها، فكذلك عند تعذّرها لا يتحلل إلا بأداء ما يقوم مقامها.

وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان: أحدهما: هذا. والثاني: له أن يتحلل ثم يذبح، لأنه جوز له ترك المضي في الحج، فجوز هذا أيضًا، وهذا ضعيف. فَزعٌ أخرُ إذا ذبح الهدي فهل يملك التحلّل بعده؟ قولان بنا، على الحلق، فإن قلنا: إنه نسك لم يملك أن يحلّ حتى يحلّق، وإن قلنا: ليس بنسك ملك أن يحلّ قبل الحلق. فَزعٌ أخرُ متى ملك أن يحلّ قبل أن يحلّق أو بعده لا يصير حلالاً حتى ينوي الخروج من النسك وما لم ينو هذا كان إحرامه باقياً، وإن نوى ذلك يصير حلالاً يحلّ له جميع ما كان محظوراً عليه لحرمة الإحرام، فإذا قلنا: الحلق نسك يحتاج إلى ثلاثة أشياء ذبح الهدي، ونية التحلّل والحلق، وإذا قلنا: ليس بنسك يحتاج إلى شيئين، فإن قيل: أليس لو رمى وحلق في غير حالة الإحصار يصير خارجاً من الإحرام، وإن لم ينو الخروج من الإحرام؟، وههنا قلتم: يلزمه نية الخروج بالذبح والحلق، فما الفرق؟ قلنا: الفرق أن غير المحصر أكمل للأفعال فلا يحتاج إلى نية الخروج بخلاف المحصر، وأيضًا الذبح والحلق قد يكون للتحلل وقد يكون لغيره، فلم يختص بالتحلّل إلا بالقصد، [233/ب] والإرادة بخلاف الرمي والأفعال، فإنها لا تراد إلا للنسك، فلم يحتج إلى النية فيه. فَزعٌ أخرُ إذا كان مصدوداً عن جملة الحرم، وأراد الذبح جاز له أن يذبح في الحلّ. قال الشافعي - رضي الله عنه -: نحر هدياً لإحصاره حيث أحصر في حلّ أو حرم، وقصد به الرد على أبي حنيفة حيث قال: لا يجوز للمحصر الذبح إلا في الحرم فيبعث هدياً على يدي رجل إلى الحرم ولو أعده يوماً يذبح عنه، فيه الهدي، فإن كان عند هذا المحصر أن ذلك الرجل قد ذبح الهدي في الحرم يحلّ له حينئذِ التحلّل من إحرامه، ولو ارتكب شيئاً من المحظورات على اعتقاد أنه ذبح الهدي عنه في الحرم، ثم بان أنه لم يكن ذبح يلزمه الجزاء، وهذا غلط، لأن الهدي تابع للمهدي، فإذا كان يتحلل المهدي في الحرم كان محل هديه الحرم، وإذا كان تحلله في الحل كان محل هديه الحل. فَزعٌ أخرُ يجوز ذبح هذا الهدي في غير يوم النحر. وبه قال أبو حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: لا بجوز إلا في يوم النحر، وهذا غلط، لأنه وقت تحلله، فكان وقت هديه. فَزعٌ أخرُ لو كان قادراً على إبلاغه الحرم، بأن كان في قربه لا يلزمه إبلاغه الحرم، والأولى له إبلاغه. ومن أصحابنا من قال: يلزمه إبلاغه لأنه يقدر عليه من غير مشقة، وهذا ضعيف.

فرعٌ أخرُ لو كان معه هدي، ساقه تطوعا، أو واجباً كان له ذبحه في هذا الموضع وكذلك كل هدي لزمه قبل الإحصار، أو بعده قبل التحلّل، فله ذبحه في موضعه نصّ عليه في المناسك قياساً على هدي الإحصار. فَزعٌ أخرُ قال الشافعي - رضي الله عنه -: ولا قضاء [234/أ] عليه إلا أن يكون واجباً، فيقضي، وقد ذكرنا الخلاف في حج التطوع، فأما حجة الإسلام، فإن كان وجوبه في تلك السنة، فلا قضاء قبله أن كان قد وجب قبل هذه السنة، فهو باق في ذمته على ما كان. وفي الحقيقة إذا أداها بعد ذلك لا يكون قضاء ما فات عند الإحصار. فَزعٌ أخرُ إذا أحصر في الحج أو العمرة، فلم يتحلل وجامع يلزمه الكفارة، ويفارق هذا المسافر إذا جامع في صوم رمضان، لا كفارة، لأن بالجماع في الصوم، يحصل التحلّل المباح له بحق السفر، لأنه يخرج بهذا الجماع من الصوم كما يخرج بالأكل. وفي الحج لا يخرج عنه بالإفساد، فلا يحصل التحلّل المباح بوجه آخر، ذكره والدي رحمه الله. مَسْأَلٌة: قال: وإذا لم يجد هدياً يشتريه أو كان معسراً. الفصل قد ذكرنا أنه إذا كان واجداً للهدي لا يتحلل قبل ذبحه، فإن كان عادماً له هل له بدل ينقل إليه؟ نص في "الأم" على قولين: أحدهما: ليس له بدل، ويكون في ذمته أبداً. وبه قال أبو حنيفة، لأنه لو كان له بدل لذكره الله تعالى في القرآن كما ذكر بدل هدي التمتع. والثاني: له بدل ينتقل إليه. وبه قال أحمد، لأنه دم واجب بسبب الإحرام، فكان له بدل ينتقل إليه كدم التمتع والطيب واللباس، فإذا قلنا بالقول الأول، هل له في الحال أو يقيم على إحرامه حتى يجده؟ قولان: أحدهما: يقيم على إحرامه حتى يجده. وبه قال أبو حنيفة؟ لأن الله تعالى قال {ولا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196]. والثاني: له أن يتحلل لأن المقام على الإحرام يؤدي إلى المشقة، وهو الأصح، فعلى هذا يتحلل بالنية والحلق أن قلنا: الحلق نسك [234/ب] وإذا قلنا: الحلق إطلاق محظور، يتحلل بمجرد النية، وإذا قلنا بالقول الثاني، فما ذلك البدل فيه ثلاثة أقوال: أحدها: بدله الصيام، نص عليه في "مختصر الحج". وبه قال أحمد، لأن هذا الدم يجب لترك الإحرام، فكان بدله الصيام كهدي المتعة.

والثاني: قاله في "الأوسط " بدله الإطعام، لأنه أقرب إلى الهدي. والثالث: خرجه أصحابنا: أنه مخير بين الإطعام وبين الصيام، كما في فدية الأذى، فإذا قلنا: بدله الصيام، فما ذلك الصيام؟ فيه ثلاثة أقوال: أحدها: صيام التمتع عشرة أيام. وبه قال أحمد لما ذكرنا من العلة. والثاني: صيام التعديل، لأن ذلك يستوفي قيمته. والثالث: صيام فدية الأذى، لأنه وجب لدفع الأذى، وإذا قلنا: ينتقل إلى الإطعام، ففي ذلك الإطعام وجهان: أحدهما: إطعام التعديل يقوم ذلك دراهم، والدراهم طعاماً، ويتصدق به لكل مسكين مد. والثاني: إطعام فدية الأذى ثلاثة أصوع لستة مساكين، لكل مسكين مدان، وإذا قلنا: يتخير فهو مخير بين صيام ثلاثة أيام وبين إطعام ستة مساكين كما في فدية الأذى والأصح من الأقوال، أنه يقوم الهدي دراهم، ثم الدراهم طعاماً، فيؤديه أن أمكنه وإن لم يمكنه صام عن كل مد يوماً قياساً على جزاء الصيد في التعديل دون التخيير وعلى دم التمتع في الترتيب. فَزعٌ أخرُ إذا أوجبنا الإطعام، فإن كان قادرا أخرجه وتحلل به، وإن كان عادماً له، هل يتحللّ أم يقيم على إحرامه حتى يجده؟ كما قلنا في الهدي، فإذا أوجبنا الصيام، هل يتحلل ثم يصوم أو يصوم ثم يتحلل؟ قولان، وقيل: وجهان [235/أ]: أحدهما: يصوم ويتحلل، لأنه قادر عليه كالهدي. والثاني: يتحلل، ثم يصوم، لأنه لا يمكن فعل الصوم في الحال، فيشق عليه الصبر على الإحرام إلى أن يأتي به بخلاف الهدي والإطعام. وقال بعض أصحابنا بخراسان: أن قلنا له: التحلّل قبل الذبح، فقبل: الصوم أولى وإلا فههنا قولان، وهذا غير صحيح. مَسْأَلٌة: قال: وروي عن ابن عباس رضي أنه عنهما أنه قال: لا حصر إلا حصر العدو. المحصر بغير العدو مثل الكسر والعرج أو المرض لا يتحلل، بل يبقى على إحرامه حتى يفوته الحج، ثم يتحلل بعمل العمرة. وبه قال مالك وأحمد وإسحق. وروي ذلك عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير ومروان. وقال أبو حنيفة: له التحلّل. وبه قال الثوري وعطاء وعروة والنخعي كالمحصر بالعدو، واحتج بما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل"، وهذا غلط، لأنه لا يستفيد بإحلاله الانتقال من حاله، فلا يجوز له التحلّل كما لو أخطأ الطريق. وقال الشافعي - رضي الله عنه -: الفرق بينه وبين المحصر بالعدو أنه خائف من القتل إن أقام، فهو مضطر إلى التحلّل والرجوع لهذا الخوف، ولهذا رخص لمن لقي

المشركين أن ينحرف لقتال أو يتخير إلى فيئه، فينتقل بالرجوع من خوف قتل إلى أمن والمريض حاله واحدة في التقدّم والرجوع، ولا يستفيد بتحلّله ورجوعه أمناً من مرضه كما يستفيده المحصر بالعدو، ثم استشهد باستصحاب الحال، وما عليه موضوع الإحرام من اللزوم فزال: والإحلال رخصة، فلا يعدى بها موضعها [235/ب]، أي: هو مخصوص بمعنى يمنع من أن يقاس علينه عيره. وشبه ذلك المسح على الخفين، فقال: كما أن المسح على الخفين رخصة فلم نقس عليه مسح عمامة ولا يفارق لاختصاص الخفين بمعنى لا يشاركهما فيه غيرهما من عموم الابتلاء بهما، فكذلك الإحلال بسبب العدو مخصوص بما ذكرنا من المعنى، وهو استفادة الأمن به من الخوف، فلا يجوز أن يقاس عليه إحصار المريض ثم أوضح الشافعي - رضي الله عنه - إبطال هذا القياس فقال: لو جاز أن يقاس حل المريض على حصر العدو، وجاز أن يقاس حلّ مخطئ الطريق ومخطئ العدو حتى يفوته الحج على حصر العدو، فلنا لم يجز ذلك، لأنه لا يستفيد بتحلله الأمن، فما عرض له، فكذلك المحصر بالمرض مثله. وقيل: المخصوص بالذكر على ضربين: ضرب لا يعقل معناه كالصلوات وأعدادها تعبداً لله تعالى بها، واستأثر بعلم معانيها، فلا يجوز قياس غيرها عليها، وضرب يعقل معناه، فهو على ضربين: ضرب، لا يوجد معناه في غيره، وضرب يوجد معناه في غيره، فأما الذي لا يوجد معناه في غيره كالمسح على الخفين، لا يوجد معناه في العمامة والقفازين، فلا يجوز أن يقاس عليه، وأما الذي يوجد معناه في غيره كالأشياء المنصوص في الربا يقاس عليها غيرها والحصر بالعدو، عند الشافعي - رضي الله عنه - من القسم الأوسط الذي هو معقول المعنى، ولكن لا يوجد معناه في غيره. وأما الخبر الذي ذكروا، قلنا: هو متروك الظاهر، لأن بمجرد الكسر والعرج لا يحلّ، وان حملتموه على استباحة التحلّل فنحن نحمله على [236/أ] ما لو شرط التحلّل به، فإذا تقرر هذا قال الشافعي - رضي الله عنه -: فيقيم على حرمه، أي: على إحرامه، فإن أدرك الحج وإلا تحلل من إحرامه بالطواف والسعي، إذا فاته الحجّ، وعليه الحجّ من قابل وما استيسر من الهدي، أي: مثل هدي التمتع، لأنه تمتع فيما بين النسكين لأحدهما تعلق بالآخر فهو في معنى التمتع ولو كان هذا في العمرة، فلا تفوت العمرة، فيجزئه الطواف والسعي متى أتى بهما في جميع عمره عن عمرته إذ العمرة غير مؤقتة بوقت يفوته إذا جاوزه بخلاف الحج. فرع قال في "المناسك الكبير": لو كان [ممن] يذهب إلى أن المريض يحلّ بهدي [يبعث به] فبعث بهدي، فذبح هناك لم يحلّ، وكان على إحرامه وإذا رجع إلى بلده كان حراماً كما كان. قال القاضي الطبري: وهذا يدلّ من مذهب الشافعي على أن من اعتقد مذهباً وعمل

عليه لم يحكم بصحة فعله عنده، لأن هذا اعتقد جواز التحلّل. وتحلل فلم يجعله حلالاً بذلك ولم يصححه في حقه. فَزعٌ أخرُ إذا أحرم واشترط في إحرامه أن يتحلل متى عرض له عارض من مرض أو خطأ الطريق أو خطأ التعدد أو ذهاب النفقة اختلف قول الشافعي - رضي الله عنه - فيه قال في "القديم " يجوز ذلك وقطع به. وقال في "الجديد": إن صح حديث ضباعة قلت به، فعلق القول فيه، فمن أصحابه من قال: أجمع أصحاب الحديث على صحة حديث ضباعة، وذلك أن الشافعي - رضي الله عنه - رواه مرسلاً عن عروة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد رواه أبو داود مسنداً عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، [236/ب] فقالت: إني أريد الحج أفأشترط، قال: "نعم"، قالت: فكيف أقول؟ قال: "قولي: لبيك اللهم لبيك، ومحلي من الأرض حيث حبستني". وروت عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على ضباعة، فقالت: يا رسول الله إني أريد الحج، وإني شاكية، فقال: "أحرمي واشترطي أن محلي حيث حبستني"، فعلى هذا قولاً واحدًا، أنه ثبت الشرط، وفي الخبر دليل على أن المرض لا يجوز التحلّل، لأنه لو كان يجوز لما احتاجت إلى هذا الشرط، وفيه دليل على أن يحلّ في الموضع الذي يحبس وينحر هديه هناك، وما كان له حلاً وبه قال أحمد، ومن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: هذا. والثاني: لا يصح هذا الشرط. وبه قال الزهري ومالك وأبو حنيفة، وهذا لأنها عبادة لا يجوز التحلّل منها بغير عذر، فلا يجوز التحلّل منها بالشرط كالصلاة، وهذا يبطل بالصوم المنذور، وإذا شرط الخروج منه بعذر جاز بالإجماع ومن قال بهذا القول، قال: ضباعة مخصوصة بذلك كفسخ الحجّ كان مخصوصاً بمن خصه - صلى الله عليه وسلم - وحكي عن أبي حنيفة - رضي الله عنه - أنه قال: هذا الشرط في المريض يعتد سقوط الهدي إذا تحلّل. فَزعٌ أخرُ لو قال: إذا مرضت أتحلل من إحرامي لا يخرج من الإحرام إذا وجد الشرط إلا بالتحلّل، وهو أن ينوي الخروج منه، لأن الشرط يضمن إزالته أو إبطاله فكذلك لو قال: "محلي من الأرض حيث حبستني" مرض فأنا حلال، ففيه وجهان: أحدهما: يصير حلالاً [237/أ] لوجود الشرط اعتباراً بموجب اللفظ فيه. وقيل: هذا نص الشافعي، وهذا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من كسر أو عرج فقد حل"، ولا يمكن حمل الخبر إلا على هذا.

باب حصر العبد يحرم بغير إذن سيده

والثاني: لا يصير حلالاً حتى يتحلل لأن الأصل هو الحصر بالعدو، وهناك لابد من إنشاء التحلّل كذلك ههنا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا قلنا: يجوز الشرط، فهل يجوز على هذا الوجه؟ وجهان: أحدهما: لا يجوز، والفرق أن للمتحلل مدخلاً في الحج فيجوز شرطه، وليس لمصيره حلالاً بالعذر أصل في الشرع، فلا يصح شرطه أصلاً. فَزعٌ أخرُ إذا قلنا: يتحلل من غير فعله فلا إشكال أنه لا يلزمه الهدي، وإذا قلنا: يتحلل بفعله نص الشافعي - رضي الله عنه - أن لا هدي عليه ومن أصحابنا من قال: عليه الهدي، لأنه إذا افتقر إلى التحلّل كان بمنزلة الإحصار بالعدو، وهذا غلط، والفرق بين الإحصار بالعدو وبين هذ أن الإحرام المطلق يقتضي تمامه، فإذا أحصر قبل التمام وجب الهدي بدلاً مما ترك من الأعمال، وأما إذا اشترط الخروج منه لم يتضمن إحرامه بإتمامه مع العارض، وصار إحرامه منتهياً إلى حين وجود الشرط، فلم يحتج إلى هدي يقوم مقامه. فَزعٌ أخرُ لو كان الشرط معلقاً على غير تحلل مثل أن قال: أحرمت بحج على أني إذا شئت خرجت منه لم يثبت هذا الشرط بلا خلاف، لأنه ليس فيه غرض صحيح. فَزعٌ أخرُ لو قال: أن مرضت وفاتني الحج كان عمرة كان على ما شرط. باب حصر العبد يحرم بغير إذن سيده [237/ب] مَسْأَلٌة: قال: وإذا أحرم العبد بغير إذن سيده والمرأة بغير إذن زوجها. الفضل قد ذكرنا حكم إحرام العبد فيما تقدم أنه ينعقد وأن للسيد أن يحلّله منه، وهكذا حكم العبد المعتق بعضه، والمدبر وأم الولد. وأما المكاتب، فله منعه أيضًا منه، وهل له أن يسافر للتجارة؟ قولان. والفرق بين السفرين أن سفر الحج يتضمن إتلاف المال، وسفر التجارة لا يتضمن إتلاف المال. ومن أصحابنا من قال: في سفر الحج وجهان بناء على القولين في سفر التجارة. وأما إذا أرادت المرأة أن تحج حجة الإسلام، فهل لزوجها أن يمنعها منه؟ فيه قولان: أحدهما: أن له منعها، وهو الصحيح المشهور لما روى الدارقطني بإسناده عن ابن عمر - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال في امرأة لها زوج ولها مال، ولا يأذن لها زوجها في الحج: "ليس لها أن تنطلق إلا بإذن زوجه"، ولأن الحج على التراخي على ما ذكرنا، وحق الزوج على الفور فكان مقدماً عليه. والثاني: ليس له منعها. وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد: لأنها عبادة واجبة

عليها، فلا يكون لزوجها منعها منها كالصلاة والصوم، وهذا غلط. والفرق بين هذا وبين الصوم والصلاة أن مدّتها تقصر فلا تؤدي إلى الضرر بالزوج بخلاف الحج، فإذا قلنا: له منعها، فإن أحرمت بإذنه صح، وليس له أن يحلّلها، وإن أحرمت بغير إذنه، هل له أن يحلّلها؟ قال في "المناسك الكبير": فيه قولان: أحدهما: له أن يحلّلها كما كان له منعها في الابتداء. والثاني: ليس له تحليلها، لأن الفرض قد ضيق عليها الشروع فيها، وفي الابتداء لم يكن مضيقاً، وحق الزوج مضيق، فقدمناه كما لو كان عليها صوم القضاء والكفار، كان للزوج منعها منه [638 /أ]. قال القاضي الطبري: وعندي أنه لا يجوز له أن يمنعها من قضا، الصوم في آخر السنة، لأنه لا يجوز له إخراجه إلى السنة الثانية، ولهذا أوجبنا الفدية فيه وجعلناها مشرطة به. فَزعٌ أخرُ إذا أرادت حج التطوع له منعها منه قبل الإحرام، فإن أحرمت به، قال الشافعي - رضي الله عنه -: إذا أحرمت بالغرض، فمن قال: لا يحلّلها منه لزمه عندي أن يقول: إذا أحرمت بحج النفل بغير إذنه ليس له أن يحلّلها منه. فمن أصحابنا من قال: هذا قول آخر في النفل أنه ليس له تحليلها، ففي النفل قولان أيضًا، لأن التطوع يلزم بالدخول فيكون كالفرض، ومن أصحابنا من قال وهو الصحيح. ذكر هذا على طريق التشنيع، لأنه ذكر مع حجة التطوع صوم التطوع والاعتكاف، فعلى هذا له تحليلها منه قولاً واحداً، وهذا لأن في الفرض غرضاً صحيحاً، وهو إسقاط الفرض عن ذمتها بخلاف التطوع. فَزعٌ أخرُ الأمة إذا أحرمت بالتطوع يحلّلها سيدها قولاً واحدًا لأن الأمة ليست من أهل فرض الحج بحال، فإذا أحرمت لم يلتحق نفلها بالفرض بخلاف الحرة. قال القفال: فعلى هذا يجب إذا كانت زوجته أمة، فأحرمت، فللزوج أن يحلّلها قولاً واحدًا، ومن أصحابنا من فرق بين السيد والزوج بأن أوقات الأمة وأكسابها لسيدها بخلاف الزوجة، فعلى هذا الزوجة الحرة والزوجة الأمة سواء إذا أحرمتا بالتطوع. فَزعٌ أخرُ الأمة المزوجة إذا أرادت الحج تحتاج إلى إذن سيدها وزوجها، فإن أذن أحدهما كان للأخر منعها منه. وروى ابن سماعة عن محمد أنه إذا أذن السيد جاز لها ذلك، وإن لم يأذن الزوج لأن السفر حق للسيد، [238/ب] ولهذا يجوز له أن يسافر بها، وهذا غلط، لأن فيه تعطيل منفعتها على الزوج لا لمنفعة السيد، فلم يكن لها ذلك،

ويفارق مسافرة السيد بها، لأن به حاجة إلى ذلك. فَزعٌ أخرُ إذا أذن السيد لعبده في الحج، ثم باعه بعد الإحرام لم يكن للمشتري أن يحلّله. وقال أبو يوسف له أن يحلّله مع قوله: لا يحلّله السيد إذا أذن له. وقال محمد: لا يكره مع قوله: يكره للسيد أن يحلّل عبده، وهذا لأن المشتري لم يأذن في إحرامه، وهذا غلط، لأن عقد الإحرام بإذن من له الإذن، فلم يكن لمن يجدد ملكه الاعتراض عليه، كما لو أذن له في النكاح، فنكح لا يبطله عليه. فَزعٌ أخرُ إذا دخل وقت الصلاة على الزوجة ليس لزوجها منعها منها في الحال. وفرق الشافعي - رضي الله عنه - بأن أمر الصلاة خفيف، لأنها تصلي أربع ركعات وترجع إليه والحجّ يطول ويمتد، فيؤدي ذلك إلى الإضرار بالزوج. وقيل: لا غرض للزوج في منعها من الصلاة في أول الوقت، لأنه مندوب إلى تقديم الصلاة كما ندبت هي إليه، وليس كذلك الحج، لأنه لا حج عليه في حال هي تحج بغير إذنه، وهذا ضعيف، والفرق الأول أصخ. فَزعٌ أخرُ المعتدة الرجعية لو أحرمت بالحج فللزوج منعها من الخروج وليس له أن يحلّلها، فإن راجعها، فهل له أن يحلّلها؟ فيه قولان، وإن لم يراجعها حتى انقضت العدة، فإن فات الوقت تحللّت بعمل عمرة، وإن كانت عدتها عن وفاة منعت من مضي العدة، فإن انقضت العدة، وقد فات الوقت لزمها الدم والقضاء [239/أ]. فَزعٌ أخرُ لو أحرمت المرأة بحجة التطوع ومعها محرم، فمات المحرم كان لها إتمام التطوع مع فقد المحرم. فَزعٌ أخرُ إذا أحصرت المرأة في حجية التطوع فطلقها زوجها، فاعتدت ففاتها الحج، هل يلزمها القضا،؟ قولان: أحدهما: يلزم كمن أخطأ في عدد الأيام. والثاني: لا يلزم، لأنه لا تقصير منها بخلاف الغالط، لأنه لا يخلو عن تقصير. فَزعٌ أخرُ إذا أراد الرجل أن يحجّ، فهل لأبويه أو لأحدهما منعه؟ ينظر فيه، فإن أراد أن يحرم بحجة الفرض، فليس لهما منعه، لأن المقام عند الأبوين مستحب مندوب إليه، فتقديم الفرض أولى، وإن أراد أن يحج حجة التطوع فلهما منعه، فإن أحرم، فهل لهما تحليله منه؟ فيه قولان:

باب الأيام المعلومات والمعدودات

أحدهما: لهما ذلك أشار إليه في "الإملاء"، وهذا لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يجاهد، فقال: "لك أبوان"؟، فقال: نعم، فقال: "ارجع ففيهما فجاهد" فلما منع من الجهاد مع أنه فرض على الكفاية فلان يمنع من حجة التطوع أولى. والقول الثاني: نص عليه في "الأم" ليس لهما المنع، لأنه صار لازماً بالشرع، في شبه حج الفرض. وقال بعض أصحابنا بخراسان: حكم الولد مع الأبوين في الفرض كحكم الزوج مع الزوجة، وهذا غلط، لأن حق الزوج مستحق مضيق بخلاف حق الأبوين. فَزعٌ أخرُ لو أذن له أحدهما، فإن كان الأب الآذن والمانع الأم مضى في حجه، وإن كان المانع الأب له منعه ذكره في "الحاوي"،وهذا مشكل عندي، فإذا تقرر هذا، فكل موضع قلنا: للزوج أو للسيد أو للأب المنع والتحلّل فحكمه حكم المحصر بالعدو، وقد ذكرنا حكمه، ثم اعلم أنه قال في "المختصر": وللسيد [239/ب] والزوج منعهما بالتحليل، وهما في معنى العدو في الإحصار، وفي أكثر من معناه لهما منعهما وليس ذلك للعدو ومخالفون للعدو في أنهما غير خائفين خوفه أي غير خائفين من الزوج والسيد كخوف العدو، فكأنه أشار بهذا إلى القول الآخر في أنه ليس لهما التحلّل، لأن حصرهما خاص. ذكره بعض أصحابنا بخراسان: وقيل: هذا بيان بعد الجمع والترجيح لنوع من المخالفة بين الحصرين، فقال: العبد والزوجة غير خائفين خوف المحصر بالعدو، وكذلك القياس، فإن الفرع والأمل لا يجتمعان في جميع معانيهما وأنهما يجتمعان مرة ويفترقان أخرى. باب الأيام المعلومات والمعدودات مَسْأَلٌة: قال: والأيام المعلومات العشر. اعلم أن القصد بهذا الباب أن الله تبارك وتعالى ذكر في مناسك الحج الأيام المعلومات، والأيام المعدودات، فقال في سورة البقرة: {واذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة:203] الآية. فقصد الشافعي - رضي الله عنه - أن يبين المعلومات من المعدودات، فالمعلومات العشر آخرها يوم النحر، وهي العشر الأول من ذي الحجة. وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس في رواية. وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة في رواية مثل قولنا، وفي الرواية الثانية، عنه: المعلومات ثلاثة أيام: يوم عرفة ويوم النحر ويومان بعده ويوم الفطر. وروي عن علي وابن عباس رضي الله عنهما: أنها أربعة أيام: يوم عرفة ويوم النحر ويومان بعده، وأما المعدودات، [240/أ] فثلاثة أيام بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق، وعندنا تجوز التضحية فيها، وعند أبي حنيفة: لا يجوز التضحية في اليوم

باب نذر الهدي

الثالث، واحتج الشافعي - رضي الله عنه - بأن الله تعالى سمى المعدودات والمعلومات باسمين مختلفين، فلا يقعان على أيام واحدة، لأنه لا خلاف أن يوم النحر من المعلومات، واليوم الثالث من أيام التشريق من المعدودات دون المعلومات، فوجب أن تكون كل أيام منها غير الأخرى، ولا يدخل بعض إحداهما من الأخرى كما أن اسم كل أيام غير الأخر، ثم ألزم نفه سؤالا فقال: فإن قيل: لو كانت المعلومات العشر لكان النحر في جميعها جائز، وأراد به أن الله تعالى حيث ذكر الأيام المعلومات جعلها وقتاً لذبح الأضحية والذبح، فقال: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28]، أي: يذبحوها، يقال: فلان ذكر اسم الله تعالى على شاته، أي: ذبحها، فلما لم يجز النحر في جميعها بطل أن تكون المعلومات فيها، ثم أجاب، فقال: يقال لهذا المعرض. قال الله تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا (15) وجَعَلَ القَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا (16)} [نوح: 15 - 16] وليس القمر في جميعها، وإنما هو في واحدها أفيبطل أن يكون القمر فيهن نوراً كما قال الله تعالى؟ ولا يبطل ذلك، لأن القمر وإن كان في سماء واحدة، فهذه السماء من جملة السماوات السبع، فلذلك صح إضافة القمر إليهن أنه فيهن كذلك ذبح الأضحية، وإن كان في يوم واحد من المعلومات. وهذا اخرها صح أن يضاف ذلك إليها كلها. وروي عن مالك أنه قال: المعلومات: ثلاثة أيام، أولها يوم النحر. [240/ب] والمعدودات: ثلاثة أيام بعد يوم النحر، وهي أيام التشريق، وهذا السؤال سؤال مالك في الحقيقة. وقال العنصري من أصحابنا: الذكر يقع في كلها في يوم النحر عند الذبح وقبلها عند سوق الهدي. وقال بعض: أضاف إليها شهود المنافع والذكر معاً، فقال {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} [الحج:28]، فشهود المنافع التجارات قبل النحر والذكر يوم النحر، وقال أبو حامد: معناه الذبح في كلها يوم النحر الأضحية وقيل ذلك دماء الحج غير التطوح، والله أعلم. باب نذر الهدي مَسْأَلٌة: قالَ: والهدي من الإبل والبقر والغنم. الفضل اعلم أن الهدي اسم لما يهدى إلى الحرم تقرباً من النعم وغيرها من الأموال، إلا أنه عند الإطلاق اسم للنعم فمن نذر لله هدياً، وسمى شيئاً سوى النعم يلزمه أن يهدي ما سمي، وإن أطلقه في نذره، ففيه قولان: أحدهما: قاله في "الجديد": يجب عليه أقل ما يجوز في الأضحية من النعم، وهو الثنية من الإبل والبقر والمعز أو الجذعة من الضأن، وهو الصحيح. وبه قال أحمد

ويحكيه أصحابنا عن أبي حنيفة ووجه هذا أن مطلق النذر يحمل على معهود ا~ع والهدي في الشرع من النعم كما قلنا في الصلاة والصوم. والثاني: قاله في "القديم"، و"كتاب المنذور": يجوز ما يقع عليه الاسم، وإن كانت زبيبة أو تمرة، لأن اسم الهدي يقع على ذلك كله شرعاً ولغةً. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في خبر الجمعة "ومن راح في الساعة الخامسة، فكأنما قرب بيضة"، فإذا قلنا بالقول الأول يجزئه الذكر والأنثى، لأن المقصود منه اللحم، ولهذا يجب ذبحه، ولا يجوز إيصاله إلى الفقراء قبل الذبح " [24/أ]. وعلى هذا القول لا يجوز ذبحه وتفريقه إلا في الحرم. وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما، أنه كان يكره الذكر من الإبل فيه، ويرى أن يهدي الأنثى منها. وهذا لا يصح لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى عام الحديبية مائة بدنة فيها جمل كان لأبي جهل في أنفه برة من فضة يغيظ بذلك المشركين. والجمل: الذكر والبرة: حلقة يجعل في أنف البعير ومغايظة المشركين أنه كان ذلك الجمل معروفاً بأبي جهل، فأجازه النبي - صلى الله عليه وسلم - في سلبه، فكان يغيظهم أن يروه في يده وصاحبه قتيل سليب، وإذا قلنا بالقول الثاني، فالأصح أنه لا يجوز إلا في الجرم لقوله تعالى: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95]، فجعل الشرط في الهدي إبلاغه الحرم، ومن أصحابنا من قال: يجوز في غير الحرم، كما لو نذر أن يتصدق بشيء جاز في كل موضع، ولأنه لما لم يحمل على معهود الشرع في المقدار لم يحمل عليه في المكان والمصرف. ثم اعلم أن النذر على ضربين نذر لجاج وغضب ونذر تبرر، فأمّا نذر اللجاج والغضب، فهو ما قصد به الإلزام أو المنع مثل أن يقول: أن كلمت فلاناً، فعلي كذا أو أن لم أكلم فلاناً، فعلي كذا، فإذا وجد الخلاف فهو مخير بين كفارة اليمين وبين الوفاء بذلك على ظاهر المذهب. وأما نذر التبرر فضربان: فرب علقه بجزاء مثل إسداء نعمه أو دفع نقمة، فإذا وجد شرطه لزمه الوفاء به. وضرب، يكون مطلقاً مثل أن يقول ابتدأ: لله علي أن أهدي وأتصدق، فالمذهب أنه يلزمه الوفاء. ومن أصحابنا من قال: لا يلزمه الوفاء به. وقيل: وجهان. والصحيح ما ذكرنا فإذا قلنا: يلزم الوفاء يلزم [24/ ب] ما عين، وإن أطلق، وقال: فلله علي هدي، فالحكم ما ذكرنا، فإذا ثبت هذا فالهدي بأعلى وأدنى، فالأعلى البدنة والبقرة والأدنى شاة أو سُبعُ بدَنَه أو سبع بقرة، فمن وجب عليه هدي، فهو مخير بين أن يهدي الأعلى وبين أن يهدي الأدنى، فإن أهدى الأدنى فكله واجب، لا يجوز أكل شيء منه، وإن أخرج الأعلى فهل يكون كله واجباً، أو سبعه واجباً؟ وجهان: أحدهما: الكل واجب ولا يجوز أكل شيء منه كما قلنا في كفّارة اليمين، يتخّير بين العتق والإطعام وأيهما أخرج كان كله واجباً. والثاني: سبعه واجب والباقي تطوع لأنه أقيم مقام سبع من الغنم، ويفارق العتق في

الكفارة، لأنه لا يتبعّض ولا يجوز الاختصار فيها، على بعض الرقبة بخلاف هذا. وهذا أظهر فعلى هذا يجوز أكل الزيادة، ثم قال: وليس له أن ينحر دون الحرم. وقد ذكرنا موضع نحر الهدي، وتفرقة اللحم، ولو عين بكذا في النذر يذبح ويفرق في تلك البلدة. مَسْأَلٌة: قال: وإن كان الهدي بدنة أو بقرة قلّدها نعلين. الفصل إذا نذر هدياً لا يخلو إما أن يكون إبلاً أو بقراً أو غنماً، فإن كان إبلاً أو بقراً، فالسنة أن يقلدها ويشعرها والتقليد: أن يقلدها ويعلق في عنقها والإشعار: أن يضرب شقها الأيمن من موضع السنام بحديده حتى يدميها، وهي مستقبلة القبلة، فيرى على جانبها، فيعلم أنه هدي وإن قرن بين اثنين أشعر أحدهما من الأيمن والآخر من الأيسر ليشاهد كل واحد منهما. وبه قال أحمد ومحمد وقال مالك وأبو يوسف وابن أبي ليلى: يشعرها من الجانب الأيسر. وروي ذلك عن ابن عمر رضي الله عنهما. [242/أ] وقال مالك في البقر: أن كان لها سنام يستحبّ الإشعار وإلا فلا. وقال أبو حنيفة وحده: الإشعار بدعة والتقليد منة. واحتج بما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن تعذيب الحيوان"، وهذا غلط لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صلى الظهر بذي الحليفة، ثم دعا ببدنة، فأشعرها من صفحة سنامها الأيمن، ثم سلت الدم عنها، وقلدها نعلين، ثم أتى براحلته، فلما قعد عليها واستوت به على البيداء أهل بالحج". وهذا نص صريح. وقوله: سلت الدم أي: أماطه وأصل السلت القطع، وقيل: ذلله على الموضع الذي خرج منه وقوله: استوت على البيداء، أي: علت فوق البيداء وأما الخبر الذي ذكر قلنا: التعذيب ما كان يفعلونه من قطع أسنمة الإبل واليات الشاءة، وسبيل الإشعار سبيل ما أبيح من الكيّ والتوديج والتبريغ والميسم. وفي هذا فوائد، منها: أنها إذا تغيرت أو اختلطت بغيرها أو ضلت استدل بها عليها، وميزت من غيره. ومنها: أنه ربما يقصدها سارق، فإذا رأى عليها علامة الهدي ربما يرتدع فيتركها. ومنها: أنها ربما تعطب، فتنحر وتترك في موضعها، فإذا رأى المساكين تلك العلامة يعرفونها. ومنها: أنه إذا رآها المساكين اقتفوا أثرها إلى المنحر، واحتجّ مالك بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يشعر بدنه في جانب سنامها الأيسر. قلنا: خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أولى منه. ثم روي عنه أنه كان يقرن بين هديين، ويشعر الجانب الذي ظهر من كل واحد منهما، وهو مذهبنا، وإن كانت غنماً، فالتقليد فيها مسنون [242/ب]. قال الشافعي - رضي الله عنه -: قلدها خرب القرب ولا يشعرها، وأراد بخرب القرب أطرافها وعراها، وإنما قلنا: لا يشعرها لأن على موضع الإشعار منها صوفاً يمنع من ظهور الإشعار عليها، ولأنها ضعيفة لا تحتمل الإشعار.

وقال أبو حنيفة ومالك: لا يسن تقليدها، وهذا غلط لما روي عن عائشة رضي الله عنها: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أهدى محنهما مقلدة". وقال جابر: "كان في هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غنم مقلدة"، ولأن التقليد سن في الإبل حتى أن ضلت تعرف بذلك. وهذا في الغنم أولى، لأنها أقرب إلى النفور من الإبل، لأن الإبل تقاد بأزمتها، والغنم مجللة، ثم قال: وإن ترك التقليد والإشعار أجزأه لأنها هيئة مسنونة شرع لتمييز الهدي من غيره. فرع لا تأثير للتقليد في الإحرام، فإذا قلد الهدي لم يصر محرماً حتى ينوي الحج أو العمرة. وبه قال عطاء، وروي عن ابن عباس أيضًا. وقال الثوري وأحمد وإسحاق: إذا أراد الحج وقلد فقد وجب عليه، وهذا غلط، لما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهدي وأنا فتلت قلائدها بيدي من عهن كان عنانا ثم أصبح فينا حلالاً يأتي ما يأتي الرجل من أهله"، ولأن هذا تجرد عن نية الإحرام، فلا يصير محرماً، كما لو اغتسل ولبس إزاراً أو رداء. مَسْأَلٌة: قال: ويجوز أن يشترك [لسبعة] في البدنة الواحدة. الفضل يجوز أن يشترك السبعة في البدنة الواحدة والبقرة الواحدة سواء أرادوا قوبة واحدة أو قرباً مختلفة، أو أراد بعضهم الفدية، وبعضهم اللحم وسواء كانوا متطوعين أو مؤدين للواجب. وقال مالك: إن كانوا متطوعين [243/أ] يجوز الاشتراك فيهما أن كانوا من بيتٍ واحدٍ، وإن كانوا من بيوت متفرقة لم يجز، وإن كانوا مؤدين للواجب لا يصحّ منهم الاشتراك. وقال أبو حنيفة: إن كانوا متفرقين يصحّ الاشتراك اتفقت جهة قربهم أو اختلفت متطوعين أو مؤدين واجباً، وإن كان بعضهم يريد اللحم لا يصح الاشتراك، وهذا غلط لما روى أبو هريرة وعائشة رضي الله عنهما: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح عمن اعتمر من نسائه بقرة بينهن". وكان واجباً لأنهن كن متمتعات. وقال جابر: "كنا نتمتع على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكان يشرك السبعة في البدنة"، ولأن كل بدنة جاز أن ينفرد الواحد بإخراجها على جهة جاز أن يشترك السبعة في إخراجها على تلك الجهة كما لو كانوا متطوعين، واحتج مالك بما روي عن ابن رضي الله عنهما، قال: ما كنت أرى دماً يقضى عن أكثر من واحد. قلنا: خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - أولى من ذلك. واحتج أبو حنيفة بأن الدم الواحد لا يتبعض فإذا لم يكن بعضه قربة لا يكون شيء منه قربة. قلنا: إذا جاز أن تجتمع فيه القربى المختلفة جاز أن تجتمع فيه القربة وغير القربة في السبح من الغنم. وحكى أحمد وإسحاق أنهما قالا: لا يجوز اشتراك العشرة في البدنة الواحدة، ولا يجوز في البقرة إلا اشتراك السبعة، وهذا غلط، لما ذكرنا من

خبر جابر - رضي الله عنه - في حصر الحديبية، فإذا تقرر هذا فإن أرادوا القربة ذبحوها وسلموا إليهم مذبوحاً ليتصرفوا فيه. ثم أن قلنا: القسمة إفراز حقّ لهم أن يقتسموها بينهم، فإن قلنا يبيع لم يجز ذلك فيبيع بعضهم من بعض بالدراهم مشاعاً، وإن أراد بعضهم القربة وبعضهم اللحم [24/ ب]، فإن المتقرب يسلم نصيبه إليهم، وأقلهم ثلاثة أنفى، فيقول لهم: فيها السبع وقد سلمته إليكم مشاعاً، ويقبضونه منهم، فإذا قبضوه سقط الغرض عنه، ثم أن أرادوا أن يقتسموا ويفرق كل واحد منهم نصيبه، فالحكم على ما ذكرنا. قال صاحب "التلخيص ": إذا قلنا: القسمة بيع لا يجوز بيع بعضه ببعض كالرطب والعنب واللحم الرطب إلا في موضع واحد، وهو إذا اشتركوا في بدنة أو بقرة في هدي أو أضحية أو جزاء أو أي دم كان لله تعالى واجباً كان أو غير واجب يجوز أن يقتسموا للضرورة، لأنه لا مدخل للبيع فيها إذ لا يجوز بيع شيء من الهدي والأضحية. قال: وكذلك إذا أواد بعضهم اللحم، وهذا لا يصح، لأنه يمكنهم بيعه ممن يريد اللحم ويقتسمون ثمنه. وقال أبو حامد: الحيلة فيه أن يجزأ سبعة أجزاء ويقول كل واحد من الشركاء: اتبعت حقكم من السبع بدرهم وبعتكم حقي بدرهم، فيحصل لكل واحد منهم السبع، ويكون ذلك بيع لحم وابتياعه بدرهم لا أنه بيع لحم بلحم. وهذا بعد تسليم نصيبهم مشاعاً إلى المساكين ليكونوا شركا، لأصحاب اللحم، فيصح البيع حينئذٍ، فإن قبل ذلك، لا يصح البيع. مَسْأَلٌة: قال: فإن كان الهدي ناقة فنتجت سيق معها فصيلها. الهدايا على ثلاثة أضرب: هدي يسوق المحرم مع نفسه ولا يعين النذر فيه ولا نوى به التطوع، بل ساقه على أنه أن لزمه هدي أخرجها، وإن لم يلزمه أن شاء أخرجها تطوعاً، وإن شاء تركها، فهذه ملكه وله التصرف فيها كيف شاء بالبيع وغيره، وإن نتجت كان النتاج له كالأم، لأنها لم تصر بالسوق هدياً، وإن تلف تلف من ماله، ولا شيء عليه، وهدي عينه نذراً [244/أ]. فقال: لله علي أن أهدي هذه الشاة بعينها فقد زال ملكه بذلك، وصارت ملكاً لمساكين الحرم، ويجوز له التصرف فيها بوجه، وإن تلفت كان تلفها من مال المساكين، وان ولدت ولداً ساق معها ولدها، قال: فإن كان لا يقدر على المشي حمله على أمه، وإن حمل عليها من غير ضرورة، فأعجفها غرم قيمة ما نقصها، وهدي كان في ذمته واجباً بعينه في شاة بعينها، فتعين ذلك فيه، لأن ما كان ثابتأ في الذمة إذا عين في شي، تعين. ألا ترى أنه لو كان في ذمته عتق فعينه في عبد تعين فيه؟ وليس له النظر فيه بوجه. ثم ينظر فيه، فإن سلم دفعه إلى المساكين، وإن عاب عاد إلى ملكة، وعليه أن يذبح هدياً سليماً من العيب، لأنه إذا لم يجز عما في ذمته وجب أن يعود إلى ملكه.

وكذلك إذا تلف يجب عليه البدل. والفصل بين هذا والذي قبله أن هناك لم يكن في ذقته شيء نقله إلى العين، بل نذر هدي شيء بعينه، فيتعلق به حق المساكين وحده، ولا يلزمه الضمان إذا تلف، وههنا في ذمته سليم، فإذا نقله إلى عين كان بشرط السلامة. ومن أصحابنا من قال: لا يعود بالعيب إلى ملكه كما لو ضل فيخرج هذا المعيب والذي في ذمته أيضًا، وهذا ضعيف. وبه قال أحمد، فإذا تقرر هذا فإن نتجت هذه، وعاد الأصل إلى ملكه بالعيب، هل يعود الفصيل إلى ملكه. قال القاضي الطبري: يجب أن يعود الفصيل أيضًا إلى ملكه، ولا يلزمه ذبحه. ومن أصحابنا من قال: ظاهر المذهب أنه يلزمه ذبحه ويكون للفقراء كما يقول في ولد [244/ب] المبيعة إذا ماتت أمها في يد البائع يبطل البيع فيها، ويبقى الولد للمشتري. وكذلك لا يبطل التدبير في ولد المدبرة يتلف الأم، ومن أصحابنا من قال هل يتبعها الولد ههنا؟ وجهان: أحدهما: يتبعها. والثاني: لا يتبعها لأنه حدث في ملك المساكين ويكون للمهدي، لأن ملك المساكين لم يستقر عليها، ولهذا لو تلف أو غاب كان عليه البدل. فَزعٌ أخرُ إذا قلنا: يعود إلى ملكه بعدما غابت لا يجوز له التصرف فيها بالأكل والبيع والهبة وغيرها. وقال بعض أصحابنا بخراسان: يجوز الأكل منها، وهل له أن يبيعها؟ وجهان: أحدهما: له ذلك. والثاني: لا يجوز البيع، لأنه كان قد تقرب به. فَزعٌ أخرُ لو غاب بعدما وصل إلى الحرم. قال ابن الحداد في فروعه: أجزأه لأنه بلغ محله. وقال سائر أصحابنا: لا يجزئه، وهو الصحيح، لأنه عاب قبل وموله إلى مستحقه كما لو غاب قبل ذلك، وما ذكره لا يصحّ، لأنه لم يسقط عنه الفرض بوصوله إلى الحرم، وعلى قول ابن الحداد لو مات أو سرق بعد وصوله إلى الحرم أجزأه أيضًا. فَزعٌ أخرُ لو ضل هذا الهدي وجب عليه إخراج ما في ذمته. قال الشافعي: ويصير إلى أخر أيام التشريق، فإن لم يجد ذبح أخر مكانه، فإن وجده بعد ذلك ذبحه أيضًا، فمن أصحابنا من قال: يجب ذبحه، وبان بالوجود أن الواجب هذا، ويفارق هذا إذا غاب حيث قلنا: يعود إلى ملكه [245/أ]، لأن بالعيب خرج عن صفة الإجزاء وبالضلال لم يخرج عن حدّ الإجزاء، فلم يزل ملك الفقراء عنه، ولا يعود إلى ملكه، وعلى هذا قال

(القاضي) الطبري: لو وجده قبل تفرقة لحم البدل، لم يلزمه تفرقته، ويحتمل أن يقال: يجب تفرقته كما إذا لم يجد ما يتطهر به، فصلى ثم وجد الطهور يتطهر ويصلي أيضًا، وكلاهما واجبان. ومن أصحابنا من قال: لا يجب ذبحه بعدما ذبح البدل، وإنما ذكر الشافعي ذلك استحباباً. والمذهب الأول لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها حجت فأهدت بدنتين فضلتا، فبعث ابن الزبير بهديتين إليها فنحرتهما. ثم عاد الضالان فنحرتهما، وقالت: هذه سنة الهدي، وروي: فاشترت مكانهما هديين فقلدتهما، ثم وجدت الأوليين، فنحرت أربعتهن، فكانت كلما حجت بعد ذلك أهدت أربعاً من البدن، وعلى هذا قال في "الحاوي": لو ضل الهدي سائقه المحرم ابتداء حتى خرجت أيام التشريق [فهل عليه مثله بدلاً أم لا؟ على قولين: أحدهما]. قال في "القديم ": عليه بدله، لأن ضلاله بتفريط من سائقه. والثاني: لا يكون عليه بدله كما لو مات، وعلى هذا لو أبدله ثم وجده نحره. فَزعٌ أخرُ لو عين أفضل مما عليه مثل أن يعّين عن الشاة بدنة أو بقرة، ثم غاب، فعادت إلى ملكه، هل يجب عليه ما كان في ذمته أو مثل ما عين؟ وجهان: أحدهما: مثل ما عين في ذمته أوجب الفضل بتعيينه. والثاني: يجب ما كان في ذمته، وهو الصحيح، لأن التعيين بطل، فرجع إلى ما في ذمته. ومن أصحابنا من قال: إن فرط يلزمه مثل الذي عين، لأن الفضل لزمه بالتعيين، وإن لم يفرط، ففيه وجهان على ما ذكرنا [245/ب]. وقال بعض أصحابنا: قال الشافعي في "الجدد": يجب ما كان في ذمته. وقال في "القديم": أخرج وتصدق بالفضل وليس بشيء. فَزعٌ أخرُ هل له أن يشرب من لبن الهدي؟. قال في "الأوسط ": ليس له أن يشرب من لبن الهدي إلا بعد ري فصيلها، وكذلك ليس له أن يسقي أحداً. وقال في مواضع آخر: إن كان لبنها وفق حاجة الفصيل لم يشرب شيئاً، وإن فضل عنه، أو لم يكن لها فصيل أحببت أن يتصدق به على المساكين، فإن شربه جاز. وقال القفال: هذا في التطوع، وفي الواجب هل يجوز شرب لبنها؟ وجهان، وهذا خلاف المنصوص، فإن قيل: إذا لم يجز له أن يأكل النتاج وجب أن لا يجوز له شرب اللبن، لأن كليهما بمائه. قيل: الفرق أن اللبن يتخلف بخلاف الولد، ولأن تبقية اللبن في الضرع يضر بالهدي وحمله وحلبه إلى مكة لا يمكن، فأبيح له شربه. وقد روي أن علي بن أبي طالب - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسوق بدنة ومعها ولدها، فقال: لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها، فإذا كان يوم النحر، فاذبحها وولدها.

فرعٌ أخرُ لو شرب منه والولد يحتاج إليه، فهزل الولد فعليه ما نقصه الهزل. فَزعٌ أخرُ هل له أن يركبها؟ قال في "لأوسط": إذا ساق الهدي ليس له أن يركبه إلا من ضرورة، وإذا اضطر إليه ركبه ركوباً غير قادح، وله أن يحمل الرجل المعيي والمضطر على هديه، فإن استدام الركوب مع الاستغناء عنه، فعليه ما نقص الركوب. والدليل على جواز الركوب [246/أ] قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِع إِلَى أَجَل مُسَمًّى} [الحج: 33]، وسئل جابر - رضي الله عنه - عن ركوب الهدي، فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً".وروي عن أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهراً". وروى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلاً يسوق بدنه، فقال: "اركبها"، فقال: إنها بدنة، فقال: "اركبها ويلك" في الثانية والثالثة. وقال أحمل وإسحاق: له أن يركبها ولم يشرط الحاجة. وقال مالك: لا بأس أن يركبها ركوباً غير قادح. وقال أبو حنيفة: لا يركبها. وبه قال الثوري، وهذا غلط، لأن المنافع تتلف، فكان له استيفاء ذلك، وإنما شرطنا الحاجة، لأنه ربما يبعضها، ولأن ملكه زال عنها إلى المساكين، ولا يجوز أن ينتفع بملك غيره إلا لضرورة. وقال القفال: هل يجوز الركوب؟ فيه وجهان: أصحهما: أن له الركوب قدر ما لا يضر سواء كانت ضرورة أو لا وهذا خلاف النص الذي ذكرنا. فَزعٌ أخرُ لا يجوز بيع الهدي المعين نذراً. وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه ويشتري بثمنه غيره، ويهدي به، ويجوز له إبداله أيضًا، واحتج بأنه لم يزل ملكه عنه، لأنه لو زال ملكه عنه لما جاز نحره، لأنه لا ينحر ما لا يملكه، وهذا غلط لما روى ابن عمر عن عمر - صلى الله عليه وسلم - أتي النبي - رضي الله عنه -: يا رسول الله أهديت بختياً فأعطيت بها ثلاثمائة دينار، أفأبيعها وأبتاع بثمنها بدناً فأنحرها؟ فقال: "لا" لكن انحرها إياها"، ولأن هذا حق يتعلق بالرقبة يسري إلى الولد، فوجب أن يمنع [246/ب] البيع كالاستيلاد، وأما ما ذكره لا يصحّ، لأنه لا نسلم ما عينه بالذبح ويجب عليه ذلك. فَزعٌ أخرُ لو عاب هذا المعين بعد أن وصل إلى مكة فقد بلغ محله، وليس عليه غيره فيذبحه ويجزئه لما روى ابن الزبير - رضي الله عنه - أتى في هداياه بناقة عوراء، فقال: أن كان أصابها بعدما اشتريتموها فأمضوها وإن كان أصابها قبل أن تشتروها، فأبدلوها، ولأنه لو هلك جميعه لم يضمنه، فإذا نقص بعضه لم يضمنه، وهذا لأنه أماته عنده.

وقال في "الحاوي": هل عليه باله له إذا أعطب في الطريق؟ فيه وجهان مبنيان على الوجهين 0 هل يجوز الأكل منه؟ فإن قلنا: يجوز كان كالتطوع، فلا بدل عليه 0 وهذا أصحّ. فَزعٌ أخرُ لو عينه معيباً، فقال: لله علي أن أهدي بهذا. قال ابن الحداد: يجب عليه ذبحه، ويفارق هذا إذا عينه عن الواجب في ذمته، ثم عاب لأنه لم يقصد التقرب بالمعيب. فَزعٌ أخرُ لو ساق هدياً تطوعاً فضل فلا شيء عليه وإن وجده بعد أيام ذهاب الحر فذبح لا يكون هدياً بل يكون شاة لحم، نصّ عليه. مَسْأَلٌة: قال: تنحر الإبل قياماً معقولة وغير معقولة. السنة في الإبل النحر لما روي في خبر جابر - رضي الله عنه -: فنحر البدنة عن سبعة. والسنة في البقر والغنم الذبح لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذبح عمن اعتمر من نسائه بقوة، فإذ خالف السنة فنحر البقرة والغنم جاز ويكره وتفسير النحر قطع الحلقوم في أسفل العنق عند اللثة فيطعن حربة أو سكيناً في نقرة الحر، وهي الحفرة التي بين أمل العنق والصدر. [247/أ] والذبح قطع الحلقوم أسفل مجامع اللحيين. وهذا لأن النحر في الإبل أسرع لخروج روحه من الذبح لطول عنقه بخلاف البقرة والغنم، فإذا تقرر هذا، فالسنة أن ينحر الإبل قياماً معقولة يده اليسرى، فيقوم على رجليها وإحدى يديها. وقال في "الأوسط": ينحرها غير معقولة، فإن أحب أن يعقل إحدى قوائمها فعل ما ذكرنا، وإن نحرها باركة أو مضطجعة جاز، وقال عطاء: السنة أن ينحرها باركة لئلا يترشش الدم على الناحر، وهذا غلط لقوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] وقرأ الحسن: "صوافي" يعني قياماً على ثلاث قوائم، ولأن الله تعالى قال: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج:36] أي: سقطت من الحر فدل أنها تذبح قياماً حتى تسقط. وروى جابر "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر بدنه قياماً معقولة يدها اليسرى"، وإن لم يمكنه النحر قياماً لصعوبتها وامتناعها نحرها باركةً، وروى أن ابن عمر رضي الله عنهما رأى رجلاً ينحر بدنته باركة، فقال: انحرها قياماً سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -. وروى أنس - رضي الله عنه - النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر سبع بدنات بيده قياماً. وقال زياد: رأيت ابن عمر ينحر بدنته قائمة، ويقول: سنة أبي القاسم - صلى الله عليه وسلم -. فَزعٌ أخرُ لوكان عليها موف ينظر، فإن كان الصلاح في تركه بأن يكون في الشتاء يحتاج إليه للتدفئة لم يجزه، لأنه ينتفع به الحيوان في دفع البرد وينتفع به المساكين عند الذبح، وإن كان الصلاح في جزه بأن يكون في الصيف، وقد بقي لوقت النحر مدة طويلة جزه، لأنه يترفه به الهدي، وينتفع به المساكين عند سمنه به [247/ب]

فرعٌ أخرُ يستحب لمن قصد مكة حاجاً أو معتمراً أن يهدي إليها من بهيمة الأنعام، وينحرها، ويفرق لحمها لما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أهدى مائة بدنة" ويستحبّ أن يكون ما يهديه سميناً حسناً لقوله تعالى: {وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} [الحج: 31]، قال ابن عباس في تفسيرها هو: الاستسمان والاستحسان والاستعظام. فَزعٌ أخرُ قال الشافعي - رضي الله عنه -: وأحب إلي أن يذبح النسيكة صاحبها أو يحضر الذبح، فإنه يرجى عند سفوح الدم المغفرة، ويستحب أن يلي تفرقة اللحم بنفسه، فإن وكل فيه جاز سواء وليها بنفسه أو استناب فيها، فعلى من ولي ذلك أن يفرقها وله أن يخلي بينها وبين المساكين. وهذا لما روي عن عبد الله بن قرظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن أعظم الأيام عند الله يوم النحر ويوم القر وقرب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدنات خمس أو ست، فطفقن يزدلفن إليه بأيتهن يبدأ، قال: لما وجبت جنوبها تكلم بكلمة خفية لم أفهمها. قال: قلت ما قال؟ قال: من شاء اقتطع " فدل أنه خلى بينهم وبينها. وقوله: يزدلفن أي: يقربن، يقال: زلف الشيء إذا قرب. وقوله: وجبت جنوبها، أي: زهقت أنفسها، فسقطت على جنوبها. وقوله: من شاء اقتطع يدلّ على جواز هبة المشاع، وقيل: يدلّ على جواز أخذ النثار في العرس، وأنه ليس من باب النهي بل هو من باب الإباحة، فإن قيل: عندكم النثار مكروه، فما الفرق؟ [248/أ] قلنا: النثار لا يزيلّ ملك صاحبه فربما يأخذه من لا يحبه مصاحبه وههنا صار ملكاً للفقراء. فَزعٌ أخرُ إذا كان واجباً يلزمه أن يفرق لحمه وجلده. وقال في "القديم": وجلالها ونعالها يعني الذي قلد بها البعير ويستحب هذا، لأنه من توابعها، ولا يعطي الجازر أجرته من لحمها، ولا من جلدها، لأن الأجرة على المهدي الموفي، فإن كان فقيراً أعطاه منه سوى الأجرة. وهذا لما روي عن علي - رضي الله عنه -، قال: أمرني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بدنه وأقسم جلودها وجلالها، وأمرني أن لا أعطي الجزار منها شيئاً، وقال: "نعطيه من عندنا". وقال الحسن: لا بأس أن يعطي الجازر الجلد. فَزعٌ أخرُ لو ترك تفرقة اللحم حتى أنتن، قال في "مختصر الحج" أعاد يعني يضمنه بمثله، فيذبح هدياً آخر. وقال في "القديم": عليه قيمته. وقال أصحابنا: هذا هو المذهب، وقوله: أعاد، أراد إخراج القيمة، لأنه إتلاف لحم وبالذبح حصل المقصود، وهو كما

لو ضحى شاة، ثم أتلف رجل اللحم غرم القيمة، ولا يلزم المضحي أن يشتري بتلك القيمة شاة أخرى. وقيل: يشتري بالقيمة لحماً ويتصدق به. وقال أبو حنيفة: يسقط الفرض بالذبح ولا شيء عليه، وهذا غلط، لأن الذبح إنما يصير قربة بتفريق اللحم، وهو المقصود، فإذا لم يكن قربة يعيد. مَسْأَلٌة: قال: فإن كان معتمراً نحره بعدما يطوف بالبيت. الفضل المعتمر أن لم يرد الحج بعدها لم يكن متمتعاً، ولا يلزمه الدم، ولكنه يستحب فينحر عند المروة، ولو ذبح في غيرها جاز، وإذا كان متمتعاً نحر بمنى، وقد تقام الكلام فيه. مَسْأَلٌة: قال: وما كان منها تطوعاً أكل منها [248/ب]. الفضل الهدايا على ثلاثة أضرب: واجب يتعلق بالإحرام وواجب يتعلق بالنذر وتطوع. وهل يجوز الأكل منها؟ قد ذكرنا فيما قبل، وقيل ما وجب النذر أن كان على سبيل المجازاة لا يجوز الأكل منها، وإن كان مطلقاً غير معلق يجزئ. وقلنا: ينعقد نذره، ففي جواز الأكل وجهان، وظاهر المذهب أنه يجوز الأكل والقياس لا يجوز. وقال بعض أصحابنا بخراسان: يجوز الأكل من الأضحية الواجبة، لأن لفظ الأضحية دليل على جواز الأكل ولا أصل لوجوبها شرعاً بخلاف الهدي ولو عين هدياً، هل يجوز الأكل؟ ينظر، فإن قال: جعلت هذا هدياً له أن يأكل ولو نذر مطلقاً، ثم عين هذا هل يأكل؟ وجهان: أحدهما: لا يأكل، لأنه أفرغ ذمته بهذه العين. والثاني: يأكل، ولو قال: لله علي أن أهدي شاة، هل له أكلها؟ وجهان: أحدهما: لا لأنه لزمه بهذا النذر إراقة دم. والثاني: له ذلك لأنه لم يجب في الأصل، ولو قال: لله علي أن أهدي بهذه الشاة بعينها، فيه طريقان: أحدهما وجهان كما لو قال: لله علي أن أهدي شاة. والثاني: هو كما لو قال: جعلت هذا هدياً، ولم يقل: لله علي فيجوز أكله، وكل موضع لا يجوز الأكل، فخالف وأكل ضمن، وما الذي يضمن فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يضمن قيمة اللحم الذي أكله كما لو أتلف أجنبي، لأنه أتلف على المساكين مالا مثل له [249 /أ]. والثاني: يجب عليه لحم مثله، لأنه أقرب وجميعه مضمون عليه بمثله حيواناً، فلذلك بعضه. والثالث: يعتبر كم هو من الهدي، فإن كان نصفاً يلزمه النصف من الهدي الحي،

وهذا لأن ما لم يصل من اللحم إلى المساكين يبطل حكم إراقة الدم فيه كما لو ذبحه وأتلف كله يجب عليه أن يذبح أخرى هكذا. ذكر أصحابنا: وقد تقدم خلافه، وان كان الهدي تطوعاً قد ذكرنا أنه يستحبّ له الأكل منه، وهذا لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أهدى مائة بدنة فتولى نحر نيف وستين منها. وولي علياً الباقي ثم أمر فقطع من كل واحدةٍ قطعة من لحم فطبخ ذلك، فأكل من لحمها وتحسى من مرقها"، ولو أكل الكل كم يضمن؟ وجهان: أحدهما: القدر الذي لو تصدّق به أجزأه. والثاني: يضمن القدر الذي يستحب له أن يفرقه. وذلك النصف أو الثلث على اختلاف القولين. وقال الشيخ أبو حامد: هذا التفريع من أصحابنا على هدي التطوع بعيد، فإن من المحال أن يضمن ما يتطوع به، ولكن هذا التفريع يعود إلى النذر المطلق، فإن المنصوص جواز الأكل منه، فكل ما قالوا في التطوع، فهو في هذا النذر المطلق وأصل هذا الاختلاف من أنه يجب تفريق الزكاة على ثلاثة من كل صنفٍ، فإن أعطى اثنين، ولم يعط الثالث يضمن وكم يضمن؟ وجهان: أحدهما: قدر ما يجزى، دفعه إليه. والثاني: قدر ما يستحبّ دفعه إليه وهو الثلث. مَسْألَةٌ: قال: وما عطب منها نحرها وخلّى بينها وبين المساكين. إذا ساق الهدي، فعطب منه [249/ب] شيء، أي: زمن ولم يقدر على سوقه، فإن كان تطوعاً، فله ذبحه وأكله وإطعام الأغنياء والفقراء، وان كان واجباً لا يخلو إما أن يكون معيناً بالنذر، أو معيناً عن هدي في ذمته، فإن كان معيناً في الأصل، فقد زال ملكه إلى المساكين على ما ذكرنا، فينحره ويغمس نعليه في دمه ويضرب بهما صفحة سنامه، ويخلّي بينها وبين المساكين والنعلان هما اللذان علقا على رقبته. والأصل في هذا ما روى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث فلاناً الأسلمي، وهو ناجية وبعث معه بثماني عشرة بدنة، فقال: "أرأيت أن أرجف علي منها شيء، قال: تنحرها ثم تصبغ نعلك في دمها ثم اضربها على صفحتها، ولا تأكل منها أنت ولا أحد من أصحابك. أو قال: "أهل رفقتك" ومعنى إرجف أعني أو كل، وإنما أمر بهذه العلامة ليعلم من رآه أنه هدي، ولأن هذا الهدي صار مصدوداً عن البيت فيجب ذبحه في موضعه كدم المحصر، فإذا تقرر هذا فلا خلاف أنه لا يجوز له أن يأكل منه، ولا أغنياء أهل الرفقة، فأما فقراء أهل الرفقة، هل يأكلون؟ المنصوص أنه لا يحلّ لهم أيضاً. وهذا ظاهر نص السنة والمعنى في ذلك أنا لو أبحنا لهم ذلك، ربما يتسببون إلى إزمانه وإعطابه طمعاً، في أكل لحمه، فحرم عليهم حتى يصونوا هذا الهدي ويحفظوه عن التلف والعطب.

ومن أصحابنا من قال: يحلّ لهم كما لغيرهم، لأن بحصولهم في هذا الموضع صاروا من أهله. وقال بعض أصحابنا بخراسان: يريد بالرفقة الذين معه على السفرة أو النهد دون أهل القافلة كلهم، [250/أ] وهذا حسن، وقيل: يحرم على سائقه أن يأكل ولا يحرم على غيره أن يأكل منه إن احتاج إليه لما روي من خبر أخر أنه قال: "انحره ثم خلّ بينه وبين الناس". ذكوه أبو سليمان الخطابي رحمه الله. وإنما يحلّ أكل هذا إذا خلّى بينه وبين المساكين لفظاً، بأن يقول: أبحته لهم، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نحر البدن، قال: "ليقطع من شاء منكم"، وهذا لأن له أن يخص به من شاء من الفقراء، فإذا تقرر هذا فمن سمع الإذن حلّ له أن يأخذ، ومن لم يسمع وجهل، هل تلفظ به صاحبها، هل يحل له الأكل منها؟ فيه قولان: أحدهما: يحل نص عليه في "الأم"، لأن الظاهر أنه أباح لفظاً. وقال في "الإملاء": لا يحلّ حتى يتحقق ذلك، فإن نحره، ولم يبحه لفظاً للمساكين ضمنه، وكذلك إن ترك نحره حتى مات ضمنه، وإن أكل منه ضمنه. وبه قال مالك، نص عليه في "الأم". وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا يحتاج إلى اللفظ ويباح للفقراء بهذه الإمارة كمن وضع ماء على الطريق وجعل عليه إمارة الإباحة، فللناس الشرب منه، ومن قال بالأول فرق بأن أصل الماء على الإباحة بخلاف الهدي. وإذا قلنا: يضمن ما أكله، قال صاحب "الإفصاح": قال الشافعي عليه بدله لمساكين الحرم وعندي القياس أن يجعله لمساكين الموضع، وهذا غلط، لأنه يمكن إيصال ثمنه إلى مساكين الحرم، ولا يمكن حمل الذبيحة إليهم، وهو كما يجب حمل الولد إليهم دون اللبن. فَرْعٌ آخرُ لو أتلف الأجنبيّ هذا الهدي يلزمه القيمة، فإن كانت القيمة مثل [250 /ب] ثمن مثلها اشترى بها مثلها، وإن كانت أكثر ولم يبلغ ثمن المثلين اشترى المثل. وفي الفاضل الأوجه الثلاثة، وإن كانت أقل من ثمن المثل، ففيه الأوجه الثلاثة. فَرْعٌ آخرُ لو كان الهدي الذي نذره اشتراه ووجد به عيباً، بعد النذر لا يمكنه الردّ بالعيب ويرجع بالأرش ويكون الأرش للمساكين، وماذا يفعل به؟ الحكم على ما ذكرنا. فَرْعٌ آخرُ لو نذر أن يهدي حيواناً غير النعم لا يذبحه بل يتصدّق به حيّاً على فقرا، مكّة، لأن الذبح فيه لا يكون قربة، وإذا لم يكن قربة كان نقصاً، وكذلك إذا أهدى تصدّق به على فقراء مكّة.

فَرْعٌ آخرُ لو نذر أن يهدي شيئاّ من العقار باع وأوصل ثمنه إليهم، ولو نذر أن يهدي شيئاً لحمله مؤنة، هل تلزمه مؤنته؟ نظر فإن قال: جعلت في هذا هدياً، لم يلزمه مؤنته بل مؤنة حمله منها، فيباع بعضها وينفق على الباقي ليصل، وإن قال: لله عليّ أن أهدي بهذا، فالمؤنة عليه. ذكره أصحابنا بخراسان. فَرْعٌ آخرُ يستحب إذا فرع من حجّه أن يزور قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من زارني بعد موتي فكأنما زارني في حياتي". وروي عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من زار قبري وجبت له الجنة". وروي: "وجبت له شفاعتي"، ويستحب أن يصلي في مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلاة في مسجدي هذا تعال ألف صلاة في غيره من المساجد" ذكره أصحابنا، وحكى العيني في هذا حكاية حسنة [251/أ]، قال: كنت عنه قبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاء أعرابي وقال: السلام عليك يا رسول الله، ثم قال: سمعت الله تعالى يقول: {ومَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إلاَّ لِيُطَاعَ بِإذْنِ اللَّهِ ولَوْ أَنَّهُمْ إذ ظَّلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ واسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} [النساء: 64] وقد جئتك مستغفراً من ذنبي مستشفعاً بك إلى ربي ثم أنشأ يقول: يا خَيرَ من دُفِنت بالقاع أعظمه فطاب من طيبهن القاع والأكم نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه فيه العفاف وفيه الجود والكرم قال: ثم انصرف الأعرابي فغلبتني عيناي فنمت، فرأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - في المنام، فقال: يا عيني الحق الرجل، وأخبره أن الله عزّ وجلّ قد غفر له. وهذا آخر ربع العبادات والحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على نبيه محمد وآله وصحبه أجمعين. يتلوه في الذي يليه كتاب الصيد والذبائح [251/ب].

كتاب الصيد والذبائح

كتاب الصيد والذبائح باب صفة الصائد من كلب وغيره وما يحل من الصيد وما يحرم قال الشّافِعيِ رحمهُ اللهُ تعالى:" كُلّ معلم مِن كلِبِ وفهد ونمر وغيْرها مِن الوَحشِ وكان إذاً أشلي استشلى وإذاً أخذ حبس ولم يأكل فإنّه إذاً فعلًّ هذا مرّةً بعد مرّةً فهوَ معلم وإذاً قتل فكُلّ ما لم يأكل". قال في الحاوي: والأصل في إباحة الصيد الكتاب والسنة هو إجماع الأمة. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأَنتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:1] وفي قوله تعالى {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1] فيه تأويلان: أحدهما: أنها العقود التي يتعاقدها الناس بينهم من بيع، أو نكاح، أو يعقدها المرء على نفسه من نذر أو يمين. والثاني: أنها العقود التي أخذها الله تعالى على عباده، فيها أحله لهم وحرمه عليهم، وأمرهم به، ونهاهم عنه. العقد أوكد من العهد، لأن العقد ما كان بين اثنين، والعهد قد ينفرد به الإنسان في حق الله وحق نفسه. وفي {بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة:1] تأويلان: أحدهما: أنه أجنة الأنعام التي توجل ميتة في بطون أمهاتها إذا ذبحت وهذا قول ابن عباس وابن عمر. والثاني: أنها وحش الأنعام من الظباء وبقر الوحش، وجميع الصيد، وهذا قول أبي صالح. وفي تسميتها "بهيمة" تأويلان: أحدهما: لأنها أبهمت عن الفهم والتميز. والثاني: أنها أبهمت عن الأمر والنهي.

وفي قوله تعالى: {إلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وأَنتُمْ حُرُمٌ} [المائدة:1] يريد به جميع الوحش من صيد البر يحرم في الحرم، والإحرام، وفي قوله تعالى: {وأَنتُمْ حُرُمٌ} تأويلان: أحدهما: في الحرم، وهو قول ابن عباس. والثاني: في الإحرام، وهو قول أبي صالح {إنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} تأويلان: أحدهما: يقضي ما يريد عفو وانتقام. والثاني: يأمر بما يريد من تحليل وتحريم، وهذه أعم آية في إباحة الأنعام والصيد في حالي تحليل وتحريم. وقال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ} [المائدة:96] يعني ما عاش فيه من سمكه وحيتانه وطعامه {مَتَاعًا لَّكُمْ ولِلسَّيَّارَةِ} فيه تأويلان: أحدهما: مملوحة. والثانية: طافية. {وحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96] فدل على إباحته لغير المحرم، كما قال تعالى: {وإذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] وهذا وان كان أمراً، وهو بعد حظر فدل على الإباحة دون الوجوب. وقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ ومَا عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] وفي مراده بالطيبات تأويلان: أحدهما: ما استطبتموه من اللحمان سوى ما خص بالتحريم. والثاني: أنه أراد بالطيبات الحلال، سماه طيباً، وان لم يكن مستلذاً تشبيهاً بما يستلذ لأنه في الدين مستلذ. {ومَا عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] يعني: وصيد ما علمتم من الجوارح، فأضمره، لدلالة المظهر عليه. والجوارح: ما صيد به من سباع البهائم، والطير، وفي تسميتها بالجوارح تأويلان: أحدهما: لأنها تجرح ما صادت في الغالب. والثاني: لكسب أهلها بها من قولهم: "فلان جارحة أهله" أي: كاسبهم. قال الله تعالى: {ويَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ} [الأنعام:60] أي كسبتم. وفي قوله تعالى: {مُكَلِّبِينَ} تأويلان: أحدهما: أنها الكلاب وحدها ولا يحل صيد غيرها، وهذا قول ابن عمر والضحاك والسدي. والثاني: أن التكليب من صفات الجوارح من كلب وغيره وفيه تأويلان:

أحدهما: أنه الضراوة على الصيد، ومعناه: مضرين عليه، وهذا قول ابن عباس. والثاني: أنه التعليم، وهو أن يمسك، ولا يأكل. ثم قال تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ} [المائدة:4] فيه تأويلان: أحدهما: ترسلوهن على ما أحله الله لكم دون ما حرمه عليكم. والثاني: تعلمونهم من طلب الصيد لكم مما علمكم الله من التأديب الذي علمكم، وهو تعليمه أن يستشلي إذا أشلى، ويحيب إذا دعى ويمسك إذا أخذ. ثم قال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] فكان هذا نصاً في الإباحة وفي سبب نزول هذه الآية قولان: أحدهما: ما رواه أبو رافع أن جبريل عليه السلام أراد الدخول على محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرأى كلباً، فرجع، وقال: "إنا لا ندخل بيتا فيه كلب ". قال أبو رافع: "فأمرني بقتل الكلاب، فقتلتها، فقالوا: يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فسكت حتى نزلت عليه بهذه الآية". والثاني: أن زيد الخيل وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال له: "فينا رجلان يقال لأحدهما دريع، والآخر يكنى أبا دجانة، ولهما أكلب خمسة تصيد الظباء فما ترى في صيدها؟ ". وحكى هشام عن ابن عباس أن أسماء هذه الكلاب الخمسة التي لدريع وأبي دجانة: المختلس، وغلاب، وسهلب والغيم والمتعاطي، فأنزل الله تعالى هذه الآية وأما السنة، فروى أبو سلمة عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اقتنى كلباً إلا كلب ماشية أوصيد أو زرع انتفض من أ<ره كل يوم قيراط ". وروى أبو إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "كل ما ردت عليك قوسك وكلبك". وروى عامر الشعبي عن عدي بن أبي حاتم قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: إنا قوم نصيد بهذه الكلاب، فقال: إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله، فكل ما أمسك عليك، وإن قتل إلا أن يأكل الكلب، فلا تأكل، فإني أخاف أن يكوك إنما أمسك على نفسه، وإن خالطتها كلاب غيرها، فلا تأكل ". قال: وسألته عن صيد البازي، فقال: ما أمسك عليك، فكل. قال: وسألته عن الصيد إذا رميته، فقال: إذا رميت سهمك، فاذكر اسم الله فإن وجدته قد قتلته، فكله إلا

أن تجده قد وقع في ما،، فمات فإنك لا تدري الماء قتله أو سهمك". وقال: وسألته عن سهم المعراض، فقال: ما صاب بجده فكل، وما أصاب بعرضه، فهو وقيز". وهذا الحديث يستوعب إباحة الصيد بجمع آلته. فصل: وإن ثبت إباحة الصيد جاز صيده بجميع الجوارح المعلمة من ضواري البهائم كالكلب والفهد والنمر، وكواسر الطير كالبازي والصقر والعقاب والنسر، وهو قول الجمهور، وقال الحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وأحمد بن حنبل، واسحاق بن راهويه: كل الصيد يجمعها إلا بالكلب الأسود البهيم. وقال عبد الله بن عمر، مجاهد والسدي: لا يحل إلا صيد الكلب وحده، ويحرم الاصطياد بما عداه، استدلالاً بقول الله تعالى: {ومَا عَلَّمْتُم مِّنَ الجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] واستدل الحسن برواية عبه الله بن مغفل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لولا أن الكلاب أمة من الأمم، لأمرت بقتلها، فاقتلوا منها الأسود البهيم". وفيما قدمناه دليل على الفريقين؛ ولأن ما وجدت فيه شروط التعليم جاز الاصطياد به، كالكلب الأبيض. فصل فإذا ثبت جواز الاصطياد بجميعها، فلا يخلو حال الصيد أن يدرك حياً أو ميتاً، فإن أدرك حياً قوي الحياة، فلا اعتبار بصفة ما صاره من معلم أو غير معلم عن إرسال واسترسال، وهو حلال إذا ذكى، فإن فاتت ذكاته حتى مات، فهو حرام، وان أدرك الصيد ميتاً اعتبر في إباحة أكله تكامل خمسة شروط إذا تكاملت حل، وإذا لم تتكامل حرم: أحدها: أن يسترسل الجارح عن أمر مرسله، فإن استرسل بنفسه لم يحل أكله، لقوله الله تعالى {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} فلم يحل ما أمسكه على نفسه. والثاني: أن يكون المرسل مما تحل ذكاته، فإن كان ممن لا تحل ذكاته حرم لأن إرساله كالزكاة. والثالث: أن لا يعيب عن عين مرسله، فإن غاب عن عين مرسله لم يحل، لأنه قد يحدث بعد مغيبه ما يمنع من إباحته. والرابع: أن لا يشركه في قتله من لا يحل صيده، وان شركه فيه لم يحل. والخامس: أن يكون الجارح المرسل معلماً: لقوله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ} [المائدة:4] فإن كان غير معلم لم يحل.

وتعليمه (يكون) بأربعة شروط: أحدها: أن يستشلى إذا أشلى، وهو أك يرسل، فيسترسل. والثاني: أن يجيب إذا دعى، وهو أن يعود إذا طلب، ويزجر إذا زجره. والثالث: أن يحس ما أمسكه، لا يأكله. والرابع: أن يتكرر ذلك منه مراراً حتى تصير له عادة، ولا يصير بالمرة والمرتين معلماً. قال الحسن البصري: يصير بالمرة الواحدة معلماً. وقال أبو حنيفة: يصير بالمرتين معلماً، لأن الثانية من الإرسال فتصير عادة وهذا فاسد، لأن في تكامل العليم غير مقنع في العرف، ولأنه لا يمتنع أن يكوك بسبب امتناعه في الأولى موجوداً في الثانية، وإذا تكرر مع اختلاف أحواله زال، ولأن مقصود التعليم هو أن ينتقل عن طبعه إلى اختيار مرسله وهو لا يتقل عه إلا بالمرون عليه، فإن قيل: فقد عبر الشافعي عن إرساله بإشلائه، وهذا خطأ في اللغة: لأنه يقال: أشليت كلبي إذا دعوته وأشليته إذا أرسلته، واستعمل الإشلاء في ضد معناه فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه من الأسماء الأضداد يجوز استعماله في الأمرين. والثاني: أنه يستعمل في الدعاء وحده، لكنه دعاه إلى الصيد، فجاز أن يكوك مشلياً له، كما لو دعاه إلى نفسه كما قال الشاعر: أَشلَيْت غَيرِي، وَمسَحْتُ عَقْبِي والثالث: أن الإشلاء هو الإغراء، فبأي شي، أغراه كان مشلياً له، كما قال الشاعر: صَدَدْتُ وَلَمْ يَصْدُونَ خَوْفاً لِرِيْبَةٍ وَلّكِنْ لإِتْلاَفِ المُحَرشِ وّالمُشلَّى أي المغرى والله أعلم. مسألة: قالُ الشّافِعيِ رحمهُ اللهُ تََعَالَى: "فإنّ أكُلّ فلا تأكّل فإنّما أمُسُك على نفسُه وذكر الشُّعبيِ عن عُدّيِ بُنِّ حاتم رضيَ اللهُ عنه أنّه سمِع النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يقول: "فإنّ أكُلّ فلا تأكّل" قَالَ: وإذاً جمع البازيِ أوْ الصّقر أوْ العِقاب أوْ غيْرها مِمّا يصيدُ أن يدّعيَ فيَجيبُ ويشلى فيَطيرُ ويَأخُذُ فيُحبِسُ مرّةً بعد مرّةً فهوَ معلم فإنّ قتل فكُلّ وإذاً أكُلّ ففي القياس أنّه كالكلِبِ. قال المُزَنيُّ رحمهُ اللهُ: ليْس البازيِ كالكلِبِ؛ لأنَّ البازيَِّ وصفّهُ إنّما يُعلِمُ بِالطُّعمِ وبِهِ يأخُذُ الصّيْدُ والكلِبُ يُؤدِّبُ على تركِ الطُّعمِ والكلِبُ يُضرِبُ أدُبا ولا

يمُّكُنّ ذلِك في الطّيْرِ فهُما مُختلِفانِ فيُؤكِّلُ ما قِتلُ البازيِ وإنّ أكُلّ ولا يُؤكِّلُ ما قِتلُ الكلِبِ إذاً أكُلّ لِنهي النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - عن ذلِك". قال في الحاوي: إذا أرسل الجارح المعلم على صيد، فقتله، ولم يأكل منه حل أكله؟ لقوله الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}. وإن أكل الجارح من الصيد الذي قتله، ففي إباحة أكله قولان سواء كان من كواسب البهائم أو كواسر الطير: أحدهما: وهو قوله في القديم - يحل أكله. وبه قال من الصحابة عبد الله بن عمر، وسعد بن أبي وقاص وسلمان الفارسي. ومن الفقهاء مالك، وأبو ثور، وداود. والقول الثاني: وبه قال في الجديد: لا يحل أكله. وبه قال من الصحابة عبد الله بن عباس، وأبو هريرة. ومن الفقهاء أهل العراق. وقال أبو حنيفة، والمزني وهو مذهب الشعبي والنخعي أن ما كان من كواسب البهائم لم يحل أكله، وان كان من كواسر الطير يعلم بالأكل ولا فرق بينهما عند الشافعي على القولين: لأمرين: أحدهما: أن البازي يعلم بالأكل في مبادئ التعليم، وبالامتناع من الأكل عن استكماله، ولو كان تعليمه بالأكل في الحالين، لما صحّ تعليمه إذا امتنع من الأكل، ولكان أكل منه شرطاً في إرادة أكله، وهذا مدفوع. والثاني: أنه يعلم بالأكل من يد معلمه، ولا يعلم من أكل ما صاده وإذا لم يكن بينهما فرق على القولين، فإن قيل بقوله في القديم أنه يحل أن يؤكل ما أكل منه، في ليله حديث أبي ثعلبة الخشني. روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً أتى رسول - صلى الله عليه وسلم - يقال له أبو ثعلبة، فقال: يا رسول الله إن لي كلاباً مكلبة فأفتني في صيدها فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن كانت الكلاب مكلبة، فكل مما أمسكن عليك. قال: ذكي، وغير ذكي؟ قال: ذكي وعير ذكي. قال: وإن أكل منه؟ فقال: وان أكل منه". وروى أبو إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة الخشني عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا أرسلت كلبك المكلب، وذكرت اسم الله عليه فكل، وإن أكل منه" فهذا نص.

ولأن ما حل أكله بفوات نفسه لم يحرم بحدوث أكله كالمذكى، ولأن ما حل من صيده إذا لم يأكل منه حل، وإن أكل منه، كما لو تركه بعد صيده، ثم عاد فأكل منه؛ ولأنه لو أكل من غير صيده، وأكل غيره من صيده لم يحرم واحد منهما، فدل على أن الأكل لا يوجب التحريم. وإن قيل بقوله في الجديد: إن أكل ما أكل منه حرام، فدليله قول الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وما أكل منه، فقد أمسكه على نفسه، لا على مرسله، ويدل عليه حديث عدي بن حاتم، وهو أثبت من حديث أبي ثعلبة الخشني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا أرسلت كلبك المعلم، وذكرت اسم الله عليه فكل، وان قتل إلا أن يأكل منه، فلا تأكل". وهذا نص. ولأن من شرط التعليم أن لا يأكل منه، وإذا أكل بان أنه غير معلم، فخرم؛ ولأن أكله وان احتمل أمرين: أحدهما: نسيان التعليم، فمحرم. والثاني: لغلبة الجوع، فلا يحرم. وجب عند تعارضهما أن يعاد إلى أصله في الحظر والتحريم كما لو اختلط مذكي بميتة لم يحل الاجتهاد فيه؛ تغليباً للتحريم؛ ولأن الصيد الواحد لا يتبعض حكمه فلما كان ما أكله قد أمسكه على نفسه، كذلك باقية، وما أمسكه على نفسه حرام. فصل فإذا تقرر توجيه القولين فيها أكل منه، فلا يختلف مذهب الشافعي أن ما تقدمه من صيده الذي لم يأكل منه حلال. وقال أبو حنيفة: يحرم جميع صيده المتقدم بأكله من الصيد المستأخر؛ استدلالاً بأمرين: أحدهما: أن الأكل إذا كان منافياً للتعليم دلّ حدوثه منه على تقدمه فيه فصار صائداً لجميعه، وهو غير معلم كالشاهدين إذا شهدا، وهما عدلان في الظاهر، فلم يحكم الحاكم بشهادتهما ففسقا لم يحكم بها، وإن تقدمت على فسقهما؛ لأنهما دليل على تقدم الفسق فيهما. والثاني: أن التعليم ينقله عن طبعه، فإذا لم ينتقل عنه مع الآخر دلّ على أنه كان غيره منتقل مع الأول، وصار ترك أكله في الأول اتفاقاً لا تعليماً. ودليلنا: قول الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] وقد أمسك على مرسله بما تقدم فحل؛ لأن ما وجدت شروط الإباحة فيه لم يحرم تقدمها في غيره كإسلام مرسله لو ارتد عنه بعدم إرساله لم يحرم ما صيد قبل ردته؛ ولأنه قد حكم بتعليمه بما تكرر من ترك أكله، وحدوث الأكل منه يحتمل أن يكون لشدة جوع، ويحتمل أن يكون لحدوث نسيان ويحتمل أن يكون لأن تعليمه لم يستقر فلم يجز أن ينقض ما تقدم من الحكم بتعليمه بأمر

محتمل يتردد بين حدوث وقدم، كالشاهدين إذا نفذ الحكم بشهادتهما، ثم حدث فسقهما لم يجز أن ينتقض به الحكم المتقدم؛ لجواز تردده بين حدوث وقدم؛ ولأن تركه الأكل شرط في التعليم كما أن استرساله إذا أرسل شرط فيه، ثم ثبت أنه صار يسترسل إن لم يرسل ولا يسترسل إن أرسل لم يدلّ على تحريمه ما تقدم من صيده، وإن كان غير معلم فيه، كذلك حدوث الأكل. وبتحرير هذه الأدلة تكون الأجوبة عما قدموه من الدليل. فإن قيل: فإذا تعارض ما يوجب الحظر والإباحة، يغلب حكم الحظر على الإباحة. قيل: قد اختلفت أصحابنا فيه، فمنهم من سوى بينهما واعتبر ترجح أحدهما بدليل. ومنهم من غلب الحظر، وهو قول الأكثرين، لكن يكون هذا فيما امتزج فيه حظر وإباحة. فأما ما لم يمتزج فيه الحظر والإباحة، فلا يوجب تغليب الحظر على الإباحة، كالأواني إذا كان بعضها بخساً، وبعضها طاهراً لم تمنع من الاجتهاد في الظاهر، وها هنا قد تميزت الإباحة في المتقدم على الحظر، في المستأجر، فلم يجز تغليب أحدهم على الآخر، وأثبت كل واحد من الحكمين في محله. فصل: وإذا ولغ الكلب في دم الصيد لم يحرم وحرمه النخعي، وأجراه مجرى الأكل، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن الدم خارج من الإباحة، فلم يعتقد منه التحريم كالفرث. والثاني: أنه منفصل، فلم يوجد منه حكم متصل، والله أعلم. مسألة: قالُ الشّافِعيِ رحمهُ اللهُ تعالى:" وذا أرِسل أحببتُ لهُ أن يُسمّيَ اللهُ تعالى فإنّ نسيّ فلا بأس لان المُسلِمُ يُذبِّحُ على اِسمِ الله ". قال في الحاوي: التسمية على الصيد والذبيحة سُنَّة، وليست بواجبة، فإن تركها عامداً أو ناسياً، حل أكله. وبه قال من الصحابة عبا الله بن عباس، وأبو هريرة. ومن الفقهاء عطاء، ومالك. وقال الشعبي، وداود، وأبو ثور: التسمية واجبة، فإن تركها عامداً أو ناسياً حرم الأكل. وقال سفيان الثوري، وأبو حنيفة، وأصحابه، وإسحاق بن راهويه: تجب مع الذكر، تسقط مع النسيان، فإن تركها عامداً حرم، وان تركها ناسياً حلّ؛ استدلالاً بقول

الله تعالى: {ولا تَاكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وإنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121] وهذا نص، وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي وأبي ثعلبة الخشني: "إذا أرسلت كلبك المكلب وذكرت اسم الله عليه، فكل" فعلق الإباحة بشرطين، فلم يجز أن يتعلق بأحدهما، ولأنه لما كان من شرط الذكاة أن يكون المذكي من أهل التسمية، فحلت زكاة المسلم والكتابي؛ لأنه من أهلها. ولم تحل ذكاة المجوسي، والوثني؛ لأنه ليس من أهلها، كانت التسمية أولى أن تكون من شرط الذكاة؛ لأنه حرمه أهلها بها. وبعكسه لما لم تكن التسمية شرطاً في صيد السمك لم تكن من شرط صائده أن يكون من أهل التسمية من مجوسي ووثني كما حل صيد من كان من أهلها من مسلم وكتابي. ودليلنا قول الله تعالى: {ومَا أَكَلَ السَّبُعُ إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] فكان على عمومه، وإن قيل: فالتسمية هي الذكاة كان فاسداً من وجهين: أحدهما: أن التسمية قول والذكاة فعل، فافترقا. والثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الذكاة، فقال: "في الحلق واللبة ". وقال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} [المائدة:5] يعني ذبائحهم. والظاهر من أحوالهم أنهم لا يسمون عليها، فدل على إباحتها. وروى البراء بن عازب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " المسلم يذبح على اسم الله سمى أو لم يسمّ". والظاهر من أحوالهم أنهم لا يسمون عليها، فدل على إباحتها. وروى أبو هريرة أن رجلاً قال: يا رسول الله أرأيت الرجل منا يذبح، وينسى أن يسمي الله تعالى، فقال: "اسم الله على قلب كل مسلم". وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن قوماً قالوا: يا رسول الله إن قوماً يأتون بلحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا) فقال: "اذكروا اسم الله عليه، ثم كلوه". وأباح الذبيحة من غير تسمية أو التسمية عند الأكل لا تجب فدل على أنها مستحبة. وروى أبو العشراء الدارمي عن أبيه أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المتردية من الإبل في بثر لا نصل إلى منحرها. فقال: "وأبيك لو طعنت في فخذها أجزاك "، فعلق الإجزاء بالعقود دون التسمية، فدل على الإباحة.

وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنهر الدم، وفرى الأوداج، فكل "؛ ولأن ما يوجد فيه فعل الذكاة، لم تحرم بترك التسمية كالناس؛ ولأن ما لم يحرم به ذكاة الناس لم تحرم به ذكاة العامد كالأخرس؛ لأن ما لم يكن للذكر شرط في انتهائه لم يكن شرطاً في ابتدائه كالطهارة طرداً والصلاة عكساً، ولأن ما لم يكن شرطاً في الذكاة مع النسيان، لم يمكن شرطاً فيها مع الذكر كالصلاة على النبي ولأن الحوت يستباح بتاركها كما يحل الصيد بذكاته، فلما لم تكن التسمية شرطاً في استباحة الحوت لم تكن شرطاً في استباحة غيره. فأما الجواب عن الآية فمن وجهين: أحدهما: أنه حقيقة الذكر بالقلب؛ لأن ضده النسيان المضاف إلى القلب، فيكون محمولاً على من لم يوجد الله من عبدة الأوثان. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وإنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام:121] والمشركون هم أوليا، الشياطين دون المسلمين. والثاني: محمول على الميتة؛ لأمرين: أحدهما: قوله تعالى: {وإنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام:121] وذكاة ما لم يسم عليه لا تكون فسقاً. والثاني: أن قوماً من المشركين قالوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: تأكلون ما قتلتموه ولا تأكلون ما قتله الله؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. وأما الجواب عن الخير من وجهين: أحدهما: أن نطق الخبر إباحة الأكل مع التسمية، ودليل خطابه متروك عندنا بدليل ومتروك عنده بغير دليل؛ لأنه لا يجعل إثبات الشيء دليلاً على نفي ما عداه. الثاني: أنه محمول على الاستحباب بدليل ما ذكرناه. والجواب عما استدل به من ذكاة المجوسي والوثني؛ لأنه ليس من أهل التسمية وهو أنه ليس لهذا المعنى حرم ذكاته، ولكن لتغليظ كفره، ولذلك حرمت مناكحته، وإن لم تكن التسمية شرطاً في النكاح. وأما صيد السمك فلا يعتبر فيه فعل آدمي، وذلك حل إذا مات بغير سبب وعند أبي حنيفة إذا كان بسبب، فلذلك حكم على عموم الأحوال. مسألة قالُ الشّافِعيِ رحمهُ اللهُ تعالى:" ولوْ أرِسل مُسلِمِ ومجوسي كلبيْنِ مُتفرِّقين أوْ طائِريْنِ أوْ سهميْنِ فقتّلا فلا يُؤكِّلُ".

قال في الحاوي: اعلم أن الصيد إذا أدرك حياً، فالاعتبار في إباحته بذابحه دون صائده، فإن صاده مجوسي، وذبحه مسلم حرم، ولو صاده مسلم وذبحه مجوسي حرم. فأما إذا أدرك الصيد ميتاً، فالاعتبار في إباحته بصائده دون مالك الآلة، فإن أرسل مسلم كلب مجوسي، فصاد كان صيده حلالاً؛ لأنه صيد مسلم، ولو أرسل مجوسي كلب مسلم، كان صيده حراماً؛ لأنه صيد مجوسي. وقال محمد بن جرير الطبري: الاعتبار بمالك الكلب دون مرسله، فيحل ما صاده المجوسي بكلب المسلم، ويحرم ما صاده المسلم بكلب المجوسي، وبناه على أصل تفرد به أن الكلب لو تفرد بالاسترسال من غير إرسال حل صيده وهذا فاسد الأصل، لمخالفة النص. وحكى في التفريع؛ لأن الإرسال قد رفع حكم الاسترسال، وكذلك لو رمى مسلم بعمهم مجوسي عند قوسه حل، وعكسه المجوسي؛ لأن الاعتبار بالصائد لا بالآلة، ولهذا إذا كانت الآلة مغصوبة كان الصيد للصائد دون صاحب الآلة، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الصيد لمن صاده لا لمن أثاره". فصل: فإذا تقررت هذه الجملة، فصورة مسألتنا أن يجتمع مسلم ومجوسي على صيد يرسل كل واحد منهما كلبه عليه أو يرسل أحدهما عليه كلباً، والآخر فهداً أو بازياً أو سهماً سواء تماثلا في آلة الاصطياد أو اختلفا، فإن الحكم فيهما سواء وإذا كان كذلك لم يخل حال المرسلين في الصيد من سبعة أقام: أحدها: أن يشترك كلب المجوسي وكلب المسلم على إمساك الصيد وقتله فيكون حراماً؛ لأنه قد اجتمع تحليل بكلب المسلم، وتحريم بكلب المجوسي، واجتماع التحريم والتحليل في العين الواحدة يوجب تغليب التحريم على التحليل، كالأمة بين شريكين يحرم على كل واحد منهما إصابتهما؛ لاجتماع التحليل في حقه والتحريم في حق شريكه. والثاني: أن يشركا في إمساكه ثم يموت من غير اشتراك في قتله، فيحرم، لأن الامساك صار قتلاً، فصار كاشتراكهما في قتله. والثالث: أن يشتركا في جراحه من غير إمساك، فيحرم؛ لأنهما قاتلاه إلا أن يكون كلب المسلم قد ابتدأ بجراحه، فوجأه بقطع حلقومه أو بإخراج حشوته ثم أدركه كلب المجوسي مضطرباً فجرحه فيحل بتوجيه كلب المسلم، ولا يحرم لما تعقبه من جراح كلب المجوسي، كالشاة المذبوحة إذا أكل منها سبع لم تحرم وان كانت باقية الحركة. والرابع: أن يشتركا في إمساكه، وينفرد أحدهما بقتله، فيحرم سواء انفرد بقتله كلب المجوسي أو كلب المسلم لحدوث القتل عن الإمساك المشترك.

والخامس: أن ينفرد أحدهما بإمساكه، ويشتركا في قتله، فيحرم سواء انفرد بإمساكه كلب المسلم أو كلب المجوسي؛ لأن قتله مشترك. والسادس: أن ينفرد أحدهما بإمساكه، وينفرد الآخر بقتله، فيحرم سواء قتله كلب المجوسي أو كلب المسلم؛ لأنه أمسكه كلب المسلم وقتله كلب المجوسي حرم؛ لأنه قتله كلب مجوسي، وان أمسكه كلب المجوسي، وقتله كلب المسلم حرم؛ لأنه بإمساك كلب المجوسي له قد صار مقدوراً على ذكاته، فلم يحل بقتل كلب المسلم له، فاستويا في التحريم، واختلفا في التحليل. والسابع: أن ينفرد أحدهما بالإمساك، والقتل دون الآخر، فينظر، فإن تفرد به كلب المجوسي حرم، وإن تفرد به كلب المسلم حل، سواء أثر كلب المجوسي في إعيائه ورده أو لم يؤثر. وقال أبو حنيفة: إن أثر كلب المجوسي في إعيائه ورده حرم كما لو أمسكه؛ لتأثير الأمرين فيه، وهذا خطأ؛ لأن الإمساك مباشرة تخالف حكم ما عداها ألا ترى أن الصيد لو مات بالإعياء في طلب الكلب حرم، ولو مات بإمساكه حل، ولو طلبه محرمان، فأعياه أحدهما وأمسك الآخر، فمات كان جزاؤه على الممسك دون المعيي، فدل على افتراق الحكمين. فصل: وعلى هذا التقسيم لو كان لمسلم كلبان: أحدهما: معلم، والآخر: غير معلم فأرسلهما على صيد كاجتماع كلب المجوسي وكلب المسلم على صيد؛ لأن ما صاده غير المعلم في التحريم كالذي صاده الكلب المجوسي، وكذلك لو كان لمسلم كلبان معلمان، فأرسل أحدهما، واسترسل الآخر، كان على هذا التقسيم في الجواب؛ لأن صيد المرسل حلال، وصيد المسترسل حرام. ولو أشكل حكم الصيد في هذه الأحوال كلها، هل هو مباح لإباحة نفسه؟ أوجب حمله على التحريم دون التحليل؛ لأن الأصل في فوات الروح لحظر حتى يعلم به الإباحة، فإن أدرك هذا الصيد بشك أو يقين، وفيه حياة، فذبح نظر في الحياة التي كانت فيه، فإن كانت قوية يعيش معها اليوم واليومين حلّ أكله بهذا الذبح وصار مذكى، وإن كانت حياته ضعيفة، كاضطراب المذبوح لا يبقى معها زماناً مؤثراً لم يحل أكله بذبحه، وكان على تحريمه. مسألة: قالُ الشّافِعيِ رحمهُ اللهُ تعالى:" وإذاً رمى أوْ أرِسل كلِبِهُ على الصّيْدِ فوُجدهُ قتيلاً

فالخبِر عن اِبنِ عباسِ والقياس أن لا يأكُلُهُ لِأنّه يمّكُنّ أن يُكوِّن قِتلُهُ غيْره. قالُ اِبنِ عباسِ: كُلّ ما أصميت ودع ما أنميْتُ وما أصميت وأنتِ تِراهُ وما أنميْتُ ما غابُ عنكِ فقتلهُ إلّا أن يبلُغ مِنه مبلغ الذِّبحِ فلا يضُرُّهُ ما حدثُ بعده". قال في الحاوي: وصورتها أن يرمي صيداً بهم أو يرسل عليه كلباً، فيغيب الصيد عنه، ثم يجده ميتاً، فهذا على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون السهم أو الكلب قبل مغيب الصيد قد بلغ منه مبلغ الذبح وهو يراه، ثم تحامل الصيد بضعف الحياة حتى غاب عنه، ثم وجده ميتاً، فهذا مأكول؛ لأنه قد صار مذكى عند مشاهدته، فلم يحرم ما حدث بعده. والثاني: أن يغيب الصيد قبل أن يقع فيه السهم، وقبل أن يجرحه الكلب، ثم يجده بعد غيبته مجروحاً ميتاً، فهو حرام لا يؤكل سواء كان السهم واقعاً فيه والكلب واقعاً عليه، أو لا؛ لأنه قد يجوز أن يشارك عقر الكلب في قتله جراحة سبع أو لسعة أفعى، ويغرب فيه سهم إنسان آخر، فلما احتمل هذا وغيره وجب أن يكون محرماً؛ لأنه على أصل الحظر. والثالث: أن يقع فيه السهم ويجرحه الكلب، وهو يراه ويغيب عنه، وهو قوي الحياة، ثم يجده ميتاً، فهي مسألة الكتاب. والذي نص عليه الشافعي، ونقله المزني أنه لا يؤكل للخبر عن ابن عباس والقياس. وقال في كتاب " الأم":لا يؤكل إلا أن يكون قد ورد فيه خبر، فيسقط حكماً خالفه، ولا يقوم له رأي، ولا قياس، وقد ورد فيه خبر، وهو ما روي أن أبا ثعلبة الخشني قال: "يا رسول الله إني أرمي الصيد وأجده ميتاً، فقال: كله ما لم تر فيه أثر غيرك" وروي أن عدي بن حاتم قال: "يا رسول الله إني أرمي الصيد فأقتفي أثره اليوم والثلاثة واجده ميتاً، فقال: "كله ما لم ينتن ". وروي: ما لم يصل: أي لم يتغير، وهذان الخبران قد وردا من طريق ضعيف، فإن لم يصح واحد منهما، والحكم فيه ما نص عليه أنه غير مأكول، وإن صح هذان الخبران أو أحدهما، فهو مأكول، واختلف أصحابنا في صحته، فذهب أكثر البصريين إلى أنه ليس بصحيح، ولا ثابت، وأن المسألة على قول واحد إنه غير مأكول. وذهب أبو العباس بن سريج وأكثر البغداديين إلى أنه قد صح، وثبت، وأن في إباحة أكله قولين: أحدهما: وهو منصوص عليه أنه غير مأكول.

والثاني: وهو الموقوف على صحته الخبر أنه مأكول. وقال أبو حنيفة: إن كان مقيماً على اتباعه وطلبه حتى وجده ميتاً أكل، وان تركه وتشاغل عنه، ثم وجده ميتاً لم يؤكل؛ لأنه ما دام على طلبه يصل إلى ذكاته مع القدرة، ولا يصل إليها مع الترك. وقال مالك: إن وجده في يومه أكل، وإن وجده بعد انقضاء يومه لم يؤكل وفيما نكره من توجيه القولين دليل عليهما في مخالفة القولين، فإذا قلنا بالأول إنه غير مأكول، وهو الأظهر فوجهه ما رواه عكرمة أن رجلاً أتى ابن عباس، فقال له: إني أرمي، فأصمي، وأنمي فقال له ابن عباس: "كُلْ ما أصميت، ودع ما أنميت" يريد بما أصمى ما قتله، وهو يراه، وبما أنمى ما غاب عنه، فلم يره حتى نمى إليه، خبر موته، ولأنه احتمل مع الغيبة أن يكون موته من عقره، فيحل، وأن يكون بغيره من الأسباب، فيحرم وجب أن يغلب حكم التحريم. وإذا قلنا في الثاني: إنه مأكول، فوجهته مع الخبرين ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مر بالروحاء فإذا هو بحمار وحشي عقير فيه سهم قد مات، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: دعوه حتى يأتي صاحبه"، فجاء رجل من فهر، فقال: هي رميتي يا رسول الله، فكلوه، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر أن يقسمه بين الرفاق، وهم محرمون". فدل على أن ما غاب لم يحرم، ولأن حكم عقره بالسهم، والكلب ثابت، فلم يجز العدول عنه، بتجويز غيره، كما لو جرح حيواناً فمات قبل اندمال جرحه، كان ضامناً لقيمته، وان جاز أن يموت بغيره، وكذلك لو جرحٍ إنساناً فمات كان مأخوذاً بالقود، وإن جاز أن يحدث بعد جرحه سبب يموت به إثباتاً لحكم النفي وإسقاطاً لحكم الشك، كذلك حكم الصيد يجب أن يكون منسوباً إلى عقره المتحقق دون ما يطرأ من شك يجوز. مسألة: قالُ الشّافِعيِ رحمهُ اللهُ تعالى:"وإذاً أدرك الصّيْدِ ولم يُبلِغُ سِلاحُهُ أوْ معلمةً ما يُبلِغُ الذِّبحُ فأمكنهُ أن يذبحهُ فلم يُفعِّلُ فلا يأكُلُ كان معه ما يُذبِّحُ بِهِ أوْ لم يكِن فإنّ لم يُمكّنك أن تذبحهُ ومعكِ ما تُذكيهُ بِهِ ولم تُفرِطُ حتّى مات فكُلّ". قال في الحاوي: وهذا كما قال. إذا رمى صيداً، فجرحه أو أرسل عليه كلبه، فعقره، ومات من غير ذكاته فهذا على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون العقر قد وجأه، وبقيت فيه حياة، كجرحه المذبوح وذلك بأن

يكون السهم قد فرق في قلبه أو يكون الكلب قد قطع حلقومه أو أخرج حشوته، فهذا حلال مأكول، ولا يلزمه ذبحه، وان قدر عليه لفوات نفسه بذكاة مثله أو لم يكن لبقاء الحركة تأثير في الحياة كما لو شق سبع بطن شاة، فذبحت لم تحل لفوات الحياة بغير الذبح، وإن كانت الحركة باقية. والثاني: أن يكون العقر قد أثبته، ولم يوجه، ومات قبل وصول الرامي أو المرسل إليه، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يفوته إدراك حياته، تأخره وإبطائه، فهذا حرام غير مأكول، لأنه قد كان في حكم المقدور على ذكاته لو بادر إليه. والثاني: أن يفوته إدراك حياته مع مبادرته إليه، فهذا حلال مأكول، لتعذر القدرة على ذكاته، واختلف أصحابنا في ما يعتبر في مبادرته إليه على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة: أنه يعتبر صفة مشى مثله على مألوف سكينته، ولا يعتبر السعي كما لا يعتبر في إدراك الجمعة. والثاني: أنه يعتبر فيه السعي المهود في طلب الصيد؛ لأنه مخالف لسكينة المشي في عرف أهل، فعلى هذين الوجهين، لو كان يدركه بالسعي فمشى إليه حتى مات كان مأكولاً على الوجه الأول، وغير مأكول على الوجه الثاني. والثالث: أن يكون العقر قد أثبته، وأدركه الرامي حياً، فلم يذبحه حتى مات فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون قادراً على ذكاته، فأخرها حتى مات، فهو حرام لا يؤكل؛ لأن المقدور عليه لا يحل بغير الذكاة. والثاني: أن لا يقدر على ذكاته حتى يموت فهذا على ضربين: أحد هما: أن لا يقدر عليه لقصور زمان حياته، فهذا حلال مأكول. وقال أبو حنيفة: وهو غير مأكول؛ لأنه قد صار بإدراك حياته، كالمقدور على ذكاته، وهذا خطأ؛ لأن العجز عنها بقصور الزمان، كالعجز عنها لفواته ألا ترى أن العجز عن استعمال الماء مع وجوده كالعجز عنه مع عدمه في إباحة التيمم كذلك وجب أن يكون العجز عن الذكاة مع إدراكها كالعجز عنه مع فواتها في إباحة الأكل. والثاني: أن لا يقدر على ذكاته؛ لتعذر الآلة، فلا يجد سكيناً أو وجدها وهي كآلة لا تقطع، فهو حرام غير مأكول؛ لأنه قد كان قادراً على ذكاته لو لم يفرط في آلته. فلو كانت معه سكين، فضاعت أو غصبه عليها غاصب حتى مات لم يؤكل ولو حال بينه وبين الصيد سبع، فلم يصل إليه حتى مات أكل. والغرق بين غصب السكين، وبين منع السبع أن غصب السكين وضياعها عائد إليه، ومنع السبع عائد إلى الصيد، فلو كانت السكين في قراب قد أمك عليها فتعسر عليه

خروجها حتى مات، قال أبو علي بن أبي هريرة: يكون مأكولاً؛ لأن السكين في الأغلب تصان في قرابها إلى وقت الحاجة إليها، فلم يكن مفرطاً، وهذا عندي معتبر بحال القراب، فإن كان على المعهود في الإمساك لما اشتمل عليه كان مأكولاً، وان خرج المعهود في الضيق والشدة كان غير مأكول. ولو أخرج السكين، وتشاغل بإحدادها حتى مات، فهو غير مأكول ولو تشاغل بطلب موضع الذبح حتى مات فهو مأكول؛ لأنه لا يجد من طلب موضع الذبح ابداً، ويجد من إحداد السكين بداً. فلو شك في الصيد بعد موته: هل أدرك ذكاته، فيحل له كالمجروح إذا غاب عنه، فيكون على قولين: أحدهما: يحرم، وهو الأظهر هناك. والثاني: يحل، وهو الأصح ها هنا. مسألة: قالُ الشّافِعيِ رحمهُ اللهُ تعالى: ولوْ أرِسل كلِبِهُ أوْ سهمهُ وسمى اللهِ تعالى وهوَ يرى صيداً فأصاب غيْره فلأ بأس بأكله مِن قبل أنّه رأي صيداً ونوْاهُ وإنّ أصاب غيْره". قال في الحاوي: وهذا كما قال. إذا رأى صيداً، فأرسل عليه كلباً أو سهماً، فأصاب غيره، وقتله، فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون الصيدان في جهة واحدة، أو في جهتين، فإن كانا في جهة واحدة حل أكله، وإن كان غير ما أرسل عليه سواء كان الصيد المصاب موجوداً عند الإرسال أو معرضاً بعده، وبه قال أبو حنيفة والأكثرون. وقال مالك: هو حرام؛ لأنه أصاب غير ما أرسل عليه، فصار والكلب فيه المسترسل من غير إرسال. ودليلنا: قول الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] فكان على عمومه؛ ولأن تعين الصيد في الإرسال لا يلزم، ألا تراه لو أرسله على واحد من جماعة جاز، وأيها صار حل؛ لأن تعليمه على معين منها غير ممكن، وإذا سقط التعين حل غير المعين؛ ولأن ذكاء المقدور عليه أغلظ، وقد ثبت أن المذكي لو أراد شاة، فذبح غيرها حلت، فكان الصيد الممتنع إذا أرسل عليه كلبه، فصار غيره أولى أن يحل، ولأنه لولا أرسل على صيد كبير، فهرب، وكان معه ولد صغير وأخذه الكلب حل بوفاق مالك، فإذا كان كبيراً فأولى أن يحل؛ لأنه أمنع.

فصل: فإن كان الصيدان في جهتين، فأرسل إلى إحداهما، فعل ل إلى الآخر، فله في اختلاف الجهات أسماء يقال: صيد سائح إذا كان عن يسار الرامي، وهو أمكن، وصيد بارح إذا كان عن يمين الرامي، وهو أشق وصيد قعيد إذا كان مقابل الرامي فإذا أرسل على صيد في جهة، فعدل إلى غير من جهة أخرى، فلا يخلو أن يكون سلاحاً أو جارحاً، فإن كان سلاحاً خرج عن يده من سهم رماه أو سيف ألقاه، فعدل السهم أو السيف عن تلك الجهة إلى غيرها إما لريح اعترضته أو لخطأ كان منه، فالصيد مأكول، لأنه منسوب إلى فعله، وإن أخطأ في قصده، وخطأ المذكي لا يمنع من إباحة ذكاته كما لو أراد شاة فذبح غيرها. وان كان ذلك جارحاً من كلب أرسله إلى جهة، فعدل إلى غيرها، فقد حكى أبو حامد الإسفراييني في إباحته وجهين: أحدهما: أنه مباح الأكل كالسهم، ونسبه إلى قول أبي إسحاق المروزي ولم أره في شرحه. والثاني: أنه لا يؤكل، وفرق بين الكلب والسهم، لأن للكلب اختياراً ينصرف به، وأصحّ عندي من هذين الوجهين أن يراعي مخرج الكلب عند إرساله، فإن خرج عادلاً عن جهة إرساله إلى غيرها لم يؤكل صيده منها، وإن خرج إلى جهة إرساله ففاته صيدها، فعدل إلى غيرها، وأخذ صيدها أكل؛ لأنه على الصفة الأولى مخالف، فصار مسترسلاً وعلى الصفة الثانية موافق، وكان مرسلاً، وهذا أدل على فراهته؛ لئلا يرجع خلياً إلى مرسله. ألا ترى أن الصيد له عدل عن جهة إلى غيرها، فعدل الكلب إليها حتى أخذه حل؛ كذلك إذا أخذ غيره. فصل: وإذا أرسل سهمه على صيد في الحل، فعصفت الريح بالصيد والسهم إلى الحرم حتى قتله فيه ضمنه بالجزاء، ولم يأكله. ولو أرسل كلبه على صيد في الحل، فعدل الصيد والكلب إلى الحرم حتى قتله فيه لم يضمنه، وحل له أكله؛ لأن حكم الكلب معتبر بحال إرساله، وحكم السهم معتبر بحال وقوعه، ولو أرسل سهمه على صيد، فأصاب السهم الأرض، ثم أدلف فيها إلى الصيد فقتله ففي إباحة أكله وجهان: أحدهما: يؤكل لوصوله إليه بفعله. والثاني: لا يؤكل؛ لأن وصوله إلى الأرض قاطع بفعله. وهذان الوجهان من اختلاف قولي الشافعي في السهم المزدلف إذا أصاب هل يحتسب به في الإصابة على قولين.

مسألة: قال الشّافِعي رحمهُ اللهُ تعالى:" وإنّ أرِسلهُ ولا يرى صيدا ونوى فلأ يأكُلُ ولا نُعمِلُ النّيّة إلّا مع عيْن ترى ولوْ كان لا يجوزُ إلّا ما نوّاهُ بِعيْنه لكان العلم يُحيطُ أن لوْ أرِسل سهما على مائة ظبي أوْ كلّبا فأصاب واحِدا المصابّ غيْر منّوي بِعيْنه". قال في الحاوي: أما إذا أرسل كلبه، وهو لا يرى صيداً، فعن للكلب صيد وأخذه لم يؤكل؛ لأن إرساله على غير شيء ليس بإرسال، فصار الكلب كالمسترسل فلم يؤكل صيده. ولو أرسل سهمه، ولا يرى صيداً، فاعترضه صيد وأصابه، ففي إباحة أكله وجهان: أحدهما: أنه لا يؤكل كالذي صاده الكلب؛ لأنهما على غير شيء. والوجه الثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه يؤكل، وان لم يؤكل ما صاده الكلب، والفرق بينهما أن القصد في ذكاته غير معتبر؛ لأنه ليس يعارضه اختياره غيره. فصل: ألا تراه لو قطع خشبة لينة، فصادف حلق شاة، فذبحها أكلت. والقصد في إرسال الكلب معتبر؛ لأنه قد يعارضه اختيار الكلب، فإذا لم يصح منه القصد صار منسوباً إلى اختيار الكلب، فافترق. وقد حكى ابن أبي هريرة عن بعض أصحاب الشافعي أنه إذا أخطأ في قطع الخشبة إلى ذبح الشاة لم تؤكل، وقد نص الشافعي على إباحة أكلها، وما قاله الشافعي فقياس واضح؛ لأن الصبي والمجنون تصح ذكاتها، وان لم يصح قصدهما، وكذلك الخاطئ. مسألة: قالُ الشّافِعيِ رحمهُ اللهُ تعالى:" ولوْ خرّج الكلِبُ إلى الصّيْدِ مِن غيْر إرسال صاحِبهُ فزجرهُ فاِنزجر وأشلّاهُ فاستشلى فأخذ وقتل أكُلّ وإنّ لم يُحدث غيْر الأمر الأول فَلَا يأكُلُ وَسَوَاء استشلاه صاحِبهُ أوْ غيْره مِمّن تجوُّز ذكاتِهُ. قال في الحاوي: قد ذكرنا أن إرسال الكلب شرط في إباحة صيده، فإن استرسل بغير إرسال لم يحل صيده إلا أن يدرك حياً، فيذكى، وهو قول جمهور الفقهاء، وشذ الأصم وابن جرير الطبري، فلم يعتبر الإرسال: لأنه بالتعليم قد صار مرسلاً، وهذا خطأ؛ لأن التعليم هو أن لا يسترسل حتى يرسل وينزجر عن الاسترسال، فإذا كان كذلك، واسترسل الكلب لنفسه، فله مع صاحبه أربعة أحوال: أحدها: أن يتركه على استرساله، ولا يشليه، ولا يزجره، فلا يؤكل ما صاده.

والثانية: أن يزجره، فلا ينزجر، فلا يؤكل صيده؛ لأنه بالإسرع بعد الزجر أسوأ حالاً. والثالثة: أن يزجره ثم يشليه، فيستشلى، فيؤكل صيده؛ لأنه صاده بعد الانزجار عن إرساله. والرابعة: أن يشليه بعد الاسترسال، ويغريه بالصيد، فيمضي على إسراع بعد إشلائه واغرائه، سواء زاد إسراعه بالإغراء أو لم يزد، فإنه لا يؤكل. وقال أبو حنيفة: يؤكل استدلالاً بأن ما تقدم من استرساله قد انقطع بما حدث من إغوائه كما ينقطع زجره قبل إغرائه، فوجب أن يكون الحكم معتبراً بالآخر دون الأول؛ ولأنه إذا اجتمع استرسال وإغراء تعلق الحكم بالإغراء دون الاسترسال كالصيد إذا استرسل على طلب، فأغراه به محرم ضمنه الجزاء تغليباً لحكم الإغراء، كذلك في إباحة الأكل. ودليلنا: إن الاسترسال حاظر والإغراء مبيح، وإذا اجتمع الحظر والإباحة يغلب حكم الحظر على الإباحة، كما لو اجتمع على إرساله مسلم ومجوسي؛ ولأن الإغراء بعد الاسترسال موافق له، فصار مقوياً لحكمه، وزائداً عليه، فلم يزد حكمه بالقوة والزيادة، كما لو أرسله مجوسي وأغراه مسلم، أو أرسله مسلم وأغراه مجوسي. فأما الجواب عن قوله: إن الإغراء قد قطع الاسترسال كالزجر، فإنه إنما يقطع الاسترسال ما خلفه ولا يقطع ما وافقه والزاجر مخالف للاسترسال فصار قاطعاً والإغراء موافق له، فلم يكن قاطعاً. وأما الجواب عن قوله: إن اجتماع الاسترسال والإغراء موجب لتغليب حكم الإغراء كالمحرم، فهو أنه فيه لأصحابنا وجهين: أحدهما: أنه لا ضمان على المحرم بإغرائه، تغليباً لحكم الاسترسال، ويصير دليلاً لنا لا علينا. والثاني: يضمن بالإغراء، وان لم يصر مأكولاً بالإغراء؛ لأنه إذا اجتمع في هذا الضمان إيجاب وإسقاط، يغلب حكم الإيجاب على الإسقاط، وإذا اجتمع في المأكول حظر وإباحة يغلب حكم الحظر على الإباحة. ألا ترى أن الصيد المتولد من بين مأكول وغير مأكول إذا قتله المحرم ضمنه بالجزاء تغليباً لحكم الإيجاب ولا يؤكل تغليباً لحكم الحظر؟ كذلك في مسألتنا، فلا يكون إسقاطاً لحكم الاسترسال بالإغراء. مسألة: قالُ الشّافِعيِ رحمهُ اللهُ تعالى:"وإذاً ضرِب الصّيْدِ فقطعهُ قِطعتيْنِ أكُلّ وإنّ كانت إحدى القِطعتيْنِ أقلُّ مِن الأخرى ولوْ قِطعِ مِنه يدا أوْ رجلا أوْ أذِنا أوْ شيئا يمّكُنّ لوْ لم يُزد على ذلِك أن يُعيِّش بعد ساعةِ أوْ مدّةً أكثرُ مِنها ثمّ قتلهُ بعد بُرميّتِهُ أكُلّ كُلّ ما كان

ثابتاً فيه مِن أعضائه ولم يأكُلُ العُضوُ الّذي بان وفيه الحياة لِأنّه عُضوَ مقطوعِ مِن حيّ وحيّ بعد قِطعةٍ ولوْ مات مِن قِطعِ الأول أكُلّهُما معا لأن ذكاة بعضُه ذكاة لكُلّه". قال في الحاوي: وهذه المسألة تشتمل على فصلين: أحدهما: أن يرمي صيداً، فيقطعه قطعتين، فهذا توجيه، فتؤكل القطعتان معا سواء تفاضلت القطعتان أو تماثلتا، وسواء كان ما اتصل بالرأس أكثر أو أقل. وقال أبو حنيفة: إن تساوت القطعتان أو كان ما اتصل بالرأس أكثر أكل دون الأقل، ومن أصحابه من قدر الأقل بالثلث فما دونه، وجعل ما زاد على الثلث ونقص عن النصف خارجاً عن حكم الأقل. واستدلوا على تحريم الأكل إذا انفصل عن الرأس برواية عبا الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أبين من حي فهو ميت"؛ ولأنه أبان منه ما لا يمنع من بقاء الحياة فيما بقي، فوجب أن يكون محرماً كما لو أدركه حياً فذبحه. ودليلنا ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لأبي ثعلبة الخشني: "كل ما ردت عليك يدك فكل ". ولم يفرق، ولان كلما كان له ذكاة لبعض البدن كان ذكاة لجميعه قياساً على ما اتصل بالرأس، ولأن كلما كان ذكاة لما اتصل بالرأس كان ذكاة لما انفصل عنه كالأكثر. فأما الجواب عن خبرهم فمن وجهين: أحدهما: أنه خارج على سبب، وهو ما روي أنه ذكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن قوماً يحبون ألايا الغنم، فيقطعونها منها، فقال: "ما أبين من حي فهو ميت" فكان محمولاً على سببه من حياة المقطوع منه. والثاني: أن أبا داود السجستاني قد روى نصاً في سنته أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أبين من بهيمة وهي حية، فهو ميت". وأما الجواب عن قياسهم، وهو أن المعنى في الأصل أن القطع لم يكن ذكاة للمتصل، فلم يكن ذكاة للمنفصل، والقطع في الفرع قد كان ذكاة للمتصل، فكان ذكاة للمنفصل. فصل: الفصل الثاني: أن يقطع من الصيد عضواً كَيَد أو رِجل أو أُذُن، ويجوز أن يحيى بعد قطعه زماناً طويلاً أو قصيراً، وهذا على ضربين: أحدهما: أن يموت بغير هذا القطع إما بالذبح إن قدر عليه، وإما برمية بائنة إن كان

غير مقدور عليه، فلا يؤكل ما بان منه بالقطع الأول؛ لأنه لم يكن ذكاة له، فلم تصر ذكاة لما بان منه، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن الخطفة" وهو ما اقتطعه كلب أو سيف أو سبع من الصيد، فبات منه. هذا تأويل ابن قتيبة، وتأوله أبو جعفر الطبري أن الخطفة النهبة، ومنه سمي الخطاف خطافاً لاختطافه. والثاني: أن يموت بهذا القطع دون غيره، فينظر فيه: فإن أدركه حياً، فقار على ذكاته حتى مات فلم يزكه كان الصيد مع ما بان منه ميتاً لا يؤكل؛ لأن حكم البائن معتبر بأصله، وان لم يقدر على ذكاته حتى مات أو أدرك ميتاً أكل جميعه البائن منه اعتباراً بأصله؛ لأن ذلك القطع كان هو المبيح لأكل الصيد، فصار مبيحاً لأكل البائن منه اعتباراً بأصله. وحكى ابن أبي هريرة وجهاً أخر عن بعض أصحابنا أن البائن منه لا يؤكل، وان كان الأصل مأكولاً؛ لأنه بان منه مع بقاء الحياة فيه، وتأول كلام الشافعي أنه يؤكل على ذكاة الأصل مع بقاء الحياة إذا تعذر فيه الذبح كما يكون إذا وجأه وجب أن يكون البائن منه في إباحته في الحالين على سواء، ولا يختلفون أنه لو تعلق المتطوع بجلدة متصلة بأصله أن يكون ما ألحقنا به في إباحة أكله. مسألة: قالُ الشّافِعيِ رحمهُ اللهُ تعالى:" ولا بأس أن يصيد المُسلِمُ بِكلِبِ المجوسيِّ ولا يجوزُ أكُلّ ما صادُّ المجوسيِّ بِكلِبِ مُسلِمِ لأن الحُكم حُكم المُرسِلِ وإنّما الكلب أَدَاةٌ". قال في الحاوي: وهذا صحيح. لأن حكم الكلب حكم لمرسله، كالآلة يكون حكمها حكم الرامي دون مالكها، وسواء عليه المرسل أو غيره. فإذا صاد مجوسي بكلب مسلم لم يحل صيده؛ لأن مرسله مجوسي، كما لو رمى مجوسي بسهم مسلم لم يحل صيده وهذا متفق عليه. ولو صاد مسلم بكلب مجوسي حلّ صيده. وقال الحسن البصري وسفيان الثوري: لا يحل صيده، لقول الله تعالى: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] وهذا الشرط غير موجود في كلب المجوسي، وهذا فاسد من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الكلب آلة كالسلاح، وقد ثبت أن مسلماً لو صاد بسلاح مجوسي حل كذلك إذا صاد بكلبه.

والثاني: أن الاعتبار في الكلب بمرسله دون معلمه. ألا ترى أن المجوسي إذا صاد بكلب مسلم لم يحل إجماعاً، فوجب أن يحل إذا صاد مسلم بكلب مجوسي قياساً. والثالث: أن المجوسي لو علم كلباً، ثم أسلم، حل صيده؛ لأنه بإرساله مسلم وإن كان بتعليم مجوسي، كذلك إذا صاد به غيره من المسلمين. مسألة: قالُ الشّافِعيِ رحمهُ اللهُ تعالى:"وأيُّ أبويه كان محبوسا فلا أرى تُؤكِّلُ ذبيحتُهُ. وقالُ في كِتابُ النّكاحِ: ولا يُنكِحُ إنّ كانت جاريّةُ وليْست كالصّغيرةِ يُسلِمُ أحدّ أبويها لأن الإسلام لا يُشرِكُهُ الشِّرك والشُّرُك يُشرِكُهُ الشِّرك ". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن ذبيحة المجوسي لا تحل، وتحل ذبيحة أهل الكتاب في كل حيوان مباح. وقال مالك: تحل لنا ذبائح أهل الكتاب في كل حيوان مما يستحلونه من البقر والغنم، ولا تحل فيما لا يحلونه من الإبل؛ لأنهم يقصدون بذبحه الإتلاف دون الذكاة، وهذا غلط؛ لقوله تعالى: {وطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ وطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} [المائدة:5] يريد بالطعام: الذبيحة دون ما يستطعمونه لأنهم يستطعمون الخنزير، ولا يحل لنا. ولأن ما حلّ بذبيحة المسلم حلّ بذبيحة الكتابي، كالبقر والغنم طرداً، وكالبغال والحمير عكساً. وإذا كان هذا أصلاً مقرراً، وقياساً مستمراً، فاختلف أبو الكافر، فحلت ذبيحة أحدهما، ولم تحل ذبيحة الآخر بأن يكون أحدهما يهودياً والآخر مجوسياً نظر: فإن كان أبوه مجوسياً وأمه يهودية فلا تحل ذبيحته لوجهين: أحدهما: أنه نسبه يلحق بأبيه، فكان حمله أبيه. والثاني: أن الحظر والإباحة إذا اجتمعا يغلب حكم الحظر على الإباحة وإن كان أبوه يهودياً وأمه مجوسية، ففي إباحة ذبيحته قولان: أحدهما: تحل ذبيحته تعليلاً بأنه يرجع إلى أبيه في نسبه. والثاني: لا تحل ذبيحته تعليلاً بأن اجتماع الحظر والإباحة يوجب تغليب الحظر على الإباحة، كالمتولد من حمار وحشي وحمار أهلي. وقال أبو حنيفة: إن كان أحدهما كتابياً حلّت ذبيحته سواء كان الكتابي منهما أباه وأمه، كما لو كان أحد أبويه مسلماً، والآخر مجوسياً، ولا يوجب تغليب الحظر على الإباحة، كما لم يغلب الحظر في إسلام أحد أبويه، وهذا فاسد من وجهين:

أحدهما: أنه لما غلب في النكاح حكم الحظر على الإباحة في ولد الكافر، وان لم يغلب حكم الحظر إذا كان أحدهما مسلماً وجب حكم الذبيحة بمثابته. والثاني: وهو ما علل به الشافعي أن الإسلام لا يشركه الشرك والشرك يشركه الشرك، وبيانه أن الإسلام والشرك لا يجتمعان، ويرتفع الشرك بقوة الإسلام، لقوله الله تعالى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإذَا هُوَ زَاهِقٌ} [الأنبياء:18] ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم - "الإسلام يعلو، ولا يعلى [عليه] ". وماذا كان أحد أبويه ملسماً، والآخر مشركاً، غلبه حكم الإسلام على حكم الشرك، ويجتمع الشرطان؛ لأنهما باطلان، فلم يرتفع حكم أحدهما بالآخر، وإذا لم يرتفع حكماً أحدهما وجب أن يغلب الحظر منهما. مسألة: قالُ الشّافِعيِ رحمهُ اللهُ تعالى:"ولا يُؤكِّلُ ما قِتلتُهُ الأحبولة كان فيها سِلاح أوْ لم يكِن لِأنّها ذكاة بِغيْر فعلًّ أحدٍ". قال في الحاوي: اعلم أن الصيد الممتنع لتعذر القدرة عليه يتوصل إليه بأسباب تجعل حيلاً في القدرة عليه، وهو يتنوع بأنواع: أحدها: الجوارح المرسلة عليه، وقد ذكرناها. والثاني: السلاح الذي يرمى به، فإن قتل بثقله كالحجر والخشب، فهو وقيذ لا يؤكل، وان قطع بعده أو بعد تدمية، فهو مأكول، فأما المعراض. فهو آلة تجمع خشباً وحديداً، فإن أصاب بحده أكل، وان أصاب بعرضه فهو وقيذ. والثالث: ما نصب له من الآلة التي تفارق آلته، فتضغطه، وتمسكه كالفخ والشرك والشبكة والأحبولة، فإذا وقع فيه وأدركت ذكاته حل، وان فاتت ذكاته ومات لم يؤكل سواء كان في آلة سلاح قطع بحد أو لم يكن فيها سلاح، فمات بضغطه. وقال أبو حنيفة: إن كان فيها سلاح قطع بحده يحل استدلالاً لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنهر الدم وفرى الاوداج، فكل". ولأنه يمتنع عقره بحا، فحل أكله كالمرمي بحديدة. ولأنه لما استوى السبب والمباشرة في وجوب الضمان وجب أن يستويا في إباحة الأكل. ودليلنا: ما علل به الشافعي أنها ذكاة بغير فعل أحد. وبيانه: أن الذكاة تكون بفعل فاعل مباشر، ولا تحل بغير فعل مباشر. وتحريره أنها

ذكاة، فوجب أن تحل بالمباشرة دون السبب كمن نصب سكيناً فاحتكت بها شاة فانذبحت لم تؤكل. وعلل أبو الطيب بن سلمة بأن الصيد يحل إذا كان معيناً أو من جملة معينة، كما لو رمى سهماً إلى علو فسقط على صيد اعترضه لم يحل، والمقتول بسلاح الأحبولة لم يكن معيناً، ولا من جملة معينة، وفي هذ التعليل دخل؛ لأنه لو نصبه لصيد معين أو لجملة معينة لم يحل. وعلل أبو إسحاق المروزي بأن الذكاة تحل بالفاعل، والأحبولة لا فعل لها، وإنما الفعل للصيد الواقع فيها، فلم يحل كما لو احتك بحديدة أو شجرة انذبح بها. وأما الجواب فهو أنه وارد فيما تصح فيه الذكاة من الآلة إذا أنهر الدم وفرى الأوداج بحده ثم بشروط الاستباحة، فهي موقوفة على غير المباشرة. وأما قياسهم على المباشرة، فهو ما منعنا به من الجمع بين السبب والمباشرة وأما استدلالهم بالضمان، فوجوب الضمان أعم، وإباحة الأكل أخص فافترق حكم العموم والخصوص. مسألة: قالُ الشّافِعيِ رحمهُ اللهُ تعالى: " والذّكاة وجهانِ أحدّهُما ما كان مقدورا عليه مِن إنسي أوْ وحشي لم يحِل إلّا بِأن يذكى وما كان مُمتنِعا مِن وحشي أوْ إنسي فما قدّرت بِهِ عليه مِن الرّمي أوْ السِّلاح فهوَ بِهِ ذكيّ". قال في الحاوي: والحيوان ضربان: مقدور عليه، وممتنع. فأما المقدور عليه، فلا تحل ذكاته إلا في الحلق واللبة سواء كان أهلياً أو وحشياً، وأما الممتنع، فضربان: أحدهما: وحشي كالصيد، فعقره ذكاته في أي موضح أصبته، وهو متفق عليه. والثاني: أهلي، كالنعم إذا توحش، فمذهب الشافعي أن عقره في أي موضح أصبت من ذكاته، كالصيد، وبه قال من الصحابة علي، وابن عباس وابن مسعود، وابن عمر. ومن التابعين: الحسن، وعطاء، وطاوس. ومن الفقهاء: أبو حنيفة وأصحابه، وسفيان الثوري. وقال مالك: لا يحل إلا بالذكاة في الحلق واللبة. وبه قال من التابعين سعيد بن المسيب. ومن الفقهاء: ربيعة والليث بن سعد، استدلالاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الذكاة في الحلق واللبة".

ولأنه الأصل في الأهلي أن يذكى، ولا يفدى بالجزاء، فلو جاز إذا توحش أن يتغير عن حكم أصله في الذكاة، فيصير بعقره بعد أن كانت في حلقه ولبته لوجب أن يتغير حكمه في الجزاء، فيفديه المحرم بعد أن لم يكن مفدياً، أو لصار الحمار الأهلي إذا توحش مأكولاً، فلما بقي على أصله في سقوط الجزاء وتحريم الأكل وجب بقاؤه على أصله في الذكاة. ودليلنا: ما رواه عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج عن أبيه عن جده رافع بن خديج بعيراً ند، فرماه رجل بسهم، فحبسه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن لهذه الإبل أو قال: للنعم أوابد كأوابد الوحش، فما غلبكم فاصنعوا به هكذا" فكان في هذا الحديث دليلان: أحدهما: أن قوله: "فحبسه" أي: قتله، لما روي في خبر آخر: فحبسه الله أي: أماته. والثاني: قوله: "فاصنعوا هكذا". ولو لم يحل بالرمي لم يأمر به. لأنه حيوان ممتنع، فجاز أن يكون عقره ذكاته، كالوحش. ولأن ما صح به ذكاة الوحش جاز أن يصح به ذكاة الأهلي كالذبح. ولأنه اعتبر في ذكاة الأهل حكم أصله إذا توحش، ولا يكون إلا في الحلق واللبة لوجب أن يعتبر في ذكاة الوحش حكم أصله إذا تأنس فيكون بعقره في غير الحلق واللبة، وفي بطلان هذا في الوحش إذا تأنس دليل على بطلانه في الإنس إذا توحش؛ اعتباراً بالامتناع والقدرة. فأما الخبر فوارد في المقدور عليه على ما سنورده في سببه. وأما الجواب عن استدلاله بالجزاء والأكل مع فساده بالوحش إذا تأنس، فهو أنهما يخالفان القدرة والامتناع في الزكاة؛ لأنهما حكمان لازمان لا ينتقلان، والقدرة والامتناع يتعاقبان، فيصير مقدوراً عليه بعد أن كان ممتنعاً، وممتنعا بعد أن كان مقدوراً عليه، ولا يصير مأكولاً بعد أن كان غير مأكول، ولا غير مأكول بعد أن كان مأكولاً، فافترقا. مسألة: قالُ الشّافِعيِ رحمهُ اللهُ تعالى: " وقال - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنُهُرُ الدّمِ وذكر اِسمِ اللهِ عليه فكُلوهُ إلّا ما كان مِن سِنِّ أوْ ظفر؛ لأن السِّنّ عِظم مِن الإنسان والظّفر مدًى الحبشِ وثبت عن النّبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنّه جعل ذكاة الإنسي مِثلُ ذكاة الوَحشيِ إذاً اِمتنع. قالُ: ولمّا كان الوَحشيِ يحِل بِالعُقرِ ما كان مُمتنِعا فإذاً قدر عليه لم يحِل إلّا بِما يحِل بِهِ الإنسي كان كذلِك الإنسي إذاً صار كالوَحشيِ مُمتنِعا حِلّ بِما يحِل بِهِ الوَحشيِ". قال في الحاوي: اعلم أن الذكاة تجوز بالحديد، وبما صار في اللحم مور الحديد

فذبح بحده لا نثقله من محدد الخشب، والقصب، والزجاج، والحجارة إلا أن يكون سناً أو ظفراً، فلا تجوز الذكاة به، وإن قطع بحده متصلاً كان أو منفصلاً، وسواء كان من إنسان أو سبع، وأجاز أبو حنيفة الذكاة به إذا كان منفصلاً، ولم يجزها به إذا كان متصلاً، احتجاجاً بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما أنهر الدم وفرى الأوداج، فكل فكان على عمومه، ولأنه آلة يمكن الذبح بها، فحلت ذكاتها كالحديد، ولأنها ذكاة منع منها لمعنى في الآلة، فحلت كالسكين المغصوبة، وفرق بين المتصل والمنفصل بأن المتصل يرض بثقله والمنفصل يشق بحده. ودليلنا: ما رواه الشافعي بإسناده عن رافع بن خديج أنه قال: قلت: يا رسول الله إنا ملاقوا العدو غداً، وليس معنا مدي أفنذكي بالليط" فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه، فكلوا إلا بما كان من سن أو ظفر، فإن السن عظم من الإنسان والظفر مدي الحبشة". فاستثناهما من الإباحة، فدخلا في التحريم: وصار عموم أوله مخصوصاً بآخره، ولأنه ذبح بعظم، فوجب أن لا يحل كالمتصل؛ ولأن ما لم تحل الذكاة به إذا كان متصلاً لم تحل الذكاة به إذا كان منفصلاً كالشعر إذا حرق طرداً والحديد إذا قطع عكساً؛ ولأنه في الاتصال أقوى وأمضى منه بعد الانفصال، فلما لم تجز الذكاة به في أقوى حاليه، كان بأن لا يجوز في أضعفهما أولى. فأما الخبر، فقد يخصه آخره. وأما القياس على الحديد فيه جوابان: أحدهما: بطلانه بالمتصل. والثاني: أن نص السُّنة يدفعه. وأما القياس على السكين المغصوبة، فعنه جوابان: أحدهما: أن المنع من السن في حق الله، فصار كذبح ما لا يؤكل. والمنع من السكين المغصوبة في حق الآدميين، فصار كذبح الشاة المغصوبة. والثاني: أن الذبح بالسن مختص بالذكاة، لجواز استعماله في غيرها، والمنع من السكين المغصوبة غير مختص بالذكاة لتحريمها فيها وفي غيرها. فصل: فأما الذكاة بالعظم قال الشافعي: كرهته ولا سن أن يحرم: لأنه لا يقع عليه اسم سن، ولا ظفر، واعتبر الشافعي في التحريم الاسم، وأجازه بالعظم لخروجه عن الاسم، وكرهه، لأنه في معناه، ولم يقسه عليه لاستثناء أصله، وفيه عندي نظر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - علل المنع من المنع، لأنه عظم الإنسان، فصار تعليل السن بالعظم دليلاً على اشتراكهما

في الحكم من جهة النص، وليس بقياس على النص. مسألة: قالُ الشّافِعيِ حمهُ اللهُ تعالى:" قالُ ولوْ وقع بعيرِ في بِئرِ وطعن فهوَ كالصّيْدِ". قال في الحاوي: وصورتها في بعير أو بقرة أو شاة وقعت في بئر، أو دخلت في غار، أو حصلت تحت هدم، فلم يكن إخراجها في الحياة للذكاة، فلا يخلو أن يكون موضع الذبح من الحلق واللبة ظاهراً أو غير ظاهر، فإن كأن ظاهراً لم تصح ذكاته إلا في الحلق واللبة كالمقدور عليه، لأن ذبحه مقدور عليه، وإن لم يكن موضع الذبح ظاهراً حل بعقره في أي موضع عقر من جسده من مقتل وغير مقتل كالصيد الممتنع. ومنع مالك من تذكيته بذلك بناء على أصله في الحيوان الأهلي إذا امتنع أن ذكاته لا تحل إلا بذبحه. ودليلنا: مع ما قدمناه مما رواه حماد بن سلمة عن أبي العشراء الدارمي، عن أبيه، أن بعيراً تردى في بئر فقلت: يا رسول الله ما تكون الذكاة إلا في الحلق واللبة؟ فقال: "رأيتك لو طعنت في فخذه لأجزاك" وهذا نص. وروي أنه تردى بعير، فلم يستطيعوا أن ينحروه إلا من قبل شاكلته، فاشترى منه ابن عمر عشراً بدرهمين، وهذا إجماع، لأنهم تبايعوه، وأكلوه، ولم ينكروه. وإذا كان كذلك جاز عقرها بما يقطع بحده أو يثقب بوقته حلّ أكله، وإن أرسل عليه كلها، فعقره ففي إباحته وجهان: أحدهما: وهو قول البصريين أنه يحل، لأنه قد صار كالصيد الممتع، فاستبيح بكل واحد من الأمرين. والثاني: وهو الصحيح أنه لا يحل بعقر الكلب، وان حلّ بعقر الحديد؛ لأن الحديد يستباح به الذكاة مع القدرة، وعقر الكلب لا يستباح به مع القدرة، فاستوى عقر الحديد وعقر الكلب في الصيد الممتنع، وافترقا في الحيوان المندفن فلو قطع يد البعير من البئر فمات من قطعها حلّ أكله، وأكل يده، ولو لم يمت من قطعها حتى قطع يداٌ أخرى حرمت اليد الأولى؛ لأن الذكاة لم تحصل بقطعها، وحلّت اليد الثانية مع البدن لحصول الذكاة بقطعها. مسألة: قالُ: الشّافِعيِ رحمهُ اللهُ تعالى:" ولوْ رمى صيداً فكسرهُ أوْ قطع جناحِهُ ورّماهُ آخر فقتلهُ كان حراما وكان على الرّامي الآخر قيمتهُ بِالحالِ الّتي رمّاهُ بِها مكسوراً أوْ

مقطوعاً. قالُ اِلمِزِنّي رحمهُ اللهُ: معنًى قوْلِ الشّافِعيِّ عِندي في ذلِك أنّه إنّما يُغرِمُ قيَمتُهُ مقطوعاً لِأنّه رمّاهُ فقطع رأّسهُ أوْ بلّغ مِن مُقاتِلِهُ ما يُعلِمُ أن قِتلهُ دون جُرحِ الجناحِ. ولوْ كان جرِحا كالجُرحِ الأول ثمّ أخذّهُ ربّهُ فماتِ في يديِهُ فقد مات مِن جُرحين فعلى الثّاني قيمة جُرحِهُ مقطوع الجناحِ الأول ونِصف قيَمتُهُ مجروحا جُرحين لأن قِتلهُ مقطوع الجناحين مِن فُعُلِهُ وفِعل مالِكِه". قال في الحاوي: وصورة هذه المسألة في رجلين رميا صيداً، فأصابه كل واحد منهما، فلها حالتان: إحداهما: أن يتفقا في إصابته. والثاني: أن يختلفا فيها. فإن اتفقا في إصابته، فرمياه معاً، في حال واحدة لم يسبق أحدهما الآخر، فلن تخلو الإصابتان من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكون كل واحد منهما موجية، فيكون الصيد بينهما، وهو مأكول. والثاني: أن يكون كل واحد منهما غير موجية فيكون بينهما، فإن لم يقدر على ذكاته بعد الجراحتين كان مأكولاً، وإن قدر عليهما كان غير مأكول. والقسم الثالث: أن تكون إحدى الجراحتين موجية، والأخرى غير موجية، فغيه وجهان: أحدهما: أن يكون ملكاً لهما، وهو مأكول، ويستوي فيه من وجا، ومن لم يوج لأن غير الموجية قد تسم، وتذكيه كالموجية. والثاني: أنه يكون ملكاً للموجي خاصة؛ لأننا على يقين من إثباته، وتذكيته بها، وفي شك من إثباته بغير الموجية، فوجب أن يكون ملكه مستحقاً باليقين دون شك. فصل: وإن اختلفا في الإصابة، وأصابه أحدهما دون الآخر، فهو على ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون الإصابة الأولى موجية دون الثانية. والثاني: أن تكون الإصابة الثانية موجية دون الأولى. والثالث: أن تكون كل واحدة من الإصابتين غير موجية، ولا حكم لرابع إن خرج به التقسيم أن تكون كل واحدة منهما موجية، لأنه لا توجية بعد التوجية فأما القسم الأول وهو أن تكون الإصابة الأولى موجية دون الثانية، وهو الأول الموجي، وقد حل بالتوجية سواء كانت في محل الذكاة أو في غيرها، وينظر في إصابة الثاني، فإن لم تؤثر في نقص قيمته، فهي هدر، ولا شي، فيها، وان أثرت في شق الجلد نقصاً ضمن أرشها، فإن اختلفا، فادعى كل واحد منهما أنه الأسبق الموجي، وعدما البينة تحالفا، فإن حلف أحدهما، ونكل الآخر قضى بالصيد للحالف، وقضى بأرش النقص على الناكل، وإن

حلفا جعل الصيد بينهما بأيمانهما، لتكافئهما فيه، وسقط غرم الأرش بالإصابة الثانية، للجهل بمستحقه والمستحق عليه، وان نكلا انقطع التخاصم بينهما، ووقف الصيد، والأرض على اصطلاحهما. فصل: وأما القسم الثاني: وهو أن يكون الموجي هو الثاني دون الأول، فهذا على ثلاثة أضرب. أحدها: أن يكون الأول لم يثبته بإصابته، فيكون الصيد ملكاً للثاني الموجي وتكون التوجية ذكاة سوا، كانت في محل الذكاة أو كانت في غيرها. والثاني: أن يكون الأول قد أثبته بإصابته، فيكون ملكاً للأول، وينظر في توجية الثاني: فإن كانت في عد محل الذكاة من الحلق واللبة كان مأكولاً، وضمن بالتوجية ما بين قيمته مجروحاً ومذبوحاً، وإن كانت التوجية في غير محل الذكاة بأن قطع نصفين، فهو غير مأكول؛ لأنه قد صار بإثبات الأول مقدوراً عليه لا يحل إلا بذكاته في الحلق واللبة، ويضمن الموجي جميع قيمته مجروحاً. والثالث: أن يشك فيه هل أثبت الأول بإصابته أم لا، فيكون الشك مسقطاً لحكم الإثبات في حق الأول؛ لأنه على أصل الامتناع، ويكون ملكاً للثاني، وينظر في توجيته. فإن كانت في محل الذكاة أكل، وإن كانت في غير محلها ففي إباحة أكله وجهان: أحدهما: مباح، لأن إثبات الأول قد يسقط بالشك. والثاني: محظور، لتردده بين جواز في محتملين مع ما يقتضيه حكم الأول من الحظر، وإنما يسقط بالشك ملك الأول؛ لأن الأصل أنه غير مالك ولم يسقط بالشك حكم الحظر؛ لأن الأصل فيه الحظر، ولو ادعى الجارح الأول أنه قد أثبته وأنكر الموجي فالقول قول الموجي مع يمينه، والتوجية كالتذكية. فإن قيل: ألستم قلتم: إنهما اتفقا على إصابته أنه بين الجارح والموجي في أحد الوجهين، فهلا جعلتموه في تقدم أحدهما على الآخر على وجهين. قيل: الفرق بينهما في أحد الوجهين من وجهين: أحدهما: أن أيديهما في الاتفاق متساويان، وفي الاختلاف مفترقان. والثاني: أنه لم يمض مع الاتفاق زمان الإثبات، فيراعى، وقد مضى مع اختلاف في زمان الإثبات، فصار مراعى. فصل: وأما القسم الثالث: وهو أن يكون كل واحد من الأول والثاني جارحاً غير موج، فلا تخلو جراح الأول من أحد ثلاثة أضرب: أحدها: أن يثبت الصيد بها. والثاني: أن لا يثبته بها.

والثالث: أن يشك في إثباته بها. فإن علم أن الأول قد أثبت الصيد بجراحته. وذلك بأن يكسر رجل ما يعدو وجناح ما يطير، فهو ملك للأول دون الثاني؛ لأنه بالإثبات قد صار مملوكاً، فوجب أن يكون ملكاً لمثبته، وإن لم يصر إلى يده كما لو وقع في فخه أو شبكته، وإن علمنا أو الأول لم يثبته بجراحته وذلك بأن يراه بعد الجراحة يعدو أو يطير، وهو للثاني دون الأول لوجود الإثبات بجراحته. فإن قيل: فكل واحد من الجرحين قد أثر في إثباته، فهلا كان بينهما كما لو جرحا عبداً فمات فكان ضمانه عليها، ولم يكن على الثاني منهما. قيل: لأن الجراحة الأولى في الصيد لم تؤثر في الملك، فلم توجب الاشتراك فيه، والجراحة الأولى في العبد مؤثرة في الضمان، فأوجب الاشتراك فيه، وإن شككنا في جراحة الأول، هل أثبت الصيد بها أم لا؟ وجب أن يكون الشك مطرحاً واليقين معتبراً فيكون للثاني دون الأول؛ لأنه أصل الاقتناع حتى يتيقن ما عداه، ويتيقن الإثبات مع الثاني دون الأول، فصار ملك الصيد هنا بين أن يكون الأول في حالة واحدة وبين أن يكون الثاني في حالتين، ولا يصح أن يكون بينهما نصفين؛ لأنهما فيه غير متساويين. فصل: فإذا تقررت هذه الجملة، فإن جعلنا الصيد ملكاً للثاني؛ فلا ضمان في تلفه على الأول، ولا على الثاني، أما الأول فلأنه جرحه في حال الإباحة، وأما الثاني فلأنه قد جرحه في ملكه فلم يضمنه في حق نفسه، وإن جعلها الصيد ملكاً للأول بإثباته، وجرحه الثاني، فسرت الجراحة إلى نفسه فمات، فقد صار موته من جراحتين مختلفي الحكم: فالجراحة الأولى مستجلبة للحكم، مبيحة للأكل لو انفردت، والجراحة الثانية مستهلكة للملك محرمة للأكل لو انفردت، فإذا اجتمعت الجراحتان مع حصول الاستهلاكين والتحريم، فقد اختلف أصحابنا هل يكون حكم الاستهلاك والتحريم مختصاً بالجراحة الثانية فيكون الثاني ضامناً لجميع القيمة، ويكون مضافاً إلى الجراحتين والقيمة مقسطة على الجراحتين؟ على أربعة أوجه: أحدها: وهو الظاهر على مذهب الشافعي، وهو قول جمهور أصحابه، أن حكم الاستهلاك والتحريم مضافاً إلى الجراحتين، وأن قيمة الصيد المستهلكة مقسطة على الجارحين، لأن التلف كان لسراية الجراحتين، فلم يمنع اختلاف حكمهما من تقسيط الضمان عليهما، كما لو قطع الصيد يد عبده في الرقة وقطع أجنبي يده في جناية، ومات منهما كان على الجاني نصف قيمته؛ لأنه مات بسراية القطعتين، وإن كان الأول فيهما مباحاً غير مضمن كذلك في هذه الجراحتين. والثاني: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أن الضمان مختص بالجراحة الثانية وعلى الجارح الثاني جميع القيمة بعد الجراحة الأولى، قال: لأن الجراحة الأولى لما

استجلبت الملك، أباحت الأكل، ولم يتعلق بها حكم ما لم يوجد فيها من استهلاك وتحريم. والجراحة الثانية لما استهلكت الملك، وحرمت الأكل اختص بها حكم ما يوجد فيها من الاستهلاك والتحريم؛ لتنافي الحكم في الجراحتين، فعلق على كل واحدة حكمها. والثالث: حكاه أبو علي بن أبي هريرة أن ينظر حال الصيد، فإن حصل في يد صاحبه حياً، فعلى الثاني، قسطه من القيمة كما قلناه في الوجه الأول لأن الجراحة الأولى مع إدراك حياته قد صارت كالثانية في استهلاكه وتحريمه، فتقسطت القيمة عليهما، وإن لم يحصل في يد صاحبه إلا ميتاً، فعلى الثاني جميع القيمة كما قيل في الوجه الثاني؛ لأن الجراحة الأولى عنا فوات ذكاته لم يكن لها تأثير في استهلاكه، ولا تحريم. والرابع: وهو أظهرها عندي أنه إن مضى في الزمان بين الجراحتين قدر ما يدركه صاحبه. فالقيمة بينهما، وعلى الثاني قسطه منها كالوجه الأول؛ لأن مضى زمان إدراكه موجب لتحريمه عنا فوات ذكاته، فاستوت الجراحتان في التحريم فقسطت القيمة عليهما وإن لم يمض بين الجراحتين زمان إدراكه، والجراحة الثانية هي المختصة بالتحريم، فاختص الثاني بجميع القيمة كالوجه الثاني؛ لأن قصور الزمان يمنع من تأثير الأول في التحريم. فصل: فإذا تقرر ما ذكرنا من هذه الوجوه الأربعة وتعليل كل وجه منها، فإن وجب بها على الثاني جميع القيمة على مقتضى تعليلها صار الجرح الثاني كالتوجية في غير محل الذكاة، فيلزم الثاني جميع قيمة الصيد مجروحاً، وزعم المزني أن مسألة الكتاب في الثاني أن يكون موجياً؛ لأنه أوجب جميع القيمة، وأنكر سائر أصحابنا أن تكون مسألة الكتاب في الثاني أن يكون موجياً، لأنه أوجب جميع القيمة وما قاله الشافعي من إطلاق وجوب القيمة محمول على اختلاف الوجوه الأربعة، فيكون إطلاقها عند وجوب الكل محمولاً عليه، وعند وجوب القسط محمولاً عليه، وأما إذا وجب على الثاني قسطه من القيمة على مقتضى الوجوه الأربعة، وهو مختص بمسألة الكتاب، فقد اختلف أصحابنا حينئذٍ في تعليل الحكم الموجب لتقسيط القيمة والعمل المؤدي إليه على خمسة أوجه يتضح بيانها إذا ذكرت قيمة الصيد وأوش الجرح، فتصورها في صيد مملوك قيمته عشرة دراهم جرحه الأولى جرحاً نقص من قيمته درهماً، وجرح الثاني نقص من قيمته درهماً، ثم مات من الجراحتين، فأخذ الوجوه الخمسة في تعليل الحكم من طريق العمل وهو قول أبي إبراهيم المزني إنك توجب على كل واحد من الجارحين أوش جراحه، ثم تقسم قيمة الصيد بعد الجراحتين بينهما نصفين، وتجمع على كل واحد منهما ما بين نصف قيمته (وأرش) جراحته

فتجعل على الأول درهماً هو أرش جراحة، وعلى الثاني درهماً هو أرش جراحه وقيمة الصيد بين الجراحتين ثمانية دراهم تجب على كل واحد من الجارحين نصفها أربعة دراهم، فتضم إلى الدراهم الذي لزمه بأرش الجراحة، فيصير على كل واحد منهما خمسة دراهم، ولو كانت جراحة الأول أرشها درهماً، وجراحة الثاني أرشها درهمين. فهما أرش جرحته، ثم مات الصيد بعد الجراحتين وقيمته سبعة دراهم، فيكون على كل واحد منهما نصفها ثلاثة دراهم ونصف فيصير على الأول مع الدرهم أربعة ونصف، وعلى الثاني مع الدرهمين خمسة دراهم ونصف، ولو كانت جراحة الأول أرشها ثلاثة دراهم، وجراحة الثاني أرشها درهمان أوجب على الأول ثلاثة دراهم هو أرش جراحته، وأوجب على الثاني درهمين هما أرش جراحته، ومات الصيد بعد الجراحتين وقيمته خمسة دراهم على كل واحد منهما نصفها، يضم إلى ما عليه، فيصير على الأول خمسة دراهم ونصف، وعلى الثاني أربعة دراهم ونصف ثم على هذه الطريقة فيما زاد ونقص، وهي إن صحت في العمل فهو تفسد على أصول الشافعي في وجهين: أحدهما: أن الجراحة إذا سرت إلى النفس لم يعتبر أرشها، وإذا لم تسر إلى النفس اعتبر أرشها، ألا ترى أن رجلاً لو قطع يد عبد، فمات من السراية ضمن جميع القيمة، ودخل أرش القطر في قيمة النفس، ولو لم يمت من القطع حتى قتله آخر كان على القاطع دية يده، لأن قطعه لم يسر، كان على القاتل قيمة نفسه؟ والمزني اعتبر أرش الجراحة مع سرايتها، وفيه مخالفة لهذا الأصل. والثاني: أن قيمة المجنى عليه معتبرة عند وقوع الجناية عليه، ولا تعتبر قيمته بعد استقرارها عليه، ألا ترى لو قطع يا عبد فمات اعتبرت قيمته قبل قطعه ولم تعتبر بعده، والمزني اعتبر القيمة بعد الجراح، مخالف هذا الأصل، واختلف أصحابنا كذلك فيما ذهب إليه المزني، هل قاله تخريجاً على مذهب الشافعي، فكان مخطئاً، أو قاله مذهباً لنفسه فكان مجتهداً؟ فعلى وجهين: أحدهما: قاله تخريجاً. والثاني: قاله مذهباً غير اجتهاد، فهذا حكم الوجه الأول على قول المزني. فصل: والوجه الثاني: وهو الظاهر من مذهب الشافعي على قوله أكثر أصحابه، وقيل: إنه قول أبي إسحاق المروزي، وإن لم أره في شرحه، أن قيمته في حق كل واحد منهما معتبرة بحال جنايته وجراحة كل واحد منهما، قد سرى نصفها إلى ما دخل في ضمان، فسقط اعتباره، وسرى نصغها إلى ما دخل في ضمان غيره فوجب اعتباره، لأنها لو سرت في حقه إلى جميع النفس سقطت، ولو لم تسر في حقه إلى شي، من النفس وجبت، فوجب إذا سرت في حقه إلى نصف النفس أن يسقط نصف الأرش ويجب نصف الأرش مضموماً إلى نصف القيمة وقت جنايته، ويتحمل الثاني عن الأول نصف الأرش كما

تحمل عنه نصف النفس. وبيانه: أن نقول جرحه الأول، وقيمته عشرة دراهم، وأرش جراحته درهم فوجب عليه نصف العشرة، وهي خمسة ونصف الأرش وهو نصف درهم يتحمله عنه الثاني، ثم جرحه الثاني، وقيمته تسعة دراهم وأرش جراحته درهم، فوجب عليه نصف قيمته أربعة دراهم، ونصف أرشه جراحته، وهو نصف درهم يتحمله عن الأول، فيصير عليه خمسة دراهم، وعلى الأول خمسة دراهم، فيصير هذا موافقاً لقول المزني في الجواب، ومخالفاً له في التعليل، ليكون سليماً على الأصول، فعلى هذا لو كان أرش جراحة الأول درهماً، وأرش جراحة الثاني ثلاثة دراهم كان على الأول نصف العشرة، وهي خمسة ونصف أرش جراحته وهو نصف درهم، وجرحه الثاني، وقيمته تسعة دراهم، فعليه نصفها أربعة دراهم ونصف، وعليه نصف أرش جراحته وهو درهم ونصف تحملها عن الأول، فصار عليه ستة دراهم، وبقي على الأول أربعة دراهم، وعلى هذا لو كان أرش جراحة الأول ثلاثة دراهم وأرش جراحة الثاني درهماً، كان على الأول نصف قيمته، وهي خمسة دراهم، ونصف أرش جنايته، وهو درهم ونصف، يصير عليه ستة دراهم ونصف، وجرحه الثاني وقيمته سبعة دراهم عليه نصفها ثلاثة دراهم ونصف، ونصف أرش جراحة، وهي نصف درهم يتحمله عن الأول، فيصير على الثاني أربعة دراهم، وبقي على الأول ستة دراهم، ثم على هذا القياس، فيكون الوجهان متفقين في الجواب مختلفين في التعليل. واختلف من قال بهذا الوجه فيما يحمله الثاني عن الأول من نصف الأرش: هي يكون في ضمان الأول حتى يؤخذ من الثاني؟ أو يكون ساقطاً عنه بصفات الثاني؟ على وجهين: أحدهما: أنه يكون في ضمانه حتى يؤخذ من الثاني كالغاصب إذا غصب عبداً فجرحه آخر في يده كان أرش الجراح من ضمانه وضمان غاصبه، كذلك ها هنا فعلى هذا يكون مالك العبد مخيراً في أخذ نصف أرش جراحة الثاني في الأول أو الثاني، فإن أخذه من الأول رجع به الأول على الثاني، وإن أخذه من الثاني لم يرجع به على الأول. والثاني: وهو أمح أنه يسقط عن الأول بضمان الثاني، كما سقط عنه نصف القيمة بضمان الثاني، فلا يستحق مالك الصيد مطالبة الأول به، ويستحقه على الثاني مع نصف القيمة. فإن قيل: فهلا كان اعتبار قيمة الصيد في حق الجارحين سواء، فتكون القيمة قبل الجراحتين بينهما نصفين بالسوية، كالحرّ إذا جرحه اثنان، فمات كانت الدية عليهما بالسوية نصفين، ولم يكن ما على الثاني منهما أقل مما على الأول قيل: لأن دية الحرّ بعد الجناية كديته قبلها، وقيمة العبد بعد الجناية أقل من قيمته قبلها ألا تراه لو قتل حراً مقطوع اليد كانت عليه دية من ليس بأقطع؟ ولو قتل عبداً مقطوع اليد كانت عليه قيمة عبد أقطع؟ فهذا حكم الوجه الثاني.

فصل: والوجه الثالث: وهو قول أبي الطيب بن أبي سلمة أنه كالوجه الثاني في اعتبار القيمة ونصف الأرش، لكن لا يحتمل الثاني عن الأول ما لزمه من نصف الأرش، وتقسم قيمة الصيد بينهما على مقدار ما لزمها. وبيانه: أن نقول: إذا كانت جراحة الأول درهماً، وجراحة الثاني درهماً على أن للأول نصف القيمة، ونصف الجراحة خمسة دراهم ونصف، وعلى الثاني نصف القيمة مجروحاً، ونصف الجراحة خمسة دراهم بعير عليها ما عشرة دراهم ونصف، وقيمة الصيد عشرة دراهم، لا يستحق مالكه أكثر منها، فتقسم العشرة التي هي القيمة على عشرة أسهم ونصف، فيكون على الأول منها خمسة أسهم ونصف من عشرة أسهم ونصف من العشرة، وكان على الثاني منها خمسة أسهم من عشرة أسهم ونصف العشرة، ولو كانت جراحة الأول درهماً، وجراحة الثاني درهمين، كان على الأول نصف القيمة، ونصف الجراحة ستة دراهم، وعلى الثاني نصف القيمة مجروحاً ونصف الجراحة خمسة دراهم، فإذا اجتمعت بينهما كانا أحد عشر درهماً تجعلها سهاماً، وتقسم العشرة التي هي القيمة على أحد عشر سهماً، منها على الأول ستة أسهم من أحد عشر سهماً، وتقسم العشرة التي هي القيمة على أحد عشر سهماً، منها على الأول ستة أسهم من أحد عشر سهماً من العشرة وعلى الثاني خمسة أسهم من أحد عشرة سهماً من العشرة، ولو كانت جراحة كل واحد منهما ثلاثة دراهم كان على الأول نصف القيمة خمسة دراهم، ونصف الجراحة درهم ونصف، يكونان ستة دراهم ونصف درهم، وعلى الثاني نصف قيمته مجروحاً وهي ثلاثة دراهم ونصف جراحته درهم ونصف يكونان خمسة دراهم، فإذا جمعتهما صار أحد عشر سهماً ونصف وعلى الأول ستة أسهم ونصف من أحد عشر سهماً ونصف ويكون جراحته ثلث درهم فتصير ثلاثة دراهم من العشرة، وعلى الثاني خمسة أسهم من أحد عشر سهماً، ونصف العشرة، ولو كانوا ثلاثة فكانت جراحة الأول درهماً، وجراحة الثاني درهمين، وجراحة الثالث ثلاثة دراهم، كان على الأول ثلث قيمته ثلاثة دراهم وثلث درهم وثلث جراحته ثلاثة دراهم، تصير على ثلاثة دراهم وثلثا درهم، وعلى الثاني ثلث قيمته مجروحاً بجرح واحد ثلاثة دراهم وثلث جراحته ثلث درهم، فتصير ثلاثة دراهم وثلثي درهم، وعلى الثالث ثلث قيمته مجروحاً جرحين وهي سبعة دراهم يكون عليه درهمان وثلث، وعليه ثلث جراحة درهم يصير عليه ثلاثة دراهم وثلث درهم، فإذا جمعت ما عليهم فعلى الأول ثلاثة وثلثان، وعلى الثاني ثلاثة وثلثان، وعلى الثالث ثلاثة وثلث، كانت عشرة وثلثين تجعلها سهاماً، وتقسم العشرة عليهما، فيكون على الأول ثلاثة أسهم وثلثا سهم من عشرة أسهم وثلثي سهم من عشرة، وعلى الثاني مثلها وعلى الثالث ثلاثة أسهم وثلث من عشرة أسهم وثلثي سهم من العشرة ثم على هذا العبر يكون الحكم على هذا الوجه، مخالفاً للوجهين المتقدمين في الجواب والتعليل.

فصل: والوجه الرابع: وهو قول أبي علي بن خيران إنك توجب على كل واحد من الجارحين جميع قيمته عند جنايته، وتجمع بين القسمين، وتقسم قيمة الصيد قبل الجراحتين عليهما، ويلزم كل واحد منهما قسط منها، فيصير معتبراً بجراحة الأول في حق الثاني، ولا يصير معتبراً بجراحة الثاني في حقه، ولا في حق الأول، مثله: إذا جرحه كل واحد منهما جراحة أرشها درهم، فحصل على الأول جميع قيمته صحيحاً وهي عشرة دراهم، وحصل على الثاني جميع قيمته صحيحاً وهي عشرة دراهم، وحصل على الثاني جميع قيمته مجروحاً وهي تسعة دراهم ويجمع بين القيمتين تكون تسعة عشر درهماً، فتجعلها سهاماً، وتقسم العشرة عليها وتوجب على الأول عشرة أسهم من تسعة عشر سهماً من العشرة، وتوجب على الثاني تسعة أسهم من تسعة عشر سهماً من العشرة، ولو كانت جراحة كل واحد منهما درهمين جعلت على الأول عشرة، وعلى الثاني ثمانية، وجمعت بينهما تكون ثمانية عشر فتقم العشرة على ثمانية عثر سهماً، وجب على الأول منها عشرة أسهم من ثمانية عشر سهماً من العشرة، وعلى الثاني ثمانية أسهم من ثمانية عشر سهماً من العشرة ولو كانوا ثلاثة، وكان أرش جراحة كل واحد منهم ثلاثة دراهم كانت جراحة الأول معتبرة في حق الثاني، وجراحة الثاني معتبرة في حق الثالث، وغير معتبرة في حق الأول، وجراحة الثالث غير معتبرة في حق الثاني، ولا في حق الأول، فيجعل على الأول جميع قيمته صحيحاً، وهي عشرة، وعلى الثاني جميع قيمته بعد جراحة الأول، وهي سبعة، وعلى الثالث جميع قيمته بعد جراحة الثاني، وهي أربعة، ويجمع بين القيم الثلاث وهي عشرة وسبعة وأربعة تكون إحدى وعشرين، فتقسم العشرة بينهم على أحد وعشرين سهماً يوجب على الأول منها عشرة أسهم من أحد وعشرين سهماً من العشرة، وعلى الثاني سبعة أسهم من أحد وعشرين سهماً من العشرة، وعلى الثالث أربعة أسهم من أحد وعشرين سهماً من العشرة ثم على هذه العبرة، وهذا الوجه مخالف حكم الوجوه الثلاثة في الجواب والتعليل. فصل: والوجه الخامس: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن كل واحد منهما يضمن نصف قيمته وقت جراحه، ولا اعتبار بما تقدمها ولا بما تأخر عنها، ولا اعتبار بأرش كل واحد منهما إذا صارت نفساً لدخولها في ضمان النفس، فإذا جرحه الأول وقيمته عشرة دراهم وجرحه الثاني، وقيمته تسعة دراهم، كان على الأول نصف العشرة خمسة دراهم، وعلى الثاني نصف التسعة أربعة دراهم ونصف، وسقط ضمان نصف درهم من العشرة دخل به النقص على الملك؛ لأنه ليس له في وجوب ضمانه محل. ولو جرحه الأول، وقيمته عشرة دراهم، وجرحه الثاني، وقيمته ستة دراهم على الأول نصف العشرة خمسة دراهم وعلى الثاني نصف الستة ثلاثة دراهم ويسقط ضمان درهمين، ولو كانوا ثلاثة

جرحه الأول، وقيمته عشرة دراهم وجرحه الثاني وقيمته ثمانية، وجرحه الثالث وقيمته ستة، كان على الأول ثلث العشرة ثلاثة دراهم وثلث، وعلى الثاني ثلث الثمانية درهماً وثلثان وعلى الثلث ثلث الستة درهماً، يصير مجموع ما عليهما ثمانية دراهم ويسقط ضمان درهمين على هذه العبرة، وهذا الوجه مخالف للوجوه الأربعة في الحكم والمقدار والعمل. فصل: وإذا تقررت أحكام هذه الوجوه الخمسة، فكذلك حكمها في جميع البهائم المملوكة. وأما حكمها في الآدميين، فإن كان المجروح حراً سقط اعتبار أرش الجراح فيه لكمال ديته قبل الجراح وبعدها على سواء، وان كان المجروح عبداً فإن لم يكن في جراحه أرش مقدر فهو كالصيد وسائر البهائم على ما شرحناه وإن كان في جراحه أرش مقدر كالأطراف، فقد خرج فيه أبو علي بن أبي هريرة وجهين: أحدهما: أنه يصير بتقدير أطرافه كالحرّ. والثاني: أنه يصير مع التقدير كالبهيمة وكلا الوجهين معلول على الإطلاق، لأن العبد تنقص قيمته بعد جراحة الأول، بخلاف الحرّ فيبطل بينه وبين الحرّ والعبد تتقدر أطرافه بخلاف البهيمة فبطل الجمع بينه وبين البهيمة فإذا بطل الوجهان صار حكمه في المقدر مشتركاً بين أحكام الحرّ في التقدير وبين أحكام البهيمة في اعتبار القيمة ثم يخالفها من وجه ثالث: أنك تعتبر في طرق العبد أكثر الأمرين من المقدر فيه أو ما نقص من القيمة ما لم يستوعب المقدر جميع القيمة، فإن استوعبها أوجبت أقلها، وهو نقصان القيمة؛ لأن الشركة مع السراية تمنع من وجوب جميعها على أحدهما فيعمل على ما يوجبه هذا التعليل من الوجوه الخمسة، وإذا كان كذلك، فإن كان الجانيان على الصيد والبهيمة أجنبيين، ولم يكن أحدهما مالكاً فعلى كل واحد منهما من القيمة ما أوجبته الشركة على الوجوه الخمسة، وإن كان أحدهما مالكاً سقط عنه قسطه، ووجب على الأجنبي قسطه، ويتصور في غير الصيد أن يكون المالك أولاً وثانياً، ولا يتصور في العبه الممتنع أن يكون المالك في المضمون إلا الأول دون الثاني والله أعلم. مسألة: قالُ الشّافِعيِ رحمهُ اللهُ تعالى:" ولوْ كان مُمتنِعا بعد رميِهُ الأول يطيرُ إنّ كان طائِرا أوْ يعدو إنّ كان دابّةُ ثمّ رمّاهُ الثّاني فأثبتهُ كان لِلثاني". قال في الحاوي: اعلم أن الصيد ضربان، ممتنع وغير ممتنع، فأما الممتنع، وهو

ما بعد عن طلبه بطيرانه إن كان من الطير أو بعدوه إن كان من الدواب، فلم يقدر عليه إلا بآلة يتوصل بها إليه. وأما غير الممتنع، وهو صغاره الذي لم يتكامل قوته، ولا يقدر أن ينهض بجناح، وإن كان طائراً، ولا يعدو برجل إن كان دابة قال الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المائدة:94] فيه تأويلان: أحدهما: معناه: ليكلفنكم إباحة ما أحله، أو حظر ما حرمه. والثاني: ليختبرنكم في قبول أوامره، والانتهاء عن زواجره {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ ورِمَاحُكُمْ} فيه تأويلان: أحدهما: ما: تناله أيدينا الصغار، ورماحنا الكبار، قاله ابن عباس فإن كان الصيد غير ممتنع لصغر لم يملك إلا بالأخذ والتناول؛ لقوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ} [المائدة:94] ولا تكون ذكاته إلا في الحلق واللبة؛ لأنه مقدور عليه، فلو دل عليه رجل وأخذه آخر، كان ملكاً لآخذه دون الدال عليه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الصيد لمن صاده لا لمن أثاره"، فلو نبش عليه أحدهما بيته حتى طيره، وأخذه الآخر كان للآخذ دون النابش، فلو وقعت أيديهما عليه كان لأسبقهما يداً، فإن استوت أيديهما معاً كان بينهما يستوي فيه من أخذ برأسه ومن أخذ برجله أو ذنبه، ولا يقسم عليهما بقدر أيديهما عليه، ومواضعهما منه؛ لأن اليد على بعضه يد على جميعه ألا ترى أن رجلين لو تنازعا على دابة في يد أحدهما رأسها وفي يد الآخر ذنبها كانا في اليد عليها سواء. فصل: وأما الممتنع بعدوه أو طيرانه، فيملك بأحد ثلاثة أشياء: أحدها: بالأخذ والتناول بأن يظفر به في بيته، أو يعقله على مائة أو حضانة ولده وبيضه، فيصير بحصوله في يده ملكاً له، وان كان باقياً على امتناعه لو أرسل. والثاني: أن يقع في شبكته أو شركه، فلا يقدر على الخلاص، فيصير بحصوله فيها ملكاً لواضع الشبكة والشرك سواء كان حاضراً أو غائباً، وسواء عقرته الشبكة أو لم تعقره، إذا لم يقدر على الخلاص منها، فإن قدر على الخلاص لم يستقر ملكه عليه في حال قدرته على الخلاص إلا بأحد أمرين. إما أن يأخذه بيده ويصير بوقوعه فيها أحق به من غيره، وإن أخذه غيره صار الآخذ له أملك به من صاحب الدار، فإن أفضت الشبكة باضطراب الصيد فيها إلى عجزه عن الخلاص منها، فقد ملكه حينئذٍ صاحب الشبكة، وإن أخذه في هذه الحال غيره، كان صاحب الشبكة أحق به، ولو انقطعت الشبكة فأفلت الصيد منها. نظر في قطع الشبكة، فإن قطعها الصيد الواقع فيها عدا بعد انفلاته إلى حال الإباحة وملكه من صاده؛ لأنه بان أن الشبكة لم تثبته، ولو قطعها غيره من صيود أُخر اجتمعت على قطعها كان باقياً على ملك صاحبها، لا يزول عنه بانفلاته منها؛ لأنها قد أثبتته، فلا يملكه غيره إذا صاده،

ويسترجعه منه كالعبد الآبق والبعير والشارد، فمان كانت الشبكة فارغة، فاضطر الصيد غير واضع الشبكة إليه، فوقع فيها بطرده إليها، كان ملكاً لواضع الشبكة دون طارده؛ لأن إثباته بالشبكة دون الطرد فلو وضع الشبكة غير مالكها كان الصيد ملكاً لواضعها دون مالكها، سواء كان مستعيراً أو غاضباً، وعليه إن غصب أجرة مثلها، فلو حضر مالك الشبكة، بعد وضعها، فإن كان معيراً كان واضعها أحق بالصيد منه، وان كان مغصوباً كان ما وقع فيه قبل حضوره ملكاً للغاصب، وما وقع بعد حضوره ملكاً للمغصوب إن رفع يد الغاصب، وملكاً للغاصب إن لم يرفع يده عنها؛ لأن الغاصب يبرأ من ضمانها إذا رفعت يده، فصار وضعها قبل وضع يده منسوباً إلى الغاصب وبعد رفع منسوباً إلى المغصوب. والثالث: الذي لا يملك به الصيد أن يثبته بعد الامتناع فلا يقدر على عدو ولا طيران. وهذا الإثبات معتبر بشرطين: أحدهما: أن يكون بفعل منه وصل إلى الصيد بالآلة المؤثرة في إثباته من ضرب أو جرح، وإن سعى خلف الصيد فوقف بإعيائه، لم يملكه بالوقوف، حتى يأخذه، لأن وقوفه استراحة منه هو بعدها على امتناعه، وكذلك لو توحّل الصيد عنه طلبه في طين لم يقدر على الخلاص منه لم يملكه حتى تأخذه؛ لأن الطين ليس من فعله، فلو كان هذا الذي أرسل الماء في الأرض حتى توحّلت ملكه بوقوعه في الوحل؛ لأن الوحل من فعله، فصار به كوضع الشبكة ولو اعترضه منه سبع فعقره فأثبته لم يملكه؛ لأن اعتراض السبع ليس من فعله، فلو كان هذا الذي أغرى السبع باعتراضه حتى عقره فأثبته نظر، فإن كانت له على السبع يد ملك الصيد بعقره، وصار كإرسال كلبه، وإن لم يكن له على السبع يا لم يملك الصيد بعقره حتى يأخذه لأن اختيار السبع أقوى من إغرائه. والثاني: أن يصير الصيد بما وصل من فعله عاجزاً عما كان عليه من امتناعه سواء كان ما وصل إليه قد عقره كالحديد أو لم يعقره كالحجر، وإذا كان كذلك لم يخل حاله بعد وصول الآلة إليه من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يعقر بها في موضع فلا يقدر على عدو ولا طيران، فهذا إثبات قد صار به مالكاً لصيد، فإن عادت قوة الصيد فامتنع بها بعد إثباته نظر، فإن كانت بعد أخذه، وهو باق على ملكه، وإن كانت قبل أخذه فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون زمان عودها قريباً لا تنشأ في مثله قوة مستفادة فقد عاد إلى الإباحة، ولم يستقر ملكه عليه، وعلم أن وقوفه لاستراحة. والثاني: أن يطول زمانه حتى تنشأ في مثله قوة مستفادة، فيكون باقياً على ملكه ولا يعود إلى الإباحة كما لو قصّ جناح طائر قد صاده، فثبت جناحه، وطار لم يزل عن ملكه. والثانية: أن يفوت الصيد بعد ومول الآلة إليه على امتناع في عدوه وطيرانه، فلا

يصير مالكاً له بجراحته، وسواء كانت الجراحة مما يسلم من مثلها أو لا يسلم، وسواء طال زمان امتناعه أو قصر زمان رماه آخر، فأثبته كان ملكاً للثاني دون الأول، وهي مسألة الكتاب؛ لأن إثباته من فعل الثاني دون الأول، ولو لم يرمه آخر حتى ثبت بجراحة الأول صار حينئذٍ ملكاً للأول، لأنه قد صار مثبتاً له، فإن ثبت بالعطش بعد الجراحة نظر، فإن كان عطشه لعدم الماء لم يملكه الجارح، وإن كان عطشه لعجزه عن وصوله إلى الماء ملكه الجارح؛ لأن الجراح مؤثرة في العجز دون الماء. والثالثة: أن يقصر عن امتناعه من غير وقوف بمكانه، فيعدو دون عدوه ويطير دون طيرانه، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون بما بقي فيه من العدو والطيران يمتنع به عن أن تناله الأيدي فلا يملكه الجارح، ويكون باقياً على حكم امتناعه؛ لأنه لو لم يكن فيه من القوة إلا هذا القدر لكان بها ممتنعاً. والثاني: أن لا يمتنع بما بقي له من العدو والطيران عن الأيدي، وتناله يد من أراده، فيصير بهذه الحالة مثبتاً يملكه جارح ويكون أحق به من آخذه؛ لأنه قد صار بها غير ممتنع، فلو رمى صيداً فأصابه ثم مرق السهم منه، فأصاب صيداً ثانياً ومرق من الثاني، فأصاب ثالثاً ملك منها ما أثبته دون ما لم يثبته، سواء كان أولاً أو آخراً، فإن أثبت جميعها ملكها، وان لم يثبت شيئاً منها لم يملكها، والله أعلم. مسألة: قالُ الشّافِعيِ رحمهُ اللهُ تعالى:" ولوْ رمّاهُ الأول بِهذِهِ الحال فقتلهُ ضِمن قيَمتُهُ لِلثاني لِأنّه صار لهُ دونهُ. قالُ اِلمِزِنّي رحمهُ اللهُ: ينبغي أن يُكوِّن قيَمتُهُ مجروحا الجُرحيْنِ الأولين في قياسِ قوْلِهُ". قال في الحاوي: وصورتها في رجل رمى صيداً فجرح، ولم يثبته، ورمى آخر فجرحه وأثبته، وعاد الأول فجرحه، ومات، فقد صار ملكاً للثاني بإثباته، وعلى الأول ضمانه للثاني بجراحته الثانية، تعليلاً بما قدمناه من الأصول المغررة، وإذا صار في ضمان الأول لم يخل حال جراحته الثانية من ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون موحية في الحلق واللبة، فعليها أرشها، وما بين قيمته حياً مجروحاً، وما بين قيمته مذبوحاً. والثاني: أن تكون جراحته موحية في غير الحلق واللبة، فعليه جميع قيمته مجروحاً جرحين؟ لأنه أفسد لحمه. والثالث: أن تكون جراحة غير موجية، فهل يضمن جميع قيمته، أو يضمن قسط

منها؟ على ما ذكرنا من الوجوه الأربعة، فإن ضمناه جميع قيمته صار كالتوجية يضمن قيمته حياف مجروحاً جرحين، فإن ضمناه قسطه منها كانت الجراحة الأولى هدراً، لأنها في حال الامتناع والإباحة، وهل يعتبر في فوات النفس أو لا؟ على وجهين: أحدهما: أنها غير معتبرة فيه ويعتبر فوات النفس بالجراحة الثانية والثالثة بخروج الأولى عن ضمانة في ملك، فيجب عليه نصف القيمة. والثاني: هو أصح، أنها معتبرة في فوات النفس بسرايتها إلى النفس مع غيرها، وان خالفت غيرها، فعلى هذا، هل تنفرد بحكمها في سقوط الضمان أو تكون مشاركة للثانية؟ لأنها من واحد على وجهين: أحدهما: أنها تنفرد بحكمها عن الثالثة، وإن كانتا من جارح واحد اعتباراً بالجراح دون الجارح فيصير موت الصيد من ثلاثة جراحات، اختصت الثالثة منها بالضمان فأحيت ضمان ثلث القيمة. والثاني: وهو أظهر أنها تكون مشاركة للجراحة الثالثة، لأنها من كل واحد اعتباراً بالجارح دون الجراح، فعلى هذا يصير موت الصيد من جارحين أحدهما: غير ضامن، وهو الثاني الذي أثبت الصيد بجراحته، وصار في ملكه، ومن الجارح الثاني الذي جرحه في الأول، ولم يثبته الجراحة الثانية بعدما أثبته الجارح الثاني: وجرحه في ملكه، ونصف فعله غير مضمون؛ لأن الجراحة الأولى كانت في حال الإباحة والامتناع، ونصف فعله مضمون، وهو جراحة الثانية للصيد بعدما صار الصيد ممتنعاً بجراحة الجارح الثاني، وصار في ملكه وروح الصيد قد خرجت بثلاث جراحات بجراحة من مالك الصيد بإثباته، وبملكه، وبجراحته من الجارح الآخر أحد جراحته غير مضمون، وهو الجراحة الأولى، وجراحة الثانية مضمونة، وهي الجراحة التي وصلت بعدما ملك الصيد الجارح الثاني بإثباته، والجارح الذي ملك الصيد لا يضمن جراحته، وسقط نصف قيمة الصيد، لأنه أحد الجارحين، فأما الجارح الآخر فقد جرح جراحتين، إحداهما: غير مضمونة، وهي الجراحة الأولى فسقط عنه ربع القيمة، ويضمن الجراحة الثانية التي يعد جراحة المالك بإثباته الصيد بجراحته، فيضمن بالجراحة الثانية الجارح الأول ربع قيمته، فصار الصيد مضموناً بربع قيمته، على ما بيناه. ومثاله: رجلان جرحا مرتداً، فأسلم، ثم جرحه أحدهما بعد إسلامه، فمات من سراية الجراحات كلها ضمن ربع دية؛ لأنه مات من جارحين: أحدهما: جرحه هدر، فلم يضمن الآخر نصفه هدر، ونصفه مضمون، فضمن ربع الدية، فيصير فيما يضمنه الأول بجراحته الثانية أربعة أوجه: أحدها: جميع القيمة. والثاني: نصفها. والثالث: ثلثها.

الرابع: ربعها. ويجري العمل في ضمان كل مقدار منهما على ما قدمناه في الوجوه الخمسة. مسألة: قالُ الشّافِعيِ رحمهُ اللهُ تعالى:" ولوْ رمياهُ حيا فقتّلاهُ كان بيْنهُما نِصفيْنِ". قال في الحاوي: وهذه المسألة قد دخلت في أقسام ما قدمناه، فإذا رمياه معاً فأصاباه في حالة واحدة لم يتقدم أحدهما على الآخر، فمات من إصابتهما كان ملكاً لهما بالسوية، سوا، تساوت الجراحتان أو تفاضلنا ما لم يكن أحدهما موجياً، فإن وجاء أحدهما، فعلى ما قدمناه من الوجهين، فلو كان الصيد مما يمتنع بجناحه، ويمتنع برجله كالرواح والفتح، فكسر أحدهما جناحه وكسر الآخر رجله ففيه وجهان: أحدهما: يكون بينهما لتأثير كل واحد منهما في إثباته. والوجه الثاني: أنه يكون لكاسر جناحه دون كاسر رجله؛ لأن امتناعه بجناحه أقوى، وقد يمتنع، وإن كان مكسور الرجل، فعلى هذا لو تقدم أحدهما على الأخر، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يكون لكاسر الجناح أولاً كان أو آخراً؛ لأن إثباته بكسره أقوى. والوجه الثاني: أنه يكون بينهما لإثباته بهما. والوجه الثالث: أنه يكون للثاني منهما؛ لأن به كمال إثباته. فصل: وإذا تنازع رامياً الصيد، فادعى أحدهما اجتماعهما على إصابته، ليكون بينهما، وادعى الآخر تقدمه بالإصابة ليكون له وحده لم يدخل الصيد من ثلاثة أحوال. أحدها: أن يكون في أيديهما، فيكون القول قول مدعي الاجتماع في الإصابة مع يمينه؛ لأنه يدعي تساويهما في الملك مع تساويهما في اليد. والحال الثانية: أن يكون في يد أحدهما فالقول فيه قول صاحب اليد مع يمينه سواء كان مدعي الاجتماع أو مدعي التقدم. والحال الثالثة: أن يكون خارجاً عن أيديهما، فالظاهر تساويهما فيه، فهل يحكم فيه بالظاهر، أو يحكم بموجب الدعوى، فيه وجهان: أحدهما: يحكم بالظاهر، فعلى هذا يكون القول فيه قول مدعي الاجتماع دون مدعي التقدمح لأنه معترف بالتساوي والاشتراك، فتكون اليمين عليه وحده ويكون الصيد بينهما نصفين:

والوجه الثاني: أن يحكم بموجب الدعوى فعلى هذا يكون لمدعي التقدم النصف بغير يمين؛ لأن مدعي الاجتماع يعترف به له وهما متنازعان في النصف الباقي وقد تساويا فيه، فوجب أن يتحالفا عليه، فإن حلف أحدهما، ونكل الآخر جعلناه للحالف، وان حلفا معاً جعلناه بينهما، فيصير لمدعي التقدم ثلاثة أرباعه، ولمدعي الاجتماع ربعه، والله أعلم. مسألة: قالُ الشّافِعيِ رحمهُ اللهُ تعالى:" ولوْ رمّاهُ الأول ورّماهُ الثّاني ولم يُدِرُّ أبلغ بِهِ الأول أن يُكوِّن مُمتنِعا أوْ غيْر مُمتنِعِ جعلناهُ بيْنهُما نِصفيْنِ". قال في الحاوي: وصورتها صيد رماه اثنانء فأصاباه، ووجد ميتاً بعد إصابتهما فهذا على ضربين: أحدهما: أن يعلم حال الراميين، ويعلم صفة الرميتين، والعلم بحال الراميين أن يعلم هل اجتمعا عليه، أو افترقا، ويعلم إذا افترقا أيهما كان أولاً وآخراً. والعلم بصفة الرميتين، أن يعلم هل كان إثباته بالأولى أو بالثانية، أو بهما وهذا الضرب قد ذكرنا حكمه، فلم يحتج إلى إعادته. والثاني: أن يشكل حال الراميين، ويثكل صفة الرميتين، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون الإشكال في الراميين، هل أصاباه معاً أو تقدم أحدهما على الآخر، فيجري عليه في الملك حكم الاجتماع، ويكون بينهما نصفين؛ لتساويهما فيه، وهل يجري عليه في الذكاة والإباحة حكم الاجتماع أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يجري عليه حكم الاجتماع، فيكون ذكياً مباحاً إلحاقاً بحكم الملك. والثاني: أنه يجري عليه في الذكاة والإباحة حكم الافتراق، فيحرم أكله، وإن جرى عليه في الملك حكم الاجتماع؛ لأن الأصل في أكله الحظر، فلو نبحه إلا بيقين، وقد يجوز أن يتقدم أحدهما على الآخر، فيحرم، ويجوز أن يجتمعا عليه فيحل فوجب أن يغلب فيه حكم التحريم. والثاني: أن يعلم التقدم، ويقع الإشكال في المتقدم، فهذا على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يعلم صفة الرمي، ويشكل المتقدم بالرمي. والثاني: أن يعلم المتقدم بالرمي، وتشكل صفة الرمي. والثالث: أن يشكل المتقدم بالرمي، وتشكل صفة الرمي. فأما الضرب الأول، وهو أن يعلم صفة الرمي، ويشكل المتقدم بالرمي، فهذا الإشكال في الملك دون الإباحة، فإن كان صفة الرمي لا تبيح الأكل، فالإشكال في

المالك غير مؤثر؛ لأنه لم يستقر على الصيد ملك، فإن كان صفة الرمي تبيح الأكل صار الإشكال في الملك مؤثراً، فإن لم يتنازعا فيه جعل بينهما نصفين لاستوائهما، وليس يمتنع إذا كان الأصل يوجب أن يكون لأحدهما أن يجعل مع الإشكال بينهما كالوالدين، يكون أحدهما مسلماً، والآخر كافراً إذا اختلفا في ميراث أبيهما، فادعاه المسلم لإسلام أبيه، وادعاه الكافر لكفر أبيه، وكان الأب مجهول الدين يجعل الميراث بينهما، وغن أحاط العلم باستحالة الشركة وإنه لا يكون إلا لأحدهما، لكن لما أشكل مستحقه، وقد استويا فيه جعل بينهما كذلك الصيد، وإن أوجب افتراقهما في رميه أن يكون لأحدهما لا يمتنع مع الإشكال أن يجعل بينهما، فإن تنازعا فيه تحالفا عليه، فإن حلفا أو نكلا كان بينهما، وإن حلف أحدهما كان للحالف منهما. فصل: وأما الضرب الثاني، وهو أن يعلم المتقدم بالرمي وتشكل صفة الرمي، فهي مسألة الكتاب. وصورتها: أن يعرف الأول والثاني، ويشكل هل أثبته الأول أو الثاني، فيرجع فيه إلى الاستدلال بالظاهر فأول الاستدلال بالظاهر أن يعتبر حال وقوفه، فإن وقف عند رمية الأول، فالظاهر أن الأول أثبته دون الثاني. وإن وقف عن رمية الثاني، فالظاهر أن الثاني أثبته دون الأول، وإن لم يكن في اعتبار الوقوف بيان اعتبر بعده صفة الرمي، فإن كانت الأولى في مقتل، والثانية في غير مقتل، فالظاهر أن الأول أثبته دون الثاني، وإن كانت الأولى في غير مقتل، والثانية في مقتل، فالظاهر أن الثاني أثبته دون الأول، وإن كانت الأولى في مقتل، والثانية في مقتل، فالظاهر أن الأول أثبته دون: الثاني، وإن كانت الأولى في غير مقتل، والثانية في غير مقتل، فهي حالة إشكال لترددها بين إثبات الأول والثاني، وهما في الجواز على سواء، وقد انتفى الإشكال عما تقدمه في الحكم بالظاهر فإن أضيف إلى إثبات الأول كان هو المالك، وصار الثاني جارحاً تعتبر صفة جراحته في الأكل، والغرم، وإن أضيف إلى إثبات الثاني كان هو المالك، وتكون جراحته ذكاة سواء كانت في محل الذكاة أو غيرها، وكانت جراحة الأول هدراً، لتقدمها على ملك الثاني وإن لم تضف إلى إثبات أحدهما، لبقاء الإشكال تعلق بإشكاله حكمان: أحدهما: في الملك. والثاني: في إباحة الأكل. فأما الملك فقد نص الشافعي ها هنا أنه يكون بينهما نصفين، فاختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: أن يكون بينهما اعتباراً بالظاهر من نصه، وتعليلاً بتكافئهما فيه بالاحتمال.

والثاني: وهو أظهر أن يكون للثاني منهما؛ لأننا على يقين من إثباته في رمية الثاني، وفي شك من إثباته برمية الأول، توجب أن يكون ملحقاً باليقين دون الشك ولمن قال بهذا عن نص الشافعي جوابان: أحدهما: أنه محمول على الإشكال في الراميين في التقدم، فيكون بينهما نصفين، فأما مع معرفة المتقدم منهما، فيكون للثاني، ولا يشتركان فيه تعليلاً بما قدمناه. والثاني: أنه محمول على الشك في التقدم والاجتماع، فيكون بينهما لجواز اجتماعهما وكلام الشافعي يدفع هذا الجواب، والأول أشبه. وأما إباحته الأكل، فلم يصرح فيه الشافعي ها هنا بشيء، وإن كان فحوى كلامه من جعله بينهما دليلاً على إباحته، فاختلف أصحابنا فيه أربعة أوجه: أحدها: وهو قول أبي إسحاق المروزي: أنه مباح الأكل؛ لأنه على أصل الامتناع، فصار على أصل الإباحة، وهذا تعليل في جعله ملكاً للثاني، ولم يشتركا فيه. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة: أنه محرم الأكل؛ لأنه يجوز أن يثبته الأول فيحرم برمي الثاني، ويجوز أن يثبته الثاني فيحل، فصار متردداً بين حظر وإباحة، فغلب حكم الحظر على الإباحة. والثالث: أن يقارب بين رمية الأول، ورمية الثاني حلّ أكله، وإن تطاول ما بينهما حرم، لأن الذكاة لا تدرك في قريب الزمان، وتدرك في طويله. والرابع: إن كانت الرمية الأولى لا يثبت الصيد بمثلها في الغالب حلّ أكله اعتباراً بالغالب في امتناعه وإثباته. فصل: وأما الضرب الثالث: فهو أن يشكل المتقدم من الراميين، فلا يعلم أيهما الأول وتشكل صفة الرميتين، فلا يعلم بأيهما ثبت فيجري عليه في الملك حكم الضرب الأول، فيكون بينهما نصفين وجهاً واحداً، ويجري عليه في الأكل حكم الضرب الثاني، فيكون في إباحة أكله أربعة أوجه. فإن تنازعا في الملك بالتقدم تحالفا، وإن تنازعا في الإباحة لم يتحالفا؛ لأن اليد تدل على الملك، فتحالفا بها، ولا تدل على الذكاة، فلم يتحالفا فيها، ويحرم أكله على من ادعى تحريمه، ويحل لمن ادعى تحليله. فإن جعل لمن ادعى تحريمه لم تؤثر فيه دعوى الإباحة، وكان حراماً عليه، وإن جعل لمن ادعى تحليله لم يؤثر فيه دعوى التحريم، وكان حلالاً كله، وإن جعل بينهما كان لمدعي التحليل أن يعاوض على حق منه إلا للمكذب له، ولم يجز لمدعي التحريم أن يعاوض على حقه منه لمصدق ولا لمكذب.

مسألة: قالُ الشّافِعيِ رحمهُ اللهُ تعالى:" ولوْ رمى طائِرا فجُرحهُ ثمّ سقط إلى الأرض فأصبناهُ ميتاً لم نذِر أمات في الهواءِ أم بعدما صار إلى الأرض أكُلّ لِأنّه لا يوصِلُ إلى أن يُكوِّن مأخوذاً إلّا بِالوُقوعِ ولوْ حرم هذا حُرمِ كُلّ طائِر رمي فوقع فماتٍ ولكِنه لوْ وقع على جبلِ فتردّى عنه كان متردياً لا يُؤكِّلُ إلّا أن تُكوِّن الرِّميَة قد قطّعت رأّسهُ أوْ ذِبحتهُ أوْ قِطعة باثنتين فيُعلِمُ أنّه لم يُتردّ إلّا مذكي". قال في الحاوي: أما الماشي من الصيد أياً رماه، فقط على جنبه، فمات أكل ولا يحرم بالسقوط على الأرض إذا عادته أنه لا يثبت بعد موته إلا ساقطاً، وأما الطائر من الصيد إذا رماه، فسقط على الأرض ومات، فإن كانت الرمية قد وحته في الهوار لوقوعها في مقتل حلّ أكله باتفاق وإن لم توحه لوقوعها في غير مقتلع فمذهب الشافعي وأبي حنيفة أنه مأكول وقال مالك: هو غير مأكول إلا أن يعلم موته في الهواء؛ لأن سقوطه على الأرض قاتل، فصار موته بمبيح وحاظر، فوجب أن يحرم كالمتردية، ودليلنا عليه شيئان: أحدهما: أنه لما لم يؤصل إليه إلا بالوقوع على الأرض لم يمنع وقوعه عليها إباحة الأكل، وإن كان مؤثراً في فوات النفس كسقوط الماشي على الأرض. والثاني: أن ما يشق الاحتراز منه في الصيد كان عفواً، كالذكاة في محلها وفيه انفصال. فصل: فأما إذ سقط الطائر بعد رميه إلى الماء، فإذ كانت الرمية موجية حل أكله، وإن كانت غير موجية، فله حالتان: أحدهما: أن يكون من طير البر، فلا يحل أكله إذا مات بعد سقوطه في الماء؛ لرواية عامر الشعبي عن عدي بن حاتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال وسأله: "إذا رميت سهمك فاذكر اسم الله، فإن وجدته قد قتله، فكله، إلا أن تجده قد وقع في ماء فمات، فإنك لا تدري الماء قتله؟ أو سهمك؟ ولأن الماء بعد الجرح أبلغ في فوات نفه من الجرح مع إمكان الوصول إليه في الأغلب من غير وقوع في الماء. والثاني: أن يكون من طير الماء، ففي إباحة أكله إذا مات بعد سقوطه في الماء وجهان: أحدهما: لا يحل أكله تعليلاً بما ذكرناه. والثاني: يحل أكله؛ لأنه لا يكاد في الغالب يفارق الماء، فصار سقوطه فيه، كسقوط غيره في الأرض.

فأما إن سقط الصيد في النار فمات فيها لم يؤكل سواء كان الصيد طائراً أو ماشياً؛ لأن النار قاتلة، ويستغني الصيد عن وقوعه فيها، إلا أن يعلم موته قبل وقوعه فيها فيحل. فصل: وإذا سقط الطائر بعد رميه على حائط أو شجرة أو جبل ثم تردى منه إلى الأرض، فسقط إليها، فمات أو كان الصيد ماشياً فرماه على الجبل، فتردى منه إلى الأرض، فمات، فله حالتان: أحدهما: أن يحصل موته قبل ترديه من الجبل والحائط الشجرة فيحل أكله؛ لأنه لا تأثير لترديه عن موته. والثانية: أن لا يعلم موته قبل ترديه، فأكله حرام؛ لأنه قد صار من جملة المتردية التي حرمها الله تعالى في كتابه بقوله: {والْمُنْخَنِقَةُ والْمَوْقُوذَةُ والْمُتَرَدِّيَةُ} [المائدة:3] ولأن ترديه نادر، فحرم به كسقوطه في الماء. ولو رمى طائراً، فخر إلى الأرض، واستقبله رجل بسيفه، فقطعه باثنتين حرم أكله إلا أن يكون الجرح قد وجأه في الهوى، فلا يحرم؛ لأن قطعه بالسيف قبل التوجية ليس بذكاة، فصار مستهلكاً له، فحرم به، وضمنه لمالكه. مسألة: قالُ الشّافِعيِ رحمهُ اللهُ تعالى:" ولا يُؤكِّلُ ما قِتلُهُ الرّمي إلّا ما خِرقُ بدقته أوْ قطع بِحدِّهُ فأما ما جُرحُ بِثقلِهُ فهوَ وقيذة". قال في الحاوي: أما الذكاة في اللغة، ففيها ثلاثة أوجه: أحدها: أن التطيب من قولهم: مسك ذكي إذا كان طيب الرائحة، ولكنها في الشرع تطييب الذبيحة بالإباحة. والثاني: أنها القطع لكنها في الشرع قطع على صفة مبيحة، فصارت في الشرع قطعاً خاصاً، وفي اللغة قطعاً عاماً. والثالث: وإليه أشار الشافعي، أن الذكاة القتل؛ لأنها لا تستعمل إلا في النفوس، لكنها في الشرع قتل في محل مخصوص، فصارت أخص منها في اللغة. قال الشافعي: وجميع ما قال الله تعالى: {إلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] إلا ما قتلتم، ولكن كان مجوزاً أن يكون ببعض القتل دون بعض، فلما قال: {إنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة:67] دل على أن الذكاة المأمور بها الذبح دون غيره، وكان النحر في معنى الذبح.

فإذا تقرر هذا، فالذكاة على ضربين في مقدور عليه، وممتنع. فإذا كانت في مقدور عليه لم تكن إلا ذبحاً في الحلق أو نحراً في اللبة بما يقطع بعده دون ما يخرق بدقه، وسواء كان بحديد أو بغيره من المحدد إذا مار في اللحم مور الحديد من ليط القصب، وما حدد من الزجاج، والحجر، والخشب؛ لأن المقصود منها ما قطع بحد؛ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما انهر الدم وفرى الاوداج فكل". وروي أن عدي بن حاتم سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إنا نجد الصيد ولا نجد ما نذكي به إلا الظرار وشقة العصا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرر الدم بما شئت". قال أبو عبيد: الظرار حجارة محددة. وقوله: "أمرر الدم بما شئت" أي سِلْهُ بما شئت. فأما ما قطع من ذلك بشاة اعتماد المذكي، وقوة ثقله، فلا يؤكل ومثله الحديد لو كان لا يقطع بحده، ويقطع بشدة الاعتماد، وقوة الذابح لم يؤكل لأنه يصير المنهر للدم هو الذابح دون الآلة. وأما الممتنع فكل موضع من جسده محل لذكاته مما قطع بحده كالسيف والسكين أو خرق، وثقب بدقته كالسهم والحربة، فمار في اللحم، ودخل، سواء كان حديداً أو ما قام مقامه من القصب، والخشب، والمحدد، والحجارة المحددة. فأما ما قطع بثقله أو بقوة الرامي كالخشب الأصم، والحجر الصلد، فإنه وقيذ لا يؤكل لقول الله تعالى: {والْمَوْقُوذَةُ والْمُتَرَدِّيَةُ} [المائدة:3] والموقوذة: هي المقتولة ضرباً، والمتردية: هي الواقعة من شاهق. وروى عامر الشعبي عن عدي بن حاتم، قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن صيد المعراض، فقال: "ما أصاب بحده فكل، وما أصاب بعرضه، فهو وقيذ". وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن "الجلاهق" وهو قوس البندق؛ لأنه يقتل الصيد بقوة راميه، وليس يقتله بحده كالسهام، فأباح السهم، ونهى عن البندق. فإن قيل: فقد روى الأعمش عن إبراهيم، عن عدي بن حاتم أنه قال: سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن البندق، فقال: "إن خرقت فكل، وإن لم تخرق فلا تأكل" قيل: هذا الحديث ليس بثابت، ولا أصل له، فإن سفيان قال: سألت الأعمش عن حديث البندق يعني هذا الحديث المروي عنه أنه ليس من حديثك، فقال: كيف أصنع بهؤلاء أصحاب الحديث يقرؤون من أصل ما ليس فيه.

فصل: فإذا ثبت أن ما لم يقطع بحده، ولم يخرق بدقته، وقطع بثقله أو بقوة الاعتماد عليه غير مأكول، فإن فاتت ذكاته في الحلق واللبة كان ميتة محرمة، وان أدركت حياته، فذبح في حلقه أو نجز في لبته نظر فيما أدركه من حياته، فإن كانت ضعيفة لا لبث لها كجرحة المذبوح لم يحل أكله بالذبح، وكان ميتة، وإن كانت حياته قوية يلبث معها، وإن لم يطل زمان لبثها صحت ذكاته، وحل أكله لقول الله تعالى: {وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] فأباح ما أدركت ذكاته بعد تقدم المحظورات. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيِ رحمَهُ اللهَ تَعَالَى: "وَمَا نَالَتْهُ الْجوارحِ فَقِتْلَتَهُ وَلَمْ تَذُمُّهُ اِحْتَمَلَ مَعْنِيَّيْنِ: أَحَدُّهُمَا أَنْ يُؤْكَلَ حَتَّى يَجْرَحَ قَالُ اللهِ تَعَالَى {مِنْ الْجوارح} [الْمَائِدَةَ: 4] والآخر أَنَّه حَلُّ قَالُ اِلْمِزِنَّي: الأول أَوَّلاهُمَا بِهِ قِيَاسَا عَلَى رَامِي الصَّيْدِ أَوْ ضَارِبَهُ لَا يُؤْكَلَ إلّا أَنْ يَجْرَحَه". قال في الحاوي: وصورتها في رجل أرسل كلبه أو غيره من الجوارح على صيد، فمات الصيد بإرساله عليه، فلا يخلو حال موته من ثلاثة أحوال: إحداها: أن يتعبه الكلب بالسعي عليه حتى يسقط الصيد ميتاً بالإعياء من غير أن يجرحه الكلب، فهذا ميتة لا يؤكل، لأنه لم يصل إليه، فهل يكون تذكية. والثانية: أن يناله الكلب، فيعقره، فيموت من عقره وجراحته، فيحل أكله سواء جرحه بأنيابه أو بمخالبه في مقتل أو غير مقتل من رأس أو ذنب؛ لقول الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4]. فاختلف أصحابنا في موضع عقر الكلب، هل يحلّ أكله أو لا؟ على وجهين: أحدهما: لا يحل أكله سواء كان قد غسله أو لم يغسله، ويأكل ما عداه من جسده؛ لأن لعاب الكلب ونجاسة أنيابه تسري في محله فلا يصل إليه الغسل. والثاني: أنه يحل أكله، لأنه من جملة حكم بإباحتها من غير استثناء، فعلى هذا يجب غسله قبل أكله أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يجب غسله قياساً على محل ولوغه، ولا يحل أكله قبل الغسل. والثاني: لا يجب غسله؛ للحوق المشقة فيه، فصار عضواً كسائر ما يشق التحرز منه من جمع الأنجاس. والثالثة: أن يكون موت الصيد بصدمة الكلب أو بضغطته أو بقوة إمساكه من غير أن يعقره بجرح من ناب أو مخلب، ففي إباحة أكله قولان:

أحدهما: وهو (اختيار) المزني، ورواه أبو يوسف، ومحمد، وزفر عن آبي حنيفة أنه حرام لا يؤكل. والثاني: ورواه الحسن بن زياد اللؤلؤي عن أبي حنيفة أنه حلال يؤكل. فدليل القول الأول في تحريمه قوله تعالى. {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] فجعل الجرح نعتاً، فصار في الإباحة شرطاً. وروى رافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوا" فدل على أن ما لم ينهر لا يؤكل؛ ولأن قتل الصيد قد أبيح بآلة وبجوارح فلما لم يحل صيد الآلة إلا بعقره وجب أن لا يحل صيد الجوارح إلا بعقره، لأنه أحد النوعين، فكان العقر شرطاً في الحالين. ودليل القول الثاني في إباحته قول الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] يريد به الجوارح الكواسب كما قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية:21] أي اكتسبوا ثم قال: {فَكُلُوا مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة:4] فكان على عمومه في كل إمساك عقر آو لم يعقر، ولأن شروط الذكاة معتبرة بحال القدرة والعحز فتجب مع القدرة قي محلها في الحلق واللبة ما يسقط مع العجز، كذلك العقر لا يثق اعتباره قي الآلة، فكان شرطاً وشق اعتباره في الجارح فلم يكن عقره شرطاً؛ ولأن ما كان شرطاً قي تعليم الجارح، كان شرطاً قي الاستباحة، كالإمساك، وما لم يكن شرطاً في التعليم لم يكن شرطاً قي الاستباحة، كالأكل، فلما لم يكن العقر شرطاً في تعليمه لم يكن شرطاً في استباحة صيده عقره من دواعي الآكل المؤثر قي الحظر فكان ترك عقره أصح في التعليم، وأبعد من الحظر، فكان أحق بالإباحة من العقر. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ رحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:"وَلَوْ رَمَى شَخُصَا يَحْسُبُهُ حَجَرَا فَأَصَابَ صِيدَا فَلَوْ أَكُلَّه مَا رَأَّيْتُهُ مُحْرِمَا كَمَا لَوْ أَخْطَأَ شَاةُ فَذِبْحَهَا لَا يُرِيدُهَا وَكَمَا لَوْ ذِبْحَهَا وَهُوَ يراها خَشَبَةَ لِينَةٍ". قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا رأى شخصاً، فظنه حجراً أو شجرة، فرماه بسهم، فبان أنه صيد قتله حل أكله، وكذلك لو رمى الشخص، وهو يظنه إنساناً أو حيواناً غير مأكول من كلب أو خنزير، فبان أنه صيد مأكول قتله حل أكله في هذه الأحوال كلها، وبه قال أبو حنيفة ومالك: لا يؤكل في هذه الأحوال كلها. وقال محمد بن الحسن: إن ظنه غير حيوان من شجر أو حجر، فبان صيداً لم يحل أكله، وإن ظنه حيواناً غير مأكول، فبان مأكولاً حلّ أكله، وعلة إباحته عندنا مختلف فيها بين أصحابنا على وجهين:

أحدهما: أن العلة في إباحته قصده للفعل، فكان ما حدث من فعله المقصود مباحاً، كما لو قصد ذبح شاة فذبحها، وهو يحسبها غيرها، حل أكلها كما لو قبض على شي، يحسبه خشبة لينة فقطعها فبان أنه حلق شاة قد ذبحها حلّ أكلها. والثاني: وهو تعليل أبي إسحاق المروزي أن العلة في إباحته مباشرته للفعل دون القصد؟ لأن ذكاة الصبي والمجنون مباحة، وإن لم يكن لهما قصد، فكان التعليل بالمباشرة أولى من التعليل بالقصد ولا يعتبر بنية الذكاة على التعليلين جميعاً، ألا تراه لا أشار بالسكين إلى حلق شاة ليعبث بها ولا يذبحها فانذبحت بها حلّ أكلها، وإن لم ينوه، وتأثير اختلاف الوجهين في هذا التعليل يتحقق فيمن رمي إلى الهواء، فسقط في علوه على صيد، فقتله، ففي إباحته وجهان: أحدهما: غير مباح إذا علل بقصد الفعل. والثاني: مباح إذا علل بمباشرة الفعل، وهكذا لو كانت بيده سكين فسقطت على حلق شاة أو طائر، فذبحته، لم يحل أكله على الوجه الأول لأنه عن فعل غير مقصود وحلّ أكله على الوجه الثاني؛ لأنه عن مباشرة فعله. فصل: فأما إذا أرسل كلبه على شخص يحسبه غير صيد فبان صيداً مأكولاً، تميز حينئذِ حال الشخص في إرسال الكلب، وإن لم يتميز في إرسال السهم، فإن كان الشخص حيواناً ظنه إنسان أسداً أو خنزيراً؛ فأرسل كلبه عليه، فبان صيداً مأكولاً حلّ؟ لأن الكلب يشلي على كل الحيوان فيستشلي، فاستوى في استرساله حال المأكول، وغير المأكول، وإن اختلفا في إباحة الأكل، وإن ظن المرسل أن الشخص شجرة أو حجر، فأرسل عليه كلبه، فبان صيداً، فقتله ففي إباحته وجهان: أحدهما: مباح كما لو أرسل سهمه عليه. والثاني: محظور لأمرين هما تعليل، وفرق: أحدهما: أن إرساله على غير الحيوان عبث، فصار كالمسترسل بنفسه. والثاني: أن تصرف الكلب باختياره ونفوذ السهم باختيار مرسله. فأما إذا أرسل سهمه أو كلبه على غير شخص يراه، فصادف صيداً قتله، فقد ذكرنا أنه إن كان بإرسال كلب لم يؤكل، وإن كان بإرسال سهم، ففي إباحة أكله وجهان، وهو عكس مسألتنا في الشخص المرئي؛ لأنه في الشخص يؤكل ما أصابه سهمه، وفي أكل ما أصابه كلبه وجهان، وفي غير الشخص المرئي لا يؤكل ما أصابه كلبه، وفي أكل ما أصابه سهمه وجهان:

مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ رحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "وَمِنْ أَحَرَزَ صِيدَا فَأَفْلَتَ مِنْه فَصَادَّهُ غَيْرَه فَهُوَ كالأول". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا ملك صيداً بالاصطياد أو بابتياع، وأفلت منه لم يزد ملكه عنه سواء طال مكثه عنه أو قصر، وسواء بعد عنه في البر أو قرب من المصر، وسواء كان من الطير أو الدواب. وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: إن بعد في البر مع قرب المكث زال ملكه عنه؛ استدلالاً بأن الإمساك سبب الملك، فإذا زال بالانفلات زال به الملك، كما لو ملك ماء باستقائه من نهر، فانصب منه في النهر، زال ملكه عنه، ولأنه لو بقي على ملكه بعد انفلاته تحرم صيد البر لجواز اختلاطه بمنفلت فحرم، وفي إجماعهم على إباحة صياه دليل على أن المنفلت عائد في الإباحة إلى أصله. ودليلنا هو أنه يملك الصيد بالابتياع، كما يملكه بالاصطياد، فلما لم يزل به الملك عما إتباعه بالانفلات لم يزل به الملك عما صاده؛ ولأنه يملك عبده بالسبي؛ ولا يزول ملكه عنه بالرجوع إلى دار الحرب، كذلك الصيد إذا ملكه الاصطياد لم يزول ملكه عنه بالانفلات؛ ولأنه لو وسم الصيد قبل انفلاته لم يزل ملكه عنه بعل وسمه فوجب أن لا يزول به قبل وسمه؛ لأن الوسم لما لم يؤثر في ثبوت الملك لم يؤثر في زواله. وأما الجواب عن استدلاله بأن زوال سبب الملك موجب لزوال الملك كالماء إذا عاد إلى النهر فهو بطلانه بالعبد المسبي إذا عاد آبقاً إلى دار الحرب زال سبب ملكه، ولم نوجب زوال ملكه، كذلك الصيد. فأما الماء فقد اختلف أصحابنا في حكمه إذا عاد إلى النهر على وجهين: أحدهما: أنه على ملكه، وإنما اختلط بما لم يتميز عنه، فصار مستهلكاً. والثاني: أن ملكه قد زال بمثله المقدور عليه، فخالف حكم الصيد الذي لا يقدر عليه. وأما الجواب عن استدلاله بأن صيد البر على الإباحة بعد انفلاته، فهو أن اختلاط الحلال بالحرام إذا لم يمكن الاحتراز منه يوجب تغليباً الإباحة على التحريم، ألا ترى أن ماء النهر إذا أريق فيه خمر أو بول لم يحرم لتعذر الاحتراز منه؛ ولو اختلطت أخته بنساء بلد لم يحرم عليه أن يتزوج منهن من شاء، ولو اختلطت بعدد من نساء بلد حرمن كلهن؛ لأنه لا يقدر على الاحتراز منها في نساء البلد ويقدر على الاحتراز منها في العدد المحصور من نساء البلد، كذلك حكم الصيد المنفلت إذا اختلطت بصيد البر لم يكن الاحتراز، فحل، وإذا اختلط بعدد محصور من عدة صيود حرم.

فصل: فأما ملك الصيد إذا قتله باختياره فعلى ضربين: أحدهما: أن يقصد بإرساله التقرب إلى الله تعالى به، وهذا موجب لزوال المالك عنه كالعتق، واختلف أصحابنا، هل يحل صيده بعد امتناعه إذا عرف على وجهين: أحدهما: وهو قول كثير من البصريين أنه لا يحل صيد كالمعتق، لا يجوز استرقاقه، والوجه الثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة: يحلّ صيده؛ لأن زوال الملك يوجب عوده إلى حكم الإباحة؛ وليخرج عن حكم السائبة المحرمة. والضرب الثاني: أن لا يقصد بإرساله التقرب إلى الله تعالى، فقد اختلف أصحابنا في زوال ملكه عنه بالإرسال على وجهين: أحدهما: يزول كما يزول لو أرسله متقرباً به. والثاني: لا يزول ملكه كما لو أرسل بعيره أو فرسه. فإن قيل: ببقائه على ملكه حرم صيده إذا عرف، وإن قيل بزوال ملكه عنه حلّ صيده، وإن عرف، بخلاف ما تقرب به على أحد الوجهين؛ لأن لله تعالى في القرية حقاً ليس في غيره. مسالة: قَالُ الشَّافِعِيِ رحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:" وَكُلَّ مَا أَصَابَهُ حَلالَ فِي غَيْرَ حُرَمِ مِمَّا يَكُونُ بمكة مِنْ حَمَّامِهَا وَغَيْرَه فَلَا بأس إِنَّمَا تَمنُّعَ بِحُرَمِهُ بِغَيْرَه مِنْ حُرَمِ أَوْ إحرام". قال في الحاوي: أما الصيد في الحرم، فحرام كتحريمه في الإحرام، سواء كان منشؤه في الحل أو في الحرم، فإن خرج الصيد من الحرم إلى الحل حل صيده، سواء كان منشؤه في الحرم أو في الحل، فيكون تحريم الصيد معتبراً بمكانه في حال صيده لا بمنشئه وبه قال أبو حنيفة وقال مالك: إذا كان منشأ الصيد في الحرم قتله وضمن بالجزاء في الحل والحرم اعتباراً بالمنشأ، واستدلالاً بأن استقرار الحرمة به تمنع من استباحته كما تمنع من استباحة شجر الحرم، وأحجاره بعد إخراجه. ودليلنا هو أن تحريم الصيد إنما هو لحرمة في غيره من حرم أو إحرام، فلما زالت حرمته بالإحلال من الإحرام وجب زوال حرمته بالخروج من الحرم؛ ولأنه لما حرم صيد الحلّ إذا دخل إلى الحرم اعتباراً بمكانه وجب أن يحل صيد الحرم إذا خرج إلى الحلّ اعتباراً بمكانه، وقد اعتبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك في طائر مع صبي صاده من الحلّ، وأدخله الحرم، فقال له: يا أبا عمير ما فعل النغير" فذل هذا الخبر على أمور.

منها: أن ما صيد في الحل جاز إدخاله إلى الحرم اعتباراً بمكانه الذي صيد فيه. ومنها: جواز لعب الصبيان بذوات الأرواح. ومنها: جواز المزح مع الصبيان. ومنها: جواز كنية من لا ولد له يتكنى باسمه ومنها: جواز التصغير في الأسماء. فأما الجواب عن استدلال مالك بحجارة الحرم وأشجاره، فهو أنها من جملة الحرم فلزم ردها إليه، وليس الصيد من الحرم، وإنما هو فيه، فافترقا. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ رحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلَوْ تَحَوَّلَ مِنْ بُرْجِ إِلَى بُرْجِ فَأَخُذُّهُ كَانَ عَلَيه رَدَّه". قال في الحاوي: أما إذا ملك طائراً إنسياً فطار من برجه إلى برج غيره كان باقياً على ملكه، ولم يملكه من طار إلى برجه بوفاق مالك، ولو صاد طائراً وحشياً فطار من برجه إلى برج غيره كان عندنا باقياً على ملكه سواء أنس ببرجه أو لم يأنس. وقال مالك: إن أنس ببرجه لطول المكث كان باقياً على ملكه، وإن لم يأنس بطول المكث صار ملكاً لمن انتقل إلى برجه، فإن عاد إلى برج الأول، عاد إلى ملكه. ودليلنا على ما قدمناه. فأما إذا سقط طائر وحشي على برج رجل لم يملكه بسقوطه عليه، سواء ألفه أو لم يألفه حتى يصير تحت قدرته، فلا يقدر على امتناعه منه، وذلك بأن يغلق محليه باباً أو يلقى عليه قفصاً، فيصير ملكاً له كما يملكه إذا وقع في شبكته لقارته عليه في الحالين، فإن أخرج هذا الطائر في برجه كان حكم فراخه لحكمه إن ملكه ملك فراخه، وإن لم يملكه لم يملك فراخه، وكذلك بيضه، وإن كان أحق بأخذهما من غيره لملك الموضع، فإن أخذه غيره ملكه الآخذ له دونه، وإن تعدى بدخوله إلى ملكه. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ رحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلَوْ أَصَابَ ظَبْيَا مقرطاً فَهُوَ لَغَيْرَه". قال في الحاوي: وهذا كما قال، إذا كان على الصيد أثر ملك أو يد أدمي من قرط أو ميسم أو خضاب أو قلادة لم يملكه صائده؛ لخروجه عن صفة الخلقة إلى أثار الملك، فخرج به عن حكم الإباحة إلى حكم الحظر، وقد روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بظبي واقف فيه اثر فهمّ به أصحابه فمنعهم وقال: "حتى يجيء صاحبه". وإذا لم يملكه لم يخل

حاله بعد صيده من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون قد صار في يده حياً، فهو في حكم اللقطة من ضوال الحيوان يعرفها ولا يضمها، فإن أرسل الصيد من غير تعريف ضمنه لمالكه. والحال الثانية: أن يكون ثابتاً في شبكته أو شركه، فلا يلزمه تعريفه؛ لأنه لو يثبت له عليه يد، وإن حل الشبكة عنه، فاسترسل وامتنع لم يضمه؛ لأنه وان جرى على ما في الشبكة حكم يده من ملك الصيد لم يجز عليها حكم يده من الضمان والتعريف؛ لأنه يضعها لهذا الحكم، وإنما وضعها لثبوت الملك. والحال الثالثة: أن يموت هذا الصيد باصطياده فلا يخلو حال ما مات به من ثلاثة أضرب: أحدها: أن يموت في شبكة قد وضعها فلا يضمنه؛ لأن وضع الشبكة مباح، فلم يضمن ما تلف بلها. والثاني: أن يموت بسهم رماه، فيكون ضامناً له؛ لأن تلف بفعله وإن كان مغروراً به؛ لأن الضمان لا يسقط إلا بالأعذار. والثالث: أن يموت بإرسال الكلب عليه ففي ضمانه وجهان: أحدهما: يضمنه كما يضمنونه بهمه. والثاني: لا يضمنه؛ لأن قتل الكلب منسوب إلى اختياره، وقتل السهم منسوب إلى راميه. فصل: وهكذا ما أخذه من أحجار الجبال، وخشب الغياض إذا وجد فيه صنعة أدمي من نقر أو نحت أن تربيع لم يملكه كالصيد، فأما إذا صاد سمكة وجد في جوفها جوهرة، فإن كان فيها أثر صنعة ملك السمكة لا يملك الجوهرة، وإن لم يكن فيها أثر صنعة نظر، فإن صادها من بحر ذلك الجوهر، أو كان فيها غيره فصادها من بحر بالعنبر والعنبر ملكها، ولم يملك الجوهرة والعنبرة، وكذلك لو وجد في جوفها ذهباً فإن كان مطبوعاً لم يملكه، وإن كان غير مطبوع وليس فيه أثر النار فإن كانت في بحر هو من معادن الذهب ملكه، وإن لم تكن من معادنه لم يملكه وكان لقطة. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ رحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلَوْ شَقَّ السَّبْعِ بَطِنَ شَاةِ فَوصلَ إِلَى معاها مَا يَسْتَيْقِنُ أَنَّهَا لَمْ تُذْكَ مَاتَتْ فَذَكِيَتْ فَلَا بأس بأكلها لِقَوَّلَ اللهُ عِزِّ وَجَل: {وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] وَالذَّكاَةُ جَائِزَةً بالقرآن. قَالَ اِلْمِزِنَّي رحمَهُ اللَّهُ:

وَأُعَرِّفُ مِنْ قَوْلِهُ أَنَّهَا لَا تُؤَكِّلُ إذاً بَلَّغَ بِهَا مَا لَا بَقاءَ لِحًيَاتِهَا إلّا حَيَّاهُ المذكى وَهُوَ قولَ الْمَدَنِيِّينَ وَهُوَ عِنْدَِي أَقِيسُ لِأَنَِّي وَجَدَتْ الشَّاهُ تَمُوتُ عَنْ ذَكاَةٍ فَتَحِلُ وَعَنْ عَمَرَ فَتُحْرِمُ فَلَمَّا وَجَدَتْ الَّذِي أَوَجْبَ الذِّبْحِ مَوْتَهَا وَتَحَلُّلَهَا لَا يُبْدَلْهَا أَكُلَّ السَّبُعَ لَهُ وَلَا يَرِدُ بِهَا كَانَ ذَلِكَ فِي الْقِيَاسِ إذاً أَوَجْبَ السَّبْعِ مَوْتَهَا وَتَحْرِيمَهَا لَمْ يُبْدَلْهَا الذِّبْحِ لَهَا وَلَا أَعلمَ خِلاَفَا أَنْ سَبَعَا لَوْ قَطْعَ مَا يُقْطَعْ المذكي مِنْ أَسُفْلِ حَلَقِهَا أو أَعلاَهُ ثَمَّ ذَبَّحَتْ مِنْ حَيْثُ لَمْ يُقْطَعْ السَّبْعُ مِنْ حَلَقِهَا أَنَّهَا مَيْتَةُ وَلَوْ سَبْقَ الذابح ثَمَّ قَطْعَ السَّبْعُ حَيْثُ لَمْ يُقْطَعْ الذابح مِنْ حَلَمِهَا أَنَّهَا ذَكِيُّهُ. وَفِي هَذَا عَلَى مَا عَلَى مَا قَلَتْ دَليلُ وَقَدْ قَالَ الشَّافِعِيِ: وَلَوْ أَدَرَكَ الصَّيْدِ وَلَمْ يُبْلِغُ سِلاَحُهُ أَوْ مَعْلَمَهُ مَا يُبْلِغُ الذابح فَأَمْكَنَهُ أَنْ يَذْبَحَهُ فَلَمْ يُفَعِّلُ فَلَا يَاكُلُ. قَالَ اِلْمِزِنَّي رحمَهُ اللَّهُ: وَفِي هَذَا دَليلُ أَنَّه لَوْ بَلَّغَ مَا يُبْلِغُ الذابح أَكُلَّ. قَالَ اِلْمِزِنَّي رحمَهُ اللَّهُ: وَدَليلَ آخر مِنْ قَوْلِهُ فِي كِتَابُ الدِّيَاتِ لَوْ قَطْعَ حُلْقُومِ رَجُلِ ومريئه أَوْ قَطْعَ حَشْوَتِهُ فَأَبَانَهَا مِنْ جَوْفِهُ أَوْ صَيَّرَهُ فِي حالِ الْمَذْبُوحِ ثَمَّ ضَرِبَ آخر عنقَهُ فالأول قَاتِلَ دُونَ الآخر. قَالَ اِلْمِزِنَّي رحمَهُ اللَّهُ: فَهَذِهِ أَدَلَّهُ عَلَى مَا وَصَفَتْ مِنْ قَوْلِهُ الَّذِي هُوَ أَصَحَّ فِي الْقِيَاسِ مِنْ قَوْلِهُ الْآخَرِ بِاللهِ التَّوْفِيقِ قال في الحاوي: وجملته أنه إذا افترس سبع أو ذئب شاة أو بعيراً ثم أقلع وفي الشاة حياة، فذبحت لم تخل حياتها من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون جرح الافتراس يجوز أن يبرأ، والحياة التي فيها يجوز أن تبقى، فذبحها على هذه الحال، فإن ذكاته تبيح أكلها، وهو متفق عليه لقول الله تعالى: {وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3]. والحال الثانية: أن يكون الجرح لا يجوز أن تبقى كقطع رأسها، أو إخراج حشوتها ولم يبق فيها، إلا حركة المذبوح فلا يؤثر ذبحها، ولا يحل أكلها؛ لخروج أكثر الروح بجرح السبع دون الذبح، وهو متفق عليه. والحال الثالثة: أن يكون جرح السبع لا يجوز أن يبرأ والحياة معه قليلة البقاء، مثله أن يقطع منها ما لا يحيا معه، كالمعا، لكن الروح فيها باقية، تعيش بها ساعة أو بعض يوم، فيكون ذبحها على هذه الحال ذكاة يحل بها أكلها كالحالة الأولى، وهذا مما لم يختلف فيه قول الشافعي، وإنما أشكل على المزني فجمع بين الحالتين، وتصور أن ذلك على قولين وليس كما توهم، وإنما هو على اختلاف حالين. وقد روى سليمان بن يسار عن زيا بن ثابت قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن شاة أخذها الذئب فأدركت، وبها حياة، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأكلها. وقد جرح عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جرحين قطعا معاه، فسقاه الطبيب لبناً خرج منه، فقال له: اعهد، فإنك ميت فعهد ووصى، وأمر ونهى، فأجرى المسلمون عليه حكم الحياة في جميع ما كان من قوله وفعله، فدل على أن ما انتهى إلى حاله من الحيوان كان في حكم الحياة، وإباحة الذكاة فلو وقع الشك في ذبح الشاة هل كان في حال

حظرها أو إباحتها، ففي صحة ذكاتها وجهان: أحدهما: تكون ذكية تؤكل، لأن الأصل بقاء الحياة فيها إلى وقت الذبح. والثاني: أنها محرمة لا تؤكل، لأن الأمل في فوات النفس الحظر حتى يعلم يقين الإباحة. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ رحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:" وَكُلَّ مَا كَانَ يَعِيشُ فِي الْمَاءِ مِنْ حُوتِ أَوْ غَيْرَه فَأَخُذُّهُ مَكَانَهُ." قال في الحاوي: اعلم أن الحيوان يتنوع ثلاثة أنواع، بري، وبحري، وما جمع بين البر والبحر. فأما البري، فالمأكول منه لا يحل أكله، إلا بالذكاة، سوى الجراد وحده، فإنه يحلّ أكله ميتاً سواء مات بسبب أو غير سبب. روى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أحلت لنا ميتتان ودمان، الميتتان: الحوت والجراد والدمان: الكبد والطحال". وأما البحري، فيقم ثلاثة أقسام، مباح ومحظور، ومختلف فيه، وأما المباح، فهو السمك على اختلاف أنواعه، ويختص بحكمين: أحدهما: أنه مباح الأكل. والثاني: أنه لا يفتقر إلى الذكاة ويحل أكله ميتاً، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته". واختلف أصحابنا في إباحة أكله حياً على وجهين: أحدهما: لا يحل أكله حياً حتى يموت؛ لورود السنة بإحلال بعد الموت؛ لأن موته ذكاة. والثاني: يحل أن يؤكل حياً وميتاً؛ لأنه لا يفتقر إلى ذكاة، وليس له حال تحريم فعمت فيه الإباحة، واختلف أصحابنا إذا صاد سمكة، فانقطع بعضها في يده وأفلت باقيها حياً، هل يحل أكل ما انقطع منها؛ على وجهين: ذكرهما ابن أبي هريرة: أحدهما: لا يحل لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما أبين من حي فهو ميت"يعني محرماً؛ لأنه موته قد علم. والثاني: أنه يحلّ أكله؛ لأن صيد البحر لا يحرم بالموت فاستوى حكم ما أخذ من حي وميت، ولو وجد سمكة في جوف سمكة حلّ أكلهما معاً، ما لم تنفصل الداخلة، فإن

انفصلت حتى تقطعت وتغير لون لحمها، ففي إباحة أكلها وجهان: أ~~: يحل أكلها كما يحل لو تقطعت بغير صيدها وتغيرت. والثاني: يحرم أكلها؛ لأنها قد صارت في حكم الرجيع والفيء، وهكذا أكل ما في بطون السمك من غذائه على هذين الوجهين. فصل: وأما الحرام، وهو الضفدع، وحيات الماء، وعقاربه، وجميع ما فيه من ذوات السموم الضارة، وما يفضي إلى موت أو سقم، فلا يحلّ أن يؤكل بحال؛ لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه نهى عن قتل الضفدع"، وقيل: إنه خرج على سبب، وهو أن طبيباً وصف عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دواء فيه لحم الضفدع، فنهى عن قتل الضفدع" وقيل: هو سم. واختلف أصحابنا بعد اتفاقهم على تحريمه هي: ينجس بعد موته على وجهين: أحدهما: أنه طاهر لا ينجس بالموت؛ لأن حيوان الماء موته وحياته سواء. والثاني: أنه نجس إذا مات لأنه لما شابه حيوان البر في التحريم شابهه في التنجيس، فعلى هذا هل ينجس به الماء القليل أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يتنجس به كما ينجس بسائر الأنجاس. والثاني: لا ينجس به للحوق المشقة في التحرز، فصار عضواً كدم البراغيث. فصل: وأما المختلف فيه، فهو ما أشبه حيوان البر من دواب الماء من الفأر والكلاب والخنازير، وقيل: إنه ليس في البر حيوان إلا وفي البحر مثله، فاختلف الفقهاء في إباحة أكله على ثلاثة مذاهب: أحدها: هو الظاهر من مذهب الشافعي أن جميعه حلال مأكول، يستوي فيه ما أشبه مباحات البر ومحرماته من كلابه وخنازير، وقد قال في كتاب السلم: يؤكل فأر الماء. وقال الربيع: سئل الشافعي عن خنزير الماء فقال: يؤكل، ولما دخل العراق سئل عن اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى في أكل هذا، وهذا حرمه أبو حنيفة، وأحلّه ابن أبي ليلى، فقال: أنا على رأي ابن أبي ليلى، يعني في إباحته. وبه قال من الصحابة أبو بكر وعمر وعثمان وعبد الله بن عباس أبو أيوب الأنصاري وأبو هريرة رفي الله عنهم. وفي التابعين: الحس البصري. وفي الفقهاء: مالك، وابن أبي ليلى، والأوزاعي، والليث بن سعد، وهو قول الجمهور من أصحاب الشافعي، حكى ابن أبي هريرة عن أبي علي ابن خيران أن أكارا له صاد له كلب ماء، وحمله إليه، فأكله، وكان طعمه موافقاً لطعم الحوت لا يغادر منه شيئاً.

والثاني: وهو قول أبي حنيفة: أن جميعه حرام لا يؤكل، ولا يحل من حيوان البحر إلا السمك خاصة، وبه قال بعض أصحاب الشافعي. وقال الشافعي في بعض كتبه: إنه لا يحلّ من صيد البحر إلا الحوت، فاختلف أصحابه في اسم الحوت، فقال بعضهم: هو من الأسماء العامة ينطلق على جميع حيوان البحر إلا الضفدع، وما قتل أكله من ذوات السموم، فعلى هذا لا يختلف قوله في إباحة أكله. وقال آخرون من أصحابه: إن اسم الحوت خاص بالسمك دون غيره، فعلى هذا جعلوه قولاً ثانياً للشافعي أن أكله حرام، كقول أبي حنيفة. والثالث: وهو قول بعض أصحاب الشافعي أن ما أشبه مباحات البر من دواب الماء حلال، وما أشبه محرمات البر من كلاب الماء وخنازيره حرام جميعاً بين حيوان البر وحيوان البحر. فصل: واستدل من أخذ بقول أبي حنيفة على تحريمه بعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} [المائدة: 3] وبرواية ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أحلت لنا ميتتان ودمان: الحوت والجراد واسم الحوت خاص في السمك، فكانت الإباحة مقصورة عليه؛ ولأن ما اختص بغير اسم الحوت لم ينطلق عليه إباحة الأكل كالبري؛ لأن الحيوان لا يختلف حكم إباحته باختلاف مواطنه كالخنزير الجبلي والسهلي. والدليل على إباحة جميعه قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] يعني بصيد البحر صيد الماء من بحر أو نهر أو عين أو بئر؛ لأن أصل جميع المياه من البحر، وفي طعامه تأويلان: احدهما: طافية، وهو قول أبي بكر، وعمر رضي الله عنهما. والثاني: مملوحة، وهو قول ابن عباس وفي قوله "متاعاً" تأويلان: أحدهما: طعام. والثاني: منفعة، وفي قوله: و"للسيارة" ثلاثة تأويلات: أحدها: الحلال والمحرم. والثاني: المقيم والمسافر. والثالث: لأهل الأمصار وأهل القرى. والدليل في هذه الآية من وجهين: أحدهما: قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} يعني صيد البحر، فكان على عمومه في جميع حيوانه.

والثاني: قوله: {وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96] يعني مطعومه، فدل على أن جميعه مطعوم. وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في البحر: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" فعم جميع ميتاته، ولم يخصها. وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: كل دابة تموت في البحر فقد ذكاها الله لكم، وهو محكي عن غيره من الصحابة، وليس فيه مخالف له، فكان إجماعاً ولأن ما لم يعش من الحيوان إلا في الماء حل أكله ميتاً كالحوت. فأما الجواب عن استدلاله بقوله تعالى: {أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ} [الأنعام: 145] فمن وجهين: أحدها: أن مطلق اسم الخنزير لا ينطلق لفة وعرفاً إلا على خنزير البر، فإن أريد به غيره قبل خنزير الماء مقيداً به، فوجب أن يحمل حكمه على إطلاقه. والثاني: أن اسمه لو انطلق عليها لخص تحريمها بقوله: لكل ميتة وأما الجواب عن قوله: "الميتتان: الحوت والجراد" فمن وجهين: أحدهما: أن اسم الحوت ينطلق على جميعها، فكان دليلاً على إباحتها دون حظرها. والثاني: أن قوله: "الحل ميتته" أعم منه فصار الحوت داخلاً في عمومه، ولم يخصه؟ لأنه لا ينافيه. وأما الجواب عن قياسه على البري، فهو أن الشرع قد فرق بين حيوان البر والبحر فلم يجز أن يجمع بينهما بالقياس. وأما الجواب عن استدلاله بأن إباحة الحيوان لا يختلف باختلاف مواطنه، فهو مدفوع بالإجماع، ولاختلاف الأماكن مع الإجماع في الاسم والصورة تأثير في الحظر والإباحة؛ لأن الحمار الوحشي والحمار الأهلي يجتمعان في الاسم، ويشتبهان في الصورة، ويفترقان في الإباحة، فيحل الوحشي، ويحرم الأهلي، لاختلافهما في الإباحة والحظر، وإن اشتركا في الاسم واشتبها في الصورة، وبهذا يبطل قول من ذهب من أصحابنا إلى اعتبار حيوان البحر بحيوان البر فأحلّ منه ما أشبه محللات البر وحرم منه ما أشبه محرمات البر. فصل: وأما النوع الثالث من الحيوان، وهو ما يجمع في عيشه بين البر والبحر فينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما يكون مستقره في البر، ومرعاه من البحر مثل: طير الماء فهذا من حيوان البر وتجري عليه حكمه.

والثاني: ما يكون مستقره في البحر ومرعاه في البر كالسلحفاة، فهذا من حيوان البحر، ويجري عليه حكمه. والثالث: ما يستقر في البر والبحر ويرعى في البر والبحر، فيراعي أغلب حاليه. فإن كان أغلبهما البر في مستقره ومرعاه، أجري عليه حكم الحيوان البري، وإن كان أغلبها البحر في مستقره ومرعاه أجري عليه حكم حيوان البحر، وإن استوى فيه الأمران، ولم يغلب أحدهما على الآخر، ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجري عليه حكم حيوان البر تغليباً للحظر؛ لأنه مستغن عن البحر. والثاني: أنه يجري عليه حكم حيوان البحر تغليباً للإباحة؛ لأنه مستغن عن البر. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ رحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:" وَلَوْ كَانَ شِيئَا تَطَوَّلَ حَيَّاتُهُ فَذِبْحَهُ لِاِسْتِعْجالِ مَوْتِهُ مَا كَرْهَتُهُ ". قال في الحاوي: أما السمك، فلا يلزم ذبحه، وإن قدر عليه، وإن طالت حياته بعد صيده جاز أن ينتظر به موته، ولا يكره انتظاره، وجاز أن يعجل ذبحه، ولا يكره ذبحه، وفي الاستحباب منها وجهان: أحدهما: أن تركه ليموت حتف أنفه أولى، لأن موته ذكاة. والثاني: أن ذبحه أولى ليستعجل الراحة من أبطأ الموت. وأما غير السمك من دواب البحر إذا قيل بإباحته، فإن لم يدرك ذبحه حياً بعد صيده حتى ماتّ حل أكله؛ لأن صيد البر إذا لم يقدر على ذكاته بعد صيده حلّ أكله، فكان صيد البحر أولى، وإن أدرك ذكاته بعا صيده فقد اختلف أصحابنا في وجوب ذبحه وكونه مع القدرة شرطاً في إباحته على وجهين: أحدهما: وهو قول الأكثر منهم أن ذبحه لا يجب، وأن موته ذكاة كالسمك، وهذا قول من جمع بين السمك وغيره في الإباحة. والثاني: وهو قول من اعتبر حيوان البحر بحيوان البر في الحظر والإباحة فجمع بينهما في الذكاة، وحرمه مع القدرة عليها إذا مات، وهذا الجمع فاسد في الأمرين فأما دمه فمن جعل ذكاته شرطاً جعل دمه نجساً، ومن لم يجعل ذكاته شرطاً وجعله كالحوت في استباحته بموته، ففي دمه ودم جميع السمك وجهان: أحدهما: نجس لعموم قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ المَيْتَةُ والدَّمُ} [المائدة:3] والثاني: أن دمه طاهر: لأن دم الحي كلحم الميت، فلما خالف حيوان البر في

طهارته بعد الموت خالف في طهارة دمه، والله أعلم. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ رحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:" وَسَواءَ مِنْ أَخَذَّهُ مِنْ مَجُوسِيِّ أَوْ وَثَنِيَّ لَا ذَكاةَ لَه".ُ قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا كان الحوت لا يفقر إلى ذكاة، وكان موته في إباحته كالذكاة، فلا فرق بين أن يصطاده مسلم أو مجوسي أو وثني في إباحة أكله، وهو في صيده كموته حتف أنفه؛ ولأن ما كان موته ذكاته استوى فيه أهل الذكاة وغير أهل الذكاة كالجراد، فإنه يحل إذا مات أو ميت من يد مجوسي أو وثني. وقال مالك: لا يعل الجراد حتى يقطف، وهذا خطأ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أحلت لا ميت في ودمان، الحوت والجراد" ولأن قطف رأسه إذ كان معتبراً بعد موته لم يؤثر، وإن كان معتبراً قبل موته كان فيه تعذيب لذي روح ورد الهي عه، وليست التسمية عند صيدها مسنونة، ولا ورد بها شرع، وإن كان ذكرها الله تعالى على كل الأحوال حسناً. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ رحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:" وَسَواءَ مَا لَفْظُهُ الْبَحْرَ وَطَفَّا مِنْ مَيْتَتِهُ أَوْ أَخَذَ حَيَّا، أَكُلَّ أَبُو أيوب سَمَّكَا طَافِيَا وَقَالَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أحلت لَنَا مَيْتَتَانِِ وَدَمَّانَ ". الْمَيْتَتَانِِ: الْحُوتُ وَالْجَرَادُ، وَالدَّمَّانَ: أَحَسْبَه قَالَ: الْكَبِدُ وَالطِّحَالُ وَقَالَ [هُوَ الطَّهُورُ ماؤه: الْحَلُّ ميتتة " وَقَالَ اللهِ جَلِّ ثناؤه {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ ولِلسَّيَّارَةِ} [الْمَائِدَةَ: 96] وَهَذَا عُمُومَ فَمِنْ خُصَّ مِنْه شِيئَا فَالْمَخْصُوصَ لا يَجُوزُ عِنْدَ أَهْل الْعلمَ إلا بِسَنَةِ أو إجماع الَّذِينَ لا يُجَهِّلُونَ مَا أَرَادَ اللهُ قَالِ اِلْمِزِنَّي رحمَهُ اللَّهُ: وَلَوْ جَازَ أَنْ يَحْرِمَ الْحُوتُ وَهُوَ ذَكِيَّ لِأَنَّه طَفَّا لِجَازَ أَنْ يُقَوِّمَ المذكي مِنْ الْغَنَمِ إذاً طَفَتَا وَفِي ذَلِكَ دَليلَ، وَبِاللهِ التَّوْفِيقِ ادليل، وبالله التوفيق". قال في الحاوي: إذا مات السمك في الماء حلّ أكله سواء كان بسبب شدة برد الماء أو شدة حرارته أو نصب عنه حتى صار على اليبس أو مات، بغير سبب وسواء طفا على الماء حتى ظهر أو رسب في قرار فلم يظهر، وهو قول أكثر الصحابة والتابعين والفقهاء. وقال أبو حنيفة: إن مات بسبب حلّ أكله، وإن مات بغير سبب حرم أكله، وقال بعض العراقيين: إن طفا حرم، وإن رسب لم يحرم احتجاباً برواية ابن الزبير عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن أكل السمك الطافي".

وبرواية وهب بن كيسان عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كلوا ما حسر عنه البحر وما ألقي، وما وجدتم ميتاً طافياً فوق الماء فلا تأكلوه". قالوا: وهذان الخبران نص في التحريم. قالوا: ولأن موت ذي الروح بغير سبب يوجب تحريم أكله كالبري. ودليلنا قول الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البَحْرِ وطَعَامُهُ مَتَاعًا لَّكُمْ ولِلسَّيَّارَةِ} [المائدة: 96]. وقد ذكرنا تفسيرها، وأن طعامه طافية على قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وحديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في البحر: "وهو الطهور ماؤه الحل ميتته". وهذا كالنص، أضاف الميتة إلى البحر لا إلى سبب حادث، وحديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أحلت لنا ميتتان ودمان"، فالميتتان: الحوت والجراد، والدمان: الكبد والطحال، فكان على عمومه. وروى الشافعي عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: بعثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثمائة راكب وأميرنا أبو عبيدة بن الجراح نريد عيراً لقريش، فأصابنا جوع شديد حتى أكلنا الخبط فسمي ذلك الجيش جيش الخبط، ثم ألقى لنا البحر ونحن بالساحل دابة تسمى العنبر، فأكلنا منه نصف شهر، واستدمنا منه، وادهنا بودكه حتى باتت أجسامنا، فأخذ أبو عبيدة ضلعاً من أضلاعه فنصبه، ثم نظر إلى أطول ربى في الجيش، وأعظم جمل، فأمره أن يركب الجمل ثم يمر تحته، ففعل فمر تحته، فدل هذا الخبر على أمرين: أحدهما: إباحة أكل الطافي. والثاني: إباحة أكل دواب البحر، وان لم يكن حوتاً. وروى عكرمة عن ابن عباس قال: أشهد علي أبي بكر رضي اثه عنهما _ أنه قال: "السمكة الطافية على الماء حلال، ولم يظهر له مخالف فكان إجماعاً، وأكل أبو أيوب الأنصاري سمكاً طافياً، فإن كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلم يظهر منه إنكار دل على إباحته سنة، وإن كان بعده فلم يظهر له منكر كان إجماعاً؛ ولآن كل حيوان استغنى عن الذكاة في إباحته استغنى في موته كالجراد؛ ولأن ما حلَ أكل قبل الظفر حلّ أكله بعد الظفر كالمذكى. فأما الجواب عن حديث جابر فمن وجهين: أحدهما: انقطاع إسناده وضعف حاله. والثاني: حملهما على التنزيه إذا أنتن وتغير. وأما قياسهم على البري فمنتقض بالجراد ثم المعنى في البري افتقاره إلى الذكاة. وفي البحر استغناؤه عنها، والله أعلم بالصواب.

[كتاب الضحايا]

[كتاب الضحايا] قَالُ الشَّافِعِيِ رحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:" أَخَبِرَنَا إسماعيل بُنَّ إبراهيم عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بُنَّ صهيب عَنْ أَنَسَّ بُنُّ مَالِكَ أَنْ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يُضَحِّيَ بِكَبْشِينَ وَقَالَ أَنَسَّ: وَأَنَا أَضْحَى أيضا بِكَبْشِينَ وَقَالَ أَنَسَّ فِي غَيْرَ هَذَا الْحَديثِ ضُحًى النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - كَبْشِينَ أَملحَيْنِ وَذِبْحَ أَبُو بُرْدَةَ بُنُّ نيار قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - يَؤُمُّ الأضحى فَزَعْمَ أَنْ النَّبِيّ أَمرَّهُ أَنْ يُعَوِّدَ لِضُحًيَةٍ أخرى فَقَالَ أَبُو بُرْدَةَ لَا أَجِدَّ إلّا جَذَعَا فَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -:"إِنَّ لَمْ تَجِدْ إلّا جَذَعَا فَاِذْبَحْهُ " قَالُ الشَّافِعِيِ رحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: فَاِحْتَمَلَ أَمرَّهُ بالإعادة أَنَّهَا وَاجِبَةُ، وَاِحْتَمَلَ عَلَى مُعَنّى أَنَّه إِنَّ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَمَّا مَالَ عَلَيه السَّلاَمَ:" إذاً دَخَلَ الْعُشُرِ فَأَرَادَ أَحَدَّكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ فَلَا يُمِسُّ مِنْ شَعْرِهُ وَبِشْرَهُ شِيئَا " دَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرَ وَاجِبَةُ وَبَلَّغَنَا أَنْ أَبَا بَكَرَ وَعَمَرَ - رضي الله عنهم - كَانَا لَا يَضْحَيَانِ كراهِيَّةً أَنْ يَرَى أَنَّهَا وَاجِبَةُ، وَعَنْ اِبْنَ عباسِ أَنَّه اِشْتَرَى بِدِرْهَمِينَ لَحُمَا فَمَالَ هَذِهِ أَضَحِيَّةَ اِبْنِ عباسِ". قال في الحاوي: والأصل في الضحايا والهدايا قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج: 36] الآية، إلى قوله {الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَ} [الحج:36]. أما البدن ففيها ثلاثة أقاويل: احدها: أنها الإبل خامة، وهو قول الجمهور. والثاني: أنها الإبل والبقر، وهو قول جابر وعطاء. والثالث: أنها النعم كلها من الإبل والبقر والغنم وفي تسميتها بدناً تأويلان: احدهما: لكبر أبدانها، وهو تأويل من جعلها الإبل والبقر. والثاني: لأنها مبدنة بالسمن، وهو تأويل من جعلها جميع النعم، وفي قوله: {مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ} [الحج:36] تأويلان: أحدهما: من فروضه. وهو تأويل من أوجب الضحايا. والثاني: من معالم دينه. وهو تأويل من سن الضحايا، وفي قوله: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج: 36] تأويلان: أحدهما: أجر، قاله السدي. والثاني: منفعة إن احتاج إلى ظهرها ركب وإن حلب لبنها شرب قاله النخعي. وفي قوله: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج: 36] وهي قراءة الجمهور تأويلان:

أحدهما: معقولة قاله مجاهد. والثاني: مصطفة، قاله ابن عيسى وقرأ الحسن البصري "صوافي" أي: خالصة لله، مأخوذ من الصفوة، وقرأ ابن مسعود: "صوافن" أي مصفونة، وهو أن تعقل إحدى يديها حتى تقف على ثلاثة قوائم مأخوذ من صفن الفرس إذا أثنى إحدى يديه حتى قام على ثلاث، ومنه قوله تعالى: {الصَّافِنَات الْجِيَاد} [ص:31] قال الشاعر: أَلِفُّ الصَّفُّونَ فَلَا يُزَالُ كَأَنَّه ... مِمَّا يَقُومُ عَلَى الثُّلاثِ كَسِيرَا وفي قوله: {وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} تأويلان: أحدهما: أي سقطت جنوبها إلى الأرض. ومنه قولهم: وجبت الشمس إذا سقطت للغروب. والثاني: طفت جنوبها بخروجها الروح، ومنه وجوب الميت إذا خرجت نفسه، وفي قوله: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28] ثلاثة أوجه: أحدها: أن الأكل والإطعام واجبان. والثاني: أنهما مستحبان. والثالث: أن الأكل كل مستحب والإطعام واجب، وفي قوله: {الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَ} [الحج:36] ثلاثة أوجه: أحدها: أن القانع: السائل، والمعتر: الذي يتعرض ولا يسأل قاله الحسن. والثاني: أن القانع: الذي يقتنع ولا يسأل، والمعتر: الذي يعتري فيسأل قاله قتادة وأنشد أبو عبيدة. لَهُ نَحْلَةَ الأوفى إذاً جَاءَ عَانَيَا ... وَإِنَّ جَاءَ يَعْرُو لُحَمُنَا لَمْ يُؤَنَّبْ والثالث: أن القانع الطواف والمعتر: الصديق الزائر قاله زيد بن أسلم وقال تعالي: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ} [الحج: 37] وفيه تأويلان: أحدهما: لن يتقبل الله الدماء، إنما يتقبل التقوى. والثاني: لن يصعد إلى الله لحومها ولا دماؤها، وإنما يصعد إليه التقوى والعمل الصالح، لأنهم كانوا في الجاهلية إذا نحروا بدنهم استقبلوا الكعبة بها ونصحوا الدماء عليها، فأرادوا أن يفعلوا في الإسلام مثل ذلك، فنهوا عنه: {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ} [الحج:37] فيه تأويلان: أحدهما: ذللها حتى أقدركم عليها. والثاني: سهلها لكم حتى تقربتم بها.

{لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37] فيه تأويلان: أحدهما: أنه التسمية عنا ذبحها. والثاني: أنه التكبير عند الإحلال بدلاً من التلبية في الإحرام: {وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ} [الحج: 37] فيه تأولان: أحدهما: بالقبول. والثاني: بالجنة، وقال تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الفَقِيرَ} [الحج: 28]. أما قوله: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} ففيه قولان: أحدهما: أمر الله بذبحها في أيام معلومات. والثاني: التسمية يذكر الله عند ذبحها في الأيام المعلومات، وفيها قولان: أحدهما: أيام العشر من ذي الحجة. والثاني: أنها أيام التشريق وقول: {عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} [الحج:28] أي على نحر ما رزقهم، وفيه تأويلان: أحدهما: ما ملكهم. والثاني: ما مكنهم، وبهيمة الأنعام هي الأزواج الثمانية والضحايا والهدايا، وفي البائس الفقير: تأويلان: أحدهما: أنه الفقير الزمن. والثاني: الذي به ضر الجوع وأثر البؤس. والثالث: أنه الذي يمد يده بالسؤال ويتكفف بالطلب. وقال تعالى: {إنَّا أَعْطَيْنَاكَ الكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ (2)} [الكوثر:1 - 2] وفي الكوثر ستة تأويلات: أحدهما: أنه النبوة، قاله عكرمة. والثاني: أنه القرآن، قاله الحسن. والثالث: أنه الإسلام، قاله المغيرة. والرابع: أنه الخير الكثير، قاله ابن عباس. والخامس: أنه كثرة أمته، قاله أبو بكر بن عياش. والسادس: أنه حوض في الجنة يكر عليه الناس يوم القيامة، قاله عطاء وهو فاعل من الكوثر. وفي قوله: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ} [الكوثر:2] ثلاثة تأويلات: أحدهما: أنه صلاة العيد ونحر الضحايا، قاله سعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد وقتادة.

والثاني: أنها صلاة الفرض واستقبال القبلة فيها بنحر، قاله أبو الأحرص. والثالث: أن الصلاة: الدعاء والنحر: الشكر، قاله بعض المتأخرين والأول أظهرها. فهذه أربع آيات من كتاب الله تعالى تدل على الأمر بالضحايا والهدايا. وأما السنة، فما رواه الشافعي في أول الكتاب عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يضحي بكبشين أملحين. وفي الأملحين ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه الأبيض الشديد البياض وهذا قول ثعلب. والثاني: أنه الذي ينظر في سواد ويأكل في سواد، ويمشي في سواد وباقيه بياض، وهذا قول عائشة رضي الله عنها. والثالث: أنه الذي بياضه أكثر من سواده على الإطلاق، وهذا قول أبي عبيد وفي قصد أضحيته بالأملح وجهان: أحدهما: ما لحسن منظره. والثاني: لشحمه وطيب لحمه، لأنه نوع متميز عن جنسه. وروى أبو سعيد الزرقي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبش أدغم قال ابن قتيبة: والأدغم من الكباش ما أرنبته وما تحت حنكه سواد وباقية بياض. وروى أبو رملة عن مخنف بن سليم قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "على كل مسلم في كل عام أضحية عتيرة"، والعتيرة ذبيحة كانت تذبح في رجب، كما تذبح الأضحية في ذي الحجة، فنسخت العتيرة وبقيت الأضحية. وروى الشافعي عن سفيان عن الزهري عن ابن المسيب عن أبي هريرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا فرعة ولا عتيرة" قال الشافعي: والفرعة في كلام العرب أول ما تنتج الناقة، يقولون: لا يملكها ويذبحها رجاء البركة في لبنها وكثرة نسلها. فإذا ثبت أن الضحايا مأمور بها، فقد اختلف الفقهاء في وجوبها على ثلاثة مذاهب: أحدها: وهو مذهب الشافعي، أنها سنة مؤكدة، وليست بواجبة على مقيم ولا مسافر، وهو قول أكثر الصحابة والتابعين.

وبه قال أحمد بن حنبل وأبو يوسف ومحمد. والثاني: وهو قول مالك: أنها واجبة على المقيد والمسافر وبه قال ربيعة والأوزاعي والليث بن سعد. والثالث: وهو قول أبي حنيفة _ أنها واجبة على المقيم دون المسافر احتجاجاً في الوجوب يقول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانْحَرْ} [الكوثر: 2]. وهذا أمر، وبحديث أبي رملة عن محنف بن سليم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "على كل مسلم في كل عام أضحاة وعتيرة" وبرواية أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من لم يضح فلا يشهد مصلانا" وهذا وعيد يدل على الوجوب، وبرواية بشر بن يسار أن أبا بردة بن دينار ذبح أضحية قبل الصلاة، فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يعيد، فدل الأمر بالإعادة على الوجوب، قالوا: ولأن حقوق الأموال إذا اختصت بالعيد وجبت كالفطرة، قالوا: ولأن ما وجب بالنذر كان له أصل وجوب في الشرع كالعتق، ولأن توقيت زمانها والنهي عن معيبها دليل على وجوبها، كالزكوات، ودليلنا: ما رواه مندل عن ابن خباب عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأضاحي علي فريضة وعليكم سنة" وهذا نص. وروى عكرمة عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ثلاث كتبت عليَّ ولم تكتب عليكم: الوتر والنحر والسواك". وروى سعيد بن المسيب عن أم سلمة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يضحّي من شعره ولا بشره شيئاً". فعلق الأضحية بالإرادة، ولو وجبت لحتمها، فإن قيل: فقد فقال: "من أراد منكم الجمعة فليغتسل"فلم يدل تعليق الجمعة على الإرادة على أنها غير واجبة، كذلك الأضحية، قلنا: إنما علق بالإرادة الغسل دون الجمعة، والغسل ليس بواجب فكذلك الأضحية. وروى عن الصحابة رضي الله عنهم ما ينعقد به الإجماع على سقوط الوجوب فروي عن أبي بكر وعمر أنهما كانا لا يضحيان مخافة أن يرى أنها واجبة. وروي عن أبي مسعود الباري، أنه قال: لا أضحي وأما موسر لئلا يقدر جيراني أنها واجبة عليَّ. وروي عن ابن عباس أنه أعطى عكرمة درهمين، وأمره أن يشتري بها لحماً، وقال: من سألك عن هذا فقل: هذه أضحية ابن عباس. فإن قيل: فلعل ذلك لعدم، قيل: قد روي عن ابن عباس أنه قال: عندي نفقة ثمانين سنة كل يوم ألف. ومن القياس: أنه إراقة دم لا تجب على المسافر، فلا تجب (على) الحاضر

كالعقيقة، ولأن من لم تجب عليه العقيقة لم تجب عليه الأضحية كالمسافر، ولأنها أضحية لا تجب على المسافر فلم تجب على الحاضر، كالواجد لأقل من نصاب، ولأن ما سقط وجوبه بفوات وقته مع إمكان القضاء سقط وجوبه في وقته مع إمكان الأداء كسائر السنن طرداً، وجميع الفروض عكساً، ولأن كل ذبيحة حل له الأكل منها لم يجب عليها ذبحها كالتطوع طرداً، ودم المناسك عكساً. فأما الجواب عن الآية، فهو ما ذكرناه، من اختلاف التأويل فيها، ثم لا يمنع حملها على الاستحباب، لما ذكرنا. وأما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "على كل مسلم في كل عام أضحاة وعتيرة" فمن وجهين: أحدهما: أن رواية أبو رملة عن محنف بن سليم، وهما مجهولان عند أصحاب الحديث. والثاني: أن جمعه بين الأضحية والعتيرة دليل على اشتراكهما في الحكم. والعتيرة غير واجبة، فكذلك الأضحية. وأما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن لم يضح، فلا يشهد مصلانا" فمن وجهين: أحدهما: أنه جمع في الترك بين الأضحية، والتأخر عن الصلاة والصلاة سنة، فكذلك الأضحية، ويكون معناه: أن من ترك ما أمرناه من الأضحية، فليترك ما أمرناه من الصلاة. والثاني: أن هذا زجر يتوجه إلى الاستحباب دون الوجوب، كما قال: "من أكل من هذه البقلة شيئاً، فلا يقربن مصلانا". فأما الواجبات، فالأمر بها، وإلزام فعلها، أبلغ في الوجوب من هذا الزجر. وأما حديث أبي بردة فمحمول على أحد وجهين: إما على الإعادة استحباباً وإما على الوجوب، لأنها كانت نذراً. وأما الجواب عن قياسهم على زكاة الفطر، فهو أن زكاة الفطر لما استوى فيها الحاضر والمسافر، ولزم قضاؤها مع الفوات، وخلف منها الأضحية، جاز أن تجب زكاة الفطر، ولم تجب الأضحية. وأما الجواب عن قياسهم بأن ما وجب بالنذر كان له أصل في الشرع فهو أن له في الشرع أصل في دماء الحج، فلم يحتج أن يكون الأضحية له أصلاً. وأما الجواب عن استدلالهم بوقتها، والامتناع من العيوب فيها، فهو أن هذين معتبران في حق المسافر، وإن لم تجب عليه، فكذلك اعتبارها في حق الحاضر لا يقتضي وجوبها عليه، والله أعلم.

مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ رحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:" وَأُمِرُّ مِنْ أَرَادَ أَنْ يُضَحِّيَ أَنْ لَا يُمِسُّ مِنْ شَعْرِهُ شِيئَا اتباعاً وَاِخْتِيَارَا بِدَلالِهُ السِّنَّةَ وَرَوَتْ عَائِشَةُ أَنَّهَا كَانَتْ تَفَتُّلُ قَلاَئِدِ هُدى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - ثَمَّ يُقَلِّدُهَا هُوَ بِيدُهُ ثَمَّ يَبْعَثُ بِهَا فَلَمْ يُحْرِمُ عَلَيه شَيْءَ آحله اللهِ لَهُ حَتَّى نَحَرَّ الْهُدى. قَالُ الشَّافِعِيِ رحمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: والأضحية سِنَّةً تَطَوُّعِ لَا نَحْبَ تَرْكِهَا وَإِنَّ كَانَتْ غَيْرَ فُرَّضِ" قال في الحاوي: وأصل هذا ما رواه الشافعي عن سفيان بن عيينة عن عبد الرحمن بن حميد عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحي فلا يمس من شعره ولا بشره شيئاً". ورواه الترمذي، قال أحمد بن الحكم البصري حدثنا محمد بن جعفر عن شعبة عن مالك بن أنس عن عمرو بن مسلم عن ابن المسيب، عن أم سلمة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من رأى هلال ذي الحجة وأراد أن يضحي فلا يأخذن من شعره ولا من أظفاره". قال: هو حديث حسن. واختلف الفقهاء في العمل بهذا الحديث على ثلاثة مذاهب: أحدها: وهو مذهب الشافعي _ أنه محمول على الاستحباب دون الإيجاب وأن من السنة لمن أراد آن يضحي أن يمتنع في عشر ذي الحجة من أخذ شعره وبشره فإن أخذ كره له ولم يحرم عليه. وهو قول سعيد بن المسيب. والثاني: هو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه أنه محمول على الوجوب وآخذه لشعره وبشره حرام عليه، لظاهر الحديث وتشبيهاً بالمحرم. والثالث:- وهو قول أبي حنيفة ومالك _ وليس بسنة ولا يكره أخذ شعره وبشره احتجاجاً بأنه محل، فلم يكره له أخذ شعره وبشره كغير المضحي، ولأن من لم يحرم عليه الطيب واللباس لم يحرم عليه حلق الشعر كالمحل. والدليل على أحمد وإسحاق: إنه مسنون وليس بواجب ما رواه الشافعي عن مالك عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن عمرة عن عائشة رضي الله عنها قالت: أنا فتلت قلائد هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيدي ثم قلدها رسول الله ثم بعث بها مع آبي فلم يحرم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيء أحله الله له حتى نحر الهدي فكان هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وضحاياه، لأنه كان بالمدينة، وأنقذها مع أبي بكر سنة تسع، وحكمها أغلظ لسوقها إلى الحرم، فلما لم يحرم على نفسه شيئاً كان غيره أولى إذا ضحى في غير الحرم، ويدل على ذلك ما

قدمناه من القياسين واستدلال أبي حنيفة علينا وهما في استدلال أبي حنيفة بهما مرفوعان بالنص، ووجب استعمال الخبرين، فنحمل الأمر به على السنة والاستحباب دون الإيجاب بدليل الخبر الآخر، فلا يكون واحد منهما مطرحاً. فصل: فإذا ثبت أنه سنة ففي قوله: "فلا يمس من شعره ولا بشره شيئًا" تأويلان ذكرهما الشافعي: أحدهما: أنه أراد بالشعر شعر الرأس، وبالبشرة شعر البدن، فعلى هذا لا يكره تقليد الأظفار. والثاني: أنه أراد بالشعر شعر الرأس والبدن، وبالبشرة تقليم الأظفار، وتكون السنة في تركه لأخذ شعره وأظفاره سواء، وأخذه لهما معاً مكروهاً، ولا يكره له الطيب واللباس، اقتصاراً على ما ورد به الخبر، واختلف أصحابنا في أول زمان الكراهة لأخذ شعره وبشره بعد استهلال ذي الحجة على وجهين: أحدهما: إذا غرم على أن يضحي ولم يعينها كره له أن يمس من شعره وبشره حتى يضحي. والثاني: أنه لا يكره له حتى يشتريها أو يعينها من جملة مواشيه، فيكره له بالشراء والتعيين. أخذ شعره وبشره ولا يكره بالعزم والنية قبل التعين، والله أعلم. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ:" فَإذاً ضُحًى الرَّجُلِ فِي بَيْتِهُ فَقَدْ وَقِعَ ثَمَّ اِسْلَمْ أَضَحِيَّةَ". قال في الحاوي: ويقال ضحية وأضحية وأضحاة والضحايا، جمع ضحية، والأضاحي والهدايا من جمع وفرق فيجتمعان من وجهين، ويفترقان من وجهين: فأما الوجهان في الجمع بينهما: فهو أنهما معاً مسنونتان غير واجبتين. والثاني: أن له أن يأكل منها ويتصدق ويطعم الأغنياء وأما الوجهان في الفرق: فهو أن محل الهدايا في الحرم، موضع الضحايا في موضع المضحي. والثاني: أنه يمنع من إخراج لحوم الهدايا من الحرم، وإن جاز له ادخاره فيه، ولا يمنع من إخراج لحوم الضحايا عن بلد المضحي. فإذا تقرر هذا جاز للمضحي أن يضحي في بيته تكتب في الوسط غير بيته سراً وجهراً، وإذا ضحى بشاة أقام بها السنة، وإن كثر أهله ولا يؤمر أن يضحي عن كل واحد

منهم، وإن وجبت زكاة الفطر عن كل واحد منهم، لأنهم مشتركون في أكل الأضحية فعمت، وليس لهم في الزكاة حق فحصت. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ:" قَالُ: وَيَجُوزُ فِي الضَّحَايَا الْجَذَعِ مِنْ الضأن وَالثِّنْي مِنْ الإبل وَالْبَقَرَ وَالْمُعِزَّ، وَلَا يَجُوزُ دُونَ هَذَا مِنْ السِّنِّ ". قال في الحاوي: أما الضحايا فلا تجوز إلا من النعم لأمرين: أحدهما: قول الله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة:1] والثاني: أنه لما اختصت بوجوب الزكاة اختصت الأضحية، لأنها قربة والنعم هي: الإبل والبقر والغنم، قال الشافعي: هم الأزواج الثمانية التي قال الله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّانِ اثْنَيْنِ ومِنَ المَعْزِ اثْنَيْنِ} [الأنعام:143] يعني ذكراً وأنثى فاختص هذه الأزواج الثمانية من النعم بثلاثة أحكام: أحدها: وجوب الزكاة فيها. والثاني: إباحتها في الحرم والإحرام وفي تسميتها نعما وجهان: أحدهما: لنعومة وطأها إذا مشت حتى لا يسمح لأقدامها وقع. والثاني: لعموم النعمة فيها في كثرة الانتفاع بألبانها ونتاجها. فإذا تقرر أن الضحايا بالإبل والبقر والغنم دون ما عداها من جميع الحيوان فأسنان ما يجوز في الضحايا منها معتبرة ولا يجزئ دونها، وقد أجمعنا على أنه لا يجزئ ما دون الجذاع من جميعها ولا يلزم ما فوق الثنايا من جميعها، واختلفوا في الجذاع والثنايا على ثلاثة مذاهب: أحدهما: وهو قول عبد الله بن عمر والزهري أنه لا يجزئ منها إلا الثنايا من جميعها ولا يجزئ الجذع من الضأن كما لا يجزى، الجذع من المعز. والثاني:- وهو قول عطاء والأوزاعي أنه يجزئ الجذع من جميعها حتى من الإبل والبقر والمعز كما يجزى، الجذع من الضأن. والثالث: وهو قول الشافعي وأبي حنيفة ومالك والجمهور من الفقهاء _ أنه لا يجزئ من الإبل والبقر والمعز إلا التي دون الجذع ويجزئ من الضأن وحده الجذع. والدليل على ذلك ما رواه جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتل بحوا جذعة من الضأن".

فدل هذا الخبر على اعتبار المسن من غير الضأن والجذع من الضأن، وليس ذلك شرطاً في الاعتبار، لما روى زيد بن خالد الجهني قال: "قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه ضحايا فأعطاني عنزاً ذا جذع فرجعت إليه فقلت: إنه جذع فقال: "ضح به فضحيت به" وروي عن سعيد بن المسيب عن عقبة بن عامر قال: "سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الجذع من الضأن فقال: ضح به" وروي عن ابن عباس قال: جلبت غنماً جذاعاً إلى المدينة فكسدت عليَّ فلقيت أبا هريرة فقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "نعم الأضحية الجذع من الضأن قال: فانتهبها الناس. والدليل على أن الجذع من المعز لا يجزئ ما رواه الشافعي عن سعيد بن المسيب عن ابن خباب عن يزيد عن البراء بن عازب قال: خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم العيد، فقال: "إن أول نسك يومكم هذه الصلاة فقام إليه خالي أبو بردة، فقال: يا رسول الله كان يوماً يشتهر فيه اللحم، وإنا عجلنا فذبحنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فأبدلها"، قال: يا رسول الله إن عندنا ماعزاً جذعاً فقال: "هي لك وليست لأحد بعدك". فدل على أن الجذع من المعز لا يجزئ غيره، وفي تخصيص النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بردة بإجزائها عنه وجهان: أحدهما: لأنه كان قبل استقرار الشرع فاستثنى. والثاني: أنه علم من صدق طاعته وخلوص نيته ما ميزه عمن سواه، واختلفوا هل كان ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن اجتهاد رأيه أو عن وحي من الله تعالى؟ على وجهين: فصل: فإذا تقرر ما ذكرنا في أسنان الضحايا فالثني من الإبل ما استكمل خمس سنين، ودخل في السادسة، وروى حرملة عن الشافعي أنه ما استكمل ستاً، ودخل في السابعة، وليس هذا قولاً ثانياً يخالف الأول كما وهم فيه بعض أصحابنا ولكن ما رواه الجمهور عنه هو قول أهل اللغة إخباراً عن ابتداء سن الثني، وما رواه حرملة إخباراً عن ابتداء سن الثني، وما رواه حرملة إخباراً عن انتهاء سن الثني، وأما الثني من البقر فهو ما استكمل سنتين. ودخل في الثالثة، وروى حرملة ما استكمل ثلاثاً، ودخل في الرابعة، وتأويله ما ذكرناه وأما الثني من المعز فهو: ما استكمل سنة ودخل في الثانية، وروى حرملة ما استكمل سنتين، وتأويله ما ذكرناه، وأما الجذع من الضأن والمعز فهو ما استكمل ستة أشهر ودخل في الشهر السابع، وروى حرملة ما استكمل سنة وتأويله ما ذكرناه.

مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ:" والإبل أَحُبَّ إِلَي أَنْ يُضْحَى بِهَا مِنْ الْبَقَرِ وَالْبَقَرِ مِنْ الْغَنَمِ والضأن أَحُبَّ إِلَيِ مِنْ الْمُعِزِّ". قال في الحاوي: أفضل الضحايا الثني من الإبل، ثم الثني من البقر، ثم الجذع من الضأن، ثم الثني من المعز. وقال مالك: الجذع من الضأن أفضلها، لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أفضل الذبح الجذعة من الضأن، ولو علم الله خيراً منها لفدى به إسحاق، ولأنها أطيب لحماً وأشهى إلى النفوس فكانت أفضل". ودليلنا قوله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [لحج: 36]. روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أكرموا الإبل فإن فيها رقو الدم". وروى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تذبحوا إلا مسنة إلا أن تعسر عليكم فتذبحوا جذعة من الضأن، ولأن الواحد من الإبل عن سبعة فكان أفضل من جذع الضأن الذي هو عن واحد. فأما الجواب عن قوله: "أفضل الذبح الجذعة من الضأن"، فهو أنه أراد أفضل من المعز، لأنهم كانوا يضحون بالغنم ويهدون الإبل، فإذا ثبت أن الثني هن الإبل أفضل فهو لمن أراد أن ينفرد بنحره، فأما إذا اشترك فيه سبعة ليكون كل واحد منهم مضحياً بسبعها كانت الجذعة من الضأن أفضل من سبعها. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:"وَالْعَفْرَاءَ أَحُبَّ إِلَيِي مِنْ السَّوْداءِ" قال في الحاوي: وهذا صحيح، أول ما يضحى به من ألوان الغنم البيض، ثم العفر ثم الحمر، ثم البلق، ثم السواد فتكون البيض وما قاربها من الألوان أفضل من السواد لرواية يحيى بن أبي ورقة عن مولاته كبيرة بنت أبي سفيان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "أبرقوا فإن دم عفراء أذكى عند الله من دم سوداوين". وفي قوله: أبرقوا أي ضحوا بالبرقاء وهي الشاة التي يختلط ببياض صوفها طاقات سود والعفراء التي يضرب لونها إلى البياض وليست صافية البياض، ومنه قيل للطنب العفر. وروي أن امرأة شكت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لا يبارك لها في غنمها فقال: "ما ألوانها؟ قالت: سود فقال لها: عفري" أي اخلطيها بعفر، ولأن لحوم ما خالف السواد أطيب وأصح.

حكى ابن قتيبة: أن مداومة أكل لحوم السواد تحدث موت الفجاءة، وقد حكى حرملة عن الشافعي في ألوان الغنم حواً، وقهباً، وحلساً، وقمراً وسفعاً ورقشاً وزبداً فالحو: هي السود التي خالطها حمرة. والقهباء: هي البيضاء التي خالطها حمرة. والحلساء: التي ظهرها أحمر وعنقها أسود والقمر التي في وجهها خطط بيض وسود. والسفعاء: التي نجدها لون يخالف لونها. والرقشاء: المنقطة ببياض وسواد والزبداء: التي اختلط سواد شعرها ببياضه كالبرشاء إلا أن البرشاء أكثر اجتماع سواد وبياض، وباقي هذه الألوان إن ضحى لم يكن فيه كراهية وإن كان ما اخترناه من الألوان أفضل، فمنها ما كان أفضل لحسن منظره، ومنها ما كان أفضل لطيب مخبره؛ فإن اجتمعا كان أفضل. وإن افترقا كان طيب المخبر أفضل من حسن المنظر. مسألة: قال الشافعي: "وزعم بعض المفسرين أن قول الله جل ثناؤه: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} [الحج:32]. قال في الحاوي: اختلف المفسرون في قول الله تعالى: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإنَّهَا مِن تَقْوَى القُلُوبِ} [الحج:32] على ثلاثة أقاويل: أحدها: أن شعائر الله دين الله كله، وتعظيمها التزامها، وهذا قول الحسن. والثاني: أنها مناسك الحج، وتعظيمها استيفاؤها، وهو قول جماعة. والثالث: أنها البدن المشعرة، وتعظيمها استسمانها، واستحسانها، وهذا قول مجاهد واختيار الشافعي وفي قوله: {اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج:36] ثلاث تأويلات: أحدها: أنه إخلاص القلوب. والثاني: أنه قصد الثواب. والثالث: أنه ما أرضى الله تعالى. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أفضل الرقاب، فقال: "أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها". وروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: "لا تتبع إلا مسنة ولا تتبع إلا

سمينة، فإن أكلت أكلت طيباً، وإن أطعمت طيباً"، فدل ما ذكرنا على أن أفضل الضحايا والهدايا أسمنها وأحسنها؛ فإن كانت غنماً، فأغلاها ثمناً وأكثرها سمناً وحسناً إلا أن تكون ذات لبن يزيد ثمنها لكثرة لبنها، فيكون ما نقص ثمنه إذا كان أزيد سمناً ولحماً أفضل، وأما الإبل والبقر فقد يزيد ثمنها بالعمل تارة وبالسمن أخرى، فتكون سمانها أفضل من عواملها، وإن نقصت عن أثمانها؛ لأن المقصود منها لحومها فإن كان بعضها أكثر لحماً وأقل شحماً. وبعضها أكثر شحماً وأقل لحماً، فذات اللحم أفضل، إن لم يكن لحمها خشناً، لأن اللحم مقصود والشحم تبع وإن كان لحمها خشناً فذات الشحم أفضل؛ لأن قليل لحمها أنفع من كثير الأخرى. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ:" وَلَا يَجُوزُ فِي الضَّحَايَا الْعَوْرَاءِ الْبَيِّنِ عورَهَا وَلَا الْعَرْجَاءَ الْبَيِّنِ عرجَهَا وَلَا الْمَرِيضَةَ الْبَيِّنَ مَرَضَهَا وَلَا الْعَجْفَاءَ الَّتِي لَا تَنَقَّى ". قال في الحاوي: وأصل هذا ما رواه عن مالك عن عمرو بن الحارث عن عبيد بن فيروز عن البراء بن عازب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن ماذا ينتفي من الضحايا، فأشار بيده، وقال أربع وكان البراء يشير بيده ويقول: يدي أقصر من يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - العرجاء البين ضلعها، والعوراء البين عورها، والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقى، فهذه أربع تضمنها الخير منعت من جواز الأضحية. منها: العرجاء البين ضلعها، والعرج فيها مانع من جواز الأضحية سواء كان في يد، أو رجل للخبر، ولأنها تقصر بالعرج عن لحوق غيرها في المرعى فتقل لحماً؛ ولأنه عيب يوكس ثمنها، وإذا لم تجزيء العرجاء فالقطعاء أولى فإن كان عرجها يسيراً نظر فيه فإن قصرت به عن لحوق الصحاح في المشي والسعي كان عرجا بينا لا يجزئ، وإن لم تقصر به عن الصحاح أجزأت. فصل: ومنها: العوراء البين عورها لا يجوز الأضحية بها للنص، ولأنه قد أذهب عضواً مستطاباً من رأسها؛ ولأنها تقصر بالعور في الرعي فيقل لحمها ولأنه موكس لثمنها وسواء لحقها العور فأذهب العين أو كانت باقية ولا تبصر بها فإنها البين عورها. قال الشافعي: وأقل العور البياض الذي يغطي الناظر فإن غطى ناظرها ببياض أذهب بعضه وبقي بعضه نظر؛ فإن كان الذاهب من ناظرها أكثر لم تجزئ وإن كان

الذاهب أقل أجزأت. وإذا لم تجزئ العوراء فالعمياء أولى ألا تجزئ. وقال بعض أهل الظاهر: يجوز الأضحية بالعمياء لورود النص على العوراء، وهذا من زلل المقصرين؛ لأن العمى متضعف من العور فهي عوراوان، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه نهى عن البخقاء، وهي العمياء التي قد انتجفت عيناها فأما الأضحية بالحولاء والقمتاء فجائز. فأما الأضحية بالعشواء التي تبصر نهاراً ولا تبصر ليلاً، فالصحيح أن الأضحية بها جائزة، لأنها تبصر في زمان الرعي وعينها مع العشاء باقية، فلم يؤثر عدم النظر في زمان الدعة. وفيها وجه آخر لبعض البصريين: أنها لا تجزئ، لأنها في أحد الزمانين غير ناظرة فكان نقصاً مؤثراً. فصل: ومنها المريضة البين مرضها، لأن مرضها مع الخبر قد أوكس ثمنها، وأفسد لحمها، وأضعف راعيتها، وهو ضربان: أحدهما: ما ظهر من أثاره في اللحم كالجرب، والبثور، والقروح، فقليله وكثيره سواء في المنع من الأضحية، وسواء كان زواله مرجواً أو غير مرجو لوجوده في حال الذبح. والثاني: ما لم تظهر أثاره كالمرض الكادي لشدة حرّ أو برد فإن كان كثيراّ منع وإن كان يسيراً، فقد أشار الشافعي في القديم إلى حظره، وفي الجديد إلى جوازه، فصار على قولين، فأما الهيام وهو من داء البهائم وذلك أن يشتد عطشها حتى لا ترتوي من الماء فقليله وكثيره مانع: لأنه داء مؤثر في اللحم. فصل: ومنها العجفاء التي لا تنقى والعجفة فرط الهزال المذهب للحم، والتي لا تنقى، والتي لا مخ لها للعجف الذي بها، والنقا هو المخ. قال الشاعر: أَذَابَ اللهُ نِقْيِكَ فِي السُّلاَمَى عَلَى مِنْ بِالْحَنِّينَ تَعُولِينَا فإن كان العجف الذي بها قد أذهب نقيتها لم يجز الأضحية بها سواء كان العجف خلقة أو مزمناً، وإن لم يذهب نقيها نظر، فإن كان عجفها لمرض لم تجزئ، وإن كان

خلقه أجزأت؛ لأنه في المرض داء وفي الخلقة غير داء. فصل: وقد روي في النواهي غير حديث البراء، فروى الشافعي عن سفيان عن أبي إسحاق الهمذاني، عن شريح بن النعمان، عن علي عليه السلام عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يضحى بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاً ولا خرقًا" فأما المقابلة: فهي التي قطع من مقدم أذنها بشيء وأما المدابرة: فهي التي قطع من مؤخر أذنها شيء. وأما الشرفاء: فالمشقوقة الأذن بالطول. وأما الخرقاء: فالتي في أذنها ثقب مستدير، وإن كان هذا قد أذهب من الأذن شيء لم يجزئ في الضحايا؛ لأنه قد أفسد منها عضواًُ، وإن لم يذهب من أذنها شيء لاتصال المقطوع بها كرهت للنهي وان أجزأت. وقال بعض أصحابنا: لا يجزئ مع اتصال المقطوع بها لأنه بالقطع قد فسد، وإن كان متصلاً، فصار في حكم المنفصل فصار نقص الأذن ثلاثة أضرب: أحدها: ما منع من جواز الأضحية، وهو ما أذهب بعضها. والثاني: ما لم يمنع منها، وهو ما لم يذهب شيئاً منها. والثالث: ما اختلف فيه، وهو ما قطع فاتصل، ولد ينفصل. وقيل: لا يمنع من الأضحية وان قطع جميعها لأن ا~ذن غير مأكول. وقال سعيد بن المسيب، والحسن البصري: إن قطع أقل من النصف أجزأت فران قطع النصف فما زاد لم تجز وهذا مخالف لنص الخبر، وقد روى علي بن أبي طالب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن الأضحية بالجدعاء، وهي المقطوعة الأذن، وقال: أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نستشف العين والأذن أي تكشف، وروى: "نستشرف" أي نطالع وننظر ولأن الأذن عضو فوجب أن يكون قطعه مؤثراً إذا لم يكن مستخلفاً كسائر الأعضاء، فأما التي خلقت لا أذن لها قال الشافعي في الجديد: لا تجوز الأضحية بها لأنه نقص عضو من خلقتها، وقد روى حرملة عن الشافعي في صفات الأذن الصمعاء والمصعاء والعرقاء، والقصواء، فالصمعاء، الصغيرة الأذن والمصعاء الممايلة الأذن لكبرها، والعرقاء المرتفعة الأذن إلى قرنها والقصواء المقطوعة الأذن بالعرض، فيجوز الأضحية بجميعها إلا بالقصواء لنقص الأذن فيها وسلامتها في غيرها. ثم هكذا المقطوعة الذنب لا يجوز الأضحية بها لنقص عضو منها وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه: "نهى عن الأضحية بالبتراء" وهي المقطوعة الذنب، وهكذا المخلوقة لا

ذنب لها لا تجوز الأضحية بها. ولا تجوز الأضحية بالمقطوعة الإلية وتجوز الأضحية بالتي خلقت من غير إلية لأن المعزى لا ألا يا لها، وهي في الضحايا كالضأن. فأما التي انقطع ساقها وأثر في أكلها ورعيها فلا تجوز الأضحية بها، وإن لم يؤثر ما قطع في أكل ولا رعي جاز. فصل: روى يزيد أبو حفص عن عتبة بن عبد السلمي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن الضحايا بالمصفرة والمستأصلة البخقاء والمشيقة". فأما المصفرة: فهي الهزيلة التي قد اصفر لونها من الهزال، وأما المستأصلة: فهي المقطوعة الأذن من أصلها، وأما البخقاء: فهي العمياء التي نجفت عينها وأما المشيقة فهي المتأخرة عن الغنم لعجف، أو عرج حتى يشبعها الراعي بضربها حتى تلحق. والضحايا بهذا كله لا تجوز لما قدمنا من معنى المنع وهو واحد من أمرين إما ما أفقد عضواً وإما ما أفسد لحماً، ولا يمنع ما عداهما، وإن ورد فيه نهي كان محمولاً على الاستحباب دون الإجزاء، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "وليس في القرن نقص فيضحى بالجلجاء والمكسورة القرن أكبر منها دمي قرنها أو لم يدم ولا تجزيء الجرباء لأنه مرض يُفسد لحمها". قال في الحاوي: وهذا كما قال فقد القرن في البقر والغنم لا يمنع من جواز الضحايا خلقة وبحادث، فتجوز الأضحية بالجلجاء وهي الجماء التي خلقت لا قرن لها وبالعضباء، وهي المكسورة القرن سواء دمي موضع قرنها بالكسر أو لم يدم. وقال إبراهيم النخعي: فقد القرن مانع من جواز الأضحية خلقة وكسراً، فلا يجوز أن يضحي بجلجاء ولا عضباء. وقال مالك: تجوز الأضحية بالجلجاء، ولا تجوز بالعضباء إذا دمي موضع قرنها واستدل النخعي بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه "نهى عن الأضحية بالعضباء" ودليلنا: ما قدمناه من معنى المنع، وهو ما أفقد عضواً مأكولاً، أو فسد لحماً مقصوداً، وليس في فقد القرن واحد من هذين الأمرين، فلم يمنع فكان النهي محمولاً على الكراهة دون التحريم، كما روي أنه "نهى عن الأضحية بالقرناء أفضل على أن الشافعي قد روى عن علي بن أبي طالب عليه السلام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "ضحى بعضباء الأذن".

وحكي عن (سعيد) بن المسيب: أن العضباء إذا قطع منها النصف فما فوقه، فصار المراد به نصاً قطع الأذن دون القرن ومن أعجب ما يقول مالك: أنه يمنع من الأضحية بالمسكورة القرن ويجوز الأضحية بالمقطوعة الأذن والقرن غير مأكول والأذن مأكولة. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ:"وَلَا وَقَتَّ لِلْذِبْحِ يَوْمَ الْأَضْحَى إلّا فِي قِدْرِ صَلاَةِ النَّبِيِّ وَذَلِكَ حِينَ حَلَتْ الصَّلاَةُ وَقَدْرَ خُطَبَتَيْنِ خُفَيْفَتَيْنِ وَإذاً كَانَ هَذَا الْقِدْرُ فَقَدْ حَلَّ الذِّبْحُ لَكُلَّ أَحَدَّ حَيْثُ كَانَ فَأَمَا صَلاَةَ مِنْ بَعْدَه فَلَيْسَ فِيهَا وَقَتَّ". قال في الحاوي: اختلف الفقهاء في أول وقت الأضحية على أربعة مذاهب: أحدها: وهو مذهب الشافعي أن أول وقتها في الأمصار والقرى للحاضر والمسافر واحد، وهو معتبر بوقت الصلاة لا بفعلها، فإذا طلعت الشمس وارتفعت حتى خرجت عن كراهة التنقل بالصلاة ومضى بعد ذلك قدر ركعتين وخطبتين دخل وقت النحر، جاز ذبح الأضحية فيه سواء صلى الإمام في المصر أو لم يصل. واختلف أصحابنا في تقدير زمان الركعتين والخطبتين على وجهين: أحدهما: أن الركعتين من صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في العيد وخطبتيه فإنه كان يقرأ في الأولى بعد الفاتحة بسورة "ق" وفي الثانية بسررة "اقتربت" وكان يخطب خطبتين يستوفي فيها التحميد والمواعظ وبيان الأضاحي والوصية بتقوى الله تعالى، وقراءة آية، فيكون اعتبار وقت صلاته وخطبتيه هو المشروط في دخول الوقت. والثاني: أن يعتبر بأقل ما يجزئ في صلاة ركعتين، وأقل ما يجزئ في خطبتين ولا اعتبار بما كانت عليه صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه كان يطيل مرة، ويخفف أخرى، ويقدم تارة ويؤخر أخرى، وإنما الاعتبار بتحديد مشروع لا يختلف. ثم اختلف أصحابنا بعد هذا، هل كان وقتها على عها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في اعتبار قدر صلاة يحكمها فيمن بعده من الأئمة على وجهين: أحدهما: على أن الحكم فيهما سواء. والثاني: في أنه عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - معتبر بصلاته، وفي عهد من بعده معتبر بقدر الصلاة. فهذا شرح مذهب الشافعي وأصحابه فيه. والثاني: وهو قول أبي حنيفة: أنه معتبر في الأمصار بصلاة الأئمة فيها، وفي القرى والأسفار معتبر بطلوع الفجر، فإن ضحى أهل الأمصار قبل صلاة الأئمة كان شاة لحم ولم تكن أضحية. والثالث: وهو قول مالك أنه في الأمصار معتبر بصلاة الإمام ونحره وفي القرى

والأسفار معتبر بصلاة الأئمة في أقرب البلاد بهم، فإن ذبح أهل الأمصار قبل ذبح الإمام كانت شاة لحم ولم تكن أضحية. والرابع: وهو قول عطاء، أنه في وقت جميع الناس معتبر بطلوع الشمس من يوم النحر، واستدل من ذهب إلى قول أبي حنيفة ومالك برواية البراء بن عازب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا ذبح قبل صلاة الإمام". وبرواية جرير بن عبد الله البجلي قال: شهدت العيد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعلم أن ناساً ذبحوا قبل الصلاة، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان منكم ذبح قبل الصلاة فليعد ذبيحته ومن لم يذبح فليذبح على اسم الله" قالوا: وتقديرها بفعل الصلاة يقين وتقديرها بزمان الصلاة اجتهاد، فكان اعتبار وقتها باليقين أولى من اعتباره بالاجتهاد؛ ولأن تقديرها بالفعل متفق عليه، وبالزمان مختلف فيه والأخذ بالاتفاق أولى من العمل بالاختلاف. ودليلنا ما رواه الشافعي عن عبد الوهاب بن عبد المجيد، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي عن البراء بن عازب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قام يرمي النحر خطيباً فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: "لا يذبحن أحد حتى يصلي" فقام خالي فقال: يا رسول الله هذا يوم اللحم فيه مكروه واني ذبحت نسيكتي فأطعمت أهلي وجيراني، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: قد فعلت فأعد ذبحاً آخر قال: عندي عناق لبن هي خير من شاتي لحم، فقال: "هو خير نسيكتيك لن تجزيء جذعة عن أحد بعدك" فموضع الدلالة فيه: أنه علق التحريم بصلاة المضحي لا بصلاة الإمام والمضحي يجوز أن يصلي العيد منفرداً وليس يعتبر فعله للصلاة اتفاقاً، فدل على أنه أراد وقت الصلاة. ومن القياس: أن كل عبادة تعلقت في حق أهل القرى تعلقت بالوقت في حق أهل الأمصار، كالصلاة طرداً والكفارات عكساً؛ ولأن كل ما كان وقتاً للذبح في حق أهل القرى، كان وقتاً للذبح في حق أهل الأمصار، كما بعد الصلاة طرداً وعكسه دلالة عليهم في أهل القرى أن كل ما لم يكن وقتاً لذبح أهل الأمصار لم يكن وقتاً لذبح أهل القرى، كما قبل الفجر؛ ولأن ما توفت من العبادات إذا تقدر آخره بالوقت تقدر أوله بالوقت كالصلاة طرداً أو الزكاة عكساً؛ ولأن أحد طرفي زمان الذبح، فوجب أن يكون مقدراً بالوقت كالطرف الأخير. فأما الجواب عن قوله: "لا ذبح قبل صلاة الإمام" فمن وجهين: أحدهما: أن الإمام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد مضى، فوجب أن يعتبر وقت صلاته وهو ما قلناه.

والثاني: أن المراد به قبل وقت الصلاة الإمام كما قال: "من أدى ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقعد أدرك العصر". يرد: من أدرك ركعة من وقت العصر وإنما جعلناه على أحد هذين الجوابين في حق أهل المصر كما عدلوا به عن ظاهر حق أهل القرى، وكذلك الجواب عن الحديث الآخر. وأما الجواب عن قولهم إن اعتبارها بفعل الصلاة يقين وبزمانها اجتهاد فهو أن اعتبارها بزمان الصلاة أولى؛ لأنه يتماثل ولا يختلف وبفعل الصلاة يختلف. وأما الجواب عن قولهم: إنه متفق عليه، فهو أن دلائل الشرع هي المعتبرة دون المذاهب المتعدة؛ لحدوث المذاهب عن الأدلة فلم يجز أن يجعل المذاهب أدلة. وأما الجواب عن صلاة الظهر في يوم الجمعة فهو أن فعلها معتبر بفوات الجمعة، ولذلك تعلق بفوات فعلها دون وقتها، وليس وقت الأضحية بمثابتها، وعلى أنهما يتساويان إذا لم يصل العيد، ولم يصل الجمعة جاز ذبح الأضحية وجازت صلاة الظهر، ولو تعلقا في وقتها بفعل الصلاة لم تجزئ إذا لم تقم الصلاة، والله أعلم. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ:" وَالذَّكاةَ فِي الْحَلَقِ وَاللَّبَّةِ وَهِي مَا لَا حَيَاةَ بَعْدَه إذاً قَطْعَ وَكَمَالَهَا بأربع: الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَالْوَدَجَيْنِ وَأَقَلُّ مَا يُجَزِّئُ مِنْ الذَّكاَةِ أَنْ يُبَيِّنَ الْحُلْقُومُ وَالْمَرِيءُ وَإِنَّمَا أُرِيدُ بِفِرًى الأوداج لِأَنَّهَا لَا تُغْرِي إلّا بَعْدَ قَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْمَرِيءُ وَالْوَدَجَانِ عَرْقَانَ قَدْ يَنْسَلَّانِ مِنْ الإنسان وَالْبَهيمَةَ ثَمَّ يَحْيَا". قال في الحاوي: أما الذكاة في اللغة فقد ذكرنا أن فيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها التطييب من قولهم: رائحة ذكية أي طيبة فمي بها ذبح الحيوان؛ لما فيه من تطييب أكله. والثاني: أنها القطع فسمي بها ذبح الحيوان لقطعه. والثالث: أنها القتل فسمي بها ذبح الحيوان لقتله، والذكاة حالتان: كمال، وإجزاء. فأما حال الكمال فيكون بقطع أربعة: الحلقوم والمريء والودجين، فأما الحلقوم فهو مجرى النفس في مقدم الرقبة وأما المريء فهو مجرى الطعام والشراب يلي الحلقوم، وبهما توجد الحياة، وبفقدهما تفقد الحياة، وأما الودجان فهما عرقان في جنبي العنق من مقدمة، ولا تفوت الحياة بقواتهما. قال الشافعي: لأنهما قد ينسلان من الإنان والبهيمة ثم يحييان، والودجان اسم

لهما في البهيمة ويسميان في الإنسان والوريدان، ومنه قوله تعالى: {ونَحْنُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَرِيدِ} [ق:16] ولكن لما ذكره الشافعي في الإنسان والبهيمة سماه فيهما باسم واحد إفهاماً للعامة فهذا حال الكمال في الذكاة بقطع هذه الأربعة: وأما حال الجواز فقد اختلف الفقهاء فيه على أربعة مذاهب: أحدها: وهو مذهب الشافعي أن أجزاء الذبح بقطع الحلقوم والمريء دون الودجين، فإن قطع الحلقوم والمريء واستثنى الودجين حل الذبح، وإن كان استبقاء الودجين بعد قطع الحلقوم متعززاً لا يتكلف؛ لأنهما يكتنفان الحلقوم والمريء من جانبهما، فإن تكلف واستبقاهما جاز. والثاني: وهو قول مالك أنه لا يحل الذبح إلا بقطه الأربعة كلها، فإن استبقى منها شيئاً لم تحل. والثالث: وهو قول أبي حنيفة أنه لا تحل الذبيحة إلا بقطع أكثر الأربعة كلها إذا قطع من كل واحد منهما أكثره وترك أقله حلّ فإن ترك منها واحداً لم يقطع أكثره لم تحل. والرابع: وهو قول أبي يوسف لا تحل إلا بقطه أكثرها عدداً وهو الحلقوم والمريء وأحد الودجين احتجاجاً برواية أبي أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما فري الأوداج فكلوا ما لم يكن قرض ناب أو حز طعن فجعل فري الأوداج شرطاً في الإباحة، ولأن مخرج الدم من الأوداج، فكان قطعها أخص بالذكاة ودليلنا ما رواه الشافعي عن سفيان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جاه، عن عباية بن رفاعة عن رافع بن خديج، قال: "قلنا: يا رسول الله إنا ملاقو العدو غداً أفندكي بالليطة" فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه إلا ما كان من سن أو ظفر فإن السن عظم من الأسنان والظفر مدي الحبشة". فاعتبرها بما أنهر الدم، وقطع الحلقوم والمريء منهر للام، فتعلق به الأجزاء، ولأن مقصود الذكاة فوات النفس بأخف ألم، لرواية شداد بن أوس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الله كتب على كل شي، الإحسان، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وليحد أحاكم شفرته وليرح ذبيحته" والأسهل في فوات الروح انقطاع النفس، وهو بقطع الحلقوم أخص، وبقطع المريء، لأنه مسلك الجوف، وليس بعد قطعهما حياة، والودجان قد يسلان من الإنسان والبهيمة فيعيشان، فكان اعتبار الذكاة بما لا تبقى معه حياة أولى من اعتبارهما بما تبقى معه حياة. وأما الجواب عن قوله: "ما فري الأوداج، فكلوا" فهو أنه غير مستعمل الظاهر؛

لأن فري الأوداج مع بقاء الحلقوم والمريء غير مبيح، فصار ظاهره متروكاً. فإن قيل: عدم الاقتصار عليه لا يمنع من دخوله في عموم الشرط. قيل: يدخل في عموم الكمال؟ ولا يدخل في عموم الإجزاء. فأما الجواب عن قولهم: إنه خص بمخرج الدم، فهو أن المقصود بالذكاة خروج الروح وخروجها بانقطاع النفس من الحلقوم وخروج الدم تابع. فصل: فإذا تقرر أن إجزاء الذكاة يكون بقطع الحلقوم والمريء لم تصح الذكاة بقطع أحدهما، ووهم بعض أصحابنا وأحسبه أبا سعيد الاصطخري، فأباح الذكاة بقطع أحدهما لفقد الحياة بقطعه، وهذا زلل منه خالف به نص الشافعي، ومعنى الذكاة أن المقصود بها ما عجل التوجية من غير تعذيب وفي قطع أحدهما إبطال للتوجية وتعذيب للنفس فلم تصح به الذكاة. وأما إذا قطع بعض الحلقوم والمريء فإن قطع أقلهما لم تحل الذكاة وإن قطع أكثرهما ففي إحلالها وجهان: أحدهما: وهو الظاهر من مذهب الشافعي: أنها لا تحل؛ لأنه يصير مقتصراً على أقل الأربعة. والثاني: أنها تحل؛ لأن قطع أكثرها يقوم في فوات الحياة مقام جميعها فأما إن قطع الودجين دون الحلقوم والمريء لم تحل وقد روى أبو هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن شريطة الشيطان" وهو الاقتصار على قطع الودجين في انهمار الدم مأخوذ من شرطة الحجام. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ:" وَمَوْضِعَ النَّحْرِ فِي الْاِخْتِيَارِ فِي السَّنَةِ فِي اللَّبَّةِ، وَمَوْضِعَ الذِّبْحِ فِي الْاِخْتِيَارِ فِي السَّنَةِ أَسُفْلَ مَجَامِعِ اللِّحًيِينَ فَإذاً نَحَرَتْ بَقَرَةُ أَوْ ذِبْحَ بَعيرِ فَجَائِز". قال في الحاوي: اعلم أن السنة في الإبل النحر في الثغرة، وهو عند الله في موضح الصدر؛ لأنه أرق وأوحى، والسنة في البقر والغنم الذبح في أسفل مجامع اللحيين، وأعلى العنق؛ لأنه أرق وأوحى فيكون النحر قطع الحلقوم والمريء من أسفل العنق والذبح قطع الحلقوم والمريء من أعلى العنق، فصار قطع الحلقوم والمريء معتبرا فيهما، وإن اختلف محل قطعهما بالسنة وتعجيل التوجية، فإن خالف فذبح ما ينحر من الإبل، ونحر ما يذبح من البقر والغنم أجزأ، وأساء. وقال مالك: إن ذبح ما ينحر من

الإبل حل، وإن نحر ما يذبح من البقر والغنم حرم، والدليل على جواز الأمرين قول الله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] ولم يخص. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الذكاة في الحلق واللبة". فكان على عمومه، ولأن الذبح قطع الحلقوم والمريء من أعلاهما والنحر قطع الحلقوم والمريء من أسفلهما فاستوى حكم قطعهما في المحلين؛ ولأن ما حل بالذبح حل بالنحر كالإبل؛ ولأن ما حلت به الإبل حلت به البقر كالذبح، فأما إذا قطع ما فوق الحلقوم والمريء في الرأس وما دون الحلقوم والمريء من الجوف لم تحل وإن وحى فصار كقطعهما باثنين. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ:" قَالُ عُمَرِ وَاِبْنَ عباسِ: الذكاه فِي الْحلْوِ وَاللَّبَّةِ وَزادَ عُمَرِ: وَلَا تَعَجَّلُوا الأنفس أَنْ تَزْهَقَ وَنُهًى عَنْ النُّخُعِ " قال في الحاوي أما قوله: الذكاة في الحلق واللبة فقد رواه الشافعي عن عمر وابن عباس ورواه غيره عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وليس يمتنع أن يكون مسنوناً عن الرسول، ومأثوراً عن الصحابة، وقد مضى حكم الذكاة في الحلق واللبة وأما ما رواه الشافعي عن عمر أنه قال: "لا تعجلوا الأنفس أن تزهق". فالزهق: الإسراع، والمراد به إسراع خروج النفس، ومنه قوله تعالى: {وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ} [التوبة: 55] وفي المراد بنهي عمر عنه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يقطع أعضاء الذبيحة قبل خروج نفسها ليتعجل أكلها كالذي كانت تفعله الجاهلية. والثاني: أن يعجل سلخها قبل خروج نفها ليتعجل أكلها. والثالث: أن يمسكها بعل الذبح حتى لا تضطرب ليتعجل خروج روحها كاليهود، وهذه الثلاثة لا تمنع من الإباحة لوجودها بعد الذكاة، وأغلظها في الكراهة قطعها ثم سلخها ثم إمساكها، وإن لم يحرم الأكل بواحد منها، وأما نهي عمر - رضي الله عنه - عن النخع فقل روي عنه أنه قال: "لا تنخعوا ولا تفرسوا" فأما النخع ففيه وجهان: أحدهما: أنه كسر العنق في قول الشافعي. والثاني: كسر عظم الرأس في قول أبي هريرة. والثالث: أن يبالغ في القطع حتى يصل إلى قطع النخاع وهو عرق في الصلب يمتد إلى القفا وهذا قول أبي عبيدة. وأما الفرس ففيه وجهان: أحدهما: أنه كسر العظم.

والثاني: أنه قطع الرأس مأخوذ من افتراس السبع وليس في النخع ولا الفرس على كلا الوجهين مانع من الإباحة وإن كانا مكروهين لحدوثهما بعد كمال الذكاة وإن كانت الروح باقية وأشدهما كراهة أشدهما تعذيباً وألماً. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ:" قَالُ: وَأُحِبُّ أَنْ لَا يُذَبِّحُ الْمَنَاسِكُ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا إِلَى اللهِ عِزِّ وَجَلِ إلّا مُسَلَّمَ فان ذِبْحَ مشرك تَحِلُ ذِبْحَتُهُ أَجْزَأُ عَلَى كَرَاهِيَّتِي لَمَّا وَصَفَتْ". قال في الحاوي: الأولى بالمضحي والمهدي أن يتولى بنفسه ذبح أضحيته وهديه لرواية جعفر بن محمد عن أبيه عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ساق مائة بدنة فنحر بيده منها ثلاث وستين بدنة وأمر علياً عليه السلام فنحر ما بقي. وروى نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يذبح أضحيته بالمصلى قال نافع: وكان عمر يفعل ذلك. وقالت عائشة رضوان الله عليها: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمر نساءه أن يلين ذبح هديهن لأنهما قربة فكان قيامه بها أفضل من استنابته فيها، فإن استناب فيها جاز؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - استناب علياً في نحر ما تبقى من هديه، ويختار أن يحضر ذبحها، إذا استناب، لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لامرأة من أهله قيل: إنها فاطمة عليها السلام: "حضري ذبح نسيكتك فإنه يغفر لك بأول قطرة" ويختار إذا استناب في ذبحها أن يستنيب فيها خيار المسلمين؛ لأن قيامهم بالقرب أفضل، ومن استناب فيها من المسلمين أجزأ، وإن كان فاسقاً، فإن استناب في ذبحها كافراً لا تؤكل ذبيحته من المجوس أو عبدة الأوثان فهي ميتة لا تؤكل. وإن كان مأكول الذبيحة كالكتابي حلت وكانت أضحية وإن كان قيام الكافر بها مكروها. وقال مالك: هي شاة لحم يحل أكلها، ولا تكون أضحية؛ احتجاجاً لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يذبح ضحاياكم إلا طاهر" يريد إلا مسلم ولأنه كافر فأشبه المجوسي. ودليلنا قول الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5] فكان على عمومه من الضحايا وغيرها؛ ولأن كل من كان من أهل الكتاب صح أن يذبح الأضحية

كالمسلم؛ ولأنه ذبح يصح من المسلم فصح من الكتابي كالذكاة؛ ولأن معونة الكافر على القرب لا يمنع من الإجزاء كاستنابته في تفريق الزكوات والكفارات فأما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يذبح ضحاياكم إلا طاهر" فهو أن معناه إلا مطهراً للضحايا، وهو من تحل ذبيحته، فمنع به ذبيحته المجوسي والمعنى في منع المجوسي والوثني أنهم ليسوا من أهل الذكاة بخلاف أهل الكتاب. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ رحمَهُ اللَّهُ:" وَذِبْحَ مِنْ أَطَاقِ الذِّبْحِ مِنْ امرأة حائِضَ وَصَبِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَحُبَّ إِلَيِي مِنْ ذِبْحِ النَّصْرَانِيِّ وَالْيَهُودِيِّ." قال في الحاوي: أما ذبح النسا، فجائز ليس فيه كراهة كالرجال لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر نساءه أن يلين ذبح هديهن" وروى الشافعي عن عبد بن حميد عن ابن جريج عن نافع قال: سمعت رجلا من الأنصار يحدث عبد الله بن عمر أن كعب بن مالك كان يرعى غنماً له بسفح الجبل الذي عند سوق المدينة ترعاها جارية له، وكادت شاة منها تموت، فأخذت الجارية حجراً، فكسرته، وذبحت به الشاة، فزعم كعب أنه استفتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ذلك، فقال: "كلوا شاتكم" فدل هذا الحديث على أحكام منها: إباحة ذبائح النساء. والثاني: جواز الذبح بالحجر. والثالث: أن ما ذبحه غير مالكه حل أكله. والرابع: أن ذكاة ما أشفى على الموت جائزة إذا كان فيه حياة مستقرة وسواء كانت المرأة طاهراً أو حائضاً غير أن الحائض لا تكره ذبيحتها بغير الضحايا واختلف في كراهة ذبحها للضحايا وان أجزأت على وجهين: فأما الصبي الذي لم يبلغ فذبيحته مكروهة في الضحايا وغيرها، وإن أجزأت لصغره عن مباشرة الذبح، ولقصوره عن التكاليف وذبيحته أحب إلينا من ذبيحة اليهودي والنصراني؛ لأنه مسلم يصح منه فعل العبادة، فكان أولى من كافر لا يصح منه فعل العبادة وسواء كان الصبي مراهقاً أو غير مراهق في إباحة ذكاته مع الكراهة إلا أن الكراهة في ذبح غير المراهق أقوى، ووهم بعض أصحابنا فخرج في ذكاته وجهاً آخر أنها لا تؤكل من اختلاف قول الشافعي في قتله عمداً هل يجري منه مجرى الخطأ، فإن جعل عماه خطأ لم تحل ذكاته وهذا زلل، لأن العمد والخطأ في إباحة الذكاة سواء. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ:"وَلَا بأس بِذَبيحَةِ الأخرسِ".

قال في الحاوي: وهذا صحيح وهي غير مكروهة؛ لأنه في جميع العبادات كالناطق، ولأنه وإن عجز عن التسمية فليست شرطاًَ في الذكاة وإشارته بها تقوم مقام نطق الصحيح فلم يكن تاركاً لها، ويجزئ على قول أبي حنيفة ومن أخذ بمذهبه في وجوب التسمية على الذبح أن يبيح ذكاته في حق نفسه، ولا يبيحها في حق غيره في اللحوم والأضاحي: ولأن إشارته بالتسمية تقوم مقام النطق في حق نفسه، ولا تقوم مقامه في حق غيره فيما قد ينفرد به لأجل هذا الخلاف كفاية. فأما ذبيحة الأعمى، فمكروهة، وإن حلت خوفاً من أن يخطئ محل الذبح ولا تمنع من الإباحة كالبصير إذا ذبح مغمض العينين أو في ظلمة. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ:" وَأَكِرُهُ ذَبيحَةً السَّكْرَانَ وَالْمَجْنُونَ فِي حالِ جُنُونِهُ وَلَا يَتَبَيَّنُ أَنَّهَا حَرامُ ". قال في الحاوي: وإنما كرهنا ذبيحة السكران والمجنون لما يخاف من عدولهما عن محل الذبح، ومبالغتهما في القطع إلى محل الكراهة مباحة، لأنهما من المسلمين، والقصد في الذكاة غير معتبر ومن هم من أصحابنا في ذكاة الصبي، فخرج بها وجهاً أخر، وهي في السكران والمجنون، فخرج في ذكاتهما وجهاً أخر أنها لا تصح. أما المجنون، فمن عمده في القتل، وأما السكران فمن قوله في القديم: إن طلاقه لا يقع وتخريجه في الجميع فاسد بما ذكرناه، ويجب على مذهب مالك أن ذكاتهم تكون لحماً، ولا تكون أضحية على قياس قوله في الكافر. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ: "وَلَا تَحِلُ ذَبيحَةُ نَصَارَى الْعَرَبِ وَهُوَ قولَ عُمَرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه". قال في الحاوي: ذبيحة النصارى على أقسام، وكذلك اليهود. أحدها: ما كان مباحاً، وهم بنو إسرائيل، ومن دان بدينهم قبل التبديل، ولم يعتقد في العزير والمسيح، أنهما ابنا الله، فتحل ذبائحهم سواء كانوا من أهل الذمة أو من أهل الحرب لقول الله تعالى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة:5]. والثاني: ما كان محرماً، ومنهم من دخل في اليهودية والنصرانية بعد التبديل كنصارى العرب ومن جرى مجراهم من النصارى واليهود، فذبائحهم حرام لا تحل لسقوط حرمتهم. والثالث: ما كان مختلفاً فيه، وهم بنو إسرائيل من اليهود والنصارى، إذا قالوا في العزير والمسيح إنهما ابنا الله ففي إباحة ذبائحهم وجهان لأصحابنا: أحدهما: يحل أكل

ذبائحهم؛ لأن الله تعالى قد أباح ذبائحهم مع إخباره بذلك، عنهم، وهو قول الأكثرين. والوجه الثاني: لا تحل ذبائحهم؛ لأنه قول طائفة منهم خرجوا عن حكم التوحيد إلى الإشراك به فتوجهت الإباحة إلى من عداهم من الموحدين، وهو عندي أظهر. فصل: فأما ذبيحة النصارى باسم المسيح فضربان: أحدهما: ما ذبحوه لله تعالى، ويذكروا عليه اسم المسيح، فأكله حلال، وإن كرهناه؛ لأنه مقصود به وجه الله تعالى، فكان ذكر المسيح فيه تبعاً. والثاني: أن يذبحوه للمسيح فأكله حرام كذبائح الأوثان؛ لأنه معدول به عن وجه الله تعالى قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} إلى قوله تعالى: {وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ} [المائدة:3]. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه نهى عن ذبائح الجن" قال أبو عبيدة: هو أن يشري الرجل داراً أو يستخرج عنها فيذبح خوفاً أن فيها الجن، فهو على ما ذكرناه من الضربين إن فعل ذلك تقرباً إلى الله تعالى، ليستدفع به إصابة الجن حل أكلها، وإن ذبحها للجن لاستدفاعهم حرم أكلها. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ:" وَأُحِبُّ أَنْ يَوْجُهَ الذَّبيحَةُ إِلَى الْقُبَلَةِ ". قال في الحاوي: إنما كانت السنة أن توجه ذبيحته إلى القبلة في اللحم والضحايا لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول - صلى الله عليه وسلم -: "ضحوا وطيبوا بها أنفسكم، فإنه ليس من مسلم يستقبل بذبيحته إلى القبلة إلا كان دمها وفرثها، وصوفها حسنات محضورات في ميزانه يوم القيامة". وروى جابر بن عبد الله قال: "ضحى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكبشين أقرنين فلما وجههما قرأ: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: 79] الأيتين؛ ولأنه لا بد في ذابحها أن يتوجه بها إلى جهة فكانت جهة القبلة أفضل لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "خير المجالس ما استقبل به القبلة" ولأنها قربة فكانت القبلة أخص بها كالصلاة فإن قيل: فهو سفح دم، وإلقاء فرث، وهي أنخاس فيجب أن يكون تنزيه القبلة عنها أولى كالبروز للغائط والبول، قيل: ليس في كشف العورة للغائط والبول طاعة فكان صيانة القبلة عنه فأولى، وفي ذبح الضحايا طاعة

وقربة فكان استقبال القبلة بها أولى، فافترقا، ويختار أن يتظاهر بذبح الضحايا وبكل ذبيحة فيها للفقراء نصيب ليحضروا، فينالوا منها ويستمر بذبح ما يختص بأكله من اللحم ليقل فيه التحاشد. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ رحمَهُ اللَّهُ:" وَيَقُولُ الرَّجُلُ عَلَى ذَبيحَتِهُ بَاسِمَ الله." قال في الحاوي: قد ذكرنا أن التسمية عند الذبح في الضحايا واللحم، وعند إرسال الجوارح على الصيد سنة وليست بواجبة فإن تركها ذاكراً أو ناسياً حلت الذبائح وصيد الجوارح. وقال داود، وأبو ثور: هي واجبة مع الذكر والنسيان، فإن تركها عامداً أو ناسياً حرمت. وقال أبو حنيفة، وسفيان الثوري: هي واجبة مع الذكر دون النسيان فإن تركها عامداً حرمت وإن تركها ناسياً حلّت. والدليل عليهم قد مضى، ومنه ما رواه البراء بن عازب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "المسلم يذبح على اسم الله سمي أولم يسم". وروى أبو هريرة أن رجلا قال: يا رسول الله إنا نذبح، وننسى أن نسمي الله فقال: "اسم الله على قلب كل مسلم"؛ ولأن ما لم يكن شرطاً في الذكاة مع الذكر لم يكن شرطا فيها مع النسيان كالصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد مضت هذه المسألة مستوفاة. ويختار له في الضحايا خاصة أن يكبر الله تعالى قبل التسمية وبعدها ثلاثاً، لأنها في أيام التكبير، فيقول: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ولله الحمد خاتماً بالحمد بعد التكبير. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ:" وَلَا أَكَرِهَ الصَّلاَةِ عَلَى رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - لِأَنَّهَا إيمان بِاللهِ قَالُ عَلَيه الصَّلاَةُ وَالسّلامُ: أَخْبِرِنَّي جبريل عَنْ اللهِ جَلِّ ذَكَرِهُ أَنَّه قَالُ: مِنْ صَلَى عَلَيكِ صَلِيَتْ عَلَيه قال في الحاوي: أما الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - عند الذبح، فليست واجبة إجماعاً، ولا مكروهة عندنا، واختلف أصحابنا في استحبابها على وجهين: أحدهما: أشار إليه الشافعي في الأم أنها مستحبة. والثاني: هو قول أبي علي بن أبي هريرة أنها غير مستحبة ولا مكروهة، وكرهها مالك وأبو حنيفة احتجاجاً بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "موطنان لا أذكر فيهما عند

الذبيحة والعطاس"؛ ولأنه يسير بذكره مما أهل به لغير الله، فوجب أن يكون مكروهاً 0 ودليلنا قول الله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح:4] قيل: معناه لا أذكر إلا ذكرت معي، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] الآية، فكان عند القرب بالذبائح أولى أن يكون مذكوراً قال الشافعي: وخشيت أن يكون الشيطان أدخل على بعض أهل الجهالة أن كرهوا الصلاة عليه عند الذبيحة لموضع غفلتهم أو لا يرى لما رواه عبد الرحمن بن عوف قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسبقني، فجثت فرأيته ساجداً، فأقمت طويلاً، فلما رفع رأسه قلت: يا رسول الله لقد خشيت أن يكون الله قبض روحك في سجودك لما أطلت فقال: لما فارقتك لقيني جبريل، فأخبرني عن الله تعالى أنه قال: من صلى عليك صليت عليه، فسجدت شكراً لله" وهذا يدل على استحباب الصلاة فكيف يكره. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رقي المنبر فقال: آمين فقيل له في ذلك قال: قال لي جبريل: رغم أنف من ذكرت بين يديه فلم يصل عليك، فقلت: آمين، ثم الثانية فقال: آمين فقيل له في ذلك فقال: قال لي جبريل رغم أنف عبد أدرك أبويه أو أحدهما، فلم يدخل الجنة فقلت: آمين، ثم رقي الثالثة فقال: آمين، فقيل له في ذلك فقال: قال لي جبريل رغم أنف عبد أدرك شهر رمضان، فلم يغفر له فقلت آمين". ولأن الصلاة على الرسول إيمان بالمرسل، فكيف يكون الإيمان مكروهاً فأما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم - موطنان" لا أذكر فيهما فمن وجهين: أحدهما: أنه ليس ينهى عن ذكره وإنما هو على وجه التنبيه على ذكره، كأنه قال: لم لا أذكر فيهما. والثاني: أنه لا يذكر فيهما على الوجه الذي يذكر الله تعالى فيه: لأن ذكره في الذبيحة أن يقصد بها وجهه في التقرب إليه، ولا يجوز أن يذكر رسوله، وذكره في العطاس حمد له وليس يحمد رسوله عنده، والصلاة عليه في غير هذين الموضعين فلم يتوجه النهي إليها. فأما الجواب عن قوله: إنه يصير مما أهل لغير الله به، فهو أنه يصير بذبحه لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - هما أهل به لغير الله ولا يكون مما أهل به الله، ومتى فعل هذا كان حراماً. فأما إذا صلى عنده على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه يكون مما أهل به الله، ولا يكون مما أهل به لغير الله. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ:" فَإِنَّ قَالُ:" اللَّهُمَّ مِنْكِ وَإِلَيكِ فَتَقَبُّلَ مِنِْي فَلَا بأس هَذَا دُعَاءَ فَلَا أَكَرِهَهُ وَرَوِيَّ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - مِنْ وَجْهِ لَا يُثْبِتُ أَنَّه ضُحًى بِكَبْشِينَ فَقَالَ فِي أَحَدِّهُمَا بَعْدَ

ذِكْرِ اللَّه:" اللَّهُمَّ عَنْ مُحَمَّدِ وَآلِ مُحَمَّدِ " وَفِي الآخر:" اللَّهُمَّ عَنْ مُحَمَّدِ وأمة مُحَمَّدِ". قال في الحاوي: اعلم أن هذا مباح وليس بمكروه، وفي استحباب وجهان، وكرهه مالك وأبو حنيفة، والدليل عليها رواية عائشة رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ضحى بكبش أقرن فأضجعه وقال: "بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد، ثم ضحى به" ولأن قوله: اللهم منك وإليك، فتقبل مني اعتراف بالنعمة وامتثالاً للأمر ورغباً في الدعاء؛ لأن قوله: اللهم منك اعتراف بأن الله أعطاه ورزقه، وقوله: "وإليك" إبانة عن التقرب إليه بطاعته وقوله: "فتقبل مني" دعاء يسأل فيه القبول، وليس في واحد من هذه الثلاثة مكروهاً وقد روي عن بعض السلف أنه كان يقول: اللهم تقبل مني كما تقبلت من إبراهيم خليلك وموسى كليمك وعيسى روحك ومحمد عبدك ورسولك، وهذا ليس بمكروه إن قاله، ولا مستحب؛ لأن قرب الأنبياء لا يساويهم غيرهم، فلذلك لم يستحب، وأما قوله عند التضحية اللهم خذ هذا عن فلان، فليس بمستحب لأنه إخبار بما قد علمه الله تعالى قبل ذكره لا يتضمن دعاء، ولا اعترافاً بالنعمة، وقد روي الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن ابن عقيل عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يشتري كبشين عظيمين سمينين أملحين موجئين، فيذبح أحدهما عن أمته من شهد منهم بالتوحيد، وشهد له بالبلاغ والأخر عن محمد وآل محمد، ونقل المزني ها هنا عن الشافعي أنه لم يثبت فإن لم يثبت هذا الحديث كان قوله: عن فلان مكروهاً، وإن ثبت لم يكن مكروهاً، ويكون تأويل قوله في أحدهما: عن أمة محمد، وفي الثاني: عن محمد وآل محمد، وإن كان الكبش الواحد لا بجزيء إلا عند واحد، فمحمول على أحد الوجهين: إما أن يكون تأويله أنه بجزيء عنهم مثله كما بجزيء عني، وإما أن يكون مراده أن يجعل ثوابه منهم كثوابه مني. فصل: فأما المندوب إليه من الضحايا والذبائح بعدما ذكرنا من السنن المختارة وما ذكرناه من الاستحباب والكراهة فسبعة أشياء أحدها: أن تساق إلى مذبحها سوقاً رفيقاً، وتضجع لذبحها إضجاعاً قريباً ولا يعنف بها في سوق ولا إضجاع فيكرهها وينفرها. والثاني: أن يعرض عليها الماء قبل ذبحها خوفاً من عطشها المعين على تلفها؛ وليكون ذلك أسهل عند سلخها وتقطيعها، ولا يعرض عليها العلف لأنها لا تستسمن به إلى حين الذبح، فيكثر به الفرث، إلا أن يتأخر زمان الذبح فيعرض عليها كالماء. والثالث: أن يخفي عنها إحداد الشفار في وجوهها فربما نفرها وقد ورد الخبر بأن لا تحد الشفار في وجوهها.

والرابع: أن لا ينحر بعضها في وجوه فقد جاء فيه الأثر؛ ولأنه ربما نفرها ذلك. والخامس: أن يعقل بعض قوائمها ويرسل بعضها ولا يعقل جميعها فترهق، ولا يرمل جميعها فتنفر. والسادس: أن ينحر الإبل قياماً لقوله تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] أي سقطت وتذبح البقر والغنم مضجوعة فإن خاف نفور الإبل إذا نحرت قياماً نحرها غير مضجوعة. والسابع: أن يكون الذبح بأمضى شفار وجدها ويمرها ذهاباً وعودة في قوة اعتماد وسرعة توجيه لرواية ابن الأشعث عن شداد بن أوس قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله كتب على كل شيء فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبح وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ثم هذه السبعة دلائل على نظائرها. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ:" فَإذاً ذِبْحَهَا فَقَطْعَ رَأَّسَهَا فَهِي ذَكِيَّة". قال في الحاوي: وهذا صحيح يكره إذا قطع الحلقوم والمريء والودجين أن يزيد في الذبح لوقوع الذكاة بها وإزهاق روحه بما زاد عليه فإن زاد في الذبح حتى قطع رأسها لم تحرم. وقال سعيد بن المسيب: قد حرمت لأنها ماتت من مبيح وحاظر هذا غير صحيح لأمرين: أحدهما: أنه ذبح واحد لا يتميز فكان جميعه مبيحاً. والثاني: أنه لو تميز وكان حاظراً فالحظر طرأ بعد الذكاة فلم يؤثر فيها فوجب أن لا يغير حكمها وعلى أنه قد روي عن الصحابة فيه ما يمنع من مخالفتهم عليه إذ هم على اتفاق فيه فروي عن علي عليه السلام أنه سئل عن بعير ضربت عنقه بالسيف فقال: يؤكل. وروي عن عمران بن الحصين أنه سئل عن رجل ذبح طيراً فأبان رأسه فقال: يؤكل. وعن ابن عمر نحوه وليس لهم مخالف. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ:" وَلَوْ ذِبْحَهَا مِنْ قَفَاِهَا فَإِنَّ تَحَرَّكَتْ بَعْدَ قِطَعِ الرأس أَكَّلَتْ وَإلّا لَمْ تُؤْكَلْ". قال في الحاوي: ذبح الشاة من القفا مكروه وإنما كرهناه لأمرين: أحدهما: لما فيه من تعذيبها. والثاني: لما يخاف من موتها قبل الوصول إلى ذكاتها فإن فعل لم يخل

حالها من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يعلم موتها بقطع القفا قبل وصول السكين إلى قطع الحلقوم والمريء فتكون ميتة لا تؤكل وكذلك لو بقيت فيها عند وصول السكين إلى قطع الحلقوم والمريء حياة غير مستقرة لحياة المذبوح لم تؤكل وإنما كان كذلك لأن الذكاة لا تستباح إلا بقطع الحلقوم والمريء وقطع قفاها يجري في فوات نفها مجرى كسر صلبها وبقر بطنها ولا تحصل به ذكاة وإن وجى. والثاني: إن قطع حلقومها ومرئيها فهذه ذكية تؤكل وقال مالك وأحمد بن حنبل هي ميتة لا تؤكل. وقال علي بن أبي طالب: إن فعل ذلك عمداً لم تؤكل وإن فعله سهواً أكلت احتجاجاً بأن قطع القفا موج والذكاة بعد التوجية لا تصح كالتي أخرج السبع حشوتها. ودليلنا هو أن ما كانت حياته مستقرة وإن لم تدم صحت ذكاته كالمقطوعة الأطراف ولأنه لو انتهى بها النزع إلى حد الإياس حلت ذكاتها مع استقرار الحياة فلذلك قطع القفا وخالف قطع الحشوة لأن بقاء الحياة معها مستقرة كحياة المذبوح. والثالث: أن يشكل حالها عند قطع الحلقوم والمريء هل كانت حياتها مستقرة أو غير مستقرة ففي إباحة أكلها وجهان: أحدهما: وهو ظاهر قول أبي إسحاق المروزي: أنها غير مأكولة: لأن الأصل الحظر حتى تعلم الإباحة. والثاني: وهو ظاهر قول أبي علي بن أبي هريرة: أنها مأكولة لأن الأصل فيها الحياة حتى يعلم فواتها. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ:" وَإذاً أَوََجُبَّهَا أَضَحِيَّةَ وَهُوَ أَنْ يُقَوِّلَ هَذِهِ أَضَحِيَّةَ وَلَيْسَ شراؤها وَالنِّيَّةَ أَنْ يُضَحِّيَ بِهَا إيجاباً لَهَا". قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا اشترى الأضحية ناوياً بها أضحية لم تصر أضحية بالنية مع الشراء حتى يوجبها بعد الشراء. وقال أبو حنيفة ومالك: قد صارت أضحية بالنية والشراء احتجاجا بأن ابتياع السلعة لما صارت بالنية مع الشراء أنها للتجارة جارية في دخول الزكاة ولم ينو كانت فنية لا تجب فيها الزكاة كذلك الأضحية إذا اشتراها إن نوى بها الأضحية صارت أضحية وإن لم ينو لم تكن أضحية. ودليلنا: هو أن الشراء موجب للملك وكونها أضحية مزيل للملك، ولا يصح أن

يكون الشيء الواحد في حالة واحدة موجباً لثبوت الملك وإزالته فلما أفاد الشراء ثبوت الملك امتنع أن يزول به الملك كما لو اشترى عبداً ينوي به العتق أو داراً ينوي بها الوقف صح الشراء ولم يصر العبد حراً ولا الدار وقفاً. فأما الجواب عن شراء السلعة بنية التجارة فهو أن جريانها في حول الزكاة من أحكام الملك فجاز أن تقترن باستفادة الملك وخالف الأضحية المزيلة للملك. فصل: فأما إذا علق قبل الشراء وجوب الأضحية فعلى ضربين: أحدهما: أن يجعلها بالشراء أضحية. والثاني: أن يلتزم في الذمة أن يجعلها بعد الشراء أضحية. فأما الضرب الأول: فصورته: أن يقول: إن اشتريت شاة فهي أضحية فإذا اشتراها لم تصر أضحية لأنه أوجبها قبل الملك. وأما الضرب الثاني: فصورته: إن أطلق ولم يعين أن يقول: إن اشتريت شاءة فلله علي أن أجعلها أضحية فهذا نذر مضمون في الذمة من غير تعيين؛ فلزم وانعقد، فإذا اشترى شاة وجب عليه أن يجعلها أضحية ولا تصير بالشراء أضحية، لأن النذور تلزم في الذمة قبل الملك. وإن عين فقال: إن اشتريت هذه الشاة فلله علي أن أجعلها أضحية ففيه وجهان: أحدهما: أنه يغلب حكم التعيين فلا يلزمه أن يجعلها أضحية؛ لأنه أوجبها قبل الملك. والثاني: أن يغلب في حكم النذر فيلزمه أن يجعلها أضحية لتعليقه بالذمة. فصل: فإذا تقررت هذه الجملة وأراد أن يوجب الأضحية بعد ملكها بشراء فإن أوجبها بالقول فقال: هذه أضحية وجبت، وإن أوجبها بالنية فنوى أنها أضحية ففيه وجهان: أحدهما: وهو مذهب الشافعي وقول جمهور أصحابه لا تصير بالنية أضحية حتى يقترن بها القول؛ لأنها إزالة ملك فأشبه العتق والوقف. والثاني: وهو قول أبي العباس بن سريج أنها قد صارت بمجرد النية أضحية لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات" مع قول الله تعالى: {لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ} [الحج: 37] يعني إخلاص القلوب بالنيات فعلى قول أبي العباس بن سريج قد وجبت ويؤخذ بذبحها، وعلى الوجه الأول لم تجب وله بيعها، فإن تركها على نيته حتى ضحى بها فعمل تصير بالذبح بعد النية أضحية أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا تصير أضحية بالذبح مع تقدم النية.

والثاني: تصير لأن الذبح فعل ظاهر، فإذا اقترن بالنية صار آكد من القول بغير نية، فصار فيما تصير به أضحية ثلاثة أوجه: أحدها: بالقول وحده. والثاني: بالنية وحدها. والثالث: بالنية والذبح. فأما الهدايا ففيما يوجبها الشافعي قولان، ولأصحابه وجهان آخران أحد قولي الشافعي وهو الجديد أنها لا تجب إلا بالقول، فيقول: قد جعلت هذه البدنة هدياً. والثاني: وهو القديم أنها تصير بالتقليد والإشعار هدياً، وإن لم يقل، لأنه علم ظاهر كالقول. والثالث: وهو أحد وجهي أصحابنا أنها تصير هدياً بالنية وان لم يقلدها، ويشعرها كالأضحية. والرابع: وهو الوجه الثاني لأصحابنا: أنها تصير هدياً بالذبح مع النية والله أعلم بالصواب. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ:" فَإذاً أَوََجُبَّهَا لَمْ يَكِنْ لَهُ أَنْ يَدْبِلَهَا بِحال". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا أوجب الأضحية وعينها خرجت بالإيجاب عن ملكه، ومنع من التصرف فيها، ووجب عليه مؤنثها وحفظها إلى وقت نحوها، وهو قول علي عليه السلام، ومذهب أبي يوسف وأبي ثور. وقال أبو حنيفة، ومحمد: لا تخرج بالإيجاب عن ملكه، ولا يمنع من التصرف فيها، ويكون بإيجابها مخيراً بين ذبحها أو ذبح غيرها، احتجاجاً بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه أهدى مائة بدنة عام حجه، فقدم عليه علي من اليمن فأشركه فيها، ولو خرجت بالإيجاب عن ملكه ما جعل فيها شركاً لغيره؛ ولأنه لو أوجب على نفسه عتق عبد فقال: لله علتي أن أعتقه لم يخرج بهذا الإيجاب عن ملكه جماعاً، وكذلك إيجاب الأضحية لا يخرجها عن ملكه احتجاجاً. ولأن ما تعلق بالأعيان المملوكة من حقوق الله تعالى تقتضي زوال الملك، ولا يمنع من التصرف كالزكاة إذا وجبت في المال. ولأن القصد في إيجابها ما ينتفع به الفقراء من لحمها وانتفاعهم بلحم غيرها كانتفاعهم بلحمها، فوجب أن يستويا. ولأنها بعد الإيجاب مملوكة فلما لم تصر ملكا للفقراء وجب أن تكون باقية على ملك المضحي.

ودليلنا: ما روي عن عمر بن الخطاب أنه قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله إني أوجبت على نفسي بدنة، وقد طلبت مني بأكثر من ثمنها، فقال: انحرها ولا تبعها ولو طلبت بمائة بعير. فلما منعه البيع مع المبالغة في الثمن وأمره بالنحر دل على فساد البيع ووجوب النحر. وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: من أوجب أضحية فلا يتبدل بها، وليس له مع انتشار قوله مخالف في الصحابة. ولأنه يقترب بالأضحية من النعم كما يتقرب بالعبيد في العتق ثم ثبت أن العتق مزيل للملك إجماعاً، فوجب أن تكون الأضحية مزيلة للملك احتجاجاً. ولأن كل إيجاب تعلق بالعين ولم يتعلق بالذمة أوجب زوال الملك كالوقف والعتق. ولأن حكم الأضحية يسري إلى ولدها، وكل حكم أوجب سرايته إلى الولد زال به الملك كالبيع طرداً والإجارة عكساً. ولأن المضحي يضمن الأضحية لو أتلفها، وكل ما ضمنه المتلف في حق غيره خرج به المضمون عن ملك ضامنه كالهبة طرداً والعارية عكساً ولا يدخل عليه الرهن؛ لأنه يضمنه في دين نفسه، ولا يدخل عليه العبد الجاني؛ لأنه يضمن جنايته ولا يضمن رقبته. فأما الجواب عن اشتراك علي عليه السلام في الهدي فمن وجهين: أحدهما: أن علياً ساق الهدي من اليمن فجعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل الإيجاب شريكاً. والثاني: أنه جعله شريكاً في نحرها لا في التقرب بها؛ لأنه نحر بنفسه منها ثلاث وستين ثم أمر علياً بنحر باقيها. وأما الجواب عن استدلالهم بإيجاب عتق العبد فمن وجهين: أحدهما: أن العبد إذا أوجب عتق لم يصر حراً والشاة إذا أوجبها أضحية صارت أضحية فافترقا. والثاني: أنه لما منع من التصرف في العبد وجب أن يمع من التصرف في الأضحية وأما الجواب عن استدلالهم بالزكاة فمن وجهين: أحدهما: تعلق الزكاة بالذمة وتعلق الأضحية بالعين. والثاني: أن بطلان البيع في قار الزكاة إذا تعلقت بالعين، فوجب أن تكون الأضحية بمثابتها لتعلقهما بالعين. وأما الجواب عن استدلالهم بأن لحم غيرها مثل لحمها فبطلانه من وجهين:

أحدهما: في حق الله تعالى بالعتق إذا أوجبه على نفسه في عبد لم يكن له أن يبدله بغيره. والثاني: حق الآدميين في البيع إذا باع عبداً لم يكن له أن يبدله بغيره. وأما الجواب عن استدلالهم بأنها لما لم تصر ملكاً للفقراء دل على بقائها على ملكه فمن وجهين: أحدهما: أن حق الفقراء قبل الذبح كحقهم فيها بعده فلم يلم الاستدلال. والثاني: أن بطلانه بالوقف لأنه خرج عن ملكه ولم يصر ملكاً لغيره. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ رحمَهُ اللَّهُ:" وَإِنَّ بَاعَهَا فَالْبَيْعَ مفسوخ". قال في الحاوي: وهذا صحيح؛ لأن إيجابها إذا أوجب زوال ملكه عنها بطل بيعها إن باعها، وكذلك لو باعها للمساكين؛ لأنهم فيها غير معنيين، فإن استبقى عينها وباع نماءها بطل بيع النماء كبطلان بيع الأصل؛ لأنه ملحق بأصله، وسواء كان النماء نتاجاً أو لبناً أو صوفاً، فإن وهب النماء صحت هبة اللبن والصوف، ولم تصح هبة النتاج، لما يلزم من نحره والتقرب بإراقة دمه. وكما لا يجوز بيعها فكذلك لا يجوز رهنها؛ لأن مقصود الرهن بيعه في الدين فإن أجر ظهورها لم يجز؛ لأن الإجارة معاوضة على منافعها والمنافع تبعاً للأصل، وان أعار ظهرها جاز؛ لأن العارية إرفاق يجوز في لحمها فجازت في منافعها. فصل: فلو ركبها المستعير ضمنها دون المعير، ولا يضمن أجرتها المستعير ولا المعير، ولو ركبها المستأجر فتلفت ضمن قيمتها للمؤجر دون المستأجر وضمن أجرتها المستأجر دون المؤجر، وفي قدر ما يضمنه من الأجرة وجهان: أحدهما: وهو لأظهر أنه يضمن أجرة مثلها كضمانها عن إجارة فاسدة. والوجه الثاني: وأشار إليه ابن أبي هريرة أنه يضمن أكثر الأمرين من أجرة المثل أو المسمى؛ لأن فيها حقاً للمساكين قد التزم لهم ما سماه من الزيادة في هذه الأجرة وجهان: أحدهما: أنه يسلك بها مسلك الضحايا كالأصل. والثاني: أنها تصرف إلى الفقراء خاصة؛ لأن حقوق الضحايا في الأعيان دون النذور. فأما إذا اشترى شاة وأوجبها أضحية ثم وجد بها بعد الإيجاب عيباً لم يردها لفوات

الرد بالإيجاب ورجع بالأرش كالثوب، وفي هذا الأرش وجهان: أحدهما: يسلك به مسلك الضحايا. والثاني: أنه للمضحي خاصة لأنه من الثمن الذي لم يستحق عليه، والله أعلم بالصواب. مسألة قال الشافعي: "وإن فاتت بالبيع فعليه أن يشتري بجميع قيمتها مكانها فإن بلغ أضحيتين اشتراها لأن ثمنها بدل منها وإن بلغ أضحية وزاد شيئاً لا يبلغ أخرى ضحى بأضحية وأُسلك الفضل مسلك الأضحية وأحب إلي لو تصدق به وإن نقص عن أضحية فعليه أن يزيد حتى يوفيه أضحية لأنه مستهلك للضحية فأقل ما يلزمه أضحية مثلها". قال في الحاوي: اعلم أن تلف الأضحية على ضربين: مضمون، وغير مضمون. فأما تلفها غير مضمون، فهو أن تموت عطباً بغير عدوان فلا ضمان فيها، كما لو وقف داراً فاحترقت أو نذر أن يتصدق بمال فتلف لم يضمنه كذلك موت الأضحية غير مضمون، وأما تلفها المضمون فهو ما اقترن بعدوان فهو الموجب للضمان، ولا يخلو ضامنها من أن يكون هو المضحي، أو أجنبياً، فإن ضمنها أجنبي غير المضحي ضمنها المضحي في حقوق أهل الضحايا لا في حق نفسه لخروجها بالإيجاب عن ملكه ليكون المضحي المستحق لصرف ذلك وبدلها، وتكون مضمونة على هذا المتلف بقيمتها لا غير وان كان الضامن هو المضحي ضمنها بأكثر لأمرين من قيمتها وقت التلف أو مثلها عند النحر. وقال أبو حنيفة، ومالك: يضمنها بقيمتها لا غير استدلالاً بأنه لما ضمنها الأجنبي بقيمتها وجب أن يضمنها المضحي بقيمتها؛ لأن الضمان يختلف باختلاف التالف دون المتلف، ألا تراه يضمن رهنه إذا أتلفه إذا كان غير ذي مثل كالأجنبي وبمثله إذا كان ذا مثل كالأجنبي لا يختلف باختلاف المتلف؟ كذلك الأضحية. ودليلنا: هو أنه قد ألزم نفسه الأضحية بإيجابها وان تعينت فإذا ضمنها بالتلف صار ضامناً لها بأمرين والتلفظ بالالتزام. ولذلك ضمن أكثر الأمرين من موجب الالتزام بالمثل أو موجب التلف بالقيمة وغيره يضمنها بقيمتها بالتلف دون الالتزام، فلذلك ضمنها بالقيمة دون المثل وفيه دليل وانفصال. فصل: فإذا ثبت ضمانها بالقيمة في حق الأجنبي بأكثر الأمرين من المثل أو القيمة في حق

المضحي وجب على المضحي أن يعرف القيمة في شراء مثلها في جنسها من بقر أو غنم، وفي نوعها من ضأن أو معز وفي سنها من جذع أو ثني، فلو كانت الأضحية ثنية من المعز لم يجز أن يشري جذعة من الضأن، وان كانت خيراً منها لتعين حق المساكين في نوعها وسنها، وإذا كان كذلك لم يخل حال القيمة من ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون ثمناً لمثلها من غير زيادة ولا نقصان فعليه أن يشتري به مثلها ولا يلزمه إيجابها بعد الشراء؛ لأنه بدل من واجب لا ملك له فيها، ونظر في الشراء فإن كان اشتراها بعين القيمة المستحقة صارت أضحية بنفس الشراء، وان لم ينو بها الأضحية، وان اشتراها في الذمة نوى بالشراء أنها أضحية لا يحتاج بعده إلى إيجاب وان لم ينو بالشراء أنها أضحية أوجبها بعد الشراء، أضحية لا في حق نفسه؛ لأنه لا يملكها ولكن في حق أهل الضحايا؛ لأنها بدل عن أصل قد استحقوه. فصل: والقسم الثاني: أن تكون القيمة أكثر من ثمن مثلها فعليه أن يصرف القيمة في الأضاحي لأنها مستحقة لأهلها فيشري منها واحدة مثلها، وفيما يشتريه بباقي القيمة وجهان محتملان: أحدهما: في أمثالها، ولا يعدل عن مثلها إلى غيرها؛ لأن مصرف جميعها واحد. والثاني: أنه يصرفه فيما هو الأحظ لأهل الضحايا من ذلك الجنس أو غيره؛ لأن الزيادة بعد حصول المثل كالابتداء بالأضحية، وإذا كان كذلك نظر في الزيادة فإن كانت ثمناً للأضحية كاملة أو أضحيتين اشترى بها ما أمكن من الضحايا الكاملة ولا يجوز أن يشتري ما لا يجوز من الضحايا، وان نقصت الزيادة عن ثمن أضحية كاملة قال الشافعي: يسلك بها مسلك الأضحية، فاختلف أصحابه في مراده فيما يصنع بها على ثلاثة أوجه: أحدها: أن يشتري بها سهماً من أضحية اعتباراً بالأصل. والثاني: أنه يشتري بها لحماً لتعذر الشركة في الحيوان، فعدل به إلى اللحم المقصود. والثالث: تصرف زيادة دراهم بحالها؛ لأنها تلاقي التصرف أصلاً، فجاز فيه من القيمة ما لم يجز في الأصل، كمن وجبت عليه جذعة في الزكاة فأعطى قيمتها لم تجز؛ ولو أعطى عنها حقه ودفع عشرين درهماً عن نقص الحق أجزأ. فإن قلنا: إنه يصرف ذلك في سهم من أضحية كان في ذلك السهم كأهل الضحايا. وان قلنا: إنه يشتري به لحماً أو يصرفه ورقاً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يسلك به مسلك الضحايا ويكون فيه بمثابتهم. والثاني: أنه يختص به الفقراء، ولا يجوز أن يشاركهم فيه كما لو عطبت عليه بدنة من الهدي ذبحها ولم يأكل منها شيئاً، وان كانت لو سلمت جاز له أن يأكل منها حسماً.

للتهمة كذلك هذه الزيادة. فصل: والقسم الثالث: أن تكون قيمة الأضحية المضمونة أقل من ثمن أضحيته فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون المضحي قد ضمنها إما منفرداً بضمانها كما لو أتلفها، وإما مشتركاً بينه وبين غيره كما لو باعها فعليه أن يزيد على القيمة، ويشتري به مثلها؛ لأنا قد دللنا على أنه يضمنها في حق نفسه بأكثر الأمرين من قيمتها أو مثلها، فإذا عجزت القيمة ضمن المثل. والثاني: أن تكون القيمة قد تفرد بضمانها أجنبي غير المضحي من غاضب أو جان فلا يلزم الأجنبي أكثر من القيمة، وفي ضمان المضحي لما زاد عليها حتى يبلغ ثمن أضحيته وجهان: أحدهما: يضمنه؛ لأنه قد التزم أضحية فلزمه إكمالها فيصير بالالتزام ضامناً لا بالتلف. والثاني: هو أظهر وبه قال ابن أبي هريرة أنه لا يلزم تمام الأضحية؛ لأنه لم يتلف فيضمن وقد قام من إيجابها بما التزم فلم يضمن كما لو لم يضمن بالموت"، فعلى هذا لا تخلو القيمة المستحقة من خمسة أحوال: أحدها: أن يمكن أن يشتري بها من جنس تلك الأضحية ما يكون أضحية وان كانت دون التالفة مثل أن يكون قد أتلف ثنية من الضأن فيمكن أن يشتري بقيمتها جذعة من الضأن فعليه أن يشتري بها جذعاً من الضأن ولا يجوز أن يشتري بها ثنية من المعز لأنها من جنس المتلف فكانت أحق. والحال الثانية: أن يكون ثمناً لدون الجذعة من الضأن أو الثنية من المعز فعليه أن يشتري بها ثنية من المعز وإن كانت من غير جنسها وهي أولى من أقل من الجذعة من الضأن وإن كانت من جنسها لأن الثنية من المعز أضحية ودون الجذع ليس بأضحية. والحال الثالثة: أن يمكن أن يشتري بها دون الجذع مما يكون أضحية أو سهماً شائعاً في أضحية فعليه أن يشتري بها ما كيل من دون الجذع، وهو أولى من شراء سهم وجذع تام؛ لأنهما قد استويا في أنهما لا يكونان أضحية واختص ما دون الجذع بإراقة دم كامل. والحال الرابعة: أن يمكن أن يشتري بها سهماً شائعاً في أضحيته أو لحماً ويشتري بها سهماً في أضحية وهو أحق أن يشتري به لحماً؛ لأن في السهم الشائع إراقة دم وليس في اللحم ذلك؛ وخالف الزيادة حيث اشترى بها في أحد الوجوه لحماً؛ لأن الزيادة بعد إراقة الدم وهذه لم يحصل قبلها إراقة دم.

والحال الخامسة: أن لا يمكن أن يشري بها حيواناً ولا سهماً منه، ويمكن أن يشتري بها لحماً أو يفرقها ورقاً، فيجب أن يشري بها لحماً ولا يفرقها ورقاً بخلاف الزائد على القيمة في أحد الوجوه؛ لأن اللحم هو مقصود الأضحية، وقد وجد في الزيادة مقصودها فجاز أن يفرق ورقاً، ولم يوجد في النقصان مقصودها فوجب أن يفرق لحماً، وبالله التوفيق. مسألة: قال الشافعي: "فان ولدت الأضحية ذبح معها ولدها". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا أوجب أضحية حاملاً فولدت أو كانت حائلاً فحملت ثم ولدت كان ولدها تبعاً لها في الأضحية، وعليه أن يذبحهما معاً، لما روي عن علي عليه السلام أنه رأى رجلاً يسوق بدنة معها ولدها، فقال: لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها، فإذا كان يوم النحر فانحرها وولدها عن سبعة وليس يعرف له مخالف؛ ولأنها ولدته بعد خروجها عن ملكه فأشبه ولد المعتقة والمبيعة وخالف ولد المستأجرة والمرهونة، فإذا ذبحهما معا وتصدق من كل واحدة منهما وأكل جاز، وان تصدق من إحداهما دون الأخرى ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يجوز حتى يتصدق من كل واحدة منهما؛ لأنهما قد صارتا أضحيتين فلزمه أن يسلك بكل واحدة منهما مسلك الأضحية كالأضحيتين. والثاني: أنه يجوز أن يتصدق من الأم دون الولد ومن الولد دون الأم لأن ولدها بعضها وإذا تصدق ببعض الأضحية أجزأه عن الباقي. والثالث: أنه إن تصدق من الأم دون الولد أجزأه، وان تصدق من الولد دون الأم لم يجزه؛ لأن الولد فرع تابع والأم أصل متبوع. مسألة: قال الشافعي: "أولاً يشرب من لبنها إلا الفضل عن ولدها ولا ما ينهك لحمها ولو تصدق به كان أحب اليَّ". قال في الحاوي: يجوز حلاب الأضحية وشرب لبنها وقال أبو حنيفة: لا يجوز حلابها وينضح الماء على ضرعها حتى يذهب لبنها كما لا يجوز جزاز صوفها، ودليلنا ما قدمناه عن علي عليه السلام، ولأن ترك لبنها مضرّ بها. ولأنه يستخلف إن حلب فكان في تركه إضاعة له، فإن لم تكن ذات ولد حلب جميع لبنها من غير استقصاء مضر، فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "دعوا داعي اللبن" يعني إبقاء يسير يصير به داعية كثيراً، وان كانت ذات ولد وجب عليه أن يمكنه منها حتى

يرتوي من لبنها كما كان عليه تمكين الأم من علفها ثم لا يخلو حاله بعد تمكينه منه من ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون بقدر ريه من غير فضل ولا نقصان فلا يجوز أن يحلب من لبنها شيئاً لاستحقاقه في ري الولد. والحال الثانية: أن يكون أقل من رية فعليه بعد تمكينه من لبنها أن يسقيه بعد ريه من غيرها. والحال الثالثة: أن يكون أكثر من رية فعليه أن يخلي بينه وبين ريه ثم يحتلب الفاضل عن ريه، فإذا احتلب اللبن فالأولى به والأفضل أن يتصدق بجميعه فإن لم يتصدق بجميعه فالأفضل بعده أن يسلك به مسلك اللحم فيشرب منه ويسقي غيره، فإن لم يفعل وشرب جميعه جاز وان كرهناه؛ لأن بقاء لحمها نسخ وتقام الانتفاع بها مكروه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولا يجزَّ صوفها". قال في الحاوي: يمنع من جزاز صوفها إذا لم يكن تركه مضراً بها لأنه أحفظ لها وأكمل ولأنه يبعد استخلافه بخلاف اللبن وان كان جزازه أنفع بها فإن قرب زمان نحرها تركه عليها حتى ينحرها وان بعد زمان نحرها جزه عنها؛ لأنه أصلح لبدنها، فإن جزه، وهو مأمور بتركه فقد أساء ولم يضمن، وان تركه وهو مأمور بجزه كرهناه ولم يضمن، ولا يجوز له بيع الصوف بعد جزه؛ لأنه من جملة أضحيته لا يجوز له بيعها ويسلك به مسلك اللبن على ما قدمناه. مسألة: قال الشافعي: "وإن أوجبتها هدياً وهو تام، ثمَّ عرض له نقص وبلغ المنسك أجزأ إنما أنظر في هذا كله إلى يوم يوجبه ويخرج من ماله إلى ما جعله له". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا أوجب أضحية سليمة من العيوب فحدث بها قبل نحرها ما يمنع من ابتداء الأضحية بها من عور أو عرج ضحى بها وأجزأته. وقال أبو حنيفة: إن كان موجبها ممن لا يلزمه الأضحية لسفر أو عدم أجزأه، وان كان ممن يلزمه الأضحية بالمقام واليسار لم يجزه، لأن النقص في الواجب مردود كالمعيب في الزكوات وفي المشهور تجزئ كالعيب في الصدقات. ودليلنا ما رواه أبو سعيد الخدري، قال: قلت يا رسول الله إني أوجبت أضحية وقد أصابها عور فقال: "ضح بها" فلما أمره بذبحها ولم يأمره بالإعادة دلّ على إجزائها. ولأنه خرج من ملكه على صفة الإجزاء فلم يمنع حدوث نقصه من الإجزاء كالعتق في

الكفارة إذا حدث بعده نقص يمنع من الكفارة كان مجزياً كذلك نقص الأضحية، وخالف عيب الزكاة لوجوده عند الإخراج. فصل: فأما إذا أوجب في ذمته أضحية عن نذر ثم أوجبها في شاة عينها وحدث بها قبل الذبح نقص لم يجزه الأضحية بها، لأن سلامة ما تعلق بالذمة مستحق في الذمة تمنع حدوث نقصه من الإجزاء. وسلامة ما لم يتعلق بالذمة غير مستحق في الذمة فلم يمنع حدوث نقصه من الإجزاء وإذا لم تجزه المعيبة وجب عليه أن يضحي بسليمة ولم يلزمه ذبح المعيبة: لأنه أوجبها ليسقط بها ما في ذمته، فإذا بطل إجزاؤها بطل إيجابها. مسألة: قال الشافعي: "وإن أوجبه ناقصاً ذبحه ولم يجزه ". قال في الحاوي: وهذا كما قال، إذا ابتدأ إيجاب أضحية ناقصة وجبت ولم تكن أضحية؛ لأن نقصها يمنع من الأضحية وإيجابها يوجب ذبحها وأن يسلك بها مسلك الأضحية لأمرين: أحدهما: أنه قد أخرجها عن ملكه بالإيجاب فلم تعد إليه. والثاني: أنه بمثابة من أعتق عبداً معيباً عن كفارته لم يجزه عنها ولم يعد إلى رقه بعد العتق، فلو أوجبها ناقصة فلم يذبحها حتى زال نقصها ففي كونها أضحية قولان: أحدهما:. قاله في الجديد وبعض القديم _ لا تكون أضحية اعتباراً بحال إيجابها وإن لزمه ذبحها كمن أعتق عن كفارته عبداً معيباً فزال عيبه بعد عتقه لم يجزه عن كفارته وإن عاد إلى سلامته. والثاني:. في القديم: أنها تكون أضحية مجزية؛ لأنها ما وصلت إلى المساكين إلا سليمة، ولو أوجبها وهي معيبة عن أضحية في الذمة بطل إيجابها لعدم إجزائها ولم يلزم ذبحها لبطلان إيجابها، فلو عادت إلى حال السلامة لم يصح ما تقدم من إيجابها حتى يستأنفه بعد السلامة. قال الشافعي رحمه الله: "ولو ضلت بعدما أوجبها فلا بدل وليست بأكثر من هدي التطوع يوجبه صاحبه فيموت ولا يكون عليه بدل ". قال في الحاوي: إذا أوجب أضحية فضلت منه فلا يخلو أن تضل بتفريط منه أو بغير تفريط، فإن ضلت بتفريط منه في حفظها فعليه طلبها فإن ماتت ضمنها، فإن علم أنه

يجدها بعد أيام التشريق ولا يجدها في أيام التشريق لزمه بدلها في أيام التشريق، ولم يجز أن ينتظرها بعد فوات زمانها، فإذا وجدها بعد فوات الزمان أن يضحي بها فيصير بالتفريط ملتزما بالأضحيتين، وان ضلت بغير تفريط منه في حفظها فلا تخلو من ثلاثة أحوال: أحدها: أن تضل قبل أيام التشريق وهي مسألة الكتاب فلا ضمان عليه؛ لأنها في يده أمانة لا تضمن إلا بالعدوان. ولأنه ليس ضلالها بأكثر من موتها وهو لا يضمنها بالموت فأولى أن لا يضمنها بالضلال ثم ينظر، فإن كان لطلبها مؤونة لم يجب عليه طلبها، وان لم يكن في طلبها مؤونة وجب عليه طلبها، لأنه مؤتمن عليها في حقوق المساكين، وان ضلت بتفريط كان عليه طلبها بمؤونة وغير مؤونة. والحالة الثانية: أن تضل منه بعد أيام التشريق فعليه ضمانها؛ لأن تأخير نحرها تفريط منه يوجب عليه الضمان إلا أن يؤخرها العذر فلا يضمن. والحال الثالثة: أن تضل منه في أيام التشريق بعد مضي بعضها وبقاء بعضها فعمل يكون ذلك تفريطا منه يلتزم به ضمانها أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا يكون تفريطا لبقاء زمان النحر وجواز تأخيرها إليه فلم يفرط فيه، فعلى هذا لا يضعفها ولا يلزمه طلبها إن كان له مؤونة. والثاني: أنه يكون تفريطا منه، لأن نحرها بدخول الزمان مستحق وتأخيره رخصة كتأخير الحج بعد وجود الزاد والراحلة مباح، فلو مات قبل أدائه كان فرضه مستقرا فعلى هذا يضمنها ويلزمها طلبها بمؤونة وغير مؤونة. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولو وجدها وقد مضت أيام النحر كلها صنع بها كما يصنع في النحر كما لو أوجب هديها العام وأخرها إلى قابل وما أوجبه على نفسه لوقت ففات الوقت لم يبطل الإيجاب". قال في الحاوي: إذا وجد الأضحية الضالة لزمه نحرها سواء كان قد ضمنها بالتفريط أو لم يضمنها، لخروجها بالإيجاب عن ملكه، فإن كانت أيام النحر باقية نحرها إجماعاً وكانت أداء لا قضاء، وان نقصت أيام النحر نحرها في الحال ولم يؤخرها إلى انتظار مثلها في العام المقبل، ولا يجوز أن يدفعها إلى المساكين في الحياة حتى ينحرها. وقال أبو حنيفة: إن كانت واجبة دفعها في الحياة إلى المساكين ولم ينحرها، وان كانت مسنونة بطل إيجابها وعادت بفوات الوقت إلى ملكه.

وقال بعض الفقهاء: ينتظر بها إلى وقت مثلها من العام المقبل كما ينتظر بفوات الحج قضائه في مثل وقته. ودليلنا: هو أن ما استحقه المساكين في وقته لم يسقط حقهم بفوات وقته كزكاة الفطر فبطل به مذهب أبي حنيفة في المسنون. ولأن ما استحقه المساكين على صفة لم تتغير صفته بالتأخير كزكاة المال فبطل به مذهب أبي حنيفة في الواجب، ولأن ما استحقه المساكين لوقت لم يجز تأخيره بفوات الوقت كالنذور فبطل به مذهب من أوجب تأخيره إلى مثل وقته. فصل: فإذا ثبت وجوب نحرها عند وجودها ففي حكمها بعد ذبحها وجهان: أحدهما: وهو قول الجمهور إنه يسلك بها بعد الذبح مسلك الضحايا في وقتها يأكل ويتصدق ويهدي على حكمها في الأصل إذا ذبحت في أيام النحر. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنها تكون للمساكين خاصة لا يجوز أن يأكل منها ولا يدخر لأنها قد خرجت بفوات ذبحها في أيام النحر من الأداء إلى القضاء فصارت حقاً لغيره ثم لا يخلو حالها أن تكون مضمونة بالتفريط أو غير مضمونة، فإن كانت غير مضمونة؛ لأنه غير مفرط فليس بملتزم لغيرها وقد فعل في نحرها وتفريقها ما لزمه؛ فإن كانت مضمونة بالبدل لتفريط فيها فلا يخلو حال بدلها بعد وجودها من أربعة أحوال: أحدها: أن تكون في ذمته ولم يوجبه في غيرها فتبرأ ذمته من البدل بوجودها كالعبد المغصوب إذا أبق، وكان الغاصب مأخوذاً بالقيمة فوجده برئت ذمته من القيمة بوجوده. والحالة الثانيه: أن يكون قد أوجب البدل وعينه في غيرها وهو باق ولم يذبحه فقد سقط إيجاب بدلها بوجودها وعاد إلى ملكه كقيمة المغصوب إذا أخذت ثم وجد ردت. والحال الثالثة: أن يكون بدلها قد ذبح وفرق في أهل الضحايا قبل وجودها فيصير ذبح البدل أضحية تطوعء ولا يعتاض عن البدل باستبقاء الأصل بل يذبحه بعد البدل فيكون أضحيتين. والحال الرابعة: أن يكون البدل ولحمه باقياً عند وجود الأصل ففيه وجهان: أحدهما: أن لحم البدل قد صار أضحية بالذبح فيجب أن يسلك به مسلك الضحايا. والثاني: قد زال عنه حكم الضحايا قبل تفرقته كما زال حكمها عنه في حياته فيصنع به ما شاء من بيع وغيره.

مسألة: قال الشافعي: "ولو أن مضحيين ذبح كل واحد منهما أضحية صاحبه ضمن كل واحد منهما ما بين قيمة ما ذبح حيا ومذبوحاً وأجزأ عن كل واحد منهما ضحيته وهديه ". قال في الحاوي: ومقدمة هذه المسألة أن يذبح رجل أضحية غيره بغير أمره فمذهب الشافعي أن ذبحها يجزئ عن قربة صاحبها يسلك بها بعده مسلك الضحايا، ويكون الذابح ضامنا لنقصان ذبحها. وقال مالك: لا يجزئه ذبح غيره ويكون لحماً وعليه أن يضحي بعدها. وقال أبو حنيفة: تجزئه عن أضحيته ولا يرجع على الذابح نقصان ذبحه، وبه قال أبو ثور والذي أراه من هذا الإطلاق في الضمان أن ينظر في زمان الذبح فإن كان متسعاً ضمن الذابح؛ لأنه لم يتعين ذبحها في وقته ببقائه بعد ذبحه، وان ضاق حتى لم يبق منه إلا زمان الذبح لم يضمن الذابح، لأنه قد تعين ذبحها في وقته، فأما مالك فاحتج بأن الذبح قربة كالتفرقة ثم ثبت أنه لو فرقها غيره لم يجزه كذلك إذا ذبحها غيره لم تجزه. ودليلنا: أن مقصود الأضحية إيجابها في حق المالك وتفرقتها في حق المساكين والذبح تبعاً لهما يتوصل به إلى المقصود في حقّ كل واحد منهما، وقد وجد المقصود أن يذبح الغير فلم يمنع من الإجزاء. ولأن الذبح لا يفتقر إلى نية وقصد؛ لأنه لو ذبحها الملك سهوا أجزأت كذلك إذا ذبحها غيره عن عدم قصده وفي هذين انفصال. فصل: فأما أبو حنيفة _ رحمه الله تعالى _ فإنه استدل على أن الذابح لا يضمن نقصان ذبحها؛ لأنه إراقة دم مشروع فلم يتعلق به ضمان كالختانة وقتل الردة ولأنها قربة تعين عليه فعلها فلم يضمنها من ناب عنه فيها كسوق الهدي إلى محله. ودليلنا: هو أن ما ضمن في غير الأضحية ضمن في الأضحية كاللحم، ولأن ما ضمن لحمه ضمن ذبحه كغير الأضحية. فأما الجواب عن قياسه على الختانة، فهو أنها ما أحدثت نقصاً، ولو أحدثته ضمن كذلك الأضحية لو لم تحدث نقصاً لم تضمن، فإذا أحدثه ضمن والمرتد لا يضمن بغير العقل، فلم يضمن بالقتل والأضحية تضمن بغير الذبح فضمنت بالذبح. وأما الجواب عن قياسه على سوق الهدي فهو على ما ذكرناه من أنه لم يحدث نقصاً ولو عطب في يده ضمن.

فصل: فإذا ثبت ما وصفنا وكان للمضحين أضحيتان فذبح كل واحد منهما أضحية صاحبه بغير أمره فهذا على ضربين: أحدهما: أن يفرق كل واحد منهما لحم ذبيحته فلا يجزئه عن نفسه؛ لأنه لا يملكها ولا يجزئ عن صاحبها، لأنه ما قام بما عليه فيها، ويضمن كل واحد منهما لصاحبه قيمة أضحيته، ولا يجوز أنهما يتقاسمان القيمة لخروجها عن ملك كل واحد منهما بالإيجاب، وفي القيمة وجهان: أحدهما: - وهو قول الجمهور- إنه يضمن قيمتها قبل الذبح، وهي حية كالجاني. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة _ أنه يضمن أكثر الأمرين من قيمتها وهي حية أو قيمة لحمها بعد الذبح لتعديه بالتفرقة كتعديه بالذبح، وهو عندي أصح، فإذا أخذ كل واحد منهما قيمة أضحيته صرفها في مثلها وكان في فصلها ونقصانها على ما ذكرنا، ويكون أرش الذبح داخلاً في ضمان القيمة فسقط بها. والضرب الثاني: أن يكون لحم كل واحد منهما باقياً فلكل واحد منهما أن يأخذ لحم أضحيته، ولا يجوز أن يتبادلا باللحم، لأنه لا يجوز صرفه إلا في مسلك الضحايا، ويرجع كل واحد منهما على صاحبه بأرش الذبح، وفي مصرف هذا الأرش ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون للمضحي خاصة، لأن حق المساكين في عين الأضحية، وليس هذا الأرش منها. والثاني: أن يكون للمساكين؛ لأنه ليس للمضحي منها إلا ما يأكله من لحمها، وليس هذا الأرش منها. والثالث: أن يسلك به مسلك الضحايا لاستفادته منها. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "فإذا ذبح ليلا أجزأه ". قال في الحاوي: ذبح الأضحية ليلاً مكروه لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الذبح ليلاً، ولأنه ربما أخطأ محل ذبحها بظلمة الليل، ولأنه يصير مستنيرا بها والمظاهرة بها أولى، ولأنه ربما أعوزه المساكين في الليل، ولأنه ربما تغير اللحم إذا استبقى إلى النهار وصل فلهاه المعاني كرهنا ذبحها في الليل، فإن ذبحها فيه أجزأه. وقال مالك: لا يجزئه لما قدمناه ولقول الله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]. فخص الأيام بها دون الليالي.

ودليلنا: قول الله سبحانه: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج:36] ولم يفرق بين الليل والنهار فكان على عمومه فيها. ولأنه من زمان النحر فجازت الأضحية فيه كالنهار. ولأنه أحد مقصودي الأضحية فجاز ليلاً كالتفرقة. فأما الجواب عن الآية فهو أن الليالي تبع للأيام. والنهي محمول على الكراهة كما نهى عن جداد الثمار في الليل - ما يصنع بلحم الأضحية من حيث الادخار والأكل والطعام والإهداء ـ. مسألة: قال الشافعي: "والضحيه نسك مأذون في أكله وإطعامه وادخاره ". قال في الحاوي: أما الضحايا والهدايا فحكمها في جميع ما قدمناه سواء، وإنما يختلفان في المحل فمحل الهدي الحرم، لقول الله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 33]. ومحل الضحايا في بلد المضحي، وهل يتعين عليه ذبحها فيه أم لا؟ على وجهين مخرجين من اختلاف قولي الشافعي في تفريق الزكاة في غير بلد المالك هل يجزئ أم لا؟ على قولين: فإن قيل: لا تجزئ تعين عليه ذبح الأضحية في بلده فإن ذبحها في غير بلده لم يجزه. وإن قيل: تفريقها في غير بلده يجزئ لم يتعين عليه ذبح الأضحية في بلده، وكان ذبحها في بلده أفضل، وفي غير بلده جائز. فإذا تقررت هذه الجملة لم يخل حالها بعد الإيجاب إيجابها أن تكون عن نذر أو تطوع، فأما التطوع فهو ما ابتدأ إيجابه فقال: قد جعلت هذه البدنة أضحية، فيجب أن يذبحها في أيام النحر وكذلك الهدي ثم يسلك بها مسلك الأضحية، وذلك مشتمل على أربعة أحكام: أحدها: أن يأكل منها. والثاني: أن يطعم الفقراء. والثالث: أن يهدي إلى الأغنياء. والرابع: أن يدخر قال الله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] فنص هذه الآية على ثلاثة أحكام على أكل وإطعام الفقراء ومهاداة الأغنياء. وأما الادخار فالأصل ما رواه الشافعي عن مالك عن عبد الله بن أبي بكر عن عمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة رضي الله عنها قالت: دق ناس من أهل البادية حضرة

الأضحى في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "ادخروا الثلث وتصدقوا بما بقي قالت: فلما كان بعد ذلك قيل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: لقد كان الناس ينتفعون بضحايا هم يحملون منها الودك ويتخذون منها الأسقية فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما ذاك قيل: يا رسول الله: نهيت عن اقتناء لحوم الأضاحي بعد ثلاث، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما نهيتكم من أجل الدافة التي دفت فكلوا وتصدقوا وادخروا"، فاشتمل هدا الحديث على تحريم ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث لأجل الدافة ثم على إباحة الادخار بعد الدافة، والدافة النازلة يقال: دف القوم موضع كذا إذا نزلوا فيه، فاختلف أصحابنا في معنى هذا النهي والإباحة على وجهين: أحدهما: أنه نهي تحريم على العموم في المدينة التي دف البادية إليها وفي غيرها حرم به ادخار لحوم الأضاحي بعد ثلاث في جميع البلاد، وعلى جميع المسلمين وكانت الدافة سبباً للتحريم ولم تكن علة للتحريم ثم وردت الإباحة بعدها نسخاً للتحريم، فعمل جميع الصحابة بالنسخ إلا علي بن أبي طالب عليه السلام، فإنه بقي على حكم التحريم في المنع من ادخارها بعد ثلاث ولم يحكم بالنسخ، لأنه لم يسمعه. وقد روى الشافعي عن مالك عن أبي الزبير، عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل لحوم الأضاحي بعد ثلاثة ثم قال: "كلوا وتزودوا وادخروا" فعلى هذا إذا دف قوم إلى بلد من فاقة لم يحرم ادخارهم لحوم الأضاحي لاستقرار النسخ. والثاني: أنه نهي تحريم خاص لمعين حادث اختص بالمدينة ومن فيها دون غيرهم لنزول الدافة عليهم، وكانت الدافة علة لتحريم ثم ارتفع التحريم بارتفاع موجبه، وكانت إباحة الرسول إخباراً عن السبب ولم تكن نسخاً، فعلى هذا اختلف أصحابنا إذا حدث مثله في زماننا، قذف ناس إلى الفاقة، فهل يحرم على أهله ادخار لحوم الأضاحي لأجلهم لوجود علة التحريم كما حرم عليهم بالمدينة في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يحرم عليهم لوجود علة التحريم كما حرم عليهم بالمدينة في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والثاني: لا يحرم، لأن التعليل بالدافة كان لزمان على صفة فصار مقصوراً عليه. فصل: فإذا ثبت ما وصفناه من مسلك الضحايا في هذه الجهات الأربع الأكل والادخار والصدقة والهدية اشتمل حكمها على فصلين: أحدهما: في مقاديرها، فليس تتقدر في الجواز، وإنما تتقدر في الاستحباب؛ لأنه

لو أكل يسيراً منها وتصدق بباقيها جاز ولو تصدق بيسير منها وأكل باقيها جاز، فأما مقاديرها في الاستحباب ففيه قولان: أحدهما: قاله في القديم _ يأكل ومدخر ويهدي النصف ويتصدق على الفقراء بالنصف؛ لأن اثه تعالى قال: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] فجعلها في صنفين فاقتضى أن تكون بينهما نصفين. والثاني: _ قاله في الجديد _ أن يأكل، ويدخر الثلثء ويهدي الثلث، ويتصدق على الفقراء بالثلث لقول الله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] فذكر ثلاثة أصناف فاقتضى أن تكون بينهم أثلاثاً. وأما الفصل الثاني: وجوبها واستحبابها، فلا يختلف المذهب أن الادخار مباح وليس بواجب ولا مستحب وأن الهدية ليست بواجبة وهي مستحبة، فأما الأكل والصدقة فقد اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج، وأبي سعيد الإصطخري أنهما مستحبان فإن أكل جميعهما جاز وان تصدق بجميعها جاز لقول الله تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى} [الحج: 37] فجعل مقصودها التقوى بعد الإراقة دون الأكل والصدقة. ولأنه لما كان لو أكل أكثرها كان جميعها أضحية كذلك إذا أكل جميعها. والثاني: وهو قول أبي الطيب بن سلمة: أن الأكل والصدقة واجبان، فإن أكل جميعها لم يجزه، وان تصدق بجميعها لم يجزه حتى يجمع بين الأكل والصدقة لقول الله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] فجمع بينها وأمر بهما فدل على وجوبهما ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحر في حجة مائة بدنة، وأمر علياً أن يأتيه من كل بدنة ببضعة ثم أمر بها فطبخت فأكل من لحمها، وحسا من مرقها، فلما أكل من كل بدنة مع كثرتها دل على وجوب أكله منها. والثالث: وهو مذهب الشافعي وما عليه جمهور أصحابنا _ أن الأكل مستحب والصدقة واجبة، فإن أكل جميعها لم يجزه وان تصدق بجميعها أجزأه لقول الله تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ} [الحج:36] فجعلها لنا، ولم يجعلها علينا، فدل على أن أكلنا منها مباح، وليس بواجب، ولأن حقوق الإنسان هو مخير فيها بين الاستبقاء والإسقاط. ولأن موضوع القرب بالأصول أنها مستحقة عليه وليست مستحقة له. ولأن قوله تعالى في الضحايا: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا} [الحج: 28] جار مجرى قوله في الزكاة: {كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:141]. فلما كان أكله مباحاً والإيتاء واجباً كذلك الأكل من الأضحية مباح والإطعام واجب.

فصل: فإذا تقرر حكم الأكل والصدقة على هذه الوجوه الثلاثة فاقتصر منها على أحدها نظر، فإن كان اقتصاره منها على الصدقة دون الأكل فأطعم ولم يأكل لم يضمن على الوجوه الثلاثة، لأن من قال بوجوب الأكل نسبه في ترك الأكل إلى المأثم، ولم يلزمه الغرم في حق نفسه لأن استحقاقه للأكل رفق به فخرج عن حكم الغرم لما فيه هن الإجحاف به، وإن كان اقتصاره على الأكل فأكل، ولم يطعم فعلى قول أبي العباس لا ضمان عليه، لأنه يجعل الإطعام مستحباً، وعلى الوجهين الآخرين يكون ضامناً، وهو الصحيح لما ذكرنا فعلى هذا في قدر ما يضمنه ثلاثة أوجه: أحدها: - وهو مذهب أبي إسحاق المروزي وأبي علي بن أبي هريرة - يضمن جميعها بأكثر الأمرين من قيمتها أو مثلها، لأنه لما عدل بأكملها عن حكم الضحايا صارت لحماً، وكان إيجاب الضحايا باقياً، فلزمه أن يضحي فعلى هذا هل يجوز له أن يأكل من بدلها أم لا؟ على وجهين مضيا. والثاني: يضمن منها قدر الاستحباب فيما يتصدق به ولا يضمن جميعها، لأنه قد أراق دمها على اسم الأضحية فلم يضمن منها إلا ما تعدى بأكله، فضمن قدر الاستحباب احتياطاً، فعلى هذا في قدر الاستحباب قولان: أحدهما: بالنصف، وهو القديم. والثاني: الثلث، وهو الجديد، ولا يجوز أن يأكل هذا البدل وجهاً واحداً، لأنه بدل عما أكل والوجه الثالث يضمن قدر الإجزاء، لأنه لو اقتصر عليه في الصدقة، أجزأه، فعلى هذا يضمن ما يخرج عن قدر التافه إلى ما جرى العرف أن يتصدق به منها من القليل الذي يؤدي الاجتهاد إليه، ولا يجوز أن يأكل منه فصار في قدر ما يضمنه أربعة أوجه: أحدها: الكل. والثاني: النصف. والثالث: الربع. والرابع: المجزئ، فإن ضمن الكل لزمه ذبحه في أيام النحر. فإن أخره عنها مع القدرة حتى ذبحه بعدها ففي إجزائه وجهان: أحدهما: لا يجزئه، ويكون لحماً مضموناً بمثل ثان كما لو أخّر الأضحية حتى ذبحها بعد أيام النحر. والثاني: أنه يجزئ؛ لأن إراقة دم الأضحية في أيام النحر قد يحصل بما أكل وإنما هذا بدل من الإطعام دون الإراقة فجاز في غير أيام النحر وان ضمناه بعضها ولم تضمنه جميعها لم يجز أن يتصدق بما ضمنه ورقاً، لأن حقوق الفقراء في الأكل دون القيمة، كما لا يجوز: أن يفرق ثمن الأضحية ورقاً، وهل يلزم صرف ما ضمنه في سهم من أضحية أو يفرقه لحما فيه وجهان:

أحدهما: يشتري به سهماً من أضحية ليجمع فيه بين إراقة الدم وتفرقة اللحم. والوجه الثاني: يفرقه لحماً، لأنه أرفق، وعلى كلا الوجهين إن ذبح أو فرق بعد أيام النحر أجزأه لأن ذبح سهم في شاة لا يكون أضحية فلم يعتبر فيه زمان الأضاحي. فصل: وأما الضحايا والهدايا المنذورة ففي جواز أكله منها وجهان: أحدهما: _ وهو قول أبي إسحاق المروزي لا يجوز أن يأكل منها، لأنها خرجت بالنذر عن حكم التطوع إلى الواجب، فلا يجوز أن يأكل من الدماء الواجبة. والثاني: يجوز أن يأكل منها، لأنه تطوع بالنذر فصار كتطوعه بالفعل. والأصح عندي من إطلاق هذين الوجهين أن ينظر في النذر، فإن كان معيناً لم يضمن في الذمة كقوله: "لله عليّ أن أضحي بهذه البدنة" جاز أن يأكل منها وإن كان مضموناً في الذمة كقوله: "لله عليّ أن أضحي ببدنة" لم يجز أن يأكل منها، لأن ما وجب في الذمة كان مستحقاً لغيره وما لم يتعلق بالذمة جاز أن يكون فيه كغيره، والله أعلم بالصواب. مسألة: فال الشافعي: "وأكره بيع شيء منه والمبادلة به ومعقول ما أُخرج لله عز وجل أن لا يعود إلي مالكه إلا ما أذن الله عز وجل فيه ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاقتصرنا على ما أذن الله فيه ثم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومنعنا البيع على أصل النسك أنه لله ". قال في الحاوي: أما بيع لحم الأضحية فلا يجوز في حق المضحي لقول الله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] فنص على أكله وإطعامه، فدل على تحريم بيعه. ولأن الأموال المستحقة في القرب لا يجوز للمتقرب بيعها الزكوات والكفارات وإنما خصت الضحايا بجواز الأكل، وليس في إباحة الأكل دليل على جواز البيع كطعام الولائم، وأكل الغانمين طعام أهل الحرب. وأما الفقراء فعلى المضحي أن يدفع إليهم منها لحماً، ولا يدعوهم لأكله مطبوخاً لأن حقهم في تملكه دون أكله ليصنعوا به ما أحبوا، فإن دفعه إليهم مطبوخا لم يجز حتى يأخذوه نيئاً كما لا يجوز أن تدفع إليهم زكاة الفطر مخبوزا فإذا أخذه لحماً جاز لهم بيعه كما يجوز لهم بيعه ما أخذوه من الزكوات والكفارات وان لم يجز المزكي والمكفر بيعه. وهكذا لا يجوز للمضحي أن يعطي الجازر أجرة جزارته من لحم الأضحية، لأنه يصير معاوضا به، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى علياً عنه.

ولأن مؤونة ما يستحق إخراجه لازمة للمتقرب كمؤونة الجداد والحصاد 0 فإن أعطى الجازر أجرته جاز أن يعطيه بعد ذلك من لحمها صدقة إن كان محتاجاً أو هدية إن كان مستغنياً. فصل: فأما الجلد فهو في حكم الأضحية في تحريم بيعه على المضحي، وفي جواز تفرده به وجهان: أحدهما: يجوز، لأنه بعض الأضحية. والثاني: لا يجوز حتى يشارك فيه الفقراء، لأنه غير اللحم فلزم الإشراك فيه كاللحم، فإن باعه كان بيعه باطلاً، وقال عطاء: يجوز له بيع الجلد؛ وتملك ثمنه لأن مقصود الأضحية إراقة الدم وإطعام اللحم. وقال الأوزاعي: يجوز له بيع الجلد بآلة البيت التي تعار كالقدر والميزان والسكين، ولا يجوز بيعه للآلة وتلزمه الإعارة. وقال أبو حنيفة: يجوز له بيعه بالآلة دون غيرها، ولا يلزمه إعارتها اعتباراً بالعرف. ودليلنا: ما رواه مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي عليه السلام أنه قال: أمرني رسول - صلى الله عليه وسلم - أن أقوم على بدنة فأقسم جلودها وجلالها، وأمرني أن لا أعطي الجازر منها شيئاً، وقال: نحن نعطيه من عندنا، فقسم الجلود كما قسم اللحم، فدل على اشتراكهما في الحكم. وروى عبد الرحمن الأعرج عن أبي هريرة أنه قال: من باع جلد أضحيته فلا أضحية له، وهذا إن انتشر إجماع، وإن لم ينتشر حجة، إذ ليس له مخالف، ولأنه بعض الأضحية فلم يجز بيعه كاللحم، ولأن ما لم يجز بيع لحمه لم يجز بيع جلده، كدم التمتع والقران. قال الشافعي رحمه الله: "ولا تجوز الأضحية لعبدٍ ولا مدبر ولا أم ولد لأنهم لا يملكون". قال في الحاوي: أما المملكون من العبيد والإماء وأمهات الأولاد والمدبرين فلا يملكون إن لم يملكوا، ولا هو من أهل الضحايا، لأنهم لم يملكوا، فإن ضحى أحدهم بإذن سيده كان نائباً عنه، والأضحية عن السيد لا عنه، وان ضحى بغير إذن سيده كان متعدياً بالذبح في ملك سيده، وتكون الذبيحة لحماً للسيد، وليس بأضحية، وان ملكه السيد مالاً، ففي صحة ملكه قولان:

أحدهما: وهو القديم وبه قال مالك يملكه العبد بتمليك السيد. والثاني: وهو الجديد، وبه قال أبو حنيفة: لا يملكه العبد، ويكون باقياً على ملك السيد على كلا القولين ليس من أهل الضحايا ملك أو لم يملك، لأن للسيد عليه حجراً وان ملك، فإن أذن له السيد أن يضحي فذلك ضربان: أحدهما: أن يضحي عن السيد فيصح ذلك من العبد، ويكون في هذا الإذن بذبحها عن السيد رجوعاً منه في تمليك العبد، ويصير العبد نائباً عن سيده في الذبح، وليس للعبد بعد الذبح أن يفرق اللحم إلا بإذن السيد؛ لأن الإذن الأول كان مقصوراً على الذبح دون التفرقة فاحتاج إلى إذن في التفرقة، فإن كان الإذن في الذبح والتفرقة صحّا جميعاً منه بإذن واحد، ويكون المدفوع إليهم من الفقراء مردودين إلى اجتهاد العبد. والثاني: أن يأذن له السيد في أن يضحي عن نفه ففي جوازها عن نفسه قولان إن قيل: إنه يملك إذا ملك جاز وإن قيل: لا يملك إذا ملك لم يجز، فإن قيل بجوازه كانت أضحية عن العبد دون السيد، ولم يكن للسيد أن يرجع فيها بعد الذبح لما استحقه المساكين فيها بالذبح، فإن كان قيل إيجاب الأضحية وتعينها صح رجوع السيد فيها، وان كان بعد إيجابها وتعينها لم يصح رجوع السيد فيها، لأنه من حقوق المساكين كالمذبوحة، وإن قيل: إن أضحية العبد لا تجوز فللسيد منعه من ذبحها قبل التعيين وبعده، وإذا ذبحها العبد كانت ذبيحة لحم ولم تكن أضحية للعبد ولا للسيد. فصل: فأما المكاتب، فيملك إكساب نفسه غير أن ملكه ضعيف ولا يماثل ملك الحر، لأنه مقصور على أدائه في مال الكتابة ومؤونة نفسه وللسيد عليه حجر بما استحقه عليه من مال الكتابة، وليس من أهل الضحايا لقصوره ملكه، وان أراد أن يضحي، فللسيد منعه بحق حجر، فإن أذن له السيد في الأضحية، فإن منع العبد منها إذا ملك كان المكاتب أولى بالمنع فإن جوزت للعبد إذا قيل: إنه يملك فغي جوازها من المكاتب قولان: أحدهما: تجوز منه وتصح له الأضحية بإذن السيد، وليس فيها بالسواء من مال العبد إذا ملك. والثاني: لا تصح، لأن سيده لا يملك ما بيده وان ملك ما في يد عبده فصح إذنه مع عبده وضعف مع مكاتبه. فصل: فأما من نصفه حر ونصفه مملوك إذا ملك بنصفه الحر مالاً صح ملكه عليه، ولم يكن للملك رقة حجر عليه؛ لأنه لا حق له فيه، ويكون أهل الضحايا به، ويجوز أن يضحي بغير اعتراض كما لكامل الحرية.

مسألة: قال الشافعي: "وإذا نحر سبعه، بدنة أو بقره في الضحايا أو الهدى كانوا من أهل بيت واحدٍ أو شتى فسواء وذلك يجزي وإن كان بعضهم مضحياً وبعضهم مهدياً أو مفتدياً. أجزأ لأن سبع كل واحدٍ منهم يقوم مقام شاه منفردة وكذلك لو كان بعضهم يريد بنصيبه لحماً لا أضحية ولا هدياً. ومال جابر بن عبد الله نحرنا مه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الحديبية البدنة عن سبعه والبقرة عن سبعه. قل الشافعي رحمه الله: وهم شتى". قال في الحاوي: أما البدنة في الضحايا والهدايا فهي عن سبعة وكذلك البقرة عن سبعة ويقوم كل سب مقام شاة وهو قول الجمهور. وقال إسحاق بن راهويه: البدنة عن عشرة وكذلك البقرة، وبه قال بعض التابعين وهو مروي عن ابن عباس احتجاجاً برواية ابن عباس إنه قال: نحرنا البدنة عن عشرة والبقرة عن عشرة، ولأن رسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "البدنة في الغنائم بعشر من الغنم " فكذلك في الضحايا. ودليلنا: ما روي عن مالك عن أبي الزبير عن جابر قال: "نحرنا مع رسول - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة وهذا لا يكون إلا عن أمره، على أن الشافعي قد روى عن يحيى بن حسان عن حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد، عن عطاء عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نحر البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة. فأما حديث ابن عباس فهو موقوف وليس بمسند ومتروك، وغيره معمول به وهو محمول على تعديلها في الغنائم بعشر من الغنم، ولا يجوز أن يصير ذلك في الضحايا أصلاً، لأنه قد اختلف قتادة جعل بعشر وتارة بأقل وتارة بأكثر. الاشتراك في لحم البدنة والبقرة من حيث الفرض والتطوع. فصل: فإذا ثبت أن البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة جاز أن يشترك فيها سبعة من الضحايا والهدايا، ويكون كل سبع منها ضحية لكل واحد منهمء وكذلك لو كانوا مفترضين أو متطوعين في قرب متماثلة أو مختلفة أو بعضهم يريا حقه لحماً، وبعضهم يكون به متقرباً، وسواء كانوا من أهل بيت واحد أو بيوت شتى. وقال مالك: إن كانوا مفترضين لم يجز أن يشتركوا، وان كانوا متطوعين جاز أن يشركوا إذا كانوا من أهل بيت واحد، ولم يجز أن يشركوا إذا كانوا من بيوت شتى؛ لأن التطوع أخف حكماً من الفرض وأهل البيت يشتركون في الأكل والإطعام.

وقال أبو حنيفة: إذا كانوا متقربين جاز أن يشتركوا مفترضين ومتطوعين سواء أكانوا أهل بيت أو بيوت شتى وإن كان بعضهم متقرباً، وبعضهم يريد سهمه لحماً لم يجز أن يشركوا، لأن مصرف القرب واحد ومصرفها مع اللحم مختلف. والدلالة على مالك حديث جابر قال: "نحرنا بالحديبية البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة". وقد كانوا أشتاتاً من قبائل شتى، ولو اتفقت قبائلهم لم تتفق بيوتهم، ولو اتفقت لتعذر أن يستكمل عدد كل بيت سبعة حتى لا يزيدون عليهم، ولا ينقصون منهم، فبطل به قول مالك في الافتراض والاقتران، وروى جابر قال: أمرنا رسول - صلى الله عليه وسلم - أن يشترك السبعة في بدنة، ونحن متمتعون عام الوداع وهذا يدل على جواز اشتراك المفترضين، لأن دم التمتع فرض. ولأن كل ما جاز أن يشترك فيه السبعة إذا كانوا مفترضين كالسبع من الغنم وفي هذا انفصال. والدليل على أبي حنيفة: أن كل ما جاز أن يشترك فيه السبعة إذا كانوا مفترضين جاز أن يشتركوا فيه وإن كان بعضهم غير متقرب كالسبع من الغنم ولأن سهم كل واحد معتبر بنيته لا بنية غيره، لأنهم لو اختلفت قربهم، فجعل بعضهم سهمه عن قران وبعضهم عن تمتع، وبعضهم عن حلق، وبعضهم عن لباس جاز كذلك إذا جعل بعضهم سهمه لحماً، لأن نية غير المتقرب لا تؤثر في نية المتقرب. وقوله: إن مصرف القرب واحد غير مسلم، لأن مصرف الفرض غير مصرف التطوع ومحل الهدي غير محل الأضاحي. فصل: فإذا ثبت ما ذكرنا ونحر السبعة المشتركون بدنة، فإن كانوا متقربين ودفعوا لحمها إلى المساكين ليكونوا هم المقتسمين لها جاز وان كان بعضهم غير متقرب يريد سهمه لحماً يقاسمهم عليه، فإن قيل في القسمة: إنها إقرار حق وتمييز نصيب جازت القسمة وكان المتقربون بالخيار بين أن يقاسموهم قبل دفع سهامهم إلى المساكين، وبين أن يدفعوها قبل القسمة إلى المساكين، ويكون هم القاسمين، وان قيل: إن القسمة بيع لم يجز القسمة فإن أراد المتقربون أن يتقاسموه لم تجز لمعنيين: أحدهما: أن لحوم القرب لا يجوز أن يبيعها المتقرب. والثاني: أن الطعام الرطب لا يجوز بيع بعضه ببعض خوف الربا، وان أراد المساكين أن يتقاسموه لم يجز أن يتقاسموه لمعنى واحد، وهو خوف الربا، لأن بيعهم لما أخذوه من القرب جائز وان تركوه حتى يجف ثم اقتسموه جاز.

مسألة: قال الشافعي: "والأضحى جائز يوم النحر وأيام منى كلها إلى المغيب لأنها أيام نسك. قال المزني رحمه الله وهو قول عطاء والحسن أخبرنا علي بن معبد عن هشيم عن يونس عن الحسن أنه قال: يضحى أيام التشريق كلها وحدثنا علي بن معبد عن هشيم عن الحجاج عن عطاء أنه كان يقول يضحى في أيام التشريق ". قال في الحاوي: أما أيام نحر الضحايا والهدايا فمختلف فيها على ثلاثة مذاهب: أحدها: وهو مذهب الشافعي وجمهور الصحابة والتابعين والفقهاء أنها أربعة أيام من يوم النحر إلى آخر أيام التشريق الثلاثة حتى تغيب شمسه. والثاني: ما قاله مالك: إنها ثلاثة أيام من يوم النحر إلى آخر الثاني من أيام التشريق، وهو يوم النفر الأول. والثالث: وهو قول أبي سلمة بن عبد الرحمن وإبراهيم النخعي، وسليمان بن يسار أنها من يوم النحر إلى آخر ذي الحجة، برواية أبي سلمة بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار أنه بلغهما أن نبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إن الضحايا إلى هلال المحرم لمن أراد أن يستأني ذلك. وروى يحيى بن سعيد عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف يقول: إنه كان المسلمون يشتري أحدهم الأضحية ويسمنها، فيذبحها بعد الأضحى في آخر ذي الحجة ودليلنا قوله تعالى {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} [الحج: 28]، وقد مضى الكلام فيها، ولكن لما جعل النحر أياماً بطل أن يكون شهراً. وروى سليمان بن موسى عن نافع بن جبير بن مطعم عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أيام التشريق كلها ذبح". وفيه دليل على مالك حيث جعل ثلاثة أيام التشريق منها، ودليل على من استدامها إلى هلال المحرم، لاختصاص أيام التشريق بها. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه أمر بالنداء في أيام التشريق: "ألا إنها أيام أكل وشرب ونحر وكر" فدل على اختصاص النحر بجميعها، ولأن كل يوم جاز فيه الرمي جاز فيه النحر كاليوم الثاني، وكل يوم لم يجز فيه الرمي لم يجز فيه النحر كالمحرم، ولأنها سميت أيام التشريق لتشريق لحوم الهدايا في شمسها، فلو كان غيرها في حكمها لجاز

باب العقيقة

انطلاق اسم التشريق على جميعها وفي امتناع هذا دليل على فساد ما أدى إليه، وأما الجواب عما احتجوا به فهو أن مثله لا يجوز أن يكون حجة في الدين، ولا طريقا إلى الأحكام ولو صحّ لجاز فسخه بما هو أثبت منه، واقترن به العمل بضده، والله أعلم. فصل: يختار للإمام أن يضحي لكافة المسلمين وعنهم من بيت مالهم بدنة يذبحها في المصلى بعد فراغه من صلاته، لقول الله تعالى: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] وأقل ما ينحره شاة، لأن رسول - صلى الله عليه وسلم - نحر بعد صلاته شاة عن أمته، ويتولى نحرها بنفسه اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأئمة الراشدين ويخلي بين الناس وبينها فإن ضحى من ماله ذبح حيث شاء، ففرق على ما أراد فأما غير الإمام فيختار أن يضحي في منزله بمشهد أهله، ليفرحوا بالذبح ويستمتعوا باللحم، فإن ضحى بعدد من الضحايا، فيختار أن يفرقها في أيام النحر، فينحر في كل يوم بعضها، لأنه أطول استمتاعاً بلحمها، فإن ضحى برأسين فيجب أن يذبح أحدهما، في أول الأيام، والثاني في آخر الأيام، فإن عدل عن الاختيار فذبح جميعها في يوم واحد، فلا حرج عليه، ويختار أن يبادر إلى الأكل من أكبادها، وأسمنتها اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنه من أطايبها. فصل: ولا تصح الأضحية عن الحمل كما لا يزكى عنه زكاة الفطر ولا يجوز لولي الطفل والمجنون أن يضحي عنهما من أموالهما ويجب أن يخرج زكاة الفطر عنهما من أموالهما 0 لأن الزكاة فرض والأضحية منة. باب العقيقة مسألة: قال الشافعي: "أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم عن عبيد الله بن أبي يزيد عن سباع بن وهب عن أم كرز قالت أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - أسأله عن لحوم الهدى فسمعته يقول: "عن الغلام شاتان وعن الجارية شاه لا يضركم ذكراناً كن أو إناثاً وسمعته يقول: أقروا الطير على مكناتها. قال الشافعي رحمه´ الله: فيعق ´عن الغلام وعن الجارية كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ". قال في الحاوي: وأما العقيقة فهي شاة تذبح عند الولادة كانت العرب عليها قبل الإسلام. اختلف فيها بعد الإسلام فذهب الشافعي إلى أنها سنة مندوب إليها. وقال أبو

حنيفة: ليست بسنة ولا ندب. وقال الحسن البصري وداود: هي واجبة واستدل أبو حنيفة على أنها غير مسنونة برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن العقيقة فقال: "لا أحب العقوق" وبروايه اابن عقيل عن علي بن الحسن بن أبي رافع أن الحسن بن علي عليهما السلام لما ولد أرادت فاطمة عليها السلام أن تعق عنه كبشاً، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تعقي عنه واحلقي شعره وتصدقي بوزنه على المساكين" فلما ولدت الحسين عليه السلام فعلت مثل ذلك، واستدل الحسن على وجوب العقيقة برواية عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الغلام مرتهن بعقيقته، فاذبحوا عنه يوم السابع" وروى محمد بن سيرين عن سليمان بن عامر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "مع الغلام عقيقته فأهريقوا عنه دماً واميطوا عنه الأذى". والدليل على أنها سنة وليست بواجبة ما رواه الشافعي بعا حديث أم كرز عن إبراهيم بن محمد بن يحيى بن سعيد عن عكرمة عن ابن عباس: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين ابني علي عليهم السلام" فدل على أن نهي فاطمة عنه، لأنه عق عنهما. وروى الشافعي عن سفيان عن زيد بن أسلم عن رجل من بني ضمرة عن أبيه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة على المنبر سئل عن العقيقة فقال: "لا أحب العقوق ولكن من ولد له ولد فأحب أن ينسك عنه فليفعل". فدل على أنه يكره الاسم وندب إلى الفعل. ولكن وليمة النكاح مسنونة، ومقصودها طلب الولد فكان ولادة الولد أولى بأن يكون الإطعام فيه مسنوناً. وأما قوله في حديث أم كرز: "أقروا الطير على مكناتها" رواه أبو عبيد بفتح الميم والكاف يعني به أماكنها وأوكارها، ورواه ابن الأعرابي بفتح الميم وكسر الكاف يعني: وقت تملكها، واستقرارها، وفي المراد به تأويلان مختلفان بحسب اختلاف الرواية:

أحدهما: وهو تأويل الشافعي ومن رواه بكسر الكاف أن العرب كانت تعتاق الطير وتزجرها تفاؤلاً وتطيراً إذا أرادوا حاجة أو سفراً فينفرون أول طائر بسفح لهم، فإن طار ذات اليمين قالوا: هذا طائر الأيامن فتيمنوا به، وتوجهوا، وأيقنوا بالنجاح، وان طار ذات الشمال قالوا: هذا طير الأشائم فتشاءموا بهء وعادوا معتقدين للخيبة، فنهاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذا، وقال: "إن الله تعالى يحب الفأل ويكره الطيرة ". وروى قبيصة بن المخارق الهذلي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه نهى عن الطيرة والعيافة والطرق". العيافة هي: زجر الطير، والطرق: هو الضرب، وبه سميت مطرقة الحداد. والثاني: وهو قول من رواه بالفتح في الكاف أنه أراد به النهي عن صيد الليلة إذا أوت الطير إلى أماكنها، واختلف من قال بهذا في معنى النهي عن صيد الليل فقال بعضهم لأنه وقت الدعة والراحة وقال آخرون: لأن أوكارها مأوى الهوام المخوف. فصل: فإذا تقرر بما ذكرنا أن العقيقة سنة فالكلام فيها يشتمل على ستة فصول: أحدها في مقدار العقيقة، وقد اختلف فيه على ثلاثة مذاهب، فعند الشافعي يعق عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة، وعند مالك يعق عن الغلام شاة كالجارية من غير تفضيل؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عق عن الحسن والحسين كبشاً كبشاً، وقال آخرون: يعقّ عن الغلام، ولا يعقّ عن الجارية؛ لأن العقيقة السرور والسرور يختصّ بالغلام دون الجارية. والدليل عليهما رواية أم كرز قالت: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالحديبية أسأله عن لحوم الهدي فسمعته يقول: "عن الغلام شاتان مكافئتان وعن الجارية شاة لا يضركم ذكراناً أو إناثا" والمكافئتان المثلان. وروى الأعرج عن أبي هريرة قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن اليهود يعقون عن الغلام ولا يعقون عن الجارية فعقوا عن الغلام شاتين وعن الجارية شاة " وفي هذين الحديثين دليل على الفريقين ثم على مالك أنه لما فضل الغلام على الجارية في ميراثه وأحكامه فضل عليها في عقيقته، ودليل على من لم يعق عن الجارية أن العقيقة للتبرك والتيمن، فاقتضى أن يقصد التيمن والتبرك بها بالذبح عنهما، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لو أطاع الله الناس في الناس لم يكن ناس" ومعنى أطاع أي: استحباب دعاءهم معناه أن الناس يحبون أن يولد لهم الذكران دون الإناث، ولو لم يكن الإناث ذهب النسل فلم يكن ناس. فصل: والفصل الثاني: في صفة العقيقة وهي من النعم كالضحايا وفي أسنانها من الجذع

من الضأن والثني من المعز، فإن عدل عن الغنم إلى البدن من الإبل والبقر كان أزيد من المسنون وأفضل، وان عقّ دون الجذع من الضأن ودون الثني من المعز ففي إقامة لسنة العقيقة به وجهان: أحدهما: لا تقوم به سنة العقيقة اعتباراً بالأضحية وتكون ذبيحة لحم ليست بعقيقة، لأنهما مسنونتان، وقد قيد الشرع سن إحداهما فتقرر به السن فيهما، فعلى هذا لو عيّن العقيقة في شاة وأوجبها وجبت كالأضحية ولم يكن له أن يبدلها بغيرها ويجب أن يتصدق منها على الفقراء لحماً نيئاً ولا يخص بها الأغنياء. والثاني: أنه يقوم بما دون من الأضحية سنة العقيقة، لأن الأضحية أوكد منها لتعلقها بسبب راتب واحد عام، فجاز أن تكون في السن أغلظ منها فعلى هذا لو عيّن العقيقة في شاة أوجبها لم تتعين وكان على خياره بين ذبحها أو ذبح غيرها، ويجوز أن يخص بها الأغنياء، ولا يلزم أن يتصدق بها على الفقراء، وان أعطاهم مطبوخاً جاز. فصل: والفصل الثالث: في وقت العقيقة ووقت ذبحها هو اليوم السابع لرواية سمرة بن جندب عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الغلام مرتهن بعقيقته فاذبحوا عنه يوم السابع". واختلف أصحابنا في أول السبعة على وجهين: أحدهما: _ وهو قول الأكثرين _ أنه يوم الولادة ليكون معدوداً من السبعة. والثاني: _ وهو قول أبي عبد الله الزبيري _: أنه من بعد يوم الولادة، وليس يوم الولادة معدوداً فيها، فإن قدم ذبحها بعد الولادة وقبل كمال السبعة جازت تعجيلاً وقام بها سنة العقيقة، وإن عجلها قبل الولادة لم تقم بها سنة العقيقة وكانت ذبيحة لحم، وان أخرها بعد السبعة كانت قضا، مجزياً عن سنته ويختار ألا يتجاوز بها مدة النفاس لبقاء أحكام الولادة، فإن أخرها عن مدة النفاس فيختار بعدها أن لا يتجاوز بها مدة الرضاع لبقاء أحكام الطفولة فإن أخرها عن مدة الرضاع فيجب ألا يتجاوز بها مدة البلوغ لبقاء أحكام الصغر فإن أخرها حتى يبلغ سقط حكمها في حق غيره، وكان الولد مجزئاً في العقيقة عن نفسه وليس يمتنع أن يعقّ الكبير عن نفسه. روى الشافعي عن إبراهيم بن محمد عن المثنى بن أنس عن أبيه أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "عق عن نفسه بعدما نزلت عليه النبوة" فصل: والفصل الرابع: فيمن يتحمل العقيقة والذي يتحملها ويختص بذبحها هو الملتزم لنفقة المولود من أب أو جد أو أم أو جدة، لأنها من جملة مؤونة وان كانت نفقته من ماله

كأن يكون غنياً بميراث وعطية لم يجز أن يخرج من ماله، لأنها ليست بواجبة كما لا يخرج منه الأضحية، وكان الأب أو من قام مقامه في التزام النفقة مندوباً إلى ذبحها عنه، كما لو كان الولد فقيراً، ولا يكون سقوط النفقة عنه مسقطاً لسنة العقيقة عنه، فإن كان الأب معسراً بالعقيقة ثم أيسر بها نظر يساره، فإن كان في وقتها المسنون وهو السابع كانت سنة ذبحها متوجه إليه وان كان بعد السابع وبعد مدة النفاس سقطت عنه، وان كان بعد السابع في مدّة النفاس احتمل وجهين: أحدهما: يكون مخاطباً بسنة العقيقة لبقاء أحكام الولادة. والثاني: لا يكون مخاطباً بسنتها لمجاورة المشروع من وقتها. فصل: والفصل الخامس: فيما يصنع بالعقيقة بعد أن يذبح قيل: يسلك به مسلك الضحايا في الأكل والادخار والصدقة والهدية فإن عدل بها عن الصدقة إلى الأكل كان على ما قدمناه من الوجهين، وتفضيل لحمها. واختلف أصحابنا في كسر عظمها وطبخ لحمها بالخل على وجهين: أحدهما: - وهو قول البغداديين _ أنه مكروه تفاؤلاً له بالسلامة وطيب العيش. والثاني: - وهو قول البصريين: أنه غير مكروه؛ لأنه طيرة وقد نهى عنها ولأن ذبحها أعظم من كسر عظمها وملاقاة النار لها أكثر من طرح الخل على لحمها ويكره أن تلطخ جبهة المولود ورأسه بدمها. وقال الحسن، وقتادة: من السنة أن يستقبل مخرج الدم من أوداجها بصوفه يلطخ بها رأس المولود ثم يغسل روى همام عن قتادة عن أنس. فصل: والفصل السادس: فيما تقترن بالعقيقة من المندوب إليه في المولود وذلك ثلاثة أشياء: أحدها: أن يحلق شعره في اليوم السابع ويتصدق بوزنه فضة قال الشافعي: وهذا أحب ما صنع بالمولود بعد الذبح، ولا فرق بين الذكور والإناث ومن الناس من كره ذلك في الإناث، لأن حلق شعورهن مكروه. وقد روى الشافعي عن إبراهيم بن محمد بن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أنه أمر فاطمة لما ولدت الحسن والحسين عليهما السلام أن تحلق رأسيهما وتتصدق بزنة الشعر فضة ففعلت ذلك وفعلت في سائر أولادها من الإناث". والثاني. أن يسمى في اليوم السابع لأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ويجب أن يسمى بأحسن الأسماء. روي أنه لما ولد الحسن بن علي قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بم سميتموه؟ قالوا: حرباً. قال: بل سموه حسناً، ولما ولد الحسين قال: "سموه حسيناً"، وقد غير رسول

الله - صلى الله عليه وسلم - أسماء كثيرة من أصحابه اختارها لهم بعد اشتهارهم بها منهم عبد الرحمن بن عوف كان اسمه عبد العزى فسماه عبد الرحمن ومنهم سلمان الفارسي كان اسمه روزية فسماه سلمان. والثالث: أن يختن في اليوم السابع إن قوي بدنه على الختانة ومن أثبت رواية همام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ويدمى في السابع يأولها في ختانته دون تلطيخه بدم عقيقة". فإن ضعف بدنه عن الختانة في السابع أخر حتى يقوى عليها فأما المروزي في حديث سليمان بن عامر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "مع الغلام عقيقته فأهريقوا عنه دماً وأميطوا عنه الأذى" ففي هذا الأذى ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه يحلق شعره وهو قول الحسن. والثاني: أنه يغسل رأسه من دم العقيقة وهو قول قتادة. والثالث: أنه ختانته وهو أشبه. فصل: فأما الفرعة والعتيرة فقد روى الشافعي الفرعة عند العرب أول ما تنتج الناقة يقولون: لا تملكها ويذبحوها رجاء للبركة في لبنها ونسلها والعتيرة ذبيحة كان أهل البيت من العرب يذبحونها في رجب ويسمونها العتيرة الرجبية وقد روى فيها حديثان مختلفان فروى الشافعي عن سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا فرعة ولا عتيرة" وهذا نهي عنهما. وروى أبو قلابة عن أبي المليح عن نبيشة أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنا كنا نعتر عتيرة في الجاهلية في رجب فما تأمرنا فقال: اذبحوا في أي شهر كان " وروي أنه قال: "وأطعموا" قال: إنا كنا نفرع فرعاً في الجاهلية فما تأمرنا قال: "من كل سائمة فرع" وهذا أمر بهما وليس فيهما ناسخ ولا منسوخ، وفي اختلافهما تأويلان: أحدهما: أن حديث أبي هريرة في النهي محمول على نهي الإيجاب وحديث نبيشة في الأمر بهما محمول على الاستحباب. والثاني: أن النهي عنهما على ما ذبح لغير الله من الأصنام والجن والأمر بهما محمول على ما ذبح لوجه الله. والله أعلم بالصواب.

كتاب الأطعمة

كتاب الأطعمة باب ما يحرم من جهة ما لا تأكل العرب قال الشافعي رحمه الله: "قال الله جل ثناؤه: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [الأعراف: 157] وإنما خوطب بذلك العرب الذين يسألون عن هذا ونزلت فيهم الأحكام وكانوا يتركون من خبيث المآكل ما لا يترك غيرهم". قال في الحاوي: اعلم أن المأكول ضربان، حيوان ونبات. فأما النبات، فيأتي. وأما الحيوان فضربان: بري وبحري فأما البحري فقد مضى، وأما البري فضربان: دواب وطائر، وهذا الباب يشتمل على ما حلّ منها وحرم، وهو على ثلاثة أضرب: أحدها: ما ورد النص بتحليله في كتاب أو سنة، فهو حلال. والثاني: ما ورد النص بتحريمه في كتاب أو سنة فهو حرام. والثالث: ما كان غفلا لم يرد فيه نص بتحليل ولا تحريم، فقد جعل الله تعالى له أصلاً يعرف به حلاله وحرامه، فى آيتين من كتاب وسنة عن رسوله فأما الآيتان فإحداهما قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] فجعل الطيب حلالا. والثانية: قوله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [الأعراف: 157] فجعل الطيب حلالاً، والخبث حراماً، فكانت هذه الآية أعمّ من الأولى لأن الأولى مقصورة على إحلال الطيبات وهذه تشتمل على إحلال الطيبات وتحريم الخبائث، فجعل الطيب حلالا، والخبث حراماً وهذا خطاب من الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، يدل على أن الناس سألوه عما يحل لهم ويحرم عليهم، فأمره أن يخبرهم أنه قد أحل لهم الطيبات، وحرم عليهم الخبائث، ولا يخلو مراده بالطيب والخبيث من ثلاثة أمور: إما أن يريد به الحلال والحرام كما قال: {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 75، 172، والأعراف: 160، وطه: 81] يعني من الحلال، ولا يجوز أن يكون هذا مراداً؛ لأنهم سألوه عما يحل ويحرم، فلا يصح أن يقول لهم: الحلال الحلال، والحرام الحرام؛ لأنه لا يكون فيه بيان

للحلال ولا للحرام، وإما أن يريد به الطاهر والنجس، كما قال تعالى: {فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} [النساء: 34] أي: طاهراً، ولا يجوز أن يكون هذا مراداً، لأن الطاهر والنجس معروف بشرع آخر، فلا يكون في هذا بيان شرعي يعني عن غيره. وإما أن يريد به ما كان مستطاب الأكل في التحليل، ومستخبث الأكل في التحريم وهذا هو المراد إذا أبطل ما سواه؛ لأنهم يتوصلون بما استطابوه إلى العلم بتحليله، وبما استخبثوه إلى العلم بتحريمه، وإذا كان هذا أصلاً وصار المستطاب حلالاً والمستخبث حراماً وجب أن يعتبر فيه العرف العام، ولا يعتبر فيه عرف الواحد من الناس، لأنه قد يستطيب ما يستخبثه غيره، فيصير حلالاً له وحراماً على غيره والحلال والحرام ما عمّ الناس كلهم، ولذلك اعتبر فيه العرف العام، ولا يجوز أن يراد به عرف جميع الناس في جميع الأزمنة؛ لأنه خاطب به بعضهم دون بعض في بعض الأرض: فاحتيج إلى معرفة من خوطب به من الناس ومعرفة ما أريد به من البلاد، فكان أحق الناس بتوجه الخطاب إليهم العرب لأنهم السائلون المجابون: وأحق الأرض من بلادهم؛ لأنها أوطانهم، وقد يختلفون فيما يستطيبون ويستخبثون بالضرورة والاختيار فيستطيب أهل الضرورة ما استخبثه أهل الاختيار، فوجب أن يعتبر فيه عرف أهل الاختيار، دون أهل الضرورة لأنه ليس مع الضرورة عرف معهود، وهم يختلفون فيها من ثلاثة أوجه: أحدها: بالغنى والفقر، فيستطيب الفقير ما يستخبثه الغني. والثاني: بالبدو والحضر، فيستطيب البادية ما يستخبثه الحاضرة. والثالث: بزمان الجدب وزمان بالخصب، فيستطاب في زمان الجدب ما يستخبث في زمان الخصب، وإذا كان كذلك وجب أن يعتبر فيه أهل الاختيار من جمع الأوصاف الثلاثة، وهم الأغنياء دون الفقراء، أو سكان الأمصار والقرى دون البادية، وفي زمان الخصب دون زمان الجدب، من العرب دون العجم، وبلادهم دون غيرها فتصير الأوصاف المعينة فيمن يرجع إلى استطابته واستخباثه خمسة: أحدها: أن يكونوا عرباً. والثاني: أن يكونوا في بلادهم. والثالث: أن يكونوا من أهل الأمصار والقرى، دون الفلوات. والرابع: أن يكونوا أغنياء من أهل السبعة. والخامس: أن يكونوا في زمان الخصب والسعة. فإذا تكاملت في قوم استطابوا أكل شيء كان حلالاً ما لم يرد فيه نص بتحريمه وان استخبثوا أكل شيء كان حراماً ما لم يرد نص بتحليله. فصل: فإذا تقرر هذا الأصل المعتبر في التحليل والتحريم، لم يخل حالهم فيه من ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يتفقوا على استطابته، فيكون حلالاً. والثاني: أن يتفقوا على استخباثه فيكون حراماً. والثالث: أن يستطيبه بعضهم ويستخبثه بعضهم، فيعتبر فيه أكثرهم فإن استطابة الأكثرون كان حلالاً، ولم يكن لاستخباث الأقلين تأثير. وان استخبثه الأكثرون كان حراماً، ولم يكن لاستطابة الأقلين تأثير وإن تساوى الفريقين في الاستطابة والاستخباث، ولم يفصل أحدهما على الآخر اعتبرت قريش، لأنهم قطب العرب وفيهم النبوة، وهم أول من خوطب بالرسالة، فإن كانوا في المستطيبين حلّ، وان كانوا في المستخبثين حرم، وان تساوت قريش فيهم اعتبرت شبه ما اختلفوا فيه بما اتفقوا عليه، فإن كان المستطاب أشبه حل. وان كان المستخبث أشبه حرم. وإن تساوى الأمران ففيه وجهان، من اختلاف أصحابنا في أصول الأشياء قبل ورود الشرع، هل هي الإباحة أو الحظر؟ أحد الوجهين: أنها على الإباحة حتى يرد الشرع بالحظر، فعلى هذا يكون معاً تكافؤ اختلافهم فيه حلالاً. والثاني: أنها على الحظر حتى يرد شرع بالإباحة، فعلى هذا يكون تكافؤ اختلافهم فيه حراماً، فأما السنة فتأتي. فصل: فأما ما لم يكن في أرض العرب، ولا في بلاد العجم، اعتبرت فيه حكمه في أقرب العرب عند من جمع الأوصاف المعتبرة من بلاد العرب، فإن استطابوه كان حلالا، وإن استخبثوه كان حراماً، فإن اختلفوا فيه اعتبر حكمه عند أهل الكتاب دون عبدة الأوثان، فإن اختلف فيه أهل الكتاب اعتبرت فيه حكمه في أقرب الشرائع بالإسلام، وهي النصرانية، فإن اختلفوا فيه فعلى ما ذكرناه من الوجهين. مسألة: قال الشافعي: "وسمعت أهل العلم يقولون في قول الله عز وجل: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الانعام: 145] الآيه يعنى مما كنتم تأكلون ولم يكن الله عز وجل ليحرم عليهم من صيد البر في الإحرام إلا ما كان حلالا لهم في الإحلال والله أعلم فلما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الغراب والحدأه والعقرب والحية والفأره والكلب العقور دل ذللك على أن هذا مخرجه ودل على معنى آخر أن العرب كانت لا تأكل مما اباح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتله في الإحرام شيئاً".

قال في الحاوي: اعلم أن مقصود الشافعي بهذه الجملة أمران: أحدهما: إثبات أصله في التحليل والتحريم، أنه معتبر باستطابة العرب واستخباثهم، وقد قدمناه واستوفيناه. والتاني: الرد على مخالفة فيه، وهو مالك، فإنه قال: كل الحيوان حلال إلا ما ورد نص بتحريمه، فأباح حشرات الأرض من الجعلان والديدان وهوامها من الحيات والعقارب وسباع الدواب، وبغاث الطير وجوارحها، وحلل لحوم الكلاب، وحرم لحوم الخيل، وجعل أصله إحلال جميعها إلا ما ورد فيه نص استدلالاً بقول الله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ} [الأنعام: 145] وبقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] فعم ولم يخص قال: ولئن كان المعتبر باستطابة العرب فهم يستطيبون أكل جميعها سئل بعض العرب عما يأكلون وما يذرون؟ فقال: نأكل كل ما دب ودرج إلا أم حبين فقيل له: لتهنأ آم حبين العافية. ودليلنا مع تقرير الأصل الذي حررنا قول الله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ} [الأعراف: 157]. فدل على أن فيها خبيثاً محرما وطيباً حلالاً، ومالك جعل جميعها حلالا طيبا. وروى عاصم بن ضمرة عن علي - عليه السلام - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أنه نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير" فجعل هذا في التحريم أصلاً معتبراً، ومالك لا يعتبره، ويجعل الكل حلالاً. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "خمس يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور" وما أبيح قتله ولم يحرم في الحرم والإحرام كان حراما مستتنى من قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وهو انفصال عنها، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أحل بعض الحيوان وحرم بعضه، وأغفل بعضه، فكان نصه متبعا في ما أحل وحرم، وبقي المغفل، ولا به له من أصل يعتبر فيه، لأنه ليس له رده إلى التحليل بأولى من رده إلى التحريم، وليس فيه إلا أحد أصلين، إما القياس وإما عرف العرب، ومالك لا يعمل على واحد منهما، ونحن نعمل عليهما، لأننا نعتبر عرف العرب ثم يرجع إلى القياس عند التكافؤ فكنا في اعتبار الأصلين أرجح منه في ترك الأصلين. فأما الجواب عن قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ} [الأنعام: 145] في وجهين: أحدهما: لا أجد فيما نزل به القرآن محرماً إلا هذه المذكورة، وما عداها محرم بالسنة.

والثاني: لا أجد فيما استطابته العرب محرما إلا هذه ال`كورة. وقوله: إن العرب كانت تستطيب أكل جميعها، فإنما ذلك في جفاة البوادي لجذب مواضعهم في الضرورات، فقد ذكرنا أن مثلهم لا يعتبر. مسألة: قال الشافعي: "ونهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أكل كل ذي ناب من السباع وأحل الضبوع ولها ناب، وكانت العرب تأكلها وتدع الأسد والنمر والذئب تحريماً له بالتقدر وكان الفرق بين ذوات الأنياب أن ما عدا منها على الناس لقوته بنابه حرام وما لم يعد عليهم بنابه الضبع والثعلب وما أشبههما حلال". قال في الحاوي: أما نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن أكل كل ذي ناب من السباع، فهو أصل في التحريم دون الإباحة، وقد رواه الشافعي عن سفيان عن الزهري عن أبي إدريس الخولاني عن أبي ثعلبة الخشني، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع، ومعلوم أن في ذوات الأنياب مأكولاً، فاحتيج إلى تعليل ما حرم به ذوات الأنياب، وقد اختلف في معنى تعليله، فعند الشافعي أن ما قويت أنيابه فعدا بها على الحيوان طالباً له غير مطلوب، فكان عداؤه بأنيابه علة تحريمه وقال من أصحابه أبو إسحاق المروزي: هو ما كان عيشه بأنيابه دون غيره، لا يأكل إلا ما يفرس من الحيوان، فكان عيشه بأنيابه، وان لم يبتدئ بالعدوى، وإن عاش بغير أنيابه، وهذه ثلاث علل، أعمها علة أبي حنيفة، وأوسطها علة الشافعي وأخصها علة المروزي، فالأسد والذئب والفهد والنمر حرام، لوجود العلل الثلاث فيها، لأنها تبتدئ العدوى بقوة أنيابها وتعيش بفريسة أنيابها، وكذلك أمثالها مما اجتمعت فيه العلل الثلاث. فأما الضبع فحلال عندنا، لعدم العلتين فيه، لأنه لا يبتدئ بالعدوى، وقد يعيش بغير أنيابه. وقيل: إنه من أحمق الحيوان، لأن يتناوم حتى يصطاد. وقال مالك: هو حرام. وقال أبو حنيفة: مكروه، والمكروه عنده ما يأثم بأكله، ولا يقطع بتحريمه احتجاجاً بنهيه عن أكل كل ذي ناب من السباعء وهو ذو ناب يفرس به، ولأن ما فرس بأنيابه حرم أكله كالسباع. ودليلنا: مع التعليل الذي قدمناه: ما رواه الشافعي عن سفيان عن ابن جريج، عن عبد الله بن عبيد عن ابن أبي عمارة قال: قلت لجابر: أرأيت الضبع أصيد هو؟ قال:

نعم. قلت: أيؤكل؟ قال: نعم قلت: أسمعت ذلك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "نعم". وهذا نص وقد ورد عن الصحابة فيه ما صار في الحجة كالإجماع، فروي عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: الضبع حلال، وقال أبو هريرة: الضبع شاة من الضأن، وقال أبو سعيد الخدري: الضبع أحب إلي من دجاجة سمينة، وقد انتشر هذا عنهم ولم يظهر مخالف لهم فكان متردداً بين أن يكون إجماعاً أو حجة في كل واحد منهما دليل، ولأنه حيوان لا ينجس بالذبح، فوجب أن يحل أكله كالنعم. فأما الجواب عن الاستثناء بالخبر، فهو ما قدمناه من التعليل فيه، وكذلك قياسهم. فصل: وأما الضب فهو عندنا حلال، وعند مالك حرام، وعند أبي حنيفة مكروه، واحتج مالك برواية ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر قال: أتي بالضب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبى أن يأكله وقال: لا أدري لعلها من القرون التي مسخت. واحتج لأبي حنيفة برواية عبد الله بن دينار عن عبد الله بن عمر أن رجلاً سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: ما ترى في الضب فقال: "لست آكله ولا أحرمه ". ودليلنا ما رواه الشافعي عن مالك عن ابن شهاب عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن عبد الله بن عباس وخالد بن الوليد أنهما دخلا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت ميمونة فأتي بضب مجنون فأهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، فقال بعض النسوة لميمونة: أخبري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يريد أن يأكل، فقالوا: هو خبث فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يده فقلت: أحرام هو يا رسول الله فقال: "لا ولكنه لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه" قال خالد: فأجررته وأكلت ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر. وروى الشافعي عن إبراهيم بن محمد عبد الله بن أبي صعصعة عن سليمان بن يسار عن ابن عباس قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت ميمونة ومعه خالد بن الوليد، فإذا خباب فقال: من أين لكم هذا؟ فقالت: أهدت إلى أختي؟ فقال لخالد بن الوليد، ولابن عباس: كلا، قالا: ولا يأكل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: أنى تحضر من الله حاضرة. وفي هذين الحديثين نص على الإباحة، وقد روى مالك أحدهما، وهو له ألزم، وليس في الحديثين المتقدمين دليل على التحريم، وإنما فيها امتناع من الأكل. وقد روى أبو إسحاق الشيباني عن يزيد الأصم أنه أنكر الرواية، أنه قال: لا آكله

ولا أحرمه، وقال: ما بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الا محللاً ومحرماً. فصل: فأما الأرنب فحلال، لأنه لا عدوى فيه، ويعيش بغير أنيابه، وقد روى سعيد بن المسيب قال: قال عمر بن الخطاب: من حاضرنا يوم كذا وكذا فقال: أبو ذر أنا شهدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتي بأرنب فقال للذي جاءه بها: رأيتها كأنها تدمي، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يأكل وقال للقوم كلوا. وروى صفوان بن محمد، أو محمد بن صفوان قال: اصطدت أرنبين فذبحتهما بمروة - يعني بحجر - وسألت النبي - صلى الله عليه وسلم - عنها فأمرني بأكلهما. فأما الثعلب فهو حلال. وقال أبو حنيفة مكروه كالضبع، لأنه يفرس بنابه، وهو على ما قدمناه من التعليلين مباح؛ لأنه لا عدوى فيه، وقد يعيش بغير أنيابه. وأما ابن آوى ففي إباحته أكله وجهان: أحدهما: يؤكل، وهو مقتضى تعليل الشافعي، لأنه لا يبتدئ بالعدوى. والثاني: لا يؤكل، وهو مقتضى تعليل أبي إسحاق المروزي، لأنه يعيش بأنيابه. فصل: فأما اليربوع فيؤكل، وقد حكم فيه عمر _ رضي الله عنه _ على المحرم بحفرة، وقيل: إنه فار البر فيؤكل، وان لم يؤكل فار المدن. قد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتل الفأرة ولم يأمر بقتل اليربوع. فأما السنور فضربان: أهلي ووحشي. فأما الأهلي: فحرام لا يؤكلء لرواية جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل السنور وعن أكل ثمنها، ولأنها تأكل حشرات الأرض، فكانت من الخبائث. وأما السنور البري ففي إباحة أكله وجهان كابن آوى: أحدهما: يؤكل وهو مقتضى تعليل الشافعي، لأنه لا يبتدئ بالعدوى. والثاني: لا يؤكل، وهو مقتضى تعليل المروزي، لأنه يعيش بأنيابه. قال الشافعي: ويؤكل الوبر والقنفذ والوبر دويبة سوداء أكبر من ابن عرس وفي أكل ابن عرس وجهان: أحدهما: يؤكل على مقتضى تعليل الشافعي. والثاني: لا يؤكل على مقتضى تعليل المروزي.

فإن قيل: فكيف أبحتم أكل القنفذ وقد روى أبو هريرة أنها ذكرت عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "خبيثة من الخبائث". قيل: يحتمل إن صحّ الحديث على أنها خبيثة الفعل دون اللحم، لما فيه من إخفاء رأسه عند التعرض لذبحه، وإبداء شوكه عند أخذه. فأما أم حبين ففي إباحة أكلها وجهان: أحدهما: تؤكل، وهو مقتضى كلام تعليل الشافعي، وقد نص على أن فيه الجزاء. والثاني: أنها لا تؤكل، وهو مقتضى تعليل المروزي، وقد قال فيها البدوي ما قال. فصل: فأما أكل الحمير، فما كان منها وحشياً فأكله حلال، روى الشافعي عن مطرف بن مازن عن معمر بن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي قبالة عن أبيه قال: بينما أنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الحديبية، وقد أحرم من أحرم من أصحابي، ولم أحرم، فإذا أنا بحمار وحشي، فحملت عليه فطعنته برمحي فصرعته، فأكلنا من لحمه، ثم لحقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: أصبت حماراً وحشياً وعندي منه فأكله وقال للقوم وهم محرمون: "كلوا فأكلوا" فدل هذا الحديث على ثلاثة أحكام: على إباحة أكل الحمار الوحشي، ودل على أن زكاة الصيد الممتنع في أي موضع أصيب من جسده، ودل على أن المحرم يحل له أن يأكل من صيد المحرم إذا لم يصده لأجله. وروى الصعب بن جثامة قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - برجل حمار وحشي، فرده علي فتعمر وجهي، فلما عرف الكراهة في وجهي قال: ما بنا رد عليك، ولكنا قوم حرم، فامتنع من أكله لإحرامه، فإن الصعب صاده لأجله بعد إحلاله من الإحرام. وفي قول الصعب: رجل حمار وحشي تأويلان: أحدهما: يعني به أحد رجليه التي يمشي عليها. والثاني: أنه أراد جماعة حمير يقال لها: رجل، كما يقال حيط نعام، وسرب ظباء، وهو أشبه، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لا يقصد وهو في كثير من أصحابه بهدية عضو من حمار. فأما الحمير الأهلية فأكلها، واختلف أصحابنا، هل حرمت باستخباث العرب لها أو بالنص في المنع منها؟ على وجهين، وبتحريمها قال جمهور الصحابة والتابعين والفقهاء، وقال عبد الله بن عباس وسعيد بن جبير: أكلها حلال احتجاجاً بحديث رواه الشافعي عن سفيان عن مسعر عن عبيد بن الحسن عن أبي معقل قال: أخبرنا رجلان من مزينة قالا: قلنا يا رسول الله إنه لم تبق لنا الشدة إلا الحمر أفنأكل منها؟ فقال: أطعما

أهلكما من سمين فإني إنما قدرت عليكم بجوال القرية يعني: أكلة الزبل والعذرة قال الشافعي: لا أعرف من ثبوت هذا الحديث على الانفراد ما أعرف من ثبوت نهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الحمر الأهلية فأحرمها. ونهيه عنها دليل على إباحة الحمر الوحشية: لأنه إذا نهى عن شي، يجمع صنفين، فقد أباح ما يخرج عن صنفه. والدليل على تحريم الحمر الأهلية ما رواه الشافعي عن سفيان عن أيوب السختياني عن محمد بن سيرين عن أنس بن مالك قال: صبح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر بكرة، وقد خرجوا بالشاة من الحصن، فلما رأوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا: محمد والخميس، لم ولجوا إلى الحصن، فرفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه ثلاثاً وقال: الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين، فلما فتحوها أصابوا حمراً فطبخوا منها، فنادى منادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ألا إن الله ورسوله ينهاكم عنها، فإنها رجس فكفوا القدور وإنها لتفور. فاحتمل ما حكموا به من أكلها، لأنهم كانوا يستطيبونها كالحمر الوحشية، حتى نهوا عنها بالنص. واحتمل أن يكونوا هموا بذلك لمجاعة لحقتهم حتى نهوا عنها بالفتح، فلذلك ما اختلف أصحابنا في علة تحريمها على وجهين، والله أعلم. فصل: وأما لحم الخيل فأكلها حلال، قال الشافعي لا كل ما لزمه اسم الخيل من العراب والمقاديف والبراذين فأكلها حلال. وبه قال أبو يوسف وأحمد ومحمد وإسحاق، وقال مالك: كلها حرام. وقال أبو حنيفة: مكروه، احتجاجا بقوله تعالى: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] فكان في تحريم أكلها دليل من وجهين: أحدهما: تخصيص منفعتها بالركوب والزينة، فدل على تحريم ما عداه. والثاني: ضمها إلى ما حرم أكله من الحمير، وبرواية خالد بن الوليد، قال: خرجت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى خيبر، فأتته اليهود، فشكوا أن الناس قد أسرعوا إلى حظائرهم فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها وحرام عليكم حمر الأهلية وخيلها وبغالها". وهذا نص قالوا: ولأنه ذو حافر أهلي، فوجب أن يحرم أكله كالحمير ولأنه حيوان يسهم له، فوجب أن لا يحل أكله كالآدميين.

ودليلنا: ما رواه الشافعي عن سفيان عن عمرو بن دينار عن جابر قال: أطعمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحوم الخيل، ونهانا عن لحوم الحمير، وهذا نص. وروى الشافعي عن سفيان عن هاشم بن عروة عن فاطمة بنت المنذر، عن أسماء بنت أبي بكر قالت: نحرنا فرساً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأكلناه؛ ولانها بهيمة لا تنجس بالذبح، فلم يحرم أكلها كالنعم. فأما الجواب عن الآية فمن وجهين: أحدهما: أن تعيين بعض منافعها بالذكر لا يدل على ما عداه، كما لا يحرم البيع والشراء. والثاني: أنه خص الركوب في الخيل، ولحوم الخيل ليست بخيل، وليس جمعه بينها وبين الحمير موجباً لتساويهما في التحريم، كما لم يتساويا في السهم من المغنم. وأما الجواب في الخبر فمن وجهين: أحدهما: ضعف الحديث: لأن الواقدي حكى أن خالد بن الوليد أسلم بعد فتح خيبر. والثاني: أنه حرم أخذها من أهلها بالعهد ولم يرد تحريم اللحم. وأما الجواب عن القياسين فمن وجهين: أحدهما: أنهما يدفعان النص فأطرحا. والثاني: أن العرف لما جرى بأكل الخيل، ولم يجر عرف بأكل الآدميين والحمير فافترقا في الحكم، وامتنع الجمع بينهما في التحريم. فصل: فأما البغال فأكلها حرام، وهو قول الجمهور، وقال الحسن البصري: حلال تغليباً لحكم الإباحة في الخيل. ودليلنا حديث خالد بن الوليد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "حرام عليكم لحوم الحمر الأهلية وخيلها وبغالها" ولأن اجتماع الحظر والإباحة يوجب تغليب الحظر في الإباحة، فوجب في البغال أن يغلب تحريم الحمير على إباحة الخيل وهكذا حكم كل متولد من بين مأكول وغير مأكول حرام تغليباً لحكم التحريم على التحليل كالسمع والمتولد بين الضبع والذئب كما أن كل متولد من بين طاهر ونجس فهو نجس، وكل حيوان كان أكل لحمه حراماً كان شرب لبنه حراماً إلا ألبان النساء.

مسألة: قال الشافعي: "وكذلك تترك أكل النسر والبازي والصقر والشاهين وهي مما يعدو على حمام الناس وطائرهم وكانت تترك مما لا يعدو من الطائر الغراب والحدأة والرخمة والبغاثة ". قال في الحاوي: قد مضى الكلام في البهائم الماشية من الوحشية والإنسية فأما الطير فضربان: أحدهما: ما فيه عدوى على الطائر بمخلبه وافتراس له بمنسره كالبازي والصقر والشاهين والنسر والحدأة والعقاب، فأكل جميعها حرام، وأباحها مالك، ولم يحرم من الطائر كله شيئاً. ودليلنا رواية عاصم بن ضمرة عن علي _ عليه السلام _ ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن أكل كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يؤكل ما دف ولا يؤكل ما صف" يريد ما حرك جناحه كالحمام وغيره يؤكل، وما صف جناحيه ولم يحركهما كالصقور والنسور، لا يؤكل، ومنه قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [تبارك: 19]. والثاني: ما لا عدوى فيه، فتنقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما اغتذى بالميتة والجيف كالبغاث والرخم، فأكله حرام، لخبث غذائه. والثاني: ما كان مستخبثاً كالخطاطيف والخشاشيف، فأكله حرام، لخبث لحمه. والثالث: ما لم يخبث غذاؤه، ولا لحمه كالحبارى والكروان، فأكله حلال. روى سفينة مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أكلت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحم حبارى ويقاس على أصله هذه الأقسام الثلاثة ما في نظائرها، فمن ذلك الهدهد أكله حرام، وقد ورد الخبر بالنهي عنه، وكذلك الشقراق والعقعق ولأنها مستخبثة عند العرب، فأما الغراب، فأكله حرام الأسود منه والأبقع سواء. وحكي عن الشعبي أنه أباح أكله وقال من دجاجة ما أسمنها؟ وقال آخرون: يؤكل منه الأسود دون الأبقع وهذا خطأ: لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أباح قتله في الحل والحرم. وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أنها قالت: إني لأعجب ممن يأكل الغراب، وقد أذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتله للمحرم وسماه فاسقاً، والله ما هو من الطيبات وما يشبه الغراب، وليس بغراب الزاغ والغداف، فأما الزاغ فهو غراب الزرع، وأما الغداف، فهو أصغر منه أغبر اللون كالرماد، ولأصحابنا في إباحة أكلها وجهان: أحدهما: أن أكلها حرام، لشبهها بالغراب، وانطلاق اسمه عليها.

والثاني: ومنه قال أبو حنيفة: إن أكلها حلال، لأنهما يلقطان الحب ويأكلان الزرع ولحمهما مستطاب، وكل طائر حرم أكل لحمه حل أكل بيضه. مسألة: قال الشافعي: "وكذلك تترك العرب اللحكاء والعظاء والخنافس فكانت داخله في معنى الخبائث وخارجه من معنى الطيبات فوافقت السنه فيما أحلوا وحرموا مع الكتاب ما وصفت فانظر ما ليس فيه نص تحريم ولا تحليل فان كانت العرب تأكله فهو داخل في جمله الحلال والطيبات عندهم لأنهم كانوا يحللون ما يشتطيبون وما لم يكونوا يأكلونه باستقذاره فهو داخل في معنى الخبائث ولا بأس بأكل الضب وضع بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فعافه فقيل: أحرام هو يا رسول الله؟ قال: "لا ولكن لم يكن بأرض قومي" فأكل بين يديه وهو ينظر إليه ولو كان حراما ما تركه وأكله". قال في الحاوي: وهذا صحيح، حشرات الأرض وهوامها حرام فالهوام ما كان مؤذيا كالحيات والعقارب، وحشراتها ما ليس بمؤذٍ كالخنافس والجعلان، والديدان والنمل، والوزع والعظاء واللحكاء وهي دويبة كالسمكة تسكن في الرمال إذا أحست بالإنسان غاصت فيه، وهي صقيلة الجلدة، والعرب تشبه أنامل المرأة بها، والوزع وهو كالسمكة خشنة الجلد، ويعرض مقدمها، ويدق مؤخرها، فهذا كله غير مأكول. وأباح مالك أكل جميعه، وكره الحية، ولم يحرمها، وكذلك الفأرة والغراب وفيما قدمناه من الدليل معه على هذا الأصل مقنع، وسواء في تحريم الديدان ما تولد في الطعام أو في الأرض، ومن الفقهاء من أباح أكل ما تولد في الطعام، وحرم أكل ما تولد في الأرض، وكلاهما مستغيث، فاستويا. وهكذا الذباب والزنابير، وسواء كان من زنابير العسل وغيرها، فإن قيل: فإذا كان عسلها مأكولا، فهلا كان أكلها حلالاً؟ قيل: هي مستخبثة ومؤذية، وليس يمتنع أن يحرم أكلها، وان حلّ عسلها كألبان النساء في إباحة شربه مع تحريم لحومهن فأما ما يحل أكله، فيكثر تعداده، وهو ما يمنع الحرم والإحرام من قتله وفيه إذا أصابه المحرم الجزاء إلا يسمع. وما تولد من بين مأكول وغير مأكول، فإنه لا يؤكل، ويجب فيه الجزاء، تغليباً للحظر في الأمرين. وقال أبو العباس بن القاص: لا جزاء فيه، لأنه غير مأكول، ووهم فيه، لأن تغليب الحظر موجبه، والله أعلم بالصواب.

فصل: روى مجاهد عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن أكل الجلالة وألبانها" وروى نافع عن ابن عمر ان النبي ... - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن الجلالة والمجثمة وعن المصبورة ". فأما الجلالة فهي التي ترعى الجلة، وهي البعر والعذرة، فحمل بعض أصحاب الحديث النهي على التحريم، وبه قال سفيان الثوري، وأحمد بن حنبل. وعندي أنه محمول على الكراهة دون التحريم، لأن النهي عنها وارد، لأجل ما تأكله من الأنجاس، وهي تغتذيه في كرشها، والعلف الطاهر ينجس في الكرش، فساوى في حصوله منه حال النجس؛ ولأن لحومها ترعى الأنجاس نتن، وأكل اللحم إذا نتن يحرم وإذا كان هكذا فلما كان أكثر غذائه رعي الأنجاس، كان أكل لحمه وشرب لبنه مكروهاً. فأما ركوبه، فيكره إذا كان عرياً لنتن عرقه، ولا يكره إذا كان موكفاً أو مسرجاً، فإن كان أكثر ما يغتذيه طاهراً، وإن اغتذى في بعضها نجساً لم يكره اعتباراً بالأغلب، ويختار في الجلالة إذا أريد شرب لبنها أو أكل لحمها أن تحبس عن الأقذار بالعلف الطاهر في البعير أربعين يومأ، وفي الشاة سبعة أيام، وفي الدجاجة ثلاثة أيام، وليست هذه المقادير توفيقاً لا يزاد عليه، ولا ينقص منه، لأن المقصود زوال ما أنتن من أبدانها، والأغلب أنها تزول بهذه المقادير، فإن زالت بأقل منها زالت الكراهة وان لم تزل فيها بقيت الكراهة حتى تزول مما زاد عليها، فإن أكل منها قبل علفها نظر في رائحة لحمها، فإن لم يتغير بأكل النجاسة كان حلالاً، وان تغير بها فإن كان يسيراً لم يستوعب رائحة تلك النجاسة حلّ أكله، وان كانت كثيرة قد استوعبت رائحة تلك النجاسة حلّ أكله، وان كانت كثيرة قد استوعبت رائحة تلك النجاسة أو قاربها، ففي إباحة أكله وجهان حكاهما ابن أبي هريرة: أحدهما: مباح، لأنه من أصل مأكول. والثاني: أنه حراام، لأنه قد صار من الخبائث، وهكذا نقول في الجدي إذا ارتضع من لبن كلبة أو خنزيرة حتى نبت له لحمه كانت إباحة أكله على هذين الوجهين فإما المجثمة التي روى ابن عباس النهي عنها، فهي التي جثمت على الموت بضرب أو غيره، وفرق بين الصيد الجاثم والمجثوم، فالجاثم الممتنع، ويحل أكله إذا جثم بحديدة، والمجثوم المقدور عليه لا يحل أكله إلا بزكاة. والمصبورة: هي التي حبست عن الطعام والشراب حتى ماتت، ولا يحل أكلها في ممتنع، ولا مقدور عليه. وأما المختطفة ففيها وجهان:

أحدهما: ما اختطفه السبع من الحيوان أكله حرام قاله ابن قتيبة. والثاني: أنها النهبة لاختطافها بسرعة ومنه سمي الخطاف لسرعته قاله ابن جرير. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - انه قال: "لا تتخذوا ذا الروح غرضاً"وهو رمي الحيوان حتى يموت، فإن كان من مقدور عليه حرم أكله، وان كان من ممتنع حلّ أكله إن كان بمحدد، وحرم إن كان بمثقل. فصل: فأما أكل الأجنة، وهو أن تذبح البهيمة، فيوجد في بطنها جنين، فإن كان حياً مقدوراً على ذكاته لم يحل أكله إلا بالذكاة، وان كان ميتاً أو حياً قصرت مدة حياته عن ذكاته، حلّ أكله بذكاة أمه، وهو إجماع الصحابة وقاله مالك والأوزاعي والثوري، وأبو يوسف ومحمد، وأحمد، وإسحاق، وتفرد أبو حنيفة. فحرم أكله احتجاجاً بقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] وبقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أحلت لنا ميتتان ودمان: الميتتان: الحوت والجراد، والدمان: الكبد والطحال"، وهذه ميتة ثالثة: يوجب الخبر أن تكون محرمة، ولأنه من جس ما يذكى، فوجب أن لا يحل إلا بالذكاة كالأم، ولأنه ذبح واحد، فلم يجز أن تكون ذكاة الاثنين كما لو خرج الجنين حياً، ولأن ما كان موته "ذكاة " في غير المقدور عليه كان موته ذكاة في المقدور عليه، وما لم يكن قوته ذكاة في المقدور عليه لم يكن ذكاة في غير المقدور عليه كالصيد والنعم فلما لم يكن موت المقدور عليه من الأجنة ذكاة لم يكن موت غير المقدور عليه ذكاة، ولأن العقر من حميع المذكي معتبر، وإنما يختلف في المقدور عليه وغيره باختلاف المحل، ولا يختلف باعتباره في بعضه وإسقاطه في بعضه وقد اعتبرتم العقر في المقدور عليه وأسقطتموه في غير المقدور عليه، وهذا مخالف للأصول. ودليلنا قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ} [المائدة: 1]. قال ابن عباس، وابن عمر: بهيمة الأنعام هي أجنتها إذا وجدت ميتة في بطون أمهاتها يحلّ أكلها بذكاة الأمهات، وهذا من أول أحكام هذه السورة التي هي من أكثر الأحكام المشروعة والغالب من تأويلهم هذا أنهم لم يقولوه إلا نقلاً. ومن السنة ما رواه عاصم بن ضمرة عن علي - عليه السلام - ورواه عكرمة عن ابن عباس ورواه نافع عن ابن عمر، ورواية أبي الزبير عن جابر، ورواية ابن سيرين عن أبي هريرة: ان النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ذكاة الجنين ذكاة أمه".

فجعل إحدى الذكاتين نائبة عنهما، أو قائمة مقامهما، كما يقال: مال زيد مالي ومالي مال زيد. يريد أن أحد المالين ينوبعن الآخر، ويقول مقامه. فإن قيل: إنما أراد به التشبيه دون النيابة، ويكون معناه: ذكاة الجنين كذكاة أمه؛ لأن قدم الجنين على الأم، فصار تشبيهاً بالأمر، ولو أراد النيابة لقدم الأم على الجنين فقال: ذكاة الأم ذكاة جنينها ـ ففيه ثلاثة أجوبة: أحدها: أن اسم الجنين منطلق عليه، إذا كان مستجناً في بطن أمه، فيزول عنه الاسم إذا انفصل عنها، فيسمى ولداً. قال الله تعالى: {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32]. وهو في بطن أمه لا يقدر على ذكاته، فبطل أن يحمل على التشبيه، ووجب حمله على النيابة. والثاني: أنه لو أراد التشبيه دون النيابة، لساوى الأم غيرها، ولم يكن لتخصيص الأم فائدة، فوجب أن يحمل على النيابة دون التشبيه، ليصير لتخصيص الأم تأثير. والثالث: لو أراد التشبيه لنصب ذكاة أمه لحذف كاف التشبيه، والرواية مرفوعة: "ذكاة أمه" فثبت أنه أراد النيابة دون التشبيه. فإن قيل: فقد روي بالنصب: "ذكاة الجنين ذكاة أمه". قيل: هذه الرواية غير صحيحة، ولو سلمت لكانت محمولة على نصبها بحذف "يا" النيابة دون كاف التشبيه لما قدمناه، ولأنه إثبات الذكاة لم يجز أن يحمل على نفيها، لأنهما ضدان، ولا نفعل النفي من الإثبات كما لا نفعل الإثبات من النفي، ويكون معناه: ذكاة الجنين بذكاة أمه، ولو احتمل الأمرين لكانتا مستعملتين، فتستعمل الرواية المرفوعة على النيابة إذا خرج ميتاً، وتستعمل الرواية المنصوبة على التشبيه: إذا خرج حياً، فيكون أولى ممن استعمل إحداهما، وأسقط الأخرى. ويدل عليه أيضاً نص لا يحتمل هذا التأويل، وهو ما رواه يحيى بن سعيد القطان عن مجالد عن أبي الوداني عن أبي سعيد الخدري، قال: قلت: يا رسول الله ننحر الناقة وتذبح البقرة أو الشاة في بطنها جنين ميت أنلقيه أم نأكله؟ فقال: "كلوه إن شئتم، فإن ذكاة الجنين ذكاة أمه" ولأنه إجماع الصحابة. روي ذلك عن علي وابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم، وقال عبد الرحمن بن كعب بن ملك: كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولون: "ذكاة الجنين ذكاة أمه". وما انعقد به إجماعهم لم يجز فيه خلافهم. ومن الاعتبار هو أن الجنين يغتذى بغذاء أمه، فلما كانت حياته بحياتها جاز أن تكون ذكاته بذكاتها كالأعضاء. فإن قيل: فأعضاؤها لا تعتبر ذكاتها بعدها، وأنتم تعتبرون ذكاة الجنين إذا خرج حياً، فدل على افتراقهما.

قيل: لا (فرق) بينهما، لأننا جعلنا ذكاته بذكاتها، إذا خرجت روحه، بخروج روحها، وإذا خرج حياً لم تخرج روحه لخروج روحها، فلم تحل بذكاتها كذلك الأعضاء إذا خرجت منها الروح بخروج روحها حلت، ولو خرجت الروح منها بغير خروج الروح من أصلها لقطعها قبل ذبحها لم تؤكل، فاستويا، وقد يتحرر من هذا الجواب المعلل قياس ثان، فيقال: حيوان خرجت روحه بذكاة، فجاز أن يكون مأكولاً، كالأم، ولا يدخل الجنين المتولد من حمار وحشي، وحمار أهلي لا يحل أكله بذكاة أمه، لأننا أجمعنا بينه وبين الأم، والأم تؤكل إذا لم تتولد من بين جنسين كذلك الجنين. فإن قيل: إنما مات باختناقه في بطن أمه، واحتباس نفسه، لا بالذكاة فدخل في تحريم المنخنقة. قيل: لا يجوز أن يعلق على الأسباب المباحة أحكام المحظورات كما لا يجوز أن يعلق على الأسباب المحظورة أحكام المباحات وموت الجنين بذبح أمه مباح، يتعلق به إحلال الأم، فتبعها في الحكم، والمنخنقة ضدها؟ لتحريم جميعها، فتعلق به تحريم أكلها. ويدل على ما ذكرناه أن الذكاة معتبرة بالقدرة بعد الأسباب المباحة، وهي تنقسم ثلاثة أقسام. فقسم يمكن ذبحه، وهو المقدور عليه من الصيد والنعم، فلا ذكاة له إلا في حلقه ولبته. وقسم ممتنع لا يمكن ذبحه، ويمكن عقره، وهو الصيد، فذكاته بعقره من أي موضع وقع من جسده، لتعذر ذبحه. وقسم يتعذر ذبحه وعقره وهو الحوت والجراد؟ لأن موت الحوت بعد موته سريع وعقر الجراد شاق، فكان موتهما ذكاة. وان كان هذا أصلاً متفقاً عليه وجب أن يعتبر في الجنين، فإن لم يقدر على ذبحه لسرعة موته، كان موته ذكاة له، فالحوت والجراد، وان كان مقدوراً على ذبحه، لبقاء حياته كانت ذكاته في الحلق واللبة، كالمقدور عليه في الصيد والنعم، فيصير الخلاف فيه مردوداً إلى الأصل المتفق عليه، ولأنه لما سرى حكم الأم إلى جنينها في البيع الهبة والعتق سرى إليه في الذكاة والإباحة. ألا ترى أن الجناية على الأم إذا ألقته ميتاً، كالجناية عليه في وجوب الضمان؟ فصار في جميع أحواله ملحقاً بأمه، فكانت الذكاة منها، ولم يجز أن يقتطع عنها. فإن قيل: لو لحق بها في الذكاة إذا خرج ميتاً لم يحتج إلى الذكاة، إذا خرج حياً فعنه جوابان: أحدهما: إنما حلّ إذا خرج ميتاً لفراق روحه بذكاتها، ولم يحل إذا خرج حياً لأن روحه لم يفت بذكاتها. والثاني: أنه لا يجوز أن يعتبر خروجه حياً في الذكاة بخروجه ميتاً كما لا يعتبر في

الجناية؛ لأنه إذا خرج ميتاً كانت ديته معتبرة بأمهء وإذا خرج حياً كانت ديته معتبرة بنفسه، كذلك في الذكاة. فأما الجواب عن الآية والخبر فمن وجهين: أحدهما: أن الخبر خارج عن الميت؟ لأن موته بذكاة أمه، ولو مات بغير ذكاتها فألقته ميتاً حرم؟ لأنه ميتة. والثاني: أن عموم الآية مخصوص في الجنين بالخبر، كما خصت في الحوت والجراد، وملحق بالحوت والجراد؟ لما ذكرنا من اشتراكهما في المعنى وأما الجواب عن قياسه على الأم، فهو أن ذكاتها مقدور عليها، فلم تحل إلا بهاء وذكاة الجنين غير مقدور عليها، فحل ولو قدر على ذكاته لم يحل إلا بها كالأم، وهو الجواب عن قياسهم عليه، إذا خرج ميتاً؛ لأنه يقدر على ذكاته حياً، فاعتبرت؛ ولأنه يقدر على ذكاته ميتاً فسقطت. وأما الجواب عن استدلالهم بالتسوية بين حالتي موته وحياته، فهو أن التسوية بين حالتي القدرة، والعجز في الذكاة مطرحة، والفرق بينهما أحق كالصيد لما اختلفت ذكاته، في القدرة والعجز اختلف بها حكم الجنين فامتنع الجمع. وأما الجواب بأن العقر في جميع الحيوان معتبر وإنما يختلفان بالقدرة والعجز في اختلاف المحل، فمن وجهين: أحدهما: أن العقر فيه معتبر، وهو ذبح الأم. والثاني: أنه لما اعتبرت الذكاة بالقدرة عليها وجب أن يعتبر العقر بالقدرة عليه، وهي متعذرة في الجنين، فسقطت بالعجز، كما سقطت في الحوت والجراد، ولم تسقط في الصيد، لإمكانه فيه. فصل: فإذا ثبت إباحة الجنين بذكاة أمه، فلا يخلو حاله من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون كامل الصورة تجب فيه الغرة، وتصير به الأمة أم ولد، فهذا مأكول. والقسم الثاني: أن يكون علقة لا تجب فيه العزةء ولا يصير به أم ولد، فهذا غير مأكول؛ لأن العلقة دم. والقسم الثالث: أن يكون مضغة قد انعقدت لحماً لم تشكل أعضاؤه، ولم تبن صورته، ففي إباحة أكله وجهان من اختلاف قوليه في وجوب الغرة وكونها أم ولد: أحدهما: يؤكل إذا جرى عليه في ذلك حكم الولد. والثاني: لا يؤكل إذا سلب حكم الولد، وقال بعض أصحابه إن نفخ فيه الروح أكل، وان لم ينفخ فيه لم يؤكل، وهذا مما لا سبيل إلى إدراكه، وإنما يستدل على خلقها فيه بتخطيط صورته وتشكل أعضائه، والله أعلم.

باب كسب الحجام

باب كسب الحجام مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولا بأس بكسب الحجَّام فإن قيل: فما معنى نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - السائل عن كسبه وارخاصه في أن يطعمه رقيقه وناضحه؟ قيل: لا معنى له إلا واحد وهو أن للمكاسب حسناً ودنيئاً فكان كسب الحجام دنيئاً فأحب له تنزيه نفسه عن الدناءة لكثرة المكاسب التي هي أجمل منه فلما زاده فيه أمره أن يعلفه ناضحه ويطعمه رقيقه تنزيهاً له لا تحريماً عليه وقد حجم أبو طيبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر له بصاع من تمر وأمر أهله أن يخففوا عنه من خراجه ولو كان حراما لم يعطه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه لا يعطي إلا ما يحل اعطاؤه ولآخذه ملكه وقد روي أن رجلاً ذا قرابة لعثمان قدم عليه فسأله عن معاشه فذكر له غلة حجام أو حجامين فقال إن كسبكم لوسخ أو قال لدنس أو لدنئ أو كلمة تشبيهاً" قال في الحاوي: اعلم أن الحاجة إلى المكاسب داعية لما فطر الله تعالى عليه الخلق من الحاجة إلى الطعام، والشراب، والكسوة لنفسه، ومن يلزمه الإنفاق عليه من مناسب ومصاحب وأصول المكاسب المألوفة ثلاثة: زراعة، وتجارة وصناعة، فينبغي للمكتسب بها أن يختار لنفسه أطيبها، لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} [البقرة: 267]. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من لم يبال من أين مطعمه ولا من أين مشربه لم يبال الله من أي أبواب النار أدخله". واختلف الناس في أطيبها، فقال قوم: الزراعات، وهو عندي أشبه؛ لأن الإنسان فيها متوكل على الله، في عطائه، مستسلم لقضائه. وقال آخرون: التجارة اطيبها، وهو أشبه بمذهب الشافعي؛ لتصريح الله تعالى بإحلاله في كتابه، بقوله: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275]. واقتداء بالصحابة رضي الله عنهم في اكتسابهم بها. وقال آخرون: الصناعة، لاكتساب الإنسان فيها بكد يديه. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن من الذنوب ما لا يكفره صوم ولا صلاة ولكن يكفره عرق الجبين في طلب الحرفة ".

فأما الزراعة فلا مدخل لها في تحريم ولا كراهية، وهذا أول شيء على أنها أطيب المكاسب، وأما التجارة، فتنقسم ثلاثة أقسام: حلال، وهي: البيوع الصحيحة. وحرام: وهو البيوع الفاسدة. ومكروه: وهو الغش والتدليس. وأما الصناعة فتقسم ثلاثة أقسام. حلال: وهو ما أبيح من الأعمال التي لا ندس فيها كالكتابة والتجارة والبناء. وحرام: وهو ما حظر من الأعمال كالتصاوير والملاهي. ومكروه: وهو ما باشر فيه النجاسة كالحجام، والجزار، وكناس الحشوش، والأقذار والنص فيه وارد في الحجام، وهو أصل نظائره، والنص فيه ما رواه معمر عن الزهري عن حرام بن محيصة عن أبيه أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أجر الحجام فنهاه عنه، فشكا من حاجتهم، فقال: "اعلفه ناضحك وأطعمه رقيقك". فذهب بعض أصحاب الحديث إلى أنه حرام على الأحرار حلال للعبيد؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن السادة دون العبيد، واعتمدوا فيه على رواية رافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كسب الحجام خبيث ومهر البغي خبيث، وثمن الكلب خبيث". فلما وصفه بالخبث، وقرنه بالحرام كان حراماً. والدليل على فساد ما ذهبوا إليه ما رواه علي بن أبي طالب عليه السلام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وأمرني أن أعطي الحجام أجرة. وروى أنس بن مالك أن أبا طيبة حجم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فأمر له بصاع من تمر، وأمر مواليه أن يخففوا عنه من خراجه، قال جابر: وكان خراجه ثلاثة آصع من تمر في كل يوم، فخففوا عنه في كل يوم صاعاً. ووجه الدليل منه: أنه لو حرم كسبه على أخذه حرم دفعه على معطيه، فلما استجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يأمر بدفعه إليه دلّ على جواز أخذه؟ فإن قيل: إنما حجمه أبو طيبة متطوعاً تقرباً إلى الله بخدمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولذلك شرب معه فقال له: قد حرم الله جسمك على النار"، وكان ما أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - مواساة، ولم يكن أجره، فعنه جوابان: أحدهما: إنما أعطاه مقابلة على عمله صار عوضاً ينصرف عن حكم المواساة. والثاني: أن أبا طيبة كان مملوكاً لا يصح تطوعه بعمله ولا يستعمل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تطوعه! ولأنه لم يزل الناس على هذا في عصر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وخلفائه إلى وقتنا هذا في

سائر الأمصار يتكسبون بهذا، فلا ينكره مستحسن في حق الله تعالى، فدل على انعقاد الإجماع به، وارتفاع الخلاف فيه. ولأن الحاجة إليه داعية، والضرورة إليه ماسة؛ لأنه لا يقدر الإنسان على حجامة نفسه إذا احتاج، وما كان بهذه المنزلة لم يمنع منه الشرع، لما فيه من إدخال الضرر على الخلق، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا ضرر ولا ضرار"، ولأن كل كسب حلّ للعبيد حلّ للأحرار كسائر الأكساب. فأما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كسب الحجام خبيث" فهو أن اسم الخبث يتناول الحرام تارة والدنيء أخرى كما قال تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ} [البقرة: 267] يعني الدنيء وكقوله من بعد: {وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُوا فِيهِ} [البقرة: 267] فيحمل على الدنيء دون الحرام؟ بدليل ما قلناه، وليس هو إلى الحرام بموجب لاشتراكهما في حكم التحريم؛ لأنه لما ضم إلى ما يحرم على الأحرار والعبيد، وهذا لا يحرم على العبيد؛ فجاز أن لا يحرم على الأحرار. فصل: فإذا ثبت أنه ليس بحرام، فهو مكروه، واختلف أصحابنا في علة كراهته على وجهين: أحدهما: لمباشرة النجاسة لقول الله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5]: فعلى هذا يكره كسب كل مباشر للنجاسة من كناس، وخراز وقصاب. واختلف قائل هذا، هل يكون كسب الفصاد من جملتهم؟ على وجهين: أحدهما: يكون من جملتهم، لأنه يباشر نجاسة الدم. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه لا يكره كسبه، لاقترانه بعلم الطب، فإنه قل ما يباشر نجاسة الدم. فأما الختان، فمكروه الكسب كالحجام، بل يزيد عليه في مباشرة العورات، وتكون الكراهة مقصورة على مباشرة الأنجاس، ومنتفية عمن لا يبارها من سماك ودباغ. والثاني: أن كراهة التكسب به لدناءته، وهو الظاهر من مذهب الشافعي؛ لأنه جعل من المكاسب دنيئاً وحسناً، وقد روي أن ذا قرابة لعثمان بن عفان رضي الله عنه قدم عليه، فأله عن كسبه، فقال: غلة حجام أو حجامين، فقال: إن كسبكم لدنيء أو قال: لوسخ فعلى هذا يكره مع ذلك كسب السماك، والدباغ، والحلاق والقيم. واختلف على هذا في كسب الحجامين على وجهين: أحدهما: مكروه، دنيء لأنه يشاهد العورات ويتكسب بحران غير مقدر. والثاني: لا يكره كسب، لأنه لا يباشر عملاً، ويمكنه غض طرفه عن العورات وليس يتكسب بمباشرتها؛ فإن أرسل طرفه صار كغيره من الناس.

باب ما لا يحل أكله وما يجوز للمضطر من الميتة

وكذلك نظائر ما ذكرناه، وجميع هذا مكروه للأحرار. فأما العبيد ففيهم وجهان: أحدهما: يكره لهم كالأحرار، وهو قول الأكثرين. والثاني: لا يكره لهم؛ لأنهم أدنى من الأحرار، فليتأهبوا أدنى الاكتساب، فإن أخذ ساداتهم كسبهم كره لهم أن يأكلوه، ولم يكره لهم أن يطعموه رقيقهم، وبهائمهم؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمحيصة حين سأله عنه: "أعلفه ناضحك وأطعمه رقيقك " والله أعلم. باب ما لا يحل أكله وما يجوز للمضطر من الميتة مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ولا يحل أكل زيت ماتت فيه فأرة" .. قال في الحاوي: وأصل هذا ما رواه الشافعي عن سفيان عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس عن ميمونة أن فأرة وقعت في سمن، فماتت فيه، فسئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها، فقال: "ألقوها وما حولها وكلوه". فكان هذا الحديث وارداً في السمن إذا كان جامداً: لأن إلقاء ما حولها لا يصح إذا كان ذائباً. وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن السمن تقع فيه الفأرة، فقال: "إن كان جامدا، فألقوها، وما حولها، وان كان ذائباً فأريقوه ". وهذا الحديث وارد في الجامد والمانع، والحديث الأول أثبت. فإذا ماتت فأرة أو غيرها من الحيوان في سمن أو غيره من دهن أو دبس أو لبن لم يخل حاله من أن يكون جامدا، أو مانعا. فإن كان جامدا بخس بموت الفأرة ما حولها من السمن: لأنها نجاسة لاقت محلاً رطباً، فنجس بها كما ينجس الثوب الرطب إذا لاقى نجسا يابساً، وكان ما جاوز ما حول الملاقي للفأرة طاهراً: لأن جموده يمنع من امتزاجه بالنجس. وان كان السمن مائعا نجس جميعه قليلاً كان أو كثيراً، سواء تغير بالنجاسة، أو لم يتغير؛ بخلاف الماء الذي لا ينجس إذا بلغ قلتين، ولم يتغير. وحكي عن أبي ثور أنه كالماء إذا بلغ قلتين لم ينجس، حتى يتغير وحكي عن أبي حنيفة أنه أجراه مجرى الماء، وأنه إذا اتسع، ولم يلتق طرفاه لم ينجس، بناء على أصله في أن المائع كالماء في إزالة الأنجاس، وهذا أصل قد خولف فيه، وتقدم الكلام فيه، ثم الدليل على المائع خصوصا قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وان كان ذائباً فأريقوه ". فلما عمّ أمره بالإراقة دلّ على أنه لا مدخل له في الطهارة؛ لأنه لا يأمر باستهلاك الأموال في غير

تحريم وقد نهى عن إضاعتها؛ ولأن طهارة الماء أقوى، لاختصاصه برفع الحدث، فقويت طهارته على رفع النجس عنه، وضعفت طهارة المائع عن دفع النجس عنه. فصل: فإذا ثبت نجاسة قليله وكثيره حرم أكله، وأكل كل نجس وحرمه شربه، وشرب كل ما نجس. وقال داود: يحرم أكل السمن وحده إذا نجس دون غيره، تمسكاً بظاهر النص في السمن، فجعل الحكم مقصوراً عليه، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه لما كان حكم الفأرة مع ورود النص فيها متعدياً إلى نظائرها كان السمن في تقدير حكمه بمثابتها. والثاني: أن غير السمن لما شاركه في الإباحة قبل النجاسة وجب أن يشاركه في التحريم بعد النجاسة؛ لاشتراكهما في الطهارة والنجاسة. مسألة: قال الشافعي: "أولا يحل بيعه لأنه نجس بالمجاوره، فجاز بيعه كالثوب النجس". قال في الحاوي: وهو كما قال، لا يحل بيع ما نجس من الزيت، والسمن، والدبس وجميع ما لم يتميز نجاسته. وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه؛ لأنه نجس بالمجاورة، فجاز بيعه، كالثوب النجس. ودليلنا: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بإراقته، ولو جاز بيعه لم يأمر بإضاعته، وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لعن الله اليهود، حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوه، وإن الله تعالى إذا حرم أكل شيء حرم ثمنه ". وقوله: "جملوها" يعني أذابوها. ولأنه مائع ورد الشرع بإراقته، فلم يجز بيعه كالخمر. ولأنه مائع نجس، فلم يجنى بيعه كولوغ الكلب، وكاللبن والخل. وأما الجواب عن قياسه على بيع الثوب فمن وجهين: أحدهما: أن عين الثوب طاهر، ونجاسته مجاورة، فتميز عنها وعين الزيت قد نجس، لامتزاج النجاسة به. وإنها لا تتميز عنه كما لم تتميز عن الخل، واللبن. والثاني: أن أكثر منافع الناس الزيت، قد ذهبت نجاسته؟ لأن مقصوده الأكل، وأكثر منافع الثوب باقية بعد نجاسته؛ البقاء أكثر منافعه، ولم يجز بيع الزيت النجس،

لذهاب أكثر منافعه، أو لا ترى أن الميتة، وان جاز الانتفاع بها للمضطر لا يجوز بيعها، لذهاب أكثر منافعها، ولو أذيب شحمها جاز الانتفاع به، وان لم يجز بيعه. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا لم يخل حال ما حكم بنجاسته من ثلاثة أقسام: أحدها: ما كان نجس العين من الأصل خلقة، ولم يكن له من الطهارة أصل كالكلب، والخنزير، فلا يجوز بيعه بحال، لنجاسة عينه، سواء كان منتفعاً به كالكلب، أو غير منتفع به كالخنزير. والثاني: ما طرأت نجاسته بعد تقدم طهارته من غير نجاسة جاورته، كنجاسة الخمر، بحدوث الشدة، ونجاسة الميتة، بحدوث الموت. والشدة والموت لا يوصف بنجاسة ولا طهارة، وان نجس بهما الأعيان الطاهرة. وهذه النجاسة مانعة من جواز البيع سواء أمكن إزالتها بدباغ الجلد أو لم يمكن إزالتها، كاللحم لنجاسة جميع الأجزاء التي لا يتخللها جزء طاهر. وأجاز أبو حنيفة بيع ما يمكن إزالة نجاسته، كالجلد، لإمكان طهارته بالدباغة وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن نجاسة الخمر يمكن إزالتها عنده بالتخليل، ولا يجوز بيعها، كذلك الجلد. والثاني: أنه قبل زوال نجاسته مساوٍ لما تمكن إزالة نجاسته؛ لا لنجاسة جميع أجزائه فلم يجز أن يجري على حكم الطهارة، مع عدمها فيه. والثالث: ما نجس بمجاورة النجاسة له مع طهارة عينه، فهذا ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: أن تتميز نجاسته ويمكن إزالتها، كالثوب النجس، فيجوز بيعه، قبل إزالة نجاسته، لعلتين: احداهما: إمكان إزالتها. والثانية: بقاء أكثر منافعه معها. والثاني: أن لا تتميز نجاسته؛ لامتزاجه بهاء ولا يمكن إزالتها، كالدبس واللبن إذا نجس وكذلك الماء النجس، فلا يجوز بيع ذلك، لأنه لا سبيل إلى طهارته فإن قيل: فالماء النجس يطهر بالمكاثرة. قيل: المكاثرة لا تزيل النجاسة؛ لبقائها فيه، وإنما يغلب حكم المكاثرة، فيحكم له بالطهارة. أو لا ترى أن البول لو وقع في الماء الكثير، فلم يغيره كان طاهراً، وجاز بيعه ولا يدل ذلك على طهارة البول، كذلك الماء النجس. والثالث: ما لم يتميز نجاسته، لامتزاجه واختلف في إمكان إزالتها منه، وهو الزيت النجس، وما جرى مجراه من الأدهان، دون السمن. ففي إمكان غسله وطهارته وجهان:

أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج وابن أبي هريرة أنه يمكن غسله ويطهر بأن يراق عليه الماء في إناء ويمخض فيه مخضاً، يصير به مغسولاً كالثوب؛ لأن الدهن يتميز عن الماء ويعلو عليه، كما يتميز الثوب، ثم يؤخذ فيكون طاهراً. والثاني: وهو الظاهر من مذهب الشافعي، وقول جمهور أصحابه أن غسله لا يصح بخلاف الثوب، لأنه مائع كالماء، فلم يكن جذب الماء للنجاسة بأولى من جذب الزيت لها، فكان باقياً على نجاسته والماء في الثوب يجذب نجاسته إليه، فافترقا. فإن قيل: إن غسله لا يصحّ لم يجز بيعه، وهو الصحيح. وان قيل: إن غسله يصحّ، ففي جواز بيعه وجهان من علتي بيع الثوب النجس: إحداهما: يجوز بيعه تعليلاً بإمكان تطهيره بالمغسل. والوجه الثاني: لا يجوز بيعه تعليلاً بذهاب أكثر منافعه بنجاسته. مسألة: قال الشافعي: "ويستصبح به فإن قيل كيف ينتفع به ولا يبيعه؟ قيل قد ينتفع المضطر بالميتة ولا يبيعها وينتفع بالطعام في دار الحرب ولا يبيعه في تلك الحال قال: وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ثمن الكلب وأباح الانتفاع به في بعض الأحوال فغير مستنكر أن ينتفع الرجل بالزيت ولا يبيعه في هذه الحال". قال في الحاوي: وهذا صحيح، والانتفاع بما نجس من السمن والزيت في الاستصباح، جائز على ما سنصفه. وقال ابن جرير الطبري وطائفة من أصحاب الحديث: الانتفاع به حرام في استصباح وغيره؛ احتجاجا بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر بإراقته. والدليل على ما ذهبنا إليه، وهو قول الجمهور رواية الزهري عن سالم عن إبيه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الفأرة تعق في السمن والودك، فقال: "إن كان جامداً فاطرحوها وما حولها وإن كان مائعاً، فانتفعوا به، ولا تأكلوه ". وروى أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الفأرة تقع في السمن والزيت، فقال: "استصبحوا به ولا تأكلوه ". وهذان الحديثان نص في إباحة الانتفاع والاستصباح؛ ولأنه لما أمر بإراقته مع بقاء عينه، كان الاستصباح به أولى؛ لأنه استهلاك لعينه، مع الانتفاع به. فصل: فإذا ثبت جواز الانتفاع به، فالمنافع تنقم ثلاثة أقسام ورد النص بإباحته، وقسم ورد النص بالنهي عنه، وقسم مرسل لم يرد فيه نص.

فأما القسم الأول الذي ورد النص بإباحته، فهو الاستصباح به، فكذلك ما في معناه من إسجار التنانير بالبعر والسرجين وجميع الأنجاس، وإبقاءه تحت القدور، ومن الاصطلاء بناره، واختلف أصحابنا في نجاسة دخانه على وجهين: أحدهما: أنه نجس؛ لأنه تولد عن نجاسة والأعيان النجسة لا تطهر بالاستحالة كالرماد. والثاني: أنه طاهر، لأنه تولد من التقاء جسمين، فلم ينجس بنجاسة أحد الجسمين، كالريح الخارجة من الجوف. فإن قيل: بطهارته لم يلزم الاحتراز منه إلا تنزهاً. وإن قيل: بنجاسته، ففي العفو عنه وجهان: أحدهما: يعفى عنه؛ للحوق المشقة في التحرز منه، كدم البراغيث، فعلى هذا إن سجر به تنواً لم يلزمه مسحه منه، وجاز الخبر فيه. والثاني: أنه لا يعفى عنه، لأن البعد منه عند استعماله له ممكن، فأمكن التحرز منه، ولا يمكن التحرز من دم البراغيث. فعلى هذا إن تدخن به ثوب وجب غسله، ولذا سجر به تنور، وجب مسحه منه قبل الخبز فيه، فإن خبز فيه قبل مسحه نجس ظهر الرغيف، وكان وجهه طاهراً، ولم يجز أن يأكل الرغيف إلا بعد أن يغسل ظاهره. وأما القسم الثاني: الذي ورد النص بالنهي عنه، وهو أن تطلى به السفن والمراكب. روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى أن تطلى الفن بشحوم الميتة وحكم شحوم الميتة والزيت النجس سواء في جواز الاستصباح بهما، فكان سواء في المنع من إطلاء السفن بهما. واختلف في معنى النهي عن طلاء السفن وجواز الاستصباح على وجهين: أحدهما: أن في الاستصباح بدا استهلاكاً له فجاز وفي طلاء السفن به استبقاء له، فلم يجز. والثاني: أن المصباح لا يمسه في الغالب إلا من يعلم بالنجاسة فيتوقاها، والسفينة يمسها في الغالب من لا يعلم بالنجاسة، فلا يتوقاها. فعلى هذا إن جعل طلاء للبهائم، فإن كانت مستعملة لم يجز كالسفينة لوجود العلتين من بقاء العين ومسيس حق لا يعلم. وان كانت سائمة غير مستعملة فعلى وجهين: أحدهما: يجوز تعليلاً بأنه لا يكاد يمسها من لا يعلم بها. والثاني: لا يجوز تعليلاً ببقاء عينها.

وأما القسم الثالث: وهو المرسل عن أمر به أن نهي عنه، فينظر في استعماله فإن وجد فيه معنى الأمر أبيح، وإن وجد فيه معنى النهي حظر. فعلى هذا يجوز أن يطعم البازي، والفهد لحم الميتة لوجود معنى الإباحة فيه 0 بالاستهلاك، فإنه لا يباشرها من لا يعلم بها، ويجوز أن يسقيهما الماء النجس، والأبوال. فأما طرح الأنجاس من البعر والسرجين على الزروع والأشجار، فإن لم يماس الثمرة المأكولة، وكان مستعملاً في أصول الشجر وفي قضبان الزرع جاز، لاشتهار حالها وأنه لا يباشرها إلا عالم بها، وإن كان مستعملاً من ثمارها فإن كانت يابسة جاز؛ لأن اليابس لا نجس يابساً. وان كان أحدهما رطباً أو ندياً، بنجس بالملاقاة، فإباحة استعماله مقروناً بأحد شرطين أما بغسله قبل بيعه، أو بإعلام مشتريه بنجاسته، وهكذا إذا عجن طين الكيزان والخزف بالسرجين لزمه عند بيعه أن يغسله أو يخبر بنجاسته، ليغسله المشتري قبل استعماله فإن صار هذا عرفاً مشهوراً بين جميع الناس سقط الأمران عند بيعه من الغسل والإعلام، ولم يكن للمشتري أن يستعمله إلا بعد غسله؛ لأنه قد صار بالعرف معلوم النجاسة. مسألة: قال الشافعي: " ولا يحل من الميته إلا إهابها بالدباغ ويباع " قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا مات الحيوان صار جميعه بالموت نجساً. وقال أبو حنيفة: ينجس لحمه وجلده، ولا ينجس شعره ولا عظمه. وقال مالك: ينجس عظمه، ولا ينجس شعره، وقد حكي هذا عن الشافعي. فخرجه ابن أبي هريرة قولا ثانيا، وامتنع جمهور أصحابه من تخريجه، وجعلوه حكاية عن مذهب غيره، وحكي عن ابن أبي ليلى أن استعمال جلد الميتة قبل الدباغ جائز. فمن الناس من جعل ذلك منه حكما بطهارته، كما قاله غيره في العظم والشعر ومنهم من جعله إباحة لاستعماله مع الحكم بنجاسته، وفي قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] ما يقتضي تحريم جميعها على العموم، فكان دليلا على جميعهم في نجاسة الجمع، فإذا ثبت هذا لم يطهر شيء منها إلا جلدها بالدباغة. وقال الليث بن سعد: يطهر عظمها بالطبخ إذا ذهب دسمه. وقال إبراهيم النخعي: يطهر بالخرط وقال خرط العاج ذكاته. وقال بعض أصحاب الحديث: يطهر شعرها بالغسل، وفي قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "هلا انتفعتم بإهابها" دليل على اختصاص الإهاب بطهارة الدباغة دون غيره، فإذا دبغ الجلد

طهر دون شعره، وحكى الربيع بن سليمان الجيزي عن الشافعي أن الشعر تابع للجلد يطهر بدباغه، وامتنع سائر أصحابه من تحريمه، وجعلوه حكاية عن مذهب غيره، وقد مضت هذه المسألة في كتاب الطهارة، وإنما أشرنا إلى جملتها حين أعيدت. مسألة: قال الشافعي: "ولا يأكل المضطر من الميته إلا ما يرد نفسه فيخرج به من الاضطرار. قال في كتاب اختلاف أبي حنيفة وأهل المدينة: بهذا أقول. وقال فيه: وما هو بالبين من قبل أن الشيء حلال وحرام فإذا كان حراماً لم يحل منه شيئ وإذا كان حلالاً فقد يحتمل أن لا يحرم منه شيئاً فهو محرم إلا ما أباح منه بصفه فإذا زالت الصفة زالت الاباحه. قال المزني: ولا خلاف أعلمه أن ليس لأ أن يأكل من الميتة وهو بادي الشبع لأنه ليس بمضطر فإذا كان خائفاً على نفسه فمضطر فإذا أكل منها ما يذهب الخوف فقد أمن فارتفع الاضطرار الذي هو علة الإباحة. قل المزني رحمه الله. وإذا ارتفعت العلة ارتفع محكمها ورجع الحكم كما كان قبل الاضطرار وهو تحريم الله عز وجل الميتة على من ليس بمضطر ولو جاز أن يرتفع الاضطرار ولا يرتفع حكمه جاز أن يحدث الإضرار ولا يحدث حكمه وهذا إخلاف القرآن ". قال في الحاوي: والأصل في إباحة الميتة للمضطر قول الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} فأخبر بتحريمها بعد قوله: {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ليدل على تخصيص التحريم في عموم الإباحة، فقال: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ} [البقرة: 173] وهو ما فاتت روحه بغير ذكاة من كل ذي نفس سائلة، والدم وهو الجاري من الحيوان يذبح او جرح ولحم الخنزير فيه تأويلان: أحدهما: أن التحريم مقصور على لحمه دون شحمه اقتصاراً على النص، وهو قول داود. والثاني: أن التحريم عام في جميعه، وخص النص باللحم تنبها عليه؛ لأنه معظم مقصوده: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ} [البقرة: 73] يريد بالإحلال: الذبح لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قربوه لألهتهم جهروا بأسماء آلهتهم عند الذبح. ومن قوله: {لِغَيْرِ اللهِ} تأويلان: أحدهما: ما ذبح لغير الله من الأصنام، قاله مجاهد. والثاني: ما ذكر عليه غير اسم الله من الأصنام، قال عطاء، وهو على التأويلين حرام، فانتهى ما ذكره من التحريم، ثم ابتدأ بإباحة ذلك للمضطر فقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] ومن {اضْطُرَّ} تأويلان:

أحدهما: أنه افتعل من الضرورة. والثاني: أنه من إصابة الضر وفي: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} ثلاث تأويلات: أحدها: غير باغ على الإمام بعصيانه ولا عاد على الأمة بفساده، وهو معنى قول مجاهد. والثاني: غير باغ في أكله فوق حاجته، ولا عاد بأكلها، وهو يجد غيرها، وهو قول قتادة. والثالث: غير باغ في أكلها شهوة وتلذذا، ولا عاد باستيفاء الأكل إلى حد الشبع وهو قول السدي. وفي قوله: {إِثْمَ عَلَيْهِ إنَّ} تأويلان: أحدهما: فلا عقاب عليه في أكلها. والثاني: فلا منع عليه في أكلها، والاستثناء إباحة أكلها عند الاضطرار من عموم تحريمها مع الاختيار على ما ذكره من شروط الإباحة. وقال تعالى في سورة المائدة، وهي من محكمات السور التي لم يرده بعدها نسخ، واختلف هل نزل بعدها فرض فقال سبحانه: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ} [المائدة: 13] وذكر في هذه الآية المحرمات مثل ما ذكر في تلك الآية، وزاد فقال: {وَالْمُنْخَنِقَةُ} وهي التي تختنق بحبل الصائد، وغيره حتى تموت. {وَالْمَوْقُوذَةُ} وهي التي تضرب بالخشب حتى تموت، وكانت المجوس تقذ ولا تذبح، ليكون دمه فيه، ويقولون: هو أطيب وأسمن. {وَالْمُتَرَدِّيَةُ} كا وهي التي تسقط من رأس جبل أو في بئر حتى تموت. {وَالنَّطِيحَةُ} وهي التي تنطحها أخرى، فتموت الناطحة والمنطوحة. {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] ومأكولة السبع هي فريسته، التي أكل منها، أو لم يأكل، وإنما نص على هذا أكله، وان كان داخلاً في عموم الميتة لأمرين: أحدهما: لأنها ماتت بأسباب حتى لا تقدروا وان أسباب موتها ذكاة. والثاني: أنهم كانوا يستطيبون أكلها من قبل، فنص عليها في التحريم، ليزول الالتباس. ومن قوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} قولان: أحدهما: أنه راجع إلى مأكولة السبع وحدها، وهو قول أهل الظاهر. والثاني: أنه راجع إلى جميع ما تقدم من المنخنقة، وما بعدها، وهو قول علي وابن عباس وجمهور الفقهاء. وفيها قولان: أحدهما: أن يدركها ولها عين تطرف أو ذنب يتحرك، وهو قول أهل الظاهر. والثاني: أن تكون فيها حركة قوية لا كحركة المذبوح، وهو قول الشافعي ومالك

ثم قال: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ} [المائدة: 3] وفيها قولان: أحدهما: أنها أصنام كانوا يعبدونها يذبحون لها. والثاني: أنها أوثان كانوا يذبحون عليها، لأصنامهم، والفرق بين الأصنام والأوثان أن الصنم مصور يعبدونه، والوثن غير مصور، يتقربون به إلى الصنم، فهذه كلها محرمات نص الله تعالى على تحريمها في هذه الآية. ثم قال: {وَأَن تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلاَمِ} [المائدة: 3] وفيها قولان: أحدهما: أنه ما يتقامرون من الشطرنج والنرد. والثاني: وهو أشهر أنها قداح ثلاثة مكتوب على أحدها: "أمرني ربي" وعلى الآخر: "نهاني ربي" والآخر غفل، يضربونها وإذا أرادوا سفراً أو أمراً، فإن خرج: أمرني ربي فعلوه، هران خرج "نهاني ربي" تركوه، وان خرج الغفل أعادوه وفي تسميته: استقساماً تأوبلان: أحدهما: أنهم طلبوا به علم ما قسم لهم. والثاني: أنهم التزموا بالقداح مثل ما التزموه بقسم اليمين. {ذَلِكُمْ فِسْقٌ} [المائدة: 3] فيه قولان: أحدهما: أنه راجع إلى الاستقسام بالأزلام. والثاني: أنه راجع إلى جميع ما تقدم تحريمه. وفي قوله: {فِسْقٌ} [المائدة: 3] تأويلان: أحدهما: كفر قاله السدي. والثاني: خروج عن طاعة الله وهو قول الجمهور ثم بين بعد المحرمات، حال نعمه عليهم، فقال: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن دِينِكُمْ} [المائدة: 3] وفي هذا اليوم قولان: أحدهما: أنه يوم فتح مكة. والثاني: أنه يوم حجة الوداع، وفيما يئسوا به من الذين قولان: أحدهما: أن يرتدوا عنه. والثاني: أن يقدروا على إبطاله. {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 3] أي: لا تخشوهم أن يظهروا عليكم، واخشوني أن تخالفوا أمري. {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فيه قولان: أحدهما: أنه يوم عرفة في حجة الوداع، ولم يعش بعد ذلك إلا إحدى وثمانين ليلة، وهذا قول ابن عباس والسدي. والثاني: أنه زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - كله إلى أن نزلت عليه هذه الآية في عرفة وفي إكماله للدين قولان:

أحدهما: أنه كمال فرائضه وحدوده وحلاله وحرامه، ولم ينزل بعدها على النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء من الفرائض من تحليل ولا تحريم، وهذا قول ابن عباس. والثاني: أن إكماله برفع النسخ عنه بعد هذا الوقت. فأما الفروض، فلم تزل تنزل عليه حتى قبض وهذا قول ابن قتيبة. {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] فيه قولان: أحدهما: بإظهاركم على عدوكم. والثاني: بإكمال دينكم. {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينا} [المائدة: 3] وفيه قولان: أحدهما: رضيت دين الإسلام ديناً. والثاني: رضيت الاستسلام أي طاعة، فروى قبيصة أن كعب الأحبار قال: لو نزلت هذه الآية على غير هذه الأمة لعظموا اليوم الذي نزلت فيه، واتخذوه عيداً، فقال عمر: لقد نزلت بعرفة، في يوم جمعة، وكلاهما بحمد الله لنا عيد، ثم بين بعدها إباحة ما استثناه من المحرمات فقال: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ} [المائدة: 3] يعني: مجاعة، وهي مفعلة من خمص البطن وهو اضطماره من الجوع مثل: مخملة ومخلة {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ} [المائدة: 3] وفي المتجانف تأويلان: أحدهما: أنه المتعمد. والثاني: أنه الماثل. وفي هذا الإثم تأويلان: أحدهما: أن يأكل ما حرم عليه مما تقدم ذكره من غير ضرورة. والثاني: أن يتجاوز في الضرورة ما أمسك الرمق إلى أن ينتهي إلى الشبع، فإن الله غفور رحيم يعني غفوراً للمآثم، رحيماً في الإباحة. وإنما استوفيت تفسيرها هاتين الآيتين، وإن تجاوزنا بهما مسألة الكتاب؛ لما تعلق بهما من الأحكام والنعم، مع إباحة الميتة للمضطر. ويدل عليه من السنة ما رواه الأوزاعي، عن حسان بن عطية عن أبي واقد الليثي قال: قلنا: يا رسول الله إنا بأرض تصيبنا فيها المخمصة، فمتى تحل لنا الميتة؟ قال: ما لم تصطبحوا، أو تغتبقوا أو تحتفئوا بها بقلاً فشأنكم بهاّ! ِ قوله: "تصطبحوا" من الصبوح، وهو الغذاء، و "تغتبقوا" من الغبوق، وهو العشاء، أي لم تجدوا "الحفا" مقصور، وهو أصول البردي الرطب، وقيل: إنه أراده وأمثاله من الحشيش؛ لأنه مأكول يغني عن الميتة.

ومعنى الحديث: أنكم إذا تغذيتم، فليس لكم أن تأكلوها عند العشاء إذا تعشيتم فليس لكم أن تأكلوها عند الغداء؛ لأن الرمق يتماسك، وإذا وجدتم "الحفا" فليس لكم أن تأكلوها؛ لأن المرمق به متماسك، فدل على إباحة أكلها إذا لم يتماسك الرمق إلا بها. فإذا ثبت إباحة أكل الميتة للمضطر بإباحتها معتبرة بأربعة شروط: أحدها: أن ينتهي به الجوع إلى حدّ التلف، ولا يقدر على مشي ولا نهوض، فيصير غير متماسك الرمق إلا بها، فيصير حينئذ من أهل الإباحة، فإن تماسك رمقه أو جلس وأقام ولم يتماسك إن مشى، وسار نظر: فإن كان في سفر يخاف فوت رفاقته حلّ له أكلها، وان لم يخف فوت رفاقته لم تحل له. والشرط الثاني: أن لا يجد مأكول الحشيش والشجر ما يمسك به رمقه، فإن وجده لم تحل له الميتة، ولو وجد من الحشيش ما يستصر بأكله حلت له الميتة. والشرط الثالث: أن لا يجد طعاماً يشتريه، فإن وجد ما يشتريه بثمن مثله لزمه شراؤه، سواء وجد ثمنه أو لم يجد إذا أنظره البائع ثمنه بخلاف الماء الذي لا يلزمه أن يشتريه إذا كان عادماً؛ لأن إباحة التيمم معتبرة بالعدم، وهو بإعواز الثمن عادم. وإباحة الميتة معتبرة بالضرورة، وهو مع الإنظار بالثمن غير مضطر، فإن بذل له الطعام بأكثر ثمن المثل لم يلزمه أن يشتريه كالماء؛ لأن التماس الزيادة منتف. والشرط الرابع: أن لا يكون بما دعته الضرورة إلى الميتة عاصياً، كمقامه على قطع الطريق، واخافته السبيل أو لبغيه على إمام عادل لقول الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173]؛ ولأنه إباحة أكل الميتة رخصة والعاصي لا يترخص في معصيته، فإن تاب من المعصية حل له أكل الميتة، وإن أقام عليها ولم يتب حرمت عليه، وهو غير مضطر إلى الامتناع من التوبة. ولا فرق بين المسافر والمقيم، وان قصر السفر، لأنه الأغلب من أحواله العدم وإن حدث مثله في الأمصار والقرى حلّ فيها أكل الميتة كالسفر. فصل: فإذا أحل له أكل الميتة بالشروط المعتبرة، كان له أن يأكل منها ما يمسك رمقه كيف ما ساغه طبخاً وقلياً، وشياً، ونيئاً، وهل يجوز أن يتجاوز بالأكل بعد إمساك الرمق إلى أبد ينتهي إلى حدّ الشبع، فيه قولان: أحدهما: ليس له الزيادة على إمساك الرمق، وما بعده إلى حدّ الشبع حرام، وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني. والثاني: أنه يأكل حتى ينتهي إلى الشبع، ولا يحرم عليه إلا ما زاد على حدّ الشبع وبه قال مالك، وسفيان الثوري. ودليل القول الأول في تحريم الشبع قول الله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَاكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] والضرورة

تزول بإمساك الرمق، فدلت على تحريم ما زاد عليه ولأنه لو كان متماسك الرمق قبل أكلها حرمت عليه كذلك إذا صار بها متماسك الرمق وجب أن تحرم عليه؛ لأنه غير مضطر إليها في الحالين؛ ولأن ارتفاع الضرورة موجب لارتفاع حكمها، كما أن حدوث الضرورة موجب لحدوث حكمها. ولو جاز أن ترتفع الضرورة، ولا يرتفع حكمها لجاز أن تحدث، ولا يحدث حكمها. ودليل القول الثاني: أن الشبع منها حلال قول الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] فعم الإباحة برفع المأثم وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الميتة، فقال: "ما لم تصطبحوا أو تغتبقوا أو تحتفئوا بقلا فشأنكم بها". فعم إباحتها؛ ولأن ما حل أكله حلّ الاكتفاء منه، كالطعام طرداً والحرام عكساً؛ ولأنه مضطر إلى الشبع لحفظ قوته؛ لأن إمساك الرمق لا لبث له، وتتعقبه الضرورة بعده إلى إمساكه بغيره، وقد لا يجد الميتة بعدها، فكان الشبع أمسك لرمقه، وأحفظ لحياته، ولئن كان إمساك الرمق في الابتداء معتبراً فقد لا يكون في الانتهاء معتبرا بعدم الطول في نكاح الأمة شرط في ابتداء العقد، وليس بشرط بعد العقد؛ فإذا تقرر توجيه القولين، فإن قلنا بالأول منهما أنه لا يأكل منها إلا ما أمسك الرمق فأكل هذا القدر منها مباح له وواجب عليه لإحياء نفسه به، لقول الله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29] فإن ترك أكل ما يمسك الرمق حتى مات أثم، وان أكل ما زاد على إمساك الرمق كان آثما، وما أكله من الزيادة حرام. وإن قلنا بالقول الثاني إنه يأكل منها حتى يشبع كان أكل ما أمسك الرمق واجباً عليه، وكان أكل ما زاد عليه إلى الشبع مباحا له؛ لأن الوجوب مختص بما أحيا النفس، وهو إمساك الرمق والزيادة عليه للحاجة وحفظ القوة، وذلك ليس بواجب، وأكل ما زاد على حدّ الشبع حرام؛ لأنه لا تدعو إليه ضرورة ولا حاجة وهكذا حكم العطشان إذا خاف التلف، ووجد ماء نجسا أو بولاً حل له الشرب منه؛ لأمسك رمقه وهل له أن يرتوي منه؟ على القولين الماضيين في الميتة، فإن وجد بولاً وماء نجساً، كان شرب الماء النجس أولى من شرب البول؛ لأن نجاسة الماء طارئة بالمخالطةء ونجاسة البول لذاته، ويجوز أن يتداوى بالبول إذا لم يجد دواء طاهراً، قد أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "للعرنين أن يشربوا من ألبان الإبل وأبوالها بالمدينة لما اجتووها" وهكذا يحل له أن يأكل من لحوم الميتة للتداوي إذا لم يكن له دواء سواه ومنعه بعض أصحابنا من التداوي بالمحرمات احتجاجا بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ما جعل الله شفاءكم فيم حرم عليكم " وهذا القائل مخطئ بعد حديث العرنيين من وجهين: أحدهما: أن التداوي حال الضرورة، فصار بها مضطراً إلى أكل الميتة.

والثاني: أن أكل السم حرام والتداوي به متداول، وقيل: إن السقمونيا سم قاتل، ولهذا من استكثر منه في الدواء قتله، ثم يجوز التداوي به كذلك كل حرام. فأما الخبر، فمعناه أن ما فيه شفاؤكم مما حرم عليكم. فأما شرب الخمر من العطش وللتداوي، فالظاهر من مذهب الشافعي أنه لا يحل شربها من العطش ولا للتداوي، وذهب بعض البغداديين من أصحابه إلى جواز شربها للعطش لا للتداوي، ولأن ضرر العطش عاجل، وضرر الداء آجل وذهب بعض البصريين من أصحابه أن جواز شربها للتداوي دون العطش، لأنها متعينة في الدواء وغير متعينة في العطش. وقال أبو حنيفة وسفيان الثوري: يجوز شربها في العطش والتداوي. والدليل على تحريمها في الحالين ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الخمر داء"ا؛ ولأنها تزيد في العطش ولا تروى؛ ولأنها تحدث من السكر ما يزيل العقل، وتمنع الفرائض، ولأن شربها في أحد الحالين ذريعة إلى شربها مع عدم تلك الحال، لأن الشهوة رغيبة عليها؛ ولذلك حرم إمساكها، ووجب الحدّ على شاربها، وهكذا كل مسكر فهو خمر. مسألة: قال الشافعي فيما وضعه بخطه لا أعلمه سمع منه: "إن مر المضطر بنمر أو زرع لم أرَ بأساً أن يأكل ما يرد به جوعه ويرد قيمته ولا أرى لصاحبه منعه فضلاً عنه وخفت أن يكون أعان على قتله إذا خاف عليه بالمنع الموت " قال في الحاوي: أما غير المضطر إذا مرّ بثمرة غيره على نخلها أو شجرها، لم يحل له أن يأكل منها بغير إذن مالكها سواء كانت بارزة أو من وراء جدار. وقال بعض أصحاب الحديث: ينادي على الباب ثلاثاً، فإن أجابوه، وإلا دخل، وأكل، ولم يدخر، احتجاجا برواية نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا مرّ أحدكم بحائط غيره، فليدخل، فليأكل، ولا يتخذ خبنة " أي: لا يحمل منه شيئا، وهذا المذهب فاسد لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه ". وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يحلبن أحدكم ماشية أخيه بغير إذنه، ضروع مواشيكم خزائن طعامكم، أو يحب أحدكم أن يدخل لخربة أخيه، فيأخذ ما فيها بغير إذنه " فنص على ألبان المواشي، ونبه على ثمار النخل، لأن اللبن أسهل: لأنه مستخلف في كل يوم، ومن الثمار ما لا يستخلف إلا من كل عام.

فأما الخبر فمحمول على المضطر، فأما سواقط النخل والشجر من الثمار، وهو ما تساقط منها على الأرض؛ فإذ كانت من وراء جدار قد أحرزها لم يجز للمار أن يتعرض لأخذها؛ لأن الحرز يمنع منها، وان كانت بارزة غير محرزة فإن لم تجر عادة أهلها بإباحتها حرم أخذها، وان جرت عادتهم بإباحتها كثمار النخل بالبصرة والمدينة، فقد اختلف أصحابنا في العادة، هل تجري مجرى الإذن في الإباحة أم لا؟ على وجهين: أحدهما: أنها كالإذن، فيحل لكل مار بها أن يأكل منها، ولا يدخره ولا يتعرض لغير السواقط، وقد حكي أن بعض العرب دخل حائطاً بالمدينة، فجعل يأكل من سواقط النخل، فرآه صاحب الحائط، فدعاه، وعرض عليه الأكل، فامتنع وقال: إنما هاج علي كلب الجوع، فسكنته بتمرات. والثاني: أن العادة لا تكون إذناً، ولا يستبيح المار أكل السواقط إلا بإذن صريح؛ لأن جميعه ملك لأربابه، ونفوس الناس فيه مختلفة، بالشح والسخاء، فلم يكن عموم العرف فيه مقنعاً. فصل: فأما المضطر إذا مر بثمرة أو ز، ح أو طعام لغيره، فلا يخلو إما أن يكون مالكه حاضراً أو غائباً، فإن كان غائباً كان للمضطر أن يأكل منه محرزاً كان أو بارزاً، وفي قدر ما يأكل منه قولان، كالميتة: أحدهما: قدر ما يمسك رمقه. والثاني: أن يشبع منه؛ لأنه لما استباح بالضرورة ما تعلق بحقوق الله تعالى من تحريم الميتة استباح بها مما تعلق بحقوق الآدميين من الأموال، فإذا أكل منها قدر الإباحة، فثمن قيمته لمالكه؛ لأن الضرورة إنما دعت إلى الأكل، ولم تدع إلى سقوط الغرم، فإن كان موسراً عجل دفع القيمة، وان كان معسراً أنظر بها إلى ميسرته. وذهب بعض أصحابنا إلى أنه لا يجب عليه قيمة ما أكل؟ لأنه يصير بالضرورة كالاستباحة التي لا تضمن من الميتة، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن الميتة لا قيمة لها، وللطعام قيمة. والثاني: أن الميتة لا مالك لها، وللطعام مالك، وإن كان صاحب الطعام حاضراً، فعلى المضطر أن يستأذنه في الأكل بعد إخباره بضرورته، وعلى مالك الطعام إذا علم بحاله أن يأذن له في الأكل استحياء لنفسه لقوله تعالى: {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32] ولما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أعان على قتل مسلم، ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله" ولأنه لو قدر على

استنقاذه بماله من تلف كغرق أو حريق وجب عليه كذلك إذا قدر على استنفاذه بماله من تلف الجوع. وإذا كان كذلك لم يدخل حال المالك من أن يأذن له في الأكل أو لا يأذن فإن أذن له في الأكل لم يخل حال إذنه من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يأذن له بإباحة الأكل، فللمضطر أن يأكل منه حتى ينتهي إلى حد الشبع قولاً واحداً؛ لأنه قد صار بالإباحة كطعام الولائم التي يجوز الشبع منها، ولا يجوز له الزيادة على شبعه، ولا يأخذ منها بعد الأكل شيئاً. والقسم الثاني: أن يأذن له في المأكل بعوض، فهذا على ضربين: أحدها: أن لا يذكر قدر العوض، فللمضطر أن يأكل، وعليه قيمة ما أكل في وقته بمكانه، وله أن ينتهي إلى حد الشبع. والثاني: أن يذكر له قدر العوض، فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون ثمن مثله، فله أن يأكل، فإن أفرد له ما يأكله حين سمى ثمنه صحّ الثمن، وكان له أن يأكل ما أفرده، فإن فضل منه فضلة أخذها؛ لأنه قدر ملكها بابتياع صحيح، وان لم يفرد ما سمي ثمنه قبل الأكل لزم المضطر قيمة ما أكل سواء كان أقل من المسمى أو أكثر، لأن ما يأكله مجهولاً لا يصح فيه ثمن مسمى. والثاني: أن يكون ما سماه من الثمن أكثر من ثمن مثله، فيكون بطلب الزيادة من المضطر آثماً، وينظر، فإن لم يفرد ما سمى ثمنه لم يلزم المضطر فيما أكل إلا قيمته بمكانه في وقته، وبطل المسمى وان أفرد ما سمى ثمنه، ففي قدر ما يلزم المضطر إذا أكله وجهان: أحدهما: الثمن المسمى لما تضمنه من عقد لازم. والثاني: ثمن القتل دون المسمى لنهي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع المضطر، وهو هذا وأصح من هذين الوجهين المطلقين عندي أن ينظر، فإن كانت الزيادة في الثمن لا تشق على المضطر ليساره، فهو في بذلها غير مكره، فلزمته وإن كانت شاقة عليه لإعساره، فهو من بذلها مكره، فلم تلزمه. والقسم الثالث: أن يأذن له في الأكل إذناً مطلقاً من غير تصريح بإباحة ولا معاوضة، فله أن يأكل حتى حتى ينتهي إلى حد الشبع كطعام الولائم، ولا قيمة عليه؛ لأن عرف الاستطعام والإطعام موضوع على المواساة، دون المعاوضة، فأوجب إطلاق الإذن حمله على العرف والمعهود فيه. فلو اختلف في الإذن، فقال المالك: أذنت لك في أكله بعوض لي عليك. وقال المضطر: بل أذنت لي في الأكل مبيحاً، فلا عوض لك علي فالقول قول

المالك مع يمينه، لأنه مالك. فإذ اختلف في قدر القيمة، فالقول قول المضطر مع يمينه لأنه غارم. فصل: وان لم يأذن له مالك الطعام في الأكل، فلا يخلو المضطر من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يقدر على أخذ الطعام منه بغير قتال، فله أن يأخذ الطعام جبراً ولا يتعدى الآخذ إلى قتاله، وفي قدر ما يستبيح أخذه منه قولان: أحدهما: قدر ما يمسك به رمقه. والثاني: ما ينتهي به إلى حدّ الشبع، ويأكله في موضعه، ولا يحمله، لأن ضرورته معتبرة في مكانه. وقد يجوز أن تزول الضرورة إن زال عنه، فإذا أكله كانت عليه قيمته بمكانه في وقته. والحال الثانية: أن لا يقدر على أخذه، ولا على قتاله عليه، فمالك الطعام عاص بالمنع، ومعصيته إن أفضت إلى تلف المضطر أعظم، لكن لا يضمنه بقود ولاية لأنه لم يكن منعه فعلأ يتعلق به الضمان. ولو قيل: إنه يضمن ديته كان مذهباً؛ لأن الضرورة قد جعلت له في طعامه حقاً، فصار منعه منه كمنعه من طعام نفسه، وهو لو منع إنساناً من طعام نفسه حتى مات جوعاً ضمن ديته كذلك إذا منعه من طعام قد صار حقه متعلقاً به وجب أن يضمن ديته. والحال الثالثة: أن لا يقدر المضطر على أخذه إلا بقتاله عليه، فله أن يقاتله عليه، وهل يجب عليه أن يقاتله حتى يصل إلى طعامه أم لا على وجهين ممن أريدت نفسه هل يجب عليه المنع منها؟ أحدهما: يجب عليه أن يقاتله؛ ليصل إلى إحياء نفسه بطعامه، كما يجب عليه أكل الميتة لإحياء نفسه بها. والثاني: أن القتال مباح له، وليس بواجب عليه؛ لأن مالك الطعام لا ينفك في الأغلب من دين أو عقل يبعثه كل واحد منهما على إحياء المضطر بماله فجاز أن يكون موكولاً إليه، وخالف أكل الميتة في الوجوب؛ لأنه لا سبيل إلى إحياء نفسه إلا بها، فإذا شرع في قتاله توصل بالقتال إلى أخذ ما يتعلق به الإباحة من طعامه، وفيه ما قدمناه من القولين: أحدهما: يقاتله إلى أن يصل أخذ ما يمسك الرمق، فإن قاتله بعد الوصول إلى إمساك الرمق كان متعدياً. والثاني: يقاتله إلى أن يصل إلى قدر الشبع، ويكون القتال بعد الوصول إلى إمساك الرمق مباحاً، وليس بواجب وجهاً واحداً، وقتاله بعد الوصول إلى قدر الشبع عدوان. فإن لم يصل بالقتال إلى شيء من طعامه حتى تلف أحدهما، نظر، فإن كان التالف

رب الطعام كانت نفسه هدراً لا تضمن بقود ولا دية، لأنه مقتول بحق 0 كمن طلب نفس إنسان، فقتله المطلوب دفعاً كانت نفسه هدراً، وإن كان التالف المضطر كانت نفسه مضمونة على رب الطعام، لأنه قتل مظلوماً ثم نظر فإن علم رب الطعام بضرورة المضطر ضمنه بالقود 0 وإن لم يعلم بضرورته بالدية؛ لأنه مع العلم بها عامد 0 ومع الجهل بها خاطئ والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولو وجد المضطر ميتة وصيداً وهو محرم أكلل الميتة ولو قيل يأكل الصيد ويفتدي كان مذهباً. قال المزني رحمه الله: الصيد محرم لغيره وهو الإحرام ومباح لغير محرم والميتة محرمة لعينها لا لغيرها على كل حلال وحرام فهى أغلظ تحريماً فإحياء نفسه بترك الأغلظ وتناول الأيسر أولى به من ركوب الأغلظ بالله التوفيق ". قال في الحاوي: مقدمة هذه المسألة أن يذكر ما يستبيحه المضطر من أكل المحرمات إذا انفردت ثم يذكر حكمها في حقه إذا اجتمعت، فإذا وجد المضطر صيداً، وهو محرم حلّ له أكل الصيد، لضرورته في إحياء نفسه كالميتة التي يستبيح أكلها بالضرورة، وإن حرمت عليه إذا أكل الصيد أن يفديه بالجزاء؛ لأن الضرورة لا تمنع من وجوب الجزاء؛ لأنها فيه، وليست في الصيد، وهو من حقوق الله تعالى، التي يستوي فيها العامد والخاطئ، وفي قدر ما تستبيحه من أكله قولان كالميتة: أحدهما: قدر إمساك الرمق. والثاني: قدر الشبع، ولو كان ما وجده المحرم المضطر صيداً مقتولاً أكل منه، ولم يضمنه بالجزاء سواء ضمنه قاتله أو لم يضمنه؟ لأن ضمان الصيد على المحرم مستحق بالقتل دون الأكل، وذا كان غير ضامن لجزائه، نظر، فإن كان قاتل الصيد محلاً، فهو ذكي مملوك، فيضمن المضطر قيمة ما أكل لمالكه، وان كان قاتله محرماً، فهل يكون ميتة أو مذكى؟ فيه قولان: أحدهما: يكون ميتة كالذكاة المجوسي، فعلى هذا لا يجب على المضطر قيمة ما أكل؛ لأنه لا قيمة للميتة. والثاني: يكون مذكى يحرم على المحرم، ويحلّ لغيره، فعلى هذا من ضمان المضطر لقيمة ما أكل وجهان من اختلاف القولين هل يستقر للمحرم عليه ملك أم لا؟ أحد الوجهين لا ضمان عليه إذا قيل: إن المحرم لم يملك. والثاني: عليه الضمان، إذا قيل إنه يملك.

فصل: وإذا وجد المضطر لحم آدمي ميت جاز أن يأكل منه، وهو قول الجماعة وقال داود: لا يجوز أن يأكل منه، وهو حرام على المضطر كتحريمه على غيره، لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "حرمة ابن آدم بعد موته كحرمته في حياته وكسر عظمه بعد موته ككسر عظمه في حياته ". قال محمد بن داود: ولأن هذا مفض إلى أكل لحوم الأنبياء والصديقين، ومن أوجب الله تعالى حفظ حرمته، وتعظيم حقه. فقلبه عليه أبو العباس بن سريج وقال: المنع من أكله مفض إلى قتل الأنبياء والصديقين إذا اضطروا حفظاً لحرمة ميت كافر، وهذا أعظم، فلم يصح بما قاله ابن داود. والدليل على إباحته، قول الله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة:3] فكان على عمومه، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في حمزة بن عبد المطلب حين قتل بأحد: "ولا صفية لتركته تأكله السباع، حتى يحشر من بطونها". فإذا جاز أن تأكله البهائم التي لا حرمة لها، فأولى أن تحفظ به نفوس ذوي الحرمات؛ ولأنه لما كان أن يحيي نفساً بقتل نفس، فإحياؤها بغير ذي نفس أولى؛ ولأن لحمه يبلى بغير إحياء نفس، فكان أولى أن يبلى بإحياء نفس. وأما الخبر فهو بأن يكون دليلاً في إباحة أكله أشبه؛ لأنه لما حفظ حرمته بعد الموت، كان حفظها في الحياة أوكد، وإذا لم يمكن حفظ الحرمتين، كان حفظ حرمة الحي بالميت أولى من حفظ حرمة الميت بالحي. فإذا ثبت إباحة أكله منه، فليس له أن يأكل إلا قدر ما يمسك رمقه قولاً واحداً؛ ليحفظ به الحرمتين معاً، ويمنع من طبخه وشيه، ويأكله نيئاً إن قدر لأن طبخه محظور، وان لم يؤكل، وأكله محظور وان لم يطبخ، والضرورة تدعو إلى الأكل فأبحناه، ولا تدعو إلى الطبخ فحظرناه. وخالف الميتة التي تختص بتحريم الأكل دون الطبخ، فجاز أن يجمع بينهما عند الضرورة. وأما إذا وجد، المضطر آدمياً حياً، فمان كان ممن لا يستباح قتله حرم على المضطر أن يأكله ما يحيي به نفساً؛ لأنه لا يجوز إيحاء نفس بإتلاف نفس مع تكافئهما في الحرمة. وسواء كان المأكول مسلماً أو ذميا؛ لأن نفس الذميين محظورة كالمسلم وان كان

المأكول ممن يجب قتله في ردّة أو حرابة أو زناً جاز أن يأكل المضطر من لحمه لكن بعد قتله، ولا يأكل لحمه في حياته، لما فيه من تعذيبه، فإن أكل من لحمه حياً كان مسيئاً إن قدر على قتله، ومعذوراً إن لم يقدر على قتله لشدة الخوف على نفسه، فإن لم يجد المضطر ما يمسك رمقه إلا بقطع عضو من جسده ففي إباحته وجهان: أحدهما: وهو محكي عن أبي إسحاق المروزي إذا كان غالب قطعه السلامة لحفظ نفسه بعضو من جسده، كما يقطع إذا وقعت فيه الأكلة ليحفظ به نفسه. والثاني: لا يجوز؛ لأنه يجمع بقطعه بين خوفين، فكان أسرع إلى تلفه وليس كقطع الأكلة، لأن يأمن سرايتها بقطعه. فصل: فإذا تكرر ما ذكرنا من حكم الاستباحة على الانفراد انتقلنا إلى الجمع بين كل مستباحين بالضرورة محظورين من غير ضرورة. فمن ذلك إذا وجد المضطر، وهو محرم ميتة وصيداً حياً. وهي مسألة الكتاب، ففيما يستبيحه منهما قولان: أحدهما: وهو مذهب مالك وأبي حنيفة: أنه يأكل الميتة دون الصيد لأمرين: أحدهما: أن استباحة الميتة نص، واستباحة الصيد اجتهاد. والثاني: أن أكل الميتة لا يوجب الضمان، وأكل الصيد موجب لضمان الجزاء، فصارت الميتة بهذين الأمرين أخف حكماً. والثاني: وهو اختيار المزني: أنه يأكل الصيد، ويعدل عن الميتة لأمرين: أحدهما: أن إباحة الصيد عامة، وحظره خاصة من الإحرام، وحظر الميتة عام، واباحتها خاصة في الاضطرار، فكان ما أباحته أعمّ أخفّ مما تحريمه أعم. والثاني: أن تحريم الصيد لمعنى في غيره، وتحريم الميتة لمعنى فيها، فكان ما فارقه معنى التحريم أخف مما حله معنى التحريم، فثبت بهذين أن أكل الصيد أولى. فأما إذا وجد ميتة ولحم صيد قتله محرم، فإن قيل: بذكاته كان أولى من الميتة وإن قيل: بنجاسته كان الميتة أولى منه. فصل: وإذا وجد المضطر ميتة وطعاماً لغيره، فإن أذن له في أكله حرمت عليه الميتة، وإن منعه من أكله حلّت له الميتة، وإن كان غائباً لم يأذن ولم يمنع فعلى قولين كالميتة مع الصيد. ولو وجد المضطر المحرم مبدأ وطعام الغير، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يأكل الصيد؛ لأن تحريمه عليه من حق الله تعالى، فكان أخف.

والثاني: يأكل طعام الغير؛ لأنه يستباح بالإباحة. والثالث: أنه مخير في الأكل من أيهما شاء. فصل: ولو وجد المضطر ميتتين إحداهما من جنس ما يؤكل لحمه، كالشاة والبعير والأخرى من جنس ما لا يؤكل لحمه كالسبع والذئب، ففيه وجهان: أحدهما: أنهما سواء، وله الخيار في الأكل من أيهما شاء؛ لأنهما قد استويا في النجاسة بالموت. والثاني: أنه يأكل مما يؤكل لحمه دون ما لا يؤكل؛ لأن للمأكول أصلاً في الإباحة فكان أولى مما لا أصل له في الإباحة. ولو وجد المضطر ميتين إحداهما طاهرة في حياتها، والأخرى نجسة في حياتها، ففيه وجهان: أحدهما: أنهما سواء، ويأكل من أيهما شاء: إلا أن يكون خنزيراً، لأنهما قد استويا في النجاسة بعد الموت. والثاني: أنه يأكل من الطاهر دون النجس: لأن له في الطهارة أصلاً ليس للنجس ولو وجد المضطر ميتة ولحم ابن آدم أكل الميتة، وان كان خنزيراً دون لحم ابن آدم وجهاً واحداً، لأن تحريم الميتة من حق الأكل وتحريم ابن آدم في حقه وحق الأكل، فكان أغلظ، وكذلك لو وجد صيداً ولحماً ابن أدم وهو محرم أكل الصيد تعليلاً بما ذكرنا. فصل: وإذ قد مضى ما يحل ويحرم من الحيوان وجب أن نبين ما يحل ويحرم من النبات، والنبات على أربعة أقسام: أحدها: ما كان غذاء كالحبوب والثمار والفواكه، والبقول، فأكلها مباح وبيعها جائز، وسواء أكلت قوتاً أو تفكهاً، فإن كانت مما زرعه الآدميون، فهي ملك لزراعها وان كانت مما أتيته الله تعالى في الموات، فهي ملك لآخذها. والثاني: ما كان دواء، فأكله للتداوي مباح، وينظر في أكله لغير التداوي، فإن كان ضاراً منع من أكله، وان كان غير ضار أبيح أكله وبيعه في الحالين جميعاً جائز. والثالث: ما كان مسكراً، وهو على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يكون فيه مع السكر شدة مطربة، فأكله حرام، وعلى آكله الحدّ، ولا يجوز أن يستعمل في دواء ولا غيره كالخمر، وبيعه حرام. والثاني: أن يسكر، ولا تكون فيه شدة مطربة كالبنج، فأكله حرام، ولا حدّ على آكله، ويجوز أن يستعمل في الدواء عند الحاجة، وان أفضى إلى السكر إذا لم يوجد من إسكاره بد، وينظر في بيعه، فإن كان يستعمل في الأدوية غالباً جاز بيعه ولم يكره، وان

كان يستعمل فيها نادراً كره بيعه، وان جاز. والثالث: ط أمكر مع غيره ولم يسكر بانفراده كالداذي، وما شاكله، فينظر فيه، فإن لم ينتفع به من دواء، ولا غيره، حرم أكله وبيعه تغليباً، لغالب أحواله، وان انتفع بأكله في الدواء، حلّ أكله تداوياً وجاز بيعه، وكان مكروهاً إن كان أغلب أحواله استعماله في المسكر، ولم يكره إن كان أغلب أحواله استعماله من غير المسكر. والرابع: ما كان ضاراً كالسموم، فهذا على أربعة أضرب: أحدها: ما قتل قليله، وكثيره، فأكله حرام، وبيعه باطل سواء كان قتله موجباً أو مبطئاً. والثاني: ما قتل كثيره دون قليله، فأكل كثيره حرام، فأما قليله، فإن كان غير منتفع به حرم أكله، وبطل بيعه تغليباً لضرورة، وإن كان منتفعاً به من التداوي حل أكله تداوياً وجاز بيعه، ولم يكره، وإن كان غالبه التداوي وكره إن كان غالبه غير التداوي. والثالث: ما يقتل في الأغلب، وقد يجوز أن لا يقتل، فحكم الأغلب له ألزم ويكون على ما تقدم. والرابع: ما لا يقتل في الأغلب، وقد يجوز أن يقتل، فقد ذكر الشافعي في موضع إباحة أكله، وذكر في موضع تحريم أكله، فتوهم بعض أصحابه، فخرج إباحة أكله على قولين اعتباراً بظاهر كلامه في الموضعين. والصحيح أن إباحته لأكله إذا كان منتفعاً به في التداوي وتحريم أكله إذا كان غير منتفع به في التداوي، فيكون على اختلاف حالين لا على اختلاف قولين. مسألة: قال المزني: "وخالف الشافعي المزني والكوفي في الانتفاع بشعر الخنزير وفي صوف الميتة وشعرها فقال: لا ينتفع بشيء من ذلك". قال في الحاوي: وقد مضى الخلاف في نجاسة الشعور والأصواف وطهارتها في كتاب الطهارة، فالظاهر منها يجوز استعماله في الذائب واليابس وأما النجس منها، فضربان: أحدهما: ما كان في الحياة طاهراً، كشعور السباع، والذئاب، فاستعمالها في اليابسات من متاع دون الذائبات. والثاني: ما كان نجساً في الحياة كشعر الكلب والخنزير، وإن جرى عرف العوام باستعماله، وأجازه أبو حنيفة ومالك. وسئل عنه أحمد بن حنبل، فقال الليف أعجب إلي منه، فكأنه كرهه وأجازه وعولوا

في إباحة استعماله على أمرين: أحدهما: أن الحاجة داعية إليه. والثاني: أن عرف العامة جاز باستعماله، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه لما حرم الانتفاع بالخنزير حياً كان تحريم شعره ميتاً أولى. والثاني: أنه لما كان أغلظ تنجيساً وجب أن يكون أغلظ تحريماً، فإن خالفوا من نجاسته انتقل الكلام إليه. فأما تعويلهم على الحاجة إليه فالحاجة لا تبيح محظوارً، وقد يقوم الليف مقامه، فسقطت الحاجة إليه. وتعويلهم على العرف في استعماله، فهو عرف من مسترسل في دينه. فإذا صح تحريم استعماله كان مأثم تحريمه عائداً على مستعمله، وجاز بيع المحروز به، فإن كان الشعر عند الاستعمال يابساً لاقى يابساً، فالخف المحروز به طاهر، والصلاة فيه جائزة، وإن لاقى في الحرز نداوة كان ما مسه الشعر من الخف المحروز نجساً، فإن غسل سبعاً بتراب طهر ظاهره، ولم تطهر دواخل الحرز، ولم تجز الصلاة فيه، والله أعلم.

كتاب السبق والرمي

كتاب السبق والرمي قال الشافعي رحمه الله: "أخبرنا ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن نافع بن أبي نافع عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا سبق إلا في نصلٍ أو خفٌ أو حافرٍ". قال في الحاوي: الأصل في إباحة السبق والرمي قول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]، فروى عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر: قال الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} وإن القوة الرمي ثلاثاً. وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ارتبطوا الخيل، فإن ظهورها لكم عز وأجوافها لكم كنز" فموضع الدليل من هذه الآية أنه لما أمر بإعداد الرمي والخيل للعدو في حربه، وذلك لا يكون إلا بالتعليم والثقة بالسبق والإصابة، فدل على إباحة ما دعا إليهما. وقال تعالى فيما حكاه عن إخوة يوسف: {قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ} [يوسف: 17] وفي قوله: {نَسْتَبِقُ} تأويلات: أحدهما: ننتضل من السباق في الرمي ـ قاله الزجاج. والثاني: أنهم أرادوا السبق بالسعي على الأقدام. وموضع الدليل في هذا هو: أنهم أخبروا بذلك نبياً لم ينكره عليهم، فدل على إباحته في شرعه، وما تقدم به شرع لم يتعقبه نسخ كان معمولاً به. وقال تعالى: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} [الأنفال: 17] وفي هذا الرمي تأويلان: أحدهما: ما رواه ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قبض يوم أحد قبضة من تراب وما هم بها وقال: "شاهدت الوجوه" أي: قبحت، فألقى الله تعالى القبضة في أبصارهم حتى

شغلتهم بأنفسهم، وأظفر المسلمين بهم. والثاني: أنه أراد في أصحابه بالسهام، فأضاف رميهم إليه؛ لأنهم رموا عنه، ومن قوله: {وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى} [الأنفال: 17] تأويلان: أحدهما: معناه: وما ظفرتم إذ رميت ولكن الله أظفركم. والثاني: أنه أراد ما أرسله من الريح المعينة لمهامهم، حتى أصابت، فلما أعانهم الله على الرمي كان كل عون عليه مناوباً إليه. والدليل عليه من السنة مع الحديث الذي رواه الشافعي في صار الباب ما رواه الشافعي عن عبد الوهاب عن حميد عن أنس قال: كانت ناقة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - تسمى "العضباء" فكانت لا تسبق، فجاء أعرابي على قعود له، فسبقها، فاشتد ذلك على المسلمين، وقالوا: يا رسول اثه، سبقت العضباء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "حق على الله أن لا يرفع الناس شيئاً إلا وضعه الله". وروى الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "سابق بين الخيل التي قد أضمرت من الحفياء، وكان أمدها ثنية الوداع، وسابق بين الخيل التي لم تضمر الثنية إلى مسجد بني زريق، وأن عبد الله بن عمر فيمن سابق لها وقيل: إن من الحفياء إلى ثنية الوداع خمسة أميال، ومن ثنية الودع إلى مسجد بني زريق ثلاثة أميال. وروى الشافعي عن سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: "سابقني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسبقته، فلما حملت اللحم سابقني، فسبقني، فقال لي: يا عاثشة هذه بتلك". وروى الشافعي عن سفيان عن شبيب بن غرقدة عن أبيه عن عروة البارقي قال: سمعت وسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة " وروي أبو سلمة عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يرمون، فقال: "ارموا بني إسماعيل، فإن أباكم كان رامياً، ارموا وأنا مع ابن الأذرع، فأمسك القوم، قسيهم، وقالوا: من كنت معه غلب، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ارموا وأنا معكم كلكم ". وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لسعد بن أبي وقاص يوم أحد: "ارم فداك أبي وأمي"، اثنتي عشرة مرة ودعا له، فقال: "اللهم أجب دعوته، وسدد رميته " وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -

أنه قال: "أحضروا الهدف، فإن الملائكة تحضره، وإن بين الهدفين لروضة من رياض الجنة". وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لجماعة من قريش: تمعددوا واخشوشنوا، واحتفوا، واركبوا وارموا، ولأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا وربما أسند هذا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وفي قوله: "اتمعادوا" تأويلان: أحدهما: انتسبوا إلى معل وعدنان. والثاني: تكلموا بلسان معد وعدنان. وفي قول: "واخشوشنوا" تأويلان: أحدهما: كونوا في أموركم خشناً أجلاداً. والثاني: البسوا أخشن الثياب. وفي قوله: "واحتفوا" تأويلان: أحدهما: امشوا حفاة. والثاني: حفوا شواربكم. فصل: فإذا ثبت جواز السبق والرمي، فهو مندوب إليه إن قصد به أهبة الجهاد ومباح إن قصد به غير، لأنه يكون عدة للجهاد، ويجوز أخذ العوض في السابقة والمناضلة، منهم ومن السلطان على ما سنصفه. وحكي عن أبي حنيفة أنه منع من أخذ العوض عليه بكل حال، فمن متأخري أصحابه من أنكره من مذهبه، وجعله موافقاً. وقال مالك: إن أخرجه السلطان من بيت المال جاز، وان أخرجه المتسابقون المتناضلون لم يجز استدلالاً بأمرين: أحدهما: أنه أخذ عوض على لعب، فأشبه أخذه على اللهو والصراع. والثاني: أنه أخذ مال على غير بدل، فأشبه القمار. ودليلنا: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل" فلما استثناه في الإباحة دل على اختصاصه بالعوض، ولولا العوض لما احتاج إلى الاستثناء لجواز جميع الاستباق بغير عوض. وروي أنه سئل عثمان بن عفان رضي الله عنه: "أكنتم تراهنون على عها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: نعم، رهن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على فرس له، فجاءت سابقة، فلهش لذلك، وأعجبه. ومعلوم أن الرهن لا يكون إلا على عوض؛ ولأن في بذل العوض عليه تحريضاً

على الجهاد، وبعثاً على الاستعداد، وامتثالاً لأمر الله تعالى في قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] وما أفضى إلى هذه المصالح، فأقل حاليه إذا لم يكن واجباً أن يكون مباحا. فأما الجواب عن استدلالهم، بأنه لعب، فمن وجهين: أحدهما: أن ما فيه من وجوه المصالح يخرجه عن حكم اللعب. والثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استثناه، فقال: "كل اللعب حرام إلا لعب الرجل بغرسه ولعبه بقوسه، ولعبه مع زوجته". وأما الجواب عن استدلالهم بأنه قمار، فمن وجهين: أحدهما: أن السبق خارج عن القمار؛ لأن القمار ما لم يخل صاحبه من أخذ أو إعطاء، وقد يخلو المسابق من أخذ وإعطاء؛ لأن بينهما محللاً. والثاني: أن تحريم القمار بالشرع، وإباحة السبق بالشرع، فلو جاز إلحاق السبق بالقمار من التحريم لجاز لأحد أن يلحق القمار بالسبق في التحليل، فلما كان هذا في إباحة القمار فاسداً، أوجب أن يكون في تحريم السبق فاسداً، ولزم الوقوف على ما ورد به الشرع فيهما. فصل: فإذا صح جواز السبق بعوض وغير عوض، فهو بفير عوض من العقود الجائزة، دون اللازمة، وان كان معقوداً على عوض، ففي لزومه قولان: أحدهما: أنه من العقود اللازمة كالإجارة ليس لواحد منهما فسخه بعد تمامه إلا عن تراض منهما بقسمة ولا يدخله خيار الثلاثء وفي دخول خيار المجلس فيه وجهان: كالإجارة، فإن شرعا في السبق والرمي يسقط خيار المجلس فيه؛ لأن الشرع في العمل رضى بالإمضاء. والثاني: أنه من العقود الجائزة دون اللازمة كالجعالة، وبه قال أبو حنيفة ويكون كل واحد من السابقين قبل الشروع من السبق، وبعد الشروع فيه ما لم يستقر السبق، وينبرم بالخيار. فإن شرط فيه اللزوم بطل، فإن قيل بلزومه على القول الأول، فدليله شيئان: أحدهما: أنه عقد ومن شرط صحته أن يكون معلوم العوض والمعوض، فوجب أن يكون لازماً كالإجارة طرداً والجعالة عكساً. والثاني: أن ما أفضى إلى إبطال المعقود بالعقد كان ممنوعاً منه في العقد، وبقاء خياره فيه مفض إلى إبطاله المقصود به؛ لأنه إذا توجه السبق على أحدهما فسخ لم يتوصل إلى سبق، ولم يستحق فيه عوض، والعقد موضوع لاستقراره واستحقاقه، فنافاه الخيار وضاهاه اللزوم.

فإن قيل: بجوازه على القول الثاني، فدليله شيئان: أحدهما: أن ما صحّ من عقود المعاوضات إذا قابل غير موثوق بالقدرة عليه عند استحقاقه كان من العقود الجائزة دون اللازمة كالجعالة طرداً؛ لأنه لا يثق بالغلبة في السبق والرمي كما لا يثق بوجود الضالة في الجعالة وعكسه الإجارة متى لم يثق بصحة العمل منه لم يصح العقد. والثاني: أن ما كان إطلاق العوض فيه موجباً لتعجيل استحقاقه كان جائزاً كالجعالة وإطلاق العوض في السبق والرمي لا يوجب التعجيل، فوجب أن يكون جائزاً ولا يكون لازماً، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله:"الخف الإبل والحافر الخيل والنصل كل نصل من سهم أو نشابه ". قال في الحاوي: وهذا من قول الشافعي تفسير لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا سبق إلا من خف أو حافر أو نصل" مبين أن المراد بالخف الإبل؛ لأنها ذوات أخفاف تعد للطراد، وأن المراد بالحافر الخيل: لأنها ذوات حوافر للكر والفر. وقال في موضع آخر: إن الحافر الخيل والبغال والحمير؛ لأنها تركب إلى الجياد كالإبل ويلقى عليها العدو كالخيل قد شهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حرب هوازن على بغلته الشهباء، فصار في الحافر قولان. فأما النصل، فالمراد به السهم المرمى به عن قوس، وإن كان النصل اسماً لحديدة السهم فالمراد به جميع السهم، فهذه الثلاثة هي التي نص عليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في جواز السبق بها، فاختلف قول الشافعي فيها، فقال: يحتمل معنيين: أحدهما: أنها رخصة مستثناة من جملة محظورة؛ لأنه أخرج باستثنائه ما خالف حكم أصله، فعلى هذا لا يجوز أن يقاس على هذه الثلاثة غيرها، ويكون السبق مقصوراً على التي تضمنها الخبر، وهي الخف والخف الإبل وحدها، والحافر وفيه قولان: أحدهما: الخيل وحدها. والثاني: الخيل والبغال والحمير، والنصل، وهو السهام، ويكون السبق بما عداها محظوراً. والثاني: في المعنيين أن النصل على الثلاثة أصل، فهذا ورد الشرع ببيانه وليس بمستثنى، وإن خرج مخرج الاستثناء؛ لأن المراد به التوكيد دون الاستثناء فعلى هذا يقاس على كل واحد من الثلاثة ما كان في معناها كما قيس على الستة في الربا ما وافق معناها،

وعليه يكون التفريع، فيقاس على الخف السبق بالفيلة؛ لأنها ذوات أخفاف كالإبل، وهي في ملاقاة العدو أنكأ من الإبل، وهل يقاس عليها السبق بالسفن والطيارات والشدات أم لا؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول ابن سريج يجوز السبق عليها؟؛ لأنها معدة لجهاد العدو في البحر وحمل ثقله، كالإبل في البر. والثاني: لا يجوز السبق عليها؛ لأن سبقها بقوة ملاحها دون المقاتل فيها، فأما السبق بالزوارق الكبار والمراكب الثقال التي لم تجر العادة في لقاء العدو بمثلها فغير جائز على الوجهين معاً. فصل: فأما الحافر بالخيل والبغال والحمير نصاً في أحد القولين لا نقلاً من اسم الحافر عليها، وقياساً في القول الثاني؛ لأنها ذوات حوافر كالخيل وفي معناها واختلف أصحابنا هل يقاس عليها السبق بالأقدام؟ أم لا على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي حنيفة: تجوز السمابقة بالأقدام؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استبق هو وعائشة رضي الله عنها على أقدامها؛ ولأن السعي من قتال الرجالة كالخيل في قتال الفرسان. والثاني: وهو الظاهر من مذهب الشافعي أن المسابقة بالأقدام لا تجوز؛ لأنه سبق على فعلها من غير آلة فأشبه الطفرة والوثبة؛ ولأن السبق على ما يستفاد بالتعليم ليكون باعثاً على معاطاته، والسعي لا يستفاد بالتعليم فعلى هذا إن قيل: إن المسابقة بالأقدام لا تجوز، فالمسابقة بالباحة أولى أن لا تجوز وإن قيل بجوازها على الأقدام، ففي جوازها بالسباحة وجهان: أحدهما: تجوز كالأقدام، لأن أحدها على الأرض، والآخر في الماء. والثاني: أنها لا تجوز بالسباحة، وان جازت بالأقدام؛ لأن الماء مؤثر في السباحة والأرض غير مؤثرة في السعي. ومنها اختلاف أصحابنا في السبق بالصراع على وجهين: أحدهما: وهو مذهب أبي حنيفة أنه جائز لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خرج إلى الأبطح، فرأى يزيد بن ركانة يرى أعنزاً له، فقال يزيد: يا محمد هل لك من أن تصارعني، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - "ما تستبق لي" فقال: شاة فصارعه، فصرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يزيد: هل لك العود؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما تستبق لي؟ فقال: شاة فصارعه، فصرعه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال يزيد: يا محمد اعرض علي الإسلام، فما أحد وضع جنبي على الأرض غيرك، فعرض عليه الإسلام فأسلم، ورد عليه غنمه" فدل على جواز السبق على الصراع.

والثاني: وهو ظاهر مذهب الشافعي أنه لا يجوز السبق على الصراع لما ذكرنا من المعنيين من السبق بالأقدام، فعلى هذا إن قيل: إن السبق على الصراع لا يجوز، فالسبق على المشابكة بالأيدي لا يجوز وإن قيل بجوازه في الصراع ففي جوازه بالمشابكة وجهان كالسباحة. ومنها اختلافه أصحابنا في السبق بالحمام على وجهين: أحدهما: يجوز؛ لأنها بالهداية تؤدي أخبار المجاهدين بسرعة. والثاني: لا يجوز؛ لأنها لا تؤثر في جهاد العدو، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى رجلاً يسعى بحمامة، فقال: "شيطان مع شيطانة ". فأما السبق بالكلام، وبنطاح الكباش ونقار الديكة، فهو أسفه، والسبق فيه باطل لا يختلف، والله أعلم بالصواب. فصل: وأما النصل، وهو السهام، فقياسه كل سلاح فارق يد صاحبه من الحراب ومقاليع الأحجاز وقس البندق، واختلف أصحابنا، فيما لا يفارق يد صاحبه من السيوف والرماح والأعمدة، هل يجوز السبق بها أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يجوز كالمفارق ليده؛ لأن جهاد العدو بها. والثاني: لا يجوز، لأنه يكون بذلك محارباً لا مسابقاً. فأما السبق بالمدامي وكرة الصولجان فلا؛ لأن الجهاد لا يكون بهما. فأما الدمو بالحجر الثقيل أو رفعه من الأرض، لاختبار القوة، والارتياض بها، فالسبق عليه كالسبق على الصراع، فيكون على وجهين. ولله أعلم. فصل: فإذا تقرر ما يجوز السبق به على الأعواض المبذولة، فلصحة العقا عليه خمسة شروط: أحدها: التكافؤ فيما يستبقان عليه، وفيما يتكافآن به وجهان: أحدهما: وهو الظاهر من مذهب الشافعي، وما عليه جمهور أصحابه أن التكافؤ بالتجانس، فيسابق بين فرسين أو بغلين أو حمارين أو بعيرين، ليعلم بعد التجانس فضل السابق، ولا يجوز أن يسابق بين فرس وبغل ولا بين حمار وبعير! لأن تفاضل الأجناس معلوم وأنه لا يجري البغل في شوط الفرس، كما قال الشاعر: إنَّ المُذَرَّعَ لَا تُغْنِي ضُؤولَتُهُ كَالبَغْلِ يَعْجَزُ عَنْ شَوْطِ المحَاضِيرِ

لكن يجوز السبق بين عتاق الخيل، وهجانها؛ لأن جميعها جنس، والعتيق في أول شوطيه أحد وفي آخره ألين، والهجين في أول شوطيه ألين وفي آخرها أحد فربما صارا عند الغاية متكافئين. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي أن التكافؤ في الاستباق غير معتبر بالتجانس وإنما هو معتبر بأن يكون كل واحد من المستبقين يجوز أن يكون سابقاً ويجوز أن يكون مسبوقاً، فإن جوز ذلك بين فرس وبغل أو بين بعير وحمار جاز السبق بينهما، وإن علم يقيناً أن أحدهما يسبق الآخر قبل الاختبار لم يجز السبق بينهما، ولو علم ذلك بين فرسين عتيق وهجين أو بين بعيرين عربي وبختي لم يجز السبق بينهما، وكذلك ولو اتفق الفرسان في الجنس، واختلفا في القوة والضعف، فيمنع من الاستباق بينهما، وهما من جنس واحد، وبخوزه بينهما، وهما في جنسين مختلفين اعتباراً بالجواهر دون التجانس. والشرط الثاني: الاستباق عليها مركوبة لتنتهي إلى غايتها، بتدبير راكبها، فإن شرط إرسالها لتجري مسابقة بأنفسها لم يجز، وبطل العقد عليها؛ لأنها تتنافر بالإرسال ولا تقف على غاية السبق، وإنما يصح ذلك في الاستباق بالطيور إذا قيل: بجواز الاستباق عليها لما فيها من الهداية إلى قصد الغاية، وأنها لا تتنافر في طيرانها. والشرط الثالث: أن تكون الغاية معلومة؛ لأنها مستحقة في عقد معاوضة، فإن وقع العقد على إجراء الفرسين حتى يسبق أحدهما الآخر لم يجز لأمرين: أحدهما: جهالة الغاية. والثاني: لأنه يفضي ذلك لإجرائهما حتى يعطبا. والشرط الرابع: أن تكون الغاية التي يمتد شرطها إليها يحتملها الفرسان، ولا ينقطعان فيها، فإن طالت عن انتقاء الفرسين إليهما إلا عن انقطاع وعطب بطل العقد، لتحريم ما أفضى إلى ذلك. والشرط الخامس: أن يكون العوض فيه معلوماً، كالأجور والأثمان، فإن أخرجه غير المتسابقين جاز أن يتساويا فيه، ويتفاضلا؛ لأن الباذل للسبق مخير بين القليل والكثير، فجاز أن يكون مخيراً بين التساوي في التفضيل، ويجوز أن يتماثل جنس العوضين، وإن لم يختلف. فصل: فأما الرمي، فيعتبر في صحة عقده خمسة شروط أيضاً: أحدها: أن يكون الرامي مجانسة فيتناضلان بالنشاب أو بالحراب، فإن كان أحدهما ينضل بالنشاب، والآخر بالحراب، لم يجز لتنافيهما؛ لكن يجوز أحدهما مناضلاً بالنشاب والآخر بالنبل؛ لأن كليهما سهم يخرج عن قوس.

والشرط الثاني: أن يكون بين المتناضلين مقاربة في الرمي والإصابة يحتمل أن يكون ناضلاً ومنضولاً، ليعلم بالنضال أحذقهما، فإن تفاوت ما بينهما، فإن كان أحدهما أكثر سهامه صائبة، والآخر أكثر سهامه خاطئة، ففيه وجهان: أحدهما: وهو مقتضى قول أبي إسحاق المروزي: لا يجوز، يكون العقد بينهما. والثاني: يجوز ويكون العقد بينهما صحيحاً؛ لأن المال إذا استحق بعث على معاطاة الحذق. والشرط الثالث: أن لا يتناضلا على جراح النفوس بالسهام والسلاح، وليكن قصدهما إصابة غير ذات الأرواح لتحريم عقرها، فإن شرط فيه جراحة النفوس بطل لحظره. والشرط الرابع: أن يكون العوض معلوماً من أعيان موجودة، أو مال في الذمة موصوفاً. والشرط الخامس: أن يحفظ من دخول الجهالة في النضال على ما سنذكره في موضعه. مسألة: قال الشافعي: والاستباق ثلاثه سبق يعطيه الوالي أو غير الوالي من ماله وذلك أن يسبق بين الخيل إلى غاية فيجعل للسابق شيئاً معلوماً وإن شاء جعل للمصلي والثالث والرابع فهذا حلال لمن جعل لأ ليست فيه علة. قال في الحاوي: أما السبق، فيذكر تارة بتسكين الباء، وتارة بغتحها، وهو بتسكين الباء فعل سبق من المسابقة، وهو بفتح الباء العوض المخرج في المسابقة. قال الشافعي: "والأسباق ثلاثة " يريد به العوض في الأسباق ثلاثة: أحدها: أن يخرجه غير المتسابقين. والثاني: أن يخرجه المتسابقان. والثالث: أن يخرجه أحدهما. فأما السبق الأول الذي يراه الشافعي؛ وهو الذي يخرجه غير المتسابقين، فيجوز سواء أخرجه الإمام من بيت المال وأخرجه غير الإمام من ماله. وقال مالك: إن أخرجه الإمام جاز، وإن أخرجه غيره لم يجز؛ لأنه من أسباب الجهاد المختصة بالأئمة، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن ما فيه معونة على الجهاد جاز أن يفعله غير الأئمة، كارتباط الخيل وإعداد السلاح.

والثاني: أن ما جاز أن يخرجه الإمام من بيت مال المسلمين جاز أن يتطوع به كل واحد من المسلمين لبناء المساجد والقناطر. فصل: فإذا صح جوازه من كل باذل لم يخل التبدل من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يختص به السابق وحده دون غيره، كقوله: إذا كان المتسابقون عشرة فقد جعلت للسابق منكم عشرة، وهذا جائز، فأيهم جاء سابقاً لجماعتهم استحق العشرة كلها، ولا شيء لمن بعده، وإن كانوا متفاضلين في السبق، فلو سبق اثنان من الجماعة، فجاءا معاً، وتأخر الباقون، اشترك الاثنان في العشرة، لتساويهما في السبق، فاستويا في الأخذ، ولو سبق خمسة اشتركوا في الأخذ كذلك، ولو سبق تسعة وتأخر واحد اشتركوا في العشرة دون المتأخر منهم، ولو جاؤوا مجيئاً واحداً لما يتأخر عنهم واحد منهم، فلا شيء لهم، لأنه ليس فيهم سابق، ولا مسبوق. والثاني: أن يبذله لجماعة منهم، ولا يبذله لجميعهم، كأنه بذل للأول عوضاً وللثاني عوضاً، ولكل واحد منهم في اللغة اسم إذا تقدم على غيره خاص يقال للسابق الأول: المجلى، والثاني: المصلى، والثالث: التالي، والرابع: البارع، والخامس: المرتاح، والسادس: الحظي، والسابع: العاطف، والثامن: المؤمل، والتاسع: اللطيم، والعاشر: السكيت، وليس لما بعد العاشر اسم إلا الذي يجيء آخر الخيل كلها، يقال له: الفسكل، فإذا بذل لبعض دون بعض، فعلى ضربين: أحدهما: أن يفاضل بين السابق والمسبوق، فيجعل للأول الذي هو المجلى عشرة ويجعل للثاني الذي هو المصلي تسعة، والثالث الذي هو التالي خمسة والرابع الذي هو البارع أربعة، والخامس الذي هو المرتاح ثلاثة، ولا يجعل لمن بعدهم شيئاً فإن هذا جائز، لأنه قد منع المسبوقين وناضل بين السابقين، فحصل التحريض في طلب التفاضل، وخشية المنع. ويتفرع على هذا أن يجعل للسابق عشرة، وللمصلي خمسة، ولا يجعل لمن بعدهم شيئاً، فيكون السابق خمسة والمصلي واحداً، فيقسم الخمسة السابقين بالعشرة لكل واحد درهمان، وينفرد الواحد المصلي بالخمسة، وإن صار بهما أفضل من السابقين؛ لأنه أخذ الزيادة لتفرده بدرجته، ولم يأخذها لتفضيل أصل درجته وقد كان يجوز أن يشاركه غيره في درجته، فيقل سهمه عن سهم من بعده، ثم على هذا القياس إذا جعل للتالي شيئاً ثالثاً، فحصل من كل درجة انفراد أو اشتراك، وجب أن يختص المنفرد بسبق درجته، ويشترك المشتركون بسبق درجتهم. والثاني: أن يسوي فيهم بين سابق ومسبوق كأنه جعل للسابق عشرة وللمصلي عشرة، وفاضل بين بقية الخمسة، وهذا غير جائز؛ لأن مقتضى التحريض، أن يفاضل بين السابق والمسبوق، فإذا تساويا فيه بطل مقصوده فلم يجز وكان السبق من حق المصلي

الذي سوى بينه وبين سابقه باطلاً ولم يبطل في حق الأول، وفي بطلانه في حق من عداه وجهان بناء على اختلاف الوجهين في الذي بطل السبق في حقه، هل يستحق على الباذل أجرة مثله أم لا على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي إنه لا أجرة له على الباذل لأن منعه عائد عليه لا على الباذل. فعلى هذا يكون السبق في حق من بعده، باطلاً، لأنه يجوز أن يفضلوا به عن من سبقهم. والثاني: وهو قول أبي علي الطبري أن له على الباذل أجرة مثله؛ لأن من استحق المسمى في العقد الصحيح استحق أجرة المثل في العقد الفاسد اعتباراً بكل واحد من عقدي الإجارة والجعالة، فعلى هذا يكون السبق في حق من بعده صحيحاً، ولكل واحد منهم ما سمى له، وان كان أكثر مثل من بطل السبق في حقه، لأنه لا يجوز أن يفضلوا عليه إذا كان مستحقاً بالعقد، وهذا مستحق بغيره. ويتفرع على هذا إذا جعل للأول عشرة، ولم يجعل للثاني شيئاً، وجعل للثالث خمسة وللرابع ثلاثة، ولم يجعل لمن بعدهم شيئاً، فالثاني خارج من السبق لخروجه من البدل ومن قيام من بعده مقامه وجهان: أحدهما: يقوم الثالث مقام الثاني، ويقوم الرابع مقام الثالث؛ لأنه يصير وجوده بالخروج من السبق كعدمه، فعلى هذا يصح السبق فيها، بالمسمى لهما بعد الأول. والثاني: أنهم يترتبون على التسمية ولا يكون خروج الثاني منهم بالحكم مخرجاً له من الثالث فعلى هذا يكون السبق فيها باطلاً، لتفضيلها على السابق لهما وهل يكون لهما أجرة مثلها أم لا على ما ذكرنا من الوجهين: والثالث: أن يبذل العوض لجماعتهم، ولا يخلي آخرهم من عوض، فينظر، فإن سوى فيهم بين سابق ومسبوق كان السبق باطلاً، وكان الحكم فيه على ما قدمنا، وإن لم يساو بين السابق والمسبوق، وفضل كل سابق على كل مسبوق، حتى يجعل مستأخرهم أقلهم سهماً، ففي السبق وجهان: أحدهما: أنه جائز اعتباراً بالتفاضل في السبق، فعلى هذا يأخذ كل واحد منهم ما سمي له. والثاني: أن السبق باطل، لأنهم قد تكافؤوا في الأخذ، وإن تفاضلوا فيه، فعلى هذا هل يكون باطلاً في حق الآخر وحده؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه باطل في حقه وحده؟ لأن بالتسمية له فسد السبق. والثاني: أنه يكون باطلاً في حقوق جماعتهم؛ لأن أول العقد مرتبط بآخره، وهل يستحق كل واحد منهم أجرة مثله أم لا على الوجهين المذكورين، فهذا حكم السبق الأول.

مسألة: قال الشافعي: "والثاني يجمع وجهين وذلك مثل الرجلين يريدان أن يستبقا بفرسيهما ولا يريد كل واحد منهما أن يسبق صاحبه ويخرجان سبقين فلا يجوز إلا بالمحلل وهو أن يجعل بينهما فرساً ولا يجوز حتى يكون فرساً كفؤاً للفرسين لا يأمنان أن يسبقهما". قال في الحاوي: وهذا هو السبق الثاني من الأسباق الثلاثة وهو: أن يستبق الرجلان، ويخرج كل واحد منهما سبقاً من ماله يأخذه السابق منهما، وهذا لا يصح حتى يوكلا بينهما محللاً، لا يخرج شيئاً، ويأخذ إن سبق ولا يعطى إن سبق لنص ومعنى. أما النص، فما رواه سفيان عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من أدخل فرساً بين فرسين وهو لا يؤمن أن يسبق فلا بأس به، ومن أدخل فرساً بين فرسين وهو يؤمن أن يسبق، فلا بأس به، ومن أدخل فرساً بين فرسين وهو يؤمن أن يسبق، فإن ذلك هو القمار". وأما المعنى، فهو أن إباحة السبق معتبرة، بما خرج عن معنى القمار هو الذي لا يخلو الداخل فيه من أن يكون غانماً أو غارماً إن أعطي، فإذا لم يدخل بينهما محلل كانت هذه حالها، فكان قماراً، وإذا دخل بينهما محلل غير مخرج يأخذان سبق ولا يعطى إن سبق خرج عن معنى القمار فعل. وهذا الداخل يسمى محللاً لأن العقد صح به، فصار حلالاً ويسميه أهل السبق ميسراً، ويصح العقد به بأربعة شروط: أحدها: أن يكون فرسه كفؤاً لفرسهما، أو أكفأ منهما، لا يأمنان أن يسبقهما فإن كان فرسه أدون من فرسيهما، وهما يأمنان أن يسبقهما لم يصح للنص، ولأن دخوله مع العلم بأنه لا يسبق غير مؤثر من أخذ السبق. والثاني: أن يكون المحلل غير مخرج لشيء وان قل، فإن أخرج شيئاً خرج عن حكم المحلل، فصار في حكم المستبق. والثالث: أن يأخذ إن سبق فإن شرط أن لا يأخذ لم يصح. والرابع: أن يكون فرسه معيناً عند العقد، لدخوله فيه كما يلزم تعين فرس المستبقين، إن كان غير معين بطل. فصل: فإذا صح العقد بالمحلل على استكمال شروطه، فمذهب الشافعي، وما عليه

جمهور أصحابه أن المحلل دخل ليحلل العقد ويحلل الأخذ، فيأخذ إن سبق ويؤخذ به إن سبق. وقال أبو علي بن خيران من أصحابه: إن المحلل دخل لتحلل العقد ويأخذ ولا يؤخذ به وهذا خطأ، لأن التحريض المقصود باستفراه الخيل، ومعاطاة الفروسية غير موجود وإذا لم يؤخذ بالسبق شي، فيصير مانعاً من السبق وإذا أخذ به صار باعثاً عليه وهذا يتضح في التفريع الذي نذكره من بعد. مسألة: قال الشافعي: "ويخرج كل واحد منهما ما تراضيا عليه يتواضعانه على يدي رجل يثقان به أو يضمنانه". قال في الحاوي: ولصحة العقد بينهما مع دخول المعلل أربعة شروط: أحدها: أن يكون العوض، وهو السبق الذي بذلاه معلوماً إما معيناً أو موصوفاً فإن كان مجهولاً لم يصح، لأن الأعواض في العقود ولا تصح إلا معلومة. والثاني: أن يتساويا في جنسه ونوعه وقدره، فإن اختلفا فيه أو تفاضلا لم يصح لأنهما لما تساويا في العقد وجب أن يتساويا في بذله. والثالث: أن يكون فرس كل واحد منهما معيناً، فإن أنهم ولم يعين بطل. والرابع: أن يكون مدى سبقهما معلوماً، والعلم له أن يكون من أحد وجهين إما بتعيين الابتداء والانتهاء، ومعلوماً بالتعين دون المسافة كالإجارة المعينة، وإما المسافة يتفقان عليها مذروعة بذراع مشهور كالإجارة المضمونة، فإن اتفقا على موضع من الأرض ذرعا تلك المسافة حتى يعرف ابتداؤها وانتهاؤها، فإن أغفلا ذكر الأرض، وان كانت التي عقدا فيها السبق يمكن إجراء الخيل فيها: فهي أخص المواضع بالسبق، وان لم يكن إجراء الخيل فيها لحزونتها وأحجارها فأقرب المواضع إليها من الأرض السهلة. فصل: فإذا صح العقد بينهما على شروطه المعتبرة فيها، وفي المحلل الداخل بينهما لم يخل حالهما في حال السبق من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يتفقا على تركه في أيديهما ويثق كل واحد منهما بصاحبه فيحملان على ذلك، ولا يلزم إخراج مال السبق من يد أحدهما إلا بعد أن يصير مسبوقاً، فيؤخذ منه باستحقاقه. والحال الثانية: أن يتفقا على أمين قد تراضيا به، فيؤخذ مال السبق منهما ويوضع على يده، ويعزل مال كل واحد منهما على حدته، ولا يخلطه، فان سبق أحدهما سلم إليه

ماله، ومال المسبوق، فإن سبق المحلل سلم إليه مال السبقين ولم يكن للأمين أجرة على السابق، ولا على المسبوق إلا عن شرط فإن كانت له أجرة في عرف المتسابقين، فمن حمله على عرفهم فيه مع عدم الشرط وجهان من اختلافهم فيمن استعمل خياطاً أو قصاراً، فعملا بغير شرط هل يستحق مثله أم لا؟ على وجهين: أحد الوجهين: أن الأمين يستحق أجرة مثله إذا حكم للصانع بالأجرة، وتكون على المستبقين لا يختص بها السابق، لأنهما أجرة على حفظ المالين. والوجه الثاني: أنه لا أجرة له وإن جرى بها العرف إذا لم يحكم للصانع بالأجرة. والحالة الثالثة: أن يختلفا فاختلافهما على ضربين: أحدهما: أن يختلفا في اختيار الأمين مع اتفاقهما-على إخراجه من أيديهما فيختار الحاكم لهما أميناً يقطع به تنازعهما، وهل يكون إجباره مقصوراً على من تنازعا فيه، أو يكون على العموم في الناس كلهم؟ على وجهين: أحدهما: أن يكون مقصوراً على اختيار أحد الأمينين اللذين وقع التنازع فيهما، لانصراف المتسابقين عن اختيار غيرهما. والثاني: أن يكون عاماً في اختيار من رآه من جميع الأمناء، لأن تنازعهما قد رفع حكم اختيارهم. والثاني: أن يختلفا في إخراجه من أيديهما، فيقول أحدهما: يكون مال كل واحد منا في يده. ويقول الآخر: بل يكون موضوعاً على يد أمينين، وعلى هذا الاختلاف يعتبر مال السبق فإن كان في الذمة، فالقول فيه قول من دعا إلى إقراره معه، لأن العقد على الذمة، ولا يؤخذ إلا باستحقاق، وإن كان معيناً، فالقول فيه قول من دعا إلى وضعه على يد أمين لتعيين الحق فيه، وأنه لا يوصل إليه من غيره. مسألة: قال الشافعي: "ويجري بينهما المحلل فان سبقهما كان السبقان له وإن سبق أحدهما المحلل أحرز السابق ماله وأخذ سبق صاحبه وإن أتيا مستويين لم يأخذ أحدهما من صاحبه شيئاً". قال في الحاوي: وهذا صحيح: يجب أن يجري المحلل فرسه بين فرس المتسابقين لأمرين: أحدهما: أنه لما دخل بينهما للتحليل دخل بينهما في الجري. والثاني: لأنهما بإخراج السبق متنافران فدخل بينهما ليقطع تنافرهما، فإن لم

يتوسطهما، وعدل إلى يمين أو يسار جاز وان أساء إذا تراضيا به المستبقان، فإن لم يتراضيا إلا بأن يجري فرسه بينهما منع من العدول عن توسطهما إلى يمين أو يسار، لأنه تبع لهما، فكان أمرهما عليه أمضى، فإن رضي أحدهما بعدوله عن التوسط ولم يرض به الأخر فالقول قول من دعا إلى التوسط دون الانحراف، لأنه أعدل بينهما وأمنع من تنافرهما، فإن رضيا بانحرافه عن التوسط بينهما، ودعا أحدهما إلى أن يكون متيامناً، ودعا الأخر إلى أن يكون متياسراً لم يعمل على قول واحد منهما، وجعل وسطاً بينهما، لأنه العال المقصود والعرف المعهود، وهذا حكم موضع المحلل. فأما المستبقان فإن اتفقا على المتيامن منهما والمتياسر حملا على اتفاقهما وإن اختلفا فيه يقرع بينهما وأوقف كل واحد منهما في موضع قرعته من يمين أو شمال. فصل: وإذا استقرت بينهما مع المحلل في الجري، فيختار أن يكون في الموضع الذي ينتهي إليه السبق، وهو غاية المدى قصب قد غرزت في الأرض تسميها العرب قصب السبق، ليحوزها السابق منهم. فيقلعها حتى يعلم بسبقه الداني والقاضي، فيسقط به الاختلاف، وربما كر بها راجعاً يستقبل بها المسبوقين إذا كان مفضلاً في السبق متباهياً في الفروسية، وإذا كان كذلك فللمتسابقين والمحلل سبعة أحوال: إحداها: أن ينتهوا إلى الغاية على سواء لا يتقدمهم أحدهم: فليس فيهم سابق ولا مسبوق، فيجوز كل واحد من المتسابقين سبق نفسه، ولا يعطي ولا يأخذ ولا شي للمحلل لأنه لم يسبق. والثانية: أن يسبق المخرجان، فيصلا معاً على سواء، ويتأخر المحلل عنهما فيجوز كل واحد من المخرجين سبق نفسه لاستوائهما في السبق ولا شيء للمحلل لأنه مسبوق. والثالثة: أن يسبق المحلل، ويأتي المخرجان به بعده على سواء أو تفاضل، فيستحق المحلل سبق المخرجين لسبقه لهما. وهذه الأحوال الثلاثة ليس يختلف فيها المذهب. والرابعة: أن يسبق أحد المخرجين ثم يأتي بعده المحلل والمخرج الآخر على سواء، فيجوز السابق سبق نفسه، فأما سبق المسبوق فمذهب الشافعي أن يكون للسابق، ويؤخذ به إن كان مسبوقاً، وقد حصل السبق لغيره، فوجب أن يكون أحق يأخذه، فيكون جميعه للمخرج السابق. وعلى مذهب أبي علي بن خيران أن دخول المحلل ليأخذ ولا يؤخذ به، يكون سبق المتأخر من المخرجين مقراً عليه، لا يستحقه السابق من المخرجين لأنه يعطي ولا يأخذ، ولا يستحقه المحلل، لأنه لم يسبق. والخامسة: أن يسبق المحلل وأحد المخرجين على سواء، يجوز السابق من

المخرجين سبق نفسه، ويكون مال المخرج المسبوق على مذهب الشافعي بين المخرج السابق والمحلل، وعلى مذهب ابن خيران يكون جميعه للمحلل دون المخرج السابق. والسادسة: أن يسبق أحد المخرجين ثم المحلل بعده ثم المخرج الآخر بعد المحلل فعلى مذهب الشافعي يكون مال المسبوق للمخرج الأول لسبقه، وعلى مذهب ابن خيران للمحلل دون السابق. والسابعة: يسبق أحد المخرجين ثم يتلوه المخرج الثاني، ويتأخر عنها المحلل: فعلى مذهب الشافعي: يستحق السابق مال المسبوق، وعلى مذهب ابن خيران لا يستحقه السابق؛ لأنه لا يأخذ، ولا يستحقه المحلل، لأنه لم يسبق، ويكون مقراً على المسبوق، ثم على قياس هذا في اعتبار المذهبين. مسألة: قال الشافعي: "والسبق أن يسبق أحدهما صاحبه وأقل السبق أن يسبق بالهادي أؤ بعضه أو بالكتد أو بعضه" قال في الحاوي: والسبق ضربان: أحدهما: أن يكون مقيداً بأقدام مشروطة كاشتراطهما السبق بعشرة أقدام، ولا يتم السبق إلا بها ولو سبق أحدهما بتسعة أقدام لم يكن سابقاً في استحقاق البدل، وإن كان سابقاً في العمل. والثاني: أن يكوم مطلقاً بغير شرط فيكون سابقاً بكل قليل وكثير. قال الشافعي: "أول السبق أن يسبق بالهادي أو بعضه أو كالكتد أو بعضه" فأما الهادي فهو العنق، وأما الكتد يقال بفتح التاء وكسرها والفتح أشهر وفيه تأويلان: أحدهما: أنه الكتف. والثاني: أنه ما بين أصل العنق والظهر، وهو مجتمع الكتفين في موضع السنام من الإبل، فجعل الشافعي أقل السبق بالهادي والكتد. وقال الأوزاعي: أقل السبق بالرأس، وقال المزني: أقل السبق بالأذن استدلالا بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " بعثت والساعة كفرسي رهان كاد أحدهما أن يسبق الآخر بإذنه " والمقصود بهذا الخبر ضرب المثل على وجه المبالغة، وليس بحد لسبق الرهان كما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من بنى لله بيتا ولو كمفحص قطاة بنى الله له بيتاً في الجنة " وان كان بيت لا يبنى كمفحص القطاة، وإنما لم يعتبر بالأذن كما قال المزني، ولا بالرأس كما قال الأوزاعي، لأن من الخيل ما يزجي أذنه ورأسه، فيطول ومنها ما يرفعه،

فتقصر فلم يدل واحد منهما على التقديم، وإذا سقط اعتبارها ثبت اعتبار الهادي والكتد، ولو اعتبر السبق بأيديهما، فأيهما تقدمت يداه، وهو السابق كان عندي أصح، لأن السعي بهما والجري عليهما، لكن الشافعي اعتبره بالهادي والكتد. فأما السبق بالكتد فمتحقق، سواء اتفق الفرسان في الطول والقصر أو تفاضلا. وأما السبق بالهادي، وهو العنق، فلا يخلو حال الفرسين أن يتساويا فيه أو يتفاضلا، فإن تساويا في طوله أو قصره، فأيهما سبق بالعنق كان سابقاً، وان تفاضلا في طوله أو قصره، فإن سبق بالعنق أقصرهما عنقاً كان سابقاً، وان سبق بالعنق أطولهما عنقاً لم يكن سابقاً إلا أن ينضاف السبق بكتده، لأنه سبقه بعنقه إنما كان لطوله لا لزيادة جريه فإن قيل: فإذا كان السبق بالكتد صحيحاً مع اختلاف الخلقة، فلم أعتبر بالعنق الذي يختلف حكمها باختلاف الخلقة. قيل: لأن السبق بالكتد يتحقق للقريب دون البعيد، والسبق بالعنق يشاهده، ويتحققه القريب والبعيد، وربما دعت الضرورة إليه ليشاهده شهود السبق فشهدوا به للسابق شهوداً يستوقفون عند الغاية ليشهدوا للسابق على المسبوق فلو سبق أحدهما عند الغاية بهاديه أو كتده ثم جريا بعد الغاية، فتقدم المسبوق بعدها على السابق بهاديه أو كتده كان السبق لمن سبق عند الغاية دون من سبق بعدها، لأن ما يجاوز الغاية غير داخل في العقد، فلم يعتبر، وهكذا لو سبق أحدهما قبل الغاية ثم سبق الآخر عند الغاية كان السبق لمن سبق عند الغاية دون من سبق قبلها لاستقرار العقد على السبق إليها. مسألة: قال الشافعي: "وسواء لو كانوا مائة وأدخلوا بينهم محللا فكذلك ". قال في الحاوي: وهذا صحيح؛ لأن كثرة المتسابقين لا يوجب كثرة المحللين؛ لأن دخول المحلل ليكون فيهم من يأخذ ولا يعطي حتى يصير خارجاً من ذكر القمار، وهذا موجود في دخول الواحد بين مائة متسابق، وإن كان الأولى أن يكثر المحللون إذا كثر المتسابقون، ليكون من القمار أبعد، وإن خرج من حكم القمار بالواحد، وعلى هذا لو دخل بين الاثنين محللان فأكثر كان جائزاً وإن عقد السبق بالمحلل على شرط فاسد أوجب سقوط المسمى فيه ثم سبق أحدهما نظر فيه، فإن كان هو المحلل، استحق أجرة مثله على المتسابقين تكون بينهما نصفين يستوي في التزامها من تقام منهما، ومن تأخر ويستحقها وجهاً واحداً لأنه معهما كالأجير وإن سبق أحد المخرجين فلا شيء للمحلل، وهل يستحق السابق على المتأخر أجرة مثله أم لا؟ على ما قدمنا من الوجهين.

مسألة: قال الشافعي: "والثالث أن يسبق أحدهما صاحبه فان سبقه صاحبه أحذ السبق وإن سبق صاحبه أحرز سبقه". قال في الحاوي: وهذا هو السبق الثالث من الأسباق الثلاثة، وهو أن يستبق الرجلان على أن يخرج أحدهما مال السبق دون الآخر، فإن سبق مخرج المال أحرز مال نفسه، ولا شيء على المسبوق، فإن سبق غير المخرج أخذ مال المخرج، وهذا سبق جائز لأنه يصير غير المخرج منهما محللاً، فصار به خارجاً من حكم القمار. وهكذا لو كانوا ثلاثة، وأخرج مال السبق منهم، اثنان أو عشرة، فأخرج مال السبق منهم تسعة صح وكان غير المخرج كالمحلل. فإن تسابق الرجلان يخرج أحدهما المال دون الآخر على شرط فسد به العقد بينهما ثم سبق أحدهما نظر. فإن كان السابق مخرج المال، فلا شيء له على المسبوق لدخوله في العقد على غير بدل وإن سبق غير المخرج نفس استحقاقه أجرة مثله على المسبوق المخرج وجهان مضيا. مسألة: قال الشافعي: "ولا يجوز الشبق إلا أن تكون الغاية التي يخرجان منها وينتهيان إليه واحدة". قال في الحاوي: وهذا صحيح؛ لأن من شرط صحة السبق من مسافة السباق ثلاثة شروط: أحدها: أن تكون مسافة السبق معلومة الانتهاء فيشترطان، الجري من ابتداء معلوم إلى غاية معلومة؛ لأنه من عقود المعاوضات المحروسة بالابتداء من الجهالة، فإن استبقا على غير غاية على أن أيهما سبق صاحبه كان سابقاً من قريب المدى وبعيده لم يجز لعلتين: إحداهما: أن من الخيل من يشتد جريه في الابتداء، ويضعف في الانتهاء وهو عتاقها، ومنها ما يضعف في الابتداء ويشتد في الانتهاء، وهو هجانها، ولا يتحقق السابق منها مع جهالة المدى. والثانية: أن يفضي ذلك منهما إلى إجراء الخيل حتى تنقطع، وتهلك طلباً للسبق فمنع منه، فأما الرمي إذا عقد بين المترامين على أن أيهما أبعد سهماً فهو فاضل ففي صحته وجهان:

أحدهما: أنه لا يصح كالسبق بالخيل حتى يعقد على عدد الإصابة دون بعد المدى. والثاني: يصح أن يعقد على بعد المدى كما يصح أن يعقد على عدد الإصابة؛ لأن كل واحد من بعد المدى، ومن الإصابة مؤثر في العقد، فصح العقد عليهما، ولا يؤثر في العقد إجراء الخيل بالسبق إلى غاية فافترقا. والشرط الثاني: أن تكون المسافة المشروطة مسماة يمكن أن ينتهي شوط الفرس إليها غير منقطع في العرف، فإن زادت حتى لا ينتهي شوطه إليها إلا منقطعاً لم تجز لتحريم ذلك من حقوقهما وأن الانتهاء إليها ممتنع، فإن كانت مسافة السبق تنتهي إليها هجان الخيل الشديدة دون عتاقها الضعيفة جاز الاستباق إليها بالهجان دون العتاق، وكذلك لو كانت مسافة ينتهي إليها شوط الإبل دون الخيل جاز الاستباق إليها بالإبل دون الخيل. والشرط الثالث: أن يتساويا في ابتداء الجري وانتهائه ليكونا في الغاية متساويين، ولا يفصل أحدهما بشيء في الابتداء والانتهاء، وإن فضل أحدهما صاحبه بشيء، وإن قل فسد السبق، لأن المقصود بالسبق العلم بأفره الفرسين ولا يعلم ذلك مع التفضيل، والله أعلم. فصل: وإذا عثر أحد الفرسين أو ساخت قوائمه في الأرض، فسبق الآخر لم يحتسب له بالسبق، لأن العثرة أخرته، ولو كان العاثر هو السابق احتسب سبقه، لأنه إذا سبق مع العثرة كان بعدها أسبق، ولو وقف أحد الفرسين بعد الجري حتى وصل الآخر إلى غايته كان مسبوقاً إن وقف لغير مرض، ولا يكون مسبوقاً إن وقف لمرض فأما إن وقف قبل الجري لم يكن مسبوقاً سواء وقف لمرض أو غير مرض، لأنه بعد الجري مشارك، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "والنضال فيما بين الرماة كذلك في السبق والعلل يجوز في كل واحد منهما ما يجوز في الآخر ثم يتفرعان فإذا اختلفت عللهما اختلفا". قال في الحاوي: أما السباق فاسم يشتمل على المسابقة بالخيل حقيقة وعلى المسابقة بالرمي مجازاً، ولكل واحد منهما اسم خاص: فتختص الخيل بالرهان، ويختص الرمي بالنضال. فأما قولهم: سبق فلان بتشديد الباء فمن أسماء الأضداد يسمى به من أخرج مال السبق، ويسمى به من أحرز مال السبق، وقد مضى حكم السباق بالخيل.

فأما السباق بالنضال فهما في الإباحة سواء، والخلاف فيهما واحد، وقد تقام الدليل عليهما، وقد ذكر الشافعي ها هنا كلاماً اشتمل على أربعة فصول: أحدهما: قوله: "والنضال فيما بين الرماة كذلك في السبق والعلل" يريد بهذا الفصل أمرين: أحدهما: جواز النضال بالرمي كجواز السباق بالخيل. والثاني: اشتراكهما في التعليل لإرهاب العدو بهما، لقول الله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]. والفصل الثاني: قوله: "يجوز في كل واحد منهما ما يجوز في الآخر" يريد بهذا أن الأسباق في النضال ثلاثة كما كانت الأسباق في الخيل ثلاثة: أحدها: أن يخرج الوالي مال السبق فيجوز كجوازه في الخيل. والثاني: أن يخرجه المتناضلان، فلا يجوز حتى يدخل بينهما محلل يكون رميه كرميهما أو أرمى منهما، كما لا يجوز في الخيل إلا محلل يكون فرسه كفؤا لفرسيهما أو أكفأ. والثالث: أن يخرجه أحد المتناضلين، فيجوز كما يجوز في الخيل إذا أخرجه أحد المتسابقين. والفصل الثالث: قوله: "ثم يتفرعان" يريد به أمرين: أحدهما: أن الأصل في سباق الخيل الفرس والراكب تبع، والأصل في النضال الرامي، والآلة تبع، لأن المقصود في سباق الخيل فراهة الفرس، ولو أراد أن يبدله بغيره لم يجز ويجوز أن يبال الراكب بغيره. والمقصود في النضال حذق الرامي، ولو أراد أن يستبدل بغيره لم يجز، ويجوز أن يبدل آلته بغيرها. والثاني: أنه في النضال من تفريع المرمى بالمبادرة والمخاطبة ما لا يتفرع في سباق الخيل. والفصل الرابع: قوله: "فإذا اختلفت عللهما اختلفا" يريد به أنه لما كان المقصود في سباق الخيل الفرس دون الراكب لزم تعيين الفرس، ولم يلزم تعيين الراكب، ومتى مات الفرس بطل السبق ولا يبطل بموت الراكب إن لم يكن هو العاقد وفي بطلانه بموت العاقد قولان: أحدهما: لا يبطل بموته إذا قيل: إنه كالإجارة. والثاني: يبطل بموته إذا قيل: إنه كالجعالة ولما كان المقصود في النضال الرامي دون الآلة لزم تعيين الرامي، ولم يلزم تعيين الآلة، وبطل النضال إذا مات الرامي، ولم يبطل إذا انكسر القوس، فقد اختلف حكمهما كما اختلفت عللهما.

مسألة: قال الشافعي: "فإذا سبق أحدهما صاحبه وجعلا بينهما قرعاً معلوماً فجائز أن يشترطا محاطة أو مبادرة". قال في الحاوي: اعلم أن عقد الرامي معتبر بعشرة شروط: أحدها: أن يكون الراميين متعينين، لأن العقد عليهما والمقصود به حذفهما، فإن لم يتعينا بطل العقد سواء وصفا أو لم يوصفا كما لو أطلق في السبق الفرسان، فإن لم يتعينا كان باطلاً، ولا يلزم تعيين الآلة، ولكل واحد منهما أن يرمي عن أي قوس شاء، وبأي سهم أحب، فإن عينت الآلة لم يتعين وبطلت في التعيين، فإن قيل: فيرمي عن هذين القوسين لم يؤثر في العقد جاز لهما الرمي عنهما، وبغيرهما وإن قيل: على أن لا يرمي عن هذين القوسين كان العقد فاسداً، لأنه على الوجه الأول صفة، وعلى الوجه الثاني شرط. فصل: والشرط الثاني: أن يكون عدد الرمي معلوماً، لأن العمل المعقود عليه ليكون غاية رميهما فيه منتهياً إليه، ويسمى الرشق: يقال بفتح الراء وبكسرها فالرشق بفتح الراء هو الرمي، والرشق بكسر الراء عدد الرمي، وعرف الرماة في الرمي أن يكون من عشرين إلى ثلاثين فإن عقد له على أقل منها أو أكثر جاز. فصل: والشرط الثالث: أن يكون عدد الإصابة الرشق معلوماً ليعرف به الناضل من المنضول، وأكثر ما يجوز أن يشترط فيه الإصابة، فأنقص من عدد الرشق المشروط بشيء وإن قل ليكون متلافياً للخطأ الذي يتعذر أن يسلم منه المتناضلان فقد قيل: إن أحذق الرماة في العرف من أصاب من العشرة ثمانية، فإن شرط إصابة الكل من الكل بطل، لتعذره في الأغلب، وإن شرطا إصابة ثمانية من العشرة جاز، فإن شرطا إصابة تسعة من العشرة، ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لبقاء سهم الخطأ. والثاني: لا يجوز لأن إصابته نادرة. فأما أقل ما يشترط في الإصابة فهو ما يحصل فيه القاصد وهو ما زاد على الواحد، وقد نص الشافعي في كتاب الأم على مسألة، فقال: "فلو تناضلا على أن الرشق عشرة والإصابة من تسعة لم يجز" واختلف أصحابنا في تأويلها على وجهين: أحدهما: تأويلها أن يشترط إصابة تسعة من عشرة فيبطل على ما ذكرناه من أحد

الوجهين. والثاني: تأويلها أن يشترط أن يكون الرشق عشرة، والإصابة محتسبة في تسعة دون العاشر فيبطل وجهاً واحداً لاستحقاق الإصابة في جميع الرشق به، فإن أغفلا عدد الإصابة وعقداه على أن يكون الناضل منهما أكثرهما إصابة، ففيه وجهان: أحدهما: من التعليلين في اشتراط فعله في سباق الخيل إذا عقداه إلى غير غاية ليكون السابق من تقدم في أي غاية كانت، وهو باطل في الخيل لعلتين: إحداهما: أن من الخيل ما يقوى جريه في ابتدائه، وتضعف في انتهائه ومنها ما هو بضده فعلى هذا يكون النضال على كثرة الإصابة باطلاً، لأن من الرماة من تكثر إصابته في الابتداء وتقل في الانتهاء، ومنهم من هو بضده. والثانية: أن إجراء الخيل إلى غير غاية مفض إلى انقطاعها، فعلى هذا يجوز النضال على كثرة الإصابة؛ لأنه غير مفض إلى انقطاع الرماة. فصل: والشرط الرابع: أن تكون مسافة ما بين موقف الرامي والهدف معلومة، لأن الإصابة تكثر مع قرب المسافة، وتقل مع بعدها، فلزم العمل بها، وأبعدها في العرف ثلاثمائة ذراع، وأقلها ما يحتمل أن يصاب وأن لا يصاب، فإن أغفلا مسافة الرمي، فلها ثلاثة أحوال: إحداها: أن لا يكون للرماة هدف منصوبء ولا لهم عرف معهود، فيكون العقد باطلاً للجهل بما تضمنه. والحال الثانية: أن يكون للرماة الحاضرين هدف منصوب، وللرماة فيه موقف معروف، فيصح العقد ويكون متوجهاً إلى الهدف الحاضر من الموقف المشاهد، والرماة يسمون موقف الرامي الوجه. والحالة الثالثة: أن لا يكون لهم هدف منصوب، ولكن لهم فيه عرف معهود، ففيه وجهان: أصحهما: يصح العقد مع الإطلاق، ويحملان فيه على العرف المعهود كما يحمل إطلاق الأثمان على غالب النقد المعهود. والثاني: أن العقد باطل، لأن قذف الرماة يختلف، فاختلف لأجله حكم الهدف فلم يصح حتى يوصف. فصل: والشرط الخامس: أن يكون الغرض من الهدف معلوماً، لأنه المقصود بالإصابة. أما الهدف فهو تراب يجمع أو حائط يبنى، وأما الغرض فهو جلد أو شيء بالٍ ينصب في الهدف، ويختص بالإصابة، وربما جعل في الغرض دارة كالهلال تختص

بالإصابة من جملة الغرض، وهي الغاية في المقصود من حذق الرماة. وإذا كان كذلك، فالعلم بالغرض يكون من ثلاثة أوجه: أحدها: موضعه من الهدف في ارتفاعه وانخفاضه؛ لأن الإصابة في المنخفض أكثر منها في المرتفع. والثاني: قدر الغرض في ضيقه وسعته، لأن الإصابة في الواسع أكثر منها في الضيق، وأوسع الأغراض في عرف الرماة ذراع، وأقله أربع أصابع. والثالث: قدر الدارة من الغرض إن شرطت الإصابة بها. فصل: والشرط السادس: أن يكون محل الإصابة معلوماً هل هو في الهدف أو في الغرض أو في الدارة؟ لأن الإصابة في الهدف أوسع، وفي الغرض أوسط، وفي الدارة أضيق، وإن أغفل ذلك كان جميع الغرض محللاً للإصابة؛ لأن ما دونه تخصيص، وما زاد عليه فهو بالغرض مخصوص. فإن كانت الإصابة مشروطة في الهدف سقط اعتبار الغرض، ولزم وصف الهدف في طوله وعرضه، وإن شرطت الإصابة في الغرض سقط اعتبار الهدف، ولزم وصف الغرض وإن شرطت الإصابة في الدارة سقط اعتبار الغرض ولزم وصف الدارة. فصل: والشرط السابع: أن تكون الإصابة موصوفة بقرع أو خزق أو خسق. فالقارع: ما أصاب الغرض، ولم يؤثر فيه. والخازق: ما ثقب الغرض، ولم يثبت فيه. والخاسق: ما ثبت من الغرض، بعد أن ثقب. ولا يحتسب بالقارع في الخزق والخسق، ويحتسب بالخاسق في القرع، ولا يحتسب به في الخسق، ويحتسب بالخازق في القرع والخزق، وينطلق على جميع هذه الإصابات اسم الخواصل وهو جمع خصال، فإن أغفل هذا الشرط كانت الإصابة محمولة على القرع، لأن ما عداه زيادة. فصل: والشرط الثامن: أن يكون حكم الإصابة معلوماً هل هو مبادرة أو محاطة لأن حكم كل واحد منهما مخالف لحكم الآخر، والمبادرة أن يبادر أحدهما إلى استكمال إصابته في أقل العددين على ما سنصفه. والمحاطة: أن يحط أقل الإصابتين من أكثرهما، ويكون الباقي بعدها هو العدد المشروط على ما سنشرحه، فإن أغغلا ذلك وما يشترطاه فد العقد إن لم يكن للرماة

عرف معهود بأحدهما، وفي فساده إن كان لهم عرف معهود وجهان على ما تقدم. فصل: والشرط السابع: أن يكون المال المخرج في النضال معلوماً؛ لأنه عوض في عقد، ويسمى هذا المال المخرج السبق بفتح الباء ويسمى الخطر، ويسمى الندب، ويسمى الوجب: وكل ذلك من أسمائه، فإن أغفل ذكر الغرض كان باطلاً، ولا شيء للناضل إذا نضل، وإن جهل الغرض كان العقد باطلاً، في استحقاقه لأجرة مثله إذا نضل وجهان. فصل: والشرط العاشر: أن يذكر المبتدئ منهما بالرمي، وكيفية الرمي هل يتراميان سهماً وسهماً أو خمساً وخمساً، ليزول التنازع، ويعمل كل واحد منهما على شرطه فإن أغفل ذكر المبتدئ منهما بالرمي، ففي العقد قولان: أحدهما: باطل. والثاني: جائز. وفي المبتدئ وجهان: أحدهما: مخرج المال. والثاني: من قرع. وإن أغفل عدد ما يرميه كل واحد منهما في بدئه فالعقد صحيح، ويحملانه على عرف الرماة إن لم يختلف، فإن اختلف عرفهم رميا سهماً، فهذه عشرة شروط يعتبر بها عقد المناضلة. فأما قول الشافعي في هذه المسألة: "وكذلك لو سبق أحدهما قرعاً معلوماً" فقد اختلف أصحابنا في مراده بالقرع على ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه أراد به المال ويكون من أسمائه كالوجب والندب والحظر _ ذكره أبو حامد الإسفراييني، وحكاه عن ابن الأعرابي. والثاني: وهو المشهور في قول أصحابنا إنه أراد صفة الإصابة أنها قرع لا خزق ولا خسق. والثالث: أنه أراد بالقرع الرشق في عدد الرمي، وله على كل واحد من هذه الوجوه الثلاثة حكم بيناه _ وبالله التوفيق _. مسألة: قال الشافعي: "فإن اشتترطا محاطة فكلما أصاب أحدهما وأصاب الآخر بمثله

أسقطا العددين ولا شيء لواحد منهما ويستأنفان وإن أصاب أقل من صاحبه حط مثله حتى يخلص له فضل العدد الذي شرط فينضله به". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن النضال على ضربين: محاطة ومبادرة، فبدأ الشافعي بذكر المحاطة، لأنها كانت غالب الرمي في زمانه، وقيل: إنه كان راميا ييب من العشرة ثمانية في الغالب وهي عادة حذاق الرماة. فإذا عقدا سبق النضال على إصابة خمسة من عشرين محاطة ورماية وجب أن تحط أقل الإصابتين في أكثرهما وينظر في الباقي بعد الحط، فإن كان خمسة، فهو القرد المشروط فيصير صاحبه به ناضلاً. وإن كان الباقي أقل من خمسة لم ينضل، وإن كان أكثر أصابه لنقصانه من العدد المشروط، فإذا كان كذلك لم يخل حالهما بعد الرمي من أحد أمرين: إما أن يتساويا في الإصابة أو يتفاضلا. فإن تساويا في الإصابة، فأصاب كل واحد منهم عشراً عشراً أو خمساً خمساً، قال الشافعي: "فلا شيء لواحد منهما وليستأنفان"، فاختلف أصحابنا في مراده بقوله: "وليستأنفان " على وجهين حكاهما ابن أبي هريرة: أحدهما: يستأنفان الرمي بالعقد الأول؛ لأن عقد المحاطة ما أوجب حط الأقل من الأكثر وليس مع التساوي عقد حط، فخرج من عقد المحاطة، فلذلك استأنفا الرمي ليصير ما يستأنفانه في عقود المحاطة. والثاني: أنه أراد بهما يستأنفان عقداً مستجداً إن أحبا، لأن العقد الواحد لا يلزم فيه إعادة الرمي مع التكافؤ كما لا يلزم في الخيل إعادة الجري مع التكافؤ والذي أراه - وهو عندي الأصح _ أن ينظر. فإن تساويا في الإصابة قبل الرشق استأنفا الرمي بالعقد الأول، وإن تساويا فيه بعد استكمال الرشق استأنفاه بعقد مستجد إن أحبا، لأنهما قبل استكمال الرشق في بقايا أحكام العقد وبعد استكماله قد نقضت جميع أحكامه. فصل: فإن تفاضلا في الإصابة لم يخل تفاضلهما فيها من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يفضل، ولا ينضل بما فضل، وهو أن يشترطا إصابة خمسة من عشرين محاطة، فيصيب أحدهما عشرة أسهم، ويصيب الآخر ستة أسهم فتحط الستة من العشرة، فيكون الباقي منها أربعة فلا ينضل، لأن شرط الإصابة خمسة، وهكذا لو أصاب أحدهما خمسة عشر، وأصاب الآخر أحد عشر لم ينضل الفاضل، لأن الباقي له بعد الخط أربعة ثم على هذه العبرة إذا كان الباقي أقل من خمسة. والقسم الثاني: أن ينضل بما فضل بعد استيفاء الرشق، وهو أن يصيب أحدهما

خمسة عشر من عشرين، ويصيب الآخر عشرة من عشرين، فينضل الفاضل، لأنها إذا أسقطت من إصابته عشرة كان الباقي بعدها خمسة، وهو عدد النضل، وهكذا لو أصاب أحدهما عشرة، وأصاب الآخر خمسة كان الفاضل ناضلاً، لأنه إذا أسقطت الخمسة من إصابته كان الباقي بعدها خمسة، وهو عدد النضل، وهكذا لو كان الباقي بعد الحط أكثر من خمسة، ثم على هذه العبرة. والقسم الثالث: أن ينضل بما فضل قبل استيفاء الرشق، وهو أن يصيب أحدهما عشرة من خمسة عشرة، ويصيب الآخر خمسة من خمسة عشرة، ويكون الباقي من الأكثر خمسة هي عدد النضل فهو يستقر النضال بهذا قبل استيفاء الرشق أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يستقر النضل ويسقط باقي الرشق؛ لأن مقصوده معرفة الأحذق، وقد عرف. والوجه الثاني: - وهو الأظفر - أنه لا يستقر النضل بهذه المبادرة إلى العدد حتى يرميا بقية الرشق، لأن العقد قد تضمنها، وقد يجوز أن يصيب المفضول جميعها أو أكثرها ويخطى، الفاضل جميعها أو أكثرها. وعلى هذا يكون التفريع، فإذا رميا بقية الرشق، وهو الخمسة الباقية فإن أصاب المفضول جميعها أو أخطأ الفاضل جميعها، فقد استويا ولم ينضل واحد منهما لأن إصابة كل واحد منهما عشرة وإن أصاب الفاضل، وأخطأ المفضول جميعها استقر فضل الفاضل، لأنه أصاب خمسة عشر من عشرين، وأصاب المفضول خمسة من عشرين فكان الباقي بعد الحط عشرة هي أكثر من شرطه، فلو أصاب الفاضل من الخمسة الباقية سهماً وأصاب المفضول سهمين لم يفضل الفاضل، لأن عدد إصابته أحد عشر سهماً، وعدد إصابة المفضول سبعة إذا حطت من تلك الإصابة كان الباقي أربعة والشرط أن تكون خمسة فلذلك لم ينضل وان فضل، فلو أصاب سهمين، والمفضول سهمين صار الفاضل ناضلاً، لأنه أصاب اثني عشرة، وأصاب المفضول سبعة ليبقى للفاضل بعد الحط خمسة. ولو أصاب أحدهما سبعة من عشرة وأصاب الأخر سهمين من عشرة، فإذا رميا بقية السهام فإن أصاب المفضول جميعها، وأخطأ الفاضل جميعها صار الأول ناضلاً والثاني منضولاً لأن الأول له سبعة والثاني اثنا عشر يبقى له بعد الحط خمسة، ولو أصاب الأول جميعها، وأصاب الثاني جميعها كان الأول ناضلاً؛ لأن إصابته سبعة عشر وإصابة الثاني اثنا عشر، فإن أخطأ الأول في سهم من بقية الرشق لم يفضل ولم ينضل، ولو أصاب اثني عشر من خمسة عشر، وأصاب الآخر سهمين من خمسة عشر استقرّ النضل، وسقط بقية الرشق وجهاً واحداً، لأن المفضول لو أصاب جميع الخمسة الباقية في الرشق حتى استكمل بما تقدم سبعة كان منضولاً لأن الباقي للفاضل بعد حطها خمسة فلم يستفد ببقية الرمي أن يدفع عن نفسه النضل، فسقط ثم على هذه العبرة.

مسألة: قال الشافعي: "ويستحق سبقه يكون ملكاً له يقضي به عليه كالدين يلزمه إن شاء أطعم أصحابه وان شاء تموله". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا نضل الرامي ملك مال النضال، وكذلك في السبق، وصار كسائر أمواله، فإذ كان عيناً استحق أخذها وإن كان ديناً استوجب قبضه، ولم يلزمه أن يطعمه أصحابه من أهل النضال والسباق. وحكى الشافعي عن بعض فقهاء الرماة أن عليه أن يطعمه أصحابه، ولا يجوز أن يتملكه، وهذا فاسد لأنه لا يخلو إما أن يكون كمال الإجارة أو مال الجعالة؛ لأن عقده متردد يبن هذين العقدين، والعوض في كل واحد منهما مستحق يتملكه مستحقه، ولا تلزمه مشاركة غيره، فبطل ما قاله المخالف فيه، فعلى هذا إن مطل به المنضول قضى به الحاكم عليه، وحسبه فيه، وباع عليه ملكه، وإن مات أو أفلس ضرب به مع غرمائه ويقدم به على ورثته. مسألة: قال الشافعي: "وإن أخذ به رهناً أؤ ضميناً فجائز". قال في الحاوي: أعلم أن مال النضال لا يخلو إما أن يكون معينا أو في الذمة، فإن كان معينا لم يجز أخذ الرهن منه، ولا الضمين لأن الأعيان لا تستوفي من رهين ولا ضامن، فلم يصح فيها رهن ولا ضمان، وإن كان في الذمة، فإن استقر المال بالفلج جاز أخذ الرهن فيه، والضمين لاستقراره في الذمة كسائر الديون، وان لم يستقر بالفلج كان أخذ الرهن فيه والضمين لاستقراره في الذمة كسائر الديون، وان لم يستقر بالفلج كان أخذ الرهن فيه والضمين معتبرا بحكم العقد في اللزوم والجواز، فإن قيل بلزومه كالإجارة جاز أخذ الرهن فيه، والضمين كالأجرة، وإن قيل بجوازه كالجعالة، ففي جواز أخذ الرهن والضمين فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يجوز أخذهما منه لأن العوض فيه غير لازم. والثاني: يجوز أن يؤخذ فيه لأنه مفض إلى اللزوم. والثالث: أنه يجوز أن يؤخذ فيه الضمين، ولا يجوز أن يؤخذ فيه الرهن، لأن حكم الضمان أوسع من حكم الرهن كما يجوز ضمان الدرك، ولا يجوز أخذ الرهن فيه. مسألة: قال الشافعي: "ولا يجوز السبق إلا معلوماً كما لا يجوز في البيوع".

قال في الحاوي: وهذا صحيح يريد باسلبق المال المخرج في العقد، فلا يصح معه العقد حتى يكون معلوماً من وجهين إما بالتعيين كاستباقهما على عين شاهد، وإما بصفة كاستباقهما على مال في الذمة؛ لأنه من عقود المعاوضات كالبيع والإجارة، فإن تسابقا على ما ينفقان عليه أو على ما يحكم به زيد كان باطلاً للجهالة به عند العقد. ولو تسابقا وتناضلا على مثل ما يسابق أو يناضل به زيد وعمرو، فإن كان ذلك بعد علمهما بقدره صح، وإن كان قبل علمهما بقدره بطل، ولو كان لأحدهما في ذمة الآخر قفيز من حنطة، فتناضلا عليه، فإن كان القفيز مستحقاً من سلم لم يصح لأن المعاوضة على السلم قبل قبضه لا تصح، وإن كان عن غصب صحّ، لأن المعاوضة عليه قبل قبضه تصح، وان كان من قرض، فعلى وجهين من الوجهين في صحة المعاوضة عليه قبل قبضه ولو تناضلا على دينار إلا دانقاً صحّ، ولو تناضلا على دينار إلا درهماً لم يصح، لأن يكون بالاستثناء من جنسه معلوماً، وبالاستثناء من غير جنسه مجهولا، ولو تناضلا على دينار معجل وقفيز حنطة مؤجل صح، لأنه على عوضين حال ومؤجل، ولو تناضلا على أن يأخذ الناضل ديناراً ويعطى درهماً لم يجز لأن الناضل من شرطه أن يأخذ ولا يعطي، ولا تناضلا على دينار بذله أحدهما فإن نضل دفعه، ولم يرم أبداً أو شهراً كان العقد فاسداً، لأنه قد شرط فيه الامتناع، وهو مندوب إليه، فبطل وإذا تناضلا وقد فسد العقد بما ذكرنا، فنضل أحدهما، فإن كان الناضل باذل المال، فلا شيء على المنضول، وان كان الناضل غير الباذل ففي استحقاقه لأجرة مثله على الباذل وجهان على ما مضى. مسألة: قال الشافعي: "ولو اشترط أن يطعم أصحابه كان فاسداً". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن مال السبق يملكه الناضل، ولا يلزمه أن يطعمه أصحابه، فإن شرط عليه في العقد أن يطعمه أصحابه، ولا يملكه كان الشرط فاسداً لأنه ينافي موجب العقد، وفي فساد العقد به وجهان: أحدهما: وهو الظاهر مذهب الشافعي أن العقد يفسد بفساد الشرط كالبيع. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي، وبه قال أبو حنيفة أن العقد صحيح لا يفسد بفساد هذا الشرط، لأن نفعه لا يعود على مشترطه وكان وجوده كعدمه. مسألة: قال الشافعي: "وقد رأيت من الرماة من يقول صاحب السبق أولى أن يبدأ والمسبق لهما يبدئ أيهما شاء ولا يجوز في القياس عندي إلا أن يتشارطا". قال في الحاوي: أما اشتراط الابتداء فهو معتبر في الرمي دون السبق لأنهما في

السبق يتساويان في الجري معاً لا يتقدم أحدهما على الآخر. وأما الرمي فلا بد أن يبتدئ به أحدهما قبل الآخر ولا يرميان معاً لاختلاط رميهما ولما يخاف من تنافرهما، فإن شرطا في العقد البادئ، منهما بالرمي كان أحقهما بالابتداء سواء كان المبتدئ مخرج المال أو غير مخرجه فمان أراد بعد استحقاقه التقدم أن يتأخر لم يمنع؛ لأن التقدم حق له، وليس يحق عليه وان أغفل في العقد اشتراط البادئ بالرمي، ففي العقد قولان: أحدهما: وهو اختيار الشافعي في هذا الموضع أن العقد باطل لأن للبداية تأثيراً في قوة النفس، وكثرة الإصابة، فصارت مقصودة، فبطل العقد بإغفالها. والثاني: أن العقد صحيح، وإن غفلت فيه البداية. وقد حكاه الشافعي عن بعض فقهاء الرماة لأنه من توابع الرمي الذي يمكن تلافيه بما تزول التهمة فيه من الرجوع إلى عرف أو قرعه فعلى هذا إذا كان مخرج المال أحدهما كان هو البادئ بالرمي اعتباراً بالعرف وفيه وجه أخر أنه يقرع بينهما وإن كان باذل المال غيرهما كان لمخرج المال أن يقدر من شاء منهما اعتباراً بالعرف. وفيه وجه آخر: أن يقرع بينهما، فإن كانا مخرجين للمال أقرع بينهما لتكافئهما، وهل يدخل المحلل قرعتهما أو يتأخر عنهما على وجهين: أحدهما: يتأخر ولا يدخل في القرعة إذا قيل: إن مخرج المال يستحق التقدم. والثاني: يدخل في القرعة ولا يتأخر إذا قيل: إن مخرج المال لا يتقدم إلا بالقرعة. فصل: قال الشافعي في الأم: "وقد جرت عادة الرماة أن يكون الرامي الثاني يتقدم على الأول بخطوة أو خطوتين أو ثلاثة ". وهذا معتبر بعرف الرماة وعادتهم، فإن كانت مختلفة فيه يفعلونه تارة، ويسقطونه أخرى سقط اعتباره ووجب التساوي فيه، وإن كانت عادتهم جارية لا يختلفون فيها، ففي لزوم اعتباره بينهما وجهان: أحدهما: لا يعتبر لوجوب تكافئهما في العقد فلم يجز أن يتقدم أحدهما على الآخر بشيء، لأنه يصير مصيباً بتقدمه لا بحذقه. والثاني: يعتبر ذلك فيهما لأن العرف في العقود كإطلاق الأيمان، فعلى هذا إن لم يختلف عرفهم في عدد الأقدام حملاً على العرف في عددها ليكون القرب بالأقدام في مقابلة قوة النفس بالتقدم. وإن اختلف العرف في عدد الأقدام اعتبر أقل العرف دون أكثره فإن تقدم أحدهما

على الآخر بما لا يستحق فلم يحتسب له بصوابه، واحتسب عليه بخطئه. مسألة: قال الشافعي: "وأيهما بدأ من وجه بدأ صاحبه من الآخر". قال في الحاوي: عادة الرماة في الهدف مختلفة على وجهين، وكلاهما جائز. فمنهم من يرمي هدفين متقابلين، فيقف أحد الحزبين في هدف يرمي منه إلى الهدف الآخر، ويقف الحزب الآخر في الهدف المقابل، فيرمي منه إلى الهدف الآخر، وهذا أحبهما إلينا مع جوازهما. لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "بين الهدفين روضة من رياض الجنة " ولأنه أقطع للمتنافر، وأقل للتعب، فإن رميا إلى هدفين كان للمبتدئ بالرمي أن يقف في أي الهدفين شاء، ويرمي الآخر ويقف الثاني في الهدف الثاني، ويصير ذلك مستقراً بينهما إلى آخر رميهما، وليس لواحد منهما أن يدفع الآخر عن هدفه، وإن كان الهدف واحداً وقف المبتدئ في أي موضع شاء في مقابلته، ويقف الثاني حيث شاء من يمين الأول أو يساره، فإن لم يرض إلا أن يقف في موقف الأول، ففيه وجهان: أحدهما: له أن يقف في موقف ليساويه فيه. والثاني: ليس له ذلك، لأن الأول إذا زال عن موقفه بشيء حسن صنيعه. والله أعلم -. مسألة: قال الشافعي: "ويرمي البادئ بسهم ثم الآخر بسهم حتى ينفذا نبلهما". قال في الحاوي: وهذا فيما يختص بالرمي دون السبق لاختصاص الرمي بالمبتدئ، فاختص بما يواليه من عدد ما يرمي؛ فإن شرطاه في العقد حملا فيه على موجب الشرط وكان الشرط أحق من العرف، فإن شرطا أن يرميا سهماً وسهماً، أو شرطا أن يرميا خمساً وخمساً، أو شرطا أن يواصل كل واحد منهما رمى جميع رشقه رمى كل واحد منهما عدد ما أوجب الشرط، فإن زاد عليه لم يحتسب به مصيباً ولا مخطئاً لخروجه عن موجب العقد، وإن أغفل ولم يشترط في العقد لم يبطل العقد بإغفاله لإحكامه التكافؤ فيه واعتبر فيهما عرف الرماة، لأنه يجري بعد الشرط مجرى الشرط، فإن كان عرف الرماة جارياً حدّ الثلاثة المجوزة في الشرط صار كالمستحق بالشرط، وإن لم يكن للرماة عرف لاختلافه بينهم رميا سهماً وسهماً، ولم يزد كل واحد منهما على سهم واحد حتى يستنفذا جميع الرشق، لأن قرب المعاودة إلى الرمي أحفظ لحسن الصنيع. فإن رمى أحدهما أكثر من سهم، فإن كان قبل استقرار هذا الترتيب كان محتسباً به مصيباً ومخطئاً وإن كان بعد استقراره لم يحتسب به مصيباً ولا مخطئاً لأنه قبل الاستقرار

مجوز وبعد الاستقرار ممنوع. مسألة: قال الشافعي: "وإذا غرق أحدهما وخرج السهم من يديه فلم يبلغ الغرض كان له أن يعود به من قبل العارض ". قال في الحاوي: إما إغراق السهم: فهو أن يزيد في مدّ القوس لفضل قوته حتى يستغرق السهم، فيخرج من جانب الوتر المعهود إلى الجانب الأخر، فإن من أجناس القسي والسهام ما يكون مخرج السهم منها عن يمين الرامي جارياً على إبهامه، فيكون إغراقه أن يخرج السهم باستيفاء المدّ إلى يساره جارياً على سبابته. ومنها ما يكون مخرجه بالضد على يساره الرامي جارياً على سبابته فيكون إغراقه أن يخرج على يمينه جارياً على إبهامه، فإذا أغرق السهم قال الشافعي: "لم يكن إغراقه من سوء الرمي، وإنما هو العارض فلا يحتسب عليه إن أخطأ به "، وهو عندي نظر؛ لأنه إذا لم يمد القوس بحسب الحاجة حتى زاد فيه، فأغرق أو نقص فقصر كان بسوء الرمي أشبه. فإذا أخطأ بالسهم المغرق لم يحتسب عليه على مذهب الشافعي، وان أصاب احتسب له، لأن الإصابة به مع الخلل أدل على حذق الرامي في الإصابة مع الاستقامة. مسألة: قال الشافعي: "وكذلك لو انقطع وتره أو انكسرت قوسه فلم يبلغ الغرض أو عرض دونه دابة أو إنسان فأصابه أو عرض له في يديه ما لا يمر السهم معه كان له أن يعود". قال في الحاوي: وهذا كما قال، إذا انقطع وتره، أو انكسر قوسه، فقصر وقع السهم وأخطأ لم يحتسب عليه، لأنه لم يخطئ لسوء رميه، ولكن لنقص آلته، ولو أصاب به كان محسوباً من إصابته، لأنه أدل على حذقه، وهكذا لو عرض دون الهدف عارض من بهيمة أو إنسان وقع السهم فيه، ومنع من وصوله إلى الهدف لم يحتسب عليه، وأعيد السهم إليه، فإن خرق السهم الحائل ونفذ فيه حتى وصل إلى الهدف، فأصاب كان محسوباً من إصابته، لأنه بالإصابة مع هذا العارض أشد وأرمى ويسمى هذا السهم خارقاً وقد كان الكسعي في العرب رامياً، فخرج ذات ليلة، فرأى ظبياً فرماه فأنقذه وخرج السهم منه، فأصاب حجراً فقدح منه ناراً فرأى ضوء النار في ظلمة الليل فظن أنه أخطأ فقال: مثلي يخطئ فكسر قوسه، وأخرج خنجرهء وقطع إبهامه، فلما أصبح ورأى الظبي

صريعاً قد نفذ السهم فيه ندم فضربت به العرب مثلاً، فقال الشاعر نَدٍمْتُ نَدَامَةَ الكُسَعِيِّ لَمَّا رَأَتْ عَيْنَاهُ مَا عَملَتْ يَدَاهُ وهكذا لو عرض للرامي علة في يده أو أخذته ريح في يديه ضعف بها عن مدّ قوسه لم يحتسب عليه إن قصر أو أخطأ لأنه لعارض منع وليس من سوء رمي وقلة حذق. مسألة: قال الشافعي: "فأما إن جاز السهم أو أجاز من وراء الناس فهذا سوء رمي ليس بعارض غلب عليه فلا يرد إليه". قال في الحاوي: يقال: جاز السهم إذا مر في إحدى جانبي الهدف ويسمى "خاصر" وجمعه خواصر لأنه في أحد الجانبين مأخوذ من الخاصرة؛ لأنها في جانبي الإنسان ويقال: أجاز السهم إذا سقط وراء الهدف. فإذا أجاز السهم، ووقع في جانب الهدف، أو جاز ووقع وراء الهدف كان محسوباً منه خطأه لأنه منسوب إلى سوء رميه، وليس بمنسوب إلى عارض في بدنه أو اليد. وقال أبو علي بن أبي هريرة: الجائز أن يقع في الهدف عن أحد جانبي الشن فعلى هذا إن كانت الإصابة مشروطة في الشن كان الجائز مخطئاً وإن كانت مشروطة في الهدف كان الجائز مصيباً، ويجوز أن يشترطا أن تكون إصابة سهامها جائزة، فيحتسب بالجائز ولا يحتسب بغير الجائز. ويقال: "سهم " طامح، وفيه تأويلان: أحدهما: أن الطامح هو الذي قارب الإصابة، ولم يصب، ويكون مخطئاً. والثاني: ذكره ابن أبي هريرة أنه الواقع بين الشن ورأس الهدف، فيكون مخطئاً إن شرط الإصابة في الشن، ومصيباً إن شرط في الهدف، ويجوز أن يشترط في الإصابة فلا يحتسب له مصيباً إلا بسهم طامح كالجائز. ويقال: سهم "عاصد" وهو الواقع في أحد الجانبين، فيكون كالجائز في تأويل ابن أبي هريرة. ويقال: سهم "طائش" وهو الذي يجاوز الهدف كالجائز إلا أن الجائز ما عرف مكان وقوعه، والطائش ما لم يعرف مكان وقوعه، والطائش محسوب عليه في الخطأ كالجائز. ويقال: سهم "غائر" وهو المصيب الذي لا يعرف راميه، فلا يحتسب به لواحد من

(الراميين) للجهل به. ويقال: سهم "خاطف" وهو المرتفع، في الهواء ثم يخطف نازلاً، فإن أخطأ به كان محسوباً عليه؛ لأنه من سواء رميه، وإن أصاب به، ففي الاحتساب به وجهان: أحدهما: يحتسب به من إصابته لحصوله برميه. والثاني: لا يحتسب به من الإصابة لأن تأثير الرمي في إيقاع السهم فأما سقوطه فلثقله، فصار مصيباً بغير فعله، فعلى هذا هل يحتسب من خطئه أم لا؟ على وجهين: أحدها: يحتسب به من خطئه لأنه إذا لم يكن مصيباً كان مخطئاً. والثاني: لا يحتسب به من الخطأ؛ لأن ما أخطأ، وأسوأ أحواله إن لم يكن مصيباً أن لا يكون مخطئاً. والصحيح عند من ذلك: أن ينظر نزول السهم خطأ بعد ارتفاعه، فإن انحط فاتراً لحدة لا يقطع مسافة احتسب عليه خاطئاً، وإن نزل في بقية حدته جارياً في قطع مسافته احتسب له صائباً، لأن الرمي بالفتور منقطع وبالعدة مندفع. مسألة: قال الشافعي: "وإذا كان رميهما مبادرة فبلغ تسعة عشر من عشرين رمى صاحبه بالسهم الذي يراسله ثم رمى البادئ فإن أصاب سهمه ذلك فلج عليه وإن لم يرم الآخر بالسهم لأن المبادرة أن يفوت أحدهما الآخر وليس كالمحاطة. قال المزني رحمه الله: هذا عندي لا ينضله حتى يرمي صاحبه بمثله". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن الرمي ضربان: محاطة، ومبادرة. وقد مضت المحاطة، وهذه المبادرة، وصورتها: أن يتناضلا على إصابة عشرة من ثلاثين مبادرة، فيكون الرشق ثلاثين سهماً، والإصابة المشروطة منها عشرة أسهم، فأيهما يدر إلى إصابتها في أقل العددين فيه فضل، وسقط رمي الرشق وان تكافآ في الإصابة من عدد متساو سقط رمي الثاني وليس منهما فاضل. وبيانه أن يصيب أحدهما عشرة من عشرين، ويصيب الأخر تسعة من عشرين، فيكون الأول ناضلاً، لأنه استكمل إصابة عشرة من عشرين، وقد رماها الثاني فنقص منها، ولا يرميان بقية الرشق لحصول النضل، فلو أصاب كل واحد منهما عشرة من عشرين لم يكن فيهما ناضل ولا منضول، وسقط رمي الباقي من الرشق، لأن زيادة الإصابة فيه مقيدة لنضل، ولو أصاب أحدهما خمسة من عشرين وأصاب الأخر تسعة من عشرين، فالنضال بحاله، لأن عدد الإصابة لم يستوف فيرميان من بقية الرشق ما يكمل به إصابة أحدهما عشرة، فإن رمى الأول سهماً فأصاب فقد فلج على الثاني، وفضل وسقط

رمي الثاني، ولو رمى الأول خمسة، فأخطأ في جميعها ورمى الثاني خمسة فأصاب في جميعها صار الثاني ناضلاً وسقط رمي الثاني في الرشق لأن الأول أصاب تسعة من خمس وعشرين وأصاب الثاني عشرة من خمسة وعشرين ثم على هذه العبرة. فأما مسألة الكتاب فصورتها أن يتناضلا عن إصابة عشرة من ثلاثين مبادرة فيصيب البادئ منهما تسعة من تسعة عشر، ويصيب الآخر المبدأ ثمانية من تسعة عشر، ثم رمى البادئ سهماً آخر يستكمل به العشرين فيصيب، فيصير به ناضلاً ويمنع الآخر المبدأ من رمي السهم الأخر الذي رماه الثاني؛ لأنه لا يستفيد به نضالاً ولا مساواة لأن الباقي له من العشرين سهم واحد وعليه إصابتان، ولو رمى فأصابه بقيت عليه إصابة يكون بها منضولاً، فلم يكن لرميه معنى يستحقه بالعقد فلذلك منع منه، ولو كان كل واحد منهما قد أصاب تسعة من تسعة عشر ثم رمى البادئ وأصاب كان للمبدأ أن يرمي لجواز أن يصيب فيكافئ. فأما المزني فظن أن الشافعي منع المبدأ أن يرمي بالسهم الباقي في هذه المسألة فتكلم عليه، وليس كما ظن، بل أراد منعه في المسألة المتقدمة للتعليل المذكور. فصل: فأما الجواب فهو نوع من أنواع الرمي، وهم فيه أبو حامد الإسفراييني، فجعله صفة من صفات السهم، وسماه حوابي بإثبات الباء فيه، وفسره بأنه السهم الواقع دون الهدف، ثم يحبو إليه حتى يتصل به مأخوذ من حبو الصبي، وهذا نوع من المرمى المزدلف يفترقان في الاسم المزدلف أحد والجابي أضعف، ويستويان في الحكم على ما سيأتي، والذي قاله سائر أصحابنا أن الحواب نوع من الرمي وأن أنواع الرمي ثلاثة: المحاطة - والمبادرة - والحواب. وقد ذكرنا المحاطة والمبادرة. فأما الحواب فهو أن يحتسب بالإصابة في الشن والهدف ويسقط الأقرب إلى الشن ما هو أبعد من الشن وان أصاب أحدهما الهدف على شبر من الشن فاحتسب له ثم أصاب الآخر الهدف على فتر من الشن احتسب له وأسقط إصابة الشن لأنها أبعد، ولو أصاب أحدها خارج الشن واحتسب به، وأصاب الأخر في الشن احتسب به، وأسقط إصابة خارج الشن. ولو أصاب أحدهما الشن فاحتسب به، وأصاب الآخر الدارة التي في الشن احتسب به وأسقط إصابة الشن، ولو أصاب أحدهما الدارة التي في الشن فاحتسب به وأصاب الآخر العظم الذي في دارة الشن احتسب وأسقط إصابة الدارة فيكون كل قريب مسقطاً لما هو أبعد منه، فهذا نوع من الرمي ذكره الشافعي في كتاب الأم وذكر مذاهب الرماة فيه، وفرع عليه، ولم يذكره المزني، إما لاختصاره، وإما لأنه غير موافق لرأيه

لضيفه وكثره حظره، لأنه يسقط الإصابة بعد إثباتها، والمذهب جوازه لأمرين: أحدهما: أنه نوع معهود في الرمي، فأشبه المحاطة والمبادرة. والثاني: أنه أبعث على معاطاة الحذق فصحّ. وذلك في جواز النضال على إصابة الحواب، وكان عقدهما على إصابة خمسة من عشرين فلهما إذا تناضلا ثلاثة أحوال: أحدها: أن يقصرا على عدد الإصابة. والثاني: أن يستوفيا عدد الإصابة. والثالث: أن يستوفيهما أحدهما، ويقصر عنها الآخر. فأما الحال الأول: وهو أن يقصر كل واحد منهما عدد الإصابة فيصيب أقل من خمسة، فقد ارتفع حكم العقد بنقصان الإصابة من العدد المشروط من غير أن يكون فيها ناضل ولا منضول، ولا اعتبار بالقرب والبعد مع نقصان العدد. وأما الحال الثانية: وهي أن يستوفيا معاً عدد الإصابة، فيصيب كل واحد منهما خمسة فصاعداً، فيعتبر حينئذ حال القرب والبعد، فإنهما لا يخلوان فيهما من أربعة أقسام: أحدها: أن تكون الإصابات في الهدف، وقد تساوت في القرب من الشن، وليست بعضها بأقرب إليه من بعض، فقد تكافأ وليس فيهما ناضل ولا منضول، وهكذا لو تقدم لكل واحد منهما سهم كان أقرب إلى الشن من باقي سهامه، وتساوى السهمان المتقدمان في القرب من الشن كانا سواءلاً ناضل فيهما ولا منضول، فإن تقدم لإحداهما سهم وللآخر سهمان وتساوت السهام الثلاثة في قربها من الشن ففيه وجهان: أحدهما: أنه المتقرب بسهمين ناضل للمقترب، لفضله في العدد. والثاني: أنهما سواء لا ناضل فيهما ولا منضول، لأن نضال الحواب موضوع على القرب دون زيادة العدد. والقسم الثاني: أن تكون سهام أحدهما أقرب إلى الشن من سهام الآخر، فأقربهما إلى الشن هو الناضل، وأبعدهما من الشن هو المنضول. وهكذا لو تقدم لأحدهما سهم واحد، فكان أقرب إلى الشن من جميع سهام الآخر أسقطت به سهام صاحبه ولم يسقط به سهام نفسه، وكان هو الناضل بسهمه الأقرب. والقسم الثالث: أن تكون سهام أحدهما في الهدف، وسهام الآخر في الشن، فيكون المصيب في الشن هو الناضل، والمصيب في الهدف منضول. وهكذا لو كان لأحدهما سهم واحد في الشن وجميع سهام الآخر خارجة الشن كان المصيب في الشن هو الناضل بسهمه الواحد وقد أسقط به سهام صاحبه، ولم يسقط له سهام نفسه، وإن كانت أبعد إلى الشن من سهام صاحبه. والقسم الرابع: أن تكون سهامهما جميعاً صائبة في الشن لكن سهام أحدهما أو بعضهما في الشن الدارة، وسهام الآخر خارج الدارة، وان كانت جميعها في الشن ففيه وجهان:

أحدهما: وقد حكاه الشافعي عن بعض الرماة أن المصيب في الدارة ناضل، والمصيب خارج الدارة منضول؛ لأنه قطب الإصابة. والثاني: وإليه أشار الشافعي في اختياره أنهما سواء، وليس منهما ناضل ولا منضول، لأن جميع الشن محل الإصابة. وأما الحال الثالثة: وهو أن يستوفي أحدهما إصابة الخمس ويقصر الأخر عنهما، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون مستوفي الإصابة أقرب سهاماً إلى الشن أو مساوياً صاحبه، فيكون: ناضلاً، والمقصر منضولاً. والثاني: أن يكون المقصر في الإصابة أقرب سهاماً من المستوفي لها، فليس فيها ناضل ولا منضول، لأن المستوفي قد سقطت سهامه لبعدها، والمقصر قد سقطت سهامه بنقصانها - والله أعلم _. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "وإذا تشارطا الخواسق لم يحسب خاسفاً حتى يخزق الجلد بنصله ". قال في الحاوي: قد ذكرنا أنواع الرمي من قارع، وخازق، وخاسق، وأنه يطلق على جميعها اسم الخواصل. فالقارع ما أصاب الشن ولم يؤثر فيه، والخارق ما أثر فيه ولم يثبت، والخاسق ما ثقب الشن وثبت فيه. ويحملان في الإصابة على ما شرطاها فإذا شرطا فيهما الخواسق، فإذا خرق الشن وثبت فيه كان خاسقاً محسوباً، وسواء طال ثبوته أو قصر لأن الاعتبار بوجود الثبوت لا بدوامه، وإن ثقب ولم يثبت فيه، فالمذهب المنصوص عليه أنه غير محسوب؟؛ لأن اسم الخسق، لا ينطق عليه لعدم صفته فيه، وخرج بعض أصحابنا فيه قولاً آخر: إنه محسوب له، لأن سقوطه بعد الثقب يحتمل أن يكون لضعف الشن أو لسعة الثقب، فاقتضى أن يكون محسوباً لوجود الثقب الذي هو ألزم الصفتين، وهذا ليس بصحيح، لأنه يصير الخاسق مساوياً للخازق واختلاف اسمهما يوجب اختلاف حكمهما. مسألة: قال الشافعي: "ولو تشارطا المصيب فمن أصاب الشن ولم يخرقه حسب له لأنه مصيب".

قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا تشارطا الإصابة احتسب كل مصيب من قارع، وخازق، وخاسق، لأن جميعها تصيب، وهكذا لو تشارطا الإصابة قرعاً احتسب بالقارع وبالخازق وبالخاسق لأنه زيادة على القرع ولو تشارطا الخواصل احتسب بكل مصيب؛ لأن إصابة الخواصل تشتمل على كل مصيب من قارع، وخارق، وخاسق. فأما الخواصل، فهو ما أصاب جانب الشن، فإن شرطاه في الرمي لم يحتسب الآن، وان لم يشترطاه احتسب له مع كل مصيب في الشن إذا كانت الإصابة مشروطة في الشن. فصل: ولا يجوز أن يتناضلا على أن تكون إصابة أحدهما قرعاً، وإصابة الآخر خسقاً حتى يتكافأ في الإصابة قرعاً أو خسقاً؛ لأن المقصود بالعقد معرفة أحذقهما بالرمي، كما لا يجوز أن يتناضلا على أن تكون إصابة أحدهما خمسة من عشرين وإصابة الآخر عشرة من عشرين، لما فيه من التناضل الذي لايعلم به الأحذق. فصل: ولو تشارطا الإصابة قرعاً على أن يحتسب بخاسق كل واحد منهما قارعين ويعتد به إصابتين كان هذا جائزاً لتكافئهما فيه، لتكون زيادة اصفة مقابلاً لزيادة العدد فعلى هذا لو شرط إصابة عشرة من عشرين على هذا الحكم، فأصاب أحدهما تسعة قرعاً وأصاب الآخر قارعين، وأربعة خواسق، فقد نضل مع قلة إصابته، لأنه قد استكمل بمضاعفة الخواسق الأربعة مع القارعين إصابة عشرة نقص الآخر عنهما بإصابة واحد فصار بها منضولاً. مسألة: قال الشافعي: "وإذا اشترطا الخواسق والشن ملصق بالهدف فأصاب ثم رجع فزعم الرامي أنه خسقَ ثم رجع لغلظ لقيهُ من حصاة وغيرها وزعم المصاب عليه أنه لم يخسق وإنه انما قرع ثم رجع فالقول قوله مع يمينه إلا أن تقوم بينة فيوخد بها". قال في الحاوي: اشتراط الخسق إنما يكون في إصابة الشن دون الهدف، وقد ذكرنا أن الشن هو جلد ينصب في الهدف تم أطرافه بأوتار أو خيوط تشد في أوتاد منصوبة في الهدف المبني، وربما كان ملصقا بحائط الهدف أو ربما كان بعيداً منه بنحو من شر أو ذراع، وهو أبعد ما ينصب، وخسق الشن إذا كان بعيداً من الهدف أوضح منه إذا كان ملصقا به.

فإذا رمى والشن ملصق بالهدف، فأصاب الشن ثم سقط بالإصابة خسق، فزعم الرامي أنها خسق ولقي غلظاً في الهدف من حصاة أو نواة، فرجع وهو خاسق وزعم المرمي عليه أنه قرع فسقط، ولم يخسقء فلهما ثلاثة أحوال: أحدهما: أنه يعلم صدق الرامي في قوله، وذلك بأن يعرف موضع خسقه، ويرى الغلظ من ورائه، فيكون القول قوله مع يمين، لأن الحال شاهدة بصدقه. والحال الثانية: أن يعلم صدق المرمي عليه في إنكاره إما بأن لا يرى في الشن خسقاً، وإما بأن لا يرى في الهدف غلظاً فالقول قوله، ولا يمين عليه؛ لأن الحال شاهدة بصدقه. والحال الثالثه: أن يحتمل صدق المدعي وصدق المنكر؛ لأن في الشن خواسق وفي الهدف غلظ وقد أشكلت الإصابة هل كانت في مقابلة الغلظ أم لا؟ فإن كانت بينة حمل عليها، وان عدمت البينة، فالقول قول المنكر مع يمينه، ولا يحتسب به مصيباً وفي الاحتساب به مخطئاً وجهان: أحدهما: يحتسب به في الخطأ إذا لم يحتسب به في الإصابة لوقوف الرامي بين صواب وخطأ. والثاني: لا يحتسب به في الإصابة، لأن الإصابة لا يحتسب بها إلا مع اليقين، وكذلك لا يحتسب بالخطأ إلا مع اليقين، فإن نكل المنكر عن اليمين أحلف الرامي المدعي، فإذا حلف احتسب بإصابته. مسألة: قال الشافعي: "وإن كان الشن بالياً فأصاب موضع الخرق فغاب في الهدف فهو مصيب". قال في الحاوي: وهذا معتبر بالشن والهدف، ولهما ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون الهدف أشد من الشن، لأنه مبني قد قوي واشتد، فإذا وصل السهم إليه من ثقب في الشن ثبت في الهدف الذي هو أقوى من الشن كان ثبوته في الشن الأضعف أجدر وهو الذي أراده الشافعي، فيحتسب به خاسقاً. والحال الثانية: أن يكون الشن أقوى من الهدف وأشد، لأنه جلد متين، والهدف تراب ثائر أو طين لين، فلا يحتسب به مصيباً، ولا مخطئاً، أما الإصابة فلجواز أن لا يخسق الشن، وأما الخطأ فلعدم ما خسق مح بلى الشن. والحالة الثالثة: أن يتساوى الشن والهدف في القوة والضعف، فلا يحتسب به مخطئاً. وفي الاحتساب به مصيباً وجهان:

أحدها: يحتسب من إصابة الخسق؛ لأن ثبوته في الهدف قائم مقام ثبوته في الشن عند تساويهما. والثاني: لا يحتسب في إصابة الخسق، ويحتسب في إصابة القرع على الأحوال كلها. مسألة: قال الشافعي: "وإن أصاب طرفه الشن فخرقه ففيها قولان: أحدهما أنه لا يحتسب له خاسقاً إلا أن يكون بقى عليه من الشن طعنه أو خيط أو جلد أو شيء من الشن يحيط بالسهم ويسمى بذلك خاسقاً ´وقليل ثبوته وكثيره سواء. وقال: ولا يعرف الناس إذا وجهوا بأن يقال خاسق إلا ما أحاط به المخسوق فيه. ويقال للآخر خارم لا خاسق والقول الآخر أن يكون الخاسق قد يقع بالإسم على ما أوهن الصحيح فخرقه فإذا خرق منه شيئاً أو كثر ببعض النصل سمي خاسقاً لأن الخسق الثقب وهذا قد ثقب وإن خرق. قال: وإذا وقع في خرق وثبت في الهدف كان خاسقاً والشن أضعف من الهدف". قال في الحاوي: إذا خرم السهم الشن في إصابة الخواسق، والخارم هو أن يقع في حاشية الشن فيخرمها ويثبت، فإن بقي من توابع الشن ما يحيط بدائر السهم من طفية أو خيط، والطفية خوص المقل يدار في حاشية الشن بالحجاز، فإن كانت الطفية باقية بخيط بدائر السهم الخارم كان خاسقاً، لأن الطفية فيه من جملته وان لم يتبق مع الخرم شيء من حاشية الشن، وحصل ما خرج من دائر الهم مكشوفاً فلا يخلو موضع السهم من أحد أمرين: أحدهما: أن يكون غير خارج عن دائر الشن وحاشيته، وإنما سقط حاشية الشن بضعفه، فهذا يحتسب به خاسقاً، وإن خرم، لأن خرمه لضعف الشن لا لموقع السهم. والثاني: أن يكون خروجه لوقوع السهم في الحاشية، ويدخل بعض دائر السهم في الشن، ويخرج بعض دائره في الشن، ففي الاعتداد به خاسقاً قولان: أحدهما: لا يعتد به خاسقاً لأمرين: أحدهما: أن اختصاصه باسم الخرم قد زال عند حكم الخسق، لأن الخسق ما أحاط بالمخسوق، واختلاف الأسماء يغير الأحكام. والثاني: أنه قد صار بعض السهم واقعاً في الشن، وبعضه خارجاً من الشن. والثاني: أن يعتد به خاسقأ لأمرين: أحدهما: أن الخرم زيادة على الخسق لأن كل خارم خاسق، وليس كل خاسق خارماً.

والثاني: أن مقصود الخسق من الثقب، والثبوت موجود فيه، والأول أصح، فإن جعل خاسقاً كان مصيبأ، وإن لم يجعل خاسقأ لم يكن مصيبأ في الاحتاب به مخطثأ وجهان على ما ذكرنا. مسألة: قال الشافعي: "ولو كان الشن منصوباً فمرق منه كان عندي خاسقاً ومن الماة من لا يحسبه إذا لم يثبت فيه". قال في الحاوي: أما السهم المارق، فهو أن ينفذ في الشن، وهو منصوب فوق الهدف ويخرج منه، فيقع وراء الهدف، فيحتسب له في الرقاع. فأما في الخاسق ففي الاحتساب به قولان: أحدهما: وهو منصوص الشافعي أنه لا يحتسب به خاسقاً اعتباراً بالمعنى، وأنه زائد على الخسق، فيؤخذ فيه معنى الخسق. والثاني: حكاه الشافعي عن بعض الرماة أنه لا يحتسب به خاسقاً، اعتباراً بالاسم، لأنه يسمى مارقاً ولا يسمى خاسقاً، فمن أصحابنا من أثبت هذا القول للشافعي، ومنهم من نفاه عنه: لأنه أضافه إلى غيره، ولا يكون مخطئاً وإن لم يحتسب خاسقاً لا يختلف فيه أصحابنا وأما السهم المزدلف: فهو أن يقع على الأرض ثم يزدلف منها بحموته وحدّته، فيصير في الهدف ففي الاحتساب به مصيباً قولان: أحدهما: يحتسب به مصيباً؛ لأنه بحدة الرمي أصاب. والثاني: ليس بمصيب، لخروجه من الرامي إلى غير الهدف، وانما أعادته الأرض حين ازدلف عنها في الهدف. وقال أبو إسحاق المروزي: ومن أصحابنا من لم يخرج المزدلف على قولين، وحمله على اختلاف حالين باعتبار حاله عنا ملاقاة الأرض، فإن ضعفت حموته بعد ازدلافه، ولانت كان محسوبأ في الإصابة، وإن قويت، وصار بعد ازدلافه أحد لم يحتسب به مصيباً، ويجوز أن يتناضلا على مروق السهم، ولا يجوز أن يتناضلا على ازدلافه: لأن مروق السهم من فعل الرامي، وازدلافه من تأثير الأرض، فعلى هذا في الاحتساب به مخطئاً إذا لم يحتسب به مصيباً وجهان: أحدهما: يكون مخطئاً لأنه من سوء الرمي. والثاني: لا يكون مخطئاً ما أصاب، ويسقط الاعتداد به مصيباً ومخطئاً، والله أعلم.

مسألة: قال الشافعي: "فإن أصاب بالقدح لم يحسب إلا ما أصاب بالنصل". قال في الحاوي: أما قدح السهم فهو خشبته المريشة، واختلف فيما يسمى به منها فقال بعضهم: هو اسم لجميع الخشبة. وقال آخرون: هو اسم يختص بموضع الوتر منه، فيسمى فوق السهم، وهو الجزء الذي يدخل فيه الوتر. وأما النصل فهو الطرف الأخر من السهم، واختلف فيما يسمى منه نصلاً، فقال بعضهم: هو اسم للحديد المسمى زجاً، ومنهم من قال: هو اسم لطرف الخشبة التي يوضع فيها الزج من الحديا، والإصابة إنما تكون بالنصل لا بالقدح. فإذا أصاب بغير النصل لم يحتسب به مصيباً، ونظر فيما أصاب به من السهم، فإن أصاب بعرض السهم، احتسب به مخطئاً لأنه منسوب إلى سوء رميه، وان أصاب بقدح سهمه، ففي الاحتساب به مخطئاً وجهان تعليلاً بما قدمناه. مسألة: قال الشافعي: "ولو أرسله مفارقاً للشن فهبت ريح فصرفته أو مقصرا فأسرعت به فأصاب حسب مصيباً ولا حكم للريح". قال في الحاوي: اعلم أن للريح تأثيراً من تغيير السهم عن جهته، وحذاق الرماة يعرفون مخرج السهم عن القوس هل هو مصيب أو مخطى،، فإذا خرج السهم، فغيرته الريح، فهو على ضربين: أحدهما: أن يخرج مفارقاً للشن، فتعدل به الريح إلى الشن فيصيب أو يكون مقصراً عن الهدف، فتعينه الريح حق ينبعث، فيصيب، فتعتبر حال الريح، فإن كانت ضعيفة كان محسوباً في الإصابة؛ لأننا على يقين من تأثير الرمي، وفي شك من تأثير الريح، وإن كانت الريح قوية نظر، فإن كانت موجودة عند إرسال السهم كان محسوباً في الإصابة، لأنه قد اجتهد في التحرز من تأثير الريح بتحريف سهمه، فأصاب باجتهاده ورميه، وان حدثت الريح بعد إرسال السهم، ففي الاحتساب به وجهان تخريجاً من اختلاف قوليه في الاحتساب بإصابة المزدلف: أحدهما: يحتسب به مصيباً إذا احتسب إصابة المزدلف. والثاني: لا يحتسب مصيباً، ولا مخطئاً إذا لم يحتسب بإصابة المزدلف. والثالث: أن يخرج السهم موافقاً للهدف، فتعدل به الريح حتى يخرج عن الهدف فيعتبر حال الريح، فإن كانت طارئة بعد خروج السهم عن القوس ألغي السهم، ولم

يحتسب به في الخطأ، لأن التحرز من حدوث الريح غير ممكن، فلم ينسب إلى سوء الرمي، وإن كانت الريح موجودة عند خروج السهم نظر فيها، فإن كانت قوية لم يحتسب به في الخطأ؛ لأنه أخطأ في اجتهاده الذي يتحرز به من الريح، ولم يخطئ من سوء الرمي، وإن كانت الريح ضعيفة، ففي الاحتساب به من الخطأ وجهان: أحدهما: يكون خطأ؛ لأننا على يقين من تأثير الرمي، وفي شك من تأثير الريح. والثاني: لا يكون محسوباً في الخطأ؛ لأن الريح تفسد صنيع المحسن، وإن قلت كما تفسده إذا كثرت. فصل: ولو هبت الريح فأزالت الشن عن موضعه إلى غيره لم يخل حال السهم بعد زوال الشن عن موضعه من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يقع في غير الشن وفي غير موضعه الذي كان فيه، فيحتسب به مخطئاً؛ لأنه وقع في غير محل الإصابة قبل الريح وبعدها. والحال الثانية: أن يقع في الموضع الذي كان فيه الشن في الهدف، فيحتسب مصيباً لوقوعه في محل الإصابة. والحال الثالثة: أن يقع في الشن بعد زواله عن موضعه، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يزول الشن عن موضعه بعد خروج السهم، فيحتسب به في الخطأ لوقوعه في غير محل الإصابة عند خروج السهم. والثاني: أن يخرج السهم بعد زوال الشن عن موضعه، وعلم الرامي بزواله، فينظر في الموضع الذي صار فيه، فإن كان خارجاً من الهدف لم يحتسب به مصيباً ولا مخطئاً لخروجه عن محل الصواب والخطأ، وإن كان مماثلاً لموضعه من الهدف احتسب به مصيباً لأنه قدر صار محلاً للإصابة. مسألة: قال الشافعي: "ولو كان دون الشن شيء فهتكه السهم ثم مر بحموته حتى يصيب كان مصيباً ولو أصاب الشن ثم سقط بعد ثبوته حسب وهذا كنزع إنسان إياه". قال في الحاوي: قد ذكرنا أنه إذا اعترض بين السهم والهدف حائل من بهيمة أو إنسان، فإن امتنع به السهم من الوصول إلى الهدف لم يحتسب في صواب ولا خطأ، وإن نفذ في الحائل حتى مرق منه، وأصاب الهدف كان مصيباً، ولو نقض الحائل السهم حتى عدل بالنقض إلى الهدف لم يحتسب به مصيباً ولا مخطئاً؛ لأنه بالنقض أصاب لا بالرمي كمن رمى الجمرة بحصاة فوقعت على إنسان، فنقضها حتى وقعت في الجمرة لم يحتسب

بها، ولو أصاب السهم الحائل ثم اندفع بحمومته 0 فأصاب فهذا مزذلف وفي الاحتساب به في الإصابة قولان. مسألة: قال الشافعي: "ولا بأس أن يناضل أهل النشاب أهل العربيه وأهل الحسبان لأن كلها نصل وكذلك القسي الدودانية والهندية وكل قوس يرمى عنها بسهم ذي نصل". قال في الحاوي: أنواع القسي تختلف باختلاف أنواع الناس، فللعرب قسي وسهام، وللعجم قسي وسهام، وقيل: إن أول من صنع القسي العربية إبراهيم الخليل صلوات الله عليه وأول من صنع القسي الفارسية النمروذ بن كنعان، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحب القوس العربية، ويأمر بها، ويكره القوس الفارسية، وينهى عنها، ورأى رجلاً يحمل قوساً فارسية فقال: "ملعون حاملها، عليكم بالقسي العربية وسهامها فإنه سيفتح عليكم بها" وليس هذا منه محمولاً على الحظر المانع، وفي تأويله ثلاثة أوجه: أحدها: ليحفظ به آثار العرب، ولا يعدل الناس عنها رغبة في غيره فعلى هذا يكون الندب إلى تفضيل القوس العربية باقياً. والثاني: أنه أمر بها لتكون شعار المسلمين حتى لا يتشبهوا بأهل الحرب من المشركين فيقتلوا، فعلى هذا يكون الندب إلى تفضيلها مرتفعاً لأنها قد فشت في عامة المسلمين. والثالث: ما قاله عطاء أنه لعن من قاتل المسلمين بها، فعلى هذا لا يكون ذلك ندبا إلى تفضيل العربية عليها، ويكون نهياً عن قتال المسلمين بها وبغيرها، وخصها باللعن، لأنها كانت أنكأ في المسلمين من غيرها، وقد رضي عنها الصحابة والتابعون في قتال المشركين، وإن كان الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوسه لمن قوي رميه عنها أحب إلينا، فإن كان بالفارسية أرمى كانت به أولى، ويكون الندب منها إلى ما هو به أرمي، فإذا تقررت هذه الجملة لم يخل حال المتناضلين في عقد نضالها من خمسة أحوال: أحدهما: أن يشترطا فيه الرمي عن القوس العربية، فعليهما أن يتناضلا بالعربية وليس لواحد منهما أن يعدل عنها إلى الفارسية؛ لأجل الشرط، فإن تراضيا معاً على العدول عن العربية إلى الفارسية جاز، لأن موجب الشرط أن يلتزمه كل واحد منهما في حق صاحبه دون غيره. والحال الثانية: أن يشترطا فيه الرمي عن القوس الفارسية، فعليهما أن يتناضلا بالفارسية وليس لواحد منهما أن يعدل عنها إلى العربية، فإن تراضيا معاً بالعدول إليها جاز.

والحال الثالثة: أن يشترطا أن يرمي أحدهما عن القوس العربية، ويرمي الآخر عن القوس الفارسية، فهذا جائز، وإن اختلفت قوساهما؛ لأن مقصود الرمي حذق الرامي والآلة تبع ومثله في السبق إذا شرط أحدهما أن يتسابق على فرس، والآخر على بغل لا يجوز، وإن سوى أبو إسحاق المروزي بينهما في الجواز؛ لأن المقصود في السبق المركوبان والراكبان تبع، فلزم التساوي فيه، ولم يلزم التساوي في آلة الرمي، فعلى هذا ليس لواحد منهما أن يعدل عن الشرط في قوسه وان ساوى فيهما صاحبه لأجل شرطه، فإن راضاه عليها جاز. والحال الرابعة: أن يشترطا أن يرمي كل واحد منهما عما شاء من قوس عربية أو فارسية فيجوز لكل واحد منهما أن يرمي عن أي القوسين شاء قبل الشروع في الرمي وبعده، فإن أراد أحدهما منع صاحبه من خياره، لم يجز سواء تماثلا فيها أو اختلفا. والحال الخامسة: أن يطلقا العقد من غير شرط، فإن كان للرماة عرف في أحد القوسين حمل عليه، وجرى في العرف في العقد المطلق مجرى الشرط في العقد المقيد، وإن لم يكن للرماة فيه عرف معهود فهما بالخيار فيما اتفقا عليه من أحد القوسين إذا كانا فيها متساويين؛ لأن مطلق العقد يوجب التكافؤ وإن اختلفا لم يقرع بينهما؛ لأنه أصل في العقد، وقيل لهما: إن اتفقتما وإلا فسخ العقد بينكما. فأما القوس "الدودانية" فهي القوس التي لها مجرى يمر السهم فيه، ومنها قوس الرجل، وإن كان أغلبها قوس اليد، فيجوز أن يناضل بعضهم بعضاً إذا اتفقوا ولا يجوز أن يتناضل الرجلان أحدهما قائم، والأخر جالس إلا عن تراض، فيلزم تساويهما في القيام والجلوس، فإن اختلفا اعتبر فيه الأغلب من عرف الرماة، ولا يجوز أن يناضل أهل الشاب أصحاب الجلاهق؛ لاختلاف الصفة فيها، وأنه ليس الحذف بأحدهما حذفاً بالآخر. مسألة: قال الشافعي: "ولا يجوز أن ينتضل رجلان وفي يدي أحدهما من النبل أكثر مما في يدي الآخر". قال في الحاوي: اختلف أصحابنا في تأويل هذه المسألة على ثلاثة أوجه: أحدها: يريد أنه لا يجوز أن يتناضلا على أن يصيب أحدهما عشرة من عشرين، ويصيب الآخر عشرة من ثلاثين، فيكون رشق أحدهما أكثر من رشق الآخر، ويكون معنى قوله: "في يد أحدهما" أي في حق أحدهما، وإنما لم يجز التفاضل في عدد الرشق الذي يجب فيه التماثل؛ لأنه إن نضل، فللكثرة رميه لا بحسب صنعه.

والثاني: لا يتناضلا على أن يصيب أحدهما خمسة من عشرين، ويصيب الآخر عشرة من عشرين، فلا يجوز لما ذكرنا من التعليل بالتفاضل فيما يوجب التماثل وأنه إن نضله فلقلة إصابته لا بحسن منيعه. والثالث: أن من عادة حذاق الرماة إذا رموا أن يأخذوا في اليد اليمين بين الخنصر والسبابة سهماً أو سهمين معداً للرمي، فأراد الشافعي بهذا أن لا يجوز أن يتناضلا على أن يكون في يد أحدهما إذا رمى سهم واحد وفي يد الآخر سهمان؛ لأن كثرة السهام في اليد مؤثر في قلة الإصابة؛ لأنه إن نضل فلقلة المانع من إصابته لا بحسن صنيعه، ويكون المراد باليد الكف ذات الأصابع. مسألة: قال الشافعي: "ولا على أن يحسب خاسقه خاسقين والآخر خاسق". قال في الحاوي: وهذا صحيح؛ لأن عقد النضال يوجب التساوي، فإذا وقع فيه التفاضل بأن يكون خاسق أحدهما خاسقين، وخاسق الآخر خاسقاً واحداً بطل به العقد لدخول التفاضل فيه، وأنه نضل فلمضاعفة خواسقه لا بحسن صنيعه. ولو شرطا في القرع أن يكون خاسق كل واحد منهما قارعين جاز؛ لأنهما قد تساويا في مضاعفة خواسقهما. مسألة: قال الشافعي:"ولا على أن لأحدهما ثابتاً لم يرم به وبحسب له مع خواسقه ولا على أن يطرح من خواسقه خاسقاً ولا على أن خاسق أحدهما خاسقان". قال في الحاوي: وهذا كما قال؛ لأن من احتسب له بخاسق لم يصبه يصير مفضلا به على صاحبه، فإن نضل، فلتفضيله لا بحسن صنيعه، ومن أسقط له خاسق قد أصابه يصير به مفضولاً إن نضل فلحط إصابته لا لسوء صنيعه، فيكون العقد باطلاً على الأمرين؛ لعدم التساوي بين المتفاضلين. مسألة: قال الشافعي: "ولا أن أحدهما يرمي من عرض والآخر من أقرب منه إلا في عرض واحد وعدد واحد". قال في الحاوي: وهذا كما قال؛ لأن موجب العقد يقتضي التساوي فيه، فإن وقع التفاضل فيه أفسده. ومن التفاضل اختلاف الهدف في القرب والبعد، فيشترطا أن يرمي أحدهما من مائتي ذراع، ويرمي الآخر من أقل منهما، أو أكثر لم يجز للتفاضل، ولكن لو كانت قوس

أحدهما عربية يصيب من مائة ذراع، وقوس الآخر فارسية يصيب من مائتي ذراع فشرطا هذا التفاضل لاختلاف القوسين، لم يخل حالهما من أمرين: أحدهما: أن يشترطا الخيار في كل واحد من القوسين فيجوز هذا التفاضل؛ لأن لكل واحد منهما أن يساوي صاحبه فيه إذا عدل إلى قوسه. والثاني: أن يشترطا أحدهما بالعربية؛ ولا تعدل عنها، ويرمي الآخر بالفارسية، ولا يعدل عنها، فيمنع هذا التفاضل من جواز التناضل؛ لأنه لا يقدر كل واحد منهما أن يساوي صاحبه فيه. ومن التفاضل المانع أن يكون ارتفاع الشن في رمي أحدهما ذراعاً، وارتفاعه في رمي الآخر باعاً، فلا يصح العقد. ومن التفاضل المانع أن تكون إصابة أحدهما في الشن وإصابة الآخر في الدارة التي في الشن، فلا يصح العقد فإن كان ذلك لاختلاف القوسين، فعلى ما قدمناه من خيارهما في الأمرين. مسألة: قال الشافعي: "ولا على أن يرمي بقوس أو نبل بأعيانها إن تغيرت لم يبدلها". قال في الحاوي: قد مضى فرق ما بين السبق والرمي بأن المقصود فراهة القوسين من السبق، والمقصود من الرمي حذق الراميين، فصار الفرس في السبق أصلاً، والراكب تبعاً، فلزم تعيين الفرس، ولم يلزم تعيين الراكب، وصار الرامي في النضال أصلاً والقوس تبعاً فلزم تعيين الرامي لم يلزم تعيين القوس، فإن أسقط تعيين ما يلزم تعيينه من القوس في السبق والرامي في النضال بطل العقد، وإن عين ما لم يلزم تعيينه من الراكب في السبق أن لا يركب غيره، والقوس في النضال أن لا يرمي عن غيرها، لم يتعين اعتباراً بحكم أصله، ونظر في التعيين، فإن خرج مخرج الشرط الذي حمل عليه العقد، فقال: على أن لا يركب إلا هذا الفارس، وعلى أن لا يرمي إلا عن هذه القوس بطل العقد في السبق والنضال؛ لأنه صار معقوداً على شرط غير لازم، وان خرج مخرج المذكور في العقد، فقال: ويركب هذا الفارس، ويرمي عن هذه القوس كان العقد في السبق والنضال جائزاً وله أن يبدل الراكب بغيره إذا كان في مثله ثقله لعلة ولغير علة، ويبدل القوس بغيرها إذا كانت من جنسها لعلة ولغير علة. مسألة: قال الشافعي: "ومن الرماة من زعم أنهما إذا سميا قرعاً يستبقان إليه فصارا على السواء أو بينهما زيادة سهم كان للمسبق أن يزيد في عدد القرع ما شاء ومنهم من زعم

أنه ليس له أن يزيد في عدد القرع ما لم يكونا سواء ومنهم من زعم أنه ليس له أن يزيد بغير رضا المسبق. قال المزني رحمه الله: وهذا أشبه بقوله كما لم يكن سبقهما في الخيل ولا في الرمي ولا في الابتداء إلا باجتماعهما على غاية واحدة فكذلك في القياس لا يجوز لأحدهما أن يزيد إلا باجتماعهما على زيادة واحدٍ وبالله التوفيق". قال في الحاوي: قد ذكرنا في لزوم عقد السبق والرمي قولين: أحدهما: أنه لازم كالإجارة. والثاني: أنه جائز وليس بلازم، كالجعالة، ويترتب عليها مسألتان: أحدهما: في فسخ العقد، فان اجتمعا عليه صح، وهل الفسخ إقالة مراضاة أو فسخ خيار على القولين: أحدهما: يكون إقالة مراضاة إن قيل بلزومه كالإقالة في البيع والإجارة. والثاني: فسخ خيار إن قيل بجوازه كالفسخ في القراض والجعالة. وإن انفرد بأحدهما بالفسخ، فإن قيل بلزومه كالإجارة لم يكن له التفرد بالفسخ، وان قيل بجوازه كالجعالة، فإن كانا قبل الشروع، في العمل جاز له الفسخ، وان كان بعده وقبل الغلبة، فإن كانا متساويين ومتقاربين لاستوائهما في الإصابة أو فضل أحدهما على الآخر بسهم كان لكل واحد منهما أن ينفرد بالفسخ، وهو فسخ خيار وليس بإقالة وان تفاضلا في الإصابة، وظهرت على أحدهما للآخر قبل تمامهما، فإن فسخ من ظهر أنه غالب جاز، وان فسخ من ظهر أنه مغلوب، ففي جوازه قولان: أحدهما: يجوز لاستوائهما في خيار العقد. والثاني: لا يجوز لئلا يضاع على الغالب ما يلوح من وجوب حقه. وأما المسألة الثانية في زيادة الشرط، وهو أن يعقداه على إصابة عشرة من عشرين، فيجعل إصابة خمسة من عشرين أو يجعل إصابة عشرة من ثلاثين أو يعقداه على أن العوض فيه دينار، فيجعل أقل أو أكثر، فإن قيل بلزومه كالإجارة ولم يصح ذلك من أحدهما حتى يجتمعا على فسخ العقد، واستئناف عقد مستجد. وان قيل بجوازه كالجعالة جاز أن ينفرد به أحدهما، لكن لا يصير الآخذ داخلاً فيه إلا أن يستأنف الرضا به، وقيل له: إن شئت أن تراميه على هذا، وإلا ملك خيارك. فأما ما حكاه الشافعي عن الرماة من مذاهبهم، فقد اختلف أصحابنا فيما أراد به على وجهين: أحدهما: أراد أن ما ذهب إليه من لزومه وجوازه وزيادته، ونقصانه، قد قاله غيره وتقدمه به.

والثاني: أنه أراد أن يبين أصح مذاهبهم عنده؛ ليعلم صحيحها وفاسدها. وفي قول الشافعي: إذا سميا قرعاً يستبقان إليه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه أراد بالقرع صحة الإصابة. والثاني: أنه أراد به عدد الإصابة. والثالث: أنه أراد به مال النضال. وأما المزني: فإنه قال: كما لم يكن سباقهم في الخيل، ولا في الرمي في الابتداء إلا باجتماعهما على غاية واحدة، كذلك في القياس لا يجوز لأحدهما أن يزيد إلا باجتماعهما على زيادة واحدة فقد اختلف أصحابنا في مراد المزني بكلامه على وجهين: أحدهما: أنه أراد اختيار أحد القولين في لزوم العقد دون جوازه فعلى هذا يكون مصيباً في اختياره، مخطئا في تعليله؛ لأن أظهر القولين لزومه، فصح اختياره، وعلل بأن ما لم ينعقد إلا باجتماع، لم ينفسخ إلا بالاجتماع وهذا تعليل فاسد، بالعقود الجائزة كلها من المضاربة والوكالة والجعالة لا تنعقد إلا باجتماعهما ويجوز أن ينفرد بالفسخ أحدهما. والثاني: أنه أراد به إذا دعا أحدهما في المسألة الثانية إلى زيادة أو نقصان أنه لا يلزم صاحبه إلا باجتماعهما عليه، وهو موافق لقول الشافعي، فعلى هذا يكون مخطئاً في تأويله، مصيباً في تعليله؛ لأن الشافعي لم يوجب على كل واحد منهما إلا ما اجتمعا على الرضا به في القولين معاً. مسألة: قال الشافعي: "ولا يجوز أن يقول أحدهما لصاحبه إن أصبت بهذا السهم فقد نضلتك إلا أن يجعل رجل له سبقاً إن أصاب به". قال في الحاوي: وصورتها في عقد بين متناضلين على إصابة معلومة من رشق معلوم، كاشتراطهما إصابة عشرة من عشرين فيشرعان في الرمي، ويصيب كل واحد منهما بعقد إصابته على تساو أو تفاضل من قليل أو كثير، ثم يستثقلان إتمام الرمي، فيقول أحدهما لصاحبه هوذا أرمي بهذا السهم فإن أصبت به، فقد نضلتك وإن أخطأت به، فقد تضلتني فهذا باطل، لا يصير به ناضلاً إن أصاب، ولا منضولاً إن أخطأت. ولبطلانه علتان: إحداهما: أنه جعل الإصابة الواحدة قائمة مقام إصابات، فبطل وهذا قول ابن أبي هريرة.

والثانية: أن يؤول إلى أن يصير من قلة إصابته ناضلاً ومن كثرة إصابته منضولاً، فإن تقاسما عقدهما، ثم قال أحدهما لصاحبه أو لغيره: ارم بسهمك هذا، فإن أصبت به، فلك درهم، جاز واستحق الدرهم، إن أصاب، ولجوازه علتان: إحداهما أنه قد أجابه إلى ما سأل، فالتزم له ما بذل، وهذا قول ابن أبي هريرة: والثاني: أنه تحريض في طاعة فلزم البذل عليها كالمناضلة. قال أبو إسحاق المروزي: وهذا بذل مال على عمل، وليس بنضال؛ لأن النضال لا يكون إلا بين اثنين، فأكثر. فصل: فإذا تناضل رجلان على إصابة عشرة من عشرين بعشرة دراهم فحضر ثالث فقال المخرج المال: أنا شريكك في الغنم والغرم، فإن نضلت فلي نصف العشرة وإن نضلك فعلى نصف العشرة كان باطلاً، وهكذا لو قال لكل واحد منهما: أنا شريكك في الغنم والفرم فهو باطل لعلتين: إحداهما: أنه لم يدخل في عقدهما، فلم يجز أن يصير شريكاً لهما. والثاني: أنه يصير آخذاً بغير عمل ومعطياً من غير بذل. مسألة: قال الشافعي: "وإن قال: ارم عشرة أرشاق فإن كان صوابك أكثر فلك كذا لم يجز أن يناضل نفسه". قال في الحاوي: اختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة على وجهين: أحدهما: أن المزني حذف منها ما قد ذكره الشافعي في كتاب "الأم" فقال فيه: ولو قال له: ناضل نفسك، وارم عشرة أرشاق، فإن كان صوابك أكثر من خطئك فلك كذا لم يجز أن يناضل نفسه، فحذف المزني قوله: "ناضل نفسك" وأورد باقي كلامه وحكمه على هذه الصورة باطل باتفاق أصحابنا. واختلفوا في تعليله، فقال أبو إسحاق المروزي: وهو الظاهر من تعليل الشافعي أنه جعله مناضلاً لنفسه، والنضال لا يكون إلا بين اثنين، فإن كثر، فاستحال نضال نفسه فبطل. وقال آخرون: بل علة بطلانه أنه فاضل على خطئه بصوابه بقوله: إن كان صوابك أكثر من خطئك، والخطأة لا يناضل عليه، ولا به. والثاني: أن المسألة مصورة على ما أورده المزني ها هنا، ولم يذكر فيه نضال نفسه، وقال له: ارم عشرة أرشاق، فعلى هذا يكون في صحته وجهان من اختلاف العلتين:

أحدهما: أنه صحيح، ويستحق ما جعل له التعليل الأول؛ لأنه بذل مال على عمل لم يناضل فيه نفسه. والثاني: أنه باطل للتعليل الثاني أنه مناضل على خطئه وصوابه، ويتفرع على هاتين المسألتين ثالثة. واختلف فيها أصحابنا بأيهما تلحق على وجهين، وهو أن يقول: ناضل وارم عشرة أرشاق فإن كان صوابك أكثر، فلك كذا فتوافق المسألة الأولى في قوله: ناضل وتوافق المسألة الثانية في حذف قوله: ناضل نفسك، وأحد الوجهين وهو قول أبي إسحاق المروزي إنهما في حكم المسألة الأولى في البطلان؛ لأجل قوله: ناضل والنضال لا يكون إلا بين اثنين فمار كقوله: ناضل نفسك. والوجه الثاني: أنها في حكم المسألة الثانية في حمل صحتها على وجهين من اختلاف العلتين إذا سقط قوله: ناضل نفسك صار قوله: ناضل، يعني: ارم على نضال، والنضال المال، فصار كالابتداء بقوله: ارم عشرة أرشاق. مسألة: قال الشافعي: "وإذا رمى بهم فانكسر فإن أصاب بالنصل كان له خاسقاً وإن أصاب بالقدح لم يكن خاسقاً ولو انقطع باثنين فأصاب بهما جميعا حسب الذي فيه النصل". قال في الحاوي: وهذا صحيح وقد تقدم معناه، فإذا انكسر السهم بعد خروجه عن القوس، فله خمسة أحوال: أحدها: أن يسقط عادلاً عن الهدف، فلا يحتسب عليه في الخطأ؛ لأنه من فساد السهم، لا من سوء الرمي. والحال الثانية: أن يصيب بعرض السهم، فيرد عليه، ولا يحتسب به مصيباً ولا مخطئاً؛ لأنه أصاب بغير محل الإصابة. والحال الثالثة: أن يصيب بكسر القدح دون النصل، فيرد، ولا يحتسب؛ لما ذكرناه. والحال الرابعة: أن يصيب بكسر النصل، فينظر، فإن وقعت الإصابة من كسر النصل بالطرق الذي فيه حديدة النصل، احتسب به مصيباً لأنه أصاب بمحل الإصابة، وان أصاب منه بالطرف الآخر المتصل بقدح الفوق لم يحتسب به مصيباً، ولا مخطئاً، لأن أصاب بغير محل الإصابة. والحال الخامسة: أن يصيب بالكسرين معاً، فلا يحتسب بكسر القدح، ويكون

الاحتساب بكسر النصل معتبراً بما ذكرنا إن كان بطرف الحديدة كان مصيباً؛ وإن كان بطرفه الآخر كان مردوداً. مسألة: قال الشافعي: "وإن كان في الشن نبل فأصاب سهمه فوق سهم في الشن لم يحسب ورد عليه ورمى به لأنه عارض دون الشن". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن فوق السهم هو الجزء الذي في طرفه لموقع الوتر، فإذا ثبت سهم في الشن، ثم رماه فوقع سهم هذا على فوق السهم الذي في الهدف فللسهم الثابت في الهدف حالتان: إحداهما: أن يدخل منه في الهدف قدر نصله، ويكون باقي طوله خارجاً، فلا يحتسب لهذا بسهمه لا مخطئاً، ولا مصيباً لأنه لم يبلغ كل الهدف، فصار مقصراً، فلم يعتد به مصيباً، ولا مخطئاً، ومنعه طائل، فلم يصر مخطئاً. والحالة الثانية: أن يكون السهم الثابت في الهدف قد دخل جميعه في الهدف حتى غاص، ولم يظهر منه إلا موضع فوقه، فوقع عليه هذا السهم، فينظر في الإصابة. فإن كانت قرعاً احتسب بهذا السهم مصيباً لوصول السهم إلى محل الإصابة من الهدف، وإن كانت الإصابة خسقاً لم يحتسب به مصيباً ولا مخطئاً إلا أن ثبت نصله من فوق ذلك السهم، فيحتسب به مصيباً في الخسق؛ لأن ما خسق الخشب، وثبت فيه فأولى أن يخسق الشن، ويثبت فيه، وأحسن ما تكون الإصابة كما قال الشاعر: نُضِيبُ بِبعضِهَا أفْواقَ بعضٍ فَلَولَا الكَسْرُ لاتَّصلتْ مُصِيبَا قال الشافعي:"وإذا أراد المستبق أن يجلس ولا يرمي وللمسبق فضل أو لا فضل له فسواء وقد يكون له الفضل فينضل ويكون عليه الفضل وينضل والرماة يختلفون في ذلك فمنهم من يجعل له أن يجلس ما لم ينضل ومنهم من يقول ليس له أن يجلس إلا من عذر وأحسبه إن مرض بالرمي أو يصيب إحدى يديه علة تمنعه من ذلك كان له أن يجلس ويلزمهم أن يقولوا إذا تراضيا على أصل الرمي الأول" .. قال في الحاوي: إذا جلس أحد المتناضلين عن الرمي، فله حالتان: إحداهما: أن يريد به تأخير الرمي عن وقته، فلا يخلو أن يكون فيه معذوراً أو غير معذور، فإن كان له عذر، وطلب التأخير أخر، ولم يجبر على التعجيل سواء قيل بلزومه كالإجارة أو بجوازه كالجعالة؛ لأنه ليس بأوكد من فرض الجمعة التي يجوز التأخر عنها

بالعذر وأعذاره في تأخير الرمي ما أثر في نفسه من مرض أو شدة حر أو برد أو أثر في رميه من شدة ريح أو مطر أو أثر في أهله من موت حل أو حادث نزل أو أثر في ماله من جائحة طرقت أو خوف طرأ، إن لم يكن له في تأخير الرمي عذر والتمس به الدعة إلى وقت آخر، ففي إجباره على التعجيل قولان: أحدهما: يجبر عليه، إذا قيل بلزومه كالإجارة. والثاني: لا يجبر على تعجيله إذا قيل بجوازه كالجعالة. فصل: والحال الثانية: أن يريد بالجلوس عن الرمي فسخ العقد، فلا يخلو أن يكون معذوراً في الفسخ أو غير معذور، فإن كان معذوراً في الفسخ، وأعذار الفسخ أضيق وأغلظ من أعذار التأخير وهي ما اختصت بنفسه من العيوب المانعة من تتمة رميه، وهي ضربان: أحدهما: ما لا يرجى زواله كشلل يده أو ذهاب بصره، فالفسخ واقع بحدوث هذا المانع، وليس يحتاج إلى فسخه بالقول. والثاني: ما يرجى زواله كمرض يده أو رمد عينه أو علة جسده فلا ينفسخ العقد بحدوث هذا المانع، بخلاف الضرب الأول، لإمكان الرمي بإمكان زواله، ويكون الفسخ بالقول، وذلك معتبر بحال صاحبه، فإن طلب تعجيل الرمي، فله الفسخ لتعذر التعجيل عليه، ويكون استحقاق هذا الفسخ مشتركاً بينه وبين صاحبه، ولكل واحد منهما فسخ العقد به، وإن أجاب صاحبه إلى الإنظار بالرمي إلى زوال المرض، فهل يكون عذره في الفخ باقياً أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يكون باقياً في استحقاق الفسخ؛ لئلا تكون ذمته مرتهنة بالعقد. والثاني: أن عذر الفسخ قد زال بالانتظار، وليس للمنظر أن يرجع في هذه الإنظار، وإن جاز له أن يرجع في الإنظار بالديون؛ لأنه عن عيب رضي به وجرى مجرى الإنظار بالإعسار، وان لم يكن لطالب الفسخ عذر في الفسخ. فإن قيل بلزوم العقد كالإجارة لم يكن له الفسخ، وأخذ به جبراً، فإن امتنع منه حبس عليه كما يحبس بسائر الحقوق إذا امتنع بها، فإن طال به الحبس، وهو على امتناعه عزر حتى يجيب، وان قيل بجواز العقد كالجعالة، فله الفسخ قبل الرمي، وبعد الشرو فيه، وقبل ظهور الغلبة، فإن ظهرت الغلبة لأحدهما، فإن كانت لطالب الفتح، فله الفسخ، وان كانت لغيره، ففي استحقاقه للفسخ قولان مضيا: أحدهما: لا يستحقه بعد ظهورها، لتفويت الأغراض المقصودة بعد ظهورها. والثاني: وهو الذي نص عليه الشافعي ها هنا، له الفخ لما علل به من أنه قد يكون له الفضل فينضل ويكون عليه الفضل، فينضل.

مسألة: قال الشافعي: "ولا يجوز أن يسبقه على أن يعيد عليه". قال في الحاوي: أما قوله: "ولا يجوز أن يسبقه، ففيه تأويلان: أحدهما: لا يعقد معه عقد السبق على هذا الشرط. والثاني: لا يخرج مال السبق على هذا الشرط. وأما قوله: "على أن يعيد عليه " ففيه تأويلان على أنه إذا أخطأ أعيد عليه السهم ولم يحتسب به في الخطأ، ويجعل كل خطأين خطأ واحدا. والتأويل الثاني: على أنه إذا أصاب أعيد صوابه، فاحتسب به إصابتين والعقد على التأويلين باطل لأمرين: أحدهما: اشتراط تفاضلهما فيما يجب فيه تساويهما. والثاني: أن مقصود عقدهما معرفة أحذقهما، ولا يعلم مع مناضلة التفاضل حذق الحاذق. مسألة: قال الشافعي:"وإن سبقه على أن يرمي بالعربية لم يكن له أن يرمي بالفارسية لأن معروفاً أن الصواب عن الفارسية أكثر منه عن العربية". قال في الحاوي: وهذا كما قال، إذا كان عقد نضالهما أن يكون عن قوس عربية فأراد أن يبدلها بقوس فارسية لم يجز؛ لأن الصواب بالفارسية أكثر منه بالعربية ولو أراد أن يبدلها بقوة أخرى عربية جاز؛ لأن الجنس يتعين بالشرط ولا يتعين له واحد من الجنس، ولو كان عقد نضالهما على الفارسية، فأراد أن يبدلها بالعربية، لم يجز لأمرين: أحدهما: أن تعيين الجنس يمنع من العدول عنه. والثاني: أن مقصود الرمي تفاضلهما في الحذق، وقد يكون بالعربية أحذق، فلا يدل على أنه مع التماثل أحذق. مسألة: قال الشافعي: "وإن سبقه ولم يسم الغرض كرهته فإن سمياه كرهت أن يرفعه أو يخفضه". قال في الحاوي: أما الغرض في اللغة، فهو اسم للمراد بالفعل المقصود، وهو أخص من الإرادة، لأن الغرض ما اقترن بالفعل والإرادة قد تعم، فتكون بفعل وغير فعل، وهو مستعمل في النضال وله فيه حقيقة ومجاز، فحقيقة الفرض في النضال: محل

الإصابة من الهدف ومجازه في النضال موقف الرامي عند رمي الهدف وإذا كان كذلك وجب أن يصف الغرض الذي هو محل الإصابة والغرض الذي هو موقوف الرامي؛ ليكون حكم المسألة فيما أريد بها منهما معلوماً بعد تفسيرهما ومعرفتهما. أما الغرض في الهدف، فقد ذكرنا أن الهدف هو بناء ينصب فيه الغرض، والغرض يشتمل على شن وجريد وعري ومعاليق، فالشن هو الجلد. والجريد: هو الخشب المحيط بالشن، حتى ينبسط فيه كحلقة المنحل، وأما العري: فهو كالحلق حول الشن. فأما المعاليق: فهي أوتار يشد بها عري الشن إلى أوتاد في الهدف، وفي الشن دائرة هي أضيق منه، وفي الدائرة هلال هو أضيق، وفي الهلال خاتم هو أضيق منه، فأحذق الرماة من يشترط إصابة الخاتم، فلا يحتسب له بإصابة الهلال وما زاد، ثم يليه من يشترط إصابة الهلال، فلا يحتسب له بإصابة الهلال وما زاد ثم يليه من يشترط إصابة الهلال، فلا يحتسب له بإصابة الدائرة، وما زاد، ثم يليه من يشترط إصابة الدائرة، فلا يحتسب له بإصابة الشن وما زاد ثم يليه من يشترط إصابة الشن، فلا يحتسب له ببقية الغرض، وما زاد ثم يليه من يشترط إصابة الغرض، فيحتسب بإصابة الشن، والشن والعري وفي الاحتساب له بإصابة المعاليق قولان: أحدهما: يحتسب بها كالعري. والثاني: لا يحتسب بها كالأوتاد ولهم في محل الغرض من الهدف عادات مختلفة فمنهم من يرفعه ويسمونه جواني، ومنهم من يخفضه ويسمونه ميلاني، ومنهم من يتوسط فيه ويسمونه نطحاني. وأما الغرض في موقف الرامي، فهو مقام الرامي استقبال الهدف يرميه من مسافة مقدرة تقل الإصابة ببعدها، وتكثر بقربها، ويحتاج في القريبة إلى القوس اللينة حتى لا يمرق الهم، وفي البعيدة إلى القوس الشديدة حتى يصل السهم. فصل: وإذا تقرر ما ذكرنا فقد اختلف أصحابنا فيما أراده الشافعي في هذه المسألة بقوله: "وإذ سبقه، ولم يسم الغرض كرهته " وهل أراد به غرض الهدف أو غرض الموقف على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه أراد غرض الموقف أن تكوك مسافته مقدرة بالشرط في العقد، وإن أغفلا ذكرها، وعرف الرماة فيه مختلف بطل العقد للجهل بما هو مقصود فيه، ويكون معنى قول الشافعي: "كرهته " أي حرمته، كما قال: "وأكره أن يدهن من عظم قيل" أي أحرمه، وإن كان للرماية فيه عرف معهود ففي حملهما عليه مع الإطلاق وجهان:

أحدهما: يحملان فيه على العرف؛ لأن العرف مع عدم الشرط يقول في العقود مقام الشرط، فعلى هذا يكون العقد صحيحاً، ويكون معنى قول الشافعي: "كراهة " يريد: كراهة اختيار لا كراهة تحريم وإنما كرهه مع الصحة؛ لأنه ربما كان لأعيان المتناضلين أغراض في مخالفة العرف. والثاني: أنهما لا يحملان فيه على العرف، لهذا التعليل من اختلاف الأغراض فيه وأن القوي في البعد أرغب، والضعيف في القرب أرغب، فعلى هذا يكون العقد باطلاً، ويكون قوله: "كرهته " أي حرمته، وإذا تقدرت مسافة الغرض إما بالشرط وإما بالعرف لم يكن لواحد من المتناضلين أن يزيد فيه، ولا ينقص منه لأن الجواب محمول على القول بلزومه كالإجارة، ويكون معنى قول الشافعي: "فإن سمياه كرهت أن يرفعه أو يخفضه " أي: منعت أن يزيد فيه أو ينقص منه؛ لأن الزيادة ارتفاع، والنقصان انخفاض، فهذا أحد الوجهين في مراد الشافعي بالمسألة وجوابها على هذا المراد في أحكامها مع الذكر والإغفال. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن مراد الشافعي بهذا غرض الهدف في ارتفاعه وانخفاضه، وتوسطه، فإن سمياه في العقد حملاً على ما سمياه ولم يكن لواحد منهما أن يرفعه إن كان منخفضاً ولا أن يخفضه إذا كان مرتفعاً التزاماً بحكم الشرط. وإن أغفلاه لم يبطل العقد بإغفاله؛ لأنه من توابع مقصوده. وقيل لهما: إن اتفقتما بعد العقد حملتما فيه على اتفاقكما، ولم يكن لواحد منكما بعد الاتفاق أن يرفعه أو يخفضه، وإن اختلفتما فيه حملتما على العرف، ويكون الاتفاق ها هنا مقدماً على العرف؛ لأن ارتفاع الغرض أمكن للطويل والراكب وانخفاضه أمكن للقصير والنازل. وإن كان العرف عند تقدر الاتفاق، مختلفاً روعي فيه أوسط الأغراض المسمى: الجواني، لتعديل ما بين الإرادتين، ويكون قول الشافعي: "كرهت " محمولاً على كراهة الاختيار والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "وقد أجاز الرماة للمسبق أن يراميه رشقاً وأكثر في المائتين ومن أجازه في الرقعة وفي أكثر من ثلاثمائة". قال في الحاوي: ذكر الشافعي في هذه المسألة كلاماً مشتبهاً يشتمل على أسماء مبهمة، وأحكام مختلفة فيلزم تعيين أسمائها، وبيان أحكامها. فأما الأسماء، فذكر منها الرشق، فقد ذكرناه أنه بفتح الراء اسم للرمي، وبكسرها اسم لعدد الرمي، وهما عددان ومستحب.

فأما اللازم في العقد، فهو جملة عدد الرمي الذي تعاقدا عليه، كاشتراطهما رمي مائة سهم، فالمائة رشق ينطلق عليها اسم الرشق حقيقة. وأما المستحب في العقد، فهو تفضيل عدد الرمي الذي يتناوبان فيه كاشتراطهما أن يتراميا خمساً خمساً، أو عشراً عشراً، فالعشر رشق، ينطلق عليها اسم الرشق، مجازاً؛ لأنها بعض الحقيقة، فصارا رشقين: رشق جملة ورشق تفضيل. وعادة الرماة في رشق التفضيل مختلفة، فمنهم من يختار أن يكون خمساً خمساً ومنهم من يختار أن يكون عشراً عشراً، ومنهم من يختار أن يكون عشراً عشراً، ومنهم من يختار أن يكون اثني عشر اثني عشر تبركاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم - لسعد بن أبي وقاص يوم أحد: ارم فداك أبي وأمي، اثني عشرة مرة، فكان حسن الأثر في الرمي معتبراً بهذه الدعوة، وهو أول من رمى في الإسلام سهماً وأراق فيه دماً، وشعره فيه دليل عليه حيث يقول: أَلَا هَلْ أَتَى رَسُولُ اللهِ أَنِّي حَميْتُ صَحَابَتِي بِصُدورِ نَبْلِي فَمَا تَعْتَدُّ رَامٍ فِي عَدَوٍّ بِسَهْمٍ يَا رَسُولً اللهٍ قَبْلِي وذلك أن دينك دين صدق وذي حق أتيت به وعدل. فأما الندب، فمنهم من جعله اسماً لمال البق، والرمي، ومنهم من جعله اسماً لعدد الرمي كالرشق، واختلف من قال بهذا، هل ينطلق على عدد الجملة أو عدد التفضيل أو يختص بعدد التفضيل، فقال بعضهم: ينطلق على العددين كالرشق، وقال آخرون، يختص بعدد التفضيل دون الجملة. واختلف من قال بهذا هل يختص برمي الجلاهق أو يعم النشاب والجلاهق، فقال بعضهم: الندب كالرشق يعم انطلاقهما على عدد الرمي في النشاب والجلاهق وهو البندق. وقال آخرون: الرشق مختص بعدد الرمي في النشاب، والندب مختص بعدد الرمي في الجلاهق ومن الأسماء التي ذكرها الشافعي في هذه المسألة "الرقعة" وقد اختلف في روايتها فرواها المزني: الرقعة بالقاف وضم الراء، ورواها ابن سريج: "الرفعة" بالفاء وكسر الراء مأخوذ من الارتفاع، وزعم أنه المنصوص عليه في كتاب "الأم " ونسب المزني إلى الوهم، فعلى رواية أبي العباس بن سريج يكون هذا الاسم صفة للغرض في ارتفاعه من خفض إلى علو. وعلى رواية المزني أنها الرقعة بالقاف اختلف في المراد بها ها هنا على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه اسم للغرض الذي في الهدف، فيكون مسمى باسمين بالرقعة وبالغرض. والثاني: أنه اسم يختص بهما في وسط الغرض من عظم هو أضيق ما فيه من مواقع الإصابة الذي تقدم له سمة بالخاتم، فيسمى باسمين بالرقعة وبالخاتم.

والثالث: أنه اسم لمسافة الرمي، فيما بين موقف الرامي والهدف ولئن طال الكلام بتفسير هذه الأسماء، فلا غنى عنها، لتعلق الأحكام بها. فصل: فإذا تقررت هذه الجملة، فقد اختلف أصحابنا في تأويل هذه المسألة على ثلاثة أوجه: أحدها: أنها مصورة في قدر المسافة التي يجوز أن يتناضلا إليها، وحد أقلها ما يجوز أن يخطئ فيه الرماة لبعده، وأما ما لا يجوز أن يخطئوا فيه، لقربه فالنضال عليه باطل، وحد أكثرها ما يجوز أن يصيب فيه الرماة لقربه. فأما ما لا يجوز أن يصيبوا فيه لبعده، فالنضال عليه باطل، وهذان الحدان في الأقل والأكثر هما حداًّ تحقيق لمعناهما وحدهما بالمسافة حدّ تقريب من غير تحقيق، ولأكثر المسافة على التقريب معتاد ونادر فأما حدّه المعتاد على التقريب فهو مائتا ذراع، لما روي أن رجلاً من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قدم عليه من غزاة، ووصف له حربهم فيها، فقال: كنا نحارب العدو، فإن كانوا منا على مائتي ذراع رميناهم بالسهام، وإن كانوا دونها رضخناهم بالأحجار، وان كانوا أقرب من ذلك طعناهم بالرماح، وإن كانوا أقرب إلينا ضربناهم بالسيوف، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا هو الحرب" .. وأما حدّه الثالث على التقريب، فهو ثلاثمائة ذراع؛ لأن في الرماة من يصيب منه. والإصابة في الزيادة عليها متعذرة. وحكي أنه لم ير أحد كان يرمي على أربع مائة ذراع، ويصيب إلا عقبة بن عامر الجهني، وهذا شاذ في النادر إن صح، فلا اعتبار به، ولا يصح العقد عليه فإن عقد النضال على أكثر المسافة المعتادة، وهي مائتا ذراع صح العقد إذا كان مثل الراميين يصيب فيهما، وان كان مثلهما لا يصيب منها، لم يصح العقد، وان كان مثلهما قد يصيب منها، ففي صحة العقد وجهان: أحدهما: يصح لإمكان إصابتهما منها كالمسافة المعتادة. والثاني: أنه باطل؛ لأن النادر غرر، والغرر في العقود مردود بالنهي عنه، وحكم ما بين المعتاد والنادر، فيلحق بأقربهما إليه، فإن كانت الزيادة على المائتين أقل من خمسين، فهو من المعتاد، وان كانت أكثر من خمسين فهو في النادر. وأما عقده على ما زاد على الثلاثمائة فإذا كثرت الزيادة بطل العقد على ما زاد على الثلاثمائة، فإن كثرت الزيادة بطل العقد بها، وإن قلت الزيادة كانت حكم الثلاثمائة في الصحة والفساد وهو معنى قول الشافعي؛ لأن إغفال ذكره في العقد يبطله، فصار من لوازمه. والقسم الثالث: ما اختلف أصحابنا فيه، وهو: هل الإصابة من القرع إلى الخسق،

هل يحتاج فيه إلى فسخ العقد، واستئناف غيره، أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يصح بغير فسخ، إلحاقاً بمحل الغرض. والثاني: لا يصح إلا بعد الفسخ إلحاقاً بمحل الإصابة من الغرض، فإن اعتبر فيه الفسخ، استأنفا الرمي، وان لم يعتبر فيه الفسح بنيا على الرمي المتقدم، ويكون معنى قول الشافعي: "ومن أجاز هذا إجازة في الرقعة " أي من أجاز الزيادة في المسافة فأولى أن يجيز تغيير الغرض؛ لأن حكم المسافة أغلظ والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "ولا بأس أن يشترطا أن يرميا أرشاقاً معلومة كل يؤم من أوله إلى آخره فلا يفترقا حتى يفرغا منها إلا من عذر مرض أو عاصف من الريح ". قال في الحاوي: لا يخلو حال الرمي من حالين: أحدهما: أن يكون معقوداً على رشق واحد يمكن رمي جميعه في يوم واحد فهذا يجب أن يوالي رمي جميعه، ولا يفرق، ولهما فيه ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يعقداه معجلاً، فيلزم رمى جميعه في يوم عقده، ولا يجوز لأحدهما تأخيره، إلا من عذر يمنع من الرمي من مرض بالرامي أو مطر أو ريح يفسد آلة الرمي فإن أخراه عن يومهم عن تراض، فهو إنظار لا يفسد به العقد على القولين معاً. والثاني: أن يعقداه مؤجلاً في يوم مسمى جعلاه وقتاً للرمي، ففي العقد وجهان: أحدهما: باطل؛ لأنه عقد على عين شرط فيه تأخير القبض. والثاني: صحيح؛ لأمرين: أحدهما: لأن العمل فيه مضمون في الذمة. والثاني: أن عقده أوسع حكماً مما عداه، فعلى هذا يكون الأصل هو المستحق فيه الرمي، لا يقدم قبله، ولا يؤخر بعده، فإن أراد أحدهما تقديمه أو تأخيره، وامتنع منه صاحبه، كان محمولاً على القولين، وإن اتفقا على تقديمه أو تأخيره من غير فسخ جاز على القولين معاً، ولو بدر أحدهما، فرمى قبل حلول الأجل لم يحتسب له بصوابه، ولم يحتسب عليه بخطئه لأنه رمي لم يقتضيه العقد. والثالث: أن يعقداه مطلقاً لا يشترطا فيه حلولاً ولا تأجيلاً، فيقتضي إطلاقه الحلول، لأن الأجل في العقد لا يثبت إلا بشرطه. فصل: والحال الثانية من الأصل: أن يكون النضال معقوداً على أرشاق كثيرة لا يمكن رمي جميعها في يوم واحد لعقده على مائة رشق، فهذا على ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يشترطا فيه ما يمكن، وهو أن يجعلا في كل يوم رمي أرشاق معلومة يتسع اليوم لرميها من غير إرهاق، فهذا جائز، ويختص كل يوم رمي ما سمي فيه، ولا يلزم الزيادة عليه، ولا النقصان منه، وليس هذا بتأجيل يخرج على الوجهين، وإنما هو تقدير الرمي في زمانه، فصح وجها واحداً. والثاني: أن يشترطا ما يمتنع، وهو رمي جميع الأرشاق في يوم واحد، وهو يضيق عن جميعها فهذا باطل، لامتناعه، ويكون العقد به باطلاً. والثالث: أن يكون العقد مطلقاً لا يشترطا فيه تقدير الرمي، فيلزم أن يرميا في كل يوم ما اتسع له بحسب طول النهار وقصره، ولا يلزم الرمي في الليل لخروجه عن معهود العمل إلى الاستراحة، ولا يلزم الارتفاق في رمي النهار ويكون ابتداؤه بعد طلوع الشمس وانتهاؤه قبل غروبها، ويمسكان عنه في أوقات الأكل والشرب والطهارة والصلاة وأوقات الاستراحة المعهودة. وعادة الرماة تختلف في مواصلة الرمي، لأن فيهم من تكثر إصابته إذا وصل لقوة بدنه وشدة ساعده، ومنهم من تقل إصابته إذا وصل لضعف بدنه، ولين ساعده فإذا عدل بهما عن المواصلة والفتور إلى حال معتدلة اعتدل رميهما وتكافأ فإن عرض ما يمنع من الرمي إما في الزمان من مطر أو ريح أو في أبدانهما من مرض أو علة أحر. مسألة: قال الشافعي: "ومن اعتلت أداته أبدل مكان قوسه ونبله ووتره " قال في الحاوي: أما قوله: "اعتلت أداته" فهي كلمة مستعارة يستعملها الرماة عند فساد آلتهم، مأخوذ من علة المريض، فإذا انكسر قوسه، أو لان وانقطع وتره، أو استرخى واندق سهمه أو اعوج كان له أن يبدله بغيره صحيحاً، لما ذكرنا من حكم الآلة أنها تبع لا تتعين في العقد، وإنما يتعين فيه الراميان فلم يجز إبدال الرامي بغيره إذا اعتل وجاز إبدال الآلة بغيرها إذا اعتلت، وإن أراد إبدالها من غير أن تعتل جاز لكن يجوز تأخير الرمي لإبدالها إذا اعتلت، ولا يجوز تأخيره لإبدالها إذا لم تعتل. مسألة: قال الشافعي: "وأن طول أحدهما بالإرسال التماس أن تبرد يد الرامي أو ينسى حُسن صنيعه في السهم الذي رماه فأصاب أو أخطأ فليستعتب من طريق الخطأ فقال: لم أنو هذا لم يكن ذلك له وقيل له ارم كما ترمي الناس لا معجلاً عن التثبت في مقامك ونزعك وإرسالك ولا مبطئاً لإدخال الضرر بالحبس على صاحبك". قال في الحاوي: ينبغي أن يكون الراميان على اقتصاد في التثبت من غير إبطاء، ولا

إعجال فإن طول أحدهما بعد أن تقدم رمي صاحبه على الاقتصاد ليبرد يد صاحبه في السهم الذي رمي به، فنسي صنيعه إن أصاب، فلا يسن بصوابه، أو أخطأ فلا يزول عن سنته في خطئه، فإن أمسك صاحبه عن الاستعتاب ترك هذا المتباطئ على حاله، وإن استعتب وشكا قيل للمتباطئ: ليس لك أن بضر بصاحبك في الإبطاء كما ليس لصاحبك أن يضربك في الإعجال واعدل إلى القصد في تثبتك غير متباطئ ولا معجل، فإن قال: هذه عادتي لا أقدر على فراقها، نظر، فإن كان ذلك معروفاً منه قيل لصاحبه: لا سبيل إلى هذا من تكليفه غير عادته، وهو عيب أنت لأجله بالخيار بين مناضلته أو فسخه، وإن كان معروفاً بخلاف ما ادعاه لم تقبل دعواه وأخذ بالاعتدال في قصده جبراً ما أقام على عقده. وفي قول الشافعي: ويستعيب من طريق الخطأ تأويلان: أحدهما: ومعناه إن إطالة إرساله خطأ منه، فيعاتب عليه. والثاني: أن خطأ صاحبه فهو لإطالة إرساله، فيعاتب عليه، وإن كان خطؤه محسوباً عليه، كما أن صوابه محسوباً له، وبالله التوفيق. مسألة: قال الشافعي: "ولو كان الرامي يطيل الكلام والحبس قيل له لا تُطل ولا تعجل عما يفهم". قال في الحاوي: أما المرمى، فهو المرتهن بين المتناضلين ويسمى المشير، والموطن لا يثير على كل واحد منهما بمقصوده، ويخرج سهمه، وبموطن موقفه، ويرد عليه سهمه بعد رميه، ويخبر بصوابه أو خطئه، وعلى هذا أن يعدل بين المتناضلين ولا يميل إلى أحدهما، فيجوز، ولا يمدح أحدهما ويذم الآخر، وليكن إما مادحاً لهما أو ساكتاً عنهما، وليعجل رد سهم كل واحد منهما عليه، ولا يحسبه عنه، فينسى حسن صنيعه، فإن خالف الميل، على أحدهما، منع لإضراره به، وإن ساوى بينهما في إكثار الكلام، وإطالته، وحبس السهم في إعادته صار مضراً بهما، وتوجه المنع إليه في حقهما بعد أن كان في حق أحدهما، وأمر بإقلال الكلام، وتعجيل السهام؟ لأن كثرة كلامه مدهش، وحبسه للسهام ينسى حسن صنيعها فإن كف وإلا استبدل به غيره ممن يتراضيا به المتناضلان، فإن اختلفا اختار الحاكم لهما مؤتمناً، وهكذا لو كان الكلام من أحد المتناضلين مدحاً لنفسه بالإصابة، وذماً لصاحبه بالخطأ كف ومنع، فإن أقام عليه، ولم يقلع عنه عزر، ولم يستبدل به لتعيينه في العقد الذي لا يقوم غيره فيه مقامه. مسألة: قال الشافعي: "وللمبدئ أن يقف في أي مقام شاء ثم للآخر من الغرض الآخر

أي مقام شاء". قال في الحاوي: يريد بالمبدئ الذي قد استحق أن يتبدئ بالرمي، إما بالشرط أو بقرعة، فإذا كان الرمي بين هدفين، وهو المسنون والأولى بالمعهود أن يرمي المتناضلان من أحد الهدفين إلى الآخر، رشقاً بحسب ما استقر بينهما، من خمس خمس أو عشر عشر، ثم يمضيا إلى الهدف فيجمعا سهامها ويرميا منه إلى الهدف الثاني رشقاً ثالثاً كذلك أبداً حتى يستكملا رمي جميع أرشاقهما، وإذا كان كذلك، فللمبتدى، بالرمي أن يبتدئ من أي الهدفين شاء، ويقف منه أي موقف شاء؛ لأنه لما استحق الابتداء بالرمي استحق الخيار في موقف الرمي، فيقف حيث شاء من الهدف عن يمينه أو يساره أو وسطه، فإذا صار إلى الهدف الثاني صار الخيار في الموقف إلى الرامي الثاني، فيقف فيه حيث شاء من يمين أو يسار أو وسط، كما كان الخيار في الهدف الأول إلى الرامي الأول؛ لأن المساواة بينهما مستحقة، فلما كان الخيار في الهدف الأول للأول وجب أن يكون في الهدف الثاني للثاني، فإذا أعاد إلى الهدف الثاني الأول عاد الخيار للأول، فإذا عاد إلى الهدف الثاني صار الخيار للثاني، ولا يجمع لواحد منهما الخيار في الهدفين، لما ينفرد به من التفضيل على صاحبه، فإن شرطاه قال الشافعي في "الأم": بطل العقد بالتفضيل المشروط فيه، فإن شرطا أن يكون لأحدهما الخيار في الهدفين على أن يكون لصاحبه الخيار بعده في الهدفين جاز؛ لأنهما قد تساويا فيه. فصل: وإذا كان النضال بين ثلاثة، وقف المبتدئ بالرمي في الهدف الذي شاء ووقف منه حيث شاء، ثم نظر في الثاني والثالث، فإن استقر المبتدى، منهما بالرمي بشرط أو قرعة، وإلا أقرع بينهما ووقف الرامي الثاني من الهدف حيث شاء، فإذا عاد إلى الهدف الأول وقف الرامي الثالث منه حيث شاء ليتساوى الثلاثة في اختيار الموقف في هدف بعد هدف لرمي رشق سواء كان حكم الثالث والثاني كحكم الثاني مع الأول. فإذا ترتبوا على هذا الاختيار في ثلاثة أرشاق صاروا في الرشق الرابع إلى حكم الرشق الأول في عود الخيار إلى الأول، والله أعلم بالصواب. فصل: وإذا قال أحد المتناضلين: نستقبل الشمس في رمينا. وقال الآخر: نستدبرها فالقول قول من دعا إلى استدبارها: لأن شعاع الشمر إذا استقبل الرمي، اختل عليه رميه، فإن شرطا في العقد استقبالها حملا عليه بالشرط، كما أن مطلق العقد يقتضي الرمي بالنهار، فإن شرطا فيه الرمي ليلاً حملا عليه، إما في ضوء القمر أو مشاعل النار.

مسألة: قال الشافعي: "وإذا اقتسموا ثلاثة وثلاثة فلا يجوز أن يقترعوا وليقتسموا قسماً معروفاً". قال في الحاوي: النضال ضربان: أفراد وأحزاب، وقد مضى نضال الأفراد، فأما نضال الأحزاب، فهو أن يناضل حزبان يدخل في كل واحد منهما جماعة، يتقدم عليهم أحدهم، فيعقد النضال على جميعهم، فهذا يصح على شروطه، وهو منصوص الشافعي رحمه الله وعليه جماعة أصحابه رحمهم الله وجمهورهم. وحكي عن أبي علي بن أبي هريرة أنه لا يصح، لأن كل واحد منهما يأخذ بفعل غيره، وهذا فاسد، لأنهم إذا اشتركوا صار فعل جميعهم واحداً فاشتركوا في موجبه لاشتراكهم في فعله مع ورود السنة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه برواية أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مر بقوم يرمون، فقال: "ارموا وأنا مع بني الأذرع "، فأمسك القوم قسيهم، وقالوا: يا رسول الله من كنت معه غلب، فقال: "ارموا، فأنا معكم كلكم"، فدل على أنهم كانوا حزبين مشتركين، ولأن مقصود النضال التحريض على الاستعداد للحرب، وهو في الأحزاب أشد تحريضاً وأكثر اجتهاداً، فإذا ثبت جوازه في الحزبين، كجوازه بين الاثنين، فلصحته خمسة شروط: أحدهما: أن يتساوى عدد الحزبين، ولا يفصل أحدهما على الآخر، فيكونوا ثلاثة وثلاثة أو خمسة وخمسة أو أقل أو أكثر، فإن فضل أحدهما على الآخر يرجل بطل العقد، لأن مقصوده معرفة أحذق الحزبين، فإذا تفاضلوا تغالبوا بكثرة العدد لا بحذق الرمي. والشرط الثاني: أن يكون العقد عليهم بإذنهم، فإن لم يأذنوا فيه لم يصح، لأنه عقد معاوضة متردد بين الإجارة والجعالة، وكل واحد منهما لا يصح إلا بإذن واختيار فإن عقد عليهم من لم يستأذنهم بطل. والشرط الثالث: أن يعينوا على متولي العقد منهم، فيكون فيه متقدماً عليهم، ونائباً عنهم، فإن لم يعينوا على واحد منهم لم يصح العقد عليهم لأنه توكيل، فلم يصح إلا بالتعيين ويختار أن يكون زعيم كل حزب أحذقهم وأطوعهم، لأن صفة الزعيم في العرف أن يكون متقدماً في الصناعة مطاعاً في الجماعة، فإن تقدموه في الرمي وأطاعوه في الإتباع جاز، وإن تقدمهم في الرمي، ولم يطيعوه في الإتباع لم يجز، فإن غير المطاع لا تنفذ أوامره. والشرط الرابع: أن يكون زعيم لكل واحد من الحزبين غير زعيم الحزب الآخر لتصح نيابته عنهم في العقد عليهم مع الحزب الآخر، فإن كان زعيم الحزبين واحداً لم

يصح كما لا يصح أن يكون الوكيل في العقد بائعاً مشترياً. والشرط الخامس: وهو مسألة الكتاب: أن يتعين رماة كل حزب منها، قبل العقد باتفاق ومراضاة، فإن عقده الزعيمان عليهم ليقترعوا على من يكون في كل حزب لم يصح. مثاله: أن يكون الحزبان ثلاثة ثلاثة، فيقول الزعيمان: تقترع عليهم، فمن خرجت قرعتي عليه كان معي، ومن خرجت قرعته عليه كان معك، فهذا لا يصح لأمرين: أحدهما: أنهم أصل في عقد، فلم يصح عقده على القرعة، كابتياع أحد العين بالقرعة. والثاني: أنه ربما أخرجت القرعة حذاقتهم، لأحد الحزبين وضعفاءهم للحزب الأخر، فخرج عن مقصود التحريض في التناضل، فإن عدلوا بين الحزبين في الحذق والضعف قبل العقد على أن يقترع الزعيمان على كل واحد من الحزبين بعد العقد لم يصرح التعليل الأول من كونهم في العقد أصلاً دون التعليل الثاني من اجتماع الحذاق في أحد الحزبين؛ لأنهم قد رفعوه بالتعليل، فإن ثبت تعيينهم قبل العقد بغير قرعة تعينوا فيه بأحد أمرين: إما بالإشارة إليهم إذا حضروا، وان لم يعرفوا. وإما بأسمائهم: إذا عرفوا، فإن تنازعوا عند الاختيار قبل العقد، فعدلوا إلى القرعة في المتقدم بالاختيار جاز، لأنها قرعة في الاختيار، وليست بقرعة في العقد، فإذا قرع أحد الزعيمين اختار من الستة واحداً، ثم اختار الزعيم الثاني واحداً، ثم دعا الزعيم الأول فاختار ثانياً، واختار الزعيم الثاني ثانياً، ثم عاد الأول، فاختار ثالثاً وأخذ الآخر الثالث الباقي، ولم يجز أن يختار الأول الثلاثة في حال واحدة؛ لأنه لا يختار إلا الأحذق، فيجتمع الحذاق في حزب، والضعفاء في حزب، فيعدم مقصود التناضل من التحريض. فصل: فإذا تكاملت الشروط الخمسة في عقد النضال بين الحزبين، لم يدخل حالهم في مال السبق من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يخرجها أحد الحزبين دون الآخر، فهذا يصح سواء انفرد زعيم الحزب بإخراجه أو اشتركوا فيه، ويكون الحزب المخرج للسبق معطياً إن كان منضولاً وغير آخذ إن كان ناضلاً، ويكون الحزب الآخر آخذاً إن كان ناضلاً وغير معطٍ إذا كان منضولا - وهذا يغني عن المحلل، لأنه محلل. والقسم الثاني: أن يكون الحزبان مخرجينء ويختص بإخراج المال زعيم الحزبين، فهذا يصح، ويغني عن محلل؛ لأن مدخل المحلل ليأخذ ولا يعطي، ورجال كل حزب يأخذون، ولا يعطون، فإذا نضل أحد الحزبين أخذ زعيمهم مال نفسه، وقسم مال الحزب

المنضول بين أصحاب، فإن كان الزعيم رامياً معهم شاركهم في مال السبق، وإن لم يرم معهم، فلا حق له فيه؛ لأنه لا يجوز أن يتمسك مال النضال من لم يناضل، وصار معهم كالأمين والشاهد، فإن رضخوا له بشيء منه عن طيب أنفسهم، جاز، وكان تطوعاً، فإن شرط عليهم أن يأخذ معهم بطل الشرط، ولم يبطل به العقد، لأنه ليس بينه وبين أصحابه عقد يبطل بفساد شرطه وإنما العقد بين الحزبين، وليس لهذا الشرط تأثير فيه. والقسم الثالث: أن يخرجا المال ويشترك أهل كل حزب في إخراجه، فهذا لا يصح حتى يدخل بين الحزبين حزب ثالث يكون محللاً يكافئ في كل حزب في العدد والرمي يأخذ ولا يعطي كما يعتبر في إخراج المتناضلين المال أو يدخل بينهما محلل ثالث يأخذ ولا يعطى. فصل: فإذا انعقد النضال بين الحزبين على ما وصفناه اشتمل الكلام بعد تمامه بإبطال المسمى فيه على ثلاثة فصول: أحدها: في حكم المال المخرج في كل حزب، ولهم فيه حالتان: إحداهما: أن لا يسموا قسط كل واحد من جماعتهم، فيشتركوا في التزامه بالسوية على أعدادهم من غير تفاضل فيه، لاستوائهم في التزامه، فإن كان زعيمهم رامياً معهم دخل في التزامه كأحدهم، كما يدخل في الأخذ معهم، فإن لم يكن رامياً لم يلتزم معهم كما لا يأخذ معهم. والحال الثانية: أن يسموا قسط كل واحد منهم في التزام مال السبق، فهو على ضربين: أن يتساوى في التسمية، فيصح لأنه موافق لحكم الإطلاق. والضرب الثاني: أن يتفاضلوا فيه، ففي جوازه وجهان: أحدهما: لا يجوز لتساويهم في العقد؛ فوجب أن يتساووا في الالتزام. والثاني: يجوز، لأنه عن اتفاق لم يتضمنه فيما بينهم عقد، فاعتبر فيه التراضي فإن شرطوا أن يكون المال بينهم مقسطاً على صواب كل واحد منهم وخطئه لم يجز، لأنه على شرط مستقبل مجهول غير معلوم، فبطل، ولا يؤثر بطلانه في العقد، لأنه ليس فيما بينهم عقد، وكانوا متساوين فيه. فصل: والفصل الثاني: في حكم نضالهما، وفيما يحتسب به من الصواب والخطأ والمعتبر فيه أن يكون عدد الرشق ثلاثين أو ستين أو تسعين أو عدداً يكون له ثلث صحيح، ولا يجوز أن يكون عدد الرشق خمسين ولا سبعين ولا مائة، لأنه ليس له ثلث صحيح. وإن كان عدد الحزب أربعة، كان عدد الرشق أربعين أو ماله ربع صحيح، ولا

يجوز أن يكون عدد الرشق ما ليس له ربع صحيح، وهكذا إن كان عدد الحزب خمسة وجب أن يكون عدد الرشق ماله خمس صحيح: لأنه إذا لم ينقسم عدد الرشق على عدد الحزب إلا بكسر يدخل عليهم لم يصح التزامهم له: لأن اشتراكهم في رمي السهم لا يصح. فأما عدد الإصابة المشروطة، فيجوز أن لا تنقسم على عددهم، لأن الاعتبار في بإصابتهم لا باشتراكهم، فإذا استقر هذا بينهم احتسب لزعيم كل حزب بإصابات كل واحد من أصحابه، واحتسب عليه لخطأ كل واحد منهم سواء تساوى رجال الحزب في الإصابة، وهو نادر أن تفاضلوا فيها، وهو الغالب، فإذا جمعت الإصابتان والمشروط فيها إصابة خمسين من مائة لم يخل مجموع الإصابتين من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون المجموع من إصابة كل حزب خمسين، فصاعداً، فليس فيهما منضول ران تفاضلا في النقصان من الخمسين. والحال الثانية: أن يكون مجموع إصابة أحدهما خمسين، فصاعداً، ومجموع إصابة الآخر أقل من خمسين، فمستكمل الخمسين هو الناضل، وإن كان أحدهما في الإصابة مقلا، بالقصر عن الخمسين هو المنضول، وإن كان أحدهما في الإصابة مكثراً، فيصير مقلل الإصابة آخذاً، ومكثرها معطياً، لأن حزب المقلل ناضل، وحزب المكثر منضول. فصل: والفصل الثالث: في حكم المال إذا استحقه الحزب الناضل، فيقسم بين جميعهم في قسمته بينهم ووجهان: أحدهما: أنه مقسوم بينهم بالسوية مع تفاضلهم في الإصابة لاشتراكهم في العقد الذي أوجب تساويهم فيه. والثاني: أنه يقسم بينهم على قدر إصاباتهم، لأنهم بالإصابة قد استحقوه فلا يكافئ مقل الإصابة مكثرها، وخالف التزام المنضولين، حيث تساووا فيه مع اختلافهم في الخطأ، لأن الالتزام قبل الرمي، فلم يعتبر بالخطأ، والاستحقاق من بعد الرمي، فصار معتبراً بالصواب. فعلى هذا لو أخطأ واحد من أهل الحزب الناضل في جميع سهامه، ففي خروجه من الاستحقاق وجهان: أحدهما: يستحق معهم، وان لم يصب إذا قيل بالوجه الأول أنه مقسوم بينهم بالسوية، لا على قدر الإصابة. والثاني: أنه يخزيه بالخطأ من الاستحقاق، ويقسم بين ما عداه إذا قيل بالوجه الثاني أنه مقسوم بينهم على قدر الإصابة، ويقابل هذا أن يكون في الحزب المنضول من أصاب بجمع سهامه، ففي خروجه من التزام المال وجهان:

أحدهما: يخرج من التزامه إذا قيل بخروج المخطئ من استحقاقه. والثاني: لا يخرج من التزامه إذا قيل بخروج المخطئ من استحقاقه. والثالث: لا يخرج من الالتزام، ويكون فيه أسوة من أخطأ إذا قيل بدخول المخطئ في الاستحقاق، وأنه فيه أسوة من أصاب، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "ولا يجوز أن يقول أحد الرجلين أختار على أن أسبق ". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا اجتمع رماة الحزبين، ولم يتميزوا في كل واحدة من الجهتين، فقال أحد الزعيمين: أنا أخرج مال السبق على أن أختار لحزبي من أشاء أو تكون أنت المخرج على أن تختار لحزبك من تشاء، لم يجز، وكان هذا الشرط فاسداً؛ لأن كلا الأمرين من إخراج المال وتعيين الحزب لا يصح إلا عن مراضاة، فلم يجز أن يكون أحدهما مشروطاً بالأخر لخروجه عن الاختيار إلى الالتزام، وهكذا لو قال: إن كان فلان معي فمال السبق عليك، وان كان معك فمال السبق علي لم يصح بما ذكرناه. مسألة: قال الشافعي: "ولا عليّ أن أسبق ولا علي أن يقترعا فأيهما خرجت قرعته سبقه صاحبه لأن هذا مخاطرة ". قال في الحاوي: وفيها تأويلان: أحدهما: أن يقترع الزعيمان على أن أيهما أقرع كان المقروع مخرج السبق لم يجز وكذلك لو كان القارع مخرج السبق لم يجز أيضاً، لأنه عقد مراضاة لا مدخل للقرعة في عرضه. والثاني: أن يتناضل الزعيمان سهماً واحداً، فإن أصابه أحدهما، وأخطأه الآخر كان المخطئ ملتزم المال، في عقد النضال المستقبل، فهذا أيضاً لا يجوز. قال الشافعي: "لأن هذا مخاطرة ". وهكذا لا يجوز أن يقول أحد الزعيمين: أنا أرمي بسهمي هذا، فإن أصبت به كان مال السبق عليك، وإن أخطأت به كان حال السبق علي، لأنها مخاطرة وجارية مجرى المقارعة. مسألة: قال الشافعي: "وإذا حضر الغريب أهل الغرض فقسموه فقال من معه كُنا نراهُ

رامياً أو من يرمي عليه كنا نراه غير رام وهو من الرماة فحكمه حُكم من عرفوه ". قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا اجتمع الزعيمان للعقد، وهو غريب لم يعرفوه فأخذه أحد الزعيمين في حزبه، ودخل في عقده، وشرعوا في الرمي، فله حالتان: إحداهما: أن لا يحسن الرمي، ولا يكون من أهله، فالعقد في حقه باطل؛ لأنه معقود عليه، في عمل معدوم منه، فصار كمن استؤجر للكتابة، وليس بكاتب، وللصناعة، وليس بصانع، يكون العقد عليه باطلاً، كذلك من دخل في عقد الرمي، وليس برام، وإذا بطل في حقه، فقد قال أبو حامد الإسفراييني، يبطل العقد في واحد من الحزب الآخر، لأنه في مقابلته وفي بطلانه فيمن بقي من الحزبين قولان من تفريق الصفقة، وهذا وهم منه؛ لأن من في مقابلته من الحزب الآخر غير متعين، وليس لزعيمهم تعيينه في أحدهم، لأن جميعهم في حكم العقد سواء، وليس أحدهم في إبطال العقد في حقه بأولى من إثباته فيه، وليس لدخول القرعة فيه تأثير، لأنها لا تدخل في إثبات عقد ولا إبطاله، فوجب أن يكون العقد في حقوق الجماعة باطلاً. والثانية: أن يكون من أهل الرمي، فله فيه ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون مساوياً لهم فيه، فلا مقال للحزبين فيه، ويكون صوابه لحزبه، وخطؤه على حزبه. والحال الثانية: أن يكون أرمى منهم، فيقول الحزب الذي عليه: كنا نظنه مثلنا، وقد بان أنه أرمى منا، فاستبدلوا به غيره ممن يساوينا، فليس ذلك لهم؛ لأنه قد دخل في عقدهم، فصار كأحدهم، من لزومه وجوازه، ولا يجوز إفراده منهم بفسخ ولا خيار، ويكون صوابه وخطؤه لحزبه. والحال الثالثة: أن يكون دونهم في الرمي، فيقول من معه: كنا نظنه رامياً مثلنا، وقد بان تقصيره، فنستبدل به غيره، مكافئاً لنا، فليس ذلك لهم، إلا أن يفسخوه في حقه دونهم، لما عللنا، ويكون صوابه وخطؤه لحزبه، وهو كمن عرفوه، وعيبه عليهم حين لم يختبروه. مسألة: قال الشافعي: "وإذا قال لصاحبه اطرح فضلك علي أني أعطيك به شيئاً لم يجز إلا بأن يتفاسخا ثم يستأنفا سبقاً جديداً". قال في الحاوي: وهذا كما قال. إذا زادت إصابة أحد المتناضلين على إصابة الآخر قبل الغلبة، فقال: من قلت إصابته لصاحبه: أسقط عني فضل إصابتك، ولك عليّ دينار، ليستكمل بقية الرمي، بعد التساوي لم يجز، لأن مال السبق مستحق بكثرة

الإصابة، فإذا نضل بعد إسقاط الفضل لم يصر ناضلاً بكثرة الإصابة، فبطل وإن تفاسخا العقد بعد ظهور الفضل أو استأنفاه على اتفاق جاز وإلا كانا على إصابتهما في التفاضل حتى يفلج أحدهما على الآخر باستكمال الإصابة وتقصير الآخر فيكون ناضلاً. مسألة: قال الشافعي: "ولو شرطوا أن يكون فلان مقدماً وفلان معاً وفلان ثان كان السبق مفسوخاً ولكل حزب أن يقدموا من شاؤوا ويقدم الآخرون كذلك ". قال في الحاوي: نبدأ قبل ذكر المسألة بحكم نضال الحزبين، فإذا كان كل واحد من الحزبين ثلاثة، واستقرت البداية بالرمي لأحد الحزبين إما بشرط أو قرعة، فلهما في العقد ثلاثة أحوال: أحدها: أن يشترطا فيه إذا رمى واحد من هذا الحزب رمى واحد من الحزب الآخر ثم إذا رمى الثاني من الحزب الأول رمى ثان من الحزب الآخر. وإذا رمى ثالث من الحزب الأول رمى الثالث من الحزب الآخر، فهذا صحيح، وهو الأولى لأنه أقرب إلى التكافؤ. والحال الثانية: أن يشترطا فيه أن يتقدم رماة الحزب الأول، فيرموا جميعاً ثم يتلوهم رماة الحزب الآخر، فيرموا جميعا، فهذا لا يجوز، وان تفاضلوا فيه لأجل الشرط. والحال الثالثة: أن يطلقوا من غير شرط، فالواجب إذا رمى واحد من الحزب الأول أن يرمي بعده واحد من الحزب الآخر، وإذا رمى ثان من الحزب الأول رمى بعده ثان من الحزب الآخر، ليتقابل رماة الحزبين، ولا يتقدم الجميع على الجميع؛ لأن مطلق العقد يوجب التساوي، وان استقر فيه التقدم؛ لأن التقدم ضرورة، وليس لاجتماع ضرورة، وكذلك إذا أغفل ذكر التقدم أقرع بينهم، وإذا أغفل ذكر الترتيب في واحد بعد واحد لم يقرع بينهم، ثم لزعيم كل حزب أن يقدم من شاء من أول وثان وثالث، فإن أطاعه أصحابه على ترتيبه حملوا عليه، وله أن يعيد ترتيبهم في الرشق الأول أن يرتبهم في الرشق الثاني مثل ترتبهم في الأول، وعلى خلاف الأول يحتسب ما يراه، وإن خالفوا زعيمهم في الترتيب والتقديم نظر، فإن كان مخرج المال هو لزعيم كان القول في التقديم والترتيب قوله دونهم وإن كانوا هم المخرجين للمال كانوا بترتيبهم في التقدم أحق منه، فإن اتفقوا عليه حملوا على اتفاقهم، وإن تنازعوا فيه أقرع بينهم. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا، فصورة المسألة أن يشترطا في العقد على كل زعيم أن يقدم من

أصحابه فلاناً، ثم فلاناً، فهذا شرط باطل وفي فساد العقد به وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي: لا يفسد به العقد؛ لأن سقوطه لا يعود بضرر على مشترطه. والثاني: وهو قول الأكثرين يفسد به العقد، لأن ترتيبهم في التقدم إلى زعيمهم إن أخرج المال أو إليهم إن أخرجوه، فإذا ناقاه الشرط أبطله، لأنه منع من حق لهم، وأوقع حجراً عليه، وهكذا لو شرط فيه أن يكون مراسلة الحزبين في الرمي معينة، فيرامي هذا بعينه لهذا بعينه، وكذلك من الجماعة فهذا باطل يفسد به العقد وجهاً واحداً لعلتين إحداهما: ما قدمناه من أن المقابلة حق لهم، كالترتيب، فلم يجز أن يمنعوا من حق بالحجر عليهم. والثانية: أنه عقد واحد يجيز خطأ أحدهم بإصابة غيره، وإذا عينوا واحداً صارت عقوداً تقتضي أن لا يجبر خطأ واحد بإصابة غيره، فبطل. مسألة: قال الشافعي: "وإذا كان البدأة لأحد المتناضلين فبدأ المبدأ عليه فأصاب أو أخطأ رد ذلك السهم عليه ". قال في الحاوي: إذا استحق أحد المتناضلين أن يبتدئ بالرمي، إما بشرط أو قرعة فبدأ صاحبه بالرمي، وتقدم عليه كان رميه مردوداً عليه لا يحتسب له بصوابه، ولا يحتسب عليه بخطئه لخروج رميه عن حكم عقده، فصار رمياً في غير عقد، وكذلك لو كان المبتدئ أن يرمي رشقه خمسة أسهم، فرمى عشرة أسهم لم يحتسب بما زاد على الخمسة من صواب، ولا خطأ لخروجه عن حكم العقد، وأعاد رميها في نوبته، واحتسب فيها بما زاد من صوابه أو خطئه. مسألة: قال الشافعي: "والصلاة جائزة في المضربة والأصابع إذا كان جلدهما ذكياً مما يؤكل لحمه أو مدبوغاً من جلد ما لا يؤكل لحمه ما عدا كلباً أو خنزيراً فإن ذلك لا يطهر بالدباغ غير أني أكرهه لمعنى واحدٍ وإني آمره أن يُفضي ببطون كفيه إلى الأرض ". قال في الحاوي: أما المضربة، فجلد يلبسه الرامي في يده اليسرى يقي إبهامه إذا جرى السهم عليه بريشه، يقال: مضربة بضم الميم وتشديد الضاد، ويقال: مضربة بفتح الميم وتسكين الضاد، وهو أفصح. وأما الأصابع فجلد يلبسه الرامي في إبهامه وسبابته من يده اليمنى لمد الوتر وتفويق السهم، فإن كانا من جلد نجس من كلب أو خنزير أو ميتة أو من غير مأكول اللحم إذا لم

يدبغ، لم تجز الصلاة فيهما لنجاستهما، وإن كانا طاهرين من ذكي مأكول أو من ميتة أو ما لا يؤكل إذا دبغا، فطهارتهما لا تمنع من استحقاق الصلاة إذا لم تسقط من فروضها شيئاً، ويمنع من لبس ما أسقط شيئاً من فروضهما، فعلى هذا يجوز أن يلبس الأصابع في الصلاة؛ وفي جواز ليس المضربة، قولان، لأن بطون الأصابع لا يلزم مباشرة الأرض بها في السجود وفي لزوم مباشرته الأرض بباطن كفه في السجود قولان: إذا قيل بوجوب السجود على اليدين فكانت الأصابع غير مانعة من فرض، وفي منع المضربة من العوض قولان. مسألة: قال الشافعي: "ولا بأس أن يصلي متنكب القوس والقرن إلا أن يتحركا عليه حركة تشغله فأكرهه وتجزئه ". قال في الحاوي: الصلاة في السلاح جائزة، لقول الله تعالى: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَاخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ} [النساء: 3] وروى سلمة بن الأكوع قال: قلت: يا رسول الله، أصلي وعلي القوس والقرن" فقال: "اطرح القرن وصل بالقوس ". وروي عن ابن عمر أنه قال: القوس على المصلي كالرداء. فأباح النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاة بالقوس، ونهى عن القرن، وهو الجعبة التي تجمع السهام، فإذا كانت بغطاء، فهي جعبة، وإن كانت مكشوفة فهي قرن، وفي نهيه عن الصلاة فيهما تأويلان: أحدهما: أنه نهي تحريم إذا كان ريش السهام نجساً، لأنه في الأغلب يتخذ من ريش النسر، وهو غير مأكول، ولو كان الريش طاهراً لم يتوجه إليه نهي. والثاني: أنه نهي كراهة إذا كان طاهرا؛ لأنه يتخشخشه في ركوعه وسجوده باصطكاك السهام، فيقطعه عن الخشوع في الصلاة، فإن لم يتخشخش لم يتوجه إليه نهي، فصار لحمله في صلاته ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون محرماً وهو إذا كان نجساً. والثاني: أن يكون مكروهاً، وهو إذا كان طاهرا يقطع عن الخشوع فيها. والثالث: أن يكون مباحا، وهو ما خلا من هذين، والله أعلم بالصواب.

كتاب البيوع

كتاب البيوع باب ما أمر الله به ونهي عنه من المبايعات وسنن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه مسالة: قال الشافعى: قال الله جل وعز: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29] فلما نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيوع تراضى بها المتتابعان استدللنا أن الله جل وعز احل البيوع إلا ما حرم الله على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - أو ما كان في معناه. قال في الحاوي: الأصل في إحلال البيوع: كتاب الله، وسنه نبيه، وإجماع الأمة. فأما الكتاب فقوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29] وقوله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وقوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] قال ابن عباس: نزلت في السلم وقوله سبحانه: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة 198]. قال ابن عباس: نزلت في إباحة التجارة في مواسم الحج. أما السنة: فقد رويت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قولاً وفعلاً: أما القول: فما روي الأعمش، عن أبي وائل، عن قيس بن أبي غرزة، قال: كنا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نسمي السماسرة فمر بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسمانا باسم هو أحسن منه، فقال: "يا معشر لتجار إن البيع يحضره اللغو والحلف، فشوبوه بالصدقة". وروي عن عبد الله بن عصمة، أن حكيم بن حزام حدثه أنه قال: يا رسول الله إني أشتري بيوعاً ما يحل لي منها، وما يحرم، قال: "إذا اشتريت بيعاً فلا تبيعه حتى تقبضه، ولا تبع ما ليس عندك". فدل على إباحة ما عدا ذلك.

وروى ابن أبي كثير عن أبي راشد عن عبد الرحمن بن شبل قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن التجار هم الفجار" قيل: يا رسول الله أليس قد أحل الله البيع؟ قال: "بلى ولكنهم يحدثون فيكذبون ويحلفون فيأثمون". وروى يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا خير في التجارة إلا لمن لم يمدح بيعاً، ولم يذم شرى، وكسب حلالاً فأعطاه في حقه، وعزل من ذلك الحلف" وروى أبو عبيد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "تسعة أعشار الرزق في التجارة والجزء الباقي غي السبايا"، قال أبو عبيد: السبايا: النتاج. وأما الفعل: من بيوعه التي عقدها بنفسه فكثيرة لا تحصى عدداً، غير أن المنقول منها ما اختص بأحكام، مستفادة فمن ذلك، ما روى أبو الزبير، عن جابر قال: اشترى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من رجل من الأعراب حمل خبط، فلما وجب البيع، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اختر" قال الأعرابي: عمرك بيعاً". وروى سماك بن حرب عن سويد بن قيس قال: جلبت أنا ومخرمة العبدي بزاً من هجر، فأتينا به مكة، فجاءنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فاشترى منا سراويل ووزان يزن بالأجر، فقال للوزان: "زن وأرجح ". وروى عطاء عن جابر قال: كنت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر على جمل إنما هو في آخر القوم فمر بي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أمعك قضيب؟ " قلت: نعم، فأعطيته، فنخسه وزجره، فكان في أول القوم، فقال: "بعنيه" قلت: هو لك يا رسول الله، قال: "ل بعنيه " قال: "قد أخذته بأربعة دنانير ولك ظهره حتى نأيي المدينة". فلما قدمنا المدينة، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "يا بلال اقضه وزده" فأعطاه أربعة دنانير وقيراطاً زاده، قال جابر: لا تفارقني زيادة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروى أبو بكر الحنفي عن أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باع لرجل من الأنصار

شكا فقراً قدحاً وحلساً بدرهمين فيمن يزيد. وأما إجماع الأمة: فظاهر فيهم من غير إنكار بجملته، وان اختلفوا في كيفيته وصفته، حتى أن كبراء الصحابة ارتسموا وندبوا نفوسهم له، فروي أن أبا بكر - رضي االله عنه _ كان تاجراً في البز وروي عن عمر _ رضي الله عنه _ أنه كان تاجراً في الطعام والأقط. وروي عن عثمان _ رضي الله عنه _ أنه كان تاجراً في البر والبحر. وروي عن العباس. رضي الله عنه _ أنه كان تاجراً في العطر. وعلى ذلك جرت أحوال الصحابة قبل الهجرة وبعدها، فمنهم من تفرد بجنس منها، ومنهم من جلب في جميع صنوفها كعثمان وعبد الرحمن _ رضي الله عنهما - فدل مما ذكرنا أن البيع مباح. فصل في تفسير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَاكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} [النساء: 29] أما قوله: {لاَ تَاكُلُوا} فمعناه: لا تأخذوا، فعبر عن الأخذ بالأكل، لأنه معظم ما يقصد بالأخذ، كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً} [النساء: 10]، أي: يأخذون. وأما قوله: {أَمْوَالَكُمْ} ففيه تأويلان: أحدهما: أنه أراد مال كل إنسان في نفسه أن لا يأخذه فيصرفه في المحظورات. والثاني: أن معناه: لا يأخذ بعضكم مال بعض، كما قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29] أي: لا يقتل بعضكم بعضاً. وأما قوله تعالى: {بِالْبَاطِلِ} ففيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه أراد أن يصرف في المحظورات. والثاني: أن المراد به أن لا يؤخذ بالانتهاب والغارات على عادتهم في الجاهلية. والثالث: أن المراد بالباطل التجارات الفاسدة المألوفة عندهم في بيوع الجاهلية. وأما قوله تعالى: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً} فلفظ إلا موضوع في اللغة للاستثناء، ولكن اختلف الناس وأصحابنا معهم في المراد به في هذا الموضع على أربعة أقوال: أحدها: أن إلا في هذا الموضوع لم يرد بها الاستثناء، وإنما معناها: لكن فيصير تقدير الآية: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ولكن كلوها تجارة عن تراض منكم، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} [النساء: 92] معناه: وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنا عمداً ولا خطأ، لكن إن قتله خطأ، فتحرير رقبة مؤمنة. وبهذا قال أبو إسحاق المروزي. والثاني: أن معنى إلا: في هذا الموضع معنى: الواو، فيكون تقدير الآية: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، وكلوها تجارة عن تراض، كقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا

آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] أي والله لفسدتا. وقوله الشاعر: وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُة أخوهْ لعَمْرُ أبِيكَ إلاَّ الفَرْقَدْانِ أي والفرقدان أيضاً سيفترقان، ولو أراد الاستثناء لقال: إلا الفرقدين. والثالث: أن معنى إلا، في هذا الموضع معنى الاستثناء، غير أنه من مضمر دل عليه مظهر، ليصح أن يكون استثناء من جنسه، فيكون تقدير الكلام: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ولا بالتجارة، إلا أن تكون عن تراض منكم، وهذا قول من منع الاستثناء من غير جنسه، وجعلوا ذلك كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] وإنما معناه: أحلت لكم بهيمة الأنعام والصيد إلا أن تكونوا محرمين، فيحرم عليكم الصيد. والرابع: أن ذلك استثناء من غير جنسه، والدليل على جواز الاستثناء من غير جنسه. وهو أشبه بمذهب الشافعي ـ قوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلَّا سَلَاماً} [مريم: 62] وليس السلام من جنس اللغو. وقال تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ} [الحر: 30] وليس إبليس من الملائكة. وقال تعالى: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 77] وتعالى الله أن يكون من جنس من استثنى منه. وقال الشاعر: وَبَلْدةٍ ليْسَ بِهَا أنيسُ إلَّا الَيًعافِيرُ وإِلَّا العِيسُ والأنيس: الناس: واليعافير: حمير الوحش، وقيل: الظباء، واحدها يعفور مقلوب أعفر. والعيس: الإبل. واستثنى الحمير والإبل من جملة الناس.

وقال النابغة الذبياني: وقَفَتُ فِيهَا أُصَيْلاَلاً أُسَائِلُهَا عَيَّتْ جَوَاباً ولَاَ بالرَّبْعِ مِنْ أحَد إلَّا أوَاريّ لأياماً أبيِّنُّهَا والنّؤيُ كَالحَوْضِ بِالمَظْلُومَةِ الجَلدِ فذكر أنه لم يبق بالربع أحد من الناس يسأله إلا الأواري، والعامة تقول: الأواري: هي المعالف. وقال العتبي: هي الحبال الممدودة يشد عليها الدواب، وهو جمع واحدة أورى. فصل: في تفسير قوله تعالى: {وأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] وذكر الشافعي معاني الآية مستوفاة جميعها في كتاب "الأم " بكلام وجيز، فقال: احتمل إحلال الله تعالى البيع في هذه الآية معنيين: أحدهما: أن يكون أحل كل بيع تبايعه متبايعان جائزاً الأمر فيما يتبايعاه عن تراضٍ منهما، وهذا أظهر معانيه. الثاني: أن يكون أحل البيع إذا كان مما لم ينه عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المبين عن الله معنى ما راد. فيكون من الجمل التي أحكم فرضها في كتابه، وبين كيف هي على لسان نبيه، أو من العام الذي أريد به الخاص، فبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أراد بإحلاله منه وما حرّم، أو يكون داخلاً منهما، أو من العام الذي أباحه إلا ما حرم على لسان نبيه منه وما في معناه - ثم قال: وأي هذه المعاني كان، فقد ألزم الله خلقه، بما فرض من طاعة رسوله، وأنَّ ما قيل عنه فعن الله قيل، لأنه بكتاب الله قيل فهذا قول الشافعي في معنى الآية. وجملته: أن للشافعي فى معنى الآية أربعة أقاويل: أحدها: أنها عامة، وأن لفظها لفظ عموم يتناول إباحة كل بيع إلا ما خصه الدليل. ووجه ذلك هو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما نهى عن بياعات كانوا يستعملونها، ولم يقصد إلى بيان الجائز منها، وإنما قصد إلى بيان فاسدها منه فدَّل بذلك على أن الآية قد شملت إباحة البياعات كلها، فاستثنى ما لا يجوز منها. فعلى هذا هل هي عموم أريد به العموم؟ أو عموم أريد به الخصوص؟ على قولين: أحدهما: أنها عموم أريد به العموم وإن دخله دليل التخصيص. والثاني: أنها عموم أريد به الخصوص. والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: هو أن العموم المطلق الذي يجري على عمومه وان دخله التخصيص ما

يكون المراد باللفظ أكثر، وما ليس بمراد باللفظ أقل، والعموم الذي أريد به الخصوص ما يكون المراد باللفظ أقل وما ليس بمراد باللفظ أكثر. الثاني: أن البيان فيما أريد به الخصوص متقدم على اللفظ، وفيما أريد به العموم متأخر عن اللفظ أو مقترن به. وعلى كلا القولين يجوز الاستدلال بها على إباحة البيوع المختلف فيها، ما لم يقم دليل التخصيص على إخراجها من عمومها. فصل القول الثاني: إنها مجملة لا يعقل منها صحة بيع من فساده إلا ببيان من السنة ووجه ذلك: هو أن من البياعات ما يجوز، ومنها ما لا يجوز، وليس في الآية ما يتميز به الجاثز من غير الجائز، فاقتضى أن يكون من المجمل الذي لا نعقل المراد من ظاهره إلا ببيان يقترن به. فعلى هذا اختلف أصحابنا. هل هي مجملة بنفسها؟ لتعارض فيها أو هي مجملة بغيرها؟ على وجهين: أحدهما: مجملة بنفسها لتعارض فيها. وذلك أن قوله: {أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} يقتضي جواز البيع متفاضلاً، وقوله: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} يقتضي تحريم البيع متفاضلاً، فصار آخرها معارضاً لأولها، فوقع الإجمال فيها بنفسها. الثاني: أنها مجملة بغيرها، وذلك أنها تقتضي جواز كل بيع من غرر، ومعدوم، وغيره. وقد وردت السنة بالمنع من بيع الغرر، والملامسة، والمنابذة، وغير ذلك فصارت السنة معارضة لها، فوقع الإجمال فيها بغيرها. فإذا ثبت أنها مجملة بنفسها على أحد الوجهين، أو بغيرها على الوجه الثاني، فقل اختلف أصحابنا: هل وقع الإجمال في صيغة لفظها وفي المعنى المراد بها؟ أو وقع الإجمال في المعنى المراد بها دون صيغة لفظها؟ على وجهين: أحدهما: أن الإجمال في المعنى دون اللفظ، لأن لفظ البيع، اسم لغوي لم يرد من طريق الشرع، ومعناه معقول، إلا أنه لما قام بإزائه ما يعارضه تدافع العمومان، ولم يتعين المراد منهما إلا بالسنة، صارا مجملين لهذا المعنى، لأن اللفظ مشكل المعنى. الثاني: أن اللفظ مجمل، والمعنى المراد به مشكل، لأنه لما لم يكن المراد باللفظ ما وقع عليه الاسم، وصار مضمّناً بشرائط لم تكن معقولة في اللغة، خرج اللفظ بالشرائط عن موضوعه في اللغة إلى ما استقرت عليه شرائط الشرع، وإن كان له في اللغة معاني معقولة، كما قلنا في الصلاة: إنها مجملة، لأنها مضمنة بشرائط لم تكن معقولة في اللغة، وإن كان فيها معاني معقولة في اللغة كالخضوع وما يقع فيها من الدعاء، فكذلك لفظ البيع. وعلى كلا الوجهين لا يجوز الاستدلال بها على صحة بيع من فساده، وإن دلت على إباحة البيع في أصله. وهذا فرق ما بين العموم والمجمل، حيث جاز الاستدلال بظاهرة العموم، ولم يجز الاستدلال بظاهر المجمل. والله أعلم.

فصل والقول الثالث: أنه داخل فيهما جميعاً، فيكون عموماً دخله الخصوص، ومجملاً لحقه التفسير، لقيام الدلالة عليهما. فاختلف أصحابنا في وجه دخول ذلك فيهما على ثلاثة أوجه:.أحدها: أن العموم في اللفظ والإجمال في المعنى. فيكون اللفظ عموماً دخله الخصوص، والمعنى مجملاً لحقه التفسير. الثاني: أن العموم في أول الآية، وهو قوله تعالى: {أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} والإجمال في آخرها، وهو قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} فيكون أول الآية عاماً دخله التخصيص، وآخرها مجملاً لحقه التفسير. الثالث: أن اللفظ كان مجملاً، فلما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - صار عاماً. فيكون داخلاً في المجمل قبل البيان، وفي العموم بعد البيان. فعلى هذا الوجه يجوز الاستدلال بظاهرها في البيوع المختلف فيها كالقول الأول. وعلى الوجهين الأولين: لا يجوز الاستدلال بظاهرها في البيوع المختلف فيها كالقول الثاني. فصل والقول الرابع: أنها تناولت بيعاً معهوداً، ونزلت بعد أن أحل النبي - صلى الله عليه وسلم - بيوعاً وحرم بيوعاً، وكان قوله: {أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} يعني: الذي بينه الرسول من قبل، وعرفه المسلمون منه، فترتب الكتاب على السنة وتناولت الآية بيعاً معهوداً. وإنما كان كذلك، لأن الله تعالى قال: {أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} فأدخل فيه الألف واللام، وذلك يدخل في الكلام لأحد أمرين. إما لجنس، أو معهود. فلما لم يكن الجنس مراداً، لخروج بعضه منه، ثبت أن المعهود مراد. فعلى هذا، لا يجوز الاستدلال بظاهرها على صحة بيع ولا فساده، بل يرجع في حكم ما اختلف فيه إلى الاستدلال بما تقدمها من السنة التي عرف بها البيوع الصحيحة من الفاسدة. وإذا كان كذلك صار الفرق بينه وبين المجمل من وجه واحد. وبينه وبين العموم من وجهين. فأما الوجه الذي يقع به الفرق بينه وبين المجمل: فهو أن بيان النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما نهى عنه من البيوع وأمر به سابق للآية. وبيان المجمل مقترن باللفظ، أو متأخر عنه على مذهب من يجوز تأخير البيان فافترقا من هذا الوجه. أما الوجهان اللذان يقع بهما الفرق بينه وبين العموم: فأحدهما: ما مضى من تقديم البيان في المعهود، واقتران بيان التخصيص بالعموم. والثاني: جواز الاستدلال بظاهر العموم فيما اختلف فيه من البيوع، وفساد الاستدلال بظاهر المعهود فيما اختلف فيه من البيوع. فصل: فإذا تقرر إحلال البيوع في الجملة. فحقيقة البيع في اللسان: تبدل شيء بشيء. وحقيقته في الشرع: نقل ملك بعوض على الوجه المأذون فيه. وإنما قلنا: نقل ملك، احترازاً مما لا يملك، وممن لا يملك. وقلنا: بعوض احترازاً من الهبات،

ومما لا يجوز أن يكون عوضاً. وقلنا: على الوجه المأذون فيه، احترازاً من البيوع المنهى عنها كالملامسة والمنابذة. وإذا كان ذلك حقيقة البيوع الجائز في الشرع. فقد اختلف الناس: هل البيوع الجائزة من أجل المكاسب وأطيبها؟ أو غيرها من المكاسب أجل منها؟ فقال قوم: الزراعات أجلّ المكاسب كلها، وأطيب من البيوع وغيرها، لأن الإنسان في الاكتساب بها أحسن توكلاً، وأقوى إخلاصاً، وأكثر لأمر الله تعالى تفويضاً وتسليماً. وقال آخرون: إن الصناعات أجلّ كسباً منها وأطيب من البيوع وغيرها، لأنها اكتساب تنال بكَد الجسم وإتعاب النفس، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إن الله يحب العبد المحترف" فظاهر الاحتراف بالنفس دون المال. وقال آخرون: البياعات أجَل المكاسب كلها، وأطيبُ من الزراعات وغيرها، وهو أشبه بمذهب الشافعي والعراقيين، حتى أن محمد بن الحسن قيل له: هلاَّ صنعت كتاباً في الزهد، قال: قد فعلت، قيل: فما ذلك الكتاب؟ قال: هو كتاب البيوع. والدليل على أن البيوع أجل المكاسب كلها إذا وقعت على الوجه المأذون فيه: إن الله عز وجل صرح في كتابه بإحلالها، فقال {أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} ولم يصرح بإحلال غيرها، ولا ذكر جوازها وإباحتها. وروت عائشة قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أطيب ما أكل الرجل من كسبه" والكسب في كتاب الله التجارة. وروى رافع بن خديج قال: قال رجل: يا رسول الله أي العمل أطيب؟ فقال: "عمل الرجل بيده وكل بيع مبرور". ولأن البيوع أكثر مكاسب الصحابة، وهي أظهر فيهم من الزراعة والصناعة. ولأن المنفعة بها أعم، والحاجة إليها أكثر، إذ ليس أحد يستغني عن ابتياع مأكول أو ملبوس، وقد يستغني عن صناعة وزراعة. فإن قيل: فقد روى سلمان فقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها، فإن فيها باض الشيطان وفرخ " فاقتضى أن يكون البيع مكروهاً، ليصح أن يكون عن ملازمته منهياً.

قيل: هذا غلط، كيف يصح أن يكره ما صرح الله بإحلاله في كتابه؟ وإنما المراد بذلك أن لا يصرف أكثر زمانه إلى الاكتساب، ويشتغل به عن العبادة حتى يصير إليه منقطعاً، وبه متشاغلاً، كما روي عن الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن السوم قبل طلوع الشمس" يريد أن لا يجعله أكبر همه، حتى يبتدئ به في صدر يومه، لا أنه حرام. فإن قيل: فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يا تجار كلكم فجار إلا من أخذ الحق وأعطى الحق" فجعل الفجور فيهم عموماً، ومعاطاة الحق خصوصاً، وليست هذه صفات أجل المكاسب. قيل: إنما قال ذلك، لأن من البيوع ما يحل، ومنها ما يحرم، ومنها ما يستحب ومنها ما يكره، كما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لو اتجر أهل الجنة في الجنة ما اتجروا إلا في البر، ولو اتجر أهل النار ما اتجروا إلا في الصرف" قال ذلك استحباباً لتجارة البر، وكراهة لتجارة الصرف. وقد روى عبد اثه بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من كان يبيع الطعام وليس له تجارة غيره، حاط، أو باع، أو طاغ، أو زاغ " يريد بذلك كراهة التفرد بالتجارة في هذا الجنس. وليس كلامنا فيما كره منها، وإنما الكلام فيما استحب منها، وهو ما استثناه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها. فصل: فإذا ثبت ما ذكرنا في حقيقة البيع وانتقال الملك به. فقد ذكر الشافعي في كتاب "الأم" ما يلزم به البيع وما يجوز أن يفسخ به البيع. فقال: وجماع ما يجوز من كلّ بيع آجل وعاجل، وما لزمه اسم بيع بوجه، لا يلزم البائع والمشتري حتى يجتمعا أن يتبايعاه برضا منهما بالتبايع به ولا يعقداه بأمر منهي عنه، ولا على أمر منهي عنه، وأن يتفرقا بعد تبايعهما عن مقامهما الذي تبايعا فيه على التراضي بالبيع، فإذا اجتمع هذا لزم كلّ واحد منهما البيع فلم يكن له رده إلا بخيار، أو في عيب يجده، أو شرط يشترطه، أو خيار الرؤية. إن جاز خيار الرؤية. ومتى لم يكن هذا لم يقع البيع بين المتبايعين. وحكى المزني عن الشافعي في جامعه الكبير: مثله سواء فأراد الشافعي بهذه الجملة أن يبين شروط العقد، وشروط الرد.

فأما شروط العقد التي يصير بها لازماً فأربعة: أحدها: أن يتبايعاه برضا منهما بالتبايع به حتى لا يكونا مكرهين ولا أحدهما، لأن بيع المكره لا يصح. والثاني: أن لا يعقداه بأمر منهي عنه يعني بذلك الأجل المجهول والشروط المبطلة للعقود، وما ورد النهي في تحريمه من البيوع كالملامسة والمنابذة. والثالث: أن لا يعقداه على أمر منهي عنه، يعني بذلك الأعيان المحرمة كالخمر والخنزير، وما لا منفعة فيه كالهوام والحشرات. وهذه الثلاثة هي شروط في صحة العقد، فمتى أخلَّ بشرط منها، فسد العقد. والرابع: أن يفترقا بعد تبايعهما عن مقامهما الذي تبايعا فيه على التراضي بالبيع. وهذا شرط في لزوم العقد بعد وقوع صحته. وكان ابن المرزبان وغيره من أصحابنا يضمون إلى الأربعة شرطاً خامساً: وهو أن يكون المتبايعان جائزي الأمر، فلا يكونا، ولا أحدهما محجوراً عليه بصغر أو جنون، أو سفه، لأن بيع المحجور عليه باطل. وامتنع سائر أصحابنا من تخريج هذا الشرط الخامس. وأجابوا عنه بجوابين: أحدهما: أن هذا شرط في البائع لا في البيع، والشافعي إنما ذكر شروط البيع، وهذا جواب البغداديين. والثاني: وهو جواب البصريين أن ذلك داخل في جملة الشرط الثاني وهو أن لا يعقداه بأمر منهي عنه، لأن عقد المحجور عليه منهي عنه، فلم يحتج أن يجعله شرطاً خامساً. وهذا أصح الجوابين، لأن الشافعي قد ذكر في الشرط الأول أن يعقداه عن تراض، وهذا شرط في البائع دون البيع. فهذه شروط العقد. فأما شروط الرد وما يكون به الفسخ فأربعة أيضا: أحدها: الخيار الموضوع للفسخ، وهو أحد خيارين: إما خيار المجلس أوخيار الثلاث. والثاني: وجود العيب بالمبيع، فيستحق به خار الفسخ. والثالث: شرط يشترطه في العقد فيعقده، مثل أن يشترط في العقد رهناً في الثمن به أو كفيلا به، فيمتنع المشتري من دفع الرهن فيه أو الكفيل به، فيكون للبائع الفسخ، أو يشترط المشتري في ابتياع العبد أنه ذو صنعة، فيجده لا يحسنها فيكون للمشتري الفسخ. والرابع: الرؤية في بيع العين الغائبة على خيار الرؤية، إذا قيل بجوازه، فيستحق به الفسخ على ما سيأتي. فهذه شروط الرد مع ما تقدم من شروط العقد. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "فإذا عقدا بيعاً مما يجوز وأفترقا عن تراض منهما به لم يكن لأحد منهما رده إلا بعيب أؤ بشرط خيار. قال المزني: وقد أجاز في الإملا، وفي كتاب الجديد والقديم وفي الصداق وفي الصلح خيار الرؤية وهذا كله غير جائز في معناه. قال المزني: وهذا بنفي خيار الرؤية أولى به إذ (أصل) قوله

ومعناه أن البيع بيعان لا ثالث لهما صفة مضمونة وعين معروفة وأنه يبطل بيع الثوب لم ير بعضه لجهله به فكيف يجيز شراء ما لم ير شيئاً منه قط ولا يدري أنه ثوب أم لا حتى يجعل له خيار الرؤية". قال في الحاوي: هذا كما قال: البيوع نوعان: بيع رقبة، وبيع منفعة: فأما بيع المنافع فهو الإجارات، وقد قال الشافعي: إنها صنف من البيوع، ولها كتاب: وأما بيع الرقاب، فضربان: بيوع أعيان، وبيوع صفات: فأما بيوع الصفات: فالسلم، وله باب. وأما بيوع الأعيان، فضربان: عين حاضرة، وعين غائبة. فأما العين الحاضرة، فبيعها جائز. وأما العين الغائبة فعلى ضربين: موصوفة، وغير موصوفة: فإن كانت غير موصوفة، فبيعها باطل. وإن كانت موصوفة ففي جواز بيعها قولان: وقال أبوحنيفة: يجوز بيع العين الغائبة موصوفة كانت أو غير موصوفة. وقال مالك: يجوز بيعها موصوفة، ولا يجوز بيعها غير موصوفة. الأدلة: استدل من أجاز بيع العين الغائبة: بعموم قوله تعالى: {أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ} وبما روى هشام عن محمد بن سيرين عن أبي هريرة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ـ أنه قال "من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رآه" وقالوا: ولأنه إجماع الصحابة: روي أن عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله. رضي الله عنهما _ تناقلا دارين: إحداهما بالكوفة، والأخرى بالبصرة، فقيل لعثمان: غبنت فقال: لا أبالي لي الخيار إذا رأيتها، فترافعا إلى جبير بن مطعم، فقضى بالخيار لطلحة. وروي أن عبد الله بن عمر اشترى أرضاً لم يرها. وروي أن عبد الرحمن بن عوف اشترى إبلاً لم يرها. فصار هذا قول خمسة من الصحابةء وليس لهم مخالف، فثبت أنه إجماع. ولأنه عقد معاوضة، فوجب أن لا يمنع منه فقد رؤية المعقود عليه كالنكاح. ولأن فقد رؤية المبيع ليس فيه أكثر من الجهل بصفات المبيع، والجهل بصفات المبيع، لا يمنع من صحة العقد عليه، وإنما يثبت الخيار فيه كالمبيع إذا ظهر على عيبه والمفقود للرؤية بقشره، ولأن الرؤية لو كانت شرطاً في بيوع الأعيان كالصفة في بيوع الصفات لوجب أن يكون رؤية جميع المبيع شرطاً في صحة العقد، كما أن صفة جميع السلم فيه شرط في صحته، فلما كان مشتري الصبرة إذ رأى بعضها جاز له أن يبتاع جميعها، علم أن الرؤية ليست شرطاً في بيوع الأعيان. ولأن الرؤية لو كانت شرطاً في صحة العقد. لكان وجودها شرطاً في حال العقد، ولم يستغن برؤية تقدمت العقد، كالصفات في السلم، وذكر الثمن، فلما صح العقد بالرؤية المتقدمة على العقد ثبت

أنها ليست بشرط في صحة العقد. والدلالة على بطلان البيع: رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بيع الغرر" وحقيقة الغرر؛ ما تردد بين جائزين أخوفهما أغلبهما. وبيع خيار الرؤية غرر من وجهين: أحدهما: أنه لا يعلم هل المبيع سالم أو هالك؟ والثاني: أنه لا يعلم هل يصل إليه أو لا يصل؟ وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه "نهى عن بيع غائب بناجز" ولم يفصل بين صرف وغيره، فهو على عمومه. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه "نهى عن بيع الملامسة"، فالملامسة: بيع الثوب المطوي. فإذا نهى عن الملامسة لجهل بالمبيع، وإن كان الثوب حاضراً، كان بطلانه أولى إذا كان غائباً. ولأن بيع الصفة إذا علق بالعين بطل، كذلك بيع العين إذا علق بالصفة بطل. وتحريره قياساً: أنه بيع عين بصفة، فوجب أن يكون باطلاً، كالسلم في الأعيان. ولأنَّ الاعتماد في السلم على الصفة، والاعتماد في بيع الأعيان على الرؤية، لأنَّ السلم يصير معلوماً بالصفة، كما أن العين تصير معلومة بالرؤية. فإذا تقرر أن السلم إذا لم يوصف حتى يصير السلم فيه معلوماً بطل العقد، وجب إذا لم ير العين حتى تصير معلومة بالرؤية أن يبطل العقد، إذ الإخلال بالرؤية في المرئيات كالإخلال بالصفة في الموصوفات. وتحرير ذلك قياساً: إن جهل المشتري بصفات المبيع يمنع صحة العقد كالسلم إذا لم يوصف. ولأنه بيع مجهول الصفة عند المتعاقدين فوجب أن يكون باطلاً، كقوله: بعتك عبداً أو ثوباً. فإن قيل: إنما بطل إذا باعه عبداً، لا أنه غير معين ولا يمكن تسليمه لأنه بطل لكونه مجهول الصفة. قيل: فلا يصح أن يكون بطلانه لكونه غير معين، لأن السلم يصح وهو غير معين، فثبت أنه بطل لكونه مجهول الصفة، ويمكن تسليم عبد وسط. ولأنه بيع عين لم ير شيئاً منها، فوجب أن لا يصح كالسمك في الماء والطير في الهواء. ولأنه خيار ممتد بعد المجلس غير موضوع لاستدراك الغبن، فوجب أن يمنع صحة العقد، أصله إذا اشترط خياراً مطلقاً. فأما الجواب عن الاستدلال بالآية: إن سلم أنها عامة فخصصها بما ذكرنا من الأدلة. وأما الجواب عن حديث أبي هريرة: فقد قال الحفاظ من حملة الآثار والجهابذة من نقلة الأخبار: أن عمر بن إبراهيم الأهوازي تفرد بروايته، وهو مشهور باختراع الأحاديث ووضعها، ومن كانت هذه منزلته، ففير ملتفت إلى روايته. على أنه لو صح، لأمكن استعماله من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن قوله "من اشترى ما لم يره فهو بالخيار إذا رآه" في الاستئناف للعقد عليه، لا في استصحاب العقد المتقدم منه. والثاني: أنه محمول على السلم الذي لم يره، فهو بالخيار إذا رآه ناقصاً عن الصفة. والثالث: أنه محمول على من اشترى ما لم يره في حال العقد إذا كان قد رآه قبل العقد، فهو بالخيار إذا وجده ناقصاً فيما بعد. أما الجواب عما ذكره من الإجماع: فقد خالف فيه عمر، فبطل أن يكون إجماعاً يحتج به، أو دلالة تلزم، ولو لم يكن عمر مخالفاً، لكان قول خمسة لا يعلم انتشاره في جميعهم، والقياس يخالفه، فوجب أن يقدم عليه. وأما الجواب عن قياسهم على النكاح، فالفرق بينهما يمنع من صحة الجمع، وهو أن الرؤية موضوعة لاستدراك الصفة وليس المقصود في النكاح صفة المنكوحة، وإنما المقصود فيه الوصلة، ألا تراه لو وجدها معيبة لم يكن له خيار، فكذلك لم يكن الجهل بصفاتها مانعاً من صحة العقد عليها، وصفات المبيع مقصودة في البيع، بدليل أنه لو وجده معيباً كان له الخيار، وكذلك كان الجهل بصفاته مانعاً من صحة العقد عليه. على أن أبا حنيفة قد فرق بين النكاح والبيع في الرؤية، فقال: عقد النكاح لازم قبل الرؤية، وعقد البيع في العين الغائبة لا يلزم إلا بالرؤية. فيقال له: لما كانت الرؤية شرطاً في لزوم البيع، كانت شرطاً في انعقاده، ولما لم تكن الرؤية شرطاً في لزوم البيع، كانت شرطاً في انعقاده، ولما لم تكن الرؤية شرطاً في لزوم البيع، كانت شرطاً في انعقاده، ولما لم تكن الرؤية شرطاً في لزوم النكاح، لم تكن شرطاً في انعقاده. وأما الجواب عن قولهم: إن فقد الرؤية يوقع الجهل بصفات المبيع، والجهل بصفات المبيع، يوجب الخيار، ولا يوجب فاد العقد كالمعيب والمستور بقشره. فهو أن المعيب والمستور بقشره قد جهل بعض صفاته، والغائب قد جهل جميع صفاته، والجهل ببعض الصفات لا يساوي حكم الجهل بجميعها، لأمرين: أحدهما: أنه قد يستدل بالأمر المشاهد على ما ليس بمشاهد، فيصير الكل في حكم المعلوم وليس كذلك الغائب الذي لم يشاهد شيئاً منه. والثاني: أن الرؤية على ضربين: رؤية لا تلحق فيها المشقة وهي رؤية الجمل دون جميع الأجزاء، ورؤية تلحق فيها المشقة وهي رؤية جميع الأجزاء كالعيوب الخفية والمأكولات التي في قشورها. فالرؤية التي تجب وتكون شرطاً في صحة العقل، هي رؤية الجملة لعدم المشقة فيها دون رؤية جميع الأجزاء لوجود المشقة فيها. وأما الجواب عن قولهم: لو كانت الرؤية شرطاً كالصفة، لوجب أن تكون رؤية الجميع شرطاً كالصفة: فهو أن رؤية البعض قد أقيمت في الشرع مقام رؤية الكل، بدليل أن ما لم يشاهد منه لا خيار فيه إذا شوهد إلا بوجود عيب، ولو لم يكن كالمشاهد، لثبت فيه الخيار كالغائب، وليس كذلك الصفة؛ لأن صفة البعض لم يجر عليها في الشرع حكم صفة الكل، فافترقا من حيث ظن أنهما قد اجتمعا. وأما الجواب عن قولهم: لو كانت الرؤية شرطاً، لكان وجودها حال العقد شرطاً

كالصفة في السلم. فهو أن الرؤية قبل العقد تجعل المبيع معلوماً في حال العقد، والصفة قبل العقد لا تجعل المسلم فيه معلوماً في حال العقد، فلذلك لزم أن تكون الصفة مع العقد، ولم يلزم أن تكون الرؤية مع العقد. فصل فإذا ثبت أن بيع العين الغائبة باطل إذا لم توصف، ففي جواز بيعها إذا وصفت قولان: أحدهما: يجوز. نص عليه في ستة كتب: في القديم، والإملاء، والصلح، والصداق، والصرف، والمزارعة، وبه قال جمهور أصحابنا. الثاني: أنه لا يجوز، وهو أظهرهما نص عليه في ستة كتب: في الرسالة، والسنن، والإجارة، والغصب، والاستبراء، والصرف في باب العروض. وبه قال حماد بن أبي سليمان، والحكم بن عتيبة، وهو اختيار المزني والربيع، والبويطي. وقد يدخل توجيه القولين فيما تقدم من الحجاجين. فأما المزني: فإنه احتج من قول الشافعي على بطلان بيع العين الغائبة، بشيئين: أحدهما: أن قال: أصل قوله ومعناه: أن البيع بيعان لا ثالث لهما: صفة مضمونة، وعين معروفة. والثاني: أن قال: فإنه يبطل بيع الثوب يرى بعضه، فكيف يجيز يري ما لم ير شيئاً منه قط، ولا يدري أنه ثوب أم لا، حتى يجعل له خيار الرؤية. والجواب عما ذكره من الفصل الأول من وجهين: أحدهما: أن الشافعي إنما قال: البيع بيعان لا ثالث لهما، على القول الذي لا يجيز فيه بيع خيار الرؤية. فأما على القول الأخير، فقد قال في كتاب الصرف في باب بيع العروض ولا يجوز من البيوع إلا ثلاثة: بيع عين حاضرة، وبيع عين غائبة، فإذا رآها المشتري فله الخيار، وصفة مضمونة، فبطل هذا. والثاني: أن الشافعي قصد بقوله: البيع بيعان، الفرق بين بيوع الصفات المضمونة في الذمم، وبين بيوع الأعيان غير المضمونة في الذمم. وهذا ينقسم قسمين: عين حاضرة، وعين غائبة. وأما الفصل الثاني: في بيع الثوب يرى بعضه: فقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي أن الشافعي إنما أبطل بيع الثوب يرى بعضه، على القول الذي لا يجيز فيه بيع خيار الرؤية، فأما على القول الذي يجيزه، فهذا البيع أجوز، وكيف يجيز بيع ما لم ير شيئا منه؟ ولا يجيز بيع ذلك الشيء وقد رأى بعضه؟ هذا مما لا يتوهم على الشافعي. فعلى هذا يسقط احتجاج المزني به. الثاني: وهو قول كثير من أصحابنا البصريين وغيرهم أن بيع الثوب يرى بعضه لا يجوز على القولين معاً. والفرق بينه وبين العين الغائبة من وجهين: أحدهما: أن الثوب إذا رأى بعضه اجتمع فيه حكمان مختلفان، لأن ما رأى منه لا خيار له فيه، وما لم ير منه له فيه الخيار، فصارا حكمين متضادين جمعهما عقد واحد،

فبطل، وليس كذلك إذا كان غائباً كله. والثاني: أن بيع العين الغائبة إنما أجيز على خيار الرؤية، للضرورة الداعية عند تعذر الرؤية، لينفع النفع العاجل للبائع بتعجيل الثمن، وللمشتري بالاسترخاص وليس كذلك في العين الحاضرة؛ لأن الضرورة ليست داعية إليه ولا الرؤية متعذرة منه. فصل فإذا تقرر أن بيع العين الغائبة إذا وصفت على قولين: فإن قيل: إن بيعها غير جائز فلا تفريع عليه. وإن قيل: إن بيعها جائز إذا وصفت، فلا يخلو حال البائع الواصف لها من أحد أمرين: إما أن يكون قد وصفها عن مشاهدة، أو عن صفة فإن كان قد وصفها عن مشاهدة، جاز. وإن كان قد وصفها عن صفة؛ لأنه كان قد وكل في ابتياعها وكيلاً، ووصفها الوكيل له بعد الابتياع من غير مشاهدة، ثم وصفها البائع عن صفة الوكيل، ففي جواز ذلك وجهان: أحدهما: أنه جائز؛ لأنه لما جاز أن يشتري المشتري بالصفة من غير رؤية؛ جاز أن يبيع البائع بالصفة من غير رؤية. الثاني: أنه لا يجوز، وبه قال ابن أبي هريرة لأمرين: أحدهما: أن المبيع إذا لم يره البائع والمشتري، كان أكثر غرراً، وإذا لم يره المشتري وحده، كان أقل غرراً، والغرر إذا قل في العقد عفي عنه، وإذا كثر لم يعف عنه. والثاني: أن البائع إذا وصفها من غير رؤية، صار بائعاً لها بصفة عن صفة. وذلك غير جائز كالأعمى في بيوع الأعيان لا يصح منه؛ لأنه يبيعها بصفة عن صفة. فعلى هذين التعليلين لو كان المشتري قد رأى المبيع ولم يره البائع لكن وصفه له، فعلى الأول يجوز لقلة الغرر برؤية أحدهما، وعلى التعليل الثاني لا يجوز، لأنه يصير بائعاً بصفة عن صفة. فصل فأما كيفية الصفة: فلا بد من ذكر الجنس والنوع. فالجنس أن يقول: عبد أو ثوب. والنوع أن يقول في الثوب: إنه قطن أو كتان، وفي العبد أن يقول: رومي أو زنجي، ليصير المبيع معلوم الجملة عند المشتري وهل يحتاج مع ذكر الجنس والنوع إلى ذكر الصفة أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا يحتاج إلى ذكر الصفة، ويجوز أن يقتصر على ذكر الجنس والنوع؛ لأنه مبيع لم يتعلق بالذمة، فلم يحتج إلى صفة كسائر الأعيان. الثاني: لا بد من ذكر الصفة، لأنه مبيع غائب، فافتقر إلى ذكر الصفة كالمسلم فيه. فعلى هذا إذا قيل: إن الصفة شرط في صحة العقد، فهل يصح أن يصفه بأقل صفاته أو لا يصح إلا بذكر أكثر صفاته؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه يصح أن يصفه بأقل صفاته، لأنه قد يخرج بذلك عن الجهالة. فعلى هذا يذكر في العبد الرومي بصفة أنه خماسي أو سداسي، وفي الثوب القطن أنه مروي أو هروي. الثاني: أنه لا يصح حتى يصفه بأكثر صفاته؛ ليتميز بكثرة الصفات عن غيره من

الموصوفات. فعلى هذا يذكر في العبد الرومي الخماسي قده وبدنه، وفي الثوب القطن المروي طوله وعرضه. فأما ذكر جميع صفاته فليست شرطاً باتفاق أصحابنا، فإن وصفه بجميع صفاته فقد اختلف أصحابنا فيه، فقال البغداديون: يجوز؛ لأنه أنفى للجهالة، وأبلغ في التمييز. وقال البصريون: لا يجوز؛ لأنه يخرج عن بيوع الأعيان، ويصير من بيوع السلم، والسلم في الأعيان لا يجوز، فكذلك وصف العين الغائبة بجميع صفاتها لا يجوز. فهذا حكم الصفة. فصل فأما ذكر موضع المبيع، فيختلف بحسب اختلاف المبيع. فإن كان المبيع مما لا ينقل كالأرض والعقار، فلا بد من ذكر البلد الذي فيه، فيقول: بعتك داراً بالبصرة أو بغداد، لأن بذكر البلد، يتحقق ذكر الجنس، ويصير في جملة المعلوم. فأما ذكر البقعة من البلد؟ ففيه وجهان: أحدهما: يلزم ذكرها. والثاني: لا يلزم ذكرها؛ لأن البقعة تجري مجرى الصفة. فأما إن كان المبيع الغائب مما ينقل ويحول كالعبد والثوب، فلا بد من ذكر البلد الذي هو فيه، لأن القبض يتعجل إن كان البلد قريباً، ويتأخر إن كان البلد بعيداً، فافتقر العقد إلى ذكره؛ ليعلم به تعجيل القبض من تأخيره. فأما ذكر البقعة من البلد، فلا يلزم، لأن البلد الواحد لا يختلف أطرافه كالبلاد المختلفة. فإذا ذكر له البلد الذي هو فيه، فالواجب أن يسلمه إليه في ذلك البلد لا في غيره، فإن شرط المشتري على البائع أن يسلمه إليه في البلد الذي تبايعا فيه وهو في غيره لم يجز، وكان البيع فاسداً. فإذا قيل: أليس لو شرط في السلم أن يسلمه في بلد بعينه جاز، فهلا جاز مثل ذلك في العين الغائبة؟ قيل: لأن السلم مضمون في الذمة، وليس يختص بموضع دون غيره، فاستوي جميع المواضع فيه، فافتقر إلى ذكر الموضع الذي يقع القبض فيه، وليس كذلك العين الغائبة، لأنها غير مضمونة في الذمة، وهي معينة قد اختصت بموضع هي فيه فلم يجز اشتراط نقلها إلى غيره، لأنه يصير تبعاً وشرطاً في معنى بيع ثوب على أنه على البائع خياطته، أو طعام أن على البائع طحنه. هل العقد قبل الرؤية تام أم لا؟ فإذا عقد بيع العين الغائبة على الوصف المشروط فيه. فقد اختلف أصحابنا هل يكون العقد تاماً قبل الرؤية أم لا؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي: إن العقد ليس بتام قبل الرؤية، لأن تمام العقد يكون بالرضا به وقبل الرؤية لم يقع الرضا به، فلم يكن العقد تاماً، فعلى هذا، لو مات أحدهما بطل العقد، ولم يقم وارثه مقامه، لأن العقود غير اللازمة، تبطل بالموت، وكذلك لو جن أحدهما، أو حجر عليه بسفه بطل العقد. وعلى هذا لكل واحد من البائع والمشتري أن يفسخ العقد قبل الرؤية.

والوجه الثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة: أن العقد قد تم قبل الرؤية بالبذل والقبول، وإنما فيه خيار المجلس ما لم يتفرقا، كسائر البيوع. فعلى هذا لو مات أحدهما لم يبطل العقد، وقام وارثه مقامه وكذلك لو جن أحدهما، أو حجر عليه بسفه، لم يبطل العقد وقام وليه مقامه. وعلى هذا ليس لواحد منهما بعد الافتراق وقبل الرؤية أن يفسخ العقد. فصل فإذا رأى المشتري السلعة المبيعة، فهل يثبت له خيار المجلس أو خيار العيب؟ على وجهين: أحدهما: يثبت له خيار المجلس- وهو قول أبي إسحاق- لأن عنده بالرؤية تم العقد. فعلى هذا له الخيار في الفسخ على التراخي، ما لم يفارق مجلسه، سواء وجد السلعة ناقصة عما وصفت أم لا. وله أن يشترط في المجلس خيار الثلاث، وتأجيل الثمن، والزيادة فيه، والنقصان منه. والوجه الثاني: يثبت له بالرؤية خيار العيب- وهو قول أبي علي بن أبي هريرة- لأن عنده أن بالبذل والقبول، قد تم العقد. فعلى هذا إن وجدها على ما وصفت لم يكن له خيار، وإن وجدها ناقصة، كان له الخيار في الفسخ على الفور. ولا يجوز أن يشترط بعد الرؤية خيار الثلاث، ولا تأجيل الثمن، ولا الزيادة فيه والنقصان منه. فصل فأما خيار البائع، فلا يخلو حاله من أحد أمرين: إما أن يكون بيعه عن رؤية، أو عن صفة: فإن كان بيعه عن رؤية، فهل له الخيار أم لا؟ على وجهين: أحدهما: له الخيار- وهو قول أبي إسحاق. لأن عنده أن بالرؤية يثبت خيار المجلس. الثاني: لا خيار له- وهو قول أبي علي بن أبي هريرة- لأنه يقول: إن العقد قد تم، وبالرؤية يثبت خيار العيب. وإن كان بيعه عن صفة، وجوزناه على أحد الوجهين، فلا يخلو حاله عند رؤية المبيع من أحد أمرين: إما أن يجده زائداً على ما وصف له، أو غير زائد. فإن وجده زائداً عما وصف له، فله الخيار في الفسخ، لا يختلف كالمشتري إذا رآه ناقصاً. وهل يكون خياره على الفور أو على التراخي؟ على وجهين: أحدهما: على التراخي ما لم يفارق مجلسه، وهو قول أبي إسحاق. والثاني: على الفور، وهو قول أبي علي. فإن لم يجده زائداً، فهل له بالخيار أم لا؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق: له الخيار؛ لأن عنده أن العقد يتم بالرؤية، ويثبت بعدها خيار المجلس. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة: لا خيار له، لأن عنده أن العقد قد تم بالبذل والقبول، ويثبت بالرؤية خيار العيب. فهذا الكلام في بيع العين الغائبة على خيار الرؤية وما يتعلق عليه من أحكام.

فصل فأما بيع العين الغائبة بغير شرط خيار الرؤية فباطل لا يختلف فيه المذهب، لأنه بيع ناجز على عين غائبة، وهو أصل الغرر. وأما بيع العين الحاضرة على شرط خيار الرؤية، كثوب في سفط، أو مطوي، يبيعه موصوفاً من غير رؤية، بشرط خيار الرؤية. فقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: أنه كبيع العين الغائبة على قولين؛ لأن الحاضر يساوي الغائب في العلم به إذا وصف، ويزيد عليه في زوال الغرر بتعجيل القبض. الثاني: أنه لا يجوز قولاً واحداً، بخلاف العين الغائبة، وهو قول أكثر أصحابنا، واليه أشار أبو إسحاق المروزي، وابن أبي هريرة، لأن الحاضر مقدور على رؤيته، فارتفعت الضرورة في جواز بيعه على خيار الرؤية، والغائب لما لم يقدر على رؤيته دعت الضرورة إلى جواز بيعه على خيار الرؤية. فأما بيع السلجم، والجزر، والبصل، والفجل، في الأرض قبل قلعه على شرط خيار الرؤية. فقد كان بعض أصحابنا يخرج جواز بيعه على قولين كالعين الغائبة. وقال سائر أصحابنا: إن بيع ذلك باطل قولاً واحداً. والفرق بين هذا وبين العين الغائبة من وجهين: أحدهما: أن وصف الغائب ممكن؛ لتقدم الرؤية له، ووصف هذا في الأرض قبل قلعه غير ممكن. والثاني: أن المشتري إذا فسخ بيع الغائب، أمكن رده إلى حاله، وإذا فسخ بيع هذا المقلوع من الأرض، لم يمكن رده إلى حاله. فأما بيع التمر المكنون في قواصره وجلاله: فقد كان بعض أصحابنا يخرج بيعه على قولين كالغائب. وقال سائر أصحابنا البصريين: يجوز بيعه في قواصره، قولاً واحداً إذا شاهد رأس كل قوصرة؛ لأن في كسر كل قوصرة لمشاهدة ما فيها مشقة وفساداً، وقد أجمع عليه علماء الأعصار بالبصرة. وأما ما سوى التمر من الأمتعة التي في أوعيتها، فلا يخلو حالها من أحد أمرين: إما أن يكون ذائباً، أو غير ذائب. فإن كان ذائباً كالزيت والعسل، فإذا شاهد يسيراً مما في الوعاء أجزأه عن مشاهدة جميعه وجاز بيعه قولاً واحداً، كالصبرة من الطعام. وإن كان غير ذائب فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون مما تتفاوت أجزاؤه، ويباين بعضه بعضاً، كالثياب، فلا يجوز بيعها إلا بشاهدة جميعها، إلا أن يبيعها من غير مشاهدة بشرط خيار الرؤية، فيكون في حكم بيع العين الغائبة أو الحاضرة على خيار الرؤية. والثاني: إن كان مما تتماثل أجزاؤه في الغالب، أو تتقارب كالدقيق والقطن. فقد اختلف أصحابنا فيه، فقال بعضهم: لا يصح بيعه إلا برؤية جميعه كالثياب. وقال آخرون: يجوز بيعه برؤية بعضه كالذائب. فصل قال الشافعي رحمه الله في كتاب "الصرف": ولا يجوز بيع خيار الرؤية مؤجلاً ولا

بصفة. فأما قوله: مؤجلاً: يعني به تأجيل تسليم المبيع، كقوله بعتك داراً بالبصرة، أو بغداد، على أن أسلمها إليك بعد شهر، فهذا باطل، لأنه عقد على عين بشرط تأخير القبض، وذلك غير جائز. فإن قيل: فقبض الغائب لا بد أن يكون مؤخراً. قيل: هو مؤخر بغير أجل محدود، فجاز، وليس كذلك مع الشرط؛ لأنه قد يقدر على التسليم قبل الأجل، فيؤخره لأجل الشرط، وقد لا يقدر عليه عند الأجل، فيلزم تسليم ما لا يقدر عليه بالشرط. وأما قوله: ولا بصفة. فقد اختلف أصحابنا في تأويلها على وجهين: أحدهما: وهو تأويل البصريين: أن يصف العين الغائبة بجميع صفاتها، فلا يجوز، لأنها تصير على قولهم في معنى السلم في الأعيان. والثاني: تأويل البغداديين: أن يجعل بيع العين الغائبة مضموناً في ذمته، فلا يجوز كالعلم في الأعيان. قال الشافعي: ويجوز بيع العين الغائبة بثمن حال ومؤجل؛ لأن بيوع الأعيان يصح تأجيل الثمن فيها، سواء كانت العين حاضرة أو غائبة، لأنه بيع عين بدين، وليس كالسلم المضمون في الذمم، فلا يصح بيعه بمؤجل؛ لأنه يصير في معنى بيع الدين بالدين. فهذا جملة الكلام في بيع خيار الرؤية وما يتفرع عليه ويتصل به. فصل فأما بيع العين الغائبة مع تقدم الرؤية، وهو أن يكون البائع والمشتري قد شاهدا السلعة ثم غابا عنها، وعقدا البيع عليها. فلا يخلو حال الرؤية من أحد أمرين: إما أن تكون قريبة المدة، أو بعيدتها. فإن كانت المدة قريبة وليس لها حد مقدر فمذهب الشافعي وجمهور أصحابه أن البيع جائز. وقال أبو القاسم الأنماطي من أصحابه: البيع باطل، حتى تكون الرؤية مقارنة للعقد. وقال أبو سعيد الاصطخري: قلت لمن يناظر عن الأنماطي: ما يقول صاحبك في الدار إذا رآها المشتري، وخرج إلى الباب، واشتراها؟ قال: لا يجوز. قلت: فإن رأى خاتماً وأخذه في كفه ثم اشتراه؟ قال: لا يجوز قلت: فإن رأى أرضاً وخرج منها إلى جانبها ثم اشتراها؟ قال: فتوقف، لأنه لو قال: يجوز لناقض مذهبه، ولو قال: لا يجوز، لما أمكن ابتياع الأرض. فهذا قول الأنماطي، وقل من تابعه على ذلك من الفقهاء. واستدل على ذلك: بأن الرؤية لما كانت شرطاً في بيوع الأعيان، وجب أن تقترن بالعقد، كالصفة في بيع السلم. وهذا المذهب شاذ الاعتقاد واضح الفساد؛ لأن الرؤية إنما أريدت ليصير المبيع معلوماً، ولا يكون مجهولاً، وهذا المعنى موجود في الرؤية المتقدمة على العقد، كوجوده في الرؤية المقترنة بالعقد، وليس كذلك الصفة. فهذا حكم الرؤية المتقدمة إذا كانت المدة قريبة. فأما إذا كانت مدة الرؤية بعيدة، فلا يخلو حال المشتري من أحد أمرين: إما أن يكون ذاكراً لأوصاف المبيع أو غير ذاكر: فإن كان غير ذاكر لأوصاف المبيع لبعد العهد وطول المدة، فهذا في حكم من لم يره، فإن ابتاعه على غير خيار الرؤية، لم

باب خيار المتبايعين ما لم يتفرقا

يجز. وإن ابتاعه بخيار الرؤية، كان على قولين، وإن كان ذاكراً لأوصاف المبيع، لم تخل حاله من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون مما لا يتغير في العادة، كالحديد، والنحاس، فبيعه جائز، فإن رأى فيه بعد العقد عيباً، فله الخيار. الثاني: أن يكون مما يتغير فلا يبقى مع طول المدة، كالفواكه الرطبة، والطبائخ. فينظر في حاله حين العقد فإن كان قد مضى عليه المدة لا يبقى فيها كان بيعه باطلاً وإن كان قد مضى عليه من المدة ما يعلم بقاؤه فيها فبيعه جائز. وإن كان قد مضى من المدة ما يجوز أن يبقى فيها ويجوز أن يتلف، فبيعه باطل؛ لأنه عقد على عين لا يعلم بقاؤها. وفيه وجه آخر: أن بيعه جائز، لأن الأصل بقاء العين ما لم يعلم تلفها. الثالث: أن يكون مما يجوز أن يتغير ويجوز أن لا يتغير كالحيوان، ففيه قولان: أحدهما: يجوز بيعه بالرؤية المتقدمة، وقد نص عليه في البيوع، لأن الأصل سلامته وبقاؤه على حاله، وبه قال أكثر أصحابنا. والقول الثاني: أن بيعه لا يجوز، وقد أشار إليه الشافعي في كتاب الغصب واختاره المزني؛ لأنه متردد بين سلامة وعطب. والقول الأول أصح، وعليه يكون التفريع، فإذا تبايعا بالرؤية المتقدمة، ثم رآه المشتري بعد البيع على ما كان رآه من قبل، فلا خيار له، وإن رآه متغيراً، فله الخيار. فلو اختلفا، فقال المشتري: وجدته متغيراً، وقال البائع: بل هو على ما كان عليه من قبل. قال الشافعي في كتاب الصرف: القول قول المشتري مع يمينه؛ لأنه يريد انتزاع الثمن من يده، فلا ينتزع منه إلا بقوله. والله أعلم بالصواب. باب خيار المتبايعين ما لم يتفرقا مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يتفرقا إلا بيع الخيار". قال الشافعي: وفي حديث آخر إن ابن عمر كان إذا أراد أن يوجب البيع مشى قليلاً ثم رجع وفي تحديث أبي الوضيء قال: كنا في غزاة فباع صاحب لنا فرساً من رجل فلما أردنا الرحيل خاصمه فيه إلى أبي برزة فقال أبو برزة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا". قال: وفي الحديث ما لم يحضر يحيى بن حسان حفظاً وقد سمعته من غيره أنهما باتا ليلة ثم غدوا عليه، فقال: لا أراكما تفرقتما وجعل لهما الخيار إذ بقيا في مكان واحد بعد البيع. وقال عطاء: يخير بعد وجوب البيع. وقال شريح: شاهدا عدل أنكما تفرقتما بعد رضا ببيع أو خير أحدكما صاحبه بعد البيع. قال الشافعي: وبهذا نأخذ وهو قول الأكثر من أهل الحجاز

والأكثر من أهل الآثار بالبلدان. قال: وهما قبل التساوم غير متساومين ثم يكونان متساومين ثم يكونان متبايعين فلو تساوما فقال رجل: امرأتي طالق إن كنتما تبايعتما كان صادقاً وإنما جعل لهما النبي - صلى الله عليه وسلم - الخيار بعد التبايع ما لم يفترقا فلا تفرق بعدما صارا متبايعين إلا تفرق الأبدان". قال في الحاوي: اعلم أن العقود على أربعة أقسام: أحدها: ما كان غير لازم من جهة المتعاقدين في الحال ولا يفضي إلى اللزوم في ثاني حال. والثاني: ما كان غير لازم من جهة المتعاقدين في الحال، ولكن قد يفضي إلى اللزوم في ثاني حال. والثالث: ما كان لازماً من جهة أحد المتعاقدين في الحال دون العاقد الآخر بكل حال. والرابع: ما كان لازماً من جهة المتعاقدين في الحال. فأما القسم الأول: وهو ما كان غير لازم من جهة المتعاقدين في الحال، ولا يفضي إلى اللزوم في ثاني حال، فهو خمسة عقود: الوكالة، والشركة، والمضاربة، والعارية، والوديعة. فالخيار فيها مؤبد من جهتي المتعاقدين معاً. فإن شرط فيها إسقاط الخيار، بطلت، لأنها تصير بإسقاط الخيار لازمة، وهي عقود جائزة غير لازمة. وأما القسم الثاني: وهو ما كان غير لازم في الحال، ولكن قد يفضي إلى اللزوم في ثاني حال، فهو خمسة عقود: الجعالة: وهي قول الرجل: من جاءني بعبدي الآبق فله دينار. والعتق بعوض كقوله: أعتق عبدك عني بدينار. واستهلاك الأموال بالضمان كقوله: ألق متاعك في البحر وعلي قيمته. والقرض، والهبة. فهذه العقود الخمسة غير لازمة في الحال، فإن جيء بالأبق، وأعتق العبد، وألقي المتاع في البحر، واستهلك القرض، وأقبضت الهبة، لزمت. فيكون الخيار فيها قبل لزومها للمتعاقدين معاً. فإذا لزمت سقط الخيار. فلو شرط فيها إسقاط الخيار قبل لزومها، أو شرط إثبات الخيار فيها بعد لزومها، بطلت. وأما القسم الثالث: وهو ما كان لازماً من جهة أحد المتعاقدين دون الأخر، فهو ثلاثة عقود: الرهن والضمان والكتابة. فالخيار فيها ثابت للمرتهن دون الراهن، وللمضمون له دون الضامن، وللمكاتب دون السيد. فإن شرط إسقاط الخيار في الجهة التي فيها الخيار، أو شرط إثبات الخيار في الجهة التي ليس فيها الخيار، بطلت. وأما القسم الرابع: وهو ما كان لازماً من جهة المتعاقدين معاً فهو على أربعة أقسام: أحدها: ما لا يثبت فيه الخيار لواحد من المتعاقدين بحال، لا في المجلس، ولا بالشرط، وذلك ثلاثة عقود: النكاح، والخلع، والرجعة. ليس فيها إذا تمت خيار مجلس ولا خيار شرط. فإن شرط فيها أحد الخيارين، بطلت. الثاني: ما لا يدخله خيار الشرط. واختلف أصحابنا في دخول خيار المجلس فيه على وجهين، وذلك ثلاثة عقود: الإجازة، والمساقاة، والحوالة. وهل تبطل باشتراط خيار المجلس؟ على وجهين: الثالث: ما لا يدخله خيار الشرط ويدخله خيار المجلس قولاً واحداً: وهو ما كان القبض قبل الافتراق شرطاً في صحته، وذلك عقدان: المصرف، والسلم. فإن شرط

فيها خيار الثلاث بطلا. الرابع: ما يدخله خيار المجلس بغير شرط، وخيار الثلاث بالشرط. وهو سائر عقود البياعات. يثبت فيها خيار المجلس بالعقد من غير شرط. وبمذهبنا في ثبوت خيار المجلس في سائر البياعات قال من الصحابة: عثمان، وابن عمر، وابن عباس، وأبو برزة الأسلمي. ومن التابعين: شريح، وابن المسيب، والحسن، وعطاء، وطاوس. ومن الفقهاء: الزهري، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة، ومالك: البيع لازم بالإيجاب والقبول، ولا يثبت فيه خيار المجلس بحال. استدلالاً بقوله سبحانه وتعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة:282]، فندب إلى الإشهاد على البيع، لأجل الاستيثاق فيه، فلو كان لأحدهما الفسخ بعد العقد المشهود عليه، لم يحصل الاستيثاق، ولبطلت فائدة الإشهاد. وبرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن يكون صفقة خيار، فلا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقيله". ولو جاز لأحدهما الفسخ من غير استقالة لم يكن لنهيه عن الافتراق خشية الاستقالة معنى، فدل على أن الفسخ لا يستحق إلا بالاستقالة. وبما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "البيع عن صفقة أو خيار". فنوع البيع نوعين: نوعاً أثبت فيه الخيار بالشرط، ونوعاً نفى عنه الخيار من غير شرط، فعلم أنه لا يثبت فيه خيار المجلس كالنكاح. ولأنه عقد معاوضة، فوجب أن لا يثبت فيه خيار مجلس كالنكاح. ولأنه عقد يلحقه الفخ، فوجب أن لا يثبت فيه خيار المجلس كالكتابة. ولأنه خيار مجهول، لم يوجبه نقص، فوجب أن لا يثبت في البيع كالمشروط من الخيار المجهول. ولأن تأثير التفرق إنما هو الفسخ لا اللزوم، ألا ترى أنهما إذا تصارفا، ثم افترقا من غير قبض، بطل الصرف، وإذا كان تأثير التفرق هو الفخ، لم يجز أن يلزم به العقد: لأنه لا يجوز أن يكون الشيء الواحد مؤثراً في فسخ العقد وفي إلزامهما معاً في حال واحدة، لأنهما ضدان. ولأن البيع لما لزم بتراضيهما بعد العقد، وهو أن يقول أحدهما لصاحبه: اختر البيع، فيختار، لم يجز أن يلزم بتراضيهما حال العقد، ووجب أن يكون لازماً بمجرد الإيجاب والقبول، لأن الإيجاب والقبول، إنما هو رضاً منهما بالعقد، ألا ترى أنهما لو كانا عند الإيجاب والقبول مكرهين لم يصح العقد. فصل والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه: ثبوت السنة به من خمسة طرق: فأحدها: حديث ابن عمر، وهو وارد من طريقين:

أحدهما: من طريق نافع. والثاني: من طريق عبد الله بن دينار. فأما نافع فقد روى عنه من طريقين: أحدهما: ما رواه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يتفرقا". والثاني: رواه الشافعي عن ابن جريج عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا تبايع المتبايعان البيع، فكل واحد منهما بالخيار من بيعه ما لم يتفرقا أو يكون بيعهما عن خيار، فإن كان عن خيار فقد وجب" قال نافع: وكان ابن عمر إذا ابتاع البيع، فأراد أن يوجب البيع مشى قليلاً ثم رجع". وأما عبد الله بن دينار فقد روي عنه من طريقين: أحدهما: رواه الشافعي عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر، قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "البيعان كل واحد منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرقا، أو يكون بيعهما عن خيار، فإذا كان البيع عن خيار فقد وجب". والثاني: رواه الشافعي عن وكيع عن سفيان عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يتفرقا، أو يقول احدهما لصاحبه: اختر". والثاني: حديث أبي برزة. رواه الشافعي قال: أخبرنا الثقة يحيى بن حسان عن حماد بن زيد عن جميل بن مرة، عن أبي الوضيء قال: كنا في غزاة، فباع صاحب لنا فرساً من رجل، فلما أردنا الرحيل خاصمه فيه إلى أبي برزة، فقال أبو برزة: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا". قال الشافعي: وفي الحديث ما يبين هذا لم يحضر يحيى بن حسان حفظه، وقد سمعته من غيره: أنهما باتا ليلة، ثم غدوا عليه، فقال: ما أراكما تفرقتما، وجعل لهما الخيار إذا باتا مكاناً واحداً بعد البيع. والثالث: حديث حكيم بن حزام رواه الشافعي قال: أخبرنا الثقة يحيى بن حسان عن حماد بن سلمة عن قتادة، عن أبي الخليل عن عبد الله بن الحارث عن حكيم بن حزام قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدقا وبينا وجبت البركة في بيعهما، وإن كذبا وكتما محقت البركة من بيعهما". والرابع: حديث أبي هريرة. رواه أبو زرعة عن عمرو بن حريث عن أبي هريرة أن

النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر مناديه أن ينادي ثلاثاً: "لا يفترقن بيعان إلا عن تراض". والخامس: حديث عمرو بن شعيب: وقد تقام ذكره في دليل المخالف. فدلت هذه الأخبار كلها بصريح القول ودليله على ثبوت خيار المجلس للمتعاقدين معاً ما لم يتفرقا بالأبدان، أو يجعل أحدهما لصاحبه الخيار، فيختار. فإن قيل: فإنما جعل لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الخيار ما لم يتفرقا بالكلام: فيكون المراد بالافتراق افتراق الكلام دون افتراق الأبدان: وهو أن يكون للمشتري الخيار بعد بذل البائع في أن يقبل أو لا يقبل، وللبائع الخيار قبل قبول المشتري في أن يرجع في البذل أو لا يرجع، فإذا قل المشتري ولم يكن قد رجع البائع، فقد تم البيع، وانقطع الخيار سواء افترقا بالأبدان أو لم يفترقا. قالوا: وهذا أولى من حمله على افتراق الأبدان من وجهين: أحدهما: أنه معهود الافتراق في الشرع قال الله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ} [النساء:130] يعني: بالطلاق والطلاق كلام. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة" يعني: في المذاهب. والثاني: أن حمله على التفرق بالكلام حقيقة، وعلى التفرق بالأبدان مجاز، لأنه جعل الخيار للمتبايعين، وهما يسميان في حال العقد متبايعين حقيقة، وبعد العقد مجازاً، كما يقال: ضارب، فيسمى بذلك في حال الضرب حقيقة، وبعد الضرب مجازاً، وإذا كان كذلك كان حمله على الحقيقة أولى من حمله على المجاز، فثبت بهذين الوجهين أن المراد به التفرق بالكلام دون التفرق بالأبدان. فالجواب عنه: دليل، وانفصال. فأما الدليل على أن المراد به التفرق بالأبدان دون الكلام فمن ثلاثة أوجه: أحدها: أن التفرق لا يكون إلا عن اجتماع، فإذا تفرقا بالأبدان بعد البيع، كان تفرقاً عن اجتماع في القول حين العقد وعن اجتماع بالأبدان. ولا يصح تفرقهما بالكلام، لأنهما حال التساوم متفرقان، لأن البائع يقول: لا أبيع إلا بكذا، والمشتري يقول: لا أشتري إلا بكذا. فإذا تبايعا فقد اجتمعا في القول بعد أن كانا مفترقين فيه. وهذه دلالة أبي إسحاق المروزي. والثاني: أن خيار المشتري بعد بذل البائع وقبل قبوله معلوم بالإجماع، إذ لو سقط خياره ببذل البائع لوجبت البياعات جبراً بغير اختيار بعد اختيار ولأفضى الأمر فيها إلى ضرر وفساد، والخيار بعد البيع غير مستفاد إلا بالخبر، فكان حمل الخبر على ما لم يستفد إلا منه أولى من حمله على ما استفيد بالإجماع، لأن لا يعرى الخبر من فائدة. وهذه دلالة ابن جرير الطبري. والثالث: أن اللفظ إذا ورد، وكان يحتمل معنيين، وكان المراد أحدهما بالإجماع لا هما معاً، ولم يكن في اللفظ تمييز المراد منهما، كأن ما صار إليه الراوي هو المراد

به دون الآخر، فلما كان الافتراق يحتمل أن يراد به الافتراق بالكلام مع بعده، ويحتمل أن يكون المراد به الافتراق بالأبدان مع ظهوره، وكان ابن عمر، وأبو برزة، وهما من رواة الخبر يذهبان إلى أن المراد به التفرق بالأبدان، لأن ابن عمر كان إذا أراد أن يوجب البيع مشى قليلاً ثم رجع، وأبو برزة قال للمتبايعين حين باتا ليلة ثم غدوا عليه قال: ما أراكما تفرقتما عن رضا منكما ببيع اقتضى أن يكون هو المراد بالخبر دون المعنى الآخر. وهذه دلالة الشافعي رضي الله عنه. فإن قيل: فقد روى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فأريقوه، واغسلوه سبعاً" ثم أفتى أبو هريرة رضي الله عنه بالثلاث، فلم تصيروا إلى قوله، واستعملتم الخبر على ظاهره. قيل: نحن لا نقبل قول الراوي في التخصيص، ولا في النسخ، ولا في الإسقاط وإنما نقبله في تفسير أحد محتمليه إذا أجمعوا على أن المراد أحدهما. وقوله: "اغسلوه سبعاً" يقتضي وجوب الغسل سبعاً، وفتوى أبي هريرة بالثلاث إسقاط لباقي السبع، فلم يقبل، وكما روى ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من بدل دينه فاقتلوه" وكان يذهب إلى أن المرتدة لا تقتل. فلم نقض بمذهبه على روايته، لأن فيه تخصيصاً، وقول الراوي لا يقبل في التخصيص. على أن أبا علي بن أبي هريرة قال: أحمله على الأمرين معاً، فأحمله على التفرق بالكلام، وعلى التفرق بالأبدان، فأجعل لهما في الحالين الخيار بالخبر. وهذا صحيح لولا أن الإجماع منعقد على أن المراد به أحدهما. فأما الانفصال عن قولهم: إن معهود الافتراق إنما هو بالكلام دون الأبدان فمن وجهين: أحدهما: أن هذا تأويل مستحدث يدفعه إجماع من سلف، لأن كل من تقدم من السلف حمله على التفرق بالأبدان، حتى أن مالكاً روى الخبر، فقيل له: فلم خالفته؟ قال: وجدت عمل بلدنا بخلافه، وروي لأبي حنيفة فقال: أرأيت لو كانا في سفينة فحصل التسليم منهما، إن المراد به التفرق بالأبدان، ولم يتنازعا في تأويله، وإنما ذكرا شبهة واهية في ترك العمل به. والثاني: أنه لو يجتمع السلف على أن المراد به التفرق بالأبدان لكان هو حقيقة التفرق في اللسان، والشرع، وإن كان ربما استعمل في التفرق بالكلام استعارة ومجازاً، وقد حكي الرياشي ذلك عن الأصمعي وشاهد ذلك أظهر من أن يذكر. على أن هذا وإن ساغ في حديث مالك عن نافع عن ابن عمر على وهن وضعف، فليس يسوغ في حديث غيره؛ لأن النص يدفعه من قوله: أو يقول لصاحبه: اختر، فإن ما بعد ذلك يخالف ما قبله. وأما الانفصال عن قولهم: إن حمله على الخيار حين التساوم حقيقة وبعد العقد مجاز: فمن وجهين:

أحدهما: أن حمله عليها وقت التساوم مجاز، وبعد العقد حقيقة لغة وشرعاً: فأما اللغة، فلأن البيع مشتق من فعل، والأسماء المشتقة من الأفعال لا تنطلق على مسمياتها إلا بعد وجود الأفعال، كالضارب والقاتل: لا يتناول المسمى به إلا بعد وجود الضرب والقتل، كذلك البائع لا ينطلق عليه اسم البيع إلا بعد وجود البيع منه، والبيع إنما يوجد بعد العقد، فأما حين التساوم فلا. فأما الشرع، فلأنه لو قال لعبده: إذا بعتك فأنت حر لم يعتق عليه بالمساومة، فإذا تم العقد عتق عليه، فلذلك قال مالك وأبو حنيفة: إذا باعه بيعاً لا خيار فيه، لم يعتق عليه، لأنه يصير بائعاً بعد العقد، وقد زال ملكه بالعمد، وانقطع خياره، فلم يعتق عليه من بعد. والثاني: أن تسميتنا له بائعاً بعد انقضاء البيع، إن كان مجازاً من حيث يقال: كانا متبايعين، فالحمل عليه وقت التساوم وجاز أيضاً حتى يوجد القبول، وإلا فيقال: سيكونان متبايعين، وإذا كان ذلك مجازاً فيهما جميعاً، كان ما ذكرنا أولى من وجهين: أحدهما: أن الاسم وإن انطلق عليهما بعد العقد مجازاً، فقد استقر بوجود البيع، وهو قبل العقد غير مستقر، لجواز أن لا يتم البيع. والثاني: أن اسم البائع والمشتري من الأسماء المشتركة، كالوالد والولد، فلا يوجد المشتري إلا في مقابلة البائع، ولا يوجد البائع إلا في مقابلة المشتري، فلو كان البائع بعد البذل وقبل القبول يسمى بائعاً، لجاز أن يكون الطالب قبل القبول يسمى مشترياً، فلما لم يسم الطالب مشترياً إلا بعد القبول، لم يسم الباذل بائعاً إلا بعد القبول. على أن هذا التأويل إنما يسوغ مع وهاية في قوله: المتبايعان فأما في قوله البيعان فلا يسوغ فيه. فنستعمل الروايتين، ونحمله على اختلاف معنيين، فيكون أولى من حمله على أحدهما. فبطل هذا التأويل بما ذكرنا من الدليل والانفصال، واستقر ما ذكرنا من الوجوه في أدلة الأخبار. فأما المعنى النظري فهو أنه خيار ورد به الشرع، فوجب أن يعتبر حكمه بعد العقد، أصله خيار الثلاث. ولأنه عقد معاوضة محضة، فوجب أن يكون للتفرق تأثير فيه، كالصرف والسلم. ولأن الخيار ضربان: ضرب يتعلق بالصفات، وضرب يتعلق بالزمان. ثم كان الخيار المتعلق بالصفات ينقسم قسمين: قم وجب بالشرط وقسم وجب بالشرع. فالقسم الواجب بالشرط: أن يبتاع عبداً على أنه كاتب أو مانع، فيجده بخلاف ذلك، فيجب له الخيار لعدم الفضيلة المستحقة بالشرط. والواجب بالشرع: هو خيار العيب لنقص وجده عن حال السلامة، فيجب له الخيار بالشرع، فاقتضى أن يكون الخيار المتعلق بالزمان ينقسم قسمين: قسم وجب بالشرط: وهو خيار الثلاث. وقسم وجب بالشرع: وهو خيار المجلس. وتحريره قياساً: أنه أحد جنسي الخيار، فوجب أن يتنوع نوعين: شرطاً وشرعاً قياساً على خيار الصفات. ولأنه عقد يقصد به تمليك المال، فلم يلزم بالبذل والقبول كالهبة. ولأن عقد البيع بذل وقبول، فلما ثبت الخيار بعد البذل، وجب أن يثبت بعد القبول. وتحريره قياساً: أنه قول أحد المتبايعين، فوجب ثبوت الخيار بعده كالبذل.

فأما الجواب عن قوله سبحانه وتعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة:282] أن المراد به الإشهاد بعد الافتراق في الحال التي يلزم فيها العقد. ولا يمنع أن يكون ذلك إشهاداً على العقد ووثيقة فيه كما أن الإشهاد في خيار الثلاث، يكون بعد تقضي الثلاث، ولا يمنع أن يكون ذلك إشهاداً على العقد ووثيقة فيه. وأما الجواب عن حديث عمرو بن شعيب، وقوله "ولا يحل له أن يفارقه خشية أن يستقبله" فهو أن لهذا اللفظ ظاهرين: أحدهما: حجة عليهم. والثاني: حجة لهم. فقوله: "ولا يحل له أن يفارقه" حجة عليهم، لأنه يدل على أن البيع لم يقع لازماً، وأن فيه خياراً يسقط بالتفرق. وقوله: "خشية أن يستقبله" حجه لهم، لأنه يدل على أن الخيار لا يستحق إلا بالإقامة. فلم يكن بد من تغليب أحد الظاهرين لتعارضهما، فكان تغليب الظاهر في إثبات الخيار أحق لأمرين: أحدهما: أن أول الخبر يقتضيه، وهو قوله "المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا إلا أن تكون صفقة خيار". والثاني: أن الإقامة لا تختص بمجلس التبايع وتبطل بالتفرق لجوازها بعد الافتراق كجوازها قبله. وإنما الخيار يختص بالمجلس ويبطل بالتفرق، فصح أنه المراد. وأما الجواب عن ما روي عن عمر "البيع صفقة أو خيار" فهو أنه مرسل، لأنه يروى عن رجل من بني كنانة، ولو صح لاحتمل أمرين: أحدهما: أن البيع عن صفقة وخيار، لأنه قسم البيع إلى قسمين: أحدهما: صفقة، والثاني: خيار. والخيار بمجرده لا يكون بيعاً إلا مع الصفقة، فثبت أن معناه عن صفقة وخيار. والثاني: أن معناه أن البيع على ضربين: ضرب: فيه خيار الثلاث. وضرب: ليس فيه خيار الثلاث. يوضح ذلك يؤيده ما روى مطرف عن الشعبي أن عمر بن الخطاب قال: المتبايعان بالخيار ما لم يتفرقا. وأما الجواب عن قياسهم على النكاح: فهو أن المعنى في النكاح أنه عقد تبتغى به الوصلة دون المعاوضة فلم يثبت فيه الخيار الموضوع لارتياد أوفر الأعواض، ولهذا المعنى لم تكن الرؤية شرطاً في صحته، وخالف سائر عقود المعاوضات من البيوع وغيرها، ألا ترى أن خيار الثلاث لا يصح فيه وإن صح في غيره. وأما الجواب عن قياسهم على الكتابة: فهو أن الخيار موضوع في العقد، لارتياد الحظ فيه، وعقد الكتابة لم يثبت فيه الخيار من جهة السيد لأنه قصد به إرفاق عبده، لا طلب الحظ لنفسه إذ معلوم أنه لا حظ له في بيع ملكه بملكه، فسقط خياره. ولأنه ليس يستدرك به ما خفي عنه، وأما العبد فخياره ممدود، وليس كذلك البيع. وأما الجواب عن قياسهم على الخيار المجهول: فهو أن خيار المجلس من موجبات العمد، والخيار المجهول من موجبات الشرط.

وفرق في الأصول بين ما ثبت بالعقد. فيصح فيه الجهالة، وما ثبت بالشرط، فلا يصح فيه الجهالة، ألا ترى أن خيار العيب لما ثبت بالعقد جاز أن يكون مجهولاً، وخيار المدة لما ثبت بالشرط لم يجز أن يكون مجهولاً، وكذا القبض إذا استحق بإطلاق العقد جاز أن يكون مجهول الوقت وإذا كان مستحقاً بالشرط لم يجز أن يكون مجهول الوقت. وأما الجواب عن قولهم: إن الافتراق يؤثر في فسخ البيع لا في لزومه كالصرف قبل القبض: فهو أن هذه دعوى غير مسلمة، لأن الافتراق في الصرف مؤثر في لزومه كالبيع، وليس يقع الفسخ في الصرف بالافتراق، وإنما يقع بعدم القبض قبل الافتراق، فإذا تقابضا، صح، ولم يلزم إلا بالافتراق. وأما الجواب عن قولهم: لما لزم البيع بتراضيهما بعد العقد، فلأن يكون لازماً بتراضيهما حين العقد أولى: فهو أن الرضا بالبيع بعد العقد يتنوع نوعين: نوع يكون بالصمت، ونوع يكون بالنطق: فأما الرضا بالصمت بعد العقد فلا يلزم به البيع، فكذا الرضا بالصمت حين العقد لا يلزم به البيع. وأما الرضا بالنطق بعد البيع، فهو أن يقول: قد اخترت إمضاء البيع. فهذا يلزم به البيع. ومثله بالنطق في حال البيع أن يشترط في العقد سقوط خيار المجلس، فهذا قد اختلف أصحابنا فيه هل يلزم به البيع ويصح معه العقد أم لا؟ على ثلاثة أوجه: أحدها: يصح معه العقد، لأن غرر الخيار يرتفع به، ويلزم به البيع، لأنه موجب شرطه، ولا يثبت في البيع خيار المجلس. وقائل هذا الوجه من أصحابنا تأوله من كلام الشافعي في كتاب الأيمان والنذور. فعلى هذا قد استوي حكم هذا الرضا في لزوم البيع بعد العقد وقبله. الثاني: يصح معه العقد، لكن لا يلزم به البيع، ولا يسقط معه خيار المجلس، وإن كان مشروطاً، لأنه من موجب العقد فلم يسقط بالشرط، كالولاء في العتق والرجعة في الطلاق. فعلى هذا يكون هذا النوع من الرضا يلزم به البيع إذا كان بعد العقد، ولا يلزم به البيع إذا كان مع العقد. والفرق بينهما أنه بعد العقد يتضمن إبطال خيار ثابت، فصح إبطاله بعد ثبوته. وحين العقد يتضمن إبطال خيار غير ثابت، فلم يصح إبطاله قبل ثبوته، كاستحقاق الشفعة لما بطل بعد البيع للرضا بعد ثبوته، لم يبطل حال البيع مع الرضا به، لعدم ثوبته. الثالث: أن البيع باطل بهذا الشرط، لأنه مناف لموجبه، إذ موجب العقد ثبوت الخيار به، ولا شرط إذا نافى موجب العقد أبطله، وهو منصوص الشافعي في القديم، والبويطي والأم. فعلى هذا يكون هذا النوع من الرضا يلزم به البيع بعد العقد، ويبطل به البيع إن كان مع العقد والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "فكل متبايعين في سلعة وعين وصرف وغيره فلكل واحد منهما فخ البيع حتى يتفرقا تغرق الأبدان على ذلك أو يكون بيعهما عن خيار وإذا

كان يجب التفرق بعد البيع فكذلك يجب إذا خير أحدهما صاحب بعد البيع وكذلك قال طاوس: خير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً بعد البيع فقال الرجل: عمرك الله ممن أنت؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "امرؤ من قريش" قال فكان طاوس يحلف ما الخيار إلا بعد البيع. قال في الحاوي: قد ثبت بما مضى خيار المجلس في البيوع كلها، وفي الصرف، والسلم، لأنهما نوعان منها غير أن خيار الثلاث وإن دخل في البيوع، فهو غير داخل في الصرف والسلم. لأن القبض قبل الافتراق لما كان شرطاً في صحتهما، منع من بقاء علق العقد بعد الافتراق، وخيار الثلاث يبقى علق العقد بعد الافتراق فمنع منه. فإذا ثبت ذلك فعقد البيع يلزم بشيئين: هما: العقد، والافتراق. وإذا كان لا يلزم إلا بهما وجب بيان كل واحد منهما. فنبدأ ببيان العقد وحكمه، ثم بالافتراق ولزوم البيع به. فصل فأما العقد فيصح باعتبار ثلاثة شروط: أحدها: اللفظ الذي يعقد به. والثاني: كيفية العقد به. والثالث: بيان ما يصير العقد تابعاً به. فأما الشرط الأول: وهو اللفظ الذي يعقد به. فألفاظه على ثلاثة أضرب: ضرب: يصح العقد به؛ وضرب لا يصح العقد به؛ وضرب مختلف فيه هل يصح العقد به أم لا؟ فأما ما يصح العقد به، فلفظة واحدة من جهة البائع، وهي قوله: قد بعتك، وإحدى لفظتين من جهة المشتري، هما: قوله: قد اشتريت، أو قد ابتعت، لأن معنى الشراء والابتياع سواء. وأما ما لا يصح العقد به: فهو كل لفظ كان يحتمل معنى البيع وغيره، كقوله: قد أبحتك هذا العبد بألف، أو قد سلطتك عليه، أو قد أوجبته لك، أو جعلته لك. كل هذه الألفاظ لا يصح عقد البيع بها، لاحتمالها، وأن معنى البيع ليس بصريح فيها. وأما المختلف فيه: فهو قوله: قد ملكتك. فيه لأصحابنا وجهان: أحدهما: يصح العقد به، لأن حقيقة البيع: تمليك المبيع بالعوض، فلا فرق بين ذلك وبين قوله: بعتك. الثاني: وهو الصحيح لا يصح العقد به، لعلتين: إحداهما: أن لفظ التمليك يحتمل البيع ويحتمل الهبة على العوض، فصار من جملة الألفاظ المحتملة. والأخرى: أن التمليك هو حكم البيع وموجبه، فاحتاج إلى تقديم العقد، ليكون التمليك يتعقبه. فصل فأما كيفية العقد بألفاظه المختصة به فيحتاج أن يكون لفظ البائع خارجاً على أحد الوجهين: إما مخرج البذل، أو مخرج الإيجاب. ولفظ المشتري خارجاً على أحد

الوجهين أيضاً: إما مخرج القبول، أو مخرج الطلب. وإذا كان كذلك، فإن، لهما في عقد البيع بلفظه ثلاثة أحوال: إحداهن: أن يعقداه بلفظ الماضي. والثانية: بلفظ المستقبل. والثالثة: بلفظ الأمر. فأما عقده بلفظ الماضي: فهو أن يبدأ البائع، فيقول: قل بعتك عبدي بألف، ويقول: المشتري قد اشتريته منك بها، فيصح العقد؛ لأن قول البائع: قد بعتك، يكون بذلاً، وقول المشتري: قد اشتريت، يكون قبولاً، والبيع يصح بالبذل والقبول. وكذا لو قال المشتري مبتدئاً: قد اشتريت هذا العبد بألف، فيقول البائع: قد بعتك بها، صح البيع، ولم يحتج المشتري إلى إعادة القبول بعد بذل البائع بوفاة أبي حنيفة؛ لأن هذا القول من المشتري إذا تقدم وإن كان بلفظ القبول يتضمن معنى الطلب، وقول البائع إذا تأخر وإن كان بلفظ البذل يتضمن معنى الإيجاب، والبيع يصح بالطلب والإيجاب، كما يصح بالبذل والقبول. فأما إذا ابتدأ البائع، فقال: قد اشتريت مني عبدي بألف، فقال: قد اشتريته، لم يصح البيع بهذا اللفظ، حتى يقول البائع بعد ذلك: قد بعتك؛ لأن قول البائع للمشتري: قد اشتريت مني، هو استخبار، وليس ببذل منه ولا إيجاب، وما لم يكن بذلاً ولا إيجاباً، لم يصح عقد البيع به من جهة البائع. وهكذا لو ابتدأ المشتري فقال للبائع: قد بعتني عبدك بألف، فقال: قد بعتك، لم يصح البيع، حتى يقول المشتري بعد ذلك: قد اشتريت؛ لأن هذا القول من المشتري، ليس بقبول ولا طلب، وما لم يكن قبولاً ولا طلباً، لم يصح عقد البيع به من جهة المشتري. وأما عقده بلفظ المتقبل: فهو أن يبدأ البائع فيقول: سأبيعك عبدي بألف، أو يقول: أبيعك عبدي بألف، ويقول المشتري: اشتريته بها أو سأشتريه. أو يقول المشتري: تبيعني عبدك بألف، فيقول: أبيعك، أو يقول البائع: تشتري عبدي بألف، فيقول: اشتريته، فلا يصح عقد البيع بذلك؛ لأنه خارج مخرج الوعد. وهكذا جميع ما تلفظا به من الألفاظ المتقبلة، لا يصح عقد البيع بها لما ذكرنا. ومن هذا النوع أيضاً أن يكون اللفظ خارجاً مخرج الاستفهام كقوله: أتشتري عبدي بألف؟ فيقول: قد اشتريته، أو يقول المشتري: أتبيع عبدك بألف؟ فيقول: قد بعته، فلا يصح البيع أيضاً لما ذكرنا. وأما عقده بلفظ الأمر. فإن ابتدأ البائع فقال للمشتري: اشتر عبدي بألف، فقال: قد اشتريت، لم يصح البيع، إلا أن يعود البائع فيقول: قد بعت، ولو ابتدأ المشتري فقال للبائع: بعني عبدك بألف، فقال: قد بعتك بها، صح البيع، ولم يحتج المشتري إلى إعادة القبول عندنا. والفرق بين أن يقول البائع مبتدياً للمشتري: اشتر عبدي بألف، قد اشتريت، فلا يصح البيع، وبين أن يبتدئ المشتري فيقول للبائع: بعني عبدك بألف، فيقول: قد بعتك بها، فيصح البيع، وإن كان كلا اللفظين أمراً: أن البائع إنما يراد من جهته البذل

مبتدياً أو الإيجاب مجيباً، ولفظ الأمر بقوله: اشتر، لم يوضع للبذل ولا للإيجاب. والمشتري إنما يراد من جهته القبول مجيباً أو الطلب مبتدياً، ولفظ الأمر بقوله: بعني، موضوع للطلب وإن لم يوضع للقبول. فهذا فرق ما بين لفظي البائع والمشتري في الابتداء به على وجه الأمر عن طريق اللغة ومعاني الألفاظ وقال أبو حنيفة: هما سواء، إذا ابتدأ المشتري فقال: بعني عبدك بألف، فقال البائع: قد بعتك بها، لم يصح البيع، حتى يعود المشتري فيقول: قد اشتريته، فيكون هذا قبول كما لو ابتدأ البائع فقال: اشتر عبدي بألف، وما ذكرناه من الفرق بين معنى اللفظتين كاف. ثم الدليل عليه من جهة المعنى الشرعي أن كل ما لزم اعتباره في صحة عقد البيع من صفات لفظه، لزم اعتباره في صحة عقد النكاح من صفات لفظه. فلما لو كان ابتدأ الزوج فقال للولي: زوجي ابنتك، فقال: قد زوجتك، صح النكاح، ولم يحتج الزوج إلى القبول بعد إجابة الولي، وقام ذلك مقام أن يبتدئ الولي فيقول للزوج: قد زوجتك بنتي، ويقول: الزوج: قل تزوجت، وجب أن يكون حكم البيع بمثابته. ويتحرر من هذا الاستدلال قياسان: أحدهما: أنه عقد لو تقدم فيه البذل كفاه القبول، فإذا تقدم فيه الطلب كفاه الإيجاب كالنكاح. والثاني: أن كلما لا كان بلفظ النكاح كان نكاحاً، فماذا كان بلفظ البيع كان بيعاً، لو تقدم البذل. فصل فأما إذا كان المبيع عبداً بعبد، وعقداه بلفظ الأمر، والمتبايعان متساويان فيه فأيهما جعل نفسه باللفظ بائعاً أو مشترياً، لزمه حكمه. فإذا قال أحدهما: بعني عبدك هذا بعبدي، فقال الأخر: قد بعتك به، صح به البيع، لأن المبتدى، أنزل نفسه منزلة المشتري، فلزمه حكمه. ولو كان الأول قال: اشتر مني عبدي هذا بعبدك، فقال: قد اشتريته منك، لم يصح البيع، لأنه أنزل نفسه منزلة البائع، فلزمه حكمه. فصل فأما ما يصير العقد تاماً به، فشيئان: أحدهما: تعجيل القبول على الفور إن تقدم البذل، أو تعجيل الإيجاب على الفور، إن تقدم الطلب، من غير فصل، ولا بعد، فإن فصل بين البذل والقبول بكلام ليس منه، أو تطاول ما بين البذل والقبول بالإمساك حتى بعد منه. لم يتم العقد، ولم يكن للقبول تأثير إلا أن يعقبه البائع بالإيجاب، فيصير القبول طلباً والإيجاب جواباً، ويتم البيع، ولكن لو حصل بين القبول والبذل إمساك لبلع الريق وقطع النفس، تم العقد، ولم يكن لهذا الإمساك تأثير في فساده. والثاني: أن يكون قبول المشتري يقتضي ما تضمنه بذل البائع من الثمن، وهو أن يقول البائع: قد بعتك عبدي بألف، فيقول المشتري: قد اشتريته بالألف، أو يقول: قد اشتريته بها، فيصح الشراء؛ لأن القبول قد تضمن ما تناوله البذل من الثمن، وكذلك لو

قال المشتري- حين قال البائع: قد بعتك عبدي بألف-: قد قبلت هذا البيع، صح البيع، ولزم فيه الألف، وإن لم يصرح المشتري بها في قبوله؛ لأن بذل البائع قد تناولها، وقبول المشتري توجه إليها. فإن قيل: أليس لو قال الولي في النكاح: قد زوجتك بنتي على صداق ألف، فقال الزوج: قد قبلت تزويجها؟ أو قال: قد تزوجتها، ولم يقل: على هذا الصداق، صح النكاح، ولم يلزم الصداق حتى يصرح به في قبوله؟ فما الفرق بينه وبين البيع؟ قيل: الفرق بينهما: أن البيع لا يصح إلا بثمن فإذا حصل فيه القبول، تضمن ما يتناوله البذل من الثمن، والنكاح قد يصح مع خلوه من الصداق، فلذلك لم يلزم فيه الصداق إلا أن يصرح به في قبوله. ولو قال البائع: قد بعتك عبدي بألف إن قبلت الشراء مني، فقال: نعم، صح البيع وتم. وكذا لو كان بينهما متوسط في العقد، فقال للبائع: بعته عبدك بألف، فقال: نعم، وقال للمشتري: اشتريته بها، فقال نعم، صح البيع وتم. وكذا لو ابتدأ المتوسط بالمشتري فقال: اشتريت هذا العبد من فلان بألف، فقال: نعم، وقال للبائع: بعته عليه بالألف، فقال: نعم، صح البيع وتم. ويفارق النكاح في أحد الوجهين بما نذكره هناك من الفرق بينهما. ولكن لو قال البائع: قد بعتك عبدي هذا بألف، فقال المشتري: قد ابتعته بخمسمائة، لم يصح البيع. وهكذا لو قال المشتري: قد قبلته بألفين، لم يصح البيع أيضا؛ لأنهما لم يجتمعا في البذل والقبول على ثمن واحد، ولا يصح البيع، حتى يكون الثمن معلوماً يتفقان عليه. وقال أبو حنيفة: يصح البيع بالألف؛ لاجتماعهما عليها، والألف الأخرى زيادة، إن شاء البائع قبلها، وإن شاء ردها. قال: ولو قال المشتري: بعني هذا العبد بألف، فقال البائع قد بعتك بخمسمائة، صح البيع بخمسمائة، وقد حطه خمسمائة، وحل ذلك حظا؛ لأن الثمن مختلف في حال العقد لم يجتمع عليه في البذل والقبول سواء عاد البائع، فقبل الزيادة، أو المشتري فقبل الحطيطة أم لا؟ ولا يصح البيع إلا باستئناف العقد لما ذكرناه. فهذا حكم العقد. فصل وأما الافتراق: فهو موضوع لقطع الخيار، ولزوم البيع، لأن الخيار ثابت لكل واحد منهما بعد العقد في الفسخ والإمضاء، وقطع هذا الخيار يكون بأحد وجهين: إما بالافتراق. وإما بالتخيير القائم في قطع الخيار مقام الافتراق. فأما حد الافتراق، فقد ورد الشرع به مطلقاً، وما أطلقه الشرع ولم يكن محدوداً في اللغة كان الرجوع في حده إلى العرف كالقبض في المبيعات، والإحراز في المسروقات. فإذا فارق أحدهما صاحبه إلى حيث ينسب في العرف أنه مفارق له، انقطع الخيار ولزم البيع، مثال ذلك إن تبايعا في دار فيخرج أحدهما منها، فيكون هذا افتراقاً سواء صغرت الدار أو كبرت، تعد الخارج منها أم قرب. فأما إن لم يخرج منها، ولكن قام من أحد جانبيها الذي تبايعا فيه إلى الجانب

الآخر، نظر: فإن كانت الدار واسعة، كان ذلك تفرقاً، وإن كانت الدار صغيرة، لم يقع التفرق إلا بالخروج منها أو الصعود إلى علوها. وكذا السفينة إذا تبايعا فيها؛ فإن كانت صغيرة، لم يقع التفرق إلا بخروج أحدهما منها إلى الأرض، أو إلى سفينة غيرها، أو إلى الماء. وإن كانت السفينة كبيرة وقع الافتراق بقيام أحدهما من أحد جانبيها الذي تبايعا فيه إلى الجانب الآخر، كأنهما تباعيا في الصدر، ثم قام أحدهما إلى المؤخر، أو تبايعا في المؤخر ثم قام أحدهما إلى الصدر. فأما إن تبايعا في سوق كبير، فقد قال الشافعي: فالتفرق: أن يولي أحدهما ظهره، قال أصحابنا: أراد بذلك أن يولي ظهره ويمشي قليلاً حتى يزايل موضع العقد في العرف، كما كان يفعل عبد الله بن عمر في بيوعه. فأما إذا كانا في موضع تبايعهما ومجلس عقدهما، فبني بينهما حائط، لم يكن ذلك تفرقاً، لأن الحائط المبني حائل، والحائل لا يفرق بينهما، كما لو حال بينهما رجل بوقوفه. فأما إذا قاما جميعاً عن مجلس تبايعهما، ومشيا مجتمعين، ولم يفترقا بأبدانهما، فهما على خيارهما، وإن طال الزمان وبعد. وحكي عن عبد الله بن الحسن العنبري: أن خيارهما قد انقطع بمفارقة مجلسهما. وحديث أبي برزة الأسلمي حيث أثبت الخيار للمتبايعين وقد غدوا عليه، وقوله لهما: ما أراكما تفرقتما عن رضا منكما ببيع دليل على أنه قد عقل معنى الافتراق عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فهذا الكلام في افتراق المتبايعين. فصل فأما حكم الافتراق في عقد البيع إذا تم بواحد، وهو الأب إذا ابتاع من ابنه الصغير لنفسه، أو باع عليه من نفسه بنفسه، ففيه وجهان: أحدهما: وهو يحكى عن أبي إسحاق المروزي فيما علق عنه: أن حد الافتراق في بيعه أن يفارق مجلس بيعه الذي ابتاع فيه من ابنه إلى حيث لا ينسب في العرف إليه، فيكون ذلك تفرقاً يلزم به البيع. الثاني: وهو قول جمهور أصحابنا: أن الخيار باق وإن فارق مجلسه، لأنه لا يصح أن يكون مفارقاً لنفسه، ويكون الخيار باقياً إلى بلوغ ابنه، أو يخير الأب نفسه عن ابنه، فيختار لنفسه وعن ابنه إمضاء البيع وقطع الخيار، فيلزم حينئذ البيع. فأما إذا مات أحد المتبايعين قبل التفرق، فانتقل الخيار إلى وارثه، وإن كان غائباً، فله الخيار في موضعه الذي بلغه حيث كان، فإن زال عن الموضع، سقط خياره. وإن اختار أحدهما الفسخ والأخر الإمضاء، غلب الفسخ على الإمضاء؛ لأن موضوع الخيار الفسخ. ولا فرق بين أن يفترق المتبايعان عن قصد لقطع الخيار ولزوم البيع، أو غير قصد ناسيين. فهذا الكلام في حد الافتراق وحكمه وما يتعلق عليه من فروعه. فصل فأما التخيير القائم في قطع الخيار ولزوم البيع مقام الافتراق:

فهو أن يخير أحدهما صاحبه بعد البيع فيختار الإمضاء، فينقطع بذلك الخيار، ويلزم معه العقد وإن كانا في مجلس بيعهما لم يتفرقا. وقال أحمد بن حنبل: لا حكم للتخيير في لزوم البيع، وهما على خيارهما ما لم يتفرقا لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا". والدلالة عليه: الخبر المروي في كتابنا رابعاً عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: كل بيعين فلا بيع بينهما حتى يفترقا أو يقول أحدهما لصاحبه: "أختر". وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - ابتاع من أعرابي فرساً فقال له: "أختر" فقال: عمرك الله ممن أنت؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - "امرؤ من قريش". ولأن الخيار خياران: خيار شرط، وخيار عقد. ثم ثبت أن خيار الشرط ينقطع بالتخيير، فكذلك خيار العقد يجب أن ينقطع بالتخيير. فإذا ثبت أن التخيير يقوم مقام الافتراق في قطع الخيار ولزوم البيع، فخير أحدهما صاحبه: فإن اختارا جميعاً الإمضاء، انقطع الخيار ولزم البيع. وإن اختارا جميعاً الفسخ، انفسخ البيع وإن اختارا أحدهما الفسخ والآخر الإمضاء غلبا الفسخ على الإمضاء، وفسخ البيع، لأن موضوع الخيار الفسخ. فصل وقد يكون صريحاً: بأن يقول: فسخت. وقد يكون بما يقوم مقام قوله: قد فسخت وهو أن يقول البائع في المجلس والثمن مؤجل: لست أمضي البيع إلا بتعجيل الثمن، ويقول المشتري: لست أعجل الثمن، فيكون ذلك فسخاً للعقد ويقوم مقام قوله: قد فسخت، وكذلك نظائر ذلك وأشباهه. فلو قال المشتري والثمن ألف درهم صحاح: لست أختاره إلا بألف غلة، فقال البائع: لست أمضيه بالغلة، كان فسخاً، وإن لم يفترقا وأمضاه البائع بالألف الغلة كان ذلك استئناف عقد غير الأول وكان لهما الخيار ما لم يفترقا، أو يختارا الإمضاء. ومما يكون للبيع ويقوم مقام قوله: قد فسخت، أن يتلف المبيع قبل الافتراق، فيكون فسخاً للعقد لتلفه قبل انبرام العقد. فلو قبض المشتري السلعة، ثم تلفت في يده قبل الافتراق، بطل العقد وكانت السلعة مضمونة على المشتري بالقيمة دون الثمن لفساد العقد بالتلف، ووجوب الضمان باليد. ولو قبضها المشتري، ثم أودعها البائع في المجلس، ثم تلفت في يد البائع قبل الافتراق، بطل البيع، وكانت مضمونة على المشتري بالقيمة، ولا تكون مضمونة على البائع؛ لأنها كانت في يده وديعة للمشتري. ومما يكون فسخاً للبيع أن يؤجره أو يوصي به، أو يعرضه على البيع من غيره أو يقفه، أو يكون عبداً فيعتقه، أو ثوباً فيلبسه، إلى أشباه ذلك. فلو اختلفا بعد الافتراق، فقال أحدهما: افترقنا عن فسخ، وقال الآخر: افترقنا عن تراض: ففيه لأصحابنا وجهان:

أحدهما: أن قول من ادعى الافتراق عن تراض؛ لأن دعواه تتضمن إنفاذ البيع، وهو الظاهر من حال العقد. الثاني: أن القول قول من ادعى الافتراق عن فسخ؛ لأن دعواه تتضمن فسخ البيع. وإذا اختلف المتبايعان في إثبات العقد وإنكاره، كان القول قول منكره دون مثبته، فكذلك إذا كان الاختلاف في إنفاذه وفسخه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "فإن اشترى جارية، فأعتقها المشتري قبل التفرق أو الخيار، واختار البائع نقض البيع، كان له، وكان عتق المشتري باطلاً، لأنه أعتق ما لم يتم ملكاً، فإن أعتقها البائع كان جائزاً". قال في الحاوي: وهذا صحيح، ولهذه المسألة مقدمة يترتب عليها الجواب وهي أن المشتري متى يملك المبيع في خيار المجلس وخيار الثلاث؟ فللشافعي فيه ثلاثة أقوال: أحدها: نص عليه في كتاب زكاة الفطر: أن المشتري يملك المبيع بنفس العقد، ويستقر ملكه بقطع الخيار، فيكون الملك حاصلاً بالعقد وحده، واستقرار الملك يكون بقطع الخيار. الثاني: نص عليه في كتاب الأم: أن المشتري لا يملك المبيع إلا بالعقد وقطع الخيار، فلا يحصل الملك مستقراً، إلا بالعقد وقطع الخيار جميعاً. الثالث: أن ملك المشتري للمبيع موقوف مراعى، فإن انقطع الخيار بعد العقد عن تراض منهما به، بان أن المشتري كان مالكاً للمبيع بنفس العقد، وإن نقض الخيار عن فسخ، بان أن المبيع، لم يزل عن ملك البائع، وأن المشتري لم يكن مالكاً له. وقال أبو حنيفة: إذا كان الخيار لهما أو للبائع وحده، كان المبيع على ملك البائع في مدة الخيار، فإذا انقضت مدة الخيار، ملكه المشتري حينئذ بالعقد المتقدم، وإن كان الخيار للمشتري وحده، فالمبيع قد زال عن ملك البائع بالعقد، ولا يملكه المشتري إلا بعد تقضي مدة الخيار، فإذا انقضت ملكه حينئذ بالعقد المتقدم. وهذا المذهب مخالف لمذاهبنا الثلاثة، وفي توجيهها دليل عليه. فأما القول الأول: وهو أن المشتري قد ملك بنفس العقد، -وهو أصح الأقاويل- فوجهه ثلاثة أشياء: أحدها: حديث نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المتبايعان كل واحد منهما على صاحبه بالخيار ما لم يتفرقا". فسماهما متبايعين، فدل على حصول البيع، وموجب البيع حصول الملك. والثاني: أن الخيار نوعان: خيار عقد، وخيار عيب. فلما لم يكن خيار العيب مانعاً من حصول الملك، لم يكن خيار العقد مانعاً من حصول الملك. والثالث: أن الأملاك تستفاد بأحد وجهين: بقول، وبفعل.

فلما كان ما يملك بالفعل كالاصطياد والاحتشاش، لا يكون مرور الزمان مؤثراً في تملكه، وجب أن يكون ما يملك بالقول كالبيع والهبة لا يكون مرور الزمان أيضاً مؤثراً في تملكه. وأما القول الثاني: وهو أن المشتري لا يملك المبيع إلا بالعقد وقطع الخيار، فوجهه شيئان: أحدهما: حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كل بيعين فلا بيع بينهما، حتى يتفرقا أو يقول أحدهما لصاحبه: اختر" فنفى البيع قبل الافتراق، فدل على أن الملك يحصل بالافتراق. والثاني: أن حصول الملك يقتضي ثبوت موجبه، وموجب الملك جواز التصرف، فلما كان المشتري ممنوعاً من التصرف، دل على أن الملك غير منتقل. وأما الثالث: وهو أن الملك موقوف مراعى، فوجهه شيء واحد: وهو أن العقد يثبت الملك، والخيار ينفي الملك وأمرها متردد بين أن يغلب حكم العقد في إثبات الملك بقطع الخيار عن تراض، وبين أن يغلب حكم الخيار في نفي الملك بالفسخ قبل تقضي الخيار، فصار كالقبض الذي يقتضيه العقد ويقف تصحيحه عليه، فإن أقبضه بان صحة العقد، وإن تلف بان فساد العقد، فكذا يجب أن يكون حال الخيار، فإن تقضى عن تراض، بان صحة العقد وانتقال الملك، وإن تقضى عن فسخ بان بطلان العقد، وأن الملك لم ينتقل به. فصل فإذا تقرر ما ذكرنا من توجيه الأقوال: فالجواب عن عتق المشتري في زمان الخيار، مبني عليه: وهو أنه لا يخلو حال البائع بعد عتق المشتري من أحد أمرين: إما أن يمضي البيع. أو يفسخه. فإن أمضى البائع البيع نفذ عتق المشتري على قولين من ثلاثة، وهو على القول الذي يزعم أن الملك قد انتقل إلى المشتري بنفس العقل، وعلى القول الذي يزعم أن الملك موقوف مراعى؛ لأن عتق المشتري صادف ملكاً تاماً. فأما على القول الثالث، وهو أن المشتري لا يملك، إلا بالعقد والتفرق، فعتق المشتري، باطل غير نافذ؛ لأنه قد تلفظ بالعتق قبل ملكه، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا عتق قبل ملك". ثم المشتري على هذا القول، بالخيار بين أن يستأنف عتقه، وبين أن يستديم رقه وإن فسخ البائع البيع، بطل عتق المشتري على قولين من ثلاثة: وهو إذا قيل: إنه لا يملك بالعقد والافتراق، أو أن الملك موقوف مراعى؛ لأنه تلفظ بعتق ما لا يملك. فأما على القول الثالث: وهو أن المشتري يملك بنفس العقد، فلا يخلو حال المشتري المعتق من أحد أمرين: إما أن يكون موسراً، أو معسراً: فإن كان المشتري معسراً، فعتقه باطل بوفاق أصحابنا كافة، لأن للبائع فسخ البيع؛ لحفظ الرقبة، وطلب الحظ، فلم يجز أن يبطل المشتري بعتقه ما يستحقه البائع بالفسخ.

وإن كان المشتري موسراً، فقد كان أبو العباس بن سريج يخرج نفوذ عتقه على وجهين من اختلاف قولي الشافعي في عتق الراهن لعبده المرهون. أحد الوجهين: أن عتقه باطل؛ لحجر البائع عليه. والثاني: أن عتقه جائز؛ لأن العتق لما سرى إلى غير الملك في حصة الشريك، كان وقوعه في الملك ورفعه لحجر البائع أولى. وكان أبو الطيب بن سلمة، وأبو إسحاق المروزي، وأبو علي بن أبي هريرة، ينكرون تخريج أبي العباس، ويبطلون العتق وجهاً واحداً، لأن المشتري وإن كان على هذا القول مالكاً، فخيار البائع يوقع عليه حجراً والمحجور عليه في ماله لا ينفذ عتقه كالسفيه. والفرق بين هذا وبينا الراهن حيث ينفذ عتقه في عبده المرهون على أحد القولين وإن كان عليه حجر للمرتهن، أن حق المرتهن متعلق بذمة الراهن، والرهن وثيقة فيه، فضعف حجره عليه، وليس كذلك البائع. فإن قيل: ببطلان عتق المشتري- وهو الصحيح- استرجع البائع عبده بالفسخ، ولم يلزم المشتري قيمة ولا ثمن، لبطلان العتق. وإن قيل: بنفوذ عتق المشتري فلا بد للبائع على العبد، لنفوذ عتقه، وصحة حريته. وعلى المشتري ضمانه للبائع، وفيما يضمنه به وجهان: أحدهما: أنه يضمنه بالثمن المسمى، ويصير عتق المشتري مبطلاً لفسخ البائع. الثاني: -وهو أصح- يضمنه بالقيمة؛ لأن بقاء الخيار، يثبت فسخ البائع، وفسخ البائع يوجب رفع العقد والثمن المسمى فيه، وإذا بطل العقد، صار المشتري مستهلكاً للعبد بغير عقد، فوجب أن يضمنه بقيمته كسائر المتلفات. فهذا حكم عتق المشتري. فصل فأما إذا فعل المشتري بالمبيع في وقت الخيار تصرفاً غير العتق، فعلى ثلاثة أضرب: أحدها: ما يكون حكمه حكم العتق على ما مضى من إمضاء البائع دون فسخه، وذلك: الوقف، والتدبير، والوصية. الثاني: ما كان مردوداً باطلاً على الأحوال كلها، سواء انفسخ البيع أو تم، وذلك: البيع، والإجارة، والرهن، والهبة. الثالث: ما اختلف أصحابنا فيه، وذلك: الكتابة، ففيها وجهان: أحدهما: كالضرب الأول، فتكون كالعتق؛ لأنه يفضي إليه. الثاني: أنه كالضرب الثاني، فيكون باطلاً؛ لأنه عقد معاوضة كالبيع. وجميع ما ذكرنا من تصرف المشتري في المبيع بعتق كان أو غيره إذا كان بغير أمر البائع. فأما إذا كان بأمر البائع وعن إذنه، فجميعه نافذ ماض، ويكون تصرف المشتري بذلك عن إذن البائع اختياراً منهما لإمضاء البيع وقطع الخيار. فإن قيل: أفيكون تصرف المشتري بما ذكرنا من العتق وغيره عن غير أمر البائع رضا منه لإمضاء البيع وقطع الخيار من جهته؟ قيل: لا يخلو حال تصرفه من أحد أمرين: إما أن يكون في خيار الثلاث. أو في خيار المجلس.

فإن كان تصرفه بما ذكرنا في خيار الثلاث، كان ذلك رضا منه لإمضاء البيع وقطع الخيار، ويكون خيار البائع باقياً؛ لأن خيار الثلاث لا يمتنع ثبوته لأحد المتبايعين دون الأخر، وكذا لو اختار إمضاء البيع بصريح القول، فقال: قد اخترت الإمضاء، انقطع خياره، ويكون خيار البائع باقياً له بحاله. وإن كان تصرفه بما ذكرنا في خيار المجلس، أو قال: قد اخترت إمضاء البيع: فإن قابله البائع بالإمضاء على الفور كان ذلك قطعاً لخيارهما: أما الأول: فبالتصرف الدال على الرضا من جهته، أو بصريح اختياره. وأما الثاني: فبمقابلته له على إجازة تصرفه. وإن لم يقابله البائع بالإمضاء على الفور، بل أمسك عن الرضا، ولم يصرح في تصرفه بالاختيار. فلا يخلو تصرف المشتري من أحد أمرين: إما أن يكون مما يلزمه حكمه في الحال كالعتق والوقف والتدبير، فيكون ذلك قطعاً لخياره ورضاً للإمضاء من جهته ويكون خيار البائع باقياً. وإنما بطل خيار المشتري؛ لأن بقاء خياره يمنع من لزوم حكم تصرفه، فلما كان حكم تصرفه لازماً له، أوجب سقوط خياره. وإن كان تصرفه مما لا يلزم حكمه في الحال كالبيع، والإجارة لافتقارهما إلى صريح الاختيار. فقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: وهو قول البغداديين: أنه يكون قطعاً لخياره، وإن كان خيار البائع باقياً، كما لو اختار قطع ذلك في خيار الثلاث. الثاني: وهو قول البصريين وهو الصحيح: أنه لا يكون ذلك قطعاً لخياره، وإنما كان كذلك، لأن من حكم خيار المجلس أن يثبت للمتبايعين معاً، ولا يثبت لأحدهما دون الأخر، فلما كان الخيار باقياً للبائع وإن حدث من تصرف المشتري وقوله ما حدث، اقتضى أن يكون الخيار باقياً للمشتري وإن حدث من تصرفه وقوله ما حدث؛ ليكونا سواء فيما أوجب العقد تساويهما فيه. وبهذا المعنى فارق خيار الثلاث حيث كان هذا التصرف من المشتري قاطعاً لخياره وإن بقي خيار البائع؛ لأن خيار الثلاث يجوز ثبوته لأحدهما دون الأخر. فهذا الكلام في عتق المشتري وتصرفه. فصل فأما عتق البائع للعبد المبيع في زمان الخيار، فنافذ على الأقاويل كلها، وليس للمشتري اعتراض وإن قيل: إنه قد ملك، والفرق بين عتق البائع- حيث نفذ على الأقاويل كلها- وبين عتق المشتري: أن عتق البائع، فسخ، وعتق المشتري، إمضاء. وفسخ البائع مقدم على إمضاء المشتري، فلذلك نفذ عتقه، وإن لم ينفذ عتق المشتري. وكذلك تصرف البائع بغير العتق ماض، ويكون فسخاً، كما لو آجر. أو رهن، أو وهب، أو وصى، أو وقف، أو دبر، كان جميعه ماضياً، وكان للعقد فاسخاً. وسواء كان البائع قد أقبض المبيع في زمان الخيار، أو لم يحصل القبض.

قال أبو العباس بن سريج: فلو كان البائع بعد أن تقابضا العبد المبيع، وهبه للمشتري في زمان الخيار، جازت الهبة، وافنسخ البيع، واحتاج المشتري إلى تجديد قبض الهبة؛ لأنه كان مقبوضاً في يده بالبيع لا بالهبة. فإن مات العبد قبل تجديد القبض، مات على ملك البائع الواهب، لأن الهبة لم تتم قبل القبض، وكان مضموناً على المشتري بالقيمة دون الثمن، لأنه مضمون عليه بالفسخ، والهبة لم تتم بالقبض، فلم يسقط الضمان. وفي المسألة قول ثان، لم يحكه أبو العباس: أن العبد إذا كان في قبض الموهوب له، لم يحتج إلى تجديد قبض، وإنما تصح الهبة بالعقد وأن يمضي بعده زمان القبض. فعلى هذا القول يكون العبد تالفاً من ملك المشترى، ولا ضمان عليه، لصحة الهبة. فصل إذا قال المشتري في خيار المجلس للعبد المبيع: إن تم العقد بيننا وانبرم فأنت حر. فهذا القول لا يمنعه من اختيار الفسخ، بخلاف ما مضى من تعجيل عتقه. ثم ينظر: فإن انفسخ البيع بفسخ البائع، أو بفسخ المشتري، رجع العبد إلى البائع، ولم يعتق، فإن تم البيع وصح، عتق على المشتري، إن قيل: إنه قد ملك بنفس العقد، أو قيل: إنه موقوف مراعى، لوجود الصفة، وتقدم القول في ملكه. وإن قيل: إنه لا يملك إلا بالعقد والافتراق، لم يعتق عليه العبد، وإن وجدت صفة عتقه بتمام البيع؛ لأنه علق قوله بالعتق في زمان لم يكن له ملك، فجرى مجرى قوله لعبد غيره: إن ملكتك فأنت حر، فملكه، لم يعتق عليه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا عتق قبل ملك". فلو كان المشتري قال: إن انفسخ البيع بيننا فأنت حر، لم يعتق عليه، وإن حصل الفسخ، لأنه بالفسخ قد صار في ملك غيره، وإن تم البيع فأحرى أن لا يعتق، لأن تمام البيع ليس صفة لعتقه. فلو كان البائع، قد قال في زمان الخيار للعبد المبيع: إن انفسخ البيع، فأنت حر، فانفسخ البيع إما بفسخه أو بفسخ المشتري، عتق على البائع على الأقاويل كلها، لأنه كان عند عقد الصفقة بعتقه ممن يصح منه تعجيل عتقه، وقد وجدت الصفة في ملكه. فلو كان البائع قال: إن تم البيع فأنت حر، فتم البيع، لم يعتق عليه، لوجود الصفة في غير ملكه. فصل إذا اشترى من يعتق عليه بالملك من والد أو ولد، جاز أن يشتريه مطلقاً من غير اشتراط خيار، فيثبت فيه خيار المجلس بالعقد ولا يثبت فيه خيار الثلاث لفقد الشرط، ويجوز أن يشتريه مقيداً بشرط خيار الثلاث، فيثبت فيه خيار المجلس بالعقد، وخيار الثلاث بالشرط، فإن أراد البائع فسخ البيع في مدة الخيار، فذلك له على الأقاويل كلها، سواء كان في مدة خيار المجلس أو خيار الثلاث. ويفارق استئناف المشتري عتق الأمة في مدة الخيار، حيث كان مانعاً من فسخ البائع في تخريج أبي العباس على أحد الأقاويل؛ لأن العتق إنما يقع في هذا الموضع حكماً

لموجب البيع ويثبت بالعقد الذي يجتمعان عليه، وعتق المشتري إذا انفرد به جرى مجرى الإتلاف. فأما إن أراد المشتري فسخ البيع في مدة الخيار: فإن كان الخيار لهما جميعاً، جاز للمشتري فسخ البيع على الأقاويل كلها، لما ذكرنا من التعليل، وهو أنه يعتق حكماً بالعقد الذي يجتمعان عليه. وإن كان الخيار للمشتري وحده، جاز أن يفسخ إذا قيل: إنه لا يملك إلا بالعقد والافتراق، أو إنه مراعى، لأنه يفسخ قبل تمام ملكه. فأما إذا قيل: إنه قد يملك بمجرد العقد، فعلى وجهين: أحدهما: له الفسخ، ولا يعتق عليه ما لم يمض زمان خياره؛ لأن خيار الفسخ من موجبات العقد، فلم يجز أن يثبت العقد مع انتفاء موجبه. الثاني: وهو الصحيح: ليس له أن يفسخ، وقد عتق عليه وسقط حكم خياره، لأن الخيار موضوع لطلب الحظ، وتوفير الربح فيما وقع عليه العقد، وهذا المعنى مفقود فيمن يعتق بالملك، فلم يكن لثبوت الخيار في ابتياعه وجه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ولو عجل المشتري فوطئها فأحبلها قبل التفرق في غفلة من البائع، واختار البائع فسخ البيع، كان على المشتري مهر مثلها، وقيمة ولده منها يوم تلده، ولحقه بالشبهة". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا وطئ المشتري الجارية المبيعة في مدة الخيار، فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون وطؤه فيما دون الفرج، فلا مهر فيه سواء تم البيع أو انفسخ. وهل يوجب ذلك تحريم المصاهرة أم لا؟ على قولين: والثاني: أن يطأ في الفرج، فهذا على ضربين: أحدهما: أن تحبل بوطئه. والثاني: أن لا تحبل. فإن لم تحبل بوطئه، فلا حد عليه فيه على الأقاويل كلها، لشبهة الملك. فأما المهر، فمعتبر بتمام البيع وفسخه: فإن تم البيع بينهما، فلا مهر عليه إن قيل: إنه قد ملك بنفس العقد، أو قيل: إنه مراعى، لأن وطأه: صادف ملكه. وإن قيل: إنه لا يملك إلا بالعقد والافتراق، ففي وجوب المهر عليه وجهان مبنيان على اختلاف الوجهين في خيار المجلس والشرط، هل يجري مجرى خيار العيب أو مجرى خيار البذل والقبول؟ أحدهما: أنه يجري مجرى خيار العيب فعلى هذا لا مهر عليه. والثاني: أنه يجري مجرى خيار البذل والقبول، فعلى هذا عليه المهر. وإن انفسخ البيع بينهما، فعليه المهر إن قيل: لا يملك إلا بالعقد والافتراق، أو قيل: إنه مراعى. فأما إن قيل: إنه قد ملك بنفس العقد، ففي وجوب المهر عليه وجهان على ما مضى.

فصل وإن أحبلها بوطئه، فالولد حر يلحق به: ويتعلق على ذلك ثلاثة أحكام: أحدها: في المهر، وهو على ما مضى سواء. والثاني: في قيمة الولد، وهو كالمهر. إن تم البيع بينهما، فلا قيمة للولد عليه، إن قيل: إنه قد ملك بنس العقد، أو قيل: إنه مراعى. وإن قيل: إنه لا يملك إلا بالعقد والافتراق، ففي وجوب قيمته وجهان: أحدهما: عليه القيمة، لأنها حملت به في غير ملكه. والثاني: لا قيمة عليه، لأنها تضعه في ملكه. وإن انفسخ البيع بينهما، فعليه قيمة الولد إن قيل: لا يملك إلا بالعقد والافتراق، أو قيل: إنه مراعى. وإن قيل: إنه قد ملك بنفس العقد، ففي وجوب قيمته وجهان: أحدهما: ليس عليه قيمته، لأنها علقت به في ملكه. والثاني: عليه قيمته؛ لأنها تضعه في غير ملكه. والثالث: في كونها أم ولد أم لا؟ وهو مبني على أصل نذكره، ثم نبني جواب المسألة عليه، وذلك أنه لا يخلو ولد الأمة من ثلاثة أضرب: أحدها: إن تعلق بمملوك، إما من زواج أو زنا، فلا تصير به أم ولد للواطئ في الحال ولا في ثاني حال. والثاني: إن تعلق بحر في ملك كالسيد يطأ أمته، فتعلق منه، فقد صارت به أم ولد في الحال. فلو كان قد تعلق برقبتها حق الغير فبيعت فيه كالمرتهن إذا بيعت في حقه، ثم ملكها من بعد، صارت أم ولد قولاً واحداً. والثالث: إن تعلق بحر في غير ملك كوطء الشبهة، فلا تصير به أم ولد في الحال. وهل تصير به أم ولد إذا ملكها في ثاني حال؟ على قولين: فإذا ثبت هذا الأصل، فلا يخلو حال العقد عليها من أحد أمرين: إما أن يتم بينهما، أو ينفسخ. فإن تم البيع بينهما، صارت أم ولد له، إذا قيل: إنه قد ملك بنفس العقد أو قيل: إنه مراعى؛ لأنها علقت منه بحر في ملك. فأما إن قيل: إنه يملك إلا بالعقد والافتراق، فهل تصير له أم ولد أم لا؟ على قولين، لأنها قد كانت علقت منه بحر في غير ملك. وإن انفسخ البيع بينهما، صح الفسخ وكان للبائع أن يتصرف فيها بعد الفسخ كيف شاء من بيع أو غيره؛ لأن تعلق حقه برقبتها مقدم على حرية ولدها، كحق المرتهن، إذا صارت الأمة المرهونة أم ولد للراهن. وإن ملكها المشتري فيما بعد، فإن قيل: إنه قد كان ملكها بنفس العقد، صارت له أم ولد، لأنها قد كانت علقت منه بحر في ملكه. وإن قيل: إنه لم يكن مالكاً إلا بالعقد والافتراق، أو قيل: إن الملك مراعى، فهل تكون أم ولد له أم لا؟ على قولين، لأنها قد كانت علقت منه بحر في غير ملك. فصل وأما قول الشافعي: ولو عجل المشتري، فوطئها، فأحبلها قبل التفرق.

فقد أنكر عليه قوم، وقالوا: إحبالها قبل التفرق مستحيل. وعنه جوابان: أحدهما: أنه على التقديم والتأخير، وتقدير الكلام: ولو عجل المشتري فوطئها قبل التفرق في غفلة من البائع في حبلها، وهذا مستقيم، فقدم لفظ الإحبال، وإن كان في المعنى مؤخراً. والثاني: أن الكلام على حاله لا تقديم فيه ولا تأخير، ومعناه مستقيم؛ لأن الإحبال يقع قبل التفرق؛ لأنه حادث عن الوطء، وإنما يتأخر ظهوره، وليس تأخر ظهوره بمانع من حصوله. وأما قوله: في غفلة من البائع: ففيه تأويلان: أحدهما: أنه شرط في بقاء الخيار للبائع، ولو رآه البائع يطأ كان رضاً منه لإمضاء البيع وقطعاً لخياره. وهذا قول أبي العباس بن سريج، لأن البائع يستحق بخياره منع المشتري من التصرف، فإذا رآه يتصرف، فأمسك عن منعه، كان راضياً به، فبطل خياره. والثاني: أنه قال ذلك لتحقيق صورة المسألة، إذ بعيد في العادة أن يطأ الناس بحضرة الناس، فأحب أن يصورها على ما يصح وجودها في العرف، ولا يكون ذلك شرطاً في خيار البائع، ولا تكون رؤية البائع. وعدم إنكاره قطعاً لخياره، لأن الرضا لا يكون مأخوذاً من فعل الغير والله أعلم. فصل فأما وطء المشتري، فهل يكون قاطعاً لخياره ورضاً منه لإمضاء البيع أم لا؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج: يكون قاطعاً لخياره كوطء البائع. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي: إن وطء المشتري لا يكون رضاً لإمضاء البيع، وإن كان وطء البائع رضاً للفسخ. والفرق بينهما: أن البيع لما لم يصح إلا بالقول، لم يصح إمساكه والرضا به إلا بالقول. ولما كان الملك قد يحصل بالفعل كالاصطياد والاحتشاش، جاز أن يكون الرد إلى الملك بالفعل يفسخ البيع فيصح بالفعل. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وإن وطئها البائع، فهي أمته والوطء اختيار لفسخ البيع". قال في الحاوي: وهذا صحيح، وإذا وطئ البائع الجارية المبيعة في مدة الخيار، كان فسخاً للبيع على الأقاويل كلها، لما ذكرنا: من أن الملك لما حصل بالفعل، جاز أن يكون الرد إليه يحصل بالفعل، وبهذا المعنى يقع الفرق بين فسخ البيع حيث كان بالوطء، وبين رجعة المطلقة، حيث لم يجز أن يكون بالوطء: لأن النكاح لما لم يصح إلا بالقول لم تصح الرجعة إليه إلا بالقول، والملك لما حصل بالفعل جاز أن يصح الرد إليه بالفعل. مسألة: قال المزني: وهذا عندي دليل على أنه إذا قال لامرأتين له: إحداكما طالق، فكان له الخيار، فإن وطئ إحداهما أشبه أن يكون قد اختارها، وقد طلقت الأخرى. كما جعل الوطء اختياراً لفسخ البيع".

قال في الحاوي: ولهذه المسألة حالتان: إحداهما: أن يقول لإحدى زوجتيه: إحداكما طالق أو لأمتيه: إحداكما حرة، ويعين وقوع الطلاق في إحدى زوجتيه والعتق في إحدى أمتيه: فإن كان كذلك لم يكن وطء إحداهما بياناً لوقوع الطلاق والعتق لغير الموطوءة، لأنه قد وقع معيناً باللفظ قبل الوطء. والثانية: أن يكون قد أبهم الطلاق في زوجتيه والعتق في أمتيه من غير أن يكون قد عينه في واحدة منهما، ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي: الوطء يكون اختياراً لإمساك الموطوءة وطلاق الأخرى إن كانت زوجته، وعتقها إن كانت أمة، كما ذكره المزني. والثاني: وهو قول أبي سعيد الإصطخري: إن الوطء لا يكون بياناً في الموضوع وإن كان بياناً في فسخ البيع. والفرق بينهما: أن الطلاق والعتق إزالة للملك، وإزالة الأملاك لا تقع إلا بالقول دون الفعل. وفسخ البيع استرجاع للملك، والأملاك قد تحصل بالقول والفعل والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "فإن مات أحدهما قبل أن يتفرقا فالخيار لوارثه". قال في الحاوي: ذكر الشافعي في هذا الموضع من كتاب البيوع أن خيار المجلس لا يبطل بالموت ويكون موروثاً. وقال في كتاب المكاتب: إن مات المكاتب وقد باع أو اشترى قبل أن يتفرقا، فقد وجب البيع. زاد أبو حامد في جامعه: ولم يكن للسيد الخيار. فظاهر قوله: فقد وجب البيع: يوجب قطع الخيار بالموت وأن لا يكون موروثاً لسيده، وقد صرح به أبو حامد في الزيادة التي ذكرها. واختلف أصحابنا في اختلاف نصه في هذين الموضعين على ثلاثة مذاهب: أحدها: وهو مذهب أبي إسحاق المروزي: أن المسألة على قولين في الموضعين: أحدهما: أن الموت يقطع خيار المجلس في بيع الحر والمكاتب، ولا ينتقل إلى وارث الحر ولا إلى سيد المكاتب، لأنه لما انقطع الخيار بمفارقة الأبدان، فأولى أن ينقطع بالموت المفرق بين الأرواح والأبدان. والثاني: أن الخيار لا ينقطع بالموت، وينتقل إلى وارث الحر وسيد المكاتب- وهو أصح القولين- لأن الخيار قد ثبت في المجلس بالعقد وفي الثلاث بالشرط، فلما لم ينقطع خيار الثلاث بالموت وكان موروثاً، وجب أن لا ينقطع خيار المجلس بالموت ويكون موروثاً. ولأنه لما لم ينقطع خيار المجلس بالتفرق على وجه الإكراه، كان أولى أن لا يبطل بالموت، لأنه أكثر إكراهاً. والمذهب الثاني من مذاهب أصحابنا: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة: أن المسألة على قول واحد في الموضعين، وأن الخيار لا ينقطع بالموت، لما ذكرنا، ويكون منتقلاً إلى وارث الحر وسيد المكاتب. وقوله في

المكاتب: فقد وجب البيع: قصد به الرد على من زعم أن المكاتب إذا مات في مدة الخيار بطل البيع، لأنه يموت عبداً. والمذهب الثالث: أن الجواب مختلف على اختلاف نصيه في الموضعين، فيكون الخيار متنقلاً عن الحر إلى وارثه، ولا ينقطع بموته. ولا ينتقل عن المكاتب إلى سيده، وينقطع بموته. والفرق بينهما: أن الحر ينتقل ماله إلى وارثه بالإرث وحدوث الموت، فقام في الخيار مقام مورثه، كما قام مقامه في غيره. وليس كذلك المكاتب، لأنه ينتقل ماله إلى سيده بالملك المتقدم، لا بالإرث، فلما بطل خيار المكاتب بالموت لم ينتقل إلى سيده بحق الملك، كالوكيل إذا مات في مدة الخيار لم ينتقل الخيار إلى موكله، لأنه ينتقل إليه بحق الملك لا بالإرث. فصل فإما إذا جن أحد المتبايعين في خيار المجلس، فالخيار ثابت لا ينقطع بما حدث من الجنون، لأن الحقوق لا تبطل بحدوثه، وسواء فارق المجنون المجلس أو قام فيه، لأن فعل المجنون لا حكم له، فلم ينقطع الخيار بفراقه. وينتقل الخيار عنه إلى وليه، كما ينتقل خيار الميت إلى وارثه. ويكون الخيار باقياً لولي المجنون ووارث الميت ما لم يعلما بالحال ولم يفارق العاقد الآخر المكان. فإذا علم ولي المجنون ووارث الميت، فلهما الخيار في مجلسهما الذي علما فيه ما لم يفارقاه. فإن فارقا المجلس الذي علما فيه، أو فارق العاقد الآخر المكان الذي عقد البيع فيه، فقد انقطع الخيار ولزم البيع. فصل فأما خيار الثلاث، فلا يختلف مذهب الشافعي أنه موروث لا يبطل بالموت. وقال أبو حنيفة: خيار الثلاث يبطل بالموت ولا يورث. استدلالاً بأنه خيار يمنع من انتقال الملك، فوجب أن يبطل بالموت كخيار القبول. قال: ولأن الخيار في المبيع ينفي موجب العقد من جواز التصرف فيه، كما أن الأجل في الثمن ينفي موجب العقد فمنع من جواز تصرف البائع فيه، ثم ثبت أن الأجل يبطل بالموت، فاقتضى أن يكون الخيار باطلاً بالموت. وتحريره قياساً: أنه معنى ينفي موجب العقد، فوجب أن يبطل بالموت كالأجل. قال: ولأن الخيار من حقوق العقد، لا من حقوق الملك، والورثة إنما يخلفون الميت في الملك لا في العقد، فوجب أن لا يكون لهم في الخيار حق. ألا ترى أن الموكل لا يثبت له ما ثبت لوكيله من خيار الشرط، لأنه من حقوق العقد. ويثبت له خيار العيب، لأنه من حقوق الملك. ولأن هذا الخيار مستحق بالشرط، فوجب أن يكون مقصوراً على من شرط له، والوارث لم يشترط له الخيار، فوجب أن لا يستحقه. ودليلنا: هو أنه خيار ثابت في بيع، فجاز أن يقوم الوارث فيه مقام مورثه كخيار العيب.

ولأنه معنى يسقط التكليف، فوجب أن لا يقطع الخيار المستحق كالجنون. ولأن كل خيار لا ينقطع بالجنون لا ينقطع بالموت كخيار العيب. ولأن الخيار من حقوق الملك لا من حقوق العقد، بدليل ثبوته بعد تقضي العقد، فوجب إذا انتقل الملك إلى الوارث أن ينتقل إليه بحقوقه كالرهن المشروط في حقه. وفي هذا الاستدلال انفصال. فأما الجواب عما ذكروه من قياسهم على خيار القبول: فهو أن المعنى في خيار القبول أنه لما بطل بالجنون، بطل بالموت، على أن من أصحابنا من يقول: لم يبطل بالموت، وإنما بطل بالتراخي ومن شروط صحته أن يكون على الفور، وهذا قول أبي القاسم الداركي. حتى قال: لو كان الموت عقيب البذل، فقال الوارث في الحال: قد قبلت، صح العقد، إذا لم يقع التراخي بين بذل البائع وقبول الوارث. وهذا قول يخالف الإجماع. والجواب الأول: هو الصحيح. وأما الجواب عن قياسهم على الأجل: فالمعنى فيه: أن الموت لما أتلف الذمة التي أثبت فيها الدين المؤجل، أبطل الأجل، لتلف محله، ولم يجز أن ينتقل الدين بأجله إلى ذمة الوارث، لأن صاحب الدين لم يرض بذمته. وليس كذلك الخيار، لأنه مستحق في المبيع الموجود بعد الموت، كوجوده قبل الموت، فجاز أن لا يبطل بالموت، ألا ترى أن موت من له الدين لما لم يكن متلفاً للذمة التي يثبت فيها الأجل لم يكن موته مبطلاً للأجل. وأما الجواب عن قولهم: لأنه مستحق بالشرط، فوجب أن يكون مقصوراً على من له الشرط: فهو أنه باطل بالصفة المشروطة في المبيع، وهو أن يبتاع عبداً على أنه صانع فيوجد غير صانع فللوارث الخيار في فسخ البيع، لعدم الصفة المستحقة بالشرط وإن كان الشرط لغيره، على أن الخيار حق عليه فلم يصح إعراضه في اختلاف مستحقيه كالدين. فصل فإذا ثبت أن خيار الثلاث موروث. فإن كان الوارث واحداً، كان بالخيار في مدة الخيار بين إمضاء البيع في المبيع كله أو فسخ جميعه. وإن كانوا جماعة: فإذا اتفقوا على إمساك المبيه كله أو رد جميعه، فذاك لهم. وإن أراد بعضهم الرد وبعضهم الإمساك؟ فمذهب الشافعي: أنه ليس لهم ذلك، وقيل لمن أراد الرد: لا حق لك في الرد إلا أن يرد الباقون معك، لأن الصفقة واحدة، فلم يجز تبعيضها على البائع. وفيه وجه آخر أنه يجوز لكل واحد من الورثة أن ينفرد برد حصته دون شركائه، لأنه يرد جميع ما استحقه بالعقد، فصار في حكم المشترين صفقة. هذا كله إذا كان الميت هو المشتري. أما إن كان الميت هو البائع، فلكل واحد من ورثته أن ينفرد، فيفسخ البيع في حصته، لا يختلف فيه المذهب بخلاف ورثة المشتري، وإنما كان كذلك، لأنه إذا فسخ بعض ورثة البائع في حصته، ثبت للمشتري خيار الفسخ في الباقي، لتبعيض الصفقة، فأمكنه دفع الضرر عن نفسه. وليس كذلك إذا مات المشتري فأمسك بعض ورثته ورد بعضهم، لأن البائع لا يثبت له بذلك خيار يمكنه أن يدفع به الضرر عن نفسه.

فصل إذا مات أحد المتعاقدين في مدة خيار الثلاث، فلم يعلم الوارث حتى مضت الثلاث، سقط الخيار ولزم البيع، لأن تحديد الخيار بالثلاث يمنع من ثبوته بعد الثلاث. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وإن كانت بهيمة فنتجت قبل التفرق ثم تفرقا، فولدها للمشتري، لأن العقد وقع وهو حمل". قال في الحاوي: وهذه المسألة مبنية على أصلين: أحدهما: ملك المبيع بماذا ينتقل إلى المشتري؟ وفيه ثلاثة أقاويل مضت. والثاني: في الحمل، هل يأخذ قسطاً من الثمن أو يكون تبعاً؟ على قولين: أحدهما: يكون تبعاً، ولا يأخذ من الثمن قسطاً كالسمن والأعضاء، لأنه لو أعتق الأم سرى العتق إلى حملها كسرايته إلى أعضائها التابعة لها. والثاني: يأخذ قسطاً من الثمن كاللبن، لأنه لو أعتق الحمل لم يسر العتق إلى أمه، ولو كان تبعاً لها كأعضائها لسرى عتقه إليها كما يسري عتق أعضائها إليها. فإذا ثبت هذان الأصلان: فصورة مسألة الكتاب في رجل ابتاع بهيمة حاملاً، فوضعت بعد العقد وقبل الافتراق. فإن قلنا: إنه يأخذ قسطاً من الثمن، صار العقد كأنه قد تناولهما معا. فإن تم البيع كان الولد للمشتري مع الأم. وإن انفسخ البيع كان الولد للبائع. وهذا على الأقاويل كلها- ويكون الولد مضموناً على البائع، حتى يسلمه، ومضموناً على المشتري إذا تسلمه. وإن قلنا: إن الحمل تبع: فلا يخلو حال البيع من أن يتم، أو ينفسخ: فإن تم البيع، فحكم الولد مبني على الأقاويل الثلاثة في انتقال الملك. فإن قلنا: إن الملك ينتقل بنفس العقد، أو قلنا: إنه مراع، فالولد للمشتري، لحدوثه في ملكه. وهل يكون مضموناً على البائع، حتى يسلمه؟ على وجهين مخرجين من اختلاف قوله في نماء الصداق. هل يكون مضموناً على الزوج أم لا؟ وإن قلنا: إن الملك لا ينتقل إلا بالعقد وقطع الخيار، ففي الولد وجهان مبنيان على اختلاف أصحابنا في خيار المجلس، هل يجري مجرى خيار العيب أو مجرى خيار القبول؟ على وجهين: أحدهما: أنه يكون للمشتري، وهذا إذا قيل: إنه يجري مجرى خيار العيب. فعلى هذا هل يكون مضموناً على البائع إذا كانت الولادة قبل التسليم؟ على وجهين: والثاني: أنه يكون للباع، وهذا إذا قيل: إنه يجري مجرى خيار القبول. فعلى هذا لو كانت الولادة بعد التسليم، لزم المشتري رده، ولم يكن مضموناً عليه إلا بالتعدي وجهاً واحداً، لأن المشتري يضمن المبيع في حق نفسه، فلم يلزمه ضمان النماء في حق غيره، ولما كان البائع يضمن المبيع في حق غيره، جاز أن يلزمه ضمان النماء في حق غيره.

فصل وإن انفسخ البيع بينهما. فإن قلنا: إن المشتري لا يملك إلا بالعقد وقطع الخيار، أو قلنا: إنه موقوف مراعى، فالولد للبائع، وهو أمانة في يد المشتري لا يضمنه إلا بالتعدي. وإن قلنا: إن المشتري قد ملك بنفس العقد فعلى وجهين: أحدهما: أن الولد للبائع إذا قيل: إن هذا الخيار مجرى خيار القبول، ويكون أمانة في يد المشتري. والثاني: الولد للمشتري إذا قيل: إن هذا الخيار يجري مجرى خيار العيب. وهل يكون على البائع ضمانه أم لا؟ على وجهين: وكذا الحكم في كل نماء حدث بعد العقد وقبل قطع الخيار من ثمرة، وكسب، كالولد سواء والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وكذلك كل خيار بشرط جائز في أصل العقد". قال في الحاوي: وهذا صحيح، ويريد به أن جميع ما تقدم من المسائل في عتق المشتري، وعتق البائع، ووطء المشتري، ووطء البائع، ونتاج البهيمة، إذا حدث في خيار الثلاث، فحكمها على ما مضى في خيار المجلس سواء. وانتقال الملك في خيار الثلاث كانتقاله في خيار المجلس على ثلاثة أقاويل. نحن نوضح معانيها بالتفريع عليها، فمن ذلك: أن يشتري أمة، فتحيض بعد العقد وقبل تقضي الخيار فإن قلنا: إن المشتري لا يملك إلا بالعقد وتقضي الخيار، لم تعتد بهذه الحيضة عن الاستبراء. وإن قلنا: إنه قد ملك بالعقد أو إنه موقوف مراعى، فعلى وجهين: أحدهما: تعتد بهذه الحيضة عن الاستبراء، لحدوثها في ملكه. والوجه الثاني: وهو ظاهر نصه في كتاب الاستبراء: أنه لا تعتد بهذه الحيضة عن الاستبراء، لأن الفرج في زمان الخيار محظور عليه، وينبغي أن يقع الاستبراء في زمان الإباحة. وكذا لو ولدت في زمان الخيار من زنا، كان وقوع الاستبراء به كالحيض سواء. فصل وإذا اشترى الرجل زوجته الأمة، ففي جواز وطئها في مدة الخيار وجهان: أحدهما: يجوز له وطؤها، لأنها لا تخلو من أن تكون أمته أو زوجته، وأيهما كانت، حل له وطؤها. والوجه الثاني: وهو ظاهر نص الشافعي: لا يجوز له وطؤها، قال الشافعي: لأنه لا يدري أيطأ بالملك أم بالزوجية؟ فإن تم البيع بينهما، بطل نكاحها، وصارت أمة

يجوز له وطؤها، وهل عليه أن يستبرئها قبل وطئه أم لا؟ على وجهين مبنيين على الوجهين، هل حرم عليه وطؤها بعد العقد وقبل مضي الخيار أم لا؟ فإن قيل: قد حرم عليه وطؤها، وجب عليه الاستبراء، لحدوث الملك. وإن قيل: لا يحرم عليه وطؤها، لم يجب عليه الاستبراء. وإن انفسخ البيع بينهما: فإن قيل: إنه لا يملك إلا بالعقد وتقضي الخيار، أو أنه موقوف مراعى، فالنكاح بحاله، وهما على الزوجية. وإن قيل: إنه قد ملك بنفس العقد، ففي فسخ النكاح وجهان: أحدهما: ينفسخ لوقوع ملكه. والثاني: وهو ظاهر مذهبه: أن النكاح بحاله لا ينفسخ، لأن ملكه وإن تم فهو ملك غير مستقر. فصل إذا اشترى الرجل زوجته الأمة، ثم طلقها ثلاثاً في مدة الخيار؟ فإن تم البيع بينهما، لم يقع الطلاق، إن قيل: إنه قد ملك بنفس العقد، أو هو موقوف، وإن قيل: لا يملك إلا بالعقد وتقضي الخيار، ففي وقوع الطلاق وجهان: أحدهما: لا يقع، لما ذكرنا، ويحل له وطؤها. والثاني: قد وقع، ولا يحل له وطؤها إلا بعد زوج. وإن انفسخ البيع بينهما، وقع الطلاق، إن قيل: إنه لا يملك إلا بالعقد وتقضي الخيار، أو هو موقوف مراعى. وإن قيل: إنه قد ملك بنفس العقد، ففي وقوع الطلاق وجهان والله أعلم. فصل وإذا اشترى زوجته الأمة، وكان قد طلقها قبل العقد فراجعها في مدة الخيار: فإن تم البيع، لم يكن للرجعة تأثير، لأن النكاح قد انفسخ. وإن انفسخ البيع بينهما، صحت الرجعة، إن قيل: إنه لا يملك إلا بالعقد وتقضي الخيار، أو هو موقوف مراعى. فإن قيل قد ملك بنفس العقد، ففى صحة الرجعة وجهان. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ولا بأس بنقد الثمن في بيع الخيار". قال في الحاوي: وهذا كما قال: يجوز للمشتري أن يدفع الثمن في مدة الخيار إلى البائع، وللبائع أن يدفع المبيع فيها إلى المشتري. وكره مالك دفع الثمن في مدة الخيار، ولم يكره دفع المبيع، لأن بالمشتري حاجة إلى تقليب المبيع ونظر عينيه. وهذا خطأ، لأن تسليم الثمن وقبض المبيع من موجب العقد، وما أوجبه العقد لم يمنع منه بعد العقد. وإذا صح جواز ذلك، وقبض المشتري المبيع، لم يكن ذلك قطعاً لخيار البائع، ولا يكون قبض البائع قطعاً لخيار المشتري. ويمنع البائع من التصرف في الثمن، والمشتري في التصرف في المبيع حتى تنقضي مدة الخيار، لأن الخيار يوقع حجراً في التصرف. فإن تم البيع، استقر وجاز التصرف. وإن انفسخ البيع، استرجع المشتري الثمن من البائع، واسترجع البائع المبيع من المشتري.

فلو قال المشتري: لست أرد المبيع إلا بعد استرجاع الثمن، وقال البائع: لست أرد الثمن إلا بعد استرجاع المبيع، لم يكن لواحد منهما حبس شيء مما بيده، ووجب لمن بدأ بالمطالبة أن يسترجع ما بيد صاحبه ثم يرد عليه ما بيده. والفرق بين هذا، حيث لم يكن لواحد منهما حبس ما بيده على استرجاع ما بيد صاحبه، وبين أن يتمانعا القبض مع صحة العقد، فيقول البائع: لا أسلم المبيع إلا بعد قبض الثمن، ويقول المشتري: لا أدفع الثمن إلا بعد قبض المبيع، فيكون لكل واحد منهما حبس ما بيده على قبض ما بيد صاحبه. إن فسخ البيع قد رفع حكم العقد، فكان التسليم لأجل اليد، لا بالعقد، واليد توجب الرد، وليس كذلك إذا تمانعا مع بقاء العقد، لأن التسليم مستحق بالعقد، والعقد وإن أوجب عليه تسليم ما بيده، فقد أوجب له قبض ما في مقابلته، فجاز أن يكون أحدهما محبوساً على قبض الأخر له كما في الموجبين. فصل فلو تلف المبيع في يد المشتري قبل رده على البائع، فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون تلفه قبل الفسخ. والثاني: أن يكون بعد الفسخ. فإن كان تلفه قبل الفسخ في مدة الخيار، فلا يخلو حال الخيار من أحد أمرين: إما أن يكون خيار المجلس، أو خيار الشرط. وإن كان خيار المجلس، فهو مضمون على المشتري بالقيمة دون الثمن على الأقاويل كلها، لا يختلف فيه المذهب، وسواء كان مما له مثل كالحنطة والشعير، أو مما لا مثل له كالثياب والعبيد، لأن ما له مثل، إنما يضمن بالمثل دون القيمة إذا لم يكن مضموناً على وجه المعاوضة كالغصب، فأما إذا كان مضموناً على وجه المعاوضة كالمقبوض للسوم أو بعقد بيع فاسد، أو مفسوخ، فإنه يضمن بالقيمة دون المثل. وإن كان خيار شرط نظر. فإن كان الخيار لهما أو للبائع وحده، فهو مضمون على المشتري بالقيمة دون الثمن، لا يختلف. وإن كان الخيار للمشتري وحده دون البائع، فإن قيل: لا يملك إلا بالعقد وتقضي الخيار، أو هو موقوف مراع، فهو ضامن له بالقيمة دون الثمن. وإن قيل: إنه قد ملك بنفس العقد، فعلى وجهين: أحدهما: - وهو ظاهر نصه في البيوع- أنه ضامن له بالقيمة دون الثمن، لأن البيع لم يتم. والثاني: -وقد أشار إليه في كتاب الصداق. أنه ضامن له بالثمن المسمى دون القيمة، لأن ثبوت الخيار له وحده يجري مجرى خيار العيب، وإذا تلف المبيع، وقد ثبت فيه خيار العيب كان مضموناً بالثمن دون القيمة، فكذلك في خيار الشرط. فأما إذا كان تلفه في يد المشتري بعد الفسخ، فلا يضمنه بالثمن، لا يختلف، لاستقرار الفسخ، وإنما يضمنه بالقيمة. فإن تلف قبل الطلب، كان المشتري ضامناً للقيمة سواء كان مما له مثل أم لا، لأنه مقبوض على وجه المعاوضة. وإن تلف بعد طلب البائع وبيع المشتري: فإن كان مما لا مثل له، ضمنه بالقيمة في أكثر الأمرين.

وإن كان مما له مثل، فعلى وجهين: أحدهما: يضمنه بالقيمة أيضاً؛ لأنه مقبوض على وجه المعاوضة. والثاني: يضمنه بالمثل، لأنه لما منع من الرد بعد الفسخ والطلب، صار غاصباً، وخرج عن أن يكون معاوضاً. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ولا يجوز شرط خيار أكثر من ثلاث ولولا الخبر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الخيار ثلاثة أيام في المصراة ولحبان بن منقذ فيما اشترى ثلاثاً لما جاز بعد التفرق ساعة ولا يكون للبائع الانتفاع بالثمن ولا للمشتري الانتفاع بالجارية فلما أجازه النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما وصفناه ثلاثاً اتبعناه ولم نجاوزه وذلك أن أمره يشبه أن يكون ثلاثاً حداً". قال في الحاوي: وهذا كما قال، خيار الشرط، لا يجوز أكثر من ثلاث، وبه قال أبو حنيفة. وقال أحمد وإسحاق: خيار الشرط يجوز مؤبداً من غير تحديد بمدة معلومة. وقال ابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد، وأبو ثور: يجوز مؤبداً إذا كان محدوداً بمدة معلومة. وقال مالك: يجوز من خيار الشرط في المبيعات على قدرها وبحسب ما تدعو إليه الحاجة في تعرف أحوالها، فما أمكن تعرف حاله في يوم، لم يجز أن يشترط فيه ثلاثاً، وما لم يمكن تعرف حاله إلا في شهر، جاز أن يشترط فيه شهراً واستدلوا على جواز اشتراط الخيار فوق ثلاث: بما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "المسلمون على شروطهم". ولأنه خيار معلوم، فوجب أن يثبت في البيع، أصله خيار الثلاث؛ ولأنه شرط ملحق بالبيع يجوز ثلاثاً فوجب أن يجوز أكثر من ثلاث كالأجل؛ ولأن الخيار ضربان: خيار مجلس، وخيار شرط. فلما جاز أن يمتد خيار المجلس فوق ثلاث، جاز أن يكون الشرط فوق ثلاث. ودليلنا: رواية أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بيع الغرر" فاجيز بالدلالة خيار الثلاث، وبقي ما سواه على حكم المنع. وروى الشافعي عن سفيان عن ابن إسحاق عن نافع عن ابن عمر: أن حبان بن منقذ كان شج في رأسه مأمومة، فثقل لساناً، وكان يخدع في البيع، فجعل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يبايع من شيء فهو بالخيار ثلاثاً، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "قل لا خلابة" قال ابن عمر رضي الله عنه سمعته يقول: "لا جذابة". قال الشافعي: وينبغي للمسلمين أن لا يخلبوا، والخلابة: الخديعة. وجعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في المصراة الخيار ثلاثاً: فكانت الدلالة في ذلك من وجهين:

أحدهما: أن حبان كان أحوج الناس إلى الزيادة في الخيار لمكانه من ضعف النظر وحاجته إلى استدراك الخديعة، فلما لم يزد بالشرط على الثلاث دل على أنها غاية الحد في العقد. والثاني: أنه حده بالثلاث، والحد يفيد المنع إما من المجاوزة أو من النقصان، فلما جاز النقصان من الثلاث، علم أنه حد للمنع من مجاوزة الثلاث. ولأن الخيار يمنع من التصرف وموجب العقد جواز التصرف، والشرط إذا كان منافياً لموجب العقد أبطله، كما لو باعه بشرط أن لا يتصرف فيه ببيع ولا غيره. وتحرير ذلك قياساً: أنه معنى يمنع مقصود العقد، فوجب أن يفسد به العقد مع استغنائه عنه، أصله إذا باعه بشرط أن لا يبيعه، ولا يدخل عليه خيار الثلاث لأنه لا يستغنى عنه. ولأن الخيار غرر والعقد يمنع من كثير الغرر ولا يمنع من قليله كعقد الرؤية لما كان غرراً جوز في توابع البيع ولم يجوز في جميعه، والثلاث في حد القلة، وما زاد عليها في حد الكثرة بدليل قوله تعالى في قصة ثمود {فَيَاخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود:64] ثم بين القريب فقال تعالى: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود:65] فثبت أن الثلاث في حد القلة، فجاز اشتراط الخيار بها في العقد لقلة غررها، ولم يجز فيما زاد عليها لكثرة غررها. فأما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المسلمون على شروطهم" فقد استثنى منه "إلا شرطاً أحل حراماً أو حرم حلالاً". وأما الجواب عن قياسهم على خيار الثلاث فالمعنى فيها قلة الغرر بها على أن الثلاث رخصة مستثناة من جملة محظورة، فلم يجز القياس عليها. وأما الجواب عن قياسهم على الأجل: فالمعنى فيه أن تأجيل الثمن لا يمنع مقصود العقد، لأن مقصوده طلب الفضل فيه بتوفير الثمن، وهذا موجود في زيادة الأجل، وليس كذلك الخيار، لأنه يمنع مقصود العقد من جواز التصرف في الثمن والمثمن. وأما الجواب عن استدلالاهم بخيار المجلس فالمعنى فيه أنه من موجبات العقد، فجازت فيه الجهالة، وخيار الثلاث من موجبات الشرط فلم تجز فيه الجهالة، كالقبض إذا كان مستحقاً بالعقد جاز أن يكون مجهول الوقت، وإذا كان مستحقاً بالشرط لم يجز أن يكون مجهول الوقت. فصل فإذا تقرر أن خيار ما زاد على الثلاث لا يصح. فمتى عقد البيع بشرط خيار يزيد على الثلاث أو خيار مجهول، كان البيع فاسداً، سواء أبطلا الزيادة على الثلاث في مدة الثلاث أم لا. وقال أبو حنيفة: إن اتفقا على إبطال ما زاد على الثلاث قبل تقضي الثلاث، صح البيع. وإن لم يبطلاه حتى مضت الثلاث، فد حينئذ البيع. استدلالاً بأن الشرط في مدة الخيار بعد العقد في حكم الشرط حال العقد، ألا ترى أنهما لو زادا في الثمن أو نقصا منه في مدة الخيار، أو زادا في الأجل أو نقصا منه، لزم ما اشترطاه من الزيادة والنقصان بعد العقد، كما يلزم لو شرطاه حال العقد، فلما ثبت أنهما لو شرطا حال

العقد إبطال ما زاد على الثلاث، صح العقد، وجب إذا اشترطا بعد العقد إبطال ما زاد على الثلاث أن يصح العقد. ودليلنا: نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الغرر والنهي يقتضي فساد المنهي عنه؛ ولأنه عقد فاسد، فوجب أن لا يلحقه الصحة قياساً. على بيع الدرهم بالدرهمين؛ ولأنه عقد شرط فيه خيار فاسد، فوجب أن يفسده، أصله: إذا لم يبطلاه حتى مضت الثلاث؛ ولأن كلما أبطل العقد إذا لم يتفقا على تصحيحه بعد العقد، أبطله وإن اتفقا على تصحيحه بعد العقد كالثمن المجهول. ولأنه شرط ينافي صحة العقد، فوجب أن يبطل به العقد كالأجل المجهول. ولأن الخيار في مقابلة جزء من الثمن، ألا ترى أن الثمن في العرف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، فإذا بطل خيار ما زاد على الثلاث، سقط من الثمن ما قابله، فصار باقي الثمن مجهولاً، والبيع يبطل بالثمن المجهول فكذلك بما أوجبه من الخيار الفاسد. فإن قيل: هذا الاستدلال يفسد بخيار الثلاث إذا شرطا إسقاطه بعد العقد، لأنه قد أسقط من الثمن ما قابله، فأفضى إلى جهالة في باقية ولم يفسد البيع: قيل: هذا لا يلزم، لأن الجهالة صارت في الثمن لمعنى حادث بعد العقد، فلم يقدح في صحة العقد، وهناك لمعنى قارن العقد، فقدح في صحة العقد، ألا ترى أنه إذا وجد بالمبيع عيباً فأخذ أرشه صار الثمن مجهولاً ولم يفسد العقد، لأنه لمعنى حادث بعد العقد، ولو قال: قد بعتكه بمائة درهم إلا أرش عيبه فسد العقد، لأنها جهالة بمعنى قارن العقد. فأما الجواب عن استدلاله بعد فساده بالأجل المجهول: فهو أن العقد إذا زيد في ثمنه أو نقص منه فقد كان وقع صحيحاً وفي هذا الموضع وقع فاسداً، فلم يصح بعد فساده. فصل فإذا ثبت أن خيار الثلاث جائز، فإن الزيادة على الثلاث فاسدة، والبيع معها فاسد. فلا بأس باشتراط الثلاث للبائع والمشتري، فلا يجوز للبائع التصرف فيما قبضه من الثمن، لثبوت الخيار للمشتري، ولا يجوز للمشتري التصرف فيما قبضه من المبيع، لثبوت الخيار للبائع. ويجوز أن يكون خيار الثلاث مشروطاً للبائع دون المشتري، فلا يتصرف المشتري في المبيع، لثبوت الخيار، ويجوز للبائع أن يتصرف في الثمن، لأنه لا خيار عليه للمشتري، ويكون تصرفه في الثمن اختياراً للإمضاء. ويجوز أن يكون خيار الثلاث مشروطاً للمشتري دون البائع، فلا يتصرف البائع في الثمن، لثبوت الخيار للمشتري، ويجوز للمشتري أن يتصرف في المبيع، لأنه لا خيار عليه للبائع وهل يكون تصرفه في المبيع اختياراً للامضاء؟. على وجهين ذكرناهما في وقته، وفرقنا بين تصرف البائع وتصرف المشتري بما مضى. فصل وإذا جاز اشتراط خيار الثلاث، جاز اشتراط خيار ما دون الثلاث، فيجوز أن

يشترطا خيار يوم، ويجوز أن يشترطا خيار يومين، ويجوز أن يشترط أحدهما خيار يوم والآخر خيار يومين، أو أحدهما خيار ثلاث والآخر خيار يوم. فلو تبايعا بغير خيار، فقبل افتراقهما شرطاً في العقد خيار يوم، ثبت لهما خيار اليوم، فلو افترقا ثم اجتمعا قبل تقضيه، فزادا في الخيار يوماً آخر، ثبت الخيار في اليوم الثاني، فإن اجتمعا في اليوم الثاني، فزاد فيه يوما ثالثاً، ثبت الخيار لهما فيه، فإن اجتمعا قبل تقضي الثالث، فزاد فيه يوماً رابعاً، بطل البيع، لأنهما لو شرطا ذلك في العقد، بطل، فكذلك إذا ألحقاه بالعقد في مدة الخيار يجب أن يبطل. فلو أنهما أسقطا اليوم الرابع، لم يصح العقد، لفساد باشتراطه. فصل وإذا تبايعا نهاراً وشرطا الخيار إلى الليل، ينقضي الخيار بغروب الشمس. ولو تبايعا ليلاً بشرط الخيار إلى طلوع الفجر، يقضي الخيار بطلوع الفجر، ولا تكون الغاية داخلة في شرط الخيار. وقال أبو حنيفة: تدخل الغاية في شرط الخيار، فإذا شرطا في بيع النهار الخيار إلى الليل، دخل الليل في الخيار. وإذا تبايعا ليلاً بشرط الخيار إلى النهار، دخل النهار في الخيار. ودليلنا: هو أن أهل اللغة مجمعون على أن "من" لابتداء الغاية و"إلى" لانتهاء الغاية، ألا ترى أنهم لو قالوا: سافرت من البصرة إلى الكوفة: دلوا بذلك على أن البصرة ابتداء سفرهم والكوفة غاية سفرهم، فاقتضى أن تكون الغاية خارجة من الحكم، لأنها حد، والحد لا يدخل في المحدود، فعلى هذا لو قال: له علي من درهم إلى عشرة كان مقراً بتسعة، لأن العاشر غاية. ولو قال لزوجته: أنت طالق من واحدة إلى ثلاث، طلقت طلقتين، لأنه جعل الثالثة غاية. فصل فإذا اجتمع في العقد خياران: خيار شرع، وخيار شرط. فخيار الشرع، مقدر باجتماع الأبدان، وخيار الشرط، مقدر بما شرطا من الزمان. فلو كان خيار الشرط ثلاثاً، فلأصحابنا في ابتدائها وجهان: أحدهما: وهو قول جمهور أصحابنا: أن ابتداءها من بعد انقطاع خيار المجلس، إما بالتفرق أو التخاير، ولا يدخل أحد الخيارين في الآخر، لأن خيار المجلس مستفاد بالشرع وخيار الثلاث مستفاد بالشرط، وإذا كان موجبهما مختلفاً، تميزا ولم يتداخلا. والثاني: وهو محكي عن أبي إسحاق المروزي: أن ابتداء خيار الثلاث من وقت العقد، ويكون خيار المجلس داخلاً فيه، لأنه لو اعتبر ابتداؤه من بعد خيار المجلس، لأفضى إلى الجهالة في ابتدائه وانتهائه بجهالة خيار المجلس، وإذا كان خيار الشرط مجهولاً، لم يجز، فاعتبر ابتداؤه من حين العقد فيكون معلوماً، فيجوز. فعلى هذا إن تفرقا قبل مضي الثلاث ثبت خيار الثلاث، ولم يكن لخيار المجلس تأثير، وإن لم يتفرقا حتى مضت الثلاث، ثبت خيار المجلس، ولم يكن لخيار الثلاث تأثير.

فصل فإذا كان زمان الخيار باقياً، فلكل واحد من المتعاقدين فسخ العقد من غير حضور صاحبه، وبه قال مالك واليه رجع أبو يوسف. وقال أبو حنيفة ومحمد: لا يجوز لواحد منهما فسخ البيع إلا بحضور صاحبه استدلالاً بأنه فسخ عقد، فلم يصح إلا بحضور من يجب عليه الرد كالإقالة. ولأن الفسخ يوجب انتقال الملك، كما أن العقد يوجب انتقال الملك، فلما كان العقد لا يصح إلا بهما، وجب أن يكون الفسخ لا يصح إلا بحضورهما. ودليلنا: ما روي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل لحبان الخيار ثلاثاً وقال: "قل: لا خلابة في الإسلام" ولم يشترط في خياره حضور صاحبه، فدل على استواء حكمه. ولأنه اختيار فسخ البيع في مدة خياره، فوجب أن ينفسخ، أصله إذا كان بحضور صاحبه. ولأنه معنى يقطع الخيار، فوجب إذا لم يكن من شرطه رضا المتعاقدين أن لا يفتقر إلى حضورهما. أصله إجازة البيع. ولأن كلما كان فسخاً بحضور المتعاقدين، كان فسخاً بغيبة أحدهما كوطء الباءع وقبلته للجارية المبيعة. ولأن كل من لم يفتقر رفع العقد إلى رضاه، لم يفتقر إلى حضوره، كالزوج في طلاق امرأته طرداً والإقالة عكساً. وفيه انفصال عن الاستدلالين: لأنه لما افتقر العقد والإقالة إلى رضاهما، افتقر إلى حضورهما، ولما لم يفتقر الفسخ إلى رضاهما، لم يفتقر إلى حضورهما. فصل إذا وكل رجل رجلاً في بيع شيء أو ابتياع شيء، فهل يجوز للرجل أن يشترط في عقد البيع خيار الثلاث من غير إذن الموكل أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا يجوز أن يتشرط خيار الثلاث إلا بإذن من الموكل صريح، لأن الخيار لا يتناوله العقد إلا بشرط، فلم تتضمنه الوكالة إلا بإذن كالأجل. والوجه الثاني: يجوز له اشتراط خيار الثلاث من غير إذن الموكل، لأن الخيار زيادة نظر وطلب حظ بخلاف الأجل. وإذا كان كذلك، وشرط الوكيل في عقد البيع خيار الثلاث، فهو ثابت للوكيل والموكل، أما الوكيل، فلأجل عقده، وأما الموكل، فلحق ملكه. وإذا كان الخيار لهما، فأيهما سبق صاحبه إلى قطع الخيار بفسخ أو إجازة، صح، لأن كل واحد منهما قائم مقام صاحبه، فإن سبق الوكيل إلى ذلك ولم يرض به الموكل لزمه، وكذا لو سبق الموكل من غير علم الوكيل صح. والله أعلم. فصل إذا باع سلعة على أن يكون خيار الثلاث فيها لزيد. قال الشافعي في كتاب الصرف: جاز، وكان الخيار لزيد، ولم يكن للبائع فيه خيار، ومنع منه في موضع أخر. فاختلف أصحابنا في هذا الشرط على ثلاثة مذاهب: أحدها: حمل الجواب على ظاهر نصه الأول، ويصح الشرط، ويكون الخيار لزيد المسمى دون البائع، لأن العقد يمنع اشتراط الخيار، ومستحق الخيار موقوف على قول من شرط الخيار.

باب الربا وما لا يجوز بغضه ببغض متفاضلا ولا مؤجلا والصرف

والثاني: أن هذا الشرط فاسد، ولا يجوز أن يستحق الخيار في البيع إلا من عقده أو عقد له، وليس زيد المسمى في استحقاق الخيار له عاقداً ولا معقوداً له، فلم يجز أن يثبت له في العقد خيار. والثالث: إن جعل الخيار لزيد على طريق التوكيل له في النظر عن البائع، صح، وثبت الخيار لزيد المسمى وللبائع معاً، وكان زيد وكيلاً للبائع، فأيهما اختار الفسخ أو الإمضاء لزم: الوكيل أو الموكل. فإن جعل له الخيار ملكا له دون البائع، أو أطلق الشرط، لم يجز وكان باطلاً. وتعليل هذا المذهب مشترك من تعليل المذهبين الأولين وهو أظهر المذاهب الثلاثة ولأنه لا يجوز أن يثبت الخيار لوكيله دونه. فإذا قيل: بصحة هذا الشرط على التفصيل المذكور، صح البيع وثبت فيه الشرط. فإذا قيل: بفساد هذا الشرط، فالصحيح أن البيع يفسد بفساده، ويكون العقد بهذا الشرط باطلاً لمنافاته. وفيه وجه آخر محكي عن أبي العباس بن سريج: أن الشرط فاسد والبيع صحيح. وفيما يتناوله الفساد من الشرط وجهان: أحدهما: جملة الخيار، فيصير البيع لازماً ولا خيار فيه. والثاني: أن الفساد إنما توجه إلى اشتراط الخيار لزيد المسمى، ويكون الخيار ثابتاً للبائع. والله أعلم. فصل فإذا قال: بعتك هذه السلعة على استئمار زيد: قال الشافعي في كتاب الصرف: لم يكن له الرد إلا أن يقول قد استأمرت زيداً فأذن لي في الرد. فاختلف أصحابنا في ذلك على وجهين: أحدهما: أن هذا الشرط لازم. والجواب فيه على ظاهره وليس له أن يرد إلا بعد استئمار زيد وإذنه لأجل شرطه. الثاني: وهو قول أبي إسحاق وكافة البصريين: أن هذا الشرط ليس بلازم، وله الرد في مدة الخيار، سواء استأمر زيداً أم لم يستأمره، لأن استحقاق الخيار يمنع من أن يكون ممنوعاً من الخيار. فمن قال بهذا لهم عن جواب الشافعي: لم يكن له الرد إلا بعد استئماره، تأويلان: أحدهما: يريد به ليس له إذا رد أن يقول: قد أذن لي في الرد، إلا بعد استئماره لئلا يكون كذاباً، فكان هذا النهي منه عن الكذب لا عن الرد. والثاني: أنه عنى الاحتياط إذا كان زيد أعرف، فيكون معنى قوله: لم يكن له الرد إلا بعد استئماره: أي لم يكن الحظ في الرد إلا بعد استئماره، وإن لم يكن ذلك مانعاً من استحقاق الرد والله أعلم بالصواب. باب الربا وما لا يجوز بغضه ببغض متفاضلاً ولا مؤجلاً والصرف سمعت المزني يقول: قال الشافعي: أخبرني عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي

[عن] أيوب عن محمد بن سيرين عن مسلم بن يسار ورجل آخر عن عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق ولا البر بالبر ولا الشعير بالشعير ولا المر بالمر ولا الملح بالملح إلا سواء بسواء عيناً بعين يداً بيد ولكن بيعوا الذهب بالورق والورق بالذهب والبر بالشعير والشعير بالبر والتمر بالملح والملح بالتمر يداً بيد كيف شئمم" قال: ونقص أحدهما التمر والملح وزاد الآخر فمن زاد أو استزاد فقد أربى. قال الشافعي: وهو موافق للأحاديث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصرف وبه قلنا". قال في الحاوي: الأصل في تحريم الربا بالكتاب والسنة ثم الإجماع. فأما الكتاب فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَاكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافاً مُضَاعَفَةً} [آل عمران:130]. معنى قوله: "أضعافاً" مضاعفاً، أي: أضعاف الحق الذي دفعتم، لأن أهل الجاهلية كان الواحد منهم إذا حل دينه قال لغريمه إما أن تعطى أو تربى، فإن أعطاه وإلا أضعف علمه الحق وأضعف له الأجل ثم يفعل كذلك إذا حل حتى يصير الحق أضعافاً مضاعفة، فحظر الله تعالى ذلك لما فيه من الفساد، ثم أكد الزجر عليه بقوله: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131)} [آل عمران:131]؛ فأخبر أن نار أكل الربا كنار الكافر. وقال سبحانه وتعالى: {الَّذِينَ يَاكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنْ الْمَسِّ} [البقرة:275]- يعنى لا يقومون يوم القيامة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخطبه الشيطان في الدنيا من المس. يعنى: الجنون. ثم قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} وهذه الآية نزلت في ثقيف وذلك أنهم كانوا أكثر العرب ربا فلما نزل تحريم الربا قالوا: كيف يحرم الربا وإنما البيع مثل الربا، فرد الله تعالى عليهم قولهم وأبطل جمعهم. ثم قال: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} يعنى القرآن {فَانتَهَى} {فَلَهُ مَا سَلَفَ} يعنى ما أكل من الربا. وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)} [البقرة:278] معنى ما لم يقبض من الربا إذا أسلموا عليه تركوه، وما قبضوه قبل الإسلام لم يلزمهم أن يردوه. ثم توعد على ذلك لتوكيد الزجر فقال: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَاذَنُوا بِحَرْبٍ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة:279]، بأن تمنعوا {رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} ثم قال تيسيراً على خلقه. {وَإِنْ كَانَ} - من قد أربيتموه- {ذُو عُسْرَةٍ} برأس المال {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة:280] يعنى إلى وقت اليسار. وهذه آخر آية نزلت من القرآن على ما روى سعيد بن المسب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: آخر ما نزل من القرآن آية الربا فإن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قبض قبل أن يفسرها فدعوا الربا والربيبة. وأما السنة فما روى عن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود عن أبيه قال: لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - آكل الربا ومؤكله وشاهده وكاتبه.

وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في خطبة الوداع: "ألا وإن كل ربا من ربا الجاهلية موضوع لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون. فأول ربا أضعه ربا عمي العباس، ألا وإن كل دم من دم الجاهلية موضوع وأول دم أضعه دم الحارث بن عبد المطلب". ثم قد اجمع المسلمون على تحريم الربا وإن اختلفوا في فروعه وكيفية تحريمه حتى قيل إن الله تعالى ما أحل الزنا ولا الربا في شريعة قط، وهو معنى قوله: {وَأَخْذِهِمْ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ} [النساء:161] يعني: في الكتب السالفة. فصل فإذا ثبت تحريم الربا بما ذكرنا من الكتاب والسنة والإجماع فقد اختلف أصحابنا فيما جاء به الكتاب من تحريم الربا على وجهين: أحدهما: أنه مجمل فسرته السنة. وإن ما جاءت به سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تفسير لما تضمنه مجمل كتاب الله عز وجل من الربا نقداً أو نساء. والثاني: أن تحريم الربا من كتاب الله تعالى إنما يتناول معهود الجاهلية من الربا في النساء وطلب الفضل بزيادة الأجل ثم وردت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بزيادة الربا في النقد فاقترنت بما تضمنه التنزيل، وإلى هذا كان يذهب أبو حامد المروزي. فصل فإذا تقرر أن الربا حرام فلا فرق في تحريمه بين دار الإسلام ودار الحرب. فكل عقد كان رباً حراماً بين مسلمين في دار الإسلام، كان رباً حراماً بين مسلم وحربي في دار الحرب سواء دخل المسلم إليها بأمان أو بغير أمان. وقال أبو حنيفة: لا يحرم الربا على المسلم من الحربي في دار الحرب سواء دخل بأمان أو بغير أمان. احتجاجاً بحديث مكحول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب، ولأن أموال أهل الحرب مباحة للمسلم بغير عقد فكان أولى أن يستبيحها بعقد. والدلالة على أن الربا في دار الحرب حرام كتحريمه في دار الإسلام، عموم ما ذكرنا من الكتاب والسنة. ثم من طريق المعنى والعبرة: أن كل ما كان حراماً في دار الإسلام كان حراماً في دار الشرك كسائر الفواحش والمعاصي ولأن كل عقد حرم بين المسلم والذمي، حرم بين المسلم والحربي كدار الإسلام، ولأنه عقد فاسد فوجب ألا يستباح به المعقود عليه كالنكاح. فأما احتجاجه بحديث مكحول فهو مرسل والمراسيل عندنا ليست حجة. فلو سلم لهم لكان قوله - صلى الله عليه وسلم - "لا رباً" يحتمل أن يكون نفياً لتحريم الربا ويحتمل أن يكون نفياً لجواز الربا فلم يكن لهم جملة على نفي التحريم إلا ولنا حمله على نفي الجواز ثم حملنا أولى لمعاضدة العموم له، وأما احتجاجه بأن أموالهم يجوز استباحتها بغير عقد

فكان أولى أن تستباح بعقد فلا نسلم إذا كانت المسألة مفروضة في دخوله إليهم بأمان لأن أموالهم لا تستباح بغير عقد فكذا لا يستبيحها بعقد فاسد. ولو فرضت المسألة مع ارتفاع الأمان لما صح الاستدلال من وجه آخر وهو أن الحربي إذا دخل دار الإسلام جاز استباحة ماله بغير عقد ولا يجوز استباحته بعقد فاسد. ثم نقول: ليس كل ما استبيح منهم بغير عقد جاز أن يستباح منهم بالعقد الفاسد. ألا ترى أن الفروج يجوز استباحتها منهم بالفيء من غير عقد ولا يجوز استباحتها بعقد فاسد، فكذا الأموال وإن جاز أن تستباح منهم بغير عقد لم يجز أن تستباح بالعقد الفاسد. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وبها تركنا قول من روى عن أسامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنما الربا في النسيئة" لأنه مجمل وكل ذلك مفسر فيحتمل أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الربا أفي صنفين مختلفين ذهب بورق أم تمر بحنطة؟ فقال: "الربا في النسيئة" فحفظه فأدى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يؤد المسألة". قال في الحاوي: وهذا صحيح. والربا ضربان: نقد، ونساء. وأما النساء: فهو بيع الدرهم بالدرهمين إلى أجل وهو المعهود من ربا الجاهلية والذي قد أجمع على تحريمه جميع الأمة. وأما النقد: فهو بيع الدرهم بالدرهمين يداً بيد، فمذهب جمهور الصحابة وكافة الفقهاء تحريم ذلك كالنساء، وذهب خمسة من الصحابة إلى إحلاله وإباحته وهم: عبد الله بن عباس، وعبد الله بن الزبير، وأسامة بن زيد، وزيد بن أرقم والبراء بن عازب تعلقاً بخبرين: أحدهما: ما استدل به ابن عباس أن أسامة بن زيد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنما الربا في النسيئة". فلما أثبت الربا في النسيئة دل على انتفاء الربا في النقد. والثاني: ما رواه عمرو بن دينار عن أبي المنهال قال: باع شريك لي دراهم بدراهم بالكوفة وبينهما فضل. فقلت: ما أراه يصلح هذا فقال: لقد بعتها في السوق فما عاب علي ذلك أحد، فأتيت البراء بن عازب فسألته فقال: قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة وتجارتنا كذا فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما كان يداً بيد فلا بأس به وما كان نسيئة فلا خير فيه. وأتيت زيد بن أرقم فإنه كان أعظم تجارة منا، فأتيته فسألته فقال لي مثل ذلك وهذا نص. والدلالة على تحريم ذلك أربعة أحاديث: أحدها: حديث عبادة بن الصامت المقدم ذكره في صدر الباب. وقوله: "إلا سواء بسواء يداً بيد". والثاني: حديث أبي المتوكل عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "الفضة بالفضة والذهب بالذهب سواء بسواء فمن زاد واستزاد فقد أربى. الآخذ [والمعطي سواء]

والثالث: حديث مالك بن عامر عن عثمان أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبيعوا الدينار بالدينارين ولا الدرهم بالدرهمين". والرابع: حديث سعيد بن يسار عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الدينار بالدينار والدرهم بالدرهم لا فضل بينهما". وأما حديث أسامة وقوله "إنما الربا في النسيئة" ففيه جوابان: أحدهما: وهو جواب الشافعي: أنه جواب من النبي - صلى الله عليه وسلم - لسائل سأله عن التفاضل في جنسين مختلفين فقال: إنما الربا في النسيئة فنقل أسامة جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأغفل سؤال السائل. والثاني: أنه محمول على الجنس الواحد يجوز التماثل فيه نقداً ولا يجوز نسيئة. على أن ابن عباس المستدل بحديث أسامة رجع عن مذهبه حين لقيه أبو سعيد الخدري وقال له: يا ابن عباس إلى متى تأكل الربا وتطعمه الناس وروى له حديثه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. فقال ابن عباس: يا أيها الناس إن هذا رباً كان مني وإني أستغفر الله وأتوب إليه. وأما حديث أبي المنهال عن البراء بن عازب وزيد بن أرقم فمنسوخ؛ لأنه مروي عن أول الهجرة وتحريم الربا متأخر. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ويحتمل قول عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - "الذهب بالورق رباً إلا هاء وهاء" يعطي بيد ويأخذ بأخرى فيكون الأخذ مع الإعطاء ويحتمل أن لا يتفرق المتبايعان من مكانهما حتى يتقابضا فلما قال ذلك عمر لمالك بن أوس لا تفارقه حتى تعطيه ورقة أو ترد إليه ذهبه وهو راوي الحديث دل على أن مخرج "هاء وهاء" تقابضهما قبل أن يتفرقا". قال في الحاوي: وهذا كما قال. كل شيئين ثبت فيهما الربا بعلة واحدة لم يصح دخول الأجل في العقد عليهما ولا الافتراق قبل تقابضهما. سواء كانا من جنس واحد كالبر بالبر أو من جنسين كالشعير بالبر حتى يتقابضا قبل الافتراق في الصرف وغيره. وقال أبو حنيفة في الذهب والورق كقولنا لا يصح فيهما العقد إلا بالقبض قبل الافتراق ولا يثبت فيهما الأجل ولا خيار الشرط. وأجاز فيما سوى الذهب والورق وخيار القبض وخيار الشرط وإن لم يدخل فيه الأجل. استدلالاً بأنه عقد لم يتضمن صرفاً فلم يكن التقابض فيه قبل الافتراق شرطاً كالثياب بالثياب. قال: ولأن القبض يراد لتعيين ما تضمنه العقد فلما كان الذهب والورق لا يتعين بالعقد

لزم فيه تعجيل القبض ليصير المعقود عليه معيناً، ولما كان ما سوى الذهب والورق من البر والشعير وغيرهما يتعين بالعقد لم يلزم فيه تعجيل القبض؛ لأن المعقود عليه قد صار معيناً. والدلالة عليه: حديث عبادة بن الصامت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر، ولا الشعير بالشعير، ولا التمر بالتمر، ولا الملح بالملح إلا سواء بسواء، عيناً بعين، يداً بيد، ولكن بيعوا الذهب بالورق، والورق بالذهب، والبر بالشعير، والشعير بالبر، والتمر بالملح، والملح بالتمر يداً بيد كيف شئتم". فشرط في بيع ذلك كله تعجيل القبض بقوله إلا يداً بيد. فإن قيل: فقوله يداً بيد نفياً لدخول الأجل فيه وأن يكون العقد عليه بالنقد وليس بشرط في تعجيل القبض. قيل: يبطل هذا التأويل بثلاثة أشياء. أحدهما: أنه جمع في الخبر بين الذهب والورق وبين البر والشعير فلما كان قوله "إلا يداً بيد" محمولاً في الذهب والورق على تعجيل القبض وجب أن يكون في البر والشعير مثله لأنها جملة معطوف عليها حكم. والثاني: أن نفي الأجل مستفاد من هذا الحديث بقوله إلا عيناً بعين، لأن المؤجل لا يكون عيناً إذ العين لا يدخل فيها الأجل وإنما يكون عيناً بعين، لأن المؤجل لا يكون عيناً إذ العين لا يدخل فيها الأجل وإنما يكون عيناً بدين. فوجب أن يكون قوله إلا يداً بيد محمولاً على غير نفي الأجل وهو تعجيل القبض ليكون الخبر مقيداً لحكمين متغايرين، واختلاف اللفظين محمولاً على اختلاف معنيين. والثالث: أن قوله إلا يداً بيد مستعمل في اللغة على تعجيل القبض لأجل أن القبض يكون باليد وليس بمستعمل في نفي الأجل إلا على وجه المجاز فكان حمل الكلمة على حقيقتها في اللغة أولى من حملها على المجاز. ومما يدل على أصل هذه المسألة ونفي هذا التأويل أيضاً: ما استدل به الشافعي من حديث عمر رواه مالك عن ابن شهاب عن مالك بن أوس عن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالذهب رباً إلا هاء وهاء، والورق بالورق رباً إلا هاء وهاء، والبر بالبر رباً إلا هاء وهاء، والشعير بالشعير رباً إلا هاء وهاء، والتمر بالتمر رباً إلا هاء وهاء. قال الشافعي فاحتمل قوله: "إلا هاء وهاء" معنيين: أحدهما: أن يعطي بيد ويأخذ بأخرى فيكون الأخذ مع الإعطاء، واحتمل ألا يتفرق المتبايعان عن مكانهما حتى يتقابضا، فلما روي أن مالك بن أوس بن الحدثان صارف طلحة بن عبيد الله بمائة دينار باعها عليه بدراهم فقال طلحة لمالك: حتى يأتي خازني من الغابة وعمر بن الخطاب رضي الله عنه يسمع فقال عمر لمالك: لا والله لا تفارقه حتى تأخذ منه ورقك أو يرد عليك ذهبك. قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: الذهب بالورق رباً إلا هاء وهاء. دل على أن المراد بهذا الحديث من المعنيين المحتملين التقابض قبل الافتراق لأمرين: أحدهما: أن راوي الحديث إذا فسره على أحد معنيين كان محمولاً عليه.

والثاني: أن في تكليف الناس الإعطاء بيد والأخذ بأخرى مشقة غالبة والشريعة موضوعة على التوسعة والسماحة فامتنع أن يكون هذا مراداً. ثم الدليل على ذلك من طريق المعنى: أنه عقد معاوضة يمنع من ثبوت الأجل فوجب أن يمنع من التفرق قبل القبض كالصرف ولأن كل ما كان شرطاً معتبراً في عقد الصرف كان شرطاً معتبراً فيما دخله الربا من غير الصرف كالأجل. وأما الجواب عن قياسهم على بيع الثياب بالثياب فمنتقض بالسلم حيث لزم فيه القبض ثم المعنى في بيع الثياب بالثياب عدم الربا فيها فجاز تأخير قبضهما وما ثبت الربا فيه لم يجز تأخير قبضه كالصرف. وأما الجواب عن استدلالهم بأن القبض إنما يراد لتعيين ما تضمنه العقد والبر والشعير مما يتعين بالعقد فلم يفتقر إلى القبض فهو أن هذا يفسد ببيع الحلي بالحلي يلزم فيه تعجيل القبض وإن كان متعيناً بالعقد. ثم لو سلم من هذا الكسر لكان عكس هذا الاعتبار أشبه بالأصول لأن السلم يتعين فيه الثمن ولا يتعين فيه المثمن، ثم يلزم فيه تعجيل القبض وإن كان متعيناً بالعقد. ثم لو سلم من هذا الكسر لكان عكس هذا الاعتبار أشبه بالأصول لأن السلم يتعين فيه الثمن ولا يتعين فيه المثمن، ثم يلزم فيه تعجيل قبض الثمن وإن كان معيناً ولا يلزم فيه تعجيل قبض الثمن وإن لم يكن معيناً فكان اعتبار هذا يوجب تعجيل القبض فيما كان معيناً، ولا يوجبه فيما ليس بمعين، ولما انعكس هذا الاعتبار عليه بطل أن يكون له دليل فيه. فصل فإذا ثبت أن القبض قبل الافتراق شرط في صحة العقود التي لا تدخلها الآجال ويلحقها الربا من صرف وغيره وأن حكم ما فيه الربا وإن لم يكن صرفاً كحكم ما فيه الربا إذا كان صرفاً فتصارف الرجلان مائة دينار بألف درهم وتقابضا الدراهم ولم يتقايضا الدنانير أو تقابضا الدنانير ولم يتقابضا الدراهم حتى تفارقا فلا صرف بينهما ولزم رد المقبوض منهما سواء علما فساد العقد بتأخير القبض أو جهلا. فلو لم يتفرقا ولكن خير أحدهما صاحبه فاختار الإمضاء القائم مقام الافتراق قبل أن يتقابضا كان هذا التخير باطلاً ولم يبطل العقد لأن اختيار الإمضاء إنما يكون بعد تقضي علق العقد، وبقاء القبض يمنع من نقض علقه فمنع من اختيار إمضائه، فإن تقابضا بعد ذلك وقبل الافتراق صح العقد واستقر وكانا بالخيار ما لم يتفرقا أو يتخايرا. فلو وكل أحدهما في القبض له والإقباض عنه، فإن قبض الوكيل وأقبض قبل افتراق موكله والعاقد الآخر صح العقد، وإن أقبض بعد افتراقهما لم يجز وكان العقد باطلاً لافتراق المتعاقدين قبل القبض، فلو تقابض المتصارفان ما تصارفا عليه في مداد قبل الافتراق جاز ولم يلزم دفع جميعه مرة واحدة وإنما يلزم قبض جميعه قبل الافتراق وسواء طالت مدة اجتماعهما أو قصرت. فلو اختلفا بعد الافتراق فقال أحدهما تفارقنا عن قبض وقال الأخر بخلافه كان القول قول من أنكر القبض ويكون الصرف باطلاً. فإن قيل أليس لو اختلفا بعد الافتراق في

الإمضاء والفسخ فقال أحدهما: افترقنا عن فسخ. وقال الآخر: عن إمضاء، كان القول في أحد الوجهين قول من ادعى الإمضاء والبيع لازم فهلا كان اختلافهما في القبض مثله. قيل الفرق بينهما أن مدعي الفسخ ينافي بدعواه مقتضى العقد أن مقتضاه اللزوم والصحة إلا أن يتفقا على الفسخ فكان الظاهر موافقاً لقول من ادعى الإمضاء دون الفسخ وليس كذلك من ادعى القبض لأن الأصل عدم القبض على أن أصح الوجهين هناك أن القول قول مدعي الفسخ إذا تصارفا مائة دينار بألف درهم فتقابضا من المائة خمسين ديناراً ثم افترقا وقد بقي خمسون ديناراً كان الصرف في الخمسين الباقية باطلاً. ومذهب الشافعي جوازه في الخمسين المقبوضة قولاً واحداً لسلامة العقد وحدوث الفساد فيما بعد: وكان أبو إسحاق المروزي يخرج الصرف في الخمسين المقبوضة على قولين من تفريق الصفقة. وليس هذا التخريج صحيحاً لأن القولين في العقد الواحد إذا جمع جائزاً وغير جائز في حال العقد. وإذا صح الصرف في الخمسين المقبوضة فالمذهب أنها لازمة بنصف الثمن وهو خمسمائة درهم وليس للبائع ولا للمشتري خيار في الفسخ لأجل تفريق الصفقة، لأن افتراقهما عن قبض البعض رضا منهما بإمضاء الصرف فيه وفسخه في باقيه. وكان بعض أصحابنا يخرج قولاً ثانياً أنها مقبوضة بجميع الثمن. وكلا التخريجين فاسدا والتعليل في فسادهما واحد. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "والربا من وجهين. أحدهما في النقد بالزيادة وفي الوزن والكيل والآخر يكون في الدين بزيادة الأجل". قال في الحاوي: لأصحابنا في هذا الكلام تأويلان. أحدهما: أنه أراد الرد على من أثبت الربا في النساء وأباه في النقد وقال: والربا من وجهين: أحدهما: النساء المتفق عليه. وهو بيع الدرهم بالدرهمين إلى أجل. والثاني: ما كان مختلفاً فيه وهو بيع الدرهم بالدرهمين نقداً فجعل كلا الوجهين ربا وقد مضى الكلام فيه مع من استدل بحديث أسامة فهذا أحد التأويلين. والتأويل الثاني: أنه أراد أن الجنس الواحد قد يدخله الربا من وجهين: أحدهما: التفاضل سواء كان نقداً أو نساء فلا يجوز بيع درهم بدرهمين عاجلاً ولا آجلاً. والثاني: الآجل سواء كان متفاضلاً أو متماثلاً فلا يجوز بيع الفضة بالفضة نساء متفاضلاً ولا متماثلاً. فأما الجنسان المختلفان فلا يدخلهما الربا إلا من وجه واحد وهو الأجل. فأما التفاضل أو التماثل فيجوز فيهما: فإذا باع الفضة بالذهب أو البر بالشعير نقداً جاز سواء كان متفاضلاً أومتماثلاً وإن باعه إلى أجل لم يجز. سواء كان متماثلاً أو متفاضلاً. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وإنما حرمنا غير ما سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المأكول المكيل والموزون لأنه في معنى ما سمى". قال في الحاوي: أما المنصوص عليه في الربا فستة أشياء وردت السنة بها وأجمع

المسلمون عليها وهي: الذهب والفضة، والبر، والشعير، والتمر، والملح. واختلف الناس في ثبوت الربا فيما عداها. فحكي عن طاوس، وقتادة، ومسروق، والشعبي وعثمان البتي، وداود بن علي الظاهري. ونفاة القياس بأسرهم انه لا ربا فيما عدا الستة المنصوص عليها فلا يجوز التخطي عنها إلى ما سواها تمسكاً بالنص، ونفياً للقياس، واطراحاً للمعاني. وذهب جمهور الفقهاء ومثبتو القياس إلى ان الربا يتجاوز المنصوص عليه إلى ما كان في معناه. وهذه المسألة فرع على إثبات القياس والكلام فيها يلزم من وجهيىن: أحدهما: من جهة إثبات القياس، فإذا ثبت كونه حجة ثبت أن الربا يتجاوز ما ورد عليه النص من الأشياء الستة وهذا يأتي في موضعه من كتاب أدب القاصي إن شاء الله تعالى. والثاني: من طريق الاستدلال الظاهر والدليل عليه من هذا الطريق ثلاثة أشياء: -أحدهما: قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة:275]. والربا اسم للزيادة والفضل من طريق اللغة والشرع. أما اللغة فكقولهم قد ربا السويق إذا زاد، وقد أربى علي في الكلام إذا زاد في السب، وهذه ربوة من الارض إذا زادت على ما جاورها. وأما الشرع: فكقوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة:276]. أي يضاعفها ويزيد فيها وقوله: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} [الحج:5]. أي زادت ونمت. وإذا كان الربا ما ذكرنا اسماً للزيادة لغة وشرعاً دل عموم الاية على تحريم الفضل والزيادة إلا ما خص بدليل. والدلالة الثانية: ما روي عى النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل. والطعام اسم لكل مطعوم من بر وغيره في اللغة والشرع. أما اللغة فكقولهم طعمت الشيء أطعمه وأطعمت فلاناً كذا إذا كان الشيء مطعوماً وإن لم يكن براً. وإما الشرع فلقوله تعالى {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [آل عمران:93] يعني كل مطعوم فأطلق عليه اسم الطعام. وقوله: {فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة:249] فسمى الماء مطعوماً لأنه مما يطعم. وقالت عاثشة: عشنا دهراً وما لنا طعام إلا الأسودان التمر والماء. وإذا كان اسم الطعام بما وصفنا من شواهد اللغة والشرع يتناول كل مطعوم من بر وغيره. كان نهيه عن بيع الطعام بالطعام محمولاً على عمومه في كل مطعوم إلا ما خص بدليل. فإن قيل فهذا وإن كان عاماً فمخصوص ببيان النبي - صلى الله عليه وسلم - الربا في الأجناس الستة. قيل: بيان بعض ما يتناوله العموم لا يكون تخصيصاً لأنه لا ينافيه، وإن شذ بعض أصحابنا فجعله تخصيصاً. والدلالة الثالثة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على البر وهو أعلى المطعومات، وعلى الملح وهو أدنى المطعومات فكان ذلك منه تنبيهاً على أن ما بينهما لاحق بأحدهما. لأنه ينص تارة على الأعلى لينبه به على الأدنى كما قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ

تَامَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران:75] فنبه به على الأدنى. وينص تارة على الأعلى فإذا ورد النص على الأعلى والأدنى كان أوكد تنبيهاً على ما بينهما وأقوى شاهداً في لحوقه بأحدهما. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ولم يجز أن نقيس الوزن على الوزن من الذهب والورق لأنهما غير مأكولين ومباينان لما سواهما وهكذا قال ابن المسيب لا رباً إلا في ذهب أو ورق أو ما يكال أو يوزن يما يؤكل ويشرب. قال: وهذا صحيح ولو قسمنا عليهما الوزن لزمنا أن لا نسلم ديناراً في موزون من طعام كما لا يجوز أن نسلم ديناراً في موزون من ورق ولا أعلم بين المسلمين اختلافاً أن الدينار والدرهم يسلمان في كل شيء ولا يسلم أحدهما في الآخر غير أن من الناس من كره أن يسلم دينار أو درهم في فلوس وهو عندنا جائز لأنه لا زكاة فيها ولا في تبرها وإنها ليست بثمن للأشياء المتلفة وإنما أنظر في التبر إلى أصله والنحاس مما لا رباً فيه وقد أجاز عدد منهم إبراهيم النخعي السلف في الفلوس وكيف يكون مضروب الذهب دنانير ومضروب الورق دراهم في معنى الذهب والورق غير مضروبين ولا يكون مضروب النحاس فلوساً في معنى النحاس غير مضروب". قال في الحاوي: إذا ثبت أن الربا يتجاوز المنصوص عليه لمعنى فيه، وعلته مستنبطة منه. فالعلة في الذهب والفضة غير العلة في البر والشعير والتمر والملح. فأما العلة في البر والشعير فقد اختلف أصحاب المعاني فيها على مذاهب شتى. أحدهما: مذهب محمد بن سيرين أن علة الربا الجنس فأجرى الربا في جميع الأجناس ومنع التفاضل فيه حتى التراب بالتراب. والمذهب الثاني: وهو مذهب الحسن البصري أن علة الربا المنفعة في الجنس فيجوز بيع ثوب قيمته دينار بثوبين قيمتهما دينار ومنع من بيع ثوب قيمته دينار بثوب قيمته ديناران. والثالث: وهو مذهب سعيد بن جبير أن علة الربا تقارب المنافع في الأجناس فمنع من التفاضل في الحنطة بالشعير لتقارب منافعهما، ومن التفاضل في الباقلاء بالحمص وفي الدخن بالذرة لأن المنفعة فيهما متقاربة. والرابع: وهو مذهب ربيعة أن علة الربا جنس يجب فيه الزكاة فأثبت الربا في كل جنس وجبت فيه الزكاة من المواشي والزروع ونفاه عما لا تجب فيه الزكاة. والخامس: وهو مذهب مالك أنه مقتات مدخر جنس فأثيبت الربا فيما كان قوتاً مدخراً ونفاه عما لم يكن مقتاتاً كالفواكه وعما كان مقتاتاً ولم يكن مدخراً كاللحم. والسادس: وهو مذهب أبي حنيفة رحمه الله أن علة الربا في البر أنه مكيل جنس فأثبت الربا في كل ما كان مكيلاً وإن لم يكن مأكولاً كالجص، والنورة، ونفاه عما كان غير مكيل ولا موزون وإن كان مأكولاً كالرمان والسفرجل. والسابع: وهو مذهب سعيد بن المسيب وبه قال الشافعي في القديم أنه مأكول مكيل

أو موزون جنس. ومن أصحابنا من عبر عن هذه العلة بأحصر من هذه العبارة فقال: مطعوم مقدر جنس. فعلى هذا القول ثبت الربا فيما كان مأكولاً أو مشروباً مكيلاً أو موزوناً وينتفي عما كان غير مكيل ولا موزون وإن كان مأكولاً أو مشروباً مكيلاً أو موزوناً وعما كان غير مأكول ولا مشروب وإن كان مكيلاً أو موزوناً. والثامن: وهو مذهب الشافعي في الجديد أن علة الربا أنه مأكول جنس ومن أصحابنا من قال مطعوم جنس وهذه العبارة أعم وهو قول من أثبت في الماء الربا فهذا جملة المذاهب المشهورة في علة الربا. وسنذكر حجة كل مذهب منها وندل على فساده. فصل أما المذهب الأول وهو قول محمد بن سيرين أن علة الربا الجنس فاحتج له بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر أجناساً منع من التفاضل فيها ثم قال: "فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يداً بيد". فشرط في جواز التفاضل اختلاف الجنس فثبت أن علة الربا الجنس فلا يجوز أن يباع شيء بجنسه متفاضلاً أبداً. والدليل على فساد هذا القول ما روى عبد الله بن عمرو أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جهز جيشاً فنفدت إبله فأمرني أن اشتري بعيراً ببعيرين إلى إبل الصدقة" فلما ابتاع - صلى الله عليه وسلم - بعيراً ببعيرين بطل أن يكون الجنس علة لوجود التفاضل فيه وأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - به. وقد فعلت الصحابة مثل فعله وروي عن علي رضي الله عنه أنه باع جملاً له بعشرين جملاً إلى أجل. وعن ابن عمر أنه باع راحلة له بأربعة رواحل إلى أجل ولم يظهر لهما مخالف فكان إجماعاً. فأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم. فعطف على ما قدم ذكره من الأجناس الستة التي أثبت فيها الربا بالنص فجوز فيها التفاضل مع اختلاف الجنس فلم يدل ذلك على تحريم التفاضل مع اتفاق الجنس في غير ما ورد فيه النص. فصل وأما المذهب الثاني وهو قول الحسن البصري أن علة الربا المنفعة في الجنس فاحتج له بأن ثبوت الربا مقصود به تحريم التفاضل، وفضل القيمة يقع ظاهراً كفضل القدر فلما ثبت أن الربا يمنع من التفاضل في القدر وجب أن يمنع التفاضل في القيمة. والدليل على فساد هذا القول مع ما قدمناه من ابتياع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيراً ببعيرين وفضل القيمة بينهما كفضل القدر، وأن مقصود البياعات طلب النفع والتماس الفضل فلم يجز أن يكون ما هو مقصود البياعات علة في تحريم البياعات. ولأن تحريم تفاضل القيمة في الجنس مع تساوي القدر يقتضي تحليل تساوي القيمة في الجنس مع تفاضل القدر وهذا محظور بالنص وفي هذا انفصال عما تعلق به من الاستدلال.

فصل وأما المذهب الثالث وهو قول سعيد بن جبير أن علة الربا تقارب المنافع في الأجناس، فاحتج له بأن الجنسين إذا تقاربا في المنفعة تقاربا في الحكم والمتقاربان في الحكم مشتركان فيه. والدليل على فساد هذا القول ورود النص بجواز التفاضل في البر بالشعير مع تقارب منافعهما وما دفعه النص كان مطرحاً. فصل فأما المذهب الرابع وهو قول ربيعة إن علة الربا جنس تجب فيه الزكاة فاحتج بأن الربا تحريم التفاضل حثاً على المواساة بالتماثل، وأموال المواساة ما ثبت فيها الزكاة فاقتضى أن تكون هي الأموال التي ثبت فيها الربا. والدليل على فساد هذا القول: ابتياع النبي - صلى الله عليه وسلم - بعيراً ببعيرين، والإبل جنس تجب فيه الزكاة، وأثبت الربا في الملح وهو جنس لا تجب فيه الزكاة فثبت بهذين فساد مذهبه. فصل فأما المذهب الخامس وهو قول مالك إن علة الربا أنه مقتات مدخر جنس، فاحتج له بأنه اعتلال يشابه الأصل بأوصاف وما كان أكثر شبهاً بالأصل كان أولى. والدليل على فساد هذا القول عدم هذه الأوصاف في الأصل لأن الملح ليس بقوت، وقد جاء النص بثبوت الربا فيه فبطل اعتبار القوت، والرطب فيه الربا وليى بمدخر وقد وافق أن فيه الربا. فإن قال إن الرطب يؤول إلى حال الادخار في ثاني حال قيل: فالرطب الذي لا يصير تمراً ليس يؤول إلى حال الادخار وفيه الربا على أن هذا لا يخرج الرطب من أن يكون غير مدخر في الحال وإن جاز أن يفضي إلى حالة الادخار كاللحم الذي ليس بمدخر في الحال وإن أمكن أن يدخر في ثاني حال فبطل اعتبار الادخار فصار كلا الوصفين باطلاً. فإن عدل عن هذا التعليل وعلل بما كان يعلل به المتقدمون من أصحابه أنه قوت أو ما يصلح به القوت قيل هذا القول أفسد من الأول. لأنه إن أراد اجتماع ذلك في الأربعة لم يصح لأن الملح ليس بقوت وليس التمر مما يصلح به القوت. وإن أراد أن القوت في الثلاثة علة وما يصلح القوت في الملح علة قيل: قد فرقت الأصل وعلته بعلتين مختلفتين وقد اتفقوا أنه معلل بعلة واحدة ولو جاز تعليل الأصل بعلتين لجاز إسلاف الملح في الثلاثة لاختلافهما في العلة كما يجوز إسلاف الذهب والفضة في الأربعة لاختلاف العلة، وقد جاءت السنة وانعقد الإجماع على خلاف هذا. ثم يقال له إن كنت تريد بقولك وما يصلح القوت جميع الأقوات فالتمر والزبيب قوتان ولا يصلحان بالملح، وإن أردت به بعض الأقوات فينبغي أن يثبت الربا في النار والحطب، لأنه يصلح به بعض الأقوات وهذا دليل على فساد ما ذكره من التعليل. والله أعلم. فصل وأما المذهب السادس وهو قول أبي حنيفة أنه مكيل جنس. فالاحتجاج له من طريقين:

أحدهما: إثبات الكيل علة. والثاني: إبطال أن يكون الطعم علة. فأما ما احتج به في إثبات أن الكيل علة فما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تبيعوا البر بالبر ولا الشعير بالشعير إلا مثلاً بمثل وكذلك ما يكال ويوزن" فنهى عن الكيل فاقتضى أن يكون علة الحكم. ولأن التساوي في بيع البر بالبر مباح والتفاضل فيه محظور وليس يعلم التساوي المباح من التفاضل المحظور إلا بالكيل فوجب أن يكون الكيل علته للحكم لأنه به يمتاز المباح من المحظور، ولأن الجنس صفة والكيل مقدار والتعليل بكونه مكيلاً جنساً يجمع حالتي البر صفة وقدراً وهما المقصود في الربا فثبت أنها علة الربا. فهذه ثلاث دلائل احتج بها أبو حنيفة وأصحابه في إثبات أن الكيل علة. فأما ما احتج به في إبطال أن يكون المطعوم علة فأمور منها: أن الطعم هي المطعومات مختلف، والكيل في المكيلات مؤتلف؛ لأن من الأشياء ما يؤكل إدماً، ومنه ما يؤكل إدماً، ومنه ما يؤكل تفكهاً، والكيل لا يختلف فكان أولى أن يكون علة من المطعوم الذي يختلف، ولأن المطعوم صفة آجلة لأن البر لا يطعم إلا بعد علاج وصنعة، والكيل صفة عاجلة لأنه يكال من غير علاج ولا صنعة، وإذا كان الحكم منه متعلقاً بإحدى الصفتين كان تعليقه بالصفة العاجلة أولى من تعليقه بالصفة الآجلة. ولأن علة الربا في البر هي ما منعت من التفاضل وأوجبت التساوي وقد يوجد زيادة الطعم ولا ربا ولا يوجد زيادة الكيل إلا مع حصول الربا وبيانه: لو باع صاعاً من طعام ثقيل له ربع بصاع من طعام خفيف ليس له ربع جاز وإن تفاضلا في الكيل فبطل أن يكون الطعم علة لوجود التفاضل فيه مع عدم الربا ووجود التساوي فيه مع حصول الربا، وثبت أن الكيل علة لأن التفاضل فيه مثبت للربا والتساوي فيه كاف للربا، فهذا أقوى ترجيحاتهم الثلاثة. فصل والدليل على فساد ما ذهب إليه من طريقين: أحدهما: إثبات أن المطعوم علة. والثانى: إبطال أن الكيل علة. فأما الدليل على أن المطعوم علة: فما روى بشير بن سعد عن معمر بن عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل. واسم الطعام يتناول كل مطعوم في اللغة والشرع بما بيناه من قبل فكان عموم هذا الخبر إشارة إلى أن علة الربا الطعم لأن الحكم إذا علق باسم مشتق من معنى كان ذلك المعنى علة لذلك الحكم كحد الزاني لأن اسمه مشتق من الزنا وقطع يد السارق لأن اسمه مشتق من السرقة. ولأن علة الشيء في ثبوت حكمه ما كان مقصوداً من أوصافه، ومقصود البر هو الأكل فاقتضى أن يكون علة الحكم. ولأن الأكل صفة لازمة لذات المعلول والكيل صفة زائدة عن المعلول والصفة اللازمة أولى أن تكون علة من الصفة الزائدة.

ولأن الأكل علة يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها، والكيل علة يوجد الحكم مع عدمها ويعدم الحكم مع وجودها، وهو أن الزرع إذا كان حشيشاً أو قصيلاً لا ربا فيه لعدم الأكل عندنا وعدم الكيل عندهم فإذا صار سنبلاً ثبت فيه الربا عندنا لأنه مأكول وثبت فيه الربا عندهم وهو غير مكيل. فإن قيل يصير مكيلاً. قيل: وكذلك إذا كان حشيشاً. فإذا صار السنبل خبزاً ثبت فيه الربا عندنا؛ لأنه مأكول وثبت فيه الربا عندهم وهو غير مكيل. فإن قيل يحصل فيه الربع لأنه موزون قيل: ما ثبت فيه الربا لا تختلف علته باختلاف أوصافه، فإذا صار الخبز رماداً فلا ربا فيه عندنا لأنه غير مأكول ولا ربا فيه عندهم وهو مكيل، فثبت أن علتنا يوجد الحكم بوجودها ويعدم بعدمها، وعلتهم يوجد الحكم مع عدمها في السنبل وبعدم الحكم مع وجودها في الرماد فثبت أن التعليل بالأكل أصح لهذه الدلائل الأربعة. وأما الدليل على إبطال الكيل أن يكون علة فمن خمسة أوجه: أحدهما: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نص على أربعة أجناس كلها مكيلة فلو كان ذلك تنبيهاً على الكيل لاكتفى بذكر أحدها. فإن قيل فهذا يرجع عليكم في الأكل لأن الأربعة كلها مأكولة ولو أراد الأكل لاكتفى بذكر أحدها قيل: ليس يلزمنا هذا؛ لأن الكيل في الأربعة لا يختلف والأكل فيها مختلف فالبر يؤكل في حال الاختيار والشعير يؤكل في حال الاضطرار، والتمر يؤكل حلواً والملح استطابه فلم يقتنع بذكر إحدى المأكولات لتفرده بإحدى الصفات. والثاني: أن الكيل قد يختلف في المكيلان على اختلاف البلدان وتقلب الأزمان فالتمر يكال بالحجاز ويوزن بالبصرة والعراق، والبر يكال تارة في زمان ويوزن أخوى، والفواكه قد تعد في زمان وتوزن في زمان، فلم يجز أن يكون الكيل علة لأنها تقتضي أن يكون الجنس الواحد فيه الربا في بعض البلدان ولا ربا فيه في بعضها، وفي بعض الأزمان ولا ربا في غيرها، وعلة الحكم يجب أن تكون لازمة في البلدان وسائر الأزمان وهذا موجود في الأكل. والثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل الكيل علماً على الإباحة لنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع البر بالبر إلا كيلاً بكيل فلم يجز أن يجعل الكيل علماً على الحظر. ألا تراه لما جعل القبض قبل الافتراق علماً على الإباحة لم يجز أن يجعل علة في الحظر. وتحريره قياساً أن ما سلم به من تحريم الربا لم يجز أن يكون علة للربا كالقبض قبل الافتراق. فإن قيل: علة الحظر هي زيادة الكيل قيل: هذا قول بعض المتأخرين من أصحاب أبي حنيفة على أنه لما لم يجز أن يكون الكيل علة في الحظر لأنه علم على الإباحة، لم يجز أن يكون الكيل صفة في الحظر، لأنه علم على الإباحة أيضاً. والرابع: أن الكيل موضوع لمعرفة مقادير الأشياء فلم يجز أن تكون علة الربا كالزرع والعدد. والخامس: أن من جعل الكيل علة أخرج من المنصوص عليه ما لا يمكن كيله لقلته، فجوز بيع تمرة بتمرتين وكف طعام بكفين. وكل علة أوجبت النقصان من حكم النص لم يجز استعمالها فيما عداه لأمرين: أحدهما: أن المعنى معقول الاسم فلم يجز أن يكون ما عقل عن الاسم رافعاً لموجب الاسم.

والثانى: أن استعمالها فيما عدا المذكور يوجب زيادة حكم، ومحال أن تكون علة واحدة توجب نقصان الحكم من المذكور والزيادة عليه لتضاد الموجبين. لأن أحدهما إسقاط حكم ونفيه، والآخر إيجاب حكم وإثباته. فإن قيل ما لا يمكن كيله غير مراد بالنص لأنه - صلى الله عليه وسلم - قال: لا تبيعوا البر بالبر إلا كيلاً بكيل. فلما كان الاستثناء مكيلاً وجب أن يكون المستثنى منه مكيلاً لأن حكم المستثنى منه يجب أن يكون كحكم الاستثناء، فصار تقدير ذلك، لا تبيعوا البر المكيل بالبر المكيل إلا كيلاً بكيل، فعلم أن ما ليس بمكيل ولا يمكن كيله غير مراد بالنص. فالجواب عنه من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الاستثناء يجب أن يكون بعض المستثنى منه ولا يكون كل المستثنى منه. ألا ترى أنه لو قال: جاءني الناس إلا بني تميم لم يقتض أن يكون كل الناس بني تميم فكذا إذا كان الاستثناء كيلاً لم يجز أن يكون كل المستثنى منه مكيلاً. والثاني: أن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبيعوا البر بالبر" عام في الحظر، وقوله إلا كيلاً بكيل خاص في الإباحة، وعلة الربا مستنبطة من الحظر لا من الإباحة، فاقتضى أن يكون ما أوجبته من حكم الحظر عاماً في القليل والكثير. والثالث: أن قليل التمر والبر موصوف بأنه مكيل؛ لأن له حظاً في المكيال ألا ترى أنه لو احتاج وفاء المكيال إلى تمرة فتم بها تم الكيل وحل البيع. فلولا أن التمرة مكيلة ما تم المكيال بها وهم أولى الناس بهذا القول. لأنهم يقولون إن القدح العاشر بانفراده هو المسكر. فكذلك التمرة الواحدة بانفرادها هي التي تم المكيال بها. فإن قيل فيختص عموم الظاهر بالقياس فنقول: لأنه مما لا يكال ولا يوزن فوجب ألا يثبت فيه الربا كالثياب. قلنا: نحن نعارضكم بقياس مثله فنقول. ما ثبت الربا في كثيره ثبت في قليله كالذهب والورق. ثم نقول: قياسكم لا يجوز أن يخص به الظاهر لأن أصله مستنبط منه والظاهر لا يجوز أن يكون مخصوصاً بعلة مستنبطة منه. فصل فأما الجواب عن استدلالهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبيعوا البر بالبر إلا سواء بسواء" وكذلك ما يكال ويوزن فهو أنها زيادة مجهولة لم ترد من طريق صحيح، وعلى أنها زيادة متأولة إذا كان ما يكال ويوزن مأكولاً أومشروباً بدليل نهيه عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل. وأما الجواب عن استدلالهم بأن ما أبيح من التساوي لا يعلم إلا بالكيل فوجب أن يكون الكيل علة الحكم. فهو أن الكيل علم الإباحة وعلة الربا مستنبطة من الحظر فلم يجز أن يكون الكيل علة الحكم. وأما الجواب عن استدلالهم بأن تعليلهم بكونه مكيلاً جنساً يجمع حالتي البر صفة وقدراً فهو إن جاز أن يكون هذا دليلاً لأنه يجمع حالتي البر صفة وقدراً قابلناكم بمثله فقلنا: تعليلنا بكونه مطعوماً جنساً يجمع حالتي البر صفة وجنساً. ثم يكون هذا الاستدلال أولى لأن الطعم ألزم صفة من الكيل فاقتضى أن يكون بالحكم أخص. ولا يصح قولهم بأن الجنس صفة لأن الصفة ما اختصت بالموصوف، والجنس اسم مشترك يتناول كل ذي جنس فلم يصح أن يكون صفة.

وأما الجواب عن استدلالهم بأن الكيل متفق في المكيلات والأكل مختلف في المأكولات فكان التعليل بالمتفق أولى من التعليل بالمختلف. فهو أن الأكل متفق وإنما صفة الأكل تختلف، كما أن الكيل وإن كان متفقاً وصفته قد تختلف فبعضه قد يكال بالصاع، وبعضه بالمد، وبعضه بالقفير، وبعضه بالمكوك ثم يقال: الكيل يختلف باختلاف البلدان والأكل لا يختلف فكان الأكل لاتفاق البلدان أولى أن يكون علة من الكيل المختلف باختلاف البلدان. وأما الجواب عن استدلالهم بأن الطعم صفة آجلة والكيل صفة عاجلة فهو أن هذا القول فاسد، لأن البر موصوف بهذه الصفة، وإن كان يوجد بعد علاج وصنعة كما يوصف بأنه مشبع وإن كان لا يوجد إلا بعد استهلاكه بالأكل، كما يوصف الماء بأنه مروي وإن كانت صفته توجد بعد الشرب، ثم لو قيل إن الأكل أعجل صفة من الكيل لكان أولى، لأن الأكل ممكن مع فقد الآلة والكيل متعذر إلا بوجود الآلة. وأما الجواب بأن زيادة الطعم قد توجد مع تساوي الكيل ولا تحريم ولا توجد زيادة الكيل مع تساوي الطعم إلا مع وجود التحريم فهو أن يقال: إنما يلزم هذا إذا وقع التسليم بأن التساوي يعتبر بالوزن تاماً، ونحن نقول إن التساوي يعتبر بالكيل. فلا يلزم أن الطعم متساو فيهما وإن تفاضلا في الوزن. كما لو تساويا في الوزن وتفاضلا في الكيل كانا متفاضلين وإن تساويا في الوزن على أنه لا يستمر على مذهبهم أن علة الربا زيادة الكيل، لأنهما لو تبايعا صبرة طعام بصبرة طعام كان باطلاً للجهل بالتساوي وإن لم يعلم زيادة الكيل فلما كان الجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل بطل أن يكون زيادة الكيل علة. فصل فأما المذهب السابع وهو قول سعيد بن المسيب، والشافعي في القديم أن علة الربا مأكول مكيل أوموزون جنس احتجاجأ بأن المنصوص عليه يختص بصفتين: الأكل والكيل، وليست إحدى الصفتين أولى فاقتضى أن يكونا معاً علة الحكم، ولأن الربا إنما جعل في الأشياء التي يمكن استباحة بيع بعضها ببعض بكيل أو وزن فكان الكيل والوزن علة الحكم. وهذا غير صحيح؛ لأننا قد أبطلنا فيما مضى أن يكون الكيل علة وسنبطل أن يكون الوزن علة، وإن لم يجز أن يكونا علة لم يجز أن يكونا وصفاً في العلة فثبت أن الأكل وحده علة. فصل فإذا ثبت هذا فما عدا الذهب والفضة تنقسم ثلاثة أقسام: قسم فيه الربا على القولين معاً، وهو ما أكل أو شرب مما كيل أو وزن. وقسم لا ربا فيه على القولين معاً وهو ما ليس بمأكول ولا مشروب كالثياب والحيوان والصفر والنحاس. وقسم اختلف قوله فيه وهو ما أكل أو شرب مما لا يكال ولا يوزن كالرمان، والسفرجل، والبقول والخضر، فعلى قوله في القديم لا ربا فيه، لأنه علل ما فيه الربا لأنه مأكول أو مشروب مكيل أو موزون. وعلى قوله في الجديد فيه الربا لأنه مطعوم جنس. واختلف أصحابنا هل يثبت فيه الربا على قوله في الجديد بعلة الأصل أو بعلة الأشباه. فمن متقدمي أصحابنا من قال: إنما جعل فيه الشافعي الربا على قوله في الجديد

بعلة الأشباه لأنه قال: وإنما حرمنا غير ما سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المأكول المكيل والموزون لأنه في معنى ما سمى. فجعل في المكيل والموزون الربا بعلة الأصل ثم قال بعد هذا؟ وما خرج من الكيل والوزن من المأكول والمشروب فقياسه على ما يؤكل ويكال أولى من قياسه على ما لا يكال ولا يؤكل، فجعل ملحقاً بالأصل من حيث الشبه. وقال آخرون من أصحابنا: بل فيه الربا على الجديد بعلة الأصل لا من حيث الشبه وإنما قال الشافعي ما احتج به الأولون ترجيحاً للعلة. والله تعالى أعلم. فصل فأما علة الربا في الذهب والفضة فمذهب الشافعي أنها جنس الأثمان غالباً. وقال بعض أصحابنا قيم المتلفات غالباً. ومن أصحابنا من جمعهما وكل ذلك قريب. وقال أبو حنيفة: العلة فيهما أنه موزون جنس فجعل علة الذهب والفضة الوزن كما جعل علة البر والشعير الكيل، ودلائله في المسألتين مشتركة ثم خص الاحتجاج في هذه المسألة بترجيح علته وإفساد علتنا. واحتج لذلك بثلاثة أشياء: أحدهما: أن ثبوت الربا في الذهب والفضة مستفاد بالنص ولا فائدة في استنباط علة يستفاد منها حكم أصلها حتى لا يتعدى إلى غيرها والتعليل بالوزن متعد وبالأثمان غير متعد. والثاني: أنه لو جاز تعليل الذهب والفضة بكونهما ثمناً وذلك غير متعد. لجاز تعليلهما بكونهما فضة وذهباً، فلما لم يجز أن يعلل الذهب بكونه ذهباً ولا فضة بكونهما فضة لعدم التعدي لم يجز أن يعللا بكونهما ثمناً لعدم التعدي. والثالث: أن التعليل بالأثمان منتقض في الطرد والعكس فنقض طرده بالفلوس، هي أثمان في بعض البلدان ولا ربا فيها عندكم. ونقضه عكساً بأواني الذهب والفضة ليست أثماناً وفيها الربا، والتعليل بالوزن مستمر لا يعارضه نقض في طرد ولاعكس. والدليل على صحة علتنا وفساد علته مع ما قدمنا من الدليل من قبله ثلاثة أشياء: أحدها: أن التعليل بالوزن يثبت الربا في الموزون من الصفر والنحاس والقطن والكتان، ولو ثبت فيه الربا بعلة الوزن كما ثبت في الذهب والفضة بهذه العلة لوجب أن يستوي حكم معموله ومكسوره في تحريم التفاضل فيه كما استوى حكم معمول الذهب والفضة ومكسوره في تحريم التفاضل فيه. فلما جوزوا التفاضل في معمول الصفر والنحاس دون مكسوره وتبره حتى أباحوا بيع طشت بطشتين وسيف بسيفين ولم يجوزوا التفاضل في معمول الفضة والذهب، ومنعوا من بيع خاتم بخاتمين وسوار بسوارين دل على افتراقهما في العلة واختلافهما في الحكم ولو اتفقا في العلة لاستويا في الحكم فبطل أن يكون الوزن علة الحكم. والثاني: أنه لو كان الوزن في الذهب والفضة علة يثبت بها الربا في موزون الصفر والنحاس لوجب أن يمنع من إسلام الذهب والفضة في الصفر والنحاس لاتفاقهما في علة الربا كما منع من إسلام الفضة في الذهب لاتفاقهما في علة الربا. فلما جاز إسلام الذهب والفضة من الصفر والنحاس ولم يجز إسلام الفضة في

الذهب دل على افتراق للحكم بين الفضة والذهب وبين الصفر والنحاس في علة الربا فبطل أن يكون الوزن علة الربا. وهذان الدليلان احتج بهما الشافعي رحمه الله في إبطال الوزن أن يكون علة الربا. والثالث: أن الأصول مقررة على أن الحكم إذا علق على الذهب والفضة اختص بهما ولم يقس غيرهما عليهما. ألا ترى أن الزكاة لما تعلقت بهما لم يتعد إلى غيرهما من صفر أو نحاس أو شيء من الموزونات ولما حرم الشرب في أواني الفضة والذهب اختص النهي بهما دون سائر الأواني من غيرهما. كذلك وجب أن يكون الربا المعلق عليهما مختصاً بهما وأن العلة فيهما غير متعدية إلى غيرهما. وأما الجواب عن استدلالهم بأنه لا فائدة في استنباط علة ثبت حكمها بالنص من غير تعد فهو أن يقال: ليس يخلو هذا القول من أحد أمرين إما أن يكون إبطالاً لغير المتعدية، أو يكون علة لعدم الفائدة وهو الظاهر من الاستدلال، أو يكون إثباتاً لها علة وجعل غيرها إذا تعدت أولى منها. فإن كان هذا إبطالاً لغير المتعدية أن تكون علة خالفناكم لأن غير المتعدية قد تكون عندنا علة فإن دعوا إلى الكلام فيها انتقلنا عن المسألة، ثم نقول: العلل أعلام نصبها الله تعالى للأحكام فربما أراد ببعضها التعدي فجعلها علماً عليه وربما أراد ببعضها الوقوف على حكم النص فجعلها علما عليه. كما أنه جعل المتعدية تارة عامة وتارة خاصة. كذلك جعلها تارة واقفة وتارة متعدية. فإن قيل: فالواقفة غير متعدية فيجعل الحكم معلقاً بالنص دون المعنى كأعداد الركعات لما لم تكن متعدية المعنى لم يستنبط لها معنى لعدم الفائدة. فالجواب أن الواقفة مفيدة والذي يستفاد بها أمران: أحدهما: العلم بأن حكمها مقصور عليها وأنها لا تتعدى إلى غيرها وهذه فائدة. والثاني: أنه ربما حدث ما يشاركه في المعنى فيتعدى حكمه إليه. فأما أعداد الركعات فغير معقول المعنى فلذلك لم يمكن استنباط علة منها. فهذا الكلام عليهم إن أبطلوا العلة الواقفة. وإن أثبتوها وجعلوا المتعدية أولى منها كان هذا مسلماً ما لم تبطل المتعدية بنقض أو معارضة وقد أبطلنا تعليلهم بالوزن من وجهين ذكرهما الشافعي ولولاهما لكان التعليل بالوزن أولى. وأما الجواب عن قولهم بأن الاسم لما لم يكن علة لعدم تعديه. فهو أن هذا رجوع إلى الكلام في إبطال العلة الواقفة وقد مضى على أن الاسم لم يجز أن يكون علة لأنه مستفاد قبل الاستنباط لا لما ذكره من عدم التعدي. والعلة الواقفة مستفادة بعد الاستنباط فجاز أن يكون علة مع عدم التعدي. وأما الجواب عما ذكروه من نقض علتنا في الطرد بالفلوس وفي العكس بالأواني فهو أن علتنا سليمة من النقض في الطرد والعكس لأنها جنس الأثمان غالباً، والفلوس وإن كانت ثمناً في بعض البلاد فنادو فلم الطرد، وأما العكس فلا ينتقض أيضاً بالأواني لأننا قلنا جنس الأثمان والأواني من جنس الأثمان وإن لم تكن أثماناً فسلمت العلة من النقص في الطرد والعكس. وإذ قد انتهى الكلام بنا إلى هذا فسنذكر فصلاً من العلل وما يتعلق عليها ويصح بها القياس الذي يتضمنها والله أعلم.

فصل اعلم أن القياس قياسان، قياس طرد وقياس عكس. فأما قياس الطرد: فهو إثبات حكم الأصل في الفرع لاجتماعهما في علة الحكم. وهذا أقوى القياسين حكماً، وليس يختلف أهل القياس في القول به. وأما قياس العكس: فهو إثبات حكم نقيض حكم الأصل في الفرع باعتبار علته. وهذا قد أثبته أكثر الفقهاء قياساً وإن خالفهم أكثر المتكلمين. وقياس الطرد، لا يخلو من أربعة أشياء: من أصل، وفرع، وعلة، وحكم. فأما الأصل فهو الذي يتعدى حكمه إلى غيره، وأما الفرع فهو الذي يتعدى إليه حكم غيره، وأما العلة فهي التي لأجلها ثبت الحكم. وقيل الصفة الحالية للحكم، وأما الحكم فهو المنقسم إلى: الإباحة، والحظر، والوجوب، والندب، والكراهة، والاستحباب فالبر في الربا أصل، والأرز فرع، والأكل علة، والربا حكم. ثم العلة والحكم لا بد من وجودهما في الأصل والفرع معاً غير أن العلم بوجودهما في الأصل أسبق من العلم بوجودهما في الفرع، والعلم بالحكم المعلق بالأصل أسبق من العلم بعلة الحكم في الأصل، لأن العلة تعلم بعد الاستنباط لها والحكم متقدم على الاستنباط. والعلم بالعلة في الفرع أسبق من العلم بحكم الفرع بخلاف الأصل. لأن بوجود العلة في الفرع يعلم حكم الفرع، وبوجود الحكم في الأصل يعرف علة الأصل. ثم لا يخلو حال الحكم في الأصل من أن يكون مستفاداً من ثلاثة أوجه: من نص أو إجماع أو قياس على أصل آخر. فإن كان الحكم مستفاداً من نص أو إجماع، كان المنصوص عليه أصلاً بذاته فيجب حينئذ استنباط علته وتعليق حكمه على فروعه. وإن كان الحكم مستفاداً من قياس على أصل آخر فلا يخلو حاله من أحد أمرين: إما أن يكون الحكم قد ثبت في ذلك الأصل بمثل العلة التي يثبت بها الحكم في هذا الفرع أو يكون الحكم قد ثبت فيها بعلة أخرى. فإن كان قد ثبت الحكم في الأصل بمثل العلة المستنبطة منه لم يثبت الحكم في هذا الفرع. مثاله: أن تقيس الذرة على الأرز بعلة الأكل، والأرز قد ثبت فيه الربا فهذه العلة قياساً على البر. فإن كان هكذا لم يجز جعل هذا أصلاً وكان هذا الأصل مع ما ألحق به فرعين على الأصل الأول. فجعل الذرة والأرز فرعين على البر المنصوص عليه لوجود علة البر فيهما على سواء، وليس جعل الأرز المقيس على البر أصلاً للذرة بأولى من جعل الذرة أصلاً للأرز لاستوائهما فرعاً للآخر. وإن كان الحكم قد ثبت في ذلك الأصل بعلة ورد الفرع إليه بعلة أخرى مستنبطة منه غير تلك العلة فقد اختلف أصحابنا في جواز ذلك. فقالت طائفة لا يجوز ومنعوا منه، لأن الفرع إنما يرد إلى الأصل إذا شاركه في علة حكمه، وعلة هذا الأصل التي ثبت بها حكمه هي علة أخرى لا توجد في الفرع الثاني وهذا مذهب من منع من القول بالعلتين.

وقالت طائفة أخرى بجواز ذلك لأن العلة التي ثبت بها الحكم في الأصل هي كالنص في أنها طريق الحكم وليس يمتنع أن يعلم بالدليل أن لعلة أخرى تأثيراً في ذلك الحكم فيرد بها بعض الفروع إليه، وهذا مذهب من أجاز القول بالعلتين. فصل فإذا ثبت حكم الأصل من أحد هه الوجوه الثلاثة وجب على القياس اعتبار علة الحكم في الأصل لتحريها في الفرع. وقد يعلم علة الأصل من أحد ثلاثة أوجه أيضاً. أحدها: النص الصريح. والثاني: التنبيه. والثالث: الاستنباط. وأما النص الصريح فنحو قوله تعالى: {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} [النور:31]. ونحو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما نهيتكم لأجل الدافة". فنص على العلة كما نص على الحكم. وأما التنبيه. فمثل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب ودخل على آخرين وعندهم هرة، وقال: إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات. فنبه بذلك على نجاسة الكلب لأنه ليس من الطوافين والطوافات. وفي معنى التنبيه الجواب بالفاء نحو قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً} [المائدة:38]. فنبه بذلك على أن علة القطع السرقة. وأما الاستنباط فهو ما ورد النص بإطلاق حكمه من غير إشارة إلى علته ووكل العلماء إلى اجتهادهم في استنباط علته كالستة الأشياء التي نص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ثبوت الربا فيها. فاجتهد الفقهاء في استنباط معناها. وهذا النوع إنما يمكن استنباط علته بعد العلم بالدليل على صحة العلة ليعلم به العلة الصحيحة التي يجوز تعليق الحكم بها من العلة الفاسدة التي لا يجوز تعليق الحكم فيها. وقد اختلف أصحابنا في الشروط الدالة على صحة العلة. فقال بعضهم هي أربع: وجود الحكم بوجودها، وارتفاعه بارتفاعها، وسلامتها على الأصول، وعدم ما يعارضها مما هو أولى منها فجعل الطرد والعكس شرطين من شروط صحتها. وقال آخرون هي ثلاثة شروط: وجود الحكم بوجودها، وسلامتها على الأصول وعدم ما يعارضها مما هو أولى منها. فجعل هذا القائل الطرد شرطاً ولم يجعل العكس شرطاً. وقد اختار هذا القول ابن أبي هريرة وزعم أن العلل الشرعية لا يستمر في جميعها الطرد والعكس، وإنما يستمر في العلل العقليات. وقال الأولون: بل هذا الشرط مستمر في الشرعيات أيضاً ما لم يخلف تلك العلة علة أخرى توجب مثل حكمها، وهذا أصح المذهبين عندي لأن العلة إذا كانت موجبة بحكم واقتضت أن يكون الحكم بوجودها موجوداً لزم أن يكون الحكم بعدمها وما ليقع الفرق بين وجودها وعدمها. والله أعلم.

فصل فأما فساد العلة فقد يكون من أحد ثمانية أوجه. بعضها متفق عليه وبعضها مختلف فيه. فأحدها: التعليل بالاسم وهو على ضربين: أحدهما: أن يكون اسماً مشتقاً من فعل كعاقد وقاتل ووارث فيجوز أن يكون علة. والثاني: أن يكون اسم لقب فهذا على ضربين: أحدهما: أن يعلل تحريم الخمر، لأن العرب سمته خمراً. فهذا تعليل فاسد، لأنه يبعد أن يكون لتسمية العرب مع تقدمه على الشرع تأثيراً في تحريم الخمر. والثاني: أن يعلل تحريمه بجنسه ويعبر عن الجنس باسمه فيعلل تحريمه بكونه خمراً فهذا جائز. لأنه لما جاز التعليل بالصفة جاز التعليل بالجنس فيجوز أن تقول في نجاسة بول ما يؤكل لحمه، لأنه بول فوجب أن يكون نجساً قياسا على بول الآدمي. والثاني: اختلاف الموضوع. وهو أن يكون أحد الحكمين مبنياً على التخفيف، والحكم الآخر مبنياً على التغليظ فيجمع بينهما بعلة توجب حكماً آخر. فقد اختلف أصحابنا هل يكون اختلاف موضوعهما مانعاً من صحة الجمع بينهما؛ فقال بعضهم: يكون هذا مفسداً للعلة مانعاً من صحة الجمع لأن الجمع بينهما يوجب تساوي حكمهما، واختلاف موضوعهما يوجب التفريق بينهما. وقال آخرون: لا يمنع ذلك من صحة الجمع ولا يوجب فساد العلة لأنه يجوز أن يكون الفرع مساوياً لأصله في حكم وإن خالفه في غيره لأن أحكامهما من كل وجه متعذر. والوجه الثالث من وجوه الفساد عدم التأثير. وهو أن يضم المعلل إلى أوصاف علته وصفاً لو عدمته العلة في الأصل لم يعدم الحكم. ففسد بذلك أن يكون مجموع تلك الأوصاف علة ووجب إسقاط الوصف الذي لا يؤثر علته في الأصل. لأنه لو جاز أن يجعل من أوصاف العلة ما لا يضر فقده في الحكم إثبات ما لا نهاية له من الأوصاف. والرابع: الكسر. وهو أن يكون الوصف المزيد في علة الأصل احترازاً من انتقاضها بفرع من الفروع فلا يجوز ضم هذا الوصف إليها وتصير العلة منتقضة على قول جمهور أصحابنا، لأن علة الأصل يجب أن يتقدم العلم بصحتها ثم يجري في فروعها. فإن لم يؤثر وصف منها في فساد العلة وهذا الوجه مؤلف من عدم التأثير والنقض. والخامس: القلب. وهو أن يعلق بعلة الأصل نقيض حكمها مثاله: أن يعلل الحنفي وجوب الصيام في الاعتكاف بأنه لبث في مكان مخصوص فوجب أن يكون من شرطه اقتران معنى آخر إليه. أصله الوقوف بعرفة: فنقلب هذا القياس عليه ونقول لأنه لبث في مكان مخصوص فوجب ألا يكون من شرطه الصوم كالوقوف بعرفة فيكون هذا فساداً للعلة. ولك في هذا المثال أن تمنع العلة. والسادس: وهو القول بموجب العلة وهو أن تقول أنا أضم إليه معنى آخر وهو النية فيكون هذا قولاً بموجب العلة. وهذا إنما يختص بالحكم إذا كان مجملاً ويصير النزاع

في الحكم مانعاً من العلة أن تكون موجهة لما ادعاه من الحكم. والسابع: النقض ويكون بحسب العلة. والعلل ضربان. علة نوع، وعلة جنس. فأما علة النوع فمثل تعليل البر لثبوت الربا فيه بأنه مطعوم. وأما علة الجنس فمثل تعليل جنس الربا بأنه مطعوم. فإن كان التعليل لنوع. كان نقض العلة فيه بوجودالعلة مع ارتفاع الحكم فإذا وجد مطعوم ليس فيه ربا كان نقضاً. ولا ينتقض بوجود الربا فيما ليس بمعلوم من الذهب والورق. وإن كان التعليل للجنس كتعليل جنس الربا بأنه مطعوم انتقضت هذه العلة من وجهين: أحدهما: وجود العلة مع ارتفاع الحكم حتى إن كان مطعوماً لا ربا فيه كان نقضاً. والثاني: وجود الحكم مع ارتفاع العلة حتى إذا ثبت الربا فيما ليس بمطعوم من الذهب والورق كان نقضاً، ومتى كان الحكم جملة لم ينتقض بالتفصيل ومتى كان مفصلاً انتقض بالجملة والتفصيل. وقد يحترز من النقض إذا كان بوجود العلة وارتفاع الحكم بأحد وجهين: إما احتراز بحكم ثبت في الأصل، وإما احتراز بشرط مقيد بالحكم فإن كان الاحتراز بحكم ثبت في الأصل مثاله: تعليل الحنفي قتل المسلم بالذمي بأنهما حران مكلفان محقونا الدم كالمسلمين. فإذا نوقض بقتل الخطأ وعدم القود فيه قال: قد احترزت من هذا النقض بالرد إلى المسلمين، فإن القود بينهما يجري في العمد دون الخطأ فكذا في الفرع. وهذا الجواب ليس بصحيح والنقض لازم لأن العلة هي المنطوق بها والحكم ما صرح به، والنقض يتوجه إلى المظهر دون المضمر. وإن كان الاحتراز بشرط فقيد بالحكم. فمثاله: إذا علل الحنفي قتل المسلم بالذمي بأنهما حران مكلفان محقونا الدم، أن يقول: فوجب أن يثبت القصاص في العمد. فقد اختلف أصحابنا: هل يكون هذا الاحتراز مانعاً من النقض؟ فقال بعضهم: لا يمنع هذا الاحتراز من النقض ويكون هذا اعترافاً ينقض العلة، لأن العلة ما استقلت بالذكر وكانت هي المؤثرة في الحكم وهذه العلة لا تؤثر إلا بشرط يقترن بالحكم. وقال آخرون بل هذا الاحتراز مانع من النقض والعلة صحيحة لأن الشرط المذكور في الحكم وإن كان متأخراً في اللفظ فهو متقدم في المعنى. والوجه الثامن: المعارضة. وقد تكون من وجهين: أحدهما: بالنص. والثاني: بعلة فأما معارضة العلة بالنص فينظر حال النص، فإن كان غير مجمل كانت العلة التي عارضته فاسدة. لأن النص أصل مقدم والقياس فرع مؤخر. وإن كان النص مجملاً جاز تخصيصه بالقياس إن كان جلياً، وفي جواز تخصيصه بالقياس إن كان خفياً. وجهان. وأما معارفة العلة بعلة فضربان: أحدهما: المعارضة في علة الأصل. والثاني: المعارضة بقياس آخر مع تسليم علة الأصل، فإن كانت المعارضة في علة الأصل نظر في المعلل فإن كان ممن لا يقول بالعلتين لم تسلم له العلة إلا أن يدل على

صحتها أو على فسادها ما عارضها مثل تعليل الحنفي البر بأنه مكيل فيعارض الشافعي في علة البر بأنه مطعوم فلا نسلم التعليل بالكيل إلا أن يدل على صحته وفساد ما عارضه. وإن كان المعلل ممن يقول بالعلتين نظر في الحكمين فإن كانا متنافيين لم تسلم العلة بالمعارضة إلا بالدليل على صحتها أو فساد ما عارضها. وإن لم يتناف الحكمان فقد قيل لا تمنع المعارضة من صحة العلة وللمعلل أن يقول: أقول بالعلتين معاً. وقيل: بل هذه المعارضة مانعة من صحة العلة حتى يدل على أن علته هي التي أوجبت الحكم الذي ادعاه ثم يصح حينئذ قوله بالعلتين. وأما معارضة القياس بقياس أخر فمانع من صحة القياس أيضاً سواء قال المعلل بالعلتين أو لم يقل. لأنه ليس رد الفرع إلى أحد الأصلين بأولى من رده إلى الأصل الآخر إلا أن يترجح أحد القياسين على الآخر بأحد ثلاثة أوجه. إما بما يرجع إلى أصله وإما بما يرجع إلى حكمه وإما بما يرجع إلى علته فيكون القياس المترجح بأحد هذه الوجوه أولى. فصل وإذا ثبت أن صحة العلة وفسادها يعتبر بما وصفنا فينبغي للمعلل إذا أراد أن يستنبط علة الأصل المنصوص على حكمه أن يعتبر أوصاف الأصل وصفاً بعد وصف فإن كان الوصف الذي بدأ باعتباره مطرداً على الشروط المعتبرة علم أنه العلم الذي جعله الله تعالى علة الحكم. وإن لم يطرد واعترضه أحد وجوه الفساد انتقل إلى وصف ثان فإذ وجده مطرداً علم أنه علة الأصل، وإن لم يطرد انتقل إلى وصف ثالث فاعتبره كذلك حتى يأتي على جميع الأوصاف فإذا سلم له أحدها جعله علة الحكم. فلو سلم له وصفان وصح تعليق الحكم على كل واحد منهما لاطراده على الأصول، لم يجز تعليق الحكم بهما لكن يقع الترجيح بينهما فماذا ترجح أحد الوصفين بعمومه وكثرة فروعه أو بأحد الوجوه التي يكون بها ترجيح العلل علم أن الوصف الذي ترجح هو علة الحكم دون غيره، ولو كانت أوصاف الأصل حين اعتبر بها لا يطرد واحد منها على الأصول ضممت أحد الأوصاف إلى الآخر فإذا صلح لك اجتماع وصفين مطردين جعلتهما معاً علة الحكم. وإن لم يطرد الوصفان باجتماعهما ضممت إليهما وصفاً ثالثاً، فإذا وجدتها مطردة جعلتها مجموعها علة الأصل، وإن لم تطرد باجتماعها ضممت إليها رابعاً، ثم خامساً ثم سادساً ولا ينحصر بعد ذلك إلى أن ينتهي إلى أن يجمع أوصاف الأصل كله ويقتصر بالعلة على نفس الأصل المنصرص على حكمه كما قلنا في علة الذهب والفضة أنه لما لم يكن يصح تعليق الحكم على أحد أوصافها انتهى بنا التعليل إلى الاقتصار على نفس المنصوص عليه وقلنا: إن علتهما كونهما أثماناً وقيماً. ومنع أبو حنيفة من هذا بمنعه من العلة الواقعة. ومع بعض أصحابنا من الزيادة على خمسة أوصاف وهذا فاسد، لأنه لا نجد فرقأ بين الخمسة وبين ما زاد عليها أو نقص منها. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ولا يجوز أن يسلف شيئاً بما يكال أو يوزن من

المأكول والمشروب في شئ، منه وإن اختلف الجنسان جازا متفاضلين يداً بيد قياساً على الذهب الذي لا يجوز أن يسلف في الفضة والفضة التي لا يجوز أن تسلف في الذهب". قال في الحاوي: وهذا صحيح. وجملته أن الرجلين إذا تبايعا لم يخل ما يضمنه عقد بيعهما عوضاً ومعوضاً من أربعة أقسام: أحدها: أن يكون العوضان مما لا ربا فيه فلا بأس ببيعه نقداً ونساء متفاضلاً ومتماثلاً سواء كانا من جنسين كبيع ثوب بعبد، أو كانا من جنس واحد كبيع ثوب بثوبين، وعبد بعبدين. والثاني: أن يكون في أحد العوضين الربا دون الآخر كبيع عبد بدراهم أو ثوب بطعام فهذا كالقسم الذي قبله يجوز العقد عليهما نقداً ونساء، ويجوز أن يسلم أحدهما في الآخر. والثالث: أن يكون العوضان مما فيه الربا بعلتين مختلفتين كالبر بالذهب أو الشعير بالفضة فهذا كالقسمين الماضيين في جواز العقد عليهما نقداً ونساء وإسلام أحدهما في الآخر. والرابع: أن يكون العوضان مما فيه الربا بعلة واحدة كالبر بالشعير أو بالبر، والذهب بالفضة أو بالذهب، فلا يجوز إسلام أحدهما في الآخر لاشتراكهما في العلة. ثم ينظر في حال العوضين فإن كانا من جنس واحد كالبر بالبر أو الشعير بالشعير فلا يصح بيعهما إلا بشرطين: التساوي، والتقابض قبل الافتراق. وقال أبو حنيفة يصح وإن تفرقا قبل القبض وقد مضى الكلام معه. وإن كان العوضان من جنسين كالبر بالشعير، أو التمر بالزبيب فبيعه معتبر بشرط واحد وهو التقابض قبل الافتراق، والتفاضل فيه يجوز وقد مضى في هذا المعنى ما يغني. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وكل ما خرج من المأكول والمشروب والذهب والفضة فلا بأس ببيع بعضه ببعض متفاضلاً إلى أجل وإن كان من صنف واحد". قال في الحاوي: قد تقرر بما تمهد من علتي الربا أن ما عدا المأكول والمشروب والذهب والفضة لا ربا فيه كالصفر والنحاس والثياب والحيوان، فلا بأس أن يباع الجنس منه بغيره أو بمثله عاجلاً وآجلاً، ومتفاضلاً، فيجوز أن يبيع ثوباً بثوبين وعبداً بعبدين وبعيراً ببعيرين نقداً ونساء. وقال أبو حنيفة: الجنس يمنع من النساء متفاضلاً ومتماثلاً، فلا يجوز بيع الثياب بالثياب نساء، ولا بيع الحيوان بالحيوان نساء. استدلالاً برواية قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الحيوان بالحيوان نسيئة. وروى أبو الزبير عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الحيوان واحد باثنين لا بأس به يداً بيد ولا خير فيه إنساء". ولأنه بيع جنس فلم يجز دخول النساء فيه كالبر. ولأن الجنس أحد صفتي علة الربا

لأن علة الربا على قول الشافعي مطعوم جنس وعلى قول أبي حنيفة مكيل جنس، وإذا كان الجنس أحد صفتي علة الربا لم يجز دخول النساء فيه كالطعم أو الكيل. وتحريره قياساً أن ما كان وصفاً في علة الربا كان مانعاً من دخول النساء كالكيل. والدلالة على خطأ هذا القول ما روي عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يجهز جيشاً ففرت الإبل فأمره أن يأخذ من قلاص الصدقة. فكان يأخذ البعير بالبعيرين إلى إبل الصدقة. رواه أبو داود في سننه. وروى الليث بن سعد عن أبى الزبير عن جابر قال: جاء عبد فبايع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الهجرة ولا يشعر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه عبد فجاء سيده يريده، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - بعنيه فاشتراه بعبدين أسودين ثم لم يبايع أحداً بعد حتى يسأله أعبد هو. رواه الشافعي في الأم. وقد روي جواز ذلك عن علي وابن عمر رضي الله عنهما. فروي عن علي رضي الله عنه أنه باع جملاً له يقال له العصيفير بعشرين جملاً إلى أجل. وروي عن ابن عمر أنه باع بعيراً بأربعة أبعرة مضمونة بالربذة. وليس لهما في الصحابة مخالف فكان إجماعاً. ولأن كل عقد صح اشتراط الخيار فيه، صح دخول الأجل فيه، كالجنين من حيوان وثياب. ولأن كل جنس جاز دخول التفاضل فيه جاز دخول الأجل فيه كالثياب المروية بالهروية. فإن قيل: "الهروي والمروي" جنسان فلذلك جاز دخول الأجل فيهما قيل: جنسهما واحد. ألا ترى أنه لو باعه ثوباً على أنه هروي فبان أنه مروي، كان البيع جائزاً وله الخيار، ولو كان من غير جنسه لبطل البيع، كما لو باعه ثوباً على أنه قطن فبان أنه كتان، كان البيع باطلاً لأنهما جنسان. ولأن الربا قد يثبت في الجنس من وجهين: التفاضل، والأجل. فلما كان التفاضل في جنس ما لا ربا فيه جائزاً وجب أن يكون الأجل في جنس ما لا ربا فيه جائزاً. وتحرير ذلك قياساً: أنه أحد نوعي الربا فوجب ألا يحرم فيما ليس فيه ربا كالتفاضل. وأما الجواب عن خبري سمرة، وجابر، فهو أن يحمل النهي على دخول الأجل في كلا العوضين، وذلك عندنا غير جائز. وأما قياسهم على البر بالبر فالمعنى تحريم التفاضل فيه، فذلك حرم الأجل، وليس كذلك في مسألتنا. وأما استدلالهم بأنه أحد صفتي الربا كالكيل، فالمعنى في الكيل أنه إذا علق به تحريم الأجل، اختص ذلك بما فيه الربا، وإذا علق بالجنس عم ما فيه الربا وما لا ربا فيه، ولا يجوز أن يسوى بين ما فيه الربا، وبين ما لا ربا فيه في أحد نوعي الربا. ولله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "فلا بأس أن يسلف بعيراً في بعيرين أريد بهما الذبح أو لم يرد ورطل نحاس برطلين وعرض بعرضين إذا دفع العاجل ووصف الآخر.

قال في الحاوي: قد مضى الكلام في جواز بيع الحيوان بالحيوان نساء، فعلى هذا يجوز أن يسلم بعيراً في بعيرين وأكثر. وقوله: أريد بهما الذبح أو لم يرد إنما عنى به مالكاً حيث منع من بيع بعير ببعيرين أو بعير إذا أريد بهما الذبح أو بأحدهما، والمراد للذبح أن يكون كسيراً أو حطيماً. استدلالاً بأن ما لا يصلح إلا للذبح يجري في الحكم مجرى اللحم، وبيع اللحم بالحيوان لا يجوز. والدلالة على خطأ هذا القول وجواز هذا البيع صح ما تقدم من عموم الظواهر الدالة أن كل حيوان جاز بيع بعضه ببعض صحيحاً، جاز بعضه ببعض كسراً كالعبد الصحيح بالعبد الزمن. ولأنه حيوان فجاز بيع بعضه ببعض كالصحيح. ولأن كسير الحيوان في حكم الصحيح في تحريم أكله حتى يستباح بالزكاة فوجب أن يكون كالصحيح في جواز بيعه. وبهذا ينكسر ما استدل به. وأما قول الشافعي. ورطل نحاس برطلين وعرض بعرضين. فلأن ما لا ربا فيه يجوز فيه التفاضل والنساء معاً. وقوله: إذا دفع العاجل ووصف الآجل فلأن السلم لا يصح إلا بهذين الشرطين. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وما أكل أو شرب مما لا يكال ولا يوزن فلا يباع منه يابس برطب قياساً عندي على ما يكال ويوزن مما يؤكل أو يشرب وما يبقى ويدخر أو لا يبقى ولا يدخر وكان أولى بنا من أن نقيسه بما يباع عدداً من غير المأكول من الثياب والخشب وغيرها ولا يصلح على قياس هذا القول رمانة برمانتين عداً ولا وزناً ولا سفرجلة بسفرجلتين ولا بطيخة ببطيختين ونحو ذلك ويباع جنس منه بجنس من غيره متفاضلاً وجزافاً يداً بيد ولا بأس برمانة بسفرجلتين كما لا بأس بمد حنطة بمدين من تمر ونحو ذلك". قال في الحاوي: اعلم أن المأكولات كلها ضربان. ضرب استقر في العرف كيله أو وزنه فهذا فيه الربا على قوله في القديم والجديد معاً. وضرب استقر في العرف أنه غير مكيل ولا موزون كالرمان والسفرجل، والبطيخ، والقثاء، والبقول، فعلى قوله في القديم: لا ربا فيه ويجوز بيع بعضه ببعض متفاضلاً ومتماثلاً، رطباً ويابساً، عاجلاً وآجلاً وعلى قوله في الجديد فيه الربا. فعلى هذا يمنع من التفاضل والنساء في الجنس الواحد منه. ثم لا يخلو حال ما كان رطباً من المأكولات من الفواكه والبقول من أحد أمرين: إما أن يكون أغلب منافعها في حال يبسها وادخارها كالرطب الذي يصير تمراً، والعنب الذي يصير زبيباً، فلا يجوز أن يباع الجنس الواحد منه رطبه بيابسه، كما لا يجوز بيع التمر بالرطب حتى إذا صار يابساً مدخراً بيع بعضه ببعض يداً بيد. وإما أن يكون أغلب منافعه في حال رطوبته كالرمان والسفرجل والبطيخ والبقول فقد اختلف أصحابنا في جواز بيع بعضه ببعض رطباً.

فذهب أبو العباس إلى جواز بيع بعضه ببعض رطباً إذا اعتبر فيه التماثل بالكيل والوزن إلحاقاً باللبن الذي يجوز بيع بعضه ببعض قبل الادخار واليبس لأن أغلب منافعه في حال رطوبته. وذهب جمهور أصحابنا وهو الظاهر من منصوص الشافعي إلى أنه لا يجوز بيعه رطباً برطب ولا يابساً برطب حتى يصير يابساً مدخراً. لأن بعضه إذا يبس مختلف، والاعتبار فيه بالمنفعة وخالف الألبان والمائعات من الأدهان لأنها لا تيبس بأنفسها. وكان أبو علي بن أبي هريرة يجعل مذهب أبي العباس قولاً للشافعي ويخرج المسألة على قولين: أحدهما: جواز ذلك وهو المحكي عن أبي العباس تعلقاً بأن الشافعي قال هي موضع من كتاب البيوع. ولا يجوز بيع البقل المأكول من صنفه إلا مثلاً بمثل فعلى هذا القول يعتبر فيه المماثلة: فإن كان ما يتجافى في المكيال كالبطيخ والرمان اعتبرت فيه المماثلة بالوزن، وإن كان مما لا يتجافى في المكيال كالنبق والعناب ففيه وجهان. أحدهما: أنه يعتبر فيه المماثلة بالكيل؛ لأنه المنصوص عليه في كتاب الأصل. والثاني: وهو الصحيح من المذهب والمشهور من قول الشافعي: إن بيع ذلك رطباً لا يجوز بجنسه فعلى هذا لا يجوز أن تباع رمانة برمانتين لظهور التفاضل، ولا رمانة برمانة لعدم التماثل لكن يجوز بيع رمانة بسفرجلتين يداً بيد لاختلاف الجنسين. فصل فأما ما يكون مأكوله في جوفه كالجوز واللوز فلا يجوز بيع بعضه ببعض عدداً، ولا كيلاً، ولا وزناً لأن المقصود منه اللب، والقشر يختلف. فإذا خرج عن قشره حتى صار لباً فرداً جاز بيع بعضه ببعض كيلاً إن كان مكيلاً ووزناً إن كان موزوناً، فأما مع اختلاف الجنسين فلا بأس به وإن كان في قشره. وهذا نص الشافعي. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وما كان من الأدوية هليلجها وبليلجها وإن كانت لا تقتات فقد تعد مأكولة ومشروبة فهي بأن تقاس على المأكول والمشروب للقوت، لأن جميعها في معنى المأكول والمشروب لمنفعة البدن أولى من أن تقاس على ما خرج من المأكول والمشروب من الحيوان والثياب والخشب وغيرها". قال في الحاوي: واعلم أن المأكولات قد تختلف جهات أكلها على أنواع ستة: أحدها: ما يؤكل قوتاً كالبر والشعير، ويتبع هذا النوع التمر والزبيب. والثاني: ما يؤكل إدماً كالزيتون والبصل وقد يلحق بهذا النوع الألبان والأدهان. والثالث: ما يؤكل إبزاراً كالكمون والفلفل، وقد يدخل في هذا النوع الملح. والرابع: ما يؤكل تفكهاً كالرمان والسفرجل. وقد يضاف إلى هذا النوع الخضر. والخامس: ما يؤكل حلواً كالسكر والعسل. والسادس: ما يؤكل دواء كالإهليلج والبليلج فيجري الربا في جميعها حتى يجمع بين السقمونيا والبر في حصول الربا فيهما.

وإن كان البر يؤكل قوتاً عاماً والسقمونيا تؤكل دواء نادراً لوجود علة الربا فيهما على سواء. فما كان من هذه المأكولات مكيلاً أو موزوناً ثبت فيه الربا على العلتين معاً وما كان منه غير مكيل ولا موزون ثبت فيه الربا على علته في الجديد دون القديم وعليه يقع التفريع، وأما ما كان مأكول البهائم كالحشيش والعلف فلا ربا فيه لأن التعليل بالأكل متوجه إلى أكل الآدميين دون البهائم. فأما ما يشترك في أكله الآدميون والبهائم فالواجب أن يعتبر فيه أغلب حالتيه. فإن كان الأغلب منهما أكل الآدميين ففيه الربا اعتباراً بأغلب حالتيه كالشعير الذي قد يشترك في أكله الآدميون والبهائم وأكل الآدميين له أغلب فثبت فيه الربا وإن كان الأغلب من حالتيه أكل البهائم فلا ربا فيه كالعلف الرطب الذي قد ربما أكله الآدميون عند تقديمه. وإن استوت حالتاه فكان أكل البهائم له كأكل الآدميين من غير أن تكون إحدى الحالتين أغلب. فقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: لا ربا فيه لأن الصفة لم تخلص. والثاني: فيه الربا وهو الصحيح لوجود الصفة وحصول الزيادة. فصل وإذا تقرر هذا الأصل فسنوضحه بالتفريع عليه وذكر ما اختلف أصحابنا فيه. اعلم أن الريحان، والنيلوفر، والنرجس، والورد، والبنفسج، لا ربا فيها. لأنها قد تتخد مشمومة إلا أن يريب شيء منها بالسكر أو بالعسل كالورد المعمول جلجبين فيصير فيه الربا لأنه صار مأكولاً. واختلف أصحابنا في ماء الورد. هل فيه الربا أم لا على وجهين: أحدهما: لا ربا فيه اعتباراً بأصله. والثاني: فيه الربا لأنه قد يستعمل في الطعام مأكولاً. فأما العود، والصندل، والكافور، والمسك، والعنبر. فلا ربا في شيء منها، لأنها طيب غير مأكول. وأما الزعفران ففيه وجهان: أحدهما: لا ربا فيه لأن المبتغى منه لونه كالعصفر. والثاني: فيه الربا لأنه مأكول وطعمه مقصود. فأما الأترج والليمون والنارنج ففيه الربا؛ لأنه وإن كان طيباً ذكياً فهو مأكول والأكل أغلب حالتيه. فأما العشار والأشج فلا ربا فيهما وكذلك الشيح لأنها تستعمل بخوراً. وأما اللبان والعلك ففيهما الربا، لأن الأكل أغلب حالتيهما، وكذلك المصطكى. وأما اللوز المر والحبة الخضراء والبلوط ففيها الربا، لأنها مأكولة وإن كانت مباحة النبت، وكذلك القثاء وحب الحنظل. فأما القرطم وحب الكتان ففيهما وجهان: أحدهما: أن فيهما الربا لأنهما قد يؤكلان. والثاني: وهو أصح أنه لا ربا فيهما لأن الأغلب من أحوالهما عدم الأكل وإن أكلا

نادراً. وأما الطين فإن كان أرمنياً ففيه الربا؛ لأنه يؤكل دواء وكذلك إن كان مختوماً. وإن كان من غير الأدوية كالطين الذي قد ربما أكله بعض الناس شهوة فلا ربا فيه لأن أكله ممنوع منه فصار أكله كأكل التراب. فأما الأدوية التي لا تؤكل وإنما تستعمل من خارج البدن طلاء أو ضماداً، فلا ربا فيها لفقد الصفة. واختلاف أصحابنا في الصمغ فأثبت بعضهم فيه الربا ونفى عنه بعضهم الربا لأنه طلاء. وأما البذور التي لا تؤكل إلا بعد نبتها كبذر الجزر والبصل والفجل والسلجم ففيها وجهان: أحدهما: فيها الربا لأنها فرع لمأكول وأصل لمأكول. والثاني: لا ربا فيها لأنها غير مأكولة في أنفسها فجرت مجرى العجم والنوى الذي لا ربا فيه. وإن كان فرعاً لمأكول وأصلاً لمأكول. والوجه الأول أصح، بخلاف النوى، لأن النوى لا يؤكل بحال، وهذه البذور تؤكل، وإنما يؤخر أكلها طلباً لإكمال أحوالها كالطلح والبلح. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وأصل الحنطة والتمر الكيل فلا يجوز أن يباع الجنس الواحد بمثله وزناً بوزن ولا وزناً بكيل لأن الصاع يكون وزناً أرطالاً وصاع دونه أو أكثر منه فلو كيلا كان صاع بأكثر من صاح كيلاً". قال في الحاوي: وهذا كما قال. كل شيء فيه الربا إذا بيع بجنسه فالاعتبار في تماثله بالكيل والوزن عادة أهل الحجاز في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فإن كان بالحجاز في زمن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكيلاً، كان أصله الكيل، فلا يجوز أن يباع بعضه ببعض إلا كيلاً. وما كان موزوناً كان أصله الوزن، فلا يجوز أن يباع بعضه ببعض إلا وزناً، ولا اعتبار بعادة غير أهل الحجاز ولا بما أحدثه أهل الحجاز بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقال مالك: يجوز أن يباع ما كان مكيلأً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وزناً بوزن، كالتمر الذي قد جرت عادة أهل البصرة ببيعه وزناً، ولا يجوز أن يباع ما كان موزوناً كيلاً بكيل. وقال أبو حنيفة: أما الأربعة المنصوص عليها فلا يجوز بيع بعضها ببعض إلا كيلاً بكيل. ولا اعتبار بما أحدثه الناس من بعد، وأما ما سوى الأربعة فالاعتبار فيها بعادة الناس في بلدانهم وأزمانهم ولا اعتبار بالحجاز ولا بما كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فأما مالك فاستدل على ذلك بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه "نهى عن بيع البر بالبر إلا مثلاً بمثل". والتماثل معلوم بالوزن كما هو معلوم بالكيل. قال: ولأن الوزن أخص من الكيل، فلذلك جاز بيع المكيل وزناً ولم يجز بيع الموزون كيلاً. وأما أبو حنيفة فاستدل بأن الأربعة منصوص على الكيل فيها فلم يجز مخالفة النص وما سوى الأربعة فالاعتبار فيه بالعادة. وعادة أهل الوقت أولى أن تكون معتبرة من أوقات سالفة وبلا مخالفة. لأن التفاضل موجود بمقادير الوقت. والدلالة

على ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا تبيعوا البر بالبر إلا كيلاً بكيل يداً بيد". فنص على التساوي بالكيل فاقتضى ألا يعتبر فيه التساوي بالوزن لأنه قد يخالف ما أمر به من الكيل. ولأنه قد يتساوى البر بالبر كيلاً ويتفاضلان وزناً، كما أنهما قد يتساويان وزناً ويتفاضلان كيلاً، والتفاضل فيه محرم، فلو اعتبر التساوي بالوزن لأن أخص لاقتضى ألا يعتبر التساوي بالكيل لأنه ليس أخص. ولأنه ربما أدى إلى التفاضل في الوزن الذي هو أخص فلما جاز اعتبار التساوي فيه بالكيل وإن جاز التفاضل في الوزن، وجب ألا يجوز اعتبار التساوي بالوزن لجواز التفاضل في الكيل، ولو كان مخيراً في اعتبار التساوي فيه بالكيل والوزن لكان مخيراً بين أن يجري عليه حكم التماثل فيحل أو يجري عليه حكم التفاضل فيحرم. وهذا متناقض. وأما أبو حنيفة فالدلالة عليه ما روى طاوس عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "المكيال مكيال أهل المدينة، والوزن وزن أهل مكة" وليس هذا القول إخباراً منه بانفراد المدينة بالمكيال ومكة بالميزان. لأن مكيال غير المدينة وميزان غير مكة يجوز التبايع به واعتبار التماثل فيه، فعلم أن مراده عادة أهل المدينة فيما يكيلونه وعادة أهل مكة فيما يزنونه. ولأنه لو أحدث الناس عادة في الدراهم والدنانير أن يتبايعوها عدداً لم يجز أن يكون العدد معتبراً في بعضها ببعض اعتباراً بما كانت عليه في الحجاز من قبل. وكذا الأربعة التي قد ورد فيها النص، لو خالف الناس فيها العادة لم يجز أن يكون الحادث رافعاً لسالف العادة فوجب أن يكون ما سوى ذلك معتبراً في تماثله بسالف العادة. وتحرير ذلك علة أنه جنس يحرم فيه التفاضل فوجب أن يكون اعتبار التماثل فيه بالمقدار المعهود على زمن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كالذهب والفضة والأشياء الأربعة. وهذه علة تعم مالكاً وأبا حنيفة وفيها انفصال عما استدلا به. فصل فإذا ثبت أن اعتبار المكيل والموزون بما كان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مكيلاً أو موزوناً لم يخل حال الجنس الذي فيه الربا من أحد أمرين: إما أن يكون معروف الحال على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو مجهول الحال. فإن كان معروف الحال راعيت فيه ما عرف من حاله. فإن كان مكيلاً جعلت الكيل فيه أصلاً ومنعت من بيعه وزناً. وإن كان موزوناً جعلت الوزن فيه أصلاً ومنعت من بيعه كيلاً. فعلى هذا قد كانت الحبوب على عهده مكيلة، والأدهان مكيلة، والألبان مكيلة، وكذلك التمر والزبيب وإن كان مجهول الحال أو كان من مأكل غير الحجاز راعيت فيه عرف أهل الوقت في أغلب البلاد فجعلته أصلاً. فإن كان العرف وزناً جعلت أصله الوزن، وإن كان العرف كيلاً جعلت أصله كيلاً.

وإن لم يكن للناس فيه عرف غالب فكانت عادتهم تستوي في كيله ووزنه فقد اختلف فيه أصحابنا على أربعة مذاهب: أحدها: تباع وزناً لأن الوزن أخص. والثاني: تباع كيلاً لأن الكيل في المأكولات نص. والثالث: أنه يعتبر بأشبه الأشياء به مما عرف حاله على عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيلحق به لأن الأشياء متقاربة. والرابع: أنه مخير فيه ين الوزن والكيل لاستواء العرف فيه. فصل إذا كانت ضيعة أو قرية يتساوى طعامها في الكيل والوزن، ولا يفضل بعضه على بعض بما قد عرف من حاله أن التماثل فيه بالكيل فقد اختلف أصحابنا. هل يجوز بيع بعضه ببعض وزناً. على وجهين: أحدهما: لا يجوز لما فيه من مخالفة النص وتغيير العرف. والثاني: يجوز ويكون الوزن فيه نائباً عن الكيل للعلم بموافقته كما كان مكيال العراق نائباً عن مكيال الحجاز لموافقته في المساواة بين المكيلين. فصل إذا تبايعا صبرة طعام بصبرة طعام جزافاً ثم كيلا من بعد فوجدتا سواء كان البيع باطلاً لأن الجهل بالتماثل كالعلم بالتفاضل، ولو تبايعا على المكايلة والمماثلة صح البيع. فإن كانتا سواء لزم العقد ولا خيار لواحد منهما. ولو فضلت إحدى الصبرتين على الأخرى ففيه قولان: أحدهما: بطلان العقد لأن العقد يتناول جميع الصبرتين مع ظهور التفاضل. والثاني: جواز العقد لاشتراط التماثل. فعلى هذا يأخذ صاحب الفضل زيادته ويكون لصاحب الصبرة الناقصة الخيار في فسخ البيع لتفريق الصفقة أو إمضاء البيع بمثل صبرته. [1/أ] مسألة: قال: "ولا يجوز بيع الدقيق بالحنطة" عند الشافعي رضي الله عنه. لا يجوز بيع الحنطة بدقيقها بحال لا متفاضلاً ولا متماثلاً لا كيلاً ولا وزناً، وبه قال حماد والثوري وأبو حنيفة. وروي ذلك عن الحسن ومكحول والحكم وهو رواية عن أحمد. وقال مالك وربيعة والليث وابن شبرمة: يجوز ذلك، وروي ذلك عن النخعي وقتادة. وقال أحمد في الرواية الثانية وإسحاق: يجوز ذلك وزناً، وبه قال الأوزاعي، وقال أبو ثور: يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلاً لأنهما يختلفان في الاسم، وهذا باطل فإن أنواع الجنس يختلف اسمها وكلها اسم جنس واحد. وكذلك بيع اللحم بالحيوان لا يجوز واختلف اسمها ولابد جنس فيه الربا زال هيئة الادخار

كخل التمر لا يجوز بيعه بالتمر. واحتج مالك رحمه الله بأن الدقيق نفس الحنطة، وإنما تفرقت أجزاؤها فصار كالحنطة الرخوة، والحنطة الركلة واحتج [1/ب] أحمد بأن الكيل يختلف فيهما والوزن يحضرهما فيجوز بالوزن، وهذا لا يصح لما ذكرنا من العلة والأصل فيها الكيل فلا يجوز بيعها وزناً بالبعض فيها. واعلم أن الطيب بن سلمة قال: فيه قول آخر للشافعي: أنه يجوز ذلك. كما قال مالك وحكاه الكرابيسي عن الشافعي فقيل: قولان، وقال أكثر أصحابنا: المسألة على قول واحد، إنه لا يجوز ولم يوجد في شيء من كتبه جوازه. وقد قال الكرابيسي: قال أبو عبد الله: يجوز ذلك. فيحتمل أنه أراد مالكاً وأحمد فإنه يكني كل واحد منهما أبا عبد الله. فرع يجوز بيع دقيق الحنطة بالشعير وبدقيق الشعير لأنهما جنسان. فرع آخر بيع دقيق الحنطة بدقيقها لا يجوز، نص عليه في القديم والجديد وهو المشهور، لأنه يجوز أن يكون أحدهما أنعم من الآخر، ولأنهما تماثلاً عن حالة الادخار. ونقل البويطي والمزني في المنثور عن الشافعي أنه قال: يجوز ذلك وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: يجوز بيع الناعم منه بالناعم والخشن منه بالخشن. [2/أ] فرع آخر بيع لب الجوز بلب الجوز حكمه حكم الدقيق بالدقيق. فرع آخر لا يجوز بيع الحنطة بالسويق ولا الدقيق بالسويق، ولا السويق بالسويق لما ذكرنا من العلة وفيه زيادة فساد، وهي أن النار تدخل في أجزائه فيأخذ من بعضها أكثر من بعض وكذلك لا يجوز بيع الحنطة بالخبز لما مضى وزيادة وهي أن أصل الحنطة الكيل فلا يجوز وزناً، ولأنه بيع دقيق وملح بدقيق وملح، وكذلك لا يجوز بيع الحنطة بالفالوذج لأنه بيع حنطة بنشاء وعسل ودهن، وكذلك لا يجوز بيع الجريش بالجريش، ولا الحنطة المقلية بالمقلية وغير المقلية، وكذلك لا يجوز بيع الحنطة المبلولة بغير المبلولة ولا المبلولة، لأن الحبات تنتفخ بالبلل فيؤثر ذلك في الكيل. وقال مالك وأبو يوسف: يجوز بيع الدقيق بالسويق متفاضلاً. ورواه أبو يوسف عن أبي حنيفة. وروي عنه تجوز متساوياً وفي رواية الأصل قال: لا يجوز بحال. واحتجوا بأن السويق بالصنعة صار جنساً آخر وهذا غلط لأن الدقيق بالطحن لا يصير جنساً آخر. [2/ب] وكذلك السويق، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: لا يجوز بيع الحنطة بالخبز أيضاً.

فرع آخر لا يجوز بيع الخبز بالخبز رطباً لما ذكر من العلة، وقال أحمد: يجوز إذا تماثلا في الوزن لأن معظم منفعتهما في حال رطوبتهما كاللبن باللبن، وهذا لا يصح لأن أكمل أحوال اللبن كونه لبناً وأكمل الأحوال هاهنا حين كان حياً فيعتبر التساوي في تلك الحالة ولا يمكن ذلك هاهنا. فرع آخر لو كانا يابسين فإن لم يكن مدقوقاً لا يجوز وإن كان مدقوقاً بأن جعله كعكاً ثم دقه قال في عامة كتبه: لا يجوز لعدم التساوي كيلاً حال كونهما برين ولأنه بيع بر وملح بلبن وملح. وقال في "حرملة": يجوز، لأن ذلك حالة كمال وادخار أيضاً فيباع كيلاً ولا يمتنع أن يكون للشيء الواحد حالتان للادخار كالعنب يدخر زبيباً وخلاً، وأما الاختلاط بالملح فلا يضر، لأنه لا يظهر في الكيل ويصير الملح صفة فيه والمذهب الأول. قال القفال رحمه الله: ولا يحتمل غير هذا [3/أ] على المذهب ولعل ذاك قول مرجوع عنه. قال أصحابنا وعقد الباب فيه على ما ذكر الشافعي في الصرف كل ما عمل من الأثمان يجوز بيعه بالأثمان وكل ما عمل من المأكول لا يجوز أصله فالدبس لا يباع بالعنب وبالتمر، والدقيق لا يباع بالحنطة وما يعمل من اللبن لا يباع باللبن. والفرق أن المصوغ من الذهب لا يستحيل بالصياغة بل هو ذهب على ما كان وما يتخذ من المطعوم يستحيل عن صفته. مسألة: قال: "ولا بأس بخل العنب بعضه ببعض". بيع خل العنب بخل العنب يجوز متماثلاً وكذلك العصير بالعصير لأن أجزاءه متقاربة ويخالف بيع الدقيق بالدقيق ولأن للعنب حالتين في الادخار إذا صار زبيباً وإذا صار عصيراً فيجوز بيع بعضه ببعض في كلتا الحالتين وعلى هذا يجوز بيع العصير بالخل لأنهما مدخران وهذا لأن العصير إذا صار خلاً لا يظهر فيه نقصان كالتمر الحديث بالعتيق، وفيه وجه آخر لا يجوز لأن أحدهما على حالة الادخار دون الآخر [3/ب] وإن كان فيهما ماء أو في أحدهما ماء لا يجوز، ولا يجوز بيع العصير والخل بالعنب لأن العصير الذي في العنب قد يزيد عليه وقد ينقص منه فيؤدي إلى التفاضل. وأما خل الزبيب بخل الزبيب لا يجوز قولاً واحداً لأنه ينقع في الماء وهل يجري الربا في الماء؟ وجهان والأصح أن فيه الربا فإن قلنا: بهذا يجوز أن يقل الماء في أحدهما ويكثر في الآخر فيكون بيع الماء بالماء متفاضلاً والخل بالخل متفاضلاً أيضاً، لأن الماء إذا تفاضل تفاضل الخل أيضاً، وإن قلنا: لا ربا في الماء لا يجوز لمعنى واحد وهو تفاضل الخلين لقلة الماء في أحدهما وكثرته في الآخر. وإن باع خل الزبيب بخل العنب لا يجوز، لأنهما جنس واحد وفي أحدهما ما يجوز أيضاً، وإن كان فيهما ما فيه وجهان مبنيان على جريان الربا في الماء وكذلك خل الزبيب بخل

الرطب لأن فيهما ماء وهما جنسان وظاهر قول الشافعي هاهنا: فإذا اختلف الجنسان فلا بأس يدل على أنه لا ربا في الماء وأما خل الرطب بخل الرطب لا يجوز بحال كخل [4/أ] تقطع به العلقة بينهما وإذا تفرقا عن علقة بينهما بطل العقد الذي من شرطه التقابض ثم إذا كالا بعد التفرق فخرجا متفاوتين فالزيادة لا تدخل في العقد، وهل يصح في القدر الذي تساويا فيه؟ وجهان: أحدهما: يجوز لأنه قابل الصاع بالصاع وقد تساويا، والثاني: لا يجوز لعلتين: إحداهما: أنه قابل الصبرة بالصبرة وهما متفاوتتان، والثانية: أن الكيل في بعض المكايلة من تمام التسليم وقد تفرقا قبله فبقيت على ما ذكرناه. وإن خرجتا متماثلتين فيه وجهان أيضاً بناء على العلتين فإن قلنا: بالعلة الأولى فلا تفارق هاهنا، وإن قلنا: بالعلة الثانية فقد وجدت هاهنا وعلى هذا لو كانا في المجلس فكيلتا فخرجتا متساويتين يصح، وإن خرجتا متفاوتتين فوجهان بناء على العلتين. ولو كانت إحدى الصبرتين صغيرة فقال: بعتك بما يقابلها من الكبيرة يصح بشرط أن يكيلا في المجلس، فإن تفرقا من غير كيل فعلى الوجهين. ولو قال: بعتك هذه الصبرة بصبرتك كل صاع بصاع فإن كانتا جنساً واحداً [4/ب] فقد ذكرنا وإن كانتا جنسين فخرج أحدهما ناقصاً يقال لمن نقص صبرته: أترضى بترك الفضل لصاحبك؟ فإن رضي فلا كلام وإن لم يرض يقال لصاحب الفضل: أترضى بإعطاء الفضل؟ فإن أبى فسخ البيع حينئذ وهذا لأنه يجوز فيه التفاضل، ولهذا لو قال: بعتك هذه الصبرة بتلك الصبرة جزافاً جاز لهذا المعنى وقيل إن عند مالك يجوز بيع خل التمر بخل التمر إذ تجري فيه خلال بصير بصنعته وأخبر أن ما في أحدهما من الماء مثل ما في الأخر، وإياه أراد الشافعي في قوله: "ولا خير في التحري". الفصل. مسالة: قال: "ولا خير في مد عجوة ودرهم بمد عجوة". جملته: أن كل جنس ثبت فيه الربا لا يجوز بيع بعضه ببعض إلا مثلاً بمثل بسواء خالصاً لا يكون معه غيره، فإن كان كل واحد من العوضين أو مع أحدهما من غيره فالبيع باطل فلا يجوز بيع ثوب ودرهم بدرهمين، ولا ثوب ودينار بدينارين ولا ثوب وقفيز حنطة بقفيزين، ولا مد عجوة ودرهم بمدي عجوة ولا [5/أ] بدرهمين ولا بمد عجوة ودرهم، ولا سيف محلى بفضة، بفضة ولا محلى بذهب بذهب ولا خاتم فضة فصه من غيره بفضة وإن كان مع كل واحد منهما أو مع أحدهما من جنسه ولكنه نوع أخر لا يجوز أيضاً مثل دينار قاشاني ودينار نيسابوري بدينارين نيسابوريين ولا مد عجوة ومد صيحاني بمدي صيحاني أو مد صيحاني ومد عجوة، ولا بيع درهم صحيح ودرهم مكسر بدرهمين صحيحين أو مكسرين أو درهم صحيح ودرهم مكسر، ولا يجوز بيع رديء بجيدين ولا برديئين وبه قال مالك: ذكر في "الموطأ" وشريح والنخعي وإسحاق وهكذا قال أحمد: إلا في الجنس الواحد فإنه قال يجوز أن يبيع دينارين مختلفين

بدينارين متفقين ومكسوراً وصحيحاً بمكسورين أو صحيحين لأن الصنعة لا قيمة لها في الجنس الواحد. وقال أبو حنيفة: يجوز كل ذلك حتى لو باع ديناراً في خرقة بألف دينار جاز، فيكون الدينار بالدينار والباقي بمقابلة الخرقة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا باع درهماً صحيحاً ودرهماً مكسوراً بدرهمين صحيحين يجوز لأنه يجعل كأن [5/ب] صاحب الصحيح حابى لصاحبه بقدر ما في صحيحه من زيادة القيمة وقال هذا القائل: فإذ بالغ كل واحد منهما في المماسكة فلا محاباة حينئذ فلا يجوز وهكذا قال في جيد ورديء بجيدين وهذا التخريج غير صحيح على أصل الشافعي، لأن أصله أن الصفقة إذا اجتمعت في أحد الشقين شيئين مختلفي القيمة فما في الجانب الأخر تتوزع عليهما في طريق القيمة، ألا ترى أنه لو اشترى شقصاً وسيفاً بألف درهم فأراد الشفيع أخذ الشقص بالشفعة فلا بد من توزيع الألف على قيمة السيف وقيمة الشقص حتى يظهر ما يخص قيمة الشقص من المسمى في العقد، فيأخذ الشفيع بتلك الحصة حقه من الشفعة فكذلك إذا باع مد عجوة قيمته درهمان ومع المد درهم آخر بمدي عجوة قيمة كل واحد منهما درهمان فلا بد من التوزيع وإذا وزعنا فلا بد من إبطال العقد لأن المد الذي يساوي درهمين في جانب الدرهم إذا وزعنا على المدين اللذين في الجانب الثاني وقف بإزاء ثلثي المدين وذلك مد وثلث لأن المد الذي مع الدرهم [6/أ] قدر ثلثي مال هذا الجانب فيقابل ثلثي مال ذلك الجانب، والثلث وهو الدرهم يقابل الثلث وهذا بيع تمر بتمر متفاضلاً وهذا المعنى موجود في بيع درهم صحيح ودرهم مكسر بدرهمين صحيحين. واعلم أنه لم يخف على أبي حنيفة ما يؤدي إليه التوزيع الذي ذكرنا، ولكنه أصل لنفسه في هذا العقد أصلاً بخلاف أصول البيع لئلا يفسد العقد وهذا محض التحكم على الشرع وكان من الواجب أن ينص المتعاقدان على ما يؤدي إلى الصحة عند العقد، فيقول بعت منك المد بالمد والباقي بالدرهم حتى يصح ذلك ويكون كعقدين، فلما أطلق وجب علينا أن يبطل العقد إذا كان بخلاف أصول الشرع. فإذا تقرر هذا، قال الشافعي في تعليل هذه المسألة: حتى يكون التمر بالتمر مثلاً بمثل، وظاهره يقتضي جواز البيع في صورة واحدة وهي أن يبيع عجوة قيمته درهم مع درهم بمدي عجوة قيمة كل واحد منهما درهم لأنا إذا وزعنا الدرهم على المدين خص كل مد نصف درهم، وإذا وزعنا المد الذي مع الدرهم خص كل [6/ب] مد من المد الموزع نصفه، فيصير بيع مد قيمته درهم نصف مد ونصف درهم فيقف المد بإزاء نصف المد، ولا يؤدي إلى التفاضل في الصورة الأولى. قال الإمام أبو محمد الجويني: سمعت بعض من رجعت إليه نوبة العصر من أئمة أصحابنا، يجوز هذا البيع ويحتج بتعليل الشافعي وعندي أنه لم يسبق إلى هذا التخريج والذي عليه عامة أصحابنا قديماً وحديثاً أن البيع باطل هاهنا أيضاً لأصل آخر سوى

المفاضلة، وذلك أن التحري في مسائل الربا ممنوع كما نص عليه قبل هذه المسألة والتقويم ضرب من التحري لأن المقوم ربما يخطئ وربما يصيب وربما يخطئ خطأ يسيراً وقد يختلف تقويم المقومين وقد تختلف الأسواق في البلدان فهذه المماثلة مستدركة بطريق التحري ولا يكفي ذلك في مسائل الربا. وقال القاضي الإمام الطبري في "المنهاج": لا يختلف المذهب أنه يجوز في هذه الصورة إذا تحققنا المماثلة وهو الصحيح وقد يتحقق ذلك إذا اجتنينا من شجرة واحدة بحيث تتحقق المساواة ولا [7/أ] مجال للتحري في ذلك بوجه، والتشكيك في مثل هذا الموضع نوع من الوسواس والله أعلم. وهذا أصح عندي وهكذا في درهم صحيح ودرهم مكسر بدرهم صحيح ودرهم مكسر إذا تحققنا المساواة. فرع لو باع داراً فيها صفائح الذهب بالذهب فإن أمكن جمع شيء بعينها لا يصح العقد، وإن لم يمكن يصح العقد وكذلك لو كان الذهب فيهما. فرع آخر لو باع داراً فيها صفائح الذهب بفضة فهو صرف وبيع هل يصح؟ قولان. فإذا قلنا: لا يصح لا بد من تسليم الدار وما يقابل الصفائح من البدل في المجلس وما يقابل الدار لا يعتبر قبضه في المجلس. فرع آخر إذا باع داراً فيها صفائح الذهب بدار فيها صفائح الفضة يمكن جمعها، وقلنا: يصح، لا بد من قبض الدارين في المجلس لأن قبض ما عليهما يكون بقبض الدارين. فرع آخر الشفيع إذا أراد أن يأخذ هذه الدار بالشفعة لا بد أن يسلم قدر ما يقابل الصفائح في المجلس ويسلم [7/ب] الدار؛ لأن حكم الشفعة حكم المعاوضات وإنما سقط فيه اعتبار الرضا للدفع الضرر. فرع آخر لو باع صاعاً جيداً بصاع رديء يجوز، لأنه إذا وزع قابل نصفه نصفه وثلثه ثلثه فلا يؤدي إلى التفاضل في الكيل كيف ما زاد الأمر ولا يراعي القيمة إذا لم يجمع الصفقة في أحد الشقين شيئين. فرع آخر لو لم يكن بين العوضين ربا الفضل بل كان بينهما ربا النسيئة فجمع بين أحد العوضين وبين جنس غيره مما لا ربا فيه يخرج على القولين في الصفقة التي تجمع عقدين مختلفي الحكم، كصرف وبيع قولين للشافعي، وصورة المسألة أن يبيع صاع حنطة وثوباً بصاع شعير ثم التقابض إنما يجب في الشعير وفي القدر الذي نقابله من

الحنطة فأما في الباقي فلا يجب لأنه حنطة قابلت ثوباً وكذلك إذا باع سيفاً محلى بعضه بدنانير، فيه قولان لأنه صرف وبيع. مسألة: قال: وكل زيت ودهن ولوز وجوز لا يجوز من الجنس الواحد إلا مثلاً بمثل. نص الشافعي هاهنا على [7 ب/6] أن الأدهان أجناس مختلفة فيجوز التفاضل بين دهن اللوز وبين دهن الجوز وبين الزيت ودهن السمسم، ونص في الخلول والألبان أيضاً: أنها أجناس مختلفة ولدى الأدقة والثمار وفي اللحمان علق القول ومال إلى أنها أجناس غير أنه فوع على كلا القولين فيه وتفصيل ذلك أن يقول: لا يختلف أصحابنا في الأدقة والثمار أنها أجناس قولاً واحداً. وقيل: ذكر في حرملة أن الأدقة والأخباز جنس واحد وهذا لا يحكى لأنه لا وجه له، ولم يختلفوا في اللحمان أيضاً على قولين وأما الخلول والأعصار والأدهان فمن أصحابنا من جعل فيها قولاً واحداً إنها أجناس ومنهم من جعل فيها قولين. وأما الألبان فأكثر أصحابنا على أن فيها قولين كاللحمان، والمعنى في الألبان واللحمان أنها متولدة من أصول لا ربا فيها وقد جمعها اسم خاص في أول دخولها في الربا حتى لا يتميز البعض عن البعض إلا بالإضافة فصار أنواع اللحمان والألبان كأنواع التمور والأعناب والحنطة، فإن القصيل لا ربا فيه فإذا صار حباً فاسم [8/ب] جميع أنواع الحنطة خاص وإنما يعرف بعضها عن بعض بالإضافة، واللعب فيقال: حنطة شامية وحنطة ميسانية كذلك يقال: لحم البقر ولحم الغنم ولحم الإبل ولبن البقر ولبن الإبل بخلاف اسم الثمار فإنه وإن كان اسماً جامعاً فلكل واحد اسم خاص فلهذا صارت أجناساً. وأما الخلول والأدهان فاسم الخل جامع ولكن قبل أن صارت خلولاً فلها أصول مختلفة يجري فيها الربا بخلاف الحيوانات فإنها وإن كانت أجناساً مختلفة فليس فيها ربا فلم نظهر اختلاف أجناسها في حكم الربا. وأما الأدقة فإنها عين الحنطة والشعير وهما مختلفان وليس بشيء تولد منهما: واستخرج كاللبن واللحم حتى يحتمل أن يجعل جنساً واحداً والدقيق بمعنى المدقوق فكأنا نقول: حنطة مدقوقة وشعير مدقوق ومن أراد أن يفصل بين الألبان واللحمان فيجعل الألبان أصنافاً قولاً واحداً، واللحمان في أحد القولين صنفاً واحداً فرق بأن اللبن يثبت فيه حكم الربا وهو في أصوله المختلفة فإن في اللبن في ضرع البقر والغنم [9/أ] ربا إذ لا يجوز بيع اللبون باللبن اعتباراً لحكم الربا فإذا ثبت لها حكم الربا وهي مختلفة لكونها كامنة في الأصول المختلفة لم يجز أن يصير بالحلاب صنفاً واحداً. واللحم لا ربا فيه ما دام في أصله فجاز أن يجعل صنفاً واحداً ولا خلاف أن السمن مع سائر الأدهان جنسان لأن اسم الأدهان لا يقع على السمن. وأما سمن البقر والغنم فيجب أن يكون على قولين كالألبان، وإذا تقرر هذا قال أصحابنا: الأدهان على أربعة أضرب: دهن يعد للأكل ودهن يعد للدواء ودهن يعد للطيب ودهن يعد للاستصباح،

فأما الذي يعد للأكل كالزيت والشيرج وزيت الفجل ودهن الجوز وحب الصنوبر ونحوها يجري فيها الربا. وقد قال الشافعي: ودهن الصنوبر والخردل والحب الأخضر كلها مأكولة بعد استخراجها ومأكولة الأصل قبل استخراجها ففيها الربا لأنها إن كانت معتبرة بأنفسها فهي مأكولة فلم تحل في كلا الحالين من ثبوت الربا فيها ويجوز بيع بعضها ببعض من جنسه متماثلاً، وإن مست النار أصول بعضها لأنها [9/ب] قد بلغت حالة الادخار، ولا يختلف أصحابنا في شيء من ذلك إلا الشيرج، فإن المذهب أنه يجوز بيع بعضه ببعض متساوياً. وقال أبو إسحاق: لا يجوز بيع بعضه ببعض أصلاً، لأنه شيرج وماء وملح وهذا غلط لأن الماء لا يمازج الدهن وكذلك الملح بل يبقيان في الكسبة ويخلص الشيرج عنها ويبقى فيه طعم الملح لا عينه وذلك لا يؤثر، ولو باع جنساً بجنس آخر يجوز على ما ذكرنا ولا خلاف في ذلك إلا في زيت الزيتون وزيت الفجل، فإن الشافعي نص فيه على قولين: أحدهما: أنهما جنسان لأنهما مختلفان أحدهما من شجر والأخر من نبات، ويخالف أحدهما صاحبه في الطعم واللون والريح، وهذا أشهر وأصح، لأن الشافعي قال: وقد يعصر من الفجل دهن يسمى زيتاً وهو مباين للزيت. والثاني: أنهما جنس واحد لأنه يجمعهما اسم الزيت، ويحتمل أن هذين القولين مأخوذان من القولين في اللحمان. ولا يجوز بيع الزيت بالزيتون ولا بيع الشيرج بالسمسم المدقوق ويجوز بيع الدهن بالكسبة لأنهما جنسان، وقال بعض أصحابنا: لا يجوز [10/أ] لأنها لا تنفرد عن الدهن وإن قل، فإن كان فيها دهن فلا يجوز، وإن لم يبق فيها الدهن فعلى ما ذكرنا يجوز. وأما الدهن الذي يعد للدواء كدهن اللوز المر، ودهن الخروع وحب المشمش يجري فيه الربا لأنه مأكول ولكنه دواء كالسقمونيا. وأما الدهن الذي يعد للطيب مثل دهن الورد ودهن البنفسج والياسمين، اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: لا ربا فيه لأنه لا يعد للأكل بل يقصد رائحته وطيبه ويستعمل طلاء، ومنهم من قال: فيه الربا وهو الأصح لأنه يستخرج وهو مأكول وإذا طيب لا يخرج من أن يكون مأكولاً ولكن يعد بما هو أعلى من الأكل فهو كالزعفران. فإذا قلنا: هذا يجوز بيع بعضه ببعض متماثلاً وهذا إذا طرح على السمسم ورداً أو بنفسجاً حتى يطيبه ثم يميز عنه ويكرر ذلك ويطحن بعده فالرائحة فيه رائحة مجاورة لا مخالطة والدهن خالص فأما إذا طبخ مع الورد والبنفسج فلا يجوز بيع بعضه ببعض أصلاً لأنه يختلط به أجزاء الورد والبنفسج وقيل: هذا الدهن لا يؤكل عرفاً ولكنه مستخرج من أصل مأكول ففي أحد [10 أ/6] الوجهين لا ربا اعتباراً بأصله وعلى هذا يجوز بيع دهن الورد بدهن البنفسج والشيرج متماثلاً لأن الأصل واحداً وإنما تختلف رائحتهما ولونهما. وقال أصحاب أبي حنيفة: يجوز متفاضلاً إذا اختلف طيبه فيجوز دهن الورد بدهن الخيري والبنفسج متماثلاً لأن مقصودهما مختلف ويجوز أيضاً بغير الطيب متفاضلاً وهذا غلط لأنه فروع لأصل واحد فيه الربا فصارت كالأدقة من أنوع الحنطة فإن قيل أليس كل واحد منهما يختص باسم؟ قلنا: أصل الكل من السمسم والاسم الخاص يجمع الكل وهو الدهن.

وأما الدهن الذي يعد للاستصباح كالبزر ودهن السمك، قال أبو حامد: لا ربا فيه لأنه يؤكل تسفها كالطين وقال غيره فيه وجهان، أحدهما: لا ربا فيه لأنه يعد للسراج لا للأكل، والثاني: فيه الربا وهو ظاهر المذهب لأنه مأكول يستخرج من حب الكتان وهو مأكول يشرب دهنه طرياً ويقلى به السمك ولا فرق بين ما يستبعد طعمه وبين ما لا يستبعد كما لا فرق بين الأقوات والأدوية التي تتناول نادراً وهذا اختيار [11/أ] القاضي الطبري قال: ويجب أن يكون في دهن الطتر وهي الحوت التي بطبرستان وجهان. وقال في "الحاوي": هل يجري الربا في حب الكتان والقرطم؟ وجهان، فإن قلنا: لا ربا فيهما، لا ربا في دهنهما وإن قلنا فيهما الربا ففي الربا في دهنهما وجهان، لأن الأصل مأكول، والفرع غير مأكول ولذلك دهن السمك من أصل مأكول ولكنه في نفسه غير مأكول ففيه وجهان. قال: ولو كان الدهن من أصل غير مأكول ولكنه بعد استخراجه مأكول كدهن حب القرع فيه وجهان: أحدهما: فيه الربا اعتباراً بنفسه. والثاني: لا ربا فيه كدهن البان والكافور. مسألة: قال: ولا يجوز من الجنس الواحد مطبوخاً بنيء منه. الكلام الآن في العصير من الأشياء، كعصير العنب والرمان والسفرجل وقصب السكر، كل واحد من هذا جنس بانفراده على الصحيح من المذهب، وقيل: يجوز بيع الدبس بالخل لأنهما اختلفا في الاسم والصورة والطبع فإذا باع عصيراً بعصير لم يخل من أحد أمرين. فإما: أن يكونا جنسين أو جنس [11/ب] واحداً، فإن كانا جنسين جاز متفاضلاً ومتماثلاً سواء كانا نيئين أو مطبوخين أو كان أحدهما نيئاً والآخر مطبوخاً، وإن كانا من جنس واحد كعصير العنب بعصير العنب نظر فإن كانا نيئين جاز لأن معظم منفعته في هذه الحالة، وإن كانا مطبوخين لم يجز لأن عمل النار يختلف فيهما فيؤدي إلى التفاضل وكذلك إذا كان أحدهما مطبوخاً لم تجز لأن النار نقصته فيؤدي إلى التفاضل وليس كجفاف التمر لأن له غاية ينتهي إليها بخلاف الطبخ وعلى هذا يجوز بيع اللحم القديد بالقديد ولكن لا يجوز بالمطبوخ، وأما ما يطبخ للتمييز ويكون له غاية لا تمنع من التماثل كالسمن يطبخ للتمييز فيميز المخيص وله غاية في الطبخ لا يجاوزها فيجوز بيع بعضه ببعض فإن زيد على ذلك حتى انعقدت أجزاؤه لا يجوز حينئذ بيع بعضه ببعض. وإن قل انعقاده وأخذ النار منه، ومن أصحابنا من ذكر وجهاً أخر أنه إذا دخل النار فيهما لا يجوز بيع بعضه ببعض كما لو دخل النار في الزيت وهذا غلط والفرق ظاهر [12/أ]. وأما السكر والفانيذ قال أصحابنا بخراسان: فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز بيع بعضه ببعض وهو الصحيح لأن النار عقدته. والثاني: يجوز لأن انعقاده غاية معلومة بخلاف الناطف والدبس وهو اختيار أكثر

أصحابنا بالعراق، والصحيح أن يقال: إن دخلت النار فيهما لتعيينهما وتمييزهما من غيرهما وهو الغالب فيما نشاهد يجوز، وإن دخلت لانعقادهما واجتماع أجزائهما لا يجوز وكذلك دبس التمر ورب الفواكه ذكره في "الحاوي". قال القفال: ولهذا جوز بعض أصحابنا السلم في الخبز لأن لطحنه غاية ينتهي إليها حتى لو زيد لفسد. فرع في بيع الدبس بالدبس وجهان: لأن للنار فيه غاية يعرفها أهل الصنعة كالسكر بالسكر سواء. فرع آخر السكر بالفانيذ إن كان أصلهما مختلف يجوز، وإن كان أصلهما واحد فيه وجهان، فإذا تقرر هذا أخل المزني بالنقل هاهنا فقال: إذا كان إنما يدخر مطبوخاً، ولا مطبوخاً منه بمطبوخ، وقوله إذا كان إنما يدخر مطبوخاً [12/ب] يتولى مطبوخاً منه، وقوله: "إذا كان إنما يدخر مطبوخاً" لا يصلح لتعليل المسألة الأولى ولا لتصويرها ولا فائدة في هذه اللفظة، وهي توهم جواز البيع في المطبوخ بالنيء إذا كان لا يدخر مطبوخاً وليس كذلك، والشافعي حيث ذكر هذه المسألة فسوى بين المنظوم والمفهوم فلم يفصل بين ما يدخر مطبوخاً وبين ما لا يدخر مطبوخاً وأبطل البيع في الجميع، وقيل: عبارة الشافعي: ولا يجوز في الجنس الواحد مطبوخاً منه بنيء بحال ولا مطبوخ طبخ ليدخر بمطبوخ. فنقل المزني هذا فقدم بعض كلامه وأخر بعضه وعطف على المسألة الأولى، وقيل: معنى ما نقل المزني وإن كان إنما يدخر مطبوخاً. مسألة: قال: "ولا يباع عسل نحل بعسل نحل إلا مصفيين". إذا باع عسل نحل بعسل نحل لا يخلو إما: أن يكون مصفى أو غير مصفى فإن لم يكن مصفى فيباع الشهد بالشهد فالبيع باطل لمعنيين، أحدهما: ما ذكر الشافعي وهو أنه عسل بعسل مجهول، لأن الشمع يقل فيه ويكثر. والثاني: [13/أ] أنه بيع عسل وشمع بعسل وشمع فهو كبيع مد عجوة ودرهم بمد عجوة ودرهم، فإن قيل: أليس بيع التمر بالتمر يجوز، وإن كان فيه النوى ولذلك يجوز بيع اللحم باللحم، وإن كان مع العظم فما الفرق؟ قلنا: الفرق أن الشمع مقصود ويأخذ قسطاً من الثمن ورب موضع يكون الشمع فيه أعز من العسل، والنوى والعظم فهما غير مقصودين فلا يأخذان قسطاً من الثمن كقشر الجوز واللوز لأن في بقاء النوى والعظم صلاحاً وليس في تنقية الشمع صلاح العسل فافترقا، وإن كانا معينين من الشمع نظر فإن صفي بالشمس جاز بلا خلاف: لأنها لا تعقد الأجزاء وإن صفي بالنار فقد ذكرنا الخلاف والمذهب ما ذكرنا، لأن الشافعي لم يفصل بين التصفية بالشمس أو بالنار وإن كان في أحدهما شمع وفي الآخر مصفى من الشمع لم يجز لأن العسل متفاضل ولو بقي بعض الشمع فيهما أو في

أحدهما لم يجز أيضاً؛ فإن قيل: أليس لو باع اللبن باللبن يجوز ويشتمل ذلك على المخيض والسمن؟ قلنا: المخيض والسمن مطعومان واللبن [13/ب] بمجموعة طعام على حدته فلا يعتبر بحالة أخرى حتى يقال: هما مطعومان مخلوطان بخلاف الشهد فإذا تقرر هذا أخل المزني رحمه الله بالنقل حيث قال: لأنهما لو بيعا وزناً وفي أحدهما شمع وهو غير العسل كان العسل بالعسل غير معلوم. وهذا غلط ظاهر لأنهما إذا بيعا وأحدهما غير مصفى كان معلوم المفاضلة فلا معنى لقوله: غير معلوم وإنما يستقيم هذا التعليل في الشهد بالشهد لأنهما بما فيهما من الشمع غير معلوم المماثلة. والشافعي ذكر هناك هذا فاستعمل علة أحد المسألتين في الأخرى ثم قال: وكذلك لو بيعا كيلاً أي يفترق الكيل والوزن في هذه المسائل التي ذكرناها في العسل حيث جوزنا وحيث أبطلنا لأنهما نوعان من المقدار يستدرك بكل واحد منهما المماثلة والمفاضلة، وهذا اللفظ يدل على تصحيح أحد الوجوه في فرع تقدم ذكره وهو إذا لم يعلم للشيء معيار معهود في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم -[14/أ] إذا أردنا بيع بعضه ببعض فما معياره؟ فيه أوجه: وقيل إن الشافعي قال: في الصرف فإن كان أصل العسل الكيل بيع كيلاً وإن كان أصله الوزن بيع وزناً فيوقف فيه، وقال في موضع آخر: والوزن في العسل والسكر والسمن أحوط. فنص على الوزن. وحكي عن أبي إسحاق أنه قال: أصل العسل الكيل فلا يباع بعضه ببعض إلا كيلاً. وقيل: أراد الشافعي قوله: لأنهما لو بيعا وزناً إذا انعقد لبرد الهواء وغلظ حتى لا يمكن كيله فيباع حينئذ وزناً فأما إذا أمكن دقه وكيله لا يباع إلا كيلاً. وهو قريب من قول أبي إسحاق والمذهب المنصوص ما تقدم. فرع عسل الطبرزد، وعسل القصب جنس واحد وهما من قصب السكر وهل يجوز بيع بعضه ببعض على ما ذكرنا في السكر؟ ويجوز بيعهما بعسل النحل كيف شاء متماثلاً ومتفاضلاً لأنهما جنسان فإن قيل: هلا قلتم العسل كله صنف واحد للاشتراك في الاسم؟ قلنا: قال الشافعي: وإطلاق العسل ينصرف إلى عسل النحل وإن كانت العرب [14/ب] تسمي كل حلو عسلاً، ولهذا قالوا للحديث الحلو والوجه الحسن معسول، وقالوا للجماع: عسيل قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في المطلقة ثلاثاً: "حتى تذوقي عميت ويذوق عسيلتك"، فإذا لم يشاركه في إطلاق الاسم لم يساوه في هذا الحكم. فرع آخر المشمش مع سائر الأعناب جنس واحد والتمر الهندي مع التمر المعروف جنسان لاختلافهما في الطعم والطبع والمقصود والصورة، وكذلك الجوز المعروف مع الجوز الهندي، وحكى ابن القطان وجهاً آخر أنهما جنس واحد لأن الاسم يشمل الكل.

فرع آخر البطيخ المعروف والبطيخ الآخر الذي يقال له: الهندي فيه وجهان، أحدهما: جنس واحد للاسم، والثاني: جنسان لاختلافهما في المقصود والصورة. فرع آخر بيع الشمع بالشهد يجوز؟ لأن الشمع ليس من مال الربا ولو باع بالعسل أولى أن يجوز. مسألة: قال: "ولا خير في مد حنطة فيها قصل [15/أ] أو زوان بمد حنطة لا شيء فيها من ذلك". القصل: عقد التبن، والزوان: حب دقيق الطرفين غليظ الوسط أصغر من الطعام يقال له بالفارسية: أحجم وهو الذي يسكر آكله فلا يجوز بيع الحنطة بمثلها وفي أحدهما أو فيهما شيء من ذلك لأنه يأخذ من المكيال موضعاً فيؤدي إلى التفاضل في الحنطة. وإن كان فيهما قليل من تبن أو تراب جاز، لأنه لا يأخذ قسطاً من المكيال فإنه يحصل في شقاق الحنطة وفي الخلل الذي يكون بينهما، فإن الحنطة دقيقة الطرفين غليظة الوسط، فإذا حصل حب بجنب حب حصل المكان خالياً فيحصل التراب فلهذا جاز ويفارق الموزون إذا كان في الفضة تراب لم يجز وإن قل لأن الميزان يأخذ قسطاً منه وإن قل وكذلك إذا باع الزعفران بالزعفران وزناً وفي إحدى الكفين يسير تراب لا يجوز البيع، وإذا تقرر هذا أخل المزني بالنقل فقال في علة هذه المسألة: لأنها حنطة بحنطة متفاضلة ومجهولة. وقوله: متفاضلة هو التعليل في [15/ب] هذه المسألة فلا معنى لقوله ومجهولة لأن الجهالة لا تأثير لها مع تعين المفاضلة، وإنما يحسن ترادف هاتين العلتين بعد تقديم الصورتين فكان ينبغي أن يذكر فساد البيع إذا كان القصل في أحدهما ثم نذكر فساد البيع إذا كان القصل فيهما، ثم نعطف على المسألتين فنقول: لأنها حنطة بحنطة متفاضلة ومجهولة فتنعطف إحدى العلتين على إحدى الصورتين، والثانية على الثانية وهذا قريب مما وقع له في مسألة العسل وقول الشافعي: لا خير فيه أراد التحريم، وكنا نتوهم أن هذه اللفظة له حتى وجدنا لمالك في مسائل الربا فتوهمنا له حتى وجدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعملها في مثل هذه المسائل. مسألة: قال: "ولبن الغنم ماعزه وضائنه صنف". الفصل نص الشافعي هاهنا أن الألبان أجناس مختلفة، وقد ذكرنا ذلك فعلى هذا يجوز أن يباع لبن البقر بلبن الغنم متفاضلاً وبكل ما يتخذ من لبن الغنم، وأما [16/ أ] لبن الضأن والمعز فصنف واحد كما أن الضأن والمعز صنف واحد، وكذلك لبن الإبل مهريها وعرابها صنف واحد، ولبن غنم البري وهي الظبا منف آخر سوى لبن غنم

الأهلي، وإذا قلنا: الألبان صنف واحد، وهو قول مالك وأحمد فكل لبن يشرب من أي حيوان كان فكله صنف واحد فإذا تقرر هذا فبيع اللبن باللبن جائز في الجملة على ما ذكرنا، فإن قيل: أليس لا يجوز بيع الرطب بالرطب عندكم فما الفرق؟ قلنا: الفرق أن معظم منفعته في غير هذه الحالة وهي عند كونها تمراً وهاهنا معظم منفعته في هذه الحالة، لأنه يصلح لجميع ما يتخذ من اللبن فإذا صرف إلى جهة مخصوصة لا يمكن ذلك فجرت هذه الحالة مجرى حالة الادخار في التمر، أو نقول: الرطوبة هناك ليست من مصلحته ولا حافظة لمنفعته بخلاف الرطوبة في اللبن، أو نقول: الرطب يصير على هيئة الادخار بنفسه، لأنه لو ترك في نحله تساقط هو بنفسه بعدما يصير [16/ب] تمراً فقبل ذلك لا يجوز بيع بعضه ببعض، لأنه قبل حالة الادخار بخلاف اللبن. فإذا تقرر هذا فبيع اللبن الحليب يجوز لأنه لبن خالص. وكذلك يجوز بيع الرائب بالرائب وهو اللبن الذي حصل فيه قليل حموضة لأنه لبن خالص. وكذلك يجوز بيع اللبن الحليب بالرائب، وإن كان فيهما أو في أحدهما ما لا يجوز وإن مسه نار فإن كان للتسخين يجوز وإن غلياً أو أحدهما لا يجوز. ولا يجوز بيع اللبن بشيء مما يتخذ من اللبن لا متماثلاً ولا متغافلاً، وقيل: الذي يتخذ من اللبن سبعة أشياء الزبد والسمن والمخيض واللبن والأقط والمصل والجبن، وزاد بعض أصحابنا الشيراز والرخبين والكشك والبطيخ والكواميخ، وأما الزبد باللبن لا يجوز قال الشافعي: لأن الزبد شيء من اللبن يريد بذلك أصله ولا يجوز بيع ما استخرج من شيء بأصله، كما لا يجوز بيع الشيرج بالسمسم. وقال أبو إسحاق: العلة فيه أن الزبد شيئاً من اللبن فيكون بيع لبن معه شيء آخر بلبن وذلك لا يجوز. [17/أ] كما لا يجوز بيع درهم ومد عجوة بمدي عجوة. فإن قيل: فيجب أن لا يجوز بيع لبن بلبن لأنه لبن وزبد بلبن وزبد قيل: إنما يتعلق به حكم الربا إذا تميز فأما قبل التميز فلا حكم له كالسمسم بالسمسم يجوز وإن كان في كل واحد منهما شيرج وسمسم، وإن كان بيع الشيرج بالسمسم لا يجوز. وأما بيع السمن باللبن لا يجوز لعلة الشافعي وهي: أن السمن شيء من اللبن، وعلة أبي إسحاق تقف هاهنا لأنه لا يجوز هذا وإن لم يكن في السمن شيء من اللبن فدل على بطلان علته، وأما بيع المخيض باللبن وهو اللبن الذي استخرج منه الزبد ويسمى الدوغ لا يجوز لأن في اللبن مخيضاً ولأنه مستخرج منه. وقال: قال الشافعي في "الأم": ولا خير في بيع الحليب بالمضروب لأن في المضروب ماء فإن كان يطرح فيه ماء فهذا معنى آخر يمنع البيع والمضروب هو المخيض، وأما اللبن باللبن لا يجوز لأن أصله الكيل واللبن المعمول للأكل لا يكال ولأن النار قد عقدت أجزاءه فيؤدي إلى التفاضل. وأما الأقط والمصل والجبن وسائر ما ذكرنا [17/ب] لا يجوز باللبن لمعاني: أحدها أن أصله الكيل فلا يباع وزناً ولأن النار قد اختلف عملها في أجزائه فيؤدي إلى التفاضل، ولأنه قد خالطه غيره فإن المصل قد خالطه ملح وكذلك الأقط والجبن خالطه ملح وأنفحة وكذلك الرخبين والكشك والكامخ وأما ما يتخذ منه إذا باع بعضه ببعض، فإن باع الزبد بالزبد لا يجوز لأن المقصود منه السمن الذي فيه وذلك مجهول التماثل لقلة اللبن في أحدهما وكثرته

في الآخر نص عليه الشافعي فيما نقله القاضي أبو حامد ومن أصحابنا من قال فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لما ذكرنا. والثاني: يجوز لأن اللبن في الزبد يسير غير مقصود، فهو كالنوى في التمر وصار كبيع السمن بالسمن يجوز، قال صاحب "الحاوي": وهو الأصح عندي. وأما السمن بالسمن قال الشافعي: يجوز معه وزناً أحوط وهذا لأنه لا يخالطه غيره ولو كان جامداً. قال في "الحاوي": فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأن أصله الكيل ولا يمكن. والثاني: يجوز لأن الكيل فيه متعدد والوزن أحصر وهذا خلاف ما ذكرنا [18/أ] في النص. وأما اللبن باللبن والأقط بالأقط والجبن بالجبن لا يجوز لأن أصله الكيل ولا يمكن فيه ولأن النار قد اختلف عملها فيه. قال القاضي الطبري: الجبن بالجبن لا يجوز لأن فيهما أنفحة فيؤدي إلى التفاضل ولا يجوز بيع الجبن بالمصل أيضاً لهذا ولكن بيع المصل بالمصل إنما لا يجوز لأنه لا يمكن كيلهما فإن دقا جميعاً حتى أمكن الكيل يجب أن يجوز بيع بعضه ببعض وبيعه باللبن أيضاً وهذا عندي إذا لم يخالطه ملح فإن خالطه ملح فلا يجوز على ما ذكرنا بلا خلاف. وقال في "الحاوي": إن كان الجبن طرياً لا يجوز وإن كان يابساً فيه قولان: أحدهما: يجوز رواه حرملة وهذا إذا تناهى بنفسه فيباع بالوزن لصحة المماثلة فيه وإنه غاية اللبن التي ينتهي إليها وهو اختيار أبي إسحاق. والثاني: رواه الربيع وهو الأصح لا يجوز واختلفوا في العلة فقال ابن سريج: العلة أن أصله الكيل وقد تعذر وقال غيره: لأن فيه أنفحة يعمل بها فيمنع التماثل فيه فعلى هذا لو دق الجبن حتى صار ناعماً يجوز على قول ابن سريج وعلى قول غيره لا يجوز. وأما بيع نوع بنوع آخر إما الزبد بالسمن [18/ب] لا يجوز، لأنه بيع بثمن ولبن بسمن، وأما بيع السمن بالمخيض يجوز لأنه ليس في السمن مخيض ولا في المخيض سمن. وأما بيع الزبد بالمخيض قال الشافعي: يجوز لأنه قال: فإذا اخرج منه الزبد وصار مخيضاً يجوز بيعه بزبد وسمن. وقال أبو إسحاق: لا يجوز ذلك على مقتضى تعليله وهو أن في الزبد شيئاً من اللبن، ونص الشافعي على جوازه فدل على فساد تعليل أبي إسحاق. قال أبو حامد: أجاب الشافعي بهذا ظناً منه أنه لا لبن في الزبد وليس كما ظن فإن الزبد لا ينفك من اللبن فلا يجوز وهذا قياس المذهب. وأجاب أصحابنا بأن الشافعي إنما قال: إذا لم يكن فيه اللبن ظاهراً. وذلك القدر يسير لا يتبين إلا بالنار والتصفية فلا حكم له، وقال القفال: المذهب ما نص عليه لأن المقصود من الزبد السمن والمخيض ليس من جنس السمن إذا كان منزوع الزبد فهما جنسان مختلفان وهكذا ذكر القاضي الطبري فيجوز متفاضلأً وعلى هذا يجوز بيع الدهن بالكسبة، لأنهما جنسان كالسمن بالمخيض وأكثر ما في هذا الباب أن اللبن الذي فيه يأخذ جزء من

الوزن [19/أ] فيصير الزبد باللبن غير متماثلين وهذا لا يضر، لأن بيع اللبن المنزوع زبده بالزبد جزافاً جائز قال: وخرجت على هذا أن بيع الحنطة التي فيها شعيرات بالحنطة التي فيها شعيرات أخذت جزءاً من الكيل فتجهل المماثلة وكذلك لا يجوز بيع الحنطة الخالصة بالحنطة التي فيها شعيرات لهذا المعنى، وأما بيع حنطة فيها شعيرات بالشعير يجوز، لأن المقصود هو الحنطة والحنطة والشعير مختلفان والشعيرات التي فيها غير مقصودة، وهذا مثل بيع الدنانير بالدراهم وكانت في الدراهم حبات سمسم أو قليل تراب لم يضره لأن المماثلة فيه غير معتبرة وبمثله لو باع الورق بالورق أو الذهب بالذهب وفي أحدهما حبات سمسم أو قليل تراب لا يجوز وأصحابي يخالفوني كثيراً في هذه المسألة غير أنها وأمثالها لا تخرج إلا على هذا الأصل الذي أصلت. وقال الشيخ أبو محمد الجويني في "المنهاج المختصر": الذي في الزبد قليل فلا حكم له، كما لو باع حنطة لا شعير فيها بحنطة فيها حبات شعير قليلة يجوز، وهذا خلاف ما ذكر القفال وهو الأصح، وعلى ما ذكرنا [19/ب] قال أصحابنا: بيع الدقيق بالنخالة الصافية عن الدقيق تجوز لأنهما جنسان والنخالة ليست من مال الربا، وأما بيع اللبن بالأقط أو بالجبن أو بالمصل لا يجوز بحال لما ذكرنا. فرع لو باع الكسبة بالكسبة، حكي عن ابن أبي هريرة أنه يجوز وزناً إذا استخرج الدهن وقال غيره: لا يجوز لأن أصله الكيل وقد تعذر ويختلف عصره فربما يبقى الدهن في أحدهما أكثر ولأن في الكسبة ماء وملحاً لا يمكن استخراج الدهن إلا بهما. فرع آخر لو باع العلس بالعلس لا يجوز إلا بعد الإخراج من قشرته وكذلك لا يجوز بيع العلس بالحنطة ولكن يجوز بيعه بالشعير لأنهما جنسان يجوز فيهما التفاضل. فرع آخر بيع الأرز بالأرز قبل إخراجه من القشر العليا لا يجوز كالعلس، وأما قبل إخراجه من القشرة الثانية الحمراء، قال بعض أصحابنا: لا يجوز أيضاً لأنه كالعلس ونصابه عشرة أوسق كالعلس. وقال جماعة أصحابنا: هذه القشرة اللاحقة به تجري مجرى أجزاء الأرز لأنه يؤكل [20/أ] ويطحن معها وإنما يخرج منها ناهياً في استطابته كما تخرج النخالة من الحنطة ولا يمنع ذلك بيع الحنطة بالحنطة ونصابه في الزكاة خمسة أوسق كالحنطة مع قشرتها الحمراء. ذكره في الحاوي. وهذا القول الثاني هو الصحيح عندي ولا يحتمل الوجه الآخر والصحيح أنه يجوز الأرز في قشرته العليا أيضاً لأنها من صلاحه ويدخر معها وكذلك الباقلي بالباقلاء في قشره يجوز وهو المذهب.

فرع آخر بيع الحنطة المسوسة بالمسوسة ولم يبق في واحد منهما لب يجوز لأنه نخالة فإن بقي قليل لب لا يجوز وكذلك لو باع المسوس بالصحيحة. مسألة: قال: "ولا خير في شاة فيها لبن بلبن يقدر على حلبه". الفصل في هذا الكلام تقديم وتأخير أي: لا خير في شاة في ضرعها لبن يقدر على حلبه بلبن، ثم اعلم أنه لا يجوز هذا البيع لأن اللبن في الضرع يأخذ قسطاً من اللبن المقابل للشاة ولا بد من تقويم الشاة [20 ب] واللبن لتوزيع الثمن عليهما فصار كبيع مد عجوة ودرهم بمدي عجوة وإنما قلنا كذلك لأن اللبن في الضرع يأخذ قسطاً من الثمن بدليل خبر المصراة حيث جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بدل اللبن صاعاً من تمر ولأن اللبن في الضرع كاللب في الجوز لأن صاحبه يستخرجه متى شاء ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحلبن أحدكم شاة غيره بغير إذنه أيحب أحدكم أن تؤتى خزانته فينتشل ما فيها"، فلما لا يجوز بيع لب الجوز بالجوز للجهل بالتماثل بين اللبين، كذلك هاهنا لا يجوز. وقال أبو حنيفة: يجوز بيع لب الجوز بالجوز إذا كان اللب الخارج أكثر ليقابل الزيادة القشر، وكذلك يجوز بيع اللبن باللبون إذا كان اللبن الخارج أكثر على هذا التقدير. قال الشافعي: "وليس كالولد لا يقدر على استخراجه" ليس أنه يحتاج إلى فرق بين اللبن والحمل في أمر الربا لأنه لا ربا في الحمل ولكن كان قائلاً قال له: جعلت للابن قسطاً من الثمن حتى أثبت فيه الربا ولم يجعل [21/أ] للحمل قسطاً من الثمن في أحد القولين ففرق بأن الحمل لا يقدر على استخراجه فجاز أن يجعل كالمعدوم ما لم يخرج وهذا مقدور عليه. فإن قيل: لو كان للبن قسط من الثمن لما جاز بيع شاة فيها لبن أصلاً لأنه بيع مجهول ومعلوم صفقة واحدة وأجمعنا على جوازه بغير اللبن كما لا يجوز بيع شاة ولبن في قدح مغطى بدينار قلنا: الفرق أن اللبن في الضرع مستور بما فيه مصلحته فجاز بخلاف ما لو كان في القدح وهو كبيع الجوز بجوز فإن كان اللب مستوراً بخلاف ما لو كان مستوراً بغير القشر ولأن اللبن في الضرع تبع للشاة تدخل في البيع بالإطلاق بخلاف ما لو كان في القدح والجهل بالبائع لا يضر كالجهل بأساس الدار. فرع لو باع شاة في ضرعها لبن بلبن أو بقراً أو إبل فإن قلنا: الألبان صنف واحد لا يجوز على ما ذكرنا وإن قلنا: الألبان أصناف يجوز كما لو باعها بدراهم.

فرع آخر لو كان هذا البيع نسيئة فهو أفسد البيع فيكون ربا على ربا وإن كان التي في ضرعها لبن مذبوحة فالحكم [21/ب] فيها كما لو كانت حية بل أفسد لأنها قد صارت لحماً وفيه الربا فكأنه باع لبناً ولحماً بلبن. فرع آخر لو لم يكن في ضرعها لبن جاز بيعها بلبن لأنهما عينان لا ربا في إحداهما فهو كبيع الشاة بالتمر، وقال في كتاب حرملة: لو حلب بلبنها ثم بيعت بلبن في الحال جاز لأن ذلك القدر الذي فيها من اللبن يسقط حكمه في البيع كما لو باع داراً مسقفاً بذهب يجوز لأن ذلك كالمستهلك ومفهوم قوله هاهنا: يقدر على حلبه يدل على هذا لأن هذا القدر لا يقدر على حلبه ولا يمكن استقصاء اللبن بالحلاب، وهو كما لو قال: والله لأشربن ماء هذه الأداوة فشرب وغادر بللاً يسيراً بر في يمينه لأنه عاجز عن انتشاف بلل الإداوة بالشرب. فرع آخر لو باع شاة مذبوحة مسلوخة لا لبن فيها بلبن فلا شك في الجواز لأنها جنسان. فرع آخر لو باع شاة فيها لبن بشاة فيها لبن فالمذهب أنه لا يجوز، وبه قال عامة أصحابنا. وقال أبو الطيب بن سلمة: يجوز كما يجوز بيع دار فيها ماء بدار فيها ماء وكما يجوز بيع [22/أ] سمسم بسمسم وإن كان في كل واحد منهما شيرج وكسبة وهذا غلط لأنه لا يجوز بيع نخلة مثمرة بنخلة مثمرة، وكذلك لا يجوز بيع لبن في إناء بلبن في إناء على أن يدخل الإناءان في البيع وأما بيع دار فيها ماء بدار فيها ماء، قال عامة الأصحاب: يجوز لأنه لا ربا في الماء وهو المذهب، وإن قلنا في الماء ربا، فإن كان محوزاً في الحباب فهو مملوك بلا خلاف ولا يجوز هذا البيع خوف التفاضل وإن كان الماء في البئر، قال بعض أصحابنا: هو مملوك أيضاً فلا يجوز إلا أن يكون الماء ملحاً غير شروب فيجوز لأنه لا ربا فيه، وقال جمهور أصحابنا وهو ظاهر المذهب: إنه لا يملك إلا بالأخذ وكذلك ماء العين وإنما يكون لمالك البئر منع غيره من التصرف في بئره أو نهره فإن جازه الغير ملك والذي يدل على هذا أن من اشترى داراً فاستعمل ماءها ثم ردها بعيب لا يلزمه غرم الماء بالإجماع بخلاف لبن الضرع، وأيضاً يجوز لمستأجر الدار استعماله ولو كان على ملك صاحب الدار لم يجز ذلك [22/ب] فعلى هذا يجوز البيع في هذه المسألة. فإن قيل: أليس لو اشترى داراً وفيها بئر لا ماء فيها ليردها بالعيب فدل أن الماء يملك بالعقد قلنا: إنما قلنا كذلك لأن الدار تصير معيبة بجفاف البئر فيردها بالعيب لا لأجل أن الماء مملوك وهو في البئر، وقيل: إذا باع داراً في بئرها ماء فإن لم يكن للماء قيمة في ذلك البلد لا يجعل للماء حكماً ولكن يدخل في العقد تبعاً، وإن كان للماء قيمة لا يدخل الماء الموجود في البيع إلا بالشرط، فإن شرط فإن كان قدر الماء

معلوماً بالعرض والعمق يجوز، وإن كان مجهولاً لا يجوز ففي مسألتنا إن لم يكن للماء قيمة يجوز وإن كان للماء قيمة ونصا عليه من الجانبين فهو مبني على أن في الماء ربا أم لا على ما ذكرنا. فإن قيل: أليس تسقطون حكم الجهالة في اللبن للتبعية؟ فأسقطوا فيه حكم الربا للتبعية، قلنا: حكم الربا يثبت مع التبعية كما في الثمرة غير الموبرة إذا باعها مع النخلة بمثلها لم يجز. وأما بيع السمسم بالسمسم إنما جاز لأن الشيرج الذي فيه لا يأخذ قسطاً من الثمن [23/أ] بخلاف اللبن وقيل: الفرق أن السمسم بالسمسم بيع شيرج بشيرج والكسب فيه غير مقصود كالنوى في التمر، وهاهنا اللبن والشاة مقصودان. فرع آخر لو باع دجاجة فيها بيض ببيض، قال أصحابنا: لا يجوز وجهاً واحداً لأنه معتبر وهو موجود في جوفها. وقال في "الحاوي": فيه قولان مخرجان من القولين في الحمل هل له قسط من الثمن أو هو تبع لأن البيض كالحمل فإن قلنا: أخذ قسطاً من الثمن لا يجوز لأن بيع البيض بالبيض لا يجوز على قوله الجديد، وإن قلنا: بيع يجوز، وعلل والدي الإمام رحمه الله لهذا القول بأنه كالمستهلك ما دام في جوفها. مسألة: قال: "وكل ما لم يجز التفاضل فيه فالقسم فيه كالبيع". هذا جواب على أظهر قوليه وأجراهما على القياس وهو أن القسمة بيع لإفراز حق. وبه قال أبو حنيفة: ووجهه أن كل جزء من الدار مشترك بينهما فعند الاقتسام يصير كأن كل واحد منهما باع ما في يد شريكه من نصيبه بما في يده من نصيب [23/ب] شريكه، ومن قال إنها إفراز حق احتج بأنها لو كانت تبعاً ما صحت بالقرعة ولا استحقت الشفعة بها ولا افتقر إلى لفظ البيع وهذا اختيار أبي حامد. فإذا تقرر هذا ففائدة الخلاف في فصلين: أحدهما: في جنس فيه الربا يجوز بيع بعضه ببعضه كالبر والشعير فلا يجوز قسمتها وزناً إذا قلنا بيع، وإن قلنا إفراز حق يجوز بالوزن. والثاني: في جنس فيه الربا لا يجوز بيع بعضه ببعض كالرطب والعنب فهل يجوز قسمتها؟ قولان بناء على هذين القولين. وأما قسمة الثمار على رؤوس الأشجار فقد تقدم حكمها في كتاب الزكاة وقيل: إنما اختلف قول الشافعي في هذا الاختلاف قوله في خرص رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثمار المدينة هل كان لمعرفة قدر الزكاة أو لإفراز حقوق أهل السهمان، فإن قلنا: خرصها لمعرفة قدر الزكاة فيها وإنما كان إفراز الحق تبعاً لمعرفتها لا تجوز قسمة الثمار خرصاً وتكون القيمة بيعاً وإن قيل: خرصها [24/أ] كان لإفراز حق أهل السهمان جاز قمة الثمار خرصاً وكانت القسمة إفراز حق وتمييز نصيب.

فرع لو كانت الصبرة بينهما نصفين فاقتسما أخذ هذا قفيزاً وهذا قفيزاً، ولا يجوز لأحدهما أن يستوفي كل حقه منهما ثم يكتال للآخر ما بقي لجواز أن يتلف الباقي قبل أن يكتال الشريك الآخر ولأنهما استويا في الملك فيستويا في القبض. فرع آخر لو اتفقا على المبتدئ منهما بأخذ القفيز الأول جاز ولو لم يتفقا أقرع بينهما في أخذه ويكون استقرار ملك الأول على ما أخذه موقوفاً على أن يأخذ الآخر مثله فلو أخذ الأول قفيزاً فهلكت الصبرة يرد نصف القفيز. فرع آخر قبضهما بالكيل وحده دون التحويل بخلاف البيع والفرق أن المبيع مضمون على بائعه باليد فاعتبر في قبضه التحويل لرفع اليد فيسقط الضمان وليس في القسمة ضمان يسقط بالقبض بل هو موضوعه [24 أ/6] للإجازة وبالكيل دون التحويل تقع الإجازة. فرع آخر لو تقابضا بعض الصبرة ولم يتقابضا باقيها حتى افترقا صحت القسمة فيما تقابضا قولاً واحداً وكانت الشركة بينهما فيما بقي على الإشاعة. فرع آخر إذا قلنا: القسمة إفراز حق والشيء مما يتماثل أجزاؤه كالحبوب جاز أن ينفرد أحدهما بأخذ حصته عن إذن شريكه بخلاف الثياب فإن هناك يحتاج إلى الاجتهاد والنظر في طلب الأحظ فلم يجز أن ينفرد بالقسمة وإن أذن الشريك بخلاف هذا ولو انفرد أحد الشريكين بأخذ حقه من غير إذن شريكه فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأن لشريكه حق الإشاعة فلا يسقط إلا بالإذن. والثاني: يجوز له لأنه لو استأذنه لم يكن له أن يمنعه فجاز أن لا يستأذنه إذا استوفى قدر حقه منه. ذكره في "الحاوي"، وعندي الأصح الوجه الأول. وإن قلنا: القسمة بيع لا يجوز أن ينفرد أحدهما بحال لا بالإذن [25/أ] ولا بغير الإذن لأنه لا يجوز ذلك في البيع. فرع آخر لو مات رجل وخلف كلاباً ففي قسمتها وجهان، أحدهما: يقسم بالتقويم للضرورة كما يقوم الحر في معنى الحكومة للضرورة. والثاني: يقسم بالعدد. فرع آخر الدار إذا كان نصفها ملكاً ونصفها وقفاً مشاعاً فإن قلنا: القسمة إفراز حق، يجوز

قسمتها، وإن قلنا: إنها بيع فيه وجهان، أحدهما: لا يجوز لأن الوقف لا يقبل البيع وهو القياس، والثاني: يجوز، والمصلحة في هذا وبه أفتي لأنها لو تركناها شائعة بين وقف وملك تداعى ذلك إلى الخراب عند التنازع وإذا ميزنا الوقف عن الملك أقبل كل مستحق على عمارة حصته. مسألة: قال: "ولا يجوز بيع ثمر برطب بحال". بيع الرطب بالتمر على وجه الأرض لا يجوز بحال وكذلك كل ثمرة رطبة بيابسها كالعنب بالزبيب والخوخ الرطب بالمقدد ونحو ذلك. وبه قال سعد بن أبي وقاص وسعيد بن [25/ب] المسيب ومالك والليث وأبو يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة وحده: يجوز واحتج الشافعي بما روى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل عن شرى التمر بالرطب فقال: "أينقص الرطب إذا يبس، قالوا: نعم"، فنهى عن ذلك وروي أنه قال: فلا إذاً. وروي عن زيد بن أبي عياش أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن بيع البيضا بالسلت فقال له سعد: أيهما أفضل؟ فقال: البيضا فنهى. وقال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن شري التمر بالرطب وذكر الخبر، قال الشافعي: نظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المتعقب في اعتبار المماثلة فلما علم أنه ينقص في تلك الحالة أبطل البيع. وقيل: البيضا نوع من البز أبيض اللون وفيه رخاوة تكون ببلاد مصر، والسلت نوع من غير البز وهو أدق حباً منه، وقيل: البيضا هو الرطب من السلت وهذا القول أليق بمعنى الحديث وعلته: لأنه بين موضع النسيئة من الرطب بالتمر، وإذا كان الرطب منهما جنساً واليابس جنساً آخر [26/أ] لم يصح التشبيه. ذكره الخطابي في "غريب الحديث". وقوله: "أينقص الرطب إذا يبس"؟ لفظه لفظ الاستفهام ومعناه التقرير والتنبيه على علة الحكم لأنه لا يخفى ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بيع التمر بالتمر وعن بيع العنب بالزبيب كيلاً وعن الزرع بالحنطة كيلاً". فرع لو باع التمر الحديث بالتمر العتيق قال بعض أصحابنا: يجوز لأن النقصان يسير فيعفى كقليل التراب في الكيل وهذا لا يصح، والتحقيق أنه ينظر فيه فإن كان إذا جف تاماً ينقص وزنه ولا تتقلص جثته فلا يظهر في الكيل يجوز لأنه لا اعتبار بالوزن فيه، وإن كان يتقلص جثته ويظهر ذلك في الكيل لا يجوز. مسألة: قال: وكذلك لا يجوز بيع رطب برطب.

لا يجوز بيع الرطب بالرطب عندنا، وقال مالك وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد وأحمد والمزني: يجوز ذلك وهذا غلط لأنهما لا يتماثلان حالة الادخار والمماثلة معتبرة [26/ب] في تلك الحالة. فإن قيل: التفاوت يقل هاهنا فيجب أن يجوز كما في الحديث بالحديث، قيل: الفرق أن تفاوت الرطبين قد يتفاوت كتفاوت التمر والرطب وربما ينقص عنه قدر الثلث إذا صار تمراً ويفارق الحديث بالحديث لأنهما وإن نقصا فيما بعد فهما في أول حالة الادخار سواء والنقصان الذي يحصل فيما بعد نقصان غير بين. فرع لو باع الطلع بالرطب أو التمر فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجوز لأنه لم ينعقد بيع القصيل بالحنطة. والثاني: لا يجوز لأن نفس الطلع يصير رطباً أو تمراً ونفس القصيل لا يصير حنطة بل ينعقد فيه الحنطة، والثالث: وهو الأصح إن كان من طلع الفحول جاز كالقصيل، لأنه لا يصير رطباً وإن كان من طلع الإناث لم يجز لأنه يصير رطباً. فرع آخر لا ربا في البقول على القول القديم وعلى القول الجديد فيها الربا فإن كانا جنسين كالهندبا والنعناع يجوز بيع أحدهما بالآخر نقداً كيف شاء، وإن كانا جنساً واحداً [27/أ] كالهندبا بالهندبا. قال الشافعي: لا يجوز وقال ابن سريج: فيه قول آخر أنه يجوز لأنه معظم منفعته في حال رطوبته كاللبن باللبن وهذا أبلع لأنه لا يؤول إلى صلاح بحال بخلاف اللبن. فرع آخر لو باع ما كان مأكوله مستوراً في الأرض كالجزر والفجل والكراث والبصل والسلجم نظر فإن باع ما ظهر من ورقه مطلقاً لم يجز لأنه يطول فيختلط المبيع بغيره وإن شرط القطع جاز كما قلنا في الثمرة قبل بدو الصلاح. وأما بيع ما في بطن الأرض لا يجوز بحال ولا يشبه بيع خيار الروية لأنه إذا قلع فلم يخبره المشتري كان في رده ضرر على البائع ولا يمكن أن يقول يجوز ولا جاز لأنه لم يرها ولا يجوز أن يجعله سلماً لأنه عين ولأنه لا يمكن ضبطه بالصفات ولا يشبه بيع الجوز وإن كان المقصود مستوراً لأن بقاء الجوز في قشره بعد التناهي من مصلحته بخلاف بقاء هذه في الأرض بعد التناهي فإنه ليس من مصلحتها. مسألة: قال: "وإذا كان متبايعا الذهب والورق بأعيانهما [27 أ/6] إذا تفرقا قبل القبض كانا في معنى من لم يبايع دل ذلك على أن كل سلعة باعها فهلكت قبل القبض فمن مال بائعها". إذا ابتاعا صرفاً ذهباً بذهب أو ورقاً بورق أو ذهباً بورق فمن شرطه القبض قبل التفرق، فإن تفرقا قبل أن تقابضا أو قيل: قبض أحدهما بطل بدليل خبر عمر وعبادة رضي الله عنهما، ولو اختلفا بعد الافتراق فقال أحدهما: تفارقنا من غير قبض وقال

الآخر: تفارقنا مع القبض فالقول قول من يدعي الفسخ أيضاً. وأما إذا تبايعا غير الصرف كالثياب والعبيد والسلع فليس من شرطه القبض قبل التفرق ولكن متى تلف المبيع قبل القبض بطل البيع وسقط الثمن عن المشتري سواء طالب البائع بالإقباض فامتنع أو عرض البائع الإقباض فامتنع المشتري أو تلف من غير مطالبة واحد منهما وبه قال الشعبي وربيعة وأبو حنيفة، وقال مالك: عقد البيع يستتر بالعقد ولا يلحقه الفسخ بهلاك المبيع فإن طولب البائع بالإقباض فأبى أتم وصار عامياً يلزمه قيمته، وإن لم يطالب فلا شيء عليه وله [28/أ] الثمن وإن طالبه بذلك فقال: لا أسلم حتى أقبض الثمن يصير المبيع كالمرهون في يد المرتهن. وعند مالك: إذا تلف الرهن في يد المرتهن إن كان بآفة ظاهرة فهو من ضمان الراهن وإن كان بأمر باطن فهو من ضمان المرتهن. وذكر القفال عن مالك أن هذا إذا اشترى جزافاً فإن اشترى مكايلة أو موازنة لا يدخل في ضمانه حتى يقبضه بالكيل أو بالوزن. وقال أحمد وإسحاق مثل قوله إنه إذا تلف من غير تعدي البائع كان من ضمان المشتري، وقال النخعي: إن كان البائع بذلها للمشتري فامتنع من قبضها لم يبطل البيع بتلفها وكانت مضمونة على المشتري بالثمن، وإن لم يكن كذلك بطل البيع، وقال ابن سيرين: يعجبني هذا القول ومال إليه، وقال أبو ثور: يدخل في ضمان المشتري بنفس العقد حتى لو دخله عيب لا يرد به المشتري ولو تلف لا يسقط الثمن ويد البائع فيه يد وديعة، وقال بعض العلماء: يد البائع فيه يد ضمان بالقيمة لا بالثمن فيغرم القيمة ويدفع إليه المشتري الثمن وهذا كله غلط. واحتج الشافعي عليهم بالصرف [28/ب] فقال: لأنه بيع تعذر فيه القبض فيبطل كعقد الصرف إذا تفرقا عنه قبل التقابض بطل غير أن التعذر في الصرف من طريق الشرع لا من طريق المشاهدة وهاهنا من طريق المشاهدة والمشاهدة أقوى إذا ثبت بطلان العقد ثبت كونه من ضمان البائع. واحتج مالك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الخراج بالضمان، والخراج الغلة وهي للمشتري فكان الضمان عليه قلنا: لا حجة فيه لأنه لم يقل الضمان بالخراج، بل قال: الخراج بالضمان، ثم ورد في الرد بالعيب. تبقى الغلة للمشتري بعد رده بالعيب فإذا تقرر هذا لو باع عبداً بثوب وقبض الثوب ولم يسلم العبد فباع الثوب من غيره ثم تلف في يده العبد فقد انفسخ البيع في العبد والثوب قد تصرف فيه في وقت جاز له التصرف ويجب عليه أن يدفع إلى صاحبه قيمة الثوب كما إذا كان الثوب قد تلف في يده كان عليه قيمته وعلى هذا إذا باع عبداً بشقص وقبض الشقص أخذ الشفيع الشقص بالشفعة بقيمة العبد فإذا أخذه الشفيع ثم تلف العبد [29/أ] في يده قبل التسليم يبطل البيع في العبد ولا يبطل في الشقص ويجب عليه دفع قيمة الشقص إلى صاحبه ولو باع عبداً بثوب وقبض الثوب وباعه من

آخر ولم يسلمه إليه فتلف العبد والثوب في يده بطل البيع الأول في العبد دون الثوب وعليه قيمته لصاحبه الذي اشتراه منه وبطل البيع الثاني في الثوب وعليه رد الثمن إن كان قبضه فإن لم يكن قبضه فلا شيء عليه ولا على المشتري منه. مسألة: قال: "وإذا اشترى بالدنانير دراهم بأعيانها فليس لواحد منهما أن يعطي غير ما دفع عليه البيع". إذا تصارفا ذهباً بذهب أو ورقاً بورق أو ذهباً بورق لم يخل من أحد أمرين إما: أن يكون في الذمة أو معيناً فإن كان في الذمة وذلك على وجهين، أحدهما: أن يتصارفا ويصف النوع الذي يتصارفان عليه مثل أن يقول: بعتك درهماً فتحياً درهم راضي أو ديناراً قاسانياً بدينار نيسابوري ونحو ذلك فهذا الصرف يصح ويقع على النوع الذي ذكرناه. والثاني: أن يتصارفا [29/ب] في الذمة وأطلقا العقد فإن كان للبلد عرف نقد انصرف الإطلاق إليه حتى يصير كأنهما ذكراه في العقد ولا يدخل هذا في نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الكالئ بالكالئ لأن تعيينهما وقبضهما في المجلس كالتعيين في العقد. وحكى الإمام أبو عاصم العباداني أنه بمنزلة الأعيان الغائبة فإن لم يجوز بيع الغائب لا يجوز هذا لأن الشرع حرم بيع الدين بالدين فلو لم يقدر العوض عينا غائبة لما كان إلى تصحيح العقد سبيل وهذا ضعيف لما ذكرنا، وإن كان في البلد نقود مختلفة بطل العقل ولا بد في هذا الصرف من التقابض قبل التفرق فإن تفرقا قبل القبض بطل وإن تصارفا في العين مثل إن قال: بعتك هذه الدراهم بهذه الدنانير أو هذه الدنانير بهذه الدنانير تعينت بالعقد وفائدته شيئان: أحدهما: أنه لو أراد أن يعطيه بدلها لم يكن له. والثاني: أنها لو تلفت قبل القبض بطل العقد. وبه قال مالك، وقال أبو حنيفة: لا تتعين الدراهم والدنانير بالتعيين وله [30/أ] أن يعطي بدلها ولا يبطل العقد بتلفها أصلاً وهذا غلط لأنه عوض مشار إليه في العقد فوجب أن يعين كالحنطة. فرع لو تراضيا على الاستبدال عنها قبل التفرق فإن كانت معينة لا يجوز وعند أبي حنيفة يجوز وإن كانت في الأمة فهل يجوز الاستبدال عنها؟ قولان: أحدهما: يجوز فيأخذ مكان الدراهم دنانير أو سلعة كما يستبدل عما ثبت في الذمة فرضاً أو بدل متلف وهذا أقرب إلى الاختيار وهو المشهور وذلك ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله إنا نبيع الإبل بالبقيع بالدراهم فيأخذ مكانها دنانير والدنانير فيأخذ مكانها دراهم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا بأس إذا تفرقتما وليس بينكما لبس". وروي: "لا بأس

أن يأخذها بسعر يومها ما لم يفترقا وبينكما شيء"، وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن وابن شبرمة: لا يجوز اقتضاء الدراهم من الدنانير أصلاً، وقال ابن أبي ليلى: يكره إلا بسعر يومه لهذه الزيادة في الخبر وقال أبو سليمان الخطابي: والصواب هذا القول. والثاني: [30/ب] لا يجوز الاستبدال عنها نص عليه في "الجامع الكبير" وهو الأقيس لأنه مملول بعقد معاوضة فلا يستبدل عنه قبل القبض كالمبيع والمسلم فيه. فرع آخر لو عين مكيالاً أو ميزاناً نص الشافعي في السلم أنه يبطل السلم وأما في البيع اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه: أحدها: يبطل البيع به لتضمنه حجراً. والثاني: يتعين في العقد ويصح. والثالث: يصح العقد ولا يتعين ذلك وهذا أظهر لأنه لا غرض في تعيينه. وفي عين الدراهم إعراض منها، أن يعلم أنه من وجه حلال لكونه ميراثاً أو غنيمة، والثانى: أن يتقدم بها على سائر الغرماء، والثالث: أن يصير المشتري محجوراً عن التصرف فيها كالبائع في السلعة المبيعة. وقيل: فيه وجه رابع: إن كان كيلاً معلوماً للعامة لا يتعين لأنه لا فائدة وإن لم يكن معروفاً كالطاس والقعب فإن كان الحق حالاً يجوز لأنه يقدر على تسليمه في الوقت وإن كان مؤجلاً لا يجوز لأنه ربما يتلف الكيل الذي عينه وهكذا لو عين كيالاً أو وزاناً [31/أ]. فرع آخر لو باع صاعاً من حنطة بصاع من حنطة موصوفة ثم أحضرا في المجلس وتقابضا يجوز كالنقد وفيه وجه آخر لا يجوز حتى يكون أحدهما معيناً ولا يصح الفرق بينه وبين النقد. مسألة: قال: "فإن وجد بالدنانير أو الدراهم عيباً". فصل الكلام الآن في الإبدال إذا وجد العيب فيها فإن تصارفا جنساً واحداً ذهباً بذهب أو جنسين ذهباً بورق فظهر فيها عيب هل له الرد والإبدال؟ ينظر فيه فإن كانت عيناً بعين لا يخلو إما أن يكون العيب من جنسه أو من غير جنسه فإن كان من غير جنسه مثل إن بانت رصاصاً أو نحاساً لا يخلو أما أن يكون في البعض أو في الكل فإن كان في الكل فالبيع باطل نص عليه في الصرف لأنه باعه غير ما سمى، قال أصحابنا كما لو قال: بعتك هذا الحمار فكان فرساً أو بعتك هذا الثوب القطني فكان كتاناً يبطل البيع كذلك هاهنا. وقال في "الإفصاح": فيه وجه أنه يصح البيع ويخير المشتري لأن البيع وقع على عينه وهذا ضعيف. [31/ب] وإن كان هذا العيب في النقص بطل البيع في ذلك النقص وهل يبطل في الباقي؟ قولان بناء على تفريق الصفقة ومن أصحابنا من قال: هذا إذا كان الصرف بغير

جنسه فإن كان دراهم بدراهم فوجد هذا العيب في بعضها فالمذهب أن البيع باطل قولاً واحداً لأنه يؤدي إلى التفاضل وهذا صحيح وإن كان العيب من جنسه مثل أن يكون فضة رديئة أو ذهباً رديئاً بأن يكون خشناً تتشقق عند الطبع أو كانت رديئة الضرب من حيث الصنعة فالبيع صحيح لأن الجنس واحد ويكون بالخيار بين أن يمسك أو يرد ويفسخ البيع فإن أراد الرد والاستبدال فليس له ذلك سواء كان قبل التفرق أو بعده كما لو كان المبيع ثوباً أو حيواناً بعينه فأصاب به عيباً ليس له البدل لأنه لو أبدل أخذ غير ما وقع عليه العقد. وقال صاحب "التقريب": يجوز الاستبدال عنها قبل التفرق ولا يجوز بعده لأن حكم المتعاقدين ما داما في المكان الذي تعاقدا فيه كحكمها حال العقد بدليل أن الزيادة في الثمن والنقصان عنه [32/أ] وكذلك في الأجل يجوز في المجلس حتى قال: على هذا لو تعاقدا بثمن مجهول فلم يتفرقا حتى صيراه معلوماً صح العقد وهذا غلط؛ لأن الشافعي نص في المختصر: أنه لا يجوز الاستبدال ولم يفرق بين أن يكون قبل التفرق أو بعده بل ظاهر كلامه يدل على أن صورة المسألة قبل التفرق حيث عقب هذه المسألة بمسألة ثانية وهي: إذا كانت في الذمة لا يجوز إعلام الثمن في المجلس إذا وقع مجهولاً بحال لأن العقد وقع فاسد بشرط فإسقاط الشرط لا يبطله، وأما الزيادة في الثمن ونقصانه هل يجوز في المجلس؟ قولان. وإن سلمنا فلأن العقد وقع في الأصل صحيحاً فاحتمل الإلحاقات قبل استقرار العقد بخلاف مسألتنا لأنه وقع فاسداً، وإن كان هذا العيب بالبعض فله رد الكل والرجوع لما دفع إليه وله إمساك الكل ولا شيء له غيره وهل له أن يزد البعض المعيب ويمسك الصحيح؟ قولان. بناء على تفريق الصفقة فإن قلنا: لا يفرق فلا كلام، وإن قلنا: يفرق فله الرد بالعيب فإذا رد فبكم يمسك [32/ب] الصحيح؟ فإن كان جنساً واحداً أمسكه بحصته من الثمن قولاً واحداً ولا يجوز أن يمسكه بكل الثمن لأنه ربا وذلك لأنه ممسك ديناراً بدينارين وهذا لا يجوز، وإن كان الصرف جنسين فكذلك يأخذه بحصته من الثمن لأنه إذا أمكنه أن يأخذ الكل بكل الثمن فكيف يجوز أن يأخذ البعض بكل الثمن؟ لأنه يكون سفهاً ويكون رد هذا المعيب بغير فائدة ويفارق إذا باع عبدين فخرج أحدهما حراً، حيث قلنا: يمسك العبد بجميع الثمن على أحد القولين، لأن هناك لا يمكنه إمساك الحر معه بالثمن فدعت الحاجة إلى إمساك العبد وحده. وقال بعض أصحابنا: بكم يمسك الصحيح؟ هاهنا قولان أيضاً. ويفارق إذا كان الجنس واحداً لأن التفاضل فيه لا يجوز ولكن يقال له: إذا رددت البعض وأمسكت الباقي بكل الثمن لا فائدة لك ويكون سفهاً وهذا صحيح عندي، وإن كان البيع في الذمة فأصاب أحدهما عما قبضه عيناً لا يخلو إما أن يكون قبل التفرق فله الرد والبدل سواء كان المعيب من جنسه أو [32:أ] من غير جنسه، لأنه إن كان من غير جنسه مثل أن أقبضه نحاساً فقد أعطاه غير ما وقع عليه العقد والعقد بحاله لأنهما ما تفرقا فله مطالبته بما ملك عليه بعقد الصرف كالمسلم إليه إذا أتى بغير ما أسلم إليه رد إليه وطالب بما تناوله العقد، وإن كان في البعض مع القبض في الصحيح ورد ما ليس من جنسه وطالب بما يتناوله العقد، وإن كان العيب من جنسه كان له البدل، لأنه إذا كان له البدل إذا كان العيب من غير جنسه فبأن يكون له البدل إذا كان من

جنسه أولى ولكنه إن شاء رضي به، وإن كان العيب في البعض فقد صح القبض في الصحيح وفي الباقي وهو مخير بين الرضا وبين رده وأخذ البدل، وإن كان ذلك بعد التفرق ينظر فإن كان العيب من غير جنسه بطل العقد لأنهما تفرقا قبل قبض شيء من المعقود عليه، وإن كان العيب من جنسه لم يخل من أحد أمرين، إما أن يكون العيب بكله أو ببعضه فإن كان بكله فهو بالخيار بين أن [33/ب] يمسك أو يرد، فإن أمسك فلا كلام، وإن رد أو فسخ العقد فلا كلام. وإن أراد الرد وأخذ البدل غير معيب فيه قولان على ما ذكرنا، أحدهما: ليس له وهو اختيار المزني وهو الصحيح، لأنه إذا رده لا يأخذ بدل ما رده بل يأخذ الأصل الذي وقع عليه العقد وقد فارقه قبل قبض ذلك فيبطل الصرف ولأن الصرف يتعين بالعقد تارة وبالقبض أخرى، ثم ثبت أنه لو تعين بالعقد لم يكن البدل فكذلك إذا تعين بالقبض. واحتج المزني على هذا بأن الصرف في المعين وفي الموصوف سواء في اشتراط القبض قبل التفرق فوجب أن يكونا سواء في تحريم الاستبدال، والثاني: له ذلك وهو اختيار أبي حامد وبه قال أبو يوسف ومحمد لأن كل معيب يجوز إبداله قبل التفرق فجاز إبداله بعد التفرق كالمسلم إليه إذا دفع إلى المسلم المسلم فيه معيباً له أن يستبدله. ومن غير هذا أجاب عما ذكره القائل الأول فقال: أما الأول فلا يصح، لأن [34/أ] الذي قبضه وإن كان معيناً فهو قبض صحيح والمقبوض هو الذي وقع عليه العقد لأنه لو كان غيره أبطل العقد لأنه وجد التفرق قبل القبض ولما جاز له إمساكه والرضا به كما لو كان العيب والرد قطع للعقد من حين الرد لأنه رفع للعقد من أصله ولا فصل بين قبض المعيب وغيره إلا من جهة أن أحدهما: قبض لازم. والآخر: قبض جائز ولا يمنع ذلك صحة القبض فيهما، أما الثاني: باطل بما لو كان قبل التفرق تعين بالقبض وله الإبدال وأيضاً إذا تعين بالعقد فأخذ البدل أخذ غير ما اشتراه بخلاف مسألتنا، وأما الثالث: باطل لأنه لا يمتنع الفرق بين المعين والموصوف كما في جواز الاستبدال قبل التفرق، فإذا قلنا: بالأول قلنا: له الخيار بين الإمساك والرد فقط، وإذا قلنا: بالثاني فالخيار بين ثلاثة أشياء بين الإمساك وبين الرد والفسخ وبين الرد والاستبدال. وإن كان العيب بالبعض فإن كان من غير جنسه فالبيع يبطل في هذا [34/ب] البعض لأن القبض لم يوجد فيه في المجلس وهل يبطل في الباقي الذي قبضه فيه طريقان: أحدهما: يصح قولاً واحداً كما لو عقد على عبدين فمات أحدهما قبل القبض لا يبطل البيع في الباقي قولاً واحداً على الصحيح من المذهب لأنه فساد بعد العقد. والطريقة الثانية: هل يبطل في الباقي بناء على تفريق الصفقة؟ وهذا اختيار القفال وليس لمسألة العبدين لأن عدم القبض في الصرف فساد في نفس العقد إذ تمام الصرف بالقبض يصير على الباقي قولان. وإن كان العيب من جنسه فيه ثلاثة أقاويل، أحدها: لا تبدل ولكنه بالخيار إن شاء فسخ البيع في الكل، وإن شاء أجازه. والثاني: بالخيار إن شاء فسخ البيع في المعيب وأمسك السليم، وإن شاء رد الكل وفسخ البيع في الكل وهذا إذا بعضنا الصفقة. والثالث: أنه يبدل المعيب. وقال القفال: هذان القولان في الاستبدال مبنيان على أنه إذا اشترى شيئاً وأراد أن يرده بالعيب هل يكون رده إبطالاً

للقبض من [35/أ] حتى يصير كأنه لم يقبضه ولم يكن مالكاً له ويكون مالكاً له من قبل ويكون رده نقصاناً للقبض فيه قولان. وعلى هذا لو أسلم إلى رجل في جارية ثم قبضها ثم وجد بها عيباً وردها إليه هل يلزم البائع الاستبراء؟ وجهان: أحدهما: يلزم رده نقض للقبض الآن. والثاني: لا يلزم إذا قلنا رده إبطال للقبض من أصله وهذا غريب بعيد في المذهب. فإذا تقرر هذا قال المزني: وقد قال الشافعي: يرد الدراهم بحصتها من الدينار. ومراده بهذه الحكاية أن الشافعي علق القول في تبعيض الصفقة هاهنا ولم يعلق القول في موضع أخر والمزني يستأنس بمثل هذا في ترجيح أحد القولين على الثاني. فرع لو اشترى عشرة دنانير بمائة درهم وتقابضا البعض وافترقا فإن الصرف باطل في غير المقبوض ولا يبطل في المقبوض ولكنه بالخيار إن شاء رضي المقبوض بحصته من الثمن وإن شاء، رده وفسخ البيع لأنه لم يسلم له جميع ما وقعت عليه الصفقة ولا يجيء أن يقال ينفسخ العقد في الكل ولا يفرق [35/ب] الصفقة، لأن الصفقة وقعت بثمن معلوم ولفظ مباح وتعليل الشافعي في إبطال جميع الصفقة على أحد القولين أحد السببين، إما لأن العقد جمع مباحاً ومحظوراً، وإما لجهالة الثمن إذا فسدت الصفقة في بعضها، وهاهنا لم يوجد واحد منهما فلم يجز أن يحكم بفساد العقد في الكل. وقال ابن القاص: في هذه المسألة وفي رأس مال السلم إذا تفرقا وقد بقي البعض ولم يقبضه هل يبطل العقد في الكل؟ قولان بناء على القولين في تفريق الصفقة وهذا اختيار القفال وهذا قاله برضاه المحصلون من أصحابنا ولا يقتضيه مذهب الشافعي. فرع آخر قال ابن القاص: لو باع عبدين فتلف أحدهما في يد البائع قبل التسليم يبطل البيع في التالف ولا يبطل في الباقي قولاً واحداً، ورأس مال السلم مثله. ومن أصحابنا من قال: خرج أبو إسحاق فيه قولاً آخر: إنه إذا مات أحدهما يبطل العقد، وهذا غلط على أبي إسحاق لأنه ذكر في الشرح بخلافه ولعله محكي عن غيره وليس بشيء [36/أ]. مسألة: قال: "ولو راطل مائة دينار عتق مروانية ومائة دينار من ضرب مكروه بمائتي دينار من ضرب وسط". الفصل وقد مضت هذه المسألة في مسألة مد عجوة ودرهم بمدي عجوة، وقوله: راطل أي وازن والرطل يكون كيلاً ويكون وزناً. والأصل في هذا ما روي عن فضالة بن عبيد أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - عام خيبر بقلادة فيها ذهب وخرز، وروي فيها خرز معلقة بذهب ابتاعها رجل بتسعة دنانير والسبعة دنانير فقال: لا حتى تميز بينه وبينه. فقال: إنما أردت الحجارة

وروي التجارة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا حتى يميز بينهما" فرده حتى ميز بينهما هكذا في "سنن أبي داود". وذكر أبو عيسى الترمذي عن فضالة بن عبيد أنه قال: اشتريت يوم خيبر قلادة فيها ذهب وخرز باثني عشر ديناراً ففصلتها فوجدت فيها أكثر من اثني عشر ديناراً، فذكرت ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لا تباح حتى تفصل" قلت: لعلهما خبران وهو الظاهر. وقال أبو حنيفة في هذه الصورة: [36/ب] فإن كان الذهب الذي هو الثمن أكثر مما فيه من الذهب جاز، وإن كان أقل منه أو مثله لم يجز. وذهب مالك إلى نحو هذا إلا أنه يحد الكثرة بالثلثين والقلة بالثلث. وقال أحمد: يجوز وإن كان الثمن أقل. وهذا قول ظاهر الفساد لما فيه من صريح الربا، ولا يصح ما قال أبو حنيفة: إنا إذا كان الذهب الخارج أكثر يكون الذهب بالذهب سواء والزيادة بإزاء الحجارة، لأنه قال في الخبر: إنما أردت الحجارة ومع ذلك منع وقال: لا حتى يميز بينهما. مسالة: قال: "ولا باس أن يشتري الدراهم من الصراف ويبيعها منه إذا قبضها". الفصل إذا كان معه عشرون درهماً صحاحاً فأراد بها ثلاثين درهماً مكسرة فالوجه أن يشتري بها من الصراف ديناراً أو يتقابضا ثم يبيع الدينار منه بثلاثين مكسرة ولو جعل هذا عادته وتجارته جاز، وقال مالك: إنما يجوز ذلك مرة واحدة ولا يجوز أن يجعله عادة لأنه يضارع الربا، وهذا غلط لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -[37/ أ] استعمل على خيبر سواد بن غزية فجاءه بتمر حبيب فقال له: أكل تمر خيبر هكذا قال: لا، ولكنا بعنا صاعين من جمع بصاع من هذا وأراد بالجمع الدقل وهو جنس رديء فقال: أوه هذا عين الربا لا تفعلوا هكذا ولكن بيعوا الجمع بالدراهم واشتروا بالدراهم الحبيب والحبيب: الوسط من التمر هكذا قال الأصمعي في تفسير الجمع والحبيب وقيل: الجمع التمر الذي يجمع أنواع التمر، والحبيب الطيب، ويقال: إن أبا حنيفة افتتح كتاب "الحيل" بهذا الخبر. وإذا تقرر هذا لو قصد بهذا العقد أن يأخذ أكثر مما أعطى أو أقل مما أعطى جاز، ولا اعتبار بالقصد إلى الربا إذا لم يباشر ولكنه يكره ثم فيه ثلاث مسائل، إحداها: أن يتقابضا ويتفرقا أو يتخايرا ثم تعاقدا بعد ذلك فيصح قولاً واحداً، الثانية: أن يتخايرا قبل أن يتقابضا بطل الصرف لأنه كالتفرق وقد ذكرنا ما قيل فيه، والثالثة: أن يتبايعا ثم يتقابضا ثم يتبايعا ثانياً قبل التفرق والتخاير. فظاهر المذهب أن العقد

جائز لأن الشافعي قال ولا بأس [37/ب] أن يشتري الدراهم من الصراف ثم يبيعها منه فأطلق. وبه قال ابن سريج، لأنه إن كان الخيار قائمًا فإن شروعهما في العقد الثاني يقطع خيارهما معًا ألا ترى أنهما لو شرعًا فيه فلم يكملاه لزم العقد الأول وانقطع الخيار كالتخاير بعد القبض شرعًا. فإن قيل: أليس لو باع أحديهما ما قبضه من رجٍل آخر قبل التفرق والتخاير لم يجز؟ قلنا: الفرق أنه إذا باعه من غير بائعه فقد تصرف فيما لغيره فيه خيار ثابت ويملك رفعه عنه وهاهنا هما تعاقدا معًا ثانيًا فكأن شروعهما فيه رضًا بإمضاء الأول واستئنافًا للثاني وصح ذلك وعلى هذا لو اشترى شيئًا على أنهما بالخيار وقبضه ثم باعه من غير البائع لم يجز، وإن باعه من البائع جاز ويكون ذلك قطعًا للخيار. وقال القفال في كتاب التهذيب: لا ينعقد هذا البيع إلا على القول الذي يقول: (الخيار لا يمنع انتقال الملك)، لا يصح؛ لأنه لو باع غير ملكه إلا أن ذلك يكون قطعًا للخيار فيستأنفان العقد وعلى هذا قال: إذا اشترى جارية [38/ أ] فزوجها من البائع قبل التفرق فإن قلنا: يملك المشتري بالعقد جاز، وإن قلنا لا يملك لا يجوز وسقط خياره وعلى القول الأول وهو الأصح يجوز. وقال في (الحاوي): الأصح أنه لا يجوز البيع الثاني أصلًا لأن العقد الأول لم يستقر لا بالافتراق ولا بالتخابر والفرق بين التخابر والبيع أنهما إذا اختارا الإمضاء فقد رضي كل واحٍد منهما بإقرار مُلك صاحبه على ما انتقل إليه فاستقر به المُلك. وإذا اتفقا على البيع الثاني فكل واحد منهما لم يرض باستقرار ملك صاحبه على ما انتقل إليه فلم يستقر بذلك المُلك فصار حكم التخاير والبيع مختلفًا فلم يجز أن يكون في لزوم العقد متفقًا ولو جعلا مكان الدنانير ثوبًا أو شيئًا آخر حتى لا يحتاج إلى التقابض في المجلس بل يكفي قبض الثوب في المجلس أو بعد المجلس ليصح بذلك القبض البيع الثاني فالأمر أوسع. فرع لو كان معه عشرة دراهم صحاح ومع آخر أحد عشر درهمًا مكسرًة فلا يجوز بيع العشرة بالأحد عشر، والحيلة في ذلك أن يقرض كل واحٍد منهما صاحبه الذي معه ثم يبرئه عما حصل [38/ ب] له عليه أو يستبرئ منه الصحاح بعشرة مكسرة ثم يهب له ذلك الدراهم الباقي أو يهب كل واحٍد ما في يده لصاحبه من غير شرط ويكره أن يدخلا في البيع على ذلك. فرع آخر لو كان معه عشرة دراهم وليس معه سواها ومع آخر دينار قيمته عشرون درهمًا فأراد أن يعقدا فيهما صرفًا ويتفرقا بعد القبض من غير غبن، قال أبو إسحاق: يصح هذا من وجه واحٍد وهو أن يشتري صاحب العشرة نصف الدينار مشاعًا بالعشرة ثم يقبضه العشرة ويقبض الدينار منه نصفه وديعة ونصفه مبيعًا، ثم يستقرض منه العشرة فيشتري

بها النصف الباقي من الدينار ويقبضها منه ويملك هذه العشرة التي اقترضها بالتصرف فيها وهو يشتري ما بقي من الدينار بها. ومن أصحابنا من قال: يصح من وجه آخر أيضًا، وهو أن يشتري منه الدينار كله بعشرين في الذمة ويقبضه منه ثم يدفع إليه العشرة من ثمنه فتبرأ ذمته من نصف ثمن الدينار ثم يستقرضها من البائع فإذا قبضها فرضًا قضى بها ما بقي من ثمن الدينار فيصير [38 ب/ 6] الدينار كله له وقد أقبض جميع ثمنه وبقي عليه لبائع الدينار عشرة دراهم قرضًا، وقال أبو إسحاق: هذا لا يصح لأن البائع تصرف فيما قبضه من الثمن في مدة الخيار وفيه رد القرض قبل التصرف فيه ولا يملك القرض بالقبض حتى يقع التصرف فيه بعد القبض والصحيح هذا الوجه الثاني، لأن هذا التصرف وإن كان في مدة الخيار فهو من المتعاقدين فكان شروعهما فيه قطعًا للخيار كما قلنا في المسألة المتقدمة. وقوله: إن فيه رد القرض قبل التصرف فيكون فسخًا للقرض ليس كذلك لأنه يقضي به ما بقي في ذمته من ثمن الدينار ولا فرق بين أن يشتري مما اقترضه ما بقي من ثمنه وهذا اختيار القاضي الطبري، وعلى هذا لو باع درهمًا في الذمة بدرهم في الذمة ثم سلم أحدهما ثم اقترض الآخر وردها عليه هل يجوز؟ فيه وجهان مبنيان على أن القرض متى يملك؟ وعند أبي إسحاق: يبطل هذا الصرف هاهنا لأنه قبض قبل أن يستقر ملكه عليها لأنه لا يملكها إلا بالتصرف. فرع آخر لو كان له قبل رجٍل مائة مثقال ذهبًا [39/ب] فأعطاه مائة ديناٍر عددًا فكان وزنها مائة دينار ودينار، كانت المائة بالمائة التي عليه وبقي في يد القابض المائة والدينار دينار مشاع مضمون، لأنه قبضه على أنه عوض فكان مضمونًا وللذي أقبضه ذلك أن يهبه أو يأخذ به سلعة منه أو فضة، فإن أخذ سلعة جاز التفرق قبل القبض لأنه صرف، وإن اختار أن يقره في يده سلما في موصوف اتفقا عليه جاز. فرع آخر لو اشترى دينارًا بعشرين درهمًا في ذمته وكان معه من ثمنه سبعة عشر درهمًا فقبضها بائع الدينار وبقي من الثمن درهم لم يجز الفرق قبل قبضه، فالوجه فسخ العقد ويشتري من الدينار بقدر ما معه من الدراهم وهو تسعة عشر سهمًا من الدينار فإذا قبضه المشتري قبض هذه عن بيع وسلم الباقي أمانة في يده، ويفارق المسألة الأولى حيث يقبض هناك الدينار الفاضل مضمونًا وذلك أنه قبضه على أنه بدل في معاوضة وهاهنا قبضه أمانة لا على سبيل البدل فإذا ثبت هذا فللبائع أن [40/أ] يصنع به ما شاء كأنه وديعة مفردة، إن أحب أن يهبه من المشتري فعل، وإن أحب أن يأخذ منه عوضًا فعل كما قلنا في ذلك الدينار الفاضل. وقد قال الشافعي هاهنا: إذا اشترى بفضل الدينار ما شاء تقابضا قبل أن يتفرقا. وقال الربيع عقيب هذه المسألة: لا بأس وإن لم يتقابضا أيضًا وهكذا قاله في (البويطي)، وإن تفرقا قبل التفاسخ بطل الصرف بقدر ما قابل الدرهم وهل يبطل في الباقي قد ذكرنا.

فرع آخر لو باع درهمًا بدرهم فرجح أحدهما فلا بأس أن ينزل صاحب الفضل منهما فضله لصاحبه ولو اشترى ثوبًا بدينار فوزن المشتري الدينار فرجح في الميزان فأعطاه بائع الثوب بما فضل ذهبًا وهما لا يعلمان قدر الزيادة جاز لأنه يعتبر فيه التماثل وإن جهل القدر. فرع آخر لو اشترى دينارًا بعشرين درهمًا فوكل من يقبضه من البائع وانصرف المشتري من المجلس قبل قبضه بنفسه بطل الصرف، نص عليه الشافعي، لأن الوكيل في الإقباض ليس يقبض ومن شرط الصرف [40/ب] أن يتقابض المتصارفان قبل التفرق ولو أقبضه الوكيل قبل مفارقة الموكل المجلس جاز ذلك لأنه ما فارقه قبل القبض فإن يد وكيله كيده. فرع آخر لو أحال في مجلس الصرف بما عليه فإن لم يقبض حتى افترقا لا يجوز وإن قبض من المحال عليه قبل التفرق فيه وجهان بناء على أن الحوالة كالبيع أو هي عقد معونة وإرفاق فإن قلنا: بيع لا يجوز وأن قلنا بالوجه الآخر يجوز. فرع آخر لو اشترى رجٌل من صيرفي دينارًا بعشرة دراهم وقبض الدينار وللمشتري على الصيرفي عشرة، فقال: افعل هذه العشرة التي عليك بدلًا من الثمن لم يجز بحاٍل. وقال أبو حنيفة: إن حصلت العشرة عليه قبل الصرف لم يجز وإن حصلت بعده جاز، وهذا غلط؛ لأنه َصْرف ُعدَم فيه القبض فلا يجوز ولأنه يصير بيع دين بدين وذلك لا يجوز بالإجماع. فرع آخر لو أن الصيرفي أبرأ المشتري كانت البراءة باطلة لأنه أبرأ عما لم يستقر ملكه [41/أ] يجوز البيع وهو الأظهر؛ لأنها صفة يمتاز بها الموصوف عن غيره، والثاني: لا يجوز لأنها صفة غير الموصوف يجوز انتقالها عنه ذكره في (الحاوي). فرع آخر لو باع ثوبًا بدينار إلا درهمًا لم يصح لأن الثمن مجهول لأنه لا يعلم كم حصته من الدينار ولم يبق منها ثمنًا ويخالف الإقرار لأن الإقرار يصح المجهول. وقال في (الحاوي): إن جهلا أو أحدهما قيمة الدينار في الحال بطل، وإن علما قيمة الدينار فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأن الاستثناء من غير جنس الثمن لا يجوز. والثاني: يجوز لأنهما إذا علما أن قيمة الدينار عشرة دراهم وقد باعه بديناٍر إلا درهمًا صار كأنه قال: بعتك بدينار إلا ُعْشر ديناٍر والأول أصح لأنه لم يستثن قيمة درهم وإثما استثنى درهمًا فلا يلزم المشتري دفع الدينار كله لموضع الاستثناء ولا يلزم البائع دفع الدرهم لأنه ليس بمشترى فيتعذر استيفاء موجب العقد فبطل.

فرع آخر لو قال: اشتريت [41/ب] بمائة ديناٍر إلا دينارًا فقال: بعت فالبيع صحيح، لأنه يكون معلومًا وتقديره بعتك بتسعة وتسعين دينارًا. فرع آخر قال في الصرف: ولو كان عند رجل دنانير وديعة فصارفه فيها ولم يقّر الذي عنده الدنانير أنه استهلكها حتى يكون ضامنًا، ولا أنها في يده حتى صارفه فلا خير فيه لأنه غير مضمون ولا حاضر، ويمكن أن يكون بذلك في ذلك الوقت فيبطل الصرف. وقال أبو حامد: فإن قطعها على بقائها عنده صح الصرف، وكذلك إن ضمنها بالتعدي مع بقاء العين فإن استهلك ثم ابتاعها يجوز، لأنه يكون بيع دين بديٍن. فرع آخر لو كان عليه دينار فأعطى صاحبها دراهم من غير مصارفه تكون الدراهم قرضًا عليه ويترادان ولو أراد أن يحبس الدراهم ليسترد ماله لا يجوز لأن المقبوض عن بيع فاسد لا يجوز حبسه على استرجاع ثمنه. ولو استهلك الدراهم فلا وجه إلا أن يتباريا من غير شرط [42/أ] أو يقبض أحدهما ماله عند صاحبه ثم يقبضه عما في ذمته. ولو أراد أن يتقاصا لم يجز لأنهما جنسان فإن قال صاحب الدينار: أبرأتك على أن تبرئني من كذا درهم لا يجوز لأن الإبراء يبطل بالشرط وإنما يصح مع الإطلاق، ولو أن أحدهما يبرأه مطلقًا ولم يبرئه الآخر من شيء جاز وكان له مطالبته بحقه، وليس للمشتري مطالبة الآخر بشيء. فرع آخر لو اشترى رجل ثوبًا آخر بنصف دينار يلزمه كذلك أيضًا ولا يلزمه الصحيح فإن أقبضه المشتري دينارًا صحيحًا فقد زاده خيرًا، وإن اختار أن يقبضه دينارًا مكسرًا بنصفين جاز ذلك. وإن اشترى الثوب الثاني على أن يعطيه هذا النصف والنصف الأول دينارًا صحيحًا لا يخلو، إما أن يكون هذا بعد لزوم البيع الأول أو قبله فإن كان بعده فالثاني باطل والأول صحيح لأنه دخله شرط فاسد. وإن كان قبل لزوم البيع الأول بطل الأول والثاني معًا لأنه وإن كان وقت الزيادة في الثمن فتلك الزيادة مجهولة [42/ب] غير معلومة وليست بزيادة عين فبطلا. فرع آخر لو قال: بعتك بألف درهم مكسرة جاز وقيل: إنما يجوز إذا تقاربت القيم فإن تقاربت لا يجوز. فرع آخر لو قال: بألف غلة كسور ما جاز، ولو قال: بألف مثله أو بألف يجوز بالصحاح لا يجوز.

فرع آخر لو قال: بألف من نقد سرت كذا ونقودها متفقة يجوز وفيه وجه آخر لا يجوز. فرع آخر لو قال: بعتك بديناٍر فإن كان المقصود الصحاح انصرف إليه، وإن كان المعهود القراضة فكذلك، وإن لم يكن بينهما تفاوت وكلاهما معهود صح ومن أيهما سلم جاز، وإن كان بينهما تفاوت لا يصح. فرع آخر لو قال: بديناٍر صحيح فجاءه بدينارين صحيحين وزنهما دينار يقبل، ويحتمل عندي وجهًا أنه لا يقبل إذا كان بينهما تفاوت وقد يكون هذا في بعض البلاد عندنا. فرع آخر لو قال: بديناٍر صحيح فجاءه بدينار وزنه مثقال ونصف يلزمه قبوله والزيادة [43/أ] أمانة عنده ويحتمل عندي وجهًا آخر لا يلزمه قبوله لأنه لا يكلف محمل الأمانة. فرع آخر لو قال: بنصف ديناٍر صحيح، فإن لم يقل مدورًا أو شقًا من ديناٍر يجوز، وإن سلم ثقيلًا وأشركه فيه يجوز، وإن قال: مدورًا وهو عام الوجود يجوز، وإن كان نادر الوجود لا يجوز. فرع آخر لو اشترى رجل عشرين درهمًا نقرة بديناٍر، فقال له آخر: َوّلني نصفها بنصف ما اشتريت صح لأن التولية كالبيع، ولو قال: اشتر لنفسك عشرين درهمًا نقرًة بدينار ثم َوّلني نصفها فعل كانت النقرة له دون الإذن لأنه باعه نصفها من نفسه وهو غائب. فرع آخر لو دفع إلى صائغ فصًا وقال له: صغ لي خاتمًا من فضة حتى أعطيك بوزن الفضة فضة وأجرة الصنعة لم َيُجز لأنهما تبايعا فضة مجهولة بفضة وتفرقا قبل القبض وشرط فيه أن يعمل له عملًا. فرع آخر قال في الصرف: وإذا تصارفا لا بأس [43/ب] أن يطول مقامهما في مجلسهما ولا بأس أن يصطحبا من مجلسهما إلى غيره ليوفيا الحق، لأنهما لم يتفرقا فإن تعذر عليهما التقابض في المجلس وأراد التفرق يلزمهما أن يتفاسخا العقد بينهما فإن تفرقا

قبل التفاسخ كان ذلك فاسدًا وجرى مجرى بيع مال الربا بعضه ببعض نسيئة ولا يعنى تفرقها، لأن فساد العقد إنما يكون به شرعًا وهو كالعقد مع التفاضل فاسد ولكنهما يأثمان به. فرع آخر لو تبايعا عشرة دراهم فتحية بعشرة فتحية وتقابضا فتلفت إحداها في يد قابضها ثم علم بالعيب من جنسها فليس له أخذ الَارش، لأنه يقضي إلى التفاضل ولا يمكنه الرد لأن العين مفقودة فلا وجه أن يفسخ العقد بينهما ثم ترد عليه هذه الجيدة الموجودة ويكون عليه في ذمته عشرة رديئة يعطيه مثلها وقيمتها إن اتفقا عليه، ذكره ابن أبي هريرة. فرع آخر لو اشترى دينارًا بدرهم وقبض وتلف عنده ثم وجده معيبًا فيه وجهان: أحدهما له [44/أ] وهذا َاقيس فعلى هذا يرجع بَأرش عيب الدينار دراهم. ولو كان المبيع المعيب فضة رجع بأرش عيبها ذهبًا، والثاني: وهو قول أكثر أصحابنا لا يجوز ذلك لأمرين، أحدهما: أن الصرف أضيق حكمًا فلم يتسع له جوار الأرش فيه، والثاني: أن الأرش يعتبر بالأثمان فلم يجز أن يكون الأرش داخل في الأثمان فعلى هذا لا يخلو عيب الدينار المستهلك إذا لم يخرجه من الجنس من أحد أمرين إما أن يكون عيبًا فيصبح أن يكون صفة لما ثبت في الذمة أو لا يصح فإن كان يصح ذلك مثل أن يشتري دينارًا قاسانيًا فبان الدينار مغربيًا فعلى المشتري بدله مغربيًا، وإن كان لا يصح، أن يكون صفة لما في الذمة بأن كان مَبْهَرجًا فعليه إذا لم يرض بعينه أن يرد قيمته دراهم ولا يرد مثله لأن المَبْهرج لا مثل له ثم إذا رد مثل الدينار المعيب فيما له مثل أو رد قيمته ورقًا فيما لا مثل له فإن كان اشترى الدينار الذي بان عيبه بعينه لم يكن له المطالبة ببدله ولو كان له استرجاع [44/ب] ما دفع من ثمنه، وإن كان اشتراه في الذمة من غير تعيين فهل له الرجوع بالبدل سليمًا؟ قولان ذكره في (الحاوي). فرع آخر لو حصلت في ذمة رجل دراهم موصوفة وكانت نقدًا يتعامل الناس بها فحظر السلطان المعاملة بها لم يستحق صاحب الدراهم غيرها ولم يجز أن يطالب بقيمتها. وقال أحمد: له المطالبة بقيمتها ذهبًا في أخر يوم حظرها السلطان وهذا غلط؛ لأن أكثر ما فيه أنه ركس قيمته وما ثبت في الذمة لا يستحق بدله لنقصان قيمته كالحنطة فإذا ثبت أن له أخذ تلك الدراهم بعينها بعد الحظر لما كان له أخذها قبل الحظر فعدمت تلك الدراهم ولو توجد كان له حينئذ أخذ قيمتها ذهبًا لتعذرها واعتبار زمان القيمة في آخر أوقات وجودها والقدرة عليها، لأنه آخر وقت كانت عينها فيه مستحقة. فرع آخر لو ابتاع دينارًا أو ثوبًا بعشرة دراهم معينة من هذا النقد فحظر السلطان قبل القبض

المعاملة بها لم يكن ذلك عيبًا يستحق به الفسخ كرخص السعر ونقصه لأن [45/أ] العيوب ما اختصت بالصفات اللازمة. فرع آخر وقال: أيضًا لو قال البائع في مدة الخيار للعبد المبيع: أنت حر إن دخلت الدار هل يكون قطعًا لخياره؟ وجهان. فرع آخر لو باع بشرط الخيار بثمن مؤجل فالأجل من وقت العقد بلا إشكال ولو شرط أن يكون الأجل محسوبًا عقيب انقضاء الخيار وجهان: أحدهما: لا يصح البيع. والثاني: يصح البيع والشرط، وذلك أنه لو باع بثمن مطلق بشرط الخيار ثم شرط الأجل قبل انقضاء الخيار والأشبه أنه يصح، وهكذا لو باع من غير شرط الخيار بثمن مؤجل على أن يكون الأجل محسوبًا عند انقضاء خيار المكان ففي صحة البيع والشرط هذان الوجهان. فرع آخر لو باع بثمن مؤجل إلى ألف سنة هل يصح الشرط؟ يجب أن لا يصح لأنا نقطع على المشتري لا يبقى إلى هذه الغاية والأجل يسقط بالموت، وهو كإجارة الثوب إلى ألف سنة لا يجوز ويبطل البيع ببطلان هذا الشرط. فرع آخر لو قال لعبده: إن مت بعد ألف سنٍة فأنت حر هل يصير به مدبرًا فيه وجهان، وليس كالبيع والإجارة [45/ب] لأنهما ينزهان من الغرر بخلاف التدبير الذي يتضمن العتق والصحيح أنه لا يكون مدبرًا، لأنا نقطع على أنه لا يبقى إلى هذه الغاية وفائدة الوجهين فيمن قال: والله لا أدبر عبدي فقال له: هذا القول هل يحنث؟ وجهان. فرع آخر لو شرط الخيار أربعة أيام يومان للبائع ويومان للمشتري بعد انقضاء اليومين لا يجوز لأنه يزيد على ثلاثة أيام ولو شرطا خيار يوم للبائعين ويومين بعده للمشتري لم يجز لأن العقد إذا لزم في حق أحدهما يومًا لم يصح ثبوت الخيار له بعده كما لو شرط خيار يومين من بعد التفرق بيوم لا يجوز وإن شرطا خيار يوم للبائع وخيار يومين للمشتري من نصف يوم البائع لم يجز أيضًا لما ذكرنا ويحتمل أن يقال: يجوز في هذين الموضعين. ولو كان الخيار للبائع يومًا ثم زاد يومًا آخر للبائع لم يصح أيضًا، لأن خيار الشرط لا يثبت إلا باتفاقهما وهذه الحالة ليست كحالة العقد في حق المشتري، لأنه لا خيار له ويقول البائع بانفراده لا يثبت الخيار فأبطلنا الشرط لذلك. فرع آخر لو شرطا [46/أ] خيار ثلاثة أيام ثم أسقطا اليوم الأول سقط الكل هذا هو الأظهر،

وإن أسقطاه بشرط بقاء الخيار في اليوم الثاني والثالث فيه وجهان: أحدهما: لا يصح الإسقاط والخيار باق في الأيام الثلاثة، والثاني: يسقط الكل ويبطل شرطها، وإن أسقطا خيار اليوم الثاني سقط خيار اليوم والثالث وخيار اليوم الأول صحيح. فرع آخر قال والدي رحمه الله: إذا شرط خيار الثلاث للمكاتب فإن أراد نفى الخيار له بعد الثلاث بطل العقد قولًا واحدًا، وإن أراد نفي الخيار إثبات الخيار له في الثلاثة مع ثبوتها بعدها صح العقد ولا معنى لهذا الشرط، وإن أطلقا القول بلا إرادة فيه وجهان: أحدهما: لا يبطل. والثاني: يبطل لأن تقديره بثلاثة نقيض نفي الخيار بعدها كما لو قال لآخر: اقض ديني إلى ثلاثة أياٍم لم يكن له قضاؤه بعد الثلاث، ومن قال بالأول أجاب عن هذا بأن الأجنبي لا يقضي الدين عن غيره من ماله إلا بإذنه، فإذا قدر بالثلاث عاد الأمر بعد الثلاثة إلى ما كان من قبل وهاهنا الخيار ثابت للمكاتب أبدًا فشرطها خيار [46/ب] الثلاث يفضي إلى إثباته فإذا مضت ثبت الخيار بحكم العقد، ولا يكون هذا الشرط مفيدًا زيادة فائدة فصار كما لو باع عبده بعشرين بشرط حلول عشرة منها صح وكان الكل حالًا، ولا يقال النص على حلول العشرة يقتضي تأجيل الباقي فلا يصح البيع لجهالة الأجل كذلك هاهنا ويحتمل في مسألة الأجل وجهًا آخر أنه يبطل البيع بدليل الخطاب. فرع آخر لو شرطا أن يكون الخيار لعبد أجنبي فإن كان بإذن سيده جاز وإن كان من غير إذنه فيه وجهان. فرع آخر لو شرطا خيار يوم لأنفسهما ويوم بعده لأجنبي فيه وجهان، كما ذكرنا إذا شرطا يومًا للبائع ويومين بعده للمشتري، والأشبه أنه يصح هاهنا بخلاف تلك المسألة لأن المنع هناك لزوم البيع في حق أحدهما مدة ثبوت الخيار له وهذا غير موجود هاهنا، ولهذا لو باع ثم شرطا الخيار قبل التفرق لزيد صح وإن لم يملك زيد هذا الفسخ قبل اشتراطه، فلا بأس هاهنا أيضًا أن لا يملك الأجنبي الفسخ [47/أ] ثم يملك. فرع آخر لو قال: اشتري العبد بشرط الخيار قلنا: بإذن السيد لم ينقل حينئذ جاز إلى عبده كخيار الوكيل بخلاف خيار المكاتب ينقل إلى غيره في أحد الوجهين، وقد ذكرنا قبل هذا يثبت للسيد لأنه المالك في الحقيقة. فرع آخر قال: إذا شرطا خيار يوم لأنفسهما، ثم مات أحدهما قبل انقضائه فأراد الوارث مع العاقد زيادة يوم آخر للخيار يحتمل وجهين، أحدهما: يصح وهو الأشبه لأنه قائم مقام المورث ثم جازت الزيادة للمورث فكذا الوارث، والثاني: لا يصح، لأنه يتلقى هذا

الخيار عن الميت فلا يجوز إثبات خيار له بحكم العقد لم يكن ثابتًا للمورث. فرع آخر قال: إذا أتلف المبيع في مدة الخيار بعد القبض قلنا: لا يبطل الخيار وكان الخيار يومًا فزاد يومًا آخر بعد التلف يحتمل وجهين كما قلنا في الإقالة بعد تلف المبيع والمذهب [47/ب] أنه لا يجوز. فرع آخر قال: لو اشترى عصيرًا فصار خمرًا في يد البائع ثم صارت خلًا هل يصح البيع؟ وجهان بناء على أنها إذا عادت خلًا هل يعود الملك الآن أو يتبين به بقاء الملك حال كونه خمرًا؟ وفيه وجهان، وهو كالقولين في الرهن هل يعود بمصيرها خلًا؟ والأصح أنه يتبين به بقاء الملك حال كونه خمرًا، لأني لا أعلم خلافًا أن الرجل لو مات وترك خمرًا ثم صارت خلًا يقضي من ثمنه دين الميت وينفذ منه وصاياه ونظيره أن يبيع عبدًا فأبق قبل القبض هل يبطل العقد؟ قولان: والأصح أنه لا يبطل وللمشتري الخيار وعندي أنه يبطل على المذهب الصحيح لأنه زالت المالية بمصيرها خمرًا فيستحيل بقاء المبيع وإذا بطل المبيع لا يعود من غير تحديد. فرع آخر قال: رجلًان لهما عبدان فأذنا لهما بالتجارة فاشترى عبد أحدهما عبد الآخر وفعل الآخر مثل ذلك ولم يدر أيهما اشترك قبل صاحبه لم يصح واحد منهما، لأن عبد أحدهما إذا اشترى عبدًا لآخر صار المشتري مالك المشتري [48/أ] فلا يصح شري الثاني بعده فأشبه عين الصحيح من الفاسد فأبطلناهما كتزويج الوليين للمرأة من رجلين يبطلان عند الاشتباه لما ذكرنا. فرع آخر قال: لو وكل ببيع شيء أو شرائه فاشتراه الوكيل أو باعه ثم مات الموكل في المجلس بطل البيع لبطلان الوكالة قبل تمام البيع، ولو عزله عن الوكالة كان كذلك. فرع آخر أرض بين اثنين لا يعلم أحدهما مقدار حقه منها فباع جميعها من رجل ثم عرف نصيبه يصح إذا جوزنا تفريق الصفقة، لأن ما تناوله البيع لفظًا معلوم وفي كلام أصحابنا ما يدل عليه قالوا: إذا باع عبدًا ثم ظهر الاستحقاق في البعض صح في الباقي على هذا القول ولم يفصلوا بين أن يكون البائع عالمًا بمقدار نصيبه منها أو لم يكن عالمًا به. فرع آخر لو قال: بعتك هذا الثوب بعشرة فقال المشتري: اشتريته لفلان ولم يكن وكيلًا في الشراء هل يصح؟ وجهان والأشبه أنه يصح له. فرع آخر لو كان له عبدان أحدهما أصغر من الآخر [48/ ب] فقال: بعتك عبدي الأصغر مبارك

وكان اسمه غانم واسم الآخر مبارك صح لأن الاسم قد يتغير ولو قال: بعتك مبارك ولم يقل عبدي فالأشبه أنه لا يجوز، ويحتمل أن يقال يجوز، ولو قال: بعتك عبدي مبارك والمشتري لا يعلم من العبد الذي يسمى مبارك من عبديه لا يجوز لأن المعقود عليه مجهول. فرع آخر لو قال: بعتك هذا العبد وأشار إلى َأَمة لا يجوز، ولو قال: بعتك هذا العبد الكبير وكان صغيرًا صح، لأن الأول اختلاف الجنس وهاهنا اختلاف الصفة ولو كان هذا في العتق وقع العتق. فرع آخر لو قال الوكيل عند البيع: بعتك عبدي هذا هل يجوز؟ وجهان. فرع آخر لو باع دجاجة فيها بيضة فباضت في الحال ثم وجد بالدجاجة عيبًا هل يلزمه رد البيضة مع الدجاجة؟ وجهان بناء على القولين في الحمل. فرع آخر لو قال: بعتك هذا العبد بعشرة فقال: قبلت البيع فيه وفي عبد آخر أشار إليه بعشرة لا يجوز، [49/أ] ولو قال: بعتك هذين العبدين بعشرة أحدهما لغيره فقال: قبلت عبدك بعشرة فعلى القول الذي يقول لا يفرق الصفقة لا يجوز، وإذا قلنا: يجوز تفريق الصفقة فيه قولان؛ أحدهما: يجوز القبول وهذا إذا قلنا: يجوز البيع فيه بجميع الثمن، والثاني: لا يجوز وهذا إذا قلنا يأخذه بحصته من الثمن. فرع آخر إذا باع ثم اختلفا فقال البائع لم أكن بالغًا وقت المبيع وأنكر المشتري واحتمل ما قاله كل واحٍد منهما فالقول قول البائع لأن الأصل الصغر. فرع آخر لو باع عبدًا مسلمًا من مسلم وشرطا الخيار ثلاثًا لكافر، يحتمل أن لا يجوز لأن الكافر لا يملك العقد عليه للتمسك فلا يجوز شرط الخيار له كما لا يجوز شرطه للمجنون والصبي وكذلك لو باع من آخر صيدًا وشرطا الخيار للمحرم لا يجوز وهكذا ذكر والدي رحمه؛ الله، والأصح عندي أنه يجوز، لأنه من أهل الشرط والإجازة والرد ولا إذلال للمسلم في إجازته وفسخه. فرع آخر لو باع عبدًا وسلمه إلى [49/ب] المشتري وديعة، فقبضه ولم يعلم أنه المبيع فمات في يده فيه وجهان: أحدهما: أنه من ضمان البائع وعليه رد ثمنه، والثاني: أنه من ضمان المشتري وأصل هذا أنه إذا غصب طعامًا فأطعمه المالك وكان جاهلًا هل يزول الضمان عن تغاصب قولان والأصح أنه لا يزول.

فرع آخر لو باع من آخر دراهم معدودة على أنها عشرة دراهم وزنًا بدنانير ثم تبين أنها أكثر فيه قولان: أحدهما: لا يصح البيع، والثاني: يصح وللبائع الخيار، كما لو ظهر النقصان من العشرة للمشتري الخيار. فرع آخر العبد الموصى لمنفعته لواحد وبرقبته لآخر، فباع صاحب الرقبة ُنِظر فإن باعها من صاحب المنفعة صح وإن باعها من غيره وجهان وفيه وجه ثالث ضعيف لا يصح منهما. فرع آخر عبد بين رجلين اشتراه رجل منهما ولا يعلم المشتري كم تصيب كل واحٍد منهما جاز لأن حمله المبيع معلومة فصار كما لو باع عبدين بثمن واحد ويحتمل أن يقال: لا يجوز لأن عقد الواحد مع اثنين كعقدين فلا يجوز إلا [50/ أ] أن يكون ما يبيعه كل واحٍد منهما معلومًا ولهذا لا يجوز الرد بالعيب على أحدهما دون الآخر، وهذا صح عندي. فرع آخر لو كان عليه دين حال فدفعه إليه لشرط أن يبيعه ثوبًا، فالشرط باطل وهل له استرجاع ما دفعه إليه ليدفع غيره؟ القياس أن له ذلك لأن القبض فاسد بهذا الشرط، ولا يتعين بعض المال لقضاء الدين منه إلا باختيار من عليه. فرع آخر لو باع ثوبًا على أنه من قطن فإذا هو من كتان فإن لم يعلما لا يجوز وإن علما يحتمل وجهين: أحدهما: يجوز لأن الاعتبار بالإشارة ولا معنى لتسمية مع الإشارة عند العلم وقد ذكر المزني: لو قال: أبعتك هذا الفرس وهو يراه عبدًا أو هذا الرداء وهو يراه قميصًا أو هذا النعل وهو يراه خفًا يجوز البيع ولا اعتبار بالاسم وهذا صحيح؛ لأنه يصير كأنهما تلاعبا التسمية فوجودها وعدمها سواء ويعتبر الإشارة فعلى هذا في مسألة الثوب يجب أن يجوز. فرع آخر لو باعه على أنه تمر فكان رطبًا وكان [50/ب] رآه رطبًا هل يبطل البيع بهذا الشرط؟ وجهان: أحدهما: لا يبطل وللمشتري الخيار، والثاني: يبطل لأن هذا الاختلاف كاختلاف في الجنس، والأول أصح لأنهما جنس واحد ولهذا لا يجوز بيع أحدهما بالأخر متفاضلًا. فرع آخر إذا باع بدراهم مطلقة وفي البلد نقود مختلفة وفي البلد الذي هو أقرب إلى بلد، نقد واحد

وقال البائع وقت البيع: لا أعني نقد بلدنا ولا يجب أن تحمل كلامي عليه، هل يصح البيع حملًا لهذا البيع على نقد البلد الآخر؟ يحتمل وجهين: أحدهما: يصح لأنه إذا سقط حمله على عرف بلده يعين أقرب البلاد إليه كما قلنا في قسمة الزكاة، والثاني: لا يصح لأنه ليس بلد أولى من بلد بعدما سقط اعتبار بلده، وهكذا لو كان في بلده نقد واحد وفي البلد الذي يقربه نقد واحد فباع بدراهم واستثنى نقد البلد الذي هما فيه، هل يحمل على نقد البلد الآخر بقربه ليصح البيع أم لا؟ فيه وجهان أيضًا، ولو كان بلدان هما قريبان من ذلك البلد ولا بلد أقرب منهما، وسقط اعتبار نقد بلدهما [51/أ] قلنا: يعتبر بالأقرب في أحد الوجهين واستوي هذان البلدان في القرب ُنِظر فإن كان النقد فيهما واحدًا صح وإن كان نقدهما مختلفًا لم يجز لأنه ليس حمله على أحدهم بأولى من حمله على الآخر، وحمله عليهما لا يمكن فإن قيل: لم لا يقولون يحمل عليهما ليكون نصف الثمن من نقد أحد البلدين وأنصف الآخر من نقد البلد الآخر؟ قلنا: لأنه لا يمكن كما لو كان في البلد نقدان فباع بثمن مطلق لا يحمل على المباضعة بالإجماع كذلك هاهنا. فرع آخر إذا أعاد البائع المبيع من المشتري هل يبطل حق الحبس؟ قال والدي الإمام: لا يبطل حقه من الحبس كما في الرهن. وسمعت بعض أصحابنا بخراسان قال: يبطل حق الحبس لكون العقد يس بعقد الحبس بخلاف الرهن وهذا قول أبى حنيفة. فرع آخر إذا باع شيئًا في يده ولا يدري أنه له أو لا وقبض ثمنه هل يحل له ذلك من جهة أن اليد دلالة الملك؟ أو لا يحل من جهة أنه كلف فيما في نفسه الإحاطة؟ ينبغي أن لا يحل لأنه يكلف الإنسان [51/ب] فيما في نفسه الإحاطة إذا أمكن. فرع آخر إذا باع جلد الغنم بجلد البقر متفاضلًا هل يصح؟: يحتمل قولين بناء على القولين في اللحمان. فرع آخر إذا قال لآخر: بع هذا المال، فباعه ولم يقبل التوكيل ولا رده صح البيع. فإن قيل: فما معنى قولكم الوكالة تفتقر إلى القبول ويجوزون بيعه قبل القبول؟ قلنا: فائدته أنه لو وكل آخر بقبض دينه من رجل فتمكن الرجل من دفعه إلى هذا الوكيل ولم يتمكن من الدفع إلى الموكل نظر فإن قبل الوكيل الوكالة فعليه دفع ما عليه إليه لأن التمكن من دفع المال إلى الوكيل كالتمكن من دفعه إلى الموكل، وإن لم يقبل الوكالة لم يلزم الدفع لأنه لم يصر وكيلًا بعد وهذا قبل مطالبة الوكيل، فأما إذا طالبه بالدين عن الموكل يلزمه الدفع لأن هذه المطالبة جارية مجرى قبول الوكالة والرضا بها ويحتمل وجوب الدفع إليه قبل المطالبة لأن الدفع إليه موجب للبراءة فهو كما بعد القبول وفائدة

أخرى وهي أن الرجل [52/أ] إذا وكل بقبض العارية من فلان فوصل ذلك المال إلى يد هذا الوكيل وهو لا يعلم أنه ذلك المال الذي أذن له موكله فقبضه ُنِظر فإن كان قبل الوكالة زال الضمان عن المستعير، وإن لم يكن قبلها لم يزل الضمان، لأن المال لم يصل إلى يد صاحبه ولا وكيله، فإن قيل: لم لا يزول الضمان ويصح البيع؟ قلنا: لأن الشروع في أسباب البيع يقوم مقام قبول الوكالة والرضا بها والقبول تارة من جهة القول وتارة من جهة المعنى، وهذا غير موجود في مسألة الضمان لأنه لم يعلم أن المال لغيره الذي هو الموكل حتى يجعل قبضه كالرضا بالقبول. فرع آخر لو باع شاًة لبونًا بشرط أنها غير لبون أو حاملًا بشرط أنها غير حامل لم يصح البيع لأن هذا يقتضي استثناء الحمل واللبن من البيع، ولا يصح البيع مع هذا الاستثناء وفيه آخر يجوز كما لو باع عبدًا على أنه لا يد له وكان له اليدان صح، وهذا أصح. فرع آخر إذا أريد بيع مال اليتم وقت النداء يوم [52/ب] الجمعة للضرورة وهناك حران على أحدهما الجمعة دون الآخر ومن عليه الجمعة يطلبه بدينار ومن لا جمعة عليه يطلبه بنصف دينار من أيهما تباع؟ يحتمل وجهين: أحدهما: يباع ممن لا جمعة عليه كيلًا يوقع الآخر في معصيٍة. وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (الدال على الشر كفاعله)، والثاني: يباع ممن يطلبه بدينار، لأن الذي إليه هو الإيجاب وهو غير عاٍص به وإنما القبول إلى الطالب وهو الذي يقضي بالقبول، ويحتمل أن يرخص له بالقبول هاهنا لنفع اليتم إذا لم يؤد إلى ترك الجمعة كما يرخص للولي الإيجاب لحاجة اليتيم إليه. فرع آخر لو كان هذا الاختلاف في طلب العصير أو السيف والطالب يريد أن يجعل خمرًا أو آلة للقتل المحرم فمن أيهما يباع؟ فإن قلنا في المسألة قبلها يباع بأكثر فإن قلنا هناك يباع بالأقل يحتمل أن يقال هاهنا يبيع ممن يطلب بأكثر والفرق أن تلك الكراهية على التحريم وهذه الكراهية على التنزيه والكراهية تزول [53/أ] هاهنا لأنه ممنوع للبيع من غيره بالأقل فإن عليه طلب الحظ لليتيم ولا يجوز له البخس بحقه. فرع آخر لو باع دينًا له على رجل من قرض من رجٍل هل يصح البيع؟ وجهان، فإن قلنا: لا يصح فدفع المديون إلى المشتري هل يبرأ من حق البائع؟ وجهان: أحدهما: يبرأ الآن في ضمن البيع بالأذن بالقبض فصار كما لو دفعه إلى وكيله. والثاني: لا يبرأ لأن البيع فاسد ففسد ما في ضمنه ومقتضاه وأصل هذا إذا باع نجوم الكتابة من رجل لا يصح في أصح المذهبين، فلو أدى المكاتب النجوم إلى المشتري هل يعتق؟ وجهان.

باب بيع اللحم باللحم

باب بيع اللحم باللحم مسألة: قال: (واللحُم كله صنُف). الفصل جملته أن الشافعي نص على قولين في اللحمان: أنها أصناف أو صنف واحد والأصح أنها أصناف وهو اختيار المزني، وقد قال الشافعي: وهذا قول يصح ويقاس، وبه قال أبو حنيفة وأحمد في رواية، وقال بعض أصحابنا بخراسان: الأصح أنها صنف واحد وهذا غلط لأنها فروع لأصول هي أجناس فوجب أن تكون [53/ب] أصنافًا كالأدقة ولأن أصح القولين أن الألبان أصناف وهي رشح الحيوان واللحمان نفس الحيوان وذاته فهي أشبه بالأصناف. وقال مالك: اللحمان ثلاثة أصناف: لحم الوحشي والإنسي صنف، ولحم الطير صنف، ولحم دواب الماء صنف. وهي الرواية الثانية عن أحمد إلا أنه جعل الوحش صنفًا آخر. واحتج بأن القصد مختلف في هذه اللحوم فكانت أصنافًا وهذا لا يصح لأن منفعة لحم الإبل ولحم الغنم تختلف وهما صنف واحد عنده فإذا قلنا: إنها صنف واحد بينه الشافعي مما لا مزيد عليه فقال: اللحم كله أنسيه ووحشيه وطائره صنف، وأما السمك على هذا القول فالمذهب أنه صنف آخر. وقال أبو إسحاق: هو نوع من الصنف. كالطير لأن اسم اللحم يقع عليه قال الله تعالى: {وَمِنْ كُلٍّ تَاكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} [فاطر: 12]، فسمي السمك لحمًا وهذا غلط مذهبًا وحجاجًا. أما المذهب قال الشافعي: ومن قال هذا لزمه أن يقول السمك من الصنف وهذا لا يقوله أحد ونص في (الأم) أن الحيتان جنس غير جنس سائر اللحمان. وأما الحجاج هو أنه لا يضاف [54/أ] لحمه إليه وإنما يقال: سمك ولا يقال: لحم سمك فلا ينطلق عليه اسم اللحم ولهذا لو حلف لا يأكل اللحم فأكل لحم السمك لا يحنث وأما الآية قلنا: الله تعالى قيده بالإضافة إلى مسكنه فقال: {وَمِنْ كُلٍّ تَاكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّاَ} [فاطر: الآية 12]، فعلم أنه لحم بالتقييد لا بالإطلاق فعلى هذا اللحمان كلها صنفان فلحوم حيوان البر على اختلافها صنف، ولحوم حيتان البحر على اختلافها صنف، واختار القاضي أبو حامد في (الجامع) والقاضي الطبري ما قاله أبو إسحاق وقالا: لم يقل الشافعي على ما حكاه أبو حامد بل قال: ومن قال هذا لزمه عندي أن يقول مثله في الحيتان؛ لأن اسم اللحم جامع لها وقد أطلق الله تعالى فقال: {لَحْمًا طَرِيًّا} [النحل: الآية 14]، وعندي للأصح ما تقدم في القياس. والجراد: هل يكون من جنس اللحم؟ وجهان؛ لأن اسم اللحم لا ينطلق عليه ولا يكون صورته صورة اللحم. فرع لحمان حيوانات البحر مبني على ما تقدم فإن قلنا: لحمان حيوانات البر صنف

واحد أيضًا، وإن قلنا هناك، وإن قلنا قال الشافعي: والشمول أصناف مختلفة لأن اختلاف دواب [54/ب] البحر أكثر من اختلاف دواب البر وهل يلحق بها الجراد؟ وجهان، أحدهما: يلحق لأنه نقل في الآثار أن أصله سمك ولهذا حل ميتة الجراد، والثاني: لا يلحق لأنه حيوان بري يلزم الجزاء على المحرم بقتله. وقال في (الأم): كل ما كان على خلقة فهو جنس وما كان على خلقة أخرى فهو جنس آخر فالسمك صنف. وبقر الماء صنف وغنم الماء صنف، وقال القفال: الحوت المعروف الذي لا اسم له إلا الحوت كل صنفه واحد. وأما بقر الماء ونحو ذلك فإن قلنا: لا يتناوله اسم اسم الحوت ولا يحل ميتته فهي أصناف، وإن قلنا يحل ميتته وكلها حوت فهي صنف واحد فيحل على هذا كلب الماء وخنزير الماء وهو من جنس الحوت. فرع آخر إذا قلنا: اللحمان أصناف فلحم الإبل وأنواعها غرابها ونجابها صنف واحد وكذلك أنواع البقر وأنواع الغنم وبقر الوحش صنف والظباء صنف والأرانب صنف والضباع صنف وكذلك أصناف الطيور الكراكي صنف، والحباري صنف والأوز صنف [55/أ] والدجاج صنف والحمام صنف وقيل فيه وجه، أنه يلحق الظباء والإبل بالغنم لأنه يقرب منه كالضأن مع المعز ويلحق بقر الوحش بالإنس والأول أصح لافتراقهما في الزكاة والضحايا والهدايا وحد الحمام ما ذكر الشافعي في كتاب الحج فقال: كل ما عب وهدر فهو حمام من اليمام والفواخت والقماري والدباسي، ونص في الربيع أن كل هذا صنف والعصافير صنف، وقال الشيخ أبو حامد: هذا بعيد عندي كل واحٍد من هذه صنف، الحمام وأنواعه صنف، والقماري صنف والفواخت صنف وهذا لأنه يتفرد كل واحٍد باسم وصفة وهذا اختيار جماعة أصحابنا. فرع آخر في الشحوم قولان كاللحمان سواء. فرع آخر هل تكون الإلية وما حمله الظهر صنفًا من الشحم أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: أنها صنف من حملة الشحم. وبه قال مالك، والثاني: أنها أصناف مختلفة غير الشحم وبه قال أبو حنيفة. فرع آخر اللحم الأبيض والأحمر صنف وهما لونان، والشحم الذي على الظهر قد قيل [55/ ب]: إنه لحم سمين والشحم الذي في الجوف صنف آخر والإلية صنف آخر والطحال صنف غير الكبد والفؤاد صنف آخر وكذلك المخ والدماغ والكرش واللسان والمصران كل واحٍد منها صنف.

فرع آخر إذا قلنا ت اللحمان أصناف فالبيض أولى، وإذا قلنا; صنف واحد ففي البيض وجهان. فرع آخر بيض السمك هل يكون نوعًا من لحم السمك؟ وجهان: أحدهما: أنه صنف غير السمك كما أن بيض الطير صنف غير لحم الطير، والثاني: أنه نوع من لحم السمك لأنه يؤكل, معه حيًا وميتًا. فرع آخر الجلد إذا كان على اللحم، فإن كان غليظًا لا يؤكل معه منع من بيعه باللحم، وإن كان رقيقًا يؤكل معه كجلود الجدي والدجاج فهل يمتع إذا كان على اللحم من بيعه باللحم؟ وجهان كالعظم. فرع آخر إذا قلنا: اللحمان أصناف فمتى باع صنفًا يصنف آخر كلحم الغنم بلحم البقر ونحو ذلك جاز متفاضلًا ومتماثلًا، وزنًا وجزافًا رطبًا ويابسًا يدًا بيٍد، وإذا قلنا: إنها [56/أ] صنف واحد وقلنا: أصناف فباع الصنف الواحد بعضه ببعض رطبًا برطب فالمذهب أن البيع باطل، وكذلك إذا كان أحدهما رطبًا والآخر يابسًا لأن معظم منفعته في حال يبوسته، وقال ابن سريج: فيه قول آخر يجوز لأن العادة معظم منفعته في حال رطوبته كالفواكه والأول أصح لأن كل ما يتخذ منه رطبًا يتخذ منه يابسًا، ويدخر في حال يبوسته ولا يدخر في حال رطوبته. فرع آخر لو باع بعضه ببعض يابسًا فإن لم يتناه يبسه وبقي فيه رطوبة، وإن قلت: لم يجز وإن تناهى يبسه وجفافه لا يبقى فيه نداوة جاز، وبيع الشحم بالشحم والإلية بالإلية كاللحم باللحم فإن قيل: أليس بيع التمر بالتمر يجوز، وإن كان فيه رطوبة قليلة؟ قلنا: الفرق من وجهين: أحدهما: ما ذكره الشافعي أن التمر يباع كيلًا، وذلك القدر لا ينقص من الكيل وهذا يباع وزنًا وهذا القدر يظهر نقصانه في الوزن، ولهذا لو باع حنطة بحنطة وفي أحدهما دقاق التبن أو قليل التراب يجوز ولو كان هذا في الموزون لا يجوز، [56/ ب] والثاني: ما ذكره أصحابنا: أن تلك الرطوبة الباقية في التمر تذهب على مر الأيام ويتناهى يبسه بلا فساد وهاهنا بقاء الرطوبة يفسده فيمنع جواز البيع، لأنه ما انتهى إلى حال يدخر عليه. فرع آخر قال في (الأم): كان اللحم ببلدة ندية وكان إذا يبس ثم أصابه الندى رطب

باب بيع اللحم بالحيوان

حتى تثقل لم يبع بعضه ببعض حتى يعود إلى الجفاف لأن ذلك يؤدي إلى التفاضل. فرع آخر لو باع بعضه ببعض منزوع العظم يجوز بلا خلاف ويفارق التمر بالتمر منزوع النوى في أحد الوجهين، لأن بقاء النوى في التمر من مصلحته بخلاف بقاء العظم لما فيه من المخ وأيضًا التمر يباع كيلًا فإذا نزع منه النوى يختلف ويتجافى في الكيل بخلاف اللحم فإنه يباع وزنًا. فرع آخر لو باع مع العظم بلحٍم فيه عظم قال الاصطخري: يجوز لأن العظم فيه كالنوى في الثمر، وقال سائر أصحابنا وهو المذهب: لا يجوز، لأن العظم [57/ أ] فيه كالشمع في العسل وليس من مصلحته بخلاف النوى في التمر هكذا ذكره أبو حامد. وقال القاضي الطبري: قال أكثر أصحابنا: يجوز وحكي عن أبي إسحاق: لا يجوز. فرع آخر لو كان مملحًا فإن كان ذلك القدر من الملح يظهر في الوزن لا يجوز وإن كان لا يظهر في الوزن جاز مثل إن قدد بماء الملح لا يعين الملح وكذلك لا يجوز بيع الحوت بعضه ببعٍض طريًا ولا نديًا ولا مملوحًا، ولكن يجوز إذا بلغ غاية نفسه غير مملوح. فرع آخر لو باع المشوي بالنيء أو المطبوخ بالنيء لا يجوز بحال وقال مالك: يجوز المطبوخ باليابس وقال أبو حنيفة؛ يجوز النيء بالمشوي والمطبوخ وهذا غلط لأنهما يتفاضلان حال الادخار، لأن النار تنقص المشوي وتزيد في المطبوخ. فرع آخر لو ضم عظم من عضو آخر إلى لحم وباع بلحم آخر فيه عظم أو لا عظم فيه لا يجوز بلا خلاف، كما لو ضم النوى إلى تمر وباع بتمر لا يجوز، وإذا تقرر هذا [57/ ب] قال المزني: قطع قبل هذا الباب بأن ألبان الغنم والبقر والإبل أصناف. الفصل وهذا الذي ذكر المزني استشهاد بالخلاف على الخلاف لأن هناك قولين مشهورين أيضًا وحكي المزني القطع بأحد القولين في بعض المواضع والقطع بأحد القولين في بعض المواضع لا يقتضي تضعيف القول الثاني وتزييفه. باب بيع اللحم بالحيوان قال: أخبرنا مالك عن زيد بن أسلم الحبر بيع اللحم بالحيوان لا يجوز في الجملة، وبه قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - والفقهاء السبعة رحمهم الله، وذكر

الشافعي - رضي الله عنه - عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير وأبي بكر بن عبد الرحمن بن هشام من جملتهم والثلاثة الباقون الذين لم يذكرهم الشافعي هاهنا سليمان بن يسار وخارجة بن زيد بن ثابت وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود - رضي الله عنهم -، وهو قول مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يجوز على الإطلاق، وقال المزني: يجوز ذلك قياسًا. إلا أن يثبت [58/ أ] الخبر. وقال محمد: يجوز على التعديل فإن كان اللحم الخارج أكثر من اللحم الذي في الحيوان جاز حتى يكون اللحم باللحم متماثلًا وما زاد في مقابلة السواقط وإلا فلا يجوز وهذا غلط لما روى الشافعي عن سعيد بن المسيب (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع اللحم بالحيوان) وقال الشافعي: إرسال ابن المسيب عندنا حسن ورواه الزهري عن سهل بن سعد الساعدي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ورواه ابن عمر وأبو هريرة مرفوعًا أيضًا. وروي عن الشافي عن سعيد بن المسيب: (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع اللحم بالشاة الحية) وفي لفظ (نهى عن بيع الحي بالميت). وروى ابن عباس: (أن جزورًا نحرت على عهد أبي بكر الصديق فجاء رجل بعناٍق وقال: أعطوني جزورًا بهذا العناق فقال أبو بكر - رضي الله عنه - لا يصلح هذا). وروي أنه قال: (لا يباع حّي بميت) فإذا تقرر هذا فبيع اللحم بالحيوان إن المأكول من جنسه لا يجوز ولو باع لحم الغنم بالبقر، قال صاحب (الإفصاح): لا يجوز قولًا واحدًا، وقال غيره: إن قلنا: اللحمان جنس واحد لا يجوز، وإن قلنا: أجناس فيه وجهان: [58/ب] أحدهما: يجوز وبه قال مالك وأحمد وهو الصحيح لأن في الجنس لا يحرم التفاضل، والثاني: لا يجوز وهو ظاهر الخبر. وأثر أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - فيه. فرع آخر لو باع بحيوان لا يؤكل كالحمار والبغل فيه قولان: أحدهما: لا يجوز لظاهر السنة، والثاني: يجوز وبه قال مالك وأحمد وهو القياس؛ لأنه لا ربا فيما لا يؤكل والعلة في المأكول أن هذا الحيوان قد يصير مثل ذلك اللحم. فرع آخر لو باع السمك بالشاة فيه وجهان بناء على أن السمك هل هو صنف من اللحم أم لا؟ واختيار الماسرجسي أنه يجوز لأنه لا سمى لحمًا على الإطلاق. فرع آخر لو باع اللحم بالسمك الحي، فإن قلنا: السمك من جنس سائر اللحوم لا يجوز، وإن قلنا ليس من جنسها فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأنه لحم بحيوان، والثاني: يجوز لأن حي السمك في حكم ميتة بخلاف الحيوان.

باب ثمن الحائط يباع أصله

فرع آخر بيع الشحم بالحيوان أو الإلية به أو شري، [59/ أ] وقد قال الشافعي في كتاب (الرهن الصغير) وإرسال ابن المسيب عندنا حجة وإنما خصه لمعنى في مراسيله وص أنها مسانيد من طريق غيره ومراسيل غيره بقيت مقاطع إلى يومنا هذا فاحتجاج الشافعي واقع في الحقيقة بالمسند لا بالمرسل، وقد ثبت فيه قول المتقدم وهو ما روينا عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه -، ولأن مع هذا القول نوعًا من القياس وهو يقول لأنه جنس فيه الربا بيع أصله الذي فيه مثله فلا يجوز. كما لو باع الدهن بالسمسم والله أعلم. باب ثمن الحائط يباع أصله قال: أخبرنا ابن عيينة وذكر الخبر. إذا باع نخلًا عليها طلع لا يخلو إما أن يكون الطلع قد أّبر أو لم يؤبر فإن كان قد أّبر قال الشافعي: والتأبير أن يؤخذ شيء من طلع النخل فيجعل بين ظهراني طاع الإناث لتشتد برائحته وتقوى ولا يفسد ويكون لها صلاحًا بإذن الله تعالى، فهذا الطلع يكون للبائع ولا يتبع الأصل في البيع إلا أن يشترط المبتاع فيكون له بالشرط [59/ ب] وبه قال جماعة العلماء، وقال ابن أبي ليلى: وحده يكون للمبتاع بإطلاق العقد لأنها متصلة بالأصل اتصال الحلقة بالأغصان وهذا غلط لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (من باع نخلًا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع) إلا أن يشترط المبتاع ولأنه نماء ظهر من أصله فلا يتبع في البيع كالولد المنفصل وليس كالأغصان لأنه داخل في النخلة بخلاف الثمرة، وإن لم تؤبر فثمرتها للمشتري بإطلاق العقد إلا أن يشترطه البائع. وقال أبو حنيفة: يكون للبائع أيضًا إلا (أن يشترطه المشتري) وبقولنا قال مالك وأحمد والدليل عليه ما ذكرنا من الخبر، وأيضًا روي أن رجلًا ابتاع نخلًا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم اختلفا في الثمرة فقال البائع: الثمرة لي، لأنها أّبرت في ملكي فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (الثمرة لمن أبرأت في ملكه) وإذا تقرر هذا لو تشقق الطلع بنفسه وظهرت الثمرة فحكمها حكم ما لو شققة الصفار ليظهر. واعلم أن الطلع أول ما يخرج يكون الكافور وهو الجف والقشر مكممًا [60/ أ] له أي مغطيًا فإذا تشقق عنه الكافور ظهر العذق وحبه يكون صغارًا مثل الحمص أو دونه وإذا كان الحائط النخل فجاء حسل في ناحية الصبا وهبت الصبا وقت الإبار، فإن الإناث تتأبر بروائح طاع الفحاحيل. ثم قال الشافعي: فإذا جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الإبار حّدًا لملك البائع فقد جعل ما قبله حدًا لملك المشتري وقصد به الرد على أبي حنيفة ومعناه أنه - صلى الله عليه وسلم - جعل الإبار حدًا ليفصل بين ما قبله وبين ما بعده، فلا معنى للتسوية بينهما مع تفصيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. فرع لو باع الطلع وحده قبل تشققه قال أبو إسحاق: لا يجوز لأن المقصود معيب فيما

لا مصلحة له فأشبه بيع الثوب في الجراب، وقال ابن أبي هريرة: يجوز لأن قشره من مصلحته وهو كالرمان والموز واللوز ولأن الطلعة مأكولة جملتها وهذا اختيار القاضي الطبري غير أنه حكي هذا القول عن أبى إسحاق، والآخر عن أبى هريرة وهو الأظهر عندي واختار أبو حامد الوجه الأول وقال: [60/ ب] هذا هو المذهب لأنه لا يؤكل بقشره وإنما يؤكل ما في جوفه. ولو كان كما قال القائل الآخر لكان في حكم الظاهر، ويكون للبائع ومن قال بالوجه الآخر أجاب عن هذا بأنه يتبع الأصل ويكون للمشتري، لأنه نماء كامن خلفه في الأصل وينتهي إلى الظهور فكان تابع للأصل ولكنه إذا أفرده بالبيع جعله مقصودًا بنفسه وجملته مأكولة فلا معنى للمبيع من بيعه بشرط القطع. فرع آخر الوجوه التي تملك بها النخل أربعة عقد معاوضة بالتراضي كالبيع والصلح والصداق فبيع الثمرة غير المؤبرة فيها أصلها فالبيع منصوص عليه والباقي مقيس عليه، ومعاوضة لا على التراضي كرجوع البائع بعين النخل عند الفلس فهل يمنع الثمرة غير المؤبرة فيه النخل وجهان: أحدهما: يتبع لأنه انتقال ملك بعوض كالبيع وهذا أظهر، والثاني: لا يتبع لأنه يزيل الملك بغير اختياره بخلاف البيع. وقيل قولان وعلى هذا إذا بيع الرهن جبرًا على الراهن هل يتبع الأصل؟ فيه وجهان أيضًا وعندي هاهنا وجه [61/ أ] واحد أنه يتبع لأنه وجد منه الرضا بهذا البيع عند الرهن، وعقد ليس معاوضة ولكنه بالتراضي كالهبة والوصية فهل يتبع الأصل؟ فيهما قولان مخرجان والفرق بينهما وبين المعاوضة أن المعاوضة قويت في بابها لأجل العوض فنقلها مع الأصل وهذان ضعيفان في بابه لعدم العوض فلهذا لا ينقله مع الأصل. وأصل هذا إذا رهن نخلًا عليها طلع لم تؤبر هل يتبع الأصل في الرهن؟ فيه قولان منصوصان، ومعناه أنه عقد إرقاق والهبة والوصية مثله وعلى هذا لو وهب من ولده نخلًا حائلًا فاطلعت في يده، فأراد والده الرجوع فيها فرجع هل يتبع الأصل؟ على هذين القولين المخرجين. الرابع: أن لا يكون معاوضة ولا تراضي كالطلاق قبل الدخول فلا يرجع الزوج في غير المؤبر بلا خلاف وليس فيه مناقضة لما ذكرنا لأن كلامنا فيما لو انتقل ملك النخل عن ملك مالكه وهاهنا كون الطلع فيه يمنع الزوج من الرجوع وليس هذا من ذاك الباب والفرق مذكور في كتاب (الصداق)، قال في (الحاوي): [61/ ب] وعلى هذا الولد لا يسترجع في الهبة من الولد غير المؤبر قولًا واحدًا، لأنه لا معاوضة ولا تراضي. مسألة: قال: وأقل الإباِر أن يؤبر شيٍء من حائطه وإن لم يؤْبر الذي إلى جنبه. الفصل الإبار مخفف لا يجوز بالتشديد ويقال: أّبر النخل يؤبر تأيبرًا وأبرها يؤبرها إبرًا، وإذا كان للرجل بستان فيه نخيل قد أّبر بعضها ولم يؤبر باقيها فالكل للبائع كما لو أّبر كله بدليل الخبر ولأنا لو جعلنا المؤبر للبائع وغير المؤبر للمشتري أدى إلى المشاركة، واختلاف الأيدي على

الثمرة والخصومة التي لا تنقطع فجعلناها كالمؤبر كلها. فإن قيل: هلا ألحقتم المؤبرة بغير المؤبرة وجعلتم الكل كغير الموبر؟ قلنا: لأن المؤبرة ظاهرة وغير المؤبرة باطنه والباطن يتبع الظاهر والظاهر لا يتبع الباطن ألا ترى أنه لو باع دارًا بيعها يشتمل على ظاهر معلوم وباطن مجهول وهو أساس الحيطان وطي البير، فلو ألحقنا الظاهر بالباطن بطل البيع، وإذا ألحقنا الباطن بالظاهر صح [62/ أ] البيع فاعتبرنا حكم الظاهر وجعلنا الباطن المجهول تابعًا له كذلك هاهنا فإذا ثبت هذا متى أّبر شيء من الحائط وهى صفة واحدة كان كما لو أّبر كله ويكون الكل للبائع سواء كانت الثمرة نوعًا واحدًا أو أنواعًا مختلفة، وسواء ظهر كل الطلع أو ظهر بعضه دون بعٍض فثمرة هذا العام كلها للبائع نص عليه الشافعي. وقال ابن أبي هريرة: الاعتبار بما كان ظاهرًا وأما ما لم يكن ظاهرًا وظهر في ملك المشتري وكان قد تأخر ظهوره فللمشتري ولا يكون للبائع وهذا غلط والخبر والمعنى الذي ذكرنا عليه. وقال في (الحاوي): في المسألة وجهان، والصحيح ما قال ابن أبي هريرة والفرق بين ما لم يؤبر يجعل تابعًا لما أبر إن ما لم يؤبر يصح عليه العقد ويلزم فيه الشرط فجاز أن يصير تابعًا للمؤبر بخلاف الطلع ولو صح ما ذكره القائل الآخر جاز مع ما لم يخلق من الثمار تبعًا لما خلق. وقال ابن خيران: إن كان النوع واحدًا فعلى ما ذكرنا وإن كانت أنواعًا فلكل نوع حكم نفسه فالنوع الذي لم يؤبر شيء منه يكون للمشتري [62/ ب] لأن الأنواع يختلف إدراكها وطلوعها اختلافًا ظاهرًا متباينًا، وهذا إذا باع الكل المؤبر وغير المؤبر فأما إذا أفرد البيع نظر فإن باع النخلة التي قد أبرت بعضها فثمرتها للبائع وإن أفرد النخلة التي لم تؤبر بالبيع فيه وجهان: أحدهما: أنه للمشتري لأن المؤبر لم يدخل في عقد البيع فلا يستتبع غيره، والثاني: يكون للبائع لأن الحائط إذا أّبر بعضه فهو في حكم ما أّبر كله، ولو كان هناك حائطان متميزان فلكل حائط حكم نفسه فإذا أًبر في أحدهما في دون الآخر فالذي أّبر شيء منه في حكم المؤبر كله دون الحائط الآخر، لأَّنا إنما جعلنا الحائط الواحد في حكم المؤبر كله لسوء المشاركة واختلاف الأيدي وهذا معدوم هاهنا؛ لأن كل حائط مفرد عن صاحبه، ولهذا قلنا: الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة. ثم قال الشافعي: (ولو تشقق طلع إناثه أو بعضها فهو في معنى ما أّبر كله) وقد ذكرنا أن التشقق بنفسه بمنزلة التشقيق وكل ذلك أبلغ وإنه يلتحق بالجنين يبرز عند الولادة [63/ أ] ويسقط فلا يتبع الأصل. مسألة: قال: وإن كاَن فيها فحوُل نخٍل بعَد أن تؤبَر الإناَث فثمرَثها للبائِع. إذا كان في حائطه فحول وإناث فإن باع الإناث وحدها قبل التأبير فتمرتها للمشتري على ما ذكرنا وإن باع الفحول وفيها طلع مفرد عن الإناث فإن كان مشققًا فهو للبائع

وإن كان غير متشقق اختلف أصحابنا فيه فمنهم، من قال: هو للمشتري وهو ظاهر كلام الشافعي لأنه طلع لم يظهر ما فيه وقد يظهر كالإناث والمقصود من كل واحٍد منهما ما في جوفه ويقال الماء في جوف طلع الفحل كثر وهو الذي يلقح به طلع الإناث. ومن أصحابنا من قال: يكون للبائع لأنه يؤكل على جهته فهو نفس الثمرة ودائها كالتين. وقال صاحب (الحاوي): هذا أصح، لأن طلع الفحل يوجد قبل إباره ويكون حال تناهيه طعامًا وهذان الوجهان مخرجان من اختلاف أصحابنا في طاع الإناث هل يقاس على الحمل قياس تحقيق أو قياس تقريب، فإن قلنا: قياس تحقيق لا يصير طلوع الفحول مؤبرًا [63/ ب] اعتبارًا بالعرف يصير طلع الفحول مؤبرًا اعتبارًا بالعرف وإن جمع بينهما بعقد واحد والحائط ففيه ثلاث مسائل: أحدها: إن كان طلع الإناث قد تشقق دون طلع الفحول فالكل للبائع بلا خلاف لأن من جعل طلع الفحول قبل التشقق كالظاهر من جوف الطلع إذا فرده بالعقد فبأن يجعل كذلك إذا باع ما تشقق أولى وإن لم يتشقق شيء من طلع الإناث ولا الفحول فالمذهب أن الكل للمشتري. وقال بعض أصحابنا: الإناث للمشتري والفحول للباع وإن تشقق طلع الفحول دون طلع الإناث فعلى قول الشافعي: الكل للبائع، لأنه لا فرق بين الإناث والفحول، وعلى قول من فرق بينهما على ما ذكرنا: الإناث للمشتري والفحول للبائع وجملته أن عند الشافعي طلع الفحول وطلع الإناث بمنزلة طلع الحائط الواحد وعلى قول ذلك القائل بمنزلة طلع الحائطين. واعلم أنه اعترض معترض على الشافعي فقال: لا يقال فحل ولا فحول وإنما يقال: فحال للواحد وفحاحيل, وهذا لا يهم لأن قول الشافعي: [64/ أ] حجة في اللغة، وتردد به الشعراء: تأَّبري من َحَنٍذ فشولي إذا ضَّن أهل الَّنخل بالفحول فرع لو باع نخلًا فيها طلع وحصل الطلع للمشتري بأن لا يكون مؤبرًا أو كان مؤبرًا فشرطه للمشتري ثم تلف ذلك الطلع في يد البائع قبل القبض. قال في (الأم): للمشتري الخيار في فسخ البيع، لأنه نقص حصل في المبيع قبل القبض فإن اختار الرد فلا كلام، فإن اختار الإمساك فإذا أمسك قولان: أحدهما: بالحصة وهو الأصح، والثاني: بكل الثمن. فإن قيل: هلا قلتم تمسكه بكل الثمن قولًا واحدًا كما لو باعه عبدًا فذهبت يده بأكلٍه قبل القبض واختار المشتري الإمساك مسكه بكل الثمن قولًا واحدًا. قلنا الفرق أن العبد عين واحدة لا تتقسط الثمن على أجزاء وهاهنا عينان فيسقط الثمن عليهما وتمسك الباقي حصته من الثمن. فرع آخر قال الشافعي: في الصرف وإن باع [64 أ/ 6] نخلًا قبل أن تؤبر فثمرتها للمشتري فإن شرطها للبائع جاز لأن صاحب النخل بذل له كينونة التمر في نخله حين باعه إياها،

إذا اشترط أن يقطعها، فإن استثنى أن يقرها فلا خير في البيع لأنه باعه ثمرًة لم يبد صلاحها إلى أن يكون مقرة إلى وقت قد تأتي عليه الآفة قبله ثم قال: الاستثناء كالبيع يجوز فيه ما يجوز في البيع ويفسد فيه ما يفسد في البيع، وظاهر هذا أن البائع متى استثنى الطلع لنفسه قبل الإبار لم يجز إلا بشرط القطع، ولا يجوز مطلقًا كما لا يجوز شراها مطلقًا من دون شرط القطع وهذا لأنها خارجة من العقد بالشرط فاعتبر فيها حكم ما يعقد عليه العقد من اشتراط القطع ولم يذكر في (الحاوي) غيره. وقال: لو استثنى البائع نصف الثمرة بطل العقد لتعذر اشتراط القطع فيه، وقال سائر أصحابنا بالعراق أجمع أصحابنا على جواز هذا الاستثناء مطلقًا، وليس استثناءها ابتياعًا لها وتأَّولوا في هذه المسألة على أنه أراد أن المشتري [65/ أ] اشترى النخل مطلقًا فصار هو والطلع له، ثم إن البائع اشترى منه الطلع في النخل فلا يجوز بغير شرط القطع، وقيل: روى حرملة إذا كان اشتراها على أن يقطعها ووقع الخطأ في النخل من غيره من اشتراها إلى استثنائها. وقال القفال: نص الشافعي هكذا وأصحابنا اختلفوا على وجهين: أحدهما: ما ذكرنا، والثاني: لا يجب ذلك، لأنه استدامة الملك لا ابتداؤه وتأويل النص ما ذكرنا بدليل أن الشافعي قال: فإن رضي المشتري بتركها جاز لأنه رضي بترك ما باع فدل على أنه كان اشترى الكل ثم باع الثمرة وقال: يبتني الوجهان عندي على الوجهين في أنه هل يجوز أن يستثني منفعة الدار المبيعة شهرًا أو شهرين أو يبيع دابة ويستثني ظهرها ليركبها إلى بلد كذا؟ وفيه وجهان: أحدهما: يجوز كما لو باع ثم استأجر فعلى هذا يشرط هاهنا القطع، والثاني: لا يجوز، لأنه يصير بشرط تأخير تسليم المبيع فعلى هذا لا حاجة إلى شرط القطع لأنه استبقاء لا استثناء. وقيل: يبتنى على أصل آخر وهو: أنه [65/ ب] لو باع عبدًا وله مال وقلنا: يملك العبد هل يستتبع هو ماله؟ قولان، وإذا قلنا يستتبع جعلنا ذكر العبد في العقد كذكره مع ماله فهاهنا يلزمه اشتراط القطع. كما لو باع ثم اشترى، وإن قلنا هناك لا يستتبع فهاهنا لا يلزمه اشتراط القطع. مسألة: قال: (والكرسُف إذا بيَع أصلُه كالنخل). الكرسف: القطن ويقال له: الكرسوف، والبرس، والقطن ضربان حجازي وخراساني والحجازي: شجر قوي يبقى سنتين فيطلع ويلقط كلما طلع، فهذا كالنخل سواء يجوز إفراده بالعقد مطلقًا، ومع الأرض فإذا بيع وحده أو مع الأرض فالجوز الذي فيه كالطلع إن كان قد ظهر القطن في بعضه فكلها للبائع، وإن لم يكن ظهر شيء فكلها للمشتري. وأما الخراساني: فإنه لا يبقى إلا سنة واحدة ثم يحصد كالباقلاء فلا يجوز إفراده بالبيع إلا على شرط القطع، وإن باع الأرض معه صح وإذا باع وحده بشرط القطع أو مع الأرض نظر فإن كان الجوز الذي فيه [66/ أ] رطبًا ضعيفًا لم يقو ما فيه فالبيع جائز وذلك لا يجوز كالحشيش يكون للمشتري وإن كان الجوز الذي فيه قوي واشتد فالبيع باطل سواء ظهر بعضه أو لم يظهر منه شيء لأنه مقصود بالبيع مجهول [فهو]

كبيع الزرع في سنبله وإن تشقق الجوز وظهر كل الجوز يجوز بيعه بلا إشكال. مسألة: قال: (ويخالف، الثماَر من الأعناِب وغيرها النخُل). الكلام الآن فيما يتبع الأصل بإطلاق البيع وما لا يتبع وجملته: أن النبات على ثلاثة أضرب شجرة وما في معناه وزيع فالشجر على ثلاثة أضرب: ما يقصد ورده وما يقصد ورقه وما يقصد ثمره أما ما يقصد ورده فالورد الأبيض والأحمر والأصفر والياسمين ونحو ذلك فإذا بيع أصله نظر، فإذا كان قبل أن يطلع فما يطلع بعده يكون للمشتري وإن كان قد أطلع فعلى ضربين، ضرب في كمام ينفتح وهو الورد فما ظهر من الورد من كمامه فهو للبائع لأنه نماء ظاهر وما لم يكن ظهر من كمامه فهو للمشتري لأنه [66/ ب] نماء لم يظهر. وحكي عن أبي حامد أنه قال: ظاهر كلام الشافعي أنه للبائع، وإن كان في كمامه وهذا غير صحيح والقياس ظاهر فيما ذكرنا لأنه يكون كالطلع غير المؤبر. والضرب الثاني: ما يخرج بارز الأكمام عليه ثم يكبر وتتفتح كالياسمين فإن كان الورد قد برز فللبائع وإن لم يكن برز فإنه يحدث في ملك المشتري. وأما البنفسج فهو في معنى الورد، لأن أصله يبقى سنين ويخرج الجوز منه ثم ينفتح ويظهر فإن كان لم يتفتح فللمشتري. والنرجس كذلك، لأنه يبقى سنين ومن أصحابنا من قال: هو بمنزلة الزرع لأنه يحول كل سنة. وأما ما يقصد ورقه وهو التوت ويسمى الفرصاد فإن لم يكن ورقه ظهر فهو للمشتري وإن كان قد ظهر فيه وجهان. قال أبو إسحاق: هو للبائع، لأن الورق المقصود كالثمرة المقصودة وهذا أصح ومن أصحابنا من قال: هو للمشتري لأن له ثمرة مقصودة خاصة التوت الشامي فورقه كسائر الأوراق وكالأغصان. ومن أصحابنا من قال: [67/ أ] إن كان شاميًا يقصد ثمره دون ورقه فلا اعتبار بظهور ورقه، وإن كان يقصد ورقه فإنه يبدو في عقده ثم ينفتح عنها فإن كان في عقده تبع الأصل وإن انشقت العقد وظهر ورقها لم يتبع الأصل وكان للبائع وهو قريب من قول أبي إسحاق. وقال القاضي أبو حامد في (جامعه): قد قيل: ورق التوت يباع إذا خرج من كمامه وبه يبدو صلاحه. وقال النخعي وعطاء: يباع إذا صار مثل أرجل البط وهو بدو صلاحه، وأما الحناء فيقصد ورقه أيضًا بعد تفرخ أغصانه من غير أن يكون في عقده سفح عنها فإذا بدا ورقه بعد التفرخ ثم باع شجره كان في حكم النخل المؤبر فيكون للبائع. أما ما يقصد ثمرته فعلى خمسة أضرب: أحدها: ما يظهر ثمرته بعينها ترى في أولها كما ترى في آخرها لا حائل دونها من كمام ولا قمع كالتين فإذا باع أصله فإن كانت قد ظهرت ثمرته فهي للبائع وإن لم يكن ظهرت فللمشتري وكذلك العنب. والثاني: ما يخرج في كمام ولا يزال عنه الكمام إلا [67/ ب] عند الأكل، وهو

الرمان (واللوز) يظهر في كمامه ولا يزال يكّبر الكمام ويرى في أوله كما يرى في آخره، فإذا باع الأصل وقد ظهر شيء من هذا فهو للبائع لمعنيين، أحدهما: معنى الشافعي وهو أنه يخلق في قشره وبقاؤه فيها من مصلحته وإنما يزال عنه القشر عند الأكل، والثاني: ما ذكره أصحابنا وهو أن هذا يقشر نفس الثمرة فإنه يدخر عليها وإنما تزال عنه القشرة عند الأكل ويباع بقشره فهو كالتين. والثالث: ما يخرج في كمام ثم ينشق الكمام وتظهر الثمرة وهو النخل وقد ذكرنا حكمه. والرابع: ما يظهر وعليه قشرتان عليا وسفلى وهو الجوز والرانج واللوز كل هذا يخرج وينعقد وعليه قشرتان تتشقق العليا منهما وتظهر الثانية التي تلي اللب نص الشافعي عليها في (الأم) فقال: إذا باع رجل أرضًا فيها شجر رمان وجوز ورانج وغيره مما دونه قشر يواريه إذا ظهرت ثمرته بثمرته للبائع، إلا أن يشترطها المبتاع فسَّوى بينها وبين الرمان وجعل [68/ أ] كلها للبائع. وقال أصحابنا: أراد الشافعي إذا تشققت القشرة العليا عن الجوز واللوز وبقيت السفلى فتكون في هذه الحالة كارمان لا يتبع الأصل لأن بقاء هذا القشر من مصلحته لا يزال عنه إلا وقت الحاجة إلى أكله، فأما إذا كانت عليه القشرة العليا بحالها يكون للمشتري لأن تلك القشرة تزول عنه فهو كالطلع غير المؤبر ولم يذكر في (الحاوي) غير هذا. وقال أبو حامد مثل هذا، وقال: يحتمل أن الشافعي لم يعلم أن للجوز واللوز قشرتين عليا وسفلى، لأنه ليس بالحجاز شجر الجوز واللوز فحمل أمره على أن له قشرة واحدة، ولهذا قال الشافعي حين جمع بين هذه الأشياء التي دونها حائل لا يزال عنه إلا وقت الحاجة إلى أكله، فهو في معنى ما تخرج ثمرته بارزًا وهذه صفة القشرة السفلى دون العليا ويفارق الطلع، لأنه يتشقق في شجره وتحصل ثمرته بخلاف هذا. ورأيت القاضي الطبري ذكر الجوز مع التين في تصنيفه في المذهب والخلاف وهو ظاهر كلام [68/ ب] الشافعي والأقيس ما تقدم. والخامس: ما يظهر ورده أولًا ثم يتناثر وتنعقد ثمرته كالتفاح والسفرجل والإجاص والخوخ ونحو ذلك. وقال أبو إسحاق: وعصيره إذا بيع أصل هذه الثمرة وكان الورد عليها لم يتساقط عن الثمرة ولم يظهر بعد، فهو كالطلع الذي لم يؤبر يكون للمشتري وإن كان الورد قد تناثر وظهرت الثمرة يكون للبائع. وقال القفال: إذا تحبب ثمارها فللبائع. وان كان النور باقيًا عليها وان لم تحبب فالنور كالورق. وقال أبو حامٍد: الذي يجيء على المذهب أن النْور يكون للبائع كالطلع الموبر، لأن الشافعي قال: ويخالف الثمار من الأعناب وغيرها النخل فكل ثمرة تخرج بارزة فهي بمنزلة الطبع المؤبر، وأراد به أن سائر الثمار من العنب وغيره تخرج ثمرتها وعليها ورد ويشاهد من بين ذلك الورد ثم يتساقط الورد عليها وتبقى الثمرة وتكبر فهي بمنزلة الثمرة البارزة من الطلع والدليل على هذا أنه لا خلاف أن الطلع إذا أّبر يكون للبائع والطلع إذا أّبر لم تظهر الثمرة بل ظهر منها ما يجري مجرى

[69/ أ] شجر البائع إلى أوان الجذاذ، وبه قال مالك وأحمد. وقال أبو حنيفة: يلزم البائع والمشتري قطعها في الحال فإن امتنع أجبر عليه وهذا غلط لأن النقل والتفريع للمبيع يجب على العرف والعادة كما لو باع دارًا مشحونة بالأمتعة والطعام لا يجب نقلها إلا على العادة شيئًا بعد شيء في النهار دون الليل كذلك هاهنا، فإن قيل: هذا في معنى استثناء منفعة المبيع لنفسه وذلك لا يجوز، قلنا: هذا لا يجوز شرطًا فأما إذا ثبت العرف فيه جاز شرعًا، كما لو باع أمًة من وجه يصح ومنافع البضع للزوج في معنى الاستثناء شرعًا كذلك هاهنا. فإذا تقرر هذا فإنما له ذلك على ما جرت به العادة بالنقل عن الشجرة، فإن كان عينًا نقله إذا استحكمت حلاوته، وإن كان فاكهة نقلها لفظها إذا تناهى إدراكه، كان نخلًا فكذلك حين تتناهى حلاوته إلا أن يكون مما يؤكل بسرًا وبسره حيز من رطبه كالحيسوان فإنه تجده حين يستحكم حلاوة بسره لأن هذا هو العادة. قال في الأم: فإن استحكم حلاوته فعليه نقله، وإن [69/ ب] قبل إبقاؤه في شجرة خير له وإبقاء له لأن عادة النقل قد حصلت فليس له التبقية كما لو اشترى دارًا فيها بز فعلى البائع نقله، وإن كان بقاؤه في هذه الدار حرز له كذلك هاهنا. مسألة: قال: (وإذا كاَن لا يصلحها إلا السقُي فعلى المشتري تخلية البائع). إذا حصلت الثمرة للبائع والشجر للمشتري فأراد أحدهما السقي وامتنع الآخر لم تخل من أربعة أحوال: إما أن يضر بالنخل والثمرة معًا أو لا يضربهما وينفعهما أو يضر بالنخل دون الثمرة أو بالثمرة دون النخل. فإن كان يضربهما وهذا إنما يتصور في غير النخل فأما النخل فينفعه السقي أبدًا، فأيهما طلب السقي لم يجبر الآخر عليه لأنه سفه وتضييع، وإن كان السقي ينفعهما فأيهما طلب أجبر الآخر عليه، لأنه لا فائدة في الامتناع مما ينفعه ولا يضره. وقال في (الأم): وإن اختلفا في عدد السقي فقال أحدهما: كل عشرة أيام، وقال الآخر: أكثر رجعنا إلى أهل الخبرة ويعمل على ما جرت ولا فرق بين أن يكون الطالب البائع والممتنع المشتري أو الطالب [70/ أ] المشتري والممتنع البائع. فإن قيل: هلا قلتم السقي أبدًا على المشتري، لأنه صاحب الأصل ومالك الشجرة والثمرة لغيره كما قلتم فيمن باع ثمرة نخله، فالسقي على البائع حتى يستوفي المشتري؟ قلنا: الفرق أنه إذا باع ثمره فعليه إقباضها وتسليمها على التمام وسقي الأرض من تمام الإقباض فكان السقي عليه وهاهنا الثمرة وقعت مستثناة للبائع على ملكه ولكنها باقية علي شجرة المبتاع، وليس على المشتري إقباضها ولا تسليمها لأنه ما باع فلهذا لم يكن السقي عليه ثم ينتظر، فإن سقيا معًا فالأجرة عليهما وإن سقى أحدهما دون الآخر فالأجرة على الذي تولى السقي دون الآخر لأن كان السقي يضر بالنخل وينفع الثمرة فأراد البائع السقي. قال أبو إسحاق: يقال للمشتري: أتسمح بأن يمكنه من السقي وإن

أضَّر بك؟ فإن فعل أقر العقد بينهما وإن قال: لا أسمح قيل للبائع أتسمح بترك السقي وإن أضر بك؟ فإن فعل أقر العقد بينهما، وإن قال: لا أسمح فسخ العقد بينهما لأنه ليس أحدهما بإدخال الضرر عليه بأولى من الآخر. وقال ابن [70/ ب] أبي هريرة: يجبر الممتنع على التمكين من السقي لأنه دخل في العقد على البائع ببقية الثمرة إلى وقت الجذاذ، وهو يعلم أن الثمرة تحتاج إلى السقي فلزمه الرضا بذلك، وإن كان يضر بالثمرة وينفع النخل فعلي الوجهين قال أبو إسحاق: على التفضيل. وقال ابن أبي هريرة: يجبر البائع على التمكين منه، لأنه دخل في العقد على هذا وأيهما سقى فالأجرة عليه لأن المنفعة حصلت له فإذا تقرر هذا قال الشافعي: وإنما له من الماء ما فيه صلاح الثمرة لأن البائع متى وإلى السقي بعد السقي مجاوزًا للحد أضر بالأشجار وكما يتضرر بالعطش المفرط كذا يتضرر بالري المفرط. فرع لو انقطع الماء وعطشت الثمرة وتركها على الأصل يضر بالأصل فطالبه المشتري بقطعها فإن كان ضررًا يسيرًا لم يلزمه القطع، وإن كان ضررًا كبيرًا يخاف من جفاف النخل أو نقصان حملها. قال في (الأم): فيه قولان: أحدهما: لا يجبر البائع عليه، لأنهما سواء في الحق والمشتري دخل في العقد على هذا، والثاني: يجبر عليه وهو الصحيح لأنه ممنوع من الإضرار [71/ أ] بالمشترى في الأصول التي باعها وضرر الأصول أكثر. مسألة: قال: وإن كانت الشجرُة مما تكون الثمرُة فيه ظاهرًة ثم يخرُج منها قبَل أن تبلَغ الخارجَة ثمرة غيرها. الفصل ذكر المزني هاهنا مسألتين. احديهما: إذا باع شجًرة عليها ثمرة ظاهرة فالثمرة للبائع فلم يأخذ الباع الثمرة حتى حدثت ثمرة أخرى واختلطت بالخارجة اختلاطًا لا يتميز، هل يبطل البيع أم لا؟ الثانية: إذا باع الثمرة دون الشجرة فملكها المشتري ولم ينقلها حتى حدثت أخرى واختلطت بالمبيع اختلاطًا لا يتميز هل يبطل البيع أم لا؟ وينبغي أن يتكلم على الثانية ثم على الأولى وهي إنما يكون في التين والباذنجان والقثاء والخيار والبطيخ يتبع الظاهرة منها، ثم تحدث أخرى فتختلط بها فإذا اختلطت بها ُنظر، فإن تميزت الخارجة من الحادثة وهي عبارة الشافعي، تسمى الأولى: خارجة. والثانية: حادثة، فالخارجة للمشتري والحادثة للبائع ولا كلام. وإن اختلطت فلم تتميز إحداهما عن الأخرى فهل ينفسخ البيع أم لا؟ فيه قولان بلا خلاف [71/ ب] بين أصحابنا. قال في (الأم) و (الإملاء): البيع باطل والثاني حكاه الربيع لا يبطل وجه الأول: أنه تعذر تسليم المبيع المستحق بالعقد، لأن البائع لا

يمكنه إقباض المبيع وحده ولا يجبر على تسليم غيره فأشبه إذا مات العبد المبيع قبل القبض فإن قيل: لم يتعذر تسليمه لأن البائع يسلمه مع الزيادة قيل: لا يجبر البائع على تسليم الزيادة ولا يمكنه التسليم بدونها فثبت العذر ولأن البائع لو بذل مع الزيادة لا يجبر المشتري على قبوله فثبت التعذر. ولأن الباع لو بذل مع الزيادة لا يجبر المشتري على قبوله فثبت أنه تعذر ذلك. ووجه القول الثاني: وهو اختيار المزني أن المبيع بحاله وإنما يضاف إليه غيره على وجه لا يبين وهذا لا يوجب بطلان البيع كما لو كان المبيع عبدًا صغيرًا فكبر أو ثمرة فزادت وهذا القائل يقول: إذا بدل البائع الزيادة يلزم القبول لأنه غير متميز عن المبيع، لكنه عين أخرى لا يلزمه القبول، لأنها متميزة عن ملكه فإذا قلنا بالقول الأول فلا كلام، وإذا قلنا بالقول الثاني [72/ أ] يقال للبائع: أتسمح بالحادثة مع الخارجة للمشتري؟ فإن قال؛ نعم أجبرنا المشتري على قبوله وإن أبى لا يقال للمشتري: أتسمح بترك الخارجة للبائع؟ لأن الخارجة كل المبيع فلا يقال له: دع المبيع كله، ولكن يفسخ العقد. وأما المسألة الثانية - وهي الأولى في الكتاب -: إذا باع شجرة التين وفيها تين ظاهر فالبيع صحيح، والشجرة للمشتري والثمرة للبائع ولم ينقل البائع الثمرة حتى ظهرت الثانية فإن تميزت فالثانية للمشتري لأنها حدثت في ملكه ولا كلام. فإن قيل: هلا قلتم الحادثة للبائع أيضًا كما قلتم في نخٍل أبر بعضه؛ فالثمرة للبائع وما يظهر من بعد له أيضًا في أحد الوجهين؟ قلنا: الفرق أن ثمرة النخل في العام واحدة فلا يتبع بعضها بعضًا لأنها لا تحمل في السنة إلا مرة، فكانت كلها للباع وهاهنا التين يحمل حملين بطنًا بعد بطن فكانت الأولى: للبائع، والثانية: للمشتري وإن لم تتميز إحداهما عن الأخرى هل يبطل البيع؟ قال المزني: إنها على قولين كالمسألة قبلها. واختلف أصحابنا فيها على طريقين، قال ابن خيران: [72/ ب] وصاحب (الإفصاح): لا يبطل البيع هاهنا قولًا واحدًا وغلط المزني في النقل لأن الشافعي ذكر القولين في المسألة التي ذكرناها فنقل الجواب إلى هذه المسألة وهذا لأن في تلك المسألة اختلط المبيع بغير المبيع، وهذا اختلط غير المبيع بغير المبيع لأن الخارجة غير مبيعة ولكنها بقيت على ملك البائع والحادثة ملك المشتري وهي غير مبيعة وإنما المبيع الشجرة ولكنه يملك الثمرة بملك الشجرة واختلاط غير المبيع بغير المبيع لا يوجب بطلان البيع، كما لو باع دارًا فيها طعام فاختلط هذا الطعام بطعام للمشتري بعد البيع لا يبطل البيع، كذلك هاهنا. قال ابن خيران: ولكن تأويل ما نقله المزني أنه أراد إذا باع الشجرة وملك المشتري الشجرة وبقيت الثمرة للبائع، ثم اشترى المشتري ثانيًا تلك الثمرة ثم ظهرت الحادثة فاختلطت بها فهاهنا يختلط المح بغير المبيع فهي مسألة القولين. وقال عامة أصحابنا: المسألة على قولين كما نقله المزني لأن الشافعي نص في (الأم) على القولين وذكر ما يدل [73/ أ] على القولين في هذه المسألة فقال: الخارجة للبائع والحادثة للمشتري فلو كان المبيع هو الثمرة لقال: الخارجة للمشتري والحادثة للبائع. وقال أيضًا: يقال للبائع: أتسمح بتسليم الحادثة للمشتري؟ فإن فعل وإلا قيل

للمشتري: أتسمح بتسليم الخارجة للبائع؟ فلو كان المبيع هو الثمرة الخارجة لم يصح أن يقال: أترضى بتسليم الخارجة للبائع؟ لإنهاء كل المبيع فثبت نص الشافعي على قولين في هذه المسألة، والدليل على هذا أن من اشترى شجرًة فالمقصود ثمرتها ولا فرق بين أن يختلط المبيع بغير المبيع أو المقصود بالبيع بغيره أو نقول: الحادثة هاهنا من توابع المبيع ولا فرق بين اختلاط البائع بالبيع وبين اختلاط نفس المبيع لأن تسليمهما واجب بحق العقد وبهذا فارق إذا باع دارًا فيها طعام فاختلط ذلك الطعام بطعام المشتري لأن ذلك ليس بتابع للبيع ولا مقصودًا بالعقد بخلاف هذا. وأما تأويل ابن خيران فغلط لأن هناك وإن اختلط المبيع بغير المبيع إلا أن كله للمشتري واختلط ملكه بملكه فلا يؤثر [73/ ب] في المبيع أصلًا فإذا قلنا: البيع باطل فلا كلام، وإذا قلنا صحيح يدعى كل واحٍد منهما إلى ترك حقه من الثمرة إلى صاحبه فإن فعل أحدهما ذلك جاز البيع وإلا فسخ العقد على ما نص في (الأم). وحكي عن ابن خيران: أنه إذا لم يسمح واحد منهما فالقول قول من في يده في القدر الذي يستحقه صاحبه منها ولو علما جميعًا أن البائع لا يمكنه قطع ثماره حتى تخرج ثمار المشتري فتختلط بملك البائع كان البيع من الأصل باطلًا، لأنهما تعاقداه مع تبين العجز عن التسليم إلا مع الخصومة الواقعة بينهما، ولو شرط أن يقطع ثمره في الحال قبل أن يخرج الجديد للمشتري يصح البيع. وقال الربيع: فيه قول آخر: لا يبطل البيع في هذه الصورة ولكن يقال عند حدوث الزيادة للمشتري وللبائع: أتسمح بترك حقك؟ على ما ذكرنا وهذا خلاف النص. والربيع أخذ هذا من أحد القولين فيه إذا باع قرطًا جزه فلم يجزه المشتري حتى زادت فيه قولان وغلط في هذا لأن القرط يباع بشرط القطع والقدر الذي تناوله العقد يمكن [74/ أ] تسليمه في الحال معلومًا معينًا وإنما يخاف التعذر بما سيكون وربما لا يكون وهاهنا وقع العقد على الشجرة والثمرة موجودة يقتضي تبقيتها للبائع إلى وقت الجذاذ فإذا علم اختلاطها بغيرها حالة العقد فقد عقد مع يقين العجز عن التسليم بالاختلاط فيبطل العقد ووزانه من تلك المسألة: أن لو باع بشرط أن يقطع البائع ثمرتها في الحال فلا يبطل البيع على ما ذكرنا. فإذا تقرر هذا ففيما نقل المزني إشكال وذلك أنه حكي هذه المسألة تم عطف عليها وهكذا قال في بيع الباذنجان في شجرة والخربز وهذه الصورة بخلاف الصورة الأولى فكيف يحسن عطفها عليها، لأن المبيع في الصورة الشجرة فلا يكون اختلاط المبيع بغير المبيع، وفي الثانية: اختلط المبيع بغير المبيع وإزالة هذا الإشكال أن يقال: إنما استجاز العطف هكذا لمشابهتهما في المعنى وذلك أن البائع إذا باع الشجرة واستبقى الثمرة وحدثت ثمرة أخرى للمشتري فقد اختلط حق المبيع بحق غير المبيع وإن لم يختلط العين بالعين وذلك [74/ ب] الحق حق السقي، لأن سقي الثمرة القديم على البائع وسقي الحادثة على المشتري وربما يتنازعان في ثمن الماء، فصار هذا كاختلاط المبيع بغير المبيع. وإذا تقرر هذا فّرع المزني على هذه المسألة فرعين أحدهما قال: وهكذا إذا باع قرطًا

جزه فلم يقطع حتى طال القرط، والقرط هو: الرطبة قرط وقضب وقت. وقال الأزهري: القرط هو هذا القت الذي يسميه أهل هراة الغورية وهو لا يستخلف إذا جز كما يستخلف القت الصغار للورق، وجز القت حصده، فإذا قال: بعتك هذا القرط لم يجز إلا بشرط القطع فإن توانى المشتري ولم يقطع حتى طالت وغلظت لم يجبر البائع على التسليم ولكن هل يبطل العقد؟ فيه طريقان: أحدهما: لا يبطل البيع قولًا واحدًا ولكن يقال للبائع: أتسمح؟ فإن سمح وإلا فسخ العقد لأن هذه زيادة غير متميزة كِسَمن العبد وكبره، ويفارق الثمرة، لأنها أعيان متميزة اختلطت بغيرها فكان حكمها أغلظ، والثاني: وهو الصحيح. المسألة على قولين لأنه اختلط بالمبيع غيره وهذه الزيادة تجري [74 ب/ 6] مجرى الزيادة المتميزة بدليل أنه لا يجبر البائع على تسليمها وِسَمن العبد وِكَبره 0 يكون للمشتري لا حق للبائع فيه، ولأن السَمن في الصورة لا يتميز وهاهنا زيادة الخلقة والورق والأغصان في الصورة يتميز فإن قيل: أليس لو اشترى طلعًا فزاد كان للمشتري فقولوا في زيادة القرط مثله؟ قيل: الفرق أن تلك الزيادة تحدث من نماء الطلع الذي هو ملكه فكانت له وهاهنا الزيادة تحدث من الأصول التي هي ملك البائع فكانت له. والفرع الثاني قال: وهكذا لو باع حنطة فانثالت عليها حنطة أخرى فإن كان قبل القبض فيه قولان أيضًا بلا خلاف بين أصحابنا كمسألة الثمرة. ونص في (الأم) و (الإملاء): أنه يبطل. فإذا قلنا لا يبطل فإن سلم الكل إلى المشتري فلا خيار له، وهل يجبر على قبوله؟ وجهان، وإن امتنع البائع من بذله فله الخيار. وإن كان بعد القبض فالعقد صحيح قولًا واحدًا، فإن كان في يد البائع بأن يكون قبضها من البائع ثم أودعها عنده فالقول قول البائع في مقدار طعام المشتري لثبوت يده عليه، وإن كان في يد المشتري [75 أ/ 6] فالقول قول المشتري في مقداره لثبوت يده عليه وهذا لأن القبض إذا حصل فقد استقر العقد فلا يضر الاختلاط بعده، وهكذا في مسألة الثمرة لو جذ المشتري الثمرة وردها إلى الجرين بثمرة البائع لا يبطل البيع قولًا واحدًا لأنه استقر البيع بالتسليم بدليل أنه لا ينفسخ البيع في تلك الحالة بالتلف وليس كذلك ما دامت على الشجرة لأن التسلم غير تام فيها، ألا ترى أنه لو عطشت الثمرة كان على البائع سقيها؟. فإذا تقرر هذا اختار المزني في مسألة الثمرة أن يفرق بين ما قبل القبض وبعده كما في مسألة الحنطة، إذا انثالت عليها حنطة أخرى، وهو قول أبي حنيفة أيضًا، فقال: إن كان قبل القبض بطل، وإن كان بعد القبض لا يبطل ويقتسمانه، فإن اختلفا في قدر حق كل واحٍد منهما فالقول قول من في يده. قلنا: الفرق أن الحنطة إذا قبضت انقطعت العلقة بينه وبين البائع وتم القبض واستقر. وفي الثمرة لا يتم القبض بالتخلية، لأن على البائع إكمال الإقباض على ما ذكرنا من سقي الشجرة حتى تجد الثمرة [76/ أ] ولو لحقها عطش كان للمشتري الخيار، فكان الاختلاط بعد القبض وقبله سواء هناك. ومن أصحابنا من قال في مسألة الحنطة قبل القبض: بطل البيع قولًا واحدًا لأن الشافعي جعلها دليل أحد القولين في اختلاط الثمار وهذا أصح. فرع لو باع شاًة فاختلطت بقطيع لا يتميز، المذهب أنه يبطل البيع ويفارق الحنطة، لأن

هناك الإساغة لا تمنع البيع وهاهنا الاشتباه مانع من العقد حتى لو قال: بعتك شاًة من هذا القطيع لا يجوز، وقيل: لا يبطل لأنه يمكنه التسليم بأن يقبض الكل وتقرر الحكم في المبيع، ويكون حكمه حكم من اختلطت شاته بقطيع لإنسان، وهذا لا يصح، لأن الشرط في القبض يتسلط به على المقبوض ويتمكن من التصرف وهذا لا يوجد بقبض الجملة. مسألة: قال: (وكُّل أرٍض بيعْت فللمشتري جميُع ما فيها من بناِء وأصٍل والأصُل ما له ثمرة بعد ثمرة). الفصل في اللفظ خلل، لأنه يوهم أن البناء خارج عن عمارة الأصل لأنه استأنف تفسير الأصل فقال: والأصل ما له ثمرة بعد ثمرة. وقال بعض [76/ ب] أصحابنا: لفظ الشافعي فللمشتري جميع ما فيها من أصل والأصل كل بناء وشجر له ثمرة بعد ثمرة والأول أظهر ولم يرد الشافعي بهذا إخراج الأشجار غير المثمرة عن هذا الحكم، ولكنه أراد أن الزرع ليست من جملة الأصل لأنها تثمر مرة ثم تتلف حني يزرع غيرها. فإذا تقرر هذا فباع أرضًا لا يخلو إما أن يقول: بعتك هذه الأرض بحقوقها فدخل في البيع جميع ما في الأرض من البناء والشجر، وإما أن يقول: بعتك هذه الأرض مطلقًا، قال الشافعي: يدخل في البيع جميع ذلك، وقال في الرهن: لا يدخل في الرهن إلا البناء والشجر، واختلف أصحابنا فيه على ثلاثة طرق: فمنهم من قال: فيها قولان: أحدهما: لا يدخل فيهما لأن اسم الأرض لا ينطلق على ما فيها، والثاني: يدخل فيهما لأنه متصل بها فهو كأجزائها، ومنهم من قال: المسألة على حالين فإن قال: بحقوقها يدخل فيها، ران أطلق لا يدخل فيهما، ونص الشافعي في الَّرهن عند الإطلاق ومنهم من فرق بينهما وحمل النصين على ظاهرهما، والفرق أن البيع يزيل الملك فاستتع حقوق [77/ أ] لقوته، والرهن لا يزيل الملك فلم يستتبع، وهذا هو الصحيح واختاره القاضي الطبري وجماعة، فإن قيل: أليس لو باع النخل لا تدخل فيه الثمرة، وإن كانت متصلة فكذلك البناء؟ قلنا: الفرق أن الثمرة لا تراد للبقاء فليست من حقوقها بخلاف البناء والشجر. فرع لو قال: بعتك هذا البستان يدخل في البيع الأرض وما فيها من الأشجار أجمع، لأنه يسمى بستانًا بجميع ذلك، ألا ترى أنه إذا أزيل عنها الأشجار لا يسمى بستانًا، وأما البناء الذي فيها والجدار المحيط بها على الطرق التي ذكرناها. وقال بعض أصحابنا: يدخل فيها الجدار المحيط بها قولًا واحدًا، لأن البستان اسم لجميعها وهو ضعيف عندي، ولو قال: حائط بستان فالجدار المحيط به يدخل في البيع، فإن كان في إخلاله بناء فعلى الطرق.

فرع آخر لو قال: بعتك هذه القرية دخل في المبيع ما يحيط به البناء من البيوت والدكاكين والحمام، ولا يدخل ضياعها ولا بساتينها، ولو كان في جوف القرية غرس فعلى الطرق، ولو قال: بعتك هذه القرية بحقوقها دخل الغراس والبناء الذي في [77/ ب] جوفها دون المزارع لأنها ليست من حقوقها فلا يدخل إلا أن يقول: بمزارعها أو بأراضيها. فرع آخر لو باع أرضًا فيها دولاب للماء فيه وجهان: أحدهما: يدخل في البيع لاتصاله بها ولأن فيه كمال منافعها ويجري مجرى أبواب الدار المبيعة، وإن لم يكن من جنسها، والثاني: لا يدخل كما لا يدخل بقره الدولاب ولا خشبه الزرنوق، وقال بعض أصحابنا: إن كان الدولاب صغيرًا يمكن نقله صحيحًا على حاله بغير مشقة لم يدخل، وإن كان كثيرًا لا يمكن نقله صحيحًا إلا بالتفصيل أو بمشقة غالبة دخل، لأنه نصب للبقاء كالشجر. فرع آخر لو كان في الأرض رحى الماء دخل بيت الرحى وبناؤه، وفي حجارة الرحى ثلاثة أوجٍه: أحدها: يدخل علوًا وسفلًا لأنها من تمام المنافع، والثاني: لا يدخل أصلًا لامتيازها، والثالث: يدخل السفل دون العلو لانفصاله. وأما دولاب الرحى الذي يديره الماء فيدير الرحى يتبع الرحى وإلحاقه بالسفل أولى من إلحاقه بالعلو. فرع آخر لو كان فيها سماد فللبائع إلا أن يكون قد بسط [78/ أ] في الأرض واشتغل فرع آخر لو قال: بعتك هذه الدار ودخل في البيع جميع ما هو مركب فيها ومبني من السقوف والأبواب والرفوف المركبة والدرج المعقودة والأوتاد المغروزة، فإن كانت الرفوف موضوعة على الأوتاد غير مسمرة ولا مغروزة في البناء لا يدخل في البيع. وقال بعض أصحابنا بخرسان: الرفوف لا تدخل أصلًا لأنها أثبتت بالاستقرار دون الأسمار، وقال أبو حنيفة: يدخل فيها ما كان داخلًا من الحقوق دون الخارج، وإن كان متصلًا بها، ولهذا احترز الشرطيون في الوثائق فقالوا: وكل حق هو خارج منها وهذا قول بخلاف الإجماع، والتعليل بالاتصال يوجب التسوية بين الأمرين وقال زفر: كل ما كان في الدار من آلة وقماش لا يستغنى عنه يدخل في البيع. وهذا أظهر فسادًا، ولو جاز هذا لدخل العبيد والطعام أيضًا. فرع آخر إذا قال: بعتك هذه الدار فما فيها من المرافق المنتفع بها على ثلاثة أضرب: متصل بها ومنفصل لا يتعلق بمنفعة المتصل، ومنفصل يتعلق بمنفعة المتصل، فأما المتصل [78/ ب] بها كالخوابي المدفونة والحجر التحتاني من الرحى ونحو ذلك يدخل في

البيع، لأنه بني للبقاء فيها ويفارق الحجر المدفون والكنز، لأنه مودع فيها للنقل عنها لا للبقاء فيها بخلاف ما ذكرنا، وهكذا أجاجين الخباز يدخل في البيع، وأفتي بعض مشايخ طبرستان: أنه لا يدخل فيها الخوابي وهو غريب، وقال في (الحاوي): إن كان للتأبيد كحباب الزياتين والبزارين دخلت في البيع، وإن كانت مدفونة استيداعًا لها في الأرض لم يدخل كما لا يدخل الحجارة التي دخلت في البناء، وهذا أصح عندي. وأما المنفصل الذي لا يتعلق بمنفعة المتصل كالبكرة والحبل والدلو والسلم والرفوف التي تنقل وتحول غير المسمسرٍة، لا يدخل في البيع شيء منها، كالفرش وكذلك السرير وحجر الرحى إذا لم يكن مركبًا والأبواب غير المغلقة والحطب، وأما المنفصل المتعلق بمنفعة المتصل كالمفاتيح الرومية والحجر الفوقاني من الرحى فيه وجهان أحدهما: وهو اختيار أبي إسحاق يدخل في البيع لأنه متعلق بمنفعة المتصل كالأبواب الثابتة والمغلاق مع أن [79/ أ] الأبواب قائمة في الدوازات غير مغروزة فيها، والثاني: لا يدخل في البيع وهو اختيار ابن أبي هريرة لأنها منفصلة بنقل وتحّول من مكان إلى مكان كالدلو والحبل، ويفارق الأبواب لأنها لأن كانت منفصلة إلا أن البناء محيط بها، وإثما بنيت منفصلة ليمكن رَّدها وفتحها بخلاف هذا فإن البناء غير محيط بها. فرع آخر قال القفال: ما أثبتت فيها بالطين ينظر، فإن كان مما لا ينتفع به لو رفع كالتنور والكانون المتخذ من آجرات أو قدر ركبت فيه يدخل في البيع، وما أثبت فيه كي لا يتحرك ولا يتزعزع، ويمكن رفعه ويبقى انتفاعه كإجانة القصار ومعجن أثبت في الدار بالطين والرفوف المسمرة والسلاليم المسمرة والأوتاد المغروزة في الحائط، وقدر الحمام وصندوق الطحان فيه وجهان: أحدهما: يدخل في البيع لأنه صار من جملة البناء لإثباته بالطين، والثاني: لا يدخل لأنه موضوع غير مبني في الحقيقة، وأما القفل ومفتاح غير المغلاق لا يدخل في البيع بحال. فرع آخر ألواح الدكان المنفصلة [79/ ب] يغلق بها، هل تدخل في البيع؟ وجهان وقيل: يدخل وجهًا واحدًا لأن تلك تجري مجرى الباب للدار. فرع آخر هل يدخل رأس التنور في البيع؟ وجهان ذكره في (الحاوي). فرع آخر لو اتصل بالدار حجرة أو رحبة لم يدخل لخروجها عن حد الدار. فرع آخر لو اتصل بها ساباط على حائط من حدودها هل يدخل؟ فيه ثلاثة أوجه أحدها: لا

يدخل كالحجرة، والثاني: يدخل كالأجنحة والميزاب، والثالث: خَّرجه أبو الفياض: يعتبر حال الأجذاع من الطرفين مطروحًا على حائط لهذه الدار دخل في بيعها لأن جميعه تبع، وإن لم يكن كذلك بأن كان أحد الجانبين على حائط لغير هذه الدار فلا يدخل في بيع هذه الدار. فرع آخر لو باع سفينة تدخل آلتها المتصلة، وهل تدخل آلتها المنفصلة التي لا يستغنى عنها؟ وجهان. فرع آخر قال الشافعي: إن كان في الدار حمام لم يدخل في البيع قال الربيع: أراد حمامات الحجاز تتخذ من الخشب يغتسل [80/ أ] فعلى قول أبي إسحاق: مالك المكان أحق به فإن تجاهل غيره فدخل في ملكه وأخذه ملكه، وعلى قول ابن أبي هريرة؛ يلزم الرد على مالكه ولا يملكه المتجاهل بأخذه، وأما البيع فعلى ما مضى في بيع ماء بئر الدار سواء. فرع آخر لو باع أرضًا فيها معدن جامد دخل في البيع لأنها من جملته أجزاء الأرض والكنوز لا تدخل ويكون للبائع إن اّدعاها، وإن لم يدعها نظر إلى من ملك الأرض عنه وقد سبق حكمه في كتاب الزكاة. فرع آخر لو باع دارًا يحتاج أن يذكر للدار أربعة حدود فلو ذكر حدين لم يجز، ولو ذكر ثلاثة حدود فإن كانت لا تتميز بذكرها بطل، وإن تميزت فالصحيح أنه يصح لحصول الامتياز، وفيه وجه آخر انه لا يصح ما لم يذكر الرابع. فرع آخر لو باع عبدًا لا يدخل ثياب بدنه في مطلق بيعه إلا بالتسمية ولكن العادة جارية بالعفو عنها فيما بين التجارة. وقال أبو حنيفة: يدخل ذلك في مطلق البيع [80/ ب] وقال بعض العلماء: يدخل قدر ما يستر العورة للضرورة كنعل الدابة وهو وجه لأصحابنا، وفيه وجه ثالث يدخل تمام ثياب البدن للعادة. وقال ابن عمر: يدخل في جميع ما على العبد والأمة من الثياب والحلي لأنها في يد من ملكت وهذا غلط، لأنه منفصل عن المبيع ولو لزم قدر ما يستر العورة للزم قدر ما يسد الجوعة ولا قائل به. فرع آخر لو باع داّبة لا يدخل فيه الحبل والِمقود، وقال بعض العلماء: يدخل فيه ذلك كما قال هناك في قدر ما يستر العورة ويدخل النعال المسمرة. لأنها كالمتصل بخلاف القرط في الأذن.

فرع آخر لو اشترى سمكة فوجد في جوفها لؤلؤة لا يدخل في البيع ثم ينظر فإن كان فيها أثر ملك من ثقب فهي لقطة لا يملكها الصياد البائع، وإن لم يكن فيها أثر ملك فهي للصياد، لأنه قد يمر بمعدن اللؤلؤ فينلبع منه شيئًا. فرع آخر لو ابتاع سمكة فوجد في جوفها سمكة [80 ب/ 6] تدخل في البيع لأن السمك قد يغتذي بالسمك فيكون من جملته بخلاف اللؤلؤ، وكذلك لو ابتاع طائرًا فوجد في جوفه سمكة أو جرادًا. قال الشافعي، - رضي الله عنه -: ويؤكل ذلك ولكن بعد الغسل لنجاسته بما في جوف الطائر، ولو كان في جوف الحوت لم يجب غسله، لأن ما في جوف الحوت لا يكون نجسًا بخلاف ما في جوف الطائر. مسألة: قال: وإن كاَن فيها زرٌع فهَو للبائِع يُترُك حتى يحصَدُه. لما ذكر الشافعي حكم الثمار تكلم على حكم الزرع، فإذا باع أرضًا فيها زرع لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون الزرع ظاهرًا أو بذرًا في الأرض، فإن كان ظاهرًا لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون مما يحصد دفعة واحدة أو جزه بعد جّزه، فإن كان مما يحصد دفعة واحدة كالحنطة والشعير فلا يخلو، إما أن يطلق العقد أو يشرط، فإن أطلق فالزرع للبائع لأنه يزاد للنقل لا للبقاء فهو كمتاع الدار، فإذا ثبت أنه للبائع فله بنفسه إلى حين الحصاد، وقال أبو حنيفة: عليه نقله في [81/ ب] الحال كما قال في الثمرة وهو غلط لما ذكرنا، فإن قيل: هلّا قلتم: إن البيع باطل لأن المشتري اشترى أرضًا منفعتها لغيره كما لو اشترى أرضًا مكتراة فالبيع باطل لأنه اشترى أرضًا منفعتها لغيره؟ قلنا: في بيع الأرض المكتراة قولان، وهاهنا قال أبو إسحاق: فيه قولان أيضًا، وليس بشيء بل المذهب أنه لا يبطل هاهنا قولًا واحدًا، والفرق أن هناك يدًا حائلة تمنع المشتري عما اشتراه فيبطل في أحد القولين وهاهنا لا حائل دونها فإن له الدخول إليها والتصرف في غير مواضع الزرع منها، ولهذا يجوز بيع الَأَمة المزوجة قولًا واحدًا، لأنه ليس عليها يد الزوج ولا يمكنه منع صاحبها من التسليم ثم نقول لأبي إسحاق: لو كان هذا من باب بيع الأرض المكتراة لوجب أن يبطل البيع هاهنا قولًا واحدًا، لأن مَّدة بقاء الزرع مجهولة ومتى جهلت المّدة بطل العقد كما لو وجب لها سكنى دار مدة عدتها فباعها مالكها يبطل قولًا واحدًا، لأن مدة العدة مجهولة. وقال في (الإفصاح): من أصحابنا من قال: يبطل البيع قولًا واحدًا لأنه يصير كأَّن [82/ أ] البائع استثنى منفعة مجهولة لنفسه وهذا يبطل عليه ببيع النخيل الني عليها الثمرة، وإذا تقرر هذا ونفاه البائع إلى أوان الحصاد لا يكون عليه أجرة مثل الأرض

مدة بقاء الزرع فيها، وان كان قد انتفع بأرض المشتري فإن قيل: هلَّا قلتم عليه أجر مثلها مّدة بقاء الزرع فيها كما لو اشترى أرضًا شراًء فاسدًا فزرعها يلزم أجرة مّدة بقاء الزرع فيها، إذا استرد الأرض وترك الزرع إلى أوان الحصاد؟ قيل: الفرق إنه لا يملك المشتري في الشراء الفاسد منفعة الأرض فكان عليه الأجرة وهاهنا منفعتها مملوكة للبائع لأنها كالمستثناة عن العقد فلم تتلف منفعة غيره فلا أجرة، ويؤكده أن الأجرة إنما تجب إذا زرعها بعقد الإجارة أو بغير حق، وليس هاهنا واحد منهما فلا أجرة فإذا ثبت هذا فجاء وقت الحصاد عليه الحصاد في أول وقت الحصاد، وإن كان بقاؤه بعد هذا أنفع له، كما قلنا في الثمرة يقطعها البائع إذا تمت حلاوتها، ولو حصد ونقل الزرع قبل وقت الحصاد ليس له أن ينتفع الأرض بغير الزرع [82/ ب] إلى وقت الحصاد ولأنه إنما ملك الانتفاع بها لهذا الزرع فليس له أن ينتفع بغيره كما لو كان المبيع دارًا فيها طعام ينقل في شهر فنقله في يومين سقط حقه وليس له أن ينتفع بها بقية الشهر، وهكذا له بقية الثمرة إلى حين الجذاذ فلو صرمها قبل ذلك سقط حقه وليس له أن ينقل إلى البستان بعد ذلك، كذلك هاهنا وإن حصده في أوانه نظر فإن كان زرعًا لا يضر عروقه بالأرض كالحنطة والشعير فلا كلام، وإن كان مما يضر بها عروقه كالقطن والذرة فعليه نقل العروق عنها، لأن هذا ملكه وبقاؤه يضر بها كما لو باع أرضًا فيها حجارة يلزمه نقلها. ومن أصحابنا من قال: يلزمه قني أصول الزرع بكل حاٍل والأصح التفصيل على ما ذكرنا، فإذا نقل فإن لم يحصل في الأرض حفر تحتاج إلى الإصلاح فلا كلام، وإن كان فيها حفر يحتاج إلى الإصلاح فعلى البائع أصلاحها وتسويتها لأنه حفرها لاستصلاح ملكه فكان الضمان عليه، كما لو باع دارًا فيها جّب كبير لا يخرج من الباب إلا بهدم شيء منه وعليه ما نقص بالهدم [83/ أ] وكذلك إذا هربت دابة فدخلت في دار رجل ولا يمكن أن يخرج منها إلا ببعض شيء من الدار يضمن البعض على صاحب الدابة، ولهذا قال بعض أصحابنا: لو وقع دينار في جرة رجل ولا يخرج إلا بكسرها كسر ويجب ضمانها على صاحب الدينار، وإن باع بشرط أن يكون الزرع للمشتري لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون قد تسنبل أو لم يتسنبل، فإن كان قبل أن يتسنبل أو بعد أن يتسنبل، وقبل أن يشتد الحب فيه جاز ذلك لأنه حشيش، ألا ترى أنه يجوز إفراده بالعقد فجاز بيعه مع الأرض فإن قيل: هلَّا قلتم لا يجوز بيعه إلا بشرط القطع كما لو أفرده بالعقد؟ قلنا: الفرق أنه إذا أفرده صار مقصودًا بالعقد وفي بيعه من غير شرط للقطع غّرز فلم يصح، وإذا باع مع الأرض فالغرز في التابع في العقد فلا يضر العقد، وهذا كبيع الثمار قبل بدو صلاحها مطلقًا من غير شرط القطع لا يجوز، ولو باعها مع الأرض مطلقًا يجوز، وإن كان قد تسنبل واشتد الحب فيه نِظر فإن كان الحب ظاهرًا كالشعير يجوز البيع لأنهما مقصودان ظاهران يجوز بيع كل واحٍد منهما على الانفراد، وإن [83/ ب] كان الحب في كمام كالحنطة فاختلف قول الشافعي في الحنطة في سنبلها على قولين: فإذا قلنا: يجوز إفراده بالبيع فلا يجوز بيع الأرض أولى، وإن قلنا: لا يجوز بطل البيع فيهما لأنهما مقصودان أحدهما: مجهول، فإن قيل: أليس لو باع حّرًا وعبدًا يبطل

في الحر وهل يبطل في العبد؟ قولان: هلَّا قلتم مثله هاهنا؟ قلنا: الفرق أنهما معلومان يمكن تقسيط الثمن عليهما، وهاهنا أحدهما مجهول وهما مقصودان فلا يمكن تقسيط الثمن عليهما فافترقا. وقال في (الحاوي): هل يجوز تبعًا للأرض؟ وجهان: أحدهما: يجوز لأنه تجوز الجهالة تبعًا كأساس البناء، والثاني: لا يجوز لأنه وإن كان تبعًا فهو مقصود في نفسه بخلاف الأساس وهذا غريب، ومن أصحابنا من قال: هذا الوجه صحيح إذا قلنا بالقول الضعيف يمسكه المشتري بجميع الثمن عند الإجارة في تفريق الصفقة، لأنه يأخذ المعلوم بكل العوض فلا يضر الجهل بما عداه، فإذا قلنا: لا يجوز فيه هل يبطل البيع في الأرض قولان بناء على تفريق الصفقة، ومن أصحابنا من أبطله في الأرض قولًا واحدًا للجهل [84/ أ] بحصة ما قابل الزرع المجهول من الثمن، وهذا من اختلاف أصحابنا في تعليل تفريق الصفقة. فإن قلنا: يصح في الأرض فللمشتري الخيار، فإن أجاز يمسكه بكل الثمن قولًا واحدًا لأن الفاسد مجهول الحصة، وإن كان الزرع يحصد دفعة بعد دفعة ويبقى أصله في الأرض سنين كالرطبة والنعناع والكراث، فإذا باع الأرض مطلقًا قد ذكرنا أن الأصل تابع لهما كالنحل سواًء، ثم ننظر فإن لم يكن فيها شيء ظاهر كأنه باعه حين حّزه فما نبت للمشتري، وإن كان هناك نبت ظاهر فهو للبائع بإطلاق العقد على ما ذكرنا، وعلى البائع نقله في الحال فإن قيل: أليس قلتم في المسألة قبلها: للبائع تبقيته إلى أوان الحصاد؟ فهلَّا قلتم هاهنا مثله؟ قلنا: الفرق ما ذكره الشافعي أن للزرع والثمرة حّدًا إذا انتهيا إليه واحد وليس للرطبة جذاذ إذا انتهى إليه أجذ فكان عليه النقل في الحال، وأيضًا قال أصحابنا: الرطبة تطول وتخرج غير ما كان ظاهرًا منها فيفوت على المشتري ما يظهر له منها فكان عليه النقل في الحال والثمرة [84/ ب] والزرع يكبر بذاته وينشأ بنفسه ولا يتفرع له أغصان لم يكن ولا يفوت على المشتري شيئًا، لأن الثمرة والزرع لجميع العام فكان له التبقية إلى حين الحصاد، وقال في (الحاوي): هل ينتظر جذاذه؟ وجهان على ما ذكرنا في نظيره، وهكذا إن لم يكن له أصل يبقى سنين ولكنه يجزه دفعة بعد دفعة كالهندباء والجرجير ونحو ذلك، قال الشافعي في (الأم): هي كالأصول وكذلك القثاء والخيار والبطيخ كالأصول نص عليه واعتبر ما يجز دفعة بعد دفعة ولم يفرق بين طويل المدة وقصيرها، فالجزة الأولى للبائع وما بعدها للمشتري. وقال في (الحاوي): البطيخ وما يؤخذ ثمرته مرة بعد مرة ولكن في عام واحٍد هل هو في حكم الشجر لأن ثمرته لا توجد دفعة وحكمه ما ذكرنا. وقال البصريون: هو في حكم الزرع فللبائع أصله وثمره لأنه زرع عام واحد والشجر يبقى أعوامًا والهندباء والجرجير والكراث.

قال: وأما الموز فأصله لا يحمل إلا سنة واحدة ثم يموت بعد أن يستخلف مكانه فرخًا يحمل في العام المقبل فالأصل [85/ أ] الموجود وقت العقد لا يدخل في البيع كالزرع لأنه لا يبقى بعد سنته والفرخ الذي يستخلف كالشجر يدخل في البيع هذا الكلام كله في الزرع الظاهر، فأما إن كان بذرًا لم ينبت فالبذر ضربان: بذر لأصل ينقى وبذر لما يؤخذ دفعة واحدة فإن كان لأصل ينقى كبذر المشمش والخوخ والجوز واللوز والنعناع والرطبة فإنها تتبع الأصل لأنها دفنت للبقاء فصارت أصلًا في نفسها لشجرها، وإن كان لما يؤخذ دفعة واحدة كبذر الحنطة والشعير لا يتبع الأصل لأنه مستودع فيها للنقل والتحويل كالحجر المستودع، ولا فرق في المسألة الأولى بين أن يكون نبت وجرت عروقه في الأرض أو لم يبت وفي تلك الحالة دفنه فيها، لأنه دفنه للبقاء فهو كما لو غرس فسلًا في أرضه ثم باعها قبل أن يعلق الفسيل ببيع الأرض. وقال في (الحاوي): إذا قلنا: إنه ينتظر بما ظهر منه تناهي جزازه وهو في الرطبة والنعناع فأول الجذة الثابت من هذا البذر للبائع، وإن قلنا لا ينتظر فالبذر وما يثبت منه [85/ ب] للمشتري ثم ينظر فإن كان المشتري عالمًا بالحال فلا خيار له وللبائع ببقيته إلى حين الحصاد وهذا في بذر الحنطة، وإن كان جاهلًا به فله الخيار لأن فيه تفويت منفعة الأرض، فإن رضي البائع بتركه للمشتري أو قال: أنا أحوله وأنقله. قال في (الأم): لا خيار له لأنه أبطل العيب بالنقل وزاده خبرًا بالترك ويلزمه قبوله لأن فيه تصحيح العقد وعلى هذا لو اشترى نخلًا فيها طلع فبان أنها قد أبرت ولم يعلم المشتري له الخيار لأنه يستضر ببقائها في نخله هذا إذا باع الأرض مطلقًا فإن باعها مع البذر فإن جهل جنسه وصفته لم يجز قولًا واحدًا، وإن علمه فالمذهب أن البيع باطل، لأنهما مقصودان أحدهما: مجهول، ومن أصحابنا من قال: يصح البيع فيهما وتسقط الجهالة على سبيل التبع كالحمل في الحامل ولا يجئ فيه قول تفريق الصفقة، لأن البذر مجهول لا يمكن تقسيط الثمن عليهما على ما ذكرنا، وقيل: يصح في الأرضى إذا قلنا: نأخذ في الجائز بكل الثمن، وقيل: إذا باع البذر مع الأرض قولان والقول [86/ أ] الثاني يصح فيهما، لأن الشافعي قال في كتاب التفليس: أو باع زرعًا مع أرض خرج أو لم يخرج والأول أصح، ومن قال به قال فيما ذكره في التفليس الزرع عبارة عن النابت وقوله خرج أو لم يخرج يعني سنبله، وقال في (الإفصاح): وفي معنى ما ذكرنا إذا باع أرضًا فيها جزر أو فجل بجزرها وفجلها هل يصح؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، والثاني: يجوز كاللبن في اللبون والحمل في الحامل يجوز البيع فيه تبعًا. مسألة: قال: (وإن كاَن فيها حجارٌة مستودعٌة). الفصل إذا باع أرضًا فيها حجارة باطنه لم يخل من ثلاثة أحوال: إما أن تكون مخلوقة في

الأرض أو مبنية فيها أو مستودعة. فإن كانت مخلوقة فيها مع خلقة الأصل دخلت في البيع لأنها كأجزاء الأرض من التراب والطين، ولأنها لست بأكثر من المعادن الباطنة كالجواهر والذهب والفضة المخلوقة في الأرض، وكلها تدخل في البيع كذلك هذه الحجارة فإذا ثبت هذا ُنظر فإن كانت لا تضر بزرع ولا شجر بحيث لا يصل إليها عرق [86/ ب] واحد منهما فلا خيار للمشتري، لأنها ليست بعيب، وإن كان يضر بهما أو بأحدهما فهو عيب يرد به المبيع، وإن كان المشتري عالمًا به فلا خيار، وإن كان جاهلًا فله الخيار فإن اختار الإمساك أمسك بكل الثمن لأنه عيب فلا يتقسط الثمن عليه. وقال في (الحاوي): إن كان يضر بالغراس لوصول عروقه إليها وغير مضرة بالزرع لبعد عروقه منها هل يكون عيبًا يوجب للمشتري الخيار وجهان: أحدهما: عيب لأنه منع بعض منافعها. والثاني: وهو اختيار أبي إسحاق لا يكون عيبًا لكمال المنفعة بأحد المقصودين وكذلك لو كان يصلح للغرس دون الزرع فيه وجهان أيضًا. قال: والأصح عندي أن ينظر في تلك الناحية فإن كانت الأرض فيها مرصده للزرع، أو بعضها للغرس وبعضها للزرع لا يكون عيبًا ولا خيار، وإن كانت مرصده للغرس فهذا عيب لأن العرف المعتاد يجري في العقود مجرى الشرط ولعل اختلاف الوجهين على هذا التفصيل فلا يكون في الجواب اختلاف، وإن كانت الحجارة مبنية فيها للبقاء [87/ أ] والتأبيد كالدكة وأساس الحيطان فالحكم فيها كما لو خلقت في أصل، وكذلك إذا كان البناء مهدمًا أو كانت في طي بئر خراب، وإن كانت مستودعة فيها وهي مسألة الكتاب وهذه عادة أهل الحجاز يأخذون الأحجار ويسوونها مربعة عريضة يبنون بها فربما يكون عند الرجل منها شيء لا يحتاج إليه في الحال، ويضيق به المكان فيودعه تحت الأرض لوقت الحاجة فهو لا يدخل في بيع الأرض بالإطلاق ثم لا يخلو إما أن يكون في الأرض شجر أو لا شجر فيها، فإن لم يكن فيها شجر بل كانت أرضًا بيضاء مزرعة لا شجر فيها، لا يخلو الحجر من أحد أمرين: إما أن يضر بقاؤها في الأرض أو لا يضر، فإن كان بقاؤها يضر وقلعها لا يضر فهو عيب للبائع نقلها، لأنها ملكه وللمشتري مطالبته بنقلها ليفرغ الأرض وإذا ثبت أنه عيب فهل للمشتري الخيار ُنِظر فإن كان عيبًا من غير ضرر مثل أن ينقلها في مدة ليس للأرض في مثلها أجرة كيوم فما دونه فلا خيار للمشتري لأنه عيب يزول من غير ضرر على المشتري. قال أبو إسحاق: [87/ ب] فهو كما لو باع عبدًا فأبق فقدر البائع على رده في الحال أو باع دارًا قد امتلأت بالوعتها وحّشها فقال البائع: أنا أزيل ذلك في الحال فلا خيار للمشتري، وكذلك لو ُغِصب المبيع قبل القبض فقال البائع: أنا أنتزعه في زمان يسير لا خيار للمشتري، فإذا ثبت هذا ونقل البائع ذلك فعليه تسوية الأرض سواء نقلها قبل القبض أو بعده لأنه حفرها لتخليص ملكه بغير تفريط من صاحب الملك، وإن كان البائع لا يمكنه

إزالته إلا في مدة لمثلها أجره كاليومين والثلاثة فما فوقها لم يخل للمشتري من أحد أمرين: إما أن يكون عالمًا بها أو جاهلًا فإن كان عالمًا لا خيار له لأنه دخل على بصيرة بالضرر، وإن كان جاهلًا فله الخيار فإن اختار الإمساك أمسك بكل الثمن وللبائع النقل وللمشتري مطالبته بالنقل، وإذا نقله فعليه تسوية الأرض قبل القبض أو بعده، هكذا ذكر جماعة أصحابنا، وأما أجرة المثل لمدة تعطيل منفعتها نظر، فإن كان قبل القبض فلا أجرة على البائع لأنها مضمونة عليه بالثمن كما إذا قطع البائع يد المبيع [88/ أ] قبل القبض للمشتري الخيار بين الفسخ والإجازة ولا أرش له وهو قول أكثر أصحابنا. وقال الماسرجسي: قال أبو إسحاق في بغداد قبل خروجه إلى مصر: له الأجرة قال القاضي الطبري: وهذا محتمل عندي لأنه نص في البويطي على أن البائع إذا قطع يد العبد المبيع فللمشتري الخيار بين الفسخ والإجازة مع الأرش وإذا نص في الأرش فالأجرة مثله فقد حصل فيه قولان ولا يختلف المذهب في النقص الداخل بأمر سماوي بأنه إذا جاز غيره من غير أرش. وقال القفال: فيه وجهان مبنيان على أن جناية البائع على المبيع قبل القبض كآفة سماوية، فيفسخ البيع إذا قبل البائع المبيع قبل القبض أو كجناية الأجنبي فيخبر بين الإجارة وأخذ القيمة من الجاني وأداء الثمن إليه، وفيه قولان فإن قلنا: جنايته كآفة سماوية لا يلزم أجر المثل هاهنا، وإذا قلنا: إنها كجناية الأجنبي غرم هاهنا أجر المثل. قال في (الحاوي): لا تجب تسوية الأرض على البائع هاهنا قولًا واحدًا ولكن يثبت للمشتري خيار الفسخ لأنه عيب وهذا أظهر وعلى ما ذكر القفال فيه وجهان [88/ ب] أيضًا فإن كان هذا قبل القبض فهو بالخيار بين الفسخ والإجازة أيضًا لأن هذا العيب وإن حصل بعد القبض إلا أن سببه كان موجودًا قبل القبض، فإذا اختار الإجازة وقلع البائع يلزمه الأجرة وتجب تسوية الأرض وإصلاح حفرها قولًا واحدًا والفرق أن العقد لم يستقر قبل القبض ولم يلزم فلا تجب على البائع الأجرة ولا أرش ما يدخل فيه من القبض بخلاف ما بعد القبض، ولهذا يجوز له أخذ العوض عنه بعد القبض دون ما قبل القبض. وقال بعض أصحابنا: فيه وجه آخر لا أجرة عليه لأنه لما رضي بذلك فقد اختار سقوط الأجرة كما لو كان فيه زرع يبقى إلى حين الحصاد بعد القبض ولا أجرة له وهذا لأنه استوفى ما اسحقه بمعنى قارن العقد وبهذا فارق الأجنبي، أو إذا أتلف البائع الأجزاء بعد القبض، لأنه استوفى ما استحقه بمعنى قارن العقد، وبهذا فارق الأجنبي أو إذا أتلف البائع الأجزاء بعد القبض لأنه استوفاه بمعنى قارن العقد فكان عليه الضمان. وقال بعض أصحابنا بخراسان: ما ذكر القفال [89/ أ] من البناء على القولين في جناية البائع يوجب لزوم الأجرة هاهنا قولًا واحدًا، ولكن المسألة مشهورة بالوجهين، وإن كان تركها لا يضر بحال لا في زرع ولا في شجر فللبائع النقل وليس للمشتري مطالبته بالنقل لأنه لا ضرر عليه في بقائها في أرضه بحال ثم ننظر فيه فإن اختار البائع النقل فالحكم على ما ذكرنا في الأجرة وخيار المشتري ووجوب تسوية الأرض، وإن

اختار البائع ترك الحجارة فيها فلا خيار للمشتري، ولكن هل يملكها المشتري بهذا الترك؟ فيه وجهان أحدهما: يملكها لأنها متصلة بالمبيع وفيه تصحيح العقد وقد زاده خيرًا، والثاني: لا يملكها لأنه ابتداء هيئة مجهولة وهذا أظهر. فإذا قلنا: يملكها سقط حق الباع وانقطعت علقته عنها ولزم العقد، وإن قلنا: لا يملكها فللبائع نقلها متى أراد ثم إذا أراد النقل عاد خيار المشتري والحكم على ما ذكرنا، وقال في (الحاوي): لا يملكها ولا يلزم قبولها وجهًا واحدًا لأنها هبة محضة ويؤخذ بقلعها إن كان قلعها لا يضر أيضًا، وإن كان [89/ ب] قلعها يضر وتركها لا يضر قيل للبائع أتسمح بترك الحجارة؟ فإن سمح لزم البيع ولم يكن له الامتناع من قبولها ليثبت الخيار، ولا يقال هذه هبة فلا يلزمه قبولها، لأن المقصود ليس الهبة بل المقصود إسقاط الضرر عن المشتري فيما يلحقه بالقلع فخرج عن معنى الهبة وسقطت فيه المكافأة والمنة، ثم ليس للبائع أن يرجع فيها سواء وجد من المشتري القبول أو لا، لأنه يجري مجرى الإبراء الذي لا رجوع فيه ولا يفتقر إلى القبول وهذا حسن. وقال القفال: يلزمه قبولها ثم هل هي هبة تمليك حقيقة أم هي لقطع الخصومة؟ وجهان وفائدته: أن المشتري لو استخرجها يومًا هل للبائع أن يقول: ردها علَّي وجهان، ونظير هذا لو أن رجلًا اشترى دابة فأنعلها ثم وجد بها عيبًا وفي قاع النعل حدوث عيب جديد فقال؛ لا أقلع بل أرد الدابة وأهب له النعل يلزم البائع قبوله ثم سقط النعل، فهو للبائع أو يلزم رده على المشتري؟ وجهان، وهذا إذا لم يكن غراس، فأما إن كان فيها غراس لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون البائع هو الذي غرسها أو المشتري [90/ أ] فإن كان البائع غرسها فملكها المشتري بإطلاق العقد على القول الصحيح أو بالشرط على القول الآخر وصارا معًا للمشتري لا تخلو الحجارة من أربعة أحوال: إما أن لا يضر تركها وقلعها، أو لا يضر قلعها ويضر تركها. أو يضر الترك والقلع، أو يضر القلع دون الترك. فإن لم يضر تركها ولا قلعها كأنها كانت من الشجر بحيث لا ضرر على المشتري منها بحال فالحكم فيها كما لو كانت كما لو كانت أرضًا بيضاء لا شجر فيها وقد مضى ذلك. فإن قيل: أوجبتم تسوية الأرض في مواضع ومعلوم أن من نقض بناء رجل غرم ولا يقال له ابَن كما كان فما الفرق؟ قلنا: الفرق أن البناء الغاني الذي بني غير الأول بل هو شيء يقوم مقامه والجدار ليست من ذوات الأمثال، فتجب القيمة هناك ولا تجب إعادة البناء، وأما تسوية الأرض ليست بإحداث شيء ليكون مثلًا لشيء تالف، بل هي إخراج عيب ونقض فإذا أمكن ذلك لم يجب الغرم، وإن كان تركها يضر وقلعها لا يضر بالشجر بحال، فالحكم في هذا القسم أيضًا كما لو لم يكن فيها شجر بحال [90/ ب] لأنها إنما فارقت البيضاء بكون الشجرة فيها فإذا كان قلعها لا يضر بالشجر لا اعتبار بكون الشجر فيها.

وإن كان تركها يضر وقلعها يضر وهو أنها تمنع أن تجري عروق الشجر في الأرض، وإذا قلعت احتاج إلى قطع العروق فهو عيب يرد به المبيع سواء قلعت الحجارة في مدة الأرض في مثلها أجرة، أو لا أجرة لها، لأن النقص عاد إلى العروق، فإن كان المشتري عالمًا لا خيار له وإن كان جاهلًا له الخيار، وكذلك لو كان عالمًا بالحجارة ولم يعلم تضررها له الخيار أيضًا، فإن اختار الإمساك فالحكم في تسوية الأرض والأجرة على ما ذكرنا. وأما أرش النقص الداخل على الشجرة بالقلع فيه طرق أحدها: الأرش عليه لأنه إذا رضي بالإمساك فقد رضي بالنقص. وقال أبو إسحاق: هذا كالأجرة إن كان قبل القبض فقولان، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان: قبل القبض يلزمه قولًا واحدًا وإن كان قبل القبض لا يلزم، وإن كان بعده يلزم. وقال ابن سريج: إن كان بعد القبض يلزم قولًا واحدًا، وإن كان قبل القبض فقولان [91/ أ] وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان قبل القبض وبعده، والأصح أنه يجب، وإن كان تركها يضر بالغراس دون الزرع لزم البائع قلعها وجهًا واحدًا. وقال في (الحاوي): بخلاف الحجارة المخلوقة في أحد الوجهين لأن الحجارة المودعة تدليس من البائع يمكنه رفعها بخلاف المخلوقة، وإن كان قلعها يضر وتركها لا يضر فإن اختار الترك لا خيار للمشتري، وهل يملك بالترك على ما ذكرنا، وقال القفال: لو قلع المشتري تلك الأشجار بعد ذلك هل للبائع قلع الأحجار؟ وجهان مبنيان على ما أتلف حنطة فلم يوجد مثلها فغرم القيمة ثم وجد المثل هل له رّد القيمة ومطالبته بالمثل؟ وجهان، وإن اختار القلع فللمشتري الخيار لأنه يضر بالمبيع ولا فرق بين أن يقول له البائع: أنا أعطيك أرش النقص أو لم يقل فإن قيل: ينبغي أن لا خيار إذا أعطاه أرش النقص كما إذا اختار ترك القلع لا خيار له قلنا: الفرق أنه لا نقص للترك فلهذا لا خيار له، وفي القلع نقصى في الخيار وإن بذل له أرش النقص كما لو اشترى شيئًا فوجد به عيبًا لا يسقط خياره [91 أ/ 6] بأن يقول البائع: أنا أبذل أرش العيب كذلك هاهنا، فإذا ثبت أن له الخيار فإن اختار الرد فلا كلام وإن اختار الإمساك فالحكم في التسوية والأجرة وأرش النفس على ما مضى، هذا إذا كان البائع قد غرسها، فأما إذا غرسها المشتري وكانت الأرض بيضاء الأغراس ثم علم بأن تحتها حجارة، فإن كان قلعها يضر وتركها لا يضر، فإن سمح البائع بالحجارة للمشتري أجبر على قبولها ولا خيار له، لأنه لا ضرر عليه في بقاء الحجر فيها، وإن امتنع وأراد قلعها فالحكم على ما بيناه قبل القبض وبعده، فإن كان تركها يضر وقلعها لا يضر فإن قال البائع: أنا أقلعه فالحكم على ما ذكرنا من الفصل بين ما قبل القبض وبعده. وإن قال: أنا أسمح بالحجارة للمشتري. اختلف أصحابنا فيه قال أبو إسحاق: لا خيار له لأن أكثر ما فيه أن يكون أرضًا مستحجرة لا تصلح للغراس وهذا لا يوجب الخيار إذا كانت تصلح لغير الغراس من الزرع، كما لو كانت الأرض رمله لا تصلح للغراس ليكن

باب الوقت الذي يحل فيه بيع الثمار

للمشتري الخيار، وقال ابن أبي هريرة: له الخيار لأنه تدليس ويفارق الأرض الرملة لأنه لم يحصل فيها [92/ أ] تدليس وهذا أظهر، وإن غرسها المشتري بعد العلم بالحجارة سقط رده لأنه تصرف مما يدخل النقص على المبيع بعد العلم بالعيب، ثم لا يخلو إما أن يضر قلعها أو تركها أو يضر قلعها دون تركها، فإن كان الأمران يضران فللبائع القلع لأنه ملكه وللمشتري المطالبة لإزالة ضرر الترك، ثم إذا قلع يلزم البائع أرش النقص قولًا واحدًا، لأنه تحول ملكه عن الأرض بإدخال النقص على الغير وقد سقط رد المشتري. وإن كان قلعها يضر وتركها لا يضر فإن اختار القلع فعليه أرش النقص قولًا واحدًا، وكيفية التقويم أن يقال: كم يساوي هذا الشجر ولا نقص؟ قالوا: مائة فيقال: وكم يساوي وبه هذا النقص؟ قالوا: تسعون. قلنا: نقص العشر فيلزم حصته من القيمة وإن اختار البائع الترك فهل يملكها المشتري؟ على ما ذكرنا، ولو كان البائع زرع فيها زرعًا وباعها مع الزرع وتحتها أحجار فليس للبائع أن يقلع الأحجار ما لم يحصد الزرع إذا كان قلعها يضر بالزرع لأن لوقت الحصاد وإدراك الزرع [92/ ب] غاية بخلاف قلع الأشجار، وإن كان الزرع للبائع فالضرر يختص به والخيار إليه. وإذا تقرر هذا ففي لفظ المختصر إشكال، وذلك أنه نقل، ولو كان غرس عليها شجرًا. وهذا لفظ يتردد بين احتمالين أحدهما: أن المشتري غرس بعد الشراء، والثاني: أن البائع غرس قبل البيع فربما يحمل بعض أصحابنا هذا اللفظ على المشتري ويجعله الغارس ولا يصح ذلك والصحيح أن الغارس هو البائع قبل البيع لأن المشتري لو كان هو الغارس لما ثبت له الخيار وإن تضررت الأشجار بتلك الأحجار لأنه ضرر على غير المبيع إذ الأشجار الحادثة ليست بمبيعة. ذكر الإمام الجويني رحمه الله: وهو عين قول أبي إسحاق على ما ذكرنا وقد ثبت أن الأظهر غير هذا. باب الوقت الذي يحل فيه بيع الثمار قال: أخبرنا مالك الخبر، إذا باع ثمرة قبل بدو صلاحها لا يخلو: إما أن يبيعها بشرط القطع أو بشرط التبقية أو مطلقًا فإن باعها [93/ أ] بشرط القطع يجوز بلا خلاف لأنها إذا قعطت أمن من الغرر فيها وإلى هذا أشار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في قوله: (أرأيت إن منع الله الثمرة فيم يأخذ أحدكم مال أخيه) ومعناه أن الثمرة إذا لم يبد صلاحها لا تزال معترضة للجوائح والآفات والصواعق والبرد والرياح العاصفة والعادة تبقيتها إلى وقت القطع والعقد إذا أطلق صار مقيدًا بالعادة الغالبة، فكأنه قال: بعت منك هذه الثمرة بشرط تبقيتها، ولو قال ذلك كان باقيًا كما في تبقيتها من الآفة، وإن باعها بشرط التبقيه بطل البيع بلا خلاف لما ذكرنا، وإن باعها مطلقًا بطل البيع عندنا وبه قال مالك وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة: يجوز البيع ويلزم القطع في الحال والخلاف معه في موضعين أحدهما: في بطلان البيع وصحته، والثاني: في العلة فعندنا البيع بطل لأن إطلاقه يقتضي التبقية فيصير كأنه شرط التبقية وعنده إطلاقه يقتضي القطع في الحال فيصير كأنه

باع بشرط القطع والدليل على ما ذكرنا ما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -[93/ ب] أنه (نهى عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها) وهذا يقتضي النهي عن بيع مطلق، ولو باع هذه الثمرة مع الأصل يصح البيع، وإن لم يشترط القطع وتكون الثمرة تابعة للأصل في ذلك ولا يؤثر حصول الغرر في التابع، ألا ترى أن بيع اللبن في الفرع مفردًا لا يجوز للغرر؟ ولو باع مع الأصل جاز لكونه تابعًا. واحتج الشافعي على هذا بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (من باع نخلًا بعد أن تؤبر فثمرتها للبائع إلا أن يشترط المبتاع) وهذا يدل على أنه إذا اشترطها تكون للمشتري وذلك بيع الثمرة مع الأصل. فرع لو كانت الثمرة لواحد والأصل لآخر ويتصور ذلك في الوصية فباع صاحب الثمرة من صاحب الأصل مطلقًا من غير شرط القطع فيه وجهان أحدهما: لا يجوز وهو الصحيح، لأنه باع ثمرة مفردة قبل بدو صلاحها، لا على شرط القطع فأشبه إذا باعها من غير صاحب الأصل، والثاني: يجوز لأن الثمرة والأصل يحصلان لواحد فأشبه إذا باع الثمرة مع الأصل وهذا ظاهر المذهب. [94/ أ] فرع آخر بيع الجوز قبل بدو الصلاح والسفرجل ونحوه لا يجوز أصلًا، لأنه لا ينتفع به أصلًا. مسألة: قال: وإذا أذَن رسوُل الله - صلى الله عليه وسلم - في بيعِه إذا صاَر أحمَر أو أصفَر فقد أذَن إذا بدا فيه النضُج واستطيَع أكلُة خارجًا من أن يكودَن كلُه بلحًا. الفصل إذا باع ثمرة قد بدا صلاحها ينظر فإن باعها بشرط القطع جاز لأنه إذا جاز قبل بدّو الصلاح بهذا الشرط فبعد بدو الصلاح أولى وإن باعها مطلقًا جاز بلا خلاف إلا أن عندنا يبقى إلى وقت الجذاذ وعند أبي حنيفة يطالب بالقطع في الحال، وإن باعها بشرط التبقية يجوز عندنا، وبه قال مالك وأحمد ومحمد إلا أنه يقول: يجوز ذلك إذا تناهى عظمها وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يجوز بشرط التبقية وهذا غلط، لأن النقل يجب على العرف والإطلاق فيه كالشرط كما في أمتعة البيت، فإذا تقرر هذا فالكلام الآن في بدو الصلاح ما هو؟ فعندنا بدو الصلاح: النضج ولا اعتبار بالتلون لأن من الثمار ما لا يتلون إذا نضج، وروي [94/ب] عن ابن عمر - رضي الله عنهم - أنه قال: بدو الصلاح في الثمار بطلوع الثريا، وبه قال بعض الفقهاء لما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الثمار حتى تذهب العاهة فقال له عثمان بن عبد الله بن سراقة: متى ذلك؟ فقال:

(إذا طلع الثريا) ولا يتحقق الخلاف هذا في الحكم لأن وقت طلوع الثريا وقت بدو الصلاح فهو اختلاف في العبارة والعلة، فعندنا يجوز ِلُبدّو الصلاح وعنده لطلوع الثريا وهذا غلط، لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن بيع الثمار حتى تزهى، قيل يا رسول الله وما تزهى؟ قال: (حتى تحمر أو تصفر) وقال عطاء: ُبدّو الصلاح: بأن يوجد فيها ما يؤكل، وقال النخعي: هو قوة الثمرة واشتدادها. فإذا تقرر هذا فبدو الصلاح في الرطب أن يحمر الُبْسر أو يصفر، وفي العنب إن كان أسود أن يسود، وإن كان أبيض كالعنب الرازقى أن تبدو فيه الحلاوة ويصفر، وتقوى نواته ولحمه، وإن كان أحمر أن تحمر، وفي التفاح ونحوه أن يطيب أكله فيه بوجود الحلاوة، وفي المشمش بالصفرة وفى العناب [95/ أ] بالحمرة وفى قصب السكر بالحلاوة، وفي الرمان بالحموضة أو الحلاوة، وزوال المرارة، وفى الَقّثاء والخيار والباذنجان لا يعتبر تغير اللون ولا الطعم لأنه يفسد به فيه بدو الصلاح فيها أن يكبر بعضها حتى تتناهى في كبره، فإنه مادام صغيرًا لا يؤمن ورود العاهة عليه. وأما البطيخ قال الشافعي: (وللخربز نضج كنضج الرطب) فبدو الصلاح فيه أن ينضج ويطيب أكله وقيل: إذا لانت صلابته بالنضج وكذلك التين. وأما بدو الصلاح في العلف والبقول والقصب إذا تناهى طوله إلى الحد الذي ُيَجّز عليه، وفي الورد بالانتفاخ والانتشار ومتى حكمنا يبدو صلاحه يجوز بيعه مطلقًا ويشترط التنقية، وإذا تقرر هذا قال الشافعي هاهنا: والقثاء يؤكل صغارًا طيبًا فبدو صلاحه أن يتناهى عظمه، وأراد به أن القثاء في حال صغره يباين التمر في أول حاله ولكنه مع مباينة توافقه في أن له وقتًا معلومًا تبدو الصلاح فيه ويأمن من الآفة كما للثمر وهو أن يتناهى عظم بزر القثاء ولهذا يتركه [95/ ب] الناس في العادة إلى هذا الوقت ثم يقطعونه ومقصود الشافعي بالتناهي أن يكبر كبرًا غير مفرط، وليس قصده أن يفرط حتى ينتهي إلى أقصى غاية كبره، إذ العادة قطعه قبل ذلك لما في تركه من تراجع قيمته، وهذا هو الجواب عن اعتراض ابن داود على الشافعي المحسوسات حيث قال: والقثاء يؤكل صغارًا طيبًا وهذا يعلم بالحس وكان يحب القثاء فذكره. فإذا تقرر هذا يعتبر بدو الصلاح في بعض الثمار، ولو في شمراخ أو عنقود منها أو ُبْسرة واحدة منها فإذا حصل ذلك صار الباقي تابعًا في جواز البيع على الإطلاق، وأما الكلام في النوعين المختلفين وإذا أفرد ما لم يبد صلاحها في حائط قد بدا صلاح بعضها فعلى ما بيناه في الناس. وقيل: نص في البويطي على أنه إذا كان أحدهما صيفي والآخر شتوي لا يتبع أحدهما الآخر، وأما العنب لا يصير تابعًا للرطب ولا جنس من الثمار يكون تابعًا لجنس آخر، ولا ثمرة حائط تابعة لثمرة حائط آخر قال الليث بن سعد: إذا بدا الصلاح في جنس كان بدو الصلاح في [96/ أ] جميع ثمار ذلك البلد ويجوز بيع جميعها مطلقًا

وقال مالك: إذا بدا الصلاح في جنس كان بدو الصلاح في ذلك الجنس في جميع البلد الواحد إذا كان الصلاح معهودًا لا مسكن أو لا يكون بدو الصلاح في جنس آخر. وهذا غلط لما روي أن الني - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع العنب حتى يسود وعن بيع الحب حتى يشتد) ولم يفصل بين أن يكون بدو الصلاح من جنس آخر أو في حائط آخر، ولأنا إنما جعلنا بدو الصلاح في بعضه كبدوه في كله لئلا يؤدي إلى اختلاف الأيدي وسوء المشاركة ويقارب التلاحق في الزمان وهذا المعنى لا يوجد في الجنسين، ولا في الحائطين وكل موضع قلنا: لا يجوز بيعه إلا بشرط القطع فباع بهذا الشرط كان للبائع مطالبته بالقطع فإن تراضا على ترك القطع إلى أوان الجذاذ ولم يضر البيع شيئًا. فرع لو باع ثمرة على شجرة لم يبد صلاحها على شجرة مقلوعة لا يضر فيه. وقد قال أصحابنا: يجوز بيعها مطلقًا من دون شرط القطع، لأنها لا تنمو ولا يأخذ من أجزاء الشجرة [96/ ب] ولو بقيت عليها بخلاف غيرها. مسألة: قال: (ولا وجه لمن قال: يجوُز إذا بدا صلاحُهما ويكوُن لمشتريهما ما ثبَث أصلهما أن يأخذ كلما خرَج منها وهذا محرم) قصد به الرد على مالك حيث قال: إذا اشترى الخربز أو القثاء بعد تناهي عظمه أو عظم بعضه من غير شراء أصله كان للمشتري جميع ما يخرج من حوادثهما لأنه يشق تميزه ومذهبنا أن الحوادث الخارجة للبائع، ولو شرط ذلك بطل البيع واحتج الشافعي بأن قال: هذه الحوادث كانت غير مخلوقة عند العقد فكيف يدخل في العقد؟ ويبعد أن يشترط فيما برز بدو الصلاح ثم يقال: يدخل في غير البارز في العقد، ولو جاز ذلك مثل هذا لجاز ذلك في النخل (وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع السنين) وهو أن يقول الرجل للرجل: بعت منك ما تحمل هذه النخلة ثلاث سنين أو أربع سنين بكذا لأنه بيع ما لم يخلق وليس بعقد َسَلم موصوف، بل هو بيع العين فإن باع الأصل من الثمرة يجوز، ولكن لا بد من شرط [97/ أ] القطع فإن شجر الخربز والباذنجان والقثاء زرع على ما ذكرنا ثم إذا شرط القطع فلم يتفق، فكل ما كان خارجًا وخرج بعد البيع يحصل للمشتري وهذا هو الوجه في تحصيل كل الثمرة الموجودة وغيرها للمشتري، وإن أراد الخلاص من مطالبته بالقطع استأجر منه الأرض سنة أو سنتين، فحصل له منفعة تلك المسألة ولا يملك صاحب الأرض مطالبته القطع، ولو اشترى نصف الثمرة مشاعًا من زرع أو تمر لم يبد صلاحها لا يجوز، لأنه لا يمكن قطعه إلا بقطع الباقي الذي يس بمبيع فلا يمكن شرط القطع فيه. مسألة: قال: (وكُّل ثمرٍة وزرٍع دونها حائٌل من قشٍر أو كمام).

الفصل جملة الثمار ضربان: بارزة وفي كمام فالبارزة كالتفاح والسفرجل والخوخ والرطب ونحو ذلك يجوز بيعها مقطوعة على الأرض في أصولها بعد أن بدا صلاحها كيف شاء وقبل بدو صلاحها بشرط القطع، لأنها معلومة بالمشاهدة، وأما التي في كمام فعلى ضربين: [97/ ب] كمام هو من مصلحتها وحافظ لرطوبتها ويزال عنها عند الأكل كالرمان ن والبطيخ والموز فهذه كالبارزة سواء وكمام لا مصلحة لها فيه وهو الكمام الفوقاني من الجوز واللوز والرانج والفستق والبندق. وفي معناها الباقلا الرطب فهذه لا يجوز بيعها وعليها الكمامان بحال لا مقطوعة ولا في أصولها. وحكي عن ابن القاص وأبي سعيد الإصطخري وهو اختيار علماء البصرة: يجوز بيع الباقلا الرطب في قشرتيه، وكذلك اللوز الرطب لأن القشرة الثانية مأكولة في حال رطوبته وهو وقت كمال المنفعة فإن جف لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأحمد، وإن كان جافًا، ثم قاسوا على هذا الجوز والرانج واحتجوا بأن هذا حائل من أصل (الخلقة) فلا يمنع جواز البيع كقشر الرمان وهذا خلاف نص الشافعي في (الآم) لأنه قال فيه: لا يجوز بيع الباقلا في قشرتيه فإن أزيلت القشرة الخضرة وظهرت القشرة البيضاء جاز بيعه وتعيب القول في قشره أسوأ حالًا من تعيب اللحم في الجلد لأنه يعلم به عجافته من سمنه [98/ أ] ويقال: الجلد في الحيوان حافظ لمنفعته ولا يعلم به حال الباقلا ولإبقاء القشرة عليه حافظ لمنفعته لأنه يسود ويتغير في قشره، فإذا لم يجز بيع اللحم في الجلد فلأن لا يجوز بيع الباقلا في القشرة العليا أولى. وقال بعض أصحابنا بخراسان: بيع هذه الأشياء في قشرتها عند الجفاف لا يجوز خلافًا لأبي حنيفة وقد قيل: فيه وجهان مبنيان على قولي بيع الغائب لأن عليه ساتر إلا من مصلحته، وفي حال رطوبتها وجهان، لأنه ما دام الجوز رطبًا فصلاح لبه في قشرتيه ولو رفعت القشرة العليا عنه تسارع إليه الفسال ويجوز بيع اللوز الرطب وجهًا واحدًا، لأنه يؤكل مع قشرتيه فلم تستر بما ليس بمقصود، قالوا: والمذهب الصحيح جواز البيع في الكل. وحكي الربيع عن الشافعي ما يدل على جوز البيع وهذا القول أحب إلّي ولكن ظاهر مذهب الشافعي ما تقدم. مسألة: قال: ولم أجُد أحدًا من أهِل العلم يأخُذ عشر الحبوب في كمامها ولا يجيز بيع الحنطة في سنبلها مفردة [98/ ب] عن اَلسنبل لا يجوز إجماعًا، وأما بيعها مع السنبل هل يجوز؟ قال في القديم: يجوز وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد لما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (أنه نهى عن بيع الحب حتى يشتد) وروي (حتى يفرك) وقال في الجديد: لا يجوز وهو الصحيح لأنه لا يدري قدر ما في السنبل من الحنطة وأنه جيد أو رديء، ولأن المقصود مستور بما يدخر إذا خرج منه غالبًا فاشتبه بيع الجوز في قشره

العليا. واحتج الشافعي بأنه لا يجوز في تبنها ولا يعرف فيه خلاف إلا من يتقسف منهم فيسوى تبنها في تبنها، وتبنها في سنبلها، وقال لا يجوز فع فضة في تراب بالتراب لأن المقصود مستور بما لا مصلحة له فيه، فكذلك لا يجوز هذا أيضًا، وإنما قال: بالتراب ولم يقل بالفضة لئلًا يتوهم متوهم أن إبطال البيع للتفاضل ولكن للجهالة. وقال: أجمع العلماء أنه لا يجوز أحد عشر الحبوب في أكمامها فكذلك لا يجوز بيعها في تلك الحالة. وأما الخبر الذي ذكروا روي حتى يفرك بفتح الراء فتصير حجتنا، وقيل: نهى قبل ذلك لعلة [99/ أ] وهي خوف الجائحة، فإذا اشتد زالت هذه العلة وبقي المنع لعلة أخرى، وهي الجهالة وقيل قول واحد لا يجوز بيعها في سنبلها، وقول القديم مرجوع عنه وقيل: القولان فيه كالقولين في بيع الغائب. وقال القاضي الطبري: حكي ابن المنذر والربيع: أن الشافعي رجع عن إفساد البيع فيها، وقال معنى السنة فاضربوا عليه وهو غريب. فرع بيع العدس والحمص والدخن والسمسم في سنبلها كالحنطة سواء، وأما الشعير والذرة وما يكون حبها ظاهرًا يجوز بيعها في سنبلها لأنها تدخر عليها، وقال بعض أصحابنا بخراسان: الذرة كالحنطة وهذا أظهر. فرع آخر الشعير بعد الدياسة إذا بيعت في التبن لا يجوز، لأن المقصود وهو الحب مستور بما ليس من أصلاحه، إلا إذا جوزنا بيع الغائب، واشترى الحب دون التبن فيجوز وإذا أخرج له الخيار ومؤنة إخراجه على البائع، لأن التسليم به يقع. وقيل: قول واحد لا يجوز للجهل، وكذلك لو سلخ الجلد ثم وضع اللحم فيه [99/ ب] ثم بيع اللحم مستترًا بالجلد يجوز على قول من يجوز بيع الغائب والمذهب أنه لا يجوز. فرع آخر بيع الأرز في قشرته السفلى وهي الحمراء يجوز بلا خلاف لأنه لا يدخر بعد إخراجه منها، وأما بيعه في قشرته العليا وهي الصفراء قال أبو حامد: هو عندي بمنزلة الحنطة في السنبلة فيه قولان، وبه قال بعض أصحابنا، وقال غيره: يجوز بيعه قولًا واحدًا، لأنه يدخر عليه ولا يرفع عنه والقشرة التحتانية بمنزلة النخالة. وإذا رفعت الفوقانية أسرع الفساد إليه وهو كالشعير سواء، ومن قال خلاف هذا لم يعلم حالة التأبير في ادخار الأرز، وذكر القاضي الطبري وهو اختيار ابن أبي أحمد وصاحب (الإفصاح). مسألة: قال: ولا يجوُز أن يسَتثنى من الثمرِة ُمدًا. الفصل إذا باع ثمرة على الشجرة أو موضوعة بالأرض، واستثنى منها مدًا أو رطلًا أو أكثر

لا يجوز البيع، لأنه باع نصيبًا من جملته من غير أن يكون النصيب معلومًا بكيل أو [100/ أ] وزن أو جزء معلوم فأشبه إذا قال: بعتك بعض هذه الصبرة، وقال مالك: يجوز ذلك لأنه استثنى معلومًا وهذا غلط لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (نهى عن بيع السنين والثنيا). ومعناه أن يبيع شيئًا ويستثني بعضه فظاهره أنه لا يجوز كل بيع حصل فيه الاستثناء إلا إذا أقام الدليل، لأن هذا البيع معلوم بالمشاهدة لا بالقدر فإذا استثنى قدرًا بغير حكم المشاهدة لأنه لا يدري كم تبقى في حكم المشاهدة منه ويخالف إذا استثنى جزءًا لأنه لا يغير حكم المشاهدة ولا يمنع المعرفة بها. ولو قال: بعتك هذه الصبرة إلا ربعها أو قال: بعتك ربع هذه الصبرة جاز لأن المبيع معلوم بعد الاستثناء، وقال الأوزاعي: لا يجوز لا بيع على شرط الشركة وهذا غلط لأنه لو باع ثلاثة أرباعها جاز، كذلك هذا ويفارق المسألة قبلها لأن استثناء المد يجعل الباقي مجهول المقدار فإنهما لو سئلا كم المد من الحائط أسْهٌم من ثلاثة َاسهٌم أو سهم من ألف سهم [100/ ب] أو أقل أو أكثر؟ لم يعرفا ذلك، ولو استثنى نخلات من البستان ُنِظر فإن قال: بعتك هذه القيل إلا ثلاث نخلًات أو نخلة لا يجوز، وإن عين النخلات يجوز. وقال مالك: لو لم يعين وكان قدر الثلاث يجوز وكان له ثمرة ثلاث نخلات وسط، وإن كان أكثر من الثلاث لا يجوز، وكذلك لو قال: بعتك نخلة أو نخلات منها ولم يعين لا يجوز، ولو كانت الصبرة معلومة المقدار فقال: بعتك إلا مّدًا منها يجوز لأن المد منها حينئٍذ يكون جزءًا معلومًا. فرع لو قال: اشتريت منك هذا الثوب بهذه الدراهم إلا خمسة دراهم لم يجز لأن الثمن مجهول، ولأن استثناء المعلوم من المجهول لا يجوز. فرع آخر لو قال: بعتك هذه الثمرة بأربعة آلاف إلا مقدار الألف قال في الصرف: يجوز لأنه استثنى ربعها، ولو قال: إلا ما يساوي ألف درهم كان باطلًا لأنه استثنى بقيمة ألف وذلك يقل ويكثر فلا يجوز. فرع لو قال: بعتك هذه الشاة إلا [101/ أ] سوا قطها لا يجوز حضرًا كان أو سفرًا، وحكي عن أبي حنيفة: يجوز ذلك استحبابًا والمشهور خلافه، وهذا غلط لأنه يؤدي إلى جهالة المبيع، وقال أحمد: يجوز ويوقف في استثناء الشحم، وحكي عن مالك: يجوز ذلك في السفر لأن المسافر لا يمكنه الانتفاع بالسواقط وهذا غلط، لأنه يمكنه طبخها كما يطبخ اللحم ولأنه لا يجوز إفراد هذه بالبيع منها فلا يجوز استثناؤها. فرع آخر لو قال: بعتك قفيزًا من هذه الصبرة إلا مكوكًا جاز، لأن القفيز والمكوك معلومان قدرًا.

فرع آخر لو قال: اشتريت صاعًا من هذه الصبرة فظاهر المذهب أنه يجوز وإن لم يعلما كم صيعان الصبرة، وإن تلف البعض فما دام هناك صاع فالمبيع باق، وإن لم يتلف فللبائع أن يؤدي صاعًا منها من أي موضع شاء. وقال داود: لا يجوز هذا البيع لأنهما يختلفان فيقول البائع: أكيل لك من هذا الجانب ويقول المشتري: لا بل من الجانب الآخر وهذا غلط، لأنه يؤدي إلى الاختلاف بل الخيار للبائع كما لو أسلم [101/ ب] إلى رجل في طعام للبائع أن يعطيه من آي موضع أراد، ولو قال: على أن تكيل لي من هذا الجانب صح ويكال له من ذلك حينئٍذ لأنه معين بالعقد. وقال بعض أصحابنا بخراسان: الأقيس أن لا يجوز هذا البيع إلا أن يعرف عدد الصيعان ليكون الصاع منه جزءًا مشاعًا وإن تلف نصف الصبرة تلف من المبيع نصفه، ويكون تسليم الصاع بالمقاسمة كتسليم الحر المشاع إما بقرعة أو تراٍض ووجه هذا أنه لا بد للمبيع من أن يكون في الذمة أو يكون عينًا بشاهد أو جزءًا مشاعًا من عين، والصاع من الصبرة المجهولة المقدار لم يوجد فيه شيء من هذا فأشبه إذا قال: بعتك ثوبًا من هذه الثياب العشرة لما لم يكن جزءًا منها مشاعًا لم يجز تؤكده أنه لو فرق الصيعان، وقال: بعتك هذه الصيعان لم يجز كذلك إذا كانت مجتمعة وأيضًا شراء صاع من جملة مجهولة المقدار كاستثناء صاع من جملة مجهولة المقدار وذلك لا يجوز، ولأنه لو قال: بعتك عشرة أذرع من هذه الأرض أو [102/ أ] من هذه الدار لم يجز إلا أن يكون فرعان الكل معلومة، حتى يكون المبيع جزءًا شائعًا منها أو يتعين جانبًا ليتعين الطول والعرض للمبيع، فإن قلتم: جوانب الدار تتفاوت وصيعان الصبرة لا يتفاوت فقد يكون أرضًا لا تتفاوت، أجزاؤها ومع ذلك لا يجوز، وهذا اختيار القفال ودلائله. فرع آخر لو باع ثمرة واستثنى منها قدر الزكاة يجوز، ولكن لا بد من ذكر قدر الزكاة َأُعْشٌر أو نصف عشر؟ وقال مالك: لا يلزم ذكر القدر لأنه معلوم شرعًا وهذا غلط، لأنه لو صح هذا لما لزم اشتراط الزكاة. فرع آخر قال في (الحاوي): إذا استثنى البائع قدر الزكاة وأمر المشتري بأدائها فأراد المشتري أن يرفع قدر الزكاة من غير هذه الثمرة فيه وجهان أحدهما: يجوز له ذلك لأنه يحل فيها محل البائع وقد كان للبائع دفع الزكاة من غيرها، والثاني: لا يجوز له ذلك لأن المشتري لم يملك قدر الزكاة بعقد ولا غيره، وإنما هو كالوكيل فيها [102/ ب] بخلاف البائع فإنه لو كان مالكًا لها وهذا هو المذهب الذي لا يجوز أن يقال غيره عندي.

فرع آخر قال: لو أن المشتري استهلك كلها رطباً فيه وجهان أحدهما: يطالب المشتري بعشر الثمرة ثمراً وهذا على الوجه الذي يجيز له دفع الزكاة من غيرها فيجعل ذلك منه ضماناً عشرها ثمراَ، والثاني: يطالبه بقيمة عشرها رطباً وهذا على الوجه الذي يمنعه أن يدفع الزكاة من غيرها لأنه استهلك حق المساكين رطباً، فعلى هذا إن كان قيمة عشرها رطباً أقل من قيمة عشرها ثمراً هل يرجع على البائع بفضل ما بينهما من النقص؟ وجهان مخرجان من اختلاف قوليه في الزكاة هل وجبت في الذمة أو في العين؟ فإن قلنا: في الذمة رجع عليه بقدر النقص لاشتغال الذمة بها، وإن قلنا: في العين لم يرجع بقدر النقص لزوال يده عن العين. مسألة: قال: وإن باع ثمر حائط وفيه الزكاة ففيه قولان. فقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الزكاة ونص ها هنا [103/ أ] على قولين بكم يجيز الباقي من الزكاة بحصته من الثمن؟ أو بكل الثمن وسكت عن القول فساد البيع الذي نص عليه في كتاب الزكاة فقال المزني: هذا خلاف قوله في كتاب الزكاة، لأنه أبطل السعي هناك البيع هناك في أحد القولين وليس هذا باعتراض لأنه له أن يفرع على أي القولين شاء وقد قال: وللسلطان أخذ العشر من الثمرة فإن قال قائل: أي فائدة في هذا وهل يشكل وجوب الزكاة حتى يحتاج في ذلك إلى البيان؟ قلنا: ربما يتوهم متوهم أن المبيع إذا صح صح في الجميع والزكاة في ذمة البائع أو صح فيما عدا الزكاة، والساعي ممنوع عن عين تلك الثمرة للشيوع الحادث فقطع هذا التوهم وبين أن السلطان يتبع تلك الثمرة حيث كانت حتى يأخذ زكاتها. مسألة: ولا يرجع من اشترى الثمرة وسلمت إليه بالجائحة على البائع. الفصل المبيع إذا هلك لا يخلو من أحد أمرين، إما أن تكون ثمرة أو غير ثمرة فإن لم تكن ثمرة كالثياب والحيوان فلا يخلو إما أن يكون هلاكه قبل القبض أو بعده [103/ ب] فإن كان بعد القبض كان من ضمان المشتري، وإن كان قبل القبض نظر فإن أهلكه المشتري استقر العقد وكان من ضمانه، وإن هلك بأمر سماوي كان من ضمان البائع بالثمر قولاًَ واحداً، وقال بعض أصحابنا بخراسان: متى ينفسخ؟ وجهان أحدهما: يوم التلف، والثاني: من أصله والزوائد الحاصلة قبل التلف مبنية على هذين الوجهين. فإن قلنا: ينفسخ في وقته فهي للمشتري مجاناً، فإن قلنا: ينفسخ من أصله فهي للبائع وهل للبائع حبس الزوائد لاستيفاء الثمن على هذين الوجهين وإن أتلفه أجنبي فيه طريقان: قال ابن سريج: لا يبطل قولاً واحداً، وبه قال أبو حنيفة، وقال غيره:

فيه قولان: أحدهما: يبطل البيع لأن التسليم المستحق قد فات، والثاني: لا يبطل فعلى هذا للمشتري بالخيار أن يفسخ البيع ويرجع بالثمن على البائع وبين أن يخيره ويطالب الجاني بقيمة المبيع، وإن أتلفه البائع فالمنصوص الذي عليه عامة أصحابنا أن امبيع يبطل قولاً واحداً لأنه لا يمكن إيجاب القيمة على البائع يكون المبيع مضموناً عليه قبل القبض بالثمن فصار كما لو تلف [104/ أ] في يده بآفة سماوية، وقال ابن سريج: فيه قولان أيضاً، كما لو أتلفه لأجنبي فإن اختار إجازة البيع على أحد القولين يطالب البائع بالقيمة ويطالبه البائع بالثمن، وقال أحمد: لا يبطل وعلى البائع مثله أو قيمته، وإن كان المبيع ثمرة نظر فإن هلكت بعد النقل والتحويل فمن ضمان المشتري وإن هلكت قبل القبض بعد التخلية فهل يوضع الجائحة عن المشتري؟ قال في الجديد: لا يوضع وهو الصحيح. وبه قال أبو حنيفة. وقال في القديم فيه قولان: أحدهما: ما ذكرنا، والثاني: توضع وهو قول أحمد وإسحاق وأبي عبيد، وإنما اختلف قوله في المسألة لما حكى عن سفيان بن عيينه من التوهين في الحديث وذلك أن سفيان كان يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه: "نهى عن بيع السنين" ثم زاد بعد زمان في الرواية وأمر بوضع الجوائح لفظه في الحديث نسيتها، ثم رأيت أن أروي ما حفظت قال الشافعي: فيحتمل أن يكون تلك اللفظة التي نسيتها دلالة على أن الأمر بوضع الحوائج على سبيل الندب وكان الأمر ما ظن [104/ ب] الشافعي إذ قد روى في بعض أحاديث الجائحة أن امرأة أتت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقالت: إن ابني اشترى ثمرة من فلان فأذهبتهما الجائحة فسأله أن يضع عنه فتألى أن لا يفعل فقال - صلى الله عليه وسلم -: "أتألى فلان أن لا يفعل خيراً"، وروي "آلى فلان أن لا يصنع معروفاً"، وفي تسميته معروفاً دلالة على أنها استحباب، والدليل على صحة هذا أن قبض الأعيان الذي يتعلق به جواز التصرف ينتقل به الضمان فإن قلنا: لا يوضع كان من ضمان المشتري وإن قلنا: يوضع كان كما لو كان قبل القبض فيها الأقسام الأربعة: وهي أنها إن هلكت بآفة سماوية بطل البيع، وإن أهلكها المشتري كان من ضمانه، وإن أهلكها البائع أو الأجنبي فعلى الطريقين. وقال مالك: إن كان الجائحة دون الثلث لم توضع عن المشتري ويلزمه كل الثمن، وإن كان قدر الثلث فصاعداً يوضع عن المشتري واحتج بأنه لابد في الثمرة أن يأكلها الطائر وتسقط بهبوب الريح، فلابد من فصل وهو ما ذكرت وهذا غلط، لأن هذا [105/ أ] القدر الذي يهلك بأكل الطائر لا يؤثر في العادة ولا يبلغ ما جذ إلا أن يقع عليها الجراد فلا يبقى شيئاً ويكون ذلك من جملة الجائحة، وقد قال الشافعي: لا وجه إلا وضع الكل أو إلزام الكل ولا خبر في التقدير بالثلث ولا قياس ولا معقول. فرع لو هلكت بعد أو أن الجذاذ قبل النقل فإن قلنا: لا توضع الجائحة إذا لم يبلغ أو أن الجذاذ فهاهنا قولان أحدهما: لا يوضع لأنه فرط في ترك النقل وهو اختيار أبي حامد والقفال، والثاني: يوضع فعلى هذا كان الجائحة قبل (أوان)

الجذاذ، وهذا لأن في كمال القبض في قوله القديم قولين أحدهما: ببلوغ الثمرة أو إن الجذاذ، فإذا أمكن الجذاذ بعد التحلية صارت مقبوضة، والثاني: بوجود الجذاذ لا بإمكانه. فرع آخر إذا قلنا: بوضع الجوائح لو اختلف البائع والمشتري في مقدار الهالك فالقول قول البائع، لأن الأصل السلامة نص عليه في "الأم". فرع آخر قال [105/ ب] أصحابنا بالعراق: لا فرق على القولين بين أن يكو الهلاك بأمر سماوي أو بسرقة آدمي أو نهب وهو ظاهر المذهب. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن كان بفعل آدمي فيه وجهان أحدهما: ما ذكرنا لأن ذلك جائحة في العادة، والثاني: لا توضع وبه قال أحمد، لأنه يمكنه أن يتبع الجاني فلا حاجة إلى الوضع. وحكي هذا عن مالك وهذا ينتقض بالعبد إذا قتل في يد البائع يبطل البيع عند مالك. وإن أمكن الرجوع إلى القيمة. فرع آخر لو لم يتلف الثمرة ولكنها عطشت ولا ماء هناك نص الشافعي على أن للمشتري الخيار واختلف أصحابنا في هذا فمنهم من قال: له الخيار قولاً واحداً، لأن نقل الماء إليها عند الحاجة من نظام التسليم، ألا ترى أنها تبقى على أصولها حتى تبلغ أو أن جذاذها فينقلها المشتري أولاً فأولاً، ومن أصحابنا من قال: هذا على قوله القديم في وضع الجائحة القولان على ما ذكرنا، ولو باع بشرط القطع فلم يقطع حتى أصابته آفة فلا شيء على البائع لأن حق السقي لا يلزمه حينئذ. [105 ب/ 6] فرع آخر قال ابن سريج: لو كان المبيع عبداً فذهبت يده في يد البائع نظر فإن كان بآفة سماوية فالمشتري بالخيار بين الإمساك بكل الثمن وبين الرد. وحكى البويطي قولاً آخر أنه يأخذ بحصته من الثمن، قال القاضي أبو حامد: وهذا لا يصح على مذهب الشافعي وإن كان بقطع الأجنبي فالمشتري بالخيار، فإن رد كان للبائع على الجاني نصف قيمة العبد وللمشتري على البائع الثمن، وإن أمسك كان عليه للبائع كمال الثمن ويرجع المشتري على الأجنبي بنصف قيمة العبد ولكنه يطالبه بعد قبض المبيع ولا مطالبة له قبل قبضة لأنه ربما يموت في يد البائع فيبطل البيع فيه ويجب أرش الجناية لبائعه، وإن كان القاطع هو البائع فالمشتري بالخيار فإن رد فلا كلام وإن أمسك فكم يمسكه؟ قولان بناء على ما لو قتله هل يبطل البيع؟ قولان فإذا قلنا: جنايته كآفة سماوية فالمشتري يأخذه بكل الثمن أو يرده، وإذا قلنا: جنايته كجناية الأجنبي فالمشتري يأخذه بكل الثمن ويرجع على البائع بنصف قيمة [106/ ب] العبد بعد قبض المبيع لا قبله، وقيل: فيه وجه آخر يرجع بما نقص من القيمة، وإن كان القاطع هو المشتري فكأنه قبض نصف المبيع، فإن اندمل الجرح قبض الباقي استقر الثمن عليه وإن هلك بعد

باب المزابنة والمحاقلة

الاندمال بطل البيع في القدر الذي لم يقع القبض فيه وتم في مقدار ما قبضه المشتري من المبيع ورجع على البائع بقدر ما فاته ولا يوجب في يده مقداراً ولكنا ننظر إلى ما نقص بالقطع، فإن نقص النصف فقد قبض المشتري نصف المبيع وإن نقص الثلث فقد قبض المشتري ثلث المبيع ويرجع بما بقي وعلى هذا وهذا لأنا أوجبنا بنصف قيمته ربما كان ذلك بقدر كل الثمن، فيأخذ البائع من المشتري كل الثمن وإنما حصل له نصف المبيع وذلك لا يجوز. وذكر القاضي الطبري هاهنا أنه يرجع عليه بنصف الثمن وقد قبض نصف المبيع بقطع اليد والأصح ما ذكرنا. وقال في "الحاوي": فيه وجهان أحدهما: يرجع البائع عليه بنصف القيمة كما في الأجنبي، والثاني: يرجع بما نقص من قيمته، لأن الجناية كانت في ملكة بخلاف الأجنبي [107/ أ]. باب المزابنة والمحاقلة قال: أخبرنا سفيان بن عيينة وذكر الخبر، المحاقلة بيع السنابل بجنسها من الحب والحقل هو البقل وكل حشيش رطب والمحاقلة مشتقة من ذاك وقيل: الحقل: الأرض البيضاء التي تصلح للزرع والمحاقلة مشتقة من ذاك، وذكر أصحابنا عن ماللك أنه قال: المحاقلة أكثر الأرض ينقص ما يخرج منه وهو المخابرة، وهذا غلط لما روى عطاء عن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن المحاقلة والمزابنة"، وفسر عطاء المحاقلة، وقال: المحاقلة في الحرث كهيئة المزابنة في النخل سواء بيع الزرع بالقمح، وقال ابن جريج: قلت لعطاء: أَفَسّرَ لكم جابر المحاقلة كما أخبرتني؟ فقال: نعم، وروى الشافعي بإسناده عن جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن المحاقلة والمزابنة" والمحاقلة أن يبيع الرجل الزرع بمائة فرق حنطة والمزابنة أن يبيع التمر في رؤوس النخل بمائة فرق تمر [107/] وقيل: هذا التفسير في الخبر، وقيل: إنه من الشافعي. واحتج مالك بما روى أبو سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهى عن المحاقلة والمزابنة" والمحاقلة كري الأرض وفي لفظ المحاقلة استكراء الأرض بالحنطة قلنا: خبرنا أولى، لأنه أشبه باللغة والقياس لأن إكراء الأرض بالحنطة بذل الحنطة في مقابلة منفعة الأرض، والمنفعة ليست بحنطة، وإذا باع السنبل بالحنطة فقد باع حنطة بحنطة مع الجهل بالتساوي، وذلك لا يجوز، وإذا تقرر هذا قوله: والمحاقلة أن يبيع الرجل الزرع بمائة فرق حنطة يوهم التسوية بين القصيل وبين الحب المشتد في السنابل وليس المذهب على ما توهم ظاهر اللفظ لأنه إذا باع قصيلاً لم يشتد حبه بحنطة يجوز البيع إذا كان بشرط القطع لأنه غير مطعوم قابل مطعوماً، وإنما يجوز إذا اشتد الحب لأنه مطعوم بمطعوم غير (معلوم) التماثل.

باب بيع العرايا

وأما المزابنة قال الشافعي: وجماع المزابنة أن ينظر إلى كل ما عقد بيعه وفي الفضل في بعضه [108/ أ] على بعض يداً بيد ولا يجوز منه شيء يعرف بشيء منه جزافاً ولا جزافاً، بجزاف من صنفه ومعناه أن المزابنة المحرمة ليست بمقصورة على التمر أو الثمار ولكن كل ما يحرم فيه التفاضل إذا بيع جزاف به بمعلوم أو جزاف يسمى مزابنة مثل أن يبيع ثمرة موضوعة بالأرض مكيلة بثمرة على رؤوس التخل أو ثمرة بثمرة موضوعتين على الأرض أو سائر المطعومات مما يجري فيه الربا إلا في العرايا على ما سنذكر وهو مشتق من الزبن وهو الدفع سمي به لأنهما ربما يتلفان فيما يحصل من ذلك الرطب هل كان مثل التمر ويؤدي الأمر بينهما إلى التدافع والخصومة يقال: تزابنا أي تدافعا ووافقنا مالك في تحريك هذا العقد ولكن تخالفنا في معنى اللفظ فنقول المزابنة أن يقول الرجل لآخر: صبرتك هذه مائة صاع مثلاً فيقول المالك لا بل هو أقل فيقول ضمنتها لك مائة صاع فإن زاد فلي وإن نقص فعلي، فقال الشافعي: هذا قمار بخاطره وليس بعقد ولا من المزابنة في شيء وهكذا لو قال الرجل: عد قثاك أو بطيخك هذا المجموع فما نقص من مائة فعلي وما [108/ ب] زاد فلي أو اطحن حنطتك هذه فما زاد على كذا فلي وما نقص فعلي فهذا محرم غير مأذون فيه وداخل في القمار وأكل المال بالباطل. فرع روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهي عن بيع المعاومة" وهو بيع السنين وقد ذكرنا صورته. فرع آخر روي أنه - صلى الله عليه وسلم -: "نهي عن بيع المجر" قال أبو عبيد: هذا يقرأ بالتخفيف وهو بيع حمل الناقة، وهذا لأنه غرر ومخاطرة وقيل: المجر القمار والمجر المزابنة والمحاقلة. باب بيع العرايا قال: أخبرنا مالك الخبر، ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إخبار عن بيع العرايا منها ما روي الشافعي رضي الله عنه عن داود بن الحصين عن أبي سفيان عن أبي هريرة - رضي الله عنه - "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أرخص في العرايا فيما دون خمسة أوسق أو في خمسة أوسق" الشك من داود. وروي ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - رضي الله عنه -: "نهى عن بيع [109/ أ] التمر بالتمر إلا أنه أرخص في العرايا"، وروي الشافعي: حديثاً فيه قلت لمحمود بن لبيد أو قال محمود بن لبيد لرجل من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إما زيد بن ثابت أو غيره: ما عراياكم هذه؟ وسمي رجالاً محتاجين من الأنصار شكوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الرطب يأتي ولا نقد بأيديهم يبتاعون به رطباً يأكلونه مع الناس وعندهم فضول من قوتهم من التمر

فرخص لهم أن يبتاعوا العرايا بخرصها من التمر الذي في أيديهم يأكلونه رطباً واتفقت الأمة على قبول هذه الأخبار ولكنهم اختلفوا في تأويلها ومعناها فقال الشافعي: معناها بيع الرطب في رؤوس النخل خرصاًَ بالتمر على الأرض كيلاً فيما دون خمسة أوسق فيجيء الخارص ويقول يجيء من هذا أربعة أوسق تمراً والآن رطباً ستة أوسق فيبيعها بأربعة أوسق تمراً ويقبض التمر في المجلس ويسلم إليه الرطب بالتخلية ثم يتفرقان ويعتبران بلون التمر أقل من خمسة أوسق ولا يجوز أن يزيد على خمسة أوسق وإن زاد الرطب على خمسة أوسق فلا بأس كما صورنا [109/ ب]. وقال أحمد: هكذا ولكنه قال في رواية: يبيعها بمثله تمراً ويخرصها رطباً، وقال مالك: معناها أن يهب الرجل نخلة من حائطه من الغير فيقب الغير الهبة، فيلزم بنفس العقد عنده، فإذا حملت النخلة فلمالكها أن يتردد ويدخل حائط غيره ويلتقطها فيشق ذلك على الواهب لأن العادة بالحجاز أن صاحب الحائط يخرج بأهله إلى حائطه أيام الثمار فيشق عليه دخول الأجنبي فيجوز للواهب أن يشتري تلك الثمرة من الموهوب له بما يجيء منه تمراً فيكون حقيقة البيع إلا أنه إنما يجوز في هذا الموضع المخصوص واحتج بأن العرية في اللغة الهبة والعطية قال الشاعر: ليست بسنهاء ولا رجبية ولكن ... عرايا في السنين الجوائح وهذا غلط لما ذكرنا من نصوص الأخبار، وقال الأزهري: جماع العرايا كل ما أفرد ليؤكل خاصة سميت عرايا لأنها عريت من جملة الحائط، وقيل: سميت عرية لأجل تردد أهلها فيلتقط ما أدرك منها كل مرة يقال: عروته أعروه وإذا [109 ب/ 6] قصدته للرفد، وقال أبو حنيفة: معناها أن يهب الرجل ثمرة نخلة من حائطه لرجل، ويقبلها الموهوب له: دع ما وهبت لك وأنا أعطيك تمراً بقدر ما يجيء من رطب هذه النخلة فهذا معنى البيع ولكن ليس بحقيقة البيع وهذا أيضاً غلط، لأنه اعتبر الخرص وقدر بخمسة أوسق أو دونها وسماه بيعاً فلا يحتمل إلا ما ذكرنا. فإذا تقرر هذا عندنا لا يجوز بيع العرايا حتى يكون معلوم للطرفين أحدهما: بالكيل، والثاني: بالخرص وفيه أربعة مسائل إحديها: ما ذكرنا فيجوز ذلك فيما دون خمسة أوسق ولا يجوز فيما زاد على خمسة أوسق، وهل يجوز في خمسة أوسق؟ قولان قال في "الأم": لا أفسخه في خمسة أوسق، وقال في الصرف: ولا يشتري من العرايا إلا أقل من خمسة أوسق بشيء ما كان وهذا اختيار المزني وأحمد ووجه الأول أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرخص في العرايا ولم يفصل ثم قام الدليل فيما زاد على خمسة

أوسق (وبقي) الباقي [110/ ب] على الظاهر، وهذا اختيار أبي حامد، ووجه الثاني: أن بيع الرطب بالتمر لا يجوز في الأصل ولكن وردت الرخصة بجواز العرايا فيما دون خمسة أوسق يقيناً وفي خمسة أوسق شك فالمشكوك باقٍ على أصل التحريم. وروي جابر - رضي الله عنه - "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في العرايا الوسق والوسقين والثلاثة والأربعة". ومن قال بالأول أجاب عن هذا بأن الشك إذا حصل في القدر المستثني وقع الشك في المستثنى منه ومعناه خبر عام فلا يعارض ذلك بالمشكوك. وقال القفال: معنى القولين هاهنا يرجع إلى أن النهي ورد أولاً ثم رخص في العرايا أو لم يرد النهي إلا والرخصة بها مقرونة، فإن كان النهي ورد أولاً ثم الرخصة من بعد وهو الأظهر والأصح فلا يجوز في خمسة أوسق لأن الأصل فيها النهي وإن لم يرد النهي إلا والرخصة مقرونة جاز في الخمسة أوسق لأن الأصل فيها النهي وإن لم يرد النهي إلا والرخصة مقرونة جاز في الخمسة، لأن الأصل في الخمسة الإباحة، وهذا أولى مما تقدم والثانية: أن يكونا معاً على وجه الأرض فلا يجوز بحال وهو بيع الرطب بالتمر، والثالثة: أن يكونا جميعاً في رؤوس النخل فباع [111/ أ] بالخرص في الطرفين، والرابعة: أن يكون رطبان: أحدهما: على النخل، والثاني: على الأرض فباع بالخرص فيها اختلف أصحابنا فيهما على أربع مذاهب. فقال ابن خيران: يجوز كلاهما سواء كانا نوعاً واحداً أو أنواعاً، وقال أبو إسحاق: يجوز في النوعين في رؤوس النخل خرصاً في الطرفين فأما في النوع الواحد فإذا كان أحد الرطبين في الأرض لا يجوز بحال، لأنه إذا كان على النخل وهما نوعان فله غرض صحيح بأن يشتهي نوعاً خر يلقطه شيئاً فشيئاً ولا عرض في النوع الواحد، وقال ابن أبي هريرة: يجوز بيع الرطب على الأرض بالرطب على رؤوس النخل بكل حال، لأنه أدوم نفعاً، وإذا كانا على النخل يجوز إذا كانا من نوعين لاختلاف الشهوة ولا يجوز في النوع الواحد لعقد العائدة على ما ذكرنا. وقال الاصطخري وجماعة وهو الأصح: إن كل ذلك باطل لأنه لم يرد الخبر إلا في بيع الرطب بالتمر خرصاً، ولأن الخرص إذا دخل فيهما يكثر الغرر وإذا دخل في أحد الطرفين وفي الطرف الآخر الكيل يقل الغرر. فرع قال [111/ ب] بعض أصحابنا: إذا اشترى الرطب بالتمر في العرايا فإن أكل الرطب لا كلام وإن جفف فإن خرج بقدر التمر أو كان التفاوت كما يكون بين الكيلين يجوز وإن ظهر تفاوت ظاهر حكمنا ببطلان العقد لظهور ما يوجب الفساد. فرع آخر الغني والفقير في العرايا سواء وقال المزني وأحمد: لا يجوز العرايا إلا للمعير

المضطر وإليه أشار الشافعي في "الإملاء" والاستلاف الأحاديث للخبر الذي رواه زيد بن ثابت - رضي الله عنه - فقيل قولان، وقيل قول واحد: لا فرق بينهما، وتأويل ما أشار في "الإملاء" على الأخبار من سببه، وهذا لأن كل بيع جاز من الفقير جاز من الغني كسائر البيوع. فرع آخر لا يجوز في العرايا إلا فيما بدا إصلاحه بسراً كان أو رطباً لأنه وقت الحاجة. فرع آخر لو ابتاع رجلان من رجلين عشرين وسقاً إلا مداً من العرايا يجوز لأنه يكون أربعة عقود، فيكون كل عقد أقل من خمسة أوسق، وقال أحمد: لا يجوز لأن عنده لا يجوز [112/ أ] أن يبيع أكثر من عرية واحدة وعندنا يجوز ذلك، وكذلك لو باع اثنان تسعة أوسق من أكثر من خمسة أوسق وهذا ضعيف. مسألة: قال: ويبيع صاحب الحائط لكل من رخص له وإن أتى على جميع حائطه. أرد به إذا كان له حائط فيه ثمر كبير، فباع ذلك بالثمر في عقود متفرقة كل عقد أقل من خمسة أوسق يجوز وإن أبى على جميع حائطه خلافاً لأحمد لأن كل بيع جاز بين متعاقدين جاز أن يتكرر بينهما، مثله كبيع الثوب فإن قيل: إذا جوزتم هكذا أبطلتم النهي عن المزابنة قلنا: المنهي عن المزابنة وجه يحمل عليه وهو إذا باع أكثر من خمسة أوسق في صفقة واحدة، فإذا تقرر هذا قال أصحابنا: هذا إنما يجوز إذا حرص عليه للزكاة، وقلنا: الخرص تضمين حتى يجوز له التصرف في الجميع وهذه المسألة تدل على صحة القول بالتضمين أو أراد إذا لم يبلغ ما في حائطه قدراً يجب فيه الزكاة أو أراد إلا قدر الزكاة إذا قلنا الخرص غيره. [112/ ب] مسألة: قال: والعرايا من العنب كهي من الرطب لا يختلفان. العرايا تجوز في العنب وهو أن يبيعه بالذبيب خرصاً، لأنه يخرص في الزكاة كالرطب ويمكن معرفة مقداره بالخرص لظهوره من الأوراق وهل جازت فيه قياساً أو نصاً وجهان: أحدهما: وهو اختيار البصريين جازت نصاً لأن زيد بن ثابت - رضي الله عنه - روى أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رخص في العرايا، والعرايا بيع الرطب بالتمر والعنب بالزبيب. والثاني: وهو اختيار ابن أبي هريرة وغيره جازت قياساً على النخل. فرع قال في كتاب البيوع الكبير من "الأم": ولو قال قائل يجوز التحري في سائر الثمار كالتفاح والمشمش كان مذهباً فمن هاهنا قال بعض أصحابنا في العرايا: فيها قولان وقيل: القولان فيه كالقولين في المساقاة فيما عدا النخل والكرم، ومن أصحابنا من قال قول واحد: لا يجوز فيها وهو الأصح لأنه لا يدخل للخرص فيها لكونها متغطية

باب بيع الطعام قبل أن يستوفي

بالأوراق ولا يحيط بها علم الخارص ويفارق [113/ أ] المساقاة على أحد القولين لأنها جوزت للحاجة والحاجة تعم جميع الثمار لتعذر التعهد بالسقي. وما فيه زيادة الثمار على كل أحد والله أعلم. باب بيع الطعام قبل أن يستوفي قال: أخبرنا مالك. وذكر الخبر. إذا اشترى طعاماً لا يجوز له أن يبيعه قبل القبض من بائعه، لما روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ابتاع طعاماً فلا يبيعه حتى يستوفيه"، وأما غير الطعام فعندنا حكمه حكم الطعام وبه قال ابن عباس - رضي الله عنه - ومحمد بن الحسن، وقال مالك: لا يجوز بيع الطعام المشترى قبل قبضه يجوز ما عداه. وحكي عنه فيما عداه إن كان توفيته على البائع بأن اشترى بالكيل لا يجوز بيعه قبل القبض، وقال عثمان بن عفان وسعيد بن المسيب والحسن: كل ما كان مكيلاً أو موزوناً لا يجوز التصرف فيه قبل القبض ويجوز فيما عداه، وبه قال أحمد وقال أبو حنيفة [113/ ب] وأبو يوسف: لا يجوز ذلك في المنقول ويجوز في العقار واحتج الشافعي بأن ابن عباس - رضي الله عنه - قال: أما ما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - فهو الطعام قال: ولا أحسب كل شيء إلا مثله قال برأيه ثم بين الشافعي معنى هذا الرأي وذلك أن ضمانه من البائع فلم يتم فيه ملك المشترى، وروي أنه - رضي الله عنه - كتب إلى عتاب بن أسيد حين وجهه إلى مكة "أنههم عن بيع ما لم يقبضوا وربح ما لم يضمنوا"، وروى زيد بن ثابت - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن بيع السلع حتى يجوزها التجار إلى رحالهم". فرع قال بعض أصحابنا: لا خلاف أن كل عقد ينقل الملك فيه كالهبة والوقف والكتابة لا يجوز فيه المبيع قبل القبض كالبيع، وهذا اختيار القاضي الطبري، وقال بعض أصحابنا: إذا قلنا: الوقف أزاله ملك إلى الله تعالة يجوز فيه قبل القبض كالعتق. وذكر في "الحاوي" أنه يجوز ويلزم به البيع الأول حتى إن لم يرفع البائع يده عنه فتلف يضمنه [114/ أ] بالقيمة دون الثمن ولم يذكر خلافاً وقيل: الوقف مبني على أنه يحتاج إلى القبول وفيه وجهان فإن قلنا: يحتاج إلى القبول فهو البيع وقيل: في العتق إن أذن البائع أو وفر الثمن أو كان مؤجلاً بنقد وإلا فهو كالراهن بعتق المرهون، وقيل في إجازته قبل القبض: إنه مبني على أن

للمعقود العين أو المنفعة فإن قلنا: على المنفعة يجوز، لأن حق البائع لا يتعلق بالمنافع والصحيح لا يجوز لأن الإجازة تقتضي تسليم العين ولا يقدر هو على التسليم. فرع آخر قد ذكرنا حكم الكتابة فيه وقال بعض أصحابنا: فيه قولان أحدهما: يجوز لأن المغلب فيها العتق ولا يتعذر تسليمه لأن البائع لا يمنع العبد المبيع من الاكتساب وهو مسلط على نفسه ولهذا صح كتابة العبد المغصوب، والثاني: وهو الأصح لا يجوز لأنه عقد معاوضة ولأن الكتابة تفتقر إلى تخليته للتصرف ولا يمكن فيه ذكره في "الحاوي". فرع آخر قد ذكرنا حكم الهبة، وقال في "الحاوي": فيها قولان بناء على أنه هل يلزم فيها المكافأة أم لا؟ وفيه قولان [114/ ب] فإن قلنا: يلزم لا يجوز لأنها معاوضة، وإن قلنا: لا يلزم صحت الهبة. فرع آخر إذا قلنا: تصح الهبة فإن كان لأجنبي احتاج الواهب أن يقبضها من البائع بنفسه أو وكيله ليستقر ملكه ويسقط عن البائع ضمانه ثم يدفع إلى الموهوب له لتتم الهبة. فرع آخر لو أذن الواهب للموهوب له أن يقبضها من البائع فقبضها منه لم يصح، لأنهما عقدان يلزم في كل واحد منهما القبض فلم يكن القبض الواحد نائباً عن عقدين، ثم ننظر فإن كان الموهوب له قبضها لنفسه لم يكن قبضاً عن البيع ولا عن الهبة، أما عن البيع فلأن القبض لم يكن للمشتري، وأما عن الهبة فلأنه لا يصح إلا بعد قبض البيع والبائع ضامن لها بالثمن حتى إن تلفت بطل البيع، والمشتري اواهب ضامن لها بالقيمة، حتى إن تلفت غرمها للبائع لأنها مقبوضة عن أمره بوجه معاوضة، وهل يكون الموهوب له ضامناً لها بالقبض؟ وجهان أحدهما: لا يكون ضامناً لأنه ليس بمعاوض، والثاني: يكون ضامناً لأن [115/ أ] يده دخلت من جهة الواهب وهو ضامن وإن كان الموهوب له قبضها للواهب المشتري صح القبض في البيع وبريء البائع من الضمان وضمنها المشتري بالثمن ولا ضمان على الموهوب له بالقبض، لأنه وكيل للواهب فيه ويحتاج إلى استئناف قبض لتتم به الهبة، فإن أذن له الواهب في قبض ذلك من نفسه ولم يجز أن يكون قابضاً من نفسه مقبضاً لها. فرع آخر لو باعه من بائعه من أصحابنا من قال: إن كان بغير جنس الثمر الأول أو بغير قدره بأن زاد أو نقص لا يجوز وإن باعه بجنسه وقدره كأن أقاله بلفظ البيع وقيل: يجوز لأن المنع لحقه أو العجز عن التسليم وها هنا معدوم فهو كبيع المرهون من الراهن، ولو

وهبه من البائع فإن قلنا يجوز البيع منه فالهبة أولى وحكمه حكم من وهب مالاً من رجل وهو في يده وإن قلنا: لا يجوز البيع ففي الهبة وجهان كالهبة من الأجنبي. فرع آخر إذا رهنة من غير البائع لا يجوز ولو رهنه من البائع نص الشافعي - رضي الله عنه - على جوازه، ذكره القاضي الطبري وذكره صاحب "التلخيص" والفرق بينهما أن الرهن [115/ ب] ليس بمضمون على المرتهن، وإن كان العقد لا يتضمن نقل الضمان جاز عنده فيما لم يضمنه بخلاف البيع، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز ذلك لأنه عقد يفتقر إلى القبض فأشبه الهبة، قال والدي رحمه الله: وهذا أقيس، وقا بعض أصحابنا بخراسان: إن قي نقد الثمن لا يجوز وإن كان بعده فظاهر المذهب أنه يجوز لأنه استحق قبضه على وجه لا يمكن للغير منعه منه فهو كالميراث وقيل: إنه نص على هذا في "الأم" وقيل نص في "الأم": أنه يجوز ونص في مواضع أنه لا يجوز فالمسألة على اختلاف حالين قبل نقد الثمن وبعد نقد الثمن، وقال في الحاوي": إن كان قبل نقد الثمن لا يجوز بحال لأن للبائع حبسه وبعد قبض الثمن فيه ثلاثة أوجه أحدها: يجوز إذا جوزنا إجارته، والثاني: لا يجوز إذا لم نجوز إجارته، والثالث: وهو قول أكثر البصريين يجوز من بائعه خاصة لأن رهنه من بائعه يوجب استدامة ضمانه بالثمن الباقي للرهن ورهنه عند غير بائعة يبقى هذا [116/ أ] الضمان. فرع آخر لو كانت جارية فزوجها قبل القبض يجوز بلا خلاف ولا يكون وطء الزوج قبضاً وفيه وجه آخر: أنه لا يجوز، وقال أبو حنيفة: يكون وطؤه قبضاً وهذا غلط، لأن وطء الزوج إنما يكون قبضاً في حق نفسه في الاستمتاع ولا يكون قبضاً في حق غيره. فرع آخر لو أعتقه المشتري نفذ عتقه وكان قبضاً وقال ابن خيران: لا ينفذ عتقه وجعله بعض أصحابنا قولاً مخرجاً وهو ضعيف لأن العتق لا يفتقر إلى القبض ويصح في المغصوب. فرع آخر لو أباح للفقراء فأكلوا كان قبضاً منه فرع آخر هل يجوز إجارته قبل القبض فيه وجهان أحدهما: يجوز لأنه عقد على منفعة وقد انتقل ضمان المنافع إليه بنفس البيع وهل ينتقل ضمان العين إليه، والثاني: لا يجوز لأنه عقد معاوضة فلا يجوز قبل أن نضمنه ولأنه يقتضي إقباضاً فلا يجوز ذلك، أما إذا

استأجر شيئاً فلا يجوز أن يؤاجره قبل القبض بلا إشكال [116/ ب]. مسألة: قال: ومن ابتاغ جزافاً فقبضه أن ينقله من موضعه. الكلام الآن في كيفية القبض والمرجع فيه إلى العرف والعادة فما كان في العرف والعادة قبضاً فهو قبض، وما لم يكن فيه قبضاً لم يكن قبضاً، وهذا كما يرجع إلى معرفة الحرز والنقد إلى العرف والعادة، فإن كان شيئاً حقيقياً كالدراهم والدنانير والجواهر فقبضها التناول والقبض بالتراجم، وإن كان ثقيلاً كالطعام والثياب الكثيرة المشدودة والخطب ونحوها فقبضها النقل من مكانه، وإن كان زورقاً قبضه أن يمده من مكانه ولو ذراعاً واحداً، وإن كان عبداً فأن يقيمه من موضعه إلى موضع آخر وإن كان دابة فبأن يجر بزمامها من مكانها إلى مكان آخر، وإن كان عقاراً فالقبض فيه التخلية، وإن كان داراً فبأن يخرج البائع منها ويدخل المشتري إليها ويدفع إليه المفتاح ويخلي بينه وبينها، وقد قيل: إذا تمكن من دخولها يصير قابضاً دخل أو لا، وإن باع طعاماً مكايلة فقبضه أن يكتاله، وإن باع جزافاً فقبضه أن ينقله على ما ذكر. وقال مالك وأبو حنيفة: القبض في هذه الأشياء كلها [117/ أ] يحصل بالتخلية سواء كان مما ينقل أو لا ينقل وهذا غلط ولما روي عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: ابتعت زيتاً فلقيني رجل في السوق فأعطاني به ربحاً حسناً فهممت أن أضرب يده فأخذ رجل بذراع من خلفي فالتفت فإذا زيد بن ثابت فقال: لاتبعه حتى تجوزه فإن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نهى أن تباع السلعة حيث تحوزها التجار إلى رحالهم" وروي عن ابن عمر - رضي الله عنه - قال: كنا نشتري الطعام من الركبان جزافاًَ فنهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "نهي عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان"، وروي أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من اشترى طعاماً فلا يبعه حتى يكتاله". فرع لو اشترى طعاماً ثم استعار الحرز ولم يستوفه لم يكن قبضاً، ولو استأجره فيه وجهان أحدهما: يكون قبضاً لأنه بالإجارة ملك المنافع، والثاني: لا يكون قبضاً لأن ملك الحرز لم ينتقل والأصح الأول ولو ملك [117/ ب] الموضع الذي فيه ببيه أو هبة كان قبضاً. فرع آخر لو اشترى شيئاً من دار بائعة ثم نقله إلى زاوية أخرى فيها بإذنه حصل القبض،

وصار كأنه أعاره تلك الزاوية ولا يشترط أن يخرجه من ملك البائع، وإن نقله من دون إذن البائع من زاوية داره إلى زاوية أخرى لا يصح القبض، وإن كان الثمن مؤدي لأنه لم يعره بالبقعة التي نقل إليها فهو كما لو لم ينقل. فرع آخر لو كان المبيع عقاراً فحصراه وقال: خليت بينك وبين هذه الأرض حصل قابضاً، وإن لم يحضرا وقالا بالقول خليت وتخيلت فقبل أن يمضي إمكان الحضور لا يجعل قابضاً، وإذا مضى فيه وجهان: أحدهما: لا يصير قابضاً لأنه لم ينضم إلى القول قرينة، والثاني: يجعل قابضاً حكماً لأن البائع فعل أقصى ما قدر عليه والتقصير من جهته. فرع آخر لو باع داراً فيها متاع البائع لا يحصل قابضاً لمجرد التمكن من الدخول لأن البائع مستعمل للدار حقيقة ولكن يجعل القبض بأن يدخل الدار ويتسلط على [118/ أ] الموضع ويصير اليد له مشاهدة حتى قال أصحابنا: لو جمع البائع رحلة في بيت وختم عليه ودخل المشتري الدار ويسكنها لا يجعل قابضاً كذلك البيع لكون البائع مستعملاً له. فرع آخر لو أودع البائع المبيع من المشتري لا يسقط حق حبسه لأن يد المودع يد المُودع ولو أعار منه فيه وجهان: أحدهما: لا يبطل كما لو أعار الرهن من الراهن، والثاني: يبطل وبه قال أبو حنيفة: والفرق أن حق الرهن ثبت بعقد مقصود فلم يبطل بالإعارة وحق البائع ثبت استيفاء لما كان قيل له قبل زوال ملكه ويد العارية ليس له، لأن المستعير يأخذه لمنفعة نفسه فإذا سلم إليه لينتفع به فقد رضي بسقوط حقه. فرع آخر لو اشترى طعاماً بعينه ثم دفع إلى البائع غرائر وقال: انقل الطعام الذي اشتريته منك في هذه الغرائر ففعل ذلك في غيبة المشتري لم يكن قبضاً إلا أن البيع من الضمان استحقت، وهذا غلط لأنه أدى [118/ ب] إلى أن يكون قابضاً من نفسه ليبرأ من الضمان وهذا لا يجوز. فرع آخر لو اشترى قفيز طعام فاكتاله بالمكوك وهو ربع القفيز لم يجز القبض في أحد الوجهين والوجه الثاني: يجوز وكذلك لو كال الصاع بالأمداد، ولو اشترى مائة صاع فاكتال بالقفيز لم يتم القبض بلا خلاف. فرع آخر لو باعه من ابنه الصغير ففي كيفية قبضه وجهان: أحدهما: بالنقل، والثاني: بالنية إذا

كان تحت قدرته من غير نقل، إلا أن يكون مكيلاً أو موزوناً فلابد من كيله أو وزنه. فرع آخر لو أرسل الأب عبده في حاجة ثم باعه من ابنه الصغير فتلف العبد قبل أن يعود من الرسالة، بطل البيع وان تالفاً من مال الأب، ولو عاد العبد إلى يد الوالد وجرت عليه قدرته ثم مات كان تالفاً من مال الابن وعليه ضمان الثمن. فرع آخر لو عاد إلى يد الوالد بعد بلوغ الابن ورشده ثم مات كان تالفاً من مال الأب لأن الأب صار من أهل القبض، وقال محمد: ها هنا أيضاً يتولى الأب قبضه بعد أن [119/ أ] صار قابضاً بحكم العقد حتى لا يسقط الثمن بهلاكه ولكن لا يتصرف فيه بإذن البائع. بيع العارية من غير المستعير قبل استرجاعها منه يجوز والقبض موقوف على إذن البائع قبض الثمن أم لا، ليكون الإذن مسقطاً لضمان المستعير، فإن قبضها المشتري من المستعير بغير إذن البائع المعير، فإن لم يكن الثمن مقبوضاً صح القبض في البيع. وهل يسقط ضمانها عن المستعير؟ وجهان أحدهما: لا يسقط لأنه دفعها من غير إذن مالكها، والثاني: يسقط لزوال ملك المعير عنها وحصولها في يد مالكها وهذا أصح عندي. فرع آخر لو ابتاعها المستعير صح، وهل يفتقر قبضها إلى النقل؟ كما قلنا في شراء الوديعة. فرع آخر لو باع المغصوب من الغاصب صح وهل يفتقر في قبضه إلى النقل؟ على الوجهين. فرع آخر لو باعه من غيره والبائع قادر على انتزاعه [119/ ب] صح ويلزمه انتزاعه، ولو كان البائع غير قادر ولكن المشتري قادر على الانتزاع صح أيضاً، ثم إن عجز المشتري عن الانتزاع لا يبطل البيع ولكن له الخيار في الفسخ لأنه عيب ولو أدعى البائع على المشتري أنه قادر على الانتزاع تلزمه اليمين فإذا حلف له الفسخ. فرع آخر قد ذكرنا أن مجرد التخلية لا يكفي في المنقول، بل يعتبر النقل وبه قال أحمد وفيه وجه آخر أنه يكفي في التخلية وهو ضعيف. فرع آخر إذا قلنا: لا يكفي التخلية ها هنا فلو اشترى داراًَ مع ما فيها من الأمتعة فخلى بينه

وبين الدار حصل القبض في الدار، وهل حصل في الأمتعة؟ قال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان فإذا قلنا: لا يحصل فإذا دخل الدار ونقل الأمتعة من موضعها إلى موضع آخر في الدار حصل القبض فيها لأن الدار ملك له. فرع آخر قال بعض أصحابنا بخراسان: أو نقل البائع المبيع إلى المشتري ووضعه بين يديه للإقباض، فامتنع من القبض حصل الإقباض لأنه يلزم [120/ أ] على المشتري القبض عند الإقباض ويخرج بهذا القدر عن ضمان البائع إلى ضمان المشتري، ومن أصحابنا من قال: لا يكون هذا قبضاً كالوديعة إذا وضعها بين يدي رجل لا يكون قبضاً حتى إن لم يحفظها وضاعت لا يضمن والأول أظهر ويفارق الوديعة، لأنه لا يلزم قبولها بخلاف هذا ويفارق الغاصب إذا ترك المغصوب بين يدي المالك يبدأ لأنه وجد منه تعدي وهو سبب الضمان وقد ترك التعدي فعاد الشيء إلى يد المالك وليس للمشتري ها هنا يد سابقة ويد البائع ثبت باقي حق فلا تزول مدة إلا بتمام الاستيلاء وهو النقل. فرع آخر إذا قلنا يصير قابضاً فباعه من رجل قبل نقله ونقله المشتري للثاني، وتلف عنده ثم استحق فللمستحق أن يغرم المشتري الأول، لأن ضمان العدوان لا يتعلق بحقيقة الاستيلاء وهو بالنقل. فرع آخر لو وطئها المشتري في يد البائع فأزال بكارتها ثم ماتت قبل القبض بطل البيع ويجب أرش البكارة [120/] فيه عقيب موته سواء كان دين أو لا، لأن حق الحبس ثابت وحقوق الأب بالموت ينقل إلى الوارث فقد ورث حق الحبس على نفسه فسقط كما لو ورث ديناً على نفسه يسقط عنه، ولو كان معه ابن آخر له يتصرف في النصف وحق الحبس في النصف الآخر تنقل إلى أخيه فلا يتصرف فيه حتى يقبض منه. فرع آخر الأرزاق التي يخرجها السلطان إلى الأجناد يجوز بيعها قبل قبضها لما روى موسى بن عقبة: "أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرج طعاماً للناس فباع الناس الصكاك قبل قبضها"، وروي أن عمر - رضي الله عنه - أمر بطعام للناس فابتاع حكيم بن حزام منهم ثم باع قبل أن يقبض فقال عمر - رضي الله عنه -: "لا تبع طعاماً ابتعته قبل القبض ولم يمنعه من الابتياع منهم". وروى ابن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهما أنهما كانا لا يريان ببيع الرزق بأساً وعلى هذا غلة الوقوف إذا حصلت لأقوام وعرف كل واحد قدر حقه فباعه قبل [121/ أ] أن يقبضه يجوز كالرزق سواء.

[فرع آخر] لو تقايلا هل يجوز بيعه قبل القبض؟ قولان بناء على أنه ابتداء عقداً أو فسخ. فرع آخر لو باع الموصي به بعد موت الموصي قبل قبول الوصية، فإن قلنا: تملك بالقبول لا يجوز وقيل: فيه وجه آخر يجوز وبيعه قبولها وإن قلنا: يملك بالموت فوجهان أحدهما: لا يجوز لأنها جائزة بدليل أن له أن لا يقبل. فرع آخر لو رجع في الهبة له بيعها قبل قبضها، وكذلك لو رد إليه بالعيب له بيعه قبل القبض لأنه غير مضمون على غيره بالعقد، وإن كان شيئاً في الذمة، وإن كان ثمناً فقد ذكرنا فيه قولين، وإن كان مثمناً في الذمة لا يجوز التصرف فيه لما ذكر قبل القبض وذكر القفال عن ابن سريج أنه قال: كلما ثبت في الذمة ثمناً عرضاً كان أو نقداً وهذا اختيار القفال، وقال وبماذا يعرف الثمن من المثمن؟ وجهان أحدهما: وهو الأصح وبه قال أبو حنيفة: الدراهم والدنانير ثمنان أبداً فإن لم يكن واحد منهما فالذي يدخل فيه الباء يكون [121 أ/ 6] ثمناً، والثاني: ما يدخل فيه الباء يكون ثمناً سواء كان نقداً أو غيره، وقد ذكرنا قبل هذا. فرع آخر متى قبض المبيع بحق مثل إن كان مؤجلاً يلزم البائع الإقباض فإن لم يقبض فله قبضه كرهاًَ ويصح تصرفه فيه، وكذلك لو تطوع البائع بالإقباض قبل قبض الثمن، ومتى قبض بغير حق فالقبض باطل وعليه ردهاً إلى بائعه ولا يصح تصرفه فيه. فرع آخر لو اغتصبه المشتري من يد البائع حصل في ضمانه حتى لو بعيب لا يرد به فلو رد على البائع بعده أو استرد البائع فهلك لا يسقط الثمن لأنا حكمنا باستقراره فلا يتغير حكمه. فرع آخر إذا كان بينهما مال مشترك فتقاسما وحمله المال في يد أحد الشريكين فأراد الآخر أن يتصرف فيه فإن كانت قسمة جبر فهو مبني على أنها بيع أو إقرار حق، فإن قلنا: إقرار حق يجوز وإن قلنا: بيع فنصف نصيبه حصلت له بطريق البيع والنصف ملكه القديم فإن حقيقة [122/ أ] القسمة على هذا القول كأنه قال لصاحبه: بعتك نصيبي في ذلك النصف الذي حصل باسمك نصيبك في النصف الذي حصل باسمي، فيجوز له أن يتصرف في النصف دون النصف، وإن كان في القسمة رد عوض فحكمها حكم اليع في القدر المملوك بالعوض. فرع آخر لو وهب بشرط ثواب معين وجوزنا وقلنا: إنها بيع، لأحدهما أن يتصرف فيه قبل القبض.

فرع آخر لو استأجر صباغاً ليصبح ثوباً وسلمه إليه ثم أراد صاحب الثوب أن يتصرف فيه فإن كان قبل أن يصبغ الثوب لا يجوز لأنه استحق الصباغ إيقاع العمل الربع عشر فيه، ويستحق عوضاً والإجارة من العقود اللازمة، ولو ندم لا يسترجع، وإن صبغ واستوفى الأجرة له أن يتصرف، وإن لم يكن استوفى الأجرة لا يتصرف لأن الصبغ عين مال وهو مبيع فله حبسه إلى أن يستوفي عوضه فكان حكمه البيع قبل القبض سواء. فرع آخر لو دفع إلى القصار فقبل القصارة الحكم ما ذكرنا وبعد القصارة [122/ ب] إن قلنا: إنها تجري مجرى عين قال في الإفلاس: فهي كالصبغ. وإن قلنا: أثر ليس له الحبس وله أن يتصرف فيه والصباغة والحياكة والبناء كذلك، وفي رعي الأغنام قبل الأجرة يجوز بلا خلاف. فرع آخر لو أراد الشفيع أن يتصرف في المشفوع قبل أن يتسلم لا يجوز لأن الشفعة معاوضة شرعية. مسألة: قال: ولو أسلم في طعام وباع طعاماً خر فأحضر المشتري من اكتاله من بائعه. الفصل اختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة، فمنهم من قال: صورتها أنه أسلم في كر من طعام فلما حصل له في ذمة المسلم إليه باعه من رجل آخر وقال: تعال حتى أقبضه لك منه فالبيع باطل لأنه علل فقال: لأنه بيع الطعام قبل أن يستوفي، فهذا القائل يمسك بالتعليل وتأول ظاهر المسألة فصرفها عن ظاهرها، وقال قوله: وباع طعاماً آخر أي: باع ذلك الطعام من آخر وهذا لما روي أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أسلف في شيء فلا [123/ أ] يصرفه إلى غيره"، وقال أكثر أصحابنا: المسألة على ظاهرها وصورتها أنه اسلم في طعام وباع طعاماً آخر سلماً فحل الطعامان فقال المسلم لمن أسلم إليه: احضر معي عند من أسلمت إليه حتى اكتاله لك منه فحضره فالبال منه له لم يجز لأن لكل واحد منهما على صاحبه حق القبض بالكيل فلا يجوز إذا اكتاب له قبل أن يكتاله منه لنفسه، وقول الشافعي في تعليله لأنه بيع الطعام قبل أن يقبض ليس على ظاهره، وتأويله: أنه في معنى بيع الطعام قبل القبض لأنه يقتبض قبل القبض فحل محل البيع وهذا هو الصحيح لأنه قال: وباع طعاماً آخر ولم يقل ذلك الطعام، وإذا كان كذلك كان القبض فاسداً ولم يبرأ الدافع لأنه لم يكله لمن استحق الكيل عليه، وإنما كاله لغيره. ومن أصحابنا من قال: يبرأ الدافع بذلك لأنه قبض بإذن صاحب الحق، وإن لم يكن قبضاً صحيحاً فيبرأ وقيل: الوجهان بناء على ما لو باع السيد ماله في ذمة المكاتب هل

يجوز؟ قولان قال في "الأم": ثم يجوز وقال في الجديد: لا يجوز، فإذا قلنا: لا يجوز قبضه المشتري [123/ ب] من المكاتب لم يقع القبض له وهل يقع للسيد؟ قولان كذلك ها هنا لا يقع له، وهل يقع للإذن؟ وجهان، فإذا قلنا: يقع له فقد برئت ذمته من حقه والطعام في يده عن قبله فيستأنف قبضه كيلاً، وإن قلنا: لا يقع له فالطعام لمن وقع فعليه أن يكيل ممن له عليه ثم ذلك يكيل ثانياً لمن له عليه فإن كان زائداً استرجع الزيادة، وإن كان ناقصاً فعليه الإتمام وإن كان وفاء حقه صح قبضه وبريء من حقه، وإن اكتاله منه لنفسه ودفع إليه بالكيل الذي أخذه صح قبضه من الأول ولم يصح قبض الثاني منه لما روي عن الحسن البصري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهي عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان صاع البائع وصاع المشتري"، والمعنى فيه أن كل بيع يقتضي قبضاً، وكل قبض يقتضي كيلاً إذا لم يكن العقد مجازفة، والاكتيال الأول قبض في أحد البيعين فلابد للبيع الثاني من القبض، وقبضه أن يجري الصاع مرة أخرى في ذلك الطعام ثم إذا أجرينا الصاع الثاني في ذلك الطعام ففضلت زيادة فيما بين الكيلين كانت [124/ أ] تلك الزيادة لصاحب الغريمين إذ يحتمل أن تلك الزيادة إنما ظهرت لمبالغة في الكيل الأول لا لتقصير في الكيل الثاني، ولو ظهر نقصان في الكيل الأول لزيادة في الكيل الثاني وهكذا في بيع العين، لو اشترى مكايلة فاكتال ثم باعه مكايلة وسلمه بالكيل الأول ولم يجز. ولو اكتاله لنفسه ولم ينقله وتركه في المكيال وأقبضه إياه على تلك الصورة قال أبو يحيى البلخي: فيه وجهان أحدهما: يجوز لأنه تسلمه مكيلاً وهذا أقيس لأن استدامة الكيل تجري مجرى ابتدائه، والثاني: لا يجوز وهو ظاهر الخبر "حتى يجري فيه الصاعان" فينقله ثم يكيله على صاحه. ولو قال له: خذ لي الطعام الذي عليه ثم خذ منه حقك فقبضه لموكله جاز ولا يصح قبضه لنفسه، ولو قال: خذ حقك بالكيل بانياً لنفسك فقبضه لنفسه بكيل جديد هل يجوز أم لا؟ قال أصحابنا بالعراق: لا يجوز أصلاً لأنه لا يكون قابضاً لنفسه من نفسه بل يجب أن يكيل عليه البائع أو وكيله، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان أحدهما: ما ذكرناه [124/ ب] والثاني: يجوز لأن القبض قد حصل وإنما يحتاج إلى كيل وقد ائتمنه البائع في الكيل، وهكذا لو قبض الذي اشتراه مكايلة وزناً أو اشترى موازنة كيلاً يكون قبضاً فاسداً فيحصل به انتقال الضمان إلى المشتري ولكن لا يحصل به جواز التصرف، فإن كاله هذا المشتري على نفسه هل يتم لو تلف لا ضمان لأنه أمانة في يده وبعدما أخذه لنفسه دخل في ضمانه سواء جوزنا القبض أو لا، وهذا كما لو قال لرجل له عليه دين: خذ هذا الكيس وخذ منه حقك فما لم يأخذ يكون أمانة عنده، وإن قال خذه بحقك كان جزافاً فقد دخل في ضمانه ثم إذا وزنه لنفسه فعلى الوجهين اللذين ذكرناهما، وإن قال له: خذخ ابتداء لنفسك ولا تأخذه لي فلا يصح قبضه لأنه لم يوكله

بأن يأخذ له وليس له أن يأخذ لنفسه إذ ليس على المأخوذ منه شيء ولو أخذ كان مضموناً بالقبض الفاسد فحصل سبع مسائل [125/ أ]. مسألة: قال: "ولا يقبض الذي له طعام من طعام يشتريه لنفسه". الفصل أراد به إذا أسلم إلى رجل في طعام فلما حل عليه دفع إليه دراهم ليشتري بها طعاماً فلا يخلو من أحوال: إما أن يقول له: اشتر بهذه الدراهم لنفسك طعاماً فهذا باطل، وإذا اشترى كان له الشراء باطلاً لأنه لا يجوز أن يكون وكيلاً لغيره في الشراء لنفسه، وإن اشترى الطعام في الذمة صح شراؤه لنفسه فإن نقد هذا الثمن فقد تعدى ولزمه الضمان والطعام له، وإن قال: اشتر بهذا طعاماً لي واقبضه لنفسك فالشراء صحيح ولا يصح قبضه لنفسه وهل يكون قبضاً للآمر؟ على ما ذكرنا من الوجهين، ولو قال: اقبضه لي وخذه بالكيل الذي حضرته صح القبض للآمر ولم يصح له، ولو قال: اقبضه لي ثم اقبضه لنفسك يصح الشراء وقبضه له ولا يصح قبضه لنفسه من نفسه، وقيل: إذا جدد الكيل فيه وجهان. مسألة: قال: "ولو حل عليه طعام فأحال به على رجل له عليه طعام أسلفه إياه لم يجز". صورة بهذه المسألة [125/ ب] لزيد على عمرو طعام من قرض فقال زيد لخالد: أجلتك بالطعام الذي لك علي بالطعام الذي لي على عمرو ولا يجوز ذلك لأن الحوالة بيع، وإذا أحال به يرضاه فكأنه ابتاع الطعام الذي له في ذمته بالطعام الذي أحال به وابتاع المسلم فيه قبل قبضه لا يجوز وقوله: أسلفه أي: أقرضه، وإن كانت المسألة بعكس هذا فحل لزيد على عمرو طعام من سلم، وكان لخالد على زيد طعام من قرض فقال زيد لخالد: أجلتك بالطعام الذي لك علي من القرض بالطعام الذي لي على عمرو بالسلم لا يجوز أيضاً لأنه باع ماله في ذمة عمرو من المسلم بما لخالد عليه من القرض فيكون ذلك بيع المسلم فيه قبل القبض فلا يجوز، ولو حل لخالد على زيد طعام من سلم وحل لزيد على عمرو طعام من سلم فأحال زيد خالداً بما حل عليه بما حل له على عمرو فلا يجوز لأنه باع المُسلم فيه قبل القبض فحصل فيه فساد من وجهين فإذا تقرر هذا فدفع الحق لأنه باع المسلم فيه قبل القبض فحصل فيه فساد من وجهين فإذا تقرر هذا فدفع الحق بهذه الحوالة لا تبرأ ذمة المحال عليه من الذي عليه [126/ أ] قال بعض أصحابنا بخراسان: هذا على قولنا الحوالة مبادلة فإن قلنا: إنها استيفاء جازت الحوالة في هذه المسائل، وقيل: لا تجوز على هذا القول أيضاً لأنه لو لم يحل وقبض حقه لا يجوز أن يسلمه إلى الآخر إلا بكيل جديد، فكيف تصح الحوالة؟ وهذا ضعيف وأصحابنا بالعراق لم يذكروا خلافاً في هذا، وإن كان الطعامان من قرض فأحال أحدهما على صاحبه به جازت الحوالة لأن القرض مستقر في الذمة فيجوز أخذ العوض عنه قبل القبض، بخلاف المسلم فيه فإنه غير مستقر لجواز عدم ذلك عند المحل

فينفسخ العقد لعدمه، ومن أصحابنا من قال: لا تصح الحوالة بغير الأثمان والقرض ليس بثمن وهذا ليس بشيء. فرع لو باع من رجل طعاماً بثمن إلى أجل، فلما حل الأجل باع المشتري طعاماً من البائع بالثمن الذي عليه جاز، وحكى الشافعي عن مالك أنه لا يجوز لأنه بيع طعام بطعام إلى أجل وهذا غلط لأن هذا ليس ببيع طعام بطعام إلى أجل [126/ ب] وهذا غلط لأن هذا ليس ببيع طعام بطعام بل هو باع الطعام الأول بثمن والطعام الثاني اشتري بثمن آخر فهما عقدان على ثمن، ولهذا لو خرج الطعام الثاني مستحقاً يسلم إلى صاحبه ويرجع المشتري على البائع بالثمن فلو كان بيع طعام بطعام لرجع عليه بالطعام الأول. مسألة: قال: "ولو أعطاه طعاماً فصدقهُ في كيله لم يجز". إنما صور الشافعي - رضي الله عنه - هذه المسائل في الطعام، لأن الخبر ورد بلفظ الطعام وإلا فحكم الطعام وسائر الأموال سواء، وصورة هذه المسألة: أنه كان لزيد على عمرو كر طعام فكاله عمرو واستدعى زيداً وقال: هذا كر قد كلته فاقبضه فصدقه وقبض بغير كيل فالقبض فاسد لأن القبض إذا تعلق بالكيل لم يتم إلا يوجوده عند التسليم ومعنى قولنا: فاسد أن القول قوله في قدر نقصانه قليلاً كان النقصان أو كثيراً، فإن كان الطعام موجوداً واتفقا على أنه هو الطعام بعينه كلناه، فإن خرج وفق الحق فلا كلام، وإن نقص فعلى [127/ أ] الدافع التمام، وإن زاد فعلى القابض رد الكيل، قال: فإن سألنا القابض فإن قال: خرج وفق حقي فذال، وإن قال زاد كذا رده، وإن قال: نقص فالقول قوله وعلى الدافع التمام، سواء ذكر نقصاناً قليلاً أو كثيراً، فإن قيل: أليس في المسألة التي قبلها إذا أحضره، وقال: اكتاله لك فاكتاله بحضرته كان القبض فاسداً، ولو ادعى نقصاناً متفاوتاً لم يقبل قوله، وإن ادعى نقصاناً يقع الغلط فيه من الكيلين في العادة يقبل قوله فهلا قلتم مثله ها هنا؟ قيل: الفرق أن هناك عاين الكيل وشاهده وها هنا قبضه جزافاً فقبل قوله في النقصان الذي يدعيه بكل حال. فإن قيل: كيف تسمع دعواه النقصان والشافعي قال: فصدقه في كيله؟ قيل: لم يرد الشافعي به أنه أقر بصحة الكيل، بل هو قبول القول المختبر وحل قوله على الصدق فإذا بأن له خلافه سمعت دعواه. فرع لو باع القابض ذلك نظر فإن باع الكل لم يجز، لأن للدافع فيه تعلقاً وهو أنه إذا كان فاضلاً كان الفضل له وإن باع القدر الذي يقطع أنه حقه مثل النصف ونحوه فيه [127/ ب] وجهان: أحدهما: قبول قوله في النقصان لأن الضمان انتقل إليه بقبضه فجاز له التصرف فيما هو حقه منه وهذا أقيس، وقال ابن أبي هريرة: لا يجوز ذلك بحال لأن

العلقة باقية بينه وبين الذي قبضه منه، فلم يجز له التصرف فيه وقيل: نص عليه في الصرف، وقال: نص عليه في الصرف، وقال في "الحاوي": إن كان مستحقاً عن قرض فيه وجهان: أحدهما: يجوز والفرق أن ملك القرض مستقر بخلاف البيع وهذا أصح وأشار إليه في "الأم". فرع آخر لو كان له عليه طعام حال إما من قرض أو سلم، فدفعه إليه بشرط أن يبيعه طعاماً آخر لا يلزمه هذا البيع لأنه وعد بذلك والوعد لا يلزم ولا يلزمه رد ما أخذه منه لأنه أخذ حقه، فلا يلزمه رده نص عليه. ولو باعه على هذا الشرط فالبيع باطل وكذلك لو قال: يبعني طعامك إلى أجل حتى أقضي حقك منه، فباعه بهذا الشرط بطل البيع، ولو قال: أعطني حقي على أن أبيعه منك إلى أجل ففعل صح القبض ولم يلزمه البيع. فرع آخر لو قال: ادفع فضلاً على [28/ أ] الطعام حتى أبيعك طعاماً آخر ففعل لا يلزم البيع لأنه وعد ولكن يلزم رد الفضل عليه فإن دفع فضلاً في اليكل يلزمه رد الزيادة، وإن دفع فضلاً في الصفة يلزمه والكل واحد ما يستحقه. فرع آخر لو كان عليه طعام مؤجل فقال: عجله لي على أن أبيعك طعاماً آخر، ففعل لم يلزمه البيع لأنه وعد ويلزمه رد الطعام إليه لأنه عجله بشرط ولم يحصل الشرط ويصبر إلى أن يحل الأجل ثم يطالبه به. فرع آخر لو أمر رجلاً أن يتقاصا الطعام عن سلم ووعد أن يقرضه إياه فقبض الطعام فهو بالخيار إن شاء أقرضه وإن شاء منعه فإن منعه كان للقبض أجرة التقاضي. مسألة: قال: "ولو كان الطعام سلفاً جاز له أن يأخذ به ما شاء يداً بيد". السلف: اسم للقرض والسلم ميعاً وأراد به ها هنا القرض فإذا كان له على رجل طعام من قرض يجوز له أن يأخذ العوض عنه طعاماً أو دراهم أو غير ذلك لأن القرض مستقر في الذمة فجاز أخذ العوض عنه والتصرف فيه كما يجوز ذلك [128/ ب] عن المبيع بعد القبض بخلاف المسلم فيه، وهكذا يجوز أخذ العوض عن طعام مستفرغ الذمة بالغصب ونحوه، ثم إذا أخذ البدل إن شاء أخذ بلفظ البيع فيقول: بعتك الطعام الذي في ذمتك بهذه الدراهم، أو بهذا اثوب وإن شاء قال: أخذت منك هذه الدراهم بدل مالي عليك من القرض، وإن أرد مقرض الطعام أن يبيعه أجنبي غير المستقرض قبل قبضه فيه وجهان خرجهما ابن أبي هريرة أحدهما: يجوز كما في المستقرض لاستقرار ملكه عليه، والثاني: لا يجوز لأنه غير مقدور على تسليمه إليه حتى يقبضه منه، فلا يجوز بيعه.

وقال القفال: فيه قولان، ولعله أراد قول التخريج، فإن قيل: أليس الحوالة تجوز وجهاً واحداً فما الفرق؟ قلنا: إن الحوالة تقع مقبوضة مسلمة فهي في معنى بيعه ممن عليه وأيضاً طريق الحوالة الإرفاق فجازت، وإن لم يجز البيع ألا ترى أنه يجوز أن يقرض درهماً بدرهم ويتفرقا قبل القبض، ولا يجوز هذا في بيع درهم بدرهم؟ لأن القصد من القرض الإرفاق دون المعاوضة، فإذا تقرر هذا وباع من الذي عليه وأخذ [129/ أ] العوض. قال الشافعي: جاز أن يأخذ به ما شاء يداً بيد، قال أصحابنا: إن كان القبض مستحقاً فيهما في المجلس لا يجوز التفرق قبل القبض مثل أن يأخذ بدل الطعام الذي عليه طعاماً من غير جنسه مثل الشعير بدل الحنطة، وإن أخذ بدله دراهم أو دنانير أو ثياباً هل يجوز التفرق قبل قبضها؟ وجهان أحدهما: وهو ظاهر النص لا يجوز لأن القرض كان ديناً وإذا استبدل ثم افترقا قبل القبض أشبه البدل الدين، وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "عن بيع الدين بالذين"، ولهذا لو جعل الثوب موصوفاً في الذمة بدلاً عن الحنطة في الذمة لم يجز، وهذا اختيار أبي حامد، والثاني: يجوز لأنه لو باع ثوباً بثمن في الذمة وافترقا قبل قبض الثوب جاز، فكذلك إذا كان الثمن عيناً والمبيع في الذمة يجوز أن يفترقا قبل القبض. قال القفال: هذا أقيس وكلام الشافعي محمول على أنه أراد به في مال الربا استبدل طعاماً بطعام أو دراهم بدنانير وأراد بقوله: يداً بيد أن لا يكون ديناً بل يكون عيناً، ولم يرد به أن يكون قبضاً في المجلس. فرع لو أقرضه طعاماً وهو في يد المستقرض لم يتصرف [129/ ب] فيه لا يجوز أن يأخذ منه بدله سواء قلنا: زال ملكه عن العين بنفس الإقراض أو قلنا: لا يملك إلا بالتصرف فيه لأن على القول الأول زال ملكه عن العين ولم يستقر بدله في ذمة المستقرض لأن له الرجوع في العين، فلا يجوز أخذ البدل وإن قلنا بالقول الثاني: فقد ضعف ملكه لما زال يده وسلط عليه غيره بالتصرف فيه ذكره القاضي الطبري، وإن كان المستقرض باعه ثم رجع إليه بإرث أو شراء لا يجوز للمقرض أن يأخذ عوض العين ولكن يأخذ عوض ماله في ذمته على ما بيناه. فرع آخر لو كان له في ذمة الغير طعام مستقر إلى أجل مهراً أو عوض خلع ونحو ذلك، يأخذ منه بدل الطعام، قال في الصرف: فإن لم يكن مطعوماً يجوز، وإن كا مطعوماً من غير جنسه لا يجوز لأنه بيع طعام بطعام إلى أجل قال أبو حامد: وعندي أنه لا يجوز لأنه إذا قبض منه ذلك برئت ذمة من عليه الطعام منه فكيف يبقى في ذمته إلى أجل؟ [130/ أ] فرع آخر إذا أقرض رجل طعاماً بمصر ثم التقيا بمكة فطالبه بالطعام الذي له في ذمته لا يجب عليه دفعه إليه بمكة، لأن الأسعار تختلف ولأنه يلحقه مؤونه في نقله من مصر إلى مكة

وهو يستحق أخذه منه بمصر نص عليه في الصرف، فإن طالبه بالعوض يلزمه دفع ذلك إليه لأنه قد تعذر دفع ذلك إليه لأنه قد تعذر دفع عين حقه فيجب دفع عوضه ويعتبر قيمة ذلك ما يكون بمصر لأنه يستحقه هناك، فإن رضي المستقرض بدفع الطعام بمكة جاز، لأنه رضي بإدخال الضرر على نفسه، وهكذا لو استهلك رجل على رجل طعاماً فلقيه ببلد آخر يطالبه بقيمة الطعام في البلد الذي استهلكه ولا يطالبه بالمثل إلا أن تكون قيمة الطعام في البلدين واحدة فله مطالبته بالمثل. فرع آخر إذا دفع القيمة ثم رجع إلى مصر هل له رد القيمة والمطالبة بالطعام؟ وجهان. فرع آخر لو كان الطعام الذي عليه سلما فلقيه ببلد آخر لا يجوز أن يطالبه بقيمته لأنه يكون بيع السلم قبل القبض وذلك لا يجوز وإن تراضيا، وإن دفع [130/ ب] من عليه الطعام في الموضع الذي لقيه، وقال: خذه وأبرئني منه لم يجبر على القبول، ولا على البراء لأن عليه مؤونة في حمله إلى بلده فهو كما لو قدمه على محله وعليه مؤونة في حفظه لم يلزمه قبوله قبل محله كذلك هاهنا. وإن تراضيا جاز. فرع آخر لو أقرضه دراهم أو دنانير في بلد، ثم لقيه في بلد آخر له مطالبته بمثله لأنه لا مؤونة في نقل الدراهم والدنانير. فرع آخر لو كان عليه عشرة أقفزة طعام فأقبضة كيلاً، ثم عاد فذكر أنه قد نقص قال الربيع: فيه قولان أحدهما: القول قول القابض مع يمينه وبه قال مالك، والثاني: وبه يفتي القول قول الدافع وبه قال أبو حنيفة، لأن الظاهر أنه قد قبض حقه وقد رجع يدعي خلاف الظاهر، وهكذا الخلاف فيما قبضه البائع من الثمن وزناً وذكر والدي رحمه الله: أنه إن ذكر قدراًَ قد يقع مثله لاختلاف الموازين سمع مع يمينه كما إذا ادعى الزكاة غلطاً على الخارص وذكر نقصاً محتملاً، وقد ذكرنا من قبل ما يدل على هذا. [131/ أ]. فرع آخر لو قبض الثمن ثم جاء وذكر أن فيه زيفاً ينظر فإن صدقة المشتري أن هذا هو الثمن الذي قبضه بعينه فعلى البائع البينة أنه زيف ويبدله له، وإن كذه وقال: ما هذا هو الثمن فالقول قول المشتري مع يمينه فإن حلف برأ فإن كان للبائع بينة أنه الثمن بعينه أقامها ثم عليه البينة أن هذا زيف، وعليه أجرة من ينتقد، ومن أصحابنا من قال: أجرة النقاد على المشتري والأصح الأول وهو اختيار القاضي الطبري. فرع آخر قال بعض أصحابنا: على الإمام أن ينصب كيالاً ووزاناً في سوق المسلمين ويرزقهما من سهم المصالح فإن لم يكن فأجرتهما على البائع.

باب بيع المصراة

فرع آخر قال في الصرف: لو باع صبرة من الطعام جزافاً فالبيع جائز ولا بأس به وقال في حرملة: لا أحب ذلك فإن فعل لم يقض البيع فحصل من هذا أنه يجوز البيع قولاً واحداً وهل يكره؟ قولان أحدهما: لا يكره والثاني: يكره لأن فيه ضرباً من الغرر وربما قدرها أكثر من كيلها فإن وجدها مصبورة على دكة أو ربوة كان له الخيار لأنه كالعيب. [131/ ب]. باب بيع المصراة قال: أخبرنا مالك الخبر. التصرية: أن يربط أخلاف الناقة أو الشاة أو البقرة ويدعها عن الحلاب يومين أو ثلاثة أيام يجتمع لبنها ويكبر ضرعها ثم يبيعها فيظن المشتري أنها غزيرة اللبن ثم إذا حلبها يجد لبنها أنقص مما كان، وهو مشتق في اللغة من الصري وهو الجمع، يقال: صري الماء في الحوض وصري الطعام في فيه إذا جمع. وسميت الصرة صرة للجمع ويقال: صري الماء في ظهره إذا ترك الجماع، وقد روي ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام" وأراد التي جمع اللبن في ضرعها ومنه قيل: احتفل الرجل إذا جمع المحافل مأخوذة من هذا. فإذا ثبت هذا فالتصرية تدليس وفعل محرم وغرر يوجب العيب فمتى علم به المشتري له الخيار إن شاء فسخ البيع ورد المبيع وإن شاء اختار البيع، وبه قال ابن عمر وابن مسعود وأبو هريرة وأنس رضي الله عنهم ومالك واالليث وابن أبي [132/ أ] ليلى وأحمد وإسحاق وأبو يوسف وزفر رحمهم الله، وروي عن أحمد أنه قال: إذا حلب لبنها ليس له الرد لأنها نقصت في يده فتستخرج أرش العيب. وقال أبو حنيفة: التصرية ليست بعيب ولا يثبت بها الخيار بحال، وبه قال محمد: وهذا غلط لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ابتاع محفلة فهو بالخيار ثلاثة أيام" وأراد التي جمع اللبن في ضرعها ومنه قيل: احتفل الرجل إذا جمع المحافل مأخوذة من هذا. فإذا ثبت هذا فالتصرية تدليس وفعل محرم وغرر يوجب العيب فمتى علم به المشتري له الخيار إن شاء فسخ البيع ورد المبيع وإن شاء اختار البيع، وبه قال ابن عمر وان مسعود وأبو هريرة وأنس رضي الله عنهم ومالك والليث وابن أبي [132/ أ] ليلى وأحمد وإسحاق وأبو يوسف وزفر رحمهم الله، وروي عن أحمد أنه قال: إذا حلب لبنها ليس له الرد لأنها نقصت في يده فتستخرج أرش العيب. وقال أبو حنيفة: التصرية ليست بعيب ولا يثبت بها الخيار بحال، وبه قال محمد: وهذا غلط لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تصروا الإبل والغنم للبيع فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها إن رضيها أمسكها وإن سخطها ردها وصاعا من تمر" وهذا نص ونحو هذا رواه ابن عمر رضي الله عنه، فإذا تقرر هذا فالكلام الآن في كيفية الرد، وجملته أنه إذا ردها يلزمه رد بدل اللبن؟ لأن العقد وقع عليه لوجوده حال العقد، وقد روي في ذلك أخبار مختلفة والأشهر ما ذكر في "المختصر": "ردها وصاعاً من تمر"، وروي "ردها وصاعاً من تمر لا سمراء"، وأراد به البر، وروي "وصاعاً من سمراء"، وروي "وصاعاً من طعام"، وروي "ردها ورد معها مثل أو مثلي لبنها قمحاً". واختلف أصحابنا في هذا فقال أبو إسحاق: نص على التمر لأنه أصل وقيمته بالحجاز [132/ ب] دون قيمة البر وقوله: "صاعاً من تمر لا سمراء" يعني لا يكلف السمراء وقوله:

"صاعاً من سمراء" يعني إن تطوع به قبلناه لأنه أفضل وقوله: مثل لبنها إذا كان بنها صاعاً كيلاً يكيل وله أن يتطوع بدفع القمح، قال: وكل موضع كان الصاع من التمر أقل من نصف ثمن الشاة فهو الأصل لا يطالب بغيره، وإن كان الصاع أكثر من نصف ثمن الشاة، مثل إن كان في البلد الذي يعز فيه التمر كخراسان رد معها قيمة صاع من تمر بالحجاز يوم ارد كرجل أقرض رجلاً صاعاً من تمر بالحجاز فلقيه بخراسان له مطالبته بقيمته بالحجاز يوم الرد كرجل أقرض رجلاً صاعاً من تمر بالحجاز فلقيه بخراسان له مطالبته بقيمته بالحجاز يوم المطالبة، وليست له مطالبته بالتمر كذلك ها هنا. ومن أصحابنا من قال: على هذا إذا عدم التمر يلزمه قيمته وفي محل قيمته وجهان: أحدهما: قيمته في أقرب بلاد التمر منه، والثاني: قيمته بالمدينة، ومن أصحابنا من قال: يرد صاعاً من تمر أبداً وإن كان قيمته أضعاف ثمن الشاة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قدره به ولا يكون جامعاً بين الشاة وثمنها إذا كان اشتراها بصاع لأن هذا بدل اللبن [133/ أ] لا بدلها، ومن أصحابنا من قال: إذا اشترى بصاع فيه وجهان: أحدهما: هذا، والثاني: يرد من الصاع بقدر نقص التصرية من الثمن فتقوم الشاة لو لم تكن مصراة ويقوم مصراة فإن نقص درهماً من عشرة علم أن نقص التصرية الخمس فيرد المشتري خمس الصاع الذي اشتراها به ومن أصحابنا من قال: نص على التمر، لأنه قوت الحجاز ونص على البر لأنه قوت بلد آخر وأفاد اختلاف الألفاظ من الخبر، لأنه يعتبر غالب قوت بلد البيع تمراً كان أو براً أو شعيراً كما قولنا في زكاة الفطر وهو اختيار ابن سريج والإصطرخي، ومن أصحابنا من قال: يعطي من أي الأقوات المزكاة شاء من بر أو شعير، ومن أصحابنا من قال: يختلف ذلك باختلاف اللبن فيؤدي بقيمته اللبن وهو ضعيف. فرع لو أراد المشتري رد اللبن فاللبن الذي كان في ضرعها حي البيع لا يمكن رده وحده لأنه قد اختلط باللبن الحادث المشتري، وإن رضي المشتري رد الكل على البائع أشار أبو حامد في "الشرح" إلى وجهين: أحدهما: عليه القبول لأنه حقه [133/ ب] وزيادة، والثاني: لا يلزمه القبول لأنه بالحلب صار ناقصاً لإخراجه من الضرع الذي منع التغير، وصار حيث يسرع إليه التغير فله أن يمتنع من قبوله، وهذا أصح عند جمهور أصحابنا، فإن تراضياً عليه جاز. فرع آخر إذا علم المشتري بالتصرية في اليوم الثاني والثالث للخبر نص عليه في "الإملاء" في اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى حكاه القاضي في "الجامع"، ومن أصحابنا من قال: إذا علم بأنها مصراة فالرد على الفور فإن لم يرد مع الإمكان بطل الرد كسائر العيوب، وإنما جعل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الثلاث ليحصل له يقين التصرية وهو اختيار ابن أبي هريرة، وحكى أنه قال: المراد بالثلاث المذكور في الخبر خيار الشرط لا يثبت إلا بالشرط والرد بعيب التصرية يكون عند العلم على ما ذكرنا، وحكي عن أبي إسحاق أنه قال: لو أراد الرد قبل الثلاث ليس له لأنه لا يعلم العيب بأقل من ثلاثة أيام وإنما حد ثلاثة أيام لهذا المعنى، ولو أراد الرد بعد الثلاث ليس له لأنه ترك الرد بعد القدرة مع معرفة العيب وإنما له الرد عند انقضاء [134/ أ] الثلاث وهذا بعيد.

فرع آخر لو رضيها المشتري وحلبها زماناً ثم أصاب بها عيباً قديماً بغير التصرية فله ردها بهذا العيب لأنه لم يرض بالعيب الذي ظهر الآن، وإنما رضي بعيب التصرية فقط والحلاب ليس بنقص فلا يمنع الرد بالعيب. فإن قيل: هو نقص في اللبن الموجود حال العقد الذي أخذ قسطاً من التمر فوجب أن يمنع الرد. قلنا: المقصود الحيوان دون اللبن وهذا غير صحيح، والعلة صحيحة إن قال: الحلب طريق إلى استعلام عيب التصرية فلا يمنع الرد لقطع النطيح يسيراً. فإن قيل: إذا جز صوفها ثم أصاب بها عيباً هل يبطل حقه من الرد؟ قلنا: إن كان جز الصوف مما لا يمكن التوصل إلى معرفة العيب، لأنه لا يبطل حقه من الرد به، وإن كان مما يمكن التوصل إليه من دونه يمنع الرد، وفي اللبن لا يمكن معرفة العيب إلا بحلبه فهما سواء، فإذا ثبت هذا وردها يرد معها صاعاً من تمر للبن التصرية على ما ذكرنا، وإن قلنا: لا يفرق لا يرد ويرجع بأرشه. فرع آخر لو اشترى شاة ولم تكن مصراة وحلبها زماناً [134/ ب] ثم أصاب بها عيباً قديماً له الرد، قال الشافعي في القديم: قال لي محمد بن الحسين: هل يرد اللبن؟ فقال: لا، قال بعض أصحابنا: الفرق بينه وبين المصراة أن اللبن في غير المصراة لا يتحقق، وإن كان فهو يسير لا اعتبار به، وفي المصراة اللبن كثير مجموع متحقق فيقسط عليه الثمن ويلزمه رده بدله عند الرد. وقال بعض أصحابنا: هذا إذا لم يكن فيها لبن حال العقد نظر فإن كان اللبن تالفاً فإن قلنا: لا يفرق الصفقة ليس له الرد، لأنه قد تلف بعض المبيع بعد القبض، وله الأرش، وإن كان اللبن قائماً هل له الرد؟ وجهان بناء على ما ذكرنا من الوجهين إذا كان لبنها والحادث بعد العقد قائماً في المصراة فردها المشتري مع اللبن هل علي البائع قبوله؟ وجهان، فإن قلنا: يلزم قبوله رد اللبن مع الشاة على البائع ويرد بدل اللبن وهو قيمة ها هنا، والقول قول المشتري في قدرها لأنه غارم وهذه الطريقة أقيس. وقال في لحاوي: لا خلاف في هذه المسألة أنه يردها وإن كان في ضرعها لبن وقت البيع لأن ما في الضرع غير مقصود إذا لم يكن [135/ أ] لبن التصرية ثم يلزمه رد قيمة اللبن معها، لأنه يأخذ قسطاً من الثمن ولا يلزم الصاع وهذا غير صحيح عندي. فرع آخر لو علم بالتصرية واشتراها هل له أن يردها إذا لم يصر لبنها لبن عادة؟ وجهان أحدهما: ليس له كما لو علم بالعيب فاشتراها، والثاني: له ذلك لأن ذلك اللبن يجوز بقاؤه على كثرته وقد دخل في العقد على طمع أن يصير لبنها عادة فإذا لم يصر كان له الخيار كالمرأة تتزوج بعنين مع العلم بحالة ثبت لها الخيار في وجه.

فرع آخر لو اشترى مصراة ولم يعلم بها حتى صار لبنها لبن عادة هل يجوز له الخيار؟ وجهان كما لو اشترى معياً ولم يعلم بالعيب حتى زال العيب فيه وجهان وأصل هذا إذا عتقت تحت عبد فلم يعلم حتى أعتق الزوج هل لها الخيار؟ قولان، وقال أبو حامد: عندي لا خيار له في المصراة قولاً واحداً لأنه ما كان بها عيب بل تحدد لها زيادة فضيلة. فرع آخر لو اشترى بقرى فوجدها [135 أ/ 6] مصراة قال الشافعي - صلى الله عليه وسلم -: وكذلك البقر وإنما قال ذلك لأن الخبر ورد في الإبل والغنم فكان ذلك تنبيهاً عليها، لأن لبن البقر ساوى لبن الغنم في الجودة وانفرد بالكثرة وساوى لبن الإبل في الكثرة وانفرد بالجودة مع أنه روي "من ابتاع محفلة فهو بخير النظرين" وهو عام في الكيل. وقال داود: لا يرد البقر لأنه لم يرد فيها الخبر وهذا غلط لما ذكرنا. فرع آخر لو اشترى جارية فوجدها مصراة. قال في "الإفصاح": فيها ثلاثة أوجه: أحدها: يردها ويرد معها صاعاً من تمر كالبهيمة لأن لبن الجارية لبن ظاهر مضروب يحل بيعه وثمنه وهذا اختيار القاضي الطبري. والثاني: لا يردها لأن نقصان لبنها ليس بعيب فإن لبنها لا يقصد في العادة ولا يباع ولا يشترى، وذكر الدراكي على هذا الوجه: أنه إذا لم يردها يرجع بالأرش وهذا غلط، لأن هذا القائل منع الرد أنه ليس بعيب وقدر الدراكي أنه لا يرد لأن الحلب غير حادث فقال: يرجع بالأرش. والثالث: يردها ولا يرد معها شيئاً لأنه عيب [136/ أ] ولكن اللبن لا يقصد بالشراء والبيع. وهذا أقرب عندي، وقال أبو حامد: لا خلاف أنه عيب فيها ولكن ما حكمه؟ فيه وجهان أحدهما: يردها ولا يرد شيئاً لأنه حصل في يده لبن البائع ولا يمكن أن يقال: يرد عوض اللبن معها لأنه لا يقصد بالعوض فلم يبق إلا الإمساك والرجوع بالأرش. فرع آخر لو اشترى خيلاً أو ظبية فوجدها مصراة. قال في "الحاوي": فير غير النعم هل يكون التصرية عيباً يوجب الرد وجهان أحدهما: لا يكون عيباً لأن الألبان لا يقصد إلا في النعم وهو اختيار البصريين، والثاني: يكون عيباً في كل حيوان فعلى هذا هل يرد صاعاً بدلاً من لبن التصرية؟ وجهان أحدهما: يرد لعموم الخبر، والثاني: لا يرد، ولأن لبن الخيل غير مقصود. فرع آخر لو اشترى أتانا فوجدها مصراة قال أبو حامد: هو عيب بلا خلاف لأنه يقصد لبنها

للجحش فإذا ردها لا يرد شيئاً للبلن لأنه نجس لا قيمة له عند الشافعي، وقال الإصطخري: هو طاهر يحل شربه فحكمه حكم الشاة ويرد صاعاً [136/ ب] من تمر والمنفعة قد ورد فيه قصة مخلد بن خفاف وهو ما روي عنه أنه قال: اشتريت غلاماً فاستغللته زماناً ثم وجدت به عيباً فرددته فقضى علي عمر بن عبد العزيز وكان أمرا أمير المدينة برده ورد غلته فأخبرت به عروة بن الزبير وكنت في جواره فقال: أخبرتني عائشة رضي الله عنهأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "قضى في مثل هذا أن الخراج بالضمان" فأخبرت به عمر بن عبد العزيز فقال: لا على قضيت قضاء فإذا أخبرني مخبر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بخلافة نقضت قضائي فرجعت فأخبرت به عروة فأتى عمر وأخبره فدعا بالبائع. وقال: قد قضيت لك بقضاء وهذا عروة بن الزبير يخبرني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بخلافه فقال: قد قضيت قضاء بالأمس فلا تنقضه فغضب عمر وقال من يعذرني من هذا يأمرني أن أرد قضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأنفذ قضاء ابن عمر لا بل أنفذ قضاء رول الله - صلى الله عليه وسلم - وأرد قضاء ابن عمر صاغراً [137/ أ] صدياً، وإن كان النماء عيناً مثل الولد والثمار والنتاج فعندنا حكم ذلك حكم المنفعة يبقى للمشتري ويرد الأصل بالعيب. وقال مالك: الولد والنتاج يرد مع الأصل ولا ترد الثمار لأنه ليس من جنس الأصل ولأنه حكم تعلق برقبة الأم فيسري إلى الولد كالكتابة وهذا غلط، لأنه بما حدث في ملك المبتاع فلا يلزمه رده مع الأصل كالثمرة، والكتابة لا نسلم أنها تسري إلى الولد. وقال أبو حنيفة: هذه الزوائد تمنع رد الأصل بالعيب فيأخذ الأرش، وهذا مبني على أصله أن الرد بالعيب فسخ للعقد من أصله وعندنا هو فسخ للعقد من وقت الرد فلا يبقى للمشتري النماء مع رد الأصل عنده، لأن العقد يصير كأن لم يكن، وعندنا يبقى له ذلك لأن العقد ينقطع في الحال، ووافقنا في الواهب إذا رجع في هبته أن يكون رفعاً للعقد من وقت رجوعه، واحتج الشافعي بحديث مخلد بن خفاف، ولم يفصل بين خراج وخراج واسم الخراج على الزوائد المنفصلة أوقع منه على علة العبد ووافقنا أبو حنيفة في غلة العبد [137/ ب] وأنها لو حدث في يد البائع لا يمنع الرد، ومن أصحابنا من خرج وجهاً أنه يرفع من أصله لأن سبب الفسخ قارن العقد تخريجاً مما قال الشافعي في النكاح إذا فسخ بالعيب يغرم مهر المثل. فرع الرد بالعيب لا يفتقر إلى الرضا ولا إلى قضاء القاضي قبل القبض وبعده، وقال أبو حنيفة: إن كان بعد القبض لا يكون له الفسخ إلا بالرضا أو بالقضاء وهذا غلط، قياساً على ما قبل القبض. فرع آخر إذا أراد الرد بالعيب قبل القبض لا يفتقر إلى حضور صاحبه، وقال أبو حنيفة: يفتقر إلى حضوره، وإن لم يفتقر إلى رضاه وهذا غلط، لأنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضاه فلا يفتقر إلى حضوره كالطلاق.

فرع آخر إذا باع شاة حاملاً عند البيع فولدت عنده ثم أصابها عيب فهل الحمل يأخذ قسطاً من الثمن برد الشاة والنتائج؟ وإن قلنا: لا يأخذ قسطاً من الثمن فيه وجهان: أحدهما: يرده أيضاً مع الأم لأن العقد تناوله، وإن لم يأخذ قسطاً من الثمن، والثاني: لا يلزمه رده لأنه حصل في ملك المشتري [138/ أ] من غير أن يكون في مقابلته جزء من الثمن فأشبه النماء الحادث بعد البيع، وهكذا لو باع أمة حاملاً فولدت، وهذا إذا لم تنتقص بالولادة فإن نقصت بالولادة لا يردها بالعيب ويرجع بالأرش فإن قيل: أيس لا يجوز التفريق بين الجارية وولدها الصغير في البيع! وقلتم ها هنا: إذا ولدت الجارية في ملك المشتري يرد الجارية دون الولد؟ قيل: المذهب أنه يجوز هذا التفريق لموضع الحاجة كما قال الشافعي في الجارية المرهونة: إذا ولدت حراً تباع الأم بحق المرتهن دون الولد لأنه موضع حاجة، وقال بعض أصحابنا: إن كان الولد طفلاً لا يفرق بينهما وبين الولد وله الأرش، وإن كان قد بلغ سبعاً أو ثماني سنين قبل أن يعلم بالعيب إلى هذا الوقت، كان له ردها وإمساك وهذا أقيس. فرع آخر لو علم بالعيب بعد ما حبلت عنده ولم تضع، فإن كان الحمل موكساً في ثمنها أو مخوفاً عليها في ولادتها، فلأوله الأرش، وإن لم يكن موكساً ولا مخوفاً ردها حاملاً [138/ ب] ثم إن قلنا: الحمل تبع فالولد للبائع، وإن قلنا: يأخذ الولد قسطاً من الثمن فيه وجهان: أحدهما: أنه للبائع ولا يرجع به المشتري أيضاً لاتصاله بالأم عند الرد، والثاني: وهو الأقيس أنه للمشتري ويرجع على البائع لحدوثه في ملكه وغيره وعلى هذا لو حبس المشتري الشاة المعيبة حتى تضع حملها لا يمنع ذلك من الرد، لأنه حبسها لأخذ ملكه منها وعلى الوجه الأول يمنعه ذلك من الرد بالعيب لأنه حبسها ولا ملك له فيها، وقال القاضي أبو حامد: هل الولد للبائع أو للمشتري؟ فيه قولان وهو للبائع في أولى قوليه. فرع آخر قال المزني في "المنثور": لو اشترى غنماً بعشرة أقساط من لبن موصوف إلى أجل فلم يتقابضا حتى احتلب البائع منها عشرة أقساط ثم ماتت الغنم يبطل البيع ويسقط الثمن من ذمة المشتري ويأخذ من البائع ما احتلب من اللبن وهذا صحيح، لأن تلف المبيع قبل القبض يبطل البيع ويوجب سقوط الثمن ولا يمنع ملك النماء. مسألة: "وإن كانت أمة [139/ أ] ثيباً فوطئها فالوطء أقل من الخدمة". إذا اشترى جارية ثيباً فوطئها ثم وجد بها عيباً له ردها بالعيب وهذا الوطء لا يمنع الرد بالعيب. وبه قال مالك وعثمان البتي وأبو ثور وأحمد في رواية، وروي ذلك عن زيد بن ثابت. وقال أبو حنيفة: لا يردها ويرجع بالأرش وبه قال (الثوري) والزهري

والنخعي، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه، وهذا لأن عندهم الوطء يجري مجرى الجناية وعندنا لا يجري مجراها، وقال ابن أبي ليلى: يردها ويرد معها مهر مثلها للوطء، وبه قال عمر رضي الله عنه، وقال عمر رضي الله عنه: مهرها إن كانت بكراً عشر قيمتها، وإن كانت ثيباً نصف عشر قيمتها وهذا غلط، لأن وطأها صادف ملكه فلا يلزمه الغرامة واحتج الشافعي بأن الوطء أقل من الخدمة، يعني أقل ضرراً لأن الوطء يمنعها ويلذها والاستخدام يتبعها ويكدها، فإذا جاز الرد بعد الخدمة فلأن يجوز الرد بعد الوطء أولى ولا فرق بين أن يكون البائع إياه فحرمت عليه بذلك الوطء أو كان أجنبياً فلم يحرم عليه بذلك [139/ ب]. فرع لو وطئها البائع قبل التسليم فحكمه حكم وطء الأجنبي، وقال أبو حنيفة: هي مستبقاة على ملكه فلا يلزمه شيء لا الجد ولا المهر وهذا غلط، لأنه لا ملك له فيها ولا شبهة ملك. مسألة: قال: وإن كانت بكراً فافتضها. الفصل إذا اشترى جارية بكراً فافتضها ثم أصابها عيب ليس له ردها بل يرجع بأرش العيب لأنه أتلف جزءاً منها يوجب نقصان قيمتها، ويفارق وطء الثيب في هذا المعنى فإذا ثبت هذا فكيفية الرجوع بأرش العيب أن ينظر كم قيمتها بكراً غير معيبة؟ فيقال ألف درهم وقيمتها بكراً معيبة كم؟ فيقال: تسع مائة وثمنها عشرون ديناراً أو أقل أو أكثر فالمشتري يسترد عُشر الثمن لأن العيب نقص عشر القيمة، وإنما قلنا: يرجع بقدر ما نقص من الثمن لأنها نقص من القيمة لأن المبيع لو تلف كله رجع المشتري بالثمن لا بالقيمة، فكذلك إذا نقص منه جزء رجع بما يقابل ذلك الجزء من الثمن ويفارق المغصوب لأنه لو تلف الكل يضمن القيمة [140/ أ] فإذا تلف بعضه يلزم ما نقص من القيمة ويعتبر في التقويم أقل ما كانت قيمتها من يوم العقد إلى يوم القبض لأنه إن كانت قيمتها يوم العقد أقل مما زاد فهو في ملك المشتري، وإن كانت قيمتها يوم القبض أقل مما نقص قبله في يد البائع غير مضمون عليه، وقال مالك: يردها مع أرش نقص البكارة وبه قال أحمد في رواية، وهذا بناه على أصله لأن العيب لا يمنع الرد وهذا غلط لما ذكرنا. فرع إذا وجد عيباً بما اشترى له الخيار على ما ذكرنا فإن اختار الإمساك يلزمه كل الثمن، وإن أراد أن يأخذ منه أرش العيب ليس له ذلك لأن البائع دخل في العقد على أن يحصل للمشتري الثمن بجميع الثمن فلم يجبر على تسليمه إليه ببعض الثمن، وقال أحمد: له إمساكه ومطالبته بالأرش وهذا غلط لخبر المصراة، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أثبت

له الخيار بين الإمساك من غير أرش وبين الرد ولأنه يملك رده فلم يكن له مطالبته بجزء من الثمن كما لو كان له الخيار بالشرط. [140/ ب] فرع آخر إذا أراد المشتري رده فقال له البائع: أمسكه حتى أدفع أرش العيب لم يجبر على قبول ذلك لأنه دخل في العقد على سلامة المبيع فلا يجبر على إمساك المبيع ببعض الثمن. فرع آخر لو تراضيا على أخذ الأرش. قال القاضي أبو حامد: فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز وهو ظاهر المذهب لأنه خيار ثبت لفسخ البيع فلا يجوز الاعتياض عنه كخيار الشرط وخيار المجلس، والثاني: يجوز وهو اختيار ابن سري جوبه قال مال وأبو حنيفة، لأن كل خيار جاز أن يسقط إلى مال جاز إسقاطه على مال كالقصاص وهذا لا يصح، لأن للدم بدلاً وهو الدية في حال، فجاز إسقاط القصاص بها بخلاف هذا، فإذا قلنا: يجوز فأخذ الأرش ثم زال العيب لا يلزم المشتري رد الأرش. فرع آخر إذا قلنا: لا يجوز أخذ الأرش بالتراضي فأخذ يلزمه رده لأنه أخذه بغير حق فلا يملكه وهل يسقط خياره بذلك؟ وجهان: أحدهما: يسقط، لأن أخذ الأرش رضا بسقوط خياره، والثاني: لا يسقط [141/ أ] وهو المذهب لأنه لم يرض بسقوط حقه إلا بمال أو مثل هذا أنه لا يجوز أخذ العوض على تسليم الشفعة فإن أخذها يسقط حقه من الشفعة وجهان، والصحيح أنه لا يسقط وإنما لا يجوز أخذ العوض على تسليم الشفعة بخلاف أخذ أرش العيب على أحد الوجهين، لأن حق الشفعة لا ينقلب مالا بحال والرد بالعيب فلا يسقط فيجب الأرش وهو إذا حدث عنده عيب آخر. مسألة: قال: ولو أصاب المشتريان صفقة واحدة من رجل بجارية عيبا. الفصل إذا اشترى رجلان من رجل عبدا صفقة واحدة فوجدا به عيباً فأراد أحدهما الرد والآخر الإمساك كان ذلك لهما لأن الصفقة إذا تفرقت في أحد طرفي العقد كانت بمنزلة الصفقتين. وقال القاضي أبو حامد: حكى أبو ثور عن الشضافعي: ليس لأحدهما أن يرده حتى يتفقا عليه وبه قال أبو حنيفة، فحصل قولان. وبقولنا الأول قال أبو يوسف ومحمد ومالك في رواية، وهذا لأن [141/ ب] جميع ما ملكه بالعقد فجاز له رده بالعيب فجميع العبد إذ اشتراه واحد. فرع لو اشترى رجل من رجلين عبدا ثم وجد به عيباً فأراد أن يرد نصيب أحدهما دون

الآخر له ذلك ووافقنا فيه أبو حنيفة، وقال القفال: رأيت بعض أصحابنا خرج فيه قولاً ثانياً ليس له ذلك وليس بشيء، وهذا لأن العقد يتعدد بعدد العاقد سواء كان المشتري متعدداً أو البائع حتى إذا اشترى اثنان من اثنين فذلك أربعة عقود لأنه ينقسم على البائعين ثم نصيب كل بائع ينقسم على المشترين. فرع آخر لو كان العاقد وكيلاً لاثنين فذلك عقد واحد أو عقدان؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه عقد واحد لا يجوز فيه التفريق سواء كان هذا الواحد دليل بائعين مشتريين وهو اختيار ابن الحداد لأن العقد يعتبر بالعاقد وهو واحد. والثاني: يعتبر المالك فالعقد اثنان لأن الملك يقع للموكل لا للوكيل وهو قول جميع أصحابنا بالعراق [142/ أ] واختاره أبو زيد والخضري، والثالث: وهو اختيار القفال يفصل فيقال: إن كان وكيل مشتريين فالعقد واحد وإن كان وكيل بائعين فالعقد اثنان والفرق أن معظم الأمر يرجع في باب الشراء إلى الوكيل ويرجع في البيع إلى الموكل، ألا ترى أنه لو باع بغير الإذن أو خالف موكله بطل البيع والمشتري إذا اشترى للغير بغير إذنه، أو خالف أمره لزمه العقد في نفسه ولا يبطل، فإذا ثبت في وكيل المشترين أنه ليس لأحد موكليه أن يرد نصيبه إذا لم يوافقه صاحبه، فهل له أرش العيب في نصيبه أم لا؟ وجهان: أحدهما: يرجع بالأرش كما لو حدث عنده عيب آخر والثاني: لا يرجع بالأرش لأن الرد غير فائت لأنه ربما يوافقه صاحبه فيردانه معاً. قال القفال: والأحسن أن يقال: هما حالان ما دام موافقة صاحبه في الرد موجودة بأن لم يعلم بالعيب أو هو عائب أو جاهل فيقال: إذا علم ربما يرد لا أرش له، وإذا علم ورضي به آيسنا من الرد في نصيبه فللآخر الذي يريد الرد الأرش في نصيبه. فرع آخر قال في "الحاوي": [142/ ب] إذا رد أحدهما واسترجع ما دفع فيه وجهان: أصحهما: أن الشركة بين المشتريين بطلت بالرد فيكون للممسك نصف العبد وللراد نصف الثمن، والثاني: الشركة بينهما على حالها لأنه لم يكن بينهما قسمة فعلى هذا نصف العبد بينهما ونصف الثمن المسترجع بينهما. فرع آخر لو اشترى شيئاً ثم مات عن وارثين فأراد أحدهما الرد دون الآخر ليس له ذلك وجهاً واحداً، لأن العاقد والمالك في الأصل واحد، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان وهو ضعيف، وهل له أرش في نصيبه؟ قال ابن الحداد: له الأرش، وقال القفال: هو على التفصيل. فرع آخر لو وكل رجلان في ابتياعه لهما، فابتاعه ثم أصاب به عيباً فإن لم يكن الوكيل

ذكرهما حال العقد تعلق العقد به فإن ادعى بعد ذلك أنه ابتاعه لهما لم يقبل قوله وإن ذكرهما حال العقد فالحكم على ما مضى. فرع آخر لو قال رجل لرجلين: بعتكما هذين العبدين بألف درهم فقال أحدهما: قبلت أحدهما بخمس مائة لم يصح، لأنه [143/ أ] قبل ما أوجب له وما لم يوجب لأنه أوجب له نصف كل واحد من العبدين، ولو قال: قبلت نصف العبدين بخمس مائة صح البيع خلافاً لأبي حنيفة، وهكذا لو قال رجلان لرجل: بعنا عبداً بألف فقال: قبلت نصيب أحدكما بخمس مائة يصح خلافاً لأبي حنيفة، لأنه قبل ما أوجب له وهكذا لو كان العبد واحداً فقال أحدهما: قبلت نصفه بنصف الثمن جاز. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجه آخر أنه لا يجوز لأنه خالف الإيجاب وليس بشيء، ولو قال رجل لرجل: بعتك هذين العبدين بألف درهم فقال: قبلت أحدهما بخمس مائة أو نصف هذا العبد بخمس مائة لا يجوز لأنه يؤدي إلى تبعيض الصفقة على البائع، وبيع الوحد من الواحد صفقة واحدة بخلاف المسألة الأولى. فرع آخر لو قال: بعتك هذين العبدين كل واحد بخمس مائة فقال: قبلت أحديهما فالمذهب جوازه وفيه وجه آخر لا يجوز لأن إيجابه صادفهما فلا يتبعض. فرع آخر لو اشترى رجلان عبداً من رجل فنقده [143/ ب] أحدهما نصف الثمن كان عليه أن يسلم نصيبه إليه وهو نصف المبيع لأنه بمنزلة المنفرد بالعقد عليه ولو سلم إليه جميع الثمن لا يسلم إليه إلا النصف الذي ابتاعه منه، ويسلم النصف الآخر إلى المشتري الآخر ويكون متبرعاً بوزن الثمن إلا أن يكون بإذن شريكه، وقال أبو حنيفة: ليس له قبض نصيبه إذا دفع نصف الثمن، ولو دفع كل الثمن كان له قبض كله، ويرجع على شريكه بما أدى عنه وبناه على أصله أن حكمه حكم الصفقة الواحدة، وهذا غلط لأنه يؤدي إلى قبض ملك غيره من غير ولايه ولا إذن. فرع آخر إذا حدث بالمبيع عيب بعد القبض لا يثبت الخيار للمشتري، وقال مالك: عهده الرقيق ثلاثة أيام إلا في الجذام والبرص والجنون فإنها إن ظهرت إلى سنة ثبت الخيار للمشتري واحتج بما روى الحسن عن عقبة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "جعل عهدة الرقيق ثلاثة أيام"، وهذا غلط لأنه عيب ظهر في يد المشتري ويجوز أن يكون حادثاً بعد القبض فلا يثبت به الخيار كما [133/ أ] لو كان بعد الثلاث وبعد السنة، وأما الخبر فمرسل لأن الحسن لم يلق عقبة أو يحمل ذلك على إجازة شرط الخيار وإنما خص الرقيق لأن شرط الخيار فيه أحوج.

فرع آخر لو اشترى رجل من رجل عبدين في صفقة واحدة فوجد بأحدهما عيباً لم يكن له رد المعيب وإمساك الصحيح، وبه قال عامة أصحابنا، وقال القفال وصاحب "التلخيص" وجماعة: هذا على القول الذي يقول: لا يجوز تفريق الصفقة فأما إذا جوزنا تفريق الصفقة رد المعيب منهما، وبه قال أبو حنيفة، إلا أنه قال: يقول إن كان قبل القض ليس له تفريق الصفقة وهذا لأن قبل القبض، عنده يكون تبعيض الصفقة في الإتمام وبعد القبض يكون تبعيض الصفقة في الفسخ وهذا غلط لأن رد الصحيح تبعيض الصفقة من المشتري فلم يكن له كما لو كان قبل القبض وأصله إذا كان المبيع طعاماً فإنه قال: لا يرد بعضه فإن العيب ببعضه عيب بكله. فرع آخر إذا قلنا: يرده رده بحصته من الثمن إذا وزع [144/ ب] الثمن على قيمتها إذا قلنا: لا يرد فأراد ردهما فله ذلك، وإن كان العيب بأحدهما وليس للبائع أن يقول لا يرد إلا المعيب، ولو قال: لا أرد كليهما ولكني آخذ الأرش ليس له ذلك لأن رد كليهما ممكن. فرع آخر لو اشترى عبدين فمات أحدهما في يده ثم وجد بالآخر عيباً فإن جوزنا تفريق الصفقة رد الحي وإن لم يجز له طلب الأرش فيما أراد رده. قال القاضي أبو حامد: وهذا أولى قوليه، ومن أصحابنا من قال: إن قلنا: إذا كانا قائمين يجوز تفريق الصفقة فهاهنا أولى وإن قلنا: هناك لا يفرق فهاهنا قولان والفرق أن هاهنا تفريق الصفقة لا باختياره بخلاف ما لو كانا قائمين، وإن كان العيب فيهما في الحي والميت ولم يرض بعيب واحد منهما فله الأرش فيهما. وقال بعض أصحابا بخراسان: فيه قول آخر أنه يفسخ في القائم والتالف فيرد قيمة التالف مع القائم ويسترد الثمن، وإن كان لو انفرد التالف لا يمكن الفسخ فيه. لأن العذر هاهنا ظاهر وهو أنه لا يتوصل إلى رد القائم إلا به، ويكون التالف في الفسخ تبعاً للقائم قال هذا [145/ أ] القائل وهذا هو السنة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "أمر في خبر المصراة برد الشاة وقيمة اللبن التالف" وهذا غلط مخالف لنص الشافعي في اختلاف العراقيين فإنه قال فيه: رجع بحصته من الثمن لأن هذا تلف في يده بالثمن فلا يضمنه بالقيمة. وأما خبر المصراة فقد بينا أن ذلك التلف كان لاستعلام العيب فلا يمنع الرد. فرع آخر لو اختلفا في قيمة التالف فقال البائع: قيمته عشرة وقيمة الموجود خمسة ليخص التالف ثلثا الثمن، وقال المشتري/ قيمة الموجود عشرة وقيمة التالف خمسة فأما الموجود فيمكن تقويمه، وأما التالف فاختلف قوله فيه فقال في اختلاف العراقيين: القول قول البائع مع يمينه، لأن البائع ملك جميع الثمن فلا يزيل ملكه إلا عن مقدار

يعترف به، وقال فيه: وفيه قول آخر: القول قول المشتري لأنه بمنزلة الغارم لأن قيمة التالف إذا زادت زاد قدر ما يغرمه فهو بمنزلة الغاصب والأول أصح وهو اختيار القاضي الطبري: لأنه بمنزلة المشتري والشفيع إذا اختلفا في الثمن فالقول قول المشتري، وإن كان الشفيع غارماً [145/ ب] لأنه يريد إزالة ملك المشتري عن الشقص الذي ملكه وكذلك هاهنا يزيل ملك البائع عن الثمن وكذلك لو أراد المشتري الرجوع بالأرش في القائم، واتفقا أن العيب الذي به ينقص عشر قيمته، فقال: ارجع بعشر ثلثي الثمن، وقال البائع: بل يرجع بعشر نصف الثمن فعلى القولين. فرع آخر إذا قلنا بالقول الذي ذكره أهل خراسان فأراد رد قيمة التالف مع الباقي أو أراد القائم وحده بحصته، أو أراد أن يعرف قيمة القائم ليعرف كم يخصه من الثمن ويعرف به كم أرش النقص منه فاختلفا، فقال المشتري: قيمة التالف خمسة مائة، وقال البائع: بل ألف واتفقا أن قيمة القائم ألف فبزعم المشتري أن عليه مع رد القائم رد ثلث الثمن، وقال البائع: بل نصف الثمن فالقول قول المشتري هاهنا قولاً واحداً لأنه غارم. فرع آخر قال القفال: قال الشافعي: او ابتاع عبداً فأشرك فيه رجلاً فحط له من الثمن كان عليه أن يحط للشريك، قال القفال: وعندي التولية في [146/ أ] ذلك كالاشتراك، وصورة المسألة أن يشتري عبداً بألف درهم ثم قال لرجل: أشركتك في نصف هذا العبد فقال: قد قبلت صار نصف العبد ملكاً لهذا الشريك بنصف الثمن، وكأنه قال: بعت منك نصف هذا العبد بخمس مائة والتولية أن تقول وليتك هذا البيع بهذا الثمن فيقول: قبلت فإن لم يكن الثاني عاملاً بالثمن لا يجوز، لأنه بيع جديد فلا يجوز بثمن مجهول، فإذا فعل ذلك فحط البائع الأول من الثمن شيئاً يلزمه أن يحط لشريكه وللمولى بيعه ذكره في "البويطي". وقال الشافعي في موضع آخر: الإشراك بيع والتولية بيع والإقالة فسخ، فإذا اشترى عبداً فأشرك رجلاً في نصفه ثم وجد به عيباً فإن رد الشريك معه بالعيب فله الرد وإن لم يرد الشريك معه بالعيب ليس له الرد نص عليه في "البويطي" وهل له الرجوع بالأرش؟ قال ابن سريج: فيه قولان وأراد وجهان، فقد جعل الشافعي الإشراك بيعاً ثم لم يجعله في حكم الحط كالبيع، لأنه لو اشترى رجل من رجل عبداً فباعه من رجل فحط [146/ ب] البائع الأول لم يلزم البائع الثاني أن يحط لمشتريه بمقدار ما يحط، والنكتة فيه: أنه إذا ملكه نصفه بلفظ الاشتراك أو كله بلفظ التولية، فقد ملكه على حكم العقد السابق لا على حكم عقد مستأنف ولهذا يختص بالثمن الأول ولا يجوز بالزيادة والنقصان، فإذا حط من الأول لابد من الحط عن الثاني، وإذا كان بلفظ البيع فقط ملكه بعقد مستأنف فلا يجب به اعتبار الثمن الأول ويجوز أن يختلف الحكم في مثل هذا العقد باختلاف اللفظ، ألا ترى أنه لو قال: اشتريت عبدك بمائة ثم قال لرجل: بعته منك بربح دهي ازده ثم بان أنه قد اشتراه بتسعين يحط عن المشتري قدر الكذب، ولو قال: اشتريت بمائة وبعته منك بمائة وعشرة

فقال: قبلت ولم يكن بلفظ المرابحة ثم بان أنه كان اشتراه بتسعين لزم المشتري بما تعاقدا عليه ولا يحط شيئاً لأنه لم يتلفظ بالمرابحة وملكه بعقد مستأنف لا بحكم العقد السابق، فإن قيل: أليس قلتم يبتني عقد المرابحة على العقد الأول كالتولية [147/ أ] فهلا قلتم إنه إذا كذب فزاد في رأس المال في المرابحة، لا يصح العقد كما في التولية، وقد قلتم: يصح ويثبت الخيار؟ قيل: لا يبتني عليه أثناء التولية لأنه لو قال: اشتريت بمائة وقد بعت بربح دم يازده وبزيادة عشرة دراهم جاز، وهذا زيادة في رأس المال وفي التولية لو زاد هكذا لم يجز كالإقالة لا يجوز بغير الثمن الأول. فرع آخر لو اشترى إبريقاً من فضة وزنه مائة درهم بمائة درهم، فوجد به عيباً وحدث عنده عيب آخر قد بينا فيما قبل في نظير هذه المسألة لأنه لا يرجع بالأرش لأنه يؤدي إلى الربا فينفسخ العقد بينهما ويرد الثمن ويدفع قيمة الإبريق من الذهب لأنه لما تعذر رده جرى مجرى تلفه وهذا اختيار ابن سريج. ومن أصحابنا من قال: يفسخ العقد ويرد الإبريق وأرش ما نقص ويكون بمنزلة المأخود عن طريق السوم إذا أحدث فيه نقص. وهذا اختيار القاضي الطبري. وذكر الدراكي وجهاً أنه: يرجع بالأرش لأن ما ظهر من الفصل في الرجوع بالأرش لا يعتبر بدليل أنه يجوز الرجوع بالأرش في غير هذا ولا يقال: [147/ ب] لا يجوز لأنه يؤدي إلى جهالة الثمن، ولو تلف الإبريق يفسخ العقد ويرد قيمته ويسترجع الثمن وتلف المبيع لا يمنع جواز الفسخ لأن الشافعي جوز الإقالة بعد التلف ويخالف هذا إذا كان المبيع من غير جنس الثمن الذي فيه الربا لأنه يمكنه أخذ الأرش هناك فلا ضرورة إلى فسخ العقد في التالف عنده وهاهنا ضرورة لأنه يمكنه أخذ الأرش هناك فلا ضرورة إلى فسخ العقد في التالف عنده وهاهنا ضرورة لأنه لا يمكن إسقاط حقه بغير عوض. فرع آخر لو أبرأه البائع بعد التفرق من بعض الثمن صح فإن رده المشتري بعيب رجع بتمام الثمن وفيه قول آخر: يرجع بما أدى بناء على الزوجة إذا أبرأت من الصداق ثم طلقها قبل الدخول، هل يرجع عليها بالنصف؟ فيه قولان، ولو كان دفع إليه عرضاً بالألف ثم رد بالعيب يرجع بالألف بلا خلاف. فرع آخر لو كان هذا نقصان قبل التفرق كان فسخاً للبيع الأول واستئنافاً للبيع بتسع مائة على ظاهر المذهب، فلو رده بالعيب رجع بتسع مائة لا غير لأنها جميع الثمن. فرع آخر لو قبض العبد المشتري وتلف [148/ أ] عنده قبل التفرق ثم أعطى البائع بالثمن عرضاً لا يجوز، لأنه يكون فسخاً واستئنافاً ولا يجوز هذا في هذا الموضع، وإن كان العبد باقياً يصير مبتدئاً للبيع بالعرض، فلو رده بالعيب رجع بالعرض لأنه الثمن. فرع آخر إذا فعلا هكذا فما تقدم من قبض المشتري للعبد لا يجوز حتى يحدث له البائع قبضاً

بعد تقدير العرض أو بعد النقصان إن كان نقص لأنه ارتفع الأول وابتدأ الثاني فافتقر إلى قبض بعده، ولم يصح فيه قبض حتى تلف العبد قبل إحداث قبض ثاني بطل البيع لتلف المبيع قبل القبض ويكون مضموناً على المشتري بالقيمة دون الثمن لأن بطلان البيع أسقط عنه الثمن ولزمته القيمة، لأنه قد كان في قبضه تعوض، وعلى ما ذكرنا لو كان المشتري باعه بعد القبض قبل التفرق لا يصح النقصان ولا أخذ العوض لأن فسخ البيع بعده لا يجوز. فرع آخر لو اشترى عصيراً حلواً وكان معيباً فلم يعلم المشتري حتى صار خمراً يرجع بالأرش وليس [148/ ب] له رد الخمر سواء رضي البائع بقولها أم لا، فلو صار خلا فقال البائع: أنا أسترجع الخل وأرد الثمن ولا أدفع الأرش كان له لأن الخل عين العصير. وليس فيه معنى يمنع المعاوضة ولا للمشتري فيه عمل يخاف تفويته عليه. فرع آخر لو اشترى نصراني من نصراني خمراً ثم أسلما فوجد المشتري بالخمر عيباً ينقص العشر من ثمنها، قال ابن سريج: يرجع على البائع بأرشه وهو عشر الثمن ولا يبطل ذلك بإسلامهما، وبه قال محمد: فإن قال البائع: أنا آخذ الخمر وأرد الثمن ليس له ذلك فإن لم يرجع المشتري بنقصان العيب حتى صار الخمر خلا في دي المشتري فقال البائع: أنا آخذ الخل وأرد الثمن كان له. فرع آخر لو كان المشتري وقف على عيب الخمر قبل إسلامهما فلم يردها حتى أسلما لم يكن له الرد بعد إسلامه، ولا الرجوع بالأرش، أما الرد فلحدوث الإسلام، وأما الأرش فلإمكان الرد قبل الإسلام، ولو أسلم البائع وحده لم يجز [149/ أ] أشرطها غزيرة اللبن وكما يرد الغلام إذا وجده غير كاتب وقد اشترطه في العقد كاتباً وعلى هذا إذا ظن أنها جعدة فمجرد الظن لا يوجب الخيار، كما لو ظن العبد كاتباً فلم يكن، لا خيار ولو كان قد زور يثبت الخيار وإن لم يشترط قال في "الحاوي": وهذا أصح. فرع لو رأى شعرها سبطاً وكان قد سبط بالحيلة، ثم تجعد من بعد هل له الخيار؟ وجهان أحدهما: لا خيار لأن الجعودة خير، والثاني: له الخيار لأن الأغراض تختلف في ذلك والأول أصح. فرع آخر إذا قلنا: لا خيار في هذه المسألة السابقة فشرط أن تكون سبطة فخرجت جعدة،

قال بعض أصحابنا بخراسان: ثبت الخيار وجهاً واحداً لأنه صرح بأن مقصوده السبوطة وأخلف الشرط وقيل فيه وجهان أيضاً. فرع آخر لو اشترى جارية مطلقاً فوجدها ثيباً أو بكراً لا خيار لأنه لا ظاهر لهذا يستدل به عليه ومن أصحابنا من قال: إن كان مثلها يكون بكراً في العادة فوجدها ثيباً [149/ ب] له الخيار لأنه وجدها على خلاف المعهود وهذا أصح عندي فإن كان الشراء بالشرط فإن شرط أنها بكر فكانت ثيباً فله الخيار، وإن شرط ثيباً فبانت بكراً فالمذهب أنه لا خيار له، لأن البكارة زيادة في قيمتها. ومن أصحابنا من قال: له الخيار لأنه ربما يكون شيخاً ضعيفاً يقدر على الثيب دون البكر، ولا يؤمن من الاقتصاص التلف من نزف الدم وانقطاع العرق. وهذا غلط لأن الخيار ثبت للنقص في العين أو القيمة ولم يوجد ها هنا. فرع آخر لو اشترى عبداً أو جارية مطلقاً يعتقد إسلامه فبان الكفر أو يعتقد الكفر فيه فبان الإسلام فلا خيار لأن ظاهر الحال لا يدل على الكفر والإسلام، كالبكارة والثيابة سواء. وحكى عن أبي حنيفة أنه إذا بان كافراً يثبت الخيار لأن الكفر نقص، قال الله تعالى: {وَلَعَبْدٌ مُّؤّمِنُ خِيْرٌ مِن مُّشرِكٍ} [البقرة: 221] وهذا غلط، قياساً على ما وجده فاسقاً لا خيار بالإجماع، وهذا إذا وجده كتابياً فإن وجده مرتداً أو وثنياً له الخيار، لأنه لا يقر عليه ذكره أصحابنا. فرع آخر لو اشتراه على أنه [150/ أ] مجوسي فبان يهودياً يثبت الخيار. وقيل: إن كان لا ينتقص قيمته في العادة لا خيار. وإن كان ينتقص بأن كان الغالب المجوس في تلك الناحية يثبت الخيار. فرع آخر لو شرط الإسلام فبان كافراً فله الخيار بلا خلاف، وإن شرط الكفر فبان الإسلام له الخيار أيضاً لأن للتجار غرضاً في كفره لأن أهل الذمة يزيدون في ثمنه. وقال أبو حنيفة: لا خيار له وهو اختيار المزني لأن المسلم أفضل من الكافر وهذا غلط، لأن الإسلام فضيلة في الدين، ولكن الأغراض تختلف بالكفر والإسلام وتختلف المالية على ما ذكرنا وقيل: في المسألة وجهان، وهذا غلط لأنه قيل: إن كان في ناحية الغالب أهل الذمة ويرغبون في الكافر يثبت الخيار وإلا فلا. فرع آخر لو اشترى على أنه فاسق فإذا هو عدل فلا خيار بلا خلاف لأنه يصلح لكل أحد، ولو اشترى على أنه عدل فإذا هو فاسق له الخيار.

فرع آخر لو اشترى عبداً فكان غليظ الكلام أو ثقيل النفس أو بطيء الحركة أو قليل [151/ أ] الأدب لا خيار له ولو كان به بله أو خبل أو مؤتة أو سارق أو آبق أو ساحر أو نمام أو به نفخة طحال أو كان يشرب الخمر، قال القاضي: ويسكر أو يقذف المحصنات أو يدع الصلوات أو أرت لا يفهم أو في فمه سن زائدة أو مقلوعة، يثبت الرد بالعيب والأصل فيه أن كلما ينقص قيمته عينه أو قيمته أو منفعته يثبت الخيار. فرع آخر لو اشترى عبداً مطلقاً فبان فحلا لا خيار، وكذلك إن كان عنيناً وإن بان خصياً فله الخيار، وإن كان يزيد قيمة الخصي على قيمة الفحل لنقصان العين، وإن كان بالشرط فشرط الفحولة فبان خصياً فله الخيار وإن شرط خصياً فبان فحلا فله الخيار أيضاً. فرع آخر لو وجده خنثى فله الخيار سواء كان مشكلاً أو ظهر حاله لأنه خلاف المعهود، ذكره أصحابنا. فرع آخر لو اشترى عبداً فوجده زانياً يثبت له الخيار، وقال أبو حنيفة: لا خيار له ووافقنا في الجارية أنها ترد بعيب الزنا فيقول: هذا ينقص من قيمته لأنه يعرضه [151/ أ] لإقامة الحد ومنه النقصان فوجب أن يثبت الخيار. فرع آخر لو وجده يبول في الفراش يثبت به الخيار، وقال أبو حنيفة: لا خيار له ووافقنا في الجارية إذا كانت تبول في الفراش يثبت الخيار، واعتذر بأن في الجارية تفسد عليه فراشه وفي الغلام لا يوجد ذلك، فيقول في الغلام يفد الثياب التي ينام فيها فيكون نقصاً. فرع آخر لو كانت طفلة مثلها تبول في الفراش لا خيار، وكذلك في الغلام الطفل. فرع آخر لو وجده كثير الأكل أو قليل الأكل لا خيار، لأنه لا تغير به الرغبات غالباً ولا يظهر أثره في عمله، ولهذا لا ينخفض عنه عند الشراء. فرع آخر لو وجد الدابة قليلة الأكل له الخيار لأنه ينقص عمله إن كان عاملاً ولا يزيد لحمه إن كان مأكولاً ولا يسمن. فرع آخر لو اشترى جارية للوطء فوجدها بخراء كان ذلك عيباً هكذا ذكره القاضي أبو حامد،

ولم يذكر نحو الغلام ولكن قال سائر أصحابنا: يثبت فيه الخيار أيضاً لأن ذلك [151/ ب] ينقص من ثمنه، وكذلك لو وجد به صناناً، وقال أبو حنيفة: هذان يكونان عيباً في الجارية دون الغلام لأنهما يؤذيانه في الفراش بخلاف الغلام فنقول البخر في الغلام أيضاً يؤذيه عند المخاطبة والمسارة. فرع آخر لو وجده يتمكن من نفسه باللواط كان عيباً يثبت به الخيار، وقال أبو حنيفة: هو عيب في الكبير دون الصغير لأن الكبير يفعله طبعاً والصغير يفعله غباوة وجهلاً اختداعاً بالمال ونحو ذلك وهذا غلط، لأنه ينقص القيمة فيهما. فرع آخر لو وجدها رتقاء أو قرناء يثبت الخيار لأنه عيب، ولو وجدها يتأخر حيضها فله الخيار نص عليه الشافعي في "البويطي". قال أصحابنا: أراد إذا كان لعلو السن فيكون غالب الظن الإياس منه. فرع آخر لو وجدها مغنية لا خيار وكذلك في العبد، وقال مالك في الجارية: يبثت الخيار لأن ذلك يخلقها ويدل على قلة صيانتها وهذا غلط، لأنه صنعة يزيد في ثمنها والمبتغي من الرقيق يوفر الأثمان، فإن كره ذلك أمكنه أن يمنعها [152/ أ] وإنما يحرم استعماله دون معرفته، وأصحاب مالك ينكرون هذا عن مالك. فرع آخر لو وجدها متزوجة يثبت الخيار لأنه ينقص قيمتها، وكذلك لو وجد العبد متزوجاً يثبت الخيار لأن عليه غرم النفقة والمهر. فرع آخر لو وجدها معتدة يثبت الخيار أيضاً لأنها لا تحل لأحد ولو وجدها محرمة يثبت الخيار أيضاً، ولو وجدها أخته من الرضاع لا يثبت الخيار لأنها تحل لغيره بخلاف المعتدة والمحرمة، وكذلك لو وجدها قد وطئها أبوه لا خيار وقيل: فيه وجه له الخيار وهو ضعيف، ولو وجدها صائمة لا خيار عن الخروج عن الصوم قريب. فرع آخر لو وجده والداً أو ولداً عتق عليه ولا رد ولا أرش لأنه لمعنى في العاقد فلا يكون عيباً. فرع آخر لو كان في ذمته دين المعاملة عن قرض أو خسران تجارة لا خيار له لأنه ضرر عليه فيه، وقال أبو حنيفة: له الخيار وهذا غلط، لأنه يلزم أداء ذلك بعد العتق ولا يستضر به سيدة ما دام مملوكاً له، ولو كان المال في رقبته يثبت الخيار. [152/ ب].

فرع آخر لو أرسل عليه زنبوراً حتى انتفخ فظن المشتري أنه سمين ثم بان يثبت الخيار. فرع آخر لو اشترى جارية فبانت غير مختونة لا خيار لأن ذلك سليم فيها، وإن بان الغلام غير مختون نظر فإن كان له سبع فما دون لا خيار وإن كان كبيراً في ختانه مشقة يثبت الخيار لأنه يخاف عليه منه، ومن أصحابنا من قال: إن كان الكبير من سني الوقت من وقت لا يختتنون لا خيار لأنه ما خالف المعهود. وقيل في الجارية وجهان والصحيح: أنه يثبت الخيار لأنه لو كان فيها أصبع زائدة يثبت الخيار ولا يستحق قطعها فلأن يثبت هاهنا ويستحق إزالة هذه الجلدة أولى. فرع آخر لو شرط أنه أقلف فبان مختوناً قال بعض أصحابنا: إن كان فيه غرض له الخيار بأن كان الغلام مجوسياً وعلم أن المجوس يرغبون فيه، وإن كان بخلافه لا خيار. فرع آخر لو ختنه ثم وجد به عياً قديماً فالختان لا يمنع الرد لأنه زيادة. فرع آخر لو وجدها أبيض الشعر فإن كانت [153/ أ] كبيرة يبيض شعر مثلها لا خيار لأنه ما خالف المعهود وإلا يثبت الخيار. فرع آخر لو اشترى عبداً فكان يبول في نومه قد ذكرنا أن له الرد فلو لم يعلم حتى كبر العبد لم يكن له الرد ويرجع بالأرش لأن علاجه بعد الكبر عسير فصار كبره عنده كالعيب الحادث في يده. فرع آخر لو أبق في يد المشتري ليس له مخاصمة البائع ما دام آبقاً، قال مالك: له مخاصمته إذا عرف أنه كان آبقاً وهذا غلط لأنه يحتمل بقاءه فيستحق الرد واسترجاع الثمن ويحتمل تلفه فيستحق الأرش وما جهل استحقاقه لا تصح المطالبة به. فرع آخر لو أبق قبل القبض فقال البائع للمشتري: لا يفسخ البيع فإني أتيك به لا خيار له. فرع آخر لو اشترى عبداً صح أنه بيع في جناية جناها فإن كانت خطأ، فإن كانت تكررت منه كثيراً فهو عيب وجب الرد وإن كانت مرة واحدة لا يكون عيباً لأنه لا يخلو أحد منه في الغالب، وإن كان عمداً فإن لم يكن تاب العبد منها [153/ ب] كان عيباً، له الرد. وإن تاب فهل يكون عيباً يوجب الرد؟ فيه وجهان، أحدهما: لا يكون عيباً لأن التوبة رفعت الإثم دون النقص.

فرع آخر لو اشترى جارية أو عبداً فوجده ولد الزنا لا خيار لأن النسب الصحيح غير مقصود في العبيد والإماء. لو علم أن البائع للدار أو العبد وكيل أو أمين حاكم أو وصي ميت أو أب لابنه الصغير، هل يرد بهذه الأسباب؟ وجهان، أحدهما: لا يرد لجواز تنوعهم وصحة عقولهم. والثاني: يرد لما يخاف من فساد النيابة واستحقاق الدرك ذكره في "الحاوي" وقيل: إن لم يكن الولي ثقة طاهراً له الخيار. فرع آخر لو اشترى جارية فزوجها من رجل فقال الزوج لها: إن ردك المشتري بالعيب على البائع فأنت طالق وكان قبل الدخول ثم وجد بها عيباً فأراد ردها على البائع. قال والدي: الأظهر عندي أنه له الرد لأنه لا ضرر في قبولها معيبة لأن الفرقة بينها وبين زوجها عقيب الرد بلا فصل ولا يحلف النكاح عدة ويحتمل أن يقال ليس له [154/ أ] الرد لأن العيب الحادث موجود عند الرد فمنع الرد ولأن الزوج قد يمون عقيب الرد فيلزمها عدة الوفاة ولا يقع الطلاق على المذهب الصحيح. والعدة عيب ويستضر بها البائع فلا يتيقن زوال العيب من جميع الوجوه عند وقوع الرد، وهكذا لو اشترى جارية مزوجة من غير علم بالتزويج ثم قال الزوج لها: أنت طالق إذا بريء المشتري من الثمن وكان قبل الدخول ثم علم المشتري بالتزويج هل له الخيار؟ يحتمل أن يقال: له الخيار لأن العيب موجود في الحال وزواله مظنون لجواز أن يموت الزوج قبل أن يراه المشتري من الثمن قيلزمها عدة الوفاة، فلا يجوز إسقاط الرد بأمر معلوم في الحال لزوال في الثاني غير معلوم، ويحتمل أن لا يثبت الخيار لأنه لا ضرر على المشتري في ذلك لأن عدة الوفاة إن وجبت يثبت الخيار بها لأنها عيب حادث في يد البائع لم يقع الرضا به ولا يمكن أن يقال مثله فيما قدمناه لأن البائع لا يثبت له الرد بعد القبض لإيجاب مدة الوفاة فيؤدي إيجاب القبول هناك إلى إلحاق الضرر [154/ ب] به فلم يوجبه على ما ذكرنا في الوجه الثاني. فرع آخر لو اشترى دابة فوجدها جموحاً لاتنقاد للركوب فإن كان لا يمكن إلا بشد قوائمها أو باجتماع الناس عليها كان عيباً وإلا فلا. فرع آخر لو اشترى أرضاً على ظن أن لا خراج عليها فبان الخراج قدر العادة لا خيار لأنه وافق المعهود والظن إذا لم يعتمد أصلاً لا حكم له وإن وجدها مثقلة بالخراج فله الخيار.

فرع آخر لو وجدها تألف الخنازير وتفسد زرعها فيه وجهان، أحدهما: لا خيار لأن الضرر ليس لنقص في المعقود عليه. والثاني: يثبت الخيار لأنه ينقص القيمة. فرع آخر لو وجد الدار برسم النزول أو في جوار القصارين يدقون الثياب وينادون بصوت الدق وتحرك الحيطان فيه وجهان أيضاً على ما ذكرنا. فرع آخر لو باع عشرين صاعاً من ماء في بئر فاستسقى منها تسعة عشر صاعاً فلما أخرج الصاع الأخير [155/ أ] وجد فيه فأرة ميتة ولم يتغير الماء بها فأريق هذا النجس وقال البائع أسلم الصاع الباقي من باقي الماء لأنه كبير لم يتغير بالنجاسة، ورام المشتري فسخ البيع كان له الفسخ لأن هذا الماء نجس عند بعض الفقهاء فتعافه النفس فيصير كعيب أصابه بما أشتراه نص عليه الشافعي. فرع آخر قال أصحابنا على قياس هذه المسألة المنصوصة لو اشترى ماء ثم تبين أنه مشمس هل له الرد؟ يحتمل وجهين: أحدهما: ليس له الرد وإن كانت النفس تعافه لأنه غير مسلوب المنفعة في قول العلماء أجمع فإن الطهارة به جائزة بكل حال والكراهة كراهة تنزيه لا تحريم، والثاني: وهو الأظهر عندي له الرد لأنه ينقص ثمنه بقلة الرغبات فيه. فرع آخر قال بعض أصحابنا بالعراق: لو اشترى داراً فأظهر رجل قباله بالوقفية، علم أنها على الأصل، وليست هي مزورة كان ذلك عيباً في المبيع له ردها لانه يؤدي إلى النقص في الثمن وهو اختيار مشايخ طبرستان وكذلك لو ادعى مدع يعول على دعواه فادعى وقفيتها [155/ ب] يحتمل أن يقال: ذلك عيب وهذا إذا سبقت الدعوى البيع أو كان بعد البيع قبل القبض. فرع آخر لو باع داراً على أن يكون له أو لآخر ممر رجل في دهليزها أو مسيل ما صح وهو يبرأ من عيب ليقطع خياره إذا عرفه. فرع آخر إذا باع الطاهر من الأواني، بالتحري لزمه تعريف المشتري فإن لم يعرفه هل له الخيار؟ وجهان. فرع آخر لو اشترى عبداً فقبل القض جاء ابن المشتري وقطع يده فيثبت الخيار للمشتري ثم

مات قبل الاختيار والتمكن منه وانتقل الإرث إلى الابن القاطع، هل له الخيار؟ فحق الإرث يحتمل أن يقال: له الخيار لأنه يستفيد هذا الخيار بنفسه بل عن الموروث فاعتبر حاله، ألا ترى أن الابن لو رضي بالعيب حال حياة الأب ثم مات الأب كان له الخيار ولا يعمل رضاه المتقدم في ذلك؟! كذلك هاهنا فإذا صح هذا فإن اختار إجازة البيع لم يغرم شيئاً للقطع، لأنه يستحيل أن يجب له الحق على نفسه، وإن اختار الفسخ كان عليه نصف القيمة في [156/ أ] إحدى اليدين وتمامها في اليدين ويسترجع الثمن إن كان قد قبضه من الموروث، وفيه قول آخر إنه يغرم نقصان القيمة إلحاقاً للمماليك بالأموال في هذا الباب والأول أظهر. فرع آخر إذا اشترى عبداً ثم وجد به عيباً فقبل رده مع كونه في الرد جاء البائع وقع يده كان له الرد على البائع في أحد الوجهين، وهو الأظهر عندي، والوجه الثاني: لا يرد لأنه حدث عيب آخر في يد المشتري. فرع آخر إذا باع عبداً قيمته مائة وسلمه إلى المشتري والقيمة بحالها ثم تقابلا فوجد البائع بالعبد عيباً حادثاً عند المشتري هل له فسخ الإقالة؟ يحتمل وجهين، فإن قلنا: الإقالة بيع له الفسخ. وهذا اختيار القاضي الطبري وهذا لأن هذا العيب كان في ضمان المشتري ولم يذكر وجهاً آخر، وإن قلنا: الإقالة فسخ ليس له الفسخ وهذا أصح وعلى هذا الوجه له الرجوع بنقصان العيب والأقرب أنه يلزمه نقصان القيمة لأن البيع مرتفع بينهما. مسألة: قال: وإن كان باعها أو بعضها [156/ ب] ثم علم بالعيب لم يكن له أن يرجع بشيء. إذا اشترى سلعة ثم باعها ثم أصاب بها عيباً يعلم أنه كان بها قبل ابتياعها لا يخلو إما أن يبيعها بعد العلم بالعيب أو قبله فإن باعها بعد العلم بالعيب سقط حكم الرد لأنه آخر الرد مع الإمكان وهو يثبت على الفور ثم ينظر في المشتري. الثاني: فإن ردها على بائعه بالأرش وليس للبائع أن يرجع على بائعه لأنه كان أسقط حقه من العيب بالكلية بالبيع مع العلم، وإن باعها قبل العلم بالعيب ثم علم فقد تعذر رده ولا يرجع على البائع بالأرش لأنه لم ييأس من الرد لجواز أن يرد المشتري الثاني عليه بذلك العيب فيرد على بائعه، وإذا أمكن رد العين لم يجز له الرجوع بالأرش. وقال أبو إسحاق: العلة فيه أنه استدراك الظلامة يبيعه بثمن مثله فلا يجوز له الرجوع بالأرش العيب والأول أصح. وهو اختيار أبي حامد والقاضي الطبري وهو في الحقيقة لم يستدرك الظلامة بل غبن المشتري في البيع، ولأنه لم يحصل له استدراك الظلامة من جهة [157/ أ] من ظلمة فلا يسقط حقه به. وقال عبيد الله العتبري وابن أبي ليلى: إذا باعه ثم علم بالعيب يرجع بالأرش في الحال، وهذا غلط لما ذكرنا. وقال أصحاب مالك:

الصحيح من مذهب مالك أن يرجع مثل قول ابن أبي ليلى وهو غريب. وحكى عن ابن سريج أنه قال: يرجع بالأرش في الحال، ثم إذا عاد البيع إليه رده على بائعه واسترجع الثمن إلا قدر ذلك الأرش وهو غريب فإذا ثبت هذا فإنه ينظر فإن رد المشتري الثاني على البائع الثاني رد البائع الثاني على البائع الأول، وإن كان قد حدث عند المشتري الثاني عيب فرجع بالأرش على البائع الأول بالأرش على التعليلين جميعاً. هكذا ذكره أهل العراق وهو المذهب. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا يرجع بالأرش لأن للبائع الأول أن يقول له كان يمكنك أن تسترده بالعيبين فحيث دفعت الأرش صرت متبرعاً بذلك [157/ ب] وهو اختيار ابن الحداد. وهذا غلط لأنه لو استرده مع اليبين ربما لا يرضي به البائع الأول فيلزمه معيباً ويستضر به. فرع لو عاد إليه بوجه آخر من هبة أو ميراث ولم يرد عليه ولا حدث عنده عيب آخر فهل له أن يرده على البائع الأول؟ وجهان بناء على اختلاف التعليلين فعلى التعليل الأول: له الرد لأنه يمكنه الرد الآن ويئس من الرد وهو المذهب، وعلى التعليل الثاني: ليس له الرد لأنه استدرك ما لحقه من الظلامة، وحين عاد إليه عاد بلا عوض. فرع آخر لو اشترى عبدين فباع أحدهما ثم أعلم بالعيب فإن كان العيب في الذي باعه ليس له الرجوع بالأرش لأنه استدرك الظلامة ولم ييأس من الرد وإن كان العيب في الذي في يده، وقلنا: لا نفرق الصفقة ليس له الرد أيضاً ولا يرجع بالأرش أيضاً لأنه لم ييأس من رد الجملة، وإن قلنا تفرق الصفقة كان له رده. فرع آخر لو هلك عند المشتري الثاني أو أعتقه أو وقفه فهل يرجع المشتري الأول [158/ أ] بالأرش على بائعه؟ فإن قلنا بالتعليل الأول يرجع لأنه آيس من الرد، وإن قلنا بالتعليل الثاني لا يرجع لأنه استدرك الظلامة. فإن رجع المشتري الثاني عليه بالأرش هاهنا له أن يرجع بالأرش على بائعه الأول بلا خلاف. فرع آخر إذا اشترى عبداً ثم أعتقه أو وقفه أو قتله أو مات في يده أو كان طعاماً فأكله ثم علم به عيباً له الرجوع بالأرش وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: إذا قتله أو أكله لا يرجع بالأرش لأنه أزاله ملكه عنه بفعل مضمون كما لو باعه. وهذا غلط؛ لأنه عيب لم يرض به وحده بعد الإياس من الرد، فكان له الرجوع الأرش كما لو اعتقه وأما ما ذكره لا يصح لأن بالبيع لا يجب الضمان وإنما يجب الضمان بالتسليم ولأن في البيع لم ييأس من الرد. فرع آخر لو وهب ثم علم به عيباً فإن قلنا: الهبة تقتضي الثواب لا أرش له للعلتين كما قلنا

في البيع، وإن قلنا: لا تقتضي الثواب. قال بعض أصحابنا: لا يرجع بالأرش لأن ملكه زال بالهبة ولم ييئس من الرد ووافقنا فيه [158/ ب] أبو إسحاق، وهذا يدل على بطلان علته لأنه لم يستدرك الظلامة هاهنا. فإن عاد إلى الأول بأي جهة عادلة رده على بائعه وجهاً واحداً لأنه لم يستدرك الظلامة وقدر على الرد. ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا لا يقتضي الثواب فيه وجهان، أحدهما: له الأرش لأنه لم يستدرك الظلامة بالعوض. والثاني: ما ذكرنا ذكره في "الحاوي" وغيره. وكذلك لو وهبه أو أجره ثم علم فيه وجهان بناء على هذين التعليلين. فرع آخر لو زوجها أو كان عبداً فزوجه أو كاتبه فيه وجهان، أحدهما: لا يرجع بالأرش لأنه لم ييأس من الرد، والثاني: يرجع بالأرش لأن النكاح يراد للتأبيد. فرع آخر لو أبق العبد من يده ثم علم به عيباً لا يمكنه الرد لخروجه من قبضه وليس له أخذ الأرش بلا خلاف بين أصحابنا للتعليل الأول وهذا يدل على فساد علة أبي إسحاق، وقيل: فيه وجه له الأرش لأنه تعذر الرد من غير استدراك الظلامة وهذا غريب بعيد. وهذا إذا كان [159/ أ] العبد معروفاً بالإباق. فأما إذا أبق عند المشتري ولم يكن منه إباق قط فهذا حدوث عيب به لم يكن عند البائع فيرجع بالأرش ولكن للبائع أن يقول: أنا أرضى برده مع العيب الحادث فلا يكون للمشتري المطالبة بالأرش الآن. ولو عرف به عيب الإباق فقد بينا أنه لا يطالب في الحال بشيء فإن هلك الآبق في الإباق رجع المشتري على البائع بالأرش قولاً واحداً فيقوم آبقاً وغير آبق. فرع آخر لو علم المشتري الثاني بالعيب فرضي به سقط رده وأرشه، ولا يرجع المشتري الأول على بائعه لعدم العلتين. فرع آخر لو باعه المشتري من بائعه فقد صار المشتري الثاني البائع الأول وفيه المسائل الثلاث فإن علم الثاني بالعيب وما كان علم به قبل هذا رده على المشتري الأول، والأول يرده على بائعه وفائدته اختلاف الأثمان. ومن أصحابنا من قال: ليس له الرد لأنه لو رده لرده عليه. قال أصحابنا: وينبغي أن يقال إذا رضي المشتري بالعيب ثم علم به فأمسكه أن لهذا البائع الأول الرد عليه لأنه إذا [159/ ب] رده إليه لم يكن له أن يرده إليه.

والثانية: علم الثاني بالعيب وقد حدث عنده نقص يرجع بالأرش على المشترك الأول والأول يرجع على بائعه ولكن كل واحد منهما يرجع بأرش العيب بالحصة من الثمن الذي اشتراه به. والثالثة: علم الثاني بالعيب ورضي به ليس للأول أن يرجع بأرش العيب لأنه قد استدرك الظلامة ولم ييأس من الرد وإن هلك عند المشتري الثاني أو أعتقه فهل يرجع المشتري الأول على بائعه بالأرش؟ على ما مضى من الوجهين. فرع آخر لو باعه من آخر ثم اشتراه مرة أخرى ثم وجد به عيباً، فعلى من يرد؟ قال القفال: فيه وجهان: أحدهما: يرد على من اشترى منه ثانياً ثم إن رده هو عليه مرة أخرى فحينئذ يرده على الأول وإنما يفعل هكذا لأن الثاني ربما يرضي فلا يرد وهو الصحيح، والثاني: يرده على من اشترى منه أولاً ولو اشتراه مرة أخرى بعد العلم بالعيب القديم فلا شيء له على الأول لأنه يقول: اشتريته عالماً بعيبه بعدما كنت تخلصت منه فقد [160/ أ] رضيت بعيبه وهذا أبلغ من أن يعرف العيب ويؤخر الرد مع الإمكان في معنى الرضا بالعيب وسائر أصحابنا لم يفصل هذا التفصيل، وأطلق أنه إذا عاد إليه بشراء هل يرد على البائع الأول: وجهان: أحدهما: لا يرد لأنه هو الذي أدخل الغبن على نفسه والتزمه بالشراء. ثانياً: والصحيح ما ذكرنا. فرع آخر لو وجد البائع بالثمن عياً بعد ما زال ملك المشتري عند المبيع وعاد إليه هل له أن يسترد الثمن ويسترد العين، كما لم يزل ملك المشتري عن العين أو يطالبه بمثل المبيع إن كان له مثل أو بقيمته وإن لم يكن له مثل رد الثمن؟ وجهان معروفان: أحدهما: يطالبه بالعين لأن العين موجودة فلا معنى لقيمتها. والثاني: هذا ملك جديد فيجعل كأنه لم يعد إليه فيرجع بقيمته، وهو كالوجهين فيما لو أفلس المشتري بالثمن بعد ما زال ملكه عن المبيع وعاد هل للبائع أن يرجع في عين ماله أم لا؟ وهكذا الصداق إذا أخرج عن ملك المرأة ثم عاد ثم طلقها قبل الدخول في عين ماله أم لا؟ وهكذا الصداق إذا أخرج عن ملك المرأة ثم عاد ثم طلقها قبل الدخول هل يرجع في صف عينه أو نصف قيمته؟ وجهان. [160/ ب]. فرع آخر لو لقي المشتري البائع فأقبل على محادثته ثم أراد الرد، ليس له لأن أخذه في الكلام مع إمساكه عن الرد إسقاط لحقه منه. فرع آخر لو سلم عليه ثم رده جاز والسلام لا يمنع الرد لجريان العرف أدباً وشرعاً به، ولأن السلام قريب لا يطول به الزمان. وحكي عن محمد أنه قال: بطل به الرد لأنه اشتغل بغير الرد كما لو اشتغل بالكلام.

فرع آخر إذا ابتاع شيئاً بألف فتطوع أجنبي عنه بوزن الألف ثم خرج المبيع مستحقاً رد الألف على الأجنبي، وإن كان المشتري رد المبيع بعيب رد الألف على المشتري دون الأجنبي في أصح الوجهين كما لو وزن أجنبي صداق زوجة ثم طلقها زوجها على من يرد الصداق فيه خلاف. فرع آخر لو قال للجارية المبيعة بعد العلم بعيبها: أغلقي الباب أو ناوليني الثوب لا يمنع الرد لأنه استعمال يسير والعرف جار بمثله في غير ملك. فرع آخر لو ركب الدابة ليردها فيه وجهان: [166/ أ] أحدهما: لا يرد لأنه تصرف لم تجر به العادة في غير ملك إلا بإذن المالك. والثاني: وهو اختيار ابن سريج له الرد لأن الركوب أعجل له الرد وأصلح للدابة من القود. وقد قال الشافعي: إذا ركبها بطل الرد وأطلق، والمراد إذا ركبها استعمالاً لا للرد. وبه قال أبو حنيفة. فرع آخر لو كان لابساً للثوب فوقف على عيبه في الطريق فتوجه ليرده مستديماً للبسه، جاز ولا يمنعه ذلك من الرد لقربه وإن العادة لم تجر في الطريق بنزعه ولو ابتدأ لبسه بعد العلم بطل الرد. فرع آخر لو زال العيب سقط الرد، وقيل: فيه قولان منصوصان. مسألة: قال: "وإن حَدثَ بهِ عيب كان له قيمة العيب الأول". الفصل إذا اشترى شيئاً فحدث عنه عي به ثم بان أنه كان به عي موجود عند البيع، يرجع بأرش العيب الأول ولا يرده قهراً لأنه انتقص عنده بالعيب الحادث. فإن قال البائع: أنا أرضي به مع العيبين [161/ ب] فلا يكون له سوى رده عليه ولا يكون له مطالبته بالأرش. فإن قال حينئذ: أنا رضيت به معيباً ولا أطالبه بالأرش، كان له ذلك وهو أحق به. وقال حماد وأبو ثور: المشتري يرد على البائع مع أرش العيب الذي حدث في يده، وقيل إن أبا ثور حكاه عن الشافعي في القديم. وقال مالك وأحمد: هو بالخيار بين ما قال أبو ثور، وبين ما قلنا. وروي عن مالك أنه قال: إن كان البائع دلس على المشتري له الرد ويلزمه أرش العيب الحادث، وإن لم يكن دلس فكما قال أبو ثور، وهذا غلط لأنه لو كان العيب

الحادث من جناية المشتري، لا يرد كذلك ها هنا ولأنه عيب حدث في ضمان أحد المتايعين لا لاستعلام العيب. فأثبت الخيار للآخر، كما لو حدث عند البائع يثبت الخيار للمشتري. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لو قال البائع: ردها ورد معها أرش العيب الحادث لا رد الثمن هل له ذلك؟ حتى إن امتنع المشتري من هذا بطل خياره في الرد وجهان: أحدهما: خياره باق ولا يلزمه أن يرد الأرش [162/ أ] مع المبيع، والثاني: يبطل خياره. وبنى الوجهين على أنه إذا اشترى جوزاً فكسره ثم عرف العيب. وقلنا يرده ولا يمنعه الكبير من الرد هل عليه أن يرد معه أرش الكبير؟ فإن قلنا يلزمه ذلك فهاهنا للبائع أن يطلب الأرش. وإن قلنا: ليس له ذلك فلا يطالبه بالأرش هاهنا، وهذا خلاف النص. فرع آخر لو أخذ المشتري الأرش ثم ارتفع العيب الحادث، هل لع أن يرد المبيع مع الأرش الذي أخذ ويسترد كل الثمن؟ وجهان: أحدهما: ليس له ذلك لأنهما تراضياً على الأرش فسقط حق الرد. والثاني: لا يسقط حق الرد بل يرد لأنه أخذ الأرش ضرورة، إذا لم يكن له إلى الرد سبيل. ويقرب الوجهان من الوجهين، إذا أنعل دابة ثم وجد بها عيباً فردها مع النعل فذلك منه تمليك للبائع النعل وهو لنوع مصلحة، فإن قلنا: تمليك فأخذ الأرش هاهنا رضي بالحكم القطعي، وإن قلنا ليس بتمليك حتى إذا سقط النعل كان له. فإذا ارتفع العيب هاهنا يصير أحق بالرد هكذا ذكره أصحابنا بخراسان. وقال أصحابنا بالعراق: نص الشافعي في "البويطي" أنه [162/ ب] إذا ارتفع العيب الحادث عنده له الرد. قال أصحابنا معناه: إذا ارتفع قبل أن يحكم له الأرش فإن حكم له بالأرش وقبضه لم يكن له الرد، لأن الحكم قد استقر فلا ينتقض. وإن لم يكن أخذ الأرش فيه وجهان: أحدهما: لا يرد لأنه حكم له بالأرش. والثاني: يرد لأنه لم يستقر الحكم. وقيل: إن كان يرضي زواله فالمذهب أنه يلزمه رد الأرش، وإن كان لا يرجي زواله فاتفق زواله هل له استرداد الأرش؟ وجهان، كما لو ثبت السن بعد أخذ الأرش؟ هل يلزمه الأرش؟ قولان وهذا أولى مما تقدم. فرع آخر لو اشترى ثوباً فقطعه ثم وجد به عيباً لا يرد لحدوث العيب وله الأرش، إلا أن يقول البائع: رضيت به مقطوعاً بلا خلاف. ولو صبغه ثم وجد به عيباً له الإمساك وأخذ الأرش. فإن قال البائع: رضيت أن آخذه وأرد قيمة الصبغ كان له ذلك، ويقال للمشتري: إما أن ترضي به من غير أرش أو ترده وتأخذ قيمة الصبغ. وليس له إمساكه أو أخذ الأرش، وقال أبو حنيفة: ليس للبائع أن يقول ذلك وللمشتري مطالبته بالأرش وإمساكه. [163/ أ] وهذا غلط لأنه يمكنه استدراك الظلامة بالرد بالعيب فلا يستحق الأرش كما لو لم يكن صبغه.

فرع آخر لو قطعه ثم باعه فليس له مطالبته بالأرش لأنه لم ييأس من الرد لأن المشتري الثاني ربما يرده بالعيب ويرضي البائع الأول باستراده مقطوعاً فلا أرش له، وكذلك لو صبغه ثم باعه لأنه ربما يستردها البائع الأول مصبوغاً ويرد إليه قيمة الصبغ. ووافقنا أبو حنيفة في الثوب المقطوع وخالفنا في المصبوغ، فقال: له المطالبة بالأرش وبناه على أصله في المسألة الأولى للمشتري الامتناع من رده إليه مع أخذ قيمة الصبغ. مسألة: قال: ولو اختلفا في العيب ومثله يحدث فالقول قول البائع. إذا اشترى عبداً فأصابه به عيباً واتفقا على أنه كان به حين العقد أو بعد العقد قبل القبض كان له رده، وإن اختلفا فقال البائع: حدث بعد القبض فلا رد لك، وقال المشتري: كان به حال القبض فلي الرد فالأصل في هذا أن العيب على ثلاثة أضرب: منها ما لا يحدث مثله، ومنها ما لا يمكن حدوثه [163/ ب] إلا بعد القبض، ومنها ما يحتمل الأمرين، فإن لم يمكن حدوثه بحال كالأصبع الزائدة فالقول قول المشتري بلا يمين، وإن كان مما لا يمكن حدوثه إلا بعد القبض كالشجة الطرية والدم يجري والقبض منذ سنة فالقول قول البائع بلا يمين، وإن كان مما احتمل الأمرين كالجنون والبرص ونحو ذلك فالقول قول البائع لأن معه سلامة العقد والظاهر صحة العقد وانبرامه. فإذا تقرر هذا قال الشافعي: "يحلف بالله لقد باعه بريئاً من هذا العيب". قال المزني: هذا غلط ينبغي أن يحلف لقد أقبضه إياه وما به هذا العيب لأن العيب إذا حدث في يد البائع بعد عقد البيع كان مضموناً على البائع قلنا: قال صاحب "الإفصاح": إن ادعى عليه أنه باعه وبه هذا العيب، وإن ادعى أنه سلمه إليه، وبه هذا العيب حلفه على حسب الدعوى. وقال القاضي أبو حامد: وإن ادعى العيب ولم يذكر أنه كان قبل البيع أو بعده وقبل القبض احتاط الحاكم فيحلفه أنه اقبضه وما به هذا العيب، وإن أجاب البائع وقال لا يستحق هذا العيب لأنه قد يشتريه وهو عالم [163 ب/ 6] أنه يبرئه فيه أو يفرط في رده ولا يمكنه أن يظهر ذلك لأنه لو أظهر صار القول قول المشتري أني ما علمت وما رضيت فيتصور به البائع ولا يمكنه أن يحلف أنه لم يكن به هذا العيب عنده لأنه يكون كاذباً فيه فحلفناه على ماذكرنا، وإن أجاب وقال: لقد بعته بريئاً من هذا العيب وكان دعواه بعته مني معيباً فإن حلفه على هذا جاز، وهل للحاكم أن يعدل عما أجاب فيحلفه أنه لا يستحق رده عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يحلفه إلا على ما أجاب وهذا ظاهر المذهب، واختاره القفال، والثاني: يحلفه على أنه لا يستحق رده عليه لأنه أحوط وللحاكم أنه يحتاط فيما يحلف عليه وهذا اختيار القاضي الطبري. وإذا قلنا بالوجه الأول قال القفال: فهل للبائع أن يعدل عن هذا الجواب ويحلف أنه لا يستحق الرد علي؟ فيه وجهان:

أحدهما: له أن يعدل لأنا كنا نرضي منه في الابتداء بهذا القدر من الإنكار، والثاني: ليس له ذلك بعدما أجاب على وفق الدعوى وعليه أن يحلف على ذاك ونظير هذه المسألة إذا ادعى عليه أنه غصبه هذه الدار فقال: لا يستحق علي [164/ ب] شيئاً يكون جواباً صحيحاً ويحلف على ما أجاب، ولو قال ما غصبتها فهل يحلفه الحاكم على هذا أو على أنه لا يستحق عليه شيئاً؟ فيه وجهان على ما ذكرنا، وإن حلفه على ذلك أجزأه، وإن أراد أن يعدل هو فيحلف على نفي الاستحقاق وجهان. وهكذا لو قال: بعت عبدك هذا مني بألف وقبضت الثمن وعليك تسليمه إلي، فإن قال: ما بعته ولا قبضت الثمن. فهذا إنكار على وفق الدعوى فيحلف هكذا ولا يحتاج أن يقول: لا يلزمني تسليمه إليك إذ المدي يدعي وجوب التسليم من هذا الوجه وقد نفي هذا الوجه فإن كان التسليم واجباً من وجه آخر فليدع ذلك وإن أعرض عن دعواه، وقال: لا يلزمني تسليمه إليك فهذا إنكار لا على وفق الدعوى ولكن يرضي منه بهذا القدر لأنه قد يتبع ثم يتقابلان أو يشتريه ثانياً فيحلف على وفق إنكاره، وكان إنكاره القسم الأول وهو أن قال: ما بعت ثم أرد أن لا يحلف لنفي البيع بل يحلف لنفي وجوب التسليم فيه وجهان. وفي الجملة لا يلقن المدعي الدعوى فإذا تقرر هذا كيف يحلف البائع على العلم أو على [165/ أ] البت؟ فهاهنا أصل وهو أن الرجل إذا حلف على فعل نفسه حلف على البت والقطع نفياً كان أو إثباتاً وإن حلف على فعل غيره فإن كان على الإثبات حلف على البت مثل إن ادعى ديناً لوالده على رجل أو أقام شاهجاً واحداً فحلف معه على البت، وإن كان على النفي حلف على العلم، مثل إذ ادعى أنه غصبني هذا العبد في حياته فيحلف وارثه على العلم لا أعلم ذلك وهاهنا البائع يحلف على فعل نفسه فيلزمه البت فيحلف بأني بعتك وما به هذا العيب، وقال ابن أبي ليلى: يحلف على نفي العلم لأنه ربما يكون به هذا العيب وهو لا يدري وهذا غلط، لأن فيه ظلماً على المشتري لأن له حق الرد وفي كل عيب قديم علم به البائع أو لم يعلم، وقد يمكنه قطع اليمين على ظاهر ما كان يعلم من سلامته ويسوغ له قطعها فيما بينه وبين الله تعالى. فرع لو أنكر البائع أصل العيب، وقال: هو سليم فعلى المشتري إقامة البينة على العيب فإن قامت البينة على هذا وادعى أنه كان قديماً عند البائع وأقام البينة على هذا أيضاً، ثم ادعى البائع أني بعته على البراءة من عيبه ورضاه به [165/ ب] وآخر الرد وأنكر المشتري فالقول قول المشتري مع يمينه، ذكره القاضي أبو حامد في "الجامع" فيحلف على البت أنه لم يعلم ولم يرض به أو لم يؤخر الرد مع الإمكان لأنه ادعى عذراً محتملاً. فرع آخر لو حلف البائع في المسألة المتقدمة أن العيب لم يحصل في يده ثم اختلفا في الثمن وتحالفا وترادا فقال البائع: حلفتموني أن العيب حدث في يد المشتري فأثبتوا لي أرش هذا العيب عليه يقول له: لا بل كان يدعي المشتري تمليك يمكنك الفسخ فجعلنا القول قولك وأنت اليوم تدعي عليه أرش هذا العيب فيحصل القول قوله إن لم يحدث في يده اعتباراً بأن الأصل راء الذمة في الموضعين، ويجوز أن يصير المدعي مدعى عليه في

حادثة واحدة في باقي الحال، كما لو باع الوكيل شيئاً وقبض الثمن وزعم أنه دفعه إلى الموكل فأنكر الموكل فجعلنا القول قول الوكيل إذ هو أمين فحلف إن استحق المبيع فرجع المشتري بالثمن على الوكيل إذ كان دفع إليه فقال الوكيل: حلفت أني دفعت إلى الموكل فأنا أرجع به [166/ أ] ويدعي عود هذا الحق فلا يقبل قوله في العود إلا بحجة واضحة وله الرجوع بنقصان العيب من الثمن؛ لأن حق الرجوع بالنقصان كان ثابتاً للمشتري والبائع يدعي ذهابه فلم يقبل قوله إلا بحجة واضحة، وقيل: قال الشافعي: يحلفان فيحلف البائع بالله أن البياض القديم زال والمشتري يحلف بأن صاحبه ثم إذا حلفا فالمشتري يأخذ الأرش ولا يرد فتظهر فائدة يمين البائع في منع الرد وفائدة يمين المشتري في أخذ الأرش لأنه لا طريق إلى إلغاء اليمنين. فرع آخر رجل باع من آخر عشر جرار من الرب بعينها ثم سلمها إليه في زق المشتري فوجدت في الزق فأرة ميتة ثم اختلفا فقال البائع: كانت الفأرة في الزق، وقال المشتري: كانت في الرب في إحدى الجرار يحتمل أن يقال القول قول البائع مع يمينه لأنه شاهدنا الفأرة في الرب الآن فمن ادعى كونها فيه قبل ذلك احتاج إلى دليل فإن قيل يقابل بأنا شاهدنا الفأرة في الزق، فمن ادعى كونها فيه قبل ذلك احتاج إلى دليل فإن قيل يقابل بأنا شاهدنا الفأرة في الزق، فمن ادعى كونها فيه قبل ذلك احتاج إلى دليل قلنا: تقابلا ولكن الظاهر صحة البيع وسلامته من النقص [166/ ب] والفساد، ولو اختلفا في العيب ومثله يحدث فالقول قول البائع مع يمينه ويحتمل وجهاً آخر بناء على القولين في اختلاف المتراهنين في مسألة العصير إذا وجده خمراً فإن اتفقا على أنها لم تكن في الزق فالرب كله نجس، وهل يكون من ضمان البائع أو المشتري؟ يحتمل أن يقال: ينفسخ البيع في قدر جرة من الرب بقسطه من الثمن خاصاً على قول من يفرق الصفقة ويلزم البائع ضمان الباقي أيضاً، ولكن لا يضمنه بالثمن، وذلك أنا نحمل الأمر على أن الجرة التي فيها الفأرة صبت في الزق آخر فينجس الجميع، ويلزمه ضمان قدر هذه الجرة بالثمن لفساد البيع فيه، ويلزمه ضمان الباقي لأن تنجيسه بأمر حصل منه ويحمل الأمر على أن صبها كان في الابتداء أو في الانتهاء، وأي هذه الأمور كان فالجواب يرجع إلى ما قلنا: إذا كان في الزق فأرة ميتة فتسليم البائع الرب فيه هل يقع صحيحاً؟ فإن قلت: نعم لا يستقيم لأن الرب في حال ما يحصل في الزق يصير تالفاً نجساً فلا يحصل التسليم على التمام. وقيل: التسليم حاصل لأن الرب يحصل [176/ أ] عليه فالقول قول الموكل فأنا أرجع به عليه فالقول قول الموكل أنه لم يقبض منه شيئاً؛ إذ الوكيل أمين في أن لا يغرم وليس بأمين في أن يغرم الموكل شيئاً. ذكره القفال. فرع آخر لو وكل وكيلاً في بيع عبده فأصاب المشتري به عيباً فرده عل الوكيل نظر فإن رده بعيب لا يحدث مثله كالإصبع الزائدة فالوكيل يرده على موكله، وإن كان لا يمكن حدوثه إلا بعد القبض فقبله الوكيل لم يكن له رده على موكله، وإن كان عيباً يحتمل الأمرين نظر فإن أقام المشتري البينة أنه كان به حال العقد رد عليه وكان له رده على موكله، وإن لم يكن له بينة فالقول قول الموكل، فإن حلف سقط الرد، وإن لم يحلف رددنا العين على المشتري، فإن حلف ورده على الوكيل فالوكيل لا يرده على الموكل

لأنه عاد إليه باختياره فهو كما لو صدقة فيما يدعيه. وقال أبو حنيفة: إذا نكل الوكيل قضي عليه بالنكول ويرد عليه العبد ويرده الوكيل على الموكل، وقال القاضي الطبري: إذا قلنا: رد اليمين بمنزلة البينة في أحد الوجهين يجب أن يكون له [167/ ب] رده على الموكل وهذا وجه مشهور، وفي هذا نظر عندي وذلك أنه يجعل كالبينة في حق من رد عليه وهاهنا حق الموكل وهو لم يرد عليه. فرع آخر لو اختلف رجلان في شيء هو في يد أحدهما فقال من هو في يده: ابتعته منك وأديت ثمنه إليك وقبضته منك، وقال من ليس في يده:" ابتعته منك وأديت قيمته إليك ولم أقبضه منك وأنا مطالب لك بتسليمه إلي وأقام كل واحد منهما بينة، قال ابن سريج فيما فرع على "الجامع الصغير": البينة بينة صاحب اليد وبه قال أبو حنيفة. وقال محمد: البينة بينة الخارج، وهذا غلط لأنهما تساوياً في البينة والاحتمال ولتفرد أحدهما بزيادة يد فقضينا له بها. فرع آخر لو اشترى عبداً في عينه نكتة بياض فلم يعلم به المشتري حتى حدث نكتة بياض في موضع آخر من عينه ثم زالت إحداهما فقال البائع: زال القديم فلا يستحق الرد، وقال المشتري: زال الحادث فلي الرد لم يكن له الرد لأن المشتري اعترف بزوال حق الرد بحدوث العيب [186/ أ]. في ابتداء الرق وهو طاهر ثم يصير نجساً بعده بملاقاة النجاسة، ففي حال طهارته حصل في يد المشتري فلا اعتبار بحدوث النجاسة بعده، ولأن نجاسته يسبب من جهة المشتري فإنه الذي أمر البائع بالصب فيه أو فتح رأسه ليصب البائع فيه ذلك والتلف إذا حصل بسبب من جهة المشتري لا يمنع حصول التسليم والتسلم حكماً، كما لو قتل المشتري العبد المشتري قبل قبضه أو حفر بئراًَ في غير ملكه فوقع فيه هذا العبد صار قابضاً مع حصول التلف من جهة أن تلفه بأمر من جهته كذلك هاهنا. مسألة: قال: "وسمعته يقول: كل ما اشتريته مما يكون مأكوله في جوفه فكسره فوجده فاسداً". لا يخلو من أحد أمرين إما أن يكون مما لا يوقف على عينه إلا بكسره كالبيض والبطيخ المدود والقثاء المدود والجوز واللوز ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يرده ويسترجع الثمن وهو الصحيح لأنه نقص يتوصل به إلى استعلام العيب فلا يمنع الرد كحلب [168/ ب] لبن المصراة ولا يجب الأرش لأنه قطع قطعاً مستحقاً فصار كما لو كان عبداً فختنه ثم علم بالعيب ويفارق لبن المصراء حيث يلزمه ضمان ذلك لأنه انتفع باللبن الموجود في الضرع حال البيع الذي له قسط من الثمن. والثاني: يرده ويرد معه أرش ما نقص بالكسر كما في المصراة وهذا ضعيف وبيان الأرش هاهنا ما بين قيمته صحيحاً فاسداً وقيمته فاسداً مكسوراً وهو كالعين المأخوذة سوماً يلزمه أرش النقص الداخل فيه.

والثالث: وبه قال أبو حنيفة والمزني: لا يرده أصلاً ولكن يرجع عليه بأرش قيمته صحيحاً فاسداً وبين قيمته صحيحاً غير فاسد إلا أن لا يكون لفاسده قيمة أصلاً مثل بيض الدجاجة فيرجع بجميع الثمن لأنه باع ما لا يجوز بيعه، وبان بطلان البيع لأنه باع ما لا قيمة له كالخنافس والديدان، وقال بعض أصحابنا بخراسان: رجع بجميع الثمن لا يحكم فسخ البيع بل يحكم أن أرشه جميع الثمن، والفاسد يكون للمشتري فعليه نقله إلى المزبلة إن احتيج إلى تفريغ المكان وهذا غلط والصحيح [169/ أ] ما ذكرنا. وقال مالك وأحمد في رواية: ليس له الرد ولا الأرش واحتج بأن البائع لا يعلم بعيبه فلا تدليس من جهته فلا يرد من جهته وهذا غلط، لأن عقد البيع يقتضي السلامة كما في الثوب. واحتج المزني على ما اختاره بأن قال: هذا عندي أشبه بأصله لأنه لا يرد الرابح مكسوراً كما لا يرد الثوب مقطوعاً فيقال له: أما رد الرابح فعلى القولين غير أن الشافعي ربما يجيب على أحد القولين وربما ينص عليهما، ولو كان في الرابح بقية يمكن الوقوف على عيبه منها من غير كسر، فإذا كسر لا يرد لأنه لا ضرورة به إليه. وقيل قال المزني: هذا أشبه بأصله أن لا يرد الرابح بغير الكاتب فكتب لأنه لا يرد. أما الثوب مقطوعاً لا يشبه الجوز مكسوراً لأن كسر الجوز سبيل إلى التوصل إلى معرفة علامته بخلاف قطع الثوب. ومن أصحابنا من رتب ترتيباً آخر فقال: هل له الرد؟ قولان فإذا قلنا: له الرد هل عليه أرش الكسر؟ قولان. وإن كان مما يمكن الوقوف على عيبه بغير كسره كالرمان تعرف حموضته بأن تغرز فيه [169/ ب] إبرة والبطيخ تعرف حموضته بمثل ذلك أو قريب منه بكسره فهذا بمنع الرد قولاً واحداً لأنه يمكن معرفة العيب بأقل منه، ولهذا لما لم يمكن معرفة الدود في البطيخ إلا بالكسر فقطع القطعة منه لا يمنع الرد وعلى هذا يرجع بأرش العيب. ومن أصحابنا من قال فيه الأقاويل أيضاً. لأن ذلك القدر يتعذر ضبطه وهذا ضعيف. فرع لو اشترى ثوباً مطوياً على طاقين فرأى جميع الثوب من جانبيه يجوز فإن نشره ثم وجد به عيباً ينظر فإن كان مما ينقص بالنشر فلا يخلو إما إن كان يمكنه أن يحمل إلى أهل الخبرة به لينشره نشراً لا ينقصه فنشره بنفسه فنقصه فليس له رده، وإن كان لا يمكن أحداً نشره إلا بإلحاق نقص هـ فإن هذا القدر من النقص هل يمنع الرد؟ على ما ذكرنا من الأقاويل، وإن كان يمكنه الوقوف على العيب بدون النشر الذي ينقص قيمته نشراً ينقص فالصحيح أنه يمنع الرد وفيه قول آخر: وليس بشيء، وإن كان مما لا ينقص بالنشر أصلاً كالكتان ونحوه فلا [170/ أ] تمنع الرد أصلاً. فرع آخر لو كانت شاة فوجد بها عيباً فساقها ليردها فحلبها في الطريق وهي سائرة ولم يقفها للحلب قال أصحابنا: لا يبطل الرد، وإن أوقفها للحلب بطل الرد لأن المنفعة للمشتري فإذا استوفاها من غير ترك الرد وحبس الأصل لا يمتنع الرد.

فرع آخر قال والدي رحمه الله: على قياس هذا لو كانت ثيباً فوطئها وهو حامل لها ينبغي أن لا يبطل حق الرد لهذا المعنى وعلى هذا إن ولدت في الطريق فالولد له. فرع آخر لو اشترى دابة فأنعلها وضرب عليها إكافاً وجعل عليها لقودها رسناً ثم وجد بها عيبباً كان له أن يحط الإكاف ولا يجوز له قلع النعل فإن لم يحط عنها الإكاف بطل خياره، وإن قلع نعلها بطل خياره، والفرق بينهمت: أن الأنعال من الاستصلاح والحفظ لقوائمها ووقايتها عما يصيبها بتركه وقلعه يضر بها فيبطل خياره، وأما وضع الإكاف والسرج عليها لاستعمالها في الغالب فتركها يكون استدامة جهة الاستعمال فيبطل خياره [170/ ب] بذلك، وأما الرسن فتركه عليها لحفظها ونزعه عنها لا يضرها فلا يبطل واحد منهما خياره. ذكره صاحب "التلخيص" تخريجاً. مسألة: قال: "ولو باعَ عبدَهُ وقد جَنَى". الفصل إذا جنى عبده ثم باعه فيه قولان أحدهما: البيع باطل وهو المختار لأن الشافعي قال: وبهذا أقول: لأن الرقبة كالمرهونة له بالجناية ولا يجوز بيه المرهون قبل الانفكاك، والثاني: البيع جائز وبه قال أبو حنيفة وأحمد، وهو اختيار المزني لأن نفس الجناية لا ترسل الملك والسيد بالبيع كالمختار للفداء وهذا لا يصح لأن السيد لا يقدر على إسقاط حقه إلا أن يوفيه بالفداء، وكذلك الراهن يسقط حق المرتهن بأداء الحق فلا فرق بينهما وفيه قول ثالث: مخرج أنه موقوف فإن فدى السيد جاز البيع وإلا فلا. واختلف أصحابنا في موضع القولين على ثلاثة طرق: منهم من قال: القولان فيه إذا كانت الجناية خطأ وقد تعلق برقبته الأرش، أو كان عمداً ولكن صولح على مال، فأما إذا كانت الجناية عمداً فالبيع صحيح قولاً واحداً وهو ظاهر المذهب [171/ أ] وقال القفال: هذا إذا قلنا: موجب العمد القود فحسب فأما إذا قلنا: موجب العمد أحد أمرين إما الدية وإما القصاص فحكمه حكم الخطأ ومنهم من قال: على العكس القولان في العمد وأما في الخطأ فقول واحد البيع باطل كبيع المرهون وهذا لأن جناية العمد توجب استحقاق نفسه فيصير كبيع المستحق فلا يصح في أحد القولين والخطأ يوجب الأرش في رقبته كالمرهون سواء وحق الجناية آكد لأنه تقدم على حق المرتهن، ومنهم من قال فيه قولان. وجملته: أن عند الرجل إذا تعلق به حق مال فإن كان المالك علقه به كالرهن فالبيع باطل قولاً واحداً وإن تعلق به بغير اختياره كالزكاة وأرش الجناية فيه قولان. فإذا قلنا: البيع باطل رد المشتري العبد وانقطعت العلقة بينه وبين البائع ونفي الكلام بين السيد وبين المجني عليه، وإن كانت الجناية عمداً توجب القود قبله فلا كلام وإن كانت خطأ أو عمداً يوجب المال.

فالسيد بالخيار بين الفداء وبين التسليم للبيع للسيد وليس له أن يسلم عين العبد إلى [171/ ب] المجني عليه خلافاً لأبي حنيفة وإن اختار أن يفديه فيه قولان: أحدهما: .... الأمرين من خمسة أو أرش جنايته، والثاني: أرش الجناية ... البيع وتسليمه المبيع، وموضع هذا كتاب الجنايات، وإذا قلنا: البيع صحيح هل كانت الجناية خطأ أو عمداً يوجب الثاني، أو عمداً يوجب فهل يلزم السيد الأرش المنصوص؟ يلزمه الأرش نص على ذلك بالبيع، ولا سبيل له في فسخ البيع بعد ذلك، لأنه تعين به حق المشتري، ولما باعه مع العلم يتعلق الحق برقبته صار ذلك في ذمته بالتزام الأرش، وبه قال أبو حنيفة، إلا أن يكون السيد معسراً فيفسخ البيع حينئذ ويباع في الجناية، وحق المشتري من الثمن في ذمة السيد، وهذا لأن حق الجناية يتعلق لحق المشتري ... ومن أصحابنا من قال: لا يتعين ذلك على السيد وهو بالخيار من التزام الأرش وبين فسخ البيع وتسليم العبد ليباع في الجناية، لأنه ليس في بيعه أكثر من التزام الأرش وبين فسخ البيع وتسليم العبد ليباع في الجناية، لأنه ليس في بيعه أكثر من التصريخ بالفداء، ولو قال: أنا آخذ به لا يتعين الفداء بل يحمل على الوعد فهاهنا أولى وهذا لا يصح لأن اختيار الفداء هاهنا حصل بإزالة الملك ونفد فصار التزاماً في ذمته كما لو قبله بخلاف ما لو قال: التزمت الفداء بالقول، فإذا قلنا بما قال أصحابنا: بكم يفدي لو اختار الفداء؟ فيه قولان على ما ذكرنا، وإذا قلنا بالمنصوص قال أبو حامد وجماعة: يفديه بأقل الأمرين قولاً واحداً لأنه لا يقدر على تسليمه للبيع للزوم البيع فصار كما لو قلته يفدية بأقل الأمرين قولاً واحداً ويفارق المسألة قبلها لأنه يقدر على تسليمه للبيع. وقال القاضي الطبري: فيه قولان أيضاً لأنه باختياره منع من تسليم نفسه للبيع. قلت: وإذا قبله يوجد هذا المعنى فيحتمل فيه قولاً آخر أيضاً، وإن كانت الجناية موجبة للقصاص فللولي الخيار بين القصاص والعفو على مال تعلق المال برقبته، والحكم فيه كما لو عفا قبل البيع لأنه مستحق بسبب سبق البيع، وإن اختار القصاص فاقتص نظر فإن كان قبل القبض بطل البيع، وإن كان بعد القبض اختلف أصحابنا فيه قال ابن أبي هريرة: كونه قاتلاً بمنزلة كونه معيباً فإن كان [172/ ب] المشتري عالماً بأنه قاتل ولا يرجع على البائع بشيء، وإن كان جاهلاً رجع عليه بالأرش فيقوم العبد قاتلاً وغير قاتل فيلزم البائع ما بين القيمتين بقسطه من الثمن لأنه قتل في يده فتعذر رده وهذا اختيار ابن سريج وابن أبي هريرة، وبه قال أبو يوسف ومحمد وأحمد، وهذا لأنه ليس في كونه قاتلاً أكثر من أن يخاف عليه التلف فصار كما لو اشترى مريضاً لا يعلم مرضه حتى مات في يده. قال أبو إسحاق: يرجع بجميع الثمن وهو المذهب المنصوص، وبه قال أبو حيفة لأنه لما قتل في المشتري سبق العقد وهو كالجناية كان بمنزلة أن يخرج مستحقاً ولا يعتبر بأن قتله يجعل كالاستحقاق لأنه لو جعل كالاستحقاق لم يصح البيع أصلاً وعلى هذا يجب دفنه وتكفينه على البائع. وعلى هذا إذا غضب عبداً فجني في يده ثم رده على صاحبه ثم قتل في يد صاحبه بالجناية رجع على الغاصب بكل القيمة ويفارق المريض لأن المريض يتلف بزيادة مرض يحتمل في يد المشتري وهاهنا يتلف بما سبق فإن قيل: على [172 ب/ 6] هذا يبطل بالمرتد إذا قتل في يد المشتري فإنه يقتل بإقامته على الردة، وقد تحددت الردة في يد المشتري ويرجع بكل الثمن على هذا القول قلنا: الردة السابقة في يد البائع أباحت القتل وإقامته عليها ليست بردة أخرى

ورجوعه عن الردة مبطل لها كالعفو عن القصاص فالمرتد والقاتل سواء، وعلى هذا القول المنصوص. قال بعض أصحابنا: يلزم أن يقال له الرجوع بكل الثمن، وإن كان عالمًا بحاله لأن من اشترى مغصوبًا عالمًا بالحال فاستحق من يده له الرجوع ولا خلاف أنه يلزمه إذا اشتراه عالماً بالحال فاستحق من يده له الرجوع ولا خلاف أنه يلزمه إذا اشتراه عالماً بحاله ولا يرجع بشيء. ونص عليه في الرهن، فقال: إذا علم به سقط حقه لأنه بمنزلة العيب ولهذا جوز البيع فعلى هذا هو كالمستحق مع الجهل بحاله والعيب مع العلم بحاله، وهذا اختيار القفال وجماعة. ومن أصحابنا من قال: إذا كان عالماً به يرجع بكل الثمن عند الشافعي لأنه كالمستحق وعلى قول ابن سريج لا يرجع بشيء وهذا لا يصح بما تقدم فإذا تقرر هذا قال المزني: يجوز بيعه [173/ ب] كما يجوز عتقه واستشهد بالمرهون عكسًا فإنه لم ينفذ فيه بيع الراهن لا ينفذ عتقه فيه، وقال: سوى الشافعي بين المرهون وعتقه قلنا: قال بعض أصحابنا: العتق مبني على البيع فإن قلنا: البيع يجوز ففي العتق ثلاثة أقوال كما نقول في المرهون: أحدها: ينفذ موسرًا كان أو معسرًا، والثاني: لا ينفذ ومن أصحابنا من قال: إن كان موسرًا ولزمه أرش الجناية ويضمن أقل الأمرين لأنه استهلكه بالعتق، وإن كان معسرًا هل ينفذ؟ فيه قولان أحدهما: ينفذ بخلاف البيع ولأنه ينفذ في المبيع المحبوس وله عليه وشرائه بخلاف البيع وقول المزني: إن الشافعي سوى بينهما غلط، لأن الشافعي أبطل بيع المرهون قولًا واحدًا، وفي عتقه ثلاثة أقوال. قال القفال: وكذلك في المرهون إن كان موسرًا أنفذ العتق قولًا واحدًا، وفي المعسر قولان. قال ابن سريج: وكذلك أقول في المبيع قبل القبض وقبل أداء الثمن، وقال هذا القائل: إن كانت الجناية عمدًا ينفذ العتق قولًا واحدًا لأن المستحق به القود واستحقاق القود [174/ أ] لا ينافي العتق لأنه يقبل، وإن كان قد أعتق وهذا إذا قلنا: موجب العمد القود فحسب والفرق بين الرهن والجناية على قول بعض أصحابنا: إن حق الرهن تعلق على كره منه فافترقا في جواز العتق. فرع العبد القاتل في قطع الطريق إن قدر عليه بعد التوبة وبيع فالقتل الذي عليه قصاص محض، وقد ذكرنا حكمه، وإن قدر عليه قبل التوبة فقد تحتم قتله. قال بعض أصحابنا: وهو اختيار أبي حامد قولًا واحدًا لا يجوز بيعه لأنه لا قيمة لمن تحتم قتله، وعلى البائع رد الثمن قبل القبض وبعده، ومن أصحابنا من قال فيه قولان أيضًا، كما لو كان قصاصًا مجردًا وفيه منفعة وهي أن يعتقه وهذا اختيار القاضي الطبري، وقال بعض أصحابنا بخراسان: يجوز بيعه قولًا واحدًا كالمرتد يتحتم قتله ويجوز بيعه قولًا واحدًا. وقيل في المرتد ثلاثة طرق: أحدها: أنه كالمعيب عند الجهل والعلم، والثاني: أنه كالمستحق عند الجهل مع العلم، والثالث: هو كالمستحق عند الجهل وكالعيب عند العلم [174/ ب] قال أبو حامد: نص على هذا في "الأم" قلت: وهذه الطرق تجيء في العالم أيضًا.

فرع آخر لو باع السارق الذي وجب قطع يده يصبح بيعه، فإذا قطع يده في يد المشتري فعلى قول الشافعي كان له الخيار بين الإمساك والرد لأنه لو قتل في يده باستحقاق كان له فسخ العقد، فمع قطع اليد أولى وعلى قول ابن سريج: لا يرد لحدوث العيب في يده فيرجع بأرش العيب، ويقوم صحيحًا غير سارق وصحيحًا سارقًا، ويرجع نقصان ذلك من الثمن، وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا قلنا بالأول: لا يرد بل يرجع بما قيمته سارقًا مقطوعًا وقيمته غير معيب بالسرقة من الثمن، وهذا ضعيف. وهكذا الحكم من اشترى عبدًا به جراحة فلم يعلم بها حتى سرى الجرح ومات، وإن كان عالمًا بالحال فلا خيار له بلا خلاف. مسألة: قال: "ومن اشترى عبدًا وله ماٌل فماله للبائع". الفصل جملة هذا أن العبد لا يملك شيئًا إذا لم يملكه السيد قولًا واحدًا، وإن ملكه السيد هل يملك فيه [175/ أ] عليه ومانع لانتزاع السيد ذلك من يده وصار كأنه باع عبدًا ذا مال كما يبيع عبدًا ذا زوجٍة بدليل أنه قال: فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع فجعله للمبتاع بالشرط لا بالشراء، ولو كان يصير له بالشراء لقال فماله للبائع إلا أن يشتريه المبتاع فعلى هذه العلة لا يكون مال العبد مبيعًا فيصح البيع، وإن كان المال دينًا أو غائبًا أو مجهولًا أو مفضيًا إلى الربا، حتى لو كان مال العبد ألفي درهم فاشتراه بألف درهم صح وللمشتري أن ينتزع له ألفين من يده ويدفع أحد الألفين إليه في ثمنه ويبقى له العبد والألف بغير شيء دفعه من ماله. وقال الاصطخري وابن خيران: التعليل كون المال يبقى له فيجوز مع الجهالة في حقوق الدار ولا يمنع جواز البيع قالا: وعلى هذا لا يجوز إذا أدى إلى الربا، وإن كان تبعًا لأن الربا لا يجوز تبعًا وينبغي أن ينزه العبد عن الربا تبعًا ومتبوعًا فعلى هذا لو كان ماله ألفي درهم لا يجوز أن يشتريه بألف ولا بألفين لأجل الربا، والصحيح العلة الأولى لأن الشافعي قال في القديم: وعاب علينا بعض الناس أنكم جوزتم [175/ ب] بيع العبد معه ألفان بألف فيبقى له العبد والألف فالتزم الشافعي جواز ذلك، وهذا سؤال أبي حنيفة أنه لا يجوز إذا كان معه نقدًا لا أن يكون الذي مع العبد أقل من الثمن، ولو باع هذا العبد مطلقًا، ولم يذكر المال لا يدخل المال في البيع بلا إشكال. وقال الحسن: يكون ماله للمشتري وإن أطلق وهذا غلط لما ذكرنا من الخبر. فرع لو أعتقه فالمال الذي معه للسيد، وقال مالك: ماله للعبد إذا كان ملكه وهذا غلط، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أعتق عبدًا وله مالٌ فماله للمعتق"، وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه أراد أن يعتق عبدًا له فقال: يا أبا عمير ما مالك؟ فأنا أريد أن أعتقك وإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من أعتق عبدًا فماله للذي أعتق"، وروي أنه أعتقه ثم

قال له: إن مالك لي ثم تركه. فرع آخر إذا قلنا: يملك بالتمليك هل يحتاج إلى قبول العبد؟ وجهان على أن السيد هل يجبر عبده على النكاح؟ قولان. [176/ أ]. فرع آخر قد ذكرنا أن له الرجوع، وإن قلنا: يملك بالتمليك فلو وطئ السيد وكانت جارية هل يكون رجوعًا؟ وجهان، ولو باع ذلك المال أو زوجها إن كانت جارية كان رجوعًا على الصحيح من المذهب. فرع آخر لو باعه من ماله وقلنا: يملك وجوّزنا البيع ثم وجد به عيبًا رده مع ماله لأنه قبض عبدًا ذا مال فيرده كما قبضه، وقال داود: يمسك المال ويرد العبد وحده لأن ماله لم يدخل في البيع وصار هو أحق به، وهذا غلط لما ذكرنا. وعلى هذا لو أخذ ماله وأتلفه ثم وجد به عيبًا يرجع بالأرش ولا يرده فيقوم عبدًا ذا مال لا عيب فيه وعبدًا ذا مال به هذا العيب ويرجع بما بين القيمتين من الثمن. فرع آخر لو اشترى عبدًا فوجده مأذونًا في التجارة ركبته الديون لا خيار له لأنها متعلقة بذمته، وقال مالك فيما حكى أصحابنا عنه: له الخيار. وحكى عن أبي حنيفة: البيع باطل لأنها متعلقة برقبته. مسألة: قال: "وحرام التدليس ولا ينتقض به [176/ ب] البيع". أراد بالتدليس أن يخفي عيب المبيع عن مشتريه أو يغير خلقته من تسويد شعره ونحو ذلك، وهو مشتق من الدلسة وهي الظلمة، فكأنه لما لم يبين وتركه على الخفاء كان مدلسًا وهذا حرام لما ذكرنا فيما قبل ولا يبطل به البيع لأن البيع في العاقد دون المعقود عليه وإذا بان العيب يثبت له الخيار، وقال داود: يبطل البيع وهذا غلط، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أجاز بيع المصرّاة مع التدليس ولو كذب في رأي المال فقد دلس، ولكن لا يثبت به الخيار في غير المرابحة، وكذلك إذا قال: طلب مني بكذا كاذبًا يكون مدلسًا ولا خيار به لأنه لا نقض في المعقود عليه. وقد روى ابن سباغ قال: اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع فلما خرجت بها أدركنا فقال: هل بين لك ما فيها؟ قلت: وما فيها إنها لسمنة ظاهرة الصحة فقال: أردت بها سفرًا أم أردت لحمًا؟ قلت: أردت عليها الحج، قال: بخفها نقب فقال صاحبها: [177/ أ] أصلحت الله ما تريد إلى هذا تفسد عليّ فقال إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يحل لأحد أن يبيع شيئًا إلا يبين ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا بينه". مسألة: قال: وأكره بيع العصير ممن يعصر الخمر.

الفصل إذا باع العنب ممن يعصر الخمر فإن باعه عالماً بأنه يعصر خمرًا، وأن المشتري يشتريه لذلك فقد فعل محرمًا، لأنه قصد المعاونة على المعصية والبيع صحيح لأن التحريم لمعنى في غير المقصود عليه، ومن أصحابنا من قال: هذا اختيار أبي حامد، وقول جمهور أصحابنا: أنه يكره ولا يحرم وإن باعه مطلقًا ولم يقصد به شيئًا، ولكن ظاهر ظنه أنه يتخذه خمرًا فقد فعل مكروهاً خشية الحرام، ولا يكون حراماً لأنه قد تخلله أو يبيعه بريبة ولا يبطل البيع بحال، وحكى ابن المنذر عن الحسن أنه قال: لا بأس يبيع التمر ممن يتخذه سمرًا. وقال الثوري: بع الحلال ممن شئت، وقال مالك: البيع باطل وبه قال أحمد، وقال أحمد كذلك: لا يجوز بيع الجارية [177/ ب] ممن يتخذها للغناء، وهكذا الخلاف في بيع السيف ممن يعصي الله تعالى به ومذهبنا على التفصيل ذكرنا. فرع بيع السلاح من أهل الحرب في دار الإسلام هل يجوز؟ وجهان أحدهما: لا يجوز لتحريم إمضائه، والثاني: يجوز ويفسخ وهما مخرجان من القولين في شراء الكافر عبدًا مسلمًا، وقال بعض أصحابنا: لا يجوز وجهاً واحدًا لأنه فيه تقوية الكفار على المسلمين وهو اختيار القاضي الطبري وقد قيل: لا يجوز من الحربي ومن الذمي في دار الإسلام وجهان، لأنه ربنا ينقض العهد أو ينفذه إلى دار الحرب. فرع آخر إذا وجد شاةً مذبوحة في بلد يجمع محبوسًا ومسلمين لم يحل أكلها إلا أن يغلب على الظن الإباحة بأن يكون عدد المسلمين أكثر. مسألة: قال: وأكره مبايعة من أكثر ماله حرام. إذا باع السلطان الجائر الذي يأخذ الجزية والخراج ويأخذ المال ظلمًا بالمصادرات أو الذمي الذي يبيع الخمر والخنزير [178/ أ] ويأخذ الثمن فإن تيقن أنه حرام لا يجوز أن يبايعه، فإن اشترى منه شيئًا أو باع فما أخذه يلزمه رده على صاحبه أو كان باقيًا أو ضمانه إن تلف ولا ينعقد البيع أصلًا، وإن علم أنه حلال تجوز المبايعة با خلاف، وإن لم يعلم الحال يلزم مبايعته ولكن لا يبطل لأن الظاهر فيما في يده أنه ملكه، وهذا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الحلال بين والحرام بين وبين ذلك أمور مشتبهات لا يدري أكثر الناس من الحلال هي أو من الحرام فمن تركه استبراءً لعرضه ودينه فقد سلم ومن واقعه يوشك أن يواقع حرامًا كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه إلا وإن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه"، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك"، والدليل على جوازه ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي على شعير أخذه لأهله.

باب بيع البراءة

باب بيع البراءة مسألة: قال: وإذا باع شيئًا من الحيوان بالبراءة فالذي [178/ ب] أذهب إليه قضاء عثمان رضي الله عنه. إذا باع حيوانًا بشرط البراءة من العيوب، قال في اختلاف العراقيين: فالذي أذهب إليه قضاء عثمان بن عفان رضي الله عنه يبرأ من كل عيب لم يعلمه ولا يبرأ من عيب علمه حتى تسميه وتقفه عليه ثم قال: والأصح في القياس لولا ما وصفنا من افتراق الحيوان ولا يبرأ من سائر العيوب، أو يبرأ من جميعها، يعني: لولا ما وصفنا من قصة عثمان رضي الله عنه، واختلف أصحابنا في المسألة على طريقين. قال الاصطخري وجماعة: في المسألة ثلاثة أقاويل: أحدهما: هذا وبه قال مالك، وهو اختيار الشافعي وقضاء عثمان رضي الله عنه أن ابن عمر رضي الله عنهما باع عبدًا بثمان مائة درهم بشرط البراءة ثم ترافع هو والمشتري إلى عثمان في عيب به وأراد رده به فقال: عثمان لابن عمر رضي الله عنهم: تحلف أنك بعته وما علمت به داء كتمته فقال: لا، فرده عليه فباعه ابن عمر بألف درهم، وروي: باعه بألف درهم وخمس مائة ففرق بين ما علم البائع وبين ما لم يعلم، وهذا لأن ما يعلمه لا عذر له في [179/ أ] كتمانه من المشتري وما لم يعلمه فالبايع فيه معذور، وإذا أراد أن يقف المشتري على العيوب حتى يبرأ البائع لعلم المشتري بالعيب لا بالشرط فوجهه أن ما لا يرى مثل عيب السرقة والإباق ونحو ذلك نسميه له وما يمكن أن يرى كالبرص والقرح، فأراد أن يسميه له يذكر محله في البدن وقدره حتى يصير كالمرئي إذ يختلف البعض الحاصل باختلاف محاله ومقاديره فلا يجوز مع الجهالة لأنه يؤدي إلى جهالة الثمن. وقد قال الشافعي: ها هنا قلت ذلك تقليدًا لعثمان بن عفان رضي الله عنه، وهذا مشكل لأن الشافعي تقلد أحدًا بين الصحابه في الجديد، وإنما قلد في القديم وهذا النص في كتاب الجديد، وإزالة هذا الإشكال أن يقال: ما قصد الشافعي بهذه العبارة محض التقليد بل أراد الاستئناس والاسترواح بما حكي من مذهب عثمان والدليل على هذا أنه عقبه بالقياس فقال: إن الحيوان يفارق ما سواه لأنه يُعتدى الصحة والسقم وتحول طبائعه وقلّ ما يبرأ من عيب يخفى ويظهر، وقد قال [179 أ/ 6] مثل هذا في الفرائض، وذلك أنه قلد زيد بن ثابت رضي الله عنه في توريث الإخوة مع الجد في الجديد ثم عقبه بالقياس فقال كلامًا طويلًا معناه: أن المدلى به وهو أب الميت لو مات وخلف أباه وهو هذا الجدّ وابنه وهو هذا الأخ كان للأخ خمسة أسداس المال وللجد السدس فكيف يجوز حجب الأخ بالجد في مسألة الجد والإخوة؟ وبين أصحابنا من قال: الشافعي وقلد عثمان رضي الله عنه في هذه المسألة على قوله في القديم قول الصحابي حجة يترك به القياس فإن قيل: على هذا فابن عمر رضي الله عنهما خالفه لأنه لم يخلف، قلنا: لم يخالفه بل تورع عن اليمين تنزيهاً وهذا ضعيف لما ذكرنا، أن هذه المسألة في الجديد. والقول الثاني: لا يبرأ عن شيء من العيوب إلا بالتسمية. وبه قال أحمد في رواية،

لأنه إسقاط حق قبل وجوبه، فلا يجوز كالشفيع إذا عفا قبل البيع. والثالث: يبرأ من جميع العيوب وبه قال أبو حنيفة وأحمد في رواية وهو اختيار الاصطخري وأصل هذا أن البراءة عند أبي حنيفة [180/ أ] عن المجهول تجوز وعندنا لا تجوز واحتج بما وردت أم سلمة رضي الله عنها أن رجلين اختصما إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "اسستهما وتوخيا وليحلل أحدكما صاحبه" وهذا غلط، لأنه مرفق في البيع لا يثبت إلا بالشرط فلا تثبت الجهالة كالخيار. وأما الخبر أراد به تحلله من قدر تسمية فلا حجة فيه، ومن أصحابنا من قال: المسألة على قول واحد، وهو أنه يبرأ مما لم يعلم من العيوب الباطنة ولا يبرأ مما علم من العيوب الباطنة والظاهرة، ولا يبرأ مما لم يعلم من العيوب الظاهرة لأن الشافعي قال: تركت القياس لقضاء عثمان، وإن الحيوان يفارق ما سواه على ما ذكرنا فقدم قضاء عثمان مع ضرب من الاعتبار على القياس المخالف له، ثم قال بعد ما أشار إلى القولين الآخرين: والأول أصح. قال القاضي الطبري: وهذا غلط عندي لأن الشافعي نص في كتاب اختلافه مع مالك على أن غير الحيوان إذا باعه بالبراءة من عيوبه يبرأ منه [180/ ب] وحكاه القاضي أبو حامد في "الجامع" عنه ذلك فقال: ولو ذهب ذاهب إلى أن من باع بالبراءة مما يعلم ومما لا يعلم كان مذهبًا يجد فيه حجة. قال القاضي أبو حامد: هذا قول يأتي في المسألة وإذا كان هذا قولًا في غير الحيوان ففي الحيوان أولى، وأما القول الثالث: حكاه الاصطخري ولا نعرفه للشافعي رضي الله عنه إلا من هذا الكلام الذي نقله المزني ولا يمكن إثبات قول آخر بمثله فالذي يحصل من كلام الشافعي فيه قولان: أحدهما: قذف بين ما لم يعلم من العيوب الباطنة وبين ما علم نص عليه في كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى. والثاني: أنه يبرأ من كل عيب على الإطلاق على ما نص عليه في غير الحيوان في كتاب اختلافه ومالك فحصل في المسألة ثلاثة طرق. وأما غير الحيوان مثل النبات والعقار ونحو ذلك إذا باع بشرط البراءة من العيوب على طريقة الاصطخري والقاضي الطبري فيه قولان: أحدهما: لا يبرأ بحال وهو المشهور، والثاني: يبرأ من كل عيب. وبه قال أبو حنيفة وأحمد في [181/ أ] رواية ولا يجيء فيه الفرق وبين العيب الباطن والظاهر، وعلى طريقة سائر أصحابنا قول واحد لا يصح في شرط البراءة أصلًا. وقال أبو علي في "الإفصاح" والقاضي أبو حامد في "الجامع" فيه قول ثالث: يبرأ من عيب لم يعلمه ولا يبرأ مما علمه قياسًا على الحيوان. ومن خرّج من أصحابنا هذا القول حمل قول الشافعي في الحيوان يبرأ من عيب لا يعلمه على العيب الظاهر والباطن، وهذا غلط والصحيح الذي عليه المحصلون من أصحابنا أن قول الشافعي في الحيوان يبرأ من عيب لا يعلمه يريد به العيوب الباطنة. فأما الظاهرة التي يمكنه الوقوف عليها فلا يبرأ منها وإن لم يعلمها، وإذا كان كذلك كان هذا التخريج باطلًا لأن غير الحيوان لا باطن له والفرق بين الحيوان وغيره أن علل الحيوانات كثيرة منها ما يظهر ويستدرك سريعًا، ومنها ما يخفى ولا يعلم إلا بعد طول الزمان فربما يكون به عيب يظهره الحرّ دون البرد أو البرد دون الحرّ أو

الليل دون النهار أو فصل من السنة دون فصل، وقد يكون به نوع سقم وداء كامن [181/ ب] وهو لا يقف عن الافتداء ولا يزال يتحول طبائعه وقل ما يوجد بريئًا من كل عيب، فلو حكمنا بأن البراءة لا تصح لما استقر البيع على حيوان بحال لأنه لا يعرى عن عيب يرد به في الغالب بخلاف سائر العروض، فإنها إن كانت معيبة ييسر إدراك عيبها على المشتري عند العقد فلا ضرورة للبائع إلى اشتراط البراءة. وقال في "الحاوي": اختلف أصحابنا في مراد الشافعي بقوله في الحيوان يبرأ مما لم يعلمه على وجهين: أحدهما: أراد ما لم يكن معلومًا لخفائه سواء علمه البائع أو لم يعلمه، والثاني: أراد ما لم يعلمه البائع لجهله به سواء كان ظاهرًا أو خفيًا. فرع لو باع ما يكون مأكوله في جوفه بشرط البراءة من عيوبه كالرمان والجوز ونحوه لا يختلف أصحابنا أنه بمنزلة غير الحيوان، لأنه يمكن الوقوف على باطن عيبه بقطعه أو بقته. فرع آخر إذا قلنا: يصح البيع بشرط البراءة فحدث عند البائع به عيب قبل القبض لا يبرأ منه، وقال أبو يوسف: يبرأ منها لأن الشرط إسقاط له وقد وجد سببه وهذا [182/ أ] غلط؛ لأنه لم يثبت بعد ولم يوجد فكيف يجوز إسقاطه وهو كالإبراء عما لم يجب. فرع آخر لو اختلفا في هذا العيب فقال المشتري: حدث قبل القبض، وقال البائع: كان عند العقد وبرئت بالشرط، وأمكن ما قالا فيه وجهان بناء على علة أصحابنا في الاختلاف في العيب الموجود إذا قال البائع: حدث عند المشتري، وقال المشتري: كان عند البائع فالقول قول البائع لأنه يدعي الإمضاء. فرع آخر لو باع بشرط البراءة من كل عيب يحدث بعد العقد قبل القبض فلا يصح البيع ولا الشرط قولًا واحداً. فرع آخر إذا قلنا: يصح الشرط سقط الرد بالعيب وإن وجد ألف عيب وقال ابن أبي ليلى: إن ذكر عدد العيوب صح البراءة وإلا فلا يصح. وهذا غلط، لأن المعنى موجود ذكر العدد أو لم يذكر. فرع آخر إذا قلنا: لا يصح الشرط، هل يبطل البيع ببطلانه؟ اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: لا يبطل وهو [182/ ب] ظاهر المذهب دون البيع، ومنهم من قال: يبطل البيع وهو القياس لأن البيع يبطل بالشروط الفاسدة وهذا الشرط يأخذ قسطًا من الثمن وذلك يوجب جهالة الثمن.

باب الاستبراء في البيع

فرع آخر لو كان عليه دين مجهول فقال: أبرأتك من درهم إلى ألف درهم صح الإبراء من الألف، ولو قال: لا حق لي قبل فلان ولا طلبه جاز وهذا إقرار وليس بإبراء. فرع آخر لو كان عليه دين مجهول لا يعرف مقداره فأخذ به ثوبًا لا يجوز ووافقنا فيه أبو حنيفة فتقيس عليه الإبراء من الدين المجهول بعلّة أنه إسقاط دين مجهول فلا يصح. باب الاستبراء في البيع مسألة: قال: وإذا باع جارية لم يكن لأحد منهما فيها مواضعة. إذا باع جارية من رجل وسلم ثمنها وجب على البائع تسليمها لأنه تسلم ثمن سلعته فلا معنى لمنعها ولا يجبر [183/ أ] البائع على تعديلها ولا يجبر المشتري على ذلك أيضًا وقصد به الرد على مالك حيث قال: لا يجب على المشتري دفع الثمن ولا على البائع تسليم الجارية حتى تحيض وتطهر وهو تمام الاستبراء، إذا كان المشتري شابًا. وحكي عن مالك: إن كانت جميلة لا يلزمه تسليمها بل يضعها على يد عدل حتى تستبرئ، وإن كانت قبيحة أجبر على تسليمها لأنه يلحقه التهمة في الجميلة. واحتج الشافعي عليه بأن قال: لو كان لا يلزم دفع الثمن حتى تحيض وتطهر كان البيع فاسدًا للجهل بوقت وجوب دفع الثمن وفساد آخر، أن الجارية لا مشتراة شرى العين فيكون لصاحبها أخذها ولا بيع الصفقة فيكون الأجل معلومًا فعرفنا أن انتزاع الجارية من يد البائع وتعديلها للاستبراء ومنعها من المشتري لا يستقيم على النظر فيسلم إلى المشتري ويؤمن باجتنابها إلى أن يتم استبراءها، ولا يراعي التهمة لأن الظاهر العدالة والسلامة فإذا تقرر هذا ظاهر ما قال ها هنا يوهم أنهما لو تواضعا على تعديلها صح بيعها، وليس كذلك لأن البائع [183/ ب] لو قال: بعت منك هذه الجارية بشرط أن يعدلها للاستبراء ولا أسلّمها إليك وإن سلمت الثمن كان البيع باطلًا لأنه شرط أيضًا وموضوع العقد فيحتمل أن يريد الشافعي بلفظ المواضعة شرط التعجيل والتأجيل في الثمن فكأنه قال: إن اشتراط تأجيل الثمن وجب على البائع تسليم الجارية في الحال، وإن لم يكن لها في الثمن شرط تأجيل ومواضعة مدة ونسيه لم يلزم البائع تسليمها ما لم يدفع المشتري ثمنها، فإذا دفع الثمن لزم البائع التسليم ولا يجبر واحد منهما على إخراج ملكه من يده إلى غيره. وأما قوله: ولا يجوز بيع العين إلى أجل حجة أخرى على مالك لأنه يقول: تسليمها مؤخرًا إلى استبرائها فيكون بيع عين إلى أجل وذلك لا يجوز بالإجماع. وأما قوله ولا للمشتري أن يأخذ منه حميلًا بعهده معناه: أن البيع إذا كان مطلقًا فليس للمشتري أن يقول للبائع بعد البيع أطالبك بجميل يضمن عنك عهدة البيع والجميل في لسانهم الكفيل، وإنما لم يكن للمشتري ذلك لأن العقد مطلق فلا يطالبه به كما لا يطالبه [184/ أ] بكفيل يتكفل بثمنه سواء كان البائع غريبًا أو مقيمًا مليئًا أو مُعدمًا بارًا أو فاجرًا. وأما قوله: وإنما التحفظ قبل الشراء دليل على أن الشراء بشرط أن يعطي البائع ضامن درك يجوز، وإن كان بشرط أن يعطيه كفيلًا ببدنه حتى إذا خرج مستخفًا أحضر البائع يجوز

باب المرابحة

أيضًا، (إذا) جوّزنا كفالة البدن كالبائع إذا باع بشرط رهن أو كفيل يجوز ذكره القفال، ولو قال رجل للمشتري: أنا أضمن لك معرفة البائع فلا شيء عليه إذا هرب البائع، وإن قال: كذبت ولم أعرفه. وحكي عن مالك أنه قال: إذا اشترى شيئًا من غريب أو رجل غير معروف فما بين الناس سواء كانت جارية أو سلعة أخرى له أن يطلب كفيلًا من البائع بإحضاره ليرجع عليه الثمن عند الدرك وهذا غلط لما ذكرنا فإذا تقرر هذا فشرح هذا الباب في كتاب العدة ولكنا نشير إلى طرف منها فعندنا إذا أراد بيع جارية قد وطئها قبل البيع لا يجب عليه إن استبرأها بل يستحب ذلك، وقال ابن أبي ليلى: يجب ذلك عليه كما لا يزوّجها قبل الاستبراء. وبه قال الحسن وابن أبي ليلى والثوري والنخعي. وهذا غلط، لأن الحرة المسببة لا [184/ ب] تستبرئ مرتبين فكذلك هذه، والفرق أن النكاح لا يجوز فيمن لا يحل وطؤها في الحال فلابد من الاستبراء والشراء يصح فيشتري ثم يستبرئ. فرع لو حاضت في يد البائع بعد البيع قبل التسليم فيه وجهان: أحدهما: يحتسب به وهو اختيار القاضي الطبري وهو الصحيح، والثاني: لا يحتسب به وهو اختيار أبي حامد والداركي، ولم يذكرا غير هذا الوجه، وغلطا فيه حين ذكرا الضعيف وتركا المذهب الصحيح وكيف يجوز أن يذكر ها هنا وجهًا واحدًا، أنه لا يحتسب. وذكر أبو إسحاق في "الشرح" أنها لو وصفت قبل أن يتفرقا وقلنا: الملك للمشتري هل يحتسب به؟ وجهان. فإذا كان في هذه المسألة فكيف يكون في غير مدة الخيار قبل القبض وجه واحد أنه لا يحتسب؟ وقد قال بعض أصحابنا: يحتسب به ها هنا وجهًا واحدًا، وهذا أولى مما قال أبو حامد والداركي، وإن أخل بذكر الوجه الآخر والمذهب ها هنا لأن المزني نقل عن الشافعي أنه قال: ولو لم يفترقا حتى وضعت حملًا لم يحل له من [185/ أ] قبل أن البيع إنما تم حين تفرقا عن مكانهما، وهذا يدل على أن الاستبراء بعد التفرق صحيح، وإن كان قبل القبض وفي الميراث قبل القبض يحتسب الاستبراء قولًا واحدًا. فرع آخر لو ابتاع أمة وكانت في عدة من زوج يلزمها أن تكمل بقية عدة الزوج ثم يستبرئها المشتري من بعد اختلافهما في السبب، والحكم، لأن العدة تجب لزوال الملك ولو عادت بعد الطلاق والدخول للسيد يلزمها العدة من فراق الزوج ثم الاستبراء لاستمتاع السيد ولا ينوب العدة عن الاستبراء كما لا ينوب الاستبراء عن العدة ذكره في "الحاوي". وذكرنا في كتاب العدة ما قيل فيه. باب المرابحة قال: وإذا باع مرابحة على العشرة واحدًا وقال: قامت علي بمائة ثم قال: أخطأت.

الفصل بيع المرابحة جائز ولا يكره، وصورته: أن يخبر برأي ماله في السلعة ثم يبيعه بزيادة شيء معلوم في كل درهم أو في كل عشرة فيكون رأي المال معلوماً لهما والزيادة [185/ ب] معلومة لهما على كل درهم أو كل عشرة، وقال ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم: يكره ذلك ولا يحرم، وقال إسحاق: لا يجوز، لأن الثمن مجهول في ابتدائه وهذا غلط، لأن الثمن معلوم من غير رجوع إليها فجاز، كما لو قال: بعتك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم، وإن وجب كليهما لمعرفة مبلغ الثمن فإذا تقرر هذا فالكلام الآن في العبارة التي تصح أن يخبر البائع عن رأس المال فإن لم يكن أنفق عليها ولا عمل فيها يخبر عن رأس ماله بإحدى أربع عبارات: إن شاء قال: اشتريته بكذا وإن شاء قال: هو علي بكذا فأيها قال فقد صدق، فإن كان الشراء بمائة درهم فقال: بعتكه برأس مالي وربح درهم في كل عشرة يعلم أن الثمن مائة وعشرة وعلى هذا الباب وإن كان أنفق عليها مثل أجرة القصار والخياط والصباغ فإنه يخبر بإحدى عبارتين لأنه إن قال: اشتريتها بالثمن وبما أنفق عليها كان كاذباً، وإن قال: رأس مالي كذا كان كاذباً أيضاً لأن رأس المال عند الفقهاء عبارة عن الثمن الذي ملك به السلعة، فإذا كان كذلك يقول قام علي بكذا، وهو علي بكذا فيكون [186/ أ] صادقاً. مثاله اشترى بتسعين وأنفق عليه عشرة ثم قال: قام علي بمائة بعتك بمائة وربح درهم في كل عشرة يجوز وإن كان صادقاً، وإن كان قد عمل فيها عملاً بنفسه فلا يجوز أن نضيف أجرة عمله إلى الثمن ويقول: قام علي أو هو علي بكذا لأن عمله في ملكه لا يتقوم عليه ولكنه يخبر عن صورة الحال فيقول: اشتريت بكذا وعملت عليه كذا بعتكه بكذا وربح درهم في كل عشرة وعلى هذا رفو الثوب، وكذلك إن تطوع غيره بالعمل له لا يضم إليه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن كان أنفق عليها يجوز أن يقول: رأس مالي فيه ويحسب أجرة القصار والخياط، ولكن لا يقول: ثمنه كذا ولا اشتريته بكذا وهو اختيار القاضي الطبري وهو القياس عندي، لأن رأس المال ما قامت به عليه ويطلب به الربح والثمن والنفقة في هذا سواء وعلى هذا مؤونه الكيال والدلال والرصدي ومؤونة الخباز وكري البيت الذي حفظه إن كان البيت يكرى، وإن كان البيت ملكاً أو تولى حمله أو كيله بنفسه لا يضم إليه إلا أن يصرح به على ما ذكرنا، وأما النفقة التي أنفقها على العبد [186/ ب] في المأكولات والملبوس لا يحتسب من رأس المال، لأنه لاستبقاء الملك لا أنه مؤونة التجارة، وقيل: إذا أنفق عليه أو كساه بما لابد منه هل يضيف بلفظ القيام وجهان. فرع لو تكرر شراء ثوب عنده مثل إن اشتراه وباعه مراراً ثم أراد المرابحة يخبر بما اشتراه به أخيراً فإن اشترى ثوباً بمائة ثم باعه بمائتين ثم اشتراه بخمسين فلا خيار عن الأخير وهو الخمسون. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: لا يبيعه مرابحة أصلاً لأنه ربح مثل رأس ماله الأخير فليس له رأس مال وهو وجه آخر لأصحابنا.

ولو اشترى بعشرة ثم باعه بخمس عشة ثم اشتراه بعشرة فرأس ماله عشرة ولا يلزم حظ قدر الربح الذي ربحه قبل هذا الشراء الأخير من هذا الثمن الأخير، وقال أبو حنيفة: يخبر بخمسة فيضم أحد العقدين إلى الآخر. وبه قال أحمد وخالفه صاحباه وهذا غلط، لأن الثمن الذي يلي بيع المرابحة عشة فجاز له أن يخبر به كما لو لم يربح فيها. وقال بعض أصحابنا بخراسان: قال ابن سريج: هذا أحد الوجهين لأصحابنا [187/ أ] في المسألة، قال: وعلى هذا لو اشترى بخمسة وباع بثمانية ثم اشترى بثمانية فرأس المال ثمانية أو خمسة؟ وجهان، وقيل: يخبر بلفظ الشراء بعشرة، ولو أراد أن يبيع بلفظ القيام فيه وجهان أحدهما: يقول قام بعشرة. وبه قال أبو يوسف ومحمد لأن ملكه في العين قائم عليه بعشرة. والثاني يقول: قام بخمسة وبه قال أبو حنيفة كأجرة الخياطة وهو الصحيح لأن بالإجارة لا يزول الملك بخلاف هذا. فرع آخر لو خسر لا يحتسب الخراسان في رأس ماله مثل إن اشترى بعشرة فلا يجعل رأس ماله خمسة عشر ل يكون عشرة، وبه قال أبو حنيفة، ومن أصحابنا من ذكر فيه وجهاً: أنه يخبر بخمسة عشر عند الخراسان بلفظ القيام لأن الخسران كمؤونة الخياطة وهذا بعيد. فرع لو ذكر رأس المال وحصته من الربح دهي ازده مثلاً ولم يعرف أنه إذا حسب الربح وضم إلى رأس المال كم يبلغ؟ يجوز على ما ذكرنا، لأنه صار بالخبرية معلوماً وإنما بقى الحساب [187/ ب] ولم لم يخبره برأس المال ولكنه قال: بعت بربح ده يازده على ما اشتريته فقال: اشتريت ثم أخبره بعد برأس المال لا يجوز وهو المذهب. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان أحدهما: هذا، والثاني: يجوز في المجلس. وبه قال أبو حنيفة، لأنه مبني على العقد الأول وقد اعتمد أمانته، وقد يشتري صبرة جزافاً بكف من دراهم لا يكون تفضيل ذلك معلوماً لهما ويجوز وهذا غلط، لأنه وقع العقد على المجهول، ولهذا لو لم يكن عقد مرابحة فقال: بعتكه بما اشتريته لا يجوز، وإن لم أعلم بعده ويفارق الصبرة لأنه يعلمها بالمشاهدة، وقيل فيه وجه ثالث: يجوز، وإن أعلم بعد المجلس، لأن الثمن فيه مرتب على الثمن في العقد الأول ويمكن معرفته بالرجوع إليه وعلى هذا الخلاف لو اشترى بكف من الدراهم جزافاً ثم باع مرابحة قبل أن يزن الدراهم وعلى هذا جرت العادة بين التجار أنهم يكتبون ثمن كل سلعة عليها برقم لهم فيرجعون إليه وقت البيع فلو قال: بعتك هذه برقمها فالحكم على ما ذكرنا لأنه [188/ أ] يمكن الرجوع إلى الرقم كما يمكن الرجوع إلى غيره في بيع المرابحة. فرع آخر قال بعض أصحابنا: لو كان اشتراه مريضاً فعالجه وداوه فمال المعالجة والمداوة تضاف بلفظ الكتابة، وإن مرض فداوه هل تضاف إليه؟ وجهان.

فرع آخر لو اشترى ثوباً بمائة ثم باعه من غلام دكانه الحر بمائة ثم اشتراه بمائتين حل له أن يخبر عن الثمن الثاني، ولكنه يكره البيع الأول إذا قصد كهذا لأنهما تعاقدا على أن يبيعه منه، وإن لم يصرح به. ولو شرط وذكر في العقد بطل وهذا أصل وهو أن كل ما لو صرح به المتعاقدان بطل العقد، وقال بعض أصحابنا المتأخرين: إذا قصد ذلك ليخبر به في بيع المرابحة كان تدليساً محرماً في الشرع، وإذا بان له ذلك يثبت به الخيار وهذا أحسن عندي. فرع آخر لو اشتراه من أبيه أو ابنه الكبير لا يلزمه الإخبار عنه. وبه قال أبو يوسف [188/ ب] ومحمد، وقال أبو حنيفة وأحمد: يلزمه الإخبار عنه لأنه متهم في المسامحة معهم فيشتريه بأكثر كما لو اشترى من صديقه، وأما البهيمة تبطل بهذا الأصل. وأما المكاتب فيحتمل أن لا نسلم ولئن سلمنا فلأنه غير مميز من ملكه بخلاف مال الأب والابن. فرع قال أصحابنا بخراسان: لو اشترى من ابنه الصغير يلزمه الإخبار لأنه الناظر في ذلك العقد فهو متهم في حق المرابحة، وإن كان أميناً على ولده في حقه. فرع آخر إذا اشترى ثوباً بمائة إلى سنة فباعه مرابحة يلزمه الإخبار عن الأجل، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان وليس بشيء ولو لم يخبر عن الأجل وباع مرابحة يصح البيع، فإذا أعلم المشتري الحال كان بالخيار بين أن يقبله ذلك حالاً أو يرد لأنه ظهر منه تدليس زاد لأجله في الثمن فهو كالمصراة سواء، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: لزم البيع حالاً ولا خيار [189/ أ] وقال الأوزاعي: يلزم العقد ويلزم الثمن في ذمة المشتري مؤجلاً بقدر ذلك الأجل، وبه قال أحمد وإسحاق، لأنه ملكه ذمته دون ذمة البائع، وقال سفيان الثوري: إن كانت السلعة قائمة فللمشتري الخيار، وإن كانت تالفة لزمه الثمن حالاً. فرع آخر لو اشترى عبداً بمائة ثم علم به عيباً بعد أن حدث عنده عيب آخر كان له الرجوع بأرش العيب على البائع فإذا رجع فيه وكان في التقدير عشرة دراهم حصل له العبد بتسعين فإذا أراد بيع المرابحة لا يجوز أن يقول: اشتريته بتسعين لأنه اشتراه بمائة فنجبر عن التسعين بإحدى عبارات ثلاث فيقول: رأس مالي فيه تسعون أو يقوم علي بتسعين أو هو علي بتسعين.

فرع آخر لو اشترى عبداً ثم جنى على جناية أرشها عشرة فأخذ ذلك هل يجوز أن يخبر بالمائة أم لا؟ فيه وجهان أحدهما: لا يخبر إلا بتسعين لأن الأرش بدل جزء منه فهو كالأرش المأخوذ في المسألة الأولى عند حدوث عيب آخر به [189/ ب] والثاني: له أن يخبر بمائة لأن الأرش لا يرجع إلى العقد، بل هو بسبب حادث كالكسب والأول أصح، فإذا قلنا: بخبر بتسعين فأخبر ثم علم المشتري بالجناية فلا خيار، وإذا قلنا: لا يلزمه الإخبار به، ويجوز أن يخبر بما به فعلم المشتري بالجناية وكان أخبر بمائة له الخيار. فرع آخر لو اشترى عبداً بمائة فجنى العبد جناية أرشها عشرة فقداه السيد يخبر بما اشتراه ولا يضم الفداء إلى رأس المال كما لو مرض فأنفق عليه لا يضم النفقة إلى رأس المال ويفارق أجرة القصار؛ لأنه يحصل بها زيادة في المبيع بخلاف الفداء، وكذلك إن أغصبه غاصب فبذل له شيئاً حتى رده إليه لم يجز له ضمه إليه. فرع آخر لو حدث بما اشترى عيب في ملكه إما قبل القبض أو بعده ثم أراد أن يبيعه مرابحة يلزمه الإخبار بأن العيب حدث في ملكه فإن لم يخبر لم يحل له ولكن البيع صحيح كما لو كذب في رأس المال ثم إذا علم المشتري له الخيار أعني إذا كان عالماً بالعيب ولكنه لم يعلم أنه حصل في [190/ أ] ملكه بل ظنه قديماً وفإذا علم أنه حصل في ملكه له الخيار، وقال أبو حنيفة: إن كان العيب بآفة سماوية لا يلزمه الإخبار عنه وهذا غلط قياساً على ما لو كان بجناية آدمي وعلى هذا لو زوجها فالتزويج عيب يلزمه الإخبار عنه، وقيل: فيه وجه لا يلزمه ذلك وهو غلط عندي. فرع آخر لو اشترى عبدين أو ثوبين له أن يبيع أحدهما بحصته من الثمن مرابحة ويقسط الثمن على قيمتها وقال أبو حنيفة وأحمد: لا يجوز لأن قسمة الثمن على القيمة بالحزر والظن، وربما يقع فيه الخطأ وهذا غلط لأنه لو باع شقصاً وسيفاً بقسط الثمن على قدر القيمة عند الأخذ بالشفعة ويقوم المسروق لقطع يد السارق فجاز مثله هاهنا. فرع آخر لو اشترى مائة قفيز من حنطة بمائة درهم ثم أراد أن يبيع قفيزاً منها مرابحة، جاز أن يخبر بأن ثمنه درهم لتقسيط الثمن على أجزائها ووافقنا فيه أبو حنيفة، وقال في "الحاوي"- في الحنطة- قال أصحابنا: لا يجوز كما لا [190/ ب] يجوز في أحد العبدين إذا كان اشتراهما معاً وهذا غري انفرد وهو عين قول أبي حنيفة، وعلى ما ذكرنا لو كان عبداً واحداً يجوز أن يبيع نصفه بقسطه من الثمن.

فرع آخر لو أسلم في ثوبين بصفة واحدة وقبضهما له أن يبيع أحدهما مرابحة ويخبر بحصته من الثمن. وقال أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة: ليس له ذلك لأن الثوبين يختلفان حال التعيين وهذا غلط، لأن الثمن وقع عليهما متساوياً فهو كما لو اشترى قفيزين فإن حصل في أحدهما نقصان في الذمة فذلك كالحادث بعد الشراء فلا يمنع بيع المرابحة، فإن أخذ دون حقه في الصفة يلزمه الإخبار حينئذ. فرع آخر لو اشترى نخلة غير مطلعة فأطلعت في يده وأخذ الثمرة أو شاة ليس عليها صوف فنبت الصوف وجزه أو حلب لبنها الحادث في ملكه ثم أراد بيعها مرابحة يخبر بالثمن الذي اشتراها لأن ما أخذه حادث في ملكه لا مقابلة من الثمن بشيء. وحكي [191/ أ] عن أبي حنيفة يلزمه الإخبار بذلك، ولو كانت النخلة مطلعة أو كانت الشاة ذات صوف ولبن يحط مقسطه من الثمن، لأنه يأخذ قسطاً من الثن فهو كما لو اشترى شاتين ثم باع أحدهما. فرع آخر لو اشترى ثوباً فصبغه فالصبغ عين قائمة له أن يخبر بما اشتراه هـ ويضيف إليه الصبغ. فرع آخر لو حط البائع عنه بعض الثمن فإن كان قبل لزوم العقد وهو في مدة الخيار أخبر بالثمن الذي بقي بعد الحط، وهكذا لو زاد وبه قال عامة أصحابنا، وقال أبو علي في الإفصاح: هذا إذا قلنا: الملك للبائع فأما إذا قلنا: الملك للمشتري لا يلزمه أن يحط من الثمن لأنه ملك بالثمن الأول، وإن كان الحط بعد لزوم العقد لا يلحق العقد فيخبر بالثمن الاول لأنه هبة مجددة، وقال أبو حنيفة: يلزمه حطه وهذا على أصله أن الحط بكل حال لمحق أصل العقد، وقال ابن أبي ليلى: لا يلزم الإخبار عنه بحال وإن كان في زمان الخيار. فرع آخر لو اشترى العامل في المضاربة ثوباً [191/ ب] بمائة وباع من رب المال بمائة وخمسين ثم أراد بيعه مرابحة لا يجوز أن يخبر إلا بمائة وخمسة وعشرين، لأن نصف الربح له ذكره في "الحاوي" وهو غلط، لأن العامل في القراض لا يبيع مال القراض من رب المال لأنه ملكه نص عليه الشافعي. فرع آخر لو اشترى ثوباً بمائة فأخبر في المرابحة بأنه اشتراه بتسعين هل يكون كاذباً في إخباره؟ وجهان أحدهما: لا يكون كاذباً لدخول التسعين في المائة فعلى هذا الإخبار

للمشتري إذا علم به، والثاني: يكون كاذباً لأن التسعين بعض الثمن في مقابلة بعض المبيع فلم يجز أن يخبر بأنها جميع الثمن، وفي مقابله جميع الثمن فعلى هذا الوجه للمشتري الخيار في الفسخ ذكره في"الحاوي" فرع آخر يجوز بيع المواضعة وهو ضد بيع المرابحة وصورته أن يقول: اشتريت هذا بمائة بعتك برأس مالي ووضيعة درهم في كل عشرة، فإذا قال هكذا كيف يكون حكمه؟ قال أصحابنا: لا نص فيه ولكن معنى هذا الكلام وضيعه واحد من عشرة كما لو قال في المرابحة: ربح درهم على كل عشرة كان الربح [192/أ] بعد العشرة فكذلك في المواضعة الوضيعة من غير العشرة فعلى هذا يرد كل أحد عشر درهماً من رأس المال عشرة فيصير آخذاً لهذا الثوب بأحد وتسعين درهماً إلا جزءاً من أحد عشر جزءاً من درهم لأن التسعة والتسعين ردت إلى تسعين والدرهم الباقي أسقط منه جزءاً من أحد عشر جزءاً، وبه قال أبو حنيفة، وقال أبو ثور: يرد كل عشرة من رأس المال إليه تسعة فيكون الثمن تسعين وبه قال محمد، وهو اختيار القاضي الطبري، وهو الصحيح عندي. وقال أبو حامد: الذي عندي أنه إن قال بوضيعة درهم من كل عشرة فكما قال أصحابنا، ولو قال: بعتك بوضيعة العشرة واحداً فهذه عبارة محتملة وبهذه العبارة فرض الكرخي المسألة في مختصره، والخلاف في هذه المسألة بين العلماء في هذه الصورة، وقال في "الحاوي": في المسألة وجهان والأصح أنه يعتبر لفظ العقد، وإن قال بالوضيعة لكل عشرة واحداً ردت الأحد عشر إلى عشرة، ولو قال بالوضيعة من كل عشرة واحداً ردت العشرة إلى تسعه لأن لفظة من تقتضي إخراج [192/ب] واحد من العشرة ويخالف معنى اللام. وذكر بعض أصحابنا: أن من واللام في هذا سواء وهذا غلط، لأن من لا يحتمل إلا ما ذكرنا، وعلى هذا الذي ذكرنا لو قال: رأس مالي عشرة فبعت منك بوضيعة ده يازده يلزمه تسعة وجزء من أحد عشر جزءاً من درهم لأن تقدير الكلام بعتك من كل أحد عشر بعشرة فيجب أن ينقص هاهنا درهم إلا جزءاً من أحد عشر جزءاً من درهم، وبه قال أبو يوسف وابن أبي ليلى، وعلى ما قال محمد وأبو ثور يلزم تسعة، وعلى ما ذكرنا إذا قال: بوضيعة العشرة درهمين تضاف الدرهمان إلى العشرة فيصير اثنى عشر قدر الوضيعة منها السدس فتوضع السدس من رأس المال فيصير الثمن ثمانية، وقلت: على قول عامة أصحابنا وعلى هذا أبداً فإذا تقرر هذا رجعنا إلى مسألة الكتاب. وهي إذا قال: اشتريت هذه السلعة بمائة وباعها مرابحة على كل عشرة درهم ثم قال: أخطأت وإنما كنت اشتريتها بتسعين فالبيع صحيح، قال الشافعي: وهي واجبة للمشتري برأس مالها وبحصته من الربح [193/ أ] وقال بعد هذه المسألة: "ولو علم

أنه خانه حططت الخيانة وحصتها من الربح" فإن كان المبيع قائماً كان للمشتري أن يرده فجعل للمشتري الخيار، هكذا نقل المزني وأراد به إذا علم ذلك بالبينة، ففرق بين الإقرار والبينة، وقال في "اختلاف العراقيين" في المسألة قولان: أحدهما: يمسكها المشتري بمائة وعشرة أو يرد، والثاني: وجبت للمشتري تسعة وتسعين، وظاهر المذهب أنه لا فصل بينهما، وفي الجملة في المسألة قولان كم يكون ثمنها؟ إحداهما: ثمنها مائة وعشرة. وبه قال أبو حنيفة ومحمد لأن المشتري دخل في العقد على أن يمسكها بهذا القدر ولم يرض للبائع أن يبيع بدون ذلك، والثاني: ثمنها تسعة وتسعون. وبه قال أبو يوسف: وهو الأصح لأن العقد عقد مرابحة، فلا بد من اعتبار الثمن الأول في العقد الثاني. وبه قال ابن أبي ليلى وأحمد. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا إذا قال: أخطأت فإن قال: كذبت فظهر بالبينة أنه كذب فلا خلاف في وجوب الحط وهذا غريب، فإذا قلنا بالقول الأول فالمشتري بالخيار إن شاء [193/ ب] أمسكها بهذا القدر، وإن شاء فسخ لأن الخيانة قد ظهرت ولم يرض هو بها فإن فسخ فلا كلام، وإن أمسكها بمائة وعشرة فلا خيار للبائع لأنه لم ينقص عما باع به وعلى هذا لو قال البائع: أنا أحط عنك قدر الجناية وحصتها من الربح هل يسقط خيار المشتري؟ وجهان: أحدهما: يسقط كما لو زال العيب، والثاني: لا يسقط لأنه لا يؤمن أنه خانه من وجه آخر، وإذا قلنا بالثاني فهل للمشتري الخيار؟ ذكره المزني وحرملة لأنه إذا اطلع من البائع على جناية لم يأمن من جنايته مرة ثانية والمعول من بيع المرابحة على الأمانة، وربما حلف أن يشتريها لمائة وعشرة فإذا بان أيضا مبيعة بأقل من ذلك لم يبر في يمينه. والثاني: وهو الأصح لا خيار له لأنه قد زاده خيراً بنقصان الثمن، فلا يثبت الخيار كما لو باعه عبداً على أنه أمي فإذا هوكاتب لا خيار، ومن أصحابنا من ذكر طريقة ثانية وهي: أنه إذا ثبت بإقراره لا خيار والفرق أنه إذا ثبت بالبينة يقدح ذلك في أمانته وثقته وبالإقرار تزيد أمانته وهذه الطريقة أظهر وأشبه بالمذهب، [194/أ] ومن أصحابنا من ذكر طريقة ثالثة وهي: أنه إن كانت السلعة قائمة له الخيار سواء ثبت الخيانة بالبينة أو بالإقرار، وإن كانت تالفة لا خيار سواء يثبت بالبينة أو بالإقرار، والصحيح الطريقة الأولى. وقال القاضي أبو حامد في "جامعه": قد قيل: لا يصح البيع بتسعة وتسعين إلا بتجديد العقا لأن هذا الثمن لم يكن معلوماً عنا العقد الأول، ولا يجوز بيع شيء يكون ثمنه مجهولاً عند العقد. وهذا قول بعض أصحابنا ذكره في "الحاوي" وهو غلط، لأن أكثر ما فيه أنه دلس على المشتري تدليساً يراد الثمن لأجله، وهذا لا يبطل البيع كما لو دلس العيب فإذا قلنا: له الخيار فاختار الإمساك فهل للبائع الخيار؟ وجهان، وقيل قولان: أحدهما: له الخيار لأنه دخل في العقد على أن يحصل له مائة وعشرة، فإذا لم يحصل له ذلك كان له الخيار وعلى هذا لو اختار المشتري التزام

الزيادة سقط خيار البائع، والثاني: لا خيار له لأنه رضي بأن يكون ربحه ما شرطه، ومن أصحابنا من قال: هذا إذا ثبت بالبينة لأنه يقول رأس مالي مائة والشهود [194/ب] كذبة فيما شهدوا به، فأما إذا اعترف بذلك فلا خيار له وهذا اختيار القاضي الطبري. فرع إذا كانت السلعة تالفة قال بعض أصحابنا: نص الشافعي في كتبه أنه لا خيار للمشتري وتكون لازمة له بتسعة وتسعين، لأنا لو أثبتنا الخيار هاهنا لدخل على البائع ضرر والضرر لا يزال بالضرر، ومن أصحابنا من قال: يبقى خياره فيرد قيمته ويسترجع الثمن ذكره القاضي الطبري، وأما على القول الذي يقول ثمنها مائة وعشرة ولا يسقط حقه بالتلف ويكون بمنزلة المعيب لستره عن المشتري فلا يسقط حقه ولا وجه للفسخ لما ذكرنا، كما لو تلف المعيب في يد المشتري لا يفسخ البيع فيه. فإذا تقرر هذا قال الشافعي في مسألة الخيانة التي ذكرناها، ولم أفسد البيع لأنه لم ينعقد على محرم عليهما معاً، وإنما وقع محرماً على الخائن منهما كما يدلس له العيب فيكون التدليس محرماً، وما أخذ من ثمنه محرماً وكان المشتري في ذلك الخيار، فصرح القول في موضع التدليس بأنه يحرم مع حكمه بأن البيع صحيح منعقد [195/أ] وهذا من المشكل، ولهذا الإشكال اعترض المزني فقال: ولو كان ثمنها حراماً، وبه وقعت العقدة كان البيع فاسداً أرأيت لو اشتراها بجارية فدلّس المشتري كما دلس البائع فيما باع، فهذا حرام بحرام، يبطل به البيع وليس كذلك إنما حرم عليه التدليس والبيع نفسه جائز، وإن كان من أحدهما سبب يحرم وليس السبب هو البيع، ولو كان هو البيع لحرم البيع وفسد الشراء وهذا مسطور في بعض نسخ المزني. وأجاب أصحابنا عن هذا بأن مراد الشافعي تحريم فعل التدليس واكتساب الثمن به. وقال الإمام أبو محمد الجويني: ليس هذا بإنصاف للمزني لأن الشافعي قال: فيكون التدليس محرما فأفادنا تحريم هذا الفعل ثم زاد فقال: وما أخذ من ثمنه محرماً فلا بد من زيادة. فائدة: والأحسن في جواب المزني أن يقال: لفظ التحريم ربما يطلق والمراد به التبرئة، وهكذا يقول فيمن دلس في بيع وأخذ ثمنه المستحب من طرق التبرية أن يعد هذا الثمن من جملة المحرمات تحرجاً [95/ب] لا تحريماً. وقد قال الشافعي: وحرم التل ليس على معنى أنه إثم وتغرير لا على معنى أن البيع معه غير منعقد فلذلك قوله: وما أخذ من ثمنه محرماً أي: محرم الأخذ لا محرم العين وهذا أولى من الجواب الأول، وقيل: أراد الشافعي أنه لم يكن محرماً لمعنى يعود إلى المعقود عليه. بل لمعنى في العاقد فلا يضر صحة البيع. مسألة: قال: فإن قال: ثمنها أكثر من مائة وأقامَ على ذلك بينة لم يقبلْ. إذا باع شيئاً مرابحة على كل عشرة درهم وقال: اشتريت بمائة وتفرقا عن تراض منهما ثم رجع البائع إلى المشتري، وقال: غلطت كنت اشتريته بمائة وعشرة دراهم وأنا

باب الرجل يبيع الشيء إلى أجل ثم يشتريه بأقل من الثمن

أستحق عليك أحد عثر درهماً، لا يقبل قوله في ذلك، لأنه أقر في الأول بأقل من ذلك فلا يقبل رجوعه عن إقراره، وإن أقام على ذلك شاهدين لم تقبل شهادتهما بإقراره الأول، ومن كذب بينة نفسه لم يقبل منه، ولو قال: احلفوا لي المشتري أنه لا يعلم صحة ما أقول فهل يحلف أم لا؟ [196/أ] فالقول قول المشتري كذلك هاهنا. باب الرجل يبيع الشيء إلى أجل ثم يشتريه بأقل من الثمن مسألة: قال: ولا بأس أن يبيع السلعة إلى اجلٍ ثم يشتريها من المشتري. الفصل القصد به جواز بيع العينة وصورته أن يبيع السلعة إلى أجل ثم يشتريها من المشتري بأقل نقداً يصح البيع الأول والثاني جميعاً، وكذلك لو اشتراها بمثل ذلك الثمن أو بأكثر وبه قال ابن عمر وزيد بن أرقم رضي الله عنهما، وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يشتريها بأقل من الثمن الأول، وبه قال ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما، وهو قول مالك وأحمل وإسحاق، وقال أبو حنيفة: يجوز أن يشتريها بسلعة قيمتها أقل من قدر الثمن قال: ولو باعها بدراهم ثم اشتراها بدنانير قيمتها أقل من قدر الثمن لم يجز استحساناً، قال: وإن باعها بأجل ثم اشتراها بأكثر من ذلك الأجل لا يجوز. قال: ولو اشتراها وكيله له بأقل من ذلك الثمن جاز [196/ب] قال: ولو اشتراها والد البائع لم يجز بأقل من الثمن الأول وهذه مناقضات. واحتجوا بما روي أن امرأة أتت عائشة رضي الله عنها فسألتها عن بيع باعته من زيد بن أرقم قالت: بعت من زيد بن أرقم فرساً بثمان مائة درهم إلى العطاء ثم اشتريته منه بستمائة نقداً، فقالت: بئس ما شريت وبئس ما بعت أخبري زيد بن أرقم: "أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب"، وأجاب الشافعي عن هذا بأن هذا الخبر غير ثابت لأنه رواية امرأة أبي السقر عن عائشة بنت عجرد وهماً مجهولتان ثم إن ثبت نحمله على أن عائشة رضي الله عنها عابت البيع إلى العطاء لأنه أجل غير معلوم ثم قال: وزيد صحابي فإذا اختلغوا فمذهبنا القياس وهو مع زيد وهو ما ذكر أن السلعة ملكه فله أن يبيع كيف شاء هل يدل على أن القياس لا يقتضيه، وقول الصحابي إذا اجتمعا في مسائل اختلفت الصحابة فيها تقديم [197/أ] القياس، وإن كان القول الثاني: صادراً عن كبراء الصحابة إنما يقولون قصد هذا العاقد أن يعطي خمس مائة ليسترد بعد زمان ألفاً وهذا عين الربا قلنا: قصده الفرار من الربا. وقدر هذا التقدير لما جاز أن يشتريها بسلعة قيمتها. . . أيضاً. تم الجزء الرابع حسب تقسيم المؤلف ويليه إن شاء الله تعالى الجزء لخامس وأوله: باب تفريق الصفقة

بَحْرُ المَذْهَبِ في فُروعِ المذْهَب الشّافعي تأليف القاضيُ العلاّمة فخر الإسلَام شيَخ الشّافعيّة الإمَام أبي المحاسن عَبد الواحد بن إسماعيل الرّوُيَاني المتوفي سنة 502 هـ تحقيق طَارق فَتحي السَيِّد الجُزء الخامِس يحتَوي علَى الكتب التّالية: تتمة البيُوع- التفليس- الحجر- الصّلح- الحوالة- الضّمان

بسم الله الرحمن الرحيم [ق 2 أ] باب تفريق الصفقة قَالَ المُزَنِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: "اخْتَلَفَتْ أَقَاوِيلُهُ فِي ذَلكَ وَبَيَّضْتُ لَهُ مَوْضِعًا أَكْتُب فِيهِ شَرْح أَوْلَى قَوْلَيْهِ إِنْ شَاءَ اللَّه تَعَالَى". ولم يذكر شيئًا من المسائل ولكنه ذكرها في المختصر الكبير وفي بعض نسخ المزني ترك ورقة أو ورقتين بياضًا جريًا على الرسم، ونحن نذكر ذلك وجملته: أن نقول إن تفريق الصفقة يقع تارة في ابتداء العقد عند رد أو تلف بعض المبيع قبل القبض أو غير ذلك، وأما في الابتداء فقسمان: أحدهما: أن يجمع بين شيئين لو أفرد كل واحد منهما بالعقد جاز. والثاني: أن يكون أحدهما لو أفرد جاز والآخر لا يجوز، فيجمع بينهما، فأما القسم الأول فقسمان: أحدهما: أن يكون الجمع بينهما ممتنعًا، وهو مثل الجمع بين الأختين في النكاح أو خمس نسوة، وحكمه أن العقد في الكل باطل إذ ليس أحدهما أولى من الآخر. والثاني: أن يكون حكم العقدين في الدين جمع بينهما في صفقة مختلفًا مثل أن يجمع بين بيع وإجارة، أو بيع وصرف، أو بيع وسلم وفي ذلك قولان: أحدهما: بضمان وبه قال أبو حنيفة: لأن جملة العوض والمعوض معلومًا. والثاني: لا يجوز؛ لأن بعض العوض ثمن وبعضه أجرة {ق 2 ب) وكل واحد منهما مجهول، وقد يرد فسخ على أحدهما دون الآخر لاختلاف حكمهما، مثل أن يغصبها غاصب فالعقد لا يبطل في البيع ويبطل في الإجارة في قدر ما يكون في يد الغاصب، أو في الصرف وغيره فيفترقان من غير قبض فيبطل في الصرف ولا يبطل في الباقي، فيحتاج أن يعرف نصيب كل واحد منهما بالتوزيع وكان ذلك مجهولًا حالة العقد. ومن جملة هذا القسم السلم في أنواع بخلاف بيع العين إذا شمل أنواعًا يجوز قولًا واحدًا، لأن أحد الأجناس ربما ينقطع دون الباقي، قال أصحابنا: وكذلك السلم إلى آجال على القولين، والأصح من هذا أنه يجوز قولًا واحدًا، ولو جمع بين نكاح وبيع، أو نكاح وإجارة ففيه القولان في المهر، وفي العقد المضموم إليه.

وأما نفس النكاح فلا يبطل؛ لأن جهالة العوض لا تمنع صحة النكاح، فإن قلت جاز الجمع بين العقدين صح وقسط المسمى عل مهر مثلها وعلى قيمة المبيع، أو على مهر مثلها وأجرة مثل الدار المستأجرة. وإذ قلنا: لا يجوز فسد الكل إلا النكاح ولها مهر مثلها، وصورة المسألة أن تأذن لوليها في التزويج وتوكله ببيع عبدها، فيقول الخاطب: تزوجت بفلانة واشتريت هذا العبد بألف درهم، ويقول الولي: زوجتكها وبعت، وعلى هذا {ق 3 أ) لو باع حنطة وثوبًا بشعير كان على القولين، لأن التقابض في الشعير وما يقابله من الحنطة واجب ولا يجب في الباقي. وأما القسم الثاني: وهو أن يجمع ما لا يجوز وبين ما يجوز، فإن باع عبد نفسه وعبد غيره بغير إذنه صفقة واحدة فالبيع باطل في ملك غيره قولًا واحدًا، وهل يصح في ملك نفسه؟ قولان منصوصان: أحدهما: لا يصح وهو اختيار القاضي الطبري وله تعليلان: أحدهما: أن الصفقة جمعت محظورًا ومباحًا فغلب الحظر. والثاني: أنه مؤدى إلى جهالة الثمن، وذلك أن الثمن المسمى قابلهما ولابد من توزيعه عليهما بمناسبة القيمة، وربما يتفاضلان في الحصة وربما يتماثلان، وهذه الجهالة مستندة إلى طلب العقد فيبطل العقد. والثاني: وهو اختيار أبي حامد ومشايخ خراسان وهو قول أبي حنيفة، وبه أفتى لأنهما عينان معلومتان لو أفردت كل واحدة منهما بالعقد خالف حكمها حكم الأخرى، فإذا جمع بينهما وجب أن يحكم لكل واحد منهما بحكم المنفرد، كما لو باع شقصًا وسيفًا، وهكذا إذا باع عبده وأباه أو حرًا آخر وشاةً مذكاة وميتة أو حيًا وميتًا، أو شاةً وخنزيرًا، أو باع عبده وأم ولده، أو مكاتبة صفقة واحدة. ومن أصحابنا من قال: إذا {ق 3 ب) باع عبده وأباه، أو حيًا أو ميتًا، أو شاةً وخنزيرًا يبطل البيع في هذه المسائل الثلاث قولًا واحدًا، وهذا اختيار الشيخ حسين في شرح "التلخيص" فإن قيل: ما الفرق بين هذه المسائل الثلاث وبين أن يبيع شاة مذكاة وشاة ميتة صفقة واحدة يجوز البيع في الزكاة في أحد القولين. قلنا: الفرق أن الشاة المذكاة إذا عرفنا قيمتها عرفنا قيمة الميتة لو لم يكن حرامًا بالشرع. وليس كذلك الخمر والخل لاختلافهما في الصفة، وكذلك الخنزير لا يجوز تقويمه ولا تعرف قيمته بمعرفة قيمة الشاة. وهذا ضعيف عندي؛ لأن معرفة الحر يمكن بمعرفة قيمة العبد وهذا القائل يقول: يبطل البيع فيهما قولًا واحدًا. وقيل: قول الجواز أولى ههنا؛ لأنه لا يكون جملة الثمن فيما يقبل العقد فلا يؤدي إلى جهالة الثمن في الأول. وقال أبو حنيفة: إن كان الفساد في إحداهما ثبت بنص أو إجماع كالحر والعبد، أو الميتة والذكاة، أو الشاة والخنزير يبطل فيهما، وإن كان الفساد في إحداهما بغير ذلك كأمة وأم ولد أو مدبر صح في الجائز.

وقال فيمن باع مذكى ومتروك التسمية عليه {ق 14 أ) عمدًا يبطل البيع فيهما، وخالفه أبو يوسف ومحمد في هذا، وعن أحمد روايتان كالقولين لنا، وقال مالك وداود: يبطل العقد في الكل إلا إذا باع عبده وعبد غيره يصح في عبده ويقف في عبد غيره على الإجازة. فإذا تقرر هذا، فإن قلنا الصفقة تعرف صح العقد فيما يصح لو انفرد وبطل في الآخر، ولا فرق بين أن يكون بيعًا أغير بيع مثل أن يرهنه حرًا أو عبدًا أو زوجة أجنبية ومحرمًا الباب كله واحد. وإن قلنا: لا تفرق لا يخلو إما أن يتقسط الثمن عليهما بالقيمة أو بالإجزاء، فإن كان من طريق القيمة لا يصح العبد فيهما بلا إشكال، وإن كان من طريق الإجزاء فحكمه مبني على اختلاف التعليلين، فإن قلنا: العلة أن الصفقة جمعت حرامًا وحلالًا لا يصح العقد فيهما أيضًا، وإن قلنا: العلة الثانية يصح فيما له؛ لأن حقه غير مجهول فيكون فيه قولًا واحدًا، يصح البيع في ماله، والصحيح أن فيه قولين أيضًا، ولا اعتبار بهذا التفصيل؛ لأن الشافعي- رحمه الله- نص على أنه لو باع ثمرة وجبت فيها الزكاة لا يصح في مقدار الزكاة وفيما عداه قولان وعلى هذا لو باع عبدًا نصفه منصوب أو نصفه حر، فإن قلنا بالعلة الأولى يبطل البيع في الكل، وإن قلنا: {ق 4 ب) بالعلة الثانية صح في النصف المملوك إذ لا جهالة لأن من باع شيئًا يعرف أن حصته نصفه نصف الثمن وعلى هذا لو رهن عبده وعبد غيره، فإن قلنا بالعلة الأولى يبطل الرهن فيهما، وإن قلنا بالعلة الثانية صح من عبده إذ لا توزيع في الرهن فإن بعض الرهن رهن لجميع الدين، وجميع الرهن رهن بجزء الدين. وعلى هذا لو نكح أجنبية ومحرمًا بعقدٍ واحدٍ أو جمع بين حرة وأمة فعلى العلة الأولى يبطل العقد فيهما، وعلى العلة الثانية صح العقد في أحدهما؛ لأن جهالة المهر لا تبطل النكاح. فإذا تقرر هذا، تفرق الصفقة ويصح العقد في الجائز فالمشتري بالخيار إن شاء رد البيع فيه، وإن شاء أجازه، فإن أجازه فبكم يجيزه من الثمن؟ قولان: أحدهما: يجيزه بقسطه من الثمن وهو الأصح؛ لأنه بذل الثمن في مقابلتهما فإذا بطل في أحدهما سقط قدر ما يقابله. والثاني: يجيزه بكل الثمن؛ لأن الذي لم يصح فيه البيع لا قسط له من الثمن، فعلى القول الأول يقدر في الحر لو كان عبدًا كم كانت قيمته ويوزع الثمن عليهما، وفي الخمر يقدر أنه لو كان خلًا كم كانت قيمته، وفي الميتة يقدر أنها لو كانت مذبوحة كم كانت قيمتها. ومن أصحابنا بخراسان من {ق 5 أ) قال: في الحر والعبد والخمر والخل والخنزير والشاة أنه يأخذ بحصته من الثمن ففيها قول واحد بكل الثمن ذكره القفال والقاضي والطبري. وأما المذكاة والميتة قال القاضي الطبري: فيه قولان أيضًا وفرق بما تقدم، وذكر

القفال أنه على قول واحد، وقال في "الحاوي" إن لم يكن الحرام مالًا ولا في حكم المال كالميتة والخنزير، فقول واحد لأنه يمسك الحلال بكل الثمن، وإن كان في حكم المال كأم الولد أو يمكن أن يقوّم تقويم المال كالحر فيه قولان، والأصح أنه يمسك بالقسط، وهذا حسن عندي. ومن أصحابنا من قال: القولان فيما يتقسط الثمن على قيمتهما. فأما فيما يتقسط على أجزائهما كالطعام يمسك حصته قولًا واحدًا؛ لأن ما قابله من الثمن معلوم، ومن أصحابنا من قال: وهو الصحيح في الكل قولان، لأن الشافعي نص في الثمار التي وجبت الزكاة فيها إذا باعها على هذين القولين هل يمسك بكل الثمن أو بالحصة؟ وإذا قلنا: يمسك بكل الثمن لا خيار للبائع، وإذا قلنا: يمسك لحصته من الثمن هل للبائع الخيار؟ وجهان: أحدهما: له الخيار؛ لأنه يثبت للمشتري الخيار إذا تبعض عليه المبيع فيثبت للبائع الخيار [ق 5 ب] إذا تبعض عليه الثمن. والثاني: وهو الصحيح لا خيار، لأنه دخل في العقد عالمًا أنه يصح في العبد دون الحر وأنه لا يقابله الثمن فرضي بتبعض الثمن، وأما في النكاح إذا جوزنا في الجائز. لا تلزمه إلا الحصة من المهر فيوزع المسمى على مهر المثل المرأتين قولًا واحدًا، لأنه لا خيار له فيه، فإن ألزمناه بكل المسمى في مقابلة بضع إحدى المرأتين كان ظلمًا وفي البيع له الخيار، فإذا ألزمناه بكل الثمن في أحد القولين ما ظلمناه لأنه اختار ذلك هل إذا باع معلومين، أما إذا باع معلومًا ومجهولًا مثل إن قال: بعتك عبدي هذا وعبد آخر بألف، فإن قلنا: لا تفرق الصفقة بطل فيهما، وإن قلنا: تفرق، فإن قلنا: يأخذ الباقي بكل الثمن أو يرد صح لأن الجهالة قد زالت. وإن قلنا: يأخذ الحصة بطل لأنه لا يمكن الرجوع إلى حصته ثمنه من المسمى لأن الآخر مجهول. والقسم الثاني: من تفريق الصفقة وهو أن يفرق في الانتماء وذلك قسمان: أحدهما: أن يفرق بغير اختيار من أحدهما. والثاني: أن يكون بالاختيار، فأما بغير الاختيار فقسمان: أحدهما: أن ينفسخ في أحدهما والآخر قائم. والثاني: أن يكون الآخر [ق 6 أ] تالفًا، فإن كان قائمًا مثل أن يبيع عبدين فيموت أحدهما قبل القبض والآخر باقٍ في يده، أو في المشتري أو يكري دارين فتنهدم إحداهما، فالصحيح أن هذه المسائل لا تبطل العقد في الآخر قولًا واحدًا؛ لأن الفساد لم يوجد في نفس العقد ولا يتعدى من أحدهما إلى الآخر ثم للمشتري الخيار، فإن اختار

الإجارة يمسكه بحصته قولًا واحدًا، لأن الثمن قابلهما جميعًا، فإن تلف أحدهما لم تنتقل حصته من الثمن إلى الآخر؛ بل بقي بحصته بخلاف ما لو كان أحدهما ميتًا عند العقد؛ لأن العوض لا يقابل الميت، وهذا اختيار أبي حامد. وقال بعض أصحابنا: يجيء فيه القولان لتفريق الصفقة؛ لأن الفساد الطارئ بعد العقد قبض القبض بمنزلة المقارن، وكذلك هل يمسك الباقي بحصته من الثمن أو بكل الثمن؟ قولان، ذكره القاضي الطبري، أو القاضي أبو حامد وهذا ضعيف عندي، ومن أصحابنا من قال: هذا مرتب على القسم الأول فإن قلنا: هناك. يبطل في الكل فههنا قولان، وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا إذا لم يقبض أحدهما، فإن قبض أحدهما وتلف الآخر في يد البائع ترتب على ما لم يقبض أحدهما [ق 6 ب]. فإن قلنا: لا يبطل هناك في القائم فههنا أولى، وإن قلنا هناك يبطل فههنا قولان. والفرق أنه تأكد بالقبض بخلاف ذاك، وإن وقعت الصفقة على سلعة بعينها كثوب أو دار فاحترق بعض الثوب أو انهدم بعض الدار، أو كان عبدًا فذهب بعض أعضائه فإنه يأخذ ما بقي ناقصًا بكل الثمن إن اختار الإجازة. وروى البويطي هذا ثم قال: وقد قيل: يأخذه ويقسط عنه ما يقبض بحصته من الثمن، وهذا غلط والمذهب الأول، هذا إذا كان بآفة سماوية فإن جنى عليه فقد ذكرنا، والقسم الآخر أن يكون الآخر تالفًا عند المشتري بأن يتلف أحد العبدين عنده ويتلف الآخر عند البائع، أو يكتري دارًا فيسكنها بعض السنة، ثم انهدمت فما مضى من السنة من منفعته مقبوضة تالفة ومنفعة الباقي تلفت قبل القبض، فالحكم فيه ما قلنا أن الفساد لا يؤدي إلى التالف عند المشتري أو عند المستأجر، وهل له الخيار في الفسخ فيما تلف عنده حتى يرد قيمته ويسترد كل المسمى أو في الدار يغرم أجرة المثل لما مضى ويسترد المسمى كله؟ قولان، أصحهما ليس له ذلك بخلاف ما لو كان الباقي قائمًا يمكن رده، والباقي له الخيار {ق 7 أ) كما في القائم، ثم سواء قلنا: لا خيار له أو قلنا: له الخيار فاختار الإجازة فإنما يلزمه بالصحة قولًا واحدًا للعلة التي ذكرنا بكل ما قلنا في البيع والإجازة فمثله في المسلم إذا قبض البعض ثم انقطع جنس المسلم فيه من أيدي الناس وقلنا: ينفسخ العقد فيما بقي بنفاد المسلم فيه. فأما إذا قلنا: لا ينفسخ ولكن يثبت للمشتري حق الفسخ فالكلام فيه كالكلام في الرد بالعيب، وهو القسم الآخر أن يكون الفسخ بالاختيار وله حالتان أيضًا إما أن يكون الآخر الذي لا عيب به أو لا يريد رده قائمًا أو تالفًا، فإن كان قائمًا فهل له تفريق الصفقة؟ قد ذكرنا قولين، وإذا جوزنا ورد أحدهما رده بحصته من الثمن، ولا يجوز غير هذا لأنه لو رده بكل الثمن يكون ظلمًا، وإن أمسك الباقي بكل الثمن باختياره فدعت فائدة الرد، وإن كان الآخر تالفًا، فإن قلنا: هناك له تفريق الصفقة فههنا أولى وإلا فقولان وقد ذكرنا ذلك.

باب اختلاف المتبايعين

باب اختلاف المتبايعين أخبرنا أبو عيينة .... وذكر الخبر .... إذا اختلف المتبايعان في قدر الثمن الذي عقد به البيع فقال البائع: بعت بألفين وقال المشتري: بل بألف يتحالفان [ق 7 ب] ويفسخ العقد، ولا فرق بين أن تكون السلعة قائمة أو تالفة وبه قال محمد، وأحمد في رواية، وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: إن كانت السلعة قائمة يتحالفان، وإن كانت تالفة فالقول قول المشتري مع يمينه ولا يتحالفان، وهي الرواية الأخرى عن أحمد. وعن مالك ثلاث روايات: إحداها: مثل قولنا. والثانية: قول أبي حنيفة. والثالثة: إن كان قبل القبض يتحالفان، وإن كان بعض القبض، فالقول قول المشتري وذكر في "الحاوي" رواية عنه أن القول قول من الشيء في يده، لأن اليد تدل على الملك. وقال زفر، وأبو ثور وداود: القول قول المشتري بكل حالٍ؛ لأن الأصل براءة الذمة واحتج الشافعي- رحمه الله- بما روى ابن مسعود- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا اختلف المتبايعان فالقول قول البائع والمبتاع بالخيار. وفي ظاهر هذا اللفظ إشكال؛ لأن الإجماع من الجمهور منعقد على التحالف في حال قيام السلعة وليس في ظاهر هذا اللفظ أمر بالتحالف ولكنه قال: فالقول قول البائع والمبتاع بالخيار. وإزالة هذا الإشكال أن يقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين من الحكم ما هو {ق 8 أ) أقرب إلى الإشكال والوهم، وأعرض عن بيان الواضح. ومعلوم أن البائع إذا ادعى على المشتري زيادة الثمن فلا يكاد يشكل أن القول قول المشتري في نفي تلك الزيادة، وإنما يشكل جانب البائع في هذه المسألة فعمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى محل الإشكال وأوضحه بقوله: "فالقول قول البائع" وقد علم بالإجماع الذي لا يخفي معناه أن القول قول المشتري فتوجه اليمين على كل واحد منهما، وإن كانت إحدى اليمينين بظاهر الخبر واليمين الأخرى بالإجماع، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- في حديث آخر، وهو ما رواه مالك أنه بلغه عن ابن مسعود- رضي الله عنه- أنه كان يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما بيعين تبايعا فالقول قول البائع أو يترادان" ومعنى هذا الحديث مثل معنى الحديث الأول وليس في هذا الحديث ذكر الاختلاف ومعناه الاختلاف ولكنه ضرب عن الإيجاز والاختصار، وإنما قوله في الحديث

الأول "والمبتاع بالخيار" فمعناه، والله أعلم أن البائع إذا ادعى أن البيع انعقد بألفين والمشتري يزعم أنه انعقد بألفٍ فالمبتاع {ق 8 ب) بالخيار إن شاء أحدهما بألفين كما يزعم البائع، وإن شاء خلف وفسخ ورد واسترد. وهذا الخيار كان للبائع أيضًا، لأنهما إذا تحالفا فالبائع إن شاء طلب الفسخ، وإن شاء رضي بقول المشتري وسلم السلعة بألفٍ، وهذا أيضًا ضرب من الاختصار فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر الخيار في جانب المشتري نبهنا على الخيار في جانب البائع لاشتراكهما في الصفة واستوائهما في التحالف. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اختلف المتبايعان يتحالفا ويترادا" ومعنى التراد: يحتمل أن يكون راجعًا إلى تراد العقد وهو الفسخ، وقيل: إنما ذكر البائع لأنه يبدأ بيمينه، ثم قال الشافعي- رحمه الله تعالى-: "قَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أنَّ البَيِّنَةَ عَلَِى المُدَّعِي وَاليَمِينُ عَلَى المُدَّعَى عَلَيهِ" فإذا تبايعا عبدًا ثم اختلفا في الثمن فالبائع يدعي فضل الثمن والمشتري يدعي ملك السلعة بأقل من الثمن فيتحالفان، وقصد الشافعي به تقرير ما قدمناه تقريره وهو أن كل واحد منهما مدعي من وجه ومدعى عليه من وجه فتوجهت اليمين على كل واحد منهما. واحتجوا بما روى ابن مسعود رضي {ق 9 أ) الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اختلف المتبايعان والسلعة قائمة ولا بينة لأحدهما تحالفا فشرط قيام السلعة، قلنا: روى بعض مشايخنا بخراسان، والسلعة قائمة أو تالفة" ثم نص على قيام السلعة تنبيه على حال تلف السلعة؛ لأن عند قيامها يمكن معرفة ثمنها في العرف وقول من هو أقرب إلى الصدق بخلاف حال التلف، فإذا تحالفا حال قيام السلعة فلأن يتحالفا عند التلف أولى. وهكذا لو اختلفا في قدر المبيع فقال البائع: بعتك هذا العبد وحده بألف، وقال المشتري: بل هذا وهذا الآخر بألف أو في صفة الثمن، فقال البائع بالصحاح، وقال المشتري بالمكسرة وهكذا لو اختلفا في شرط يلحق بالعقد يختلف الثمن باختلافه مثل إن قال: بعتك بألفٍ نقدًا، وقال المشتري إلى سنة، أو قال البائع إلى سنةٍ، وقال المشتري: إلى سنتين أو اختلفا في أصل خيار الشرط أو في قدره، أو ضمان عهدة المبيع أو في قدرها أو في الشهادة، أو في قدرها مثل إن قال: على أن تشهد لي بالثمن شاهدين، وقال المشتري: بل {ق 9 ب) شاهدًا واحدًا، ففي كل هذا يتحالفان. وقال أبو حنيفة، وأحمد- رحمهما الله تعالى-: لا يتحالفان في هذه المسائل والقول قول من ينفيه. وهذا غلط لأنهما اختلفا في صفة العقد القائم بينهما وليس معهما بينة فوجب أن يتحالفا، كما لو اختلفا في الثمن. وأما إذا اختلفا في شرط يفسد العقد فالقول قول من ينفي ذلك بلا خوف نص عليه في البويطي. هكذا ذكره أهل العراق، وقد

ذكرنا عن صاحب "التقريب" أنه قال: القول قول مدعي الفساد، وكان ينكر أصل العقد والأصل عدمه فيقبل قوله. وقال القفال: عندي فيه قولان، وقال صاحب "الإفصاح" والقاضي الطبري وجهان كمن أقر بمال وقرن به ما يسقطه مثل إن قال: ضمنت مالًا على أني بالخيار أو على ألفٍ من ثمن عبد اشتريته بثمن مجهول. ولا فرق بين هذا وبين أن يقول: اشتريت منه هذا العبد بألف بأجل مجهول، ولو اختلفا في شيء مما ذكرنا بعدما تلف المبيع في يد البائع لا معنى له؛ لأن البيع قد بطل بذلك ولو اختلفا فقال: بعتكه بشرط البراءة من العيب وأنكر المشتري، فإن قلنا: هذا الشرط يبطل البيع فالقول قول من ينفيه على ظاهر {ق 10 أ) المذهب. وإن قلنا: يصح البيع والشرط وقد ذكرنا أن القول قول المشتري وهو الصحيح ويبطل الشرط فلا يحتاج إلى التحالف، لأنه لا يضر إقرارهما به، والشرط غير لازم، وإن بدأ بيمين المشتري جاز، وهكذا ذكره عامة أصحابنا. وقال في "الحاوي": ظاهر المذهب أنه يبدأ بيمين البائع، فهل تقديمه في اليمين بطريق الأولى أو من طريق الاستحقاق؟ وجهان: أحدهما: أنه استحقاق فإن قدم عليه المشتري لا يجوز إلا أن يؤدي إليه اجتهاده وهو الأشبه. والثاني: أنه على طريق الأولى، فإن قدم على المشتري جاز، وإن لم يؤد إليه اجتهاده. ثم اعلم أنه نص ههنا أنه يبدأ بيمين البائع. وقال في السلم يبدأ بيمين المسلم إليه، وهو بمنزلة البائع. وقال في الكتابة: يبدأ بيمين السيد وهو كالبائع. وقال في "النكاح": إذا اختلفا في الصداق يبدأ بيمين الزوج وهو كالمشتري وقال في "كتاب الدعوى والبينات": يبدأ بيمين البائع. قال للمشتري: رضيت أن تأخذهما حلف المشتري قال للبائع: إن رضيت أن تسلم إليه المبيع بما حلف عليه سلمت وإلا حلفت، وهذا يقتضي أن يكون بالخيار في البداية بأيهما {ق 10 ب) شاء واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يبدأ بيمين البائع وبه قال أحمد للخبر الذي ذكرنا، فالقول قول البائع والمبتاع بالخيار، ولأن جانبه أقوى لأنهما إذا تحالفا انفسخ البيع وعادت السلعة إلى ملك البائع فكان اليمين من جانبه كما قلنا في صاحب اليد القول قوله مع يمينه. والثاني: يبدأ بيمين المشتري، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن جانبه أقوى فإنهما يقران بأن السلعة ملكه في الحال، وإنما يدعي البائع عليه زيادة الثمن. والثالث: الحاكم بالخيار فيبدأ بأيهما شاء، لأنهما مدعوان، لأن حق البائع في

الثمن وحق المشتري في المبيع فتساويا في اليمين كرجلين تنازعا دارًا في أيديهما فالحاكم يحلفهما ويبدأ بما شاء منهما. وقال بعض أصحابنا: المسألة على قول واحد يبدأ بيمين البائع، وإنما قال في النكاح: يبدأ بيمين الزوج لأنهما إذا تحالفا لا يبطل النكاح ويبقى البضع على ملك الزوج كما تبقى السلعة على ملك البائع بعد التحالف ههنا فحل الزوج محل البائع. وأما قوله في "كتاب الدعوى والبينات" له تأويلان: أحدهما: أنه أراد أن يبين البداءة ليست بشرط في صحة اليمين {ق 11 أ) ههنا وإنما هي استحباب. والثاني: ذكر مذهب الحاكم لا مذهب نفسه فكأنه قال: إن كان مذهب الحاكم البداية بيمين البائع، قال للمشتري كذا، وإن كان مذهبه البداية بيمين المشتري قال للبائع كذا، وليس كالدار يتنازع فيها اثنان، لأن لا ميزة لأحدهما على الآخر وههنا للبائع مزية على ما ذكرنا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه طريقة ثالثة وهي أن في هذا أو في النكاح قولين: أحدهما: يبدأ بيمين البائع ويمين الزوجة؛ لأن الأصل أنهما ملك البائع والأصل أن لا نكاح. والثاني: يبدأ بيمين الزوج والمشتري كما ذكرنا أن البائع يدعي زيادة الثمن والمرأة تدعي زيادة العوض. فإذا تقرر هذا فإنه إذا بدأ بالبائع وهو الصحيح فحلفه فلابد من أن يحلف على النفي والإثبات، والظاهر من مذهب الشافعي- رحمه الله تعالى- أنه يجمع بينهما في يمين واحدة. نص عليه في "الأم" فقال: بدأت بيمين البائع فإذا اختلف قلت للمبتاع: أترضى أن تأخذ المبيع بما حلف عليه البائع والظاهر من هذا يمين واحدة. وقال في كتاب "الدعوى والبينات": وإذا تداعا رجلان دارًا في يد أحدهما فحلف أحدهما صاحبه على {ق 11 ب) النصف الذي في يده، وقلت للآخر: أتحلف فإن حلف قسمت الدار بينهما نصفين وإن لم يحلف ردت اليمين على الحالف، فإن حلف قضيت له بجميع الدار فنص على أنه لابد من أن يحلف يمينًا على النفي ويمينًا على الإثبات، واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال ههنا قولان: أحدهما: يميناً واحدة. والثاني: يمينين ولا خلاف في مسألة تداعي الدار أنه يحتاج إلى يمينين ومن أصحابنا من قال: هذا قول واحد كما نص عليه في "الأم" والفرق أن كل واحد منهما يدعي نصف الدار في يد صاحبه، فلو قلنا يمينًا واحدة على النفي والإثبات فكان قد حلف على إثبات ما في يد الغير قبل نكوله، وذلك لا يجوز، وههنا لا خلاف في أصل

العقد، فإذا حلف على ما وقع عليه العقد لم يكن ذلك يمينًا على ما في يد غيره قبل نكوله عن اليمين فافترقا، فإذا قلنا: يحلف يمينًا واحدة وهو المذهب يجمع فيها بين النفي والإثبات فيقول: والله الذي لا إله إلا هو ما بعته بكذا، ولقد بعته بكذا، ثم قيل للمبتاع قد حلف البائع أترضى بما حلف عليه، فإن لم يرض حلف فقال: والله الذي لا إله إلا هو ما اشتريته بكذا وإن نكل عن اليمين قضى [ق 12 أ] عليه بالثمن الذي حلف عليه البائع وقد تقدم النفي على الإثبات. وإذا قلنا: يحلف يمينين يبدأ البائع فيحلف ويقول: والله الذي لا إله إلا هو ما بعته بكذا، ثم يقول للمشتري: حلف على النفي فيحتاج أن يحلف على النفي أيضًا، فإن لم يحلف جعلناه ناكلًا ورددنا اليمين على البائع فيحلف على الإثبات، وإن حلف المشتري على النفي فقال: والله ما اشتريت بكذا فقد تساويا فتعاد اليمين على البائع في الإثبات يقول: والله لقد بعته بكذا، فإن لم يحلف قيل للمشتري: احلف على الإثبات، فإن حلف فقد تساويا، وإذا نكل عن اليمين قضينا عليه الثمن الذي حلف عليه البائع، وتقدم النفي على ما ذكرنا. وقال الإصطخري: يبدأ بالإثبات لأن الله تعالى قدم الإثبات على النفي في اللعان، ثم يقول في الخامسة: وعليه لعنة الله إن كان من الكاذبين، وهذا غلط؛ لأن الأصل في الأيمان النفي ولا يثبت بها لا بالنكول ورد اليمين أو تبعًا للنفي فيجب أن يقدم النفي، وأما اللعان فكل الأيمان هناك إثبات وليس فيها نفي، وقوله: إن كان من الكاذبين إثبات للصدق مثل قوله: إنه لمن الصادقين. فإذا تقرر هذا، وحلفا جميعًا فهل [ق 12 ب] ينفسخ البيع أو يحتاج إلى فسخ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: ينفسخ كما لو لاعن الزوج ينفسخ النكاح ولأن بالتحالف صار الثمن مجهولًا فأوجب انفساخه. ومنهم من قال: لا ينفسخ ويحتاج إلى فسخ وهو المذهب المنصوص في كتبه الجديدة والقديمة ولا يعرف له غير ذلك، وقد قال: إذا حلف البائع قيل للمبتاع، فإذا تحالفا أولى أن لا ينفسخ وهذا لأنهما أقرا أن العقد وقع صحيحًا فيعارضهما في الحجة لا بفسخه. فإذا قلنا بهذا فالصحيح أن الحاكم بعد تحالفهما أترضى بما قال صاحبك؟ فإن رضي أحدهما به أمضى الحكم بينهما، وإن امتنعا فسخ العقد بينهما، وبه قال أبو حنيفة: لأنه فسخ مختلف فيه كالفسخ بالغيبة فيحتاج إلى الحاكم، فعلى هذا لو فسخه المتبايعان لم ينفسخ حتى يفسخ الحكم عليهما، ولا يجوز للحاكم أن يقسمه بعد تحالفهما إلا عن مسألتهما. ومن أصحابنا من قال: الفسخ إل كل واحد منهما فأيهما فسخ جاز اعتبارًا بالفسخ بالعيب، وهذا لأن كل واحد منهما يقول: لم يسلم إلى المبيع على الوجه الذي تناوله، وقيل: حصل ثلاثة أوجه ينفسخ بنفس التحالف. والثاني: ينفسخ بالتحالف وفسخ أحد المتبايعين [ق 13 أٍ].

والثالث: ينفسخ بالتحالف وفسخ الحاكم. فإذا قلنا: ينفسخ أو يفسخ فهل يقع الفسخ ظاهرًا وباطنًا؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يقع ظاهرًا وباطنًا كفسخ النكاح باللعان أو كالفسخ بالعيب. والثاني: يقع ظاهرًا لأن العقد وقع صحيحًا وإنما تعذر إمضاؤه في الظاهر فكان الفسخ في الظاهر دون الباطن. والثالث: إن كان البائع ظالمًا [يقع] في الظاهر دون الباطن، وإن كان مظلومًا وقع في الظاهر دون الباطن، والفرق أنه إذا كان البائع مظلومًا تعذر الوصول إلى تمام الثمن من جهته فهو كإفلاسه، فيكون البائع أحق بعين حاله أو كوجوده عيب بالثمن المعين، وإذا كان ظالمًا يمكنه الوصول إلى تمام حقه من الثمن، فإذا لم يفعل لم يحكم بارتفاع العقد في الباطن، وهذه الثلاثة الأوجه ترجع إلى وجهين في الحقيقة، لأنه لابد من أن يكون ظالمًا أو مظلومًا. فإذا قلنا: يقع الفسخ ظاهرًا وباطنًا يعود المبيع إلى ملك البائع يتصرف فيه كيف شاء، فإن كانت جارية حلت لها وطئها وتمليكها لغيره ببيع وهبة وغير ذلك. وإذا قلنا: ينفسخ في الظاهر دون الباطن، فإن تقارا على العقد جاز، وإن لم يتقارا فإن كان البائع ظالمًا لا يجوز له التصرف في المبيع لأنه [ق 13 ب] باعه بثمنن وهو قادر على تسليمه بذلك الثمن، ولو كانت جارية لا يحل لها وطئها ولا استخدامها بحالٍ، وإن كان مظلومًا فإنه بمنزلة من له حق على غيره ولا يصل إليه من جهته وقد حصل في يده ماله من غير جنس حقه فله أن يستوفي حقه من ثمنه، وهل يحتاج إلى دفعه إلى الحاكم ليتولى بيعه أو له بيعه بنفسه؟ وجهان؛ فإذا قلنا يبيعه الحاكم أو له بيعه بنفسه وجهان، فإذا قلنا يبيعه الحاكم أو قلنا: يبيعه بنفسه فباعه نظر، فإن كان ثمنه وفاء حقه أخذه، وإن كان أقل منه كان له الفضل عليه فيما بينه وبين الله تعالى، وإن كان أكثر يلزمه أداء الفضل على المشتري، لأنه لا يستحقه، ثم إذا تحالفا وترادا فالزوائد الحاصلة في ملك المشتري تبقى له ولا يلزمه أن يرد شيئًا منهما؛ لأنه كان مالكًا وإنما زال ملكه بما حدث من الفسخ، ولو كان وطئ الجارية لا يلزمه المهر. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا قلنا ينفسخ العقد بنفس التحالف ويجعل في التقتير كأنهما اختلفا في وقت التبايع، فقال هذا: بعت بألف، وقال ذاك: اشتريت بخمسمائة فلا ينعقد البيع بقول في حقيهما يجعل كأن العقد وقع باطلًا لا في حق غيرهما فيلزم رد الزوائد، والمهر لازم إذا كان وطئها [ق 14 أ] ولا يرد العين والمبيع لأنه حق ثالث سواهما، وهذا كما لو اشترى عبدًا وباعه ثم تقارا هو والبائع الأول على أن العبد كان حق الأصل لا يبطل حق المشتري ويقبل قولهما في حقهما كذلك ههنا، وإن كان البيع تالفًا وتحالفا وفسخ العقد بينهما يغرم قيمته، وإن زادت قيمته على ما ادعاه البائع. وقال ابن خيران: لا يلزم الزيادة على الثمن لأنه لا يدعيها، وهذا غلط لأنه بالفسخ

سقط اعتبار الثمن وصار الاعتبار بالقيمة، وأي قيمة يغرم؟ فيه وجهان: أحدهما: يغرم وقت التلف كالمأخوذ على وجه القوم. والثاني: يغرم أكثر ما كانت قيمته من يوم القبض إلى يوم التلف وهو كالوجهين في ضمان قيمة المبيع الفاسد، وإن كان فيها نقصان فيغرم للبائع أرش ذلك النقصان، وإن كانت بكرًا فأزال بكارتها يلزم أرش البكارة، وإن وطئ الثيب فلا شيء عليه، وإن اختلفا في قدر القيمة أو قدر أرش النقص، فالقول قول المشتري لأنه غارم، وإن كانت جارية وقد زوجها المشتري ردها من وجه وغرم نقصان ما بين قيمتها من وجه ويخير من وجه قيمة لا ثمنًا، وإن كانت مرهونة أو مكاتبة فهو كما لو كانت فاتنة ببيع أو عتق، وإن كانت مؤاجرة [ق 14 ب] فإن قلنا: لا يجوز بيع المؤاجر فهي كالمرهونة، وإن قلنا: يجوز بيع المؤاجر فهي كالزوجة. فرع لو كان المشتري رهنه، قد ذكرنا أنه كالغائب ولا ينفسخ الرهن ولكن هل له أن يأخذ المشتري بفكاكه قبل محله؟ فيه وجهان، فمن أذن لغيره في رهن عبده هل يطالبه بهذا؟ قولان: ثم إن افتكه منه رده على بائعه وبرئ من ضمانه، وإن بيع في الرهن ضمن قيمته للبائع. فرع آخر لو كانت التالفة مما له مثل فيه وجهان: أحدهما: يرد مثله كالمغضوب. والثاني: يلزمه قيمته لأنه لم يضمنه وقت القبض بالمثل، وإنما ضمنه بالعوض دون المثل بخلاف المغضوب. قال في "الحاوي": وهذا أصح. فرع آخر قال ابن الحداد: لو أن رجلين اختلفا في ثمن العبد الذي باعه أحدهما من صاحبه، فحلف البائع بحرية العبد أنه صادق فيما زعم وحلف المشتري كذلك فهذا ليس بتحالف ينفسخ به العقد، بل ينبغي أن يحالف بائعه عند القاضي، فإن تحالفا بعد ذلك عند القاضي دُعيا إلى التراضي فإن رضي أحدهما بما قال صاحبه حتى نفذ البيع بينهما وبقي العبد للمشتري له يعتق عليه، وإن لم يتراضيا فسخ العقد بينهما [ق 15 أ] عتق على البائع وكذلك لو رجع يومًا من الدهر إلى البائع عتق عليه، والمعنى فيه أن كل واحد منهما زعم أن صاحبه

كذب حين حلف بحرية العبد غير أن المشتري يقول: حلف كاذبًا بحريته والذي مكنك يعتق عليك فيؤخذ إقراره متى ملك العبد، وهذا كما أن المشتري إذا أراد رد المبيع بعيب فقال البائع: كيف ترده عليّ؟ وقد أعتقته، فقال المشتري: ما أعتقته فالقول قوله يحلف أني ما أعتقته، فإذا رد على البائع عتق عليه بإقراره، ولو قبله المشتري، ثم قال: عتق على المشتري لأنه أحنث نفسه بتصديق البائع. فرع آخر لو اختلفا فقال أحدهما: بعتك هذا العبد بألف درهم وقبضتها فأنكر المشتري، وقال: لا بل بعت هذه الجارية مني بألف درهم، قال أصحابنا: لا يتحالفان؛ لأن التحالف إنما يثبت بين المتعاقدين إذا اتفقا على العقد واختلفا في صفته وليس كذلك ههنا؛ لأن كل واحد منهما يدعي عقدًا غير العقد الذي يدعيه الآخر والتحالف إنما يكون إذا اتفقا في انتقال ملكه إلى المشتري وههنا لا يوجد ذلك. فإذا تقرر هذا، فإن لم يكن مع واحد منهما، بينة حلف هذا ما باع الأمة وأخذها وحلف المشتري [ق 15 ب] ما اشترى العبد، فإذا حلف نظر، فإذا كان العبد في يد المشتري لا يلزمه تسليمه إلى البائع لأنه لا يدعيه، وإن كان في يد البائع لم يجب على المشتري قبضه لأنه لا يدعيه، وإن كان مع كل منهما بينة وأقام البائع بينة أنه باع منه العبد وقبض الثمن، وأقام المشتري بينة أنه اشترى الجارية ووقر الثمن، فإن الجارية تسلم إلى المشتري، وأما العبد فإن كان في يد المشتري يترك في يده، ولا يرد على البائع؛ لأن البينة قد قامت بأنه ملكه ولا يدعيه أحد فأقر في يده، وإن كان في يد البائع فلا يترك في يده بلا خلاف، لأنه معترف بأنه ملك للغير ولا حق له فيه وما الذي يعمل به؟ فيه وجهان: أحدهما: يجبر المشتري على تسليمه؛ لأن البينة قد قامت بأنه ملكه وسقط ضمانه عن بائعه. والثاني: لا يجبر على تسليمه وهو منكر له، كما لو أقر لرجل بمال فأنكره لا يجبره الحاكم على أخذه، ثم إذا أخذه الحاكم نظر فيه، فإن كان الأحظ له بيعه، وحفظ ثمنه فعله، ومتى طلب دفعه إليه لأن ملكه لا يبطل بجحوده وله أن يتصرف بما شاء من البيع وغيره إلا الوطئ، فإنه لو كان المبيع جارية لا يحل له وطئها لإقراره أنها محرمة وعليه نفقتها ذكره في "الحاوي" [ق 16 أ] وإن كان الأحظ منه أن يؤاجره أو يأذن له في الكسب وينفق عليه من أجرته أو كسبه فعل، ثم يكون فاضل أجرته وكسبه في بيت المال حتى يعترف المشتري به ويأخذه مع الفاضل من كسبه وأجرته، ولو مات وخلف ورثته ذلك دفعه إليهم. وقال القاضي الطبري: يتحالفان في هذه المسألة أيضًا؛ لأن ابن الحداد ذكر أنهما

لو اختلفا في الصداق فقالت: مهرتني أمي. وقال الزوج: بل مهرتك أباك يتحالفان، ولا فرق بين هذه المسألة وبين هذه، وهذا هو المذهب. وقيل: حد الاختلاف المثبت للتحالف أن يدعي كل واحد منهما عقدًا صحيحًا لا على الوجه الذي يدعيه صاحبه، ولو قدرنا ذلك الاختلاف موجودًا حالة العقد امتنع انعقاده، فإنه لو قال: بعتك بألفٍ فقال: قبلت بخمسمائة لا ينعقد وهذا المعنى موجود في مسألتنا، فإن قيل: ههنا اختلفا في عقد واحد؛ لأن الصداق عوض في النكاح وفي مسألتنا عقدان. قلنا: هما إذا اختلفا في العوض؛ لأن الصداق عوض في النكاح وفي مسألتنا عقدان قلناهما إذا اختلفا في العوض بثمن واحد، فقد أثبتنا أحد العوضين واختلفا في الآخر. ولا فرق بين أن يكون الاختلاف {ق 16 ب) في الثمن أو في المثمن، وقوله: إنهما عقدان فإن أحد العوضين إذا اتفقا عليه صار كالاختلاف في صفة العقد، وهو كما لو قال: بعتك هذا العبد بألف فقال: اشتريت منك هذين العبدين بألف فإنهما يتحالفان كذلك ههنا، وأما انتقال الملك فقد وجد في الثمن لأنهما اعترفا بثبوته للبائع. وعلى هذا يحلف البائع ما باع هذه الجارية ويحلف المشتري ما اشترى هذا العبد بألفٍ على ما تقدم من النفي والإثبات. فرع آخر لو اختلفا فقال البائع: بعتك هذا العبد بهذا الألف بعينه، وقال المشتري: الذي اشتريت بهذا الألف بعينه هذه الجارية دون هذا العبد فهذا اختلاف في عقد واحد، لأنهما اتفقا في الثمن فيكون اتفاقهما على المثمن واختلافهما في الثمن فيتحالفان كما يتحالفان هناك، ويحلف هنا إذا قالا بألف مطلقًا لأنه اختلاف في عقدين ذكره في "الحاوي" وهذا أصوب مما ذكره القاضي الطبري. فرع آخر لو اختلفا فادعى كل واحد منهما جنسًا من الثمن واتفقا على المبيع فقال البائع: بعتك هذا البيع بألف درهم، وقال المشتري: اشتريته بمائة دينار. قال القاضي الطبري: الذي [ق 17 أ] على حفظي أنهما يتحالفان، ويمكن أن يفرق بين هذه المسألة والتي قبلها، وذكر أصحابنا بخراسان أنهما يتحالفان من غير شك، وسووا بين هذه المسألة وبين غيرها من مسائل التحالف. فرع آخر لو كان في يد المشتري خل فقال: باعنيه خمرًا، وصارت في يده خلًا، وقال البائع: ما بعته إلا خلًا فالقول قول المشتري ولا بيع بينهما.

فرع آخر لو اختلفا وادعى كل واحد منهما عقدًا غير العقد الذي يدعيه صاحبه مثل أن يقول: وهبته، وقال صاحبه: بل بعته فكل واحد منهما يحالف ولكن ليس كتحالف المتبايعين، فالمالك يحلف أني ما وهبته ولا يحتاج أن يقول ولقد بعته فإن البيع لا يثبت بدعواه والمشتري يحلف ما اشتريته ولا يحتاج أن يقول: ولقد وهبته لي فإنه لا تثبت الهبة بدعواه، ثم لا حاجة إلى فسخ عقد بينهما؛ لأن كل واحد من العقدين انتفي بيمين أحدهما فليس ههنا عقد ينفسخ أو يفسخ. فرع آخر لو اختلفا في انقضاء الأجل. قال القفال: قال الشافعي: "القول قول البائع" وتأويل المسألة في السلم؛ لأن المؤجل فيه يكون على البائع والأجل حق له، فإذا اختلفا بعدما اتفقا أن العقد بأجل بينهم مثلاً، فقال البائع: لم {ق 17 ب) ينقض، وإنما انقضى عشرون يومًا والمشتري يقول: قد انقضى فكأنهما اختلفا في وقت العقد، فالقول قول البائع كما لو أنكر البائع أصل العقد كان القول قوله، وأما في بيع العين بالمؤجل ما على المشتري والأجل حق له. فإذا اختلفا هكذا فالقول قول المشتري، كما لو أنكر أصل ثبوت الحق في ذمته فالقول قوله. وقال والدي: إن اتفق المتبايعان في مدة الأجل واختلفا في وقت العقد، مثل إن قالا: كانت المدة عشرة أيام ولكن البائع يقول: كان البيع قبل هذا الزمان بعشرة أيام، وقال المشتري: كان قبل هذا بخمسة أيام تحالفا وتواثقا على أنهما نسيا وقت العقد، إلا أن البائع يقول: كان آخر المدة أول يوم من شعبان، وقال المشتري: آخرهما اليوم العاشر من شعبان تحالفا أيضًا، ولا يجوز أن يقال: خلاف هذا لأنه يبطل القول بالتحالف أصلًا وكلا واحد منهما مدعي ومدعى عليه، ولو قال البائع: نسيت وقت العقد وأعرف مدة الأجل وهي شهر وأعرف أن المدة بعد العقد قد انقضت، وحجة المشتري فالقول قول المشتري لأنه مدعى عليه وعلى البائع البينة لأنه مدعي، وهذا أصح مما تقدم. فرع آخر لو اشترى الوكيل {ق 18 أ) لموكله عبدًا، ثم اختلفا هل يكون التحالف للبائع الوكيل أو الموكل؟ وجهان: أحدهما: الوكيل يحلف لأنه المتولي للعقد، فإن نكل صار البيع لازمًا له دون موكله. والثاني: يحلف الموكل بأن أحدًا لا يملك شيئًا بيمين غيره، فإن نكل الموكل فالبيع لازم له دون الوكيل، ولو كان الوكيل قد باع لموكله عقد، ثم اختلف الوكيل والمشتري في ثمنه ففي أحد الوجهين الوكيل يحالف المشتري، وإن نكل قضى للمشتري بالعبد وألزم الوكيل غرم فاضل الثمن للموكل وفي الوجه الثاني الموكل يحالف

المشتري. ذكره في "الحاوي". فرع آخر لو اختلفا فقبل التحالف ماتا أو أحدهما فوارثهما يتحالفان. وقال أبو حنيفة: إن كان المبيع في يد وارث البائع يتحالفان، وإن كان في يد وارث المشتري فالقول قوله مع يمينه، وهذا غلط لأن ما تحالف فيه المتبايعان يحالف فيه ورثتهما كما قبل القبض. فإذا تقرر هذا قال في المختصر: "وَإِِذَا حَكَمَ النًّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وهُمَا مُتصَادِقَانِ عَلَى البَيْعِ وَمُخْتَلِفَانِ فِي الثَّمَنِ بنَقْصِ البَيْعِ وَوَجَدْنَا الفَائِتَ فِي كُلِّ مَا نَقَضَ فِيهِ القَائِمُ مُنْتَقِضًا فَعَلَى المُشْترِي رَدُهُ إِنْ كَانَ قَائِمًا أَوْ قِيمَتُهُ إِنْ كَانَ فَائِتًا كَانَتْ [ق 18 ب] أَقَلَّ مِنَ الثَّمَنِ أَوْ أَكْثَرَ". ومعنى هذا الكلام قياس التالف على القائم بمعنى أنهما متصادقان على البيع مختلفان في الثمن الذي يدعي وجوب قبضه فوجب أن يتحالفا، وقد بينا الحكم في القيمة إذا كانت تالفة، ولم يختلف قول الشافعي في أن هذا التحالف يقبل الفسخ، وإنما اختلف قوله حيث لا تدعو الضرورة إل تعيين الفسخ في التالف مثل أن يتبايعا ويتقابضا وهما في مجلس الخيار أو مدة الخيار فتلفت السلعة في يد المشتري ثم يقتضي فسخ البيع بحق الخيار ففي المسألة قولان وقد ذكرنا ما قيل فيه. مسألة قَالَ: "وَلَوْ لَمْ يَخْتَلِفَا وَقَالَ: كُلُّ وَاحِدٍ لَا أَدفَعُ حَتَى أَقْبِضَ". الفصل أراد لم يختلفا في صفة العقد وإلا فهذا نوع اختلاف وتنازع، فإذا تنازعا في البداية بالتسليم فقال البائع: لا أسلم السلعة حتى أقبض الثمن. وقال المشتري: لا أدفع الثمن حتى أقبض السلعة ذكر المزني: أن الشافعي- رحمه الله تعالى- ذكر أقاويل ولم يصفها، وقد ذكرها في "الأم" في باب الاستبراء. قال بعض المشرقيين: لا يجبر واحد منهما على الدفع ولكن يقال: أيكها تطوع بالتسليم أجبرت الآخر عليه، وقال بعضهم: يكلفهم الحاكم أن يحضره الثمن والمثمن ثم يدفع المثمن إلى المشتري ويدفع الثمن إلى البائع {ق 19 أ) لا يبالي بأيهما يبدأ. وقال بعض العلماء: يأسرهما بدفع الثمن والمثمن إلى عدل، ثم يأمره بدفع الثمن إلى البائع والمثمن إلى المبتاع. وهذا والذي قبله سواء في الحكم وإن كانا في صورة

قولين، وقال بعضهم: يجبر الحاكم البائع على تسليم السلعة إلى المشتري، فإذا فعل وكان الثمن حاضرًا أجبر المشتري على دفعه إليه. قال الشافعي: وإنما قلنا بهذا دون غيره لأن البائع قد أقر أن السلعة مملوكة للمشتري فلا يجوز أن يحبس عليه ملكه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قول مخرج يجبر المشتري أولًا على تسليم الثمن، وبه قال أبو حنيفة، ومالك واختلف أصحابنا في المسألة على طرق، قال أبو إسحاق: فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يجبر البائع أولًا؛ لأن الحق في العين أقوى في الدين ولهذا يعدم المرتهن على الغرماء، والعين، لا يتصور فيها الأجل فهي أولى بالتقديم من الدين الذي قد يكون مؤجلاً، وبه قال أحمد: والثاني: وهو الذي اختاره يأمرهما بإحضار الثمن والمثمن عنده وعند عدل على ما ذكرنا؛ لأن لكل واحد منهما قبل صاحبه حقًا فلا يتركان يتمانعان الحقوق، كما لو كان لهذا على ذلك دين وفي ذاك لهذا غصب يجبران؛ لأن أحدهما ليس بأولى من الآخر. والثالث: [ق 19 ب] لا يجبر واحد منهما على ما ذكرنا لأنهما دخلا في هذا العقد على التراضي فينبغي أن يتما على التراضي، وكل واحد منهما معذور في منع ما عنده لأنه في مقابلة ما عند صاحبه. وقال بعض أصحابنا: فيه أربعة أقاويل. والرابع: يبدأ بالمشتري، لأن للبائع حق الحبس لاستيفاء الثمن ولا يلزمه التسليم قبل استيفائه، كالمرتهن لا يلزمه تسليم الرهن حتى يقبض الدين. ومن أصحابنا من قال: فيه قولان؛ لأن الشافعي قال: ولا يجوز من هذا إلا الثاني أو يجبر البائع، وهذا ضعيف. وقال بعض أصحابنا: وهذا اختيار أبي حامد وجماعة المسألة على قول واحد أن يجبر البائع؛ لأن الشافعي ذكر الأقوال واختار هذا واختلف أصحابنا في جواب الشافعي- رحمه الله تعالى- في المختصر فمنهم من قال: أجاب على إجبار البائع لأنه قال: "يأمر البائع بدفع السلعة". ومنهم من قال: أجاب عن قوله لا يجبران لأنه قال: "يأمر البائع"، ولم يقل يجبر البائع، وإنما استعمل لفظة الإجبار بعد تسليم السلعة إلى المشتري فقال: ويجبر المشتري على دفع الثمن من ساعته والأول أليق بلفظ [ق 20 أ] الشافعي؛ لأن ظاهر أمر السلطان محمول على الإجبار، وقد قال: يأمر البائع والآمر هو الحاكم فقد صار البائع مجبرًا لما صار مأمورًا، ولو كان الثمن معينًا كالمبيع بأن باع عرضًا بعرض فلا يجيء إلا قولان: أحدهما: يدعهما الحاكم حتى يتطوع أحدهما ثم يجبر الآخر. والثاني: ينصب لها أمينًا ولا يجيء القولان الآخران، وهذا لأن كل واحد منهما بائع ومشتري. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: يتخير الحاكم في البداية بأيهما شاء، فأما إذا تنازع

الزوجان في النكاح في البداية بالتسليم لا يجيء فيه إجبار الزوجة على تسليم نفسها؛ لأن البائع إذا سلم المبيع يمكن أن يحجز على المشتري والزوجة إذا سلمت نفسها لا يمكن منع الزوج من الاستمتاع فيصير تسليم نفسها مبطلاً لحقها. فإذا تقرر هذا وقلنا بالقول الأول وهو ظاهر المذهب لا يخلو إما أن يكون المشتري واجدًا للثمن أو غير واجد، فإن كان غير واجد مثل أن يكون مفلسًا محجورًا عليه فهو كالمفلس يشتري سلعةً وأفلس بالثمن قبل قبضه فللبائع فسخ البيع. ومن أصحابنا من قال: تباع عليه السلعة ويقضي دينه من ثمنها، فإن كان وفق ما عليه فلا كلام، وإن كان أكثر أخذ الفضل [ق 20 ب] وإن كان أقل كان عليه ما بقي وهذا ليس بشيء، وإن كان واجد الثمن وهو أن لا يكون مفلسًا محجورًا عليه فلا يخلو الثمن إما أن يكون معه في المجلس حاضرًا فيأمره بالدفع إليه، وإن كان الثمن في البلد ولكنه غائب عن المجلس، فقال: أذهب فأحمله إليه، فإن الحاكم لا يدفع إليه المبيع ويحجر عليه فيه، وفي سائر أمواله حذرًا من أن يبيعه ويتلف سائر ماله فلا يصل البائع إلى حقه، فإذا أحضر الثمن فات الحجر عنده وسلم السلعة إليه، وينبغي أن يشهد على حجر المشتري ووقف السلعة كما يشهد على سائر ماله، وإن كان الثمن غائبًا عن البلد، فإن كان على مسافة يقصر فيها الصلاة لا تسلم إليه السلعة، ولا ينظر إلى أن يحمل الثمن؛ لأن في ذلك إضرارًا بالبائع وفيه وجهان: أحدهما: يكون بمنزلة المفلس له فسخ المبيع أو الصبر إلى حين إحضار الثمن. والثاني: لا يكون حكمه حكم المفلس لوجود المال وإن بعد فيبيع الحاكم السلعة ويوفي البائع حقه من ثمنها. قال ابن سريج: واختلف أصحابنا في المفلس حتى يثبت للبائع الرجوع في غبن ماله، فمنهم من قال: إذا لم يف قيمة السلعة مع سائر ماله بديونه فإن كان له ما إذا انضم إلى ماله يفي [ق 21 أ] بالديون لا يرجع في عين المال، بل تباع السلعة وتقضي ديونه، ومنهم من قال: ينبغي أن يكون ماله سوى قيمة هذه السلعة وفاء بالدين، فإن لم يكن فالبائع أحق بعين ماله. وكلام الشافعي ههنا يدل على هذا الوجه، وإن كان الثمن على مسافة لا تقصر فيها الصلاة فيه وجهان: أحدهما: الحكم فيه كما لو كان في البلد. والثاني: الحكم فيه كما لو كان على مسافة تقصر فيها الصلاة؛ لأن على البائع ضرراً في أنظاره. وقال في "الحاوي": إن كان على مسافة ثلاثة أيام لا ينتظر ويصير كالعسر، وإن كان على مسافة أكثر من يوم وليلة وأقل من ثلاثة أيام وجهان:

(أحدهما): ينتظر. والثاني: لا ينتظر وهذا حسن. فإذا تقرر هذا، قال بعض أصحابنا بخراسان: في هذه المسألة المخصوصة دليل على أن الرجل إذا كان عليه دين وماله أكثر من الدين جاز للحاكم أن يحجر عليه إذا طلب الخصم الحجر، وهو ظاهر المذهب بين أصحابنا؛ لأن الشافعي -رحمه الله تعالى -أمر بالحجر على المشتري لما وجب عليه ثمن السلعة، ومعلوم أن هذه السلعة ماله وله مال غائب غيرها، فماله في الظاهر أكثر من دينه، وقد حجر عليه [ق 21 ب] وسيأتي كلام الشافعي دلالة على أن للحاكم أن يحجر على المشتري من غير أن يطلب البائع ذلك الحجر؛ لأنه قال: "فَإنْ غَابَ مَالَهُ أُشْهِدَ عَلَى وَقْفِ مَالِهِ وَأُشْهِدَ عَلَى وَقْفِ السِّلْعَةِ"؛ ولم يشترط أن يستدعي على البائع هذا الوقف، وهذا الحجر، فيحتمل أن يكون مراده إذا طلب البائع الحجر فعلى الحاكم أن يحجز، لأنه حق البائع فليس للحاكم طلب ما لم يطلب مستحقه، ويحتمل أن يحجر عليه في هذه المسألة خاصة من غير استدعاء البائع لمعنيين اثنين: أحدهما: أن الخصومة وقعت عند الحاكم واطلع عليها وعرف عواقبها، فله أن يسد على الخصمين طريق المخاصمة في المستقبل فيحجر على المشتري ليصل إلى البائع حقه وينقطع عند الحكم توابع خصومتها. والثاني: أن الحاكم إذا أجبر البائع على التسليم نظر للمشتري فلذلك يجب أن يفطن للبائع ما أمكنه ومما يمكنه أن يطالبه بالثمن في المجلس إن كان حاضرًا، ويحجر عليه إن كان ماله غائبًا، وإن لم يسأله البائع الحجر، ولو أجبر البائع ثم لم ينظر بهذا الحجر بمحض نظره لأحدهما دون الآخر، وذلك مما لا يسوغ له، فلهذا المعنى والله أعلم شاع هذا الحجر من غير استدعاء الخصم [ق 22 أ]. فرع لو باع عبدًا بألف فلما تم البيع هرب المشتري قبل قبضه، فإن كان المشتري محجورًا عليه كان البائع أحق بعين ماله، وإن لم يكن له مال باع الحاكم العبد، وإن كان ثمنه مثل الثمن الأول دفعه إليه، وإن كان أكثر حفظ الفضل له، وإن كان أقل يتبع المشتري بالباقي. فرع آخر لو دفع المشتري نصف الثمن، وقال للبائع: أقبضني بقدر ما قبضت مني من الثمن فيه وجهان: أحدهما: يلزمه إقباض نفس المبيع، لأن الثمن مقسط. والثاني: وهو المذهب لا يلزمه إقباضه ما بقى عليه من الثمن شيء، لأنه محبوس

على استيفاء الحق كالرهن سواء وللمرتهن حبسه، ما دام جزء من الحق باقيًا. وقال ابن سريج: فيه قولان، وأراد التخريج. مسألة قال: "وَلَا أُحِبُّ مُبَايَعَةَ مَنْ أَكْثَرُ مَالِهِ رِبًا أَوْ حَرَامٍ". قد ذكرنا هذه المسألة عند مالك لا يجوز مبايعته بناء على غالب الحال، والأصل في هذا أن من طرأ شك على أصل محرم، مثل أن توجد شاة مذبوحة لا يدري ذبحها مسلم أو مجوسي لا يحل أكلها، وإن طرأ على أصل مباح كالماء وجد متغيرًا ولا يدري تغير بنفسه أو بنجاسة فإنه على أصل الإباحة، وإن [ق 22 ب] طرأ على ما لا أصل له من إباحة أو حظر مثل مسألتنا يكره ويجوز، وهذا لأنه يستحب التورع. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لم يبال من أين مطعمه ولا من أين مشربه لم يبال الله تعالى من أي باب جهنم أدخله" وقال: "ملاك دينكم الورع" وأما الجواز فلما روي أن رجلًا سأل ابن مسعود -رضي الله عنه -فقال: إن لي جارًا يزني أفأكل ماله فقال: لك مهناه وعليه مأثمه. فرع لو كانت قرية فيها عبدة الأوثان أو المجوس لم يجز شراء الذبيحة فيها، وإن أمكن أن يكون ذبحها مسلم أو كتابي، لأن الأصل التحريم فلا يزول ذلك إلا بيقين أو ظاهر، وليس ههنا واحد منهما، ولو كانت في بلد المسلمين فالظاهر إباحتها فيحل شراؤها. فرع آخر قال ابن سريج: لو باع عبدًا بألف درهم بيعًا فاسدًا وسلم المبيع إلى المشتري وأتلف البائع حتى يستوفي منه حقه ويكون أحق به من سائر الغرماء وهذا لا يصح؛ لأن صاحب العبد لم يدفعه إليه بل دفع بيعًا فإذا فسخ البيع انقطع. فرع آخر قال رجل لرجل: بع عبد من فلان بخمسمائة على أن عليَّ شأن البيوع أن يكون كل الثمن على المشتري، والثاني: يصح ويكون على ما شرط [ق 23 أ] كما لو قال طلق زوجتك على كذا، والأول أصح؛ لأن العبد إذا ملك بخمسمائة لم يبق شيء يزال الملك عنه بعوضٍ.

باب الشرط الذي يفسد البيع

فرع آخر قال ابن سريج: لو قال: بعه من فلان بألف على أن عليَّ ضمانه أو على أن عليّ منه خمسمائة فباعه نظر، فإن تجرد العقد عن ذكر الضمان فالبيع جائز والضمان باطل، وإن باعه بهذا الشرط فالبيع صحيح، وكان بشرط الضمان فالبائع بالخيار. وقال بعض أصحابنا: إن شرط هذا قبل العقد يلزمه لأنه ضمان ما لم يجب، وإن كان في العقد لزمه لأنه ضمان مع الوجوب، فهو كما لو كان بعده. وهذا اختيار القاضي الطبري وهو الأصح. فرع آخر لو قال مجهول النسب لرجل: أنا عبد فلان اشترى منه وخلصني من رقه فاشتراه، ثم بان حرًا فالدرك على البائع بكل حالٍ. وقال أبو حنيفة: إن كان البائع غائبًا غيبة منقطعة فالدرك على العبد وإلا فلا. وهذا غلط، لأنه لم يوجد منه إلا الغرور فلو رجع إليه في أحد الحالين لرجع في الحالة الأخرى والله أعلم. باب الشرط الذي يفسد البيع مسألة قال: "وَإِذَا اشْتَرَى جَارِيَةً عَلَى أَنْ لَا يَبِيعَهَا". [ق 23 ب] الفصل هذا كما قال: الشروط في البيع على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يكون من مقتضاه ومربحته كالبيع بشرط الملك بالعقد وتقابض الثمن والتصرف فيهما بعد العقد فلا يضر العقد. والثاني: أن لا يكون من مقتضاه ولكن من مصلحته كالبيع بشرط الضمين أو الكفيل أو الرهن أو الإشهاد بالثمن أو الخيار أو الأجل الصحيح فلا يضر العقد أيضًا. والثالث: أن لا يكون من مقتضاه ولا من مصلحته، مثل أن يبيع بشرط أن لا يبيع أو لا يعتق أو لا يسافر به ولا يملك بالعقد، ولا ينفذ بصرفه فيه أو لا ينقطع بالمبيع ونحو ذلك، فكل هذا يبطل العقد إلا في مسألة واحدة، وهو أن يبيع بشرط العتق على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. وبطلانه للجهالة بالثمن إلا أنه على ضربين: ضرب يقتضي

نقصان الثمن، وضرب يقتضي الزيادة كل شرط ينفع المشتري، وعلى هذا إذا باع جارية على أن لا خسارة عليه في ثمنها أو على أن تحمل هذه النخلة عشرة أوسق وهذه للمشتري ترغيبًا له في الشراء بعتكها على أنك لا تخسر فيها، فإن خسرت فعليَّ خسران خسران [ق 24 أ] وهذا لا موضوع للعقد أن لا يرجع إلى البائع عهدة خسران المشتري إنه خسر، فإذ شرط ما يضاد موضوعه بطل. وروي أن ابن مسعود اشترى جارية من امرأته زينب وأشرط إن باعها فهل لها بالثمن، فاستفتى عبد الله بن عمر فقل: لا تقربها وفيها شرط لأحدِ. وروي أنه اشترى جارية وشرط خدمتها فقال عمر -رضي الله عنه -لا تقربها وفيها مثنوية، قال الحسن، والنخعي، وابن أبي ليلى، وأحمد، وأبو ثور -رحمهم الله -: يبطل الشرط في هذه المسائل ويصح البيع. وقال إسحاق: وإن كان أكثر بطل البيع والشرط، وقال الأوزاعي، وابن خزيمة إذا باع دارًا وشرط سكناها للبائع جاز. واحتجوا بما روي عن جابر -رضي الله عنه -أنه قا: ابتاع مني رسول الله صلى الله عليه وسلم بعيرًا بمكة فلما أنفذني شرطت عليه أن يحملني على ظهره إلى المدينة. واحتج الحسن بما روي أن عائشة -رضي الله عنها -اشترت بريرة بشرط أن تعتقها ويكون ولاؤها لمواليها فأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم البيع وأبطل الشرط، وهذا غلط لما ذكرنا. وأما الخبران فيحتمل أن الشرط كان [ق 24 ب] مقدمًا على العقد أو متأخرًا عنه وعندنا يجوز ذلك، ولهذا ذكر الشافعي -رحمه الله تعالى -الشرط مع لفظ الشراء. وقال ابن شبرمة وحماد: هذه الشروط لازمة والبيع جائز إلا أن يقول على أنه لا يملك ويجوز ذلك. وقال مالك -رحمه الله -: إن شرط البائع من منافع البيع يسيرًا لسكني يومين أو ثلاثة صح البيع والشرط، وهذا غلط لأنه شرط ليس في مقتضى العقد ولا من مصلحته ولم يبين أمره على التغليب فيبطل العقد كما لو باع بشرط أن لا يسلم. فرع لو شرط شرطًا لا تعلق له بأحكام العقد ولا يتضمن إلزام أمر لا يلزم عليه بأن قال: بعتك على أن تصلي الصلوات الخمس، أو تصوم رمضان أو تخرج الزكاة يصح البيع ووجوده كلا وجود، ولو لم يذكر هذه الشروط في صلب العقد ولكنها ذكرت في مجلس العقد بعد التواجب استند إلى العقد وأبطله، لأن مجلس العقد يحاكي حالة التواجب، ألا

ترى أن الزوائد المذكورة في مجلس العقد تلحق بأصله، وهكذا لو ذكر له في مدة خيار الثلاث؛ لأن الشراء لا يتكامل ببقائها. ومن أصحابنا من قال: فيه قولان بناء على أن الملك للبائع أو للمشتري وإن ذكراه بعد انقضاء الخيار ولزوم العقد [ق 25 أ] فلا يضر العقد. وقال أبو حنيفة: يلحق العقد ويبطل، ولو حذف هذه الشروط بعد العقد لا ينفعه ولا يعود العقد صحيحًا ولا بد من استئنافه. مسألة قَالَ: وَلَوْ قَبَضَهَا فَأَعْتَقَهَا لَمْ يَجُزْ عِتْقُهَا". وهذا كما قال: كل موضع فلنا البيع فاسد والمشتري لو قبضه لم يملكه بالقبض ولو تصرف فيه لم ينفذ تصرفه عتقًا كان أو غيره. وقال أبو حنيفة -رحمه الله تعالى -: عليكم بالقبض وينفذ فيه عتقه وسائر تصرفاته إلا أنه يحرم عليه وطئها، وللبائع أن يسترجع بالزوائد أجمع ويأخذ مهرها للوطء وهذه مناقضة، ووافقنا لو اشترى بميتة أو دم لا يملكه بالقبض. فرع لو اراد أن يستردها هل للمشتري أن يجلس المبيع حتى يسترد الثمن؟ ظاهر المذهب أن له ذلك لأنه سلم بإزاء الثمن ولم نسلم له. وحكي عن ابن سريج -رحمه الله تعالى -ليس له الحبس لأنه مقبوض بعقد فاسد كالرهن الفاسد، وهكذا في الإجارة الفاسدة. المأخوذ سومًا يضمن سواء جرى ذكر الثمن أو لا. وقال أبو حنيفة -رحمه الله -: لا يضمن إذا لم يجبر ذكر الثمن، وهذا غلط لما روي أن عمر -رضي الله عنه -أخذ فرسًا على سوم فعطبت عنده فترافعا إلى شريح العراقي [ق 25 ب] فقال لعمر: أخذته صحيحًا سليمًا فأنت له ضامن حتى ترده صحيحًا فأعجب عمر رأيه فولاه القضاء. مسألة قاَلَ: "وَإِنْ أَوْلَدَهَا رُدَّتْ إلَى رَبِّها". الفصل: وهكذا كما قال: إذا اشترى جارية شراءً فاسدًا بثمن حرام أو شرط فاسد

وأمسكها (مدة) يلزمه ردها إلى ربها وإنما فرض الشافعي -رحمه الله -المسألة في الجارية؛ لأنه يتفرع عليها أحكام كثيرة ثم إذا ردها لا يخلو من ثلاثة أقوال: أحدها: أن يكون الرد قبل الوطء، فإنه لم يرد ولم يقبض فعليه أجرة مثلها في المدة التي أمسكها، إن كانت خادمة فبأجرة خدمة مثلها، وإن كانت صانعة فبأجرة مثلها في صنعها، فإن كانت لها صناعات فأجرة أعلاها، وإن كانت زائدة ردها مع الأجرة بزيادتها منفصلة كانت أو متصلة، وإن كانت ناقصة ردها مع أرش النقص والأجرة كالغصب سواء لأنها في يده بغير حق. والثاني: أن يكون الرد بعد الوطء قبل الإحبال، فالحكم في الزيادة والنقصان والأجرة على ما ذكرنا. وأما حكم الوطء فلا حد عليه لشبهة الملك ويلزمه مهر مثلها؛ مثلها بكرًا، [ق 26 أ] ويلزمه أرش البكارة مع ذلك لأنه يلزم لإزالة البكارة وإتلاف الجزء، والمهر يجب بالوطء والاستمتاع فهما حقان مختلفان يجبان بشيئين مختلفين، فيجتمعان كما لو افتضها بأصبع ثم وطئها يلزم المهر مع أرش البكارة. فإن قيل: هلا قلتم: لا يلزم أرش البكارة كما لو تزوج بامرأة بكر نكاحًا فاسدًا فوطئها يلزمه مهر مثلها ولا يلزمه أرش البكارة؟ قلنا: الفرق أن المرأة رضيت من الوطء الذي يتضمن إزالة البكارة بالمهر فلا يجب لها أرش البكارة، وليس كذلك السيد ههنا لأنه لم يعاوضه على الوطء، وإنما عاوضه على رقة الجارية، فإذا كانت المعاوضة فاسدة لزم المشتري ضمان جميع ما أتلفه من الاستمتاع وما أتلفه من الجزء بالافتضاض. قلت: هكذا ذكره أبو حامد وغيره وذكره القاضي الطبري -رحمه الله -أيضًا في المذهب المجرد وروايته في المنهاج في مسائل الإفضاء للقول نص الشافعي -رحمه الله -على أنه يجب على الواطئ في النكاح الفاسد والمهر مع أرش الافتضاض وإنما لا يجب ذلك على الزوج لأنه يملك إتلاف البكارة بعقد النكاح فلا يجب ضمان بخلاف الوطء في النكاح الفاسد، وهذا غريب وهو القياس عندي. وذكر في [ق 26 ب] "الحاوي" مثل ما قاله أبو حامد وفرق بأن الأمة مضمونة عليه باليد فيلزمه أرش البكارة لوجود النقص في يده والحرة غير مضمونة عليه باليد. فإن قيل: لم لا يدخل أرش الافتضاض في مهر المثل لأن الافتضاض بهذا الوطئ والفعل واحد؟ قلنا: لا نقول ذلك لأن الأرش إنما يجب بالتقاء الختانين فهو كما لو افتضها بأصبع لا يدخل الأرش في المهر. فإن قيل: إذا أوجبتم أرش الافتضاض ينبغي أن توجبوا مهر مثلها ثيبًا لا بكرًا كما لو افتضها بأصبع ثم وطئها يلزم مهر مثلها ثيبًا. قلنا: الفرق أن هناك لم ينل كمال اللذة لأنه

وطئها ثيبًا فلا يلزمه كمال المهر، وههنا نال كمال اللذة لأنه وطئها بكرًا فيلزمه كمال المهر. فإن قيل: إذا أوجبتم مهر مثلها بكرًا فالزيادة على مهر الثيب بإزاء ذهاب البكارة فلا توجبوا أرشًا آخر لأنه يؤدي إلى تضمينه مرتين، قلنا: مهر البكر يجب لحصول كمال اللذة، فإن اللذة في وطء البكر أكثر منه في وطء الثيب، والأرش في مقابلة الجزء التالف فيضمن ضمانين لشيئين مختلفين فسقط السؤال. فإن قيل: هلا قلتم لا يلزم المهر [ق 27 أ] لأن البائع أذن له في وطئها بغير مهر كما لو أباح وطء لإنسان فوطئها لا يلزمه المهر؟ قلنا: لا نقول ذلك لأن البائع يسلم إليه الجارية ليملكها ويطأها في ملكه، فإذا لم يصح الملك فوطئه صادف ملك الغير فيلزمه المهر، وههنا أذن له بالوطء في ملكه. قلت: هذا السؤال مع الجواب في تعليق أبي حامد ولا ينبغي أن يسلم هذه المسألة؛ لأن الوطء لا يستباح بالإباحة فعوضه لا يسقط بالإباحة، ويحتمل قولين لأن الشافعي -رحمة الله عليه -ذكر في الراهن إذا أذن للمرتهن بوطء المرهونة فوطئ هل يلزمه المهر؟ قولان، وهذا إذا كان جاهلًا بالتحريم، فإن كان عالمًا به، فهو زنا، والزنا لا يوجب المهر إلا عند الإكراه في الأمة أيضًا على الصحيح من المذهب. والثالث: أن يكون الرد بعد الوطء والإجبار والكلام في الأجرة وأرش النقض والمهر على ما ذكرنا، وأما الكلام في الولد فإنه ينعقد حرًا لأنه اعتقد حريته عند الوطء ولا عليه لأحد لأنه لم يمسه رق ولا ناله عتق ونسبة ثابتة منه، لأن الوطء كان بالشبهة فإنه خرج حيًا فعلى المشتري قيمة للبائع لأنه أتلف [ق 27 ب] عليه رقه باعتقاده وكان من سبيله أن يكون مملوكًا لسيد الأمة وتعتبر قيمته حالة الوضع؛ لأنها حالة الحيلولة ولا يمكن معرفة القيمة قبلها ولا الحيلولة بينه وبينه قبلها، وسواء عاش الولد الخروج أو مات، فالقيمة واجبة لأنها التزام بالقضاء له حيًا، وقال أبو حنيفة ومالك -رحمهما الله - تسقط القيمة بموته قبل حكم الحاكم وتعتبر قيمة الولد يوم الحكم لا يوم الولادة، وقصد الشافعي -رحمه الله - بقوله ههنا: مات الولد قبل الحكم وبعده الرد عليها، وإن خرج الولد ميتًا فلا تلزم القيمة لأنه غير متقوّم لأجل أنه من حين الولادة وثبت له أحكام الدنيا ويمكن تقويمه، وقبل ذلك لا يمكن تقويمه ولا يتحقق إن كان حيًا أو لا، ولأن الحيلولة تحصل عند الانفصال، فإذا انفصل منها ميتًا تحصل الحيلولة وهو مال فلا يلزمه الضمان. فإن قيل: أليس لو ضرب بطن امرأة فألقت جنينًا ميتًا يلزمه ضمان الولد؛ لأن السبب كان منه فينبغي أن يوجبوا ههنا قيمة الولد، وإن كان ميتًا؟ قلنا: الفرق هناك الظاهر أنه أتلفه بالجناية وبسبب منه وليس ههنا ظاهر يدل على أن إتلافه بسبب منه فافترقا [ق 28 أ] وأيضًا ضمانه مقدر بالبيع إما بعشر قيمة الأم، إن كانت أمة، أو بعشر دينها إن كانت حرة فيمكننا تضمينه مقدر الشرع، وإن خرج ميتًا، وههنا ضمانه بتقويم السوق، وإذا سقط ميتًا لا قيمة له فلا يلزمه شيء وما دام حملًا لا يمكن تقويمه وهذا كما نقول: لو غصب جارية مفرطة السمن فنقص من سمنها في يد هذا المشتري ولم ينقص قيمتها به لا

شيء عليه للنقصان، وعلى هذا لو ضرب ضارب بطن هذه الجارية فخرج الولد ميتًا تلزم الغرة على الجاني وللسيد الأقل من هذه الغرة ومن عشر قيمة الأم، فالباقي يكون لورثة الجنين ولا يجب على المشتري شيء، وهذا لأن ضمان الضارب قام مقام خروجه حيًا فضمنه البائع، وإنما ضمنه بأقل الأمرين لأن الغرة إن كانت أقل لم يضمن أكث من ذلك؛ لأن بسبب ذلك ضمن. وقال بعض أصحابنا بخراسان: يجب على المشتري هذا وللمشتري على ذلك الحال الغرة لأنه كما يقوّم على الجاني يقوّم على المشتري الولد بخلاف ما لو خرج ميتًا، إلا أن المشتري يضمنه مملوكًا لآخر فيلزمه أقل الأمرين، والجاني يضمنه حُرًا. ونظير هذا أن عبدًا لو جنى ثم مات لا شيء على [ق 28 ب] سيده، ولو قتله قاتل وأخذ السيد قيمته فعليه الأقل من قيمته وأرش جنايته بقدمه للمجني عليه، وهذا خطأ عندي لأنه ليس بإيجاب على المشتري على ما ذكرنا، ولهذا لو لم يأخذ المشتري من الجاني شيئًا لا يلزم على المشتري للسيد شيئًا كما في المسألة التي استشهد بها. ومن أصحابنا من قال: يجب على المشتري قيمته وإن سقط ميتًا، لأنه مملوك فيضمن باليد، وهذا غلط لما ذكرنا. فإن قيل: ما تقولون فيمن غصب جارية وزنى بها فخرج الولد ميتًا هل يضمن قيمة الولد؟ قيل: قال بعض أصحابنا بخراسان: يلزمه ذلك قولًا واحدًا، والفرق أنه يضمنها بالغصب ضمانًا شاملًا لها ولجميع أجزائها وولدها في البطن من أجزائها، فإذا صار ضامنًا للولد وهو حمل في البطن لم يبرأ عن ضمانه بالموت، وههنا يضمنه المشتري على حكم الشبهة ولا يتصور في هذه الحالة ضمان يد لا ضمان إتلاف وهي حالة التقويم فاستحال تضمينه على حكم الشبهة فلم يضمن، ذكره الإمام الجويني -رحمه الله -في "المنهاج". وقال بعض أصحابنا بالعراق: لا يضمن الغاصب أيضًا وغلطوا ما قال بخلافه كما ذكرنا من العلة، ولا يقال إنه صار [ق 29 أ] ضامنًا للولد هو حمل في البطن لأنَّا لا ندري أنفخ فيه الروح أم لا فلا معنى لما ذكره. وإذا تقرر هذا، لو ردها على صاحبها، ثم ولدت فنقصت بالولادة يلزمه أرش النقصان، فإن ماتت منها يلزمه قيمتها؛ لأن سبب إتلافها كان منه، وهل تتحمل قيمتها العاقلة؟ قولان. فإن قيل: أليس لو تزوج امرأة نكاحًا فاسدًا فأحبلها فماتت في الطلق لا يلزمه ضمانها فما الفرق؟ قبل: فيه قولان: أحدهما: يلزم ديتها على عاقلته فلا نسلم، وإن سلما فما الفرق أن المقصود بعقد النكاح الوطء، ولهذا لا يجوز نكاح من لا يحل وطئها وهي أذنت بالوطء للنكاح فكأنها تلفت بسبب أذنت فيه فلا ضمان، وهذا الوطء غير مقصود بعقد البيع، ألا ترى أنه يحل شراء أمة لا يحل وطئها، فلم يكن الإذن في البيع إذنًا في الوطء، فإذا تلفت بسبب الوطء

كانت مضمونة عليه، وأيضًا ضمان المملوك أو بيع بنون الأمة يضمن باليد بخلاف الحر، ولا تصير هذه الجارية أم ولد قولًا واحدًا لأنها علقت بحر في غير ملكه، وإذا ملكها بعد ذلك هل تصير أم ولد له؟ قولان. وقال أبو حنيفة -رحمه الله -: تصير أم ولده [ق 29 ب] بناء على أصله أنها ملكه، ولو تلفت في يد المشتري يضمن أكثر ما كانت قيمة من حين القبض إلى حين التلف كالمغصوب نص عليه. ومن أصحابنا من قال: يضمن قيمته يوم التلف كالعارية لأنه في يده بإذن صاحبه بخلاف الغصب، لأن في الغصب عدوانًا يتغلظ به الضمان، والأول أصح لأنه يضمن نقصه كضمان الأصل، وعلى هذا لو سمنت ثم هزلته يلزمه ضمان النقص. نص عليه وكذلك يلزمه ضمان الولد إن تلف. ومن أصحابنا من قال: لا يضمن ذلك، لأن البائع دخل في العقد ليأخذ بدل العين دون الزيادة، وهذا غلط لأنه يضمن المنافع، وإن لم تدخل في العقد كذلك. مسألة قال: "وَلَوْ كَانَ بَاعَهَا فَسَدَ الْبَيْعُ". الفصل وهذا كما قال، إذا اشترى جارية شراءً فاسدًا وقبضها، ثم باعها المشتري فالبيع الثاني باطل، لأن ابتاع من غير مالك، فإن كانت السلعة قائمة كان للبائع أن يطالب من وجدها في يده ورد الثمن على من اشتراها منه، ورد المشتري منه على المشتري الثاني، وإن كانت تالفة فللبائع الأول أن يغرم من شاء منها؛ لأن كل واحد منهما قبض الجارية بعقدٍ فاسدٍ [30 أ] فكانت مضمونة على كل واحد منهما. فإذا ثبت هذا لم يخل قيمة الجارية من أجد أمرين: إما أن يكون عند المشتريين واحدًا، أو يكون عند أحدهما أكثر وعند الآخر أقل، فإن كانت قيمتها عندهما واحدة مثل أن قيمتها الأول وهي تسوي ألف درهم وسلمها إلى الثاني وهي تسوي ألفًا ثم تلفت، فإن البائع الأول يرجع على أيهما شاء، فإن رجع على الأول رجع الأول على الثاني، وإن رجع على الثاني لم يرجع الثاني على الأول، لأن تلفها كان في يد المشتري الثاني ومتى استويا في الضمان وانفرد أحدهما بتلف الشيء في يده، فإن الضمان يستقر عليه، وإن غرم التالي للبائع الأجرة لا يرجع على الأول قدر ما كان في يده، وإن كانت قيمتها عند أحدهما أقل، وعند الآخر أكثر فإن كانت قيمتها عند الأول ألفًا، وعند الثاني ألفين، فإن ما حدث من الزيادة في يد الثاني مضمون على الأول، لأنه لم يبرأ من ضمانه لخروجه

من يده بغير إذن صاحبه، فعلى هذا يكون الجواب فيه مثل ما ذكرناه في القسم الذي قبله، وإن كانت قيمتها عند الأول ألفين وعند الثاني ألفًا فإن النقصان الذي [ق 30 ب] حدث في يد الأول مضمون عليه دون الثاني، لأنه ليس من الثاني سبب في حصول الزيادة في يد الأول، فإن رجع غرمه ألفين، ورجع الأول على الثاني بألفٍ، وهو قيمتها في يد الثاني. وإن رجع على الثاني غرمه ألفًا ورجع بالألف الآخر على الأول، وهذا على المذهب الصحيح المنصوص، وقد ذكرنا وجهًا عن بعض أصحابنا أنه يجب قيمتها وقت التلف. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان كما في العارية، والمأخوذ سومًا وفيه نظر. وقال أبو حنيفة -رحمه الله -: يلزمه أقل الأمرين من القيمة أو الثمن لأنه رضي. فرع لو اشترى عبدًا بشرط أن يعتقه فالمشهور من مذهب الشافعي -رحمه الله -: أن البيع والشرط صحيحان نص عليه في "الأم" وغيره، وبه قال مالك -رحمه الله -. وروى أبو ثور عن الشافعي أنه قال: يصح البيع ويبطل الشرط حكاه القاضي أبو حامد في الجامع، ومن أصحابنا من قال: يجب على هذين القولين: أن البيع يبطل أيضًا؛ لأن الشرط إذا بطل وجب أن يبطل البيع فحصل فيه ثلاثة أقوال: ومن أصحابنا من قال: المسألة على قول واحد، وما حكاه أبو ثور لا يصح عنه [ق 31 أ]. وقال القفال: فيه قولان: المنصوص أنه يصح البيع والشرط، والثاني: أنه مخرج أنهما باطلان، وبه قال أبوجنيفة إلا أنه يناقض فقال: إذا قبضه ملكه وينفذ تصرفه، ولو تلف في يده ضمنه بالثمن لا بالقيمة بخلاف سائر البيوع الفاسدة فإنه يضمن المبيع فيها بالقيمة. وقال أبو يوسف، ومحمد -رحمهما الله -يضمنه بالقيمة أيضًا، وروي هذا عن أبي حنيفة رواية شاذة، وروى الحسن عن أبي حنيفة: أن البيع جائز واحتجوا بأنه شرط على المشتري إزالة ملكه عن المبيع فكان فاسدًا، كما لو شرط عليه أن يبيعه، وهذا غلط لما روي أن عائشة -رضي الله عنها -اشترت بريرة بشرط أن تعتقها ويكون ولاؤها لمواليها فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم شرط الولاء دون العتق، وقال: "شرط الله أوثق وقضاء الله أحق والولاء لمن أعتق" ولأن هذا البيع مضمون بالثمن فكان العقد عليه صحيحًا كسائر البياعات. وأما ما ذكروا لا يصح؛ لأن شرط العتق يفارق غيره لأنه قربة يصح أخذ العوض عنها، وبنى على التغليب والسراية بخلاف البيع فجوزنا البيع بهذا الشرط خاصة. فرع إذا جوزنا البيع والشرط يلزم على المشتري [ق 31 ب] فإن امتنع هل يجبر عليه أم لا؟ فيه وجهان:

أحدهما: يجبر عليه لأنه دخل على هذا الشرط فوجب أن يلزمه الوفاء به. والثاني: لا يجبر عليه لأنه تصرف في ملكه فلا يستحق عليه العقد. فرع إذا قلنا: لا يجبر عليه فالبائع بالخيار بين أن يفسخ البيع وبين أن يقيم عليه، لأنه لما باع بشرط العتق نقد بعض من الثمن لأجله، فإذا لم يعتقه ولم يجبر عليه، كان له الخيار كما لو باع بشرط الرهن ولم يرهن الخيار. فرع لو مات هذا العبد قبل أن يعتقه فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يستقر البيع بالثمن المسمى لأنه لم يكن من العتق، ولم يلزم إلا الثمن، وهذا إذا قلنا الحق للعبد. والثاني: يلزمه أن يرد على البائع من الثمن بمقدار ما نقصه بشرط العتق، ويقال: كم يسوي بشرط العتق وكم يسوي مطلقًا من غير شرط العتق؟ فإن كان التفاوت عشرة يلزمه عشرة مع الثمن المسمى، وهذا إذا قلنا الحق للبائع. والثالث: البائع بالخيار إن شاء أجاز البيع، وإن شاء فسخ ورجع إلى قيمته؛ لأنه يصير بمنزلة أن يكون في يده عن عقد فاسد وهذا التعذر الوفاء بموجبه. فرع قال القفال -رحمه الله -[ق 32 أ] وجوب هذا العتق هل يكون لله تعالى أم للبائع؟ وجهان: أحدهما: لله تعالى كمن نذر عتقًا يلزمه الوفاء به، فعلى هذا لو قال البائع: عفوت لا يسقط الوجوب، ولو أعتقه عن كفارة لا يجوز، لأنه مستحق العتق بوجه آخر. والثاني: يثبت حقًا للبائع حتى لو رضي البائع بأن لا يعتقه لا يلزمه إعتاقه، فعلى هذا لو كان البائع يطالبه بالعتق لا يجوز إعتاقه عن كفارته، ولو عفا عنه البائع فأعتقه عن كفارته بعده هل يجوز؟ وجهان: أحدهما: يجوز لأن هذا العتق غير مستحق عليه. والثاني: لا يجوز لأن هذا الشرط يوكس من ثمنه، ولو صار كنقص ثمنه وقبل العتق لمن يجب؟ فيه أوجه: أحدها: للبائع. والثاني: لله تعالى. والثالث: للعبد، فإذا قلنا: لله تعالى يطالبه الإمام، فإن امتنع هل يعتقه الإمام عليه أم يحبسه حتى يعتق؟ وجهان كما قلنا في طلاق المولى إذا امتنع، وإذا قلنا: الحق للعبد،

فالعبد يخاصم، فإن امتنع فعلى ما ذكرنا، وإذا قلنا: الحق للبائع فهو يطالبه، وإن امتنع فسخ البيع. فرع لو كانت جارية له وطئها قبل الإعتاق لأنها ملكه، ولو ولدت ولدًا فحكمه حكم الجارية المنذور عتقها وكسبها قبل الإعتاق [ق 32 ب] للمشتري. فرع لو اشترى أباه بشرط أن يعتقه. قال بعض أصحابنا: لا يصح الشراء لأنه التزم مالًا يمكنه الوفاء به وهو الإعتاق. فرع قال في "الحاوي": إذا قلنا: الشرط باطل والبيع صحيح فأعتقه المشتري فعلى الوجهين كما ذكره القفال. فرع: إذا قلنا: الشرط باطل فامتنع المشتري من إعتاقه هل للبائع خيار في الفسخ؟ وجهان: أحدهما: وهو اختيار البغداديين لا خيار له لفساد الشرط. والثاني: وهو اختيار البصريين له الخيار؛ لأن فساد الشرط يمنع اللزوم ولا يمنع باستحقاق الخيار به كما لو شرط في المبيع رهنًا لا يلزم وكذلك يثبت الخيار للبائع. ذكره في "الحاوي". فرع لو باع مطلقًا فشرط الولاء للبائع متى أعتقه لا يصح البيع والشرط قولًا واحدًا، وقال الإصطخري: فيه قولان: أحدهما: هذا. والثاني: يصح البيع ويبطل الشرط لخبر بريرة، وقال القاضي الطبري: وهذا أقيس وأومأ الشافعي -رحمه الله -إلى هذا القول في "القديم". فرع لو قال على أن يعتقه بعد شهرٍ أو سنةٍ فيه وجهان: أحدهما: يجوز لأنه ..... بالشرط فكان على ما شرط.

والثاني: لا يجوز؛ لأنه حق [ق 33 أ] يتعلق بالعين فلا يصح بشرط التأخير. فرع إذا اشتراه بشرط العتق، ثم باعه بشرط العتق فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز بيعه لثبوت حق الغير فيه. والثاني: يجوز بيعه لتعتقه الثاني كما يجوز أن يعتقه توكيله والأول أصح. فرع إذا اشتراها بشرط العتق، ثم أحبلها يلزمه إعتاقها، ومن أصحابنا من قال: لا يعتقها؛ لأن عتقها استحق بالإحبال، وقد تعذر عليه إعتاقها وتكون بمنزلة التالفة والأول أصح. فرع إذا باع دارًا بشرط الوقف فيه وجهان: أحدهما: يجوز قياسًا على العتق. والثاني: لا يجوز، لأن العتق مبني على التغليب ويفرد بالعوض، ولو جاز ذلك في الوقف لجاز أن يبيعه ثوبًأ على أن يتصدق به. فرع لو اشترى أرضًا شراءًا فاسدًأ، أو بني فيها أو غرس لم يكن للبائع قلع بنائه وغرسه، أو يقلعه ويعطيه ما نقص من قيمته وله استرجاع الدار. وقال أبو حنيفة: ليس له استرجاع الدار، ويأخذ قيمتها من المشتري، وقال أبو يوسف ومحمد: يقضي البناء ويرد الدار إلى بائعها وهذا غلط؛ لأنه سلط على البناء فلا يؤمر بنقضه. ذكره في "الحاوي". فرع لو كان في يد رجل جارية لها ولد فادعى [ق 33 ب] رجل أن الجارية له وقامت له البينة له به، فالجارية تحصل له بالبينة، وأما الولد فلمن يكون؟ فيه وجهان: أحدهما: الولد يكون له أيضًا؛ لأن الشهود إنما شهدوا على أمرٍ سابق، وإن هذه الجارية كانت ملكًا له فينبغي أن يكون ولدها، كما لو شهدوا على أنه هذه الجارية له منذ وقت كذا، وذكروا مدة يمكن أن يكون الولد حدث بعد ذلك يقضي له بها وبولدها. والثاني: وهو الأصح، وبه قال جمهور أصحابنا الولد يكون لمن هو في يده ولا

يبيع الأم؛ لأن الظاهر أنهما جميعًا ملك من هما في يده، فإذا قامت البينة بزوال ملكه عن أحدهما لم يزل ملكه عن الآخر. وأما ما ذكر القائل الأول لا يصح لأنه يحتمل أنهم شهدوا أن الجارية كانت ملكًا له من ساعة أو يوم. وهذا يدل على أن الولد حدث في ملكه. قال ابن سريج: وهكذا الحكم في الإقرار لو كانت له جارية لها ولد فقال: هذه الجارية لفلان يكون اعترافًا له بالجارية، وهل يكون إقرارًا بالولد؟ وجهان، وقال أبو حنيفة: إن ثبت ذلك بالبينة فالولد مع الأم، وإن ثبت بالإقرار لا يتبع الولد الأم. وغلط فيه؛ لأن الشاهد [ق 34 أ] يخبر عن أمر سابق كما أنه بالإقرار يخبر عن أمر سابق، فلا فرق بينهما. مسألة قَالَ: "وَلَو اشْتَرَى زَرْعًا وَاشْتَرَط عَلَى الَبَائِعِ حَصَادَهُ كَانَ فَاسِدًا". وهذا كما قال، هذه المسألة مقدمة وهي البيع إذا كان في عقده إجارة، مثل أن يقول: بعتك هذه الدار وأجزتك هذه الدار الأخرى بمائة دينار فيه قولان: احدهما: يبطلان لأنهما عقدان أحكامهما متنافية، فإذا جمع بينهما في صفقة واحدة بطلا. والثاني: كلاهما صحيحان وتقسط المائة على قدرهما، وهو الصحيح؛ لأن اختلاف أحكامهما لا يمنع من الجمع بينهما صفقة واحدة، كالسيف والشقص، إذا جمعا في صفقة واحدة. وأما إذا قال: بعتك هذه الدار بمائة وأجرت هذه الدار الأخرى سنة واحدة من هذا الوقت بمائة فقبلها صح العقدان معًا قولًا واحدًا؛ لأن كل واحد من العقدين انفرد عن صاحبه بعوض معلوم، ولو قال: بعتك هذه الدار وأجرتها سنة واحدة بمائة دينار لم يصح قولًا واحدًا؛ لأن مقتضى البيع أن تكون المنفعة بعد البيع حادثة عن ملك المبتاع بلا عوض، وهذا يقتضي أن يحدث في ملكه بعوض فلا يصح، وهكذا [ق 34 ب] لو قال: بعتك هذه الدار على أن تؤاجر الدار الأخرى لا يصح لأنهما كبيعتين في بيعة، وهكذا البيع إذا كان في عقد كتابة مثل أن يقول لعبده: بعتك هذا العبد وكاتبتك على نجمين بمائة فيه قولان: أحدهما: يبطلان لتنافي الأحكام. والثاني: لا يبطلان إلا أن البيع في العبد باطل لأنه لا يجوز أن يبيع شيئًا من عبده وإنما يجوز إذا سبق عقد الكتابة، فأما تبع العقد الكتابة فلا يجوز؛ لأن البيع يصادف رقيقًا غير مكاتب. وأما عقد الكتابة: فإن قلنا: لا تفرق الصفقة يبطلان، وإن قلنا: تفرق فالكتابة

بحصتها من المائة جائزة، وهكذا النكاح إذا كان في عقده بيع قولان لأن النكاح لا يبطل بحالٍ، لأنه لا يبطل بجهالة العوض. فإذا تقرر هذا، اختلف أصحابنا في مسألة الكتاب، فقال أبو إسحاق: هو بيع وإجارة في صفقة واحدة فيجب أن يكون على قولين، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز قولًا واحدًا وهو الصحيح. واختلفوا في العلة؛ فمنهم من قال: لأنه شرط عقدين في عقد، وقيل: إنه صار شرطًا في تأخير القبض وذلك أنه شرط عليه تسليمه محصورًا ولا يجوز شرط تأخير تسليم العين المبيعة. وقيل: العلة [ق 35 أ] أنه استأجره ليعمل فيما لا يملكه فلا يجوز، وصورة مسألة الكتاب أن يقول: ابتعت منك هذا الزرع على أن تحصد لي، واشتراه قبل استدراكه بشرط القطع أو بعد اشتداده وكان شعيرًا حتى يصح البيع، لو لم يشترط هذا الشرط. وهكذا الحكم لو قال: ابتعت منك هذا الثوب على أن تقطعه وتخيطه بألف فالحكم فيه في الزرع سواء، ولو قال: اشتريت منك هذا الزرع فهو كما لو استأجر رجلًا لحصاد زرع لا يملكه، ثم إذا بطل عقد الإجارة ففي البيع قولًا تفريق الصفقة، ولو قال: اشتريت منك هذا الزرع وتحصده لي بدينار لا يجوز. وقال في "الحاوي": إن قلنا في العلة الأولى يجوز لأنه لم يجعل أحدهما شرطًا في الآخر، وإن قلنا بالعلة الأخرى: لا يجوز، وهكذا لو اشترى حطبًا إذا عرف البائع داره كما لو قال: اشتريت منك هذا أو استأجرتك حتى تنقله إلى موضع كذا فيه ثلاثة طرق: أحدهما: أنه جمع بين عقدين مختلفي الحكم فيه قولان. والثانية: لا تصح الإجارة لأنه لم يملك [ق 35 ب] في البيع قولًا واحدًا؛ لأنه شرط فاسد في البيع، ولو أطلق في شراء الحطب المذهب أنه يصح ويسلم في موضعه. وفيه وجه لا يصح، لأن العادة تختلف فقد يشتري ليحمل إلى داره فهو كما لو ذكر الثمن مطلقًا، وفي البلد فقدان فلو اشترى صربا وشرط على البائع أن يخصفه على خف، فإن أراد أن يكون القدر الذي يحتاج إليه الخف معيبًا وما يسقط بالحدد والتقدير يبقى للبائع، فالكل باطل لأن المبيع مجهول، وإن أراد أن تكون جميلة مبيعة فهو كمسألة الحطب للبائع أو سمسمًا على أنه إذا عصره يكون كسبه للبائع نص في الصرف على بطلان البيع، وهكذا لو شرط أن يحلجه البائع ويكون الحب له، ولو باع حنطة على أن يكون الكيل على المشتري يبطل البيع لأنه يعتبر موجب العقد بالشرط. مسألة قَالَ: "وَلَوْ قَالَ لَهُ: بِعْنِي هَذِهِ الصَّبْرَةَ كُلَّ إِرْدَب بِدِرْهَم عَلَى أَنْ تَزِيدَنِي إِرْدَبًّا أَوْ أَنْقُصَكَ إِرْدَبًّا كَانَ فَاسِدًا".

الفصل وهذا كما قال، الإردب شيء من مكيال العرب بلغة مصر وهو أربعة وستون منًا ويكون أربعة وعشرين صاعًا، والفضل نصف ذلك والصبرة الكومة المجموعة من الطعام سميت [ق 36 أ] صبرة لإفراغ بعضها على بعض والكر ستون قفيزًا، والقفيز ثمانية مكاكيك، والمكوك صاع ونصف، وهو ثلاث كيلحات، والفرق ثلاثة آصع، وفي الصبرة مسائل كثير: إحداها: ما ذكره أنه إذا باع وأشار إليها يصح البيع، ورؤية ظاهرها مغنية عن رؤية باطنها؛ لأن الظاهر أن أجزائها متساوية وفي تقليبها والنظر إلى جميعها مشقة ظاهرة، ويخالف الثوي المطوي لا يصح بيعه إذا لم ينشره، لأن طرفي الثوب يختلفان في العادة، ولأن الصقالة والعصارة على ظاهره دون باطنه فلا يكون النظر إلى ظاهره مغنيًا عن النظر إلى باطنه، وقد بيّنا أنه إن وجدها قد دلس البائع فيها، بأن جعل تحتها طعامًا رديًا أو مبلولًا، أو جعلها على نشز من الأرض فللمشتري الخيار بين أن يمسكها بكل الثمن أو يردها. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بسوق الطعام فرأى طعامًا فأدخل يده فيه فرأى تحته نديًأ فأظهر النداوة، وقال: هكذا تبيعوا من غشنا فليس منا". وروي أنه قال: "أمرني جبريل صلى الله عليه وسلم أن أدخل يدي فيه". وإن كانت مصبوبة في بركة أو بئر ووهدة من الأرض ولم يعلم البائع [ق 36 ب] فالبائع بالخيار بين الإجازة والرد. وقال مالك -رحمه الله -إن علم البائع قدرها لا يجوز بيعها .. واحتج بما روى الأوزاعي -رحمه الله -أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من علم كيل طعام فلا يبعه حتى يبينه" وهذا غلط لأنه شاهد البيع ولا يفتقر إلى معرفة كيله كما لو يعلم البائع. وأما الخبر فمرسل، وإن صح حملناه على الندب. والمسألة الثانية: أن يقول: بعتك هذه الصبرة كل قفيز منها بدرهم فالبيع جائز؛ لأن الصبرة معلومة بالمشاهدة والثمن معلوم في التفصيل ويعلم قدر مبلغه من غير أن يرجع إلى المتعاقدين، فهو كما لو باع سلعة برأس المال، وهو مائة، وربح مائة في كل عشرة أو دابرة كل درهم يصح كذلك ههنا، وبه قال مالك، وأحمد، وأبو يوسف، ومحمد -رحمهم الله-. وقال أبو حنيفة -رحمه الله -: يصح في قفيز واحد دون الباقيز الثالثة: أن يقول: بعتك ربع هذه الصبرة أو ثلثها أو سدسها يصح البيع لأنه جزء معلوم بالمشاهدة. الرابعة: أن يقول: بعتك من هذه الصبرة عشرة أقفزة كل قفيز منها بدرهم، فإن علم أن الصبرة عشرة أقفزة أو أكثر يصح، وإن لم يعلم ذلك لا يصح لا يعلم وجود البيع [ق 37 أ].

وقال داود -رحمه الله -: لا يجوز بحالٍ كما لو باع ذراعًا من ثوبن وهذا غلط لما ذكرنا من العلة. الخامسة: أن يقول: بعتك من هذه الصبرة كل قفيز بدرهم فالبيع باطل؛ لأن من للتبعيض فقدر البيع مجهول. وحكي عن ابن سريج -رحمه الله -أنه قال: يجوز في قفيز واحد كأنه قال: بعتك قفيزًا من هذه الصبرة بدرهم. السادسة: إذا قال: بعتك هذه الصبرة كل قفيز بدرهم على أن أزيدك قفيزًا أو أنقصك قفيزًا، فالبيع باطل، لأن لا يدري هل ابتاعه زائدًا أو ناقصًا، وليست هذه مسألة الكتاب على صورتها، وإنما مسألة الكتاب إذا لم يذكر التخيير وهي المسالة السابعة: وصورتها أن يقول: بعتك هذه الصبرة على أن أزيد له إردبًا، وقال: على أن أنقصك، قال الشافعي -رحمه الله -: "البيع باطل، وجملته أنه إذا قال: على أن أزيدك إردبًا لا يخلو إما أن يعلما عدد القفزان أو لا يعلما ذلك، فإن لم يعلما فالبيع باطل لأن قوله أزيدك قفيزًا لا يخلوا إما أن يكون يريد به هبة أو يريد به بيعًا مع جملة القفزان، فإن أراد هبة لا يجوز، لأن شرط الهبة في عقد البيع فيصير في معنى التعيين في بيعه، وإن أراد بيعًا وجب أن [ق 37 ب] يقسط على القفزان فيصير كل قفيز وشيء بدرهم، وهذا مجهول فلا يصح، وإن علمنا مقدار القفزان، فيه وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنهما إذا علما أن عدد القفزان عشرة وزاد قفيزًا آخر ويكون مبيعًا فكأنهما تبايعًا كل قفيز وعشرة قفيزًا بدرهم. والثاني: لا يجوز؛ لأن القفيز الزائد غير مشاهد ولا موصوف، وإذا كان بعض المبيع مجهولًا لا يجوز البيع، هكذا ذكر القاضي الطبري وسائر أصحابنا ذكروا وجهًا واحدًا أنه لا يجوز لما ذكرنا من العلة وهو الصحيح الذي لا يحتمل غيره، وذلك أن بيع الطعام المعلوم والمجهول لا يصح قولًا واحدًا. والثامنة: أنه إذا قال: أزيدك إردبًا وأراد به أن يعطيه لكل إردب درهمًا ثم ثمن إردب واحد، فيصير كأنه زاد إردبًا من هذه الصبرة وجملة المكاييل معلومة عندهما يصح قولًا واحدًا. التاسعة: أن يقول: على أن أنقصك، فإن لم يعلما عدد القفزان لا يجوز، لأن البيع مجهول، ويصير كأنه باع قفيزًا إلا شيئًا بدرهم، وإن علما عدد القفزان يجوز البيع قولًا واحدًا؛ لأن القفيز الذي ينقضي ليس بمبيع فلا يضر الجهل به، ويخالف المسألة قبلها؛ لأن القفيز الزائد [ق 38 أ] مبيع فيؤثر فيه الجهل. العاشرة: إذا قال: بعتك كل إردب بدرهم على أن تهب لي منها قفيزًا لا يجوز؛ لأنه شرط أن يهب للبائع شيئًا، وإن أراد أن الثمن بجملته بقابل الصبرة إلا إردبًأ منها وكانت المكاييل معلومة جاز، ويصير كأنه باع كل إردب بدرهم وتسع درهم إن كانت

الصبرة عشرة مكاييل وأعطى تسعة دراهم، وإن أراد أن يأخذ جميع المكاييل العشرة ويعطيه أحد عشر درهمًا جاز أيضًا إذا كانت معلومة، وإن قال: أزيدك من غيرها لا يجوز بحالٍ للجهالة. الحادية عشرة: إذا قال: بعتك هذه الصبرة وهي عشرة أقفزة بعشرة دراهم كلناها، فإن كانت تسعة أقفزة: فقد ذكرنا أن البيع صحيح وللمشتري الخيار، وإن بانت أحد عشر قفيزًا ففيه قولان، والمذهب أن البيع صحيح وللبائع الخيار بين الإجازة والفسخ، وإن قال المشتري: رضيت عشرة منها بعشرة دراهم يسقط الخيار، والقول الثاني: أن البيع باطل لأنه لا يملك خيار البائع على ترك الفضل، ولا إجبار المشتري على ترك بعض ما اشترى يفسد البيع، وهكذا حكم الحبوب كلها [ق 38 ب] في كل ما تساوي أجزاؤه كالتمر والقطنان، وقيل: إذا خرجت أحد عشر قفيزًا، وقلنا: البيع جائز، ففي الزيادة وجهان: أحدهما: للمشتري لأنه عقد على جميع الصبرة. والثاني: للبائع لأنه ما شرط له إلا عشرة أقفزة. فرع إذا قلنا للبائع: لا خيار له وهل للمشتري الخيار؟ وجهان: أحدهما: يثبت لأن مقتضاه أن تسلم له كلها. والثاني: لا يثبت؛ لأن العشرة سلمت له كلها. والثاني: الزيادة للمشتري وهل للبائع الخيار؟ وجهان: أحدهما: لا يثبت، لأنه لما قال بهذه الصبرة رضي بزوال ملكه عن جميعها. والثاني: يثبت؛ لأن مقتضى قوله عشرة أن الزيادة لا تكون للمشتري. فرع هل يكره بيع الصبرة جزافًا؟ قال في الصرف: لا بأس به. وحكى حرملة عن الشافعي -رحمه الله -: لا أحب ذلك، لأن فيه ضربًا من الغرر فيكون أقل مما ظنه. فرع إذا قال بعتك صاعًا من هذه الصبرة، فقد ذكرنا أنه يصح -وذكرنا عن القفال وجهًا آخر، فلو تلف أكثر الصبرة فإن كان عدد الصيعان معلومًا فالذي ملك يملك شائعًا وما بقي بقي شائعًا ويسقط من الثمن بقدر ما هلك من المبيع، وإن كان العدد مجهولًا فما دام يبقى [ق 38 أ] صاع يلزمه تسليمه إليه، وإن كان بقي أقل من صاع سلم الموجود إن رضي به وسقط من الثمن بقدر ما فات.

فرع لو قال: بعتك هذه الصبرة إلا صاعًا، فإن كان عدد الصيعان معلومًا جاز وإن كان مجهولًا لا يجوز، والفرق أنها إذا كانت معلومة فقدر المبيع معلوم والجهالة فيما استبقى له على ملكه، وههنا المبيع مجهول، والقدر الذي استبقاه معلوم فلا يجوز، وأما إذا كان المبيع مما لا يتساوى أجزاؤه كالثوب والدار والأرض ففيه مسائل: أحدها: أن بيع الدار بمنزلة بيع الصبرة لأن ظاهرها مثل الحنطة والسقوف لا يرى باطنها كأساس الحيطان وأطراف الخشب وغير ذلك، وإذا قال: بعتك هذه الدار بكذا جاز، ولو قال: بعتك هذه الدار كل ذراع بدرهم جاز. وقال في "الحاوي": إذا لم يعلما مبلغ ذرعها فيه وجهان. قال البصريون: يجوز كما في الصبرة، وقال البغداديون: لا يجوز للجعل بمبلغ الثمن ولعله أراد بعض البغداديين، ولو قال: بعتك ربع هذه الدار، أو ثلثها جاز ولو قال: بعتك من هذه كل ذراع بدرهم لا يجوز، ولو قال: بعتك هذه الدار عشرة أذرع كل ذراع [ق 39 ب] بدرهم ولم يعرفا جملة ذرعان الدار لا يجوز؛ لأن أجزاء الدار غير متساوية ويفارق الصبرة من هذا الموضع لأن أجزاءها متساوية، ولو سمى جميع ذرعان الدار، ثم اشترى منها عشرة أذرع جاز من قبل أن هذا منها سهم معلوم. وبه قال أبو يوسف، ومحمد، وقال أبو حنيفة: لا يجوز؛ لأن الذرعان عبارة عن القدر كالقفيز من الطعام، فإذا أضافه إلى جملة معلومة كان ذلك جزءًا منها، ولو قال: بعتك من ههنا إلى ههنا جاز لأنه معلوم، ولو قال: بعتك من ههنا عشرة أذرع إلى حيث ينتهي ولم يبين الانتهاء وجهان: أحدهما: يجوز، وهو اختيار أبي اسحاق، وابن أبي هريرة لأنه باع جزءًا معلومًا من موضع معين؛ لأن الموضع الذي ينتهي المقدار غير معلوم وذلك يختلف فلا يجوز البيع حتى يكون الابتداء والانتهاء معلومين، ولو قال: بعتك هذه الدار كل ذراع بدرهم على أن أزيدك ذراعًا أو أنقصك ذراعًا فالحكم على ما ذكرنا في الصبرة، ولو [ق 40 أ] قال: بعتك نصيبي من هذه الدار ولم يعرفا أو أحدهما قدر النصيب لا يجوز. وحكي عن أبي حنيفة: إذا علم المشتري قدره يجوز. وكذا المسائل في الثوب إذا قال: بعتك هذا الثوب كل ذراع بدرهم لا يجوز؛ ولو قال: بعتك من هذا الثوب عشرة أذرع إلا ذراعًا واحدًا لا يجوز، لأنه لا يمكن تسليم المبيع إلا بضرر نقص يدخل على البائع، إلا أن يكون الثوب ضعيفًا إلا ينقصه بالقطع كالبطانة ونحوها، فحكمه حكم الدار إذا بين الابتداء والانتهاء، أو بين الابتداء دون الانتهاء على ما ذكرنا. وهذا هو المنصوص ذكره صاحب "التلخليص". وقال ابن سريج: يجوز ذلك بكل حال واختاره

القفال لأنهما رضيا بهذا الضرر كما لو باع أحد مصراعي الباب أو أخذ زوجي الخف. وقال في "الحاوي": إن علما انتهاء يجوز بكل حالٍ ولم يذكر وجهًا آخر بأن يكون عليه علامة مثل خط من لون آخر، وهو اختيار صاحب التقريب القاسم بن [ق 40 ب] القفال الشاسي -رحمهما الله. وقال أبو حنيفة -رحمه الله -: لا يجوز لأن في قطعه إدخال النقص في الذرع المبيعة والباقي من الثوب، وهذا خطأ لأنه لا خلاف أنه يجوز بيعه مشاعًا وإن كان يستحق قسمته المقتضية إلى نقص الحصص وهذا أصح عندي. قال صاحب "التلخيص": وهكذا إذا باع ذراعًا من أسطوانة من خشب قال: وإن كانت الأسطوانة من آجر جاز، وهذا يحتاج فيه أن يشترط أن يكون انتهاء الذرع إلى انتهاء آخره وعين ذلك فلا يلحق الضرر بذلك، فأما إذا كان انتهاء ذلك إلى بعضها كان في كسرها ضرر فلا يجوز، ولو باعه ثوبًا على أنه عشرة أذرع فخرج تسعًا يصح البيع والمشتري بالخيار، لأنه وجد بالمبيع نقصًا فصار بمنزلة العيب، فإن اختار هل يجيزه بكل الثمن أو بحصته من الثمن؟ قال أصحابنا: يجيزه بكل الثمن، وقال القاضي الطبري: في المذهب المحرر يخبره بكل الثمن؛ لأن الشافعي -رحمه الله -قال: لو اشترى صبرة على أنها مائة كر فبانت خمسين فالمشتري بالخيار إن شاء أخذ ذلك بالحصة من الثمن، وإن شاء فسخ والثوب كذلك، وقال في التعليق: مثل ما ذكره أصحابنا وهو الصحيح [ق 41 أ] والفرق بين الحنطة والثوب أن الحنطة تساوي أجزاءها فيكون ما فقده مثل ما تركه وفي الثوب ما فقده لم يكن مثل ما وجده ولأن في الصبرة لا يؤدي تقسط ذلك إلى جهالة الثمن في التفصيل حال العقد، وإن كان في الجملة مجهولًا، وفي الثوب إذا قسم الثمن على قيمة ذرعان له، وجعل الفائت مثل واحد منهما أدى إلى أن يكون الثمن حال العقد مجهولًا في الجملة والتفصيل. فإن قيل: هلا قسمتموه على عدد الذرعان؟ قلنا: لأن ذرعان الثوب يختلف وهذا لو باع ذراعًا منه ولم يعين موضعه لم يجز. وقال أبو حنيفة: يجيزه بحصته وهذا هو القياس عندي؛ لأن ذرعان الثوب يتقارب كالحنطة سواء، وإن خرج أحد عشر ذراعًا فيه وجهان: أحدهما: وهو المذهب المنصوص يصح البيع والبائع بالخيار إن شاء فسخ، وإن شاء رضى بالثمن المسمى لأن الزيادة في حق البائع بمنزلة النقصان في حق المشتري. والثاني: يبطل البيع لأن إجبار البائع على تسليمه زائدًا لا يجوز؛ لأن الزيادة لم يتناولها هذا العقد ولا يجوز إجبار المشتري على قبول عشرة أذرع منها مقطوعة، لأنه إنما دخل على أن يسلم له [ق 41 ب] جميع المثمن وفي تسليم بعضه إليه مقطوعًا ضرر به فكان البيع باطلًا. ويفارق إذا كان ناقصًا لأن إجبار البائع ممكن إذا رضي به المشتري، فإن

التسع قد تناولها العقد ويفارق الصبرة لأنه يمكن رد الفضل هناك. فإذا قلنا بالقول الأول فقال المشتري: رضيت بعشر منها بكل الثمن هل يجبر البائع على إتمام البيع؟ قال ابن سريج: فيه وجهان: أحدهما: الجبر لأنه زال ضرره. والثاني: لا يجبر لأن الشركة في الذراع الفاضل نقص، ولو قال: بعتك عشرة أذرع مشاعًا، فإن لم تكن الجملة معلومة لا يجوز، وإن كانت الجملة معلومة جاز. وقال أبو حنيفة -رحمه الله -: لا يجوز أصلًا كما قال في الدار وهذا غلط لما ذكرنا. فرع لو باع ساحة على أنها عشرة أذرع فكانت إحدى عشرة ذراعًا فالحكم على ما ذكر من الثوب. فرع لو قال: بعتك عشرة أذرع من هذه الأرض على أن أسلمها من أي موضع شئت لم يجز، وفي الصبرة يجوز؛ لأن أجزاء الصبرة لا تتفاوت وأجزاء الأرض تتفاوت في الصلاة والرخوة. فرع لو قال: بعتك صبرتك هذه فما خرجت قفزاتها بيانها من صبرتي هذه بدينار، لا يجوز نص عليه في الصرف. فرع لو قال: اشتريت منك هذا القطيع من الغنم [ق 42 أ] على أنها ثلاثون بلدي فإذا هي إحدى وثلاثون أو تسع وعشرون. قال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان: أحدهما: يصح في الثلاثين إذا كان زائدًا، وفي التسع والعشرين بحصته من الثمن إذا كان ناقصًا وهو الصحيح. والثاني: لا يصح. وبه قال أبو حنيفة: وعندي هذا كمسألة الثوب. فرع لو قال: اشتريت منك هذا القطيع كل رأس بكذا جاز، وقال أبو حنيفة: لا يجوز. وهذا غلط؛ لأن البيع معلوم بالجملة وكذلك الثمن كما قال في الصبرة.

فرع قال بعض أصحابنا بخراسان: لو باع صاعًا من حنطةٍ بصاع حنطة ولم يكونا حاضرين وقت العقد، فإن كان في البلد أجناس في الحنطة لا يجوز، وإن كانت جنسًا واحدًا فيه وجهان: أحدهما: يجوز ويشترط التقابض في المجلس وهو القياس، كما لو باع درهمًا بدرهم وفي البلد نقد واحد. والثاني: لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة لأنها مختلفة. فرع لو باع الشيء برقمه ولم يبين في المجلس لا يصح البيع في أصح الوجهين. ومن أصحابنا من قال: يجوز وإن لم يعلم في المجلس، لأنه يمكن إزالة الجهالة بالكشف عن قدرة من يعرف الرقم، كبيع الصبرة كل صاع بدرهم يجوز، وإن كان عدد الصيعان [ق 42 ب] مجهولة في الحال، وقال أبو حنيفة: يصح، وهذا غلط؛ لأن العقد وقع على ثمن مجهول. فرع لو باع صبرة طعام مختلطة بشعير أو قفيز منها جاز. وقال بعض أصحابنا: إن كان أسر الحوار الأمران فإن كان أحدهما زيد جاز بيع جملتها ولا يجوز بيع قفيز منها. مسألة قال: "وَلَو اشْتَرَطَ فَي بَيْعِ السَّمْنِ أَنْ يَزِنَهُ بِظُرُوفِهِ مَا جَازَ". الفصل: وهذا كما قال، في بيع الثمن مسائل: إحداهما: أن يقول: بعتك هذا السمن وهو مكشوف قد نظر إليه بكذا جاز البيع، وينبغي أن يكون في طرف واسع الرأس حتى تكون مشاهدته فيه، فإن كان الرأس مسدودًا يكون البيع فيه قولان، ولا فرق بين أن يكون الطرف من خشب أو خزف أو حديد. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا لم يعرف وزن الطرف هل يجوز البيع قولًا؟ وليس بشيء. ولو قال: بعتك هذا السمن كل رطل بدرهم جاز أيضًا. ولو قال: بعتك هذا السمن كل رطل بدرهم على أن أزنه بظرفه ولا يكون الظرف مبيعًا فالبيع باطلًا؛ لأنه شرط أن يزيد مع المبيع غيره، كما لو باع حنطة على أن يكيل معها شعيرًا لم يجز. وقال بعض أصحابنا: لو علما وزن الظرف والسمن ينبغي أن [ق 43 أ] يجوز ويكون

بمنزلة أن يقول في الصبرة: على أن أزيدك قفيزًا وأحسب ثمنه عليك، لأنهما إذا علما ذلك فقد علما قدر الزيادة على ثمن الرطل، ولو قال: على أن أزنه بظرفه ثم أحط وزن الظرف جاز، وهكذا يباع، ولو قال: بعتك هذا السمن والظرف جزافًا بكذا أجاز البيع، لأنه باعهما جميعًا بثمن معلوم. فإن قيل: أليس لو باع اللبن مشوبًا بالماء لا يجوز، فما الفرق؟ قيل: الفرق هناك المتصور غير متميز عما ليس بمقصود؛ لأن اللبن غير متميز عن الماء، وههنا المقصود متميز عن غير المقصود فجاز إذا جمع بينهما، ولو قال: بعتك هذا السمن مع الظرف كل رطل بدرهم، فإن كانا عالمين بمقدار الظرف والسمن، مثل أن يعلما أن الظرف خمسة أرطال والسمن عشرة أرطال جاز، وكأنه باعه ثلثاه سمن وثلثه ظرفه بدرهم، وإن كان لا يعلمان أو أحدهما مقدارهما لا يجوز؛ لأن المقصود السمن ولا يدريان كم من السمن يبيع بدرهم فالثمن مجهول في الجملة والتفصيل. وحكي عن الداركي أنه يجوز؛ لأنه في النقصان معلوم كما لو باع جنسًا واحدًا، لأنه رضي بأن يشتري الظرف كل رطل بدرهم كما يشتري السمن ولو اشترى كل واحد منهما [ق 43 ب] على الانفراد ولا نظر ضمنهما كما لو اشترى ثوبًا مختلف الغزال أو ... كل صاع بدرهم وقيمة ذرعانهما مختلفة، وإذا جوزنا إذا كان وزنهما معلومًا لا يشترط أن يكون الظرف بانفراده ما يساوي السمن، كما يجوز شراء الفواكه المختلطة بثمن واحد، وإن كان بعض أنواعه أغلى سعرًأ من بعض، وهذا إذا كان الظرف مقصودًا، فإن كان لا ينتفع بالظرف أصلًا وإنما يشتري مع السمن لا يجوز البيع؛ لأنه لم يبع منه المقصود إلا بأن يشتري معه ما ليس بمقصود، فهو كما لو قال: تزنه بظرفه لا يكون الظرف مقابل برده ويؤدي ثمنه. ولو قال: بعتك هذا الثمن بعشرة على أن أزنه بظرفه، ثم أحط ثمن الظرف بالقسط، فإن كان عند العقد عالمين بقدر وزن الظرف وقدر ثمنه جاز، وإن كانا جاهلين أو أحدهما لا يجوز البيع لأنهما لا يعلمان أن المحطوط درهمان أو درهم فالثمن مجهول، ولا يشبه هذا إذا قال: كل رطل بكذا ثم أطرح وزن الظرف، لأنه يصير بيع مراطلة ومكايلة فلا يقدح الظرف وجهالته في العقد. فرع لو اشترى جامدًا في ظرف موازنة يشترط إنزال الظرف كالدقيق والحنطة؟ فيه وجهان: [ق 44 أ]. أحدهما: لا يجوز الاستغناء الجامد عن ظرف يوزن معه، وإليه ميل أبي إسحاق. والثاني: يجوز لأنه يصير بعد إنزال ظرفه معلوم القدر كالسمن وهو قياس قول ابن أبي هريرة. ذكره في الحاوي.

باب النهي عن بيع الغرر

مسألة قال: "وَلَوْ اشْتَرَطَ الْخِيَارَ فِي البَيْعِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ بَعْدَ التَّفَرقِ فَسَدَ الْبَيْعُ". الفصل: وقد مضت هذه المسألة ولفظ الشافعي -رحمة الله عليه - ههنا يدل على أن أول خيار الشرط يحسب من وقت التفرق، وهو أحد وجهي أصحابنا، وهي نص لمن تأمل لفظه، وإن كان الصحيح الوجه الآخر. فرع يجوز بيع الدراهم والدنانير جزافًا. وقال مالك -رحمه الله -: لا يجوز لأنها خطر ولا يشق عددها أو وزنها. وهذا غلط لأنه معلوم المشاهدة كالصبرة والنقرة والتبر والحلي. باب النهي عن بيع الغرر قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ فَذَكَرَ الخبر. وهذا كما قال: "لا يجوز بيع الغرر ولا يحل ثمن عسب الفحل لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن بيع الغرر وعن ثمن عسب الفحل". والصحيح أن عسب الفحل ماؤه الذي يطرق به الإناث وينزو عليها، ولهذا قال: ثمن عسب الفحل وثمنه، وقيل: [ق 44 ب] الأجرة هي العسب. وروي أنه "نهى عن عسب الفحل" وثمنه أجرته، وتسمى الأجرة ثمنًا على طريق المجاز لا يجوز بيع ذلك ولا إجارة الفحل للضراب. وحكي أصحابنا عن مالك - رحمه الله -أنه يجوز أخذ الأجرة عليه، وبه قال الحسن، وابن سيرين -رحمهما الله -وقال عطاء -رحمه الله -: لا بأس إذا لم يجد من يطرقه؛ لأن فيه مصلحة لئلا ينقطع النسل. وحكي عن ابن أبي هريرة من أصحابنا وأبي ثور. وقال في "الحاوي": اختلف أصحابنا في معنى هذا النهي على وجهين: أحدهما: نهى تنزيه لدناءته وامتناع الجاهلية في فعله.

والثاني: وهو الأصح أنه نهى تحريم، لأن ذلك الماء مما يحرم عليه المعاوضة ولا يجوز أخذ البدل عنه. والمنصوص ما ذكرت ولأنه استئجار على ما لا يقدر تسليمه؛ لأن المقصود الإنزال وهو يحصل باختيار العمل وليس في قدرته ذلك. وأما الاستعارة للأطراف يجوز لما روى أنس -رضي الله عنه -أن قومًا من بني كلاب سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كراء الفحل فنهاهم فقالوا: إنا نطرقها لهم إكرامًا، فقال: "إذا كان ذلك إكرامًا -يعني هدية - فلا بأس"، ولو أعطى صاحب الفحل هدية أو كرامة جاز قبولها [ق 45 أ]. وقال أبو حنيفة: لا يجوز كما في حلوان الكاهن ومهر البغي، وهذا غلط؛ لأن هذه هدية لأجل بسبب مباح بخلاف ما قاسوا عليه. واعلم أن هذه المسألة ليست من مسائل البيع في الحقيقة، بل هي من الإجارات ولكن ذكرها الشافعي ههنا لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكره باسم الثمن. فرع لو استأجر فحلًا للركوب فأنزاه على أنثى، فإن دخل فيه نقص يغرم النقصان، وإن لم يدخل نقص لم يغرم شيئًا. مسألة: "وَمِنْ بُيُوعِ الغُرَرِ عِنْدَنَا مَع مَا لَيْسَ عِنْدَكَ وَبَيَعُ الحَمْلِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَالعَبْدُ الآبِقِ". وهذا كما قال، الغرر ما تردد بين جائزين لا يترجح أحدهما على صاحبه، كبيع الطير في الهواء، والسمك في الماء، فإنه قد يمكنه تسليمه، وقد لا يمكنه، وليس أحدهما أولى من صاحبه، فأما إذا رجحت السلامة فلا يكون غررًا مثل أن يقول: بعتك العبد الذي شاهدناه في البيت؛ لأن الأصل بقاؤه وسلامته ويصح بيعه، وأما في بيع ما ليس عنده ثلاث مسائل: إحداها: أن يبيع ملك غيره بغير إذنه فالبيع باطل لا يقف على إجازته لأنه غرر لا يدري هل يجيز صاحبه أو لا يجيز، وقال أبو حنيفة: ينعقد البيع موقوفًا على إجازة المالك [ق 45 ب] فإن أجاز جاز. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا قول آخر للشافعي -رحمه الله -في القديم وهكذا إذا اشترى للغير بغير إذنه هل يقف على إجازته؟ قولان وعند أبي حنيفة الشراء يلزم العاقد ولا يقف. وقال مالك: يقف البيع والشراء على الإجازة، وبه قال أحمد في رواية وقيل: قال

البويطي والربيع: قال الشافعي لو صح حديث عروة البارقي فكل من باع أو أعتق، ثم رضي المالك يجوز. وهو قوله الجديد إذا كان الشراء في الذمة. وأطلق ولم يقل اشتريت لفلان، قالوا فيه وجهان: أحدهما: يلزم العاقد أيضًا ويلغو قوله لفلان. والثاني: يبطل البيع لأنه أضاف إلى فلان فلا يمكننا إلزام العاقد ذلك. وقد روي أن حكيم بن حزام -رضي الله عنه -قال: يا رسول الله يأتيني الرجل فيريد مني البيع ليس عندي فأبتاعه له من السوق، فقال: "لا تبع ما ليس عندك" وأراد بيع العين دون الصفقة. والثانية: أن بيع الرجل السلعة وهي ملك لغيره معتقد أنه يبيع ملكه ثم يشتريها ويسلمها إليها فلا يجوز ذلك أيضًا. وفيه ورد خبر حكيم بن حزام ولأن غرر. والثالثة: بيع العين الغائبة، وقد ذكرنا حكمها وهو غرر [ق 46 أ] أيضًا، لأنه لا يدري أيقدر على تسليمه أم لا يقدر، ولا يدري أتزيد قيمته على ثمنه أو لا تزيد، وعلى هذا لا يجوز بيع المكره إلا أن يكون مكرهًا. وروي عن أبي حنيفة: يجوز إذا أكرهن غير السلطان؛ لأن إكراهه نادر ورفعه ممكن وهذا ظاهر الفساد. فرع بيع الهازل هل ينعقد؟ وجهان: أحدهما: لا ينعقد، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن البيع يمتنع لزومه بشرط الخيار. والثاني: ينعقد لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد: الطلاق، والنكاح، والرجعة" لم يقصد الحصر بها لأن العتق يلحق بالطلاق والنكاح والبيع سواء في كونهما عقد معاوضة. وأما بيع الحمل في بطن أمه. قد ذكرنا أنه لا يجوز لأنه غرر. وقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه -أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المضامين والملاقيح. قال أبو عبيد الملاقيح ما في البطون وهي الأجنة، الواحدة منها ملقوحة. والمضامين ما في أصلاب الفحول، وكانوا يبيعون الجنين في بطن الناقة في عامه أو في أعوام، وأنشد في ذلك: إن المضامين التي في الصلب ماء الفحول في ظهور الحدب

وقد قال الشافعي -رحمه الله -في كتاب الصرف لا خير [ق 46 ب] في أن يبيع الرجل الدابة ويشترط عقاقها، يريد به إذا اشترط حملها والعقوق الحامل والعقاق الحمل. قال أصحابنا: هذا على قول الذي يقول: لا حكم للحمل. فأما إذا قلنا له حكم جاز شرطه، وقد ذكرنا هذا. ولو باعها على أنها تضع بعد شهر أو سنة لا يصح العقد قولًا واحدًا؛ لأنه شرط ما لا يقدر عليه، ولو باع الحامل بولد حر فالبيع باطل، ومن أصحابنا من ذكر وجهًا أنه يجوز ولا يتبعها الحمل. وهكذا لو كان الحمل مرضعًا به لواحة فباع من غير صاحب الحمل، وهذا ضعيف. وقيل: إذا باع الجارية على أنها حامل يجوز قولًا واحدًا؛ لأن الحمل فيها يثبت فيكون إعلامًا للعيب، ولو باع اللبون واستثنى لبنها. قال بعض أصحابنا: يحتمل وجهين: أحدهما: لا يجوز كما لو استثنى حملها. والثاني: يجوز لأنه مقدور عليه بخلاف الحمل والجهالة في استثنائه والمذهب الأول. فرع لو قال: بعتك هذه الشاة وحملها صح لأنه يصح بمقتضى العقد، وفيه وجه آخر لا يصح لأنه تابع وقد جعله مقصودًا بالتسمية، وإذا قلنا: لا يعرف الحمل لا يصح العقد لأنه سمى المجهول معها. وهكذا إذا قال: بعتك هذه الجبة وحشوها فيه وجه بعيد أن البيع باطل. فرع لو كان الحمل مع الأم [ق 47 أ] فقال: بعتكها دون الحمل وقد ذكرنا أنه لا يجوز، وإن كان الرجلين فباع الأم من مالك الحمل أو من غيره لا يجوز أيضًا على الصحيح من المذهب، وفيه وجه آخر لأنها مقدورة التسليم والحمل تابع فلا يتغير الحكم بالبائع، وهذا على قولنا لا حكم للحمل أظهر. فرع إذا قلنا بيع الحامل دون الحمل لا يجوز، فلو وكل صاحب الحمل صاحب الجارية بالبيع، أو وكل صاحب الجارية صاحب الحمل بالبيع، أو وكلا أجنبيًا لبيعها مع الحمل لا يجوز؛ لأن كل واحد منهما لا يملك العقد بنفسه ولا يصح فيه التوكيل. وأما بيع الدجاجة على أن فيها بيضة فهو كما لو باع الحامل بشرط الحمل، وأما بيع البيض فإن كان بيض ما يؤكل لحمه منفصلًا عنه يجوز بيعه، وإن كان مستورًأ بالقشر لأنه من مصلحته كبيع الجوز، وأما بيض ما لا يؤكل لحمه هل يجوز بيعه؟ وجهان بناء على طهارته، وهذا

إذا كان ينتفع به بأن يصير فرخًا، لأنه لا ينتفع به في الأكل، ولو انفصل من الحيوان بعد موته. ذكر أبو حامد -رحمه الله -ههنا أنه لم يحل؛ لأنه بمنزلة لحمه. وذكر الاختلاف فيه في كتاب "الطهارة" ثم وقد قيل: إن كان عليه قشرًا أبيض يحل أكله، وإن كان أحمر لم يحل لأنه [ق 47 ب] مائع فتنجس نجاسة أهلية. وقال القاضي الطبري -رحمه الله -: الصحيح عندي جواز بيع بزر القز وهو الذي اختاره. وحكي عن أبي حنيفة -رحمه الله -أنه قال: لا يجوز بيع بزره ويجوز بيع الدود، وأما دود القز ظاهرة يجوز بيعها لأنها ظاهرة ينتفع بها، وأما بيع القز والدود في جوفه إن باعه جزافًا جاز، وإن باعه وزنًا لم يجز للجهل بقدر القز، ويجوز بيع الدود الذي خرج من القز وقد خرج جناحه، ويسمى فراشًا، وإن ترك القز في الظل حتى يخرج منه الدود، ويجوز بيعه بكل حالٍ؛ لأنه قز برد فهو كالإبريسم. وأما بيع النحل مع الكندرج والكوارة، أو من غير الكوارة: قال ابن سريج: يجوز؛ لأنه يعلم مقداره بخروجه منها ودخوله فيها، وهذا إذا كان مسدودًا لا يقدر على الطيران منه كالطير في البرج، أو لا يقدر على الطيران لصغره. وقال أبو حامد -رحمه الله -: فيه وجهان، والصحيح أنه لا يجوز، لأنه لا يمكن حصر عددها وبيع ما لا ينحصر عدده لا يجوز. قال: فإن فرخ في موضع أو في الكوارة وشوهد، أو خرج من الكوارة واجتمع في غصن شجرة ثم أُخذ فرعه وقطع رأسها وطلي داخلها بغسلٍ ونزل على رأس الموضع الذي اجتمعوا فيه وأدخن تحته حتى [ق 48 أ] دخلوا القريحةّ فيجوز بيعها حينئذٍ، لأنه معلوم ويشاهده الكل. وبه قال أحمد، ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة: لا يجوز بيع النحل أصلًا، لأنه لا ينتفع بعينه فلا يجوز بيعه. وهذا غلط لأنه يجوز اقتناؤه ليتملك ما يخرج منه كالشاة ولو كان عند كندوجه طائر لرعيه ثم يعود ليلًا إلى كندوجه على عادة جارية فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز بيعه؛ لأنه غير مقدور عليه في الحال كالطير الألوف إذا طار. والثاني: وهو اختيار ابن سريج يجوز وإن كان طائرًا بخلاف الطير الطائر. والفرق أن النحل إن حبس عن الطيران تلف لأنه لا يقوم إلا بالرعي، ولا نفع فيه إلا عند طيرانه ليرعى ما يستخلف عسلًا، ويمكن حبس الطير ومنفعته مع الحبس حاصله. وأما بيع العبد الآبق لا يجوز لأنه في معنى بيع الحمل في البطن، وهكذا كل حيوان خرج هاربًا من يد مالكه كالجمل الشارد والدابة الشاردة والطير المفلت من يد صاحبه لا يجوز بيعه سواء باعه وهو يشاهده هاربًا أو لا يشاهده. ولو باعه ثم وجده البائع وقدر على تسليمه لم يجز المبيع لاقتران تعذّر التسليم، لا يدري عند العقد أيجده أو لا يجده. وأما إذا عرف مكانه ويعلم أنه يصل إليه إذا [ق 48 ب] رام التوصل إليه له

حكم الآبق، وإن. وكان بينهما مسافة بعيدة. وقال ابن عمر يجوز بيع العبد الآبق ما لم يتقادم عده وروي أنه باع أبقًا. وقال ابن سيرين -رحمه الله -يجوز بيعه إذا عرف مكانه. وقال أبو حنيفة: بيع الآبق فاسد، فإن وجده بعد بيعه يلزمه تسليمه إليه ويصح البيع الأول. وهذا غلط لما ذكرنا. فرع لو باع منه سفينة في لجة البحر لا يقدر على تسليمها منه حال العقد لا يجوز، وكذلك إن كان فيها، وإن قدر جاز. فرع لو أحبَس السمك في البركة الصغيرة المشدودة أفواهها يجوز بيعه لأنه يتيسر تسليمه، وهذا إذا كان الماء صافيًا يشاهد السمك فيه، فإن كان كدرًا لا يجوز بيعه نص عليه، وقال في "الحاوي" غلط بعض أصحابنا فجعله كالعين الغائبة فيه قولان، وهذا لأن العين الغائبة قد يمكن صفتها لتقدم مشاهدة البائع لها، وهذا لا يعلم قلته ولا كثرته ولا جودته ولا رداءته، ولا يمكن صفته. ولو كانت البركة واسعة سعة متفاحشة لا يجوز بيعه؛ لأنه لا يمكن تسليمه إلا بتعبٍ وحيلةٍ. وقال عمر بن عبد العزيز -رحمه الله -وابن أبي ليلى: يجوز بيعه كما يجوز بيع المكيل بالكيل وإن [ق 49 أ] كان عليه مؤنة في كيله، وهذا غلط لما روي عن عمرو بن مسعود -رضي الله عنهما -أنهما قالا: لا تشتري السمك في الماء فإنه غرو، ويفارق ما ذكروا لأن الكيل مؤنة القبض وههنا يحتاج إلى مؤنة ليمكن إقباضه. فرع لو علق الطير بشبكة الصياد واستوثقته الشبكة الوثيقة يجوز بيعه قبل إخراجه منها ولو احتبس الطير في الحائط الواسع بحافاته، بحيث يتعذر القبض عليه كما يتعذر في الصحراء إلا بمؤنة وحيلة لا يجوز بيعه. فرع إذا باع طيور الأبراج في البروج، فإن كان باب البرج تطير منه لا يجوز لأنه ربما يطير ولا يرجع. ومن أصحابنا من قال: إذا كانت مألوفة يجوز بيعها وتسلم عند الرجوع إلى البرج على العرف، وعلى هذا لو باع النعم الراعية في الصحراء، فإن كانت مألوفة يمكن تسليمها من غير تكلف جاز، وإن كان باب البرج مسدودًا فباع الكل أو بعضها متميزًا بحيث لا يخلط لا يجوز إلا إذا شاهدها ولو كان البرج كبيرًا تلحقه مشقة ومؤنة في

أخذه لا يجوز بيعه كالسمك في البركة الكبيرة. إذا كان له طير مملوك وطار لا يزول لكن لا يجوز بيعه كما ذكرنا. وقال مالك: إن لم يخرج من البنيان فهو على ملكه، وإن خرج من البنيان زال ملكه، وهذا غلط [ق 49 ب] لأن ملك الإنسان لا يزول لخروج الشيء عن يده كالبهيمة إذا سرقت. مسألة: قَالَ فِي الصَّرْفِ": "لاَ يَجُوزُ تَقَبل البِرَك لِيَصْطَاد مِنْه الحِيتَانِ". وهذا صحيح -البرك والآجام التي يدخل الماء فيها ويحصل فيها السموك ثم يسد حتى ينصب الماء ثم يصاد منها السموك لا يجوز تضمينها، ولا يجوز عقد الإجارة عليها ليصاد منها السموك؛ لأن هذا الاستئجار على منفعة لا يقدر على تسليمها لأنه لا يعلم هل يدخل فيه السمك أم لا، وهل يمكن أخذه أم لا، وقد يدخل قليًا وقد يدخل كثيرًا، ولكن لو اكترى أرضًا ليزرعها فصارت أجمة وحصل فيها الماء والسمك يجوز له أن يصطاد منها السمك، وهو أحق بها لأنه لا يجوز لغيره أن يدخل أرضه التي استأجرها، فإن تخطي فيها أجنبي وأخذه ملكه بالأخذ. وقال بعض أصحابنا: تأويل قول الشافعي -رحمه الله -أن يقصد بتقبلها وإجارتها أخذا السمك منها؛ لأن عقد الإجارة يقع على الأعيان، فإن لم يكن فيها سمك فاستأجرها ليحبس ما يدخل فيها من السمك تجوز الإجارة لأن العقد وقع على منفعة مقصودة. وذكر أبو حامد -رحمه الله -أنه لا يجوز ذلك ويجوز إجارة الشبكة للاصطياد وفرق بينهما؛ لأن الشبكة [ق 50 أ] تحبس الصيد والاصطياد يكون بها وفي البركة يحبس السمك بغيرها، وهذا غير واضح، لأنه يمكن الاصطياد بالبركة وحبس السمك بها، وفي ذلك منفعة ظاهرة كما بالشبكة، وهذا هو الصحيح. فرع قال ابن سريج -رحمه الله -لو كان له دارًا وأرض فعشعش فيها طائر وفرخ فيها، أو دخل ظبي في أرض رجل فانكسرت رجله فيها أو غاص في الطين وبقى فيه، كان صاحب الأرض أحق به، لأن غيره لا يجوز أن يتخطى فيها. فإن خالف أجنبي وتخطى فيها وأخذه كان أحق به من مالك الأرض، لأنه ملكه بالأخذ. وهكذا إذا وثبت سمكة فوقعت في سمارية لا تكون لمالكها ولا لمستأجرها ولا لركابها، بل تكون للآخذ دون غيره، وعلى هذا لو نزل الثلج من السماء فمكث في أرض إنسان كان صاحب الأرض أحق به؛ لأن غيره لا يحل له أن يتخطاها فلو تخطاها إنسان وأخذه كان أحق به من صاحب الأرض. ويفارق هذه المسألة إذا نصب أحبولة أو شبكة أو مهد الأرض للتوحيل حتى يبقي فيها الطين إذا دخل فوقع فيها تصير لصاحبها، وإذا أخذ غيره يلزمه ردها إليه لأنه قصد تملكها وقدر عليها بذلك.

فرع لو باع دارًا لا طريق [ق 50 ب] لها أو باع بيتًا من دار لا طريق إليه فيه وجهان: أحدهما: لا يصح، لأنه لا يمكن الانتفاع به. والثاني: يصح لأنه يمكنه أن يحصل له طريقًا فيتنفع به. مسألة قال: "وَلَو اشْتَرَى مِائَةَ ذِرَاعٍ مِنْ دَارٍ لَمْ يَجُزْ لِجَهْلِهِ بَالأذْرُعِ". وهذا كما قال قد ذكرنا هذه المسألة وصورة هذه المسألة أن تكون الأذرع مشاعة لا معينة من بعض جوانبها، وقال: بعتك مائة ذراع من مائتي ذراع وأراد الأسهم جاز، وإن كانت ذرعان الدار أكثر من مائتي ذراع أو أقل، وكأنه قال: مائة سهم من مائتي سهم فسمى السهمان اذرعًا. ولو اشترى نصف سيف أو ديباج معينًا لا مشاعًا لم يجز، لأنه ينتقص بالتنصيف، وكذلك نصف جوهرة معينًا، ولو باع النصف من خشبة أو حجر لا ينقص بالكسر والقطع جاز كما قلنا في الثوب الصفيق الذي لا ينتقص بالقطع. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان: أحدهما: هذا. والثاني: لا يجوز وهو اختيار صاحب التلخيص؛ لأنه لا بد أن يقع التفاوت في موضع قطع الثوب ولو بخيط. وكذلك في موضع قطع المنشار فيؤدي إلى الجهالة وفي هذا نظر؛ لأن صاحب "التلخيص" ذكر النص عن الشافعي على ما تقدم بيانه وهو مذكور في اختلاف العراقيين [ق 51 أ]. مسألة قال: "وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ اللَّبنِ فِي الضُّرُوعِ". وهذا كما قال: لا يجوز بيع اللبن في الضرع لأنه مجهول المقدار والصفة يختلف بكون الضرع لحمًا شحمًا ورقيق الجلد كثير اللبن ويكون أبيض صافيًا، أو متلونًا، ويحدث أيضًا ما ليس بمنع ولا يتميز من المبيع إلى أن يحلب، وقد ورى ابن عباس -رضي الله عنهما -أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن بيع اللبن في الضرع" والصوف على الظهر والسمن في اللبن وكرهه ابن عباس -رضي الله عنهما -وهي كراهة محرمة. وقال مالك -رحمه الله -يجوز بيع اللبن في الضرع أيامًا معلومة قريبة إذا عرفت قدر حلابها؛ لأن قدره وصفته تعلم بالعادة. قال: ويكون التسليم بالتخلية كالثمار على الشجر. قال: والأيام القريبة قدر عشرة أيام.

فرع لو حلب بعضه وعرضه على المشتري وقال: بعتك رطل لبن بهذه الصفة فيما في هذا الضرع لا يجوز؛ لأن اللبن يزاد كل ساعة فكأنه باع ما هو معدوم لا على طريق السلم فلا يجوز. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان: أحدهما: يجوز، وبه أفتى جماعة منهم، كما لو كان في الإناء ولو عرض النموذج من لبن أو خل أو دهن في إناء، وقال: بعتك منه كذا وكذا منًا جاز؛ لأن رؤية النموذج كرؤية الكل كمالة رأى أعلى الخل أو اللبن [ق 51 ب] أو أعلى الصبرة واشترى منه مقدارًا معلومًا جاز. والثاني: لا يجوز لما ذكرنا وهو الأصح: وقيل: لا لبن في الضرع وإنما هو دم وبالحلاب يصير لبنًا في الحال بقدرة الله تعالى وهذا ليس بشيء. فرع لو لم يقدم إلى هذا الضرع بل باعه سلمًا، وهما علمان بصفات هذا النموذج بحيث لو فات هذا أمكنهما أن يصفاه جاز. وقال القفال -رحمه الله -وظاهر ما روي عن ابن عباس -رضي الله عنهما -أن يكره بيع اللبن في الضرع إلا بكيل يدل على الوجه الأول من الوجهين وهو أنه إذا ذكر الكيل جاز بيع ما في الضرع ولكنه قائلة عندي أنه أراد إلا بعدم الحلاب كيلًا بكيل إذا أراد بيع اللبن باللبن، فأما إذا أراد بيعه بالمداعم لا يجب الكيل. فرع لبن ما لا يؤكل لحمه لا يحل شربه بلا خلاف ولكنه ظاهر في أحد الوجهين، ويجوز بيعه على هذا إن كان منتفعًا به من وجه آخر سوى الشرب لأنه لبن طاهر منتفع به. فرع لبن الآدميات طاهر يجوز بيعه، وقال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد في رواية: هو طاهر ولكن لا يجوز بيعه لأنه مائع خارج عن آدمية كالعرق وهذا غلط لأنه مائع طاهر منتفع به فأشبه لبن الشاة. وقال الأنماطي من أصحابنا: هو نجس لا يحل لأجل الصغار [ق 52 أ] ولا يجوز بيعه. وقد ذكر بعض أصحاب أبي حنيفة، وهذا غلط ظاهر لأن الله تعالى جعله غذاء الأنبياء والأولياء في وقت نشوئهم، وقد قال الله تعالى: {ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} [الإسرَاء: 70] فيستحيل ما قالوا، وقد أمر رسول الله صلى عليه وسلم سهلة بنت سهيل أن ترضع

سالمًا في حال الكبر. فرع إذا قلنا لا تنجس الآدمية بالموت لا ينجس لبنها ويجوز بيعه. فرع الزباد وهو لبن سنور يكون في البحر يحلب لبنا كالسمك ربحًا واللبن بياضًا يستعمله أهل البحر طيبًا، فإن قلنا بنجاسة ما لا يؤكل لحمه ففي هذا وجهان: أحدهما: هو نجس اعتبارًا بنجسه. والثاني: هو طاهر كالمسك لقوله تعالى: {ويُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ} [الأعرَاف: 157]. مسألة: قَالَ: "وَكَانَ ابْنُ عَبَّاس يَكْرَهُ بَيْعَ الصُّوفِ عَلَى ظَهْرِ الغَنَمِ". وهذا كما قال: عندنا لا يجوز بيع الصوف على ظهر الغنم، وبه قال جماعة العلماء، وقال مالك، وربيعة، والليث بن سعد، وأبو يوسف رحمهم الله: يجوز بيعه جزءًا كالبقل، وهذا غلط لما روى ابن عباس -رضي الله عنهما -أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى أن يبيع الثمرة حتى يتبين سلامتها، أو يباع صوف على ظهر. ولأنه متصل بالحيوان فلا يجوز إفراده بالعقد كسائر الأعضاء وليس كالبقل لأنه يمكن تسليمه [ق 52 ب] لأن استئصاله من وجه الأرض يمكن ولا يمتنع منه، وفي الصوف لو استقصى من خلفه أدى إلى الأذى بالحيوان والتعذيب، ولو لم يستقص يكون البيع مجهولًا فلا يجوز ذلك. وعلى ما ذكرنا لا يجوز بيع الشاة على أن جلدها أو اللبن الذي في ضرعها لبائعها يحلبها بعد العقد، أو يبيع ثمر النخل على أن ما يتساقط منها للبائع. مسألة: قَالَ: "وَلاَ يَجُوزُ بَيْعُ المِسْكِ فِي فَارةٍ". وهذا كما قال: قد ذكرنا أن المسك طاهر والانتفاع به. وبه قال جمهور العلماء. وقالت طائفة من الشيعة: هو نجس؛ لأنه دم جامد، ولأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أبين من حي فهو ميت"، والميتة نجسة. وقد روي هذا عن بعض فقهاء الشيعة، وهذا غلط، وهو خلاف إجماع المسلمين، وقد ذكرنا ما فيه من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه استعمله حالة الإجرام. وروي عن علي -رضي الله عنه -أنه أمر أن يجعل في حنوطه مسك، وقال: هو

باب بيع حبل الحبلة والملامسة والمنابذة

فضل حنوط النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: "إنه دم" فغلط، بل كان دمًا فاستحال وصار مسكًا كاللبن، وأما الخبر فهذا لا يبان منه بل تلقيه الغزالة كما تلقي الولد، وكما تلقي الطير [ق 53 أ] البيض وقبل أن يمر على الشوك أو الصخر ليحتك به ويرمي به. ومن أصحابنا من ذكر وجهًا أن الفأة نجسة لا يجوز بيعها مع المسك، وليس بشيء. وإذا تقرر هذا، لو باع فأرة غير مفتوقة لا يجوز لجهالة ما فيها من المسك. وحكي عن ابن سريج -رحمه الله -أنه قال: يجوز، لأن بقاءه في فأرته مصلحة فتحفظ عليه رطوبته وذكارا تحته فهو بمنزلة بيع الجوز في قشره، وهذا غلط؛ لأن قشر الجوز من صلاح لبه، والفأرة ليست من صلاح المسك أصلًا؛ لأنه لو خرج من الفأرة وترك في ظرف آخر يبقى هناك، فصار بمنزلة الصدف في اللؤلؤ. وقال القفال رحمه الله: إذا جوزنا شراء الغائب جوزنا هذا؛ لأنه لا نقص في إخراجه من الجلد، وإذا خرج له خيار الرؤية بخلاف الجوز لا يجوز أن يشتري لبه على خيار الرؤية لأنه ينتقص قيمته بإخراجه من القشر. فرع لو فتق الفأرة ورأى المسك ثم اشتراه مع الجلد بحساب واحد جاز إذا كان الجلد مقصودًا له بوجهٍ كما قلنا في ظرف السمن، ولو اشتراه دون جلده لا يجوز؛ لأنه لا يقف على غلط [ق 53 ب] الفأرة ورقتها، وبعض المواضع فيها أغلط من بعض فيصير المسك مجهولًا حتى لو كان بحالة الفأرة لا تتفاوت تفاوتًا ظاهرًا يجوز، وحتى لو رأى الجلد فارغًا، ثم ملئ مسكًا ثم اشتراه جاز كسمن .... هكذا، وإن كان السمن في شيء لا تختلف مواضعه في الغلظ والرقة، مثل رق أو غيره جاز. باب بيع حبل الحبلة والملامسة والمنابذة قال: أخبرنا مالك .... وذكر الخبر. وهذا كما قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة. واختلفوا في تأويله، قال الشافعي -رحمة الله عليه -: هو أن يبيع الجزور أو غيره من الثوب أو العبد إلى أن تنتج هذه الناقة فيحل الأجل حينئذٍ، وكان ذلك بيعًا يبتاعه أهل الجاهلية. وقال أبو عبد الله: يقول: بعتك حمل حمل هذه الناقة. وهذا أشبه باللغة؛ لأنه قال: "بيع حبل الحبلة" فيقتضي أن يكون المبيع حمل حمل هذه الناقة. وعلى هذا ما قاله الشافعي المبيع وغيره، ولكن ذهب الشافعي إليه؛ لأنه الراوي للخبر ذكر وهو الأعلم بمراد الرسول صلى الله عليه وسلم وكلاهما

باطل بلا إشكال لجهالة الأجل أو المبيع. [ق 54 أ] مسألة: قَالَ: "وَقَدْ نَهَى رَسُولُ الله صلى اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ المُلاَمَسَةِ وَالمُنَابَذَةِ". وهذا كما قال: لا يجوز بيع الملامسة وهو أن أحدهما يجعل لمس الثوب بيعًأ فيقول: إذا لمست هذا الثوب فقد بعته منك، وإذا لمست ثيابي ولمست ثيابك فذاك بيع بينه، أي هذا الشيء فلا يجوز. والثاني: أن يمس ثوبًأ في ظلمة ويختلفان ويشتريه على أنه إذا رآه لا خيار له فلا يجوز، وإن لم ينف خيار الرؤية يجوز حينئذٍ على أحد القولين. وقيل: أن يشتريه مشاهدة على أنه إذا لمسه لا خيار له فلا يصح الشرط الفاسد، ولا يجوز بيع المنابذة، وهو نوعان أيضًا: أحدهما: أن يقول: أنبذ إليك ثوبي على أن تنبذ إليَّ ثوبك، ويكون أحدهما بالآخر، فإذا تنابذا لا خيار لواحد فيهما من شاهد الطول والعرض، ويكون نقص في المنبوذ، وهو في الحقيقة بيع المناولة الذي يجوزه أبو حنيفة. والثاني: أن يقول: أنبذ إليك ثوبي بثمرة، فإذا فعلت هذا لزمك البيع ولا خيار لك، فكلاهما باطلان. قال صاحب "التلخيص": معناه أن تشتري الثوب ولكن نبذ إليه ولم يره المشتري. وإذا جوزنا بيع الغائب يجوز هذا وهذا. وقد روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي [ق 54 ب] صلى الله عليه وسلم نهى هن بيعتين ولبستين. وروى: وصلاتين في وقتين"، فالبيعتان: الملامسة والمنابذة. واللبستان: اشتمال الصماء والاحتباء بين ثيابهما. والصلاتان في وقتين: بعد الصبح حتى تطلع الشمس، وبعد العصر حتى تغرب الشمس. فإن قيل: عطف الشفعي على تفسير المنابذة قوله: "فكذلك أنبذ إليك بثمن معلوم" وهو صورة بيع الغائب ولم ألحقه بالمنابذة. قيل: أراد به أنبذه إليك بثمن معلوم على أن لا خيار لك إذا عرف الطول والعرض، فيبطل حينئذٍ لاشتراط نفي الخيار، وهذا النص دليل على أنه إذا باع بشرط نفي خيار المجلس أو نفي خيار الرؤية بطل البيع في أصح الأوجه.

فرع (روي) أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع الحصاة. وله معانٍ: أحدها: أن يقول بعتك هذا على أنك إذا رميت الحصاة فقد لزم البيع. والثاني: أن يقول: ارم الحصاة، فعلى أي ثوب وقعت الحصاة فقد بعتك. والثالث: أن يشتري أرضًا في مقدار ما يرمى من الحصاة ويبلغه ذلك، فيكون البيع رأسه مقامه والموضع الذي تبلغه الحصاة. والرابع: أن يبتاع شيئًا بثمن مؤجل إلى أن يلقى الحصاة من يده. وقيل: هو بيع المنابذة، ومعناه نبذ الحصاة. فرع روى أن [ق 55 أ] النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العربان. وروي: عن بيع الأربون، وروي عن بيع المكان. وقال مالك رحمه الله: هو أن يشتري الرجل العبد أو يتكارى الدابة ثم يقول أعطيتك دينارًا على أن رجعت عن البيع والكراء فهو لك. وحكي عن أحمد -رحمه الله -أنه قال: لا بأس به، لما روي أن نافع بن الحارث اشترى لعمر -رضي الله عنه -من صفوان دارًا للسجن، فإن رضى عمر وإلا كان له كذا وكذا. وهذا غلط؛ لأن الخبر والقياس مقدمًا عليه. وقال صاحب "التلخيص": إذا قدم العربون على شيء يتخذ له مثل الخاتم والثوب فالبيع باطل، وإن وصفه له وعصى الله تعالى إن كان بالحديث عالمًا، فإن جدد البيع بعد إنجازه والنظر إليه فالبيع نافذ، وإن قدم إليه شيء وقال: اشتريت منك خاتم بكذا وكذا درهم على أنك إذا فرغت منه ورضيت به بذلك لك الثمن بالتمام، وإن لم أرضه لم أسترد منك هذا الذي دفعته إليك؛ لأن الصانع يقول: ربما أصنع ولا ترضاه ولا أجد مشتريًا غيرك فيفسد عليَّ، فهذا لا يجوز أيضًا. فرع روي أنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع العينة، وهو [ق 55 ب] أخذ العين بالربح، مشتق من المعنى. مسألة: قَالَ وَلَا يَجُوزُ شِرَاءُ الأَعْمَى.

وهذا كما قال. الأعمى على ضربين؛ أكمه، وأعمى كان بصيرًا ثم عمي. فأما الأكمة فلا يجوز أن يشتري العين ولا أن يبيع قولًا واحدًا. ومن أصحابنا من قال: هو مبني على بيع خيار الرؤية. فإن قلنا: لا يجوز منه ذلك، وإن قلنا: يجوز فيه وجهان: أحدهما: يجوز ويثبت له الخيار فيؤكل من يشاهد فيجيز أو يفسخ. قال هذا القائل: وكذلك أقول في بيع خيار الرؤية له أن يؤكل من يشاهد المبيع عنه، فيجيز أو يفسخ. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز؛ لأن الخيار إذا ثبت شرعًا لا يجوز فيه التوكيل. قال: وكذا أقول في خيار الرؤية، ولا يجوز فيه التوكيل. والأول أصح. وأما من كان بصيرًا ثم عمي، فإن باع ما كان شاهده في حال تقابضه جاز إن كان الشيء ما لم يتغير ولم يطل الزمان، وإن باع ما لم يره فعلى ما ذكرنا. وكذلك إن كان قد رآه وطال الزمان وتغير الشيء، كالعبد يكبر، والمجر يطري. ولو عمي قبل القبض هل يبطل الشراء؟ وجهان والأصح أنه لا يبطل. وأما السلم: نص الشافعي رحمة الله عليه على جوازه من الأعمى [ق 56 أ] سواء كان أكمه أو بصيرًا، ثم عمي؛ لأن المعول في السلم على الوصف دون العيان، والمشاهدة، والأعمى والبصير في الوصف سواء، فإنه يدرك سماعًا ثم إذا حل سلم الأعمى فليس هو أهل للقبض؛ لأن القبض يستدعي معاينة ولا معاينة فله فيوكل بصيرًا لقبض سلمه. وعلى هذا الوكيل مراعاة أوصاف عقد السلم؛ لأنه مقصود المنظر فيلزمه مراعاة النظر. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يصح قبضه؟ فيه وجهان: قال المزني: يشبه أن يكون أراد الشافعي لمعرفتي بلفظه الأعمى الذي عرف الألوان قبل العمى، فأما من خلق أعمى فلا معرفة له بالألوان فلا يصح سلمه، وهذا اختيار المزني رحمه الله، أن الأكمة ليس من أهل عقد السلم، وادعى أن الشافعي أراد من كان بصيرًا ثم عمي. واختلف أصحابنا في هذا، فقال ابن سريج: ما قاله المزني يحسن أن يحتمل غيره، فكأنه اختاره. وقال ابن أبي هريرة: أصاب فيما قال. وقيل: هذا هو المذهب. وقال أبو إسحاق وعامة أصحابنا: أخطأ المزني فيما قال؛ لأنه يتقرر وصفه عنده بالسماع والأخبار، فصار كبصير أسد بالصفات في شيء لم يره قط. فخرج من هذا أن الأعمى الذي كان بصيرًا [ق 56 ب] ثم عمي يصح سلمه، وهل يصح من الأكمة؟ وجهان. وظاهر نص الشافعي جوازه، وهذا إذا كان العقد على ما في الذمة من الطرفين، فإن أسلم درهمًا مطلقًا ثم أمر أن يسلم إليه رأس المال في المجلس والمسلم إليه بصيرًا. فأما إذا أسلم شيئًا معينًا في موصوف في الذمة لا يجوز؛ لأنه بيع العين عمن جاسه في الحقيقة.

باب بيعتين في بيعة والنجش

وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد رحمهم الله: يصح البيع للأعمى. وقال أبو حنيفة: يثبت له الخيار إلى معرفة إما بجسه أو بدونه إذا وصف له، واحتجوا بأنه لم يخل عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وعصر الصحابة رضي الله عنهم من العميان، ولم ينقل أنهم منعوا من البيع. وهذا غلط لما ذكرنا من بيع الغائب سواء ما ذكر، ولم ينقل أنهم باعوا بأنفسهم. باب بيعتين في بيعة والنجش قال: أخبرنا الدراوردي .... وذكر الخبر. وهذا كما قال. روى أبو هريرة -رضي الله عنه -أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة. قال الشافعي رحمة الله عليه: يحتمل هذا معنيين: أحدهما: أن يقول: بعتك هذا الشيء بألف درهم نقدًا، أو بألفين إلى سنة قد وجب لك بأيهما شئت أو شئت أنت، ولا يجوز لأن الثمن فيه مجهول، والإيجاب والقبول على [ق 57 أ] التمسك لا على التعيين. وقال ابن سيرين رحمه الله: يلزم البيع بأكثرهما. والثاني: يقول: بعتك عبدي هذا بألف على أن تبيعني دارك بألف، فهذا أيضًا لا يجوز؛ لأن ما نقص من كل واحد منهما ازداد في الآخر والثمن إذا ضم إليه مثل هذا يصير مجهولًا. وهذا إذا جعل إيجاب البيع في أحد الشيئين إيجابًا في الآخر، فإن عقد أحدهما بهذا الشرط ثم عقد الثاني خاليًا عن الشرط صح الثاني دون الأول. مسألة قَالَ: "وَنَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ النَّجَشِ". وهذا كما قال: النجش حرام وخديعة وليس من أخلاق هذا الدين. والنجس في اللغة استتارة الشيء، وكذلك سمى الصياد ناجشًا. صورة النجش المنهي عنه أن يجلس على حانوت البائع ناخس، فإذا خاصم المشتري، وساوم صاحب الحانوت ثوبًا بعشرة، قال هذا الناخس: عليَّ هذا الثوب بخمسة عشر، ولا رغبة له في الشراء ولكنه يريد أن يقتدي المشتري به حتى يصير مغبونًا، فيعطي خمسة عشرة أو أكثر ظانًا أن الثوب يساوي خمسة عشر. وهكذا لو كان الشيء يباع ممن يريد فيأتي رجل لا يريد شراؤه ويزيد في الثمن وقصده اغترار الناس به فيزيدوا

فإن فعل هذا [ق 57 ب] واغتر به غيره واشتراها كان الشراء صحيحًا ولا خيار للمشتري سواء كان بأمر البائع أو بغير أمره. ومن أصحابنا من قال: له الخيار إذا كان بأمر البائع ومواطأة من جهته؛ لأنه تدليس كالتصرية، وهو اختيار ابي إسحاق رحمه الله، وهذا غلط يخالف مذهب الشافعي؛ لأنه دخل باختياره فكان التفريط فيه من جهته إذ كان من سبيله أن يعرضه على من يعرف قيمته. ويخالف التصرية لأنها تدليس من البائع؛ ولا ينسب المشتري فيه إلى التفريط، وهذا اختيار ابن أبي هريرة وجماعة. وعلى هذا لو قال البائع: أعطيت بهذه كذا فصدقه المشتري واشتراها ثم بان كذبه يصح البيع، وهل يثبت له الخيار؟ ينبغي أن يكون على هذين الوجهين. وقال القاضي أبو علي البندنيجي: له الخيار هنا قولًا واحدًا، وهو ظاهر قوله في اختلاف الحديث. وقال مالك: البيع مفسوخ لأجل النهي الذي ذكرنا. وروى أبو هرير -رضي الله عنه -أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا". وهذا غلط لأن النهي لمعنى في غير البيع، وإنما هو لخديعة فلا يمنع جوازه. وقيل: يصح إذا كان يأمره. وقال أبو حامد رحمه الله: هل يثبت الخيار؟ قولان. والأصح ما ذكرنا [ق 58 أ] فإذا تقرر هذا فالناجش عاص بلغه الخبر أو لم يبلغه، ولا تكفي معصية ببلوغ الخبر؛ لأنه إيقاع أخيه المسلم في ورطة العين. ويخالف هذا البيع على بيع أخيه؛ لأن الشافعي رحمه الله نص هناك على أنه لا يكون عالمًا بالخبر، والفرق أن النجش في العقول مكر وقصد خديعة، ولا يخفي على عاقل ذلك. وأما البيع على البيع فليس كذلك؛ لأن البائع مسلط على بيع سلعته والباعة يتنافسون في اصطياد المبتاعين بما يمكنهم من أنواع الترغيب، فإذا لم يسمع خبر الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن عاصيًا يعرض سلعته. وقيل: إنه كان اعتقد جوازه لم يكن عاصيًا؛ لأنه لم يقصد المخالفة، وادعى هذا القائل أنه نص الشافعي. مسألة: قَالَ: وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: لَا يَبعْ بَعْضُكُم عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ".

باب النهي عن بيع حاضر لباد، والنهي عن تلقي السلع

وهذا كما قال: لا يجوز لأحد أن يبيع على بيع أخيه. وصورته: أن يفسد على البائع بأن يبيع رجل من رجل سلعة وهما في المجلس وبينهما خيار المجلس أو خيار الثلاث وقد تفرقا، فيقول المشتري: أنا أبيعك سلعة خيرًأ منها بثمنها وأقل من ثمنها فرد الذي اشتريته، فهذا محرم، فإن نقض المشتري البيع واشترى منه صح البيع وإن ارتكب المعصية؛ لأن معصيته غير عقده، وعقده [ق 58 ب] غير معصيته. وأما الشراء على شراء أخيه فحرام أيضًا؛ لأنه في معنى ما ذكرنا، وهو أن يفسد البيع على المشتري فيقول للبائع: بعني هذه السلعة بأكثر مما بعته منه وافسخ البيع بحق الخيار، فإن نقض البيع بحق الخيار واشترى منه يصح الشراء، ويحتمل اشتمال لفظ الخبر عليه؛ لأن اسم البائع يقع عليهما، ولهذا يسميان متبايعين. وقد روى أبو هريرة -رضي الله عنه -أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يسوم الرجل على سوم أخيه". وهذا قريب من بيعة على بيع أخيه، وهو إفساد على المشتري وفيه ثلاث مسائل: أحدها: أن يتساوما على السلعة ويطلبها منه المشتري بمائة نظر، فإن سكت ولم يجبه إلى ذلك ولا رده ولا كان منه ما يدل على الرضا به، فلكل أحد أن يشتريها منه، وإن أجابه وقال: أنا أبيعك بمائة فلا يحل لأحد أن يشتريها منه وإن كان منه ما يدل على الرضا. فإن قال: أنا أحق بها منك ومن أي مشترٍ مثلك فهل لغيره أن يشتريها منه؟ فيه وجهان. وقال في "الحاوي": إذا سئلت ولم تجب برضا ولا بكراهة، فإن ظهر ما يدل على الرضا فهل يحرم السوم؟ وجهان: أحدهما: يحرم لأن السكوت كالنطق. والثاني: لا يحرم لأن السكوت كناية [ق 59 أ] ولا تقوم مقام النطق الصريح إلا فيما خصه الشرع. وهذا إذا كان في غير النداء، فأما إذا كانت في المناداة فلكل واحد أن يزيد ما لم يعقد البيع؛ لأنه أظهر أن يقصد الزيادة. باب النهي عن بيع حاضر لباد، والنهي عن تلقي السلع قال أخبرنا سفيان ..... وذكر الخبر. وهذا كما قال. لا يجوز لحاضر أن يبيع لبادٍ بدليل ما روى أنس بن مالك رضي الله عنه في هذا الخبر. ولو كان أخاه وأباه، وروى الشافعي رحمة الله عليه زيادة عن جابر -

رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يبع حاضر لباد". قال طاوس: فقلت: وكيف لا يبيع؟ فقال: لا يكون لهم سمسارًا. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن السمسرة. وصورة ذلك أن يدخل الأعراب بأمتعة لهم إلى البلاد يبيعوها ويصرفوا أثمانها في حوائجهم ويرجعوا إلى أوطانهم، فيجيء الحاضر في البلد يسألهم ترك الأمتعة عنده ليبيعها بعد أيام بسعر جديد لعلمه بأن حاجة أهل البلد تمس إليها بعد أيام لقلة المبتاع عندهم وانقطاعه. والمعنى في ذلك ما شرحه الشافعي، فإن أهل البوادي يبيعونها بسعر يومهم للمؤنة عليهم في حبسها واحتباسهم عليها ولا يعرفون قلة تلك الأسعار وحاجة الناس إليها ما يعرف الحاضر، فإذا توكل لهم الحاضر المقيم تربصوا لأنه لا مؤنة عليهم في المقام [ق 59 ب] بها، ولا يصيب الناس من ينزعهم رزقًا ومنفعة، وهذا إنما يحرم بأربعة شروط: الأول: أن يقدم الغريب ومعه المتاع يريد أن يبيعه في البلد. والثاني: أن يكون قصده البيع وتعجيل الثمن والخروج إلى وطنه. والثالث: أن يجيء الحضري إليه ويطلب منه البيع له. والرابع: أن يكون البلد صغيرًا بحيث إذا بيع ذلك اتسع على أهله وإذا لم يبع ضاق عليهم. فإن اختل شرط من هذه الشروط لا يحوز إلا الشرط الأخير، فإن البلد إذا كان كبيرًا لا يضيق على الناس ترك بيعها فيه، فهل يحرم أم لا؟ وجهان: أحدهما: يحرم لعموم الخبر. والثاني: لا يحرم لعدم المعنى. وأما إذا أرادوا أن يقيموا في البلد شهرًا أو شهرين والتمسوا من السماسرة بيعها فامتنعوا، كان ما يلحقهم من الضرر بأنهم لا يجدون من يبيع لهم أمتعتهم أكثر وأدى ذلك إلى الإضرار بأهل البلد؛ لأنهم إذا رأوا ذلك لا يؤمن أن يقطعوا الجلب عنهم فلا يحرم عليهم التوكيل لهم، فإن خالف فباع لهم في الموضع الذي نهيناه عنه كان عاصيًا إن كان بالحديث عالمًا، وإن لم يكن عالمًا لا يكون عاصيًا، وكان البيع نافذًا لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض". فلو كان البيع باطلًا لكان الرزق ممنوعًا؛ لأن البدوي حينئذٍ [ق 60 أ] يحتاج إلى مباشرة البيع واستئنافه بنفسه، ولو كان السمسار باع سلع أهل البادية على الفور بسعر يرضاه ولم يتربص بها لم يكن آثمًا ولا عاصيًا؛ لأنه لا يمنع أهل البلد رزقهم من أهل البادية. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال: "وإذا استنصحك أخوك فانصحه" ومعناه أن البدوي إذا سأل الحضري عن سعر سلعته فلا ينبغي أن يكذبه. وأما تلقى الركبان للبيع فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه، وذلك محرم أيضًا. إن القوم كانوا يتلقون الجالبين على مرحلة أو أكثر ويسألونهم عن ما جلبوه ويبتاعونه منهم بسعر البلد، فربما غبنوهم غبنًا بينًا، وربما كذبوا في إخبارهم بسعر البلد، فنهاهم عن ذلك لما فيه أن كل من يبتاعها منهم يحملها إلى منزله يتربص بها زيادة السعر فلا يسع على أهل البلد أو لم يخبرهم أصلًا إذا قدموا البلد، فإن كان البائع قد غبن كان له الخيار، وإن لم يكن غبن فيه وجهان: أحدهما: له الخيار لما روي هذا الخبر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فمن تلقاها فصاحب السلعة بالخيار إذا ورد السوق". قال الشافعي رحمة الله عليه: "بهذا نأخذ إن كان ثابتًا" وهذا رمز بتوهين الرواية في هذه الزيادة لا في أصل الحديث، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه [ق 60 ب] أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن تلقي الجلب، فإن تلقى متلقٍ فصاحب السلعة بالخيار إذا ورد السوق. والثاني: لا خيار له، وبه قال الأصطخري؛ لأنه لم يغره، والخبر مخصوص في هذا الموضع. وكذلك لو أخبره بالثمن صادقًا فوجهان، وقيل: وهذان الوجهان مبنيان على أنه خيار عيب أو خيار شرع؟ فإن قلنا: خيار عيب وهو قول من قال بالمعنى الأول فلا خيار ههنا. وإن قلنا: خيار شرع وهو قول من قال بالمعنى الثالث ثبت الخيار أبدًا. فرع لو لم يقدموا البلد حتى رخص السعر وعاد سعره إلى ما أخبروه وكان في وقت البيع السعر في البلد أكثر مما أخبروهم فهل يثبت الخيار؟ وجهان: أحدهما: لا خيار لهم اعتبارًا بانتهاء الحال. والثاني: لهم الخيار اعتبارًا بابتداء الحال. فرع إذا أثبتنا الخيار فيه وجهان: أحدهما: وهو الأصح أنه على الإمكان كخيار العيب.

باب النهي عن بيع وسلف جر منفعة

والثاني: أنه إلى ثلاثة أيام كخيار المصراة. وهذا ضعيف؛ لأن خيار المصراة يقدر بالثلاث لا خيار العيب وتحقيقه. وقيل: إن قلنا: هو خيار عيب فعلى الإمكان. وإن قلنا: خيار شرط فيه وجهان على ما ذكرنا. فرع لو خرج الرجل إلى ضيعة فلقي الجالبين في الطريق وابتاع منهم شيئًا فيه وجهان: أحدهما: لا يتناوله النهي ويجوز له ذلك لأنه لم يتلقهم. والثاني: يتناوله النهي للمعنى الثاني، وهو أنه [ق 61 أ] يضيق على الناس ويعدل بالسلعة عن السوق، وهو إذا لم يخبرهم بالشراء وأخبرهم بالسعر. وهذا أحوط والأول أقيس. فرع لو خرج وتلقى الركبان فباع منهم المتاع فيه وجهان: أحدهما: يجوز ذلك، لأن النهي في الشراء منهم. والثاني: يجري هذا مجرى الشراء؛ لأن فيه اختصاصًا من دون أهل البلد. فرع لو ورد أرباب الأمتعة البلد فتلقاهم قوم قبل حصولهم في السوق ومعرفتهم بالأسعار فابتاعوا منهم وكذبوا في السعر لا خيار لهم؛ لأنهم كانوا قادرين على تعرف الأسعار من غيرهم. باب النهي عن بيعٍ وسلفٍ جر منفعة قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلفٍ. وهذا كما قال. لا يجوز بيع وسلف. صورته: أن يقول: بعتك هذا العبد بألف درهم على أن تفرضني ألفًا أخرى. وقال: بعتك هذا بألفٍ على أن أقرضك ألفًا، وهو حرام. والمراد بالسلف القرض، ولأنه يؤدي إلى جهالة الثمن؛ لأن البائع ربما كان لا يبيعها بألف ولا القرض فقد وقعت منفعة القرض بوقف جزء منفعة مجهول معلوم إلى الألف الذي هو الثمن فلا يجوز. إذا تقرر هذا، فلو أسلفه الألف في هذا الموضع كان قرضًا فاسدًا لا يملكه المستقرض بالقبض ولا بالتصرف؛ لأن المقرض لم يرض بإقراضه ألفًا إلا أن يبيع داره

منه بألف فيبطل القرض بشرط البيع كما يبطل البيع [ق 61 ب] بشرط القرض، ثم حكم القرض الفاسد إذا اشترى المستقرض شيئًا لا بعينه، ثم أداه وتلف في يد البائع، فللمقرض الخيار بين أن يرجع على المستقرض وبين أن يرجع على البائع، فإن رجع على المستقرض فذاك، وإن رجع على البائع فالبائع يطالب المستقرض بثمن ما باع منه، وإن اشترى بعينه فالشراء باطل، وإن يكن في يد البائع فالمالك بالخيار كما ذكرنا. فإذا تقرر هذا قال الشافعي رحمة الله عليه في شرح تعليل هذه المسألة: "وَالمَائَةُ السَّلَفُ عَارِيّة لَهُ بِها مَنْفَعَةٌ مَجْهُولَةٌ". فإن قال القائل: كيف سماها عارية والرجل أعطاهم باسم القرض؟ قلنا: سماعا عارية على المعنى لا على الحقيقة، والقرض والعشارية متقاربان في معنى المنفعة؛ لأن المستعير يستعير لينتفع بها كالمستقرض وكلاهما ضامن لما قبض، غير أن جهة الانتفاع بالقرض غير جهة الانتفاع بالعارية فإن المستعر يرتفق بالمنافع فيه كالعين، والمستقرض يستقضي العين ويرد البدل. مسألة: قَالَ: "وَلَا خَيْرَ فِي أَنْ يُسَلَّفَهُ مَائَةً عَلَى أَنْ يُقْضِيَهُ خَيْرًا مِنْهَا". الفصل وهذا كما قال. القرض مستحب مندوب إليه، وهو فعل من أفعال الخير، وقد روى أبو هريرة- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كشف عن مسلم كربه، في الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في [عون] العبد ما دام [ق 62 أ] العبد في عون أخيه". والقرض يكشف الكربة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قرض مرتين صدقة مرة". وقال ابن عباس، وابن مسعود، وأبو الدرداء- رضي الله عنهم: أن أقرض مرتين أحب إلي أن أتصدق مرة. ثم اعلم أن القرض عقد إرفاق لا يقصد به المغابنة ولا طلب الفضل، ولا يصح حتى يكون معلومًا، وإنما يكون معلومًا بشيئين؛ المشاهدة، والصفة. ولا يجوز أن يقرضه على أن يعطيه خيرًا منه، إما أكثر منه أو أجود منه في العيان أو الجنس، أو يقرض مكسرًا ليقضي صحاحًا، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قرض جرَّ منفعة. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "كل قرض جر منفعة فهو ربا".

ولو أقرضه من غير شرط فقضاه زائدًا جاز وكان مستحبًا، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم استقرض بكرًا، فلما جاءته إبل الصدقة جاء الرجل يتقاضى، قال أبو رافع: فأمرني أن أقضيه إياه، فقلت: يا رسول الله، لا أجد إلا بازلًا، قال: "اقضه فإن خيركم أحسنكم قضاء". فرع لو أقرضه ألف درهم بشرط أن يقضيه إياه في بلد آخر، وهو السفنجية، فإن كان هذا شرطًا في القبض لم يجز، لأنه يريد أن يربح مؤنة الطريق وغرره وإن أقرضه [ق 62 ب] إياه من غير شرط ثم سأله أن يكتب له كتابًا إلى بلد آخر، ذلك لأن القرض إذا صح جاز قضاؤه بعد ذلك على وجه ينتفع به. فرع لو شرط المستقرض على المقرض أن يرد عليه ببلد كذا ويرد الكسر مكان الصحيح هل يفسد به القرض؟ اختلف أصحابنا فمنهم من قال: لا يفسد به، وهو اختيار ابن أبي هريرة؛ لأن هذا الشرط وإن كان لا يلزم يجوز من غير شرط فلم يتنافيا، ولأن أصل القرض الإرفاق، وهذا زيادة في الرفق ولا يلزم ذلك، بل له أن يطالبه في ذلك البلد الذي أقرض فيه ويطالبه بالصحيح، والشرط كان واعدًا جميلًا. ومنهم من قال: يفسد به القرض لأنه شرط ينافيه. فرع لو كان الرجل معتقدًا بأنه يقضي القرض خيرًا عما يستقرض يجوز إقراضه من غير أن يجعل ذلك شرطًا. ذكره عامة أصحابنا. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز ذلك؛ لأن هذه العادة كالشرط، وهذا غلط، لأن القضاء زيادة مندوب إليه لما ذكرنا من الخبر، فكيف يكون مانعًا من القرض، ولأن العادة لا تقوم مقام الشرط لأنه لو كان عادة الرجل أنه إذا اشترى من إنسان تمرًا أطعمه لا يصير ذلك كالشرط في بطلان هذا العقد. ومن أصحابنا من قال: إن أقرضه ناويًا الزيادة يكره ولا يحرم، وفيه وجه آخر لا يكره لأنه لم يوجد [ق 63 أ] منه طلب الزيادة والحكم مبني على الظاهر، وإن أقرضه مطلقًا فيه وجهان، والمذهب أنه لا يكره. فرع ما لم يجر فيه الربا هل يجوز إقراضه بالزيادة كإقراض ثوب بثوبين؟ المذهب أنه لا يجو لعموم الخبر الذي ذكرناه.

ومن أصحابنا من قال: يجوز ذلك كالبيع، وهذا غلط، لأن القرض موضوع على الرفق ويفارق البيع؛ لأن بيع الجيد بالرديء فيما فيه الربا يجوز، ولا يجوز ذلك في القرض. فرع إذا قلنا: لا يجوز ذلك فأقرض ثوبًا بثوبين أو ثوبًا هرويًا، بثوب مروي فيه وجهان: أحدهما: أنه قرض باطل. والثاني: وهو اختيار ابن أبي هريرة، والقاضي أبي حامد يصير بيعًا بلفظ القرض. وهذا غلط لأنه يقضي نقل القرض المقصود إلى بيع ليس بمقصود. فرع إذا أقرضه القطع فجاء بالصحاح يجبر على القبول. فرع الإيجاب والقبول فيه ليس بشرط بل إذا قال: أقرضني كذا وأقرضه أو بعث إليه رسولًا جاز؛ لأن الركن في التبرعات الفعل كالهدية تتم من غير نطق. فرع إذا قال: خذ هذه الدراهم وتصرف فيه، أو قال: خذ هذا البزر وازرعه لنفسك فيه وجهان: أحدهما: يجعل هبة لأنه لم يوجد شرط القرض لا بنطق ولا بدلالة. والثاني: يكون قرضًا؛ لأن اللفظ يحتمل كلاهما فلا يقطع [ق 63 ب] حقه عن ملكه إلا بيقين. فرع المستقرض متى يملك القرض؟ قد ذكرنا أنه يملك بالقبض وهو الصحيح كما يملك بالقبض؛ لأن كل واحد منهما مملوك بعقد يملك التصرف فيه بالقبض. ومن أصحابنا من قال: يملك التصرف فيه بأن يبيعه أو يرهنه أو يهب لأنه كما جاز للمستقرض رد الشيء بعينه وعلى المقرض قبوله ثبت أنه ما ملكه وهذا ضعيف. فرع إذا قلنا بالمذهب الصحيح أنه يملك بالقبض لا خلاف أنه يجوز للمستقرض رده بعينه. وأما المقرض هل له أن يطالبه بعينه؟ نص الشافعي رحمه الله أن له ذلك. ومن أصحابنا من قال: ليس له ذلك، وإنما يطالبه بقضاء حقه فيقضي من حيث

شاء. وهذا اختيار جماعة من الكبار. والصحيح الأول، وليس إذا ملكه لا يجوز للمقرض الرجوع فيه، كما نقول في هبة الابن يرجع الأب فيها وإن ملك الابن. فرع إذا قلنا يملك بالقبض فنفقته إن كان حيوانًا على المستقرض بعد القبض، وإن استقرض أباه وقبضه عتق عليه. وإذا قلنا لا يملكها إلا بالتصرف فنفقته على المقرض قبل التصرف، فلو استقرض أباه لا يعتق عليه قبل أن يتصرف فيه. فرع إذا قلنا يملك التصرف فرهن أو أجر هل يملك به؟ وجهان؛ لأنه لا يزيل الملك فلا يكون فيه تفرق. فرع إذا قلنا له الرجوع [ق 64 أ] بعينه، وإن ملك بالقبض أو خرج عن يده بابتياع أو هبة هل للمقرض الرجوع بعينه، أو ببدله؟ فيه وجهان: أحدهما: يرجع بعينه لأنه سقط ذلك لخروجه عن ملكه وهذا ملك حادث. فرع لو فكه من الرهن له أن يرجع بعينه؛ لأن الملك لم يكن زال. فرع لو كان أجرها يرجع والأجرة باقية، ثم الأجرة للمقرض لأن عقد الإجارة في ملكه، ولو أراد المقرض أن يرجع ببدله له ذلك، لأن الإجارة تقضى. فرع لو قدم إلى رجل طعامًا ليأكله متى يملكه الأكل؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: يملك بالتناول والقبض كالمقرض. والثاني: يملك بوضعه في فيه. والثالث: يملك بالابتلاع. وقيل: فيه وجه رابع لا يملكه أصلًا، بل يأكله على ملك صاحب الطعام. فرع يجوز قرض الحيوان، وكل ما يجوز فيه السلم وجهًا واحدًا. وقال أبو حنيفة: لا يجوز إلا قرض ماله مثل من المكيل أو الموزون، وهذا غلط لما ذكرنا من الخبر، ولأنه ثبت في الذمة سلمًا، فيثبت قرضًا كالميكل.

فرع إذا أقرض عبدًا من يعتق عليه يعتق عقيب التسليم وجهًا واحدًا، لأنَّا وإن قلنا التصرف شرط في تملكه فقد استفاد التصرف ههنا، حتى لو كان عبدًا أجنبيًا فأعتقه ينفذ، وكل سبب [ق 64 ب] ينفذ إعتاق العبد الأجنبي يوجب عتق القريب. فرع قرض الخبز الحامض هل يجوز؟ وجهان: أحدهما: يجوز فيه السلم لكونه مركبًا من الماء والدقيق والملح وفيه عيب الحموضة، والأول اختيار ابن سريج. فرع إذا أقرض حيوانًا هل يلزم أن يعطى مثله أو قيمته؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: يلزمه رد المثل في الخلقة والصورة، وهذا اختيار القاضي الطبري وجماعة لخبر أبي رافع، ولأن هذا عقد حيز للحاجة والرفق فيقبل منه مثل ما قبض، كما يقبض في السلم مثل ما وصف، ويفارق إذا أتلفه يضمن بالقيمة، لأنه لا يوجد هذا المعنى. ومن أصحابنا من قال- وهو ظاهر المذهب واختاره أبو حامد- يلزمه رد القيمة؛ لأنه لا مثل له عند الإتلاف كذلك ههنا لا يطالب المثل. فرع تعتبر قيمته على ما ذكرنا، فإن قلنا: يملكه بالقبض يعتبر قيمته يوم القبض. وإن قلنا: يملكه بالتصرف يلزمه أكثر ما كانت قيمته من حين قبض إلى أن تصرف فيه، وإذا أقرض ماله مثل يلزمه رد المثل بلا خلاف؛ لأن مقتضى القرض هذا. ولهذا يقال: الدنيا قرض ومكافأة. فرع لو عاب في يد المقترض، فإن كان له مثل فهو بالخيار بين أن يرجع بالمثل سليمًا بخلاف المغصوب لا ينتقل [ق 65 أ] إلى غير عيبه مع وجوده؛ لأن الغضب لا يزيل الملك بخلاف القرض، وإذا كان مقومًا يرجع بالقرض معيبًا ويأخذ منه أرش عيبه، والفرق أن فيما له مثل ليس للقيمة مدخل فكذلك الأرش، وههنا وجبت قيمته ودخله الأرش أيضًا. ذكره في الحاوي. فرع لو أقرض ما لا مثل له ولا يضبط بالصفة كاللؤلؤ، والمعجون، والخبز هل يجوز؟ فيه وجهان:

أحدهما: أنه لا يجوز، وهو اختيار البصريين؛ لأنه لا يصح لاستقراره في الذمة كالسلم، فقال: هذه العلة فيما يصح قرضه يصح السلم فيه. والثاني: يجوز، وهو اختيار البغداديين، لأن بيعة جائز. فعلى هذا ما يجوز بيعه يجوز قرضه وهذا لا يصح. وقيل: هما مبنيان على أنه يضمن بالمثل أو بالقيمة؟ فإن قلنا: يضمن بالمثل لا يجوز، لأنه لا مثل له أصلًا. وإن قلنا: يضمن بالقيمة يجوز. ولا خلاف أنه يلزم القيمة إذا جوزنا، ومتى تعتبر القيمة؟ على ما ذكرناه. ولو اختلفا في القيمة فالقول قول المقترض؛ لأنه غارم. هكذا ذكر في "الحاوي". ومن أصحابنا من قال: قرض الخبز بالوزن يجوز قولًا واحدًا للحاجة، وهو إجماع أهل الإعصار في الأمصار، وهل يجب المثل أو القيمة؟ وجهان: أحدهما: يرد الخبز المرفق. والثاني: [ق 65 ب] يرد إليه القيمة لئلا يكون الخبز بالخبز. وقال أبو حنيفة: لا يجوز إقراضه. وقال أبو يوسف: يجوز وزنًا، وقال محمد: يجوز عددًا. فرع لا يجوز قرض الدراهم المغشوشة؛ لأنه يؤدي إلى الربا عند رد البدل. فرع لو أقرضه رطبًا لم يجز له أن يرد بدله ثمرًا. فرع قرض الجواري لا يجوز إلا من ذوي رحمها مثل الأب والابن والأخ والعم، فإن أقرضها من يحل له وطئها لا يملك. نص عليه الشافعي رحمة الله عليه في الصرف. واحتج الشافعي بأن قال: من استسلف أمة كان له ردها بعينها، فإذا جعلته مالكًا لها بالسلف يطأها ويردها، وقد حاط الله تعالى ورسوله والمؤمنون الفرج فجعل المرأة لا تنكح إلا بولي مرشد وشهود. ونهى النبي صلى الله عليه وسلم أن يخلو بها في سفر وحضر. ويفارق هذا إذا كانت لا تحل له؛ لأن القصد استخدامها دون وطئها، فهو كاستقراض العبد؛ ولأن كل منفعة لا تستباح بالعارية لا تستباح بالقرض، كمنفعة البضع. وأيضًا الملك به ضعيف

لما ذكرنا أنه يمكنه ردها على المقترض، ولا يمنع القرض من أخذها منه، فصار كوطء الجارية في مدة خيار البائع لا يحل. فإن قيل: هلا قلتم يصح القرض ولا [ق 66 أ] يحل له وطئها؟ قلنا: التمليك إذا لم يستبح به الوطء مع كونها ممن تحل له لا يصح؛ لأن الوطء من المنافع المقصودة، فصار العقد فاسدًا إذا لم يبح الوطء لم يفد الملك، وإذا اشترى من لا يحل له وطئها فوطئها محرم شرعًا، فلا يمنع صحة التمليك هناك. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان بناء على أنه يملك بالقبض أو بالتصرف فإذا قلنا: يملك بالتصرف لا يجوز، لأنه لا يجوز الوطء في غير ملك، ولو منعنا الوطء لم نوفر صحة القرض. وإن قلنا: يملك بالقبض يجوز وطئها. وقال في "الحاوي": لو كانت محرمة الوطء هل يجوز قرضها؟ وجهان. واختيار البصريين أنه لا يجوز؛ لأن ما لا يجوز قرضه من شخص لا يجوز قرضه من غيره كالمباحة. وهذا غريب ضعيف. فرع لا يجوز شرط الأجل في القرض. وقال مالك رحمه الله: يجوز أن يطالبه به قبل الأجل. وبه قال علي، وابن عباس رضي الله عنهم، وغلط بعض أصحابنا فقال: يجوز، لأن الشافعي رحمه الله قال في المفلس: وإن وجد الحاكم من يسلفه المال حالًا لم يجعله أمانة. فدل هذا الكلام على جوازه مؤجلًا، وهذا لا يصح؛ لأن الشافعي اختار ذلك للحاكم إن كان يرى تأجيل القرض على مذهب من يجيزه؛ لأن أموال الغير لا تجزئ نظر الحاكم [ق 66 ب] وإن كان تجزئ نظر المالكين، وخلافًا على مذهب الشافعي رحمه الله أنه لا يجوز ذلك. فرع إذا أسلم جارية في جارية فيه وجهان: قال أبو إسحاق: لا يجوز، لأنَّا لا نأمن أن يطأها ثم يردها عن ما يستحق عليه فيصير كمن أقرض جارية ووطئها ثم ردها. والثاني: يجوز وهو المذهب؛ لأن كل عقد صح في العبد بالعبد صح في الجارية بالجارية كالبيع. ولو شرط ضمان الوجه في القرض يجوز إن كان المستحق المثل، وإن كان المستحق فيه القيمة هل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، وهذا إذا قلنا قيمة القرض تعتبر بأكثر أحواله من حين القرض

إلى حين التصرف؛ لأنه يؤدي إلى الجهالة. والثاني: يجوز، وهذا إذا قلنا يعتبر قيمة وقت القبض، فعلى هذا إن علما قدر قيمته عند شرطية ووقف قبضه يجوز. وإن جهل أحدهما لا يجوز. فرع من شرط القرض أن يكون معلومًا، فإن كان يستحق الرجوع بقيمته فالعلم به بمعرفة قيمته، ولا تعتبر معرفة قدره ولا صفته لاستحقاق الرجوع بالقيمة دون غيرها، وإن كان مما يستحق الرجوع بالقيمة دون غيرها، أو إن كان ممن يستحق الرجوع بمثله يعتبر معرفة قدره وصفته في السلم، والقدر بالوزن إن كان موزوناً [ق 67 أ] وبالكيل إن كان مكيالًا فأقرضه إياه وزنًا جاز إن لم يكن فيه الربا، لأنه يصير معلومًا به، وإن كان فيه الربا فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لخوف الربا كالبيع. والثاني: يجوز، وبه قال القاضي أبو حامد رحمه الله؛ لأن القرض، عقد إرفاق [وتوسعه] لا يراعي فيه ما يراعي في عقود المعاوضة، بدليل أنه لو رده زيادة من غير شرط جاز، ويتأخر فيه أحد البدلين لا إلى غاية معلومة. ذكره في "الحاوي". فرع: لو قال رجل: اقترض لي مائة درهم ولك عليَّ عشرة. قال في "الحاوي": كره إسحاق هذا وأجازه أحمد، وعندنا هذا يجري مجري الجعالة لا بأس به. فرع لو كان عليه ألف مكسرة فلا بأس أن يعطيه ثمانمائة صحاحًا ويبرئه عن الباقي. ولو أعطاه ثمانمائة يريد بدلها لا يجوز. فرع قال في "الحاوي": لو قال الرجل: أقرض زيداً مائة درهم وأنا لها ضامن يجوز، فإذا أقرض لزمه الضمان، ولو أقرضه خمسين تلزمه لا غير، ولو أن هذا الضامن دفع إلى المقرض في عوضه ثوبًا جاز على المقرض [ق 67 ب] بأقل الأمرين من

المائة التي ضمنها أو قيمة الثوب الذي دفعه عوضًا عنها؛ لأنه لا يرجع إلا بما عزمه إن كانت قيمة الثوب أقل. فرع لو أن المقترض أهدى إلى المقرض هدية، فإن كان بعد رد القرض لا يكره، وإن كان قبله كرهه ابن مسعود رضي الله عنه، وأجازه ابن عباس، وعندنا يجوز ذلك إذا كان من غير شرط، والتنزه عنه أولى لما روي أن زيد بن ثابت- رضي الله عنه- استقرض من عمر- رضي الله عنه- مالًا وكان يهاديه، فامتنع عمر من قبول هديته، فرد زيد القرض وقال: لا حاجة لي فيما يقطع الوصلة بيني وبينك. فرع لا يصبح القرض إلا من جائز التصرف، ولا ينعقد إلا بالإيجاب والقبول لأنه عقد عليك، ويصح بلفظ القرض والسلف؛ لأن الشرع ورد بهما، ويصح بما يؤدي معناه، وهو أن يقول: ملكتك هذا على أن ترد علىَّ بدله، ولو قال: ملكتك ولم يذكر البدل فهو هبة، فإن اختلفا فيه فالقول قول من يدعي الهبة؛ لأن الظاهر معه، فإن التمليك من غير ذكر عوض هبة في الظاهر. فرع لو قال: أقرضتك ألفًا، وقيل: ثم تفرّقا، ثم دفع إليه ألفًا، فإن لم يطل الفصل جاز؛ لأن الظاهر أن قصد الإيجاب وإن طال الفصل لم يجز حتى يعيد لفظ [ق 68 أ] القرض؛ لأنه لا يمكن البناء على العقد مع طول الفصل. ذكره في "المهذب". فرع إذا اقترض من رجل نصف دينار قراضة وأعطاه المقرض دينارًا صحيحًا وقال له: نصف دينار قضاء عني ونصف دينار وديعة لي عندك، وتراضيا جاز، وإن امتنع المقرض كان له؛ لأن هذا وإن كان خيرًا من حقه إلا أن فيه نقصانًا بالشركة من وجه آخر، فإن رضي واتفقا على كسره جاز، وإن اختلفا بعدما تراضيا على القضاء منه في كسره لم يجز الممتنع منهما على كسره، لأن ذلك قسمة إضرار بهما، وإن اتفقا على أن يكون نصفه قضاء ونصفه قرضًا أو ثمنًا جاز. فلو اتفقا على كسره لم يكن لأحدهما أخذ نصفه إلا برضا صاحبه، وإن تشاحا أقرع بينهما. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلٍ حَقُّ مِنْ بَيْعٍ حَالَ فَأَخَّرَهُ بِهِ مُدَّةً كَانَ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ".

باب تجارة الوصي في مال اليتيم

في الأجل؛ لأن الزوائد لا يلحق بأصل العقد بعد إبرامه. وقال أبو حنيفة ومالك رحمهما الله: يلزم الأجل كما لو كان الأجل مذكورًا في صلب العقد. قال الشافعي رحمة الله عليه: "هَذَا لَيْسَ بِإِخْرَاجِ شَيْءٍ مِنْ مِلْكِهِ وَلَا أَخَذَ مِنْهُ عِوَضًا فَيَلْزَمُهُ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ لَا يَجِبُ لَهُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ". ومعناه: أن استئناف [ق 68 ب] الأجل بعد إبرام العقد ليس كالتأجيل في صلب العقد؛ لأن العاقد يخرج السلعة من ملكه بالعقد ويأخذ عوضها ويزيد بسبب الأجل في ثمنها فيخرج من ملكه على الصفة التي قصدها، ويلزم الأجل لأخذه عوضه وعوضه الزيادة في الثمن بسبب الأجل. وأما إذا أبرم العقد ثم استأنف تأجيلًا فهذا ليس بإخراج ثمن من ملكه في هذا الوقت، وليس بأخذ عوض الأجل حتى يلزمه الأجل. فإذا تقرر هذا، فله الرجوع متى شاء ولا يختص به وقت دون وقت؛ لأنه لم يثبت بالتسمية ولا يستحب له أن يرجع؛ لأنه معروف صفة وليس من المعروف العود في المعروف، ولو ذكر أجلًا في القرض بعد القبض لا يلزم الأجل. وقال مالك رحمه الله: يلزم. وقال أيضًا: إذا أعار شيئًا لا يمكنه الرجوع قبل انقضائها، وهذا بناء على أن الهبة عنده تلزم دون القبض والتأجيل، والعارية هبة المنفعة، وعندنا لا لزوم للتبرعات إلا بالقبض. ولو زاد في الثمن أو النقص بعد إبرام العقد قد بينا انه لا يلحق بأصل العقد خلافًا لأبي حنيفة. وقال: لو كان هذا أو الأجل بعد تلف المبيع، قال أبو حنيفة: يلحق أصل العقد، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يلحق. باب تجارة الوصي في مال اليتيم [ق 69 أ] مسألة: قال: "وَأُحِبُّ أَنْ يَتَّجِرَ الْوَصِيُّ بِأَمْوَالِ مَنْ يَلِي". الفصل: وهذا كما قال: المستحب لمن ولي مال اليتيم من الوصي، والحاكم، والوالي الذي ينصبه الحاكم أن يتجر في مال اليتيم وينميه بكل ما يجد الفضل في تنميته، وكذلك الأب والجد اللذان يليان مال الصغير بلا تولية أحد لقوله صلى الله عليه وسلم: "ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة" يعني اتجروا، ويعني بالوصي وصي الأب والجد، فأما وصي الأم

فلا يتصرف؛ لأن الأم لا تتصرف فكيف يتصرف وصيها. ويعني بالوصي الذي نصبه الحاكم إذا أذن له الحاكم نصًا بالتجارة؛ لأن مجرد قوله: وليتك مال فلان يقتضي الحفظ لا غيره. قال ابن أبي ليلى: لا يجوز للولي أن يتجر بمال اليتيم. وهذا غلط لما ذكرنا ولأن الله تعالى قال: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]. وقال مجاهد: أراد بقوله: {أَحْسَنُ} [الأنعام: 152] التجارة. وقال الضحاك: هو أن يتجر له ولا يأخذ من الربح شيئًا. وقال أبو زيد: أن يأكل بالمعروف إن افتقر ويمسك الأكل إن استغنى، ثم إنما يجوز لهم التجارة في البلد أو السفر المأمون، فأما السفر المخوف فلا يجوز. ويجوز لهم أن يبضعوا أموالهم إلى البلاد إذا كان الطريق آمنًا. ويفارق الوديعة [ق 69 ب] لا يخرجها المودع من يده إلى يد غيره بمطلق الإيداع، لأن ليس هناك رجاء ربح وفضل، وههنا يتجر ليربح، وفي إيضاحه غبطة فافترقا. وأما البحر: فإن ركوبه غرر فلا يجوز لهم أن يحلوا مال الصغير فيه، وما روي عن عائشة- رضي الله عنها- أنها أبضعت بأموال بني محمد بن أبي بكر وهم أيتام في حجرها في البحر. يحتمل أن يكون إلى المدن القريبة من الشط التي الغالب منها الأمن والسلامة. وقيل: كان في ساحل البحر بحيث يقرب من المدينة، وكان غالب ذلك السلامة. ويحتمل انها كانت ضمن الغرر إن تلفت مبالغة لطلب الربح لبني أخيها. وقال بعض أصحابنا بخراسان: يجوز إبضاع ماله في البحر لخبر عائشة رضي الله عنها، والصحيح ما ذكرنا. وقال جماعة من أصحابنا: لا يجوز أن يسافر بماله برًا ولا بحرًا لما في السفر من التغرير بالمال، فإن سافر ضمن إلا أن تكون المسافة قريبة والقرى حول البلد، وفي المسافة البعيدة وجهان إلا أن يلتزم الضمان. فرع لو اتجر له هل أجرة مثل لحق عمله؟ فإن لم يكن ذلك قاطعًا له عن عمله ولا مانعًا من التصرف في شغله وكان واجدًا مكتفيًا فلا أجرة له. وإن كان يقطعه عن عمله ويمنعه من كسبه [ق 70 أ] فيه قولان: أحدهما: لا أجرة له؛ لأنه عمَّال مختار من غير عقد لازم ولا عرض مبذول، فصار متطوعًا به. والثاني: له الأجرة؛ لأن في المنع منها ذريعة إلى إهمال الأيتام وترك مراعاتهم والتجارة بأموالهم.

فرع ابتياع العقار والأرض بالمال أولى من التجارة؛ لأنه أحفظ أصلًا وأقل خطرًا مع استواء العادة فيها، والغالب أن غلته ترد إليه ثمنه ويبقى الأصل له، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إن المسافر وماله لعلى قلتٍ إلا ما وقى الله تعالى". والقلت: الهلاك. وإن كان لو ابتاع عقارًا لم يعد عليه من فاضل غلته قدر كفايته جاز له أن يتجر بالمال على ما ذكرنا، ويشترط فيه ثلاث شرائط؛ لأن يكون الزمان آمنًا، والسلطان عادلًا، والتجارة مربحة. فرع قال في "الحاوي": يعتبر في الشراء أربعة شروط: أحدهما: أن يشتري له ما لا يخاف عليه الفساد. والثاني: أن يكون الربح فيه غالبًا إما لظهوره في الحال أو لغلبة الظن به في ثاني الحال. والثالث: أن يكون بالنقد لا بالنساء؛ لأن بالنقد أرخص والربح فيه أظهر من هذه الثلاثة في حق الولاية وصحة العقد. والرابع: أن لا يدفع الثمن إلا بعد قبض ما اشترى ما لم يقض عليه بدفع الثمن قاضٍ؛ لأن في خلاف هذا تغريرًا، وهذا شرط في حق الولاية لا في صحة العقد، فلو خالف ضمن المال حتى يقبض المبيع ثم يسقط عنه بقبضه ضمان الثمن. فرع: يعتبر في ماله أربعة شروط: الأول: أن يكون البيع عند انتهاء الثمن من غير أن يغلب على الظن حدوث زيادة. والثاني: الاجتهاد في توفير الثمن حسب الإمكان وإن باعه بأكثر من المثل. والثالث: أن يبيع بالنقد إلا أن يكون النساء أحظ له في بعض الأحوال. والرابع: أن لا يدفع ما باعه نقدًا إلا بعد قبض ثمنه ما لم يعص عليه بدفعه ناضًا. وهذا الشرط في [حق] الولاية لا في صحة العقد، فإن أقبض المبيع كان ضامنًا للثمن لا للمبيع؛ لأن المبيع ملك المشتري ويسقط هذا الضمان بقبضه. مسألة: قَالَ: "وَإِذَا كُنَّا نَامُرُ الْوَصِيَّ أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَالِ الْيَتِمِ عِقَارًا لأَنَّهُ لَا خَيْرَ لَهُ لَمْ يَجُزْ

أَنْ يَبِيعَ لَهُ عِقَارًا إِلاَّ لِغِبْطَةٍ أَوْ حَاجَةٍ". الفصل: وهذا كما قال: يستحب للوصي وغيره أن يشتري لليتيم عقارًا لما ذكرنا. قال أصحابنا: ويشتريه من بائع ثقة أمين يؤمن أن يجحد الثاني أو يحتال في إفساد المبيع، بأن يكون أقرَّ لغيره قبل البيع، ويكون في موضع الغالب منه السلامة، فلا يكون بقرب الماء الذي يخاف عليه عند الزيادة، ولا بالقرب من المعترك بين الطائفتين مثل العقار [ق 71 أ] الذي يقرب القنطرة ببغداد فإنها تخرب كل وقت فلا يكون لليتيم فيه حظ، وله أن يتبنى لليتيم عقارًا؛ لأنه إذا جاز شراؤه جاز بناؤه. قال الشافعي رحمة الله عليه: وإذا بناه بناه بطين وآجر ولا بلبن وطين؛ لأن الجص والآجر لا مرجوع له، وإذا انهدم بعضه ضرب كله، واللبن والطين قليل البقاء، وينتفع بالآجر بعد الانهدام إذا كان بالطين ويقوم الطين مقام الجص، وهو أقل مؤنة منه. وقال في "الحاوي": لا وجه لهذا التحديد؛ لأن لكل قوم عرفًا، ولكل بلد عادة، فمن البلاء ما لا يستحكم فيه البناء إلا بالحجارة والنورة، أو بالآجر والجص، أو باللبن والطين، أو بالخشب الوثيق فيفعل بما جرت به العادة في ذلك البلد. وحكي ما ذكرنا عن أصحابنا لا عن الشافعي، وهذا حسن صحيح. وإذا تقرر هذا ليس له بيع عقاره؛ لأَنَّا إذا أمرناه بشراء ما لم يجز بيعها. قال الشافعي رحمة الله عليه: إلا في موضعين؛ أحدهما الغبطة، والثاني للحاجة. والغبطة: أن يشتري له عقارًا آخر ويستفضل له من الربح فضلًا ظاهرًا، مثل أن يكون له في شركة إنسان سهام، أو في جواره وهو راغب فيه ليضيف ملكه، أو يتلخص من سوء مشاركته فيعطيه أكثر من ثمنه. والحاجة: أن لا يكون له غيرها وبه حاجة إلى النفقة في الحال، أو يخاف غرقها أو خرابها [ق 71 ب] بالفتنة، أو كان اليتيم بطبرستان، وعقاره بخراسان ويحتاج إلى مؤنة في توجه من يجمع الغلة أو يأخذها فيبيعها ويشتريها بطبرستان، أو يبني فيها مثل ذلك. فإن قيل: ما الفائدة في تخصيص العقار بالغبطة والحاجة ومعلوم أن الوصي لو أراد بيع مال اليتيم وداره لا يجوز ذلك إلا بالغبطة أو الحاجة؟ قيل: مراد الشافعي غبطة دون غبطة، وحاجة دون حاجة، وذلك أن الوصي لو أراد بيع ثيابه لربح يسير وغبطة خفية كان له ذلك، وليس له بيع عقار إلا بربح كثير مستعظم وغبطة ظاهرة، فكذلك التفصيل في الحاجة، فربما يباع منقول به حاجة يسيرة ولا يباع عقاره إلا في حاجة ثابتة وضرورة غالبة، فهذا معناه. فإذا تقرر هذا فباع شيئًا من عقاره أو أثاثه الذي للقنية، فإن ثبت عند الحاكم أنه بيع حظ وغبطة أنفذه، وإن لم يعلم فهل ينفذه أم لا؟ فإن كان الولي يلي بلا تولية كالأب والجد يلزم

الحاكم إنفاذه من غير بحث، فإن بلغ الصبي وادعى على الأب أنه ليس ببيع غبطة فالقول قول الأب، وهل يحتاج إلى ثبوت عدالتهما عنده؟ قال القاضي الطبري: فيه وجهان: أحدهما: يحتاج [ق 72 أ] إلى ثبوتها عنده كما يحتاج إلى ثبوت عدالة الشهود. وإن كان مما يلي بتولية كالوصي أو القيم من جهة الحاكم فيه وجهان: أحدهما: وهو قول عامة أصحابنا لا يقبل قوله ولا ينفذ تصرفه حتى يقيم البينة على ذلك؛ لأن تصرفه لا يتضمن نفي التهمة عنه، ويخالف الأب والجد؛ لأن تصرفهما يتضمن نفي التهمة عنهما، ألا ترى أنه لا يجوز للوصي أن يشتري مال اليتيم لنفسه ويجوز ذلك للأب والجد. والثاني: يُقبل قوله أيضًا ولا يرد تصرفه إلا إذا علم أنه لا يتضمن الغبطة والحظ كالأب والجد. قال صاحب "الإفصاح": وهذا أشبه، لأنه يجوز لهما التجارة في ملكه بالبيع والشراء، ولا يعترض الحاكم عليهما، فكذلك في بيع العقار. ولو ابتاعا عقارًا فيه وجهان: أحدهما: يقبل قولهما إلا ببينة كما في البيع؛ لأن التهمة ملحقة على ما ذكرنا ولا يشق عليه إقامة البينة عليه بخلاف التجارة فإنه يشق فيها. ولو بلغ الصبي فادعى عليهما أنهما باعا من غير غبطة هل يلزمها إقامة البينة؟ على الوجهين، والمشهور أنه يلزم. وأما الإنفاق على الصبي وعلى أمواله يُقبل فيه قول الأب والجد، إلا أن يكون بينة بخلاف ذلك. ولو ادعى الصبي عليهما بعد البلوغ [ق 72 ب] بخلاف ذلك فالقول قولهما مع اليمين، إلا أن يكون مع الابن البينة. وأما الوصي والقيم إذا ادعيا ذلك هل يقبل قولهما من غير بينة؟ قال جماعة من أصحابنا: يقبل قولًا واحدًا، وهو اختيار القاضي الطبري؛ لأنه يتعذر عليهما إقامة البينة على ذلك بخلاف ما إذا باع العقار أو ادعى رد الملك بعد البلوغ؛ لأنه يمكنه إقامة البينة عليه. وقال أبو حامد- رحمة الله- وجماعة: فيه وجهان: أحدهما: هذا وهو المذهب. والثاني: لا يقبل بخلاف الأب والجد لما ذكرنا من التهمة، وهذا إذا أمكن ما ادعياه. فرع لو قال الحاكم للوصي: اشتر هذا العقار فإن فيه حظًا، أو علم الوصي ذلك فتوانى فيه ولم يشتره حتى تلف المال صار ضامنًا له.

فرع في إقراض مال اليتيم يُنظر، فإن قدر على شراء عقار أو بناء عقار، أو تجارة لم يجز إقراضه، فإن لم يقدر على هذا وكان مقيماً لا يجوز أيضًا؛ لأن كونه في يده أولى من كونه في يد غيره. وإن أراد السفر يجوز إقراضه، وهو أولى من إيداعه؛ لأن القرض مضمون بخلاف الوديعة، إلا أنه لا يقرضه إلا من ثقة موسر؛ لأن غير الثقة ربما يجحد والمفلس لا يقدر على الإقراض أودعه وسافر. فرع لو قدر على إقراضه من ثقة فأودعه [ق 73 أ] عند ثقة فهلك، قال أصحابنا: يضمن؛ لأن ذلك موضع اجتهاد ونظر، فربما رأى الإيداع، أصلح فلم يفرط بذلك. فرع الاستقراض لليتيم يجوز عند الحاجة بأن يكون له مال يقدم من سفر وهو محتاج إلى النفقة، أو متاع كاسد فيستقرض حتى يهيج سوق متاعه ويكون ذلك أولى من بيع العقار وصرفه إلى نفقته. فرع لا يجوز تصرف الصبي بحالٍ أذن له الولي أو لم يأذن. وقال أبو حنيفة: إن كان بإذن الولي يصح تصرفه، وإن كان من غير إذنه لا يصح تصرفه، كما لو لم يأذن له الولي. فرع ارتفاق الوصي بمال اليتيم هل يجوز أم لا؟ قال الشافعي رحمة الله عليه: قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] الآية، ثم فسرها فقال: معناه: اختبروا حالهم وتأملوا، فإذا بلغوا الحلم وهي الحالة التي يحتاج فيها إلى النكاح وعرفهم فيهم رشدًا وخيرًا ففكوا الحجر عنهم وادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها، وتتلفوها خوفًا من أن يكبروا ويحتاجون إلى دفعها إليهم: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء: 6]، أي من كان غنيًا غير محتاج إلى أخذ شيء من أموال اليتامى فلا يأخذ [ق 73 ب] منها شيئًا، ومن كان مقترًا لا مال له وكان ذا صنعة إذا اشتغل بالنظر في أموالهم تعطلت عليه صنعته وكسبه، فيجوز أن يأكل من ماله، يعني ينفق على نفسه بالمعروف. ثم قال الشافعي رحمة الله عليه: يحتمل أن يكون له أن يأكل من ماله ما يكفيه ويكون أجره له، ولا يلزمه بدله. ويحتمل أن يأخذ منه كفايته بالمعروف على وجه القرض ويرد بدله إذا قدر عليه فيخرجه على قولين، والأظهر أن يأخذه قرضًا كالمضطر إلى طعام الغير؛ لأنه استباحة بالحاجة، والأول أشبه لعموم الآية.

باب مداينة العبد بغير إذن سيده

قال أصحابنا: يحتمل من هذا أنه إن كان موسرًا ليس له أن يرتفق بماله، وإن كان معسرًا حل له الأكل بقدر نفقته ولا ضمان إن كان أبًا أو جدًا؛ لأن نفقته على ولده، وإن كان غيرهما حل له الأكل ويأخذ أقل الأمرين من أجرته أو كفايته، وهل يضمن؟ قولان: أحدهما: يضمن، وبه قال عمر بن الخطاب، وابن عباس رضي الله عنهم. والثاني: لا يضمن، وبه قال النخعي، ومكحول، وقتادة رحمهم الله. وقال عطاء في قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَاكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [الّنِسَاء: 6] أراد يأخذ أجرة معلومة على قدر خدمته. وقال الشعبي وأبو العالية رحمهما الله: يأكل من كل ثمره، ويشرب من لبن ماشيته ولا يعترض لغيره. فرع خلط مال اليتيم [ق 74 أ] بمال نفسه هل يجوز أم لا؟ قال ابن سريج رحمه الله، لما نزل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَاكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا} [النساء: 10] الآية، تجنب الناس عن معاملة الأيتام والاختلاف بهم، وميزوا أموالهم عن أموالهم، واستنصروا بذلك فنزل قوله تعالى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220]، أي لضيق عليكم وسهل عليهم ذلك. خلطوا قصر إلى الإرفاق بهم. وقال ابن سريج: للوصي أن يخلط طعامه بطعامه إذا كان لليتيم فيه رفق، مثًلا أن يكون إذا خبز لليتيم مكوكًا أكله طول الأسبوع، وإذا خبز نصف مكوك له ونصف مكوك لنفسه مختلطًا وأكلاه في الأسبوع خبزًا لينًا فكان ذلك أرفق، وكذلك إذا غسل ثيابه مع ثياب نفسه يكون أرفق به. وأجرة الحجام على ذلك أيضًا، وعلى هذا إذا سافر قوم فخلطوا أزوادهم ليأكلوها في مكان واحد جاز، وإن كان أكلهم مختلف إذا دخلوا على التراضي بذلك وقصد الإرفاق. باب مداينة العبد بغير إذن سيده مسألة: قال: "وإذا أَدَّانَ الْعَبْدُ بِغَيْرِ إِذْنِ سَيِّدِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ مَا كَانَ عَبْدًا" الفصل: وهذا كما قال قوله: أدّان بتشديد الدال بمعنى استدان، وهو أن [ق 74 ب] يأخذ الدين أو يشتري سلعة بدين، وأدان بمعنى أقرض غيره وهو صاحب الدين، ودان بدين

مشترك لهما معًا ومن له الدين يقال له: داين ومدين، ومن عليه الدين يقال له: مدان ومديان ومديون وداين. وجملته: أنه إذا اشترى العبد بغير إذن سيده بثمن في ذمته أو استقرض. اختلف أصحابنا فيه، قال أبو إسحاق: يصح، وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه إنما منع فيه ضرر على السيد وهذا لا ضرر فيه على السيد، فهو كالاحتطاب، والاصطياد، ولأنه مكلف من أهل العقود والتصرف، وإنما حجر عليه لحق الغير، فإذا اشترى شيئًا في ذمته وجب أن يصح كالحر والمحجور عليه بالفلس. وقال الإصطخري: لا يصح كما لا يصح منه عقد النكاح إلا بإذنه ولأنه ليس من أهل الملك ولا يمكننا أن نثبت الملك للسيد ونوجب الثمن على العبد؛ لأن البيع تمليك بإزاء تمليك ولا يمكننا أن نثبت الملك للسيد ونوجب الثمن عليه، ولأنه لا يلزم الثمن، وقيل: هذا هو المذهب لهذه العلة ومن أصحابنا من قال: هذا قول أبي إسحاق الأول قول ابن أبي هريرة. فإذا قلنا: لا يصح فإن كان الشيء قائمًا بعينه رددناه على صاحبه، وإن كان تالفًا ضمن قيمته في ذمته يتبع بها إذا عتق سواء تلف أو أتلفه هو. [ق 75 أ] ولو أراد السيد أن يأخذ منه ليرد على المالك كان له ويكون في يده مضمونًا؛ لأن حصوله في يده كان بغير رضا المالك، وإذا قلنا: صحيح فإن كانت السلعة قائمة فللبائع الرجوع إلى عين ماله؛ لأن العبد مفلس كالمشتري إذا أفلس بالثمن. هكذا ذكره أصحابنا. وقال القاضي الطبري ..... إليه مقدار الثمن. وهذا أصح عندي؛ لأنه ربما بقي ثمنه بالثمن الذي عليه ويفضل فضلًا كثيرًا للسيد، ولا يخاف ههنا من مزاحمة الغرماء. قال في "الحاوي": إن لم يعلم البائع برقه ثم علم فأراد الفسخ يحتمل وجهين: أحدهما: [له الفسخ] لأنه أسوأ حالًا من المفلس. والثاني: ليس له لأنه صار في ملك السيد فلم يكن له الفسخ لزوال ملكه عنه، وهذا يدل على أنه لو كان عالمًا برقه عند العقد لا يفسخ بحالٍ، وإن كانت تالفة كان عليه ثمنها في ذمته لا قيمتها ولا يطالب السيد بذلك على الوجه الأول، وإن كان السيد رآه وتركه في يده هذا في الشراء، فأما في القرض له أخذه منه سواء قلنا إنه صحيح فضمانه ضمان القرض الصحيح على ما ذكرنا، وإن قلنا: لا يصح فضمانه ضمان المأخوذ سومًا، فإن انتزع السيد من يد العبد ذلك فإن قلنا: فاسد ضمنه أيضًا لأنه أخذ من يده من يجب [ق 75 ب] عليه الضمان فيضمنه، ثم إذا ضمن هو لا يرجع على عبده إذا عتق؛ لأنه لا يثبت للسيد وعلى عبده دين، وإن قلنا: إنه صحيح فقد صارت العين ملكًا للسيد ولا حق لأحد فيها والثمن أو البدل في ذمة العبد يتبع به إذا أيسر بعد العتق؛ لأن السيد أخذه لحق فسقط حق البائع والمقرض كما يسقط حقه لو باع المبيع أو رهنه، ذكره أصحابنا ومن أصحابنا من قال: الصحيح للبائع الرجوع؛ لأن ملك السيد حصل بالشراء لا بإخراجه من يد العبد ولم يتحدد له حق بعد العقد، وقبل الانتزاع من يده للبائع الرجوع كذلك بعده

بخلاف الحر المفلس إذا باع لا يرجع بائعه بعين ماله لأنه تجدد للمشتري الثاني حق لم يكن من قبل. وقيل: المحجور عليه أربعة أقسام: قسم: يصح منه الشراء مع الحجر بإذن وغير إذن, وهو المحجور عليه بالفلس ولكنه يمنع من دفع الثمن لحق الغرماء ولا يفسخ عقده. وقسم: لا يصح منه التصرف أصلًا وهم الصبيان والمجانين. وقسم: لا يصح بغير إذن وفي الإذن خلاف, وهو المحجور عليه بالسفه ولو اشترى بإذن وليه وجهان. ولو عين له الولي ما يشتريه وقدر له الثمن فعقد عليه جاز وجهًا واحدًا بخلاف التفويض؛ لأنه عقد حر مكلف قد صرف عن الاجتهاد بالتقدير فلم يكن [ق 76 أ] للسفه فيه تأثير ذكره في الحاوي. وقسم: يصح بالإذن وفي غير الإذن خلاف. وهو العبد على ما ذكرنا. وكذلك في ضمانه وجهان. وأما إذا تصرف العبد بإذن سيده يصح, وإن لم يكن في يده شيء كانت الديون في ذمته يتبع بها إذا اعتنق وأيسر ولا تتعلق برقبته, وبه قال مالك, وقال أبو حنيفة: تتعلق برقبته ويباع فيها عند مطالبة الغرماء, وقال أحمد: تتعلق بذمة السيد لأنه غر الناس بإذنه بالتجارة, وهذا غلط لأنه دين ثبت على العبد برضا من له الدين فلا يتعلق برقبته, كما لو استقرض بغير إذن سيده. وأما ما ذكره لا يصح لأن السيد لا يضمن عن عبده ولا غر الناس به بل أذن له في التجارة على رجاء الربح. فرع إذا حجر عليه السيد وبقي برقبته وحده هل تقضي ديونه من كسبه بعد ذلك؟ ظاهر الكلام أصحابنا يدل على أنه لا يقضي. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا يزال يقضي الدين من كسبه حتى يقضيه كله, أو يعتق فيكون في ذمته حينئذٍ؛ لأنه بالإذن جعل كسبه محلًا لقضاء الدين منه. ووجه الأول أن محل كسب المأذون لا كسب المحجور, وأصل المسألة أن الكسب الذي ليس بطريق التجارة هل يضاف إلى رأس المال وجهان. فرع آخر لو كان في يد العبد المأذون ألفان وعليه ألف درهم دين ليس [ق 76 ب] للسيد أن يأخذ منه الألف الفاضل عنه دينه؛ لأن الكل كالمرهون بدينه ولأنه يجوز أن يهلك أحد الألفين قبل قضاء دينه. فرع آخر المأذون في التجارة لا يؤاجر نفسه كما لا تزوج المأذونة نفسها. وقال أبو حنيفة:

له أن يؤاجر نفسه وهذا غلط؛ لأنه مأذون في التجارة والإجارة ليست بتجارة لأنه لم يسمى الحمال والسقا تاجرًا. وذكر وجهًا آخرًا أنه يجوز, والوجهان مبنيان على ما يحصل بعمله بالاصطياد هل يضيفه إلى رأس مال فإن قلنا: يضيف إليه نزلنا الإجارة بمنزلة الأرباح فيملك الإجارة كما يملك التصرف. فرع آخر هل له أن يؤاجر العبيد الذين اشتراهم للتجارة؟ وجهان: أحدهما: له ذلك كما له بيعهم. والثاني: ليس له ذلك لأنه عقد الإجارة من ثمنهم, والأول أظهر. فرع آخر إذا أذن لعبده في التجارة في نوع خاص لا يصير مأذونًا في سائر الأنواع, وقال أبو حنيفة: يصير مأذونًا في سائر الأنواع. وهذا غلط قياسًا على الوكيل والمضارب. فرع آخر لو رأى عبده يبيع ويشتري فسكت عنه لا يصير به مأذونًا في التجارة, وقال أبو حنيفة: لا يصح هذا العقد الذي سكت عنه ويصير به مأذونًا في غيره, وهذا غلط؛ لأن السكوت عنه لا يكون إذنًا في غيره كما في النكاح. فرع آخر المأذون إذا أبق لم ينعزل عن التجارة [ق 77 أ] غير أن السيد لو كان قال له اتجر في هذا البلد لا يمكنه التصرف في بلد آخر. وقال أبو حنيفة: ينعزل بالإباق. ووافقنا أنه لو أذن له بالنكاح وأبق لا يبطل الإذن. فرع آخر إذا استولد المأذونة لا تنعزل خلافًا لأبي حنيفة- رحمه الله- فرع آخر لو عزل نفسه لا ينعزل؛ لأن التصرف ليس بحق له بل هو حق السيد عليه والنفع له ولا يقدر العبد على إبطاله. فرع آخر لو خرج عن طاعته وأنكر الرق لا ينعزل. وكذلك لو غصبه غاصب وجحد ملك المالك خلافًا لأبي حنيفة.

فرع آخر (إذا) باعه هل ينعزل؟ وجهان بناء على ما لو أذن لعبد الغير في التجارة هل يصح؟ وجهان. فرع آخر إذا اعتقه هل ينعزل وجهان: أحدهما: ينعزل لأن مقتضاه أداء ديونه من كسبه وقد انقطع حقه عن كسبه. والثاني: لا ينعزل لأن ابتداء التوكيل بعد العتق يجوز. وكذلك لو كاتبه ولو أدبره أو رهنه لا يبطل الإذن. فرع آخر ليس للمأذون اتخاذ الدعوة وضيافة المجاهدين خلافًا لأبي حنيفة, لأن نوع تبرع كالهبة. فرع آخر لا يصح توكيل محجور عليه خلافً لأبي حنيفة, وهو وجه آخر يخرج من شرائه لنفسه بغير إذن سيده يجوز في أحد الوجهين, وهذا غلط لأنه نوع تصرف في ملك الغير [ق 77 ب]. فرع آخر إذا احتطب المأذون أو احتش لم يضم ذلك إلى مال التجارة, خلافًا لأبي حنيفة. فرع آخر ليس له أن يعامل سيده, وقال أبو حنيفة: له أن يعامله إذا كان عليه دين وهذا غلط. فرع آخر لو اشترى أب سيده لا يجوز لأنه يتضرر به سيده بالعتق عليه خلافًا لأبي حنيفة. فرع آخر لو زعم المأذون أن سيده حجر عليه لا تجوز معاملته؛ لأن في زعمه أنه لا يصح تصرفه, وقال أبو حنيفة: يجوز معاملته. فرع آخر لو أذن السيد المأذون أن يأذن للسيد الذي في يده بالتجارة فأذن صح, فلو حجر

السيد على عبد عبده صح, وقال أبو حنيفة: لا يصح ما لم يرد إلى يده, وهذا غلط لأن الثاني ملكه كالأول. فرع آخر لو أقر المأذون لأبيه أو لأبنه بمال صح كما لو أقر لأجتبي, وقال أبو حنيفة: لا يجوز. فرع آخر لو كان في يده عين مال وأقرِّ أنه مغصوب أو وديعة لرجل لا يصح إقراره إنما يصح إقراره لمعاملة تتعلق بالتجارة, وقال أبو حنيفة: يصح إقراره وهذا غلط [ق 78 أ] لأنه لا يتضمن الإذن بالتجارة. فرع آخر لو علم رجل أنه مأذون فعامله ثم امتنع من التسليم كان له ذلك ما لم يشهد الشهود أنه مأذون له, لأنه ربما يفك السيد الإذن فيذهب مال البائع. فرع آخر لو أذن السيد لعبده أن يضمن مالًا عن رجل فضمنه فيه وجهان: أحدهما: يتعلق ذلك بكسبه ويكون بمنزلة المهر والنفقة إذا أذن له بالنكاح لأنه إذن في كسبه. والثاني: يكون في ذمته لأنه ثبت برضا من له حق. مسألة قَالَ: "وَكَذَلِكَ مَا أَقَرَّ بِهِ مِنْ جِنَايَةِ". وهذا كما قال. جناية العبد لا تخلو إما أن تثبت ببينة أو بإقرار, فإن ثبت ببينة نظر, فإن كانت موجبة للقصاص, كان لولي الجناية أن يستوفيه, وإن كانت موجبة للمال أو اختار ولي القصاص أن يعفو على مال تعلق ذلك برقبته, وإن كانت الجناية ثبتت بإقراره نظر, فإن كانت توجب القصاص قبل إقراره وللمقر له استيفاء منه وقال أبو حنيفة ومالك .... وقال محمد, وزفر, وداود: لا يقبل إقراره لأنه يسقط حق السيد عنه بإقراره, وقال أحمد: يقبل إقراره فيما دون النفس, ولا يقبل إقراره لأنه روي عن علي- رضي الله عنه- أنه قطع عبدًا يقبل فيه إقرار العبد كالطلاق [ق 78 ب] ولأنه غير متهم فيه؛ لأن العاقل لا يتلف نفسه للإضرار بغيره وهو كالزوجة تقر

بالقتل (فيصح) إقرارها مع ضرر الزوج وبهذا فارق أذا أقر بالخطأ. وإذا تقرر هذا فمن أقر بما يوجب القصاص فإن أراد المقر له القصاص كان له, وإن أراد أخذ الدية كان له سواء توجب الجناية القصاص فقط أو قلنا موجبة القصاص أو الدية. وقال صاحب "الإفصاح": إن قلنا يوجب القصاص فقط يجوز عفوه عن المال؛ لأن المال يكون حتى القصاص, فإذا ثبت له المبدل, وإن قلنا موجبة القصاص أو الدية فكل واحد منهما أصل في نفسه, وإذا أراد الدية يحتمل وجهين بناء على قولين في العزم في السرقة على ما تبين إن شاء الله تعالى, والأول أصح, وقال بعض أصحابنا بخراسان, وعلى هذا قال الشافعي- رحمة الله عليه- في رجل حتى جناية توجب القود, فقال رجل للمجني عليه: ضمنت لك ما وجب بهذه الجناية من قود ومال لا يصح في القود ويصح في المال إذا قلنا: موجبه أحد شيئين, وإن قلنا: موجبة القود فقط لا يجوز أصلًا, فإن قيل: ألا قلتم لا يثبت العفو على مال لأنه متهم ويجوز أن يتواطأ العبد ويفر له بالعمد ليعفو عنه. قيل: الثابت إقراره بالعبد الموجب للقصاص وذلك لا تهمة فيه, لأنه لا يؤمن باستيفائه [ق 79 أ] منه والعاقل لا يغرر نفسه. ثم إذا ثبت لا وجه لمنع الولي من العفو, ثم إذا صح العفو على مال تعلق المال برقبته, والسيد بالخيار بين الفداء وبين التسليم للبيع, وإذا اختار الفداء بكم يفدي؟ قولان على ما ذكرنا من قبل, وإن أقر بما يوجب المال به لا يقبل إقراره, لأنه متهم وإذا عتق طولب به, وهذا لأنه يقبل إقرار السيد به ولا يقبل العبد به كما لا يقبل أنه باعه من فلان. فرع آخر لو أقر السيد عليه بما يوجب القصاص لا يقبل لأنه متهم فيه, فإذا عفي المقر له عن القصاص وأراد المال ثبت المال رقبته, كما لو أقر السيد في الابتداء بما يوجب المال. مسألة قَالَ: "وَلَوْ أَقَرَّ بِسَرقَةٍ [مِنْ حِرْزِهَا] يُقْطَعُ فِي مِثْلِهَا". الفصل: وهذا كما قال إذا أقر العبد بالسرقة ينظر, فإن كان بسرقة لا يوجب القطع في مثلها, أما دون النصاب أو من غير الحرز, أو من أبيه أو ابنه لا يقبل لتعلق الحق برقبته, لأنه يضمن غرامة المال فقط, ولكن يبيع به إذا عتق, وإن كان بسرقة توجب القطع يلزمه القطع كالقصاص, أما الغرم فإن كان تالفًا هل يقبل إقراره فيه حتى يتعلق برقبته أو لا يقبل حتى تتعلق برقبته؟ قولان:

أحدهما: لا يقبل وهو الأصح, لأنه لو أقر بما يوجب المال لا يقبل إقراره [ق 79 ب] فإذا أضافه إلى ما يقبل فيه وجهان لا يقبل أيضًا, ولأنه لو شهد بالسرقة شاهد أو امرأتان ثبت المال دون القطع, فدل على أن أحدهما منفصل عن الآخر. والثاني: قاله في كتاب "الإقرار بالحكم الظاهر" يقبل إقراره ويباع فيه, لأنه إذا ثبت به القطع ثبت به المال؛ لأن القطع لا ينفصل عن المال كالدية والقصاص, ومن قال بالأول لا يسلم هذا الأصل على قول صاحب "الإفصاح"وعلى قول سائر أصحابنا فرق بينهما, فإن القصاص والدية تجيان بسبب واحد لمستحق واحد فإذا ثبت الأعلى كان له العدول إلى الأدون, وليس كذلك القطع والمال لأنهما يتعلقان بشيئين مختلفين, فجاز أن يثبت أحدهما دون الآخر, ألا ترى أنه لو شهد رجل وامرأتان بجناية العمد لم يثبت المال, ولو شهدوا بالسرقة يثبت المال دون القطع, فدل على الفرق بينهما. ثم لو رجع من هذا الإقرار سقط القطع دون الغرم إذا أوجبنا الغرم في رقبته أو ذمته, وإن كان العين قائمة نظر, فإن كانت في يد السيد لا يقبل قوله فيها على سيده, بل يجب غرم ذلك في ذمته, وإن كانت في يده قطعت يده قولًا واحدًا, وهل يقبل في تلك العين؟ قال بعض أصحابنا: لا يقبل فيها قولًا واحدًا, والفرق أنه إذا كان تالفًا لا يؤدي إلى أن [ق 80 أ] يقبل إقراره فيما زاد على قيمته, وفي العين لو قبلنا إقراره أدى إلى أن يقبل إقراره فيما يزيد قيمته, وفي العين لو قبلنا إقراره أدى إلى أن يقبل إقراره فيما يزيد قيمته أضعافًا مضاعفة وهذا هو المذهب, وبه قال أبو يوسف رحمه الله ومن أصحابنا من قال: فيه قولان أيضا؛ أحدهما هذا. والثاني: يقبل ويرد على صاحبه, ومن أصحابنا من قال: إن قلنا بالتالف لا يقبل فههنا أولى, وإن قلنا هناك يقبل فههنا ثلاثة أوجه: أحدها: يقبل وهو اختيار ابن سريج. والثاني: لا يقبل, وبه قال مالك وأحمد؛ لأن يده يد لسيده. والثالث: العين ترد إلى السيد إذا ادعاها, ويتعلق غرم قيمتها في رقبته استدراكًا لما يخاف من وفور قيمة العين واستيعاب مال السيد فلا يتجاوز عن الرقبة ذكره في "الحاوي". وقال أبو حنيفة: يقبل إقراره في العين وترد إليه سواء كان في يد العبد أو في يد سيده, وقال محمد: لا تقطع يده كما لا يسلم العين إلى المقر, وهذا غلط؛ لأن التهمة لا تلحقه في القطع يده كما لا يسلم العين إلى المقر, وهذا غلط؛ لأن التهمة لا تلحقه في القطع فيلزمه بخلاف المال. فرع آخر إذا قال العبد: استكرهت هذه الحرة على الزنا يلزمه الحد, وهل يقبل إقراره في المهر؟ كما ذكرنا في السرقة.

باب بيع الكلب

فرع آخر المحجور بالسفه إذا أقر بالسرقة, فإن قلنا: يقبل إقرار العبد على سيده كان إقراره بالقبول في ماله أولى فيقطع [ق 80 ب] ويغرم, وإذا قلنا إقرار العبد يلزم في ذمته ففي إقرار السفيه وجهان: أحدهما: يقبل وهو قول ابن أبي هريرة بخلاف العبد لأنه يقر في غير مال بخلاف السفينة. والثاني: لا يقبل؛ لأن السفينة يمنع من قبول إقراره وهو أسوأ حالًا من العبد؛ لأن العبد يثبت للعذر فيها بخلاف هذا! وعلى هذا في وجوب قطعه وجهان: أحدهما: لا يقطع لسقوط الغرم. والثاني: يقطع كما لو سقط الغرم بالإبراء بعد الوجوب. فرع آخر لو ادعى عبد قتلًا يوجب القصاص فأنكر فالقول قوله, هل تغلظ الأيمان؟ قولان, وإن ادعى عليه قتلًا يوجب المال فاعترف لا يقبل إقراره ونحو الدعوى إلى سيده فيحلف على العلم ما قتل عبده, ولو أنكر العبد فالقول قوله مع يمينه, وإن نكل هل ترد اليمين؟ قولان بناء على يمين المدعي مع نكول المدعي عليه تجري مجرى البينة أو مجرى الإقرار, فإن قلنا كالبينة ردت, وإن قلنا كالإقرار لا ترد. باب بيع الكلب قال: أخبرنا مالك عن ابن شهاب وذكر الخبر. وهذا كما قال. نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن. والبغي: المرأة الفاجرة تكون نفسها وجمعها بغايا, وحلوان كاهن: [ق 81 أ] ما يأخذه المتكهن عن كهانته وهو محرم باطل. ويقال: حلوت الرجل شيئًا يعني رشيت. وحلوان العراف حرام أيضًا, والفرق بين الكاهن والعراف أن الكاهن يدعي معرفة الأسرار والكوامن في مستقبل الزمان, والعراف يدعي معرفة الشيء المسروق ومكان الضالة. وجملته أن بيع الكلب عندنا باطل وهو نجس العين ولا يضمن قيمته به قال الحسن والحكم, والأوزاعي, وربيعة- رحمهم الله- وأحمد, وداود, وقال أبو حنيفة: يجوز بيعه ويضمن قيمته وفي بيع العقور روايتان. واختلف أصحاب مالك قال بعضهم: يجوز بيع المأذون في إمساكه ويكره بيعه, وحكي عن مالك أن قال: لا ثمن له وتضمن قيمته بالإتلاف وهذا غلط لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمنه فدل على فساد بيعه.

وروى ابن عباس- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الكلب وقال: "إن جاء يطلب ثمن الكلب فاملؤوا كفه ترابًا". ومعنى التراب ههنا الحرمان والخيبة, كما يقال: ليس في كفه إلا التراب, وكقوله: صلى الله عليه وسلم "والعاهر الحجر" وكان بعض السلف يذهب إلى استعمال الخبر على ظاهره يقول: أن يوضع التراب في كفه. وروى أبو هريرة- رضي الله عنه- أن النبي: صلى الله عليه وسلم [ق 81 ب] قال: "لا يحل ثمن الكلب ولا حلوان الكاهن ولا مهر البغي". والدليل على مالك- رحمه الله- أن الثمن ثمنان ثمن التراضي عند البيع وثمن التعديل عند الإتلاف, وقد أسقطها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "فاملؤوا كفه ترابًا" فدل على أنه لا عوض له, وقال أبو هريرة رضي الله عنه: ثمن الكلب من السحت, وقال عطاء والنخعي: ما حرم اقتناؤه منها فبيعه محرم وما أبيح اقتناؤه منها فبيعه جائزا, واحتج مالك- رحمه الله- بأنه إذا أتلفه أبطل عليه منفعته فيضمن, كأم الولد لا يحل بيعها ونلزم قيمة على أتلفها. قلنا: أم الولد استحقت العتق ولم تخرج عن المالية. وهذا المعنى لا يوجد في الكلب, واحتج أبو حنيفة- رحمه الله- بما روي جابر- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم نهي عن ثمن الكلب والسنور إلا كلب صيد. قلنا: هذا موقوف على جابر ذكره الدارقطني, ثم هو حجة عليه لأنه يخبر عن بيع غير معلوم. وقيل: معناه ولا كلب صيد. وروي رافع بن خديج- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كسب الحجام خبيث, ومهر البغي خبيث, وثمن الكلب خبيث". وإذا تقرر هذا فلفظ الشافعي رحمه الله- ههنا يدل على أن الاقتران في اللفظ يقتضي الاقتران في الحكم, وهو اطهر المذهبيين؛ لأنه قال: "وَلَا يَحِلُّ لِلْكَلْبِ ثَمَنٌ بِحَالٍ [ق 82 أ] ولو حَلَّ ثَمَنُهُ جَازَ حُلْوَانُ الكَاهِنِ وَمَهْرُ البَغِيِّ" مسألة قَالَ: "وَلَا يَجُوزُ اقْتِنَاؤْهُ إِلَّا لِصَاحِبِ صَيْدٍ أَوْ حَرْثٍ أَوْ مَاشِيَةٍ, أَوْ مَنْ كَانَ فِي مَعْنَاهُمْ". وهذا كما قال: يجوز اقتناء الكلب للصيد وحفظ الماشية والزرع لدفع الخنازير, وفي معنى أصحاب الزرع أصحاب النخل والشجر والكرم, وفي معنى أصحاب المواشي أصحاب الخبل والبغال والحمير لحفظها من صغار السباع, وهذا لما روي أبو هريرة- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اقتنى كلبَا إلا كلب صيد أو زرع أو ماشية نقص.

من أجره كل يوم قيراطان, عبارة عن جزأين من عمله. واختلفوا هل المراد به عمله الماضي أو المستقبل؟ فقيل: ماضي عمله. وقيل: من مستقبل عمله. ثم اختلفوا من بعد ذلك من أي عمل؟ فقيل: جزء من عمل الليل وجزء من عمل النهار. وقيل: جزء من عمل الفرض, وجزء من عمل النقل. وهذا النقصان يتكرر عليه في كل يوم, وقال أبو حنيفة: [يجوز] اقتناء الكلب بكل حالٍ, وإن لم يكن منتفعًا به. فرع هل يجوز اتخاذه لحفظ البيوت؟! اختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: لا يجوز لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما عدا هذه الثلاثة, ولا الحيلة تتم من اللص على الكلب بطرح الخبز له ونحو ذلك, وهذا اختيار أبي حامد- رحمه الله- والثاني: يجوز وهو ظاهر المذهب وهو الصحيح؛ لأن الشافعي- رحمه الله- قال: "أو من كان في معناهم" ووجهة اقتناء الكلب لحفظ ماله فأشبه اتخاذ لحفظ ماشيته, وقال في الحاوي: هذان الوجهان لحراسة الدور في المدن والقرى, فأما أهل البوادي وسكان الخيام في الفلوات فيجوز لهم اقتناء الكلب حول بيوتهم لتحرسهم من الطراق والوحش؛ لأن للكلاب عواء عند رؤية من لم تألفه وتنبه به أربابها, وقد روي في الخبر: الصحاري, وفي معنى أصحاب الخيام أهل الحصون والبيوت المفردة في أطراف الرساتيق والقوافل والرقاق وقد رئي أنس رضي الله عنه أنه حج ومعه كلب فقيل له: تحج ومعك كلب فقال: لحفظ نيامنا. وكلب الصحاري هو الذي علم أخ 1 الصيد وإمساكه على صاحبه يجري في الصيد واقتناؤه لضرورة العادة. فرع آخر لو اقتنى الكلب المعلم من لا ينتفع به من ليس له صيد, ولا حرث ولا ماشية, أو اقتناؤه ليصيد به إذا نشط كما يفعل السلطان فيه وجهان: أحدهما: يجوز اعتبارًا لها لما فيه من المنفعة. ولهذا إذا حصد الزرع كان له إمساكه لزرع مستقبل وهو الأصح. والثاني: لا يجوز اعتبارًا بصاحبه وأنه ليس له فيه [ق 83 أ] منفعة ومعنى الخبر إلا كلب صيد كلبًا يصاد به وحرارة الحرث أو الماشية إن كانت ....... أن لا يقتني ذلك أصلًا.

فرع آخر لو اتخذ صاحب الحرث كلب ماشية أو اتخذ صاحب الماشية كلب حرث فيه وجهان أيضا. فرع آخر في تربية الجرو الصغير للصيد والزرع وجهان: أحدهما: لا يجوز لأنه ليس بكلب صيد ولا ماشية ولا زرع. والثاني: يجوز لأنه لا يكون كلب صيد إلا بتربيته كذلك وهو الأصح. فرع آخر هل يجوز اقتناء ولد الفهد, وإن كان طاهرًا؟ وجهان: ذكر القاضي أبو يحيى وظاهر المذهب جوازه قولًا واحدًا, ولا يجوز اقتناء الخنزير بحالٍ. فرع آخر هل يجوز إجارة الكلب وجهان: أحدهما: يجوز وهو ظاهر كلام الشافعي- رحمة الله عليه- لأن أكثر ما فيه أنه لا يجوز بيعه, وبهذا لا يمنع الإجارة كالجرو, وهذا اختيار صاحب التلخيص. والثاني: لا يجز وهو اختيار أبي حامد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز الانتفاع به لأشياء مخصوصة فلا يجوز فيما عداها, قال: ويجوز أن ينتفع به ولا تجوز إجارته كما في ضراب الفحل. فرع آخر لو غضب كلبًا وأقام في يده زمانًا. قال بعض أصحابنا: لا يضمن منفعة وجهًا واحدًا, والصحيح أن فيه وجهين بناء على جواز إجارته. فرع آخر تصح الوصية به؛ لأن ذلك نقل لليد واليد تثبت عليه [ق 83 ب]. وأما هبته: قال ابن أبي أحمد- رحمه الله- تصح هبته, وقال القاضي الطبري: عندي أنها لا تصح؛ لأن الهبة تمليك والكلب غير مملوك. ولعله أراد أنها تصح على الوجه الذي تصح الوصية به, وهذا صحيح, لأنه إذا نقله إلى يد غيره على وجه التبرع صح كما يصح ذلك في الوصية ولم يكن له الرجوع في ذلك, وهذا معنى الهبة.

مسألة قَالَ: "وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ مَنْفِعَةُ فِي حَيَاتِهِ بَيُعٌ وَحَلَّ ثَمَنُهُ أَوْ قِيمَتُهُ وَإنْ لَمْ يَكُنْ يُؤكل". وهذا كما قال: جملة هذا أن جميع الأعيان على ضربين؛ حيوان, وغير حيوان. فأما الحيوان فضربان: أدمي وغير أدمي والآدمي ضربان مملوك وحر فالحر لا يجوز بيعه وكذلك ما في معناه وهو العبد الوقوف, وأما المملوك فضربان من ثبت له سبب الحرية, ومن لم يثبت له ذلك وهو العبد يجوز بيعه. ومن ثبت له سبب الحرية على ثلاثة أضرب: سبب مستقر, وثابت غير مستقر, وغير ثابت ولا مستقر. فالمستقر الاستيلاد فلا يجوز بيع أم الولد ولا ولدها من زوج أو زنا كالحرة, وأما غير الثابت والمستقر مثل المدبر والمعلق عنقه بصفة فلا يمنعان البيع بحال. وأما الثابت غير المستقر كالكتابة قال في "جديد": لا يجوز بيع المكائب, وقال في "القديم" يجوز بيعه. وأما غير الآدميين فضربان: ما يؤكل لحمه, وما لا يؤكل لأق 84 أ]. فما يؤكل يجوز بيعه كالإبل والبقر ونحوه, وما لا يأكل ضربان: طاهر ونجس, فالنجس مثل الكلب والخنزير, وقد ذكرنا حكمهما, وقد قال بعض أصحابنا: لم يكن يعرف خلاف قبل عطاء في أن لا قيمة على متلف الكلب حتى ذهب إليه عطاء- رحمه الله- وتابعه مالك, ولا يعرف خلاف قبل أبي حنيفة في أن بيعه يجوز حتى قاله أبي حنيفة, وأما الطاهر فضربان: ما ينتفع به وما لا ينتفع بظهره فقط, والفهد ينتفع بصيده, والسنور ينتفع بصيد الهوام ويجوز بيعها, وكذلك جوارح الطير كالبازي والشاهين والعقاب يجوز بيعها. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن ثمن السنور" وأراد السنور البري الذي لا ينتفع به بل يكون مضرة, وما لا ينتفع به كالأسد والذئب والطيور التي لا يصاد بها فلا يجوز بيعها. فرع آخر لا يجوز بيع الحمار المكسور والبغل المزمن. وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: يجوز لأن جلده يطهر بالدباغ, وهذا غلط؛ لأن الخمر لا يجوز بيعها وتصير خلا. وقيل: هو ما لا يجوز كل عين طاهرة يجوز الانتفاع بها بحق حرية ولا قربة, وفيه احتراز عن الوقف والمندور عتقه [ق 84 ب]

فرع آخر بيع العلق يجوز, لأنه ينتفع به بإخراج الدم, وفيه وجه آخر لا يجوز لأنه يؤدي ويعقر ويجرح. فرع آخر لو كان يرجي نفعه في ثاني الحال كالفهد غير المعلم والفيل الذي يأنس للقتال أو للحمل هل يجوز بيعه في الحال؟ وجهان: أحدهما: لا يجوز للحال الذي هو عليه, والثاني: يجوز بما ينتقل إليه في ثاني الحال. فرع آخر يجوز بيع القرد لأنه يعلم وينتفع به لحفظ المتاع وحكي الشبلي عن ابن سريج أنه قال: يجوز بيعه لأنه ينتفع به, فقيل له: ما وجه الانتفاع به؟ فقال: يفرح به الصبيان. فرع آخر يجوز بيع الطير الذي ينتفع بصوته كالببغاء والبلبل والعندليب, أو يستأنس بلونه كالطاووس ونحو ذلك. فرع آخر أكل غراب الزرع وابن آوي هل يجوز وجهان: فإن قلنا يجوز أكله يجوز بيعه, وإن قلنا: لا يجوز أكله لا يجوز بيعه. فرع آخر لا يجوز بيع الغراب الأبقع ولا الغراب الكبير الأسود وكذلك الحدأة بكسر الهاء بهمزة وكذلك البغاة لا يصاد به ولا يرغب في صيده, لأنه يؤكل, كذلك الطيور التي لا تصلح لشيء كالخفاش والخطاف, وكذلك حشرات الأرض كلها كالفأر والحيات والعقارب والديدان والوزغ, ونحو ذلك لأن الله تعالي نهى [ق 85 أ] عن أكل المال بالباطل, فإذا لم يكن فيها منفعة مذبوحة ولا حيا فبذل المال من ثمنها أكل المال بالباطل, فإن قيل: عندكم يطهر جلده السباع بالدباغ فجوزوا بيعها للجلد. قيل: تلك منفعة غير مقصودة ألا ترى أن بيع الجلد قبل دباغه لا يجوز لجواز أن دباغه كذلك مثله في جملة الحيوان, وأما غير الحيوان فضربان: جامد ومانع, فالجامد ضربان: طاهر ونجس, فالظاهر كل مملوك ينتفع به يجوز بيعه إلا الوقف فإنه لا يجوز بيعه, وإن كان قد انكسر وهلك بحيث لا ينتفع به, ولا يكره بيع شيء من المملوك الطلق إلا رباع مكة فإنه يكره بيعها وإجارتها للخلاف. وقال أبو حنيفة, ومالك- رحمهما الله- هي غير مملوكة

لا يجوز بيعها ولا أكل ثمنها, وروى الحسن بن زيادة عن أبي حنيفة مثل قولنا, وعن أحمد روايتان وهذا الخلاف في العرصة, وأما البناء فهو مملوك بلا خلاف واحتجوا بما روي عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنه- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مكة حرام وحرام بيع رباعها وحرام أجرة بيوتها". وهذا غلط لما روي عن عمر- رضي الله عنه- اشترى دارًا من صفوان بن أمية بأربعة آلاف درهم للسجن [ق 85 ب] واشترى معاوية بن حكيم بن حزام دارين أحدهما بستين ألف درهم والأخرى بأربعين ألف درهم. وأما خبرهم فرواه عبد الله بن زياد, وابن أبي نجيح وهما ضعيفان أو نحمله على ما كان فيها وقعًا وهو كثير فيها. ويجوز بيع المصحف ولا يكره وقد سئل ابن عباس- رضي الله عنه- فقال: لا بأس يأخذون أجور أيديهم. وأما النجس فضربان نجس العين, ونجس المجاورة فما كان نجس العين كالعذرة والسرجين والميتة وعظامها لا يجوز بيع شيء منها كذلك الزبل لأنه نجس العين. وقال أبو حنيفة: يجوز بيع السرقين والزبل ووافقنا على العذرة أنه لا يجوز بيعها وهذا غلط؛ لأنه نجس العين كالميتة. وأما ما نجس بالمجاورة كالتراب والثوب ونحو ذلك يجوز بيعه. وأما المائع فضربان: طاهر, ونجس , فإن كان مما لا ينتفع به كالدمع والعرق والريق نحو ذلك لا يجوز, وإن كان ينتفع به كاللبن والعسل والخل يجوز. وأما النجس فضربان؛ ما نجس بالمجاورة, وما نجس بالاستحالة, فما نجس بالاستحالة, فهو الخمر وكل شراب مسكر, والبول والدم لا يجوز بيعه, وقال أبو حنيفة: يجوز شراء الخمر بالتوكيل للذمي وهذا غلط لما روت عائشة- رضي الله عنها-[ق 86 أ] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حرمت التجارة في الخمر" وروى ابن عباس- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل- عليه السلام- وقال: يا محمد إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وحاملها والمحمولة إليه وشاربها وبايعها ومبتاعها وساقيها". وروي أنس- رضي الله عنه- قال: لعن رسول صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة وذكر هؤلاء وزادوا كل ثمنها والمشتري له. وقال جابر- رضي الله عنه- سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح بمكة يقول: "إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام" فقيل: يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلي بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها فقال: "لا هو حرام" ثم قال عند ذلك: "قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم الشحوم حملها ثم باعوها وأكلوا ثمنها" أي

أذابوها حتى تصير ودكًا, وروي زيادة "وألم تعلموا أن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه حرم الكلب وحرم ثمنه, وحرم الخنزير وحرم ثمنه, وحرم الخمر وحرم ثمنها". وأما ما نجس بالمجاورة مثل إن ماتت فيه فأرة ونحو ذلك, فإن كان مما لا يمكن غسله كالسمن والخل واللبن فلا يجوز بيعه, وإن كان مما يمكن غسله كالزيت والشيرج والبزر [ق 86 ب] هل يطهر بغسله؟ اختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: لا يطهر وهو المذهب الشافعي؛ لأنه يختلط بالماء بل يطفو على رأس الماء, وقال صاحب "الإفصاح": لا يمكن تطهيرها لأن الشافعي نص أنه لا يجوز بيعها ولو أمكن تطهيره لجاز بيعه. وقال أبو إسحاق, وابن سريح: يطهر لأنه إذا صب عليه الماء وغمره يعلو على الماء ويتميز عنه ويصل إلى الماء جميع أجزائه, وبه قال أبو حنيفة والفتوى على هذا. فعلى هذا هل يجوز بيعه قبل الغسل وجهان: أحدهما: يجوز كالثوب النجس, وبه قال أبو حنيفة. والثاني: لا يجوز وإن كان يفضي إلى الطهارة كجلد الميت, وبه قال مالك. فرع آخر وهل يجوز بيع الماء النجس؟ وجهان: أحدهما: لا يجوز, لأنه نجس حكمًا فهو كنجس العين. والثاني: يجوز لأنه يمكن تطهيره بالمكاثرة, ومن أصحابنا من قال: لا يجوز بيع الماء النجس قولًا واحدًا, لأنه لا طريق إلى تطهير عينه بل تزول حكم نجاسته بالمكاثرة فهو كالخمر, وإذا انقلبت خلا يحكم بطهارته بخلاف الزيت فإنه يمكن تطهيره بالغسل. فرع آخر الصبغ النجس قال أصحابنا: فيه قولان كالزيت النجس هل يطهر بالغسل أم لا؟ وقيل: لا يطهر وجهًا واحدًا, بخلاف الزيت لأن الماء سبب فساد الصبغ بخلاف الزيت فيصبغ [ق 87 أ] به الثوب ثم يغسل فيحكم بطهارته وهذا أصح. فرع آخر يجوز الاستصباح بالزر النجس وجهًا واحدًا, قال بعض أصحابنا بخراسان هل يجوز الاستصباح به؟ والأظهر أنه يجوز وهو غريب. وقال القاضي الطبري: قال بعض أصحابنا: إذا لم يذهب معظم منفعته بنجاسته كالبزر فإنه يراد الاستصباح وحده يجوز بيعه وجهًا واحدًا, وإن ذهب معظم منفعته بنجاسته كالزيت والشيرج, فإن ذهب ........... هل تجوز هبته والتصدق به. قال أصحابنا: لا يجوز وأرادوا على سبيل التمليك. وأما على سبيل نقل اليد يجوز كما قلنا في الكلب.

فرع آخر إذا أذيب شحم الميتة يجوز أن يستصبح به ذكره القاضي الطبري, ولا يجوز أن تدهن السفن به, وإذا استصبح به فظهر دخانه على ثوب قد ذكرنا وجهين: أحدهما: نجس كرماد السرقين لأن النار لا تطهر شيئا. والثاني: طاهر لأنه بخار النار وليس بعين الدهن والرماد وعين الزبل. فرع آخر بيع الماء على طرف النهر والتراب في البرية هل يجوز بيعه وجهان: أحدهما: لا يجوز [ق 87 ب] لأنه ملك البائع, والثاني: يجوز لأنه تبذير وهكذا الحكم فيما لا يعد مالًا في العادة ككسرة خبز وحبات حنطة ونحو ذلك. فرع آخر ولو باع الأكارع قبل القطع وجهان؛ لأن بقطعها معلومة. فرع آخر لو باع الرأس قبل الإبانة فإن بقى معلقًا بجلده فهو كالأكارع, وإن كان قبل القطع لا يجوز, وحكي عن مالك أنه يجوز في السفر, وقال أحمد: يجوز أبدًا وهذا غلط لأنه لا يجوز إفراده بالبيع ولا يجوز استثناؤه. فرع آخر استعمال السرقين في الزرع, قال أبو حامد: لا نص فيه, وقد قال بعض أصحابنا: يكره لما فيه من مباشرة النجاسة وملاقاتها. وروي عن ابن عمر- رضي الله عنه- أنه كان لا يأكل الطعام الذي استعمل السماد من زرعه, وقال سعد بن أبي وقاص- رضي الله عنه- مكيل من عذرة بمكيل من حب. وهذا يدل على إباحته وليس بنص, وقياس قولنا أنه مباح لأن أعيان النجاسة لم تحصل فيه, بل جاورته ويفارق الجلالة, حيث أن أعيان النجاسة حصلت فيها. فرع آخر لو اختلطت ظروف خل بظروف خللت لم يجز بيع شيء منها بالاجتهاد. فرع آخر لو اشترى الكافر عبدًا مسلمًا فيه قولان: أحدهما: البيع باطل نص عليه [ق 88 أ] في الإملاء وينصره أصحابنا في الخلاف وبه قال أحمد ومالك في رواية.

والثاني: البيع جائز نص عليه في عامة كتبه ولكن يباع عليه, وبه قال أبو حنيفة وجمهور العلماء, لأنه يملكه بالإرث, وإذا أسلم في يده يصح شراؤه. ووجه الأول أن الإسلام إذا منع استدامة الملك منع ابتداءه كما في النكاح ولا خلاف أنه يحرم عليه بيعه منه. فرع آخر إذا وكل كافر مسلمًا في شراء مسلم لم يصح الشراء إذا قلنا: لا يجوز كما لا يجوز أن يكون وكيلًا في النكاح, ولا يكون المحرم وكيلًا في شراء الصيد. ورأيت بعض أصحابنا قال: وفيه وجهان: أحدهما: يجوز لأن الملك يقع للمسلم وكذلك في النكاح. فرع آخر هل يجوز للكافر أن يشتري أباه المسلم على قول الإملاء؟ وجهان وقيل: قولان, أحدهما: لا يجوز لأنه لابد من جريان ملك عليه وفيه إذلال وإن كان ساعة, والثاني: وهو الأظهر يجوز لأنه لا ضرر عليه في أن يحكم عليه بالملك يلحظ بل أقل ويتوصل به إلى العتق الذي هو إعزاز. فرع آخر لو قال المسلم: اعتق عبدك المسلم عن كفارتي فأعتقه جاز, ويدخل في ملكه ويخرج منه بالعتق؛ لأنه ليس بتمليك بل هو [ق 88 ب] إبطال الرق فيه, والملك يحصل فيه حكمًا كما يملكه بالإذن حكمًا. وقيل: فيه وجهان. فرع آخر لو اشترى عبدًا مسلمًا يسري العتق فيه؟ وجهان: أحدهما: كما لو اشترى أباه وقيل: لا يجوز وجهًا واحدً لأنه يحصل العتق باختياره ويتوقف عليه بخلاف ذلك. فرع آخر إذا جوزنا سلمة في العبد المسلم ينصب الحاكم نائبًا حتى يقبض له. فرع آخر إذا قلنا تصح هبته منه فعلم به قبل التسليم يمنع من التسليم لأنه قبل القبض لا يلزم.

فرع آخر إذا أوصى به بعبدٍ مسلم, فإذا قلنا: الوصية لا تملك إلا بالقبول فحكمه حكم الشراء, وإن قلنا: يملك بالموت يصح لأنه يحصل بغير اختياره كالإرث, وكون المسلم قاصدًا إلى تمليك أباه لا يمنع كما لو اشترى من كافر عبدًا مسلمًا بشرط الخيار, ثم أفسخ العقد أو وجد به غيبًا فرده عليه صح, وقد ذكرناه في كتابه "الوصية". فرع آخر إذا باع الكافر عبدًا مسلمًا بثوب ثم وجد بالثوب عيبًا له رد الثوب وهل يسترد العبد المسلم؟ وفيه وجهان: أحدهما: لا يسترد بل يسترد قيمة ويجعل وكأن العبد مالك. والثاني: يسترد لأنه الفسخ بالعيب قطع [ق 89 أ] العقد فيه يعود إلى ملكه ويجري ذلك مجرى استدامة الملك. فرع آخر إذا باع العبد المسلم ثم تقاتلا, فإن فلنا الإقامة عقد لا يجوز, وإن قلنا: فسخ فيه وجهان كما في المسألة قبلها. فرع آخر إذا باع الكافر العبد المسلم بشرط الخيار يصح لأنه صار معرضًا للزوال, فإن أراد الفسخ قلنا الملك للبائع يصح إلا أنه إذا كثر ذلك منه يلزمه الحاكم بأن يبيع بيعًا تامًا, وهذا لأنه ليس بابتداء ملك وإنما هو منع من الزوال, وإن قلنا ملكه زوال ففي جواز الفسخ وجهان كمسألة العبد بالثوب. فرع آخر لو استأجره لعمل في ذمته كالخياطة وغيرها يجوز لأنه لا صغار في ذلك, وإن استأجره لعمل مقدر أيامًا فيه طريقان: أحدهما: يجوز قولًا واحدًا لأنه عمل في مقابلته عوضًا فلا صغار فيه, ولا بعقد الإجارة ولا يثبت له يد لأن الأجير إن كان حرًا فهو في يد نفسه, وإن كان عبدًا ففي يد مولاه, ولأنها تنقضي بمضي الزمان بخلاف الملك, وقيل: فيه وجهان لأنه فيه نوع ملك واستدلال. فرع آخر إذا قلنا: لا يجوز فاشتري عبدً كافرًا, ثم أسلم العبد قبل قبضه هل يتمكن من قبضه [ق 89 ب] ليبيعه؟ لا نص فيه, وقال بعض أصحابنا: يمكن ليصبح بيعه عليه وهو

ظاهر المذهب. ومن أصحابنا من قال: يقبضه القاضي عنه ويبيعه وهذا أقيس عندي. وقيل: يأمر بأن يوكل مسلمًا حتى يقبض له, ثم يباع. وقيل: يبطل البيع بإسلامه وكلاهما ضعيف. فرع آخر قال بعض أصحابنا بخراسان: إذ قلنا: يصح شراءه فاشتراه هل يتمكن من قبضه؟ وجهان: أحدهما: يمكن وهو صحيح. الثاني: لا يمكن بل يؤمر بأن يوكل مسلمًا حتى يقبضه ثم يباع. وقيل: ينصب الحاكم نائبًا مسلمًا حتى يقبض له ثم يأمره بالبيع, فإن باع وإلا باع الحاكم عليه. فرع آخر لو هب عبدًا كافرًا, ثم أسلم العبد قبل القبض هل تبطل الهبة؟ وجهان: أحدهما: تبطل بخلاف البيع؛ لأن القبض في الهبة كالقبول في البيع. والثاني: لا تبطل كالبيع. فرع آخر لو اشتراه بشرط الخيار, ثم أسلم قبل انقضاء الخيار هل يبطل البيع؟ قال والدي- رحمه الله- يحتمل قولين, أحدهما: يبطل, والثاني: لا يبطل ولهما إجازة البيع وفسخه, فإن أجازاه أجبر المشتري على إزالة ملكه. فرع آخر إذا قلنا: يجوز بيعه ويجبر على إزالة ملكه فكاتبه هل يزول الاعتراض؟ قولان: أحدهما: [ق 09 أ]: لا يزول فتفسخ الكتابة ويباع, والثاني: يزول الاعتراض, وبه قال أبو حنيفة لأنه عرضه لعين الحرية. فرع آخر لو اشترى الكافر مصحف القرآن العظيم, فإن قلنا: لا يجوز شراءه للعبيد المسلم فهذا أولى, وإن قلنا: يجوز ذلك ففي هذا قولان والفرق أن العبد يدفع عن نفسه سوء ما يراد به بخلاف المصحف ولأنه لا عرض له من المصحف إلا الابتدال وقد يقصد من العبد لخدمته واقتناؤه. فرع آخر بيع أحاديث الرسول- صلى الله عليه وسلم- من أصحابنا من قال: هو كالمصحف وقال في

"الحاوي": يجوز وجهًا واحدًا ويفسخ خوفًا من تبديلهم. والثاني: لا يفسخ لأنهم ربما استدلوا منها على صحة الإسلام ويكون سببًا للدخول فيه. فرع آخر إذا قلنا: لا يشتري مسلمًا فاشتري عبدًا مرتدًا, وقال والدي- رحمه الله- يحتمل قولين: أحدهما: لا يجوز لأن أحكامه ملحقة بأحكام المسلم. والثاني: يجوز لاستوائهما وهو كالقولين في المرتد هل يقبل بالنصراني قولان. فرع آخر لو زوج الكافر أمته من كافر فحملت منه, ثم أسلم الوالد فصار الحمل مسلمًا بإسلامه هل يجبر الكافر على إزالة ملكه فيها لأنه ممنوع من استدامة ملكه على [ق 90 ب] المسلم ولم يمكنه ذلك إلا ببيع الأم فأجبرناه. فرع آخر قال أصحابنا: لا يمنع بيع عقده الكافر من كافر سواء كان العبد صغيرًا أو كبيرًا, ويتصور ذلك إذا سباه مع أحد أبويه, وقال بعض أصحابنا: الأولى أن لا يبيع منه الصغير, وقال أحمد: لا يجوز لأنه يتشاغل بدين السيد, فيكفر وهذا غلط لأنه من أجرى عليه حكم الشرك فإسلامه مظنون فلا يراعي ذلك كما في البائع. فرع آخر لا تجوز التفرقة بين الأم وولدها في البيع, فإن فرق هل يصح البيع؟ قال بعض أصحابنا: لا يصح قولًا واحدًا, وبه قال أبو يوسف. ومن أصحابنا من قال: فيه قولان, قال في "الجديد": لا يصح, وقال في "القديم": يصح, وبه قال أبو حنيفة؛ لأن المنع لا يعود إلى البيع فأشبه البيع وقت, وهذا غلط لما روي أبو داود في سنته أن عليًا- رضي الله عنه- فرق بين الأم وولدها في البيع فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة". وأما ما ذكره لا يصح لأنه لمعنى البيع وهو ما يلحقه من الضرر بالفرقة ولا يجوز هذا برضاها [ق 91 أ]. وقال النخعي: يجوز إذا رضيت لما روي أنه فرق بين الوالدة وولدها, فقيل له في

ذلك فقال: إني استأذنتها فرضيته. فرع آخر إلى متى يكون التحريم؟ وفيه وجهان, وقيل: قولان: أحدهما: إلى أن يبلغ. والثاني: وهو الأصح إلى أن يبلغ سنتين فيقعد وحده ويأكل وحده. فرع آخر التفريق بين الولد والوالدان, فقلنا: هناك يجوز البيع فههنا أولى. وإن قلنا: هناك لا يجوز فههنا وجهان. فرع آخر يجوز التفريق بين الأخوين وسائر المحارم. وقال أبو حنيفة: لا يجوز لما روي عنه رضي الله عنه قال: وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم غلامين أخوين, فبغت أحدهما, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا علي, ما فعل غلامك؟ " فأخبرته فقال: "رده رده", وهذا غلط؛ لأن القرابة التي بينهما لا تمنع القصاص فلا تمنع الفرقة بين الأخوين كابني العمة. أما الخبر فنحمله على الاستحباب. فرع آخر التفريق بينهم بعد البلوغ يكره, ويجوز البيع. وحكي عن أحمد: لا يجوز البيع, وهذا غلط؛ لأنه انقطع حق الحضانة بالبلوغ. فرع آخر إذا باع عبدًا من عبدين بشرط الخيار ثلاثة أيام حتى يختار أيهما شاء في مدة الخيار لا يصح البيع خلافا لأبي حنيفة رحمه الله. [ق 91 ب] وقيل: هذا قول الشافعي رحمه الله عليه في "التقديم" لأن الشرع أثبت الخيار ثلاثة أيام, ووافقنا أنه لا يجوز في العبيد الأربعة ذلك فتقيس عليه. فرع آخر لو رهن جارية دون ولدها يجوز, وإذا حل الحق يباعان, فإن أراد بيع الأم دون الولد فيه طريقان؛ أحدهما: فيه قولان. والثانية: يجوز قولًا واحدًا لأنها صارت مستحقة

البيع ولا يمكن أن نكلفه مع ولدها أن يبيعها؛ لأنه لا حق له في الولد. وهكذا إذا استحق بيعها في الجناية أو في الرجوع عند الإفلاس. فرع آخر التفريق بينهما في البهيمة يكره إلا لغرض صحيح؛ لأن في طبعها نحتا على الولد، وإنما يباح عند الفرض لأن غرضها أخل. فرع آخر الوصية بالحمل دون الأم، أو بالأم دون الحمل قولان؛ لأنه لو أراد أن يفرق بين الولد والأم بالوصية لا يجوز في أحد القولين كما في البيع فالحمل مثله. فرع آخر إذا باع ثوبًا بمائة ذهب وفضة لا يصح البيع. وقال أبو حنيفة: يصح ويكون مناصفة، وهذا غلط؛ لأن قدر كل واحد مجهول لا يصح العقد عليه، كما لو قال: بعضها ذهب. فرع آخر بيع الجلالة من البهيمة يجوز وأكلها جائز؛ لأن ما رعته من الأقذار [ق 92 ب] صار في محل الأنجاس وهي طاهر في نفسه. وقيل: فيه وجه آخر. فرع آخر بيع الطنبور والعود والمزمار إن أمكن الانتفاع بها إذا فضلت يجوز ولكن يكره ذلك قبل تفصيله لبقاء المعصية فيه، وإن كان إذا انفصل لا يصلح للحطب لا يجوز. وقيل: إن لم يكن محلولاً ويصلح لمنفعه مقصودة وجهان، والأصح جوازه إمكان الانتفاع به على وجه مباح. والثاني: يجوز لأنه لا ينتفع بها على حالتها كالخبز، وإن كانت تخلل، وإن كانت محلولة ولا تصلح لمنفعة مباحة مقصود فيه وجهان؛ والأصح لا يجوز والثاني: يجوز لأنه يمكن إحراقه تحت القدر. فرع آخر بيع الشطرنج مكروه؛ لأن اللعب به ليس من الإباحات المطلقة. فرع آخر الصنم المتخذ من الحديد هل يجوز بيعه؟ وجهان: أحدهما: يجوز لأن الصنعة المحرفة كالمعدومة ويبقى حديداً له قيمة. والثاني: لا يجوز.

فرع آخر السم الذي يقتل قليله لا يجوز بيعه لعدم المنفعة، وإن كان يقتل كثيره دون قليله أو يتقل مع غيره ولا يقتل بانفراده، وهو من شيء طاهر علق الشافعي القول فيه، وخرَّجه أصحابنا على قولين: أحدهما: يجوز لقصوره على حال الأول. والثاني: لا يجوز كالأول. ومن أصحابنا من قال: يجوز بيعه قولًا واحدًا، وكذلك إن كان يصلح للدواء في ظاهر [ق 92 ب] البدن إذا لم يصل إلى الجوف أو إذا خلط بغيره من الأدوية لا يقبل ويجوز السلم فيه. ومن أصحابنا من قال: يجوز بيع قليله الذي لا يقتل دون كثيره، وهذا لا وجه له؛ لأن كل جنس جاز بيع قليله جاز بيع كثيره. فرع آخر لو اتفقنا على أنهما يظهران العقد خوفًا وتلجئة ولا يجوز بيعًا، ثم تبايعا بعد ذلك يصح البيع والاتفاق السابق على العقد لا يتبع صحة العقد. وكذلك إن اتفقا أن يتبايعا بألفٍ ويظره ألفين فتبايعا بألفين يلزم البيع ولا يؤثر فيه الاتفاق السابق. وهكذا روي عن أبي يوسف وأبي حنيفة أنه لا يصح البيع إلا أن يتفقا على أن الثمن ألف درهم فتبايعاه بمائة دينار فيكون الثمن مائة دينار استحسانًا. وبه قال أبو يوسف ومحمد؛ لأنه إذا تقدم الاتفاق صار كالهازلين بالعقد فلا يصح العقد، وهذا غلط؛ لأن الشرط السابق للعقد لا يؤثر فيه كما لو اتفقا على شرط فاسد ثم عقدا العقد لا يثبت فيه. فرع آخر لو باع عبدًا بثمن مؤجل فما سلم العبد حتى حل الأجل له الامتناع من تسليم العبد قبل قبض ثمنه، وإن لم يكن له ذلك قبل حلوله؛ لأن هذا وقت المطالبة بالثمن بحكم العقد، فصار كما لو كان حالًا [ق 93 أ] في الابتداء. وفيه وجه آخر لا سبيل له إلى الامتناع اعتبارًا بالرهن المبذول بعد البيع بلا شرط ولا امتنع الراهن من إقباضه لم يكن للمرتهن فسخ البيع. هكذا ذكره والدي رحمه الله، والثاني: وهو ظاهر مذهب الشافعي عندي. فرع آخر لو باع لحمًا على أنه لحم الميتة فإذا هو لجم المذكى، قال والدي رحمه الله: يحتمل أن يقال: لا يصح البيع لاشتراط ما لو تحقق منع البيع، ويحتمل أن يقال: يصح البيع؛ لأن الجنس واحد والعين قابلة للبيع.

فرع آخر إذا ألحق الزيادة في البيع. قال القفال رحمه الله: الصحيح أنه إن كان في زمان المجلس ثبت، وإن كان في خيار الشرط لا يثبت، لأن زمان المجلس لحالة العقد في الصرف والسلم. وقال بعض أصحابنا: الصحيح أنه لا يثبت بحالٍ، لأنه لو قال: بعتك بعشرة فقال: اشتريت بخمسة عشر لا يصح حتى يتبداء إيجاباً آخر بخمسة عشر، والزيادة في حال العقد ممتنع إلا باستئناف إيجابٍ. فرع آخر إذا اشترى شيئين تتصل منفعة أحدهما بالآخر، وقلنا في العبدين يجوز رد أحدهما بالعيب، فههنا وجهان ينبنيان على ما لو غصب فرد خف وقيمة الزوج عشرة وتلف في يده، ورجع قيمة الفرع إلى درهمين هل للمالك خمسة أو ثمانية؟ فإذا قلنا خمسة جعلنا كل فرد كعين مفردة [ق 93 ب] فيجوز كأحدهما دون الآخر، وعلى الوجه الآخر وهو قول أبي حنيفة لا يجوز؛ لأنه يرد ناقص القيمة. فرع آخر لو أن رجلين وكلا وكيلاً حتى يشتري لهما عبدًا فاشترى فوجدا به عيباً، قال ابن الحداد: لا يجوز أن يفرق في الرد؛ لأن العاقد واحد. وفيه وجه آخر يجوز؛ لأن المعقود له متعدد. وقال القفال: إن كان البائع يحلم أن وكيل رجلين فلأحدهما الرد؛ لأنه علم أنهما ربنا لا يتفقان على رأيٍ واحد، فقد رضي أن يرد عليه مُبغضًا، وإن كان اعتقد البائع أنه يشتري لنفسه أو اعتقد أنه وكيل واحد لا يفرق، لأنه ما رضي. وأصل هذا مسألة ذكرها الشافعي رحمة الله عليه في الرهن قال: إذا اشترى الرجل لنفسه ولشريكه عبدًا ورهن بالثمن عين مالٍ مشتركٍ، ثم إن أحدهما وفر نصيبه من الثمن ينفك نصيبه من الرهن في أحد القولين، وهل للبائع الخيار بسبب خروج بعض الرهن من يده قبل وصوله إلى كمال حقه؟ قال الشافعي: إن كان عالمًا بأنه يشتري لنفسه ولشريكه والرهن مشترك لا خيار، وإن كان اعتقد أنه يشتري لنفسه على الخصوص أو لشريكه وأن الراهن الواحد له الخيار. فرع آخر لو أن رجلين وكلا وكيلًا حتى باع عبدًا مشتركًا بينهما من وكيل [ق 94 أ] رجلين فيه خمسة أوجهٍ: قال ابن الحداد: لا يجوز رد البعض أصلًا بالعيب.

وقال أبو زيد المروزي: العقد متعدد من الطرفين ويجعل كل واحد من البائعين بائعًا ملكه من رجلين فلهما أن يردا على أحد البائعين نصف العبد؛ لأنه جمع ما يملكه من جهته، ولأحدهما أن يرد النصف عليهما لأنه جميع ما يملكه من جهتهما، وله أن يرد الربع على أحدهما؛ لأنه جميع ما يملك. وقال القفال: إن علما أن وكيل الشراء وكيل رجلين يجعل كل واحد منهما بائعًا ملكه من رجلين، وإن كان جاهلين بأنه وكيل شخصين فليس لأحدهما أن يرد نصيبه ولكن يجتمعان فيردان على أحدهما نصيبه؛ لأنه ليس له فيه إضرار. وقال أبو إسحاق: العقد من جانب المشتري متحد دون جانب البائع فيكون حكمه حكم الوالد يشتري من رجلين فلهما أن يردا نصيب أحد البائعين وليس لأحدهما أن يرد نصيبه عليهما. وعلى طريقة بعض أصحابنا العقد متعدد من الجانبين معاً، ويصير كل واحد منهما باع ملكه من رجلين، ولو وكلا رجلين في بيع عبدهما من رجلين آخرين أو من وكيل رجلين، فعلى الطرق كلها يصير كأن كل واحد منهما باع ملكه من رجلين. فرع آخر لو ادعى البائع هلاك البيع وأنكر المشتري [ق 94 ب] قال بعض أصحابنا، لا يقبل قوله، كما لو ادعى الغاصب هلاك المغصوب، والصحيح أنه يقبل قوله بخلاف الغاصب؛ لأن هناك لا حق للغائب أصلاً من مقابلته بخلاف البائع. فرع آخر لو أبرأ البائع عن ضمان البيع لا يبرأ بخلاف الغاصب في أحد الوجهين، والفرق أن ضمان الغاصب ضمان يد، واليد تقبل التبديل؛ لأن المودع إذا تعدى يضمن وإذا أودع عنده صار أميناً، فجاز أن يبرأ بالإبراء، بخلاف ضمان العقد؛ لأن حكم العقد لا يغير مع بقائه. فرع آخر إذا هلك المبيع قبل القبض. قال بعض أصحابنا: هل يرتفع العقد من أصله أو من وقته؟ فيه وجهان: أحدهما: من وقته؛ لأن الهلاك وجد في الحال. والثاني: من أصله؛ لأنه علة بطلانه عدم تأكده، والسبب الضعيف إذا بطل بطل بالكلية، ولهذا الكفن على البائع بالإجماع. وفائدة الوجهين في الزوائد هل ترد على البائع أم لا؟

فرع آخر هل يتصرف المشتري في زوائد المبيع قبل القبض؟ وجهان بناء على ما هلك المبيع هل ترد الزوائد إلى ملك البائع؟ فإن قلنا: تعود لا يجوز [لأن] تصرفه متردد بين أن يكون مصادقًا ملكه أم لا. فرع آخر لو اشترى عبدًا بثوب وقبض العبد يتصرف فيه وإن كان عوضه غير مقبوض، فلو باع هذا العبد [ق 95 أ] ثم تلف الثوب قبل القبض بطل البيع الأول، وهل ينفسخ البيع الثاني؟ قولان مبنيان على أن هلاك المبيع هل يرفع العقد من حينه أو من أصله؟ فإن قلنا: يرفع من أصله بطل الثاني وإلا فلا. وإن قلنا: لا يبطل الثاني وهو الأصح يلزمه رد قيمته كما لو قال شقصًا فأخذه الشفيع. فرع آخر إذا تخمر العصير قبض قبض المشتري ذكرنا قولين هل يبطل البيع أم لا؟ فإن قلنا لا يبطل فالمشتري بالخيار، فإن لم يفضخ فصار خلاً في يد البائع وسلم الخل ورضيه مضى العقد على الصحة، وإن سلمه إليه خمرًا فالقبض فاسد، فإن تخللت في يد المشتري هل يؤمر بتسليم الثمن؟ وجهان مبنيان على أن من غصب خمرًا فصار خلًا في يده هل يلزمه رده على المغصوب؟ وجهان: فإن قلنا لا يرد فههنا الخل للمشتري بحكم اليد وسقط حكم العقد. فرع آخر لو أبق قبل القبض. قيل: فيه وجه أنه يبطل البيع أيضًا، ولو كان طيرًا فطار فلو كان متوحشًا بطل، وإن كان يرجى عوده الحمام ولكن لم يكن مألوفًا فهو كالإباق، وإن كان مألوفًا لا يبطل، وإن وقع في الماء فإن كان الماء قليلًا يمكن استخراجه منه لا يبطل، وإن كان لا يقدر عليه قطعًا ولكن يرجى الوصول إليه فهو كالإباق، وإن كان في بحر لا يرجى الوصول [ق 95 أ] إليه. وإن كان أرضًا وقع عليها حل فهو كالهالك. فرع آخر لو باعه لبنًا فضة بدينار على أن وزنه مائة، فتفرقا وكان وزنه تسعين فللمشتري الخيار، وإن كان زائدًا فلا خيار له، وهل للبائع الخيار إذا قال: عندي أن الوزن مائة، فإن كذبه المشتري وقال: كان عالمًا به فلا خيار، وإن صدقه وجهين، وإن باعه وأخبر أن وزنه مائة لا على طريق الشرط فزاد أو نقص فلا خيار.

فرع آخر إذا باع مد عجوة ودرهم بمدي عجوة لا يجوز في المد الذي مع الدرهم في قدر ما يقابله من المدين لأجل الذي وفي الدرهم، وفيما يقابله من الدين قولا تفريق الصفقة؛ لأنه ليس من الدرهم والمدين. فرع آخر لو باع درهمًا ودينارًا بدرهم ودينار من ضرب واحد، فحيث لا يتفاوت قطعًا، أو صاع حنطةٍ وصاع شعير بصاع حنطة وصاع شعير من صرة واحدة، قد ذكرنا أنه يجوز، وهو اختيار الجماعة. واختيار القاضي الحسين أيضاً. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز؛ لأنَّا لا نقول يقابل الدينار بالدرهم ولكن الدينار يقابل بما يخصه من الدينار والدرهم؛ لأنه لو خرج الدينار مستحقاً وأراد أن يجيز العقد في الدرهم، أو وجده معيباً وأراد الرد لا يسترد في مقابلة الدينار، بل يسترد بعض الدينار وبعض الدرهم [ق 96 أ] باعتبار التقسيط بالقيمة. مثاله: قيمة الدينار عشرة دراهم معه درهمًا فيكون الجميع أحد عشر، فيجعل الدينار أحد عشر جزءًا من الدرهم، فيكون بين الذهب والفضة تفاوت في القيمة، فيحتاج أن يقسط الدينار على ما حصل في مقابلته من الدينار والدرهم، فإذا قسطا يؤدي إلى التفاضل، أو الجهل بالتماثل على ما سبق ذكره. فرع آخر لو ميز الصغار من الكبار في نوع واحدٍ من التمر فباع صاعًا من الصغار وصاعًا من الكبار بصاع من الصغار وصاع من الكبار فهي كالمسألة التي قبلها. وإن لم يميز وأراد أن يبيع صاعين بصاعين ولا شك أنه يشتمل على عوض على الصغار والكبار فما حكم العقد؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز إذا كان بين أجزاء العوض تفاوت عن البعض في تحقيق المقابلة، والتقسيط ويؤدي ذلك إلى الربا، هو اختيار القاضي حسين. والثاني: إن كان في كل واحد منهما صغار وكبار وكانت الصغار ظاهرة فيما بين الكبار بحيث يتبين ذلك للناظر إليه من غير تأمل لا يصح العقد، وإن لم يكن الصغار ظاهرة فيما بين الكبار بالعقد صحيح. كما لو باع أرضاً فيها معدن ذهب بذهب، فإن كان المعدن ظاهرًا لا يصح، وإن لم يكن ظاهرًا يصح. فعلى هذا يحتاج أن يفرق بين أن تكون الصغار [ق 96 ب] مختلطة بالكبار، وبين أن تكون منفردة؛ لأنه لو التقط الصغار من الجملة وميزها عنها ثم باع الصغار والكبار بالصغار والكبار، فيكون الحكم على ما تقدم ذكره.

والفرق أن عند التمييز كل نوع مقصود في نفسه، وعند الاختلاط بالجملة مقصودة، وكل نوع في نفسه غير مقصود ويظهر تمثيله، وهو أن الاختلاط لو باع صاعين بدرهمين ثم خرج أحد الصاعين مستحقًا لا يسترد بإزائه درهمًا، وإنما يسترد ما يقابله باعتبار القيمة، وأصحاب أبي حنيفة يلزمون هذه المسألة فيقولون، إن خلط الصيحاني بالبرني، أو الكبار بالصغار ثم باع صاعًا، بصاع يجوز عند ......... ولو أفرد كل واحد ثم باع المفرد من جانب آخر لا يجوز. وهذا مشكل وإن سلمنا والصحيح ما ذكرنا. فرع آخر إذا قال المشتري أسقطت الأجل لا يسقط في أصح الوجهين حتى لا يكون للبائع مطالبة في الحال؛ لأن إسقاط الصيغة لأي جوز مفردًا كما لو كان في ذمته دينار صحيح فقال صاحب الدين أسقطت الصحة وجعلته قراضة. فرع آخر لو قال: بعتك إلى شهر ثم قبل المقبول أبطل الأجل وجعله حالًا يبطل الإيجاب بالكلية، حتى لو قال المشتري قبلت لا يتم العقد؛ لأن الإيجاب وحده ليس بواجب فضعف حكمه، فإذا وقع على صفة [ق 97 أ] لا يحتمل التغيير، فإذا غير سقط مقتضاه، وهكذا لو قال: بعتك على أنك بالخيار، ثم قال قبل القبول: أسقطت الخيار بطل الإيجاب. فرع آخر لو كان له دين حال فأوصى أن يؤجل إلى مدة لزم في حق الورثة؛ لأن التبرع بعد الموت يلزم كالوصية بالمنفعة بخلاف العارية. فرع آخر لو قال: إن سفي الله مريضي فللَّه عليَّ أن لا أطالبه إلى شهر، فهو كما لو نذر عيادة المريض وتشييع الجنازة فيه وجهان. فرع آخر لو قال لسقَّا اسقني الماء فناوله الكوز فوقع من يده وانكسر قبل الشرب، فإن كان بلا عوض لا يضمن الماء؛ لأنه بالإباحة، والكوز مضمون لأنه عارية في يده. ولو شرق عوضًا أو أطلق والإطلاق يقتضي العوض للعادة فالماء مضمون؛ لأنه أخذ العوض والكوز مضمون دون الماء، كما لو استعار إلى مدة فانقضت ثم تلف في يده قبل أن يرد، وإن كان بالعوض لا يضمن بقية الماء؛ لأن المأخوذ على العوض القدر الذي شربه، فيكون الباقي أمانة. وعلى هذا لو لأخذ ملك غيره ليشتري نصفه فهلك لا يضمن النصف

الآخر، لأنه لم يقبضه بشرط الضمان. فرع آخر في حد الثمن وجهان: أحدهما: النقد الغالب، وبه قال أصحاب أبي حنيفة؛ لأن الناس في عرفهم لا يعرفون الثمن إلا النقد، وإذا أخذ [ق 97 ب) النقد عن العقد يسمونه معاوضة ومقايضة. وقال القفال رحمه الله: حد الثمن ما ألصق به الثمين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم قال في خبر الربا: "ولكن الذهب بالورق بالذهب" وكلامه لا يخلو عن فائدةٍ ولو اقتصر على قوله، لأنه من فائدته، وذلك بيان الثمن من الصيغة، فإذا باع الذهب بالورق فالورق ثمن، وإذا باع الورق بالذهب بالذهب ثمن، وعلى هذا لو قال: بعتك هذه الدراهم، بهذا الثوب، فعند عامة أصحابنا الثوب مبيع والدراهم ثمن. وعند القفال الثمن الثوب والدراهم مبيعة. وإنما باع أحد النقدين بالآخر فعند عامة أصحابنا ليس في العقد مبيع، وعند القفال الذي خلا عن الباء مبيع. وإذا باع أحد النقدين بالآخر فعند عامة أصحابنا ليس في العقد مبيع، وعند القفال الذي خلا عن الباء مبيع. وإذا قال: بعتك هذا العبد بهذا الثوب ليس في العقد ثمن، وعند القفال ما اتصل به الباء ثمن. ولو قال: اشتريت مائة درهم في ذمتك بهذا الثوب فالثوب مبيع والدراهم ثمن، ويجوز أخذ العوض عن الثمن في أحد القولين. وعند القفال الثوب رأس مال والدراهم مسلم فيها. وإذا جوزنا السلم في الدراهم لا يجوز التصرف فيها قبل القبض. ولو قال: بعتك كرّ حنطة في ذمتي بهذا الثوب وذكر صفات الحنطة فالحنطة مسلم فيها بلا خلاف. ولو قال: بعتك هذا الثوب بكر حنطة في ذمتك، فليس في العقد ثمن، ولكن الثوب رأس المال، والحنطة مسلم فيها، ويعتبر قبض الثوب في المجلس، وعند القفال الثوب مبيع والحنطة ثمن، فيجوز الاستبدال عن الحنطة إذا جوزنا الاستبدال عن الثمن قبل القبض، ولا يعتبر قبض الثوب في المجلس. ولو قال: بعتك هذه الدراهم بثوب في ذمتك، فإن قلنا بالمذاهب فالدراهم ثمن والثوب مسلم فيه. وعند القفال الثوب هو الثمن ويجوز الاستبدال عنه قبل القبض والدراهم مبيعة. فرع آخر لو صالح من الدين على ثوب موصوف في الذمة، فإن لم يعين في المجلس فالعقد

باب السلف والرهن

باطل؛ لأنه بيع دين بدين. ولو عين في المجلس فيه وجهان: أحدهما: يصح؛ لأن المجلس كحالة العقد في الحكم والتعيين فيه كالتعيين عند العقد. والثاني: لا يصح؛ لأن حالة المصالحة كان ديناً فيكون دينٍ بدينٍ، ويخالف ما لو أسلم دراهم مطلقة في شيء وأحضر في المجلس يجوز؛ لأن هناك لم يسبق لأحد البدين حكم الدينية، وههنا أحد العوضين دين قبل العقد والله أعلم. باب السلف والرهن [ق 98 ب] قال: أخبرنا سفيان، وذكر الخبر. وهذا كما قال: السلم والسلف واحد يقال: سلف وأسلف، وأسلم يجيء فيه سلم، ولكن الفقهاء لا يستعملونه، وكل ذلك بمعنى واحدٍ، وعقد السلم جاز وهو أن يسلم عوض حاضر بعوضٍ موصوف في الذمة إلى أجل معلوم أو حال على بينة. والأصل في جوازه الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البَقَرَة: 282] وأراد به المسلم؛ لأن الدين إلى أجل لا يكون إلا فيه، وروى الشافعي رحمة الله عليه بإسناده عن ابن عباس رضي الله عنه أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى قد أحله الله تعالى في كتابه وأذن فيه، ثم قرأن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البَقَرَة: 282]. وأما السنة فما روى الشافعي رحمة الله عليه بإسناده عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في الثمن السنة وربما قال: والسنتين والثلاث فقال: "من أسلف فليسل في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم". وروي عن أبن أبي أوفي - رضي الله عنه - قال: كنا نسلف على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - في الطعام [ق 99 أ] والتمر والزبيب والشعير. وأما الإجماع فلا خلاف بين المسلمين فيه، وهذا لأن للناس حاجة إلى ذلك؛ لأن أرباب الضياع والثمار يحتاجون إلى الإنفاق وقد لا يجدون النفقة، فجوز لهم السلم ليسترفقوا به ويرتفق المسلم بالاسترخاص. وروي عن سعيد بن المسيب - رحمة الله عليه - رواية شاذة أنه أبطل السلم وهو خلاف وعندي أنه لا يصح عنه.

مسألة قَالَ: "وَقَدْ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الرَّهْنِ وَالسَّلَمٍ فَلَا بَاسَ بِأَخْذِ الرَّهْنِ والحَمِيلِ فِيهِ". وهذا كما قال: يجوز أخذ الرهن بالمسلم فيه وكذلك الحميل وهو الضامن، فإن لم يؤد بيع الرهن المرهون بحبس الأثمان، ثم اشترى منه المسلم فيه. ولا يجوز أن يباع الرهن بحبس المسلم فيه إلا بالرضا وكذلك يطالب الضامن إن شاء. وقال سعيد بن جبير، والأوزاعي: لا يجوز أخذ الرهن والضمين فيه، وهذا غلط لقوله تعالى: {إذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} [البقرة: 282] إلى أن قال: {فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] فأجاز الرهن في المداينة فيدخل فيها السلم، ولأنه حق ثابت في الذمة فجاز أخذ الرهن به كالثمن في المبيع، وكما جاز أخذ الرهن به جاز أخذ الضمين به كالثمن. وروي عن ابن عباس، وابن عمر - رضي الله عنهم - أنهما قالا: لا بأس بالرهن والحميل [ق 99 ب] في السلف. فرع لو دفع به ضامنًا ثم هو دفع الحق إلى الضامن عند المحل، فإنه جعله رسولًا جاز، وإن قال: حد هذا قضاء من ضمانات لم يجز، ولو تلف في يده يضمن لأنه أخذه على طريق البدل. فرع آخر لو تفاسخا السلم وكان أخذ بالسلم رهنًا لم يكن له حبس الرهن لاسترجاع رأس المال، وقال أبو حنيفة - رحمه الله - له ذلك. وهذا غلط لأنه لم يرهن به ولا يجوز حبسه له. فرع آخر اختلف أصحابنا في السلم هل هو غرر؟ على وجهين: أحدهما: لأنه ليس بغرر كبيع العين. والثاني: أنه غرر كالإجارة لأنه على معدوم وهو الأظهر. فرع آخر لو عقد السلم بلفظ البيع كقوله: بعتك هذا الدينار بقفيز حنطة موصوفة هل يكون بيعاً أو سلماً؟ وجهان: أحدهما: يكون سلمًا بلفظ البيع فيعتبر فيه القبض في المجلس، وهذا أصح كما في

العبة بشرط الثواب اعتبرنا المعنى وهو البيع دون اللفظ، ولهذا سماه الشافعي تارة سلمًا وتارة بيعًا في هذا الكتاب، فدل أنه اعتبر المعنى. وقيل: نص على هذا في الإملاء. والثاني: يكون بيعًا ولا يصير فيه القبض في المجلس لأنه للسلم اسمًا هو أخصُّ من هذا. مسألة: قَالَ: "وَإذَا أَجَازَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم السّلفُ فِي التَّمرِ السَّنَتَيْنِ [ق 100 أ] [وَالتَّمْرُ] قَدْ يَكُونُ رُطْباً". الفصل: وهذا كما قال: يجوز السلم في الرطب قبل أوانه، ويجوز في كل معدوم إذا كان مأمون الانقطاع في محله، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، وقال الثوري، والأوزاعي، وأبو حنيفة: لا يجوز حتى يكون جنسه موجوداً حال العقد إلى حين المحل، وقال مالك في رواية: يجوز في الموجود من العقد وحين المحل، وإن عدم في الوسط. واستدل الشافعي - رحمه الله - على مذهبه بالخبر الذى ذكرنا، وذكر وجه الاستدلال بعبارة شافية على ما ذكر في المختصر، واختصاره أنه صلى الله عليه وسلم لما أجاز السلم في الرطب مضموناً في غير حينه الذي يطيب فيه بأن يسلف فيه سنتين دل على جوازه في المنقطع، وأما السلم حالًا لا يجوز عندنا إلا أن يكون موجودًا عند العقد لأنه عقب العقد التسليم بخلاف السلم مؤجلًا. مسألة: قَالَ: "فَإِنْ فَقَدَ العِنَبَ أَوْ الرَّطَبَ". الفصل. وهذا كما قال: إذا أسلم فيما لا يعم وجوده في جميع السنة كالفواكه والرطب فانقطع في البلد الذي أسلم فيه، فإن أصابته جانحة فأتلفته أو توانى في التسليم حتى فني، اختلف قول الشافعي - رحمه الله - فقال في أحد القولين، ينفسخ السلم ولا يتوقف على الخيار، والفسخ، كما لو باع عبدًا فتلف في يده [ق 100 ب] قبل التسليم؛ ولأنه إذا أسلم في الثمر وجعل المحل الوقت الذي يوجد فيه تلك الثمرة في العادة فالمبيع جزء من ثمرة هذه السنة، وإذا ابتدأ في تلك السنة فقد فاتت الجملة التي البيع جزءًا منها فبطل العقد، كما لو اشترى قفيزًا من صبرة تلفت الصبرة انفسخ العقد، وقال في القول الثاني: لا ينفسخ بل المسلم بالخيار إن شاء أنظره إلى عام قابل، وإن شاء فسخ العقد واسترجع رأس المال؛ لأن وقت الاستيفاء دخل، وقد تعذر الاستيفاء وهذا أصح، وبه قال أبو

حنيفة وهذا لأن العقد معقود على رطب موصوف في الذمة، وإذا انقطع رطب هذه السنة تأخر المعقود عليه عن وقت المحل، وذلك لا يوجب انفساخ العقد. كما لو غصب العبد المبيع أو أبق من يد البائع ينفسخ البيع، وهكذا لو مات المسلم إليه فحل الحق قبل مجيء وقت الرطب فعلى القولين، فإن قلنا: ينفسخ رد عليه الثمن بأن كان قائمًا أو بدله إن كان تالفًا، وإن كان له مثل، فإن أنظره إلى قابل طالبه في ذلك الوقت، بما أسلم فيه، وله الرجوع عن الأنظار بعده واختيار الفسخ، لأنه التأجيل تبرع لا يلزم، وعلى هذا لو أبق المبيع قبل القبض فرضي بترك الفسح، ثم أراد الفسخ له ذلك؛ لأن تسليم المبيع واجب في الحال وتبرع [ق 101 أ] بترك مطالبته بحقه في الحال فله أن يعود إلى حقه. وقيل فيه: لا يجوز الرجوع عنه في السلم، وقال في "الحاوي" في هذا الخيار وجهان: أحدهما: على الفور كالعيب. والثاني: ممتد إلى ثلاثة أيام، كما قلنا في الخيار عند تلقي الركبان وهذا غريب، ولو وجد به ونفذ البعض مثل أن يسلم في كرّين فقبض أحدهما وفاته الآخر هل ينفسخ فيما بعد؟ قولان، فإن قلنا: لا ينفسخ ففيما قبض أولى أن لا ينفسخ ويكون المشتري بالخيار بين الفسخ، فإن آخر فلا كلام وإن اختار الفسخ نظر، فإن فسخ في الكل فعليه رد ما قبضه من الرطب إن كان قائمًا وبدله، إن كان تالفًا ويسترد الثمن على ما ذكرنا، وإن اختار الفسخ في غير المقبوض فهل له ذلك؟ فيه قولان بناء على تفريق الصفقة وإن قلنا: يفرق كان له ذلك، وإذا قلنا: يفسخ فيما بعد فهل يفسخ فيما قبض فيه طريقان: أحدهما: لا يفسخ قولًا واحدًا، لأنه فساد طرأ بعد القعد وقبل القبض. والثاني: فيه قولان، فإن قلنا: يفسخ في الكل فقد انقضى حكمه، وإن قلنا: لا ينفسخ فالمشتري بالخيار بين أن يرد أو لا يرد، فإن رد فلا كلام وإن أمسك فبكم يمسكه؟ قولان: أحدهما: بكل الثمن. والثاني: فيه قولان: فإن قلنا: يفسخ في الكل فقد انقضى حكمه، وإن قلنا: لا ينفسخ فالمشتري بالخيار بين أن يرد أو لا يرد، فغن رد فلا كلام وإن أمسك فبكم يمسكه؟ قولان: أحدهما: بكل الثمن. والثاني: بحصته من الثمن [ق 101 ب] وهو الصحيح، فإذا قلنا بحصته هل للبائع الخيار؟ وجهان: وقد ذكرنا من قبل، وقيل: إذا نفذ بعضه في ثلاثة أوجه: أحدها: في الكل باطل. والثاني: في الوجود جائز، وفي المعدوم باطل وللمسلم الخيار، فإن أجاز يجزه بحصته في الموجود من الثمن قولًا واحدًا ولا خيار للمسلم إليه وجهًا واحدًا.

والثالث: السلم في الكل جائز، والسلم بالخيار إن شاء فسخ في الكل وإن شاء أقام على الكل، فيأخذ الموجود ويصبر على قبل القبض. والثاني: فيه قولان، فإن قلنا: ينفسخ في الكل فقد انقضى حكمه وإن قلنا: لا ينفسخ فالمشتري بالخيار بين أن يرد أو لا يرد، فإن رد فلا كلام وإن أمسك فبكم يمسكه قولان: أحدهما: بكل الثمن. والثاني: بحصته من الثمن وهو الصحيح، فإن قلنا بحصته هل للبائع الخيار وجهان، وقد ذكرنا من قبل على المعدوم، فإن أراد أن يأخذ الموجود ويفسخ في المعدوم فيه قولان، وإذا جوزنا فهل يجوز بكل الثمن على ما ذكرنا. وإذا تقرر هذا صفة الانقطاع إعواز الرطب في البلد الذي وقع العقد فيه وليس من شرط الانقطاع إعوازه في سائر البلدان إذا قل ما يعوز في البلدان كلها ولو أعوز في بلد العقد وكان موجوداً على القرب بحيث لا يتعذر تحصيله ونقله إلى أقرب مسافة [ق 102 أ] فليس في حكم المنقطع وهذا كإعواز البلد الدية والانتقال إلى الذهب والفضة إنما يشترط في ذلك البلد وما قاربه وقيل في حد القرب وجهان: أحدهما: دون مسافة القصر. والثاني: من مسافة إذا خرج إليها في أول النهار ويعود إلى منزله في آخر النهار ولا يحتاج أن يبين في غير منزله، ولو كان يوجد في يد بعض الناس ولكن لا يبيعه كان انقطاعًا، ولو كان يبيعه بثمن غال لا يكون انقطاعًا. فرع لو كانت موجودة في ناحية أخرى يأتي منها، فإن كان الغرض لا يختلف أجبر على قبوله، وإن كان يختلف لا يجبر على القبول. وهل يثبت حكم الانقطاع؟ وجهان بناء على أنه لو أسلم في نوع آخر من ذلك الجنس هل يجوز قبوله؟ وجهان، فإذا قلنا يجوز لا ينفسخ ولكن له الخيار. فرع آخر لو حدث بعد العقد ما يقطع بأنها لا توجد عند محله هل يبطل السلم؟ قولان مخرجان، ذكره الصيمري. واعلم أن فيما نقل المزني رحمه الله خلافًا ظاهرًا، وذلك أنه نقل عن الشافعي رحمه الله أنه قال: فإن نفذ الرطب حتى لا يبقى منه شيء بالبلد الذي أسلفه قيل: للمسلف الخيار بين أن يرجع بما بقي من سلفه بحصته أو يؤخر ذلك إلى رطب قابل. وقيل: ينفسخ [ق 102 ب] بحصته. فصورة المسألة في انقطاع الجميع، وأجاب عن انقطاع البعض وكان من حقه أن

يذكر القولين في انقطاع الجميع كما ذكرتهما ثم يشتغل بالمسألة الثانية التي منها تبعيض الصفقة، إذ لا يتصور في انقطاع الكل ما ذكر المزني من تفريق الصفقة والرجوع بالحصة. ثم اعلم أنه قال: "ونَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَكِيماً عَمَّا لَيسَ عِنْدَهُ وَأجَازَ السَّلَفَ". فدل على أنه نهى حكيمًا عن بيع ما ليس عنده إذا لم يكن مضمونًا مع الأعيان، وقصد الشافعي رحمة الله عليه به الجمع بين الحديثين فإن ظاهرهما الاختلاف، فبين أنهما غير مختلفين؛ أحدهما: حديث حكيم بن حزام، والثاني: ما ذكرنا في أول الكتاب وخلاف ظاهر الأول؛ لأنه بيع ما ليس عنده إذ الرطب لا يبقى سنتين، فحمل خبر حكيم على بيع العين فلا يجوز أن يبيع عينًا مجهولةً ليس عنده؛ أي ليست في ملكه. وحمل الخبر الثاني على ما ورد فيه وهو السلم المضمون. ويحتمل أن يكون قصد الشافعي رحمه الله إبطال مذهب أبى حنيفة رحمه الله حيث قال: لا يجوز السلم في المنقطع صحيحًا، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم حكيمًا عن بيع ما ليس عنده فحمله الشافعي على بيع الأعيان لا على بيع الصفات، بدليل خبر ابن عباس رضي الله عنهما [ق 103 أ] فإنه مشتمل على جواز السلم في المنقطع على ما ذكرنا. مسألة: قَالَ: "وَإِذَا أَجَازَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصِفَةٍ مَضْمُونًا إِلَى أَجَلٍ كَانَ حَالًّا أَجْوَزَ". الفصل: وهذا كما قال يجوز السلم حالًا لأنه من الغرر أبعد والحظر فيه أقل، واستأنس بخبر عطاء بن أبي رباح المكي رحمه الله فإنه أجاز السلم حالًا. وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: لا يجوز إلا مؤجلًا. وقال الأوزاعي: أقل الأجل ثلاثة أيام، وروي هذا عن مالك. وقال: لا يجوز عند مالك إلا إلى أجل له موقع كالشهر وأكثر. وعند أبي حنيفة يجوز إلى أجل قريب وهذا غلط؛ لأنه نوع معاوضة ليس من شرطه التنجيم فليس من شرطه التأجيل كالبيع، ويفارق الكتابة؛ لأن العبد عن الوفاء بأداء العوض حال العقد يقينًا، ووضعت على خلاف القياس، ولهذا يشترط فيها التنجيم عندنا. فرع لو شرط أن يكون حالًا كان حالًا، ولو أطلقا العقد ولم يذكر حالًا ولا مؤجلًا اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: لا يجوز العقد؛ لأن ما يختلف الثمن باختلافه لابد من شرطه كالأوصاف. وقد نقل المزني بعد هذا فقال: "وقال في كل واحدٍ حدًا وأجلًا معلومًا أو حالًا، فنص على أنه يقول: وحالًا، وهذا لأن الغالب الأجل في السلم. ومنهم من قال: يجوز [ق 103 ب] العقد ويكون حالًا؛ لأن مقتضى العقد يقتضي الحلول، وهذا أصح وكلام الشافعي محمول على التأكيد.

فرع آخر: هل الأصل فيه التأجيل والحلول رخصة أم الأصل فيه الحلول والتأجيل رخصة؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: الأصل فيه التأجيل لانعقاد الإجماع عليه والحلول رخصة. والثاني: الأصل فيه الحلول لانتفاء الغرر فيه والتأجيل رخصة. والثالث: كلاهما سواء وليس أحدهما أن يكون أصلًا بأولى من الآخر، لقيام الدليل عليهما وجواز السلم معهما، والوجهان عند الإطلاق مبنيان على هذا. مسألة: قَالَ المُزني رَحِمَهُ اللَّه: "وَالَّذِي اخْتَارَ الشَّافِعِيُّ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهَ أَنْ لَا يُسَلِّفَ جُزَافًا مَنْ ثِيَابٍ وَلَا غِيرِهَا". وهذا كما قال: لا يجوز السلم حتى يكون المسلم فيه موصوفًا في الذمة، فإن أسلم في عين مثل أن يسلم في تمرة نخلة بعينها أو بستان بعينه بطل، وينبغي أن يكون معلوم المقدار إن كان كيلًا فبالكيل، وإن كان موزونًا فالبوزن، ويذكر مكيالًا معروفًا، فإن عين بكل رجل بعينه وكان مما يوافق مكيال الناس في العادة بطل، كما إذا قال في ثوب: مثل هذا الثوب. وكذلك لا يجوز أن يسلم في ميزان رجل بعينه، ومتى عين مكيالًا أو ميزانًا [ق 104 أ] وكان ميزان الناس ومكيالهم لم يضر التعيين، ويجوز أن يكيل به وبغيره. ومن أصحابنا من قال: يبطل السلم لجواز أن يتلف ذلك القبض به، وقد تعين ذلك للشرط. ذكره في "الحاوي". وأما رأس المال فلابد من أن يكون معلومًا، ويجوز أن يكون دينًا وعينًا، وإن كان دينًا، قال: أسلمت إليك كذا في كذا، ولابد أن يضبطه بالصفات التي يضبط المسلم فيه من قدرٍ وغيره إن كان ثوبًا أو نحوه. وإن كان نقدًا فذكر القدر وأطلق النوع جاز، وينصرف إلى غالب نقد البلد، ثم لابد من تعيينه في المجلس نقدًا كان أو غيره وقبضه في غيره. هكذا ذكره كل أصحابنا، وهو المذهب. وقال أبو العباس بن رجاء البصري رحمه الله وجماعة: لا يجوز أن يكون دينًا، لأنه يتميز كلا إلى موصوف، ويكون بيع الدين بالدين، وهذا غلط؛ لأنه إنما يحرم الدين بالدين إذا تحققت الدينية. وههنا لم يفترقا حتى صار الموصوف معينًا في المجلس في الحقيقة عين بدين، كما لو عقد الصرف على موصوفين، ثم أحضرا وإن كان رأس المال معينًا مشارًا إليه هل يفتقر مع المشاهدة إلى معرفة قدره وضبط صفاته؟ قولان: أحدهما: لابد من ذلك؛ ولأن المسلم فيه ربما ينقطع فلا يدري بماذا يطالب

البائع غير معلوم [ق 104 ب] وبه قال مالك وأحمد، وهو اختيار أبي إسحاق. والثاني: لا يجب ذلك وهو الأصح، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وهو اختيرا المزني؛ لأنه عين تناولها عقد المعاوضة بالإشارة إليها فأشبه إذا باعها. فإذا قلنا بالأول فلم يذكر ذلك لم يصح السلم، وللمسلم الرجوع في الثمن إن كان باقيًا أخذه، وإن كان تالفًا أخذ مثله أو قيمته، فإن اختلفا فالقول قول المسلم إليه لأنه غارم. وإن قلنا بالثاني فإن تم العقد فلا كلام، وإن فسخا رجع إلى الثمن، فإن كان تالفًا واختلفا فالقول قول المسلم إليه لأنه غارم. ويتفرع على هذا مما لا يجوز السلم فيه من الجواهر والجلود، هل يجوز أن يكون رأس المال على هذين القولين وقال القفال: القولين ههنا يشبهان القولين فيمن جمع بين سلم وبيع؛ لأن العلة هناك أنه ربما يفسخ أحدهما فلا يدري حكم حصته وحصة الآخر، كذلك ههنا ربما يفسخ السلم فيحتاج إلى معرفة رأس المال. وقال أبو حنيفة: إن كان رأس المال مكيلًا أو موزونًا لابد منذ كر القدر وضبط الوصف، وإن كان ثوبًا ونحوه يجوز أن يكون جزافًا. فإن قيل: قول المزني: "ولو كان درهمًا حتى يصفه بوزنه وسكته، [ق 105 أ] يوهم أن صورة مسألة القولين في دراهم يسميها المشتري ولا يعينها، وليست صورتها كذلك، لأن المشتري إذا قال: اشتريت منك قفيز حنطة بالدراهم التي في كمي كان ذلك بيع الغائب وفيه قولان. ثم إذا جوزناه والدراهم غير معلومة القدر كان سلم جزاف في موصوف، فهل يصح ذلك السلم أم لا؟ على قولين. ولا يظن الشافعي أنه زاحم مسألة السلم بمسألة بيع الغائب حتى يدخل القولان على القولين. قيل: يحتمل أن يكون معنى قوله حتى يصفه بوزنه حتى يزنه فيصير وزنه معلومًا وكان معينًا، فإذا اجتمع التعيين والوزن صح السلم وخرج عن أن يكون جزافًا في موصوف، وإذا اقتصر على مجرد التعيين من غير وزنٍ ولا إحاطة بالجودة والسكة كان سلم جزاف في موصوف، وفيه حينئذٍ قولان، ولا يجوز إطلاق لفظ الوصف والمراد به الإعلام لا الاقتصار على الوصف. فرع رأس المال في القراض لا يجوز أن يكون جزافًا؛ لأن العقد يقتضي رد مثله فيجب أن يكون المال فيه معلوم المقدار والوصف. وفي السلم يجب رد رأس المال، بل يجب تسليم المسلم فيه بمقتضى العقد فجاز جزافًا في أحد القولين. فرع آخر لو كان السلم حالًا هل يجوز أن يكون [ق 105 ب] رأس المال جزافًا فيه طريقان؛ أحدهما: قولان. والثانية: يجوز قولًا واحدًا؛ لأنه لا يتأخر التسليم ولا يخشى انفساخ العقد والتنازع في قدره بخلاف المؤجل.

فرع آخر الأجرة هل يجوز أن تكون جزافًا؟ قيل: فيه قولان. وقيل: يجوز فيه قولًا واحدًا؛ لأن الإجازة ترد على منفعة عين معينة، ولأنها كالمقبوضة حكمًا بدليل جواز التصرف فيها بأن يؤاجره من آخر خلاف المسلم فيه. فرع آخر لو أسلم في عشرة أقفزة نصفها إلى شهر ونصفها إلى شهرين خرَّجه الشافعي على قولين في المسألة قبلها. فإن قلنا رأس المال يجب أن يكون معلوم القدر والوصف لا يجوز؛ لأنه لابد من أن يكون كل نصف فيها معلومًا حال العقد؛ لأن الأجل يأخذ قسطًا من الثمن فيكون ما يخص النصف الذي إلى شهر أكثر مما يخص النصف الذي إلى شهرين. وإذا قلنا: يجوز وإن لم يصف رأس المال جاز ههنا إذا كان الثمن في الجلة معلومًا. وهكذا إذا أسلم في جنسين مختلفين صفقة واحدة كالثياب، والحيوان، والحنطة، والشعير هل يجوز؟ قولان: أحدهما: لا يجوز حتى كون ما يخص كل واحد منهما من الثمن معلوماً. والثاني: يجوز إذا كان في الجملة معلومًا. مسألة: قَالَ: "والَّذِي [ق 106 أ] احْتَجَّ بِهِ فِي تَجْوِيزِ السَّلَم فِي الحَيَوانِ". الفصل: وهذا كما قال. كل حيوان يجوز بيعه يجوز السلم فيه من الآدميين والنعم والخيل والوحوش والطيور. وبه قال علي بن أبي طالب، وابن عباس، والحسن، وسعيد بن المسيب، والنخعي رضي الله عنهم. وهو قول مالك، وأحمد، وإسحاق. وقال الثوري، والأوزاعي، وأبي حنيفة: لا يجوز فيه السلم، وروي ذلك عن ابن مسعود. وعن عمر - رضي الله عنه. روايتان. واحتج الشافعي بخبر استقراض البكر وقد مضى ذكره، وهذا لأن الخلاف في الاستقراض والسلم واحد. وذكرنا خبر عبد الله بن عمرو بن العاص أنه اشترى بعيرًا ببعيرين وما نعس إلى خروج المصدق بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي عن ابن عمر- رضي الله عنه - أنه اشترى راحلة بأربعة إلى أجل يوفها صاحبها بالربذة. والراحلة: البعير النجيب الذي يركبه أمراء الناس في أسفارهم.

(وروي) أن عليًا رضي الله عنه باع جملًا له يدعى عصيفير بعشرين بعيرًا إلى أجل. قالوا: قال عمر رضي الله عنه: إن من الربا أربابًا لا تخفي وإن عينها السلم في السن: قلنا: هذا غير مشهودٍ به، ثم أراد ما كانوا يشترطون من ضراب فحل ابن فلان ونحو ذلك. فإذا تقرر هذا فرأس مال السلم في الحيوان يجوز أن يكون حيوانًا، ويجوز أن يسلم واحدًا في عدد من [ق 106 ب] جنسه كما أسلم علي، وابن عمر رضي الله عنهم على ما ذكرنا. ثم إن المزني رحمه الله قال: "وهذا من الجزاف الحاصل في الموصوف الأجل". يعني بسلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيع علي، وشراء ابن عمر رضي الله عنهم، وقصد المزني نصرة أحد القولين في المسألة السابقة. قال أصحابنا: لا حجة فيما ظنه حجة؛ لأن الرجل إذا أسلم حيوانًا معينًا مشارًا إليه في حيوان موصوف لم يكن ذلك إسلام جزاف في موصوف، بل هو إسلام معين معلوم في موصوف معلوم إذا لم يعين الحيوان معاينة عند العقد فغلط، ولأنه ليس في هذه الأخبار أنها لم توصف أو وصفت كما ليس فيها أن المسلم فيه وصف أو لم يوصف إذا لم يكن قصد الراوي ذلك. فرع آخر لو أسلم في جارية وولدها ووصفها لا يجوز، إذ لا يتفقان على تلك الصفة فإن لم يشترط أنه ولدها ثم جاء بأمٍ وولدها على الصفة المشروطة جاز. فرع آخر لو أسلم جارية في جارية قد ذكرنا أن الأصح جوازه، ويجوز أن يطأها ويردها بحق السلم فيصير واطئًا بلا بدل كالمبيعة يطأها ثم يردها بالعيب، وهل يلزم قبوله؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه؛ لأنه يصير أخذ الثمن في موضع المثمن. والثاني: يلزمه؛ لأنه صار ملكًا له كسائر أملاكه [ق 107 أ]. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ لَمْ يَذْكُرَا فِي السَّلَمِ أَجَلًا فَذَكَراهُ قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقَا جَازَ". وهذا كما قال: قد ذكرنا أن ضرب الأجل في المجلس جائز كما في حالة العقد وذكرنا ما قال صاحب "الإفصاح" وهذا اللفظ يدل على أن الإطلاق يجوز، ويحل على

الحال. وعلى هذا لو صير الأجل أو المسلم فيه مجهولاً بعدما كان معلومًا قبل التفرق بطل البيع، ولو صير المجهول معلومًا لم يعد العقد صحيحًا؛ لأن التصرف والتغيير إنما يكون في الصحيح. فأما في الفاسد فلا يمكن البناء عليه حتى لو كان المعقود عليه معلومًا فقال: زدتك ما شئت بطل، فإن صيراه معلومًا لم يصح حتى يستقله عقد آخر. وكذلك لو أسقطا الأجل قبل التفرق سقط ولزم إن كان ذلك بعد لزوم العقد، قد ذكرنا أنه لا يلحق العقد خلافًا لأبي حنيفة. ولو بذل رهنًا أو كفيلًا بعد لزوم العقد صح، وإذا قبض لزم، ولا نقول يلحق أصل العقد؛ لأن حكمه ينفرد بنفسه. مسألة: قَالَ: "ولا يَجُوزُ فِي السَّلَفِ حَتَّى يَدْفَعَ الثَّمَنَ قَبْلَ أَنْ يُفَارِقَهُ". وهذا كما قال: من شرط صحة عقد السلم تسليم رأس المال في المجلس، فإن تفرقا قبل قبضه بطل؛ لأن البيع دين بموضوف، فإذا افترقا قبل تسليم ذلك أشبه الثمن الدين، ولا يجوز بيع الدين بالدين، ولا الكالاء [ق 107 ب] بالكالاء لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال مالك: إن قبض رأس المال بعد الافتراق بزمان قريب إلى مدة ثلاثة أيام يجوز وإلا فلا يجوز. وروي عنه أنه قال: إذا تأخر قبضه من غير شرط صح، وهذا غلط لما ذكرنا، ولأن السلم سمي سلمًا لأنه تسليم عاجل فيما لا يجب تسليمه عاجلًا، ويجوز أن يكون أجلًا فيلزمه تسليم الثمن لتحقق الربح. فرع لو قبض بعضه وتفرقا قد ذكرنا نظيره في الصرف. وقيل: فيه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: يبطل السلم في الكل؛ لأن شرط الصحة لم يوجد. والثاني: يجوز فيما قبض ولا يجوز فيما بقي، وبه قال أبو حنيفة، ولا خيار في تفريق لاصفقة، لأن افتراقهما على قبض البعض رضًا منهما بالتفريق. والثالث: لا يجوز فيما لم يقبض وفيما قبض قولان بناء على تفريق الصفقة وللمسلم إليه الخيار دون المسلم في أن يمضي العقد بالبعض أو يفسخ. وهذا أصح، ذكره القاضي الطبري. فرع آخر لو أخذ رأس المال في المجلس ثم تلف في يده قبل التفرق، هل يبطل السلم؟ فيه وجهين.

فرع آخر لو أسلم دنانير بأعيانها وتفرقا بعد القبض ثم وجدها معيبة والعيب من جنسها، فالمسلم بالخيار، ولا يجوز إبدالها قولًا واحدًا، وإن كانت الدنانير في الذمة، فإن كان قبل التفرق لا يجوز إلا ببذال، وإن كان [ق 108 أ] بعده هل يبذل؟ قولان ذكره في الفرق. فرع آخر لو أسلم ثوبًا في مائة صاع حنطة وسلم ثم تفرقا، ثم وجد به عيبًا وحدث عنده عيب آخر فأرش العيب القديم عشر قيمة الثوب يسقط عن البائع عشر الحنطة، ولا نقول في الباقي قولان على تقدير أنهما تفرقا قبل قبض عشر رأس المال، بل هو جائز في الباقي إذ لو رضي المسلم إليه بهذا الثوب المعيب لم يسقط من المسلم شيء، فدل أن قبض كل رأس المال قد حصل في المجلس، غير أن له الرجوع بالأرش إن شاء، والرجوع بالأرش هو أن يحط عنه عشر السلم. وقيل: البيوع على ثلاثة أضرب؛ منها ما لا يفتقر إلى القبض قبل التفرق في الطرفين وهو السلم، ثم ينقسم العقد على ثلاثة أقسام، ما هو بيع لفظًا ومعنى وهو بيوع العيان، ولا يفتقر إلى القبض. وما هو سلم لفظًا ومعنى وهو أن يقول: أسلمت إليك هذا في كذا فلا يصح التفرق فيه قبل القبض. وما لفظه البيع ومعناه معنى السلم، كقوله: بعتك كذا وكذا ثوبًا صفته كذا وكذا، فهذا العقد هل يلحق بلفظه أو بمعناه؟ قد ذكرناه. فرع آخر لو أسلم حالًا وأحضر المسلم فيه وسلمه في المجلس، هل يعتبر قبض رأس المال في المجلس؟ وجهان: أحدهما: لا يعتبر، لأن المعقود عليه يعين في [ق 108 ب] المجلس فالتحق ببيع العين. والثاني: لابد من قبضه؛ لأن العقد اقتضى قبض البدل في المجلس حتى لا يشبه بيع الدين بالدين وقبض المسلم فيه في المجلس لا يستحق، ولكنه تبرع به والتبرع لا يغير مقتضى العقد. مسألة: قَالَ: وَيَكُونَ مَا سُلِّفَ فِيهِ مَوْصُوفًا". وهذا كما قالك لابد فيه من ذكر الصفات التي يختلف الثمن باختلافها؛ لأنه لابد من كون المبيع معلومًا أو بالمشاهدة، أو بالصفة، ويكتفي في كل صفة بأقل ما يقع عليه

الاسم, مثل أن يقول في العبد: إنه كاتب فيلقى اسم الكتابة, فإن أتى بخير من ذلك فقد زاد خيرًا, ثم إذا كانت الوصاف معلومة عند أهل العلم بها جاز, وإن كان سائر الناس لا يعرفونها, ولا يجوز أن يختصا بعلم صفتها؛ لأنهما إذا صارا مختصين بعلم ذلك الموصوف ربما يتخاصمان عند السلم, فيقول البائع: بهذا الموصوف, ويقول المشتري: ليس على ذلك الوصف, فإذا لم يجد غيرهما من أهل العلم به ليعرف الصادق من الكاذب دامت الخصومة بينهما, والعقد إذا أفضى بالمتعاقدين إلى مثل هذا كان في الأصل باطلاً. وهو ظاهر كلام الشافعي رحمه الله عليه في ((المختصر)). قال: وأقل من يحتاج أن يعرف ذلك سواهما عدلان. وقال القفال: وهذا احتياط لا واجب, والشروط [ق 109 أ] أن يكون معلومًا عند المتعاقدين فقط, وهذا أقيس. فرع آخر لو أسلم في ثوب على صفة خرقة أحضرها حال العقد لم يصح, لجواز أن تهلك الخرقة فيكون ذلك غررًا لا حاجة به إليه؛ لأنه يمكن أن يضبط بالصفات الموجودة فيها. فرع آخر لو أسلم في ثوب ثم قال: أسلمت هذا الدينار في ثوب آخر بتلك الأوصاف, فإن كان يذكران الوصاف جاز, وإن نسي أحدهما بطل. مسألة: قَالَ: ((وَإن كَانَ مَا سُلفَ فِيهِ بِصِفَة مَعلُومَةٍ عِندَ أَهلِ العِلمِ بِهَا وَأَجَلٍ مَعلُومٍ جَازَ)). وهذا كما قال: جملة شروط السلم تسعة: أحدها: ذكر الجنس. والثاني: ذكر المقدار. والثالث: ذكر كل وصف يختلف الثمن باختلافه. والرابع: أن يكون الأجل معلومًا. والخامس: أن يذكرا موضع التسليم. والسادس: أن يكون التسليم فيه مأمون الوجود عند المحل. والسابع: أن يكون رأس المال موصوفًا في أحد القولين. والثامن: قبض رأس المال في المجلس. والتاسع: أن لا يعين فيه مكيالاً ولا صنجة, ولا يعلق المسلم فيه على

مراح بعينه أو بستان بعينه. وقيل: إن وقع حالاً يفتقر إلى أربع شرائط, شرطان في الثمن أن يكون معلومًا, وأن يقبضه قبل التفرق. وشرطان في المثمن أن يكون معلومًا بذكر القدر والصفات المضبوطة. وأن يكون عام الوجود [ق 109 ب] في محلة. وإن كان مؤجلاً افتقر إلى ست شرائط, والخامس أن يكون الأجل معلومًا, والسادس ذكر موضع القبض في أحد القولين. فإذا تقرر هذا فالكلام الآن في معرفة الأجل, ولا يكون معلومًا إلا بحد معروف. روى عبد الله بن سلام- رضي الله عنه- أن زيد بن سعنة قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد هل لك أن تبيعني تمرًا معلومًا إلى أجل معلوم من حائط بني فلان؟ فقال: ((لا يا يهودي, ولكن أبيعك تمرًا معلومًا إلى كذا وكذا من الأجل)). فإن قال شهرًا بالهلال جاز, وإن قال بالعدد جاز, وإن قال إلى رمضان أو شوال من هذه السنة أو السنة الفلانية جاز, وإن قال إلى يوم الفطر أو يوم الضحى جاز, إلا أنه يحتاج أن يقول من سنة كذا. وكذلك إذا قال: يوم الخميس من آخر هذه السنة, وإذا طلع الفجر من ذلك اليوم فقد حل السلم فيه عليه ووجب مطالبته, وهكذا إذا أهل الهلال في قوله إلى شهر كذا؛ لأن الليل من الشهر وليس من اليوم. وكذلك لو قال: عند هلال رمضان أو عند رأس شهر رمضان فذلك كله واحد. فرع آخر لو قال: إلى يوم النفر, فإن قال الأول أو الثاني جاز, والنفر الأول اليوم الثاني عشر من ذي الحجة [ق 110 أ] والنفر الثاني الثالث عشر من ذي الحجة, وإن أطلق جاز وحمل على النفر الأول, لأنه أول ما يقع عليه الاسم. ونص عليه الشافعي رحمه الله, قال: وهذا لأهل مكة لنهم يعرفونه. وقال أصحابنا: وكذلك غير أهل مكة إذا عرفوا جاز. وقال في ((الحاوي)): لا يجوز لغير أهل مكة لجهلهم به. وقيل: يجوز لأهل مكة, وجهان: أحدهما: ما ذكرنا. والثاني: لا يجوز؛ لأن خواصهم يختصمون بمعرفته والعوام يجهلونه, وعندي لا معنى لهذين الوجهين, ويكفي علم العاقدين به والخواص من الناس. فرع آخر لو قال: إلى جمادى أو ربيع يحمل على جمادى الأول أو ربيع الأول على ما ذكرنا

ونحو ذلك. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أصلاً, لأنه كلام محتمل. فرع آخر لو حده بغير شهور العرب, أو كان أشهر الفرس كذباه وبهرماه جاز, وكذلك إلى أعيادهم كالنيروز والمهرجان؛ لأنه يشترك في معرفتها المسلمون والكفار, وكذلك إن حده بشهور الروم مثل كانون ونحوه جاز. فرع آخر لو اسلم إلى العطاء أو إلى الحصاد أو الموسم لا يجوز؛ لأنه ليس للعطاء في السنة وقت معلوم والحصاد يتقدم ويتأخر على قدر البرد والحر والموسم مجهول أيضًا. وقال مالك رحمه الله: يجوز؛ لأنه أجل يعرف في العادة, ولا يتفاوت تفاوتًا [ق 110 ب] كثيرًا, فأشبه إذا قال: إلى النيروز, وهذا غلط لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ((لا تبايعوا إلى الحصاد والدباس, ولا تبايعوا إلا إلى شهر معلوم)). فإن قال قائل: روت عائشة- رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إلى يهودي: أن أبعث إلى ثوبين إلى الميسرة, فما تأويله؟ قلنا: تمام هذا الخبر أنها قالت: كان على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبان قطريان غليظان, فكان إذا تعرق ثقلا عليه, فقدم بر من الشام لفلان اليهودي, فقلت: لو بعثت إليه فاشتريت منه ثوبين إلى الميسرة فأرسل إليه, فقال: قد علمت ما تريد, إنما تريد أن تذهب بمالي, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كذب قد علم أني من أتقاهم وأداءهم للأمانة)). هكذا رواه أبو عيسى, ولا حجة فيه, لأنه لم يكن هذا في العقد. فرع آخر لو أسلم إلى فصح النصارى لا يجوز, وهو عيد من أعيادهم, نص عليه الشافعي رحمه الله. وكذلك إلى سائر أعياد أهل الذمة مثل الشعانين وعيد الملح وعيد الملح وعيد الفطير, لأنه لا يعرفه المسلمون. قال الشافعي رحمه الله: لأنهم يقدمونه ويؤخرونه على حساب لهم ويسيئون فيه أيامًا, ولا يجوز. وأما الرجوع إلى قولهم فيه: ((لأن شهادتهم غير مقبولة)): قال أبو إسحاق: فإن علم المسلمون من حسابهم ما يعلمونه [ق 111 أ] جاز لأهل العرض أن يكون الأجل معلومًا. وقال في ((الحاوي)): هذا قول البغداديين. وقال أصحابنا البصريون: لا يجوز, وإن كانوا يعلمون؛ لأنه مبني على إنشاء أيام

حرم الله تعالى إنشاءها, ومعدول به عن الأشهر الهلالية التي لم يجعل الله تعالى لأهل الإسلام علمًا إلا بها, ذكرها القفال أيضًا. فرع آخر لو قال: إلى العطاء فأراد وقت استحقاق العطاء جاز إذا كان معلومًا عندهما على وجه لا يختلف. فرع آخر لو شرط المسلم أن يطالبه به متى شاء فهو على الحلول, ولو زاد وقال: متى شاء من ليل أو نهار فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز ويبطل العقد؛ لأنه شرط الوقت عن وقت الإمكان فربما يطالبه في وقت لا يمكنه. والثاني: يجوز ويكون هذا مبالغة, فيحمل على العرف وزمان الإمكان. لو قال في الأجل يسلمه في شهر رمضان لا يجوز, كما لو قال في سنة كذا, لأنه لا يدري أنه في أول الشهر أو آخره أو أثنائه. وقال في ((الحاوي)): يبطل الأجل لقربه وإن بطل في السنة لبعده, ويحمل على أول الشهر اعتبارًا بأن العادة جارية أن يراد به أو الشهر. فرع آخر لو قال في يوم كذا لا يصح أيضًا لما ذكرنا محله الأول أو الآخر, قاله أبو حامد وجماعة. وقال القاضي الطبري [ق 111 ب] فيه وجهان, قال أكثرهم: وهو الصحيح لا يجوز. ومن أصحابنا من قال: يجوز, وهو اختيار ابن أبي هريرة لقرب طرفيه بخلاف الشهر والسنة فلا يجوز وجهًا واحدًا؛ لأن زمان طرفيه يتطاول ويتباعد فيحمل على أول اليوم, ولأن في تحديد الوقت من اليوم ضيقًا, يلحق الناس, وعرف كما فيهم استعمال هذه اللفظة في اليوم دون الشهر, فاتسع حكم اليوم وإن ضاق حكم الشرع. قال في ((الحاوي)): وهذا الوجه أصح. ومن أصحابنا من قال: في الكل يجوز, ويحمل على الأول, كما لو قال: أنت طالق في سنة كذا يصح ويحمل على أول السنة, وهذا لا يصح؛ لأن الطلاق يجوز إلى اجل مجهول, فإذا تصح تعلق بالأول وفيه نظر عندي, لأنه لو لم يكن معلومًا لما حصل الطلاق على أوله بل يرجع إلى مراده.

فرع آخر لو قال إلى مقدم الحاج كان باطلاً, وكذلك كل اجل علق بفعل مثل قدوم زيد وخروج السلطان. فرع آخر لو قال إلى رمضان فإن لم يمكنك فإلى شوال لا يجوز. فرع آخر لو قال إلى نهار يوم كذا فيه وجهان: أحدهما: طلوع الفجر كأول اليوم. والثاني: أوله طلوع الشمس؛ لأن النهار من قولهم نهر الشيء إذا ظهر, وكذلك سمي النهار نهارًا لظهور ما فيه. فرع آخر لو قال: محله في أول الشهر. قال بعض أصحابنا [ق 112 أ] بخراسان: يحتمل أنه الجزء الأول, ويحتمل أنه أراد أول آخره أو السلخ, فما لم يكن معلومًا عندهما لا يجوز, ولأن النصف الأخير كله آخر الشهر فهو مجهول. فرع آخر لو قال: إلى خمسة أو ستة أشهر انطلقت على [الأشهر] العربية ويجوز, فإن وقع العقد فبأول الهلال, فكل ما بين الهلالين شهر ناقصًا أو كامًلا, وإن وافق ذلك أثناء الهلال عد ما بقي منه مع بقية الشهر الأول ثلاثين يومًا؛ لأنه شهر عددٍ فلا ينقص عن ثلاثين يومًا. والدليل على هذا قوله تعالى: {َسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البَقَرَة: 189]. وروي أنهم قالوا: يا رسول الله, ما بال الشمس لا تنقص ولا تتغير, والهلال يبدو صغيرًا ثم يكبر ثم يصغر, فأنزل الله تعالى هذه الآية. واعلم أن أول من أرخ بالسنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فإنه حمل غليه كتاب ليشهد عليه وقد أرخ إلى شعبان, فقال: أي شعبان؟ الماضي أو الآتي الذي نحن فيه, أرخوا بالسنين. ومن أصحابنا من قال: إذا انكسر الشهر الأول يعتبر بالعدد, لأنا إذا أكملنا الأول بالثاني ينكسر الثاني أيضًا, وعلى هذا الشهر الثالث والرابع والخامس. مسألة: قَال: ((وَإِن كَانَ مَا سُلفَ فِيهِ مِما يُكَالُ أَو يُوزَنُ سُميَا مِكيَالاً مَعرُوفًا

[ق 112 ب] عِندَ العَامةِ)). وهذا كما قال: قد ذكرنا أنه يعتبر معرفة الكيل, فإن عينا مكيالاً مجهولاً مقداره مثل القصعة ونحوها لا يجوز؛ لأنه ربما يتلف فلا يتوقف على مقداره, وفي بيع العين الجوز؛ لأنه في الحال مكيل كما لو اشترى صبرة جزافًا جاز. فرع آخر لو عين بذراع اليد لا يجوز, لأنه يختلف من الناس, ولو قال: بذراعي هذا, فمن أصحابنا من قال: يجوز لتعينه ولانتفاء الجهالة عنه وهذا غلط. مسألة: قَالَ: ((وَيَكُونِ المُسَلمُ فِيهِ مَأمُون الانقِطَاعُ فِي مَحَلهِ)). وهذا كما قال: من شرط صحة السلم أن يكون المسلم فيه موجودًا عامًا يؤمن معه الانقطاع ليكون مقدورًا على تسليمه, فإذا اسلم في رطب بغدادي أو واسطي لا ينقطع ذلك في العادة, فينبغي أن يجعل المحل وقتًا يتسع فيه الرطب في العادة ولا يضيق, فلو جعل المحل أول ما يدرك الثمار أو آخر ما يدرك لا يجوز؛ لأنه يوجد نادرًا في ذلك الوقت, وربما يتعذر تسليمه. فرع هل يشترط ذكر موضع التسليم؟ قال أصحابنا: قال الشافعي رحمه الله في موضع: ((وأحب أن يذكر موضع التسليم)) , ولا يعرف موضعه, وقال في ((الأم)): لابد من ذكره. واختلف أصحابنا فيه على طرقٍ: أحدهما: هو على حالين, فإن كانا في سفر أو بادية فذكره شرط. وفيه [ق 113 أ] وجه آخر لا يشترط ويسلمه في أقرب مكان يصلح للتسليم, وإن كان في قرية أو بلدة فليس بشرط ولكن إن عين الموضع جاز, وإن لم يعين انصرف الإطلاق إلى موضع ذلك العقد. والثاني: إن كان في بادية أو صحراء لابد من ذكره؛ لأن ذلك الموضع لا يصلح للقبض, وإن كان في بلدة أو قرية فيه وجهان: أحدهما: أنه يشترط؛ لأنه ربما يتغير ذلك الموضع. والثاني: لا يشترط؛ لأن الغالب صلاح ذلك الموضع للتسليم. وبه قال أبو يوسف ومحمد. والثالثة: إن كان لحمله مؤنة يجب ذكره, وإن لم يكن لحمله مؤنة لم يجب.

وبه قال أبو حنيفة, وهو اختيار القاضي الطبري. قال في ((الأم)) في ((السلف في الحنطة)): ((ويصف الموضع الذي يقبضها فيه والأجل الذي يقبضها إليه, فإن ترك شيئًا من هذا لم يجز)). ثم قال: فكلما كان لحمله مؤنه يختلف العوض فيه فيجب شرطه بخلاف ما إذا لم يكن لحمله مؤنه لا يجب, وإن كان مؤنه فقولان: وهذا كله إذا كان مؤجلاً فإن كان السلم حالاً لا يحتاج إلى شرطه ويجب تسليمه في موضع العقد؛ لأن وجوبه فيه. فرع آخر لو شرط موضعًا فصار مخوفًا لا يلزمه قبوله فيه, وليس له تكليفه النقل على مكان آخر. وقيل له: إما أن تصبر أو تأخذ هناك. فرع آخر إذا قلنا لا يجب ذكره [ق 113 ب] فإن ذكره في غير موضع لا يبطل السلم. وقال أحمد: يبطل في رواية؛ لأنه شرط ما لا يقبضه بالإطلاق وفيه غرر؛ لأنه ربما يتعذر تسليمه في ذلك المحل. وهذا غلط لأنه لو كان تعيينه بالمكان غررًا لكان تعيينه بالزمان غررًا, وأجمعنا على خلافه. وعلى هذا لو أسلم حالاً وقلنا لا يعتبر ذكر مكان التسليم تعين مكانًا جاز؛ لأنه يحتمل التأجيل فيقبل تأخير التسليم للإحضار في موضع بخلاف ما لو باع عينًا لا يعتبر تعيين مكان التسليم. ولو عينا مكانًا يسلم فيه بطل, لأن الأعيان لا تقبل التأجيل فلا يحتمل شرطًا يتضمن تأخير التسليم؛ وإن عين مكان تسليم الثمن في البيع إن كان الثمن معينًا حكمه حكم المبيع, وإن كان في الذمة فحكمه حكم المسلم فيه. وهكذا الحكم في الأجرة وكل عوض ملتزم في الذمة؛ لأن كل ما يقبل التأجيل كالمسلم فيه. فرع آخر لو قال: سلمه إلي في أي وقت شئت في بلد كذا, فإن كان البلد واسعًا كالبصرة واقل لا يجوز, وإن [كان] صغيرًا كجدة وفي ناحيتنا مثله يجوز لقرب أماكنه. فرع آخر لو قال: تسلمه بالبصرة أو ببغداد لا يجوز للشك في شرطه. ولو قال: على أن تسلمه إلى بالبصرة وببغداد فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز للجهل. والثاني: [ق 114 أ] يجوز وعليه تسليم نصفه بالبصرة ونصفه ببغداد؛ لأن الواو

توجب التسوية والاشتراك. فرع آخر يجوز ...... في الأثمان إلا أن يسلم فيها من غير جنس الأثمان, مثل أن يسلم ثوابًا في الدراهم والدنانير, وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: لا يجوز السلم فيها لأنها لا تثبت في الذمة إلا ثمنًا, فلا يجوز أن يكون بثمنه. وهذا غلط, لأن ما جاز أن يكون ثمنًا في الذمة جاز مثمنًا في السلم. وقال بعض أصحابنا بخراسان: في المسألة وجهان. وهذا غير مشهور, وأما إسلام الذهب في الذهب, أو الفضة لا يجوز, وكذلك إسلام الحنطة في الحنطة أو الشعير. فرع آخر إذا اسلم ذهبًا في الذهب حالاً. قال القاضي الطبري: قال أصحابنا: لا يجوز أصلاً, لأن لفظ السلم يقتضي تقديم أحد العوضين واستحقاق قبضة دون الآخر, والصرف يقتضي تسليم العوضين جميعًا فلم ينعقد الصرف بلفظ السلم. مسألة: قَالَ: ((وَإِن كَانَ تَمرًا قَالَ صَيحَانِي أَو بَرَدِي)). وهذا كما قال: الكلام الآن في الأوصاف التي يضبط السلم بها ولا تفتقر إلى ذكر جميع الأوصاف, فإنه يشق وينعذر, بل يكفي ذكر الأوصاف المقصودة التي يختلف الثمن باختلافها, فإن اشترط صفة لا يختلف الثمن باختلافها نظر, [ق 114 ب] فإن كان لا يقدح في الشرائط جاز ويجعل كأنه لم يذكرها, وإن كان يقدح فلا يجوز. وبدأ الشافعي رحمة الله عليه بالتمر ولابد فيه من ذكر ستة أوصاف غير الجنس والقدر فإنهما ليسا بوصفٍ, وإنما بالجنس المعقود عليه, وبالقدر يعرف مقدار المسلم فيه: الأول: النوع, وهذا كما لو قال: هو معقلي أو طبرزدي, أو بردي, لأن الثمن يختلف باختلاف ذلك. والثاني: البلد, فيقول: برني بغداد, وبرني البصرة إبقاء لملوحة مائها. والثالث: اللون أسود أو أحمر أو أصفر. والرابع: الصغر أو الكبر؛ لأن الكبار أكثر ثمنًا والصغير اللطيف أقوى من كباره وأشد. والخامس: يذكر: جيدًا أو رديًا.

والسادس: يذكر حديثًا أو عتيقًا, فإن ذكر عتيق عام كذا كان أولى, وإن لم يذكر أجزاءه وأعطاه أقل ما يقع عليه الاسم. وقال جماعة من أصحابنا بالبصرة: لا يصح حتى يذكر عتيق عام أو عتيق عامين؛ لأنه يختلف التمر به اختلافًا متباينًا. وما قال الشافعي محمول على تمر الحجاز الذي يتقارب جميع عتيقه في الرداءة, ولا يختلف. وقال الشافعي: يقول: حادرًا أو عبلاً, يعني أجدار السمين مع الاستواء والجبل الممتلئ الضخم. قال في ((الحاوي)): ويذكر ما جفف على نخله أو جفف بعد جذاذه, فأما ما جفف على نخله [ق 115 أ] يكون أبقى, وما جفف بعد جذاذه أصفي, وهذا صحيح عندي, إلا أن تكون العادة مستقرة على أنها لا تجفف على النخلة فلا يحتاج إلى ذكره. وقال أيضًا: إذا أسلم في تمر البصرة لابد أن يذكر من تمر أعاليها أو أسافلها, فإن تمر الأعالي أحلى وتمر الأسافل أبقى, ويقول: من تمر فراتها أو بهرجها, فإن تمر الفرات أصفي وتمر البهرج أقل صفاء. وإن أسلم في الرطب يحتاج أن يذكر الأوصاف التي ذكرناها إلا الحديث والعتيق فإنه لا يقول ذلك؛ لأن الرطب لا يكون إلا حديثًا, ولا يذكر وقت الجذاذ لأن الرطب يجد أقساطًا. فرع آخر قال في ((الأم)): ((إذا أسلم في تمرٍ لم يكن عليه أن يأخذه إلا جارفًا؛ لأنه لا يكون تمرًا حتى يجف, وليس له أن يأخذه معيبًا, وعلامة ذلك أن يقول أهل البصر به إنه عيب, وليس عليه أن يأخذ فيه حشفة واحدة, ولا ما عطش فأضر به العطش)). فرع آخر قال: ولو أسلم فر رطب لم يكن عليه مذنبًا ولا بسرًا, ولا يأخذ مشدخًا- وهو ما لم يترطب- فيشدخ, ولا ناشفًا- وهو ما قارب أن يتمر- لأنه خرج من أن يكون رطبًا. فرع آخر هل يجوز في الطلع؟ وجهان, والأصح جوازه.

مسألة: قَالَ: ((وَإِن كَانَ حِنطَةً قَالَ شَامِيةٌ أَو (ق 115 ب) مَيسَانِيةٌ)). الفصل: وهذا كما قال: إذا سلم في الحنطة يحتاج أن يصفها بستة أوصاف أيضًا النوع والبلد فيقول: شامية أو بغدادية, فأرداها البغدادي, وبعدها الشامي, والواسطي أجودها, فإذا ذكر الشامية فلابد أن يقول: مجهولة أو مولدة. وقيل: مجلوب أو مولد, فالمجلوب: الذي زرع بالشام وحمل منه أو جلب منه. والمولد: الذي حمل بذره من الشام وزرع في غيره. وقيل: لا يحتاج فيها إلى ذكر النوع, فإن ذكر البلد يغني عنه, فيكفي خمسة أوصاف بخلاف التمر, وهذا غير صحيح عندي؛ لأن الشامية أنواع وكذلك البغدادية. ويذكر اللون: سمراء أو حمراء أو بيضاء, ويذكر الجدارة والدقة. قال الأزهري رحمه الله: جدارها امتلاء حبها وسمنها, يقال: غلام جداري إذا سمن وامتلأ, وهذا لأن الرقيق يختلف بذلك, ورقيق الحادي: أكثر. والرقة: أن تكون هزيلة ضامرة الجنس, وفي بعض النسخ: الرقة وهما في المعنى سواء, ويذكر عتيقًا أو حديثًا, والاستحباب أن يذكر عتيق عام كذا, أو حصاد عام كذا, وربما يمتاز حصاد عام بالاكتناز وإن لم يذكر هذا جاز. وإذا شرط هذا يشترط أن يكون أهل البصر يميزون بين حصاد ذلك العام وعام آخر. فإن لم يوجد في كل وقتٍ من تميز ذلك [ق 116 أ] لم يجز, ويذكر جيدًا أو رديًا هذه الوصاف المذكورة توجد في الحنطة ولا تكون جيدة. ومن أصحابنا من حمله على التأكيد؛ لأنه لا يلزمه قبول الردي, وهذا غريب ولا يصح؛ لأن الجودة من أظهر الأوصاف, ولو لم يذكر الجودة, ولكن ذكر أوصاف الجيد استغنى بها عن لفظ الجودة. قال: ((وَيَذكُرُ أَجَلاً مَعلُومًا أَو قَالَ حَالاً)). وقد ذكرنا ما قيل فيه. وقيل: مراد الشافعي رحمه الله تعالى: بهذا أن العقد إن كان مؤجلاً فلابد من تعميمه الأجل المعلوم, وإن كان حالاً فالمستحب لهما يفسده بذكر الحلول ليخرج عن العادات الغالبة فيما بين الناس, وهو أن السلم يعقد مؤجلاً في أغلب عاداتهم؛ لأنه جعل ذلك شرطًا. قال: ((ويكون الموضع معروفًا)) , وأراد موضع التسليم, وقد ذكرنا ما قيل فيه. وقيل: أراد به ههنا موضع الحنطة وبلدتها التي تنبت فيها, فإن البلد تختلف في ذلك وتختلف باختلافات المنابت, فلابد من ذكر منبته إذا سمى موضعًا كبيرًا يختلف ريعه غالبًا. والمعنى الأول أولى؛ لأن الشافعي ذكر قبل هذا الشامية والميسانية. وهو ذكر المكان, ويحتمل أن يقول: قوله: فإنه ذكر النسبة لا ذكر المنبت فيقوى المعنيان جميعًا بهذه اللفظة.

فرع قال في ((الأم)): والعلس [ق 116 ب] جنس من الحنطة يكون فيه حبتان في كمام فيترك كذلك لأنه أبقى له حتى يرادا استعماله ليؤكل. والقول فيه كالقول في الحنطة في أكمامها لا يجوز السلف فيه إلا أن يلقى عنه كمامه بخصلتين؛ اختلاف الكمام وتغيب الحب فلا يعرف. قال: وكذلك القول في القطنية كلها. فرع آخر قال: وكذا كل صنف من الحبوب أرز أو دخن ينقلب بوصف كما توصف الحنطة يطرح كمامه دون قشره, لأنه لا يجوز أن يباع بكمامه, وهذا نص صريح على أنه لا يجوز بيع الأرز في كمامه وهو قشرة الفوقاني. وذكره القاضي الطبري, وهكذا ذكره في ((الحاوي)). ورأيت جميع مشايخ طبرستان يفتون بجواز السلم في الأرز, وهو القياس عندي والله أعلم. فرع آخر قال في ((الأم)): ويجوز السلم في الدقيق لأنه يضبط بالصفة, وإن سلف في طعام على أنه يطحنه لم يجز, لأنه لا يعرف مكيل الحنطة في الدقيق ويحتاج أن يقبل البائع فيه ولأنه شرط فيه الإجارة والأجرة مجهولة. وقيل: لفظة في ((الأم)): ((كل حب أجزت السلم فيه أجزته من دقيقه)). وكان الداركي- رحمه الله- يقول: لا يجوز السلم في الدقيق وهو غلط. فرع آخر إذا اسلم في الدقيق يذكر أنه من طحن رحا الماء أو الدواب فإنه يختلف به, ويذكر قرب زمان الطحن وبعده فإنه يتغير ببعد الزمان [ق 117 أ]. فرع آخر السلم في السويق والنشا, هل يجوز؟ وجهان: أحدهما: يجوز كالدقيق وهو المذهب ويذكر أوصاف الدقيق إلا أنه لا يطحن إلا في أرجاء الدواب. والثاني: لا يجوز لدخول النار فيه واختلافهما به.

مسألة: قَالَ: ((وَلَا يُستَغنَى فِي العَسَلِ أَن يَصِفَهُ بِبَيَاضٍ أَو صُفرَةٍ)). وهذا كما قال: يصف العسل بخمسة أوصاف فيذكر المكان, فيقول: جبلي أو سهلي؛ لأن الثمن يختلف به. والجبلي دواء لأن النحل يرعى الحشائش الطيبة, وإذا قال: سهلي يذكر أنه من عسل البلد أو من عسل الصحراء؛ لن عسل الصحراء أصح مرعًى وأجود غذاءً. وقال في الم: لابد من ذكر المرعى لأن في موضع السعير يكون العسل دواء في موضع الأنوار من الثمار لا يكون هذا المعنى وهذا داخل فيما ذكرنا من الجبلي والسهلي ويذكر الزمان خريفي أو ربيعي أو صيفي أو شتوي, ويذكر اللون أبيض أو أحمر أو أسود ويذكر جيدًا أو رديئًا أو عتيقًا, لأنه يختلف به اختلافًا متباينًا نص عليه. وقال أبو حامد- رحمه الله-: لا يحتاج إلى هذا لأن عتيق العسل وحديثه سواء لا يختلفان والشافعي- رحمه الله ذكره تأكيدًا. فرع قال في ((الأم)) ويذكر بصفاه من الشمع, ثم إن كان قد صفاه بالشمس أجبر على قبوله [ق 117 ب] وكذلك إن صفاه بنار لينة لا يعقد الأجل, وإن صفاه بنار قوية بعقد الجزاء لا يجبر على قبوله لأن بمثل هذه النار يذوب الشمع أيضًا ويختلط به. فرع آخر قال بعض أصحابنا: ويذكر قوته ورقته, وهذا عندي تأكيد أيضًا لأن الشافعي- رحمه الله عليه- قال في ((الأم)): وإن أعطاه رقيقًا, فإن كانت رقته لحمى الزمان وشدة الحر أجبر على قبوله, وإن قالوا رقته لعيب فيه لم يجبر على قبوله. فرع آخر قال بعض أصحابنا بخراسان: يجوز المسلم في الشهد لأنه مقصود على تلك الحالة بخلاف المعجون الذي لا يمكن تعرف ما اختلاطه, ولأن الشهد على أصل الخلقة, وكلام جميع أصحابنا بالعراق وظهر النص بخلافه. فرع آخر دبس التمر والرطب الذي دخلته النار دون الماء هل يجوز السلم فيه وجهان؛ لأن دخول النار فيه لانعقاد أجزائه بها فهو كالسكر والفانيد والخبز. على هذين الوجهين,

وظاهر المذهب انه لا يجوز في شيء منها عند أهل العراق, واختيار جميع المشايخ من خراسان أنه يجوز, وقال مالك: يجوز السلم في الخبز, وهذا غلط لأنه لا يجوز في العجين وهو أقل جهالة من الخبز. فرع آخر هل يحوز السلم في الطبرزد؟ والصحيح أنه إن ضبط جاز. فرع آخر لا يجوز السلم [ق 118 أ] في الكعك الملتوت. فرع آخر يجوز السلم في الحلي حوفًا أو سمحًا ما لم يحشو بالرمل ويكون رأس المال ناضًا. مسألة: قَالَ {1): ((وَلَو اشتَرَطَا أَجوَدَ الطَعَامِ أَو أَردَأَهُ لَم يَجُز)). وهذا كما قال. هكذا ذكره الشافعي- رحمه الله عليه- ههنا, وقال في موضع آخر: ((لا خير في شيء من الأشياء أن يقول أسلم إليك في أجود ما يكون لأنه لا يتوقف على حد أجود ما يكون أبدًا, فأما أردأ ما يكون فأكرهه ولا يفسد به فيحصل في الأردأ قولان منصوصان والصحيح ما نص عليه الشافعي- رحمه الله عليه- ههنا أنه لا يجوز في الأردأ كما يجوز في الأجود؛ لأنها لفظة موضوعة للمبالغة والأجود يتقدم ذلك, والقول الثاني: يجوز لأن الخصومة في الأردأ مأمونة إذا سلم إلى المشتري حنطة رديئة ليس له أن يقول: أطلب أردئ من هذا كما يطلب الأجود, وإذا أتى بالرديء فقد وفاه حقه, وهذا غلط؛ لأن الجهل بالعقود عليه حاصل منهما لأن الأردإ غير مضبوط, وإذا انعقد على مجهول لا ينفع مع الجهالة تبرع البائع بتسليم أجود من حبات الرديء, ولهذا علل الشافعي- رحمة الله عليه- بعلة جامعة للمسلمين فقال: ولو أشرط أجود الطعام أو أردأه لم يجز لأنه [ق 118 ب] لا يوقف عليه, وقيل: من الأجود قولان وهو غريب. فرع آخر لو اشترط رديئًا قال صاحب ((الإفصاح)): إن أراد رداءة الجنس جاز, وإن أراد رداءة العيب لم يجز. وقال ابن أبي أحمد: إذا قال: رديئًا بطل السلم؛ لأن الرداءة غير مضبوطة.

قال الشافعي- رحمة الله عليه-: إذا أسلم من لبن حامض لم يجز)) لأن الحموضة غير مضبوطة. والزيادة في الحموضة نقص, وقال في الأعجف لا يجوز. فمن أصحابنا من قال: فيه قولان أيضًا وهو خلاف نص الشافعي, لأنه قال في ((الأم)): وإذا اختلف وكان شرط المشتري طعامًا جيدًا وعلى أهل العلم به, فإن قالوا جديد قيل لهم ويقع عليه اسم الجودة. فإن قالوا: نعم لزم السلم أقل ما يقع عليه اسم الصفة من الجودة. وهكذا إذا شرط رديئًا. فالرديء يلزم, وقال من قال: نعم لزم السلم في العسل أن يقول عسل صافٍ ابيض من عسل بلد كذا جيد ورديء, وقال في باب السلف في الثياب: ((ويقال في كل ما يسلم فيه جيدًا أو رديئًا)) وهذا نص بخلاف ما قاله ابن أبي أحمد, والصحيح ما ذكره صاحب الإفصاح. مسألة: قَالَ: ((وَلَو كَانَ مَا سَلَفَ فِيهِ رَقيقًا قَالَ: عَبدًا نُوبِيا)). الفصل: وهذا كما قال: إذا أسلم في الرقيق يحتاج على ستة أوصاف: النوع, واللون [ق 119 أ] والسن, والقدر, والذكورة والأنوثة, والجودة والرداءة. فالنوع: أن يقول: ((زنجي تركي سندي رومي)). واللون: اسود أبيض أسجم أصفر, إلا أن يكون من نوع لا يختلف لونه كالزنجي, فإنه لو ترك ذكر اللون فيه جاز, والسن: أن يقول: كذا كذا سنة بالغًا أو غير بالغ, ثم ينظر فإن كان بالغًا فالرجوع في سنه إليه, وإن قال الست ببالغ لا يقبل منه؛ لأنه لا حكم لقوله, فغن كان سيده عالما به رجعنا إليه, وإن كان حاسًا لا يعرف سيده سنه بالرجوع في سنه إلى أهل الخبرة يحبرون به على المقاربة, ولا يقبل قول المشتري فيه, وقد قال الشافعي {3) - رحمة الله عليه- ههنا: أو يقول أو محتلمًا وفيه نوع من الإشكال؛ لأن الغلام ربما يحتلم وهو ابن عشر سنين فيولد له ويحكم بلحوق النسب, وربما لا يحتلم حتى يراهق الخامسة عشر سنة فصاعدًا, وإذا اقتصر من ذكر السن على الاحتلام صارت السنون غير معلومة, وأيضًا الاحتلام وصف يتعذر الاطلاع عليه ولا يعرف إلا من جهة المملوك. ويستحيل قبول قوله في حق البائع والمشتري فيقول: يحتمل أنه أراد الاحتلام استكمال خمس عشر سنة, ويعبر الاحتلام عن عدد السنين إذا كان الغالب وجوده في هذا الوقت [ق 119 ب]. وأما القدر: وهو القامة يقول: رباعي خماسي سداسي. فالرباعي الذي طوله أربعة أشبار, والخماسي خمسة أشبار وهو مربوع القامة لا طويل ولا قصير, والسداسي: ستة

أشبار وهو إلى الطول أقرب ويقول: طويل القامة تامة, وهذا لأن قامة الرجل سبعة أشبار فإن كان رجلاً لا يحتاج أن يذكر الطول بالأشبار. وقيل: الخماسي الربع والسداسي الطويل, وقيل: معناه بالسن ابن خمس سنين أو ست سنين, فإن قيل: السن ذكر الشافعي الخماسي والسداسي ينطوي على ذكر السن فما بال تكرير الشافعي ذلك بقوله ووصف سنة؟ قلنا: يحتمل أنه أراد وصف السن أن يصفا خلقه أسنانه متربضة أو مسربلة بفلج أراد رد براك الإشكال على هذا, وإن حملناه على لفظة على العوام فإزالة الإشكال حينئذٍ بأن يحمل قوله خماسيًا أو سداسيًا على الأشبار, فلا يبقى الإشكال إلا في قوله: أو محتلمًا, فإن قيل: السؤال باقٍ لأنه إذا قال محتلمًا استغنى عن ذكر السن, وإذا ذكر السن استغنى عن ذكر الاحتلام على أنه أراد به خمس عشرة سنة, قلنا: إذا ذكر عدد السن وضم على ذلك ذكر الاحتلام لم يصر جمعها؛ لأن هاتين الصفتين منبهتان على معنى الكبر والصغر والقامة [ق 120 أ] والقد في غالب العادات, وإذا اقتصر على مجرد الاحتلام, فابن العشر يحتلم وهو صغير وهو ابن أربع عشرة يحتلم وهو كثير احتمل أن لا يصح العقد كما يصح إذا جمع بينهما في التسمية, فكذلك قال: ((أو محتلمًا)) ووصف سنة, وكذلك لم يدخل الألف في قوله: ((محتلمًا)) وبين وصف السن كما أدخل اللف بين الخماسي والسداسي, والمحتلم, فإن قيل: إذا جمع بينهما يذكر الاحتلام وعدد الأعوام بقي الإشكال الموقوف على وجود الاحتلام, قلنا: إذا ضم إليه ذكر الأعوام التي لا تخلو في الغالب عن الاحتلام استغنينا بظاهر الحال عن الاستقصاء في الوقت على الاحتلام. وأما الذكورة والأنوثة فلابد من ذكرها؛ لأن القيمة تختلف بذلك كثيرًا وكذلك الجودة والرداءة لابد من ذكرها من لهذا المعنى. فرع إذا أسلم في جارية فإن ذكر البكارة والثيابة كان أولى, وإن لم يذكرها لا نص فيه, وقال أصحابنا: يجوز لأن الثمن لا يختلف به اختلافًا متباينًا, فإن كان يختلف به اختلافًا متباينًا لابد من ذكره, ومن أصحابنا من أطلق, وقال: لابد من ذكرها والمشهور ما ذكرنا. فرع آخر قال في ((الأم)): ((وأحب أن يحليه فيقول: أكحل العينين أزج الحاجبين أقنى الأنف, حسن الثغر, أسود الشعر, فإن لم يذكر جاز [ق 120 ب] ويعطيه على الصفة التي لا ينسب فيها إلى العيب.

فرع آخر قال: ويذكر انه رضي بماء الخدين- يعني حسن الوجه, فإن ذكر جاز ويلزمه ذلك, إن لم يذكر جاز ويعطيه ما ليس بحسن. فرع آخر قال في ((الأم)): ويحليهم بالجعودة والسبوطة, فإن لم يفعل فلا بأس؛ لأن الثمن يختلف باختلاف الشعر اختلافا متباينا فهي كصفة حسن الوجه والملاحة. فرع آخر لو قال: في عبد أسمر مشروب بالحمرة أو صفرة فيه وجهان. فرع آخر لو قال في غلام خفيف الروح أو ثقيلها أو عذب الكلام أو حسن الخلق لا يجوز لأنه مجهول. فرع آخر لو اسلم في عبد تركي ولم يذكر النوع من الجنس من الحرري والحالي لا يجوز, ومن أصحابنا من قال: فيه قول مخرج يجوز, لأن الشافعي- رحمه الله-. قال في الإبل: وإذا أسلم في الإبل قال: من نعم بين فلان أنواعًا مختلفة مثل المهرية والأرجية لا يحتاج أن يذكر النوع ويكون السلم الخيار فيعطيه من أي نوع شاء. قال أصحابنا: وفي النعم قول آخر إذا اختلف نعم بني فلان, هكذا لابد من أن يذكر النوع فيكون كلتا المسألتين على قول, ومن أصحابنا من قال: المسألتان على النصين والتخرج لا يصح في الرقيق لا يصح في الرقيق, وإن صح في النعم لأنه تختلف الكمية بأنواع الترك اختلافًا ظاهرًا [ق 121 أ] متباينًا بخلاف النعم. فرع آخر لا يجوز أن يسلم في جارية معها ولدها على ما ذكرنا ولأنه إسلام في ولد جارية من غير موصوفة, فكان ذلك تعيينًا للمسلم فيه, ولا فرق بين أن يعين المسلم فيه بالوصف وبين أن يعين بالإشارة. وقال أبو إسحاق, فإن كان أسلم في بلد يكثر فيه الجواري ولا يتعذر وجود ذلك يجوز السلم, وهذا لا يصح؛ لأن الوجود وإن يتعذر ففيه المهني الذي ذكرناه من التعيين. فرع آخر لو أسلم في جاريتين أختين لا يجوز كما قلنا في الأم وولدها.

فرع آخر لو أسلم في الحبلى لا يصح السلم نص عليه في الأم, فسواء قلنا للحمل حكم أو لا حكم له؛ لأنه إذا لم يجز أن يشترط ولدها المنفصل منها فلان لا يجوز أن يشترط حملاً معينًا ثمنًا أولى, ومن أصحابنا من قال: إن قلنا للحمل حكم اشتراطه, وإن قلنا: لا حكم له لا يصح اشتراطه, وبه قال القاضي أبو حامد: ويفارق الولد لأنه لا يحتاج أن يصف الحمل, بل يكون تابعًا للأم وإذا كان منفصلاً يحتاج أن يصفه ويتعذر وجوده موافقًا لصفة ولا يصح, وهذا غلط؛ لأن الحمل لا يدخل في السلم إلا مشروطًا, وكذلك لا يدخل إلا موصوفًا, ووصفه يتعذر. وقال القاضي أبو حامد: لو كان لا يجوز إلا موصوفًا لم يجز أن يشتري شاة على أنها كامل [ق 121 ب] لأنه مجهول ولا يصح هذا؛ لأن الشاة إذا كانت معيبة لا يحتاج الولد إلى الشرط ويدخل في البيع من غير شرط, فلهذا جاز إلا أن يكون موصوفًا. فرع آخر لو أسلم في شاة على أنها لبون نص في ((الأم)) على قولين: أحدهما: لا يجوز لأن اتفاق الأوصاف مع أنها لبون ليس بالغالب فلا يجوز؛ لأن شرط اللبن إتباع له, ولا يجوز كما لو أسلم في ناقة معها لبن غير مكيل ولا موصوف. والثاني: يجوز لكونها ذات لبن أحد أوصافها الموجود في الغالب وهو يعتبر نوع, فجاز كما جاز أن يسلم في عبد جاز, وليس كذلك الولد فإنه ينفرد بأوصاف تخصه فيتعذر الجمع في الوجود بين المشروط من أوصافه وأوصاف أمه فلا يجوز, ولو أسلم في شاة لبون على معنى أنها تدر لبنًا يجوز, والقولان إذا كان على معنى لبنًا لأن اللبن يكون مجهولاً. فرع آخر لو شرط في الجارية أنها ماشطة نص في ((الأم)) أنه يجوز ويعطيه ما يقع عليه اسم ماشطة, وكذلك يجوز على أنها طباخة, أو خبازة وفي العبد على أنه كاتب أو حاسب أو صانع أو نجار, وله اقل ما يقع عليه الاسم المطلق. فرع آخر لو قال في عبد شاعر لا يجوز؛ لأن الشعر لا يمكن تكلفه ولا تعلمه, بل هو طبع فيبعد أن يكون [ق 122 أ] العبد بالأوصاف المذكورة مطبوعًا على قول الشعر. فرع آخر لو قال في جارية مغنية فإن كان غناء مباحًا كالقول المطلق من غير ملاهي تنضاف إليه جاز السلم, وإن كان الغناء محظورًا بالملاهي المحرمة كالعود والطنبور والطبل

والمزمار فيه وجهان: أحدهما: يجوز لأنها صنعة. والثاني: لا يجوز لأنها معصية فلم يصح ثبوتها في الذمة, ولأن في ذلك نصًا على تعليم المعاصي. وقد روى أبو أمامة- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يحل ثمن المغنية ولا بيعها ولا شرائها ولا الاستماع إليها)). فرع آخر يجوز أن يشترط أنها نصرانية, ثم إذا شرطه لا يلزمه قبول اليهودية والمسلمة. فرع آخر لو أسلم في برصاء لا يجوز؛ لأنه لا يضبط, فإن ذكر عيبًا مضبوطًا كالعورة من اليمين أو اليسار أو قطع خنصر يجوز ولا يجوز في عبد قبيح أو به ضربات ونحو ذلك. فرع آخر المسلم من أمة زانية أو عبد سارق أو قاذف هل يجوز؟ وجهان. ذكره في ((الحاوي)) والأصح جوازه كما لو شرط العور. فرع آخر لو اسلم اليهودي في عبد مسلم قال في ((الحاوي)) الأصح أنه يجوز قولاً واحدًا. وقيل: قولان كما في البيع وهذا باطل لاستقرار يده على المسلم وليس كذلك في السلم [ق 122 ب] لأنه صفة في الذمة. فرع آخر إذا جوزنا وجهان: أحدهما: لا اعتراض عليه حتى يقبضه. والثاني: يمنع من استدامة العقد وتوجه بفسخه, لأنه موصوف يملكه مسلمًا. فرع آخر إذا سلم مسلم إلى كافر في عبد مسلم قال والدي- رحمه الله- يحتمل أن لا يجوز لأنه يندر وجوده في اصح قولي الشافعي- رحمه الله عليه- لأنه لا يملكه إلا بالإرث, أو إذا اسلم في يده وذلك نادر, ويحتمل أن يجوز لأنه يجوز أن يأمر الكافر مسلمًا بقضاء دينه بعبده المسلم ويبذل له قيمته ولا يتعذر التسليم في الغالب. وهذا كما لو لزمه إعتاق

رقبة مؤمنة في الكفارة يقول للمسلم: أعتق عبدك المسلم عني على كذا, فيجوز لأن ملك الكافر يثبت عليه ضمنًا تبعًا لا قصدًا, ومن قال بالأول يقول: لا يجوز هذا, والفرق بينه وبين العتق أن العتق مزية في الأصول وثبوت الملك ههنا للكافر يؤدي إلى المزية ويرفع ذل الرق بخلاف هذا. فرع آخر لو قال: في عبد كبير أو شيخ هرم لم يجز, ولو قال: في عبد شيخ أو كهل جاز, وله أقل ما يقع عليه الاسم, ولو قال: في عبد موصوف فجاء المسلم غليه بعبد على تلك الصفة فكان أب المسلم أو جده لم يلزم قبوله لأنه لا يستقر عليه ملكه. فرع آخر لو قبضه ثم علق [ق 123 أ] قال بعض أصحابنا: وقع القبض فاسدًا ولا يعتق عليه وله رده لأنه لا يوجب عقد السلم إقباضه بخلاف ما لو اشترك ولم يعلم, ومن أصحابنا من قال: القبض صحيح ويعتق ولا رد لنفوذ عتقه ولا أرش, لأن كونه أبًا ليس بعيب في السواق يوجب نقص الثمن, ولو جاز ما قاله القائل الأول لوجب إذا علم فرضي بقبوله أنه لا يجوز قبضه؛ لأن عقد السلم لم يوجبه. فرع آخر لو كان العبد خاله أو عمًا جاز أن يقبل, وهل له الامتناع من قبوله؟ فيه وجهان: أحدهما: ليس له لأنه يقدر على بيعه. والثاني: له ذلك لأن من الحكام من يمنعه من بيعه ويحكم بعتقه. فرع آخر لو أسلم في أمةٍ موصوفة فجاء بأمة هي زوجته لم يلزمه قبولها, لأنه يبطل نكاحها فيدخل عليه نقص, وكذلك المرأة إذا أسلمت في عبدٍ فدفع إليها عبدًا هو زوجها لم يلزمها قبوله. فرع آخر لو كان العبد أخًا من الرضاعة ليس له أن يمتنع من قبوله لأنه لا يعتق في قول احد. مسألة: قَالَ: ((وَإِن كَانَ فِي بَعِيرٍ قَالَ: مِن نَعَمِ بَنِي فُلاَنٍ)).

وهذا كما قال إذا اسلم في الإبل يحتاج على ذكر خمسة أوصاف: النوع, واللون, والسن, والذكورة والأنوثة, والجودة والرداءة؛ لأن الثمن [ق 123 ب] يختلف باختلافها, ولا يحتاج على ذكر القد لأن الثمن لا يتفاوت به, فإن جاء به قصيرًا بخلاف العادة يكون عيبًا لا يلزمه قبوله, فالنوع نتاج بني فلان بختي أو تركي أو عربي, فإن كان نتاج بني فلان أنوعًا هل يلزمه تعيين النوع؟ قد ذكرنا فيه قولين, والأصح أنه يلزم ذلك؛ لأن الأنواع مقصودة فيلزمه ذكرها. والسن: رباع أو بازل أو جدع أو ابنة مخاض أو ابنة لبون, واللون احمر, أو أبيض, أو ورق, أو أسود, أو أغبش, وهو الأبيض. وقيل: سمى ........ والأورق ما بين البياض والسواد. وقيل إنه أطيب الإبل لحمًا, وقال في ((الحاوي)): ويذكر القد أيضًا أنه مربوع أو مشرف؛ لأن الثمن يختلف به, وقال الشافعي- رحمه الله عليه- ويقول شيء غير مؤذن والشيء الذي استكمل خمس سنين وطعن في السادسة, والمؤذن النافض الخلق السيئ العداه, إنه قصير العنق واليدين ضيق المنكبين. وقيل: إنه المهزول. وقيل: إنه المعيب ويقول: نفي من العيوب بسط الخلق, أي مديد القامة وافر الأعضاء كامل الخلقة. وقيل: إنه واسع الصدر. وقوله: محفز الجنبين: هو الذي انتفخت خواصره واتسعت وعظم الجوف في الإبل من المناقب المساعدة فيها, وانضمام البطن عيب فيها, وهذا [ق 124 أ] كله تأكيد ليس بشرط وهو مستحب؛ لأنها عيوب لا يلزمه قبولها معًا عند الإطلاق وقيل: محتفر الجنبين- أي عريض الهامة وقيل: واسع الجبين ممتلئ. فرع إذا قال: بازل يحمل على السنة الأولى التي يسمى فيها بازلاً فرع آخر لا بأس أن يشترط فيها عوامل أو تدور في الطحن, ولكن من طحن الدقيق أو غيره منها ما يحتاج يدور على يمينه ومنها ما يدور على يساره, وإذا ألف جهة صعب نقله إلى غيرها. مسألة: قَالَ: ((وَكَذَلِكَ الَدوَابُ يَصِفُ نِتَاجَهَا وَجِنسَهَا)). الفصل: وهذا كما قال: ((إذا أسلم في الخيل لابد من ذكر الأوصاف كما ذكرنا في الإبل, وإن كان النوع لا يختلف يجوز الإطلاق, وإن كان يختلف قولان على ما ذكرنا. ويقول:

من نتاج بني فلان خراساني أو عربي، واللون كميت أو أشقر، أو أدهم، أو أشهب، قال: فإن كان في الفرس أحب أن يصف شبيه مع لونه، فإن لم يفعله فله اللون بهيمًا، يعني لونًا واحدًا، فإن كان له شبه فهو بالخيار في أخذه وتركه والبائع بالخيار في تسليمه وإعطائه اللون بهيمًا، والشبه أن يقول أغر محجل، والأغر الذي في جبينه بياض، والمحجل: الذي يكون في بدنه أو في قوائمه بياض، وكل هذا يدل على أنه لم يجعل [ق 124 ب] الأغر والمحجل خيرًا من البهيم، لأنه قال: لا يجبر على قبوله. ولا يحتاج أن يذكر القامة ولو ذكر المحجل أو الأدهم فأتى بأغر لم يلزمه قبوله، ولا بد أن يذكر أصنافها بألعاب معلومة فيقول: قارح أو ضارع. وقال في ((الحاوي)): ذكر القد لا وجه للإحلال به فيقول: مشرف عافي أو مربوع، أي لأن الثمن يختلف به أكثر ما يختلف بجدادة الحنطة ودقتها وهو على ما قال. فرع آخر لو أسلم في فرس أبلق. قال بعض أصحابنا: يجوز وقال في ((لحاوي)): لا يجوز لأن البلق مختلف لا يضبط. فرع آخر لو ذكر حال المشي كان أولى ولو أغفله لا يضر. فرع آخر يجوز السلم في البغال والحمير ويحتاج إلى ذكر أوصافها ولكن لا نتاج لها يضاف إليه ولكن يعرف أنواعها ببلدها كالبغال الرومية والطبرية والحمر المصرية فيذكر النوع بالبلد ويذكر السن والذكوره والأنوثة والجودة والرداءة فيكفي أربعة أصناف. فرع آخر لو أسلم في بغل على أن يطحن جاز. فرع آخر السلم في الأغنام يجوز، فإن كان لها نتاج معروف فهي كالإبل، لأن لم يكن لها نتاج فهي كالبغال ويذكر فيه ضأنًا أو ماعزًا لأنه يختلف به. فرع آخر يجوز المسلم في طيور الصيد ويصفه بالنوع، والصغر والكبر [ق 125 أ] والهزال والسمن، والجودة والرداءة، فالنوع أن يقول حمام فواخت وحبارى وكراكي ونحوها والصغير والكبير وليس لها سن يعتقها. قال الشافعي - رحمة الله عليه- يقول: ناهض ويقول سمين وهزيل. قال أصحابنا: وإن كان تختلف الذكورة والأنوثة اشترط ذكرها،

وقال في البويطي: ((لا يجوز السلم في الطيور لأنه لا سن لها ولا تضبط بدرع)) وغلظ، ذكره أصحابنا ولم يذكروا هذا القول، ورأيت صاحب المهذب ذكره ولم يذكر خلافًا. مسأله: قال: ((وَيَصِفُ، الثِّيابَ بِالجِنْسِ من كتانٍ أَوْ قُطْنٍ)). الفصل. وهذا كما قال: يجوز السلم في الثياب ولا بد فيها ن ذكر ثمانية أوصاف. الجنس: وهو أن يقول: قطني أو كتاني أو إبريسمي أو قزي ونحو ذلك. والثاني: لبس البلد هروي أو بغدادي أو رازي أو مروي ونحو ذلك. والثالث: يذكر الطول. والرابع: يذكر العرض. والخامس: يذكر الرقة أوالغلظ. والسادس: يذكر الصفاقة او السماحة. السابع: يذكر الجودة أو الرداءة. والثامن: يذكر اللين أو الخشونة. فرع قال الشافعي - رحمة الله عليه- في ((الأم)) ولا يذكر مع هذه الأوصاف الوزن وهذا لأنه يتعذر اتفاق الوزن المذكور مع هذه الأوصاف إلا نادرًا وذلك يمنع [ق 125 ب [صحة السلم، وهو اختيار أبي حامد- رحمه الله- وقال بعض أصحابنا: فإن أمكن نسجه بتلك الصفة بذلك الوزن فلا يتعذر يجوز شرطه، بل يكون أولى من الإخلال به لانتفاء الجهالة عنه. وقال القاضي الطبري: عندي أنه لا يبطل بذكره، لأن الشافعي ذكر الوزن في الأواني، لأنه يتفق ولا يتعذر فكذلك ههنا. فرع آخر لا بد من القطني أن يذكر جرجاني أو طبري ونحو ذلك. وفي الكتاني لابد أن يذكر نوعه أو ذئبقي أو دمياطي ونحو ذلك. فرع آخر لو كان السلم في ثوب مقصور زاد أنه مقصور، ولو أطلق ولم يذكر اللون ولا

القصارة كان له البياض الخام الذي لم يصخ ولم يقصر ولم يغسل؛ لأنه أقل ما يقع عليه الاسم، وإن أعطاه، المغول أو المقصور جاز لأن الاسم يتناوله. فرع آخر لو أسلم في ثوب ليس مغسول لا يجوز نص عليه؛ لأن اللبس يختلف ولا يضبط. فرع آخر لو أسلم في ثوب ملون، فإن كان ما صبغ غزله ثم نسج يجوز، وإن كان مما صبغ بعد النسج لا يجوز، والفرق أنه إذا شرط أن يصخ بعده فهو إسلام في شيئين: أحدهما: في الثوب. والثاني: في الصمغ فمجهول لا يعرف، ولأن الصبغ بعد النسج يمنع الوقوف [126 أ] على صفاقة الثوب ورقته؛ لأنه يغير صفة الثوب ولا يمنع من ذلك صبغ الغزل، وإذا جاز لابد من أن يذكر اللون من سواد أو حمرة، أو خضرة، وقال في ((الحاوي))؛ يجوز في المصبوغ بكل حال إلا أن يسلم فيه بياضًا على أن يصبغه المسلم إليه فيبطل؛ لأنه عقد سلم مشروط يإجارة، وهذا غريب. فرع آخر لو أسلم في غزل موصوف على أن يعمله له ثوبًا لم يجز من قبل أن صفة الغزل لا تعرف في الثوب، لأنا كان الثوب موصوفًا فأهرقت صفته. فرع آخر لو أسلم في الثياب المنقوشة كالسقلاطون والحلل والديباج لا يجوز؛ لأن ضبط نفسها يتعذر. فرع آخر يجوز السلم في الإبراد والعنابي؛ لأن تخطيطها مضبوط وهكذا الثوب الحيرة وعصب اليمن بعد ذكر عينه ووصف تخطيطه في صفته وسعته. فرع آخر لو أسلم في ثوب منسوج من جنسين من الغزل تكون لحمته قطنًا وسداه إبريسمًا أو كتانا كالعنابي الذي يعمل بنيا بور لا يجوز للجهل بمقدار كل واحد منهما وكلاهما مقصود هكذا ذكره جماعة أصحابنا.

وقال القاضي أبو علي البندنيجي، قال في ((الأم)): لو أسلم في ثوب مختلف الغزل جاز، وقال أصحابنا: لا يجوز ما ذكرنا فهو كالغالب والمذهب ما ذكره الشافعي [ق 126 ب]؛ لأنه نص على جواز السلم في الخز وهما غزلان قز وخز، ويفارق الغالية لأن كل خط منها مقصود ولا يتميز بعضها من بعض، فلا يمكن ضبطها بالصفة، وههنا يتميز بعضها عن بعض ولا يمكن ضبطها هكذا، ذكره الشيخ أبو الحسن المحاملي فحصل قولان مخرجان، وهذا أصح عندي، وقال في ((الحاوي)): أبطل بعض أصحابنا السلم في الخز للجهل بأصل الخز، وأنه لا يدري من أي شيء يوجد، وقال الجمهور: لأن أصله عند أهله معروف وعلى هذا إنما يجوز إذا كان الثوب كله سدان وحد ولهذا يتعذر، ولا يجوز السلم إذا كان السدي إبريمًا من غير جنسه لاختلاطه بغيره. فرع آخر السلم في الثوب الوشي. قال ههنا: يقول وشي إسكندراني أو يماني، وقال في موضع آخر: إذا أسلم في وشي لم يجز حتى يكون للوشي صفة يعرفها أهل العدل من أهل العلم بها ولا خير في أن يريه، خرقة ويتراضيا بها على يدي عدل يوفيه الوشي عليها إذا لم يكن الوشي معروفًا؛ لأن الخرقة ربما تهلك فلا يعرف الوشى. فرع آخر لو كان الثوب منقوشًا بالإبر، فإن كان يعمل عليه من جنسه مثل أن يكون الثوب إبريسمًا يعمل عليه من جنسه بالإبريسم يجوز، وإن كان يعمل عليه بغير جنسه مثل أن يكون [ق 127 أ] الثوب من قطن أو كتان ويعمل عليه بالإبرسيم لا يجوز كالقرقوني، كما لا يجوز في العالية، وعبر بعض أصحابنا عن هذه المسألة بأنه لو أسلم فيها مطرزة، وقال: فإن كان الطرز منسوجة منها جاز، وإن كانت مركبة عليها لا يجوز لامتيازها عن الثوب بخلاف الصبغ. ومن أصحابنا من قال: يجوز كما يجوز في المصبوغ ذكره في الحاوي. فرع آخر يجوز السلم في اللبود والأكسية إذا وصفت ولا يجوز في الزلابي المنقوشة. فرع آخر يجوز السلم في القميص والسراويل إذا وصف جنس الثياب وقد القميص والسراويل.

فرع آخر لا يجوز السلم في الجباب والقلانس لما فيها من الحشو والأجناس المختلفة. فرع آخر السلم في الكاغد هل يجوز قال ((الام)): يجوز السلم في القراطيس ولا احسبها إلا مضبوطة لأن ضبطها أصح من ضبط الثياب أو مثلها. وقيل: إنه قال فيه: وإن كانت القراطيس تعرف بصفة كما تعرف الثياب بصفة من درع وطول وعرض ورقة وغلظ واستواء صنعة أسلف فيها على هذه الصفة. وقال جميع أصحابنا: يجوز السلم فيها ويحتاج أن يصفها ببلده لأنها تختلف بذلك ويجوز السلم فيها دسوتا ولو شرط فيها الوزن كان أولى، ورأيت عن بعض أصحابنا [ق 127 ب] وجهًا أنه لا يجوز السلم فيها وزنًا لا غير، لأن كانت من الظهور المصروة لا يجوز السلم فيها لاختلافها فإنها لا تضبط صفتها. مسألة: قَالَ: ((وَهَكَذَا النُّحَاسُ يَصِفُهُ أَبْيَضُ أَوْ شَبَه)). وهذا كما قال السلم في الرصاص والنحاس والصفر جائز، ويحتاج إلى أربعة أوصاف بعد ذكر الجنس والوزن النوع واللون والجودة والرداءة والخشونة والعومة فيقول في الرصاص قلعي أو سرب يعني .... أسود أو أبيض في النحاس الصفر ..... ويجوز أيضًا في الحديد، ويذكر هذه الأوصاف ويزيد فيها ذكرًا أو أنثى فالذكر الفولاذ، والأنثى اللبن الذي يتخذ منه الأواني ونحوها، إن كان جنس الذكر يختلف ويتباين وكذلك الأنثى يلزمه تعيين ذلك، وقال بعض أصحابنا: لا يجوز السلم في الصفر لأنه أخلاط تجمع وتسبك. وهذا لا يصح لأنه وإن كان أخلاطًا فهي مقدرة إن زيد فيها أو نقص فسدت. قال في الحاوي: وهكذا في جوهر الزجاج وجهان لأنه أخلاط مجموعة والمذهب أنه كالنحاس يجوز السلم فيه والوجه الآخر لا يصح. فرع الأواني المتخذة منها هل يجوز السلم فيها؟ قال في ((الأم)): لا بأس أن يسلم فيطست أو تور من نحاس أحمر أو أبيض [ق 128 أ] أو أسود أو رصاص أو حديد ويشترط سعة معروفة ويصفه بالتخانة والدقة. قال: ولو كان يضبط في أن يكون مع شرط السنة وزنًا كان أصح، لأن لم يشترط

صح كما يصح أن يباع ثوب بصفة وسعة (0) قال: وكذلك كل إناء من جنس واحد ضبطت صفته فهو كالطست والقمقم ونحو ذلك. قال: ولا بأس أن يبتاع منه صفاحًا، وقداحًا بصفة معروفة وقدر معروف من الصفر والكبر والعمق والضيق. وفي القوارير يشترط جنس القوارير ودقتها وتخانتها، ولو ذكر الوزن في القوارير مع الصفة كان أحب إلى وأوضح ونص في البويطي والقديم على نحو ذلك. وقال أبو حامد قال في ((الأم)): لا يجوز السلم في العمولة، وقال في غيره: يجوز فهو على ضربين منه ما يستوي طرقاه ووسطه وأعلاه وسمكه، كالأشكال الواسعة الرأس التي يمكن ضبط طولها ودورها وسمكها، فيجوز السلم فيها فأما الأباريق والطشوت والأشكال المدورة الضيقة الرأس والقماقم ونحوها لا يجوز السلم فيها، كما لا يجوز السلم في النشاب والقسي نص عليه، وهكذا لا يجوز السلم في هذه الأواني المتخذة من الخزف كالكينان والفضاير ونحو ذلك؛ لأن ذلك لا يضبط [ق 128 ب [بالصفة. قال القاضي الطبري: هذا غلط لأنه شرح في ((لأم)) بخلافه ويمكن وصفه ولا يختلف اختلافًا متباينًا بخلاف النشاب وهذا أصح عندي. فرع آخر قال: ((ويجوز السلم في الزاروق وأراد به الزنبق ويجوز أيضًا في الشب والكبريت، وحجارة الكحل وغيره. مسألة: قال: ((وإن كان في لحم قال: ماعز ذكر خصي أو غير خصي)). الفصل. وهذا كما قال: السلم في اللحم جائز، وبه قال مالك وأبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: لا يجوز، وهذا غلط لعموم الخبر الوارد في السلم، ولأنه يمكن ذكر، بالصفة وهو معلوم عرفًا وعادة. فإذا تقرر هذا يحتاج إلى سبعة أوصاف سوى الجنس والوزن، أربعة منها التي يشترك فيها الحيوان واللحم وهو النوع والسن والذكر والأنثى والجيد الرديء، وثلاث يختص بها اللحم الهزال والسمن والراعية والمعلوفة والوضع الذي يأخذ منه اللحم. أما الجنس فيذكر أنه بقري أو غنمي، والنوع أنه من العراب أو الجاموس أو الأهلية أو الوحشية، وفي الغنم يذكر من الضأن أو الماعز ويذكر البن فإن لحم الصغار أرطب ولحم الخيار أخشن، وإذا ذكر الصغر قال: فطيمًا أو رضيعًا، وهذا

من نوع الشرط لأنه [ق 129 أ] منه ويذكر الذكورة والأنوثة؛ لأن لحم الأنثى يخالف لحم الذكر، وإذا قال: ذكرًا قال: فحلًا أو خصيًا، فإن لحم الخصي أطيب وأرطب، وهذا من فروع الشرط أيضًا، فيصير تسعة أوصاف. ويذكر السمن والهزال إذا لم يكن عن عيب وكان من خلفه كالتمر الدقل فإنه كالمهزول وكالحنطة الضامرة، وإن قال أعجف لا يصح، لأن ذلك عن عيب ودلالة يمكن معرفته كاللبن الحامض والحنطة المسبوبة. فَرَّع أصحابنا فقالوا: إذا كان العيب محدودًا صح لأنه يجوز السلم في عبد أعور وأعمى وأقطع، ويذكر المعلوفة والراعية؛ لأن لحم الراعية أطيب فالسمن بالمرعى أطيب من السمن بالعلف، ويعتبر أن يكون العلف أثر في تسميته ويذكر موضع اللحم، فإن مقادم الحيوان أطيب وأرطب فنقول: لحم الفخذ أو اليد أو الجنب؛ لأن اللحم يختلف به وقيل: الأجود لحم العنق ثم الكتف، ثم الخاصرة، ثم الفخذ، وخير اللحم ما قرب من العلف والماء، وإذا أقبضه ذلك الموضع فإن كان فيه عظام فقد تطوع بالفصل ويجوز ولأن اللحم أولى بالجواز من التمر من النوى، لأن النوى يتميز والعظام لا تتميز ولو أراد أن يميز أفسد اللحم وبقي على العظام ما يكون فسادًا [ق 129 ب] وقول الشافعي - رحمة الله عليه- في اللحم منقا لم يرد منقا من عظمة بل أراد ما فيه النقى وهو المخ فلا يكون أعجف، وهذا استحباب لأن ما نقى له لا يلزمه قبوله. فرع آخر لو أسلم في التمر فيه وجهان: احدهما: يجوز كما يجوز في اللحم عن غير عظم ويكون السلم فيه وزنًا لا كيلًا لأنه يتخافي فيه. والثاني: لا يجوز لأنه يسرع إلى الفساد الذي لا يضبط. فرع آخر لا يجوز أن يسلم في اللحم المشوي على النار والأخذ منه يختلف وفي المطبوخ يأخذ الماء بعضه أكثر مما يأخذ البعض، ويختلف عمل النار فيه فيكون مجهولًا. وقال: بعض أصحابنا بخراسان: إن كان له حد يوقف عليه ويعلم كم أحرق النار منه جاز، وقل ما يعرف هذا في اللحم. فرع آخر يجوز السلم في الإلية بالوزن ويذكر الصفات على ما ذكرنا في اللحم ولا يحتاج إلى ذكر موضعه منها؛ لأنها لا تختلف، وكذلك يجوز السلم في الكبد والطحال.

فرع آخر لا يجوز السلم في الكرسي مما تعلق به لجهالته واختلافه. مسألة: قال: ((ويَجُوزُ أن يُسَلم في لحُومِ الصَّيدِ)) إذا كان يوجد [ق 130 أ] في البلد الذي أسلم فيه وجودًا عامًا، وإن كان يوجد في وقت غالبًا لا ينقطع، وينقطع في وقت آخر، فإن جعل محله الوقت الذي يؤخذ فيه غالبًا جاز، وإن جعل محله الوقت الآخر لم يجز. وإن كان يوجد في وقت دون وقت وليس وقت الوجود معلومًا لا يجوز، لأن من شرط السلم أن يكون وجوده غالبًا في وقت توجه المطالبة عليه به، ويوصف بالصفات التي ذكرنا في سائر اللحوم. قال: ولا يخالف لحم الأسن إلا في خصلة، وهي أنه إن كان منه شيء يصاد بشيء يكون لحمه طيبًا، وآخر يصاد بشيء يكون لحمه غير طيب شرط صيد كذا دون صيد كذا. وقال أصحابنا: إن هذا يختلف، فيكون لحم الأحبولة أطيب، ولحم صيد الكلب من صيد الفهد أطيب نكهة من صيد الكلب وبغير نكهة الفهد، وتقول: راعية أو معلوفة؛ لأن الصيد لا يكون إلا راعيًا. فجملة أنواعه سبعة؛ النوع، والسن، والهزال، وموضعه من الحيوان، والجوده، والرداءة، والآلة التي يصاد بها. فالنوع: بقر الوحش، والظباء، وفي البقر يذكر الأنواع الوعل، والسل، والابل. وفي الغنم الوحش يذكر الظباء والغزال، ويذكر السن، والفطيم، والرضيع، ولا يقول فيه فحلًا ولا خصيًا، فإنه لا خصي فيه. ويجوز السلم في لحم الطير بصفة [ق 130 ب] ووزن غير أنه لا سن له فيه، فيوصف بصغر وكبر. ثم إن كان الصغر لم يفتقر إلى ذكر موضع اللحم، وجاز عددًا، وإذا جاء باللحم لم يقبل فيه الرأس ولا الرجل؛ لأنه لا لحم فيها. فرع يجوز السلم في الحيتان كالطيور ولا فرق بينهما، فيذكر أربعة أصناف النوع، وحلي أو أجامي أو بحري، والصغر والكبر ويذكر موضع اللحم في الكبار، والسمن والهزال، والجودة والرداءة. قال: ويذكر الطري والمالح، ولا يجوز إلا وزنًا، ولا يقبل فيه الرأس والذنب، ويفارق الحيوان حيث يجوز فيه السلم عددًا؛ لأن المقصود لحمه. فرع آخر لو كان لحم الطير مما لا يقصد لحمه يجوز السلم فيه عددًا كالبازي ونحوه.

فرع آخر لو أسلم في ثلاثين منا لحمًا ووصفه على أن يأخذ من وقته كل يوم ثلاثة أمنان منه، هل يصح؟ قولان، والأصح جوازه، وينبغي أن يذكر أول اليوم وآخره. مثألة: قال: ((ويقول في السمن جائز)). ويضبطه بأربعة أوصاف؛ النوع، واللون، والمرعى، والجودة والرداءة، فالنوع أن يقول؛ سمن بقر أو غنم، إذا ذكر الغنم يقول: ضأن أو ماعز. واللون أبيض أو أصفر، والمرعى يقول: عوادي أو حميصة، كما يذكر مرعى النحل إذا أسلم في العسل؛ لأنه يختلف بذلك، أو يذكر سمن معلوفة؛ لأن الغرض يختلف [ق 131 أ] بها، وإن كان يختلف باختلاف البلد إن سماه، وإن لم يذكر حديثًا يلزمه أن يعطيه حديثًا، وإن ذكر حديثًا كان تأكيدًا، وإن ذكر عتيقًا لم يجز؛ لأن السمن إذا عتق فسد ويكون سمنًا في المعيب، وذلك لا يجوز. ويفارق التمر؛ لأنه إذا عتق لم يفسد. وقال القاضي الطبري رحمه الله: يذكر حديثًا أو عتيقًا، إن كان يختلف، وليس كل عتيق متغيرًا، وإذا ذكر العتيق لا يقبل المعيب. وقال بعض أصحابنا: ويذكر سمن الصيف أو الشتاء، فإن أطلق استحق سمن الوقت الذي يحل فيه الأجل. فرع لا يلزم ذكر قوته وتخانته ورقته؛ لأن قوته أو رقته قد يكون أصله عن جنس وليس بعيب بخلاف العسل. فرع آخر لو سلمه إليه رقيقًا، فإن كانت رقته لحمى الزمان أو المكان يلزمه قبوله، وإن كان لفساد فيه فهو عيب لا يلزمه قبوله. فرع آخر لو صفاه بالنار لا يكون عيبًا بخلاف العسل؛ لأن دخول النار على العسل يؤثر في طعمه، ودخولها على السمن لا يؤثر في طعمه. فرع آخر يجوز السلم في الزبد ويصفه بأوصاف السمن، ويزيد وصفًا خامسًا. قال في

((الأم)): ((يقول: زبد يومه لأنه يتغير من عنده بتهامة ويتغير في الحر ويتغير في البرد تغيرًا دون ذلك)). فرع آخر قال في ((الأم)): ((وليس له أن يعطيه زبدًا نجيخًا)) والنجيخ زبد تغير فأعيد في السقاء ويمخض مع اللبن ليزول. وقال بعض أهل اللغة: ........ وقال الأزهري: النجخ: اللبن الرايب فيصب عليه حليبا فيخرج الزبد ليس لها صلابة زبد المحيض. وقال ابن السكيت: النجيخة تخرج من السقاء إذا حمل على بعير بعد نزع زبده الأول، محتمخض فيخرج زبدًا رقيقًا. فرع آخر لو اشترط زبد أمسه جاز أيضًا؛ لأن الغالب أنه لا يتغير ولا يصير معيبًا في ذلك القدر من الزمان، وإن أقبضه رقيقًا فالحكم على ما ذكرنا في السمن. مسألة قال: ((وإن كان لبن إبل قال لبن عواد)) الفصل. وهذا كما قال: السلم في اللبن جائز ويعفه بأوصاف السمن إلا واحدًا وهو اللون، فإن لونه لا يختلف وكله أبيض، ولا يحتاج إلى ذكر الحلاوة ولا حليب يومه؛ لأن إطلاقه تحصيله، وإن ذكر ذلك كان تأكيدًا، وهو مراد الشافعي بما ذكر ههنا. ولو أتى به حليب أمه وقد تغير إلى مرارة أو أقل حلاوة لم يقبله، لأن لم يتغير مثل أن يكون ف بلدةٍ باردةٍ قبله. فرع آخر لو أسلم في لبن حامض. قال الشافعي رحمة الله عليه؛ لا خير فيه لأن الحموضة نقص غير مضبوط. ومعناه لا يجوز، ويفارق الخل الحامض؛ [ق 132 أ] لأن الحموضة في الخل لا تكون نقصًا، بل تكون جودة وزيادة كالحلاوة في العسل. فرع آخر هل يجوز السلم في اللبن الفارض، وهو أن يتجاوز صفة الحليب أو إلى صفات الحامض؟ قال الإمام أبو القاسم الصيمري: يجوز لأن ذلك ليس بفساد. وقال غيره من

أصحابنا: لا يجوز؛ لأنها صفة لا تضبط ونقص لا يتجدد، وهذا أصح. فرع أخر قال: ويذكر المرعى في لبن الإبل فيقول: لبن عواد أو أوراك أو حميضة، فالعواد هي التي ترعى الغدوة وهي الجلة من الكلأ مثل النصبي ونحو ذلك. والأوراك التي ترعى الأراك، والحميض كل نبات فيه ملوحة أو الخمض التي ترعى الحمض، وهو ما ذكرنا أن فيه ملوحة وهذا لأن اللبن يختلف بذلك. وتقول العرب: الجلة غير الإبل والحمض فاكهتها. قال أصحابنا: ولا يحتاج في الغنم إلى ذكر المرعى؛ لأن لبنها لا يختلف باختلاف المرعى. فرع آخر قال: ويجوز أن يسلم فيه كيلاً ووزناً، فإن أسلم فيه كيلاً فليس له أن يكيل برغوته لأنها تزيد في وزنه. وقيل: إن ذلك يزيد في وزنه فلا يوزن حتى تسكن رغوته. فرع آخر لا يجوز السلم في اللبن المخيض؛ لأن فيه ماء، وهذا لأنه لا يصير مخيضاً إلا بإخراج الزبد منه، ولا يمكن إخراج الزبد منه إلا بالماء، فيكون مقدار المخيض مجهولاً فلا يجوز. [ق 132 ب] فإن أخرج منه الزبد بغير الماء يجوز السلم فيه. فإن قيل: أليس يجوز السلم في الجبن وفيه أنفحة، ويجوز في خل التمر وفيه ماء؟ قلنا: الفرق بين الأنفحة في الجبن أنها غير مقصودة وهي من مصلحته، وكذلك الماء في خل التمر غير مقصود وهو من مصلحته الخل التمري فلم يضره، والماء في المخيض ليس من مصلحته ولهذا منع جواز السلم فيه. فرع آخر قال في «المختصر» عقيب هذه المسألة: «وهكذا كل مختلط بغيره» وأراد بالمختلط بغير الغالية والفالوذج ونحوها، والمصلح بغيره الأدهان المربية فلا يجوز السلم في شيء من ذلك للجهل بمقادير الأخلاط، وإن كان يجوز بيع هذه الأشياء عيناً؛ لأن في بيع العين تكفي الإحاطة، وفي السلم لا بد من الوصف ولا يمكن وصفها، فأما الأدهان الطبية التي لا يخالطها شيء كدهن الورد والبنفسج ونحو ذلك مما يصيب السمسم بهذه الأوزان، ثم إذا طابت رائحته بالمجاورة يعتصر الدهن منه وبطيب رائحتها يجوز السلم فيها.

فرع آخر جملة المختلطات على أربعة أضرب؛ مختلط بما ليس بمقصود وفيه مصلحته فيجوز السلم فيه كما ذكرنا في الجبن وخل التمر والزبيب. ومختلط بما هو مقصود كالغالية والفالوذج فلا يجوز السلم فيهما. ومختلط بما ليس بمقصود ولا مصلحة فيه فلا يجوز السلم فيه كالمخيض ونحوه. ومختلط اختلاط مجاورة ولكنه مقصود [ق 133 أ] كالثوب من غزلين فقد ذكرنا حكمه. وقال بعض أصحابنا بخراسان لا يجوز السلم في خل التمر والزبيب، لأن فيه ماء وهو غلط بخلاف النص. فرع آخر يجوز السلم في لبن الآدميات خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله، وهذا غلط لأن لبن طاهر منتفع به كلبن الشاة. فرع آخر هل يجوز السلم في ماء الورد؟ وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه مصاعد بالنار. والثاني: يجوز؛ لأنه يدخل فيها إلى حد لا يختلف بين أهله، فصار كدخول النار في تخليص الذهب. وهذا أصح عند جماعة أصحابنا. فرع آخر لا يجوز السلم في الكشك ولا في البردوع للاختلاط. مسألة: قَالَ: «وَيَصفُ اللَبَأ كَاللَّبَنِ إِلاَّ أّنَّهُ مَوْزُونٌ». وهذا كما قال: اللبأ هو اللبن الأصفر، وإذا طرح منه شيء على اللبن وأسخن بالنار انجمد قطعة واحدة فيسمى لبأ ويجوز السلم فيه، ودخول النار فيه لا يمنع جواز السلم فيه؛ لأن النار لينة يسيرة لا تأخذ من أجزائه شيئاً. وقال أبو حامد رحمه الله: هو على ضربين: مطبوخ وغير مطبوخ فلا يجوز السلم في المطبوخ منه؛ لأنه تختلف أجزاءه إذا طبخ بالنار، والصحيح ما ذكرنا؛ لأنه لا تختلف أجزاءه على ما ذكرنا وإن اختلفت لا يجوز. فإذا تقرر هذا يحتاج إلى أن يصفه بأوصاف اللبن ويذكر فيه وصفاً زائداً وهو اللون، لأنه يختلف بذلك. ثم يحتاج إلى أن يذكر فيه الوزن لا الكيل [ق 133 ب] لأنه لا يمكن

كيله لكونه جامداً ولا يحصره إلا الوزن. وقال أصحابنا بخراسان: إن كان ذائباً يجوز كيلاً، وإن كان جامداً لا يجوز إلا وزناً، وهذا أظهر وأقيس عندي. فرع يجوز السلم في الجبن ويصفه بأنه من غنم ضأن أو ماعز أو بقر. قال: ولا أحسبه يتخذ من لبن الإبل، ويذكر البلد التي يعمل فيه فيقول: همداني، أو زيتوني أو طبري، ويذكر وقت عمله؛ لأنه يختلف به، ويذكر أنه يابس أو رطب، فإن ذكر يابساً يعطي أقل ما يقع عليه اسم اليبوسة، والرطوبة معروفة، وهو أول ما ينزل عنه الماء. قال الشافعي رحمه الله: «الجبن الرطب لبن يطرح فيه الأنفحة قيميز ماءه وينعزل خائر لبنه» والخائر الجبن الرطب وذلك بأن يصفيه على محل أو موضع يسيل الماء منه، ويذكر الجيد والردئ. فجملته أربعة أوصاف. وقيل: فيه وجه آخر لا يجوز السلم فيه؛ لأن فيه أنفحة ويدخله النار، وهذا حكم الأقط. فرع آخر قال: «وأحب إليَّ لو قال: جبن شهر أو جبن عام» لأنه إذا دخل في حد اليبس أثقل منه إذا تطاول جفوفه، فإن ترك ذكر ذلك لم يفسده؛ لأنَّا نجيز مثل هذا في اللحم، وكذلك التمر في أول ما يبس يكون أثقل منه بعد شهر أو أكثر. فرع آخر قال: «ولا خير في أن يقول: جبن عتيق ولا قديم؛ لأن أول ما يقع عليه اسم العتيق والقديم غير [ق 134 أ] محدود آخره غير محدود، فهو كمثل حموضة اللبن فذكره يبطله. وقيل: عنى العتيق جبن الحجاز. فرع آخر قال: «ما كان عيباً في الجبن عند أهل العلم به من إفراط ملح أو حموضة طعم أو غيره لم يلزمه قبوله». فرع آخر يجوز السلم في المصل؛ لأنه مخيض منعقد، ويصفه على ما ذكرنا، ويذكر الوزن وفيه وفي العين؛ لأنه لا يمكن (كيلها).

مسألة: قَالَ: «وَيَقُولُ فِي الصُّوفِ صُوفُ ضَانِ بَلَدِ كَذَا». الفصل وهذا كما قال: السلم في الصوف جائز، ويصفه بثمانية أوصافٍ؛ النوع وهو إضافته إلي الضأن أو غيره. وقيل: لا يحتاج إلى هذا؛ لأنه لا يكون إلا من الضأن. والمكان فيقول: صوف غنم بلد كذا جبلي أو بلدي ونحو ذلك. واللون الأبيض أو أسود أو أحمر. والطول والقصر، فيقول: طول الطاقات أو قصرها؛ لأن الثمن يختلف به. والذكورة والأنوثة. قال الشافعي رحمة الله عليه: إذا اختلف صوف الكباش والإناث - ويعرف ذلك بعد الجزاز - لا يجوز حتى يسمى صوف فحول أو إناث. ويذكر الخريف أو الربيع لأنه يختلف بذلك، ويقال: الصوف الصيفي خير من الشتوي والخريفي، والربيعي يتوسخ ويتلبد بالطين والمطر، والخريفي أنظف. ويذكر الجودة والرداءة. قال الشافعي رحمة الله عليه: يقول جيداً نقياً ومغسولاً لما تعلق به فيثقل. قال [ق 134 ب] أصحابنا: وهذا تأكيد ليس بشرط؛ لأنه لا يلزمه قبول غير الصوف، والغسل يذهب ما تعلق به حتى يصير نقياً. وقال بعض أصحابنا: قوله: «نقياً» تأكيد وقوله: «مغسولاً» شرط لازم؛ لأنه يذهب الريح الذي يثقل معه الوزن فيمكن معه القبض، فعلى هذا غسل الصوف شرط آخر. وقال بعض أصحابنا بخراسان: أراد بالمغسول تمييزه من التراب والشوك، فهو معنى النقي، وإن أراد غسله بالماء حتى يصير أصف مما كان يجوز بشرط أن لا يحدث معه عيباً بالغسل. وذكر أبو حامد رحمه الله وصفاً آخر وهو الخشونة والنعومة، وهذا صحيح؛ لأن الأغراض تختلف. وقال بعض أصحابنا: لا يحتاج إلى هذا؛ لأن ذكر الفحل والأنثى يغني عن هذا. وذكر في «الحاوي» وصف آخر وهو أن يقول: من صغار الضأن أو كباره؛ لأن صوف الصغار أنعم وصوف الكبار أخشن، وفي هذا نظر عندي لأنه داخل فيما تقدم، ولا يجوز إلا وزناً. فرع آخر قال في «الحاوي»: والسلم في الصوف المصبوغ لا بأس به بعد وصفه كما ذكرنا، ثم يصف الصبغ بأربعة أوصاف؛ اللون والحنس بما يصبغ به إن كان أحمر فبالبقم أو الملك، وإن كان أسود فبالزاخ أو العفص، والبلد الذي يصبغ فيه فيقول: من صبغ الأرمن أو الجبل أو العراق، وإن كانت الناحية تختلف صبغ بلادها ذكر [ق 135 أ] البلد الذي

يصبغ منها، ويذكر صبغ الشتاء أو الصيف فإنه يختلف. وهذا غريب. فرع آخر قال: «لا يجوز أن يسلم في صوف غنم بأعيانها» لأنها قد تتلف، وينافي الأمة على صوفها. قال: ولا خير أن يسلم في صوف بلا صفة ويريه صوفاً فيقول: أستوفيه منك على بياض هذا، ونقاء هذا، وطول هذا؛ لأن هذا قد يهلك ولا يدري كيف صفته. فرع آخر يجوز السلم في الإبريسم ويصفه بأربعة أوصاف؛ النوع، والرقة، والغلظة، والجودة، والرداءة، واللون. فالنوع إضافته إلى بلد بغدادي أو طبري، أو جرجاني، أو خوارزمي، لأن الثمن يختلف به. ويقال: أجوده البغدادي، ويسميه باسم معروف، ويذكر اللون أصفر أو أبيض ونحو ذلك، ولا يحتاج أن يذكر النعومة والخشونة؛ لأن لا يكون إلا ناعماً ليناً، ولا يجوز السلم فيه إلا وزناً. فرع آخر يجوز السلم في المغزل، ويصفه بما ذكرنا في الإبريسم، إلا أنه يزيد فيه الناعم والخشن. فرع آخر السلم في القز الذي فيه الدود [ق 135 ب] ويعمل فيه الإبريسم، لا يجوز؛ لأن الدود فيه إن كان حيَّا فلا مصلحة فيه؛ لأنه يقرضه ويفسده، وياخذ قسطاً من الوزن إن كان ميتاً، لا يجوز بيعه والقز دونه مجهول، ولهذا لا يجوز بيع القز وزناً لهذه العلة، ويجوز بيعه جزافاً، وأما إذا خرج منه الدود، ويجوز السلم فيه وزناً؛ لأنه وإن لم يكن سلمه فإن يطبخ ويغزل ويعمل منه ثياب القز. وينبغي أن يذكر البلد والصغر والكبر واللون والجيد والردئ. فرع آخر يجوز السلم في سلخ القز، وهو ما ظهر منه فوق الإبريسم، ويعتبر فيه ثلاثة أوصاف؛ ذكر البلد، واللون، والجودة، والرداءة. مسألة: قَالَ: «وَيَقُولُ فِي الكُرْسُفِ كُرْسفُ بَلَدِ كَذَا». الفصل: وهذا كما قال: يجوز السلم في القطن، ويصفه بأربعة أوصافٍ؛ النوع، واللون،

والنعومة والخشونة، وطويل الشعرة وقصرها، والجودة والرداءة فالنوع إضافته إلى بلد كذا: رازي، أو جرجاني، أو نيسابوري ونحو ذلك. واللون أبيض أو أسمر. فرع قال بعض أصحابنا: لا بد أن يقول أيضاً: محلوج أو مع الحب. وقال أبو حامد رحمه الله: لا يحتاج إلى هذا، وإذا أطلق جاز، وكان له ذلك؛ لأن الحب فيه بمنزلة النوى في التمر. والأولى أولى عندي. فرع آخر قال الشافعي رحمة الله عليه: «لو أسلم فيه منقى من حبه كان أحب إليَّ، ولا أرى بأساً أن يسلم بحبه؛ لأنه [ق 136 أ] كالنوى». قال: «ويسمى وزناً معلوماً». قال: «ولا خير في السلف في الكرسف يجوزه لأنه ليس له مصلحة فيه» بخلاف السلم في الجوز المأكول. فرع آخر قال بعض أصحابنا: ويذكر القطن ما لقط رطباً ويابساً؛ لأن ما لقط رطباً أنعم وألطف وأضعف، وما لقط بعد يبسه أقوى وأخشن ويذكر ما لقط في أول السنة عند شدة الحر وفي آخرها، وفي وقت البرد فإنه يختلف لاسيما بالبصرة، فإن كان في بلدٍ لا يختلف لا يلزمه ذكره. فرع آخر قال: اختلف قدم الكرسف وحديثه سمى قديماً أو حديثاً من كرسف سنة أو سنتين. فرع آخر قال: «وإن كان يكون ندياً سماه جافاً لا يجزئ فيه غير ذلك». وإن لم يكن جافاً وأطلق العقد جاز ويقتضي اليابس الجاف. فرع آخر قال: «ويذكر قطناً نقياً؛ لأنه قد تعلق به الجوز أو غير ذلك مما يثقله، وهذا تأكيد مضبوط بالصفات».

مسألة: قَالَ: «وَلَا بَاسَ أَنْ يُسَلُفَ فِي الشَّيئِ كَيْلاً وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ وَزْناً». وهذا كما قال: كل ما يتأتى فيه الوزن دون الكيل يسلم فيه وزناً، وكل ما يتأتى فيه الكيل دون الوزن يسلم فيه كيلاً [ق 136 ب] وما يتأتى فيه الأمران معاً يجوز السلم فيه كيلاً ووزناً؛ لأن الغرض معرفة مقدار السلف فيه بخلاف الربا، فإن بيع الموزون من مال الربا بعضه ببعض كيلاً لا يجوز؛ لأن الغرض هناك معرفة المتقابل وربما يتفاضلان عند الوزن. فرع قال في «الأم»: وما يسلف فيه كيلاً لم يستوف إلا كيلاً، وما يسلف فيه وزناً لم يستوف إلا وزناً لاختلاف الكيل الوزن، ويلزمه أن يكيل مرسلاً من غير أن يدق ولا أن يزلزل ولا أن يدق على رأسه وإنما يدع ما يحمله. مسألة: قَالَ: «وَمَا ضُبِطَتْ صِفَتُهُ مِنْ خَشَبٍ سَاجٍ أَوْ عِيدَانٍ قَسِيِّ». الفصل وهذا كما قال. يجوز السلم في الخشب، وهو على أربعة أضرب؛ ضرب يراد للبناء والأطباق والمراية، وضرب يراد للقسي، وضرب يراد للوقود، وضرب يراد لنُصُب السكاكين والدارن. فأما ما يراد للبناء والأطباق فضبطه بخمسة أوصاف: النوع، واللون والرطوبة، واليبوسة، والجودة والرداءة، والعرض والطول. فالنوع يقول: ساجاً أو صنوبراً أو نخلاً أو جوزاً أو نحو ذلك. واللون أصفر أو أبيض أو أسود، ويقول في المدور أوله وآخره واحد وإن كان يختلف ذكر ذلك على وجه يضبط. وأما ما يراد للقسي، قال الشافعي رحمه الله: «يذكر عود شوحطة السهلي والجبلي؛ لأن الجبلي أقوى من السهلي» قال: «ويقال فيه: خوط أو فلقة والفلقة أقدم نباتاً [ق 137 أ] من الخوط، والخوط الشاب». ويذكر دقيق أو وسط طوله كذا وعرضه كذا، ويكون مستوى البينة، وما بين الطرفين من الغلظ، وكل ما أمكنت فيه هذه الصفات جاز، وإلا فلا يجوز. وذكر بعض أصحابنا أنه يذكر في جميع ذلك زمان قطعه من صيف أو شتاء. وأما ما يراد للوقود وهو خشب الحطب ضبطه بخمسة أوصاف على ما ذكرنا، فيقول: أم غيلان، أو أراك، أو عرعر. ويقول: غلاظ أو دقاق أو وسط، ويذكر

الرطب واليابس والجيد والرديء. قال بعض أصحابنا بخراسان: لا يحتاج إلى ذكر الرطب واليابس، بل مطلقه يقتضي اليابس؛ لأن النداوة في الحطب عيب، وهذا غير صحيح؛ لأن النداوة فيه رداءة لا عيب. وأما ما يراد للنُّصُب فيذكر نوعه كالأبنوس وغلظه ودقته وسائر الأوصاف التي يختلف الثمن باختلافها. فرع لا يجوز في الأبنوس الملمع؛ لأن تلمعه لا يضبط. فرع آخر قال: ويذكر ساجاً سمحاً، يعني لا عقد فيه، وهذا على سبيل التأكيد، لأن العقد فيه عيب، وإذا أطلقه لا يلزمه قبوله، وإن كان يتفاوت طرفاه لا يجوز فيه السلم. فرع آخر قال في «الأم»: وإذا شرط له الغلظ فجاء بأحد طرفيه على الغلظ والآخر أكبر فهو متطوع بالفضل ويلزمه قبوله، وإن جاء بأفضل من طوله وناقص أحد الطرفين من غلظه لم يلزمه قبوله؛ لأن [ق 137 ب] هذا نقصاً من حقه. فرع آخر في خشب البناء لا يحتاج إلى ذكر الوزن. نص عليه في «الأم». قال أصحابنا: ويجوز أن يجمع ذكر الطول والعرض، وذكر الوزن، والفرق بينه وبين الثياب أن الخشب لا يبعد ووجود الوزن فيه مع ذكر الطول والعرض بخلاف الثوب، وذكروا هذا عن الشافعي رحمه الله. وقال القاضي الطبري: لا أعرف هذا للشافعي؛ لأنه في الكبر الطول والعرض، دون الوزن، وفي الصغار الرقة والغلظ والوزن ولم يذكر الطول والعرض، فقال: وما صغر من الخشب لم يجز السلم فيه عدداً ولا جرماً حتى يسمى الجنس فيقول: أبنوس أو غير ذلك وزن كذا وكذا، وكذلك يذكر الوزن في الخطب ويجوز أن يسلم فيه عدداً لا جرماً أيضاً. مسألة: قَالَ «وَكَذَلِكَ حِجَارَةُ الأَرْحَاءِ وَالبُنْيَانِ وَالأَنِيَةِ».

وهذا كما قال: يجوز السلم في الأحجاز، فإن كانت حجارة الأرحية يضبطها بخمسة أوصاف؛ النوع، واللون، والدور والسُّمك، والجودة والرادءة، فالنوع يذكر المكان فيقول: موصلي، أو حراني، أو طبري ونحو ذلك، واللون أبيض أو أسود، ويذكر القد من الدور والعرض والسُّمك والتخانة، ويمكن ذلك بأن يحيط به خيطاً ثم يزرع ذلك الخيط. قال الشافعي رحمه الله: «وينسبها إلى الصلابة، وأن لا يكون فيها عرق ولا كلا، والكلا حجارة مدورة صلبة لا تجيب بالحديد [ق 138 أ] إذا ضربت انكسرت من حيث لا يريد الضارب». قال في «الحاوي»: ويذكر أنها من حجارة الماء أو من حجارة الجبل ولا يحتاج فيه إلى ذكر الوزن، ولو ذكره جاز، وما كان منها صغار لا يمكن وصفها بالذرع جاز أن يُسلم فيها وزناً، والكلام في وزن الحجر والخشب الثقيل واحد، فإن أمكن حمله بقبان، أو قياس فذاك وإن لم يحمله القبان أو العيان يوضع في السفينة، والسفينة في ماء راكد ثم يعلم على مكان بلوغ الماء من ظاهرها بعلامة من جميع أطرافها ثم ينقل عنها ذلك، ويجعل فيها طعام أو تراب، فإن نزلت في الماء إلى تلك العلامة وزن التراب فما خرج فهو وزنها. وأما حجارة الأبنية فضبطها بأوصاف النوع، واللون، والجودة والرداءة، ولا يحتاج إلى ذكر القد والصغر والكبر؛ لأن ذلك معروف عند أهل البناء. وذكر أبو حامد رحمه الله أنه لا بد من ذكر الكبير والصغير وهذا أصح عندي. وقال في «الأم»: يقول: ما يحمل البعير اثنين أو ثلاثة أو أربعة ويذكر الوزن مع ذلك. قال: ويجوز السلم في النقل وهي الحجارة الصغار التي تصلح للمنجنيق ولا يجوز إل وزناً. قال: وينسبها إلى الصلابة ولا يلزمه أن يقول: كراناً ولا مبنياً. وأما حجارة القدور فيذكر فيها جميع ما ذكرنا من الأوصاف مع الكبر والصغر بلا إشكال، ويقول: برام طواسية أو مكية، ويذكر الوزن. [ق 138 ب] فرع: السلم في الرخام جائز ويذكر نوعه ولونه وصفاته، وجيداً أو رديئاً، ويذكر طوله وعرضه، أو دوره إن كان مدوراً، ويذكر إن كان له عرض تخانة. قال في «الأم»: «وإن كان لها براسيع مختلفة وشعفاً» وبراسيها الخطوط التي تكون فيها. فرع آخر يجوز السلم في البور ويصفه بأوصافه، ونصَّ في «الأم» على أنه يجوز السلم في الآنية المتخذة منها. وقال: «يصف طولها وعمقها وعرضها وتخانتها وصنعتها إن كانت

تختلف فيها الصنعة». قال: «وإن وزن مع هذا كان أحب إلىَّ، وإن ترك وزنه لم يفسد إن شاء الله». فرع آخر قال في «الأم»: ولا بأس أن يبتاع آخراً بطوله وعرضه وتخانته ويشترط من طين معروف، وإن شرط فيه الوزن كان أحبَّ إليَّ وإن تركه فلا بأس إن شاء الله، ويذكر اللون والجودة والرداءة. وقال في «الحاوي»: لا بد من ذكر الوزن بالأرطال وصفة الطبخ. فرع آخر ويجوز السلم في اللبن غير المطبوخ أيضاً، ويصفه بما ذكرنا قال: وإن أسلم في اللبن شرط أن يطبخه لم يجز؛ لأنه لا يعرف قدر ما يذهب من طبخه من الحطب، ولأنه قد يتبهرج فيفسد. فرع آخر يجوز السلم في النورة والقصة، وهي الجص ينسبها إلى أرضها فإنها تختلف بذلك، ويشترط الجودة أو الرداءة، ويشترط بيضاء أو سمراء وأي لونٍ كان إذا تفاضلت في الألوان [ق 139 أ] ويشترطها بكيل معلوم ووزن معلوم وأجل معلوم. وقيل: لا يجوز في الجص المحترق. قال: ولا خير في السلف فيها إجمالاً ومكايل وجزافاً من غير إجمال ولا مكايل إذا كان حاصرها. فرع آخر قال: وهكذا لا بأس بالسلم في المدر بكيل معلوم، وإذا وصف جيداً لم يلزم أن يأخذ سبحا؛ لأن هذا مخالف للجودة، وإن كان فيه كذان أو حجارة أو بطحاء لم يلزمه أخذه، لأنه ليس بمدر ولا قصة ولا نورة ويصف المدر بالموضع ويذكر لونه إن كان يختلف. فرع آخر قال في «الأم»: وإن كانت القصة والنورة مطيرتين لم يلزم المشتري قبوله؛ لأن هذا غيب فيهما [وكذلك إن قدمتا قدر ما يضر بهما لم يلزم المشتري؛ لأن هذا عيب] والمطر لا يكون إفساداً للمدر؛ لأنه إذا جف لم يكن للمطر فيه بأس ولا تأثير وعاد إلى حالته، وكذلك الطين.

فرع آخر قال الشافعي رحمة الله عليه: رأيت طينًا زعم أهل العلم أنه طين أرمني، وطينًا يقال له: طين البحيرة والمختوم وهما يدخلان في الأدوية، وأنهما يغشان بطين غيرهما لا ينفع منفعتهما ولا يساوي مائة رطل منه رطلًا من هذا. ورأيت طينًا في الحجاز يشبه ما يقولون أنه أرمني، وإن كان ما رأيته إذا اختلط بالأرمني لا يتميز عند أهل العلم والمعرفة به، فلا يجوز السلم. وإن تميز وعرفة عدلان من المسلمين جاز فيه السلم إذا وصف بلده وجنسه ولونه ووزنه. فرع آخر [ق 139 ب] لا يجوز السلم في الزجاج المخروط والمنقوش، لأنه عمل غير مضبوط ويجوز فيما ليس بمخروط ولا منقوش إذا ضبطت أوصافه على ما ذكرنا في الأواني. فرع آخر لا يجوز السلم في العقار بحال، لأن البقاع تختلف ولا يضبط الوصف، وإن عين بقعة يكون سلمًا في عين، ولا يجوز ذلك. مسألة: قال: "ويجوز السلم فيما لا ينقطع من العطر". الفصل وهذا كما قال. يجوز السلم في العطر المستدرك بالوصف، أي عطر كان من عنبر أو كافور أو غيره إذا لم يكن أخلاطًا جمعت، وإنما يصح إذا كان عطرًا لا ينقطع عن أيدي الناس في الغالب عند المحل، ولا بد من ذكر الوزن فيه لبيان المقدار، ويسمى الصنف الذي أسلم فيه والجيد والرديء منه، وأن اختلف أنواع ذلك لا بد من أن يعتبر نوع من جملة الأنواع، فالعنبر منه الأشهب والأبيض والأخضر، ولا يجوز حتى يسمى ذلك، وكذلك العود ونحوه ويذكر قطعًا صحيحًا وزنه كذا، أو قطعة واحدة إن أراد ذلك، ثم إن ذكر قطعة واحدة لا يقبل منه قطعتين، إن ذكر قطعًا صحاحًا لا يقبل منه فتاتًا، لأن الثمن يختلف بذلك. قال: "وإذا سميت عنبرًا وصفت لونه وجودته كان لك عنبر في ذلك اللون والجودة صغارًا أعطاك أو كبارًا". وهذا يدل على أن ذكر القطعة والقطاع ليس بشرط بل هو تأكيد.

وقال بعض أصحابنا بخراسان: [ث 140 أ] الذي يليق بكلام الشافعي رحمة الله عليه، أنه لابد من ذلك، وإن لم يذكر بطل السلم، لأنه سلم خصومة ولكن النص الصريح ما ذكرنا، وإن كان يختلف بالبلدان قال: عنبر بلد كذا. فرع قال الشافعي رحمة الله عليه: يجوز بيع العنبر، وقال أهل العلم بالعنبر: إنه نبات والنبات لا يحرم منه شيء. قال: وحدثني بعضهم أنه ركب البحر فوقع إلى جزيرة فيه فنظر إلى شجرة مثل عنق الشاة وإذا ثمرتها عنبر. قال: فتركناه ليكبر ثم نأخذه فهبت ريح فألقته في البحر. قال الشافعي: ودواب البحر تبتلعه أول ما يقع، لأنه لين فإذا ابتلعته قل ما سم منه إلا قتله لفرط الحرارة فيه، فإذا أخذ الصياد السمكة وجده في بطنها فيقدر أنه منها وإنما هو ثمرة نبت. فرع آخر قال: ويجوز السلم في المسك، وزعم بعض أهل العلم أنه سرة دابة كالظبي تلقيه في وقت من الأوقات، وهو طاهر، لأنه وإن كان يلقيه الحي فإنه يجمع معنيين الطيب، وأنه ليس بعضو منه ينقصه خروجه حتى لا يعود مكانه مثله بمنزلة اللبن والبيض. ويصف المسك بالبلد تنبتي أو هندي أو غيره، ويصفه باللون، وكل ما يختلف الثمن لأجله. فرع آخر لا يجوز السلم في العود الرطب، ولا التوتبا الهندي، لأن وجودهما نادر. فرع آخر قال: ويجوز السلم في العود، وهو يتفاضل تفاضلًا كثيرًا ولا يجوز حتى يوصف [ق 140 ب] كل صنف وبلده وتسميته الذي يميز بيه وبين غيره، فيقول: عود هندي أو صيني أو نحو ذلك. فرع آخر لا يجوز السلم في الند والعود والمطر، لأنه أخلاط كالغالية فرع آخر يجوز السلم في متاع الصيادلة إذا لم يختلط بغيره ويعرف بصفة ويذكر عتيقه

وجديده، وجيده ورديه. قال في "الأم": ويجوز السلم في اللبنان والمصطكى وجميع الشجر كله ويصفه بصفاته من اللون والذكورة والأنوثة ويصف شجره، لأنه يختلف بذلك ولا يحتاج إلى أن يقول: صغارًا أو كبارًا، لأنه لا يختلف بذلك، وإذا أتاه لا يقبل إلا خالصًا محضًا. ويجوز السلم في الأدوية إذا لم تكن معجونة. مسألة: قال: "ولا خير في شراء شيء خالطه لحوم الحيات في الدرياق". الفصل: وهذا كما قال: لا يجوز بيع الدرياق لأنه نجس، فإنه يعمل من لحوم الحيات، ولبن الأتان، ولبن ما لا يؤكل لحمه من غير الآدمي نجس في ظاهر المذهب، ولا يجوز بيعه ولا السلم فيه، والسم طاهر لأنه نبات، أو عرق، أو لعاب، وقد ذكرنا حكمه. فرع يجوز بيع الدادي والسلم فيه، لأن فيه منفعة من غير المحظور، أن استعمل في النبيذ وتداوي به وهو طاهر. مسألة: قال: "ولو أقاله بعض السلك وقبض بعضًا فجائز". وهذا كما قال. الإقالة: فسخ بيع وليست بيع، نص عليه الشافعي رحمه الله، ولا فرق أن تكون في [ق 141 أ] السلم أو في البيع العين وبين أن تكون قبل قبض الثمن بعده، ولا يجوز إلا بالثمن الذي وقع عليه العقد جنسًا ونوعًا وقدرًا. وبه قال أبو حنيفة رحمه الله. وحكي بعض أصحابنا عن أبي حنيفة أنه قال: إذا أقاله بأكثر من الثمن الأول صحت الإقالة وبطلت الزيادة. وهذا غلط، لأن شرط الزيادة يُخرج الإقالة عن موضعها وقد أسقط حقه من البيع بما شرط من العوض، فإذا لم يسلم له الشروط لم يزل ملكه. وقال مالك رحمه الله: الإقالة بيع بكل حال. وقال بعض أصحابنا: هو قول آخر للشافعي رحمه الله. وقيل: ذكره في "القديم"، واحتج بأنه نقل ملك بعوض على التراضي فكان بيعًا. وهذا غلط، لأن المبيع رجع إليه بلفظ لا ينعقد البيع بع ابتداء ولا يكون بيعًا. وقيل: فائدة القولين ثلاث مسائل:

أحدها: إذا تقايلا هل يتجدد حق الشفعة؟ فإن قلنا: فسخ لا يتجدد. وإن قلنا: بيع يتجدد. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: هي بيع في غير حق المتعاقدين فثبت بها الشفعة للشفيع، وهذا مجال، لأن ما كان فسخًا لحكم كان فسخًا لكل حكم. والثانية: إن تقايلا فقبل استرداد البائع المبيع يتلف، فإن قلنا: ابتداء عقد تبطل الإقالة. وإن قلنا: فسخ لا تبطل. والثالث: الإقالة في التالف هل تصح؟ إن قلنا فسخ تصح وإلا فلا تصح وهذا ليس بشيء، وهو غلط على المذهب، [ق 141 ب] لأن الشافعي نص على أن الإقالة تجوز في التالف ولم يذكر قولًا آخر. هكذا ذكره القاضي الطبري رحمه الله. وقال في "الحاوي": قال بعض البغداديين: تجوز الإقالة بعد تلف العين، وهذا خطأ، ولا تجوز إلا مع بقاء العين، لأن فسخ الإجبار بالرد بالعيب لا يجوز مع التالف ففسخ المراضاة أولى. وقد ذكرنا لفظ الشافعي فيما تقدم فلا معنى لهذا. فإذا تقرر هذا، فإن أقاله في جميع المسلم فيه جاز وانفسخ العقد، وعليه أن يرد ما قبضه من رأس المال، فإن كان قائمًا رده، وإن كان تالفًا فعليه رد مثله إن كان له مثل أو قيمته يوم قبضه منه إن لم يكن له مثل. ولو أقاله في بعضه وقبل بعضه يجوز أيضًا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا إذا جوزنا تفريق الصفقة، فإذا لم نجوز تفريق الصفقة لا يجوز هذا وإن تراضيا عليه. ويذكر هذا عن القفال، وفي هذا نظر، ولا وجه له. وبقوله قال عطاء، وطاوس، وعمرو بن دينار، والحكم بن عيينة، وأبو حنيفة، والثوري رحمهم الله تعالى. وقال مالك، وربيعة، والليث بن سعد وابن أبي ليلى: لا يجوز ذلك، وكرهه أحمد وإسحاق. ورواه ابن المنذر عن ابن عمر - رضي الله عنهما - والحسن، وابن سيرين، والنخعي، واحتجوا بأنه إذا أقاله في بعضه فقد صار بيعًا وسلفًا، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه [ق 142 أ] وذلك أنه إذا أقاله في بعضه، ورد بعض رأس المال يصير في معنى القرض، لأنه رد مثله والباقي يكون بيعًا. وأيضًا إذا أقاله في البعض يصير كأن البائع ما أعطى البعض إلا بعوض وهو الإقالة في البعض، ولو عجل البعض وأبرأ عن البعض لم يجز. وهذا غلط، لأن الإقالة مندوب إليها، وكل معروف جاز في جميع العوض جاز في بعضه كالإبراء. وأنا ما ذكره لا يصح، لأنه موجود في الرجوع بأرش العيب ونحو ذلك، ولأنه إنما يجوز عند الشرط وهذا من غير شرط. وأما الآخر فلا يصح، لأن الشافعي رحمه الله قال: "لا أجعل التهمة موضعًا فيما فعلا". ويجوز عند البراءة عن البعض وأخذ البعض معجلًا قبل المحل من غير شرط، ولا يجوز ذلك الشرط، وهذا لأنهما لا يتهمان أنهما أضمرا أن يكون التعجيل في مقابلة النقصان، فيصير كالشرط كما قال مالك. واحتج الشافعي رحمة الله عليه بما روي عن

ابن عباس رضي الله عنهما قال فيمن أقال بعض السلم وقبض بعضًا: ذلك المعروف. قال: وأجازه عطاء بن أبي رباح المكي، وهذا استئناس بقوله. وحكي عن ابن أبي ليلى أنه قال: إذا أقاله في البعض انفسخ في الكل. وهذا غلط ظاهر، لأن البيع لا يسري فكيف تسري الإقالة. مسألة: قال: "وإذا أقاله فبطل عنه الطعام وصار عليه ذهباً تبايعا بعد بالذهب ما شاءا وتقابضا قبل أن [ق 142 ب] يتفرقا من عرض وغيره". وهذا كما قال: إذا تقايلا في بعض المسلم فيه أو كله ورأس المال ذهب قد تلف عنده يسترد مثله على ما ذكرناه. فإن أراد أن يأخذ جنساً آخر وإن قال: أسلمت إليك مالي في ذمتك في كذا وكذا ولم يجز، لأنه بيع دين بدين. وإن أخذ ديناً فإن أخذ دراهم عن كذا لم يجز أن يتفرقا قبل التقابض لأنه صرف. وأن أخذ عرضاً نص الشافعي رحمه الله ههنا أنه لا يجوز أن يفارقه قبل القبض، لأنه قال: "من عرض أو غيره". وقد ذكرنا فيه وجهاً آخر أنه يجوز من غير قبض، لأنه بيع عين بدين لا يحرم فيهما النساء، كما لو باع عيناً بثمن في ذمة المشتري، ولا فرق بين أن يكون الثمن في ذمة المشتري أو في ذمة البائع، ومن قال بهذا تأول قول الشافعي ههنا فقال: أراد به إذا كان العرض موصوفاً غير معين، ولو استبدل منه عرضاً موصوفاً وعيناه في المجلس وتقابضا ثم تفرقا فيه وجهان، لأن ابتدأه دين أخذ عرضاً عن دين. هكذا ذكره بعض أصحابنا بخراسان. والمذهب أنه يجوز ذلك. قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يجوز الاستبدال عن رأس مال السلم بعد التقايل استحساناً، كما لا يجوز عن المسلم فيه عند بقاء العقد. واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أسل في شيء فلا يصرفه إلى غيره". وهذا غلط، لأن الذهب بعد الإقالة دين مستقر في الذمة [ق 143 أ] وعلامة استقرار الحق في الذمة تقويمه عند عدمه والذهب بعد الإقالة بهذه الصفة، وعلامة عدم الاستقرار في الذمة أن يترك تقويمه عند العدم والانقطاع والمسلم فيه بهذه الصفة، لأنا إذا فقدناه يقومه بل يفسخ عقد المسلم فعلم أنه غير مستقر فلا تجوز المعارضة عنه بخلاف رأس المال ههنا. وأما الخبر أراد به المسلم فيه. فرع لو تبايعا عبداً وقبضه المشتري ثم تقايلا ثم اشتراه ثانياً من بايعه ثم تلف العبد يد المشتري يضمن بالقيمة دون الثمن الأول والثاني، لأن الإقالة رفعت المشتري الأول وتلفه قبل إحداث قبض ثاني بطل الشراء الثاني فبطل الثمنان، ثم هو مقبوض على وجه

باب ما لا يجوز فيه السلف

المعاوضة فضمن المقبوض سوماً. مسألة: قال: "ولا يجوز في السلم الشرِكة والتولية لأنهما بيع". وهذا كما قال: قد ذكرنا صورة الشركة والتولية قبل هذا وكلاهما لا يجوزان في السلم فيه، لأنه بعض البعض أو الكل، ولا يجوز ذلك في المسلم فيه. وأما إذا قبضه جاز فيه الشركة والتولية. وظاهر مذهب الشافعي أنه يجوز في بيع العين بلفظ الشركة والتولية، لأنه قال: "الشركة والتولية من البيوع" يحل بما يحل به البيوع، ويحرم بما يحرم به البيوع، فحيث كان البيع حلالاً فهو حلال، وحيثما كان البيع حراماً فهو حرام. ولا يحتاج فيها إلى ذكر الثمن إذا كانا عالمين بقدر الثمن. وقال مالك [ق 143 ب] رحمه الله: يجوز التولية في السلم قبل قبضة لأنها تشبه الإقالة لاختصاصها بالثمن الأول. وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الطعام قبل قبضه. وأرخص في الشركة والتولية. وهذا غلط لما ذكرنا أنها بيع محض. وأما الخبر فهو غير مشهور، ثم أنه أرخص فيهما في الجملة، لأنه عطف على ما قبل القبض. مسألة: قال: "ولو عجل له قبل محله أدنى من حقه أجزته ولا أجعل للتهمة موضعاً". وهذا كما قال. لو عجل المسلم إليه المسلم فيه قبل محله مما أسلم فيه فإن تراضيا عليه جاز، لأن كل واحد منهما متبرع بترك حقه، ولا يجوز أن يقال: أنه إنما عجله قبل محله بإزاء ما نقصه من صفته، لأن ذلك رجماً بالغيب وإضافة الحكم إليهما لم ينطلقا به، ولأنهما لو قصدا ذلك لم ينطقا به لم يضرهما بالتعجيل في مقابلة صفة الجودة. ولو قال: أعجل لك حقك بشرط أن أعطيك دون حقك لا يصح، لأنه بالتعجيل وبالجاهلية، فإنهم كانوا يزيدون في الحق لزيادة الأجل، وهذا نقصان الحق لنقصان الأجل. ولو قال: إذا حل الحق زدني في الأجل حتى أزيدك في الحق فهذا ربا الجاهلية المحض وهو محرم. باب ما لا يجوز فيه السلف مسألة: قال: "ولا يجوز السلم في النبل". وهذا كما قال، أصل هذا الباب إن كان ما لا يأتي عليه الصفة على وجه يصح

المطالبة بالموصوف لا يجوز السلم فيه، ذكر الشافعي - رحمة الله عليه - من ذلك النبل والسهم. وقال أصحابنا: هو على ثلاثة أضرب: مفروغ منه، ومنحوت، ومشبق للعمل. فأما المفروغ منه فلا يجوز السلم فيه لأنه لا يمكن ضبط تخانته، فإنه دقيق الطرفين غليظ الوسط ويشتمل على عقب وخشب وغراء ونصل وريش طائر لا يؤكل لحمه، وهو كالقسي المعمولة المشتملة على أشياء كثيرة. وأما المنحوت للعمل فلا يجوز السلم فيه أيضاً. هكذا ذكره جماعة أصحابنا وقال في "الحاوي": في المنحوت المعمول من غير تركيب الحديد والعقب والريش، وهل يجوز السلم إذا ضبط نحتها وصفتها؟ قولان. أحدهما: وهو ظاهر قوله ههنا أنه باطل لاختلاف تخانتها وأن وسطها شكلاً يخالف شكل طرفيها. والثاني: نص عليه "الأم" أنه يجوز لأن صفة تخانتها وإن اختلفت مضبوطة وليس اختلافها بأكثر من اختلاف الأواني في عملها وصنعتها ويجوز السلم فيها، وهذا أصح. قال: وكذلك السلم في القسي على هذا، وذكر في "المختصر" قال: "لا يجوز السلم في النبل لأنه لا يقدر على تخانتها وقوى تخانتها" والأصح الأول والتخانة: الغلظ. وقال الإمام الجويني - رحمه الله - الثاني أشبه بالمعنى واللفظتان متقاربتان. وأما المشبق المعمول للعمل الذي لم [ق 144 ب] ينحت وكان مستوى الأطراف والأوسط نص الشافعي - رحمة الله - على جواز السلم. قال أصحابنا يجوز وزناً وعدداً إن أمكن وصف طولهما وعرضهما. ذكره في "الإفصاح" وقيل: قال في موضع: لا يجوز السلم في النبل، وقال في موضع: يجوز السلم في النشاب وليس على قولين، بل على اختلاف حالين على ما ذكرنا ولو باع السهم، وفيه ريش ما لا يؤكل لا يجوز البيع. فرع السلم في رماح القنا هل يجوز إن كان طويلاً واختلف طول الكعب وكان أسفل الرمح أطول العبا ورأس الرمح أقصر العبا لا يجوز للاختلاف، وأما ما قصر منها واستوى الكعب أسفله ورأسه في الطول والغلظ يجوز السلم فيه لضبطه بالصفة في طول أكعبه واستدارة كل كعب وغلظة. مسألة: قال: "ولا في اللؤلؤ ولا في الزبرجد".

وهذا كما قال: لا يجوز السلم في اللآلئ واليواقيت والزبرجد والمزمرد والعقيق وسائر الجواهر والخرز، لأن المطلوب منها الرزانة في الوزن والنبالة في القدر وحسن التدوير وصفاء اللون وغير ذلك، فإذا وصف قال: لؤلؤة مدحرجة أو مستطيلة وزنها كذا، فقد تكون الثقيلة الوزن أوزن شيء وهي صغيرة، وأخرى أخف منها وهي كبيرة متفاوتين في الثمن ما بين المائتين والألفين ولا يكون ضبطها بالعظم فإن قيل: قال في "المختصر" مدحرجة مستطيلة، والمدحرجة كيف تكون مستطيلة؟ [ق 145 أ] قيل: ليس معنى المدحرجة ههنا المدورة وقد تكون مستطيلة، وقال بعض أصحابنا بخراسان: وعلى هذا لو أسلم في بطيخة واحدة لم يجز إذ لابد من ذكر الوزن. وقيل: ما ينقص عن تلك الصفة التي ذكروا، ولو قال: مائة من البطيخ وجمع بطيخات متفاوتة يحصل مائة جاز، وقال مالك - رحمه الله -: يجوز السلم في اللؤلؤ وهو غلط لما ذكرنا. فإن قيل: جوزتم في البلور والعقيق مثله؟ قلنا: العقيق شديد الاختلاف والحجر الواحد قد يكون موضع منه بفضل على ما سواه فضلاً كثيراً بخلاف البلور. فرع لو أسلم في اللآلئ الصغار التي تسحق للدواء ولا تراد للزينة بحال وزناً يجوز ذكره أصحابنا. مسألة: قال: "ولا يجوز السلم في جوز ولا رابخ". الفصل وهذا كما قال: لا يجوز السلم في البطيخ والقثاء والرابخ والرمان والسفرجل والبيض ونحو ذلك عدداً، لأنها تتباين في الصغر والكبير ولا يجوز كيلاً، لأنها تتجافي في المكيال فلا تضبط، ويجوز السلم فيها وزناً. ذكره أبو إسحاق وجماعة. وأما الجوز، واللوز، والفستق، والبندق. قال في "الأم": "إن كان الجوز لا يتجافي يجوز السلم فيه كيلاً والوزن أحب إلى وأصح فيه" وقال أبو إسحاق، وجماعة: يجوز السلم فيها كيلاً ووزناً، وحكي عن أبي إسحاق أنه قال: أراد الشافعي بالجوز الجوز الهندي حيث قال: لا يجوز [ق 145 ب] السلم فيه إلا وزناً" ولا يحتاج إلى هذا التأويل. وهو غلط، لأن الشافعي - رحمة الله عليه - قال: ههنا: إلا أن يضبط بكيل أو وزن. فذكر الكيل فيما يمكن كيله، وهذا التأويل، وذكر الرانج مع الجوز والرانج: الجوز الهندي فصح ما ذكرنا من الغلط، وقال الأوزاعي: يجوز السلم في البيض والسفرجل والرمان وما يتفاوت عدداً.

وحكي عن أبي حنيفة - رحمة الله -: يجوز في الجوز والبيض، واحتج بأن التفاوت بين الجوزتين والبيضتين يسير، وهذا لا يصح لأنه يتباين متفاوتاً كما في الرمان والبطيخ. مسألة: قال: "وأرى الناس تركوا وزن الرؤوس". الفصل. وهذا كما قال: لا يجوز السلم في الرؤوس المشوبة ولا المطبوخة قولاً واحداً، كما يجوز في اللحم المطبوخ ولا يجوز في غير المشوبة عدداً لتباينها في الصغر والكبر. وأما الوزن هل يجوز؟ فيه قولان: أحدهما: يجوز وبه قال مالك - رحمه الله - أنه لحم فيه عظم يجوز شراؤه فجاز السليم فيه كاللحم. والثاني: لا يجوز. وبه قال أبو حنيفة - رحمه الله - وهذا اختيار أكثر أصحابنا لأن ما فيها من العظم الذي ليس بمقصود أكثر من اللحم الذي هو مقصود فيكثر الغرر بخلاف اللحم، ولأن فيه أنواعاً مختلفة وطعوماً متباينة، فمنها اللسان، ومنها الخد، ومنها العين، ولا يمكن ضبط كل نوع منه، وقال أبو إسحاق: لا يجوز قولاً واحداً لهذا المعنى، وقوله: "لو تحامل رجل وأجاز السلم فيه [ق 146 أ] لم يجز إلا وزناً" أراد به قول الغير. وقال بعض أصحابنا: يجوز قولاً إذا ذكر نوعاً من الخرفان أو الكباش أو التيوس أو النعاج، فيقول: مائة رأس وزن كل رأس كذا، ثم يلزمه أن يدافع ما بقى عما لا يفصل منها من الشعر والمناخر. فرع هل يجوز السلم في الكوارع؟ قال القاضي الطبري: لا يجوز ولم يذكر خلافاً، والصحيح أنه لا فرق بينها وبين الرؤوس، لأنه أكثرها غير مقصود كما في الرؤوس إذا جوزنا، يقول: مائة كراع من المقادم أو المواخر وزنها كذا. مسألة: قال: "ولا يجوز السلف في جلود الغنم". وهذا كما قال: "لا يجوز السلم في الجلود لأنها إن قدرت بالذرع لم يصح لاختلاف خلقة مواضعها وتباينها في الدقة والغلط، وإن قدرت بالوزن فإن جلدين متفقان في الوزن مختلفان في الثمن اختلافاً متفاوتاً لشدة أحدهما وصلابته وضعف الآخر وخفته. وقيل: جلد الورك ثخين قوي، وجلد الصدر ثخين رخو، وجلد الجنب ضعيف ولا يمكن العبارة عن هذا التفاوت.

وقال أصحابنا بخراسان: يجوز السلم فيها إذا ذكر الجنس والطول والعرض وإنما لا يجوز في جلد غير مدبوغ لأنه غير معلوم، وهذا خلاف النص. فرع لو أسلم في قطعة من السبت مقدرة الطول والعرض موصوفة اللون والرقة والغلطة، هل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأنها من جملة [ق 146 ب] لا يصح السلم فيها ولأنها تختلف كالمعمولة وهو قول الأكثرين. والثاني: يجوز بالوزن لأن ما تعذر ضبطه في الجلد وخيف اختلافه فيه مأمون في الفلقة المقطوعة على قدر معلوم، وهو اختيار بعض مشايخ خراسان. فرع آخر قال في "الأم": ولا يجوز السلم في إرهاب من رقٍ ولا غيره" وأراد به ما يكتب فيه، وهذا لأنه جلد كسائر الجلود. ويجب السلم في الكاغذ وزناً. فرع آخر لا يجوز السلم في الخفاف والنعال لما فيه من الحشو والغراء. وقال ابن سريج - رحمه الله -: لا يعلم في الخف إلا الله تعالى والإسكاف: يعني أنه مجهول، وحكي عن أبي حنيفة أنه يجوز أن يبتاع النعلين والشراكين، ثم يستأجر بأجرة معلومة على الجلد وعلى خرز الخفين، وإن لم يكن الجلد ميتاً لا يجوز وهذا لا إشكال فيه. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: يجوز استحساناً. مسألة: قال: "ولا السلف في البقول حزماً". وهذا كما قال: لا يجوز السلم في البقول حزماً لأنها تختلف وتتفاوت، وإن أسلم [ق 147 أ] فيها وزناً وذكر جنسه ونوعه فقال: كرات شامي أو طبري وذكر صغره وكبره

جاز، وكذلك في النعناع والطرخون والخس وغير ذلك. وقال بعض أصحابنا: لا يجوز في الخس والفجل قولاً واحداً فإنه شيئان اللب والورق منه ما يكون كثير اللب قليل الورق، ومنه ما يكون صغيراً كثير الورق ولا يمكن ضبطه، وإن ذكر البقل مطلقاً لا يجوز لأنه اسم شامل. فرع قال: ولا بأس بالسلم في قصب السكر وزناً ويقطع أعلاه الذي لا حلاوة فيه ولا منفعة، ويطرح ما عليه من القشر ويقطع مجامع عروقه من أسفله، وذكر بعض أصحابنا أن المزني قال: وأنا أقول: ويشترط أن يقطع مجامع عروقه من أسفله، ولم يذكره الشافعي. فمن أصحابنا من قال: وهو شرط مثل قطع أعلاه، لأن كلها غير مقصود. ومن أصحابنا من قال: لا يشترط هذا لأن فيه حلاوة وعروقه يسيرة ولا حلاوة في أعلاه. فرع آخر لا يجوز السلم في الجزر والسلجم إلا بعد قطع ورقه، لأن ورقه غير مقصود ولا فيه منفعة لأن قلعه مفسد له فجرى مجرى قشوره. فرع آخر لا يجوز السلم في الجزر والسلجم إلا بعد قطع ورقه، لأنه ورقه غير مقصود ولا فيه منفعة لأن قلعة مفسد له فجرى قشوره. فرع آخر ويجوز السلم في التين كيلاً أو وزناً من جنس معروف إن اختلفت أجناسه، وكذلك في القصب والقرط والبصل وما أنبت من الأرض وزناً. فرع آخر السلم في تعليم القرآن يجوز، لأنه يثبت في الذمة مهراً، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز [ق 147 ب] قال والدي - رحمه الله: والأول أجود لأن الشافعي - رحمة الله عليه - نص على جواز السلم في المنافع واعتبر قبض المقابل لها في المجلس ولم يفصل. فرع آخر لو جعل رأس المال منفعة دار فيسلم الدار له قبل أن يفارقه، ولو جعل رأس ماله تعليم سورة من القرآن يسلم نفسه إليه ثم يتخايرا ويفارقه برضاه من غير امتناع ليقطع بأحد هذين الأمرين خيار المجلس، ووجه ذلك أن تسليم ما ينتفع به جار مجري تسليم المنفعة في باب الأعواض. فرع آخر لو اسلم إلى المحرم في صيد إلى أجل يعلم خروجه من الإحرام عنده لو فعل الأظهر جواز السلم، لأن الغالب وجوده غالباً وقت الاستحقاق. وقد يعلم يقيناً إباحة الصيدلة عند التحلل على القول الذي يقول بحل الصيد بالتحلل الأول، وإن فوات وقت

رمي جمرة العقبة يفيد التحلل إذا قلنا الحق ليس بنسك، ولكن ينبغي أن يشترط في المسألة على هذا التحقيق وجود المسلم بعد الوقوف بعرفة لتصح هذه المعرفة من جهة اليقين لو بقى الحاج على شرط التكليف. فرع آخر لو أسلم دراهم في ذمته في طعام ثم عينها قبل التفرق وقبل القبض، قال المسلم إليه أعطني بدله مثله لا أنه يكون أصلاً بنفسه ففعل هل يصح أم لا؟ قال والدي - رحمه الله: يحتمل أن يقال: يصح، ويحتمل أن [ق 148 أ] يقال: لا يصح ويبطل هذا الاشتراط. فرع آخر لو جاءه بالمسلم فيه أجود مما شرط فأعطاه عوض الجودة لا يجوز، وقال أبو حنيفة: يجوز. وهذا غلط، لأن الجودة صفة فلا يجوز إفرادها بالعقد. فرع آخر اختلاف المسلم والمسلم إليه كاختلاف المتبايعين على ما ذكرنا، وإن اختلفا في الأجل فقال المسلم: بغير أجل، وقال المسلم إليه: بأجل واتفقا على الأجل واختلفا في قدره فقال من له الحق: شهر، وقال من عليه الحق: شهران تحالفا، ولو اتفقا على مبلغ الأجل واختلفا في انقضائه فقال من له الحق: قد انقضى، وقال من عليه الحق: ما انقضى، أو اختلفا في ابتدائه فقال من له الحق: شهر، وقال من عليه الحق: شهران تحالفا، ولو اتفقا على مبلغ الأجل واختلفا في انقضائه فقال من له الحق قد انقضى، وقال: من عليه الحق ما انقضى لو اختلفا في ابتدائه فقال: من له الحق أو له غرة شوال وقال: من عليه الحق أو له غرة القعدة فالقول قول من عليه الحق، لأن الأصل أنه ما انقضى. وهكذا إذا اختلفا الأجير والمستأجر، فقال الأجير: قد انقضت المدة، وقال المستأجر ما انقضت فالقول قول من ينفي الانقضاء. فرع آخر لو أسلم إليه وسلم رأس المال فقال: سلمه إليه بعد افتراقنا عن المجلس فالسم باطل. وقال المسلم إليه: سلمته [ق 148 ب] في المجلس وأقام كل واحد منهما بنية. قال ابن سريج: بنية المسلم إليه أولى لأنه يدعى صحة العقد، والظاهر من صحته وهكذا لو كان رأس المال في يد المسلم وقد تفرقا عن المجلس فقال: تفرقنا قبل القبض. وقال المسلم إليه: قبضته ثم تفرقنا ثم أودعتكه أو غصبته وأقام كل واحد منهما بينة فبينة المسلم إليه أولى لما ذكرنا. ولو لم يكن بنية فالقول قول من يدعي الصحة، ولو

كان الاختلاف بالضد فقال المسلم إليه: تفرقنا قبل القبض، وقال المسلم: ما تفرقنا إلا بعد القبض والثمن في يد المسلم وأقام كل واحد بينة بما يدعيه فالبينة بينة المسلم لأنها تثبت قضاء تنفيه الأخرى فيكون عقد السلم بحالة وقد عاد ثمن السلم فيه إلى يد المسلم بعد أن قبضه منه. فيكون القول قول المسلم إليه في حقه إلى المسلم وإن لم يكن مع واحد بينة فأقول قول من معه سلامة العقد. فرع آخر ضمان المسلم فيه جائز وقد ذكرنا، فلو ضمن فصالح الكفيل عماله بشيء يأخذ منه لا يصح الصلح، لأن الصلح بيع. ولا يجوز بيع المسلم فيه من الكفيل لأنه بيع ما لم يقبضه. ولو كان في لفظ الصلح صالحني مالك في ذمة المسلم إليه بمثل الثمن الذي أسلمته إليه لم يصح أيضاً، لأنه إقالة والإقالة من غير العاقد لا تصح. ولو قال المسلم إليه: صالحني مما في ذمتي بمثل ذلك الثمن فصالحه يجوز لأنها إقالة بلفظ الصلح [ق 149 أ] وإن لم يذكر ذلك المسلم فإنه بيع ولا يجوز بيع المسلم فيه قبل القبض. فرع آخر لو أسلم إلى رجل وشرط موضع التسليم ثم صالحه على أن يسلمه إليه في غير ذلك الموضع ويأخذ منه كرى الحمل إلى الموضع المشروط لا يجوز، ذكره ابن سريج. فرع آخر لو قبض المسلم المسلم فيه ووجده معيباً رده، فإن حدث عنده عيب آخر قال القاضي الطبري - رحمه الله: كان له الرجوع بأرشه عندي على مذهب الشافعي - رحمة الله عليه. وقال أبو حنيفة - رحمه الله: لا يرجع بالأرش لأن الرجوع بالأرش أخذ عوض الجزء الغائب. ومع المسلم فيه قبل القبض لا يجوز، وهذا غلط، لأنه عوض يجوز رده بالعيب، فإذا سقط الرد بحدوث عيب آخر ثبت الرجوع بالأرش كالمبيع في بيع العين، وأما ما ذكره فلا يصح، لأن بيع المبيع قبل القبض لا يجوز، ويجوز أخذ أرش العيب. وقال ابن سريج - رحمه الله: هذا باعتياض على الجزء الفائت ولكنه فسخ في الجزء الفائت، فإذا كان المسلم فيه عيب ينقص عشر قيمته، وأخذ الأرش فقد أخذ عشر رأس المال فينقص البيع فيه، وفي الباقي البيع صحيح تام. وذكر القفال أن الشافعي - رحمة الله عليه - نص على ما ذكره القاضي الطبري وقال المزني: "لا يجوز ذلك، كما قال أبو حنيفة، وقال ابن سريج: ما قاله الشافعي صحيح على ما ذكرنا عنه، وذكر [ق 149 ب] والدي - رحمه الله - أنه يرد مع أرش العيب الحادث عنده ويطالبه بالمسلم فيه على الصفات المشروطة، لأنه استحق في ذمته ثوباً سليماً، وهو دفع غير ما استحقه فله الرد وأخذ المستحق كما لو كان عليه درهم جيد فدفع رديئاً يرد. ويطالبه بالجيد. قال: وعلى هذا لو كان عليه لآخر عبد سليم فدفعه معيباً ولم يعلم به القابض حتى اكتسب العبد

باب التسعير

مالاً، أو كانت جارية فولدت ثم أراده رده بالعيب، له الرد وعليه رد ما اكتسبه معه، لأن ملك الرافع لم يزل بالدفع إلا بشرط الرضا، فإذا لم يكن رضا علم أنه باق على ملكه فيكون الكسب له، وهذا لا يصح عندي، لأن ملك الدافع زال الدفع، ولهذا لو وجد به عيباً فسكت بطل الرد وبقي على ملكه، وكذلك لو رضي بالعيب فلا معنى لهذا. فرع آخر لا يجوز أن يشتري سلعة ويشترط على البائع سربلها، وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: يجوز لأن الناس يفعلون ذلك، وهذا غلط لأنه بيع شرط فيه على البائع منفعة بغير عوض فلا يجوز، كما لو اشترى حنطة على أن يطحنها البائع. فرع آخر لو قال: اشتريت هذه السلعة بدرهم واستأجرتك لسويتها بدرهم فيه طريقان: أحدهما: فيه قولان، لأنه جمع بين بيع وإجازة. والثاني: لا يجوز وجهاً واحداً لأنه شرط العمل فيما لم يملكه بعد. فرع آخر لو قال لعبد رجل: اشتر نفسك [ق 150 أ] من مولاك بكذا فاشترى نفسه له من مولاه، قال ابن سريج: فيه وجهان وقيل قولان: أحدهما: يصح البيه لأنه إذا جاز أن يكون وكيلاً له في شراء عبد جاز أن يكون وكيلاً في شري نفسه، ولأنه إذا ناب عن غيره كان بمنزلة قبول الموت عنه وهذا أقيس، وبه قال مالك رحمه الله. والثاني: لا يجوز وهو المذهب، لأن يد العبد يد سيده، وإذا لم يجز أن يشتري من نفسه لغيره فكذلك لا يجوز. فإذا قلنا: يصح فإن صدقه المشتري له أنه وكله كان الشري له، وإن لم يصدقه كان الشري لازماً له وعتق ويثبت الثمن في ذمته، وكذلك لو وكل رجل عبد رجل بأن يشتري له عبداً لسيده هل يصح؟ وجهان. فرع آخر لو باع عبده من نفسه صح ويكون عتقاً بعوض فيعتق ويستحق الثمن في ذمته وإن أقر العبد بعد ذلك أنه ابتاع لزيد، فإن صدقه السيد وزيد على ذلك فيه وجهان، والصحيح أنه يقبل، وإن كذبه السيد فالقول قول السيد مع يمينه على أنه لا يعلم ووقع البيع لنفسه وعتق لأن الظاهر أنه ابتاع لنفسه. باب التسعير قال: أخبرنا الدراوردي الخبر.

وهذا كما قال. لا يجوز للسلطان ولا للناظر في أمور المسلمين أن يسعر على [ق 150] التجار في امتعتهم في الطعام وغيره لا في حال الخصب والرخص، ولا في حال الغلاء والقحط. وقال مالك: للإمام، التسعير عند غلاء الأقوات، فإن خالفوا أدبهم إلا أن يمتنعوا عن البيع أصلاً فلا يجبروا. وقيل عنه: أنه له يبيع من بيته كيف شاء. وقال بعض أصحابنا بخراسان: للإمام التسعير وإن لم يكن ضرورة عند مالك وعندنا في زمان القحط وشدة الحال ومع رجل أو جماعة طعام لا يبيعونه يسعى الوقت فسعر الإمام نظر للناس هل يجوز أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز. والثاني: يجوز للمضطرين أن يغيروا على طعام الغير فيأخذونه بقيمة مثله ذكره أبو حامد أيضاً. ولكنه في الحقيقة ليس تسعير لأنه يجوز له الأخذ جبراً وقيل: إنما يسعر في السوق فأما في بيته يبيع كيف شاء، لأن عمر - رضي الله عنه - قال لحاطب إما أن ترفع في السعر، وإما أن تدخل بيتك فتبيعه كيف شئت. وقال أبو إسحاق: إن كان يجلب إليه الطعام لا يجوز التسعير، وإن كان طعام أهل البلد من البلد فللإمام أن يسعر وهذا خلاف النص. واحتج الشافعي رحمه الله بما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: سعر على أصحاب الطعام، فقال: "بل أدع الله" ثم جاء آخر فقال: يا رسول الله، سعر على أصحاب الطعام، فقال: "بل ادع الله" ثم جاء آخر فقال: يا رسول الله، سعر على أصحاب الطعام، فقال: "بل ادع الله يرفع ويخفض، [ق 151 أ] وإني لأرجو أن ألقي الله تعالى وليست عندي لأحد مظلمة". وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما قيل له: يا رسول الله غلا السعر فسعر لنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله تعالى وليس لأحد منكم من يطلبني بمظلمة في دم ولا مال". فقال الشافعي: ولأن الناس مسلطون على أموالهم ليس لأحد أن يأخذها ولا شيئاً منها بغير طيب أنفسهم إلا في المواضع التي تلزمهم، وهذا ليس منها، وأراد بالمواضع التي تلزمهم أروش الجنايات ونفقات الغرامات فالحقوق اللازمة للمستحقين وهي كثيرة، ومن جملتها أن الضرورة إذا اشتدت بالمضطر كان للسلطان أن يتعاطى أخذ مال الناس لشدة ..... جبراً ولكنه لا يجوز إلا بعوض، فإن وجد للمضطر ما يصرف إلى قيمة الطعام صرفه، وإن لم يجد له مالاً وفي بيت المال شيء فالقيمة في بيت المال، وإن لم يكن في بيت المال ما أجبر الناس على إشباع الجائعين بلا عوض ولا بغير طيب أنفسهم في هذه المنزلة ولكنه يجتهد

ويجبر المتولين والأغنياء وأولادهم الناس على الإشباع والكفاية، لأن الأسعار وإن ارتفعت فلا يكاد يعدم الفقراء من يتصدق عليهم بثمن الطعام. واحتج مالك رحمه الله بما روى عن عمر - رضي الله عنه - أنه مر بحاطب في سوق المصلي [ق 151 ب] وبين يديه غرارتان فيهما زبيب، فسأله عن سعرها كل مدين بدرهم، فقال له: حدثت بعير مقبل من الطائف وهم يعتبرون بسعرك، فإما أن ترفع في السعر، وإما أن تدخل زبيبك البيت فتبيعه كيف شئت. فدل على جواز التسعير. وروى عن علي رضي الله عنه أنه سعر على قوم طعاماً فخالفوه فحرقه عليهم من الغد. والجواب ما ذكره الشافعي رحمه الله قال: هذا الذي رواه مالك بعض الحديث، وتمام الحديث: أنه لما رجع حاسب نفسه كل ليلة لما جرى في يومه فوجد في حسابه أنه سهر الحاطب، فأتى حاطباً في جوف الليل، وقال: إن الذي قلت ليس بعزيمة مني ولا قضاء، وإنما هو شيء أردت به الخير لأهل البلد، فحيث شئت فبع وكيف شئت فبع. قال الشافعي: وهذا الحديث يقتضي ليس بخلاف لما روى مالك، ولكنه روى بعض الخبر أو رواه من رواه عنه، وهذا أتى بأول الخبر وآخره، ثم أشار إلى ما ذكرنا من القياس. وأما لفظ الحديث: "فسعر له مدين لكل درهم"، قرئ بتنوين اللام ورفع الدرهم "لكل درهم"، وهو اختيار القفال. ومعناه: كل مد بدرهم. وقرئ بتنوين اللام وخفض الدرهم، ومعناه: بعه مدين بدرهم. وهذا يحتمل اللفظان ثبتت به الرواية، ولا يختلف الحكم بذلك، وفي هذا الأمر دليل على أن الإمام إذا أمر بشيء وهو يريد به المصلحة وليس ذلك بحتم في الشرع فعليه تبيينه للمأمور على أن [ق 152 أ] مرادي بذلك المصلحة وليس ذلك بحت في الشرع لئلا يظن المأور خلافه. ولهذا أتى عمر - رضي الله عنه - حاطباً في داره نبه على ذلك. وقال أصحابنا: المستحب للإمام أن يباشر مطالعة أحوال الأموال، ولا يرتفع عن ذلك كما كان عمر - رضي الله عنه - يفعل. وأما خبر علي - رضي الله عنه - فلا يصح وهو متروك بالإجماع. فرع إذا جوزنا التسعير في الطعام هل يجوز في علف البهائم؟ وجهان، لأن لها حرمة بالروح. فرع آخر إذا سعر الإمام فخالفه له أن يعزره، وهل يصح البيع؟ وجهان:

أحدهما: لا يجوز، لأنه صار محجوراً عليه، ويجوز الحجر على الخصوص. والثاني: يجوز، لأنه لو باع في بيته يجوز. فرع آخر الاحتكار محرم في الجملة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن احتكار الطعام. وروى ابن عمر - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجالب مرزوق والمحتكر ملعون" وروى: "المحتكر ممحوق". وقال مالك رحمه الله: لا يجوز في الطعام وغيره من السلع. وقال: ليست الفواكه من الحكرة. وقال أحمد رحمه الله: لا احتكار إلا في الطعام خاصة لأنه قوت. وقال: في مثل مكة والمدينة والثغور، فأما في بغداد والبصرة فلا، لأن السفن تخترقها. وروى أن عمر - رضي الله عنه - خرج مع أصحابه فرأى طعاماً كثيراً قد ألقى على باب مكة، فقال: ما هذا الطعام؟ فقالوا: جلب إلينا، فقال: بارك الله فيه [ق 152 ب] وفيمن جلبه. قيل له: إنه قد حكر، فقال: ومن حكره؟ فقيل: فلان مولى عثمان وفلان مولاك، فأرسل إليهما وقال: ما حملكما على احتكار طعام المسلمين؟ فقالا: نشتري بأموالنا ونبيع. فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من احتكر على المسلمين طعامهم لم يمت حتى يضربه الله بالجذام أو الإفلاس". وقال الراوي: فأما مولى عثمان فباعه، وقال: والله لا احتكر أبداً. وأما مولى عمر فلم يبعه، فرأيته مجذوماً مخدوشاً. قال صاحب "الإفصاح": معناه إذا احتكر في الأوقات التي يضطر الناس إلى ما احتكره ومس حاجتهم إليه. فأما إذا نقص السعر لكثرة الطعام وسعته فاشتراه طلباً للربح فيه كان جائزاً. وروى سعيد بن المسيد عن معمر بن أبي معمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحتكر إلا خاطئ". فقيل لسعيد: إنك تحتكر، قال: ومعمر كان يحتكر. وتأويله أن المحرم نوع على ما ذكرنا. قال أصحابنا: وهكذا لو جلبه من بلد الرخص إلى بلده ليبيعه وقت الغلاء والحاجة بسعر اليوم يجوز؟ وربما يكون هذا حسنه، لأنه ينتفع به الناس. وكذلك إذا ارتفع من طعام فحبسه زماناً ليبيه وقت الحاجة يجوز إن كانت نيته أن لا يبيعه وقت حاجتهم وجوز مغالتهم إياه فهو حرام. وفي هذا روى ابن عمر - رضي الله عنهما - أن

باب ابتياع ذي الحق من أخذه وما لا يلزمه قبوله

النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من احتكر طعاماً أربعين ليلة بريء من الله، وأيما [ق 153 أ] أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت ذمة الله منهم". ومن أصحابنا من قال: الاحتكار مكروه والنهي نهي كراهةٍ، والصحيح ما ذكرنا. وبه قال مالك وأبو حنيفة. فرع روى عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع المضطر، وبيع الغرر، وبيع الثمرة على نخلها قبل أن تدرك. وأراد: إذا اضطر إليه بالإكراه عليه فلا يصح. وقيل: أن يضطر إلى البيع لدين أو مصادره فيبيع بالوكس للضرورة. فالمستحب أن لا يبتاع على هذا الوجه ولكن يعان ويقرض ويمهل إلى اليسار، فإن عقد جاز في الجملة. باب ابتياع ذي الحق من أخذه وما لا يلزمه قبوله مسألة: قال: "وأصل ما يلزم المسلف قبول ما سلف فيه أنه يأتيه به من جنسه". وهذا كما قال: إذا أتى المسلم إليه بالمسلم فيه لا يخلو من ثلاثة أحوال، إما أن يأتي به على الصفة التي تناولها العقد، أو أزيد منها، أو دونها. فإذا أتى به على الصفة لزمه قبوله، فإن امتنع من قبوله قيل له: إما أن تقبضه أو تبرئه من الحق، لأن له عرضاً أن تبرأ ذمته من حقك، فإن فعل وإلا قبضه الحاكم عنه وبريء المسلم إليه منه، لأن الحاكم ينوب عن الممتنع بولايته عليه، وليس للحاكم الإبراء، لأن الولي يملك القبض ولا يملك الإبراء. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قول [ق 153 ب] لا يجبر على قبوله كمن لا حق قصاص لا يقال: إما أن تأخذ أو تبرئ. وهذا ضعيف، لأن في القصاص ذمته بريئة، وقد خرج من المأثم بالتمكين، ولأن هناك لا ضرر وههنا ضرر، لأنه ربما يطالبه بعد ذلك وقد أعسر، وهذا إذا لم يكن له غرض إلا براءة ذمته، فإن كان هناك غرض آخر بأن كان يحتاج في حفظه إلى مؤنة أو يخاف هلاك المال يجبر على قبوله وجهاً واحداً، فإن اختلفا في الوصف الذي شرطاه سئل أهل الخبرة، فإن قالوا: قد وجد هذا الوصف فيه أجبر على قبوله.

قال الشافعي رحمة الله عليه: ويعتبر أقل ما يقع عليه اسم الوصف الذي شرطاه وإن كان هناك أجود منه، وإن أتى به دون صفته لم يلزمه قبوله، لأنه لا يجبر على إسقاط حقه. وإن أتى به فوق حقه لا يخلو إما أن يأتيه فوق صفته أو بنوع آخر أجود من نوعه، أو بجنس آخر خير من جنسه، فإن أعطاه من نوعه أجودهما شرط يلزمه قبوله، لأنه أتاه بما تناوله العقد وزيادة تابعة لما تناوله العقد تنفعه ولا تضره. ويفارق هذا إذا اشترى شيئاً بعينه وأعطاه من نوعه خيراً منه لا يلزمه قبوله، لأن العقد تناول عيناً فلا يصح في عين أخرى إلا بعقد جديد وفسخ الأول، وههنا ما يقبضه يعين فيه العقد الأول، وإن أتى به زائد القدر لا يلزمه قبول الزيادة، لأنه يمكن تمييزها ولا تكون [ق 154 أ] الزيادة تابعة لما تناوله العقد، بل هذا ابتداء هبة، وإن قبلها كانت هبة تفتقر إلى ما تفتقر فيه الهبة، وإن أتى بجنس آخر من المسلم فيه، مثل أن يسلم في التمر فيأتيه بالزبيب، أو يسلم في الشعير فيأتيه بالحنطة لا يجبر على قبوله، لأن هذا غير المعقود عليه، وإن أراد قبوله لم يجز، لأنه بيع المسلم فيه قبل القبض. ولو أتى بشاة حمراء بدل شاة سوداء يجوز إذا رضي، وإن كان نوعاً غير النوع الذي أسلم، مثل أن يأتي بالضأن بدل المعز، أو أتى بالزبيب الخراساني بدل الزبيب الرازي لم يلزمه قبوله، لأنه يختلف فيه الغرض. وإن كان ما أتى به أكثر قيمة، وهل يجوز أن يتراضيا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، لأن ذلك بيع المسلم فيه كما قلنا في الجنسين. وبه قال أبو إسحاق. والثاني: وبه قال ابن أبي هريرة: يجوز، لأنهما جنس واحد ويضم أحدهما إلى الآخر كالزكاة. وهذا أصح. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان، وهو غريب. وقال أبو حامد رحمه الله: يجوز قبوله، وهل يلزم قبوله؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه قبوله - وهو الصحيح - لأن زيادة النوع كزيادة الصفة، ولأنه لو لم يكن المبيع لم يجز قبوله. ولأن الشافعي رحمة الله عليه قال: "وأصل ما يلزم السلف قبول أن يأتي من جنسه" فاعتبر الجنس فقط ولا يصح هذا، لأن الشافعي قال: وإن كان زائداً يصلح ما يصلح له [ق 154 ب] ما أسفله فيه أجبر على قبضه، وقد يصلح أخذ النوعين لما لا يصلح الآخر فأخذ الزبيين يصلح للخل ولا يصلح الآخر له، وأخذ اللحمين يصلح في اللون من الآخر، ويخالف زيادة الصفة، لأن الغرض فيه موجود مع زيادة بالغة. وأما جواز الأخذ فلا أسقط ما عدمه من صفة النوع الذي عينه، فهو يأخذ كما يأخذ الرديء عن الجيد، ولا يشبه الجنس الآخر لا يجوز أخذه، لأنه لا يدخل في صفاته ولا في بعضها فافترقا. وعلى هذا أتى بثوبه مروي فكان ثوب هروي فهو زيادة النوع

فرع لو أتى بجاموس بدل بقرة هل يجوز قبوله؟ وجهان. ولو أسلم في حمار وحشي فأتاه بأهلي، فإن قلنا لا يجوز في الجاموس فههنا أولى. وإن قلنا يجوز في الجاموس فههنا وجهان: فرع آخر لو اسلم في غنم فأعطاه غنماً خرجت من الظباء، والغنم فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: يجوز قبوله. والثاني: لا يجوز. والثالث: إن كانت الأم غنماً يجوز قبوله وإلا فلا يجوز. مسألة: قال: "وإن كانت حنطة فعليه أن يوفيه إياها نقية من التبن". وهذا كما قال. إذا كان الحق حنطة فعليه أن يوفيه حنطة خالصة ليس فيها مدر ولا شعير ولا نصل ولا زوان، فإن جاء بها وفيها دقاق التبن أو التراب، فإن كان كثيراً لم يلزمه قبولها، فإن كان الشرط وزناً لا يلزمه [ق 155 أ] قبوله بحال، لأنه يأخذ قسطاً في الميزان. مسألة: قال: "وليس عليه أن يأخذ التمر إلا جافاً". وهذا كما قال: إذا كان الحق تمراً يلزمه ما يفع عليه اسم التمر، وهو إذا بلغ أول وقت الادخار، وليس له أن يطالبه بما تناهي خفافه، فلو أعطاه ما جاوز حد الرطب ولم يبلغ حد الادخار لم يلزمه قبوله، لأنه خفة. وقال مالك رحمه الله: إذا اسلم في جيد له أوسط ما ينطلق عليه الاسم. فرع يلزمه أن يقبل من أقاع التمر ما ألصق بها، لأنه أحفظ لها، ولا يلزمه أن يأخذ ما انفصل منها كالنوى. فرع آخر لو اسلم في لحم الطير والسمك، قد ذكرنا أنه لا يلزمه أخذ الرأس. وقال بعض أصحابنا

بالبصرة: إن كان الطير صغيراً لا يحتمل أن يباع مبضعاً لزمه فيه أخذ الرأس والرجلين. وكذلك فيما صغر من الحب يؤخذ الرأس والذنب، لأنه يؤكل معه ويطبخ معه إلا أن يشترط قطع ذلك، كالعظم، وبهذا القول وجه ولكن المذهب خلافه، ولا فرق بين صغار ذلك وكباره، لأن الرأس والرجلين تتميز عن اللحم والعظم، داخل في اللحم، واللحم متراكب عليه فافترقا. فرع آخر أخذ الجلد مع اللحم، فإن كان لحم إبل أو بقر أو غنم لم يلزمه قبوله، وإن كان لحم طير أو حوت لزمه، لأنه مأكول معه ولا يكاد ينفصل عنه فكان أولى [ق 155 ب] أن يلزم قبوله من العظم الذي قد ينفصل عنه ولا يؤكل معه. وهكذا لو كان السلم في لحوم الجدي الصغار لزمه قبول الجلد فيه كما ذكرنا من المعرف المعتاد في أكله معها، وأنه لا يتميز في الغالب عنها. مسألة: قال: "وإن أعطاه مكان كيل وزناً، أو مكان وزن كيلا أو مكان جنس غيره لم يجز بحال". وهذا كما قال. كل موضع أراد قبض ما في ذمته فإنما يقبضه على الوجه الذي لزم في الذمة لو كان كيلاً فكيلاً، وإن كان وزناً فوزناً، ولا يأخذ مكان الكيل وزناً ولا مكان الوزن كيلاً، لأنه لا يعلم هل أخذ بعض حقه أم أكثر، أو فوق حقه. فإن خالف بغير ما وجب له كان وجب له قفيز طعام فأخذ مائة وعشرين رطلاً كان القبض فاسداً، فإن كان الطعام قائماً كلناه، فإن خرج وفق حقه فذلك، وإن كان دون حقه فعليه الفضل، وإن كان أكثر رد الفضل، وإن كان تالفاً فإن اتفقا على شيء حمل الأمر عليه، وإن اختلفا في القدر أو نفس الطعام فالقول قول القابض. وقال مالك، والثوري، والأوزاعي: إذا أصدقه في الابتداء فالقول قول البائع. وهو غلط، لأن الأصل عدم القبض وطريق القبض كان فاسداً ههنا. ولو تصرف هذا القابض قبل الكيل هل يصح؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأنه بيع المسلم فيه قل قبضه. والثاني: وهو [ق 156 أ] اختيار أبي إسحاق يجوز، لأنه دخل في ضمانه. وقد مضى نظير هذه المسألة. فإن قال قائل: إذا استحق عليه حنطة كيلاً فأعطاه وزناً فقد استوفي حنطة وحقه حنطة، فلم قال الشافعي: "فإنه بيع المسلم فيه قبل أن يستوفي"؟ قلنا: شبهه بالبيع بخلاف الرابع في الاستيفاء، فجعل بدل الاستيفاء كبدل المستوفي وذلك غير بعيد. وتقدير اللفظ

ههنا لأنه كبيع المسلم فيه قبل الاستيفاء. ويحتمل أن يقال: جمع الشافعي بين المسائل الثلاث وانعطف تعليله على المالية وحدها، وهي قوله: "أو مكان جنس غيره". والعلة في المسألتين الأوليتين غير هذه وهي ما ذكرنا. ثم ذكر أن الاعتبار في الكيل والوزن بالحجاز، وبصاع رسول الله صلى الله عليه وسلم دون سائر الأصع خلافاً لأبي حنيفة. وفائدة هذه المسألة في الربا لا في السلم، لأن السلم في المسلم في الكيل بالوزن يجوز، وقد ذكرنا قبل هذا. فرع روى علقمة بن عبد الله عن أبيه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تكسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس. وأراد به كسر الدراهم المضروبة على السكة. وقيل: إنه كره لما فيه من ذكر الله تعالى. وقيل: كره لما فيه من الرصعة وفيه تضييع المال. وقال ابن سريج رحمه الله: كانوا يرصون الدراهم [ق 156 ب] ويأخذون أطرافها فنهوا عنه. وقال بعض أهل العلم: إنما كره قطعها وكسرها من أجل التدنيق. وقال الحسن: لعن الله الدانق وأول من أحدث الدانق. فرع آخر إذا مات المسلم إليه قبل الأجل وهناك ضامن عنه ولم يوجد الشيء، فالصحيح أن السلم باق والمسلم بالخيار في أصح الوجهين، فإن فسخ سقط الضمان. وإن مات الضامن فله مطالبة ورثته بالشيء إن وجد، وإن غرموه لم يرجع على المضمون عنه إلا بعد أجله إن كان ضمان أبيهم بأمره، وإن عدم الشيء فلا مطالبة له عليهم. فرع آخر إذا جعل المسلم فيه قبل قبضه هذا فالميت المسلم إليه لم يجزئه وإن كان المسلم إليه امرأة قالت: تزوجني عليه لم يجز. وكذلك الخلع. مسألة: قال: "لوجاء [بحقه] قبل محله". الفصل: وهذا كمال قال. إذا جاءه بالحق قبل محله لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون له

غرض في تأخيره إلى وقت محله مثل أن يكون رطباً أو لحماً أو غير ذلك مما يخاف تغييره وفساده إلى المحل أو كان شيئاً له حجم يحتاج إلى حفظه إلى مكان مثل القطن ونحوه إن كان يخاف تلفه، مثل الحيوان فيلزمه مؤنة علفة فلا يلزمه قبوله، وإن كان لا يخاف فساده ولا له مؤنة ولا يحتاج في حفظه إلى مؤنة كالدراهم والدنانير والرصاص [ق 157 أ] والحديد ونحو ذلك ينظر، فإن كان الوقت مخوفاً فلا يجبر أيضاً على قبوله. وقال بعض أصحابنا: إن كان الخوف موجوداً عند العقد هل يلزمه القبول؟ وجهان. وإن كان الوقت آمناً على قبوله لأنه لا غرض له في تأخير قبوله. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان: أحدهما: هذا والثاني: لا يلزمه، لأنه ربما يستقرضه صديق له فيستحي أن يرده وما أشبه ذلك، فيريد أن لا يكون في يده ذلك. قال هذا القائل: إن كان للدافع غرض في ذلك مثل فك رهن أو إبراء ضامن، أو نجوم كتابة يريد أن يعتق بأدائه يلزم المستحق قبوله قولاً واحداً. وفيه ورد الحديث أن أنس بن مالك رضي الله عنه كاتب سيرين، فجاء بالنجم قبله محله، فأبى أن يأخذه، فرفعه سيرين إلى عمر - رضي الله عنه - وقال: أنه يريد أن أموت ويأخذ مالي وأولادي، فقال عمر رضي الله عنه: لتأخذنه ولأجعلنه في بيت المال وأحكم بعتق سيرين. وروى أنه أخذه منه وقال: اذهب فقد عتقت. قال هذا القائل: وهذا في غير السلم، فأما المسلم اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: هو من الجملة الثانية، لأن للمؤدي غرضاً في ذلك، وتلك أشياء ....... من إنقاذ المسلم فيه من أيدي الناس فينفسخ السلم أو يثبت فيه الخيار [ق 157 ب] للمسلم. ومنهم من قال: ليس هذا من الأغراض وهو من الجملة الأولى فيه قولان. وقال في "الحاوي": لو كان في سوق ينتظر ويتوقع زيادة سعر فيه وجهان: أحدهما: أنه قصد صحيح، وهذا عذر في تأخيره فلا يلزمه أخذه. والثاني: هذا المعنى لا يختص بالمسلم وإنما يختص بالسلم فلم يجز له عذر في تأخير القبض ويجبر على أخذه. فرع إذا أسلم ثوباً في ثوب فيه أوجه. أحدهما: يجوز حتى يتفاوتا في بعض الأوصاف.

والثاني: لا يحتاج إلى هذا، ولكن إطلاق العقد يقتضي ثوباً آخر للعادة كما في نقد البلد، فإذا بقى بذلك الثوب لا يلزمه قبوله، فإن قبل كان تقليلاً واسترجاعاً لرأس المال. والثالث: يجوز، وإذا أتى به يلزمه قبوله. فرع آخر إذا جوزنا فجاء بذلك الثوب وألزمناه القبول فأراد إقالة السلم هل يجوز؟ وجهان: أحدهما: لا يجوز، لأن الإقالة ترد على عين ........ لا على ما في الذمة فيؤدي إلى أن يصير عين الثوب عوضاً ومعوضاً في الإقالة فلا يصح. والثاني: يجوز يقابلان في القيمة كما لو هلك رأس المال. فرع آخر لو قال: بعتك بعشرة من نقد كذا، فإن كان انقطع عن أيدي الناس بطل، لأنه لا يقدر على تسليمه، وإن كان موجوداً في تلك البلدة إلا أنه يحتاج في تحصيله إلى كلفة وطلب يصح نقداً [ق 158 أ] كان أو نسيئة. وإن كان عزيز الوجود نظر، فإن كان موجوداً عند المشتري أو كان مؤجلاً، ويمكنه تحصيله في تلك البلدة يصح. فإن لم يكن موجوداً عند المشتري والثمن حال لا يصح، لأنه التزم بالعقد تسليم ما لا يقدر عليه. وإن كان النقد لا يوجد في تلك البلدة ويوجد في بلدة أخرى، وإن كان الثمن حالاً أو مؤجلاً بأجل قصير لا يتمكن من إحضاره في تلك المدة لا يصح، وإن كان يتمكن من إحضاره يصح، ثم أن أحضره فلا كلام. وإن تعذر، فإن قلنا: أخذ البدل عن الثمن لا يجوز فحكمه حكم المسلم فيه إذا انقطع. وإن قلنا: يجوز أخذ البدل عنه يستبدل ولا يفسخ العقد. وقال بعض أصحابنا: للبائع فسخ العقد، لأنه تعذر وصوله إلى الثمن المستحق بالعقد كما لو أفلس. فرع آخر قال المسلم إليه: الجنس المستحق في هذه السنة فيه قلة ولا آمن أن يكون عند المحل منقطعاً فيطالبني برد رأس المال، فهل هذا غرض صحيح حتى يجبر المسلم على الاستبقاء إذا لم يكن فيه ضرر؟ وجهان: أحدهما: يجبر لأنه أمر محتمل. والثاني: لا يجبر لأنه أمر موهوم. فرع آخر لو جاء به غير مكان العقد ولا عرض في الموضع وليس فيه التزام غرامة، فهل

يلزمه [ق 158 ب] قبوله؟ وجهان: فرع آخر لو جاء به وفي نقله مؤنة فقال: أنا التزم هذه الغرامة وأعطني أجرة النقل لا يلزمه قبوله في غير المكان المشروط. فرع آخر لو جاء بالمسلم فيه وخلى بينه وبين المالك. فإن قلنا: التخلية في البيع قبض فههنا وجهان، والفرق أن هناك الملك ثابت له في العقود عليه قبل القبض، والذي ترك عنده ملكه فجعلناه قابضاً له وههنا ليس الملك فيه له وإنما يملك بالاستيفاء ولم توجد حقيقة القبض فلم ينقل الملك فيه إليه.

كتاب مختصر الرهن من كتابين جديد وقديم

كتاب مختصر الرهن من كتابين جديد وقديم أعلم أن الرهن في اللغة دوام مال من عليه الحق ويبقيه بما عليه من الحق وهو مشتق من الثبوت والدوام تقول العرب: رهن الشيء إذا ثبت والنعمة الرهنة هي الثابتة الدائمة. ويقال: رهن رهناً ورهنت الشيء فهو مرهون ولا يقال: أرهنت إلا في شاذ اللغة. ولا يجوز أن يقال: أرهنته بمعنى ارتهنته، ولا يقال: أرهن إذا غل في السلعة، وأرهن ابنه إذا جعله رهينة وخاطر به. وقال ابن فارس: أهل الرهن حبس الثمن على حق، يقال: فلان رهن بكذا. قال الله سبحانه وتعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] أي محبوس حتى يخرج من حقوق الله تعالى، ويجمع الرهن على رهون ورهان [ق 159 أ] والأصل في جواز الرهن الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {إذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] فأمر بالكتابة في الدين، ثم قال: {وأَشْهِدُوا إذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] فأمر بالإشهاد، ثم قال: {وإن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ ولَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] فأمر بالرهن في الدين وأخيراً من صفته أن يكون مقبوضاً. وقيل: معناه فارهنوا كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] أي فحرروا، وقرئ هذا بقرائتين فرهن، فرهان، والرهان جمع وقوله رُهُن جمع الجمع. وقال الزجاج: يحتمل أن يكون ذلك جمع رهان أيضاً كما يقال: سقف وسقف وقيل: قوله: "فرهان" مستعمل في السبق والنضال، وفي قوله: "فرهن" مستعمل في المعاملات. والرهينة ليست من هذين بل هي مستعملة في أرهان النفوس. وأما السنة فروى جعفر بن محمد عن أبيه النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي. وهذا مرسل رواه الشافعي - رحمه الله -. وروى مسنداً عن عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه عند يهودي وأخذ منه شعيراً لأهله، وقيل: عدل النبي صلى الله عليه وسلم في هذا عن أصحابه إلى اليهودي خوفاً أن يحابوه، واختلفوا هل مات قبل فكاكه أم لا؟ [ق 159 ب] قيل: مات

قبل (فكاكه). وقيل: فكه قبل موته، لأنه صلى الله عليه وسلم قال: "نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضي عنه" والصحيح أنه مات قبل فكاكه لما روى عكرمة، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند رجل من اليهود بثلاثين صاعاً من شعير. وأما الخبر الذي ذكرنا فمحمول على من مات ولم يترك وفاءه. وأما الإجماع: فلا خلاف بين المسلمين فيه. ثم أعلم أن أصل الوثائق بالحقوق ثلاث، رهن، وضمين، وشهادة لا تختلف باختلاف المكان، وكل وثيقة جازت سفراً، وكل ما جاز سفراً جاز حضراً. والإشهاد خوف التجاحد، والرهن، والضمين خوف الإفلاس والمنع. وقال مجاهد، وداود - رحمها الله -: لا يجوز الرهن إلا في السفر عند عدم الكاتب. واحتج بقوله سبحانه وتعالى: {وإن كُنتُمْ عَلَى سَفَرٍ ولَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] فشرط في السفر وعدم الكاتب، وهذا غلط لخبر اليهودي فكان ذلك الرهن بالمدينة، ولأن كل وثيقة تجوز في السفر تجوز في الحضر كالضمين، وأما الآية الكريمة التي ذكرناها قلنا: ذكر فيها السفر، لأن الغالب أن الكاتب والشهود لا تنعدم إلا في السفر لأشرط. مسألة: قال "أذن الله سبحانه وتعالى بالرهن في الدين، والدين حق فكذلك كل حق لزم [ق 160 أ] في حين الرهن". الفصل وهذا كما قال: الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن أمر ندب لا وجوب، لأنه تعالى قال: {َإنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] ولهذا قال الشافعي - رحمة الله عليه - أذن الله تعالى في الرهن ولم يقل أمر بالرهن. وأعلم أن هذه الإشارة إلى أن الآية وردت في دين مخصوص وهو دين السلم ولكن لا يختص جواز الرهن بذلك والكلام الآن في فصلين: أحدهما: فيما يجوز أخذ الرهن: والثاني: في الوقت الذي يجوز أخذ الرهن فيه. أما الأول فكل حق لازم في الذمة يجوز أخذ الرهن به، وقيل: كل حق ثابت في الذمة يصح استيفاءه من الرهن، وهذا الحد أولى وذلك مثل الأثمان في المبيعات والقرض. وأما الصلح، ومال الحوالة، وما الضمان، والأجرة في الإجازة، والمهر في

النكاح، والعوض في الخلع، وقيم المتلفات وأرش الجنايات إذا كان محمداً واستقرت في ذمة الجاني، فإن أخل الشرطان أو أحدهما فكان الحق غير لازم لا يجوز أخذ الرهن به، فمن ذلك البيع لو قال المشتري للبائع: أعطني به وهذا لا يجوز، لأن عين البيع لا تثبت بنفي الذمة وكذلك سائر الأعيان في المغصوب والعارية، ويجوز ذلك، لا يجوز أخذ الرهن، وقال مالك - رحمه الله: [ق 160 أ] كل عين مضمونة بالتلف يجوز أخذ الرهن عليها قبل التلف كالمغصوب ولا يجوز ذلك في الأمانة. وقال أبو حنيفة - رحمه الله -: كل عين كانت مضمونة بنفسها جاز أخذ الرهن بها ولا يجوز أخذ الرهن بالبيع، لأنه مضمون بفساد العقد. وهذا غلط، لأن قبل هلاك العين في يده لم يثبت الدين في الذمة ولا يصح أخذ الرهن به كالبيع، وإنما اشترطنا اللزوم لأن الله تعالى ذكر الرهن في الدين، والدين اسم للحق اللازم فرع لا يجوز أخذ الرهن بمال الكتابة، وقال أبو حنيفة: يجوز وهذا غلط، لأنه غير ثابت، لأن للعبد إسقاطه بتعجيز نفسه، لأنه إذا تعذر مال الكتابة لا يستوفي من الرهن فلا معنى له. وقيل: فيه وجهان لأصحابنا وليس بشيء. فإن قيل: الثمن قبل التفوق ليس بلازم وكذلك مدة الخيار الثلاث فيجب أن لا يجوز أخذ الرهن به كمال الكتابة. قلنا: الفرق أن الثمن قبل التفرق يؤول إلى اللزوم، فيكون في معنى اللازم خلاف مال الكتابة حق أيضاً، ولا يجوز أخذ الرهن به، وكيف عطف قوله فكذلك كل حق لازم على قوله: "والدين حق" قلنا: اللفظ الشافعي - رحمة الله عليه - ما ذكر في الأم: "والدين حق لازم" فكذلك حق لزم والمزني - رحمه الله تعالى - أخل [ق 161 أ] بالنقل فحسن العطف وسقط السؤال. فرع آخر لا يجوز أخذ الرهن في الأمانات من الودائع ومال القراض والشركة ونحوها. وأما الجعل في الجعالة فإن كان بعد عمل العامل يجوز أخذ الرهن به لأنه لازم في الذمة، وإن كان قبل عمل العامل مثل إن قال: من جاء بعبدي الآبق فله دينار. فقال له رجل: أعطني به رهناً وأنا آتيك به، فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأنه غير لازم كمال الكتابة. والثاني: يجوز لأنه يؤول إلى اللزوم كالثمن في مدة الخيار، لأنه يلزم بالعمل دون العقد خلاف الثمن فيصير لازماً بالعقد فافترقا، ولهذا لا يوصف الحق بالوجوب قبل العمل خلاف الثمن وهذا أصح وهو اختيار صاحب "الإفصاح" والقاضي الطبري.

فرع آخر وفي عقد السبق والرمي ينظر، فإن لم يكن محلل فهو جعالة، وإن كان هناك محلل ففيه قولان: أحدهما: أنه جعالة. والثاني: أنه إجازة وقد مضى حكم الجعالة في الجعالة، والأوجه في الإجازة. فرع آخر الدية على العاقلة لا يجوز أخذ الرهن بها قبل الحلول، لأنا لا نعلم هل يجب عليه ذلك عند الحول أم يجوز أن يموت أو يفتقر. وأما الحول فقد استقر على الموسر عند حلول الحول فيجوز أخذ الرهن به. فرع آخر المنافع على ضربين معينة وفي [ق 161 ب] الذمة فالمعينة ما كانت مؤقتة بمدة، مثل أن يقول: أجرتك عبدي هذا شهراً للخياطة فلا يجوز أخذ الرهن بها، لأنه لا يمكن استيفاؤها من ثمن الرهن إذ لا يجوز استبدال الأجير كالعين المبيعة، وأما التي في الذمة مثل أن يقول: استأجرتك لتحصل لي خياطة ثوب كذا أو بناء كذا فيجوز أخذ الرهن فيه لأنه حق مستقر في الذمة له قيمة فيمكن استيفاؤها العمل من الرهن غير ممكن. فرع آخر كل حق يجوز أخذ الرهن به يجوز أخذ الضامن به، وفي الجعل الجعالة قبل العمل وجهان كما في الرهن وجهان، وكل حق لا يجوز أخذ الرهن به لا يجوز أخذ الضامن به إلا في مسألة واحدة وهي عهدة المبيع لا يجوز أخذ الرهن بها، وهو أن يقول المشتري للبائع: لا آمن أن يكون المبيع مستحقاً، فأعطني رهناً بالثمن الذي قبضته مني لا يجوز. وهل يجوز أخذ الضامن بها؟ نص الشافعي - رحمة الله عليه - أنه يجوز، وقال ابن سريج: فيه قول مخرج لا يجوز، لأنه ضمان ما لم يجب، والمذهب الأول وليس بضمان ما لم يجب، لأنه لم يكن المبيع مستحقاً فلا ضمان، وإن كان مستحقاً فهو ضمان مال واجب. والفرق بين جواز أخذ الضمان به وبين الرهن [ق 162 أ] أن البائع إنما باع المبيع لينتفع بالثمن، فإذا دفع رهناً بالعهدة تعطل عليه الرهن بإزاء الثمن فلا يحصل له منفعة البيع، وإذا أقام ضميناً لا يلحقه ضرر في ذلك، لأنه لا يتعطل شيء من منافع ماله فجاز. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز ضمان الدرك حتى يقبض الثمن، ثم يضمن بعد ذلك

ويكون ضمان الأعيان يصح في أحد الوجهين وفي هذا نظر، وأما الوقت الذي يجوز أخذ الرهن فيه فله ثلاثة أحوال: حالة بعد لزوم الحق وهو بعد وجود المبيع والقرض ونحو ذلك فيجوز أخذ الرهن فيها بلا خلاف. وحالة عند لزوم الحق وهو أن يقول: بعينه بألف وعندي هذا رهن به عندك، فيقول البائع: بعتكة بألف على أن ترهني عبدك هذا، فقال: اشتريت ورهنت يجوز لا يحتاج إلى أن يقول بعد ذلك ارتهنت، لأن الاستدعاء في الرهن قد وجد من البائع، ثم وجد الجواب، ثم لا يلزم هذا الرهن قبل القبض، فإن لم يقبض كان له فسخ البيع، وهذا إنما جوزناه للحاجة بأنه لم يعقده مع ثبوت الحق كان لمن عليه الحق بالخيار يبين أن يرهن وبين أن لا يرهن، وإذا شرطه في العقد صار من حقوقه إلا أنه لا يجبر عليه، ولكن متى امتنع ثبت له الخيار على ما ذكرنا، وقد قال أبو إسحاق العباس: يقتضي أنه لا يجوز [ق 162 ب] هذا الرهن، لأنه قبل لزوم الحق ولكن الشافعي - رحمة الله عليه - أجاره لوقوع الحاجة. فإن قيل: لم قال: "فكذلك كل حق لزم في حين الرهن" وما تقدم الرهن ومقتضى هذا اللفظ أن الرهن لا ينعقد حتى يكون الدين واجباً قبل عقد الرهن وفي حين عقد الرهن. قلنا: لا يشترط هذا لما بينا أن العقدين لو وقعا معاً كان جائزاً. ومعنى اللفظ في حين الرهن أو ما تقدم الرهن بإثبات الألف، وقيل: إن الشافعي قال بالألف، فغلظ المزني في النقل. وحالة قبل العقد عقد الرهن مثل أن يقول: خذ عبدي هذا رهناً عندك على أن تقرضني غداً، ثم أقرضه في وقته أو غداً لا يجوز الرهن، لأنه ما سبق الحق لا يكون وثيقة به حين لزومه كالشهادة، فإذا لم يكن رهناً يكون أمانة في يده، لأنه مأخوذ يسوم الرهن والمأخوذ رهناً أمانة، فكذلك المأخوذ يستوفيه، وقال مالك وأبو حنيفة - رحمهما الله -: يصح ذلك رهناً إذا قبض الحق، ووافقنا مالك في أن الضمان قبل الحق لا يجوز فنستدل به ونقيس عليه. فرع آخر لو قال: ألق متاعك في البحر وعلي ضمانه يصح، وليس ذلك بوثيقة، بل هو بدل مال على عوض صحيح، كما يقول: طلق امرأتك وعلى ألف درهم، أو اعتق عبدك وعلى كذا، لأنا جوزنا هناك قبله لأنه لا يمكنه [ق 163 أ] ضمانه بعد إلقائه في البحر ولا مع إلقائه بخلاف الرهن. ولو أراد الرهن به أو الضمين قبل الإلقاء لا يجوز وبعد الإلقاء يجوز كلاهما لأنه استقر الضمان عليه. فرع آخر إذا جوزنا نفقة الزوجة في قوله القديم فهل يجوز أخذ الرهن به وجهان: أحدهما: يجوز كالضمان.

والثاني: لا يجوز كالدرك. مسألة: قال: "وَلاَ مَعْنَىِ للرَّهْنِ حَتَّى يَكُونَ مَقْبُوضًا ". الفصل وهذا كما قال، الرهن قبل القبض لا يلزم وإذا قبضه يلزم به جهة الراهن ولا يلزم من جهة المرتهن، فمتى قال: أبطلت الرهن أو فسخته زال الرهن. نص عليه الشافعي- رحمه الله- وقال مالك: يلزم بنفس العقد ويجبر على القبض كما قال في الهبة. وهذا غلط؛ لأن الله تعالى لم يحكم بصحة الرهن إلا بصفة وهي أن يكون مقبوضًا، ولأنه عقد إرفاق من شرطه القبول فلا يلزم إلا بالقبض كالقرض، ولأنه قال، لو مات الراهن لا يجبر وارثه على الإقباض. فدل أنه يلزم قبل القبض. وقال أحمد- رحمه الله: إن لم يكن مكيلًا ولا موزونًا يلزم من غير قبض بنفس العقد فنفس على المكيل حجة عليه. فإذا تقرر هذا قال الشافعي: من جائز الأمر حين رهن وحين أقبض، وفيه أربع مسائل: أحدها: أن يكونا [ق 163 ب] جائزي الأمر حين الرهن إلى حين القبض فيصح بلا إشكال. والثانية: أن يكونا جائزي الأمر حين القبض ولم يكونا جائزي الأمر وقت الرهن، أو أحدهما لم يكن جائز الأمر في تلك الحالة بأن كان ميتًا أو مجنونًا أو محجورًا عليه لسفه أو فلس لا يصح؛ لأن العقد لم يصح فلا يصح الإقباض من غير عقد. الثالثة: أن يكونا جائزي الأمر حين العقد ولم يوكنا جائزي الأمر أو أحدهما وقت القبض لا يصح ولا يلزم الرهن، لأن القبض شرط في صحة الرهن فافتقر إلى الرشد كالعقد. والرابعة: أن يكونا جائزي الأمر وقت الرهن والإقباض، ويمكن تخلل بينهما جنون أو حجر، فظاهر المذهب أن ذلك لا يؤثر ويصح وهو ظاهر النص ههنا؛ لأنه قال: "من جائز الأمر حين رهن وحين قبض "فاعتبر الطرفين دون الوسط، وقد قال بعد هذا: "لو مات المرتهن قبل القبض فللراهن تسليم الرهن إلى وارثه وبيعه ولم يبطل بالموت "فالجنون أولى أن لا يبطله. وقال أبو إسحاق: يبطل الرهن بالجنون قبل القبض لأنه عقد جاز فبطل بالجنون كالوكالة والشركة، وهذا اختيار جماعة من أصحابنا بخراسان، وقالوا: ذا هو المذهب ومراد الشافعي بما ذكر بقاء صفة جواز الأمر من وقت العقد إلى وقت [ق 164 أ] الإقباض

فجعل قولان مخرجان. وقال الماسرجسي: كان أبو إسحاق- رحمه الله- يقول ذلك، ثم رجع عنه وقال: لا يبطل الرهن؛ لأن الراهن يؤول إلى اللزوم بخلاف الشركة فهي كالبيع في مدة الخيار، ولأن الوكالة تبطل بموت الوكيل والموكل والرهن لا يبطل بموت المرتهن بالإجماع فافترقا. فرع لو رهن السكران شيئًا. قال بعض أصحابنا بخراسان: صح رهنه في أصح القولين؛ لأن حكمه حكم الصاحي وحكمه يأتي مشروحًا إن شاء الله. فرع آخر إذا قلنا: لا يبطل الرهن بالجنون فرهن وهو جائز الأمر ثم زال عقله ثم أقبضه وهو مجنون لا حكم لإقباضه ثم ينظر فيه، فإن كان له فيه غبطة حتى يجوز له ابتداء عقد الرهن في مثلها جاز له تسليمه إليه، وهذا بأنه كان له مشروطًا في بيع فيه قبل أن يسلم الرهن فسخه البائع، وإن لم يكن غبطة بأن لم يكن مشروطًا في عقد بيع لا يجوز له تسليمه هكذا ذكره جماعة أصحابنا، وقال بعضهم في موضع الغبطة وجهان: أحدهما: لا يجوز له تسليمه، لأنه ليس للولي أن يخرج من ماله ما ليس بلازم له. وهذا ضعيف عندي. فرع آخر لو كان له غرماء سواه وقد حجر عليه لا يجوز له تسليمه إلى واحد [ق 164 ب] منهم؛ لأن حق جماعتهم عنهم تعلق به وبيع في حقوقهم، ولا فرق بين أن يكون الراهن قد أذن للمرتهن في قبضه قبل الحجر أو لم يكن قد أذن لم يكن قبضه. فرع آخر لو خرس الراهن، قال في "الأم": إذا خرس أو زال عقله قبل قبض الرهن لم يكن للمرتهن القبض، قال أصحابنا: أراد إذا صار بحيث لا يفهم إشارته ولا تعقل إرادته فهو كالحجر عليه، فأما إذا عقلت إشارته فهو كالناطق، فإن قيل قال في "الأم": "متى زال عقل الراهن قبل قبضه لم يكن للران القبض لأنه لم يسلطه على قبضه "وهذا يدل على أنه لو سلطه على قبضه ثم زال عقله يجوز له قبضه، قلنا: له تأويلان: أحدهما: فرض المسألة فيه إذا رهنه عينًا في يد المرتهن وديعة أو غيرها وأذن بقبضها وأتت مدة يمكنه القبض فيها، ثم زال عقل الراهن فلا يقدح في (الرهن) لأنه

زال بعد لزوم الرهن. والثاني: فائدة هذا أنه إذا أذن به، ثم زال عقله، ثم اختلف وليه والمرتهن فقال المرتهن: قبضت قبل زوال عقله، وقال الولي بعد ذلك فالقول قول المرتهن؛ لأن العين في يده. ولو كان هذا الإختلاف قبل الإذن في القبض لم يكن القول قول المرتهن. مسألة قَالَ: "وَمَا جَازَ بَيْعُهً جَازَ رَهْنُهُ " [ق 165 أ]. الفصل وهذا كما قال. كل عين يجوز بيعها يجوز رهنها من مشاع وغيره لا يفترقان في الجواز بحالِ، وإنما يفترق في الأموال، وبه قال مالك، والأوزاعي وابن أبي ليلى، وعثمان البتي، وسوار القاضي، وعبيد الله العنبري، وأبو ثور، وداود، وأحمد- رحمهم الله، وقال أبو حنيفة- رحمه الله-: لا يصح رهن المشاع ولو طرأت الإشاعة هل يبطل الرهن؟ روايتان. وهذا غلط؛ لأن كل عين جاز بيعها جاز رهنها كما تقرر. وهذه المسألة مبينة على أن استدامة القبض شرط عنده في صحة الرهن، وبه قال مالك- رحمه الله- وعندنا ليست بشرط لأنه عقد من شروطه القبض، ولا يعتبر استدامته كالهبة مع أبي حنيفة، والقرض مع مالك، ثم إذا رهن المشاع لا يلزم إلا بالقبض وبقبضه المرتهن كما يقبضه المشتري، فإن اتفق المسترهن والشرك على أن يكون في يد أحدهما كان في يده، وإن تنازعا وقال كل واحد منهما: يكون في يدي فالحاكم ينتزعه من أيديهما ويكري عليهما أو يضعه على يدي عدِل. وقال ابن القاص: الأساء على أربعة أضرب؛ منها ما يجوز بيعه ورهنه وما لا يجوز بيعه ولا رهنه كالوقف والمكاتب وأم الولد والكلب ونحوها، ومنها ما يجوز بيعه ولا يجوز رهنه وبيعه كجارية [ق 165 ب] لها ولد صغير يجوز رهنها على الإنفراد ولا يجوز بيعها على الإنفراد، ومنها ما اختلف القول في وهو الطعام الرطب، والمدبر، والثمرة قبل بدو الصلاح يجوز بيعها وفي رهنها قولان، وهذا غير صحيح لأنه ليس على قولنا ما يجوز بيعه ولا يجوز رهنه، والأمة غذا كان لها ولد صغير يجوز رهنها وبيعها أبيضًا لأنها تباع مع ولدها، وإن لم يجز بيعها وحدها في أحد القولين ويجوز رهنها وحدها؛ لأن البيع يفرق بينهما والراهن لا يفرق، فكذلك اختلفت الأحوال في الحقيقة وكذلك الطعام الربك يجوز رهنه بحق حاِل، وفي المؤجل كلام نُنبه عليه في موضعه إن شاء الله تعالى، فإن قال قائل: علة الشافعي على هذا الإطلاق تنتقص بالدين، فإنه إذا كان له في ذمة غريمه دين مستقر يجوز بيع ذلك منه بعين على معنى الاستبدال، ولا يجوز رهنه. قلنا: قصد الشافعي- رحمه الله- به إبطال مذهب من منع رهن المشاع ولم يقصد تحرير

الاعتدال والثاني العلة محورة عن هذا؛ لأن ما جاز بيعه جاز رهنه وقبضه فقيد الرهن بقبضه، والدين إذا رهن كان رهنًا لا يتأتي قبضه، والعلة والحكم يعترض كل واحد منهما على الآخر ثم يشتغل بالمناقضة [ق 166 أ] فربما يدفع بالحكم وربما يدفع بطلب الاعتلال، ومن أصحابنا من قال: يجوز رهن ما في الذمة عند الغير كما يجوز الهبة في أحد الوجهين، وهذا خلاف النص. وهكذا الجواب إن قيل ينتقض بالمنافع يجوز بيعها بعقد الإجارة ولا يجوز رهنها مع أن الإجارة ليست ببيع على الإطلاق. فرع آخر لو كانت دار بين رجلين فرهن أحدهما بينهما ماعًا من بيت منها. قال ابن سريج- رحمه الله-: إن كان بإذن شريكه يجوز، وإن كان من غير إذنه فيه وجهان: أحدهما: يجوز كما لو رهن جميع حقه منها. والثاني: لا يجوز لأنه قد يقاسمه شريكه فيقع هذا البيت في نصيب غير الراهن فيستضر بذلك. مسألة: قَاَلَ: "وَلَوْ مَاتَ الْمُرْتَهِنُ قَبْلَ الْقَيْضِ فَلِلرَّاهِنِ تَسْلِيمُ الرَّهْنِ إِلَى وَارِثِهِ وَمَنْعُهُ ". وهذا كما قال. نص الشافعي- رحمه الله- ههنا على أن الرهن لا يبطل بموت المرتهن. وقال في موضع آخر: "إن مات الراهن قبل القبض لم يكن للمرتهن أن يقبض الرهن وكان أسوة الغرماء، فقال جماعة من أصحابنا: معناه أنه الفسخ بموت الراهن، واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: ينقل جواب إحدى المسألتين إلى الأخرى [ق 166 ب] وفيهما قولان: أحدهما: يبطل بموت كل واحد منهما. والثاني: لا يبطل أصلًا. ومنهم من قال: يبطل بموت الراهن دون المرتهن، والفرق أن الحق يحل بموت الراهن فلا معنى للرهن بعد الحلول ولا يحل بموت المرتهن فيحتاج وارثه إلى قبض المرتهن. وقال أبو حامد- رحمه الله-: قول واحد لا يبطل بالموت أصلًا. ونص في غير موضع على أنه لا يبطل بموت واحد منهما. وقوله في موت الراهن المرتهن أسوة الغرماء لا يقتضي بطلان الرهن، ولكن معناه لا يجوز تخصيصه به لأجل الغرماء، فإن رضوا به

جاز. وقيل: قال أبو إسحاق- رحمه الله-: يبطل بالموت كما يبطل بالجنون وقد بينا فساده. وإذا تقرر هذا نظر، فإن مات المرتهن قام وارثه مقامه في الدين، والدين بحاله والراهن بالخيار إن شاء قبض، وإن شاء منع فإن أقبض فلا كلام، وإن منع نظر، فإن كان في دين فلا خيار لوارث المرتهن، وإن كان في بيع له الخيار في إمضاء البيع وصحته، وإن مات الراهن حلّ عليه الحق إن كان مؤجلًا وتعلق بتركته وهذا الرهن من تركته، فإن لم يكن عليه دين سواه والوارث بالخيار بين أن يقبضه من عين هذا الرهن أو من غيره إلا أن يتراضيا بتأخير الحق وقبض هذا الرهن به بالعقد الأول فيصح، وإن كان عليه دبن [ق 167 أ] سواء فالمرتهن أسوة الغرماء ولا يكون أحق بالرهن من غيره إلا أن يتطوعوا بإفراده، فإذا أقبضه الوارث كان أحق به من غيره. وقال أبو حنيفه- رحمه الله-: إذا شرط الرهن في البيع يجبر الراهن على إقباضه لأنه بالشرط صار صفة العقد لازم. وهذا غلط لما ذكرنا. فرع لو مات البائع قبل إقباض المشتري الرهن وورث ممن لا يجوز أمرهم لصغرهم، فإن لم يكن لهم حظ في إمضاء البيع بلا رهن يجب على وليم أن يفسخ البيع، وإن كان لهم في إمضائه حظ لوفور الثمن، فإن كان الراهن والمشتري معسرًا أو غير أمين فعلى الولي أن يفسخ أيضًا، وإن كان أمينًا موسرًا في وجهان: أحدهما: يفسخ أيضًا لجواز تغير حاله. والثاني: لا يفسخ لما فيه من وفور الحظ، وإن كان العقد تم بغيره، وهذان الوجهان مخرجان من الوجهين في ولي ورثة الراهن هل يجوز له إقباض الرهن إذا كان في إقباضه حظ لهم أم لا؟ فرع آخر قال في "الأم ": ولو رهن عبدًا ثم باعه أو كاتبه أو أعتقه أو أصدقه زوجة أو رهنه ثانيًا وأقبضه بطل الرهن الأول، لأنه أزال ملكه ومات بالعقد الأول وإن أجاره لا يبطل؛ لأن الإجارة لا تنافي عقد الرهن فإنه لو أرهنه ثم [ق 167 ب] أجره صح وكان رهنًا بحاله. وهكذا لو رهن جارية ثم زوجها لا يبطل الرهن لأنه عقد على المنفعة فلا ينافي عقد الرهن على الرقبة، وقال بعض أصحابنا في الإجارة: إذا قلنا لا يجوز بيع المستأحر ينظر، فإن كانت مدة الإجارة تنقضي قبل حلول الحق لم يكن ذلك فسخًا، وإن كانت لا تنقذي إلا بعد حلوله بزمان كانت فسخًا للرهن.

فرع آخر قال الشافعي- رحمه الله-: "لو دبره كان رجوعًا عن الرهن ذكره في "الأم "، وفيه قول آخر لا يكون رجوعًا على الرهن، حكاه الربيع والقاضي أبو حامد، لأن تدبيره لا يمنع بيعه والأول المشهور؛ لأن موجب التدبير بالعتق وهو ينافي الرهن بدليل أنه لو رهنه ولم يقبضه كان رجوعًا، وإن كان ذلك لا يمنع من بيعه لأن موجبه ينافي الرهن الأول. فرع آخر لو قال: فسخت الرهن انفسخ، ولو أقر بأنها ملك لغيره بطل الرهن أيضًا، ولو رهنها وأقبضها بطل أيضًا، ولو وهبها ولم يقبضها نص الشافعي أنه يبطل ولا يختلف في هذا أصحابنا. وحكي عن الربيع أنه قال: يبطل تخريجًا لأنه لم يزل ملكه وهو غلط لما ذكرنا. فرع آخر لو وطئها فالرهن بحاله، ولو أذن للمرتهن في القبض، ثم جن [ق 168 أ] أو أغمى عليه وحجر عليه بطل إذنه ولم يكن للمرتهن قبضه، وإن أذن له ثم رجع عن إذنه قبل أن يقبض صح الرجوع، كما لو أذن له في بيع أو نكاح، ثم رجع وإن رجع بعد القبض لم ينفعه لأنه لزم بالقبض. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ قَالَ: أَرْهَنُكَ دَارِي عَلَى أَنْ تُدَايِنَنِي فَدَايَنَهُ لَمْ يَكُنْ رَهْنًا حَتَّى يَعْقِدَ الرَّهْنَ مَعَ الحَقِّ أَوْ بَعْدَهُ ". وهذا كما قال: ههنا إبهام يوهم أن الرهن والمداينة لو كانا معًا لا يجوز، وهو في قوله "أرهنك داري على أن تداينني فداينه، وإزالة هذا الإبهام معناه تدايني غدًا أو بعد غد لا في حال المعاقدة، والدليل على أن هذا مراده أنه قال في آخره: "لم يكن رهنًا حتى يعقد مع الحق أو بعده "ولما أثبت الألف ههنا حيث قال: "أو بعده "ظهر غلط المزني- رحمه الله- حيث قال في حين الرهن وما تقدم الرهن من غير الألف فدل هذا على إثبات الحق والألف هناك أيضًا. مسألة: قَالَ: "وَيَجُوزُ ارْتِهَانُ الحَاكِمِ وَوَليِّ المَحْجُورِ عَلَيْهِ وَرَهْنُنُمَا عَلَيْهِ فِي النَّظَرِ لَهُ ".

الفصل وهذا كما قال: جملة هذا أن الرهن ضربان: ضرب برهن في حق نفسه يكون مطلق التصرف فيما له في الحظ، وفيما لاحظ له فيه، وضرب برهن في حق غيره فنقول: [ق 168 ب] الناظر في حق الغير خمسة؛ الأب، والجد، والوصي من قبل أحدهما، والحاكم، وأمين الحاكم، وكلهم ولي أسباب الولاية تختلف فالأب والجد يليان أنفسهما، والوصي يلي من قبل أحدهما، والحاكم يلي من قبل الإمام، والأمين يلي عن الحاكم. وكذلك جهات التصرف تختلف فالأب والجد يختصان بأنه يجوز: لكل واحد منهما أن يرهن له من نفسه ويرتهن لنفسه منه، كما يجوز لهما ذلك في البيع والشراء، وليس ذلك لمن عداهما من الأولياء؛ لأن التهمة منتفية عنهما لكونهما كاملي الشفقة بخلاف غيرهما. فإذا تقرر هذا فالكلام في فصلين. أحدهما: في الإرتهان، والثاني: في الرهن. فأما الإرتهان فلا يخلو إما أن يكون في بيع أو قرض، فإن كان في بيع. قال الشافعي- رحمة الله تعالى-: "لا يجوز إلا أن يبيع فيفصل "وفيه مسائل: أحدها: إذا كان له عبد يساوي مائة نقدًا فباعه إلى سنة، فإن باعه بمائة إلى سنةٍ فالبيع باطل سواء كان برهن أو بغير رهن؛ لأنه باعه بأقل من ثمنه، وإن باعه بمائة وعشرين بشرط أن تكون المائة نقدًا والعشرون إلى سنة جاز، لأنه فضل بغير غرر، وإن باعه بمائة وعشرين إلى سنة بغير رهن فالبيع باطل؛ لأن فيه غررًا. وإن باع برهن [ق 169 أ] ولا يسوي مؤجلًا أكثر من ذلك، فنص الشافعي أنه يجوز، وهو اختيار أبي إسحاق وجماعة، لأنه لا يمكنه أن يبيع فيفصل هكذا في غالب العادة، وقد أمرناه بالتجارة وطلب الربح. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز لأنه تغرير بماله معناه يأخذ رأس المال نقدًا والزيادة إلى سنة، فإذا جوزنا ذلك وأخذ رهنًا لم يجز حتى يشهد بالحق مع أخذ الرهن، ويكون المشتري ثقة مليًا يؤمن من جهته الجحود والعجز عن إبقاء الثمن في الظاهر. وقيل: يجوز للولي أن يبيع مال اليتيم ثمنًا بخمس شرائط؛ أن يكون في الثمن فضل، وأن يكون المشتري ثقة موسرًا، وأن يكون الأجل مقتصدًا غير بعيد؛ لأن في بعده تغريرًا بالدين. وحده بعض أصحابنا بالسنة حتى إن كان الأجل زائدًا على السنة لا يجوز؛ وأكثر أصحابنا على أنه لا يتقدر بل يعتبر فيه عرف الناس، وشاهد الحال لأنه يختلف باختلاف السلعة والعادات. وأن يأخذ منه رهنًا، والخامس: أن يشهد عليه على ما ذكرنا فلو أدخل بهذه الشهادة فوجهان: أحدهما: يبطل البيع والرهن كما لو أخل بأحد الشروط الأربعة. والثاني: لا يبطل لأنه تأكيد والرهن أقوى استئنافًا من [ق 169 ب] الشهادة ذكره في "الحاوي "وعندي لا يلزمه أخذ الرهن لأنه بخلاف عرف التجارة في زماننا، وإن كان

الارتهان في ذي نظر، فإن كان يدين ل قبل ل أرش من جناية أو دين عن أبيه إلى أجل جاز وهو احتياط، وإن كان في قرض فالقرض لا يجوز إلا بشرطين: أحدهما: أن يخاف هلاك ماله لنهب أو غرق. والثاني: أن يكون المقترض ثقة يودع ماله عنده، وإذا وجد الشرطان فأقرض وأخذ الرهن به يجوز؛ لأن الرهن وثيقة لا تضر وأمانة، وإن هلكت لا شيء عليه، وإن سلمت استوفي من ثمنها، فإن عدم الشرطان أو أحدهما لا يجوز إقراض ماله، فإن أقرض صار ضامنًا، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز قرضه بحاٍل لأن ترك المال، وإن كان مخوفًا فالقرض مخوف أيضًا، فلم يجز أن يتعجل أحد الخوفين. ذكره في "الحاوي ". وهو ضعيف لأن القرض أقل عذرًا فجاز. فرع إذا ارتهن في حال النهب والفتنة لا ينبغي أن يرتهن منقولًا لأنه يخاف الهلاك على الرهن كما يخاف على ماله، ولكن يرتهن على ما لا يخاف عليه من أرض أو غيرها. فرع آخر لو رأى الحظ في أن لا يرتهن شيئًا لا يرتهن، وذلك بأن لا يأمن أن يرفع إلى [ق 170 أ] حاكم حنفي سقوط الدين بتلفه. وقال في "الحاوي ": يعتبر في صحة القرض ثلاثة شروط؛ أن يقرض لرجلِ ثقة ملئ، وأن يأخذ منه رهنًا فيه وفاء بالمال. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن يأخذ رهنًا على القرض بخلاف البيع؛ لأن القرض إنما يجوز عند الخوف على المال فجوز أن لا يأخذ الرهن خوفًا عليه وهذا لا يصح؛ لأن المال إن تلف كان من ضمان المولى عليه، ولو تلف الرهن: لا يكون من ضمانه، فلم يجز له أن يخرجه من يده مع الإمكان. والثالث: أن يشهد عليه، وإن لم يشهد فيه وجهان على ما ذكرنا، وما تقدم أصح عندي. فرع آخر له أن يبيع ماله عند وجود شرطي جواز القرض نساء، ويكون أولى. ذكر أصحابنا. فرع آخر لو أقرض في غير موضع الجواز وتلف ذلك في يد المستقرض يجوز الإرتهان به، وهو في الحقيقة غرامة يتلف لا قرض، وما دامت العين باقية فهي واجبة الرد، والإرتهان بالعين لا يجوز.

فرع آخر الأم تلي مال الولد بغير توليةِ في أحد الوجهين، وظاهر المذهب أنها لا تلي من غير تولية. فإذا قلنا: إنها تلي ذلك قامت أم الأم مثلها عند عدم الأم، وفي أب الأم وجهان على هذا الوجه [ق 170 ب]: أحدهما: له ذلك؛ لأن الأم إذا استحقت هذه الولاية فهو أولى. والثاني: ليس له ذلك كما لا حضانة له ولا إرث. فرع آخر إذا أراد الأب أن يبتاع مال ولده فيه وجهان: أحدهما: يعقد لفظًا فيقول: بعت كذا من مال ابني على نفسي بكذا وقبلت ذلك لنفسي. والثاني: يعقد بنيته دون لفظه؛ لأن الإنسان لا يخاطب نفسه، والأول أصح؛ لأنه لا يكون مخاطبًا نفسه؛ لأنَّا نجعل أحد اللفظين عن نفسه والآخر عن ابنه، فيصير كأنه مخاطب. ذكره في "الحاوي ". فرع آخر المكاتب هل يجوز له أن يرهن شيئًا؟ قال الشافعي رحمة الله عليه ههنا: ومن قال إنه لا يجوز ارتهانه إلا فيما يفضل من ولي أو أب لابن طفل، أو عبد مأذون له في التجارة فلا يجوز له أن يرهن شيئًا؛ لأن الرهن أمانة والدين لازم، فالرهن نقص عليهم وظاهر هذا أنه يجوز للمكاتب والمأذون أن يبيعا نساء بالفضل ويأخذ رهنًا. وقال الشافعي في "الكتابة ": غير أن المكاتب لا يبيع بدين ". واختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: هما لولي اليتيم فيما ذكرنا من المسائل، وقول الشافعي: "لا يبيع المكاتب بدين "معناه: بغير رهن، وهذا اختيار القفال. أو أراد إذا لم يكن [ق 171 أ] فيه حظ. ومنهم من قال: لا يجوز لهما أن يبيعا بالدين إلا بإذن السيد لهما في ذلك صريحًا، وهو المراد ههنا، لأنه يأخذ رهنًا لا يتصرف فيه، ويخرج ما لا يتصرف فيه فلا يجوز. وتأويل ما قال ههنا: أن يبيع بمائة نقدًا وأخذ الرهن بالثمن حتى يحمله من البيت فيجوز ذلك في حقهما. وهذا اختيار القاضي الطبري رحمه الله. فرع آخر لو لم يدفع السيد إلى العبد المأذون مالًا وقال له: تصرف، هل له أن يتصرف بثمن

مؤجل ومعجل؟ لأنه لا ضرر للسيد في ذلك حتى يحصل في يده فضل فيكون ذلك للسيد، ثم يكون حكمه حكم المكاتب والمأذون الذي دفع السيد إليه مالًا. وأما رهن مالِ من اليتيم، والمجنون، والمحجور بدين مؤجل في قرض أو ابتياع فلا يجوز إلا بشرطين: أحدهما: أن يكون الإقراض له أصلح من بيع ماله في نفقته، مثل أن يتوقع له عليه عقارًا ونماء ماشية أو ثمار أو زرع، أو دين يحل ل، أو يقدم مال غائب أو يكون له سلعة كاسدة يتوقع لها موسم. والثاني: أن يكون المرتهن لذلك ثقة يودع ماله عنده فههنا يجوز. وكذلك لو اشترى له ما يسوي ألفًا بخمسنائة ويرهن ما يسوي خمسمائة به فلا بأس؛ لأنه إن تلف حصل له ربح [ق 171 ب] خمسمائة، والظاهر أنه لا يتلف، وهذا إذا كان لا يباع إلا برهن. وكذلك لو وقع نهب أو حريق يخاف على ماله، أو وجد أمينًا يشتري به شيئًا لا يرد عليه التلف من العقار ولا يتبعه إلا بشرط الرهن فرهن، ولا يتصور أن يستقرض منه شيئًا فيرهن في هذه الحالة ماله؛ لأنه يخاف على القرض الذي يأخذه ما يخاف على ارهن الذي تسلمه، فإن لم يوجد الشرطان أو أحدهما فيبيع ماله أصلح من رهنه والإقتراض له فلا يجوز رهنه، وهذا لأن الدين لازم والرهن أمانة، فيكون تلف الرهن عند المرتهن بغير ضمان ويبقى الدين عليه بحاله. وأما المكاتب والمأذون فليس لهما أن يرهنا من مالهما شيئًا إلا بإذن السيد، أو في الحال التي يجوز لولي اليتيم أن يرهن من ماله على ما بيناه. ولو قال للمأذون له تاجر تصرف كيف شاء حتى يفضل معه شئ فيكون كما لو دفع إليه مالًا، فإن قال قائل: ما معنى قول الشافعي- رحمه الله-: "ورهنهما عليه في النظر له "في المسألة الأولى؟ قلنا: يحتمل معنيين: أحداهما: أراد بالرهن الإرتهان: فكأنه قال: يجوز ارتهان الحاكم وولي المحجور عليه إذا كان له ارتهانهما في النظر له. قالوا: وفي قول: "ورهنهما "واو الحال لا واو العطف، ولا بعد العبارة عن الإرتهان بالرهن [ق 172 أ] وعن الرهن بالإرتهان. والثاني: وهو الأصح أراد بالرهن حقيقة الرن لا إرتهان، وهما مسألتان اثنتان. قالوا: (و) حرف العطف لا واو الحال بدليل أنه قال: "ورهنهما له "ولو كان المراد به الإرتهان: "ورهنهما له في النظر له "ألا ترى أنه ذكر الإرتهان بهذه العبارة فقال: "ويجوز ارتهان الحاكم وولي المحجور عليه له "راجع إلى المحجور لا إلى الإرتهان. فإن قيل: التفسير يدل على أنه أراد به الإرتهان لا الرهن؛ لأنه قال: "وذلك أن يبيعا فيفضلا ويرتهنا "فاشتغل ببيان الإرتهان دون الرهن. قلنا: يجوز أن يجمع بين المسألتين ثم يعطف على إحداهما يفسرها ويعرض عن تفسير الأخرى، أو يؤخر تفسير الأخرى.

فإن قيل: لو كان المراد بالرهن حقيقة الرهن كما ذكرت مسألة الرهن بعد هذه المسألة وقد كررها حيث قال: "ومن قلت لا يجوز ارتهانه ... " إلى أن قال: فلا يجوز أن يرهن شيئًا ". قلنا: يحتمل أن يكون هذا التكرير لكمال التقرير، فإنه جمع في أول الفصل بين مسألة الرهن ومسألة الإرتهان، ثم بدأ بنفس الإرتهان ثم رجع إلى مسألة الرهن لتفصيل القول فيها، فبين فيه معنى النظر الذي أطلقه في أول الفصل وهو ظاهر [ق 172 ب]. فرع آخر لو رهن الوصي عبد اليتيم ثم استعاره الوصي من المرتهن بعد القبض نظر، فإن استعاره لليتيم فلا ضمان؛ لأن له الانتفاع به، وإن كان مرهونًا، وإن استعاره لنفس لم يجز وضمن، وإن استعار مطلقًا ضمن؛ لأن الظاهر أنه استعاره لنفسه. فإن قال: استعرته لليتيم لم يقبل قوله فيه وضمن. فرع آخر لو خلف تركة وعليه ديون فأوصى إلى رجل بقضاء دينه من تركته فرهن الوصي شيئًا من تركته عند بعض غرمائه لم يجز، وإن كان الغريم واحدًا فرهنه عنده لا يجوز أيضًا؛ لأنه جعل إليه قضاء الدين فقط فلا ينصرف إلى غيره. فرع آخر لا يجوز للعامل في القراض أن يرهن أو يرتهن إلا بإذن رب المال، وإذا أذن له في الرهن لا يجوز إلا أن يحد له الدين الذي يقع الرهن به. نص عليه الشافعي رحمه الله. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ كَانَ لابْنِهِ الطَّفْلِ عَلَيْهِ حَقَّ أَنْ يَرْتَهِنَ لَهُ شَيْئًا مِنْ نَفْسِهِ ". الفصل: وهذا كما قال. قد ذكرنا هذه المسألة، وظاهر كلام الشافعي رحمة الله عليه ههنا أنه رهن ماله عند نفسه أو رهن مال نفسه عنده يقتصر على أحد شطريه، فيقول: ارتهنت له من نفسي كذا وكذا، أو رهنت عبدًا من ماله على كذا وكذا، لأن الشافعي [ق 173 أ] اقتصر في تصوير المسألة على ذكر أحد السطرين، وفيه وجه أنه يفتقر إلى التلفظ بالشرطين كما في الشخصين المتعاقدين، وهذان الوجهان في البيع والشراء، وقد ذكرنا.

مسألة: قَالَ: "وَإِذَا قَبضَ الرَّهْنُ لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِهِ إِخْرَاجه مِنَ الرَّهْنِ حَتَّى يَبْرَأَ مِمَّا فِيهِ مِنَ الحَقِّ ". وهذا كما قال. قد ذكرنا أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، وإذا قبض لزم من جهته؛ لأنه وثيقة، فلو لم يلزم لم تحصل الوثيقة، ثم ما دام جزء من الدين عليه وإن كان يسيرًا لا يخرج شئ من الرهون من الرهن، وكل جزء منه مرهون بكل الحق وبكل جزء منه، فإن كان الرهن كرا من طعام فذهب كله إلا قفيزًا كان القفيز رهنًا بالدين كله، ولو قضى الدين كله إلا حبة كان الكل رهنًا بالحبة. فرع لو رهنه مائة شاة بمائة درهم على أن كل شاة في مقابلة درم فدفع درهمًا، قيل له: أدفعت عن شاة بعينها؟ فإن قال نعم أخذها، وإن قال: بل دفعت عن الجملة خرج عشر كل شاةِ من الرهن. وقيل: متى تفاوتت القيم ليس له أخذ شيء من الرهن، وإن تساوت أخذ منها شاة. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ أَكْرَى الرَّهْنَ مِنْ صَاحِبِهِ أَوْ أَعَارَهُ إِيَّاهُ لَمْ يَنْفَسِخ الرَّهْنُ ". وهذا كما قال. قد قيل: أراد به إذا أكرى الراهن [ق 173 ب] الشيء المرهون من المرتهن أو أعاره إياه لينتفع به لم يبطل الرهن. ولو تلف تحت يده عند الاستعارة ضمن؛ لأنه مستعير. وقال أبو حنيفة: إذا اكترى وارتهن فأخرهما يبطل أولهما. وقيل: إن الشافعي فسره بهذا في الرهن الصغير. وقيل: أراد به أن المرتهن لو أكرى من الراهن لا معنى للكري، إذا المنافع ليست ل حتى يكري، ولكن مع هذا لا ينفسح الرهن. وأما الإعارة يجوز أن يطلق هذا اللفظ ويراد به تمكين الراهن مع الانتفاع ولا يبطل به الرهين أيضًا. وقيل: وهو الصحيح أراد إذا أكري الراهن المرهون من المرتهن، ثم المرتهن أكرى منه أو إعارة ينفسخ الرهن، وتجوز الإجازة الثانية في أحد الوجهين، وإن كان الراهن مالك الرقبة فهو كالوجهين في جواز إجازة المستأجر من المالك: أحدهما: يجوز كما يجوز من غيره. والثاني: لا يجوز لأن المنافع من ضمان المالك فلا يجوز أن يضمن له بعد الإجارة وهي مضمونة عليه، وكيفما قلنا فالرهن به لا يبطل. وكذلك إذا كانت المنفعة

للمرتهن بوصية فأجرها من الراهن وقصد به الرد على أبي حنيفة حيث قال: استدامة القبض شرط في صحة الرهن، وإذا استحق على المرتهن قبضه بطل الرهن. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ رَهَنَهُ [ق 174 أ] وَدِيعَةِّ لَهُ فِي يَدِهِ ". وهذا كما قال. إذا رهنه شيئًا في يد المرتهن كالوديعة، والغصب، والعارية، والمأخوذ سومًا، أو تحوز ذلك صح؛ لأن ذلك أقرب إلى قبضه، ولابد من قبض بعد العقد، وهل يفتقر إلى الإذن بالقبض؟ قال ههنا: لابد من الإذن فيه ومضى مدةِ يتأتى فيه القبض. وقال في "الإقرار والمواهب ": إذا وهب عينًا في يد الموهوب به له فقلبها تمت؛ لأنه قابض لها بعد الهبة، ولو كانت في يد غيره فقبضها بغير إذن الواهب لم يكن له ذلك. واختلف أصحابنا في المسألتين على طريقين: قال أبو إسحاق رحمه الله: لا فرق بينهما فينقل بجوابه من كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى ويجعل على قولين: أحداهما: لابد من اعتبار الإذن فيهما؛ لأن الشيء في يده على غير قبض الرهن والهبة، فلا يصير قبض هبةٍ ورهن إلا بإذن. والثاني: لا يعتبر الإذن فيهما؛ لأن إقراره على العقد إذن منه بالقبض، ولأنه لما لم يفتقر إلى الإذن في القبض. وقال بعض أصحابنا: المسألتان على ظاهرهما، والفرق أن الهبة تنقل الملك هي أكد من الرهن، كما لو باع لا يفتقر إلى الإذن في القبض، ويصير مقبوضًا له عقيب العقد. وهذا ضعيف. ومن أصحابنا من قال قولًا واحدًا يعتبر الإذن فيهما، وأراد بها ذكر في [ق 174 ب] الهبة إذا أذن في القبض، ولكنه أضمر هناك، وفي الرهن صرح وهذا أصح. والفرق بين الرهن والهبة والبيع أن البيع يوجب القبض فلا حاجة فيه إلى الإذن من البائع إذا كان الشيء في يده، والرهن والهبة لا يوجبان القبض؛ لأنهما تبرع فيحتاج فيما إلى إذنِ. وإذا تقرر هذا وأذن له بقبضه، فإن كانت الوديعة حاضرة في المجلس فأتى من الزمان ما يمكنه تناولها ورفعها من موضعها فقد صارت مقبوضة عن الرهن، وإن كانت غائبة عنهما. فإذا أتى من الزمان ما يمكنه الوصول إليها وتناولها فقد صارت مقبوضه؛ لأن قبض الشيء حصوله في يده من غير مانع إلا أن تكون الوديعة مما يزول بنفسه كالعبد والحيوان الذي هو غير مُوثق في موضع ببيعه، فلا يتحقق كونه في الموضع الذي تركه فلا

يصح القبض حتى يصير إليه، أو يصير وكيله إليه مشاهدة نص عليه في "الأم "، وهو اختيار أبي إسحاق. ومن أصحابنا من قال: لابد أن يحضره ويشاهده، وإن كان عنده أنه لم يخرج من يده؛ لأن الشافعي رحمه الله قال: "ولو كان في المسجد والوديعة في بيته لم يكن قبضًا حتى يصير إلى منزل وهو فيه" وهذا غلط وتأويل هذا اللفظ ما ذكرنا. وقال أبو حامد: المنصوص في "الأم "هذا وهو المذهب، وغلط أبو إسحاق [ق 175 أ] حيث حمل هذا على الحيوان دون العقار والثياب، ولفظه في "الأم "أنه لا فرق بين الحيوان وغيره، والعلة فيه أن يجوز حدوث حادث من سرقة أو حريق أو غصب ونحو ذلك في الكل. ثم قال: ومن أصحابنا من قال: لو أخبر مخبر أنه شاهده اقتصر على خبره، ويحصل القبض بمضي المدة. وقال: وهذا ليس بشيء، وما ذكرنا أولى، ذكره القاضي الطبري رحمه الله وهو الظاهر، وقول الشيخ أبي حامد أقيس. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان، فإن قيل: دعوى القولين محال لأن الشافعي قال أولًا: "فجاءت مدة يمكنه فيها القبض فهو قبض "، ولم يشترط الرجوع إلى منزله، ثم عطف على هذا أنه لا يصير قبضًا حتى يصبر إلى منزله وهما عطفان متقاربان؛ وأعرض الشافعي عن ذكر القولين في. قلنا: يحتمل أنهما مسطوران للشافعي في موضعين متباعدين فجمعهما المزني متعطفًا أحدهما على الآخر، وقد فعل مثل هذا كثيرًا. وقال حرملة من عنده: يلزم الرهن بنفس العقد ههنا ولا يحتاج إلى مضي المدة، ولم يساعده غيره من أصحابنا. وهذا غلط؛ لأن الرهن لا يلزم إلا بالقبض، وجملة ما ذكرنا أنه لا يحتاج فيه إلى النقل والتحويل لكونه في يده قولًا واحدًا، وهل يحتاج إلى الإذن في القبض؟ [ق 175 ب] على الاختلاف الذي بيناه. وهل يحتاج إلى المصير إليه ومشاهدته؟ على التفصيل الذي ذكرناه. فإذا تقرر هذا، لو تلف هذا الرهن بعد الحكم بالقبض انفسخ ولا خيار للمرتهن سواء كان في دين أو بيع، وإن كان التلف قبل الحكم بالقبض بطل الرهن. فإن كان في دين فلا خيار للمرتهن، وإن كان في بيع له الخيار، وحكم الوالد في مال الولد إذا رهنه من نفسه مثل هذا في هذه المسائل. مسألة: قَالَ: "وَلاَ يَكُونُ القَبْضُ إِلَّ مَا حَضَرَهُ المُرْتَهِنُ أَوْ وَكِيلُهُ ".

وهذا كما قال. يحتمل أن يكون هذا ابتداء مسألة والرهن عين في يد الراهن فلا يكون قبضًا إلا أن يكون القبض من المرتهن أو وكيله ومشاهده، فإن اقتصر على القبض بالقول لم يكن قبضًا كما لا يكون قبضًا في المبيع، ولو وكل الراهن أن يقبض له من نفسه لا يجوز؛ وإنه لا يجوز أن يقبض من نفسه شيئًا لغيره. وعلى هذا لو أذن لعبد الراهن أو أم ولده بالقبض لا يلزم؛ لأن يده يد الراهن. ولو أذن لامرأة الراهن ومكاتبه بالقبض يلزم؛ لأن يده ليست يد الراهن. وقوله: "لاَ حَائل دُونَهُ": معناه لا يتم قبض الراهن إذا كان بينه وبين الرهن حائل يجول بينه وبين القبض يتنوع أنوعًا كثيرة يستغني عن ذكرها. ويحتمل أن يكون هذا [ق 176 أ] عطفًا على المسألة قبلها، وهي إذا كانت العين في يد المرتهن وهي غائبة عنهما لا يكون قبضًا إلا أن يحضره المرتهن أو وكيله، ويشاهده حال القبض، وهذا أشبه. لا أعتبر الحضور المجرد، وإنما يكفي ذلك فيما كان وديعة عند المرتهن، فأما ما كان في يد الراهن فيحتاج فيه إلى النقل والتحويل. مسألة: قَالَ: "وَالإِقْرَارُ بِقَبْضِ الرَّهْنِ جَائِزٌ إِلاَّ فِيمَا لاَ يُمْكِنُ فِي مِثْلِه ". وهذا كما قال. إذا رهن رجل عند رجل شيئًا يحضره شاهدين ثم رهنًا ليقبضه المرتهن ورجعا، وأقر الراهن بأن المرتهن قبضه وأمكنه ذلك يصح إقراره، ويجوز للشاهدين أن يشهدا عليه عند الحاكم لو تنازعا، وإن لم يمكن ذلك إلا نادرًا ولا غالبًا، مثل أن يرهنه دارًا بمكة وهما بمصر فأقر في يومه أن المرتهن قبضه لم يصح إقراره، ولم يجز للشاهدين أن يهدا عليه بذلك لعلمهما بكذبه واستحالة كون ما أقرّ به، وهذا أصل في الإقرار متى أمكن صدقه لزمه، وإلا فلا يلزم. ولهذا لو قال لزوجته: أمي من الرضاع وهي أكبر سنًا منه بحيث يختمل ذلك لزمه. وإن كانت في سنه أو أصغر سقط إقراره. فرع لو اختلفا بعدها رهن وأذن في قبضه فقال المرتهن: قبضه وأنكر الراهن. قال في "الأم ": "القول [ق 176 ب] قول المرتهن ". وقال في مسألة قبلها: "القول قول الراهن "وليست المسألة على قولين، بل على اختلاف حالين، والذي قال: "القول قول الراهن "إذا وجد في يد الراهن فقال المرتهن قبضته ورددته إليك. والذي قال: "القول قول المرتهن "؛ لأن الظاهر من حصوله في يده بعد إقراره بالإذن في القبض أنه باستحقاق، ولا يقبل قول الراهن: رجعت عن الإذن بالقبض ثم قبض من غير إذني.

مسألة: قَالَ: فَإِنْ أَرَادَ الرَّاهِنُ أَنْ يُحَلِّفَ لَهُ المُرْتَهِنَ أَنَّهُ قَبَضَ مَا كَانَ أَقَرَّ لَهُ بِقَبْضِِ أَحْلَفْتَهُ ". وهذا كما قال. إذا أقر الراهن بأن المرتهن قد قبض الرهن ثم اختلفنا فقال الراهن: أقررت له بالقبض ولم يكن قبض لا يقبل قوله. فلو قال: أحلفوا المرتهن أنه قبض، قال الشافعي رحمة الله عليه: "أَحْلَفْتُهُ ". واختلف أصحابنا في هذا، قال ابن خيران وجمهور أصحابنا: يحلف، وهو ظاهر المذهب؛ لأنه دعوى لو صدقه فيها بطل إقراره، فإذا كذبه له استحلافه، ولا فرق بين أن يقول: إنما أشهد على نفسي وأقررت بقول وكيلي وقد بان لي أنه كذب فيه. أو قال: إنما توليت بنفسي عقد الرهن، وإنما قبضته بالقول، وإقراري مستند إلى قبض من جهة الفعل، وهذا لأنه عذر موهوم يحتمل ذلك، وجرت العادة [ق 177 أ] أن يقر بذلك قبل فعله ليفعله، وهكذا في البيع جرت العادة أن يقر البائع بقبض الثمن وإن لك يكن قبض ليقبض، فحلف المرتهن بالله لقد كان القبض قبضًا كاملًا وكذلك يحلف المتري ولم يكن على التأويل الذي ذكره الراهن أو البائع. وقال أبو إسحاق: المسألة على رهن غائب في بلد آخر فقال: أقررت بالقبض بكتاب لم يكن صحيحًا، أو كان وكيل كاذبًا فيحلف عليه له، فأما إذا كان الراهن حاضرًا فأقرَّ بقبضه لا يحلف المرتهن؛ لأنه لا عذر له فيما كان حاضرًا فلا يسمع دعواه بالقبض بعد إقراره به، وهذا لا يصح. ونص في "الأم "أنه يحلف بكل حاٍل. ذكره أبو حامد رحمه الله. فرع لو أقر هكذا ثم قال: أقررت وكذبت ولم يكن على حسب على ذكرنا، لا يحلف ولا يقبل قوله في ذلك. ونظير هذه المسألة لو أقر لرجل بماٍل وأشهد على إقراره ثم قال: كذبت ما له عليَّ حق، ولكن وعدته لم يقبل ولا يلتفت إلى قوله، فلو قال: أحلفوه حلف على قبول أكثر أصحابنا؛ لأنه قد يقر له على وعٍد يعده. وعلى قول أبي إسحاق لا يحلف إلا أن يضيفه إلى وكيله وأنه بان له كذبه. ولو قال: ما أقررت فحلفوه لا يحلف. وقال قال: هو ثمن خمر أو نحوها يحلف وحملته أنه لابد من تأويل يذكره حتى [ق 177 ب] يستحق الاستحلاف. فرع آخر لو قامت البينة على فعل القبض وما هدتهم فقال: ما أقبضه فاحلفوه لا يحلف؛ لأن فيه

تكذيب الشاهدين. وهكذا لو قامت عليه البينة بالحق لا يحلف لئلا يؤدي إلى تكذيب البينة. مسألة: قَالَ: "وَالقَبْضُ فِي العَبْدِ وَالثَّوْبِ وَمَا يَحُولُ أَنْ يَأُخُذَهُ مُرْتَهِنُهُ ". الفصل: وهذا كما قال. قد بيَّنا في "كتاب البيع "أن القبض يختلف باختلاف المقبوضات. وجملته أن كل قبض يدخل به البيع في ضمان المشتري يلزم به الرهن. وإن كان سهمًا من عقار قبضه كما يقبض المشاع. ولا تفتقر صحة القبض إلى حضور الشريك ولا يتم القبض إلا بالتخلية بينه وبين كلها؛ لأن الشقص الشائع يتعذر قبضه ممتازًا ولا يتميز قبل القسمة فلابد من تسليم كلها حتى يصير النصف مُسلمًا. وإن كان المشاع فيما ينقل ويحول كالثياب والجواهر والحيوان لا يصح الإقباض إلا يحضور الشريك؛ لأن الشيء لا ينقل من مكان إلى مكان إلا يحضره مالكه؛ فإذا وقع القبض فإن اتفقوا أن يكون عند واحٍد من الثلاثة عند المرتهن بعضها رهنًا وبعضها وديعة، أو عند الرهن، أو عند الشريك بعضها رهنًا وبعضها وديعة وإلا وضع على يدي عدل أو يؤاجره الحاكم إن كان لا يضره الاستعمال. فإن قيل: إذا كان العدل وكيلًا لما كيف يتكامل قبض [ق 178 أ] الجوهرة ويده يد الراهن كما كانت يد المرتهن. قلنا: العدل يقبض للمرتهن ويحفظ للراهن فإذا قبض العدل الجوهرة استخلص القبض للمرتهن، وهو مشروع من جهة مالك الرهن، وإن اتفقوا على أن يكون مهايأة من الشريك والمرتهن فيكون عند الشريك أيامًا وعند المرتهن أيامًا جاز أيضًا. فرع لو خلى بينه وبين الدار وفيها قماش للراهن صح التسليم في الدار. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يصح التسليم؛ لأنها مشغولة بملك الرهن. قال: وكذلك إذا رهن دابة عليها حمل للراهن وسلم الكل إليه لم يصح قبض الدابة. وهذا لا يصح؛ لأن كل ما كان قبضًا في البيع كان قبضًا في الرهن. فرع آخر إذا رهن عنده دارًا فخلى بينه وبينها وهما فيها، ثم خرج الراهن صح القبض. وقال أبو حنيفة: لا يصح حتى يخلي بينه وبينها بعد خروجه؛ لأنه إذا كان في الدار يده عليها فلا تصح التخلية .......... تحصل بقوله ورفع يده عنها، ألا ترى أن بخروجه من

الدار لا تزول يده، وبدخوله إلى دار غيره لا تثبت يده عليها، وههنا بخروجه منها حقق قوله فلا معنى لإعادة التخلية. فرع آخر إذا رهن رجل عند آخر شيئًا بدين إلى أجل على أنه لم يقبضه إلى محله كان مبيعًا منه بالدين، فالرهن [ق 178 ب] والبيع فاسدان. أما الرهن فلأنه مؤقت بمحل الدين، ومن شأن الرهن أن يكون مطلقًا. وأما البيع فمعلق بزمان مستقبل، فيكون هذا الرهن في يد القابض في المدة غير مضمون؛ لأنه مضمون بحكم بيع فاسد وحكم الفاسد من العقد حكم الصحيح في الضمان. فرع آخر لو قال: رهنتك هذا إلى سنة، فإن قضيتك فالعبد لي، وإن لم أقضك فالعبد لك بيعًا به فالرهن جائز والبيع باطل. والفرق بينه وبين المسألة الأولى أن ههنا أخرج مخرج الخبر فلم يقدح في صحة الرهن وبطل البيع لتعلقه بالصفة، وهناك أخرج مخرج الشرط بقوله: علىَّ وكلاهما بطل؛ لأنه شرط في الرهن ما ينافيه. فرع آخر لو كان الرهن أرضًا في هذه المسألة التي ذكرناها فغرس فيها، فإن كان قبل انقضاء المدة فقد غرس بإذن الراهن، وإن كان فاسدًا فقد تضمن الإذن في التصرف فيكون الراهن مخيرًا بين ثلاثة أشياء إما أن يقر غرسه، أو يدفع إليه قيمته، أو يجبره على تلفه ويضمن له ما نقص. فرع آخر لو تزوج العبد امرأة بألف بإذن سيده، ثم إن السيد ضمن هذا الألف عن عبده وأعطاه العبد نفسه رهنًا بالألف لا يجوز؛ لأن أصل الدين مضمون عن العبد فلم يجز أن [179 أ] يجعله رهنًا في الدين؛ لأن ثبوت الوثيقة غير الموثق فيه، ونظيره من الضمان أن يضمن زيد عن عمرو ألفًا ثم يعود عمرو يضمنه عن زيد فيكون ضمان زيد باطلًا. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ كَانَ فِي يَدَيَّ المْرُتَهِنِ بِغَضْبِ ". الفصل: وهذا كما قال. إذا غصب من رجل شيئًا ثم رهنه المالك عند الغاصب قبل أن

يقبضه منه فعقد الرهن يصح، ويحتاج إلى قبض الرهن، وذلك بمضي المدة والإذن في القبض على ما ذكرنا، وهذا العقد لا يزيل ضمان الغصب. وقال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد، والمزني رحمهم الله: يزيل ضمان الغصب، وعند أبي حنيفة يصبر مضمونًا ضمان الراهن؛ لأن عنده الرهن مضمون. وذا غلط؛ لأن استدامة الرهن لا تنافي ضمان الغصب. وأعلم أن الشافعي رحمه الله عليه احتج في "الأم "على هذه المسألة بأن قبضه من نفسه لا يبرئه من الضمان، ألا ترى أنه لو أذن المشتري للبائع في قبضه المبيع بثمن من نفسه فقبضه لا يبرأ من الضمان. قال أصحابنا: يمكن أن يفرق بينهما فبقال في المبيع: لم يصح القبض وههنا صح القبض، وإنما صح ههنا لأنه قبض بنفسه بإذن غيره، والبائع قبض لغيره من نفسه، ويصح أن يقبض لنفسه؛ لأن الشيء في يده فلا يقبض لغيره؛ لأنه لا يصل إلى يد غيره. وهكذا [ق 179 ب] الحكم لو رهن عنده المأخوذ سومًا أو ببيع فاسد. فرع آخر لو رهن عنده ثم دفعه الغاصب إلى المالك ثم أقبضه منه المالك برئ من ضمان الغاصب؛ لأنه رجع إلى يد صاحبه. ولو أبرأه من ضمان الغصب ثم رهنه إياه لم يكن مضمونًا أيضًا؛ لأن الضمان حق للمغصوب منه، فإذا أبرأ منه سقط. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز هذا الإبراء؛ لأن الإبراء من ضمان العين لا يجوز، وضمان القيمة يجب بعد. وهذا لا يصح؛ لأن سبب الضمان قد وجد فصح الإبراء منه، ألا ترى أنه لو حفر بئرًا فمات ووقع فيها إنسان كان مضمونًا في تركته كما لو كان حيًا؛ لأن سبب الجناية كان منه في حال الحياة، كذلك ههنا. فرع آخر لو شرط وضعه على يدي عدل فوضعه الغاصب برئ من الضمان؛ لأن العدل وكيل الراهن. فرع آخر لو جعله وديعة عنده فيه وجهان: أحدهما: لا يزول الضمان كالرهن؛ لأن الراهن أمانة كالوديعة. والثاني: يزول الضمان وهو الصحيح؛ لأن الوديعة تنافي الضمان لكونها أمانة محضة يرجع نفعها إلى الغير خاصة بخلاف الوهن. ولهذا لو تعدى المودع في الوديعة خرج من كونها وديعة، ولو تعدى المرتهن في الرهن لا يخرج من الرهن.

فرع آخر لو أجبر المغصوب [ق 180 أ] من الغاصب لا يزول الضمان بلا خلاف على المذهب؛ وهكذا ذكره جمهور أصحابنا. وقال في "الحاوي ": إن قلنا بالوديعة يزول الضمان، فالإجارة أولى. وإن قلنا بالوديعة لا يزول الضمان ففي الإجارة وجهان: أحدهما: لا يبرأ لأنها أمانة كالوديعة. والثاني: يبرأ لأن الإجازة صنف من النوع يستحق فيها عوضًا. فرع آخر لو جعله مضاربة في يده في وجهان كما في الوديعة. وقال في "الحاوي "فيه وجه ثالث هو صحيح عندي أنه ما لم يتصرف في العامل بحق المضار؛ فالضمان باق، وإن تصرف فيه بإتباع شيء، فإن ابتاع في ذمته ونقل المال لم يسقط الضمان، وإن ابتاع بعين المال سقط الضمان. والفرق أنه إذا اشترى بعين المال كان دافعًا للمال إلى مستحقه عن إذن المالك فيبتدئ من حصته، وإذا اشترى في ذمته كان قاضيًا لدين تعلق بذمته لم يبرأ من ضمانه. فرع آخر لو أعاره شيئًا ثم رهنه عند المستعير، فإن لم يكن منعه من الانتفاع لا يزول الضمان، وإن منعه من الانتفاع به اختلف أصحابنا فيه. قال الداركي: كان أبو إسحاق يقول: يزول ضمان العارية؛ لأن ضمان الغصب أكد من ضمان العارية. ومن أصحابنا من قال: لا يزول الضمان كما لا يزول [ق 180 ب] ضمان الغصب، وهو الصحيح. وقيل: هما مبنيان على أن العارية هل تبطل بهذا الرهن؟ وفيه وجهان: أحدهما: لا تبطل العارية بحدوث الرهن، وله أن ينتفع بها كما قبل الرهن، فعلى هذا ضمانها باق. والثاني: تبطل العارية. فعلى هذا يرتفع ضمانها ويفارق المغصوب؛ لأنه لم يرتفع الغضب بالرهن فلم يرتفع حكمه. فإذا تقرر هذا، قال المزني رحمه الله: يشبه أصل قوله إذا جعل قبض الغصب في الرهن جائزًا كما جعل قبضه في البيع جائزًا، أم لا يجعل الغاصب في الرهن ضامنًا، إذ الرهن عنده غير مضمون لكن الغصب مضمون. وإنما يلزم هذا الضمان بسبب الغصب

السابق، ولا يشبه الرهن المبيع؛ لأن البيع يزيل الملك فلا يستحيل اقتران الضمان به كالجناية والرهن. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ رَهَنَهُ دَارَيْن فَقَبَضَ إِحْدَاهُمَا وَلَمْ يَقْبِضِ الأثخْرَى". الفصل وهذا كما قال. إذا رهنه عينين لا يخلو إما أن يكون مما ينقل أو مما لا ينقل، فإن كانت مما ينتقل فنقلت إحداهما كما كان قبل القبض انفسخ العقد فيه، وهل ينفسخ في الأخرى؟ مبني على ذكرناه في البيع وفي طريقان: أحدهما: لا ينفسخ في الباقي قولاً واحدًا؛ لأن الفسخ طرأ على العقد. والثاني: فيه قولان؛ فإذا قلنا ينفسخ في الباقي اختلف [ق 181 أ] أصحابنا في العلة، فقيل لجهالة العوض، فعلى هذا لا ينفسخ الرهن، لأنه لا عوض فيه ........ اجتمع الحلال والحرام، فعلى هذا في الرهن الباقي قولان: فإذا قلنا ينفسخ أو لا ينفسخ في الباقي، فإن كان مشروطًا في بيع ثبت الخيار للبائع في فسخ البيع لتعذر ما شرطه في العقد عليه، وإن رضي بالبيع ما لم يكن له المطالبة بالرهن إلا أن تكون إحدى العينين باقية. وإن قلنا: لا ينفسخ العقد فله إمساكها، وهذا لجميع الثمن، وبكل جزء منه، وإن لم يكن مشروطًا في بيع فليس له المطالبة؛ لأن العقد تعلق بعينه. فإن قيل: هلا قلتم أنه ينفسخ لأن الرهن في يده أمانة كما قلتم في العين المستأجرة إذا تلفت في يد المستأجر كانت من ضمان الأجير؟ قلنا: الرهن وإن كان أمانة فالوثيقة منه من ضمان المرتهن؛ لأن ذلك حصل في يده على ما يستحقه بالعقد فكان من ضمانه. وأما العين المستأجرة فالذي استحقه بالعقد المنفعة والعين غير معقود عليها، وإذا تلفت العين انفسخ العقد في المنفعة التي لم تحصل في يده؛ لأنها تتحدد فلها افترقا. وإن كان مما لا ينتقل ولا يحول، من أن يرهن داريين فإن احترقت إحداهما قبل القبض فقد تلف خشبها وذلك يأخذ قسطًا من الثمن في البيع، ويكون بمنزلة المنقول، وقد [ق 181 ب] مضى حكمه. وإن انهدمت ولم يتلف منها إلا التالف فذلك لا يقابله الثمن، إلا أنها تنقض بالانهدام فيثبت المرتهن الخيار إن كان الرهن مشروطًا في بيع ولا يبطل الرهن. فإن قيل: أليس قلتم إذا انهدمت الدار المستأجرة انفسخت الإجارة، فقولوا في الرهن مثله؟ قلنا: الإجارة عقد على المنفعة، والمنفعة تعذرت به، وههنا استئناف بالعين وهي باقية.

فإن قيل: قلتم لو أوصى بدا ثم انهدمت لا يدخل النقد في الوصية، وقلتم يدخل في الرهن فما الفرق؟ قلنا: الاعتبار بحالة الموت، ولهذا أوصى بثلث ماله اعتبر قدره حال الموت، فإذا انهدمت الدار فاسم الدار قد زال عن الأعيان المنفصلة عند الموت فلا يدخل في الوصية، والاعتبار في الرهن بالعقد، وما دخل في العقد استقر بالقبض، فإن كان الانهدام بعض القبض لا خيار على ما بيننا. وعلى هذا الذي ذكرنا لو كانتا باقيتين فأقبض أحدهما وامتنع من إقباض الأخرى فالمقبوض مرهون لجميع الحق؛ لأن الرهن وثيقة بكل الحق وبكل جزء من أجزائه على ما ذكرنا. وحكي عن أبي حنيفة رواية أنه كان المقبوض رهن بحصته من الحق، ثم امتناعه من تسليم الثانية لا يبطل الرهن في الذمة أقبض ........ ولا يبطل أيضًا في التي امتنع من إقباضها حتى يغير عن البطلان بعبارة صالحة، فإن بدا له بعد ذلك تسليمه إليه مسلمة كان رهنًا لازمًا بالعقد السابق، وإن أصر [ق 182 أ] على الامتناع فللبائع فسخ البيع عند الشرط؛ لأنه لم يسلم جميع الشرط. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ أَصَابَهَا هَدْمٌ بَعْدَ القَبْضِ كَانَتْ رَهْنًا بِحَالِهَا وَمَا سَقَط مِنْ خَشَبِهَا". وهذا كما قال، إذا رهن دارًا فانهدمت بعد القبض فالرهن صحيح على ما ذكرنا وتكون الدار بطوبها وخشبها وجميع أنقاضها رهنًا؛ لأن كل ذلك أخذ في عقد الرهن على ما ذكرنا. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ رَهَنَهُ جَارِيَةً قَدْ وَطِئَهَا قَبْلَ الْقَبْضِ". الفصل: وهذا كما قال. إذا رهن جارية ثم ظهر بها حما فأقر به المرتهن لا يخلو إما أن يكون أقر بالوطء قبل الإقباض أو بعده، فإن أقر به قبله يؤثر الإقرار فيه؛ لأنه يجوز من ذلك الوطء، ويجوز أن تحبل من غيره، والأصل جواز العقد وعدم الحبل، ولا فرق بين أن يكون هذا الإقرار منه بعد عقد الرهن أو قبله؛ لأن الرهن غير لازم في الحالين، ثم ينظر، فإن لم يظهر الحمل فلا كلام، وإن ظهر بها حمل نظر، فإن كان الوقت لا يمكن أن يكون من ذلك الوطء بأن يكون لأكثر من أربع سنين أو لدون ستة أشهر من الوطء لم يلحق بالراهن ولم تصر أم ولده ويحكم بأنها أتت به من زنا أو وطء شبهة فيكون مملوكًا للراهن والجارية رهن بحالها، وإن كان الوقت يمكن أن تكون منه بأن كان لستة أشهر فصاعدًا

[ق 182 ب] أو دون أربع سنين تلحق بالراهن وصارت أم ولد له وخرجت من الراهن. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن وضعت لأكثر من ستة أشهر ودون أربع سنين هل يبطل الرهن؟ وجهان: أحدهما: لا يبطل الر هن؛ لأن الرهن لا يبطل بالإمكان وإن كان النسب يثبت بالإمكان. والثاني: يبطل الرهن لأنا حكمنا بالعلو وقبل القبض يلحق النسب به. وقال أبو الفياض في شرحه: لا يخرج من الرهن بلا خلاف؛ لان الولد لحق به بالفراش لا بالاعتراف بالولد. وهذا غير صحيح؛ لأن خروجها من الرهن إنما يكون لماذا صارت أم ولده وهي تصير أم ولده بالفراش ما تصير أم ولده بالاعتراف بالولد، فوجب أن تخرج من الرهن إذا لحق ولدها بالفراش كما تخرج إذا لحق ولدها بالاعتراف، ثم ليس للمرتهن فسخ البيع إن كان البيع على هذا الرهن؛ لأنه دخل على بصيرة يوطئه، فإن الإقرار كان قبل العقد أو قبل القبض بعد العقد فهو بمنزلة العلم بالعيب. هكذا ذكره القاضي الطبري. وقال بعض أصحابنا: إن كان هذا الإقرار وقت العقد لا خيار، وإن كان بعد العقد قبل التسليم فله الخيار بكل حال؛ لأنه رضي بالوطء ولم يرض بالحمل الذي لا يؤول إليه الوطء، فإن الظاهر عدمه، ولهذا جوزنا الرهن حق للبائع من الفسخ بذاك، وإن أقر [ق 183 أ] بالوطء بعد الإقباض، فالولد يلحقه ولكنه متهم في هذا القول، لأنه يريد أن ينزع الرهن من يده فهل يقبل قوله في بطلان الرهن؟ قولان مخرجان بناء على القولين فيه إذا رهن عبدًا ثم قال: كنت أعتقه أو جني جناية:؛ أحدهما: يقبل؛ لان الضرر الذي يلحقه ببطلان ملكه أكثر مما يلحق المرتهن فلا يتهم انه قصد الإضرار بالمرتهن. والثاني: لا يقبل؛ لأنه يبطل حق الغير. فإن قلنا: لا يقبل فالقول قول المرتهن مع اليمين، فإن نكل ردت اليمين على الراهن، فإن نكل فهل يحلف الجارية؟ قولان. وإن قلنا: القول قول الراهن فهل تلزم اليمين؟ فيه وجهان مخرجان من القولين في الرهن إذا أقر بالجناية عنده قبل رهنه وقلنا يقبل هل عليه اليمين أم لا؟. وإذا قلنا: لا يقبل قوله في حق المرتهن فتخلصت من الرهن صارت أم ولدٍ ولا يجوز له التصرف فيها بما لا يجوز في أم الولد للإقرار السابق، وإن أنكر الرهن أن يكون الحمل فيه من كلتا المسألتين كانت الجارية رهنًا، وهذا بأن يدعى الاستبراء، وإنما يشترط دعوى الاستبراء؛ لأن الاعتراف بالوطء يوجب لحوق الولد ما لم يدع الاستبراء.

مسألة: قَالَ: "وِإِنْ اغْتَصَبَهَا بَعْدَ القَبْضِ فَوَطِئَهَا فَهِيَ بِحَالِهَا". وهذا كما قال. إذا رهن جارية ثم أراد وطئها لا يخلو إما إن كانت مما يحبل مثلها أو لا يحبل [ق 183 ب] مثلها، فإن كانت ممن يحبل مثلها لا يحل له وطئها. فإن قيل: لم لا تبيحون وطئها كما تبيحون سكنى الدار وركوب الدابة. قلنا: لأن الوطء فاتحة الاستهلاك بالاستيلاد فنظيره أن يجمل على الدابة ما يخشى به عطبها فلا يجوز ذلك له، وإن كانت ممن لا يحبل مثلها لصغر أو كبر فالمذهب أن لا يحل وطئها؛ لأن الفرق بين من يحبل ولا يحبل يتعذر فحسم الباب كما حرم الخمر للسكر وحرم مثلها لمثل هذا المعنى. وهذا اختيار ابن أبي هريرة -رحمه الله-. وقال أبو إسحاق: يحل وطئها لأنه لا ضرر فيه. وهذا أقيس. وإذا منعنا الوطء لا يجوز أن يطأها دون الفرج وجهًا واحدًا؛ لأن ذلك يدعو إلى وطأها في الفرج فيمنع الإمساك ...... وقيل الأجنبية. ذكره في "الحاوي" فإن خالف ووطء لا حد عليه ولا مهر؛ لأنه صادف ملكه، ولو وجب المهر كان له فلا يجب له على نفسه شيء. ويفارق هذا إذا وطء أمة مكاتبة يلزمه المهر؛ لأن الرهن باقيه للراهن وله الانتفاع به مع استبقاء الرهن وهذا من المنافع، ومنافع مال المكاتب والمكاتبة يحول بينها وبين السيد وهي لهما بحكم عقد الكتابة، ولهذا يلزم المهر. ثم لا يخلو إما أن تحبل أو لا تحبل، فإن لم تحبل لا يخلو [ق 184 أ] إما أن تكون ثيبًا فلا شيء، وإن كانت بكرًا يلزمه أرش نقص بذهاب البكارة، لأنه إتلاف جزء منها كأطرافها، وهو بالخيار بين أن يجعل ذلك رهنًا معها أو قصاصًا من الحق. قال الشافعي رحمة الله عليه: "ولا أظن أحدًا يجعل ذلك رهنًا معها ولا يجعله قصاصًا عن الحق". واعلم أن الشافعي رحمه الله تعالى أطلق لفظ القصاص في هذه المسألة ولم يرد به حقيقة القصاص؛ لأن حقيقته أن يكون لكل واحد من الغريمين في ذمة صاحبه دين فيتقاضيان إذا كان الدينان متجانسين، وليس في ذمة المرتهن هنا دين، وإنما الدينان جميعًا في ذمة الراهن، فمراد الشافعي بذكر لفظ القصاص إذا بعض الدين؛ لأن أرش الاقتصاص موجه على السيد والخيار إليه، فإن شاء أعطاه على جهة الرهن، وإن شاء أعطاه على جهة قضاء الدين إذا كان الدين حالاً، وإن كان مؤجلاً فالمرتهن مخير بين .............. على قبول المعجل على القول المشهور، وإن أحبلها بحقه نسبه والولد حر، وصارت أم ولد في حقه، وهل ينفذ إحياله في حق المرتهن فيخرج من الرهن الحكم فيه؟

وفي ابتداء العتق واحد. قال في "الأم": وإن كان سرًا نفذ إحياله وإعتاقه ويؤخذ منه القيمة، وإن كان معسر ًا فيه قولان: أحدهما: ينفذ [ق 184] وتكون القيمة في ذمته تؤخذ منه متى وجد مالاً. والثاني: لا ينفذ ويكون رهنًا بحالها. ونقل المزني رحمه الله أنه إذا كان موسرًا ينفذ وإن كان معسرًا لا ينفذ. وقال في "القديم": والرهن اللطيف إذا أعتق وأجل. قال عطاء: لا ينفذ ولهذا وجه. ثم قال: وقال بعض أصحابنا: ينفذ إن كان موسرًا وإن كان معسرًا لم ينفذ، واختار هذا ونظيره. ثم قال: فإن قال قائل: لم تركت قول عطاء؟ قلنا: لأنه لا ضرر على المرتهن في العتق، لأنا لا نأخذ قيمته، فحصل من هذا أنه كان معسرًا لا ينفذ، وإن [كان] موسرًا فيه قولان، واختار الفصل بين الموسر والمعسر، والفرق ما ذكره الشافعي رحمة الله عليه أنه إن كان موسرًا يمكن أخذ القيمة منه ووضعها رهنًا مكانه فلا يؤدي إلى الإضرار بالمرتهن، وإن كان معسرًا لا يمكن ذلك. وهذا كما تقول في أحد الشريكين إذا أعتق نصيبه إن كان موسرًا ويؤخذ منه القيمة، وإن كان معسرًا لا ينفذ. وكذلك لو أعتق السيد عبد العبد المأذون إن كان عليه دين لا ينفذ، فكذلك لو أعتق السيد. وغن لم يكن عليه دين اختلف أصحابنا في المسألة على المرق؛ قال صاحب "الإفصاح" وجماعة: في الإعتاق والإحبال ثلاثة أقوال: أحدهما: لا ينفذ موسرًا كان أو معسرًا، وبه قال عطاء رحمه الله [ق 185 أ] لأنه لما أعلق رقبتها بعقد الرهن أوثقها بحق المرتهن فلا يجوز مناقضة فعله بفعله عند الإحبال والإعتاق. والثاني: ينفذ موسرًا كان أو معسرًا، وبه قال أبو حنيفة وأحمد رحمهما الله؛ لأن الإعتاق والإحبال صادفا الملك الكامل، وإذا كان معسرًا عند أبي حنيفة يستسعيى العبد في قيمته، ويخالفه أحمد في ذلك، وهذا غلط؛ لأن فيه إيجاد الكسب على العبد ولا وجه له. والثالث: الفصل بين الموسر والمعسر، وبه قال مالك رحمه الله، وهو الصحيح على المذهب، ووجه ما ذكرنا. ولم يصرح الشافعي رحمه الله بان المسألة ثلاثة أقوال، ولكن حصل ثلاثة أقوال على وجه التخريج. وقال أبو إسحاق: إن كان موسرًا ففي نفوذ إحباله وإعتاقه قولان، وإن كان معسرًا فحكمه مبني على الموسر، فإن قلنا هناك فههنا أولى. وإن قلنا هناك ينفذ فههنا

قولان، أحدهما هذا وهو الأصح؛ لأن الشافعي لم يبين حكم المعسر على الموسر في شيء من كتبه. ويحكى عن أبي إسحاق انه قال في العتق ثلاثة أقوال، والإحبال مرتب عليه، فإن قلنا العتق ينفذ فالإحبال أولى؛ لأنه فعل فهو أولى من القول؛؛ لأن الأب يستولد جارية ابنه فتصير أم ولده ولا ينفذ عتقه فيها. وكذلك المريض [ق 185 ب] ينفذ استيلاده في الجارية المستفرغة بالدين ولا ينفذ إعتاقه فيها. وينفذ الاستيلاد من المجنون والمحجور عليه ولا ينفذ عتقهما. وإن قلنا العتق لا ينفذ ففي الإحبال قولان لهذا المعنى الذي ذكرنا وفي هذا أيضًا نظر؛ لأن العتق أقوى من الإحبال من وجه، فإن يتنجز في المال بخلاف الاستيلاد، ولأن قول المجنون والمحجور فيما يؤدي إلى اتلاف ماله فلا ينفذ عتقهما وتعلقهما صادف الملك ووجد حقيقة فنفذ، وعند صحة القول فالإحبال والعتق سواء. ومن أصحابنا من قال: إن كانت معسرًا لا ينفذ الإحبال والعتق قولاً واحدًا، وإن كان موسرًا فيهما قولان. فرع قال أصحابنا: على ما ذكرنا أنه لو رهن نصف عبده وأقبضه ثم أعتق النصف الذي لم يرهن عتق وسرى إلى الباقي قولاً واحدًا. واختلاف المذهب في ابتداء العتق لا في السراية، وهو كما لا يجوز ابتداء العتق في نصيب الشريك ويسري إليه يختلف باليسار والإعسار كما قلنا في الشريك. وذكر شيخنا ناصر العمري رحمه الله عن بعض أصحابنا أنه لا يسرى إلى المرهون؛ لأنه يؤدي إلى إبطال حق المرتهن، وهذا ضعيف جدًا. فإذا تقرر هذا فالكلام الآن في التفريع على القولين، فأولاً نذكر حكم المعتق ثم نذكر حكم الإحبال. فإذا أعتق وقلنا نظر، فإن كان [ق 186 أ] موسرًا يؤخذ منه قيمته في الحال كما لو قتله، ويعتبر قيمته حين الإعتاق لأنته وقت التلف. ثم إن الحق حالاً طولب بها حتى يقضي الدين، وإن كان مؤجلاً رهنًا مكان ذلك وبرئت ذمته من قيمته وكان الدين باقيًا في ذمته، ولا يحتاج إلى تجديد الر هن في القيمة لأنها بدل العين المرهونة. وإن كان معسرًا يكون في ذمته وقيمة الرهن معًا، وإذا أيسر نظر، فإن كان الحق قد حل طولب به، فإذا قضاه برئت ذمته من الحقين، وإن لم يكن حل طولب بالقيمة، وإذا اختار أن يجعل رهنًا مكان الرهن تعلق الحق بالرهن وبرئت ذمته من قيمته وكان الدين باقيصا في ذمته على ما ذكرنا. والمنصوص أنه يحكم بنفوذ عتقه بنفس اللفظ. ومن أصحابنا من قال: فيه ثلاثة أقوال كما في شرائه العتق إلى نصيب الشريك: ينفذ باللفظ. والثاني ........... والثالث: انه يراعى، فإن دفع القيمة تبينا أنه عتق باللفظ، وإن لم يدفع تبينًا أنه لم يعتق أصلاً. وهذا غلط مذهبًا وحجاجًا. أما المذهب: فنص الشافعي عليه ههنا انه يعتق بنفس اللفظ، وأما الحجاج: أنه لو كان هذا بمنزلة عتق

أحد الشريكين لوجب أن لا ينفذ عند الاعتبار قولاً واحدًا؛ لأنه لا يسري إلى نصيب الشريك عند الإعسار قولاً واحدًا. وأيضًا [ق 186 ب] إعتاق الراهن صادف ملكًا وغنما يدفع القيمة إلى المرتهن على وجه الاستئناف للمرتهن لا غرمًا للتلف، ولا يتوقف نفوذ العتق على آدابها بخلاف قيمة نصيب الشريك. وإذا قلنا: لا ينفذ عتقه كان وجود هذا القول منه وعدمه سواء. فإن زال حق المرتهن عن العين مثل إن قضى الحق وفك الرهن، وبيع العبد في الرهن ثم ملكه بعد ذلك بإرث أو شراء لم يؤثر ذلك العتق فيه. ومن أصحابنا من قال: يحكم بعتقه كما لو كانت امة فأحبلها ثم زال حق المرتهن عنها تصير أم ولده، وبه قال مالك رحمه، وهذا غلط. والفرق أن الإحبال فعل مؤثر ولا يمكن دفعه بعد حصوله، والعتق قول إذا لم يصح يصير لغوًا. ولهذا ينفذ الإحبال بشبهة الملك دون العتق، وينفذ من المجنون دون العتق. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن بيع في الدين ثم ملكه لا يعتق؛ لأنه قول رد وأبطل فلا ينفذ في وقت آخر، وإن قبله بأداء أو إبراء فيه قولان: أحدهما: لا يعتق. والثاني: يعتق؛ لانه كان موقوفًا عن الافتكاك من الرهن، وهما كالقولين في إعتاق المفلس وتصرفاته فيه لا تكون موقوفة إلا على قولنا القديم أنه يقف العقود على الإجارة، والصحيح ما ذكرنا. وأما حكم الإحبال: فإن قلنا ينفذ صارت أم ولده في حقه وحق المرتهن [ق 187 ب] بعقد يتوهم صحته مثل أن يجمع بين الحر والعبد والحمل في البطن لا يفرد بالعقد في البيوع. فإن قيل: فاجعل الولد في البطن كالمعدوم، ووجه العقد على الأم حتى يصححه. قلنا: لا سبيل إلى ذلك؛ لأن الولد انفرد عن الأم في العقود لا انفرد عنها في التقويم عند الاستهلاك. فإن قيل: هذا جوزتم بيعها على القول الذي يقول الحمل لا يعين. قلنا: للحمل أمارات لا تكاد تخفي على القوابل، وصورة هذه المسألة أنها تحقق تلك الأمارات فإن باعها قبل ظهورها، ثم بان الحمل المستند إلى وقت العقد أبطلنا العقد. فإن قيل: هلا وقفت العتق بعد ظهور الأمارات على القول بوقف العقود؟ قلنا: لم نفعل ذلك؛ لأن بيعها لا يستغنى عن تعينها، فالإشارة في العقد، ومعقول أنك إذا أشرت إلى الحبلى كانت إشارة غير مقصودة عليها دون حملها؛ لأن الحمل كصفة من صفاتها ما دامت حبلى، وغن حل الحق كانت قد وض 1 عت نظر، فإن ماتت من الولادة يلزمه قيمتها؛ لأنها تلفت في سبب كان منه. فإن قيل: أليس لو أكره أمه أو حرة على الوطء وأحبلها فماتت بالطلق لم يلزمه ضمانها، كذلك ههنا، قيل: فيه قولان:

أحدهما: يلزمه دية الحرة على قيمته وقيمة الأمة في ماله ولا نسلم، وإن سلمنا فالفرق أن الولد [ق 188 أ] فههنا غير ملحق به فلم يكن سبب تلفها منسوبًا إليه ويلزمه ضمانه. فإن قيل: أليس لو تزوج أمه بنكاح فاسد ووطئها وأحبلها فماتت من الولادة لا يلزم الضمان، وإن كان الولد لاحقًا به؟ قلنا: قد ذكرنا قولين والفرق بعد التسليم قد سبق، وهو أن الوطء مقصود بعقد النكاح، فإذنها في النكاح إذًا في الوطء الذي هو سبب الاتلاف وههنا المرتهن لم يأذن فافترقا. وقال بعض أصحابنا في المسألة أيضًا: في وجوب القيمة قولان كما في هذه المسألة، والأظهر ما ذكرنا. فإذا تقرر هذا متى يعتبر قيمتها؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: يصير حين وطء العلوق وهو المذهب؛ لأن سبب التلف وجد في هذه الحالة. والثاني: يصير حين التلف، وهو حالة الوضع، لأنها حالة استقرار التلف، وفي هذه الحالة تجب القيمة، وهو اختيار ابن أبي هريرة. والثالث: يعتبر قيمتها أكثر ما كانت من حين الوطء إلى حين الوضع والتلف كالمغصوبة، وإذا وجبت القيمة فالحكم في قيمتها كالحكم في قيمة العبد إذا أعتقه. وإن لم تمت لا يخلو إما أن تنقص أو لا تنقص، فإن نقصت فعليه ما نقص يكون رهنًا معها، فإن جعله قصاصًا بالحق كان أولى، وإن لم تنقص بحالٍ فإنها لا تباع في الدين حتى ترضع اللبأ؛ لأن الولد [ق 188 ب] لا يعيش من دونه، ثم يوجد مرضعة تسقيه اللبن. ثم إن الشافعي قال: "فإن كانت تسوي ألفًا والحق مائة بيع منها بقدر المائة والباقي لسيدها رقيقًا". فإن كانت قيمتها مثل الدين بيع جميعها، وإن كانت أقل من الدين فكذلك، وما يبقى من الدين في ذمة الراهن يضرب به مع سائر الغرماء بقسطه، وإن كانت أكثر من الدين بيع منها بقدر الدين، فإن لم يكن هناك من يشتري بعضها باع جميعها للضرورة. ذكر أبو إسحاق. وإذا بعنا بعضها وقضى حقه كان بعضها ملكًا للمشتري وبعضها ملكًا للراهن والكسب لهما والنفقة عليهما، ولا يجوز منهما وطئها؛ لأنه لا يملكها ملكًا تامًا، فإن مات الراهن عتق نصيبه بموته وكان الباقي رقيقًا، ولا يقوم على الوارث لا ما أعتق ولا على الراهن الميت؛ لأن ملكه زال بوفاته فصار كالمعسر وإن لم يمت ولكنه اشترى الباقي من المشتري صارت كلها أم ولد قولاً واحدًا. وهكذا إن باع جميعها ثم ملكها صارت أم ولده أيضًا، لأن الاستيلاد كان في الملك الكامل ولكنا أخرناه لمراعاة المرتهن وبعناها

في دينه، فإذا قضى حقه وتملكها سيرناها أم ولده لمتحض حقه فيها. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن بيعت ثم ملكها هل تصير أم ولد؟ قولان. وإن أفتكها [ق 189 أ] من الرهن بأداء أو إبراء من غير أن يباع فيه تصير أم ولده؛ لأن العقد إذا لم يجر في وقته لم يجر بعده حتى يبتدأ بما يجوز، وهذا الاستيلاد بطل في الأصل فلا يصح في ثاني الحال. قال: ولا يكون إحباله لها أكثر من عتقها، ولو أعتقها بطلت عتقها حتى لو ملكها لا يعتق كذلك ههنا. وقال في معنى من أعتقها: من لا يجوز عتقه فيها من المجنون والمحجور عليه فلا ينفذ من بعد إطلاق الحجر والإفاقة، وكذلك ههنا لا ينعقد بالملك بعد قضاء حق المرتهن؛ لأن زمان الرهن كزمان الحجر في العين المرهونة. قلنا: الأول الذي قاله لا يصح، لأنا نقول الاستيلاد بطل في الأصل بل نفذ في حقه في الحال على ما بيناه. أما مسألة العتق فقد ذكرنا المذهب والفرق. وأما عتق المحجور لا يسلم؛ لأنه على أحد القولين على ما ذكرنا، فإن فصلت تلك الرقبة عن ديون غرمائه، عتق بسابق لفظه. وقيل: استدل المزني بمسألة القولين على مسألة الوجهين وهو محال. وقيل: هذا الاختيار من جهة المزني إنما هو اختيار الشافعي على معاني أصوله وليس يختاره المزني لنفسه، فإن ثبتت حرمة الاستيلاد بأدنى من هذا السبب، وهو إذا استولدها بالنكاح ثم ملكها، قال: تصير أم ولده كما قال أبو حنيفة، فكيف لا يجعلها أم [189 ب] ولده ههنا وقد استولدها بالملك فتحقق ذلك من لا يغلظ عليه، ولو وجدنا من يشتري بعضها ولكن بالتبعيض يقع النقص في قيمتها ببيع بعضها ولا ببيع كلها بمكان ثبوت حق الاستيلاد في الباقي ويفارق هذا إذا باع الحاكم على الغائب جارية مرهونة وفي التبعيض نقصان القيمة لا يجوز ذلك؛ لأنه ليس ذاك من النظر، بل النظر أن يبيع كلها، فإن بيع نصفها على الانفراد بما يشتري بأربعمائة، ولو بيعت صفقة واحدة بيعت بألف ثم يحفظ الحاكم على الغائب فضل الثمن بنفسه أو غيره، ولو بيعت صفقة واحدة بيعت بألف ثم يحفظ الحاكم على الغائب فضل الثمن بنفسه أو غيره، وهذا الأجل أنه لا ضرورة ههنا إلى التبعيض بخلاف ذاك. فإن قال قائل: لم قال الشافعي في تعليل المسألة المتقدمة، ولا يكون إحباله لها أكثر من عتقها والإحبال أقوى من الإعتاق على ما ذكرنا، وكلام الشافعي يدل على أن الإعتاق أقوى. قلنا: العتق المنجز يغلب على الاستيلاد بمعنى التعجيل والتأجيل، فإن حرية الاستيلاد تقع مؤجلة أبدًا وحرية التنجيز معجلة، فيحتمل أن الشافعي قال لهذا المعنى: "وَلَا يَكُونُ إِحْبَالُهُ لَهَا أَكْبَرَ مِنْ عِتْقِهَا" ثم عطف المزني عل تعليل الشافعي تفسيرًا من عنده فقال: "يَعْنِي إِذَا كَانَ مُعْسِرًا". فإن قال قائل: أليس قد ذكر الشافعي في أول المسألة الإعسار حيث قال: "فَإنْ

[190 ب] أَحْبَلَهَا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ غَيْرُهَا لَمْ تُبَعٍْ" فما فائدة كلام المزني وتكريره. قلنا: كلام المزني منعطف على مسألة العتق التي أوردها الشافعي للتعليل، وهو أنه قال: "وَلاَ يَكُونُ إِحْبَالُهُ لَهَا أَكْبَرَ مِنْ عِتْقِهَا". فأبطل العتق وتباع. قال المزني: "يَعْنِي بإِبْطالِ العِتْقِ حَالَة إِعْسَارِ الرَّاهِنِ". ثم قال بعد هذا: "تُعْتَقُ بِمَوْتِهِ فِي قَوْلِ مَنْ يُعْتِقُهَا" قال المزني: "قَدْ قَطَعَ بِعِتْقِهَا فِي كِتَابِ عِتْقِ أُمَّهَاتِ الأَوْلاَدِ". واعلم أن الشافعي غير مختلف في هذه المسألة أن أم الولد تعتقه بموت السيد، ولا يجوز بيعها بعد ثبوت حرمة الاستيلاد، وقد قطع بذلك في خمسة عشر كتابًا. وقوله: "فِي قَوْلِ مضنْ يَعْتِقُهَا" ليس بتعليق قول، بل هو تلويح بذكر خلاف ضعيف بين الصحابة، وذلك ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "لما اجتمع رأيي ورأي عثمان على أن لا تباع أمهات الأولاد، وأما الآن أرى أن يبعن". وفد روي عن علي رضي الله عنه أنه راجع رأيه السابق وحرَّم البيع، وقد قال صلى الله عليه وسلم في مارية لما حبلت: "أعتقها ولدها". وقيل: إنما قال هذا ليعلم أن في المسألة خلافًا بين الصحابة وليست إجماعًا كما يقول مالك إنها إجماع بناء على أصله في أن من خالف من الصحابة [ق 190 ب] خارج المدينة لم يكن خلافه خلافًا. فرع لو وقف الراهن المرهون، فإن قلنا: ينفذ العتق ففيه وجهان: أحدهما: لا بنفذ لأنه إزالة ملك لا يقبل الإبطال كالعتق. والثاني: لا ينفذ لأنه لا يسري إلى ملك الغير بخلاف العتق فله مزية. فرع آخر لو قال الراهن للمرهون: أنت حر إن دخلت الدار بعد ذلك الرهن فيه وجها: أحدهما: لا يصح؛ لأنه إذا لم يملك الإعتاق في الحال على ما ذكرنا لم يملك تعليقه بالصفة كما في عبد الغير وهو القياس. والثاني: يصح؛ لأنه لا يمنع من التصرف الذي لا يضر بالمرتهن. ألا ترى أنه لا يمنع من الإجارة والاستخدام، وإنما لا يصح إعتاقه لأنه يبطل حق المرتهن، وهذا لا يوجد ههنا، فكذلك لو قال: إن دخلت الدار فأنت حر فدخل بعد حلول الدين وإخراجه من الرهن، فعلي الوجهين. ولو دخل في الحال الرهن فهو كالعتق المنجز. فرع أخر لو رهن عبدًا عند رجلين فأذن أحدهما للراهن في إعتاق نصفه فأعتق صحَّ، ويعتق الباقي إن كان موسرًا، وإن كان معسرًا لا يعتق على القول الذي يقول: لا ينفذ عتق الراهن.

فرع آخر إذا أذن المرتهن للراهن بإعتاق فرد الرهن إذنه وقال: لا اعتقه ثم أعتقه. قال والدي رحمه الله: يحتمل وجهين؛ أحدهما:؛ لا يقع [ق 191 أ] والثاني: يقع. فرع آخر قال: ولو قال بعد الإذن من غير رد اعتقه عن كفارته جاز، وإن كان الإذن مطلقًا. وغن قال: أعتقته إن دخل الدال لم يكن إعتاقًا بالإذن. ولو قال: أعتقه إن كان كذا وكان ذلك لم يكن إعتاقًا بالإذن أيضًا، ويحتمل جوازه ههنا؛ لان فائدة ذلك العتق المنجز. فرع آخر قال: ولو قال الراهن للمرهون وعبدًا آخر: أحدهما حر عتق الذي ليس بمرهون. قلو قال المرتهن له: أذنت لك تعرض الحرية في الآخر لم يصح اعتبارًا بعبد الغير. وفيه وجه آخر أنه يقال له: عين الحرية وافرضها، فإن فرضها في المرهون لم يقع على واحد منهما، وإن فرضها في غير المرهون وقع العتق. وهكذا لو قال لعبده وعبد غيره أحدهما حر على هذا القياس. وعلى هذا الوجه أيضًا لا اعتبار بالرضا الحاصل بعد الإعتاق وقبل الفرض كما الاعتبار به فيما ذكرنا. فرع آخر قال: ولو أذن المرتهن بإعتاق المرهون فقال الراهن له ولغير المرهون: أعتقت أحدهما ثم فرض الحرية في المرهون هل يصح؟ فيه وجهان، والصحيح أنه يصح. فرع آخر لو كان عبد نصفه حر ونصفه مملوك فوجب له على مالك نصف دين فرهنه نصفه الذي هو مملوك عنده يصح، ولا سبيل للراهن إلى إعتاق نصفه إلا بإذن الراهن؛ لأن الراهن لا يعتق [ق 191 ب] المرهون إلا بإذن المرتهن. فرع آخر لو قتال المرتهن: أعتقه إذا دخل الشهر الفلاني ثم قال: أعتقد اليوم هل يكون هذا رجوعًا عن الأول؟ يمكن أن يقال: لا يكون رجوعًا، فإن أعتقه في ذلك اليوم جاز، وإن أخر عتقه إلى دخول الشهر جاز أيضًا. فإن عرف من قصده بالقول الثاني الرجوع عن

الإذن الأول كان رجوعًا، وكذلك القول في عبد غيره. فر ع آخر لو رهن عبده ثم قبل الإقباض علق عتقه بصفة هل يكون رجوعًا من الرهن وجهان، ذكره والدي رحمه الله. مسألة: قَاَلَ: "وَلَوْ أَحْبَلَهَا أَوْ أَعْتَقَهَا بِإِذْنِ المُرْتَهِنِ خَرَجَتْ مِنَ الرَّهْنِ". إذا أذن المرتهن للراهن في وطء المرهونة فوطئها، فإن لم تحبل فلا كلام والرهن بحاله؛ لأنه لم يحصل به إتلافها، ولا إتلاف شيء منها، فهو كالاستخدام، ولأن مجرد الوطء لا ينافي الرهن، إذ يجوز رهن الموطوءة إذا لم تحبل، وإنما الإحبال هو المنافي له فلا يبطل الرهن، وهذا الوطء حلال له لإسقاط المرتهن حق نفسه، والمنع كان لحقه. وإن أحبلها فالحكم فيه وفيما لو أذن له بعتقها فأعتقها واحد، وهو أنه ينفذ ذلك ويخرج من الرهن؛ لأن ذلك ينافي الرهن، فإذا فعله بإذنه بطل الرهن. فإن قيل: لم يأذن بالإحبال وإنما أذن بالوطء وحده فلم ينفذ. قلنا: الوطء أفضى [192 أ] إلى الإحبال وليس ذلك باختيار الوطئ، فكان الإذن فيه إذنًا في الإحبال، ثم إذا نفذ ليس له مطالبته ببدلها ليكون مرهونًا عنده؛ لأنه أذن مطلقًا كما لو أذن له فقتلها لا يلزم البدل. وفرع الشافعي على هذا في "الأم" فقال: وإذا أذن في ضرب العبد فضربه فمات لم يضمنه؛ لأن الأمر بالضرب يقتضي كل ضرب، ثم يخالف ضرب الإمام للتعزيز؛ لأن الدليل على أن المراد بالتعزيز ما لا يتلف ولم يدل على مراد المرتهن، فكان الحكم لإطلاق لفظة أو لأن ذلك مشروط بالسلامة بخلاف هذا الضرب فإنه مطلق. وقال بعض أصحابنا: إنه يضمن بإذنه للضرب للتأديب بشرط السلامة أيضًا كما في الضرب الشرعي. فرع لو رجع المرتهن عن الإذن أو العتق لم يعتق برجوعه حكم. فإن رجع قبله، فإن علم الراهن برجوعه ثم وطء أو أعتق كان بمنزلة ما لو فعله بغير إذنه وقد بيناه. وإن لم يعلم به الراهن فهل يسقط الإذن؟ وجهان بناء على القولين في عزل الوكيل: فإن قلنا: يسقط الإذن يصير كما لو أحبل أو أعتق بغير إذن المرتهن وقد ذكرنا. وإذا قلنا: لا يسقط الإذن فيصير كما لو فعل ذلك بالإذن وقد ذكرنا. ولو أذن له بالهبة ثم رجع قبل الإقباض له ذلك؛ [ق 192 ب] وإنما يبطل الراهن عند

انضمام القبض إلى عقد الهبة. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ اخْتَلَفَا الرَّاهِنُ: أَعْتَقْتُهَا بِإِذْنِكَ". الفصل: إذا أعتق الراهن الجارية المرهونة أو أحلبها ثم اختلفا فقال الراهن: إنما فعلت بإذنك أيها المرتهن فالقول قول المرتهن مع يمينه واليمين على البت لأن الأصل بقاء الوثيقة وعدم الإذن في إبطالها عند الرقبة، فإن حلف صار كأنه أحلبها أو أعتقها بغير إذنه، وإن نكل عن اليمين ردت اليمين على الراهن، فإن حلف فقد ثبت ما ادعاه وبطل الرهن. وإن نكل عن اليمين فطلبت الجارية ردت اليمين عليها. نص في "الأم" أنها تحلف. ونص الشافعي في الوارث أو المفلس إذا أقام شاهدًا واحدًا ونكل عن اليمين هل ترد اليمين على الغرماء؟ على قولين: أحدهما: ترد عليهم، قاله في "القديم". والثاني: لا ترد عليهم، قاله في "الجديد". فمن أصحابنا من خرج في أم الولد قولاً آخر من مسألة الغرماء. ومن أصحابنا من لم يخرج وهو الصحيح، والفرق بينهما أن أم الولد تثبت حق نفسها فجاز استخلافها، والغريم يثبت مالك الغير بيمينه فلا يجوز ذلك. ولو كانت المسألة بحالها فمات المرتهن ثم اختلف وارثه والراهن فالقول قول وارث المرتهن على العلم: لا نعلم أن أبانا أذن له في ذلك. وإن مات الراهن دون المرتهن [ق 193 أ] فاختلف هو ووارث الراهن فالقول قول المرتهن مع يمينه على البت، فإن لم يحلف حلف وارث الراهن على البت لقد كان العتق بإذنك؛ لأنها يمين على الإثبات فتكون على البت وإن كان على فعل الغير. وإن لم ينكل على المرتهن وحلف كان العتق والإحبال بغير إذن المرتهن وقد بينا. وذكر الشافعي ههنا أنه إذا حلف هي رهن، وهذا على القول الذي نقول: عتق الراهن لا ينفذ بحال. فأما إذا قلنا بتنفيذ عتق الراهن بكل حال حكمنا ههنا بالإعتاق لاعتراف الراهن. وفيه قول ثالث وهو الفصل بين الموسر والمعسر على ما ذكرنا. ولكن الشافعي لما كشف المذهب في الإذن عند الاختلاف فيه أعرض عن تفصيل القول من تنفيذ العتق. فرع لو كان للراهن بينه على ما ادعاه بعد عتقه ففي البينة قولان: أحدهما: شاهدان عادلان، وهذا إذا قلنا عتق الراهن بغير إذن المرتهن باطل؛ لأنها بينة تثبت العتق، والعتق لا يثبت إلا بشاهدين.

والثاني: يقبل فيه شاهد وامرأتان أو شاهد ويمين، وهذا على القول الذي نقول: عتق الراهن بغير إذن المرتهن نافذ وأنه للقيمة ضامن؛ لأن هذا اختلاف في ضمان مالٍ، وهو أنه لايلزمه ضمان قيمته؛ لأن الإعتاق بالإذن. مسألة: قال: "وَلَوْ أّقَرَّ المُرْتَهِنُ أَنَّهُ (ق 193 ب) أَذِنَ لَهُ بِوِطْئِهَا وَزَعَمَ أَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِنْ زَوْجٍ لَهَا". الفصل إذا أقر المرتهن أنه أذن للراهن في الوطء ولكنه أنكر أن يكون الولد منه وادعى الراهن أنه ولده. قال في "الأم": "القول قول الراهن بلا يمين". قال أصحابنا: هذا إذا اجتمع فيه أربعة شروط: أحدهما: أن يثبت إذنه بإقراره. والثاني: أن يقر بأنه قد وطء. والثالث: أن تنقضي أقل مدة الحمل وهو ستة أشهر من حين الوطء. والرابع: أن يقر المرتهن أو الولد منها. فإذا حصلت هذه الشرائط ثم ادعى المرتهن أن الولد ليس منه فالقول قول الراهن بلا يمين، لأني ألحقه به شرعًا حتى لو جحد لم يقبل منه وكان لاحقًا به، فلا معنى لإحلافه على أنه ابنه، فأما إذا عدم شرط مما ذكرنا، مثل أن ينكر المرتهن الإذن أو الوطء، أو مضي المدة، أو كون الولد منها، وقال: التقطته أو استعارته فالقول قوله مع يمينه، وعلى الراهن إقامة البينة على ذلك، فإذا حلف كان الإحبال بغير إذنه ومضى حكمه. وهذا لأن الأصل عدم الوثيقة وعد هذه الأشياء التي ادعاها الراهن. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا قال المرته: أذنت بالوطء ولكن ما وطئت، وقال الراهن: وطئت، إن سبق الراهن بهذا القول فالقول قوله، وإن [ق 194] سبق المرتهن به ففي قبول الراهن جوابان: أحدهما: القول قول الراهن أيضًا. والثاني: لا يقبل قوله؛ لأنه يدعي أمرًا كان قبل الرجوع بعد رجوع المرتهن عن الإذن، فصار كما لو قال الوكيل بعد العزل: كنت بعت من فلان لا يقبل ذلك. والأول أصح، لأن الراهن فيه حقًا ولا حق للوكيل، فجاز أن لا يقبل قوله، وهذا بمشهور والمشهور ما ذكرنا أولاً.

فإذا تقرر هذا قال المزني عقيب هذه المسألة: قال الشافعي: "وَهَذَا إِذَا كَانَ مُعْسِرًا، فَأَمَّا إذَا كَانَ مُوسِرًا يُؤْخَذُ مِنْهُ قِيمَةُ الجَارِيَة فِي العِتْقِ وَالوِلاَدَةِ تَكُونُ رَهْنًا مَكَانَهَا أَوْ قَصَاصًا". فعطف المزني هذا التفصيل بين المعسر والموسر على مسألة اعتراف المرتهن بالإذن في الوطء، ثم اعترض على الشافعي فقال: "أَصْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيَّ أَنَّهُ أَعْتَقَهَا أَوْ أَحْبَلَهَا وَهِيَ رَهْنٌ فَسَوَاءٌ، فَإِنْ كَانَ مُوسِرًا أُخِذَتْ مِنْهُ القِيمَةُ فَكَانَتْ رَهْنًا مَكَانَهِا أَوْ قَصَاصًا، وَإِنْ كَانَ مُعْسِرًا لَمْ يَكُنْ لَهُ إِبْطَالُ الرَّهْنِ بِالعِتْقِ وَلاَ بَالإِحْبَالِ وَبِيعَتْ فِي الرَّهْنِ، فَلَمَّا جَعَلَهَا الشَّافِعِيُّ أُمَّ وَلَدٍ لأَنَّهُ أَحْبَلَهَا بَإِذْنِ المُرْتَهِنِ فَلاَ تُبَاعِ كَأَنَّهَا أَحْبَلَهَا وَلَيْسَتْ رَهْنٌ فَكَذَلِكَ إِذَا كَانَ مُوسِرًا لَمْ تَكُنْ عَلَيْهِ قِيمَةٌ لأَنَّهُ أَحْبَلَهَا بِإِذْنِ المُرْتَهِنِ فَلاَ تُبَاعُ كَأَنَّهُ أَحْبَلَهَا وَلَيْسَتْ بِرَهْنٍ فَتَفَهَّمْ". ومعنى [ق 194 ب] هذا الاعتراض أنهما إذا كانا متصادقين على وجود الإذن في الوطء واستلحق الراهن الولد وجب الحكم بالاستيلاد من غير تفصيل من المعسر والموسر، وتصير كأنها لم تكن رهنًا حين أصابتها وإحبالها، فتوهم المزني أن الشافعي فصل في المسألة المصادقة على الإذن بين المعسر والموسر في مسألة اختلافهما في الإذن بعد استحلاف المرتهن. وعطف هذا التفصيل في "المبسوط" على تلك المسألة، فترك المزني تصنيف الشافعي وعطف على مسألة الاتفاق في الإذن ما كان معطوفًا على مسألة الاختلاف في الإذن، فالنظم المستقيم في كتبه هذه المسائل أن يكتب أولاً: "ولو اختلفا فقال الراهن: أعتقتها بإذنك وأنكر المرتهن فالقول قول المرتهن مع يمينه وهي رهن، وهذا إذا كان الراهن معسرًا" الفصل. ثم يعطف على ذلك: "ولو أقر المرتهن أنه أذن له بوطئها" الفصل. فيسقط حينئذٍ اعتراض المزني. ومن أصحابنا من يغير نسخة "المختصر" فيقدم ما أخر المزني ويؤخر ما قدمه لتكون المسائل على الترتيب، والصواب أن يترك تصنيف المزني على ما أملاه وصنفه. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ وَطِئَهَا المُرْتَهَنُ حُدَّ". الفصل: لا يجوز [ق 195 أ] للمرتهن وطء الجارية المرهونة، فإن خالف ووطء لا يخلو إما أن يكون بإذن الراهن أو بغير إذنه، فإن كان بغير إذنه لا يخلو إما أن يكون عالمًا بالتحريم أو جاهًلا به، فإن كان عالمًا به فعليه الحد؛ لأن وطئه صادف ملك غيره وليس له في

ذلك الملك شبهة، وإنما حقه في الوثيقة فلا يدرأ به الحد، ولأن المستأجر يلزمه الحد إذا زنا بمستأجريه وهو يملك منافعها، وإنما له فيها حق الوثيقة بوجوب الحد أولى، ولا يثبت نسب الولد منه لأنه زنا، ويكون رقيقًا للراهن. وأما المهر إن أكرهها على الوطء يلزمه المهر؛ لأن المهر يجب للسيد لا لها، فلم يسقط بإذنها كما لو أذنت بقطع يدها. وهذا لا يصح؛ لأنها زانية كالحرة، والمهر وإن كان للسيد فلها سبيل إلى إسقاط مهرها كما يريد، أو ترضع قبل الدخول رضاعًا يوجب فسخ النكاح فيسقط المهر. وإن كان جاهًلا لا يلزمه الحد؛ لأن الحد يسقط بالشبهة، وإذا سقط الحد يلحقه النسب ويكون الولد حرًا لاعتقاده أن الوطء مباح، أو يلزمه قيمة للراهن يوم سقط حيًا، لأنه أتلفه على الراهن باعتقاده وشبهته، وينظر في دعوى الجهالة إذا قال: ظننت أن المرتهن يستحل الوطء بعقد الرهن، أو يملك الجارية به تمليك [ق 195 ب] البيع أو ظننت أنه يسلطني به على منافع البضع تسليط النكاح، فإن احتملت حالته الجهالة بأن يكون قريب العهد بالإسلام لا يبعد أن يخفي عليه ذلك، وإن لم يكن قريب العهد بالإسلام ولكنه كان مستوطن بادية بعيدة لا يخالط أهل العلم كان مصدقًا فيما يدعيه؛ لأن من تباعد عن مجالس العلماء خفيت عليه ظواهر الشريعة وغوامضها وإن تقادم عهده بالإسلام، وإن لم تحتمل حالته الجهالة بأن نشأ في بلاد الإسلام ويخالط العلماء لا يقبل منه ذلك؛ لأنا لو قلنا ذلك أدى إلى إسقاط الحدود وانتهاك المحارم. وقد روي أن رجًلا سأل في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه- رجلاً: متى عهدك بالنساء؟ فقال: البارحة. فقال: بمن؟ فقال: بأم مثواي. فرفع إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه- فادعى الجهالة بتحريم الزنا، فأمر به فاستحلف بين القبر والمنبر وأطلقه فدل على ما ذكرنا. وأما المهر إن كانت مكرهة أو نائمة أو جاهلة يلزمها المهر قولاً واحدًا. وإن كانت عالمة بالتحريم فطاوعته فعلى ما ذكرنا من الخلاف. وقيل: أحكام الوطء على ثلاثة أضرب: ضرب يعتبر بكل واحد منهما وهو الحد والغسل، فأيهما كان صغيرًا لا حد عليه ولا غسل، وأيهما كان [ق 196 أ] مكلفًا يلزمه الحد والغسل. وضرب يعتبر به وحده وهو النسب والعدة، فمن يسقط الحد عنه يثبت النسب والعدة، ولا يعتبر حالها. وضرب يعتبر بها وحدها وهو المهر متى سقط عنها الحد فلها المهر، ولا يعتبر حاله، ومتى وجب الحد عليها فلا مهر إن كانت حرة، وفي الأمة خلاف. وإن أذن الراهن للمرتهن في الوطء فقد أساء ويؤدب، ولا يحل الوطء بذلك، فإن خالف ووطء فالحكم في الحد وحرية الولد ورقه ونسبه على ما ذكرنا إذا كان الوطء بغير إذنه. وإذا ادعى الجهالة هنا وقال: ظننت أنها تحل بإذنه فهي شبهة قوية تقبل من العامة، فإن مثل ذلك يجوز أن يخفي، ويخالف هذا دعوى الجهالة في القسم الأول؛ لأنه أمر ظاهر

لا (يخفى) على من يشاء بين المسلمين، ولا يقبل هذا من العالم الذي يخالط العلماء. وقال أبو حامد: حكمه كما لو كان بغير إذنه، ولا تقبل هذه الشبهة إلا ممن تقبل منه هناك. وقيل: يختلف باختلاف الواطئ على ما يعرف من حاله من غفلته وتنبهه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا حد عليه وإن كان عالمًا؛ لأن عطاء ذهب إلى إباحة إعارة الجواري للوطء فيصير ذلك شبهة، وهذا ضعيف. أما المهر هل يجب ههنا [ق 196 ب] في الموضع الذي يوجب عند عدم الإذن؟ نص الشافعي فيه على قولين: أحدهما: لا يجب، لأن من استحق المهر بالجهالة فهو كما فهو كما لو قال: اقطع طرفها فقطعه، أو اضربها فضربها لا ضمان. والثاني: يجب المهر؛ لأنه وطء في غير ملك سقط الحد فيه عن الموطوءة فيجب المهر كما لو وطء بشبهة، ولأن المفوضة يلزم المهر وإن أذنت بالوطء بلا مهر. وذكر القاضي الحسين من المفوضة قولاً مخرجًا من ههنا أنه لا يلزم المهر لها لإذنها بالوطء من غير مهر وفيه نظر. وأما قيمة الولد اختلف أصحابنا فيه على طريقين: فمنهم من قال: فيه قولان كما في المهر؛ لأنه تولد منت فعل مأذون فيه. ومن أصحابنا من قال: تجب قيمة الولد قولاً واحدًا كما نص عليه، وهو اختيار القفال. والفرق بينه وبين المهر: أن صريح الإذن لم يتناول الولد والإحبال، وصريح الإذن يتناول الوطء، والأول أصح؛ لأنه لا فرق بين أن يتناوله صريح الإذن وبين أن لا يتناوله صريح الإذن، ولكنه تولد من فعل مأذون، ألا ترى أنه لو قال الرجل: اقطع اصبعي هذه فقطعها فشلت أخرى بجنبها بسراية القطع لا يلزمه شيء به، ويمكن أن يجاب عن هذا بأن إذنه لم يفد حرية الولد، وغنما شبهة الواطئ أتلفت رقة ولم يتولد ذلك من [ق 197 أ] المأذون فيه. وقيل: الصحيح أنه لا يسقط المهر ولا قيمة الولد؛ لأن الواطئ لا يقبل الإباحة فلا يسقط العوض المستحيل الفاسد كما لا يسقط الحد وليس كالقطع؛ لأن الأصل في ضمانه القصاص، وقد سقط ذلك بالإذن، فكذلك المال الذي هو حقه يسقط أيضًا. وأما الأمة لا تصر أم ولده في الحال، فلو ملكها في ثاني الحال فكل موضع علقت بمملوك لا تصير أم ولده، وكل موضع علقت بحر هل تصير أم ولدٍ له؟ قولان: أحدهما: تصير أم ولد له، نقله المزني وحرملة. والثاني: نص عليه في "الأم" لا تصير أم ولد له. قال المزني: "قَدْ مَضى فِي مِثْلِ هَذَا جَوَابِي" يريد أنها لا تصير أم ولده في الحال فكذلك في ثاني الحال. قال أصحابنا: وكذلك قد مضى في مثل هذا جوابنا، والصحيح أنها لا تصير أم ولده، وهناك تصير. والفرق أن وطء الراهن صادف ملكه وههنا وطء

المرتهن لم يصادف ملكه فافترقا. فرع لو أحبلها المرتهن ثم ادعى أن الراهن ملكها منه ببيع أو هبةٍ قبل الوطء فالقول قول الراهن. فإن حلف تصير كما وطئها قبل تملكها، وإن لم يحلف حلف المرتهن وتكون الجارية أم ولده خارجة من الرهن، ومتى تملكها المرتهن بعدما حلف الراهن تصير أم ولده قولاً واحدًا؛ لأنه اعترف أنه أحبلها [ق 197 ب] في ملكه وغصب عليها الراهن بغير حق فصار كما لو قال: هذه الأمة التي في يد فلان أم ولدي لم يُقبل، ولكن لو ملكها حكمنا بأنها أم ولده. فرع آخر هل تكون هذه الدعوى شبهة في درء الحد عنه؟ قولان: أحدهما: تكون شبهة لتجويز ما ادعاه. والثاني: وهو الأظهر لا تكون شبهة. وكذلك ادعى أنه زوجها منه الراهن، ولكن في دعوى التزويج لا يبطل الرهن والولد مملوك. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ إِلَى أَجَلٍ فَأَذِنَ للرَّاهِنِ فِي بَيْعِ الرَّهْنِ". الفصل إذا أذن المرتهن للراهن في بيع المرهون قبل محله حقه فباعه صح البيع وبطل الرهن، وليس له مطالبته بان يجعل ثمنه رهنًا مكانه أو يجعله قصاصًا من الحق. وبه قال أبو يوسف. وقال أبو حنيفة: له مطالبته بأن يضع ثمنه رهنًا، وبه قال محمد. وهذا غلط؛ لأنه تصرف يبطل حق المرتهن من عين الرهن لا يستحقه المرتهن من غير الرهن، فإذا أذن فيه سقط حقه، كما لو أذن بالعتق فأعتقه، ولو رجع عن هذا الإذن فقد ذكرنا ثلاث مسائل إذا أذن بالإعتاق ثم رجع، وتلك المسائل تجئ ههنا. وقال في "الإفصاح": إن لم يعلم رجوعه فباعه، فإن كان له طريق إلى معرفته هل يجوز؟ وجهان. وإن لم يكن له طريقًا إلى [ق 198 أ] معرفته يصح وجهًا واحدًا. وهذا التفصيل لم يقله غيره. ولو اختلفا فقال المرتهن: بعت بعد أن رجعت عن الإذن وأنكر الرهن وقال: بعت

بعد الرجوع عن الإذن فالقول قول المرتهن؛ لأنه يدعي بقاء الوثيقة والأصل بقاؤها، ولان الأصل لا بيع ولا رجوع فتقابلا وبقى مع المرتهن أصل الأمر. وقال بعض أصحابنا: إن اتفقا على وقت البيع واختلفا في وقت الرجوع فالقول قول الراهن. وإن اتفقا على وقت الرجوع واختلفا في وقت البيع فالقول قول المرتهن. وإن اختلفا فيهما نظر في السابق بالدعوى فيكون القول قوله، وإن ادعياه معًا فيه وجهان: أحدهما: القول قول الراهن؛ لأن الأصل أن لا رجوع. والثاني: القول قول المجتهد؛ لأن الأصل أن لا بيع. ذكره والد رحمه الله وفيه وجهان علاة الإطلاق، وهو ضعيف. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ أَذِنَ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ عَلَى أَنْ يُعْطِيهِ ثَمَنَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ بَيْعُهُ". الفصل إذا أذن المرتهن للراهن في بيع المرهون قبل محل حقه مقيدًا بشرط أن يعطيه ثمنه فباعه، فإن شرط عليه أن يجعل ثمنه رهنًا فيه قولان: أحدهما: البيع باطل، قاله في "الأم" وهو الصحيح؛ لأن ثمنه مجهول عندهما فصار كما لو شرط رهنًا مجهولاً. والثاني: قاله في "الإملاء" البيع جائز. وبه قال أبو حنيفة [ق 198 ب] والمزني وأصحاب أحمد؛ لأنه لما جاز أن يشرط كون العين رهنًا جاز أن يشرط كون بدلها رهنًا؛ لأن الشيء في نفسه يجوز أن يكون رهنًا، وكذلك ثمنه يجوز أن يكون رهنًا، وهذا إذا اعترف المشتري بأن المرتهن هكذا أذن في البيع. وإن اشترط أن يقضي دينه منه فالمنصوص أن الشرط والبيع فاسد. ومن أصحابنا من خرج فيه قولاً آخر أنه يصح البيع قياسًا على ما قال الشافعي في "الإملاء" في المسألة قبلها، وهذا غلط. والفرق أن العقد المتقدم لم يتضمن تعجيل حقه من بدل الرهن واقتضى أن يكون بدله رهنًا. فإذا شرط أن يكون ثمنه رهنًا جاز تخريج القول ولا يجوز ذلك إذا شرط أن يقضي دينه منه. وقال أبو حنيفة والمزني وأصحاب أحمد: يصح البيع. ويحكى عن أبي إسحاق: لا يصح عنه، ويجعل ثمنه رهنًا ولا يجب تعجيل حقه، واحتج المزني أن الشرط الفاسد مقدم على البيع فلم يضره، كما لو قال: وكلتك ببيع ثوبي هذا على أن يكون لك عشر ثمنه فباعه يجوز البيع والشرط باطل، وله أجرة مثله؛ لأن العقد تعرى عن الشرط. وحكي عن المزني أنه قال: إذا صح البيع نجعل قيمته رهنًا مكانه، وهذا ليس بشيء. قلنا: المقصود من الشرط للمرتهن تعجيل حقه قبل محله، وهذا ساقط؛ لأنه

[ق 199 أ] لا يجب على الراهن تعجيله فسقط الذي في مقابلته وهو الإذن في البيع، وليس كذلك في الوكيل؛ لأن المقصود للوكيل من عشر الثمن العوض، والمقصود لا يسقط؛ لأنَّا نجعل له أجرة مثله فلم يجب إسقاط إذنه في البيع فافترقا. فرع لو اختلف الراهن والمرتهن فقال المرتهن: أذنت لك في بيعه على أن تعطيني ثمنه قصاصًا من الحق، وقال الراهن: بل أذنت لي في بيعه مطلقًا، فالقول قول المرتهن مع يمينه؛ لأن الرهن صحيح والراهن يدعي ما يبطله، ولأنهما لو اختلفا في أصل الإذن كان القول قوله، إذا اختلفا في صفته. فرع آخر لو قال المرتهن: صدقت كان لفظي مطلقًا ولكن كان في نيتي وضميري أن يكون ثمنه رهنًا أو قضاء لحقي قبل محله. قال في "الأم": لم يلتفت إلى قوله ونفذ البيع ويبطل الرهن؛ لأن الإرادة لا يتعلق بها الحكم في العقود وفسخها. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ كَانَ الرَّهْنُ بِحَقِّ حَالٍ فَأَذِنَ لَهُ فَبَاعَ وَلَمْ يَشْتَرِطْ شَيْئًا كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ ثَمَنَهُ". إذا كان الحق حالاً أو كان مؤجلاً فحل، فقال الراهن: مع هذا العبد فباعه كان له مطالبته بثمنه؛ لأن بيعه قد وجب فكان الظاهر أنه أمره ببيعه لاستيفاء حقه منه بخلاف المؤجل. وإن شرط [ق 199 ب] ههنا أن يكون ثمنه رهنًا مكانه كان ثمنه رهنًا بمقتضى البيع إلا بالشرط، وكان الشرط تأكيدًا. وهكذا إن شرط أن يقضي حقه من ثمنه. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ رَهَنَهُ أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الخَرَاجِ فَالرَّهْنُ مَفْسُوخُ". الفصل قال أصحابنا: أرض الخراج كل بلد فتح صلحًا على أن يكون ملك الأرض للمسلمين، ويؤدون في كل سنة عن كل جريب كذا وكذا، فيكون ذلك أجرة ولا يسقط بإسلامهم، ولا يجوز لهم بيعها وههنا؛ لأن الملك للمسلمين دونهم، وإنما هم أحق بمنافعها بالأجرة كالمستأجر، فإن ضرب الإمام على الأرض خراجًا لا على هذه الصفة فذلك ظلم،

وأما سواد الكوفة فمذهب الشافعي أنها فتحت عنوة, وأن عمر - رضي الله عنه استطاب أنفس الغانمين عن حقوقهم على ما ذكرنا من قبل, ثم وقفها على المسلمين وأجرها من أهلها الذين كانوا فيها بأجرة معلومة في كل سنة. وهذا اختيار الاصطخرى وعامة أصحابنا. وقال ابن سريج: لما رأى أهل سواد العراق يتبايعون أرضها ويتصرفون فيها تصرف الملاك في أملاكهم لا يجوز أن يكون ذلك وقفاً, وإنما عمر - رضي الله عنه - لما استخلصها باهها من أهلها بثمن معلوم, لأنها لو كانت وقفاً لأنكر [ق 200 أ] منكر على بيعهم من ذلك الوقت إلى وقتنا هذا. قال أبو حامد: وهذا أصح, وإن كان ظاهر المذهب بخلافه. قال ابن سريج: والذي ذكره الشافعي لم يرد به سواد العراق, بل أراد أن الإمام إذا فتح أرضاً واستخلصها للمسلمين ووقفها عليهم لا يجوز رهنها لأنها غير مملوكة, وهي مال الفيء. فإذا قلنا بالأول لا يجوز بيعها ورهنها, قال: فإن كان فيها غراس أو بناء للراهن فهو رهن, وينظر فيها إن أفرادها بالرهن أو البيع جاز, وإن رهن الأرض بما فيها من البناء والغراس فالرهن باطل في الأرض على القول الأول. وأما في البناء والغراس إن قلنا الصفقة تفرق يجوز فيها أيضاً, لأنه لا عوض فيه. وإن قلنا: التعليل فيه أن العقد جمع محظوراً ومباحاً لم يصح ههنا في الكل. فإذا قلنا: يصح يكون للمرتهن الخيار في فسخ البيع إن كان الرهن شرطًا في عقد البيع, لأنه لا يسلم له جميع ما اشترط من الرهن, وهذا إذا كان البناء من طين ذلك الموضع, فإن كان من طينه فالرهن والبيع فيه باطل أيضًا على هذا القول قولًا واحدًا, لأن تراب الأرض حكمه حكم الأرض. مسألة: قَالَ: "فَإِنْ أَدَّى عَنْهَا الْخَرَاجَ فَهُوَ مَقْطُوعٌ لَا يَرْجِعُ بِهِ" الفصل: إذا رهن [ق 200 ب] أرضًا من أرض الخراج سواء قلنا الرهن صحيح أو قلنا باطل فالخراج على الراهن, لأنه إما أن يكون ثمنًا أو أجرة وكلاهما لا يلزمان المرتهن. وهكذا إذا أحرها فالخراج على الأجر دون المستأجر. وقال بعض أصحابنا: إذا جوزنا الرهن والخراج على الراهن فكان معسرًا يباع جزء من الرهن ويصرف إلى الخراج, فإن أدى المرتهن الخراج عن الراهن, فإن كان بغير إذنه إنه لم يرجع عليه , لأنه متطوع به, وإن كان بإذنه نظر, فإن قال: على أن يرجع عليَّ رجع عليه, وإن لم يشترط الرجوع فيه وجهان:

أحدهما: يرجع, لأنه أداه بأمره, وهذا اختيار أبى إسحاق والقاضي الطبري, وهو ظاهر كلام الشافعي, لأنه قال: "إلا أن يكون دفعه بأمره". والثاني: لا يرجع, وهو اختيار ابن أبى هريرة وأبى حامد. قال أبو حامد: وهذا هو الذي يجئ على المذهب, لأن الشافعي قال: "لو دفع إلى قصار ثوبًا فقصره لا أجره له لأنه لم يشرطها له" وهذا لأنه لم يشترط الرجوع فكان بمنزله أن يسأله التطوع بأدائها عنه. وقال مالك: يرجع عليه إذا ادعى منه, وإن لم يكن بإذنه كأن يقع ذلك عاد إلى القضاء عنه. وكذلك قال في المستأجر والأجنبي إذا قضى دينه. هكذا ذكره أصحابنا عنه. وقال أصحابه: [ق 201 أ] مذهب مالك أنه ينظر فإن أداه المرتهن مكرهًا يرجع به على الرهن, وإن أداه مختارًا فإن كان صديقًا للراهن يرجع به عليه, وإن كان عدوًا له لم يرجع به عليه. وهذا غلط, لأنه تطوع به فلا يرجع كما لو وهب منه شيئًا لا يرجع. واجتح الشافعي بأنه لو دفع المكترى الكراء إلى مالك الأرض المؤاجر من مؤاجره لا يحتسب له كذلك ههنا. وقال بعض أصحابنا: ربما لا يسلم مالك هذا. وعلى ما ذكرنا إذا أدى بإذنه لا يكون هذا الرهن مرهونًا بما أدى, بل يكون مرهونًا بأصل الحق, فإن شرط أن يكون رهنًا بالكل فيه قولان, لأنه زيادة الدين في الرهن الواحد. مسألة: قَال: "وَلَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِالخَيَارِ ثَلَاثاً فَرَهَنَةُ قَبْلَهَا فَالرَّهْن جَائِزٌ وَهُوَ قَطْعٌ لِخَيَارشهِ". إذا اشترى عبدًا يشرط الخيار ثم رهنه لا يخلو إما أن يكون الراهن البائع أو المشتري, فإن كان الراهن المشترى نظر, فإن كان الخيار له وحده يجوز ويكون ذلك إجازة للبيع وإبطالًا للخيار, لأنه يملكه ملكًا تامًا, ويمكنه التسليم في الرهن, والخيار ينقطع مرة تعريضًا ومرة تصريحًا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: يجب أن يجيز البيع ثم يرهن, فإن رهن قبل [ق 201 ب] الإجازة لم يجز, والأول أصح. وقيل: مطلق كلام الشافعي ههنا يدل على أنه لا فرق بين أن يكون مقبوضًا له أو لا, وليس رهنه قبل القبض كالبيع, لأن الرهن لا يتضمن إزالة الملك ونقل الضمان, ثم إذا قبضه المرتهن من البائع الأول اندرج قبض البيع تحت قبض الراهن. وكذلك هبة المبيع قبل القبض يجوز, وقد ذكرنا في " كتال البيع" ما قيل في الرهن والهبة قبل القبض, وإن كان الخيار للبائع كان الراهن باطلًا, لأنه

يعترض على حق البائع بالإبطال. وهكذا لو كان الخيار لهما, لأن البائع شريكه في الخيار, وهو لم يرض بقطع خياره وإن رضي المشترى به. وعلى هذا لو كان الخيار للبائع فرهنه المشترى وسكت البائع عن الفسخ حتى انقضت المدة, ثم الملك للمشتري والرهن السابق مفسوخ أيضًا. وإن حكمنا للمشترى بالملك ساعة عقد الرهن لأنه لم يستفد انبرام الملك إلا بعد انقضاء الخيار, وهل يكون هذا قطعاً لخيار المشترى إذا كان الخيار لهما وأبطلنا الرهن؟ وجهان: أحدهما: يكون قطعًا, لأنه دليل على اختيار لزوم البيع. والثاني: لا يكون قطعًا, لأنه لم يصح ذلك. وإن كان الخيار لهما أو له وحده لأنه يملك الفسخ وحده [ق 202 أ] لحق الخيار ورهنه يدل على اختياره الفسخ والمشتري يريد إمضاء البيع ولا يصح من أحدهما اختيار الإمضاء إلا بموافقة صاحبه فافترقا. فإن قيل: ما تقولون إذا أفلس المشتري بالثمن فتصرف البائع في المبيع بالبيع أو الرهن أو الإجازة حين أثبتنا له فسخ البيع هل يكون له فسخًا للبيع أم لا؟ قلنا: فيه وجهان: أحدهما: يصح تصرفه ويكون فسخًا. والثاني: لا يكون فسخًا للبيع ويكون تصرفه باطلًا حتى يصرح بالفسخ, لأن ملك المفلس مستقر على المبيع بخلاف المشترى في مدة الخيار, لأنه إما أن يكون مالكاً أو يكون مالكًا ملك غير مستقر فافترقا. مسألة: قَالَ: "وَيَجُوزُ رَهْنُ العَبْدِ المُرْتَدَّ". الفصل: يجوز رهن العبد المرتد لأن الردة لا تزيل ملك سيده عنه, وإنما يخشي منها تلفه وترجى سلامته. ويفارق العبد القاتل في قطع الطريق وقدر الإمام عليه قبل التوبة لا يجوز رهنه, لأن قتله مستحق لا ترجى سلامته بحالٍ. وقال بعض أصحابنا: المذهب أنه لا يجوز بيع المرتد ولا رهنه, لأن قتله قاطع الطريق المتحتم قتله في وجه. وعلى هذا يجوز رهنه أيضًا, فإذا ثبت هذا فإن علم بردته فلا مطالبة له قبل أن يقتل, فإذا قتل اختلف أصحابنا فيه, قال أبو إسحاق: [ق 202 ب] طريقه طريق الاستحقاق لأن التلف حصل بمعنى كان سابقًا للعقد, فيكون له فسخ البيع إن كان رهنه شرطًا في عقد البيع.

وقال ابن (أبي) هريرة: طريقه طريق العيب كما لو اشترى حاملًا أو مريضاً فماتت في يده من الولادة أو المرض فعلى هذا لا خيار له في فسخ البيع إن كان رهنه شرطًا في عقد. وقيل: نص على هذا في "الأم" وعلى هذا في المسألة قولان, فإن قيل: المريض تلف بتزايد المرض في يد المرتهن قيل: والمرتد قتل بإصراره على الردة في يد المرتهن فلا فرق, ولأنه وإن قيل لما كان في يد البائع إلا أنه لما رضي به سقط حكمه وصار كأنه قتل في يده ابتداء ويفارق الاستحقاق, لأنه لا يصح الرضا به, وءن كان غير عالم بأنه مرتد, فإن علم قبل أن يقتل كان له رده وفسخ البيع والرجوع بالثمن قولًا واحدًا, وهذا يدل على أن طريقه طريق العيب دون الاستحقاق, كما قال ابن أبى هريرة, فإن قال: رضيت به حتى أنظر إيش يكون من العبد كان بمنزلة ما لو عقد البيع مع علمه بردته, وقد بيَّناه. وإن لم يعلم بردته حتى قتل بها فعلى قول أبى إسحاق يرجع بالثمن كله في البيع ويفسخ البيع في مسألة الرهن. وعلى قول غيره إن كان قد اشتراه يرجع بأرش العيب , وإن [ق 203 أ] كان قد ارتهنته لا خيار له في فسخ البيع ولا يرجع نشئ ويبقى الثمن على المشترى بلا رهن, لأن المرتهن إذا تلف الرهن في يده ثم علم به عيباً لا يكون له الرجوع بابلأرش, ولا خيار له في فسخ البيع نص عليه الشافعي. هكذا حكاه ابن أبى هريرة والفرق بينه وبين المشترى أن المرتهن ما لم يجبر على تسليم الرهن لا يجبر أيضًا على ........... الأرش ولا يجوز له فسخ البيع إذا لم يكن علم في مسألة الردة, وإن قلنا: إنه عيب والفرق بينه وبين أن يموت ثم يعلم به عيباً غير الردة أن ههنا حصل التلف بمعنى موجود عند الراهن سابق للعقد, فصار كأنه تلف في يده بخلاف ذلك, وهذا الطريق هو الصحيح وعليه نص الشافعي لأنه قال في "الأم" إذا علم بردته ثم قيل كان البيع ثابتاً, وإذا لم يعلم كان له فسخ البيع. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا علم بالعيب بعد موته أي عيب كان له الخيار ههنا, لأن منزله العيب منزلة نقد جزءٍ, ولو شرط رهن عشرة فسلم تسعة كان له فسخ البيع, وهذا غلط بخلاف النص. وأما القاتل ففي جواز بيعه الطرق والرهن قياس البيع. قال القفال: والصحيح إن كان الجنابة عمدًا وقلنا: موجبة القصاص قسط. يجوز رهنه. يجوز رهنه. وإن قلنا موجبة أحد شيئين أو كانت جنابة خطأ لا يجوز رهنه, [ق 203 ب] لأن الجنابة لو وجدت بعد عقد الرهن بيع في الجنابة وبطل به الرهن, ولأنه محبوس بمال متعلق به فهو كالمرهون. والصحيح عندي أنه إن كان قتل خطأ لا يجوز رهنه ولا بيعه. وإن كان قتل عمد فيه قولان, وهو اختيار أبى حامد, فإذا قلنا: الرهن باطل فلا تفريع عليه, فإن قرأه السيد لا يعود الرهن صحيحاً لوقوعه فاسداً فلا تلحقه الصحة أبدًا , وإذا قلنا: إن الرهن صحيح فقتل قوداً فهو كالمرتد إذا قتل, وقد ذكرنا ذلك. وان كان القتل خطأ فقداه سيده

بقي الرهن بحاله, فإن اختار تسلميه للبيع كان له ويقدم على الرهن, فإن كانت الجنابة تستغرق قيمته بيع فيها, وإن لم تستغرق قيمته بيع بقدر الأرش وكان الباقي رهناً. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا جوزنا الرهن فرهنه اختيار للفداء فيلزمه الفداء في قول, ويه قال أبو حنيفة , وهذا غلط, لأنه محل الجنابة باق والجنابة لا تنافي الرهن, ولهذا إذا جني بعد الرهن تعلق الأرش بع فلا يبطل الرهن ومتى بيع بالأرش كان قتله بالردة أو بالقصاص, وفيه التفصيل الذي ذكرنا أنه إن كان مع العلم فالمذهب أنه كالعيب وإن كان مع الجهل أنه كالمستحق. فرع لو علم أنه كان مرتدًا فتاب, فإن قلنا في البيع [ق 204 أ] إنه عيب في الحال له الخيار في مسألة الرهن المشروط في البيع وجهاً واحدًا, وإن قلنا إنه ليس بعيب في البيع في الحال لا خيار له في فسخ البيع المشروط فيه هذا الرهن وجهًا واحدًا, وهذا لأن في أحد الوجهين يعتبر وجوب القتل في الابتداء, وفي الوجه الثاني يعتبر سقوطه في الانتهاء بالتوبة. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ أَسْلَفَهُ أَلْفاً بِرَهْنٍ ثُمَّ سَأَلَهُ الرَّاهِنُ أَنْ يَزِيدَهُ أَلْفاً". الفصل: إذا استقرض من رجل ألف درهم برهن, ثم سأله أن يقرضه ألف أخر بذلك الرهن فيه قولان. قال في "القديم": يجوز ويكون رهنًا بألفين, ويه قال مالك, وأبو يوسف واختاره المزني وهذا لأن الرهن وثيقة كالضمان, ثم أن يضمن حقاً أخر فجاز أن يرهن ثم يرهن بحق أخر. وقال في"الجديد": لا يجوز ويه قال أبو حنيفة, ومحمد وهو الصحيح عند جمهور أصحابنا, لأن الرهن السابق ينعقد فلا سبيل إلى التزايد من غير استئناف العقد بعد الفسخ, كما لو تعاقد على دار عقد الكراء سنة بعشرة ثم تكارياها ملك السنة بعضها بعشرين لم يصح الكراء الثاني إلا بعد فسخ الأول , فإذا قلنا: باطل فالرهن الأول بحاله, فإذا أراد أن يكون رهنًا بالحقين معًا تفاسخا الرهن الأول واستأنفا [ق 204 ب] رهناً بألفين معاً, فإن لم يتفاسخا ولكن إقرار الراهن أنه رهن بألفين معاً كان رهنًا بألفين في الظاهر, وإنما في الباطن على قول القديم يكون رهنًا ولا يكون رهنًا على قوله الجديد, فإن أراد أن يكون رهنًا في الباطن على القولين ينبغي أن يتفاسخا, ثم يتعاقدا. ولو شهد الشهود على إقراره بذلك جازت الشهادة في الحكم ولا يتمخض لأن الشهادة إذا احتملت وجد

الصحة حملت على الصحة, وإنما قيد الشافعي بذكر ههنا لأن حكم الحاكم لا يغير حقائق البواطن عما هي عليه, ولو تصادقا مع شهادة هذين الشاهدين على توالى العقدين من غير فسخ واستئناف كان العبد رهنًا بالألف الأول, لأنهما إذا تصادفا استغنيا عن الحكم بالظاهر, وفيما نقله المزني خلل لأنه اقتصر على قوله: "فإن تصادفا فهو على ما قالا" فلا يستفاد من هذا القدر مقصود المسألة لأنهما إذا تصادفا أخبرا عن العقد الأول وإلحاق الزيادة به فقد قالا قولاً محتملاً معنيين: أحدهما: رهن العبد بألفين على جهة الإلحاق. والثاني رهن العبد بألف لنفي الزيادة الملحقة, فإذا اقتصر على ما ذكر ترك الكلام من حد الإشكال والكلام المستقل بمعناه, قال في "الكبير": فإن تصادقا فهو ما قالا والعبد [ق 205 أ] رهن بالألف. قال أبو إسحاق: وإنما أراد الشافعي أن يعلمنا الحيلة في جعله رهنًا بالحقين معًا على وجه لا غرر على الراهن فيه, فقال: يقرّ بذلك فيلزم في الظاهر ثم يتفاسخان في الباطن ثم يرهنه بألفين فيصح ظاهرًا وباطنًا, فإن امتنع أقام عليه الشهادة ولزمه الحكم في الظاهر, فإن عرف الشهود كيفية الحال بينهما, فإن كانا يعتقدان المذهب الجديد كان لهما أن يشهدا بذلك, وإن كانا يعتقدان القديم فيه وجهان: أحدهما: أنه يسوغ لهما الشهادة من غير تفصيل لأنهما بما هو حق عندهما. والثاني: لا يسوغ لهما ذلك. وهذا اختيار أبى إسحاق وهو الأصح, لأن الشاهد ناقل الاجتهاد إلى الحاكم فيلزمها تفصيل الحال كما يعرفان حتى يجتهد الحاكم فيه, ومن أصحابنا من قال: هذا إن كان الشاهدان من أهل الاجتهاد يلزمها تفصيل ذلك قولاً واحداً. وهكذا القول في كل شهادة طريقها الاجتهاد, ولا فرق بين أن يشاهد صورة الحال وبينهما إذا شهدا على تلك الصورة أو شهدا على الإقرار وعلما الباطن, ولو أقر على ما ذكرنا, ثم أدعى أنه إنما رهنه بالحق الثاني رهنًا مستأنفاً هل يحلف المرتهن أم لا؟ ينبني على القولين فلا يحلف على قوله "القديم" لأنه رهن بهما فلا معنى [ق 205 ب] ليمينه. وعلى قوله "الجديد" يحلف لأنه رهن بأحد الحقين دون الأخر في الباطن, هذا إذا أنكر المرتهن التفصيل, وقيل: هذان الوجهان من الوجهين في الراهن إذا أقر بتسليم الرهن, ثم قال: لم أكن سلمت ويسأل يمين المرتهن هل يختلف؟ وجهان فأما إذا ادعى المرتهن أنهما تفاسخا العقد الأول ثم تعاقداه على ألفين معاً دفعة واحدة, ولو قال الراهن: ما تفاسخنا بل زدنا ألفًا في وجهان: أحدهما: القول قول المرتهن أيضًا, لأن الظاهر معه وإطلاق إقرارا الراهن محمول على الصحة. والثاني: القول قول الراهن, لأن الأصل أن لا فسخ والأول أقوى لأن إقرار الراهن أنا عقدنا عقدًا ثانيًا كالدليل على حصول الفسخ بينهما كما لو نكحها يوم الخميس

ثم (نكحها) يوم الجمعة, فالظاهر أنه ما نكح إلا بعد ما طلق في يقبل قوله: إني ما طلقت بل حددت النكاح ويلزمه المهران. وكما لو قال اختاره بدليلين: أحدهما: قال: قال الشافعي: لو جني المرهون فتعلق الأرش برقبته فلم يفده السيد ففداه المرتهن ليكون العبد رهناً بحاله بالحق الأول ربما فداه من الأرش يصح والثاني: قال: لما جاز أن يزيده في الحق رهنًا جاز أن يزيده حقاً. قلنا: أما الأول اختلف أصحابنا فيه [ق 206 أ] فمنهم من قال: إنما ذكره على قوله "القديم", فأما على قوله "الجديد" لا يجوز ذلك. ومنهم من قال: هذا الجواب ذكره في "الجديد" ويصح ذلك على القولين. والفرق أن هذا من مصلحة الرهن وحفظه على المرتهن لأن أرش الجناية يتعلق برقبته واستيفاء يؤدي إلى إبطال الرهن بخلاف مسألتنا. وأما الدليل الثاني لا يصح, لأن الدين ليس بمشغول بالرهن فلا تمتنع الزيادة في الرهن والرهن مشغول بالدين فلا يجوز شغله ثانيًا. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ رَهَنَ عَبْدًا قَدْ صَارَتْ فِي عُنُقِهِ جِنَايَةٌ عَلَى ادَمِيَّ أَوْ فِي مَالٍ فَالرَّهْنُ مَفْسُوخُ". هذا المسألة قد مضت وذكرنا أنه لا يجوز بيع الجاني خطأ على الصحيح المذهب, ولا فرق بين أن تكون الجناية على مال أو ادمي, لأن الجناية على الأموال كالجناية على الآدميين في تعلق الضامن برقبته. ولا فرق بين أن يكون الأرش مثل قيمته أو اقل أو أكثر. قال الشافعي: "هذا أكثر من أن يكون رهنه بحق, ثم رهنه بعد الأول, وهذا ترجيح للشافعي من الجناية على الرهن في تعلقها برقبة العبد, وإنما رجح الجناية على الرهن الأصل لا يختلف فيه وهو أن العبد المرهون لو جني في الرهن جناية بيع في جنايته ويؤخر حق [ق 206 ب] المرتهن, ثم لا يجوز ورود الرهن على الراهن فلأن لا يجوز ورود الرهن على الجناية أولى, وقال في "الحاوي": كيف يتعلق برقبته جناية الخطأ؟ وجهان: أحدهما: وجب ابتداء في رقبته. والثاني: وجب ابتداء في ذمة العبد, ثم انتقل وجوبه إلى رقبته, لو أعتق وجب أرشها في ذمته, والأول أصح, فإذا قلنا بالوجه الثاني فيه قول مخرج أنه إذا كان موسراً يجوز رهنه, ثم إن فداه السيد استقر رهنه وإن بيع في الجناية بطل رهنه, والصحيح أنه باطل بكل حالٍ.

فرع لو خلف تركه وعليه دين فأوصى إلى رجل فقضى دينه, فرهن الوصي شيئاً من التركة عند بعض الغرماء لم يجز, لأن التركة تعلق بها حق الغرماء أجمعين فلا يجوز له رهنها عند بعضهم, وإن كان الغرين واحدًا لم يجز أيضاً, لأن الملك للورثة, ولا يجوز للوصي أن يتصرف فيها إلا بالوجه الذي أذن له, فإن رضي به الورثة جاز. فرع آخر لو مات وخلفت تركة وعليه دين وله وارث رشيد فرهن وارثه هذه التركة في دين عليه. قال ابن سريج: فيه وجهان: أحدهما: لا يصح الرهن لأنه غريم الميت قد تعلق دينه بها فلا يجوز رهنها به, كما لو رهن المرهون لا يجوز. والثاني: يصح الرهن لأنه [ق 207 أ] ملكه وليعلق عليه حقًا بعقده واختياره بل تعلق ذلك من غير اختيار والمذهب الأول, ولهذين الوجهين أصل صحيح وهو أنه إذا باع ماله بعد وجوب الزكاة فيه هل يصح البيع في قدر الزكاة؟ قولان, وهكذا في بيع العبد الجاني خطأ ورهنه قولان, لأن الزكاة والجناية تعلقا في غير الاختيار والعقد. فرع آخر لو كانت المسألة بحالها وخلف وارثًا وتركةً فرهن الوارث التركة, ثم بان أنه كان على الميت دين بالبينة فهل يصح رهن الوارث؟ وجهان, فإذا صححنا الرهن يقول للوارث: إما أن تقضى الدين الذي على الميت من مالك وإلا فسخنا الرهن وقضينا منه دين الميت, لأن حقه سابق. فرع آخر لو باع عبداً وقبض ثمنه ومات وخلف تركة فرهنها الوارث, فرد العبد فأخذه الوارث وتلف في يده وثبت للمشترى الرجوع بالدرك, هل يصح ذلك الرهن الذي عقده الوارث؟ قال ابن سريج فيه وجهان: أحدهما: أنه يصح. والثاني: الحكم فيه كما لو رهنه وقد تعلق به حق الغرماء, فيكون على ما مضى من الوجهين, لأن هذا الحق وإن تجدد بحلفه على التركة بعد موته فإن سببه كان من هذا الميت قبل وفاته, وهذا الحكم في حق تجدد تعلقه بالتركة [ق 207 ب] وقد تصرف الوارث فيها, مثل أنه حفر بئراً في غير ملكه, ثم مات وخلف تركة فتصرف الوارث فيها, ثم وقع في البئر بهيمة لرجل فماتت كان الدرك في الترك وهل يصح ذلك التصرف؟ على الوجهين, فإذا صححنا الرهن فالحكم ما مضى وهو أنه يقال له: إما أن تقضى هذا الدين

من مالك وإلا فسخنا تصرفك لأن سببه كان سابقًا. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ ارْتَهَنَهُ وَقَبَضَهُ ثُمَّ أَقَرَّ الرَّاهِنُ أَنَّهُ جَنَي قَبْلَ الرَّهْنِ جِنَايَةً ادَّعَى بِهَا". الفصل: إذا رهن عبدًا وأقبضه, ثم أقر الراهن أنه جني جناية على رجل قبل الرهن توجب المال, لا يخلو إما أن يقبل المقر له إقراره منه أو يرده, فإن رده سقط إقراره, ولأنه أقر لمن لا يدعيه ويكون العبد رهنًا كما كان, وإن قبله لا يخلو المرتهن من أحد أمرين, إما أن يصدق الراهن فيما أقر به أو يكذبه, فإن صدقه نفذ إقراره وثبت أنه قد رهن عبدًا قد جني وقد مضى حكمه, وإن أنكر المرتهن وكذبه فهل القول قوله أو قول الراهن؟ فيه قولان: أحدهما: القول قو الراهن كما لو أجر عبده, ثم أقر عليه بجناية قبل عقد الإجارة قبل إقراره وبيع فيها, فكذلك الرهن, ولأنه غير متهم في إقراره, فءن الدين مستقر في ذمته. وهذا [ق 208 أ] الإقرار ضرر يلحقه وحق تعلق بعتق عبد, ومن أقر على نفسه بما يتضرر به قبل إقراره. والثاني: القول قو المرتهن وهو الصحيح, ويه قال أبو حنيفة, والمزني ولأنه يبطل وثيقة المرتهن فلا يملكه الراهن كالبيع, ويخالف الإقرار في المؤاجر, لأن الإجارة لا تمنع البيع فلا يمنع فلا يمنع الإقرار, وهكذا لو أقر أنه غصبه من فلان قبل الرهن, ثم رهنه وكان قد باعه من فلان أو وهبه منه وأبضه, ثم رهنه هل يقبل إقراره؟ قولان: وهكذا لو قال: كنت أرهنت من فلان وأقبضته, ثم رهنت عندك. فإذا تقرر هذا, فأن قلنا: القول قول الراهن هل عليه اليمين؟ فيه قولان, وقيل وجهان: أحدهما: عليه اليمين, وهو اختيار أبى حامد. وقال نص عليه الشافعي لأن قوله متردد بين الصدق والكذب فوجب إحلافه. والثاني: لا يمين عليه, وهو اختيار القاضي الطبري, وقال: الشافعي: أحد القولين القول قول الراهن ولم يذكر يمينه. والثاني: القول قول المرتهن مع يمينه, فذكر يمينه, ولأنه لو رجع إقراره لم يقبل واليمين إنما تكون في الموضع الذي لو رجع قبل رجوعه. وأصل هذا أنه إذا تداعيا رجلان نكاح امرأة فأقرت لأهدهما خل يحلف للأخر؟ قولان. وأصل ذلك [ق 208 ب] أنها لو رجعت عن الإقرار الأول وأقرت للثاني هل تغرم للثاني؟ قولان, فإذا قلنا: لا يمين عليه أو قلنا عليه اليمين وحلف, فقد ثبت أنه رهن وقد جني فيه قولان. فإذا قلنا:

الرهن صحيح يباع منه بقدر الأرش ويكون الباقي رهنًا, وإن لم يشتر بعضه بقدر الأرش بيع جمعيه وما يفضل عن الجناية يكون رهنًا. وإذا قلنا: الرهن باطل يباع من العبد بقدر الأرش ولا يكون الباقي رهنًا, وقد يكون الثاني ............. لأنَّا أثبتنا حق الجناية لحق وليها, ولهذا لو رد إقراره للراهن بطل إقراره وكان الرهن صحيحًا , فلم نمض إقراره إلا في قدر الجناية خاصة وإن كان الباقي رهنًا بخلاف ما إذا جني ثم رهنه, وعلى كل حال الخيار ثابت للمترهن في فسخ البيع المعقود على شرط هذا الرهن. وإذا قلنا عليه اليمين فيمينه على القطع لأنها على الإثبات على فعل نفسه ويثبت به جناية العبد, وإذا قلنا القول قول المرتهن فعليه اليمين قولًا واحدًا لأنه لو رجع عن إنكاره قُبل منه ويمينه على العلم, وهو أن يحلف بالله الذي لا اله إلا هو ما يعلم أنه جني عليه, لا اليمين إذا كانت على نفي فعل الغير كانت على العلم دون القطع, والأيمان أربعة أقسام: يمين على إثبات فعل نفسه, ويمين على [ق 209 أ] نفي فعل نفسه, ويمين على إثبات فعل الغير, ويمين على نفي فعل الغير, فأما على العلم فإن حلف ثبت عقد الرهن وهل يلزم الراهن أرش الجناية؟ قولان نصوصان: أحدهما: يلزم ذلك للمجني عليه, لأنه مقر له لحق في رقبة عبده, وقد حال بينه وبين استيفائه منه فوجب أن يلزمه في سائر ماله, كما لو أقر بأنه جني عليه ثم قتله. والثاني: لا يلزمه ذلك لأنه تصرف في ملكه والمنع ليس من جهته وإنما هو من جهة الشريعة. قال القفال: وهذان القولان مبنيان على ما لو قال: غصبت هذه الدار من فلان لا بل من فلان صح لأول إقراره وهل الغرم للثاني قولان, فإذا قلنا: يلزم الأرش ههنا هل يلزمه أقل الأمرين أو يلزمه الأرش بالغًا ما بلغ؟ فيه قولان: أحدهما: وهو الصحيح يلزمه أقل الأمرين من قيمته أو الأرش جناية, لأن تسليم الجاني المبيع غير ممكن فأشبه أم الولد إذا جنت يلزم السيد أقل الأمرين, وهذه طريقة أبى إسحاق. وقال أكثر أصحابنا: يلزمه الأرش فعاد العبد إلى ملك الراهن بالانفكاك أو بالشراء بعد البيع في حقه تعلق به حق الجناية, لأن حق المرتهن كان هو الحائل وقد [ق 209 ب] زال ذلك, وعلى هذا القول لا فرق بين أن يكون موسراً أو معسرًا, لأنه أقر في رقبة العبد لا على ذمته, وإذا علق الحقين لرجلين في رقبة واحدة استحال تحويل الغرم إلى ذمته, لا يكون سببًا لمطالبته به بما هو برئ عند اعتباره, وإن نكل المرتهن عن اليمين. نص الشافعي أن اليمين ترد على المجني عليه لأنه هو المدعي جناية العبد على نفسه أو ماله أو مورثه, والمرتهن يحلف على نفي دعواه فوجب رد اليمين عليه, وفيه قول أخر: أنه يرد على الراهن لأنه الذي باشر عقد الرهن فكانت الخصومة له مع المرتهن والأول أصح, لأن

الراهن لو ادعى ذلك من غير دعوى المجني عليه لم يسمع منه، ومن أصحابنا من قال: ترد على الراهن قولًا واحدًا كما تقول في الوارث إذا أقام شاهدًا واحدًا الميت يحلف معه دون الغرماء، وهذا لا يصح، والفرق أن المجني عليه يثبت الحق لنفسه والراهن والوارث يثبت الحق لنفسه أولًا ثم يقضي به الدين فنظير الوارث نظير المجني عليه. ومن أصحابنا من قال: قولًا واحدًا يرد على المجني عليه لما ذكرنا فحصل ثلاث طرق. فإذا قلنا: ترد على المجني عليه فحلف استحق، وإن نكل هل ترد على الراهني؟ وجهان كما ذكرنا لو اختلف الراهن والمرتهن فقال الراهن: أحبلتها بإذن المرتهن وأنكر المرتهن الإذن، فالقول قول المرتهن مع يمينه فإن [ق 210 أ] نكل ترد اليمين على الراهن، فإن نكل هل ترد اليمين على الجارية؟ قولان، وكذلك إذا امتنع المفلس من اليمين عند الرد هل يحلف الغرماء؟ قولان. وقال بعض أصحابنا: إن قلنا ترد على المجني عليه فنكل هل ترد على [....] قولان كمسألة الإحبال سواء. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن قلنا: ترد على المجني عليه فنكل سقط حقه والعبد رهن، وإن قلنا: ترد على الراهن فنكل هل ترد على المجني عليه؟ قولان: أحدهما: ترد لأن الراهن متهم في هذا النكول والحق يحصل للمجني عليه بيمينه. والثاني: لا ترد عليه لأن يمين الرد لا تنقل من أحد إلى أحد. وهذا كله إذا كانت الجناية خطأ، فإن كانت الجناية عمدًا فلا يقبل قول سيده عليه. فإذا تقرر هذا. قال المزني: القول قول المرتهن ويلزم الغرم على الراهن، واحتج بأن من أقر بما يضره لزمه إقراره، ومن أقر بما يبطل حق غيره لم يجز إقراره على غيره. ثم قال الشافعي: "لو أقر أنه أعتقه، ثم رهنه لم يقبل قوله ولم ينفسخ الرهن ولكن إن كان موسرًا أخذت قيمته وتجعل رهنًا مكانه، وإن كان معسرًا بيع في الرهن" قلنا: اخترت القول الصحيح ولكن في الإقرار بالعتق قولان أيضًا كالإقرار بالجناية، وهذا الجواب الذي ذكر في هذا الموضع [ق 210 ب] على أصح الأقاويل في الفصل بين الموسر والمعسر، إذا أعتق الراهن المرهون وإذا بيع هذا العبد أقر سيده المعسر بحريته، ثم رجع إليه بملك حادث عتق عليه؛ لأنه أقر من قبل أنه حر، وفيه قول آخر: أنه لا يعتق، لأنَّا ألغينا لفظ الحرية في الابتداء فلا نعطيها حكم التنفيذ في الانتهاء. ذكره بعض أصحابنا بخراسان والأول أصح. وأما قوله: إن كل من أقر بما يضر غيره لا يقبل قلنا: هذا إذا كان متهمًا فيه، فأما إذا لم يكن متهمًا يقبل كالعبد يقر بالجناية عمدًا يُقبل، وإن أضر سيده. وإذا أقرت المرأة بجناية العمد قُبل وإن أضر بزوجها لعدم التهمة. وههنا غير متهم عل ما بينا، وإذا لم يقبل إقراره بالعتق يصير كالعتق المبتدأ فيه أقاويل على ما ذكرنا. وأما إذا باع عبدًا، ثم أقر أنه جني أو أعتقه أو باعه من آخر، ثم باعه منه ونحو

ذلك لا يقبل قولًا واحدًا؛ لأن ملكه قد زال. وهكذا لو كاتب عبده ثم أقر بجنايته قبل الكتابة يقطع تصرفاته عنه، إلا أنه إذا أقر أنه إن كان قد عصبه أو باعه ثم كاتب يكون ذلك إبراء له من مال الكتابة؛ لأنه يقول: لا أستحق عليك شيئًا ويعتق. وإذا أقر أنه كان جني لا يكون ذلك إبراء له؛ لأن العبد وإن كان جانيًا فهو مملوك له وتصح كتابته. وأما إذا [ق 211 أ] أقر أنه كان قد أعتقه يُقبل ويعتق. فرع لو جني عبد على مولاه ثم رهنه وجوزناه كان رهنه إياه دليلًا منه على عفوه عنه ذكره أصحابنا. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ جَنَي بَعْدَ الرَّهْنِ، ثُمَّ بَرِئ مَنَ الجِنَايةِ بِعَفْوٍ أَوْ صُلْحٍ". الفصل إذا رهن عبده، ثم جني، ثم أبرأه المجني عليه من أرش الجناية كان رهنًا بحاله؛ لأن الجناية لا تبطل عقد الرهن، وإنما البيع في أرش الجناية يبطله فإذا أبرأه من أرشها بقي الرهن. وهكذا لو اصطلح رب الجناية والسيد عن الجناية على مال يبذله سيده، وإن كان تشقيصه عند البيع للجناية نقص يحصل في قيمته. قال القفال: بيع الكل وأدى منه قدر الجناية، ويكون الباقي رهنًا عند المرتهن، ولا يثبت للمرتهن خيار بيع المرهون في هذه الجناية؛ لأنها حدثت بعد عقد الرهن. وقال سائر أصحابنا: بيع البعض إلا أنه لا يمكن بيع البعض فيباع الكل ويكون الباقي رهنًا، ولا يفصلوا بين أن يكون في التشقيص نقص أم لا، والصواب التفصيل. وقال أبو حنيفة: إذا جني العبد المرهون كان ضمان الجناية على المرتهن، فإن فداه كان مرهونًا كما كان، ولا يرجع بالفداء. وإن بيع في الجناية أو فداه السيد سقط دين المرتهن إن كان بقدر الفداء أو دونه، وهذا بناه على أصله أن الرهن مضمون على المرتهن [ق 211 ب] وعندنا الرهن أمانة. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ دَبَّرهُ ثُمَّ [ق 211 ب] رَهَنَهُ كَانَ الرَّهْنُ مَفْسُوخًا". إذا دبر عبده ثم رهنه، نص ههنا أنه لا يجوز. وقال في "الأم": لو رجع في التدبير ثم رهنه فيه قولان:

أحدهما: الرهن باطل. والثاني: صحيح ومعنى المسألة أن التدبير وصيَّة إذ تعليق عتق بصفٍة. فإن قلنا وصية صح الرجوع عنه بالقول وصح الرهن. وإن قلنا تعليق عتق بصفةٍ لم يصح الرجوع عنه بالقول ولم يصح الرهن. ثم قال في "الأم" أيضًا: ولو دبره ثم رهنه ثم قال بعد ذلك: كنت رجعت في التدبير قبل أن أرهنه فيه قولان. ولو دبره ثم رهنه ثم رجع في التدبير بعد الرهن لم يجز حتى يبتدئ بما يجوز. وكان هذا دليل على أن الرهن باطل على القولين. واختلف أصحابنا في المسألة على طرقٍ؛ منهم من قال: الرهن باطل قولًا واحدًا؛ لأن الرهن لا يزيل الملك وليس برجوع عن التدبير؛ لأن أحدهما لا ينافي الآخر. وقال هذا القائل: لو أوصي بشيء ثم رهنه كان رجوعًا عن الوصية. وإن قلنا إن التدبير كالوصية لأنه أكد من الوصية؛ لأن التدبير يلزم بمجرد الموت من غير قبول فلم يصح الرجوع عنه إلا بصريح القول أو بما يزيل الملك. ومن أصحابنا من قال: فيه قولان؛ فإن قلنا يصح الرجوع عنه بما لا يزيل ملكه فالرهن [ق 212 أ] يكون رجوعًا فيبطل التدبير ويصح الرهن. وإن قلنا لا يصح الرجوع إلا بما يزيل الملك فالتدبير بحاله ولا يصح الرهن. وهذه الطريقة أصح. ومنهم من قال: يصح الرهن على القولين جميعًا؛ لأن المدبر لما جاز بيعه جاز رهنه ولا يكون رجوعًا عن التدبير. فعلى هذا إذا حل الحق نظر، فإن كان للراهن مال غير هذا، أو أدى الدين من ماله فالعبد انفلت من الرهن وهو مدبر يعتق بموته، وإن لم يؤد الدين من ماله قيل له: تختار الرجوع عن التدبير، فإن اختار ذلك ورجع عن التدبير بيع العبد ووفي الدين من ماله وبطل التدبير. وإن امتنع من الرجوع في التدبير، فإن كان له مال أجبر على قضاء الدين من ماله وفك العبد من الرهن ويكون مدبرًا، وإن لم يكن له مال يباع العبد في الدين ويقضي دين المرتهن؛ لأن المرتهن إنما أخذ من الرهن للاستئناف، حتى إذا تعذر الوصول إلى الدين من جهته استوفاه منه. وقول الشافعي: "الرهن مفسوخ": معناه يزول الرهن ببيع المدبر على ما قلنا. وقال ابن سريج: فيه وجه آخر على هذه الطريقة إذا لم يكن له مال غيره ولا يرجع في التدبير، حكمنا في هذه الحالة بأن الرهن وقع فاسدًا؛ لأنَّا إنما صححناه ظنًا منه أنه ينفك عن الرهن أو يرجع عن [ق 212 ب] التدبير، فإذا لم يفعل حكمنا بفساد الرهن. وقال أبو إسحاق: هذا ضعيف؛ لأنًَّا إذا صححنا الرهن يلزم الوفاء بموجبه، ولا يجوز أن يحكم بفساده بامتناعه من أداء حقه.

ومن أصحابنا من قال: يصح الرهن ويبطل التدبير، وهو اختيار المزني، فحصل أربعة طرق. واحتج المزني بأن الشافعي قال: لو دبر عبده ثم وهبه هبة بتاتٍ بطل التدبير أقبضه أو لم يقبضه، والهبة قبل القبض كالرهن سواء. قلنا: قال أصحابنا: إذا وهب وامتنع من إقباضه يبني على القولين. فإن قلنا وصية كان رجوعًا عن التدبير. وإن قلنا: عتق بصفةٍ لا يكون رجوعًا عن التدبير. ومن أصحابنا من قال: يكون رجوعًا عن التدبير على القولين. والفرق على قول من لا يقول بهذه الطريقة إن الرهن ليس بإزالة الملك وإنما هو وثيقة للمرتهن، والهبة تتضمن إزالة الملك بانضمام القبض إليه، فقصده إلى الهبة قصد ما يزيل ملكه، فكان ذلك رجوعًا عنه. واحتج المزني بأن الشافعي قال: ولو قال للمدبر: إن أديت بعد موتي كذا فأنت حر بطل التدبير"، فدل على أن التدبير وصية. قلنا: هذا ذكره على أحد القولين. فأما على القول الآخر لا يكون إبطالًا للتدبير. فإذا تقرر هذا، ههنا في اللفظ إشكال، وذلك أنه علل لإبطال الرهن فقال: "كان الرهن مفسوخًا"؛ [ق 213 أ] لأنه أثبت له عتقًا قد يقع قبل حلول الرهن فلا يسقط العتق والرهن غير جائز. ولا يختلف المذهب في تقديم الدين عل عتق المدبر والتدبير من الثلث كسائر الوصايا، فإذا دبره ثم رهنه إما أن يسبق حلول الدين موت الراهن، وإما أن يموت الراهن قبل محل الحق. فإن جاء المحل والراهن حي بيع المدبر في دين المرتهن. وإن مات الراهن في جميع الأحوال، وإنما يخشي ذاك في العتق بصفةٍ فإنه ربما توجد الصفة قبل المحل ويعتق ويبطل التدبير، اللهم إلا أن يكون مراد الشافعي بهذا التعليل تأخيره، وهو أن الراهن للعبد حق حريته بعقد التدبير وقصد القربة إلى الله تعالى به. فإذا رهن فقد تعمد إلى إبطال تلك القربة، إذا ربما يباع في الرهن فلا يجوز إبطال قربته من جهة التدبير إلا بإزالة الملك، والرهن لا يزول الملك به، فتقدير تعليله لأنه أثبت له حق عتق على جهة القربة، وقد يقع ويؤخذ سببه وهو الموت قبل حلول الحق فلا يسقط العتق، أي يستديم التدبير ويمنع الرهن كيلا يسقط حق العتق ولم يرد به أنه إذا مات وعليه دين عتق مدبره قبل أداء دينه. فرع إذا قلنا يصح الرهن ولا يبطل التدبير وبيع عليه لحق المرتهن ثم ملكه [ق 213 ب] الراهن من بعد هل يعود إلى التدبير قولان مبنيان على القولين في عود اليمين بعد الزوال.

فرع آخر قال في "الأم": "لو رهنه وأقبضه ثم دبره كان التدبير موقوفًا" فإذا حل حق المرتهن فإن قضي دينه من ماله وفك العبد من الرهن كان العبد مدبرًا، وإن لم يكن له مال أو كان له مال فامتنع من قضاء دينه منه فإنه يقال له: تختار الرجوع عن التدبير، فإن اختار ذلك بيع في الرهن وبطل التدبير. وإن قال: لا أختار الرجوع فيه يجبر على بيعه ويستوفي المرتهن حقه من ثمنه ويبطل التدبير، وإن مات هذا الراهن فقد حل حق المرتهن بعتق المدبر ينظر، فإن كان قد حلف المدبر من ثلاثة، وإن لم يحلف تركه غير المدبر بيع من المدبر بقدر الحق، فإن فضل منه فضل عتق ثلث ما بقي منه بعد قضاء الحق. وحكي عن أبي حامد أنه قال: عندي تدبير المرهون يبني على القولين في عتقه؛ لأن التدبير سبب من أسباب العتق، وهذا خلاف النص، ولا يشبه العتق؛ لأنه يبطل حق المرتهن من غير الرهن، لأنه يمنع من بيعه والتدبير لا يمنع البيع فلا يبطل حق المرتهن فافترقا. فرع آخر قال بعض أصحابنا بخراسان: الصحيح أن المدبر المطلق والمدبر المقيد [ق 214 أ] فيما ذكرنا من الحكم سواء. وصورة المقيد أن يقول: إن مت من مرضي هذا فأنت حر، وإن قتلت فأنت حر. ومن أصحابنا من قال: هو كالعتق بصفةٍ لا يجوز الرجوع عنه بالقول قولًا واحدًا وحكم رهنه يأتي. مسألة: قَالَ: وَلَوْ قَالَ لَهُ: إَنْ دَخَلْتَ الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ ثُمَّ رَهَنَهُ كَانَ هَكَذَا"، إذا أعتق عبده بصفةٍ ثم رهنه، فإن كان يعلم أن حلول الدين يتقدم على وجود الصفة بمدة يمكنه بيعه واستيفاء الحق من ثمنه يصح الرهن قولًا واحدًا، مثل إن قال: أنت حر إذا مضت سنة ثم رهنه بدين يحل بعد شهر أو أكثر قبل السنة. قال والدي رحمه الله: وإذا رهنه بدين يحل قبل السنة ينبغي أن يبقي من المدة ما يمكن البيع فيها من جهة العادة وإلا فلا يجوز. وإن رهنه بحق يعلم أن وجود الصفة تتقدم على حلول الحق لا يصح الرهن قولًا واحدًا، مثل أن يقول: إذا جاء رأس الشهر فأنت حر، ثم رهنه بدينٍ إلى سنة. ومن أصحابنا من قال: فيه قولان، وخرج القول الآخر من الثمرة الرطبة إذا رهنها

بحقٍ يتأخر حلوله عن وقت فسادها وهذا لا يصح؛ لأن في الثمرة لا بغية للراهن في إفسادها، فالظاهر أنه يبيعها إذا خشي عليه الفساد، وليس كذلك [ق 214 ب] العتق فإنه قربة مرغوب فيها، والظاهر أنه يقصد تحصيلها فافترقا. ولو علقه بقدوم زيد أو دخول دار ونحوه مما يجوز أن يتقدم على حلول الحق ويجوز أن يتأخر عنه ثم رهنه قال صاحب "الإفصاح": لا يجوز رهنه قولًا واحدًا؛ لأنه معقود على غررٍ. ومن أصحابنا من قال: فيه قولان؛ لأنَّا ذكرنا أن التدبير تحقق بصفة ورهنه صحيح على أحد القولين، فكذلك هذا، وهذا لأن الأصل جواز الرهن في .... وربما يحل الحق قبل وجود الصفة فيمكن الوفاء به. وهذا ضعيف؛ لأن الظاهر بقاء السيد وجواز موته لا يمنع صحة العقد كما يجوز بيع الحيوان؛ لأن الظاهر بقاء حياته، وإن كان الموت مجوزًا، وليس كذلك وقوع العتق؛ لأن وجود الصفة ممكن في كل وقت، وليس لعدم الصفة ظاهر يكون العقد مجهولًا عليه، ولأن جواز الموت عزيز لا يمكن الاحتراز منه بخلاف ذاك فافترقا، والمنصوص الأول والتعليل الذي ذكره في المدبر أليق بهذا الموضع، وعند أبي حنيفة يجوز رهنه بكل حالٍ. مسألة: قَالَ: وَلَوْ رَهَنَهُ عَصِيرًا حُلْوًا كَانَ جَائِزًا". الفصل إذا رهن عصير العنب يجوز رهنه؛ لأنه مائع يجوز بيعه فجاز رهنه. وقال [ق 215 أ] الماسرخسي: عندي العصير والفواكه الرطبة سواء؛ لأن الفواكه كما يجوز فسادها كذلك العصير إذا ترك يحدث فيها الشدة فتفسد. وهذا لم يقله غيره، وهذا لا يصح؛ لأن العصير يمكن إصلاحه بطرح الخل الذي يمنع الشدة فيجبر الراهن عليه، كما إذا رهن ثمرة رطبة يمكن تجفيفها صح الرهن وأجبر الراهن على التزام ...... والإنفاق عليه. قال: "فإن حال إلى أن يصير خلًا أو مزًا أو شيئًا لا يسكر كثيره فالرهن بحاله"؛ لأنه في الحال الثانية مال مملوك كما كان العصير في الابتداء مالًا مملوكًا، وقد يرهن الصغير فيكبر والمريض فيسعى، والمهزول فيسمن والرهن باقٍ كما كان. وقيل: نقل المزني: فإن استحال مزًا وهو سهو في النقل، وعصير العنب لا يصير مزًا. وقيل: هذا صحيح وله وجه، وهو أن عصير الشعير يستحيل مزًا فالمسألة في عصير العنب والشعير وغيرهما. وكذلك إذا طرح في عصير العنب دقيق الشعير ينقلب مزًا، وإن حال إلى أن يسكر بطل الرهن؛ لأن الملك يبطل بذلك والملك أقوى، وصار كما لو رهن عبدًا فمات في يد المرتهن. وقال أبو حنيفة: لا يبطل الملك ولا الرهن؛ لأنه يرجى عود نفسه كما لو ارتد

العبد. وهذا غلط؛ لأنه لا يضمن متلفها في الحال [ق 215 ب] ولا تصح تصرفاته فيها بخلاف المرتد فإنه تصح فيه تصرفاته. وقال ابن خيران: إذا انقلبت خمرًا بينا أن العقد الأول وقع باطلًا؛ لأن ظهوره في الزمان الثاني يدل على ابتدائه في الزمان الأول. وهذا غلط؛ لأنه لو صح هذا لوجب إذا باع عصيرًا فصار خمرًا في يد المشتري يبطل البيع، ولم يقل هذا أحد. فإن عاد خلًا من غير صنعة آدمي قال الشافعي: "هو رهن"؛ لأنه لما عاد ملكه عاد بحقوقه وكان الرهن من حقوقه. فإن قيل: أليس لو انفسخ الرهن بسببٍ آخر لا يعود إلا بعقد جديد، فلم قلتم ههنا يعود من غير عقد جديد؟ قلنا: الفرق أن هناك انفسخ والملك باق فلا يعود إلا بعقد جديد من الملك، ههنا انفسخ لزوال الملك، والملك إذا زال زال بحقوقه، وإذا عاد عاد بحقوقه. فإن قيل: إذا عاد خلًا ملكه ملكًا جديدًا فينبغي أن يحتاج إلى عقد جديد. قلنا: ليس كذلك يعود ملكه السابق، بدليل أنه لو مات وفي يده خمر وعليه دين فانقلبت خلًا يقضي منه ديونه، فلو كن ملكًا جديدًا لكان للورثة. وهذا كما لو أسلمت زوجة الكافر حرم عليه وطئها وخرجت به عن حكم العقد، فلو أسلم الزوج قبل انقضاء العدة عاد حكم العقد. وفرّع أبو العباس على مسألة العصير [ق 216 أ] وهو أنه لو كان له عند رجل ألف في ذمته به رهن فصالحه منه على كر طعام وبرئت ذمته عن الألف، وزال الرهن بزوال الألف عن الذمة. ومن شرط هذا الصلح القبض قبل التفرق، فإن تفرقا قبل القبض بطل الصلح وبرئت ذمته عن الطعام وعاد الألف إليها، فإذا عاد عاد برهنه كالعصير إذا صار خمرًا ثم عادت خلًا عاد الرهن. وقال والدي رحمه الله: ولو قبضه قبل التفرق ثم تقايلا صحت الإقالة وتعود الدراهم إلى ذمته ولا يعود الرهن. ويحتمل أن يقال: يعود؛ لأن الدراهم وجبت عن السبب السابق لا بحكم الصلح، والرهن من حقوقها فيعود الرهن مع الحق. ولو أخذ الرهن على هذا الكر من الطعام في ذمته ثم تفرقا قبل القبض بطل الصلح وبرئت ذمته من الطعام وبطل الرهن به، وعادت الدراهم إلى الذمة برهنها. وقال ابن خيران: إذا عاد الخمر خلًا لا يعود الرهن إفساد العقد عليه على ما ذكر، وعلى ما ذكر لو كان رهنه مشروطًا في البيع ليس للمرتهن فسخ البيع. وعلى قول ابن خيران في بطلان البيع قولان كما لو شرط في أول العقد.

فرع لو رهن شاة فماتت فدفع الراهن جلدها هل يعود رهنًا؟ قال ابن خيران: يعود كالخمر إذا صارت خلًا. وقال [ق 216 ب] أبو إسحاق: لا تعود رهنًا؛ لأن الرهن استحدث ملكه عليه بصنعة فلا يعود رهنًا في الملك الجديد، وفي الخمر لا صنع له فيها يعودها خلًا، وإنما عاد ملكه المتقدم بنفسه فعاد بحقه من الرهن. وقال أبو الطيب الساوي: قيل لأبي إسحاق: ما تقول في شاة ماتت فغصبها غاصب ودبغ جلدها، هل يملكه الغاصب أم لا؟ فقال: لا أقول إن الغاصب يملكها بما استحدثه من الدباغ. فقيل له: يلزمك أن تقول: الملك للغاصب؛ لأن عندك هذا ملك مستحدث يصنع من جهته كما قلت لا يعود الرهن إذا دبغه الراهن. فقال: الفرق أن فعل الغاصب لا حكم له؛ لأن يده ليس بحقٍ فوجوده وعدمه سواء. كما لو غصب من رجل كلبًا غير معلم وعلمه كان الأول أحق به، ولا حكم لفعل الغاصب فوجوده وعدمه سواء. فقيل له: قد قال الشافعي: إذا تحجر مواتًا ولم يحيه فجاء رجل فأحياه فإحياء الملك للثاني دون الأول وإن كان يد الأول بحقٍ فقال يد المتحجر لم تستند إلى ملكٍ سابق، فلما وجد سبب الملك من الثاني أبطل يده ويد صاحب الشاة أسندن إلى ملك سابق، فكانت يده أقوى وكان أحق بالملك من الثاني. قال أصحابنا: هذا الذي ذكره دليل عليه، وذلك أن يد الراهن مستندة إلى ملك سابق، فإذا عاد الملك ثبت أن الملك السابق [ق 217 أ] وقال أبو حنيفة: لا يزول ملك الراهن من الجلد بالموت، ولا يبطل حق المرتهن عن الجلد بالموت، وإذا دبغ فهو مرهون. فرع آخر لو كان له خمرة فأراقها فجمعها رجل آخر فصارت خلًا في يده، أو وهبت خمرًا من رجل فصارت خلًا في يد الموهوب له بعود الملك وفيه وجهان: أحدهما: يعود إلى الأول؛ لأنه لابد للثاني عليها فإن يده لا تقر عليها فصار كما لو غصبها من الأول فصارت خلًا في يده تكون للمغصوب منه، وهذا ظاهر المذهب. والثاني: يعود إلى الثاني؛ لأن الأول قد رفع يده عنه وقد حصل في يد الثاني، فإذا عاد ملكه كان صاحب اليد أولى به. كما لو ماتت شاة فألقاها في مزبلة فجاء إنسان ودبغ جلدها كان له، وليس كمثله الغصب؛ لأن يد الثاني تعترض فلا تصير ملكًا له. وهكذا في جلد الميتة لو ألقاها صاحبها فجاء رجل وأخذ الجلد ودبغه كان له بخلاف ما لو غصبه، وهذا أصح عندي. ويد الثاني تثبت عليها حين رفع الأول يده، وهذا إذا حل له هذا الفعل لغرض صحيح،

فأما إذا حرم عليه جميع الخمر فيده لا تثبت عليها ولا يملك بذلك. فرع آخر لو صار العصير خمرًا في يد الراهن قبل القبض بطل الرهن، فإذا عاد خلًا لم يعد الرهن [ق 217 ب] ويخالف إذا كان بعد القبض؛ لأن الرهن قد لزم وصار تابعًا للملك. ولو اشترى عصيرًا فصار خمرًا في يد البائع ثم عاد خلًا فسد العقد ولم يعد ملك المشتري بعودها خلًا. والفرق بينه وبين الرهن أن الرهن عاد تبعًا لملك الراهن، وههنا بعود ملك البائع لعدم العقد، ولا يصح أن يبيعه ملك المشتري. فرع آخر لو عاد خلًا بصنعة آدمي بطرح الملح أو الخل ونحوه فإنها نجسة كما كانت ولا تحل به، وهذا التحليل حرام. وبه قال أحمد ومالك في رواية. وروي عن مالك يكره تخليلها، ولكنه إذا خللها حلت. وقال أبو حنيفة: يجوز تخليلها، وإذا صارت خلًا حل. وهذا غلط لما روي أنس - رضي الله عنه - أن أبا طلحة - رضي الله عنه - سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام ورثوا خمرًا فقال: "أهرقها" فقال: ألا أخللها يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا". وروي عن أنس - رضي الله عنه - أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم أنتخذ الخمر خلًا؟ قال: "لا". واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يحل الدباغ الجلد كما يحل الخل الخمر"، قلنا: لا أصل له، ثم نحمله على ما لو تخلل بنفسه. فرع آخر لو وقع ملح بإطارة الريح فتخللت طهرت بلا شك. هكذا قال الصيمري وعندي يحتمل وجهًا آخر مما قال أصحابنا أنه إذا [ق 218 أ] وقع فيه الملح نجس، ثم بعدما صارت خلًا نفي نجاسة الملح. فرع آخر إذا خلل خمرًا بدواء فيه وجهان: أحدهما: أنه خل على الإطلاق إلا أنه تنجس. والثاني: أنه لا يسمى خلًا ولا خمرًا.

فرع آخر إمساكها بنية المعالجة حرام، وإمساكها بنية أن تصير بنفسها خلًا. قال أبو حامد: لا يجوز ذلك عندي، ولكنه لو خالف فصارت خلًا بنفسها حل. وقال القفال وجماعة: يجو إمساكها إذا كانت بنية الخل، وإن كنت نجسة في هذه الحالة ولا قيمة على متلفها وإنما يحرم إمساكها إذا كان قصده الشراب أو البيع، أو يخاف على نفسه شربها، وهذا هو الصحيح عندي. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا تخمرت وكانت بنية الخل هل تنجس؟ وجهان. وفائدته الضمان على المتلف وجواز الصلاة معها. وهكذا الوجهان في البيضة إذا صارت دمًا. وهذا غلط فاسد فسادًا ظاهرًا لا يجوز القول به بوجه. فرع آخر لو تركها في الشمس أو عرضها للهواء حتى صارت خلًا، فالمذهب أنها تحل؛ لأنها استحالت من غير شيء خالطها فصارت كالإمساك المجرد. ومن أصحابنا من قال: لا يحل لأنه ضرب من الصنعة والمعالجة. فرع آخر لو قال المرتهن: استحالت خلًا بنفسها، وقال الراهن: بل صارت خلًا بالتخليل فيه وجهان: [ق 218 ب] أحدهما: القول قول الراهن ويبطل الرهن. والثاني: القول قول المرتهن ويكون رهنًا. وهذان الوجهان مخرجان من إقرار الراهن بجناية المرهون. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ قَالَ: رَهَنْتَكَهُ عَصِيرًا فَصَارَ فِي يَدَيْكَ خَمْرًا". الفصل لو كان العصير رهنًا في ثمن مبيع وكان البيع بشرط فاستحال خمرًا، فإن كان قبل قبضه بطل الرهن والمرتهن بالخيار بين أن يمضي البيع بغير رهن أو يفسخ، وإن كانت الاستحالة بعد قبضه بطل الرهن ولا خيار للمرتهن؛ لأن الرهن هلك بعد القبض. وإن اختلفا فقال المرتهن: صار خمرًا عندك فلي الخيار. وقال الراهن: بل صار خمرًا عندك، قال الشافعي: "فيه قولان: أحدهما: القول قول المرتهن"، وهو قول أبي حنيفة واختيار المزني؛ لأن هذا الاختلاف يعود إلى الاختلاف في أصل القبض فالمرتهن يقول: أقبضي الخمر، وإقباض

الخمر لا يصح، والراهن يقول: أقبضتك العصير فصح الإقباض. ولو اختلفا في القبض فالقول قول المرتهن؛ لأن الأصل أن لا يقبض. والثاني: القول قول الراهن، وهو الصحيح؛ لأن الشدة قد تحدث كما يحدث العيب في المبيع. ولو اختلف البائع والمشتري فقال البائع: بعتك سليمًا فحدث العيب عندك. وقال المشتري: بعتنيه معيبًا فالقول قول [ق 219 أ] البائع، وهما اتفقا ههنا على أنه رهنه عينًا وأقبضها إياه، واختلفا في عيب حادث فالقول قول من ينفي ذلك. فإذا قلنا بالقول الأول فللمرتهن الخيار في فسخ البيع، ولو أراد الراهن أن يبدله رهنًا آخر ليبطل خياره في الفسخ، كان له الامتناع من قبوله؛ لأن الذي اشترطه رهنًا لم يسلم له رهنًا. وإذا قلنا بالثاني أرقنا الخمر وليس للمرتهن على الراهن بدل يرهنه لأنه وفي له بشرطه والبيع لازم. ولو أراد إمساك الخمر ليستحيل خلًا كانا ممنوعين من الإمساك في ظاهر المذهب؛ وقد ذكرنا ما قيل فيه. فرع لو اختلفا في أصل العقد فقال الراهن: رهنتك عصيرًا، فقال المرتهن: رهنتني خمرًا. قال ابن أبي هريرة: ههنا قول واحد القول قول المرتهن؛ لأن المرتهن لم يقر بعقد صحيح، والراهن يدعي ذلك فكان القول قول المرتهن مع يمينه، كما لو قال: بعتك كذا، فقال: لم أشتر كان القول قوله مع يمينه. وقال غيره من أصحابنا: فيه القولان أيضًا؛ لأنه معترف بحصول عقد وقبض، وإنما يدعي صفة في المعقود عليه والأصل عدمها. فرع آخر لو رهنه عبدًا وأقبضه في محمل ملفوفًا ثم اختلفا في موته، فقال الراهن: أقبضتك حيًّا ومات عندك، وقال المرتهن: أقبضتني ميتًا فيه [ق 219 ب] طريقان: أحدهما: القول قول المرتهن قولًا واحدًا؛ لأنه لم يقر بقبض العقد؛ لأن الميت لا يقبض، والمرتهن في العقد قد أقرّ بقبض وادعى الفساد فالقول قول من ينفي الفساد في أحد القولين. والطريق الثاني: قال أبو إسحاق وجماعة: لا فرق، وفيه قولان أيضًا، وعليه نص الشافعي في "الأم"؛ لأن القبض شرط فالاختلاف فيه كالاختلاف في العقد. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا مبني على أن فساد الرهن هل يفسد البيع؟ فإن قلنا لا يفسد فالمسألة على قولين. وإن قلنا يفسد ففي اختلاف المتبايعين في

المعنى المفسد للبيع قولان، والأصح قول من يدعي فساده، فههنا القول قول المرتهن ويفسد بيه البيع؛ لأنه يحتاج إلى فسخه، وقد ذكرنا بخلاف هذا فيما تقدم، وفي هذا النظر. وقال المزني: القول قول المرتهن؛ لأن الراهن مدع. قلنا: هل النزاع إلا في هذا، فإن من قال القول قول الراهن جعل المرتهن مدعيًا استحقاق لزوم البيع، والمرتهن عند التحقيق أشبه بالمدعي من الراهن على ما بيَّناه فلا معنى لما ذكرنا. فرع آخر لو كان الاختلاف بينهما في عيب بالعبد أو نحوه، فقال الراهن: كان بعد القبض. قال المرتهن: كان وقت القبض فالقول قول الراهن [ق 220 أ] بلا إشكال. مسألة: قَالَ: "وَلَا بَاسَ أَنْ يَرْهَنَ الجَارِيَةَ وَلَهَا وَلَدٌ صَغِيرٌ". الفصل يجوز رهن الجارية ولها والد صغير دون ولدها؛ لأن هذا ليس بتفرقة. ومعنى هذا التعليل أن منافع الجارية المرهونة لسيدها، فإذا رهنها دون ولدها الصغير فلم ضم الولد إليها لتحتضنه وترضعه عند المرتهن وتكون الأم مرهونة والولد غير مرهون فليس كبيع الأم دون الولد؛ لأن تسليمها إلى المبتاع بعد تملكه إياها دون الولد تفرقة بينها وبين ولدها، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا توله والدة بولدها" وقيل: معناه لأنه ليس بتفرقة في ثاني الحال، أي لا تباع دون الولد كالجارية إذا جنت ولها ولد صغير تباع مع الولد. فإذا تقرر هذا ينظر، فإن حل الحق فإن قضاه من قضاه فذاك، وإن أراد قضاه من ثمنها بيعت مع ولدها، وكان للمرتهن من ثمنها ما قابل قيمة جارية ذات ولد فيقال: كم قيمتها ذات ولد؟ قالوا: مائة، وكم يساوي ولدها وحده قالوا: خمسين فيكون للمرتهن من الثمن ثلثا الثمن، وإنما اعتبرنا قيمة جارية ذات ولد؛ لأنه تعلق حق المرتهن بها على هذه الصفة، وهكذا الحكم فيه إذا ارتهنها ولها ولد ولم يعلم ثم علم ورضي به [ق 220 ب] فبيعت بغير قيمة جارية ذات ولد على ما ذكرناه. ويفارق هذا إذا رهنها حائلًا فأتت بولد مملوك من زوج أو زنا بيعًا معًا ويكون للمرتهن من ثمنها ما قابل جارية لا ولد لها؛ لأن حق المرتهن تعلق بها ولا ولد لها ولم يرض بولدها بخلاف ما تقدم، فيقال ههنا: كم تساوي ولا ولد لها؟ قالوا: مائة، وكم يساوي الولد؟ قالوا: عشرون. قلنا: يمكن للمرتهن منها خمسة أسداس الثمن.

ومن أصحابنا من قال: تباع الأم دون الولد، ويجوز ذلك ههنا للضرورة كما لو كان الولد حرًا. ذكره القاضي الطبري وهذا لا يصح، الشافعي قال: "وليس تبقى الأم مع الولد"، بمعنى أوجب بيعها بأكثر من فسخ البيع في الأم لمكان الولد. فرع لو علم المرتهن بحالها لا خيار له، وإن لم يعلم أن لها ولدًا، قال جماعة أصحابنا: له الخيار في فسخ البيع المشروط فيه هذا الرهن. وقال بعض أصحابنا: إن قلنا تباع دون ولدها ففي خياره وجهان: أحدهما: له الخيار لما يلحقه من النقص في قيمتها إذا بيعت مع الولد. والثاني: لا خيار؛ لأن بيعها مع الولد لا يوجب النقص يقينًا وقطعًا، بل قد يجوز أن يحدث في قيمتها زيادة وتوفيرًا. مسألة: وَلَوْ ارْتَهَنَ نَخْلًا مُثْمِرًا فَالثَّمَرُ خَارجٌ مِنَ الرَّهْنٍ". الفصل [ق 221 أ] إذا رهن نخلًا مطلعة نظر، فإن كان الطلع قد أُبر لم يدخل في الرهن؛ لأنه لا يدخل في البيع مع أنه أقوى فلأن لا يدخل في الرهن أولى، وإن اشترطه دخل فيه، وإن كان الطلوع غير مؤبر، نص في "الأم" أنه لا يدخل في الرهن ويخالف البيع من وجهين: أحدهما: أن البيع أقوى؛ لأنه يزيل الملك. والثاني: أن ما يحدث بعد العقد من الطلع لا يدخل في الرهن ويدخل في البيع، فكذلك الموجود في حال العقد لا يدخل في الرهن ويدخل في البيع. ومن أصحابنا من ذكر قولًا آخر أنه يدخل في الرهن ونسبه إلى "القديم" ولا يعرف ذلك في "القديم" ولا يصح هذا القول، وكذلك الكلام في الحمل والصرف. وقال بعض أصحابنا بخراسان: نص في الحمل على قولين بناء على أن للحمل حكمًا أم لا. وكذلك في الطلع قولان، وما ذكرناه أصح. مسألة: قَالَ: "وَمَا هَلَكَ فِي يَدَي المُرْتَهِنِ مَنْ رَهْنٍ صَحِيحٍ أَوْ فَاسِدٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ". لهذه المسألة باب يأتي، والقصد بذكرها هنا أنه لا فرق بين فاسد الرهن وصحيحه

في أنه أمانة لا ضمان فيه إلا بالتعدي؛ لأن ما كان أمانة بأصل الشرع في حكم عقد صحيح حاكي [ق 221 ب] فاسدة صحيحة في سقوط الضمان كالشيء المستأجر. مسألة: قَالَ: "وَإِذَا رَهَنَهُ مَا يُفْسِدُ مِنْ يَومِهِ أَوْ غَدِهِ". الفصل إذا رهن ما يفسد في مدة قصيرة، فإن كان ما يمكن استصلاحه كالرطب والعنب فإن رهنه صحيح وينظر فيه، فإن حل الحق قبل أن يخشي فساده بيع فيه، وإن كان يخشي فساده قبل محل الحق، قال الشافعي: "يشمس ويجفف" ويجب ذلك على الراهن، فإن امتنع منه يجبر عليه؛ لأنه يقصد إبطال وثيقة الرهن، وإن كان مما لا يمكن إصلاحه كالبقل والبطيخ والقثاء، فإن رهنه بحق حال جاز، وإن كان بحق مؤجل نظر، فإن كن يحل بعد فساده نظر، فإن شرط أن لا يباع عند فساده الرهن، وإن شرط أن يباع عند خوف فساده صح الرهن، ويجعل ثمنه رهنًا؛ لأن المقصود يحصل به، وإن أطلق فيه قولان: أحدهما: يصح؛ لأن الظاهر أنه لا يترك الثمرة حتى تفسد ولكنه يبيعها عند خوف الفساد فيحمل مطلق العقد عليه. والثاني: لا يجوز؛ لأنه لا يمكن بيعه عند محل الحق فلا تحصل به الوثيقة وهذا ظاهر المذهب. واختلف أصحابنا في معنى لفظ الشافعي: "وَمَنَعَنِي مِنْ فَسْخِهِ أَنَّ لِلرَّاهِنِ بَيْعَهْ قَبْلَ مَحَلَّ الحَقِّ عَلَى أَنْ يُعْطَى صَاحِبُ الحَقِّ حَقَّهُ". أذن للراهن عند خوف الفساد ببيع الثمرة بشرط تعجيل الدين من ثمنها لا يجوز ذلك وإذا قلنا: باطل فلا كلام، وإذا قلنا: صحيح [ق 222 أ] قال بعض أصحابنا: يباع عند خوف الفساد ويوضع ثمنه رهنًا؛ لأن العرف يقتضي ذلك، ولو امتنع الراهن أو المرتهن من ذلك أجبر عليه، وقد تنتقل الوثيقة من العين إلى القيمة بأسباب وهذا من جملتها. وقال بعض أصحابنا: إذا خيف فساده فهو بالخيار بين بيعه ويكون ثمنه رهنًا، وبين تركه، وإن هلك لا يجبر على بيعه، لأنه بيع رهن قبل محل الحق. ويفارق هذا تشميس الرطب؛ لأنه من مؤنة الرهن فأوجب عليه، وههنا تكليف بيع، ونقل ملك فلا يجبر عليه وهذا أقيس، والأول أظهر؛ لأن في ضمنه الإذن ببيعه عند خوف الفساد. وقيل: الأصح جواز الرهن لهذا المعنى.

فرع رهن اللحم بمنزلة رهن الثمرة التي يمكن تجفيفها؛ لأن اللحم يقدد فلا يفسد، ولو أراد الراهن بيعها أو تجفيفها ممكن الإيجاب إلى ذلك. ولو قال: أريد أن أجعل ثمنها رهنًا. فرع آخر لو رهن ما لا يفسد العبد بشرط أن يباع العبد ويجعل ثمنه رهنًا فكأنه بلا عذر، ظاهر المذهب أنه لا يجوز. وقال أصحابنا بخراسان: فيه وجهان: أحدهما: يجوز كما جاز البيع لما ذكرنا من العذر. والثاني: لا يجوز؛ لأن نقل العقد من محل إلى محل لا يمكن، كما لو نقل من عبدٍ إلى عبدٍ لا يجوز وإن تراضيا. فرع آخر لو رهن نخلًا عليها ثمرة مع الثمرة، فإن كان [ق 222 ب] محل الحق مع إدراكها أو قبل إدراكها صح، ويباعان في الدين. وإن كان بعد إدراكها والثمرة مما يمكن إصلاحها جاز أيضًا. وإن لم يكن استصلاحها كالرطب الذي لا يجيء منه تمر طريقان: أحدهما: يصح على طريق البيع قولًا واحدًا، والقولان عند الإفراد. والثاني: فيه قولان أيضًا، وإذا قلنا: لا يصح فهل يبطل في الكل؟ قولان بناء على تفريق الصفقة. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ رَهَنَهُ أَرْضًا بِلَا نَخْلٍ فَأَخْرَجْتُ نَخْلًا. الفصل إذا رهن أيضًا بيضاء لا غراس فيها، فنبت فيها غراس من نخل وغيره سواء نبت بنفسه مثل أن يدخل الماء النوى إليها، أو زرعها الراهن فالغراس خارج من الرهن. فإذا تقرر هذا فلا يؤمر الراهن بقلعه قبل حلول الحق؛ لأنَّا نعلم صورة بالمرتهن في الحال فإنه يجوز أن يقضي دينه من غيرها، ويجوز أني يكون ثمن الأرض وفيها غراس تفي بحق المرتهن فلا يقلع، فإذا حل الحق نظر، فإن قضي دينه من غيرها فقد خرجت الأرض من الرهن، وإن لم يقض دينه من غيرها أو لم يكن له مال سواها فلا يخلو من أحد أمرين؛ إما أن يكون عليه ديون لغيره من الغرماء، أو لا يكون غريم له غيره، فإن لم يكن له غريم

غيره نظر في الأرض إذا بيعت من غير الغراس فيها، فإن كان [ق 223 أ] ثمنها يفي بالحق بيع [الأرض] وحدها، وإن كان لا يفي بالحق لنقصان قيمتها بوجود الغراس فيها يجبر الراهن أن يبيع الأرض مع الغراس ويأخذ من جملة الثمن قيمة الأرض بيضاء لا غراس فيها، وبين أن يبيع الأرض وحدها ويجبر بالنقص الذي دخل في ثمنها بالغراس من سائر ماله وبين أن يقلع الغراس ويسلم الأرض مسراه من غير غراسٍ. وإن كان هناك غرماء غيره لا يجوز للحاكم قلع الغراس؛ لأنه ينقص قيمة الغرس فيؤدي إلى الإضرار بالغرماء، ولكنه يبيع الأرض مع الغراس ويأخذ من جملة الثمن قيمة أرض بيضاء لا غراس فيها للمرتهن ويعطي الباقي لسائر الغرما. فإن قيل: أليس قلتم في الأمة إذا بعناها مع الولد فدخل في ثمنها نقص يضم الولد إليها في المبيع لا يجبر النقص من الثمن الولد؟ قلنا: لأن ضم الولد إلى الأم في البيع واجب بالشرع لا صنع للراهن فيها، فلم يجب جبران النقص، وليس كذلك الغراس؛ لأنَّا ضممناه إلى الأرض لسقيه الراهن الغراس في الأرض لا للوجوب بالشرع. وأيضًا هناك ثبت للمرتهن حق الرهن في أرض بيضاء ثم حدث الغراس، وههنا وجود الولد متقدم على الراهن ودخل فيه راضيًا بنقص الولد فلم يجب جبران النقص. فوزانه أن تكون الجارية [ق 223 ب] المرهونة زنت فمات بالولد بعد الرهن، يكون حكمها واحد على ما ذكرنا. فإذا تقرر هذا ههنا إشكال، وذلك أن الشافعي قال: "فَأَعْطَى المُرْتَهِنُ ثَمَنَ الأَرْضِ وَالْغُرَمَاءُ ثَمَنَ النَّخْلِ". وهذا يقتضي أن يختص الغرماء بثمن النخل دون المرتهن في جميع الأحوال، ولا خلاف أنه ينظر في قيمة الأرض التي وصلت إلى المرتهن لما بيعت، فإن كانت وفق حقه اختص الغرماء بثمن النخل، وإن تقاصرت عن حقه خاصصهم في ثمن النخل ببقية حقه، وكذلك إن كانت قيمة الأرض أكثر من حق المرتهن رد الفضل على سائر الغرماء بتحاصصون فيه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا بيعت الأرض مع النخل ففي كيفية توزيع الثمن على الأرض والنخل وجهان: أحدهما: تقوّم الأرض بيضاء، ثم تقوّم مع النخل، ثم يوزع الثمن أي قدر كان عليهما، مثل أن تكون قيمة الأرض بيضاء ألفًا وبيع الغراس ألفًا ومائة وبيعا بألفٍ وزع الألف على أحد عشر سهمًا. والثاني: تقوّم الأرض بيضاء والنخل قائمة لو انفرد كل واحد منهما ثم يوزع الثمن عليهما حتى إن زاد الثمن على قيمتها فالزيادة لها بالحصة وإن نقص بالنقصان عليهما. مثل أن يقال: الأرض بيضاء تساوي ألفًا والنخل وحدها قائمة تساوي مائتين، ثم إذا بيع قدر بيع [ق 224 أ] قسم على السهام الاثني عشر، وإن كانت لو قوّمت الأرض مع

النخل لا تبلغ إلا ألفًا ومائة، وإن كانت قد زادت قيمتها بذلك مثل إن كانت قيمتها ولا نخل بها مائة وقيمة النخل مائة وقيمتها معًا ثلاثمائة بيعًا معًا، ويكون للمرتهن ما قابل قيمة الأرض وللغرماء ما قابل قيمة النخل ونقسط الزيادة بينهما؛ لأن الزيادة بهما معًا. فرع إذا رهنه أرضًا قد دفن فيها النوى لا يخلو إما إن علم المرتهن أو لا فإن لم يعلم فله الخيار إذا علم؛ لأن يتبين النقص بذلك، ثم إن رد جاز وإن اختار الإمساك أو كان علم بالنوى المدفون، أو علم بالنخل فيها فرهنها دون نخلها فالحكم في الكل واحد، وهو أنه لا يقلع النخل في الحال على ما ذكرنا. ولكن إذا حل الحق وبيعت مع الأرض قسط الثمن عليهما ويدفع إلى المرتهن قيمة أرض فيها غراس؛ لأنه لما رضي بذلك استحق قيمتها على تلك الصفة، ولا يقلع ههنا بحالٍ. وهذا إذا كان هناك غرماء وقد حجر عليه بفلس، فأما إذا لم يكن ذلك فالأرض تباع في الحق وحدها سواء كان ثمنها وفق الحق أو دونه أو فوقه، وقيل في كيفية التوزيع وجهان على ما ذكرنا. مسألة: قَالَ:"وَلَوْ رَهَنَهُ أَرْضًا وَنَخْلًا ثُمَّ اخُتَلَفَا". الفصل إذا رهنه أرضًا واتفق على أن الراهن قال: بحقوقها فوجدت فيها [ق 224 ب] نخل، واختلف فقال الراهن: حدث النخيل بعد العقد فهي خارجة من الرهن، وقال المرتهن: كانت موجودة حال العقد فهي داخلة في الرهن لم يخل من ثلاثة أحوال؛ إما أن يمكن ما قال الراهن دون المرتهن، أو ما قال المرتهن دون الراهن، أو ما قالا ممكن فإن أمكن ما قال الراهن دون المرتهن، مثل إن عقد الرهن من عشر سنين والنخل يومئذٍ فسل سنةٍ ونحو ذلك فالقول قول الراهن بلا يمين، وإن أمكن ما يقول المرتهن دون الراهن مثل أن يعقد الرهن منذ سنة النخل باسق طويل، فقال الراهن: حدث بعد العقد فالقول قول المرتهن بلا يمين، وإن أمكن الأمر وأشكل ذلك فالقول قول الراهن مع يمينه؛ لأنهما متفقان على أن النخيل ملك الراهن واختلفا في حدوث عقد الرهن عليهما والأصل أن لا عقد. وقال المزني: "القول قول المرتهن لأن يده على النخيل"، وهذا سهو منه؛ لأن اليد إنما تدل على الملك لا على العقد، فإذا حلفا الراهن يحلف بالله الذي لا إله إلا هو أن هذه النخل أحدثتها بعد العقد على الأرض، وهكذا لو رهن مع النخيل واختلفا هكذا في بعض النخيل فيها، فإذا حلف يكون حكمه حكم المسألة قبلها. قال أصحابنا: فإن كان هذا الرهن في البيع فاختلفا في وقوع البيع على رهن النخيل

[ق 225 أ] الذي تداعيا به فيجب أن يتحالفا، وقد حلف الراهن فيقال للبائع المرتهن: أتقنع أن تكون الأرض رهنًا بلا نخيل، فإذا قنع فلا كلام، وإن لم يقنع قيل للراهن: أتسمح أن يكون النخيل رهنًا مع الأرض؟ فإن سمح فلا كلام، وإن لم يسمح قيل للبائع: قد حلف الراهن ولم تحلف أنت، فاحلف أنت لقد رهنتها بنخلها، وإن حلف قيل له: أنت بالخيار بين أن تقيم على البيع أو تفسخ؛ لأن محل الرهن ما سلم لك. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا إذا قال الراهن قد كانت هذه النخيل فيها ولكن استثنيتها، وقال المرتهن: ما استثنيت. أو قال الراهن: رهنت الأرض دون النخيل، وقال المرتهن: بل مع النخيل. فأما إذا قال: رهنتك جميع النخيل التي في الأرض لكن هذه النخلة بعينها لم تكن حينئذٍ، وقال المرتهن: قد كانت فالقول قول الراهن لأنهما ما اختلفا في صفة العقد وكيفيته، وفي هذا نظر؛ لأنه يقول: كان الشرط هذه النخلة بعينها مع الباقي وهو ينكر ذلك فهو اختلاف في قدر الرهن المشروط فيتخالفان كما ذكرنا. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ شَرَطَ لِلْمُرْتَهِنِ إِذَا حَلَّ الحَقَُ أَنْ يَبِيعَهُ لَمْ يَجُزْ". إذا شرط الراهن بعد عقد الرهن أن الحق إذا حل عليه باع المرتهن الرهن لنفسه واستوفي حقه منه، فإن هذا توكيل باطل وشرط فاسد؛ لأن الإنسان لا يجوز [ق 225 ب] أن يكون وكيلًا لغيره في حق نفسه؛ لأنه متهم فيه فإنه يريد أن يروج البيع، ويريد الراهن أن يتربص به ويستقصي في طلب الزيادة في ثمنه فلم يجز. فإن قيل: أليس لو دفع المسلف إليه دراهم إلى المسلف ليشتري به طعامًا صح. قلنا: لو وكله بأن تشتريه لنفسه لم يجز، وإن وكله ليشتريه له دون نفسه جاز. والفرق بينهما أن هذا الشراء لا حق له فيه، وإنما هو للسلف فجاز أن يكون وكيلًا لغيره في حق غيره، وليس كذلك بيع الرهن فإنه حقه، فلم يجز أن يكون وكيلًا لغيره في حق نفسه. فإن قيل: أكثر ما فيه أنه توكيل فاسد، وإذا باع الوكيل وكالة فاسدة يجوز، فلم لا يجوز ههنا؟ قلنا: فساد الوكالة إذا كان لمعنى يرجع إلى عقد البيع منع صحة البيع، وقد بيَّنا أن الوكالة ههنا ترجع إلى عقد البيع، وهو أنه إذا باع فإنما يبيع لغيره في حق نفسه وذلك لا يجوز. وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يصح التوكيل ههنا ويملك بيع الرهن؛ لأنه إذا جاز توكيل غير المرتهن فيه جاز توكيل المرتهن فيه، وهذا غلط لما ذكرنا. وقال أبو حنيفة ومالك وأحمد: يصح التوكيل ههنا ويملك بيع الرهن؛ لأنه إذا جاز توكيل غير المرتهن فيه جاز توكيل المرتهن فيه، وهذا غلط لما ذكرنا. وإذا ثبت أن البيع باطل كان للمرتهن مطالبة الراهن ببيعه وإيفاء حقه من ثمنه، فإن امتنع منه رفعه إلى الحاكم ليبيع عليه ويدفع ثمنه إليه، وإن كان هذا شرطًا في عقد الرهن

فإنه شرط (فاسد) في عقد الرهن [ق 226 أ] فهل يفسد الرهن ههنا؟ أصل ذلك إن كان رهن شرط من شرطًا فاسدًا إن كان نقصانًا في حق المرتهن بطل قولًا واحدًا، وإن كان زيادة في حقه فيكون على قولين. وكل موضع قيد الرهن وكان على بيع هل يبطل البيع بفساده؟ قولان. وهذا كله إذا كان الراهن غائبًا عن مجلس البيع، فإن كان حاضرًا فباع المرتهن بحضرته، فإنه إذا أراد تعجيل البيع وتضييع حق المرتهن فيه منعه منه. وقال أبو حامد: لا يجوز ذلك عندي أيضًا، وقول الشافعي: "لَمْ يَجُرْ أَنْ يَبِيعَ لِنَفْسِهِ إِلَّا بأَنْ يَحْضُرَهُ رَبُّ الرَّهْنِ"، أراد رب الرهن بيعه إذا حضره دون المرتهن؛ لأنه لا يجوز أن يكون وكيلًا فيما يتعلق بحق نفسه. قال الشافعي: "فَإِن امْتَنَعَ أَمَرَ الحَاكِمُ بِبَيْعِهِ" والأول أصح وهو ظاهر النص. فرع لو قال: إذا حل الحق بعه لي واقبض الثمن ثم استوف منه حقك فالبيع وقبض الثمن جائز في استيفائه لنفسه. قال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز ذلك ولابد من أمين موفي ومستوفي. والثاني: يجوز ذلك إذا ائتمنه عليه غير أنه يحتاج إلى أن يزنه مرة أخرى على نفسه وما لم يستوفه لنفسه فهو أمانة في يده كالرهن، وإذا استوفي دخل في ضمانه. وهكذا الحكم في كل [ق 226 ب] من باع مال غيره في حق نفسه بتولية، مثل إن وكل سيد العبد الجاني المجني عليه في بيع العبد بما تعلق له برقبته، أو وكل الحاكم أمينه في بيع مال الغير في حق نفسه. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ كَانَ الشَّرْطُ لِلْعَدْلِ جَازَ بَيْعُهُ". الفصل إذا شرطا أن يصغاه على يدي عدلٍ جاز الشرط وتكون يد العدل يد الراهن ووثيقة للمرتهن، وقال ابن أبي ليلي وداود: لا يجوز هذا القبض؛ لأن القبض من تمام هذا العقد فتعلق بأحد المتعاقدين كالإيجاب والقبول. وهذا غلط؛ لأنه قبض في عقد فصح فيه التوكيل كسائر القبوض، ويفارق العقد؛ لأن الإيجاب إذا كان لشخص كان القبول منه؛ لأنه مخاطب بخلاف هذا. فإذا تقرر هذا، فإن اتفقا على نقله عن يده جاز؛ لأن الحق لهما فجاز نقله.

برضاهما، وإن اختلفا نظر الحاكم فيه، فإن كان عدلًا ثقة أقره في يده، وإن كان فاسقًا انتزعه من يده. وكذلك المرتهن إذا كان الراهن نقله من يده ويرفعه إلى الحاكم حتى ينقله عنه إلى غيره، وإن وكل الراهن هذا العدل ببيعه إذا حل الحق جاز؛ لأنه لا حق له في هذا البيع. فإن قيل: هلا قلتم إن هذه الوكالة لا تصح لأنها وكالة بصفة، كما لو قال: إذا قدم الحاج أو جاز رأس الشهر [ق 227 أ] فقد وكلتك، فإن هذه وكالة باطلة. قلنا: في مسألتنا الوكالة مطلقة غير مؤقته، وإنما البيع فيها مؤقت فجاز بخلاف ذاك. فإذا تقرر هذا، فإن اتفقا على عزله عن الوكالة جاز، وإن عزله أحدهما فإن كان هو الراهن انعزل؛ لأنه وكيله في البيع، وإن عزله المرتهن اختلف أصحابنا فيه؛ فمنهم من قال: ينعزل وهو المذهب؛ لأن الشافعي قال: "جَازَ بَيْعُهُ مَا لَمْ يَفْسَخَا أَوْ أَحَدُهُمًا"؛ لأن الوكالة متعلقة بحقهما فبطل رجوع كل واحد منهما. وقال أبو إسحاق: لا ينعزل؛ لأن العدل وكيل الراهن في البيع دون المرتهن، ألا ترى أن الراهن لو انفرد عن المرتهن بالتوكيل صح، ولو انفرد المرتهن بالتوكيل في بيعه لم يصح إلا أن يدعي خيانة العدل ويقيم عليه البينة، فيكون له منعه من البيع. قال: وقول الشافعي: "مَا لَمْ يَفْسَخَا أَوْ أَخَدُهُمَا" أراد ما لم يمنعه الراهن عنه بيعه؛ لأنه إن كان وكيل الراهن فلا يبيع إلا بإذن المرتهن. وقال أبو حنيفة ومالك: ليس للراهن أن ينفرد بعزله؛ لأن هذه الوكالة صارت من حقوق الراهن فلم يكن للراهن إسقاطه. وهذا غلط؛ لأنها وكالة فكان للموكل فسخها كسائر الوكالات. وأما ما ذكروا لا يصح؛ لأن الوكالة عقد بانفراده سوى الرهن كما لو باع شيئًا بشرط الرهن [ق 227 ب] لا يقال العقد من حكم البيع وهو عقد آخر كذلك ههنا. فإذا تقرر هذا، ينظر إذا حل الحق، فإن اتفقا على البيع جاز العدل أن يبيعه، وإن أذن له أحدهما، فإن أذن له الراهن به لم يكن له بيعه حتى يستأذن المرتهن؛ لأنه له فيه حقًا، وإن أذن له المرتهن به هل يحتاج إلى استئذان الراهن في البيع؟ وجهان: قال أبو إسحاق: لا يحتاج إلى استئذان؛ لأنه قد وكله في البيع وأذن مرة فلا يحتاج إلى الإذن ثانيًا. وقال ابن أبي هريرة: يلزمه أن يستأذنه؛ لأنه ربما كان له غرض فيه، وهو أن يقضي الحق من عنده ونقله من الراهن.

فرع قال في "الأم": وإن مات العدل, فإن اتفق الراهن والمرتهن على وضعه في يد عدل آخر جاز, وأن تنازعا حمل إلى الحاكم فيجعله على يد عدلٍ آخر, وليس لأحدهما أن ينفرد به, لأن لكل واحد منهما فيه حقًا. فرع آخر لو كان الرهن في يد المرتهن فمات المرتهن, فإن رضي الراهن أن يكون على يد الوارث جاز, وإن لم يرضه واتفقا على عدلٍ يكون عنده جاز, وإن اختلفا جعله الحاكم عند العدل, وليس للوارث إمساك الرهن بغير إذن الراهن, لأنه ما وثق به, وإنما وثق بمورثه, وإن كان وارث المرتهن طفلاً وكان [ق 228 أ] أبوه أوصى إلى رجل بالنظر في ماله ما لم يكن للوصي إمساك هذا الرهن أيضًا بغير إذن الراهن. مسألة: قال: "وَلَو بَاعَ بِمَا يَتَغَابَنُ النَّاسُ بِمِثلِهِ فَلَم يٌفَارِقهُ حَتَّى جَاءَ مَنْ يَزِيدُهُ قَبلَ الزِيادَةِ, فَإِن لَم يَفعَل فَبيعُهُ مَردُودٌ". إذا أذنا بالبيع نظر, فإن صرحا له فقالا: بع نقدًا بنقد البلد بألفِ لم يجز له أن يخالف شيئًا مما أذنا له به غير أن له يبيع بأكثر من ألفٍ إن قدر عليه, وإن لم يصرها بشيء بل وقع الإذن بالبيع مطلقًا اقتضى ثلاثة أشياء, وهي أن بيعه بثمن مثله نقدًا بنقد البلد, فإن خالف منها بطل البيع. وقال أبو حنيفة: له أن يبيع كيف شاء. وهكذا الخلاف في الوكيل المطلق بالبيع غير العدل. فإذا تقرر هذا وخالف ما ذكرنا, فإن كان البيع قائمًا رده, وإن كان تالفًا فللمرتهن أن يضمن من شاء من المشتري والعدل والراهن, فإن رجع على المشتري رجع بأقل الأمرين من قيمته أو قدر الحق, ولا يرجع المشتري على أحد بشيء؛ لأن الشيء تلف في يده عن بيع فاسد فاستقر الضمان عليه وإن رجع على الراهن رجع بحق نفسه, وللراهن أن يرجع على من شاء من العدل والمشتري بكمال قيمة المبيع, فإن رجع على العدل رجع على المشتري بكمال قيمة المبيع, فإن رجع على العدل رجع على المشتري, وإن [ق 228 ب] رجع على المشتري لم يرجع على أحد هذا إذا كان الخلاف في النقد, وإن كان الخلاف في نقصان الثمن فالذي له أن يبيع بثمن مثله أو لا يتغابن الثاني بمثله في العادة, مثل أن يكون ثمن مثله عشرة والمغابنة في مثله بدرهم فباعه بتمامه فالبيع باطل, وإن باع بتسعة جاز, وهذا يختلف باختلاف أجناس الأموال, فإن اللؤلؤ لتثمينه يتغابن

فيها الناس بمائة درهم أو بخمسين ونحو ذلك, وكذلك العبيد والإماء ولا يُعد هذا غبنًا فاحشًا. وإذا أبطلنا البيع وكان المبيع تالفًا له أن يرجع به على العدل. نص في "نختصر الرهن" على قولين: المذهب: أن له الرجوع بكمال قيمته أيضًا وهو عشرة. والثاني: يرجع عليه بتغابن الناس بمثله, وهو ما حط عن تسعة إلى ثمانية فيرجع عليه بدرهم واحد؛ لأنه القدر الذي تعدى فيه, ثم هو يرجع بالتسعة على المشتري. والأول: أصح؛ لأنه أخرج العين من يده على وجه لم يجز له فيضمن جميع قيمتها. ولو أن المشتري اشتراه بما يتغابن الناس بمثله لم يرجع عليه بشيء, ولكن يلزمه تمام القيمة ههنا كذاك العدل. ومثل ما قال أصحابنا في الزكاة إذا لم يعط واحدًا من الأصناف مع القدرة يضمن نصيله, وكم يضمن؟ وجهان: أحدهما: القدر الذي لو أعطاه في الابتداء جاز؛ لأن التفضيل جائز [ق 229 أ] والثاني: القدر الذي يخصه سوى بينهم. هذا إذا خالف, فإن لم يخالف فباعه بثمن مثله أو ما يتغابن الناس بمثله فالبيع صحيح. وإن جاءه زائد فزاد في الثمن نُظر, فإن كان ذلك بعد لزوم البيع لم تنفع الزيادة, وإن كان قبل لزوم البيع, مثل أن يزيد في الثمن في مدة خيار المجلس أو خيار الشرط, قال الشافعي: "عليه قبول الزيادة" فإن لم يفعل فالمذهب أن البيع ينفسخ؛ لأن كل ما يكون في مدة الخيار, فهو كما يكون حالة التعاقد, ولو زيد حالة التعاقد فباع بدون الزيادة وبطل البيع كذلك ههنا. وعلى هذا إن تلفت السلعة في يده ضمن قيمة السلعة بالزيادة. ومن أصحابنا من قال: لا تبطل, لأن الزيادة مظنونة فلا ينفسخ بها العقد, وهذا يبطل بحالة التعاقد فإنها مظنونة أيضًا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لو قال الثاني بعدما زاد: بدا لي ولا أزيد بل إن البيع الأول لم يبطل, وهذا كما أنه لو بذل الابن الطاعة لأبيه في الحج يلزمه أن يأمره به, وإن رجع عن الطاعة قبل أن يحج أهل بلده بأن أنه لم يجب وإنما يحكم وجوبه إذا ثبت على الطاعة حتى يحجوا. قال القفال: لكيفية قبول [ق 229 ب] الزيادة باستئناف العقد الثاني مع المشتري الثاني من غير فسخ العقد الأول, فتضمن العقد الثاني فسخًا للبيع السابق, وإنما جعلنا قبول الزيادة معلقًا بالعقد؛ لأنه لو فسخ الأول بلفظ الفسخ ربما يمتنع الثاني فيبطل المقصود من العقدين, وهذا معنى قول الشافعي: "قبل الزيادة", وهذا يدل على صحة أحد الوجوه إذا باع البائع في زمان المجلس من آخر صح, وانفسخ البيع الأول فلا

يحتاج إلى أن يقول: فسخت البيع الأول. مسألة قال: "وَإذَا بِيعَ الرَّهِنُ فَثَمَنَهُ مِنَ الرَّاهِنِ حَتَّى يَقبِضَهُ المُرتهَنٌ" إذا باع العدل الرهن بيعًا صحيحًا فثمنه من ضمان الراهن إلى أن يقبضه المرتهن؛ لأن ثمن المبيع قائم مقام المبيع. ولو هلك المبيع في يد العدل وهو أصل لا ضمان على العدل؛ لأنه أمين, فكذلك إذا هلك الثمن. ثم للمرتهن مطالبة الراهن لحقه, وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة ومالك: من ضمان المرتهن. فأما أبو حنيفة بناه على أصله أن الرهن مضمون على المرتهن والثمن بدله. وأما مالك فيقول: الثمن للمرتهن وبيع له فكان من ضمانه. وهذا غلط؛ لأن العدل وكيل الراهن في البيع والصمن ملكه وهو ظامين له في قبضه فكان من ضمانه, أما قوله "الثمن للمرتهن" لا يصح؛ لأنه للراهن وإنما تعلق به الاستيفاء له. وأما قول الشافعي ههنا [ق 230 أ] "فَثَمَنَهُ مِنَ الرَّاهِنِ" أراد من ضمانه كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا يغلق الرهن من راهنه" يعني من ضمان راهنه, وذلك عادة العرب في حذف المضاف. مسألة: قال: "وَلَو مَاتَ الرَّاهِنُ فَأَمَرَ الحَاكِمُ عَدلاً فَبَاعَ الرَّهنُ وضَاعَ الثَّمَنُ مِن يَدَي العَدلِ فَاستَحَقَّ الرَّهنُ". الفصل: إذا كان الرهن على يدي عدلٍ وقد وكلاه ببيعه عند محل الحق, فمات الراهن, وكان الحق خالاً أو حل عليه الحق بوفاته انفسخت الوكالة, فإن أراد الوارث قضاء الحق من غير الرهن أو من عنده جاز, وإن امتنع نصب الحاكم أمينًا ليبيع هذا الرهن, إما ذلك العدل أو غيره, فإذا باع الرهن وسلمه إلى المشتري وقبض الثمن فتلف الثمن في يد الأمين وخرج الرهن مستحقًا فالكلام فيه أربعة فصول؛ في المستحق, والمرتهن, والعدل, والمشتري. وهكذا لو كان هذا في مفلس قد نصب الحاكم ليبيع ماله فباع عينًا من ماله وسلمها إلى المشتري وقبض الثمن فضاع من يده وخرج المبيع مستحقًا يكون الكلام في المستحق والغرماء والأمين والمشتري. فبدأ بالمستحق فيأخذ عين ماله؛ وإن كان مع المستحق بينة حلف المستحق مع يمينه؛ لأنا نقضي بالبينة بغير يمين المدعي

[ق 230 ب] إلا في ثلاث مسائل: الميت والغاصب, والصبي, والمجنون سواء قلنا يحلف أو لا يأخذ خقه وينصرف. وأما المرتهن: فقد بان له أن الرهن كان باطلاً وأن حقه بغير وثيقة, فإن كان الرهن في دين فلا خيار له, وإن كان في بيع فله الخيار, وإن اختار المقام على البيع كان أسوة الغرماء. أما العدل: فلا ضمانة عليه؛ لأنه أمين الرهان في حفظ ملكه, وأمين المرتهن في حفظ وثيقة, وواسطة بين البائع والمشتري وقد تلف الشيء في يده من غير تفريط؛ لأنه وإن كان قد قبض الثمن بغير حق فقد سلمه إليه مالكه ليسلمه إلى مستحقه في الظاهر. هكذا ذكر جماعة أصحابنا. وقال القفال: إذا نصب الراهن والمرتهن عدلاً فوقع الأمر على هذا الوجه يرجع المشتري بالثمن على العدل؛ لأنه جفعه إليه ثم يرجع هو على الراهن لأنه يصدقه على أنه وكيل, وإن كان العدل منصوبًا من جهة القاضي هل للمشتري الرجوع على العدل أم لا عهدة على العدل بل يرجع في مال الراهن؟ وجهان: أحدهما: لا رجوع على القاضي إذا تولى البيع بنفسه وهو ظاهر كلام الشافعي. والثاني: يرجع على العدل كما في المسألة الأولى. قال: وقول الشافعي: "لَم يَضمَنِ العَدلُ" أي لم يضمنه ضمانًا لازمًا وقصده الرد على أبي حنيفة حيث فال: العهدة [ق 231 أ] على العدل للمشتري ثم يرجع هو على الراهن, وهذا خلاف النص والصحيح ما ذكرنا. ولا رجو على العدل في الصورة الأولى إذا صدق المشتري أنه عدل وواسطة في العقد, أو ذكر العدل عند العقد أنه وكيل لما ذكنا من العلة, وأما المشتري يرجع بالدرك في مال من بيع عليه وهو المفلس, أو الميت أو الراهن, وكذلك كل من باع على الغير مالً وهم ستة: الأب, والجد, والوصي, والحاكم, والوكيل, والأمين. ووافقنا أبو حنيفة في الحاكم والأمين, وخالفنا في الوكيل, والأب, والجد, والوصي فقال: يلزممهم العهدة ويرجع المشتري عليهم ثم يرجعون على من بيع المال عليهم بما ضمنوا. وقال مالك: يرجع المشتري على المرتهن ويعود دينه في ذمة الراهن كما كان, لأنه بيع له, وهو لما ذكرنا من قبل. فإذا تقرر هذا, فإن كان في الماء وفاء بدين المرتهن والمشتري جميعًا قضيا معًا منه. وإن لم بكن فيه وفاء بهما نقل المزني وحرملة أنه أسوة الغرماء, ولا فصل بين المفلس ولا مسألة الميت إذا بيع في تركته شيء رهنًا كان البيع أو غير رهن. واختلف أصحابنا في هذا على طريقتين؛ فمنهم من قال: المسألة على قولين: أحدهما: أنه أسوة الغرماء وهو الأصح, لأنه بذل الثمن لتحصل له السعة إذا [ق 231 ب] استحقت بالبينة بعد حصوله له فاستحق الرجوع بالثمن, فإذا كان تالفًا ثبت

حقه في الذمة كالمرتهن فهما سواء. والثاني: يقدم على الغرماء؛ لأن في تقدمة مصلحة, إذ لو لم يقدم لم يشتر أحد من مال المفلس خوفًا من أن يخرج مستحقًا فيضيع ماله, فقدمناه كما قدمنا أجرة الخياط والحمال ونحو ذلك. ومن أصحابنا من قال: هو على اختلاف حالين, فالموضع الذي يقدم على الغرماء ما إذا كان للمفلس أعيان مال موجودة ههنا يقدم, والموضع الذي قال إنه أسوة الغرماء أراد إذا لم يكن له أعيان مال بحالً, وإن لم يكن له غير الذي يبيع عليه ففات الحجر عنه ثم ملك بعدها مالاً فاعيد الحجر عليه ههنا يكون المشتري أسوة الغرماء قولاً واحدًا, ومنهم من قال: فيه قولان. فرع لو باع العدل برضاهما وتلف الثمن في يده وخرج المبيع مستحقًا فلا عهدة على العدل على ما ذكرنا. ولو دفع الثمن إلى المرتهن فالمشتري يرجع على الراهن أيهما شاء. وهذا غلط للمعنى الذي ذكرنا من قبل. فرع آخر قال ابن سريج: لو كان الرهن على يدي عدل فباعه بإذنهما وقبض الثمن وسلمه إلى الراهن, وسلمه الراهن إلى المرتهن وقبض المشتري المبيع ثم أصاب به عيبًا فله رده, والرد [ق 232 أ] على الراهن؛ لأنه هو البائع وله الرجوع بالثمن ولكنه لا يرجع على المرتهن؛ لأن قبضه وقع صحيحًا مستقرًا وقد دفععه الراهن إليه بحقٍ ودخل في ملك الراهن أولاً, ولهذا لو أراد الراد أن يحبسه ويقضي دينًا من مال آخر له ذلك. ويفارق هذا إذا استحق الرهن من يد المشتري له أن يطالب المرتهن بماله؛ لأنه قبض الثمن ولم يكن مستحقًا له فافترقا في الرجوع عليه. وأما الراهن: إن كان قد ذكر في العقد أنه وكيل للراهن وبيع له فلا رجوع إليه, وكانت الحكومة بين الراهن والمشتري دون العدل, فإن كان للمشتري بينة بأن العيب كان موجودًا حال العقد أو بعد العقد وقبل القبض رجع بالثمن عليه, وإن لم يكن له بينة نظر فإن كان عيبًا لا يحدث مثله كالإصبع الزائد له رده بلا يمين, وإن كان يحدث مثله فالقول قول الراهن, وإن أطلق العدل البيع ولم يقل إنه وكيل الراهن في بيعه فالحكومة بين العدل وبين المشتري؛ لأن الظاهر أنه تصرف لنفسه فكانت العهدة عليه. وهذا أصل في تصرف الوكيل متى ذكر أنه وكيل تعلق الحكم بموكله, ومتى أطلق تعلق به, فإذا كانت ....... وبين المشتري, فإن كان للمشتري فإن كان للمشتري بينة أن العيب كان موجودًا رد العبد ورجع بالثمن على العدل [ق 232 ب] ورجع العدل به على الراهن, وإن لم يكن معه بينة

فإن كان عيبًا يحدث مثله نظر, فإن كان أفر الراهن والعدل معًا أن العيب كان موجودًا حال العقد رده على العدل ورجع عليه بالثمن, ورجع العدل على الراهن. وإن كذبه العدل والراهن معًا فالقول قول العدل؛ لأن معه سلامة العقد, فإن حلف العدل سقطت دعوى المشتري, فإن نكل رددنا اليمين على المشتري, فيحلف ويرد العبد ويرجع بالثمن على العدل, ثم لا يرجع العدل به على الراهن؛ لأنه يقول: العيب حادث والرد باطل والرجوع عليَّ بالثمن ظلم, وإن كان العدل صدق المشتري وحصل الخلاف بينه وبين الراهن, قال القاضي أبو الطيب: الذي عندي أن القول قول العدل؛ لأنه أمينه فيقبل قوله عليه. وكلام أصحابنا يدل على أنه لا يقبل قوله عليه والله أعلم. مسألة: قال: "وَلَو بَاعَ العَدلُ فَقَبَضَ الثَّمَن فَقَالَ: ضَاعَ, فَهوَ مُصَدَّقُ". إذا باع العدل وقبض الثمن, ثم ادعى أن الثمن ضاع من يده فالقول قوله لأنه أمين. فإن اتهم أحلف كالمودع سواء, فإذا حلف حكمنا أن الثمن من ضمان الراهن خلافًا لأبي حنيفة على ما ذكرنا. مسألة: قالَ: "وَلَو قَالَ: دَفَعَتهٌ إِلَى المٌرتَهِنِ وأَنكَرَ [ق 233 أ] ذَلِكَ المُرتهَنُ فَالقَولُ قَولَهُ وَعَلَى الدَّافِعِ البَينَةُ". إذا ادعى العدل دفع الثمن إلى المرتهن وأنكر المرتهن ذلك لا يقبل قوله على المرتهن, وعلبه البينة أنه دفعه إليه, والقول قول المرتهن مع يمينه؛ لأنه ليس بوكيله ولا أمينه. وفال أبو حنيفة: يقبل قول العدل عليه مع يمينه, وإذا حلف سقط حق المرتهن لا على جهة أنه أثبت القبض على المرتهن بيمينه ولكن لأجل أنه يصبر كأنه تلف الثمن في يده, ولأن العدل أمين فقيل قوله في إسقاط الضمان عن نفسه, ولا يقبل في إيجاب الضمان على غيره. وهذا غلط؛ لأنه ليس وكيل للراهن في دفع الدين إلى المرتهن, وإنما هو وكيل للمرتهن في حفظ الراهن له فلا يقبل قة=وله فيما ليس بوكيل فيه من جهته عليه. وأما ما ذكره لا يصح؛ لأنه إذا لم يقبل قوله عليه وجبت أن لا يسقط حقه ولا يكون بمنزلة الإتلاف؛ لأنه لم يدع التلف. فإذا تقرر هذا فإذا حلف المرتهن حكمنا أنه لم يقبض شيئًا من العدل, وأن حقه باق, ثم هو بالخيار إن رجع على الراهن؛ لأن حقه ثابت في ذمته وبين أن يرجع على .......... لأنه لم يثبت ما ادعاه فكان له المطالبة, وإن ضمن الراهن رجع الراهن على العدل؛ لأنه وإن كان قد دفعه بإذنه بق 233 ب] وكان وكيلاً فيه, فإنه أذن له في دفع يبرئه, فإذا دفع إليه دفعًا غير مبرئ كان ضامنًا, وإن

صدقه أنه دفعه, قال أصحابنا: فإن كان دفعه بحضرة الراهن واعترف الراهن بذلك لم يرجع الراهن على العدل؛ لأنه إذا حضر كان التفريط في ترك الإشهاد منسوبًا إليه. وهكذا إذا لم يكن بحضرته إلا أنه كان قد أشهد عليه شاهدين أو شاهدًا وامرأتين ثم ماتا أو فسقا فلا ضمان عليه قولاً واحدًا. وإن أشهد عليه شاهدًا واحدًا ومات فيه وجهان: أحدهما: يضمن لأن الشاهد الواحد ليس ببينة فقد فرط فيه. والثاني: لا يضمن وهو اختيار القاضي الطبري؛ لأن الشاهد مع اليمين بمنزلة الشاهدين, فكان له أن يعول على يمينه مع الشاهد الواحد, وإن رجع على العدل لا يرجع على الراهن؛ لأنه يقول: ظلمني المرتهن فيما أخذ مني ثانيًا. مسألة: قال: "وَلَو بَاعَ بِدَينٍ كَانَ ضَامِنًا" أي: إذا باع وسلم. فأما مجرد البيع لا يوجب الضمان, وأراد أنه ضامن القيمة؛ لأن ضمان الثمن إنما يتوجه عند صحة البيع وهذا البيع في الأصل فاسد, وقد ذكرنا هذه المسألة. مسألة: قال: "وَلَو قَالَ لَهُ أَحدَهُمَا: بِعْ بِدَنَانِير, وَقَالَ الآخرُ: بِع بِدِرهَم". الفصل. إذا اختلفا في جنس الثمن الذي يباع الرهن به [ق 234 أ] فقال الراهن للعدل: بعه بالدراهم, وقال المرتهن: بالدنانير لم يكن له بيعه حتى يتفقا على ما يباع؛ لأن لكل واحد منهما حقًا فيه, فإن لم يتفقا رفع إلى الحاكم حتى ينظر فيه, فإن كان كل واحد منهما يريد غير نقد البلد باعه الحاكم بنقد البلد, فإن كان جنس حقه منه صرفه إليه, وإن لم يكن جنس حقه صرفه في جنس حقه ووفاه إياه, وإن كان ما يقوله الآخر ليس بنقد البلد وما يقوله الآخر نقد البلد على ما ذكرنا لا؛ لأنّا قدمنا قوله ولكن لأنه يقتضيه الحكم وإن كان ما يقوله كل واحد منهما نقد البلد وكان في البلد نقدان, فإن كان أحدهما أغلب باعه بالأغلب, وإن استويا باعه بالأحظ, وإن استويا باعه بجنس حقه باع بما هو أسهل صرفًا إلى جنس الحق, فإن استويا عين الحاكم. قال أصحابنا: وكذلك إذا كان حقه دراهم فقال المرتهن: أريد البيع بالدنانير وقال الراهن: أريد بالدراهم ويحصل من ثمنه مقدار حقه بيع بالدراهم ولا يراعى قول المرتهن؛ لأنه لا غرض له في هذا الموضع. وعلى هذا لو كان الأرفق به أن يباع بجنس

الدين, وإن لم يكن نقد البلد باع به أيضًا, ذكره بعض [ق 234 ب] أصحابنا بخراسان. مسألة: قال: "فَإِن تَغَيَّرَت حَالُ العَدلِ فَأَيُّهُمَا دَعَا إلَى إخراجِهِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ". إذا تغيرت حال العدل بفسق أو ضعف عن القيام به من كبر أو علة أو حدث عداوة لهما أو لأحدهما, فإن اتفقا على نقله من يده إلى غيره نقل إليه, وإن اختلفا فيمن ينقل إليه رفع إلى الحاكم حتى ينقله إلى يد من يراه, وإن اختلفا في حدوث معنى من الثلاثة نظر الحاكم فيه, فإن ثبت عنده نقله من يده, وقال أصحابنا: ومن جملة تعديله أنه يجني عن المرهون عمدًا, فإن جنى خطأ لم يقدح ذلك في عدالته, وإن وجب عليه غرم الجناية فيأخذه القاضي ويرده عليه ليحفظه كما حفظ الأصل المجني عليه, كما لو جني غيره وأخذ الأرش جاز أن يوضع عند هذا العدل إذا لم يتفقا على إخراجه من يده كالأصل سواء. مسألة: قال: "وَلَو أَرَادَ العَدلَ رَدَّهُ وَهُمَا حَاضِرَان". الفصل. إذا أراد العدل عزل نفسه عن الحفظ ورد الرهن لا يخلو الراهن والمرتهن من ثلاثة أحوال: إما أن يكونا حاضرين, أو أحدهما حاضرًا والآخر غائبًا, أو غائبين, فإن كانا حاضرين كان له الرد عليهما لأنه [523 أ] أمينها متبرع بالحفظ عليهما وليس له الرد على أحدهما لأنه أمين لكل واحد منهما والحق لهما, وللراهن حق الملك وللمرتهن حق الوثيقة. فإن خالف فرده على أحدهما فقد تعدى ويؤخذ منه قيمته تكون رهنًا مكانه إن تلف سواء سلمه إلى الراهن أو إلى المرتهن, ولهذا لو أتلفه الراهن تؤخذ قيمته وتكون رهنًا, وإن أراد رده إليهما فامتنعا من قبوله مضى إلى الحاكم وعرفه حتى يجبرهما على قبوله, فإن امتنعا قبل هو عنهما, فإن حمله إلى الحاكم وسلمه إليه مع حضورهما كان عليه الضمان؛ لأن الحاكم لا يلي على رشيد وإنما ينوب عنهما عند الامتناع, وفي هذا الموضع يلزم الضمان على الحاكم أيضًا, وإن كان أحدهما غائبًا والآخر حاضرًا لم يكن له دفعه إلى الحاضر, فإن دفعه إليه ضمن الآخر جميع قيمته, فإن قيل: هلا قلتم يضمن النصف. وقيل: الفرق أن هناك لكل واحد منهما نصفها, وههنا ملك الجميع لأحدهما ووثيقة للآخر, ولهذا لو أتلفه الراهن يلزمه تمام قيمته للراهن فلهذا ضمن كله. وإن كانا غائبين فإن كان لهما وكيل حاضر في استرجاع الودائع والرهون رده على

[ق 235 ب] وكيلهما, وإن لم يكن لهما وكيل فإن كان للعدل عذر من مرض أو سفر رده إلى الحاكم إن قدر عليه سواء كانت الغيبة طويلة أو قصيرة, وإن لم يكن للحاكم كان له أن يضعه على يد ثقة يودع ماله عنده لأنه موضع ضرورة كما نقول في المودع, وإن لم يكن له عذر, وقال: لست أختار التبرع بهذا الحفظ نظر في غيبتها, فإن كانت بعيدة رده إلى الحاكم ليحفظه وليس له رده إلى غير الحاكم ههنا؛ لأنه لا حاجة به إليه, وإن سلمه إلى غير الحاكم ضمنه, ثم إن شاء الحاكم فولى حفظه بنفسه وإياه قصده الشافعي بقوله: "لَم أَرَ أَن يَضطَّرَّهُ عَلَى حَبسِهِ وإِنَما هِيَ وِكَالَةٌ لَيسَت لَهُ فِيهَا مَنفَعَةٌ" فإن لم يكن حاكم في هذه المسألة ليس له أن يودع عند غيره لأنه لا حاجة, وإن كانت الغيبة قريبة وهي ما لا يقصر فيها الصلاة ولم يقبله وأمره بالتوقف حتى يكتب إليهما ويعلمهما بذلك فيختارا لأنفسهما من يحفظ الرهن عليهما كما قلنا في الحاضرين سواء لأنهما في حفظ المقيمين, وإن سلم العدل إلى ثقة في داره, فإن كان منفردًا بالحفظ فعليه الضمان, وإن لم يكن منفردًا بالحفظ. وإنما أعطاه ليحمله إلى صندوق أو خزانة فلا ضمان عليه؛ لأنه لم يخرجه عن يده وقبضه وسلطانه, وإنما [ق 236 أ] استعان بغيره في حفظه فهو كما لو كانت دابة فسلمها إلى سائس يحفظها ويعلفها ويسقيها. فرع لو جعل المتراهنان الرهن في يد عدلين جاز ويكونان أمينين في الحفظ لهما, فإن أراد أحد العدلين أن يسلمه إلى العدل الآخر ليكون كله في يده, قال ابن سريج: فيه قولان يعني وجهان: أحدهما: لا يجوز, فعلى هذا يكون يدهما عليه معًا, وإذا سلم إليه ما في يده وهو نصفه فعليه ضمانه لأنه الذي تعدى فيه, وإنما تثبت يدهما عليه بأن يتركاه في بيت أو موضع يكون يد كل واحد منهما ثابتة عليه. والثاني: يجوز لأنه يشق عليهما ذلك. فإن قيل: أليس قال الشافعي: "إذا أوصى إلى اثنين لم يكن لأحدهما التصرف دون الآخر قولاً واحدًا" قلنا: الفرق على هذا الوجه لأنه لا يشق اجتماع الوصيين على التصرف وههنا اجتماعهما على الحفظ يشق عليهما. وقال أبو حنيفة: فإن كان مما لا ينقسم جاز لكل واحد منهما إمساك جميعه, وإن كان مما ينقسم لم يجز واقتسماه. وهذا غلط قياسًا على ما لم ينقسم, وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز أن يضعاه في يد أحدهما بكل حالٍ. وهذا لا يصح لأن المتراهنين لم يرضا إلا بخفضهما جميعًا.

فرع آخر [ق 236 ب] إذا قلنا بالوجه الثاني فاختلفا, وفال كل واحد منهما لا أسلم كله إلى صاحبي, فإن كان مما لا ينقسم أقر في أيديهما, وإن كان مما ينقسم ولا صرر في قسمته كالحبوب والأدهان قسمناه بينهما ويكون عند كل واحد منهما نصفه, فإن ترك جميعه في يد صاحبه ههنا. قال ابن سريج: لا ضمان عليه على هذا الوجه كما لو كان فيما لا ينقسم وكما لو كان قبل القسمة, وقيل: عليه الضمان لأنه لا ضرر عليه في إمساكه نصيبه فحصل وجهان, ولأنه لما قسم انفرد كل واحد منهما بنصيبه من الأمانة فلا يجوز تفويضه إلى صاحبه بخلاف ما قبل القسمة. فرع آخر لو جعلا الرهن على يدي عدل ووكلاه ببيعه إذا حل الحق فلما حل قال: بعته وقبضت ثمنه وضاع مني أو أتلف في يدي, فإن صدقاه في القبض, وكذباه في الضياع والتلف وصدقاه في البيع. قال ابن سريج: فيه قولان وأراد وجهان: أحدهما: يقبل قوله وتبرأ ذمة المشتري لأنه أمينهما في التصرف فيقبل قوله فيما يتضمن ذلك التصرف وقبض الثمن من جملته. والثاني: لا يقبل قوله لأن قوله: قبضت الثمن من المشتري إبراء منه فلا يقبل قوله في ذلك. فرع آخر لو كذباه في البيع فقال: قد بعت وسلمت وقالا: [ق 237 أ] ما بعت فهذه المسألة مشهورة بالقولين: أحدهما: يقبل قوله عليهما. والثاني: لا يقبل. فرع آخر لو أتلف أجنبي الرهن في يد العدل أخذت منه قيمته وجعلت رهنًا مكانه في يد العدل؛ لأن أمانته لم تبطل بجناية الأجنبي, وهذه القيمة مستفادة من الرهن فهي ........ يكون أمينًا في حفظه ولا يجوز له بيع قيمته بجنس حقه. وكذلك لو كان للمتلف مثل فأخذ مثله لم يكن له بيعه؛ لأن الوكالة بالبيع تعلقت بعين الرهن, فإذا بطلت وكالته, فلا يجوز له بيع بدله إلا بإذن محدد من الراهن. ذكره ابن سريج.

فرع آخر لو غصبه غاصب من يد العدل وجب رده إليه, وإذا رده إليه زال عنه الضمان لأن الراهن رضي بتسليمه إليه. فرع آخر لو جعلاه على يد عدل ووكلاه ببيعه عند محل الحق فحل الحق قال ابن سريج: فإن كان الرهن مقبوضًا جاز ذلك, وإن كان غير مقبوض نظر, فإن قال: بعه رهنًا لم يجز لأنه لا يصير رهنًا قبل القبض, وإن قال: بعه مطلقًا جاز له البيع ويصير كما لو وكله ببيع سائر أملاكه الذي لم ير ههنا. فرع آخر قال: ولو جعلاه على يد صبي لم يكن رهنًا؛ لأنه لا يصح قبضه لنفسه فكيف يصح لغيره, وإن وكلاه بالبيع لم يجز أيضًا لأنه ليس من أهل [ق 237 ب] البيع, وإن جعلاه على يد عبد وأذنا له في البيع لم يجز للعبد لأنه مستحق المنافع لسيده فلا يستعملها في حق غيره, وعلى هذا لا يصح قبضه. ولا فرق بين أن يكون مأذونًا في التجارة أو غير مأذون ولا فرق بين أن يكون بجعل أو غير جعل. فرع آخر لو جعلاه في يد كاتب فإن كان بغير جعل فهو كالعبد, وإن كان يجعل يجوز, لأنه يملك إتلاف منافعه بعوض, وإن كان لا يملك التبرع بمنافعه. فرع آخر لو جعلاه على يد ذمي جاز؛ لأنه يكون وكيلاً للمسلم في البيع والحفظ. وكذلك إذا جعلاه على يد العاهد, فإن أراد أن يخرج إلى دار الحرب كان لمن شتء من المتراهنين انتزاعه من يده. فرع آخر لو كان الراهن والعدل ذميين وكان الرهن خمرًا والمرتهن مسلم فباع الذمي الخمر وأخذ ثمنها فالرهن لا يصح, وهل يجبر المرتهن على قبول الثمن أم لا؟ قال ابن سريج: فيه وجهان: أحدهما: لا يلزم قبوله لأنه حرام بالشرع وهو الأصح واختاره القاضي الطبري. والثاني: يلزمه قبوله؛ لأن هذا الثمن صار مالاً من أموال الذمي بالقبض, ألا ترى أنَّا نقرهم عليه, ولهذا قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه- في أهل الذمة في الخمر: ولهم بيعها وخذوا منهم عشور أثمانها, فعلى هذا قلنا له [ق 238 أ] إما أن تقبض أو تبرئ.

فرع آخر لو سافر المرتهن بالعبد المرهون ضمنه, وإذا عاد إلى البلد لم يزل ضمانه, وللراهن أن يسأل الحاكم لينقل العبد من يده لما ظهر من يكربه وليس للراهن نقله بنفسه. فرع آخر لو أخذ المرتهن من يد العدل فقد تعدى فيه وضمنه, فلو أراد رده إلى العدل برئ من ضمانه. وكذلك لو أخذه الراهن من يده ضمنه, فإن أراد رده إلى يده. زال الضمان لأنه رد إلى الوكيل. فرع آخر لو كان الرهن عبدًا فقتله المرتهن يلزمه قيمته وتكون رهنًا مكانه ثم ينظر, فإن كان القتل عمدًا لم يرد القيمة إليه لأنه فسق بالقتل, وإن اتفقا على كون القيمة عند عدل جاز, وإن اختلفا فالحاكم ينصب من يكون في يده, وإن كان القتل خطأ ردت قيمته إلى يد المرتهن على ما ذكرنا في أرش الجناية كما لو كان القاتل أجنبيًا, وإنما يصح هذا بأن يقبض الراهن القيمة ثم يردها إلى يد المرتهن لتتميز عن أعيان ماله. ولو كان الحق حالاً فقد وجب على المرتهن القيمة حاله وله على المرتهن دين, وإن اتفقا في الجنس يتقاصان ويترادان الفضل, وإن كانا من جنسين لم تصح المقاصة ولكن الراهن يقبض القيمة ويصرفها إلى جنس حقه ويقبضه إياها. فرع آخر لو اختلفا فقال المرتهن: رهنتني العبد [ق 238 ب] الذي هو في يدي بالحق الذي لي عليك, وقال الراهن: ما رهنته وإنما الذي رهنته قد أتلفته وعليك قيمته, فالقول قول الراهن في الموجود أنه لم يرهنه؛ لأن الأصل أنه لا رهن والقول قول المرتهن فيما يدعي عليه من الإتلاف؛ لأن الأصل أن لا قتل ولا غرم. فرع آخر قال في "الأم": لو وكل وكيلاً ليرهن عند آخر شيئًا على عشرة دراهم يأخذها منه فرهنه ثم اختلفا فقال الوكيل: أخذت عشرة ورهنته بها, وقال المرتهن: بل رهنته على عشرين وبهذا كان قد وكلتك, فالقول قول الوكيل مع يمينه. وقال أبو حامد ههنا: لا نزاع بين الموكل والراهن والمرتهن ههنا وفيه نظر لأن المرتهن إذا ادعى إذن الراهن يقبض العشرين له أن يحلفه, لأنه لو أقر به لزمه, وإن تصادق الوكيل والمرتهن وأنكر الموكل فالقول قول الموكل مع يمينه لأنه ينكر الإذن, فإذا حلف كان الشيء رهنًا بعشرة وضمن

الوكيل للمرتهن عشرة لأنه أقرّ له بالقبض والراهن ينكره فكان عليه ضمانه. ومن أصحابنا من قال: "إذا صدق المرتهن الوكيل أن له الموكل بذلك ليس له أن يطلبه بضمان هذه العشرة, وهذا صحيح. فرع آخر لو رهن الوكيل بها عبدًا للموكل, ثم اختلفا فقال الوكيل: إنما أديت لك في رهن الثوب [ق 239 أ] دون الثوب, وقال الوكيل: أمرتني برهن العبد دون الثوب فالقول قول الموكل مع يمينهح لأنه يدعي عليه الإذن, فإذا حلف لم يكن واحد منهما رهنًا لأنه لم يلزم رهن العبد, والأصل أن لا رهن والمرتهن يفي الرهن في الثوب فسقط حقه منه وبقي الدين بلا رهن. فرع آخر لو أقام كل واحد منهما بينة على ما ذكر, قال الشافعي في باب الرسالة في الرهن من "الأم": "كانت بينة الرسول أولى ولا تعارض فيهما. وإن قال: نهيتك عن رهن العبد وأقام على ذلك بينة, قال الشافعي: لا يتعارضان أيضاف وبينة الرسول أولى لأنه يجوز أن نهاه عن رهن العبد, ثم أذن له فيه, ويجوز أن يكون نهاه بعد ما رهنه فلا ينفعه رجوعه. فرع آخر لو رهن أمه فجني عليها أجنبي فألقت جنينًا ميتًا وجب فيه عشر قيمة أمه يأخذه السيد ولا يكون رهنًا؛ لأن ولد الرهن لا يدخل في الرهن, وإن نقصت الأم نظر, فإن كان نقصانًا لا أثر له فلا شيء عليه, وإن كان نقصانًا له أثر مثل الجرح أخذ منه أرشه ويكون رهنًا معها أو قصاصًا من الحق. فرع آخر لو كانت بهيمة فألقت جنينًا نظر , فإن كان ميتًا يلزمه أرش ما نقص من الأم ولا يجب فيه شيء مقدر ويكون هذا الأرش رهنًا معها وإن خرج [ق 239 ب] الجنين حيًا, ثم مات قال في "الأم" فيه قولان: أحدهما: تجب قيمته لأنه خرج حيًا يمكن تقويمه. والثاني: يجب عليه أكثر الأمرين من قيمته أو نقصان الأم لأن النقص مضمون والولد مضمون ولا يجوز الجمع بينهما فوجب أكثر الأمرين. قال بعض أصحابنا: فإن كان الأكثر نقصان الأم كان المأخوذ رهنًا, وإن كان

الأكثر قيمة الولد كان المأخوذ للراهن لأنه قيمة الولد. فرع آخر لو برئ الراهن من الدين بقضاء أو حوالة أو إبراء زالت الوثيقة وبقي الرهن أمانة في يد العدل إن كان في يديه كالوديعة وليس عليه رده قبل المطالبة؛ لأنه متمسك بالإذن فهو كالوديعة المجردة سواء. وقال أصحابنا: يجب أن يقال إذا أبرأه المرتهن ولم يعلم الراهن به أن يعلمه ذلك أو يرده عليه؛ لأنه لم يرض بتركه في يده بعد زوال الوثيقة بخلاف ما لو علم فسكت لأنه رضي بتركه في يده. فرع آخر لو ادعى المرتهن رد الرهن على الراهن وأنكر الراهن ذلك. قال ابن سريج: القول قول الراهن بخلاف المودع, والفرق أن المرتهن يمسكه لمننفعة نفسه فلم يقبل قوله في رده على صاحبه كامستأجر يدعي رد ما استأجر لا يقبل قوله, والمودع قبضه لمنفعة صاحبه لا لمنفعة نفسه فقيل قوله في [ق 240 أ] الرد على صاحبه. وقال بعض أصحابنا: وكذلك الوكيل بغير جعل يقبل قوله كالمودع. فرع آخر إذا حل الحق طولب الراهن بالدين فإن امتنع, قال أبو إسحاق: حبسه الحاكم وأجبره على البيع, فإن أقام على الارتفاع باعه عليه وهكذا إذا كان عليه دين من غير رهن فامتنع من أدائه ........ وخالفنا أبو حنيفة في كلتا المسألتين فقال: لا يباع عليه وربما يسلمون المسألة الأولى لأنه لما رهن فقد رضي ببيعه عليه عند الامتناع. فرع آخر لو رهنه شيئًا فتلف في يد المرتهن, ثم جاء مستحق فاستحقه. قال ابن سريج فيه جهان: أحدهما: للمستحق أن يطالب الراهن دون المرتهن؛ لأن الراهن هو الغاصب ولم يكن من المرتهن غصب ولا إتلاف, فإذا رجع عليه به لم يرجع الراهن على المرتهن بشيء؛ لأن يد المرتهن يد الراهن. والثاني: له أن يرجع على من شاء منهما, وبه قال جميع أصحابنا, والوجه الأول غريب, وقال القاضي الطبري: أشار إليه الشلفعي في موضع من الأم حتى رأيت بعض أصحابنا يقول: فيه قولان, فإذا قلنا بالمذهب فإن رجع على الراهن لم يرجع على المرتهن وإن رجع على المرتهن رجع المرتهن على الغاصب لأنه غيره, ومن أصحابنا من

قال لا يرجع المرتهن على الراهن؛ لأن [ق ب] التلف في يده وأمسكه لمنفعة نفسه وهو ضعيف, ولو كان أتلفه المرتهن بجناية فللمستحق أن يطالب من يشاء منهما, فإن رجع على المرتهن لم يرجع على الراهن, وإن رجع على الراهن رجع على المرتهن ما غرم فيحصل الضمان مستقرًا على المرتهن في هذه المسألة ويستقر الضمان على الراهن في المسألة قبلها. فرع آخر لو كان عبدًا فأبق في يد المرتهن وخرج مستحقًا كان حكمه حكم ما لو تف في يده, وإن كان الرهن ماشية فتوالدت, ثم تلفت في يده مع النتاج ثم خرجت مستحقة كان في الأولاد والأمهات وجهان: أحدهما: يرجع المستحق على الغاصب دون المرتهن. والثاني: يرجع على من شاء. قال ابن سريج: وما فاته من الرهن فهو في المودع مثله. فرع آخر لو باع من رجل عبدًا بألف درهم فجاء أجنبي فدفع إلى البائع, ثم خرج العبد مستحقًا كان على البائع رد الألف على الباذل دون المبتاع, لأنَّا بينَّا أن المبتاع لم يكن عليه شيء, وأن البذل لم يصح عنه, وإن وجد المبتاع به عيبًا فرده على البائع. قال ابن سريج فيه وجهان: أحدهما: يرده على الباذل لأنه إسقاط حق وليس بتمليك للمشتري. والثاني: يرجع إلى المشتري. وهكذا الحكم في الأجنبي إذا بدل صداق [ق أ] امرأته, ثم طلقها قبل الدخول بها هل يرجع نصفه إلى الباذل أو إلى زوجها قال أصحابنا: فيه وجهان قياسًا على ما ذكر ابن سريج لأنه لا فرق بينهما. فرع آخر لو أقر أجنبي أنه قبل المرهون فكذبه المرتهن دون الراهن تؤخذ القيمة منه للراهن ولا تكون رهنًا؛ لأنه لا يدعيها المرتهن, ولو مات المرتهن واعترف وارثه بما قال الراهن لم يكن له حق في القيمة أيضًا؛ لأنه لا يثبت له ما لم يثبت لموروثه. قال والدي رحمه الله: ويحتمل أن يقال: يدفع إليه القيمة لتكون رهنًا عنده لأن صاحب الحق في هذه الحالة الوارث قياسًا على ما قال الشافعي إذا أقام المدعي للوقف شاهدًا واحدًا, ولم يحلف معه ثم مات وأراد وارثه أن يحلف له ذلك في أحد القولين. وهكذا لو أقر بحق إلى هذا الوارث؟ يخرج على هذين الوجهين. ولو صدقه

المرتهن وكذبه الراهن أخذت منه قيمته ويكون رهنًا عنده, فإذا حل الحق وقضى حقه من غيرها ردت القيمة إلى المقر؛ لأنه أقرَّ لمن لا يدعيه. وفيه وجه آخر يوضع في بيت المال, وإن لم يقبض الراهن دينه من غيرها قضى منها. فرع آخر لو رهنه مالاً [ق 241 ب] فقبضه المرتهن من غير إذن الراهن فاسترجعه الراهن ثم أذن له فقبضه بغير قبض ثاني. وكذلك لو قبض المشتري المبيع قبل أداء الثمن فاسترجعه البائع ثم اعتبر القبض مستأنفاً ولا يصح القبض السابق. فرع آخر إذا باعه الراهن بإذن المرتهن وقبل انقطاع الخيار رجع عن الإذن, هل يبطل البيع؟ وجهان, والأشبه أنه لا يبطل. ذكره والدي رحمه الله. قال: ولو أذن بهبته فوهبه ولم يقبضه صح رجوع المرتهن في أصح الوجهين. قال: والأصح ههنا أنه يصح الرجوع؛ لأن الرهن لم يبطل بعد هذه الهبة, ألا ترى أن الراهن لو فسخ الهبة عاد الملك رهنًا, وفي البيع إذا فسخ الراهن البيع بحق خياره يحتمل وجهين, ويتبنى ذلك على مسألة العصير ينقلب خمرًا ثم يصير خلاً وفيه قولان: وعندي فيما ذكره نظر, والأصح أنه لا يصح الرجوع لما ذكرنا أن الهبة تنافي مقتضى عقد الرهن, وأن يتصل بها القبض, ولا يعود الرهن بفسخ البيع, ويفارق مسألة العصير للمعنى الذي ذكرنا فيها فيما تقدم. فرع آخر لو قال الراهن للمرتهن: بعت هذا المرهون منك فقال المرتهن: قبلته لا يصح إلا أن يكون المرتهن سأله البيع منه أولاً, ثم إذا أجابه هل يحتاج إلى قوله قبلت؟ قد ذكرنا في "البيع". ولو وكل الراهن [ق 242 أ] المرتهن بيعه, قال أبو الفياض: إن كان بحضرته جاز, وإن كان بغيبته فيه وجهان. فرع آخر لو أذن الراهن بيع المرهون مطلقًا فباعه بثمن مؤجل فإن الحق حالاً لم يجز لمعنى الإصرار, وإن كان مؤجلاً جاز, وليس كالوكيل بالبيع؛ لأن الراهن يبيع لنفسه بخلاف الوكيل, ويحتمل أن يقال: لا يصح البيع؛ لأن المرتهن رفع البيع بقول يقتضي الحلول, وله أن يخص رفع المنع لجهة دون جهة, ألا ترى أنه لو أذن له ببيعه حالاً لا يجوز أن يبيعه مؤجلاً.

فرع آخر لو رهن خاتمًا فلبسه المرتهن صار ضامنًا وعليه أجرة مثله إن لبسه مدةً يكون لمثلها أجرة, ويجوز إجاره عند أصحابنا. مسألة: قال: "وِلَو جَنَي المَرهُونَ عَلَى سَيِّدِهِ فَلَهُ القَصَاصُ". الفصل: إذا جني العبد المرهون لا يخلو إما إن جنا على أجنبي, أو على سيده, أو على من يرثه السيد, فإن جني على أجنبي فقد ذكرنا حكمه أنه يقدم حق المجني عليه على حق المرتهن؛ لأن حق الأرش برقبة العبد أخص وأكد من تعلق دين المرتهن به, بدليل أن الأرش يسقط دين الراهن بموت العبد ولا يسقط دين المرتهن به. فإذا تقرر هذا, فإن كان الأرش أقل من قيمة العبد فهو الواجب, فإن اختار السيد [ق 242 ب] الفداء بقي العبد رهنًا كما كان, وإن لم يختر الفداء يباع منه بقدر الأرش على ما ذكرنا, وإن كان أكثر من قيمة العبد فيه قولان, والأصح أنه يلزم أقل الأمرين من القيمة أو الأرش على ما ذكرنا. وإن كانت الجناية على سيده لا يخلو إما أن تكون نفسًا أو من دون النفس, مثل إن قطع يده أو رجله أو نحو ذلك فله القصاص. ويفارق هذا إذا سرق مال سيده لا يقطع؛ لأن الغالب أن مال السيد لا يكون محرزًا عن العبد, وهل للسيد أن يقتص منه لنفسه, أو يقتص له السلطان؟ وجهان: أحدهما: يجوز له كما يجوز إذا زنا. والثاني: لا يجوز له لأنه الخصم في القصاص. فإن اختار القصاص فلا كلام, وإن عفا على مالٍ قال الشافعي: "لا يثبت المال" لأن المال الذي يثبت للمجني عليه على عبده في رقبةٍ والرقبة مملوكة له ومال من أنواله فلم يجز أن يعفو على مال ويثبت له المال ويتبعه في الجناية فيبطل الرهن ويسقط حق المرتهن, وإن كانت الجناية خطأ فإنها هدر والعبد رهن لحاله على ما نص عليه الشافعي. وعلى مذهب ابن سريج يجب أن يكون له بيع العبد وإسقاط حق المرتهن منه. وإن كانت نفسًا فللوارث أن يقتص منه, فإن عفا على مالٍ نص الشافعي في [ق 243 أ] "الأم" على قولين: أحدهما: ليس له ذلك لأنه قائم مقام مورثه وهو الصحيح. والثاني: له ذلك؛ لأن الجناية حصلت في غير ملكه.

فعلى هذا يباع العبد بمقدار الدية, فيأخذ الوارث فإن بقي من العبد شيء كان رهنًا. وهكذا لو كان القتل الخطأ أو شبه العمد هل يثبت المال في رقبة العبد؟ قولان. ويشبه أن يكون أصل المسألة إذا كان القتل الخطأ وجبت الدية, فمن يستحقها على العاقلة؟ قولان: أحدهما: يستحقها المقتول بآخر جزء من أجزاء حياته ثم يخلفها للورثة. والثاني: يملكها الوارث ابتداء على العاقلة, فإذا قلنا يملكها المقتول لم تثبت ههنا. وفرع "الأم" على هذا فقال: إذا قتل السيد وله ابنان وكان القتل عمدًا فلهما القصاص والعفو, فإن اقتصا فلا كلام, وإن عفوا على مال فعلى ما مضى من القولين. فإذا قلنا: ليس لوارثه العفو على مال سقط المال. وإذا قلنا: له العفو على مال ثبت حق الذي لم يعف؛ لأن حقه من القود سقط بغير اختياره. وأما حق العافي: فإن عفا على مال ثبت, وإن عفا مطلقًا هل يثبت المال؟ قولان: بناء على موجب العمد, فإن قانا: موجبه القود فقد سقط المال, وإن قلنا: أحد شيئين ثبت المال, وإن عفا على غير مال لا يلزمه شيء, وإن جني [ق 243 ب] على ابن سيده أو أبيه أو من يبرئه من قرابته أو مواليه ولا وارث له غيره فللسيد أن يقتص منه وله أن يعفو على ما نص عليه في "الأم" فمن أصحابنا من قال: لا يختلف المذهب فيه, ومن أصحابنا من قال: فيه قولان: كالوارث الذي ذكرنا والأول أصح, والفرق بين المسألتين أن السيد لم يكن له أن يعفو على مال فلم يكن لوارثه أيضًا, وليس كذلك موروث السيد, فإن كان له أن يعفو على مال فكان وارثه قائمًا مقامه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: الصحيح أنه لا يثبت له ذلك لأن ابتداء الوجوب يكون الراهن الوارث؛ لأن الدية تثبت للوارث ابتداء في القول الصحيح وقال: وعلى هذا إذا كانت الجناية على طرف الابن ومات بسبب آخر حتى لم تصر جناية هذا العبد نفسًا بل وجبت دية الطرف, كذلك الابن ثم صار الإرث إلى الأب, ففي ثبوت مثل هذا للسيد على عبده وجهان, والأصح أنه كما انتقل إليه سقط, وكذلك ثبت له الدين على عبد الغير, ثم ملك العبد وأعتقه هل يبيعه بذلك الدين؟ وجهان؛ والأقيس أنه كما ملك سقط الدين وفي هذا كله نظر والأصح ما تقدم. ولو جني على مكاتب سيده, فإن كان دون النفس فللمكاتب أن يقتص منه وله أن يعفو على مال؛ [ق 244 أ] لأن الجناية حصلت في ملك غيره وصار له ما كان لغيره, نص عليه. قال: وهكذا الحكم فيه إذا قبل المكاتب حكاه القاضي الطبري, وإن جني على سيده فإن لم يكن مرهونًا, فإن كان عمدًا له القصاص, وإن عفا على مال لا يصح على المنصوص, وفيه قول مخرج لابن سريج.

وهكذا إن كانت الجناية خطأ أو عمد خطأ, ولا فرق بين أن يكون المقتول عبدًا قنًا, أو مدبرًا, أو معتقًا بصفةٍ, أو أم ولدٍ. قال في "الأم": فإن كان المقتول ممن لا يقاد به القاتل مثل قتل الوالد أو الأم فلا قصاص ولا يثبت له المال لأنه كالخطأ في ثبوت المال. وإن كان المجني عليه مرهونًا كالجاني لا يخلو من أحد أمرين؛ إما أن يكونا مرهونين عند رجلين, فإن كانت الجناية عمدًا كان للسيد أن يقتص منه وكان له أن يعفو على مال لأجل حتى حق المرتهن لا لحق السيد, فإن أقبض بطل الرهنان وبقي الحقان بلا رهن وإن عفا مطلقًا. فإن قلنا: العمد يوجب القود فقط, ويثبت المال بالاختيار لم يثبت المال. وإن قلنا: يوجب أحدهما لا بعينه ثبت المال, وإن عفا على غير مالٍ. قال الشافعي: "لم يكن للمرتهن منعه من ذلك". قال أصحابنا: هذا القول الذي نقول به الواجب في العمد القصاص, وإنما المال يثبت باختيار الولي. [ق 244] فأما إذا قلنا: الواجب أحدهما لا بعينه ثبت له المال ههنا, ولا يجوز له إسقاطه لتعلق حق المرتهن به, فإذا تكرر هذا فكل موضع قلنا ثبت المال تعلق برقبة القاتل حقان: أرش ودين, فيقدم الأرش على الدين, فإن كانت قيمة القاتل أكثر مثل إن كانت قيمته مائتين وقيمة المقتول مائة بعنا منه بقدر قيمة المقتول يكون رهنًا, فكان المقتول والباقي بحاله, فإن لم يكن بيعه بعضه بيع كله وأخذ من ثمنه قيمة المقتول يكون رهنًا فكان المقتول وما لقي مكان المقتول, وإن كانت قيمة القاتل أقل فيه وجهان: أحدهما: ينقل القاتل برمته إلى مكان المقتول. والثاني: يباع القاتل فإن فيه فائدة, وهي أن يرغب فيه راغب فيزيد في ثمنه فيكون قدر الزيادة رهنًا مكان القاتل. وإن كانا مرهونين عند رجل واحد, فإن كان لحق واحد فلا يجوز عفوه على مالٍ؛ لأن المرتهن لا غرض له في ذلك, وإن كانا بحقين في صفقتين فإن كانت خطأ أو عمد خطأ تعلقت قيمة المقتول برقبة القاتل, وإن كانت عمدًا فالسيد بالخيار بين القصاص والعفو. فإن قيل: بطل الرهنان وبقي الحقان بلا رهن, وإن عفا على مال بيت المال, وإن عفا مطلقًا أو على غير مال فعلى قولين. فكل موضع لا يثبت المال لا يخلو [ق 245 أ] الحقان وقيمة العبد من ثلاثة أحوال؛ إما أن يتفق الحقان والقيمتان أو تتفق القيمتان ويختلف الحقان, أو يتفق الحقان وتختلف القيمتان, فإن اتفق الحقان والقيمتان مثل إن كان كل واحد من الحقين مائة وقيمة كل واحد من العبدين مائة أقر القاتل مكانه؛ لأنه لا فائدة في بيعه ولا في نقله, هكذا قال أصحابنا.

وقيل ينبغي أن يعترض على البيع فربما يرغب راغب فزاد في ثمنه فيكون قدر قيمته المقتول رهنًا مكان المقتول, وما يبقى رهنًا مكان القاتل. وإن اتفقت القيمتان واختلف الحقان, مثل إن كانت قيمة كل واحد منهما مائة وأحدهما رهن بمائة والآخر رهن بمائتين نظر فإن كان المقتول رهنًا بالمائتين خير من أن يكون رهنًا بالمائة, وهل يباع وينقل ثمنه أو ينقل بعينه؟ على الوجهين. وإن كان المقتول رهنًا بالمائة أقر القاتل مكانه ولا ينقل إلى مكان المقتول؛ لأن إقراره رهنًا بالمائتين خير من نقله رهنًا بمائه, وإن اتفق الحقان واختلفت القيمتان, مثل إن كان كل واحد من الحقين مائه وقيمة أحدهما مائه وقيمة الآخر مائتين نظر, فإن كان قيمة المقتول مائتين أقر القاتل مكانه؛ [ق 245 ب] لأنه لا معنى في نقله إليه وإن كانت قيمة المقتول مائه وقيمة القاتل مائتين بعنا من القاتل بقدر قيمة المقتول بكون رهنًا مكان المقتول, وما بقي من القاتل يكون رهنًا مكانه, هذا كله إذا كان الحقان حالين أو مؤجلين. فإن كان أحد الحقين حالاً والآخر مؤجلاً بعنا القاتل بكل حال, وجعلت قيمته مكان المقتول رهنًا, ليكون المؤجل برهن ويستوفي المعجل الذي عليه الدين, وإن كان القاتل بالمؤجل والمقتول بالمعجل بيع القاتل ليتعجل به استيفاء الدين من ثمنه. مسألة: قال: "وإقرَارُ العَبدِ المَرهوُنِ بِمَا فِيهِ قَصَاصٌ جَائِزٌ كَالبَيِّنةِ". قد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم, ولا فرق ههنا بين أن يكذبه الراهن أو المرتهن أو يصدقاه وقد ذكرنا أنه إن أقر بما يوجب المال فإقراره باطل, وقول الشافعي ههنا: "باطل" يعني في حق سيده. مسألة: قال: "وَإذَا جَنَي العَبدُ فِي الرَّهنِ قِيلَ لِسَيِّدِهِ: إن فَدَيتَهُ بِجَميعِ الجِنايَةِ فَأنتَ مُطوِّعٌ وَهوَ رَهنٌ". الفصل: إلى آخر كلام المزني رحمة الله عليه, قوله: "بجميع الجناية" يدل على أن السيد إذا اختار الفداء بالأرش يلزمه بالغًا ما بلغ, وإن زاد على قيمة الرقبة, وهذا قول قديم لم ينص عليه في شيء من كتبه الجديدة, ويحتمل أن يكون مراده بهذا اللفظ المطلق دون [ق 246 أ] الأحوال دون بعض, وهو إذا كان جميع الجناية مثل قيمة الرقبة, وإذا امتنع السيد من الفداء للمرتهن أن يفديه على القولين, ثم إذا فداه بإذنه وشرط أن يكون الرهن رهنًا بذلك أيضًا. قال الشافعي ههنا: "يجوز" وقد ذكرنا. قال المزني: يدل على أن الزيادة في الدين في الرهن الواحد يجوز.

وقال أبو إسحاق: يحتمل هذا وجوبًا ههنا أنه أراد الشافعي أنهما يفسخان الرهن الأول ويرهنانه بالك. والثاني: ذكره على أحد القولين. والثالث: جوز علي القولين؛ لأنه يتعلق به مصلحة الرهن علي ما تقدم بيانه، وقد بينا الفرق. مسألة: قال: "فإن كان السَّيدُ أمر العبد بالجناية". الفصل: إذا أمر عبده المرهون بالجناية علة إنسان بقطع طرفه أو قتله، فإن كان العبد بالغًا عاقلًا مميزًا فالسيد آثم والعبد هو الجاني وعليه القصاص، لأن اختياره أقوى من أمر سيده إياه، فإن عفا المجني عليه أو وليه علي مال بيع العبد في الجناية على ما بيناه، وإن كان صبيًا مميزًا فكذلك السيد آثمًا، والجاني هو العبد، إلا أنه لا قصاص عليه لأنه لم يبلغ ويباع في الجناية، وإن كان صبيًا غير مميز أو كان بالغًا أعجميًا لا يميز فالسيد هو الجاني ويكون العبد كالآلة. قال الشافعي ههنا: فبيع في [246 ب] الجناية كلف السيد أن يأتي بمثل قيمته تكون رهنًا مكانه" واعترض علي الشافعي في ذلك فقيل: إذا كان السيد هو الجاني وجب أن يتعلق الأرش بذمته ولا يتعلق برقبة العبد ولا يباع فيه، ولا يخرج من الرهن فقوله: "بيع في الجناية وكلف أن يأتي بمثل قيمته" غلط لا شك فيه. والجواب: قلنا: من أصحابنا من أخذ بظاهر كلام الشافعي وقال: يباع العبد في الجناية؛ لأنه وإن كان كالآلة للسيد فقد حصل منه مباشرة القتل، وقال: في المسألة وجهان، وهذا ظاهر مذهب الشافعي، وهذا غلط بل مذهب الشافعي ما ذكرنا، وهذا العبد كالآلة، ولو رهن سكينًا ثم قتل بها لم يكن الأرش بالسكين تعلق كذلك ههنا. وتأول ما قال الشافعي ههنا أنه لم يقل يباع في أرش الجناية، بل قال: "فبيع"،وأراد إن باعه بعض الحكام باجتهاده لم ينقض، وكلف السيد أن يأتي بقيمته فتكون رهنًا مكانه، لأنه كان هو السبب في بيعه وإخراجه من الرهن. ومن أصحابنا من قال: تأويل المٍسألة أن البينة قامت علي العبد بالجناية فقال السيد: أنا أمرته بالجنياة بيع العبد للبينة كان إقرار السيد لا يقبل على المجني عليه في إسقاط حقه من رقبة العبد، ويلزم قيمته للمرتهن؛ لأن إقراره على نفسه مقبول. ومن أصحابنا من قال: إنما لا يباع [ق 247 أ] العبد إذا كان السيد موسرًا فيؤخذ أرش الجناية من سائر ماله، فأما إذا كان معسرًا يباع العبد لأنه وإن كان كالآلة للسيد فإنه مباشر للفعل، وإذا لم يصل إلى الأرش من جهة السيد بعناه، فإذا أيسر السيد أخذنا منه

قيمته للمرتهن، وعلى هذا لو أمر صبيًا لا يميز بقتل رجل فقتله فعفا ولي الجناية عن القصاص إلي الذمة والآمر معسر والصبي القاتل موسر تؤخذ الدية من مال الصبي ويرجع الصبي علي الآمر إذا أيسر في أحد الوجهين، والصحيح أنه لا يؤخذ من ماله بحالٍ؛ لأن الجناية المنسوبة إلى الآمر وهو كالآلة. مسألة: قال: "ولو أذن له برهنه فجنى فبيع في الجناية فأشبع الأمرين أنه غير ضامن". الفصل: إذا طلب من رجل عبدًا ليرهنه على دراهم يستقرضها لنفسه أو شيء يشتريه يثمن في ذمته إلي أجل فأعطاه إلى رجل، فأعطاه إياه فرهنه، نص الشافعي في " كتاب الرهن الصغير" فيه علي قولين: أحدهما: أن السيد بمنزلة المعير والراهن بمنزلة المستعير وتكون أحكام العبد أحكام العارية؛ لأن في الضمان يتعلق الحق بذمة الضامن، وههنا لا يتعلق بالذمة شيء فدل أنه عارية. والثاني: أن السيد بمنزلة الضامن للحق في رقبة عبده والراهن بمنزلة المضمون عنه. ونص [ق 247 ب] على هذا في "الرهن الكبير". وهذا أصح لأنه عقد وثيقة فالإذن فيه كالإذن في الضمان عنه مالًا، ولأن أعيان ماله كالذمة، بدليل أنه يشتري بعين ماله ويشتري في الذمة، فإذا صح أنه يضمن في الذمة صح الضمان في ماله، ولأن منافع هذا العبد لسيده، فلو كانت عارية لكانت منافعه للمستعير دون السيد. فإذا تقرر هذا وقبض العبد علي ذلك ورهنه هل يصح؟ إن قلنا: كالضمان صح. وإن قلنا: كالعارية فالمذهب أنه يصح أيضًا. وقال ابن سريج: لا يصح الرهن؛ لأن العارية عقد جائز ومتى صح هذا الرهن لزم وخرج عن مقتضى العارية فلا يجوز، وهذا لبس بشيء؛ لأن العارية لا تلتزم وله مطالبة الراهن بفكه متى شاء، ولأن العارية قد تلزم، وذلك إذا أعاره حائطًا ليبني عليه جذوعًا، فإذا صح هذا فإذن أذن له في رهنه ثم رجع نظر، فإن رجع قبل إقباض الرهن صح، وليس للمستعير أن يرهنه. وإن رجع بعد الإقباض لم يقدح هذا الرجوع في عقد الرهن؛ لأنه وقع بإذنه. فإذا ثبت هذا، فإن قلنا إنه عارية يجوز أن يستأذن السيد في رهنه، وإن لم يبين مقدار الحق وجنسه وهل هو حال أو مؤجل، لأنه يجوز أن يعير عبدًا، ولا يبين جهة الانتقاء، ويعير دابة مطلقًا ويحمل عليها إلى أن [ق 284 أ] يسترد صاحبها، وقد قيل: إذا قال: ارهنه بما شئت فرهنه بقدر قيمته جاز، وإن رهنه بأكثر من قيمته فيه وجهان،

والأصح أنه يجوز. فإذا قلنا: إنه لا يجوز فهل يبطل في الكل أو قدر الزيادة؟ وجهان. وإذا قلنا: إنه ضمان لا يجوز إلا أن يبين مقدار الحق الذي يرهنه به وجنسه، وهل هو حال أو مؤجل؟ فإذا قلنا: إن ذلك شرط أو قلنا: ليس بشرط ولكنه ذكره وعينه لا يجوز مخالفته، فإن خالفه نظر فإن خالفه في الجنس لم يصح الرهن قولًا واحدًا، وإن خالفه في الصفة فأذن له في المؤجل فرهنه في حال أو إلى مدة دونه فالرهن باطل، وإن خالفه في المقدار فأذن له في رهنه بمائة فرهنه بمائة وعشرة اختلف أصحابنا فيه؛ فمنهم من قال: يبطل في الزيادة، وهل في المقدار المأذون؟ فيه قولا بناء على تفريق الصفحة. ومنهم من قال: يبطل في الكل قولًا واحدًا، وعليه نص الشافعي؛ لأنه بمنزلة الوكيل إذا خالف في المقدار يبطل بيعه قولًا واحدًا، ألا ترى أنه لو أذن لرجل في بيع عشرة أقفزة من الطعام بدينار فباع أثني عشر قفيزًا لم يصح بيعه في الكل كذلك ههنا. وإن رهنه بأقل من ذلك جاز؛ لأنه أراد خيرًا لأنه إذا لم يخالف ورهنه بما أذن فيه [ق 284 ب] من الجنس والمقدار والصفة، فهل للسيد أن يطالبه فكاكه قبل محل الحق؟ نص في "الرهن الصغير" علي قولين، وبني القولين على أنه عارية أو ضمان. فإذا قلنا: إنه عارية كان له مطالبته بفكاكه؛ لأن له أن يرجع في العارية في أي وقت شاء. وإن قلنا: ضمان ليس له أن يطالب المضمون عنه بفكاكه قبل محل الحق، كالضمان ليس له أن يطال المضمون عنه بخلاصه قبل محل الحق، ولا شك أنه يطالبه بفكاكه لأنه وإن كان ضمانًا توجه عليه المطالبة فيلزمه التخلص منه. فإذا قلنا: له أن يطالبه بفكاكه وقلنا: ليس له فكاكه قبل محل الحق فطالبه به، فإن قضى دينه وفكه رده علي سيده، وإن عجز عن قضاء دينه كان للمرتهن أن يطالب سيده ببيعه، فإن لم يفعل سأل الحاكم ببيعه، فإذا باعه قضى الدين من ثمنه كان للسيد أن يرجع علي الراهن بالضمان علي القولين؛ لأنا إن قلنا عارية فقد ملكت في يده. وإن قلنا: ضمان فقد ضمن عنه في رقبة عبده وغرم فله الرجوع عليه بما غرم. وأما قدر ما يرجع عليه مبني على ما بيع فيه، وفيه ثلاث مسائل: إحداها: بيع بثمن مثله، وكان ثمن مثله مائة رجع السيد بالمائة على القولين جميعًا. والثانية: بيع بدون ذلك ولكن بما لا يتغابن الناس بمثله، مثل إن باعه بتسعين فبكم [ق 249 أ] يرجع عليه؟ على القولين؛ إن قلنا: عارية رجع بالمائة؛ لأن العارية تضمن بقيمتها أبدًا. وإن قلنا: ضمان رجع عليه بتسعين لأنه ما غرم عليه إلا تسعين. والثالثة: بيع بمائة وخمسين وقيمته مائة يبني على القولين؛ فإن قلنا: عارية ضمن مائة لا غير؛ لأنه قيمة العارية. وإن قلنا؛ ضمان رجع بمائة وخمسين؛ لأنه قد غرم عنه هذا القدر. هكذا ذكره جماعة أصحابنا. وقال القاضي الطبري: يرجع بما باع قولًا واحدًا وإن قلنا عارية؛ لأن ثمن العبد ملك صاحبه وبيع العبد واجب عليه، ولهذا لو سقط حق المرتهن رجع العبد عليه، فإذا قضى بثمنه دينه رجع به عليه، وإنما يضمن القيمة إذا كان الثمن دونها وهذا صحيح.

ولو هلك العبد بغير البيع في الدين من غير تفريط من الراهن، مثل إن مات حتف أنفه، أو جني بعد القبض جناية فبيع فيها، هل يضمن الراهن؟ قولان: فإذا قلنا: إنه عارية ضمن. وإن قلنا إنه ضمان لا يضمن، وبه أجاب ههنا؛ لأن القبض غير مضمون عليه وقد هلك بغير تفريط ولم يغرم الضامن عنه شيئاً. وقال أبو حنيفة: يرجع عليه بما سقط بذلك من حق المرتهن؛ لأن عنده الرهن مضمون بالدين. فرع لو طالبه بفكاكه عند حلول الحق فلم يفعل ففكه [ق 249 ب] السيد من ماله وقضى الدين، فإن قضاه بغير إذن الراهن فلا رجوع له، وإن قضاه بإذن الراهن كا له الرجوع به سواء شرط الرجوع عليه أو لم يشرط؛ لأنه قضى عنه بإذنه إذا قلنا إنه ضمان، وإن قلنا إنه عارية فقد تعلق الحق برقبة العبد، فإن قضى عنه بإذنه لم يحتج إلى شرط الرجوع. فرع آخر لو أعاره ليرهنه بحق إلي أجل، والحق إلي أجل إنما يكون في البيع فرهنه بالحق فقبض السيد عنه بإذنه قبل محله رجع به عليه في المال؛ لأنه يرجع علي الوجه الذي قضاه وقد قضاه عاجلًا فيرجع عاجلًا. فرع آخر لو اختلفا فقال السيد: قضيت عنك بإذنك. وقال الراهن: بغير إذن فالقول قول الراهن مع يمينه. قال في "الأم": وإن شهد المرتهن للسيد أنه قضاه بإذن المرتهن قبلت شهادته؛ لأنه لا يجر بها نفعًا ولا يدفع عن نفسه ضرًا؛ لأنه يسلم للمرتهن ما دفع إليه، سواء كان بإذنه أو بغير إذنه. وهكذا لو ادعى السيد أنه قضى بعض الحق بإذن الراهن وأقام على ذلك بينة، وكان للمرتهن شاهدًا في هذه قبلناه ورجع عليه بما قضى عنه. فرع آخر لو استعار من رجل عبدًا فرهنه بمائة عند اثنين صح وكان إفراد كل نصف عنه بعقد منفرد، فللراهن أن يقضي أيهما شاء [ق 250 أ] خمسين ويخرج نصف العبد من يده عن الراهن فرع آخر لو استعار رجلان عبدًا من رجلين ورهناه عند رجل بمائة، فههنا عقدان أيضًا كل

نصف له عقد مفرد، فأي الراهنين قضى ما عليه خرج نصف العبد من الرهن. فرع آخر لو استعار واحد عبدًا من رجلين ورهنه عند واحد بمائة، فإن قضى المائة خرج جميع العبد من الرهن، وإن قضى خمسين ليخرج نصيب أحد السيدين، نص الشافعي في "الرهن الصغير" علي قولين: أحدهما: ليس له ذلك، كما لو استعار رجل من رجل فأدى بعض الحق لا ينفك من الرهن شيء؛ لأن الراهن واحد وإن كان السيد اثنين. والثاني: له ذلك؛ لأن الاعتبار بالملك دون العاقد فكان بمنزلة الصفقتين. وقال في "الحاوي": هذا إذا كان المرتهن جاهلًا بالحال، فإن كان عالمًا بالحال فللراهن ذلك قولًا واحدًا، فعلى هذا إذا قضى خمسين خرج نصف العبد من الرهن ثم إن كان الرهن في دين لا خيار للمرتهن، وإن كان في بيع نظر، فإن دخل فيه مع العلم فلا خيار له، وإن كان جاهلًا قال ابن سريج: فيه قولانن يعني وجهان: أحدهما: لا خيار له؛ لأنه حصل له رهن الكل وإنما انفك بعده. والثاني: له الخيار؛ لأن كل الرهن لم [ق 250 ب] يسلم بكل الحق جزء منه، وإن لم يعلم المرتهن صورة الحال ولم يقر به لا يقبل قول الراهن أنه أخذه من رجلين. فرع آخر لو كان عبد بين اثنين فأذن أحدهما لشريكه برهنه في حق يأخذه لنفسه فرهنه بمائة ثم أراد أن يعطي خمسين ويخرج نصيبه أو نصيب شريكه من الرهن، نص في "الرهن الصغير" على قولين كالمسألة قبلها. فرع آخر لو أخذ عبدًا من رجلين ورهنه عند رجلين بمائة كان نصفه رهنًا عند أحدهما بخمسين من نصيب السيدين، والنصف الآخر من نصيب السيدين، فأقضى الراهن أحدهما خمسين خرج ما هو رهن عنده وهو نصف العبد ورجع إلى السيدين، وإن قال أحدهما: أعطيتك خمسة وعشرين أخرج نصيب أحد السيدين من يديك وهو ربع العبد هل له ذلك؟ علي القولين. فرع آخر لو كان عبدا لسيدين لكل واحد منهما نضفهما فاستأذن كل واحد منهما صاحبه في رهن نصيبه بخمسين فأذن له، فرهن أحدهما عبدًا عند زيد بمائة نصفه ملكه ونصفه لشريكه

ورهن الآخر العبد الآخر عند زيد بمائة نصفه له ونصفه لشريكه نظر، فإن [كان] ذلك بغير شرط فالحكم فيه علي ما ذكرنا، وإن كان بشرط فيه ثلاث مسائل: إحداها: أن يقول [ق 251 أ] لزيد: رهنت عندك هذا العبد بمائة النصف منه لي ونصفه لشريكي على أني متى قضيتك المائة خرج هذا العبد كله من الرهن، ونصيبي من العبد الآخر الذي رهنه شريكي عندك، فهذا شرط فاسد؛ لأن إطلاق العقد يقتضي أن لا يخرج بقضاء الدين غير العبد المرهون، فإذا شرط ذلك نافي مقتضى العقد فأبطله، وهذا الشرط يتضمن نقصان حق المرتهن فيبلط الرهن قولًا واحدًا. والثاني: إذا شرط أن يخرج هذا العبد والعبد الآخر كله من الرهن فهذا أفسد من الشرط الأول يبلط به الرهن قولًا واحدًا. والثالثة: إذا قال: متى قضيتك المائة لم يخرج عبدي من الرهن حتى يقضي شريكي دينك فيخرجان معًا، فهذا فاسد أيضًا؛ لأنه خلاف مقتضى العقد ولكنه زيادة وثيقة للمرتهن، فهل يبطل الرهن؟ قولان: فرع آخر لو أخذ عبدًا من رجل آخر وأذن له كل واحد منهما في رهنه بخمسين درهمًا فرهنهما بمائة درهم عند رجل واحد وعلم المرتهن بذلك فقضاه خمسين. قال بعض أصحابنا: له أن يفك أحدهما من الرهن قولًا واحدًا. وقال القاضي الطبري: هذا غلط عندي، ولا فرق بين العبدين وبين العبد الواحد فيجب أن يكون فيه قولان أيضًا كما ذكرنا في العبد الواحد. فإذا تقرر هذا رجعنا إلى سواد "المختصر" قال [ق 251 ب] الشافعي: "فأشبه الأمرين أنه غير ضامن". وهذا يوهم أن الكناية راجعة إلى السيد وليست براجعة غليه، وإنما ترجع إلى المستعير بدليل أن الشافعي فرض القول في رجوعها إلي فقال: "فأشبه الأمرين أنه غير ضامن"، وإنما اختلف قوله في ضمان المستعير، وأما المعير فلا يضمن شيئًا حتى يتوهم رجوع الكناية إليه. ثم قال الشافعي في تعليل هذه المسألة: "وليس كالمستعير الذي منفعته مشغولة". وهذا اللفظ بهذا الإيجاز في غاية الإشكال لمن تأمله، ومعناه أن المستعير ههنا لا يضمن، وليس كالمستعير للاستخدام؛ لأن منفعته بالخدمة مشغولة عن معيره ومنفعة هذا العبد المستعار المرهون للمعير وهو مستخدمه، فكيف يضمنه معيره ومستخدمه معير،

وإنما يضمن المستعير العارية؛ لأنه أولى بمنفعتها في مدة الاستعارة إلى أن يردها على صاحبها، وقد أخذها من غير استحقاق فقوله: "كالمستعير الذي" وكلمة الذي في منزله المفعول لا في منزلة الفاعل، وقوله: "بخدمة العبد" إضافة إلى الخدمة إلي الخادم لا إلى المخدوم. وأما قوله: "وللسيد في الرهن أن يستخدم عبده" يحتمل أنها مسألة مستأنفة، وأراد منافع الرهن للراهن خلافًا لأبي حنيفة وقد ذكرناه. ويحتمل أن يكون كما التعليل المشكل الذي شرحناه، ومعناه: وللسيد المعير عبدًا رهن أن يستخدم وليس يستخدمه المستعير، فكذلك [ق 252 أ] فصلنا بين هذه العارية وبين سائر العواري إذا تلف العبد فجعلنا في ضمان قيمته علي المستعير؟ قولين. فرع آخر لو كان المرهون دابة فأراد أن يركبها بنفسه، أو كان دارًا فأراد أن يسكنها، قال في "الرهن الصغير" و"الرهن القديم": ليس له ذلك إلا بإذن المرتهن. وقال في سائر كتبه: له ذلك. فقيل: فيه قولان؛ لأنه لا يؤمن جحوده إذا عاد إلى يده وهذا لا يصح؛ لأن الجحود يتوهم إذا عاد إلى يد مستأجره أيضًا. وقيل: المسألة على حالين، فإن كان غير مأمون والجحود منه مخوف ليس له ذلك، وإن كان بخلاف هذا له ذلك. فرع آخر إذا أذن الراهن للعبد المرهون في الحج لم يجز إن لم يمكنه إلا بمفارقة بلد المرتهن، ويعلم إخلافه قبل حلول الدين جاز وإلا فلا يجوز. فرع آخر [إذا] رهنه عبدًا بحق فتطوع رجل فضمن الحق جاز، فإذا حل الدين ففيه قولان: أحدهما: يطالب الراهن فإن عجز عدل إلى الرهن. والثاني: يطالب المرتهن فإن عجز عن البيع أو تعذر عدل إلى الضامن. مسألة: قال: "والخصم فيما جنى على العبد سيده". إذا رهن عبده وأقبضه فجنى عليه جان فقتله أو قطع يده كان الخصم فيما جنى عليه سيده لا المرتهن، فالدعوى على الجاني وتثبيته وإقامة البينة عليه إلى [ق 252 ب] السيد

دون المرتهن؛ لأن ملك الأرش ثبت للراهن دون المرتهن وإنما للمرتهن حق الإمساك، فإن أنكر الجاني الجناية على العبد ولم يكن للسيد بينة فالقول قول الجاني مع يمينه، فإن نكل عن اليمين ردت اليمين على السيد، فإن حلف استحق، وإن نكل فهل ترد على المرتهن؟ قولان على ما بيناه في رد اليمين على أم الولد في أول "كتاب الرهن". قال الشافعي: وإن أحب يحضر المرتهن الخصومة ليعاون الراهن ويؤيده وليعلم ما يقضي الراهن به من الأرش فيأخذه رهنًا كان ذلك له، وإن لم يحضره فإن كان الراهن يأخذ الأرش ويدفعه إلى المرتهن فيكون رهنًا عنده أو عند العدل إن كان العبد رهًا عند العدل، وإن شاء جعله قصاصًا من الحق. فرع قال: ولو عفا المرتهن كان عفوه باطلًا؛ لأن الأرش ملك للسيد، ثم إذا أخذ السيد الأرش بعد ذلك هل للمرتهن مطالبته به؟ اختلف أصحابنا: فمنهم من قال: بطل رهنه فيه؛ لأن تحت قوله: عفوت عن الأرش، أبطلت رهني فيه فلا يكون له مطالبته به. ومنهم من قال: لا يبطل رهنه؛ لأن عفوه لم يصح فكان وجوده وعدمه سواء. وقول الشافعي: "كان عفوه باطلًا"، يرجع إلى الأرش إلى إبطال الوثيقة وهو المذهب. فرع آخر قال في "الأم": ولو كان الجاني عبدًا فأراد الراهن أو المرتهن أو هما أخذ العبد من [ق 253 أ] سيده بالأرش وأبى السيد ذلك لم يكن لهما، فإن رضي السيد ذلك وأبي الراهن، أو المرتهن أخذه بالحق لم يؤخذ بالحق وبيع بأرش الجناية، ويكون ثمنه رهنًا مكان العبد المقتول. فرع آخر قال: لو اختار الراهن أخذ المال من الجاني ثم فرط في أخذه حتى هرب الجاني لم يغرم شيئًا بتفريطه وليس عليه أن يضع رهنًا مكانه، وكان الجاني كعبد رهنه سيده فهرب منه. فرع آخر قال بعض أصحابنا بخراسان: قال الشافعي: لو عفا الراهن عن الجاني فلم نجوز عفوه وأخذ المال فجعلناه رهنًا ثم فكه بقضاء أو إبراء رده على الجاني. قال أصحابنا: فيه قولان:

أحدهما: هذا هو أن عفوه موقوف. والثاني: باطل وهما كالقولين عفو المفلس عن الدين وتصرفاته كلها. مسألة: قال: "ولو رهنه عبدًا بدنانير وعبدًا بحنطة فقتل أحدهما صاحبه كانت الجناية هدرًا". قد ذكرنا هذه المسألة، وهو أن يرهن عبدين عند رجلين بحقين مختلفين فقتل أحدهما صاحبه. وفرض المسألة ههنا إذا كانت قيمة الحنطة مثل ذلك في الدنانير، فلم يكن في العفو مالٍ فائدة، فأما إذا كان الحق الذي كان العبد المقتول رهنًا به أكثر، فقد قلنا إن العفو صحيح على مالٍ فيباع العبد الجاني ويجعل ثمنه [ق 253 ب] رهنًا مكان العبد المقتول مسألة: قال: "واكره أن يرهن من مشرك مصحفًا". الفصل: قد ذكرنا في البيع شراء الكافر مصحف القرآن والعبد المسلم، وأما الراهن اختلف أصحابنا فيه علي طريقتين: أحدهما: فيه قولان أيضًا، ولا فرق بينهما. والثاني: إن قلنا يجوز البيع فالرهن أولى. وإن قلنا: لا يجوز البيع أجبر على وضعه في يد عدل ولا يترك في يد المشترى. قال الشافعي: هل رقيق لا يذل لمن يده عليه. وقيل: فيه طريقة أخرى وهي أن يصح الرهن قولًا واحدًا؛ لأنه ليس في جريان الصغار والذل عليه فإنه يوضع على يدي العدل فلأن للإنسان أن يرتهن إياه ويستديم الرهن عليه، ولا يجوز أن يستفيم عقد البيع عليه، فدل علي الفرق. ولا يجوز إلا عند عدل مسلم، وإن كان كافرًا موثوقًا به لأمانته في مثله والكراهة ههنا كراهة التبرئة لا كراهة التحريم في أحد القولين، ولهذا عطف عليها وأجبره على أن يضعها على يدي مسلم"، ولو رضي الراهن بتسليمها إلى المرتهن الكافر ولا يعتبر رضاه؛ لأن الحق في ذلك للإسلام، وكذلك إن رضي العبد أيضًا. ثم قال: "ولا بأس برهنه ما سواهما"، وهو كما قال: يجوز أن يرهن عند المشرك ما عدا ذلك من المملوكات وإن كان سلاحًا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم [ق 254 أ] رهن درعه عند أبي الشحم اليهودي بشعير أخذه إلى أهله، وإن كان في ذلك شوكة

باب الرهن والحميل في البيع

للمشركين يكره ذلك، ولكن قال قائل: إطلاق هذا اللفظ يدل على جواز رهن كتب الأخبار عنده وأنت منعت ذلك، قلنا: مقصود الشافعي إطلاق هذا اللفظ الأسلحة وجواز رهنها وإن كان فيها شوكة للمشركين. ولم يقصد به تعميم الجواب، لأن المعنى موجود في هذا وهو خوف الاستهانة والاستهلاك. وقد نص الشافعي في رواية الربيع علي هذا الأصل الذي ادعيناه، وهو إلحاق كتب الأخبار بكتاب الله تعالى فيما يؤول إلى الاحترام والتوقير. وعلى هذا التأويل يمنع المسافر بأخبار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أرض العدو، كما يمنع المسافر بكتاب الله تعالى إلى أرضهم. قال صلى الله عليه وسلم: "لا تسافروا بالقرآن إلى أرض الكفار". ويكره للمحدث عمن كتب الأخبار حملها إليها. باب الرهن والحميل في البيع مسألة: قال: "ومعقول إذا أذن الله عز وجل بالرهن أنه زيادة وثيقة". الفصل: في بعض النسخ "ومعقول إذا أذن الله تعالى بالرهن لأنه زيادة وثيقة لصاحب الحق". الفصل: قال مشايخنا: أخل المزني بالنقل ونقل كلامًا محذوف الخبر منقطع الجواب [ق 254 ب] لأنه قال: "ومعقول إذا أذن الله تعالى بالرهن لأنه زيادة وثيقة لصاحب الحق وإنه ليس بالحق بعينه ولا جزءًا من عدده" ثم لم يعطف على هذه الجملة مقصوده جوابًا وتركها مبترة، ثم أستأنف عقيب هذه الجملة ما عطف الشافعي في الكبير عليها فيقول: فليس بمضمون ردًا على أبى حنيفة حيث جعل الرهن مضمونًا بالدين ومعناه أذن الله تعالى في الرهن لزيادة وثيقة ليس الرهن جزءًا من الدين ولا عين الدين، فكيف يسقط الدين بتلفه كما يزعم أبو حنيفة. ومن أصحابنا من قال: هذا اللفظ مما يمكن إجراءه بنفسه مستغنيًا عن غيره علي الراويتين جميعًا، ولا عتب على المزني في ذلك ففي الرواية الأولى وهي قوله: إنه زيادة وثيقة" وسيأتي الكلام أن يقال: أذن الله تعالى بالرهن فمعول أنه زيادة وثيقة ولو جعلناه مضمونًا زائله معنى الوثيقة وعدم الرهن يكون أنفع له من وجوده. والجواب الثاني للجملة السابقة قوله: "فلو باع رجل شيئاً على أن يرهنه به" ومعنى سياق الكلام على هذا الجواب

أن يقال: معقول الرهن مأذون لزيادة وثيقة لصاحب الحق وليس بالحق ولا جزء من عدده, فإذا باع بيعًا وضمنه بشرط الرهن والرهن مأذون فيه من جهة الله تعالى لم يفسد البيع [ق 255 أ] بهذا الشرط, فاستقل الكلام بنفسه من غير إضمار جواب. وأما إذا أقرأنا باللفظ على الرواية الثانية وعلى قوله: "لأنه زيادة وثيقة" فللكلام جواب واحد وهو جواب الثاني الذي ذكره من صحة البيع مع اشتراط الرهن فيه, وقيل: قصد به الرد على مالك حيث قال: يلزم الرهن بنفس العقد ويجب على الراهن تسليمه فقال: ليس هو الحق بعينه ولا جزء من عدده حتى يحب تسليمه. فإذا تقرر هذا, لا يجوز شرط الرهن حتى يكون معلومًا لهما بالصفة والرؤية فلو قال: على أن ترهني ما في كمك وهو لا يعلم ما في كمه لأنه معنى فيه مصلحة البيع لا يثبت إلا بالشرط, ويعطيه من الرهن ما يليق بذلك الحق في العادة, وقال: يجوز شرط الضامن وإن لم يكن معينًا, وعند أبي حنيفة: لا يحتاج إلى تعيين الضامن ويحتاج إلى تعيين الرهن. وعندنا يحتاج إلى تعيين الضامن بالمشاهدة؛ لأن الصفة لا تأتي عليه, ثم إذا بطل الرهن هل يبطل البيع؟ قولان: أحدهما: يبطل كما يبطل بالأجل المجهول. والثاني: لا يبطل وهو اختيار المزني. فرع هل من شرطه أن يكون من يوضع الرهن على يديه معلومًا في العقد؟ وجهان: أحدهما: لا يشترط ذلك ويوضع على يد من يتفقان عليه, فإذا اختلف انظر الحاكم فيه ووضعه على يد عدل [ق 255 ب]. والثاني: يشترط ذلك فيلزم أن يبين من يكون في يده ذلك والأول أصح. فرع آخر لو شرط الشاهدين وأطلق يجوز, والفرق بينه وبين الرهن أنه لا عرض في أعيان الشهود؛ لأنه المقصود منهم العدالة فلم يكن من شرطه تعيينها بخلاف هذا, وأن الشاهدين معلومان بالشرع بخلاف الرهن والضامن. فرع آخر لو شرط إشهاد شاهدين معينين وامتنعا من الشهادة, لم يجبر المشتري على إشهاد غيرهما وللبائع الخيار لفقد الشرط, فلو أشهد المشتري غيرهما من العدول فهل يسقط خيار البائع؟ وجهان: أحدهما: لا يسقط كما لو شرط ضامنًا فضمن آخر غيره, وهو اختيار القفال. والثاني: وهو الأصح يسقط لأن الشهادة لا تختلف باختلاف الشهود.

فرع آخر (لو) شرط ضمينًا هل يبطل البيع؟ قولان أيضًا كما قلنا في الوهن المجهول, والأصح أنه لا يبطل لأنه عقد مضموم إلى عقد بالشرط يفتقر إلى إيجاب وقبول, فجاز أنه لا يتعدى فساد أحدهما إلى الآخر بخلاف الجهالة من الثمن, لأنها جهالة في صلب العقد فكذلك الجهالة في الأجل جهالة في صفة العقد فيبطل البيع قولاً واحدًا. فرع آخر لو آتاه برهن أنفس من الرهن المعين أو بضمين أيسر من المعين له أن لا يقبل ويفسخ البيع. فرع آخر لو قال: ضمنت لك عن فلان ألف درهم على أنني [ق 256 أ] أعطيك بها رهنًا ففي صحة الضمان وجهان: أحدهما: يصح أنخ رهن شرط مع وجوب الحق, فعلى هذا الضامن بالخيار بين أن يعطيه الرهن أو يمنعه. والثاني: الضمان فاسد لأنه وثيقة, فإذا شرط فيه الاستئناف بالرهن صارت وثيقة الضمان واهية فبطلت. فرع آخر لو أعطاه رهنًا بألف على أن قلانًا يضمن الألف كان في صحة الرهن وجهان كما ذكرنا في الضمان, لأن شرك الضمان في الرهن كشرط الرهن في الضمان. أحدهما: الرهن الصحيح والمشروط ضمانه بالخيار بين أن يضمن أو لا يضمن. والثاني: باطل لوهاء الاستئناف بالرهن عند شرط الضمان فيه. فرع آخر لو كان بالدين رهن وضامن يجوز, فإذا حل الحق فيه قولان وحكاهما القاضي أبو حامد أن لصاحب الحق مطالبة الضامن وليس له بيع الرهن إلا بعد تعذر استيفائه من الضامن, لأنه يمكن استيفاؤه من غير إزالة ملكه عنه. والثاني: له بيع الرهن واستيفاء حقه من ثمنه وليس له مطالبة الضامن إلا بعد التعذر؛ لأن الرهن بيده أخذه لاستيفاء حقه. والصحيح أن يقال: صاحب الحق بالخيار بين مطالبة الضامن وبين بيع الرهن؛ لأن ضمان الحق لا يمنع مطالبة غيره ومطالبة غيره له لا يمنع مطالبة الضامن والمضمون عنه سواء.

فرع آخر [ق 256 ب] لو أحاله بالألف على أن يعطى المحال به رهنًا ففي جوازه وجهان مبنيان على أنهما بيع أو عقد إرفاق, فإن قلنا بيع يجوز اشتراط الرهن فيها, فعلى هذا يبطل القدح الشرط الباطل فيها. والثاني: لا تبطل لخروجها عن عقود والمعارضات والتحاقها بعقود الإرفاق. فرع آخر لو وهب له عبدًا وأذن له في رهنه صح ولم تتم الهبة؛ لأن الإذن بالرهن ليس بقبض, ثم إن أقبض المرتهن ثم الرهن بالعقد السابق عن إذنه والقبض الحادث عن إذنه تتم الهبة؛ لأن قبضه رهنًا غير قبضه هبه ويكون حكم هذا كحكم المعاري في الرهن. فإذا تقرر ما ذكرنا, رجعنا إلى سواء المختصر قال: "لم يجبر الراهن على تسليم الرهن" وقد ذكرنا هذا فيما مضى وإذا امتنع فللبائع الخيار, وكذلك لو شرط الضمين فامتنع من الضمان كان له الخيار, وإن اجتهد المشتري في تخليصه ولم يوجد منه تفريط في ذلك. قال الشافعي ههنا: " وليس للمشتري رد البيع لأنه لم يدخل عليه نقص يكون له به الخيار". وقصد به الرد على مالك فإنه أثبت للمشتري الخيار في الفسخ, لأن المشتري إذا كان معه ضامن ضمنه عنه كانت المطالبة عليه أخف منها إذا انفرد بها, ولا معنى لهذا التعليل؛ لأن الحميل لو ضمن أيضًا كان للبائع تخصيص المشتري بالمطالبة والإعراض عن [ق 257 أ] مطالبة الحميل. المسألة: قال: "ولو أصاب المرتهن بعد القبض بالرهن عيبًا". الفصل: إذا أصاب بالرهن المشروط عيبًا بعد القبض والعيب متقادم كان له رده وفسخ عقده؛ لأن ذلك يؤدي إلى الضرر به عند محل الحق وبيع الرهن في الدين, فإن اختلفا أنه حدث بعد القبض أو قبله فهو كالاختلاف في العيب بالمبيع, وقد ذكرنا فيه ثلاث مسائل. مسألة: قال: "ولو قتل الرهن بردةٍ أو قطع بسرقةٍ". الفصل: إذا رهن مرتدًا أو سارقًا, وقد ذكرنا أن الرهن صحيح وبينا حكمه وإن حدث ذلك

بعد القبض لم يكن له فسخ البيع, وإن حدث ذلك بعد الرهن وقبل القبض فله الخيار في فسخ البيع, وقال المزني: في هذا دليل على أن البيع وإن جهلاً الرهن أو الحميل غير فاسدٍ, وإنما له الخيار في فسخ البيع أو إثباته لجهله بالرهن أو الحميل". وجوابه أن يقال: الرهن مجهولاً كان باطلاً إبطال البيع بفساد الرهن المشروط في صلبه, فأما إذا خرج المرهون مرتدًا أو سارقًا فالرهن في الأول صحيح, لأن المرتد قابل للبيع والرهن والهلاك طارئ فهو كموت العبد فافترقا. مسألة قال: "ولو مات في يده وقد دلس فيه بعيبٍ قبل أن يختار فسخ [ق 257 ب] البيع لم يكن له أن يختار لما فات من الرهن". معناه: أن العبد المرهون إذا مات في يد المرتهن, ثم اطلع على عيب به ولم يكن أطلع عليه قبلٍ موته لم يكن له خيار فسخ البيع لا لأجل موته ولا لأجل عيبه؛ لأن الرهن قد قبض قبضًا فلا يوجب موته خيارًا, ولم يطلع على العيب في وقت يمكنه الرد ففات حقه من العيب, وسواء كان الرهن على ذلك العيب فكتمه تدليسًا أو لم يكن علمه, وذكر الشافعي التدليس تنبيهًا على عدم التدليس. وهكذا لو اطلع المرتهن على العيب فلم يتيسر له رده وفسخ عقده حتى مات العبد لا خيار له أيضًا, وليس للمرتهن بأرش العيب ليكون رهنًا على ما ذكرنا من قبل, وعلى هذا لو رهنه عبدين فأقبضه أحدهما فتلف في يد المرتهن, ثم تلف الآخر في يد الراهن لم يكن له فسخ البيع لأنه لا يمكنه أن يرد عليه ما قبضه, وإنما يثبت الرد بالعيب إذا أمكنه رد ما قبض على صفته كما في البيع, إلا أن في البيع له الأرش لأن في مقابلته عوضًا بخلاف الرهن. مسألة: قال: "ولم يشترطا رهناً [في البيع] فتطوع المشتري فرهنه". الفصل إذا لم يشترط الرهن في عقد البيع فتطوع المشتري فرهنه وأقبضه لم يكن له فسخه حتى يقضي جميع الحق؛ لأن الرهن يصير لازمًا بمضامة القبض, كما لو تبرع رجل [ق 258 أ] بضمان دين لا يجد خلاصًا إلا بقضاء أو إبراء كذلك ههنا ولو رهن في هذا الموضع, ثم امتنع عن الإقباض لم يكن له خيار فسخ البيع لأنه لم يدخل في العقد هذا الشرط.

مسألة: قال: "ولو اشترطا أن يكون المبيع نفسه رهنًا فالبيع مفسوخ". أن يكون المبيع رهنًا بالثمن نظر, فإن اشترط في عقد البيع أن لا يخرجه من يده ويكون رهنًا عنده حتى يوفيه الثمن لم يصح؛ لأنه رهن ما يملك ولا البيع أيضُا؛ لأنه شرط تأخير تسليم جميع البيع إلى أن يستوفي جميع الثمن, وذلك يخالف مقتضى البيع؛ لأن مقتضاه أن لا يجبر البائع على تسليم البيع أو لا يجبر المشتري على تسليم الثمن, ولأنه إذا وفي بعض الثمن يجبر على تسليم ما يقابله من البيع, فإذا شرط خلافه بطل, وإن شرط أن يسلمه إليه, ثم يرد عليه ليكون رهنًا في يده لا يجوز أيضًا؛ لأن التسليم الذي يقتضيه البيع مطلق, وقد شرط تسليمه غير مطابق فكان مخالفًا لمقتضى البيع كما لو قال: أسلمه إليك, ثم تهبه لي, ولأنه لا يلزمه التسليم المبيع حتى يقبض الرهن, وهذا نقيض تسليم المبيع قبل قبض الرهن فلا يجوز. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن كان الثمن مؤجلاً لا يجوز هذا الشرط ويبطل به البيع؛ لأن [ق 258 ب] حكم المؤجل أن يجب تسليم البيع في الحال ولا يجوز حبسه لاستيفاء الثمن, وإن كان الثمن حالاً, فإن قلنا: إذا تنازعا في البداية بالتسليم يجبران معًا أو لا يجبران أو يبدأ بالبائع لا يجوز هذا الشرط أيضًا, وإن قلنا البداية بالمشتري وهو القول المخرج, اختلف أصحابنا في هذا؛ فمنهم من قال: يجوز أن يشترط أن لا يخرجه من يده ويكون رهنًا عنده حتى يوفيه الثمن؛ لأن مقتضى العقد الحبس حتى يقبض الثمن فلا فرق بين أن يقول: على أنه رهن عندي, أو يقول: على أن لا أسلمه إليك حتى أقبض الثمن, ومنهم من قال: لا يجوز ذلك؛ لأن الارتهان حكم آخر والحبس لاستيفاء الثمن حكم آخر والملك بعد لم يتم على المبيع فشرط ارتهانه ورهنه فاسد. مسألة: قال: "ولو قال الذي عليه الحق: أرهنك على أن تزيد لي في الأجل". الفصل إذ كان لرجل على رجل دين مؤجل إلى شهر فقال من عليه الدين: أرهنتك هذا الشيء بالدين الذي لك على أن تزيدني في أجله ففعل كان الرهن باطلاً؛ لأن الرهن جعله بدلاً عن الأجل فلا يجوز الحق لازم, كان قبل, وصار ما يزيد أن من الأجل مردودًا كأنه لم يكن, ولا فرق بين حق لازم عن قرص أو [ق 259 أ] بيع أو غيرهما؛ لأن الزوائد لا تلحق أصل الدين بعد الانبرام. مسألة: قال: "وإذا أقر أن الموضوع على يديه قبض الرهن جعلته رهنًا".

إذا تبايعا عبدًا بألف وأقر معًا أنه دفع برهن مقبوض وأنه على يد عدل وأنكر العدل ذلك لزم الرهن في حق المتراهنين, فإن كان عبد المرتهن وتراضيا على بقيته في يده جاز, وإن اختلفا جعله الحاكم على يدي عدل, وهكذا لو كان في يد الراهن, وقال: عاد إلى الخدمة وإن تراضيا بكونه وإلا جعله الحاكم على يدي عدل, وهذا لأن العدل وكيل فلا يسمع إنكاره مع إقرار الموكل, كما لو وكل ببيع سلعة فقال الوكيل: بعتها من فلان وصدقه المشتري, وقال الوكيل: ما بعتها منه قبل قول الموكل وحكم بصحة البيع, ولا خيار المرتهن في فسخ البيع لأنه قد اعترف بقبض الرهن بالثمن, وإن كان الرهن تالفًا فادعى المتراهنان أن العدل أتلفه مفرطًا فيه لم يقبل قولهما عليه, والقول قوله مع يمينه: فإذا حلف بريء فيكون المبيع برهن ملك بعد قبضه باعترافهما فلا خيار للمرتهن في فسخ البيع, هذا إذا تقارا على ذلك, فأما إذا اختلفا فقال الراهن: قبض العدل وتلف في يده وأنكر المرتهن ذلك, فالقول [ق 259 ب] قوله: فإذا حلف كان له خيار الفسخ, فغن أقام الراهن البينة بما يدعيه نظر, فإن شهد له غير العدل الذي يدعي الراهن بالقبض وأنكر المرتهن لا يقبل إقرارهما عليه, وهكذا لو أقر المرتهن والعدل بالقبض وأنكر الراهن لم يقبل قول عليه وشهادة العدل عليه لا تقبل أيضًا. مسألة: قال: "وأيهما مات قام وارثه مقامه". إذا مات الراهن والرهن على يدي عدل ومات المرتهن قام وارث كل واحد منهما, فقام الميت والعدل بحفظه للراهنين كما كان يحفظه للمرتهنين, وأما العدل إذا ما أحدهما قبل قبض الرهن كيف حكمه, وإذا مات أحدهما بعد القبض, فإن مات الراهن حل عليه الدين ونقول لوارثه: إما أن تقضي دين المرتهن من غير الرهن وتأخذ الرهن وتوفيه حقه, فإن امتنع منها باع الحاكم الرهن وأوفاه حقه, وغن مات المرتهن فالدين المؤجل لا يحل على الراهن لأن الأجل حق الراهن دون المرتهن, فيرث وارثه الدين في ذمة الراهن بحقه من الوثيقة, وقام مقام مورثه في حفظ الرهن, فإن قال الراهن: لا أرضى بحفظ [ق 260 أ] الوارث ذكرنا أنه يوضع على يدي عدل بخلاف ما لو كان المرتهن حيًا, فقال: لا أرضى بكونه في يده لا يلتفت إلى قوله حتى تتبين الجناية. مسألة: قال المزني: "وجملة قوله في اختلاف الراهن والمرتهن". الفصل: إذا اختلف الراهن والمرتهن في قدر الحق لا يخلو إما أن يكون مستقرًا أو غير

مستقر, فإن كان مستقرًا كالقرص وقيمة المتلفات وثمن البيع فقال المرتهن: الحق ألف ورهنتني هذه العبد به, وقال الراهن: لا بل الحق خمسمائة فالقول قول الراهن؛ لأن الأصل أن لا رهن إلا في المقدار الذي أقر به الراهن فيحلف على ذلك, وعلى المرتهن البينة فيما يدعيه من الزيادة, وقول الزيادة, وقول الشافعي:"فيما لا يشبه أو يشبه" أراد به الرد على مالك حيث قال: إن كانت قيمة العبد ألفًا فالقول قول المرتهن, وإن كانت خمسمائة فالقول قول الراهن؛ لأنه الظاهر أن الرهن يكون بقدر الدين, وهذا غلط لقوله صلى الله عليه وسلم:"البينة على المدعي واليمين على من أنكر" ولم يفضل. ولأنهما لو اختلفا في أصل الحق فالقول قول الراهن فكذلك إذا اختلفا في قدره, وإن كان الحق غير مستقر مثل ثمن المبيع قبل القبض فقال: "بعكته بألف على رهن هذا العبد, وقال المشتري: بل بخمسمائة على رهن هذا العبد تحالفًا؛ لأنه اختلاف المتبايعين [ق 260 ب] في قدر الثمن, وإن كان اختلافهما في قدر الرهن, فإن كان الحق مستقرًا فقال: رهنتني عبدين به, وقال الراهن: رهنتك عبدًا واحدًا فالقول قول الراهن, وإن كان الحق غير مستقر فقال: بعكته على رهن هذين العبدين, وقال المشتري: على رهن هذا العبد الواحد تحالفا لأنه اختلاف المتبايعتين في قدر الرهن, وهكذا لو قال المشتري من غير شرط الرهن يتحالفان, فإذا تحالفا قد ذكرنا حكمه فيما تقدم, ولو اختلفا في أصل وجود الرهن, فقال الراهن: لم أرهنك شيئًا, وقال المرتهن: رهنتني فالقول قول الراهن. وكذلك لو تصادقا على وجود الرهن واختلفا في تعيينه, فقال المرتهن: رهنتني هذه الجارية التركية, وقال الراهن: بل هذه الهندية, فالقول قول الراهن أيضًا, وكذلك لو قال المرتهن: رهنتني هذين العبدين, وقال الراهن: رهنت أحدهما بعد أن افقا على ان الشرط في البيع كلا العبدين فالقول قول الراهن أيضًا؛ لأن الأصل أنه لم يرهن, وإن شرط ذلك, فإن قيل: فما معنى قول المزني:"والقول قول المرتهن في الرهن" قلنا: نحن نجعل القول قوله في كثير من المسائل غير ما ذكرنا, وذلك أنهما أنهما لو اختلفا في وجود الرهن المشروط في العقد فقال الراهن: قد وفيت لك بشرطك [ق 261 أ] ورهنت عندك ما اشترطت فليس لك فسخ البيع, وأنكر المرتهن ذلك فالقول قول المرتهن فيحلف ويفسخ. وكذلك لو تصادقا في الرهن, ثم ادعى الراهن على المرتهن أنك أذنت لي في بيته, وقد بعته أو في إعتاقه وقد أعتقته فالقول قول المرتهن, وكذلك لو اختلفا في فكاك الرهن بعد الانفلات فالقول قول المرتهن, وكذلك إذا اختلفا بعد تلف الرهن في حالة التعدي في قدر قيمته فالقول قول المرتهن. وقال أبو حامد: تأويله أنه إذا كان في بيع متحالفًا يبدأ بيمين البائع وهو المرتهن فقوله: "القول قول المرتهن" يعني في البداية, وقال في "الحاوي": الصحيح أنه إذا

اختلفا في البيع فقال الراهن: ابتعت بلا رهن, وقال المرتهن: ما بعتك إلا برهن فالقول قول الراهن أنه لزمه بغير رهن, والقول قول الراهن أنه لزمه بغير رهن, والقول قول المرتهن في الرهن أنه وثيقة بالحق. ألا ترى أنه قال بعده: "ويحلف كل واحد منهما على دعوى صاحبه" وهما لا يتحالفان إلا في مسألة البيع: فأما في تلفه بتعدٍ أو غيره فإنما يحلف أحدهما. إذا حلفا هكذا لا يلزم الراهن ولا يلزم البائع إمضاء بلا رهن وكان بالخيار بين أن يفسخ البيع وبين إمضائه بلا رهن, وقال: ههنا يبدأ المشتري باليمين بلا خلاف في المذهب؛ لأن يمينه لإنكار عقد الرهن ويمين البائع لفسخ البيع بعدم الرهن فيقدم المشتري, فإن قيل: إذا كانت [ق 261 ب] المسائل مختلفة هكذا فما بال المزني أطلق اللفظ إطلاقًا, قلنا: يحتمل أنه أراد أحد قسمي المسائل ويحتمل أنه أراد بهذا الإطلاق ما عطف عليه قوله: "فيما شبه" ردًا على مالك على ما ذكرنا, فمتى ادعى المرتهن على الراهن أنك لم تسلم إلي ما اشترطناه رهنًا على فسخ البيع وأنكر الراهن فالقول قول المرتهن, سواء أشبهت الحال ما قال الراهن أو أشبهت ما قال المرتهن. فرع: لو اختلف الراهن والمرتهن في صفة الحق, فقال: رهنتني عبدك سالمًا في ألف حال, فقال الراهن: بل في ألف مؤجل, فإن اتفقا على أن للمرتهن ألفًا حالاً وألفًا مؤجلاً, ثم اختلفا هكذا فالقول قول الراهن مع يمينه ما رهنته من الألف الحال, ويخرج سالم من الرهن في المؤجل والحال. أما في الحال بيمين الراهن, وأما في المؤجل فبإنكار المرتهن, وإن اتفقا على أن الألف واحد, وأن سالمًا رهن به واختلفا في حلوله وتأجيله ففيه قولان: أحدهما: القول قول المرتهن ويصير [سالم] رهنًا بألف حالٍ. والثاني: القول قول الراهن أن الألف مؤجل ويصير سالمًا رهنًا في ألف مؤجل. وهذان القولان مبنيان على أن من أقر بدين مؤجل هل يقبل في الأجل قولان. فرع آخر لو قال المالك: بعتك عبدي الذي في يدك بألف فقال: بل رهنته بألف حلف صاحب اليد ما اشتريت وحلف المالك ما رهنت والألف [ق 262 أ] وجاب عليه, لأنه مقر يقبض الألف وقد حلف دافع الألف إلى ما اشتريت فيجب رد الألف, وعلى عكسه لو قال: رهنته بألف فقال: بل بعتنيه حلف المالك ما بعت, وأما الراهن فباطل لأن المرتهن لا يدعيه ويجب رد الألف؛ لأن صاحب الألف يقول: أنا زعمت أنه لا دين لي عليك لكن بحكم إن اشتريت العبد بما دفعت فإذا حلفت أنك لم تبع فرد المال الذي أقررت بقبضه.

مسألة: قال:" ولو قال رجل لرجلين وهنتماني عبدكما هذا بمائةٍ وقبضته منكما". الفصل: إذا باع رجل من رجلين شيئًا بألف ردهم, ووجب على كل واحد منهما خمسمائة درهم, فادعى البائع عليهما أنهما رهناه عبدًا لهما بالألف الذي له عليهما. فإن صدقاه جميعًا كان رهنًا, فإن أحدهما حصته خرج نصف العبد من الرهن. وقال أبو حنيفة: لا يخرج من الرهن شيء, وهذا غلط؛ لأن رهن رجلين من رجل بمنزلة الصفقتين. وإن صدقه أحدهما وكذبه الآخر كان نصيب المصدق رهنًا ويكون القول قول المكذب مع يمينه, فإذا حلف لم يكن نصيبه رهنًا. فإن كان المصدق عدلاً للمرتهن على شريكه فتقبل شهادته ويحلف المرتهن معه, واستحق رهن نصيبه لأن لا يجر بشهادته منفعة ولا يدفع عن نفسه بها مضرة, فلم يكن فيها [ق 262 ب] معنى يوجب ردها, وإنما قلنا: يجكم في الرهن بالشاهد واليمين؛ لأن المقصود من الرهن المال ويثبت بالشاهد واليمين ما يكون المقصود منه المال, ولو قال كل واحد منهما: أنا لم أرهن نصيبي وإنما رهن صاحبي نصيبه عندك فالقول قول كل واحد منهما مع يمينه, وإن شهد كل واحد منهما على صاحبه للمرتهن وهو عدل فقد حصل شاهد واحد على كل واحد منهما فيخلف معه ويحكم له برهن جميع العبد, فإن قيل: كان يجب أن تقبلوا شهادة الذي شهد أولاً دون الذي شهد ثانيًا كما قال الشافعي في شاهدين شهدا على رجلين بقتل رجل وشهد المشهود عليهما على الشاهدين بالقتل تقبل شهادة الأولين فقط, قلنا: الفرق أن هناك الآخران واقعان عن أنفسهما فلم تقبل شهادتهما وههنا ليس واحد من هذين دافع عن نفسه بشهادته شيئًا بشهادته فقبلناها. قال أبو حامد: هكذا قال أصحابنا ولكنه سهو عندي, والذي يجيء على المذهب أنه لا تقبل شهادتهما؛ لأن المرتهن معترف أن كل واحد منهما جحد حقًا ومنع حقًا وكذب في إنكاره, ومن كذب المشهود له شاهده لا تقبل شهادته. قال أصحابنا: هذا لا يصح, لأن التخاصم لا يثبت فسق أحد المتخاصمين لجواز أن يلحق أحدهما بشبهته فيما يدعيه وينكره, ولهذا لو تداعا رجلان حقًا وتخاصما فيه [ق 263 أ] ثم شهدا عند الحاكم بشيء آخر لم ترد بذلك شهادتهما, وإن كان أحدهما لابد ظالمًا فلم تكن الدعوى عنه جرحًا فيه ولا عداوة؛ لأنه يشهد لخصمه لا عليه. فرع لو ادعى رجلان على رجل أنه رهنهما عبده بألف فأقر لأحدهما بالنصف وأنكر الآخر فشهد المقر له على المقر لصاحبه بما يدعيه.

قال بعض أصحابنا بخراسان: لا تقبل شهادته نص عليه الشافعي وهو اختيار القفال, قال أصحابنا: هذا إذا ملكا ذلك الرهن ميراثًا لهما فلا يثبت الرهن في جزء إلا وكان بينهما, فأما إذا ملكاه بالشراء فتقبل شهادته لشريكه؛ لأن أحد الشريكين في الدار لو شهد في الثاني لمدعي على المدعي عليه قبل, ولو صدقهما يصير رهنًا منهما. فعلى هذا لو قضى دين أحدهما ينفك نصف الرهن. وقال أبو حنيفة: لا ينفك فإذا انفك نصفه, ثم أراد أن يتصرف في النصف الذي انفك عن الرهن نظر, فإن كان لا يحتمل القيمة هل ينقسم؟ قولان بناء على أنها بيع أو إفراز حق وفيه قولان. فرع آخر إذا كان لرجلين على رجلين ألف درهم فرهناهما داراً كانت هذه الصفقة كأربعة عقود, فإن عقد الواحد مع الاثنين كالعقدين, وعقد الاثنين مع اثنين عقود فيكون كل بيع من الدار ههنا بربع الألف, فإذا ادعيا عليهما أنكما رهنتما عندنا هذه الدار بألف نظر [ق 263 ب] فإن كذا هما معًا فالقول قول الراهنين, وإن صدقاهما فالدار رهن عندهما معًا, وإن صدقه أحدهما صار نصف الدار عنده رهنًا بخمسمائة وإن صدقًا معًا أحدهما صار نصف الدار عنده رهنًا بخمسمائة عليهما, وإن صدق أحدهما واحدًا منهما صار ربع الدار رهنًا عنده بمائتين وخمسين, ولو صدق أحدهما أحد المدعيين وكذب الآخر وصدق الآخر الذي كذبه الأول, وكذب الذي صدقه الأول ثبت على كل واحد ربع الألف الذي أقر هو له ورهن ربع الدار منه وهو نصيب هذا, والذي ثبت الرهن فيه وهو نصف الدار وهو النصف من نصيب هذا, ونصيب ذلك. وبيان هذا أن المدعيين زيد وعمرو والمدعى عليهما خالد وبكر وصدق خالد زيدًا دون عمرو, وبكر صدق عمرًا زيد فإقرار خالد لزيد حصل بنصف الدار رهنًا بخمسمائة غير أن زيدًا ليس يدعي منه إلا النصف فالنصف الآخر لا يثبت, فكذا إقرار بكر لعمرو حصل بنصف الدار رهنًا بخمسمائة غير أنه ليس يدعي منه إلا النصف فالنصف الآخر لا يثبت. قال ابن سريج: ما أتيت على هذه المسألة إلا احتجت إلى الفكر حتى أثبته على حاشية الكتاب. مسألة: قال: "وإن كان له رجلٍ ألفان إحداهما برهنٍ والأخرى بغير رهنٍ فقضاه ألفًا". الفصل: لو كان لرجل [ق 264 أ] عر رجل ألفان أحدهما برهن والآخر بغير رهن فقضى

ألفًا ثم اختلفا, فقال القاضي: قضيت الذي بالرهن, وقال المرتهن: بل قضيت أولف الذي بلا رهن ففيها ثلاث مسائل: إحداها: أن يكون اختلافهما لفظ القاضي فقال المرتهن: أنت قلت حين القضاء هذا عن الذي بلا رهن, وقال الراهن: قلت في حال القضاء هذا عن الذي بالرهن فالقول قول القاضي مع يمينه؛ لأنه في الابتداء لو قال: أقضي الذي هو بالرهن لم يكن للمرتهن أن يمتنع منه, فإذا اختلفا بعد قضائه كان القول قوله مع يمينه, ولأنه هو الفاعل له فيرجع إليه في صفته كالمطلق يرجع إليه في مقدار الطلاق, ولأنه الألف ملكه فلا يزول ملكه عنه إلا على الصفة التي يدعيها, كما لو قال: بعتك عبدي بألف وقال: بل رهنته عندي فالقول قوله أنه ما اشتراه حتى لا يلزمه الألف. والثانية: اتفقا على أنه ما نطق بشيء حين القضاء واختلفا في نيته فالقول قول القاضي لأنه أعلم بنيته. والثالثة: اتفقا على أنه قضاه مطلقًا ولم يبين أحدهما في حال القضاء. قال أبو إسحاق: كان للقاضي أن يصرفه إلى أيهما شاء ولا يمين عليه في ذلك, كما لو طلق إحدى امرأتيه لا يعنيها له أن يجعله في أيهما شاء. وكذلك لو كان له مال حاضر ومال غائب فدفع الزكاة [ق 264 ب] وأطلق له أن يعينها عن أحد المالين أيهما شاء, قال ابن أبي هريرة: تكون الألف عن الألفين نصفين؛ لأن كل واحد منهما مساوٍ للآخر في القضاء فلم ينصرف إلى أحدهما دون الآخر, ويفارق الزكاة لأنه لا مطالب بها فله الاختيار في الصرف إلى أيهما شاء, وههنا المرتهن مطالب بها, وأما الطلاق لا يمكن قسمته بين الزوجات بخلاف هذا والأول أصح, فإذا قلنا بقول ابن أبي هريرة: لو اتفقا بعد الدفع على أن تكون الألف قضاء من أحد الألفين فيه وجهان: أحدهما: يجوز ذلك لأنه ما كان له قبل الدفع جاز بعد الدفع. والثاني: وهو الأصح لا يجوز ذلك؛ لأن الإبراء قد حصل بالدفع فلا يجوز نقل دين بدين. وعلى ما ذكرنا قال أصحابنا: لو أقرض مشرك مشركًا بألفين فقضاه ألفًا, ثم أسلمنا فإن اتفقا على أنه دفع هذا عن الربح يقر عليه رأس المال, وإن اتفقا دفع رأس المال لم يبق عليه شيء لأنه ربح القرض يسقط بالإسلام. وإن اختلفا فالقول قول الدافع, فإن قال: لم يكن لي بينة له أن يصرف إلى أصل المال حتى لا يبقى عليه شيء على قياس قول أبي هريرة عليه نصف رأس المال وهو خمسمائة. وعلى هذا لو كان لرجلين على رجل ألف درهم فوكلا باستيفائه فدفع المديون خمسمائة [ق 265 أ] إليه وقال: هي خاصة فلان فهي له كما قال وإن لم يقل ولم ينو نظر, فإن وكله الدافع ليكون وكيله في الإيصال إلى المستحق فله الخيار بعد ذلك, بل يقول: اصرفه إلى فلان. وكذلك لو كان عين أحدهما فله أن يصرف إلى الآخر, وإن كان لم يوكل لكن دفع إليه بحكم أنه وكيل المستحقين وأطلق, فعلى الوجهين:

أحدهما: يكون بينهما تصفين. والثاني: يكون له الخيار كما ذكرنا. ولو كانت المسألة بحالها وأبرأ المرتهن من أحد الألفين, ثم اختلفا فقال الراهن: أبرأتني من الألف الذي به الرهن وقال المرتهن: لا من الألف الذي لا رهن به فالقول قول المرتهن ههنا, لأنه هو الفاعل للإبراء سواء قال: تلفظت به, أو قال: نويت, كما كان قول القاضي في المسألة قبلها. وإن أطلق فعلى الوجهين كما ذكرنا, ولو كان المالان مختلفين ألف والآخر تسعمائة والمدفوع ألف. قال بعض أصحابنا على ما قال ابن أبي هريرة: يقع من كل واحد منهما خمسمائة ويحتمل أنه على قدر المالين عند تفاوتهما, فإن قال قائل: أصل الشافعي أن الخصمين إذا تداعيا واختلفا فادعى أحدهما على صاحب نية وضمير إلا ملفوظًا وأنكر الخصم ذلك, فالقول قول المنكر ولا يمين عليه, فكيف اشترط الشافعي اليمين في هذه المسألة؟ قلنا: [ق 265 ب] الشافعي صور المسألة في لفظ اختلفا فيه لا في النية اختلفا فيه لا في نية اختلفا فيها, فأما إذا تنازعا في النية فالقول قله ولا يمين عليه وهكذا ذكره الشيخ أبو محمد الجويني. وقال القاضي الطبري وجماعة: يلزمه اليمين في النية أيضًا؛ لأنه وإن كان الكلام في النية وأقر بأني نويت كما زعمت لزمه الإقرار, وإن لم يقبل الرهن فلابد من اليمين, ولكن لو قال القابض: ما نويت ولكن أنا نويت أن يكون من المال الذي لا رهن به فههنا لا يمين على الدافع لأنه لابد عن القابض عليه شيئًا, والقول قول الدافع بلا يمين لأن الحكم لنيته لا لنية القابض. مسألة: قال: "ولو قال رهنته هذه الدار التي يديه بألفٍ ولم أدفعها إليه فغصبنيها". الفصل لو ادعى الراهن على المرتهن فقال: رهنته هذه الدار التي في يد المرتهن ولم أسلمها إليه ولكنه غصبنيها, وأنكر المرتهن الغصب فالقول الراهن في عدم التسليم؛ لأن الأصل عدمه. وكذلك لو قال: الراهن: رهنتها إياه ثم تكارها مني رجل فأنزلها المرتهن فالقول قول الراهن أيضًا. وهكذا لو قال الراهن: تكارها هو بنفسه فنزلها وما سلمتها إليه تسليم الرهن, فالقول قول الراهن أيضًا للعلة السابقة. واعلم أن الشافعي أطلق قوله في هذه [ق 266 أ] المسائل وجعل القول في جميعها قول الراهن مع يمينه, ومعلوم أن الرجل إذا أنكر غصبًا يدعي عليه فالقول قوله مع يمينه أنه غير غاصب. ومراد الشافعي في هذه المسائل أن القول قول الراهن في تسليم الرهن في جميع ما يدعيه. وأما إذا ادعى الراهن على المرتهن توابع الغصب وعهدته فالقول قول

المرتهن ما غصبتها؛ لأن الأصل عدم الغصب وبراءة الذمة كما جعل كما جعل القول في التسليم قول الراهن؛ لأن الأصل عدم التسليم وكذلك البائع إذا قال: لم أقبض فحق الحبس له فيه باق فالقول قوله وكذا الواهب. قال القفال: ولو شاهدنا أنه بعد عقد الرهن سلم العين إلى المرتهن ولم يقل خذه رهنًا ثم ادعى أنه أودعه إياها على جهة أخرى فالقول قوله مع يمينه أيضًا, وقال جماعة أصحابنا: في هذا نظر ويحتمل أن يقال: إذا أطلق القبض يقع عن قبض الرهن وكذلك في البيع يصير مسلمًا للبيع. فرع لو كان عبدان في يديه لرجلين فقال لسيدهما رهنتهما عندي بألف, فقال السيد: إنما رهنت أحدهما عندك بغير عينه لم يكن واحد منهما رهنًا, وكان الألف عليه بإقراره بلا رهن؛ لأنه لا يجوز في الأصول أن يقول: رهنتك أحد هذين العبدين نص عليه في "الأم" [ق 266 ب]. فرع آخر لو كان في يديه عبد فقال لسيده: رهنته عندي بألف دينار, وقال السيد: لا بل بألف درهم فالقول قول السيد سواء قال العبد: صدق المرتهن أولاً لأنه لا يقبل قول العبد فيه. فرع آخر لو قال: رهنتك داري بألف وقبض الدار ولم أقبض الألف منك, وقال المرتهن: بل قبضت الألف فالقول قول الراهن لأنه لم يقر بأن عليه ألفًا, فإذا حلف لا شيء عليه والدار خارجة من الرهن. فرع آخر لو كان لرجل عند رجل ألف فقال من عليه الحق: رهنتك عبدي هذا وقال المرتهن: بل رهنته عندي وعند زيد بألفين ألف لي وألف له قبلك فالقول قول الراهن. قال الشافعي: ويكون العبد رهنًا عند هذا المرتهن, قال الشيخ أبو حامد: وهذا لا يجيء على مذهبه بل نصفه يكون رهنًا عند هذا ونصفه خارج من الرهن؛ لأنه إذا أقر أنه رهنه عندهما بألفين كان نصفه رهنًا عنده ونصفه رهنًا عند الآخر, لأن عقد الواحد مع الاثنين كالعقدين المنفردين, وقول المنفردين, وقول الشافعي"كان رهنًا عنده أراد كان قدر حقه منه رهنًا

بألف, فإن قال: رهنتكه بالألف الذي قبلي, فقال المرتهن: صدقت والألف الذي أقررت به لي نصفه لزيد قبل قول المرتهن في الدين ويكون الراهن على ما اعترف المرتهن به [ق 267 أ]. [ق 267 أ] باب الزيادة في الرهن وما يحدث فيه قال: روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والرهن محلوب ومركوب". إذا رهن رهنًا كان نماؤه ومنافعه من نتاج ولبن وولد وثمرة شجر وركوب ملكًا للراهن لا حق للمرتهن فيه, وبه قال مالك, وأحمد, وروى الخرقي عن أحمد عن أحمد أنه أراد أنه اعتق المرتهن على الرهن كان له الانتفاع بقدر ما أنفق, وإن لم يأذن الراهن له في النفقة, وروى صاحب "الحاوي" عن أحمد أن جميع نماء الرهن ومنافعه ملك للمرتهن دون الراهن ينفق على الرهن فالنماء والمنافع له, وإن كان المرتهن المنفق فكله له, وبه قال قوم من أهل المدينة. وروي عن أحمد, وإسحاق أنهما قالا: للمرتهن أن يشرب من لبنها. وقال أبو حنيفة: المنافع تعطل فلا ينتفع به الراهن ولا المرتهن والنماء والنماء المتميز منه مرهون كالأصل. وهذا غلط لما روى أبو هريرة رضي الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الرهن محلوب ومركوب, وعلى الذي يحلبه ويركبه نفقته" ومعلوم أن نفقة الرهن على راهنه فكذلك له كربه. ودره أيضًا. قال الشافعي: أصل المعرفة [ق 267 ب] بهذا الباب أن للمرتهن حقًا في رقبة الرهن دون غير. ومما يحدث مما يتميز عنه غيره, ومعناه أن وثيقته متعلقة بالرقبة لا بزوائده, فإذا حدث زيادة ممتازة فهو غير الرهن ولاحق له فيما هو غير الرهن. وأما الفوائد التي هي غير متميزة كالسمن والكبر تكون رهنًا مع الأصل لأنه لا سبيل إلى تمييزها. وحكي عن مالك أنه قال: ما كان من جنس الرهن كالولد يدخل في الرهن وما لم يكن من جنسه كالثمار لا يدخل في الرهن. وهذا غلط لأن كل واحد منهما نماء متميز لا فرق بينهما. فرع الصوت الحادث بعد عقد الرهن للراهن يستوفيه وينتفع به, وأما الصوف الذي كان

موجودًا وقت الرهن, قال الشافعي: لا يدخل في الرهن وكذلك اللبن الموجود وقت العقد, وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. قال الربيع: وفيه قول آخر يدخل كلاهما في الرهن وإنما لا يدخل ما يحدث من بعد. فعلى هذا إن احتاج إلى جزه جزه الراهن ويضع رهنًا مع الشاة واللبن المتسارع إليه الفساد, فيبيع ذلك اللبن الموجود عند العقد ويضع ثمنه رهنًا مع الشاة, وهذا اختيار بعض أصحابنا بخراسان. واختلف أصحابنا في هذا فمنهم من قال: فيهما قولان, وقيل: هذان القولان مبنيان على أنه إذا رهن [ق 268 أ] أرضًا وفيها غراس هل يدخل الغراس في الرهن؟ قولان. وقال بعض أصحابنا: قولاً واحدًا, لا يدخلان فيه, وما ذكره من كيسه؛ لأن الصوب واللبن نماء متميز فلا يدخل في العقد وإن كان موجودًا وقت العقد كالولد. وقال ابن أبي هريرة: يدخل الصوف دون اللبن؛ لأن الصوف متصل يستبقي بخلاف اللبن. فرع آخر قال أصحابنا: كل شجرة يقصد ورقها كالآس والورد والتوت أو يقصد غصنها كالخلاف فحكمها حكم الصوف واللبن لا يدخل في الرهن على ما نص عليه الشافعي في الصوف واللبن. فرع آخر لو أتت المرهونة بولد من زنا أو زوج أو ولدت البهيمة, وقد ذكرنا أن ذلك الولد لا يدخل في الرهن ويكون الولد في يده أمانة وهل له استدامة إمساكه بغير إذن الراهن؟ قال أصحابنا: في ولد الوديعة يكون أمانة وهل له إمساكه بغير إذن المودع؟ وجهان وكذلك ههنا. ثم اعلم أن الشافعي لما تكلم ههنا في ولد المرهونة. ذكر بعض أصحابنا في هذا الموضع حكم الأولاد ما يتبع أمه منها وما لا يتبع فقال: أما ولد المبيعة إن حدث بعد البيع يكون ملكًا للمشتري من حيث إن الأم ملكه, وإن كان موجودًا عند البيع دخل في البيع قولاً واحدًا, وهل يأخذ قسطًا من [ق 268 ب] الثمن؟ قد ذكرنا قولين. ولا يجوز للبائع حبسه لاستيفاء الثمن بل يلزمه تسليمه إلى المشتري على ما ذكرناه من قبل, وأما ولد المقبوضة سومًا مضمون كالأم سواء قولاً واحدًا وأما ولد العارية هل يضمنون؟ وجهان: أحدهما: مضمون كولد المغصوبة. والثاني: لا يكون مضمونًا, ثم في أحد الوجهين يلزمه رده إلى صاحبه ولا يجوز له حبسه مع قدرته على رده في الوجه الثاني لا يلزمه رده حتى يطالبه صاحبه كما قلنا في ولد

الوديعة في أحد الوجهين, وأما ولدت قبل موت الموصي لا يدخل في الوصية, وإن ولدت بعد موت الموصي وقبول الوصية فهو للموصي له, وإن ولدت قبل قبوله فهو مبني على القولين فإن قلنا: يملك بالقبول فهو للوراثة, وإن قلنا: مراعى فإن قيل كان له وإن رد كان للورثة, وأما ولد الوديعة فالصحيح أنه لا يكون وديعة لأنه لم يوجد منه قبول في استحفاظه, وقد حصل في يده, من غير اختيار صاحبه فهو في معنى الثوب تلقيه الريح في داره لا يجوز له إمساكه مع القدرة على رده؛ فإن أمكنه رده فأمسكه مع القدرة على رده فعليه ضمانه, وفيه وجه آخر يكون وديعة كالأصل, وأما ولد الأضحية يدخل في حكمها قولاً واحدًا, وأما ولد المكاتبة فيه قولان: أحدهما: [ق 269 أ] مملوك للسيد يتصرف فيه. والثاني: موقوف يعتق بعتقها, ولا نقول على هذا القول إنه داخل في عقد الكتابة ويكون مكاتبًا كالأم, بل يكون موقوفًا مع الأم لا يجوز للسيد التصرف فيه, فإن أردت مال الكتابة عتقت وعتق الولد تبعًا, وإن عجزت وفسخت الكتابة عادت رقيقة كما كانت والولد يصير رقيقًا له يتصرف فيه كيف يشاء, وفي ولد المدبرة قولان, وفي ولد المعتقة بصفة قولان: أحدهما: هو لسيدها. والثاني: يتبع الأم في الصفة وفي واد أم الولد لا خلاف أنه يتبعها في حرمة الولادة يعتق بموت الأم. مسألة: قال: "وكذلك سكنى الدار وزرع الأرض". الفصل: قد ذكرنا أنه لا يجوز للراهن الانتفاع بالمرهون ومنافعه له, والآن نتكلم على التفصيل, فإذا رهن دارًا فسكناها الراهن, فإن أراد أن يكريها كان له ذلك ولا يجوز أن يزيد مدة الإجارة على محل الحق سواء قلنا بيع المؤاجر لا يجوز أو قلنا يجوز؛ لأنا وإن جوزنا فالإجارة تنقص الثمن فيكون ضررًا على المرتهن, ولو كان الرهن إلى سنة فأجر أكثر من سنة فيه قولان بناء على جواز بيع المؤاجر. فإذا قلنا: لا يجوز فهي باطلة فيما زاد على السنة وفي السنة قولان بناء على تفريق الصفقة, وإذا قلنا: يجوز صحت الإجارة [ق 269 ب] ثم ينظر, فإن لم يكن يوكس في ثمن الرهن فهي لازمة في جميع مدتها وليس للمرتهن الاعتراض فيها, وإن كانت توكس بطلت فيما زاد على السنة, وهل يعطل في السنة؟ قولان لأن ما فعله الراهن مما يوكس في ثمن المرهون مردود كتزويج الأمة سواء رضي بذلك المرتهن فيما بعد أم لا, وإن أراد

إعادتها فله ذلك قولاً واحدًا, وإن أراد أن يسكنها بنفسه أو كان عبدًا فأراد أن يستخدمه بنفسه, قد ذكرنا فيه طريقين, ومن أصحابنا من قال: ليس للراهن استخدام العبد بنفسه إذا لم يكن ثقة قولاً واحدًا بخلاف سكنى الدار على أحد القولين لأنه يقدر على إخفاء العبد دون الدار, وإذا جوزنا ذلك فالحكم في الدار والعبد سواء في فصل واحد وهو أن العبد يكون عند من يستخدمه نهارًا ويأوي بالليل إلى من يمسكه رهن, والبهيمة كالعبد سواء بعد أن يركبها أو يكريها بحيث لا يزول سلطان المرتهن عنها في جوف البلد ونحوه, ولا يجوز له إخراجها من البلد إلا بإذن المرتهن, وأما رهن الأمة فكالعبد سواء إلا في فصلين: أحدهما: لا يكون إلا عند امرأة ثقة جاز تركها في يده باتفاقهما, فإذا كانت عنده امرأة ثقة يمنعه ذلك من الخلوة بها, فإن لم يكن عنده امرأة ثقة أو لم يكن عند العدل [ق 270 أ] ذلك لا يجوز وضعها على يده لأنه يحصل بها الخلوة, وإذا اتفقا على ذلك لا يجوز أيضًا, ولا فرق بين أن تكون جميلة أو لا, ولو رهن جارية ولم يشرط في عقد الرهن من تكون عنده الجارية. قال بعض أصحابنا: يجوز وجهًا واحدًا وفيما عدا الجارية وجهان, والفرق أن ما عداها يجوز أن يكون عقد المرتهن ويجوز أن يكون عند غيره, والجارية لا يجوز إلا أن تكون ثقة من النساء أو عند من عنده امرأة فلا يضر ترك الشرط وحمل مطلق العقد على وضعها في يد امرأة ثقة. والثاني: أنه إذا أراد السيد أن يستخدمها نظر, فإن كانت لها صنعة أراد استعمالها في الصنعة في بيت المرأة الموضوعة على يدها جاز, وإن أراد أن يستخدمها في بيته, ثم ترد إلى المرأة الثقة التي وضعت على يدها نظر, فإن كانت بكرًا لم تدفع إليه؛ لأنا لا نأمل من أن يطأها فيذهب بكارتها فيكون ذلك نقصان في ثمنها, وإن كانت ثيبًا, فإن كانت ممن تحبل فكذلك لا يجوز له أن يخلو بها؛ لأنا لا نأمن أن يطأها فيحبلها فيؤدي إلى نقصان ثمنها وتلفها, وإن كانت ممن لا تحبل لصغرها أو كبرها, فإن قلنا: يجوز وطئها يجوز أن يخلو بها ويستخدمها, وإن قلنا: لا يجوز ذلك لا يجوز هذا مخافة الوطء ولا يجوز له تزويجها لأنه [ق 270 ب] ينقص من ثمنها خلافًا لأبي حنيفة, ويجوز له أن يكريها امرأة ثقة تخدمها, وكذلك لا يجوز له تزويج العبد المرهون؛ لأن فيه ضررًا, وإن كان ثوبًا لم يكن له لبسه لأنه يضر به ويترك في يد المرتهن ليلاً ونهارًا. وكذلك ما ينتفع به مع بقاء عينه كالحنطة ونحوها تترك في يد المرتهن, وإن كان الرهن أرضًا بيضاء فمنافعها للراهن, فإن أراد البناء والغراس لم يكن له, وإن خالف وفعل فقد أساء, ولا يقلع حتى يعلم ما يكون عند محل الحق على ما بيناه, ولو قال: اقلعه وانقضه إذا حل الحق لا يمنع منه إلا أن تنقص قيمته بذلك فيمنع, قال الشافعي: ولو أراد الراهن أن

يحدث فيها عينًا أو يحفر بئرًا, فإن كانا يزيدان ولا ينقصان لا يمنع, وإن كانا ينقصان يمنع ولو أراد أن يزرعها نظر, فإن كان زرعًا يضر بالأرض منع منه, فإن زرع لم يقلع لجواز أن يقضي الحق, وإذا حل الحق والزرع باق في الأرض فالحكم فيه كالحكم إذا رهن أرضًا, ثم غرسها على ما ذكرنا, وإن أراد أن يزرعها لا يضر بها فله ذلك إذا كان مما يحصد قبل محل الحق, وإذا كان الزرع فيما يتأخر, قال الشافعي: "ليس له ذلك" قال الربيع: فيه قول آخر إن له ذلك لإمكان قلعه إذا حل الحق ولم يحصده, قال بعض أصحابنا: فيه قولان, فإن قلنا: [ق 271 أ] لا يجوز يمنع, وإن قلنا: يجوز بيعها دون الزرع لا يمنع, ثم إذا زرع, وحل الحق فإن قضاه الحق ترك زرعه, وإن لم يقضه بيعت الأرض, فإن كان بيعها مع بقاء الزرع فيها وفاء لم يقلع وبيعت من مون الزرع, وإن لم يكن وفاء أخذ بقلعه إلا أن يجد من يشتريها منه بحقه على أنه يقلع الزرع ثم يقر المشتري الزرع في أرضه إن شاء متطوعًا, وإن كان بهيمة فأراد جز صوفها, ينبغي أن يجز في وقت لا يضر بالماشية ويستبقي ما يكون حفظًا. ولو رهنه نخلاً كان للراهن تأثيرها وتصريف جريتها وما يتساقط خارج من الرهن كالجريد والليف والعراجين؛ لأن كل هذا كالنماء الذي لا يتميز, وإن قيل: هذه الأشياء كانت حال العقد ولم تحدث بعد الرهن قيل: ما حدث منها قام مقامها وصار بمنزلة المنفعة خارجًا عن الأصول فكان للراهن, وإن كانت النخيل مزدحمة فأراد الراهن نقلها وتحويلها من ذلك المكان إلى مكان آخر من الأرض التي هي رهن معها لم يكن له سواء قبل التحويل أو لم يقبل. ولو أراد تحويل البعض ليزول الازدحام وكان فيه نفع لما يبقى يجوز ذلك له, والفرق أن في تحويل البعض مصلحة متيقنة بخلاف تحويل الكل حتى لو تيقنا هناك أنه أحمد للعاقبة وثبتت [ق 271 ب] حقيقته له ذلك في غير أرض الرهن لا يجوز بحال, فإن ثبت الذي حوله فلا كلام وإن لم يثبت فهو جذع مرهون مع الأصل لو كان قائمًا كالجذوع أو الجمار والقلوب فهو رهن معها, وكلما كان قائمًا كالليف والكرانيف لم يكن رهنًا فكذلك إذا قطع لم يكن رهنًا, فكذلك إذا قطع لم يكن رهنًا, وكذلك التفت نخلة وقالوا: إن حولت إلى محل آخر من الأرض المرهونة انغرست للراهن ذلك, وإن قيل: لا تنغرس أو أراد نقلها إلى أرض غير مرهونة ليس له ذلك إلا برضي المرتهن. مسألة: قال: "وعليه مؤنة رهونه". إذا كان الرهن عبد أو أمة أو بهيمة فالنفقة من الطعام والشراب والعلب ونحوها على الراهن, قال صلى الله عليه وسلم: "له غنمه وعليه غرمه".

وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لبن الدر يحلب بنفقته إذا كان مرهونًا, والظهر يركب بنفقته إذا كان مرهونًا, وعلى الذي يركب ويحلب النفقة". وروى نحو قلنا عن الشعبي, وابن سيرين, فإن قيل: أليس قلتم في الأمة المزوجة نفقتها على زوجها وملكها ومنفعتها للسيد فناقضتم الاستماع للزوج, وإذا سلمنا إلى الزوج .... معه فعلى [ذلك فإن] الاستماع من منفعتها تبطل على سيدها فلهذا أوجب النفقة على زوجها, ولو مرض المرهون واحتاج إلى الدواء وجب على الراهن ذلك. وقال أبو حنيفة: نفقة المطعم والمشرب على الراهن ونفقة المراعاة والحفظ على المرتهن, ونفقة الدواء [ق 272 أ] معتبرة بقيمة الرهن, فإن كانت بقدر الحق أو الحق أو أقل فهو للمرتهن, وإن كانت قيمة الرهن أكثر من الحق فهي على الراهن والمرتهن بالقسط, مثاله أن يكون الحق بقيمة نصف الرهن فالنفقة بينهما نصفان وهكذا قال في أجرة راد الآبق من الإباق, وهذا مبني على أصله أن يد المرتهن يد ضمان, وهذا غلط للخبر الذي ذكرنا, ولأنه من مؤنة الرهن فكان على الراهن كالنفقة. فرع لو امتنع الراهن من علاجه لا يجبر عليه لأنه قد يبرأ بغير علاج, وإن احتاج إلى فصد أو حجامة فللراهن ذلك لأنها غير مخوفةٍ في العادة. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أرخص لأبي كعب رضي الله عنه في الفصد. وقيل: الفصد أخوف من الحجامة ولكن من العادة كلاهما غير مخوف, وقد قال صلى الله عليه وسلم: "قطع العروق مسقمة" والحجامة خير منه, فإن لم يكن حاجة يمنع من الفصد ولا يمنع من الحجامة لاستبقاء الصحة. فرع آخر لو قال المرتهن: أنا أتولى المعالجة بعد امتناع الراهن عنها, فإن قال بشرط أن على الراهن ما أنفقه لم يكن له, وإنه قال: أتطوع به فإن كان فيه مصالحة ولا يخشى منه التلف لا يمنع منه. فرع آخر لو مات فكفنه وتجهيزه على الراهن؛ لأن المؤن بعد الموت يجب على من تجب النفقة في حياته. مسألة: قال: "والفرق بين الأمة تعتق أو تباع ولدها وبين [ق 272 ب] الرهن أنه

إذا أعتق أو باع زال ملكه, وحدث الولد في غير ملكه, وإذا رهن فلم يزل ملكه وحدث الولد في ملكه". الفصل: قصد به الرد على أبو حنيفة حيث قال: ولد المرهون يدخل في العتق: ففرق الشافعي بينهما بما ذكر, وهو فرق صحيح وقاس على ولد المؤاجرة لا يتبعها في الضمان. مسألة: قال: "وأكره رهن الأمة إلا أن توضع عبى يدي امرأة تقةٍ". الفصل: رهن الإماء في الجملة لما يخشى عليها لما يخشى عليها إلا أن يوضع على يدي امرأة ثقة فيؤمن ما يخشى عليها, وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم: لا يخلون رجل بامرأة فإن الشيطان ثالثهما" فإن خالف وشرط أن تكون عند المرتهن فالشرط باطل على ما ذكرنا, ولكن لا يبطل الرهن لأنه لا يعود إلى ضرر في حق أحد المتعاقدين. مسألة: قال: "ولو كان الرهن ماشيةً فأراد الراهن أن ينزي عليها". الفصل: إذا رهن ماشية فحولة, ثم أراد أن ينزيها على إناث ليست بمرهونة كان له؛ لأن ذلك نماء الفحولة, وإن كانت الماشية المرهونة إناثًا فأراد أن ينزي عليها فحولة ..... وإن قلنا للحمل حكم ولا يباع حتى تضع نظر, فإن كان الوضع يتقدن على حلول الحق كان له ذلك, وإن كان يتأخر فليس له ذلك, لأنه يمنع المرتهن من بيعها, فإن خالف فأنزي عليها فحملت فإنها لا تباع حتى تضع, ثم تباع الأم مع الولد فيعطى المرتهن قيمة [ق 273 أ] الأم حائلاً كما قلنا في الأرض إذا رهنها بيضاء فعرس فيها نخيلاً. وقال بعض أصحابنا: هذا على قول من قال من أصحابنا إن الحمل في البهائم زيادة من كل وجه, فإذا قلنا: الحمل نقص في البهائم لأنه يهزل اللحم يجب أن لا يكون للراهن أن ينزي عليها بحالٍ إلا بإذن المرتهن, وإن كان ظهور الحمل بعد محل الحق

يجوز أيضًا؛ لأنا لا ندري عند حلول الحق أنها حملت أن لا. فرع إذا أراد الراهن أن يرعى ماشيته لم يكن للمرتهن منعه من ذلك إلا أنها تأوي بالليل إلى يد الموضوعة على يده, وأما المرتهن أو العدل ولو أراد أحدهما أن ينتجع نظر, فإن الموضع مخصبًا لا حاجة بها إلى الانتجاع لم يجز نقل الماشية إلا برضاهما, وإن كان الموضع مجدبًا فأيهما أراد أن ينتجع كان له؛ لأن في مقامهما فيه إضرارًا بها, فإن كان المستنجع الراهن كان المرتهن بالخيار بين أن يسلمها إليه ويرضى بأمانته وبين أن يسلمها إلى ثقة غير الراهن, وإن انتجعا إلى جهة واحدة ترك الرهن في يد المرتهن كما كان, وإن انتجعا إلى جهتين مختلفتين, قال الشافعي: يكون في الجهة التي يكون الراهن فيها؛ لأن منافعه له ويكون على يد عدلٍ إن لم يرض المرتهن أن يكون في يد الراهن. فرع آخر لو رهن عبدًا ثم أراد أن يختنه, قال الشافعي: كان له وبيس للمرتهن [ق 273 ب] منعه؛ لأن ذلك سنة وزيادة وليس فيه نقص وكذلك الجارية. وقال في "الأم": لو رهن عبدًا أو أمة صغيرين لم يمنع أن يعذرهما لأن ذلك سنة فيهما. وأراد أنه ثابت بطريق السنة لا أنه غير واجب, ويحتمل أنه أراد سنه في هذا السن واجب على البالغ, وقال أصحابنا: هذا إذا كان يبرأ قبل محل الحق فيستكمل برؤه ويعود لونه, وإن كان لا يبرأ لا يجوز له أن يفعله بغير إذن المرتهن؛ لأن ذلك يغير اللون وينقص الثمن. وكذلك إذا كان الحق حالاً ليس له, وإذا جوزنا له ذلك فإنما يجوز في هواء معتدل لا حر شديد ولا برد مفرط؛ لأنه مخوف في الحر والبرد. فرع آخر لو أراد أن يقطع منه شيئًا مثل السلعة أو قطع الطرق للأكلة, فإن خشي من تركه التلف ويرجى من قطعة السلامة كان له قطعه ولم يكن للمرتهن منعه, وإن كان من تركه ومن قطعه التلف من يكن لواحد منهما قطعه, وإن اتفقا على قطعه جاز لهما, وإن كان لا يخشى من تركه ويخشى من قطعه ولكن الغالب السلامة فيه وجهان, وقال أبو إسحاق: ليس له ذلك, واختاره القاضي الطبري؛ لأنه الغالب فيه المنفعة والصلاح, فصار كالمتيقن صلاحه ومنفعته, وإن كان إذا قطعه يزيد في قيمته كالأصبع الزائدة التي إذا قطعها يزيد في قيمته ويخاف من قطعها التلف ولا يخاف من تركها الضرر لا يجوز لواحد منها قطعه [ق 274 أ] لأنه تعريض للتلف من غير حاجة, فإن كان الغالب السلامة فعلى ما ذكرنا من الخلاف.

باب رهن الرجلين الشيء الواحد من الرجل

فرع آخر لو كان الرهن دابة فاحتاج إلى توديج أو تبزيغ أو تعريب, قال الشافعي: للراهن فعله وليس للمرتهن منعه منه والتوديج للدابة مثل الفصد للآدمي والودجان: عرقان غليظان عريضان عن يمين نقرة النحر ويساره والوريدان بجنب الودجين لا يجري فيهما الدم. وأما التبزيغ: فهو فتح الرهصة وهو الماء يجتمع في الحافز. يقال: بزغ البيطار الرهصة وذلك من الشق, ولهذا يقال: بزغت الشمس إذا طلعت. وأما التعريب: أن يشرط البيطار إشعار الدابة شرًا خفيفًا لا يضر بالعصب ثم يعالجها والأشاعر فوق الحافر, وهذا كله جائز للراهن لأن فيها مصلحة لملكه من غير ضرر. فرع آخر لو جني على العبد المرهون, فأخذ الأرش حيوانًا له أن ينتفع به ويكون رهنًا, ولو أراد مصالحة الجاني من ....... على عرص لم يكن له إلا برضي المرتهن. فرع آخر لو كان الرهن ثمرة فاحتاجت إلى إصلاح وتسوية وسقي وجداد كان على الراهن كعلف الدابة, وأن تشميتها قال في "الأم": "عليه التشميس وقال في موضع آخر: ليس عليه ذلك وهما في حالين فالذي قال عليه ذلك إذا كان الحق مؤجلاً, والذي قال ليس عليه ذلك إذا كان الحق حالاً, ولو أراد أن يحمل على [ق 274 ب] الدابة المرهونة ما يكدهما أو يكري الدار المرهونة من القصارين والحدادين ليس له ذلك لأنه يضر بالمرتهن. باب رهن الرجلين الشيء الواحد من الرجل والرجل يرهن الشيء الواحد من رجلين مسألة: قال: " وإذا رهناه عبدًا بمائةٍ وقبض المرتهن فجائز". إذا كان بين رجلين عبد فرهناه بمائة درهم عند رجل له عليهما جاز الرهن كما يجوز البيع, ويحتاج إلى قبض وتسليم كما نقول في رهن الواحد, وكذلك لو راهناه على التعاقب صح الرهن بعد الرهن. ووافقنا أبو حنيفة في المسألة الأولى, وخالفنا في الثانية؛ لأنه يمنع رهن المتاع ويقول في المسألة الأولى: ليس برهن مشاع, وإذا رهنا هكذا يكون بمنزلة عقدين؛ لأن في أحد طرفيه عاقدين, فإذا وفاه أحدهما دينه أو بريء منه أنفك نصيبه من الرهن, ثم

ينظر, فإن كان مما ينقسم ويتساوى أجزاؤه كالحبوب وما يكال ويوزن يجبر شريكه على مقاسمته, وإن كان عبدًا أو مواشي لا يجاب إلى القسمة؛ لأنها أعيان مختلفة والقسمة فيها مناقلة الملك للمرتهن منعهما منه, وكذلك إذا كان حجرتان فأراد أن ينقسما على أن يتعين حق كل واحد منهما في حجرة منفردة فللمرتهن منعهما, فإن كان الرهن براحًا أجزاؤه متساوية في القيمة كان بمنزلة الحبوب, وإن كان دارًا فطالب أحدهما بالقسمة [ق 275 أ] أجبر الآخر عليها إذا لم يكن رهنًا, وإن كان رهنً فيها وجهان: أحدهما: لا يجبر لأن ثمن نصفهما مشاعًا أكثر من ثمن نصفها مقسومًا. والثاني: يجبر ولا يعتبر رضي المرتهن؛ لأن هذا الضرر لا يتبين فيها, فإذا قيل: قيد الشافعي كلامه بقوله معًا فقال: "إذا رهناه معًا عبدًا بمائةً". فما فائدة هذا التقييد إذا كان يصح الرهن سواء رهناه معًا أو أحدهما بعد الآخر على التعاقب؟ قيل: إنما قيد هكذا ليوافق مسائل الباب ترجمة الباب؛ لأنه ترجم الباب برهن الرجلين الشيء الواحد من الرجل الواحد, وأيضًا فائدته التنبيه على موضع الإجماع لأنهما إذا رهناه معًا كانت مسألة إجماع, وإذا ترتب العقد إن كانت مسألة خلاف على ما ذكرنا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن كان مما يقسم بالأجزاء فعلى قولين بناء على أن القسمة بيع أو إقرار حق, فإن قلنا بيع لا يجوز لأنه بيع المرهون بغير المرهون, فإن يبيع نصف هذا بنصف ذاك, وإن كان مما يقسم بالقيمة لا يجوز قولاً واحدًا [3/ 151] نص عليها لأنها بيع. قال الشيخ أبو بكر الصيدلاني, ذكره القفال, والذي في حفظي عنه أنه متى ما لم يكون في القسمة رد شيء فهو على القولين, وإن احتاجت إلى رد شيء يكون بيعًا قولاً واحدًا, وقول الشافعي ههنا: كان الذي افتك نصفه أن يقاسم المرتهن بإذن شريكه على قولنا إنه إفراز حق [ق 275 ب] غير أن الشافعي شرط إذن الشريك. وقال بعض أصحابنا: لا يشترط ذلك بل هو استحباب لا يجبر عليها عند الامتناع, والصحيح أنه لابد من الإذن غير أنه إن امتنع من الإذن يرفعه إلى الحاكم حتى يجبر شريكه على القسمة والأصح ما ذكرنا فيما تقدم. مسألة: قال: " ولو رهنه من رجلين بمائةٍ وقبضاه فنصفه مرهون لكل واحدٍ منهما". صورته: أن يكون لرجلين على رجلين ألف درهم لكل واحد منهما ألف فرهن عندهما شيئًا بألف فالرهن صحيح كالبيع وكان بمنزلة الصفقتين, فإن اتفقا على أن يكون

في يد عدل فقبضه العدل صح قبضه لهما, وإن وكلا رجلاً بقبضه لهما صح, وإن وكل أحدهما صاحبه بقبضه صح قبضه لهما, ثم إذا صار مقبوضًا فقضى دين أحد المرتهنين وأبرأه منه خرج نصفه من الرهن لم ذكرنا, وعند أبي حنيفة: يجوز هذا الرهن ولكنه موهون عند كل واحد منهما بتمامه, وإذا قضى دين أحدهما لا ينفك منه شيء, وهذا خطأ لأنه يقول: على كل واحد منهما ضمان نصفه, فإن الرهن عنده مضمون فلو كان كما قال لكان على كل واحد منهما ضمان كله. مسألة: قال: "ولا يجوز أن يأذن رجل لرجلٍ في أن يرهن عبده إلا بشيءٍ معلومٍ". الفصل: قد ذكرنا هذه المسألة وهذا جواب على أن يجري مجرى الضمان, ثم إن لم يكن المرتهن عالمًا بأن العبد [ق 276 أ] مستعار فله الخيار في فسخ البيع المشروط فيه هذا الرهن. إذا قلنا إنه عارية واسترده ولا يبطل خياره بأن يأتي الراهن أو المعير بعبد آخر يجعله مكانه إلا أنه يقضي الدين في الحال فيبطل به الخيار, ولو حل الحق والراهن معسر فقال المرتهن: أنا أنظر ولا أطالب الراهن بحقي. قال له: إما أن تقبض حقك, وإما أن ترضى بدين لا رهن به وترد الرهن علي, كالمضمون عنه إذا مات والدين مؤجل فقد حل عليه بموته ولم يحل على الضامن, فإن لم يطالب صاحب الدين بحقه من ورثة الميت يقول: إما أن تطلب حقك فتأخذه , وإما أن تبريني من الضمان إذ لا آمن أن يحل الحق علي فيطالبني به وقد تلفت التركة فلا يمكنني الرجوع بشيء, ذكره أصحابنا بخراسان, وقال الشيخ أبو محمد الجويني في المنهاج: ولو طالب المستعير الراهن السيد المستعير بانفكاك ذلك الرهن كان له مطالبته به, لأن ذلك من توابع إذنه, قال: وهذا معنى قول الشافعي ههنا ثم أراد أخذه بافتكاكه وكان الحق حالاً كان له ذلك" ويحتمل غير هذا المعنى واللفظ مشكل والأولى به ما ذكرت. قال: وإذا طالب المعير بالانفكاك كان بالخيار بين أن يقضي ذلك الدين من مال نفسه وافتك عبده, ثم رجع بما قضى على المستعير, وبين أن يسلم العبد للبيع [ق 276 ب] حتى يرقى للغريم حقه من ثمنه, ولو امتنع الغريم عن قبض الحق من مال العين له ذلك لأنه ليس بغريم له, ومن يتبرع بقضاء دين على رجل لم يجب على ري الدين قبوله ولا يقال له: إما أن تقبض أو تبرئ بخلاف المديون إذا أراد القضاء أجبر رب الدين على القبض أو الإبراء , وإذا امتنع من قبض الدين من سيد والراهن معسر بيع العبد, وإن كان حالاً لهذا السيد العبد الذي له الامتناع من ماله؛ لأن حق الرهن متعلق برقبته, والرقبة محل الضمان, وليست ذمة السيد محل

الضمان, هذا معنى قوله: "وإن لم يرد ذلك الغريم أسلم عبده". أي لم يرد الغريم قبض الدين من المعير أسلم المعير عبده المرهون ليباع في الدين, وهذا في الإشكال كالأول. ويحتمل أن يقال: معنى قوله: " وإن لم يرد ذلك الغريم أسلم عبده المرهون". أي علم المرتهن في الانتماء أن ذلك العبد المرهون لم يكن ملك الراهن, وإنما كان مستعارًا ولم تطب نفسه بقبض حقه من ثمن ذلك الرهن أسلم العبد المرهون, أي فكه وطلب حقه من الرهن المستعير, والذي يؤيد الاحتمال أن الشافعي قال: وتبع في ماله حتى يوفي الغريم حقه, وإن لم يرد ذلك الغريم أسلم عبده المرهون". فظاهر هذا الكلام أن الغريم إن لم يرد بيع ذلك العبد بشبهه وكراهة في ثمنه رده على [ق 277 أ] سيده وطلب حقه من محله, ويحتمل أن يكون معنى قوله: ثم أراد أخذه بافتكاكه وكان الحق حالاً كان ذلك له". أي أراد مرتهن العبد أخذ الراهن بالافتكاك وقضى الدين كان ذلك له إذا كان الدين حالاً, وإن لم يقبضه بيع في ماله أي بيع في دينه حتى يوفي الغريم حقه, ثم قال: "وإن لم يرد ذلك الغريم أسلم عبده المرهون". إذا حل الحق ورضي مرتهن العبد بترك المطالبة وتأخير حقه فليرد العبد على سيده على ما ذكرنا من قبل, وهذا أولى عند جماعة أصحابنا بالعراق. مسألة: قال: "ولو رهن عبده من رجلين وأقر لكل واحدٍ منهما بقبضه". إذا رهن عبده عند رجلين وأقر لكل واحد منهما بالرهن والقبض, فادعى كل واحد منهما أن رهنه وقبضه كان قبل صاحبه لا يخلو من أربعة أحوال: إما أن يكون في يد الراهن, أو في يد العدل, أو في يد المرتهن, أو في يدهم فإن كان في يد الراهن فأقر به لأحدهما دفع الرهن إليه, فإن طلب الآخر يمينه هل يحلف أم لا؟ فيه قولان: أحدهما: لا يحلف لأن اليمين تعرض على الإنسان ليرتدع فيرجع عما قوله إلى الحق, وإن رجع ههنا عن أقواله لم يقبل منه فلم يكن لعرض اليمين عليه فائدة وهو الصحيح. والثاني: يحلف لأنه ربما ينكل عن اليمين [ق 277 ب] فترد اليمين عليه فيصير

مساويًا لصاحبه, فإذا قلنا: يحلف فحلف فالمقر له أولى بالرهن, وإن نكل عن اليمين رددنا اليمين عليه, فإن نكل فالحكم على ما بيناه, وإن حلف فيه ثلاث أوجه: أحدهما: الرهن ينفسخ لأنهما قد تساويا فحصل أحدهما اليمين بالنكول والرد وللآخر الإقرار, ولا نعلم أيهما الأول فانفسخ الرهن إذ لا يمكن أن يجعل كله مرهونًا عند كل واحد منهما. والثاني: يكون بينهما نصفين لتساويهما فيه. والثالث: يكون المقر له أولى بالرهن, ويجب على الراهن الآخر قيمة الرهن تكون رهنًا عنده بحقه قصاصًا منه؛ لأن رد اليمين بعد النكول بمنزلة الإقرار, كما لو أقر للثاني ههنا بعدما أقر للأول, وكما لو رهنه ثم أقر أنه كان قد جني على رجل ادعاها المجني عليه لم يقبل قوله وألزماه قيمته له في أحد القولين, وكذلك في مسألة الغصب إذا قال: غصبت هذه الدار من فلان لا بل من فلان, وفيه قول مخرجٍ أنه لا يغرم للثاني شيئًا, وكذلك لو أقر لواحد, ثم أقر للثاني لا يقبل ولا يغرم الثاني شيئًا وهو الصحيح, لأنه أقر للثاني بما لزمه ويجوز أن يخفي عليه في الأول ولم يتلف مالاً فلا يلزمه الغرم, وإن كان الرهن في يد العدل فهو بمنزلة ما لو كان في يد الراهن لا فرق بينهما [ق 278 أ] وإن كان الرهن في يد أحد المرتهنين فإن أقر به للذي هو في يده فإنه أولى به لأنه قد اجتمع إليه وإقرار الراهن وهل يحلف الراهن للآخر قولان على ما ذكرنا, وإن أقر للذي في يده فيه قولان: أحدهما: إقرار الراهن أولى من اليد فينزع من يد من هو في يده ويسلم إلى الآخر؛ لأن اليد في الرهن لا تفيد شيئًا, فإن يد المرتهن يد الراهن فلا تقوى بيده دعواه, ولأن تحت قوله: إن الآخر هو الذي رهنته وأقبضته, أو لأن الذي في يد الراهن غاصب للرهن, وأن قبضه ليس بصحيح, ولو اختلفا فقال الراهن: غصبتنيه, وقال المرتهن: بل قبضه منك كان القول قول الراهن, وإن لم يكن لهذه حكم فدل على ما قلناه. والثاني: أن صاحب اليد أولى, كما إذا باع رجلين وسلمه إلى كل واحد منهما والمبيع في يد أحدهما فأقر به لمن ليس في يده, فإن صاحب اليد أولى من المقر له والأول أصح. قال المزني: أولاً أصح القولين أن المصدق أولى من صاحب اليد لأنه حق من الحقوق اجتمع فيه إقرار المرتهن ورب الرهن. وأراد دعوى المرتهن وإقرار الراهن فاستجاز تسمية الدعوى إقرارًا وليس بالعبارة المستحسنة, ثم اختار الثاني وهو أن الرهن عند [ق 278 ب] من هو في يده؛ لأن الراهن قد أقر له بالقبض كما لو أقر لصاحبه وله فضل يد على صاحبه فلا يقبل عليه دعوى الراهن من بعد, ثم قال: إلا أن يقر الذي في يديه أن كل واحدٍ منهما قد قبضه فيعلم بذلك أن قبض صاحبه قبله".

ومعناه: أن الذي في يده الرهن من هذين الخصمين المتداعمين إن أقر بأن كل واحد منهما قد قبضه أبطل بهذا الإقرار دعواه ولزمه دفع الرهن إلى صاحبه ليكون رهنًا عنده, وذلك أن الرهن إذا كان الآن في يده وهو مقر أن صاحبه قد قبض استقينا أن قبض صاحبه قبل قبضه والمتقدم من القبضين هو الصحيح والمتأخر منهما غصب, قال أصحابنا: الذي رجع عنه المزني أصح لما بينا أن يد المرتهن لا تفيد شيئًا, وإن كان الرهن في أيديهم جميعًا, فإن نصف الرهن يكون للمقر له أولى به, لأنه قد اجتمع له في يده وإقرار الراهن, وهل حلف الراهن للآخر؟ قولان على ما ذكرنا. والصحيح أنه لا يحلف على ما ذكرنا, وفي النصف الآخر الذي صاحبه قد حصل له إقراره وحصل لصاحبه به فهل يكون الإقرار أولى أم اليد؟ قولان على ما بيناه فيكون الحكم في هذا القسم مرتبًا على ما ذكرنا قبله. ومن أصحابنا من قال: نص الشافعي ههنا أن القول قول الراهن في جميع العبد [ق 279 أ] وقال ابن أبي هريرة في النصف الذي في يد المرتهن الآخر على قولين, وهذا لا يصح لأنهما استويا في اليد وفضل أحدهما بالإقرار فكان الحكم له وهذه الطريقة أصح. وقال أبو حامد: وفي المسألة التي قبلها إذا قلنا يحلف فنكل وحلف الآخر وقلنا: النكول مع رد اليمين يجري مجرى البينة على المدعى عليه يقتضي هذا القول أن يؤخذ الرهن من يد الأول وينقل إلى يد الحالف لو قامت له البينة بما يدعيه, وأصحابنا لم يذكروا هذا وعندي لا يصح هذا التخريج؛ لأن هذا يجري مجرى البينة في أحد القولين في حق الدعاء عليه إذا لم يكن هناك حق ثالث وههنا حق ثالث وهو المرتهن الآخر, فإن قيل: قلتم في المسألة الأولى: أصح القولين أنه لا يحلف وقد أقر الراهن لكل واحد من المرتهنين بقبضه كله, وهذا الإقرار إثبات حق لكل واحد منهما بلا تعيين فكيف تتوجه عليه اليمين إذا أبطل ما أثبت؟ قلنا: هذا الإقرار مطلق وليس الرهن في يد كل واحد منهما يترجح أحدهما على صاحبه باليد, ولا يبعد أن يرهنه عند واحد منهما ويسلمه إليه, ثم يرجع إليه للاستخدام فيرهنه عند الثاني ظانًا أن هذا الرهن يرد على الرهن ويسلمه إليه ثم يعود إليه للاستخدام فيعتبر لكل واحد منهما بقبضه كله [ق 279 ب] فيكون صادقًا في إقراره على الظاهر صادقًا في تفسيره عند الاستفسار وحق الرهن والقبض للأول منهما دون الثاني إذ يستحيل أن يكون كل واحد منهما مرتهن كله بعقد صحيح فهذا في التفسير كالمؤتمن, ومعلوم أن المستودع إذا أضاف ملك الوديعة إلى مالك لم تتوجه عليه اليمين في تلك الإضافة كذلك ههنا, هذا كله إذا أقر الراهن لأحدهما فأما إذا قال: لا أعلم أنهما أول, فإن لم يدعيا علمه انفسخ الرهن, وإن ادعيا على حلف الراهن أنه لا يعلم أيهما أول قولاً واحدًا, لأنه لو رجع وبين .... قبل, فإن حلف انفسخ الرهن لأنهما عقدان أحدهما باطل لا بعينه فبطلا, كما لو زوج المرأة وليان ولم يعلم وعين السابق, ومن أصحابنا من قال: لا ينفسخ الرهن لأنه يمينه لم تكن لنفي الرهن بل كانت لنفي العلم فيكون الحكم كما لو نكل عن اليمين ينفسخ, وإن حلف أحدهما دون الآخر

باب بيع الشيئين المختلفين من نبات الأرض وغيره

يقضي الذي حلف, وإن حلفا معًا فيه وجهان: أحدهما: ينفسخ التعارض. والثاني: يكون رهنًا بينهما نصفين لتساويهما ولا يجيء ههنا الوجه الثالث وهو إيجاب القيمة على الراهن؛ لأن الراهن لم يكن منه إقرار حصلت به حيلولة بوجه من الوجوه. فرع لو أقاما البينة على أنه رهنه عبده وأقبضه فقد تعارضتا [ق 280 أ] وفي البينتين المتعارضتين أربعة أقوال: التساقط, والإقرار والقسمة, والوقف, وهل تستعمل القسمة هنا فيجعل بينهما نصفين وجهان. باب بيع الشيئين المختلفين من نبات الأرض وغيره قال: "وإذا رهن أرضًا ولم يقل ببنائها وشجرها". إذا رهن أرضًا ولم يقل ببنائها وشجرها هل يدخل البناء والشجر فيه؟ قد بيناه في "كتاب البيع". وقال أبو حنيفة: هل يدخل الغراس والبناء في الرهن بالإطلاق لكن الرهن لا يصح, لأنه سلم أنه لا يدخل في البيع فكذلك في الرهن. مسألة: قال: "ولو رهن شجرًا وبين الشجر بياضٍ رهن دون البياض". إذا رهن شجرًا أو نخلاً لم يدخل البياض الذي في تضاعيفهما في الرهن قولاً واحدًا؛ لأنه لا يدخل في البيع, فلأن لا يدخل في الرهن أولى. وأما الأرض التي هي نغرس الشجر لا تدخل الرهن قولاً واحدًا, وهل يدخل في البيع؟ وجهان: أحدهما: يدخل فيه؛ لأن بقاءها به فهو بمنزلة عروقها. والثاني: لا تدخل لأنه لا تدخل في اسم الشجر فلا يدخل في البيع وهو الأصح. وكذلك الخلاف في قرار البناء وفائدة الوجهين إذا استقلع الشجر بعد البيع هل يلزمه رد الغرس إلى البائع؟ وجهان. والفرق بين الرهن والبيع ما تقدم أنه البيع عقد قوي يزيد [ق 280 ب] الملك فاستتبع الغرس بخلاف الرهن. وقال بعض أصحابنا بخراسان: في الرهن أيضًا وجهان, وفيه نظر. وقال أبو حنيفة: رهن البناء والغراس دون مواضعها لا يجوز, ولا رهن الأرض واستثنى البناء والغراس لم يصح الرهن. وروى الحسن بن زياد عنه أنه يصح في الغراس؛

لأن الغراس عبارة عنه وعن موضعه. وهذا غلط؛ لأنه يصح بيعه على هذا الوجه فصح رهنه. مسألة: قال: "وإذا رهن ثمرًا قد خرج من نخله قبل يحل بيعه ومعه النخل فهما رهن". ذكر الشافعي ههنا ثلاث مسائل: إحداهما: إذا رهن الأصل مطلقًا ولم يذكر الثمرة, فإن كانت مؤبرة لم يدخل في الرهن, وإن لم تكن مؤبرة فقد ذكرنا حكمها, ونص ههنا أنها لا تدخل في الرهن وهو الصحيح. وقال أبو حنيفة: يدخل في الرهن بكل حالٍ بخلاف البيع على أصله أنه لا يجوز الرهن على الأصل دون الثمرة, والعقد ينبني على الصحة. وهذا غلط؛ لأن المؤبر إذا لم يدخل البيع بالإجماع مع قوته فلأن لا يدخل في الرهن أولى. والثانية: يرهن الأصل والثمرة فيصح الرهن فيها إن كان بدين حال, وإن كان بدين مؤجل يدرك الثمرة عند حلول الدين أو بعده يصح أيضًا, وإن كانت تدرك قبل حلوله ولا تجف إلى حلوله, فإن كانت مما تجف يحص الرهن أيضًا ولزمه الراهن [ق 281 أ] تجفيفها؛ لأن ذلك من مصلحتها وإن كانت مما لا تجف ولا تتلف فمن أصحابنا من قال: في صحة رهنها قولان, كما لو رهن طعامًا يفسد قبل المحل. ومنهم من قال: يصح ههنا قولاً واحدًا؛ لأن الثمار لو تلفت بقي الأصل, وفي الطعام لا يبقى شيء وقد تقدم ذكر هذا. فإذا قلنا: يبطل في الثمرة هل يبطل في الأصل؟ قولان بناء على تفريق الصفقة. والثالثة: أن يرهن الثمرة منفردة, فإن كان قد بدأ صلاحها فرهنها بحق حال يجوز, سواء كانت بشرط القطع أو مطلقًا. وإن كانت بحق مؤجل فإن كان بجامع الإدراك أو قبله جاز, وإن كان يتأخر حلوله عن الإدراك, فإن كانت الثمرة مما يمكن تجفيفها جاز فتجفف وقت الصرام, وإن كانت مما لا يمكن تجفيفها هل يصح الرهن؟ قولان. وإن لم يكن بدا صلاحها فإن كان بحق حال وشرط القطع جاز؛ لأن البيع هكذا يجوز, وإن رهنها مطلقًا فيه قولان؛ أحدهما: يبطل كالبيع. والثاني: يجوز؛ لأن مقتضى الرهن بيعه بالحق, فإذا كان الحق حالاً اقتضى العقد قطعه في الحال لجري الشرط, وإن رهنها بحقٍ مؤجل بشرط القطع عند الحلول أو بلا شرط مطلقًا هل يجوز؟ قولان منصوصان: أحدهما: لا يجوز كما لو باع مطلقًا أو بشرط القطع بعد مدة. قال أبو إسحاق: وهذا أصح نص عليه في "كتاب التفليس". والثاني: يجوز [ق 281 ب] بخلاف البيع؛ لأن في مقابلته عوضًا هناك, فإذا أطلق يحصل الغرز بخلاف الرهن.

وقيل: فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يلزم شرط القطع مع حلول الدين لا في العقد قبل حلول الدين. والثاني: يلزم شرط القطع مع العقد شرط في صحة الرهن. والثالث: أن اشتراط قطعها ليس بواجب, لا حال العقد, ولا عند حلول الدين. وهذه الأقوال إذا علم أن حلوله قبل بدو الصلاح. وعلى هذا لو قال الراهن: أقطعها عند حلول الدين وأبيعها. وقال المرتهن: بعها على الرؤوس النخل بشرط القطع, فالقول قول المرتهن؛ لأن قطعها تصرف لم يوجبه العقد ولا الشرط إذا جرت العادة ببيعها على رؤوس النخل. فأما إذا كانت العادة الجارية ببيعها مقطوعة فالقول قول الراهن. فإن قلنا بالقول الأول كان حكمها حكم الطعام الرطب؛ لأن قطعها واجب, وإن كانت مما لا يبقى فقولان. وإذا قلنا بالثاني فرهنها جائز سواء كانت مما تجف أو لا, وأما الزرع إذا رهنه أخضر فهو بمنزلة رهن الثمرة قبل بدو صلاحها, وقد ذكرنا حكمها. مسألة: قال: وإن كان من ثمر شيء فرهنه وكان يخرج يعده غيره منه فلا يتميز الخارج". الفصل: إذا رهن ثمر شجرة تحمل حملاً بعد حمل في سنة كالتين والباذنجان نظر فيه, فإن كان بعد بدو الصلاح فيه يجوز بحق حالٍ, وإن رهنه بحق مؤجل نظر, فإذا كان لا يحل إلا بعد حدوث حمل آخر واختلاطه به بحيث لا يتميز عنه فالرهن بالطل؛ لأنه لا يمكن بيعه عند حلول الحق والحاجة إلى بيعه داعية. وقال [ق 282 أ] أبو إسحاق: إلا أن يتفقا في الابتداء, وأنهما يقطعان الخارجة قبل ظهور الحادثة, وخوف الاختلاط فيجوز, وإن كان الحق يحل قبل الاختلاط جاز الرهن, فإذا حل الحق فطالب المرتهن ببيعه بيع ووفي حق المرتهن من ثمنه, فإن دافعه الراهن به حتى حدث حمل آخر واختلط به نظر, فإن كان الحادث يتميز به الأول فالرهن بحاله ويباع المرهون, وإن كان لا يتميز ففيه قولان: أحدهما: الرهن يبطل في الحال, لأنه لا يقدر على تسليمه ولا يمكن بيعه في الحق. والثاني: لا يبطل؛ لأن العقد وقع صحيحًا والجهالة الطارئة لا تبطل العقد كإباق العبد للمبيع, ولأنه يمكن في حقه بأن يتطوع الراهن بتسليم الكل, وهذا أظهر. فإذا قلنا بهذا القول قلنا للراهن: أتسمح بأن يكون الكل رهنًا؟ فإن سمح صار رهنًا

ولم يكن للبائع الخيار في البيع الذي يشترط فيه الرهن. وإن قال: لا أسمح قلنا لهما: اتفقا على قدر الرهن، فإن اتفقا فلا كلام، وإن اختلفا فالقول قول الراهن مع يمينه سواء كانت الثمرة في يده أو في يد المرتهن. وقال المزني: "القول قول من الثمرة في يده منهما". وهذا غلط؛ لأن يد المرتهن لا اعتبار بها، لأن يده يد الراهن فلا تقوى بها دعواه على الراهن. وقال بعض أصحابنا: ظاهر كلام الشافعي ههنا [ق 282 ب] دليل على أن هذين القولين في البيع؛ لأنه قال: وفيه قَوْلاَنِ: أَحَدُهُمَا: [يَفْسَدُ الرَّهْنُ كَمَا يَفْسَدُ الْبَيْعُ]، فأجاب في البيع مع الرهن، أن يقال: إذا صححنا البيع فالرهن أولى، وإن لم نصحح البيع ففي الرهن قولان. والفرق أن الرهن نوع وبيعه ليس بمعاوضة كالبيع، وتأثير الجهالة في عقود المعاوضات أكثر من تأثيرها في غير المعاوضات. ثم قال: "وَالْقَولُ قَوْلُ الرَّاهِنُ فِي الثَّمَرّةِ المُخْتَلَطَةِ مِنَ الْمَرْهُونَةِ". كما لو رهنه حنطة فاختلطت بحنطة للراهن فكان القول قويه فاحتمل هذا التشبيه أن تكون مسألة الحنطتين إذا اختلطتا على قولٍ واحد في صحة العقد، وهذا أظهر الاحتمالين لأنه قاس عليه. ويحتمل أن تكون مسألة الحنطة كمسألة الثمرة في حكم القولين. فإن سوينا فلا فرق، وإن رتبنا فكيفية الترتيب أن يقال: إذا صححنا في الحنطة مع الاختلاط فالثمرة أولى، وإن لم نصحح في الحنطة ففي الثمرة قولان. والفرق أن الاختلاط في الحنطة فوق الاختلاط في الثمرة، والتمييز بغير القسمة ممتنع ميؤوس في جميع الأحوال، وفي الثمار ربما شاهدها شاهدان قبل الاختلاط فيقدران على التمييز بما عندهما من العلامة السابقة، فإن كانت صورة المسألة الثمار مثل صورة مسألة الحنطة حتى يكون التمييز ميؤوسًا على الإطلاق فالمسألتان سواء، ويتعذر [283 أ] الفرق. فإن قال قائل: قد قال الشافعي في المسألة السابقة: "إِذَا رَهَنَهَا قَبْلَ بُدُوِّ صَلاَحِهَا لَمْ يَجُز الرَّهْنُ إِلاَّ أَنْ يَتَشَارَطَا أَنَّ المُرْتَهِنَ إِذَا حَلَّ حَقُّهُ قَطَعَهَا وَبَاعَهَا فَيَجُوزُ الرَّهْنُ"، وهذا يقتضي أن اشتراط القطع يجوز أن يكون على نوع من التأخير وإن كان مؤخراً كانت الآفات غير مأمونة مدة التأخير. قلنا: كان الشافعي صوَّر المسألة في حض رجل لم يبق من أجله إلا زمان قليل ينقضي عن قريب والثمرة لم تدرك، والغالب من ذلك الزمان القريب الأمن من الآفات، فإذا اشترط قطعها عند المحل كان صحيحاً، وإن كان بخلاف ذلك لا يجوز. وقال بعض أصحابنا بخراسان: في البيع قولان؛ قبل القبض، وفي الرهن لا فرق أن يكون قبل القبض أو بعده، والفرق أن القبض في البيع بقطع العلائق فيكون القول قول

باب ما يفسد الرهن من الشرط وما لا يفسد

(المشتري) في قدر المختلط؛ لأن الثمرة في يده وفي الرهن العلائق بعد القبض تثبت بين الرهن والمرتهن فلا فرق فيه بين أن يكون قبل القبض أو بعده. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ رَهَنَهُ ثَمرةً فَعَلَى الرَّاهِنِ سَقْيُهَا". الفصل: قد ذكرنا هذه المسألة، وقوله: "فَعَلَى الرَّاهِنِ سَقْيُهَا"، أراد ليس على المرتهن ذلك، ولم يرد أن الراهن يجبر عليه إذ لا يجبر أحد على تنمية ماله وإن كان مرهوناً بخلاف نفقة الحيوان؛ لأن له حرمة. هكذا ذكره بعض [ق 283 ب] أصحابنا بخراسان. وظاهر ما قال أصحابنا بعراق أنه يجبر عليه، وفينا يؤدي إلى نقصانها وهلاكها وهذا أصح. وإذا جاء أوان الجداد على الرهن لأن في تركه إتلافه فهو كمؤنة موضع الحفظ يلزمه. وقيل: أوان الجداد لم يكن له؛ لأن في ذلك نقصاً لها وإبطالًا لثمنها إلا أن يصيبها عطش أو يكون الحمل ثقيلًا يخاف منها على الأصل فيجوز للراهن قطعها؛ لأن ذلك موضع الضرر. وإن تراضيا من غير ضرورة على قطعها كان لهما؛ لأن الحق في ذلك لهما. فإذا اتفقا على إسقاطه جاز، وإن حل الحق فطالب المرتهن الراهن بتشميسها لم يكن له؛ لأن حقه في بيعها دون تنقيتها فلم يكن له المطالبة بتشميسها. مسألة: قَالَ: "فَإِنْ أَبَى المَوْضُعَةَ عَلَى يَدَيْهِ أَنْ يَتَطَوَّعَ بِأَنْ يَضَعَهَا فِي مَنْزِلِهِ إِلاَّ بِكِرَاءٍ قِيلَ لِلرَّاهِنِ: عَلَيْكَ مَنْزِلٌ تُحَرَّزُ فِيهِ". إذا كانت الثمرة مما تجف واحتاجت إلى موضع تكون فيه، فإن تطوع من هو على يده بذلك فلا كلام، وإن امتنع فالأجرة على الراهن، فإن امتنع منه اكترى الحاكم من ماله إن كان له مال ظاهر وإلا باع من المرهون بقدر الكراء. ولو قال المرتهن: أنا أدفع الأجرة وتكون دينًا عليه بغير رهن جاز. وإن قال: يكون الرهن رهنًا بها، فيه طريقان كأرش الجناية إذا [ق 284 أ] فداه المرتهن على أن يكون رهناً به، وبالأصل إن كان الراهن غائباً واحتيج إلى كراء الموضع الذي فيه يعرف الحاكم ذلك، وإن أنفق هو في الكراء من غير إذن الحاكم، فإن كان بقدر على الحاكم فلا يرجع عليه، وإن كان لا يقدر على الحاكم فهل يرجع فهل يرجع عليه؟ وجهان بناء على مسألة الحمال إذا هرب. باب ما يفسد الرهن من الشرط وما لا يفسد قَالَ: "وَإِن اشْتَرَطَ المُرْتَهِنُ مِنْ مَنَافِعِ الرَّهْنِ شَيْئاً فَالشَّرْطُ بَاطِلُ".

إذا رهنه رهنًا وشرط فيه شرطًا لم يخل من أحد أمرين؛ إما أن يكون شرطًا لا ينافي مقتضى العقد أو ينافي مقتضاه، فإن كان شرطاً لا ينافي مقتضاه مثل أن يقول: بشرط أن تقبضه، أو بشرط أن يباع الحق متى حل للإيفاء، أو بشرط أن يكون على يدي ثقةٍ أو نحو ذلك، فالرهن صحيح والشرط تأكيد، وإن كان شرطًا ينافي مقتضاه لم يخل من أحد أمرين؛ إما أن يكون نقصانًا في حق المرتهن أو زيادة فيه، فإن كان نقصانًا مثل أن يقول: بشرط أن لا يقبضه أو لا يباع بالدين ونحو ذلك فالرهن باطل قولًا واحدًا، وإن كان زيادة في حقه مثل أن يقول: يباع قبل محل الحق بأي ثمن كان، أو الزوائد تكون رهنًا هل يبطل الرهن قولان. والفرق أن الشرط الذي يزيد في حق المرتهن [ق 284 ب] إذا سقط بقي الرهن تاماً، فالشرط الذي ينقص في حق المرتهن إذا سقط بقي الرهن ناقصاً غير تام فلم يصح، وأما في البيع لا فرق بين شرط يزيد في الثمن أو ينقص منه في أنه يبطل، لأنه يأخذ قسطاً من الثمن فيؤدي إلى جهالة الثمن. فإذا تقرر هذا، واشترط المرتهن على الراهن منافع الرهن لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يشترط أن ملكها له، أو يشترط أن ملكها له، أو يشترط أنها تدخل في الرهن، فإن اشترط أن ملكها له فالشرط والرهن والبيع باطل قولًا واحدًا؛ لأنه لم يرض بالثمن المذكور في البيع إلا بأن يكون معه ملك المنافع وذلك مجهول، وإن لم يكن شرط هذا شرط هذا البيع هل يبطل الرهن به؟ فيه قولان لأنه زيادة في حق المرتهن، وإن اشترط أن منافعه تدخل في الرهن فالشرط باطل، وهل يبطل الرهن؟ قولان: أحدهما: يبطل وهو الأصح لأنه يعتبر موجب العقد. والثاني: لا يبطل. فإذا أبطلنا الرهن هل يبطل البيع؟ قولان: وعند أبي حنيفة لا يبطل الرهن بالشروط الفاسدة كالهبة عنده يبطل البيع، وقيل: قال الشافعي في القديم، و"مختصر الرهن" يصح الشرط وما يتجدد يكون رهناً مع الأصل، وهو قول عطاء. ووجه هذا أنه يدخل في العقد تبعاً إذا اشترط فيجوز أن يكون مجهولًا، وذكر القاضي أبو علي الزجاجي أن الشافعي قال في "القديم" [285 أ] في الشرط: ولولا حديث معاذ ما رأيته جائزًا. فإذا قلنا: يجوز الرهن ولا يصح هذا الشرط فلأنه جمع بين معلوم ومجهول فيخرج على قولي تفريق الصفقة، وأصح القولين أنه يجوز في المعلوم بخلاف البيع؛ لأن هناك يبطل في المعلوم قولًا واحدًا؛ لأنه لا حاجة في الرهن إلى توزيع الحق بخلاف البيع. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ كَانَتْ لَهُ أَلْفُ دِرْهَمٌ فَقَالَ: زِدْنِي أَلْفاً عَلَى أَنْ أَرْهَنَكَ بِهِمَا مَعاً".

الفصل. وإذا كان لرجل على رجل ألف درهم بلا رهن، فقال الذي عليه الألف: أقرضني ألفًا آخر على أن أعطيك بها هذا الشيء رهنًا لم يصح؛ لأن ذلك قرض جر منفعة، ولو قال: بعني عبدك بألف على أن أعطيك به وبالألف الذي لك عليَّ من غير رهن داري هذه رهنًا بهما جميعًا كان البيع باطلاً قولاً واحداً؛ لأنه باع العبد بشرط أن يرهن بالألف الذي بلا رهن، فكان ذلك في معين يتعين في بيعه لأنه لا فرق بين أن يقول: بعتك بكذا على أن تبيعني دارك بكذا، أو على أن تؤاجرني دارك بكذا، أو على أن ترهنني دارك بدين ولا يتعلق بهذا البيع. ويخالف هذا إذا قال: بعتك هذا العبد بألف على أن ترهنني دارك به لا يجوز؛ لأن هذا يتعلق بمصلحة هذا البيع، فإنه شرط فيه وثيقة العوض الذي ملك [ق 285 ب] به، وليس كذلك شرط الرهن بدين آخر فإنه مما يتعلق بمصلحة هذا العقد فاقترقا. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ أَسْلَفَهُ عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ بِهَا رَهْناًوَشَرَطَ المُرْتَهِنُ لِنَفْسِهِ مَنْفَعَةَ الرَّهْنِ فَالشَّرْطُ بَاطِلٌ". وههنا مسألتان: إحداها: أن تكون المنفعة للمرتهن ملكًا. والثانية: أن تكون له رهنًا، ففي المسألة الأولى ثلاث مسائل: إحداها: لو كان له عليه ألف درهم مستقر فقال: رهنتك داري بالألف الذي لك عليَّ وتكون منفعتها لك، فهذا شرط فاسد لمنافاته مقتضى الرهن، وهل يبطل الرهن؟ قولان، وقد ذكرنا. والثانية: أن يقول: أقرضني ألفًا على أن أرهنك داري ومنفعتها لك فهذا قرض فاسد؛ لأنه قرض جر منفعة، وإذا أبطل القرض بطل الرهن. والثالثة: أن يقول: بعني هذا العبد على أن أرهنك داري ويكون منفعتها لك فإن قدر المدة يكون بيعاً وإجارة وفيه قولان، وإن لم يقدر المدة فالإجارة باطلة للجهالة والبيع باطل لأنه يؤدي إلى جهالة الثمن، هكذا ذكره القاضي الطبري. وقال أبو حامد: الشرط فاسد. وهل يفسد الرهن؟ قولان، ثم إذا قلنا: يبطل ففي بطلان البيع قولان، وهذا ظاهر كلام الشافعي لأنه جعل له الخيار في الرهن والبيع على ما ذكره القاضي لا يجيء هذا ووجهه [ق 286 أ] أنه لم يجعل المنفعة عوضًا، وإنما شرطها له بحكم الوثيقة والمسألة الثانية منصوصة في الأم وفيها ثلاث مسائل: إحداها: أن يكون عليه ألف مستقر فقال: رهنتك داري بالألف الذي عليَّ أو

منفعتها رهن عندك، فهذا شرط فاسد، وقد ذكرنا. والثانية: أن يقول: أقرضنى ألفًا على أن أراهنك داري ومنفعتها قرض عندك، فهذا قرض صحيح لأنه لم يجر به منفعة، وأكثر ما فيه أنه استرط رهنًا فاسدًا وذلك لا يبطل فإذا ثبت هذا فالشرط فاسد، وهل يبطل الرهن؟ قولان. والثالثة: أن يقول: بعني عبدك بألف على أن أرهنك داري فتكون منفعة الدار ههنا معها فهو شرط باطل، وهل يبطل الرهن والبيع؟ قَالَ المُزَنِيُّ: "أَصْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ كُلَّ بَيْعٍ فَاسِدٍ بِشَرْطٍ وَغَيْرِهِ لاَ يَجُوزُ وِإِنْ أُجِيزَ حَتَّى يُبْتَدَأَ بِمَا يَجُوزُ". وهذا الذي قاله المزني غير صحيح، لأنه قدر أن الشافعي لما قال: "وَلَوْ كَانَ اشْتَرَى مِنْهُ عَلَى هَذا الشَّرْطِ فَالبَائِعُ بِالْخَيَارِ فِي فَسْخِ الْبَيْعِ". أنه أثبت له الخيار على القول الذي يقول البيع صحيح؛ لأنه لم يسلم له ما شرط من الرهن وقيل: الصحيح أن البيع باطل والشافعي نص عليه، وغلط المزني فيما نقل أن البائع بالخيار. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ اشَتَرَطَ عَلَى المُرْتَهَنِ أَنْ لاَ يُبَاعَ الرَّهْنُ عِنْدَ مَحَلِّ الحَقِّ إِلاِّ بِمَا يُرْضِي الرَّاهِنَ". الفصل: وهذا من الشرط [ق 286 ب] الذي ينقص حق المرتهن، وقد ذكرنا حكمه، ثم قال: "وَلَوْ رَهَنَهُ نَخْلاً عَلَى أَنَّ مَا أَثْمَرَتْ دَاخِل فِي الرَّهْنُ". وقد ذكرنا هذه المسألة أيضاَ، ثم قال المزني: "مَا قَطَعَ بِهِ وَأَثْبَتَهُ أَوْلَى". فأراد به أن البيع يصح، وإن بطل الشرط وهذا اختياره في نظائرها، ثم احتج على ذلك بما قال الشافعي: "لَوْ تَبَايَعَا عَلَى أَنْ يَرْهَنَهُ العَصِيرَ فَرَهَنَهُ إِيِّاهُ هُوَ مِنْ سَاعَتِهِ خَمْرٌ فَلَهُ الخَيَارُ فِي البَيْع لأَنَّنُ لَمْ يُتِمَّ لَهُ الرَّهْنُ". فصحيح البيع مع فساد الرهن، قلنا: في مسألة العصير قولان أيضًا، وقد ذكرنا ذلك. وقيل في مسألة العصير كان الرهن صحيحاً وإنما فسد بعده فلا تشبه مسألتنا. وقال صاحب التقريب: إنما قال إلى غير المبيع إن وقع على هذا الرهن فسخ أو

كان البائع بالخيار فهو تعليق قول منه في صحة البيع، وأشار إلى القولين، وإنَّا لم نصرح به لأن مقصوده أن الشرط باطل خلاف ما قال في القديم أن الشرط صحيح، ثم ذكرنا قولين في صحة الرهن بعد بطلان هذا الشرط سواء كان الرهن مشروطاً في بيع أو لم يكن، وإن كان كلام الشافعي كالمفضل بين الحالين إلا أن يقول بفساد البيع حينئذٍ يفسد الرهن لا محالة، وقيل: في هذه المسألة يحصل [ق 287 أ] أربع أقاويل على قول أبي إسحاق، وعلى مذهبه أبي علي ثلاثة أقاويل: أحدها: يصح الشرط والرهن ويصح البيع. والثاني: يفسد الشرط والرهن ويصح البيع. والثالث: يفسد الشرط والرهن والبيع وهو الذي نص عليه. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ دَفَعَ إِلَيْهِ حَقَّا فَقَالَ: أَرْهَنْتُكَهُ بِمَا فِيهِ". الفصل: إذا رفع إليه حقاً، وقال: أرهنتكه بما فيه لم يجز الرهن فيما فيه؛ لأنه مجهول وهل يبطل في الحق؟ قولان بناء على تفريق الصفقة. ولو قال: رهنتك هذه الخريطة بما فيها لم يجز الرهن في الجميع؛ لأن الخريطة لا قيمة لها وإنما يقصد ما فيها فإذا كان المقصود مجهولاً بطل الرهن في الجميع، وهذا الذي قاله الشافعي من الفرق بين الحق خرج على خريطة لا قيمة لها، فإن كان الحق لا قيمة له والخريطة من ديباج لها قيمة كان الجواب كالضد مما ذكرناه فيكون في الخريطة جائزًا على أحد القولين، وفي الحق باطلًا قولًا واحدًا، ولو قال: رهنتك هذا الحق ولم يقل بما فيه كان الحق رهنًا؛ لأن ما فيه لم يرهنه، ولو قال: رهنتك هذه الخريطة ولم يقل بما فيها. قال بعض أصحابنا: كان الرهن باطلًا؛ لأن الخريطة على ما قال الشافعي لا قيمة لها مقصودة ظن وإنما المقصود ما فيها فكأنه رهن ما فيها، وإن لم يشرطه وليس كذلك الحق فإن له قيمة مقصودة، ولو قال [ق 287 ب]: رهنتك هذه الخريطة دون ما فيها كان الرهن في الخريطة جائزًا؛ لأنَّا علمنا أنه رهن الخريطة وحدها ورضيا بقيمتها، وإن كانت القيمة يسيرة فجاز ولو لم يكن لها قيمة أصلاً لا يجوز. ومن أصحابنا من قال: نقل المزني في الحق أنه يجوز، وفي الخريطة أنه لا يجوز فالمسألتان على قولين وهذا ليس بشيء، وإنما أشكل على هذا القائل هذا لأنه لم يعرف أصول الشافعي.

باب الرهن غير مضمون

مسألة: قَالَ: "وَلَوْ شُرِطَ عَلَى الْمُرْتَهَنِ أَنَّهُ ضَامِنٌ لِلرَّهْنِ وَدَفَعَهُ فَالرَّهْنُ فَاسِدٌ". هذا الشرط باطل لأنه ينافي مقتضي الرهن، ثم اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: هذا من الشرط الذي ينقص حق المرتهن فيبطل قولاً واحداً. قال صاحب "الإفصاح": هل يبطل الرهن بهذا الشرط؟ قولان؛ لأن شرط الضمان لا ينقص بحق المرتهن؛ لأنه لا يمنعه ذلك من استيفاء حقه منه عند محله، ويخالف هذا إذا قال: لا تبعه إلا باختياري أو باختيار فلان؛ لأن كل هذا يمنع من استيفاء الحق منه فلم يكن الرهن تامًا، ثم إذا بطل الرهن لا يضمن؛ لأن ما لا يضمن صحيحه لا يضمن فاسده كما نقول في الإجارة والقراض وما يضمن صحيحه يضمن فاسده كالبيع. باب الرهن غير مضمون [ث 288] أخبرنا محمد بن إسماعيل. الخبر. اختلف أصحابنا في الرهن على خمسة مذاهب؛ فذهبت طائفة إلى أنه أمانة في يد المرتهن لا يسقط الحق بتلفه ولا شيء منه كالوديعة، وبه قال الشافعي وعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن المسيب، والأوزاعي، وأحمد، وأبو ثور وهو إحدى الروايتين عن علي رضي الله عنه وبه قال النخعي والثوري، الرهن مضمون بأقل الأمرين من القيمة أو الحق، فإن كانت قيمته ألفاً ورهن بخمسمائة فنصفه مضمون، نصفه أمانة، وإن كانت قيمته خمسمائة والدين ألف فتلف سقط نصف الدين وبقي النصف. وروي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقال إسحاق: هو مضمون لجميع قيمته وإن زادت على الحق يترادان الفضل وهو الرواية المشهورة عن علي رضي الله عنه وقال الحسن، وشريح، والنخعي، والشعبي هو مضمون بالحق الذي هو مرهون به بالغاً ما بلغ. وقال مالك: إن تلف بسبب ظاهر كالحريق والغرق والنهب الظاهر فالقول قوله ولا ضمان عليه. وإن كان بسبب باطن كالسرقة فالقول قول الراهن فيضمنه المرتهن؛ لأنه متهم فيه، وهذا غلط لما احتج به الشافعي من الخبر المعروف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفيه أدلة: أحدها: أنه قال: "لا يغلق الرهن" قال أبو عبيدة: معناه لا يسقط [ق 288] الدين بتلفه. والثاني: قال: "الرهن من صاحبه"، ومعناه من ضمان صاحبه. والثالث: وهو الأقوى وعليه غرمه. والغرم: النقص وقيل: معنى قوله: "لا يغلق الرهن" أي لا يتعلق ولا ينعقد حتى ينفك. وقوله: "الرهن من صاحبه" معناه لصاحبه والعرب تضع (من) موضع (اللام) وإذا كان ملكه كان تلفه من ملكه.

واحتج أيضًا بأن الله تعالى: جعل الرهن وثيقة للمرتهن كما جعل الشهود وثيقة له فلو كان دينه يسقط بتلفه لكان الارتهان مهاطرًا لا مستوثقًا، وكان ترك الارتهان خيرًا له لئلا يسقط عن ذمة غريمه إلا باستيفاء أو إبراء، وليس المرتهن بمعتدي حين قبض ولا حين تلف ولا بين ذلك ولا الرهن ثمن ولا بثمن فالضمان محال. واحتجوا بما روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الرهن بما فيه" وروى أبو حنيفة أن رجلاً رهن فرساً عند رجل فنفق عند المرتهن، فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فقال: "ذهب حقك" قلنا: أما الأول: أراد محبوس بما فيه. وأما الثاني: رواه مصعب بن ثابت، عن عطاء، عن النبي صلى الله عليه وسلم ومصعب ضعيف، وعطاء، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسل. ثم نحمله على أنه أراد به ذهب حقك من الوثيقة. مسألة: قَالَ: "وَمَا ظَهَرَ هَلاَكُهُ وَخَفِيَ سَوَاءٌ" [ق 289 أ] قصد به الرد على مالك على ما ذكرنا، ولا وجه لما قال من التهمة، لأنه أمين ويتعذر عليه إقامة البينة على السرقة، ثم قال: "وَلاَ يَضْمَنُ المُرْتَهَنُ وَلاَ المَوْضُوعُ عَلَى يَدَيْهِ مِنَ الرَّهْن شَيْئاً إِلاَّ فِيمَا يَضْمَنَا فِيهِ من الْوَدِيعَةِ بِالتَّعَدِّي". وقد ذكرنا هذا. والتعدي إما بالاستعمال أو التفريط في حفظه، ثم قال: "قَضَاهُ مَا فِي الرَّهْنِ، ثُمَّ سَأَلَهُ الرَّهْنُ فَحَبَسَهُ عَنْهُ وَهُوَ يُمْكِنُهُ فَهُوَ ضَامِنٌ". وجملته أنه إذا قضاه الدين واستحق رد الرهن عليه فطالبه برده فأخر الرد نظر، فإن كان بعذر بأن كان الطريق محفوفًا أو كان الباب مغلقًا وكان يخاف فوق الجمعة أو الجماعة أو الصلاة أو كان .......... شديد فأخر الرد لذلك فلا ضمان عليه، وإن لم يكن عذر فأخره فتلف يلزمه الضمان وهو قيمته أكثر ما كانت من حين منع إلى حين تلف. فرع مؤنة رد الرهن بعد الفكاك على من تلزم؟ ظاهر المذهبه أناه تلزم الراهن، وقيل: فيه وجهان: أحدهما: على المرتهن لأنه يجب رده عليه. والثاني: لا تلزم المرتهن لأنه كالمودع.

فرع آخر إذا استعار المرتهن رهن بين الراهن لينتفع به ضمنه بذلك، لأنه صار في يده لمنفعته نفسه منفردًا، وعند أبي حنيفة: لا يضمن في حالة لأنه خرج من قبض الرهن إلى قبض العارية، وعند العارية غير مضمونة [ق 289 ب]. فرع آخر لو أسلم في طعام وأخذ به رهنًا، ثم تقابلا في عقد السلم برئت ذمة المسلم إليه من الطعام ووجب عليه رد رأس المال وبطل الرهن؛ لأن الدين به سقط، ولم يكن له حبسه على رأس المال لأنه لم يرهنه به. فرع آخر لو أقرضه ألفًا برهن، ثم أخذ الرهن عيناً سقط القرض عن ذمته وبطل الرهن، فلو تلفت العين في يد المقترض انفسخ العقد في العين وعاد القرض والرهن، لأنه متعلق به كما لو صار العصير خمراً، ثم عاد خلاَّ يعود الرهن به. فرع آخر لو باع من رجل شيئًا بثمن مؤجل عن أن يرهنه عبده وسلم المبيع إلى المشتري فتلف المبيع والعبد في يد المشتري كان للبائع فسخ البيع، لأنه لم يسلم إليه العبد الذي شرط عليه رهنه، وقد بيَّنا أنه تلف المبيع عندنا لا يمنع من فسخ العقد فيه كما تجوز الإقالة فيه، ثم إذا فسخه يرجع عليه بقيمة المبيع دون الثمن. فرع آخر لو رهنه عبدًا لمورثه وهو لا يعلم أنه قد ورثه، ثم علم أنه كان ورثه لم يصح عقد الرهن. نص عليه في "الأم". وكذلك لو وكل وكيلاً في شراء عبد ثم رهنه، وهو لا يعلم أنه اشتراه، ثم علم أنه كان قد اشتراه لم يصح الرهن، لأنه عقد وهو شاك في ملكه، وفيه قول مخرج أنه يجوز لأنه صادف ملكه. فرع آخر لو رأى عبدًا من بعيد فقال [ق 290 أ] إن كان هذا عبدي فقد رهنتكه لم يصح الرهن. وكذلك لو قال: إن كانت الثياب التي في خزانتي أو صندوقي باقية، فقد رهنتك لم يصح الرهن. فرع آخر لو أصدق امرأته صداقًا فأعطاها به رهناً، ثم طلقها قبل الدخول بها سقط نصف الصداق ولم يفتك من الرهن شيء.

فرع آخر قال أصحابنا في هذا الموضع: وليس هذا موضعه، قال ابن سريج: الوصي في بيع التركة بالخيار إن شاء باعها بنفسه، وإن شاء وكل في بيعها سواء كان مما يتولى مثله أو لا يتولى؛ لأن الميت أقامه مقام نفسه ولا يمكن الرجوع إليه فلم يجز أن يوكل فيه غيره. ومن أصحابنا من قال: لا فرق بينهما، فإن كان مثله لا يتولى بيع مثله كان لهما التوكيل، وإن كان مثله يتولى في بيع مثله فلا يجوز لهما التوكيل. فرع آخر إذا قال لعبده: أنت ابني تقع الحرية، وهل يعتق المرهون بهذه اللفظة؟ فإن قلنا: يصح عتقه يعتق، وإن قلنا: لا يصح عتقه بني على الإقرار بالحرية في المرهون، وفيه قولان كإقرار الراهن بالغضب، فإن جوزنا الإقرار وقعت الحرية وإلا فلا.

كتاب التفليس

كتاب التفليس قال: أخبرنا ابن أبي فديك. الخبر. المفلس في اللغة [ق 290 ب] من ذهب خير ماله وبقي شر ماله, مثل إن ذهب من ماله الذهب والفضة والأثاث وبقيت معه الفلوس فهو ذو فلوس لقوله: فلان مغض أي ذو غضة. وقيل: من ذهب ماله حتى الفلوس وهذا بضد الأول, والأول أصح. ويقال: فلسه الحاكم إذا حجر عليه ومنعه من التصرف في ماله. وأما في الشرع هو عبارة عمن تملك من المال دون ما عليه من الديون, ويقال كتاب الفلس, قال بعض أصحابنا: ويكره أن يقال: كتاب الإفلاس؛ لأن الإفلاس مستعمل في الإعسار بعد اليسار والتفليس يستعمل في حجر الحاكم على المديون فكان أليق بالحال. فإذا تقرر هذا, فاعلم أن الديون سبب الحجر ولا تثبت إلا بالنية أو الإقرار, فإذا كان مال الإنسان عاجزًا عن ديونه واجتمع الغرماء, وأثبتوا ديونهم عند الحاكم وسألوه الحجر عليه وقسمة ماله بينهم حجر الحاكم عليه, وفائدة الحجر ثلاثة أشياء: أحدها: تعلق الديون بعين ماله. والثاني: أنه يمنع من التصرف في ماله, ولو تصرف لا يجوز, ولا يمكنه أن يبادر فيقضي ديون البعض دون البعض, فإنه لا يجوز قضاؤه للدين بنفسه بعد الحجر, بل القاضي يقضي ديونهم بالقسمة على القدر, ثم إن ظهر غرماء آخرون شاركوا الأولين في الأخذ منهم بقدر ديونهم حتى يستووا فيه, ففي الحجر نظر الغرماء [ق 291 أ] الحاضرين ولم يحضروا وظهر بعده. والثالث: أن كل من وجد من عين ماله عنده كان أحق به من غيره, وإن كان ماله يفي بديونه وليس هناك أمارات الفلس, مثل إن كان عليه ألف درهم ومعه ألف درهم والنفقة من الربح لم يكن له الحجر عليه ولكنه يكلفه قضاء دينه, فإن فعل وإلا حبسه, فإن فعل وإلا باع عليه ماله, وإن كان معه فوق ما عليه ولكن هناك أمارات الفلس, مثل أن يكون أصل ماله وفاء ديونه ولا يفضل شيء للنفقة هل يستحق الحجر عليه؟ قولان: أحدهما: يحجر عليه, لأن علة الحجر ثبوت الدين وقد وجد ذلك ولا يؤمن من المبادرة إلى إتلاف بعض ماله بالنفقة والتبرعات وغيرها, أو يظهر غرماء آخرون فيضيق المال عن حقوقهم. والثاني: لا يحجر عليه, لأن المال يفي بالديون فلا معنى للحجر.

فإذا قلنا: يحجر عليه في هذا الموضع تعلقت حقوق الغرماء بأعيان ماله وينقطع تصرفه, وهل يختار البائع عين ماله التي لم يقبض منها ثمنها؟ وجهان: أحدهما: يختار ذلك كما لو حجر عليه وليس معه وفاء. والثاني: لا يختار ذلك لأنه قادر على ثمن سلعته من غير تبرع من أحد بخلاف ما إذا لم يكن وفاء, لأنه لا يتوصل إلى ثمن سلعته, وهكذا لو مات رجل وعليه ديون تعلقت ديون الغرماء [ق 291 ب [بماله ولا يحتاج إلى القرباء, ثم ينظر فإن لم يخلف وفاء فكل من وجد عين ماله فهو أحق بها من غيره قولًا واحدًا, وإن حلف وفاء كالذهب أنه لا يكون أحق بعين ماله بل يقسم ماله بينهم حتى يقضي ديونهم, ثم يقسم الباقي بين الورثة. وقال الإصطخري: هو أحق بعين ماله بكل حالٍ لأنه ربما يظهر غرماء آخرون فينزعون معه ما قبض, وهذا غلط لأنه يتوصل إلى كمال حقه من غير تبرع أحد فلا يكون له الرجوع بعين ماله كما لو كان حيًا, واحتج بأن النبيّ صَلَى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل مات أو أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه" ولم يقيد الموت بالإفلاس بل أطلق, قلنا: نحمله على ما لو مات مفلسًا بدليل ما ذكرنا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا مبني على حال الحياة إذا كان ماله يفي بديونه هل يحجر أم لا؟ فإن قلنا: يحجر عليه يرجع عليه ههنا, وإن قلنا: هناك لا يحجر عليه فهل يحجر ههنا؟ فيه وجهان, وهذا غير صحيح فيروى نحو قولنا في الرجوع بعين المال عند الإفلاس والحجر عن عثمان, وعلي, وأبي هريرة, وعروة بن الزبير رضي الله عنهم وهو قول الأوزاعي, وأحمد, وإسحاق. وقال أبو حنيفة: لا يجب عليه الحجر بحالٍ. ولا يجوز ذلك وليس للبائع الرجوع في عين ماله ولكنهم يطالبون الحاكم بحبسه والأمر بقضاء ديونهم, ويطالبون الورثة بقضاء الدين من التركة, وبه قال الحسن والنخعي وابن [ق 292 أ] شبرمة, وقال مالك: يحجر على المفلس ويرجع البائع في عين ماله حال الحياة, وإذا مات مفلسًا لا يرجع البائع في عين ماله بل كل الغرماء سواء, واحتج بأنه إذا رجع البائع إلى عين ماله حال الحياة فسائر الغرماء يتوصلون إلى شيء آخر بتحمل المفلس له واستفادته المال من وجه آخر, وبعد الوفاة لا تكون إلا التركة فيشتركون فيها ولا يختص بعضهم بها. وأيضًا روى الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن النبيّ صَلَى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل باع متاعًا فأفلس الذي ابتاعه ولم يقبض البائع من ثمنه شيئًا فوجده بعينه فهو أحق به, وإن مات فهو أسوة الغرماء". وهذا غلط لما روي عن عمر بن خلدة الزرقي قاضي المدينة قال: أتينا أبا هريرة رضي الله عنه في صاحب لنا أفلس, فقال أبو هريرة رضي الله عنه: الذي قضى فيه رسول الله صَلَى الله عليه وسلم: "أيما رجل مات أو

أفلس فصاحب المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه". وروى هشام بن يحيى عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَى الله عليه وسلم قال: "إذا أفلس الرجل ووجد لبائع سلعته بعينها فهو أحق بها من الغرماء". وفي رواية أخرى: "فبائع المتاع أحق بمتاعه إذا وجده بعينه". وأما الخبر الذي ذكره مرسل وقيل: قوله: "ومات فهو أسوة الغرماء" [ق 292 ب] من قول أبي بكر بن عبد الرحمن أدرجه الراوي في الخبر, ثم يحتمل على ما لو خلف وفاء. وأما ما ذكره من المعنى لا يصح؛ لأن البائع لا يتوصل إلى كمال حقه لخراب ذمة المشتري بالإفلاس فكان له الرجوع إلى عين ماله كما لو كان حيًا مفلسًا, وما ذكره من تحمل المفلس موهوم لا اعتبار به أيضًا, وأيضًا قال الشافعي: يُقَالُ لِمَنْ قَبِلَ الحَدِيثَ فِي المُفْلِسِ فِي الحَيَاةِ دُونَ المَوْتِ قَدْ حَكَمَ رَسُول اللَّهِ صَلَى الله عليه وسلم بِالشُّفْعَةِ عَلَى الْحَيِّ فَحَكَمْتُمْ بِهَا عَلَى وَرَثَتِهِ". فكذلك ههنا وجب أن يحكم على ورثته حتى لا يكون للوارث أكثر ما للمورث, إذ يستحيل أن يكون سلطان الورثة فوق سلطان الموروث فيما ورثوا عنه, وكذلك الرد بالعيب لا يسقط بموت البائع بل يرد على وارثه كذلك ههنا, لأنه حق يملك عليه بعوض. واعترض المزني ههنا وابعد النجعة فيه فقال: قد جعل الشافعي للوارث في الوقف أكثر ما للمورث لأنه قال: "إِذَا هَلَكَ أًهْلُهُ رَجَعَ الوَقْف إِلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِالوَقْفِ". ولم يقل أنه يرجع إلى الواقف, ثم قال: "وَهَذَا عِنْدِي غَيْرُ جَائِزٍ". يعني جواب الشافعي في مسألة الوقف لا في مسألة المفلس. قلنا: أما مسألة الوقف فإن في صحة الوقف الذي لم يبين انتهاؤه قولين: أحدهما: الوقف باطل حتى يبين انتهاؤه وتعلقه على ما لا ينقرض في الغالب مثل أن يقول [ق 293 أ] فإذا انقرض أولاد أولادي يصرف إلى الفقراء والمساكين ونحو ذلك. والثاني: يصح الوقف إذا انقرض الموقوف عليه. روى الربيع أنه يرجع إلى أقرب الناس بالواقف بشرط الفقر. فمن الأصحاب من قال: المذهب ما رواه حرملة وما رواه الربيع مطلق فمحمول على هذا المقيد, وقيل: فيه قولان, وفي الجملة ما قاله المزني: "لا يلزم", لأن كلام الشافعي في الوارث (والمورث)

وما يجري مجرى الميراث والوقف بمعزل عن ذلك, لأنه أخرج الشيء من ماله قربة إلى الله تعالى, فإذا لم يبين مصرفه طلبنا أولى وجوه القرب وهذا التصدق على الأقارب, فصرفنا إليه ذلك ولم يرده الواقف, لأنه لا يقف أحد على نفسه ولو فعل لا يجوز, وقد تقرب هو به إلى الله تعالى, وأزال ملكه, فلا يعود إليه, ولا له العود فيه. وقال ابن حربويه من أصحابنا: البائع أحق بعين ماله على معنى أنه يستوفي حقه من ثمنه كالرهن, ويقدم به على سائر الغرماء ولا يفسخ, وهذا خلاف الإجماع ومذهب أبي حنيفة هذا إذا كان قبل قبض المبيع. فرع آخر البائع بالخيار بين أن يرجع بعين ماله وبين أن لا يرجع بعين ماله وهل الرجوع على الفور أم التراخي؟ وجهان: أحدهما: أنه على الفور وهو الصحيح؛ لأنه لوجود العيب فكان على الفور [ق 293 ب] كخيار الرد بالعيب. والثاني: أنه على التراخي لأنه حق رجوع لا يسقط على عوض فكان التراخي كالرجوع في الهبة. وهذا لا يصح؛ لأن في التأخير ههنا ضرر بالغرماء بخلاف الرجوع في الهبة, وقيل: هو على التراخي ما لم يعزم الحاكم على بيع ماله فلا يؤدي إلى الضرر بأحدٍ. فرع آخر إذا أراد أن يرجع بعين ماله هل يحتاج إلى حكم الحاكم؟ المذهب أنه لا يحتاج إلى حكم الحاكم؛ لأن الشافعي قال: "لا يملك عين ماله إلا بالتفليس والاختيار" ولم يشترط فيه حكم الحاكم, ولأنه فسخ ثبت بالنص فلا يفتقر إلى حكم الحاكم كالفسخ باللعان والرد بالعيب. وحكي عن أبي إسحاق أنه قال: لابد من حكم الحاكم لأنه فسخ مختلف فيه ولم يذكر صاحب "الحاوي" غير هذا. وقيل: إذا كان حاكم ليس له ذلك إلا بحكمه وإن لم يكن حاكم فله ذلك. فرع آخر بماذا يكون الفسخ؟ اختلف أصحابنا فيه, فمنهم من قال: بصريح القول والفعل كما في الفسخ بالخيار؛ لأن ملك المشتري في زمان الخيار غير مفتقر فجاز أن يفسخ بالفعل بخلاف ملك المفلس فإنه مستقر.

فرع آخر لو كان مرهونًا, ثم فك من الرهن هل للبائع الاسترجاع؟ وجهان: أحدهما: لا يكون له ذلك لأنه صار إلى حال [ق 294 أ] زال عنه حكم الاسترجاع. والثاني: له ذلك لأنه قادر على الاسترجاع من غير إبطال حق الغير. فرع آخر إذا باع شقصًا وأفلس المشتري بالثمن, ثم علم الشفيع فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: الشفيع أولى ويؤخذ منه الثمن ويقسط على الغرماء وهذا أصح؛ لأن حق الشفيع سابق, ألا ترى أن المشتري لو باع قبل أن يعلم الشفيع كان للشفيع أخذه من المشتري الثاني لتقدم حقه على حقه, وإذا قدمنا حقه على حق البائع لم يجز أنه يخصه بثمنه ووجب أن يكون أسوة الغرماء فيه؛ لأن العين فاتت وما دفع الشفيع من الثمن في حكم مشتري لو اشتراه ودفع الثمن كان جميع الغرماء فيه أسوة, فكذلك فيما دفع الشفيع كان كل الغرماء فيه أسوة. والثاني: البائع أولى؛ لأن الشفعة لإزالة الضرر فلا يجوز أن يزال عنه الضرر بإدخال الضرر على البائع. والثالث: الشفيع اولى ولكن الثمن المأخوذ منه يدفع إلى البائع ويخص به جمعًا بين الحقين, وهو اختيار ابن سريج قياسًا على ما قال الشافعي في المكاتب إذا ركبته ديون وعليه مال الكتابة وفي يده ما لا يفي بالجميع يدفع المال إلى الغرماء ويرجع السيد في الرقبة. ومثل هذه المسألة إذا تزوج امرأة وأصدقها سقطًا ثم طلقها قبل الدخول بها قبل أن يعلم [ق 294 ب] الشريك بالشفعة, فإن النصف الذي هو لها يأخذه الشفيع, والنصف الذي هو له فيه وجهان: أحدهما: الشفيع أحق به, لأنه حقه ثابت. والثاني: الزوج أحق به؛ لأن حقه ثبت بنص القرآن العظيم. فإن قيل: أليس قلتم المحال عليه إذا أفلس ليس للمحتال الرجوع إلى المحيل فما الفرق؟ قلنا: الفرق أن الحوالة كالقبض؛ لأن المطالبة تسقط عن المحيل بالحوالة على الإطلاق, وههنا لا يوجد هذا المعنى فثبت الرجوع. مسألة: قَالَ: "وَلَا أجْعَلُ لِلْغُرَمَاءِ مَنْعَهُ بِدَفْعِ الثَّمَن". وإذا أراد البائع الرجوع في عين مال فقال الغرماء له: لا تفسخ ولك علينا تمام

الثمن ولا يكلفك المحاصة والمضاربة لم يبطل حقه من الفسخ؛ لأن النبي صَلَى الله عليه وسلم جعل البائع أحق بالعين فهو أحق بها في جميع الأحوال, ولربما يأخذ الثمن دون العين فيظهر للمفلس غريم آخر, فليرجع عليه في ذلك الثمن بالقسط. وكذلك ورثة الميت لو قالوا للبائع: نبذل لك الثمن له الفسخ أيضًا. وقال مالك: يسقط في المسألة الأولى خياره بذلك, ولا يتصور الخلاف معه في المسألة الثانية. واحتج بأنه يزول ضرره بذلك. وهذا غلط لما ذكرناه؛ ولأن الغرماء متبرعون بذلك ولا يلزمه قبول التبرع للمنة كما لو تبرع رجل بقضاء دين رجل لا يلزمه قبوله. مسألة: [ق 295 أ] قال: "وَإِنْ تَغَيَّرت السِّلْعَةُ بِنقْصٍ فِي بَدَنِهَا بِعَوَرٍ أَوّ غيرِهِ". الفصل: إذا وجد البائع عين ماله في يد المفلس لم يخل من ثلاثة أحوالٍ؛ إما أن تكون بحالها لم تزد ولم تنقص, أو نقصت أو زادت, فإن كانت بحالها نظر, فإن لم يكن تعلق بها حق الغير كان البائع أحق بها وله ترك الرجوع فيها والرضا بالمحاصة؛ لأن النبي صَلَى الله عليه وسلم قال في الخبر: "صاحب المتاع أحق" وهذا اللفظ يقتضي أن يكون مخيرًا, إن شاء رجع وإن شاء لم يرجع, وإن كان قد تعلق حق الغير بها بأن رهنها ثم أفلس لا يكون للبائع الرجوع فيها والمرتهن مقدم بثمنها على الغرماء فتباع في حقه, فإن كان وفق حقه انفرد به, وإن كان دون حقه بيع منه بقدر حقه والفاضل للبائع؛ لأنه عين ماله. ولو كان قد باع ثم عاد إليه بهبة أو إرث قد ذكرنا وجهين في موضع من هذا الكتاب, ولو عاد بشراء جديد فيه أوجه: أحدها: البائع الأول أولى بعين ماله؛ لأن حقه أقدم. والثاني: البائع الثاني أولى في الرجوع إليه؛ لأن هذا الملك القائم في الحال متلفًا من قبله. والثالث: هما سواء يتحاصان فيه بقدر حقوقهما كما لو استدان ديونًا كثيرة لا يراعى الترتيب فيها, بل يستوي أربابها. ذكره أصحابنا بخراسان. وإن كانت العين ناقصة لم يخل من أحد أمرين؛ إما [ق 295 ب] أن يكون نقصانًا يفرد بالعقد أو لا يفرد به, فإن كان نقصانًا يفرد بالعقد مثل إن كان المبيع ثوبين فهلك أحدهما أو ثوبًا واحدًا فهلك بعضه فالمذهب أن البائع بالخيار بين أن يضرب بالثمن مع الغرماء وبين ان يأخذ المأخوذ ويضرب مع الغرماء بحصة التالف. وإن كان نقصانًا لا يمكن إفراده بالعقد مثل إن كان عبدًا فذهبت يده أو عينه ولم يخل من أحد أمرين؛ إما أن يكون ذهابه بوجوب

أرش أو بغير أرش, مثل إن ذهب بأمر سماوي أو بإتلاف المشتري فالبائع بالخيار بين أن يقبله ناقصًا ولا شيء له غيره, وبين أن يدع ويضرب مع الغرماء بالثمن. وإن كان النقصان بالأرش, مثل إن جنى عليه أجنبي فوجب الأرش, فالأرش يلزم للمفلس والبائع بالخيار بين أن يضرب مع الغرماء بالثمن وبين أن يأخذه ناقصًا ويضرب مع الغرماء بقدر النقص من الثمن, وإنما لا يرجع إليه الأرش لأنه بدل جزء تلف في يد المشتري, وإنما يكون أحق به من سائر الغرماء مع بقاء عينه. فأما مع تلفه يكون أسوة الغرماء فيقال: كم قيمته ولا عيب به؟ قالوا: مائة. قلنا: كم قيمته وبه هذا العيب؟ قالوا: تسعون, فالبائع يأخذه معيبًا ويضرب مع الغرماء بعشر الثمن. فإذا تقرر هذا نقل المزني أن الشافعي شبه هذا [ق 296 أ] بالشقص المشفوع إذا نقص بهدم من السماء إن شاء أخذه بجميع الثمن وإن شاء تركه. واختلف أصحابنا في هذه المسألة على طرق؛ منهم من قال: هذا الذي نقله المزني مما لا يعرف في شيء من كتبه, وقد ذكر في كتبه أن الشفيع يأخذ بحصته من الثمن أو يدع, إلا أن المزني ثقة فيجب أن تكون المسألة على قولين. ومنهم من قال: هو على قولين: ومنهم من قال هو على حالين فالذي نقله المزني إذا نقصت بآفة سماوية أو بجناية من المشتري, والذي نقله غيره إذا كان النقص من جهة الآدمي الأجنبي فالأرش يحصل للمشتري, والشفيع يأخذ من الثمن. ومنهم من قال: الذي نقله المزني إذا كانت الأعيان قائمة ولكن ذهب تأليفها والذي نقله غيره إذا كانت الأعيان تالفة. ومنهم من قال: الذي نقله المزني إذا تلف البناء دون العرصة والذي نقله غيره إذا كان قد تلف بعض العرصة, وهذا لأن البناء تابع في الدار والعرصة هي المتبوعة كأطراف العبد تابعة للبدن, ولهذا تدخل في بيع الأرض من غير شرط. فإذا ثبت هذا في الشفعة يجب أن يكون الفلس مثله, وإن كانت زائدة لا يخلو إما أن تكون الزيادة متميزة أو لا, فإن كانت متميزة مثل النتاج والثمار فهو مخير بين أن يضرب مع الغرماء [ق 296 ب] أو يرجع في عين ماله ولا حق له في الثمار, لأنه نماء متميز في ملك المفلس, وإن كانت الزيادة غير متميزة كالكبر والسمن ونحو ذلك, فهو بالخيار بين أن يضرب بالثمن, وبين أن يأخذه بالزيادة بكل الثمن؛ لأن الزيادة غير المتميزة أبدًا تتبع الأصل إلا في الصداق فإنه إذا طلقها قبل الدخول والصداق زاد زيادة غير متميزة, فالزائد أحق بها ويرجع الزوج بنصف القيمة وموضع الفرق "كتاب الصداق". ولكن نذكر ههنا حتى يزول الإشكال, فنقول: قال أبو إسحاق: الفرق أن الصداق على صفة لو تلف رجع الزوج إلى قيمته التي لا تزيد على الصداق فلم يجب أن يرجع مع البقاء بزيادة الصداق, والمبيع لو تلف رجع البائع بالثمن الذي قد يزيد على قيمة المبيع, فكان له أن يرجع مع اليقاء بزيادة المبيع. وقال ابن أبي هريرة: إنه لم يكن للزوج حق قبل الطلاق ولا تعلق بالصداق بل

استحدث الحق بعد حدوث الزيادة في مسألتنا حق البائع متعلق بالمبيع قبل الزيادة متقدمًا على المفلس. وقال أبو الفياض البصري: الفرق أن بطلاقه من فعله متهم بالطمع من الزيادة والتهمة انتفت من البائع بالطمع في الزيادة. وقال أبو حامد: الفرق أن للبائع العدول عن [ق 297 أ] عين ماله مع الوجود إلى الثمن وإن كان أضعاف القيمة فكان له ان يأخذ عين ماله مع حدوث الزيادة وليس للزوج أن يعدل عن الصداق الموجود بحالٍ فلم يكن له فيه حق إذا كان زائدًا. وقيل: الزوج يصل إلى كمال حقه من القيمة فوزانه إذا كانت المرأة مفلسة يأخذ الزوج نصف العين زائدًا. فرع لو كان في يد المشتري أعيان مال لم يؤد أثمانها وزادت أسعارها, وأن استرجعها أربابها عجز ماله عن الدين, وإن تركوها عليه كان في ماله وفاء بدينه هل يجري عليه حكم العاجز عن دينه أم حكم الملئ به؟ فيه وجهان: أحدهما: يجري عليه حكم العاجز؛ لأن تلك الأعيان مستحقة الاسترجاع فلم يعتبر زيادة أثمانها في ماله. والثاني: يجري عليه حكم الملئ بدينه؛ لأن تلك الأعيان ملكه قبل الاسترجاع فكانت زيادة أثمانها ملكًا له. فعلى هذا إن لم تظهر أمارات الإفلاس لم يحجر عليه, وإن ظهرت أماراته ففي جواز الحجر وجهان. مسألة: قال: "وَلَوْ بَاعَهُ نَخْلًا فِيهِ ثَمَرٌ أَوْ طَلْعٌ قَدْ أُبِرَ واسْتَثْنَاهُ المُشْتَرِي وَقَبَضَهَا وَأَكَلَ الثَّمَرَ وَأَصَابَتهُ جَائِحَةٌ ثُمَّ فَلَسَ أَوْ مَاتَ, فَإِنَّهُ يَاخُذُ عَيْنَ مَالِهِ وَيَكُونُ أُسْوَةَ الغُرَمَاءِ فِي حِصَّةِ الثَّمَرِ يَوْمَ أَصَابَتْهُ الْجَائِحَةُ". إذا باع نخلًا عليها ثمرة أو طلع [ق 297 ب] قد أبر فإن هذين بمنزلة العينين, لأن الثمرة ليست بتابعة للأصول, ألا ترى أنه إذا قال: بعتك هذه النخلة لم تدخل الثمرة في البيع, وإذا شرطها المشتري دخلت في المبيع بالشرط على هذا الوجه. وعبَّر الشافعي عن ذلك بالاستثناء, ثم إذا تلفت الثمرة بجائحة من السماء, أو بجناية من المشتري, فإن البائع بالخيار بين أن يضرب مع الغرماء بالثمن وبين أن يرجع بالنخيل ويضرب مع الغرماء بما يخص الثمرة من الثمن. وكذلك إذا اشترى نخلتين أو عبدين أو ثوبين وطريق التقويم فيه حتى يعرف ما يقابل الثمرة من الثمن, وما يقابل النخيل منه أن يقال: كم قيمة

النخيل؟ فيقال: تسعمائة درهم. ويقال: كم قيمة الثمرة؟ فيقال: مائة درهم, فيعلم أن عشر الثمن يقابل الثمرة وتسعة أعشاره يقابل النخيل. وقال أصحابنا: ويعتبر قيمتها بأقل الأمرين من حين البيع والتسليم قد تلف في يده فلا يجوز أن يرجع به على المشتري. وأما قول الشافعي: وَيَكُونُ أُسْوَةَ الغُرَمَاءِ فِي حِصَّةِ الثَّمَرِ يَوْمَ قَبضِهِ". أراد به إذا لم ينقص في يده وكان بحاله, أو كان ناقصًا, فأما إذا كان زائدًا فالزيادة للمشتري فلا يقوم عليه, وإنما يقوم في حال البيع, ويعتبر قيمة النخل بأكثر اليومين من يوم العقد ويوم القبض ليكون النقصان [ق 298 أ] محسوبًا على البائع أيضًا, وإنما أطلق الشافعي وقال: "يَوْمَ قَبْضِهِ"؛ لأن العادة أن القبض يتعقب البيع وأن القيمة فيها واحدة. ومن أصحابنا من قال: يأخذ النخيل بكل الثمن وهو ضعيف لا وجه له. فرع لو باع نخلًا مطلعة ولم توبر فالطلع يدخل في البيع تبعًا, فلو هلك الثمر ثم أفلس المشتري بالثمن فيه وجهان: أحدهما: يرجع بالنخل إن شاء ولا شيء له غيرها؛ لأن الطلع بمنزلة الزيادة المتصلة, فإذا نقصت في يد المشتري لا يضارب بقسط ذلك النقصان: والثاني: يرجع بالنخل بحصتها من الثمن ويضرب مع الغرماء بحصة الطلع من الثمن؛ لأن الطلع عين وهو مع النخل بمنزلة العين. وأصل هذين الوجهين أن الطلع هل يأخذ قسطًا من الثمن إذا لم يكن مؤبرًا؟ فيه وجهان مبنيان على أن الحمل هل له قسط من الثمن أم لا؟ فرع آخر لو باع نخلًا مثمرة لم يبد صلاحها معًا وسلمها إلى المشتري ثم أفلس والثمرة قد أدركت فالبائع يأخذها مع ثمرتها؛ لأن هذه زيادة غير متميزة حدثت في يد المشتري فتبعت الأصل في الفسخ. وكذلك إن كانت غير مؤبرة ثم أبرت عند المشتري. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان بناء على ان الثمرة قبل الإبار هل تعلم أم لا؟ فإن قلنا: لا تعلم كان للمشتري. وإن قلنا: تعلم [ق 298 ب] كان للبائع. مسالة: قَالَ: "وَلَوْ بَاعَهَا مَعَ ثَمَرِ فِيهَا قَدْ اخْضَرَّ ثُمَّ أَفْلَسَ وَالثَّمرُ رُطَبٌ, أَوْ تَمْرٌ أَوْ بَاعَهُ

زَرْعًا مَعَ أَرْضٍ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ ثُمَّ أَصَابَهُ مُدْرَكًا أَخْذَهُ كُلَّهُ". ههنا مسألتان: إحداهما: إذا باع نخلًا عليها ثمرة فأدركت في يد المشتري, وقد ذكرناها. والثانية: إذا باعه أرضًا وفيها زرع وقد ذكرنا حكمها في"كتاب البيع". وقال صاحب"الإفصاح": أراد ههنا إذا باع أرضًا فيها زرع نابت قد انعقد فيه الحب. وقول الشافعي: "خَرَجَ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ" يريد به خرجت السنابل من أصولها مع الحب أو لم تخرج, لأنه سماه زرعًا والبزر لا يسمى زرعًا, فإذا كبرت واشتدت وكانت الزيادة غير متميزة فلا يكون للمفلس فيها حق, كالثمرة التي عطفها الشافعي عليها إذا كبرت وأدركت أخذها البائع, وبيع السنابل قبل انعقاد الحب فيها يجوز قولًا واحدًا, وإنما القولان إذا اشتد فيها الحب. وأما إذا باع أرضًا فيها زرع نابت لم ينعقد فيه الحب ثم أفلس وقد أخرج السنابل واشتد, فإن الحب للمفلس ولا حق للبائع فيه, ويأخذ الأرض بحصتها من الثمن ويضرب مع الغرماء بحصة الزرع؛ لأن الزرع الذي كان موجودًا حال البيع صار بمنزلة التالف. وأما الحب فقد فقد حدث في ملك المشتري كالثمرة تحدث في ملكه فلا يكن للبائع فيه حق. فأمَّا إذا كانت الارض مبذورة [ق 299 أ] فباعها وشرط أن يكون البذر داخلًا في البيع فيه وجهان: أحدهما: لا يصح في البذر ولا يدخل في البيع تبعًا. ومن قال بهذا قال: إذا أفلس المشتري وقد صار البذر زرعًا فيه وجهان: أحدهما: يكون للمشتري؛ لأن البذر انقلبت عينه وصار شيئًا آخر فلم يكن للبائع فيه حق. والثاني: يأخذ الزرع؛ لأن النبات هو البذر, وإنما حصل فيه الزيادة والنماء. وقول الشافعي: "خَرَجَ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ" أراد خرج من الأرض أو لم يخرج, نبت أو لم ينبت. ومن أصحابنا من قال: إذا باع أرضًا فيها زرع أخضر لم ينعقد فيه الحب, أو باع أرضًا مبذورة وشرط البذر وقلنا: بجوز فأفلس المشتري وقد أدرك الزرع كان أحق بالأرض مع الزرع, ويكون ذلك بمنزلة الزيادة المتصلة التي لا تتميز. وقد نص الشافعي في "الأم" على هذا. فحصل في هذا أن أصحابنا اختلفوا فيه على ثلاثة طرق:

أحدها: تغير البذر إلى الزرع زيادة غير متميزة. وتغيره إلى الحب زيادة متميزة. والثالث: كل ذلك يجري مجرى الزيادة المتصلة التي ليست بمتميزة، وعليه نص في «الأم». وأمَّا تغير السنابل إلى حال الاشتداد فلا يختلفون أنه بمنزلة الزيادة المتميزة غير المتصلة. ومن أصحابنا من رتب، وقال: في البذر إذا نبت وجهان، والمذهب أنه يرجع فيه وإن كان [ق 299 ب] الزرع قصيلًا فتسنبل وظهر سنبله، فإن قلنا: هناك لا يرجع فيه فههنا أولى. وإن قلنا: هناك يرجع فههنا وجهان: أحدهما: لا يرجع لأن الحنطة ثمرة الزرع كالرطب ثمرة النخل بخلاف البذر فإنه قد تخلف، والخارج عين أخرى والمذهب أن يرجع. فرع إذا اشترى بيضًا فحضنها المشتري ثم أفلس فوجدها البائع فراريج فهو أيضًا على وجهين؛ فمن قال من أصحابنا: إن تغير البذر إلى الزرع يجري مجرى الزيادة المتميزة قال في البيض مثله، ولا فرق بينهما؛ لأن الفروج من البيضة كالزرع من الحب، ولهذا يقول: من غصب بذرًا فأنبته يلزمه رده عليه، وهذا هو المذهب، والأول غلط. مسألة: قَالَ: «وَلَوْ بَاعَهُ حَائِطًا لَا ثَمَرَ فِيهِ أَوْ أَرْضًا لَا زَرْعَ فِيهَا». الفصل: إذا باع نخلًا حاملًا فأثمرت في يد المشتري أو أرضًا بيضاء فزرعها المشتري ثم أفلس، فإنَّا نقول: للبائع بالخيار بين أن يترك الأرض والنخل ويضرب مع الغرماء بالثمن، وبين أن يرجع بالنخل على أن تبني الثمرة عليها إلى أن تجد وترجع بالأرض على أن يبقى الزرع فيها إلى أن يحصد؛ لأن الثمار حدثت على ملك المشتري وهي زيادة متميزة، وكذلك الزرع؛ وإنما لا يقلع الزرع لأنه حصل في ملك الزارع بغير تعدي فلا [ق 300 أ] يجوز قلعه ولا يجوز له مطالبته بأجرة الأرض في مدة مقام الزرع فيها بعد الفسخ، لأنه ملك الأرض مسلوبة المنفعة، كما لو كان المبيع أمة فزوجها المشتري ثم أفلس أخذها البائع مسلوبة الاستمتاع، ولأن المشتري داخل في هذا العقد على أن لا يغرم أجرة المنافع فلا تلزمه الأجرة، وبهذا فارق إذا استأجر أرضًا ثم أفلس بعدما زرع، فاختار المكري فسخ الإجازة يبقى الزرع إلى وقت الحصاد بأجرة المثل ويسقط المسمى بهذا الفسخ لما

بقي من الزمان؛ لأن المنافع كانت مضمونة على المستأجر. فلو قلنا: على المكري تبقية الزرع بلا شيء لم يكن له في الفسخ فائدة، بل يكون ضررًا. وهكذا إذا اكترى دابة ليحمل عليها متاعًا فأفلس في الطريق ففسخ المكري العقد عليه أن يبلغ متاعه موضع الأمن بكراء المثل لما ذكرنا. هذا إذا اختار المفلس والغرماء تبقية الزرع إلى الحصاد. فأما إذا أراد المفلس تبقيته والغرماء قلعه للبيع وهو قصيل، أو أراد المفلس قلعه والغرماء تبقيته فالقول قول من يريد القلع، وإنما كان كذلك لأن من يريد القلع إن كان هو المفلس فله غرض في تبرئة ذمته [ق 300 ب] من الدين بما حضر من ماله، وفي تبقيته خطر؛ لأن الجائحة لا تؤمن عليه، وإن كان الغرماء فإن حقهم مؤجل فلا يكلفون تأخيره. وقول الشافعي: «إِنْ أَرَادَ الْغُرَمَاءُ تَاخِيرَ ذَلِكَ» يوهم أن المشتري إن أراد تعجيل القطع دون الغرماء ليس له وليس كذلك على ما ذكرنا. ومراد الشافعي بهذا اللفظ أن المشتري لو أراد التأخير ولم يرد الغرماء التأخير ليس للمشتري إجبارهم. وقال أبو إسحاق: يعمل على ما فيه الحظ فإن الحظ في التبقية بقاؤه، وإن كان الحظ في القطع قطع. وهذا خلاف النص، ولكن ليس له وجه صحيح، وذلك أنه قد يكون من الزرع والثمرة ما له قيمة تافهة أو لا قيمة له، والظاهر سلامته، ولهذا يجوز أن يزرع للصغير من ماله. وقيل: ما قاله الشافعي إذا بقي بعد الجداد ما له قيمة، فإن كان إذا جد لا قيمة له فذاك إتلافه فلا يجاب واحد منهما إلى ذلك، ولو أن واحدًا من الغرماء أراد تعجيل القطع وامتنع غيره أجبروا على تعجيل القطع لحق هذا المستعجل في حق الثمرة. وكذلك لو كان البائع غريمًا بدين آخر له المطالبة بتعجيل القطع لا بحكم أنه فسخ البيع في الأرض ولكن بحكم [ق 301 أ] أنه غريم فلا يلزمه الإنظار. مسألة: قَالَ: «وَكَذَلِكَ لَوْ بَاعَهُ أَمَةً فَوَلَدَتْ ثُمَّ أَفْلَسَ المُشْتَرِي». إذا باع أمة لا يخلو إما أن تكون حائلًا أو حاملًا، فإن كانت حاملًا لا يخلو إما أن يفلس المشتري قبل أن تضع أو بعد الوضع، فإن كان بعد الوضع فالولد للمشتري لا حق للبائع فيه، وللبائع الخيار إن شاء ضرب مع الغرماء بثمن الأم وإن شاء بيعت الأم مع الولد وقسم ثمنها بينهما فيدفع إلى الأم ما يخصها من الثمن، وهو أن يقال: كم قيمة الجارية إذا كانت ذات ولد؟ فيقال: تسعون، ويقال: كم قيمة الولد؟ فيقال: عشرة دراهم، فيقسم الثمن بينهما على تسعة أعشار وعشر، وإن أراد الرجوع بعين الأم دون الولد لم يكن له، لأنه لا يجوز التفريق بين الأم وولدها فيما دون سبع سنين. وإن أراد

الرجوع بعين الأم مع الولد على أن يدفع إلى المفلس قيمة الولد كان له. ومن أصحابنا من قال: ليس له الرجوع في الأم ويكون أسوة الغرماء. وهذا غلط، لأنه يجد عين ماله فلا يمنع من الاختصاص بها، ويمكن أن يباعا معًا وإن أفلس قبل أن تضع نص في عامة كتبه أن له أن يرجع بها حاملًا ويكون الحمل له دون المشتري [ق 301 ب]. قال أصحابنا: هذا على القول الذي يقول: لا يأخذ الحمل قسطًا من الثمن. فأما إن قلنا يأخذ قسطًا من الثمن لا حق للبائع في الحمل ويصبر حتى تضع، فإذا وضعت كان الولد للمفلس ويكون الحكم على ما قلناه في المسألة قبلها. وعلل المزني القول الأول فقال: «لأَ نَّ النَّبيَّ صلى الله علي وسلم جَعَلَ الإِبَارَ كَالْوِلَادَةِ إِذَا لَمْ تُؤْبَرْ فَهِيَ كَالحَامِلِ لَمْ تَلِدْ». ولا يستقيم نظم هذا التعليل فيحمل أنه ليس من جهة الشافعي. ووجه الخلل فيه أنه ذكر مسألة الحمل ثم قاس على الحمل مسألة الإبار لا مسألة الحمل على الإبار، فكأنه صنف مسألة وقصد علتها فعلل في أخرى، ولو كانت مسألة الإبار بعد هذه المسألة وهذا التعليل يليق بتلك المسألة. وإن باعها نظر، فإن أفلس وهي حامل لم تضع فإنه يأخذها حاملًا قولًا واحدًا، وإن كانت قد وضعت فإن قلنا: يأخذ الحمل قسطًا من الثمن يكون الولد للمشتري؛ لأن الاعتبار بحال حدوثه وإن أسقطت. فإن قلنا: لا يأخذ قسطًا من الثمن لا شيء على المفلس للولد، ويكون للبائع أخذ الأم. وإن قلنا: يأخذ قسطًا من الثمن يلزم قسطه على المفلس. مسألة: قَالَ: «وَلَوْ بَاعَهُ نَخْلًا لَا ثَمَرَ فِيهِ ثُمَّ أَثْمَرَتْ فَلَمْ تُؤْبَرْ حَتَّى أَفْلَسَ». الفصل: إذا باع نخلًا حائلًا فأطلعت ثم أفلس المشتري وهي مطلعة لم تؤبر فالطلع بمنزلة الحمل فيه قولان: أحدهما: يأخذه مع الأصل [ق 302 أ] رواه المزني وحرملة. والثاني: بمنزلة الثمرة الظاهرة تكون للمشتري، ولا حق فيها للبائع. رواه الربيع. ومن أصحابنا من قال: الحمل للبائع ولكن الثمرة للمشتري وإن لم تؤبر قولًا واحدًا. والفرق أن الثمرة مما يمكن إفرادها بالعقد واستثناؤها عن العقد بخلاف الحمل والبطن، والفرق بين هذا وبين البيع حيث قلنا هناك يبيع غير المؤبرة الأصل قولًا واحدًا ما ذكرنا في البيع أنه انتقال الملك بالرضا بخلاف هذا. ولو أفلس المشتري والنخل

مطلعة فلم يخبر البائع فسخ البيع حتى أبرها المفلس فإن الثمرة تكون للمفلس؛ لأن التأبير حصل في ملكه. قال الشافعي: «لأن البائع إنما يملك عين المال بالتفليس والاختيار» وقد ذكرنا أن هذا يدل على أن هذا الفسخ لا يفتقر إلى الحاكم، وهذا تفريع على القول الذي يقول: يتبع طلع النخل في الفسخ. قال الشافعي: «وكذلك الكلام في الكرسف وكل ما يخرج من كمامه ثم ينشق فيكون حكمه حكم الطلع ما تقدم بيانه». مسألة: قَالَ: «وَلَوْ قَالَ الْبَائِعُ اخْتَرْتُ عَيْنَ مَالِي قَبْلَ الإِبَارِ». الفصل: إذا اختلف البائع والمفلس فقال البائع: اخترت عين مالي قبل الإبار فالثمرة لي، وقال المفلس: اخترت بعد الإبار فالثمرة لي، فالقول قول المفلس مع يمينه. وهذا إذا قلنا: الطلع للبائع قبل الإبار، فأما على رواية الربيع لا معنى لهذا الاختلاف. فإذا ثبت هذا، لا يخلو غرماؤه من ثلاثة أحوالٍ؛ إما أن [ق 302 ب] يصدقوا البائع، أو يصدقوا المفلس، أو يصدق بعضهم البائع وبعضهم المفلس، فإن صدقوا المفلس أخذوا الثمرة التي حلف عليها المفلس واقتسموها على قدر حقوقهم، وإن صدقوا البائع فإن كان فيهم عدلان شهدا للبائع وحكم له بالثمرة، وإن كان فيهم عدل واحد حلف معه واستحق الثمرة. وإن لم يكن فيهم عدل فالمفلس يستحق الثمرة بيمينه ولم يقدح تكذيبهم إيَّاه في يمينه. فإن اختار المفلس أن يدفع إليهم هذه الثمرة قيل لهم: إما أن تبروه من حقوقكم أو تقبضوها من الثمرة، فإن أبروه فلا مسألة، وإن لم يبروه أجبرهم الإمام على اقتسام الثمرة بينهم، فإذا اقتسموها أمرهم الحاكم بدفع ما قبضوه من الثمرة على البائع، لأنهم قد أقروا أنها ملكه، وأن المفلس ظلمه بيمينه الفاجرة. وهذا كما قلنا في السيد إذا قال للمكاتب: هذا النجم سرقته من فلان وكذب المكاتب أجبر على إبرائه أو قبوله، فإذا قبله يلزمه دفعه إلى المقر له على ما بيَّناه. ومن أصحابنا من قال: لا يجبرون على أخذها، ويفارق سيد المكاتب لأنه يريد الإضرار بالعبد ورده إلى الرق، وههنا لا ضرر على المفلس فيه. وقيل: هذا بناء على أن الدين الحال إذا لم يكن للمؤدي غرض في أدائه هل يجبر على قبوله؟ وجهان.

ومن أصحابنا من قال: إن كان له مال سوى هذه الثمرة لا يجبرون على أخذها، لأنه لا غرض في ذلك وإن لم يكن له مال سواها يجبرون فحصل ثلاثة أوجه والمنصوص الأول. وهذا إذا كانت الثمرة من جنس حقوقهم، فإن لم تكن من جنس حقوقهم لم يلزم قبضها بعينها، فتباع ويدفع ثمنها إليهم، ثم لا حق للبائع [ق 303 أ] فيها، وإن صدقه بعضهم وصدق بعضهم المشتري وشهدوا لهما، فمن شهد للمفلس لا تقبل شهادته لأنه يجر منفعة، ومن شهد للبائع تقبل شهادته على ما ذكرنا، وإن لم يشهدوا وكانوا فساقًا فالثمن للمشتري إذًا. ثم قال الشافعي: «ويدفع الغرماء الذين صدقوا المشتري دون الذين كذبوه». وقال ابن سريج: أراد الشافعي بهذا إن اختار المفلس ذلك فأما إذا أراد أن يقسمه بينهم كان له ذلك، ويجبر من كذبه على أخذ الثمرة أو إبرائه من الدين. ومن أصحابنا من قال: لا يجبر الغرماء المكذبون على قبول الثمرة، لأنه يمكنه صرفها إلى الغرماء المصدقين فلا غرض له في صرفها إلى الكل. وهذا قياس الوجه الذي ذكرنا إذا كذبه جميع الغرماء وله ما سواها، وإن صدق المفلس البائع وكذبه الغرماء، فإن هذا إقرار من المفلس للبائع، وإقرار المفلس مقبول قولًا واحدًا، وهل يشارك سائر الغرماء أم يأخذ ما يفضل عنهم؟ قولان؛ فإذا قلنا لا يشاركهم بأخذ ما يفضل، فإن سأل البائع يمين الغرماء أنهم لا يعلمون أنه اختار عين ماله قبل الإبار حلفوا على العلم قولًا واحدًا. فإن حلفوا استحقوا الثمرة، وإن نكلوا عن اليمين حلف البائع لقد اختار عين المال قبل الإبار واستحق الثمرة. ومن أصحابنا من قال: بل يحلف الغرماء ههنا قولان. ومن قال بالأول أجاب عن هذا وقال ههنا: يحلفون قولًا واحدًا، والفرق أن في تلك المسألة توجهت اليمين على الغرماء ابتداء فيحلفون قولًا واحدًا، وهذا هو الصحيح. [ق 303 ب]: ثم قال الشافعي: «فَإِنْ وَجَدَ بَعْضُ مَالِهِ كَانَ لَهُ بِحِصَّتِهِ». وقد ذكرنا هذه المسألة. فرع إذا صدقه بعض الغرماء دون البعض قد ذكرنا أنه تصرف الثمرة إلى المكذبين رفقًا بالمصدقين على قول بعض أصحابنا، لأنها لو صرفت إليهم استرجع بهم، ثم هل يضاربون الباقين ببقية ديونهم، أم بكل ديونهم؟ فيه وجهان: أحدهما: يضاربون ببقية ديونهم فيقسم على ذلك مال المفلس وعلى جميع الباقين وهذا أصح.

والثاني: كل واحد منهم يضارب بجميع دينه لا بالبقية يقولون للآخرين نحن لم نأخذ شيئًا بزعمكم تملكه بل أخذنا غصبًا على قولكم فجميع ديوننا باقية على المفلس فنخاصمكم بها. قال الشيخ أبو محمد الجويني: وهذا هو الصحيح إن شاء الله. مسألة: قَالَ: «وَلَوْ كَانَتْ أَرْضًا فَغَرَسَهَا». الفصل: إذا باع أرضًا بيضاء فغرسها المشتري أو بنى فيها بناء، ثم أفلس المشتري واختار البائع عين ماله لا يخلو الغرماء والمفلس من ثلاثة أحوال: إما أن يختاروا قطع الغراس والبناء، أو يختاروا تركه ويبذل لهم البائع قيمته، أو يختاروا الترك ولا يبذل لهم البائع شيئًا، فإن اختاروا القلع كان لهم ذلك، ثم يرجع البائع في عين ماله وعليه تسوية الأرض بعد القلع لأنها حفرت لمصلحة ملكهم، كما لو دخل فصيل دار رجل فكبر ولا يخرج من الباب إلا بنقصه، فإن لم تنقص قيمة [ق 304 أ] الأرض فلا كلام، وإن نقصت قيمتها بهذا القلع فعلى المشتري أرش ذلك النقص، والذي يجيء على هذا المذهب أن يرجع البائع به في أصل المال، لأنه يضرب به مع الغرماء لأنه نقص حصل بعد الحجر عليه لمصلحة ملكه فصار كنفقة العبد وأجرة الحمال، فإن قيل: أليس لو وجد المبيع ناقصًا في يد المشتري لا يطالب المشتري بنقصه؟ قلنا: لأن النقص هناك حدث في ملك المشتري فلم يضمنه إلا فيما يتقسط عليه الثمن، وههنا حدث النقص بعد رجوع البائع في العين في ملكه ليخلص ملك المشتري فيضمن النقص، وإن اختاروا الترك لا يجبرون على قلعه لقوله صلى الله عليه وسلم: «ليس لعرق ظالم حق» وهذا ليس بظالم، ثم يقال للبائع: إن اخترت أن تبذل له قيمة الغراس والبناء ويضمن للمفلس والغرماء أرش النقص فلك ذلك، لأنه لا ضرر عليهم في ذلك كما لو استعار من رجل أرضًا بيضاء فغرس فيها، ثم أراد مالكها الرجوع في العارية كان له ذلك، وإن لم يبذل لهم قيمة الغراس والبناء ولا أرش النقص فهل للبائع أن يرجع في الأرض وحدها ليكون له البناء والغراس للمفلس، نقل المزني له ذلك، ثم قال. وقال في موضع آخر ليس له ذلك، واختلف أصحابنا فيه على ثلاثة طرق: أحدها: المسألة على [ق 304 ب] اختلاف حالين، فالذي قال له ذلك إذا كانت الأرض هي المقصودة والغراس قليل وقيمة الأرض أكثر منه لأنه يكون كالتبع حينئذٍ، والموضع الذي قال ليس له ذلك إذا كان المقصود البناء والغراس بأن يكون كثيرًا قيمته

أكثر من قيمة الأرض، وهذا ضعيف وليس للشافعي ما يدل عليه فالطريقة الثانية هي على حالين من وجه آخر؛ فالوضع الذي قال له ذلك إذا قال: أخذ الأرض دون البناء بالثمن الذي بعت به. والذي قال: ليس له ذلك إذا قال: أخذ الأرض والبناء بالثمن الذي بعت به ولا أزيد عليه؛ وهذا أضعف من الأول. والطريقة الثالثة: قال أبو إسحاق، وابن سريج، والمزني وغيرهم: المسألة على قولين: أحدها: له الرجوع بالأرض وحدها ويباع البناء والغراس للغرماء كما لو كان ثوبًا فصبغه المشتري ثم أفلس وامتنع البائع من دفع قيمة الصبغ لم يبطل حقه من عين الثوب. والثاني: ليس له الرجوع في عينها كما لو نسي المشتري على الشقص المشفوع، قلنا للشفيع: إن أعطيته قيمة البناء وإلا فلا شفعة لك كذلك ههنا ولا عين ماله صارت مشغولة بحق غيره فسقط حقه من الرجوع، كما لو كان المبيع مسامير فسمرها في خشبة. وهذا أصح عند أصحابنا، ولأنَّا لو قلنا: يرجع حصل للمفلس والغرماء غراسًا بلا أرض ولا شرب وحصل لهم البناء بلا طريق [ق 305 أ] ومنفذ ويضر ذلك بهم والضرر لا يزال بالضرر، فعلى هذا يقال له: أنت بالخيار بين أن تعطي قيمة البناء والغراس أو تقلع وعليك بعض ........... أو تضرب مع الغرماء بكمال الثمن، وإن قلنا له الرجوع في عين الأرض فرجع فالأرض له والغراس والبناء للمشتري فليس للمشتري دخول إلى ملكه ولا يبقى ماء شرب بحالٍ، فإن اتفق المشتري على البيع بعنا، وإن اختلفوا فقال البائع: لا أبيع أرضي ولا أدفع القيمة. وقال المفلس: لا أقلع فهل يباعان معًا عليهما؟ فيه قولان. المذهب أنه لا يباع. وقال ابن سريج: فيه قول آخر يباع وهو ظاهر مذهب المزني؛ لأن المبيع لو كان ثوبًا فصبغه المشتري، ثم أفلس كان للبائع الرجوع ويباع لهما والأول أصح لا يمكن إفراد مال المفلس بالبيع فلا يجبر البائع على بيع ماله مع ماله. وقد قال الشافعي: «الأرض للبائع والبناء يباع للغرماء»، ولم يقل يباعان، ثم قال المزني في موضع آخر: «إن لم يأخذ العبادة لم يكن له إلا الثمن فيبطل ما قاله ابن سريج. وأما مسألة الصبغ فالفرق أن يبيع الصبغ وحده دون الثوب لا يجوز، وبيع البناء من غير الأرض يصح فافترقا، فإن قيل: أليس قلتم إذا باع جارية فولدت في يد المشتري، ثم أفلس فامتنع البائع من بذل قيمة الولد يباعات فما الفرق؟ قلنا: الفرق أن له الرجوع [ق 305 ب] بعين الأم وحدها لا يجوز لأنه يؤدي إلى التفريق بين الأم والولد فمنعناهما للضرورة، وههنا الرجوع بعين الأرض دون الشجر جائز، فإن قيل: فهل خرجتم فيه قول آخر أن حق البائع يبطل من عين الأم كما قلتم في الأرض؟ قلنا: الولد غير مختلط بالأم ولا متصل بها وليس كذلك البناء والشجر، فإنه متصل بالأرض على وجه التعدي، فإذا لم يدفع إليه قيمته جاز أن يسقط حقه من عين الأرض، كما يسقط حق الشفيع من عين الشقص إذا لم يعط قيمة الشجر والبناء. فإذا قلنا: لا يباعان تصرف المفلس في الغرماء في البناء والغراس على الانفراد على ما شاؤوا، وإذا قلنا يباعان بعنا الكل وأعطينا

البائع من الثمن ما قابل أرضًا ذات شجر؛ لأنه دخل على هذا فيقال: كم يساوي شجرها؟ قالوا: مائة. قلنا: وكم تساوي الأرض مفردة؟ قالوا: تسعين، فله من الثمن تسعة أعشاره والباقي للمفلس. ومن أصحابنا من ذكر طريقة رابعة وهي أنه لا خلاف أنه يرجع في الأرض ولكن في كيفية الرجوع قولان: أصحهما يأخذ الأرض وحدها ويباع البناء للغرماء. والثاني: على ما ذكرنا وهذا ليس بشيء. ومن أصحابنا من ذكر طريقة خامسة وهي أن المسألة على حالين فالذي قال: يرجع إذا قال: أرجع في بياض الأرض دون ما هو محل البناء والغراس. والذي قال: لا يرجع بشيء إذا قال [ق 306 أ]: ارجع في جميع الأرض بياضها وما تحت أصول الشجر والنخل منها وهذا أيضًا ليس بشيء. فرع هذه المسألة لو اشترى ممن رجل أرضًا وممن آخر غراسًا غرسه في الأرض، ثم أفلس المشتري كان لهما أن يرجعا في الأرض والغراس فيأخذ صاحب الأرض أرضه وصاحب الغراس غراسه، فإن أراد صاحب الغراس قلعه كان له على أن يضمن ما يدخل في الأرض من النقص، وإن لم يرد قلعه ودفع صاحب الأرض قيمته أجبر على أخذها، فإن اتفقا على بيعها جاز، وإن اختلفا فقال صاحب الأرض: لا أبذل قيمة الغراس. وقال صابح الغراس: لا أقلعه فيه وجهان: أحدهما: لا يجبر ويترك فيها. والثاني: يجبر على قلعه ويفارق المسألة الأولى؛ لأن هناك غرس فيها غراس نفسه كتبقيته وملك ذلك في ملكه، فإذا أزيل ملكه عن الأصل لم يجبر على قلعه وههنا ملك صاحب الغراس غراسه حين اختار الرجوع في عين ماله وهو في أرض الغير، وقد باعه مقلوعًا فيجبر على قلعه. مسألة: قَالَ: «وَلَوْ كَانَ عَبْدَيْنِ بِمَائَةٍ فَقَبَضَ نِصْفَ الثَّمَنِ وَبَقِيَ أَحَدُ الْعَبْدَيْنِ». الفصل: هذه المسألة إما مقدمة لابد من تقديمها، وهي أن البائع إذا قبض بعض الثمن ثم أفلس بالباقي فيه قولان: أحدهما: قاله في «القديم»: يبطل حقه من العين ويضرب [ق 306 ب] مع الغرماء ببقية الثمن لئلا تفرق الصفقة على المشتري، وبه قال مالك. والثاني: قاله في «الجديد» وهو الأصح يأخذ من العين بقسط ما بقي من الثمن؛ لأن

الإفلاس سبب يرجع به إليه جميع ماله فكان من جنسه ما يرجع به إليه بعض عين ماله كالطلاق. وحكي عن كالك أنه قال: هو بالخيار إن شاء رد ما قبض ورجع في جميع العين، وإن شاء حاص الغرماء في كل الثمن. فإذا تقرر هذا وباع عبدين بألفي درهم وقيمتهما واحدة؛ فسلم إلى المشتري جميع العبدين وقبض ألف درهم وتلف أحد العبدين في يد المشتري، ثم أفلس بما بقي من الثمن. فإذا قلنا: إذا قبض بعض الثمن بطل حقه من العين يضرب مع الغرماء بما بقي من الثمن. وإذا قلنا: لا يبطل حقه فإنه يرجع في العين بقسط ما بقي من الثمن، وهل يرجع بجميع العبد الباقي أو بنصفه؟ فيه قولان عن العبدين جميعًا فقد قبض نصف ثمن هذا العبد الباقي فلم يجز له أن يرجع إلا بنصف العبد الباقي وضرب مع الغرماء بنصف العبد التالف، وهذا اختيار المزني وهو القياس، وظاهر المذهب الأول، واعترض المزني على احتجاج الشافعي في الرجوع فيما بقي بالرهن، فقال: ليس كالرهن لأنه معنى واحدٌ بمعنى واحدٍ أي كل الرهن مرهون [ق 307 أ] بباقي الحق وكل الحق مستوثق بباقي الرهن. وأما الثمن فإنه يتوزع على الثمن ويتقسط عليه، وأجاب أصحابنا عن هذا بأن إمساك البائع بمنزلة إمساك الرهن، فإذا تعذر عليه الثمن عاد فيه لأنه في الابتداء كان له أن يمسك كل المبيع على بعض الثمن أيضًا، ولأنه إذا جاز له نقل الحق الذي في ذمة المشتري إلى عين المبيع جاز له نقل حقه من التالف إلى الباقي من المبيع فساوى في ذلك الرهن. ومن أصحابنا من قال: نص ههنا أنه يرجع بكل ما بقي، وقال في الصداق: إذا أصدقها أربعين شاة فحال الحول وأخرجت شاة منها، ثم طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف الغنم الموجود فجعل حقه في الموجود دون المعقود، فقيل: فيها قولان، وقيل: ههنا قول واحد على ما نص ههنا بخلاف الصداق، والفرق أن ذمة الزوج ملية فلا يضر ترك نصف حقه من العين ونقله إلى ذمتها، وههنا ذمة المفلس خربة فلا يلزم البائع ترك حقه من العين إلى ذمته، وقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الزكاة. مسألة: قَالَ: «وَلَوْ أَكْرَاهُ أَرْضًا فَفَلَسَ وَالزَّرْعُ بَقْلٌ فِي أَرْضِهِ». الفصل: إذا اكترى رجل من رجل أرضًا ليزرعها زرعًا أو دارًا يسكنها ففلس المكتري قبل إيفاء الكراء فللمكري [ق 307 ب] فسخ العقد؛ لان الإجازة نوع من البيوع، وقال داود: لا يجوز فسخ الإجازة بالفلس بخلاف البيع؛ لأن الخبر ورد في البيع، ثم لا يخلو من

ثلاثة أحوالٍ؛ إما أن يفلس قبل مضي شيء من المدة، أو بعد انقضاء المدة، أو في أثنائها، فإن كان قبل انقضاء شيء منها أخذ الأرض صاحبها ولا كلام، وإن اختار الإقامة على العقد أقام وضرب مع الغرماء بالأجرة، وإن كان في أثناء المدة فهو بالخيار بين أن يفسخ فيما بقي أو يقيم على العقد، فإن أقام عليه ضرب مع الغرماء بالأجرة، وإن فسخ عاد إلى عين ماله وضرب مع الغرماء بماله من الأجرة فيما مضى، فإذا فسخ وكانت الأرض فارغة فلا كلام، وإن كانت مزروعة لا يخلو إما أن يكون له قيمة أو لا قيمة له، فإن كان له قيمة بأن كان قصيلًا لا يخلو المفلس والغرماء من ثلاثة أحوال؛ إما أن يختاروا القلع أو التبقية أو اختلفوا، فإن اختاروا القلع قلعوا ولا كلام، وإن اختاروا التبقية لم يخل من أحد أمرين؛ إما أن يبذلوا أجرة المثل أو يمنعوا، فإن بذلوا أجرة المثل لزم المكري القبول وليس له مطالبتهم، بالقطع، لأنهه زرع بحق، وإن أراد المكري أن يعطيهم قيمة الزرع ليكون له مع الأرض لم يجبروا عليه؛ لأن اللزرع غاية إذا انتهى إليها حصده، وإن طلبوا التبقية بغير أجرة [ق 308 أ] لم يكن ذلك لهم؛ لأن المفلس دخل على أن المنفعة له بأجرة وليس له أن يستوفيها بغير أجرة ويفارق هذا إذا باع أرضًا فزرعها المشتري، ثم أفلس بالثمن ففسخ البائع البيع لا يجوز له مطالبتهم بقلع الزرع ولا أجرة عليهم؛ لأن المستأجر دخل على أن تكون المنافع مضمونة عليه بعوضٍ فلزمه الضمان، وليس كذلك المشتري، ولأن منافع الإجارة مقصودة لأنها هي المعقود عليها والمنافع تابعة في البيع فافترقا، وإن اختلفوا فقال بعضهم: أريد القلع والباقون امتنعوا منه فالمذهب أنَّا نقدم من طلب القطع. وقال أبو إسحاق: نعمل على الأحظ، وإن قال الغرماء: لا نفسخ عقد الإجارة حتى يعطيك الأجرة المسماة لم يجبر على قبولها، فإن قيل: ما الفرق بين الأجرة المسماة وبين أجرة المثل؟ قلنا: الفرق أن الأجرة المسماة مستحقة بالعقد، فإذا أجبرناه على قبولها لم نأمن التبعة فيها على ما بينَّاه إذا بذل البائع الثمن لم يجبر على قبوله، وليس كذلك أجرة المثل بعد فسخ العقد لأنها مبذولة لمصلحة مال المفلس، وهي تبقية الزرع فأمن فيه التبعة، لأنه لو ظهر هناك غيرهم من الغرماء لم يكن لنقصه، وجرى ذلك مجرى كراء البيت والحمال ونحو ذلك، وإذا لم يكن [ق 308 ب] له قيمة لصغره نظر، فإن اتفقوا على التبقية فالحكم على ما ذكرنا، وإن اختلفوا قدمنا قول من طلب التبقية ههنا، لأنهلا فائدة في قطعه بوجه والشافعي يسميه بعلًا هذا كله إذا لم يقبض من الأجرة شيئًا، فإن كان قد قبض بعض الأجرة، ثم أفلس بالباقي فهل له فسخ العقد؟ قولان: كما إذا قبض بعض الثمن. وإذا بذل المفلس أجرة مثل الأرض فأجبرنا المكري على تبقية الزرع فيها إلى أن يحصد فعطش الزرع واحتاج إلى السقي، فإن كان له ماء أنفق منه عليه؛ لأن فيه مصلحة المال المفلس الذي تعود منفعته على سائر الغرماء. وقال بعض أصحابنا: لا ينفق عليه من مال المفلس، لأنه تغرير به، فإنَّا لا نعلم أن الزرع يسلم أو لا يسلم، ونقول للغرماء إن تبرعتم وأنفقتم من مالكم على أن يكون دينًا

في ذمة المفلس لا يمنعكم منه والأول أصح, وإن لم يكن له مال فإن اتفق الغرماء نظر, فإن كان بأمر الحاكم كان مقدمًا على سائر الغرماء؛ لأنها نفقة على ما فيه مصلحة لمال المفلس ككراء البيت, وإن أنفق بغير أمر الحاكم كان متطوعًا به لا يرجع على المفلس وإن أنفق بإذن المفلس دون الحاكم كان دينًا له على المفلس وإن لم يكن الأمر مقيدًا بشرط الرجوع في ظاهر المذهب. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ بَاعَهُ زَيْتًا فَخَلَطَهُ بِمِثْلِهِ". الفصل: إذا اشترى من رجل زيتًا فخلطه بزيته, ثم أفلس لا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يخلط بمثل زيته فيأخذ البائع منه مثل مكيلته قولًا واحدًا, ثم إن اتفقنا على القسمة قسمان نصفين إذا تساوى قدرهما كما لو ورثاه معًا, وإن طلب البائع أن يباع الكل ويأخذ نصف الثمن هل يجبر المشترى عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: يجبر عليه ويقتسمان الثمن نصفين؛ لأنه لو رجع في عين ماله أخذ بعضًا من زيت المفلس, وإن بيع أخذ ثمن نصف زيت فلهذا كان له المطالبة ببيعه. والثاني: يقتسمانه ولا يجبر المفلس على البيع لأنهما فيه شريكان بالسوية فلا يجبر أحدهما على البيع. ومن أصحابنا من خرج قولًا آخر في أصل المسألة أنه يسقط حقه من عينه؛ لأن الشافعي علل وقال: "الذَّائِبُ إِذَا اخْتَلَطَ بِغَيْرِهِ انْقَلَبَ حَتَّى لَا يُوجَدَ عَيْنُ مَالِهِ". وهذا غير صحيح؛ لأنه إذا خلطه بمثله فلا ضرر على الغرماء في تسليم مقدرا رميته إليه منه؛ لأن أجزاء الزيتين متساوية, فإذا كان كذلك كان كأنه موجود غير مختلط, ومعنى تعليل الشافعي إذا اختلط. بما هو أجود منه فكان على الغرماء ضرر في دفع مثل مكيلته منه, وأما إذا خلطه بأجود فيه قولان: أحدهما: يبطل حق [ق 309 ب] البائع من عينه ويضرب مع الغرماء بثمنه. قال الشافعي: "وهذا هو الصحيح", وبه أقول لأنَّا لو قلنا: يباعان جعلنا الزيت الجيد الذي للمفلس تابعًا للكردي ويخالف الثوب بصبعه المشتري والدقيق يلته بزيته, فإن الصبغ والزيت أثران فجاز أن يكونا تابعين لمال البائع, ولأن عين الثوب والدقيق موجود زائده بأثر الصبغ والدق, فلم يسقط حقه من عينها, والزيت صار مستهلكًا بخلطه بزيت أجود منه فافترقا. والقول الثاني: لا يبطل حقه من عينه, فعلى هذا هما جميعًا يباعان ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما متميزين, وهذا اختيار المزني لأن الثوب إذا صبغه بصبغ من عنده

بيع الملتوت وقسم الثمن عليهما كذلك ههنا. ومن أصحابنا من قال: يقسم الزيت بينهما على قدر قيمتهما كان زيته يسوي درهمين والمخلوط: يسوي ثلاثة دراهم يكون للبائع ثلثا صاع وهو ثلث الجميع ولا يكون ذلك ربا لأنه حطيطة وليس بمعاوضة. قال القفال: حكاه ابن أبي أحمد, عن ابن سريج وهو منصوص في كتاب البويطي وقال فيه: إذا أخذه يجعل صاحبه في حل من الباقي, وقيل: نقله الربيع وذكره في "الأم" أيضًا فحصل قولان, والمذهب الأول لأنه يؤدي إلى الربا, لأنه يأخذ ذلك من الجملة المعاوضة لا بحكم الصلح والبراءة عن الباقي لا يجب, أما إذا خلطه بأرديء منه لا يختلف المذهب أنه يسقط حقه من عينه وله المطالبة بالقسمة, لأنه رضي بدون حقه فيقال للبائع: أنت بالخيار بين أن تأخذ مقدار زيتك منه وترضى بما دخله من النقص وبين [ق 310 أ] أن تتركه وتضرب مع الغرماء بقيمته. وقال أبو إسحاق: يجئ فيه القول الذي قاله في الأجود, وهو أنهما يباعان ويقسم الثمن بينهما على قدر قيمتهما فيكون عدل بينهما وهذا غلط والفرق أن هناك على الغرماء ضررًا في دفعه مكيلة زيته من عينه فيسقط حقه منه, وليس كذلك في الأردئ فإنه لا ضرر على الغرماء في دفع مكيله زيته من عينه, وإنما الضرر فيه على البائع لأنه وجد ماله ناقصًا فخيرناه بين أن يأخذ ناقصاً وبين أن يضرب مع الغرماء بثمنه كما نقول في سائر المواضع إذا وجد ماله في يد المفلس ناقصًا, ويفارق الغاصب إذا خلط, هكذا يضمن النقصان إذا استرد منه مكيل لأنه متعدى بخلاف المفلس, لأنه غير متعدى بالخلط, وإذا تقاسماه إن شاءا فعلا ذلك وزنًا, وإن شاءا كيلًا لأنه لا جهالة له في واحد منهما. مسألة: قَالَ: "فَإِنْ كَانَتْ حِنْطَةً فَطَحَنَهَا". الفصل: إذا اشترى حنطة فطحنها, أو ثوبًا فقصره أو خاطه, ثم أفلس بالثمن فإنَّ حق البائع لا يسقط من عين ماله قولًا واحدًا, وهل يأخذ زائدًا أو يكون المفلس شريكًا فيه يباع الدقيق أو الثوب لهما؟ فيه قولان: أحدهما: يكون البائع أحق بزيادته فيأخذه زائدًا. والثاني: أنهما شريكان فيه ويباع ويقسم الثمن بينهما. وجملة هذا الباب أن زيادة المبيع في يد المشتري على ثلاثة أضرب؛ ضرب يأخذه البائع بزيادته كالكبير والسمن ورياضة الدابة وتعليم العبد الخط, والشعر أو الصنعة ونحو ذلك, وضرب لا يأخذه

بزيادته ولكنه [ق 310 ب] يباع ويقسم الثمن بينهما مثل أن يصنع الثوب أو يلت الدقيق بزيته على ما نذكره من بعد إن شاء الله تعالى وضرب فيه قولان, وهو مثل الطحن والقصارة والخياطة. أحدهما: يأخذه بزيادته كما يأخذ المغصوب منه من الغاصب بزيادته, وهذا اختيار المزني؛ لأن هذه آثار لا أعيان, فالدقيق أجزاء تلك الحنطة ولكنها كانت جملة فتفرقت والبياض كان كامنًا في الثوب فطهر بالقصارة. والثاني: يكونان شريكين فيه وهو الصحيح؛ لأنه ربما حدث بفعله في البيع فلا يكون البائع أخذه كالصبغ, وعلى هذا تجرى هذه الآثار مجرى الأعيان, فإذا قلنا بالأول فإن كان المفلس قد تولاه بنفسه فقد بطل عمله, وإن كان استأجر من عمله يكون علا بأجرته يضرب بها مع سائر الغرماء. وإذا قلنا بالقول الثاني يباع الثوب إلا أن يقول البائع: أنا أحذه بقيمته وأعطى المفلس ما زادت القصارة أو الطحن أو الخياطة, فيكون ذلك له, وإذا أبيع أعطى البائع مقدار قيمته غير مقصور ولا مطحون, أو مخيط وما زاد كان للمفلس إن كان قد تولاه بنفسه, وإن كان قد استأجر أجيرًا على فعل نظر في الزيادة, فإن كانت مثل أجرته أخذها الأجير, وإن كانت أكثر من أجرته أخذ الأجير مقدار أجرته وكان ما بقي للمفلس, وإن كانت أقل من أجرته أخذها [ق 311 أ] الأجير وضرب مع الغرماء بما بقي هذا كله إذا زادت قيمته, فأما إذا نقصت قيمته أو كانت بحالها أخذه البائع, فإن كان المفلس قد تولاه بنفسه فقد بطل عمله, وإن كان الأجير عمله يضرب مع الغرماء بأجرته, واحتج المزني بما اختاره أن القصارة أثر لا عين بست مسائل: أحدها: أن الرجل إذا اشترى عبدًا فأحسن غذاءه وطعامه حتى ازدادت قيمته بالسمن, ثم أفلس كانت الزيادة أثرًا لا عينًا. والثانية: تسمين الدابة بالعلف كذلك. والثالثة: كبر الوادي على السقي. والرابعة: عمل الأجير يبيع في الحانوت. والخامسة: عمل الراعي في رعي الغنم ونحو ذلك. والسادسة: رياضة الرائض الدواب. ثم قال: فهذه الزيادات عن هذه الصناعات آثار لا أعيان, وحكمها عندي في القياس سواء إلا أنه يخمس الستة منها شيئًا فيترك لها القياس. قلنا: هذه المسائل متقاربة الصورة ولا يدعي المزني أنها على مذهب الشافعي من باب الآثار أم من باب الأعيان, ولا أنها على قولين ولكن حكمها عندي في القياس واحد, وهو أنها آثار فلا بد فيها من تفصيل على مذهب الشافعي, ووجه الفصل فيها وفي نظائرها أن كل زيادة في عين أو في صفة يجوز استئجار الأجير على تحصيلها بعينها عقدًا معلومًا فهي بمنزلة القصارة [ق 311 ب] تخرج على قولين, وذلك مثل الرياضة والتعليم, إذ يجوز للرجل أن يستأجر

أجيرًا لرياضة دابة ويبين له حدًا معلومًا وغرضًا مقصودًا في مقدار الرياضة, وكذلك تعليم سورة بعينها أو يعلم جميع القرآن. وأما تسمين الغلام بالطعام والدابة بالعلف وتنمية الودي فكذلك مما لا يجوز عقد الإجارة عليه, وأما بيع الأجير في الحانوت فلا يزداد الثوب بذلك صفة في العين فكان من باب الآثار ولا يدخل ذلك في مسائل القولين, وفي الغصب لا تجعل هذه عين مال لأنه تعدى بخلاف ههنا, فإن قال قائل: لم قال الشافعي على قول في الحنطة: إذا طحنت يأخذه البائع ويعطي قيمة الطحن, وقال في الثوب: إذا صار مقصورًا عند المشتري بيع لهم قيل يأخذه البائع ويعطيهم قيمة القصارة, قلنا: إنما فصل بين الجوابين لاختلاف الصورتين, ولو استوت الصورتان لاستويا في الجواب, ذلك أن مسألة الحنطة إذا طحنها المشترى بنفسه فازدادت قيمة الطحين. وصورة مسألة القصارة كما فرع عليه فيه إذا استأجر أجيرًا لا إذا قصره المشتري بنفسه, فإن قيل: ولم يجب بهذا الفصل أن نفترق المسألتان في الحكم؟ قلنا: لأن المشتري إذا طحنها بنفسه ثم أفلس فالحق في تلك الحنطة بعاقد واحد وهو البائع [ق 312 أ] فإذا فسخ العقد عادت العين إليه وعليه قيمة الزيادة والحق في القصارة لأكثر من معاقد واحد, فإن القصارة عاقدة على استهلاك منافع نفسه في غير ذلك الثوب, ثم استهلكها فيه والبائع عاقده على العين حين باعه منه, فلم يكن للبائع أن يرد العين إلى ملكه على سخط من غيره, وعلى هذا لو كان الطحن من جهة أجير استأجره المشتري أو كانت القصارة من جهة المشتري باشرها بنفسه كان جوابه في الطحن منقولًا إلى القصارة, وجوابه في القصارة منقولًا إلى الطحن ذكره الإمام الحويني رحمه الله. فرع لو اشترى ثوباً فصبغه ثم أفلس فيه مسائل: أحداها: أن يشتري من رجل ثوبًا بعشرة وصبغًا منه بعشرة وصبغ الثوب به ثم أفلس بالثمنين فلا يخلو قيمتها من ثلاثة أحوالٍ؛ إما أن تكون بحالها مثل أن يكون قيمة الثوب مصبوغًا عشرين, أو كانت ناقصة فإن البائع يأخذه وقد بطل عمل المفلس فيه, وإن كانت زائدة, فإن قلنا: إن عمل القصارة والخياطة والطحن بمنزلة الزيادة المتصلة ويباع الثوب فكذلك ههنا يباع الثوب ويكون ما زاد للمفلس على ما قلناه. والثانية: أن يشتري ثوبًا بعشرة وصبغه بصبغ من عنده, فإن كانت [ق 312 ب] قيمتها بحالها بيع الثوب وأخذ البائع قيمة الثوب والمفلس قيمة الصبغ, وإن كانت ناقصة فالنقصان يحسب في قيمة الصبغ؛ لأن الثوب بحاله, وإنما تبدد الصبغ فيه فنقصت قيمته, ولأن الصبغ تابع والثوب متبوع فوجب أن يحسب النقصان منه, فإذا كان كذلك بيع الثوب وأخذ البائع قيمة الثوب غير مصبوغ وأخذ المفلس ما بقي وإن كانت زائدة فإن قلنا: الزيادة بالعمل بمنزلة الزيادة المتصلة فهي بينهما على قدر قيمة الثوب والصبغ, وإن قلنا: إنها بمنزلة الزيادة المنفصلة كانت الزيادة مع قيمة الصبغ

للمفلس وأخذ البائع قيمة الثوب من غير مصبوغ. والثالثة: أن يشتري الثوب من واحد والصبغ من آخر, فإن كانت قيمتها بحالها كان البائعان شريكين فيه ويباع الثوب ويقسم ثمنه بينهما على قدر قيمة الثوب والصبغ, وإن كانت ناقصة فقد قلنا: إن النقصان يحسب من الصبغ دون الثوب ويقول لصاحب الصبغ: إن شئت ترضى به ناقصًا أخذته, وإن شئت تركته وضربت مع الغرماء بالثمن, فإن رضي به ناقصًا بيع الثوب ودفع إلى صاحب الثوب قيمته غير مصبوغ, وأما الزيادة تدفع إلى صاحب الصبغ, وإن تركته وضرب مع الغرماء بالثمن كان المفلس شريكًا للبائع فيأخذ ما زاد على قيمة الثوب غير مصبوغ [ق 313 أ] وإن زادت قيمته فإن قلنا: الزيادة بالعمل بمنزلة الزيادة المتصلة كانت الزيادة مقسومة بين صاحب الثوب والصبغ على قدر القيمتين, وإن قلنا: إنها بمنزلة الزيادة المنفصلة كانت الزيادة للمفلس على ما بينا. فرع آخر لو اشترى صبغًا بخمسة وصبغ به ثوب نفسه يسوي عشرة, فإن لم يزد ولم ينقص فللبائع ثمن الثوب بصبغه والثلثان له بثوبه, وإن كان قد نقص ثلاثة كان النقص مع الصبغ يضرب بثلاثة مع الغرماء ويكون الثوب بينه وبين المفلس له سدسه والباقي للمفلس, وإن كان قد زادت خمسة, فإن قلنا: هذه الزيادة كالأعيان كانت الزيادة كلها للمفلس فله ثلاثة أرباع الثوب والربع للبائع, فإن قيل: كيف ذكر الشافعي أحد القولين في الحنطة إذا طبخها أنه يأخذها ويعطي قيمة الطحن, ثم عطف عليه فقال: "وَكَذَلِكَ الثَّوْبُ يَصْبَغُهُ". والحنطة إذا طحنها المشتري للبائع على هذا القول أخذ الطحين ومنع المشتري والغرماء من تلك العين عن المبيع بعد الصبغ, ثم عطف القصارة على الصبغ فقال: "وكَذَلِكَ الثَّوْبُ يَصْبَغُهُ أَوْ يُقَصِّرُهُ يَاخُذُهُ وَلِلْغُرَمَاَءِ زِيَادَتُهُ". قلنا: هذا مشكل وإزالة هذا الإشكال ثلاثة أنواع من التأويل: أحدها: أن يقال: يحتمل أن الشافعي [ق 313 ب] أراد بقوله: وكذلك الثوب يصبغه" أن يبين أن الصبغ عين مال كما أن الطحن عين مال في أحد القولين ولم يرد به التسوية بين الصبغ والطحن من جميع الوجوه. والثاني: يحتمل أنه صور مسألة الصبغ في رجل اشترى ثوبًا وصبغًا من بائع ثم صبغ ذلك الثوب بذلك الصبغ فيكون للبائع أخذ الثوب المصبوغ على سخط المفلس وفي الأجرة حينئذٍ قولان على ما ذكرنا بخلاف ما كان الصبغ من جهة المشتري. والثالث: يحتمل أن الشافعي جمع بين الصبغ والقصارة وجعل البائع أخذ الطحين على سخط منهم, وجعل له أخذ الثوب المصبوغ إذا وصى بذلك المفلس والغرماء, وإذا امتنعوا فليس له أخذ ذلك وبيع لهم كما قال في آخر كلامه ولكنه أوجز العبارة إيجازًا.

مسألة قَالَ: "وَلَوْ تَبَايَعَا بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا ففَلَّسًا أَوْ أَحَدُهُمَا". الفصل: إذا أفلس المتبايعان أو أحدهما في مدة خيار المجلس أو خيار الثلث كان لكل واحد منهما فسخ البيع أو إجازته, وإن كان الخط للغرماء, وعلى هذا أكثر أصحابنا, وهو الظاهر من نقل المزني, لأنه عقد سلف قبل الحجر. وقال صاحب "الإفصاح": إن لم يكن حابى في البيع فالحكم على ما ذكرنا, وإن كان قد حابى وفلس البائع, فإن قلنا: إنه على ملك البائع أو مراعى فليس له إجازته [ق 314 أ] وعليه فسخه؛ لأن المحاباة هبة وليس له أن يهب, وإن قلنا: إنه على ملك المشتري فإن شاء فسخه, وإن شاء أجازه. وهذا غلط؛ لأن هذه المحاباة مستحقة بالعقد السابق, والحجر إنما وقع عليه في العقود المستقبلة دون العقود الماضية فبطل ما قاله. ومن أصحابنا من قال: الذي نقله المزني لا يجئ لى مذهب الشافعي, ولا نعلم من أين نقله, وقد طلبناه في "الأم" فلم نجده, والذي يقتضي مذهب الشافعي أنه لا يصح بعد الحجر فسخه ولا إجازته؛ لأن الحجر يقطع تصرفه ويكون الخيار ثابتًا فينصب الحاكم من يختار له ما هو الأحظ له من الفسخ والإجازة, وليس إذا كان هذا التصرف متعلق بعقد سابق للحجر يجب أن يكون صحيحًا بعد الحجر, ألا ترى أنه ليس له قبض الثمن, وإن كان هذا متعلقًا بعقدٍ سابق وهذا لا يصح؛ لأن المزني ثقة فيما يرويه فلا يجوز مخالفته. وأما قوله في الثمن: فالفرق أنه بالثمن تعلق حق الغرماء لما حجر عليه فلا يكون له قبضه والتصرف فيه, وليس كذلك المبيع في مدة الخيار فإنه لم يتناوله الحجر ولم يتعلق به حق الغرماء, وصح ما رواه المزني, وقال أبو إسحاق: ليس لواحد منهما أن يفعل إلا فيما فيه الحظ لأنه محجور عليه, وهذا أيضًا غلط لما ذكرنا. [ق 314 ب] وقال بعض أصحابنا بخراسان إن كان إخراج شيء من ملكه فإن كان فيه الحظ له جاز, وإن كان الحظ فيه خلافه لم يجز, وإن منع دخول شيء في ملكه جاز بكل حال, مثل إن أفلس المشتري, وقلنا: الملك في زمان الخيار للبائع ففسخ جاز, وإن كان النظر في الإجازة لأنه بهذا الفسخ منع دخول المبيع في ملكه, وإن قلنا ملك بالعقد لم يجز لأنه بالفسخ يرده إلى ملك البائع وفي البائع كذلك, وقد قال الشافعي فيمن اشترى في مرض موته شيئًا, ثم وجد به عيبًا فلم يرد يعبر نقص العيب من الثلث؛ لأن قدر العيب كفقد جزء من المبيع فكأنه أخرج من ملكه ذلك القدر من المال. مسألة: قَالَ: "فَإِنْ أَخَذَهُ دُونَ صِفَتِهِ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُ".

الفصل: اعلم أن المزني نقل جواب مسألة لم يذكرها, والمسألة أن يسلم في حنطة ثم يفلس, فإن عقد السلم بحاله وله قبض المسلم فيه على صفته فإن قبضه دون صفته مثل الردئ مكان الجيد لا يخلو من أحد أمرين, إما أن يكون بإذن الغرماء فلا يصح قبضه ويلزمه أن يرده عليه ومطالبته بالطام الجيد؛ لأن هذه محاباة فيما تعلق به حق الغرماء, وإن كان بإذن الغرماء صح قبضه قولًا واحدًا. فإن قيل: قلتم في المكاتب إذا [ق 315 أ] في ماله بإذن سيده لم يجز في أحد القولين فما الفرق؟ قلنا: الفرق أنه منع المكاتب منه لنقصان ملكه ولا يكول ذلك بإذن السيد, وههنا المنع لحق الغرماء خاصة وملكه تام فجاز ذلك بإذنهم, فإن قال قائل: ظاهر ما قاله الشافعي ههنا يقتضى أن الغرماء الحاضرين إن رضوا بأخذ المسلم دون صفته كان له أخذه دون الصفة ولا ينتظر في ذلك رجوع الغائبين وهذا يضر بالغائبين. قلنا: أراد الشافعي به الحاضرين والغائبين لأنه ليس لبعضهم الاعتراض على حق البعض, فإذا رجع غائب من سفر وقال: لم أرض بأخذه دون صفته كان له طلب حقه بمقداره. فرع لو وهب المفلس مالًا يرضي الغرماء فيه قولان: أحدهما: يجوز كما قال الشافعي له أن يأخذ السلم دون صفته بإذن الغرماء. والثاني: لا يجوز لأنه أخذ السلم دون صفته مسامحة في عقد تقدم المفلس فصح منه مع رضاء الغرماء اعتبارًا بعقد معنى, والهبة عقد مبتدأ واستهلاك مال مستأنفًا فلم يصح مع رضي الغرماء لأنه ربما يكون له غريم غائب لم يرضى به. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ أَسْلَفَهُ فِضَّةً بِعَيْنِهَا فِي طَعَامِ, ثُمَّ فَلَّسَ". الفصل: إذا كان المفلس المسلم إليه وهو بائع الطعام لا يخلو رأس المال من [ق 315 ب] أحد أمرين, إما أن يكون باقيًا في يده أو يكون تالفًا, فإن كان باقيًا في يده فله الخيار بين أن يقبضه وبين أن يؤخر ذلك حتى يحل حقه, ولا فرق بين أن يكون رأس المال دراهم أو عرضًا؛ لأن النقود عندنا تتعين بالتعيين, وإن كان تالفًا ليس له فسخ العقد لأنه لم يجد عين ماله فلا يفسخ وهو المذهب المنصوص. قال أبو إسحاق: فيه وجه آخر أن السلف بالخيار بين أن يجيز البيع وبين أن يفسخ العقد ويضرب مع الغرماء برأس المال لا بالسلف فيه؛ لأن الشافعي قال: "إذا انقطع

السلف فيه له أن يفسخ العقد" لأن حقه قد تأخر كذلك ههنا, وهذا لأن خراب ذمة المفلس أبلغ من نفاذ جنس المسلم فيه بين أيدي الناس, وقول الانفساخ الذي نقول في الانقطاع لا يجئ ههنا وهو اختيار ومشايخ خراسان. قالوا: ولا يؤخذ فسخ بسبب الإفلاس مع تلف ما يفسخ فيه إلا ههنا وهذا لا يصح, والفرق أنه إذا انقطع فللفسخ فائدة وهي أن يأخذ منه رأس المال في الحال ولا يتأخر حقه, وههنا لا غرض له لأنه يضرب مع الغرماء برأس المال كما يضرب معهم بالمسلم فيه, والظاهر أن السلم فيه أكثر من رأس المال في غالب العادة ففي الفسخ ضرر ولهذا قلنا إنه لا ينفسخ. فإذا تقرر هذا, فإذا قلنا: يفسخ ففسخ ضرب [ق 316 أ] بقيمة رأس المال مع الغرماء وأخذ ما يخصه من جنس القيمة, وإذا قلنا: ضرب بقيمة رأس المال مع الغرماء وأخذ ما يخصه من جنس القيمة, وإذا قلنا: لا يفسخ ضرب مع الغرماء بماله الطعام فإن معرفة مقداره من سائر ديون الغرماء أن يقوم الطعام في الحال فيعرف قيمته ثم يقسم مال المفلس بين الغرماء على قدر حقوقهم فما خص قيمة الطعام عزل منه ويشتري به الطعام ودفع إليه, ولا يجوز أن يدفع الدراهم إليه لأنه بيع المسلم فيه قبل القبض, ثم إذا كان وفق حقه فذاك, وإن رخصت الحنطة مثل إن كان ثمن الكر خمسين فعزلنا له فصار الكر بأربعين اشترينا الكر بأربعين, والباقي يضرب مع الغرماء لأنه لا يستحق إلا الطعام, وإن غلا الطعام فصار الكر بمائة اشترينا له العزول نصف كر ورجع على الغرماء بما نقص, لأنه ما ضرب معهم بحقه ويشتري ما بلغ عند المخاصة الحنطة وما بقي يكون في ذمة المفلس إلى الميسرة فإن قيل: هلا قلتم يدفع إليه جميع ما عزل له بكل حال؟ قلنا: لأنه لم يملكه بالعزل بل هو ملك المفلس بعد فتكون زيادته ونقصانه للمفلس لا له. فرع لو اشترى حبًا فزرعه واشترى ماء فسلاه فنبت ثم أفلس فإنهما يضربان بثمن الحب والماء مع الغرماء [ق 316 ب] ولا يرجعان في الزرع لا عين مالهما غير موجود فيه كما لو اشترى طعامًا فأطعمه عبده حتى كبر لا حق لصاحب الطعام في عين العبد. مسألة: قَالَ: "وَلَو اكْتَرَى مِنْهُ دَارًا ثُمَّ فَلَّسَ المُكْرِي". الفصل: إذا اكترى رجل من رجل دارًا أو عبدًا مدة معلومة بأجرة معلومة ثم أفلس المكري لا ينفسخ عقد الإجارة؛ لأن الحجر عليه في العقود المستقبلة دون الماضية فيكون

المكتري أحق بسكنى الدار, فإن انقضت مدة الإجارة على السلامة فقد استولى المستأجر حقه, وإن تلف المستأجر قبل مضي المدة فقط انفسخ عقد الإجارة ويرجع على المفلس بحصة ما بقي من المدة, فإن كان ماله باقيًا بعينه أخذ مقدار حقه, وإن كان تالفًا نظر, فإن لم يكن فرق الحاكم ماله بين الغرماء كان أسوة الغرماء في دينه وينقص القسمة؛ لأن هذا الدين مستحق بمعنى مقتدم على الحجز, ولهذا قلنا: إنه يكون أسوة لهم قبل قسمة المال. والثاني: يقدمون عليه لأن الدين ثبت بعد الحجر, كما إذا استدان بعد الحجر فإن فضل عنهم شيء يدفع إليه, وإن أراد الغرماء بيع رقبة الدار قبل مضي مدة الإجارة, فإن باعوهما من المستأجر صح البيع قولًا واحدًا؛ لأنه ليس له دونه يد هائلة, وإن [ق 317 أ] باعوها من غيره فهل يجوز؟ قولان: أحدهما: يجوز. قال المزني: هذا قوله المعروف والآخر ليس بشيء, ووجهه أن يبيع المزوجة جائز, وإن كان الاستمتاع مستحقًا بالعقد فكذلك المؤاجر. والثاني: لا يجوز بيعها لأنها مسلوبة المنفعة مدة, فأشبه إذا قال: بعتكها على أن يكون لي منافعها إلى سنة, وإذا قلنا: يجوز فإن اتفقوا على بيعها جاز, وإن اختلفوا قدمنا من طلب البيع؛ لأنه أصلح للمفلس والغرماء, ولا يلزمهم تأخير حقوقهم فيملك المشتري رقبتها والمكتري منفعتها, فإذا انقضت المدة أخذها المشتري على الإطلاق, والأولى لهم الصبر حتى تنقضي مدة الإجارة لأنها تباع بأكثر إذا لم تكن منفعتها مستحقة للغير. مسألة قَالَ: "وَلَوْ أَكْرَاهُ سَنَةً وَلَمْ يَقْبِض الكَرَاءَ ثُمَّ فَلَّسَ المُكْتَرِي". فإن كان بعد مضي المدة ضرب بالأجرة مع الغرماء, وإن كان قبل مضي المدة كان له فسخ الإجارة واسترجاع المنفعة, وقد ذكرنا هذا فيما قبل. فرع قَالَ في "الأم": ولو اكترى رجلًا ليحمل له طعامًا إلى بلد من البلدان فحمله وفلس المكتري ضرب المكتري بأجرته مع الغرماء, ولو أفلس قبل أن يصل إلى البلد نظر, فإن كان الموضع الذي بلغ إليه آمنًا كان له فسخ الإجارة فيما بقي من المسافة ويضع الطعام [ق 317 ب] عند الحاكم, وإن تركه على يد عدل ثقة بغير إذن الحاكم فيه وجهان كما قلنا في الوديعة إذا أراد المودع سفرًا, وإن كان الموضع مخوفًا لزمه حمل الطعام إلى الموضع الذي اكتراه لحمله إليه أو إلى موضع دونه يأمن عليه.

فرع آخر قال في "الأم": ولو اكترى ظهرًا بعينه ليركبه شهرًا ثم أفلس المكري كان المكري أحق به. ولو كان ظهرًا في الذمة كان المكري أسوة الغرماء, وإنما كان كذلك لأنه إذا كان معينًا لحقه اختص بالعين قبل الحجر, وإذا كان حملاف في الذمة فهو كديون الغرماء فساواهم. فرع آخر لو اشترى من رجل سلعة فأفلس البائع قبل تسليم السلعة لم يكن له الرجوع في عين ماله, بل عليه أن يسلم السلعة ويقبض الثمن؛ لأن الرجوع إنما يكون عند الإفلاس وهذا المشتري مالي وإنما البائع هو المفلس. فرع آخر لو كان المشتري مليًا ولكنه امتنع من دفع الثمن هل يثبت له الخيار؟ ظاهر المذهب أنه لا خيار, ومن أصحابنا من قال: يثبت الخيار كما هو لو عجز عن أداء الثمن وهذا لا يصح, والفرق أن عند العجز وجد عيب المفلس, وههنا لم يجد فافترقا. فرع آخر قال بعض أصحابنا بخراسان: لو مات قبل دفع الثمن فامتنع الوارث من دفعه هل يثبت له الخيار؟ يترتب على المسألة السابقة, فإن قلنا: ليس له الفسخ هناك [ق 318 أ] فههنا وجهان, والفرق أن هناك الذمة باقية وههنا خربت الذمة فافترقا. فرع آخر لو طلق زوجته بائنًا كان لها السكنى في بيت زوجها, فإن أفلس وأراد الغرماء بيع هذه الدار, فإن كانت عدتها بالحمل أو بالإقراء لم يجز قولًا واحدًا وإن كان بالأشهر فيه طريقان. أحدهما: فيه قولان. والثاني: لا يجوز قولًا واحدًا ويفارق بيع المؤاجر؛ لأن المستأجر لو مات لا ترجع السكنى إلى البائع, والمعتدة إذا ماتت ترجع السكنى إلى البائع, فيصير كأنه باع دارًا واستثنى لنفسه منفعتها, ولا يجوز ذلك, فإن قيل: هذا يبطل بما لو أجر داره من ابنه ولا وارث له غيره يجوز, وإن كان السكنى ترجع إلى الأب بملك مستأنف وليس كذلك الزوج المطلق, فإن السكنى ترجع إليه بملك مقتدم فافترقا. فرع آخر لو منع الحاكم البائع من الرجوع في عين ماله على مذهب أبي حنيفة وحكم عليه

بالمضاربة مع الغرماء لا ينقص حكمه لأنه مجتهد فيه. وقال الاصطخري: ينقص حكمه لأنه يخالف نص السنة. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ قَسَّمَ الحَاكِمُ مَالَهُ بَيْنَ الغُرَمَاءِ". الفصل: إذا قسم الحاكم مال المفلس بين غرمائه الحاضرين، ثم قدم غرماء آخرون فإنهم يشاركون فيما أخذوه بمقدار ديونهم، كما لو كانوا حاضرين، ثم مذهب الشافعي أن الحاكم لا ينقص جميع القسمة وإنما يأخذ من كل واحد [ق 318 ب] منهم مقدار ما يخصه. ومن أصحابنا من قال: ينقص القسمة في الجميع ثم يقسم بين جميع الغرماء على قدر حقوقهم فإنًا بينًا أن القسمة الأولى كانت باطلة، وهذا مخالف لما نص عليه الشافعي، ولأن الخطأ وقع في بعض القسمة فلا يجوز نقض جميعها. وحكي أصحابنا عن مالك أنه لا يشاركهم ولا تنقض تلك القسمة وحقوقهم في ذمة المفلس على ما يحدث له من المال؛ لأن تلك القسمة نفذت بالاجتهاد، وهذا غلط؛ لأن الحجر لا يتبعض في هذه الحالة بل يقع ذلك الحجر لحق الغائب والحاضر، وقسمة المال بين الحاضرين على الظاهر، فإذا ظهر الأمر بخلاف الظاهر نقض كما لو حكم الحاكم باجتهاده ثم بان النص بخلافه، وكما لو قسم الورثة المال ثم قدم وارث آخر. وأما قوله: "لا ينقض ما مضى بالاجتهاد" قلنا: ليس ذلك بحكم منه وهما كما قال الشافعي: "لو زوج الحاكم الصغيرة لا يصح نكاحه" لأنه لم يحكم به بل عقد على اعتقاده. وذكر أصحاب مالك مثل مذهبنا سواء. فإذا تقرر هذا لو كان له غريمًا في الابتداء لكل واحد ألف فقسم بينهما نصفين فأتلف أحدهما ما قبض وهو معسر لا شيء له ثم ظهر للمفلس الأول غريم ثالث بألف درهم فإنه يشاطر الأول الذي لم يتلف ما قبض فيأخذ منه مائتين وخمسين، لأنه يقول: حق ذلك الذي أخذ خمسمائة وأتلف في ثلث الألف وما زاد [ق 319 أ] وهو سدس الألف من حقنا جميعًا قد تلف عنده ما بقي يكون بيننا نصفين. ولو كان عليه لأربعة من الغرماء لكل واحد منهم ألف فقسم بينهم أرباعا وبقي لكل واحد ثلاث أرباع ألف، ثم بعد الحجر استدان ألفين فحجر عليه وفي يده من المال المستحدث بعد الحجر الأول ألف درهمٍ، فإن الألف تقسم بين جميعهم على عشرين سهمًا لكل واحد من الأولين ثلاثة أسهم، ولكل واحد من الآخرين أربعة أسهم. ولو استحدث ديونًا بعد الحجر الأول فلا مشاركة لأصحابه مع الأولين، فإن استحدث ديونًا ومالًا فحجر عليه مرة أخرى لم يخلص ماله للآخرين بل

يضرب فيه الآخرون بجميع حقوقهم والأولون بباقي حقوقهم. ولو استحدث ديونًا وظهر له مال قديم فإنه للآخرين خاصة، إلا أن يفضل عنهم شيء فيضرب إلى الآخرين بالحصص. مسألة: قَالَ: "وَإِذاَ أَرَادَ الحَاكِم بَيْعَ مَتَاعه أَوْ رهْنَهْ". الفصل: إذا أراد الحاكم بيع مال المفلس فالمستحب أن يحضر المفلس؛ لأنه صاحب المال فيعرف الجيد من الرديء، وما كثرت قيمته وقلت، فلا يقع فيه غبن، ولأن بحضوره تقوى نفوس الراغبين في شرائه حتى لا يرد عليه ويذكر بكم اشترى كل شيء فيرغب فيه المشتري ويكون أبعد من [ق 319 ب] التهمة، ويكون أطيب لقلب المفلس وأسكن لنفسه. ويستحب أن يحضر الغرماء لأنه يباع لهم، ولأن بعضهم ربما يرغب في شيء منه فيزيد في ثمنه ويكون أبعد من التهمة، فإن لم يكن ذلك وانفرد الحاكم أو أمينه بالبيع جاز، ولأنه مفوض إلى اجتهاده فإذا فعل جاز. فإذا ثبت هذا بدأ في البيع بالرهن لتعلق حق المرتهن بعينة، ولأنه ربما يفضل من قيمته شيء فيقسم بين سائر الغرماء، ثم إذا باع الراهن فإن كان وفاء حقه أخذه، وإن كان أكثر منه جعل الفاضل لسائر الغرماء، ولا ينتظر حضور الباقين لأنه تقدم به، ولهذا قال الشافعي: "فَيَدْفَع منه حَقً الرًهن مِن سَاعَتِهِ". ثم يبيع العبد الجاني إن كان للمفلس عبد جني؛ لأن حق المجني عليه يتعلق برقبته، وربما يفضل منه شيء فيقسم بين الغرماء، فإذا بيع فإن لم تف قيمته بأرش الجناية لا يضرب بما بقي مع سائر الغرماء، لأنه لا يستحق أكثر من قيمة العبد الجاني. قال في "الأم": وليس للمفلس أن يفديه من سائر ماله لأنه بمنزلة الشراء ولا يصح شراء المفلس. مسألة: قَال: "وَيَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ لِغُرَمَاءِ الْمفَلًسِ: ارْتُضوا بِمَنْ يَكُونَ عَلَى يَديْهِ الثًمَنُ، وَبِمَنْ يُنَادِي عَلَى مَتَاعِهِ". الفصل: إذا أراد الحاكم [ق 320 أ] بيع ماله لابد من منادي ينادي عليه ولابد من عدل يجمع المال عنده فيقول الحاكم للمفلس والغرماء: اتفقوا على منادي وعدلٍ يوضع المال

عنده، فإن اتفقوا على واحد نظر الحاكم فيه، فإن كان عدلًا أمضاه، وإن كان فاسقًا رده. فإن قيل: أليس المتراهنان إذا وضعا الرهن على يد الفاسق لم يكن للحاكم فيه اعتراض، وهنا قلتم: الحاكم يرده إذا كان فاسقًا. قلنا: الفرق أن الحق هناك لا يتعدى عن المتراهنين، وهنا ربما يظهر غريم آخر فيحتاج الحاكم أن يختلط فيه، ولأن الحجر بحكم الحاكم كان ما يتعلق به من أحكام إلى اجتهاد الحاكم. وإن اختلفوا فقال الغرماء: نضعه على يد فلانٍ وقال المفلس على يد غيره، فإن كان أحدهما عدلًا دون الآخر فالعدل أولى به، وكذلك إن كان أحدهما بأجرةٍ والآخر بغير إجرة، فالذي لا يطلب الأجرة أولى. وإن استويا في العدالة وترك الأجرة وطلبها، قال في "الأم": "يضم أحدهما إلى الآخر". ومن أصحابنا من قال: يجتهد الحاكم في أعدلهما وأصلحهما، وإن لم يرجع الحاكم إلى المفلس والغرماء في المنادي والعدل وتولى بنفسه دون أمرهم جاز، ثم قال الشافعي: "وَلَا يَقْبَلُ إِلًا ثِقَةٍ". وفي بعض النسخ: "وَلَا يَقْبَلُ إِلًا مِنْ ثِقَةٍ". وأراد بالأول المنادي. والعدل ينبغي أن [ق 320 ب] يكون ثقة على ما ذكرنا. وقوله: "إِلًا مِنْ ثِقَةٍ". معناه من يزيد في الثمن عند النداء فلا تقبل تلك الزيادة إلا من ثقة، لأنه يزيد ويقصد الفساد على الغير. ورأيت في بعض النسخ: "وَلَا تُقْبَلُ الزيَادَةَ إلَّا مِنْ ثِقَةٍ". ثم ينظر فإن وجد مناديًا يعمل بغير أجرٍة لم يجز أن يعطي عليه الأجرة، لأن فيه تضييع ماله، وإن لم يجد إلا بأجرة يجب أن يدفع الأجرة من بيت المال؛ لأن بيع مال المفلس وحفظه يتعلق بمصالح الناس دون الغرماء، ويأمرهم أن يشارطوه على مقدار معلوم، فإن لم يشارطوه أعطى أجرة المثل، وإن لم ينازعوا في الأجرة اجتهد الحاكم فيها واكترى على ما يراه من ماله. فإن قال قائل: لم قال الشافعي: وَأَحَب? أَنْ يُرْزَقَ مِنْ وَلِي هَذَا مِن بَيْتِ المَالِ" ولم يذكر المشارطة لتقدير الرزق. ثم قال: "فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَمْ يَعْمَلْ إِلا? بِجُعْلٍ شَارَطُوهُ". وأمر بالمشارطة وتقدير الأجرة إذا كانت العمالة في مال المفلس؟ قلنا: وإن لم

يقيد كلامه بالمشارطة حيث ذكر رزقه من بيت المال؛ لأنه لم يرد بذلك الرزق عند الإجازة، بل أراد بذلك الجراية التي تجري على أمثاله من بيت المال للبيع في مصالح المسلمين على قدر الكفاية بالمعروف، وذكر المشارطة في الجانب الثاني؛ لأنه أراد بها عند الإجازة، ولا بد في عقد الإجازة من إعلام الأجرة. ثم ينبغي أن يبيع كل شيء [ق 321 أ] في سوقه فيباع البز في البزازين، والكتب في الوراقين ونحو ذلك؛ لأن الطلب فيه أكثر والرغبات أثم، ولأنهم لأعرف بثمنه من غيرهم فلا يقع فيه غبن، ف غن باعه في غير سوقه بثمن مثله جاز؛ لأن السوق إنما يراد لزوال الغبن، ولهذا لو وكل وكيلًا في بيع سلعة في سوق بعينه فباعها في سوق آخر بثمن المثل جاز. وعلى هذا كل خصلة فيها صلاح ثمن المبيع، فعلى الحاكم مراعاتها لأنه منصوب للنظر والشفقة. فرع لو باع شيئًا بثمن مثله ثم جاء من يزيد بعد لزم البيع بانقطاع الخيار. قال الشافعي: لو سأل المشتري الإقالة أو بذل الزيادة استحب للمشتري الإجابة إلى ذلك، لتعلقه بمصالح المفلس وقضاء ديونه، فإن لم يفعل لم يجب عليه. ولو كان في المجلس يلزم الحاكم قبولها وفسخ البيع، فإن لم يقبل انفسخ البيع. مسألة: قَالَ: "وَلَا َيَدْفَعُ إِلَى مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا حَتًى يَقْبِضَ الثًمَنَ". إذا باع من مال المفلس شيئًا فإن كان المشتري لم يحضر الثمن لا يجوز له تسليم المبيع إليه، وإن أحضر الثمن واختلفا فيمن يسلمه أولًا فهو على ثلاثة أقوال في غير المفلس لا يجني، القول الثالث: أنه يجبر واحد منهما على التسليم ويقول: من يتبرع بالتسليم أجبرت الآخر عليه لأن تأخيره لا يجوز ههنا لحقوق الغرماء، ويكون فيه قولان: أحدهما: يجبر البائع على التسليم. والثاني: [ق 321 ب] يجبران معًا. ومن أصحابنا من قال في غير المفلس قول رابع أنه يجبر المشتري أولًا، فهنا لو سلم قبل أخذ الثمن ضمن إن تلف ولم يصل إليه الثمن، وإن سلم قبل أخذ الثمن بإذن الحاكم. قال أبو يعقول الأبيوردي من أصحابنا: الأشبه أنه لا يضمن، لأن هذا كالحكم نفذ منه فلا يرد عليه. وإن قلنا: لا يجبر المشتري أولًا كما معناه لا يدفع إلى من اشترى احتياطًا لا واجبًا.

مسألة: قَالَ: "وَمَا ضَاعَ مِن الثمَنِ فَمِنْ مَالِ الْمُفْلِسِ". إذا ضاع الثمن من يد المنادي أو من يد العدل فلا ضمان عليه ويكون ضمانه من مال المفلس وقد بيناه في "كتاب الرهن"، وهذا لأن ملكه كالرهن يضيع يكون من ضمانه راهنه. وقال مالك: إن كان من جنس حقهم فهو تالفٌ من مالهم، وإن لم يكن من جنسه كان تالفًا من مال المفلس. مسألة: قَالَ: "وَيَبْدَأُ فِي البَيْعِ بِالْحَيَوَانِ". الفصل: قال أصحابنا: أراد إذا لم يكن في ماله ما يخاف عليه الفساد كالفواكه الرطبة ونحوها. فإن كان في ماله ذلك يبدأ ببيعه لأنه يتلف يقينًا، ثم يبدأ ببيع الحيوان؛ لأنه يخشى عليه ويحتاج فيه إلى مؤن. وقيل: في إمساك الحيوان مؤنه حرسٍ وضمان حيوانٍ، ثم يباع بعد الحيوان ما ينقل وتحول؛ لأنه يخاف عليه وتتناوله الأيدي. ثم إذا لم يبق إلا العقار باعه، وكل ما يباع ينادى عليه إلا العقار فإنه يباع [ق 32 أ] في غير النداء، ولأن النداء يخلق العقار فإنه يباع [ق 322 ب] في غير النداء، ولأن النداء يخلق العقار ولا يشتريه إلا أعيان الناس، ومن يشتري السلع لا ينحصر فالنداء عليها أولى. وقوله: "وَيَتَأَتًى بِالمَسَاكِنِ" أراد يصير مدة انتشار أمره وظهوره في الناس ليكثر الطلاب. وقد قال الشافعي: ينادى به ثلاثًا ولا يؤخر أكثر من ذلك، فإن كان بالقرب من البلد من يرغب في هذا العقار بعث إليهم وعرفهم ذلك، فإن رأى أهل البصر أن قد بلغت أثمانها تباع وإلا ترك وأخر، ولا يباع بأقل من ثمن مثله بحالٍ، وكل موضع قلنا يبيع ماله فإنما يباع بثمن مثله بنقد البلد وإن كان من غير جنس حق الغرماء؛ لأنه أوفر. ثم إن كان حقهم ثبت لا من جهة السلم دفع إليهم نقد البلد بالعوض إن تراضوا، وإن لم يتراضوا وكان سلمًا اشترى لهم من جنس حقهم وصرف إليهم. مسألة: قَالَ: "وَإِنْ وَجَدَ الإِمَامُ ثِقَة? يُسَلَفُهُ المَالَ حَالًا لَمْ يَجْعَلْهُ أَمَانَة?". إذا باع الحاكم شيئًا من مال المفلس، فإن كان الغريم واحدًا يدفع إليه في الحال، وإن كان له غرماء نظر، فإن كان ما حصل من الثمن قدرًا يقع من الغرماء إذا قسم بينهم

موقعًا لم يقرضه ولم يعدله، بل يصرفه إليهم في الحال. وإن كان قليلًا لا يقع منهم الموقع فلا بد من أمين يوضع المال على يده حتى يحصل بيع الجميع، وربما يمتد ذلك أيامًا، فإن وجد مليًا ثقة يقرضه ذلك حتى يبيع الباقي فلا [ق 332 ب] يجعله أمانة؛ لأن القرض مضمون على المستقرض فيكون أحفظ للمفلس، وإن لم يكن المستقرض ثقًة لا يقرض بحالٍ. فإن قال قائل: إذا كان السلف لا يقبل الأجل ولو ذكر فيه الأجل كان حالًا فما معنى تقييد الشافعي كلامه بالحلول حيث قال: "وَإِنْ وَجَدَ الإِمَامُ ثِقَة? يُسَلًفُهُ المَالَ حَالًا". قلنا: هذا ليس بشرط بل هو وصف للقرض، فكأنه قال: يسلفه المال السلف الذي هو حال، فإن الأجل لا يثبته في القرض بحالٍ. وقيل لئلا يشترط الأجل فيرفع إلى مالكي المذهب يرى ثبوت الأجل في القرض فيجبره عليه فيكون فيه ضررا بالغرماء، وقيل: إنما ذكر هذا لأن القرض إذا كان مقيدا بالحلول حسنت المطالبة به كل حين، وإذا سار مقيدا بالتأجيل لم تحسن المطالبة به حالا؛ لأن الوفاء بالوعد من معالم الشريعة والتغرير قبيح. وقيل: أراد حالًا بغير تشديد، يعني أنه يقرضه في الحال، وهذا ليس بشيء. فإن قيل: أليس قال الشافعي في ولي الصبي يودع مالا ف ولا يقرضه، فما الفرق؟ قلنا: الفرق أن مال الصبي يعد لمصلحة تظهر له من شراء عقارٍ أو تجارة وفي القرض تتعذر المبادرة إلى ذلك، ومال المفلس معد للصرف إلى الغرماء خاصة فالقرض أولى. مسألة: [ق 323 أ] قَالَ: "وَيَنْبَغِي إِذَا رُفِعَ إِلَيْهِ أَنْ يَشْهَدَ أَنهُ وَقَفَ مَالَهُ عَنْهُ". إذا رفع إلى الحاكم أن فلانًا أفلس لا يجوز له أن يحجر عليه إلا بثلاثة شروط: أحدهما: أن يثبت عنده الدين للغرماء بما يثبت به مثله من إقرار وبينة. والثاني: أن يطالب الغرماء بالحجر عليه. والثالث: أن يكون ماله لا يفي بديونهم، فإن كان ماله لا يفي بديونه فإن لم تظهر أمارات الفلس فقد ذكرنا وجهين، والصحيح أنه لا يحجر. فإن قيل: فما تأويل قول الشافعي: إذا باع المحجور شيئًا من ماله في أحد القولين يصح ويكون الفاضل من ديون الغرماء. وهذا يدل على جواز الحجر، وإن كان له مال يفضل عن الديون؟ قلنا: أراد إذا زادت السلعة التي عنده فتصرفه نافذ في الفاضل، يعني في الزيادة. والحجر عليه أن يقول الحاكم: وقفت ماله عليك ومنعتك من التصرف فيه،

أو يقول: حجرت عليك ومنعتك من التصرف فيه. وقيل: في اللفظ الذي يقع به الحجر وجهان: أحدهما: وهو اختيار البغداديين أن يقول الحاكم: قد وقفت مالك ومنعتك من التصرف فيه؛ لأن هذا هو المقصود بالحجر. والثاني: وهو اختيار البصيرين: أن يقول: حجرت عليك بالفلس؛ لأن الحجر يتنوع ولكل واحد منه حكم فلا بد من التصريح به ليمتاز عن غيره؛ ولأن وقف المال والمنع من التصرف من أحكام الحجر فلم يقع به [ق 323 ب] الحجر. ثم الاحتياط أن يشهدا الحاكم على حجره؛ لأن فيه تشهير أمره فلا يباع ولا يشاري، ولأن الحاكم ربما عزل؛ فإذا لم يكن أشهد عليه لا يقبل قوله فيه. وقيل: الإشهاد هل هو شرط في تمام الحجر؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يشترط لأن نفوذ الحكم لا يحتاج إلى الإشهاد. والثاني: يشترط لأن المقصود به الشهرة ولا يكون مشتهرًا إلا بالإشهاد فجرى مجرى اللعان الذي يقصد به الشهرة. وإذا أراد الحاكم أن يعلم عجزه عن قضاء ديونه، فالوجه فيه أن يقوّم ماله ويقابل بينه وبين ديونه، وهل تقوّم أعيانه التي اشتراها ولم يؤد ثمنها فيه وجهان: أحدهما: لا تقوّم لأنه لا فائدة في ذلك فإن يرجع صاحبها فيها. والثاني: لجواز أن لا يختار البائع الرجوع فيها ويختار المضاربة وإن طلب بعض الغرماء الحجر عليه في موضع الحجر ولم يطلب البعض أجيب من طلبه لأنه حق له. وإذا امتنع من قضاء دينه مع اليسار لا يحجر عليه ويطلبه دينه ويحبسه عليه، فإن قضاه وإلا باع عليه. وبه قال مالك، وأبو يوسف، ومحمد. وقال أبو يوسف: لا يبيع عليه مالكه بحسبه حتى يبيعه إلا أن يكون ماله أحد النقدين وعليه النقد الآخر فله صرفه إليه. وهذا غلط؛ لما روى كعب بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم حجر على معا رضي الله عنه [ق 324 أ] وباع عليه ماله. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في خطبته: ألا إن الأسيفع أسيفع جهينة قد رضي من دينه وأمانته بأن يقال: سبق الحاج، فأدان معرضًا فأصبح قد دين به، فمن كان له عليه دين فليحضر غدا فإنًا بايعوا مالوا وقاسموه بين غرمائه. ثم قال: إياكم والدين فإن أوله هم وآخره حزن.

وقوله: "أدان معرضًا" هو الذي يعرض للناس فيستدين من يليه، ويقال: قد دين بالرجل دينًا، إذا وقع فيما لا يستطيع الخروج منه ولا قبل له به. وقيل: إنه كان يشتري الرواحل فيغالي بها ثم يسرع السير فيسبق الحاج فأفلس فرفع أمره إلى عمر رضي الله عنه فقال هذا. مسألة: قَالَ: "فَإِذَا فَعَلَ هّذَا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَبِيعَ". الفصل: إذا حجر عليه فقد قلنا إنه يصير ممنوعًا من التصرف. وقال أصحابنا: هذا الحجر للإفلاس هل يجري مجرى السفه أم حجر المرض؟ قولان: أحدهما: أنه كحجر السفه؛ لأنه الخوف التبذير والتوفر، ولا يثبت إلا باجتهاد الحاكم. والثاني: أنه كحجر المرض؛ لأنه لأجل الغير كما أن حجر المرض للوارث والغرماء، ولأن المفلس لا يقدح في عدالته كالمرض. وعلى كلا القولين لو تصرف بما يتعلق بذمته دون ماله الذي في يده كالضمان [ق 324 ب] والشراء في الذمة يصح، والاعتراض للغرماء في ذلك؛ لأن الحجر عليه اختص بماله دونه ذمته؛ لأنه ليس بسفيه ولا مجنون فترد جميع تصرفاته، فإن باع عينًا من الأعيان التي في يده أو تصدق بها أو وهبها فيه قولان: أحدهما: باطل وهو اختيار المزني، وبه قال مالك لأنه محجوز عليه بحكم الحاكم كالسفيه وليس كالمريض؛ لأنه ممنوع من صرف ماله في شهواته ولذاته بخلاف هذا. والثاني: أنه صحيح ويوقف، فإن كان فيما بقي من ماله وفاء الغرماء نفذ تصرفه وإن لم يكن فيه وفاء أبطل، وهذا لأن من صح شراءه صح بيعه. فإذا قلنا بهذا القول، فإن الحاكم يؤخر بيع ما تصرف فيه من الأعيان، فإن كان لا يفي بحقوق الغرماء أبطل الأضعف فالأضعف، فإن كان وهب عينًا وباع عينُا أخرى، واحتاج إلى إبطال إحداهما بطل عقد الهبة. قال: وفي ترك البيع وإمضاءه وإن كان باع وأعتق يبطل البيع أولًا، لأنه يلحقه الفسخ ثم يبطل العتق آخرًا. وإن كاتب قال المزني: تكون كتابته فاسدة واحتج بهذا على اختياره. وقال أصحابنا: في الكتابة أيضا قولان، والمزني حكي أحد القولين. وقيل:

يحتمل أن يقال: يفسخ الآخر فالآخر كما قلنا محاباة المريض إذا ضاق. فإن قيل: أكثر ما في الكتابة أنها فاسدة فينبغي إذا أد?ى [ق 325 أ] المال بعد الإطلاق أن يعتق. قيل: إذا أبطلنا هذه الكتابة أبطلناها لأن عاقدها ليس من أهلها كالصبي والمجنون، وليس من أهل إنشاء العتق، وفي غير هذا الموضوع عاقدها من أهل إنشاء العتق تعليقًا وتنجيزًا، فإذا كانت الكتابة فاسدة كان تعليق العتق فيها موجودًا فنفذ. مسألة: قَالَ: "فَإِذَا أَقَر? بِدَيْنٍ زَعَمَ أَنًهُ لَزِمَهُ قَبْلَ الوَقْفِ". الفصل: إذا لزم المحجور عليه لفلس دين بعد الحجر لا يخلو إما أن يلزم بسبب سبق الحجر أو بعده، فإن كان بسبب سبق الحجر، فإن كانت ببنية ثبت الحق بها عليه يكون أسوة الغرماء فولًا واحدًا، وإن كان باعتراف ثبت الدين في الذمة قولًا واحدًا، وهل يشارك المقر له سائر الغرماء؟ قولان: أحدهما: إذا كان قبل الحجر فيشاركهم كما لو ثبت بالنية. والثاني: لا يشاركهم وبه قال مالك. كما لو كان على الميت دين يستغرق تركته فأقر الوارث بدين آخر لم يشارك المقر له سائر الغرماء؛ لأن حقوقهم تعلقت بعين التركة كذلك هنا. ومن قال بالأول فرق بينهما بأن الوارث لا يملك التركة ملكا صحيحا، واحتج مالك بأنه متهم في هذا الإقرار فلا يسقط به حق الغرماء. قلنا: الظاهر أنه غير متهم وأنه لا يقر بدين ليس عليه ليقع التقصير في أداء ما عليه، وإن أقر بعين في يده لإنسان، فإن [ق 325 ب] قلنا بالقول الأول كان المقر له أحق بالعين من سائر الغرماء. قال الشافعي: "لو كان المفلس قصارًا أو صائغًا وحجر عليه وعنده ثياب الناس وحليهم لا يقبل قوله في رد أموال الناس. وإذا قلنا بالقول الثاني لم تسلم العين إليه إلا أن يفصل عنهم أو يقيم المقر له بينة ويقدم قضاء دينه من غير هذه العين حتى ربما تبقى هذه العين فيدفع إلى المقر له بها. وإذا بيع هذه عند الاحتياج للغرماء فقيمتها في ذمة المفلس لمن أقر? له بها. وعلى هذا لو ادعى رجل عليه دينًا فأنكر فالقول قوله، فإن حلف برئ، وإن نكل حلف المدعي وثبت المال له في ذمة المفلس. وهل يشارك الغرماء؟ من أصحابنا من قال: النكول واليمين في رد اليمين بمنزلة الإقرار فيصير كأنه أقر، وقد ذكرنا قولين في إقراره. ومن أصحابنا من قال: النكول إلى اليمين في رد اليمين تجري مجرى البينة فيكون

أسوة الغرماء، وهذا ضعيف. وإن ثبت عليه بسبب بعد الحجر نظر، فإن كان باختيار من له الحق كالقرض والشراء في الذمة لا يشارك من ثبت له الحق للغرماء، وما ملكه من المبيع إذا كان مثمن إلى أجل كسائر أعيان ماله يتعلق به حقوق الغرماء. وإن كان الحق ثبت عليه بغير اختيار من له حق مثل إن جني على مال غيره جناية [ق 326 أ] أرشًا في ذمته يكون أسوة الغرماء فيه وإن كان بعد الحجر، لأنه ما رضي بتأخير حقه عليه. ويخالف هذا إذا جني عبده فالمجني عليه يكون أحق بالعبد الجاني من سائر الغرماء؛ لأن أرشه متعلق برقبته فكان أكد من غيره. فرع لو ابتاع في حال الحجر سلعة بثمن في ذمته فأراد البائع أن يرجع بالفلس، فإن كان البائع عالمًا وقت البيع لم يكن له الرجوع، وإن لم يكن عالمًا به وجهان: أحدهما: له الرجوع؛ لأن عقده قبل الحجر أقوى منه بعده، وجاز استرجاع ما ابتاعه قبل الحجر فهذا أولى. والثاني: لا يرجع؛ لأنه كان يقدر على استعلام حاله قبل العقد فصار في حكم العالم به. والأول أصح كما نقول في الرد بالعيب ثبت وإن أمكن الاستعلام قبل العقد. فرع آخر لو باعه مع العلم بفلسه قبل الحجر. قال أصحابنا: فيه وجهان: أحدهما: له أن يفسخ لأنه قد رضي قبل وقت الفسخ، كما لو رضيت بزوج معسر المطالبة بالفسخ لعجز النفقة. والثاني: ليس له الفسخ، لأنه عالم بعيبه وهو خراب ذمته، فصار كما لو اشترى معيبًا مع العلم بعيبه. مسألة: قَالَ: "وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ المُفْتِينَ إِلَى أَن? دُيُونَ المُفْلِسِ إِلَى أَجَلٍ تَحِل حُلُولَهَا عَلَى المَيًتِ". الفصل: صورة المسألة أن يكون على المفلس ديون حالة [ق 326 ب] وديون مؤجلة، وسأل أصحاب الديون الحالة الحجر عليه فحجر عليه الحاكم، هل تحل الديون المؤجلة؟ فيه قولان:

أحدهما: تحل عليه, وبه قال مالك؛ لأنه حديث حالة تعلقت حقوق الغرماء بأعيان ماله فوجب أن تحل الديون المؤجلة كما لو مت. والثاني: لا تحل عليه - وهو الأصح- وبه قال أبو حنيفة, واختاره لأنه معنى لا يقطع تصرفه في ذمته فلا يجب حلول الدين المؤجل كنفس الإفلاس قبل الحجر. والفرق بينه وبين الموت, أن الرجل إذا مات بطلت ذمته ولا يملك بعد الموت شيئًا, والمحجور عليه ذ ذمة والأجل محل الذمة فلا يسقط ما لم تخرب وخرابها بالموت. فإن قلنا: لا تحل قسم ماله بين الغرماء الذين ديونهم حالة, فإن كانت أعيان ماله لأصحاب الديون المؤجلة هل تباع في حق أصحاب الديون الحالة؟ المنصوص أنها تباع في حقهم, لأنه مال من أموال المفلس كسائر أمواله, ومن أصحابنا من قال: لا تباع في حقهم, وأشار إليه الشافعي في "الإملاء" وشبه بالرهن في يديه حتى يحل الحق فيطالبه بالثمن أو يرجع فيه ويعاد الحجر عليه لأجلهم إن طلبوا ولا القياس, وإذا قلنا تحل عليه الديون المؤجلة [ق 327 أ] صارت كلها حالة, فمن كان له عين ماله فله الرجوع فيه, ومن لم يكن له عين مال ضارب الغرماء بالثمن, وهذا هو المذهب؛ لأن الشافعي شبهه بالميت على هذا القول فكان حكمها سواء. وقال أبو إسحق وابن أبي هريرة: إن كان دينه في ذمته ضرب مع الغرماء بحصته, وإن كان مبيعًا في يديه يعزل من جملة ماله إلى أن ينقضي الأجل ولا يدفع إليه في الحال, ثم ينظر فإن كان المشتري أفاد مالًا قبض منه ثمنه, وإن لم يفد مالًا كان أحق بعين ماله. وقال صاحب "الإفصاح": العين والدين سواء في هذا, وهو أن يعزله من ماله ولا يدفع إليه شيئًا إلا بعد حلول الأجل. ومعنى قولنا: "تحل ديونه" أي يضارب الغرماء, فأما القبض فلا يجوز إلا بعد مضي أجله, وهذا كله تخليط, وليس للشافعي في التفريع على هذا القول نص, والذي يقتضيه مذهبه كما ذكرنا. وإن قال قائل: قال الشافعي في "الإملاء": ولا يفسخ البيع حتى يحل أجله مفلسًا, لأنه يمكن أن يؤسر قبل الأجل, قال أبو إسحاق في "الشرح": هذا على القولين جميعًا. قلنا: هذا الفول الذي يقول يحل الدين وعلى هذا حمله المزني في "المختصر" فبطل ما قاله أبو إسحاق وصاحب "الإفصاح" وهذا لأن الدين إذا حل لا معنى للحبس على الأول. وإن كانت الديون كلها [ق 327 ب] مؤجلة لا يختلف المذهب أن الحاكم لا يحجر عليه سواء ظهرت أمارات الفلس أو لم تظهر؛ لأنه لا مطالبة لهم في الحال, ولا يصح الحجر إلا بمطالبة الغريم. فرع إذا مات وله ديون مؤجلة قد ذكرنا أن الأجل يسقط, وبه قال عامة الفقهاء, وقال

ابن أبي ليلى: يبقى الأجل ولا يحل بموته, وروي ذلك عن الزهري, وعمرو بن دينا, وهذا غلطا لما روى نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا مات الرجل وله دين إلى أجل وعليه دين إلى أجل فالذي عليه حال, والذي له إلى أجله" ولأن في تبقية الأجل إضرارًا بالميت فإن ذمته مرتهنة بدينه, ولا تنتفع به الورثة أيضًا؛ لأنهم لا يقدرون أن يتصرفوا في الأعيان لتعلق الدين بها فلا وجه لبقاء الأجل. مسألة: قال: "ولو جني عليه عمدًا". الفصل: إذا جني على مفلس لا يخلو إما تكون الجناية عمدًا أو خطأ, فإن كانت خطأ أو عمدًا يوجب المال لم يصح عفوه عليه؛ لأن ذلك تبرع منه وإن كانت عمدًا يوجب القصاص فإذا قلنا: موجب العمد القصاص فقط والمال إنما يجب بالعفو على ماله كان له أخذ القصاص وله العفو على غير مال؛ لأن المال لا يجب إلا بالاختيار ولا يلزمه اختيار المال [ق 328 أ] وليس للغرماء منعه من ذلك. وإن قلنا: موجبة أحد شيئين إما القصاص وإما الدية فعفا عن القصاص ثبت على هذا القول فلا يصح عفوه على مال ثابتٍ. مسألة: قال: " وليس على المفلس أن يؤاجر". إذا فرق ماله على الغرماء ولم يبق شيء يفك الحجر عنه وليس للغرماء ملازمته وبقولنا قال مالك, وهذا لا عن من ليس له مطالبته ليس له ملازمته, كما لو كان الدين مؤجلًا. واحتج بما روى صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لصاحب الحق اليد واللسان" وقلنا: نحمله على الموسر بدليل ما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا ما وجدتم ليس لكم إلا ذلك". وقيل: بماذا ينفك حجره؟ وجهان: أحدهما: بقيام البينة بإعساره مع يمينه, ولا يفتقر إلى فك الحاكم, وهو اختيار أبي إسحاق.

والثاني: لا ينفك إلا بحكم الحاكم؛ لأنه ثبت بحكمه فلا يزول إلا بحكمه وهذان الوجهان مبينان على أن حجره كحجر المرهون, أو كحجر السفيه, وإن كان مكتسبًا لا يجبره على أو يؤاجر نفسه لتؤخذ أجرته وتصرف إلى غرمائه [ق 328 ب] كما لا يجبر على خلع زوجته على مال أو على قبول الهبات. وحكي عن عمر بن عبد العزيز, ومالك, وعبيد الله العنبري, وأحمد إسحاق: يجبر على أن يؤاجر نفسه وتقضي من أجرته باقي ديونه. وروي عن مالك أنه قال: هذا فيمن عادته أن يؤاجر نفسه, واحتجوا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم باع سرقًا في دينه وكان رجلًا دخل المدينة وذكر أن وراءه مالًا فداينه الناس فركبته ديون ولم يكن له مال, فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسماه سرقًا وباعه بخمسة أبعرة. ومعناه باع منافعه وآجره, فإن بيع الحر لا يجوز, وهذا غلط لما ذكرنا من خبر أبي سعيد الخدري. واحتج الشافعي فقال: "وذو العسرة ينظر إلى ميسرة". ويشير به إلى قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280]؛ ولأنه إذا أعتق شركًا له في عبد لم يجب أن يؤاجر نفسه ليقوم عليه الباقي كذلك ها هنا, ولأنه مكتسب للمال فلا يجبر عليه, وأما خبرهم قلنا: منسوخ بالإجماع؛ لأن البيع وقع على رقبته, ولهذا قال غرماؤه للذي يشتريه: ما تصنع به؟ فقال: أعتقه فقالوا: لسنا بأزهد منك في إعتاقه فأعتقوه. مسألة: قال: "ويترك له من ماله قدر ما لا غنى به عنه". الفصل: الحاكم إذا أراد قسمة ماله [ق 329 أ] بين غرمائه لا يجوز أن يستلب جميع ماله حتى لا يبقى شيئًا؛ لأن له من ماله حقًا كما أن للغرماء فيه حقًا فينفق عليه وعلى من يلزمه نفقته من ماله من يوم الحجر إلى أن يباع عليه ماله ويقسم بين غرمائه. وكذلك اليوم الذي يقسم فيه ماله لأنه كان غنيًا في أول هذا اليوم فوجب أن ينفق عليهم, وفقرة لا يتحقق قبل قسمة ماله ويكون مقدمًا على حقوق الغرماء, وكذلك كسوته وكسوة من تلزمه كسوته, والكسوة أقل ما يكفيه في الصيف والشتاء, فأما في الصيف فقميص وسراويل ونعل. قال الشافعي: "وعمامة" يريد بها المنديل, وإن كان له عادة بالإزار فيها إزار,

وكذلك الطيلسان أو الرداء إن كانت عادته. وأما في الشتاء يضم إليها جبة ويكون بدل النعل خفًا وشمكًا, وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا يستبقي لأقاربه من ماله في يومهم وليلتهم النفقة, وإنما يستبقي لأهله لأن نفقة الأقارب لا تلزم الفقراء وإنما تلزم الأغنياء, وقالوا: نفقته في هذه الأيام نفقة المعسرين, لأنه ليس من جملة الموسرين, وهذا أقيس ولكنه خلاف المذهب المشهور, وهذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول" وملكة قبل القسمة باق على ما كان [ق 329 ب] وهذا إذا لم يكن له صنعة يكتسب بها, فإن كانت له صنعة يمكنه أن يكتسب بها فنفقته ونفقة من تلزمه نفقته من كسبه, ولا ينفق عليهم من ماله؛ لأن حقوق الغرماء تعلقت به. ولا وجه للإنفاق من المال ورد الكسب في المال, وإن لم يف كسبه بنفقتهم أكملت من ماله, فإن فضل منه شيء رد الفضل إلى ماله وقسم على غرمائه. قال الشافعي: "وإن كانت ثيابه كلها عوالي مجاوزة القدر اشترى له من ثمنها أقل ما يلبس" من هو في مثل حالة التعفف لا حالة التجمل وقضاء حقوق الناس به أولى من استحسان الملابس, ولا يقتصر على قميص واحد بحال بل يشتري منه دست ثوب يليق به. وإذا كان الرجل متجملًا يلبس فوق القميص ذراعه يشتري له ذلك, وإن كان يلبس دون ما يليق بحالة لم يزد على ما اعتاد لبسه إذ حاله الآن ليست بأحسن مما كان من قبل. مسألة: قال: "وإن مات كفن رأس ماله". الفصل: إذا مات المفلس كفن من ماله؛ لأن نفقته كانت واجبه في ماله حال حياته فوجب تجهيزه منها بعد وفاته, وكذلك إذا مات واحد ممن يلزمه نفقته في حياته من أقاربه, وفي كفن زوجته وجهان, واختار أبو حامد أنه في ماله أيضًا. ثم قال أكثر أصحابنا: يكفن في ثلاثة أثواب [ق 330 أ] كما كان يلبس في حياته. وقال أبو إسحاق: يكفن في ثوب واحد يستر عورته ويخالف حال الحياة لأنه لابد له من تغطية رأسه؛ لأن كشفه يؤذيه بخلاف الميت, وقيل عن أبي إسحاق: يكفن في لفافةٍ واحدةٍ بجميع بدنه؛ لأن هذا أقل ما يكفي الحد ثلاثة أثواب, وهذا اختيار جماعةٍ من أصحابنا, وعلى هذا إذا ماتت المرأة مفلسة يجب أن تكفن في لفافةٍ واحدةٍ فإن فيها كفاية لها. مسألة: قال: "ويباع عليه مسكنه (وخادمه) "

الفصل: إذا كان له مسكن وخادم يحتاج إليهما يباعان في دين الآدميين, لأنه يمكنه أن يسكن ويستخدم بكرًا, ولو وجبت عليه الكفارة لا يلزمه بيع مسكنه, وكذلك إذا كانت له رقبة تحتاج إليها للخدمة لا يلزمه إعتاقها وينتقل إلى الصوم, والفرق من وجهين: أحدهما: أن حقوق الآدميين مبنية على التشديد والتغليظ, وحقوق الله تعالى مبنية على المسامحة والتسهيل. والثاني: أن للرقبة بدلًا من الصوم ينتقل إليه وليس لحقوق الآدميين بدل فلا يمكن استيفاؤه إلا من مسكنه وخادمه. ويجوز أخذ الصدقات مع وجودها؛ لأن الصدقة تؤخذ بالحاجة وهو محتاج والدين يجب قضاؤه مما في يده مع حاجته إليه فافترقا. وقال [ق 330 ب] أحمد وإسحاق: لا يباع مسكنه ولا خادمه فيه, وروي عن ذلك عن عمر بن عبد العزيز. فإن قيل: لم قال الشافعي: إذا بيعت ثيابه الغوالي اشترى له من ثمنها, وللحاكم أن يشتري من غير ثمنها, وجميع مال المفلس في هذا سواء, قيل: يحتمل أن يكون هذا توسعًا في الكلام من غير أن تتعلق فائدة بهذا التقييد ويجوز أن يقال: إنما يلبس الرجل من ماله أطيبه نظرًا لنفسه واحتياطه لدينه, فلعل له غرضًا في صرف ثمن ما يلبسه إلى ما يشتري ليلبس. فرع إذا كان للمفلس أم ولدٍ فإنها تؤاجر في الدين لأنها في حكم ملكة ذكره القاضي الطبري وجماعة, ومن أصحابنا من قال: لا تؤاجر كما لا يلزم إجارة نفسه, والمذهب الأول. فرع آخر لو كانت مفلسة لا زوج لها, وهي تخطب بمهرٍ عظيم لم يجب عليها أن تتزوج لحق الغرماء بلا خلاف. فرع آخر جميع ما ملكه في حال الحجر بإتباع واصطياد, أو قبول هبة, أو وصية يصير داخلًا تحت الحجر كأنه موجودًا وقت الحجر. مسألة: قال: "وإن أقام شاهدًا على رجل بحق".

باب العهدة في مال المفلس

الفصل: إذا أقام المفلس شاهدًا على رجل كان له أن يحلف معه, فإن أبى أن يحلف فهل للغرماء أن يحلفوا؟ قولان: قال في "القديم": يحلفوا بالله الذي يحلفوا بالله الذي لا إله إلا هو أن هذا يستحق على فلان كذا وكذا فيحلف كل [ق 331 أ] واحد منهم. وقال في "الجديد": لا يحلفون وهو الأصح؛ لأنه إثبات المال للغير بيمين الغير وذلك لا يجوز. وعلى هذا إذا لم يكن معه شاهد فنكل المدعى عليه عن اليمين ورددنا اليمين على المدعي المفلس فلم يحلف هل يحلف الغرماء؟ قولان ومن أصحابنا من قال: ها هنا قول واحد لا يحلفون, وإنما القولان في غرماء الميت إذا أقام الوارث شاهدًا واحدًا بدين الميت ولم يحلف مع شاهده هل يحلف الغرماء؟ قولان؛ لأن الوارث يحلف على ظاهر علمه بموت مورثه وقد يدخله شك في ذلك, ويكون الغرماء أعلم بالأمر منه, وفي الحي هو أعلم بالأمر نفسه من غرمائه فنكوله يمنع أن يكون ظاهر الحال معه فلا يجوز أن يحلف الغرماء. فرع لو أقام المكاتب شاهدًا واحدًا ولم يحلف لم يجز للورثة أن يحلفوا معه, فأما الورثة بعد الورث يحلفون لأنهم يثبتوه ملك أنفسهم والغرماء يثبتون ملك المفلس. باب العهدة في مال المفلس مسألة: قال: "ومن بيع عليه في دين بعد موته أو في حياته بفلسٍ فكله سواء". الفصل: إذا باع الحاكم مال المفلس ووضع عنه على يد عدل, أو باع العدل بأمره أو باع ولي اليتيم ماله فتلف الثمن في أيديهم [ق 331 ب] بلا تفريط فلا ضمان على واحد منهم, وكان تلفه من مال من بيع عليه على ما ذكر, ولو استحق المبيع من يد المشري فعهدة المشتري على المفلس الذي بيع عليه خلافًا لأبي حنيفة. وقد ذكرنا هذه المسألة في "كتاب الرهن" وهل يقدم المشتري بعهدة الثمن على سائر الغرماء؟ قد ذكرنا قولين والأصح أنه يقدم قولًا واحدًا, وقول الشافعي: "يُقال للمشتري: أنت غريم المفلس كغرماء سواء". أراد انتظار ظهور المال لا في المضاربة عند الوجود, وقيل: إنه على اختلاف

باب حبس المفلس

حالين فالذي قال: يقدم إذا ظهر الدرك قبل قيمة المال والذي قال: يكون أسوة الغرماء إذا ظهر الدرك بعد القسمة فيكون أسوة الغرماء في الحجر الثاني أو هذا ضعيف. باب حبس المفلس مسألة: قال: "إذا ثبت عليه الدين بيع ما ظهر له". الفصل: وهذا كما قال إذا كان عليه دين لا يخلو إما أن يكون في يده مال ظاهر أو لا, فإن كان في يده مال ظاهر وجب عليه بيعه وقضاء دين منه, فإن امتنع فالحاكم بالخيار بين أن يعزره على ذلك ويحبسه إلى أن يبيعه, وبين أن يتولى الحاكم بيعه ويؤدي ديونه. والأصل في هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "مال الغني ظلم" وقال أيضًا: "لي الواجد ظلم [ق 332 أ] يحل عرضه وعقوبته". واللي: المطل, وعرضه أن يقال له: يا ظالم يا معتدي, والعقوبة والتعزير والحبس, فإذا لم يكن له مال ظاهر وادعى أنه معسر لا مال له وأظهر مالًا لا يفي بديونه, وادعى أنه لا يملك غيره, فإنه صدقة الغرماء لا يخلو الدين ثبت عليه من أحد أمرين؛ إما أن يكون بعوض أو بغير عوض, فإن كان بعوض حصل له مثل القرض والبيع لا يقبل قوله على تلف ما حصل عنده إلا ببينه, فإن أقام البينة نظر, فإن كان أقامها على هلاك العوض الذي حصل له قبل منه شاهدان عادلان سواء كانا يعلمان باطن أمره أو لا يعلمان, وليس عليه أن يحلف ها هنا مع الشاهدين؛ لأنه تكذيب للشهود وأن إقامة البينة على إعدامه لا تقبل هذه الشهادة إلا من شاهدين عدلين يخبران باطن أمره, مثل أن يكونا شريكين له أو مجاورين لسكنه أو متجره, أو مختلطين به, وقال مالك - رحمه الله: لا تسمع البينة على الإعسار لأنها شهادة النفي, وهذا غلط لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقبيصة بن مخارق: "المسألة حرمت إلا في إحدى ثلاثة: رجل تحمل حمالة فحلت له المسألة حتى يؤديها [ق 332 ب] ثم يمسك, ورجل أصابته جائحة حتى شهد, أو تكلم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه أن به جائحة فحلت له المسألة حتى يصيب سدادًا من عيش أو قوامًا من عيش". وأما ما ذكره لا يصح؛ لأن هذه الشهادة تتضمن إثبات حال نتوصل إلى معرفته ظاهرًا ويقف عليه الشهود, ويغلب على الظنون صدق الشهود, فهو كما لو شهدوا أن فلانًا وارث

فلان ولا وارث له سواه تسمع إذا كانوا من أهل الخبرة الباطنة, وإن كان على النفي. فإذا تقرر هذا, فادعى الغريم أن له مالًا باطنًا يخفي على الشاهدين يحلف مع الشاهدين لجواز أن يكون له مال في الباطن قد خفي عليهما, ثم هذه اليمين هل تجب أم تسحب؟ قال في "القديم" وحرملة: تستحب, وقال في "الأم" ونقله المزني: أنها واجبة فالمسألة على قولين: أحدهما: واجب لما ذكرنا ولا يؤدي إلى تكذيب الشهود. والثاني: مستحبة لأن فيه طعنًا على البينة إذ شهدت بأنه لا مال له فصار كما لو شهدوا على إقرار رجل بشيء, فقال المشهود عليه: حلفوه أني أقررت له "يحلف, والأول أولى لأنه لو كان فيها طعن على الشهود لما استحب التحليف أيضًا كما في مسألة الإقرار, وقال أبو حنيفة: لا يحلف أصلًا, وقال بعض أصحابنا [ق 333 أ] بخراسان: يشترط ها هنا ثلاثة شهود على الإعسار ولا يكفي اثنان, ولعل هذا القائل قال: هذا من قوله صلى الله عليه وسلم في خبر قبيصة "حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجة من قومه" وهذا غلط لأن مراد النبي صلى الله عليه وسلم استفاضة حاله بقولهم لا على طريق الشهادة حتى لو استفاض ذلك بقول واحد أو بقول نسوة أو عبيد يكفي في جواز دفع الصدقة, وإن لم تقم البينة وقال: إن غريمي يعلم هلاك مالي أو يعلم إعساري وإنه لا مال حلف الغريم على العلم بالله الذي لا إله إلا هو أنه لا يعلم إعدامه وهلاكه, فإذا حلف حبس نظرًا للغريم في حبسه ولا غاية لحبسه أكثر من الكشف, فإذا عرف بعد ذلك حاله في الإعسار حرم تطويل حبسه؛ لأن المقصود ماله لا تعذيبه, وقال أبو حنيفة رحمه الله في رواية: الأصول لا تسمع بينة الإعسار في الحال بل يحبس شهرين, ثم تسمع البينة على إعساره. وروي عنه رواية شاذة يحبس أربعة أشهر, رواه الحسن بن زياد, وروى محمد عنه ستة أشهر. وقال الطحاوي: يحبس شهرًا, وروي عنه يحبس ثلاثة أشهر, وربما يقولون: ليس له غاية فيحبس قدرًا يغلب على ظن الحاكم أنه لو كان له مال [ق 333 ب] لظهر بما لحقه من الضجر بالحبس, ويختلف ذلك باختلاف أحوال الناس, فمنهم من يضجر بمدة يسيرة, ومنهم من لا يضجر إلا بمدة طويلة, وربما يقولون بحبسه حتى يختبر الحاكم حاله, فإن أمكنه ذلك في مدة يسيرة فعل, وإن لم يمكنه ذلك لكثرة أسبابه إلا في مدة طويلة فعل, ثم قال أبو حنيفة بعد هذا كله لا يتحقق الفلس بحال, واحتج عليه الشافعي رحمة الله عليه - بقوله تعالى {وإن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] فلو كانت العسرة لم تتحقق لما أفاد الأمر في هذه الآية فائدة, والدليل على بطلان ما ذكره من المدة أن كل سنة جاز سماعها في الحال كسائر البينات, وإن كان الدين ثبت عليه بما لا عوض له من إتلاف أو صداق امرأة أو كفالة, ونحو ذلك لا يخلو من أحد أمرين؛ إما أن يكون قد عرف له مال أو لا؛ فإن عرف له مال فالحكم فيه على ما مضى لأن الظاهر

بقاء ماله, وإن لم يعرف ذلك فالأصل الفقر فيكون القول قوله وعلى الغرماء البينة, وهذا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: حبة وسواء ابني خالد: لا يتأسى من رزق الله تعالى ما اهتزت رؤوسكما فإن ابن آدم يخلق ليس عليه إلا قشرتاه ثم يرزقه الله عز وجل". وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه ثلاثة أوجه [ق 334 أ]: أحدهما: لابد من البينة على إعدامه بكل حال. والثاني: إن لزمه الدين باختياره بالضمان أو النكاح يلزمه إقامة البينة على إعدامه لأنه لا يختار التزامه إلا أن يكون له مال, وإن كان لزمه لا باختياره مثل تلف مال رجل على يده على وجه يكون من ضمانة تكفي يمينه على الإعدام ولا يحتاج إلى البينة. والثالث: ما ذكره وهو اختيار ابن سريج -رحمه الله- وعامة أصحابنا, وبه قال أبو حنيفة -رحمه الله- وقال ابن أبي أحمد في أدب القاضي: سمعت ابن سريج يقول على مذهب الشافعي -رحمة الله عليه-: كل حق وجب عليه صداقًا كان أو ضمانًا لا يقبل قوله: إني معسر إلا بشاهدين عدلين واليمين معه, إلا العاقلة إذا ادعى العدم في دية الخطأ يقبل قولهم مع اليمين, وهذا هو الوجه الثاني الذي ذكرنا. وحكي عن عمر بن عبد العزيز, والليث: أنهما لا يجوزان حبس أحد في دين. وقال مالك لا يحبس لبعضهم إذا أطلعه الباقون حتى يجتمعوا على حبسه, وهذا غلط لما ذكرنا. فرع قال بعض العلماء: تجب نفقته في مدة حبسه على غرمائه, وبه قال بعض أصحابنا ذكره في "الحاوي" وهذا قول باطل؛ لأنه حبس ليتوصلوا إلى حقوقهم, وفي النفقة زيادة إضرار بهم [ق 334 ب]. فرع آخر لو كان حرفة يعملها في حبسه هل يمنع؟ وجهان, والأصح أنه لا يمنع لأنه بكسبه يفضي إلى قضاء دينه. فرع آخر: لا يلزم إخراجه إلى الجمعة والجماعات, ولا يلزمه الاستئذان للخروج إلى الجمعة إذا علم بشاهد الحال لو أنه استأذن لم يؤذن له. وقال بعض الفقهاء: يلزمه الاستئذان في كل, ثم إن منعه امتنع لأن ابن سيرين -رحمه الله- حبس في ثمن زيت كان عليه فكان يغتسل في كل جمعة ويلبس ثيابه ويستأذن فإذا منعه السجان رجع.

فرع آخر لو مات فمنع الغرماء من دفنه عزورًا. فرع آخر: لو ادعى رجل على المحبوس حقًا جاز للحاكم إحضاره من حبسه لاستماع الدعوى عليه, وقال مالك: لا يجوز ذلك, وهذا غلط لأنه يمكن أن يستوفي في حق الثاني من دعواه ويرد إلى حق الأول في حبسه, ولو كان كما قال مالك لكان الحبس نافعًا في دفع الدعاوى عنه. فرع آخر: لو هرب المحبوس لم يجب على الحاكم طلبه وكان للخصم أن يطلبه, فإن وجده في موضع وتعذر عليه إحضاره لزم الحاكم إحضاره إذا سأله الخصم, ثم سأله عن سبب هربه, فإن قال: هربت لإعساري لم يعزره لأنه شبهة, وإن لم يكن عذر عذره. فرع آخر لا يمنع المحبوس من التطلع إلى الطريق [ق 335 أ] من كوة ولا محادثة من يزوره. فرع آخر: لو وجب الحبس على امرأة حبست عند نساء ثقات أو عند ذي رحم محرم ومنع الزوج منها. إذا حبس المفلس لغرمائه لعدم البينة بعسرته استكشف الحاكم عن أمره, ولم يجز التغافل. وقال مالك: لا يجوز أن يتولى الكشف عن حالة, لأن ذلك ميل وإسقاط الحق ويجب عليه الإعراض عنه حتى يقيم البينة بعسرته, وهذا غلط لأنه كما يلزمه ترك الميل يلزمه رفع الظلم وحبسه إن كان معسرًا ظلم, ولا يقدر على إقامة البينة لكونه محبوسًا فيلزم الحاكم التمكن حتى يتخلص من الظلم. فرع آخر إذا قسم الحاكم ما وجد من ماله بين غرمائه يزول الجحر عنه على الصحيح من المذهب, وهو اختيار أبي إسحاق على ما ذكرنا, ولا يحتاج إلى حكم الحاكم في رفع الحجر, لأن الشافعي قال: "وإذا أفاد ما لا فجائز ما صنع فيه حتى يحدث له السلطان حجرًا آخر".

وفرق الشافعي بين المبذور وبين المفلس بلفظ موجز, فقال: "لأن الوقف الأول لم يكن له لأنه غير رشيد". يعني أن وقف مال المفلس لم يكن لعدم رشده فصح عقده بعد قسمة ماله من غير أمر الحاكم. بخلاف حجر السفيه, وقيل: المحجور عليهم أربعة, المحجور عليه لسفهٍ [ق 325 ب] لا يزول الحجر عنه إذا صار رشيدًا إلا بالحاكم, والثاني: المحجور عليه بالجنون متى زال الجنون زال الحجر بغير الحاكم, والثالث: المحجور عليه للفلس, وقد ذكرنا. والرابع: المحجور عليه لصغره, إذا بلغ ورشد هل يزول الحجر عنه بغير من له الولاية عليه من أب أو حاكم؟ وجهان, وقيل: إنهم ستة, والخامس: المريض يصير محجوزًا عليه فيما زاد على الثلث من غير الحاكم, وإذا زال المرض زال الحجر من غير الحاكم, والسادس: المرتد هل يصير محجورًا عليه بنفس الردة؟ قولان: حكاهما أبو حامد في "الجامع": أحدهما: يصير محجورًا لتعلق حق المسلمين بماله فأشبه حجر المريض لتعلق حق الورثة بماله. والثاني: لا يصير محجورًا إلا بالحاكم كحجر السفيه, لأنه حجرًا وجبه فعل المعصية والسفه إذا أسلم زال الحجر بلا خلاف. مسألة: قال: "فإن شهدوا أنهم رأوا في يديه مالا سألته". الفصل: وهذا كما قال, إذا ادعى الغرماء أنه أفاد مالًا بعد فك الحجر عنه لم يخل من ثلاثة أحوال, إما أن ينكر, أو يعترف به لنفسه, أو يعترف به لغيره, فإن أنكر فالقول قوله؛ لأن الحاكم الحجر عنه حتى يثبت إعساره عنده فكان الأصل الإعسار حتى يعرف المال, وإن قال: ملكت مالًا ملكوا ........... مطالبته بالدين [ق 336 أ] فإن سألوا أن يعيد الحجر عليه نظر, فإن كان ما معه أكثر مما عليه لم يحجر عليه, وإن كان دون ذلك حجر عليه, ثم غرماء الحجر الأول والغرماء الذين تجددوا بعده في الضرب بعد الحجر الثاني سواء. وقال مالك - رحمه الله-: يختص به الغرماء المتأخرون لأنه استفاد من جهتهم, وهذا غلط؛ لأن حقهم كلهم في ذمته حال الحجر, فكانوا سواء وما ذكروه لا يعلم حقيقة, ثم مهر الزوجة وسائر الديون سواء, وإن لم يحصل له منها مال, وإن أقر الإنسان, وقال: هذا مضاربة لفلان أو وديعة, فإن كان المقر له حاضرًا سألناه, فإن قال كذب مالي قبله حق حكمنا بالمال للمفلس وكان للغرماء المطالبة بالدين.

وإن قال: صدق في ذلك سلمناه إليه وليس للغرماء أخذه ولا لهم تحليفه, لأنه أقر به للحاضر ولا فائدة لعرض اليمين عليه, ولو رجع لا يقبل رجوعه. ومن أصحابنا من قال: يحلف المفلس لأنه يحتمل أنه كاذب في إقراره, فإن نكل عن اليمين حبس حتى يسلم المال أو يحلف, وهذا ضعيف, والأول أصح وبه قال أبو حنيفة وجماعة, وإن كان المقر له غائبًا فالقول قوله مع يمينه ولم يحبس, وإن نكل عن اليمين, قال أبو إسحاق: قال الشافعي: "حبس" قال أبو إسحاق: إنما حبسه [ق 336 ب] لأن الظاهر أن الذي في يده له فحبسه لذلك لا لأجل النكول, وإنما حبسه إلى أن يقدم الغائب ويستكشف أمره, ويخالف هذا إذا أقر به لحاضر فصدقه لأنه لا معنى لعرض اليمين عليه مع إقراره ولا يحلف فيه, وإن طلبوا يمين المقر له؟ قال أصحابنا: يحلف لأنه لو كذب المقر له ثبت المال لهم, فإن صدقه حلف فإن قال قائل: لم قال الشافعي: "فمتى استقر عند الحاكم ما وصفت لم يكن له حبسه ولا يغفل المسألة عنه". أي يداوم على المسألة والبحث والقاضي ممنوع عن تجسيس الخصومات والمسألة عنها من غير استدعاء, قلنا: أراد استدعاه الغرماء استئناف المسألة وتجديدها وإلا فلا يكون له التعرض والتجسس. مسألة: قال: "وإذا أراد الذي عليه الدين إلى أجل السفر". الفصل: وهذا كما قال: إذا كان عليه دين فأراد السفر لا يخلو الدين من أحد أمرين: إما أن يكون حالًا أو مؤجلًا, فإن كان حالًا لصاحب الدين منعه حتى يقضي دينه, وإن كان مؤجلًا ليس له منعه سواء كانت مدة السفر أبعد من أجل الدين أو أقرب منه, وليس له مطالبته بوثيقة من رهن أو كفيل. وحكي أصحابنا عن مالك أن له منعه حتى يقيم كفيلًا بالحق؛ لأن عليه ضررًا في آخر حقه, وهذا [ق 337 أ] غلط؛ لأن صاحب الدين المؤجل كالأجنبي لأنه لا يملك مطالبته بوجه والأجنبي لا يمنعه من السفر كذلك هذا, وأما الضرر فإنما لحقه بتأجيله الحق ورضاه بغير كفيل فلم يكن له تداركه بعد ذلك, وهذا إذا كان الغالب من سفره السلامة, فأما إذا كان مخوفًا كسفر الجهاد والسفر في البحر الذي يكون الغالب منه التلف. اختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق: لا فرق وهو المذهب؛ لأن الأصل السلامة وقد قال الشافعي رحمة الله عليه؛ لأنه ترك التحفظ حين وجوب الدين له وهو عام في كل سفر.

والثاني: له منعه إلا بكفيل ورهن لأن الظاهر منه التلف فيستضر الغريم بتلف حقه, ولهذا قال الشافعي في "كتاب السيرة": "ولا يجاهد إلا بإذن أهل الدين" ولم يفصل بين الحال والمؤجل. فرع لو أفلس رجل وكان قد وهب هبة لمن دونه لا يلزم الثواب قولًا واحدًا, وإن كان وهبها لنظيره أو أعلى منه فيه قولان: أحدهما: يقتضي الثواب. والثاني: لا يقتضي الثواب. فإذا قلنا: يقتضي الثواب ففي الثواب ثلاثة أوجه: أحدهما: قدر قيمة الهبة. والثاني: ما جرت العادة به, والثالث: ما يرضي الواهب, فإذا قلنا بالأول والثاني: لا يجوز له أن يقبل أقل منه فإذا قلنا [ق 337 ب]: بالثالث لو رضي الواهب المفلس بدانق في مقابلة ألف لم يكن للغرماء الاعتراض عليه نص عليه في "الأم". فرع آخر لو تصرف الوارث في التركة قبل قضاء الدين فيه وجهان: أحدهما: لا يصح لأنه مال تعلق به دين فلا يصح التصرف فيه من غير رضا من له الحق كالرهن. والثاني: يصح لأنه حق تعلق بالمال بغير رضا المالك ولا يمنع التصرف كمال المريض فعلى هذا إن قضاء الوارث الدين فإن لم يقض فسخنا. فرع آخر لو باع عبدًا ومات وتصرف الورثة في التركة, ثم وجد المشتري بالعبد عيبًا فرده أو وقع في بئر كان حفرها في حياته ظلمًا بهيمة فلزمه ضمانها ففي تصرف الورثة وجهان: أحدهما: يصح لأنهم تصرفوا في مالٍ لهم لا يتعلق به حق أحد. والثاني: يبطل لأنا بينا أنهم تصرفوا والدين متعلق بالتركة. فرع آخر قال والدي رحمه الله: إذا ادعى واحد من الغرماء عن المفلس مالًا على رجل بغير إذنه وأراد إثباته بالبينة مع حضور المفلس وامتناعه من الخصومة يحتمل أن يقال له ذلك؛ لأن حق الغريم يتعلق به عند ثبوته ويحتمل أن يقال: لا يجوز له ذلك, لأن المفلس من

أهل الدعوى, فلا تصح الدعوى عنه من غير إذنه كغير المفلس, ولأن الأصل لتعلق حق الغريم [ق 338 أ] بالمال ثبوت الملك للمفلس, وهذا الأصل لا يثبت لأن المفلس لا يدعبه بل يجحده فكيف يصح إثبات ما هو فرع له؟ وأصل هذين الاحتمالين إذا أقام المفلس شاهدًا واحدًا على ما ادعاه ولم يحلف معه هل للغريم أن يحلف معه؟ فيه قولان. فرع آخر إذا أقر رجل للمفلس بمال فكذبه المفلس هل يسقط الإقرار؟ يحتمل أن يقال: يسقط؛ لأن المقر له كذبه وليس هذا كإتلاف في المال؛ لأن المال لم يثبت له فإن صحة الإقرار محتاجة إلى التصديق, ويحتمل أن يقال: صحة الرد مبينة على جواز إقرار المفلس بعين ماله لرجل, وفيه قولان, وهذا لأن صحة الإقرار لا تفتقر إلى القبول, ألا ترى أنه لو أقر بمال لمجنون صح, وصار ذلك مالًا من أمواله, وإن لم يحصل من جهته التصديق والقبول بوجه. فرع آخر إذا كان له دين على ممتنع وللممتنع دين فأراد استيفاء حقه من الدين الذي عليه وهما جنسان ويغلب على ظنه أنه إن دفع ما عليه إلى الممتنع لم يتمكن من استرجاعه بوجه كيف يستوفي ذلك؟ قال والدي رحمة الله: الأظهر عندي أنه يشتري شيئًا بما عليه من الدين من غير إذن الحاكم في أحد قولين, وفي القول الثاني يدفع ما عليه إلى الحاكم أو أمينة بإذنه, ثم يستوفيه [ق 338 ب] بدينه على معنى استيفاء من ثمنه ببيع يقع بإذنه, وهذا لأنه وجد عين مال الممتنع من غير جنس حقه, هل يبيعه بنفسه أو لا بد من الحاكم؟ قولان, وبيع ما في ذمته لا يتصور إلا بشراء مال به وهو حقيقة البيع أيضًا؛ لأن المبايعين كل واحد منهما بائع ومشترى على التحقيق, فإذا صح هذا فإن أمكنه شراء جنس من حقه فعله, وإن لم يمك اشترى غير جنس حقه, ثم يصرفه في جنس حقه, ثم استوفاه بحقه, وهذا إذا كان الدين الذي عليه مما يجوز بيعه قبل القبض كالقرض ونحو, فإن كان مما لا يجوز بيعه كالمسلم فيه فعلى أحد القولين يدفعه إلى الحاكم أو أمينة ثم يباع بإذنه ولا يحتاج إلى الممتنع, وعلى القول الآخر يحتمل أن يقال يعزل من ماله بقدر ما عليه, فإذا فعل ذلك صار كأن اللقطة إذا كان طعامًا رطبًا أكله من ماله قامت هذه القيمة مقام اللقطة حتى تلفت قبل الحول من غير تعدي لا ضمان على الملتقط, ولا يبعد ها هنا أن يعزل من ماله ذلك ويكون للمالك للضرورة, ويؤكد أن الشرع ورد بقبض المال من نقسه لنفسه في حق الأب والجد فلا ينكر للضرورة في هذه [ق 339 أ] المسألة تجويز ذلك قياسًا على ما ورد به الشرع.

كتاب الحجر

كتاب الحجر قال: قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] الآية. الفصل: وهذا كما قال: الحجر في اللغة المنع والحظر والتضييق, ومنه قوله تعالى: {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ} [الفرقان: 22] ويقولون حجرًا محجورًا يعني حرامًا محرمًا, وقال تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْرٍ} [الفجر:5] أي لذي عقل, وإنما سمي العقل حجرًا, لأنه يمنع صاحبه من ارتكاب ما لا يجوز, وسمي حجر البيت حجرًا لأنه يمنع من الطواف فيه, وعلى هذا قولنا محجور عليه, أي ممنوع من التصرف, ومحظور عليه التصرف, والحجر على ضربين: أحدهما: لحق غيره وهو حجر المفلس والمريض والمكاتب. والثاني: لحق نفسه وهو حجر صغير والمجنون والسفيه والمقصود بهذا الباب بيان أحكام هؤلاء. وأما الصبي فالأصل في الحجر عليه قوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء: 6] فإن أنستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أموالهم, فدل على أن ماله لا يدفع إليه قبل بلوغه النكاح وقوله تعالى: {وَابْتَلُوا} [النساء: 6] معناه: واختبروا وامتحنوا كما قال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124] معناه اختبره وامتحنه, وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} [البقرة: 249] أي مختبركم وقال [ق 339 ب] {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود:7] أي مختبركم. وأما اليتامى: منهم الصغار الذين مات آباؤهم, فأما إذا ماتت الأم وبقي الأب لا يسمى يتيمًا حقيقة, وكذلك إذا مات الأب بعد بلوغه لا يسمى يتيمًا لما روي عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يتم بعد الحلم" وروي: بعد البلوغ. وقوله: {حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6] أراد به البلوغ فعبر عن البلوغ ببلوغ النكاح؛ لأن الغالب أن شهوة النكاح عند البلوغ وقيل: أراد الاحتلام لأن الاحتلام يتوجه التكيف, وقيل: أراد بالنكاح الجماع, وقوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا} [النساء:6] أي أبصرتم منهم رشدًا أو علمتم, فوضع ذلك موضع العلم كما وضعها موضع الرؤية في قوله تعالى: {آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} [القصص:29] وقوله: {رشْدًا} [الجن:10] قال مجاهد, والشعبي: هو العقل.

وقال السدي: هو العقل والصلاح في الدين, وقال ابن عباس والحسن رضي الله عنهم هو الصلاح في الدين والصلاح في المال, وهو قولنا وقوله: {وَلَا تَاكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أًن يَكْبَرُوا} أي لا تأخذوها إسرافًا على غير ما أباح الله تعالى لكم, وأصل الإسراف تجاوز الحد, وقوله: {وَبِدَارًا أًن يَكْبَرُوا} [النساء:6] يعني بأكل مال اليتيم ويبادر أن يبلغ فيحول بينه وبين ماله, ثم قال: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ} [النساء:6] يعني بمال نفسه عن مال اليتيم, {وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَاكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:6 [] ق 340 أ] وقد ذكرنا هذا من قبل واحتج على ذلك أيضًا بقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة:282] والسفيه: الفاسق المبذر بماله, ولفظ الشافعي رحمه الله تعالى هو المبذر لماله المفسد في الجهات المحترمة. وقال مجاهد: هو الجاهل بالصواب فيما له وعليه. وأما الضعيف والذي لا يستطيع أن يمل هو, نقل المزني -رحمه الله- أنه أراد بهما المغلوب على عقله لأنه لا فرق بين الضعيف وبين الذي لا يستطيع, ومعنى اللفظتين واحد. وقال في "كتاب الوصايا": الضعيف الصغير والكبير الذي يضعف عن القيام بمصالح ماله, والذي لا يستطيع أن يمل هو المغلوب على عقله, وهذا أصح ما نقله المزني؛ لأن الظاهر من الآية أن الذي لا يستطيع غير الضعيف كما أن الضعيف غير السفيه, وقيل: هو ضعيف الرأي والتدبير من صغر أو كبر وهو قريب مما ذكرنا, وقال مجاهد -رحمه الله-: السفيه الجاهل بالصواب فيما له وعليه, والضعيف: الأحمق. وقال ابن عباس رضي الله عنهما الذي لا يستطع أن يمل هو الأخرس وقيل: إنه المحبوس بحبس أو غيبة وما قاله الشافعي أولى؛ لأن الأخرس والغيبة لا يوجبان الحجر, وقوله: أن يمل: يعني يقر [ق 340 ب] فليملل وليه بالعدل أن يقر وليه ويملل الإقرار عليه من وجهين: أحدهما: بمباشرة البيع والشراء والثمن وعليه إن كان اشتراه مؤجلًا. والثاني: أن تقوم البينة على إقراره بحق عليه ولم يعرف صفته وحبسه فيقر الولي عليه به لئلا يطالب بأكثر مما عليه. وأما إذا أقر عليه بإتلاف ماله أو قتل أو دين لزمه قبل الحجر لا يقبل إقراره بذلك عليه. وقال ابن عباس رضي الله عنه أراد بقوله: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة: 282] ولي الحق: هو صاحبه أن يعدل في إملائه ومطالبته بالحق. وقال الضحاك: أراد ولي من عليه الحق فيما لزم من أرش جناية أو قيمة متلف, فإذا تقرر هذا فهو محجور عليه ما لم يبلغ على العموم, فإذا بلغ رشيدًا زال الحجر عليه,

ومعناه جرى عليه القلم, والبلوغ يتعلق بأربعة أشياء: ثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء وهي السن والاحتلام والإنبات, وواحد يختص به النساء وهو الحيض. ومن أصحابنا من قال: يتعلق بخمسة أشياء؛ اثنان يختص بهما النساء: الحيض والحمل, وهذا لا يصح؛ لأن الحمل دليل على تقدم البلوغ وليس ببلوغ في نفسه, لأنه يستدل به على تقدم الإنزال, فإن الولد لا يخلق إلا من المائين, وقيل: إنما لم يذكر الشافعي -رحمه الله- الحمل لأن حيضها يسبق حملها في العادة. وأما السن فهو استكمال [ق 341 أ] خمس عشر سنة في الذكور والإناث, وبه قال أبو يوسف ومحمد وعن أبي حنيفة في الغلام روايتان: أحدهما: تسع عشر سنة وهي رواية الأصل. والثانية: ثماني عشرة رواها الحسن بن زياد, وفي الجارية ثمان عشرة سنة. وقال بعض أصحابنا: إذا طعن في خمس عشرة سنة يصير بالغًا, وهذا ليس بشيء لقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا استكمل المولود خمس عشرة سنة كتب ماله وما عليه وأخذت منه الحدود رواه أنس رضي الله عنه, وعندنا خمس عشرة سنة بالقمرية من حين ينفصل المولود من بطن أمه, وقال أبو يوسف, ومحمد, وزفر, والحسن بن صالح رحمهم الله إذا خرج أكثر المولود من الرحم يعتبر أول سنة, وإذا علمت حياته عند خروج أكثره, ثم خرج باقية ميتًا ورث, وعندنا لا يرث؛ لأن انقضاء عدتها لا يكون إلا بالانفصال التام كذلك هذا. وحكي عن مالك أنه قال: لا بلوغ بالسن بل هو بالاحتلام, وغلظ الصوت وانشقاق الغضروف, وروي عنه: ليس في السن للبلوغ حد, وقال أصحابه: سبع عشرة أو ثماني عشرة. وقال داود: البلوغ بالاحتلام وغلظ الصوت لا بالسن, واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحلم" وهذا غلظ لما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: عرضت [ق 341 ب] على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وأنا ابن ثلاث عشرة سنة فردني وعرضت عليه يوم أحد وأما ابن أربع عشرة سنة فردني ولم يرني بلغت وعرضت عليه عام الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني في المقاتلة. وقال أنس رضي الله عنه لما استكملت خمس عشرة سنة حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نسائه. وأما خبرهم نقول به وليس فيه نفي غيره. وأما الاحتلام عبارة عن نزول الماء الدافق: وهو المني الذي يخلق منه الولد على

أي وجه كان, نائمًا أو مستيقظًا بجماع أو بغيره, ومن أصحابنا من قال: الاحتلام في المرأة لا يكون بلوغًا؛ لأن الشافعي قال: "إلا أن يحتلم الغلام أو تحيض الجارية" وليس بشيء, والأصل من هذا ما ذكرنا من الخبر, وأيضًا قوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَاذِنُوا} [النور: 59] وأقل زمان الاحتلام في الغلام عشر سنين ذكره في "الحاوي". وقال بعض أصحابنا: تسع سنين وهو القياس. وأما الإنبات: فهو الشعر الخشن الذي يحتاج إلى جريان الموسى عليه حول ذكر الغلام وفرج الجارية ولا يختلف مذهب الشافعي أنه يحكم به بالبلوغ في أطفال المشركين, الفرق بين الذرية والمقاتلة وأخذ الجزية: لما روي أن سعد بن معاذ رضي الله عنه حكم في بني قريظة أن تقتل مقاتلهم ويسبي ذراريهم وأمر أن يكشف عن مؤتزرهم [ق 342 أ] فمن أنبت فهو من المقاتلة ومن لم ينبت فهو من الذراري فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لقد حكم سعد بحكم الله تعالى من فوق سبع سمواته" وهل هو بلوغ في نفسه أو دلالة على البلوغ؟ وقال في "الجزية" إنه دلالة عليه, فإذا قلنا: إنه بلوغ في نفسه حقيقة وهو قول مالك كان بلوغًا في أولاد المسلمين أيضًا؛ لأن حقيقة البلوغ لا تختلف بالمسلمين والمشركين والاحتلام والحيض, وإذا قلنا دلالة على البلوغ هل يكون دلالة عليه بين المسلمين؟ قولان: أحدهما: أنه دلالة أيضًا في حقهم لما روى محمد بن يحيى بن حسان أن غلامًا من الأنصار شيب بأمره في شعره فرفع إلى عمر فلم يجده أنبت فقال: لو أنبت الشعر لحددتك ولأن ما كان علمًا على البلوغ في حق المشركين كان كذلك في حق المسلمين كالحمل. والثاني: لا يكون دلالة في حقهم, والفرق أن في أولاد المشركين لا يجوز الرجوع إلى آبائهم في معرفة سنهم فكان الإنبات دلالة على بلوغهم, وفي أولاد المسلمين الرجوع إلى قول آبائهم وجيرانهم في معرفة سنهم فلا حاجة بنا إلى أن نجعل الإناث فيهم بلوغًا فلهذا افترقا, وأيضًا المسلم يستفيد ببلوغه فضائل من الولايات والشهادات واستحقاق السهم من المغنم وغير ذلك من الأحكام فيهم أنه يعالج الإنبات حتى ينبت قبل أوانه والكافر لا يتهم في ذلك. وقال أبو حنيفة [ق 342 ب]: لا يتعلق الحكم بالإنبات بحال لا في المسلم ولا في الكافر, وهذا غلظ لما ذكرنا وأما انفراق الأرنبة ونتوء طرف الحلقوم وثقل الصوت ونهود الثدي واللحية لا يحكم بها أصلًا.

أما الحيض: فبلوغ في النساء لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يقبل الله صلاة امرأة حائض إلا بخمار" وقال صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما: "إذا بلغت المرأة الحيض لا يصلح أن يرى منها إلا هذا" وأشار إلى الوجه والكف. وأما الحمل يدل على سن البلوغ لأنه يعلم به نزول الماء, وقال الله تعالى: {خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ*يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 6 - 7] أي من أصلاب الرجال وعظام صدور النساء. فرع البلوغ في الخنثى المشكل إن كان بالسن فهو ما ذكرنا, وأما بغيره فإن احتلم من الفرجين جميعًا حكم ببلوغه, ولو احتلم من أحدهما دون الآخر أو أنبت على أحدهما دون الآخر لم يكن بلوغًا, وكذلك إذا حاض من الفرج, أو حاض واحتلم منه لم يكن بلوغًا, وإن حاض من الفرج واحتلم من الذكر كان بلوغًا لأنه إن كان ذكرًا فقد أمنى وإن كانت أنثى فقد حاضت. وأما في "كتاب الإقرار": إذا حاض الأنثى واحتلم لم يكن بلوغًا حتى يستكمل خمس عشرة سنة, معناه إن كان جميعًا من الفرج, وقيل معناه: إذا حاض واحتلم والتأويل الأول أصح. مسألة: قال: "وإذا أمر الله [ق 343 أ] تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم بأمرين لم يدفع إلا بهما". الفصل: وهذا كما قال, لا يزول الحجر عن الصبي إلا بشرطين: بلوغ ورشد, فالبلوغ ما ذكرناه, والرشد عند الشافعي -رحمه الله- الصلاح في الدين والمال جميعًا, وهو أن يكون مصلحًا لماله ولا يكون مبذرًا, وقال الشافعي: الرشد والله أعلم الصلاح في الدين حتى تكون الشهادة جائزة مع صلاح المال, وإنما أراد بجواز الشهادة الصلاح فإنه إذا أردت شهادته لا لسفه كالأعمى ونحوه يدفع إليه المال إذا كان مصلحًا لدينه وماله, وكذلك حائكًا أو كناسًا أو محترفًا ببعض هذه الحرف الدنية التي ترد شهادته بها, فإن المال يدفع إليه, وقيل: أراد الله بجواز الشهادة أن لا يركب محضورًا ولا يخل بواجب, أو تظهر أفعاله الجميلة وينتشر سداده عند الكافة, وهذا قريب مما تقدم, وإنما إصلاح المال (فإنا) نحتاج

إلى تخييره لأن المال لم يكن معه فيعلم كيف حفظه وتدبيره فيه فاحتجنا أن نختبره. قال الشافعي رحمة الله عليه: "يختلف ذلك باختلاف حال المختبر". وفيه فصلان: أحدهما: في وقت الاختبار, واختلف أصحابنا فيه, فمنهم من قال: يختبر بعد البلوغ لأنه لا يصح التصرف قبله, ومن أصحابنا من قال: يختبر قبل البلوغ لئلا يتأخر دفع المال إليه عن البلوغ, فمن أصحابنا من قال: يختبر بعد البلوغ, قال: يدفع إليه بعد مال حتى [ق 343 ب] يبيع ويشتري فإن حسن تدبيره, وحفظه ولم يعين فيه بما يتغابن بمثله دفع إليه الباقي, وإذا غبن فيه بما لا يتغابن بمثله ولم يحسن تدبيره لم يفك الحجر عنه ولا ضمان على الولي فيما يبلغه في هذه الحالة وظاهر مذهب الشافعي أنه يحكم بصحة هذا العقد. ومن أصحابنا من قال: يحكم بفساده وإنما يصح ما بعد ذلك, ومن قال: يختبر قبل البلوغ احتج بقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} [النساء:6] وهذا يقتضي الاختبار قبل البلوغ, ثم اختلفوا فمن أصحابنا من قال: يأمره الحاكم بالمساومة وتقدير السعر, ثم يعقد الولي البيع أو يشتري الولي سلعة في السر من الغير ولا ينقد الثمن ولا يقبض المبيع, ثم يأمره أن يمضي ويشتريها ويقبض ثمنها ويقبضها ويواطيء البائع على ذلك فيختبره. ومن أصحابنا من قال: يمضي الواقعة حتى يساوم الصبي وبقدر السعر, فإذا أوجب البائع البيع أذن للصبي في قبوله, ويصح هذا العقد ها هنا للضرورة وهذا ضعيف. والفصل الثاني: في كيفية الاختبار, فإن كان ذكرًا لا يخلو من أحد أمرين, إما أن يكون مما لا يصان عن دخول السوق ومخالطة الناس فاختباره سهل بأن يدفع إليه بعض ماله ويختبر تصرفه فيه وحفظه له, وإن كان مما يصان عن الأسواق فإنه يدفع إليه مقدر نفقة شهر, ويأمر بالإنفاق على نفسه وسائر مصالحه على يد وكيله وينظر رشده فيه [ق 344 أ] في الضبط والحساب, أو اختبره بأمر المزارعة والنظر في أمور الصناع ويحتاج إلى الاختبار دفعتين أو ثلاثة ولا يقتصر على مرة واحدة, لأنه ربما ينفق أول مرة إنفاقًا عن بصيرة, وإن كان أنثى, فإن اختبارها أصعب لأنها عورة فاختبارها أن يدفع إليها بعض مالها للنفقة وما يتعلق بمصلحتها من الغزل والقطن, ويراعيها النساء الثقات وذو المحارم, ولا يفتقر الاختبار إلى نظر الحاكم فإن الأب أو الجد لو اختبره جاز, ثم إذا اختبر ووجد رشيدًا هل ينفك الحجر من حكم الحاكم؟ ذكرنا وجهين واختار ابن أبي هريرة أنه يحتاج إليه لأنه يتعلق بالاختبار والنظر فيتعلق بالحكم, والصحيح الظاهر من المذهب أنه لا يحتاج إلى حكم الحاكم في ابتدائه فكذلك في فكه, وقال الصميري: إذا كان الولي أبًا يرتفع ببلوغه ورشده, وإن كان أمين الحاكم لا يرتفع إلا بحكمه, وإن كان وصي أبيه فيه وجهان: وقال أبو حنيفة, ومالك: إذا كان مصلحًا لماله دفع إليه ماله, وإن كان مفسدًا لدينه

فاسقًا, لأن قوله تعالى: {رَشَدًا} [الكهف: 10] ذكره في إثبات فيقتضي رشدًا واحدًا, وهذا غلط, لأن فسقه يمنع رشده لأنه اسم مدح, وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما تفسير الرشد أن يبلغ ذا وقار وحلم وعقل. فرع إذا منعنا المال من المبذر عند بلوغه لا يدفع إليه المال, وإن صار شيخًا, وبه قال مالك إذا بلغ خمسًا وعشرين سنة يفك عنه [ق 344 ب] الحجر ويسلم إليه المال لأنه بلغ أشده ويصلح أن يكون جدًا. وحكي عن أبي يوسف أنه قال: انفك الحجر عنه ببلوغه وعاد الحجر عليه حتى يبلغ خمسًا وعشرين سنة, وقال محمد: يستدام الحجر أبدًا ولا ينفذ تصرفه إلا في النكاح والعتق, وهذا غلط ظاهر لأنه مبذر لماله فلا يختلف ببلوغه خمسًا وعشرين وعدم بلوغه ذلك وتتصور الحدود فيما دون ذلك من السن. فرع آخر إذا مبذرًا ومنعنا منه المال لا ينفذ تصرفه, وقال أبو حنيفة: ينفذ تصرفه وفائدة منع المال منه أنه لا يقدر تسليمه في التبرعات, وهذا غلط لأنه لا يدفع إليه ماله لعدم رشده فلا يصح تصرفاته كالصبي, ولأنه لا فائدة فيما قالوه, لأنه إن لم يسلم إليه في التبرعات ينتزع من يده بإقراره وبيعه ويبطل ماله بإعتاقه فلا فائدة في منعه. فرع آخر إذا شهد عدلان بسفه رجل وفسر أيسمع ذلك وإن لم يستشهد أو حجر عليه. مسألة: قال: "وإذا أونس منها الرشد دفع إليها مالها تزوجت أو لم تتزوج ". الفصل: وهذا كما قال: إذا بلغت المرأة رشيدة انفك عنها الحجر ودفع إليها مالها تزوجت أو لم تتزوج, وبه قال أبو حنيفة, وقال مالك: لا يدفع إليها مالها حتى تنكح ويدخل بها الزوج, وروي عنه أنه قال: لا ينفذ تصرفها إلا بإذن زوجها حتى تكبر وتصير [ق 345 أ] عجوزًا معنسة. حكي القفال عنه أنه قال: لا ينفذ تبرعها في مالها دون إذن الزوج إلا في الثلث, قال الشافعي رحمه الله: أرأيت لو تصدقت بالثلث, ثم بعد ذلك تصدقت بثلث الثلاثين أما

جاز لها ذلك, فإن قلنا: لا يجوز فقد أجزت أن يحال بين البالغ العاقل الصحيح وبين ماله, وإن قلت: يجوز فسبيلها على مالها, والدليل على هذا أنها رشيدة فيدفع إليها مالها كما لو تزوجت وطال الزمان, أو من دفع ماله إليه عند رشده لم يقف نفوذ تصرفه على إذن الغير كالغلام, واحتج بأن حق الزوج بتعلق لمالها بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: " تنكح المرأة لدينها وجمالها ومالها " والعادة أن يتبسط في مالها وينتفع بجهازها فكان له منعها من هبة جميع مالها, قلنا: والمرأة ترغب في نكاح الرجل لماله أيضًا ولا تعترض عليه في تصرفه. واحتج بما روى عمرو بن شعيب, عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا يجوز للمرأة عطية في مالها إذا ملك زوجها عصمتها ", وروي: " لا يجوز لامرأة عطية إلا بإذن زوجها ", قلنا: أراد على طريق الأدب والاحتياط, وإذا كان زوجها وليًا لمالها, وقد قال الشافعي: أعتقت ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ورضي عنها قبل أن يعلم النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب ذلك عليها. مسألة: قال [ق 345 ب] المزني - رحمه الله- واحتج الشافعي -رحمه الله عليه بعثمان وعلى والزبير رضي الله عنهم. الفصل: وهذا كما قال, إذا دفع ماله إليه, ثم صار مبذرًا أعيد الحجر عليه والتبذير عندنا في المعاصي, فأما الإنفاق في الثياب الفاخرة والطيب والمأكول ودعوات أهل الصلاح فليس من التبذير ولا يحجر عليه به, وإذا صار لا يعرف حظه من التجارة ويغبن فيها بما لا يتغابن الناس بمثله أعيد عليه الحجر. ومن أصحابنا من قال: إذا كان تبذيره بالإنفاق في ملاذه والإسراف في ملبوسه وشهواته حتى يتجاوز فيه الحد المألوف والقدر المعروف هل يجب الحجر عليه وجهان: أحدهما: يجب الحجر لأنه إنفاق في غير الحق. والثاني: لا يجب لأنه إنفاق في المباح, ولو لم يبذر ولم يغبن في التجارة إلا أنه صار فاسقًا هل يعاد الحجر عليه؟ قال ابن سريج: يعاد إليه كما يعاد بالتبذير ولكل معنى لو قارن البلوغ استديم الحجر عليه, فإذا طرأ بعد زواله أوجب إعادة الحجر عليه كالجنون وهذا أقيس. وقال أبو إسحاق: لا يعاد عليه, وهذا ظاهر المذهب, لأن الشافعي قال: "إذا حجر عليه لسفهه وتبذير ماله أشهد عليه" وهذا لأن الحجر لحفظ المال والفسق في الدين يورث

تهمة فيه, فإذا قارن البلوغ شككنا في ارتفاع سبب الحجر, والأصل هو الحجر فبقيناه على حكم الأصل وبعدما ظهر رشده [ق 346 أ] ودفعنا إليه المال فالأصل أنه إصلاح المال وشككنا عند طرئان الفسق في إفساد ماله فلا يترك هذا الأصل بالشك, ويفارق التبذير لأنه يقين في إفساد المال طارئًا كان أو مقترنًا بالبلوغ فسوينا الحكم فيه وبقولنا قال: عثمان, وعلي, والزبير, وعبد الله بن جعفر, وعبد الله بن الزبير, وعائشة رضي الله عنها وشريح, ومالك, والأوزاعي, وأحمد, وإسحاق, وأبو يوسف, ومحمد, وأبو ثور, وأبو عبيد رحمهم الله, وقال أبو حنيفة -رحمه الله- لا يعاد الحجر عليه بحال, ولو حجر عليه الحاكم لم ينفذ حتى يقضي قاض آخر به, وبه قال النخعي وابن سيرين رحمهما الله, وهذا غلط لما روى الشافعي من الأثر, وبيانه ما روي أن عبد الله بن جعفر اشترى أرضًا بستين ألف درهم فعبر فيها عثمان فقال: والله ما يسرني أنها لي بنعلي فقال علي: لآتين أمير المؤمنين عثمان وأسأله أن يحجر عليه فذكر عبد الله بن جعفر ذلك للزبير فقال: إني شريكك فيها فجاء علي إلى عثمان رضي الله عنهما, فذكر ذلك له فقال: كيف أحجر على رجل شريكه الزبير وإنما قال ذلك, لأن الزبير كان معروفًا بالضبط في التجارة ووجوه الربح والخسران وهذا دليل من قولهم جميعًا على جواز الحجر وعلى سأل الحجر عليه والزبير احتال [ق 346 ب] في دفع الحجر عنه وهم عثمان بالحجر عليه, ثم اعتذر لترك الحجر, ومثل هذا لينتشر فيما بين الجماعة الصحابة ولم ينكر منكر, وروى عروة أن عبد الله هذا اشترى أرضًا بستمائة ألف درهم وهم على وثمان أن يحجرا عليه فلقيه الزبير فقال: ما اشترى أحد بيعًا أرخص مما اشتريت فذكر له عبد الله الحجر فقال: لو أن عندي مالًا لشاركتك, قال: فإني أقرضك نصف المال قال: فإني شريكك فأتاه علي وعثمان وهما يتراوضان فقال: ما تراوضان فذكرا, فقال الزبير: تحجران على رجل أنا شريكه فتركه. أورده الشيخ أحمد البيهقي رحمه الله, واحتج بالقياس الذي أشار إليه فقال: إذا وجب الحجر من فاقد البلوغ وقد عقل نظرًا له واثقًا لماله فبعد البلوغ أشد تضييقٌا لماله وأكثر إتلافًا له فلم لا يجب الحجر عليه, ومعنى التبذير الإسراف قائم لأنه عقب البلوغ في عنفوان الشهوة والشباب أشد تضييعًا منه وهو مراهق. فرع لابد في هذا الحجر من الحاكم, وقد قال الشافعي رحمة الله عليه يشهد قال أصحابنا: ويشهر أمره ويتقدم إلى المنادي حتى ينادي في البلد إلا أن فلان ابن فلان حجر القاضي عليه فلا يعامله أحد, فمن عامله فهو المتلف لماله, فإن لم يشهد جاز لأنه

احتياط كما نقول في إشهار أمره وبنفس الحجر ينقطع تصرفه, وقيل في وجوب (ق 347 أ) الإشهار وجهان, والمذهب ما ذكرنا, وقال محمد: يصير محجوزًا بنفس السفه ولا يفتقر إلى الحاكم, وخالفه أبو يوسف, وهذا غلط لأن التبذير يختلف ويحتاج إلى الاجتهاد فلا بد فيه من الحاكم كما قلنا في مدة العنة. فرع آخر يقول الحاكم في حجر السفيه: حجزت على فلان, بخلاف المفلس في أحد الوجهين, لأن لفظ الحجر أعم وحجر السفيه عام. فرع آخر يقول الحاكم في حجر السفيه: حجزت على فلان, بخلاف المفلس في أحد الوجهين, لأن لفظ الحجر أعم وحجر السفيه عام. فرع آخر الشحيح الذي يبخل على نفسه بالنفقة فلا يأكل ولا يلبس بقدر حاله شحًا على نفسه وحبًا لماله, قال ابن سريج, والإصطخري: يجب الحجر عليه كما بالسرف والتبذير, لأن الله تعالى نهى عنهما, فقال عز وجل: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ} [الإسراء: 29] الآية, وقال سائر أصحابنا: لا يحجر عليه لأنه يمسك ولا يتلف وليس كل منهي عنه يوجب الحجر, فمن قال بالأول قال: لا يمنع من عقوده ولا التصرف ولكن ينفق عليه جبرًا بالمعروف من ماله, إلا أن يخاف إخفاء ماله لعظم شحه من التصرف فيه. مسألة: قال: " من بايعه بعد الحجر فهو المتلف لماله ". وهذا كما قال: " إذا حجر عليه على ما ذكرنا جعل ماله في يد عدل ثقة يوليه أمره والإنفاق عليه والنيابة عنه في مصالحه, ثم خلي سبيله فإن تصرف بعد ذلك نظر, فإن اشترى سلعة في ذمته [ق 347 ب] فالشراء باطل, فإن كانت باقية في يده رجع عليها بها, وإن كانت بالغة فلا ضمان عليه ولا فرق بين أن يكون بايعه جاهلًا بحاله أو عالمًا به, لأن الحاكم إذا أشهد وأعلن فقد أعذر من أنذر, وإن أطلق الحجر عليه بعده لا يطالب بشيء, لأن الحجر عليه كان لحق نفسه لا لحق غيره وحق نفسه يراعى في حالة الإطلاق كما يراعى في حالة الحجر. وقال بعض أصحابنا بخراسان: قال أبو حامد: يصح شراؤه في ذمته, وهذا غلط وليس في شيء من تعاليقه. فرع هل يلزمه الغرم فيما بينه وبين الله تعالى؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزم لأن المالك رضي باستهلاكه, وبه قال ابن أبي هريرة.

والثاني: يلزم لأنه مكلف استهلك مالًا على طريق المعاوضة, وبه قال أبو ثور, وقيل: الوجهان إذا لم يعلم بحجره والأصح يلزمه. فرع آخر لو باع مال نفسه فالبيع باطل, فإن كان باقيًا في يد المشتري رد على وليه, وإن كان تالفًا لزمه قيمته. فرع آخر لو جني على إنسان جناية توجب الأرش أو تلف ماله فعليه ضمانه, يدفع ذلك من ماله الذي في يد وليه, لأن صاحبه لم يكن مضيعًا إذ لا صنع له فيه. فرع آخر لو أدعه رجل وديعة فتلفت في يد المحجوز عليه بآية فلا ضمان عليه وإن اتلفها فيه وجهان: أحدهما: يلزمه الضمان [ق 348 أ] وهو الأصح لأن صاحبها لم يسلطه على إتلافها, فأشبه إذا أتلفها وهي في يد صاحبها. والثاني: لا يلزمه الضمان, لأنها حصلت في يده برضا صاحبها, فكان هو المضيع لها كما لو أقرضه شيئًا أو باعه, وهكذا الحكم في الصبي. ومعنى الوجهين أنه هل يغلب حكم الإتلاف لأنه من غير اختياره أو يغلب حكم التسليم لأنه باختياره؟ فيه وجهان. فرع آخر لو أقر بعد الحجر, فإن كان بحد أو قصاص, أو بأمر يوجب عقوبة على يده قبل إقراره وأقيم عليه الحد لأنه غير متهم فيما يوجب عليه عقوبة, ولأن الحجر فيما يؤدي إلى إتلاف ماله, ولهذا يصح طلاقه ولا يتناوله الحجر. فرع آخر لو أقر بمال عن جناية لا يقبل إقراره لجواز أن يكون وافقه لينذر ماله, ولأنا لو قبلنا ذلك لم يكن للحجر معنى, وهذا في الحكم, فأما فيما بينه وبين الله تعالى يلزمه بما أقر به إن كان صادقًا, لأن النية لو قامت بها في حال حجره أوجب الضمان في ماله, ويخالف ذلك مال القراض والبيع إذا أتلف لا يلزمه الضمان فيما بينه وبين الله تعالى, لأن النية لو قامت بها في حالة الحجر لم يضمنه. وقال القاضي الطبري: إذا لم يشهد الحاكم أمره ولم يشهد لا يتعلق به المنع من التصرف على قول بعض أصحابنا, لأن الشافعي رحمة الله عليه شرط الإشهاد [ق 348 ب]

ويكون معامله معذورًا فلم يجز أن يسقط عنه ضمان القرض والبيع. وذكر عن بعض أصحابنا أنه قال: يصح, وإن عقد عقدًا يتعلق كالبيع والقرض والإجارة يصح وينفذ, لأن غيره معذور فيه. والصحيح عندي أنه ينفذ الحجر في منع التصرفات وبطلانها, ولكن يعتبر الإشهاد, والإشهاد في سقوط الضمان للغير فيما يعامله وهو القياس, وظاهر المذهب ما تقدم. فرع آخر لو أقر المحجور بجنايات الخطأ على النفوس, ظاهر المذهب أنه لا يقبل, وقال بعض أصحابنا: فيه قولان: أحدهما: هذا لأنه يوجب المال. والثاني: يقبل ويلزم لتغليظ حكم النفوس, وأنه يثبت عمدها بإقراره فكذلك الخطأ. فرع آخر لو أقر بأنه سرق ما يوجب القطع, قال الشافعي رحمة الله عليه في العبد إذا أقر بالسرقة يقطع, وهل يباع منه بمقدار مال السرقة قولان, فإذا قلنا: هناك يقطع ويباع فها هنا يقطع ويغرم ولا يبعض أقواله, وإن قلنا: هناك يقطع ولا يباع فها هنا يقطع ولا يغرم, وبه قال صاحب "الإفصاح". ومن أصحابنا من قال: لا يقطع ها هنا إذا غرم, لأن القطع لا ينفرد عن المال, فإذا لم يلزمه المال لم يقطع, ويخالف العبد, لأن المال يلزمه وإنما يتأخر المطالبة به إلى وقت العتق ولا يصح ما تقدم. فرع آخر لو أقر بنسب [ق 349 أ] معين فيه وجهان: أحدهما: لا يقبل ولا يثبت نسبة لأنه يتعلق به إتلاف المال, وهو ما يلزمه من الإنفاق عليه. والثاني: يثبت نسبة منه وينفق عليه من ماله, لأنه يثبت النفقة تبعًا لا مقصودًا وهو الأشهر. وفيه وجه ثالث يثبت نسبه منه وينفق عليه من كسبه أو من مال بيت المال. فرع آخر إذا أقر بابن أمه له أنه منه فالمشهور أنه يثبت نسبة بإقراره وصار حرُا, وقال أبو ثور: إقراره به باطل لا يثبت نسبًا ولا يوجب عتقًا, وقال محمد: يثبت ويصير حرًا

ويسعى في قيمته, وهذا غلط لأنه صادف إقراره فيما لا يقصد به المال فيقبل. فرع آخر لو مرض السفيه وأعتق في مرضه ثم مات هل يغلب حجر السفيه أو حجر المرض؟ وجهان: أحدهما: يغلب حجر السفه لأنه أسبق. والثاني: يغلب حجر المرض لأنه حالة تسبق حفظ المال فيها للوارث, فعلى هذا يكون عتقه ماضيًا في ثلثه. فرع آخر لو قبل السفيه الهبة أو الوصية لا يجوز أن يسلمها إليه, فإن سلم إليه فاستهلكه وجب على من أقبضه غرم الوصية دون الهبة, لأنه ملك الوصية بقبوله فوجب غرمها له ولم يملك الهبة بقبوله فلم يجب غرمها له. فرع آخر لو آجر نفسه فإن كان فيما هو مقصود من عمله من أن يكون صانعًا [ق 349 ب] وعمله مقصودًا في كبسه لم يجز, وإن كان غير مقصود مثل أن يؤاجر في حج أو وكالة في عمل ليس عمله مقصودًا في كبسه لاستغنائه بماله صحت الإجازة, لأنه لما جاز أن يتطوع عن غيره بهذا العمل فأولى أن يجوز منه بعوض. فرع آخر لو وجب له القصاص له استيفاؤه وله العفو على مال, وإن عفا على غير مال, فإن قلنا: موجبه القود فقط صح, وإن قلنا موجبه أحد الأمرين والقود أو الدية ولا يصح عفوه عن الدية. فرع آخر إذا باع شيئًا بإذن وليه ظاهر المذهب أنه لا يجوز, وقال بعض أصحابنا: فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز, لأن المقصود منه المال والحجر تناوله وهو قائم. والثاني: يجوز لأنه عقد من مكلف كالنكاح. فرع آخر إذا أحرم لحجة الإسلام انعقد إحرامه ويدفع وليه نفقته إلى غيره لينفق عليه في ذهابه ورجوعه, فإن فعل محصورًا تجب به الكفارة, فإن كانت كفارة فخيره يلزمه أن يصوم منها, وإن كانت كفارة مرتبة لا يجوز العدول فيها عن المال إلى الصوم, ويجري مجرى

الجناية فيلزمه حكمها, وقال بعض أصحابنا: هل يجري عليه فيها حكم اليسار أو الإعسار؟ وجهان: أحدهما: يجري عليه حكم اليسار لوجود ملكه. والثاني: يجري عليه حكم الإعسار, لأنه بالحجر صار أسوأ حالًا [ق 350 أ] من المعسر, ذكره في "الحاوي". فرع آخر إذا قلنا بالوجه الثاني فلم يكفر بالصوم حتى قال حجره, فإن قلنا: المراعى حالة الأداء في الكفارات لم يجزئه الصوم لاعتبار حالة الوجوب. والثاني: لا يجزئه إلا المال لأنه كان موسرًا, وإنما المانع كان الحجر وقد ارتفع الآن. فرع آخر لو أفسد حجة الفرض هل يعطيه الولي نفقة القضاء؟ وجهان: أحدهما: يعطيه, وبه قال محمد لأنه واجب. والثاني: لا يعطيه لتعلقه بإفساده ولا يؤمن منه, وبه قال أبو ثور. فرع آخر لو أحرم لحجة التطوع انعقد ويمنعه الوالي النفقة ويقول له: احتل لنفسك, فإن لم تقدر على ما يبلغك الحج فأنت كالمحاصر بالعدو ويجوز ذلك التحلل ويتحلل بالصيام دون الهدي, وإن كانت نفقته في السفر كنفقته في الحضر لا يتحلل ودفعت إليه النفقة, وكذلك إن قال: إلى نفقة الحضر, فإني اتمم نفقة السفر من كسبي. فرع آخر لو ظاهر من امرأته فالظهار صحيح والعود صحيح ويلزمه أن يكفر بالصوم, فإن قيل: هذه كفارة مرتبة فهلا أو جبتم عتق الرقبة كما قلتم في محظورات الإحرام لأنها أفعال من جنايات يتعلق بها الضمان, هكذا ذكره جمهور أصحابنا, وقيل: فيه وجهان كما ذكرنا في غيرها. فرع آخر لو طلق يقع فيه طلاقه لأنه ليس فيه إطلاق المال, [ق 350 ب] وقال ابن أبي ليلى: لا ينفذ طلاقه كما لا ينفذ عتقه, وقال أبو يوسف: ينفذ عتقه أيضًا كالمطلق, وهذا غلط,

والفرق ما ذكره الشافعي رحمة الله عليه ههنا حيث قال: " فإن قيل: "فلم أجزت إطلاقه وهو إتلاف مال؟ قلنا: ليس بإتلاف لأنه يموت فلا تورث عنه امرأته ولا يحل فيها هبة ولا بيعه ويورث ويباع عليه فيملك ثمنه فالعبد مال بكل حال والمرأة ليست بمال ", ولهذا العبد المأذون بالتجارة والنكاح الطلاق إليه دون سيده, والمال إلى السيد دونه هذا, لأن المهر متعلق بالعقد يتقرر بالدخول فلا تأثير للطلاق في إيجابه, بل يؤثر في إسقاطه بعضه إذا كان قبل الدخول, فإن قيل: إذا طلق يتزوج أخرى ويطلق فيؤدى إلى إتلاف المال, قيل: إذا أكثر الطلاق لا يزوج حينئذ بل يسري جارية, ثم لو أعتق لا ينفذ عتقه. فرع آخر لو خالع امرأته على مال صح الخلع, لأنه إذا جاز طلاقه بلا مال فبالمال أولى, ولكن المرأة لا تدفع إليه المال, فإن دفعته لا تبرئ بذلك ولا يصح قبضه, وقيل: جملة عقود المحجوز عليه ثلاثة, عقد يصح من غير إذن الولي أو لم يأذن كالبيع والهبة ونحو ذلك. فرع آخر إقرار الولي عليه يقبل فيما يتعلق بتصرفاته دون غيرها من الإتلاف [ق 351 أ] والجنايات. فرع آخر لو ظهر رشده بعد السفه يجب على الحاكم أن يفك حجره في هذا الرشد, اختلف أصحابنا فمنهم من قال: الصلاح في الدين وإصلاح المال, وبه قال ابن سريج رحمه الله, والثاني: أن الإصلاح للمال وحده, وبه قال أبو إسحاق هكذا ذكره في "الحاوي" وعندي أنه ما قاله ابن سريج أصح في هذا الموضع, لأن الأصل ههنا الحجر والتبذير, وإذا كان فاسقًا شككنا في رشده فيبني على الأصل كما لو قارن البلوغ سواء. فرع آخر إذا حجر الحاكم عليه, قال الشافعي رحمة الله عليه, يستحب له أن يرد أمره إلى الأب, والجد, فإن لم يكن فسائر العصبات لأنهم أشفق عليه. مسألة: قال: " ومتى أطلق عنه الحجر ثم عاد إلى حالة الحجر حجر عليه ".

وهذا كما قال: إذا أطلق الحجر عنه عند عود الرشد, ثم صار سفيهًا مبذرًا ثانيًا يعاد عليه الحجر, ثم إذا رجع إلى حالة الإطلاق أطلق, لأن الحكم إذا أطلق بعلة فزالت العلة زال الحكم المتعلق بها, ثم إذا عادت العلة عاد حكمها كما لو جن, ثم عقل, ثم جن. فرع لو حلف وحنث انعقدت يمينه ولزمته الكفارة ويكفر بالصوم هكذا أطلقه أصحابنا والمعنى فيه ذكرنا في كفارة الظهار والله أعلم بالصواب.

كتاب الصلح

كتاب الصلح مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا احل حراماً أو حرم حلالا". قال في الحاوي: والأصل في جواز الصلح الكتاب والسنة والأثر والاتفاق فإما الكتاب فقوله تعالي {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء:114] وقال تعالي: {وإنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا} [النساء:128] الآية. وقال تعالي: {وإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إن يُرِيدَا إصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35] وأما السنة فما روى عبد الله عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:" يا أيوب ألا أدلك عل صدقةٍ يرضي الله موضعها. قلت بلي يا رسول الله. قال: تسعي في صلح بين اثنين إذا تفاسدوا وتقارب بينهم إذا تباعدوا. وروى أبو هريرة أن النبي صلي الله عليه وسلم قال:"الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراما أو حرام حلالا". وروى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده أن النبي صلي الله عليه وسلم: قال لبلال بن الحارث:" اعلم أن الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً حرم حلالا أو أحل حراماً والمسلمون علي شروطهم، إلا شرطا حرم حلالاً أو أحل حراماً". وروى ان النبي صلي الله عليه وسلم مر بكعب بن مالك وهو يلازم غريماً له يقال له: ابن أبي حدرد

وقد ارتفعت بينهما خصومه، فقال النبي صلي الله عليه وسلم لكعب: "خذ منه الشطر ودع الشطر". وأما الأثر فيما روى الشافعي عن عمر رضي الله عنهما: أنه قال في عهده إلي أبي موسي الأشعري: الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراماً أو حرم حلالاً. وروي أن أكثر قضايا عثمان رضي الله عنه كانت صلحاً. وقد قيل في تأويل قوله تعالي: {وآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وفَصْلَ الخِطَابِ} [ص:20] ثلاثة تأويلات: أحدها: الصلح بين الخصوم. والثاني: فصل الحكم بنفسه من غير استحلاف فيه. والثالث: سرعة القضاء وبت الحكم. وأما الاتفاق فهو إجماع المسلمين علي جواز الصلح وإباحته بالشرع. وإنما اختلف أصحابنا هل هو: رخصة لاستثنائه من جملة محظورة. أو هو: مندوب إليه لكونه أصلاً بذاته؟ علي وجهين: أحدهما: وهو ظاهر قول أبي إسحاق المروزي وأبي علي بن أبي هريرة انه رخصة لأنه فرع لأصول يعتبر بها في صحته وفساده وليس بأصل بذاته فصار لاعتباره بغير رخصة مستثناة من جملة محظورة. الثاني: واليه ذهب أبو الطيب بن سلمه أنه مندوب إليه لكونه أصلاً بذاته قد جاء الشرع به وجرى العمل عليه وقد أشار إلي القول به أبو حامد. فصل فأما قوله الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً فقد اختلف أصحابنا فيه. هل هو عام أو محمل علي وجهين: أحدهما: أنه محمل وهو قول من جعله معتبراً بغيره ولم يجعله أصلاً بذاته. والثاني: أنه عام وهذا قول من جعله أصلا بذاته. فأما الصلح الذي يحرم الحلال فهو: أن يصالحه علي دار علي أن لا يسكنها، أو يصالح زوجته علي أن لا يتزوج عليها، أو علي أن لا يطلقها فيحرم علي نفسه بالصلح ما أحله الله تعالي له من السكني والنكاح والطلاق. وأما الصلح الذي يحل الحرام فهو: أن يصالحه من الدراهم علي أكثر منها، أو علي دنانير مؤجلة أو علي خمر أو خنزير. فيستحل بالصلح ما حرم عليه من الربا والخمر والخنزير.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه:"فما جاز في البيع جاز في الصلح وما بطل فيه بطل في الصلح". قال في الحاوي: وهذا صحيح وجملة الصلح ضربان: معاوضة، وحطيطة. فأما المعاوضة: فهو أن يصالح علي حقه من غير جنسه، مثل ان يصالح علي دراهم بدنانير أو دنانير بدراهم، فهذا بيع يجرى عليه حكم فإن كان مما يدخله الربا كالصلح علي الدراهم بالدنانير أو علي البر بالشعير لزم فيه القبض قبل الافتراق ودخله خيار المجلس دون خيار الشرط. وإن كان مما ربا فيه جاز فيه الافتراق قبل القبض وثبت فيه خيار المجلس وخيار الثلاث. وصح فيه دخول الأجل وأخذ الرهن فيه فيعتبر في صحته وفساده ما يعتبر في صحة البيع وفساده وهو الذي بدأ به الشافعي. وأما الحطيطة فهو أن يصالحه من حقه علي بعضه وذلك ضربان: أحدهما: أن يكون الحق في الذمة. والثاني: أن يكون عينا قائمة. فإن كان الحق في الذمة فصورته: أن يدعي عليه مائة دينار فيتعرف بها فيصالحه منها علي خمسين ديناراً فهذا يكون إبراء. فإن حط الباقي بعد الخمسين بالفظ الإبراء فقال قد صالحتك علي خمسين ديناراً وأبرأتك من الباقي صح. إلا أن يخرج الإبراء مخرج الشرط فيقول: إن أعطيتني خمسين ديناراً فقد أبرأتك من الباقي. أو يقول قد أبرأتك من خمسين ديناراً إن دفعت إلي خمسين ديناراً فلا يصح هذا لإبراء. وكذلك لو قال إن أقررت لي بحقي فقد أبرأتك من خمسين ديناراً فأقر لم يبرأ من شيء لأن تعليق البراءة بشرط لا يصح. فإن حط الباقي بغير لفظ الإبراء فقال: قد صالحتك من المائة علي خمسين ففيه وجهان: احدهما: وهو قياس قول أبي إسحاق المروزي لا يصح. والثاني: وهو قياس قول أبي الطيب بن سلمه يصح. وتوجيه هذين القولين مبني علي ما نذكره عنهما فيما بعد. وإن كان الحق عيناً قائمة فصورته: أن يدعي داراً في يد رجل فيعترف له بها ويصالحه منها علي نصفها فهذا يكون هبة. فإن فعل ذلك بالفظ الهبة فقال بعد أن أقر له بالدار قد وهبت لك نصفها صح. واعتبر فيها ما يعتبر في صحة الهبة من القبول ومرور زمان القبض. وهل يحتاج إلي إذنه

في القبض؟ علي قولين: وإن لم يذكره بلفظ الهبة بل قال: صالحتك من هذه الدار علي نصفها ففيه وجهان: أحدهما: وهو نص قول أبي إسحاق المروزي أنه لا يجوز لأنه مالك لجميع الدار فلم يجز أن يصالحه علي بعضها كما لا يجوز فيما نص عليه الشافعي أن يصالحه علي سكناها. الثاني: وهو قول أبي الطيب بن سلمة انه يجوز لأنه لما جاز أن يصالحه علي ما في الذمة علي بعضه جاز أن يصالحه عن الأعيان علي بعضها. ومن هذين يخرج الوجهان الأولان وكل ذلك بناء علي اختلاف المذهبين في الصلح هل هو فرع لغيره أو أصل بذاته. مسألته: قال الشافعي رضي الله عنه:"فإن صالح رجل أخاه من مورثه فإن عرفا ما صالحه عليه بشيء يجوز في البيع جاز" قال في الحاوي: وهذا صحيح. ومقصود الشافعي بها تفسير قوله فما جاز في البيع جاز في الصلح وما بطل فيه بطل في الصلح، فذا ورث أخوان تركه صالح أحدهما الآخر علي مال من حقه لتصير له التركة كلها بإرثه وصلحه فهذا في حكم البيع لأنه يصير مشترياً من أخيه نصيبه من الميراث فيصح بثلاثة شروط يعتبر بها صحة البيع: أحدها: معرفة التركة بالمشاهدة لها والإحاطة بها. الثاني: معرفة قدر ما يستحقه المصالح بالإرث منها. والثالث: كون العوض معلوماً تنتفي الجهالة عنه. فإن لم يشاهد التركة أو جهلا حصة المصالح أو قدر العوض بطل الصلح. مسألة: قال الشافعي رضي الله عن:"ولو ادعي رجل علي رجل حقا فصالحه من دعواه وهو منكر فالصلح باطل ويرجع المدعي علي دعواه ويأخذ منه صاحبه ما أعطاه". قال الماوردي: وهذا كما قال بالصلح علي الإنكار باطل حتى يصالح بعد الإقرار بالدعوي. وقال أبو حنيفة ومالك يجوز الصلح مع الإنكار استدلالاً بعموم قوله تعالي: {والصُّلْحُ خَيْرٌ} [السناء:128] ولما روي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال:"كل ما وقي المرء به عرضه فهو صدقة". والصدقة تستحب لباذلها وتحل لآخذها فهكذا الصلح. ولأنه بذل مالاً في الصلح مختاراً فصح كالمقر به. ولأنه مدع لم يعلم كذبة فصح صلحه كالمقر له.

ولأن اختلاف الأسامي يوجب اختلاف المعاني، فلما اختص الصلح باسم غير البيع وجب أن يكون مخالفاً لحكم البيع ولو كان لا يجوز إلا بعد الإقرار لكان بيعاً محضاً ولم يكن لاختصاصه باسم الصلح معني ولأن الاعتبار في الأصول بالآخذ دون الباذل. ألا تري أن شاهداً لو شهد علي رجل بعتق عبده فرت شهادته ثم ابتاعه الشاهد منه حل له أخذ ثمنه لاعتقاد إحلاله. وإن كان الباذل معتقداً لتحريمه فكذلك الصلح يحل للأخذ وإن كان الباذل منكراً. ولأن في المنع من الصلح مع الإنكار منعاً من الصلح بكل حال لأنه يبعد الصلح مع الإقرار فلم يبق له محل إلا مع الإنكار. ودليلنا قوله تعالي: {ولا تَاكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} [البقرة:188] والصلح علي الإنكار من أكل المال بالباطل. لأنه لم يثبت له حق يجوز ان يعارض عليه. وما روي عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال" الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحا أحل حراماً أو حرم حلالا". والصلح علي الإنكار محرم للحلال ومحل للحرام لأنه يحل المعاوضة علي غير حق ثابت وذلك حرام. ويحرم علي المدعي باقي حقه وذلك حلال. ولأن صلح علي مجرد الدعوى فوجب ان يكون باطلاً كما لو ادعي قتل عمد فصولح عليه مع الإنكار. ولأنه اعتاش عن حق لم يثبت له فوجبت ان لا يملك عوضه. أصله إذا ادعي وصية فصولح بما. ولأنه صالح من لم يعلم صدقه فوجب أن لا يصح كما لو علم كذبه. ولأنه نوع معاوضة لا يصلح مع الجهالة فوجب أن لا يصح مع الإنكار كالبيع. ولأن الصلح لما لم يجز علي مجهول ألوف فأولي ان لا يجوز علي مجهول العين. ولأن المبذول بالصلح لا يخلو من أربعة أحوال: إما أن يكون مبذولاً لكف الأذى. أو يكون مبذولاً لقطع الدعوى. أو يكون مبذولاً للإعفاء من اليمين. أو يكون مبذولاً للمعاوضة. فلم يجز أن يكون مبذولاً لدفع الأذى لأنه من أكل المال بالباطل. ولم يجز أن يكون لقطع الدعوى لما فيه من اعتبار ما يمنع من الربا وهو: إذا كان الحق ألفاً لم يجز أن يصالحه علي أكثر منها. ولو كان دراهم صولح عليهم بدنانير لم يجز أن يفارقه قبل قبضها ولو كان لقطع الدعوى لجاز الافتراق. ولم يجز أن يكون للإعفاء من اليمين لما ذكرنا من الأمرين فثبت انه مبذول للمعاوضة.

والمعاوضة تصح مع الإقرار وتبطل مع الإنكار، لأن ما لم يجب من الحقوق لم يجز المعاوضة عليه. فأما الجواب عن استدلالهم بالآية فهو أنها مخصوصة بما ذكرنا من الدلائل. وأما الجواب عن استدلالهم بقوله عليه السلام"كل مال وقي المرء به عرضه فهو صدقة" فهو أن يكون المقصود به البر لأن المال لا يخلو المقصود به من ثلاثة أحوال: إما أن يقصد به القربة وهو الصدقة. أو الصلة وهو الهبة. أو المعاوضة وهو البيع. وليس مال الصلح مقصوداً به البر ولا الصلة فثبت أن المقصود به المعاوضة والخبر لا يتناول المعاوضة فلم يكن فيه دلالة. وأما الجواب عن قياسهم علي المقر فهو أن المعني في المقر أن العوض مأخوذ عما ثبت له فصح. وفي المنكر عما لم يثبت له فلم يصح. فأما الجواب عن استدلالهم بأن اختلاف الاسامي يوجب اختلاف المعاني فاقتضي ان يكون الصلح مخالفاً للبيع. فهو أن البيع مخالف للصلح من وجهين: أحدهما: أن الصلح في الغالب يكون بعد التنازع والمخاصمة والبيع بخلافه. والثاني: أن المقصود بالصلح الإرفاق وبالبيع المعاوضة. فكان افتراقهما من هذين الوجهين لا من حيث ما ذكر من الإقرار والإنكار. وأما الجواب عن استدلالهم بأن الاعتبار بالآخذ دون البازل كالشاهد فهو أنه ليس بصحيح. والشاهد إنما كان له ابتياع من شهد بعتقه لأنه كان محكوماً برقه لبايعه. وإن قصد مشتريه استنفاذه من رقه كما أن قصد من اشتري عبداً مسلماً من كافر استنفاذه من أسره. وأما الجواب عن استلالهم بأن المنع من الصلح من الإنكار يفضي إلي المنع من الصلح بكل حال فغلظ؛ لأن المقر له قد يصالح أيضاً إما لكون المقر غاصباً بيده وإما لكونه مماطلاً بحقه ويرى أن يتعجل قبض البعض بالصلح ولا يمنع من الكل بالغضب أو المطل. فصل فإذا ثبت أن الصلح مع الإنكار لا يجوز فلو صالحه مع إنكاره كان الصلح باطلاً ولزم رد العوض ولم يقع الإبراء حتى لو صالحه من ألف درهم قد أنكرها علي خمسمائة درهم وأبرأه من الباقي لزمه في الحكم رد ما قبض ولم يبرأ مما بقي حتى لو أقام بالألف بينه عادلة كان له استيفاء جميعها، وإنما كان كذلك لأن ما قبضه بالصلح الفاسد لا يملكه كالمقبوض بالبيع الفاسد. والإبراء كان مقروناً بملك ما صالح به فلما

لزمه رده لعدم ملكه بطل إبراؤه لعدم صفته، وكمن باع عبداً بيعاً فاسداً فأذن لمشتريه في عتقه فاعتقه المشترى بإذنه لم يعتق، لأن إذنه إنما كان مضموناً بملك العوض فلما لم يملكه بالعقد الفاسد لم يعتق عليه بالإذن، فإن قيل: افيسع صاحب الحق أن يأخذ ما بذل له بالصلح مع الإنكار إذا كان محقاً قيل بسعة ذلك ويجوز فيما بينه وبين الله تعالي فأما في ظاهر الحكم فيجب عليه رده. فصل فلو ادعى عليه ألفا فأنكره قم أبرأه منها قبل ثبوتها عليه بينة أو إقرار برئ منها لأن الإبراء إذا لم يكن عن عقد صلح كان مطلقاً فصح وإذا كان عن عقد صلح كان مقيداً بصحته فبطل ببطلانه ولكن لو لم يبرئه منها بلفظ الإبراء وقال قد حططتها عنك ففيه وجهان لأصحابنا: أحدهما: أنه قد سقطت المطالبة بها وبرئ منها؛ لأن الحطيطة أحد ألفاظ الإبراء. والثاني: أن المطالبة باقية ولا يبرأ من شيء لأن الحطيطة إسقاط وإسقاط الشيء إنما يصح بعد لزومه. فصل فلو ادعى عليه ألفا اقر بها ثم صالحه منها علي خمسمائة وأبرأه من الباقي فكان ما صالحه عليه من الخمسمائة مستحقاً فالصلح صحيح والإبراء لازم. ويرجع علي المقر ببذل ما استحق من يده وإنما كان كذلك لان ما في الذمم من الحقوق إذا أخذ به مال معين لم يتعين فيه إلا بأحد أمرين: إما الاستقرار بالقبض باستقرار الملك. وإما لتعيينه بعقد لازم. وهذا النوع من الصلح هو إبراء وليس بعقد من عقود المعوضات اللازمة. فغلب حكم الإبراء في صحة الصلح ولم يغلب حكم المعاوضة في إبطال الصلح. فصل إذا أقر المدعي عليه بالحق ثم أنكر جاز الصلح، وإن أنكر فصولح ثم أقر كان الصلح باطلاً. لأن الإقرار المتقدم لا يبطل بالإنكار الحادث فصح الصلح إذا أنكر بعد إقراره لوجوده بعد لزوم الحق. ولم يصح الصلح إذا كان عقيب إنكاره وقبل إقراره لوجوده قبل لزوم الحق. فصل فلو أنكر الحق فقامت عليه بينه عادلة جاز الصلح عليه للزوم الحق بالبينة كلزومه بالإقرار. فلو كان المدعي عليه علي إنكاره فقال صالحني عليه لم يكن ذلك إقراراً فلا يصح

الصلح معه. ولو قال ملكني ذلك كان إقراراً يصح الصلح معه. والفرق بينهما: أن قوله صالحني يحتمل أن يكون أراد به قطع الخصومة وكف الأذى فلم يضره مقراً وقوله ملكني لا يحتمل فصار به مقراً والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه:"ولو صالح عنه رجل يقر عنه بشئ جاز الصلح وليس للذي أعطي عنه أن يرجع عليه لأنه تطوع به" قال في الحاوي: وصورتها ما شرحه الشافعي في "الأم"أن يريد الرجلات الصلح ويكره المدعي عليه الإقرار. قال الشافعي رحمه الله: فلا بأس أن يقر رجل عن المدعي عليه ثم يؤدي إلي المدعي ما يتفقاه عليه فيكون صحيحاً وهذا علي ضربين: أحدهما: أن تكون الدعوى حقا في الذمة. والثاني: أن تكون عيناً قائمة. فإن كانت الدعوي حقاً في الذمة جاز أن يصالح أجنبياً عنه بعد الإقرار عنه سواء أذن له في الصلح عنه أو لم يأذن. لأن هذا الصلح إنما يوجب إسقاط الدين والبراء منه وذلك لا يفتقر إلي إذن من عليه الدين إلا تراه لو قضى الدين عنه بغير إذنه صح فكذلك إذا صالح عنه بغير إذنه صح. وإذا كان كذلك فمن شرط هذا الصلح أن يقر عنه الأجنبي بالحق فيقول حقك ثابت علي فلان فصالحني عنه. وهل يحتاج أن يقول وقد أقر عنه به؟ علي وجهين: أحدهما: أنه يحتاج ان يقول حقك ثابت علي فلان وقد اقر عندي به ليصح أن يكون عالماً بثبوت الحق عليه. الثاني: لا يحتاج إلي ذلك لأنه قد يعلم بذلك عن إقراره تارة وبغير إقراره أخرى. فإذا أقر فصالح عنه صح الصلح ولزم المصلح عن غيره دفع ما اتفقا علي الصلح به وبرئ المدعي عليه من المدعي ولم يكن للمصالح أن يرجع عليه بما صالح به ما لم يأذن له فيه لأن تطوع بالغرم عنه كما لو تطوع بقضاء دينه. فأما إذا أذن له في الصلح عنه فهذا علي ضربين: أحدهما: أن يأذن له في الصلح عنه دون الأداء فيقول صالح عني فلا رجوع له بما أداه في الصلح لأنه غير مأذون له في الأداء فصار متطوعاً. الثاني: أن يأذن له في الأداء فينظر في إذنه بالأداء فإن قال له صالح وأدى لترجع علي فله الرجوع عليه وإن قال أد ولم يصرح بالرجوع ففي رجوعه وجهان:

أحدهما: يرجع عليه لإذنه فيه. والثاني: لا يرجع عليه لأن أمره بالأداء يحتمل أن يكون لمعني التطوع به ويحتمل أن يكون لمعني الرجوع عليه فلم يكن الإذن صريحاً في الرجوع به. فصل وإن كانت الدعوى عيناً قائمة فلا يخلو حال المصالح عنها من أحد أمرين: إما أن يصالح عنها لنفسه. أو يصالح عنها للمدعي عليه. فإن صالح عنها للمدعي عليه فلا يخلو أما أن يصالح عنه بإذنه أو بغير إذنه فإن صالح عنه بإذنه جاز وهل يحتاج للوكيل في الصلح إلي الإقرار بها عنده؟ علي وجهين: احدهما: لا يصح الصلح عنه بمجرد إذنه للوكيل حتى يقر بها عنده للمدعي ثم يقر الوكيل بذلك عند المدعي عند صلحه. الثاني: وهو أصح ان الصلح يصح بإذنه للوكيل ولا يحتاج إلي إقراره عند الوكيل لأنه وكليه في الصلح نائب عنه، فإقراره عنده كإقراره عند نفسه. وإنما يقر الوكيل عنه علي ما ذكرنا من قبل، ويزيد فيه أن فلاناً وكلني في الصلح عنه. فإن لم يذكر ذلك فهو علي ما نذكره من اختلاف الوجهين هل يكون إذنه شرطاً في صحة الصلح أم لا؟ فأما إذا صلح عنه بغير إذنه ففيه لا صحابنا وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج وأبي علي الطبري وأبي حامد، أن الصلح جائز لأنه لما جاز أن يصالح عما في الذمة بغير إذنه جاز أن يصالح عن العين القائمة بغير إذنه. الثاني: وهو قول أبي الطيب بن سلمة وأبو سعيد الاصطخرى أن الصلح باطل ما لم يكن من المدعي عليه إذن فيه؛ لأن في هذا النوع من الصلح تمليك عين فلم يصح بغير إذن من تملكها كمن اشترى لغيره شيئاً بغيره أمره. وبهذا المعني فارق ما في الذمة لان طريقه الإبراء ويصح من الإنسان أن يبرئ غيره بغير أمره وإذنه. فصل فأما إذا صالح عنها لنفسه فهذا في حكم من اشتري شيئاً مغصوبا فيحتاج أن يعترف للمدعي بالملك ويقر بأنه قادر علي انتزاع ذلك من يد المدعي عليه فيصح هذا ويكن بيعاً محضاً، فإن انتزع ذلك من يده برئ المدعي من ضمان العقد، وإن عاد فذكر أنه ليس يقدر علي انتزاعها من يده، فالقول قول مع يمينه إذا كذبه المدعي وله الرجوع بالعوض الذي بذله. فصل إذا أوقف رجل داراً بيده ثم ادعاها مدع فأقر له بها كان إقراره مردوداً لخروجها عن

حكم ملكه بالوقف، وهكذا لو صدقه الذين وقفت الدار عليهم لم يبطل الوقف لما تعلق به من حقوق غيرهم من البطن الثاني أو الفقراء لكن لا حق لمن صدق منهم في الوقف. ويكون ذلك لغيرهم ممن لم يصدق. ويصح بهذا الإقرار وإن لم يبطل به الوقف إن يصالح المدعي المقر له فلو ان رجلاً جعل داراً في يده مسجداً وخلفها وأذن للناس فيها بالصلاة من غير أن يتلفظ بتسبيلها لم تصر سبله بهذا القدر. وقال بعض العراقيين: متى خلفها وجعلها برسم المساجد خرجت من ملكه. وقال آخرون: إذا صلي فيها المسلمون خرجت من ملكه وكل هذا خطأ؛ لأنه إزالة الأملاك لا تكون إلا بالقول كالعتق والوقف والطلاق. فلو فعل ما ذكرنا فادعاها مدع فأقر له بها لزمه إقراره ولو صالحه عليها صح صلحه، فلو سبلها مسجداً ثم أقر بها لغيره لم يبطل التسبيل ولزمه غرم قيمتها لمن أقر له بها فلو صالحه علي ذلك صح صلحه. ولو صالحه أهل المحلة وجيران المسجد جاز ولم يكن لهم أن يرجعوا علي المسبل بشيء ما لم يأمرهم بالصلح عنه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو أشرع جناحاً علي طريق نافذة فصالحه السلطان أو رجل علي ذلك لم يجز ونظر فإن كان لا يضر ترك وإن ضر قطع"؟ قال في الحاوي: صورة هذه المسألة في رجل أشرع من داره جناحاً أو ساباطاً علي طريق فلا يخلو حال الطريق من أحد أمرين: إما أن تكون نافذة أو غير نافذة. فإن كانت نافذة فلا يخلو حال الجناح من أن يكون مضراً بالمارة أو غير مضر. فإن كان الجناح الخارج غير مضر بالمارة والمجتازين ترك علي حالة. ولم يكن لأحد من المسلمين ان يعترض عليه فيه. لما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه انه مر بدار العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه فقطر عليه من ميزابه ماء فأمر بقلعه فخرج إليه العباس رضي الله عنه وقالت ميزاباً نصبه رسول الله صلي الله عليه وسلم بيده فقال عمر: والله لا يعاد إلا علي ظهري فركب العباس ظهره وأعاد الميزاب في موضعه". ولأنه لم يزل الناس قديما يفعلونه ورسوله الله صلي الله عليه وسلم ومن بعده من خلفائه يشاهدونه فلا ينكرونه فدل علي انه شرع مستقر وإجماع منعقد. ولأنه لما جاز للناس الارتفاق بالطرق والمقاعد منها جاز لهم الارتفاق بهوائها. فإن قيل أليس الإنسان ممنوع من وضع سارية في الطريق وبناء دكه وإن كان ذلك مرفقاً والعمل به جارياً فكذلك الجناح. قيل السارية والدكة مضر بالناس لما فيه من تضايق الطريق عليهم.

ولأنهم ربما ازدحموا فأضربهم أو سقط عليه ضرير لا يبصر فتأذى وليس كذلك الجناح في الهواء، فأما إن كان الجناح مضراً بالمارة والمجتازين قلع، ولم يقر، وأمر الإمام بهدمه وإن لم يختصم الناس إليه فيه. وقال أبو حنيفة: إن خوصم فيه إلي الإمام قلعة، وإن لم يخاصم تركه لأن الإمام حاكم وليس بخصم، والحاكم لا يحكم ألا لطالب وهذا الذي قاله خطأ لأمرين: أحدهما: أن الإمام مندوب لإزالة المنكر والنيابة عن كافة المسلمين في أبواب المصالح فوجب ان ينفرد بإزالة المنكر. والثاني: أن ما يجوز إقراره لا يفتقر إلي الرضا به في الترك وكذا ما لايجوز إقراره لا يفتقر إلي إنكاره في القلع. وليس هذا من طريق الحكم فلا يحكم إلا لخصم لأن الخصم فيه لا يتعين فإنما كافة الناس فيه شرع واحد. فإذا وجب قلعة فبذل صاحبه مالاً صلحاً علي تركه لم يجز لأمرين: أحدهما: أنه صلح علي إقرار منكر. والثاني: أنه صلح علي الهوى. فأما حد ما يضر مما لا يضر فمعتبر بالعرف والعادة ومختلف باختلاف البلاد. وقال أبو عبيد بن حربوية من أصحابنا: حد الضرر أن لا يمكن الفارس ان يختار تحته برمح قائم وحكي نحوه عن شريح. وهذا التحديد ليس بصحيح لأن الرماح مختلفة في الطول والقصر. ولأن هذا يؤدي الي أن لا يخرج أحد جناحاً لأن الرمح قد يعلو علي المنازل في أكثر البلاد. ولأنه لا مضرة علي صاحب الرمح في الاجتياز برمحه مائلاً. وإذا كان كذلك وجب أن يعتبر ذلك بحسب البلاد. فإن كان البلد قد تجتاز في طرقه الجمال التي عليها الكبائس والعماريات وذلك علي ما يجتاز في الطرقات فحد الإضرار أن لايمكن اجتياز الكبائس والعماريات تحته وإن أمكن اجتيازها بمضر. فإن كان البلد مما لم يجر عادة الكبائس والعماريات أن تجتاز به وجرت عادة الجمال المحملة أن تجتاز فيه فحد الإضرار فيها أن لا يمكن اجتياز الجمال المحملة تحته. وإن أمكن فليس بمضر. وإن لم تجر عادة البلد باجتياز الفرسان فيه فحد الإضرار فيه أن لا يمكن اجتياز الرجل التام إذا كان علي رأسه حمولة مستعلية فإذا ثبت ما وصفنا فحد الإضرار معتبر بما ذكرنا.

فصل فإن كانت الطريق غير نافذة فليس له إخراج الجناح فيها إلا بإذن جميع أهلها سواء كان الجناح مضراً أو غير مصر. لأن الطريق التي لا تنفذ مملوكة بين جميع أهلها وليس لأحدهم ان يتصرف فيها إلا بحق الاجتياز، فلم يجز ان يتعدى إلي إخراج كالأرض المشتركة أو الطريق المستحقة. فإن صالح أهل الطريق علي مال في إقرار الجناح لم يجز لأنه صلح علي الهوى. إلا ان يتصل بالعرضة كبناء بعضه في عرضة الطريق ثم يرفعه فيجوز. ويكون ذلك بيعاً منهم بقدر حقوقهم من العرضة التي حصل فيها البناء فلو أذنوا جميعاً له في إخراج الجناح جاز مضراً كان أو غير مضر. لأنه حق قد تعين لهم لا يشركهم فيه غيرهم وليس كالطريق النافذة التي يشترك فيها الكافة فلو رجعوا بعد إذنهم، فان كان رجوعهم بعد إخراج الجناح لم يكن لرجوعهم تأثير وكان له إقرار الجناح ما بقي. وإن كان قبل إخراجه بطل ما تقدم من الإذن فكان إخراج الجناح كمن أخرج بغير إذن وكذا لو رجع أحدهم مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه:"ولو أن رجلين ادعيا داراً في يدي رجل فقالا ورثناها عن أبينا فأقر لأحدهما بنصفها فصالحه من ذلك الذي أقر له به علي شئ كان لأخيه ان يدخل معه فيه (قال المزني):قالت أنا: ينبغي في قياس قوله أن يبطل الصلح أقرب في حق أخيه لأنه صار لأخيه بإقراره قبل أن يصالح عليه إلا ان يكون صالح بأمره فيجوز عليه" قال في الحاوي: وصورتها في أخوين ادعيا داراً في يد رجل ميراثاً عن أبيهما أو نسباً ذلك إلي جهة يستويان فيها غير الميراث كقولها ابتعناها من زيد أو استو هبناها من عمرو فيكون حكم هذا وحكم الميراث سواء لأنهما نسبا ذلك إلي جهة واحدة يستويان فيها. وإذا كان كذلك فلصاحب اليد ثلاثة أحوال: أحدها: أن يصدقهما ويقر لهما فيلزمه بإقراره تسليم الدار إليهما. والحال الثانية: أن يكذبهما وينكرهما فالقول قوله مع يمينه ما لم يكن للأخوين بينه. فإن نكل عن اليمين ردت علي الأخوين فإن حلفا كانت الدار بينهما نصفين، وإن نكلا أقرت الدار في يد المدعي عليه. وإن حلف أحدهما ونكل الآخر كان نصف الدار للحالف بيمينه لا يشاركه أخوه في شئ منها والنصف الآخر مقر في يد (المدعى) عليه.

والحالة الثالثة: أن يصدق أحدهما علي نصفها ويكذب الآخر فعليه اليمين لمن أنكره وينزع النصف الذي أقر به فيكون بين المقر له وبين أخيه نصفين. وإنما كان كذلك لأنهما نسبا دعواهما إلي جهة يستوبان فيها ويشتركان فيما ملكاه بها وكان إنكاره النصف لأحدهما يجرى مجرى غصبه شيئاً من تركة أبيها. ولو غصب من تركة أبيهما قبل القسمة واحد من عبدين أو داراً كانت الدار الباقية والعبد الباقي بنيهما والمغصوب بينهما. فإن قيل أليس لو أنكرهما ونكل لفحل أحد الأخوين ونكل الآخرين كان النصف للحالف لا يشاركه فيه الناكل؟ قيل نعم والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن الناكل سقط حقه بنكوله إذ قد كان يمكن أن يصل إليه بيمينه وليس كذلك في الإقرار. والثاني: انه قد تقرر في الأصول ان احد لا يستحق بيمين غيره شيئاً وليس كذلك في الإقرار. فصل فإذا ثبت أن النصف المقر يكون بين الأخوين معاً فصالح الأخ المقر له بالنصف للمقر فهذا علي ضربين: أحدهما: أن يصالحه علي حقه وهو الربع فالصلح جائز والشفعة فيما صالح من الربع واجبه وفيها قولان: أحدهما: أنها تجب لأخيه المشارك في نصف الدار دون المقر. والثاني: أنها تجب لأخيه وللمقر الذي صولح. فلا يكون للأخ أن ينزع من المصالح إلا قدر حقه، وفي حقه قولان: أحدهما: انه بينهما نصفان والثاني: انه بينهما علي قدر الماليين أثلاثاً. وسنذكر توجيه القولين في كتاب الشفعة إن شاء الله. والضرب الثاني: أن يصالحه علي جميع النصف فهذا علي ضربين: أحدهما: ان يصالحه بإذن أخيه فالصلح في النصف كله جائز ويكون المال الذي وقع الصلح به بين الأخوين نصفين والثاني: أن يصالحه بغير إذن أخيه فيكون الصلح في حق أخيه وهو الربع باطلاً. وهل يبطل في حق نفسه أم لا قولين من تفريق الصفقة: أحدهما: يبطل. والثاني: لا يبطل. ويكون المصالح بالخيار بين فسخ الصلح واسترجاع العوض إلا أن يأذن الأخ إلى

أخذه بالشفعة وبين أن يقيم علي الصلح في حقه وبماذا يقيم عليه علي قولين: أحدهما: بجميع العوض وإلا فسخ. والثاني: وهو أصح يقيم عليه بحسابه وقسطه وهو النصف. فصل فأما الإمام المزني فإنه نقل كلاماً محتملاً وتأوله تأويلاً فاسداً ثم اعترض عليه بما لو صح تأويله لصح اعتراضه وهو أنه نقل عن الشافعي: إذ أقر لأحدهما بنصفه فصالحه من ذلك علي شيء كان لأخيه أن يدخل معه فيه فتأوله علي أن الشافعي أجاز صلحه في جميع النصف ثم جعل أخاه شريكاً له في مال الصلح، فاعترض عليه بأن قال: يجب أن يبطل الصلح في حق أخيه، وهذا وهم من المزني في تأويله، لأن مراد الشافعي بقوله كان لأخيه أن يدخل معه فيه: يعني في النصف من الدار لا في النصف من المال والجواب في الصلح علي ما شرحنا. والله اعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه:" ولو كانت المسألة بحالها وأدعي كل واحد منهما نصفها فأقر لأحدهما بالنصف وجحد للآخر لم يكن للآخر في ذلك حق وكان خصومته". قال في الحاوي: وهذا صحيح. إذا ادعي أخوان داراً في يد رجل ولم ينسباها إلي إنهما ملكاها بسبب واحد فأقر المدعى عليه لأحدهما بالنصف وأنكر الآخر فعليه اليمين لمن أنكره وينفرد المقر له بالنصف لا يشاركه الآخر فيه. لأنه لا تعلق لملك أحدهما بالآخر. وهكذا لو ادعياها ميراثاً مقبوضاً قد استقر ملكهما عليها بالقسمة والقبض فصدق احدهما علي النصف وأنكر الآخر تفرد المقر له بالنصف ولم يشاركه الآخر فيه. كما لو لم يضيفا ذلك إلي سبب واحد لأن الميراث إذا استقر ملكه بالقسمة والقبض لم يتعلق ملك أحدهما بالآخر. إلا تري لو اقتسما دارين واخذ كل واحد منهما إحدى الدارين ثم غصبت احدي الدارين من أحدهما انفرد الآخر بالباقية من غير أن يشاركه فيها أخوه. ولو غصبت قبل القسمة لشاركه فيها كذلك في الإقرار إذا صدق احدهما علي النصف قبل القسمة شاركه الآخر فيه. وإن صدقه بعد القسمة لم يشاركه الآخر فيه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه:" ولو كان أقر لأحدهما بجميع الدار فإن كان لم يقر للآخر بأن له النصف فله الكل وإن كان أقر بأن له النصف ولأخيه النصف كان لأخيه أن يرجع بالنصف عليه".

قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا ادعي الإخوان داراً في يد رجل فاعترف المدعي عليه لأحد الأخوين بجميع الدار وأنكر الذاخر فهذا علي ضربين: أحدهما: أن ينسبا تلك إلي جهة واحدة يستويان فيها فتكون الدار للأخوين معاً. والثاني: أن لا ينسباها إلي جهة يتساويان فيها فللمقر له حالان: حال يقبل الإقرار بجمعيها، وحال لا يقبل. فإن لم يقبل الإقرار بجميعها كان له النصف الذي ادعاه. فإما لنصف الآخر الذي أقر له به ولم يقبله ففيه لأصحابنا ثلاثة أوجه: أحدهما: أن يكون مقراً في يد المدعي عليه ويكون المكذب خصماً له فيه لأنه لم يستحق أخذه مع أن يده عليه. والوجه الثاني: انه ينزع النصف من يده ويوضع علي يد حاكم حتى إذا ثبت عنده مستحقه سلمه إليه لأن إقراره أوجب رفع يده. والثالث: أنه يدفع إلي مدعيه لأنه خصم له فيه. وإن قبل مدعي النصف الإقرار بالكل انتزع الكل من المدعي عليه ثم نظر فإن كان المقر له قد حفظ عليه تصديق أخيه في ادعائه النصف أما قبل الإقرار له أو بعده لزمه تسليم النصف إلي أخيه. بما تقدم من إقراره؛ لأن إقراره علي غيره لا يلزم فإذا صار القبض إلي يده لزمه. ألا تري أن رجلاً لو أقر أن الدار التي في يد فلان مغصوبة من فلان لم يلزمه إقراراه فلو صارت الدار إليه ببيع أو هبة أو ميراث لزمه إقراراه ووجب عليه تسليم الدار إلي من اقر بغصبها منه فأما إن لم يكن مدعي النصف صدق أخاه في دعواه فله أن ينفرد بجميع الدار ولا حق فيها لأخيه إلا أن يستأنف الدعوي عليه فيصير خصماً له فيها. فإن قيل: فهو إنما ادعي النصف فكيف يجوز أن يدفع إليه الكل ويزاد علي ما ادعاه قيل قد اختلفت أصحابنا. فكان بعضهم لأجر هذا السؤال يقول: إن المسألة مقصورة علي أنه ادعي نصفها ملكاً وباقيها يدا. فإذا أقر له بالجميع دفع إليه بدعوى الملك واليد ولم لم يدع هذا لم يدفع إليه إلا النصف. وقال جمهور أصحابنا: بل يدفع إلي جميعها وإن لم يدع سابقاً إلا نصفها لأنه ليس بمنكر ان يكون له جميع الدار فيدع نصفها لأمور: منها: أن يكون نصفها مصدق عليه فلم يدعيه ونصفها منازع فيه فادعاه. ومنها: أن يكون له بنصفها بينه حاضرة وبنصفها بينه غائبة فيدعي نصفها لتشهد به البينة الحاضرة ويؤخر الدعوى في النصف الآخر إلي أن تحضر البينة الغائبة. ومنها: أن يدعى ما لا منازعة له فيه استثقالاً للخصومة وهي تأخير النزاع. فلهذه الأمور صح إذا ادعي النصف أن يدفع إليه الجميع.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن صالحه علي دار أقر له بها بعبد قبضه فاستحق العبد رجع إلي الدار فأخذها منه" قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا ادعي عليه داراً في يده فأقر بها ثم صالحه منها علي عبد فاستحق العبد فذلك ضربان: أحدهما: أن يكون العبد معيناً فالصلح باطل كما لو ابتاع داراً بعبد فاستحق العبد. وله أن يرجع بالدار كما يرجع به البائع. إلا أن يستأنف صلحاً ثانياً وكذا لو كان البعد مرهوناً أو مكاتباً أو مات قبل قبضه. ولا يبطل الصلح لو كان مدبراً أو موصى بعتقه أو معتقاً بصفة. الثاني: أن يكون العبد غير معين موصوف في الذمة، فالصلح لا يبطل باستحقاقه وعليه أن يأتي بعبد علي مثل صفته كما لو استحق العبد المقبوض في المسلم. ولو كان العبد معيناً فقتل قبل قبضه ففي بطلان الصلح بقتله قولان ذكرناهما في البيوع. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه:" ولو صالحه علي ان يسكنها الذي هي في يديه وقتاً فهي عارية إن شاء أخرجه منها" قال في الحاوي: وهذا صحيح: إذا ادعي عليه داراً فاعترف بها ثم صالحه علي أن يكسنها المقر سنة كان الصلح باطلاً. لأن الصلح إنما يصح إذا عاوض علي ما يملك بما لا يملك. وهذا قد عاوض علي ملكه بملكه لأن من ملك داراً ملك سكناها. فإن قيل أفليس لو صالحه علي نصفها جاز، قيل قد ذكرنا فيه وجهين: أحدهما: لا يجوز للعلة التي ذكرناها. والثاني: يجوز. والفرق بينهما أن الصلح عن النصف هبة. والهبة لازمه فصار الصلح بها لازماً والصلح علي السكني عارية والعارية غير لازمه فصار الصلح بها غير لازم، فإذا ثبت أن هذا الصلح باطل فالمالك الدار أن يسكنه إياها إن شاء وله أن يخرجه منها متى شاء كالدار العارية ولا أجرة عليه. فلو جعل الصلح علي السكني شرطاً في إقراره فقال قد أقررت لك بهذه الدار علي أن أسكنها سنة بطل اشترط السكني والصلح عليه. فأما الإقرار فقد اختلف أصحابنا فيه: فذهب أبو علي بن خيران إلي بطلانه لكونه إقراراً مقيداً بشرط. وذهب سائر أصحابنا إلي صحة الإقرار ولزومه لأنه إقرار بشرط في عارية.

مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " أو صالحه منها علي خدمة عبد بعينه سنة فباعه المولي كان للمشتري الخيار في أن يجيز البيع وتكون الخدمة علي العبد للمصالح أو يرد البيع".قال في الحاوي: وهذا كما قال. إذا صالح المقر بالدار علي خدمة عبد معين سنة جاز الصلح. لأن المقر عاوض علي الدار بما ملكه من خدمة العبد. وصار المقر له بالدار مستأجراً للعبد سنة بالدار التي قد ملكها بالإقرار فلو باع المولي عبده قبل مضي السنة كان الصلح علي حاله وفي البيع قولان: - أحدهما: باطل لأن تسليمه غير مستحق كالبيع بشرط تأخير القبض. والثاني: وهو أصح أن البيع جائز لان استحقاق المنفعة لا يمنع بيع الرقبة كالأمة المزوجة. فعلي هذا أن كان المشترى عالماً بالحال فلا خيار له وإن كان جاهلاً بها فله الخيار بين الفسخ والمقام. ويمكن المصالح منه ألي انقضا مدة الخدمة. ولا رجوع له علي البائع بشئ من أجرتها، لأنها مستحقة قبل عقده. أما إذا ابتاعه المصالح فالبيع جائز قولاً واحداً. إلا أن في قبضه وانفساخ الإجارة وجهان: أحدهما: لا تنفسخ كما لو باعه علي غيره فعلي هذا الصلح علي حاله. والثاني: أنها قد انفسخت كما لو تزوج أمته ثم ابتاعها بطل النكاح المتقدم بالبيع الطارئ. كذا تبطل الإجارة السالفة بالبيع الحادث فعلي هذا قد بطل الصلح وملك العبد بالبيع. فصل فأما إذا اعتق السيد عبده الذي صالح بخدمته فعتقه نافذ لأنه صادف ملكاً تاماً فلم يمنع استحقاق المنفعة كعتق الأمة المزوجة، وعلي العبد المعتق خدمة المصالح باقي السنة، وهل له ان يرجع علي سيده الذي اعتقه بأجرة الخدمة بعد عتقه علي قولي: أحدهما: يرجع عليه بأجرته فيما بقي من المدة بعد عقته أن نفوذ عتقه يمنع من استحقاق منافعه فصار كالأخذ لها بغير حق فضمن كالغاضب. والقول الثاني: لا رجوع له بشئ لأن عتق السيد أزال ما كان مالكاً له وخدمة العبد، تلك السنة لم يكن السيد مالكاً لها فلم يتعلق حكم العتق بها ولم يستحق العبد رجوعاً بسببها كالأمة المزوجة إذا عتقت لم تستحق الرجوع علي سيدها بالمهر.

فصل فأما إذا كاتبه السيد فالكتابة باطلة لأنه لا يقدر علي التصرف لنفسه ولا علي تملك كسبه ولكن لو دبره صح التدبير. وكذلك لو اعتقه بصفة. فأما إذا أجره من غير المصالح فالإجارة باطلة لأن ما توجه إلي عقد الإجارة مستحق من قبل، وإن عقد علي ما بعد السنة فهو باطل، لأنه عقد علي عين بشرط تأخير القبض. إما إذا رهنه فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من أجرى الرهن مجرى البيع فعلي هذا يخرج علي قولين: ومنهم من أجرى ذلك مجرى الإجارة لنا في الحال متوجه إلي المنفعة، فعلي هذا يكون باطلاً قولاً واجداً فأما إذا وهبه ففيه قولان كالبيع سواء. مسألة" قال الشافعي رضي الله عنه " ولو مات العبد جاز من الصلح بقدر ما استخدم وبطل منه بقدر ما بقي" قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا مات العبد الذي صالحه علي الدار بخدمته سنة لم يخل حال موته من ثلاثة أحوال. أحدهما: أن يموت في الحال قبل مضي المدة أو شيء منها فالصلح قد بطل لتلف العوض فيه قبل قبضه كتلف الثمن المعين قبل القبض، وللمصالح أن يرجع بالدار كما يرجع البائع بالبيع. والثانية: أن يموت بعد مضى السنة كلها فالصلح قد تم وحكمه قد أنبرم وموت العبد غير مؤثر لاستيفاء المعقود عليه قبل موته. والثالثة: أن يموت بعد مضي بعض المدة وبقاء بعضها فالصلح قد بطل فيما بقي من المدة لفوات قبضه بالموت، وأما فيما مضي من المدة المستوفاة فهو علي اختلاف أصحابنا في الفساد في بعض الصفقة إذا طرأ بعد العقد هل يجرى مجرى الفساد المقارن للعقد. فذهب أبو إسحاق المرزوي انه يجرى مجرى الفساد المقارن للعقد، فجعل بطلان الصلح فيما مضي من المدة قولين من تفريق الصفقة. أحدهما: قد بطل الصلح فيما بقي ووجب علي المصالح أجره ما استخدم فيما مضى من المدة وله استرجاع الدار. والثاني: لا يبطل لكن يكون بالخيار بين الفسخ والمقام فإن فسخ رجع بالدار وغرم أجرة ما مضى من المدة، فإن أقام فعلي قولين: أحدهما: يقيم عليه بجميع الصلح.

والثاني: بحسابه وقسطه. وقال جمهور أصحابنا أن الفساد الحادث بعد العقد مخالف للفساد المقارن للعقد لسلامة الصفقة عند عقدها. فيكون الصلح فيما مضي من المدة جائراً قولاً واحداً. فعلي هذا. هل للمصالح خيار أم لا؟ علي وجهين أحدهما: لا خيار له لاستقرار قبضة وفوات رده. فعلي هذا يقيم علي ما مضي من المدة بحسابه من الصلح وقسطه ويرجع من الدار بقسط ما بقي من المدة والثاني: له الخيار لأنه عاوض علي مدة كاملة وصفقة سليمة فكان النقص فيها غبناً موجباً للخيار كالنقص في الأعيان. فعلي هذا يكون بالخيار بين أن يفسخ الصلح فيما مضى وبين ان يقيم. فإن فسخ فيما مضي غرم مثل أجره تلك المدة واسترجع الدار كلها. وإن أقام فعلي قولين أحدهما: يقيم علي ما مضي بجميع الصلح والثاني: بحسابه وقسطه. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه" وإذا تداعي رجلان جداراً بين دارنهما فإن كان متصلا ببناء احدهما اتصال البنيان الذي لا يحدث مثله إلا من أول البنيان جعلته له دون المنقطع منه وإن كان يحدث مثله بعد كمال بنيانه مثل نزع طوبة وإدخال أخرى أحلفتهما بالله وجعلته بينهما وإن كان غير موصول بواجد من بنائهما أو متصلا ببنائهما جمعياً جعلته بينهما بعد أن احلف كل واحد منهما" قال في الحاوي: وصورتها: في حائط بين دارين تنازعه المالكان وقال كل واحد منهما هو ولي جونك ولا بينه لو احد منهما علي دعواه. فلا يخلو حال الحائط من ثلاثة أقسام. إما أن يكون متصلا ببنائهما أو يكون منفصلاً عن بنائهما أو يكون متصلاً ببناء احدهما منفصلا عن بناء الآخر. فإن كان متصلا ببنائهما أو منفصلاً عن بنائهما فهما في الحكم سواء علي ما نذكره وإن كان متصلاً ببناء احدهما دون الآخر واتصاله هو أن يكون بناء احدهما قد اتصل ببينه الحائط علي ما لا يمكن إحداث مثله بعد كمال البناء فصارت حائطين احدهما المعارضة مسنده بالحائط المتنازع فيه سواء كان اتصال تربيع أم لا. وقال أبو حنفية: اتصال البناء ان يكون تربيع دار احدهما مسندة بالحائط المتنازع فيه ولا يكون اتصال بعض الحدود مؤثراً. وهذا خطأ، لأن اتصاله ببعض حدود الدار مما لا يمكن إحداثه بعد كمال البناء.

كما أن اتصاله بجميع الحدود تربيعاً لا يمكن إحداثه بعد كمال البناء فوجب أن يكون الحكم فيهما علي سواء. فأما أن كان علي الحائط لأحدهما أزج أو قبة نظر في الحائط فإن كان قد بني من أساسه متعرجاً علي ما جرت به عادة بعض القباب والازاج فهذا اتصال. لأن هذا التعريج لا يمكن إحداث مثله بعد كمال البناء. وإن لم يكن بناء الحائط متعرجا فالأزج المبني عليه والقبة لا يكون متصلاً بالحائط كله لأن إحداث مثل الازج والقبة علي الحائط بعد كمال البناء ممكن فصار كالاجذاع. لكن ما كان من اعلي الحائط خارجاً عن تعريج القبة والازج فهو لصاحبه القبة والازج، وما انحدر عنه من انتصاب الحائط في حكم المنفصل غير المتصل وأما إن كان الحائط المتنازع فيه ينتهي طولاً إلي أن يتجاوز ملك ولا يتجاوز ملك الآخر مثل أن يكون طول الحائط عشرين ذراعاً وعرصه احدهما عشرة اذرع وعرصة الآخر عشرون ذراعاً فيتنازعون من الحائط ما كان بين عرصتيهما معاً دون القدر المجاوزة فقد اختلف أصحابنا هل يكون هذا في حكم المتصل أو المنفصل، علي وجهين: أحدهما: يكون في حكم المتصل لأن ما اتصل بعرضه في بناء احدهما بمثل ما اتصل بطوله. والثاني: أن لا يكون متصلا ويكون في حكم المنفصل لأن اتصال العرض لا يمكن إحداثه بعد كمال البناء واتصال الطول يمكن إحداثه بعد كمال البناء. فإذا ثبت أن الاتصال ما ذكرنا وكان متصلا ببناء احدهما دون الآخر فهو لمن اتصل ببنائه بعد أن يحلف لصاحبه وإنما كان كذلك لأمرين: أحدهما: أن اتصاله بما له تصرف فيه يد وصاحب اليد المتصرفة أحق من غيره كمن نوزع شيئاً في يده. والثاني: أن اتصاله بملكه دليل علي تملكه كمن نوزع بناء في أرضه كان لصاحب الأرض دون منازعة. ثم لزمنه اليمين لأن هذا دال علي الملك وليس بموجب له فلزمت فيه اليمين كاليد. فصل فأما إذا كان متصلا ببنائيهما أو منفصلاً عن بنائيهما فهما فيه سواء ويتحالفان عليه. وهل يكون الحاكم مخيراً في الابتداء بإحلاف أيهما شاء أو يقرع بينهما؟ علي وجهين: أحدهما: يكون مخيراً لاستوائها. والثاني: يقرع بينهما لانتفاء التهمة عنه. وفي قدر ما يحلف كل واحد منهما عليه وجهان:

أحدهما: وهو قول البغداديين. أنه يحلف على نصفه لأنه يحلف على ما يصير إليه بيمينه والذي يصير إلى كل واحد منهما النصف. والثاني: وهو قول جمهور أصحابنا أنه يحلف على جميعه لأنه يحلف على ما يدعيه وهو يدعي جميعه. ثم على كلا الوجهين لابد أن يتضمن يمينه النفي والإثبات. لأنه ينفي ملك غيره ويثبت ملك نفسه. ولكن اختلف أصحابنا هل يحتاج إلى يمين واحدة للنفي والإثبات أو يحتاج إلى يمينين أحدهما للنفي والأخرى للإثبات على وجهين: أحدهما: أنه يحلف يمينًا واحدًا تتضمن النفي والإثبات لأنه أفضل للقضاء وأثبت للحكم. والوجه الثاني: وهو قول أبي العباس بن سريج وأبي علي بن خيران وطائفة أنه يحلف يمينين أحدهما للنفي لأنه منكر بها، والثانية للإثبات لأنه مدع بها. فإذا ثبت ما وصفنا لم يخل حالهما من ثلاثة أحوال: أما أن يحلفا معًا فيجعل الحائط بينهما بأيمانهما. أو ينكلا معًا فيمنعان من التخاصم ولا يحكم لواحد منهما بملك شيء منه ويكون الحائط موقوفًا على ما كان عليه من قبل. أو يحلف أحدهما وينكل الآخر فيحكم به للحالف منهما دون الناكل. وهكذا لو حلف أحدهما يمينين على أحد الوجهين وحلف الآخر يمينًا واحدًة حكم به للحالف بيمينين وكان الحالف يمينًا بمثابة الناكل لأن يمينه لم تكمل. فلو أقام الناكل بينه كان أحق ببينته من يمين صاحب. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنُهُ: "وَلاَ أَنْظُرُ إِلى مَنْ إِلَيْهِ الخَوَارجَ وَلاَ الدَّوَاخِلِ وَلاَ أَنْصَافُ اللِّبْنِ وَلاَ مَعَاقِدُ القِمْطِ لأَنَّهُ لَيْسَ فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا دَلاَلَةٌ". قال في الحاوي: وهذا صحيح. والدواخل هي وجوه الحيطان. والخوارج هي ظهور الحيطان وأنصاف اللبن فيه تأويلان حكاهما ابن أبي هريرة. أحدهما: أن تكون كسور أنصاف اللبن إلى أحدهما والصحيح منه إلى الآخر. والثاني: أنه إفريز يخرجه البنَّاء في أعلى الحائط نحو نصف لبنة ليكون وقاية للحائط من المطر وغيره. وأما معاقد القمط فتكون في الأخصاص وهي الخيوط التي يشهد بها الخص. لأن القمط جمع قماط وهو الخيط. فإذا تنازع جاران حائطًا بينهما وكان إلى أحدهما الدواخل وأنصاف اللبن لم يكن

ذلك دليلاً على ملكه. وكذلك لو ادعى خصًا وكان إلى أحدهما معاقد القمط لم يكن ذلك دليلاً على ملكه وهو قول أبي حنيفة. وجعل أبو يوسف ومحمد هذه دلائل على الملك وهو قول بعض أهل المدينة. استدلالاً بما روي أن رجلين تنازعا جدارًا بينهما فأمر النبي صلى الله عليه وسلم حذيفة أن يحكم فحكم بالجدار لمن إليه معاقد القمط فقال النبي صلى الله عليه وسلم أصبت. قالوا: لأن العادة جارية في بناء الحائط أن يكون وجهه إلى مالكه وظهوره إلى غيره ومعاقد الخص تكون إلى مالكه فوجب أن يحكم بظاهر العادة. كما يحكم في اتصال البنيان. وهذا خطأ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "البَيِّنَةُ عَلَى المُُدَّعِي وَالْيَمِين عَلَى المُدَّعَى عَلَيْهِ". ولأن هذه أمور قد يقصد بها في البناء والجمال. فربما أحب الإنسان أن يجعل أجمل بنيانه، وأحسنه إلى منزله، وربما أحب أن يجعله خارجًا فيما يراه الناس. فلم يجز مع اختلاف العادة فيه في سائر الأغراض أن يجعل دالاً على الملك كالتزاويق والنقش لا يكون وجوده من جانب أحدهما دليلاً على ملكه كذلك ما ذكرناه. فأما الجواب عن الخبر فهو أنه ضعيف لأن رواية دهثم بن قران وهو مرغوب عنه. فإن صح لم يكن فيه دلالة. لأنه لم يجعل معاقد القمط علة في الحكم وإنما جعل تعريفًا لمن حكم له كما لو قيل حكم للأسود لم يدل على أن السواد علة للحكم وإنما يكون سمة وتعريفًا لمن وجب له الحكم. وأما ادعاؤهم العرف لمعتاد فيه فغير صحيح لما ذكرنا من اختلاف الأغراض فيه. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "وَلَوْ كَانَ لأَحَدِهِمَا عَلَيْهِ جُذُوعٌ وَلاَ شَيْءَ للآخَرِ عَلَيْهِ أَحْلَفْتُهُمَا وَأَقْرَرْتُ الْجُذُوعِ بِحَالِهَا وَجَعَلتُ الجِدَارِ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَرْتَفِقُ بِجِدَارِ الرَّجُلِ بِالجُذُوعِ بِأَمْرِهِ وَغَيْرِ أَمْرِهِ". قال في الحاوي:؛ وهذا كما قال: إذا تنازع الجاران حائطًا بينهما وكان لأحدهما عليه جذوع فهما فيه سواء. قال أبو حنيفة: صاحب الجذوع أحق به إذا كانت جذوعه ثلاثة فصاعدًا فإن كانت أقل من ثلاثة وكان بدل الجذوع متصلاً فيهما فيه سواء استدلالاً بأن وضع الجذوع أوكد من اتصال البناء. لأن وضع الجذوع يثبت يدًا وارتفاقًا واتصال البناء يثبت أحدهما وهو الارتفاق دون اليد فلما كان اتصال البناء إلا على الملك كان وضع الجذوع أولى بأن يدل على الملك.

ولأن وضع الجذوع تصرف في الملك فوجب أن يكون دالاً على الملك كالأزج والقبة. ولأن وضع الجذوع هو تركيب على الحائطين يجرى مجرى ركوب الدابة وقد ثبت أن دابة لو تنازعها راكبها وأخذ بلجامها كان راكبها أحق بها ممن هو أخذ بلجامها فكذلك الحائط إذا تنازعه صاحب الجذوع وغيره. كان صاحب الجذوع أحق. والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه هو أن كل ما لم يكن قليله دالاً على الملك لم يكن كثيره دالاً على الملك كالقصب والرفوف. ولأن ما أمكنت أحاثه بعد كمال البناء لم يكن دالاً على ذلك البناء كالجص والنقش. ولأنه لو كان بين صاحب الأجذاع والحائط طريق نافذة كالساباط لم يكن وضع أجذاعه فيه دليلاً على ملكه له، كذلك إذا اتصل بملكه. لأن وضع الجذوع لو كان يدًا لاستوى الأمران في الاتصال بالملك والانفصال عنه. ولأن وضع الأجذاع في الحائط قد يكون بالملك تارة وبالإذن أخرى وبالحكم على ما نذكره تارة. فلم يجز مع اختلاف أسبابه أن يكون مقصورًا على أحدهما في الاستدلال به على الملك. فأما الجواب على استدلاله باتصال البنيان فهو أن ذلك مما لا يمكن حدوثه بعد كمال البنيان فجاز أن يدل على الملك لافتراقه به. وليس كذلك الجذوع. وبمثله يكون الجواب عن الأزج والقبة إن كان مما لا يمكن حدوث مثله بعد البنيان. وأما الجواب عما استدلوا به من راكب الدابة وقائدها فقد اختلف فيه أصحابنا على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنهما في الدابة سواء تكون بينهما نصفين فعلى هذا يسقط الاستدلال به. والثاني: أن الراكب أحق بها من الآخذ بلجامها. والفرق بين ذلك وبين وضع الجذوع وتركيبها على الحائط من وجهين: أحدهما: أن الإجماع مانع من ركوب دابة الإنسان لا بإذنه، فجاز أن يكون ركوبها دليلاً على ملكه. والخلاف منتشر في أن الإنسان أن يضع أجذاعه جبرًا في حائط غيره فلم يكن وضعها دليلاً على ملكه. والثاني: أن الركوب لما كان تصرفًا لا يختلف حكمه بين وجوده في الملك وغير الملك جاز أن يكون دليلاً على الملك. ولما كان وضع أجذاع الساباط الذي لا يتصل بالملك لا يدل على الملك لم يكن

وضع الأجذاع دالاً على الملك. فإذا تقرر أن وضع الجذوع لا يدل على الملك فإنهما يتحالفان ويجعل بينهما وتقر الجذوع على ما كانت عليه لأنه يجوز أن يكون وضعها بحق وإن لم يملك الحائط. فصل فأما إذا تنازعا حائطًا في عرصه هي لأحدهما فإنه يكون لصاحب العرصة لأن يده عليه. وهكذا لو تنازعا علو حائط أسفله لأحدهما كان لصاحب السفل مع يمينه لما ذكرنا من ثبوت اليد. ولكن لو تنازعا عرصة حائط هو لأحدهما ففيه وجهان لأصحابنا: أحدهما: أنها تكون لصاحب الحائط لأن تصرفه فيها أظهر. والوجه الثاني: أنهما فيها سواء كوضع الجذوع. وهذان الوجهان من اختلاف أصحابنا فيمن أقر لرجل بحائط هل يدخل قراره في إقراره. أو باع حائطًا هل يدخل قراره في بيعه على وجهين. فصل فأما قول الشافعي رضي الله عنه لأن الرجل قد يرتفق بجدار الرجل بأمره وغير أمره. فقد روي في القديم حديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لاَ يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَضَعَ خَشَبَةً فِي جِدَارِهِ" قال أبو هريرة مَا لِي أَراكُمْ عَنْهَا مُعْرِضينَ. وَاللَّهِ لأَرْمِيَنَّهَا بَيْنَ أَكْتَافِكُمُ. فكان يذهب في القديم إلى أن للجار أن يضع أجذاعه في جدار جاره جبرًا بأمره وغير أمره. وبه قال مالك تعلقًا بهذا الحديث. ثم رجع عنه في الجديد وقال ليس له أن يضع أجذاعه في جدار جاره إلا بأمره كما ليس له أن يتصرف في غير ذلك من الأملاك التي لجاره إلا بأمره. ولأن الشريك في الملك أقوى من جار الملك وليس لأحد الشريكين أن ينفرد بالتصرف، فالجار أولى، وهذا قول أبي حنيفة. فعلى هذا يكون حديث أبي هريرة محمولاً على أحد وجهين: أحدهما: أن يحمل على الاستحباب والندب لا على الوجوب والحتم. والثاني: أنه محمول على الجار ليس له منع صاحب الحائط من وضع أجذاعه في حائطه وإن كان مضرًا بالجار في منع ضوء أو إشراف ليكون موافقًا للأصول. فإن قيل لم قال الشافعي في القديم لأن الرجل قد يرتفق بجدار الرجل بأمره وغير أمره وهو في الجديد لا يقول هذا، قلنا فيه تأويلان:

أحدهما: بأمره يعني مجاهرًا وبغير أمره يعني ساترًا. والثاني: بأمره يعني باختياره وبغير أمره يعني بإجبار من يرى ذلك من القضاة والحكام. فإذا تقرر ما ذكرنا فإن قلنا بوجوب ذلك عليه على مذهبه في القديم لم يكن له منع جاره من وضع أجذاعه في جداره. وكان للجار أن يضع في الجدار ما احتمله من الأجذاع ولو صالحه من وضع الأجذاع على عوض لم يجز لوجوب ذلك عليه ومن وجب عليه حق له يجز أن يعتاض عليه. ولو انهدم الحائط لم يلزم مالكه أن يبنيه إلا باختياره. فإن بناء كان للجار أن يعيد أجذاعه فيه. ولو أراد الجار بناء الحائط عند امتناع صاحبه عن بنائه كان له ذلك ليصل بذلك إلى حقه من وضع أجذاعه فيه، وإذا قلنا بقوله في الجديد إن ذلك ليس بواجب وهو القول الصحيح. فليس للجار أن يضع أجذاعه في الجدار إلا بإذن مالكه واختياره ويجوز للمالك أن يأذن له فيه بعوض وغير عوض، لان ما لا يملك عليه يجوز أن يعاوض عليه إذا كان معلومًا، فإن أذن فيه بغير عوض كانت عارية وجاز أن لا يشترط عدد الأجذاع ولا يعلم طولها ولا موضع تركيبها، لأن الجهل بمنافع العارية لا يمنع من صحتها. ثم ليس له أن يرجع في العارية ما بقي الحائط لأن موضع الأجزاع يراد الاستدامة فكان إطلاقه الإذن محمولاً عليه. كمن أعار أرضه لدفن ميت لم يكن له الرجوع في عاريته وإخراج الميت منها بعد دفنه ولكن لو إنهدم الحائط وأعاده مالكه فهل لصاحب الأجزاع أن يعيد وضعها فيه بالإذن المتقدم أم لا؟ على وجهين: أحدهما: له ذلك لأنه صار مستحقًا على التأييد كما لو كان الأول باقيًا. والثاني: وهو أصح ليس له ذلك إلا بإذن مستحدث. لأن حكم العارية قد انقطع بانهدام الحائط، ولأنه إنما استحق تأييد ذلك لما فيه نزعها من الأضرار به وقد لحقه ذلك بانهدامه. ولكن لو أعار أرضًا لدفن ميت فنبشه سبع أعيد دفنه فيها من غير إذن ستحدث وجهًا واحدًا. ولو أكله السبع لم يجز أن يدفن غيره فيها إلا بإذن جديد لذهاب ما كان مستحقًا لمنفعة العارية. ولو كان قد أذن له في وضع جذع في حائطه فانكسر الجذع كان له إعادة غيره. والفرق بينه وبين الميت أن المنع من الرجوع في عارية القبر لحرمة الميت. فإذا أكله السبع انقضت حرمته عن المكان. والمنع من الرجوع في موضع الأجذاع لما يلحقه من الضرر بانهدام السقف وهذا موجود بعد انكسار الجذع، فأما إذا أخذ منه على وضع أجذاعه عوضًا فلا يصح إلا بعد معرفة عدد الأجذاع وطولها وامتلائها وموضعها من الحائط وقدر دخولها فيه.

لأن المعاوضة تحرس من الجهالة ثم اختلف أصحابنا فيه إذا انتفت الجهالة عنه هل يكون بيعًا أو إجارة، على وجهين: أحدهما: يكون بيعًا وهذا قول أبي حامد المروروزي. فعلى هذا يصح على التأييد من غير اشتراط مدة فيه ومتى انهدم الحائط ثم بني أعيد وجهًا واحدًا. بخلاف العارية التي لا يمنع من صحتها الجهالة بمدة منفعتها. والثاني: وهو عندي أصح أن يكون إجارة ولا يكون بيعًا. لأنه عقد على منفعة لا عين. فعلى هذا لا يصح إلا باشتراط مدة معلومة تتقدر بها المنفعة ويؤخذ بقلع ذلك عند انقضائها. وعلى الوجهين معًا أن قدر ذلك بمدة صح وكان إجارة، وهكذا لو صالحه على إجراء مسيل ماء في أرضه فلا بد من تعيين موضعه وتقدير طوله وعرضه ثم إن قدر بمدة صح وكانت إجارة وإن لم يقدره كان على وجهين: أحدهما: أن يكون بيعًا لما حد من الأرض لإجراء الماء فيه على التأييد. والثاني: يكون باطلاً إذا قيل إنه يكون إجارة. وأما إن صالحه على ما سقي ماشيته من عين أو بئر مدة معلومة لم يجز لأن قدر ما تشربه الماشية مجهول. وهكذا الزرع ولكن لو صالحه على نصف العين أو ثلثها جاز وكان بيعًا لا يحتاج إلى تقدير المدة فيه لأنه عقد على عين. ولو قدره بمدة خرج عن البيه إلى الإجارة فكان باطلاً لأن إجارة عين الماء منها لا يجوز. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "وَلَمْ أَجْعَلْ لِوَاحِدِ مِنْهُمَا أَنْ يَفْتَحَ فِيهِ كَوَّةً وَلاَ يَبْني عَلَيْهِ إِلاَّ بِإذْن صَاحِبِهِ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا كان الحائط بين شريكين لم يكن لأحدهما أن يقتح فيه كوة ولا يضع فيه جذعًا ولا يسمر فيه وتدًا إلا بإذن شريكه. وجوز العراقيون لأحد الشريكين أن يفعل في الحائط ما لا يضر به من فتح كوة وإيتاد وتد اعتبارًا بالعرف المعتاد فيه بين الناس وهذا خطأ لأمرين: أحدهما: أن تفرد أحدهما بالتصرف في ذلك غير جائز. والثاني: أنه هدم بعض الحائط فلم يجز كالباب. فإن قيل فهلا كان كوضع الجذوع فيه فيكون على قولين: قيل: الفرق بينهما أن الحائط موضوع للحيلولة ووضع الأجذاع فيه لا يمنع من الحيلولة. وفتح الكوة يمنع منها. فلو آذن أحدهما لصاحبه في فتح كوة ثم أراد سدها لم يكن له ذلك إلا بإذن شريكه. لأن زيادة بناء على حائطه. والشريكان في الحائط لا يجوز

لأحدهما البناء عليه إلا بإذن شريكه فيه. وكلما لم يكن للشريك أن يفعله فأولى أن لا يكون للجار أن يفعله. فلو صالح جاره على فتح كوة في حائطه لم يجز لأنه صلح على الهواء والضوء ولو أن رجلاً فتح كوة في حائطه فأراد جاره أن يبني في وجهها حائطًا فيس ملكه يمنعه الضوء من الكوة جاز ولم يكن لصاحب الكوة أن يمنعه لأنه متصرف في ملكه. فصل وإذا كان لرجل دار ظهرها إلى زقاق مرفوع فأراد أن يفتح من ظهر داره إلى الزقاق كوة أو ينصب شباك للضوء جاز ولم يمنع لأنه متصرف في ملكه. ولو أراد فتح بابًا إليه فإن كان يريد فتحه للاستطراق فيه لم يجز لأنه لا حق له في استطراق الزقاق المرفوع. وإن كان يريد فتحه لينصب عليه بابًا ولا يستطرقه ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأنه لو أراد هدم حائطه كله جاز فإذا أراد هدم بعضه فأولى بالجواز. ولأنه لو أراد يحول بين داره والزقاق ببناء جار، فكذلك إذا أراد أن يحول بينهما بباب. والثاني: لا يجوز لأنه يوهم بذلك عند تطاول الزمان أنه مستحق للاستطراق. لأن الباب من شواهد استحقاقه وليس كذلك هدم بعض الحائط فيه. فصل وإذا كان في الزقاق المرفوع داران لرجلين إحداهما في أوله والأخرى في آخره فأراد صاحب الدار الأولى تغيير بابه ونقله من موضعه إلى غيره. فإذا أراد تقديمه إلى باب الزقاق كان له. لأنه قد كان يستحق الاستطراق إلى غاية اقتصر على بعضها فصار تاركً لبعض حقه. وإن أراد تأخير بابه إلى صدر الزقاق لم يكن له لأنه يصير متجاوزًا لحقه في الاستطراق. وكان بعض أصحابنا يجوز له ذلك ويجعل عرصة الزقاق كلها مشتركة بينهما تخريجًا من عرصة السفل، إذا تنازعها صاحب العلو والسفل على ما سنذكره. فأما صاحب الدار التي في صدر الزقاق إذا أراد تقديم بابه جاز إن لم يرد إدخال ما وراء ذلك إلى داره. وإن أراد إدخال ما وراء الباب المستحدث إلى صدر الزقاق في داره فهو على اختلاف أصحابنا: هل عرصة الزقاق مشتركة بين الدارين أم لا؟. فمن قال إنها مشتركة منع صاحب الصدر من إدخال ذلك في داره. ومن قال إنها ليست مشتركه وإن ما يتجاوز باب الأول يختص بملك صاحب

الصدر جوز له ذلك. وأما إن أراد صاحب الدار الأول أن يقر بابه في موضعه ويفتح دونه بابًا ثانيًا جاز ولم يمنع. وقال أبو حنيفة: أمنعه من فتح باب ثان لأنه يستحق مدخلاً واحدًا فلم يجز أن يتعدى إلى مدخلين. وهذا خطأ لأنه مستحق للاستطراق فيه فلا فرق بين أن يكون من مدخل أو مدخلين ولأن موضع الباب المستحدث لو أراد هدمه لغير باب جاز فكذا الباب. فصل وإذا كان لرجل داران متلاصقان وباب كل واحد منها إلى زقاق مرفوع فأراد هدم الحائط الذي بين الدارين جاز. ولو أراد فتح باب من إحدى الدارين إلى الأخرى غير نافذ ليستطرقه لم يجز. وهو قول أبي حنيفة ومالك لأمرين: أحدهما: أنه يصير مستطرقًا إلى كل واحدة من الدارين من الزقاق الذي لا حق لها في الاستطراق منه. والثاني: أن الزقاق مرفوع فيجعله بفتح الباب مستطرقًا غير مرفوع. والله أعلم بالصواب وخبرنا به الإمام أبو علي الحسين بن صالح بن خيران من أصحاب الشافعي رضي الله عنه. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "وَقَسَّمْتُهُ بَيْنَهُمَا إِنْ شَاآ إِنْ كَانَ عَرْضُهُ ذِرَاعًا أُعْطِيهِ شِبْرًا فِي طُولِ الجِدَارِ ثُمَّ قُلْتُ لَهُ إِنْ شِئْتَ أَنْ تَزِيدَ مِنْ عَرَصَةِ دَارِكَ أضوْ بَيْتِكَ شِبْرًا آخَرَ لِيَكُونَ لَكَ جِدَارٌ خَالِصٌ فَذَلِكَ لَكَ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا كان الحائط بين شريكين فطلب أحدهما القسمة وأراد إجبار شريكه عليها عند امتناعه منها لم يخل ذلك من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكون بناء لا عرصة له. والثاني: أن يكون عرصة لا بناء فيها. والثالث: أن يكون معًا. فإن كان الحائط بناء لا عرصة له لم يجز أن يقسم جبرًا لأن البناء لا يعلم ما فيه ليساويا في الاقتسام به إلا بعد هدمه وفي هدمه ضرر فلم يدخله إجبار فإن اصطلحا عليه جاز. وإن كان ذلك عرصة لأبناء فيها دخلها الإجبار في القسمة فإن دعا الطالب إلى قسمه عرصة الحائط طولاً أجيب إليها ومثاله أن يكون طول العرصة عشرة أذرع وعرضها ذراع

فيدعو إلى قسمة الطول ليكون خمسة أذرع من العشرة في عرض ذراع فهذا جائز لأن أي النصفين حصل له بالقرعة نفعه، فإن دعي إلى القسمة عرضًا ليكون له شبرًا من العرض في الطول كله ففي جواز الجبر عليها وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه لا يجاب إليها ولا يجبر الممتنع عليها، لان قسمة الإجبار ما دخلتها القرعة. ودخول القرعة في هذه القسمة مضر، لأنه قد يحصل لكل منهما بالقرعة ما يلي صاحبه، فلا ينتفع واحد منهما بشيء مما صار إليه، وعادت بالضرر عليه، والقسمة إذا عادت بضرر الشريكين لم يدخلها الإجبار. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة: انه يجاب إليها، ويقسم عرض العرصة بينهما، ويدفع إلى كل منهما النصف الذي يليه بغير ذرعه، لأن القرعة تدخل في القسمة لتمييز ما اشتبه الانتفاع به والأنفع لكل واحد منهما أن يأخذ ما يليه، فلم يكن لدخول القرعة وجه قال الشافعي: ثم قلت له إن شئت أن تزيد من عرصة دارك أو بيتك شبرًا آخر ليكون لك، جدارًا خالصًا فذلك لك. وهذا لم يقله مشوره كما عابه من جهل معنى كلامه، وإنما قاله ليبين أن كل واحد منهما قد ينتتفع بما صار له. ثم ذكر وجه المنفعة، بأن يضم إلى العرصة شبرًا ليصير جدارًا كامًلا. فصل فإن كان الحائط بناء وعرصة نظر في طالب القسمة، فإن دعي إليها عرضًا ليكون له شبر من عرض البناء، والعرصة من الطول كله، لم يجب إليها جبرًا، ولا يصح ذلك بينهما تراضيًا واختيارًا، وإنما كان كذلك لأن ما يصير إلى كل واحد منهما من نصف العرض مضر به ويصاحبه. لأنه إن أراد هدمه لم يقدر عليه إلا بهدم ما لشريكه أو شيء منه وإن أراد وضع شيء عليه، وقع الثقل على ما لشريكه فأضربه. فإن قيل: فهلا جاز لك بتراضيهما؟ قيل إن تراضيا بهدمه في الحال والاقتسام بآلته جاز. وغن تراضيا بقسمته بناء قائمًا، وتحديدًا ما لكل واحد منهما متصلاً لم يجز وإن لما ذكرنا من دخول الضرر فيما بعد. وغن كان الطالب يدعو إلى قسمته طولاً، ليكون لكل واحد منهما نصفه طولاً في العرض كله جازت بالتراضي. وفي جواز الإجبار عليها وجهان: أحدهما: وهو ظاهر قول أبي إسحاق المروزي، لا يجاب إليها ولا يجبر الممتنع عليها لأنه قد لا يقدر على هدم النصف الذي صار له إلا بهدم شيء من نصف

صاحبه فصارت ضررًا عليهما. والثاني: هو قول أبي علي بن أبي هريرة يجبره على هذه القسمة بالقرعة، لأن الضرر على كل واحد منهما في هدم حصته يسير فلم يمنع من القسمة. ولأنه قد يمكن وله إزالة الضرر بقطع الحائط بينهما بالمنشار، فلا ينهدم من حصة الآخر شيء. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "وَلَوْ هَدَمَاهُ ثُمَّ اصْطَلَحَا عَلَى أَنْ يَكُونَ لأَحَدِهِمَا ثُلْثُهُ للآخَرِ ثُلْثَاهُ عَلَى أَنْ يًحْمِلُ كُاّ وَاحِد مِنْهُمَا مَا شَاءَ عَلَيْهِ إِذَا بَنَاهُ فَالًّاحُ فَاسِدٌ وَإِنْ شَاآ أَوْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا قُسَّمَتْ أَرْضُهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ". قال في الحاوي: وهذا كما قال. إذا هدم الشريكان حائطًا بينهما، ثم اصطلحا عند بنائه بمالهما أن يكون لأحدهما ثلثه، للآخر ثلثاه، على أن يحمل كل واحد منهما عليه ما شاء من أجذاع وغيرها، فهذا صلح باطل لثلاثة معان: أحدهما: أنه بذل بصلحه على الثلث بعد ملكه النصف سدسًا بغير عوض. وبذل الملك في الصلح إذا كان عبثًا بغير عوض لا يصح. والثاني: أنه شرط فيه الانتقال لملك صاحبه من غير عوض وذلك لا يصح. والثالث: أن اشترط لنفسه ارتفاقًا مجهولاً وذلك باطل، فإذا ثبت بطلان الصلح لما ذكرنا. وكانا قد عملا به ووضعا فوق الحائط ما شاءا فالملك بينهما نصفان على ما كان من قبل، ثم لكل واحد منهما أن يأخذا صاحبه بقلع ما وضعه في الحائط من أجذاعه. وسواء في ذلك من شرط الزيادة والنقصان، لأنه وإن كان مأذونًا فيه فهو عن عقد فاسد، ففسد ما تضمنه من الإذن. ولأن الإذن يقتضي وضع ما يستأنفه، كما يقتضي وضع ما تقدمه ثم كان ممنوعًا من المستأنف، فكذلك من المتقدم ولا وجه، لأن يقر أجذاع من شرط الزيادة لنفسه لأن صاحبه قد شرط عليه ما لم يحصل له من وضع ما شاء من أجذاعه. فصل قال الشافعي رحمه الله: فإن شاءا أو أحدهما، قسمت أرضه بينهما نصفين. وقد اختلف أصحابنا في تأويل هذا الكلام بحسب اختلافهم في كيفية قسمة العرصة جبرًا بين الشريكين. فذهب أبو إسحاق المروزي إلى أنه محمول على إيقاعها جبرًا إذا طلب أحدهما قسمة العرصة طولاً لا عرضًا. وذهب أبو علي بن أبي هريرة إلى أنه محمول على إيقاعها جبرًا على الأمرين طولاً وعرضًا وقد مضى مشروحًا.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَإِنْ كَانَ الْبَيْتُ السَّفْلُ فِي يَدَىْ رَجُلٍ وَالْعُلوُ فِي يَدَيْ آخَرَ فَتَدَاعَيَا سَقْفَهُ فَهُوَ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ لأَنَّ سَقْفَ تَابعٌ لَهُ وَسَطْحُ الْعُلْوِ أَرْضٌ لَهُ". قال في الحاوي: وهذا صحيح: إذا كان بيت سفله لرجل وعلوه لأخر, فاختلفا في السقف الذي بينهما وتداعياه, فمذهب الشافعي رحمه الله أنهما يتحالفان ويكون بينهما نصفان. وحكي عن مالك أنه يكون لصاحب العلو, لأنه لا يقدر على التصرف في العلو إلا به. وحكي عن أبى حنيفة أنه يكون لصاحب السفل, لأنه موضوع على ملكه كالجدار المبنى في أرضه. وكلا المذهبين غلط وكون السقف بينهما أصح. لتساوى أيديهما عليه وتصرفهما فيه, فهو لصاحب السفل سقف ومرفق, ولصاحب العلو أرض ومقعد, ولأنه متصل بمالهما ومجاور لملكيهما فوجب أن يستويا فيه كالحائط إذا كان بين داريهما. فإذا ثبت أن يكون بينهما, فلصاحب العلو أن يتصرف فيه كما كان يتصرف من قبل بالجلوس عليه, وإحراز المتاع المعتاد فيه من غير تجاوز ولا تعد. كالحائط إذا تخلفا فيه وكانت عليه جذوع لأحدهما جعل بينهما وأقرت الأجذاع عل حالها. وأما صاحب السفل فارتفاقه به أن يكون مستظلًا به , من غير أن يتجاوز ذلك إلى تعليق شيء عليه, لأن السقف لم يوضع غالبًا إلا للاستظلال. ولا وجهة لما أجازه بعض أصحابنا من تعليق زنبيل عليه. ووضع خطاف فيه. لأن إيتاد الوتد في الحائط المشترك أسبل وهو ممنوع منه, كما ذكرنا في السقف أولى أن يكون ممنوعاً منه. فصل ولو تنازعا في حائط السفل, فهو لصاحب السفل إلى منتهى وضع الأجذاع مع يمينه, لأنه في يده وتحت تصرفه. ولو تنازعا في حائط العلو, فهو لصاحب العلو مما فوق أجذع السقف, لأنه في يدي صاحب العلو وتحت تصرفه. وما كان من الحائط بين السفل والعلو في خلال أجذاع السقف فهو بينهما, لأنه تبع للسقف المشترك بينهما. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن سقط لم يجبر صاحب السفل على بنائه".

قال الماوردي: وهذا صحيح. إذا أنهدم البيت الذي سفله لرجل وعلوه لآخر, فإنه لا يخلو حالهما من أربعة أحوال: أحدهما: أن يتفقا على تركه مهدومًا فلا اعتراض عليهما فيه. والثاني: أن يتفقا على بنائه فذلك لهما, ويختص صاحب السفل ببناء السفل إلى انتهاء وضع الأجذاع. وصاحب العلو ببناء العلو إلى حيث كان من غير أن يزيد عليه, ولا لصاحب السفل أن يأخذه بالنقصان عنه. فلو اختلفا مع اتفاقهما أن ارتفاع السفل والعلو عشرون ذراعًا, فقال صاحب السفل, السفل خمسة عشر ذراعًا, وارتفاع العلو خمسة أذرع, وقال صاحب العلو بل ارتفاع السفل خمسة أذرع وارتفاع العلو خمسة عشر ذراعًا. فقد اختلفا على أن لصاحب السفل خمسة أذرع لا نزاع فيها ولصاحب العلو خمسة أذرع لا نزاع فيها, واختلفا في عشرة أذرع ادعاها كل واحد منهما أيمانهما معاً عليها, فوجب أن يتحالفا عليها ويجعل العشرة المختلف عليها بعد أيمانهما معًا بينهما نصفان. فيصير لصاحب السفل عشرة أذرع, ولصاحب العلو عشرة أذرع. ثم يشتركان في بناء السفل, بعد أن يختص كل واحد منهما ببناء حقه, إلا أن يكون السقف لأحدهما, فيختص الذي هو له ببنائه دون غيره. والحال الثالثة: أن يمتنع صاحب العلو من البناء, ويدعو صاحب السفل إليه, فله أن يختص ببناء سفله, وليس له مطالبة صاحب العلو ببناء علوه, لأنه لا يحق له بنائه, ويقدر على الانتفاع بحقه إلا أن يكون السقف بينهما, فيكون على ما نذكره من القولين في إجبار الشريكين على المباناة. والحال الرابعة: وهى مسألة الكتاب: أن يمتنع صاحب السفل من بنائه ويدع صاحب العلو إليه ليبنى العلو عليه ففي إجباره قولان: وهكذا الشريكان في حائط قد أنهدم, إذا دعي أحدهما إلى البناء وامتنع الآخر. هل يجبر الممتنع منهما على البناء أم لا؟ على قولين: أحدهما: وهو قوله في القديم وبه قال مالك: أنه يجبر الممتنع على البناء ليصل الآخر إلى حقه. لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرار من ضارّ أضرّ الله به ومن شاق شقّ الله عليه". فلما نفي لحقوق الإضرار دل على وجوب الإجبار. ولما روي: أن الضحاك بن خليفة أنبع ماء بالعرض وأراد أن يجريه إلى أرضه فلم يصل إليه إلا بعد إمراره على أرض محمد بن سلمة فامتنع محمد من ذلك وتخاصما إلى عمر رضي الله عنه, فقال عمر لمحمد بن سلمة ليمرنَّ به أو أمِرَّه على بطنك. وروي أنه: "قضي على بعض الأنصار, بمثل ذلك لعبد الرحمن بن عوف".

سقط البيت لم يجبر صاحب السفل على البناء وإنما أوجب على صاحب السفل بناء السفل هاهنا لوقوع الشرط على ذلك في الهدم. وإذا هدمه لغير علة فهو متعٍد بهدمه فلزمه الإعادة, فإن قيل: هذا الشرط وعد من جنبه فلا يلزمه الوفاء به, قلنا: هذا الشرط التزامٌ لأنه لم يستحق هدمه وإنما هدمه لغرض له والتزام إعادته فلزمه, فإن قيل: فقد ضمنتموه الحائط بمثله وهذا لا يجوز, قلنا: ليس هذا بضمان متلف لأن المتلف له والبدل له وإنما لغيره حق الحمل عليه فلزمه أن يقيم مثله مقامه لما ذكرنا. وقال أبو حامد رحمه القياس أن لا يلزمه إعادته لأن الحائط لا يضمن بالمثل, ولكن نص الشافعي على ما ذكرنا. وقال القاضي أبو على البندنيجى: فيه طريقان أحدهما: يلزمه إعادته قولًا واحداً, والثاني: فيه قولان والأصح ما ذكرنا وهو القياس على ما شرحنا والله أعلم. ثم أن المزني قال: قال الشافعي في كتاب الدعوة: والبيان على كتاب أبى حنيفة فإذا أفاد صاحب السفل مالًا أخذ منه قيمة ما أنفقه في السفل, قال الأول أولى بقوله لأن الباني متطوع فليس له أخذه من غيره إلا بأن يراضيه عليه واختلف أصحابنا في هذا, فقال أبو إسحاق رحمه الله: أجاب الشافعي ف كتاب الدعوى على قوله القديم: فأما على قوله الجديد فلا رجوع له. ومن أصحابنا من قال: هذا يخرَّج على قوله الجديد وهو إذا كان صاحب السفل معسرًا لا يقدر على البناء فجعل الحاكم لصاحب العلو أن يبنى ويرجع بالنفقة عليه, وقضى له هنا وكان معتقجًا لمذهب الشافعي في القديم, فإذا قضى به الحاكم له الرجوع به فلا يصح اعتراض المزني. ثم قال الشافعي: ليس له منع صاحب السفل من سكناه ونقض الجدران له قوئ نُقْضُ وقوئ نقض بفتح النون وضمها, فمن قرأ بالفتح أراد له نقضها إذا خيف أن يسقط. أو أراد له نقضها إذا بناه من ماله متطوعًا حتى يصير قضاء كما كان. ومن قرأ بالرفع أراد أن الطوب والخشب له إذا أنهدم أو هدمه عمدًا إذا بناه من خاص ماله. وقيل: أراد ما حصل من الجدار الأول المنهدم لصاحب السفل ولا يصير لصاحب العلو بسببه بني السفل وهذا بعيد عندي. [1/ب] مسألة: قال: "وَإِذَا كَانَتْ لِرَجُلٍ نَخْلَةٌ أَوْ سَجَرَةٌ فاستعلت وانْتَشَرَتْ أَغْصَانُهَا". الفصل وهذا كما قال: إذا كان في ملك رجل شجرة أو نخلة فاستعلت ودخلت أغصانها في دار جاره, كان للجار إزالته عن داره وعن هواء الحائط المشترك بينهما. وكذلك أن دخلت في بستان جاره, وهذا لأن هواء الجار حق الجار كفنائه. وهكذا لو شرعت عروق هذه الشجرة في قرار أرضه يلزمه إزالتها كالأغصان في الهواء سواء, فإن كانت

الأغصان رطبة لينة عطفها إلى داره. وإن كانت يابسة لا يمكنه عطفها أو كانت رطبة قوية لا يقدر أن يلويها قطعها, وقال أصحابنا: للجار أن يقطعها بنفسه إذا لم يقطعها صاحب الشجرة, ولا يلزمه أن يمضى إلى الحاكم ليطالبه بذلك كما لو دخل رجل داره له إخراجه من داره ومقاتلته عليه, وإن أدى إلى قتله ولا يحتاج إلى الحاكم, وكذلك إذا دخلت بهيمة دار رجل له إخراجها من ملكه من غير حاكم. وقال بعض العراقيين: يضمن ذلك إذا قطع بغير حاكم وهو غلط لما ذكرنا, وإن كانت الأغصان رطبة خفيفة يمكنه أن يثنيها إلى الشجرة ويشد معها فقطعاه بثمن ما نقص من قيمة الشجرة لأنه كان يمكنه إزالتها من غير قطع. وحكي أن رجلًا سأل أبا حنيفة عن هذه المسألة فقال: سجر تنوراً في ملكه تحتها فأكنه علمه الحيلة لتحترق الأغصان أو تصير يابسة ولم يجوز القطع. قال الإصطخري: كذلك إذا مال حائط إلى دار الغير فلصاحب الدار مطالبته بإصلاح الحائط لأنه شغل هواء داره فجرى مجرى الأغصان. وإن تشبعت ولم يمل يكن له مطالبته بإصلاحه. وإن اصطلحا على أن يقر أغصانها في داره بعوض نظر, فإن كان غير معتد على حائط الجار لا يجوز لأنه عقد على الهواء المجرد. وإن كان معتمدًا على حائطه وخارجًا إلى هواء داره نظر, فإن كان رطبًا يزيد لم يجز لأنه غير معلوم, وإن كان جافًا يجوز لأنه معلوم والهواء تابع للحائط وهو كجذع يضعه عل جداره في موضع معلوم ومال معلوم هكذا ذكر جماعة أصحابنا. وقال في "الحاوي": إذا كانت [2/أ] رطبة فيه وجهان أحدهما: ما ذكرنا, والثاني: يجوز وما يحدث من الزيادة يصير تابعًا لا يبطل العقد جهالته كجهالة المرافق في بيع الدار وهكذا قول أكثر البصريين, ثم هل يكون حكمه حكم البيع أو الإجازة؟ قد ذكرنا من قبل. فرع لو أن عرق شجرة رجل أخرج شجرة في ملك الغير فهي لصاحب الشجرة الأصلية كالزرع لصاحب البذر. وقال أبو حنيفة: هي ملك صاحب الأرض التي خرجت فيها, حكاه بعض أصحابنا بخراسان عنه. وهذا غلط لأن الأصل له فالفرع له. فرع آخر قال القاضي أبو حامد رحمه الله: سئل أبو إسحاق المروزى عن شجرة الأترج إذا انتشر غصنها إلى ملك رجل ودخل رأس الغصن في برنية له وانعقدت فيه أترجة فكبرت ولم يمكن إخراجها إلا بقطع الغصن والأترجة أو كسر البرنية, فقال: الواجب قطع الغصن والأترجة لتسلم البرنية لأن الغص لما شرع في ملك غيره كان مأخوذًا بإزالته, فلما لم يزله صال متعدياً به فوجب أن يلتزم حكم تعديه, ويكون القطع المتقدم واجبًا عليه, وليس من صاحب البرنية تعدٍ في وضعها في ملكه. فقيل لأبى حامد: ما تقول

في البرنية إذا كانت وديعة في بيت رجل فوضعت في سطحه حتى وقعت فيها أترجة من غصن جاره؟ فقال: يقطع الأترجة لتسلم البرنية لأن قطع الغصن كان مستحقًا من قبل وذلك أسبق من وضع البرنية, فقيل له: فما تقول اذ كانت الشجرة في داره والبرنية وديعة عنده فقال: يقطع الغصن أيضا لتسلم البرنية لأنه متعدٍ بوضع البرنية بحيث يدخل غصن الشجرة فيها. فقيل له: فما تقول في حيوان بلع لؤلؤة؟ فقال: لا لمر بذبحه وأتركهم حتى يصطلحوا عليه لأن للحيوان حرمة, ولهذا لو غصب خيطًا به جرح حيوان لم يكلف النزع. فرع آخر لو كان سطح أحد الجارين أعلى من سطح الآخر لم يجبر أحدهما على بناء سترة. وقال أحمد رحمه الله: يجبر الأعلى عليه واحتج بأنه إذا صعد الأعلى على سطحه أشرف على الأسفل ويستضر به الأسفل فيزال ضرره. وهذا غلط, لأن هذا [2/ب] حاجز بينهما بين ملكيهما فلا يجبر أحدهما عليه كالحائط في الأسفل. وأما ما ذكره لا مسألة: قال: "وَلَوْ صَالَحَهُ عَلَى دَرَاهِمَ بدنانير". الفصل وهذا كما قال: لو صالح رجل رجلًا من دنانير على دراهم, أو من دراهم على دنانير أو من دنانير عل دنانير مختلفة السبكة متماثلة العدد والجوهر, أو من دراهم على دراهم يجوز الصلح كما يجوز بيع بعضها ببعض, ثم يعتبر فيه التقايض قبل التفرق به في البيع, ولو قبض بعضاً دون بعض وافترقا بطل الصلح فيما لم يقبض, وهل يبطل فيما قبض؟ طريقان أحدهما: قولان. والثاني: قول واحد يبطل لأن الفسخ طارئ, وقد ذكرنا هذا في البيع وأجاب هاهنا على قول جواز تفريق الصفقة فصحح العقد في المقبوض دون غير المقبوض. ثم قال: المصالح القابض بالخيار إن شاء أجاز الصلح, وإن شاء أبطله. فإن قال قائل: لِمَ خصص الشافعي المصالح القابض بالخيار دون صاحبه وهما في الصلح متعاقدان والمتصالحان؟ قلنا: إنما جعل الخيار في جانب القابض لأن حقه كان دينًا في ذمة صاحبه ورضي عن ذلك الدين بما يأخذه من العين فكانت معاني البيع في جنبة من يأخذ الدين بالعين أو العين بالدين أظهر من الجنبة الثانية وهى جبيه من يبرئ ذمته عن الدين ببذل لأنه مشترى ذمته على الحقيقة وصاحبه مشترى العين والخيار في جنبه المشترى أثبت وأظهر من الخيار في جنبة البائع, ولذلك أثبتنا الخيار للمشترى للعين الغائبة, ولم نثبت على المذهب الصحيح لبائع العين الغائبة. وكذلك لو اشترى شيئًا على توهم السلامة بثمن كثير ثم بان عيبه فله الخيار, ولو باع بثمن قليل على توهم العيب ثم بان للبائع سلامته لم يكن له الخيار فجاء من هذا أن الذي كان الدين في ذمته لا خيار له.

وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا إذا حصل التفرق من صاحبه فإن حصل منه لا خيار له, وهذا إشارة إلى أنه رضي بتفريق الصفقة حين فارقه هو, وهذا لا يصح عندي لأن هذا الخيار يثبت, لأنه دخل في العقد على أن يسلم له جميع المسمى بجميع المسمى فإذا [3/أ] لم يسلم ذلك وبطل العقد في بعضه ثبت له الخيار في الفسخ, ومثل هذا الخيار لا يبطل بمفارقته المجلس. مسألة: قال "وَإِذَا أَقَرَّ أَحَدُ الوُرَثَةِ فِي أَيْدِيْهِمْ بِحَقٍ لِرَجُلٍ". الفصل وهذا كما قال: اختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة فقال بعضهم: صورتها أن تكون داراً في أيدي ثلاثة إخوة ورثوها عن أبيهم, فجاء رجل فادعى أن له على أبيهم دينًا وأن هذه الدار رهن عنده به فصدقه أحدهم وأنكره الآخران فصالحه المقر من الدين على بعضه وقضاه من ماله كان الصلح صحيحا بإذن الباقين، أو غير إذنهم ويكون هذا الصلح فرعًا للأبناء، لأنه أخذ بعض دينه وأبرأه من الباقي، ولا يرجع هذا المقر على إخوته بشيء مما دفع إلى المدعي من ماله، لأنه متطوع به، وإنما قلنا صورة المسألة هذا لأن الشافعي رحمة الله عليه قال: إذا أقر أحد الورثة في دار في أيديهم بحق لرجل ولم يقل بدار، والظاهر من الرهن الحق الرهن دون الملك. ولأنا لو قلنا: إن المدعي إذا ادعى فيها سهمًا فأقر به أحد الإخوة وصالحه منه على مال أعطاه لكان ذلك مكرراً لأن الشافعي قال في أول كتاب الصلح: ولو صالح عنه رجل يقر عنه بشيء جاز الصلح، وليس للذي أعطي عنه أن يرجع عليه لأنه متطوع به. ومن أصحابنا من قال: صورتها أنه ادعى سهمًا من هذه الدار فأقر له أحدهم وأنكره الآخران فصالحه. المقر على مال بذله صح الصلح, وعلى هذا أكثر أصحابنا، قال القاضي الطبري: وهذا هو الصحيح، لأن الشافعي ذكرها في الأم مشروحة، فقال: ولو كانت دار بين ورثة فادعى رجل فيها دعوى فأقر له أحدهم ثم صالحه على شيء بعينه أو دراهم مضمونة فالصلح جائز والوارث المصالح متطوع لا يرجع على أخويه بشيء مما أدى عنهم بغير أمرهم، ولو صالحه على أن حقه له دون أخويه فإنما اشترى منه حقه دون أخويه، فدل هذا على أن صورة المسألة أنه ادعى سهماً في الدار، وقوله: بحق في دار أي: بسهم في دار، ويدل هذا على خطأ من قال من أصحابنا: أن صلح الأجنبي عن المنكر لا يصح إلا بأن يقول إني وكيله، وقد بينا ذلك فيما مضى. فإذا تقرر أن صورة المسألة هذه فإن [(3) / ب] صالحه على مال بدله فالحكم ما ذكرنا، أنه لا يرجع بما بدله على أحد لأنه متطوع به. وإن صالحه على أن يكون نصيبه له دون أخويه، فإن الخصومة تكون بينه وبين أخويه، فإن أقرا له بذلك أو استحقه بإقامة البينة عليهما ثم صالحهما بشيء أخذه منهما كان الصلح جائزاً, وكان للأخ الثالث أن يأخذ نصيبهما بالشفعة. وإن لم يقرا له ولم يقم له بينة كان لهما ثلثا الدار، وهل لهما أخذ الثلث

الذي ملكه أخوهما بالصلح نظر فيه، فإن كان كل واحد منهما ادعى ثلث الدار فإن لهما أن يأخذا نصيب الأخ الذي ملكه بالشفعة، وإن كانا قالا: إن هذه الدار لنا عينًا ورثناها عن أبينا فإنهما مقران بأن صلح الأخ باطل، فلا شفعة لهما عليه. ومن أصحابنا من قال: لهما الشفعة لأن الصلح قد صح في الحكم، فإن الأخ قد أقر للمدعي بالثلث وصار الملك له ويجوز أن يكون انتقل إليه نصيب المقر من غير أن يعلم الإخوة. فإذا صالحه منه على شيء أخذه كان بيعًا صحيحًا فوجب أن تثبت به الشفعة، وهذا أصح وهو المنصوص في الأم، وقال فيه أيضًا: وإن كانوا ملكوا الدار بجهات مختلفة فصالحه المقر من حقه على مال ثم أراد المنكران الأخذ بالشفعة لهما ذلك، لجواز أن يكون المنكر كاذبًا في إنكاره، والمقر صادق في إقراره، وصلحه عليه صحيح. ومن أصحابنا من قال: صورة المسألة هذه الثانية ولكن حين عقد هذا المقر الصلح قال: إخوتي مقرون بذلك، وقد وكلوني بالصلح فصدقه ثم الحكم ما ذكرنا إذا صدقوه في الوكالة، أو كذبوه وقد مضى ذلك فلا نعيده. مسألة: قال "وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ بَيْتَاً فِي يَدَيْهِ فَاصْطَلَحَأ بَعْدَ الإِقْرَارِ عَلَى أَنْ يَكُوْنَ لأَحَدِهِمَا سَطْحُهُ" الفصل وهذا كما قال: اختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة، قال صاحب الإفصاح: صورتها أن يدعي رجل على رجل بيتًا في يده فيقر له بسفله دون علوه ثم يصالحه من السفل على العلو, على أن يكون له أن يبني عليه بناء معلوماً فيكون الصلح جائزا، ويكون ذلك فرعا للبيع لأنه بيع [(4) /أ] السفل بالعلو. ومن أصحابنا من قال: صورتها أن يقر له بجميع البيت ثم يصالحه على أن يكون له العلو وللمقر له السفل، ويكون له أن يبني عليه بناء معلوما فالصلح صحيح ويكون ذلك فرعا للهبة في العلو، وللعارية في حيطان السفل التي يريد أن يبني عليها. ومن أصحابنا من قال: صورتها أنهما تنازعا البيت ثم تقارا على أن السفل لأحدهما والعلو للأخر لا على سبيل الصلح، ولكن على سبيل الاعتراف من كل واحد منهما، لأن الشافعي بين ذلك في الأم فقال: فإن تقارا جعلت بينهما وجعلت لهذا علوه ولهذا سفله، فال أنه حصل لكل واحل ما جعل له بإقرار صاحبه. وقال ابن سريج: الأشبه بكلام الشافعي الصورة الثانية، فإن قال قائل: كيف يقال هذا؟ وإذا أقر صاحبه اليد للمدعي أن البيت يملكه كيف يتصور المصالحة بينهما بالبناء على السطح والسفل والعلو كلاهما للمدعي؟ قيل: أراد بالصلح العارية وقل مضى بيان هذا، وهذا كما لو أقر له بدابة ثم صالحه على أن يركبها المقر صح ولا يلزم، وقصد الشافعي به الفرق بين هذا وبين الملح على سكنى الدار، لأن في مسألة الركوب عارية لا تلزم بحال، وهاهنا إذا بني لا يمكنه الأمر بالقلع إلا أن يغرم له نقص القلع. قال المزني: لا يجوز الأقيس على قوله، وهو قول أهل العراق إذ لا يجوز أن

يأخذ مالاً بدلا عما يبذله من هواء سطحه, كما لا يجوز أن يأخذ مالا على جناح يشرعه جاره في هواء داره. قلنا: لو أخذها لما على إشراع الجناح في هواء الدار على أن تكون خشبة الجناح موضوعة على ملك قابض المال, كانت المصالحة صحيحة وهذه صورة مسألة الكتاب، فأما ما ذكرت من الصلح الفاسد في إشراع الجناح فصورته أن لا تعتمد خشبة الجناح على جدار القابض للمال، فهي معاملة على الهواء المنفرد فلا يصح مثل ذلك على هواء صحن الدار وهذا لأنه لا يجوز إفراد الهوا، بالبيع ويجوز إفراد القرار بالبيع. مسألة: قال: وَلَوْ اشْتَرَى عُلوَ بَيْتٍ عَلَى أَنْ يَبْنِيَ عَلَى جُدْرَانِهِ وَيَسْكُنَ عَلَى سَطْحِهِ أَجَزْتُ ذَلِكَ. الفصل وهذا كما قال: يجوز شراء العلو [(4) /ب] بشرط أن يبني عليه بناء معلوماً, فأما بناء مطلق غير معلوم فلا يجوز, ويخالف إجارة الأرض بشرط أن يبني عليها ما أراد من الأثقال لأن الأرض حمالة لجميع ما يبنى عليها وليس كذلك الحيطان, فإنه لا يحمل عليها إلا مقدارًا معلومًا فلا يجوز بشرط البناء المطلق. ولا يضر أن يصف كل جدار يكون سمكه وغلظه وطوله, ويكون رصفا أو مطبقًا, ويصف السقف كذلك. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: لا يجوز بانفراده لأن العلو تبع يجري مجرى المرافق التي لا يجوز إفرادها بالعقد، وهذا غلط، لأن العلو عين مملوكة يجوز الانتفاع بها كالسفل فجاز بيعها. وقال في الحاوي: إن شرطا أن يبنى ما شاء لا يجوز للجهالة وإن أطلقا البناء فيه وجهان, أحدهما: يجوز ويبنى ما احتمله لأنه يعرفه أهل الخبرة، والثاني: لا يجوز وهو الأصح لأن العادات فيه مختلفة وهذا غريب. وقال فيه: ولو تبايعا مطلقا من غير شرط البناء هل للمشتري أن يبني؟ فيه وجهان, أحدهما: له ما يحتمله لأنه من منافع ملكه، والثاني: ليس له ذلك لما فيه من الإضرار بالسفل، ومنفعته تكون مقصورة على السكنى والارتفاق بما تضمنه العقد من غير إحداث زيادة. ولو باعه بشرط أن لا يبني فالبيع جائز وهذا الشرط لم يتضمن حجرا فيما ملكه بالعقد، بل تضمن أنه ليس له إحداث ما ليس على ملكه في الحال بخلاف ما لو باعه أرضا على أن لا يبني عليها لا يجوز لأنه لم يبق للبائع فيها حق ولا يدخله ضرر بالبناء، وهاهنا العلو متصل بملك البائع, وفي البناء إضرار به فصار الشرط فيه متعلقا بحقه فافترقا. فإن قال قائل: هذه المسألة والتي قبلها سواء في الحكم، فأي فائدة في الإعادة على نسق واحد. قلنا: يحتمل أن الشافعي أراد أن يبين التسوية بين لفظة المصالحة ولفظة الشراء في هذه المسألةء فأكرها مرة بلفظ الصلح ثم أعادها بلفظ الشراء في غير تلك الصورة. أو نقول المسألة الأولى مصورة في العارية عند بعض أصحابنا, وهذه الثانية مصورة في الشراء فتكونان متباينتين من غير تكرار. قال المزني: هذا غير منعه في [(5) /أ] كتاب

أدب القاضي: أن يقتسما داراً على أن يكون لأحدهما السفل وللآخر العلو حتى يكون السفل وعلوه لواحد، معناه أنه لم يجوز في كتاب أدب القاضي أن يجعل السفل لأحد الوارثين والعلو للآخر في قسمة التركة, وجوزها هنا شراء سقف البيت فيكون السفل لشخص والعلو لآخر، واختار أنه لا يجوز ذلك هاهنا أيضًا, قلنا: الممنوع في كتاب أدب القاضي ممنوع هاهنا، وهو أن يجعل القسام لأحدهما الفل وللآخر العلو على جهة الإجبار، والجائز في هذا الموضع جائز في كتاب أدب القاضي، وهو أن يكون لك على جهة التراضي، والعجب من المزني حيث يسوي بين حالة الإجبار وحالة التراضي، ألا ترى أنه إذا كانت بينهما داران أو دار وضيعة, فأراد أحدهما أن يقتسما على أن يقتسما على أن يكون لأحدهما الدارين وللآخر الأخرى أو يكون لأحدهما الدار وللآخر الضيعة لم يجبر الآخر عليه, ولو تراضيا جاز كذلك هاهنا. مسألة: قال: "وَلَوْ كَانَتْ مَنَازِلُ السَّفْلِ فِي يَدَيْ رَجُلٍ وَالعُلْوِ فِي يَدَيْ الآخَرِ فَتَدَاعَيَا العَرَصَةَ" الفصل وهذا كما قال: صورة المسألة أن يكون خانا بيوته التي في السفل لرجل وبيوته التي في العلو لآخر فتداعيا صحن الخان نظر فيه, فإن كانت الدرجة التي يصعد عليها إلى العلو في صدر الخان كان الصحن بينهما لأن يد كل واحد منهما ثابتة عليه. وان كانت الدرجة مع الباب ففي صحن الدار وجهان, أحدهما: يكون بينهما نصفين وعلى هذا يدل ظاهر كلام الشافعي لأنه من مرافق الخان, والخان بينهما فكذلك الصحن. والثاني: يكون لصاحب السفل لأن صاحب العلو لا حق له فيه بوجه، لأنه لا يستطرقه إلى شيء من ملكه فوجب أن يكون صاحب السفل أولى. وان كانت الدرجة في الدهليز أو في وسط الخان كان الصحن إلى موضع الدرجة بينهما وما من الأعلى مما لا حق له في استطراقه، ولا حائل دونه فيه وجهان, أحدهما: لصاحب السفل لتفرده باليد، والثاني: أنه بينهما لاتصاله بما هذا حكمه. وكل موضع قلنا: أنه بينهما [5/ب] فإنهما يتحالفان على ما بيناه في الجدار يكون بين الدارين. وقيل هما كالوجهي اللذين ذكرناهما في زقاق ............ فلمن هو أسفل منه أن يمنعه وفيمن فوقه وجهان. وهكذا لو أراد أهل أسفل السكة أن يقتسموا فناثهم ويزيد كل واحد منهم حصته في داره، هل لمن فوقهم منعهم من ذلك؟ وجهان. وعلى هذا لو كان الدرب الذي لا ينفذ في صدره باب أحدهما وفي أوله باب الآخر فتنازعا بقية الدرب إلى ماره فيه وجهان، ومن أقله إلى صدره بينهما. مسألة: قال: "وَلَوْ كَانَ فِيْهَا دَرَجٌ إِلَى عُلُوهَا فَهْوَ لِصَاحِبِ العُلُو". الفصل وهذا كما قال: إذا تداعيا الدرجة فإنها في يد صاحب العلو لأنها تبنى للممر إلى

العلو والقول قوله مع يمينه، وعلى صاحب الفل البينة، ولا فرق بين أن تكون معقودة بالجص والأجر، وبين أن تكون سلما من خشب أو سياج. وقال في الأم: فإن كان الناس يتخذون الدرج للمرفق ويجعلون ظهورها مدرجة لطريق من الطرق جعلت الدرج بين صاحب السفل والعلو لأن فيها منفعتين، إحداهما: بيد صاحب السفل، والأخرى: بيد صاحب العلو. قال أصحابنا: أراد به إذا كانت الدرجة على أزج تحت بيته وعلى الأزج ممر، كان بينهما لأنه سماء لصاحب الفل وممر لصاحب العلو وهو مثل زقاق الصفارين في بلدة مرو، ويكون زقاقاً لأصحاب السفل ممر لصاحب العلو. ومن أصحابنا من قال: إن كان ما تحتها مرفقا كاملا لبيت أو خزانة يصلح للسكنى وإحراز القماش فالدرجة بينهما كالسيف لأن لكل واحد منهما تصرفاً فيها وعليها يداً، وان كان المرفق ناقصاً مثل أن يكون تحتها زق أو موضع حيث أو نحو ذلك فيه وجهان، أحدهما: أنها بينهما لارتفاقها بها، وبه قال ابن أبي هريرة وأبو إسحاق. والثاني: لصاحب العلو لأن تصرفه فيها أكمل ويده عليها أقوى، وبه قال أبو حامد وهو الأصح. وقال القاضي الطبري: إذا كان مرفقا كاملا فيه وجهان أيضا، لأن الدرجة لا تبنى لما تحتها في العادة وإنما يقصا منها الارتقاء فتكون [6/أ] لصاحب العلو في أحد الوجهين. مسألة: قال: "وَلَوْ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ زَرْعَاً فِي أَرْضٍ فَصَالَحَهُ مِنْ ذَلِكَ على دراهم فَجَائِزٌ" الفصل وهذا كما قال: صورة المسألة أن تكون في يد رجل أرض فيها زرع أخضر فادعاه رجل فأقر له به ثم قال له: صالحني على عوض أعطيك إياه ينظر في المقر، فإن لم تكن الأرض له وصالحه منه على شرط القطع جاز, لأن بيع الفصيل بشرط القطع جائز. وان صالحه من غير شرط القطع لا يجوز لأن بيعه على هذا الوجه لا يجوز. وان كانت الأرض للمقر فصالحه على شرط القطع جاز, وهل يجوز من غير شرط القطع؟ وجهانء كما لو باع الزرع من صاحب الأرض هل يلزم شرط القطع؟ وجهان، وكذلك لو باع الثمرة قبل بدو ملاحها من صاحب النخلة مطلقًا من غير شرط القطع وجهان, أحدهما: يجوز لأنه يصير تبعًا للأرض, والثاني: لا يجوز لأن عقد الصلح انفرد في الزرع فلا يجوز أن يجعل تبعا لما لم يدخل فيه من الأرض. فإذا قلنا: لا يجوز إلا بشرط القطع فشرط لا يلزمه الوفاء بالشرط لأن القطع لتفريغ الأرض والأرض له. فإن قيل: هلا قلتم يجبر على قطعه لأن له غرضا في ذلك، وهو أنه ربما تصيبه الجائحة فيرفع إلى حاكم يرى وضع الجائحة فيضمنه، قلنا: إنما توضع الجائحة إذا لم يشترط القطع عليه، فأما مع شرط القطع فلا يضمن الجائحة بحال، لأنه ينسب إلى التفريط بترك القطع. وان كان الزرع أخرج السنابل فانعقد فيها الحب هل يجوز

الصلح؟ قولان كما قلنا في البيع. مسألة: قال ((وَلَوْ كَانَ الزَّرْعُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ فَصَالَحَهُ أَحَدُهُمَا عَلَى نِصْفِ الزَّرْعِ لَمْ يَجُزْ)). الفصل وهذا كما قال: إذا كان الزرع بين رجلين فادّعى عليهما رجل أن الزرع له فأقر أحدهما وأنكر الآخر فصالح المقر عن نصيبه على دراهم فإن قلنا: لابد من شرط القطع وهو الصحيح لم يجز الصحيح الصلح لأن القطع لا يمكن في نصيبه حتى يقطع الجميع وهذا فلا سبيل إليه. وإذا قلنا: يجوز من غير شرط القطع فالصلح صحيح، وهذا إذا كان المقر صاحب الأرض فلما إذا أصلح رفع الأجنبي لا يجوز لأنه [6/ب] لابد من شرط القطع فيه ولا سبيل إلى قطع نصيبه ولا يجوز قطع الجميع فبطل الصلح. فإن قيل: يقاسمه ويقطعه قلنا: لا يجوز قسمة الزرع عندنا وإنما هو مذهب ابن أبي هريرة. فرع لو كان لرجل أرض فيها زرع، فادَّعى رجل أن زرعها له فأقر له بنصفه ثم صالحه من هذا النصف على نصف الأرض على أن يفرغ له هذا النصف ويقطع النصف الذي اشتراه كان جائزاً، لأن نصف الزرع وجب قطعه بالشرط في البيع ونصفه بالشرط في الشراء ذكره صاحب الإفصاح، ولو لم يقل على أن يفرغ له هذا النصف لا يجوز. وإن صالحه منه على جميع الأرض بشرط القطع على أن يسلم إليه الأرض فارغة صح كما لو اشترى أرضاً فيها زرع وشرط تفريغ الأرض جاز. فرع آخر لو أقر له بجميع الزرع ثم صالحه من نصفه على نصف الأرض لتكون الأرض والزرع بينهما نصفين وشرط القطع في الجميع نظر، فإن كان الزرع في الأرض بغير حق جاز الشرط لأن الزرع يجب قطع جميعه. وإن كان الزرع في الأرض بحق قال بعض أصحابنا: يجوز لأنه شرط قطع كل الزرع ففي أحد النصفين شرط على مشتري الزرع قطعه وفي النصف الثاني: شرط ليقبض مشتري الأرض هذه الأرض فارغة من الزرع. وقال أبو حامد: هذا قريب من الصواب وعندي أنه لا يجوز لأن المشتري شرط قطع ما اشتراه وبقي نصف الزرع لغيره وقد شرط قطعه فكأنه شرط قطع زرع لتسليم أرضه فارغة منه، وهذا محال وهو على ما قاله رحمة الله وارتضاه جمهور أصحابنا. ولو شرط القطع في أحد النصفين فلا إشكال أنه لا يجوز لأنه لا سبيل إليه لعدم تميزه ولا يجوز قطع جميعه. فرع آخر إذا أتلف رجل على رجل ثوبًا عليه أو عبدًا قيمته دينار فادعاه فأقر له به ثم صالحه

منه على أكثر من ذلك الثوب لم يجز. وقال أبو حنيفة: يجوز وهذا غلط، لأن الواجب في الذمة قيمة المتلف دون مثله، ولهذا لا يطالبه بمثله فإذا صالحه عليها بأكثر منها أو أقل فقد عاوض عليه متفاضًلا وهو ربًا [7/أ] في النقود فلا يجوز. فرع آخر لو كانت قيمته ألفًا فصالحه على ألف مؤجل لم يتأجل ولم يصح الصلح، وقال أبو حنيفة: يصح، وهذا أيضًا غلط لأن الواجب دين في ذمته فإذا كان عوضه مؤجًلا كان بيع دين بدين، وذلك لا يجوز. فرع آخر لو ادَّعى مالًا مجهولًا فأقر به ثم صالحه عليه لم يصح الصلح. وقال: أبو حنيفة: يصح وهذا غلط، لأن معاوضة ولهذا تثبيت فيه الشفعة فلم يصح في المجهول كالبيع. فرع آخر قال في الأم: لو صالحه على أن يسقي أرضًا له من نهر وعين وقتًا من الأوقات لم يجز، ولكنه يجوز له أن يصالحه على ثلث العين أو ربعها، وكان بيعًا لذلك القدر من القرار. وهكذا لو صالحه على أن يسقي ماشية له شهراً من مائة لم يجز، وإنما لا يجوز لأن الماء مجهول في كلتا المسألتين. فرع آخر قال في الأم: لو ادَّعى رجل على رجل شيئًا ثم صالحه بعد الإقرار له على مسيل ماء في أرضه فإن سمى له عرض الأرض التي يسيل عليها الماء وطولها ومنتهاها فجائز، لأن ذلك بيع موضع من أرضه. ولا يحتاج إن يبينا عمقه لأنه إذا ملك الموضع كان له النزول فيه إلى تخومه، وقال في الحاوي: إن قدر المدة كانت إجارة، وإن أطلق فيه وجهان، أحدهما: يكون بيعاً لما حد من الأرض لإجراء الماء فيه على التأبيد، والثاني: يكون إجارة ويبطل لأنه لم يذكر المدة. فرع آخر لو صالحه على أن يجري الماء في ساقية في أرض المصالح فإن هذا إجارة، قال في الأم: يلزمه تقدير المدة. قال أصحابنا: وإنما يصح إذا كانت الساقية محفورة، فإن لم تكن محفورة لم يجز لأنه لا يمكن المستأجر إجراء الماء إلا بالحفر وليس له الحفر في ملك غيره. ولأن ذلك إجارة لساقية وهي غير موجودة فإن حفر الساقية وصالحة جاز. فرع آخر لو كانت الأرض في يد المقر بإجارة جاز أن يصالحه على إجراء الماء في ساقية فيها محفورٍة مدة معلومة لا تجاوز مدة إجارته، وإن لم تكن الساقية محفورة لم يجز له

أن يصالحه على ذلك لأنه لا يجوز له إحداث ساقية في أرض غيره [7/ب] بإجارة. فرع آخر قال بعض أصحابنا: وكذلك إذا كانت الأرض وقفاً عليه جاز له أن يصالح على إجراء الماء في ساقية فيها محفورة مدة معلومة. وإن أراد أن يحفر فيها ساقية لم يكن له لأنه لا يملكها وإنما له أن يستوفي منفعتها كالأرض المستأجرة. فرع آخر لو صالحه على إجراء ماء سطحه على سطحه يجوز، ولكنه يشترط أن يكون السطح الذي يسيل الماء إليه معلومًا، لأن هذا يقل ويكثر ولا يحتمل السطح كل ما يجري عليه بخلاف الأرض. ويكون هذا فرعًا للإجارة، وقال بعض أصحابنا: لا يحتاج إلى ذكر المدة بخلاف الساقية لأنه لا يستوفي منافع السطح مع ذكر المدة بخلاف الساقية فإنه يستوفي منفعتها مع ذكر المدة. فرع آخر قال أصحابنا: لا يمنع الإنسان أن يبني في ملكه حمامًا بين الدور أو يؤاجر كانونه من الخباز للخبز بين العطارين. وقال أحمد رحمه الله في رواية: يمنع من ذلك، وبه قال بعض أصحاب أبي حنيفة، واحتج بأنه يضر بجاره فيمنع كما يمنع أن يرسل الماء في ملكه بحيث يضر بجاره أو يدق شيئًا على وجه يزعج حيطان جاره. وهذا غلط، لأن تصرف في ملكه الذي يختص به ولم يتعلق به حق غيره، فلا يمنع منه، كما لو طبخ في داره شيئًا لا يمنع منه إلا أن يلحق جاره دخانه. وأما الماء الذي قالوا فإنما يمنع لأنه يؤدي إلى إجراء الماء في ملك غيره فلم يجز. وأما الدق إن سلمنا فلأنه يهدم ملك غيره وهاهنا بخلافه. فرع آخر لو كان لرجل دار في زقاق بابها إليه وظهرها إلى زقاق آخر، فأراد أن يفتح بابًا من ظهرها إلى ذلك الزقاق فإن كان ذلك الزقاق نافذًا كان له ذلك، وإن كان غير نافذ يكن له لأن في ذلك مشاركة أهل الزقاق في الاستطراق ولا حق له في ذلك. قال القاضي الطبري: وهذا يدل على أن بعض أهل الزقاق إذا أراد أن يخرج روشنًا إلى الزقاق الذي لا ينفذ لا يجوز إلا بإذنهم. فرع آخر لو قال أشرع بابها إلى ذلك الزقاق ولا استطرقها منه بل أغلقه وأسمره، قال في الإفصاح: فيه وجهان، أحدهما: لا يجوز لأنه يوهم ذلك [8/أ] عند تطاول الزمان أنه مستحق للإستطراق لأن الباب من شواهد استحقاقه، والثاني: يجوز وهو الصحيح لأن له أن يرفع جميع الحائط فكان له أن يرفع بمقدار الباب، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله.

[فرع آخر] لو أراد أن يفتح فيه كوًة للضوء أو شباكًا جاز لما ذكرنا أن له رفع جميع الحائط ولا يكون دليًلا على الطريق، ولو قال: افتح كوة للنظارة فيه وجهان. فرع آخر لو كان باب داره في درب لا ينفذ وجانب منها إلى شارع فأراد أن يفتح بابًا إلى الشارع جاز. فإن قيل: فهو يجعل الدرب الذي لا ينفذ نافذًا فيجب أن لا يجوز، قلنا: ليس كذلك، بل يجعل داره نافذة، ألا ترى أن غيره لو أراد أن يستطرقها من الشارع لم يكن له. فرع آخر لو كان لرجلين في زقاق غير نافذ داران لكل واحد منهما دار بابها إلى هذا الزقاق، فأرادا سد الزقاق، قال في الإفصاح: يحتمل وجهين أحدهما: ليس لهما ذلك، والثاني: لهما ذلك وهذا أصح عندي ولا وجه للوجه الأول. فرع آخر لو كانت لرجل داران متلاصقان وباب كل واحدة منهما إلى زقاق غير نافٍذ وظهر كل واحدة من الدارين إلى الأخرى فأراد هدم الحائط الذي بين الدارين ليتسع داره لا للاستطراق جاز. وإن أراد فتح باب من إحدى الدارين إلى الأخرى ليستطرقه إلى الدارين من هذا الزقاق اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة ومالك، لأنه يجعل الزقاقين النافذين ولا يجوز ذلك، ولأنه يصير مستطرقاً إلى كل واحدة من الدارين من الزقاق الذي لا حق لها في الاستطراق منه ولا سبيل إلى ذلك. ولأنه يتغير به حكم الشفعة على قول من يوجب الشفعة بالطريق فلا يؤمن أن يتطرق به إلى إثبات الشفعة لنفسه على قدر الدارين. وقال بعض أصحابنا: وهو اختيار القاضي الطبري يجوز له ذلك، لأن له أن يزيل الحاجز بين الدارين ويجعلهما دارًا واحداً ويترك البابين على حاليهما فجاز أن ينفذ أحدهما إلى الأخرى، وهذا أقيس، ولكنه غير مشهور. فرع آخر لو كان لرجلين بابان في زقاق غير نافذ أحدهما قريب من باب الزقاق والباب [8/ب] الآخر في وسطه فأراد كل واحد منهما أن يقدم بابه إلى أول الزقاق كان له لأن له استطراق ذلك، وهذا ينقص من استطراقه. وإن أراد أن يؤخر بابه إلى صدر الزقاق فيه وجهان، أحدهما: ليس له ذلك وهو الأظهر لأنه يقدم بابه إلى موضع لا استطراق له فيه، والثاني: له ذلك لأن له يدًا في الدرب فكان الجميع في يدهما وهذا الحائط ملكه فإلى حيث ينتهي الحائط يكون فناؤه فله فتح الباب فيه، وإن كان لأحدهما باب يلي

باب الزقاق وللآخر باب في الصدر فأراد صاحب الصدر أن يقدم بابه إلى حد باب الآخر فهل له ذلك؟ مبني على الوجهين فإن قلنا لصاحب الباب الذي يلي باب الزقاق أو يؤخر لم يكن له لك، وإن قلنا: ليس له ذلك كان لصاحب باب الصدر أن يقدمه إلى الباب الثاني. فرع آخر إذا جوزنا لمن داره في صدر الزقاق تقديم بابه وهو الأصح فأراد دفع ذلك بإدخال ما وراء الباب المستحدث إلى صدر الزقاق في داره فيه وجهان، بناء على أن عرصة الزقاق مشتركة بين الدارين أم لا، فإن قلنا مشتركة ليس له ذلك، وإن قلنا: ليس بمشتركة وهو الأصح بل ما يحاذى باب الأول مختص بملك صاحب الصدر يجوز له ذلك. فرع آخر لو أراد صاحب الدار الأولى أن يقر بأنه في موضعه ويفتح دونه بابًا ثانيًا ويجعلها حجرتين جاز ولا يمنع لأن كليهما في موضع استطراقه، وقال أبو حنيفة: يمنع منه لأنه يستحق مدخًلا واحدًا فلا يتعدى إلى مدخلين وهذا غلط لما ذكرنا أنه يستحق الاستطراق فيه، فلا فرق بين أن يكون من مدخل أو مدخلين. فرع آخر لو أدعى على رجل شيئًا فأقر به وهما يعلمان ذلك ولكنهما لم يسمياه ثم قال له: صالحني منه على كذا جاز لأنه معلوم عندهما، وإن لم يذكراه نص عليه في الأم. فرع آخر لو كان لرجل جذع على حائط جاره فأراد صاحب الجدار أن ينقض الجدار ويزيل الجذع فقال له صاحبه: بعني معرض خشبي من حائطك ففعل جاز البيع، لأنه لما جاز أم يبيعه من غيره جاز له أن يبيعه منه. وكذلك إن كان ميزابًا في حائطه ونحو ذلك نص عليه في الأم. وبالله التوفيق. [9/أ]

كتاب الحوالة

كتاب الحوالة قال: أخبرنا مالك عن أبي الزناد .... الخبر. وهذا كما قال: الحوالة مشتقة من الإحالة والتحويل، وهو نقل الحق من محل إلى محل ومن ذمة إلى ذمة يقال: حولت الشيء من موضع إلى موضع إذا نقلت إليه. والأصل في جوازها ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مطل الغني ظلم وإذا أُتبع أحدكم على ملء فليتبع)). وقوله "أتبع" بتخفيف التاء وتسكينها وضم الألف ومعناه أحيل وأصحاب الحديث يقولون "أتبع" بالتشديد وهو غلط. وروي "من أتبع على سبيل فليتبع". وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أحيل أحدكم على ملء فليحتل) فإذا ثبت جوازها لا تتم الحوالة إلا بثلاثة أنفس محيل ومحتال ومحاٍل عليه، فالمحيل من يحيل بما عليه، والمحتال من له الحق، والمحال عليه من ينتقل حق المحتال إليه، وصفته أن يكون عليه دين فيطالبه به فيحيله على رجل له عليه دين من جنسه، فإذا أحاله عليه لم يجب على المحتال قبول الحوالة، بل هو إلى اختياره ورضاه. ... وقال داود وابو ثور: يلزمه قبول الحوالة إذا أحيل على ملىٍء، وروي هذا عن أحمد لظاهر الخبر الذي ذكرنا. وهذا غلط، لأن نقل الحق إلى العين لا يجوز إلا بالتراضي فنقله إلى الذمة أولى أن لا يجوز. ولو سأله الحوالة لا يجب على المحيل ذلك ويفتقر إلى رضاه لأن من له الحق يتخير في وجهة القضاء، وليس لمن له الدين أن يقول: أقضي ديني من هذا المال دون هذا. وأما المحال عليه هل يعتبر رضاه؟ فالمذهب المشهور أنه لا يعتبر رضاه وبه قال مالك وأحمد. وقال ابن أبي أحمد في "التلخيص": نص الشافعي في "الإملاء" على أنه: يعتبر رضاه ولا تتم إلا به وبه قال الاصطخري والزبيري وهو ظاهر مذهب المزني، لأنه أحد من يتم به الحوالة فيعتبر رضاه كالمحتال وبه قال أبو حنيفة رحمه الله، وهذا غلط لأن من له حق على إنسان له أن يقبضه بنفسه وبوكيله وليس لمن عليه الامتناع من الدفع إلى الوكيل فلا يكون له الامتناع من الدفع إلى المحتال لأن الحوالة أشد من الوكالة. ويفارق المحتال لأنه صاحب الحق وهو

يريد نقل حقه من محلَّ [9/ب] إلى محل آخر فيعتبر رضاه. وقال القفال: فيه مبنيان على أنها مبادلة أو استيفاء فإن قلنا: مبادلة يعتبر رضاه، لأن الإقراض لا يجوز إلا بالقضاء، وإن قلنا: استيفاء لا يعتبر. واختلف أصحابنا في حكم الحوالة فمنهم من قال: الحوالة بيع وهو أن المحيل يشتري ما في ذمته بماله في ذمة المحال عليه، والمحتال يتشري ما في ذمة المحال عليه من المحيل بماله في ذمته وهذا هو المنصوص عليه في كتاب "السلم"، وقال في كتاب "البيوع": لو حل عليه طعام فأحاله به على رجل له عليه طعام وأسلفه إياه لم يجز من قبل أن أصل ما كان له بيع وإحالته به بيع فجعل الحوالة بيعًا ولكن المقصد منه الرفق دون الفضل والربح، ولا ينعقد بلفظ البيع ويدخله خيار المجلس دون خيار الثلاث على ما ذكرنا، ويكون بمنزلة المبيع المقبوض بدليل جواز التصرف فيه قبل القبض. ومن أصحابنا من قال: هي إسقاط حق بعوٍض على طريق الرفق المعروف لأنها لا تجوز بلفظ البيع ولا تجوز الزيادة فيها والنقصان، وهي مشتقة من التحويل. ومن أصحابنا من قال: هي قبض وإقباض فكأنه قبض من المحيل وأقرض المحال عليه. وقال القاضي الطبري: ليس لهذا الخلاف فائدة أكثر من ثبوت خيار المجلس فإني لا أعرف بين أصحابنا خلافًا فإن الحوالة بالطعام الذي في الذمة بعقد السلم لا يجوز وسائر أصحابنا ذكر فوائد لهذا الخلاف على ما سنذكر إن شاء الله تعالى ثم إذا قلنا: إنه بيع هل هي في حكم بيع دين بدين خصَّ بالشرع أو في حكم بيع عين بدين وجهان، وعلى كلا الوجهين لا يدخلها خيار الثلاث. وقال في "الحاوي": هل تجوز الحوالة بالسلم؟ وجهان بناًء على الوجهين أنها بيع أو عقد بإرفاٍق. والصحيح أنها لا تجوز وجهًا واحدًا لأن الحوالة لا تجوز إلا في حق مستقر والمسلم فيه غير مستقر وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره) فالحوالة مفاوضة فلا يجوز إلا فيما يجوز أخذ العوض عنه. واعلم أن الحق الذي تصح فيه الحوالة هو كل ما يثبت مثله بالإتلاف في الذمة كالدراهم [10/أ] والدنانير والحبوب والأدهان فأما ما يضمن بالقيمة في الإتلاف كالثياب والحيوان لا تصح فيه الحوالة لأن المثل فيه لا يتحقق، ولهذا لا يضمن بمثله في الإتلاف، وهذا هو المشهور. ومن أصحابنا من قال: تصح الحوالة في كل مال يثبت في الذمة من الثياب وغيرها، وثبوته إنما يكون في القرض والسلم، ففي القرض تجوز الحوالة وفي السلم لا تجوز لما ذكرنا، فيعتبر شرطان، وأن يكون مستقراً في الذمة.

فرع الحوالة بالثمن في مدة الخيار هل تجوز أم لا؟ وجهان: أحدهما: لا يجوز قاله أبو حامد في "الجامع"، لأنه ليس بثابت مستقر، فإن قطع الخيار لم يثبت حتى يستأنف الحوالة. والثاني: يجوز لأنه يؤول إلى اللزوم. فرع آخر قال ابن الحداد: لو أحال السيد غريمة على مكاتبه بنجومه لا يجوز، لأن الكتابة عقد جائز من جهة العبد. ولو أحاله على مكاتبه بدين ثبت للسيد عليه من جهة المعاملة وجهان: أحدهما: لا يجوز أيضًا لأن ذلك الدين يبطل بالعجز كما يبطل النجوم. والثاني: يجوز وهو المذهب لأنه دين لازم. فرع آخر لو أحال المكاتب سيده بدينه أو بنجومه على أجنبي له عليه مثله جازت الحوالة قوًلا واحدًا، لأن الكتابة لازمة من جهة السيد. فرع آخر لو ثبت له في ذمة قاتل وليه لإبل الدية هل تجوز الحوالة؟ بها وجهان: أحدهما: لا تجوز وهو الصحيح لأنها مداومة الاثنان غير معلومة الأوصاف والحوالة لا تجوز بالمجهول. والثاني: تجوز لأنها ثابتة مستقرة في الذمة كما لو كانت قرضًا. وقيل: هما مبنيان على القولين للشافعي. إذا جعل هذا الإبل صداقًا أو صالح منها على ماٍل هل يجوز؟ قولان، وذكر أبو حامد: أن الحيوان إذا كان صداقًا ودخل بها الزوج جازت الحوالة وربما ذكره على أحد الوجهين. فرع آخر لا تصح الحوالة إلا أن يكون الحقان متساويين في الجنس والصفة فإن كانا من جنسين أحدهما دنانير والآخر لا تصح الحوالة لأن الحوالة لا تتم [10/ب] إلا في دينين في الذمة فأشبهت المقاصة، والمقاصة لا تجوز في جنسين فكذلك الحوالة، وأيضًا طريق الحوالة المعروف والرفق كالقرض، فإذا اختلف الجنسان دخل فيه الفضل والزيادة، وخرج عن معناه ولأنه يجبر المحال عليه على الحوالة على الصحيح من المذهب، ويمكن إجباره مع الاختلاف. وإن كانت الصفة مختلفة بأن يكون أحدهما دنانير نيسابورية والآخر خراسانية لا يجوز، وكذلك إذا كان أحدهما صحاحًا والآخر مكسرًا، أو كان أحدهما حاًلا والآخر مؤجًلا أو اختلف الأجلان أو كانت الحنطة من

نوعين لا تجوز الحوالة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: أما إذا أحال الدين الحال على من عليه للمحيل دين مؤجل لا يجوز لأنه ما أحال إلا بعوض وهو الأجل والأجل لا يلزم. ولو أحال صاحب الدين المؤجل على من عليه دين حال فوجهان: أحدهما: لا يجوز لاختلاف الدينين في الصفة. والثاني: يجوز وهو على قولنا إنها استيفاء فكأنه عجل له حقه. فرع آخر لو أحال بغير النقد من الحنطة والشعير، فإن كان وجوبها في الذمتين أو وجوب أحدهما في إحدى الذمتين بعقد المعاوضة لا يجوز نص عليه، وإن أوجبنا بالائتلاف أو القرض يجوز ذكره القاضي الطبري رحمه الله. فرع آخر هل يصح اشتراط الرهن فيها والضمين فإن قلنا: إنها في حكم بيع عين بدين جاز، وإن قلنا: إ؟ نها في حكم بيع دين بدين لا يجوز. فرع آخر لو قال: أحلتك بما لك على فلان وهما لا يعلمان قدره أو لا يعلمه أحدهما لم يجز. فرع آخر لو أحال على من لا حق له في ذمته لا يلزم على المحال عليه قبوله. فإن قيل: هل تصح الحوالة وجهان؟ أحدهما: لا تصح وهو الصحيح لأنها إذا لم تصح مع اختلاف الجنسين في الجنس أو الصفة فلأن لا تجوز عند عدم أصل الحق إلي. والثاني: تجوز وبه قال أبو حنيفة، ويسقط الحق عنه لأ؟ نه يلزمه بالقبول كما يلزم على الضامن، وإن لم يكن عليه مال وقال القفال: هما مبنيان على ما تقدم من الوجهين فإن قلنا: الحوالة مبادلة لا تجوز، وإن قلنا استيفاء تجوز. قال: وفي الحقيقة هذه الحوالة ضمان [11/أ] بشرط أن يبراء المضمون عنه فكأن المحال عليه ضمن ما في ذمة المحيل بشرط أن يبرأ المحيل ولا حاجة هاهنا إلى رضا المحيل وينفي رضا المحتال، وإن كان من أصحابنا من لا يشترط رضا المضمون له لأن هذا ضمان بشرط براءة المضمون عنه فلابد من رضاه ليبرأ المحيل من حقه، وإنما يحتاج المحال عليه إلى رضا المحيل لحق الرجوع عليه، فإن كان بإذنه ثبت الرجوع عليه وإلا فلا. ومن هاهنا ذكر بعض أصحابنا أن رضى المحيل في أصل الحوالة هل يشترط؟ وجهان، بناًء على أن الضمان بشرط البراءة هل يصح وجهان، وهذا كله غير مشهور.

فرع آخر إذا قلنا: تصح الحوالة على من لا عليه وقيل: برضا المحيل له أن يطالب المحيل بتخليصه وقضاء الحق عند مطالبته المحتال، كالضامن يطالب المضمون عنه بتخليصه. فرع آخر لو دفع الحق ولم يطالبه بتخليصه فإن دفع بإذن المحيل رجع عليه، وإن دفع من غير إذنه فيه وجهان: أحدهما: يرجع عليه لأن الالتزام كان بأمره. والثاني: لا يرجع لأن الأداء كان بغير أمره. وقيل فيه وجه ثالث: أنه إن أجبر على أداء الحق رجع إليه وإن دفع مختارًا لا يرجع. فرع آخر لو اختلفا عند الرجوع فقال المحال عليه: لم يكن عليَّ شيء، وقال المحيل: كان لى عليك ما أديت الحوالة فالقول قول المحال عليه لأن الأصل أنه لا شيء عليه، ذكره ابن سريج رحمه الله. فرع آخر لو أبراً المحتال لم يرجع هو على المحيل لأنه لم يغرم عنه شيئاً. وإن دفع الحق ثم وهبه له هل يرجع عليه؟ وجهان: أحدهما: لا يرجع لأنه لم يغرم شيئًا. والثاني: يرجع وبه قال أبو حنيفة رحمه الله لأنه غرم ثم رجع إليه بجهة أخرى، وهذان الوجهان كالقولين فيما لو وهبت المرأة صداقها للزوج ثم طلقها قبل الدخول هل يرجع الزوج عليها بنصف الصداق؟ قولان. فرع آخر لو قيل من لا دين عليه الحوالة ثم أحال المحتال على آخر، فإن أحاله على من له عليه دين رجع في الحال على المحيل لأنه غرم، وإن أحال على من لا دين عليه لا يرجع في الحال على المحيل أو يوقف فإن غرم له المحال عيه ثانيًا رجع الأول على المحيل، وإن لم يغرم لا يرجع. فرع آخر لو ضمن [11/ب] رجل ألف درهم ثم أحال الضامن المضمون له على رجل له عليه ألف بالألف وقبل الحوالة برئ الضامن والمضمون عنه ورجع الضامن على المضمون عنه إن كان ضمن بأمره وقضى بأمره. وإن كان ضمن بأمره وقضى بغير أمره فعلى وجهين، وسواء قبض المحتال، وأبرأه لأن الضامن غرم فإن برأه حصل

للمحال عليه فلا يسقط رجوع الضامن. وإن أحاله على من ليس عليه شيء فإن قلنا: لا تصح الحوالة فالمال باقٍ على الضامن بحاله، وإن قلنا: تصح الحوالة فقد برئت ذمة الضامن والمضمون عنه بشيء في الحال لأنه لم يغرم شيئًا، فإن قبض المحتال الحق رجع المحال عليه على الضامن ورجع الضامن على المضمون عنه، وإن أبرأه لم يرجع على المحيل الضامن ولم يرجع الضامن على المضمون عنه لأنه لم يغرم عنه شيئًا. فرع آخر إذا قلنا: لا تصح الحوالة على من لا دين عليه يصير كأنه التزم قضاء دين عن غيره، فإن شاء أوفي به، وإن شاء رجع عنه، فإن وفي به هل يرجع فالحكم على ما ذكرنا. مسألة: قال: وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الحَقَّ يُحَوَّلُ على المُحَالِ عَلَيْهِ. الفصل وهذا كما قال: إذا صحت الحوالة وتحول الحق إلى المحال عليه وبرئ المحيل فلا يجوز له مطالبة المحيل بوجه سواء أفلس أو مات مفلسًا، وبه قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه، ومالك والليث وأحمد رحمهم الله، وحكي عن زفر أنه قال: الحوالة تجري مجرى الضمان وله مطالبة من شاء من المحيل والمحال عليه، وهذا قول بخلاف الإجماع لا عبرة به، وقد ذكرنا أن الحوالة من التحويل والضمان من ضمن الذمة إلى الذمة فحققنا حكم الاسم فيهما. وقال: الحكم يرجع عليه إذا مات المحال عليه مفلسًا ولا يرجع في غير هذا الموضع. وقال أبو حنيفة: يرجع هاهنا وإذا جحد الحق وحلف. وقال أبو يوسف ومحمد: ويرجع أيضًا إذا أفلس في حياته وحجر عليه الحاكم. واحتج الشافعي بخبر أبي هريرة الذي ذكرنا، ووجه الدليل منه أنه لو كان للمحتال الرجوع لما فسر عدم ... المال في المحال عليه عند الحوالة، وقد ذكر ذلك حين قال: «فإذا أحيل أحدكم على مليءٍ فليحتل». وفي هذا الخبر دليل على أن المديون إذا حل عليه الدين فسوّف مماطلًا مع التمكن من الإيفاء كان ظالمًا، ولو [12/ أ] أخر قضاءه للإعسار لا يكون ظالمًا من طريق المفهوم، لأنه ليس بغني وهذا الفقير لو مات لقي الله تعالى معذورًا. وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لأن أموت وعليَّ دين يعلم الله تعالى أني أريد قضاءه أحب إليَّ من أن أخلف مثله مالًا، وهذا دليل على أنه مع فقره لو أضمر أن لا يقضي الدين عند يساره فمات فقيرًا مات عاصيًا. فإن قال قائل: أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث عمير: «إن مات وعليه دين حجب من الجنة». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نفس المؤمن مرتهنة بدينه حتى يقضى».

قلنا: يحتمل أنه قال في رجل فرط في قضائه مع الميسرة أو نوى ترك القضاء أو استدان فيما لا يرضاه الله تعالى. وفي الخبر الذي ذكرنا دليل أيضًا على أن المديون يخرج عن صفة المطل والظلم بالإحالة كما يخرج بالقضاء عنه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم عقب الظلم بالحوالة وأمر المستحق بقبولها. وفيه دليل أيضًا على أن صاحب الدين مأمور من جهة الندب بقبول الحوالة، وإنما يكون مندوبًا إذا أحيل على ملء. ثم حكى الشافعيعن محمد بن الحسن أنه احتج بأن عثمان رضي الله عنه قال في الحوالة أو الكفالة: يرجع صاحبها لا توى على مال مسلم. قال الشافعي: «وهو عندي يبطل من وجهين»، ولو صح لما كان له فيه حجة لأنه لا يدري قال ذلك في الحوالة أو الكفالة. وقوله: وهو عندي يبطل من وجهين اختصار مشكل، وتفسير أحد الوجهين أن راوي هذا خليد بن جعفر وهو مجهول جدًا. والثاني: أن خليدًا رواه عن إياس بن معاوية بن قرّة عن عثمان وإياس ما رأى عثمان رضي الله عنه. ثم أجاب بأنه لا يدري، قال ذلك في الحوالة أو الكفالة، وعندنا يرجع في الكفالة فبطل الاحتجاج به. ثم أصحابنا عارضوا بما روي أنه كان لحزن جد سعيد بن المسيب على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه مال فسأله أن يحيله على آخر فأحاله فمات المحال عليه فرجع إلى عليّ فقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: اخترت علينا غيرنا أبعدك الله فدل أنه ليس له الرجوع المحيل بحال. فإذا تقرر هذا لو لم يعلمه المحتال مفلسًا فظهر مفلسًا بعد قبوله الحوالة لا رجوع له وكذلك لو غره وقال له: إنه هذا المحال عليه مليء وفي فقبل الحوالة ثم بان فقره لا يرجع، وقال مالك: يرجع [12 ب/ 8] عليه غره أم لم يغره إذا لم يكن علم بإعساره. واحتج بأن الظاهر السلامة والإعسار عيب فصار كما لو وجد بالمبيع عيبًا له الخيار. وهذا غلط، لأن الأصل الإعسار لا اليسار ولأنه لو حدث الإعسار قبل قبض الحق لا رجوع بخلاف ما لو حدث العيب بالمبيع قبل القبض فدل على الفرق. وقال ابن سريج: إذا غره يرجع عليه والذي نقله المزني لا يعرف في شيء من كتب الشافعي، وغلط في نقله لأنه بمنزلة سلعة يشتريها ثم يجد بها عيبًا له ردها، وهذا اختيار أبي حامد، وقال أيضًا: هو كما لو شرط البكارة في شراء الجارية ثم وجدها ثيبًا له الرد لا للعيب، ولكن للخلف في الشرط، وكذلك لو شرط كون العبد المبيع كاتبًا أو خبازًا فلم يكن له الرد. وقال سائر أصحابنا: وهو الصحيح الأمر على ما قال المزني، وهو ثقة في النقل والدليل عليه أنه لو وضعه أنه غير مطولٍ فوجده مطولًا فله

باب

الاختيار، كذلك هاهنا ويفارق البيع لأنه لو باع عبدًا وشرط أنه ثقة أمين فوجده خائنًا له الخيار. ولأنه لو كان له الرجوع عند الشرط لكان له الرجوع عند عدم الشرط لأن كل نقص وعيب يثبت الرجوع بالشرط يثبت عند عدم الشرط كالرد بالعيب. ولأن حكم هذا الغرور حكم الغبن فلا يثبت به الخيار. فرع لو أحاله على رجل فقبل الحوالة ثم وجده عبدًا قال في «الإفصاح»: قال بعض أصحابنا: ينظر فيه فإن كان عبدًا لغير المحيل يتبعه إذا أعتق لأنه للعبد ذمة. وإن كان عبدًا للمحيل فإن كان له كسب تعلق بكسبه، وإن لم يكن له كسب ففي ذمته وهذا إذا قلنا: الحوالة تصح من غير أن يكون للمحيل على المحال عليه دين، فأما إذا قلنا: لا تتم الحوالة إذا لم يكن للمحيل على المحال عليه دين فهاهنا لا تصح الحوالة. باب قال المزني رحمه الله: هذه مسائل تحيرت فيها معاني جوابات الشافعي رحمة الله عليه في الحوالة، قال من ذلك لو اشترى عبدًا بألف درهم وقبضه. الفصل وهذا كما قال: إذا اشترى عبدًا بألف درهم ولزم البيع وثبت للبائع الثمن في ذمة المشتري فأحال المشتري البائع بالثمن على رجل له عليه ألف فقبل [13 أ/ 8] البائع الحوالة وبرئت ذمة المشتري عن الثمن، ثم أصاب المشتري بالعبد عيبًا فرده على البائع وانفسخ البيع ووجب للمشتري الثمن نقل المزني أن الحوالة باطلة. وقال في جامعه الكبير: إنها لا تبطل، وقال فيه: وإن كان بينهما خيار الثلاث فرد في مدة الخيار وبطلت الحوالة لأنهما إذا تبايعا بشرط الخيار فرد لم يتم بيعها. قال القاضي الطبري رحمه الله: هذا دليل على أن الحوالة بالثمن في مدة الخيار جائزة لأنه قال: بطلت الحوالة فذلك أنها كانت جائزة ثم بطلت بخلاف ما ذكر القاضي أبو حامد في الجامع. واختلف أصحابنا في هذه المسألة على أربعة طرق، فقال أبو إسحاق وابن أبي هريرة: الحوالة باطلة كما ذكر هاهنا، والذي ذكره في الجامع الكبير خطأ من الناقل. وقال أبو حامد في الجامع: يبطل كما قال أبو إسحاق، وتأملت الجامع الكبير ونظرت في كثير من نسخه غير نسختي فوجدت الجواب في جميعها واحدًا، وغلط أصحابنا في نقله، وهذا لأن الحوالة تثبت بثبوت الثمن، فإذا رد المشتري العبد بالعيب فقد سقط الثمن، وإذا سقط الثمن بطلت الحوالة. قال ابن أبي هريرة: وعلى هذا. أقول: إذا كان البائع قبض مال الحوالة ولكن المحال عليه صار بريئًا لأن البائع قبضه بإذن المشتري فهو في

معنى الوكيل فيرجع المشتري على البائع بالألف. وقال صاحب «الإفصاح»: لا تبطل الحوالة قولًا واحدًا على ما قال في «الجامع الكبير»، والذي نقله المزني قول مرجوع عنه، واحتج بأن الحوالة كالقبض والحق الذي كان للبائع في ذمة المشتري أخذ به ذمة أخرى فصار كما لو أخذ به عرضًا ولو أخذ به عرضًا ثم رد العبد بالعيب لا يبطل الملك في العض كذلك هاهنا. ويوكده أن أخذ الذمة أقوى من أخذ العرض فوجب أن يكون بالثبوت أولى. وهذا الذي قاله لا يصح لما ذكرنا. وأما ما ذكر من المسألة فالشيخ أبو حامد لم ينكرها وأجاب عنها بأن العرض ملكه بعقد آخر وهاهنا نفس الحق يحول إلى ذمة المحال عليه، ولهذا لا يجوز أن يختلف ما في ذمة المحيل والمحال عليه فافترقا. وقال القاضي الطبري: لا نسلم هذه المسألة أيضًا، وإذا فسخ البيع بالعيب يلزمه رد [13 ب/ 8] العرض الذي أخذه بدلًا من الثمن، ولا فرق بين المسألتين. ومن أصحابنا من قال: يحمل القولين على اختلاف الحالين، فالذي قاله هاهنا أراد إذا لم يكن قبض البائع من المحال عليه مال الحوالة، والذي قال في «الجامع الكبير»: أراد إذا كان قد قبض المال فإن المحال عليه قد برئ فلا يجوز انتقاضه بعد سقوط الحق، وبراءة ذمته منه. ومن أصحابنا من قال: يحمل على اختلاف حالين من وجه آخر، فالذي قال هاهنا أراد إذا كان العيب متقدمًا لا يجوز حدوث مثله بعد القبض أو يجوز حدوث مثله ولكن البائع اعترف بأنه كان به قبل القبض فتبطل الحوالة، لأن البائع اعترف أنه لا يستحق الثمن. والذي قال في «الجامع الكبير»: أراد إذا أنكر البائع هذا وكان العيب مما يجوز حدوثه بعد القبض فنكل البائع عن اليمين وردّ اليمين على المشتري فحلف واستحق الرد لا تبطل الحوالة، لأن الحوالة تبطل باتفاق المحيل والمحتال كما كان تمامها بهما، ولو أبطلناها هنا لأبطلناها بقول المحتال وحده، وهو المشتري، ويحكى هذه الطريقة عن أبي إسحاق، وفي هذا نظر لأنه إذا استحق الرد بالثمن مع النكول كان بمنزلة إقراره. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه طريقة خامسة وهي: أن فيه قولين مبنيين على المعنيين فإن قلنا: الحوالة مبادلة لم تبطل كما قلنا في المسألة التي احتج بها صاحب «الإفصاح»، وإن قلنا: إنها قبض بطل لأنه نوع رفق فلما سقط الثمن عن ذمة المشتري بطل ذلك الرفق، كما لو اشترى شيئًا بألف مكسر فأعطى البائع ألفًا صحاحًا ثم رد المبيع بالعيب يلزم البائع أن يرد إليه ألفًا صحاحًا، وليس له أن يقول: أرد المكسر ويبقى لي الرفق لأن ذلك الرفق تبع لهذا البيع، وقد فسخ البيع. وقال هذا القائل: فإذا قلنا: لا تبطل الحوالة فإن كان البائع قبض المال سلمه إلى المشتري. وإن لم يكن قبض هل للمشتري أن يطالبه بالمال قبل أن يقبضه هو من المحال عليه؟ وجهان، والأصح أنه لا يلزمه رد المال إليه، وليس له مطالبته لأن الرد على حسب القبض، وهو لم يقبض عين المال وإنما قبض حكمًا. وسائر أصحابنا

قالوا: المشتري يطالب البائع بالألف بكل والبائع يطالب المحال [14/ أ] عليه بألف وهذا أصح عندي. وقيل: أصح الطرق إن لم يصح النقلان الطريقة الأولى، وإن صح النفلان فالطريقة الثالثة. فرع لو تزوج امرأةً وأصدقها ألفًا ثم أحالها بالألف على رجل له عليه ألف فقبلت وبرئت ذمة الزوج، ثم انفسخ النكاح قبل الدخول بالردة من جهتها، قال ابن سريج رحمه الله: الحكم فيه كما لو انفسخ البيع بالعيب وقد ذكرنا، وقال القاضي الطبري: عندي إن لم تكن قبضت بطلت الحوالة وللمحيل مطالبته بدينه، وإن كانت قبضت يأخذه الزوج من يدها والمحال عليه برئ بدفعها إليها. فرع آخر لو كان البائع هو المحيل والمشتري هو المحتال عليه والمحال أجنبي فقبل الحوالة برئ المشتري من حق المحيل فصار الحق عليه للأجنبي دون البائع، فإذا أصاب المشتري به عيبًا فرده وانفسخ البيع، قال ابن سريج: لم تبطل الحوالة وجهًا واحدًا ورجع المشتري على البائع بالثمن، لأن المحتال ملك المال بعقد بعد تمام البيع بين البائع والمشتري فكان في إبطالها إبطال الحق الثابت للأجنبي، ولا يجوز ذلك فبقيت بحالها. وهكذا إذا كان العبد في يد البائع قبل التسليم لم تبطل الحوالة، لأن ملك الثمن إذا زال إلى غير المتعاقدين بعقد مستأنف لم يبطل العقد بفسخ البيع، وإذا لم يزل إلى غير المتعاقدين بطل العقد الثاني بفسخ البيع الأول. مسألة: قال: وَلَوْ كَانَ البَائِعُ أَحَالَ عَلَى المُشْتَريْ بِهَذِه الأَلْفِ رَجُلًا لَهُ عَلَيْهِ أَلفٌ ثُمَّ تَصَادَقَ البَائِعُ وَالمُشْتَريْ أَنَّ العَبْدَ الذِيْ تَبايَعَاهُ حُرُّ الأَصْلِ فَإِنَّ الحَوَالَةَ لَا تَنْتَقِضُ. الفصل وهذا كما قال: لو باع رجل من رجل عبدًا وأحال البائع بالثمن رجلًا آخر على المشتري ثم تصادق البائع والمشتري على أن العبد كان حر الأصل، نظر فإن كذبهما المحتال لم يقبل قولهما عليه كما لو باع المشتري العبد ثم اعترف هو وبائعه أنه كان حرًّا لم يقبل قوله على المشتري الثاني، ويحلف المحتال أن البيع وقع على رقيق يملك فإذا حلف حكم بصحة الحوالة، ويطالب المشتري بالألف. وإن أقاما بيّنة لم تسمع منهما [14 ب/ 8] لأنهما كذبا بنيتهما بدخولهما في التبايع. وإن أقام العبد البيّنة بحريته ثبتت حريته وبطلت الحوالة. وإن صدقهما المحتال بطلت الحوالة باعترافه. ولو صدقهما المحتال وادعى أن الحوالة كانت بغير ثمن العبد فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف لا تبطل الحوالة لجواز أن يكون الألف الذي له على المشتري من غير ثمن هذا

العبد ولا يرجع المشتري على المحيل بشيء، لأنه مقر بأن المحتال ظلمه فلا يرجع عليه بما ظلمه به غيره. ولو أقام البينة على أن الحوالة كانت ثمنه سُمعت البينة في ذلك لأنهما لم يكذباها. مسألة: قال: وَلَوْ أَحَالَ رَجُلٌ عَلَى رَجُلٍ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَضَمِنَهُ لَهُ ثُمَّ اخْتَلَفَا. الفصل وهذا كما قال: إذا أحال رجل على رجل بألف درهم وبعثه له ثم اختلفا لا يخلو اختلافهما من أحد أمرين: إما أن يكون في لفظ الحوالة فيقول المحيل: ما تلفظت بلفظ الحوالة فأنت وكيلي في قبضه، وقال المحتال: تلفظت بلفظ الحوالة فالحق لي استوفيته لنفسي، فالقول قول المحيل مع يمينه، لأن الأصل أن حق المحتال في ذمة المحيل وحق المحيل في ذمة المحتال عليه والمحتال مدعي لانتقاله فكان عليه البينة، وإما أن يتفقا على لفظ الحوالة مثل أن يقول: أحلتك على فلان بألف درهم ولم يقل بالألف الذي لك عليَّ وقبله المحتال على هذا الإطلاق، ثم اختلفا فقال المحيل: أردت بها الوكالة، وقال المحتال: أردت بها الحوالة قال المزني: القول قول المحيل وبه قال أبو حنيفة رحمه الله وصوّبه أبو إسحاق وابن أبي هريرة وغيرهما رحمهم الله، لأنهما لو اختلفا في اللفظ كان القول قوله فكذلك إذا اختلفا في معناه لأن الأصل أن حق كل واحد منهما ثابت في الذمة التي وجب فيها والمحتال يدعي انتقال حقه وتملك الحق الذي كان للمحيل في ذمة غيره فكان عليه البينة. ومن أصحابنا من خالف المزني، وقال: القول قول المحتال، لأن الظاهر معه فإن لفظ الحوالة موضوع لإسقاط الدين بعوض دون التوكيل وهذا اختيار ابن سريج رحمه الله، والأول هو المشهور. فإذا ثبت هذا فلا يخلو المحتال من أحد أمرين: إما أن يكون قد قبض المال من المحال عليه أو لم يكن قبض، فإن كان قد قبض فقد برئ [15/ أ] المحال عليه لأنه دفعه إليه بإذن صاحبه. فإن كان باقيًا في يده وكان المحيل غير ممتنع من أداء حق المحتال أخذ المال من يده ودفع إليه حقه. وإن كان ممتنعًا كان للمحتال أخذه بحقه. ومن أصحابنا من قال: إذا أخذ منه المحيل ما قبضه فهل يرجع هو عليه بحقه وجهان: أحدهما: لا يرجع عليه لأنه أقر بأنه برئ من حقه بالحوالة. والثاني: يرجع وهو الأصح لأن هذا المحيل قد أخذ ما قبضه هو، فإن كان صادقًا في الوكالة فحقه عليه باقٍ، وإن كان كاذبًا فما أخذه منه أخذه بغير حق فكان له المطالبة بدينه، فإنه واجب عليه بقولهما. وإن كان تالفًا نظر فإن كان قد تلف بغير صنع

منه لا شيء عليه، لأنهما اتفقا على براءته، فإن المحيل يقول: كنت وكيلي فلا ضمان عليك فيما تلف في يدك والمحتال يقول: تلف مالي. وإن كان قد أتلفه كان عليه ضمانه وقد وجب عليه مثل حقه فيتقاضان. وإن لم يكن قبضه من المحال عليه لم يكن له مطالبة المحال عليه بالمال، لأن الحوالة لم تثبت له، والوكالة قد أنكرها فلا تكون له المطالبة بوجه وللمحيل مطالبة المحال عليه بالمال الذي في ذمته، وهل يجوز للمحتال مطالبة المحيل؟ وجهان: أحدهما: لا مطالبة له لأنه أقر أنه لا حق له في ذمته. والثاني: له مطالبته لأن الحاكم قد حكم بأنه كان وكيلًا فله أن يرجع بما له على المحيل؟ ولو خالف وقبض هل يضمن؟ وجهان، بناء على أنها هل تكون حوالة فاسدة؟ أو وكالة فاسدة؟ فإن قلنا: حوالة فاسدة يضمن، وإن قلنا: وكالة فاسدة لا يضمن، ذكره في «الحاوي». وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن كان في الابتداء لفظ الحوالة فالقول قول المحتال قولًا واحدًا، وصورة ما ذكر المزني أنه قال: اقبض من فلان ما لي عليه وهو ألف درهم ثم اختلفا ماذا أراد به الحوالة أو الوكالة، فالقول قوله إنه أراد الوكالة، وإنما يفيد هذا الاختلاف إذا كان الآمر قد أفلس فلو ثبتت الحوالة لكان حق المحتال قد وصل اليد ولم يحتج إلى مزاحمة الغرماء. وإن كانت وكالة احتاج إلى مزاحمة الغرماء. فإن قال قائل على هذا لمَ صور المزني المسألة بلفظ الحوالة، وقال في آخر التصوير: وتصادقا على الحوالة والضمان، قلنا: المصنف قد يصور المسألة أحيانًا بعين لفظ متخاصمين [15/ ب] وأحيانًا بمعنى لفظهما لا بعين عبارتهما، فصورة المسألة ما ذكرنا أنه قال: اقبض من فلان ألف درهم، ثم اختلفا فقال المأمور: كنت محتالًا، وقال الآمر: كنت وكيلًا، قال هذا القائل: ولو قال المأمور: قلت لي: خذ ومرادك الحوالة، أو مرادك الوكالة لم يقبل منه دعوى المراد ولا يسمع في ذلك دعوى الضمائر، وحكي عن ابن سريج أنه قال: بالوجهان فيه مبنيان على أصل وهو إذا ضرب مكفوفًا فقده باثنين ثم اختلف هو وولي المقدود أنه كان حيًا أو ميتًا فيه قولان: أحدهما: القول قول الولي لأن الأصل بقاء الحياة. والثاني: القول قول الجاني لأن الأصل براءة الذمة، كذلك هاهنا الأصل بقاء المحيل في ذمة المحال عليه وحقيقة اللفظ للحوالة، فكانت المسألة على وجهين. وأما قوله: «وضمنها له» قد قيل: ذكره تأكيدًا ولا يكون ضمان المحال عليه شرطًا في صحة الحوالة، وقيل: إنه شرط في صحة الحوالة وهذا قول المزني والزبيري والاصطخري، ومن قال يعتبر فيها رضا المحال عليه. وقيل: إنه صور في الحوالة على من لا حق

عليه للمحيل فيجري مجرى الضمان، ولا يصح إلا برضاه. مسألة: قال المزني رحمه الله: ولو قال المحتال أحلتني عليه لأقْبِضَهُ لك. الفصل وهذا كما قال هذه المسألة بالعكس مما تقدم وهي أن: يقول المحيل أحلتك بما لك عليَّ حتى تقبضه لنفسك، وقال المحتال: كنت وكيلًا لك وإنما يقع هذا الاختلاف إذا كان المحال عليه مفلسًا أن يكون المال تلف في يد القابض فيكون القول قول المحتال مع يمينه على قول المزني وأكثر أصحابنا، ويكون القول قول المحيل على قول ابن سريج لأن الظاهر معه. فإذا قلنا بالأول: فحلف حكمنا بأنه وكيله وأن حقه باقٍ في ذمة المحيل، ثم لا يخلو إما أن يكون قد قبض الألف أو لا فإن لم يكن قبض كان للمحتال قبض حقه من المحيل، وهل يرجع المحيل على المحال عليه؟ وجهان: أحدهما: يرجع لأن الحاكم حكم بأن المحتال وكيله وما قبض. ولأن إقراره بها للمحتال مشروط بسقوط حقه من ذمته وما سقط هاهنا. والثاني: لا يرجع لأنه معترف بأن ذمة المحال عليه قد برئته بالحوالة عن حقه. وليس له بعد ما حلف أنه كان وكيلًا أن يقبض الحق من المحال عليه، لأنه صار معزولًا بقول المحيل. وإن كان قد قبض [16/ أ] الحق برئت ذمة المحال عليه، لأنه قبض ما عليه للمحيل بأمره. ثم لا يخلو الألف المقبوض من أحد أمرين: إما أن تكون قائمة، أو تالفة، فإن كانت قائمة والمحتال يقول: هو في يدي أمانة للمحيل لأني وكيله في الحفظ له، والمحيل يقول: بل الألف له لأنه قبضه لنفسه فيقول الحاكم للمحتال: أنت تدعي على المحيل ألفًا وله في يدك ألفًا فأمسكه لنفسك. وإن كانت الألف تالفة نظر فإن كان بتفريط من المحتال فعليه ضمانه للمحل وله على المحيل ألف فيتقاصان على ما نقوله في المقاصة، وإن تلف بغير تفريط فالمذهب أنه لا يضمنه ويرجع إلى المحيل بحقه لأنه ثبت أنه وكيل بيمينه، والتوكيل لا يضمن إلا بالتعدي. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان: أحدهما: هذا. والثاني: لا ينفعه يمينه في أن لا يضمن ما تلف في يده فيحلف الآمر ويغرمه ما قبض وتلف في يده، وإنما ينفعه يمينه في أنه لا حوالة والصحيح ما ذكرنا. فرع لو قال: ضمنت لك مالك على فلان على أنه بريء منه فالحكم فيه مبني على ما ذكرنا من الخلاف، فعلى قول المزني: يكون حوالةً بلفظ الضمان، وعلى قياس قول ابن سريج: يكون ضمانًا باطلًا اعتبارًا بظاهر اللفظ.

فرع آخر لو قال: أحلتك على زيد على أني ضامن للمال حتى تقبضه فعلى قياس قول المزني: يكون ضمانًا بلفظ الحوالة فيصح إذا قبل المحال عليه، وعلى قياس قول ابن سريج: يكون حوالة فاسدة اعتبارًا بظاهر اللفظ، وما اقترن به من فساد الشرط. مسألة: قال: وَلَوْ كَانَ لِرَجُلٍ عَلَى رَجُلٍ أَلْفَ دِرْهَمٍ فَأَحَالَهُ المَطْلُوبُ بِهِ عَلَى رَجُلٍ عَلَيْهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ ثُمَّ أَحَالَهُ المُحْتالُ بِهِ عَلَيْهِ عَلَى ثَالِثٍ. الفصل وهذا كما قال: المحال عليه إذا أحال المحتال على آخر صحت الحوالة لأنه دين يجوز أن يأخذ عنه عوضًا فجاز أن يحيل به، وهذا يدل على أن مال الحوالة بمنزلة المقبوض لأن التصرف فيه جائز مجرد العقد. وعلى هذا أبدًا يكون المحتال واحدًا والمحال عليه يتكرر. ولو أن الأخير أحاله على الأول ما أحال عليه، وإن تكرر المحتال دون المحال عليه مثل أن قبل الحوالة فتحول الحق إلى ذمة المحال عليه ثم المحتال أحال به آخر عليه ثم المحتال الثاني أحال به آخر عليه ثم الثالث أحال به آخر عليه فكل هذا [16/ ب] صحيح، لأنها حوالة بحق ثابت، فلا فرق بين أن يتكرر المحتال أو المحال عليه، وليست الحوالة في ذلك كالضمان، لأن الحوالة كاسمها إحالة حق من ذمة إلى ذمة، والضمان كاسمه ضم ذمة إلى ذمة، وتضمين حق في ذمة. وأما قول المزني رحمه الله: «فأحاله على رجل له عليه ألف درهم» دليل على أنه لا تصح الحوالة على من لا حق عليه. فرع لو كان له على رجل ألف درهم فقال لآخر: لا حق له عليه أحلتك بألف درهم على فلان على أنك إذا أخذت منه فأنت بريء مني، قال ابن سريج: لا يصح هذا الشرط، والظاهر أنه وكالة لأنه لا يجوز أن يكون حوالة ولا حق له عليه ولا يجوز أن يكون هبة له لأنه هبته ما في ذمة الغير لا تجوز. فإن مات المحال عليه لم تبطل الوكالة، وإن مات المحيل بطلت، لأن الوكالة تبطل بموت الموكل. فرع آخر لو أحاله على رجل بدين له عليه ثم دفع المحيل المال الذي كان عليه إلى المحتال صح قضاؤه للدين عن المحال عليه، ولا يرجع به عليه لأنه قضى عنه الدين بغير إذنه، وقال أبو حينفة: له الرجوع به ولا يكون متبرعًا بناءً على أصله أن الدين باقي في ذمة المحيل من طريق الحكم، ولهذا يرجع عليه عند تعذره، وهذا غلط لأنه لا يملك إبطال الحوالة وإسقاط حقه عن المحال عليه فما يدفعه يكون تبرعًا فلا رجوع به.

فرع آخر لو أحال بدين مؤجل إلى سنة على رجل له عليه دين مؤجل إلى سنة صحت الحوالة ثم إن مات المحيل لم يحل دين المحتال لأن الدين قد سقط عنه بالحوالة، ولو مات المحال عليه حَلَّ الدين لأن الدين المؤجل يحل بموت من عليه. وإن مات المحتال لم يحل الدين. فرع آخر لو كان له على رجل ألف درهم فأحاله على رجلين له عليهما ألف درهم على كل واحدٍ منهما خمسمائة تصح الحوالة، وللمحتال أن يأخذ خمسمائة من أحدهما وخمسمائة من الآخر. وإن كان أحاله عليهما بشرط أن يكون كل واحد منهما ضامنًا عن صاحبه ما عليه فهل تصح الحوالة؟ قال ابن سريج: فيه وجهان: أحدهما: تصح لأنه ضمان دين مستقر وهذا اختيار أبي حامد وهو الأشبه. والثاني: لا تصح لأن الحوالة معروف ورفق فإذا حصل فيها طلب الزيادة خرجت عن معناها وصارت ربا كالقرض الذي يجر المنفعة وهاهنا طلب الزيادة فإنه كان له مطالبة واحد [17/ أ] والآن يطالب اثنين وهذا اختيار القاضي الطبري رحمه الله. ومن قال: بالأول أجاب عن هذا بأن الزيادة الممنوعة في القدر أو الصفة وهذه الزيادة ليست بواحد منهما، ولهذا جازت الحوالة على من هو أغنى منه وأسهل أداء. وعلى هذا الخلاف إذا كان دينه بغير رهن فأحاله بدين على رهن. فرع آخر إذا اشترى من رجل دراهم بدنانير في الذمة ثم أحاله على رجل بالدنانير في المجلس وتفرّقا، قال القاضي الطبري: قال بعض أصحابنا: تصح الحوالة ولا يبطل الصرف، قال القاضي: وهذا عندي إذا كانا قد تخايرا وسقط الخيار فأما مع بناء الخيار لا تصح الحوالة. وعلى هذا إذا أحال برأس مال السلم في المجلس بعد التخاير ثم تفرّقا، لم يبطل السلم هكذا ذكر في مجرّد المذهب، وقال في «المنهاج» من أصحابنا من قال: الحوالة قبض وهو عندي غلط، لأنه لا تصح الحوالة في عوض الصرف قبل التفرق ورأس مال السلم أيضًا، وهذا خلاف ما ذكر في المذهب وهذا أصح، وقد ذكرنا فيما مضى أن التخاير في الصرف يبطله إذا لم يكن قبض عوض الصرف. وسمعت بعض أصحابنا بخراسان: ذكر فيه وجهين، وقال: المنع أسلم في النظر وليس مذهب. فرع آخر لو كان لرجل على رجلين ألف درهم على كل واحد منهما خمسمائة وكل واحدٍ منهما كفيل ضامن عن صاحبه، ولرجل عليه ألف فأحاله عليهما على أن يطالب أيهما شاء، هل تصح الحوالة؟ قال ابن سريج: فيه قولان وأراد وجهان، لأنه زاد حقه بذلك

فإنه كان يطلب حقه من محل واحد والآن يطلبه في محلين وهو نظير المسألة السابقة. فرع آخر لو كان عليه ألف إلى سنة فأحال به على رجل لا حق له عليه فقبل وقلنا: يلزم وصحت ولزمت على ما ضمنه فيقضي ذلك في محله. فإن قضاه بعد محله بإذنه رجع عليه به، وإن قضاه قبل محله لم يرجع على المحيل في الحال لأنه قد تطوع بالتقديم فهو كما لو قبل الحوالة بمكسرة ثم أعطاه صحاحًا لم يرجع إلا بالمكسر. وإن كانت المسألة بحالها وحل الحق أو كان الحق حالًا فقبل الحوالة أن يعطي المحتال، فإن قال المحال عليه للمحيل: أعطني رهنًا لما يلزمني عنك فأعطاه لم يصح لأنه لا يملك الرجوع عليه حتى يغرم. فصل في الدعوي في الحالة وفيه مسائل إحداها: إذا كان لزيد على عمرو [17 ب/ 8] ألف ولخالد على زيد ألف فقال خالد لعمرو: قد أحالني زيد عليك وأنكر عمرو فالقول قول المحال عليه فإن حلف سقطت دعوى المحتال وللمحيل أن يقبض حقه من المحال عليه، لأن حقه باقٍ في ذمته وهو معترف له به. وأما المحتال لا يرجع على المحيل بشيء لأن قبوله الحوالة اعتراف بقبض الحق، وإن نكل المحال عليه حلف المحتال واستوفي حقه منه وكان للمحيل أن يرجع على المحال عليه بحقه لأنه يقول: أعطيته ظلمًا فلك أن ترجع عليَّ بحقك، وإن صدَّق زيد خالدًا على ما قال برئ عمرو من دينه، وإذا قلنا: لا يشترط رضا المحال عليه في الحوالة ثبتت الحوالة بتصديقه وله المطالبة ولا يضرّه تكذيب المحال عليه. وإن صدق عمرو خالدًا وجب عليه دفع المال ثم ينظر في زيد فإن صدقه فلا كلام، وإن كذبه فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف رجع على عمرو بالألف ولا يرجع خالد عليه بشيء لأنه أقر أنه استوفي حقه بالحوالة بإقراره، وله أن يستوفي ذلك من عمرو لتصادقهما على الحوالة، والثانية: لو كان له ألف درهم على رجلين على كل واحدٍ خمسمائة ولهما على رجل ألف درهم لكل واحد منهما خمسمائة فادّعى من له الألف عليهما أنهما أحالاه بالألف الذي عليهما على من لهما عليه ذلك الألف وأقام بذلك شاهدين نظر فإن شهد للمحتال ابناه لم تقبل شهادتهما لأبيها، وإن شهد ابنا المحيلين أو ابنان لأحدهما قبلت لأنها شهادة على أبيهما. فإن كانت المسألة بحالها وكان المدعي المحيلين ادعيا أنهما قد أحالاه بالألف عليهما نظر فإن شهد بها ابنا المحتال قبلت لأنها على أبيهما، وإن شهد لهما ابناهما لم تقبل شهادة من شهد لأبيه منهما ولكنه قد شهد لأبيه ولشريك أبيه فردت في أبيه للتهمة. وهل ترد في غير أبيه قولان، وهذا أصل كل من شهد لرجلين بحق فردت شهادته في أحدهما للتهمة، هل تقبل للآخر قولان. وإن ردت في أحدهما للعذارة مثل إن قالا: قذفنا وقذف زيدًا ردت في الكل. فإذا

قلنا: ترد فلا كلام وإذا قلنا: لا ترد في حق شريك أبيه فقد حصل لكل واحد منهما شاهد واحد بما يدعيه [18/ أ] فيحلف معه ويستحق لأنه إثبات مال، فإن كانت المسألة بحالها فكان المحتال هو المدعى عليه هو المحال عليهما، فإن شهد له ابناه لم تقبل، وإن شهد له ابنا المحال عليه قبلت، والثالثة: إذا كان له على رجل ألف فادّعى عليه أنك أحلت به عليَّ فلان الغائب فالحق له دونك فالقول قول صاحب الحق فإن أقام هذا المدعي البينة سمعت وحكم على المحيل بسقوط حقه من المحال عليه، ولم يحكم بها للغائب لأن القضاء للغائب لا يجوز، وإذا عاد الغائب نظر، فإن ادعى ذلك وصدقّه المحيل قبض ذلك منه وإلا أقام البينة ثانياً وقضى بحاله عليه بالحوالة ولا تكفي البينة التي أقامها المحال عليه، هكذا ذكر ابن سريج، وفي هذا نظر لأنه إذا قدم من الغيبة يدعي على المحال عليه دون المحيل وهو مقر له فلا حاجة به إلى إقامة البينة، ولو دفع هذا المحال عليه إليه لم يكن لصاحب الدين مطالبته بشيء لأن المطالبة سقطت عنه بالبينة. ولو جاء إلى رجل فقال لفلان الغائب: عندك ألف؟ فقال: نعم، فقال: قد أحالني به عليه، فانكر القول، فالقول قوله. فإن أقام المحتال البينة به قال ابن سريج: حكمت بها في حقهما وحق الغائب معًا، وألزمت المحتال عليه التسليم لأنه قضاء على غائب.

كتاب الضمان

كتاب الضمان قال: قال الله تعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]، وهذا كما قال: لا خلاف بين المسلمين في جواز الضمان، وإنما أورد المزني رحمه الله الأدلة ليبين أنه أمر معهود قديم لا ليستدل بها على مخالف. والأصل في جوازه ما ذكر من الأدلة، أحدهما: قوله تعالى: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72]، فأخبر عن الضمان في شرع من قبلنا ولم يعقبه بنكير، فدل على جوازه. فإن قال قائل: الحمل مجهول فكيف صح ضمانه؟ قلنا: لعله كان معلومًا عندهم، كان لو قر مقوم المقدار عند أهل البلد إذا أطلق. وكذلك الوسق معلوم حتى علق النبي صلى الله عليه وسلم به حكم العشر. فإن قيل: كيف يصح أن يضمن للسارق شيئًا على رد ما سرق؟ قيل: لم يضمن الضامن للسارق شيئًا، وإنما ضمن للمسترجع من السارق. ومثل هذا الضمان جائز، فإن قيل هذا [18 ب/ 8] المنادي ملتزم بقوله: وفيه جاء به حمل بعير، فما معنى قوله: وأنا به زعيم. قيل: لعله أخبر عن الملك بالالتزام وعلى نفسه الضمان، وذلك أن يوسف صلى الله عليه أمر أن يجعل الصاع في رحل ابن يامين ثم بعث في أثرهم من قال: إنكم لسارقون صاع الملك، وكان قصده أن يمسك ابن يامين عنده، فإنه كان في شريعة يعقوب صلى الله عليه إن من سرق استبعده المسروق منه بسنة. والصحيح أن المزني جعل لفظ الزعامة حجةٌ، لأن ضمان الجعل قبل استقرار وجوبه. والزعيم الضمين وفيه لغات ضمين وزعيمٌ وحميل وكفيل وقبيل وصبير. واحتج أيضًا بقوله تعالى: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40]، أي: ما يقول الكفار إنا نجعل المسلمين كالمجرمين وبما ذكر من بعده. وتعلقه من هذه الآية بلفظ الزعيم، إذ ليس فيها حكم الضمان. واحتج بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الزعيم غارم"، وتمام الخبر ما روى أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فقال: "العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم- يعني الكفيل- غارم" يعني الكفيل.

واحتج بما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فلما وضعت قال النبي صلى الله عليه وسلم: "هل على صاحبكم من دين؟ قالوا: نعم درهمان، قال: صلوا على صاحبكم، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: يا رسول الله لهما عليَّ وأنا لهما ضامن فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أقبل على علي رضي الله فقال: "جزاك الله عن الإسلام خيرًا وفك رهانك كما فككت رهان أخيك"، فدل على أن الدين يلزم بالضمان. وروى جابر بن عبد الله: أنّ جنازة وضعت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال صلى الله عليه وسلم: " على صاحبكم من دين؟ قالوا: لا، فصلى عليه. ثم وضعت جنازة أخرى فقال: "هل على صاحبكم من دين؟ " قالوا: نعم ديناران، فقال: صلوا على صاحبكم، فقال أبو قتادة رضي الله عنه: هما عليَّ يا رسول الله وأنا لهما ضامن [19/ أ]، فصل النبي صلى الله عليه وسلم عليه". قال أبو قتادة رضي الله عنه: فلقيني رسول الله بعد ثلاثٍ فقال: "ما فعلت في دين أخيك؟ فقلت: الآن قضيته، فقال: الآن بردت جلده عن النار". ثم قال جابر رضي الله عنه: هذا نسخ حين كثرت الأموال، وأصبح النبي صلى الله عليه وسلم يومًا خطيبًا فقال: "من خلَّف مالًا أو حقًا فلورثته، ومن خلَّف دينًا أو كلًا فكله إليَّ ودينه عليَّ، فقيل: يا رسول الله عليه وعلى كل إمام بعدك؟ فقال: وعلى كل إمام بعدي". وروي أنه قال: "من ترك دينًا فعليَّ قضاءه". فقيل: معناه إذا لم يكن له مال فعليَّ قضائه من مال الصدقات من سهم الغارمين. وقيل: معناه من ترك دينًا له ومال فعليَّ اقتضاء الدين له، واستخراجه ممن هو عليه حتى يصير مع ماله الذي تركه إلى ورثته. ثم قال المزني رحمة الله عليه: روى الشافعي رحمة الله عليه في قسم الصدقات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحل الصدقة لغني إلا لثلاثة"، ذكر منها رجلًا تحمل بحمالة فحلت له الصدقة. قال المزني: فكانت الصدقة محرمًة عليه قبل الحمالة فلما تحمل لزمه الغرم بالحمالة، فخرج من معناه الأول أن حلت له الصدقة، وهذا الدليل الذي ذكره دليل واضح على صحة الضمان. ولكن المزني أخل بالنقل، لأن الشافعي ما روى الحديث هكذا، بل روي ان رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسٍة، لغاز في سبيل الله، أو لعاملٍ عليها، أو لغارمٍ، أو لرجل اشتراها بماله، أو لرجل له جار

مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين الغني" فليس في هذا الحديث ذكر الثلاثة ولا ذكر الحمالة، والخبر الذي ذكر فيه الحمالة ما روي عن قبيصة بن المخارق أنه قال: فحملت حمالة فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فسألته فقال: "نؤديها عنك أو نخرجها عنك إذا قدم نعم الصدقة يا قبيصة" المسألة حرمت إلا في ثلاثٍ: رجلٍ تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يؤديها ثم يمسك، ورجلٍ أصابته فاقة أو حاجة حتى شهد أو تكلم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه أن به فاقة أو حاجة فحلت له المسألة حتى يصيب سدادًا من عيش ثم يمسكه، ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له الصدقة حتى يصيب سدادًا من عيش أقوامًا من عيش ثم يمسك. وما سوى ذلك [19/ ب] من المسألة فهو سحت. ففي هذا الخبر ذكر الحمالة وهي الضمان وليس فيه ذكر الغني وتحليل الصدقة له، فدل على أن المزني غلط وخلط أحد الحديثين بالآخر. فإذا تقرر هذا فالضمان يفتقر إلى ثلاثٍة: ضامن ومضمونٍ له ومضمون عنه، كالحوالة تفتقر إلى محيل ومحتالٍ ومحيل عليه، فإذا ضمن عن رجل مالًا فهل يفتقر إلى معرفة المضمون له والمضمون عنه. قال ابن سريج: فيه ثلاثة أوجهٍ: أحدهما: أنه يجوز وإن لم يعرفهما وصورته: رجل غريب حكي له أن لعمرٍو على زيد ألف درهمٍ وهو لا يعرف واحدًا منهما فقال: أنا ضامن لعمرٍو عن زيد ذلك، وهذا لأن التزاما على طريق الوثيقة فصار كالتزام الشهادة لا يفتقر إلى معرفة الشهود له والمشهود عليه، ولأن خبر على بن أبي طالب وأبي قتادة رضي الله عنهما يدل على هذا لأنهما لم يعرفا ذلك. والثاني: لا يجوز حتى يعرفهما لأنه لا بد من الدفع إلى المضمون له فيحتاج أن يعرفه أنه سهل المعاملة أو بخلاف ذلك من الرجوع على المضمون عنه فيحتاج أن يعرفه ليعلم أنه يؤدي ما عليه أو لا يؤدي. والثالث: لا بد من معرفة المضمون له لأنه إثبات مالٍ له بالعقد ولا يحتاج إلى معرفة المضمون عنه لأنه لا معاملة بينهما إذا ضمن بغير إذنه ولا رجوع عليه، وهذا ظاهر مذهب الشافعي لأنه قال في اختلاف العراقيين: ولو ضمن دين الميت بعدما يعرفه ويعرف لمن هو فالضمان لازم. ونقل المزني منه إلى المختصر فشرط معرفة مقدار المال ومعرفة المضمون له وحده. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا يختلف المذهب أن معرفة المضمون عنه شرط وفي المضمون له وجهان ظاهر الخبرين أنه ليس بشرط لأنهما لم يقولا وأنا ضامن

لمن، وفي هذا نظر والصحيح ما ذكرنا. فإذا قلنا: يفتقر إلى معرفتهما لم يفتقر إلى إذن المضمون عنه ورضاه وجهًا واحدًا، وهل يفتقر إلى قبول المضمون له؟ قال صاحب "الإفصاح": لا يصح إلا بقبوله، وبه قال أبو حنيفة ومحمد، إلا في مسألة وهي إذا قال المريض لبعض ورثته: اضمن عني فضمن جاز، وإن كان الغرماء غيبًا ولم يسلم الدين استحسانًا، وهذا غلط لأنه إثبات مالٍ لآدمي فلم يثبت إلا بقبوله، كما في البيع والشراء. وقال ابن سريج: فيه [20/ أ] وجه آخر، لا يفتقر إلى قبوله وهو اختيار ابن أبي أحمد لأنه قال: ويتم الضمان بالضامن وحده إذا علم لمن هو، وكم هو، وإلى متى هو، وعلى من هو؟ وبه قال أبو يوسف، لأن عليًا وأبا قتادة رضي الله عنهما ضمنا من غير قبول المضمون له وأجازة النبي صلى الله عليه وسلم. فإذا قلنا بالأول فضمن لرجلٍ مالًا فإن قبل صح ولزم، وإن لم يقبل حتى رجع الضامن فيما ضمن صح رجوعه، كما يرجع البائع عن الإيجاب قبل قبول المشتري. فإن قال قائل: أليست الكفالة بالبدن لا تجوز إلا بإذن المكفول عنه؟ فالكفالة بالحال واجب أن لا تجوز إلا بإذن المضمون عنه. قلنا: الفرق أنه لا يمكن إحضاره إلا بإذنه فلا يصح إلا بإذنه، وأداء المال يمكن من غير إذن من عليه فجاز بغير إذنه. ومن أصحابنا من قال: لو خاطب المضمون له بالضمان فتمام الضمان موقوف على المضمون له بلا خلاف. وهل يشترط قبوله أو رضاه؟ وجهان: أحدهما: وهو اختيار ابن سريج يشترط قبوله لفظًا لأنه عقد وثيقة يفتقر إلى لفظ الضامن فيفتقر إلى لفظ المضمون له كالرهن، فعلى هذا لو تراخى القبول لم يجز، كما في البيع والرهن. والثاني: لا يفتقر إلى قبوله لفظًا، لأن الضمان لو كان كالرهن لا يفتقر إلى مواجهة فدل على أنه موقوف على الرضا دون القبول، فعلى هذا إذا رضي بما يدل على الرضا في مجلس الضمان جاز، وإن تراخى عن حال الضمان. وإن لم يظهر منه الرضا بالضمان حتى فارق المجلس لا ضمان وللضامن أن يرجع عن ضمانه قبل رضا المضمون له، لأن الضمان لم يتم وإن رضي بالضمان لا رجوع للضامن فيه لأنه تم. مسألة: قال: وَإِذَا ضَمِنَ رَجُلٍ حَقَّاً فَلِلْمَضْمُونِ لَهُ أَنْ يَاخُذَ أَيَّهُمَا شَاءَ. وهذا كما قال: إذا ضمن رجل عن رجلٍ دينًا يتوجه المطالبة على الضامن والمطالبة لا تسقط عن الأصل، بل تبقى عليه ويتجدد على الضامن ويكون المال متعلقًا بكل

واحدٍة من الذمتين وله مطالبة من شاء منهما به، سواء كان قادرًا على قبضه من المضمون عنه أو غير قادر عليه، لأن الضمان ليس بنقل الدين عن الذمة، بل هو انضمام ذمة إلى ذمٍة، وبه قال أبو حنيفة وعامة الفقهاء. وقال [20/ ب] ابن أبي ليلى وابن شبرمة تبرأ ذمة المضمون عنه وينتقل الحق إلى ذمة الضامن كما في الحوالة، ولكن لو تعذر استيفاؤه من الضامن يرجع إلى المضمون عنه، وكذلك في الحوالة وهو قول داود واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم لعليّ رضي الله عنه: "فكَّ الله رهانك كما فككت رهان أخيك" وقال صلى الله عليه وسلم لأبي قتادة: "هما عليك والميت منهما بريء". ولأن بقاء الدين عليه يؤدي إلى أن يصير الدين الواحد دينين وهذا لا يجوز. وهذا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خبر أبي قتادة: "الآن برّدت على أخيك جلده" فلو تحول الحق بعقد الضمان لبرّد عليه جلده بعقد الضمان قبل الأداء وإنما قال هذا بعد الأداء ولأنه وثيقة أطلق فلا يتحول الحق بها كالرهن. وأما الخبر الأول قلنا: كان امتناع من الصلاة عليه وبالضمان فكَهُ من هذا حتى صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الخبر الثاني قلنا: أراد أن الميت بريء من الرجوع في تركته وأنك تؤدي متطوعًا. وأما قوله: يصير الدين الواحد دينين غلط لأنه لا يأخذ منهما بل يأخذ من أحدهما، وإن كان يتعلق بهما حق الاستيفاء كما يتعلق بذمة الراهن وعين المرهون. وقال مالك فيما حكى أصحابنا عنه لا يطالب الضامن إلا تعذر مطالبة المضمون عنه: وبه قال أبو ثور وجعله ابن أبي هريرة قولًا محتملًا وجعله لنفسه وجهًا. وهذا غلط لأن الحق تعلق بالذمتين فله استيفاؤه من كل واحدٍ منهما كما لو ضمن الحق ضامنان. وقال محمد بن جرير: له الخيار في أن يبتدئ بمطالبة أحدهما عنه، فإذا طالب أحدهما عنه، فإذا طالب أحدهما لم يكن له مطالبة الآخر بشيء وهذا أيضًا غلط لما ذكرنا. فرع لو كان الضمان بشرطٍ كان لصاحب الحق مطالبته على موجب الشرط مثل أن يكون له عليه الدين حالًا فيضمنه مؤجلًا إلى شهرٍ ويطالب المضمون عنه في الحال، ولا يطالب الضامن إلا إذا حل أجله، وكذلك لو كان المال عليه إلى شهرٍ فضمنه إلى شهرين جاز أن يطلبه بعد شهرين. فإن قيل: عندكم الدين الحال لا يتأجل [21/ أ] فكيف تأجل ها هنا على الضامن؟. قيل: الدين لم يثبت على الضامن حالًا وإنما ثبت عليه ما يضمنه وقد ضمنه ابتداء مؤجلًا والدين يتأجل في ابتداء ثبوته إذا كان ثبوته بعقد. فرع آخر لو كان الدين عليهما مؤجلًا فمات الضامن قبل محل الدين حل عليه الدين في تركته وله أن يطالب ورثته بقضائه، وليس له مطالبة المضمون عنه لأن الدين لم يحل عليه. ثم إذا قبض من ورثة الضامن برئ من عليه أصل الحق من حقه ولم يكن لورثة الضامن

أن يرجعوا على المضمون عنه حتى ينقضي الأجل لأن الدين عليه مؤجل فلا يجوز المطالبة به من قبل محله، وحكي عن زفر أنه قال: لهم مطالبته به قبل الأجل لأن الضامن ضمن يأمره مع علمه أنه يحل عليه بموته. وهذا غلط لأنه أدخله في المؤجل وهذا الحلول كان من غير اختيار فصار كما لو عجل الدين قبل محله لا يرجع عليه في الحال. وهكذا لو مات المضمون عنه يحل الدين عليه، ولا يجوز له مطالبة الضامن لأنه لم يحل عليه فإذا استوفاه من تركته سقط عن الضامن والمضمون عنه. فرع آخر لو كان الدين مؤجلًا فضمنه حالًا فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: لا يصح الضمان لأن الضامن فرع المضمون عنه فلا يستحق مطالبته دون أصله. والثاني: يصح الضامان ويكون حالًا كما يجوز أن يضمن الحال مؤجلًا. والثالث: يصح الضامن ويكون مؤجلًا لأجله وسقط قوله حالًا لأن الفرع لا يكون أقوى من الأصل وهذه الأوجه ذكرها ابن سُريج والأصح عندي الوجه الأول لأن المضمون له يجبر على التأجيل وقد ضمن له عاجلًا ولا يُجبر الضامن على التعجيل فيكون الفرع أقوى من الأصل فلا وجه إلا إبطال الضمان. وقال في "الحاوي": لا يصح الوجه الثاني لأن حال الضامن أضعف من حال المضمون عنه، ثم لا يلزم المضمون عنه حالًا فالضامن أولى والمذهب الوجه الثالث ويقال له: الأولى لك أن تعجل القبض بشرطك فإذا أَبَيت إلا الأجل المستحق لم تجبر ويكون اشتراطك التعجيل تطوعًا منك لا يلزم إلا بالقبض. فرع آخر إذا قلنا: يصح ويكون حالًا فضمن مطلقًا ثم اختلفا فقال الضامن: ضمنته على [21/ ب] وصفه فهو مؤجل وقال المضمون له: ضمنته مالًا فعليك التعجيل فالقول قول الضامن لأنه اعترف بما ضمن. مسألة: قال: "فإنْ ضمنَ بأمرهِ وغرمَ رجعَ بذلكَ عَليه". وهذا كما قال: إذا ضمن عن رجل مالًا وأداه لا يخلو من أربعة أحوال: أحدهما: أن يكون الضمان والأداء بأمره فيرجع على المضمون عنه وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف رحمهم الله، وقال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: إن قال: اضمن عني يقتضي إقرارًا منه بالحق، وإذا أطلق يصير كأنه قال: تطوع عليه أو وهب له هذا وإذا كان مخالفًا له فقد يأمره بالنقد عنه فقلنا: يرجع عليه استحسانًا. وقالا: الزوجة والولد كالمخالط وهذا غلط ضمن بأمره ودفع فأشبه إذا كان مخالطًا له أو

قال: اضمن عني. وأما ما ذكره لا يصح لأن قوله: "انقده" يقتضي أن يكون ذلك عنه لأنه لا يأمر إلا بذلك في الظاهر وليس فيه ما يدل على الأمر بالهبة. والثاني: أن يكون الضمان بغير أمره والأداء بغير أمره، فلا يرجع عليه وبه قال كافة العلماء، وقال مالك وأحمد في إحدى الروايتين: يرجع عليه وهذا غلط لخبر عليّ وأبي قتادة رضي الله عنهما ووجه الدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يصلي على ميت عليه دين دعا لا وفاء له فلو ثبت لهما الرجوع بما ضمنا لما صلى عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لبقاء الدين عليهما للضامنين. ولأن تبرع بذلك فلا يرجع عليه كما لو أطعم عبده. ولأنه دين غيره بغير أمره فلا يرجع عليه كما لو كان القاضي عدوًا للمقضي عنه ووافقونا أنه لا يرجع ها هنا. والثالث أن يكون الضمان بغير أمره والأداء بأمره فالمذهب أنه لا يرجع عليه لأن الدين قد وجب عليه بغير أمره والأداء من مقتضى الوجوب السابق دون أمره، وهذا ظاهر كلام الشافعي لأنه قال: فإن تطوع بالضمان لم يرجع ولم يفرق بين أن يكون الأداء بأمره أو بغير أمره. ومن أصحابنا من قال: يرجع عليه لأن الرجوع إنما يثبت بالأداء دون الضمان وهذا الأداء كان بأمره فيرجع عليه ومن أصحابنا من قال: يُنظر فإن قال: أدِّ ما ضمنته لترجع به عليّ له الرجوع إذا أدى ولو قال: أدِّ ما ضمنته عني فيه وجهان أحدهما: يرجع لأنه أمره بالغرم عنه. والثاني: لا يرجع [22/ أ] لأنه يحتمل أنه أراد به التطوع. والرابع: أن يكون الضمان بأمره والأداء بغير أمره فظاهر المذهب أنه يرجع به عليه لأنه قال: وإن ضمن بأمره وغرم رجع به عليه ولم يشترط أن تكون الغرامة بإذنه وبه قال ابن أبي هريرة وصاحب "الإفصاح" وهذا لأن الأمر بالضمان يقتضي الأداء وقد لزمه الحق بإذنه فإذا أدى رجع كما لو أعاره عبدًا فرهنه بأمره ثم بيع العبد في دينه رجع به عليه ولهذا يملك مطالبته بتخليصه، وقال القاضي الطبري: نص الشافعي على هذا في كتاب "النكاح والطلاق" من رواية الربيع وفي "الإملاء" على مسائل مالك من رواية حرملة. ومن أصحابنا من قال: فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: هذا، والثاني: لا يرجع عليه لأنه دفع بغير إذنه فصار كما لو ضمن بغير إذنه، والثالث: قاله أبو إسحاق: إن كان مضطرًا إلى أدائه بأن كان المضمون عنه غائبًا أو كان حاضرًا ولم يحضره المال فطالب الضامن فأداه رجع عليه، وإن كان المضمون عنه حاضرًا مليًا فلم يطالبه بتخليصه من الضمان وأداه إلى المضمون عنه لم يرجع. ومن أصحابنا من قال: إن أداه بعد المطالبة والمحاكمة له الرجوع قولًا واحدًا، وإن أداه قبل المطالبة فهل يرجع؟ وجهان، وهكذا الخلاف إذا وكل رجلًا أن يشتري له عبدًا بألف فاشتراه فطالب الوكيل بالثمن فإن أدى من ماله فهل يرجع إلى الموكل؟ فعلى قول أبي إسحاق إن كان مضطرًا إلى أدائه بأن كان الموكل غائبًا أو حاضرًا إلا أنه لم يحضره المال فطالبه البائع بالأداء فأداه كان له الرجوع عليه وإن لم يكن مضطرًا فلا

رجوع. وعلى قول ابن أبي هريرة: يرجع عليه إلا أن يكون قال له: لا تَزِنْ عني فإذا وزن لم يرجع عليه وقيل: فيه ثلاثة أوجه لأن قبول الوكالة مع العلم بأن الثمن يتعلق بذمته بمنزلة الضمان عنه لأمره. فرع لو قال الضامن للمضمون عنه: أضمن عنك لفلان كذا فقال: نعم كان هذا أمرًا بالضمان وقال أبو حنيفة: لا يكون أمرًا وهذا غلط لأنه لو قال: اضمن عني لفلان كذا كان أمرًا وهذا أوكد في الأمر. فرع آخر لو قال لرجل: أَدِّ عني ديني كان له الرجوع عليه في أصح الوجهين ولو قال: أدِّ دين فلان ولم يقل: عني لا رجوع في أصح الوجهين. مسألة: قال: وكَذَلِكَ كُلُّ ضَامِنٍ في دَيْنٍ [22/ ب] وَكَفَالَةٍ فيْ دَيْنٍ وَأُجْرَةٍ وَمَهْرٍ. الفصل وهذا كما قال: الكلام الآن في بيان الحقوق التي يصح ضمانها والتي لا يصح، والحقوق على أربعة أضرب حق مستقر في الذمة كالثمن بعد قبض المبيع والقرض والأجرة بعد انقضاء المدة بعد الدخول والعوض في الخلع وقيم المتلفات وأَروش الجنايات كل هذا يصح ضمانه. والثاني: حق لازم إلا أنه غير مستقر كالثمن قبل قبض المبيع والمهر قبل الدخول والأجرة قبل انقضاء المدة والسلم في الذمة نص الشافعي على جواز ضمانه لأنه يؤول إلى الاستقرار والسقوط بالهلاك أمر مشكوك فيه وقيل: إنه في الظاهر مستقر في الحال والهلاك مشكوك فيه فكان الحكم للظاهر. وقال أحمد في رواية: لا يصح ضمان المُسلَم فيه لأنه يؤدي إلى استيفاء المسلم فيه من غير المسلم إليه فلا يجوز كالحوالة وهذا غلط لأنه حق لازم فصح ضمانه كالقرض. ولا يشبه الحوالة لأنه يطالب فيها ببذل الحق، وفي الضمان يطالب بنفس الحق. والثالث: حق غير لازم ولا يفضي إلى اللزوم وهو مال الكتابة لأن المكاتب يقدر على الامتناع من الأداء مع القدرة على الأداء فضمانه باطل لأنه لا يجوز أن يكون الفرع أقوى من الأصل. والرابع: حق غير لازم ولكنه يفضي إلى اللزوم وهو الجعل في الجعالة قبل الفراغ من العمل فيه وجهان:

أحدهما: لا يجوز ضمانه لأنه غير لازم في الحال ولا يؤول العقد إلى اللزوم لأنه يجوز للعامل والمعمول له الرجوع عن ذلك ولا يلزم العقد بحالٍ. والثاني: يجوز لأنه يؤول إلى اللزوم والاستقرار إذا رده بخلاف مال الكتابة وهذا أشبه. فرع ضمان الثمن في مدة الخيار هل يجوز أم لا؟ فيه طريقان: أحدهما: يجوز وجهًا واحدًا لأن الشافعي نص على أنه إذا باع شيئًا على أن يعطيه جميلًا بعينه جاز والثمن غير لازم حتى يتفرقا, وإذا جاز شرط الضمان جاز الضمان ويخالف مال الجعالة لأن ثبوته بالعقد آكد من ثبوت مال الجعالة ألا ترى أن مال الجعالة لا يصير لازمًا بالعقد حتى ينضم إليه العمل والثمن يصير لازمًا بالعقد بالتفرق أو بمضي مدة الخيار. والثاني: فيه وجهان أيضًا [23/أ] كما في الجعالة لأنه غير لازم في الحال والاول أصح فإن قيل: على هذا ليست الحوالة بالثمن في مدة الخيار لا تجوز في قول فما الفرق؟ قلنا: فرق بينهما كما يفرق بين ضمان الطعام في ذمة المُسلم إليه فيجوز وبين الحوالة فلا يجوز. وأما مال الجعالة بعد العمل يصح ضمانه بلا خلاف. فرع آخر ضمان دين الأجنبي على المكاتب يجوز لأنه لازم وفي ضمان دين السيد على المكاتب من جهة المعاملة وجهان: أحدهما: لا يجوز لأنه يسقط بالتعجيز كالنجوم. والثاني: يجوز لأنه لازم في الحال, وإن كان يتوهم سقوطه بفسخ الكتابة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذان الوجهان مبنيان على أنه هل يستدام الدين عليه بعد عجزه؟ وفيه وجهان. فرع آخر ضمان مال المسابقة مبني على القولين فإن قلنا: إنها بمنزلة الإجازة يصح ضمانه, وإن قلنا: إنها بمنزلة الجعالة فقد ذكرنا فيه وجهين. فرع آخر لنفقة الزوجات ثلاثة أحوال مستقرة وهي ما وجب لزمان ماض. ولازمة غير مستقرة وهي نفقة يومها من صلاة الغداة فهذان يجوز ضمانهما ونفقتها في المستقبل فيها قولان قال في "الجديد": تجب يومًا بيوم فعلى هذا لا يصح ضمانها. وقال في "القديم": تجب لها بالعقد وتستقر بمضي المدة فعلى هذا يصح ضمان زمان معلوم فيقول: ضمنت نفقة عشر سنين ويضمن نفقة المعسرين لأنها أقل نفقة تجب لها. وعلى هذا يجوز

ضمان نفقة الأقارب إذا وجبت, وإن كانت قد تسقط بمضي الزمان اعتبارًا بلزومها وقت الضمان. فرع آخر ضمان دية النفس وأرش الجرح هل يجوز أم لا؟ قال أبو إسحاق رحمه الله: إن كان ذهبًا أو ورِقًا وعرفاه جاز الضمان. وإن كان إِبلًا اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: يجوز ضمانه وأخذ البدل عنه ومنهم من قال: لا يجوز لأن الصفة التي وجبت الدية فيها بها لا يجوز عقد الشراء عليها وهو كالرقاب والطعام أوجبت في الكفارة مطلقة ولا يجوز العقد عليها على الإطلاق كذلك ها هنا. وقيل: الوجهان مبنيان على القولين في جواز الصلح عنها على مالٍ فرع آخر ضمان الأعيان هل تجوز أم لا؟ إن كانت العين أمانة [23/ب] لا تجوز كالمال في يد الوصي أو الوكيل أو المقارض لأنها غير مضمون عليهم. وإن تعدوا فيها وصارت مضمونة عليهم هل يجوز ضمانها وكذلك ضمان المغصوب والعارية؟ قال في "الإفصاح": فيه وجهان: أحدهما: يجوز لأنه مال لزمه أداؤه فصح ضمانه كالدين في الذمة وبه قال أبو حنيفة وأحمد رحمهما الله. والثاني: لا يجوز وهو المذهب لأنه إن ضمن العين نفسها فالأعيان لا تثبت في الذمم, وإن ضمن قيمتها فهو ضمان ما لم يجب وضمان مجهول فلا يجوز. وقال ابن سريج: فيه قول آخر للشافعي وهو غير صحيح وقال أيضًا: هذان الوجهان مبنيان على كفالة البدن وفيها قولان فإن قلنا: إنها تجوز فهذا أولى لأن هذه الأعيان مضمونة والبدل غير مضمون. فرع آخر إذ قلنا: إنه يجوز فهذا أولى يؤخذ الضامن بتسليم العين إن كانت باقية, فإن تعذر صار كالمعسر بالحق. وإن تلف العين خرّج ابن سريج فيه وجهين: أحدهما: بطل كما لو تكفل ببدن من عليه رجل ثم مات المكفول ببدنه. والثاني: ينتقل الضمان إلى القيمة لأن القيمة تقوم مقام العين عند تلفها ولا يمنع الحوالة قدرها من لزوم ضمانها لأنها تفرعت عن أصل معلوم وهذا غلط لأن العين إن كانت باقية فالواجب ردها. وذلك مما قد يعجز عنه الضامن ويقدر, وإن تلفت يلزم قيمتها ولم يضمنها الضامن وفيها جهالة. وقيل: فيه وجهان بناء على أصله في كفالة البدن متى مات المكفول ببدنه هل يلزم الكفيل ما في ذمته من الدين؟ وجهان قال أبو حامد: هذا لا يصح لأن مذهب الشافعي أن المكفول به مات لا يلزم الكفيل شيء

فكيف يصح هذا التخريج؟. فرع آخر إذا دفع الثوب إلى القصار أو إلى الخياط فإن قلنا: إنه أمانة لم يصح الضمان عنه وإن قلنا: إنه مضمون عليه ففي الضمان وجهان على ما ذكرنا. فرع آخر ذكر المزني في كلامه ضمان العهدة, وضمان العهدة أن يشتري رجل من رجل عينًا من الأعيان فيضمن ضامن عن البائع عهدة المبيع وهي أنه متى خرج مستحقًا ضمن له الثمن, فإن كان البائع لم يقبض الثمن لم يصح الضمان لأن في هذه الحالة لو خرج المبيع مستحقًا لم يجب على البائع رد شيء وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجه آخر أنه [24/أ] يجوز للحاجة وليس بشيء. وإن كان البائع قبض الثمن صح الضمان عن البائع نص عليه الشافعي في آخر كتاب "الإقرار" وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد, وفيه قول آخر خرجه ابن سريج أنه لا يجوز وهو اختيار ابن أبي أحمد وهو القياس, واحتج بأنه ضمان مال لم يجب بعد. ولأنه ضمان عين وهو الثمن وذلك لا يجوز. ولأنه مجهول لأنه لا يعلم هل يستحق جميعها أو بعضها, وهذا لا يصح لأن الحاجة تدعو إلى الوثيقة على البائع ولا يمكن الوثيقة عليه إلا بالضمان لأن الوثائق ثلاث: الشهادة, والرهن, والضمان. فأما الشهادة فلا يستوفي فيها الحق, وأما الرهن فلا يجوز في ذلك بالإجماع لأنه يؤدي إلى أن يبقى أبدا مرهونًا فلم يبق إلا جواز الضمان وأما قوله: إنه ضمان ما لم يجب فقد بيّنا أنه يجوز ها هنا للحاجة وإن لم يجب. وأيضًا هذا ضمان ما وجب لأنه إن لم يكن المبيع مستحقًا فلا ضمان عليه, وإن كان مستحقًا فقد وجب ضمان الثَّمَن على البائع بقبضه إيّاه وإذا ضمن ذلك فقد ضمن حقًا واجبًا في الباطن, وإن كنا لا نعلم وجوبه ظاهرًا فلهذا جوزنا ولهذا لا يجوز هذا الضمان إلا بعد قبض البائع الثمن. وأما قوله: إنه ضمان عين فقد ذكرنا فيه الخلاف. ولأنه جوز للحاجة ما ذكرنا, ومن أصحابنا من قال: إن كان هذا الضمان بعد أن تصرف البائع في الثمن ولم يبقَ في يده منه شيء يجوز لأنه ضمان ما في ذمة البائع, وإن كان الثمن قائمًا في يده فهو ضمان عين فيكون على وجهين. وأما الجهالة فلا تصح لأنه ضمن الجملة, فإن خرج بعضه مستحقًا فقد وجب عليه بعض ما ضمنه. فرع آخر إذا جوزنا ضمان العهدة فألفاظ ضمان العهدة أن يقول: ضمنت لك عهدة هذا البيع والعهدة في الحقيقة عبارة عن الصك المكتوب فيه الثمن ولكن الفقهاء يستعملونها عبارة عن الثمن لأنه مكتوب في العهدة فيصح, وحكي عن أبي يوسف أنه قال: العهدة كتاب الابتياع فإذا ضمن العهدة كان ضامنًا للكتاب وهو عين لا يصح ضمانها, وهذا لا يصح لأنه إذا ثبت للعرف اسم للاسم عرف ينصرف الأصلان إليه وهذا في العرف عبارة عن

الدرك وضمان الثمن ويفسد [24/ب] بهذا عما يجاوزه من الثمن ويقرب منه. ولو قال: ضمنت لك الدرك فيه كان عبارة عن العهدة أيضًا. ولو قال: ضمنت لك الثمن إن بانت مستحقة فهو صريح في الباب وكذلك لو قال: ضمنت لك ثمنه. ولو قال: ضمنت لك خلاصك منه قال أصحابنا: هذا عبارة عن العهدة أيضًا. فرع آخر لو قال: ضمنت لك خلاص المبيع كان باطلًا لأن المستحق ربما لا يسلمه بعد أن استحقه. وحكي عن ابن سريج أنه قال: لا يضمن الخلاص إلا أحمق ومعناه ان يضمن أنها لو استحقت يشتريها الضامن من مالكها ويسلمها إليه. فإن قيل: أنتم تقولون هذا وقد نص الشافعي في الإقرار على جوازه فقال: ولو ضمن له ضامن عهدتها أو خلاصها كان للمشتري أن يرجع على الضامن بالثمن؟ قلنا: تأويله أنه أراد خلاصك منها, وهذا لأن خلاصه إذا كان متعلقًا بها جازت إضافته إليها كما يضاف المصدر إلى الفاعل والمفعول به وقيل: أراد وخلاصها وقد صارت أو بمعنى الواو كقوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] يعني ويزيدون وقوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] يعني: وكفورًا فمعناه ضمن عهدتها وخلاصها معًا فيلزمه الضمان بقوله: ضمنت لك العهدة لا بقوله: وخلاصها وهذا بين في كلامه لأنه قال: يرجع على الضامن بالثمن إذا استحقت ولم يقل: كان عليه خلاص الدار. فرع آخر إذا ضمن خلاص المبيع وقلنا: لا يجوز فإن كان هذا في البيع فسد البيع لأنه شرط فاسد. وكذلك إذا شرطه في مدة الخيار فسد البيع. وإن شرطه بعد لزوم البيع لم يصح الضمان ولم يؤثر في البيع. وإن ضمن عهدته وخلاص المبيع بعد لزوم البيع فسد في الخلاص ولم يؤثر في العقد. وهل فسد في ضمان العهدة؟ قولان بناء على القولين في تفريق الصفقة. فرع آخر اعلم أنه يكتب في بعض الوثائق: ضمنت لك قيمة ما يحدث في المبيع من بناء وغراس إذا ظهر الاستحقاق وذلك لا يجوز عندنا لأنه ضمان مجهول وضمان ما لم يجب. وإن قدره فقال: من درهم إلى ألف لا يجوز لمعنى واحد وهو أنه ضمان ما لم يجب. وعند أبي حنيفة يجوز ذلك بناءً على أصله في جواز ضمان المجهول [25/أ] وجواز ضمان ما لم يجب. فإن ذكر هذا في كتاب الوثيقة وأفرده عن ضمان العهدة بطل ذلك وصح ضمان العهدة. وإن قرنه بضمان العهدة هل يتعدى بطلانه إلى بطلان العهدة؟ قولان بناء على تفريق الصفقة, وإن ضمن البائع ذلك لم يصح ضمان ما يحدث والعهدة واجبة عليه بغير ضمان. وإن شرطه في أصل البيع بطل البيع.

فرع آخر إذا جوزنا ضمان العهدة فإن سلمت له الدار فقد بان أنه ما كان ضامنًا بشيء, وإن لم يسلم له الدار لا يخلو, إما أن يبطل ذلك بأمر حادث أو بمعنى قارن العقد, فإن كان بأمرٍ حادثٍ مثل الاحتراق في يده أو في يد البائع قبل القبض أو تقايلا فعادت إلى البائع بالإقالة أو غصبها غاصب منه فلا شيء على الضامن لأنه إنما ضمن عنه الاستحقاق الموجود عند العقد ولم يوجد ذلك. وإن كان ذلك بأمر قارن العقد, فإن كان بغير تفريط من البائع لم يرجع به عليه وعلى الضامن وهو الأخذ بالشفعة بل يرجع بالثمن على الشفيع. وإن كان بتفريط من البائع, فإن كان التفريط تدليسًا بعيب أصاب المشتري به عيبًا فرده بالعيب يرجع بالثمن على البائع ولا يرجع به على الضامن لأنه ليس يدرك نص عليه الشافعي وكذلك لو فسخ البيع في مدة الخيار, لا يرجع بالثمن على الضامن. ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان: أحدهما: هذا. والثاني: أن الرجوع به على الضامن لأنه استحق الثمن بسبب, فإن العقد حصل بتفريط البائع فكان له الرجوع به على الضامن كما لو استحق وهذا لا يصح لأن الضامن إنما ضمن ما وجب وهذا لم يكن واجبًا. ولأن ملكه زال عنه بسبب حادث فأشبه إذا تلف في يد البائع. ولو كان فيه عيب وحدث عند المشتري عيب آخر يكون له رده وله الرجوع بأرش العيب ويرجع به على البائع. وهل يرجع به على الضامن؟ على ما ذكرنا من الخلاف. وقال ابن سريج: فإن صرح وقال: ضمنت لك كل دَرَك يلحقك من عيب وغيره يرجع به عند وجود العيب على الضامن وكذلك في أرش العيب. وقال القاضي الطبري: لا يصح ضمان الأرش بحال وجهًا واحدًا لأنه مجهول ولم يجب بعد لأن الأرش لا يجب بالعقد وإنما يجب بتعذر الرد بحدوث عيب آخر في يده فلا وجه [25/ب] لما ذكر بعض أصحابنا. وإن كان التفريط بالاستحقاق فإن المستحق يأخذ ما استحقه ويتصرف فيه. ثم لا يخلو الاستحقاق من أحد أمرين إما أن يكون في الكل أو في البعض, فإن كان في الكل رجع على من شاء منهما بالدرك. وإن استحق البعض أو كان المبيع عبدين فاستحق أحدهما بطل البيع في المستحق. وهل يبطل فيما عداه؟ قولان فإذا قلنا: يبطل في الكل رجع بحصة المستحق على من شاء منهما, وبغير المستحق وجهان: أحدهما: يرجع به أيضًا على من شاء منهما لأنه لحقه بسبب الاستحقاق. والثانى: يرجع به على البائع وحده دون الضامن وهذا أصح لأن الدرك لحقه في نصف الثمن, وفساد البيع في النصف الآخر ليس من جهة الدرك لأن الدرك هو

الاستحقاق وذلك لم يستحق. وإذا قلنا: يبطل في المستحق وحده فالمشتري بالخيار بين الإمساك أو الرد. فإن أمسك بكم يمسك؟ قولان أحدهما: بكل الثمن أو يرده. والثانى: بالحصة أو يرده. فإن قلنا: بالكل فلا رجوع على أحد. وإن قلنا: بالحصة رجع بحصة المستحق على من شاء منهما إن أمسك الباقي. وإن زاد الباقي رجع بحصة المستحق على من شاء منهما وبحصة غير المستحق على من يرجع؟ وجهان على ما ذكرنا. فرع آخر لو بان أن البيع كان فاسدًا لا باستحقاق بل بسبب أوجب فساده فيه وجهان: أحدهما: يطالب به ضامن العهدة كما لو كان بالاستحقاق. والثاني: لا يطالبه لأنه لا يمكنه إمساك المستحق حتى يرد عليه الثمن ويمكنه إمساك المبيع بيعًا فاسدًا ليرد عليه الثمن فلا حاجة به إلى الرجوع على ضامن العهدة ذكره القفال رحمه الله. فرع آخر لو قبض رجل ألف درهم من دين له على رجل فضمن له ضامن نقصها في الوزن أو الصفة صح, وجرى ذلك مجرى ضمان الدرك وخرج عن باب ضمان المجهول وضمان مالم يجب. ثم إذا ادعى القابض أنها نقصت مائة درهم فإن صدقه الدافع والضامن كان بالخيار في الرجوع إلى ما شاء من الدافع أو الضامن, وإن كذباه كان قوله مقبولًا على الدافع مع يمينه لأن الأصل بقاء دينه فإذا حلف استحق [26/أ] الرجوع عليه بالنقص, وهل يقبل قوله على الضامن حتى يرجع عليه بالقبض؟ وجهان: أحدهما: يقبل على الضامن كما يقبل على من كان عليه أصل الحق. والثاني: وهو الأصح لا يقبل عليه لأنه لم يكن دينه ثابتًا قبل هذا عليه والأصل براءة ذمته. ولو كذبه الدافع وصدقه الضامن له أن يرجع على كل واحدٍ منهما لأن كل قوله على الدافع مقبول, فلو رجع على البائع الضامن لا يرجع على الدافع لإنكاره. فرع آخر لو ضمن له نقص الصفة وهو أن يبدل ما كان رديئًا فإن صدقه الدافع والضامن أنه كان فيها كان بالخيار في الإبدال. فإن أراد أخذ البدل من الدافع فله أن يمتنع من دفع البدل إلا بعد استرجاع الرد المبدل. وإن أراد الأخذ من الضامن لم يمن له أن يمتنع ليسترجع المبدل لأنه لا يملكه وقيل للضامن: لك أن تفسخ القضاء في القدر المردود وتدفع إليه بوزنه جيدًا ويكون الرد مع القابض ليرد على الدافع. فرع آخر لو كذبه الدافع والضامن فإن عيبًا لا يخرجها من جنس الدراهم لم يقبل قول القابض على واحد منهما, وإن كان يخرجها من جنس الدراهم كالزائف والصفر

المطلي فقول القابض مقبول على الدافع وهل يقبل على الضامن؟ على ما ذكرنا من الوجهين والفرق أن المعيب إذا كان من جنس الفضة جاز أن يكون قضاء من الفضة فلم يقبل قوله في ادعاء الرد لأنه يصير مبتدئًا لإثبات حق والرضا بل لا يجوز أن يكون قضاء من الفضة فكان حقه باقيًا لا يسقط بقبضه فلم يصر بادعاء الرد مبتدئًا لإثبات حق فهذا فرق ما بينهما, ولو صدقه الضامن وكذبه الدافع كان له أن يرجع بالبدل على الضامن وللضامن ها هنا أن يمنع من دفع البدل له باسترجاع الرد بخلاف ما ذكرنا إذا صدقاه لأن الضامن مع تكذيب الدافع لا يقدر أن يرجع عليه بالبدل فكان له استرجاع الرد ليتوصل به إلى بعض حقه. فرع آخر لو ضمن له نقص الدراهم ولم يذكر نقص الوزن أو نقص الصفة كان ضامنًا لنقص الوزن بلا خلاف. وهل يضمن نقص الصفة؟ وجهان حكاهما ابن سريج أحدهما: يضمن لانطلاق النقص على الأمرين. والثاني: لا يضمن [26/ب] لأن عرف الناس في مثله على نقص الوزن دون الصفة. فرع آخر لو استقرض من رجل قرضًا بشرط أن يرهن عنده رهنًا فقال أجنبي للمرتهن: ضمنت لك تسليم هذا الرهن إليك كان ناكلًا لأن للراهن الامتناع من تسليم الرهن. فإن قال قائل: ما معنى قول المزني: "وكذلك كل ضامن في دين وكفالة بدين" وهما مسألة واحدة؟ وقيل: يحتمل أنه أراد كفالة الوجه وأجاب على قول التصحيح ومراده أن ضمان الدين لازم وكفالة البدن في الدين كفالة لازمة. ويحتمل أن يريد بذلك ضمان الضمان ومراده أن من ضمن دينًا عن المديون فالضمان له لازم ومن ضمن عن الضامن دينًا فالضمان لازم على الثاني كما كان ضمان الاول صحيحًا لازمًا وتقديره: أو ضمان في كفالة بدين, فإن قال قائل ها هنا: وإن أداه بغير أمره كان متطوعًا لا يرجع به عليه وقيل: هذا بسطرين فإن ضمن بأمره وغرم رجع به عليه ولم يعتبر الإذن عند الأداء وهذا مناقضة, والمسألة خلاف بين أصحابنا ولكن لا يستحسن أن يجيب في سطر على مذهب وفي السطر الثاني على مذهب آخر قلنا: يحتمل أن يكون ما ذكره أولًا حكاية عن الشافعي, وما ذكره ثانيًا من عنده يدل عليه نظم تصنيفه لأنه قال بعد النص الاول قال المزني: "وكذلك كل ضامن في دين" الفصل: أو يكون تجوزًا في العبارة عن واحد. مسألة: قال: فّإِنْ أُخِذَ الضَّامِنُ بِالحَقِّ وَكَانَ ضَمَانُهُ يَأمُرُ الذِيْ هُوَ عَلَيْهِ فَلَهُ أَخْذُهُ بِخَلاَصِهِ.

الفصل وهذا كما قال: إذا ضمن رجل عن رجل مالًا فلو كان كان بغير أمره لم يكن له مطالبة المضمون عنه بخلاصه منه لأنه لا معاملة بينهما, وإن كان بأمر وقال ابن أبى هريرة: وإن كان مؤجلًا لم يحل عليه لم يكن له مطالبته بخلاصه. وإن كان حالًا فإن له مطالبته بخلاصه سواء طالبه المضمون له بالمال أو لم يطالبه, كما لو أعطاه عيناً ليرهنه فحل الحق كان له مطالبته بكفالة سواء طالبه المرتهن بالمال أو لم يطالبه. ولأن عليه ضررًا في بقائه لأنه قد يتلف مال المضمون عنه فلا يمكنه الرجوع عليه. ومن أصحابنا من قال: ليس له أن يطالبه بخلاصه حتى يطالبه المضمون له بالمال, وهذا ظاهر ما نقله المزني [27/أ] لأنه قال: فإن أخذ الضامن بالحق وكان ضمانه بأمر الذي هو عليه فله أخذه بخلاصه فشرط أن يؤخذ الضامن بالحق فدل على أنه إذا لم يؤخذ به فلا مطالبة له بخلاصه. وهذا يفارق الرهن, لأن على صاحب العين ضررًا في كونه مرهونًا في الحال ولا ضرر على الضامن في وجوب الدين في ذمته قبل المطالبة به. وأما المال فلا يجوز له أن يرجع به إلا بعد أن يغرمه للمضمون عنه. فرع إذا قلنا: ليس له أن يطالبه بخلاصه إذا لم يطالبه صاحب الحق قال ابن سريج: للضامن أن يقول للمضمون له: إما أن تبرئني من الحق, وإما أن تطالبني به لأطالب المضمون عنه بنكال ذمتي. فرع آخر لو ضمن ألفًا بأمره ثم دفع المضمون له إلى الضامن ألفًا, قال ابن سريج: يُنظر فيه فإن جعله رسولًا ووكيلًا في قضاء الدين به عنه جاز , وإن قال: خذه بدلًا عما سيجب لك علي بالقضاء عني فيه وجهان: أحدهما: يصح ويملكه الضامن ملكًا مراعًى وله التصرف فيه, وهو كتعجيل الزكاة والكفارة قبل وجوبها. والثاني: لا يصح لأنه أعطى بدلًا عما يجب له في الثاني فلا يصح. فعلى هذا يكون ضامنًا لما قبضه لأنه قبضه قبضًا فاسدًا. وعلى الوجه الأول إن قضي عنه الألف تبينا أنه ملك الألف, لم يقبض منه ولكن برئت ذمة المضمون عنه من وجه آخر فعليه رد الألف. فرع آخر إذا ضمن عن رجل بأمره فطولب بالمال الذي ضمنه فقضاه على الوجه الذي ضمن رجع عليه بما قضى بلا إشكال. وإن قضى أفضل منه من جنسه كأنه قضى الصحاح مكان المكسرة لم يرجع عليه إلا بالمكسرة التي ضمنها, لأنه تبرع بالزيادة, وإن قضى عن الصحاح مكسرة أو عن البيضاء سوداء رجع بالمكسرة والسوداء, لأنه لا يرجع عليه

إلا بما غرم, ولهذا لو أبرأه من جميع الحق لم يرجع بشيء, فكذلك إذا أسقط صفة من صفاته. ولو قضاه بغير جنس الحق الذي ضمن كأنه دفع إليه بالألف ثوبًا أو غيره جاز وسقط الدين وله [27/ب] الرجوع على المضمون عنه بأقل الامرين من الألف وقيمة الثوب لأن قيمة الثوب إن كانت أكثر فلا يلزمه إلا ما ضمنه عنه, وإن كانت أقل فلا يلزمه إلا ما غرم عنه, هذا مذهب الشافعي. وقال ابن سريج: يرجع بما ضمن في هذه المسألة والتي قبلها وهذا غلط لما ذكرنا. فرع آخر لو ضمن بأمره فطولب الضامن بأداء ما ضمنه وحبس به فأراد الضامن أن يحبس المضمون عنه قبل أداء المال فيه وجهان: أحدهما: له ذلك لأن له مثل ما عليه. والثاني: ليس له ذلك لأنه لم يستحق قبل الغرم عليه مالًا حتى يحبسه به والحبس عقوبة. فرع آخر ولو سقط عنه الحق بإبراءٍ قد ذكرنا أنه لا يرجع على المضمون عنه, لأنه لم يغرم شيئًا, ولو قال: وهبت الحق منك أو تصدقت عليك يكون كالإبراء عندنا. وقال أبو حنيفة: يكون كالاستيفاء حتى يرجع الضامن على المضمون عنه. فرع آخر لو أدى الضامن المال ثم وهبه من الضامن بعد القبض ففي رجوعه على المضمون عنه قولان مخرجان من الزوجة إذا وهبت صداقها لزوجها ثم طلقها زوجها قبل الدخول هل يرجع بنصف الصداق؟ قولان. فرع آخر لو أبرأ الضامن المضمون عنه من مال الضامن قبل أدائه عنه, هل يصح الإبراء؟ وجهان مخرجان من الوجهين في جواز تعجيل القضاء قبل أن يغرم, فإن قلنا: يجوز التعجيل صح الإبراء وإن قلنا: لا يجوز ذلك لا يجوز الإبراء. فرع آخر لو كان المضمون عنه صغيرًا والضامن ضمن بأمر أبيه, ثم طولب الضامن بالغرم فإن كان المضمون عنه على صغره لم يجز له أن يأخذ الأب بخلاصه. وإن بلغ له أن يأخذ الابن دون الأب. ولو كان غير الأب أمره بالضمان ليس للضامن أن يطالب الآمر بخلاصه بحال لأنه أمره من لا ولاية له. فرع آخر لو ضمن ذمي لذمي عن مسلم ثم صالحه على خمر هل يصح الصلح؟ فيه وجهان:

أحدهما: يصح لأنه بين كافرين. والثاني: لا يصح, لأنه متصل [28/أ] بحق مسلم. فإذا قلنا: يصح فبماذا يرجع؟ فإن قلنا: إذا صالح المسلم على ثوب يرجع بقيمة الثوب فها هنا لا يرجع بشيء, وإن قلنا هناك: يرجع بجميع الحق فكذلك ها هنا يرجع بأصل الحق. فرع آخر لو لم يكن الضمان بإذن المسلم فالصلح جائز على معنى أنا نُعوض عنه فلا نبطله, ويحتمل وجهًا آخر أنه باطل لما ذكرنا أنه يبرأ به ذمة المسلم لما ذكرنا. فرع آخر لو صالح صاحب الحق مع الضامن صلح حطيطةٍ يرجع بما صالح عليه بلا خوف. مسألة: قال: "وَلَوْ ضَمِنَ عَنِ الأَوَّلِ بِأَمْرِهِ ثُمَّ ضَمِنَ عَنِ الضَّامِنِ ضَامِنُ بِأَمْرِهِ فجائز". الفصل وهذا كما قال: قد بينا أنه يصح ضمان الدين الذي على الضامن لأنه لازم مستقر, ثم لصاحب الحق أن يطالب من شاء منهم, فإن طالب فقبض الحق من بعضهم برئ الجميع. وإن أحالهم له بعضهم على آخر فكذلك برئ الجميع لان الحوالة كالقبض. وإن أبرأ واحدًا منهم فإن أبرأ الأصيل برئ هو وبرئ الضامنان, وإن أبرأ الضامن الأول برئ هو والضامن الثاني, ولا يبرأ المضمون عنه لان الضامن الثاني فرع للضامن الاول, والضامن الأول فرع لمن عليه الدين, فإذا برئ الفرع لم يبرأ الاصل. ولو ضمن الأصل عن الضامن أو ضمن الضامن الأول عن الثاني لا يجوز لان الحق واجب في ذمته فلا يفيد هذا الضمان شيئًا. ولو ضمن رابع وخامس عن الضامن يجوز أيضًا وإن كثروا ولصاحب الحق مطالبة الكل على ما ذكرنا. فإن قلنا: أليس لا يجوز أن يأخذ بالرهن رهنًا وهو وثيقة كالضمان فما الفرق؟ قيل: الفرق أن الضمان بحق ثابت في الذمة, والرهن بحق متعلق بالعين لا بالدين فافترقا. ولو قبض الحق من الضامن الثاني فإن كان ضمن عن الأول بإذنه رجع عليه. وهل يرجع الأول على الأصل؟ إن كان ضمن عنه بإذنه رجع عليه وإلا فلا. وإن كان الثاني ضمن عن الأول بغير إذنه لم يكن له الرجوع على الضامن الأول, فإن لم يرجع عليه لم يكن للضامن الأول الرجوع على الأصل لأنه لم يغرم. فرع لو ضمن عن الأصل ضامن من غير أمره ثم قال الأصيل لرجل: اضمن عن هذا الضامن ما ضمنه عني [28/ب] فضمن بإذنه دون إذن الضامن وأدى المال رجع إلى

الأصيل. وإن كان بإذنهما جميعًا رجع على أيهما شاء، وبمثله لو قال لرجل: اقضِ دين فلان أو اضمن عن فلان ففعل لم يرجع على الآمر لأنه لا غرض له في قضاء غير دين الغير فذلك الأمر لا يفيد شيئًا، وها هنا له غرض في قضاء الدين الذي هو عليه، وإن كان هناك ضامنٌ فسواء بين أن يقول: اضمن عن ضامني ذكره القفال. وقيل: فيه وجهان مبنيان على ما لو قال: اقضِ ديني، فإن قلنا هناك لا يرجع فها هنا لا يرجع، وإن قلنا: هناك يرجع فها هنا يرجع. فرع آخر لو ضمن في الابتداء بشرط أن يعطي المضمون عنه ضامنًا بما ضمن هل يصح؟ فيه وجهان ذكره أصحابنا بخراسان والأصح أنه لا يجوز هذا الضمان إذ لا خيار في الضمان، ولو ضمن بالخيار كان باطلًا وهذا لأن من جوز هذا الضمان بهذا الشرط قال على المضمون عنه أن يعطي للضامن ذلك الضامن المشروط، فإن لم يضمن فلان فلهذا الضامن الخيار في أن يرضى بلا ضامن أو يفسخ الضمان ويبرئ نفسه. قال هذا القائل: وأصل الوجهين ما قاله ابن سريج، وهو أن بنفس الضمان هل ينعقد بين الضامن والمضمون عنه حكم أم لا؟ فيه وجهان ولهذا الخلاف خمس فوائد: أحدها: هذه المسألة، والثانية: ما ذكرنا، أنه لو حبس الضامن بالحق هل له أن يقول: احبسوا المضمون عنه معي على ما سبق بيانه. والثالثة: ما ذكرنا أنه لو أبرأ الضامن المضمون عنه عما سيغرم هل يصح أم لا؟ والرابعة: لو صالح عما سيغرم على بعضه هل يصح أم لا؟ والخامسة: لو أعطى المضمون عنه الضامن ضامنًا بما يضمن هل يجوز أم لا؟. مسألة: قال: وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى رَجُلَيْنِ أَلْفَ دِرْهَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا كَفِيْلٌ ضَامِنٌ عَنْ صَاحِبِهِ. الفصل وهذا كما قال: لو كان له على رجلين ألف درهم على كل واحدٍ منهما خمسمائة وكل واحد منهما كفيل ضامن عن صاحبه بأمره فله مطالبة من شاء منهما بألف، خمسمائة أصلٌ وخمسمائة ضمان. ثم لا يخلو إما أن يقبض أو يبرئ، فإن قبض ألفًا من أحدهما [29/ أ] برئ عن خمسمائة أصلًا وبرئ شريكه عن ضمانها وبرئ عن خمسمائة ضمانًا وبرئ شريكه عن أصلها. وإن قبض من أحدهما خمسمائة نُظِر فإن عيّنها باللفظ أو بالنية كان عما عينها، وإن عيّن الأصل برئ من الأصل وبرئ شريكه من ضمانها، وإن عيَّن الضمان برئ منه وبرئ شريكه من أصلها. وإن قبض خمسمائة مبهمةً غير معينة بقولٍ ولا بنيةٍ فيه وجهان: أحدهما: له أن يعينها في أي الدينين شاء وهو المذهب كما لو أعتق عبده عن كفارته وكان عليه كفارتان له تعيين العتق عن أيهما

شاء. والثاني: يكون من الدينين معًا مائتان وخمسون عن الأصل ومائتان وخمسون عن الضمان لأن الإطلاق يقتضي التسوية بينهما. وإن أبرأ أحدهما من الألف برئ من الأصل وبرئت ذمة شريكه من ضمانها وبرئ عن خمس مائةٍ ضمانًا ولم يبرأ ذمة شريكه عن أصلها. وإن أبرأ أحدهما عن خمسمائة فإن عين بالقول أو بالنية كان على ما عين. فإن أبرأه عن الأصل برئ منه وبرئت ذمة شريكه عن ضمانها، وإن أبرأه عن الضمان برئ منه ولم يبرأ ذمة شريكه عن أصلها. وإن أبرأه عن خمسمائة مبهمةٍ فيه وجهان على ما ذكرنا. فإن جعلها عن الضمان له أن يطالب الذي لم يبرئه بألفٍ خمسمائة أصلٌ وخمسمائة ضمان. وإن أراد أن يطالب المبرئ عنه يطالبه بخمسمائة التي هي الأصل. فرع لو كانت هذه الكفالة في بيع بطل البيع وهي أن يقول: بعتكما هذا العبد بألف على أن كل واحدٍ منكما ضامن على صاحبه لأنه لم يبع النصف من هذا بخمسمائة إلا بأن يضمن له الدين الذي له على غيره. فرع آخر لو كان له عليهما ألف على كل واحدٍ منهما خمسمائةٍ وكل واحدٍ منهما كفيل ضامنٌ عن صاحبه ثم ضمن ثالث عن أحدهما الألف الذي في ذمته صح وكان له مطالبة أي الثلاثة منهم شاء. فإن طالب الثالث فقبض الحق منه برئت ذمة الشريكين ولم يكن للثالث أن يرجع على من لم يضمن عنه منهما وهل له [29/ ب] أن يرجع على من ضمن عنه منهما؟ نُظر فإن كان ضمن عنه بغير أمره لم يرجع، وإذا لم يرجع لا يرجع هو على شريكه. وإن كان قد ضمن بأمره رجع به عليه، وهل يرجع هو على شريكه أم لا؟ أمّا مال الأصل فلا يرجع على شريكه، وأمّا مال الضمان فإن كان قد ضمن عن شريكه بأمره رجع عليه وإلا لم يرجع. فرع آخر قال القفال: قال ابن سريج: لو قضى في المسألة السابقة أحدهما خمسمائة ثم اختلفا فقال صاحب الحق: قضيت عن صاحبك، وقال الدافع: لا بل عن نفسي وحلف فلصاحب الحق أن يطالب الذي لم يقبض شيئًا بخمسمائة لأنه يقول: إن صدقت صاحبك فعليك خمسمائة، وإن صدقتني وكذبت صاحبك فنصيبه عليه باقٍ وأنت ضامن لذلك. أو يقول: لي على صاحبك خمسمائة وأنت أقررت بأنه أدى عنك خمسمائة فله عليك خمسمائة فأنت غريم غريمي فأطالبك به كما لو كان له على رجل ألف وتعذر عليه استيفاؤه فأقر رجل لذلك الرجل الذي عليه المال بألفٍ وأنكر المقر له فلصاحب الحق أن يقول له: عليك ألف ولي عليه ألف فأدِّ حقي كما لو ظفرت بشيء من ماله فلي أخذه بحقي عند التعذر، وبعدما حلف الدافع إني دفعت عن نفسي فلصاحب الحق أن يطالبه بالنصف الآخر الذي هو ضامنٌ فيه لأنه يقول: إنما قلت: إنك دفعت

المضمون ظنًا مني أو دلني ظاهر الحال على ذلك فلما حلفت أنك ما دفعت إلا نصيبك فالمضمون عليك باقٍ. فرع آخر لو ضمن ثلاثة أنفسٍ عن رجل ألف درهم كان على كل واحدٍ ثلاثة إلا أن يقول كل واحد منهم أنا ضمن لجميعه. فرع آخر لو كان المضمون له مريضًا فأبرأ الضامن ومات من مرضه فإن خرج من الثلث برئ، ى وإن لم يخرج من الثلث برئ من مقدار الثلث وكان الضمان باقيًا فيما زاد عليه. مسألة: قال: "وَلَوْ أَقَامَ الرَجُلٌ البَيِّنَةَ أَنَّهُ بَاعَ مِنْ هّذَا الرَّجُلِ وَمِنْ رَجُلٍ غَائِبٍ عَبْدًا بِألْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَاهُ مِنْهُ". الفصل وهذا كما قال: إذا قدَّم رجل رجلًا إلى الحاكم وادعى عليه أنه باع منه ومن رجل آخر غائب عبدًا بألف درهم، وإن كل واحد منهما كفيل ضامن عن صاحبه بأمره وأنه مطالبٌ له بالألف فلا [30/ أ] يخلو المدعى عليه إما أن يقرّ به أو ينكره، فإن أقر به لزمه. فإذا قدم الغائب فإن صدقه على إقراره رجع بنصف الألف عليه، وإن لم يصدقه لا يقبل إقرار المدعى عليه على الغائب ولم يكن له الرجوع عليه. وإن أنكر المدعى عليه لا يخلو إما أن يكون له بينة أو لا بينة له، فإن لم تكن له بينة فالقول قوله مع يمينه فإذا حلف برئ. ثم إذا قدم الغائب لا يخلو إما أن ينكر أو يقر فإن أنكر فالقول قوله مع يمينه. وإن أقر يلزمه خمسمائة درهم وهي التي لزمته بالشراء، فأمّا ما لزمه بالضمان عن صاحبه فقد سقط عنه لأن صاحبه قد برئ عنه بيمينه، وإذا برئ المضمون عنه برئ الضامن ومن أصحابنا من قال: ما لزمه بالضمان لم يسقط عنه ويؤخذ بإقراره لأن اليمين لم يبرئه من الحق بل أسقط عنه المطالبة في الظاهر ولهذا تسمع البينة عليه، وإذا أقامها لزم الضامن. وإن كانت له بينة فأقامها فإنه يقضى بها على الحاضر بألف درهم نصف بالشراء ونصفه بالضمان فإذا قدم الغائب فإن كان الحاضر لما قدم إلى الحاكم وأنكر قال: ما اشتريت وما ضمنت فإنه قد كذّب بينة المدعي وأقر بأن ما غرمه ظلم لحقه من جهة المدعي فلا يرجع به على الغائب. وإن أنكر الشراء وسكت عن الضمان كان له الرجوع عليه بخمسمائة لأنه لم يكذب البينة، قال ابن أبي هريرة: وهكذا إذا قال: لا أقر ولا أنكر فسمع الحاكم عليه البينة وقضى بها عليه رجع هو على الغائب وهذا جواب عن سؤال يقال: الخصم الحاضر أنكرها ادعى المدعي من الشراء والضمان فكيف يرجع على الغائب بنصف الألف وهو يزعم أن المدعي مبطل في

دعواه، لأنه على ما ذكرنا لم يقل: إن المدعي مبطل في دعواه حتى لو قال ذلك لا يرجع. وقيل: لعله وكل بالخصومة وكيلًا فلم يبطل حق رجوعه بإنكار وكيله فلهذا قال: ورجع على الغائب. وقيل: وهو الصحيح جحوده لمدافعة خصومة الخصم لا يمنعه من الرجوع إذا توجه الحكم عليه لأنه لو اشترى من رجل عبدًا وقبضه فجاء مستحق وادعى أنه مغصوب [30/ ب] فأنكر المشتري وقال: بل كان ملكًا للبائع حين باعه مني وهو اليوم ملكي، ثم أقام المستحق بينة على الغاصب واسترجع العبد منه كان له أن يرجع على البائع بثمن العبد ولا يمنعه نسبة ملك العبد إلى البائع في مدافعة الخصومة عن الرجوع لأنه يقول: كانت تلك المقالة مني صادرة على الظاهر لدفع الخصومة، فإذا توجه القضاء عليّ ثبت لي حق الرجوع عليك كذلك ها هنا، وقيل: تأويله أن الحاضر صدق المدعي في ذلك غير أن المدعي قال: وأنا أقيم البينة بما ادعى عليك ليثبت الحق على الغائب فسمع الحاكم ذلك وقضى بها ها هنا له الرجوع لأنه ليس فيه تكذيب البينة. وقيل: تأويله أنه لم يجب بقوله ما اشتريت وما ضمنت ولكن قال: لا يلزمني دفع هذا المال من الوجه الذي تذكره فيحتمل أنه قضى ذلك المال مرةً. وقيل: تأويله أن الحاضر أنكر الضمان عن الغائب على ظاهر ما قال المزني، فلما قبض منه الألف قال: قد ظلمني هذا المدعي وأخذ مني ألفًا لا يستحقه وأعلم أن لك قبل الغائب ألفًا أقدر على أخذه بالبينة التي أقمت فقد وجد مالًا لمن عليه مال لا يقدر على أخذه فكان له أخذه بحقه، فعلى هذا التأويل هذا الحاضر لا يرجع على الغائب بما ضمن عنه وإنما يرجع بمال الغاصب عنده. وهذا التأويل لا يستقيم لأنه إذا أنكر جملة ما ادعاه المدعي وقال: لا تستحق عليّ ولا على الغائب بسبب هذه الدعوى، فكيف يرجع عليه بسبب هذه البينة؟ وإن لم ينكر ما ادعاه على الغائب وإنما أنكر الضمان عند فقد سقط عنه بأدائه عنه في الظاهر، وما ذكره من حكم الباطن ففي الظاهر لا يجوز أخذ ماله. قال المزني: وهذا مما يجامعنا عليه من أنكر القضاء على الغائب يعني به أبا حنيفة فإنه وافقنا في المسألة، لأن له اتصالًا بالحاضر وهو الضامن ينوب عن الغائب في الخصومة. وقال أبو إسحاق: هذا ليس بإلزام لأنهم يقولون بجواز القضاء على الغائب إذا كان هناك خصم حاضر وقال غيره: هذا وإن كانوا يقولونه فهو حجة عليهم، لأنه أثبت البيع و [31/ أ] الثمن على الحاضر والغائب وإنما قيد المزني هذه المسألة بالقبض لأن المدعي إذا لم يدّع أن المشتري قبض السلعة مني لم يستحق طلب الثمن على المشهور من مذهب الشافعي رحمة الله عليه. فرع ولو شهدت البينة ولم يعين الغائب باسمه ونسبه فهل يحكم بها على الحاضر بالألف؟ قال صاحب "الإفصاح": يحتمل وجهين:

أحدهما: لا يحكم عليه لأن بهذه الشهادة لا يثبت المال على الغائب، وإذا لم يثبت على الغائب لم يجز أن يثبت على الحاضر عنه. والثاني: يُحكم عليه بالألف لأن البينة لو شهدت على رجل بأن عليه لفلان ألف درهم من جهة الضمان قبلت هذه الشهادة وقضي عليه بالألف، وإن لم يكن المضمون عنه معينًا. مسألة: قال: وَلَوْ ضَمِنَ عَنْ رَجُلٍ بِأَمْرِهِ أَلْفَ دِرْهَمٍ عَلَيْهِ لِرَجُلٍ فَدَفَعَها بمحضره ثُمَّ أَنْكَرَ الطَّالِبُ أَنْ يَكُونَ قَبَضَ. الفصل وهذا كما قال: إذا ضمن رجل عن رجل ألف درهم فطالب المضمون له الضامن به فدفعه إليه ثم جحد القابض ما قبضه فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم القبض. وقد قال المزني: "حلف وبرئ" وليس معنى قوله: "برئ" أن عليه دينًا برئ منه لأنه طالب الدين، ولكن المراد به براءته عما توجه عليه من دعوى القبض والبراءة مرة تكون عن الدين ومرة عن الدعوى في الخصومة. ثم إذا حلف لا يخلو إمّا أن يكون دفعه إليه بحضرة المضمون عنه أو بغيبته، فإن كان بحضرته كان المضمون له أن يطالب أيهما شاء بالألف. فإن طالب المضمون عنه بما كان عليه دفعه إليه ليزن ألف درهم له وألف درهم للضامن، لأنه يقر بأن الضامن قد استحق الألف عليه وأن الظلم لحقه من جهة المضمون له، وهذا هو الذي نقله المزني واختاره أبو إسحاق. ومن أصحابنا من قال: لا يرجع الضامن عليه لأنه فرط في ترك الإشهاد ولم يقبض الدين قضاء يبرئ ذمة المضمون عنه به فلا يرجع عليه كما لو دفع بغيبة المضمون عنه ولم يشهد وهذا غلط والفرق بينه وبين حالة الغيبة أن الأمر هناك مفوض إلى الضامن فإذا ترك الإشهاد فرط فلا يرجع [31/ ب] وها هنا الأمر مفوض إلى المضمون عنه فإنه حاضر، فكان سبيله أن يحتاط لنفسه، فإذا لم يفعل كان التفريط من جهته فاستحق الضامن الرجوع عليه. وفرع ابن سريج على هذا فقال: لو ادعى الضامن أنه قضى الدين وصدق المضمون له وكذبه المضمون عنه فيه وجهان: أحدهما: القول قول المضمون عنه لأن الضامن منهم في قوله والمضمون له يشهد على فعل نفسه فلا تقبل شهادته على فعل نفسه. والثاني: القول قول الضامن ويرجع على المضمون عنه لأن المضمون له قد اعترف بأن الدين الذي في ذمة المضمون عنه صار لغيره وهو الضامن فيقبل لأنه أقر بما هو ملكه لغيره. ولأن الإقرار يقوم مقام البينة ولو ثبت القبض بالبينة رجع كذلك إذا ثبت

الإقرار. وإن طالب الضامن وقبض منه ألف درهم فإن الضامن يرجع على المضمون عنه بالألف الأول وهو الذي دفع إلى الطالب بحضرة المضمون عنه ولا يرجع بالألف الثاني لأنه يقر أنه ظلم لحقه من جهة الطالب. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجه آخر يرجع بالألف الثاني دون الألف الأول لأن البراءة به وقعت للمضمون عنه وهو ضعيف. وإن كان الضامن دفعه إلى الطالب في غيبة المضمون عنه لا يخلو إما أن يشهد عليه أو لم يشهد، فإن لم يشهد عليه لا يخلو إما أن يكون قد أمره بالإشهاد، أو منعه من الإشهاد، أو لم يأمره ولم يمنعه منه فإن كان قد منعه منه نُظر صدق الضامن في قوله كان الحكم فيه كما لو دفعه بحضرته. فإن جحده كان القول قوله مع يمينه وعلى الضامن البينة، فإذا حلف برئ من دعوى الضامن ويكون المضمون له بالخيار إن شاء طالب الضامن، وإن شاء طالب المضمون عنه، فإن طالب المضمون عنه وزن ألف درهم له ولا يلزمه أن يزن للضامن شيئًا، وإن طالب الضامن وزن له ألف درهم. وهل يرجع على المضمون عنه؟ المذهب أنه يرجع بالألف الثاني لأن بالأول لم تحصل البراءة وإنما حصلت بالثاني وهذا اختيار القاضي أبي حامد رحمه الله، ومن أصحابنا من قال: لا يرجع بشيء لأن بالألف الأولى لم تحصل البراءة، والثاني يقر الضامن أنه ظلم لحقه من جهة [32/ أ] المضمون له وأن البراءة حصلت بالألف الأول الذي قبضه. قال صاحب "الإفصاح": ولو قال قائل: هذا القول كان مذهبًا ومن أصحابنا من قال: يرجع بالألف الأول لأن ذمته برئت به في الباطن، وإن كان قد أمره بالإشهاد عليه فترك الإشهاد فإنه مفرط بترك الإشهاد مضيع لما دفعه إليه فلا يجوز أن يرجع به على المضمون عنه وإن صدقه المضمون عنه، ثم ينظر في المضمون له، فإن طالب المضمون عنه وزن له ألف درهم ولا يلزمه أن يزن للضامن شيئًا. وإن طالب الضامن لزمه أن يزن له ألف درهم ثانيًا وهل يرجع على المضمون عنه؟ على ما ذكرنا. وإن لم يأمره بالإشهاد ولم يمنعه منه قال أبو إسحاق: يلزمه الإشهاد، فإن لم يشهد كان مقبوضًا ولا يرجع على المضمون عنه وإن صدقه، كما لو أمره بالإشهاد لأن أمره بالدفع يقتضي دفعًا مبرئًا وذلك بالإشهاد عليه حتى إذا جحده تكون شهادتهما حجة عليهم. وقال ابن أبي هريرة: يحتمل أن له الرجوع لأن الدفع وقع بأمره ولم يأمره بالإشهاد حتى يكون مفرطًا فيه، فصار كما لو دفعه بحضرته والأول المشهور، وقد فرقنا بين حالة الحضرة وحالة الغيبة. وإن كذبه فإن قلنا: لو صدقه لم يرجع عليه فلا يمين عليه. وإن قلنا: إذا صدقه رجع عليه فعليه اليمين على نفي العلم. وأما المضمون له إن شاء رجع على المضمون عنه، وإن شاء رجع على الضامن على ما ذكرنا. فإن رجع على المضمون عنه فلا كلام، وإن رجع على الضامن بالألف فإن قلنا: إنه لو لم يرجع

عليه رجع بالألف الذي دفعه رجع ها هنا أيضًا به، والثاني ظلم لا يرجع به وإن قلنا: بالوجه المشهور أنه لا يرجع فها هنا هل يرجع؟ على ما ذكرنا من الخلاف وفيه وجه آخر ذكره ابن أبي هريرة يرجع بأحد الألفين لا يعينه، قال القاضي الطبري: وهو الصحيح عندي لأن البراءة حصلت بالألفين جميعًا بالألف الأول في الباطن، وبالألف الثاني في الظاهر وقد كان يمكنه تحصيل البراءة منه بألف واحد ففرط فيه فإذا كان كذلك حصل له على المضمون عنه من الألفين ألف واحد من غير تعيين. ومن أصحابنا من رتب فقال: هل يرجع عليه؟ وجهان فإذا قلنا: يرجع فيه وجهان: [32/ ب] أحدهما: يرجع بالألف الأول، والثاني: بالألف الثاني، وفيه وجه ثالث: يأخذ الألفين لا يعينه وقيل: يرجع بأقلهما لأن الأقل إن كان أقل فهو لا يدعي إلا هو، وإن كان الثاني أقل استحق الرجوع به في الحكم فلا يرجع بأكثر منه هذا كله إن لم يكن أشهد عليه. فإن كان قد أشهد عليه لا يخلو إما أن يشهد شهودًا يثبت بها الحق أو لا يثبت بها الحق أو مختلف فيها، فإن كان شهودًا يثبت بها الحق مثل رجلين أو رجل وامرأتين عدولٍ فإن الضامن يقيمها فإذا ثبت القضاء كان له الرجوع على المضمون عنه، فإن مات الشهود أو غابوا أو فسقوا واعترف المضمون عنه أن الضامن كان قد أشهد كان للضامن أن يرجع عليه بما قضى عنه لأنه لم يكن مفرطًا، والحكم فيه كما لو دفعه بحضرة المضمون عنه. وإن أشهد شهودًا لا يثبت بها الحق فإن كانت ترد بأمر ظاهر مثل الفسق الظاهر والرق والكفر لم يكن له الرجوع على المضمون عنه لأن مفرط في ذلك. وإن كانت ترد شهادتهم بأمرٍ خفي مثل الفسق الخفي فيه وجهان: أحدهما: لا يرجع لأنه أمره حين لم يحصل المقصود من الشهود، والثاني: يرجع لأن الجرح والتعديل إلى غيره فلا يكون مفرطًا ولأنه أمر يستبطن فكان معذورًا في الخطأ فيه. ومعنى الوجهين: أنه يُكتفى بظاهر العدالة في شهود النكاح أو تعتبر حقيقة العدالة كما عند الحاكم على وجهين. وإن أشهد بينة مختلفًا فيها مثل العدل، فإن كان باقيًا حلف معه وحكم له. وإن كان قد مات فيه وجهان: أحدهما: يكون مفرطًا لأن الشاهد الواحد ليس ببينة تامة في الابتداء. ولأن الحاكم ربما كان لا يرى الحكم بالشاهد واليمين. والثاني: لا يكون مفرطًا وهو الصحيح لأنه لو كان حيًا لم يكن مفرطًا فلا يصير مفرطًا بموته. مسألة: قال: وَلَوْ ضَمِنَ لِرَجُلٍ مَا قَضَى لَهُ بِهِ عَلَى آخَر. الفصل وهذا كما قال: إذا قال: ضمنت لك ما قضى لك على فلان، أو شهدت لك ببينتك

عليه، أو ضمنت لك مالك على فلان لم يَجُز لأنه ضمان مجهول. ولو قال: ضمنت لك ما تُداين فلانًا أو تُقرضه أو تُعامله به لم يَجٌز [33/ أ] لمعنيين: أحدهما: أنه ضمان ما لم يجب. والثاني: أنه ضمان المجهول وبه قال ابن أبي ليلى والثوري والليث وأحمد رحمهم الله، وقال أبو حنيفة ومالك: يصح ضمان المجهول وضمان ما لم يجب لأنه يصح تعليقه بالغرر والخطر ولهذا جاز ضمان الدرك وهو مجهول ولم يجب. وهذا غلط لأنه إثبات مال في الذمة بعقد لآدمي فلم يجز في المجهول كالبيع. وقد بينا ضمان الدرك. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قول مخرج من ضمان الدرك أنه يجوز كما قال أبو حنيفة: خرجه ابن سريج رحمهما الله. وقيل: إنه مخرج من قوله القديم: يصح ضمان نفقة الزوجات وهذا غير مشهور. فرع لو قال: ضمنت لك ما تداين به فلانًا من درهم إلى مائة لم يجز أيضًا لمعنى واحد وهو أنه ضمان ما لم يجب. وقيل: فيه وجهان تخريجًا من ضمان نفقة الزوجات، وفيه قولان. ولا يصح هذا التخريج لأنه في القديم يرى وجوب النفقة بالعقد، وحكي عن أبي إسحاق أنه قال: يجوز هذا للحاجة الداعية إليه. وهذه العلة غير صحيحة لأنه لا حاجة لأنه يمكنه الصبر حتى يجب الحق عليه. فرع آخر لو قال: أقرض زيدًا ألف درهم وعليّ ضمانه فالمذهب أنه لا يجوز وقال في "الحاوي": فيه وجهان: أحدهما: هذا. والثاني: يجوز لأنه ضمان مقترن بالقرض فصح اجتماعهما وهذا اختيار ابن سريج. وهكذا لو قال: عبدك هذا من زيد بألف وأنا ضامن بخمسمائة هل يلزمه الضمان؟ وجهان ذكرناه في البيع. فرع آخر لو كان عليه دين فجهل قدره فقال: ضمنت لك عنه من درهم إلى ألف درهم قال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان: أحدهما: لا يجوز وهو الأقيس لأنه مجهول. والثاني: يجوز وهو ظاهر المذهب لأن الجملة معلومة فهو ضامن لكل قدرٍ من الألف. وعندي أن ظاهر المذهب أنه لا يجوز، وكذا ذكره أصحابنا بالعراق. فرع آخر لو قال: هذا الرجل وكيلي فكل ما أعطيته لي فهو عليّ فما أعطاه لزمه ضمانه للتوكيل دون عقد الضمان فإنه إذا أعطاه يصير بمنزلة دفعه إلى الموكل فإن يد الوكيل يد الموكل.

فرع آخر لا يجوز الضمان المعلق بالصفة قبل [33/ ب] أن يقول: إذا جاء رأس الشهر فقد ضمنت لك الألف الذي على فلان وهذا لأنه يقتضي أن يكون وجود الصفة سببًا في وجوب الحق عليه وهذا محال. وحكي عن أبي حنيفة أنه يجوز ذلك. فرع آخر لو ذكر أجلًا في الضمان غير معين الوقت ولكنه يعرف الجملة لفصح النصارى فيه قولان حكاهما ابن سريج. أحدهما: لا يجوز كما في البيع. والثاني: يجوز لأنه موضوع للرفق. وهكذا لو قال: إلى الحصاد أو الجذاذ أو الدباس ولو قال: إلى مجيء المطر وقدوم الغزاة لا يجوز قولًا واحدًا؛ لأنه لا يعرف أصلًا. فرع آخر إذا قلنا: لا يجوز هذا الشرط هل يبطل به الضمان؟ قولان مبنيان على الضمان بشرط الخيار يبطل الخيار وفي بطلان الضمان قولان. مسألة: قال: وَلَو ضَمِنَ دَيْنَ مَيٍّتٍ بَعْدَمَا يَعْرِفُهُ وَيَعْرِفُ لِمَنْ هُوَ فَالضَّمَانُ لاَزِمَ. الفصل وهذا كما قال: يجوز ضمان دين الميت سواء حلَّف وفاءً أو لم يحلِّف، وبه قال مالك وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد. وقال الثوري وأبي حنيفة: لا يجوز إلا إذا ترك وفاء أو كان به ضامن وهذا غلط لخبر عليّ وأبي قتادة رضي الله عنهما. وروي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم برجل يصلي عليه فقال: عليه دّين؟ قالوا: نعم، فقال: "إن ضمنتم دينه صليت عليه". ولأن الديَن على الميت صحيح مستقر بدليل أن سمرة بن جندب قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الصلوات فلما انصرف قال: "ها هنا من بني فلان أحد إن صاحبكم فلانًا قد احتبس عن الجنة بدين عليه فإما أن تفدوه من عذاب الله عز وجل وإما أن تسلموه". وأما قوله: بعدما يعرفه أراد معرفة المضمون عنه وهذا يدل على أحد وجهي أصحابنا. فإن قيل: يحتمل أن يكون معناه يعرف مقدار الدين قلنا: يحتمل هذا، ولكن ذكر قبله بسطرٍ ضمان المجهول فيبعد أن يقصد التكرار وهذا اختيار القفال رحمه الله. ولو أطلق الضمان عن الحق ولا يدري أنه حالّ أو مؤجل فالمذهب أنه يجوز، ولزمه على بينته في الحلول والتأجيل. وقال بعض شيوخنا: لا بد أن يعلم أنه حالّ أو مؤجل. [34/ أ]

مسألة: قال: "وَلَا تَجُوزُ كَفَالَةُ العَبْدِ المَاذُونِ فِي التِّجَارَةِ". الفصل وهذا كما قال. الكلام الآن فيمن يصح ضمانه وفيمن لا يصح، وأصل هذا أن كل من صح بيعه صح ضمانه. فإن كان الضامن عبدًا لا يخلو من أحد أمرين إما أن يكون مأذونًا له في التجارة، أو غير مأذون له في التجارة، فإن كان غير مأذون لا يخلو من أحد أمرين إما أن يكون بإذن سيده أو بغير إذنه، فإن كان بإذنه فالضمان صحيح. ثم هل يتعلق بكسبه أو يلزم في ذمة العبد حتى يؤديه بعد العتق؟ قد ذكرنا فيما تقدم وجهان: أحدهما: وهو اختيار صاحب "الإفصاح" يتعلق بكسبه فإن لم يكن له كسب ففي ذمته كالمهر والنفقة إذا أذن له بالنكاح وهذا لأن المقصود من الضمان أداء الحق، فإذا أذن فيه فقد رضي بتعلقه بكسبه. والثاني: يلزم في صحته وهو الأصح لأن الإذن بالضمان إذن بالمعاملة فصار كما لو ابتاع مالًا بإذن سيده كان الثمن في ذمته دون كسبه ويفارق النكاح لأنه استمتاع لا يحصل له إلا بالمهر والنفقة فتعلق ذلك بكسبه لإذنه فيه. وإن كان هذا الضمان بغير إذنه قال ابن سريج: فيه قولان وأراد وجهان: أحدهما: يجوز وهو اختيار أبي إسحاق وابن أبي هريرة ويكون المال في ذمته يتبع به إذا عتق لأنه في ضرر على السيد فيه ويخالف النكاح لأن يضر بالسيد فإنه يقتضي الإنفاق وتعطيل منافعه بالكسب له. قال هذا القائل: وقول الشافعي: ولا يصح كفالة العبد المأذون له في التجارة أراد إذا ضمن في المال دون الذمة. والثاني: لا يجوز وهو اختيار الإصطخري وهو ظاهر المذهب لأنه تبرع واستهلاك في الحقيقة فلا يجوز دون إذن السيد وهذا اختيار ابن سريج. وإن كان العبد مأذونًا فإن ضمنه في ذمته من غير إذن سيده فالحكم ما ذكرنا، قال القفال: والصحيح أنه لا يجوز، لأنه ليس من التجارة فلا يتناوله الإذن. وقال أبو حنيفة: يجوز، لأنه من جملة ما تدعو إليه التجارة وهذا غلط لما ذكرنا ولأنه ربما يجد مرجعًا وربما لا يجد فيكون استهلاكًا ومخاطرة فلا يجوز. وإن ضمنه في المال الذي في يده لم يجز بلا خلاف. وإن ضمن بإذن السيد في الذمة جاز. وهل يكون في ذمته أو كسبه؟ وجهان [34/ ب] على ما ذكرنا. وقال صاحب "الإفصاح": إذا قلنا: يجب في كسبه يجب أن يتعلق فيما في يده من المال أيضًا كما قلنا في النكاح. وإن ضمنه في المال الذي في يده وقلنا: إنَّ إذنه لا يقتضي تعلق الضمان به لم يصح الضمان. ولو أذن له في الضمان فيما في يده صريحًا

فضمن صح الضمان وجهًا واحدًا ويفارق الحر إذا ضمن الدين في مال معين في يده لا يجوز لأنه لا حاجةً للحر إلى تعيين المال لصحةُ ذمته، ولا سبيل إلى استيفاء ما في ذمته في حال رقه فافترقا. أو نقول: التعيين فيما بيد العبد ينصرف إلى الأداء دون الضمان لأن الضمان متعلق بذمته فصح، والتعيين في الحر ينصرف إلى الضمان فبطل، وعلى هذا لو عينه السيد في رقبته تعين. وقال بعض أصحابنا: لو ضمن الحر مالًا وعين القضاء في عين من أعيان ماله يجوز ويتعلق به عنى قياس قول ابن سريج، لأن الحقوق تتعلق بأعيان الأموال كما في الرهن؛ وهذا إذا لم يكن على العبد المأذون دين، فإن كان عليه دين فهل يصير العبد محجورًا عليه في المال الذي بيده لأجل ديونه؟ قولان حكاهما ابن سريج. أحدهما: لا حجر عليه فيما بيده إلا لسيده لكون ذلك على ملكه فعلى هذا يجوز تصرفه ما لم يحجر علته بالفلس وصح ضمانه بإذن سيده، ولو أذن له السيد في هبةُ ماله صحت هبته. والثاني: أن العبد محجور لأجل الدين كما محجور في حق سيده لأن العبد يفاضل بما في يده لضعف ذمته بخلاف الحر؛ فعلى هذا ليس له أن يفعل ما يدخل الضرر على غرمائه بهبةٍ ولا غيرها، وإن كان بإذن سيده. فإذا قلنا بهذا الوجه الثاني ففي ضمانه وجهان: أحدهما: باطل لأنه صرفه إلى جهةٍ لم يثبت فيها. والثاني: يجوز لأن الضمان لا يتعين في المال وإنما يتعين فيه الأداء؛ فعلى هذا فيه وجهان: أحدهما: يكون فيما اكتسبه بعد الضمان وفيما فضل بعد دينه من المال الذي كان يده قبل الضمان. والثاني: في ذمته يؤديه بعد عتقه؛ وإذا قلنا بالوجه الأول أنه لا حجر عليه فيما بيده للغرماء فضمن مالًا رجل فالمضمون له يشارك سائر الغرماء قبل الحجر عليه لأن المال للسيد وقد أذن في [35/أ] ذلك. فرع لو ضمن السيد لعبده مالآ عن أجنبي وعليه دين من تجارةً مأذون فيها فيه مخرجان من اختلاف قوليه من غرماء العبد هل يستحقون حجرًا عليه بديونهم أم لا؟ فإن قلنا: لا حجر لهم عليه فضمان السيد له باطل، وإن قلنا: لهم الحجر عليه ضمان السيد له جائز؛ فإن قضى العبد دينه برئ السيد من ضمانه. فرع آخر لو كان على ذمةُ العبد دين فضمن عنه ضامن يجوز بلا خلاف فإن قيل: كيف يصح ضمانه ولا يطالب العبد به؟ قلت: الدين في ذمته لازم وإنما لا يطالب به لعجزه في

حال رقه عن أدائه فكان ذلك بمنزلةُ الدين على العبد. فرع آخر لو ضمن العبد مالأ عن أجنبي فمذهب الشافعي ضمانه باطل، وقال ابن سريج: يجوز ضمانه لأنه لا يجوز له أن يثبت له في رقبةَ عبده مالًا لأنه يملك الرقبةً، ويجوز أن يثبت له في ذمته مال لأنه لا يملك الذمةً فعلى هذا لا يكون للسيد أن يطالب عبده بالضمان إلا بعد عتقه. فرع آخر المبايعةَ للعبد مع سيده هل تجوز أم لا؟ قال في "الحاوي" إن قال ابن سريج مثل ما قال في الضمان فقد جرى على القياس وكان لقوله وجه وإن كان يمنع فقد ناقض. ويحتمل أن يركب ابن سريج القياس ويجيز الأمرين كما قال في جواز بيع العبد من نفسه، ويحتمل أن يفرق بينهما بأن بيع نفسه عليه مفضي إلى عتقه فجاز وبيع غير نفسه عليه لا يفضي إلى عتقه فلم يجز لفضل مزيةُ العتق. فرع آخر لو ضمن العبد عن سيده شيئًا بأمره يصح فإذا عتق وغرم هل يرجع على السيد بما غرم؟ فيه وجهان: أحدهما: يرجع عليه تغليبًا لحالة القضاء على حالةَ الضمان ذكره القاضي أبو علي الزجاجي رحمه الله. والثاني: لا يرجع عليه تغليبًا لحالة الضمان على أداء حالةَ الأداء ذكره الشيخ أبو محمد الجوينى رحمه الله. فرع آخر لو ضمن المحجور عليه نظر فيه، فإن كان محجورًا عليه للسفه لم يصح ضمانه، وإن كان للفلس صح ودفع اليه ما فضل من الغرماء. مسألة: قال: وَلَوْ ضِمْنَ عَنْ مَكَاتِبِ أَوْ مَالَا فِي يَدِيِ وَصِيِّ أَوْ مقارض أَوْ ضَامِنَ أَحَدَّ مِنْهُمْ ذَلِكَ عَنْ نَفْسُه فَالضَّمَانَ بَاطِلَ أَحَدَّ مِنْهُمْ ذَلِكَ عَنْ نَفْسُه فَالضَّمَانَ بَاطِل. وهذا كما قال قد ذكرنا ضمان مال [35/ب] الكتابةً أنه لا يجوز وأما المكاتب إذا ضمن عن الغير مالاً فإن كان بغير إذن المولى فهو كالعبد القِن. وإن كان إذن المولى فهو تبرع وفي تبرعات المكاتب بإذن المولى قولان معروفانَ ثم اعلم أن المزني أخل بالنقل حيث جمع بين الضمان عن المكاتب والوصي والمقارض، ثم عطف على ذلك

فقال: أو ضمن ذلك أحد منهم عن نفسه وهذا العطف في المكاتب محال، لأن المكاتب ضامن بعقد الكتابةً نجوم العقد فلعله ظن أنه ذكر سوى المكاتب ثلاثةً من الأمناء. مسألة: قال: وَضَمَان المَرْأَةِ كَالَّرجُلِ. وهذا كما قال: ضمان المرأةَ يصح لأن كل من لزمه الثمن في البياعات صح ضمانه كالرجل، وقال مالك: لا تضمن المرأةَ إلا بإذن زوجها كالعبد لا يضمن إلا بإذن سيده. مسألة: قال: " وَلَا يَجُوزُ ضُمَّانُ مِنْ لَمْ يُبْلَغْ، وَلَا مَجْنُونَ، وَلَا مبرسم يَهْذِي " الفصل وهذا كما قال: لا يجوز ضمان الصبي لأنه غير مكلف وهو قول جميع العلماء، لا يجوز أيضاً ضمان المجنون لأنه لا حكم لقوله وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى ينتبه". وأما المريض كان مبرسمًا يهذي لا يصح ضمانه كالمغمى عليه. وإن كان يعقل صح ضمانه فإن برئ من مرضه كان من صلب ماله، وإن مات كان محسوبًا من ثلاثةَ لأنه إتلاف مال بلا عوض، وأما قوله: يهذي قيل: إنه زيادةً ذكرها المزني لغوًا، وقيل: له فائدةً وذلك أن المبرسم يهذي في أول برسامه مع قوةُ جسمه فإذا تطاول به أضعف جسمه فلا يهذي فأبطل ضمانه في الحالةَ التي يهذي فيها لينبه على بطلانه في الحالةَ التي هي أغلظ منها وهي الحالة التي لا يهذي فيها. وأما الأخرس فإن كان لا يعقل الإشارةً ولا الكتابةً لا يصح ضمانه، وإن كان يعقل الإشارةَ والكتابةً فأشار به وكتب قام مقام النطق فهو كالناطق يصح ضمانه؛ وإن ضمن الإشارة دون الكتابة جاز، وإن ضمن بالكتابة دون الإشارةَ لا يجوز وجها واحداً ذكره ابن أبي هريرة؛ لأن مجرد الكتابةَ لا يقوم مقام النطق لاحتمالها حتى تنضم إليه الإشارةَ فيزول احتمالها. ومن أصحابنا من قال: يجوز لأن كتابته أقوى في البيان من الإشارة قال [36/أ] هذا القائل: المزني غلط في نقله حيث شرط شرطين أن يعقل الإشارةً، وأن يعقل الكتابةً وأحدهما يكفي ويغني عن الثاني. وهكذا الخلاف إذا كان لا يعقل الإشارةً ويحسن الكتابةً فكتبه ولم يشر، والصحيح عندي جوازه وإن كان ما تقدم ظاهر المذهب. فرع لو اختلفا فقال المضمون له: ضمنت وأنت بالغ، وقال: بل ضمنت وأنا صبي

فالقول قول الضامن لأن الأصل براءة ذمته والأصل الصغر. ولو قال: ضمنت وأنت مفيق، وقال: بل ضمت وأنا مجنون، فإن لم يعرف له حالةً جنون فالقول قول المضمون له لأنه أقر بالضمان وادعى ما يوجب البطلان والأصل عدم ما العام، وإن عرف له حالةً جنون فالقول قوله لأن الأصل براءةً ذمته وعلى المضمون له إقامةَ البينةً أنه ضمن له في حال إفاقته. فرع آخر لو ضمن رجل المبيع فاستحق المبيع برئ الضامن، وكذلك إذا رده بمب أو إقالةً. ولو زوج رجلًا بغير أمره وضضن المهر كان النكاح فاسدًا والثامن ساقطا، ولو ضمن صداق امرأته وأقبضها ثم ارتدت قبل الدخول بها يلزمها رد الصداق إلى الزوج ثم يلزم الزوج رد عين ما أخذ منها إلى الضامن ذكره أصحابنا بالعراق، وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا يلزمه رد ملك العين إلى الضامن بل يغرم مثلها له وهذا أقيس. مسألة: قال: وَضِعْفُ الشَّافِعِيِ كفالَةً الْوَجِهَ. الفصل وهذا كما قال: إذا كان له عليه دين يجوز ضمانه هل تصح الكفالة ببدنه رده إليه متى طالبه به أم لا؟ قال الشافعي في عامةً كتبه: إنها جائزة نص عليه في حرملةً واختلا ف العراقيين واللعان. وقال في الدعوى والبينات: يجوز ثم قال في آخر كلامه: غير أن كفالةَ الأبدان عندي ضعيفةً ضعف ذلك، واختلف أصحابنا فيه فقال أكثرهم: المسألةَ على قولين أحدهما: يجوز وهو المشهور وبه قال كافةُ العلماء ومالك وأهل المدينة َوالليث والثوري وأبو حنيفةَ وأحمد رحمهم الله. والدليل عليه قوله تعالى: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَاتُنَّنِي بِهِ} [يوسف: (66)] ولأن ما وجب تسليمه بعقد وجب بعقد الكفالةَ بالمال في بيان الوصف يجب تسلم البدن بعقد النكاح وعقد الإجارةً، والثاني: لا يجوز وهو القياس لأن كل مضمون إذا هلك كان على الضامن قيمته وهاهنا لا مال [36/ب] عليه إذا هلك المكفول به، ولا إذا تعذر عليه تسليمه فوجب أن لا يكون مضمونًا عليه. وهذه الطريقةَ اختيار المزني وأبي إسحاق. والطريقة الثانية أن المسألةً على قول واحد أنها تجوز لأن الشافعي قطع بجوازها في كتب ومع عليه وقوله: إنها ضعيفةَ ليس بقول ثانٍ، وإنما أراد أنها ضعيفةً من حيث القياس ولكنا أجزناها لأخبار وإجماع الناس عليها. وروي أن نفرًا آمنوا بمسيلمةَ الكذاب فأخذهم عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وقتل واحدًا منهم وتاب جماعةً فكفلهم عشائرهم ووافقه على هذا الرأي جرير والأشعث رضي الله عنهما.

فرع إذا قلنا: إنها باطلةً فلا تفريع عليه وإن قلنا: إنها صحيحةً هل يلزم أن يكون عارفًا بالمكفول؟ له وجهان كالمضمون له المال. فرع آخر هل يلزم أن يكون عارفًا بقدر الحق على المكفول ببدنه؟ وجهان: أحدهما: يلزم ولا يصح إلا بعد معرفته وهو قول ابن سريج لأن عنده أن موت المكفول به يوجب على الكفيل غرم الدين وبه قال مالك حكاه عنه أصحابه، وأصحابه ينكرونه. والثاني: لا يلزم وهو مذهب الشافعي، لأنه لا يلزم المال عليه بموته عنده. فرع آخر لو كان الحق الذي عليه مما لا يصح ضمانه فإن كان للجهل به وهو أن يكون الدين مجهولَا فقد ذكرنا كان لكونه حدًا نظرًا فإن كان حد لله تعالى كحد الزنا وغرب لم تصح الكفالةَ قولًا واحدًا لما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا كفالة في حد"، ولأن حد الله تعالى مبني على الإسقاط والكفالة؛ استيثاق فلا مدخل لها فيه، وإن كان حدًا للآدمي كالقصاص وحد القذف قال الشافعي في اللعان: ولا كفالةً في حد ولا لعان، ونقل المزني في "الجامع الكبير" وتجوز الكفالةَ بمن عليه حق أو حد فمن أصحابنا من أخذ بظاهر ما نقل وتأول ما قال في اللعان أن المراد به الكفالةَ بنفس الحد ووجهه أنه حق لآدمي فصحت الكفالةً كسائر حقوق الآدميين. وقال ابن سريج: فيه وجهان: احدهما: ما ذكرنا. والثاني: لا يجوز لأنه يسقط بالشبهةَ، ولأن الكفالةَ لا تصح به فكذلك لا تصح ببدن من هو عليه، وقال جماعةً من أصحابنا: وهذا هو المذهب. وقال أبو حامد [37/أ] رحمه الله: يشبه أن يكون الوجهان مبنيين على أن موت المكفول به هل يوجب الحق على الكفيل؟ فمن قال: يجب ذلك لا يجوز هذه الكفالةَ لأنه يحوز وجوب الحد على الكفيل وهذا إشارةً إلى أن المذهب أنه يجوز لأن عند الشافعي لا يلزمه المال بموته ويفارق حد الله تعالى، لأن حق الآدمي مبني على الاستقصاء فيجوز الاستيثاق بالكفالة، وقال بعض أصحابنا بخراسان: في الكفالة ببدن من عليه حد الله تعالى قولان أيضا. وهو كالقولين في أن كتاب القاضي إلي القاضي والشهادةً على الشهادةَ هل يجري في حدود الله تعالى أم لا؟ ووجه البناء أن حكم الحدود هل يجعل كحكم الأموال

قولان؟ وفي هذا نظر والصحيح ما ذكرنا. فرع آخر لو ثبت الحق ثم تكفل رجل ببدن المدعى عليه فمات المكفول به قبل تسليمه إليه برئ الكفيل ولا قيء عليه على ما ذكرنا. وبه قال أبو حنيفة، وقال ابن سريج: فيه وجهان;: أحدهما: هذا. والثاني: يلزمه المال لأنه المقصود من هذه الكفالةَ وهذا غلط لأنه لم يتكفل بالمال فلا يلزمه ما لم يتناوله كفالته كما لو تكفل بمائةً درهم لا يلزمه أكثر منها؛ ولأنه لو كفل بالمال لا يلزمه إحضار النفس فكذلك إذا تكفل بالنفس لا يلزمه إحضار المال ولا فرق بينهما. فرع آخر إذا قلنا: يلزمه المال فهو الذي ثبت على ذمته وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان: أحدهما: هذا. والثاني: يغرم الأقل من دينه أو الحق الذي عليه وهو كالقولين فيمن أراد أن يفدي عبده الجاني هل يفدي بإرش الجاه بالغًا ما بلغ آخر بالأقل من قيمته أو أرش جنايته. فرع آخر لو قال: تكلفت ببدنه إلى وقت كذا فإن لم أسلمه إليك في هذا الوقت فعليّ ما عليه أو ما تدعيه أو كذا وكذا درهما فالكفالةَ باطلةً لأنها كفالةً معلقةً بصفةً وبه قال محمد وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: يجوز فإن لم يوافقه به وجب عليه المال. فرع آخر لو لم يمت ولكنه غاب غيبةً لا يعرف موضعه لا يلزمه شيء كما لو مات على ظاهر المذهب وإن عرف موضعه وأمكنه إحضاره وأجل إلى وقت يمكن فيه الذهاب والمجيء، فإن جاء به وإلا حبسه [37/ب] الحاكم له ذكره القاضي أبو حامد في جامعه. وقال ابن شبرمة: يحبس في الحال لأن الحق قد توجه عليه وهذا غلط؛ لأن الحق وإن توجه عليه فإن يعتبر فيه إمكان التسليم ولا يمكنه ذلك. فرع آخر كل موضع أجزنا الكفالةً هل يفتقر إلى إذن المكفول به؟ قال عامة أصحابنا: يفتقر إلى الإذن ولا يجوز من دون إذنه وهو ظاهر المذهب وهو اختيار ابن أبي أحمد وقال ابن سرج: يجوز ذلك من غير إذنه لأنه وثيقةً بالحق فأشبه ضمان المال وهذا غلط لأنه يوجب تسليم النفس وذلك لا يمكن إلا بتمكين المكفول به، ولا يلزمه طاعته إذا لم تكن الكفالةَ بإذنه وفي المال يمكنه أداء الماء فافترقا. فرع آخر إذا قلنا: يصح كما قال ابن سرج فتكفل به من غير إذنه قال: إذا طالب المكفول له

بإحضاره يلزمه أن يحضر معه لا من ناحيةُ الكفالةَ ولكن من ناحيةً الوكالةً فكأنه وكله بإحضاره فيلزمه أن يحضر معه، ولو لم يقل له أحضره بل قال: اخرج إلي من كفالتك فطالبه الكفيل بالحضور هل يلزمه أن يحضر معه؟ قال ابن سريج: فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه لأن قوله اخرج إليّ من كفالتك معناه أعطني، ما عليك من الحق فعلى هذا له حبسه حتى يخرج إليه من كفالته ولا يلزم المكفول به قال أصحابنا: هذا يدل على فساد ما قاله لأنه يحبسه على ما لا يقدر عليه وهذا لا في الشرع. والثاني: يلزمه الحضور معه لأن قوله هذا يتضمن الإذن له في إحضاره ومعناه التوكيل فرع آخر إذا تكفل ببدن صبي أو مجنون صحت الكفالة لأن الحق يجب عليهما في ذمتهما وقد يحتاج إلى إحضارهما للشهادةً عليهما بالإتلاف ثم إنما تصح الكفالةَ بهما بإذن الولي لأن إذنهما لا يصح، وإن كان من غير إذن الولي لم يجز إلا على قول ابن سريج، ثم إن كانت الكفالةً بإذن وليه فطولب بإحضاره كان للكفيل مطالبة وليه بإحضاره من حيث وجوب الحق على الصبي لا من ناحية الكفالةَ. وقال في "الحاوي": "ظاهر مذهب الشافعي رحمةُ الله عليه أنه لا يحوز وإن أمره الأب بالكفالةً لان أمر الأب [38/أ] سؤال وطلب لا يتعلق عليه حكم به". وعلى قول ابن سريج يجوز ذلك. فرع آخر إذا جوزنا على ما قال ابن سريج تجوز الكفالة به غائبًا كان أو حاضرًا، محبوسًا كان أو مطلقًا، لأنه يمكنه تسليم المحبوس وإحضار الغائب، وإن كانت الغيبةُ منقطعةً ولا يمكنه إحضاره لا يجوز وقال أبو حنيفة: لا تجوز الوكالة ببدن المحبوس والغائب وهذا غلط لأن كل وثيقةً صحت مع الإطلاق والحضور صحت مع الغيبةً والخبر كالشهادة والضمان. فرع آخر لو كانت الكفالةً بإذنه فطالبه المكفول له بإحضاره يلزمه الإحضار ويلزمه الحضور معه حتى يبرئ ذمته عن الكفالةَ، وإن كان المكفول له غير مطالب برده له إحضاره وتسليمه إليه كما لو أعاره للرهن كان له مطالبةُ الراهن فكاكه كذلك هاهنا. فرع آخر كل موضع أجزنا الكفالةً لا يخلو من أحد أمرين إما أن تكون مطلقةً، أو مقيدةً؛ فإن كانت مطلقةً كانت حالةً وكان له المطالبة به متى شاء ولزمه تسليمه في [موضع] الكفالةَ.

وإن كانت الكفالةً مقيدة وهو أن يتكفل به إلى أجل لا يخلو الأجل من أحد أمرين إما أن يكون معلومًا أو مجهولًا، فإن كان مجهولًا مثل إن قال: تكلفت ببدنه إلى العطاء أو الحصاد لا يصح وهو الأصح، في المذهب، وفيه وجه آخر يصح كالعاريةً والإباحةً لأنه حق لا يقابله عوض؛ وهذا غلط لأنه ضمن في ذمته مالأ بعقد فلا يجوز إلى أجل مجهول كالثمن في البيع، ويفارق العاريةً لأنه لو قال: أعرتك أحد هذين الثوبين يجوز وله الانتفاع بأحدهما، ولو قال: تكفلت لك بأحد هذين لا يجوز. وإن كان إلى أجل معدوم هو قولًا واحدًا، فإذا صحت إلى أجل لم تجب المطالبةَ به قبل انقضاء الأجل وفيه وجه آخر لا تجوز إلا مطلقة. فرع آخر لو شرط عليه تسليمه في موضع بعينه فقال: أسلمه إليك في المسجد الأعظم أو مجلس الحكم رده تسليمه إليه فيه فإن سلمه إليه في موضع آخر نظر فإن كان بقرب مجلس الحكم ولا يتعذر عليه حمله إليه، وإذا امتنع لحقه الغوث من جهةُ الحاكم والمعونة في حمله لزمه تسليمه وفيه [38/ب] وجه آخر لا يلزمه قبوله إلا في الموضع الذي عينه لأن عليه مؤنةً في حمله إلى الموضع الذي عينه، وإن قلت وإن كان في طرف من البلد ولا يمكنه حمله إلى مجلس الحكم ويخاف هربه منه أو امتناعه عليه لم يلزمه تسلمه. فرع آخر إذا وجب تسلمه فأبى أن يقبله أجبره الحاكم على قبوله، فإن لم يقبله تسلمه الحاكم وبريء الكفيل قال ابن سريج: فإن لم يكن حاكم أشهد على إحضاره عدلين وبرئ الكفيل. فرع آخر لو لم يحمله إلى الحاكم مع القدرةَ عليه وأشهد على امتناعه رجلين ظاهر ما قال الشيخ أبو حامد: إنه لا يبرأ، وقال القاضي الطبري: يبرأ ويكفي الإشهاد على امتناعه وهذا أقيس لآن مع وجود صاحب الحق لا يلزمه تسليمه إلى من ينوب عنه من حاكم أو غيره. فرع أخر لو كان هناك يد حائلة مثل سلطان قام أو متغلب عليه لم يكن هذا تسليما كتسليم المبيع سواء. فرع أخر لو كانت الكفالةً مؤجلةً فحل الأجل فإن كان المكفول به حاضرًا فالحكم فيه كما لو كانت الكفالةً مطلقةً، وإن كان غائباً فإن كانت غيبته غيبةً منقطعة لا يملك مطالبته

بإحضاره ويتوقف إلى وقت القدرةً، وإن لم م غيبته منقطعةً يلزمه إحضاره على ما ذكرنا. ولو طولب بإحضاره والمكفول في محبس الحاكم بحق فقال الكفيل للمكفول له: احضر محبس الحاكم حتى أسلمه إليك يحضر معه ويسلمه إليه في الحبس ينظر بينه وبين المحبوس، فإن أخرجه من الحبس لسماع البينة عليه أو الدعوى فإذا رخ رده إلى الحبس، وإن ثبت عليه الحق حبسه بالحقين وإن لم يثبت حبسه بالأول على ما كان. وقال المزني: لا يبرأ الكفيل بهذا لأنه يمكنه أن يقضي دينه من الحبس ويحضره له. وقال أيضا: لو خرج المكفول به إلى دار الحرب يلزمه إحضاره من دار الحرب لأنه لم يمت ولا يبرأ ما لم يحضر وهذا غلط؛ لأن التسليم في الحبس، ممكن على ما ذكرنا فلا حاجةَ إلى إخراجه من الحبس. وأما إذا لحق بدار الحرب لا يقدر على إحضاره ظاهرًا فصار كالمعسر بالحق وعندنا يلزمه أن يفعل ها يغدر عليه [39/أ] من أسباب التسليم ولا يلزمه الزيادة للتعذر. فرع آخر لو كان محبوسًا عند غير الحاكم لا يبرأ ولا يلزمه تسليمه لأنه على استيفاء حقه منه بخلا ف ما إذا كان في حبس الحاكم. فرع آخر لو تكفل به في مصر فرده إليه في مصر آخر فإن كانت بينته في مصر الحاكم لم يلزمه قبوله فيه حتى يسلمه إليه في المصر الذي تكفل ببدنه فيه. وإن لم تكن له بينةُ ولا كان حاكمه يعلم أن حقه عليه يلزمه قبوله في المصر الآخر. فرع آخر لو لقيه المكفول به في الموضع المشروط وقال: اشهدوا أني سلمت نفسي إليه من كفالةَ فلان برئ الكفيل، ذكره القاضي أبو حامد في "الجامع" لأن القصد حصوله في يده فلا فرق بين أن يكون بالكفل أو بنفسه وحده. فرع آخر لو أحضره قبل انقضاء الأجل نظر فإن كان عليه في قبوله ضرر لم يلزمه قبوله، والضرر أن يكون بينته بالحق غائبةً وحجته متعذرةً أو لم يكن اليوم يوم مجلس الحكم للحاكم، وإن لم يكن في قبوله ضرر يلزمه قبوله، كمن أتي بالدين قبل محله يلزمه القبول إذا لم يكن عليه ضرر ذكره أبو حامد في "الجامع". فرع آخر لو تكفل ببدنه رجلان فرداه معا برءا؛ لأن رده أحدهما دون شريكه وقال المزني: يبرأ شريكه أيضا كما لو قضى أحد الضامنين المال يبرأ الضامن الآخر وهذا غلط لأن الحق باق على المكفول به فلا يسقط حق الوثيقة عن الكفيل الأخر من غير

أن يؤخذ منه الإحضار، ويفارق قضاء الدين لأن الحق قد سقط فسقطت الوثائق به وها هنا سقطت الوثيقةُ عن أحدهما مع بقاء الحق فصار كما لو كان بالحق رهون فانفك أحدها مع بقاء الحق لم ينفك الباقي. فرع آخر لو تكفل كل واحد منهم المكفول به وببدن الآخرين جاز لأن عليهما حقا وصار كل واحد منهم كفيلًا بمن عليه الحق وكفيلًا الكفيلين، فإن رده واحد منهم برئ بالرد من كفالة الأصل وبرئ صاحباه من كفالتهما به لأنهما فرع له وبقي كل واحد كفيلًا بالأصل وكفيلًا بصاحب الباقي معه وقال أبو حامد: إذا رد أحدهم [39/ب] بريء الآخران كما قال المزني، وذكره القاضي الطبري في المذهب المجرد أن هذا هو المذهب لأن المكفول به عند الشافعي البدن دون المال فإحضار أحدهم البدن وتسليمه إليه بمنزلةُ قضاء الدين في ضمان المال وهذا غير مشهور. وذكر في "المهذب" أن القاضي الطبري اختار خلاف ما قال المزني، وعندي الصحيح ما قاله المزني وعلى قياس قول ابن سريج لا يبرأ الآخران لأن المال عنده مضمون في هذه الكفالة، فإذا كان المال باقيا عليه لم يبرأ الآخران في هذه الكفالةً وفى ضمان المال. فرع آخر لو كان لرجلين على رجل ألف فتكفل به رجل لهما فرده على أحدهما برئ وكان عليه رده إلى شريكه لأن عقد الرجل مع الرجلين في حكم العقدين. فرع آخر لو تكفل ببدن رجل ثم تكفل بالكفيل كفيل آخر ثم ثالث بالثاني فكله صحيح؛ وإن مات من عليه الدين برئ الكفلاء على قول الشافعي، وإن مات الكفيل الأول برئ من بعده من الكفلاء ولم يبرأ الأصل، وإن مات الكفيل الثاني برئ هو ومن بعده من الكفالةً ولا يبرأ الكفيل الأول ولا صاحب الحق والحكم فيه إذا أحضره واحد من الجملةً فالحكم فيه إذا مات والإبراء عن الكفالةَ كالموت سواء. فرع آخر لو تكفل ببدن رجل عليه دين ثم قال المكفول له: لا حق لي قبل المكفول به هل برأ الكفيل والمكفول به بذلك؟ قال ابن سريج؛ يحتمل معنيين يعني وجهين: أحدهما: أنه مقر بأنه لا حق له قبله على العموم لا في بدنه ولا في ذمته فبرئ بذلك هو والكفيل لان هذا نفي في نكرةً فيقتضي استغراق الجنس. والثاني: يرجع في تفسيره إليه فإن قال: أردت لا دين عليه ولا حق في ذمته برئ من الحق ومن الكفالة، وإن قال: أردت لا حق لي في يده على سبيل الأمانةً والوديعةً والعاريةً إلى الكفيل أو المكفول به، فإن صدقاه على ذلك فالكفالة بحالها، وإن

كذباه فالقول قوله مع يمينه لأنه أعلم بما نواه وأعرف بما قصده فيحلف وتبقى الكفالةً بحالها. فرع أخر لو عاد المكفول له إلى (1) المكفول به [40/أ] ولازمه بالحق فلقيه الكفيل فقال: دعه وأنا على ما كنت عليه عادت كفالته ولأن هذا الكلام يحتمل استئناف الكفالةً ويحتمل الإخبار عن أنه على الكفالةً وأيهما كان فقد ألزم نفسه الكفالة؛ وكذلك لو قال: دعه فقد عدت إلى ما كنت عليه عادت كفالته، لأن هذا استئناف كفالة ذكره ابن سريج. فرع آخر لو قال رجل لرجل: فلان ملازم فلانا فاذهب فتكفل به ففعل كانت الكفالةً لازمة للمباشر دون الآمر، لأن المباشر فعل ذلك اختياره والآمر بذلك على طريق الحث والإرشاد ولا يلزم المكفول به الحضور مع الكفيل لأنه ما تكفل به بإذنه ذكره ابن سريج. فرع آخر لو تكفل ببدن رجل عليه دين ثم قال الكفيل: بريء المكفول به من الدين وأنكر المكفول له قال ابن سرج: القول قول المكفول له لأن الأصل بقاء الحق فإن حلف فالكفالة والحق بحالهما، وإن نكل حلف الكفيل وبرئ من الكفالةً ولا يبرأ المكفول به من الحق لأنه لا يجوز أن يبرأ بيمين غيره. فرع آخر لو قال الكفيل بعد أن تكفل به: تكفلت ببدنه ولا حق عليه فالقول قول المكفول له لأن الظاهر صحةَ الكفالة؛ وهل يحلف؟ قال ابن سريج: فيه وجهان: أحدهما: لا يحلف لأن دعوى الكفيل خالف ظاهر قوله. والثاني: لأن ما ادعاه ممكن فأحلفناه ليزول الإشكال، فإن حلف فلا كلام، وإن لم يحلف رددنا اليمين على الكفيل؛ لأنه يجوز أن يعلم أنه لا حق له عليه بقوله: لا حق لي عليه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا تكفل ببدن رجل قبل ثبوت حق المدعى عليه بالبينة أو بالإقرار فعلى الكفيل إحضاره مجلس الحكم ولا بد من الإذن ها هنا ليمكنه إحضاره عند القاضي والكفالةَ واقعةً على إحضاره، فإن تعذر الإحضار بموت أو غيبةً بطلت الكفالةً إلا أن يكون الميت لم يتغير ويقول الشهود: نحن نشهد على وجهه لا على اسمه ونسبه فعلى الكفيل مؤونةً إحضاره مجلس الحك- ليشهدوا على وجهه ذكره بعض أصحابنا بالعراق والمشهور الأول وقال في "ألحاوي": إذا كان له بينة تشهد

على عينه لا بأس بإحضار الميت مجلس الحكم [40/ب] أو بحضور الحاكم موضع الميت، ليسمع البينةَ على عينه، وعلى هذا في الكفالةً وجهان: أحدهما: أنها باقية ويؤخذ الكفيل بإحضار الميت والثاني: أنها تبطل لأن الميت مقدور عليه لإقامةً الشهادةً عليه فلم يحتج إلى الكفيل. فرع آخر لو شرط الخيار في الكفالة أو ضمان المال بطلت الكفالة. وقال أبو حنيفة: يبطل الشرط وتجوز الكفالةً وهذا غلط لأنه عنده لا يجوز فيه شرط الخيار، فإذا شرطه بطل كالسلم والصرف. فرع آخر لو قال: تكفلت بشرط الخيار وأنكر المكفول له الشرط قال في "الأم" و"المواهب" فيه قولان: أحدهما: يسقط إقراره لأن الإقرار لا يتبعض وقد وصل إقراره بما يبطله. والثاني: إقراره فتصح الكفالةَ ويبطل قوله بشرط الخيار لأن الحكم لزمه بأول قوله فإذا وصله بما يسقطه سقط الأخير وبقي الأول، وأصل هذا إذا قال: عليّ درهم قضيته يبطل إقراره؟ قولان: وقال بعض أصحابنا: على قياس هذا إذا قال: تكفلت ببدن فلان ولا حق لك عليه هل يبطل إقراره؟ قولان أيضًا. فرع أخر لو كان له على رجل حق وله بمن عليه الحق كفيل فقال آخر للمكفول له: تكفلت لك ببدن من عليه الحق بشرط أن تبرأ من كفالةَ فلان وأقوم مقامه، قال ابن سريج: يجوز ومن كالحوالةً على الثاني، وقال أبو حامد: فيه عندي نظر وينبغي أن لا تصح لأنه شرط أن يبرئ غيره من الحق وهذا شرط لا يلزمه الوفاء به. فرع آخر لو كان له ألف على رجلين فقال له أجنبي: تكفلت لك ببدن هذا الغريم فإن جئتك به وإلا آنا كفيل يدن الأخر فالكفالةَ باطلةً فيهما. فرع أخر اللفظ التي تصح به الكفالة أن يقول: قد كفلت لك بنفس فلان وهذا عرف أهد العراق أو يقول: كفلت له بوجه فلان وهذا عرق أهل الحجاز، وإن ذكر عضوًا يعبر به عن الجملة كالعين والرأس والوجه والرقبة تجوز. وإن كان لا يعتبر به عن الجملة فإن كان لا يحيا بفقده كالكبد والفؤاد والطحال يجوز ويكون كقوله بنفسه؛ وكذلك إذا قال: بنصفه ونحو ذلك يجوز لأنه لا يمكنه إحضار ذلك إلا [41/أ] بإحضار

الكل. وإن كان يحيا النفس مع فقده كاليد والرجل ونحو ذك فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأنه ينفرد البدن عنها وربما تذهب اليد وتبقى الكفالةَ فيستحيل الإشارة في الكفالة. والثاني: يجوز لأنه لا يمكن إحضارها على صفتها إلا إطار البدن وهذا أظهر، وقال أبو حامد والقاضي الطبري: لا تصح الكفالةَ في شيء مما ذكرنا لأن ما لا يسري إذا خص به عضوًا لا يصح كالبيع والنكاح. فرع آخر لو أن رجلًا تكفل بالمال الذي عليه وسماه وقال: إن وافيتك به غدًا فآنا بريء من المال فوافاه به عن الغد أو لم يوافه به فالكفالةُ باطلةً. فرع آخر لو ادعى رجل قبل عبد دعوى فكفل مولاه بض جاز، وإن كفل بمال لزمه فإن أدى عنه بعد عتقه رجع عليه، وإن أدى عنه قبل عتقه فيه قولان: أحدهما: لا يرجع بشيء والثاني: أنه يضرب بما أدى عنه مع غرمائه أن كل الضمان بأمره ابن سريج: وهذا أحب إلي. فرع أخر لو تكفل رجل عن رجل بط في على أن يجعل له جعلاً فالضمان باطل والجعل غير لازم وإن لم يشترط الجعل في عقد الضمان جاز ولا جعل له. فرع آخر لو أبرأ الطالب الكفيل من المال وأبرأ من عب أصل المال أو قال: أنت في حل هل يبرأ قبل القبول؟ قال القاضي أبو عليّ الزجاجي: فيه قولان أحدهما: بريء وإن لم يقبل وهو الأصح. والثاني: لا يبرأ إلا بعد القبول. فرع آخر إذا تكفل ببدن المكاتب لسيده لم يصح لأن الحق الذي عليه غير لازم له فلا تصح الكفالة به. فرع آخر لو مات الكفيل بطلت الكفالة. وقال في "الحاوي": يحتمل على قول ابن سريج أن تبطل الكفالةَ لأنها قد تفضي إلى ما يتعلق التركةَ ولا نص عندي في هذا. فرع أخر لو مات المكفول له لا تبطل الكفالةً؛ فإن خلف ورثةً وغرماء ووصى بإخراج الثلث فإن كان المستحق على المكفول به لا يتعلق بالمال كان المستحق، (للكفالة) الوارث

وحده. (وإن) كان مالأ لم يبرأه الكفيل إلا بتسليمه إلى الورثةً والغرماء والوصي جميعًا. ولو سلمه إلى الورثةَ دون الغرماء والوصي أو إلى الغرماء دون الورثة [41 أ/ب] لم يبرأ. ولو سلمه إلى الورثة والغرماء وأهل الوصايا دون الوصي ففي براءته وجهان حكاهما ابن سريج: أحدهما: يبرأ لأنه سلمه إلى مستحقيه وإنما الوصي نائب ووسيط. والثاني: لا يبرأ حتى يكون الوصي في جملة من يسلمه إليه، لأن للوصي ولايةً على أهل الوصايا كولي الطفل. فرع آخر قال بعض أصحابنا بخراسان: لو ضمن اثنان عن رجل مائةَ درهم على أن كل واحد منهما ضامن لما على صاحبه جاز، وكان كل واحد منهما ضمن شيئين ضمن عن الأصيل نصف المال وعن الكفيل الآخر نصف المال بخلاف البيع لا يصح بهذا الشرط على ما ذكرنا، ثم إن صاحب الحق بالخيار إن شاء طالب الأصيل، وإن شاء طالب هذا الضامن، وإن شاء طالب الضامن الآخر، وإن شاء طالب كل واحدٍ منهما بخمسين ثم يقال للدافع: إن دفعت النصف الذي على الأصل فارجع على الأصيل، وإن دفعت الذي أنت فيه كفيل الكفيل فارجع على صاحبك لكن صاحبك يرجع عليك أيضًا فيتقاضان فلا فائدةَ فيه، وإنما فائدته تظهر إذا قال أحدهما: دفعت النصف الذي أنا فيه ضامن الأصيل وقال الآخر: وأنا دفعت النصف الذي أنا فيه ضامن عن الكفيل فيقول له: ارجع على صاحبك ثم يقول لصاحبه: ارجع بالكل على الأصيل ولو غرم احدهما كل المائةَ فله أن يطالب صاحبه بخمسين، وهل له أن لا يرجع عليه بل يرجع بالكل على الأصيل؟ نُظر كان الأصيل أذن له أن يضمن النصف عن الكفيل الآخر فله ذلك لآنا ذكرنا أن الأصل إذا قال لرجلٍ: اضمن عني ضامني فضمن وكان الضامن الأول ضمن بإذن الأصيل فله الرجوع بما غرم عن الآمر. وإن لم يكن أذن له في ذلك فلا يرجع عليه؛ ولو كانت المسألةً بحالها وهو أن اثنين ضمنا وكل واحدً منهما ضمن عن صاحبه بالإذن، ثم إن أحدهما صالح المضمون عنه عما سيغرمه على عشرة دراهم ففي صحةَ الصلح ذكرنا وجهين: فإن جوزنا الصلح فغرم المائةً لم يرجع بشيء على المضمون عنه ولا على الكفيل الآخر، لأنه لو رجع على الكفيل لرجع الكفيل على الأصل. والثاني: أنه لا يجوز الصلح فعلى هذا القول له قد قبضت [42/ أ] عشرةً؛ فإن شئت فخذ الباقي وهو تسعون من الأصيل، وإن شئت فخذ منه أربعين ومن الكفيل الأخر خمسين. فرع آخر في أخذ السفتجةً بالمال جائز وربما تكون بدين ثابت، وربما تكون بقرض حادث فأما بدين ثابت إذا سأل صاحبه من عليه أن يكتب له به إلى بلد لم يلزمه إلا أن

يشاء فلو اتفقا جاز. وإما بقرضٍ حادثٍ فهو على ضربين. أحدهما: بشرط أن يكتب له فقد ذكرنا أنه قرض باطل سواء شرطه المقرض أو المقترض. والثاني: أن يكون قرضًا مطلقًا ثم يتفقان على كتب سفتجةً فيجوز؛ فإن كانت بلغةُ الحوالةً فوردت عليه لزمه أداؤها بأربع شرائط أن يعترف بدين المكاتب، وأن يعترف بدين المكتوب له، وأن يعترف بأنه كتاب المحيل، وأن يعترف بأنه كتبه مريدًا به الحوالة؛ فإذا اعترف بهذه الشرائط لزمه ما فيها سواء فه لفظًا أو لا. فرع آخر لو اعترف بدينهما أو بالكتابة وأنكر أن يكون الكاتب أراد به الحوالة فالمذهب الذي يوجبه القياس أنه لا يلزمه، ومن أصحابنا من متى اعترف بالكتابةً والدين تلزمه الحوالة، وإن أنكر الإرادة اعتمادًا على العرف وأن الوصول إلى الإرادةً متعذر. فرع آخر لو لم يعترف بالكتاب ولكنه أجاب إلى دفع المال ليكون مضمونًا عليه إلى أن تصح الحوالة جاز؛ ثم اختلف أصحابنا في أن له استرجاعه منه قبل صحة الحوالةً أم لا؟ على وجهين: أحدهما: ليس له اعتبارًا بالشرط وأن له استرجاعه بعد العلم ببطلان الحوالة. والثاني: وهو اختيار الزبيري من أصحابنا يجوز له استرجاعه متى شاء ما لم تثبت صحة الحوالة لأن المال لا يلزمه قبلها. فرع آخر لو كانت السفتجة بلفظ الأمر والرسالة لم يلزم المكتوب إليه دفعه إلا أن لفظا سواء اعترف بالكتاب والدين أم لا، وبه قال محمد رحمه الله، وقال أبو يوسف: إذا قرأها وتركها ترك رضا لزمته وقال بض العراقيين: إذا أثبتها في حسابه أزمته، وعندنا لا يلزمه شيء من هذا؛ وكذلك لو كتب على ظهرها أنها صحيحة قد قبلتها حتى يخمنها لفظًا. ثم لا يلزم الكاتب إلا [42/ب] أن يعترف بها لفظًا ولا يلزم باعترافه الخط. ومن أصحابنا من قال: إن اعترف بالخط لزمه وهو قول من قال: إن المكتوب إليه إن اعترف بالخط في الحوالة يلزمه وهو غير صحيح في الموضعين. فرع آخر قال والدي رحمه الله: لو كان رجلان لكل واحد منهما على الأخر دين اسم أحدهما زيد واسم الآخر عمرو فسأل زيد عمرًا أن يجعل ماله عليه قصاصًا أم لا؟ نظر يلزم عمرو ذلك أم لا؟ نظر فإن كان عمرو موسرًا لزمه أن يفعل ما سأله زيد لأن كل واحدٍ من الحقين معجل ولمن عليه الدين دفعه من أي مال شاء، فإذا أراد زيد أن يدفع

ما عليه مما له على عمرو لزمه قبوله، وإن كان عمرو معسرا لم يلزمه فعل المقاصة لأنه يستحق الأنظار بما عليه ومطالبةَ زيد بالحق معجلًا فلا يلزمه أن يجعل المؤخر قصاصًا عن المعجل الثابت في الحال وجوبًا وأداءً لأن فيه إلحاق ضرر به كالدين المؤجل مع الحال. فرع آخر إذا كان له على آخر دين لا يتمكن من قبضه ولمن عليه الدين دين على آخر فقبضه، منه صاحب الدين الأول لتمكنه منه صح القبض وبرئ من عليه الدين، لأن الدين كعين المال ذكره والدي رحمه الله قال: وعلى هذا لو كان للمديون عين مغصوبةً في يد رجل فتمكن صاحب الدين من قبضها فقبضها والمديون ممتنع من قضاء دينه صح القبض وبرئ الغاضب من الضمان فكذلك القول في الدين. قال: ويحتمل آن لا يبرأ الغاصب لأن بعض أصحابنا قال: صاحب الدين إذا قبض من مال المديون الممتنع من غير جنس حقه فتلف في يده قبل بيعه واستيفاء الحق من ثمنه هل يكون من ضمانه؟ وجهان: فإذا قلنا: لا يلزمه الضمان يبرأ الغاصب فيما ذكرنا، لأن القابض كالوكيل في الأمانةً فكان مثله في رفع الضمان؛ وإذا قلنا: يلزمه الضمان لا يبرأ لأنه ضامن وصل المغصوب إلى يده بغير إذن صاحبه فصار كالغاصب من الغاصب. قال: والأوضح عندي أن يبرأ الغاصب وجها واحدًا كما يبرأ من عليه الدين في مسألةَ الدين، ولا يمكن أن يقال خلافه لأنه لو لم يبرأ لما جاز للقابض قبضه لأنه لا حق له على المقبوض منه [43/أ] وإنما يجوز له استيفاء الحق منه بشرط أن يصير ملكًا للمديون؛ لأول. فرع آخر إذا جوزنا الكفالةَ بالبدن من غير إذن المكفول به فطالب الكفيل يلزمه الخروج إليه ويسأله المجيء إلى الحاكم على سبيل التوكيل عن صاحبه على ما ذكرنا، فإذا خرج إليه وأخبره هل يلزم المدعي عليه وهو المكفول ببدنه إجابته إلى ذلك؟ وجهان كما إذا خرج نفس صاحب الحق إليه وسأله الحضور معه عند الحاكم هل يلزمه الحضور معه؟ وجهان: أحدهما: لا يلزمه ما لم يقم البينةُ عليه. والثاني: يلزمه. وهكذا إذا حمل ختم الحاكم أو عونه هل يلزمه الحضور عند الحاكم بنص ذلك؟ وجهان: والأصح أنه يلزمه. ولو أن صاحب الحق طالب الكفيل برد المكفول عليه ولم يأمره بإحضاره عند الحاكم فهل ذك أمر منه بإحضاره؟ وجهان ذكرهما ابن سريج رحمه الله. فرع آخر إذا أراد أن يؤخر من عليه الدين مما عليه فادعى صاحب الدين أنه مؤجل ولا يلزمه قبضه إلى انقضاء الأجل إما للمؤونةً أو لخوف الفساد وادعى من عليه الدين أنه حال

وعليه أن يقبضه أو يبرئه منه فهل القول قول صاحب الدين أو من عليه الدين؟ قال والدي رحمه الله: يحتمل وجهين وأصل هذا إذا ادعى من عليه الدين عقيب إقراره التأجيل وادعى من له الدين الحلول فيه قولان. فرع آخر إذا زعم الضامن أن المضمون له أبرأه من ضمانه وأحضر شاهدين أحدهما المضمون عنه فإن كان الضمان من غير أمر المضمون عنه صحت الشهادة، وإن كان بأمره لا تصح. تم الجزء الخامس حسب تقسيم المحقق ويليه إن شاء الله الجزء السادس وأوله: كتاب الشركةْ

بحر المذهب في فروع المذهب الشافعي تأليف القاضي العلامة فخر الإسلام شيخ الشافعية الإمام أبي المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني المتوفى سنة 502 هـ تحقيق طارق فتحي السيد الجزء السادس يحتوي على الكتب التالية: الشركة - الوكالة - الإقرار - الوديعة - قسم الفيء والغنائم الصدقات - العارية - الغضب دار الكتاب العلمية

كتاب الشركة

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الشركة تحريت فيها مذهب الشافعي رحمة الله عليه. قال المزني رحمه الله: "الشركةُ من وجوٍه". الفصل وهذا كما قال: الأصل في الشركة وجوازها الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} الآية [الأنفال: 41] فأضاف الغنيمة إلى الغانمين ثم قطع منها الخمس لأهله فحصلت أربعة أخماس مشتركة بين الغانمين [43/ ب] والخمس مشترك بين أهله. وأيضاً قوله تعالى: {فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] وأيضاً قوله تعالى: {وَإِنَّ كَثِيراً مِنْ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا} الآية [ص: 24]. والخلطاء هم الشركاء. وأما السنَّة ما روى جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من كان له شرك في رَبْعٍ أو حائط فلا يبعه حتى يُؤذن شريكه (¬1). وروي أن البراء بن عازب وزيد بن أرقم رضي الله عنهما كانا شريكين فاشتريا فضة بنقد ونسيئة فبلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمرهما أن ما كان بنقد فأجيزوه، وما كان نسيئة فردوه" (¬2). وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يد الله على الشريكين ما لم يتخاونا" (¬3). وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: يقول الله تعالى: "أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه فإذا خان احدهما صاحبه خرجت من بينهما" (¬4) رواه أبو هريرة رضي الله عنه. وروى مجاهد أن قيس بن السائب رضي الله عنه قال: "إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان شريكي في الجاهلية وكان خير شريك لا يشاري ولا يماري" (¬5) المشاراة اللجاج. وأما الإجماع فلا خلاف بين المسلمين في جوازها. فإذا تقرر هذا ذكر المزني أنه تحرى كتاب الشركة على مذهب الشافعي وهذا يوهم أنه ليس للشافعي شيء في الشركة ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (133/ 1608)، والترمذي (1312)، وأحمد (3/ 312، 315)، والحاكم (2/ 56). (¬2) أخرجه أحمد (4/ 371). (¬3) أخرجه الدارقطني (2/ 593)، وابن حبان في "المجروحين" (2/ 152). (¬4) أخرجه أبو داود (3535)، والترمذي (1264)، والدارمي (2/ 264)، والحاكم (2/ 46). (¬5) أخرجه أبو داود (4836)، وابن ماجه (2287)، وأحمد (3/ 425).

وليس كذلك لأن للشافعي كتاب الشركة في اختلاف العراقيين ونقل الربيع والبويطي شيئًا منها. وقيل: قوله الشركة من وجوه غلط بل الصحيح إذا شركة من وجه واحد وهو أن يجعلا شريكين في المال، وإنما أسباب الشركة كثيرة من الإرث والهبة للجماعة والغنيمة والشراء، بين جماعة. ولأنه ذكر وجوهًا وكلها جهات الشيوع لا حقيقة ما يسمى شركة، فإن اسم الشركة في الشريعة وعرف اللسان يقتضي مع الشيوع صفة أخرى وهي أن يأذن كل واحد منهما للآخر في التصرف، وجملة ذلك أن الشركة مباحة إذا كان الشريكان مسلمين فإن كان أحدهما مسلمًا والآخر كافرًا كرهناه، سواء كان المتصرف المسلم أو الكافر. وحكي عن الحسن البصري [44/ أ] رحمه الله أنه قال: إن كان المتصرف المسلم لا يكره وان كان المتصرف الكافر أو هما كره لأن الكافر يتصرف في المباح والحرام بخلاف المسلم وهذا غلط لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أكره أن يشارك المسلم اليهودي والنصراني والمجوسي لأنهم يربون والربا لا يحل ولا مخالف له. ولأن مال اليهود ليس بطيب فإنهم يبيعون الخمور ويتعاملون بالربا فكرهت مشاركتهم. ثم أعلم أن الشركة على ستة أضرب في الرقاب والمنافع، وفي الرقاب دون المنافع، وفي المنافع دون الرقاب. وفي المنافع المباحة، وفي حقوق الأبدان، وفي حقوق الأموال. فأما التي في الرقاب والمنافع معًا: فالشركة في الأعيان المملوكة كالعقار والحيوان والنيل والبغال والحمير والثياب ونحو ذلك. وأما في الرقاب دون المنافع وفي المنافع دون الرقاب بأن يوصى لجماعة بمنفعة دارٍ على التأبيد فتكون المنفعة دون الرقبة مشتركة بين الموصى لهم بها والرقبة دون المنفعة مشتركة ين الورثة. واختلف قول الشافعي في الوقت على قولين: أحدهما: تنتقل رقبة الوقف إلى الله تعالى لا إلى مالك فعلى هذا يكون أهل الوقف شركاء في المنافع دون الرقاب. والثاني: أنها تنتقل إلى الموقوف عليه فعلى هذا يكون أهل الوقف شركاء في المنافع والرقاب معًا. وأما الشركة في المنافع المباحة فهي مانع الكلب إذا مات وله ورثة وخلف كلابًا كانوا شركاء في منافعها والمنفعة غير مملوكة لهم لأنها لا تضمن بالغصب. وهكذا لو أوصى بمنفعة كلب لجماعة. وأما الشركة في حقوق الأبدان فالقصاص، وحد القذف إذا ورثوا قصاصًا أو حد قذف كانوا فيه شركاء، وإنما يختلفان من وجه وهو أن القصاص حق لهم ولكل واحٍد منهم قدر نصيبه من الميراث، وحد القذف حق لهم ولكل واحٍد منهم تمامه حتى لو ترك واحد منهم حقه كان للباقين الاستيفاء، ولو عفا عنه الكل إلا واحدًا كان لذلك الواحد أن يستوفيه. وأما الشركة في حقوق الأموال: فالآخذون بالشفعة يستحقون [44/ ب] الشفعة بالشقص الذي هو شركة بينهم. والقصد من هذا الكتاب الشركة لابتغاء الفضل

بالتصرف وكل هذه الأقسام يرجع إلى قسمين شركة في الأعيان، وشركة في المنافع، وكلها ينقسم قسمين: أحدهما: شركة تحصل بين قوم بغير اختيارهم وهو الميراث. وشركة لا تحصل بغير تراضٍ وهي ما عدا الميراث إلا أن يختلط مالان فيكون المالان شركة بينهما بغير اختيارهما. وقيل: الشركة من ثلاثة أوجه في الأعيان، وفي المنافع وفي الحقوق. فالذي في الأعيان من وجوه شركة التجارة بالشراء، مشتركًا والهبة والميراث وفي المنافع والحقوق ذكرنا. ومن جملتها حق الرد بالعيب وخيار الشرط ونحو ذلك. وذكر المزني بيان القسمة ها هنا وليس هذا موضعه ولكنا نشير إلى طرف منها فالقسمة جائزة في الأموال المشتركة ولا يفتقر فيها إلى لفظ بيع كما قسم - صلى الله عليه وسلم - خيبر من غير بيع. والقرعة جارية في كل قسمة تشبه قسمة الغنائم وإنما تجوز فيما يحتمل القسمة، فإن ما لا يحتملها تؤدي القسمة فيها إلى إضاعة المال. وإنما يقسم إذا دعا بعض الشركاء، إلى القسمة ولا يجبر الحاكم عليها قبل ذلك. وقال: لا يجوز قسمة رقاب الأوقاف، وعلل بأنه ارتفع الملك عنها وهذا يوهم أنا إذا حكمنا بالملك للموقوف عليهم جازت لهم القسمة وليس المذهب هكذا بل هم ممنوعون عن قسمة الرقبة على جميع الأقاويل. ومعنى قوله: لارتفاع الملك عنها أي لارتفاع الملك الكامل عنها، ونحن وإن حكمنا بالملك لهم في أحد القولين فهو موصوف بالضعف، ألا ترى أنه لا يستحق به الشفعة والقسمة حتى لمن تكامل ملكه؟! فإن تراضوا على المهايأة للسكنى سنة فسنة فلا بأس لأن المهايأة قسمة المنافع وملك لهم على الإطلاق. وقوله: (سنة فسنة) ربما يوهم ذلك تقديرًا بالسنة وليس كذلك إليهم في السكني، فإن شاءوا زادوا وإن شاؤوا نقصوا. وتلطف المزني فنص على المدة الطويلة في المهايأة تنبيهًا على جوازها في المدة القصيرة، إذ لو نص على المدة القصيرة لم يحصل التنبيه على المدة الطويلة. وإن كانت أرضًا تزرع فالمهايأة على مدة لإمكان الزراعة والحصاد لتتوفر الفائدة [45/ أ) وأما غلة الأوقاف من ثمارها وأجرتها تجوز قسمتها بلا إشكال. مسألة: قال (¬1): والذي يشبه قول الشافعي أنه لا تجوز الشركة في العروض. الفصل وهذا كما قال: هذا نص قول الشافعي رحمة الله عليه في "البويطي" ولكن ذكره المزني من عنده، وجملته أن العَرَض بفتح الراء كل ما يتمول من النقود وغير النقود. والعَرْض بسكون الراء، كل ما يتمول إلا النقود وبفتح الراء أعم. وجملته أن الأموال في الشركة على ثلاثة أضرب نقود، وعرض لا مثل له وعرض له ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 230).

مثل، فأما النقود: فالشركة فيها جائزة إذا كان المالان على صفة لا يعرف مال أحدهما عند الخلط عن الآخر. فأما العرض الذي لا مثل له كالثياب والعقار والحيوان فلا تصح فيها الشركة، فإذا كان لكل واحد منهما عبد أو ثوب ونحو ذلك فالشركة فيها لا تصح بعقد الشركة فإن قالا: اشتركنا في هذين العبدين أو الثوبين ولم تنعقد الشركة، وبه قال جماعة العلماء. وقال ابن أبي ليلى: تصح الشركة في العروض كلها، وحكي عن مالك أنه قال: تصح الشركة في العروض كلها إلا فيما فيه الربا من الحنطة والشعير. وحكي عنه أنه قال: تصح ويكون رأس المال قيمتها واحتج بأن مقصود الشركة أن يملك أحدهما نصف مال الآخر وتكون أيديهما عليه وهذا موجود في العروض فتصح الشركة فيها وهذا غلط لأن هذه الشركة لا تخلو إما أن تكون واقعة على أعيانها، أو على أثمانها، أو على قيمتها فلا يجوز الأول لأن الشركة توجب أن لا يتميز مال أحدهما عن الآخر وأن يرجع عند المفاصلة إلى رأس المال ولا مثل لها فيرجع إليه وقد تزيد قيمة جنس أحدهما دون الآخر فيستوعب بذلك جميع الربح أو تنقص قيمته فيؤدي ذلك إلى أن يشاركه الآخر في ثمن ملكه الذي ليس يربح، وان ما يتلف من مال الشركة يختصر به أحدهما وهو مالك العين ولا يجوز أن تكون واقعة على أثمانها لأن ذلك يكون مضاربة معلقة بشرط وهو بيع الأعيان، ويكون أيضًا عقد الشركة على ما لا يملكان حال العقد ويكون أيضًا عقد الشركة على مجهول، ولا يجوز أن تكون واقعة على قيمتها لمثل هذا المعنى فدل أنها باطلة فيها وهذا جواب [45 / ب] عما ذكره من الدليل. فإذا تقرر هذا فإن أحبا أن يكونا شريكين فيها بغير عقد الشركة صح من وجود أحدها: ما قاله المزني: يشتري نصف عبد صاحبه بنصف عبد نفسه، فإذا تبايعا صار العبدان بينهما ويجب أن يتعاقدا البيع من غير شرط تصرف كل واحد فيه فإن ذلك يفسد البيع، ثم إذا تعاقدا البيع من غير شرط إذن كل واحٍد منهما لصاحبه في التصرف في العرضين جميعًا ويكون تصرف كل واحٍد منهما بحسب إذن صاحبه على ما بيناه. وهذا إذا اتفقت القيمتان، فإن اختلفت القيمتان فكانت قيمة أحدهما ألفًا وقيمة الأخر ألفين، فالوجه أن يشتري ثلثي العبد الذي قيمته ألف بثلث عبده الذي قيمته ألفان فيكون العبدان شركة بينهما لأحدهما ثلث العبدين، وللآخر ثلثا العبدين. وقول المزني: "ويتقابضا" لم يرد به أن القبض شرط في صحة البيع، وإنما ذكره لأنه شرط في الشركة فإن كل واحد من الشريكين يتصرف في جميع مال الشركة ولا يصح ذلك قبل القبض منه أو من وكيله. ثم لو باعا عرضيهما بعد التقابض فربحا فالربح بينهما على قدر المالين. ولو حبسا ماليهما فارتفعت السوق فهما في ارتفاع السوق سواء ويحتمل أن يكون مراد المزني بالحبس التحبيس وهو الوقف والله أعلم. ولو عارضا ذلك بعرض آخر

فهما في ملك العرض الثاني سواء لأنهما كانا في العرض سواء. ثم اختلف أصحابنا في أنهما هل يفتقران إلى العلم بقيمة العرضين؟ على وجهين: أحدهما: يفتقران إليه ليعلما ما يحصل لهما من فضل أو يرجع عليهما من عجز. والثاني: لا يفتقران إليه لا ليعلما ما يحصل لهما من فضل أو يرجع لأنهما لما تساويا في ربحه ونقصه لم يكن بهما حاجة إلى تمييز الربح من الأصل، فإن قيل: لم قيد المزني أصل المسألة بالنصف وما معنى التقدير به، ولو تبايعا ثلثًا بثلثين أو ثلثًا بثلث جاز. قلنا: لا بد للمصنف من عبارة الإفهام فإن عاد قال: نصفًا بنصف، وإن شاء قال: بعضًا ببعض ولو قال: بعضًا ببعض كان أولى وأعم ولكنه لعله أراد أن يفرغ عليه قوله لا فضل لأحدهما على الآخر في الربح فصور المسألة في المناصفة ليستقيم [46/ أ] التفريع. فإن قال قائل: ما معنى قول المزني: ولا تجوز الشركة في العروض ولا فيما يرجع في حال المفاصلة إلى القيمة العروض؟. قلنا: ليس كذلك وله بالعروض مقصود وهو ما سوى النقود وبقوله: ما يرجع في حال المفاضلة إلى القيمة مقصود آخر وهو النقود المختلفة وذلك أن بضاعة أحد الشريكين لو كانت دنانير هروية وبضاعة الآخر دنانير نيسابورية لم تجز الشركة بينهما لأنهما وإن خلطتا كانتا ممتازتين، وكذلك إذا كانت إحديهما مكسرة والأخرى صحيحة أو إحديهما عتيقة والأخرى حديثة فيحتاج إلى التقويم عند المفاصلة لإيصال كل واحد منهما إلى حقه. وعند أبي حنيفة يجوز، وإن اختلفا في الجنس والنوع والصفة. وقال أيضا: يجوز وإن كان لأحدهما دنانير وللآخر دراهم لأنهما يجريان مجرى الجنس الواحد. وقيل: في لفظ المزني خلل لأنه قال في أول الكتاب: الشركة من وجوه الغنيمة ونظائرها، ثم قال: والذي يشبه قول الشافعي أنه لا تجوز الشركة في العروض، ومعلوم أن الغنائم والمواريث قد تكون عروضًا، ومراد المزني بما ذكر في أول الباب بيان شيوع الأملاك ومراده في هذا الموقع شركة التصرف وكان ينبغي أن يهذب الألفاظ فيقول بعدما ذكر وجوه الشركة: لا تصح شركة التصرف في العروض ليستقيم ذلك. والوجه الثاني ذكره البصريون: أن يشتري نصف عبد صاحبه بمائة ويبيع من صاحبه نصف عبده بمائة ويتقاصان الثمن أو يتباريانه فيبقى العبدان شركة بينهما وهذا قريب مما قاله المزني، وما قاله المزني أحصر. والوجه الثالث ذكره البغداديون أن يكون لكل واحٍد منهما عرض فيشتركا في شراء متاع بثمن في ذمتهما ثم يدفع كل واحٍد منهما عرضه بما عليه من ثمن المتاع، وهذا في الحقيقة لا يكون شركة في العروض بل هو شركة في المتاع بثمن في الذمة وكان العرض عوضًا فيه، وذكر أبو العباس ابن سريج: هذا الوجه أن يكون لكل واحٍد منهما عبدًا فيشتريان عبدين بألف فيكون على كل [46/ ب] واحٍد منهما من الثمن خمسمائة

فيعطي كل واحد منهما عبده الذي ينفرد به بما عليه من الثمن فيكون العبدان المبيعان بينهما وهذا يصح إذا وقع الشراء مطلقًا ونقد كل واحٍد منهما ما عليه، فإن كان على شرط لا يصح. وإن كان لكل واحٍد منهما عبد فاشتريا بهما ثوبًا فقد ذكرنا في صحة البيع قولين: أحدهما: لا يجوز لأنه تتفاوت قيمة العبدين ولو بأدنى شيء فلا يدري كل واحٍد منهما كم حصته من الثوب وقت الشراء. والثاني: يجوز ثم يوزع الثوب على قيمة العبدين، ثم يصيران شريكين في الثوب شركة صحيحة. وقد قال ابن سريج: القولان فيه كالقولين في الصداق إذا تزوج أربع نسوة على صداق واحد. وقال أبو إسحاق: هذا باطل قولًا واحدًا، والفرق أن الصداق تبع لعقد النكاح الذي لم يكن للإجماع تأثير في فساده فكان الصداق بمثابته وها هنا الثمن المقصود والجهالة فيه تمنع صحته فافترقا. وأما العروض التي لها مثل كالحبوب والأدهان والتمور اختلف أصحابنا فيه، قال ابن سريج وأبو إسحاق: يجوز فيها الشركة كالأثمان لأن الحنطة إذا اختلطت بالحنطة تعذر التمييز، ويؤمن فيه المعاني التي ذكرناها فيما لا مثل له لأنه متى تغيرت قيمة أحدهما تغيرت قيمة الأخر ويفارق المضاربة لأنه ربما يزيد قيمة جنس رأس المال فينفرد رب المال بجميع الربح، وذلك لا يجوز، وهذا أصح وهو ظاهر كلام المزني لأنه قال: "ولا فيما يرجح في حال المفاصلة فيه إلى القيمة" فدل أنها تصح فيما يرجع فيه إلى المثل. ومن أصحابنا من قال: لا تجوز فيها الشركة وهو ظاهر المذهب؛ لأنه قال في "البويطي": ولا تجوز الشركة إلا في الدراهم والدنانير، وهذا لأنها ليست بنقد فلا يجوز فيها عقد الشركة كما لا تجوز المضاربة وبه قال أبو حنيفة رحمه الله. فرع قال أبو حامد في "الجامع": "تصح الشركة في كل شيء يتقارب أجزاؤه ويختلط ولا يتميز إذا كانت قيمة ما يختلط به سواء"، وهذا لأن قيمة أحدهما إذا كانت أكثر فخلطاهما نقصت قيمته بالخلط، ولا يجوز أن يشترط فيما يلحقهما ضررًا بالشركة فإن كانت حنطتان قيمة إحداهما أكثر من قيمة الأخرى [47/ أ] فخلطاهما لم يكونا شريكين شركة التجارة حتى يبيعا، فإذا باعا كان الثمن مشتركًا بينهما، فإذا أذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف في نصيبه نفسه صارا شريكين. فرع آخر لا تجوز الشركة في الفلوس والمزيفة والزرنيخة والدراهم المغشوشة، لأن الفضة فيها مجهولة ويجب أن يكون مال الشركة معلومًا. فرع آخر متى صححنا الشركة بينهما فلكل واحٍد منهما أن يتصرف في قدر ملكه بما شاء من

التصرف، وفي النصف الذي لشريكه لا يتصرف إلا بالإذن صريحًا على ما ذكرنا. وقال في "الإفصاح": إذا قالا: نتشارك في هذين المالين وفعلًا ذلك وخلطا يجوز لكل واحٍد منهما أن يتصرف في نصيب شريكه من غير تجديد الإذن لأن قولهما: نتشارك يحمل على الشركة الصحيحة وهي إطلاق التصرف لكل واحٍد منهما في جميع المال. قال: ولأن فائدة عقد الشركة هذا وإلا فالاشتراك حاصل باختلاط المال قبل العقد وهذا هو العرف في موضوع اللفظ، وبه قال أبو حنيفة وهو اختيار ابن سريج، والمذهب المنصوص ما ذكرنا لأن حدوث الشركة في المال لا يوجب التصرف في جميعه كما لو ورثا مالًا. فرع آخر إذا أذن أحدهما لصاحبه في التصرف نظر، فإن كان إذنًا مطلقًا بأن قال: تصرف بما شئت من أنواع التصرف تصرف فيما شاء. وإن قيد فقال: لا تتجر إلا في النوع الفلاني اختص بذلك النوع، وسوا، كان ذلك مما يعم وجوده أو لا يعم ويفارق القراض حيث قلنا: لا يجوز إلا فيما يعم وجوده لأن القصد منه حصول الربح والفضل، فإذا كان مما لا يعم وجوده لا يحصل المقصود، والقصد من الشركة الإذن في التصرف فيجري مجرى الوكالة وهذا يحصل فيما لا يعم وجوده. فرع آخر لو أذن أحدهما لصاحبه دون الآخر فالذي لم يؤذن له يتصرف في ملك نفسه فحسب والمأذون يتصرف في الكل على ما ذكرنا. فرع آخر لا يجوز لواحد منهما أن يسافر بالمتاع إذا كان الإذن مطلقًا في التصرف، فإن أذن له في السفر جاز له أن يسافر به في الأسفار المأمونة في الغالب. مسألة (¬1): قال: وشركة المفاوضة [47/ ب] عند الشافعي رحمه الله لا تجوز. الفصل وهذا كما قال: شركة التجارة على أربعة أضرب: أحدها: شركة العنان. والثاني: شركة المفاوضة. والثالث: شركة الأبدان. والرابع: شركة الوجوه: فأما شركة العنان فحكمها يأتي. وأما شركة المفاوضة فاشتقاقها من التفويض بغير التوكيل فهي باطلة، وبه قال جماعة العلماء. وقال أبو حنيفة والثوري والأوزاعي: هي صحيحة. وحكى أصحاب مالك عنه أنها جائزة في الجملة. وصورتها عند أبي حنيفة أن يكونا حرين مسلمين ويخرج كل واحٍد منهما جميع ما ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 230).

يملكه من ورق وعين ويكونا في الربح متساويين ويكون مالهما سواء ويقولان: تفاوضنا شركة المفاوضة أو تشاركنا شركة المفاوضة تم بموجبها أن كل ما لزم أحدهما هن ضمان أو إتلاف مال بالغصب كان الآخر شريكًا فيه إلا في الجناية على الأحرار فقط وكل ما استفاده أحدهما من وجوه التجارة كلها كان بينهما. وإن كان من غير التجارات كالصيود والهبات والميراث نظر، فإن لم يكن من جنس الأثمان فهما على الشركة، وإن كان من جنس الأثمان فهما على نفس الشركة ما لم يقبضه فإذا قبضه زالت المفاوضة وصارت شركة عنان. قال: ولا تجوز بين حر ومكاتب، ولا بين مسلم وذمي ولا عند تفاوت ماليهما ولا عند اشتراط تفاضل الربح، ولا يجوز أن ينفرد أحدهما بشيء من النقود خارجًا عن الشركة. قال الشافعي (¬1) رحمة الله عليه: لو كانت شركة المفاوضة صحيحة فليس في الدنيا عقد باطل ما القمار إلا هذا أو القمار أقل منه. واحتجوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا تفاوضتم فأحسنوا المفاوضة". وروي أنه قال: "فاوضوا فإن في المفاوضة بركة" وهذا غلط لأنها شركة لا تصح بين حر ومكاتبة، ولا بين مسلم وذمي، ولا عند تفاضل المال فلا يصح أصلًا وفيها غرر من وجوه ويشتمل على عقود باطلة فلا وجه لتجويزها. وأما الخبر: غير معروف، وإن ثبت أراد المفاوضة في الحديث والمشاورة والمناظرة في العلوم وفي هذا المعنى قال عليه السلام: "لا تجادلوا فإن المجادلة من الشيطان". ولو خالفا واشتركا على ما قال أبو حنيفة رحمه الله [48/ أ) كان لكل واحد من الربح بقدر ماله ويرجع كل واحد منهما على صاحبه بأجرة مثل عمله على ماله. وأما شركة الأبدان فباطلة وصورتها يشترك صانعان على أن يعملا فما رزق الله تعالى من فضل كان بينهما كالنجارين والحائكين والخياطين ونحو ذلك فكله باطل سواء اتفقت الصنعتان أو اختلفتا. وقال أبو حنيفة: يصح ذلك بكل حال إلا في الاحتطاب والاحتشاش والاغتنام. وقال أحمد: يجوز في جميعها. وقال مالك: يجوز مع اتفاق الصنعتين، ولا تجوز مع الاختلاف لأن الحاجة تدعو إلى ذلك في الصنعة الواحدة ويتقارب الكسبان فيها. وهذا غلط لأنها شركة على غير مال فلا تجوز كما لو اختلف الصنعتان وهذا على مالك. وكما لو كان في الاحتشاش ونحوه وهذا على أبي حنيفة. وأما ما ذكره لا يصح لأنه لا حاجة إلى هذه الشركة ويكفي جواز الاستعانة بالإجارة وإذا كانت الصنعتان متفقتين قد يختلف كسبهما ويتقارب عند اختلاف الصنعتين فلا اعتبار بما ذكره. واحتج أحمد بما روي "أن سعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر رضي الله عنهم اشتركوا فيما يغنمونه فأتى سعد بأسيرين ولم يأتيا بشيء فشرك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهما" (¬2). وهذا غلط لما ذكرنا، ولا حجة في هذا الخبر "لأن ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 206). (¬2) أخرجه أبو داود (3388)، والنسائي (4697)، وابن ماجه (2288 (.

غنائم بدر كانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان له أن يدفعها إلى من يشاء" فدفعها إليهم لهذا. وقال بعض أصحابنا: للشافعي قول آخر إنه تجوز شركة الأبدان، لأن الشافعي قال في كتاب "الإقرار": ولو أقر أحد الشريكين على صاحبه بمال لم أقبل إقراره، سواء كانا شريكين في المال أو العمل. وقال ابن أبي هريرة: فَرّع الشافعي هذا على قول من أجاز شركة الأبدان دون مذهب نفسه. أو أراد اشتركا في المال على أن يعملا جميعًا فيه مناعة واحدة فالمسألة على قول واحد أنها لا تجوز. فإذا تقرر هذا، فلو اشتركا وعملا لا يخلو عملهما من أحد أمرين، إما أن يكون عمل كل واحٍد منهما متميزًا عن عمل صاحبه أو غير متميز، فإن كان متميزًا مثل أن يكون أحدهما خاط قميصًا والآخر قميصًا آخر أو نجر أحدهما بابًا والآخر [48/ ب] بابًا آخر أو حاك أحدهما ثوبًا والأخر ثوبًا آخر فإن لكل واحدًا منهما أجرة ما عمله لا يشاركه صاحبه فيها، وإن كان غير متميز مثل أن يكونا نجرا بابًا واحدًا أو نسجا إزارًا واحدًا، أو خاطا ثوبًا واحدًا قسما الأجرة على قدر أجور أمثالهما. وأما شركة الوجوه: فهي أن يكون رجلان وجيهان في السوق يشتركان على أن ما يشتري كل واحد منهما ويبيعه بجاهه يكون بينهما نصفين. ومن أصحابنا من قال: تفسيرها أن يكون رجل وجيه في السوق قال لآخر لا جاه له: أنا آخذ المتاع بجاهي وأعطيك حتى تتصرف فيه ويكون ما يحصل من الربح بيننا نصفين، فأحدهما يحصل المتاع، والآخر يتصرف فيه، ويكون من أحدهما الشراء ومن الآخر البيع. وقد ذكرهما صاحب "الإفصاح" على الاختصار فقال: شركة الوجوه أن يقول: مني المال ومنك التصرف، أو يكون ما يكتسب بجاهه فهو بينهما فعندنا لا تجوز هذه الشركة. وحكي عن أبي حنيفة أنه أجازها وقيل: هي أن يكون الرجل ذا جاه فيقول لغيره: اشترِ على جاهي متاعًا والربح بيننا. وتسمى شركة الجاه أيضًا. وقيل شركة الجاه أن يكون الجاه لأحدهما وشركة الوجوه أن يكون الجاه لهما. وهذا خلاف في العبارة والحكم فيهما سواء وهو البطلان والعلة ما ذكرنا في شركة الأبدان. فإذا تقرر هذا فإن اشتركا هكذا وتصرفا لا يخلو حال مشتري المتاع، فإن اشتراه لنفسه فهو مالك له ولا شيء للآخر في ربحه ولا عليه خسرانه. وإن اشتراه كله لصاحبه لا يصح، لأنه أذن له في شراء نصفه، ويكون الشراء لازمًا له في النصف الزائد على القدر الذي أذن له فيه، والنصف المأذون فيه يلزم الآمر على الشروط التي يذكرها، ولا يخرج على قولي تفريق الصفقة لأن الصفقة لم تختلف في الصحة والفساد. وإن اشتراه بينهما فهو في النصف مشتر لنفسه فلزمه وفي النصف الآخر في حكم المشتري لموكله فيصح بثلاثة شرائط: أن يكون وصف له النوع الذي يتجر فيه سواء كان نوعًا واحدًا أو أنواعًا لأن الإذن في شراء ما لم يوصف باطل. والثاني: أن يقدر له المال الذي يشتري به لأن ما لم يقدره لا نهاية له بخلاف [49/ أ]

شركة المال والقراض فإن المال مقدر فلا نحاج إلى تقديرهما بالذكر. والثالث: أن ينوي في عقد الشراء أنه له ولصاحبه سواء كان المأذون في ابتياعه معيًا أو لا. وقال أبو حنيفة: إن كان معينًا مثل إن قال: اشتر لي هذا العبد صح الشراء للموكل بغير نية وهذا غلط قياسًا على غير المعين. وأما ما يشتريه المضارب والشريك في المال يحتاج إلى نية أنه في مال المضاربة والشركة. ثم إذا صح الشراء لهما بهذه الشرائط فللمشتري على شريكه نصف أجرة مثله فيما اشترى وباع. وقال أبو حنيفة: ليس لواحٍد منهما أجرة عمله لأن العمل في الشركة لا يقابل شيئًا من الربح فلم يكن لوجوده تأثير. وهذا غلط لأن حكم الشركة إذا زال بفسادها غلب فيها حكم الوكالة على عوض فاسد، وذلك موجب لأجرة المثل. وإذا صح الشراء لأحدهما فدفعه إلى صاحبه وتصرف فيه فإن جميع الثمن بما فيه من الربح لصاحبه وله أجرة مثله عليه فيما عمله. وأعلم أنه على التفسير الأول كل واحٍد منهما يشتري، وعلى التفسير الثاني أحدهما يشتري، والحكم على ما ذكرنا فيما يكون مأذونًا وما لا يكون مأذونًا. مسألة (¬1): قال: والشركة الصحيحة أن يخرج كل واحد منهما دنانيير مثل دنانير صاحبه. الفصل وهذا كما قال: الكلام الآن في الشركة الرابعة وهي الشركة الصحيحة وتسمى: شركة العنان، وأجمع العلماء على صحتها. واختلفوا في معنى تسميتها بالعنان فمنهم من قال: العنان المماثلة والمساواة يعني تساويًا فيها كتساوي عناني فرس الرهان عند الابتداء بالسير يقفان معًا لا يسبق عنان أحدهما عنان صاحبه. وقيل: معناها المساواة أيضًا ولكن فتاوى عناني فرس الرهان في السير والكَرّ والإجهاز إذا تسابقا تساويا في التمكن من التصرف في العنانين. وقيل: هي مشتقة من عنَّ الشيء إذا عرض فكل واحد من الشريكين عنَّ له أن يشارك صاحبه. أو جعل كل واحد لصاحبه أن يتجر فيما عنَّ له أي عرض. وقيل: معناه أن عنان الدابة يقصرها على تصرف مخصوص كذلك المال في شركة العنان يقصر [49/ب] على التصرف المخصوص فليس لأحدهما أن يتصرف ولا يهب منه بعد أن كان ذلك له قبل الخلطة. وقال أهل اللغة: العنان من المعانة وهي المعارضة والمعارضة المساواة ومنه قيل: تعارض الخبران والقياسان يعني تساويا، والعنان مأخوذ من هذا، وهو أن سيريه يتساويان معًا، وعان كل واحد منهما صاحبه وكل واحد من الشريكين عارض صاحبه بمثل ماله وفعاله. والأصل فيها شركة المساواة والمماثلة. وقال أهل العراق: اشتقاقها ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 230).

من العناء فإن الفارس إذا ركب كانت إحدى يديه في العنان والأخرى يتصرف فيها كيف شاء، كذلك مالهما الذي في الشركة مقصور على الشركة وما بقي يتصرف فيه كيف شاء، كذلك وفرق بينها وبين المفاوضة التي لا تصرف لأحدهما في غير شركة المفاوضة لأنه لا يجوز أن يكون لأحدهما مال من جنس الأثمان خارجًا عنه. وجملته: أنها لا تصح إلا بأربع شرائط: إحداها أن يكون ما يخرجه كل واحٍد منهما مثل ما يخرجه الآخر جنسًا ونوعًا وصفًة وصفة الجنس أن يكون دراهم أو دنانير أو لا يكون منهما. وصفة النوع أن يكون سكة واحدة راضية أو غزية أو نيسابورية ولا يكون بعض من واحد أو بعض من آخر. والصفة أن تكون صحاحًا أو مكسرة ولا يكون منهما وهذا لأنهما لا يختلطان والخلط شرط عندنا. وقال مالك: لا يشترط الخلط ولكن يشترط أن تكون يدهما على المالين، أو يد وكيلهما وهذا غلط لأنهما إذا كانا متميزين فمال كل واحدٍ منهما يتلف منه دون صاحبه فلا تنعقد الشركة كما لو لم يكن في يدهما. وهل تفتقر هذه الشركة إلى وجود المماثلة في المقدار؟ قال عامة أصحابنا وهو المذهب: لا تفتقر إليه ويجوز التفاضل فيه فيكون لأحدهما ألف وللآخر ألفان. وقال أبو القاسم الأنماطي: لابد فيها من المماثلة في القدر، لأن الشافعي رحمه الله قال: والشركة الصحيحة أن يخرج كل واحد منهما دنانير مثل دنانير صاحبه، ولم يفرق بين الصفة والمقدار وهذا لأنهما يتفاضلان في الربح على استوائهما في العمل فكما لا يجوز التفاضل [50/ أ] في الربح مع التساوي في المال، لا يجوز التفاضل في الربح مع التساوي في العمل. وهذا غلط لأن العمل في الشركة تابع للمال والمال هو الأصل فلم يصح اعتبار العمل بالمال. ومراد الشافعي بما ذكر المثل في الجنس والصفة دون القدر. والشرط الثاني: في خلط المالين، فلو اشتركا ولم يختلطا لم يجز على ما ذكرنا. وقيل: يشترط خلط المالين ثم العقد فيقولان: اشتركنا بعدما خلطنا. والثالث: أن يأذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف، ولو خلطا ولم يأذنا في التصرف لا يجوز التصرف وقد ذكرنا. وذكر بعض أصحابنا بخراسان أنه يشترط تعيين النوع الذي يتصرفان فيه خلافًا لأبي حنيفة. وأما قول المزني: فإن اشتريا لا يجوز أن يبيعه أحدهما دون صاحبه أراد أنهما لو خلطا المالين واشتريا شيئًا معًا من رجل لا يجوز لأحدهما أن يبيع ذلك الشيء إلا بإذن صاحبه، وقد صرح المزني بهذا في "الجامع الكبير". ومن أصحابنا من قال: هذا راجع إلى شركة العروض، ومعناه إذا باع أحدهما نصف عرضه بنصف عرض صاحبه لا يجوز لأحدهما أن يبيع دون صاحبه والأول أصح. ثم قال المزني: "فإن جعل كل واحٍد منهما لصاحبه أن يتجر في ذلك كله بما رأى من أنواع التجارات قام في ذلك مقام صاحبه فما ربحًا أو خسرًا فلهما وعليهما نصفين". فإن قال قائل: كيف قام مقام صاحبه وصاحب الملك يبيع بما عز وهان من

الثمن فينبغي أن يجوز له البيع أيضا بما عز وهان من الثمن؟ قلنا: معنى قوله: قام مقام صاحبه في أمل جواز البيع لا في صفة البيع والمحاباة. ولو قال: بع بما ترى أو تصرف ما ترى يجب مراعاة النظر فلا يجوز له أن تبيع بالمحاباة ولا بما يتغابن الناس بمثله، ولو قال: به بما شئت له أن يبيع بالمحاباة. فإن قال قائل: ما الفرق بين قوله: "بعْ ما ترى" وبين قوله: "بع بما شئت" وكل واحد منهما تفويض إلى مراده؟. قلنا: الفرق أنه إذا قال: بع بما شئت ظاهره الرضا بمشيئتهء وإذا قال: به بما ترى فقد وكله إلى الرأي والرأي هو الاجتهاد. على أنه إذا قال: بع بما شئت والحال تدل على أن مراده بما شئت من نقد أو عرض [50 / ب] وليس المراد الغبن والمحاباة ليس له المحاباة، فإن لم تدل قرينة الحال ومقامة اللفظ على ذلك فظاهر اللفظ أنه خيره من جميع الوجوه. والرابع: أن يكون الربح على قدر المالين فإن شرطا التفاضل في الربح مع التساوي في قدر المال أو التساوي في الربح مع التفاضل في قدر المال فالشركة باطلة وبه قال مالك، لأن المال هو الأصل في الشركة والربح في مقابلته والعمل تابع له بدليل أنهما إذا أطلقا عقد الشركة كان الربح على قدر المالين، فإذا شرطا شرطًا يخالف مقتضى عقد الشركة فسد الشرط وتفسد به الشركة ومن أصحابنا من قال: يفسد الشرط وتصح الشركة حكاه القاضي الطبري. قال أبو حنيفة: يجوز شرط التفاضل والنقصان في الربح بخلافه رأس المال، ولا يجوز شرط التفاضل والنقصان في الخسران. وقال ابن أبي ليلى: يجوز الشرط في الربح والخسارة. فإذا تقرر هذا هل يكون بطلان شرط التفاضل فيها موجبًا لبطلان الشركة على معنى بطلان الإذن في التجارة بالمال المشترك وجهان: أحدهما: أنه يبطل الإذن لبطلان الشرط فلا يجوز لأحدهما أن يتصرف، فإن تصرفه كان كمن تصرف في مال مشترك عن شركة فاسدة. والثاني: أن اشتراط التفاضل وإن بطل بالشرع لا يوجب ذلك بطلان الإذن فيجوز أن يتجر كل واحٍد منهما بجميع المال ويكون الربح مقومًا بالحصص. وعلى هذا إذا عملا اقتسما الربح على قدر المالين ويثبت لكل واحد منهما على صاحبه نصف أجرة مثله فيما عمله، فإن تصرفه حصل في ملك نفسه وملك غيره فيسقط نصف الأجرة ويرجع على صاحبه بنصف الأجرة، فإن كانتا سواء تقاصيا، وإن اختلفتا رجع من له الفضل على صاحبه بالفضل لأنه لم يلم له الربح المشروطء فإذا لم يلم المسمى وجب أن يرجع إلى أجرة مثله كما نقول في المضاربة الفاسدة. فإن قيل: العمل في الشركة لا يقابله العوض وإنما العوض في مقابلة المال في الشركة الصحيحة فكيف خالفتم هذا في هذا الموضع؟ وهذا سؤال أبي حنيفة رحمه الله. لأن عنده لا تجب الأجرة للعامل في الشركة الفاسدة كما في [51 / أ] الصحيحة.

وقيل: الفاسد يخالف الصحيح، ألا ترى أن المضاربة إذا كانت صحيحة ولم يكن في المال ربح لا يستحق المضارب شيئًا في مقابلة عمله؟ وإن كانت فاسدة استحق أجره مثله كذلك ها هنا. وإن كان مالهما مختلفين رجع صاحب القليل على صاحب الكثير بأجرة مثله من زيادة العمل. فإن كان مال أحدهما ألف ومال الآخر ألفين كان لصاحب الألف على صاحب الألفين ثلث أجرة مثله هذا إذا كان عملهما سواء، فإن تفاضلا في العمل لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون عمل صاحب الأكثر أتى، أو عمل صاحب الأقل أكثر فإن كان عمل صاحب الألفين أكثر مثل إن كانت أجرة صاحب الألفين مائتين وصاحب الألف مائة سقط من أجرة صاحب الألف ثلثها ثلاثة وثلاثون وثلث وثلث بقي له الثلثان ستة وستون وثلثان لأجل عمله على مال صاحبه وسقط من عمل صاحب الألفين ثلثا أجرته مائة وثلاثة وثلاثون وثلث وبقي له الثلث لأجل عمله على مال صاحبه ستة وستون وثلثان وهو القدر الذي بقي لصاحب الألف فيتقاصان ولا فضل بينهما. وإن كان عمل صاحب الألف أكثر وصاحب الألفين أقل فكانت أجرة صاحب الألف مائتين وصاحب الألفين مائة فيسقط من أجرة صاحب الألف ستة وستون وثلثان، ويبقى له لأجل عمله على مال شريكه مائة وثلاثة وثلاثون وثلث، ويسقط من أجرة صاحب الألفين ثلثاها لأجل عمله على مال نفسه ويبقى ثلثها لأجل عمله على مال صاحبه فيتقاصان فيما تساويا فيه وهو ثلاثة وثلاثون وثلث بمثلها ويفضل لصاحب الألف على صاحبه مائة. ولو كان مال أحدهما ألفًا ومال الآخر ألفين وشرطا أن يكون الربح نصفين بشرط أن يعمل أحدهما، فإن كان بشرط أن يعمل صاحب الأكثر كانت باطلة. وإن كانت بشرط أن يعمل صاحب الأقل وحده كان قراضًا على مال مشاع وقد جعل له صاحب الألفين قسطا من الربح في مقابلة ماله وتمام النصف بقدر عمله على مال شريكه. فإن قيل: القراض في المشاع لا يجوز [51/ ب] فكيف جوزتم ها هنا؟. قلنا: إنما لا يجوز إذا كان مشاعًا من غير العامل، فأما إذا كانت إشاعته مع العمل يجوز لأن هذه الإشاعة لا يمنعه من التصرف. وإن كانا في المال سواء مثل إن كان لكل واحد منهما ألف وشرط أن يعمل أحدهما وله نصف الربح لم تكن شركة فإنهما شرطا العمل على أحدهما وحده ولا قواضًا لأنهما ما شرطا في مقابلة عمل العامل شيئًا من الربح، فتكون بضاعة دفعها إليه بغير عوض فلا يستحق شيئًا من الأجرة. وقيل: الشركة من طريق العقد شبه شركة العنان وشركة العروض. وشركة المفاوضة، وشركة المفاضلة وشركة الجاه، ويقال الوجه. وشركة الأبدان وقد ذكرنا حكم الكل. فروع من كتاب البويطي ذكرها أبو العباس ابن سريج رحمه الله وشرحها. أحدها: إذا اشترك أربعة: من واحد الأرض، ومن آخر البذر ومن آخر العمل، على أن يزرع العمل وما يحصل من الغلة يكون بينهم أرباعًا فهذه معاملة فاسدة لأنها ليست

بشركة ولا قراض ولا إجارة فإن الشركة تفتقر إلى اختلاط المالين وهذه الأموال لا تختلط، والقراض مبني على أن يأخذ العامل المال ويعمل ببدنه فإذا تفاضلا رجح رب المال بمثل رأس المال واقتسما الربح، وهذا لا يمكن ها هنا والإجارة تفتقر إلى أجرة معلومة ومدة معلومة وذلك معدوم، فثبت أنها معاملة فاسدة، فإذا ثبت فسادها فالزرع يكون لصاحب البذر لأنه عين ماله ولا أجرة له إن كان عمل شيئًا لأنه يحصل على ماله ويرجع كل واحد من الثلاثة عليه بأجرة مثل ماله فيكون لصاحب الأرض أجرة مثل أرضه، ولصاحب الفدان أجرة مثل بقرة وللأكّار أجرة مثل عمله. والثاني: إذا اشترك أربعة من واحٍد بيت الرحى ومن الأخر الحجر ومن الآخر البغل ومن الآخر العمل على أن ما رزقه الله تعالى من فضل كان بينهم فهذه أيضا معاملة فاسدة، فإن أصابوا شيئًا جعل لكل واحد منهم أجر مثله وقم ما حصل من المسمى بينهم على قدر [52 / أ] عملهم. قال أبو العباس رحمه الله: فإن استأجرها رجل فالإجارة على قسمين أحدهما: أن يستأجرها بعينها فقال: استأجرت هذا البيت، وحجر هذا، وبغل هذا وعمل هذا، جميعا ليطحنوا أكرارًا معلومة بأجرة معلومة فهل تصح الإجارة؟ على قولين كما لو تزوج أربع نسوة معا بألف هل يصح الصداق؟ قولان: أحدهما: يصح لأن جملة الأجرة معلومة فلا يضر جهالة أبعاضها. والثاني: لا تصح لأن عقد الواحد مع الأربعة في حكم أربعة عقود وما يحصل لكل واحد من الأجرة مجهول، فإذا قلنا: الإجارة باطلة سقط المسمى وكان لكل واحد منهم أجر مثله. وإذا قلنا: إنها صحيحة استقر لهم الأجرة المسماة ويكون لكل واحٍد منهم بحصة أجرة مثله من المسمى على ما ذكرنا، وعلى هذا خرج جواب الشافعي. والقسم الثاني: أن يستأجرهم في ذمتهم فيقول: استأجرتكم لتطحنوا لي كذا وكذا بكذا فتصح الإجارة قولًا واحدًا لأن الإجارة معقودة على ما في الذمة فيقول وهي معلومة وما يخص كل واحٍد منهم معلوم وهو ربح الأجرة، وإذا ثبت أن الإجارة صحيحة فعملوا كان ما عملوه شركة بينهم فيجب لكل واحد منهم ربح الأجرة. وإن طحنوه في هذا الدكان فقد طحنوه في معاملة فاسدة فيتراجعون بينهم بأجر المثل. وإن عقد العقد مع واحد منهم فاستأجره ليطحن له كذا بمائة فإن نوى في حال العقد أنه يعقد العقد عن نفسه وعن شركائه أو نطق بذلك كان كما لو عقا مع الأربعة وحكمه على ما ذكرنا. وإن أطلق ولم ينو شيئًا ولا نطق به لزمه العقد في نفسه فإن طحن هو وشركاؤه كان له جميع المسمى ولكل واحد منهم عليه أجرة مثله. والثالث: لو اشترك ثلاثة من واحد البغل ومن آخر الراوية ومن الثالث العمل على أن يستقوا الماء وما يرزق الله تعالى من فضل يكون بينهم فهذه معاملة فاسدة لما ذكرنا. فإذا استقى العامل الماء قال الشافعي في موضٍع: "الماء له وحده" وقال في موضع: "الماء لهم بالسوية"، واختلف أصحابنا فيه على طريقين: أحدهما: أنه على

اختلاف [52 / ب] الحالين فالموضع الذي قال: الماء له وحده أراد إذا كان العامل قد جمع الماء لنفسه في بركة أو مصنع ثم أخذ منه وباعه والذي قال: الماء لهم أراد إذا استقى الماء من مباح كدجلة والفرات وهذا إذا استقى لجماعتهم، فإن نوى أن يكون الماء له وحده يكون له وثمنه له وعليه لصاحب البغل والراوية أجر مثل ذلك. ومنهم من قال: إن كان الماء مجموعًا فلا شك أن ثمنه له، وإن كان في موضع مباح فقولان: أحدهما: له وحده لأنه مباح يملك بالتناول فإذا تناوله ملكه وكان ثمنه له. والثاني: يكون بينهم لأنه وإن كان مباحًا فإنما تناوله على أنه بينهم فكان على ما تناوله كما لو وكلوه في ذلك. فإذا قلنا: الماء بينهم فلكل واحٍد منهم على صاحبه أجر مثل ما كان من جنبته فإن فضَل فضْل اقتسموا ذلك على هذه الحصص، وإن نقص عن الأجرة كان على حسابها. قال أبو العباس رحمه الله: ويجيء في هذه المسألة ما ذكرناه من القسمين في المسألة الثانية على تفصيلها. مسألة (¬1): قال: "ومتى فسخ أحدهما الشركة انفسخت". وهذا كما قال: الشركة إذا محت وأذن كل واحد من الشريكين لشريكه في التصرف ثم أراد أحدهما الفسخ أو هما فإن ذلك جائز وينفخ العقد لأن كل واحد منهما وكيل لصاحبه وموكل له والوكالة من العقود الجائزة فكذلك ما يجري مجراها فإذا ثبت هذا فيه ثلاث مسائل. أحدها: إذا قال أحدهما لشريكه: عزلتك انعزل عن التصرف في جميع المال وبقي تصرفه منه في قدر نصيبه والعازل على ما كان له التصرف في جميعه في النصف منه بحق ملكه وفي الباقي بأنه على الإذن. والثانية: أن يعزل كل واحد منهما صاحبه فإذا عزل وقع العزل فالمال على الشركة ولكل واحد منهما التصرف في نصيب نفسه. والثالثة أن يقول أحدهما: فسخت الشركة فقد عزل شريكه وعزل نفسه عن التصرف في مال شريكه لأن فسخ الشركة معناه زوال إذن كل واحد منهما عن التصرف لصاحبه فإن أراد استئناف الشركة أذن كل واحد منهما لصاحبه بالتصرف فيه. ولو اشترى شيئًا بعد الفسخ على نية [53 / أ] الشركة لا ينصرف إلى الشركة ولكنه للمشتري إن اشتراه في الذمة، وإن كان بعين مال الشركة دخل في حكم تفريق الصفقة. وقال القاضي الطبري: إذا قال: فسخت الشركة نظر فإن أراد في جنبة صاحبه له أن يتصرف في جمع المال، وإن أراد في جنبتهما جميعًا لم يجز لواحد منهما التصرف في حق صاحبه والمشهور ما ذكرنا أولًا. وقول المزني: انفسخت الشركة أراد بفسخ الشركة المنع من التصرف لأن المال مشترك بينهما فلا ينقسم بقول أحدهما: فسخت. وقوله: "م يكن لصاحبه أن يبيع ويشتري حتى يقتسما" غلط؛ لأنه إن كان مراده لم ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 230).

يكن لصاحبه أن يبيع حصة نفسه له أن يبيع حصة نفسه شائعة قبل القسمة، وإن أراد حصة غيره ليس له بيعها بعد الفسخ لا قبل القسمة ولا بعدها. وأيضًا لا معنى لقوله: "م يكن لصاحبه" بل كان ينبغي أن يقول: لم يكن لواحٍد منهما أن يبيع حصة صاحبه ولا أن يشتري له لما ذكر أنه عزل نفسه وعزل صاحبه. وهذا الكلام دليل على أن لفظ معاقدة الشركة يوجب الإذن في التصوف، وقد ذكرنا فيه وجهين لأنه جعل الفسخ نهيًا عن التصرف. فإن قيل: أليس رب المال إذا منع المضارب من التصرف لم يمنع من بيع المتاع الذي في يده؟ فما الفرق بين المسألتين؟ قلنا: الفرق أن المضارب لا حق له في عين المال وإنما حقه في الربح وإنما يعلم الربح بعد البيع وسلامة رأس المال لديه فجوزنا له البيع ليعلم ما يستحقه من الربح، وليس كذلك الشريكان فإن المال بينهما نصفان فيكون المباع بينهما فلا حاجة لواحد منهما إلى بيعه فلذلك منعناه منه ووزان البيع في الشركة الشراء لأنه لا حاجة به إلى الثمن. مسألة (¬1): قال: وإن مات أحدهما انفسخت الشركة. وهذا كما قال: إذا مات أحد الشريكين لم يكن للأخر أن يتصرف في حصة الميت لأن إذن كل واحد منهما لصاحبه في التصرف عقد جائز بدليل أن لكل واحد منهما أن يرجع عنه في حال الحياة فوجب أن يبطل بالموت كالوكالة. ومراد المزني أيضًا من قوله: انفسخت الشركة أنه [53/ ب] لا يجوز له أن يتصرف في حصة الميت. فإذا تقرر هذا فلا يخلو الميت إما أن يكون عليه دين، أو أوصى بإخراج الثلث من ماله أو لا دين عليه ولا وصية، فإن لم يكن دين ولا وصية لا يخلو وارثه من أحد أمرين إما أن يكون بالغًا عاقلًا أو يكون طفلًا أو مجنونًا، فإن كان بالغًا عاقلًا فهو بالخيار إن شاء قاسم الشريك، وإن شاء حدد كل واحٍد منهما لصاحبه الإذن في التصرف فيكونا شريكين، ولا فرق بين أن يكون الحظ في القسمة أو في تجديد العقد يفعل ما شاء. قال أبو إسحاق: وينبغي للوارث أن لا يأذن له في التصرف حتى ينص جميع ذلك فيعلم مبلغ ما خلفه الميت ثم يتصرفان بعد ذلك فإنه لا يؤمن أن يظهر على الميت دين وهذا احتياط وليس بواجب، فإن قيل هما جهلا قدر المال المعقود عليه، فكيف تصح الشركة بتجديد الإذن ها هنا؟. قيل: لا يلزم معرفة الوزن بدليل أنهما لو اشتركا ووضع أحدهما دراهم في كفة، ووضع الأخر بإزائها في كفة ولم يعلما وزنها يصح كذلك في حق الوارث ويلزم العلم بقدر نصيب كل واحد من جملة المال من نصف أو ثلث أو ربع. فإن قيل: ليس في كلام المزني اشتراط تجديد لإذن لأنه قال: فأحب أن يقيم على شركته كأبيه فجائز. قلنا: في كلامه ما ذكرنا إذا تأملته وذلك أنه قال في ابتداء الفصل: إذا مات أحدهما انفسخت الشركة والشركة إذا انفسخت لابد من استئنافها وتجديا الإذن فيها. وإن كان الوارث طفلًا أو مجنونًا فإن الوصي أو الحاكم إذا لم ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 230).

يكن هناك وصي ينظر للطفل أو المجنون، فإن رأى الحظ في الشركة جدد الإذن له في التصرف، وإن رأى الحظ في القمة قاسمه فإن قاسمه وكان حظ الطفل أو المجنون في الشركة كانت القسمة باطلة مردودة لأنه ليس بمالك وإنما هو قيّمٌ للغير فلا يجوز له أن يأتي فيه إلا ما يكون الحظ فيه. وإن كان عليه دين فلا يجوز التصرف فيه حتى يقضي الدين لأنه تعلق به الدين كالمرهون، فإذا قضي الدين جاز المقام على الشركة على ما بيناه. وإن كان أوصى بإخراج الثلث فإذ كان الموصى له غير معين فلا يجوز حتى يخرج الثلث فإذا أخرج الثلث [54 / أ] فالمقام على الشركة فيما بقي على ما بيناه ويصير المالان متفاضلين. وهل تجوز الشركة في المالين المتفاضلين؟ قد ذكرنا. وإن كان الموصى له معينا ملك ثلث حصة الميت فإذ أحب أحد الشريكين أو حجر عليه إلى أن يقيم على الشركة فعل، وإن أحب المقاسمة فعل. فرع لو جن أحد الشريكين أو حجر عليه لسفٍه بطلت الشركة وفعل وليه ما هو الأحظى من القسمة أو المقام على الشركة. وأما الإغماء فإن كان يسيرًا لم يسقط معه فرض عبادة لا تبطل الشركة لأنه مرض قد يطرأ كثيرًا وإن كثر حتى أسقط فرض صلاة واحدة بمرور وقتها بطلت الشركة. مسألة (¬1): قال: ولو اشتريا عبدًا وقبضاه فأصابا به عيبًا فأراد أحدهما الإمساك والآخر الرد. الفصل وهذا كما قال: هذه المسألة ذكرناها في كتاب البيع ولا يختص هذا بالشركة. ولو تولى أحد الشريكين شراء العبد دون الآخر ولم يذكر عند الشراء أنه يشتريه لنفسه، ولشريكه لم يكن له أن ينفرد بالرد لأن ظاهر الحال أن العقد تعلق به وحده فلا يقبل قوله إني اشتريته للغير. وإن ذكر عند الشراء أنه يشتريه لنفسه ولشريكه هل له أن ينفرد برد نصيبه فيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك لأنه أوجب إيجابا واحدًا فلا يُبعّض عليه وهذا اختيار أبي إسحاق قال: ويفارق هذا إذا باشر الشراء لأنه لو أنكر المذكور أنه أمره بالشراء كانت الصفقة كلها لازمة لمتولي الشراء فالصفقة واحدة لأنها لو كانت صفقتين لتفرقت إذا أنكر الآخر. والثاني: وهو الأصح وهو اختيار ابن أبي هريرة له ذلك لأن ذكر ذلك كأنهما باشرا ذلك وأوجب لهما، وقال القاضي الطبري: لم أذكر الوجه الأول في "كتاب البيع" لضعفه. ثم إذا رد أحدهما انفسخت الشركة بينهما لأن المالين قد تميزا فصارت حصة أحدهما مالًا في ذمة البائع إن كان قد تصرف فيما قبضه أو عينًا في يده إن كان باقيًا وحصة الأخر سلعة، وإذا تميز مال كل واحد منهما بطلت الشركة. ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 230).

فرع لو أن أحد الشريكين باع عبدًا، ثم ادعى البائع أنه له ولشريكه [54 / ب] وباعه من غير إذنه لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون العقد مطلقًا أو مقيدًا فإن كان مطلقًا لم يقبل قول البائع على المشتري لأن ظاهر العقد الصحة وأنه يتعلق به وحده. فإن أقام الشريك الذي لم يبع البينة على أن هذا العبد بينهما حكمنا بذلك وبطل البيع في نصيبه. فإن ادعى المشتري أن البيع كان بإذنه فالقول قوله أنه لم يأذن. وإن كان العقد مقيدًا بأن قال: بعتك هذا العبا وهو لي ولشريكي نُظِر فإن صدقه شريكه في ذلك وأنه باع بإذنه صح العقد. وإن أنكر فالقول قوله فإذا حلف بطل البيع في نصيب شريكه وهل يبطل في نصيب نفسه؟ قولان بناًء على تفريق الصفقة. فرع أخر لو كان لرجلين عبدًا فوكل أحدهما صاحبه ببيعه فباعه ثم وجد المشتري عيبًا فأراد رد نصفه، فإن كان الوكيل ذكر أنه شركة له ذلك، وإن لم يكن ذكر ذلك فيه وجهان: أحدهما: ليس له لأن متولي العقد واحد فلا تغرق الصفقة. والثاني: له ذلك، لأن افتراق الملك من جهة البائع فوجب تفريق الصفقة ألا ترى أنه لو أنكر الإذن تفرقت الصفقة وصح العقل في حصة المتولي للعقد دون المدعى عليه الإذن. مسألة (¬1): قال: ولو اشترى أحدهما بما لا يتغابن الناس بمثله. الفصل وهذا كما قال: إذا اشترى أحد الشريكين شيئًا بما لا يتغابن الناس بمثله فإن اشتراه في الذمة فالشراء له ويلزمه الثمن في خالص ماله. فإن نقد الثمن من مال الشركة فقد صار ضامنًا له. وإن كان اشتراه بعين مال الشركة فالشراء باطل في نصيب شريكه قولًا واحدًا، وفي نصيبه قولان بناة على تفريق الصفقة. ولو أجاز شريكه هذا الشراء لا يجوز خلافًا لأبي حنيفة. فإذا قلنا: يصح في نصيبه فقد انقسم المالان لأن الذي له فقد ملكه البائع والذي لشريكه فهو على ملكه وإذا تميز نصيب أحدهما عن نصيب الآخر انفسخت الشركة. وهكذا إذا باع أحدهما من مال الشركة شيئًا بما لا يتغابن الناس بمثله وقال في حال البيع أنه من مال الشركة أو قامت به البينة فالبيع في نصيب [55/ أ] شريكه باطل قولًا واحدًا. وهل يبطل في نصيب نفسه؟ على القولين. وعند أبي حنيفة يجوز له أن يبيع بغبن فاحش إذا أطلق الإذن. ثم لا يصير ضامنًا لنصيب شريكه بمجرد البيع إلا بتسليمه إلى المشتري لأنه يصير مفرطًا بتسليمه. قال أبو حامد: هكذا ذكر أبو إسحاق وعلل بأن هذا موضع اجتهاد لوجود الاختلاف فيه قال أبو إسحاق: ويفارق هذا إذا باع المودع الوديعة من غير إذن صاحبها ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 230).

صار ضامنًا لها بمجرد البيع من دون التسليم لأنه لا يجوز له البيع بالإجماع. ولأنه غير مأذون له في بيعها أصلًا، فإذا باعها دل على أنه جاحد لصاحبها ومدعي إياها لنفسه فسقطت أمانته بمجرد البيع. قال أبو حامد: وعندي أنه يضمن بمجرد البيع، ها هنا أيضا كما في الوديعة سواء لأنه متعد بالبيع ولا فرق بين أن يكون مختلفًا فيه أو غير مختلف فيه، ألا ترى أنه لو سلم ضمن وإن كان التسليم مختلفًا فيه أيضًا. مسألة (¬1): قال: وأيهما ادعى في يدي صاحبه من شركتهما شيئًا فهو مدٍع وعليه البينة. وهذا كما قال: إذا ادعى أحد الشريكين مالا في يد الآخر وقال: إنه من جملة مال الشركة وقال الذي في يده: إنه من خاص مالي فالقول قوله مع يمينه لثبوت يده على جميعه وعلى المدعي البينة. ولو اشترى سلعة فيها ربح فقال: اشتريته بخاص مالي وقال شريكه: بل اشتريته من مال الشركة أو كان فيه خسران فقال: اشتريته من مال الشركة وقال شريكه: بل اشتريته من خالص مالك فالقول قول الذي اشتراه مع يمينه في المسألتين جميعًا لأن الاعتبار بنيته في حال الشراء فكان المرجع إليه فيها. ولأنه أميٌن في تصرفه فكان القول قوله مع يمينه. مسالة (¬2): قال: وأيهما ادعى خيانة صاحبه فعليه البينة. وهذا كما قال: إذا ادعى أحدهما على الآخر أنه خانه ببعض مال الشركة فكتمه ولم يظهره بمقدار معلوم ووصٍف معلوم بحيث يمكن الحاكم الحكم به فإن دعواه تسمع ويكون القول قول المدعى عليه أنه ما خانه فيما يدعيه لأن الأصل أنه لم يخنه. ولو لم يبين قدر الخيانة [55 /ب] لا تسمع الدعوى. المسألة (¬3): قال: وأيهما زعم أن المال قد تلف فهو أمين وعليه اليمين. الفصل وهذا كما قال: إذا ادعى أحد الشريكين تلف مال الشركة أو شيئًا منه فالقول قوله مع يمينه لأنه أمين كالمودع. فرع لو ذكر أنه تلف من مال الشركة في يده يوم كذا في شهر كذا وحلف عليه، ثم شهد شاهدان أنهما رأيا ذلك المال بعينه في يده بعد اليوم الذي ادعى تلفه؟ فيه وجهان: أحدهما: بطلت يمينه لأن البينة العادلة أولى منها فعلى هذا يغرم بالبينة ولا يسأل. والثاني: وبه قال أبو الفياض لا تبطل يمينه ولكن يسأل عن ذلك فإن ذكر وجهًا تسلم معه يمينه الماضية لم يغرم وإن لم يبين غرم. ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 230). (¬2) أنظر الأم (2/ 231). (¬3) أنظر الأم (2/ 231).

فرع آخر لو كان في يد أحدهما ألف فقال: اقتسمناه وهو حصتي خاصة وقال الأخر: ما اقتسمنا وهو مشترك فالقول قول من يدعي بقاء الشركة لأن الأصل هذا. فرع آخر لو تولى أحد الشريكين الشراء فللبائع أن يأخذه بكل الثمن، فإذا أخذ منه فإن أداه من مال الشركة جاز ولا رجوع. وإن أداه من مال نفسه فإن فعل ذلك لأنه لم ينصَّ من مال الشركة ما يؤديه كان له الرجوع على شريكه بحصته منه. وإن فعل ذلك مع وجود ناض من مال الشركة ففي رجوعه على شريكه وجهان: أحدهما: يرجع عليه بالنصف منه لأنه من موجبات الشركة. والثاني: لا يرجع لأن موجبها الأداء من مالها فإذا عدل إلى مال نفسه فقد تطوع به فلم يرجع به عليه شريكه ذكره في "الحاوي" (¬1). فرع آخر لو اشترك رجلان فأخرج أحدهما دنانير والأخر دراهم وعقد الشركة لا يصح قال في "البويطي": فإن اشتريا ثوبًا فربحا قسم الربح على قدر أموالهما وحسب الصرف يوم الشراء ورجع صاحب الدراهم على صاحب الدنانير بفضل أجرته بالعمل على ماله فينظر إلى غالب نقد البلد حين الشراء ما هو ليجعل هو الأصل، ثم يقوم النقد الآخر به ويقسم الربح بينهما عليه فإن كان غالب النقود دنانير وكان لأحدهما عشرة دنانير وللآخر مائة درهم نظر كم قيمة الدراهم، فإن كانت عشرة [6/ أ] دنانير فالمال بينهما نصفين والربح كذلك، وإن كانت أقل أو أكثر فعلى حسابه. فرع آخر لو ذكر أحدهما: إني بعت العبد المشترك وقبضت الثمن وتلف في يدي وخرج العبد المبيع مستحقًا وأخذه مالكه وذكر الوكيل أنه قبض ثمنه وضاع منه، قال أبو إسحاق: يرجع المشتري بالعهدة على الوكيل ولا يرجع الوكيل على الموكل لأنه إنما يقبل قوله على موكله فيما هو أمين فيه، وأنه إن تلف لا يلزمه ضمانه ولا يقبل قوله عليه في إلزامه غرماء، فإن قامت البينة على قبضه الثمن أو أقر الموكل أنه قبضه كان له أن يرجع بالعهدة على الموكل لأنه قد ثبت قبض الثمن لموكله فثبت حق الرجوع بالعهدة عليه. مسألة (¬2): قال: وإذا كان العبد بين رجلين فأمر أحدهما صاحبه ببيعه فباعه من رجل. الفصل وهذا كما قال: إذا كان عبد بين رجلين فأذن أحدهما لصاحبه في بيع نصيبه مع ¬

_ (¬1) أنظر الحاوي للماوردي (6/ 489). (¬2) أنظر الأم (2/ 231).

نصيب نفسه وقبض ثمنه فباع جميع العبد بألف درهم، ثم أقر الذي لم يبع أن الذي باع قبض جميع الثمن وأنكره البائع وادعاه المشتري فإن المشتري يبرأ من نصف الثمن وهو حصة المقر لأنه يقول: قد دفع المشتري حصتي من الثمن إلى وكيلي وبرئ منه وكانت الخصومة بين البائع والمشتري. فإذا قال البائع: لم أقبض الثمن من المشتري كان القول قوله مع يمينه وعلى المشتري البينة لأن الأصل أن الثمن واجب عليه. فإن أقام البينة برئ من جميع الثمن ويقبل فيه شاهدان وشاهد وامرأتان وشاهد ويمين. وهل تقبل شهادة شريكه المقر بأنه قبض الثمن إذا كان عدلًا؟ نُظِر فيه فإن شهد عليه بأنه قبض حصته قبلت شهادته لأنه لا يَجُزّ بها منفعة ولا يدفع مضرة. وإن شهد عليه بقبض جميع الثمن فلا تقبل شهادته في حصة نفسه وهل تقبل في حصة شريكه؟ وجهان بناءً على القولين في تبعيض الشهادة. وإن لم يكن له بينة قال البائع: يحلف ويستحق نصف الثمن فإذا حلف وقبض نصف الثمن كان له خاصة لأن الذي لم يبع مقر بتصديق المشتري مقر بأن البائع ظلم فيما يأخذه فلا يشاركه فيما ظلم وهذه علة أبي إسحاق [56/ ب]. وقال جماعة من أصحابنا: العلة أن الذي لم يبع لما صدق المشتري أبرأه وصار كالقابض لحقه فكان ذلك منه فسخًا للشركة فلم يبق له في المقبوض حتى يقاسم عليه، وبقيت الخصومة بينه وبين شريكه فإن يدعي عليه انه قبض جميع الثمن فيكون القول قوله مع يمينه أنه ما قبض حصته وعلى المدعي البينة، وإن لم تكن له بينه يحلف البائع وبرئ من دعواه، وإن لم يحلف ردت اليمين على المدعي، فإذا حلق استحق عليه نصف الثمن، فإذا دفعه إليه لم يكن له أن يرجع على المشتري لأنه يقول: هذا ظلم لحقني من جهة شريكي دون المشتري فلم يجز له أن يرجع بالظلم على غير ظالمه. ولو أقام المشتري بينة على البائع بدفع الثمن إليه قد بينا أنه يبرأ من جميعه بالبينة وللشريك الذي لم يبع أن يرجع على البائع بحصته بينة المشتري من غير استئناف لها. ولو نكل البائع عن اليمين الأولى فردت اليمين على المشتري فحلف وبرئ من جميع الثمن لا يضر هذا النكول في حق الشريك الموكل بل يدعي عليه الموكل أنه قبض الثمن، فإن حلف البائع أنه ما قبض قبلت يمينه الآن ونظير هذا أن ابنين لميت ادعى أحدهما على رجل لأبيه مالاً والآخر غائب فنكل المدعي عليه فردت اليمين على المدعي فحلف وأخذ نصفه فجاء الآخر وادعى نصيبه فللمدعي عليه أن يحلف ونكوله الأول لا يضره. وكذلك لو اشترى رجلاً شقصًا فيه فادعى أحدهما على الشفيع أنه عفا عن الشفعة فنكل وحلف المدعي ثم جاء الآخر فادعى مثل ذلك فللشفيع أن يحلف أنه ما عفا ولا يضره نكوله الأول.

وقال في "الحاوي" (¬1): للشريك الذي لم يبع أن يرجع على البائع بحصته بيمين المشتري وحده بعد نكول البائع عن اليمين لأن اليمين بعد النكول إما أن يجري مجرى البينة أو مجرى الإقرار وبكل واحد منهما يثبت الرجوع. وهذا لا يصح عندي لأن اليمين حجة في حق الحالف لا يدخلها نيابة فلم يثبت حق أحدهما بيمين الآخر. وقال [57/ أ] بعض أصحابنا بخراسان: من فوائد السواد أن الرجل إذا قال لوكيله: بع هذا العبد ولم يزد عليه له أن يسلم العبد ويقبض الثمن، وفيه خلاف بين أصحابنا وهذا هو الصحيح إن شاء الله لأن ذلك عادة التوكيل غالبًا لأن المزني أطلق فقال: فأمر أحدهما صاحبه ببيعه فباعه ولم يشترط في تصوير المسألة أن يوكله بالقبض والتسليم صريحًا. فإن قيل: من أين لك أن المزني جعل للوكيل ولاية القبض في هذه المسألة؟. قيل: لأنه أبرأ المشتري من نصيب المقر لما أقر بقبض وكيله ولو لم يكن له ولاية القبض الصحيح لما أبرأه بالقبض من جهته. وقيل: للوكيل إقباض المبيع لأن الإيجاب يقتضي الإقباض فإذا قبض المبيع هل له قبض الثمن؟ وجهان: أحدهما: ليس له، والثاني: له ذلك لأن الثمن في مقابلة المثمن فإذا كان له تسليم المثمن كان له قبض الثمن. وكذلك إذا وكله بالشراء هل له إقباض المبيع؟ وجهان. وان كانت المسألة بحالها إلا أن الشريك الذي باع هو الذي أقر أن الذي لم يبع قبض الثمن كله فلا تخلو هذه المسألة من أربعة أحوال: إما أن يكون كل واحد منهما أذن لصاحبه في قبض الثمن. أو كان أذن الذي باع للذي لم يبع في قبض الثمن ولم يأذن الذي لم يبع للذي باع في قبض الثمن. أو لم يأذن واحد منهما لصاحبه في قبض حصته من الثمن. أو أذن الذي لم يبع للذي باع في قبض حصته من الثمن ولم يأذن الذي باع للذي لم يبع فيه. فإن كان أذن كل واحٍد منهما لصاحبه أو كان أذن الذي باع للذي لم يبع فإن الحكم في هذين القسمين مثل ما ذكرنا في المسألة قبلها وإنما يختلفان في الصورة على فالبائع في هذه كالذي لم يبع في الأولى والذي لم يبع في هذه كالبائع في الأولى والفقه على ما ذكرناه. وان لم يأذن واحد منهما لصاحبه في قبض الثمن فإن المشتري لا يبرأ من شي، من الثمن فإن الباثع يقول: دفعت جميع الثمن إلى شريكي ولا يقبل قوله على شريكه في حصته فلا يبرأ منه ولا يبرأ من حصة المقر أيضًا [57 /ب] لأنه يقول: دفعت حصتي إلى شريكي ولم أوكله في قبض الثمن فدفعت حصتي إلى من لا يجوز لك أن تدفع إليه، فإذا كان كذلك لم يبرأ من شيء من الثمن وللبائع مطالبته بحصته من الثمن ولا ¬

_ (¬1) أنظر الحاوي (6/ 490).

يمين عليه لأن دفع المشتري إلى شريكه لا يبرمه وتبقى الخصومة بين الشريك الذي لم يبع وبين المشتري ويكون القول قول الشريك مع يمينه أنه ما قبض ما ادعاه وعلى المشتري البينة ويقبل فيه شهادة شريكه الذي هو البائع عليه في ذلك إذا كان عدلًا لأنه لا يجر إلى نفسه منفعة ولا يدفع مضرة، فإن لم تكن بينة حلف الشريك واستحق عليه نصف الثمن. وأما إذا أذن الذي لم يبع للذي باع في قبض الثمن ولم يأذن الذي باع للذي لم يبع في قبض الثمن فهذا القسم هو مسألة الكتاب فإنه لا يبرأ من شيء من الثمن لأن قول البائع لا يقبل على شريكه في قبض حصته ولا يبرأ من حصة المقر لأنه يقول: ادفع حصتي إلى من لا يجوز دفعها إليه فإذا كان كذلك كان للبائع مطالبة المشتري بحصته من الثمن ولا يمين عليه، فإذا قبض حصته من الثمن وهو خمسمائة درهم كان شريكه بالخيار إذ شاء طالب المشتري بنصف الثمن وهو حصته وإن شاء طالب شريكه بنصف ما قبضه وهو ما قبضه وهو مائتان وخمسون درهمًا. فإن أراد أن يطالب المشتري بنصف الثمن فالقول قوله مع يمينه وعلى المشتري البينة. ولا تقبل شهادة شريكه عليه في هذا القسم لأنه يدفع بشهادته مشاركته فيما قبضه فكان متهمًا فيه. فإن أقام المشتري البينة برئ ولم يكن له مطالبة المشتري ولا مطالبة شريكه، وإن لم تكن للمشتري بينة حلف الذي لم يبع أنه ما قبض الثمن وإذا حلف استحق جميع الثمن. وإن أراد أن يطالب في الابتداء شريكه بنصف ما قبضه كان له لأنه يقول: لا يقبل قولك عليّ لقبض حصتي من الثمن وانفرادك بما قبضته مشترك بيني وبيك، فإذا كان كذلك كان له مشاركته في نصفه ويرجع على المشتري بتمام حصته فإذا قبض من شريكه نصف ما قبضه لم يكن للمقبوض منه أن يرجع بما قبضه شريكه على المشتري لأنه [8 / أ] يقول: إنه ظلم لحقني من جهة شريكي فإن لم يجز له أن يرجع بالظلم على غير ظالمه. وقال أبو حامد: هذا القول يفيد أن البائع انعزل عن وكالة الذي لم يبع بالقبض له قبضه لأنه معترف أنه ما بقي هناك حق هو وكيل في قبضه فصار هذا القسم والذي قبله سواء، وتقبل شهادة البائع للمشتري بالقبض على المذهب الصحيح، وللبائع مطالبة المشتري بخمسمائة وإذا قبضها فالمذهب أنه ينفرد بها ولا يشاركه الذي لم يبع فيها لأنه تبض بعد زوال وكالته وهذا اختيار أبي إسحاق وجماعة. وقال المزني: له مشاركته فيها لأن الثمن في ذمة المشتري لهما قال ابن سريج: هذا غلط منه وهو قول العراقيين، قال: وهذا لأن كل نفسين كان لهما مال قبل رجل كالثمن والقرض كان لكل واحد منهما أن يفرد بقبض نصيبه ومتى قبض شيئًا انفرد به دون شريكه إلا في مسألتين: مال الكتابة والميراث، فإنهما لو كاتبا عبدًا بينهما على ألف فمتى قبض أحدهما شيًا من مال الكتابة كان الآخر شريكه فيه لأنه لما لم يصح أن يكاتب نصيبه على الانفراد منه لم يجز أن يقبضه على الانفراد ويفارق الثمن في البيع لأنه لما صح أن يثبت نصيبه في ذمة المشتري على الانفراد ابتداء صح أن يقبضه

على الانفراد انتهاءً وسبب استحقاق الميراث لا يتبعض والورثة ينوبون عن الميت في القبض بخلاف هذا. وفرع المزني على مذهبه فقال: الذي لم يبع بالخيار بين أن يقبض من البائع مائتين وخمسين ومن المشتري مائتين وخمسين وبين أن يقبض من المشتري خمسمائة على ما ذكرنا. وقال في "الحاوي" (¬1): وإن بطلت وكالة البائع فعلى المشتري أن يؤدي إليهما ألفا، خمسمائة إلى البائع وخمسمائة إلى الذي لم يبع بعد يمينه فإن ابتدأ ودفع إلى الذي لم يبع خمسمائة لم يكن للبائع أن يشاركه فيها لأنه مقر أن المشتري مظلوم بها. وإن ابتدأ المشتري ودفع إلى البائع خمسمائة كان للذي لم يبع أن يشاركه فيها إن شاء لأن المال مشترك لم يقتسما عليه والبائع غير مصدق على شريكه في إبطال الشركة فيه فإذا أخذ من البائع نصف ما أخذه له أن يستوفي من المشتري [58/ ب] تمام حقه فيصير المشتري غارمًا لسبعمائة وخمسين منها خمسمائة دفعها إلى البائع وشاركه فيها الذي لم يبع ومائتان وخمسون دفعها إلى الذي لم يبع وهذا عين ما قال المزني، وهكذا ذكره القاضي الطبري وهو الأصح. وأما ما نقل المزني في هذه المسألة أن المشتري إذا صدقه البائع في دفع الألف إلى الذي لم يبع يبرأ من خمسمائة كالمسألة الأولى لأنه أمينه غلط لأن الشافعي لا يقبل إقرار الوكيل على الموكل، وإنما هذا مذهب أبي حنيفة والمزني نقل هذه المسألة من "الجامع الكبير" لمحمد بن الحسن، ونقل جوابه إلى جواب الشافعي هكذا قاله أبو إسحاق، وقال ابن أبي هريرة: النقل صحيح والجواب مستقيم وتأويله أن المشتري يبرأ من خمسمائة في مطالبة البائع بها لبطلان وكالته فيها ولا يبرأ منها في حق من لم يبع فكان جوابه في براءة المشتري محمولًا على هذا التأويل، ولا معنى لتغليطه إذا أمكن تصويبه. وقيل: النقل صحيح وبراءة المشتري من النصف براءة تامة ولكن المسألة محمولة على الشريكين المأذون لكل واحد منهما من صاحبه فيبرأ المشتري بإقرار كل واحد من الشريكين على صاحبه بالقبض، سواء كان بائعًا أو غير بائع، وإذا أمكن حمل جوابه على الصحة لا وجه لتخطئته كما ذكر أبو إسحاق وإذا أمكن إبراء المشتري منها لا وجه لحمله على إبطال الوكالة فيها كما فعل ابن أبي هريرة. وقيل: مسألة المزني محمولة على وجه يصح وهو أن يكون البائع لم يعرف المشتري في حال البيع أن العبد بينه وبين شريكه فيكون له في الظاهر على المشتري جميع الثمن وليس لشريكه مطالبة المشتري بشيء من الثمن، فإذا قال البائع: إنك دفعت نصف الثمن إلى من جاز لك أن تدفع إليه فقد سقطت مطالبته عنه بنصف الثمن وحصلت البراءة في الظاهر، لأنه ليس لواحد من الشريكين مطالبته به ويرجع البائع على المشتري بالنصف الآخر، فإذا قبضه ¬

_ (¬1) أنظر الحاوي (6/ 490).

طالبه شريكه بالنصف على ما بيناه. وفي هذا نَظَرٌ، لأن دعوى المشتري عليه قبض الثمن تتضمن أنه كان له في المبيح شركة وأنه [59 / أ] مستحق لنصف ثمنه. وقيل: إنه وجد للشافعي أنه قال: قال محمد وأراد محمد بن الحسن فظن المزني أنه أراد نفسه فهو غلط كما قال أبو إسحاق. مسألة (¬1): قال: ولو كان العبد بين رجلين فغصت رجل حصة أحدهما. الفصل وهذا كما قال: إذا كان عبد بين رجلين فغصب رجل نصيب أحدهما بأن حال بين وبينه ومنعه من التصرف فيه، ثم إن الغاصب والشريك الآخر باعا العبد من رجل فإن البيع في المغصوب باطل قولًا واحدًا، وفي نصيب المالك جائز قولًا واحدًا ولا يجيء، في هذه المسألة بطلان البيع في الجميع لأنهما صفقتان، وإنما القولان إذا فسد بعض الصفقة الواحدة هل يفسد البيع؟ قولان وهو إذا وكل الغاصب الشريك في البيع أو وكل الشريك الغاصب فعقد أحدهما العقد وأطلق، ومن أصحابنا من قال: فيه قول آخر على التعليل الذي نقول لا تفرق الصفقة لأن اللفظة جمعت حرامًا وحلالًا وليس بشيء. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا إذا قال المالك: بعت النصف الذي هو ملكي. فأما إذا أطلقا العقد فوجهان وهو كالوجهين في أحد الشريكين، إذا قال: بعت نصف هذا العبد ولم يقل: النصف الذي لي في أصح الوجهين وينصرف إلى حصته دون حصة صاحبه. والوجه الثاني: يقع شائعًا والحكم فيه بناء على تفريق الصفقة، كذلك ها هنا في أحد الوجهين يصح في الوجه الذي ليس بمغصوب وفي الوجه الآخر يقع شائعًا فلا يصح إلا في الربع وهو نصف هذا النصف ويبطل في الباقي إذا جوزنا تفريق الصفقة فإن لم نجوز التفريق بطل في الكل. فرع لو قال أحد الشريكين: بعت من فلان السلعة الفلانية من مال الشركة وقبضت ثمنها منه فتلف في يدي، وقال الشريك الآخر: لم تقبض الثمن من المشتري قبل قوله في القبض والتلف مع يمينه لأنه أمينه فيه وكذلك إذا قال الوكيل: بعت وقبضت الثمن وتلف في يدي، وقال الموكل: لم تقبضه فالقول قول الوكيل لأنه أقامه مقام نفسه فإقراره بقبضه من المشتري بمنزلة إقرار الموكل ويخالف [59 / ب] هذا إذا أقر على من وكله بالقبض لا يقبل لأنه لم يوكله فيه. وقيل: فيه وجه آخر لا يقبل قوله لأنه يتعلق بثالث غير الموكل وهذا ضعيف والأول أصح. فإن قيل: أليس لو أمره بقضاء دينه فقال: قضيته وأنكر الذي له الدين لم يقبل قوله عليه ولا على الموكل؟ قلنا: لأنه صار مفرطًا بترك الإشهاد بخلاف مسألتنا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن كان أمره بالبيع ¬

_ (¬1) أنظر الأم (2/ 231).

بثمن مؤجل لم يقبل قول الوكيل إذ لا يزعم الموكل أنك بالتسليم صرت ضامنًا. وإن كان أمره بالبيع بثمن حال فيه وجهان: أحدهما: يقبل لأنه لو لم يقبل لزمه الضمان حين سلم المبيع ولم يقبض الثمن. والثاني: يقبل في حقه حتى لا يضمن فأما في أن يبرأ المشتري بقوله عن حق الموكل فلا. وقال ابن الحداد رحمه الله: لو كان له على رجل دين فوكل رجلًا بقبضه فقال الوكيل: قبضت وتلف في يدي لا يقبل قوله ولا قول من عليه الدين إلا ببينة بخلاف مسألة الوكيل بالبيع والفرق ما أشار الخراسانيون. فرع آخر لو ادعى أحد الشريكين أنه دفع جميع مال الشركة إلى صاحبه وصاحبه ادعى مثل ذلك فكل واحد منهما يحلف بدعوى صاحبه ولا يرجع أحدهما على صاحبه بشيء وقد ذكرنا نظير هذه المسألة. فرع آخر قال ابن سريج رحمه الله: إذا استأجر رجلًا ليحتش له أو يصطاد له أو يحيي مواتًا صحت الإجارة إذا كانت الأجرة معلومة والمدة معلومة وما يحتش أو يصطاد للمستأجر. وكذلك لو استأجره ليستقي له ماء فاستقاه كان للمستأجر. قال أصحابنا: وكذلك إذا وكله في ذلك يقع الملك للموكل لأنه تناوله لغيره بإذنه فوجب أن يقع الملك لمن تناوله له كما لو تناوله لنفسه وقع الملك له. ولو كانت الإجارة فاسدة كان ما تناوله للمستأجر وكان له أجرة مثله. فرع آخر إذا باع أحد الشريكين وأقر أنه قبض الثمن وتلف في يده قد ذكرنا أنه يقبل قوله مع يمينه إذا أنكر الشريك الآخر قبضه، ثم إذا حلف ثم خرج المبيع مستحقًا فرجع المشتري على البائع قال ابن سريج: لا يرجع البائع [60 / أ] على شريكه لأنه يؤدي إلى أن يستحق الرجوع عليه بيمينه، وقال بعض أصحابنا: له الرجوع لأنه ثبت بيمينه قبضه الثمن وتلفه في يده والرجوع ثبت له بسبب أخر وهو أنه نائب عنه في البيع وهذا كما نقول: لا يثبت النسب بشهادة النساء، ولكن إذا شهدن بالولادة في الفراش ثبت النسب. فرع آخر لو خلط أحد الشريكين ماله بمال صاحبه ولكنهما يعرفان ما لكل واحد منهما بعلامة جعلها كل واحٍد منهما ليعرف بها دراهمه ولكن لا يعرفها غيرهما ولا يتمكنون من التمييز هل تصح الشركة اعتمادًا على غالب الحال أو لا تصح؟ نظرًا إلى حالهما يحتمل وجهين.

كتاب الوكالة

كتاب الوكالة تحريت فيها مذهب الشافعي رحمة الله عليه قال: قال الله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى} الآية [النساء: 16]. وهذا كما قال: الوكالة في اللغة التكفل بما يفوض إليه ويستناب فيه والوكيل الذي تكفل بما وكل به فيكفي موكله القيام. والوكيل في صفات الله تعالى الكفيل بأرزاق العباد. وقيل: الوكالة في اللغة اسم ينطلق على الحفظ والمراعاة لما على الوكيل من حفظ ما وكل فيه ومنه قوله تعالى: {أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} [النساء: 109] أي: حفيظًا والأصل في جوازها الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً} [الكهف: 19] وقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة: 60] فجوز العمل عليها وذلك بحكم النيابة عن المستحقين. وقوله تعالى {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي} الآية: [يوسف 93] وهذه وكالة واحتج المزني فيها بقوله تعالى: {وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ} الآية فجعل قَيّم اليتيم وكيلًا له يتصرف في مصالحه بوكالة شرعية إلى وقت معلوم فدل على جوازها. وقال أيضًا: إذا جاز أن ينصب نائبًا في مال ولده فلأن ينصب [60 / ب] البالغ العاقل نائبًا في خاص ماله أولى. وأما السنة فما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وَكَّلَل عمرو بن أمية الضمري ليقبل له نكاح أم حبيبة رضي الله عنها (¬1). ووكَّلَ أبا رافع في نكاح ميمونة رضي الله عنها (¬2). وَوَكَلَّ حكيم بن حزام وعروة البارقي في شراء شاة بدينار، وتمام الخبر:"أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى عروة البارقي رضي الله عنه دينارًا يشتري به أضحية أو شاة فاشترى شاتين وباع إحداهما بدينار فأتاه بشاة ودينار فدعا له النبي - صلى الله عليه وسلم - بالبركة في بيعهه" فكان لو اشترى ترابًا لربح فيه (¬3). وروي عن حكيم بن حزام رضي الله محنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث معه بدينار ليشتري له أضحية فاشتراها بدينار وباعها بدينارين فربع فاشترى أضحية بدينار وجاء بدينار إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فتصدق به النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعا له أن يبارك له في تجارته" (¬4). ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (13796) (¬2) أخرجه مالك في "الموطأ" (1/ 348)، وأحمد (6/ 392)، والترمذي (841). (¬3) أخرجه البخاري (3642)، وأبو داود (3385)، والترمذي (1258)، وابن ماجه (2402)، وأحمد (4/ 376). (¬4) أخرجه أبو داود (3386)

وروي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: أردت الخروج إلى خيبر فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في المسجد فسلمت عليه وقلت: أريد الخروج إلى خيبر فقال: "إذا أتيت وكيلي بخيبر فخذ منه خمسة عشر وسقًا فإن ابتغى منك آيًة فضع يدك على ترقوته" (¬1). وأما الإجماع فلا خلاف بين المسلمين فيه. وروي أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وكل عبد الله بن جعفر وقال: "إن للخصومات قحمًا تتقحمها الشياطين" (¬2). والحجم المهالك. وَوَكَّلَ عقيلًا عند عمر وعثمان رضي الله عنهم ثم بعد ذلك كان يوكل عبد الله بن جعفر رضي الله عنهما حين ضعف عقيل عن مباشرة الخصومة (¬3). ولأن الحاجة تدعو إلى الوكالة في البيع لأنه قد يكون له مال ولا يحسن التجارة فيه وقد يحسن ولا يتفرغ إليه لكثرة أشغاله فجاز أن يؤكل فيه غيره. مسألة (¬4): قال المزني رحمه الله: وللناس أن يوكلوا في أموالهم وطلب حقوقهم وخصوماتهم. الفصل وهذا كما قال: الوكالة تفتقر [6 / أ] إلى وكيل وموكِّل وموكَّل فيه فبدأ المزني بالموكل فيه والحقوق على ضربين ضرب: هو حق للآدميين وضرب: هو حق لله تعالى. فأما حق الآدميين فعلى ضربين: ضرب يتعلق بالمال كالبياعات والإيجارات والهبات والصدقات المحرمات والإقالات والفسوخ كالرد بالعيب ونسخ البيع في مدة الخيار وغير ذلك والوصايا وقضاء الديون فالتوكيل يصح في جميع ذلك. وضرب يتعلق بالبدن وهو على ثلاثة أضرب أحدها: يصح التوكيل فيه كالنكاح والطلاق والرجعة والعتاق ومن ذلك التوكيل في الخصومات فإن حضور مجلس الحكم يلزمه فإذا وكل فيه ناب عنه وكيله. والثاني: لا تصح فيه الوكالة قولًا واحدًا كالأيمان والإيلاء واللعان والظهار لأن اليمين لا تنعقد إلا بلفظه والإيلاء واللعان يمين والظهار في معنى اليمين لأنه يقتضي وجوب الكفارة. والثالث: هل يصح التوكيل؟ فيه قولان وهو استيفاء القصاص والحدود. وهل يصح التوكيل في اختيار ما زاد على الأربع إذا أسلم عنهن وأسلمن؟ قولان: أحدهما: لا يصح لأن ذلك يتعلق بالشهوة ولهذا لا يقوم الحاكم فيه إذا امتنع من الاختيار. والثاني: يصح لأنه استباحة فرج محظور فصح فيه التوكيل كالنكاح والرجعة والأول أصح. وأما حق الله تعالى فعلى ضربين فرب يتعلق بالمال كالزكاة والكفارات ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (3632)، والدارقطني (4/ 154)، والبيهقي في "الكبرى" (11432). (¬2) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (11438). (¬3) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (11437). (¬4) أنظر الأم (3/ 3).

والهدايا يجوز التوكيل فيها قولًا واحدًا. وضرب يتعلق بالبدن وهو على ضربين: ضرب لا يجوز فيه التوكيل قولًا واحدًا كالطهارة والصلاة والصيام ولكن في الطهارة يجوز الاستعانة بغيره. وفي ركعتي الطواف تدخل النيابة إذا حج عن غيره. وفي الصوم عن الميت قولان. وضرب يصح فيه التوكيل وهو الحج فإنه إذا عجز عن الحج بنفسه له أن يستنيب من يحج عنه، ومن أصحابنا من ذكر ما يجوز فيه النيابة وما لا يجوز فيه النيابة على ترتيب المختصر فقال: لا تصح النيابة في الطهارة لأن محلها [61 / ب] متعين. ويجوز أن يستنيب في صب الماء على أعضائه لأن إيصال الماء إلى أعضائه غير واجب عليه. وكذلك يستنيب في تطهير بدنه وثوبه من النجاسة. وفي الصلاة لا تجوز إلا في ركعتي الطواف على ما ذكرنا. وفي الزكاة يجوز أن يستنيب من يؤديها محنه ويجوز أن يستنيب في إخراجها من ماله ويستنيب الإمام في تسليمها إلى الفقراء وأهل السهمان والصوم ذكرنا. وفي الاعتكاف لا تدخل. والحج ذكرنا. وفي البيع يجوز التوكيل. وكذلك في جميع أحكامه وكذلك في الرهن وقبضه. ولا تتصور الوكالة في التفليس. وفي الحجر يجوز أن يوكل الحاكم من ينوب عنه فيه. وفي الصلح يصح التوكيل وكذلك في الحوالة والضمان والشركة والوكالة. وفي الإقرار هل يصح التوكيل؟ وجهان. وفي العارية يصح التوكيل لأنها هبة المنافع وفي الغصب لا تجوز الوكالةء ولو وكل كان الغاصب الوكيل دون الموكِّل. وفي الشفعة تصح النيابة في طلبها وكذلك في القراض والمساقاة والإجارة. وفي إحياء الموات هل يجوز التوكيل؟ قولان وكذلك في الاحتطاب والاحتشاش. وفي العطايا والهبات والوقف يصح التوكيل ولا يصح في الالتقاط ولو أمره به فالتقط كان أحق به من الأمر وفي الميراث لا تدخل النيابة إلا في قبض الموروث وقسمته. وفي الوصايا والودائع وقسم الفيء والغنيمة والصدقات تصح النيابة، وفي النكاح يصح التوكيل من الولي والخاطب وكذلك في تسمية الصداق وقبضه وكذلك في عقد الصلح والخلع ولا يصح في القسم لأنه يتعلق ببدن الزوج. ويصح التوكيل في الطلاق. وفي الرجعة هل تجوز النيابة؟ اختلاف بين أصحابنا والصحيح جوازه لأنها صلاح للنكاح فأشبه أصل النكاح. ولا تجوز في الإيلاء والظهار واللعان والعدة والرضاع. وتجوز في النفقات في إيصالها إلى مستحقها وتسلمها. ولا تصح في الجنايات. ويجوز التوكيل في إثبات القصاص والاستيفاء في الجملة. وكذلك في الديات وفي إيصالها إلى مستحقها. ولا يجوز في القسامة لأنها أيمان. ويجوز في الكفارات [62/ أ] كالزكوات. ويجوز أن يستنيب الإمام في قتال أهل البغي وكذلك في الحدود يستنيب في استيفائها ولا يجوز في إثباتها لأنه لا تسمع الدعوى فيها إلا في حد القذف وكذلك في

زنا المقذوف. ولا تصح النيابة في الأشربة، ويجب الحد على الشارب لأنه فعل المحرم. ولا تصح في الجهاد وكل من حضر الصف توجه الفرض عليه. وفي الجزية يجوز التوكيل فيها في عقد الذمة وتسليمها. وأما الاصطياد فقد ذكرنا. ويجوز التوكيل في الذبح. وكذلك في السبق والرمي لأنه كالإجارة أو الجعالة. ولا يجوز في الأيمان والنذور ويجوز في القضايا والأحكام والشهادة وتكون شهادة على شهادة وليس بتوكيل. ويجوز التوكيل في الدعاوى لأنها مطالبة بحق غيره. ويجوز في العتق والتدبير والكتابة. ولا تتصور في الاستيلاء لأنه يتعلق بالوطء والوطء يختص بالفاعل. وأما من يصح منه التوكيل ومن لا يصح، فكل من جاز له التصوف بنفسه جاز له أن يوكل فيه كالحُر الرشيد، والحُرة الرشيدة، والحُر الفاسق والحرة الفاسقة والمسلم والمشرك في ذلك سواء. وللمسلم أن يوكل كافرًا ذميًا كان أو حربيًا لأنه لما جاز أن يتبرع عنه جاز أن يتوكل عنه. ولو أسلم كان على وكالته وكذلك يجوز للكافر أن يوكل مسلمًا ذميا كان أو حربيًا. وعلى هذا يجوز للمكاتب أن يوكل بالتصرف فيما في يده من المال لأن له أن يتصرف فيه بنفسه بغير إذن مولاه. ويجوز للمحجور عليه بالفلس أن يوكل بالشراء في الذمة ولا يجوز له أن يوكل ببيع شيء في يده ولا بالشراء في الذمة أيضًا. ويجوز له التوكيل في الطلاق وكذلك العبد يجوز له أن يوكل في الطلاق من دون سيده. ولا يجوز أن يتوكل لغيره بغير إذن سيده فإن أذن له سيده جاز ذلك إلا في عقد النكاح لغيره فإن فيه وجهين، أحدهما: يجوز كما يجوز له أن يتزوج لنفسه بإذن سيده. والثاني: لا يجوز لأنه عقد مبني على اعتبار الكمال ولهذا لا يجوز للمرأة أن تتولاه وقيل: يجوز له أن يقبل لغيره بالوكالة كما يقبل لنفسه وفي الإيجاب [62/ ب] بالوكالة وجهان. والعبد المأذون لما صح تصرفه فيما في يده بإذن اليد فكذلك التوكيل فيه يحتاج إلى إذن السيد. والمرأة لا يجوز أن تكون وكيلة في النكاح ويجوز غيره من الحقوق. والفاسق يقبل النكاح لنفسه ولا يقبل لغيره في أحد الوجهين، والكافر لا يجوز أن يكون وكيلًا في تزويج المسلمة بلا خلاف. ولو جعل الرجل طلاق امرأته إليها جاز وهل يجوز أن تكون وكيلة في طلاق غيرها؟ وجهان: ولو وكل المرتد رجلا هل يجوز؟ فيه ثلاثة أقوال، أحدها: باطل، والثاني: جائز، والثالث: موقوف بناء على تصرفاته. ولو توكل المكاتب بغير إذن سيده قال ابن سريج: إن كان بجعل جاز وإلا فلا يجوز لأن فيه تعطيل منافعه على سيده بغير أمره. ويجوز أن يكون الوكيل مرتدًا لأن في تصرفه لنفسه أقاويل لا في تصرفه لغيره. فرع لو قال: وكلتك أو أقمتك مقامي أو جعلتك نائبا عني كان وكيلًا لأنه ذكر ما هو المقصود باللفظ الصريح فيها، وهكذا لو قال: استنبتك لأن الوكالة نيابة ... ولو قال:

سألتك أو عولت عليك لا يصح عند الوكالة به. وكذلك لو قال: اعتمدت عليك. مسألة (¬1) قال: ولا ضمان على الوكلاء ولا على الأوصياء. الفصل وهذا كما قال: جميع من يتلف مال الغير في يده ثلاثة أضرب: ضرب لا يلزمه الضمان إلا بالتعدي قولًا واحدًا وهو مثل الوكيل والوصي والمضارب والمودع والمرتهن والمستأجر. وضرب يلزمه الضمان قولًا واحدًا كالغاصب والمستعير والمساوم والقابض عن شراء فاسد فهؤلاء يلزمهم الضمان. وضرب في وجوب الضمان عليه قولان وهو الصانع كالخياط والصباغ والقصار والحائك ونحن نبين ذلك في موضعه إن شا، الله تعالى. مسألة (¬2): قال: والتوكيل من كل موكل رجل أو امرأة تخرج أو لا تخرج. الفصل وكما قال: التوكيل في الخصومة جائز سواء وصى به الخصم أو لم يوص حاضرًا كان أو غائبًا صحيحًا كان أو مريضًا رجلًا كان أو امرأًة برزة كانت أو نحير برزة إذا حضر خصم عند الحاكم واستعدى على خصم فبعث الحاكم إليه [63/ أ] كان بالخيار بين أن يحضر وبين أن يوكل من يجيب عنه وإذا حضر الوكيل ليس للمدعي أن يقول: لا أدعي إلا على خصمي وكذلك لو حضر وكيل المدعي ليس للمدعى عليه أن يقول: لا أسمع الدعوى إلا من خصمي بل لها ولكل واحٍد منهما أن يدعي بنفسه وأن يوكل من ينوب عنه، وبه قال ابن أبي ليلى وأبو يوسف. وقال أبو حنيفة ومحمد: لا يصح التوكيل إلا بعذر من سفر أو مرض. وفي المرأة المخدرة اختلفوا وقالوا: لا نص فيها. وقال مالك: إن كان الخصم يشنع ويتسفه جاز التوكيل وإلا فلا. وهذا غلط لأنه وكله في خالص حقه فلا يفتقر إلى رضا غيره كما لو وكله في استيفاء الديون. ويجوز عندنا إثبات التوكيل عند القافي وإن لم يكن الخصم حاضرًا خلافًا لأبي حنيفة ثم قال الشافعي (¬3): وليس الخصم من الوكالة بسبيل وقد يقضى للخصم على الموكل فيكون حقًا ثبت عليه بالتوكيل يعني قد يكون الموكل ألحن بحجته من الوكيل فإذا وكل من هو دونه ثبت عليه الحق بوكيله. ولو كان المخاطب عن نفسه صاحب الحق سلم من ثبوت الحق عليه فلا يكون رضا خصمه شرطًا في التوكيل، لأنه ربما ينفعه هذا كما يضره في حال. فإذا تقرر هذا فالكلام الآن في تثبيت الوكالة عند الحاكم، فإذا حضر عند الحاكم وابتدأ فوكل وكيلًا عنده فقال: قد وكلت هذا في كذا وكذا أو أقر عناه أنه قد وكله في كذا وكذا فقد ثبتت وكالته عند الحاكم فيما وكله فيه وللوكيل التصرف فيما وكله فيه. ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 3). (¬2) أنظر الأم (3/ 3). (¬3) أنظر الأم (3/ 207).

وقال أبو حنيفة: إذا سمع هذا صار عالماً به وشاهدًا ولا تثبت الوكالة به فإذا حضر الوكيل عند الحاكم وادعى لموكله دعوى على خصمه قال الحاكم للمدعى عليه: أجب عن الدعوى ويكون هذا القول منه حكمًا بعلمه فيبت حينئذ إذ يجوز للقاضي أن يحكم بما يعلمه في حال ولايته، وأن وكل وكيلًا لا بحضرة الخصم الحاكم في كذا وكذا وأشهد على نفسه بذلك شهودًا فحضر الوكيل وحده عند الحاكم، فادعى أنه وكيل فلان وفي كذا وكذا سمع [63/ ب] دعواه فإن كان معه بينة أقامها وسمعها الحاكم فإذا سأله الحكم بذلك حكم له وثبت وكالته عنده فمتى شاء طالب بالحق أو خاصم. فإذ حضر عنده وادعى أولًا فقال: أنا وكيل فلان وهو يدعي على هذا كذا وكذا لم يسمع دعواه عليه، وقال له: ثبتت وكالتك عندي فإذا ثبتها فادعى لموكلك فيه فيستأنف دعواه ويثبتها عنده. وقال أبو حنيفة: إذا حضر الوكيل وادعى أنه وكيل فلان وهذان شاهدان لم يسمع الحاكم هذه الدعوى ولا البينة ولكن إن ابتدأ فقال: ادعى لموكلي فلان على هذا ألفًا سمع الحاكم الدعوى منه وكلف الجواب عنها فإذا أجاب بلا أو نعم يقول الحاكم للوكيل: ثبت وكالتك فيقيم البينة بها ويحكم بذلك الخلاف في فصلين: أحدهما: أن عدنا يسمع الحاكم البينة على التوكيل من غير خصمه وعنده لا يسمع. والثاني: عندنا لا يسمع دعواه لموكله قبل ثبوت وكالته وعنده يسمع. وبني على أصله أن القضاء على الغائب لا يجوز وسماع البينة بالوكالة من غير خصم قضاء على الغائب، وأن الوكالة من الحافر لا يلزم الخصم فما لم يجب على دعوى الوكيل لم يكن رضًا بالوكالة. وهذا غلط لأنه إثبات وكالة فلا يفتقر إلى حضور الموكَّل عليه كما لو كان الموكل عليه جماعة فإذا حضر واحد منهم لا يفقر إلى حضور الباقين عندهم. والدليل على أنه لا يسمع الدعوى قبل ثبوت الوكالة أن الدعوى لا تسمع من خصم فإما أن يخاصم عن نفسه أو عن موكله وهذا لا يخاصم من نفسه ولا ثبت أنه وكيل لمن يدعي له فلا تسمع دعواه، كما لو ادعى لمن لم يدع وكالته. فرع لو حضر عند الحاكم وادعى أنه فلان بن فلان وأقام بذلك البينة سمعها وحكم له به وإن كان الحاكم لا يعرفه الموكل لأنه قد سماه ووقع في نفسه إلى حيث لا يشاركه فيه غيره. فرع آخر لو حضر عند الحاكم ومعه رجل فقال الحاكم: هذا وكيلي تثبت وكالته عنده وإن كان الحاكم لا يعرفهما ولا يعرف اسم واحد منهما لأن المشاهدة تغني. فإن خاصم عن موكله بحضرة موكله جاز، وإن غاب الموكل فحضر هذا [64 / أ] الوكيل فقال للحاكم: أنا وكيل الرجل الذي اعترف بوكالتي عندك وهو فلان ابن فلان لم يقبل

الحاكم ذلك إلا أن يقيم البينة أن الذي وكلني بخصوماته هو فلان ابن فلان أو يحضرا عنده فقال: هذا وكيلي فعرفهما الحاكم بأسمائهما أو أنسابهما فيصح أيضا. فرع آخر لو وكل وكيلين وأشهد على نفسه ثم غاب هو وأحد الوكيلين فحضر الحافر منهما عند الحاكم وادعى أنه وكيل فلان الغائب هو وفلان فشهد له به شاهدان سمعها الحاكم وحكم بها وثبتت وكالته ولم يكن له أن يتصرف وحده لأن الموكل ما رضي باجتهاده وحده فإن حضر الوكيل الآخر نُظِر، فإن ادعى الوكالة لم يفتقر إلى استئناف الشهادة بها لأن الحاكم سمعها وحكم بها فيدخل في الوكالة بغير استئنافها وإن حضر وأنكر الوكالة لم يكن وكيلًا لأنه كذب شهوده وإن حضر وقبلها وثبتت وكالته ثم عزل نفسه انعزل ولم يكن للآخر أن يتصرف وحده لما مضى، ولا للحاكم أن يضم غيره إليه لأن الموكل رشيد لا يولى عليه. وقال أبو حنيفة في الطلاق والعتاق: لأحدهما أن ينفرد في التصرف دون البيع الذي يفتقر إلى اجتهاده. ولو كانت المسألة بحالها فوكلهما معًا فكل واحد منهما له أن يتصرف منفرداً لأنه رضي باجتهاد كل واحد منهما. فإن حضر الغائب له أن يتصرف منفردًا أيضا إذا أقر بالوكالة. وإن كان هذا في الوصية فأوصى إليهما ومات الموصي وغاب أحد الوصيين فحضر الحاضر الحاكم وادعى الوصية إليه وأقام البينة ثبتت الوصاية ولم يكن له التصرف وحده. وإن حضر الغائب وادعاها دخل معه في الوصايا من غير استئناف بينة. وإن جحد زالت وصايته. وإن حضر وقبل ثم عزل نفسه زالت وصايته ولم يكن للباقي أن يتصرف وحده وللحاكم أن يضم إليه غيره لأنه ينوب عن الميت بخلاف الوكالة، وهذا لأنه لا نظر له فيمن لا يؤتى عليه. وإن أراد الحاكم أن يرد الأمور إلى هذا الواحد فيه وجهان، أحدهما: ليس له ذلك لأن الحاكم يملك تنفيذ الأحكام دون التغيير. والثاني: له ذلك كما يملك [64/ ب] أن يضم إليه غيره. وإن كان أوصى إلى كل واحد منهما لا يحتاج إلى ضم أخر إليه بحال. مسألة (¬1): قال: فإن وكله بخصومة فإن شاء قبل وإن شاء ترك. وهذا كما قال: إذا وكل رجلًا في خصومة رجل فإن شاء قبل الوكالة وإن شاء ترك لأنه عقد فلا يلزمه قبوله كسائر العقود. فإن قيل: فإن شاء أقام على الوكالة وإن شاء فسخ لأن الوكالة عقد جائز من الطرفين. ولو شرط للوكيل فيها عوضا اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: إذا دخله العوض فصار لازمًا وصار بمنزلة الإجارة. وقال في "الإفصاح": يكون جائزًا ولا يصير لازمًا وهذا أصح إلا أن يتعاقدا بلفظ الإجارة لأنه وإن دخله العوض فهو عقد وكالة بدليل أنه يجوز عقدها على منافع مجهولة لأنه إذا قال: وكلتك في خصومة فلان على كذا وكذا درهمًا يجوز والإجارة على منافع مجهولة ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 4).

لا تجوز. ولأن الإجارة لا تنعقد بلفظ الوكالة. وجملته أن العقود على أربعة أضرب، لازم من الطرفين كالبيع ونحوه، وجائز من الطرفين كالشركة والوكالة والمضاربة ونحوها. ومعناه أنه يجوز لكل واحٍد منهما فسخه من غير عذر. وجائز من أحد الطرفين وهو الرهن والكتابة جائز من قبل المرتهن والعبد لازم من جانب الراهن والسيد. ومختلف فيه وهو عقد السبق والرمي إذا تسابقا وأدخلا محللًا بينهما فيه قولان، أحدهما: إنه إجارة تلزم من الطرفين. والثاني: جعالة جائزة من الطرفين. والوكالة تجعل من هذه الجملة. فرع قبول الوكالة لا يكون على الفور بل إن شاء قبل في الحال كالبيع وإن شاء كالبيع. وإن شاء قبل على التراخي كالوصاية إليه وهذا لأنه مجرد الإذن والإذن قائم ما لم يرده ولا يختص بالحال ولأن إذن الغائب وتوكيله يصح، وإن كان المأذون له لا يعلم إلا بعد وصول الإذن إليه، ولأن الوكالة تصح في الموجود والمفقود فجاز تأخر القبول فيها كالوصية، وقال القافي أبو حامد: قبولها على الفور كسائر العقود وهذا غلط لما ذكرنا. فرع آخر لو تعين زمان [165/ أ] العمل الذي وكل فيه وخيف فواته كان قبول الوكالة فيه حينئذ على الفور. وكذلك لو عرضها الحاكم عليه عنا ثبوتها عنده صار قبولها على الفور أيضًا ذكره في "الحاوي" (¬1). فرع آخر لو وكله بالمكاتبة جاز إذا غلب على ظنه صحة الكتابة ويقبل على التراخي كما في المشافهة. فرع آخر إذا أراد الوكيل أن يقبل الوكالة يجوز أن يقبلها قولًا وفعلًا فالقول أن يقول: قبلت الوكالة والفعل أن يتصرف فيها. وذكر القفال: أن الوكالة لا تحتاج إلى القبول لأن الاشتغال بالتصرف قبول منه لها والأولى ما ذكرنا من العبارة، وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يحتاج إلى أن يقول: قبلت؟ وجهان مشهوران، والأصح أنه يصير وكيلًا إذا وطن نفسه على امتثال الأمر من غير أن يقول: قبلت وعلى هذا عادات السلف والخلف، وهذا لأنه أمر فتصرفه امتثال له كالإيداع والإعارة. فرع آخر لا فرق في عزل الوكيل نفسه بين أن يكون الموكل حاضرًا أو غائبًا علم به أو لم ¬

_ (¬1) أنظر الحاوي للماوردي (6/ 511).

يعلم. وقال أبو حنيفة: لا يصح منه العزل إذا شرع في الخصومة إلا في وجه الموكل. وقال مالك: إن كان في عزله ضرر لا يجوز إلا بحضور الموكل وإن لم يكن ضرر يجوز. وهذا غلط لأنه رفع عقد فلا يفتقر إلى حضور من لا يفتقر إلى رضاه كالطلاق. فرع آخر لو كان الفاسخ الموكل فقال: فسخت أو عزلت وكيلي نُظر، فإن كان الوكيل حاضرًا انفسخت وإن كان غائبًا فعلم به انفسخت. وهل يفسخ قبل العلم بالفسخ؟ قولان، أحدهما: ينعزل وهو الأصح، والثاني: لا ينعزل وبه قال أبو حنيفة وقال: إن بلغه الخبر من عدل رجلًا كان أو امرأة انعزل وإن بلغه من فاسق لم ينعزل وإن بلغه من فاسقين انعزل، وعن أبي يوسف ومحمد كيف بلغه الخبر انفسخ حتى قال: لو بلغه ذلك من صبي انفسخ، وعندنا لا اعتبار بقول الصبي والفاسق أصلًا على القول وهذا غلط لأنه رفع عقد لا يفتقر إلى رضاه فلا يفتقر إلى علمه كالطلاق. ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان بناء على وكيل القصاص إذا قتل بعد عفو الموكل قبل العلم بالعفو هل تلزمه الدية؟ قولان. فرع آخر [65/ ب] إذا نسخ الله تعالى حكمًا وعلم بها رسوله هل يكون نسخًا في حق من لم يعلم من أمته؟ فيه طريقان: أحدهما: فيه وجهان كالوكالة سواء. والثاني: لا يكون نسخًا في حقهم وبه قال أبو حنيفة، لأن أمر الشريعة يتضمن تركه المعصية ولا يجوز أن يكون عاصيًا مع جهله به، وفي الوكالة يتضمن إبطال التصرف فلا يمنعه عدم العلم كما لو مات الموكل ولم يعلم بموته ينعزل الوكيل بلا خلاف. فرع آخر لو وكل بالخصومة بمسألة الخصم أو بالطلاق بمسألة المرأة أو بالخلع بمسألتها عزله وقال أبو حنيفة: تلزم الوكالة وليس له عزله أصلًا وهذا قياسًا على سائر الوكالات. فرع آخر إذا قلنا: ينعزل قبل العلم لو باع فلم يصح البيع فسلم إلى المشتري هل يصير ضامنًا للسلعة؟ قال القاضي الطبري: رأيت المحصلين من أصحابنا لم يزيدوا على بطلان التصرف ولم يتعرضوا لذكر الضمان. ورأيت بعض أصحابنا في الكلام مع المخالف سلم أنه إذا سلمها إلى المشتري ضمن، وحجته أن الشافعي رحمة الله عليه قال في الوكيل: إذا قتل بعد العفو قبل العلم بالعزل تلزمه الدية والكفارة فلما صح العفو جعل النفس مضمونة عليه كذلك ها هنا. فإن قيل: فإذا تلفت سلعة في يده بعد عزله وجب أن تكون مضمونة عليه قيل: أمانته لا تبطل إلا بتعد من جهته، فأما فسخ الوكالة وعزله لا يبطل أمانته وإنما يبطل به تصرفه. ويمكن أن يقال: إن تسليم السلعة من حكم

التوكيل فوجب أن لا يجوز ويتغير حكمه بفسخ الوكالة كالبيع ويفارق إمساك السلعة وتلفها في يده، فإن ذلك من حكم الأمانة فإن الوكيل قبضه قبض المودع فلا يلحقه الفسخ وإنما الفسخ يلحق عقد الوكالة التي انعقدت بالقول. فرع آخر فسخ الوكالة أن يقول: فسخت الوكالة، أو نقضتها، أو عزلتك، أو صرفتك عنها، أو أزلتك عنها، ونحو ذلك من الألفاظ التي تقتضي ذلك وتصرح بمعناه. وأما ما تنفسخ به الوكالة حكمًا فالموت والجنون والإغماء، أمّا الموت فيبطل أملاكه ويمنع وقوع التصرف له. وأما الجنون والإغماء [66 / أ] فيثبت عليه الولاية ويبطل تصرفه بنفسه فيبطل إذنه. ولا فرق بين أن يوجد ذلك فيهما أو في أحدهما. فرع آخر لو جن الموكل ولكنه عرف أنه يفيق سريعًا قبل أن يولى عليه ظاهر المذهب بطلان. وقال ابن سريج: لا تبطل خامة إذا كان مألوفًا لأن قصور مدته وسرعة إفاقته يجعله عفوًا. فرع آخر قال القاضي أبو علي الزجاجي: إن كان الإغماء مما يطول بطلت الوكالة. وإن كان مما يغرب عقله ويفيق عن قريب لا يبطلها. وإن طرقه ذلك أول مرة ثم أفاق بعد مدة يسيرة فيه قولان وأراد وجهان. ولو ناما أو أحدهما أو مرضا أو أحدهما فالوكالة بحالها طال أو قصر. فرع آخر لو حجر على الموكل لسفه بطلت وكالته لأنه انقطع تصرفه لنقص فيه كالمجنون، ولو كانت الوكالة بالطلاق أو الخلع لا تبطل الوكالة بالحجر عليه لأنه يملك التوكيل فيها بعد الحجر. ولو جن بعد الوكالة بالخلع أو الطلاق تزول الوكالة بالجنون لأنه لا يملك التوكيل فيه بعد الجنون. فرع آخر لو حجر عليه لفلس فإن كان وكل في بيع شيء بعينه انفسخ، وإن كان وكله في الخصومة أو في شراء شيء في الذمة لم ينفسخ لما ذكرنا. فرع آخر لو فسقا أو أحدهما نظر فإن كانت الوكالة فيما لا يفتقر إلى العدالة كالخصومات والمعاوضات فالوكالة بحالها. وإن كانت فيما يفتقر إلى العدالة كالنكاح فإن كان التوكيل في إيجاب النكاح زالت الوكالة على المذهب الصحيح. وإن كانت في قبول النكاح فإن فسق الموكل فهي بحالها. وإن فسق الوكيل زالت الوكالة لأن الفاسق يقبل النكاح لنفسه ولا يقبل لغيره في ظاهر المذهب، وهذا أصل متى افتقر التصرف إلى

عدالة زال بزوالها لتصرف الولي والحاكم وأمينه والولي في النكاح ومتى افتقر التصرف إلى العدالة لم يزل بزوالها. فرع آخر لو وكله في بيع عبد ثم باعه أو أعتقه بطلت الوكالة، وكذلك لو وكله في نقل زوجته ثم طلقها بطلت الوكالة لتعذر [66 / ب] التصرف. فرع آخر لو وكل زوجته أو وكلت زوجها ثم طلقها لم تنفخ الوكالة لأن الطلاق قطع عقد فلا ينقطع غيره بانقطاعه، كما لو ابتاع منها شيئًا ثم طلقها. ولو كانت الوكالة في طلاقها فطلقها زالت الوكالة ولو كانت الوكالة في التزوج بها فتزوج الموكل زالت الوكالة حتى إن طلق ليس له أن يتزوج بوكالته. فرع آخر لو وكل زوجة الغير لا تجوز الوكالة إلا بإذن زوجها لأن الزوج مالك للاستمتاع بها وله منعها من الخروج لتصرفها. ولو وكلها بإذن الزوج جاز فيما سوى النكاح وفي الطلاق وجهان على ما ذكرنا. ولو توكلت ثم طلقها زوجها كانت الوكالة بحالها. فرع آخر لو وكل عبده ببيع شيء أو شراءه ثم أعتقه فيه وجهان: أحدهما: تبطل الوكالة وهو اختيار ابن سريج رحمه الله لأنها من جهة السيد أمر بدليل أنه يلزمه امتثاله فبطل بالعتق كسائر أوامره. والثاني: لا تبطل كما لو وكل زوجته ثم طلقها. ولو كان هذا العبد وكيلًا لغيره فأعتقه لا تبطل الوكالة بلا إشكال، وقال ابن سريج: ها هنا أيضا وجهان، والأشبه أنها لا تبطل لأن عقد الوكالة حصل من جهة غير اليد وملك الموكل لم يزل وإنما زال ملك غيره. فرع آخر لو قال لعبده: إذ شئت توكل لفلان فقبل الوكالة ثم أعتقه لا تبطل الوكالة وجهًا واحدًا لأن قبولها كان باختيار العبد ولم يكن بأمر من جهة السيد. وكذلك لو قال له: بع هذا الثوب إذ شئت ثم أعته لا يبطل الإذن ذكره ابن سريج وقال: مسألة الوجهين إذا قال: توكل لفلان إن وكلتك ولم يقل: إن شئت. فرع آخر قال ابن سريج: وكذلك لو باعه فالحكم فيه كالحكم في العتق. وقال في "الحاوي" (¬1): بطلت الوكالة وجهًا واحدًا لأن المشتري ملك مافعه. قال: فإن جدد له المشتري إذنًا بالوكالة المتقدمة هل يحتاج إلى تجديد إذن من الموكل؟ وجهان: ¬

_ (¬1) أنظر الحاوي للماوردي (6/ 510).

أحدهما: لا يحتاج وبه قال ابن سريج لأن المانع من الوكالة حق المشتري وارتفع بحدوث إذنه وحده. والثاني: [67 / أ] وهو الأصح يحتاج إلى إذنه لأن بطلانها رفع سببها فلا تصح إلا بالتجديد. فرع آخر لو وكل صبيًا لم تصح وكالته سواء كان يعقل أو لا يعقل، وكذلك لو وكل الصبي رجلًا لم يجز. وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك بإذن الولي. فرع آخر هل يجوز أن يكون وكيلًا في طلاق مسلمة؟ وجهان: أحدهما: يجوز لأنه يملك الطلاق. والثاني: لا يجوز لأنه لا يملك طلاق مسلمة. فرع آخر لو وكل رجلًا بالخصومة ثم عزله ولم يعلم به الوكيل فجاء رجل وادعى على موكله دينًا وأقام البينة عليه وحكم الحاكم به نفذ حكم الحاكم سواء قلنا: انعزل الوكيل أو لم ينعزل لأن صحة الحكم لا تفتقر إلى حضور الخصم ويجوز القضاء على الغائب. فرع آخر لو قام الوكيل رجلًا وادعى عليه وأقام شاهدين فحكم الحاكم وكان قد عزله قبل التثبيت قال القاضي الطبري: الذي عندي أنه لا يصح الحكم إذا قلنا: صح العزل لأن الدعوى إذا لم تصح لم يمح الحكم للمدعي. فرع آخر لو قال لوكيله: كلما عزلتك فأنت وكيلي من الرأس لا يصير بهذا وكيلا بعدما يعزله خلافًا لأبي حنيفة لأنه تعليق بالصفة. وقيل: لو تصرف ها هنا بعد العزل هل يجوز؟ وجهان. فرع آخر لو ادعى رجل الوكالة في المخاصمة وصدقه الخصم فمذهب الشافعي أنه لا يقبل الحاكم ذلك منهما ولا يسمع تخاصمهما لما فيه من إثبات الحجة على صاحبهما. وقال ابن سريج: يقبل الحاكم ذلك منهما ويسمع تخاصمهما لأن إقرار الوكيل على الموكل غير مقبول فلم يكن فيه إضرار به وإنما هو إقامة بينة على المطلوب يجوز مع حضور الموكل وغيبته. فرع آخر لو وكله في مخاصمة كل خصم له جاز، وفيه وجه أخر لا يجوز لأنه قد تقل الخصومات ويكثر فيكثر الضرر. ولو وكله في مخاصمة كل خصم يحدث له هل تصح الوكالة؟ وجهان: أحدهما: وهو قول البصريين لا يصح لأنه يتضمنها الجهالة بالموكل

فيه وإنها على غير شيء في الحال. والثاني: وهو قول البغداديين وأهل [67 / ب] العراق تصح لأن الوكالة من العقود الجائزة فلا تبطل بالجهالة وكالوصية تجوز بالحادث المجهول. فرع آخر لو وكل وكيلين على الاجتماع والانفراد ثم عزل أحدهما ولم يعين فيه وجهان: أحدهما: أن كل واحٍد منهما على جواز تصرفه ما لم يعلم أنه المعزول بعينه. والثاني: أن كل واحٍد منهما معزول من التصرف خوفًا من أن يكون هو المعزول بعينه. فرع آخر لا وكل عشرة نفٍر ثم قال: عزلت أكثركم فأقله ستة، ولو وقع الوكالة مجتمعًا ثم عين الستة هل لمن بقي التصرف في ذلك الشيء؟ وجهان. فرع آخر لو قال: وكلتك في استيفاء مالي على زيد يجوز أن يستوفيه من وارثه إذا مات، ولو قال: وكلتك في استيفاء مالي من زيد لم يجز أن يستوفيه من وارثه، والفرق أنه إذا قال: ما على زيد يتوجه إلى المال، وإذا قال: من زيد يتوجه إلى زيد أن يكون هو المستوفى منه. مسألة (¬1): قال: فإن ثبت فأقر على موكله لم يلزمه إقراره. وهذا كما قال: إذا وكله بالخصومة لم يخل من ثلاثة أحوال إما أن يوكله بها وينهاه عن غيرها، أو يوكله بها وبغيرها. أو يوكله بها مطلقًا. فإن وكله بها ونهاه عن غيرها مثل أن يقول: وكلتك بالخصومة وتثبيت الحق وقبضه ونهيتك عما سواه لم يكن له التصرف إلا فيما نص عليه بلا خلاف. وإن وكله بها وبغيرها فقال: وكلتك بالخصومة وتثبيت الحق وقبضه والصلح والإبراء كان له التصرف في كل ما وكله فيه. ولو وكله بالإقرار اختلف أصحابنا فيه. قال أبو إسحاق: لا يصح التوكيل به لأن إقرار الوكيل إخبار عن الغير بما يجب عليه وذلك لا يجوز في الشريعة إلا على طريق الشهادة، ولأن قوله: "أقر عني" معناه: إذا أقررت عني فقد لزمني المال فلا يجوز الإقرار معلقًا بصفة. وقال غيره من أصحابنا: يصح التوكيل لأن الشافعي قال: لم يلزمه إقراره، لأنه لم يوكله بالإقرار ولا بالصلح ولا بالإبراء فدل على أنه إذا وكله به يصح وتقديره: أخبر عني بأن له عليّ كذا، فيجوز ذلك وهذا إذا قال: أقر عني فأما إذا قال: أقر بكذا فليس بشيء لأنه [68/ أ] أمره بأن يقر على نفسه فإذا قلنا: يجوز اختلفوا فمنهم من قال: إلا عيّن له مقداره وصفته صح التوكيل به، وإن أطلق لا يصح لأنه لا يدري بأي مقدار يقر عليه ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 4).

وهو اختيار الإصطخري وابن أبي هريرة، وعلى هذا لو قال الموكل: كل ما أقر به الوكيل علي فهو صادق فيه لم يلزمه ما أقر به الوكيل للجهالة. ومن أصحابنا من قال: يصح مطلقًا فما صح عنده أنه يجب عليه فإنه يقر به ويحكم عليه بذلك، ووجهته أنه لما صح أن يقر بمعلوم ومجهول ويرجع في تفسيره إليه كذلك يصح أن يوكل فيهما. وقال صاحب "الإفصاح": إذا قال: أقر عني لفلان بمائة دينار يحتمل أن يقال: إن ذلك إقرار منه ويحتمل أن لا يكون إقرارًا منه، لأنه ليس بصريح ولأن الإقرار أن يخبر عن نفسه، فأما إذا أمر غيره بالإخبار عنه فإنه لا يكون إقرارًا. فأما إذا قال: أقر عني لفلان ولم يبين ما يقر به لا يكون إقرارًا منه، ومن أصحابنا من قال: يحتمل أن يكون ذلك إقرارًا منه ويرجع في تفسيره إليه فحصل في هذه المسألة خمسة طرق: أحدها: أن التوكيل بالإقرار لا يصح ولا يكون إقرارًا من جهته وهو اختيار أبي إسحاق وابن سريج. والثاني لا يصح التوكيل به ولكن يكون إقرارًا من جهته إن كان وكله بالإقرار بمال معلوم، وإن وكله بالإقرار بالمجهول لم يكن إقرارًا منه وهو اختيار صاحب "الإفصاح". والثالث: يستوي المعلوم والمجهول ويكون إقرارًا من جهته ويرجع في المجهول إلى تفسيره. والرابع: يصح التوكيل بالمعلوم وإذا أقر عليه الوكيل لزمه ولا يصح التوكيل بالمجهول. والخامس: يجوز التوكيل بالمعلوم والمجهول، وأما إذا قال: أقر عني لفلان بألف درهم علي أو قال: فإنه واجب علي فهذا إقرار منه لا يختلف أصحابنا فيه. وإن وكله مطلقًا بالخصومة لا يملك الإقرار عنه ولا الإبراء ولا الصلح ولا قبض الحق، لأنه ما وكله فيه والخصومة ضد هذه الأشياء، وبه قال مالك وابن أبي ليلى وزفر. وقال أبو حنيفة ومحمد: يقبل إقراره على موكله في مجلس الحكم دون غيره. وعن أبي يوسف [68 / ب] روايتان: إحداهما: مثل قولنا. والثاني: يملكه في مجلس الحكم وغيره. فرع لو وكله في الإبراء فإن لم يذكر المبرأ ولا القدر لا يصح التوكيل. وإن ذكر محت الوكالة ولا يبرأ ما لم يبرئه الوكيل وجهًا واحدًا وهذا لأن الإبراء إن كان هبة فالتوكيل في الهبة يجوز كالطلاق وفيه وجه آخر يجوز مطلقا وإن لم يذكر القدر. فرع آخر لو وكله في إبراء نفسه من حق موكله لم يجز لأنه يصير نائبًا لنفسه. وفيه وجه آخر يجوز كما لو قال لها: طلقي نفسك وهذا هو المذهب لأنه إسقاط حق وليس بعقد وكالة ولهذا يحتاج أن يبرئ نفسه في الحال، وإن أخره لم يصح ولا فرق بين أن يقول: أمرتك أن تبرئ نفسك من الدين الذي عليه، أو وكلتك أن تبرئ غرمائي وتبرئ

نفسك إن شئت، أو قال لصاحب الدين: وكلني فيه فقال: ذلك إليك. فرع آخر لو وكله أن يصالح عن نفسه فيه وجهان كما قلنا في التوكيل لإبراء نفسه وهذا إذا عين له ما يصالح عليه. فإن أطلق لا يجوز له أن يصالح إلا على شيء يبلغ قيمته قدر الدين، ولو قال: صالح على ما شئت يجوز له أن يصالح على كل وجه. فرع آخر لو وكل المدعى عليه بصلح اجتهد الوكيل في تقليل المصالح عليه والاستنقاص ما أمكن ثم على أي قدر وقع الصلح جاز. فرع آخر لو وكله أن يهب لزيد ما رأى من أمواله لم يجز للجهل به، ولو وكله في هبة شيء معلوم بعينه يجوز ولو وكله في هبة ذلك لنفسه كان على الوجهين. فرع آخر إذا وكله في قبض حقه من زيد فأنكر زيد الحق هل للوكيل مخاصمته وإثبات الحق؟ وجهان: أحدهما: ليس له وبه قال أبو يوسف ومحمد ورواه الحسن بن زياد عن أبي حنيفة كما لو وكله في تثبيت الحق ليس له قبضه لأنه لم يوكله بذلك، والثاني: له ذلك وبه قال أبو حنيفة لأن تحت التوكيل بالقبض توكيلًا بالتوكل إليه وعلى هذا قال ابن سريج: لو وكله في قمة دار فتوزع في أصلها له مخاصمته. فرع آخر لو أقر الوكيل على الموكل لا يقبل ويصير به خارجًا عن الوكالة. ولو أبرأ لا يصح الإبراء ولا يصير به خارجًا عن الوكالة والفرق أن [69 / أ] في ضمن إقراره أن موكله ظالم في مطالبته بخلاف الإبراء. فرع آخر لو قال الموكل: كل ما أقر به الوكيل علي فهو صادق فيه لم يلزمه ما أقر به الوكيل للجهالة. فرع آخر لو عدل الوكيل شهود خصم الموكل لا يقبل تعديله ووافقنا فيه أبو حنيفة وقال أصحابنا: وعندنا تعديل أحد الخصمين بينة خصمه غير مقبول أيضًا إلا أن يكون هو من أهل التزكية وتعديل الشهود فيصح إلا أن يقول: هما عدلان عليّ فيما شهدا فحينئذ يكون هذا إقرارًا.

مسألة (¬1):قال: فإن وكله بطلب حد له. الفصل وهذا كما قال: الوكالة جائزة في تثبيت القصاص وحد القذف في قول الكافة. وحكي عن أبي يوسف أنه قال: لا يجوز ذلك وهذا غلط لأنها وكالة في تثبيت حق فجاز كالتوكيل في إثبات سائر الحقوق. وأما في حدود الله تعالى لا تتصور الدعوى والطلب والتوكيل. وأما الوكالة في استيفا، القصاص وحد القذف يجوز بحضوة الموكل قولآ واحدآ وذلك نيابة كنيابة الجلاد والحداد. وهل يجوز بغيبة الموكل؟ قال الشافعي (¬2): ها هنا لم أحد له ولم أقر حتى يحضر المحدود له والمقتص له. وقال في باب القصاص بالسيف: ولو أذن له فجيء به ثم عفا الولي عنه فقتله الوكيل فيه قولان: أحدهما: لا شيء عليه والثاني: لا قود عليه ولكن عليه الدية والكفارة. واختلف أصحابنا فيه على ثلاثة طرق: قال أبو إسحاق: يجوز أن يوكل في استيفائه بحضرته وغيبته قولًا واحدًا وقصد هاهنا ضربًا من الاحتياط والاستحباب لا أنه منع التوكيل في غيبته وهو المنصوص في باب الشهادة على الجناية في آخر الديات قال: وتجوز الوكالة في تثبيت البينة على القتل عمدًا أو خطأ، فإن كان القود لم يدفع إليه حتى يحضر الولي أو من يوكله بقتله فيكون له قتله فأخبر أن حضور وكيله بمنزلة حضوره وهذه الطريقة اختيار القافي أبي حامد والقاضي الطبري وبه قال مالك رحمهم الله. ووجهه أن كل ما جاز توكيله في استيفائه بحضرة الموكل جاز في غيبته كسائر الحقوق ومن أصحابنا من قال: [69 / ب] قولًا واحدًا لا يجوز ذلك لأنه ربما يعفو أو يكذب البينة فيحرم قتله، وإذا كان غائبًا لا يمكنه استدراكه ومن قال بهذا تأول ما قاله في باب القصاص على أنه تنحى به لئلا يترشش عليه الدم ولم يغب عنه، وذكر القافي الطبري في "المنهاج" أن هذا هو المذهب الصحيح وبه قال أبو حنيفة. وقوله: قد يقر له معناه قد يقر بمثل ما يقوله المشهود عليه أنه غير قاذف أو غير قاتل وعلى هذا لو كان قد وكله في ابتداء الأمر بالاستيفاء بعد التثبيت فليس للوكيل الاستيفاء بذلك التوكيل المتقدم حتى يجدد له إذنًا، والمسألة محتملة. وبه قال أبو حنيفة وهذا لا يصح، لأن الأصل عدم العفو وكان خلفاء الرسول - صلى الله عليه وسلم - ورضي الله عنهم يحكمون في البلاد مع جواز النسخ لأن الأصل عدمه ويجوز إمضاء الحكم في القصاص مع غيبة الشهود والحاكم، ويجوز رجوع الشهود وتغير اجتهاد الحاكم. ومنهم من قال: فيه قولان وهذا اختيار صاحب "الإفصاح". فإذا قلنا: لا يجوز فوكل واقتص الوكيل بغيبته وقع القصاص موقعه ولكن لم يستوفه بوكالة صحيحة. وإذا قلنا: يجوز ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 4). (¬2) أنظر الأم (3/ 207).

واقتص بغيبته وكان بعد العفو قبل العلم قد ذكرنا قولين فإذا قلنا: يلزم الدية ففي صفة الدية وجهان. قال أبو إسحاق: دية عمد محض في ماله حالة، وقال ابن أبي هريرة: دية عمد الخطأ مؤجلة على العاقلة. وإذا قلنا: لا دية ففي وجوب الكفارة وجهان، وقال ابن أبي ليلى رحمه الله: إذا وكله في إثبات القصاص له استيفاؤه ما لم ينه عنه وهذا غلط لأن الإثبات غير الاستيفاء وينفرد عنه فلا يجوز أن يكون التوكيل بأحدهما توكيلاً بالآخر. وأما حدود الله تعالى إذا ثبتت فللإمام أن يستوفيها بنفسه وله أن يوكل في استيفائها ويصح التوكيل فيه بحضرة الإمام وغيبته قولًا واحدًا لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خبر المتساوقين: "واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" (¬1). وأمر برجم ماعز بن مالك بغير حضرته، ولأنه لا معنى لاشتراط حضور الإمام لأن الحق ليس له ولا يجوز عفوه عنه ولا يسقط بقوله. [70/ أ]. مسألة (¬2): قال: وليس للوكيل أن يوكل إلا أن يجعل ذلك إليه الموكل. وهذا كما قال: إذا وكل رجل رجلًا في تصرف لا يخلو من أحد أمرين إما أن يطلق التوكيل، أو يفوض إليه أن يوكل غيره فإن قال: وكلتك فيه ولم يرد عليه نظر فإن كان مما يمكن أن يتولاه بنفسه لم يكن له أن يوكل فيه غيره لأنه رضي بأمانته فلم يكن له تفويضه إلى غيره كما لو أودعه وديعة كان عليه حفظه وليس أن يودعها عنا غيره. وقال ابن أبي ليلى: له أن يوكل كما للومي أن يوكل وهذا غلط لما ذكرنا، والفرق بينه وبين الوصي أنه يتصوف بنوع ولاية لأن له التصرف فيما لم ينص له على التصرف فيه بخلاف الوكيل. ولأن الوصي لا يملك أن يوصي إلى غيره فكذلك الوكيل لا يوكل. وإن كان مما لا يمكن أن يتولاه بنفسه ولا بد من معونة غيره جاز له التوكيل فيه وجهًا واحدًا، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان: أحدهما: يجوز كعامل القراض. والثاني: وهو الأصح لا يجوز لأنه غير مأذون فيه. وهذا غلط لأنه يقتضيه العرف والعادة لعلمه أنه لا يمكنه القيام به. ثم هل له أن يوكل في جميع ما فوض إليه أو يوكل في القدر الذي لا يمكنه القيام فيه بنفسه؟ وجهان: أحدهما: يجوز في جميعه لأن الوكالة اقتضت جواز التوكيل فيه فجاز في جميعه كما لو أذن له في التوكيل لفظًا. والثاني: لا يجوز إلا في قدر ما لا يمكنه التصرف فيه بنفسه لأنه يجوز التوكيل للحاجة فاختص بما دعت إليه الحاجة، بخلاف ما إذا صرح بإطلاق التوكيل. وهذا إذا كان ممن لا يتصاون عن الأسواق ولا يتولى التصرف بنفسه يجوز له التوكيل فيه بكل حال، لأن إذنه له في التصرف مع علمه بحاله إذن له في التوكيل. وهكذا إذا كان العمل مما لا يباشره الوكيل في العادة. ذكره القاضي الطبري ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) أنظر الأم (3/ 5).

وغيره. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجه آخر أنه لا فرق وإن كان قد جعل إليه أن يوكل غيره فيه كان له التوكيل في جميع الأحوال إلا أنه إن قال له: وكل عني أو وكل رجلًا على أن يكون وكيلي فإذا وكله يكون [70 / ب] وكيلًا للموكل دون الوكيل فينعزل بموت الموكل ولا ينعزل بموت الوكيل. ولو قال: جعلت إليك أن توكل وأطلق فإذا وكل يكون وكيلًا للوكيل دون الموكل فينعزل بموت الوكيل وموت الموكل جميعًا. وكذلك إذا صرح وقال: وكل عن نفسك. فإن قيل: أليس لو أوصي إلى رجل وأذن له أن يوصي عن نفسه لا يجوز ذلك فما الفرق؟ قلنا: إذا أذن للوصي أن يوصي عن الموصي جاز، وإن أذن له أن يوصي عن نفسه فيه قولان والأصح أنه يجوز، وإن سلمنا فالفرق أن الوصاية نوع ولاية فلا تثبت من جهة من يتصرف بالتولية والوكالة تصرف بالإذن فجازت من جهة من يتصرف بالإذن. وقال في "الحاوي" (¬1): إذا أطلق وقال: أذنت لك بالتوكيل فإن عين له من يوكله كان الثاني المعين وكيلًا للموكل دون الوكيل الأول لأن في التعيين تنبيهًا عليه، وان لم يعينه فيه وجهان: أحدهما: يكون وكيلًا للموكل كالوكيل الأول لا ينعزل بعزل الأول. والثاني: يكون وكيلًا للوكيل ينعزل بعزل الأول وكذلك ينعزل بأن يعزله الوكيل الأول. وقال بعض أصحابنا بخراسان: وكيل الوكيل هل ينعزل بموت الواسطة؟ وجهان: أحدهما: وهو الأصح وظاهر مذهب الشافعي أنه لا ينعزل. والثاني: وبه قال المزني إنه ينعزل لأنه استفاد الإذن من جهته وكذلك هل ينعزل بجنونه وإغمائه؟ وجهان وهذا غريب. وقال أيضًا: هل ينعزل الوكيل الثاني بعزله الوكيل الأول؟ وجهان: أحدهما: لا ينعزل لأنه لم يوكله بالعزل ويخالف هذا وكيل العامل في القراض ينعزل بعزله لأنه لا يحتاج العامل في هذا التوكيل إلى إذن رب المال بخلاف الوكيل ها هنا فإنه يحتاج إلى إذن الموكل في التوكيل. فرع لو وكله وكالة جامعة في خصومة وقال: قد أذنت لك في جميع ما منعت فيها ففي توكيل الوكيل غير. قولان: أحدهما: يجوز لدخوله في جملة ما وكله. والثاني: لا يجوز لأن اسم الوكالة بالخصومة وإن كانت جامعة يقتضي توكيل الوكيل في ذلك بنفسه دون غيره وقيل: فيه وجهان [71 / أ] ذكر. ابن سريج رحمه الله وهذا أصح. فرع آخر إذا قلنا: يجوز له أن يوكل فإن قال: وكلتك عن الموكل أو أطلق كان وكيلًا للموكل. وإن قال: وكلتك عن نفسي كان وكيلًا له والحكم على ما ذكرنا. ¬

_ (¬1) أنظر الحاوي للماوردي (6/ 419).

فرع آخر لو قال للوكيل بالبيع: جعلت إليك أن توكل من رأيت فعلى الوكيل إذا أراد التوكيل أن يختار ثقة أمينًا كافيًا فيما يوكل فيه. فإن وكل ثقًة أمينًا ثم حدث فسقه هل يجوز له عزله قبل استئذان الموكل في عزله؟ وجهان: أحدهما: ليس له لأنه وكيل غيره حتى يستأذنه في عزله. والثاني: له ذلك لأن إطلاق الإذن يقتضي توكيل ثقة عدل. فرع آخر إذا قلد الإمام رجلًا أن يحكم في ناحيٍة من النواحي بين أهلها فإن كان يمكنه النظر فيها بنفسه لم يجز له أن يقلد الحكم غيره ويستنيب عن نفسه غيره إلا بإذنه. وإن كان العمل كثيرًا لا يمكنه أن ينظر فيه بنفسه له أن يقلد فيما لا يمكنه أن ينظر فيه بنفسه وفيما يمكنه النظر بنفسه هل له أن يقلد فيه وجهان على ما ذكرنا. مسألة (¬1): قال: وإن وكله ببيع متاعه فباعه فقال الوكيل: قد دفعت إليك الثمن. الفصل وهذا كما قال: إذا وكله ببيع سلعة فقال: بعتها وقبضت ثمنها وتلف في يدي فصدقه على البيع والقبض وأنكر التلف فالقول قوله في التلف وللموكل أن يستحلفه، وهكذا المودع والمضارب والشريك والمرتهن. وإن قال: دفعت إليك ثمنها أو رددت عليك السلعة فإن كانت الوكالة بغير أجرة فالقول قوله مع يمينه وإن كانت بأجرة هل يقبل قوله مع يمينه؟ وجهان وهكذا المضارب والشريك والأجير المشترك إذا ادعوا رد المال على هذا الخلاف لأن كل هؤلاء يتصرفون بعوض. وأما المرتهن أو المستأجر إذا ادعى رد العين المرهونة أو المستأجرة لا يقبل إلا ببينة والفرق بينهما [71 / ب] وبين الوكيل والشريك والأجير المشترك أن هؤلاء لا حق لهم في العين فقبل قولهم في الرد على أحد الوجهين، وللمرتهن والمستأجر حق في العين فلم يقبل قولهما في الرد. وقال بعض أصحابنا بخراسان: يقبل قول المرتهن في الرد أيضًا لأن يده يد أمانة وهذا ضعيف. وأما الوصي إذا ادعى رد ما في يده إلى اليتيم بعد بلوغه لا يقبل لأنه لم يأتمنه اليتيم أو قاس أصحابنا على هذا الملتقط إذا ادعى رد اللقطة على صاحبها، وإذا أطارت الريح ثوبًا فألقته في داره فادعى رده على صاحبه لا يقبل قوله، وإذا ادعى رد الوديعة إلى ورثة المودع بعد موته أو ادعى رد مال المضاربة إلى ورثة رب المال. ومن أصحابنا من قال: يقبل قولهم في ذلك لأنهم أمناء وهذا غلط لقوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 16] فلو كان يقبل قوله في الرد لما أمر بالشهادة. فرع لو ادعى التصرف وأنكره الموكل فقال: قد بعت وأنكر الموكل قد ذكرنا هذه ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 5).

المسألة وقد قال ابن سريج: فيه قولان: أحدهما: لا يقبل نص عليه في الصرف والنكاح والرهن لأن هذا إقرار في حق الموكل بما يسقط به حقه ويبطل عليه ملكه فلم يقبل. والثاني: يقبل قوله نص محليه في "الرهن الأخير" وهو الأقيس لأنه يملك البيع فيملك الإقرار به كالموكل في ملك نفسه وكالحاكم في الحكم وهكذا الوكيل في النكاح إذا قال: زوجتها، فقال: ما زوجتها فعلى القولين وقيل: في هذه المسألة للشافعي قولان. ولأبي العباس ابن سريج وجهان فالقولان ما ذكرنا، وأما الوجهان: أحدهما: أنه إن كان ما أقو به الوكيل يتم به وحده كالعتق والطلاق والإبراء يقبل قوله فيه لأنه يصح من الوكيل في الحال، وإن كان بخلافه لم يقبل إقراره به. والثاني: وهو اختياره أن ما كان الإقرار به كإيقاعه قبل قوله فيه وما كان بخلافه لم يقبل وهذان الوجهان إذا كان الوكيل عند الاختلاف باقيًا على الوكالة فأما مع العزل فلا وجه له. وقال أبو حنيفة: يقبل إقرار الوكيل في الكل إلا في مسألة وهي إذا قال لوكيله: زوجني امرأة فأقر الوكيل أنه تزوجها [72 / أ] له وادعت المرأة وأنكر الموكل العقد لا يقبل قوله لأنه إقامة البينة على النكاح لأنه لا يعقد إلا بحضرة البينة وهذا لا يصح لأن عنده ينعقد النكاح بشهادة فاسقين. ولا يثبت بهما. فرع آخر لو أمر وكيله بشراء عبد فقال الوكيل: اشتريته بألف وقال الموكل: اشتريته بخمسمائة فالقول قول الموكل وقال أبو حنيفة: إن كان الألف بيد الوكيل فالقول قوله وإن لم يكن بيده فالقول قول الموكل. وهذا غلط لأنه يقبل قوله في أصل الشراء فكذلك في قدر ثمنه هكذا ذكر في "الحاوي" (¬1). وقال بعض أصحابنا: فيه قولان أيضًا والمشهور في كتبه أن القول قول الموكل، وهذا اختيار أبي حامد وفي هذا نظر عندي. فرع آخر إذا كان له قبل رجل مال فطلبه بإقباضه فقال: لا أسلم لك حقك حتى تشهد على نفسك بالقبض لم يخل محليه الحق من أحد أمرين؟ إما إن يكون ممن يقبل قوله على القابض في إقباضه أو لا يقبل، فإن كان يقبل كالمودع وغيره الذي ذكرنا فعليه تسليمه ولا يجب على القابض الإشهاد على نفسه بالقبض سواء ثبت عليه ذلك بالبينة أو بغيرها. وقال القاضي الطبري: فيه وجهان: أحدهما: هذا وهو الصحيح لأن قوله مقبول في الرد فلا حاجة به إلى الإشهاد. والثاني: وهو اختيار ابن أبي هريرة، له الإشهاد ولا يصير ضامنًا بمنعه إياه بذلك لأن له غرضًا صحيحًا وهو إسقاط اليمين عن نفسه إذا جحد صاحبه القبض وربما إذا حلف وافق قدر بلاء فيقال بيمينه كما قال عثمان بن ¬

_ (¬1) أنظر الحاوي للماوردي (6/ 522).

عفان رضي الله عنه: فيكون له غرض في اليمين. وهذا أولى عندي. وقيل: هذا إذا كان الإشهاد ممكنًا لا يؤدي إلى تأخير الحق، فإن كان يتأخر لتعذر الإشهاد له منعه. وإن كان ممن لا يقبل قوله في الإقباض كالمستعير والمرتهن والغاصب ونحو ذلك فإن كان قد ثبت عليه بالبينة لم يلزمه تسليمه بغير بينة لأنه لا مخلص له منه إلا ببينة، وإن كان ثبوته عليه بغير بينة فعليه تسليمه وليس على القابض بينة وقيل: فيه وجهان أيضا: أحدهما: يلزمه تسليمه من غير بينة لأنه يمكنه أن يقول: أليس لك عندي شيء؟ ويكون جوابًا صحيحًا [72/ ب] فيحلف عليه ويبرأ. والثاني: لا يلزمه إلا ببينة ليسقط عن نفسه اليمين عند الجحود وقيل: في الوكيل ثلاثة أوجه: أحدهما: ليس له مطالبة الموكل بالإشهاد. والثاني: له ذلك. والثالث: وبه قال مالك رحمه الله إن كان قد قبض بالإشهاد له ذلك وإلا فلا. فرع أخر لو وكله بالإيداع هل يلزمه الإشهاد؟ وجهان: أحدهما: لا يلزمه لأن القول قول المودع في الرد والهلاك. والثاني: يلزمه لأنه لا يأمن أن ينكر فيشهد عليه الشهود. فرع آخر لو قال الموكل: استوفيت الثمن من المشتري فادفع إلي وقال الوكيل: ما استوفيت وكان مأذونا في أن يسلم من دون استيفاء الثمن أو كان الثمن مؤجلًا فسلم المتاع ثم حل الأجل، فالقول قول الوكيل وبرئ المشتري بإقرار الموكل. فرع آخر لو قال الوكيل: دفعت الثمن إليك أيها الموكل وقال الموكل: لم تدفع وحلف الوكيل ثم ود المشتري المتاع بالعيب فإن شاء طالب بالثمن الموكل، وإن شاء طالب الوكيل إذ قد دفع إليه فإن طالب الموكل لم يرجع به على الوكيل لأن الوكيل أمين قد حلف مرة أني دفعت إليك، وإن طالب الوكيل لم يرجع على الموكل ونقول له: جعلناك أمينًا وقبلنا يمينك حين أراد الموكل أن يغرمك فالآن أنت تريد أن تغرمه فيحلف الموكل أنه ما قبض منك الثمن ويبرأ ذكره القفال رحمه الله. مسألة (¬1): قال: فإن طلب منه الثمن فمنعه منه. الفصل وهذا كما قال: إذا باع الوكيل ثم جاء الموكل فطالبه بالثمن فمنعه لا يخلو إما أن يكون له عذر أو لا عذر له فإن كان له عذر مثل أن يكون حاقنًا فقال: حتى أتطهر أو خاف فوت الصلاة أو الجماعة أو الجمعة، أو كان مشغولًا بشراء أو بيع يلحقه الضرر ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 5).

بتركه فقال: حتى أفرغ من ذلك أو كان ذلك بالليل فقال: هو في الدكان فإذا أصبحنا دفعته إليك فإنه معذور ولا يصير ضامنًا بمنعه إياه. وإن لم يكن له عذر فمنعه صار ضامنًا فإن تلف في يده وجب عليه مثله أو قيمته. فإن ادعى دفعه إليه بعد ذلك لم يقبل قوله من غير بينة، وإن منعه منه وكان قد تلف قبل المنع ولم يعلم به وثبت ذلك بالبينة هل يضمنه؟ فيه وجهان: [3 / أ]. أحدهما: لا يضمن لأنه قد تلف وهو أمانة فلا يصير مضمونًا بعد التلف إذ لم يوجد سببه الضمان عند بقائه وهو الأصح. والثاني: يضمن وبه قال ابن سريج كالوديعة عنده يضمن باعتقاد الامتناع من الرد وهذا لأنه لما منعه مع القدرة علمنا أنه كان يمسكه لنفسه. ولو طالبه بالرد فوعده به ثم أخره مع الإمكان ثم ادعى أنه كان قد تلف قبل مطالبته أو قال: كنت رددته قبل مطالبته ونسيت لم يقبل قوله، ولو أقام البينة على ذلك هل تسمع بينته؟ وجهان واختيار القافي الطبري أنه لا يسمع لأن قوله يكذب بينته فإنه كان وعده بدفعه إليه. مسألة (¬1): قال: ولو قال صاحبه: قد طلبته منك فمنعتني فأنت ضامن فهو مدٍع أن الأمانة تحولت مضمونة فعليه البينة وعلى المنكر اليمين. وهذا كما قال: إذا ادعى على وكيله أنه طالبه برد المال الذي في يده وامتنع من الرد مع الإمكان وأنكر الوكيل ذلك فإن كان للموكل بينة وجب على الوكيل الضمان. وإن لم تكن له بينة فالقول قول الوكيل مع يمينه فإذا حلف كان على أمانته. وإن نكل حلف الموكل بالله تعالى: لقد طالبته به فمنعه من غير عذر وصار الوكيل ضامنًا فإن كان المال قد تلف في يده غرم ضمانه. ولو قال: طلبت مني ولكني ما تمكنت من الرد وقال الموكل: تمكنت من الرد فالقول قول الوكيل أيضًا. ولو منعه منه ثم جاء به ليوصله إليه فتلف في الطريق ضمنه لأنه لا يخرج من الضمان حتى يوصله إلى مالكه، فإن ائتمنه المالك ذلك مرة أخرى هل يصير أمانة؟ ذكرنا وجهين. مسألة (¬2): قال: ولو قال: وكلتك ببيع متاعي فقبضته مني فأنكر. الفصل وهذا كما قال: إذا ادعى على وكيله أنه دفع إليه ثوبًا ليبيعه أو مالًا ليشتري له به ثوبًا أو قال: سلمته إليك وديعة فأنكر لا يخلو إنكاره من أحد أمرين إما أن يقول: ما قبضت منك شيئا أو يقول: ليس لك عندي شيء فإن قال: ما قبضت منك شيء فالقول قوله لأن الأمل معه. فإن قامت البينة بأنه قبضه علمنا بقيام البينة [73 /ب] بكذبه وخيانته. فإذا قال بعد ذلك: تلف في يدي أو رددته عليك لم يقبل قوله لأنه قد ظهر تعديه وبطلت أمانته. فإن أقام البينة بأنه قد تلف في يده هل تقبل بينته؟ وجهان: أحدهما: لا تقبل لأنه لما أنكر القبض فقد كذب بينته فهو مقر بأن بينته كاذبة. ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 5). (¬2) أنظر الأم (3/ 6).

(والثاني): تقبل وهو اختيار القفال لأنه أنكر القبض والبينة تشهد بالتلف. فعلى هذا ينظر فإن شهدت البينة بتلفها بعد الجحود لا يسقط الضمان لأنه بالحجر صار ضامنًا له، وإن شهدت بتلفه قبل الجحود فلا ضمان عليه، وإن شهدت البينة برده على صاحبه برئ. وإن لم تقم عليه بينة ولكنه أقر بعد الإنكار بأنه قبضه وادعى التلف لم يقبل منه لأنه كذب نفسه فقد بطلت أمانته هذا كله إذا قال: ما قبضت منك شيئًا. فإن قال: ما لك عندي شيء ثم قامت البينة أنه قبضه منه ووكله ببيعه أو أقر بذلك ثم قال: كنت قبضته ولكن رددته عليه، أو تلف في يدي فلا ضمان عليه، لأن أحد قوليه ليس بتكذيب للأخر. فإن قيل: إذا ادعى عليه القبض والتوكيل فلم يسمع منه هذا الجواب قلنا: من ادعى على رجل بيعًا أو غصبًا أو قرضًا أو غير ذلك لا يلزم أن يجيبه على لفظه فإذا قال: ما لك عندي حق يسمع جوابه؟ لأنه يجوز أن يخب ثم يشتريه، أو يكون له عليه دين لا يصل إليه من جهته فغصبه منه أو يقبضه منه بالوكالة ثم يتلف فلا يكون له قبله حق فكان هذا الجواب مسموعًا ولم يكلف غيره، فإن أجابه على لفظه فقال: ما غصبت ولا استقرضت هل يحلفه على حسب جوابه أو يحتاط فيحلفه على أنه لا حق له عليه؟ ذكرنا وجهين. مسألة (¬1): قال: ولو أمر الموكل الوكيل أن يدفع مالًا إلى رجل. الفصل وهكذا: إذا دفع إلى رجل مالًا وأمره أن يقضي دينه فقال: قبضته وقال صاحب الدين: ما قبضت منه شيئًا فالقول قول صاحب الدين مع يمينه، فإذا حلف استحق الدين على الموكل ولا مطالبة له على الوكيل. وهل للموكل مطالبة الوكيل إذا لم يكن أشهد عليه؟ بيناه في كتاب الرهن والضمان. وقال أبو حنيفة: إذا صدقه [74/ أ] الموكل لم يضمن الوكيل، وإن كذبه فالقول قوله مع يمينه. وقال ابن سريج: وهذا وجه لبعض أصحابنا كما يقبل قوله على موكله بالبيع والقبض في أحد القولين. وقال أبو حامد: هذا لا يشبه ذلك لأنه ها هنا مفرط بترك الإشهاد فلهذا ضمن بخلاف ذلك. ولو قال الوكيل: دفعت بحضرتك فلم يلزمني الإشهاد، وقال الموكل: لم تدفع بحضرتي فالقول قول الوكيل مع يمينه، كما لو ادعى الرد إليه وأنكر ذكره بعض أصحابنا قال: ولا يشبه هذا إذا أقر أنه باع وأنكر الموكل لا يقبل قوله في أحد القولين لأنه يثبت حقا على موكله لغيره وها هنا يسقط عن نفسه الضمان بما ذكره فكان القول قوله مع يمينه. مسألة (¬2): قال: ولو جعل للوكيل فيما وكلًا جعلا. ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 6). (¬2) أنظر الأم (3/ 6).

الفصل وهذا كما قال: إذا وكل رجل رجلًا ببيع متاعه بأجرة ذكرها في عقد الوكالة فباع ودفع الثمن ثم طالبه بالأجرة فقال الموكل: قد خنتني بمقدار الأجرة وأنكر الوكيل فالقول قول الوكيل مع يمينه، وإنما تسمع دعواه إذا جعل مقدار الخيانة معلومًا فقال: أخذت ثمن السلعة كذا وكذا درهمًا، ودفعت إلي كذا فإذا حلف استحق الأجرة، فإن لم يحلف رددنا اليمين على الموكل، فإذا حلف استحق مقدار الخيانة وصار قصاصًا من الأجرة ولو قال: ما علمت ما فوضت إليك فلا تستحق الجعل فعلى الوكيل إقامة البينة لأنه يدعي به عوضًا والأمل عدمه. وظاهر لفظ المزني أن ها هنا أيضا القول قول الوكيل وليس كذلك وصورة مسألة المزني ما ذكرناه. فرع لو قال: ضاع الثمن قبل قوله مع يمينه فإذا حلف برئ منه ويلزم له الأجرة على موكله لأن الأجرة مبذولة على عقد البيع وقد فعل ما يتحقق به الأجرة فلم يسقط بتلف الثمن وهذا كما لو استأجر رجلًا ليعلم ابنه القرآن بأجرة معلومة فعلمه ثم مات الابن استحق الأجرة، وكذلك إذا استأجره ليرعى له غنمه شهرًا فرعاها ثم تلفت كانت له الأجرة لأن الذي شرط له الأجرة عليه قد حصل [74 /ب] منه فكذلك ها هنا ويخالف الخياط أو الصباغ إذا تلف الثوب في يده لم تكن له الأجرة لأنه يحتاج أن يسلم العمل إلى المستأجر، فإذا لم يسلم العمل إليه لم يستحق الأجرة عليه بخلاف مسألتنا. فرع آخر إذا باع الوكيل بجعل له مطالبة الموكل بالجعل قبل أن يتسلم الموكل الثمن لأن الأجرة مستحقة بالبيع ولا يشترط التسليم فيه. فرع آخر لو قال: وكلتك في بيع مالي فإذا سلمت الثمن إليّ فلك كذا فإنه يقف استحقاق الجعل ها هنا على تسليم الثمن إليه لأنه شرطه في الاستحقاق بخلاف المسألة الأولى. فرع آخر لو دفع ثوبًا إلى قصار فجحده القصار ثم جاء به مقصورًا هل له الأجرة أم لا؟ حكي أن أبا حنيفة أمر من سأل أبا يوسف عن هذا فقال: له الأجرة فقال ذلك السائل له: أخطأت فقال: لا أجرة له، فقال: أخطأت فجاء أبو يوسف أبا حنيفة وسأله عنها فقال: إن قصرت قبل الجحود فله الأجرة وإن كان بعده فلا أجرة له. وأما عندنا إن قصره قبل الجحود فله الأجرة، وإن قصره بعد الجحود تخرج المسألة على جوابين بناء محلى قولي الشافعي فيمن أحرم عن غيره بإذنه ثم صرف الإحرام إلى نفسه لا ينصرف إليه ويصح عن الآمر وهل يستحق عليه الأجرة أم لا؟ فيه قولان. أحدهما: يستحق لأنه وقع عن الأمر. والثاني: لا يستحق لأنه نواه عن نفسه وكان

عنده أنه يعمل لنفسه ووقع للمالك فيه الجوابان. فرع آخر قال أبو حنيفة: لو قال: أخذت من فلان كذا وديعة وقال المالك: بل غصبًا فالقول قول المقر له أنه غصب. ولو قال: دفعه فلان إلي وديعة، وقال المالك: بل غضبًا فالقول قول المقر فمن أصحابنا من قال: لا نقول بهذا التفصيل بل القول قول المقر في الموضعين. وقال القفال: عندي المذهب كما قال أبو حنيفة لأنه إذا قال: أخذت فقد أقر بأخذه وهو فعل من جهته وادعى على المقر له الإذن في الأخذ فالقول [75 / أ] قوله. مسألة (¬1): قال: ولو دفع إليه مالًا يشتري له به طعامًا فتسلفه. الفصل وهذا كما قال: إذا دفع رجل إلى رجل دراهم وأمره أن يشتري به طعامًا فصرفها في بعض حوائجه، ثم اشترى لموكله طعامًا بدراهم من عنده فإن الشراء لا يلزم الموكل لأن وكالته قد بطلت بصرف دراهمه في حوائجه، فإن الوكالة متعلقة بها بعينها وأمره بالشراء بعين الدراهم، فإذا تلف الدراهم بطلت الوكالة. وكذلك لو أمره بالشراء في الذمة وأن ينقد الدراهم في ثمنه فصرفها في حوائجه بطلت الوكالة، لأن الوكالة تعلقت بعين الدراهم، ألا ترى أنها لو سرقت تلك الدراهم من يده بطلت الوكالة ولم يجز له أن يشتري الطعام إلا بإذن مجدد؟ كذلك هاهنا، وإذا ثبت بطلان الوكالة لم يجز أن يشتري له في ذمته من الدراهم طعامًا إلا بإذن مجدد. ولو اشترى من غير تجديد الإذن لم يلزم الأمر ونظر فيه فإن ذكر في عقد الشراء أنه يشتريه لموكله قد ذكرنا فيه وجهين، قال أبو إسحاق: يلزم الوكيل. والثاني يكون الشراء باطلًا. وإن قصد بقلبه ولم يتلفظ بلسانه كان الثراء لازمًا للوكيل وعليه مثل دراهمه التي أتلفها. وقوله: فتسلفه أي أخذه قرضا على نفسه. وأخل المزني بالنقل حيث قال في علة هذه المسألة لأنه خرج من وكالته بالتعدي فاشترى بغير ما أمر به، فجعل شراؤه بغير ما أمر به عدوانه وسبب عزله وليس الأمر على ما أوهم لفظه فإن عدوانه في السلف والاستئناف وبذلك انعزل عن وكالته، فأما ثراءه الطعام بغير ما أمره فهو علة المسألة الثانية وهي أن ملك ذلك الطعام وقع للوكيل، فإن أراد المزني بهذه اللفظة تعليل ملك الطعام كان من حقه أن يقطع العلة عن العلة بلفظ يصلح لنسق العلة على العلة. وقال أبو حنيفة: هذا الطعام للموكل وليس على الوكيل ضمان الدراهم وهذا على أصله حيث قال: لا تتعين الدراهم في العقود [75 /ب] ثم ناقض فقال: لو تلفت ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 7).

الدراهم في يده من غير جناية انعزل عن وكالته. فرع إذا تعدي في المال الذي وكله فيه بأن يكون قد فرط في حفظه في حرز مثله، أو كان عبئاً فاستخدمه أو كانت جارية فوطئها هل تنفسخ الوكالة؟ وجهان: أحدهما: تنفسخ لأن الضمان والوكالة لا يجتمعان، والحكم فيه كما ذكرنا فيما قبله. والثاني: لا تنفسخ وهو الأصح، كالرهن إذا تعدى فيه المرتهن ضمن وبطلت أمانته ولا يبطل الرهن وتحريره أنه تضمن الأمانة والتصرف فبطلت بالتعدي الأمانة دون التصرف وبه قال أبو حنيفة. فرع آخر إذا قلنا: لا ينفسخ فباع بعد ذلك صح وإذا سلمها المشتري زال عنه الضمان لأنه سلمها بإذن مالكها، كما لو كانت غضبًا فسلمها إلى الوكيل بإذن المالك يزول الضمان. وقال القاضي الطبري: بنفس البيع يزول عنه الضمان، لأنه صار ملكًا للمشتري. ويمكن أن يجاب عن هذا بأنه متى تلف في يده بعد بيعه قبل تسليمه عاد ملك الموكل إليه لأن عقد البيع يفسخ بالتلف قبل التسليم، فإذا عاد ملك الموكل إليه كان مضمونًا على الوكيل بتعديه فلا يسقط عنه الضمان إلا بتسليمه. فرع آخر إذا قبض الثمن في هذه المسألة كان أمانًة في يده لأن قبضه له بإذن الموكل ولم يتعد فيه فكاك أمانة، وكذلك إذا كان وكيلًا في الشراء فتعدى في الثمن ضمنه فإذا اشترى به وسلمه زال عه الضمان وقبض المبيع قبض أمانة. فرع آخر لو سلم المبيع إلى المشتري في هذه المسألة فوجد به عيبًا فرده أو وجد الوكيل بالثمن عيبًا فرده واسترد المبيع هل يعود إلى يده مضمونًا عليه؟ لا نص فيه. وقال بعض أصحابنا: يعود مضمونًا عليه. فإن قيل: قد زال الضمان بقبض المشترى وقبضه الآن بإذن الموكل ولم يتعد فيه بعد فلا ضمان قلنا: هذا المشتري ما قبضه للموكل وإنما قبضه لنفسه فزال الضمان بذلك، فإذا فسغ البيع انفسخ القبض فعاد بحاله. وعندي أنه لا يعود مضمونًا عليه لأن فسخ القبض من وقته لا من أصله على أصلنا فلا يضمن ثانيًا إلا بسبب حادث. فرع آخر لو كان تعديه من حيث القول لا يضمن مثل أن وكله ببيع سلعة بألٍف فباعها [6/ أ] بخمسمائة ولم يسلمها إلى المشتري فقد صار متعديًا بالقول ولكن لا يصير ضامنًا لأنه

يحدث في عين مال الموكل فعلًا. ولو سلمها إلى المشتري كان تسليمه فعل عدوان فهل ينعزل به؟ على الوجهين. فرع آخر لو دفع إليه دراهم وأمره أن يشتري بعينها متاعًا فاشترى له متاعًا في الذمة ونقدها فيه فالشراء لا يلزم الموكل لأنه خالفه مخالفة تضره، ووجه الضرر فيه أنه إذا اشترى بعينها فتلفت الدراهم في يد الوكيل بطل الشراء ولم يطالب الموكل بغيرها، وإذا اشترى في الأمة فتلفت الدراهم في يد الوكيل قبل تسليمها إليه طولب الموكل بثمن المتاع فيكون في ذلك ضرر. فرع آخر لو أعطاه ألفًا وأمره أن يشتري في الذمة فتعدى في الألف لم تَزُل الوكالة قولًا واحدًا لأنه ما تعدى فيما هو وكيل فيه، فإذا اشترى في ذمته صح ولو نقد الثمن زال الضمان. فإن قيل: هلا قلتم يخرج من الوكالة بالتعدي وزوال الأمانة فلا يصح بيعه في أحد الوجهين؟ قلنا: إنما يجيء هذا الوجه فيما تعدى فيه، والتعدي في عين لا يثبت حكمه في عين أخرى، ألا ترى أنه لو أودع عنده وديعتين متفرقتين فتعدى في إحداهما لم يضمن الأخرى ولم يخرج من حكم الأمانة جملة؟ كذلك ها هنا. فرع آخر لو أمره أن يشتري في الذمة وينقد فيه الألف الذي دفعه إليه فاشترى بعين الألف فيه وجهان: أحدهما: وهو الصحيح يلزم الشراء الموكل لأنه زاده خيرًا فإن الدراهم إن تلفت لم يلزمه غيرها، وإن لم تتلف سلم له المتاع فتنفعه هذه المخالفة فلا تمنع وقوع الشراء له. والثاني: لا يلزمه لأن له غرضًا في شرائها في الذمة فإنه يجوز أن يريد أن لا ينفسخ البيع بتلف الدراهم واستحقاقها، وإذا اشتراها بعينها انفسخ البيع بالتلف والاستحقاق ولا يلزم الوكيل وهذا أقرب عندي. فرع آخر لو قال: بع هذه السلعة في السوق الفلانية فباع في السوق الأخرى بالثمن الذي يشترى به في السوق المسمى له كان البيع صحيحًا. ولو قال: بعها من فلان فباعها من غيره بالثمن الذي يشتري به فلان فالبيع باطل، والفرق بينهما أن المقصود من البيع [76/ ب] في السوق المعينة حصول الثمن وقد حصل المقصود من السوق الأخرى فجاز البيع، وليس كذلك إذا عين المشتري لأن الغرض في تعيينه أن ينفعه بها ويوقفه بملكها وإذا عدل عنه إلى غيره لم يحصل مقصوده فلم يجز البيع. وقال في "الحاوي" (¬1): هل يلزم الشرط؟ وجهان: أحدهما: يلزم لأنه أملك بأحوال ¬

_ (¬1) أنظر الحاوي للماوردي (6/ 535).

إذنه وهو الأشبه. والثاني: ما ذكرناه. مسألة (¬1): قال: ولا يجوز للوكيل أو الوصي أن يشتري من نفسه. الفصل وهذا كما قال المتصرف في مال الغير ستة. الأب، والجد، والموصي، والحاكم، والأمين من قبله، والوكيل. فالجد كالأب لأنه يتصرف بنفسه، والحاكم كالوصي لأنه ينظر بعد زوال الإذن، والوكيل كالأمين من قبل الحاكم، لأنه ينظر بإذن من له الإذن في الحال. فإذا ابتاع واحد من هؤلاء من مال من ينظر له لنفسه أو باع منه ماله اختلف الناس فيه على أربعة مذاهب. قال زفر: لا يجوز لأحد ذلك، وحكي هذا عن أبي يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: يجوز للكل إلا للوكيل إلا أن الوصي لا يبيع من نفسه إلا بأكثر من ثمن المثل، ويجوز للأب والجد أن يبيعا من أنفسهما بثمن المثل. وقال مالك والأوزاعي: يجوز للوكيل أيضًا. وقيل: لا يصح هذا عن مالك وإنما قوله مثل قول أبي حنيفة وعندنا يجوز للأب والجد ذلك، ولا يجوز لغيرهما أصلا. وهذا لأن الأب والجد كاملا الشفقة، تاما الولاية فلا يتهمان بذلك بخلاف غيرهما. والدليل على زفر أن هذا يلي بنفسه فجاز له أن يتولى طرفي العقد كالجد يزوج ابنة ابنه من ابن ابنه. وحكي ابن أبي هريرة عن الإصطخري أنه أجاز للوكيل وهذا خلاف المذهب بلا إشكال. فرع لا يجوز للوكيل أن يشتري لابنه الصغير ولا لمن يلي عليه بالوصاية لأنه يكون بيعًا من نفسه، وهل يجوز له أن يبيع من والده أو ابنه الكبير؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز ذلك وبه قال أبو حنيفة وهو اختيار أبي إسحاق من أصحابنا والقاضي الطبري رحمهم الله لأن لحوق التهمة إذا باع من نفسه، ولهذا لا تجوز شهادة الابن لوالده، ولا شهادة الوالد لابنه، كما لا تجوز لنفسه. والثاني: يجوز وهو [177/ أ] اختيار أصحابنا بخراسان قالوا: وهو ظاهر المذهب، وهذا لأنه يجوز له أن يبيع مال نفسه من أبيه وابنه فكذلك مال موكله والتهمة مرتفعة إذا باع بثمن مثله. فرع آخر لو باعه من عبده المأذون له في التجارة لم يجز، لأن ذلك بيعه من نفسه. ولو باع من مكاتبه فيه وجهان أحدهما يجوز لأن المكاتب يملكه دونه. والثاني. لا يجوز للتهمة لأنه يتعلق حقه بكسبه ولهذا لا تجوز شهادته له. فرع آخر لو وكل الابن البالغ أباه في بيع سلعٍة هل يجوز له بيعها على نفسه؟ وجهان: ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 7).

أحدهما: يجوز كما لو كان في حجره تغليبًا للأبوة. والثاني: لا يجوز لأن ارتفاع الحجر يوجب تغليب الوكالة ذكره في "الحاوي" (¬1) وعندي المذهب هذا الوجه الثاني، والأول ليس بشيء. فرع آخر لو اشترى الوكيل من نفسه طعامًا وسلمه إلى الموكل فأتلفه الموكل فعليه الغرم لأنه لم يتبرع الوكيل عليه به بل أعطاه على حكم عقد فاسد فيغرمه ويرد عليه ماله، وبمثله لو اشترى الوصي من نفسه للصبي فأطعم الصبي فعليه رد الثمن، ولا يغرم الصبي قيمة الطعام لأن البالغ يغرم ما قبضه على حكم العقد الفاسد والصبي لا يغرم شيئًا بالمعاملة والشراء الفاسد وإنما يغرمه بمحض الجناية. فرع آخر لو باعه الوكيل من نفسه بإذن الموكل فالمذهب أنه لا يجوز نص عليه في الصرف لأنه لا يجوز أن يكون قابلًا وموجبًا فيما يتولاه بالإذن، كما لا يجوز لابن العم أن يزوج ابنة عمه من نفسه بإذنها، وخرج ابن سريج فيه وجهًا آخر أنه يجوز كما لو قال: طلقي نفسك على ألف فطلقت يصح وتكون موجبة للطلاق وقابلة للألف بالإذن كذلك ها هنا، وقال أبو حامد وغيره: في النكاح أيضا وجهان. وهذا لا يصح لأن الزوج موجب والمرأة بالطلاق قابلة بدليل أنها لو أخرت الطلاق عن أول حال الإمكان واشتغلت عنه لم يقع الطلاق كما لو أخر المشتري القبول لم يصح بالإذن. ولأن في البيع ثمنًا يختلف بالزيادة والنقصان فصار بالميل إلى نفسه متهمًا ولا تهمة في الطلاق. فإن قيل: قد زالت التهمة عنه برضى [77 / ب] الموكل ببيع السلعة من نفسه فيجب أن يجوز. قيل: الحكم إذا منع للتهمة سوي بين المواضع كلها حسمًا للباب كما نقول، إذا باع من نفسه بالوكالة المطلقة بأكثر من ثمن مثله لا يجوز، والتهمة زائلة عنه فيه ولكنا أبطلناه حسمًا للباب كذلك ها هنا. وكذلك لما لم يرث القاتل للتهمة حرَّمنا كل قاتل حسمًا للباب، وإن كانت التهمة زائلة كالصغير والمجنون إذا قتلا مورثهما، وكذلك المسكر حرمناه وسوينا بين قليله وكثيره حسمًا للباب، كذلك ها هنا ولو أذن له أن يبيع من والده يجوز بلا خلاف لأن القابل غير الموجب وانتفت التهمة. فرع آخر لا يجوز للوصي أن يبيع من والده وولده كالوكيل سواء، هكذا ذكره القاضي الطبري وقال بعض أصحابنا بخراسان: المذهب أنه يجوز ووافقنا فيه أبو حنيفة وفيه نظر. فرع آخر لو باع الوصي شقصًا لليتيم له فيه الشفعة قال صاحب "الإفصاح": ولا شفعة له لأنا ¬

_ (¬1) أنظر الحاوي للماوردي (6/ 537).

لو أثبتنا له الشفعة لم نأمن من أن يحابي المشتري في الثمن فإثبات الشفعة له يوجب تهمته في البيع فأسقطنا حق الشفعة. ومن أصحابنا من قال: له الشفعة لأنا ننظر فيه فإن كان قد حابى أبطلنا البيع ولا شفعة له، وإن لم يكن حابى صح البيع وثبتت الشفعة وهذا غلط لأنه قد حابي في الزيادة على ثمن مثله الذي يمكنه تحصيلها إذا استقصى في بيعه وليست المحاباة كلها في النقصان عن ثمن المثل فبطل قول هذا القائل. فرع آخر لو قال: خذ هذه الألف ففرقها على المساكين لا يجوز أن يضعها في نفسه وإن كان مسكينًا وكذلك لو قال له: امنع ما شئت فيه لأنه يقتضي الوضع في غيره، ولو قال: ضع في نفسك إن شئت فيه وجهان قال ابن سريج: نص الشافعي ها هنا أنه يجوز أن يضعه في نفسه. فرع آخر لو قال لعبده: كاتب نفسك على ألف في نجمين فيه وجهان على ما ذكرنا. فرع آخر لو وجب عليه القصاص فوكله صاحب القصاص في أن يقبض من نفسه فيه وجهان فإذا قلنا: لا يصح وفعل سقط القصاص لأن إذنه قد وجد ولا يمكن تلافيه. فرع آخر لو كان له على رجل ألف درهم [78 / أ] وبه ضامن فوكل صاحب الدين الضامن بإبراء الأصيل فأبرأه برئ الأمل والفرع جميعًا، ولو وكل الأمل في إبراء الفرع فأبرأه برأ الفرع وحده دون الأصل لأن الأصل يبقى صح زوال الفرع. فرع آخر لو كان له دين في ذمة عبٍد فوكل صاحب الدين سيده في إبراء العبد فأبرأه، لأنه وإن كان على السيد في الحقيقة إذا كان العبد مأذونًا في التجارة فإنه متعلق بغيره. فرع آخر لو أذن لرجل في بيع عبده من زيد وأذن له زيد في شرائه هل تصح منه النيابة في البيع والشراء؟ قال أبو حامد وجماعة: لا يجوز قولًا واحدًا لأنه يؤدي إلى التناقض فيصير مستنقصًا مستزيدًا مطالبًا مطالبًا وهذا لا يجوز. وقيل: فيه وجهان أيضًا لأن في بيعه من نفسه بإذنه وجهين ومعنى التناقض موجود. فرع آخر إذا قلنا: لا يجوز له أن يقيم على إحدى الوكالتين فإن أراد أن يقيم على أسبقهما من بيع أو شراء جاز. وإن أراد أن يقيم على الثانية يحتمل وجهين: أحدهما: لا يجوز لأن ثبوت الأولى يمنع جواز الثانية. والثاني: يجوز لأن الوكالة لا تلزم فلم يكن

للمتقدمة منهما تأثير ويبطل بقبول الثانية. فرع آخر إذا وكل المتداعيان رجلًا واحدًا لينوب عنهما فإن كان في أمرين مختلفين جاز. وإن كان في أمر واحد فيه وجهان: أحدهما: يجوز لأنه يمكنه الدعوى عن أحدهما والجواب عن الأخر وإقامة حجة كل واحد منهما. والثاني: لا يجوز لأن غرض كل واحد منهما بتوكيله استيفاء حججه والاستقصاء في خصومة صاحبه وفي الواحد يتناقض ويتضاد الغرضان فلا يجوز. مسألة: قال (¬1): ومن باع بما لا يتغابن الناس بمثله فبيعهُ مردوٌد. الفصل وهذا كما قال إذا وكل وكيلًا في بيع شيء لا يخلو إما أن يكون التوكيل مطلقًا أو مقيدًا، فإن كان مقيدًا فقال: بع بثمن مثله نقدًا بنقد البلد لم يجز له أن يعدل عن ذلك بلا خلاف. ولو قال: بعه بأقل وأكثر نقدًا نساء بنقد البلد وغيره له كل ذلك أيضًا بلا خلاف. ولو كان مطلقًا اختلف [78/ ب] الناس فيه على ثلاثة مذاهب، فذهب الشافعي إلى أنه يقتضي ثلاثة أشياء وهي أن يبيع بثمن مثله نقدًا بنقد البلد، فإن خالف فباع بأقل من ثمن مثله ونقص قدرًا لا يتغابن بمثله، أو باع نَساء أو بغير نقد البلد لا يجوز البيع وبه قال مالك وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: له أن يبيع بأقل من ثمن المثل ونسيئة وبغير نقد البلد. وقال أبو يوسف ومحمد: له أن يبيع نَساء ولا يجوز له أن يبيع بدون ثمن المثل ولا بغير نقد البلد وأجمعوا في الشراء أنه إذا وكله به لا يجوز أن يشتري بأكثر من ثمن المثل ولا إلى أجل ولا بغير نقد البلد فنقيس عليه وهذا لأن مطلق الإذن يحتمل على العرف والعادة المستقرة. وذكر القاضي أبو حامد في "الجامع" عن الشافعي أنه قال في كتاب "الرهن القديم والرهن الصغير": إذا باع بدون ثمن المثل فالبيع مردود إن شاء الأمر فجعل البيع صحيحًا وهذا غير مشهور، ولا خلاف في الوصي إذا باع بدون ثمن المثل، فإن كان المبيع باطلًا فالوكيل مثله. فرع إذا خالف وباع بدون ثمن المثل فإن كان المبيع قائمًا في يد المشتري رد على الموكل. وإن كان تالفًا فالموكل بالخيار إن شاء رجع على المشتري، وإن شاء رجع على الوكيل، فإن رجع على المشتري رجع بجميع قيمته عليه لأنه تلف في يده فلزمه جميع قيمته. وإن رجع على الوكيل فيه قولان: أحدهما: هذا لأنه لما سلم المتاع إلى المشتري بأقل من قيمته صار متعديًا في جميعه فضمن جميع قيمته. والثاني: يرجع بمقدار المحاباة وهو ما بين ما باعه إلى ما ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 7).

لا يتغابن الناس بمثله؛ لأن القدر الذي تعدى فيه هو مقدار المحاباة فلم يجب عليه إلا ضمانه ويرجع بالباقي على المشتري. وفيه قول ثالث: يضمن كل قيمته ولكن يحط عنها ما يتغابن بمثله، فإن كان درهمًا أو نصف درهم يحط ذلك القدر. فإذا قلنا: عليه تمام قيمته فغرم رجح الوكيل على المشتري لأن التلف في يده وإن رجع على المشتري لم يرجح به على الوكيل لأنه ضمن ما تلف في يده. فرع آخر قد ذكرنا أنه لا يبيع إلا بنقد البلد فإن كان الغالب في البلد الدراهم والدنانير على سوا، يبيع بأحظهما [79/ أ] لموكله فإن استويا يتخير بينهما. ولو باع ها هنا بكلا النقدين فإن كان في عقدين صحا إذا كان مما يجوز تفريق الصفقة في بيعه. وإن كان في عقد واحد فيه وجهان: أحدهما: يجوز كما جاز إفراد كل واحد من النقدين. والثاني: لا يجوز لأن غالب البياعات تتناول جنسًا واحدًا من الأثمان فلم يجز أن يعدل عن غالبها في الإطلاق. فرع آخر لو باع بغبن يسير يجوز، والمرجع فيه إلى العرف والعادة في مثله وقال مالك: حد الغبن في البيوع الثلث فصاعدًا. وقال أبو حنيفة: حد الغبن نصف العشر فصاعدًا وهذا غلط لأن عرف الناس يختلف، فمن الأجناس ما يكون ربع العشر فيه غبنًا كثيرًا وهو النقد والطعام، ومنها ما يكون نصف العشر فيه غبنًا يسيرًا كالجوهر والرقيق فيجب الرجوع فيه إلى العرف. فرع آخر لو أذن له بالبيع نَساءً ولم يقدر أجلًا فمن أصحابنا من حد أكثره بحول لأن أكثر الدين المؤجل في الشرع يتقدر به كالدية والجزية. ومن أصحابنا من قال: لا يصح التوكيل أصلًا لأن الآجال تختلف فيكثر فيه الغرر. والصحيح أنه يعتبر بالعرف أن لا يصير الأجل خارجًا عن غالب العادة في ذلك الجنس، وعرف الناس في ذلك يختلف باختلاف الأجناس، فإن لم يكن عرف باع بأنفع ما يقدر عليه. فرع آخر لو باع بشرط الخيار فإن شرط للمشتري وله لم يصح قولًا واحدًا. وإن شرط لنفسه أو لموكله وله فيه وجهان: أحدهما: يجوز وهو الأصح لا من حيث إطلاق الوكالة ولكن من حيث أن له التصرف فيما عاد إلى حظ الموكل وهذا من حظه وتمام النظر له. والثاني: لا يجوز كما لو شرط الأجل وليس بشيء. فرع آخر لو باع وسلم إلى المشتري ولم يقبض الثمن فهرب المشتري أو أفلس هل على

الوكيل الضمان؟ يبنى على ما ذكرنا من الوجهين أن الوكيل بالبيع إذا باعه هل له قبض الثمن فإن قلنا: له قبضه قال أبو حامد رحمه الله: إنما يسلمه ليقبض الثمن فإذا سلمه ولم يقبض الثمن كان عليه ضمان [79/ ب] ما سلمه إلى المشتري، وإن قلنا: ليس له قبض الثمن فلا ضمان عليه لأن عليه الإقباض دون القبض على ما ذكرنا، وعلى هذا لو وكله في الشراء يسلم الثمن وهل يتسلم المبيع وجهان، والأصح أنه إذا اقتضت الوكالة التسليم اقتضت السّلم. فرع آخر لو وكله بالبيع على أن لا يسلم المبيع يجوز. ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان: أحدهما: يجوز كما لو نهاه عن قبض الثمن. والثاني: تبطل الوكالة لأن إقباض المبيع من لوازم البيع فإذا نهاه أبطل التوكيل في نفسه. فرع آخر لو أمره بالبيع نساءً فباع نقدًا بأقل من الثمن الذي يباح فيه به نساء لم يجز. وان باع نقدًا بالثمن الذي يباع به نساء فيه وجهان والأصح جوازه. وقيل: إن كان الثمن مما لا مؤونة في إمساكه جاز، وإن كان فيه مؤونة كالقطن والحطب أو هناك خوف لا يجوز وهذا صحيح. فرع آخر لو وكله في شراء سلعة مطلقًا فاشترى له نسيئة فإن كانت السلعة تساوي نقدًا بما اشترى به نسيئة كان الشراء للموكل وزاده بتأخير الثمن عنه خيرًا. وفيه وجه آخر لا يجوز لأنه قد يكون له غرض في تعجيل إقباض الثمن لئلا يتلف ويتعذر عليه تسليمه وهذا إذا كان لا يجبر على قبض الثمن لو عجل، فإن كان يجبر بأن لا مؤونة في إمساك الثمن ولا خوف يجوز فيعجل الثمن في الحال ويجبر على قبضه وتبرأ ذمته فيحصل الغرض. وإن كانت السلعة لا تساوي نقدًا بما اشترى به نسيئة فالشراء لا يلزم الموكل لأن مطلق التوكيل اقتضى شراءها بثمن مثلها نقدًا، فإذا زاد على ثمن مثلها فقد خالفه مخالفة تضره فلم يلزمه الشراء. فرع آخر لو وكله بأن يسلف له مائة درهم في طعام فاشترى نقدًا مثل ما يشتري سلفًا صح الشراء، وإن كان أقل منه كان الشراء باطلًا. فرع آخر لو اختلفا فقال الوكيل: أمرتني بالبيع نساءً، وقال الموكل: نقدًا فالقول قول الموكل مع يمينه فإذا حلف كان البيع باطلًا. وحكى المزني بعد هذا أن الشافعي قال في كتاب "اختلاف العراقيين": إذا باع الوكيل المطلق نساءً كان للموكل نقض المبيع بعد أن يحلف ما وكله إلا بالنقد. قال أصحابنا: ليس هذا [80 / أ] بقول آخر، وإنما أراد به أن

له فسخ البيع بيمينه لأنه إن نكل عن اليمين حلف الوكيل وصح البيع ويكفي على أصلنا أن يحلف ما وكله بالنسيئة ولكن يقيد بقوله: ما وكلت إلا بالنقد لأنه ربما يكون القاضي حنفي المذهب فيرى جواز البيع نساء بمطلق الوكالة وهذا لأن البيع المعروف المعتاد بين الناس بالنقد وإنما يدخل النساء في ذلك لمعان تعرض من كساد أو عيب في السلعة أو غلاء في ثمنها فيجب حمل مطلق الأمر بالبيع على النقد، ولو اختلف الوكيل والموكل في أصل التوكيل كان القول قول الموكل فكذلك إذا اختلفا في صفته كان القول قوله ولهذا قلنا: لو وكله ببيع سلعة مطلقًا فباعها بسلعة لا يجوز لأن البيع المعروف بالأثمان دون السلع، وإنما يباع بالسلع لعيب في المبيع أو لكساد أو غلاء ثمن ولأن الظاهر من اسم البيع إذا باع بالثمن، فأما إذا باع بالسلعة يسمى مبادلة ومعاوضة ومقايضة وقيل: إذا باعه بالسلعة كان بائعًا أو مشتريًا وإنما أمره بالبيع وحده فلم يجز. فرع آخر لو باع الوكيل عبد موكله ثم أقر الوكيل أنه باعه من غير أمر موكله قال ابن سريج: فيه قولان: أحدهما: لازم لا ينتقض حتى يعرف الموكل أنه لم يأمر بذلك. والثاني: أنه غير لازم إلا أن تقوم بينّة أن الموكل أمر به. ويتفرع على هذا إذا تصادق الموكل والوكيل على الإذن بالبيع وأنكر المشتري أن يكون الموكل أمره فعلى القول الأول القول قول الوكيل والموكل والبيع لازم للمشتري، وعلى القول الثاني القول قول المشتري والبيع غير لازم له. فرع آخر لو قال: بع هؤلاء العبيد الثلاثة بألف درهم فإن باع أول صفقة من العبيد بأقل من ألف درهم لم يجز لأنه قد لا يشتري العبدان الآخران بما بقي من تكملة الألف. وإن باع الأول صفقة من العبد بألف درهم جاز، وهل يجوز بيع العبدين الآخرين بعد حصول الألف؟ وجهان: أحدهما: لا يجوز لأن مقصوده بالبيع حصول الألف من ثمنه وقد حصل. والثاني: يجوز لانعقاد الوكالة ببيعهم ولا يكون حصول الثمن بكماله من بعضهم بمانع من بيع باقيه بالزيادة [80 / ب] على الألف. فرع آخر لو وكل في بيع عدد من الثياب فعلى الوكيل أن يعمل على أحظ الأمرين لموكله من بيع جميعها صفقًة أو إفرادًا فإن عَدَل عن الأَحَظِّ لم يجز. فرع آخر لو وكله ببيع فاسد فقال: بعه إلى العطاء أو إلى مَقْدَم الحَاج أو بشرط الخيار أكثر من ثلاث فالوكالة باطلة ولا يملك بها بيعًا بحالِ لا صحيحًا ولا فاسدًا لأنه وكله فيما لا يملكه الموكل الوكالة لا تنعقد بالصفة فإذا قال: إذا جاء رأس الشهر فأنت وكيلي،

أو إذا قدم الحاج فقد وكلتك لا يجوز. وقال أبو حنيفة يجوز وحكي عن بعض أصحابنا لأنه أذن في التصرف فأشبه التأمير يجوز تعليقه بالصفة وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في جيش مؤتة "الأمير زيد بن حارثة"، فإن قتل فجعفر، فإن قتل فعبد الله بن رواحة" (¬1) وقياسًا على الوصية. وهذا غلط، لأنه عقد يملك به التصرف في حال الحياة لم يبن على التغليب والسراية فلا يجوز تعليقه بشرط كالمضاربة. وأما التأمير فليس بعقد وتصرف ومعناه الرأي والمشورة فيجوز تعليقه. فرع آخر إذا ثبت بطلان هذه الوكالة قال أصحابنا: لا يجوز له أن يتصرفه عند وجود الشرط، فإن تصرفه نفذ لأنه مأذون له فيه، وإن كانت الوكالة فاسدة وإنما تأثير فساد الوكالة في استحقاق أجر المثل عندنا وعندهم يستحق الأجر المسمى. ومن أصحابنا من قال: يجوز له التصرف، لأنه لو لم يستبح التصرف لم يجز منه وفائدة الفساد ما ذكرنا. فرع آخر لو عقد الوكالة مطلقًا وعلق الإذن فيه بالشرط بأن قال: وكلتك في بيع متاعي فإذا جاء رأس الشهر فبع يصح، لأن العقد مطلق والتصرف معلق بالصفة فجاز. وكذلك لو قال: وكلتك ببيع هذا المتاع إذا دخل الحاج يجوز لأن البيع معلق بالشرط دون الوكالة، وعلى هذا لو قال: إذا مت فقد أوصيت إليك لا يجوز لأنه عقد الوصية بالصفة والشرط ولو قال: أوصيت إليك إذا مت جاز. مسألة (¬2): قال: ولو قال: أمرتك أن تشتري هذه الجارية بعشرة. الفصل وهذا كما قال إذا أمر رجل رجلًا بشراء جارية بعشرة دنانير فاشترى بعشرين دينارًا ثم [81 / أ] اختلفا فقال الموكل: أمرتك أن تشتريها بعشرة دنانير فاشتريتها بعشرين فالجارية لك وقال الوكيل: بل أمرتني أن أشتريها لك بعشرين فالجارية لك فالقول قول الموكل مع يمينه، لأن قول الوكيل لا يقبل إلا فيما اتفقا أنه ائتمنه، فأما إذا اختلفا فالقول قول الموكل كما إذا قال: وكلتني بشرائها وقال: لم أوكلك أو قال: أودعتني كذا وقال: لم أودعك وإنما غصبتنيه فالقول قول صاحبه مع يمينه، وأما إذا اختلف رب الثوب والخياط في صفة القطع فإن قلنا: القول قول رب الثوب فقد سوينا بين المسألتين. وإذا قلنا: القول قول الخياط فالفرق بينهما لأنا لو جعلنا القول قول رب الثوب لزم الخياط الأرش وذمته على البراء في الأصل وليس كذلك في الوكيل فافترقا. ¬

_ (¬1) أخرجه ابن عبد البر في "التمهيد" (8/ 388). (¬2) أنظر الأم (3/ 8).

فإن قيل: وها هنا أيضًا يجب بقول الموكل غرامة ثمن العين على الوكيل فلا فرق قلنا: لا يجب عليه له شيء بقوله وإنما يجب لبائع الجارية بحكم البيع المطلق وفي مسألة الخياط يتضمن قوله دعوى الأرش عليه فافترقا. وإذا ثبت هذا فإن الموكل يحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد أمره أن يشتري له هذه الجارية بعشرة، فإذا حلف برئ وتكون الخصومة بين الوكيل والبائع فإن كان اشتراها بعين مال الموكل. وقال: اشتريتها لفلان كان البيع باطلًا، وإن لم يقل ذلك فالظاهر أن المال الذي عينه له فلا يقبل اتفاقهما على ما يسقط حق البائع وعليه لموكله مثل دنانيره كما لو أتلفها. وإن ادعى الوكيل أن البائع يعلم ذلك فحينئذ القول قول البائع أيضًا ويلزمه الثمن، وإن أقام الوكيل البينة على أن الثمن كان للموكل بطل البيع وإن اشتراها في الذمة فإن لم يذكر أنه يشتريها للموكل لزمه الشراء. وإن ذكر أنه يشتريها لموكله فيه وجهان: أحدهما: يبطل كما لو ذكره وكان الشراء بعين المال. والثاني: لا يبطل ويقع البيع للوكيل وهو اختيار أبي إسحاق لأن العقد إذا لم يلزم الموكل تعلق بالوكيل أحكامه إذا كان الشراء في الذمة. فإذا قلنا: إن [81 / ب] الشراء يلزم الوكيل أو لم يكن ذكر الموكل بلسانه وإنما نواه بقلبه فإن الشراء يلزمه ظاهرًا وتكون الجارية له في الظاهر دون الباطن، ولا يحل له وطئها إلا أن يكون كاذبًا فالجارية له ظاهرًا وباطنًا. فإذا تقرر هذا ذكر المزني بعد هذا حيلة في أن تحصل الجارية للوكيل ظاهرًا وباطنًا فقال: قال الشافعي: يجب في مثل هذا أن يرفق الحاكم بالأمر للمأمور فيقول: إن كنت أمرته أن يشتريها بعشرين فقد بعته إياها بعشرين، ويقول الأخر: قد قبلت ليحل له الفرج ولمن يبتاعها منه وإنما قال: يرفق به لأن ذلك لا يلزمه أن يقول. وإذا قال له الحاكم فأجابه إلى ذلك وقبله الوكيل فقد ملك الجارية ظاهرًا وباطنًا وحل له وطئها. فإن قيل: البيع بهذا الشرط غير جائز فكيف أجازه المزني؟ قيل: أصحابنا اختلفوا في هذا فمنهم من قال: هذا غلط من المزني وإنما قال الشافعي ذلك في النكاح قال: وإذا زوج رجل رجلًا بتوكيله ثم اختلفا فقال الموكل: ما وكلتك وقال الوكيل: وكلتني فالقول قول الموكل مع يمينه، فإذا حلف قال له الحاكم: قل: إن كنت وكلته به فقد طلقتها حتى يحل نكاحها، وأما البيع فلا يجوز ذلك فيه لأن عقده بالشرط غير جائز. ومن أصحابنا من قال: هو صحيح واختار للحاكم أن يقول ذلك لهما تنبيها على معنى هذا العقد والسبب المقصود به من غير أن يذكراه في نفس العقد، فإن ذكراه فيه لم يصح بل يعقد له مطلقًا من غير هذا الشرط فيقول: بعتها بعشرين أو يقول: وليتك هذا البيع بعشرين بعدما قال الحاكم ذلك. فإن قيل: إذا جزم الموكل لفظ البيع على التجديد فلا يتضمن ذلك إقرارًا منه بما ادعى عليه الوكيل ويكون تكذيبًا لنفسه فيما ادعاه لأن الإنسان في الظاهر لا يبيع إلا ما هو ملكه، قيل: هذا لا يكون إقرارا لأنه يقولها باستدعاء الحاكم وأمره على مصلحة يراها الحاكم واحتياط يتكلفه وهذا قول أكثر البصريين.

وقال ابن أبي هريرة وجمهور [82/ أ] البغداديين: يجوز لهما أن يعقداه كذلك بالشرط لأنه هكذا يكون في الحكم فجاز أن يكون ملفوظًا به في العقد، فإن بيعه إياها إنما يصح إذا كان أمره أن يشتريها بعشرين وهذا كما يقول: هذه السلعة ملكي اشتريتها فإن كانت ملكي ولم يرد استحقاق فقد بعتكها بكذا فهذا يصح لأن هذا الشرط من موجب البيع ومما يقتضيه فلم يضره كذلك ها هنا. وهو أيضًا كقول الرجل لامرأته: إن كنت امرأتي فأنت طالق حيث يتيقن أنها امرأته فلا يشبه ذلك قوله: إن دخلت الدار فأنت طالق، وإن كانا متقاربين. وقال هذا القائل لو قال: بعتك دون هذا الشرط كان إقرارًا منه بملكه وصار مكذبًا نفسه فيما ادعاه. وإن لم يجب الحاكم إلي هذا وامتنع من هذا القول وقال: الذي يلزمني اليمين وقد حلفت ولا أريد أن أبيع شيئًا لا أملكه لم يجبر عليه. وقال أبو إسحاق: الوكيل لا يملكها في الباطن ولا يحل له استخدامها ولا الاستمتاع بها ويكون حكمه معها حكم الأجنبيين. وهل يجوز له بيعها؟ قولان بناة على من له على أخر حق يجحده فوقع في يده من ماله شيء فهل يجوز له بيعه؟ قولان: أحدهما: لا يجوز. والثاني: يجوز بمقدار حقه وهو الصحيح وهل يبيعه من نفسه أو يرفعه إلى الحاكم؟ وجهان: أحدهما: يبيعه بنفسه وهو الصحيح وقيل: هذا منصوص عن الشافعي وهو اختيار أبي إسحاق، والثاني: يرفعه إلى الحاكم حتى يبيعه الحاكم وعلى هذا قال ابن أبي هريرة: يواطئ رجلًا يدعيه رهنًا عليه فيقربه ليبيعه الحاكم عليه وهذا لا يصح لأن فيه مشقة وأمرًا بالكذب فلا يجوز. ومن أصحابنا من قال: يملكها الوكيل ظاهرًا وباطنًا وهو اختيار الإصطخري، وبه قال أبو حنيفة كالمتبايعين إذا اختلفا وتحالفا كانت الجارية للبائع على أحد الأقاويل ظاهرًا وباطنًا. قال أبو إسحاق: وهذا غلط لأنهما إذا تحالفا انفسخ البيع ورجعت الجارية إلى ملك البائع وليس كذلك ها هنا [82/ ب] فإن البيع لا ينفسخ بيمين الموكل والوكيل مقر بأنها ملك للموكل فلم يجز له تملكها والاستمتاع بها. قال أصحابنا: وأصل هذه المسألة ما ذكره الشافعي في اليمين مع الشاهد قال: ولو ادعى على رجل أنه باع منه عبدًا بعشرين وأنكر المشتري ذلك فالقول قوله، فإذا حلف أحببت أن يقول المشتري للبائع: وإن كنت اشتريت منك فسخت الشراء بيننا فيكون إقالة يعود العبد بها إلى ملك البائع، ولو امتنع من ذلك ففيها أقاويل: أحدهما: العبد للبائع في الظاهر دون الباطن وللبائع بيعه في حقه. والثاني: يملكه البائع بامتناع المشتري وكأنه عاد في عين ماله لتعذر ثمنه من جهة المشتري كما نقول في عين ماله عند الفلس. والثالث: البائع لا يبيع ذلك ويرفعه إلى الحاكم حتى يبيعه. كذلك ها هنا قد تعذر على الوكيل الرجوع بحقه على الموكل فيكون على الأقوال. ومن قال بالأول فرق بينه وبين مسألة الدار بأن الشافعي جعل هناك المشتري كالمفلس والخصومة بين الموكل والوكيل وها هنا فلا يمكن أن يجعل كالمفلس، وهذا اختيار المزني رحمه الله. ومن أصحابنا من قال: قال الشافعي في اليمين مع الشاهد: فإن كان هذا في دار فامتنع

المشتري من الفسخ أجرها البائع واستوفى ثمنها من أجرتها ثم ردها على المشتري. كذلك ها هنا للوكيل أن يؤاجر الجارية ويستوفي ثمنها من أجرتها ثم يردها محلى الموكل. وقال القاضي أبو علي الزجاجي: فيه ثلاثة أقوال: أحدهما: إذا امتنع الموكل جعلها الحاكم للمشتري حكمًا. والثاني: يبيعها على ما ذكرنا. والثالث: حكم الموكل حكم المفلس فيختار أخذها ثم إن شاء أمسكها، وإن شاء باعها وأخذ ثمنها قاله ابن سريج تخريجًا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه ثلاثة أوجه، اثنان ما ذكره القاضي أبو علي الزجاجي أولًا. والثالث: لا يبيعها وهي ملك الموكل في يده أبدًا. وقيل: فيه أربعة أوجه: أحدها: وهو قول أبي يوسف إن أراد الوكيل مخاصمة الموكل فيها لم يحل [83 / أ] له فرجها ولا بيعها، وإن ترك المخاصمة حل ذلك. والثاني: تحل له في الحالين وهذا على أصل من قال: يحصل الملك للوكيل ثم ينتقل منه إلى الموكل وهو قول بعض أصحابنا وقد تعذر الأمر ها هنا من جهة الموكل فبقي للوكيل. والثالث: هي ملك الموكل في يده أبدًا. والرابع: ما اختاره أبو إسحاق فحصل ستة أوجه عند التأمل والمعول على ما سبق. فإذا تقرر هذا قلنا: يجوز له بيعها فإن اشتريت الجارية بعشرين دينارًا يستوفيها، فإن اشتريت بأقل من ذلك كان النقصان له في ذمة الموكل. وإن اشتريت بزيادة يسيرة قال في "الإفصاح": فيه وجهان: أحدهما: أن الزيادة تكون في يده لا يجوز له أن يتصرف فيها لأنه يقول: هي للموكل ويقول الموكل: إنها للوكيل فوجب إقرارها في يده إلى أن ينكشف الأمر. والثاني: تكون لمصالح المسلمين تدفع إلى الإمام حتى يصرفها في المصالح لأن كل واحد من الوكيل والموكل تبرأ من ملكها فكانت بمنزلة مال لا مالك له فيجب صرفها في مصالح المسلمين. وقال القاضي الطبري: رأيت بعض أصحابنا قال: الزيادة تحتاج أن يردها على الموكل لأنه يعلم أنها له. ولأنه إذا كان النقصان في ذمته وجب أن تكون الزيادة له وليس هذا بمخالف لما قاله صاحب "الإفصاح" إن شاء الله لأن هذا الوكيل يعلم أن هذه الزيادة للموكل ولكنه ينكرها فلا يجوز إجباره عليها، وإذا كان كذلك كان على ما ذكره من الوجهين. هذا كله إذا لم يكن للوكيل بينة، فإن أقام البينة فالمشتري يلزم الموكل وعليه ثمن الجارية وتكون الجارية له في الحكم. وهل تحل له في الباطن وجهان: أحدهما: تحل لأنا حكمنا له بها. والثاني: لا تحل له لأنه مكذب لبينته ويعلم أنه لم يأمره بأن يشتريها إلا بعشرة. وأما إذا أقام الموكل البينة قال أصحابنا: لا

تسمع بينته لأنها تشهد على أن الإذن في الشراء بالعشرين وهذا لا سبيل إلى معرفته. وأما إذا أنكر الإذن ثم أقر به وجب أن تحل له قولًا واحدًا لأنه يقول: كنت أنكرت ذلك بأسًا ثم ذكرت [83/ ب] بعده فأقررت به ويخالف قيام البينة لأنه بعد قيام البينة يقول: إنها محرمة عليه، وأن وكيله خالفه في شرائها. وأما إذا أنكر ونَكَل عن اليمين فحلف الوكيل يكون حكمه حكم قيام البينة لأنه مقر بتحريمها عليه ذكره القاضي الطبري. مسألة (¬1): قال: ولو أمرهُ أن يشتري لهُ جاريةً فاشترى غيرها. الفصل وهذا كما قال: إذا وكل رجل رجلًا بأن يشتري له جارية بعينها فاشترى غيرها فالحكم ما ذكرنا أنه إن كان اشتراها بعين المال كان الشراء باطلًا، فإن كان في الذمة وذكر الموكل فقال: بعني هذه الجارية لموكلي فلان ابن فلان بكذا فقال: بعتكها فيه وجهان على ما ذكرنا، وإن لم يذكر الموكل بلفظه كان الشراء لازمًا للوكيل وعليه ثمنها. وأما إذا وكله بأن يزوجه امرأة فزوجه غيرها فالنكاح باطل في جميع الأحوال لأن النكاح لا بد فيه من ذكر الموكل فيقول: زوج ابنتك لموكلي فلان ابن فلان فيقول: زوجتها لفلان ابن فلان، فإذا زوجه غير المرأة التي عينها كان باطلًا بخلاف ههنا. فرع قال بعض أصحابنا بخراسان: لو قال: بعت هذا من فلان وقال الوكيل: قلت لفلان كما يقولون في النكاح لا يصح، والفرق أن للبيع أحكامًا يتعلق بالمجلس من الخيار وغيره فوجب أن يثبت تلك الأحكام للمتبايعين الذين هما على الأحكام وإذا عقدا على هذه الصورة لم يوجد مكان يجمع المتعاقدين البائع والمشتري فلا يصح بخلاف النكاح. فرع آخر لو قال: وكلتك في شراء عبد أو جارية ولم يذكر النوع بطلت الوكالة لأنه لا يدري أي نوع من العبيد أو الجواري يشتري. ومن أصحابنا من قال: يجوز اعتمادًا على رأي وكيله وهذا غلط لأنه يتفاوت تفاوتًا فاحشًا. وعلى هذا لا يجوز حتى يقترن بيان الموكل فيه على الفور. وقال أبو حنيفة: إن ذكر الثمن فقال: بألف جاز لأن ذكر الثمن يقوم مقام الصفة وهو وجه لأصحابنا. ذكره في "الحاوي" (¬2). فرع آخر لو ذكر النوع فقال: وكلتك في شراء عبٍد رومي أو تركي [84/ أ] أو زنجي أو ثوب هروي أو مروي فيه وجهان، أحدهما: تجوز الوكالة لأنه إذا ذكر الجنس والنوع قل فيه ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 8). (¬2) أنظر الحاوي للماوردي (6/ 547).

الغرر ويتقارب الرومي والتركي وكأنه أمره بأعلاه ثمنًا وذكر الصفات يضيق على الناس وهذا اختيار ابن سريج رحمه الله. والثاني: لا تجوز الوكالة حتى يضبط الصفات التي يختلف الثمن لأجلها اختلافًا متباينًا. ومن أصحابنا من قال: هذا إذا لم يذكر قدر الثمن فإن ذكر يجوز قولًا واحدًا. فرع آخر لو قال: بع من رأيت من عبيدي أو خيلي لا يجوز سواء ذكر العدد أو لا حتى يتميز المبيع من غيره بصفة أو إشارة. وكذلك لو قال: اشتر لي عبيدًا من الأتراك لم يجز للجهالة الكثيرة وروي عن أبي حنيفة أنه قال: تجوز الوكالة العامة مع الجهالة مثل أن يقول: اشتر ما شئت وما رأيت لأنه فوض الأمر إليه كالمضارب وهذا غلط لأن الغرض من المضاربة طلب الربح فجاز فيها هذا الإطلاق وها هنا امتثال أمره ولا دليل على غرضه عند الإطلاق فافترقا، أو المقصود من الوكالة تمليك العين المشتراة والإطلاق فيه يمنع العلم بالمقصود. فرع آخر لو قال: وكلتك في بياعاتي كانت الوكالة باطلة. ولو قال: وكلتك في كل قليل ولا كثير لا يجوز نص عليه، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف، وقال ابن أبي ليلى ومحمد: يجوز وتحمل على العموم فيتصرف في كل ما تدخله النيابة وهذا غلط، لأن الغرر فيه يعظم فإنه ربما يعتق جميع عبيده ويطلق جميع زوجاته ويبيع جميع ماله أو يشتري له جميع ما يقدر عليه فيقتضي الجواز وفي هذا خطر عظيم وغرر كثير ولأنه يؤدي إلى التناقض فإنه لا يدري هل وكله بالحفظ أو بالبيع أو بالهبة أو بالصدقة أو غير ذلك؟ ولا يجوز أن يكون وكيلًا في جميع ذلك فلم يصح. فرع آخر لو قال: وكلتك في بيع كل قليل وكثير من مالي يجوز لأن تخصيص البيع جعل المراد بعموم ماله معلومًا. وكذلك لو قال: وكلتك ببيع عبيدي أو إمائي كان جائزًا وله أن يبيع كلهم. فرع آخر لو قال: وكلتك ببيع من [184 /ب] رأيت من عبيدي هؤلاء الثلاثة جاز، وليس له أن يبيع كلهم. فرع آخر لو قال: وكلتك في شراء ما رأيت بكل قليل وكثير من مالي لا يجوز، لأن جنس ما يشتريه بماله لا يصير معلومًا. وكذلك لو قال: اشتر بهذا الألف ما رأيت من العروض كانت باطلة إلا أن يكون مقصوده طلب الربح كما في المضاربة فيجوز. وكذلك لو قال: اشتر لي بهذا الألف ما علمت فيه حظًا من الأموال، وكذلك لو قال: وكلتك

بشراء شيء كان التوكيل باطلًا. وكذلك لو قال: اشتر لي ثيابًا أو دوابًا كان باطلًا أيضاً. فرع آخر لو قال: وكلتك في قبض ديوني صحت الوكالة، وكذلك لو قال: في قبض ودائعي لأنه لا غرر فيها ذكره بعض أصحابنا. فرع آخر لو وكله أن يزوجه امرأة بعينها، أو يزوجه من شاء كان جائزًا ذكره أبو حامد في "الجامع "، وفيه وجه آخر ذكره ابن سريج لا يجوز حتى يصفها بما يضبطه وهو اختيار الزبيري ذكره في كتاب "الفصول" لأن الأغراض تختلف فمن الناس من يرغب في الجمال، ومنهم من يرغب في كثرة المال ومنهم من يرغب في العشيرة أو في النسب. فرع آخر لو كان الوكيل بالنكاح ضمن الصَداق وأنكر الموكل الوكالة كان الوكيل غارمًا لما ضمن. وأي قدر يضمنه؟ وجهان أحدهما: يضمن جميعه لاستحقاقه العقد، والثاني: يضمن نصفه لعدم الدخول فيه. فرع آخر لو وكله بأن يشتري له طعامًا بكذا كانت الوكالة بالحنطة لا غير، ولا يجوز له أن يشتري غيره وإن كان اسم الطعام ينطلق عليه اعتبارًا بالعرف والعادة، ألا ترى أنه لو وكله ببغداد ليشتري له خبزًا فاشترى خبز الأرز لم يجز؟ وإن كان اسم الخبز يقع عليه. وعند أبي حنيفة له أن يشتري الدقيق أيضًا. وهكذا إذا قال: أسلم هذا في كرٍّ من طعام أسلمها في الحنطة لا غير. فرع آخر لو وكله في شراء عبد بمائة فاشتراه قال ابن سريج: إذ اشتراه على الوجه المأذون فيه فهو للموكل وإن كان [85 / أ] على وجه غير مأذون فيه فهو للوكيل. قال: والإذن ضربان إذن مستفاد لفظًا، وإذن مستفاد عادة وعرفًا، فإذا وافق أحد الإذنين كام للموكل. وإن خالفهما كان للوكيل فإذا اشتراه بمائة دينار كان للموكل لأنه امتثل أمره لفطًا وعرفًا، وإن اشتراه بأقل من مائة وقع للموكل أيضًا لأنه امتثل الأمر عرفًا، فإن من رضي أن يشتريه بمائة فقد رمي بكل دينارٍ مها. وفيه وجه آخر الموكل بالخيار في قبول هذا الشراء ورده وليس بمشهور. وإن اشتراه بمائة وديار وقع للوكيل لأنه خالف الإذنين جميعًا. فرع آخر لو قال: اشتراه بمائة دينار فاشتراه بمائة درهم كان للوكيل لأنه خالف الإذنين جميعًا معًا لأن العرف يقتضي الاقتصار على الجنس المأذون فيه، وإن كان في غيره فضل،

كما لو أمره أن يشتري له عبدًا بمائة دينار فاشترى له جارية بمائة دينار تساوي ألف دينار كانت للوكيل. فرع آخر لو قال: ولا تشتره بأقل منها لم يكن له أن يشتريه بأقل منها لأن الإذن العرفي أزاله باللفظ فإن اشتراه بأقل منه لم يلزم الموكل. فرع آخر لو قال: اشتره بمائة دينار ولا تشتره بخمسين، كان له أن يشتري بالمائة نطقًا ولا يشتري بالخمسين نطقًا، وله أن يشتري بما بين المائة والخمسين عرفًا. فإن اشتراه بأقل من خمسين فيه وجهان: أحدهما: يكون للموكل وهو الصحيح لأنه أذن له بالمائة نطقًا وبأبعاضها عرفًا واستثنى الخمسين نطقًا فما عداه يبقى على العرف كما يجوز أن يشتري بما فوق الخمسين. والثاني: يقع للوكيل وهو اختيار أبي حامد لأنه لما منعه من الخمسين فما هو أقل منه أولى. فرع آخر لو أذن له بشراء عبد بصفٍة بمائة دينار فقد أذن له بالمائة نطقًا وبأبعاضها عرفًا، فإن اشتراه بمائة بتلك الصفة أو بأقل من المائة صح إن كان يساوي مائة، فإن كان لا يساوي مائة يكون للوكيل، وإن اشتراه دون تلك الصفة بأقل من المائة وقع للوكيل لأنه خالف الإذن النطقي في المقدار والعرفي في الصفة [85/ ب] فإن من رضي عبدًا بمائة لا يرضى دون ذلك العبد بدون المائة. فرع آخر لو وكله ببيع سلعة بعينها فباعها بها أو بأكثر جاز، وإن باعها بأقل لا يجوز. فرع آخر لو قال: بعها من زيا بمائة فباع منه بأكثر من مائة لم يجز لأنه وكله في صحاباته، بخلاف ما إذا وكله في شراء عبد بمائة يجوز الشراء بأقل منها، والفرق أنه إذا وكله في المبيع منه بمائة فهو ممنوع من قبض الزيادة منه وليس للوكيل قبض ما منع من قبضه، وفي الشراء مأمور بدفع الزيادة ودفع الوكيل البعض جائز وإن منع الزيادة. فرع آخر لو قال: بعها بمائة ولا تبعها بأكثر لم يجز بيعها بأكثر، ولو قال: بعها بمائة ولا تبعها بمائة وخمسين له بيعها بمائة، ولا يجوز له بيعها بمائة وخمسين، ويجوز أن يبيعها بما بين المائة والخمسين، وهل يجوز أن يبيعها بالزيادة على مائة وخمسين؟ وجهان.

فرع آخر لو وكله في شراء عبد بمائة فاشترى نصفه بخمسين وقع للوكيل لأنه خالف الإذن النطقي في شراء نصفه والعرفي بالتبعيض فيه. ولو أذن له أن يشتريه بثوب فإن اشتراه بثوب كان للموكل، وإن اشتراه بنصف ثوب كان للموكل أيضاً لأنه امتثل الإذن العرفي، فإنَّ من رضيه بثوب فهو بنصفه أرضي. فرع آخر لو وكله في بيع عبد فباع نصفه بأقل من ثمن الكل لم يجز، وبه قال أبو يوسف ومحمد خلافًا لأبي حنيفة وهذا لأن على الموكل ضررًا في تبعيضه. فرع آخر لو قال: بعه بمائة درهم فباعه بمائة دينار لم يجز. ولو باعه بمائة درهم ودينار جاز لأنه باعه المأذون وزيادة. وإن باعه بمائة وثوب فيه وجهان: أحدهما: يجوز، لأنه زاده خيرًا كما لو باعه بمائة دينار. والثاني: لا يجوز لأنه باعه بغير جنس الأثمان. ولأن بيعه بالعرض شراء وليس بيع. فرع آخر إذا قلنا بالوجه الثاني بطل البيع في قدر الثوب وهل يبطل في الباقي؟ قولان بناء على القولين في تفريق الصفقة. فإن قلنا: لا تفرق بطل في [86/ أ] الكل. وإن قلنا: تفرق بطل في حصة الثوب من العبد، فإن كان قيمهما سواء بطل البيع في نصف العبد وثبت الخيار للمشتري لأن الصفقة تفرقت عليه ولا خيار للموكل لأنه رضي ببيع جميعه بمائة، فإذا باع نصفه بمائة نقد زاده خيرًا. وحكي عن ابن سريج وجه آخر أنه لا خيار للمشتري أيضًا إذا علم بوكالته لأنه دخل على ذلك وهو عالم وهذا لا يصح لأن الاعتبار بمقتضى العقد، والعقد اقتضى أن العبد صفقة واحدة. وقيل: فيه وجه ثالث أنه إن قال المشتري: علمت بوكالتي ولكني اعقدت أن بيع وكيله ينفذ عليه أو قال: علمت أنه لا ينفذ عليه غير أني اعتقدت أن لي الخيار فله الخيار لأنه دخل في العقد على هذا الاختيار وإن كان بخلاف ذلك فلا خيار. فرع آخر لو وكله في شراء عشرة أعبٍد وأطلق كان له أن يشتريهم صفقًة واحدًة وواحدًا واحداً. فإن قيل: أليس قلتم: لو وكله في شراء عبد لم يكن له أن يشتريه في صفقتين؟ قلنا: الفرق أنه إذا اشترى نصفه فهو ناقص، وإذا اشترى واحدًا بعد واحد فلا نقص عليه. فرع آخر لو أمره بشمرائهم صفقة واحدة فاشتراهم فإن كان من واحٍد وقع للموكل لأنه امتثل الأمر نطقًا، وإن اشتراهم من اثنين وكانت العبيد مشتركة بينهم قال ابن سريج: يقع

للموكل لأنه حصل جميعهم للموكل بعقد واحد. وقال أبو حامد: هذا لا يجيء على مذهب الشافعي لأن عقد الرجل مع الاثنين في حكم العقدين والصفقتين فهو كما لو أفرد كل خمسة بعقد لا يجوز لأنه خالف، كذلك ههنا، وهذا هو الصحيح. فرع آخر لو اشتراهم من اثنين صفقة واحدة خمسة من هذا وخمسة من هذا لا يكون الشراء للموكل بلا خلاف لأنهما صفقتان، وهل يلزم الوكيل؟ قد ذكرنا في هذا طريقتين: أحدهما: البيع باطل قولًا واحدًا إلا أن يكون سمى لكل واحٍد ما يخصه ثمنًا. والثاني: فيه قولان فإذا قلنا: يصح وقع للوكيل وهكذا ذكره ابن سريج وخالف [86/ ب] قوله في المسألة التي قبلها حيث قال: يقع الشراء للموكل إذا اشتراهم من اثنين وكانت العبيد مشتركة بينهم. فرع آخر لو وكله بشرا، عبد بعينه بمائة فاشتراه بأكثر لا يلزم الموكل ويكون للوكيل. وقال ابن سريج: الشراء لازم للموكل بالمائة التي عين والزيادة تلزم الوكيل بضمانه وكأنه تطوع بها. وهذا خطأ لأن الثمن واحد ولا يتبعض حكمه. ولأنه وافقنا على أنه لو عين العبد ولم يعين ثمنه مثل أن قال: اشتر لي سالمًا فاشتراه بأكثر من ثمن مثله لا يلزم الموكل الشراء. فإن قال: الفرق بينهما أنه ليس في المقدر اجتهاد في الزيادة فصار متطوعا بها بخلاف غير المقدر ثمنه، قلنا: ينتقض بالبيع فإنه يبطل بنقصان الثمن في المقدر وغير المقدر، ولا يقال في المقدر يصح ويلزمه النقصان من مال نفسه، ولو قال الموكل في هذه المسألة: أجزته وقبلت الشراء بأكثر من ثمنه لم يكن له ذلك. وقال ابن سريج: له ذلك ويصير له بالقبول لأنه إنما صرف إلى الوكيل نظرًا له فإذا سامح بالزيادة كان هو أحق به. فقيل له: أليس في البيع بدون ثمن المثل يبطل البيع وإن أجاز؟ قال: نعم والفرق أن البيع بمخالفته يصير فاسدًا فلم يجز بالإجارة بخلاف الشراء. فرع آخر لو دفع إليه ألفًا وقال له: اشتر عبد فلان ولم يقل: بعينه ولا في الذمة، فيه وجهان: أحدهما: أنه يقتضي الشراء بعينه لأنه لما دفع إليه الألف دل على أنه قصد الشراء به، فعلى هذا إذا اشترى في ذمته لم يصح الشراء للموكل ويكون له وهذا اختيار صاحب "الإفصاح". والثاني: يجوز له أن يشتري بعينه وفي الذمة وينقد الألف منه للإطلاق. فرع آخر لو دفع إليه دينارًا ليشتري له شاة وصفها له فاشترى له شاتين على الوصف الذي أمره به أو أطلق الشاة فاشترى شاتين يسوي كل واحد منهما دينارًا. قال الشافعي في "الأم": العقد صحيح وفي الملك قولان: أحدهما: يملكهما الموكل معًا لأنه خالف الموكل على وجه ينفعه فجاز وكان جميعه [87/ أ] له كما لو

وكله ببيع ثوب بدينار فباعه بدينارين. والثاني: ينتقل ملك إحداهما إلى الموكل وملك الأخرى إلى الوكيل، والموكل في شاة الوكيل بالخيار بين أن يقرها على ملك وكيله ويسترجع منه نصف دينار، وبين أن ينتزعها منه، قال ابن سريج: ويجوز انتزاع ملك الغير بغير اختيار لتعلقه بملكه ومشاركته له كما في الشفعة. وقال القاضي الطبري: ولا وجه لهذا القول إلا أن يكون على قول يحكى عن الشافعي في البيع الموقوف. وقال صاحب "الإفصاح": يحتمل على هذا القول أن يقال: تلزمه إحدى الشاتين تلزم الموكل ولا خيار له في شاة الوكيل؛ لأن أمره تناول إحدى الشاتين والأخرى لم يتناولها أمره فيقع ملكها للوكيل وهذا قول أبي حنيفة والأول أصح لحديث عروة البارقي على ما ذكرنا ولأنه حصل له المأذون فيه وزيادة من جنسه تنفعه فوقع له كما لو قال له: بع بمائة فباع بمائة وخمسين. وهذا إذا كان الشراء في الذمة، فإن كان شراءهما بعين الدار فإن قلنا في المسألة الأولى: كلتاهما للموكل فكذلك ههنا. وإن قلنا هناك: إحداهما للموكل والأخرى للوكيل فههنا إحداهما للموكل ويبطل العقد في الأخرى لأنه لا يجوز أن يملك الوكيل بثمن هو ملك غيره. وقيل: لا فرق بين أن يكون الشراء بعينه أو في الذمة، لأن الشافعي نص في كتاب "الإجارة" على هذه المسألة وقال: إذا أعطاه دينارًا وقال: اشتر به شاة فاشترى به شاتين. وهكذا إذا وكله بأن يشتري عشرة أقفزة حنطة بمائة درهم فاشترى أحد عشر قفيزًا من النوع الذي أمره به يكون على القولين. وان لم يساو كل واحدة منهما دينارًا لا يلزم الموكل لأنه لا يطلب بدينار مالا يساوي دينارًا فعلى هذا إن كان الشراء في الذمة وقع للوكيل، وإن كان بغير الدينار بطل الشراء. وإن كانت إحداهما تساوي دينارًا والأخرى تساوي أقل من دينار فيه وجهان: أحدهما: للموكل ما يساوي دينارًا والأخرى للوكيل. والثاني: وهو الأقيس كلتاهما للموكل لأن الذي تناوله إذنه قد وجده وهذه الزيادة [81 / ب] تنفعه من كل وجٍه. فرع آخر إذا قلنا: كلتاهما للموكل فباع الوكيل إحداهما بدينار في الصورة الأولى وحمل الموكل الشاة والدينار خرج أبو العباس فيه قولين: أحدهما: لا يصح البيع لأنه باع مال الموكل بغير إذنه وهو الأصح. والثاني: يصح لخبر عروة البارقي ولأنه بلغه غرضه أو حصل له الشاة واستفضل له دينارًا فهو كما لو اشترى له ابتداء شاة بنصف دينار واستفضل له نصف دينار وهذا ضعيف، وتأويل الخبر أنه كان وكيلًا مطلقًا بالبيع والشراء. وقال أبو حامد: أصل القولين في هذه المسألة مسألة البضاعة، وهي إذا غصب مالًا وانجر فيه، فيه قولان؛ أحدهما: التصرف باطل. والثاني: قاله في القديم رب المال بالخيار بين أن يجيز البيع فيكون كل الربح له وبين أن يبطله ويكون له ضمان ماله. وأما في الصورة الأخرى إذا كانت إحداهما تساوي دينارًا والأخرى أقل منه، وقلنا:

كلتاهما للموكل فباع إحداهما، فإن باع التي قيمتها دينار لم يجز، وإن باع الأخرى فعلى الوجهين والفرق أنه إذا باع التي قيمتها دينار لم يحصل غرضه بخلاف ما إذا باع الأخرى. فرع آخر لو وكل وكيلًا في شراء عبد فاشتراه ودفع ثمنه من مال موكله ثم استحق العبد هل يكون الوكيل خصمًا في الرجوع بدرك الثمن على البائع بالوكالة الأولى؟ وجهان ذكرهما القاضي أبو القاسم بن كج: أحدهما: يكون خصمًا فيه لأنه من أحكام عقده. والثاني: لا يكون خصمًا إلا باستثناف وكالة، لأن ما اقتضته الوكالة الأولى فقد تقضى. وقال القاضي أبو الحسن الماوردي: الصحيح أن يُنظر، فإن استحق من يد الوكيل قبل وصوله إلى الموكل كان الوكيل خصمًا في الرجوع بدركه. وإن استحق من يد الموكل لم يكن خصمًا فيه إلا باستئناف الوكالة لأن بحصوله في يد الموكل انقضت أحكام وكالته وانقطعت العلائق بخلاف ما قبل الوصول. فرع آخر لو كان له في ذمة وكيله ألف فقال له: أسلفه لي في كرٍّ من طعام فأسلفه قال ابن سريج: صح وإذا قبض الألف في ثمنه برئت ذمته منه، وإذا قبض الطعام كان أمانة في يده فإن هلك من غير تفريط [88 / أ] فلما ضمان عليه. وقال أبو حامد: هذا سهو من ابن سريج ولا يجوز ذلك على مذهب الشافعي لأن الألف في الذمة فكيف يشتري به لغيره والغير ما تعيّن له حقه ولعله أراد أن يقول له: أسلف ألفًا في الذمة في كرِّ من طعام فلما فعل الوكيل هذا قال له الموكل: حصل علي ألف ثمن الطعام، ولي عندك ألف فادفع الألف الذي لي عليك إليه ففعل صح. فرع آخر قال ابن سريج: لو قال لوكيله ولا شيء له عليه ولا في يده: أسلف لي من مالك في كر من طعام يكون الطعام لي والألف قرضًا عليّ ففعل صح، وإذا دفع الألف في ثمن الطعام كان قرضًا على الموكل والطعام له. وقال أبو حامد: هذا غير صحيح أيضًا لأن عند الشافعي لا يجوز أن يشتري بمال نفسه لغيره فيكون المبيع لغيره، ولا أن يبيع مال نفسه فيكون الثمن لغيره ولكن لو قال لوكيله: أسلف لي ألفًا في الذمة في كر من طعام فلما تم هذا قال له: اقض هذا الثمن عني من مالك ففعل صح لأنه يقضي دين غيره بأمره، فإذا فعل كان قرضًا على الموكل. قال أصحابنا: ويجوز أن يأذن له قبل أن يعقد بدفع الثمن من عنده لأن التصرف من الوكيل يجوز تعليقه بالشرط. ووجه قول ابن سريج أنه إذا أعتق عبده عن غيره جاز وكان الولاء لغيره واستحق العوض عليه. فكذلك يجوز أن يشتري بملكه

سلعة لغيره وقال في "الحاوي" (¬1) كما قال ابن سريج ثم قال: فيه وجهان: أحدهما: أنه قرض فيه وكالة فعلى هذا إن لم ينص على قدر الثمن كان فاسدًا لأن قرض المجهول فاسد. والثاني: أنه عقد وكالة فيه قرض فعلى هذا لو لم يذكر قدر الثمن جاز ويتفرع على هذا أن يقول لغيره: أقرضتك ألفًا على أن ما رزق الله تعالى من ربح فهو بيننا نصفين: فأحد الوجهين أنه قرض فاسد يكون ضامنًا للمال وله الربح دول المقترض. والثاني: أنه مضاربة فاسدة فعلى هذا ليس عليه ضمان المال والربح لربه وللعامل أجر مثله. فرع آخر إذا دفع إليه ألفًا وقال: أسلمه في طعام ففعل ولم يسم الموكل ثم اختلفا فقال: إنما أسلفت لنفسي وقال الموكل: بل لي فالقول قول الوكيل مع يمينه فإذا حلف حكم له بذلك [88/ ب] في الظاهر، وكان للموكل الرجوع عليه بالألف. وقال أصحاب أبي حنيفة: القول قول الموكل لأنه دفع دراهمه. واختلفوا إذا تصادقا إن لم ينوِ، لا له ولا للوكيل، فقال أبو يوسف: يكون للموكل لأن الظاهر معه حين دفع دراهمه، وقال محمد: يكون للوكيل. فرع آخر لو دفع إلى وكيله دراهم ليدفعها سلمًا في طعام ففعل ثم إن المسلم إليه رد من الدراهم رديئة وصدقة الوكيل عليها وأنكر الموكل فهي لازمة للوكيل دون الموكل، وفيه قولان ذكرهما ابن سريج أحدهما: يرجع ببدلها على الوكيل والطعام في ذمته للموكل وهذا إذا قلنا في مشتري الدراهم بغير أعيانها إذا أصاب بها بعد القبض عيبًا أنه يبدلها. والثاني: يردها على الوكيل، فإذا أدى الطعام إلى الموكل رجع على الوكيل بحصة ما رده عليه من الطعام مثل أن يكون رد عليه الثمن فيرجع عليه بعشر الطعام، وهنا إذا قلنا في مشتري الدراهم إذا وجد بها عيبًا لا يبدلها. فعلى هذا للوكيل أن يستوفي قيمة ما دفع من عشر الطعام من الدراهم المعيبة التي ردت عليه، فإن كان أكثر من حقه رد الزيادة، وإن كان أقل من حقه ليس له غيرها. فرع آخر لو دفع إليه ألفًا وقال: أسلفه في طعام ففعل وأطلق العقد ولم يذكر الموكل حال العقد وسلم الألف ثم أبرأ الوكيل المسلم إليه عن الطعام فإنه يبرأ في الظاهر لأنه هو المالك وللموكل تضمينه الألف دون الطعام، لأنه وإن كان الوكيل قد أتلف الطعام الذي له في الذمة فقد تلف المسلم فيه قبل القبض وأخذ البدل عنه لا يجوز، فرجع إلى رأس المال. ¬

_ (¬1) أنظر الحاوي للماوردي (6/ 535).

فرع آخر لو وكله في قبض عين من رجل فجحدها من هي في يديه فقد ذكرنا أنه إذا وكله في قبض دين فجحد هل له تثبيته؟ وجهان. والقياس أن العين والدين سواء، وقال أصحاب أبي حنيفة: لا يكون وكيلًا في تثبيتها لأنه وكيل في النقل فلم يملك الإثبات، كالوكيل في نقل الزوجة بخلاف الوكيل في الدين وهذا غلط لأن القبض في العين كالقبض في الدين فإذا جاز له الخصومة في الدين جاز له في العين و [89/ أ] يخالف الزوجة لأنه لا قبض فيها. فرع آخر لو وكله ببيع داره أو قسمة نصيبه أو طلب الشفعة لم يكن له تثبيتها ذكره بعض أصحابنا. وقيل: فيه وجهان أيضًا إذا وكله في القبض. وقال أبو حنيفة: إذا وكله في القسمة أو طلب الشفعة كان وكيلًا في تثبيتها، لأنه لا يتوصل إلى ذلك إلا بإثبات الملك فيه، وهذا لا يصح لأنه لا يتضمن التوكيل في إثباته لأنه قد يصلح لأحدهما دون الآخر. فرع آخر لو وكل المسلم ذميًا في شراء خمر لم يصح التوكيل، وإذا اشترى له لم يصح الشراء، وقال أبو حنيفة: يصح ويقع الشراء للمسلم وهذا غلط لأن ما لا يجوز أن يعقد عليه المسلم لا يجوز أن يوكل فيه الذمي كنكاح المجوسية. فرع آخر ذكره والدي رحمه الله، لو وكل وكيلًا ببيع ماله فطلبه واحد بألفين والأخر بألف فباعه بألف يحتمل أن لا يجوز البيع لفقد النظر، ويحتمل أن يجوز البيع لأن إطلاق الإذن يقتضي البيع بثمن المثل. ولو قال: بعه بثمن مثله فباعه بألف في هذا الموضع جاز فكذلك إذا أطلق لأن مقتضى إطلاقه مقتضى هذا التقييد والأول أصح عندي. فرع آخر لو وكله بطلب الشفعة له في شقٍص بيع ولم يتبين الثمن فأخذه الوكيل بالثمن وهو أضعاف قيمة الشقص يجب أن يصح الأخذ لأن الشفعة إنما تؤخذ بمثل الثمن الذي وقع به البيع فالتوكيل بها توكيل بالأخذ بذلك الثمن قل أو كثر وصار من هذا الوجه كالتقييد. فرع آخر إذا وكل رجلًا ببيع عبده ثم إن رجلًا أخر وكل هذا الموكل بشراء ذلك العبد من وكيله أو أطلق الإذن فاشتراه من وكيله هل يصح؟ يُنظر فإن لم يقدر الثمن لم يصح لأنه يقصد إلى الزيادة في الثمن طلبًا لحظ نفسه والغرض فيه يتضاد. وان قدر الثمن. قال والدي رحمه الله: يحتمل أن يجوز كما لو كان الوكيل غير المالك لأن شرائط

العقد موجودة في الموضعين. ويحتمل أن لا يجوز لأن إيجاب الوكيل إيجاب الموكل حكمًا، فلو جوزنا قبوله أدى إلى أن يكون موجبًا وقابلًا في عقد واحد وهذا لا يجوز في حق [89 / ب] غير الأب والجد، ونوضحه أن ابن العم لو أراد التزوج بموليته فوكل آخر بتزويجها منه لم يجز، لأن إيجاب الوكيل إيجابه من جهة الحكم فيؤدي إلى أن يكون موجبًا قابلًا، وعلى هذا لو وكل آخر بتزويج ابنته ثم إن رجلًا وكل هذا الأب بقبول نكاح ابنته من وكيله له ففعل هل يصح النكاح؟ يحتمل وجهين. فرع آخر لو وكل رجلًا بقبض دينه من فلان فقبضه الموكل وكان معيبًا ولم يعلم بعيبه فجاء الوكيل وقبض الجيد ممن عليه فدفعه ذلك إليه قبل معرفة الموكل بالعيب ثم علم به فرد ما أخذه هل يصح قبض الوكيل عن الموكل؟ قال والدي رحمه الله: الذي عندي أنه يجوز، وعندي أنه لا يجوز لأن الرد بالعيب انتقاص من الوقت لا من الأصل وقد أخذ الوكيل ذلك بعد براءة ذمته فلا يصح قبضه. فرع آخر إذا وكل رجلًا بإعتاق عبده فقال الوكيل له: أنت حر إن كنت دخلت الدار الفلانية وكان العبد دخلها هل يعتق أم لا؟ فيه وجهان أحدهما: لا يعتق كما لو قال: أنت حر إن دخلت الدار. والثاني: يقع لأنه لم يؤخر العتق فإنه وقع بلفظه، وإذا علقه بالدخول في المستقبل أخر العتاق بلفظه وهو وكيل بتنجيز العتق دون تأخيره فافترقا، والأول أظهر لأنه تعليق بالصفة، وإن كانت ماضية وهو لم يوكله بالتعليق. فرع آخر لو وكل رجلًا ببيع عبده بعشرة إلى يوم الخميس فلم يبعه حتى دخل ذلك اليوم لم يكن للوكيل بيعه لأنه وكيل ببيعه بثمن مؤجل إلى وقت كذا وقد فات الأجل، فلو باعه لباعه حالًا كما ليس للوكيل بالحال بيعه بالمؤجل. وفيه وجه آخر أنه يجوز البيع. فرع آخر إذا باع مالًا من رجل وقال عند البيع: أبيع منك فإن كنت تشتريه للغير فلا أبيعه فظهر أن المشتري اشتراه للغير فالبيع باطل لأنه رجع عن إيجابه إن كان الشراء للغير وإن قال هذا قبل البيع ثم وقع البيع مطلقًا ففي صحة الشراء وجهان أحدهما: لا يصح، والثاني: يصح وما تقدمه من الموافقة لا اعتبار به وهذا أصح. فرع آخر لو قال [90 / أ] رجل لرجل أبرئني مما لك علي من الدين لأني معسر فأبرأه ثم تبين أنه كان موسرًا صح الإبراء لأنه أطلق البراءة ولو قيد لا يجوز. فرع آخر لو ادعى رجل على رجل ألفًا فأنكر وأقام المدعي بينة بالحق حكم به، فإن قال

المدعى عليه: استحلفه مع بينته أن الحق واجب عليَّ له يستحلف لأن فيه طعنًا على البينة. ولو قال له: أبرئني من الحق أو قضيته أحلفاه لأنه ليس فيه طعنًا على البينة. فإن كانت المسألة بحالها وكان مكان وكيل المدعي والموكل غاب فادعى وكيله على هذا الحاضر ألفًا فأنكر وأقام الوكيل البينة بذلك قضي بها لموكله. فإن قال المقضي عليه: استحلفوا لي الوكيل أن الحق واجب عليّ لم يحلف لأنه لا نيابة في اليمين. ولو قال: أبرأني الموكل من الحق أو قضيته لم يقبل وطولب بالحق فإن قال: استحلفوا لي الوكيل أنه ما أبرأني أو ما قضيته الحق لم نستحلفه لأنه لا نيابة في اليمين. ولو قال: هذا الوكيل يعلم أن موكله أبرأني من الحق أو عزله عن الوكالة. وقال الوكيل: لا أعلم فالقول قول الوكيل ههنا مع اليمين، لأنه لو أقر بالإبراء انعزل عن الوكالة، فإذا لزمه الحق مع الإقرار لزمه اليمين عند الإنكار، فإذا حلف كلفا المقضي عليه إقباض الحق وبه تقل زفر. وقال أبو حنيفة: لا يحلف لأن هذه اليمين متوجهة على الموكل، فإن قال: أنظرني حتى يحضر الموكل ويحلف لي أنه ما أبرأني أو ما قضيته لم ننُظره وكلفاه الخروج عن الدين. فإذا حضر الموكل فإن اختار أن يستحلفه فذاك إليه. فرع آخر لو حضر رجل عد الحاكم وثبت وكالته عنده في بيع عبده أو نقل زوجته إلى داره أو بيع داره التي في يد فلان فأقامت المرأة البينة أنه طلقها، وأقام العبد البينة أنه قد أعتقه ومن في يده الدار أنه قد اشتراها منه زالت وكالته لأن حق الموكل زال عما وكله فيه فهو كما لو وكله في بيع داره ثم باعها الموكل. فرع آخر لو قال: وكلتك في طلاق واحدة من نسائي لم يجز حتى يعين ويحتمل وجهًا آخر يجوز. فرع آخر إذا قال للقاضي: وكَّلَني [90 / ب] فلان في خصومة هذا فاعترف الحاضر بذلك ولا بينة للوكيل هل يسمع القافي خصومته؟ وجهان. فرع آخر لو وكل رجلًا في مطالبة رجل بحقه فالقياس ليس له قبضه، وظاهر المذهب له قبضه. مسألة (¬1): قال: ولو كانَ لرجٍل على رجٍل حق فقالَ لهُ رجٌل: وكلني فلاٌن بقبضهِ منك. ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 9).

الفصل وهذا كما قال: إذا كان في يده مال لرجل بغصب، أو عارية، أو وديعة أو في ذمته مال كالدين والقرض وأرش الجناية فجاء رجل فقال: أنا وكيل صاحب الحق وقد وكلني بقبضه منك لا يخلو إما أن يصدقه في ذلك أو يكذبه، فإن كذبه أو قال: لا أعلم نظر فإن كان معه بينة وأقامها وجب التسليم إليه لأنه يبرأ بالدفع إليه. وإن لم تكن له بينة فالقول قول من عليه الحق بلا يمين وقياس مذهبنا أنه لا تسمع دعواه عليه لأن الوكيل بالخصومة لا يدعي قبل ثبوت وكالته عندنا. وقال أبو حنيفة: القول قوله مع اليمين وهذا غلط لأنه لو أقر به وصدقه لم يلزمه التسليم إليه فلا معنى لاستحلافه عليه. فإن قيل: إذا قامت البينة على الوكالة تجبرون على الدفع وفيه تغرير بماله لأن الموكل يجوز أن يدعي عزله. قلنا: لا نقبل منه ذلك إلا ببينة. فإن قيل: قد يشهد على عزله ويقيم عليه البينة. قلنا: يجيء فيه وجهان: أحدهما: لا ينعزل إلا بعد علمه فيصح قبضه منه، والثاني: ينعزل ولا يصح قبضه ولا يبرأ الدافع. وإن صدقه في المال والوكالة جميعًا لا يجبر على دفعه إليه لأنا لو أجبرنا على دفعه إليه لغررنا بماله فإنه لا يأمن إذا دفعه إليه أن يجيء صاحب المال فينكر الوكالة فيلزمه غرامة ما دفعه إلى الوكيل فلم يجبر عليه. وعلى هذا قال أبو إسحاق: لو أن صاحب المال طالبه بالمال وكان له عليه وثيقة كان له أن يمنع من دفعه إليه حتى يزيل الوثيقة خوفًا من أن يدعي ثانيًا ويقيم البينة عليه، فإذا أجبرناه على دفعه إليه قبل إزالة وثيقته كنا قد غررنا بماله فكذلك ههنا. قال أبو حنيفة: إن كان دينًا أجبر على التسليم، وإن كانت عينًا لم يجبر على تسليمها في إحدى الروايتين وقال محمد [9 / أ] والمزني: يلزمه تسليم العين أيضًا، وروي عن محمد مثل قول أبي حنيفة، فإذا ثبت أنه لا يجبر عليه فإنه بالخيار إن شاء دفعه إليه، وإن شاء لم يدفع، فإن دفعه إليه فحضر صاحبه لا يخلو إما أن يصدقه في الوكالة أو يكذبه، فإن صدقه فقد برئ منه. وإن كذبه لا يخلو المال الذي دفعه إليه إما أن يكون باقيًا في يد الوكيل أو تالفًا، فإن كان باقيًا في يده أخذه منه. وإن كان تالفًا، فإن شاء غرم الدافع، وإن شاء غرم المدفوع إليه لأن الدافع دفع الشيء إلى من ليس بوكيله، وأما المدفوع إليه أخذه من غير أمره فإن غرم المدفوع إليه لم يرجع على الدافع لأنه يقول: أنا وكيله ولا ضمان علي فيما تلف في يدي فهو ظلم لحقني من جهته، فلا يجوز أن يرجع بالظلم على غير الظالم، وإن غرم الدافع فلا يرجع على المدفوع إليه لأنه يقول: إنه وكيله فلا ضمان عليه وإنما ذلك ظلم لحقني من جهة صاحبه فلم يجز أن يرجع بالظلم على غير الظالم. وإن لم يكن قال: صدقت بل دفع على ظاهر الحال له أن يرجع على القابض إذا غرم لأنه يقول: ما صدقتك بل دفعت إليك على ظاهر الحال، فإما أن تثبت الوكالة حتى لا أغرم، أو ترد علي ما قبضت ويتفرع على هذا إذا أتلفها الوكيل أو تلفت بتفريطه فرجع على الدافع فينبغي أن يرجع الدافع عليه، وإن

صدقه على الوكالة، لأنه وإن قال: ظلمني بالرجوع عليّ فله حق على الوكيل فيأخذه ويستوفي منه حقه مع اعتراف الوكيل له بما يقوله. وإن كان ذلك دينًا في ذمته فلا مطالبة له على المدفوع إليه لأنه يقول: إن حقي في ذمتك والذي دفعت إليه بغير أمري لم يسقط حقي من ذمتك فكان له مطالبته بحقه دون المدفوع إليه وهذا اختيار عامة أصحابنا. ومن أصحابنا من قال: له أن يطالب أيهما شاء فأما الدافع فلما ذكرناه، وأما المدفوع إليه فلأن من عليه الدين دفعه إليه لأجله، وقضاء لما عليه من الدين فهو بمنزلة ما لو وكل بقضاء الدين ودفع إليه مالًا ليحمله إليه [19/ ب] ويقضي به دينه منه كان له مطالبة الوكيل به، فكذلك ههنا وهذا اختيار أبي إسحاق، فعلى هذا إن قبض من الوكيل فقد برئ به الدافع الذي كان عليه الحق والوكيل أيضًا، وإن رجع على الدافع نظر فإن كان المال باقيًا في يد الوكيل كان له أن يرجع به مع اعترافه أنه مال صاحب الدين لأنه على زعمه ظالم له بما أخذه، فإذا وجد له مال أخذ ذلك منه وإن كان قد تلف في يده لم يرجع عليه بشيء لأنه مقر بأنه أمين لا ضمان عليه. وإن كان أتلفه أو تلف بتفريط رجع بمثله لما بيناه في العين إذا تلفت. وقد قال القافي الطبري: هذا من غلطات أبي إسحاق، وليس كذلك عندي على ما ذكرنا. فرع لو جاء رجل إلى رجل فقال: لفلان عليك ألف درهم وقد مات وأنا وارثه ولا وارث له غيري فصدقه وجب عليه، قال الشافعي رحمة الله عليه: أجبر على دفعه إليه، والفرق بين المسألتين أنه إذا صدقه فإنه يقر بأن المال له وليس هناك من هو أحق منه فلزمه دفعه إليه كما إذا أقر له بالمال لزمه دفعه إليه وليس كذلك في الوكيل فإنه يقول: هناك من يستحق المال غير الوكيل وهو أحق به منه ولا أمن أن ينكر الوكالة فيلزمني الغرامة، فإن قيل: فقد يجوز أن يكون في قوله صاحب المال قد مات كاذبًا فتلزمه الغرامة فينبغي أن لا تجبروا على دفع المال إليه. قلنا: قد صدقه على الموت ولا يجوز أن يكون موته صحيحًا ويلزمه الغرامة ويجوز مع صحة توكيله إياه أن يكذب فينكر التوكيل فيلزمه الغرامة فافترقا. فرع آخر لو قال: لفلان عليك ألف دوهم ولي عليه ألف دوهم فأحالني به عليك فصدقه هل يجبر على دفعه إليه؟ وجهان أحدهما: لا يجبر لجواز أن ينكر الحوالة فيلزمه الغرامة قياسًا على الوكالة، والثاني: يجبر عليه. لأن الحوالة تنقل الحق من المحيل إلى المحتال فهو يقول: ليس ههنا أحق بالمال منه كالوارث سواء. وإن كذبه فالقول قوله. وهل القول قوله مع اليمين أو بلا يمين؟ إن قلنا: يجبر على الدفع إليه عنا التصديق [92/ أ] يلزمه اليمين وإلا فلا. فإذا تقرر هذا فاعلم أن في لفظ المزني إشكالًا وذلك

أنه جعل لرب المال الخيار في مطالبة أيهما شاء وأنتم فرقتم على المذهب الصحيح بين الدين والعين، فقلتم في العين: إذا تلفت يطالب أيهما شاء، وفي الدين لا يطالب القابض. قيل: أما الفرق بين المسألتين ظاهر وهو ما أشرنا إليه أن الحق إذا كان ديناً وحلف رب المال على نفي التوكيل فرب الدين يزعم أن ما قبضه القابض شيء أخذه غصباً وذمة الدافع غير بريئة فلا مرجع لصاحب الدين إلى غير ذمة الدافع، فأما الوديعة التي هي عين المال فعين مال المودع الحالف على نفي التوكيل وقد صار قابضها في الحكم كصاحبها، والغصب إذا تلف عند الغاصب فعليه ضمانه وكلام المزني يحتمل أن يكون قد صور المسألة في الوديعة. فإن قيل: أفيجوز أن يعبر عن الوديعة بقوله: ولو كان لرجل على رجل حق؟ قلنا: لا يستبعد هذا، لأن الشافعي قال في "كتاب الإقرار": لو قال لفلان: علي ألف ثم جاء بالألف وقال: هذا الألف الذي أقررت به كان وديعة له عندي قبل تفسيره، وإن كان مراد المزني الدين فقد أخطأ حيث قال: الرب الدين بعد يمينه مطالبة القابض. واعلم أن في لفظ المزني غلطاً وهو أنه قال: وإذا غرم القابض لم يكن له أن يرجع على الدافع لأنه يعلم أنه مظلوم بريء. وهذا غلط لأن المظلوم هو القابض، لا الدافع، لأن الدافع كان عليه ألف درهمٍ فدفعه مرةً ولم يغرمه ثانية ولم يستحلف صادقاً ولا كاذباً فكيف سماه المزني مظلوماً، اللهم إلا أن يجعل ذلك صفة للقابض فيقول: ليس للقابض أن يطالب الدافع لأن القابض عند نفسه بزعمه مظلوم بريء عما أغرم ولكنه بخلاف ظاهر لفظه وعطف كلامه. مسألة [(¬1)]: قال: فإن وكَّلهُ ببيعِ سلعةٍ فباعها نسيئةً كان لهُ نقضُ البيعِ بعدَ أنْ يحلفَ ما وكلُه إلا بالنقدِ. وهذا كما قال: قد ذكرنا هذه المسألة بشرحها ونذكر الآن ترتيباً فنقول: إذا باعه نسيائً ثم قال الموكل: وكلته بالبيع نقداً أو أطلقت التوكيل [92/ب] لا يخلو حال الوكيل والمشتري من أربعة أحوال، إما أن يصدقاه، أو يكذبه، أو يصدقه الوكيل دون المشتري، أو المشتري دون الوكيل. فإن صدقاه كان البيع باطلاً، فإن كان باقياً أخذه، وان كان تالفاً يرجع بقيمته على من شاء من المشتري والوكيل، فإن رجع على المشتري لم يرجع على الوكيل لأن التلف في يده، وان رجع على الوكيل رجع على المشتري. فإن كذباه فالقول قول الموكل على ما ذكرناه، فإذا حلف وكان تالفاً له مطالبة من شاء منهما بالقيمة، فإن رجع على الوكيل لم يرجع على المشتري في الحال لأنه يقول: البيع صحيح وعليك الثمن عند محله، فإذا حل الأجل يرجع بأقل الأمرين من قيمته أو قدر الثمن فإن كان في القيمة أقل لم يرجع إلا بها لأن هذا القدر هو الذي غرضه وما زاد على ذلك لا يدعيه الموكل، وان كان الثمن أقل لم يرجع إلا به لأنه يقول: هذا هو ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 9).

الواجب عليك وما زاد ظلم من الموكل عليك فلا يستحق الرجوع به، وإن رجع الموكل على المشتري فأخذ منه القيمة لم يرجع المشتري على الوكيل لأن البدل استقر عليه. فإن كان الموكل قد قضى الثمن والمشتري طالبه بما قبض منه، فإن كان الثمن قائماً أخذه منه. وان كان تالفاً قال بعض أصحابنا: له الرجوع عليه بالبدل إلا من ناحية أنه يغرمه ما غرم لك من ناحية ضمان الدرك فإن المبيع ما سلم له فإن قال المشتري للموكل: خذ قدر ما قبضت من الثمن وخذ منه بقية القيمة صح وهو معنى قول الشافعي في "اختلاف العراقيين": فإن كانت قيمة السلعة أكثر رجح الموكل بالفضل على المشتري. وان كذبه الوكيل دون المشتري أو المشتري دون الوكيل فالحكم في المصدق كما لو صدقاه وقد مضى. أما قول المزني: إذا حلف نقض البيع لم يؤد به أنه منعقد حتى يحتاج إلى نقضه بل إذا حلف حكم بأن البيع في الأصل غير منعقد وإنما هو تجوز في العبارة والشافعي قد فعل في كتاب النكاح مثل ذلك. مسألة: قالَ وان وكلهُ بشراء سلعة فأصابَ بها عيباً كان له الردُ. الفصل وهذا كما قال: إذا وكله في شراء [93 /أ] سلعة أو غيرها كالعبد والدابة لم يخل من أحد أمرين إما أن يوكله في شراء موصوف أو معين، فإن وكله في شراء موصوف فإطلاق هذا يقتضي أن يشتريه سليماً من العيوب، ولو اشترى معيباً مع العلم به لا يلزم الموكل. وقال أبو حنيفة رحمه الله: له أن يشتري المعيب من الأعمى والمقعد والمقطوع لعموم أمره في القراض. وهذا غلط لأن الإطلاق يقتضي السلامة كما في قوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [النساء:92] ويفارق القراض يجوز للعامل فيه شراء المعيب مع العلم به لأن القصد به طلب الفضل وقد يطلبه بشراء المعيب والقصد من التوكيل في الشراء أن يشتري له ما يقتضيه ويدخره ولا يقصد ذلك إلا في السليم، فإن ابتاع على ما وصف فوجد بها عيباً كان له ردها بالعيب لأن توكيله إياه بالشراء يقتضي السلامة من العيوب، ويكون الشراء صحيحاً لأنه اشتراه على ظاهر السلامة. فإن قيل: فهلا قلتم إن الشراء باطل إذا ذكر أنه يشتريه لموكله لأنه اشترى غير ما تناوله الإذن كما لو وكله بشراء سلعة فاشترى غيرها؟ قلنا: لأن التحرز من العيب يشق ويخرج لأنه وبما يكون خفياً لا يعرف فسومح فيه فأجيز البيع وجعل له الرد بخلاف ما لو عدل من عين إلى عين. وقال والدي رحمه الله: لو كان العيب ظاهراً يمكنه معرفته ولكنه لم يعلم يحتمل أن يجعل هذا كالعلم فيقع الشراء للوكيل، ويحتمل أن يصح الشراء للموكل وعليه يدل كلام أصحابنا، ولهذا له الرد به ولا يجعل كأنه علم به. وإذا أراد الوكيل الرد فقال له البائع: انتظر حتى يطالع الموكل فلعله يختارها لم يلزمه ذلك لأنه ربما لا يرضى الموكل فيفوته الرد. ولو قال: طالعه بذلك فإن رضي وإلا فلك الرد لم يكن عليه تأخير

الرد أيضاً. وإن أخر الرد في هذا الموضع وطالع الموكل فإن وفي فلا كلام، وإن لم يرضَ قال بعض أصحابنا: كان للوكيل الرد لأنه على هذا الشرط أخر الرد. وقال أبو حامد: هذا ضعيف لأن حق الرد على الفور فإذا أخر فات وقته فلا يرد [93/ب] ولو قال البائع: لا ترد لعل موكلك قد علم به وعرفه وسقط ردك، فالقول قول الوكيل بلا يمين وله الرد ولا يلزمه التأخير كما لو باع عبداً بألف فقال المشتري: لا تقبض الثمن لعل الموكل قد أبرأني منه لا يلزمه تأخير القبض كذلك ههنا. وإن قال للوكيل: قد علم الموكل بالعيب ورضي به وسقط ردك فالقول قول الوكيل. وقد قال المزني: ليس عليه أن يحلف ما رضي به الموكل، ومذهب الشافعي أن على الوكيل أن يحلف للبائع أنه لا يعلم أن موكله رضي بالعيب، وإذا حلف كان له الرد بخلاف المقارض لا يمين عليه على أنه لم يعلم برضا رب المال به. وأما الذي نقل المزني قال أبو إسحاق: معناه أن البائع لم يدع رضا الموكل، فإذا لم يدع رضاه لا معنى لإحلافنا إياه، فأما إذا ادعى البائع رضاه وعلمه به لم يكن للوكيل رده حتى يحلف ما يعلم أن الموكل رضي به. وقيل: معناه ليس عليه أن يحلف على البت والقطع بل يحلف على العلم، وقيل: أراد إذا لم يمتد الزمان بحيث يحتمل أن الموكل علم ورضي به، فأمّا إذا امتد الزمان واحتمل علمه فعلى الوكيل اليمين على العلم وإنما يحلف الوكيل لأنه يسقط عن نفسه الضمان بذلك لأنه إن لم يحلف وحلف البائع لقد رضي به الموكل لم يكن للوكيل فسخ البيع، ثم إذا جاء الموكل وأنكر الرضا فالبيع يلزم الوكيل وعليه أن يغرم للموكل ما دفع إليه. ثم إن المزني أعاد هذه المسألة في آخر الباب وليس في الإعادة فائدة سوى التعليل فإنه لم يذكر العلة أولاً ثم ذكر العلة في آخر الباب. وحكى الشافعي عن أبي حنيفة أنه قال: لا يحلف الوكيل، وعن ابن أبي ليلى أنه قال: لا يرد حتى يحضر الموكل ويحلف. واحتج أبو حنيفة بأنا لو قلنا: إنه يحلف لكان نائباً في اليمين وهذا لا يصح، لأنه يحلف على نفي العلم لا بالنيابة وهذا الذي ذكرنا إذا عارضه البائع في الرد فإن قبل الرد وقبض العبا ثم حضر الموكل فذكر أنه كان قد علم بالشراء ورضي بالعيب قبل رد الوكيل وصدقه البائع على ذلك قال ابن سريج: للموكل أن يسترد العبد من البائع لأنه ليس للوكيل [94/أ] رده بعد لزوم العقد وقد رده بعد لزومه. ولو رضي الموكل بالعيب قبل أن يرده الموكل لم يكن له رده، ويخالف هذا المضارب إذا اشترى سلعة فوجد بها عيباً فرضي بها رب المال كان للمضارب ردها لأن للمضارب فيها قسطاً من الربح، فإذا رضي بها رب المال كان للمضارب ردها ليشتري سلعة يربح في بيعها وليس كذلك الوكيل فإنه لا حق له في السلعة. وقيل: في المضارب وجه آخر أنه كالوكيل وهذا سهو، وان رضي الوكيل بالعيب كان للموكل ردها لما ذكرنا أن الحق للموكل دون الوكيل فلم يسقط حقه برضا الوكيل وله اختيار إمساكها. وهذا إذا كان الوكيل عرف البائع أن يشتريه لموكله أو

قامت به البينة، فإن لم يعرفه ذلك ولم تقم به البينة فإن صدقه البائع كان له رده، وإذ كذبه لم يكن للموكل رد السلعة على البائع ولكنه بالخيار إذ شاء رضي بها معيبة وإذ شاء ردها على الوكيل وطالبه بما دفع إليه من الثمن، فإن ردها على الوكيل لم يكن للوكيل ردها على البائع لأنه قد رضي بعيبها. قال والدي رحمه الله: هكذا ذكر صاحب "الإفصاح" وقيل: نص عليه الشافعي وليس بواضح الشراء صح للموكل ووقع الملك له فلا ينصرف الملك إلى الوكيل برده عليه. وقال أبو حامد: يلزم الموكل ها هنا معيباً ويرجع على الوكيل بالنقص الذي أدخله عليه بتفريطه ترك الرد مع الإمكان لعدم إعلام الموكل. ثم فيه وجهان: أحدهما: يرجع بأرش العيب من الثمن وهو الأصح، لأنه عيب فات الرد به من غير رضاه فوجب الرجوع بالأرش. والثاني: قاله أبو يحيى البلخي: يرجع بما لحقه من النقص في القيمة، فإن كان قيمة المبيع معيباً والثمن الذي وقع به البيع سوا، لا نقص هناك لا يرجع بشيء، وإذ كان الثمن أكثر رجع بذلك القدر. وإن وكله ني شراء سلعة معينة فاشتراها ثم وجد بها عيباً اختلف أصحابنا على وجهين: أحدهما: له أن يردها لأن توكيله شرائها اقتضى سلامتها من العيوب كما لو لم يعين السلعة وقيل: [94/ب] نص عليه في "اختلاف العراقيين" والثاني: ليس له ردها لأنه لم يكله إلى اجتهاده وإنما وكله بشرائها فقط فلم يجز له ردها وكان ذلك إلى الموكل، فإن شاء ردها، وإن شاء رضي بها. فرع قال ابن سريج: لو دفع إليه ألفاً وأمره أن يشتري له طعاماً فاشتراه له فبان الألف معيبا فيه مسألتان: إحداهما: إذا بان العيب قبل أن يقبض البائع الثمن. والثانية: إذا بان ذلك بعد أن قبض البائع الثمن فإن بان ذلك قبل أن يقبضه البائع لم يخل من أحد أمرين: إما أن يكون الشراء بعين المال، أو في الذمة، فإن كان بعين المال نُظر فإن كان العيب من غير جنسه فالعقد صحيح والبائع بالخيار بين أن يقيم على البيع أو يفسخ، فإن أقام عليه قبض الثمن ناقصاً. وإن اختار الفسخ فسخ والثمن أمانة في يد الوكيل، وإن اختار البائع المقام على البيع وأخذ بدل الثمن لم يَجُز لأن البيع إذا تعلق بعين الثمن لم يجز البدل ويكون الثمن أمانة في يد الوكيل، فإن تلف في يده بلا تفريط فلا ضمان عليه. وان كان الشراء في الذمة فالعقد صحيح قولاً واحداً وملك الموكل الطعام ووجب للبائع الثمن، فإن كان العيب في الثمن من غير جنسه أبدله الموكل. وان كان العيب من جنسه فالبائع بالخيار بين أن يقبله ناقصاً وبين أن يطالب بالبدل لأن البيع ما تناول عين الثمن فيجوز البال. وإن قبض البائح الألف ثم علم بالعيب لا يخلو إما أن يكون الشراء بعين المال أو بالذمة، فإن كان بعين المال فإن كان العيب من غير جنسه فالبيع

باطل، وإن كان من جنسه فالبيع صحيح والبائع بالخيار فإن أمسكه معيباً فلا كلام. وإن أراد البدل لم يجز. وان اختار: الفسخ رد الثمن على الوكيل ويكون أمانة في يديه، فإن تلف ضمن قولاً واحداً لأن الثمن إن كان معيباً لم يجب في ذمة الوكيل شيء. وإن كان الشراء في الذمة فالعقد صحيح وملك الموكل الطعام، فإن كان العيب من غير جنسه رده وطالبه بالبدل، وان كان من جنسه فهو بالخيار بين الإمساك [95/أ] والرد فإن اختار الإمساك فلا كلام. وإن اختار الفسخ رد الثمن على الوكيل فإذا وده عليه نُظر فإن سلمه الوكيل إلى الموكل كان للبائع المطالبة. وإن تلف في يد الوكيل هل على الوكيل الضمان؟ وجهان بناءً على مسألة الثمن في ذمة من يتعلق فإن قلنا: في ذمة الموكل والوكيل واسطة كالضامن فلا ضمان على الوكيل ويطالب الموكل بالثمن ليدفع إلى البائع فإن قبضه البائع فأصابه معيباً أيضاً رده على الوكيل، فإن تلف في يده فلا ضمان عليه وعلى هذا أبداً لو تكرر ألف مرة لأنه أمين. وإن قلنا: يجب الثمن في ذمة الوكيل فعلى هذا يجب عليه الضمان لأن الموكل دفع إليه ليقضي الموكل دين نفسه به فما لم يقضِ به دين نفسه وفو ثمن المبيع الواجب في ذمته فهو أمانة في يده، فإذا قضى به دينه ضمنه، وإذا رده البائع عليه عاد إلى يده على الضمان فإذا تلف كان عليه الضمان فتكون في ذمته للموكل ألف معيب، وعلى الموكل أن يفك ذمة المشتري عن الألف الذي هو أصل الثمن وهو ألف سليم، فإذا فك ذمته بألف سليم فعلى الوكيل ألف معيب فإذا وجد ألفاً معيب من جنس ذلك المعيب أعطاه. وإن لم يجد فإن رضي الوكيل أن يعطيه سليماً مكان المعيب جاز، وإن لم يتطوع بألف بالفضل أعطاه بقيمته ذهباً لأنه قد أعوز بالمثل فيرجع إلى القيمة. فرع آخر لو وكل وكيلاً في بيع عين من الأعيان فباعها انتقل الملك عن الموكل إلى المشتري، وملك الموكل الثمن في ذمة المشتري ولا يملك الوكيل شيئاً في الوسط قولاً واحداً. ولو وكل بالشراء واشترى لموكله شيئاً فنواه حين العقد، أو ذكره في العقد نطقاً انتقل الملك عن البائع إلى الموكل ولم يملك الوكيل في الوسط قولاً واحداً. وقال أبو حنيفة: يدخل أولاً في ملك الوكيل ثم ينتقل ثمنه إلى الموكل بلا فضل لأن حقوق العقد تتعلق به فدخل في ملكه، ولهذا لو اشتراه بأكثر من ثمن مثله دخل في ملكه. وهذا غلط لأنه قبل لغيره عقداً فصح له فوجب أن ينتقل الملك إليه كالأب والوصي. فرع آخر إذا اشترى الوكيل بعين مال الموكل ملكه البائع على الموكل ولا يملك البائع على الوكيل ثمناً بحالٍ، وإن اشترى بثمن في الذمة فمن الذي وجب فيه الثمن؟ قال ابن سريج: [95/ب] فيه وجهان:

أحدهما: يجب على الموكل لأن الثمن على من ملك المثمن وملك المثمن للموكل دون الوكيل، وللبائع مطالبة الموكل به وله مطالبة الوكيل أيضاً ويكون بمنزلة الضامن ومباشرته قبول العقد بنفسه وعلى هذا إن غرم الوكيل رجع به على الموكل لأنه يضمن بأمره، وإن غرم الموكل لم يرجع به على الوكيل. وعلى هذا إن أبرأ البائع الموكل من الثمن فإن الثمن يسقط، وإذا أبرأ الوكيل فإن الثمن لا يسقط عن الموكل وهذا هو المذهب وعبر أصحابنا عن هذا الوجه بأن الثمن يلزم في ذمة الموكل وذمة الوكيل على سبيل الضمان. والثاني: أن الثمن لزم الوكيل دون الموكل لأن حقوق العقد تتعلق بالعاقد، ألا ترى أن الوكيل إذا فارق في الصرف من المجلس قبل القبض بطل الصرف؟ وإن كان الموكل في المجلس وقبضه وإن فارق الموكل دون الوكيل لم يبطل الصرف فعلى هذا ليس للبائع مطالبة الموكل بالثمن وإنما المعاملة بينه وبين الوكيل. وعلى هذا إذا برئ الموكل لا يسقط الثمن، وإذا برئ الوكيل سقط وهل للوكيل مطالبة الموكل في الثمن في الحال؟ خرَّج ابن سريج فيه وجهين: أحدهما: له مطالبته في الحال كما ثبت للبائع الثمن في ذمة الوكيل ثبت للوكيل في ذمة مثله وهذا ضعيف قيل: إنه كما لو أعار عبده منه ليرهنه لنفسه فحينئذ كان له مطالبته بفكاكه والثاني: ليس له مطالبته به حتى يدفع الثمن إلى البائع، فإذا دفع الثمن إلى البائع كان له أن يرجع عليه به وجرى هذا مجرى الحوالة على من لا حق عليه. وفرع ابن سريج على هذا فقال: لو قال لرجل: بعْ عبدك هذا من زيد بألف على ذمتي فباعه من زيا صح وتلف في يد العبد ولم يملك عليه الثمن، ويكون الثمن على الضامن، والمطالبة عليه وحده فإذا دفع الثمن إلى البائع من عنده هل يرجع به على المشتري؟ نظر فإن دفع الثمن بإذنه رجع عليه وإن كان بغير إذنه لم يرجع به عليه لأنه قد تطوع به، وبه قال أبو حنيفة والأصح ما ذكرناه فيما قبل أنه باطل لأن البيع وجب تمليك المبيع مؤقتاً فلا يجوز، وعلى ما ذكرنا لو كان وكيلاً في [96/أ] الاستسلاف فاستسلف له ألفاً في كر من طعام ملك الموكل الثمن من المسلم وطعام المسلم في ذمة من وجب على ما ذكرنا من الخلاف. فرع آخر إذا قلنا: ليس للوكيل مطالبة الموكل ما لم يغرم فيما ذكرنا من المسألة لو أبرئ عن الوكيل لا يرجع على الموكل وإذا قلنا له مطالبته به قبل الغرامة لو أبرأ الوكيل منه رجع به على الموكل ولو دفع الوكيل بالثمن عرضاً فإن قلنا: لا يطالبه به قبل الغرامة رجع على الموكل بأقل الأمرين من الثمن أو قيمة العرض، وإن قلنا: بالوجه الآخر رجع الوكيل عليه بالثمن دون قيمة العرض. فرع آخر لو أراد الوكيل أن يمنع الموكل من البيع حتى يقبض الثمن لم يكن له على

الوجهين، لأن البائع لم يمنعه منه خلافاً لأبي حنيفة. فرع آخر لو ذكر الوكيل الموكل عند الشراء، وأنكر الموكل الإذن فإن صدّق البائع الوكيل على ما ادعاه من إذن الموكل كان البيع باطلاً. فإن كذب الوكيل هل يصير الشراء، للوكيل لازماً؟ فيه وجهان بناء على اختلاف الوجهين في الوكيل هل يكون ضامناً للثمن مع تسمية الموكل أم لا؟. فرع آخر لو لم يكن الوكيل ذكر الموكل في عقد الشراء فإن كذّب البائع الوكيل فيما ادعاه من إذن الموكل فالشراء لازم للوكيل، فإن صدقه على الإذن فغي بطلان العقد وجهان على اختلاف الوجهين في الموكل هل يصير مشاركاً للوكيل في التزام الثمن في العقد؟. فرع آخر إذا قلنا بلزوم الشراء، للوكيل في هذه المسألة هل يصير مالكاً للعبد؟ وجهان: أحدهما: يصير مالكاً له ويملك كسبه وزيادة ثمنه. والثاني: لا يملكه وإنما يكون في يده ليستوفي من ثمنه ما أداه في ثمنه، فإن زاد الثمن لم يملك الزيادة ولا فاضل الكسب. فرع آخر ولي اليتيم إن لم يذكر في العقد اسمه كان الولي ضامناً للثمن ولا يضمنه الطفل في ذمته ويؤدي ذلك من ماله. وإن ذكر اسمه في العقد لم يلزمه ضمان الثمن بخلاف الوكيل في أحد الوجهين، والفرق أن شراء الولي لازم للمولى عليه بغير إذنه فلم يلزم الولي ضمانه وشر اء الوكيل يلزم بإذن موكله فلزم الوكيل [96 /ب] ضمانه. فرع آخر لو استحقت السلعة وضاع الثمن من يد الوكيل قد ذكرنا الحكم، وقال أبو حامد في "الجامع": قد قيل: إن المشتري إن كان يعلم أنه وكيل رجع بالثمن على موكله دونه، وكذلك إن أقام الوكيل البينة أنه فلان فيما باعه، وان لم يعلم بوكالته ولم يقم البينة رجع بالثمن إلى الوكيل. ومن أصحابنا من قال: للمشتري الرجوع على من شاء من الوكيل والموكل بالثمن. فإن أخذه من الموكل لم يرجع به على الوكيل، وإن أخذه من الوكيل، رجع به على الموكل ولا فرق بين العلم بأنه وكيل أم لا، والمذهب الأول. فرع آخر إذا وكل في بيع ماله فباعه كان للوكيل والموكل مطالبة المشتري بالثمن. وقال أبو حنيفة: ليس للموكل المطالبة بالثمن، وهذا غلط لأنه يصح قبض الموكل لهذا الدين فجازت له المطالبة به.

فرع آخر الوكيل بالبيع إذا أبرأ المشتري من الثمن لم يبرأ منه وقال أبو حنيفة: يصح إبراؤه ويضمنه للموكل، وهذا غلط لأن إبراء الموكل عنه يصح فلا يصح إبراء وكيله عنه بغير إذنه. فرع آخر لو صار الوكيل متعدياً ثم ادعى تلف العين تال القفال: القول قوله وعليه ضمان قيمته. وقال القاضي أبو عاصم الغامدي: لا يقبل قوله في التلف ويطالب بإقامة البينة على التلف، فإن لم تكن له بينة فالقول قول الموكل. وهكذا الخلاف في الغاصب إذا ادعى تلف العين المغصوبة. فروع في الشهادة في الوكالة لأبي العباس ابن سريج رحمه الله اعلم أن شهادة الوكيل على موكله مقبولة كما يشهد الوالد على ولده، والولد على والده. وإن شهد لموكله نظر، فإن شهد له في غير ما وكل فيه صح مل إذ كان وكيله بالبيع شهد له بالشراء وكان وكيله بالشراء فشهد له بالبيع، أو كان وكيله فيهما شهد له بالنكاح قبلت شهادته في هذا كله. وإن كان فيما وكله فيه لا يخلو إما أن يكون مقيماً على الوكالة أو مصروفاً عنها، فإذ كان مقيماً عليها لا تقبل شهادته قولاً واحداً، لأنه خصم فيه بدليل أنه تسمع دعواه به عليه فلم يجز أن يكون شاهداً [97/أ] فيه. وإن كان مصروفاً عن الوكالة لا يخلو من أحد أمرين إما أن يكون قد خاصمه فيه حين كان وكيلاً، أو صرف قبل أن يبتدئ بالخصومة، فإن كان قد خاصمه فيه لا تقبل شهادته لأنه صار خصماً له بدعواه المتقدمة. ولأنه يريد أن يزكي نفسه وليبين صدقه فيما ادعاه عليه فكان متهماً في شهادته. وان لم يكن خاصمه فيه قولان مخرجان: أحدهما: تقبل شهادته وبه قال أبو حنيفة لأنه ما لم يخاصم لم يصر خصماً فلا تهمة فيها. والثاني: لا تقبل لأنه يريد تزكية نفسه وبيان صدقه فيما كان قد دخل فيه من الوكالة ولأنه بعقد الوكالة صار خصماً، وبه قال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله. فرع آخر لو أراد الوكيل أن يدعي ذلك الشيء لنفسه مثل إنْ وكله في دعوى دارٍ ثم عزله ثم ادعاها لنفسه فإن كان بعد أذ ادعاها لموكله لم يجز، وإن كان قبل الدعوى وبعد قبول الوكالة فعلى ما مضى من القولين المخرجين. فرع آخر لا تثبت الوكالة إلا شهادة ذكرين فأما بشهادة رجل وامرأتين لا تبت لأنه إثبات تصرف فهو كالوصية إليه. وعند أبي حنيفة تثبت الوكالة والوصاية بشاهد وامرأتين. وعلى هذا عندنا لا تثبت كلتاهما بشاهد ويمين. وتثبت كلتاهما بالشهادة على الشهادة.

فرع آخر إذا شهد أحد الشاهدين أن هذا وكيل فلان وشهد الآخر أن فلاناً وكله ثم عزله لا نحكم بصحة الوكالة لأن من شهد بالعزل يقول: ليس بوكيل ولا تثبت الوكالة بشاهد واحد. ولو حكم الحاكم بشهادتهما ثم رجع أحدهما بعد الحكم وقال: قد كان موكله عزله لا تسمع شهادته الثانية. وإن قال ذلك أحدهما قبل أن يحكم الحاكم بشهادتهما لا نحكم بذلك بعد رجوع أحدهما. وخرّج ابن سريج فيه وجهاً آخر أنه يحكم بها لأن الشهادة بالوكالة قد تمت، والشهادة الثانية بالعزل لم تتم وهذا سهو منه ولا يجيء على المذهب لأن ما يحدث بالشاهد بعد الشهادة [97/ب] قبل الحكم المقارن للشهادة. وإن رجعا وقالا: عزله بعد الحكم ثبت العزل بشهادتهما لأن الشهادة تمت بالعزل. فرع آخر لو شهد أحدهما أن فلاناً وكل فلاناً يوم الخميس وشهد آخر أنه وكله يوم الجمعة لم يحكم بشهادتهما. ولو شهد أحدهما أنه أقر عناه يوم الخميس بتوكيله وشهد آخر أنه أقر يوم الجمعة عنده بتوكيله حكم بشهادتهما لأن الإقرار إخبار عن توكيل سابق فيجوز أن يخبر عن توكيل واحد في وقتين مختلفين بخلاف المسألة الأولى. وعلى هذا لو شهد أحدهما أنه أقر عنده بالعربية أنه وكله وشهد الآخر أنه أقر عنده بالعجمية أنه وكله ثبتت الوكالة. ولو شهد أحدهما أنه وكله بالعربية وشهد الآخر أنه وكله بالعجمية لم تتم الشهادة. فرع آخر لو شهد شاهدان أن فلاناً وكل فلاناً والموكل غائب فقال الوكيل: ما علمت هذا وأنا أتصرف عنه ثبتت وكالته، لأن معنى ذلك أني لم أعلم إلى الآن وقبول الوكالة ليس على الفور ويجوز متراخياً ولا يشترط قبولها قولاً. ولو قال: ما علمت ذلك وسكت، قلنا له: فسر ذلك فإن فسر بما ذكرنا ثبتت وكالته. وإن قال: أردت بذلك أني لا أعلم صدق ذلك الشاهدين لم تثبت الوكالة لأنه قدحٌ في الشاهدين. فرع آخر لو أدعى رجل أنه وكيل فلان الغائب وأقام على ذلك بينة فشهد أبناء الموكل أن أباهما عزله فإن صدقهما الوكيل انعزل بإقرار الوكيل. وان كذبهما أو سكت فادعى من عليه الحق أنه عزل وكيله قبلت شهادتهما على أبيهما لأنهما شهدا على الأب. وإن سكت هو أيضاً ولم يقل شيئاً لا تسمع هذه الشهادة لأنهما شهدا لمن لا يدعي عزله والوكيل على وكالته. وإن قبض الوكيل الحق ثم حضر الموكل وذكر أنه كان قد عزل وكيله وأن القبض بعد العزل وأن شهادة ولديه صحيحة لم تقبل شهادتهما هاهنا لأنهما يشهدان لأبيهما، وذلك أنهما يثبتان له رجوعاً على من عليه الحق بعد استيفائه منه فلم تقبل. فرع آخر لو ادعى [98/أ] الوكالة فشهد له أجنبيان وكان أحد الشاهدين قريب الآخر مثل إن

كانا أخوين أو أباً وابناً قبلت لأن القرابة بين الشاهدين لا تقدح في الشهادة. وإن شهد للوكيل أخواه أو عماه قبلت. وان شهد أبناؤه أو جداه لم تقبل. وإن شهد له أخوا الموكل أو عماه قبلت، وإن شهد أبناؤه أو جداه لم تقبل لأنها شهادة له فإنهما يثبتان تصرفاً عن الموكل. وقيل: يحتمل أن يقال: يقبل لأن هذه الوكالة تثبت بقوله ويستحق الوكيل بذلك التصرف وما يثبت بقوله يثبت بشهادة القرابة عليه كالإقرار. وإن ادعى الوكيل الوكالة وأنكر الموكل فشهد عليه ابناه أو أبواه تثبت الوكالة وأمضى تصرفه لأن ذلك شهادة عليه. فرع آخر لو ادعى المكاتب أنه وكيل فلان فشهد له أخواه قبلت شهادتهما، وإن شهد له ابناه لم تقبل. وإن شهد له أخوا السيد تقبل، وإن شهد له ابنا السيد لم تقبل لأنها شهادة تجر نفعاً للسيد. فرع آخر لو شهد للمكاتب سيده بذلك لم تقبل؛ لأنها شهادة تجر نفعاً للسيد. فرع آخر لو شهد للمكاتب سيده بذلك لم تقبل. فإن أدى المكاتب نجومه وعتق وأعاد سيده تلك الشهادة قال ابن سريج: فيه قولان يعني وجهان: أحدهما: تقبل لأنه لا مضرة عليه في الرد فتقبل عند الإعادة كالصبي إذا شهد ثم بلغ أو أعاد تقبل. والثاني: لا تقبل لأنها شهادة ردت للتهمة فإذا أعاد لا تقبل كما لو ردت لفسق ثم أعادها. فرع آخر لو شهد أحدهما أن فلاناً وكل زيداً وشهد الآخر أنه وكل زيداً وعمراً فيه لم تثبت الوكالة لواحد منهما، لأن الشاهد الأول يشهد بثبوت التصرف لزيد على الانفراد، والثاني يشهد بأنه لم يوكله بالتصرف على الانفراد. فرع آخر لو شهد أحدهما أنه وكله ببيع العبد الفلاني وشهد الآخر أنه وكله ببيع ذلك العبد والعبد الآخر كان له التصرف في العبد الذي اتفقا عليه لأن الشهادة قد تمت فيه ولا يملك في الآخر. فرع آخر لو شهد شاهدان أنه وكل فلاناً بخصومته عنا القاضي الفلاني لم يكن له [98 /ب] أن يخاصمه عند غيره. ولو شهد أحدهما أنه وكله بخصومته عند القاضي الفلاني وشهد الآخر أنه وكله بخصومته عند القاضي الآخر لم تثبت وكالته.

فرع آخر لو شهد أحدهما أنه وكله بالبيع مطلقاً وشهد الآخر أنه وكله ببيعه وقال: لا ينفذ البيع حتى تستأمرني لم يحكم بوكالته لأن الشهادة لم تكمل على وكالة مطلقة يملك التصرف فيه مطلقاً. فرع آخر لو شهد أحدهما أنه قال لزيد: أنت وكيلي وشهد الآخر أنه قال له: أنت جريي لا تثبت الوكالة لأن قوله وكيلي غير قوله جريي. ولو شهد أحدهما أنه أقر عنده أنه وكله وقال الآخر: اشهد أنه أقر عندي بأنه قال له: أنت جريي قال ابن سريج: تثبت الوكالة. والجري: هو الوكيل بلغة مصر. فرع آخر لو شهد على نفس التوكيل فقال أحدهما: أشهد أنه قال له: قد وكلتك، وقال الآخر: أشهد أنه أذن له في التصرف حُكم بشهادتهما لأن أحدهما شهد بنفس اللفظ والآخر أخبر عن معنى قوله. وهكذا إذا قال أحدهما: وكله في بيع عقاره وطلاق زوجته، وقال الآخر: سلَّطه عليه حُكم بشهادتهما لأن أحدهما أذن بنفس اللفظ والآخر بمعناه وهذا أصل أن الشهادة إن كانت على نفس التوكيل لم تكمل شهادتهما حتى يحكيا فعلةً واحدةً، فإن حكى أحدهما غير ما حكاه الآخر لم تثبت. وإن لم تكن على نفس التوكيل بل على الإقرار لم يضر الاختلاف في العبارة إذا اتفقتا في المعنى. وإن كانت الشهادة على نفس التوكيل ولكن حكى أحدهما لفظه، والآخر معنى لفظة كملت كالإقرار وعلى هذا الباب كله وقياسه. فإن قال أحدهما: قال له: وكلتك، وقال الآخر: قال له: أوصيت إليك فإن الشهادة لم تكمل على فعلٍ واحدٍ. وهكذا إن قال أحدهما: قال له: وكلتك، وقال الآخر: قال له: أوصيت إليك بالتصرف في حال الحياة فإن الشهادة لم تكمل على واحدٍ. وإن قال أحدهما: أقر عندي أنه وكله وقال [99/أ] الآخر: أقر عندي أنه أوصى إليه لم تكمل أيضاً على فعلٍ واحدٍ لأن إخباره عن التوكيل غير إخباره عن الإيصاء، ولو قال أحدهما: أقر عندي أنه وكله، وقال الآخر: أقر عندي فقال: أوصيت إليه بالتصرف في حال الحياة كملت الشهادة لأنه إخبار عن الاستتابة بعبارتين. فرع آخر لو قال لغيره: اشترِ جارية زيد بيني وبينك فقال: نعم فلقيه آخر فقال له مثل ذلك فاشتراها المأمور كانت بين الأول والمأمور إلا أن يقول: فسخت وكالة الأول واشتريتها للثاني فتكون بينه وبين الثاني. فرع آخر لو قال: إذا جاء رأس الشهر فقد أبحت لك أكل كذا فيه وجهان. والله أعلم.

كتاب الإقرار

كتاب الإقرار مسألة [(¬1)]: قال: لا يجوزُ إلا إقرارُ بالغٍ رشيدٍ. الفصل وهذا كما قال: الإقرار الإثبات، يقال: أقر فلان بكذا إذا أثبته، وقرَّ الشيء واستقر في ذمته، والاعتراف مثل الإقرار. وقيل: حقيقة الإقرار الإخبار بحق عليه، وحقيقة الشهادة الإخبار بحق على غيره. والأصل في الإقرار وتعلق الحق به الحكم به في الشريعة الكتاب والسنة الإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} [النساء:135] وشهادة المرء على نفسه هو الإقرار. وقوله تعالى: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ} [البقرة:282] أي: فليقر. وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ} إلى قوله: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا} [آل عمران:81] وقوله تعالى: {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} وقوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} [التوبة: 102] وقوله تعالى: {بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172]. وأما السنة قوله - صلى الله عليه وسلم - في خبر العسيف " واغد يا أنيس إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" [(¬2)]. واعترفت فرجمها. وروي "أن ماعز بن مالك أقر عند وسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالزنا فرجمه" [(¬3)]. وروي أن الغامدية أقرت بالزنا فرجمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وأما الإجماع: لا خلاف بين المسلمين فيه [99 /ب] لأن الإقرار أقوى الحجج لأنه لا يتهم على نفسه فيما يقر والشاهد يتهم في الشهادة على غيره ويكفي في الإقرار واحد، ولا يكفي أقل من شاهدين في الشهادة فإذا ثبت الحق عليه بالشهادة فلأن يثبت بالإقرار أولى. فإذا ثبت هذا فالكلام الآن فيمن يصح إقراره وفيمن لا يصح. والناس ضربان: مكلف، وغير مكلف وأما غير المكلف فلا يصح إقراره بحالٍ وهو الصبي والمجنون وسواء كان الصبي مميزاً أو غير مميز، مأذوناً له بالإقرار أو غير مأذون له فيه، وسواء كان حقاً على البدن أو حقاً في المال. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يصح إقرار الصبي المميز إذا كان مأذوناً في التجارةء وهذا غلط لقوله - صلى الله عليه وسلم -:"رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى ينتبه". واعلم أن المراهق لو أقر بالاحتلام أو أقرت المراهقة بالحيض قبل إقرارهما إذا ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 10). (¬2) أخرجه البخاري (6633)، ومسلم (25/ 1697). (¬3) أخرجه البخاري (6825)، ومسلم (16/ 1692).

احتمل السن ذلك ولا يمين عليهما، ولا يقال: هذا إقرار غير بالغ بل هو إقرار بالغ. وللمراهق في بعض المواضع عبارة مسموعة وإن كان مردودا ًفي الإقرار في حق يلزمه في ذمته ألا ترى أنه يحيى بين أبويه وهو ابن سبع سنين فيصح اختياره. وقد قال بعض أصحابنا: يقبل انتسابه إلى أحد المتداعيين إذا استويا في الدعوة ولم يوجد قائف إذا بلغ هذا السن ولذلك اعتبر الشافعي عبارته في مسألة أخرى فقال: إذا كشف الإمام عما تحت إزار صبيان المشركين ليفصل بين المقاتلة والذرية كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بني قريظة فصادف صبياً منهم قد أنبت الشعر تحت ثيابه فقال: أيها الإمام إني لست بالغ فإني عالجت قبل أوان الإنبات حتى أنبت قبل قوله إذا احتمل ما يقول. ولو أقر الصبي بالوصية فيه قولان مبنيان على صحة وصيته. ثم إذا بلغ هل يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى؟ نُظر، فإن كان حقاً لزمه باختيار من له الحق كالقرض ونحوه لم يلزمه، وإن كان حقاً لزمه بغير اختيار من له الحق كالغصب وإتلاف المال يلزمه [100/أ] ذلك. وأما المغلوب على عقله بجنون أو مرض، أي مرض كان سواء زال عقله بشيء أكله أد شربه للدواء أو بعارض لا يُدرى سببه أو أكره فأوجر الخمر مكرهاً فذهب عقله لا يجوز إقراره بكل حال. فإن أفاق فأقر في حال صحته أنه فعل شيئاً في حال زوال عقله فإن كان حقاً على البدن كالقصاص ونحوه لا يلزمه ولولي المقتول أن يأخذ الأرش ويأخذ المسروق منه السرقة. وكذلك البالغ لو أقر أنه صنع شيئاً من هذا في صغره وإن كان حقاً في المال فالحكم ما ذكرنا. ولو أقر الخنثى المشكل قبل أن يبلغ خمس عشرة سنة كان باطلاً سواء احتلم من فرج النساء أو من ذكر الرجال ولا يجوز إقراره ما لم يبلغ خمس عشرة سنة نص عليه في الإقرار بالحكم الظاهر [(¬1)]. وأما المكلف فعلى ضربين: مكره، وغير مكره فإن كان مكرهاً كان إقراره ساقطاً بكل حالٍ، وإن لم يكن مكرهاً فعلى ضربين: محجور عليه وغير محجور عليه، فإن لم يكن محجوراً عليه كان إقراره صحيحاً لازماً سواء كان حقاً على البدن أو في المال، وسواء كان طلاقاً أو عتقاً فالباب واحد، وإن كان محجوراً عليه فهو على ثلاثة أضرب محجور عليه لسفه ورق وفلسٍ، فإن كان لسفه نُظر فإن أقر بحق على البدن كالقطع والقتل والحد والتعزير استُوفي منه. وإن كان حقاً في المال لم يلزمه في الحكم ولا يُستوفى منه بعد زوال الحجر. وأما فيما بينه وبين الله تعالى فإن كان حقاً لزمه باختيار من له الحق لم يلزمه لأن صاحب الحق ضيع حق نفسه. وان كان حقاً لزمه بغير اختيار من له الحق وهو الإتلاف لزمه فيما بينه وبين الله تعالى. وان كان حقاً في المال يتعلق به حق على البدن وهو السرقة ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 208).

لزمه القطع قولاً واحداً، وهل يغرم السرقة؟ قولان فإذا قلنا: لا يغرم ففك الحجر يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى دون الحكم. وإن كان الحجر لرق فإن أقر بما يتعلق بالبدن لزمه، وإن كان بالمال لزمه في ذمته قولاً واحداً فإذا عتق استوفي منه في الحكم وفيما بينه وبين الله تعالى. وان كان حقاً في مال يتعلق به حق على البدن مثل السرقة [100/ب] قطعناه وهل يتعلق الغرم برقبته فتباع فيه أم لا؟ وقد ذكرنا. وإن كان هذا الإقرار منه بعد عتقه في حق لزمه في حال رقه فإن كان حقاً على البدن أقيم عليه حد العبيد، وإن كان في مال استوفي منه إن كان واحداً. وإن كان بالسرقة قطعناه وغرمناه، وإن كان مأذونا فكذلك إلا إذا أقر بماله تعلق بمال التجارة كالبيع والشراء فيقبل قوله ويستوفى مما في يديه من مال التجارة، فإن عجز عن شيء كان في ذمته دون رقبته. وإن كان الحجر للفلس فقد ذكرنا. وأما قول الشافعي: "بالغ رشيد". أراد بالرشيد العاقل لأنه ليس من شرط صحة الإقرار العدالة ويحتمل أنه أراد أن لا يكون سفيهاً محجوراً عليه حتى يصح إقراره بالمال فإذا تقرر هذا قال الشافعي بعد هذا: "ومن لم يجز بيعه لم يجز إقراره ". فإن قيل: هذا لا يستقيم طرداً وعكساً لأن العبد المحجور عليه لا يجوز بيعه ويجوز إقراره بالقصاص ونحوه، والسفيه المحجور لا يجوز بيعه ويجوز إقراره بالقصاص والطلاق والنسب والاستيلاء، والأعمى لا يجوز بيعه ويجوز إقراره وكذلك السكران، قلنا: قال بعض أصحابنا: أراد الإقرار بالبيع خاصة يعني لم يجز إقراره بالبيع. وقيل: أراد أنّه لا يجوز أكثر إقراره وقد يذكر الحد على معنى الأكثر الأغلب وقيل: أراد لم يجز إقراره بالمال وهذا مستقيم في السفيه والعبد، وأما الأعمى فيجوز بيع ما شاهده قبل العمى ويجوز سلمه وفي غيره قولان. وقيل: كل نقص يمنح البيع يمنع الإقرار والأعمى لا يجوز بيعه لعام الرؤية لا لنقصه. وأما السكران قال ابن أبي أحمد: يجوز إقراره، ولا يجوز بيعه كما ذكرتم، وبه قال ابن أبي هريرة لأن البيع يجمع ماله وما عليه فإذا لم يجز ماله لم يجز ما عليه لأن أحدهما لا ينفرد عن الآخر. وقال في "الإفصاح ": بيع السكران يحتمل وجهين. وقال القاضي الطبري: الصحيح عندي جواز بيعه لأنا نجري أفعاله مجرى أفعال الصاحي. وقال في "الجامع": روى المزني عن الشافعي في ظهار السكران ما إذا صح كان بمنزلة المجنون في إقراره. وقال الشافعي في موضع: "ولو شرب رجل خمراً أو نبيذاً مسكراً فأقر [101/أ] في حال سكره لزمه ما أقر به". وقيل: أراد الشافعي: ومن لم يجز بيعه بحالٍ كالصبي والمجنون لم يجز إقراره في حالٍ من الأحوال. وقيل المحجور عليه أربعة، والرابع المريض وحكم إقراره يأتي. فرع إقرار المرتد في بدنه لازم قبل الحجر وبعده. وأما في ماله بعد الحجر ففي حجره وجهان أحدهما: يجري مجرى حجر المرض فعلى هذا عقوده لازمة وإقراره نافذ.

والثاني: يجري مجرى حجر السفه، فعلى هذا عقوده باطلة وفي إقراره وجهان. وأما إقراره قبل الحجر فهل يصير محجوراً بنفس الردة؟ وجهان: أحدهما: يصير محجوراً بها وحكمه مضى، والثاني: لا يصير محجوراً إلا بالحاكم فيجوز إقراره بحكم ينفذ. فرع آخر قد ذكرنا أنه لا يجوز إقرار المكره. قال الشافعي [(¬1)]: والإكراه أن يصير الرجل في يدي من لا يقدر على الامتناع عنه من سلطانٍ أو لصَّ أو متغلبٍ على واحد من هؤلاء. ويخاف المكره خوفاً عليه دلالة أنه إن امتنع من قبول ما أمر به يبلغ به الضرب المؤلم أو إتلاف نفسٍ، فإذا خاف هذا سقط عنه حكم ما أكره عليه. ولو كان لا يقع في نفسه أنه يبلغ به شيء مما وصفت لم يسعه أن يفعل شيئاً ويلزمه حكمه. ولو حبس فخاف الحبس، أو قيد فخاف طول القيد أو وعد فخاف أن يقع به الوعيد ببعض ما وصفت يسقط عنه ما أكره عليه، ولو فعل شيئاً له حكم ثم أقر بعد فعله أنه لم يخف أن يوفي له بوعيد ألزمته ما أحدث من إقرار وغيره. قال [(¬2)]: ولو حبس أو قيد فقال: ظننت أني إن امتنعت مما اكرهت عليه لم ينلني حبس أكثر من ساعة أو لم ينلني عقوبة خفت أن لا يسقط عنه المأثم فيما فيه مأثم مما قال: فأما الحكم فيسقط عنه من قبل أن الذي به الكره كان ولم يكن على يقين من التخلص. فرع آخر لو اقل لرجل: أقررت لك بكذا وأنا مكره فالقول قوله مع يمينه، وعلى المقر له البينة أنه أقر له غير مكره. فرع آخر لو شهد شاهدان أن فلاناً أقر لفلانٍ وهو محبوس بكذا، أو عند سلطان بكذا فقال المشهود عليه: أقررت خوفاً من الحبس أو لإكراه السلطان فالقول قوله مع يمينه إلا أن تشهد البينة أنه أقر عند سلطان غير [101/ب] مكره ولا مخافة ولا محبوس بسبب من أقر له، نص على هذا كله في كتاب"الإقرار" [(¬3)] بالحكم الظاهر وهذا كما لو كان موكلاً به لأن شاهد الحال يدل على أنه مكره. فرع آخر قال: لو أقر لعبدٍ لزمه الإقرار وكان المال المقر به للسيد. وقال في "الحاوي": إن قلنا: يملك بالتمليك صح، وإن قلنا: لا يملك وجهان، أحدهما: لا يصح كما لا يصح للبهيمة. ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 210). (¬2) انظر الأم (3/ 210). (¬3) انظر الأم (3/ 210).

والثاني: وهو الأصح يصح لإمكان معاملته على ذمته. وكذلك إذا أقر المجنون لزمه، وكذلك لو أقر مستأمنون ببلاد الحرب لأهل الحرب أو بعضهم لبعض غير مكرهين لزمتهم والحد أيضاً، كما ألزمهم في داو الإسلام. فرع آخر لو أقر لبعير الرجل أو لدابة له لم يلزمه الإقرار، وكذلك لو قال: عليّ بسبب هذا البعير لا يلزمه إلا أن يبين ما لزمه مثل أن يقول: بجنايتي عليها ونحو ذلك. ولو قال: عليّ لسيدها بسببها كذا وكذا يلزمه ذلك. فرع آخر لو قال السيد: هذه الناقة عليّ بسبب ما في بطنها كذا وكذا لم ألزمه إياه لأنه لا يكون عليه بسبب ما في بطنها شيء أبداً. فرع آخر لو أقر لمسجد أو رباط وأطلق ففي صحته وجهان مخرَّجان من اختلاف قوليه في الإقرار للحمل مطلقاً. والمذهب أنه يصح، لأنه قد يستحق صرف ذلك في عمارته من علة وقف عليه. ولو فسر فقال: لمسجد بمالٍ من وصية أو لرباطٍ بمالٍ من وقفٍ عليه أو لماشيةٍ مسبلة بعلوفة من وصية أو صدقة فهذا صحيح وليس بتمليك، بل هو إقرار بجهات ينصرف المال إليها. فرع آخر لو أقر لضيعة أو كنيسةٍ بمال بطل الإقرار بكل حالٍ لأنه لا يصح الوقف على ذلك ولا الوصية له فلم يبق وجه الاستحقاق. وقيل: يقال له: فَسَّر فإن قال: إن نصرانياً أوصى له به فإن كان حربياً كان فيئاً، وإن كان ذمياً رد على ورثته. فرع آخر قال والدي رحمه الله: لو قال: لهذا الميت عليّ مال ظاهر ما قال في "المختصر" يقتضي جوازه لأنه قال: ولو أقر للميت بشيء وقال: هذا ابنه وهذه امرأته قبل، واصل هذه المسألة إذا قال: كان لفلان عليّ كذا فهل هو إقرار؟ وجهان والظاهر أنه إقرار وتقدير إقراره للميت أنه كان له عليّ مال نفيه [102/أ] وجهان أيضاً. ويمكن أن يقال: لا يصح لأن الإقرار ههنا ويفصل بينه ويبن ذلك بأن المقر له هناك في حال الإقرار ممن يثبت له الحق ابتداء فأمكن استصحاب الحكم الذي كان ثابتاً من قبل، وههنا المقولة على صفةٍ لا يثبت الحق له ني حال الإقرار فيتعذر فيه الاستصحاب، ومن قال بهذا حمل كلام الشافعي على أنه أراد به إذا أقر له إقراراً صحيحاً لا إذا أضاف ذلك إلى حال الممات.

مسألة [(¬1)]: قال: فإنْ قالَ الرَّجُلُ لفلانٍ: علي َّشيءٌ ثم جحدَ. الفصل وهذا كما قال: الإقرار ضربان: ابتداء الإقرار، وجواب عن دعوى، واعلم أن الدعوى لا تسمع إلا محررة معلومة إلا في الوصية خاصة فإنها تسمع مجهولة إذا قال: أوصى لي زيد بشيء من ماله ويرجع إلى بيان الورثة. فإذا حرر الدعوى فقال: لي عليك ألف درهم، فإن أنكر فالقول قوله مع يمينه، وان أقر نظر، فإن بينها فلا كلام وإن أقر بمجهول فلا فرق أن يبتدئ بذلك أو يكون جواباً عن الدعوى فإذا قال له: عليّ شيء صح الإقرار ولزم، وإن كان مبهماً ويجب عليه تفسيره لأن من أبهم شيئاً وأجمله ثبت حكمه ويكون التفسير إليه كمجملات الكتاب والسنة، ويفارق الدعوى لأنها حق له والإقرار عليه فافترقا في الجهالة. وأيضا إذا لم تصح دعوى للجهالة كان له داع يدعوه إلى تحريرها، وفي المقر لا نأمن الرجوع عن إقراره فيسقط حق المقر له فألزمناه مع الجهالة. فإذا ثبت هذا لا يخلو إما أن يفسر، أو يمتنع من التفسير، فإن امتنع وقال: لا أفسره سألنا المدعي عن الذي أراد بالشيء فإن قال: أراد به الألف الذي ادعيت قلنا للمقر: قد ادعى عليك أنك أردت بالشيء الألف الذي ادعاه فما تقول؟ فإن قال: ما أردت ذلك وامتنع من التفسير قلنا له: إن فسرت وإلا جعلناك ناكلاً ورددنا اليمين على المدعي فيحلف أنه أراد بالشيء الألف ويقضى له به. وإن امتنع المقر له من اليمين قلنا: انصرفا فلا حكم لكما عنانا. فقال في "الحاوي" [(¬2)]: فيه قولان: أحدهما: ما ذكرنا وهو المنصوص. والثاني: قاله في كتاب "الإقرار": يحبسه حتى يفر لأنه صار مقراً وبالامتناع عن التفسير كالمانع من حقَّ عليه فيحبس به. وقال بعض [102/ب] أصحابنا بخراسان: يحلف عند نكوله أن له عليه ألف درهم ولا يحتاج إلى أن يقول: ولقد أراد بإقراره ألفاً إذ لو لم يكن إقرار وحصل نكول كان المدعي يحلف هكذا فالإقرار المجمل لا يريد المقر له شراً وهذا حسن. وقال القاضي أبو عليّ البندنيجي رحمه الله: لا أعرف على قولنا مثل هذه اليمين فإنه يحلف على إرادة غيره بالمبهم وهو ضعيف وهذا خلاف النص، ويمكن التوصل إلى معرفته بقوله وبالإمارات الدالة عليه. وان فسر الشيء لم يخل من أحد أمرين إما أن يفسره بمال، أو بما ليس بمال، فإن فسره بمالِ نُظر، فإن فسره بجنس الدعوى فقال: أردت بالشيء عشرة دراهم فإن صدقه المدعي في التفسير أخذه منه وكان على دعواه فيما بقي من الألف. وإن قال: ما أراد بالشيء العشرة وإنما أراد به الألف قلنا له: قد ادعى عليك الألف، وادعى أنك أردت بالشيء الألف فله أن يستحلفك على الأمرين يميناً واحداً أنه لا يستحق محليك الألف ولا أردت بالشيء الألف، وما لم يجمع بين الأمرين لا ¬

_ (¬1) أنظر الآم (3/ 10) (¬2) أنظر الحاوي للمارودي (7/ 11)

يقبل يمينه ولو قال: ما لك عليّ إلا درهم لكني أردت بإقراري ألف درهم لزمه الألف، فإن نكل عن اليمين يرد اليمين على ما ذكرنا. هذا إذا فسر بجنس الدعوى، فإن فسره بغير جنسها مثل إن قال: أردت بالشيء ثوباً أو رجعنا إلى المدعي وفي الرجوع إليه ثلاث مسائل: إحداها: إن قال: صدق في التفسير وذلك لي والألف لي أخذ ذلك وكان على دعواه في الألف. والثانية: قال: صدق في التفسير وليس ذاك لي والألف لي لا يأخذ ذلك لأنه لا يدعيه وكان على دعواه في الألف. والثالثة: لم يصدقه في التفسير بل قال: أردت بالشيء الألف، قلنا: هو يدعي عليك الألف والإقرار به فاحلف يميناً واحدة عليهما. ولو قال: لا أدري ما أراد بقوله وليس لي ذلك حلف ما له عليه ما يدعيه فتكون اليمين على حسب الدعوى، وإن فسره بما ليس بمال وكان ابتداء الإقرار وفي ذلك الشيء منفعة كالكلب الذي يُعد للصيد، والحرث والماشية، وجلد الميتة. والسرقين ونحو ذلك فيه وجهان: أحدهما: يقبل منه وهو الصحيح لأن ذلك مما يحصل للناس فيه بغية صحيحة فيجب رده عليه ويصح [103/أ] أن يريده بإقراره. والثاني: لا يقبل منه لأنه ليس بمال ويطالب بالتفسير ثانياً فإذا فسر بما هو مال قبل قليلاً كان أو كثيراً. وجده ماله قيمة. فرع لو فسره بالخمر والخنزير لا يقبل لأنه ليس بمال ولا منفعة فيه وهذا اختيار القاضي الطبري والقفال. ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان: أحدهما: يكون تفسيراً لأنه قال في الإقرار بالحكم الظاهر: لو أقر أنه غصب منه شيئاً ثم فسره بكلب أو جلد ميتة لزمه تسليمه، وإن فسره بخمر أو خنزير أرقت الخمر وذبحت الخنزير. والثاني: لا يكون تفسيراً لأن قوله: عليّ شيء إقرار بما تضمنه أو بما تصح الدعوى به وهذا مما لا تصح الدعوى عليه به لأنه لا يقر عليه فلا يقبل تفسيره به ويفارق هذا قوله: غصبت لأنه قد يغصب ما ليس بمال ولا منفعة فيه ولا تتوجه به الدعوى عليه. ولو قال في مسألة الغصب: أردت أني غصبتك فحبستك ساعة لم يقبل منه لأن الحر لا يغصب فخرج هذا أن في مسألة الغصب يقبل وجهاً واحداً. وفي الإقرار بالشيء وجهان فإذا قلنا: يقبل لا يجب التسليم إليه بل يراق الخمر ويقتل الخنزير. ولو كان مما يقر عليه اليد وهو الكلب وجلد الميتة يلزمه التسليم، فإن هلك قبل التسليم لا ضمان عليه. وقيل: إذا فسر الشيء بما ليس بمال فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يقبل لأنه

يمتد إليه اليد وإن كان خمراً. والثاني: لا يقبل أصلاً. والثالث: إن كان يقر عليه اليد يقبل وإلا فلا يقبل. فرع آخر لو فسره بما لا تثبت عليه اليد كقوله: أردت به جواب السلام أو جواب الكتاب أو الشمس أو القمر أو الريح أو النار لا يقبل منه. فرع آخر لو فسره بحد القذف هل يقبل؟ فيه وجهان: أحدهما: يقبل لأنه حق الأدمي. والثاني: لا يقبل لأنه يؤول إلى مالٍ. ذكره القاضي الطبري رحمه الله. فرع آخر لو فسره بقشر رمانة، أو قمع باذنجان لم يقبل منه فإن قيل: قشور الرمان مال فيجب أن يقبل منه. قلنا: ذاك مما لا يتمول في العادة لأنه يُرمى به ويخالف [103/ب] هذا ذاك فإنه يتمول في العادة. فرع آخر لو فسره بجوزة واحدة يُقبل لأنه لا يُرمى به في العادة. فرع آخر لو فسره بحبة حنطة، أو حبة خردلة لا يقبل لأنه لا يطلق عليه اسم الشيء عادة، وقا قال القفال: لا يجوز أن يجعل هذا مهراً ولا ثمناً ولا ضماناً ولا أجرة. وقال في "الحاوي" [(¬1)]: لو فسره بتمرة أو لقمة لا يقبل لأنه تافه حقير وإن كان اسم الشيء ينطلق عليه وهذا لأنه لا يستحق به مطالبة ولا يتوجه إليه إقرار لأمرين: أحدهما: ارتفاع اليد عنه. والثاني: مساواة الجمع فيه وهذا غريب. فرع آخر لو فسره بالوديعة عنده يقبل، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: لا يقبل تفسيره بغير المكيل والموزون لأن غير ذلك لا يثبت في الذمة، وهذا غلط لأنه مملوك يدخل تحت العقد كالمكيل. وقيل: حد المقر به كل شيء جازت المطالبة به. وقيل: حده كل شيء جاز الدعوى به وهو فيما يجوز الانتفاع به وهذا أصح لأنه حد لما يجوز المطالبة به ولما يجوز الإقرار به لأن كل شيء صح الإقرار به سمعت الدعوى فيه وما رد في أحدهما رد في الأخر. فرع آخر إذا لم يفسر الشيء عند سؤال الحاكم أعاد القول عليه ثانياً، فإن أبى أعاد عليه ثالثاً ¬

_ (¬1) أنظر الحاوي للمار ودي (7/ 11)

وهل هو شرط أو استحباب؟ فيه وجهان: أحدهما: شرط لا يجوز الحكم قبله ليتحقق بالتكرار امتناعه من التفسير. والثاني: أنه استحباب فإن حكم عليه قبل إعادة القول ثلاثاً أجزأه بعد إعلامه أنه يحكم عليه بعد امتناعه. فرع آخر قال: فإن لم يفسر حتى مات قام ورثته مقامه في التفسير ووقف جميع ماله حتى يفسروا وإنما يوقف الجميع لأنه ربما يأتي التفسير على جميعه. فرع آخر الشهادة على الإقرار بالمجهول تجوز لأنها شهادة على الإقرار به لا بالمجهول نفسه. وإن شهدوا على نفس المجهول فقالوا: نشهد أن له عنده شيئاً أو مالا أو حقاً فيه وجهان: أحدهما: يصح وقيل: نص عليه الشافعي في كتاب "الرهن" فقال: لو ادعى الراهن أن المرتهن أقر بقبض شيء من الحق وأنكر المرتهن فقامت البينة به فالقول قول المرتهن [104/] في قدره. والثاني: لا تصح لأن البينة ما يبين، وعندنا لا بين شيئاً فسقطت وهذا أظهر وتأويل النص أن البينة قامت على الإقرار به. فرع آخر اعلم أن حق الله تعالى، كحد الزنا، وحد شرب الخمر، لا يلزمه الإقرار به عليه بل هو مناوب إلى ستره والتوبة منه لما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من أتى منكم من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله فإن من أبدلنا صفحته نُقم عليه حد الله" وأما حق الآدمي كالقصاص وحد القذف فعليه الإقرار به والتمكين من استيفائه. وأما حق الله تعالى المالي كالزكاة والكفارة لا يلزمه الإقرار به بل عليه أداؤه من غير إقرار. وأما حق الآدمي من العين والدين، والمنفعة والحق كالشفعة وغير ذلك فإن كان مستحقه عالماً به لزمه أداؤه من غير إقرار مما لم يقع فيه تناكر، وإن كان غير عالم به لزمه الأمران الإقرار والأداء. فرع آخر قال بعض أصحابنا: الإقرار لا يصح إلا شروط أربعة مُقرّ، ومُقِرّ له، ومقر به، وقد ذكرناها والرابع: المقر عنده وهو من يصير الحق به محفوظاً إما حاكم ملزم أو شاهد متحمل وليس للإقرار عد غير هذين تأثير، فإذ كان الإقرار عد حاكم فمن شرطه أن يكون بعد سماع الدعوى عليه فإن أقر عنده قبل سماع الدعوى وفي غير دعوى فيه وجهان: أحدهما: يصح، حكاه ابن المنذر عن الشافعي. والثاني: لا يصح وهو اختيار البصريين ويشبه أن يكون اختلافهم في هذا من اختلاف قولي الشافعي هل للحاكم أن يحكم بعلمه؟ فإن قلنا: يجوز ذلك فهذا يجوز وإن قلنا: لا يجوز ذلك لا يجوز هذا. وإن كان الإقرار عند شاهدين فمن شرطه أن

يستر عنهما فيقول بعد الإقرار: اشهدا عليّ بذلك. فإن لم يستر عنهما وأقر عندهما أو سمعاه يقر من غير قصد لهما ففي صحة تحملها وجواز شهادتهما عليه بذلك وجهان والمشهور أنه يجوز. فرع آخر قال بعض أصحابنا: الإقرار ضربان: مفسر، ومجمل، والمفسر ضربان: مستوفى، ومختصر فالمستوفى [104/ ب] يقول مائة دينار بصفتها والمقصر أن يقول: مائة دينار ولا يذكر صفتها. والمجمل ضربان عام وخاص فالخاص قوله: على مال، والعام قوله علي شيء وقد شرحنا بعضها وتمام الشرح يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، فإذا تقرر هذا نرجع إلى بيان لفظ المختصر. قال: إذا أقر بشيء ثم جحد أي جحد أن يكون المراد بالشيء هو الذي يزعمه المقر له. وقوله: أقرر بما شئت مما يقع عليه اسم شيء يوهم أن التفسير إلى مراده ومشيئته وليس كذلك بل يلزمه أن يفسر إقراره بما علم أنه مراده عند إقراره بينه وبين ربه ولا يلزمه أن يفسره بجميع ما عليه له. وقد يكون لرجل على رجل أنواع ديون فيقول: لفلان علي شيء ومراده ذكر بعضها أو ذكر كلها، فإن أراد ذكر بعضها عند الإقرار فليكن تفسيره على وفق الإقرار. وإن أراد ذكر كلها فكذلك ينبغي أن يوافق التفسير اللفظ فصار تقدير كلام الشافعي كأنه قال: إذا جحد قيل له: أقرر بما شئت وأردت بإقرارك ومرادك لا على معنى الاختيار يوم تفسيرك. مسألة (¬1): قال: وسواء قال: له علي مال أو مال كثير أو عظيم. الفصل وهذا كما قال: إذا قال: لفلان علي مال يرجع في تفسيره إليه، فإن فسره بما يتمول قُبل سواء كان قليلاً أو كثيراً مثل قيراط من فضة أو باقة من بقل. وإن فسره بغير المال لا يقبل قولاً واحداً ويخالف المسألة قبلها لأن حقيقة المال اسم لما يتمول فلا يقبل غيره. وإن زاد على هذه صفة فقال: علي مال عظيم أو جليل أو خطير أو نفيس أو كبير أو كثير فحكمه حكم ما لو قال: علي مال ولم يزد عليه. وقال أبو حنيفة: إذا قال: مال كبير يلزمه عشرة دراهم. ولو قال: مال عظيم لا نص فيه، وقياس قوله إنه يلزمه عشرة دراهم. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا قال: مال عظيم يلزمه نصاب تجب فيه الزكاة من أي جنس كان. وحكي عن أبي يوسف أنه قال: يلزمه مائتا درهم، قال أبو بكر الرازي: هذا [105/ أ] مذهب أبي حنيفة. وربما يقولون: ما لا نص فيه لأبي حنيفة، فقوله فيه ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 11).

قول أبي يوسف لأنه قال: ما لا نص فيه فقولي فيه قول أبي يوسف. وذكر بعض أصحاب مالك أنه إذا قال: عليّ مال فيه ثلاثة أوجه: أحدها: مثل قولنا. والثاني: لا يقبل إلا أول نصابه من نصب الزكاة من أي مال كان. والثالث: ما يستباح به البضع والقطع في السرقة وهو ثلاثة دراهم أو ربع دينار. ولو قال: مال عظيم فقد قال بعضهم: هو كما قال: عليّ مال. ومنهم من قال: يلزمه زيادة على ذلك وان قلت. ومنهم من قال: يلزمه قدر الدية. وقال الليث بن سعد: يلزمه اثنان وسبعون درهما لأن الله تعالى قال: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ} [التوبة: 25] وكانت غزواته وسراياه اثنتين وسبعين. واحتج الشافعي لإبطال التقدير فقال: معلوم أن المسكين يرى الدرهم عظيما فإذا أقر فقال: لفلان عليّ مال عظيم ثم فسره بدرهم أو درهمين فلم تقبل تفسيره وألزمته عشرة دراهم أو مائتي درهم فقد ظلمته، وإذا أقر لخليفة فقال: لفلان عليّ مال عظيم ثم فسره بعشرة أو بمائتين فقبلت تفسيره فقد ظلمت المقر له إذ ليس عندك في ذلك أصل من كتاب أو سنة وليس عندك في ذلك إلا مجمل كلام الناس وعاداتهم، وعاداتهم مختلفة على حسب اختلافهم. وربما يقرأ بعض أصحابنا: وليس عندك إلا مجمل كلام الناس بالجيم والصحيح غير هذا وهو ما فسرنا، فإن قيل: في حديث عبد الرحمن بن عوف لما مر بقوم يحلفوا بين الركن والمقام فقال: أعلى دم أو على عظيم من المال، لقد خشيت أن يتهاون الناس بهذا المقام، فقال الشافعي: لا يحلف بين الركن والمقام في أقل من عشرين دينارا وحمل قوله: عظيم من المال على هذا المقدار وهذه مناقضة لأصله. قلنا: الشافعي إنما حمل قوله على هذا المقدار لأن قصد عبد الرحمن بن عوف قد علم أنه لم يرد به جميع ما يقع عليه [105/ ب] اسم المال العظيم لأنه قرنه بالدم. ولأنه أخرجه مخرج الإنكار عليهم في انتهاك حرمة ذلك المكان في الشيء اليسير فكان هذا دليلا من حاله على أنه قصد مقدارا من المال مخصوصا، ولو اقترن بقول المقر من الدليل ما يدل على قصده لم نحمله على إطلاقه. وأما ما ذكر الليث ابن سعد فلا يصح لأنه وصف ذلك بالكثرة ولا يمنع ذلك من وقوع الاسم على ما دون ذلك ولأن الله تعالى قال: {اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب:41] ولم ينصرف إلى هذا العدد. فرع لو قال: علي مال عظيم جداً أو قال: عظيماً عظيماً أو قال: مال وافر أو مغني أو تافه أو قليل أو صغير أو قليل جداً أو قال: مال قليل كثير أو وسط أو كثير إلا مالاً قليلاً أو مال إلا مالاً أو مال كثير عظيم جزيل ثقيل مغني فالكل واحد فبأي قدر من المال فسره جاز. وروي عن أبي حنيفة أنه قال: لو قال: عليً مال عظيم عظيم عظيم يلزمه ستمائة درهم وليس بمشهور.

فرع آخر لو قال: عليّ دراهم كثيرة أو كبيرة أو عظيمة أو لا تحصى كثرةً، يلزمه ثلاثة دراهم ولا يقبل أقل من ذلك كما لو قال: عليّ دراهم. وقال بعض المتقدمين من فقهاء البصرة والمتكلمين: يلزمه درهمان وأصل هذا أن عندهم أقل الجمع المطلق اثنان لأن الجمع مشتق من اجتماع الشيء مع الشيء. وعندنا أقل الجمع ثلاثة لأن لفظ الواحد يسلم في التثنية ولا يسلم في الجمع فلم يجز أن يتفق العدد فيهما مع اختلاف صيغة اللفظ الموضوع لهما. وأما ما ذكروا لا يصح لأنه مشتق من اجتماع الجماعة، كما أن التثنية مشتق من اجتماع الاثنين. وقال أبو حنيفة: إذا قال: دراهم كثيرة أو عظيمة يلزمه عشرة دراهم، وقال أبو يوسف ومحمد: يلزمه مائتا درهم. ولو قال: دنانير كثيرة عند أبي حنيفة يلزم عشرة وعندهم يلزم عشرون. ولو قال: حنطة عظيمة عند أبي حنيفة يقبل ما يسمى عظيما في العادة، وعندهما يلزمه خمسة أوسق. ولو تنازعا في الإرادة فالقول قول المقر مع يمينه فإن نكل عن اليمين فحكمه على ما ذكرنا. فرع آخر قال: ولو أقر بمال عظيم وذكر [106 /أ] جنس المال فقال له: عليّ ذهب عظيم وغاب المقر فالمقر له بالخيار بين ثلاثة أشياء: بين أن يصبر حتى يقدم المقر فيكون الكلام معه، وبين أن يكتب له كتاب إلى حاكم البلد الذي هو فيه فيكون الكلام معه هناك، وبين أن يأخذ من جنس ما أقر له بما يقع عليه اسم مال، فإذا حضر المقر فإن اعترف لك بما أخذت وزيادة وإلا فالقول قوله ويسلم لك ما أخذت هكذا نص عليه. فرع آخر لو قال: له عليّ دريهمات لم يقبل أقل من ثلاثة عندنا. فرع آخر لو قال: عليّ ثلاثة يقبل إذا بينها من جنس أو أجناس. وقال محمد: لا يقبل عند الإطلاق إلا من جنس واحد اعتباراً بالعرف. وهذا خطأ لأنه لا اعتبار بالعرف والأصل براءة الذمة. فرع آخر قال: ولو قال: لفلان علي أكثر من مال فلان أو أكثر مما في يديه من المال وهو يعرف ماله أو ما في يديه أو لا يعرفه فسواء، وأسأله عن قوله فإن قال: أردت بقولي أكثر في الحل دون المقدار فإن ماله عليّ حلال وما في يد فلان حرام والحرام قليل أبداً، أو قال: أردت به أن الذي له في ذمتي أكثر بقاء، لأن العين يخشى هلاكها والذي في الذمة لا يخشى هلاكه، أو قال: أردت أن الذي له عليّ أكثر بركة قُبل قوله مع يمينه.

فرع آخر قال: وإن قال: لفلان علي أكثر من عدد ما في يده من المال أو عدد ما في يد فلان من المال رجعنا إليه في عدد مال فلان فإن قال: ماله عشرة وأقررت بأحد عشر حلف ما أقر له بأكثر منه والقول قوله. ولو أقام المقر له شهوداً أنه قد علم أن في يده ألف درهم ألزمه أكثر مما قال لأن الإقرار إخبار والشهادة إخبار والمال ينتقل هن حال إلى حال ليخرج عن يد فلان ويعلم هو بذلك دون الشهود فلا يلزمه إلا اليقين. وكذلك لو قال الشهود: نشهد أن له ألف درهم فقال زيد عقيبه: عليّ لفلان أكثر مما له فالمرجع في تفسيره إليه وان اتصل بكلامهم لما ذكرنا. فرع آخر لو قال: علمت أن له ألف دينار وأقررت لك [106 /ب] بأكثر من عددها فلوساً أو حرزاً فالقول قوله مع يمينه، وهكذا لو قال: أقررت لك بأكثر من عددها حنطة أو غيرها. فرع آخر لو قال لرجل: لي ألف دينار فقال له: لك عندي أكثر مما لك لزمه ألف دينار ولا أكثر منه بل رجعنا إلى تفسيره. فإن قال: زعم أن ماله ألف دينار وأنا أعلم أنه كاذب فيما يدعيه، بل ماله دينار واحد فالقول قوله، فإذا ثبت أن ماله دينار قلنا: قد قلت له عليك أكثر من ماله فإن قال: أردت أكثر بقاءً فالقول قوله فيحلف أن تفسيره ما أقر له بغلس أو جوزة. وان قال: أردت أكثر عدداً كان المرجع في الأكثر إليه. وان قال: قد علمت أن ماله ألف دينار وأقررت أكثر منه ذهباً لزمه أكثر من ألف دينار ذهباً. فرع آخر لو قال: لفلان عليّ مثل ما لزيد عليّ جنساً وقدراً وصفةً ثم قال: لزيد علي ألف درهم يكون مقراً للأول بألف درهم. ولو قال: لزيد درهم فللأول درهم. ولو قال: مثل ما لزيد علي وأطلق ثم قال: للأول درهم ولزيد ألف لا يلزمه للأول ألف لأن مثل لفظ مشترك يقتضي المثلية في الجنس ويحتمل في القدر ويحتمل في الصفة ويحتمل في نفس الوجوب. ولو قال: مثل ما لزيد جنساَ حُمل على الجنس دون القدر. وان قال قدراً حمل على القدر دون الجنس. فرع آخر لو قال: لزيد عليّ ألف إلا نصف ما لعمرو عليّ ثم قال: لعمرو علي ستمائة فلزيد سبعمائة. ولو قال: لعمرو ألف إلا ثلث ما لزيد عليّ ثم أقر لزيد بتسعمائة يكون لعمرو سبعمائة. فرع آخر لو ابتدأ المدعي فقال: لي عليك مائة دينار فقال: لك عليّ أكثر منها ثم تبين درهماً

قُبل لما ذكرنا من الاحتمال. ولو قال: أكثر منها عدداً يلزمه زيادة العدد من أي جنس كان. ولو قال: أكثر منها جنساً وعدداً يلزمه أدنى زيادة على مائة دينار والله أعلم. مسألة: قال (¬1): وإذا قال: لهُ علي ألفُ درهم ولم يسم الألف. الفصل وهذا كما قال: إذا قال: له عليّ ألف فقد حصر العدد وأبهم المعدود، فإن نقص من العدد شيئاً لم يقبل منه ويقال له: فسر المعدود، فبأي شيء فسره من المال قبل دراهم أو دنانير أو تمر أو حب حنطة مع يمينه [107/ أ] فإن فسره بما ليس بمال كالكلام ونحوها فعلى ما ذكرنا من الاختلاف. فإن كانت المسألة بحالها فعطف على ألف معلوماً فقال: ألف ودار أو ألف وثوب أو ألف ودينار أو ألف ودرهم فقد فسر العطف ويلزمه ذلك ويرجع في تفسير المعطوف عليه إليه كقوله: ألف ولم يعطف ولا يكون العطف تفسيراً للمعطوف عليه بحال. وقال أبو حنيفة: إن كان العطف مما يكال أو يوزن أو يعد كان تفسيراً للمعطوف عليه، وإن كان غير ذلك كالعبيد والثياب لا يكون تفسيراً. وقال أبو ثور رحمه الله: يكون تفسيراً بكل حال، وهذا غلط لأن العرب قد تعطف جنساً على جنس، وجنساً على غير جنس فتقول: رأيت زيداً وعمراً ورأيت رجلاً وحماراً فلم يكن تفسير العطف تفسيراً للمعطوف. ولو قال: عليّ ألف وخمسون درهماً، أو مائة وثلاثة دراهم، أو مائة وخمسون درهماً أو قال: خمسة وعشرون درهماً اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: لا يكون تفسيرا للمائة والألف والخمسة وهذا اختيار ابن خيران والإصطخري. وقال أكثر أصحابنا: يكون تفسيراً للجميع فيلزمه دراهم كلها وهذا اختيار أبي إسحاق. وقال أبو حامد: وهذا قول الشافعي والفرق أن قوله دراهم خالف ما قبله في الإعراب ولم يثبت به شيء فيفرد فكانت تفسيراً لما قبله وقوله: درهم ودرهمان موافق لما قبله في الإعراب ولزم به زيادة منفردة فلا يكون تفسيرا. وقال القاضي الطبري: قال الشافعي في كتاب "الإقرار والمواهب" لو قال: عليّ ألف وكرٌّ حنطة والكُر: اثنا عشر وسقاً يرجع في تفسير الألف إليه وهذا يأتي على صحة قول ابن خيران والماسرجسي، قيل لأبي إسحاق: ما الفرق بينهما؟ فقال: إن قوله: ألف يحتمل المكيل والموزون والمعدود فإذا قال: وكرّ فلا يحتمل إلا الكيل، فإذا قال: حنطة فالظاهر أنه تفسير الكر لأنه أليق به فكان رجوعه إليه أولى من رجوعه إلى الألف المطلق وليس كذلك مسألتنا لأن الألف والخمسين في الاحتمال [107/ ب] واحد وليس لأحدهما على الآخر مزية. ولو قال: ألف وكر فقد أبهم كلاهما فيقال: فسر الألف بما شئت مما يعد وفسر الكر بما شئت مما يكال. وعلى هذا إذا قال: بعتك هذا الثوب بألف وثلاثة دراهم أو بخمسة وعشرين درهماً لا يصح البيع على قول ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 11)

ابن خيران ويصح على قول أبي إسحاق. فرع لو قال: لفلان عليّ ثلاثة دراهم وألف لا يكون تفسيرا للألف بلا خلاف. ولو قال: علي خمسة عشر درهماً كان تفسيرا للخمسة والعشرة بلا خلاف لأن هذين العددين مركبين وليس أحد العددين معطوف على الآخر. فرع آخر لو قال: عليّ ألف وأحد عشر درهماً فيه وجهان أحدهما: لا يكون تفسيراً كما لو قال: ألف وثلاثة دراهم. والثاني: يكون تفسيرا لأنه عدد منصوب للتمييز والتمييز أخص بالصفات والنعوت. ويصير تقدير هذا الكلام: له عليّ ألف وأحد عشر من الدراهم ويخالف العدد بلفظ الجمع كقوله: دراهم أو خمسة دراهم أو تسعة دراهم فلا يكون تفسيرا. مسألة (¬1): قال: وإذا قال: له علي ألفُ إلا درهماً. الفصل وهذا كما قال: اعلم أن الاستثناء، في الجملة صحيح في الإقرار والطلاق والعتاق وغيرها والأصل فيه قوله تعالى: {فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ {30} إِلاَّ إِبْلِيسَ} [الحجر: 30، 31] {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ} [العنكبوت: 14]. ويجوز استثناء الأقل وإبقاء الأكثر، واستثناء الأكثر وإبقاء الأقل، واستثناء النصف من النصف وبه قال كافة العلماء. وقال بعض أهل اللغة: لا يجوز أن يستثني من نصف الجملة، وبه قال ابن درستويه النحوي وهو مذهب أحمد رحمه الله، واحتج بأن الاستثناء تبع لباقي الجملة فلم يجز أن يكون أكثر منها وهذا غلط لأن الله تعالى قال عن إبليس (قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ {39} إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ {40} [الحجر: 39: 40] ثم قال بعد هذا: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] فاستثنى الغاوين من العباد والعباد من [108/ أ] الغاوين ولا بد أن يكون أكثر من الآخر أو يكونا مثلين، وأي ذلك كان فقد استثنى. ولأن الخارج بالاستثناء غير داخل في اللفظ ولا مراد به فاستوي حكم قليله وكثيره، وإن كان الاستثناء يرفع جميع ما تقدم لا يجوز مثل أن يقول: عليّ ألف إلا ألف. ويجوز الاستثناء من جنس المستثنى منه ومن غير جنسه بكل حال وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: إن كان المستثنى مما يكال أو يوزن أو يباع عدداً كالطعام والدراهم والجوز صح الاستثناء، وإن كان غير ذلك من الثياب والعبيد لا يجوز. ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 11)

وقال محمد وزفر: يسقط الاستثناء بكل حال ويلزمه الألف. وهذا غلط لأن لهذا الاستثناء وجهاً صحيحاً في الكلام فإنه إذا قال: عليّ ألفٌ إلا عبداً معناه إلا قيمة عبدٍ، ولو صرح بهذا كان صحيحاً فجاز أيضاً حمل الكلام عليه. ولأنه لا يختلف أهل اللغة في صحة استثناء الجنس من الجنس ولكن اختلفوا في إعرابه فبعضهم نصبه، وبعضهم رفعه، فال ذلك على جوازه. وقد قال النابغة (¬1) [من البحر البسيط]: وقفت فيها أصيلاناً أسائلها عَيت جواباً وما بالربع من أحد إلا الأواري لأياماً أبينها والنوى كالحوض بالمظلومة الجلد وقال أيضاً: وبلدةٍ ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس واليعافير: ذكور الظباء، والعيس: الجمال البيض، والأواريّ: المعالف. وقيل: يجوز الاستثناء من غير جنسه في الإقرار وهل يجوز في غير الإقرار؟ وجهان لأنه قد يصح أن يؤخذ في الحقوق المقر بها غير الجنس بدلاً عنها ويتعذر وجود مثله في غير الإقرار. فرع ألفاظ الاستثناء إلا وغير وخلا وما خلا وحاشا. ولو قال: عليّ ألف واستثنى مائة أو أحط مائة فيه وجهان: أحدهما: يكون استثناءً صحيحاً لأنه قد صرح بحكمه فأغنى عن لفظه. والثاني: لا يصح لأنه واعد بالاستثناء إذا قال: استثنى وحاط بغير استثناء إذا قال: أحط. فرع آخر إذا قال: لفلان ألفاً إلا درهماً نقول له: فسر الألف الذي أبهمته. فإن قال: أردت به ألف جوزة [108/ ب] أو ألف لوزة أو ألف باذنجانة نُظر فإن كان إذا استثنى منه مقدار الدرهم يبقى من الألف شيء صح الإقرار، وان لم يبق شيء لا يصح هذا التفسير. فرع آخر إذا لم يصح التفسير هل يجب هذا الألف كاملاً أو يطالب بتفسير. بألفٍ، يصح منه استثناء الدرهم؟ قال صاحب "الإفصاح ": فيه وجهان: أحدهما: أن الألف الذي فسره به يلزمه كله كما لو قال: له عليّ ألف درهم إلا ألف درهم بطل الاستثناء ولزمه جميع ¬

_ (¬1) البيتان من البسيط، وهما في ديوان النابغة (11/ 27)، الإنصاف (1/ 170)، الدرر (3/ 159)، شرح المفصل (2/ 80)، الكتاب (2/ 321)، شرح أبيات سيبويه (2/ 54)، شرح شواهد الإيضاح (ص 191)، لسان العرب (11/ 17).

الألف فكذلك ههنا، والثاني: وهو اختيار أبي إسحاق لا يصح هذا التفسير ويقال له: فسره بألفٍ يمكن أن يستثنى به بمقدار درهم لأن الإقرار بالألف والاستثناء قد صح فلا يجوز إبطال الاستثناء، وليس كذلك إذا قال: له ألف درهم إلا ألف درهم فإن الاستثناء لم يصح فألزمناه ما أقر به. والأول أصح لأنه لما فسره بالألف الذي لا يمكن أن يستثنى منه الدرهم وأخبر أنه أراد بالألف المطلق تبينا أن استثناؤه كان باطلا. ولأنا إنما نطالبه بنفسه ما أراده بالألف المطلق ولا نجعله إلى اختياره، وإذا كان كذلك لم يكن لأمرنا إياه بتفسير آخر معنى وهو اختيار ابن أبي هريرة فإن امتنع من بيانه هل يجعل كالناكل أو يحبس؟ ذكرنا وجهين. فرع آخر لو استثنى مجهولاً من معلوم مثل أن يقول: له عليَ ألف درهم إلا ثوبا صح ذلك. وكذلك إذا قال: إلا عبداً لأنه يحتمل أن يكون أتلف عليه ثوباً أو عبداً فيكون قيمته مستثناه من الألف فيقال له: بيّن قيمته فإن بينه بما يبقى بعد القيمة من الألف شي، قُبل منه ولا يصير الألف عبيداً خلافاً لمحمد رحمه اللهء وعند أبي حنيفة إذا قال: عليّ ألف إلا درهماً يصير الألف كلها دراهم لاستثناء الدرهم منها ووافقنا إذا قال: إلا عبداً. فرع آخر لو قال: علي ألف إلا خمسين درهما كان الدرهم تفسيراً للخمسين المستثناه دون الألف بخلاف ما لو قال: ألف وخمسون درهماً لأن هاهنا عطف جملةٍ على جملةٍ، فإذا أتى بالتفسير كان تفسيرا لهما، وإذا قال: إلا خمسين هو استثناء وليس بعطف فلم يكن الدرهم تفسيراً [109/ أ] بل كان تفسيراً للاستثناء فحسب والحكم على ما ذكرنا. فرع آخر لو كان الاستثناء مجهولاً والمستثنى منه مجهولاً أيضا مثل إن قال: عليّ ألف إلا شيئاً يرجع في تفسيرهما إليه ويحتاج أن يبين بما يبقى شيء وإن قل. ولو قال: عليّ ألف درهم إلا شيء يرجع في تفسير الشيء إليه والحكم ما ذكرنا. وقال أبو حنيفة: إذا قال: عليّ ألف درهم إلا شيء ينبغي أن يفسر الشيء بأقل من نصف الألف، فأما بأكثره فلا يقبل. فإن قال قائلٌ: كيف نقبل منه التفسير المنفصل عن اللفظ في هذه المسألة ونظائرها؟ وقلتم اتصال الاستثناء شرط. قلنا: ليس أمل الاستثناء كالتفسير لأن الاستثناء لفظ ظاهره الإسقاط فإذا اتصل جعل منعاً لابتداء الوجوب إذ الكلام بآخرهء وإذا انفصل تمحض ابتداء إسقاط فكان مردودا. فأما اللفظ المجمل فيجوز أن يتراخى تفسيره عن وقت وروده كألفاظ الشريعة. وعلى هذا قال أصحابنا: لو فسر المجمل تفسيراً غير مقبول فأراد أن يستأنف تفسيراً آخر كان ممكناً منه، ولو وصل بالأمل استثناء يرفع الجميع ثم أردنا لما بطل استثناؤه أن يستثنى مرة أخرى لم يمكّن منه.

فرع آخر لو قال: عليّ ألف درهم ومائة دينار إلا خمسين، فإن أراد بالخمسين المستثناه جنساً غير الدراهم والدنانير يقبل، وان أراد أحد الجنسين من الدراهم أو الدنانير أو هما قبل أيضا. وان فات بيانه قال أبو حنيفة: يعود إلى ما يليه، وعندنا يعود الاستثناء إليهما لأنه يحتمل ذلك والأصل براءة الذمة. فرع آخر إذا ثبت أنه يعود إليهما فيه وجهان أحدهما: إلى كل واحد منهما جميع الاستثناء فيستثنى من ألف درهم خمسون درهما ومن مائة دينار خمسون ديناراً وهو الأصح. والثاني: يعود إليهما نصفين فيستثني من الدراهم خمسة وعشرون درهماً ومن الدنانير خمسة وعشرون دينارا. فرع آخر إذا استثنى عددين أحدهما معطوف محلى الآخر بحرف من حروف العطف فإن الاستثناءين جميعاً [109 /ب] يرجعان إلى المستثنى الأول مثل أن يقول: لفلان عليّ عشرة دراهم إلا درهمين وإلا ثلاثة دراهم فيلزمه خمسة دراهم. فرع آخر لو استثنى عددين ولم يكن أحدهما معطوفاً على الآخر بحرف من حروف العطف فإن الاستثناء الثاني يرجع إلى الاستثناء الذي تقدمه مثل أن يقول: لفلان علي عشرة دراهم إلا ثلاثة دراهم إلا درهمين فيلزمه تسعة دراهم لأنه استثنى من الثلاثة درهمين فبقي درهم واحد وهو استثناء من العشرةء والأصل في جواز الاستثناء من الاستثناء قوله تعالى: {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ {58} إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ {59} إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا} [الحجر 57 _ 160] الآية ومن أهل اللغة من ينكر ذلك ويقول: العامل في الاستثناء الفعل الأول بتقوية حرف الاستثناء، والعامل الواحد لا يعمل في معمولين ونقول في الآية: إن الاستثناء الثاني من قوله تعالى: (أَجْمَعِينَ) وعنده يجوز ذلك ويترك العامل. فرع آخر لو قال: لفلان عليّ درهم ونصف درهم إلا نصف درهم فيه وجهان: أحدهما: يلزمه درهم ونصف ويكون الاستثناء باطلاً لأن الدرهم جملة والنصف جملة أخرى لأن أحدهما معطوف على الآخر والجملة الأولى قد استقر من غير الاستثناء لأنه إذا تخلل بين الاستثناء وبين المستثنى منه كلام استقر ولم يجز أن يرجع الاستثناء إليه، فإذا كان كذلك وجب أن يرجع إلى النصف الذي يليه وإذا رجع إليه رفع الكل، وإذا كان الاستثناء يرفع جميع المستثنى منه كان الاستثناء باطلاً. والثاني: يجب درهم واحد لأن الكلام إنما يستقر بالسكت عليه، أو العدول إلى

كلام لا يتعلق بالإقرار ولم يوجد ههنا واحد منهما فوجب أن يكون الاستثناء راجعاً إلى الجميع. وأيضا فإن من أصل الشافعي أن الاستثناء يرجع إلى جميع ما تقام ذكره فيكون الجمل المعطوف بعضها على بعض بمنزلة الجملة الواحدة [110/ أ] وإذا كان كذلك وجب أن يكون الاستثناء صحيحاً. وهكذا لو قال: إلا دوهم فيه وجهان: أحدهما: يلزمه درهم ونصف، والثاني: يلزمه نصف دوهم وهكذا لو قال: لفلان عليّ درهم ودرهم إلا درهماً فهو على الوجهين أحدهما: لا يصح الاستثناء ويلزمه درهمان وهو المذهب لأن الشافعي نص في باب إباحة الطلاق على أنه لو قال: أنتِ طالق طلقة وطلقة يقع طلقتان لأن الواو وإن كان يعطف إلا أنه لا يخرج الكلام من أن يكون جملتين والاستثناء يتعقب أحدهما ويرفع جميعه فلم يجز. والثاني: يلزمه درهم واحد في الطلاق يقع طلقة واحدة. فرع آخر لو قال: علي عشرة إلا ثلاثة إلا أربعة قال الماسرجسي فيه وجهان: أحدهما: يلزمه سبعة لأن الاستثناء الثاني غير صحيح لأنه رفع جميع الاستثناء الأول. والثاني: عليه ثلاثة دراهم فإن الثاني إذا لم يصح رجوعه إلى الاستثناء رجع إلى المستثنى منه فكأنه استثنى من العشرة سبعةء وقد تعطف العرب من غير حرف العطف قال الأخفش: تقول العرب: أكلت خبزاً زيتاً تمراً يريد به خبزاً وزيتا وتمراً. وقال بعض الشعراء (¬1): كيف أصبحت كيف أمسيت مما يزرع الود في فؤاد الصديق وعلى هذا إذا قال: عليّ عشرة دراهم إلا ثلاثة دراهم إلا ثلاثة فهو على هذين الوجهين قلت: ويحتمل وجهاً آخر يلزمه عشرة، لأنه أثبت في الأخر ما نفى وزيادة فيثبت المنفي وتكون جملة المثبت عشرة والله أعلم. وعلى هذا لو قال: لفلان علي عشرة دراهم إلا عشرة إلا ثمانية فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يلزمه عشرة لأن الاستثناء الأول لم يصح، والاستثناء الثاني يرجع إلى الاستثناء الأول فإذا لم يصح الأول لم يصح الثاني. والثاني: يلزمه ثمانية دراهم وهو الأقيس لأن الاستثناء الأول إنما يسقط إذا سكت عليه وإذا لم يسكت يستعمل [110/ ب] الكل والأول إثبات وقوله: إلا عشرة نفي. وقوله: إلا ثمانية إثبات فلزم إسقاط العشرة من ثمانية عشر يبقى ثمانية. والثالث: يلزمه درهمان فيبطل الاستثناء الأول، ويبقى الثاني فكأنه قال: عليّ عشرة إلا ثمانية وهكذا لو قال: عليّ ألف درهم إلا ألف درهم إلا مائة درهم كان على هذه الأوجه ¬

_ (¬1) البيت من البسيط، وهو بلا نسبة في الأشباه والنظائر (2/ 134)، الخصائص (1/ 290)، الدرر (6/ 155)، ديوان المعاني (2/ 225)، رصف المباني (ص 414)، شرح الأشموني (2/ 431)، شرح عمدة الحافظ (ص 641)، همع الهوامع (2/ 140).

الثلاثة أحدها: يلزمه ألف، والثاني: يلزمه تسعمائة، والثالث: يلزمه مائة وهكذا في الطلاق إذا قال: أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثاً إلا اثنتين. فرع آخر لو قال: لفلان علي عشرة، إلا ستة إلا أربعة إلا درهمين إلا درهماً يلزمه سبعة دراهم فإن كل استثناء يرجع إلى الاستثناء الذي يليه فيكون ستة إلا أربعة درهمين، ثم استثنى درهمين إلا درهم وذلك درهم فيكون الجميع ثلاثة فكأنه استثنى من العشرة فيكون المقر به سبعة دراهم. وإن شئت قلت: الاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات فكأنه قال: عليّ عشرة تلزمني إلا ستة لا تلزمني فيكون أربعة ثم قال: إلا أربعة يعني أربعة تلزمني إلا درهمين لا يلزمني فيكون درهمين فيكون ستة ثم قال: إلا درهماً يلزمني فيكون سبعة. وعلى هذا لو قال: عليّ عشرة إلا ثمانية إلا ستة إلا أربعة إلا درهمين إلا درهماً يلزمه خمسة دراهم فيكون ثمانية إلا ستة درهمين وأربعة إلا درهمين تكونن درهمين ودرهم بعده يكون جميع الاستثناء خمسة فيكون قد استثنى من العشرة خمسة فيلزمه خمسة دراهم. وان شئت قلت: معاً عشرة يلزمني إلا ثمانية لا يلزمني فيكون درهمين ثم قال: ستة يلزمني إلا أربعة لا يلزمني فيكون درهمين ثم قال: درهم يلزمني فيكون المقر به خمسة دراهم. وعلى هذا لو قال: عليّ ألف إلا ثماني مائة إلا أربعمائة إلا مائتين إلا مائة تلزمه خمسمائة على ما بيناه. فرع آخر لو قال في الطلاق: أنت طالق خمساً إلا ثلاثاً. قال ابن أبي هريرة: يقع ثلاثاً لأن إيقاع الخمس لا يصح فالصحيح من الخمس ثلاث، فإذا استثنى من الثلاث ثلاثاً لم يصح [111 /أ]. وقال بعض أصحابنا: وهو اختيار القافي الطبري يقع تطليقتان لأن خمساً إلا ثلاثاً عبارة عن الاثنين فكأنه قال: أنت طالق تطليقتين. وعلى هذا لو قال: أنت طالق خمساً إلا تطليقتين يقع طلقة على الوجه الأول وعلى الوجه الثاني يقع ثلاثاً. فرع آخر لو قال: هذا الخاتم لفلان وفصه لي كان الاستثناء صحيحا، كما لو قال: هذا الخاتم إلا فصه لفلان. وكذلك لو قال: هذا الدار لفلان وهذا البيت لي أو إلا هذا البيت فالكل واحد. وان فصّل الكلام كان إقراراً بجميع الدار وبجميع الخاتم مع البيت والفصّ. فرع آخر لو قال: هذا العبد له إلا رأسه لم يكن استثناء، لأنه لا ينفصل. فرع آخر لو قال: غصبته عبداً إلا رأسه أو إلا يده فيه وجهان أصحهما: يكون غاصباً لجميعه

لا لحالة ما استثناه. والثاني: أنه يكون مقراً بجزء منه يرجع في بيانه إليه. فرع آخر لو قال: عليّ درهم ينقص دانقاً كان كقوله إلا دانقاً. فرع آخر لو قال: غصبتك أو غصبتك ما تعلم لم يلزمه به ويقال: فسر فإن قال: أردت غصبتك نفسك وأدخلتك البيت أو المسجد فالقول قوله نص عليه في الإقرار بالحكم الظاهر وهكذا لو قال: غصبتك أو غصبتك مراراً كثيرة. فرع آخر لو قال: غصبتك شيئاً يرجع في تفسيره إليه كما لو قال: غصبت منك شيئاً. ولو قال ههنا أردت غصبتك نفسك لم يقبل لأن قوله: غصبتك شيئا فالشيء غير نفسه. فرع آخر لو قال: غصبتك هذا العبد أو هذه الجارية فهو كما لو قال: غصبتك أحد هذين العبدين فيلزمه الإقرار وعليه التعيين، فإن عين أحدهما وصدّقه المقر له أخذه وانصرف، وان كذبه نُظر فإن قال: بل الآخر لي فالقول قول المقر مع يمينه يحلف ويسقط حق المدعي ويقال له: قد أقر لك بالأول فإن قبلته وإلا فذاك إليك. ثم هل يقر في يده أو يرده الحاكم إلى يد نفسه؟ وجهان وقد ذكرنا من قبل نظيره. فإن كانت بحالها فعين له العبد فقال له المقر: بل العبد والجارية كلاهما لي فالقول قول المقر [111/ ب] مع يمينه. فإن كانت بحالها فقال: لا أعين قلنا: للمقر له عين أيهما شئت فاحلف أنه لك وحده فإن قال المدعي: هما معاً لي ولا أعين شيئاً والمقر لا يعين شيئاً وأنا أحلف عليهما وأستحقهما قلنا للمقر له: قد ادعاهما وقد نكلت عن التعيين فإن عينت وحلفت وإلا جعلناك ناكلاً وحلف المقر له عليهما واستحق. وان ماتا في يديه أو أحدهما فالقول في ذلك كالقول فيهما وهما حيان. وإن امتنع كل واحدٍ منهما من اليمين وسأل المقر له وقفهما حتى يعين الغاصب أحدهما لقلنا. فإن أقر الغاصب بأحدهما ثم ادعى المقر له أنه حدث بالعبد عيب عناه فقال الغاصب: بل كان العيب به حين الغصب فإن كان عيبا لا يمكن حدوثه عند الغاصب فالقول قوله بلا يمين، وان كان عيباً يمكن حدوثه عند كل واحد منهما فالقول قول الغاصب مع يمينه. وان كان عيباً لا يمكن حدوثه عند المغصوب منه فالقول قول المقر له. مسألة: قال (¬1): وان أقر بثوبٍ في منديل أو تمرٍ في جرابٍ. الفصل وهذا كما قال: إذا أقر بشيء في ظرفٍ أو وعاءٍ كان إقراراً بالشيء دون الظرف ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 12)

والوعاء فإذا قال: ثوب في منديل أو دهن في قارورة أو حنطة في مكيال أو ثوب في جراب أو تمر في جراب أو زيت في وعاء أو ماء في جرة لا تلزم الأوعية في هذه المسائل، قال الشافعي: وأصل ما أقول في هذا إني ألزم الناس أبداً اليقين وأطرح الشك ولا أستعمل عليهم الأغلب، وبه قال مالك رحمه الله. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا قال: غصبت منه ثوبا في منديل كان غاصباً لهما لأن الظاهر أنه ظرفه في حال الغصب ووافقنا إذا قال له: عندي ثوب في منديل أنه لا يدخل المنديل فيه فنقيس عليه. قال بعض فقهاء المدينة: إن كان المقر به ذائباً مثل إن قال: عليً زيت في دبّة دخل الظرف في الإقرار فإن كان جامدا لم يدخل. وعلى هذا لو قال: غصبتك حنطة في أرض أو من أرض أو زيتاً في حُب أو من حُب أو بعيراً في مرعى أو من مرعى أو عبداً في غنم [112/ أ] أو في إبل أو عبداً من غنم أو من إبل أو حنطة في سفينة أو في غرارة لم يدخل الوعاء في الغصب، وهكذا لو قال: ثياباً في عيبةٍ أو فصاً في خاتم أو خاتماً في فصًّ أو سيفاً في حمالة أو حمالة في سيف لأن كل هذا قد يتميز من صاحبه فينتزع الفص من الخاتم والخاتم من الفص. وهكذا لو قال: غصبتك زيتاً في زقٍ أو عسلاً في عكةٍ أو شهداً في جونة أو جرة فيها زيتُ أو قفصاً فيه طير أو عكة فيها سمن كان غاصباً للجرة دون الزيت والقفص دون الطير، والعكة دون السمن ولا يكون غاصباً لهما معاً إلا أن يبين فيقول: غصبتك عكة وسمنا وجرةً وزيتا فيكون غاصباً للشيئين والقول قوله في أي سمن أقر به وفي أي عكة أقر بها. وهكذا لو قال: غصبتك عكة وسمنها أو جرة وزيتها. أو غصبتك عكة بسمنها أو جرة بزيتها. وكذلك لو قال: غصبتك داراً بقماشها أو سفينة بطعامها كان إقراراً بهما لأن البناء يعلق الثاني على الأول. فرع لو قال: غصبتك حمارا عليه سرج، أو حماراً مسرجاً كان غاصباً للحمار دون السرج، وكذلك لو قال: له عندي دابة مسرّجة. ولو قال: دابة مع سرجها أو بسرجها كان إقرارا بهما. وذكر ابن أبي أحمد في "التلخيص" أنه لو قال: لفلان عندي فرس عليه سرج لم يدخل السرج في الإقرار، وقد ذكرناه نصا في الحمار، ثم قال: ولو قال: لفلان عندي عبد عليه عمامة أو ثوب أو منطقة كان ذلك للمقر له، قلته تحرجاً، والفرق بينهما أن يد العبد يد مولاه فإذا أقر أن عليه عمامة فإن العمامة يجب أن تكون في يد مولاه الذي أقر له به فلا تسمع دعواه أن العمامة له إلا ببينة، وليس كذلك الفرس لأنه لا بدل له، وإنما الذي عليه من السرج يكون في يد من هو في يده وهذا يقتضي فرقا لا من جهة الإقرار، والعمامة غير داخلة في الإقرار كالسرج وإنما يثبت له من جهة يد العبد ولا يد للفرس، ومن أصحابنا من خالفه فيه وقال: هذا لا يصح على أصل الشافعي وإنما يجب عليه [112/ ب] تسليم العبد فقط وتكون العمامة للمقر كالسرج وهو اختيار القفال وجماعةٍ، وهذا لأن العبد لا يد له على نفسه ولا على ما

هو لابسه وممسكه ولهذا لا يقبل توله: إني عبد لغير من هو في يده وهذا هو الصحيح عندي: وعلى هذا إذا قال: له عدي عبد على دابة يجب أن يكون على هذين الوجهين. وعلى ما ذكرنا لو قال: غصبتك عيبة فيها ثياب كان غاصباً للعيبة دون الثياب. فرع آخر لو قال: له عندي رأس عبدٍ كان إقراراً بجميع العبد لأن رأس العبد لا ينفصل عنه. فرع آخر لو قال: له عندي ثوب مطرز، فإن كان الطراز منسوجاً معه دخل في الإقرار لأنه بعض الثوب، وإن كان مركباً عليه ففي دخوله في الإقرار وجهان: أحدهما: يدخل لاتصاله، والثاني: لا يدخل لتميزه واحتماله. مسألة (¬1): قال: ولو قالَ: لهٌ قبلي كذا ثمّ اقرَّ بما شاءَ واخذ. الفصل وهذا كما قال: إذا قال: لفلان قبلي كذا فذلك إقرار ملزم كما لو قال: عندي أو لفلان عليّ لأن لفظ قبلي ولفظ عندي متقاربان في معهود كلام العرب وفيه ثلاثة فصول يقول عليّ كذا. ويقول كذا وكذا. أو يقول: كذا وكذا وكل واحدٍ منها على ضربين، مطلق ومفسر. أما الأول: وهو قوله كذا ولم يفسر كان كقوله: عليّ شيء. وان قيد فقال: كذا درهم بالرفع أو بالخفض أو بالنصب يلزمه درهم فإن الإعراب لا يغير حكمه. والرفع أن يقول: درهمُ والخفض أن يقول درهمٍ، والنصب أن يقول: درهماً. وقال في "الحاوي" (¬2):لا خلاف في هذا بين الفقهاء وان كان على مقتضى الإعراب عند الخفض يتناول مائة درهم لأنه أول عددٍ يكون تمييزه محفوظاً بالإضافة لأن الفقهاء يجعلون قوله: درهماً أو درهم تفسيراً لجنسه وقوله كذا يتناول من الأعداد واحداً. وقال القاضي الطبري: لو قال: درهم بالرفع لزمه درهم واحد ويكون تقديره شيء هو درهمٌ، وان قال درهم بالخفض لزمه بعض درهم حسب ما يفسرهء ويكون كذا كناية عن جزءٍ من الدرهم مضافٍ [113/ أ] إليه لأن كذا اسم مبهم بمعنى شيء فصح أن يفسر بجزءٍ من درهم ولو قال: درهما لزمه درهم ويكون منصوباً على تفسيره. وقال بعض النحويين: إنه منصوب على القطع فكأنه قطع ما ابتدأ به وأقر بدرهم وعلى هذا مذهب نحاة الكوفة، وهذا اختيار كثير من أصحابنا وهو قول ابن أبي أحمد في تصنيفه. ولو قال: كذا درهم ووقف بغير إعراب قال بعض أصحابنا: فيه وجهان فعلى ما ذكره القاضي الطبري يلزمه بعض درهمٍ لأن المجرور يوقف عليه ساكنا كما ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 13) (¬2) انظر الحاوي للماوردي (7/ 27)

يوقف على المرفوع وإذا احتمل ذلك لم يلزمه إلا اليقين. وعلى القول الأول وهو اختيار أبي حامدٍ يلزمه درهم. وأما الثاني: إذا كرر فقال: عليّ كذا وكذا فإن لم يفسر كان كقوله كذا مرة واحدةً وهو كقوله: علي شيء شيء فهو شيء واحد والتكرار تأكيد وقد مضى حكمه وهذا لأنه لم يعطف أحدهما على صاحبه بحرف العطف واليقين هو التكرار وما زاد عليه شك، وإن فسر وقال: كذا كذا دوهماً أو درهمٌ أو درهم فهو على ما ذكرنا في قوله: كذا درهم حرفاً بحرفٍ. وقال ابن أبي أحمد في "المنهاج ": يلزمه درهم وزيادة إذا قال: كذا كذا درهماً. وقال القاضي أبو علي الزجاجي قلت: أنّا لا نلزمه الزيادة وهو على ما قال وذلك غلط. وقال أبو حامد في "الجامع": قد قيل إن المقر إذا كان من أهل العربية والعلم باللغة يلزمه أحد عشر درهماً إذا قال: درهماً بالنصب. وقيل: لا يلزمه حتى يقول: أردت ما توجب العربية وهذا لا يعرف للشافعي في كتبه. وقيل: هذا مذهب محمد ولا يفرق بين أن يكون عارفاً باللغة أو لا ولا نص فيه عن أبي حنيفة. وحكي عن أبي إسحاق أنه قال: إن كان نحوياً يلزمه ما قال محمد، وإن كان من العامة الذين لا يعرفون في الكلام يلزمه درهم واحد وهذا غلط لأن في قوله كذا درهم بالخفض لم يعتبر مقتضى اللسان في إيضاف مائة درهم كذلك ههنا. وأما الثالث: إذا قال: كذا وكذا فإن أطلق ولم يفسر كان كقوله: شيء يعني فيرجع [113/ ب] في تفسيرهما إليه فإن فسرهما بمالين فالقول قوله. وان فسر وقال: كذا وكذا درهماً قال المزني: يلزمه درهمان ثم قال: وقال في موضع آخر: يلزمه درهم فأكثر يعني أقل ما يقبل منه درهم واحد فإن زاد عليه قبل منه. واختلف أصحابنا فيه على طوق فذهب المزني إلى أن المسألة على قولين: أحدهما: درهم واحل وهو اختيار المزني لأن أقل شيئين فسرا بدرهم نصف ونصف والأقل هو اليقين. والثاني: يلزمه درهمان لأنه أقر بجملتين مبهمتين ثم فسرهما بالدرهم فالظاهر أن ذلك تفسيرا لكل واحدة منهما. قال المزني: وهذا إذا نصب فقال: درهماً، فإن قال: درهم بخفض كان أقل من درهم لأن تقديره كذا وكذا من درهم. وان قال: كذا وكذا درهم برفع يلزمه درهم واحد لأن تقديره كذا وكذا هما درهمٌ. وقال أبو إسحاق: ليس على قولين بل هو على اختلاف حالين فالذي قال: درهم واحد إذا قال: كذا وكذا درهم بالرفع والذي قال: درهمان إذاً قال: بالنصب وهذا بين في كتاب "الأم " لأن الشافعي ذكرها بين المسألتين في كتاب الإقرار والمواهب وإحداهما تتلو الأخرى والظاهر أنه لم يقصد به القولين وإنما قصد به اختلاف حالين لأنه لا يجوز أن تكون المسألة الواحدة في موضعٍ واحدٍ ويجيب بجوابين مختلفين فيجب أن تكون الأولى بالنصب، والثانية بالرفع.

وقال القاضي الطبري: قد تأملت كتاب الإقرار والمواهب فوجدت الشافعي قال: وإذ قال: كذا وكذا درهماً أعطاه درهمين ثم قال: فإن قال: كذا كذا درهماً أو كذا وكذا درهماً قيل له: أعطه درهما أو أكثر من قبل أن كذا يقع على أقل من درهم فإن عينت درهماً فليس عليك أكثر منه فنصب الدرهم ني الموضعين على ما نقل المزني فيجب أن يقول أبو إسحاق: ذلك خطأ من الكاتب. وقال أبو حامد: مذهب الشافعي ما قال أبو إسحاق في الفرق أنه إذا نصب كان تفسيراً لهما وإذا رفع كان معناه مبلغهما درهم. قال أبو إسحاق: ويحتمل أن يكون الشافعي قال: ظاهره درهمان فإذا أطلق ولم تكن له إرادة ألزمته درهمين وقوله: درهم أراد إذا قال: [114/ أ] عنيت درهماً فلا يكون عليه أكثر منه. قال أبو إسحاق: وأبعدها ما ذكر المزني من أن الثاني مخالف للأول وأنه على قولين. والطريقة الرابعة ما قال ابن أبي هريرة والصحيح أن يقال: إذا قال: كذا وكذا درهماً يلزمه درهمان، والذي قال: يلزمه درهم وأكثر أراد به إذا شك هل قال المقر: كذا كذا درهماً؟ أو قال: كذا وكذا درهماً؟ فألزم اليقين وهو درهم واحداٌ لأن مذهبه لا يختلف أنه إذا قال: كذا كذا درهما أنه يلزمه درهم واحد وهذا أيضاً يحتمل لأن الشافعي قال: فإن قال: كذا كذا درهماً أو كذا وكذا درهماً قيل له: أعطه درهماً أو أكثر وهذا يحتمل الشك. وقال محمد: يلزمه أحدٌ وعشرون درهماً إذا قال: كذا وكذا درهماً وهذا اختيار أبي إسحاق فيمن كان نحويا. وهذا غلط لما ذكرنا. وحكي عن محمد أيضا أنه لو قال: كذا درهما لزمه عشرون درهما، وهذا غلط لأنه يؤدي إلى أن يلزمه باللغة إذا كرره أقل مما يلزمه إذا وحّده، لأنه يقول: في كذا كذا يلزمه أحد عشر درهماً، وفي كذا درهماً يلزمه عشرون درهما وهذا محال. وحكي عن أبي يوسف أنه قال: إذا قال: عليّ كذا كذا أو كذا وكذا درهماً يلزمه أحد عشر درهماً. فرع لو قال: عليّ كذا بل كذا قيه وجهان: أحدهما: يكون إقراراً بشيء واحد، ويكون الثاني إثباتا للأول. والثاني: يكون إقرارا بشيئين كقوله: عليّ كذا وكذا لأنه لا يسوغ في اللسان أن يقول: رأيت زيداً إلا زيدا يعني الأول وإنما يصح ذلك إذا عنى غيره. مسألة: قال: والإقرار في الصحة والمرض سواء يتحاصون معاً. وهذا كما قال: إذا أقر رجل في صحته لرجل بمالٍ ثم مرض المقر مرضاً مخوفاً فأقر لآخر بمالٍ ثم مات فإن كان ماله الذي خلفه يفي بالدينين جميعاً قسم ماله بينهما فإن فضل شي، كان لورثته، وان كان ماله يعجز عهما قسم بينهما على قدر الدينين، فإن كان لأحدهما ألف والآخر ألفان قسم بينهما على الثلث والثلثين وبه قال مالك وقال أبو حنيفة: يقدم غريم الصحة على غريم المرض وافقنا إذا ثبت بالبينة أنهما [114/ ب] يستويان وهذا غلط لأنهما استويا في الثبوت من غير مزية فأشبه ديني الصحة وهذا لأن المرض لا يوجب حجراً في الإقرار بدليل أنه ينفذ للأجنبي بجميع ماله فإن

قيل: أليس المحجور عليه إذا أقر بالدين بعد الحجر يقدم عليه من أقر له قبل الحجر في أحد القولين فما الفرق؟ قلنا: الفرق من وجهين: أحدهما: أن المقر له في الحجر يرجع إلى ذمته ويأخذ حقه إذا استفاد مالاً فلم يكن في تقديم المقر له قبل الحجر إسقاط دينه، وههنا إذا قدمنا المقر له في صحته أدى إلى إسقاط حجره فإنه لا يرجع إلى ذمته بعد موته ولا يرجو أن يستفيد مالاً فيستوفى منه. والثاني: أن الديون التي على المحجور عليه مبنية على تقديم الأقوى فالأقوى، ألا ترى أنا نقدم من وجد ماله بعينه على من دينه في الذمة؟ وليس في يده عين مالٍ بخلاف هذا. فرع العبد المأذون إذا أقر بدين لزمه من ثمن المبيع أو أرش العيب ونحوه ينقذ إقراره. فلو حجر السيد عليه ثم أقر لآخر بدين نظر فإن كان المال الذي في يده صرف إلى المقر له أولاً ولم يبق في يده ولا في يد السيد منه شيء فلا يسترجع من المقر له ما قد حكمنا بملكه بإقرار العبد. وان كان المال في العبد أو يد السيد لم يصرف إلى غرمائه فإنه يشاركهم أو يأخذ ما يفضل عنهم على وجهين بناءً على القولين اللذين ذكرناهما في إقرار المحجور عليه لا فرق بينهما. فرع آخر إذا قدم المريض قضاء بعد ديون غرمائه لم يشركه الباقون فيه خلافاً لأبي حنيفة وهذا لأنه لزمه قضاؤه فأشبه إذا قضى ثمن سلعته في يده. مسألة (¬1): قال: ولو أقَّر لوارثٍ فلم يمت حتى حدث وارثٌ يحجبه. الفصل وهذا كما قال: إذا أقر في مرضه لا يخلو إما أن يكون للأجنبي أو للوارث، فإن كان للأجنبي يلزم إقراره سواء كان الإقرار بعين أو دين أو كان بكل المال أو ببعضه لأنه مطلق التصرف في ماله ولا يتهم في إقراره ويكون مقدماً على الوارث. وفيه قول آخر ذكره القاضي أبو علي الزجاجي [115/ أ] في "زيادة المفتاح " أنه يعتبر من الثلث لأنه كالوصية ولم يذكره غيره وهو غريب. وان كان للوارث إما بدين أو بعين قائمةٍ، أو بسهم من ماله، أو بكل ماله؟ اختلف أصحابنا فيه قال أكثرهم: المسألة على قولين لأن الشافعي قال: إذا أقر لوارث فمن أجاز الإقرار لوارث أجازه، ومن أبى رده فالظاهر من هذا أنه خرج المسألة على قولين. وقال ابن أبي هريرة: لا يختلف قول الشافعي أنه يقبل إقراره لوارثه والذي قال: من أبى رده إنما هو تفريع على قول غيره، وقال أبو ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 13)

إسحاق: هذا هو القول الذي قطع به الشافعي ورد من خالفه فيه والآخر حكاية مذهب أهل العراق. وقال أبو حامد: نص الشافعي على بطلانه في "الإملاء" وأملى في "الأم" إلى قولين والصحيح جوازه وبه قال الحسن وعمر بن عبا العزيز وأبو ثور وأبو عبيد. وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد: لا يصح إقراره له وهذا غلط لأن من صح إقراره بوارثٍ صح إقراره لوارث كالصحيح ولا يلزم المحجور عليه لسفه لأن من أصحابنا من قال: لا يصح إقراره بالوارث لأنه يوجب الإنفاق عليه. وحكى أصحاب مالك أنه إن كان متهماً فيه لم يقبل، وان كان لا يتهم قٌبل، وهذا غلط لأن المريض غير متهم فإن حالة المرض وقت التوبة والإنابة إلى الله تعالى ولهذا يقبل إقراره بوارث وإن كان متهماً. فرع إذا قلنا: يصح إقراره للوارث لا فرق بين أن يكون حين الإقرار وحين الوفاة وارثا أو حين الإقرار وارثاً، وحين الوفاة غير وارث أو حين الإقرار غير وارث، وحين الوفاة وارثا. وإذا قلنا: لا يصح إقراره للوارث فالاعتبار بحال الوفاة فإن كان حين الوفاة وارثاً فالإقرار باطل سواء كان حين الإقرار وارثا أو غير وارث، وان كان حين الوفاة غير وارث فالإقرار صحيح سواء كان حين الإقرار وارثاً أو غير وارث فلو أقر لأخيه وله ابن ثم مات ابنه قبل موته بطل إقراره لأخيه [115 /ب] لأنه وارث حين الموت، ولو أقر لأخيه وليس له ابن فولد له ابن قبل الموت حجب الأخ وصح إقراره له لأنه حين الموت غير وارث، ولو أقر لأجنبية ثم تزوج بها ثم مات وكان الكل في مرضه كان إقراره باطلا لأنها وارثة حين الوفاة وبه قال أبو حنيفة ومالك وهذا لأن ما يرد لأجل الورثة يعتبر فيه حال الموت كالوصية فإنه لو أوصى بثلثه وثلثه درهم ثم زاد ماله وصار ثلثه ألفاً تلزم الوصية من ألف. وقال القاضي الطبري: قال أبو إسحاق: من منع الإقرار للوارث قال: إذا أقر لمن لم يكن وارثا ثم صار وارثاً جاز لأنه أقر له ولا تهمة عليه في هذا الإقرار ومصيره وارثا بعده لا صنع له فيه وإنما هو أمر من السماء والتهمة ههنا مرتفعة فيكون سبيله سبيل الأجنبي كما قالوا: إن المطلقة الثلاث في المرض تورث للتهمة فلو قال لها: أنت طالق إن قدم زيداً وطلقها بوصف فصادف ذلك مرضه الذي مات فيه لا ترث لأنه لا تهمة كذلك ههنا فعلى هذا جواب ما ذكرنا من المسائل على العكس. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان: أحدهما: قاله في "القديم": يعتبر كونه وارثاً وغير وارث يوم الإقرار، وقال في "الجديد": يعتبر يوم الموت، وقال القفال في "شرح التلخيص ": قوله القديم أصح عندي وهذا غريب لم يذكره أهل العراق. وذكروا هذا المذهب عن عثمان البتي وابن أبي ليلى.

فرع آخر لو كان للمريض عبد أو ثوب فأتلفه متلف فقال المريض: لا ضمان على من أتلفه فإني كنت وهبته منه وقبضه ثم أتلفه، فإن كان المقر له أجنبياً صح ولا ضمان. وإن كان وارثاً لا يسقط عنه الضمان في أحد القولين لأن هبته لوارثه لا تصح فكان الشيء على ملك الميت فكان ضمانه عليه. فرع آخر لو أقر في مرضه بوارث صح وورث. ولو اشترى ابنه في مرضه الذي مات فيه عتق ابنه ولم يرث لأن العتق وصية فلو ورّثناه أدى [116/ أ] إلى بطلان الوصية وليس كذلك الإقرار بالنسب لأنه إخبار عن حق واجب عليه وليس بوصية. ألا ترى أنه إذا أعتق عبده في مرضه يعتبر من الثلث ولو أقر به لإنسان لم يعتبر من الثلث؟. فرع آخر لو ملك أخاه ثم أقر في مرضه أنه قد كان أعتقه وهو أقرب عصبته نفذ عتقه وفي ميراثه قولان: أحدهما: لا يرث إذا قلنا: إقراره لوارثه باطل لأن توريثه يوجب رد الإقرار له ورد الإقرار يبطل الحرية ويسقط الإرث فأثبتت الحرية بثبوت الإقرار وسقط الإرث. والثاني: يرث إذا قلنا: يقبل الإقرار للوارث فيكون العتق نافذاً بإقراره والإرث ثابت بنسبه ولا يرتفع أحدهما بصاحبه. مسألة (¬1): قال: ولو أقرَّ أن ابن هذه الأمة ولدهٌ منها. الفصل وهذا كما قال: إذا كان له أمة لها ولد وعليه دين عظيم ولا مال له سواهما ولم يسمع قط يقر بوطئها في صحته فأقر في مرض موته أنه ابنها ولد منها ثم مات لا يخلو من أربعة أحوال إما أن يقول: استولدتها في ملكي، أو بنكاح أو بوطء شبهة أو يطلق، فإن قال: استولدتها في ملكي تضمن هذا الإقرار أربعة أحكام، حكمين في الولد وهو ثبوت النسب والحرية ولا ولاء عليه لأنه لم يمسه رق، وحكمين في الأمة تصير أم ولد له تعتق بوفاته، فإذا مات عتقت من صلب ماله سواء أضاف الاستيلاد إلى حال الاستيلاد إلى حال الصحة أو إلى حال المرض وإنما قدمنا هذا على الديون لأنه لو أحبلها في مرضه وولدت منه وعرف ذلك بالبينة كان متقدماً على ديون الغرماء فإذا أقر به وكان إقراره في المرض مقبولاً لا يمنع المرض منه وجب أن يكون مقدماً على سائر الديون ولهذا نقول: إذا أقر في مرضه أنه أعتق هذا العبد في صحته يصير حراً ويكون مقدما على سائر الديون، لأنه لو قامت به البينة كان مقدماً عليها وكذلك لو رهن عبده في مرض موته وقامت به البينة قدمنا حق المرتهن على سائر الديون. ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 14)

مسألة (¬1): قال وإذا أقر الرجل لحمل بدين كان الإقرار [116/ ب] باطلاً. الفصل وهذا كما إذا قال: لحمل هذه المرأة علي ألف درهم، أو قال: هذه العين التي في يدي لحمل هذه الجارية لا يخلو من ثلاثة أحوال. إما أن يضيف إلى سبب لا يستحيل ثبوت المال به للحمل من جهته، أو يضيفه إلى سبب يستحيل ثبوته له من جهته، أو يطلق فإن أطلق فيه قولان: أحدهما: لا يصح وهو الذي نقله المزني ونص عليه في كتاب "الإقرار والمواهب" لأن الظاهر أن الحمل لا يثبت له عليه مال، فالإقرار له باطل إلا أن يضيفه إلى جهة صحيحة وبه قال أبو يوسف. والثاني: يصح نص عليه في الإقرار بالحكم الظاهر، وبه قال محمد، وقيل: إنه مذهب أبي حنيفة وهذا أصح وهو اختيار أبي إسحاق لأنه أقر بالمال لمن يجوز ثبوته له فكان لازماً كما لو أقر للطفل. فإذا قلنا: لا يصح فإن أضافه إلى سبب يستحيل ثبوت المال له من جهته بأن يقول: لهذا الحمل عندي ألف درهم من معاملةٍ عاملته بها، أو جناية جنيت على بدنه فهذا أولى بالبطلان. وإن أضاف إلى سبب لا يستحيل ثبوت المال من جهته وهو أن يقول: لهذا الحمل عندي ألف درهم كان لأبيه علي فمات وخلفه ولا وارث له غيره، أو قال: كان لأجنبي في ذمتي مال فأوصى به له ثم مات واستحقه هذا الحمل فإن هذا الإقرار لازم صحيح. وإذا قلنا: الإقرار المطلق لازم فإذا أضافه إلى سبب يستحيل ثبوت المال له من جهته هل يبطل الإقرار؟ قولان بناءً على القولين في تبعيض الإقرار وهو إذا قال: تكفلت لفلان على أني بالخيار ثلاثاً. أو قال: لفلان عندي ألف درهم من ثمن خمر أو خنزيرٍ، أو معاملة فاسدة، أو قال: استقرضت من فلان ألف درهم ثم قضيته فيه قولان أحدهما: لا يلزمه شي،. والثاني: يُقبل قوله فيما يضره ويُرد فيما ينفعه فكذلك ههنا. فإذا تقرر هذا فكل موضع قلنا: الإقرار باطل لا تفريع عليه، وإذا قلنا: صحيح فلا يطالب المقر بتسليم المال في الحال حتى تضع لأنه ربما كان ريحاً تنفش، وربما وضعته ميتاً فلا يلزمه الإقرار. وإذا وضعته نُظر فإن كان ميتاً لم يصح إقراره، وان كان [117 /أ] عزاه إلى وصية عاد إلى ورثة الموصي، وإن عزاه إلى إرث عاد إلى ورثة الميت. فإن كان أطلق كُلف التفسير وعمل على تفسيره، وان مات قبل التفسير بطل إقراره، وإن كان حياً لا يخلو من أحد أمرين إما أن يكون وضعته لأقل من ستة أشهر من حين الإقرار، أو لستة أشهر فصاعداً، فإن كان لأقل من ستة أشهر فالإقرار لازم وطولب بتسليم المال إلى وليه، وان كان لستة أشهر فصاعداً فإن كانت تحت زوج يطأها أو تحت سيد يطأها فلا يلزم الإقرار لأنا لا نتحقق وجوده في حال الإقرار، وان كانت مُطلقة أو متوفى عنها زوجها فوضعته لأقل ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 14)

من أربع سنين فإنَّا نحكم بأنه ملحق بالواطئ وأنه كان موجوداً وقت الطلاق والوفاة، فعلى هذا يكون الإقرار له بالمال لازما. وان وضعته لأكثر من أربع سنين بطل الإقرار. ولو وضعت حيا وميتا وجوزنا الإقرار كان الجميع للحي وان كانا حيين، فإن كانا ذكرين كان بينهما نصفين، وان كانا ذكراً وأنثى فإن كان المال ميراثاً كان المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين. وان أطلق أو كان وصية كان بينهما نصفين. وهذا بعد ما تعذر الرجوع إلى بيانه، فإن أمكن الرجوع إلى بيانه رجعنا إليه. ولو أقر للحمل مضافاً إلى أبيه وزعم أن الأب ميت فولي الحمل بعد الوضع يطالب المقر بالمال. فإن وفر المال على من يقبضه للحمل وتلف ثم بان أن الأب غير ميت كان للأب مطالبة المقر بدين يدفعه إلى غير مستحقه. قال المزني رحمه الله: قد قال الشافعي رحمة الله عليه: ههنا خلاف ما قال في كتاب الوكالة لأنه قال هناك: إذا أقر بمال لرجل وهذا وكيله فالمقر بالخيار إن شاء دفع إلى الوكيل وان شاء لم يدفع ولم يجعل المقر ههنا بالخيار إذا أقر للحمل بل ألزمه الدفع والإلزام في المسألتين أصح، ثم إن جحد الموكل التوكيل أو ظهر الأب حياً رجعنا عليه، هذا معنى كلامه وفي إيجازه إشكال فلهذا شرحنا قلنا: ما [117/ ب] أنصف المزني حيث قال: هذا خلاف ما قال في كتاب الوكالة لأن المخالفة بين المسألتين إنما يتصور بعد استواء الصورتين وليستا بمستويتين لأن الإقرار في كتاب الوكالة صحيح لا يختلف المذهب فيه، ثم تكلم الشافعي في لزوم التسليم فقال: لا يلزمه التسليم إلى الوكيل، فإن شاء دفع، وان شاء منع فأما في هذا الموضع فإنما تكلم الشافعي في صحة أصل الإقرار لا في وجوب الدفع والدفع فرع على الأصل، فكيف يدعي أن هذا خلاف ما قال في كتاب الوكالة، ثم إذا جئنا إلى مسألة الدفع اختلف مشايخنا فيه بخراسان فمنهم من جعل المسألتين جميعا على قولين: أحدهما: يلزمه الدفع فيهما وان كان يخشى رجوعاً في المستقبل. والثاني: لا يلزمه الدفع إليهما إذ لا يأمن مطالبة تلحقه من بعد، ومن أصحابنا من ألزمه الدفع في مسألة الحمل، حيث يصح منه الإقرار ولم يلزمه ذلك في مسألة الوكيل لأنه معترف بموت الحمل والميت لا يحيا فإن كان حيا فقد أتى من جهة نفسه حيث كذب، والموكل قد يجحد التوكيل مع صدق المقر في تقدم التوكيل. قال القفال: ومما يتصل بجواب سؤاله أنه لو كان عليه دين فطولب به فقال: لا أؤدي إلا بحضرة الشهود له ذلك إذ لو أخلفا بعد ذلك في القضاء كان القول قول صاحب الحق، وفي الوديعة إذا قال المودع: لا أرد إلا بحضرة الشهود وجهان على ما ذكرنا، فيأتي في مسألة الوارث هذان الوجهان: أحدهما: يلزمه دفعه لأنه إقرار. والثاني: لا يلزمه دفعه لأنه أقر به للميت ثم شهد بموته فلم يثبت الموت بشهادته فإذا دفع، لا تبرأ ذمته فلا يجبر على دفعه ما لم تقم بينة أن الأب قد مات، فسقط اعتراض المزني على أحد الوجهين وهذا خلاف ما قاله أهل العراق أجمع.

فرع لو قال: لحمل هذه المرأة عندي ألف أقرضيه أبوه أو غصبته إياه كان الإقرار لأبيه لأن القبض من أبيه حال الحمل، فإن كان أبوه ميتاً فهو موروث عن أبيه وإن كان حياً فهو لأبيه ولا يلزمه لما في بطن هذه المرأة شيء نص عليه. فرع آخر لو أقر بحمل أمةٍ لرجل، قال في كتاب "الإقرار [181/ أ] والمواهب ": إن أطلق لم يلزمه الإقرار لأن الحمل لا يملك إلا بالوصية. فإن وصل إقراره فقال: أوصى لي فلان برقبة أمة وله بحملها صح الإقرار إذا ولدته لأقل من ستة أشهر من حين الوصية. ومن أصحابنا من قال: إذا أطلق يحتمل قولاً آخر أنه يصح تخريجاً من الإقرار للحمل إذا أطلق ذكره في "الحاوي" (¬1). مسألة (¬2) قال: ولو قال: هذا الرقيق له إلا واحداً. الفصل وهذا كما قال: إذا قال: هؤلاء العبيد لزيد إلا واحداً منهم فإنه لي يقول للمقر: عين الواحد الذي لك، ونقول له: اتق الله ولا تدع غير الذي لك فإذا عين واحداً قلت قيمته أو كثرت نطر في المقر له فإن صدقه على ذلك سلم الباقي إليه، وإن كذبه كان القول قول المقر مع يمينه لأن الكل في يده فأيهم ادعاه منهم قٌبل قوله مع يمينه. ولفظ الشافعي في ذلك الواحد لفظ التخيير وليس المراد منه التخيير بل مراده أنا نصدقه في أي عبدٍ أشار إليه. وان مات كلهم إلا واحداً قلنا: عين فإن ذكر أن الذي له في جملة الموتى سلم إلى المقر له هذا الواحد. وإن قال: هو لي فيه وجهان، أحدهما: لا يقبل لأنه تفسير يرفع جميع الإقرار، والثاني: يقبل وهو المذهب لأنه لم يرفع هو جميع الإقرار بل أقر بما سوى هذا الواحد غير أن الموت ذهب بهم فصار كما لو قال: هؤلاء له إلا غانماً فإن غانماً يكون له وإن ماتوا كلهم إلا غانما بقي له غانم. فرع لو قتل جميعهم إلا واحداً فبين أن المستثنى هو هذا الواحد يقبل وجهاً واحداً لأن المقتول لم يفت لاستحقاق قيمته على القاتل. فرع آخر لو قال: غصبته كلهم إلا واحداً ثم ماتوا إلا واحداً ثم بين أن المستثنى هو الواحد يقبل وجهاً واحداً لأن من مات من المغصوبين مضمون بالقيمة. ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (7/ 37) (¬2) انظر الأم (3/ 15)

مسألة (¬1): قال: ولو قال: غصبتٌ هذه الدار من فلانٍ ومُلكها لفلانٍ. الفصل وهذا كما قال: إذا قال: غصبت هذه الدار من فلان وملكها لفلا ن آخر فإن الدار تُسلم إلى المغصوب منه لأنه يلزمه تسليمها إلى من غصبها منه ويجوز أن تكون في يده بحق إن كان الملك لغيره بحق [118/ ب] الإجارة وغيرها ثم ترجع هي مع مالكه علم ويكونان كرجلين تداعيا داراً في يد أحدهما وشهادته للمالك لا يقبل لأنه غاصب فلا تقبل شهادته، فإن قيل: إذا حسنت حاله وظهرت عدالته فاقبلوا شهادته. قلنا: حسن الحال إنما يعتبر بعد رد المغصوب فأما ما دامت يده ثابتة على المغصوب فلا تحصل عدالته. ولو قال: هذه الدار ملك لغيره وغصبها من زيد فأقر، ذكر الغصب في إقراره فيه طريقان إحداهما: الحكم فيه كالحكم في المسألة قبلنا بهذا للشبه، والثانية: يلزمه تسليمها إلى زيد، وهل عليه الضمان لعمرو؟ قولان كما لو قال: هذه لزيد لا بل لعمرو والفرق أن هناك أقر للأول باليد وللثاني بالملك على ما علم وقد لزمه الإقرار الأول فلم يكن لإقراره الأول مفرطاً ولا مخطئاً فلم يلزمه الغرم وههنا أقر بالملك لعمرو فيلزمه ردها إليه ثم أقر باليد لآخر فأحال بين المالك المقر له أولاً وبين الدار فيلزمه الغرامة. فإن كان يعلم أنَ ملكها لعمرو وكانت في يد زيد بغير حق فعليه فيما بينه وبين الله تعالى تسليمها إلى عمرو. مسأله (¬2): قال: ولو قال: غصبتها من فلانٍ لا بل من فلانٍ كان للأولِ ولا غرمَ عليه للثاني. وهذا كما قال: إذا قال: غصبت هذه الدار من فلان ثم قال متصلاً به أو منفصلاً عنه: لا بل غصبتها من فلان آخر، فإن الدار تسلم إلى المقر له أولاً ولا يقبل رجوعه عنه للثاني، وهل يلزمه الغرامة للثاني؟ اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة طرق. إحداها: وهو قول أكثر أصحابنا فيه قولان: أحدهما: يلزمه قيمة الدار للثاني وبه قال أبو حنيفة وهو الأصح لأنه أقر بها لفلان بعد أن حال بينها وبينه بغير حق فيلزمه الضمان كما لو أقر بعبد له بعد أن قتله. والثاني: لا تلزمه القيمة لأنه يطالبه المقر له أولاً بالدار ولا يجوز أن تجتمع المطالبة بالعين وبدلها من القيمة. ولأن الذي يدعيانه عين واحدة واعترف بها لهما فلا يغرم لأحدهما شيئاً كما لو قال: هي لهما. والثانية: لا تلزمه الغرامة قولاً واحداً في الحال إلا أن يُؤيس من العين بتلفها في يد المقر له فيكون حينئذ غارماً، [119/ أ] وهذا معنى قول الشافعي: ولا غرم عليه للثاني أي عاجلا. والثالث: إن كان سلمها المقر إلى الأول بيده فعليه الغرامة قولا واحدا. وإن سلمها الحاكم فعلى قولين وهذا لا يصح، لأن الشافعي نص في كتاب الشهادات على أنه لو ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 15) (¬2) انظر الأم (3/ 15)

أقر بها لزيد ثم قال: هي لعمرو يغرم لعمرو سواء سلمها إلى زيد أو لم يسلم، ولأن تسليم الحاكم بإقراره كتسليمه بنفسه. وهكذا الطرق إذا قال: هذه الدار لزيد لا بل لعمرو أو قال: غصبتها من زيد وزيد غصبها من عمرو، أو قال: له عندي في وديعة ثم قال: لا بل فلان آخر هو الذي أودعنيه. وقال أبو حنيفة: إذا قال: هذه العين لفلان لا بل لفلان دفعت إلى الأول ولم يغرم للثاني بخلاف المسألة الأولى، والفرق أن الغصب سبب للضمان فإذا أقر به لزمه، وأما إقراره ليس سبب للضمان والحاكم يسلمها إليه فلا يلزم الغرم على المقر. وقيل: هذا قول بعض أصحابنا وهذا غلط، لأن إقراره في ملك غيره بما أوجب تسليمه إلى غيره سبب موجب للضمان كما لو سلمه بنفسه وكما في إقراره بالغصب، وقال بعض أصحابنا في المسألة الأولى: هل يغرم للثاني؟ وجهان إذا قلنا في هذه المسألة يغرم وهذا غير صحيح والفرق ظاهر. فرع لو باع داراً ثم قال: كنت غصبتها من فلان هل يلزمه قيمتها للمقر له؟ قال في كتاب الإقرار بالحكم: الظاهر فيه قولان قال أبو إسحاق: ويجيء فيه الوجهان الآخران. وقال ابن أبي هريرة: تلزمه قيمة المبيع ههنا للمقر له قولاً واحداً لأن في البيع عاوض عليها بالثمن الصائر إليه فغرم بخلاف المسألة قبلها في أحد القولين، وهكذا ذكره صاحب "الإفصاح " والماسرجسي، وهما أخذا عن ابن أبي هريرة وذكر مثل هذا في "الحاوي" (¬1) وهذا خطا بخلاف النص الذي حكينا. فرع آخر لو أعتقه ثم أقر بغصبه ففي الغرم قولان: لأنه لم يعاوض عليه سواء أعتقه تطوعاً أو عن كفارة. فرع آخر لو قال: غصبت هذا العبد من زيد وغصبته من عمرو فيه وجهان، أحدهما: يكون كالمقر بغصبه لثاني بعد أول فيسلم إلى الأول وفي غرم قيمته للثاني قولان. والثاني: أنه كالمقر بغصبه منهما [119/ ب] فيكون بينهما ولا غرم. فرع آخر لو شهد شاهدان على رجل بأن الدار التي في يده لفلان فحكم الحاكم عليه بتسليم الدار إلى المشهود عليه ثم رجعا عن الشهادة لا ينقض الحكم برجوعهما ولا ينتزع الدار من يد المحكوم له. وهل يلزمهما قيمة الدار للمشهود عليه؟ اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: فيه الطرق الثلاثة كما في الإقرار، ومنهم من قال: لا تلزم الغرامة ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (7/ 38)

عليهما قولاً واحداً لأنهما لم يتلفاها ولم تثبت أيديهما عليها، وفي الضمان إنما تجب بالإتلاف أو باليد ولم يوجد من الشاهدين واحد منهما فلم يجب عليهما الضمان، وليس كذلك في الإقرار فإنه يقر بأنه غصبها منه وضمنها بيده، فإذا تعذر ردها إليه جاز أن يلزمه الضمان. فرع آخر لو قال: غصبت هذا العبد من أحد هذين الرجلين فالإقرار لازم وعليه بيان المالك منهما فإن قال: لا أعرف المالك فإن صدقاه في ذلك أخذا العبد منه وكانا فيه خصمين وان كذباه فقالا: نعلم المالك حلف لا يعلم ذلك وأخذ العبد وكانا فيه خصمين، والخصومة فيه أنه عبد لا يد لواحدٍ منهما عليه ولا لغيرهما أيضا فإن كان مع أحدهما بينة قُضي له به وان كان مع كل واحد منهما بينة تعارضتا، وإن لم يكن هناك بينة حلف كل واحد منهما لصاحبه ووقف لهما حتى يصطلحا. ولو اعترف به لأحدهما سلم إليه، وهل يحلف للأخر؟ قولان بناء على أن الضمان هل يلزمه فإن قلنا: يلزمه الضمان لو رجع عن إقراره حلف لأنه وبما يرجع فيقر له فيلزمه الغرم. وان قلنا: لا يلزمه الضمان لا يحلف. مسألة (¬1): قال: ولا يجوز إقرارُ العبد في المال. الفصل وهذا كما قال: ذكرنا هذه المسألة في البيع. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا أقر بجناية أو إتلاف ووجب في ذمته ذلك بعد العتق، فكم يغرم بعد العتق وجهان أحدهما: جميع الدين بالغاً ما بلغ: والثاني: الأقل من قيمته أو الدين بناءً على أنه لو جنى بكم لفدى السيد بالأرش كاملاً أو بالأقل من قيمته أو أرش [120/ أ] جنايته وفيه قولان. قال: وكذلك لو صدقه السيد وسلم في الجناية فبيع وبقي من الأرش شيء هل يٌتبع به إذا عتق؟ قولان والأصح أنه يلزم كمال الدين بالغا ما بلغ. وقال في "الحاوي" (¬2) في الباقي وجهان بناءً على أنه هل تعلق برقبته ابتداء أو بذمته ثم انتقل إلى رقبته، ولو كذبه السيد تعلق بذمته وان كان مأذوناً في التجارة. وقال أبو حنيفة: إن كان مأذوناً في التجارة قضاه مما في يده. مسألة (¬3): قال: ولو قال رجل: لفلان عليّ ألفُ فأتاه بألفٍ. الفصل وهذا كما قال: إذا قال: لفلان علي ألف درهم وديعة موصولاً لم يثبت إلا وديعة ولا يضره قوله عليّ. فإن ادعى بعد ذلك تلفها وأمكن قبلت يمينه ولو قال: عليّ ألف ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 16) (¬2) انظر الحاوي للماوردي (7/ 42) (¬3) انظر الأم (3/ 16)

درهم وأطلق ثم أحضر ألفاً وقال: هذا الذي أقررت لك به كان لك عندي وديعة، فإن قال المقر له: صدقت سلم إليه ذلك وبرئ، وان لم يصدقه وقال: هذا وديعة لي عندك ولكن الذي أقررت لي به دين في ذمتك فالقول قول المقر مع يمينه وعلى المقر له البينة خلافاً لأبي حنيفة، وهذا لأن قوله عليّ ألف درهم يحتمل الوديعة، لأن من عنده وديعة فعليه ردها على صاحبها وقال الله تعالى: {إِنَّ اللهَ يَامُرُكُمْ أَن تُؤدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] الآية ومن توجه عليه أمر الله تعالى جاز له أن يعبر عنه بكلمة الإيجاب، وقال أبو حامد: نقل المزني أنه يقبل منه. وقال في موضع آخر: لا يقبل والقول قول المقر له مع يمينه لأن عليّ حرف إيجاب والوديعة ليت بواجبة. وقال القاضي أبو علي البندنيجي: كنا نحكي هذا القول الآخر ولا نجده للشافعي فالمسألة على قول واحدٍ على ما ذكرنا وهو المشهور. فرع لو قال: علي ألف درهم، ثم قال: كانت وديعة وقد كان تلف ولم أعلم لا يقبل لأنه أقر بوجوبه على نفسه ثم ادعى أنه لم يكن واجباً عليه لأن الوديعة إذا تلفت من غير تعد منه لا يكون عليه ضمانها فلم يقبل منه. فرع آخر لو قال: علي ألف درهم في ذمتي فجاءه بألف وقال: الألف الذي أقررت به كان وديعة وتلف وهذا بدله قبل ذلك لأنه يجوز أنه تلف بتعد منه [120 /ب] فيكون بدل ما في ذمته. ولو جاء بألف وقال: الألف الذي أقررت به هذا وهو وديعة لك فيه وجهان: أحدهما: لا يقبل لأن الوديعة لا تثبت في الذمة ويفارق هذا إذا قال: ألف عليّ ثم فسره بالوديعة، لأنه لم يصرح بالمحل فاحتمل أن يكون المراد وجوب الحفظ مع الرد وها هنا صرح بالذمة وهو الأصح. والثاني: يقبل منه لأنه يحتمل أن يكون قد تعدى فيه فثبت ضمانه في ذمته أو كان قد أتلفه وجاء ببدله فقال: كان وديعة في ذمتي. وقال بعض أصحابنا: هذا مبني على القولين في المسألة قبلها فإن قلنا: هناك لا يقبل فها هنا أولى، وإن قلنا: هناك يقبل فها هنا وجهانء وهذا لا يصح على ما يثبت بأنه ليس هناك قول آخر. مسألة (¬1) قال: ولو قال: له عندي ألفُ وديعة أو مضاربة ديناً كان ديناً. وهذا كما قال: إذا قال: له عندي ألف درهم وديعة ديناً، أو ألف درهم مضاربة ديناً كان ديناً عليه ولا يقبل تفسير إقراره بالأمانة بعد ذلك لأن الوديعة والمضاربة، وان كانتا أمانة فالأمانة قد تصير مضمونة بالعدوان ولفظ الدين في هذه المسألة يقين لفظ الضمان ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 16)

فأوجب ترك اليقين الأولى من براءة الذمة. ولو قال: أردت أنه شرط علي ضمانه لم يقبل لأنه لا يكون ديناً بذلك. فرع لو قال: لفلان عليّ ألف درهم هو وديعة دفعه إلي بشرط الضمان كان وديعة ولم يكن مضمونا بالشرط، لأن ما أصله الأمانة لا يصير مضمونا بالشرط، وكذلك ما أصله الضمان وهو المأخوذ بشرط لا يصير بالشرط أمانة وقال في "الحاوي" (¬1): فيه وجه آخر أنه يضمن لقوله في الابتداء: عليّ ثم قوله من بعد دفعه إلي بشرط الضمان ظاهره بشرط جواز التصرف الموجب للضمان. فرع آخر قال في كتاب "الإقرار" (¬2) بالحكم الظاهر: لو أقرّ لرجل بخاتم فجاء بخاتم فقال: هذا الذي أقررت لك به، قال في موضع: يلزمه تسليمه، وقال في موضع أخر: لا يلزمه تسليمه وليست على قولين بل هي على اختلاف حالين، فإذا أتاه بخاتم وقال: هذا الذي أقررت لك به ضمان صدقه المقر له يلزمه تسليمه إليه، ولو قال: ليس هذا [121/ أ] لي وخاتمي غيره فالقول قوله ولا يلزمه تسليم هذا إليه لأنه لا يدعيه. ولو قال: هذا لي والذي أقررت لي به غير هذا كان عليه تسليم هذا والقول قوله فيما يدعيه عليه لأن الخاتم واحد فلا يلزمه الثاني فالموضع الذي قال يلزمه تسليمه أراد به المسألة الأولى والثالثة، والموضع الذي قال: لا يلزمه تسليمه أراد به المسألة الثانية. مسألة (¬3): قال: ولو قال: له في هذا العبد ألف درهمٍ. الفصل وهذا كما قال: إذا كان في يده عبد فقال: لفلان في هذا العبد ألف درهم، فإن هذا يحتمل وجوهاً كثيرة منها أن يقول: فيه ألف درهم نقده فيه لي أو أوصى له مورثي أو جنى عليه هذا العبد جناية أرشها ألف درهم فهو يستحق من ثمنه ألف درهم، ويحتمل أن يقول: نقده فيه لنفسه ألف درهم، فإذا كان كذلك رجعنا إلى المقر في تفسيره فإن قال: نقده لي فيه ألفاً فإنه يلزمه ألف درهم وعليه أن يعطيه إياه من أي موضع شاء من ثمن هذا العبد أو من غيره. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا يقبل هذا لأن قوله لفلان في هذا العبد ألف يقتضي أن يكون حقه متعلقا بعين العبد لا بالقرض. وإن قال: أردت وصية أوصى له بها مورثي فإنه يستحق بيع العبد وأعطى ألف درهم من ثمنه إلا أن يتراضيا على دفعه من غيره وإن قال: أرش جناية جنى عليه فالسيد بالخيار إن شاء أعطاه من ثمنه، وإن ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (7/ 45) (¬2) انظر الأم (3/ 216) (¬3) انظر الأم (3/ 17)

شاء أعطاه من سائر ماله. وإن قال: نقد فيه لنفسه ألفاً فإنه قد ملك من العبد بمقداره ونظر فيه فإن كانا قد اشترياه صفقة واحدة نقول للمقر الذي في يده العبد: فكم نقدت أنت؟ فإن قال: ألفاً كان العبد بينهما نصفين. وإن قال: ألفين كان له ثلثا العبد وللمقر له الثلث ولا يعتبر في ذلك قيمة العبد أن تكون مثل الثمن الذي ذكره أو أقل أو أكثر لأنهما قد يغبنان في الشراء فيغبنان فربما يشتريان عبداً يساوي ألفاً بألفين فيكونان مغبونين، وربما يشتريان عبداً يساوي ألفين بألفٍ فيكونان غابنين فلا تراعى القيمة. وحكى القفال عن مالك: أنه إذا كان العبد لا يساوي أكثر من ألفين لم يقبل قول المقر إذا قال: نقدت فيه ألفين لأن الظاهر يدل على كذبه [121/ ب] وإن قال: اشترى هو جميع العبد بالألف فقد أقر بالعبد كله له. وإن كانا قد اشترياه ني صفقتين نقول له: لما نقد لنفسه فيه ألف درهم كم اشترى به من العبد؟ فإن قال: نصفه أو ثلثه أو سدسه كان القول قوله ني ذلك مع يمينه وكان باقي العبد له سواء كان يسوي ذلك هذا القدر أو لا يسوي. ولو قال: أردت أني رهنت بألف استقرضه منه هل يقبل منه؟ فيه وجهان: أحدهما: يقبل وهو الأصح واختيار القفال لأن الدين يتعلق بمحلين الذمة والعين فيجوز أن يكون الألف متعلقاً بالعبد وإن كان وثيقة به. والثاني: لا يقبل لأن حق الرهن في الذمة وهو أخبر أنه في العبد وهذا ضعيف لأن حق الرهن آكد من حق الجناية لتعلقه بالذمة والعين معاً، ولو فسر بأرش الجناية قبل بالإجماع. ولو قال: دفع إليّ ألفا لأشتري له بها من هذا العبد وأنقده في ثمنه فهو مدعي للإذن، فإن أنكر المقر له الإذن ني الشراء فالقول قوله وعلى المقر أن يغرم الألف. فرع لو قال: له من هذا العبد ألف فحكمه كما لو قال: في هذا العبد لأن في ومن حرفا صفة يقوم أحدهما مقام صاحبه وليس الألف جزءاً من العبد، وإنما يتوصل إليه من العبد فاستوي الحكم في قوله من وفي. فرع آخر لو قال: له من هذا العبد بقيمة ألف فهذا إقرار بملك جزء من العبد قدره بقيمة ألف فهل يصير الإقرار مقدراً بالقيمة أو يرجح فيه إلى بيانه؟ وجهان: أحدهما: وهو الأصح يرجع فيه إلى بنيانه فإن بين قدراً يتقوم بأقل من ألف قبل لأن القيمة قد تختلف ولا يقف في الأحوال على حد ولا الناس فيها مجمعون على قدر فلم يجز أن يتقدر الإقرار بها. والثاني: يتقدر إقراره بالقيمة ذكره أبو القاسم الصيمري فيقوّم العبد فإن كانت قيمته أكثر من ألف فله منه بقسط الألف. وإن كانت قيمته ألفاً ذكر عن بعض أصحابنا أنه لا يصير المقر له مالكاً لكله لأن من توجب التبعيض فلا بد من إخراج بعضه من إقراره. قال الصيمري والصحيح عندي أنه يكون إقراراً بجميعه وأن من تكون للتبعيض

تارة وللتمييز تارة قال الله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30] أي فاجتنبوا الأوثان الرجس. فرع آخر لو قال: لفلان في هذا العبد شركة كان مقراً بجزء مجهول فيرجع في تفسيره إليه فبأي شي، فسره قُبل قل أو كثر لأن ذلك اشتراك، وبه قال محمد. وقال أبو يوسف: يكون له النصف لقوله تعالى: {فَهُمْ شُرَكَاء فِي الثُّلُثِ} [النساء: 12] واقتضى ذلك التسوية بينهم كذلك ها هنا. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: يكون مقراً بثلث العبد ولا يقبل تفسيره بأقل وهذا غلط لأن هذا الحد لا يتناوله لفظه ولا يلزمه إلا اليقين كما لو قال: لفلان نصيب أو سهم. مسألة (¬1): ولو قال: "له في ميراث أبي ألف درهم" الفصل وهذا كما قال: إذا قال: لفلان في ميراث أبي أو من ميراث أبي ألف درهم كان إقراراً بالدين على أبيه. ولو قال: له في ميراثي من أبي أو من ميراثي من أبي كان هبة إلا أن يريد إقراراً، والفرق أنه في الأول لم يضف الميراث إلى نفسه، وفي الثاني أضاف الميراث إلى نفسه ثم جعل له بعضه فكان الظاهر أنه هبة. وهكذا إذا قال: له في هذه الدار نصفها، أو من هذه الدار نصفها كان إقراراً. ولو قال: من داري هذه نصفها أو في داري هذه نصفها كان هبة إلا أن يريد إقرارا. فرع لو قال: علي في ميراثي من أبي له ألف درهم كان إقرارا على نفسه بالدين لأنه أزال الإشكال بقوله: عليّ ذكره ابن أبي أحمد رحمه الله. فرع آخر لو قال: له من مالي ألف درهم بحق وأطلق أو قال: بحق عرفته أو بحق لزمني أو بحق ثابت أو بحق استحقه كان ديناً لأنه أزال معنى الهبة. فرع آخر قال في كتاب الإقرار والمواهب: لو قال: له في مالي ألف درهم كان إقراراً. ولو قال: له من مالي ألف درهم كان ذلك هبة إلا أن يريد إقراراً. فمن أصحابنا من قال: هذا سهو وقع من الكاتب ولا يكون إقراراً فيها كما لا فرق بين أن يقول: في ميراثي أو في داري وبين أن يقول: من ميراثي أو من داري. ومن أصحابنا من فرق بأنه إذا قال: في مالي ألف درهم لا يتحقق دخول الألف المقر به في الإضافة لأن ما عداه من ماله يسمى مالاً [122/ ب] على الحقيقة فجعلناه إقراراً، وليس كذلك إذا قال: من مالي فإن ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 17)

لفظة من تقتضي أن يكون الألف المقر به بعين المال المضاف إلى نفسه فجعلناه هبة، وأما في الدار لا فرق بين في ومن لأن قوله: من داري هذه نصفها أو في داري هذه نصفها يقتضي أن يكون النصف المقر به داخلاً تحت إضافة الدار إلى نفسه لأن اسم الدار لا يقع إلا على النصفين جميعاً. وقيل: هذا الفرق ضعيف، لأنه يشكل بما لو قال: في ميراثي من أبي لم يكن إقراراً. وقيل: ما قاله في الإقرار والمواهب أشبه فيه وفي نظيره لأن قوله له يقتضي الملك والهبة غير المقبوضة وغير مملوكة، ولم يأت بما ينافي الملك لأن في للظرف وقوله: من مالي أضاف الملك كله إلى نفسه فنافى الإقرار فافترقا. فرع آخر قال الشافعي: ولو قال: لك علي ألف درهم إن شئت أو هويت، أو شاء فلان، أو هوى فلان فإن شاء فلان أو هوى أو شاء هو أو هوى لم يكن عليه منه شيء لأن الإقرار لا يصح معلقاً بالشرط. وهكذا لو قال: لك عليّ ألف إن شاء الله، أو إن قام فلان أو خرج فلان أو كلمت فلاناً قال الشافعي: هذا كله من جملة القمار ولا شيء عليه فإن قيل: أليس لو قال: بعتك عبدي هذا بألف إن شئت يصح فكذلك الإقرار وإلا قيل فما الفرق؟ قيل: الفرق أنه لو لم يشرط المشيئة في البيع كان القبول فيه إلى مشيئته وهو كقوله لعبده: بعتك نفسك بألف إن شئت فقال: قد شئت وقبلت صح ولزمه الألف. وكذلك لو قال لزوجته: طلقتك بألف إن شئت فقالت: قد شئت وقبلت صح أيضاً ولزمه الألف لأن ذلك من منشأه بخلاف الإقرار فإنه إخبار عن واجب عليه فلا يصح تعليقه. فرع آخر لو قال: هذا الثوب لك بألف درهم إن شئت يكون بيعاً لازماً ولا يكون إقراراً ولكل واحدٍ منهما خيار المجلس ولم يقل ها هنا: إن شئت يكون بيعا أيضاً لأن معناه إن شئت وكل مشتر إنما يلزمه إن شاء. فرع آخر قال الشافعي: ولو قال: له عليّ ألف إذا جاء رأس الشهر كان إقراراً، ولو قدم الشرط فقال: إذا جاء رأس الشهر فله عليّ ألف لم يكن إقراراً. قال أصحابنا: الفرق بينهما [123 /أ] أنه إذا قال: له عليَ ألف فقد أقر بالألف فإذا قال: إذا جاء رأس الشهر احتمل أن يكون أراد محلها أو وجوب تسليمها في ذلك الوقت فلم يبطل الإقرار. وأما إذا بدأ بالشرط فإنه لم يقر بالحق وإنما علقه بالشرط فلم يكن إقراراً. وقال القاضي الطبري: في هذا نظر ولا فرق على قياس مذهبه بين تقديم الشرط وتأخيره.

فرع آخر لو قال: ما شهد به زيد عليّ فهو لازم لي لم يصر مقراً بما شهد به. وقال مالك: يلزمه جميع ما شهد به زيد، وان لم تصر بينة مسموعة لأنه ألزم ذلك نفسه. وهذا خطأ لأن هذا حوالة بالإقرار فلا يصح. فرع آخر له عليّ ألف إن مت لا يكون إقراراً أصلاً لأنه تعليق بالشرط وعند أبي حنيفة يكون إقراراً مات أو عاش. فرع آخر قال: ولو قال: لك علي ألف درهم إن شهد به علي فلان أو فلان وفلان فشهدا لم يلزمه من جهة الإقرار وهذه مخاطرة ويلزمه من جهة الشهادة إن كانا ممن تجوز شهادتهما أو أحدهما وحلف مع شاهده وقال ابن سريج: وسواء على هذا المعنى قيل له: إن فلاناً يشهد عليك بما يدعيه فيقول: هو عندي مصدق مرضي إن شهد عليّ، أو يقال له: إن فلانا يشهد عليك بما يدعيه هذا فيقول: إن شهد عليّ رضيت بذلك، أو إن شهد علي قبلت ذلك أو ألزمته نفسي، أو إن شهد علي صدقته، أو إن شهد لم أخالفه. وقال القفال: وهكذا لو قال: إن شهد علي بدينار فهو صادق لا يكون إقراراً، وإن شهد لا يلزمه شيء من جهة الإقرار لأنه إنما قال علماً منه بأنه لا يشهد عليه ذلك الرجل، ولكنه لو شهد عليه رجل بدينار فقال: هو صادق في شهادته كان إقراراً. وقال ابن أبي أحمد في "المفتاح ": لو قال: إن شهد لك عليّ فلان وفلان بألفٍ فهما صادقان كان إقراراً، وان لم يشهدا لأنهما لا يكونان صادقين إلا كان عليه الألف الآن فيلزمه وهذا اختيار القاضي الطبري ويخالف هذا إذا قال: إن شهد عليّ صدقته لأنه قد يصدق الإنسان من ليس بصادق وها هنا قال: فهما صادقان وإذا لم يكن واجباً عليه كانا كاذبين. فرع آخر لو قال: لك علي ألف [123/ب] إن قبلت إقراري فقياس المذهب أنه لا يكون إقرارا. فإن قيل: أليس المقر له إذا لم يقبل الإقرار بطل؟ قلنا: إنما يبطل إذا كذبه أو رده، فأما إذا سكت فالإقرار صحيح غير مفتقر إلى القبول. فرع آخر لو أقر بشرط الخيار كان باطلا مثل أن يقول: أقر لك بكذا على أني بالخيار يوما أو يومين لأنه إخبار عن واجب في الذمة فلا يصح بشرط الخيار. مسألة (¬1): قال: ´ولو قال: له عندي ألف درهم ´عارية كانت مضمونةً. ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 17)

وهذا كما قال: إذا قال: لفلان عندي ألف درهم عارية كانت مضمونة، لأنه وصف بكونه عارية والعارية مضمونة ويصح استعارة الدراهم والدنانير عندنا، وهو اختيار أبي إسحاق، وقيل: كيف يجوز استعارتها ولا يمكن الانتفاع بها مع بقاه عينها؟ قلنا: يمكن ذلك إذا كان صيرفياً يتركها بين يديه تجملاً وترغيباً للناس في معاملته. ومن أصحابنا من قال: يجوز استعارة الدراهم والدنانير، وعلى هذا تكون مضمونة أيضاً لأنه لا يكون عارية فاسدة وما كان صحيحه مضموناً كان فاسده مضمونا. وقال أبو حنيفة في هذه المسألة: كما قلناه ولكنه علل بعلة أخرى وذلك أن الدراهم والدنانير لا تقبل العارية فإذا قبضها باسم العارية كانت قرضاً والقرض مضمون. مسألة (¬1):قال: ولو أقر في عبدٍ في يدهِ لفلانٍ. الفصل وهذا كما قال: إذا كان في يده عبد فقال: هذا العبد لزيد، وقال العبد: بل لعمرو فالقول قول الذي في يده العبد. وكذلك إذا قال: الذي في يده هو لي، وقال العبد: بل لفلان غيرك فالقول قول الذي في يده لأن العبد في يد سيده ولا يكون في يد نفسه لأن العبد لا يقبل إقراره فيما طريقه المال على سيده لأنه يجوز أن يقصد الإضرار به فكان متهماً فيه. وهذه المسألة مفروضة فيه إذا كان محكوماً له بملكه وإنما حكم بملكه بأحد أسباب ثلاثة؟ أحدها: أن يرى في يده طفلاً فهو كالبهيمة، أو يكون مجهول النسب يقول: أنا عبد لفلان وقبله فلان أو يملكه بأحد أسباب الملك من غنيمة [124/ أ] أو بيع أو هبة ونحو ذلك. ولو لم يكن هكذا فقال: هذا عبدي أو عبد لفلان وقال العبد: بل أنا حر فالقول قول العبد لأن للحر على نفسه يداً فصاحب اليد بقبول توله أولى ويحلف على ذلك قال الصيمري: ويحتمل أن يقال: لا يمين عليه. ولو أقر بالرق له ثم ادعى أنه أعتقه فالقول قول السيد مع يميه لأن الأصل عدم الإعتاق. فرع لو قال: الذي ني يده هو لزيد، وقال زيد: ما ملكته قط اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: يحكم بحريته لأنه لم يبق عليه ملك لأحدٍ كما قلنا ني اللقيط إذا أقر بالرق لمن كذبه يحكم بعتقه، ومنهم من قال: يبقى على الرق لأن الأصل ملك المقر ورقه، فإذا رد إقراره من أقر له به بقي على ما كان. فإذ اقلنا بهذا الوجه الثاني ماذا يصنع به؟ قد ذكرنا من قبل فيه أوجه. فرع آخر إذا قلنا: ترفع عنه يد المقر ولا نحكم بعتقه فمن سبق إلى ادعائه ملكاً لم يمنع منه ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 17)

سواء سبق من اعترف له العبد بالملك أو غيره. وإذا قلنا: يقر في يده لعدم من هو أحق به يستحق باليد 0 د فع المدعى له إلا أن تقوم له بينة بملكه 0 فإن صدق ثانياً على ملكه لم يصر مالكاً للعبد بإقراره لأنه بإقراره الأول زال ملكه فلم ينفذ إقراره الثاني ولكن يلزمه بالإقرار الثاني رفع يده ولا يمنع الثاني ملكه، وان لم نحكم له بالملك لعدم المنازع له. فرع آخر لو كان لقيطا فقال: أنا عبد لفلان وقال فلان: ما ملكته قط نحكم بحريته نص عليه في أخر كتاب اللقيط ولا يختلف المذهب فيه لأنا لم نحكم برقه فإذا أقر لإنسان برقه فجحده المقر له بقي على الرق حتى يتبين المالك. فرع آخر لو قال: التقط رجل طفلاً ثم ادعى أنه مملوك له أو لغيره لا يقبل قوله لأنا عرفنا سبب حصوله في يده؟ وهو الالتقاط وهو حر بحكم الظاهر فلا يقبل قوله في الرق إلا ببينة، وليس كذلك في المسألة التي قال الشافعي فيها: يقبل قول السيد فيه لأن هناك لا يعرف سبب حصول العبد في يده فكان الظاهر من يده ثبوت [24 /ب] ملكه فيه. مسألة (¬1): قال: ولو أقر أن العبد الذي تركه أبوه لفلان ثم وصل أو لم يصل، دفعه أو لم يدفعه فقال: بل لفلان آخر. الفصل وهذا كما قال: إذا مات رجل وخلف ابناً وعبداً فقال الابن: هذا العبد لفلان ثم قال: لا بل لفلان آخر موصولاً به أو منفصلاً عنه قبل تسليمه إلى الأول، أو بعده يسلم العبد إلى المقر له أو لا. وهل يلزمه قيمة العبد للثاني؟ اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: فيه قولان كما ذكرنا من قبل في نظير هذه المسألة وهو اختيار أبي إسحاق وابن أبي هريرة وجماعة وهذا يدل على أن عند الشافعي لا فرق بين أن يكون سلم إلى المقر له باختياره أو أجبره الحاكم لأن الشافعي صرح هاهنا به فبطل قول من قال بخلافه. وحكى أبو إسحاق عن بعض أصحابنا أنه سئل المقر فإن زعم أنه لم يعلم وقت ما أقر به للأول أنه للثاني وأنه إنما علم بعد ذلك لا غرم عليه قولا واحداً، لأنه على الظاهر من فعل أبيه فكان معذوراً في الرجوع عنه واستدراك الغلط وليس كذلك إذا قال: غصبتها من فلان، لا بل من فلان فإنه على إحاطة من فعل نفسه فلم يكن معذوراً في الخطأ. وإن قال: علمت ذلك فعلى قولان كما في مسألة الغصب سواء. وقال بعض أصحابنا بخراسان: ها هنا قولاً واحداً لا غرم والفرق من وجه آخر وهو أنه لم يقر ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 17)

ها هنا بفعل نفسه فيحتاج ضامناً متعديا بل أقر لاثنين، فإن لم يقبل قوله في أحدهما لم يلزمه غرم، كما لو خلف أبوه ألف درهم فقال رجل: لي على أبيك ألف درهم فقال: صدقت ثم قال أخر: لي على أبيك ألف درهم فقال: صدقت فالألف للأول ولا شي، عليه للثاني، ولو قالا ذلك معا فقال: صدقتما فالألف بينهما وفي الحالين لا يغرم شيئاً. فإن قيل: أليس في الاستثناء يفرق بين أن يكون موصولا أو مفصولاً فافترقوا ها هنا أيضا إذا قال: لا بل لفلان آخر؟ قلنا: الفرق أن هذا رجوع عن الإقرار فلا فرق فيه بين الموصول والمفصول بخلاف الاستثناء. فرع ذكره القفال ها هنا قال: لو قال رجل: أوصى لي أبوك بثلث [125 /أ] ماله فقال: صدقت، وقال آخر: لي على أبيك ألف درهم دينا فقال: صدقت فالمال للغريم لا للموصى له إن سبق تصديقه لصاحب الدين، وان سبق تصديقه لصاحب الوصية فالثلث له والباقي للغريم، وإن صدقهما معا فالمال بينهما على أربعة أسهم لصاحب الدين ثلاثة، ولصاحب الوصية سهم. والصحيح عند أصحابنا أن المال كله لصاحب الدين لأن حكمهما إذا صدقهما معاً حكمهما إذا ثبتا بالبينة كما في الدينين، ويخالف هذا ما لو خلف عبداً فقال رجل: نصف هذا العبد لي، وقال أخر: هذا العبد لي فقال: صدقتما فالعبا بينهما على ثلاثة أسهم إذ لو شهدنا أنه أوصى لأحدهما بالكل وللآخر بالنصف كان العبد بينهما أثلاثاً. مسألة (¬1): قال: وإذا شهدا علىّ رجل أنه أعتق عبده فردا ثم اشترياه. الفصل وهذا كما قال: إذا شهد رجلان على رجل أنه أعتق عبده وأنكر صاحبه وكانا فاسقين فرد الحاكم شهادتهما، ثم اشترياه عتق محليهما لأنهما قد أقرا بحريته. وكذلك لو شهد واحد فردت شهادته فنقص العدد أو أخبر بذلك ولم يشهد أو ادعى حبسه لأنه أعتق عبده ولم يمكنه إثباته ثم اشتراه فالكل سواء. فإن قيل: هلا قلتم: إن هذا الشراء باطل لأنه يقر بأنه حر ولا يجوز شراء الحر كما لو أقر بأن هذه المرأة أخته من الرضاعة ثم تزوج بها لم يصح النكاح قلنا: الفرق بينهما أن النكاح لا يعقد إلا للاستباحة وهو معترف بأنها محرمة عليه فلم يصح النكاح؟ وها هنا قصد بذل المال على طريق الفداء لغرض صحيح وهو استنقاذه من ذل الرق لعلمه بحريته فهو كبذل المال في مفاداة المسلم من ذل الأسر وكبذل المال على طلاق زوجة الغير وعتق عبده، وقد يقصد بالثراء فك العبد من الرق دون الملك فجوزناه. ويؤكده أنَّا لو صححنا النكاح لم يقتض الفرقة وها هنا إذا صححنا يقع العتق وزال ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 18)

الملك وهذا القائل يقول: لا نقول في الحقيقة إنه شراء بل هو بذل مال على طريق الفداء لغرض صحيح. وقيل: هذا بيع صحيح من جهة البائع لأنا لما وددنا شهادته بقينا [125 /أ] على ملك مالكه كما كان قبل شهادته ويبنى العقد على من حكم الشرع بقوله ثم يحكم على المشتري بالعتق لإقراره السابق لأنَّا لم نقبل قوله قبل الشراء لأن الحق لغيره فإذا ارتفع حق الغير ألزمناه حكم غيره. قوله: فإذا ثبت هذا فإن أقر البائع بعد البيع بأنه كان قد أعتقه لزمه رد الثمن عليه وعتق العبد عليه وكان الولاء له لأن قول المالك مقبول في حرية الرقبة المملوكة سواء أقر ابتداء أو أقر بما جحده من قبل. وان أصر على تكذيبه عتق العبد عليه على ما ذكرنا ويكون الولاء موقوفا لأن الشاهد يقول: عتق على البائع وهو يقول: بل عتق على المشتري والولاء له فكل واحد منهما ينفي الولاء عن نفسه، فإذا ما شهد العبد الذي حكمنا بحريته وترك مالاً، قال الشافعي: يكون المال موقوفاً حتى يتصادقا أو تقوم البينة عليه. قال المزني: هذا غلط لا يجوز أن يوقف جميع التركة وإنما يوقف ما فضل عن مقدار الثمن الذي وزنه، فأما مقدار الثمن فإن له أن يأخذه من التركة فإنه إن كان صادقاً في شهادته عليه بالعتق لم يجز أخذ الثمن منه وعليه رده عليه، وإن كان كاذباً فإن جميع ما خلف العبد له فإذا كان كذلك كان مقدار الثمن مستحقاً له بيقين. قلنا: اختلف أصحابنا في الجواب عن هذا فقال أبو إسحاق وجماعة: الجواب على ما قال المزني. ومراد الشافعي بقوله: يكون موقوفا يعني أن إرثه بالولاء يكون موقوفاً والدين يأخذه بمقدار الثمن فليس ذلك أخذاً بالولاء. ومن أصحابنا من قال: غلط المزني فيما قاله بل لا يستحق هذا المشتري شيئاً لأنه بذل المال فدية تطوعا بالتقرب إلى الله تعالى ولا يجوز الرجوع بالتطوع. وأيضاً قد اختلف جهة الأخذ ها هنا لأنا لو أعطيناه من التركة شيئا لا نعلم أنا نعطيه كسب عبده أو نعطيه مال مولى غيره على جهة القصاص. قال القفال: وهو كما لو قال: بعتك جاريتي وقال: ما بعت مني ولكن زوجتها مني واستولدها بالنكاح فالقول قولان المستولد أنه لم يشترها والجارية أم ولد بإقرار السيد لا سبيل [126 /أ] له إلى بيعها وليس للمستولد وطأها لاختلافهما في الجهة أنه يطأها بملك يمين أو نكاح. وكذلك لو اشترى امرأته ليس له وطأها في زمان الخيار لأنه لا يدري أنكاح أم ملك يمين؟ والأول أصح وقد نص الشافعي في كتابه الإقرار بالحكم الظاهر بخلاف هذا، وهذا لأن مشتري الأسير من المشرك متطوع بما بذل من ثمنه على وجه الفدية ثم له ارتجاعه متى قدر عليه وقد قال الشافعي: لو أسلم المشرك والمال في يده كان عليه أن يرده ولباذله أن يأخذه لأنه لم يملك ذلك كذلك هنا، وأما ما ذكره لا يصح لأن في المال لا يضر الاختلاف في جهة الاستحقاق بخلاف الفرج لأن في المال

يجري البذل والإباحة بخلاف البضع، ولهذا لو ادعى عليه ألفا من ثمن متاع فقال: بل له عليّ ألف من جهة القرض ولم يدع المدعي سوى ألفاً واحداً ثبت الألف كذلك ها هنا. مسألة (¬1): قال: ولو أقر فقال: له عليّ دراهم ثم قال: هي نقض أو زييفُ. الفصل وهذا كما قال: اعلم أن مقادير الدراهم مختلفة في البلاد فدراهم الإسلام أوسطها وهي الوازنة التي وزن كل درهم منها ستة دوانيق، وكل دانق منها ثماني حبات، ووزن كل عشرة منها سبعة مثاقيل وهي معنى قول الناس وزن سعة وهي الدراهم الهرقلية وهي أوسطها. والثاني: البغلية وهي أعلاها ووزنها ثمانية دوانيق مزيد على دراهم الإسلام ثلث وزنه. والثالث: الطبرية طبرية الشام وزنها أربعة دوانيق بنقص عن دراهم الإسلام ثلث وزنه. وقيل: وزنه نصف وقيراط. وقد يكون خلاف ذلك كالدرهم الخوارزمي وزنه ثلاثة أرباع درهم. فإن أقر بألف درهم مطلقاً نظر في البلد الذي أقر بما فيه، فإن كان وزنه الوازنة وهو وزن الإسلام لزمه وزن الإسلام بلا خلاف. ولو قال: له مائة درهم عدداً أو اشتريته بمائة درهم عدداً، قال في كتاب الإقرار والمواهب: لزمته وازنة، وقال أصحابنا: يلزمه مائة درهم عدداً ووزنا ألحق العدد بحق النطق [126/ ب] والوزن بحق العادة وهذا في البلد الذي عادتهم الوزن على ما بيناه وهذا لأن كونها عددا لا ينافي الوازنة. وإن كان في بلد وزنه الناقصة مثل أن يقر بالطبرية أو بخوارزم فالمنصوص في "الإقرار والمواهب" أنه ينصرف إلى وزن البلد لأنه يعين والاعتبار بعاداتهم القائمة بينهم كما لو أطلق البيع بالدراهم في هذا البلد ينصرف إليها. وقال القاضي أبو حامد رحمه الله: نص عليه أيضاً في باب الإقرار بالحكم الظاهري، وقال بعض أصحابنا: وهو اختيار أبي حاما: يلزمه الوازنة دراهم الإسلام لأن الإقرار إخبار عما في الذمة لا يعلم وقت الوجوب فاحتمل الوازنة وغيرها فترك الاحتمال إلى عرف الشريعة وعرف البلاد في الإقرار غير معتبر وان كان معتبرا في البيع. وعلى هذا إن كان في بلد يتعاملون بها عدداً فقال: عليّ دراهم أو عشرة قال ابن أبي أحمد: يجب أن يلزم عدداً وهذا قياس قول الشافعي في الوزن الناقص. ولو قال: ألف درهم في بلد وزنه الوازنة وقال نقض نظر، فإن ذكر ذلك غير متصل بإقراره لم يقبل قوله لأن قوله نقض استثناء بعض الوازنة والاستثناء في الإقرار لا يقبل منفصلا، وإن كان متصلاً فيه طريقان: أحدهما: وهو المنصوص يقبل لأنه استثناء في الحقيقة فقبل متصلاً كما لو قال: عليّ ألف إلا خمسين. ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 20)

ومن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: هذا، والثاني: لا يقبل لأن قوله نقص رفع الوازنة كلها فكان كقوله: عليّ ألف درهم قضيتها هل يقبل قوله في القضاء؟ قولان والصحيح الأول لأن الدراهم يعبر بها عن الوازنة وعن الناقصة فقد صرفها عن ظاهره إلى مستعمل فقبل. فرع لو قال: لفلان علي درهم صغير فهو صغير وازن إذا ما كان للناس دراهم صغار وازنة وهكذا لو قال: دريهم صغيرة. وان كان للناس دراهم ناقصة الوزن فالقول قوله مع يمينه أنه أراد بالصغر ناقص الوزن. وان لم يكن للناس دراهم صغار لزمه الوازنة الوافية. فرع آخر لو قال: علي درهم كبير لزمه الوازن وهو [127 / أ] درهم من دراهم الإسلام لأن ذلك هو الكبير في عرف الناس. فإن فسره بأكبر منه قُبل، وان كان في البلد كبار "فقد" لزمه ذلك. فرع آخر لو قال: لفلان علي دراهم ثم قال: هن زيف رجعنا في تفسيره إليه، فإن فسره بزيف لا فضة فيه أصلاً لا يقبل منه لأن قوله: ألف درهم يقتضي فضة. وان فسره بزيف فيه فضة فإن قاله متصلاً قبل منه، وإن قاله منفصلا لم يقبل منه لأن ذلك نقصان ما أقر به فحكمه حكم الاستثناء، وقال القاضي الطبري: مقتضى المذهب أنه يقبل وان ذكره منفصلا لأن الشافعي قال بعد هذه المسألة (¬1): ولو قال: هن من سكة كذا وكذا صدق مع يمينه كان أدنى الدراهم أو وسطها وأدنى الدراهم هي المغشوشة قال: وقول الشافعي: ثم قال: هي نقض أو زيف لم يصدق، أراد: هي زيف جميعها رصاص أو نحاس وهذا لا يصح لأن قوله: أو في الدراهم يعود إلى السكة والدليل على هذا أن المغشوشة خارجة عن ضرب الإسلام كالنقص. وعلى هذا قياس ما ذكرنا إذا كان في بلد يتعاملون فيه بالدراهم المغشوشة فأطلق الإقرار ينبغي أن لا يلزمه إلا منها كما قلنا في النقص. فرع آخر لو قال: علي ألف درهم من سكة كذا يعني من ضرب بلا كذا فعبر بالسكة عن الضرب والسكة هي الحديدة التي يضرب عليها بها الدراهم قبل منه سواء قاله متصلاً بإقراره أو منفصلاً على ما ذكرنا وسواء كان يجوز في غير ذلك البلد أو لا يجوز كما لو قال: عليّ ثوب رجعنا في تفسيره إليه وقبلنا قوله فيه سواء فسره بثوب بلده أو بلد ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 20)

غيره. وقيل: المراد بالسكة ها هنا ضرب البلد إذا كان فضة ولم يكن فيها حمل وغش لأن هذا هو الظاهر من الدراهم المعروفة المعتادة في الإسلام. وقول الشافعي (¬1): "جائزة بغير ذلك البلد أو غير جائزة "، يريد أنّا نقبل قوله في السكة، وإن كان ضرب ذلك السلطان لا يؤخذ في غير ذلك البلد لاسمه [127 /ب] أو لرداءة الفضة لا لنقصان العيار. والدليل على صحة هذا أن الشافعي لما ذكر هذه المسألة في كتاب "الإقرار والمواهب " على ما نقله المزني قال: ولو قال: عليّ دراهم سود فوصل الكلام فهي سود فشرط فيه الوصل فدل على أنه إذا قطع لم يقبل لنقصان الفضة وقال المزني: يلزمه من سكة البلد إذا أطلق وهو مذهب أبي حنيفة واحتج بأنه لو قال: عليّ دريهم أو دريهمات لزمته وازنة بسكة البلد فالدراهم بذلك أولى أن لا يقبل إلا بسكة تلك البلد. قال: ولا يشبه الثوب نقد البلد كما لو اشترى بدراهم سلعة جاز لمعرفتهما بنقد البلد، ولو اشتراها بثوب لم يجز لجهلهما بالثوب، فدل أن النقد شيء معلوم يمكن صرف الدراهم المطلقة إليه وليس الثوب بمعلوم يمكن صرف المطلق إليه وقصده بهذا الانفصال عن قياس الشافعي على الثوب. وأجاب أصحابنا عن هذا بأنه: لا وجه لتقريب الإقرار من البيع في ذلك لأن الإقرار يحتمل الإجمال الذي لا يحتمل إليه فجاز أن يرد مجمله إلى تفسير صاحب اللغة وان كان بعد زمان لا إلى نقد البلد بخلاف البيع، ولهذا لو قال: لفلان عليّ شيء يصح إقراره. ولو قال: اشتريت منك هذا الثوب بشيء لم يكن بيعاً وإن فسره عن قرب. ويؤكده أنا لو لم نحمل في البيع على نقد البلد بطل العقد، والظاهر من قصدهما صحة العقد بخلاف الإقرار فإنه لا يبطل. وأما الدريهمات إن فسرها برداءة الجوهر من سكة أخرى يقبل أيضا، وإنما لا يقبل في نقصان الوزن والغش فلا فرق بينهما. وإنما ألحقنا لفظ التصغير بغير التصغير لأن العادة جارية باستعمال هذا اللفظ المصغر على معنى الاستقلال لا على معنى النقصان من الوزن، ولأّنا لا نجد الدريهم المصغر معهوداً آخر في الوزن يصرف إقراره إليه فصرفناه إلى ما كان معهوداً من لفظ الدرهم غير المصغر بخلاف السكة. فإن قال قائل: قول المزني (¬2) "إذا قال: علي دريهم أو دريهمات فهي وازنة قضاء على قوله: علي دراهم فهي وازنة " يقتضي أن يكون اعتراضه على قول الشافعي فهي وازنة لا على قوله: في سكة بلدة أخرى قلنا: [128/ أ] هذا إيجاز من المزني ومراده قضاء على قوله فهي وازنة وسكتها سكة بلدته أو يستحيل أن يعترض بقوله فهي وازنة على قوله: فهي وازنة، وعلم المزني أن ذلك مفهوم من عبارته. وقيل: يحتمل كلام المزني معنى آخر وهو أن يكون مراده بأول كلامه الاعتراض على مسالة النقص بالعكس ومراده بآخر كلامه الاعتراض على مسألة السكة التي ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 20) (¬2) انظر الأم (3/ 21)

استشهد الشافعي فيها بالثوب فالاعتراض الأول أن الشافعي قال: لو قال: لفلان عليّ دراهم ثم قال: هي نقص لم يصدق، وظاهر كلام الشافعي يقتضي التسوية بين جميع البلدان ولا يجوز التسوية لأن الرجل إذا كان يكن خوارزم ووزنها ناقص فقال: في تلك البلدة هذا التفسير يقبل اعتبارا بنقد بلده كما لو كان مستوطن نيسابور فقال: لفلان عليّ دراهم ثم قال: أردت ناقصة الوزن لم يقبل ويلزم وزن بلده ولا يقبل منه تفسيره بوزن خوارزم فكذلك لا يلزم من كان مستوطن خوارزم تفسير إقراره بوزن نيسابور هذا معنى قوله في قوله إذا قال: علي دريهم أو دريهمات فهي وازنة قضاءً على قوله: عليّ دراهم فهي وازنة. ثم استأنف الاعتراض الثاني على المسألة الأخيرة فقال: ولا يشبه الثوب نقد البلد وتقديره وجوابه كما مضى. قلنا: إنما صور الشافعي هذه المسألة في بلدة كاملة الوزن، والمصنف إذا صور المسألة على أغلب صورة فلا عتب عليه فليس بينك وبين الشافعي خلاف في ذلك. قال هذا القائل: فإن قال قائل: إذا علقت حكم الوزن ببلد المستوطن فعلق في السكة والرداءة أيضاً قلنا: ظاهر الاحتمال أن يكونا سواء فإذا قال بخوارزم: علي ألف درهم وطباعهم رديئة لم يلزمه خالص النقرة وقيل تفسيره إذا فسر بها كما يصرف بيوعهم المطلقة إليها ويحتمل أن تلزم الجياد. فإن أصحابنا قالوا فيمن قال لامرأته: إن أعطيتني ألف درهم فأنت طالق تلزم الدراهم الخالصة ويتعلق الاستحقاق بنقد البلد كذلك ها هنا. ولو كان لأهل البلد وزن معلوم ينقص ما شاء أن ينقص [28 /ب] عن وزن العامة في دنانير أو دراهم فاشترى رجل سلعة بمائة درهم فله نقد البلد على ما ذكرنا لا أن يشترط شرطاً فيكون له شرطه إذا كان البائع والمشتري عالمين بنقد البلد. وإن كان أحدهما جاهلاً فادعى البائع الوازنة قيل له: أنت بالخيار بين أن تسلمه بنقد البلد أو تنقص البيع بعد أن يتحالفا. فرع آخر لو قال: غصبته ألف درهم وديعة ثم قال: هي نقص أو زيف مفصولا فالذي يقتضيه المذهب أنه لا يقبل كما لو قال: له عليّ ألف درهم ثم قال هذا. وقال أبو حنيفة: يقبل في الغصب والوديعة لأنه إيقاع فعل في عين وذلك لا يقتضي سلامتها كما لو أقر بغصب عبدٍ ثم جاء به معيباً. وهذا غلط لأن الاسم يقتضي الوازنة غير الزيوف فلا يقبل بخلاف الاسم كما لو قال: له عليّ ألف درهم ثم فسر بهذا. وأما ما ذكروا لا يصح لأنه وإن كان فعلاً في عين يقتضي وقوعه فيما سماه دون غيره، ويفارق العبد لأن العيب لا يمنع إطلاق الاسم فيه. مسألة: قال (¬1): "ولو قال: له علي درهم في دينار". ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 21)

الفصل وهذا كما قال إذا قال: لفلان علي درهم في دينار فقد أقر بالدرهم ويرجع في الدينار إليه لأنه يحتمل في دينار لي فإني استقرضت منه درهماً فوزنته في ثمن هذا الدينار ويحتمل شركة له في الدينار بقدر الدرهم ويحتمل في دينار هو وهن به، وإذا احتمل ذلك كان القول فيه قوله فإن قال: أقررت بالدينار فالقول قوله، وان قال: أردت درهماً ودينارا فهما للمقر له وتقديره: عليّ درهم مع دينار وتستعمل كلمة في بمعنى مع. وان قال: أطلقت هكذا ولا نية لي لم يلزمه إلا درهم وإنما قول المزني: فإن أراد درهماً وديناراً وإلا فعليه درهم إيجاز في الكلام وترك في الجواب إحدى المسألتين اجتزاء بجواب المسألة الأخرى كما يقول القائل: إن أعطيتني هذا الثوب بدينارين وإلا اشتريت هذا السيف بدينار معناه إن أعطيتني هذا الثوب بدينارين اشتريته بهما، وإن لم تعطه اشتريت السيف بدينار. فرع لو قال: لفلان علي درهم في عشرة دراهم إن قال: أردت الحساب فهو كما قال يكون مقرا بالعشرة. وإن قال: [129/ أ] أردت درهماً في عشرة فالقول قوله مع يمينه وعليه درهم كما لو قال: عليّ عشرة في ثوب لا يكون مقراً بالثوب. فرع آخر لو قال: له خمسة دراهم في ثوب فإن معناه أسلمت إليه خمسة في ثوب فإن قال المقر له: صدق فيما قال فهو عقد سلم، فإن كان قبل التفرق فالمقر بالخيار إن شاء أقبض الخمسة، وان شاء منع. وان كان بعد الفرق فقد بطل السلم وبرئت ذمة المقر عن الخمسة، وإن كذبه المقر له وقال: الخمسة التي أقررت بها دين عليك فالقول قول المقر لأن المقر وصل بإقراره ما أسقط الإقرار ولو قال: أردت ني ثوب لي وهو ظرف له فالقول قوله. ولو قال: خمسة دراهم في ثوب اشتريته مؤجلا فإن صدقه كان إقرارا باطلا لأنه يصير دراهم من سلم افترقا عنه قبل القبض. وان كذبه نفي بطلانه قولان بناء على القولين إذا قال: ضمنت منه مالاً على أني بالخيار. فرع آخر لو قال: له عليّ ثوب مروي في خمسة دراهم إلى أجل فإن صدقه كان له عليه الثوب دون الخمسة. وإن كذبه فله عليه الخمسة دون الثوب لأن تقدير كلامه أنه أعطاني خمسة دراهم سلماً في ثوب مروي مؤجل، فإذا صدقه يكون اعترافاً بعقد سلمٍ يستحق فيه الثوب المسلم فيه دون الثمن، وان كذبه كان منكرا للعقد فاستحق به الثمن. ولو قال المقر له: لي عليه الثوب مطلقاً فالقول قوله مع يمينه ويرجع في تفسير الثوب إلى المقر، ولو قال: أردت أن الثوب لي ظرفاً للدراهم فالقول قوله، كما لو قال: عندي جراب فيه تمر كان مقرا بالجراب دون التمر.

مسألة (¬1): قال: ولو قال: له علي درهم ودرهم. الفصل وهذا كما قال إذا قال: لفلان علي درهم ودرهم يلزمه درهمان لأن الواو حرف بين حروف العطف الذي يقتضي اشتراك الثاني في معنى الأول كقول القائل: رأيت زيداً وعمراً فقد اشترك زيا وعمرو في الرؤية فكذلك ها هنا اشترك الثاني والأول في الوجوب. وكذلك لو قال: درهم ثم درهم لأن حروف ثم [129/ ب] من حروف العطف كالواو، وإنما يختلفان في أن الواو يقتضي عطفاً بلا مهملة، وثم تقتضي مهملة. فرع لو قال: علي درهم ودرهم ودرهم فعليه ثلاثة دراهم. ولو قال: أنت طالق وطالق وطالق يقع طلقتان ويرجع في تفسير الثالثة إليه فإن أراد الاستئناف وقعت، وان أراد التكرار لم تقع. وان لم تكن له نية فقولان. والفرق بين الإقرار والطلاق أن الطلاق يؤكد بالطلاق ويغلظ به على طريق الإرهاب والتخويف في العادة كما يؤكد بالمصدر فيقال: أنت طالق طلاقا. وهذا لا يحتمل في الإقرار فلم نحمله على التكرار ولهذا لا يقال: عليّ درهم ودرهم. أو الإقرار إخبار فلا يحتمل التأكيد والطلاق إيقاع فجاز أن يؤكد بالتكرار. وقال ابن خيران: إن في الإقرار أيضا قولان وليس بشي،. وكذلك لو قال: علي درهم ثم درهم ثم درهم وقال: أردت بالثالث التكرار ولا فرق بين المسألتين. فرع آخر لو قال: علي درهم ودرهمان فهي ثلاثة دراهم. ولو قال لزيد علي درهم مع عمرو يرجع إلي بيانه فإن بين الأظهر من حالتي إقرار. وهو الإقرار لزيد بدرهم هو مع عمرو يقبل، وان بين اليقين أنه مقر بدرهم لزيد وعمرو معا يقبل ومثله في الطلاق أن يقول: يا هند أنت طالق مع زينب كان قاذفاً للأولى دون الثانية. مسألة (¬2): قال: وإن قال علي درهم فدرهم. الفصل وهذا كما قال: إذا قال: علي درهم فدرهم احتملت الفاء العطف واحتملت التفضيل فيكون معناه: فدرهم خيرا منه، أو فدرهم لازم لي، فإن أراد العطف كان إقرارا بدرهمين، وان أراد الصفة وهي اللزوم أو التفضيل فالقول قوله مع يمينه. وقال الشافعي في الطلاق: لو قال: أنت طالق فطالق تقع طلقتان. واختلف أصحابنا في ذلك فقال ابن خيران: لا فرق ففي كليهما قولان على سبيل ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 21) (¬2) انظر الأم (3/ 21)

التكملة والتخريج: أحدهما: يلزمه درهمان وتقع طلقتان لأن الفاء للعطف كالواو وبه قال أبو حنيفة. والثاني: يلزمه درهم وتقع طلقة واحدة لأنه يحتمل [130/أ] الصفة وهي اللزوم فكأنه قال: فدرهم لازم لي أو فطلاق لازم لي. ومن أصحابنا من قال: في الإقرار يلزمه درهم قولاً واحدا وفي الطلاق يقع طلقتان على ما نص عليهما فيهما، والفرق أن الإقرار يدخله التفضيل دون الطلاق لأنه إيقاع وأيضا الذمة بريئة في الأصل. وقوله: فدرهم متردد بين احتمالين بين أن يكون لبيان تأكيد اللزوم مما فسر الشافعي، وبين إذا يكون لإيجاب درهم فإذا فسر بالتأكيد قبل استصحاباً لأصل براءة الذمة وفي الطلاق لكل واحدة من هاتين اللفظتين ظاهر وقوع مستأنف وليس ها هنا أمل نستصحبه قال صاحب "الإفصاح": ووزان الطلاق من الإقرار أن يقول: أنت طالق طلقة فطلقة يريد به الصفة فيقبل منه كما في الإقرار. فإن قيل: ها هنا أيضا أصل وهو بقاء ملك النكاح قلنا: زال ذلك الأصل بظاهر لفظ الطلاق. فإن قيل: وكذلك زال ظاهر براءة الذمة بظاهر الإقرار قلنا: للإقرار ظاهر آخر وهو أن المكرر منه قد يعود إلى الواحد بالتفسير عد التطاول والاتصال بخلاف الطلاق، ألا ترى أن رجلا لو قال يوم السبت: لفلان عليّ درهم وقال يوم الأحد: لفلان عليّ درهم ثم قال: أردت درهما واحداّ قبل بخلاف الطلاق. ولو أطلق وقال: ما أردت به تأكيد الدرهم الأول. قال بعمر أصحابنا بخراسان: يلزمه درهمان لأن كل لفظة منهما صالحة لإيجاب درهم بظاهرها إلا أن يريد تأكيداً. وظاهر ما قال أصحابنا بالعراق أنه لا يلزمه إلا درهم واحد. ولذلك لو قال: عليّ درهم بل درهم أو درهم لكن درهم فالحكم فيه كالحكم في الفاء. مسألة (¬1):قال: ولو قال: درهم تحت درهم. الفصل وهذا كما قال: إذا قال: عليّ درهم تحت درهم أو فوق درهم، روي المزني عن الشافعي عليه درهم لأنه قد يجوز أن يقول: فوق درهم في الجودة أو تحته في الرداءة. وقال في كتاب [130/ ب] "الإقرار والمواهب": يلزمه درهمان إلا أن يقول: علي درهم فوق درهم في الجودة أو تحت درهم في الرداءة. وقال الربيع: قال الشافعي رحمة الله عليه في الإقرار بالحكم الظاهر: عليه درهمان وليس هذا بمذهب الشافعي بل يلزمه درهم لأنه يمكن أن يقول: درهم تحت درهم لي، أو فوق درهم لي فحصل في هذه المسألة قولان والصحيح ما نقل المزني وهكذا لو قال: فوقه درهم أو تحته درهم. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا قال: فوق درهم لزمه درهمان، وإذا قال: تحت درهم لزمه درهم واحد. واحتج بأن فوق يقتضي في الظاهر الزيادة، وقوله: تحت ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 21)

درهم يقتضي دون درهم وهذا غلط لأن فوق يقتضي الزيادة في الجودة كما يقتضي تحت الدون ولا فرق بينهما. ولو قال: له عليّ درهم مع درهم قال الشافعي في كتاب "الإقرار والمواهب": كان هكذا فسوّى بين المسألتين فدل على أنه أيضا على قولين. ونقل المزني ههنا أنه يلزمه درهم واحد أيضاً إذا قال: أردت مع درهم لي ولو قال مع درهم لك كان مقرا بهما. وهكذا إذا قال: معه درهم ذكره أبو حامد رحمه الله وقال: المسألة على قول واحد يلزمه درهم واحد. وهكذا لو قال: درهم معه دينار أو مع دينار ففي الدينار طريقان أيضا. ولو قال: عليّ درهم قبله درهم أو قبل درهم، أو بعده درهم أو قبله دينار، أو بعده دينار قال الشافعي في كتاب "الإقرار والمواهب" يلزمه كلاهما هكذا وواه المزني لأن ظاهر قوله: قبل درهم راجع إلى الزمان فكأنه قال: قد وجب اليوم لفلان درهم وقبل اليوم درهم آخر وليس كقوله: فوق درهم أو تحت درهم فإن لفظ الفوق يحتمل المكان، ويحتمل الجودة. وقال في هذا الكتاب بعد هذا بأسطر لو قال: له عليّ دينار قبله قفيز حنطة كان عليه دينار ولم يكن عليه القفيز وهذا قول أخر في هذه المسألة حكاه القاضي الطبري ولم يحكه غيره من أصحابنا. وقال بعض شيوخنا: في هذه الحروف الخمسة قولان وهي تحت، وفوق ومع، وقبل، وبعد، أحدهما: يلزمه درهمان [131/ أ] لأن العرف يقصد بها الضم فهي بمنزلة الواو. والثاني: يلزمه درهم واحد لما ذكره الشافعي وهذا هو الطريق الصحيح. وظاهر رواية المزني يوجب الفرق بين قبل وبعد، وبين ما سواهما ففي فوق وتحت ومع يلزمه درهم وقد نصره كثير من أصحابنا على ما ذكرنا ولكنه خلاف ما ذكره الشافعي في الأمل والأولى تفريق الجميع على القولين لأن الفرق بينهما ليس بواضح. ولو قال: درهم قبله درهم وبعده درهم قال أبو حامد: يلزمه ثلاثة وهو على ما ذكرنا من الخلاف، وقال القفال: وهكذا الفروق إذا قال: عليّ درهم على درهم أو عليه درهم. مسألة (¬1) قال: ولو قال: عليّ قفيزٌ لا بل قفيزانِ. الفصل وهذا كما قال: إذا قال: لفلان علي قفيز حنطة لا بل قفيزان أو قفيز حنطة بل قفيزان يلزمه قفيزان لأنه استدرك زيادة على ما أقر به. وقال زفر: يلزمه ثلاثة أقفزة وبه قال داود. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: القياس أن يلزمه ثلاثة أقفزة ولكن يلزمه قفيزان استحساناً وهذا غلط لأن قوله: قفيزاً إقرار بقفيز فإذا قال: لا بل قفيزان ما نفى الأول لأنه لا يصح أن ينفيه وقد أثبته بل نفى الاقتصار عليه يعني عندي أكثر منه وهو قفيزان فصار كما لو قال: قفيز لا بل أكثر منه يلزمه قفيز وشيء، ولو كان نفيا للأول لكان يلزمه قفيزان وشيء. وهكذا الخلاف لو قال: علي دينار لا بل ديناران أو قال: درهم ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 22)

لا بل درهمان ولا فصل بين أن يقول: لا بل درهمان أو يقول: بل درهمان هذا في الجس الواحد. فأما إذا قال: له تغيز بٍّر لا بل درهمان أو قفيز حنطة لا بل قفيزان شعير أو دينار لا بل درهمان كان مقراً بالكل لأن الحنطة لا تدخل في الدراهم ولا الحنطة في الشعير ولا الدينار في الدرهم وقصده الرجوع عما ذكر أولاً بما ذكر آخراً لا الاستدراك فيثبت الدرهمان بآخر الإقرار ولم يصح الرجوع عن الإقرار بالبر بخلاف المسألة قبلها. فرع لو كان هذا الإقرار بعين قائمة فقال له هذا القفيز بل هذان القفيزان كان مقراً [131 /ب] بثلاثة أقفزة كان الأول لا يدخل في الآخرين لكون العين قائمة مشار إليها وعلى هذا "أبداً" متى كان الإقرار بجنس غير معين دخل الأول في الآخر، ومتى كان معيناً أو من جنسين لا يدخل الأول في الأخر. فرع آخر لو قال: علي درهم لا بل درهم لزمه درهم لأنه أقر بدرهم ثم جحده بقوله لا ثم استدركه بقوله: بل درهم وثبت عليه فلزمه الدرهم وقال في "الحاوي" (¬1): فيه وجه آخر يلزمه درهمان لأنه إذا لم يزد على الأول لم يكن استدراكاً وكان رجوعاَ فلزماه معاً. وهذا لا يضر لأنه يحتمل أنه أراد أن يستدرك زيادة فتذكر أنه لا زيادة عليه فلم يستدرك. فرع آخر لو قال: لفلان علي دينار فقفيز حنطة لا يلزمه إلا دينار لأن قوله قفيز حنطة يحتمل العطف ويحتمل أن يكون معناه فقفيز حنطة خير منه أو أنفع منه، وإذا احتمل الأمرين ألزمناه اليقين وهو الدينار وطرحنا الشك. وقال أبو حنيفة: يلزمه كلاهما. وقد ذكرنا ما قال أصحابنا في نظيره. ولو قال: عليّ دينار، وقفيز حنطة أنه ثم قفيز يلزمه كلاهما كما لو قال: درهم ثم درهم أو دينار ثم دينار لأنه عطف ولا فرق بين عطفه على جنسه أو على جنس آخر. ولو قال: درهم لا بل قفيز حنطة يلزمه كلاهما. فرع آخر لو قال: عليّ ألف درهم أو لا لم يلزمه شيء لأنه شك فكأنه شك هل له علي ألف درهم أو لا؟ وقال أبو حنيفة: عليه الألف لأنه راجع عنه بعد إثباته وهذا غلط لأن الشك أليق بهذا الكلام وأشبه بمفهوم الخطاب. ولو قال: عليّ ألف درهم بل لا يلزمه لأنه قد أثبت وقصد الرجوع بعده. ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (7/ 58)

فرع آخر لو قال: علىّ دينار مثله قفيز حنطة كان مقرأ بالدينار دون القفيز. فرع آخر لو قال: عليّ عشرة لا بل تسعة لزمه عشرة لأنه لا يصلح نفي الاقتصار وقد استدرك دون ما أقر به، ولا يصلح للتفضيل فيكون معناه بل تسعة خير منها فسقط هذا فلم يبق إلا نفي العشرة فيلزمه الكل كقوله عشرة إلا عشرة. فرع آخر لو قال: علي درهم وثلاثة دراهم كان مقرأ بأربعة. [132 / أ] وكذلك لو قال: ثلاثة دراهم ودرهم ولو قال: درهمان ودرهمان كان مقراً بأربعة. فرع آخر لو قال: له عندي ما بين الواحد والعشرة يلزمه ثمانية دراهم وهي بين الواحد والعاشر. ولو قال: لفلان من واحد إلى عشرة اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: يلزمه ثمانية وبه قال زفر فيعد ما بعد الواحد ولا يعد العاشر، وهذا لأن الأول والعاشر حدان لا يدخلان في المحدود وقال القاضي أبو علي الزجاجي: حكاه الساجي عن الشافعي. ومنهم من قال: يلزمه تسعة وهذا أصح فيدخل الدرهم الأول ولا يدخل العاشر، وحكي هذا عن أبي حنيفة وهذا لأن الأول ابتداء الغاية والعاشر هو الحد فيدخل الابتداء فيه ولم يدخل الحد. ومن أصحابنا من قال: يلزمه عشرة ذكره القفال وغيره وبه قال محمد لأن الحد إذا كان من جنس المحدود دخل فيه. فرع آخر لو قال: علي ما بين الدرهم إلى العشرة ذكر ابن أبي أحمد عن الشافعي أنه قال: يلزمه تسعة، وقال القفال: هذا مذهب أبي حنيفة ومذهبنا أنه يلزمه عشرة وبه قال محمد. ولو قال: أو ما بين دوهم إلى عشرين أو عليّ ما بين العشرة إلى العشرين. قال ابن أبي أحمد عن أبي حنيفة: يلزمه في كليهما تسعة عشر فيلزمه الدرهم الأول دون الدرهم الأخير قال القفال: ومذهبنا أنه يلزمه عشرون فيهما لأنه إنما ذكر العشرين حداً وغاية لا أنه أخرج العشرين من جملة الوجوب. قال: وهكذا لو قال: أنت طالق ما بين الواحد إلى ثلاثة طلقت اثنتين عندهم وعندنا تطلق ثلاثا لأنها غاية قال: ووافقنا أبو حنيفة أنه إذا قال: أبرأتك من درهم إلى عشرين وكان له عليه مائة درهم برئ من عشرين. وكذلك لو قال: أبرأتك ما بين درهم إلى عشرين. فرع آخر لو قال: له ما بين هذا الحائط إلى هذا الحائط لم يلزمه الحائطان عندهم وهكذا مذهبنا لأن المقصود في الحائطين التحديد، والمقصود في الدراهم التعديد لا التحديد.

مسألة (¬1): قال: ولو أقر له يوم السبت [132 /ب] بدرهم وأقر له يوم الأحد بدرهم الفصل وهذا كما قال: إذا شهد شاهدان عند الحاكم على رجل أنه أقر عندهما يوم السبت أن لفلان عليه ألف درهم وشهد آخران أنه أقر عندهما يوم الأحد عندي له بألف درهم لا يخلو من أحد أمرين إما أن يضيفا الألفين إلى جهة واحدة أو إلى جهتين مختلفتين مثل أن يشهدا عليه أنه أقر يوم السبت بألف درهم من ثمن عبد، وشهد آخران أنه أقر عندهما بألف درهم من ثمن ثوب فهما مالان مختلفان ويحكم الحاكم عليه بألفين. وان أضافا إلى جهة واحدة من ثمن ثوب أو عبد يلزمه ألف درهم واحد وبه قال مالك وأبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: إن كان في مجلسين يلزمه ألفان وان كان في مجلس واحد فيه روايتان. وعلى هذا لو أقر بألف في مجلسٍ وبألفين في مجلسٍ وبثلاثة في مجلس وادعى أنه ليس عليه إلا الثلاثة يقبل عندنا خلافاً لأبي حنيفة. وهذا لأن الإقرار إخبار فإذا أقر بذلك احتمل التكرار واحتمل الاستئناف والأمل براءة الذمة. ولو قال في أحدهما: استقرضته أمس، وقال في الآخر: استقرضته اليوم يلزمه المالان بلا خلاف سواء كان في مجلس واحدٍ أو مجلسين. مسألة (¬2): قال: وإذا قال: له علي ألف درهم وديعة فكما قال. الفصل وهذا كما قال قد مضت هذه المسألة وقد ذكرنا أنه إذ وصل باللفظ فقال: له علي درهم وديعة يقبل. ولو قال بعد ذكر ذلك هلك قبل قوله. ولو قال موصولا: له عليّ ألف درهم وديعة هلك أو له عندي ألف درهم وديعة هلك هل يقبل؟ قولان، أحدهما: يقبل. والثاني: لا يقبل لأنه إذا هلك لم يكن عليه ولا عنده وهو بناء على القولين في تبعيض الإقرار إذا قال: له عليّ ألف درهم قضيته أو علي ألف درهم أحلته على فلان أو من جهة ضمان فاسد. فرع لو قال: أودعني فلان ألفاً فلم أقبضه أو قال: أقرضني أو أعطاني ألفاً فلم أقبض يقبل قوله إذا كان متصلاً ولا يقبل إذا كان منفصلاً هكذا ذكره أصحابنا. وقال في "الحاوي" (¬3): لو قال: اقرضني فلان ألفاً ثم قال بعد ذلك: لم اقبضه [133/ ا] يقبل ولا يلزمه خلافاً لأبي حنيفة وصاحباه، وهذا لأن القرض يلزم بالقبض ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 20) (¬2) انظر الأم (3/ 22) (¬3) انظر الحاوي (7/ 61)

ولم يقر به وهذا أصح عندي. وكذلك إذا قال: نقدني ألفا فلم أقبضه. وقال أبو يوسف: لا يصدق لأن قوله نقدني يفهم منه القبض ولهذا يقال بع بالنقد ويراد به القبض وهذا لا يصح لأنه أضاف ذلك إلى المقر له فصار بمنزلة قوله: أعطاني وأقرضني. وقيل: ألفاظ الإقرار خمسة: له عليّ، له عندي، له بيدي، له قبلي، له في ذمتي. فإن قال: له في ذمتي ثم ادعى أنها وديعة وهلكت أو كانت باقية فقد ذكرنا. ولو قال: له في يدي وقال: هي وديعة ثم قال: هلكت موصولاً لا يقبل لاستحالة أن يكون بيده ما قد هلكت. والثاني يقبل لاحتمال أن يريد أنه كان بيده وقد ذكرنا نظيره. ولو قال: له قبلي ألف درهم يحتمل ما في الذمة من الديون ويحتمل ما في اليد من الأعيان فإذا بين أحدهما صار بالإرادة مقتضى كلامه وقد ذكرنا حكمهما. ولو قال: له علي ألف درهم يقتضي ما كان مضمونا في الذمة من عين ودين ويخالف قوله في ذمتي من وجه وذلك أنه يقتضي الدين ولا يقتضي العين إلا على وجهٍ من المجاز وقد ذكرنا فيه الوجهين. ولو قال: له عندي ألف درهم يشتمل هذا فيما بيده من عين مضمونة أو أمانة ويشتمل فيما في الذمة من دين مضمون وخالف قوله بيدي من وجد وهو أن ما بيده لا ينصرف إلى ما ذمته بخلاف هذا. مسألة (¬1): قال: ولو قال: له من مالي ألف درهم سئل. الفصل وهذا كما قال: إذا قال: لفلان من مالي ألف درهم سئل فإن قال: أردت الهبة والدين فالقول قوله لأن ما بعد قوله: من مالي أنه أضاف جميع المال إلى نفسه ثم اقتطع منه طائفة بالهبة فرجعنا إلى قوله وقد مضت هذه المسألة، ومراد الشافعي القول قوله أي مع يمينه وإنما استحلفناه لأن قوله من مالي ألف درهم وإن احتمل الهبة بظاهر واحتمل أنه عليه ألف درهم ديناً يلزمه نقده من ماله وكيفية استحلافه أن يحلف بالله ما أردت بهذا اللفظ إقراراً وإنما أردت به هبة. [133/ ب] ولو مات هذا المقر لا يلزم في تركته شيء ما لم يقر ورثته بأنه أراد به الإقرار دون الهبة. ولو اعترف ورثته أنه أراد الإقرار ثبت الألف ديناً على الميت لإقرارهم بذلك ثم يلتزمون قضاءه على الحصص، وان اعترف بعضهم وجحد بعضهم لم يؤاخذ الجاحد باعتراف المعترف ثم ذكر بعد هذا إذا قال: له من هذه الدار نصفها أو قال: له من داري هذه نصفها وقد ذكرنا شرح هذا وجملته أنه إذا أضافها إلى نفسه منعت الإضافة حمل الكلام على ظاهره. مسألة (¬2): قال: ولو قال: هذه الدار لك هبة عارية، أو هبة سكنى. الفصل وهذا كما قال: إذا قال: هذه الدار لفلان هبة عارية أو هبة سكنى كان له أن يخرجه ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 23) (¬2) انظر الأم (3/ 23)

منها متى شاء ويصح إقراره لأنه لما قال: هذه الدار لفلان فقد أقر له برقبتها ومنفعتها فإذا قوى به هبة عارية فقد أخرج الرقبة عن حكم الإقرار وبقى المنفعة فقد استثنى بعض المقر له فقبل وإنما قلنا: له الرجوع لأن ما سكنه فقد قبضه وما لم يسكنه فهو هبة لم يقبضها فكان له أن يرجع فيها. ولو قال: له في هذه الدار حق سكنى فقد أقر بمدة مجهولة فكان القول قوله في قدرها يوما أو أكثر أو أقل. ولو قال: لك فيها سكنى إجارة بدينار في الشهر فقد أقر بأنه أجرها بدينار في الشهر فإن قبل المقر له ذلك فهي له وإلا فلا شيء له، نص عليه في "الإقرار والمواهب". قال أصحابنا: وهذا يدل على أنه إذا قال: آجرتها كل شهر بدرهم صح في الشهر الأول وهو أحد وجهي أصحابنا. ولو لم يسم شيئاً لك فيها إجارة كان المرجع في تفسيره إليه. وهكذا لو قال: له في هذه الدار حق، وأطلق. فرع لو كانت دار بين رجلين فأقر أحدهما بنصفها لرجل، وكذبه الشريك قال أبو حنيفة: كان للمقر له بالنصف ثلث الدار وللمقر السدس تكملة النصف والنصف الباقي للشريك المكذب وعلة ذلك أن المكذب للمقر بالنصف يقول: لي ولشريكي النصف والنصف الباقي لك أيها المقر له فيكون ذلك مثلا مالي فإذا انفرد [134 / أ] الشريك لتكذيبه بالنصف صار النصف الباقي بيننا أثلاثاً لي منهم سهم واحد، ولك منه سهمان مثلا مالي. وحكى أبو العباس بن وجاء النصيري عن الشافعي في هذه المسألة أن مذهبه سؤال المقر بالنصف أله في الدار باقي ملك أم لا؟ فإن قال: لا شيء لي في الدار صح إقراره فيها بالنصف وكان النصف الآخر للشريك، وان قال: لي نصفها لزمه الإقرار بربعها وكان الربع الأخر له والنصف للشريك لأن المقر أقر من حقه وحق شريكه فقبل إقراره على نفسه وود على شريكه، ولهذا وجه صحيح على ما ذكر وفيه وجه أخر محتمل أنه يلزم إقراوه في النصف كله. فرع آخر لو كانت الدار مشاعة بين رجلين فأقر أحدهما ببيت منها لرجل وكذبه الشريك. قال أبو حنيفة: يكون إقراره مردودا ما لم يقتسما، فإذا اقتسما وصار البيت للمقر لزمه بالإقرار المتقدم تسليمه إلى المقر له، ولو صار البيت للشريك ضرب المقر له مع المقر بقيمة البيت فيما صار له بالقسمة، وعلى ما حكاه ابن رجاء عن الشافعي يكون للمقر له بالبيت ربع البيت مشاعاً، وعلى ما ذكرنا من التخريج له نصف البيت مشاعا لا يجوز أن يختصا دونه بقسمة، فإن اقتسما وصار البيت في حصة المقر لزمه تسليم جميعه إلى المقر له. وان صار للشريك لزم المقر أن يعوض للمقر له قيمة ما بقي من البيت بعدما صار له بالإقرار من ربع أو نصف وإنما لزم غرم القيمة لأنه صار معاوضاً عليه بالقسمة.

فرع آخر لو قال: هذه الدار لفلان إلا بناءها كان إقراراً بالأرض دون البناء. وقال أبو حنيفة: يلزمه الإقرار بجميع البناء لأن الدار لا تسمى بغير بناء. وهذا غلط لأنه لو قال: هذه الدار لزيد إلا نصفها صح الإقرار بنصفها، وان كان النصف بانفراده لا يسمى داراً لأن الاستثناء بغير حكم الجملة عن إطلاقها. فرع آخر لو أقر له بحائط لم يدخل أرض الحائط في إقراره خلافاً لأبي حنيفة، ووافقنا أنه لو أقر [134 / ب] له بنخلةٍ لم يدخل قرارها في الإقرار. فرع آخر لو قال: هذه الدار لزيد، وهذا البيت منها لي كان كقوله: إلا هذا البيت. وقال أبو حنيفة: لا يصح ذلك لأنه استثناف رجوع في البيت بعد الإقرار به وهذا غلط لأن ألفاظ الاستثناء مختلفة وهذا من جملته. وهكذا الخلاف إذا قال: هذا الخاتم لزيد وفصه لي. مسألة (¬1): قال: "ولو أقر للميت بحق". الفصل وهذا كما قال: إذا قال: لفلان علي ألف درهم وقد مات وهذا الصبي ابنه وهذه المرأة زوجته قد ذكرنا أنه يكون إقرارا لهما بالألف ويلزمه الدفع إليهما ويفارق هذا مسألة الوكالة على ما ذكرنا، هذا إذا لم يكن له ابن معروف النسب، فإن كان له ابن معروف النسب، فإن صدقه يلزمه أن يدفع الثمن إلى المرأة والباقي بينهما نصفين. وإن كذبه يلزمه دفع جميع الألف إلى الابن المعروف. وهل يلزمه أن يغرم للمرأة والصغير ما أقر لهما به على الاختلاف الذي ذكرنا في قوله: هذه الدار لفلان لا بل لفلان آخر. قال المزني: هذا عندي خلاف قوله في الإقرار بالوكالة وهذا عندي أصح ومراده أن في مسألة الوكالة يجب الدفع إلى الوكيل فأوهم أن المسألتين على قولين واختار جوابه في كتاب الإقرار على جوابه في كتاب الوكالة وعامة مشايخنا على الفرق على ما بينا، ولو كان الوارث صغيرًا فقال: وهذا وصية لم يلزمه الدفع إلى الوصي لأنه لا يبرأ بل يدفع إلى الحاكم حتى يبرأ. مسألة (¬2) قال: ولو قال: بعتك جاريتي هذه فأولدتها. الفصل وهذا كما قال: لو أن رجلا وطئ أمة تسلمها من سيدها ثم قال السيد: بعتكها بألف في ذمتك فلي عليك ثمنها وقال الواطئ: بل زوجتنيها فلك علي المهر، فإن لم ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 24) (¬2) انظر الأم (3/ 24)

يكن أحبلها فإنهما يختلفان لأن كل واحٍد منهما يدعي على صاحبه عقدًا ينكره فالقول قول المدعي عليه مع يمينه في نفي ما يدعيه صاحبه عليه. ثم يُنظر فإن حلفا معًا لا يلزم الواطئ التبرئ ليمينه ولا يلزم السيد التزويج ليمينه وحكمنا بزوال العقد [135/ أ] وللسيد ببيعها بلا خلاٍف لأنه لم يعتبر فيها بما يمنع البيع، وإنما أقر بها للواطئ بثمن يملكه عليه، فإذا لم يملك على الواطئ الثمن الذي ادعاه لم يملك عليه الواطئ الأمة التي أقر بها. وقيل: ترجع الجارية إليه وعلى أي وجٍه ترجع فيه وجهان: أحدهما: يرجع كما يرجع البائع في السلعة إذا أفلس المشتري وتعذر عليه ثمنها لأن الثمن ها هنا تعذر فيحتاج السيد أن يقول: فسخت البيع ثم يعود ملكًا له في الظاهر والباطن. والثاني: أنها ترجع إليه على معنى أنه له قبل المشتري ثمنها وقد تعذر عليه الوصول إليه وقد ظفر بهذه الجارية من ماله فكان له أخذها وبيعها بجنس حقه وقبض ذلك بدينه. وفائدة الوجهين إباحة الوطء للبائع فعلى الوجه الأول يحل له وعلى الثاني لا يحل له إذا كان على يقين مما ادعى لأنه على ملك الواطء باعتقاده وإنما ظلمه بمنع الثمن وجعل له بيعها ليتوصل إلى ثمنها. وعلى هذين الوجهين لو فضل من ثمنها بعد بيعها زيادة على الثمن الذي ادعاه من ثمنه هل يسوغ له تملكها؟ فإن قلنا بالوجه الأول يجوز له تملكها، وإن قلنا بالوجه الثاني لا يجوز له تملكها ويلزمه ردها إليه وهو لا يسترد فماذا يفعل بها؟ قد ذكرنا من قبل. ولا خلاف أنه يحرم على الواطئ إصابتها بعد بيعها ولا يستحق صاحب الجارية على الواطئ مهرها لأنه لا يدعي ذلك عليه وإن كان يعترف هو له به. ولو نكل عن اليمين فهو نكول عن يمين نفي فإنكاٍر فيرد عليهما بالإثبات فيحلف السيد عليّ إثبات البيع وحلف الواطئ عليّ إثبات التزويج فإن نكلا عنهما أيضًا لم يحكم لواحٍد منهما بما ادعى وحرمت على الواطئ لنكوله عما ادعاه بالنكاح وهل تحرم على السيد؟ وجهان على ما ذكرنا. وإن حلف السيد أو نكل الواطئ حكم له بالشراء وحكم عليه بالثمن وحرمت على السيد وفي تحريمها على الواطئ في الحكم وجهان: أحدهما: تحل لأنهما قد اتفقا على حصول الاستباحة وإنما اختلف في جهتها [135/ ب] وهذا أصح عندي. والثاني: لا تحل لأنه لم تثبت واحدة من الحالتين بقوله وهو اختيار القفال. وإن حلف الواطئ ونكل السيد حكم له بالتزويج وهي حرام على السيد، حلال للواطئ وجهًا واحدًا. وإن حلفا معًا قضي بيمين السيد في الشراء ولزوم الثمن على الواطئ لأن تزويجه لها لا يمنع جواز بيعها وابتياعها وهي حرام على السيد حلال للواطئ، وإن حلف السيد في الابتداء ونكل الواطئ فهذه اليمين من السيد إنما هي لنفي ما ادعاه الواطئ من التزويج، وقد نكل الواطئ عن يمين إنكاره لما ادعاه السيد في الشراء فترد على السيد

اليمين ليحلف ثانيًة على إثبات ما ادعى من الشراء فتكون يمينه الأولى لنفي التزويج، واليمين الثانية لإثبات الشراء فيحرم على السيد وفي تحريمها على الواطئ وجهان. فإن نكل عنها فلا ثمن له والجارية في يده محرمة عليه وعلى الواطئ جميعاً. وإن حلف الواطئ في الابتداء ونكل السيد فهذه اليمين من الواطئ إنما هي لنفي ما ادعاه السيد من الشراء وقد نكل السيد عن يمين إنكاره لما ادعاه الواطئ من التزويج فيرد على الواطئ اليمين ليحلف بها ثانيًة على إثبات ما ادعي من التزويج فتكون يمينه الأولي لنفي الشراء، واليمين الثانية لإثبات التزويج فإذا حلف حكم بها زوجة له، فإذا طلقها أو زال النكاح بفسخ رجعت إلى سيدها في الحكم وكانت في الباطن على ما يعلمه فإن كان صادقًا فهي ملكً للمشتري لا يحل له وطئها، وإن نكل عن هذه اليمين وعادت إليه على ما مضى بيانه. وإن كان كاذبًا في دعواه، والواطئ كان صادقًا يحل له وطئها. وإن نكل عن هذه اليمين الثانية فليست له بزوجة وهي محرمة عليه وللسيد في الحالين بيعها لبقاء ملكه بإنكار الشراء. وأما إذا أحبلها وأولدها فهي مسألة الكتاب، ودعوى كل واحٍد منهما تتضمن أحكاماً فدعوى السيد تتضمن استحقاق الثمن وأن الأمة أم ولده وأن الأولاد [136/أ (أحرار ودعوى الواطئ الزوجية تتضمن إقرارًا بالمهر وثبوتًا للزوجية وأن الأمة وأولاده مرقوقون للسيد فيقبل قول كل واحدً منهما فيما يضره ولا يقبل فيما ينفعه لأنه متهم فيما ينفعه ويكون القول قول الواطئ مع يمينه فيحلف أنه لم يشتر منه هذه الجارية. فإن حلف فالوطء محرم على السيد لإقراره بأنها أم ولد لغيره، وهل يحل وطئها لمدعى الزوجية؟ فإن كان يعلم أنه صادق فيما يدعيه من النكاح يحل له وطئها فيما بينه وبين الله تعالى، لأنها امرأته وهذا إذا كان ممن يَحِلُّ له نكاح الإماء. وهل تحل له في الحكم؟ وجهان على ما ذكره: أحدهما: يحل لاتفاقهما على إباحته له إما بالملك أو بالزوجية كما لو قال لغيره: بعتك أمتي وقبضت ثمنها وقال: بل وهبتنيها يجوز باتفاق أصحابنا أن يطأها وإن اختلف في سبب الإباحة. والثاني: وهو اختيار صاحب (الحاوي) (¬1) لا يحل لأنهما بإنكار العقدين أبطلا أن يكون للواطئ أمةً ولا زوجةً، وصار كما لو قال لآخر: بعتك أمتي بألٍف ولم أقبط الألف وقال: بل وهبتنيها لا يجوز له أن يطأها بالاتفاق لأنهما وإن اتفقا على سبب الإباحة فللمستحق المنع من الإصابة إلا بعد قبضه وخالف حال المقر بقبضه، ويحكم بأن الأمة صارت أم ولد للواطئ بإقرار السيد، وأن الولد خلق حرام. ولا يستحق عليه الثمن إلا ببينٍة وقد برئ من الثمن لما حلف. وهل للسيد أن يرجع عليه بشيء؟. اختلف أصحابنا فيه منهم من قال: يستحق الرجوع على الواطئ بأقل الأمرين من ثمن الجارية أو مهرها فإنه واجب باتفاقهما جميعاً. ومنهم من قال: لا يستحق عليه ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (7/ 68).

شيئاً لأنا حكمنا بعدم الشراء بيمين الواطئ والنكاح الذي اعترف به وجوب المهر له لا يدعيه سيدها فلم يثبت له، ولا خلاف أنه لا يرجع البائع في الأمة بل يقر في يد من هي في يده لأن البائع أقر بأن ملكها [136/ب (انتقل إليه وأنها تلفت في يده بالإحبال فهو كما لو قال: بعت عبدي من زيد وأعتقه، وأما النفقة فنفقة الأولاد على الأب الواطئ بلا خلاف، لأنهم عتقوا، والولد إذا عتق وجبت نفقته على أبيه المناسب دون مولاه المعتق. وأما نفقة الأم فإن قلنا: يحل له أن يطأها فالنفقة عليه. وإن قلنا: لا يجوز له أن يطأها سقطت نفقتها بلا خوف. وأين تجب نفقتها؟ فيه وجهان: أحدهما: تحب في كسبها إن كان لا في من لزمته النفقة ملك الكسب. والثاني: وبه قال أبو إسحاق وابن أبي هريرة: نفقتها على السيد ويكون كسبها موقوفًا لأنه متهم في إسقاط النفقة فلم تسقط عنه ومقر بالكسب لغيره فلم يؤخذ منه. والأول أصح. وقيل قال أبو إسحاق: فيه قولان أي وجهان: أحدهما: في كسبها. والثاني: على السيد من غير تفضيل بين أن يحل وطئها أو لا يحل وذاك أصح. وأما الميراث فهو ثلاث مواريث: ميراث الواطئ، وميراث الأولاد الأم، فأما ميراث الواطئ فلأولاده لكونهم أحرارًا ولا شيء للأم لأن أحسن أحوالها أن تكون أم ولدٍ تتحرر عند موته. وأما ميراث الأولاد فلأبيهم ولا شيء لأمهم قبل موت الأب في حكم أم الولد. وإن كان موت الأولاد بعد موت الأب فللأم الثلث من تركتهم لأنها صارت حرة ثم الباقي بعده لعصبته إن كانت، وإن لم يكونا فموقوف لا مستحق بالولاء الموقوف. وأما ميراثها فإن كان موتها بعد عتقها بموت الواطئ فموروث لأولادها إن كانوا، وإن لم يكونوا أو ماتوا قبل موتها كان مالها موقوفًا لأنه لا يعلم أن الولاء للسيد أو للواطئ وكل واحٍد منهما يدفع عن نفسه فكان موقوفًا إلى أن ينكشف أمره. وإن كان موتها قبل عتقها بموت الواطئ فلا ميراث لأولادها ويكون موقوفًا بين الواطئ والسيد لأنه مستحق بالملك لا بالإرث والملك موقوف. فإن طلب السيد باقي ثمنها من الموقوف من مالها حين قضي له على الواطئ بالمهر الذي هو أقل أو طلب جميع الثمن حين لم يقبض له الواطئ بشيء فله ذلك [137/أ (ويدفع إليه وهذا لأن المشتري يقول: هذه مملوكتك وجميع تركتها لك والبائع يقول: بل هي أم ولدك واستحق عليك الثمن فكان له اخذ الثمن م التركة والفضل موقوف لأن أحداً لا يدعيه. ويفارق المسألة قبلها حيث لا يجوز للبائع هناك أخذ الثمن من تركتها لأنه يقول: هذه الشركة لوارث المشتري بحق الولاء والثمن استحقه على المشتري في ذمته فلا يجوز له أن يأخذه من مال وارثه. فإن قال قائل: لم قال الشافعي: وولاؤها موقوف وأعرض عن ذكر ولاء الولد وقد حكمنا بحريتها جميعاً بإقرار السيد؟ قلنا: لأن حرية الولد مستفادة بإقرار السيد وفي ضمن إقراره أن لا ولاء على ذلك

الولد إذ خلق حراً لم يمسه الرق فلذلك لم يتكلم في ولاء أم الولد لأن معليها الولاء وهو كما لو قال واحٌد: أنا عبدك فقال: بل أنت حر الأصل لا ولاء عليه. ولو رجع كل واحٍد منهما عما ادعاه، فأن رجع سيدها عن دعوى البيع سقط الثمن عن الواطئ ولا يقبل رجوعه في إسقاط حقها من الحرية وحق أولادها من الحرية، وإن رجع الواطئ عن دعوى الزوجية قبل رجوعه في وجوب الثمن عليه وثبوت الولاء له. وإن نكل الواطئ عن اليمين رددنا اليمين على سيدها، فإن حلف استحق الثمن وهل يحل للمبتاع وطئها؟ وجهان على ما ذكرنا. وتكون الجارية أم ولد الواطئ ويكون الولد حراً. وإذا حلف الواطئ أنه لم يشترها وادعى الزوجية هل يحلف السيد؟ وجهان: أحدهما: لا يحلف لأنه قد أقر بأنها أم ولده ولو عاد وأقر أنها أمته زوجها منه لم يقبل فلا فائدة في عرض اليمين عليه. والثاني: يحلف لأنه ربما يمتنع من اليمين فيرد اليمين على المدعي فإذا حلف حكم له بالزوجية ويطأها بالنكاح. مسألة (¬1): قال: (وَإِذَا َقاَل: لَا ُأِقُّر َولَا ُانِكُر). الفصل وهذا كما قال: إذا قدم رجل رجلًا إلى الحاكم فادعى عليه مالًا فقال: لا أقر ولا أنكر فإن الحاكم يقول له: هذا ليس بجواب فإما إقرار وإما إنكار مع اليمين فإن أجبت وإلا جعلتك ناكلًا. ويستجيب للحاكم أن يقول له ذلك [137/ب (ثلاث مرات وأن ينذره فيقول: إن عرضت اليمين عليك هذه الكرة فنكلت رددت اليمين على خصمك ثم لا أقبل يمينك. فإن قال مرة واحدة ورد اليمين أجزأه، وإذا جعله ناكلًا ورج اليمين على المدعي فحلف حكم له بما ادعاه، ورد اليمين بأحد أمرين إلا أن يقول: حكمت عليك بأنك ناكل أو بأن يقبل على المدعي فيقول: احلف فحينئذ لا ينفع المدعي عليه: قوله أنا أحلف إلا أن يرضي المدعي بذلك فيكون سقطًا لحقه. وهكذا إذا أنكر ثم نكل عن اليمين رد اليمين على المدعي فإذا حلف حكم له. وقال أبو حنيفة يحكم بمجرد النكول ها هنا ولكن إذا قال: لا أقر ولا أنكر لا يجعل ناكلًا بل يحبس حتى يقر أو ينكر. فرع لو قال: أقر قال في (الإفصاح): لا يكون إقرارًا بالمال لأنه يحتمل أني أقر أن دعواه باطلة أو أقر أن الله واحد. وكذلك لو قال: أنا أقرُّ لك، أو أنا مقر لك لا يكون إقرارًا بالمال لأنه موعد. أو أقر لك بالفضل والعلم. ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 24).

فرع آخر لو قال: أنا أقر بما تدعيه لا يكون إقرارًا أيضاٍ لأن معناه أقر بعد. ولو قال: أنا مقر بما يدعيه كان إقرارًا. فرع آخر لو قال: أنا مقر فيه وجهان: أحدهما: قال أبو حامد: لا يكون إقرارًا لأنه يحتمل أن يريد أنا مقر ببطلان دعواك. والثاني: وهو الأصح يكون مقرًا لأنه إذا كان جواباً عن الدعوى أنصرف الإقرار إليها وكان أبلغ جواباً من نعم ذكره في (الحاوي) (¬1). فرع آخر لو قال في جواب الدعوي: لا أنكر لا يكون إقرارًا لأنه يحتمل لا أنكر لله تعالى قدره أو لا أنكر أنه هذا الدعوى باطلة أو لا أنكر فضلك. وكذلك لو قال: لا أقر ولا أنكر. ولو قال: لا أنكر دعواه أو لا أنكر ما يدعيه يكون إقرارًا بالمال. فرع آخر لو قال في جواب الدعوى: لا أنكر أن يكون محقاً لم يكن إقرارًا لاحتمال أن يريد محقاً في دينه أو اعتقاده ولو قال: لا أنكر أن يكون محقاً في هذه الدعوى كان مقرًا. فرع آخر لو قال في جواب الدعوى: بلي أو نعم أو أجل أو صدق أو أي لعمري كان مقرًا بجميع ذلك لأنها في محل الجواب تصديق، وإن كانت مختلفة المعاني. ولو قال: لعل وعسى ويوشك لم [138/أ (يكن مقرًا لأنها ألفاظ للشك والترجي وكذلك لو قال: أظن وأقدر وأحسب وأتوهم. فرع آخر لو قال له الحاكم حين ادعى عليه رجل ألفاً: ما تقول؟ فقال: نعم، قال بعض أصحابنا: يكون إقرارًا لأن تقديره نعم له على ما يدعيه، ولو قال: بلى قال بعض أصحابنا: لا فرق بينهما في الحكم ذكره القاضي الطبري وفي هذا نظر لأنه قال له الحاكم: ما تقول؟ فقوله: نعم عقيبه يحتمل أن لا يكون إقرارًا إلا أن يقول له الحاكم: ما تقول فيما يدعيه عليك؟ فإذا قلنا: ها هنا نعم يكون إقرارًا. فرع آخر لو قال: له ألف على في علمي كان إقرارًا لأنه إنما يقر بما في علمه. وقال أبو حنيفة: لا يكون إقرارًا لتشككه. ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (7/ 17)

فرع آخر (¬1) لو قال الشاهد: أشهد أن لفلان على فلان ألف درهمٍ في علمي صحت الشهادة عندنا على قياس ما ذكرنا وبه قال أبو يوسف. وقال أبو يوسف. وقال محمد وأبو حنيفة: لا تصح شهادته. فرع آخر (¬2) لو قال الطالب: اقض الألف الذي لي عليك فقال: نعم أو أجل أو غداً أو أنظرني به أو أنا في ذاك كان إقرارًا. ولو قال: أنظرني أو أرفق بي أو أنفذ رسولك إلي أو سهل الله ذلك أو انظر في حسابي لم يكن إقرارًا لاحتماله. فرع آخر لو قال: اشتر عبدي هذا فقال: لا أفعل لم يكن إقرارًا خلافاً لأبي حنيفة لأن إنكار الجواب لا يكون إقرارًا بالجواب. ولو قال: نعم أو كم الثمن كان إقرارًا. وكذلك لو قال له: أعطني غلة ضيعتي أو أسرج دابتي فقال: نعم كان إقرارًا. فرع آخر (¬3) لو قال في جواب الدعوى: خذ أو اتزن لم يكن إقرارًا لأنه يحتمل خذ الجواب مني واتزن حقاً إن كان لك على غيري. ولو قال: خذها أو أتزنها قال الزبيري: يكون إقرارًا لأن هاء الكناية في الجواب ترجع إلى ما تقدم من الدعوى. وقال جمهور أصحابنا: لا يكون إقرارًا فيهما لأنه يقال ذلك استهزاءً. وقال القفال رحمه الله: لا نص للشافعي فيه والظاهر عندي أنه [138/ب (لا يكون إقرارًا، وقال ابن أبي أحمد في أدب القاضي: مذهب الشافعي أنه لا يكون إقرارًا قلته تخريجاً وذلك أنه لم يجعل طلبه للصلح وأخذ العوض على ذلك إقرارًا وجعل الصلح على الإنكار باطلاً كذلك ها هنا. وكذلك إذا قال: انتقده. فرع آخر لو أجاب عن الدعوي فقال: صحاحٌ لم يكن إقرارًا. ولو قال: هي صحاحٌ قال الزبيري: يكون إقرارًا لأنه إقرار بصفتها فكان إقرارًا بها لأن بالصفة إقرارا بالموصوف وقال جمهور أصحابنا: لا يكون إقرارًا لأنها صفة ترجع إلى المذكور م الدعوى ولا يجوز أن يكون صفةً لإقرارٍ لم يكن. فرع آخر لو قال: له علي ما في حسابي أو ما خرج بخطي أو أقر به زيد عني لا يكون إقرارًا لأنه مُحيل بالإقرار على غيره وليس بمقر. ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (7/ 17) (¬2) انظر الحاوي للماوردي (7/ 17) (¬3) انظر الحاوي للماوردي (7/ 17)

فرع آخر لو قال: عليك ألف فقال: إنما لك مائة تلزمه مائة. فرع آخر لو قال: أقرضتك مائة فقال: ما اقترضت من أحد سواك، لم يكن إقرارًا. فرع آخر لو قال في جوابه: ثبت أو ليتني ما فعلت، أو هي التوبة، كان إقرارًا. فرع آخر لو قال لرجل: لا تخبر فلاناً أن لزيد علي ألفًا لم يكن إقرارًا. فرع آخر لو قال: كان له علي ألف درهم أو كان له عندي ألف درهم قال بعض أصحابنا: لا يكون إقرارًا لأن رجلًا لو ادعى ذلك عند الحاكم لم يسمع دعواه بأن يقول: كان لي على هذا ألف درهم. وقال أبو حامد: عندي يكون إقرارًا لأنه أقر بأنه كان له عليه فلا يبرأ بقوله ويخالف الدعوى لأن قوله مقبول على نفسه دون غيره. فرع آخر لو قال: وصل هذا العبد إلي على يدي فلان، أو ملكته على يديه، أو قبضته على يديه لم يكن مقرًا بذلك لزيد لأنه أقر بأن زيداً أعانه على ذلك قاله نصًا. ولو قال: ملكته من زيد فقد اعترف له به وادعى أنه ملكه منه، ولو قال: قبضته من زيد كان اعترافاً له بالملك في اليد، فإن كذبه فلان في انتقاله إليه كان القول قوله مع يمينه، فإذا حلف رده إليه. فرع آخر لو قال: أبرأني من [139/أ (دعواه، لم يكن إقرارًا بالمال، ولو قال: أبرأني مما يدعيه كان إقرارًا بالمال. قال ابن أبي أحمد في (أدب القاضي): هكذا قال جمهور أصحاب الكوفي والشافعي وهو الصحيح عندي على مذهب الشافعي قلته تخريجاً وذلك أني لا أعلم بين أصحابنا خلافاً أن رجلًا لو قال: بالله لأبرئن اليوم فلاناً من مال لا يبرأ من يمينه حتى يبرئه من ماٍل عليه. فرع آخر لو قال: علي ألف لزيد أو عمرو فيه وجهان أحدهما: لا شيء عليه لواحدٍ منهما لأنه شاك في الإقرار له فصار كقوله: علي ألف أو لا. والثاني: يكون مقرًا لأحدهما بالألف وإن لم يعينه فيؤخذ بالبيان ولا يسقط الإقرار كما لو أقر بواحدٍ من عبدين لم يبطل إقراره للجهل بعين المقر به فكذلك لا يبطل للجهل بعين المقر له. ويخالف هذا

قوله: عليّ ألف أو لا لكونه شاكاً في ثبوت الإقرار وسقوطه وهو ها هنا متيقن للإقرار شاك في مستحقه فافترقا. مسألة (¬1): قال: (وَلَو قَالَ: وَهَبْتُ لَك َدارِي هَذِه وَقَبَضْتُهَا). الفصل وهذا كما قال: إذا أقر رجل فقال: وهبت داري من فلان وقبضتها، أو حازها أو صارت في يده أو حصلت في يده فقد أقر له بملكها بالهبة لأن الهبة تملك بالعقد والقبض معًا وقد أقر بذلك، فإن ادعى بعد ذلك أنه لم يكن قبضها وأنه يريد أن يرجع فيما وهبه له وطلب يمين الموهوب له قد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الرهن وحكمهما واحد والمذهب أن له طلب يمينه لأنه ربما توهم أن التسليم بالقول تسليم. وقد حكي المزني لفظ هذه المسألة ولم يذكر في ظاهرها لدعوى الواهب تأويلًا محتملًا بعد إقراره السابق بالهبة والقبض ومطلق دعوى الواهب غير مسموع لأنه يكون مكذباً نفسه بنفسه ولهذا لو قال: كذبت فيما اعترفت له بالقبض لم يسمع فالمسألة محمولة على أنه يدعي التأويل مثل ما ذكرنا أني توهمت أن التسليم بالقول تسليم، أو ذكرت ذلك عن لسان وكيلي وقد كذب ونحو ذلك هكذا ذكر أبو إسحاق رحمه الله. ولو قال: وهبتها له ولم يقر بالإقباض قال الشافعي: [139/ب (فإن كان في يد الموهوب له فهو قبض بعد الإقرار وهذا فرعه على ما نص في الرجل إذا وهب لغيره عينًا في يديه فمضت يمكن القبض فيها صارت مقبوضة، وإن لم يأذن له في القبض فعلى هذا يكون قد أقر بالهبة والقبض معًا، وإن كانت في يد الواهب أو في يد وكيل الواهب ثم اختلفا فقال الموهوب له: قبضتها وملكتها وأنكر الواهب فالقول قوله سواء قال: وهبتها وملكتها أو قال: خرجت إليه منها لأنه قد يقول: ملكها معتقدًا مذهب مالكٍ أن الهبة تملك بالعقد ولا يزول ملكه باعتقاده الباطل وكذلك قوله خرجت إليه منها لأنه يحتمل خرجت قولاً ويحتمل خرجت فعلًا. وإن كانت الدار في يد الموهوب له وقال: وهبتها منه وخرجت إليه منها قال ابن أبي أحمد: قال الشافعي: القول قول الموهوب له. وقال القفال: استعمل الشافعي الظاهر في هذا الموضوع لأنه إذا قال: خرجت إليها منها ووجدت في يد الموهوب له فالظاهر أنه أراد بما قال إقباضًا والقبض بالعيان مكذب للواهب في إنكاره له وحصل الإذن فيه بإقراره فتمت الهبة. وعلى ما ذكرنا إذا أقر أنه أقرض من فلان ألف درهم وقبضه ثم قال: ما كان قبضه وإنما أقررت لأقبض أحلفنا المقر له لاحتمال ذلك بحكم العادة على ظاهر ما ذكر ها هنا من غير تفصيل. وعلى قول أبي إسحاق لا يحلف إلا أن يدعي تأويلًا محتملًا على ما ذكرنا. ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 24).

واعلم أن المزني ذكر المسألة الأولى وذكر فيها تعليل المساءلة الأخيرة وهي إذا اختلفا في القبض فإنه قادت لأنه لا تتم الهبة إلا بالقبض عن رضا الواهب وهذا تعليل الاختلاف في القبض فأما تعليل المسألة الأولى أن العادة جارية بالإقرار قبل القبض، ولهذا أطلق الشافعي الجواب في وجوب التحليف. مسألة (¬1): قال: ولو أقَّر أنه باعَ عبدُه من نفسِه بألٍف. الفصل وهذا كما قال: اعلم أنه إذا قال لعبده: أنت حر على ألٍف [140/أ (أو قال: أنت حر بألٍف أو قال: إن ضمنت لي ألفًا فأنت حر فقبل العبد ذلك على الفور صح وعتق ووجب عليه المال. ولو قال: أنت حر وعليك ألف درهم يعتق ولا شيء عليه، ولو قال: أنت حر إن أعطيتني ألف درهٍم فإنه لا يعتق إلا بدفع الألف إليه فإن أعطاه من ماله لم يعتق. وإن أعطاه من ماٍل أوصى له به أو وهب له منه عتق وعلى هذا يحمل قوله: أنت حر إن أعطيتني ألف درهم، فأما ماله الحاضر الذي في يد عبده يحمل عليه قوله هذا. ولو قال: بعتك نفسك بألف درهٍم فقد ذكرنا فيما تقدم والإشارة ها هنا أن المزني نقل أنه يصح. وقال الربيع: فيه قوًل آخر البيع باطل. فقيل: قول واحد يجوز وهو اختيار أبي إسحاق وابن أبي هريرة. وقيل: في المسألة قولان أحدهما: البيع صحيح وهو المذهب المنصوص في كتبه لأن المقصود من هذا البيع الحرية بعوض يثبت في الذمة فأشبه الكتابة. وقال أبو إسحاق: هذا عتق بشرط ضمان المال وسماه الشافعي بيعًا ويصح منه ضمان المال في مقابلة الحرية وهذا لأن الإنسان لا يملك نفسه فهو عبارة عن إسقاط حق الرق عنه وجرى ذلك مجرى عتقه على ماٍل فيثبت المال مع عتقه ولا يكون ثابتًا قي ذمة عبده. والثاني: لا يصح لأن البيع لا بد من أن يكون عوضه دينًا أو عينًا والعبد لا يملك العين والدين لا يثبت في ذمته، ولهذا لو أتلف عليه شيئًا لم يجب ضمانه عليه ولو جاز هذا لكان في معنى الكتابة الحالة ولا تجوز الكتابة عند الشافعي. والأول أصح على ما ذكرنا ويفارق الكتابة الحالة لأن العتق فيها يقف على أداء المال والحلول غرر فيها بخلاف هذا فإنه يتنجز العتق فيه ويحصل المقصود ويتمكن من تحصيل المال بعده فيصح. فإذا قلنا: يصح البيع فأقر السيد أنه باعه من نفسه بألف درهم فإن صدقه العبد عتق ولزمه الألف في ذمته، وإن كذبه يحلف وبرئ من الثمن ويعتق العبد بقوله: إني بعته من نفسه [140/ب] لأن تحت قوله: إني بعته من نفسه أنه حر وأن الذي استحقه عليه هو ألف درهم فقط فقبل إقراره بالعتق ولم يقبل إقراره على غيره بالمال. ولو قال: بعت هذا العبد من فلاٍن بألف درهم وأنكر ألفلان أن يكون اشتراه حلف ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 25).

وبرئ من الثمن ويعود العبد إلى البائع وعلى أي وجه يعود؟ ذكرنا وجهين، والفرق أن ملك المشتري يجوز أن يلحقه الفسخ فإذا تعذر الوصول إلى الثمن من جهة المشتري عاد ملكه إلى البائع كما لو تعذر بالإفلاس والحرية لا يقبل الفسخ فلا يعود إلى ملكه بعد إقراره بالحرية، ولهذا لو باعه من نفسه بألٍف وقبله العبد وعتق ثم أفلس بالألف لا يجوز له فسخ البيع ورد العبد إلى الرق فافترقا. وهكذا لو أقر أنه باع هذا العبد من فلاٍن بألف درهم وأنه أعتقه فأنكر الشراء حلف وبرئ من الثمن وعتق العبد بإقراره. وهكذا لو قال لأبيه وأبوه حر: كنت بعتك ابنك بألٍف وقبلته منى فأنكر العبد يعتق ويحلف أبوه أنه ما اشتراه وبرئ من الثمن. وهكذا إذا قال: بعتك جاريتي هذه وأولدتها فأنكر المشتري. وهكذا لو قال: طلقتك على ألف درهم وقبلته مني وأنكرت حلفت وبرئت من الألف وبانت منه بطلقةٍ لأنه مُقر بأنها بانت منه. مسألة (¬1):قال: ولو أقَّر لرجُل بذكر حًّق مْن بيٍع ثَم قاَل: لم أقْبض المبَيع. الفصل وهذا كما قال: فيه مسائل: أحدها: إذا قال: لفلان علّي ألف وسكت ثم قال بعد مدةٍ: من ثمن مبيع لم أقبضه، لا يقبل قوله لأنه يريد إسقاطه بعد الثبوت والقول قول المقر له مع يمينه: فإذا حلف أنه ليس على ما ذكر اسحق الألف. والثانية أن يقول: علي ألف درهم من ثمن مبيع وسكت عليه ثم قال بعده: لم أقبضه فالقول قول المقر مع يمينه، ولا فرق بين أن يكون متصلًا أو منفصلًا عنه لأن قوله: لم أقبض المبيع لا ينافي قوله: لفلان علي ألف درهم والأصل عدم القبض. فإن ادعى البائع أنه أقبضه إياه حلف المشتري [141/أ (وبرئ. وهكذا لو قال: بعت داري من فلان ثم قال متصلًا به أو منفصلًا عنه: لم أقبض الثمن لم يجبر على تسليم الدار إليه والقول قوله مع يمينه أنه ما قبض ثمنها. والثالثة: أن يقول: لفلان علّي من ثمن مبيع لم أقبضه لم يلزمه دفع الألف إليه حتى يقبض المبيع ويلزم البائع إقامة البينة أنه قبضه، ولا فرق بين أن يكون المبيع معينًا أو غير معين وبه قال أبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: إن عين المبيع قبل منه سواء وصل بإقراره أو فصل، وإن أطلق لا يقبل منه ويلزمه الألف لأنه إذا أطلق فقد وصل إقراره بما يبطله لأنه مبيع مجهول وفي المجهول لا يلزم الثمن. وهذا غلط لأنه أقر بحق في مقابلته حق لا ينفك عنه، فإذا لم يسلم ماله لم يلزمه ما عليه كما لو قال: بعت هذا من فلاٍن وقال فلان: ما ابتعت لا يلزمه تسليم العبد إليه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قول آخر إنه بالمال مقر وللبيع مدع ولا فرق بين ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 25).

أن يكون معينًا أو غير معين وهذا غريب ضعيف. وقال هذا القائل: ولو قال: اشتريت منه متاعًا وهذا المتاع بألف فإن سلم سلمت ولم يقدم الإقرار بالمال أو قال: بعت داري من فلاٍن بألٍف ولم أقبض الثمن نقول لا يلزمه شيء إلا أن يوافقه المقر له. وأما قول الشافعي في (المختصر): ولا يلزمه الثمن إلا بالقبض يحتمل معنيين: أحدهما: أنه أجاب على القول الذي يقول: يجبر البائع على البداية بتسليم المبيع. ويحتمل أن يكون الكلام في هذه المسألة مستمرًا على جمع أقاويله ويكون صورته بظاهرها في بائع يدعى أنى سلَّمت السلعة إلى المشتري وصارت يدي فارغًة عنها والمشتري يجحد التسليم فيحلف ولا يلزمه الثمن بحال، لأن القبض صار منتفياً بيمينه وليس ينتظر في مستقبل وقته وإنما الأقاويل في سلعة يعترف البائع بأنها باقية في يده غير مسلمة إلى مبتاعها. مسألة (¬1):قال: (ولو شهَد شاهٌد على إقراِرهِ بألٍف). الفصل وهذا كما قال: إذا شهد شاهٌد على إقرار رجٍل بحق بألف درهم (141/ب] وشهد آخر على إقراره بألفين فإن أضافاه إلى سببين مختلفين فقال أحدهما: من ثمن ثوب، وقال الآخر: من ثمن عبد أو دار فهما مالان مختلفان. فإن ادعاهما حلف مع كل واحٍد منهما يمينًا واستحق ثلاثة آلاف. وإن ادعى أحدهما حلف مع شاهده واستحق. ولو قال أحدهما: أقر عندي بألف لزمه في شعبان، وقال الآخر: أقر عندي بألفين لزماه في شهر رمضان فالجواب فيه على ما ذكرنا. وإن أطلقاه فإنه يثبت ألف درهم بشهادتهما ويبقى الألف الآخر، فإن ادعاه حلف مع شاهده واستحقه، والفرق بين هذه المسألة وبين المسألتين الأوليين أنه يجوز أن يكون الألف الذي شهد به أحد الشاهدين أحد الألفين اللذين شهد بهما الشاهد الآخر وليس كذلك في المسألتين الأوليين فإنه لا يجوز أن يكون الألف أحد الألفين فافترقا. وهكذا لو اختلفا في صفتهما فقال أحدهما: من ضرب كذا، وقال الآخر: من ضرب آخر، أو قال أحدهما: مؤجل، والآخر قال: حال لا يثبت بشهادتهما شيء وبه قال مالك، وقال أبو حنيفة: لا يثبت بشهادتهما شيء في جميع هذه المسائل. وهذا غلط لأنه اتفقت شهادتهما على الألف لفظًا ومعنى فوجب أن يثبت كما لو شهد أحدهما بألٍف وشهد الآخر بألٍف وخمس مائة ثبت الألف بشهادتهما بالاتفاق. فإن قال قائل: أي فائدة في قول الشافعي رحمة الله عليه: فإن زعم الذي شهد بألف أنه شك في الألفين وأثبت ألفًا فقد ثبت له ألف بشاهدين؟ قلنا: قصد به التنبيه على موضع تصوير المسألة لأن المسألة مصورة في الإقرار الواحد فربما يقول قائل: إذا كان الإقرار واحدًا فما عذر هذين الشاهدين في اختلاف شهادتيهما وكيف يختلف الاستماع إذا كان اللفظ واحدًا؟ فبَّين الشافعي عذر ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 25).

أحد الشاهدين بأن يقول: إني شاك في الألف الثاني وعلى يقين من الألف الواحد وقد يتطاول الزمان على الشهادة فيحل [142/أ] للشاهد أن يؤدي منها ما يستيقنه ويسكت عما يرتاب فيه. فرع إذا ألزمه الحاكم ألفًا فيما ذكرنا من المسألة المختلف فيها يتوقف عن إحلافه في الألف الثاني حتى يسأل الشاهد بالألف هل عنده علم منه؟ فإن قال: لا علم لي به أحلف المدعي مع شاهده الآخر وقضى له بالألف الثاني. وإن قال: كنت أعلم استحقاق المدعي له ولكن قبضه من المقر به فشهدت له بالألف الباقي ولم أشهد له بالألف المقبوض قيل للمدعي: حصل لك ألف بشاهدين وألف ثاٍن بشاهد واحد وعليك بقبضه شاهد واحد فإن لم تحلف مع شاهدك لم يحكم به. وإن أجاب إلى اليمين مع شاهده هل يجوز للحاكم أن يحلفه معه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحلفه لأن الشاهد بقبضه قابل الشاهد في إثباته فتعارضا فلم يجز إحلافه مع وهاء الشهادة وتعارضها. والثاني: يحلفه لأن يمينه مع شاهده لكمال بينته يجري مجرى شاهد آخر ولا يجوز للحاكم أن يمنع شاهدًا ثانيًا أن يشهد به فكذا لا يمنع المدعي أن يحلف عليه فعلى هذا إذا حلفه الحاكم مع شاهد فقد تمت له البينة عليه بشاهد ويمين فيقال: للشهود عليه: قد لزمك الألف الثاني بشاهد ويمين ولك بدفعه شاهد فإن حلفت معه تمت بينتك على دفعه بشاهدين ويمين فسقط عنك، وإن لم تحلف لزمك لأن البينة به عليك تامة والبينة لك بدفعه غير تامة. فرع آخر لو كانت الدعوى منه ألفًا فشهد له أحد الشاهدين بألف وشهد الآخر بألفين هل يكون باقتصاره في الدعوى على ألف مكذباً للشاهد له بألفين؟ فيه وجهان: أحدهما: يكذب للزيادة في الشهادة على ما ادعى وعلى هذا ترد شهادته في جميع الألفين ويبقى معه الشاهد بألف فيحلف معه ويستحقه. والثاني: وهو الأصح لا يكون مكذبًا له لجواز اقتصاره في الدعوى على بعض حقه ويجوز أن يقبض من حقه ما لم يعلم الشاهد يقبضه إلا [143/ب] أن يظهر في الدعوى تكذيب الشاهد مثل أن يدعي ثمن عبده ألفًا فيشهد بأن ثمنه ألفان فترد الشهادة لتكذيبها بالدعوى. فرع آخر لو شهد شاهد على إقراره بألف وشهد آخر على إقراره بثلاثة آلاف. قال بعض أصحابنا: لا يثبت الألف ها هنا بشاهدين لأن الشهادة ما كملت على لفظ ألف بخلاف المسألة قبلها، لأن صيغة الألف صحيحة في لفظ الألفين. وهذا عندي إذا شهدا على

اللفظ المسموع منه، فأنا إذا شهد بالمعنى ففي ثلاثة الآلاف ألف، ويجوز أن يكون سمع هذا الواحد ألف وألف وألف ولم يسمع الشاهد الأول إلا ألفًا واحدًا فشهد هذا بلفظ أنه أقر بثلاثة ألاف. مسألة (¬1): قال: (ولو أَقر أنُه تكفَل له بماٍل، على أنُه بالخياِر). الفصل وهذا كما قال: قد ذكرنا أن ضمان المال بشرط الخيار لا يجوز خلافًا لأبى حنيفة رحمه الله وذكرنا أنه إذا قال: ضمنت لفلاٍن ألف درهم على أني بالخيار أو تكفلت ببدنه على الخيار هل يبعض إقراره؟ قولان: أحدهما: يبعض فالقول قول المقر له مع يمينه على نفي الخيار وبه قال أبو حنيفة رحمه الله لأنه وصل إقراره بما يرفعه، ولا يقبل كما لو قال: له علَّي ألف إلا ألفًا. والثاني: لا يبعض والقول قوله فإذا حلف لا شيء عليه وهو اختيار المزني وأبي إسحاق لأنه أقر بحق وعزاه إلى سبب ثبوته منه، وإن أدى إلى رفعه كما لو قال: علّي ألف من ثمن هذا المبيع ولم أقبضه. وليس هذا كما لو قال: علّي ألف إلا ألفًا لا يقبل لأنه نفى الحق من حيث أثبته فيكون راجعًا عن إقراره فلا يقبل بخلاف هذا. واحتج المزني بأن قال: إذا قال البائع: بعتك هذا الشيء على أني بالخيار وأنكره المشتري كان القول قول البائع كذلك ها هنا فاختار أن الإقرار لا يبعض وهذا لأن البائع لما قال: بعت عبدي بشرط الخيار ثلاثة أيام فقد رفع بآخر الكلام أوله لأن أول كلامه يلزمه تسليم العبد إلى المشتري وآخر كلامه [143/أ] يوجب تخييره في تسليمه وقبل قوله في هذا ولم يبعض كلامه الموصول كذلك ها هنا. قلنا: قال ابن أبي هريرة: إن كان المزني أراد به خيار الثلاث لا يصح السؤال لأن الشافعي نص أنهما إذا اختلفا في شرط خيار الثلاث يتحالفان وقال أبو إسحاق: ذكر الشافعي في كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى أن هذا مثل الاختلاف في الثمن يتحالفان ثم يفسخ البيع كما يفسخ إذا اختلفا في الثمن. وإن أراد به خيار أكثر من ثلاثة أيام فالقول قول البائع مع يمينه، والفرق بين البيع والكفالة أن البيع موضوع على جواز شرط الخيار فيه فلم يدع خيارًا يخالف أصله وموضوعه فقبل منه، وليس كذلك في عقد الضمان لأنه لا مدخل لشرط الخيار فيه، وإذا ادعى ذلك ادعى ما ينافي أصل الضمان وموضوعه فلم يقل منه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: يحتمل أن تكون مسألة البيع على هذين القولين ويحتمل أن تسلم وإن كانت الدعوى في خيار ثلاثة أيام والفرق أن البائع بدعوى الخيار لا يرفع أصل البيع لأنه مع الخيار يكون بيعًا صحيحًا ولكنه ادعى استيفاء بعض حقه مع بقاء أصل البيع، والأصل أن الملك له فكان قوله مقبولًا. وفي مسألة الكفالة دفع بآخر ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 26).

كلامه جميع أوله لأن الإقرار يبطل إذا قبلنا قوله في الخيار ولا يلزمه شيء فافترقا، واحتج المزني أيضًا بأن قال: قد قال الشافعي: إنه إذا أقر بشيء وصفه ووصله قبل قوله ولم أجعل قوًلا واحدًا إلا حكمًا واحدًا يريد به أنه إذا قال: لفلاٍن علي ألف درهٍم مكسر يقبل. والجواب أن وصف الألف بالمكسر لا يرفع أصل الإقرار بخلاف مسألتنا. واحتج أيضًا بأن قال: ومن قال: أكفله في الدراهم مقرًا وفي الأجل مدعيًا لزمه إذا أقر بدرهم نقد البلد لزمه، فإن وصل إقراره بأن يقول: طبري جعلته مدعيًا لأنه ادعى نقصًا من وزن الدرهم ومراده بهذا [143/ب] الكلام أن يفرض الاحتجاج في مسألة أخرى من فروع هذين القولين وهي أنه لو قال: لفلان علّي ألف درهم إلى سنة ففي المسألة طريقان أحدهما فيها قولان: أحدهما: وبه قال أبو حنيفة: يلزمه الألف حالًا ويكون مدعيًا في الأجل فيطالب بالبينة عليه. والثاني: وهو الصحيح: لا يلزمه حالًا ويقبل قوله في الأجل. ومن أصحابنا من قال: يقبل في الأجل قوًلا واحدًا لأن الدين يثبت حالًا ومؤجلًا والتأجيل يوجب سقوطه فنصر المزني هذا القول وقال: يلزم من قال بخلافه إذا أقر بدرهم ووصل إقراره فقال: طبري أن لا يقبل هذه الصفقة، فلما قبل قوله طبري قبل قوله إلى أجل قلنا: المذهب كما قلت في الأجل والفرق ظاهر أن دعوى الأجل لا ترفع إقراره السابق بخلاف مسألتنا. وإن قلنا: لا تقبل فالفرق بينه وبين أن يقول: طبري مع أنا ذكرنا في الطبري قوًلا آخر ضعيفًا أنه لا يقبل أيضًا هو أن التأجيل في المال إنما يثبت من جهة رب المال فكذلك تقدير ذلك الأجل، فإذا قال المقر: علّي ألف إلى سنة فقد ادعى على رب الدين أنك أجلتني إلى سنة فعليه البينة، فأّما إذا قال: علّي درهم طبري فأصل إقراره وقع بما دون الدرهم لأن الطبري ناقص عن وزن مكة، واسم الدرهم ينطلق عليه وليس في هذا الإقرار دعوى منه على رب المال حتى يطالبه بالبينة فافترقا. ثم اعلم أن المزني أوجز عبارته في هذا الموضع إيجازًا غير مستحسن فقال: ومن قال: أجعله في الدراهم مقرًا وفي الأجل مدعيًا لزمه إذا أقر بدرهم نقد البلد لزمه معنا لزمه أن يقول: إذا أقر بدرهم لزمه نقد البلد فحذف أن يقول. وقدم وأخر فقال: نقد البلد لزمه ومراده لزمه نقد البلد. ثم احتج بمسألة أخرى فقال: ولزمه لو قال: علّي ألف إلا عشرة أن يلزمه ألفًا وله أقاويل كذا وأراد [144/أ (وله مسائل كذا. وجوابنا عنه أن في الاستثناء لم يرفع جميع إقراره بصلته بخلاف مسألتنا، ونظيره من الاستثناء أن يقول: علّي ألف إلا ألفًا، وعلى ما ذكرنا إذا قال: استقرضت منه دينارًا وقضيته يلزمه الدينار قوًلا واحدًا لأن قوله: له علّي دينار أقر بثبوت الدينار في ذمته الآن وما بعد ذلك رجوع عن الإقرار ذكره القفال رحمه الله.

فرع لو ابتدأ فقال: ما ضمنت له إلا بشرط الخيار لا يلزمه بهذا القول شيء بلا خلاف لأنه إذا ابتدأ بقوله: إنما فمعلوم صيغة كلامه أنه يريد أن يصل الضمان بغير فتصير الصلة لتقدم إمارتها كالمتقدمة على إقراره فيقبل قوله في ذلك. مسألة (¬1): قال: (ولو ضمَن لُه عهدَة داٍر اشتراهَا وَخلاصهَا). الفصل وهذا كما قال: قد ذكرنا هذه المسألة واعلم أن ضمان العهدة وضمان الخلاص واحد في المعنى بخلاف ما حكي عن بعض السلف أن ضمان العهدة ضمان الثمن وضمان الخلاص ضمان تخليص الدار للمشتري بأن يشتريها الضامن من المستحق ويسلمها إلى المشتري وهذا عندنا فاسد. وإذا أطلق لفظ الخلاص صح البيع وانصرف اللفظ إلى الثمن، ولهذا جمع الشافعي بين اللفظتين في هذا الفصل وجعل مرجعها إلى الثمن، وتخصيص الاستحقاق بالذكر يدل على أنه لو كان فساد البيع بشرط باطل لا يطالب الضامن في أصح الوجهين. واعلم أن هذه المسألة ليست من مسائل الإقرار فكان الأولى بالمزني أن يذكرها في كتاب الضمان فكأنه أغفلها في ذلك الكتاب ثم استدركها ها هنا عقيب مسألة ما لو أقر أنه تكفل بشرط الخيار فألحق مسألة الكفالة بمسألة الكفالة. فرع (¬2) لو ضمن الدرك بغير أمر البائع يجوز عندنا وقال [144/ب] ابن أبي ليلى وزفر: لا يجوز إلا بأمر البائع لالتزامه حكم عقده. وهذا غلط لأن الضرورة تدعو إلى ضمان الدرك لما بالناس من الحاجة الماسة إلى التوثق في أموالهم وقد لا يوثق بذمة البائع لهوانها فاحتيج إلى التوثق عليه بغيره فجوزناه بكل حاٍل. فرع آخر إذا جوزنا ضمان الدرك يجب غرم الثمن عند استحقاق المبيع. وحكي عن شريج القاضي وسوار بن عبد الله وعثمان البتي رحمهم الله أنه يوجب تخليص المبيع للمشتري ما كان موجودًا إلا أن يتلف فيغرم مثله. وإن كان المبيع دارًا أو عقارًا. وقال عبيد الله العنبري: لو كان ضامن الدرك عالمًا بالاستحقاق عند ضمانه يلزمه تخليص المبيع، وإن لم يعلم لزمه غرم ثمنه وهذا غلط لأمرين: أحدهما: أن استحقاق المبيع موجب لفساد العقد وفساده يمنع من استحقاق ما يضمنه وإنما يوجب الرجوع بالمدفوع. والثاني: تخليص المستحق غير ممكن عند امتناع المستحق فلم ينصرف الضمان إليه. ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 27). (¬2) انظر الحاوي للماوردي (7/ 82).

فرع آخر لو ابتاع أرضًا فبني فيها وغرس أشجارًا ثم استحقت منه قال أهل العراق: للمشتري أن يرجع بقيمتها قائمة على الباع ثم يكون المستحق مخيرًا بين أخذها من البائع بقيمتها مقلوعة وبين إجباره على قلعها. وقال أهل المدينة: إن كان المشتري جاهلًا بالغصب عند غرسها وبنائه كان المستحق مخيرًا بين أن يعطيه قيمة ذلك قائمًا، أو يقره ويكون شريكًا له بالغرس والبناء، وإن كان عالمًا أخذ بالقلع ولا شيء له على البائع في الحالين، وقال الشافعي: المشتري مأخوذ بقلع غرسه عالمًا كان أو جاهلًا وغرم ما نقص من قيمة الأرض بقلعه عالمًا كان أو جاهلًا، ثم إن كان جاهلًا له أن يرجع على البائع بما بين قيمة غرسه وبنائه قائمًا ومقلوعًا وبما غرم من نقص (145/أ] الأرض بالقلع لأنه قد ألجأه بالغرم إلى التزام ذلك ولا رجوع له بشيء منه إن كان عالمًا وهذا أصح المذهب اطرادًا وأقواها حجاجًا ثم لا رجوع للمشتري بشيء من ذلك على ضامن الدرك بحاٍل لأنه لا رجوع بغرم وجب بالغرور وليس بثمن مستحق بالعقد. فرع آخر لو قال: لفلان في هذه الدار حق ثم فسره بأنه باب، أو جذع، أو قماش وسكن سنة يقبل. وقال أبو حنيفة: لا يقبل حتى يبين حقًا في التربة كما لو قال: له في هذه الدار سهم. وهذا غلط للفرق الظاهر وهو أن السهم شائع والحق متميز. فرع آخر لو قال: لفلان علّي ألف درهٍم إلا مائة قضيته إياه يكون استثناًء صحيحًا يرجع إلى المقضي دون القضاء ويصير مقرًا بتسعمائة قد ادعى قضاءها. وقال أبو حنيفة: يكون مقرًا بألٍف مدعيًا لقضاء مائة فيلزمه الألف ولا تقبل منه دعوى القضاء فجعل الاستثناء متوجهًا إلى القضاء دون المقضي. مسألة (¬1): قال: (ولو أقَّر أعجمي بأعجمَّيٍة كانَ كالإقراِر بالعربيِة). وهذا كما قال: الإقرار يصح بالعجمية كما يصح بالعربية، لأن العجمية لغة كالعربية، ولأن هذه الألفاظ عبارة عما في النفس وإنما ندل عليه بحسب المواضعة، فإذا كان اللفظ موضوعاً لشيء دل عليه. فإذا ثبت هذا فلو أقر أعجمي بالعربية أو عربي بالعجمية فإن اعترف أنه عالم بما أقر به لزمه. وإن قال: ما علمت معناه فإن صدقه المقر له لا يلزمه شيء. وإن كذبه فالقول قول المقر مع يمينه لأن الظاهر من حال الأعجمي أن لا يعرف العربية ومن حال العربي أن لا يعرف العجمية. مسألة (¬2): قال: (ولو شهدوا على إقرارِه ولْم يقولوا: بأنه صحيح العقِل). ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 27). (¬2) انظر الأم (3/ 27).

الفصل وهذا كما قال: إذا شهد شاهدان على إقرار رجل بمال ولم يقولا: إنه كان حين أقر به عاقلًا بالغًا غير محجور صحت شهادتهما لأن الظاهر من حال [145/ب] الشاهد أنه لا يحمل الإقرار ممن لا يصح إقراره من صبي أو مجنون أو محجور عليه، وإن تحمله فلا يشهد به عليه وهذا مثل ما يقول: إذا شهد على رجل أنه باع هذه الدار من فلان وقبض الثمن حكم بالبيع، وإن لم يقولا: إنه باع بثمن مباح معلوم غير مجهول لأن الظاهر من حال الشاهد أنه لا يشهد بذلك إلا وقد علم أنه باع بثمن مباح معلوم وأن البيع وقع صحيحًا وأن تسليم الدار عليه واجب فكذلك في الإقرار. ولو قالا: وهو صحيح العقل كان تأكيدًا ويكتب في الوثائق ذلك للتأكيد والاحتياط. وقال ابن أبي ليلى: لا يحكم الحاكم بشهادتهما لاحتمال أن يكون مجنونًا أو مكرهًا حتى يصرحا بما يزيل الاحتمال. وهذا غلط لأن الحكم يتعلق بالأغلب من الأحوال والأغلب من الأحوال الصحة والسلامة. فإذا تقرر هذا فلو ادعى المشهود عليه الجنون عند الإشهاد عليه لم يقبل دعواه إلا أن يعرف له جنون سابق، أو كان يجن ويفيق فالقول قوله. وقال في (التقريب): في الحرية جوابان أحدهما: الأصل الحرية. والثاني: لا يجوز حتى يشهد بالحرية يوم أقر ويخرج أمر العقل على هذين الجوابين. وهكذا لو شهدا على أمٍر يتعلق جوازه بصحة بدن المقر لم يجز حتى يقولا: كان يومئذ صحيح البدن والعقل وكذلك طواعية المقر على هذا الخلاف لأن الأصل أن لا إكراه حتى يحدث ولهذا كانت الشهادة على الإكراه أولى من الشهادة على الطواعية، لأنها بالإكراه أثبتت معنًى يجوز إخفاؤه على الطواعية. وقال في (الحاوي) (¬1): قال أبو حامد: إذا ادعى الإكراه يقبل منه بخلاف الجنون والفرق أن أحكام المكره مختلف فيها وأحكام المجنون متفق عليها وهذا غلط لأن ما احتملته الشهادة من معاني الرد فهو مانع من قبولها كالجهالة بالعدالة وفي إنفاذ الحكم بها مانع من احتمال الإكراه كما في إنفاذه مانع من احتمال الجنون، ولو فرق بينهما بأن فقد العقل أظهر لكان أعذر وإن لم يكن في الحالين عذر. [146/أ] فرع لو ادعى رجل على رجل ألفًا وأقام به بينة فقال المدعى عليه: صدقت قد قبضتنيه لا يقبل قوًلا واحدًا، وكذلك إذا قال: صدقت هو علّى إلى سنة كما لو قال: صدقت هو علّي إلا خمسين لا يقبل. ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (7/ 85).

فرع آخر ولو قال: له علّي في هذه السلعة ألف درهم، قال ابن أبي أحمد: سئل عن قوله كما لو قال: له في هذه السلعة ألف درهم وقد ذكرنا ذلك. وقال القفال: هذا غلط ولا يختلف المذهب في هذا اللفظ أن عليه ألفًا في ذمته سواء كانت السلعة تساوي ألفًا أو أقل أو أكثر وأخطأ في النقل عن الشافعي، وإنما قال الشافعي ذلك إذا لم يقل علّي. فرع آخر قال ابن أبي أحمد: كل من أقر بشيء ثم رجع لم يقبل رجوعه إلا في حدود الله تعالى مثل حد الزنى والشرب ونحوه، وقال أبو ثور: لا يقبل رجوعه. وهذا غلط لأن ماعزًا لما أقر بالزنا أعرض عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (أربع مرات حتى يرجع). وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - أتي بلص قد اعترف فقال: (ما أخالك سرقت) فقال له: (مرتين وثلاثًا ثم أمر بقطعه فعرض للرجوع). ولو أقر بسرقٍة توجب القطع ثم رجع لا يقبل في المال رجوعه قوًلا واحدًا. وهل يقبل رجوعه في القطع؟ قال القفال: فيه قولان: أحدهما: يقبل فيبعض إقراره فيغرم ولا يقطع. والثاني: لا يقبل فيقطع ولا يبعض إقراره. وهما كالقولين في العبد إذا أقر بالسرقة يقطع وهل يغرم في رقبته؟ قولان والنكتة الجامعة بين المسألتين أن الحكمين إذا تعلق أحدهما بالآخر فثبت أحدهما هل (يستتبع) الآخر؟ قولان. وأما قاطع الطريق إذا قتل هل للآدمي حق في قتله؟ قولان: أحدهما: للآدمي فيه حق فعلى هذا يعتبر في وجوب القتل به التكافؤ. والثاني: أنه لا حق للآدمي فيه ويقتل حدًا فلا يعتبر فيه التكافؤ، وعلى هذا إذا مات القاتل في قطع الطريق هل لولي المقتول في تركته الدية؟ فوجهان. وعلى هذا لو أقر بالقتل في قطع [146/ ب] الطريق ثم رجع فإن قلنا: لا حق للآدمي فيه يسقط برجوعه وإن قلنا: فيه حق للآدمي فحق الآدمي لا يسقط برجوعه، وهل يسقط حق الله تعالى؟ وجهان: أحدهما: لا يسقط حتى إن عفا الولي يتحتم قتله. والثاني: يسقط حتى لو عفا الولي لم يجب قتله. فرع آخر قال ابن أبي أحمد: كل سكران يصح إقراره إلا اثنين: أحدهما: أن يكون قد أكره على شرب الخمر قاله نصًا. والثاني: أن يشرب وعنده أن الشراب غير مسكر فسكر. قال القفال: أما الأول فكما قال، وأما الثاني نص الشافعي على أنه لو شرب شرابًا وعنده أنه غير مسكر فإذا هو مسكر يلزمه إعادة الصلاة. قال أصحابنا: أراد أنه إذا علم أن الشراب في جنسه مسكر إلا أنه تناول منه قدرًا يسيرًا كان عنده أنه لا يسكر فأسكره فها هنا تلزمه إعادة الصلاة ويصح إقراره أيضًا، فأما إذا كان عنده أن ذلك الشراب غير مسكر لا قليله ولا كثيرة فشرب منه فأسكره فلا تلزمه إعادة الصلاة، ولا يصح إقراره وهو مسألة ابن أبي أحمد. وقال القفال: في هذا الموضع واختياري في السكران أنه كالصاحي في جميع الأحكام فأوقع طلاقه وأصحح

بيعه ونكاحه لأنه لا خلاف أنه لو قتل في حال السكر لم يجعل خطأ وأنه يقتص منه وإذا قذف يحد. وقال أبو عبد الله الفارسي (الختن) في شرح (التلخيص): يجوز إقراره ولا يجوز بيعه لأن المقصود معاقبته وزجره عن العود إلى سكره كما عوقب بقضاء الصلاة وحد الشرب والبيع أحد طرفيه له فلا يصح. قال: ولو لزمه حد الله تعالى بإقراره ورجع في حال سكره لا يقبل رجوعه لأنه له ولكن ُيتأنى به حتى يصح رجوعه بعد إفاقته، وإذا ارتد صحت ردته حتى لو قتله قاتل في حال سكره يهدر دمه ولكن يترك قتله إلى أن يستتاب بعد الإفاقة. فرع آخر لو باع إنسان شيئًا فادعى المشتري أنه صغير لا يصح [147/أ] بيعه لا ُيحلف لأن المدعي يقر بأنه لا يستحق عليه اليمين لصغره. فإن ادعى ذلك بعد بلوغه وأنه كان في حال البيع صغيرًا حلف. فرع آخر لفظ الترك صريح في الإبراء قاله بالفارسية أو العربية ذكره أصحابنا. فرع آخر لو أقر بالجارية لآخر وأخبر أنها له منذ سنة ولها ولد حادث في أثناء السنة هل عليه تسليم الولد؟ وجهان: أحدهما: يلزم وهو الأظهر لأنه حدث في الزمان الذي كانت الجارية فيه ملكًا للمقر له. والثاني: لا يلزم لاحتمال أن تكون الجارية للمقر له والولد للمقر بطريق الوصية. وهذا لا يصح لأنه لو أقر بجاريٍة حامل يلزمه تسليم الحمل معها والاحتمال لاستثناء الولد بالوصية قائم. فرع آخر لو قال: هذه الشاة لفلان ثم قال: حملها لفلان يحكم بها للأول لأنه دخل الحمل في الإقرار الأول نم رجع إلى الثاني. ولو قال: حملها لفلان والشاة لفلان آخر لزمه الإقرار كما قال. والله أعلم. وهذا آخر المجلدة الثامنة من بحر المذهب بخط المصنف رحمه الله وكان قد فرغ من إتمامها ليلة الثلاثاء السادس والعشرين من شوال من شهور سنة سبع وسبعين وأربعمائة. والحمد لله رب العالمين وصلاته على محمد خير خلقه وآله الطاهرين كذا وجدته في النسخة المنقولة من خط المصنف رحمه الله. (148/ب] الله ناصر كل صابر حسبي ربي وحده توكلت على الله وحده ولا حول ولا قوة إلا بالله.

باب إقرار الوارث بالوارث

باب إقرار الوارث بالوارث قال الشافعي رحمة الله عليه (¬1): (الذي أحفظ من قول المدنيين فيمن ترك ابنين فأقر أحدهما بأخ). الفصل وهذا كما قال: اعلم أنه إذا قال الرجل: هذا ابني ُنظر فإن كان صغيرًا لم يلحقه إلا بثلاثة شروط: احدها: أن يكون مجهول النسب فإنه إذا كان معروف النسب لم يصح إقراره. والثاني: أن يمكن أن يكون منه بأن يكون سنه يحتمل أن يكون ولده. والثالث: ألا ينازعه فيه منازع. فإذا وجدت هذه الشرائط ثبت نسبه. فإن بلغ الصغير بعد أن ألحقناه به وأنكر أن يكون ابنه لم يلتفت إلى إنكاره وجرى ذلك مجرى ملك عبٍد صغيٍر في يده وثبت بذلك ملكه فلما كبر جحد الملك لا تسمع دعواه، ولكن له طلب يمينه على ذلك. وإن كان المقر به بالغًا عاقلًا يعتبر ما ذكرنا من الشرائط ويعتبر شرط آخر وهو أن يقبل المقر به ذلك منه إن أنكر ذلك لم يثبت نسبه. والحكم في الابن المجنون الكبير كالحكم في الصبي سواء. وعلى هذا لو أقر بأنه أبوه يكون كإقراره بابن كبير ويعتبر فيه ما ذكرنا من الشرائط. وإن كان الأب مجنونًا فلا يثبت النسب بإقرار الابن ويحتاج إلى بينٍة حتى تسمع دعواه ويحتاج الابن إلى أن يكون من أهل الدعوى بالبلوغ والعقل هكذا ذكر في (الحاوي) (¬2) ولا أدري الفرق بين الأب المجنون والابن المجنون. ويمكن أن يقال: الابن بعد الجنون يعود إلى ما كان في حال صباه ولا يمكن أن يقال مثله في الأب والله أعلم. وكل موضٍع ألحقنا به فلا فصل بين أن يكون للمقر به وارث سوى المقر أو لم يكن، ولا فصل بين أن يقر مسلم بمشرك، أو مشرك بمسلم، أو حر بعبد، أو عبد بحر، الباب واحد. وأما إذا مات الرجل يلحق النسب به [148/أ] بأحد أمرين ببينة تقوم عليه أو إقرارًا لوارث عليه به. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يثبت إلا أن يكونوا عدد الشهود من رجلين أو رجل وامرأتين. وقال مالك: يثبت النسب بإقرار الوارث أصلًا وإن كانوا جماعة ولكن يستحق الميراث. واحتج الشافعي في هذا بحديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ابن وليدة زمعة وتمام الحديث ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (اختصم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة وقال سعد: يا رسول الله إن أخي عتبة أوصاني فقال: إذا قدمت مكة فانظر ابن أمة زمعة فأقبضه فإنه ابني، وقال عبد بن زمعة: يا رسول الله هو أخي ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 27). (¬2) انظر الحاوي للماوردي (7/ 87).

وابن أمة أبي ولد على فراش أبي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر). وروي أنه قال: (هو لك هو أخوك يا عبد بن زمعة من أجل أنه ولد على فرا شه) يعني فراش أبيه، فإن قال قائل: كانت سودة بنت زمعة أخت عبد بن زمعة وليس في الخبر أنها اعترفت بالنسب فكيف ثبت النسب؟ قلنا: يحتمل أنها اعترفت أيضًا ولم ينقل خلافه. وأيضًا روي أن زمعة مات كافرًا وابنه عبد بن زمعة يومئذ كافر وسودة كانت مسلمة فكان الابن مستغرقًا جميع ميراثه فثبت نسبه بإقراره وحده، فإن قيل: روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لسودة: (احتجبي منه لا يراك فصلًا). وروي أنه قال):احتجبي منه فإنه ليس لك بأخ) قلنا: إنما قال لها ذلك لأنه رأى على الغلام شبهًا بينًا بعتبة فاحتاط لها فما رآها الغلام قط. وأما قوله: (فإنه ليس لك بأخ) لم يثبت، فإن ثبت فمعناه ليس بأخ لك شبهًا، وإن كان أخًا لها بحكم الفراش. فإذا تقرر هذا فإنما يثبت النسب بإقرار الوارث إذا كان يحوز جمح الميراث. فإن كان لا يجوز لم يثبت نسبه ولا فرق بين أن يكون الإنكار من الأكثرين أو من [148/ب] واحد من جملتهم فلو خلف ابنًة واحًدة وخمسين ابنًا فأقر به البنون دون البنت لم يثبت نسبه، ولكن الشافعي فرضها إذا خَّلف ابنين فأقر أحدهما بأخ ثالث فقال: هذا أخي ابن أبي، أو قال: هذا ولد على فراش أبي لن يثبت نسبه ولم يشاركه فيما في يده من الميراث في الحكم قوًلا واحدًا وبه قال ابن سيرين. وقال مالك وابن أبي ليلى وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد وعبيد الله العنبري: لا يثبت النسب ولكن يثبت الميراث. ثم اختلفوا فقال مالك وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد وعثمان البتي: يأخذ ثلث ما في يده كأنهم ثلاثة، وقال أبو حنيفة: يأخذ نصف ما في يده كأنهما اثنان. وهذا غلط لأنه أقر بنسٍب لم يثبت فلا يثبت به الإرث كما لو أقر بمعروف النسب. فرع إذا علم أنه أخوه وأن المنكر يظلمه في الإنكار هل يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى أن يدفع إليه من سهمه الذي ورثه قدر حقه منه أم لا؟ فيه وجهان أحدهما: لا يلزمه لأنا حكمنا بإبطال النسب الذي هو سبب استحقاقه. والثاني: وهو المذهب الصحيح يلزمه لأن بطلان النسب في ظاهر الحكم دون باطنه ونحن نلزمه في باطن الحكم دون ظاهره، ولو عاد هذا المنكر وأقر به ثبت نسبه وورث مما في يدهما فإصراره على الإنكار لا يبطل حقه مما في يده. فرع آخر إذا قلنا بالمذهب الصحيح ففيما يستحقه عليه وجهان: أحدهما: يلزمه دفع الفاضل من سهمه إذا اشتركوا وهو السدس الزائد على الثلث كما قال مالك لأنه يقول: نحن ثلاثة أخوة لكل واحٍد منا ثلث التركة وفي يدي نصفها

فلك ثلث ما في يدي، وثلث ما في يد أخي وقد غصبك على ذلك، ولهذا لو قامت البينة به استحق الثلث من يد كل واحتي منهما وهذا اختيار القاضي الطبري رحمه الله. والثاني: يلزمه دفع نصف ما في يده إليه لأنه مقر أنه وإياه في مال أبيه سواء ولأنه يقول: قد غصبنا أخي على [149/أ] نصف التركة وهذا بيننا. قال أبو حامد: وأصل الوجهين القولان فيما إذا أقر أحد الابنين بدين على أبيه وأنكره الآخر هل يلزمه الدين في كل ما في يده أم بقدر حصته؟ فيه قولان. وقال في (الحاوي) (¬1): فيه وجه ثالث يلزمه دفع ثلث ما في يده ويضمن له سدس ما في يد أخيه إلا أن يكون قاسمه بحكم حاكم فلا يضمن مما في يد أخيه شيئًا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا أقر أحد الابنين بابن وأنكره الآخر هل يثبت الإرث به؟ قولان: أحدهما: يثبت كما قال أبو حنيفة. وعلى هذا كيف يثبت؟ قولان على ما ذكرنا وهذا غلط عندي. فرع آخر الأولى للأب والابن في ادعاء النسب أن يقول الابن المدعي لمن ادعاه: أنا ابنك، ويقول الأب لمن ادعاه ابنًا: أنت ابني لأن النسب يرجع إلى الأب فأضيف الدعوى فيه إليه ولو قال الابن: أنت أبي، أو قال الأب: أنا أبوك صحت الدعوى حكمًا وإن فسدت اختبارًا. فرع آخر إذا صحت الدعوى من الابن فأنكر الأب يلزمه اليمين فإن حلف انتفى. ثم ليس لأحد من عصبات الأب أن يقر بنسبه سواء كان الأب حيًا أو ميتًا لبطلان النسب بيمين الأب هكذا ذكر في (الحاوي) (¬2) وهو الصحيح عندي. وذكر أبو حامد وجماعة أنه إذا أقر به وارثه بعده ثبت نسبه وورث وإن كان الأب نفاه باللعان وهو القياس. فرع آخر لو أقر الأب ببنوته ولحق به وصار ولدًا صحيحًا فعاد بعد إقراره فأنكره وتابعه الابن على الإنكار وصدقه فإن كان الفراش معروفًا لم ينتف نسبه، وإن كان الفراش مجهولًا ففي رفعه باجتماعهما على نفيه وجهان: أحدهما: قاله أبو علي الطبري وغيره: ينتفي وترتفع الأبوة وعلى هذا قال الصيمري: لو بلغ فقال: أنا ابن فلان دونه سمع منه، وقال أبو حامد وجماعة: لا يرتفع كما لا يجوز رفع ما ثبت بالفراش المعروف وإن اجتمعا على نفيه. فرع آخر لو ادعى الأب ولدًا بعد موته وهو صغير لحق به [149/ب] وورثه، وقال أبو ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (7/ 92). (¬2) النظر الحاوي للماوردي (7/ 96).

حنيفة: إن كان الولد موسرًا لم يلحق به لأنه متهم في ادعائه لإرثه. وهذا غلط لأنه لو أقر الزمن الفقير بابن صغير موسر لحق به مع التهمة كذلك ها هنا، وهذا المعنى وهو أنه وجد الإمكان وعدم المنازع. فرع آخر لو مات رجل كبير مجهول وترك مالًا فقال رجل: هذا ابني أو أبي لم يثبت النسب ولم يرثه والفرق بين هذا وبين الصغير الميت أن الصغير لو كان حيًا لم يعتبر تصديقه، والكبير لو كان حيًا اعتبر تصديقه، فإذا كان ميتًا لم يثبت نسبه إلا ببينة. ومن أصحابنا من قال: فيه وجه آخر يثبت نسبه والميراث لأنه إنما يعتبر تصديقه إذا كان من أهله والميت ليس من أهله نمار كالبالغ المجنون وهذا اختيار جماعة من أصحابنا، قال أبو حامد: وهذا هو المذهب والصحيح ما تقدم وهو اختيار القاضي الطبري. فرع آخر إذا أقر الورثة بنسٍب هل يعتبر فيه إقرار الزوج والزوجة؟ وجهان: أحدهما: وهو اختيار البغداديين: لا يعتبر لأنه لا حق لها في النسب ولأن ميراثهما على طريق المفاوضة وهذا ضعيف. فرع آخر هل يراعى فيمن ادعى أنه أخ لأم تصديق الأخ للأب إذا كان وارثًا فيمن ادعى أنه أخ لأب هل يراعى تصديق الأخ للأم إذا كان وارثًا على ما ذكرنا من الوجهين؟ فعلى قول البغداديين يراعى لكونه وارثًا، وعلى قول البصريين لا يراعى لأنه لا نسب بينهما. فرع آخر لو قال لامرأته: هي أختي من النسب فكذبته ثبت التحريم. قال ابن أبي هريرة: وكذلك لو كانت معروفة النسب، لأنه أقر بتحريم ممكن. ولو قال لامرأته وهي أكبر سنًا من أبيه: هي أختي من النسب تحرم عليه لأن هذا الإقرار محال قطعًا ويقينًا فلا يتعلق به حكم، كما لو قال: أرضعتني وإياها حواء امرأة آدم صلى الله عليه وسلم لا نحرمها عليه. فرع آخر لو قال أحد الابنين: هذه زوجة أبي وأنكر الآخر اختلف أصحابنا فيه فمنهم [150/أ] من قال: لا يثبت الميراث لأن الزوجية لا تثبت إلا بإقراٍر أو بينة كالنسب، ومنهم من قال: يثبت الميراث. والفرق أن إقراره بالزوجية يتضمن حقًا عليه ولا يتضمن حقًا له لأنه لا يرث من امرأة أبيه فهو بمنزلة إقرار أحد الأخوين بالدين يلزمه لأنه لا حق له في مقابلته وهناك أقر بما يتضمن حقًا له وحقًا عليه، فإذا لم يثبت ماله وهو أن المجهول لو مات ليس له من ميراثه شيء فلا يثبت ما عليه أيضًا كما لو قال: اشتريت من هذا الرجل دارًا بألف

ولم أقبضه منه، فقال: ما بعت منك شيئًا وأقررت لي بالألف فإذا أخذك بإقرارك، كانت هذه المؤاخذة ظلمًا منه كذلك ما هنا. فإذا قلنا بهذا: فيه وجهان أحدهما: يأخذ نصف الثمن من حصة المقر وهو المذهب، والثاني: يأخذ منه ثمن ما في يده. فرع آخر لو كان ثلاثة أخوة فأقر اثنان باخ آخر وأنكر الثالث فإن كان المقران فاسقين فالحكم على ما ذكرنا، وإن كانا عدلين فشهدا به قبلت شهادتهما ويثبت النسب والميراث، وإن لم يشهد لم يثبت شيء أصلًا. وقال أبو حنيفة: يثبت النسب والميراث بإقرار اثنين منهم، وكذلك يثبت بإقرار رجل وامرأتين من الورثة لأنهم على عدد الشهود. وربما يعتبرون العدالة فيهم. وهذا غلط لأنه إقرار من بعض الورثة فلا يثبت به النسب كما لو أقر به الواحد منهم، والدليل على أنه إقرار أنه لا يعتبر فيه لفظ الشهادة ولا تقدم الدعوى. فرع آخر لو مات وترك ابنًة واحدًة وكانت مولاة لأبيها مثل أن يكون اشترته فعتق عليها فأقرت بنسب قل إقرارها، لأنها تحوز جمع الميراث النصف بالبنوة والنصف الباقي بالولاء. فرع آخر لو لم تكن هذه الابنة مولاة لأبيها فأقرت بنسب لا يثبت شيء لأنه ليس لها إلا نصف الميراث والباقي لجماعة المسلمين (150/ ب (وعلى هذا لو كان هناك ابنتان أو أكثر فأقرتا بابنة أخرى، أو بابن آخر لم يثبت شيء لأنهما لا تحوزان كل الميراث. فرع آخر لو صدقها الإمام قال أبو حامد وجماعة: ثبت نسب وورث لأنه نائب المسلمين فوجد الإقرار بالنسب ممن يحوز كل الميراث. وعلى هذا لو لم يخلف أحدًا وارثًا غير المسلمين فأقر السلطان بنسب واحد يثبت أيضًا بإقراره النسب والإرث لأن الإمام نافذ الإقرار في حق بيت المال. وقال في (الحاوي) (¬1): هذا غلط لأن الإمام لا يملك حق ببيت المال حتى ينفذ إقراره ولا يتعين حق المستحقين من المسلمين حتى يراعي إقرارهم فيه فإقراره لغو ولا يثبت النسب ها هنا إلا بالبينة، ثم إقرارها عند البينة لغو وهذا صحيح عندي. وعلى ما ذكرنا لو ترك ابنًة وأختًا من الأب والأم فأقرتا بنسب يثبت النسب والميراث، لأن الأخت مع الابنة عصبة تحوزان كل الميراث، وعند أبي حنيفة لا يثبت النسب، لأنه ليس ببينة على ما ذكرنا لو أقر بابن ابنة وابنه بت يثبت النسب والميراث إذا وجدت ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (7/ 99).

الشرائط التي ذكرناها في الأخ. وكذلك إذا أقر الابن الواحد بابن آخر للميت يثبت النسب والميراث عندنا وبه قال أبو يوسف وهو رواية عن أبى حنيفة والمشهور عنه أنه لا يثبت به النسب وهذا لأنه حق يثبت بالإقرار فلم يعتبر فيه العدد كالدين. فرع آخر لو لم يخلف إلا مولى فأقر بابن يثبت نسبه لأنه وارث يحوز جميع التركة. فرع آخر لو ترك ابنين أحدهما كبير والآخر صغير فأقر الكبير بابن آخر لم يثبت النسب لأن الصغير وارث، فإذا بلغ فإن صدقه ثبت النسب والميراث، وإن كذبه لم يثبت شيء. ولو ترك ابنين أحدهما عاقل والآخر مجنون فأقر العاقل به لم يثبت النسب، لأن المجنون وارث [151/أ] فإن أفاق المجنون وكذبه لم يثبت النسب، وإن صدقه ثبت النسب. فرع آخر هل يجب أن يوقف ميراث المقر به من حصة المقر إلى أن يبلغ الصبي أو يعقل المجنون؟ فيه وجهان أحدهما: لا يوقف كما لا يوقف من حصة الصغير أو المجنون لأن النسب لم يثبت. والثاني: يوقف منه قدر حصته اعتبارًا بصحة إقراره ما لم يبطل بإنكار أخيه. فرع آخر لو مات هذا الصغير أو المجنون يراعى إقرار وارثه. فإن كان وارثه الأخ ثبت نسب المدعي بالإقرار السابق منه. فرع آخر لو ترك ابنين بالغين عاقلين فصدقه أحدهما وكذبه الآخر قد ذكرنا أنه لا يثبت نسبه. فإن مات المكذب فورثه المصدق ففي ثبوت نسب وجهان: أحدهما: أنه يثبت لأن المصدق صار حائزًا للإرث كله وهذا اختيار جماعة من أصحابنا وشبهوه بما لو نفى ولده باللعان ومات فأقر به وارثه لحق به نسبه. والثاني: لا يثبت نسبه لأن تكذيب شريكه في الميراث مبطل للدعوى. قال في (الحاوي) (¬1): وصار هذا كتكذيب الأب في حياته يكون مبطلًا لنسبه وإن أقر به الوارث بعده. وهذا على ضد ما ذكره جماعة أصحابنا وهو غريب ولكنه أصح عندي، ويخالف هذا إذا كان أحدهما مجنونًا أو صبيًا فمات لأن النسب كان موقوفًا على إقراٍر منتظر فإذا مات قام وارثه مقامه. فرع آخر لو ترك ابنين أحدهما كافر والآخر مسلم فإن كان الميت كافرًا فالوارث هو الكافر، ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (7/ 99).

وإن كان مسلمًا فالوارث هو المسلم ويعتبر إقرار الوارث منهما. وكذلك إذا كان أحدهما قاتل أبيه لم يرثه القاتل وكان الاعتبار بإقرار الابن الذي ليس بقاتل، فإن أقر به الابن الذي ليس بقاتل ثبت نسبه وأن جحده القاتل. فرع آخر إذا وجد الإقرار من الابن الذي ليس بقاتل [151/ ب] هل يتوارث المقر به والقاتل؟ فيه وجهان: أحدهما: يتوارثان لأن البنوة ثبتت بإقرار الوارث. والثاني: لا يتوارثان لأن إقرار الأخ الذي ليس بقاتل لا يقبل على أخيه القاتل فلا تثبت الأخوة بينه وبين القاتل، بما يقبل إقراره في حق الأب لأنه وليه ووارثه. فرع آخر لو خَّلف ابنًا فأقر الابن بابن آخر للميت، ثم أقرا جميعًا بابن آخر ثبت نسب الثالث لاتفاقهما عليه. فإن قال الثالث: هذا الثاني ليس بأخينا لم يثبت نسب الثاني لآن الاتفاق لم يحصل من الابنين جميعًا عليه وإنما أقر أحدهما وثبت نسبه بإقرارهما وهذه المسألة تلقب بأدخلني أخرجك، والعامة تستعمل هذا المثل كثيرًا. ومن أصحابنا من قال: لا يسقط نسب الثاني لأن نسب الثالث ثبت بإقرار الأول والثاني فلا يجوز أن يسقط نسب الأصل بالفرع. فرع آخر لو مات عن ابن فأقر بابن آخر فقال ذاك: أنا ابن الميت ولكنك لست بابنه فالمشهور أنه يثبت نسب لمقر به، ويقال للمقر: ثبت نسبك، وفيه وجه آخر أنهما أخوان ويرثان، وهذه المسألة نظير المسألة المتقدمة، وقال القفال رحمه الله: هذا غلط لأن هذا المقر معروف النسب ولو ذلك لم يقبل إقراره فكيف يكلف إثبات نسبه والذي يحتاج إلى إثبات نسبه بالبينة كيف يقبل إقراره؟ فأقول: في المسألة وجهان: أحدهما: أنهما يرثان وهما أخوان. والثاني: لا يثبت نسب المقر به إذ لا فرق بين أن يكذبه، وبين أن يقول له: لست ممن يصح إقرارك بالنسب. فرع آخر لو أقر الابن الوارث بآخرين في وقت واحد فصدق كل واحد منهما صاحبه فثبت نسبهما وميراثهما، وإن كذب كل واحد منهما صاحبه لم يثبت نسب واحٍد منهما لأنه يحصل له إقرار أخ دون أخ، لأن صدق أحدهما صاحبه وكذبه الآخر ثبت نسب المصدق دون المكذب. وقال القفال: إذا صدقا ولكن كذب كل واحد منهما صاحبه فيه [152/ أ] وجهان أحدهما: ما ذكرنا. والثاني: يثبت نسب الكل ويرثون. فرع آخر لو أقر الابن الوارث بنسب أحد التوأمين ثبت نسبهما، وإن أقر بهما وكذب أحدهما

الآخر لم يؤثر (التكذيب) في نسبهما لأنهما لا يفترقان في النسب. فرع آخر لو أقر رجل بعٍم فإن كان الجد لم يخلف إلا الأب المقر وأبوه لم يخلف إلا أباه ثبت النسب، وإن كان خلف الجد غير أبيه وأبوه غير هذا المقر لم يثبت، وإن انقرض كلهم ورجعت مواريثهم إلى هذا المقر صح حينئذ إقراره على الصحيح من المذهب. فرع آخر قد ذكرنا أنه إذا أقر بنسب على غيره يقبل وهذا لا يخلو من أربعة أحوال إما أن يقر على أبيه وابنه، أو أخيه، أو جده، وإنما يقبل في الإرث إذا كان ثبوت إرثه لا يؤدي إلى نفيه فإن كان يؤدي إلى نفيه يثبت النسب دون الإرث، وبيان هذا أنه إذا مات رجل وخلف أخًا لا وارث له غيره فأقر هذا الأخ بابن أخيه الميت قال أكثر أصحابنا: يثبت النسب ولا يرث لأَّنا لو ورثناه يخرج الأخ من أن يكون وارثًا، وإذا لم يكن وارثًا لم يقبل إقراره بالنسب، وإذا لم يقبل إقراره لم يبت نسب الابن ولا ميراثه فإثبات الميراث له يؤدي إلى نفي نسبه وميراثه فأثبتنا النسب وأسقطنا الميراث. وقال ابن سريج رحمه الله: يحتمل وجهًا آخر أنه يرث له رشد ويحجب المقر لأنه لا خلاف بين أصحابنا أنه إذا كان للميت ابن واحد فأقر بأخ لم يثبت له رشد إن كان بإقرار ويخرج من أن يكون جميع الورثة ولا يصح الإقرار إلًا من كل الورثة. وقال القاضي الطبري رحمه الله: هذا خطأ وهو خلاف الإجماع ولا يشبه المسألة التي ذكرها لأنه إذا كان المقر به كبيرًا فقد اتفقا على ذلك، وإن كان صغيرًا لم تعتبر موافقته فقد أقر كل من يعتبر إقراره. ومن أصحابنا من نصر ما قال ابن سريج وقال: الصحيح ما ذكره لأَّنا إذا أثبتنا النسب فالمال مستحق به ولا يجوز إثباته دون المال ولا يجوز توريث الأخ مع [152/ب (وجود الابن الذي هو من أهل ميراثه والعذر عما ذكره ابن سريج غير صحيح لأنه إذا كان المقر صغيرًا يجب أن لا يثبت إرثه حتى يبلغ فيقر لأنه وإن كان صغيرًا فهو وارث، ألا ترى أنه إذا كان الوارث ابنين أحدهما صغير أو مجنون فأقر البالغ العاقل بأخ آخر لم يقبل ولا يقال: لا يعتبر موافقة الصغير أو المجنون والدليل على صحة هذا أنه لو ثبت له ملك عبٍد بشهادة شاهدين فقال: هذا العبد لفلان ثبت به ملك فلان، وإن كان بإقراره خرج من أن يكون حين الإقرار مالكًا وإقرار غير المالك لا يثبت به الملك وإنما يثبت لأنه لولا إقراره لكان محكومًا له بالإرث بالملك كذلك ها هنا يثبت بإقراره الإرث لأنه لولا إقراره لكان محكومًا له بالإرث فكذلك من ثبتت يده على عين فأقر بها لخيره حكم بها للمقر له، وإن كانت يد من لا يملك لا حكم لها في الإقرار كذلك ها هنا. ويمكن أن يجاب عن هذا بأنه يجوز إثبات النسب دون الإرث لأنه لا يؤدي إثباته

إلى نفيه ونفي غيره وإثبات الإرث يؤدي إلى نفيه ونفي غيره وقد يمتنع الإرث بعوارض من القتل والرق واختلاف الدينين وهذا عارض آخر يمتع الإرث مع ثبوت النسب. ونظير هذه المسألة مسائل كثيرة نذكر بعضها ها هنا وهي إذا أعتق رجل عبدين، ثم ادعى مدع على مولاهما أن العبدين ملكه وأن مولاهما كان غصبه عليهما أو أعتق غير ملكه وشهد للمدعي هذان المعتقان وهما عدلان لا تقبل شهادتهما لأنها لو قبلت سقطت وسقطت الحرية فأثبتنا الحرية وأسقطنا الشهادة. وكذلك لو أعتق عبدين في مرضه أو أوصى بعتقهما فأعتقا بعد وفاته فجاء رجل وادعى على الميت دينًا يستغرق التركة وشهد له المعتقان بذلك لم تقبل شهادتهما لأنها تجر إلى سقوطها وسقوط حريتهما، فحفظنا الحرية وأسقطنا الشهادة. [153/أ] وكذلك لو أعتق موسر جاريًة له في مرضه وتزوج بها ثم مات لم ترثه، لأنها لو ورثت كانت أحد الورثة وكان عتقها وصية لها ولا وصية للوارث وليس على أصلنا امرأة لا ترث زوجها مع اتفاق الدين والسلامة من القتل والرق إلا هذه. وكذلك لو أوصى المريض بابنه فقبله ومات عتق ولم يرث لمثل هذه العلة. فرع آخر لو ترك الميت أخًا فادعى مدع أنه ابن الميت وأنكره الأخ ونكل عن اليمين فردت اليمين على المدعى فحلف ثبت نسبه. وفى ميراثه قولان مبنيان على أن يمينه بعد نكوله هل تجري مجرى البينة أم الإقرار؟ فإن قلنا: تجري مجرى الإقرار لا ميراث وإن ثبت نسبه كما لو أقر بنسبه لما في توريثه من حجبه. وإن قلنا: تجري مجرى البينة يرث الابن كما لو قامت بينة نسبه. فرع آخر لو خَّلف زوجه وأخًا فأقرت الزوجة بابن الميت وأنكره الأخ لم يثبت النسب ولكن المشاركة في المال تثبت فيما بينها وبين الله تعالى على أحد الوجهين فإن كانت التركة في يدها أخذ الأخ منها ثلاثة أرباعها ويترك في يدها الربع ثم يجب عليها أن تدفع الثمن إلى المقر به، ولو كانت التركة في يد الأخ أخذت الثمن دون الزيادة لأنها لا تدعي سواه هكذا ذكره أصحابنا. وقيل: لها أخذ الربع منه، لأنه لا يلزمها ذلك في الحكم، ثم إذا أخذت الربع تأخذ الثمن وتدفع الثمن الآخر إلى المقر به. فرع آخر إذا أقر ببنوة صبي لم يكن ذلك إقرارًا بزوجيه أمه وقال أبو حنيفة: إن كانت مشهورة بالحرية كان ذلك إقرارًا بزوجيتها، لأن أنساب المسلمين تحمل على الصحة وذلك أن تكون ولدته منه في نكاح صحيح. وهذا لا يصح لأنه أقر بولٍد فلا يكون إقرارًا بزوجيه أمه كما لو لم تكن معروفة الحرية وما ذكره لا يصح لأَّنا نحمله على الصحة ونثبت

النسب من الوطء في النكاح الفاسد والشبهة [153/ب] فلا ضرورة إلى إثبات النكاح الصحيح. فرع آخر لو مات رجل عن ابن لا وارث له غيره، وخلف عبدًا يساوي ألفًا لا مال له سواه فقال له رجل: أوصى لي أبوك بثلث تركته فلم يجبه حتى قال آخر: لي على أبيك ألف فصَّدقهما هذا ولا بينة لواحد منهما كان لمدعي الوصية ربع العبد، ولمدعي الدين ثلاثة أرباعه يباع في دينه لأنهما لما استويا في التصديق لهما بكلمة واحدة صار العبد مقسومًا على عبٍد وثلث وذلك أربعة أسهم سهم للوصية وثلاثة أسهم للدين، ولو كان صدق مدعي الدين قبل مدعي الوصية صار العبد مستحقًا في الدين وبطلت الوصية، ولو صدق مدعي الوصية قبل مدعي الدين كان لصاحب الوصية ثلث العبد ولصاحب الدين ثلثاه يباع في دينه ذكره في (الحاوي) (¬1). فرع آخر لو قال العبد: أعتقني أبوك في صحته، وقال رجل: لي على أبيك ألف وقيمة العبد ألف ولا مال له سواه فصدقهما معًا صار نصف العبد حرًا، ونصفه لصاحب الدين يباع في دينه. ولو كان سبق إقراره للعبد فصار جميعه حرًا ولا شيء لصاحب الدين. ولو سبق إقراره لصاحب الدين صار له جميعه ولم يعتق شيء منه. فرع آخر إذا قال: نصف فلان ابني أو أخي هل يكون إقرارًا بالنسب؟ قال والدي رحمه الله: يحتمل وجهين. فرع آخر لو قال: فلان أخي ثم قال: أردت به الأخوة من الرضاع قال والدي رحمه الله: يجب أن لا يقبل لأن اللفظ وإن كان محتملًا فالأظهر من محتمليه الأخوة من جهة النسب ولهذا لو قال: أردت به أخوة الإسلام لم يقبل وإن كان الله تعالى قد قال: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (الحجرات: 10]. فرع آخر لو ادعى زوجية صغيرة في يده قال ابن الحداد: يقبل، وقال غيره: لا يقبل بخلاف الرق والنسب والفرق أنه هناك يدعى ملك رقبة [154/أ] ويده عليها ثابتة، وها هنا يدعي منفعة البضع ولا يثبت اليد عليها. فرع آخر لو قال لعبده وهو أكبر سنًا منه: أنت ابني لا يقبل ولا تقع الحرية به، وقال أبو ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (7/ 104).

حنيفة: يعتق. ولو كان العبد صغيرًا ولكنه معروف النسب من غيره فقال: أنت ابني هل يعتق؟ وجهان لأنه يحتمل أن يكون ابنه. مسألة (¬1): قال: وقال في المرأِة تقدُم من أرِض الروم ومعها ولٌد فيدعيِه رجٌل بأرِض الإسلاِم أنِه ابنِه. الفصل وهذا كما قال: إذا قدمت المرأة من أرض الروم ومعها صبي فادعى رجل بأرض الإسلام وقال: إنه ابني وكان الصبي مجهول النسب ثبت نسبه منه لأن ذلك ممكن بأن يكون خرج إلى بلد الروم، أو جاءت المرأة إلى بلد الإسلام وهذا كما نقول: لو تزوج بامرأة وغاب عنها أو لم يغب فأتت بولٍد قبل أن تزف إليه لستة أشهر بعد العقد يلحقه الولد لإمكان اجتماعهما، ولو تزوجها بحضرة الحاكم وطلقها في الحال ثلاثًا ثم أتت بولد لستة أشهر بعد العقد يلحقه الولد لإمكان اجتماعهما من حين العقد لم يلحق به لأن الوطء لهذا العقد غير ممكن ها هنا. وقال أبو حنيفة: يلحق به لوجود العقد وهذا خلاف ظاهر لأنه منفى عنه قطعًا ويقينًا فيستحيل الحكم بثبوت نسبه، فإن قال قائل. عند الشافعي لا يثبت النسب في موضع من المواضع إلا باحتمال وقوع الوطء فكيف أثبت النسب ها هنا مع قوله لا يعرف أنه خرج إلى أرض الروم؟ قلنا: لم ُيرد الشافعي به أن هذا الرجل لم يدخل الروم قط، ألا ترى أنه لم يقل يعرف أنه لم يخرج إلى أرض الروم بل قال: لم يكن يعرف أنه خرج أي: ولم يعرف أنه لم يخرج والاحتمالان موجودان وهذا من الإمكان وهو كالاحتمالين فيما ذكرنا إذا تزوج بامرأٍة وغاب عنها، أو لم يغب ولم يعرف الزفاف. ولو تيقنا أنه لم يصل إلى تلك [154/ب] البلدة بآن شاهدناه طول عمره لم يغب عنا أو غاب عشرة أيام لا يتأتى في مثلها الخروج إلى تلك البلدة بحال وثبت أن المرأة لم تخرج أيضًا من تلك البلدة إلى الآن لم يثبت النسب هكذا ذكر جماعة أصحابنا وهو الصحيح. وقال أبو حامد: ويمكن أنه بعث بماِئِه إليها فاستدخلته وعلقت منه فيثبت النسب به أيضًا قال: ولا اعتبار بما يقول الأطباء أن الماء إذا برد لا يخلق منه الولد لأن هذا مظنون والبيض يبرد ويخلق من الفرخ والنسب يلحق بأدنى الإمكان. وهذا غير صحيح. وقد قال صاحب (الحاوي) (¬2): ما ذكره تعليل قبيح ومذهب شنيع لأنه وطء وإحبال بالمراسلة ثم حيث حصل الإمكان لو قالت المرأة: ليست بولدك لا يلتفت إلى قولها لأن النسب حق الولد وقد أقر به الزوج. ¬

_ (¬1) انظر الأم (38/ 28). (¬2) انظر الحاوي للماوردي (7/ 105).

فرع لو بلغ هذا الابن وأنكر الأبوة قد ذكرنا أنه لا يسمع قوله وقال القفال: إنما لا يسمع قوله إذا شاهدنا فراشًا وولادة على فراشه، فأما إذا لم نشاهد ذلك كما في هذه الصورة فيه قولان: والأقيس أنه يسمع قوله والقول قوله أنه ليس بابن له. والقول الثاني: أنه لا يسمع قوله لأن فيه نقص الحكم السابق. قال: وكذلك الحكم في الرق إذا قال: هذا الصغير عبدي فبلغ العبد وأنكر هل يقبل إنكاره؟ قولان والأصح أنه يقبل وأصل المقولين أن اللقيط في دار الإسلام إذا حكمنا بإسلامه بظاهر الدار فبلغ وامتنع من الإسلام هل يجعل مرتدًا يقتل؟ فيه قولان وهذا غريب والمشهور ما سبق. مسألة (¬1): قال: وإذا كانت له أمتاِن لا زوج لواحدٍة منهما. الفصل وهذا كما قال: صورة المسألة أن يكون للرجل أمتان فولدتا ولدين فأقر السيد بأحدهما لا بعينه يلحقه في الجملة ويعتبر فيه شرطان: أحدهما: أن لا يكون لهما زوج فإنه إن كان لكل واحدٍة منهما زوج يلحق الولد بالزوج عند الإمكان دون السيد. والثاني: [155/أ] أن لا يكون أقر بوطئهما ولا بوطء واحدٍة منهما فإنه إذا أقر بوطئ أمته تصير فراشًا له عندنا ويلحقه ولدها بالإمكان من غير إقراٍر بالولد. ثم إذا وُجد الشرطان وأقر على ما ذكرنا لحقه نسب واحٍد منهما لا بعينه ونرجع إلى بيانه فنقول له: عين الذي هو ابنك فإن عينه كان حرًا. وقلنا له: كيف استولدتها؟ فإن قال: استولدتها في ملكي فقد أقر بأن الولد حر الأصل وأنه لا ولاء عليه وأن الجارية أم ولده تعتق بموته، وإن قال: استولدتها بوطء شبهٍة فالولد حر الأصل وهل تصير أم ولده؟ قولان. وإن قال: استولدتها في نكاح فقد أقر بأن الولد قد مسه الرق وأنه عتق عليه وله ولاؤه وأن الجارية ليست بأم ولده. وإن ادعت الأخرى أن المستولدة هي فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف سقطت دعواها ورقت ورق ولدها. وإن مات قبل أن ُيعّين وخّلف وارثًا رجعنا إلى تعيينه، فإن عينه كان بمنزلة تعيين المورث ونسأله كيف استولدها في ملك اليمين أو في وطئ الشبهة أو في النكاح على ما بيناه، فإذا أقر به عملنا عليه. وإن قال الوارث: لا أعلم كيف أستولدها؟ اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: ظاهر ما قال الشافعي هاهنا: أنه يحمل على أنه استولدها في ملك اليمين ويحكم لها بالحرية لأنه أقر بولدها وهي في ملكه. وقال أبو إسحاق وجماعة: وهو الأصح قياسًا لا يحكم لها بالحرية وهي رقيقة لأن الأصل الرق، ويحتمل أن يكون الاستيلاد ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 28).

في النكاح فلا نوقع العتق بالشك. وإن قال الوارث: لا أعلم أيهما ابنه فالقول قوله مع يمينه إذا ادعى عليه أنه يعلم. ثم قال الشافعي: أرى القافة لأنه لا فرق بين أن يتردد الولد بين والدين وبين أن يتردد فلا يدري أيهما ولده. فإن قيل: إذا كان [155/ب] المقر ميتًا كيف يرى القافة؟ قلنا: يجوز أن يكون القاف رأى المقر في حياته أو قبل دفنه وإن لم يكن شاهد قط نظر إليهما وإلى عصبة المقر الميت مثل أبيه وأخوته وأعمامه فيجد فيهم الشبه ثم الاحتياط للحاكم إذا رجع إلى القافة أن يستحضر جماعة منهم. ولهذا ذكرهم الشافعي بلفظ الجماعة ولو اقتصر على واحٍد منهم ففيه خلاف بين أصحابنا والمشهور جوازه لأن القائف يعتمد الاجتهاد وإلحاق الشبه بالأصل فصار كالحاكم. ثم إذا ألحق القائف به أحدهما ورثناه منه لأن النسب إذا ثبت استند ثبوته إلى حالة الحيرة، ثم إذا جعلنا الولد ولده جعلناها أم ولده وعتقت عليه على ما قال الشافعي. وصور الشافعي إذا كانت الولادة في ملكه لأنه قال: وإذا كانت أمتان لا زوج لواحدٍة منهما فولدتا ولدين فنفى عنهما الزوج ثم أثبت الولادة في الملك بحرف التعقيب وهو قوله: فولدتا ولدين. ثم الولد الثاني الذي لم يلحقه القافة به رقيق موروث وأمه رقيقة. وإن أشكل على القافة أو لم يكن قافه فإنه لم يجعل واحد منهما ابنه كان الإلحاق بعد الموت مع عدم القافة لا يتصور إلا بالانتساب والانتساب بعد البلوغ حيث يتصور الانتساب، وفي هذه المسألة لا سبيل إليه بعد البلوغ أيضًا. فإن قيل: ِلَم قلتم هكذا؟ وأي فرق بين هذه المسألة وبين رجلين تنازعا مولودًا وفقدت القافة فبلغ الغلام أمرتموه بالانتساب إلى واحد منهما؟. قلنا: الفرق أن في تلك المسألة يتيَّسر الانتساب لأنه إذا راجع نفسه وتأمل دواعيها إلى أحدهما بما بينه وبينه من القرابة والأبوة أمكنه الانتساب وكذا الاعتماد على قوله إذا انتسب وها هنا إذا أمرناهما الانتساب تعذر الفصل إذ لا خيار بين أحد أمرين إما أن ينتسبا جميعًا إليه فلا يكون أحدهما أولى من الثاني، أو ينتسب أحدهما فيحتمل أن يكون المنتسب غير ولد وغير المنتسب ولدًا. [156/أ] فإن قيل: هناك أيضًا إذا انتسب إلى أحدهما احتمل أن يكون الذي انتسب إليه غير والٍد والذي لم ينتسب إليه والد. قلنا: إذا أمرنا الولد بالانتساب إلى أحد المدعيين فلا بد له من أن ينتسب إلى أحدهما وليس له الانتفاء عنهما جميعًا، ولا الانتساب إليهما جميعًا. وقوله: أصل في نسبه فإن نسبه حقه فيمكننا تعليق الحكم بقوله ونتبين فائدة أمرنا إياه بالانتساب فلذلك كلفناه الانتساب فأما الولدان والوالد واحدة فلا فائدة في أمرنا إياهما بالانتساب وكان الأمر به في الابتداء محالًا لما كان الحكم به في الانتهاء محالًا. فإذا ثبت هذا أقرعنا بين الولدين لإثبات الحرية في أحدهما لا لإثبات النسب، فإن النسب لا يثبت بالقرعة فأيهما حرج سهمه أعتقناه لأن السيد إذا قال: أحدهما ولدي فقد أقر بشيئين لذلك

الولد بنسبه وحريته، وقد تعذر إثبات النسب وأمكن إثبات الحرية بالقرعة. وهذا كما لو شهد رجل وامرأتان بالسرقة قد يثبت المال دون القطع. وقال ابن خيران رحمه الله: يصير بالقرعة ابنًا حرًا لأن الحرية تثبت له بالولادة فلم يجز أن يرتفع أصلها ويثبت حكمها. وهذا غلط لأن القرعة لا تدخل لتمييز الأنساب المشتبهة فتدخل التمييز الحرية المشتبهة بدليل أنه لو تنازع رجلان في ولٍد لا يقرع بينهما في نسبه. ثم إذا حكمنا بحرية الولد بالقرعة حكمنا بحرية واحد، لأَّنا نعلم يقينًا أن واحدًة من الأمتين أم ولده تعتق بموته فأولاهما هذه. ثم هل يوقف ميراث ابن؟ فيه وجهان: أحدهما: يوقف وهو اختيار المزني لأنا تيقنا أن أحدهما ابنه وإن جهلنا عينه. والثاني: لا يوقف وهو ظاهر المذهب لأن وقف الميراث إنما يكون في أمر معلوم أشكل حاله ويرجى زواله فلا يصح وقفه كما لا يوقف الميراث في الأخوين إذا غرقا ولا يدرى أيهما مات أولًا وهذا [156/ب] اختيار القاضي الطبري وجماعة رحمهم الله. فعلى هذا يكون الميراث كله. للوارث المعروف نسبه إذ كان أو لبيت المال إن لم يكن. وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا قال: أحد هذين ولدّي عتق من كل واحد منهما نصفه ولا يرثان شيئًا ويستسعى كل واحد منهما بعد بلوغه في نصف قيمته فيؤدي ويعتق الكل. وقال ابن أبى ليلى كما قال أبو حنيفة وزاد بأن قال: هما يرثان ميراث ابن لكل واحد منهما نصفه يستعين به عند الاستبطاء على أدائه للعتق. مسألة (¬1): قال: (وسمعَته يقوُل: لو قاَل عند وفاتِه لثلاثِة أولاٍد لأمتِه: أحَد هؤلاِء ولدي). الفصل وهذا كما قال: هذه المسألة والتي قبلها سواء، وإنما تختلفان في الصورة فالمسألة الأولى ولدان من أمتين، والمسألة الثانية ثلاثة بنين من أمٍة واحدٍة فأقر بأحدهم ولم يكن تقَّدم منه إقرار بوطء، ولم يكن لها زوج على ما بيناه فإنه يطالب بالتعيين، فإن قال: هو الأكبر حكمنا بحريته وثبوت نسبه منه، وسألناه عن الأم كيف استولدها؟ فإن قال: استولدتها في ملكي فقد أقر بأنها علقت منه بًّحر في ملكه فتكون أم ولد له. وقلنا له: ما تقول في الآخرين؟ فإن قال: هما مني ألحقناهما به، وإن قال: ليسا مني وإنما أتت بهما من زوج أو زنًا حكم بأنهما مملوكان له ومنع من التصرف فيهما بما يزيل ملكه عنهما لأنهما ابنا أم ولده فيكون حكمهما حكم الأم ويعتقان بعتقها. ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان: أحدهما: هذا. والثاني: أنهما مملوكان على الرق لا يعتقان بعتق الأم بموت السيد لأنه يمكن أن يكون الابن الأكبر ابنه منها والأوسط والأصغر لم تثبت لهما حرمة الاستيلاد بأن يطأ الراهن جاريته المرهونة من دون إذن المرتهن فتأتي بولد يكون الولد حرًا ولا يمنع بيعها في حق المرتهن في أحد ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 29).

القولين، فإذا بيعت وزَّوجها المشتري فأتت بولدين من زوجها أو زنت [157/أ] فأتت بولدين فا شتراهما الراهن مع الولدين بعد ذلك صارت أم ولد له بالوطء المتقدم وولداها مملوكان له ولا يجوز إثبات الحرية بالشك، كما لا يجوز إثبات النسب بالشك. ولذلك قال في القديم؛ لو وطئ جارية غيره بالشبهة فولدت منه ولدًا حرًا ثم زوجها المالك فأتت بولدين من زوجها أو زنت فأتت بولدين ثم اشتراهم الواطئ بالشبهة صارت أم ولده بالإحبال المتقدم وكان الولدان مملوكين لا يعتقان بموته وهذا لأنها ولدتهما في حال لم تكن فيها أم ولد. وإن أقر بالأوسط ثبت نسبه منه وكان الأكبر مملوكًا وسئل عن الأصغر فإن قال: استولدتها في النكاح لم تصر أم ولده وله أن يتصرف فيها. وإن قال: استولدتها بوطء شبهٍة ففيه قولان على ما ذكرنا من قبل. وقال في (الحاوي) (¬1): إذا عين الأكبر وقال: وطئتها في ملكي صار حرًا وارثًا، وهل يلحق به الأوسط والأصغر؟ وجهان: أحدهما: يلحقان به ويصير الثلاثة كلهم أولاداً يرثونه لأنها بالأول صارت فراشاً فلحق ولٍد جاءت به من بعده. والثاني: يلحق به الأكبر دون الأوسط والأصغر لاحتمال أن يكون وضعت الأول في ملكه ثم بيعت عليه في رهن فولدت الأوسط والأصغر من زوج ثم اشتراها والولدين معًا [فصار لحقوقهما به شكًا على تجويز مترجح] والأنساب لا تلحق بالشك. فإذا قلنا بهذا الوجه الثاني هل يكونان في حكم أم الولد يعتقان بموت السيد؟ وجهان على ما ذكرنا. وإن مات قبل البيان كان الرجوع إلى بيان الورثة على ما ذكرناه. فإن عين الأصغر تعين نسبه وحريته، وسألناه عن الولادة ليخبرنا بما [157/ب] يعلمه من ذلك لا باجتهاده فإن قال: لا أعرف قد ذكرنا وجهين، وظاهر النص أنه يحمل على الاستيلاد بالملك، وإن عين الوارث الأوسط تعين، فإن قال: استولدها في الملك قال: فالولد حر الأصل والأمة أم ولده والأكبر مملوك، وفي الأصغر وجهان على ما ذكرنا، هكذا ذكره أصحابنا. وقال أبو حامد: الابن المعروف في هذه المسألة لا يقوم مقام الأب في البيان، ولهذا لم يعلق الشافعي رحمة الله عليه ببيانه، وهذا لأن المقصود إثبات النسب والسب إنما يثبت بإقرار جميع الورثة وليس هذا الابن جميع الورثة فإن الميت لم يمت حتى اعترف بالابن الثاني وهذا على ما ذكر رحمه الله، وهكذا في المسألة قبلها وهو سهو من أصحابنا والله أعلم. ثم اعلم أن الخائف مستعمل في هذه المسألة كما في المسألة الأولى، ولم يذكر الشافعي ها هنا اكتفاء بما ذكر في الفصل الأول فإن ألحقت القافة به الأصغر ثبت نسبه منه وورث ونظر في إقرار المقر فإن قال: أحدهم ولدي استولدتها في ملكي صارت أم ولده وعتقت في موته ورق الأكبر والأوسط. وإن كان قال: استولدتهما في نكاح فهي ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (7/ 108).

مملوكة وقد ورث الابن جزءًا منها وعتق عليه ولا يقوم عليه الباقي لأنه دخل في ملكه بغير اختياره. وإن كان قد أطلق ولم يبين فعلى الاختلاف الذي ذكرنا. وإن ألحقت القافة به الأكبر ثبت نبه منه وعتق وورثه ونظر في إقراره على ما ذكرنا. وإن ألحقت القافة به الأوسط حكمنا بحريته ونسبه وكان الأكبر رقيقاً وفى الأصغر وجهان إذا قال: كنت استولدتها في ملكي على ما ذكرنا. وإن ألحقت القافة به اثنين من الثلاثة لم يلحقا به لأنه أقر بواحٍد منهم ولكن خرج من نفته القافة [158/أ] منهم أن يكون في حكمهم وصار حكم النسب مترددًا بين الاثنين من غير تعيين ولا يستفاد بهذه القيافة إلا خروج نسب المنفي منهم والحكم برقه من بينهم. وإن لم تكن قافه أو كانت فأشكل أقرعنا على ما ذكرنا للحرية فإن خرجت القرعة على الأكبر عتق، وهل تصير أم ولده؟ رجعنا إلى إقراره كما بيناه، وهل يعتق الأوسط والأصغر؟ وجهان على ما ذكرنا فقس إذا خرجت القرعة على الأوسط والأصغر. وقال في (الحاوي) (¬1): إنما يقرع بين كلها إذا قال: وطئتها في غير ملكي ومات قبل البيان فالجارية على الرق ولا يثبت نسب واحد منهم ولكن يقرع للحرية، فإذا خرجت القرعة على أحدهم عتق وحده ورق الآخران بلا خلاف. وإن قال: وطئتها في ملكي ففي ثبوت نسب الأصغر وجهان: أحدهما: يثبت إذا قلنا: ثبوت نسب أحد الثلاثة ببيان المقر أو القافة يوجب ثبوت نسب من دونه لأن الأصغر على هذا الوجه ثابت النسب في الأحوال كلها، قال ابن سريج رحمه الله: وهذا مذهب المزني رحمه الله وإنما حذفه الكاتب من كلامه فعلى هذا تسقط القرعة بين الأخوين ويرقان. والثاني: لا يثبت نسب الأصغر إذا قلنا. نسب أحدهم لا يوجب ثبوت، نسب من دونه. فعلى هذا هل يعتق الأصغر؟ وجهان: أحدهما: يعتق إذا قلنا: ثبوت نسب أحدهم يجعل من دونه ولد أم ولد فعلى هذا تسقط القرعة بين الأخوين ويرقان. والثاني: لا يعتق إذا قلنا: ثبوت نسب أحدهم لا يجعل من دونه ولد أم ولد فعلى هذا يقرع بين الثلاثة ليعتق أحدهم بالقرعة تمييزًا للحرية، فإذا قرع أحدهم عتق وحده ورق من سواه والأم حرة في الأحوال كلها لأنها أم ولد بأحد الثلاثة، ولا يرث من عتق بالقرعة لأن نسبه لم يثبت. فإذا تقرر هذا [158/ب] اعترض المزني رحمه الله على هذه المسألة اعتراضين: أحدهما: على الميراث. والثاني: على الحرية فقال: في الميراث يلزمه على قوله المعروف أن يجعل لهذا الابن المجهول من هؤلاء الثلاثة مورثًا موقوفًا وهو نصف ماله ويكون النصف للابن المعروف لأَّنا بينا أن أحدهم ابنه وإن جهلنا عينه كما قال الشافعي: أحدهم حر وإن لم نعرف عينه، ولا يجوز بيع جميعهم. وكما قال فيمن طلق نساءه إلا واحدة ثلاثًا ثلاثًا ولم يبين يوقف ميراث واحدٍة منهن حتى يصطلحن هكذا ها ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (7/ 110).

هنا. قلنا: قد بينا فيما مضى أن في وقف الميراث وجهين: أحدهما: يوقف كما قال المزني ومعنى قول الشافعي: ولا ميراث له أي في الحال لا يتعجل قسطه ما لم يبن سببه. والثاني: لا يوقف وهو ظاهر كلام الشافعي وهو المذهب لذوات البيان ولا يكون علمنا بأن فيهم ابنًا موجبًا لوقف ميراثه عند ذوات البيان كالعربي إذا مات مجهول العصبة لا يوقف ميراثه، وإن علمنا أن له في العرب عصبًة. وعلى هذا الوجه الثاني وحكم ثبوت نسب الأصغر في أحد الوجهين فالتركة بينه وبين الابن المعروف. وإن لم يحكم بثبوت نسب الأصغر فا لتركة كلها للابن المعروف. وإن قلنا بالوجه الأول أنه يوقف الميراث يوقف نصف التركة وكان نصفها للابن المعروف إن لم يحكم بثبوت سب الأصغر، وإن حكم بثبوته كان بينهما. وأما الجواب عن احتجاج المزني بالحرية قلنا: الفرق أنا وجدنا إلى إثبات الحرية سبيلًا بالقرعة المشروعة لها وما وجدنا إلى إثبات النسب سبيلًا، وإذا لم يثبت النسب لم يثبت الميراث. وأما الجواب عن مسألة الطلاق فالفرق أن النكاح كان مستيقنًا وهو سبب الميراث وقد استيقن من نسائه واحدًة فوقفن الميراث ليتبين سببه إلى أن تتعين المستحقة منهن وها هنا النسب سبب الميراث ولم نجد إلى إثباته سبيلًا. فاستحال إثبات [159/أ] الإرث قبل إثبات سببه. وأيضًا إيقاف الميراث على المعروف للمجهول النسب يقتضي أن يرث المعروف النسب من المجهول النسب ونحن لا نورثه منه فلا نوقف الميراث عليه لمن لا نورثه منه، وليس كذلك ورثة ألميت المطلق زوجته لأنهم لا يرثون الزوجة إن ورثت فلهذا أوقفنا الميراث عليهم حيث لم يسقط لهم حق. وأيضًا إذا وقفنا ميراث زوجٍة جاز أن تصطلح الزوجات عليه أن الزوجة إحداهن وإذا وقفنا للوارث من الأولاد لم يكن لهم أن يصطلحوا على أن أحدهم الوارث ويخرج الباقون أنفسهم من النسب لأن أحدًا لا يملك إخراج نفسه من النسب. وأما الاعتراض الثاني قال: وأنا أقول في الثلاثة الأولاد إن كان الأكبر من الثلاثة هو الابن فهو حر، والأوسط والأصغر حران لأنهما ابنا أم ولد، وإن كان الأوسط هو الابن فهو حر والأصغر حر بأنه ابن أم ولد، والأكبر رقيق لأنه ولد قبل الاستيلاد. وإن كان الأصغر هو الابن فهو حر بالبنوة، فيجب بهذا التقسيم أن يكون الولد الأصغر حرًا بكل حال لا شك فيه، وكيف أدخله الشافعي في القرعة؟ وكيف أرقه إذا خرجت عليه قرعة الرق؟. نم إن المزني اتبع هذا التقسيم تقريرًا لكلامه من وجه آخر فقال: حرية الأوسط ممكنة في حالين ويرق في حال وحرية الأكبر ممكنة في حاٍل ويرق في حالين، ويمكن أن بكونا رقيقين للابن المعروف وللابن المجهول نصفين، ويمكن أن يكون الابن هو الأكبر فيكون الثلاثة أحرارًا، وإذا عرفت تقسيم المزني عرفت هذا التقرير وأنه تكرير لذلك الكلام بعبارة ثانية، ثم لما أثبت حرية الأصغر تكلم في تفريع وقف الميراث كما وقف من قبل

فقال: فالقياس عندي على معنى قول الشافعي في الوقف إذا لم أدر أنهما حران، أم عبدان، أم عبد وحران، أن يوقفا أو ميراث ابن حتى [159/ب] يصطلحوا معناه: يدفع إلى الابن المعروف نصف الميراث ويحكم بحرية الابن الأصغر ويوقف نصف الميراث للابن المجهول من هؤلاء الثلاثة. قلنا: قد قطعت القول بحرية الأصغر مع اكتمال رقه على ما ذكرنا من المسألتين، وإذا اشتراها بعد الاستيلاد لا تصير أم ولد عندنا خلافاً لمذهبك ومذهب أهل العراق. ومن أصحابنا من قال: الأصغر حر بيقين إلا أنا نقول: يقرع بينهم فإن خرجت القرعة على الأكبر بالحرية أعتقته وأعتقت الآخرين، وإن خرجت على الأوسط أعتقته وأعتقت الأصغر فتكون فائدة القرعة عتق غير الصغر فقط السؤال. وأما الذي اختار لنفسه من وقف الميراث قد ذكرنا فيه وجهين. وروي عن المزني أنه اختار لنفسه مذهباً آخر وهو أن يلحق به الأصغر ويوقف الأكبر والأوسط لأنه يجوز أن يكونا ابنين له ويدفع إلى الابن المعروف ربع الميراث ويدفع إلى الصغير ربع الميراث ويوقف النصف للأكبر والأوسط وهذا في بعض نسخ المزني. وهذا غلط لأن المقر لم يقر إلا بنسب واحد من الثلاثة وأمكن ما قاله على ما بيناه فلم يجز أن يلحق به أكثر منه، ولا أن يوقف الميراث لأكثر من واحد. مسالة (¬1): قال: "وتجوز الشهادة أنهم لا يعرفون له وارثاً غير فلان". الفصل وهذا كما قال: إذا شهد رجل على رجل وادعى أنه وارثه لم تسمع دعواه حتى يعين سبب ميراثه وقرابته لأنه يجوز أن يعتقد أنه يرثه بالحكم والحاكم لا يرى ذلك. ثم إذا بين وسمعت دعواه لا تقبل إلا ببينة ولا يقبل إلا شاهدان ذكران لأن النسب لا يثبت بشاهد وامرأتين ولا بشاهد ويمين. ولو شهدا أنه وارثه لم تسمع شهادتهما حتى يذكرا سبب ميراثه كما ذكرنا. ولو بينا فقالا: نشهد أنه ابنه أو أخوه أو عمه نظر في الشاهدين، فإن كانا من أهل المعرفة الباطنة بالميت فشهدا أن هذا [160/أ] ابنه أو أخوه ولا نعلم وارثاً غيره قبلت شهادتهما ويسلم المال إلى المشهود له، ولا يطالب بإقامة الكفيل. وإن كانا من أهل المعرفة الظاهرة قبلت شهادتهما على إثبات ميراث المشهود له، ولا تقبل شهادتهما على نفي غيره ونظر في الوارث الحاضر فإن كان ممن له فرض مقدر مثل الزوجين أو الأبوين أو الجدة فإن الحاكم يدفع إلى المرأة مقدار حقها بيقين وهو ربع الثمن عائلاً لأنه يجوز أن يكون له ثلاث نسوة غيرها وأبوان وبنات فيكون للنسوة الثمن، وللأبوين السدسان، وللبنات الثلثان والفريضة من أربعة وعشرين وتعول بثلاثة فتصير من سبعة وعشرين. وإن كان أباً أو أماً أو جدة فله السدس عائلاً على ما بيناه، وإن كان الحاضر ممن لا فرض له مقدر ولا يحجب عن الميراث ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 31).

مثل الابن فإن الحاكم لا يسلم إليه المال في الحال حتى يكتب إلى البلاد التي كان دخلها الميت وسئل عنه فإذا فعل ذلك فلم يظهر له وارث سوى المشهود له يسلم إليه المال. وإن كان المشهود له ممن يحجب عن الميراث فالأخ والعم. قال أبو إسحاق: لا يدفع إليه شيء لأن ميراثه مشكوك فيه فلا يدفع بالشك. وقال غيره من أصحابنا: وهو الصحيح يدفع إليه الميراث كما قلنا في الابن لأن سؤال الحاكم وبحثه ظاهر في أنه لا وارث له سواه فجرى ذلك مجرى أن تشهد البينة أنه لا نعلم له وارثاً سواه. ثم إذا دفعنا المال إلى هذا الوارث. قال الشافعي: ها هنا يستحب أن يؤخذ منه كفيل لئلا يظهر وارث آخر فنكون قد احتطنا له. وقال في الدعوى والبينات: لا أعطيه شيئاً إلا بكفيل، فقيل: قولان، وقيل: وجهان؛ والقولان أولى لما ذكرنا والصحيح أنه احتياط. وقيل: القولان في غير الابن، فأما الابن يدفع إليه من غير كفيل وهو ضعيف. ولو أن الشهود قطعوا بشهادتهم وقالوا: لا وارث له غيره وكانت شهادتهم مقبولة على معنى [160/ب] لا نعلم له وارثاً غيره، وقد يطلق الرجل هذا اللفظ ومعناه العلم، ولو أطلقوا على الإحاطة وقال: نشهد على أن لا وارث له قطعاً وإحاطة كان هذا منهم خطأ ولكن لا ترد شهادتهم لأنه يؤول بهم إلى العلم ونهاهم الحاكم عن مثل هذا القطع. وقال أبو حنيفة: القياس أن ترد شهادتهم لأنهما كذبا ولكن لا أردها استحساناً وهذا لا يصح لأنه يؤول إلى العلم ويجري عندهم مجرى القطع كقول عائشة رضي الله عنها: "ما ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ديناراً ولا درهماً" تعني في علمنا وقال ابن أبي ليلى: لا يدفع إليه المال حتى يقطع الشهود أن لا وارث له سواه. وهذا غلط لأن القطع بذلك لا يمكن لجواز أن يكون استولد ولداً سراً، وإنما يمكن الرجوع إلى ظافر الحال فإن كان عالماً بسفره ومقامه لا يخفى عليه وارثه في الغالب فيحكم بشهادته إذا قال: لا أعلم. ولو قال: بلغنا أن له وارثاً آخر لا يجوز للقاضي أن يقسم الميراث مع الجهالة بعددهم حتى يعلم كم هو. وهل يدفع إلى الحاضر نصيبه؟ على ما ذكرنا. فإن تطاولت المدة ولم يثبت عند القاضي عدد الغائبين طولب الحاضر بكفيل حتى يتكفل بالميراث لأنا لا نأمن من أن ينصرف من الغيبة وارث سواه وقد قلنا في يد المدفوع إليه. فإن قال قائل: كيف عطف الشافعي قوله: فإن تطاول ذلك دعي الوارث بكفيل على قوله: إن قالوا: بلغنا أن له وارثاً غيره؟ لأن الشهود إذا قالوا: بلغنا أن له وارثاً غيره فالواجب على القاضي أن لا يدفع جميع الميراث إلى الحاضر وإن جاءه بالكفيل قلنا: معنى قول الشهود: بلغنا أن له وارثاً غيره: أن لا نتحقق ذلك ولكنا قد سمعناه ولا نشهد عليه وقد يقرع سمع الرجل مما لا يتحققه ثم لا يكون الخبر صدقاً وربما يكون كذباً فتوقف القاضي لاحتمال الصدق فلما تطاولت المدة وانتشر خبر وفاة المقر في الأقطار لم يظهر [161/أ] وارث خفي غلب على قلب الحاكم أن ما بلغهم لم يكن له حقيقة فلذلك أقدم على القسمة واحتاط بالكفيل.

فرع إذا مات وخلف ابنين فأقر أحدهما بدين على أبيه وأنكر الآخر، نظر فإن كان المقر عدلاً جاز أن يقضي بشهادته مع شاهد أخر، أو مع امرأتين، أو مع يمين المدعي. وإن لم يكن عدلاً حلف المنكر ولم يلزمه شيء. وأما المقر ففيه قولان: أحدهما: يلزمه كل الدين في حصته وبه قال أبو حنيفة رحمه الله وهو اختيار ابن سريج رحمه الله لأن الدين قد يتعلق ببعض التركة إذا هلك بعضها كما يتعلق بجميعها فوجب قضاءه من جهة المقر. والثاني: وهو الصحيح: لا يلزمه إلا بقدر حصته، لأنه لو لزمه بالإقرار كل الدين لم تقبل شهادته بالدين لأنه يدفع بهذه الشهادة عن نفسه ضرراً. فرع آخر لو قال: علي ألف أخذته منه قال المتقدمون من أصحابنا: هو كما لو قال: دفعه إلي لو فسره بالوديعة تقبل وقال أبو حنيفة: لا يقبل لأن الأخذ يقتضي الغصب ظاهراً. قال القفال: يحتمل أن يكون هذا مذهبنا. فرع آخر قال صاحب "التلخيص" رحمه الله: ثلاثة أحوال في الذمة لا يجوز مطلق الإقرار بأنها لغيرهم الصداق، وعوض الخلق، وأرش الجناية عن البدن قال أصحابنا: هذا لأن بضع غير ذات الزوج لها فابتداء ذلك عوضه بالنكاح لا يكون إلا لها وعند الخلع لا يكون إلا له. وكذلك الأرش الذي هو عوض جزء من البدن لا يكون إلا للمجني عليه، فإذا أطلق عليه الإقرار أنها لغيره فهو كذب وإنما تصير لغيره بحوالة صحيحة على شروطها وليس في مجرد الإقرار ما يوجب ذلك. وقال القفال: "لم يبت" الوجه فقالت: المال الذي في ذمة الزوج من المهر لفلان من جهة أني أحلته على الزوج به بدين كان علي يصح، وإن أطلقت فقالت: هو لفلان ولم تفسر هل يصح الإقرار؟ قولان أحدهما: يصح لأن وجه الصحة محتمل، والثاني: لا يصح وهذان القولان مبنيان على أنه [161/ب] لو أقر للحمل مطلقاً هل يصح أم لا؟ فيه قولان وحكي القفال عن صاحب "التلخيص" أنه قال: لو قالت: صداقي الذي تزوجني عليه لفلان فهو هبة لم تقبض، ولو قالت: بحق ثابت فأضافتها إلى نفسها إضافة تعريف ويكون إقراراً قال القفال: إذا لم تبين زوجها فهو على ما ذكرت من القولين. وإن فسرت بالحوالة كان صحيحاً. والله أعلم. وهذا آخر كتاب الإقرار ويتلوه في التي تليه كتاب العارية إن شاء الله تعالى والحمد لله حمد الشاكرين وصلاته على خير خلقه محمد وآله الطاهرين.

كتاب الوديعة

كتاب الوديعة قال (¬1) الشافعي رحمه الله: "وإذا أودع رجل وديعة فأراد سفراً فلم يثق بأحد يجعلها عنده فسافر بها براً أو بحراً ضمن". قال في الحاوي: أما استيداع الودائع فمن التعاون المأمور به، والإرفاق المناوب إليه، قال الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2]. وقال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء:58]. وقال تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ [البقرة:283]}. وقال سبحانه وتعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً} [آل عمران:75]. وروى أبو هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أد الأمانة إلى من ائتمنه، ولا تخن من خانك" (¬2). وروى أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "تقبلوا إلي بست أتقبل بالجنة" قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: "إذا حدث أحدكم فلا يكذب وإذا اؤتمن فلا يخن، وإذا وعد فلا يخلف وغضوا أبصاركم، واحفظوا فروجكم وكفوا أيديكم" (¬3). وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "على اليد ما أخذت حتى تؤديه" (¬4) وقد استودع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ودائع القوم، وكان يسمى في الجاهلية لقيامة بها محمد الأمين، فلما أراد الهجرة إلى المدينة تركها عند أم أيمن- رضي الله عنها، وخلف علياً- عليه السلام- لردها على أهلها، ولأن بالناس إلى التعاون بها حاجة ماسة وضرورة داعية لعوارض الزمان المانعة من القيام على الأموال، فلو تمانع الناس فيها لاستضروا وتقاطعوا. ¬

_ (¬1) انظر هامش الأم (3/ 175). (¬2) أخرجه أحمد (3/ 414)، وأبو داود (3534)، والترمذي (1264)، والحاكم (2/ 46)، والبيهقي في "الكبرى" (21303)، والطبراني في "الكبير" (1/ 234)، وفي "الصغير" (1/ 171). (¬3) أخرجه الحاكم في "المستدرك" (2/ 359)، والطبراني في "الكبير" و"الأوسط" كما في "مجمع الزوائد" (10/ 301)، وقال الهيثمي: "وفيه فضال بن الزبير ويقال: ابن جبير وهو ضعيف". (¬4) أخرجه أحمد (5/ 8) والدارمي (2/ 262)، وأبو داود (3561)، والترمذي (1261)، وابن ماجه (2400)، وابن الجارود (1024)، والبيهقي في "الكبرى" (11482)، وفي "معرفة السنن" (3679).

فصل فإذا ثبت أن ذلك من التعاون المأمور به لم يحل حال من استودع وديعة من ثلاث أحوال: أحدها: أن يكون ممن يعجز عنها، ولا يثق بأمانته نفسه فيها، فهذا لا يجوز له أن يقبلها. والثانية: أن يكون أميناً عليها قادراً على القيام بها وليس غيره ممن يقوم بها فهذا ممن قد تعين عليه قبولها، ولزمه استيداعها، كمن تعين الشهادة على الشاهد إذا لم يوجد من يتحملها سواه، وكما يلزم الإنسان خلاص نفس يقدر على إحيائها إذا لم يوجد غيره، لأن حرمة المال كحرمة النفس. والثالثة: أن يكون أمينا عليها، وقادراً على حفظها، وقد يوجد غيره من الأمناء عليها، فهذا مندوب إليه، وإن لم تجب عليه. فصل فإذا قبل الوديعة كان قبولها من العقود الجائزة له المقام عليها والرجوع فيها، وليس عليه إذا قبلها معرفة ما فيها، بل يجوز أن يستودعها وهو لا يعلم ما فيها، بخلاف اللقطة التي يلزمه معرفتها لما يلزمه من تعريفها، ثم عليه القيام بحفظها من حرز مثلها، فإن فرط كان ضامناً وإن لم يفرط فلا ضمان عليه، وحكي عن أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه أن المستودع إن اتهم في الوديعة ضمنها، استدلالاً بما روي أن رجلاً أودع عند أنس بن مالك ستة آلاف درهم، فسرقت من بين ماله، فتخاصما إلى عمر فقال: هل أخذ معها من ثيابك شيء؟ قال: عليك الغرامة (¬1). فروي أن أنس بن مالك قال لابن سيرين وقد حمل معه رجل متاعاً إلى البصرة: يا أنس، احفظه كيلا تغرمه كما غرمني عمر، وهذا قول شاذ واضح الفساد، لرواية المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليس على المستودع ضمان" (¬2). وروي أن رجلاً أودع عند جابر وديعة، فتلفت، فتحاكما إلى أبي بكر فقال: ليس على المؤتمن ضمان (¬3)، وهو قول منتشر من الصحابة لا يعرف بينهم فيه تنازع، ولأن تضمين الوديعة يخرج عن حكم التعاون وعقود الإرفاق، فأما أنس فإنما ضمنه عمر لتفريطه، فقد قيل: إنه دفعها إلى خادمه، وإلا فقد حرم الله تعالى صحابة نبيه - صلى الله عليه وسلم - عن أن تتوجه إليهم تهمة. فصل فإذا تقرر ما وصفنا، فصورة مسألة الكتاب في رجل استودع وديعة فأراد سفراً، ¬

_ (¬1) أخرجه بنحوه البيهقي في "الكبرى" (12703). (¬2) أخرجه الدارقطني (3/ 41)، وفي إسناده عمرو بن عبد الجبار، يروي المناكير. (¬3) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (12698).

فالوديعة لا تحبسه عن السفر، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمتنع عن الهجرة لأجل ما كان عنده من الودائع، ولأن استدامة الوديعة غير لازم، وردها على مالكها متى شاء المستودع جائز، وإذا كان ذلك فعليه إذا أراد سفراً ومالكها حاضر أن يردها عليه. فلو قال لمالكها: لست أدفعها إليك إلا أن تشهد على نفسك بقبضها ففي وجوب الإشهاد عليه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يجب، لأن قوله في الرد مقبول، فعلى هذا يكون المنع منها لأجل الإشهاد متعدياً، وهذا أصح الوجوه. والثاني: أن إشهاد المالك على نفسه واجب، لأن يتوجه على المستودع يمين أو نوزع في الرد، فعلى هذا لا يكون بالمنع منها لأجل الإشهاد متعدياً. والثالث: أن ينظر، فإن كان المالك قد أشهد على المستودع عند دفعها إليه لزمه الإشهاد على نفسه عند ردها عليه، وإن لم يشهد عند الدفع لم يلزمه الإشهاد على نفسه عند الرد، وإن لم يردها على مالكها مع حضوره فلا يخلو حاله فيها من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يسافر بها معه. والثاني: أن يدفعها إلى غيره. والثالث: أن يخلفها في حرزه. فإن سافر بها ضمن، سواء كان سفره مأموناً أو غير مأمون. وقال أبو حنيفة: لا ضمان عليه إذا كان سفره مأموناً، استدلالاً بأن الذي عليه في الوديعة حفظها، فإذا حفظها في أي مكان كان من حضر أو سفر كان مؤدياً لحق الأمانة فيها، قال: ولأنه لما جاز أن يحفظها في أي موضع شاء من البلاد إذا كان مأموناً كان له ذلك في غير البلد إذا كان مأموناً. والدليل على تعديه إذا سافر بها قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن المسافر وماله على قلت إلا ما وقى الله" (¬1) يعني على خطر، وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "السفر قطعة من العذاب يمنع أحدكم طعامه وشرابه ورقاده" (¬2) ولان السفر مخوف في الغالب، وأمنه نادر لا يوثق به. ولذلك يمنع السيد مكاتبه من السفر، ويمنع ولي اليتيم من السفر بماله، ولأن في السفر بالوديعة من التغرير بها إحالة بينها وبين مالكها بإبعادها عنه، وهذا عدوان، ولأن العرف في حفظ الودائع وإحرازها جاز في الأمصار دون الأسفار، فكان الخروج عن العرف فيها عدواناً، وليس بما استدل به من أن المقصود هو لحفظ الوجه، لأنه يلزمه مع الحفظ أن لا يخاطر بها ولا يغرر، ¬

_ (¬1) أخرجه السلفي في "أخبار أبي العلاء المعري" كما في "تلخيص الحبير" (1458)، وقال الحافظ: وقد أنكره النووي. (¬2) أخرجه البخاري (1804)، ومسلم (179/ 1927)، ومالك (980)، وأحمد (2/ 236)، والدارمي (2/ 286)، وابن ماجه (2882).

وهو بالسفر مغرر ومخاطر. وقوله: "إنه لما لم يختص حفظها بمكان من المصر دوم مكان فكذلك في السفر" فلا وجه له، لأن المصر يتساوى حكم أماكنه المأمونة، والسفر مخالف للمصر. فصل وإن دفعها مع حضور مالكها إلى غيره، لم يخل حال من دفعها إليه من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يدفعها إلى وكيل مالكها. والثاني: أن يدفعها إلى الحاكم. والثالث: أن يدفعها إلى أجنبي يستودعها إياها، فإن دفعها إلى وكيل مالكها لم يخل حاله من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون وكيلاً خاصاً في قبض ودائعه، فله دفعها إليه مع حضور المالك لأن يد الوكيل كيد الموكل. والثاني: أن يكون وكيلاً خاصاً في غير قبض الوديعة، فهذا في حق الوديعة كالأجانب لا يجوز دفعها إليه، لأن الوكيل في شيء لا يكون وكيلاً في غيره. والثالث: أن يكون وكيلاً عاماً في كل شيء، ففي جواز ردها عليه وجهان بناء على اختلاف الوجهين في صحة الوكالة العام: أحدهما: أنها لا تصح، فعلى هذا لا يجوز ردها عليه. والثاني: تصح، فعلى هذا يجوز ردها عليه، فإن طالب المستودع الوكيل أن يشهد له على نفسه بقبض الوديعة منه لزم الوكيل الإشهاد بذلك على نفسه وجهاً واحداً، لأن قول المستودع مقبول على المودع فجاز أن لا يلزم الإشهاد، وقوله غير مقبول على وكيله، فلذلك لزمه الإشهاد، وسواء كان المستودع قد قبضها من المودع أو من وكيله في لزوم الإشهاد، وسواء كان الوكيل عدلاً أو فاسقاً في جواز دفعها إليه، لأن للمودع أن يوكل من شاء من عدل أو فاسق بخلاف الوصي. فصل وإن دفعها إلى الحاكم مع وجود المالك ففي ضمانه وجهان: أحدهما: يضمن، لأن مالكها رشيد لا يولى عليه. والثاني: لا ضمان عليه، لأن يد الحاكم نائبه عن كل مالك، فعلى هذا إن دعاه المستودع إلى الإشهاد على نفسه بالقبض قبل الحاكم أنت بالخيار في الإشهاد على نفسك، أو في إعلام مالكها بالاسترجاع فإن أخذها واجب عليك، وأنت مخير في أيهما شئت.

فصل وإن دفعها مع حضور مالكها إلى أجنبي ائتمنه عليها فاستودع إياها ضمنها، لأمرين: أحدهما: أنه لا ضرورة مع حضور المالك إلى دفعها إلى غيره، فصار كالسفر بالمال. والثاني: أن المالك رضي بأمانته دون أمانة غيره، فصارت يد من ائتمنه عليها يد غير مأذون فيها، فصارت متعدية، ولزم الضمان وكان مالكها مخير بين مطالبة المستودع الأول إن تلفت أو مطالبة الثاني. وقال أبو حنيفة: له مطالبة الأول دون الثاني، ووافق في الغاصب إذا أودع أن للمالك مطالبة أيهما شاء، وهو دليل عليه في الوديعة لأنه ليس للمستودع أن يودع، كما ليس للغاصب أن يودع، فصار المستودع منها جميعاً يده غير محقة فلزمه الضمان، وسواء علم بالحال أو لم يعلم، لأن العمد والخطأ في ضمان الأموال سواء، فإذا ثبت أن له مطالبة أيهما شاء بغرمها، فإن أغرمها الثاني نظر، فإن علم بالحال لم يرجع بما غرمه على الأول، وإن لم يعلم ففي رجوعه عليه بغرمها وجهان. وإن أغرمها الأول نظر فإن كان الثاني عالماً بالحال رجع الأول عليه بما غرم، وإن لم يعلم ففي رجوعه عليه وجهان مخرجان من اختلاف قوليه في الغاصب إذا وهب ما غصبه ثم غرمه هل يرجع بالغرم على الموهوب له أم لا؟ على قولين: وعلى مالك الوديعة أن يشهد على نفسه بقبض الهبة، لأنها مضمونة بخلاف قبض الوديعة التي هي غير مضمونة. فصل وإن لم يدفعها إلى أحد مع حضور مالكها وخلفها وسافر ضمنها وقال: إن خلفها مع أمواله لم يضمن، وهذا فاسد، لأن الحرز بغير حافظ لا يكون حرزاً، وتغريره بماله لا يكون في الوديعة عذراً، فهذا حكم الوديعة إذا كان المودع حاضراً، والله أعلم. فصل فأما إذا كان المودع غائباً عند إرادة المستودع فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون له وكيل في قبضها. والثاني: أن لا يكون له. فإن كان له وكيل فوكيله هو المستحق بقبضها، لأن يد الوكيل كيد الموكل ويكون الحكم في عدول المستودع إلى غيره كالحكم من عدوله عن المودع مع حضوره على ما ذكرنا من التقسيم والجواب، وإن لم يكن له وكيل فالمستحق لقبضها هو الحاكم، فإن دفعها إليه لزمه الإشهاد على نفسه بالقبض، فإن عدل عن الحاكم مع كونه مأموناً فدفعها

إلى أمين ثقة ففي ضمانه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي: لا ضمان عليه، وهو ظاهر كلام الشافعي، لأن الأمين عليها يمكن أن يحاكمه المودع منها إلى الحاكم ويقيم البينة بما عنده ولا يمكن أن يفعل ذلك مع الحاكم. والثاني: وهو قول أبي سعيد الإصطخري، وأبي علي بن خيران، وابن أبي هريرة يضمن، لأن اختيار الحاكم واختيار الأمين اجتهاد ولأن نظر الحاكم عام ونظر الأمين خاص، فإن لم يجد حاكماً، أو كان إلا أنه غير مأمون جاز أن يختار لها أميناً ثقة يستودعه إياها؛ لأنه لا يقدر على غير ذلك في حفظها، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أودع ما خلفه من الودائع عند أم أيمن حين هاجر واستخلف علياً في الرد رضي الله عنه وهل يلزمه الإشهاد عند دفعها إليه أم لا: أحدهما: يلزمه الإشهاد عليه خوفاً من تغير حاله وحدوث جحوده، فعلى هذا إن لم يشهد عليه ضمنها. والثاني: لا يلزمه الإشهاد عليه، لأنه ينوب عن المالك، ولأن قول الأمين في الرد مقبول، فعلى هذا إن لم يشهد عليه لم يضمنها فإن لم يجدا ثقة يستودعه إياها لم يخل حينئذ حال المصر والسفر من أربعة أقسام: أحدها: أن يكون المصر مخوفآ بغارةء أو حريقء والسفر مأمونآء فعليه أن يسافر بالمال معه، لأنها حال ضرورة هي أحفظ وأحرز، فإن تركها وسافر كان ضامناً، وإن سافر بها لم يضمنها. والثاني: أن يكون المصر مأموناً والسفر مخوفاً، فعليه تركها في المصر على ما سنذكره، ولا يجوز أن يسافر بها، فإن سافر بها ضمن. والثالث: أن يكون المصر مخوفاً والسفر مخوفاً، فلا يجوز أن يسافر بها لأنه إذا استوي الخوفان كان خوف السفر أعم. والرابع: أن يكون المصر مأموناً والسفر مأموناً، ففي جواز السفر بها وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي، والظاهر من كلام الشافعي: لا يجوز أن يسافر بها، فإن سافر بها ضمن، لأن السفر أخطر. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة: يجوز أن يسافر بها، ولا ضمان عليه، لاستواء الأمن في الحالين، وفضل حفظه لها بنفسه في السفر، والله أعلم. مسالة (¬1): قال الشافعي: "وإن دفنها في منزله ولم يعلم بها أحداً يأتمنه على ماله فهلكت ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 175، 176).

ضمن وإذا أودعها غيره وصاحبها حاضر عنه سفره ضمن فإن لم يكن حاضراً فأودعها أميناً يودعه ماله لم يضمن". قال في الحاوي: وهذا صحيح متى ما لم يجد حاكماً ولا ثقة يستودعها إياه فدفنها في الأرض فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون الموضع المدفونة فيه سابلاً لا تحجير عليه يمنع من الوصول، فدفنها في مثله عدوان يوجب الضمان، سوا، أعلم بها أحداً أو لم يعلمه، لأن ما تصل إليه الأيدي معرض للتلف. والثاني: أن يكون الموضع حصياً حريزاً كالمنازل المسكونة التي لا تصل اليد إليها إلا من أراد، فلا يخلو حاله من أحد أمرين: إما أن يعلم بها أحداً أو لا يعلم بها أحداً، فإن لم يعلم بها أحداً ضمنها، لأنه قد ربما أدركته منيته فلم يوصل إليها، فصار ذلك تغريراً، وإن أعلم بها ثقة مؤتمناً صح، وهل يراعى في الإعلام بها حكم الشهادة أو حكم الائتمان؟ على وجهين: أحدهما: حكم الشهادة فعلى هذا لا يجزئه أقل من شاهدين عدلين، أو شاهد وامرأتين ويرى الشاهدان ذلك عند دفنه ليصح تحملها لذلك، فإذا فعل ذلك خرج عن التعدي، وسقط الضمان عنه ولم يلزمه أن يأذن للشاهدين من نقلها عند الخوف. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه يراعى فيه حكم الائتمان، فعلى هذا يجوز أن يعلم بها واحداً ثقة، سواء كان رجلاً أو امرأة، ويجوز أن لا يراها، وهل يلزمه أن يأذن له في نقلها إن حدث بمكانها خوف أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يلزمه ذلك لما فيه من فضل الاستظهار، فإن لم يفعل ضمن. والثاني: لا يلزمه، لما في نقلها من التعريض للأخطار، فإن نقلها المؤتمن عليها على هذا الوجه عند حدوث الخوف بمكانها ففي ضمانه وجهان من اختلافهم على هذا الوجه، هل يكون إعلامه بها يجري مجرى الخبر أو مجرى الأمانة؟ فأحد الوجهين: أنه يجري مجرى الخبر، فعلى هذا لا يجوز له نقلها، فإن نقلها ضمن، ويجوز أن يكون عبداً، وأن يكون بعيداً عنها، وليس له يد عليها. والثاني: أن يجري مجرى الأمانة، فعلى هذا يجوز له نقلها، ولا يجوز أن يكون عبداً ولا أن يبعد عنها، وتكون يده عليها، فأما إذا دفنها على ما وصفنا مع وجود حاكم مأمون، أو عدل موثوق به يودعها عنده ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز ويضمن إن فعل. والثاني: يجوز ولا ضمان عليه. فصل فأما إذا ترك الوديعة في بيت المال فقد قال الشافعي: "يضمن وليس هذا الجواب

على الإطلاق؛ واختلف أصحابنا من تأويله، فقال بعضهم: أراد به إذا كان مالكها حاضراً، ولو كان غائباً لم يضمن، وهذا تأويل من قال: لا يجوز دفع الوديعة إلى الحاكم مع وجود صاحبها وقال آخرون: إنما أراد به إذا لم يعلم صاحب بيت المال بها ولمن هي، فإن أعلمه بها ولمن هي لم يضمن، وهذا قول من لا يجوز دفعها إلى الحاكم مع حضور صاحبها. مسألة (¬1) قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن تعدى فيها ثم ردها في موضعها فهلكت ضمن لخروجه بالتعدي من الأمانة". قال في الحاوي: أعلم أن التعدي الذي يجب به ضمان الوديعة فعلى سبعة أقسام: أحدها: التفريط في الحرز، ذلك مثل أن يضعها في غير حرز أو يكون قد وضعها في حرز، ثم أخرجها إلى ما ليس بحرز، أو يكون قد أعلم بمكانها من أهله من لا يؤمن عليها، فهذا وما أشبهه من التفريط عدوان يجب به الضمان. والثاني: الاستعمال، مثل أنه يستودعه ثوباً فيلبسه أو دابة فيركبها أو بساطاً فيفترشه فهذا وما شاكله عدوان يجب به الضمان. والثالث: خلطها بغيرها، وذلك ضربان: أحدهما: أن يخلطها بمال نفسه، كما لو أودع دراهم فخلطها بدراهم حتى لم تتميز، فهذا عدوان يوجب الضمان، وكذلك لو خلطها بدراهم غير المودع أيضاً. والثاني: أن يخلطها بمال المودع، كأنه أودع وديعتين من جنس واحد فخلط إحداهما بالأخرى، ففي تعديه وضمانه بذلك وجهان: أصحهما يضمنها، لأن مالكها لما ميزها لم يرض بخلطها، ولكن لو خلطها بما يتميز منها مثل أن يخلط دراهم بدنانير لم يضمن، إلا أن يكون خلط الدراهم بالدنانير قد نقص قيمته من الدنانير فيضمن قدر النقصان. والرابع: الخيانة، وهو أن يخرجها ليبيعها، أو لينفقها، فهذا عدوان يجب به الضمان وكذلك لو جحدها. والخامس: التعرف لها، مثل أن تكون دراهم فيزنها، أو يعدها، أو ثياباً فيعرف طولها وعرضها، ففي تعديه وضمانه بذلك وجهان: أحدهما: يضمن، لأنه نوع من التصرف. والثاني: لا يضمن، لأنه قد ربما أراد به فضل الاحتياط. والسادس: التصرف من بعض ما استظهر به المودع من حرزها وذلك ضربان: ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 176).

أحدها: أن يكون منيعاً بالقفل الذي يفتحه، فهذا عدوان يجب به الضمان. والثاني: أن يكون غير منيع كالختم يكسره، والشداد يحله، ففي ضمانه بذلك وجهان أصحهما يضمن، لما فيه من هتك الحرز، ولذلك قال عمر رضي الله عنه لشريح: طينة خير من طينة يعني أن طينة الختم تنفي التهمة. والسابع: أن ينوي الخيانة والتعدي، فقد كان أبو العباس بن سريج يرى أن ذلك موجب لضمانها ويجعل النية فيها، كالفعل من وجوب الضمان، استدلالاً بأن النية من تملك اللقطة يقوم مقام التصرف من ثبوت المالك، فكذلك ضمان الوديعة، والذي عليه جمهور أصحابنا أنه لا يضمنها بالنية، لأن النية إنما تراعى في حقوق الله تعالى لا من حقوق الآدميين، ولو جاز أن يصير متعدياً بالنية لجاز أن يصير خائناً وسارقاً بالنية، ولأن النية ما أثرت في حرزها فلم تؤثر في ضمانها، غير أنه يأثم بها، فأما اللقطة فمع النية من تملكها علم ظاهر وهو انقضاء حق التعريف، إن كان من أصحابنا من لم يجعله مالكاً مع النية إلا بالتصرف. وقال أبو حامد المروزي: يجعله مالكاً مع النية إلا بالتصرف فإن نوى حبسها لنفسه، وإن لم يرده علي ربما ضمنها، وإن نوى أن يخرجها من حرزها إخراج عدوان لم يضمنها، وهذا أصح. والفرق بينهما: أنه إذا نوى أن لا يردها أمسكها لنفسه فضمنها، وإذا نوى أن يخرجها فقد أمسكها لمالكها فلم يضمنها. فصل فإذا استقر ضمان الوديعة من أحد هذه الأقسام بالتعدي ثم كف عن تعديه وأعادها إلى حرزها لم يسقط عنه الضمان. وقال أبو حنيفة ومالك: قد سقط عنه الضمان، استدلالاً بأن الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها كالشدة المطربة في الخمر، والردة الموجبة للقتل، قالوا: ولأنه قد يضمن الوديعة بالإخراج كما يضمن المحرم الصيد بالإمساك، فلما كان إرسال المحرم للصيد بعد إمساكه مسقطاً للضمان وجب أن يكون إعادة المستودع لها بعد الإخراج مسقطاً للضمان، قالوا: ولأنه لما كان لو أخرجها من حرز المستودع سارق فضمنها سقط عنه الضمان بردها كان أولى إذا أخرجها المستودع فضمنها أن يسقط عنه الضمان بردها. ودليلنا هو أنه ما ضمنت به الوديعة لم يسقط بارتفاع سببه كالجحود، ولأن من ضمن باليد لم ينفرد بإسقاط الضمان كالغاضب، ولأن الضمان إذا وجب بالإخراج من الحرز لم يخرج بالرد إلى الحرز كالسارق، ولأنه قد خرج بالتعدي في الأمانة، فلم يعد إليها باستئناف أمانة وإلا كان أمين نفسه، ولأن الضمان إذا تعلق بذمته لم يكن له سبيل إلا إبراء نفسه بنفسه فأما استدلالهم بأن الحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها فالعلة لم تزل، لأن التعدي الأول انقطع ولم يرتفع، وأما إرسال المحرم للصيد فإنما سقط عنه الضمان، لأنه قد أعاده إلى حقه. ومثاله من الوديعة أن يعيدها إلى مالكها، وأما السارق من المستودع فقد اختلف

أصحابنا في سقوط الضمان عنه إذا رده المستودع على وجهين: أحدهما: لا يسقط الضمان عنه لأنه غير مالكه. والثاني: قد سقط عنه الضمان، لأن المستودع على أمانته فصار عودها إلى يده كعودها إلى المالك، وليس كذلك إذا كان المستودع هو الضامن له، لأنه قد خرج من الأمانة. فصل فإذا ثبت أن ضمان التعدي باق وإن كف عنه فسقوطه عنه يكون بردها على مالكها أو وكيل مالكها في قبضها، فأما إبراء المودع له من ضمانها فإن كان بعد تلفها واستقرار عزمها في ذمته صح الإبراء إذا كان بعد تلفها، وإن كان مع بقائها ففي سقوط ضمانها وجهان: أحدهما: وهو قول المروروزي قد سقط الضمان، لأن الإبراء استئمان. والثاني: أن الضمان لا يسقط عن الغاصب بالإبراء قبل الرد، ولأن الإبراء إنما يتوجبه إلى ما استقر من الديون في الذمم لا إلى ما في الأيدي من الأعيان، وإنما هبات الأعيان لا تسقط ضمانها، فعلى هذا لو أعادها المستودع إلى حرزها بإذن مالكها كان سقوط الضمان عنه على هذين الوجهين، والله أعلم. مسالة (¬1) قال الشافعي: "ولو أودع عشرة دراهم فأنفق منها درهما ثم رده فيها ولو ضمن الدرهم". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن من وجوب الضمان بكسر الختم وحل الشداد وجهان: فأما إذا أودع دراهم غير مختومة ولا مشدودة فأخرج منها درهماً لينفقه قد ضمنه وحده ولا يضمن غيره، فإن رده بعينه ولم ينفقه لم يسقط عنه ضمانه، فإن خلطه بالدراهم، نظر فإن تميز عنها ضمنه وحده ولم يضمن جمع الدراهم وإن لم يتميز عنها ففي ضمان جميعها وجهان: أحدهما: يضمن جميعها، لأنه قد خلط مضموناً بغير مضمون فصار بذلك متعدياً فضمن الجميع وهذا مذهب أبي حامد المروروزي، والبصريين. والثاني: لا يضمن، لأن كل ذلك مال واحد قد آثر مالكه خلطه فلم يكن في خلطه خلاف غرضه، وهذا مذهب أبي علي بن أبي هريرة، والبغداديين، وإن أنفق ذلك الدرهم ورد بدله وخلطه بالدراهم فلا يخلو حال ذلك الدرهم الذي رده بدلاً من ثلاثة أقسام: ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 176).

أحدها: أن لا يتميز من جميع الدراهم، فيصير بخلطه متعدياً في الجميع، لأنه قد خلط الوديعة بمال نفسه، فصار ضامناً بجميعها. والثاني: أن يتميز ذلك الدرهم دون غيره مما يتميز ويصير كمن خلط دراهم الوديعة بدنانير نفسه عن جميع الدراهم فليس عليه، إلا ضمان ذلك الدرهم دون غيره. والثالث: أن يكون مما يتميز عن بعض الدراهم ولا يتميز عن بعضها، مثل أن تكون بعض الدراهم بيضاء وبعضها سوداء، والدراهم المردودة فيها أبيض أو أسود، فيضمن من ذلك ما لا يتميز عن الدرهم المردود بدلاً ولا يضمن ما تميز عنه. مسألة (¬1) قال الشافعي: "ولو أودعه دابة وأمره بعلفها وسقيها فأمر من فعل ذلك بها في داره كما يفعل بدوابه لم يضمن وإن بعثها إلى غير داره وهي تسقى في داره ضمن وإن لم يأمره بعلفها ولا بسقيها ولم ينهه فحبسها مدة إذا أتت على مثلها لم تأكل ولم تشرب هلكت ضمن وإن لم تكن كذلك فتلفت لم يضمن وينبغي أن يأتي الحاكم حتى يؤكل من يقبض منه النفقة عليها ويكون ديناً على ربها أو يبيعها فإن أنفق على غير ذلك فهو متطوع". قال في الحاوي: وصورتها في رجل أودع رجلاً دابة فلا يخلو حاله عند إيداعها عنده من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يأمره بعلفها. والثاني: أن ينهاه عن علفها. والثالث: أن لا يأمره ولا ينهاه. فأما القسم الأول: وهو أن يأمره بعلفها فعليه أن يربطها في حرز مثلها ويعلفها ويسقط عند حاجتها وقدر كفايتها، فإن علفها مع دوابه في منزله وكان حرزاً جاز وإن لم يكن حرزاً ضمن، وإن علفها مع دوابه وفي غير منزله فإن لم يكن حرزاً أو كان إلا أن القيم بها إذا لم يشاهده قصر في علفها ضمن، وإن كان حرزاً والقيم بها إذا أفرده بعلفها مع غير دوابه لم يقصر في علفها لم يضمن، ومراد الشافعي رضي الله عنه بإطلاق الضمان ما ذكرنا، وهو قول جمهور أصحابنا. وقال أبو سعيد الإصطخري: متى عزلها عن دوابه وعلفها وفي غير إصطبله ضمنها بكل حال، لأن الظاهر من فعل نظيره لنفسه أن اصطبله أحرز، وعلفها مع دوابه أحوط، فإذا ثبت ما وصفنا من مال حرزها وعلفها فلا يخلو حاله في الإذن من أحد أمرين: إما أن يشترط له الرجوع أو لا يشترط له الرجوع، فإن شرط له الرجوع فقال: أنفق عليها ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 176).

لترجع علي، أو أنفق علي ففي وجوب تقديره للنفقة وجهان: أحدهما: يجب تقديرها لتنتفي الجهالة عن ضمانها، وليزول الخلف بينهما في قدرها، فعلى هذا إن أنفق عليها من غير تقدير المودع كان متطوعاً لا يرجع بنفقته، وإن قدر له قد أرجع به، وإن زاد عليه كان متطوعاً. والثاني: لا يجب تقديرها لأن لنفقتها حداً يراعى فيه كفايتها فلم يحتج إلى التقدير، فعلى هذا يجوز إذا كان المالك هو الآذن في النفقة أن يتولاها المستودع بنفسه، ويقبل قوله في قدرها إذا لم يدع سرفاً، وإن لم يشترط له الرجوع بالنفقة حين أذن فيها ففي جواز رجوعه بها وجهان: أحدهما: يرجع اعتباراً بالأغلب من حال الإذن. والثاني: لا يرجع لاحتمال الإذن. فصل وأما القسم الثاني: وهو أن ينهاه عن علفها فلا يجوز له في حق الله تعالى أن يدع علفها، لأنها ذات نفس يحرم تعذيبها، ونهى - صلى الله عليه وسلم - عن ذبح البهائم (¬1) إلا لمأكلة، وقال: "في كل ذات كبد حرى أجر" (¬2) وعليه أن يأتي الحاكم حتى يجبر المالك على علفها إن كان حاضراً أو يأذن له من علفها ليرجع به إن كان غائباً، فإن علفها من غير حكم حاكم لم يرجع، وإن تركها فلم يعلفها حتى هلكت فالمحكي عن جمهور أصحابنا أنه لا يضمن، وهذا قول أبي العباس بن سريج وأبي إسحاق المروزي، وغيرهما، لأن نهيه عن النفقة إبراء من ضمان الذمة. وقال أبو سعيد الإصطخري: يضمن، وهو الأصح عندي، لأنه شرط قد منع الشرع منه فكان مطرحاً، وعلى كلا الوجهين لا يسقط عنه المأثم، وإنما الوجهان في الغرم، وعلى هذين الوجهين لو أذن له السيد في قتل عبده كان في سقوط الغرم عن قاتله وجهان، وقد حكاهما ابن أبي هريرة، وزعم أنهما مخرجان من اختلاف قوليه في الرهن إذا أذن للمرتهن في وطء الجارية المرهونة: هل يسقط عنه المهر بالإذن أم لا؟ على قولين فأما إن أمر بقطع يده أو جلده لم يضمن وجهاً واحداً، لاحتمال أن يكون الأمر بقطعه حداً في سرقة والجلد حداً في زنا، والله أعلم. فصل وأما القسم الثالث: وهو أن لا يأمره بعلفها ولا ينهاه فعليه علفها، لما يلزمه في الشرع من حرمة نفسها، فإن لم يعلفها حتى هلكت في مدة إن لم تأكل فيه تلفت فعليه غرمها. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 60)، وابن ماجه (3185). (¬2) أخرجه البخاري (2363)، ومسلم (2244)، وأحمد (3/ 202، 496)، والترمذي (532).

وقال أبو حنيفة: لا غرم عليه، استدلالاً بأن الأمر إنما يضمن الحفظ دون العلف فلم يكن منه تقصير فيما تضمنه المر فلم يضمن، وتعلقاً بأنه لو رأى بهيمة تتلف جوعاً فلم يطعمها لما ضمن، فكذلك هذه وهذا فاسد، لأن ما وجب بالشرع فهو كالمقترن بالأمر، وقد "نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - أن تتخذ الروح غرضاً" (¬1) وذكر في صاحبة الهرة التي دخلت بها النار ما يدل على أنه لا يجوز ترك البهيمة بلا علف، ولأن علفها من شروط حفظها، فلما كان حفظها واجباً وإن جاز أن تبقى بغير حافظ فأولى إن يكون علفها واجباً غذ ليس يجوز أن تبقى بغير غلف وبهذا بطل استدلاله. فأما من رأى بهيمة غيره تموت جوعاً فلم يطعمها فإنما لم يضمنها، لأنه لم يتعين عليه حفظها، وليست كالوديعة التي تعين عليه حفظها، فإذا ثبت وجوب علفها عليه وأنه يضمنها إن لم تعلف فالطريق إلى رجوعه بعلفها أن يأتي الحاكم حتى ينظر حال مالكها، فإن كان حاضراً ألزمه علفها، وإن كان غائباً نظر أولى الأمرين له من بيعها إن خاف أن يذهب في علفها أكثر منها أو النفقة عليها إن رأى ذلك قليلاً، فإن رأى الحاكم أن يأذن للمستودع في النفقة عليها، فهل يلزمه تقديرها له أم لا؛ على ما ذكرنا من الوجهين في المالك لو كان هو الأذن، وهل يجوز أن يتولى النفقة عليها بنفسه أو ينصب له أميناً يأخذها منه؛ على وجهين ذكرناهما في "اللقطة" فإن اتفق المستودع عليها من غير حكم حاكم، فإن قدر على استئذان الحاكم كان متطوعاً بالنفقة، ومن لم يقدر على استئذانه ففي رجوعه بالنفقة ثلاثة أوجه: أحدهما: يرجع بها أشهد أو لم يشهد، لوجوبها عليه، وعدم من يحكم بها له. والثاني: لا يرجع بها أشهد، أو لم يشهد، لأن لا يكون حاكم نفسه. والثالث: أنه أمر اشهد رجع وإن لم يشهد لم يرجع، لأن الإشهاد غاية إمكانه. مسألة (¬2) قَاَلَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ أَوْصَى المُودِعُ إِلَى أَمِينٍ لَمْ يَضْمَنْ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ أَمِينٍ ضَمِنَ". قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا حضر المستودع الموت، فإذا كان مالكها حاضراً، أو وكيله لم يجز أنه يوصي بها، كما لا يجوز إذا أراد السفر مع حضور مالكها أن يودعها، إن كان مالكها غائباً وليس له وكيل حاضر فإن لم يقدر على حاكم جاز أن يوصي بها إلى أمين وإن قدر على الحاكم ففي جواز الوصية بها غيره وجهان على ما ذكرنا في السفر، فإذا جاز له الوصية بها مع عدم الحاكم ومع وجوده في أحد الوجهين اختار ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 216، 273، 274)، والترمذي (1485)، والطبراني في ((الكبير)) (11/ 275، 445). (¬2) انظر الأم (3/ 177).

لها أميناً، فإن اختار لها أميناً قد اختاره لوصية نفسه كان أولى ولا ضمان عليه، وفي وجوب الإشهاد عليه بها وجهان، وإن اختار لها أميناً غير من اختاره لوصية نفسه، ففي ضمانه وجهان: أحدهما: لا يضمن، وهو قول الأكثرين من أصحابنا، كما لو أوصى ببعض ماله إلى رجل وبعضه إلى غيره. والثاني: وهو قياس أبي سعيد الإصطخري في علف الدابة في غير منزله أنه يضمن، لأن الظاهر ممن اختاره بنفسه أنه أظهر أمانة قلنا إن أوصى بها إلى غير أمين لم يجز، سواء جعله وصي نفسه أم لا؛ وسواء علم فسقه أم لا؛ لأن العمد والخطأ في ضمان الأموال سواء فإن فعل، نظر فإن سلمها إليه ضمنها لتفريطه فيها، وإن لم يسلمها إليه عند الوصية حتى هلكت ففي ضمانه لها وجهان: أحدهما: أنه لا يضمنها، لأنه ما أحدث فيها فعلاٌ. والثاني: يضمنها، لأنه قد سلط عليها، وإن لم يقبضها فصار ذلك عدواناً فوجب الضمان، فأما إن لم يوص بها حتى مات نظر، فإن لم يقدر على الوصية لمفاجأة الموت لم يضمن، وإن قدر عليها ضمن وبالله التوفيق. مسألة (¬1) قَاَلَ الشَّافِعِيُّ: "فَإِنْ انْتَقَلَ مِنْ قَرْيَةٍ آهِلّةٍ إِلَى غَيْرِ آهِلّةٍ ضَمِنَ". قال في الحاوي: اختلف أصحابنا في نقل هذا اللفظ، فذهب أبو إسحاق المروزي إلى أن الرواية فيه: "ولو انتقل من قرية أهله" يعني: كثير الأهل "إلى غير أهله" يعني: قليلة الأهل. وذهب أبو علي بن أبي هريرة إلى أن المراد بقوله: "ولو انتقل من قرية أهله" يعني: وطن أهله إلى غير وطن أهله. وجملة ذلك: أن لا يخلو حال القرية التي انتقل إليها من أن تكون آمنة أو غير آمنة، فإن كانت عبر آمنة كان ضامناً ينقل الوديعة إليها، وإن كانت آمنة لم يخل حاله من أن تكون قريبة أو بعيدة فإن كانت بعيدة ضمن لما في نقلها من إبعادها عن مالكها، فإن كانت قريبة لم يخل حال الطريق من أن يكون آمناً أو مخوفاً، فإن كان مخوفاً ضمن وإن كان آمناً لم يخل حال القرية التي انتقل عنها من أن تكون مخوفة أو آمنة، فإن كانت مخوفة لا يأمن على الوديعة فيها من غارة أو حريق، أو غرق لم يضمن، وإن كانت آمنة ففي ضمانه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي: أنه لا يضمن على ما قدمته من رواية ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 177).

اللقطة، وكما لو نقلها من محلة إلى أخرى. والثاني: وهو الأصح عندي، أنه يضمن، لأن من إخراج المال عن القرية تغرير لم تدع إليه ضرورة. مسألة (¬1) قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَإِنْ شَرَطَ أَنْ لاَ يُخْرِجَهَا مِنْ هَذَا المَوْضِعَ فَأَخْرَجَهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةِ فَإٍنْ كَانَ ضَرُورَةٍ وَأَخْرَجَهَا إِلَى حَرْزٍ لَمْ يَضْمَنْ".ٍ قال في الحاوي: وجملة حال المودع أنه لا يخلو من أن يعين للمستودع على حرز أو لا يعين، فإن لم يعين على حرز فعليه أن يحرزها حزر مثلها ويجوز له نقلها من ذلك الحرز إلى حرز مثله أو آخر لضرورة أو غير ضرورة إذا لم يكن النقل مخوفاً، لأنه قد كان له في الابتداء أن يحرزها حيث شاء فلذلك يجوز أن ينقلها حيث شاء وسواء أحرزها مع ماله أو نقلها مع غير ماله، وعلى قياس قول أبي سعيد الإصطخري متى أحرزها مع غير ماله أو نقلها مع غير ماله ضمن كالدابة. فصل فإن عين على حرز يحرزها فلا يخلو حاله من أن ينهاه عن إخراجها من ذلك الحرز أو لا ينهاه، فإن لم ينهاه عن إخراجها من الحرز الذي عينه جاز إحرازها فيه، سواء كان حرزاً لمثلها أو لم يكن، لأن مالكها باليقين قد قطع اجتهاده في الاختيار، فإن أخرجها من ذلك الحرز فذلك ضربان: أحدهما: لضرورة أمن غشيان نار، أو حدوث غارة، فلا ضمان عليه بإخراجها منه إذا كان الطريق في إخراجها مأموناً، ولو تركها مع حدث هذه الضرورة لكان لها ضامناً لأنه فرط بتركها. والثاني: أن ينقلها من ذلك الحرز إلى غيره من غير ضرورة حدثت، فلا يحلو حال الحرز الذي كانت فيه، والحرز الذي نقلت إليه من أربعة أقسام: أحدهما: أن يكون المعين غير حريز والمنقول إليه حريزاً، فلا ضمان عليه. والثاني: أن يكون المعين حريزاً، والمنقول غير حريز، فعليه الضمان. والثالث: أن يكون المعين غير حريز والمنقول غير حريز، فعليه الضمان، لأنه قد عدل عن التعيين إلى غيره اختياراً. والرابع: أن يكون المعين حريزاً والمنقول إليه حريزاً في الحرز المعين فإن لم يكن لرب الوديعة جاز نقلها ولم يضمن، لأن حقه في الإحراز دون الحرز، وإن كان ملكاً لرب ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 177).

الوديعة ففيه وجهان: أحدهما: يجوز نقلها ولا يضمنها تغليباً لحكم الحفظ المعتبر مع الإطلاق، ويضمنها اعتباراً بالتعيين القاطع للاختيار. والثاني: لا يجوز له نقلها اعتباراً بالتعيين القاطع للاختيار. فصل وإن نهاه مع التعيين على الحرز عن إخراجها منه فلا يخلو حال الحرز من أن يكون للمودع أو المستودع، فإن كان للمودع فسواء كان مالكاً أو مستأجراً شرطه واجب، وليس للمستودع نقلها من غير ضرورة، فإن نقلها مع ارتفاع الضرورة ضمنها، سواء نقلها من دار إلى دار، ضمن أو نقلها من بيت إلى بيت ضمن. وقال أبو حنيفة: إن نقلها من دار إلى دار ضمن وإن نقلها من بيت إلى بيت أو من صندوق إلى صندوق لم يضمن احتجاجاً بأن الدور المختلفة قد تتباين في الإحراز والبيوت في الدار الواحدة لا تتباين، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن البيوت من الدار الواحدة قد تختلف في الحرز كاختلاف الدور. والثاني: أن في نقلها مع التعيين تصرفاً غير مأذون فيه، فصار به متعدياً وجملة ذلك أن له في نقلها من بلد إلى بلد. والثاني: من دار إلى دار. والثالث: من بيت إلى بيت. والرابع: من صندوق إلى صندوق، فعندنا يضمن إذا نقلها في هذه الأحوال الأربعة مع التعيين، وعند أبي حنيفة يضمن في حالتين في البلد والدار ولا يضمن في حالتين في البيت والصندوق، وغن كان الحرز للمستودع ففي لزوم ما شرطه للمودع عليه من أن لا يحرزها منه وجهان: أحدهما: قول ابن أبي إسحاق المروزي، أنه شرط واجب، ومتى أخرجها منه لغير ضرورة ضمن، لأن المودع لم يرض لإحراز ماله إلا ما عينه. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه شرط لا يجب، وإن أخرجها من غير ضرورة له لا يضمن، لأنه لا يملك الحرز وليس يستحق إلا الحفظ. فصل فأما إذا دعت الضرورة إلى إخراجها من الحرز الذي عينه لحفظ الوديعة فيه من غشيان نار أو حدوث حريق فهذا على ضربين: أحدهما: أن ينص المودع على أن لا يخرجها منه في هذه الأحوال. والثاني: أن لا ينص، فإن لم ينص على ذلك بل نهي عن إخراجها منه على

الإطلاق جاز مع حدوث هذه الضرورات المتجددة إحراجها، لأن نهيه عن إخراجها، إنما هو لفرط الاحتياط في حفظها، فلم يجز تكرها في مكان يفضي إلى تلفها، فإن تركها ولم ينقلها حتى تلفت فعليه الضمان، لتفريطه بالترك وإن نص على أن لا تخرج منه، وإن غشيت نار، أو حديث غارة، فإن كان حيواناً يخاف على نفسه من غشيان النار كان هذا فيه شرطاً باطلاً ولزم إخراجه مع النهي عنه، كما يلزم علفه، وإن نهي عنه، فإن أخرجه لم يضمنه، وإن تركه ففي ضمانه وجهان كالدابة إذا شرط عليه أن لا يعلفها، وإن لم يكن حيواناً يخاف تلف نفسه ففي لزوم شرطه وجهان بناء على اختلاف الوجهين المحكيين عن أبي إسحاق المروزي في الوكيل إذا وكل من شراء عبد بعينه بعشرة فاشتراه بأقل منها، فإن لم ينهه الموكل عن شرائه بأقل من عشرة صح الشراء، وإن نهاه ففي لزوم شرط وصحة عقده وجهان: أحدهما: الشرط باطل، والشراء صحيح. والثاني: أن الشرط اللازم، والشراء الباطل كذلك هذا الشرط، وهذا الموضع يخرج على هذين الوجهين: أحدهما: يلزم لقطع الاجتهاد بالنص، فعلى هذا إن أخرجه ضمن وإن تركه لم يضمن. والثاني: لا يلزم تغليباً لحكم الاحتياط في نصه، فعلى هذا إن أخرجه لم يضمن، وإن تركه ففي ضمانه وجهان على ما ذكرنا في الدابة المنهي عن علفها إذا لم يعلفها، فأما مؤنة إخراجها ونقلها فإن منع كان متطوعاً به، وكذلك لو كان له ولم يجب عليه كان متطوعاً به، وإن وجب عليه كان كالعلف على ما مضى. مسألة (¬1) قّالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ قَالَ المُودِعُ أَخْرَجْتُهَا لَمَّا غَشِيتَنْي النَّارُ، فَاِنْ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ كَانَ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ نَارٌ، أَوْ أَثَرٌ، يَدُلُّ فَلقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِيِنِه". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا أخرج الوديعة من حرز شرط عليه أن لا يخرجها منه فقد ذكرنا أنه إن كان لضرورة لم يضمن، إن كان بغير ضرورة ضمن، فلو اختلف المودع والمستودع، فقال المستودع: أخرجتها لنار غشيت أو لغارة حدثت فلا ضمان علي، وقال المودع: بل أخرجتها بغير سبب فعليك الضمان فلا يخلو حال هذه الدعوى في غشيان النار وحدوث الغارة من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يعلمه عياناً أو خيراً أو يرى لذلك أثراً، فالقول قول المستودع مع يمينه بالله تعالى أنه أخرجها لذلك، وإنما يلزمه اليمين وإن علمنا حال العذر، لجواز أن يكون ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 177).

إخراجه لها لغير هذا العذر، وسواء كان حدوث ذلك من داره أو من جواره. والثاني: أن يعلم كذب ما ادعاه من حدوث والغارة فدعواه مردودة بيقين كذبه، ولا يمين على المودع لاستحالة الدعوى. والثالث: أن يكون ما ادعاه ممكناً لجواز أن يكون قد حدث، ويجوز أن لا يكون فيقال للمستودع ألا علمت من الحال السلامة، والظاهر من إخراجك التعدي، فإن أقمت البينة بحدوث الخوف ينتقل بها عن الظاهر جعلنا حينئذٍ القول قولك مع يمينك بأنك أخرجتها بغليان النار وحدوث الغارة، وإن لم تقم بينة تنقلها عن الظاهر غلبنا حكم الظاهر وجعلنا القول قول المودع مع يمنيه بالله بأنه لم يحدث من الناحية ناراً ولا غارة، لأن الظاهر معه، ويصير ضامناً للوديعة، فأما إن نقلها خوفاً من حدوث غارة أو نار فلم تحدث غارة ولم تغشى نار فإن كانت أمارات صدق دعواه ظاهرة ودواعيه غالبة لم يضمن، وإن كان ظناً وتوهماً ضمن. مسألة (¬1) قال الشافعي: "ولو قال دفعتها إلى فلان يأمرك فالقول قول المودع ولو قال: دفعتها إليك فالقول قول المودع". قال في الحاوي: وهما مسألتان: أحدهما: أن يدعي المستودع رد الوديعة على مالكها. والثانية: أن يدعي دفعها إلى غير مالكها بإذنه، فالقول قوله في الرد مع يمينه، سواء كان المودع قد أشهد عليه عند الدفع للوديعة إليه أو لم يشهد. وقال مالك: إن المودع قد أشهد عليه عند الدفع لم يقبل قول المستودع في الرد، وإن لم يشهد عليه فقبل قوله استدلالاً بأنه إذا لم يشهد عليه فقد رضي بأمانته قبل قوله عليه، فإذا أشهد عليه لم يرض بأمانته فلم يقبل قوله عليه، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه لما كان قوله من التلف مقبولاً مع الشهادة وعدمها، وجب أن يكون قوله من الرد مقبولاً مع الشهادة وعدمها. والثاني: أنه لما كان قول الوكيل مقبولاً في الحالتين، وقول المقرض والمستعير في الرد غير مقبول في الحالتين، كان المستودع ملحقاً بأحد الأصلين في أن يكون قوله في الرد مقبولاً في الحالتين أو مردوداً في الحالين فلما كان في أحد الحالين مقبولاً وجب أن يكون من الآخر تقرر. فإذا تقرر مقبول القول في الرد فإنما يقبل قوله ما كان على أمانته فلو ضمنها بتفريط أو عدوان لم يقبل قوله في الرد، وكان القول قول المودع يمينه، وله الغرم، وهكذا لو ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 177).

مات المودع فادعى المستودع رد الوديعة على وارثه لم يقبل قوله؛ لأنه إن لم يصر بموت المودع ضامناً فقد صار بموته خارجاً من عقد الوديعة وولاية النظر، ولأنه يصير مدعياً للرد على غير من ائتمنه فصار كالوصي الذي لا يقبل قوله في رد مال اليتيم عليه وهكذا لو مات المستودع فادعى وارثه رد الوديعة على المودع لم يقبل قوله عليه، لما ذكرنا مع المعنيين: ارتفاع العقد بالموت، وعدم الائتمان في الوارث. فصل وأما المسألة الثانية: وهو أن يدعي رد الوديعة على غير المودع بأمر المودع فقوله غير مقبول فيما ادّعاه على المودع من الأمر والدفع. وقال أبو حنيفة: قول في ذلك مقبول، كما لو ادعى ردها عليه، لأنه على أمانته، وهذا فاسد لأمرين: أحدهما: أنه لما لم يقبل قوله على المدفوع إليه فأولى أن لا يقبل على المودع الذي ليس بمدفوع إليه. والثاني: هو قرينة ودليل أنه قد ادعى على المدفوع إذناً لم يتضمنه عقد الوديعة فلم يقبل قوله فيه، وفي ادعاء الرد يكون مدعياً لما تضمنه عقد الوديعة فقبل قوله فيه، والله أعلم. فصل فإذا ثبت أنه غير مقبول القول، فيما ادعاه من الإذن والدفع فلا يخلو حال المودع من أحد أمرين: إما أن يقر بالإذن أو ينكره، فإن أنكر الإذن فالقول قوله مع يمينه، والمستودع ضامن للوديعة بما ادعاه من دفعها إلى غير مالكها، ثم لا يخلو حال الوديعة من أن تكون باقية في يد المدفوع إليه أو تالفة، فإن كانت باقية فعلى المستودع استرجاعها من المدفوع إليه وردها على المودع المالك، وللمودع مطالبة أيهما شاء بالرد، وإن لزم من الرد مؤنة التزمها المستودع لأن بعدو أنه لزمت. وإن كانت الوديعة تالفة فلا يخلو حال المدفوعة إليه من أن يكون مقراً بقبضها أو منكراً، فإن كان منكراً فالقول قوله ولا يمين عليه، وهو من المطالبة، وإنما لم يجب عليه يمين لأن المالك لا يدعيها عليه، والدافع مقر له بالإبراء إلا أن يدعي دفعها إليه قرضاً أو غارية ولا وديعة فيكون له عليه الثمن، ثم للمودع الرجوع بغرمها على المستودع. فصل وإن كان المدفوع إليه مقراً بقبضها منه فالمودع بالخيار في الرجوع بغرمها على أيهما شاء، فإن رجع بها على المستودع كان له، لعدوانه بالدفع، وإن رجع بها على المدفوع إليه كان له، لعدوانه بالقبض، فإذا رجع بهما على أحدهما وأراد الغارم لهما

الرجوع بها على صاحبه نظر في سبب الدفع فستجده على خمسة أقسام: أحدهما: أن يقول أمرني بدفعها قرضاً. والثاني: عارية. والثالث: قضاء من دين. والرابع: هبة. والخامس: وديعة، فإن قال: أمرني بدفعها قرضاً، أو عارية فالحكم فيهما سواء لاشتراكهما في الضمان، فإن كان المالك قد رجع بالعزم على الدافع به على الآخذ، وإن كان قد رجع بالغرم على الآخذ لم يرجع بالآخذ به على الدافع، وإن قال: أمرني أن أدفعها قضاء من دين فإن كان المودع معترفاً بالدين وحلوله، وكانت الوديعة من جنسه فلا رجوع له بالغرم علة واحد منها، لأنها مستحقة في دينه، وإن لم يأذن بها، وإن كان منكراً للدين كان له الرجوع بالغرم على أيهما شاء، فإن رجع به على الدافع نظر فإن صدق الأخذ من الدين لم يرجع الدافع عليه بالغرم وإن لم يصدقه رجع به عليه، وإن رجع به على الآخذ لم يرجع الآخذ به على الدافع بكل حال، سواء صدقه على دينه أو كذبه، وإن قال الدافع: أمرني بدفعها هبه، نظر فإن رجع المودع الغرم على الدافع لم يرجع على الآخذ، وإن رجع بالغرم على الآخذ لم يرجع الآخذ على الدافع وإن قال الدافع: أمرني بدفعها وديعة نظر فإن رجع المودع على الدافع لم يرجع الدافع على الآخذ، وإن رجع بالغرم على الآخذ ففي رجوع الأخذ به على الدافع وجهان: أحدهما: أن لا رجوع له، لأنه مقر أنه مظلوم به. والثاني: يرجع به لن الدافع ألجأه إلى الغرم بائتمانه له ودفعه إليه فهذا حكم المودع إذا أنكر الإذن. فصل وإن أقر المودع أنه قد أذن له في الدفع فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون المدفوع إليه مقراً بالقبض، فالدافع يتبرئ من الضمان ولا غرم عليه، سواء صدقه المودع على الدفع أو كذبه، لأن المراعي من جهة المودع الإذن وقد أقر به، والمراعي من جهة المدفوع إليه القبض وقد أقر به. والثاني: أن يكون المدفوع إليه منكراً للقبض، فلا يخلو حال المودع المقر بالإذن من أن يكون مصداقاَ للدافع أو مكذباً، فإن كان مكذباً له فالدافع ضامن، وادعاؤه للدفع غير مقبول على المودع لتكذيبه ولا على المدفوع إليه لإنكاره. وإن كان المودع مصدقاً له على الدفع فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون حاضراً عند الدفع. والثاني: أن يكون غائباً، فإن كان حاضراً عند الدفع فلا ضمان على الدافع، لأن

التوثق بالإشهاد مع حضور الإذن إنما يتوجه إليه دون الدافع على الصحيح من المذاهب فلم يكن من الدافع تفريط بترك الإشهاد، ولذلك لم يضمن. فصل والضرب الثاني: أن يكون المودع المصدق على الدفع والآذن غائباً عن الدفع، فلا يخلو حال الدفع المأذون فيه من ستة أقسام: أحدهما: أن يكون قرضاً. والثاني: أن يكون عارية والحكم في هذين القسمين سواء، والدافع ضامن لما دفع وأنه صدقه الآذن على الدفع، لأنه قد كان يجب عليه أن يشهد على الدفع ليتمكن الآذن بالشهادة أن يرجع ببدل القرض وقيمة العارية، فصار بترك الإشهاد مفرطاً، فلزمه الغرم وإن كان مصدقاً فلو كان قد أشهد شاهدين عدلين فماتا لم يضمن، لأن ما يلزمه من الإشهاد قد فعله، ولكن لو كان قد أشهد عبدين، أو كافرين لزمه الضمان، ولو أشهد شاهدين فاسقين، فإن كان فسقهما ظاهراً وإن كان باطناً ففي ضمانه وجهان: أحدهما: يضمن كالفسق الظاهر، لأنه الشهادة بردهما. والثاني: يضمن، لأن من الحكام من لا يحكم بها فصار ذلك تقريراً. فصل والقسم الثالث: أن لا يكون الأمر بالدفع قضاء لدين فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون على المودع فيه شهادة فيضمن الدافع، لأنه لم يشهد بالدفع فيبرأ المودع من المطالبة بالدين، وإن لم يكن على المودع فيه شهادة ففي ضمان الدافع فيه وجهان: أحدهما: لا يضمن، لأن للمودع أن يحلف على الدين إن طولب به فيبرأ المودع من المطالبة بالدين، وإن لم يكن على المودع فيه شهادة ففي ضمان الدافع فيه وجهان: أحدهما: لا يضمن، لأن للمودع أن يحلف على الدين إن طولب به فيبرأ. والثاني: أنه ضامن، لأن إذنه يضمن دفعاً لا يتعقبه مطالبة ولا يتوجه فيه يمين، فصار بمخالفة من ترك الشهادة مفرطًا والله أعلم. فصل والقسم الرابع: أن يكون الأمر بالدفع هبة. فإن قيل: إنه المكافأة فيها لا تستحق لم يضمن الدافع بترك الإشهاد. وإن قيل: إن المكافأة مستحقة ضمن، لأن الأمر لا يصل إليها بترك الإشهاد.

فصل والقسم الخامس: أن يكون المر بالدفع استيداعاً لها عند المدفوع إليه، ففي ضمانه وجهان بناء على اختلاف الوجهين في وجوب الإشهاد فيمن أودع لغيره مالاً: أحدهما: يجب عليه أن يشهد، فعلى هذا يضمن. والثاني: لا يجب عليه أنه يشهد، فعلى هذا لا يضمن. فصل والقسم السادس: أن يكون الأمر بالدفع، لأنها وديعة للمدفوع إليه أمره المودع بردها عليه، فلا يخلو حال المودع الأمر بالرد من أحد أقسام: أحدها: أن يردها على يد هذا المستودع من غير أمر ولا عار، فيكون الآمر متعدياً ضامناً، وقول الدافع غير مقبول في الرد على المالك، وهل يكون للأمر الرجوع إذا أغرمها على الدافع إذا لم يشهد عند الدفع على الوجهين. والثاني: أن يردها بغير أمر لكن بعذر، فلا ضمان على الآمر على ما ذكرنا من حال عذره بسفر أو غيره، ولا يقبل قول الدافع المأمور في الرد على المالك. وقال أبو حنيفة: قول مقبول عليه كما يقبل قول الآمر عليه، وهذا فاسد لأن المالك قد ائتمن الآمر على نفسه فجاز أن يقبل قوله عليه، ولم يأتمن المأمور فلم يقبل قوله عليه. والثالث: أن يكون قد ردها بأمر مالكها لكن لم يعين له من يردها معه فلا ضمان على الآمر إذا صدقه المالك في الرد، لأنه لم يأتمنه على نفسه وإذا كان كذلك صار المأمور له يعمل ضامناً لها من حق المالك لا من حق الآمر على الدافع إلى المأمور، وقول المأمور غير مقبول على المالك من حق المالك. والرابع: أن يكون قد ردها بأمر مالكها وتعيينه له على المأمور أن يردها معه، فقول المأمور هاهنا مقبول في الرد على المالك، لأن المالك قد ائتمنه على نفسه بالتعيين عليه إن كان المالك مصدقاً للآمر في الدفع إلى المأمور، وان لم يصدقه فالآمر ضامن، وقوله في الدفع إلى المأمور غير مقبول. مسألة (¬1) قال الشافعي: "ولو حولها من خريطة إلى أحرز أو مثل حرزها لم يضمن فإن لم يكن حرزاً لها ضمن". قال في الحاوي: وهذا صحيح. ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 177).

والحكم في نقل الوديعة من خريطة إلى أخرى، أو من صندوق إلى صندوق، كنقلها من بيت إلى بيت، ومن دار إلى دار وان خالفنا أبو حنيفة خلافاً تقدم الكلام معه فيه، وإذا كان هذا هكذا فلا يخلو أن تكون الخريطة مختومة مشدودة أم لا، فإن كانت مشدودة مختومة فكسر ختمها وحل شدها ونقلها إلى غيرها فعليه الضمان، ولو لم ينقلها بعد كسر الختم وحل الشداد ففي ضمانه وجهان، وإن كانت الخريطة غير مشدودة ولا مختومة فهذا على ضربين: أحدهما: أن تكون الخريطة للمستودع؛ لأن الدراهم كانت مرسلة فأحرزها المستودع في خريطة فله نقلها إلى مثلها أو أحرز، فإن فعل فلا ضمان لعذر كان أو غير عذر، وإن نقلها إلى أدون منها مما لا يكون حرزاً لها ضمن. والثاني: أن تكون الخريطة للمالك، فليس له نقلها من تلك الخريطة إلى غيرها إلا من عذر، فإن نقلها من غير عذر ضمن، سواء نقلها إلى أحرز منها أم لا، وإن نقلها من عذر فلا ضمان عليه، فلو اختلفا في صفة النقل هل هو لعذر أو غير عذر فالقول قول المالك مع يمينه، لأن الظاهر إخراجها عدوان إلا أن يكون من عذر. مسألة (¬1) قال الشافعي: "ولو أكرهه رجل على أخذها لم يضمن". قال في الحاوي: اختلف أصحابنا في مراد الشافعي بهذه المسألة في الإكراه على أخذ الوديعة. فقال أبو علي بن أبي هريرة: هي مصورة في مالك مال أراد أن يودعه عند رجل فامتنع عليه فأكرهه على أن دفعها إليه، فأخذها المستودع منه كرهاً فلا ضمان عليه وإن كان مكرهاً في الأخذ، لأنه مؤتمن إلا أن يكون منه عدوان أو تفريط، فيضمن، لأنه وإن كان مكرهاً، فقد صار حفظها عليه بعد حصولها في يده واجب، فإذا خالفه ضمن، فإن لم يحسن التزام حفظها سلمها إلى الحاكم، فسقط الحفظ والضمان عنه بتسليمها إليه إذا كان المالك ممتنعاً من استرجاعها. فصل وقال أبو إسحاق المروزي: هي مصورة في رجل تبل وديعة طوعاً، ثم تغلب عليه متغلب فأكرهه على أخذها منه، فهذا على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يأخذها المتغلب بنفسه من غير أن يدفعها المستودع ولا دلالة عليها، فهذا غير ضامن لها، لأنه لا يقدر على دفع الأيدي الغالبة. والثاني: أن يدفعها بنفسه مكرهاً ففي ضمانه وجهان: ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 177).

أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري، لا ضمان عليه، لأنه لا يلزمه أن يقي مال غيره بنفسه، كما لو صال عليه فحل فغلبه. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي: أنه ضامن لها، لأنه ليس له أن يقي نفسه بمال غيره، كما لو ألقى في البحر مال غيره، وقد جعل هذان الوجهان بنا، على الوجهين من الصائم إذا أكره على الفطر فأكل بنفسه وتخريجاً من القولين في المكره على القتل، فعلى هذين الوجهين لو امتنع من دفعهما وحلف إنكاراً لها فإن جعلناه ضامناً للدفع كانت يمينه يمين مكره لا يتعلق بها حنث، وإن لم نجعله ضامناً بالدفع حنث. والثالث: أنه لا يدفعها بنفسه ولكن يدل عليها فتؤخذ بدلالته فمذهب الشافعي لا ضمان عليه، لأن الدلالة سبب والأخذ مباشرة، فصار كالمحرم إذا دل على صيد لم يضمنه، وقال بعض أصحابنا البصريين: يضمن لأنه في الوديعة ممنوع من العدوان والتفريط والدلالة واحد منهما، فضمن بها وإن كان معذوراً. مسألة (¬1) قال الشافعي: "ولو شرط أن لا يرقد على صندوق هي فيه فرقد عليه كان قد زاده حرزاً". قال في الحاوي: أما نومه على الصندوق من غير أن ينهاه المالك عنه فهو زيادة حرز لا يضمن به إجماعاً، فأما إذا نهاه عن النوم عليه فذلك ضربان: أحدهما: أن لا يقصد بنهيه التخفيف عنه والترفيه عليه، فمتى نام عليه لم يضمنه. والثاني: أن يقصد بالنهي عن النوم عليه الكراهة خوفاً من التنبيه عليه، ففي ضمانه إذا نام عليه وجهان: أحدهما: وهو الظاهر من مذهب الشافعي وقول الأكثرين من أصحابنا أنه لا يضمن لأنه قد زاده حرزاً، فصار كمن أودع خريطة فجعلها من خريطة ثانية. والثاني: وهو قول مالك، يضمن لما فيه التنبيه عليها والإغراء بها، وهكذا لو أمره أن يقفلها بقفل واحد فقفلها بقفلين كان ضمانه على هذين الوجهين، وهكذا لو أمره أن يدفنها في أرض ليس عليها حائط. فدفنها فيها وبني عليها حائط كان على هذين الوجهين، وهكذا لو أمره أن يتركها في بيت لا يحفظه أحد فأقام فيه من يحفظه فسرقت فإن كان الحافظ لها سرقها ضمن، وان سرقها غيره فضمانه على وجهين. مسألة (¬2) قال الشافعي: "ولو قال: لم تودعني شيئاً ثم قال: قد كنت استودعتنيه فهلك ضمن". ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 177). (¬2) انظر الأم (3/ 177).

قال في الحاوي: وصورتها: في رجل أوع رجلاً وديعة ثم طالبه بها فجحدها وقال: لم تودعني شيئاً، ثم عاد فاعترف بها وقال: قد كنت استودعتها وتلفت، أو قامت بها البينة عليه، فادعى بتلفها لم يقبل منه لأمرين: أحدهما: أنه قد صار بالجحد متعدياً فضمنها، ومن ضمن وديعة لم تسقط عنه الغرم بتلفها. والثاني: أنه بالإنكار الأول قد أكذب نفه بادعاء التلف، فعلى هذا لو أقام بينة على تلفها فهذا على ضربين: أحدهما: أن تشهد له البينة بتلفها بعد الجحود، فلا تسمع، والغرم واجب عليه، لأنها تلفت بعد الضمان ولو سأل إحلاف المودع أنه لا يعلم بتلفها لم يكن ذلك له. والثاني: أن تشهد له البينة بتلفها قبل الجحود، ففي استماعها والحكم بها وجهان: أحدهما: يسمح ويحكم بها، ويسقط عنه الغرم، لأنها تلفت قبل ضمانها بالجحود. والثاني: وهو اختيار أبي علي بن أبي هريرةء أنها لا تسمع ولا تسقط عنه الغرم، لأنه قد كذب لها بالجحود المتقدم. فصل ولو قال حين طولب الوديعة: ليس لك معي وديعة، أو لا حق لك في يدي، ثم أقر بها وادعى تلفها قبل منه، لأنه ليس في القولين تكاذب، ومن تلفت الوديعة منه فلا وديعة معه ولا يده، وخالف حال المنكر لها لما فيه من تكاذب القولين، والله أعلم. مسألة (¬1) قال الشافعي: "وإن شرط أن يربطها في كمهء فأمسكها بيد، فتلفت لم يضمن ويده أحرز". قال في الحاوي: هكذا روى المزني أنه لا يضمن ويده أحرز، وروى الربيع في الأم أنه يضمن وكمه أحرز، فاختلف أصحابنا وكان بعضهم يحمل اختلاف الروايتين على اختلاف قولين: أحدهما: وهو ما رواه المزني هاهنا أنه لا يضمن، ويده أحرز من كمه، لأنها قد تسرق من كمه ولا تسرق من يده. والثاني: وهو ما رواه الربيع في "الأم" (¬2) أنه يضمن وكمه أحرز من يده لأن اليد حرز مع الذكر دون النسيان والكم حرز مع الذكر والنسيان وامتنع أبو إسحاق المروزي، وأبو علي بن أبي هريرة، وكثير من أصحابنا من تخريج ذلك على قولين، وحملوا رواية ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 178). (¬2) انظر الأم (4/ 62).

المزني في سقوط الضمان على أنه ربطها في كمه ثم أمسكها بيده فلا يضمن، لأن يده مع كمه، وحملوا رواية الربيع في وجوب الضمان على أنه تركها في يده ولم يربطها في كمه فيضمن، لأن كمه أحرز من يده. فصل فأما إذا شرط عليه أن يمسكها في يده فربطها في كمه فمن جعل يده أحرز ضمنه، ومن جعل كمه أحرز خرج ضمانه على وجهين من اختلاف الوجهين في نص المودع هل يقطع اجتهاد المستودع، ولو أمره أن يحرزها في جيبه فأحرزها في كمه ضمن لأن جيبه أحرز ولو أمره أن يحرزها في كمه فأحرزها في جيبه كان ضمانه على هذين الوجهين. فصل ولو دفع إليه وديعة ولم يشترط عليه أن يضعها في كمه ولا في جيبه ولا في يده فإن وضعها في كمه وربطها كان حرزاً سواء ربطها من داخل كمه أو من خارجة. وقال أبو حنيفة: إن جعلها من ظاهر كمه وربطها من داخله لم يضمن؛ لأنها تصير بعد الربط داخله في كمه، وإن جعلها داخل كمه وربطها من خارجه ضمن، لأنها تصير بعد الربط خارجة من كمه، وهذا القول لا وجه له؛ لأن الكم به يصير حرزاً لا بانفراده فاستوي الأمران، فأما إن تركها في كمه ولم يربطها، نظر فإن كان ذلك خفيفاً قد ربما يسقط منه، وهو لا يعلم به ضمن، وإن كان ثقيلاً، ولا يخفي عليه حال سقوطه لم يضمن ولو ترك الوديعة في جيبه، فإن لم يزره عليها فمن، وان زره عليه لم يضمن، لأن الجيب أحفظ لها إذا أمن سقوطها منه لبعده من السارق، فلو كان الجيب مثقوباً وهو لا يعلم به فسقطت أو حصلت بين قميصه وهو لا يشعر بها فسقطت ضمنها، ولو تركها في يده، فإن كان منزله قريباً كانت يده أحرز، وإن كان منزله بعيداً فإن كانت خفيفة لا يأمن السهو عنها ضمن ولم تكن يده حرزاً، وان كانت ثقيلة يأمن السهو فيها لم يضمن، فأما الخاتم إذا لبسه من أصبعه كانت حرزاً، وان كانت ثقيلة يأمن السهو فيها لم يضمن، فأما الخاتم إذا لبه من أصبعه كانت حرزاً إذا كان متماسكاً في خنصره، ولو كان واسعاً لم يكن حرزاً، ولو لبس الخاتم المستقر فيه خنصره ففي البنصر من أصابعه لم يضمن، لأنها أغلظ، ولو لبسه في الإبهام ضمنه، لأنه لا يستقر فيها وان غلظت، ولو لبس الخاتم في إحدى يديه ثم نقله إلى اليد الأخرى فإن كان ذلك لعمل أراد أن يعمله بتلك اليد لم يضمن وان كان بغير سبب ضمن. فصل وإذا حمل ما ني كمه أو جيبه أو يده إلى منزله من الوديعة فعليه إحرازه فيه، ولا يكون كمه ولا جيبه ولا يده حرزاً له بعد حصوله في منزله، فإذ منزله أحرز له فلو خرج

بها في جيبه أو كمه أو يده من منزلة ضمن. فصل ولو أودع وديعة وهو في دكانه فحملها إلى منزله فإن كان الدكان حرزاً لمثلها ضمن، وان لم يكن حرزاً لم يضمن إذا حملها إلى منزله، وهكذا لو أودع وديعة وهو في منزله فحملها إلى دكانه، فإن كان منزله حرزاً لمثلها ضمن، وإن لم يكن حرزاً لمثلها وكان الدكان أحرز فلا ضمان عليه ولو أودع وديعة وهو في دكانه فوضعها بين يديه فسرقت فإن كان وضعه لها ارتياداً لموضع من دكانه يحرزها فيه لم يضمن لعدم تفريطه، وإن كان استرسالاً وإمهالاً ضمن. فصل ولو أودع وديعة وهو في منزله فأحرزها فيه، ثم دخل من سرقها منه فإن دخل بغير إذنه لم يضمن، وإن دخل بإذنه ضمن إذا نالتها يده ولو سرقها بعض أهل منزله من زوجة، أو خادم، أو ولد نظر في سارقها فإن كان مشهوراً بالرقة ضمن، لأن تمكين مثله من منزل فيه وديعة لغيره أو ترك الوديعة في منزل تركها في مثله تفريط، وإن كان غير مشهور بذلك نظر فإن كان أخذها من وراء حرز في المنزل كباب وقفل ولم يضمن، لأنه لا ينسب إلى التفريط، وإن كانت بارزة تمتد إليها يده في المنزل نظر فإن كانت الوديعة دراهم أو حلياً أو ثياباً جرت العادة أن يكون حرزها من المنازل مفرداً عن مواضع ساكنيه ضمن، وان كان خافياً لا يحرز مثله إلا فيه ظواهر المنازل لم يضمن، والله أعلم بالصواب. مسألة (¬1) "وإذا هلك وعنده وديعته بعينها فهي لربها وإن كانت بغير عينها مثل دنانير أو ما لا يعرف بعينه خاص رب الوديعة الغرماء". قال في الحاوي: وأما موت المستودع فمبطل لعقد الوديعة، لأنه مالكها لم يأتمن وارثه عليها، فإن كان مالكها حاضراً وجب على الوارث ردها عليه فإن لم يفعل ضمن، وإن كان مالكها غائباً لزم الوارث إعلام الحاكم بها حتى يأمره فيها بما يراه حظاً لمالكها من إحرازها في يد الوارث أو نقلها إلى غيره، فإن لم يعلم الحاكم بها ويستأذنه فيها ضمن، وهكذا لو مات رب الوديعة بطل العقد، ولزم المستودع ردها على وارثه، لأنها صارت بالموت ملكاً للوارث والوارث لم يأتمنه عليها، فإن لم يفعل ضمن إلا أن يستأنف الوارث إيداعها عنده فتصير وديعة مبتدأه، ولو أن المالك المودع جن، أو حجر عليه بالسفه لبطل الوديعة، وكان على المستودع ردها على وليه، لأنه خرج بالجنون والسفه أن يكون ذا نظر في ماله، فإن لم يفعل المستودع ذلك ضمن، ولو جن المستودع أو حجر ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 178).

عليه بالسفه كان على وليه رد الوديعة على ربها، فإن لم يفعل ضمنها الولي، لزوال الائتمان بطروء الجنون والسفه والله أعلم. فصل فإذا تقرر ما وصفنا ومات المستودع فلا يخلو حال الوديعة من أحد أمرين: إما أن تكون موجودة بعينها أو غير موجودة، فإن كانت موجودة وعينها باقية لزم الوارث تسليمها إلى مالكها وذلك بأحد ثلاثة أمور. إما بوصية الميت، وإما بإقرار الوارث، وإما ببينة يضمنها المودع، فإن لم تكن بينة ولا وصية وأنكر الوارث وادعاها مالكاً، فالقول فيها قوله مع يمينه، هذا إذا كانت الوديعة موجودة بعينها فأما إذا لم توجد الوديعة بعينها فهذا على ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يعلم تلفها بغير تفريط إما بوصية الميت أو ببينة تشهد بذلك فلا ضمان من تركة البيت، فإن أكذب المالك الميت في وصيته بتلفها فله إحلاف الورثة ثم هم براء. والثاني: أن يعلم أنها تفلت بتفريطه وتعديه إما بوصية أو ببينة تشهد له بذلك، فهي مضمونة من ماله ويحاص المالك بها جميع الغرماء،. والثالث: أن يجهل حالها فقد قال الشافعي (¬1): ويحاص رب الوديعة الغرماء، فاختلف أصحابنا في ذلك على أربعة مذاهب: أحدهما: وهو ظاهر كلام الشافعي: أنها مضمونة من تركة الميت، وهو قول أبي حنيفة، لأن الظاهر من ثبوت يده عليها أنها تلفت بفعله. والثاني: أنها غير مضمونة من تركته وهو قول ابن أبي ليلى، لأن الأصل بقاؤه على أمانته. والثالث: أنه إن وجد في تركته من جنسها كانت مضمونة فيها، وان لم يوجد من جنسها شيء في تركته لم يضمن، وهذا قول أبي حامد المروروزي لأن الظاهر من وجود جنسها أنها فيه أو منه. والرابع: أنه إن ذكر في وصيته عند موته أن عنده وديعة كانت مضمونة في تركته، وإن لم يذكر ذلك لم يضمن، لأنه لا يوصي بالوديعة إلا وهي عنده أو عليه، ثم إذا صارت على ما ذكرنا من هذه الوجوه مضمونة من تركته، فإن لم يكن في التركة من جنسها شيء حاص رب الوديعة بها جميع الغرماء، وان كان في التركة شيء من جنسها فيها وجهان: أحدهما: يتقدم بها على الغرماء اعتباراً بالظاهر من الجنس أنه منها. والثاني: يكون أسوتهم ولا يتقدم عليهم اعتباراً باليقين في الاشتراك. ¬

_ (¬1) انظر الأم (4/ 63).

مسألة (¬1) قال الشافعي: "ولو ادعى رجلان الوديعة مثل عبد أو بعير فقال هي لأحدكما ولا أدري أيكما هو قيل لهما هل تدعيان شيئاً غير هذا بعينه؟ فإن قالا: لا أحلف المودع بالله ما يدري أيهما هو ووقف ذلك لهما جميعاً حتى يصطلحا فيه أيقيم أحدهما بينه وأيهما حلف مع نكول صاحبه كان له". قال في الحاوي: وصورتها: من رجل بيده عبد أو بغير ادعاه كل واحد من رجلين أنه أودعه إياه، فلا يخلو حال صاحب اليد في جوابه لهما من ستة أحوال: أحدهما: أنه ينكرهما ويدعيه ملكا لنفسه. والثاني: أن ينكرهما ويقر بأنه وديعة لغيرهما. والثالث: أن يقر بأنه وديعة لأحدهما يعرفه بعينه. والرابع: أن يقر بأنه وديعة لهما معاً. والخامس: أن يقر بأنه وديعة لأحدهما لا يعرفه بعينه. والسادس: أن يقر أنه وديعة ليس يعرف مودعها هل هما أو أحدهما؟ أو غيرهما؟. فأما القسم الأول: وهو أن ينكرهما ويدعيه مالكاً لنفسه فالقول قوله مع يمينه ما لم يكن لواحد من المدعين بينة، فإن حلف بالله أنها له بريء من مطالبتها وتصرف فيما بيده تصرف المالكين، فإن نكل عن اليمين ردت عليهما، إن لم يكن لهما بينة، فإنه سبق أحدهما بالدعوة بريء بإحلافه، وإن ادعيا معاً ففيه وجهان: أحدهما: يقدم بالقرعة من قرع منهما. والثاني: يقدم باجتهاده من رأى منهما، فإن حلف أحدهما دون الآخر قضى بها للحالف دونه الناكل، وان نكلا معاً، فلا حق فيهما لواحد منهما، وكانت في يد المدعى عليه ملكاً وإن حلفا معاً نزعت من يده ثم فيها وجهان: أحدهما: تقسم بينهما ملكاً. والثاني: توقف بينهما حتى يصطلحا. فصل وأما القسم الثاني: وهو أن ينكرهما ويقر بأنها وديعة لغيرهما فللمدعين حالتان: أحداهما: أن يسألاه عن مالكها. والثاني: أن لا يسألاه، فإن لم يسألاه عن مالكها جاز، ولم يكن للحاكم أن يسأله، وكان القول فيها قوله مع يمينه أنه لا حق فيهما لهما، ولا لواحد منهما، ولا ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 178).

يحلفه أنهما لغيرهما، فإن حلف أقرت في يده وديعة لمن يقر له بها، فإن نكل ردت اليمين عليهما، فإن نكلا أقرت في يده وديعة لمن هي له، وإن نكل حلف أحدهما ونكل الآخر سلمت إلى الحالف منهما، ثم نظر الحاكم فمان كانت الوديعة مما لا تنقل لم يطالب المدفوعة إليه بكفيل، وإن كانت مما تنقل طالبه بكفيل إن كان غير أمين، لأنه قد سمع أنها ملك الغائب لم يكن منه إقرار ولا قامت عليه بينة وإن حلفا معاً ففيه وجهان: أحدهما: تنزع من يده ويقسم بينهما، ويطالبه الحاكم بكفيل لمالكها. والثاني: أنها توقف في يد صاحب اليد ولا تتنزع من يده، فإن قالا المدعيان: لا نرضى بأمانته ضم الحاكم إليه أميناً يرضيان بهء وإن سأل المدعيان صاحب اليد عن مالكها حين أقر بها لغيرهما وجب عليه إن كان حاضراً أن يذكره، ولم يجب عليه إن كان غائباً، لأن ذكر الحاضر يفيد، وذكر الغائب لا يفيد وإذا كان هذا سأله الحاكم أحاضر مالكها أم غائب؟ فإن قال: غائب لم يسأله عنه، وكان على ما مضى، وإن قال: حاضر، سأله عنه، فإن ذكره صار هو الخصم في الوديعة، وإن لم يذكره حبسه الحاكم حتى يذكره لامتناعه من بيان ما لزمه. فصل وأما القسم الثالث: وهو أن يقر بأنها وديعة لأحدهما بعينه فالقول قوله وفي وجوب اليمين عليه قولان: أحدهما: عليه اليمين، لإنكاره الآخر. والثاني: أنه لا يمين عليه، لأنه لو رجع لم يقبل، فإذا قلنا: لا يمين عليه أو عليه اليمين فحلف فهي للمصدق منهما، فإن استأنف المكذب الدعوى على المصدق سمعت منه، وإن قلنا: عليه اليمين فنكل عنها ردت على المكذب، فإن نكل عنها استقرت الوديعة مع المصدق، وإن حلف ففيها ثلاثة أوجه حكاها أبو القاسم بن كج _ رحمه الله _: أحدهما: أنها تقسم بينهما، لأن يمين المكذب بعد النكول تساوي الإقرار للمصدق فاستويا. والثاني: أنها تنتزع من يد صاحب اليد وتوقف بينهما حتى يصطلحا. والثالث: أنه يحكم بها للأول ويغرم للمكذب الحالف بعد نكوله قيمتها، لأنه قد صار بالإقرار المتقدم كالمتلف لها. فصل وأما القسم الرابع: وهو أن يقر بأنها وديعة لهما معاً فالقول في ذلك قوله، وقد صار مصدقاً لكل واحد على النصف مكذباً له على النصف الآخر فهل يحلف من تكذيبه على النصف الأخر يمين أم لا؟ على ما ذكرنا من القولين، ثم الجواب إن حلف أو نكل

على ما مضى، فإذا جعل ذلك بينهما واستأنف كل واحل منهما الدعوى على صاحبه في النصف الذي بيده سمعت. فصل وأما القسم الخامس: وهو أن يقر بأنها وديعة لأحدهما لا يعرفه بعينه فهي مسألة الكتاب، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يدعيا علمه. والثاني: أن لا يدعياه، فإن لم يدعيا علمه فلا يمين عليه، ويتحالف عليه المدعيان، فإن نكلا أقر في يد صاحب اليد حتى يصطلحا وإن حلف أحدهما حكم به للحالف منهما، وإن حلفا معاً ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقسم بينهما. والثاني: أنها توقف في يا صاحب اليد حتى يصطلحا، وإن ادعيا علمه أحلف بالله تعالى أنه لا يعلم لمن هي منهما، فإن حلف بريء وتحالف المدعيان فإن نكل فقد حكي عن أبي حنيفة أنه قال: أقسم الوديعة بين المدعيين وأغرمه القيمة فتكون بينهما، وعند الشافعي: لا غرم عليه إن نكل، ولذلك قال الشافعي (¬1): قيل لهما هل تدعيان شيئاً غير هذا بعينه؟ فإن قالا: لا أحلف، ووقف ذلك لهما رداً على من زعم أنه يغرم القيمة لهما، لأنهما ما ادعيا إلا وديعة عينها باقية ولم يستهلكها على أحدهما بالإقرار بها لغيره، وكيف يغرم قيمة لا يدعيانها وما ادعياه كان لهما. فإن قيل: فإحلاف المستودع لا يفيد على هذا القول شيئاً الاستواء الحكم فيه إن نكل؟ قيل: قد كان بعض أصحابنا يذهب لأجل هذا إلى أن اليمين غير واجبة، وذهب جمهورهم إلى وجوبها، لأنها موضوعة للزجر وإن لم يتعلق بها غرم، وقد يجوز إذا عرضت عليه اليمين أن ينزجر بها فيبين علماً قد كتمه، فعلم به، فلذلك وجبت، وإذا كان كذلك ولم يكن في يد المستودع بيان تحالف المدعيان، فإن نكلا أقرت الوديعة في يد المستودع، فإن حلف أحدهما قضي بها للحالف منهما، وإن حلفا معاً فعلى وجهين أحدهما، يقسم بينهما بأثمانهما. والثاني: يكون موقوفاً بينهما، وهو ظاهر، قاله الشافعي - رضي الله عنه - حتى يصطلحا عليها وأين توقف على وجهين: أحدهما: في يد المستودع على ما كانت من قبل. والثاني: ينتزع من يده ويقرها الحاكم في يد من يرضيانهء لأن المستودع قد صار بالنكول والإنكار خصماً. ¬

_ (¬1) انظر الأم (4/ 62).

فصل وأما القسم السادس: وهو أن يقر أنها وديعة في يدع وليس يعلم هل هي لهما أو لغيرهما، فالقول قوله مع يمينه، ثم يتحالف المتداعيان فإن نكلا أقرمته في يده، وإن حلف أحدهما دفعت إليه، وهل يأخذه الحاكم بكفيل المالك لها لو حضر على وجهين من اختلاف قوليه في الوارث إذا دفعت إليه التركة ولم يقم بينة بعد طول الكشف بأن لا وارث سواه، وان حلف معاً فعلى وجهين: أحدهما: أنها تقسم بينهما، وفي أخذ الكفيل من كل واحد منهما وجهان. والثاني: أنهما توقف، وفي الموقوفة على يده وجهان: فصل وإذا أودع رجلاً دابة ثم أذن له في ركوبها جاز أن يركبها، ثم هو قبل الركوب مستودع لا يضمن، فإذا ركب صار مستعيراً ضامناً، فإن ترك الركوب لن يسقط عنه الضمان إلا بالرد، فإن أذن له المودع بعد الكف عن الركوب أن يؤجرها لم يسقط عنه ضمانها قبل تسليمها إلى المستأجر، وفي سقوطه عنه بعد تسليمها وجهان من عدوان المستودع إذا أبرئ منه، والله أعلم. فصل وإذا أذن المودع للمستودع في إجارة الدابة التي أودعها إياه فهو على أمانته في يده، فإذا أخرجها وسلمها فقد ارتفعت يده، فإذا انقضت مدة الإجارة لم يجز أن يسترجعها إلا بإذن، ولو أعادها بإذنه جاز أن يسترجعها من المستغير بغير إذنه. والفرق بينهما: أنها في الإجارة منتزعة من يده بعقد واجب، وفي العارية بعقد جائز فصل وإذا دفع الرجل وديعة إلى صبي استودعه إياها كام مغرراً بماله، لأن الصبي لا يباشر حفاظ ماله فكيف مال غيره، فإن تلفت في يد الصبي لم يخل تلفها من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن تتلف بغير تفريط ولا جناية فلا ضمان عليه فيها، لأن البالغ لا يضمنها. والثاني: أن تتلف بتفريط منه فلا ضمان عليه، وإن ضمنها البالغ، لأن حفظها لا يلزمه لأن صاحبها هو المفرط دونه. والثالث: أن تتلف بجنايته، ففي وجوب ضمانها في ماله وجهان: أحدهما: أنها غير مضمونة عليه، لأن مالكها هو الذي سلطه على استهلاكها فصار كما لو باعه شيئاً فاستهلكه لم يضمنه.

والثاني: أنها مضمونة في ماله، لأن الائتمان عليها ليس بإذن في استهلاكها، فصار كمن أباح صبياً شرب ماء في داره وأكل طعامه فدخل واستهلك عليه في منزله شيئاً من ماله كان مضموناً عليه. فصل وإذا أودع صبي رجلاً وديعة لم يكن للرجل أن يقبلها منه، لأن الصبي لا نظر له في مال نفسه، فإن قبلها الرجل منه ضمنها حتى يلمها إلى وليه، أو الحاكم فإن ردها على الصبي لم يسقط الضمان عنه، فلو كان عند أخذ الوديعة من الصبي خائفاً عليها من أن يستهلكها فأخذها ليدفعها إلى وليه أو إلى الحاكم فهلكت في يده ففي ضمانه لها وجهان: أحدهما: لا يضمنها، لأنه قصد خلاصها. والثاني: يضمنها، لأن يده عليها بغير حق، وهو أن الوجهان من اختلاف قوليه في المحرم، إذا خلص طائراً في جارح أو حية فتلف، ففي ضمانه بالجزاء، قولان، والله أعلم بالصواب.

كتاب قسم الفيء وقسم الغنائم

كتاب قسم الفيء وقسم الغنائم مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: "أصل ما يقوم به الولاة من جمل المال ثلاثة وجوه أحدها ما أخذ من مال مسلم تطهيراً له فذلك لأهل الصقات لا لأهل الفيء والوجهان الآخران ما أخذ من مال مشرك كلاهما مبين في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله فأحدهما الغنيمة قال تبارك وتعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41] الآية: والوجه الثاني هو الفيء قال الله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر:7] الآية. قال الشافعي رحمه الله: "فالغنمة والفيء يجتمعان في أن فيهما معا الخمس من جميعها لمن سماه الله تعالى له في الآيتين معاً سواء ئم تفترق الأحكام في الأربعة أخماس الغنيمة بما بين الله تبارك وتعالى على لسان رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفي فعله فإنه قسم أربعة أخماس الغنيمة على ما وصفت من قسم الغنيمة وهي الموجف عليها بالخيل والركات لمن حضر من غني وفقير والفيء هو ما لم يوجف عليه بخيل وركاب فكانت سنة رسول الله في قرى عربية أفاءها الله عليه أربعة أخماسها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة دون المسلمين يضعه حيث أراه الله تعالى قال: عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حيث اختصم إليه العباسي وعلي - رضي الله عنه - في أموال النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة دون المسلمين فكان ينفق منها على أهله نفقة سنة فما فضل جعله في الكراع والسلاح عده في سبيل الله ثم توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوليها أبو بكر بمثل ما وليها به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم وليها عمر بمثل ما وليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر فوليتكماها على أن تعملا فيها بمثل ذلك فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي أكفيكماها. قال الشافعي: وفي ذلك دلالة على أن عمر - رضي الله عنه - حكي أن أبا بكر وهو أمضيا ما بقي من هذه الأموال التي كانت بيد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ها رأيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعمل به فيها وأنه لم يكن لهما مما لم يوجف عليه من الفيء ما للنبي - صلى الله عليه وسلم - أنهما فيه أسوة المسلمين وكذلك سيرتهما وسيرة من بعدهما وقد مضي من كان ينفق عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم أعلم أحداً من أهل العلم. قال: إن ذلك لورثتهم ولا خالف ¬

_ (¬1) انظر هامش الأم (3/ 179 - 183).

في أن تجعل تلك النفقات حيث كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجعل فضول غلات ملك الأموال فيما فيه صلاح للإسلام وأهله مال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقتسمن ورثتي ديناراً ما تركت بعد نفقة أهلي ومؤنة عاملي فهو صدقة" قال: فما صار في أيدي المسلمين من فيء، لم يوجف عليه فخمسه حيث قسمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأربعة أخماسه على ما سأبينه وكذلك ما أخذ من مشرك من جزية وصلح عن أرضهم أو أخذ من أموالهم إذا اختلفوا في بلاد المسلمين أو مات منهم ميت لا وارث له أو ما أشبه هذا مما أخذه الولاة من المشركين فالخمس فيه ثابت على من قسمه الله له من أهل الخمس الموجف عليه من الغنيمة وهذا هو المسمى في كتاب الله تبارك وتعالى الفيء وفتح في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتوح من قرى عربية وعدها الله ورسوله قبل فتحها فأمضاها النبي - صلى الله عليه وسلم - لمن سماها الله له ولم يحبس منها ما حبس من القرى التي كانت له - صلى الله عليه وسلم - ومعنى قول عمر لرسول الله خاصة يريد ما كان يكون للموجفين وذلك أربعة اخماس فاستدللنا بذلك أن خمس ذلك كخمس ما أوجف عليه لأهله وجملة الفيء ما رده الله على أهل دينه من مال من خالف دينه". قال في الحاوي: أما الغنيمة من الغنم، والغنم مستفاد بغير بدل، قال امرؤ القيس (¬1): وقد طوفت في الأفاق حتى رضيت من الغنيمة بالإياب وأما الفيء: فهو الرجوع ومنه قوله تعالى: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّه} [الحجرات:9] أي ترجح، ولذلك قيل لما بعد الزوال من الظل فيء لرجوعه والأنفال لما قبل الزوال فيء، إلا على وجه المجاز، قال امرؤ القيس (¬2): تيممت العين التي عند ضارج يفيء عليها الطلح عرمضها طامي والغنيمة كل مال أخذ من المشركين قهراً- بقتال - بإيقاف خيل أو ركاب سمي غنيمة، لاستفتاحه بغير بدل. والفيء: كل ما أخذ من المشركين عفواً بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب. سمي فيئاً لرجوعه إلى أولياء الله تعالى وأهل طاعته بعد خروجه عنهم إلى أعدائه وأهل معصيته. ¬

_ (¬1) البيت من الوافر، وهو لامرئ القيس في ديوانه (ص 543) ولسان العرب (1/ 769 - نقب)، وجمهرة الأمثال (1/ 484) والعقد الفريد (3/ 126)، والفاخر ص 260، وكتاب الأمثال ص 249، والمستقصى (2/ 100)، ومجمع الأمثال (1/ 295)، وتهذيب اللغة (9/ 197)، وتاج العروس (4/ 300 - نقب)، وكلها فيها: "نقبت" بدل "طوفت". ا. (¬2) البيت من الطويل، وهو في ديوانه ص 475، ولسان العرب (2/ 314 _ ضرج، 7/ 187 _ عرمض)، والتنبيه والإيضاح (1/ 212)، وتاج العروس (6/ 80، 81 - ضرج،18/ 432 - عرمض)، وبلا نسبة في أساس البلاغة (فيأ)، ومقاييس اللغة (4/ 435)، وجمهرة اللغة (ص 1102).

وقال عطاء بن السائب: الغنيمة ما ظهر عليه من أموال المشركين، والفيء، ما ظهر عليه من الأرضين، وهذا قول شذ به عن الكافة فكان مطرحاً معمل في الفيء من قول الله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر:7]، ولم يقل من القرى. والأصل في الغنيمة قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41]. والأصل في الفيء قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر:7] الآية. فصل وقد كانت الغنيمة محرمة على من تقدم من الأنبياء، وكانت تجمع فتنزل نار من السماء فتحرقها إلى أن أحلها الله تعالى لرسوله - صلى الله عليه وسلم - لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي" إلى أن قال: "وأحلت لي الغنائم" (¬1) الحديث. فجعلها الله تعالى في صدر الإسلام ملكاً لرسوله - صلى الله عليه وسلم - خالصاً دون غيره بقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ} [الأنفال: 1] والأنفال: هي: الغنائم؛ لأن النفل في كلامهم هو الزيادة من الخير، ومنه صلاة النافلة، وقال لبيد بن ربيعة (¬2). إن تقوى ربنا حير نفل وبإذن الله ريثي والعجل فسميت الغنائم أنفالاً، لأنها زيادة مال مستفاد، وفي السبب الذي نزلت هذه الآية من أجله ثلاثة أقاويل: أحدهما: أن أهل بدر شكوا في غنائمها فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَال} [الأنفال:1]. ولم يعلموا حكم إباحتها وحظرها حتى سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عنها فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ} [الأنفال: 1]. والثاني: أن شبان المقاتلة يوم بدر تسارعوا إلى القتال، وثبت الشيوخ تحت الرايات، فلما فتح الله عليهم مال الشبان: نحن أحق بالغنائم لقتالنا، وقال الشيوخ: لا تستأثروا علينا فإنا كنا ردا، لكم، فانزل الله تعالى هذه الآية فيهم (¬3). والثالث: أن من شهد بدراً من المهاجرين والأنصار اختلفوا وكانوا أثلاثاً في الغنائم أيهم أحق بها فنزلت هذه الآية فيهم، وجعلها الله ولرسوله دونهم حسماً لتنازعهم، فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم على رأيه واجتهاده وأدخل منهم ثمانية لم يشهدوا بدراً، منهم عثمان بن عفان، وطلحة - رضي الله عنهم - أما عثمان فلتشاغله بتمريض زوجته رقية بنت ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) البيت من الرمل، وهو في ديوانه ص 174، لسان العرب (81/ 670 - نفل)، ومقاييس اللغة (2/ 464)، وتاج العروس (نفل)، وجمهور الأشعار (7)، وشواهد الكشاف (229). (¬3) أخرجه أبو داود (2737)، والحاكم (2/ 326).

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأما طلحة فلأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد كان أنفذه ليتعرف خبر العير وأبي سفيان، ثم أن الله تعالى نسخ هذه الآية بقوله سبحانه: أضاف إنه تعالى مال الغنيمة في الغانمين ثم استثنى من خمسه لرسوله س ومن سمى معه أهل الخمس بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41]. الآية، فلما أضاف الله تعالى مال الغنيمة في الغانمين ثم استثنى من خمسة لرسول - صلى الله عليه وسلم - ومن سمى معه أهل الخمس بقوله تعالى: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41] دل على أن الباقي من أربعة أخماسه مالك للغانمين كما قال تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُث} [النساء:11]. فدل إضافة المال إليهما على استثناء الثلث منه لللأم يوجب أن يكون الباقي للأب، ثم يدل على ذلك ما روي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - تارة موقوفاً (¬1) عليه وتارة مسنداً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الغنيمة لمن شهد الوقعة" فصار مال الغنيمة مقسوماً على خمسة وعشرين سهماً، خمسة منها لأهل الخمس وهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وذوي القربى، واليتامى، والمساكين وابن السبيل، وفيه خلاف يذكر من بعد وأربعة أخماسه وهو عشرون سهماً تقسم بين الغانمين لا يجوز أن يشاركهم فيه غيرهم، ولا يفضل ذو غنى على غيره، فهذا حكم مال الغنيمة. فصل وأمال مال الفيء، وهي الأموال الواصلة من المشركين بغير قتال ولا إيجاف ولا ركاب، كالذي انجلى عنه المشركون خوفاً ورعباً، كالأموال التي صالحونا بها عن أنفسهم وديارهم، وأموالهم استكفافاَ وتورعاً، والمأخوذة من عشور أموالهم إذا دخلوا علينا فجاراً والجزية التي نقرهم بها في دارنا، وقال: الخراج المضروب على أراضيهم، والأرضين المأخوذة عفواً منهم، وقال: من مات في دارنا ولا وارث له منهم، كل ذلك فيء، لأنه واصل بغير قتال ولا إيجاف ولا ركاب، هذا هو المنصوص عليه من مذهب الشافعي في الجديد، وله في القديم قول آخر: أن الفيء في جميع ذلك ما انجلى عنه المشركون من ذلك خوفاً ورعباً، لقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ} [الحشر:7] وما سواه من الجزية والخراج وعشور تجارتهم وميراث من مات منهم لا يكون فيئاً، ويكون مصروفاً في المصالح ولا يخمس، والقول الأول من قوله أصح، لاستواء جميعها في الوصول إلينا بغير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب، وإذا كان جميع ذلك فيئاً فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في صدر الإسلام يملك جميع الفيء كما ملك جميع الغنيمة، ولذلك ملك أموال بني النضير، فكانت مما أفاء الله عز وجل عليه لم يشاركه فيها أحد وصارت من صدقاته التي تصدق بها إلى أن أنزل الله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الحشر:7] الاية، ¬

_ (¬1) أخرجه البيهيقي في "الكبرى" (17951) موقوفاً على أبي بكر، و (17953، 17954) موقوفاً على عمر - رضي الله عنه -.

فاختلف الناس حينئذ، فيما استقر حكم الفيء، عليه على ثلاثة مذاهب: أحدهما: وهو قول أبي حنيفة: أن مال الفيء مصروف في وجوه المصالح ولا يخمس استدلالاً بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصرفه فيها. والثاني: وهو قول مالك: أن مال الفيء مقسوم على خمسة أسهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كأحد أهل الخمس، ولا يختص بأربعة أخماسه، واستدلالاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم" (¬1). والثالث: وهو مذهب الشافعي - رضي الله عنه -: أن خمسه مقسوم على خمسة، منها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأربعة أخماسه له خاصةء فيكون جميع مال الفيء مقسوماً على خمسة وعشرين سهماً، منها أحد وعشرين سهماً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأربعة أسهم هي لأربعة أصناف هم: ذوو القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل. والدليل على ذلك قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ} [الحشر:7] فأضاف الله تعالى الفيء إلى رسوله كما أضاف الغنيمة إلى الغانمين، ثم استثنى من استثناء في سهم الغانمين فوجب أن يكون إطلاق ما جعل له من الفيء محمولاً على المقدار المجهول لهم من الغنيمة وهو الخمس، ويكون الباقي بعده، لمن أضاف المال إليه وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما كان الباقي من الغنيمة لمن أضافها إليه وهم الغانمون. وروى الشافعي قال: سمعت ابن عيينة يحدث عن الزهري أنه سمع مالك بن أوس بن الحدثان يقول: سمعت عمر بن الخطاب، والعباس بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب يختصمان إليه في أموال النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال عمر: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالصاً دون المسلمين، فكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينفق منها على أهله نفقة سنة فما فضل منها جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله (¬2)، ثم توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوليها أبو بكر - رضي الله عنه - بمثل ما وليها به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم وليتها بمثل ما وليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ثم سألتماني أن أوليكماها فوليتكماها على أن لا تعملا فيها إلا بمثل ما وليها به رسول - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر الصديق - رضي الله عنه - ثم وليتماها ثم جئتماني تختصمان، أتريدان أن أدفع إلى كل واحل منكما نصفاً أتريدان مني قضاء غير ما قضيت بينكما، أو لا؟ فلا والذي بإذنه تقوم السماوات والأرض، لا أقضي بينكما قضا، غير هذا فإن عجزتما عنها فادفعاها إلي اكفيكماها فوجه الدلالة أن هذا الخبر يقتضي كل مرة بأن جميع الفيء، ملك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وظاهر الآية تال على أن كل الفيء مقسوم على خمسة فاقتضى الجمع بينهما أن يكون معنى ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (4/ 128)، والطبراني في "الكبير" (18/ 260)، والبيهيقي في "الكبرى" (13177، 13178، 13179). (¬2) أخرجه البخاري (2904)، ومسلم (48/ 1757).

الخبر أن أربعة أخماسه خالص لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعنى الآية أن خمسه مقسوم على خمسة حتى يستعمل على وجه لا يتنافيا ولا يسقط واحد منهما بالآخر، ثم يدل على أبي حنيفة أن ما يملك من المشركين لم يكن جميعه خمساً كالغنيمة، ثم يدل عليها أنه لما كان أربعة أخماس الغنيمة ملكاً للغانمين للوصول إليها بالرعب من المقاتلة وجب أن يكون أربعة أخماس الفيء ملكاً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - للوصول إليه بالرعب منه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نصرت بالرعب فالعدو يرهبني مسيرة شهر أو شهرين" (¬1). فأما الجواب عن استدلال أبي حنيفة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصرف ذلك في المصالح، فهو أن أمواله كان يصرفها في طاعة الله، ولا يدل لقربه إلى الله تعالى بها على أنه غير مالك لها. وأما الجواب عن استدلال مالك بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "مالي فيما أفاء الله عليكم إلا الخمس" فهو أنه محمول على الغنيمة دون الفيء؛ لأنه أضاف ذلك إلينا، والغنيمة هي المضافة إلينا، فأما الفيء، فهو مضاف إليه لا إلينا. فصل فإذا تقرر ما وصفنا من حكم الغنيمة والفيء فالذي ملك الله تعالى رسوله منهما مما يبين. أحدهما: خمس الخمس من الفيء والغنيمة. والثاني: أربعة أخماس الفيء، فأما الصغر من الغنيمة فقد كان مخصوصاً به، فيصطفي من الغنيمة ما شاء من جارية وثوب وعبد وفرس، وما جرى مجرى ذلك، وكانت صفية بنت حيي مما اصطفاها لنفسه بخيبر، ثم أعتقها وتزوجها وقيل: إنها سميت صفية لأنه اصطفاها لنفسه، وكانت الصفايا مما يختص بها ملوك العرب من جاهلية، ومنه قول الشاعر (¬2): لك المرباع فيها والصفايا ... وحكمك والنشيطة والفضول فصار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مالكاً لربعة أموال، مالين من الغنيمة، وهو خمس الخمس، والصغى، ومالين من الفيء وهو خمس، وأربعة أخماسه. فأما حكم ذلك بعد وفاته فهو أن ما كان قد ملكه من ذلك في حياته كأموال بني ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه مراراً. (¬2) البيت من الوافر، وهو لعبد الله بن عنمة الضبي في لسان العرب (7/ 415 - نشط، 11/ 526 - فضل، 14/ 462 - صفا)، وتهذيب اللفة (2/ 369، 11/ 314، 12/ 41)، وجمهرة اللفة (ص 867، 1241)، ومقاييس اللغة (2/ 479، 3/ 292، 5/ 427)، وتاج العروس (20/ 141 - نشط، 21/ 31.ربع، فضل)، وبلا نسبة في كتاب العين (2/ 133)، والمخصص (12/ 274)، ومجمل اللغة (2/ 453)، وديوان الأدب (1/ 311).

النضير، والنصف من فدك، والثلث من وادي القرى، وثلثه حصون من خيبر الكتيبة، والوطيح، والسلالم فهذه صدقة تصدق بها في حياته لا تورث عنه، وما ملك من ذلك بعد وفاته فسهمه من خمس الخمس من الفيء والغنيمة مصروف بعده في المصالح من الكراع والسلاح، وأرزاق المقاتلة والقضاة والأئمة، وعمارات المساجد، وقناطر السائلة، وأما سهمه من أربعة أخماس الفيء ففي مصرفه قولان: أحدهما: في المقاتلة من الجيش الذي يذبون عن البيضة ويمنعون عن الحرفة ويجاهدون العدو، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ملكه في حياته لرعب العدو منه ورعب العدو بعده من الجيش المقاتلة، فملكوه بعده ما ملكه، فعلى هذا يصرف جميعه فيهم وإن فضل عن كفايتهم ولا يصرف منه شي، في غير ذلك من وجوه المصالح. والثاني: أنه يصرف جميعه في المصالح كلها، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يملك ذلك ويصرفه فيها، فمن المصالح إعطاء الجيشء وأرزاق المقاتلة، وما قدمناه ذكر مما فيه إعزاز الإسلام وصلاح المسلمين، فعلى هذا لا تزداد جيوش المقاتلة على قدر كفاياتهم، لخروج الزيادة عن المصالحة، وأما الصفى فقد سقط حكمه وبطل أن يستحقه أحد بعده. فصل فإذا تقرر أن سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بعده من الفيء والغنيمة مصروف فيما وصغنا فالإمام الناظر فيه كأحد أهل الجيش فيما يستحق منهء وهو قدر كفايته، يأخذه رزقاً كأرزاق الجيش. وقال: لا يملك الإمام بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الفيء والغنيمة ما كان يملكه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيصير مالكاً لخمس الخمس من الفيء والغنيمة، ولأربعة أخماس الفيء استدلالاً برواية أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما أطعم الله نبياً طعمة ثم قبضه إلا جعلها للذي أتى بعده (¬1). وهذا القول خطأ، والدليل على فساده قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود فيكم" (¬2) فصار مردوداً عليها بعد موته لا على الخليفة من بعده، ولأن الخلفاء الراشدين رضوان الله عليهم من بعده لم يتملكوا من ذلك ما كان يملكه، فانعقد به الإجماع على رد ما خالفه. فأما الخبر المستدل به فمعناه: ما أطعم الله نبياً طعمة إلا جعل النظر فيها لمن يأتي بده لا ملكاً له. فصل فإذا ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يورث، وأن الخليفة بعده لا يملكه ثبت من التعليل الذي ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 4). (¬2) تقدم تخريجه.

ذكرناه أن مصرفه فيما وصفناه، فإذا كان كذلك فالفيء والغنيمة يجتمعان من وجهين، ويفترقان من وجهين، فأما وجها الاجتماع. فأحدهما: أن كل واحد منهما مأخوذ من مشرك. والثاني: أن كل واحد منهما بخمس. وقال أبو حنيفة: مال الفيء لا يخمس، وفي نص الآية ما يدفع قوله. وأما وجه الافتراق: فأحدهما: في الاسم، فإن كل واحد منهما يختص باسم والثاني: في حكم أربعة أخماسها فإن مصرفهما مختلف. فصل فأما قول الشافعي في صدر هذا الباب "أصل ما يقوم به الولاة من جعل المال ثلاثة وجوه: أحدها: ما أخذ من مال مسلم تطهيراً له فذلك لأهل الصدقات لا لأهل الفيء، والوجهان الآخران ما أخذ من مال مشرك، وكلاهما مبين في كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وفعله" فجعله نظر الإمام في الأموال مختص بثلاثة أموال: أحدها: ما أخذ من المسلمين من صدقات أموالهم تطهيراً لهم وهي الزكاة. والثاني: ما أخذ من المشركين عنوه وهو الغنيمة. والثالث: ما أخذ من المشركين عفواً وهو الفيء، وكل واحد من هذه الأموال الثلاثة منصوص في كتاب الله عز وجل على وجوبه وجهة مصرفه، وليس قيام الإمام به إلا قيام نيابة إلا أنه في الزكاة ينوب عن معطيها ومستحقها معاً، وفي الفيء والغنيمة ينوب عن مستحقها دون معطيها، لأن نيابته عن المسلمين لا عن المشركين، ثم إن أصحابنا اعترضوا على هذا الفصل، من كلام الشافعي من وجهين: أحدهما: قالوا: قد جعل الشافعي نظر الإمام مقصوراً على النظر في ثلاثة أموال، وقد ينظر الإمام في الموات وفي المعادن الباطنة، والجواب عنه أنه إنما قد خص الأموال الثلاثة بنظره لاختصاص وجوبها لكتاب الله وتعين مستحقها في كتاب الله وليس غيرها مساوياً لها في هذين الحكمين فتميزت في نظره. والثاني: أن قالوا: قد جعل الإمام مختصاً بالولاية على الصدقات ولو أخرجها أربابها أجزاء فلم يكن يختص بالولاية عليها، والجواب عنه أن يقال لهم أما الأموال الباطنة، وإن جاز لأربابها أن ينفردوا بإخراجها فولايته فيها على من امتنع من أدائها أن يأخذها منه جبراً فلو لم يكن له ولاية عليها لما اعترض عليهم في أخذها جبراً منهم، وأما الأموال الظاهرة قولان: أحدهما: أنه لا يصح من أربابها أن ينفردوا بإخراجها، فعلى هذا تكون ولايته عامة

باب الأنفال

على المعطي والممتنع. والثاني: أن يصح منهم أن ينفردواً بإخراجها، فعلى هذا تكون ولايته خاصة على الممتنع دون المعطي، والله أعلم. باب الأنفال مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: "ولا يخرج من رأس الغنيمة قبل الخمس شيء غير السلب للقاتل، قال أبو قتادة - رضي الله عنه -: خرجنا مع رسول الله عام حنين. قال: فلما التقنيا كانت المسلمين جولة فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين. قال: فاستدرت له حتى أتيته من ورائه فضربته على حبل عاتقه ضربة فأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها رمح الموت ثم أدركه الموت فأرسلني فلحقت عمر. فقال: ما بال الناس؟ قلت: أمر الله ثم إن الناس رجعوا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ومن قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه" فقمت من يشهد لي؟ ثم جلست يقول وأقول ثلاث مرات. فقال - صلى الله عليه وسلم - "ومالك يا أبا قتادة؟ فاقتصصت عليه القصة فعال رجل من القوم: صدق يا رسول الله وسلب ذلك القتيل عندي فأرضه منه. فقال أبو بكر - رضي الله عنه - لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله تعالى يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "صدق فأعطه إياه" فأعطانيه فبعت الدرع واتبعت به مخرفاً في بني سلمة فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام (¬2). وروي أن شبر بن علقمة قال: بارزت رجلاً يوم القادسية فبلغ سلبه اثني عشر ألفاً فنفلنيه سعد". قال في الحاوي: وهذا كما قال من قتل من المسلمين مشركاً في معركة الحرب فله سلبه، سواء شرطه الإمام له أو لم يشترطه، ولا يخمسه. وقال أبو حنيفة: ليس له سلبه إلا أن يشترطه الإمام له فيعطيه للشرط من جملة الخمس استدلالاً بعموم قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41]. ورواية معاذ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ليس للمرء إلا ما طابت به نفى إمامه" وبرواية عوف بن مالك الأشجعي قال: خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة مؤتة ورافقني رجل من أهل اليمن فقتل رومياً فأخذ سلبه، فلما فتح الله على المسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ منه السلب فأتيته فقلت: يا خالد، أما علمت أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلي، لكن استكثرته، قلت: لتردنه عليه أو لأعرفنكم عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 183 - 185). (¬2) أخرجه البخاري (3142)، ومسلم (41/ 1751)، وأبو داود (2717)، والترمذي (1562)، وأحمد (5/ 306).

يرده، فاجتمعنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقصمت عليه قصة اليمنى، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا خالد اردده عليه قال عوف: فقلت يا خالد ألم أقل لك؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: وما ذاك" فأخبرته فغضب وقال: "يا خالد لا ترده عليه، هل أنتم تاركون لي أمراي؟ لكم صفوة أمرهم وعليهم كدره" (¬1). قال أصحاب أبي حنيفة: فلو استحقه القاتل لما استجاز أن يمنعه منه لغضب ولا غيره، قالوا: وتد روي أن معاذ بن عوف ومعاذ بن عمرو قتلا أبا جهل يوم بدر فأعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - سلبه معاذ بن عمرو، فلو كان للقاتل من خص به أحدهما. واستدلوا من طريق القياس بأن قالوا: كل مال يستحق بالتحريض على القتال يجب أن يتعلق استحقاقه بشرط الإمام كالنفل، ولأن السلب لو استحق بالقتل لوجب إذا قتل مولياً أو رماه من صفة بسهم فقتله أن يستحق سلبه، فلما ثبت أنه لا يستحقه مع وجود القتل ثبت أنه لا يستحق بالقتل، ولأن السلب لو صار بالقتل ملكاً للقاتل لوجب إذا وجد قتيلاً عليه سلب لا يعرف قاتله أن لا يغم به؛ لأنه قد صار ملكاً لمسلم لا يعرف، وفي إجماعهم على قسمة في الغنيمة دليل ملى أنه غير مستحق بالقتل. ودليلنا ما رواه أبو مالك الأشجعي عن نعيم بن أبي هد عن سمرة بن جندب قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل قتيلاً نله سلبه" وروى أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم خيبر: "من قتل كافراً فله سلبه" (¬2) فقتل أبو طلحة الأنصاري يومئذ عشرين كافراً فأخذ أسلابهم. ووجه الدليل من هذا الخبر: أنه ابتداء شرع بين فيه فاستحق به السلب وهو القتل، واعتمد الشافعي على ما رواه عن مالك عن يحيى بن سعيد عن عمر بن كير عن أبي محمد مولى أبي قتادة قال: خرجا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام حنين، فلما التقينا كان للمسلمين جولة قال: فرأيت رجلاً من المشركين قد علا رجلاً من المسلمين، فاستدرت له حتى أتيته من ورائه، قال: فضربته على حبل عاتقه ضربة، فأقبل علي فضمني ضمة وجدت منها ريح الموت، ثم أدركه الموت، فأرسلني فلحقت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقلت له: ما بال الناس؟ فقال أمر الله، ثم إن الناس رجعوا فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل قتيلاً فله سلبه" فقمت فقلت: من يشهد لي؟ فجلست ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل قتيلاً له عليه بينة فله سلبه" فقمت ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: مالك يا أبا قتادة فاقتصصت عليه القصة، فقال رجل من القوم: صدق يا رسول الله وسلب ذلك القتيل عندي فارضه عني، فقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لا هلم الله إذن لا يعمد إلى أسد من أسد الله يقاتل عن الله وعن رسوله فيعطيك سلبه، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فأعطه إياه" قال أبو قتادة ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (6/ 28)، وأبو داود (2719)، والبيهقي في "الكبرى" (12783). (¬2) أخرجه أحمد (3/ 114، 190، 279)، والدرامي (2/ 229)، والحاكم (2/ 130، 3/ 353)، وأبو داود (2718)، وابن حبان (1671، 1705)، وابن أبي شيبة (14/ 531)، وابن عدي (2/ 682).

فأعطانيه فبعث الدرع فابتعت به مخرقاً في بني سلمة فإنه لأول مال تأثلته في الإسلام، ووجه الدلالة منه أن وسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ذلك بعد الوقعة، وإجازة الغنيمة وبعد قتل أبي قتادة للكافر، فعلم أنه يستحق بالقتل لا بالشرط، فإن حملوا على شرط تقدم منه لم يصح من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه إثبات ما لم ينقل. والثاني: أنه بيان شرع وإن تقام كما يكون بيانه، لأنه نقل سبب علق عليه حكم. والثالث: أنه لو تقدم شرط لأخذه أبو قتادة ولم يدعيه أو لا يشهد لنفسه على قتله، فإن قيل: فالنبي - صلى الله عليه وسلم - جعل السلب للقاتل بالبينة، وقد أعطاه أبا قتادة بغير بينة فدل على أنه أعطاه نفلاً لاحقاً، فعن ذلك جوابان: أحدهما: أن من كان يده على السلب فقد صدقه فلم يحتج إلي بينة. والثاني: روى أنه شهد لأبي قتادة اثنان عبد الله بن أنيس والأسود بن خزاعي، ويدل عليه من القياس أنه مال مغنوم، يستحق بسبب لا يفتقر تقديره إلى اجتهاد الإمام، فوجب أن لا يعتبر فيه شرط الإمام لسهم الغانمين طرداً أو النقل عكساً؛ ولأنه ذو سهم تحرر بنفسه في قتل كافر فقاتل فوجب أن يستحق سلبه قياساً عليه إذا شرطه الإمام له، وأما الجواب عن الآية فمن وجهين: أحدهما: أن السلب خارج فيها؛ لأنه قال: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 41] وليس السلب ما غنموه وإنما غنمه أحدهم. والثاني: أنه بيان لما فيه من الإجمال، وأما الجواب عن قوله: ليس لأحد إلا ما طابت به نفس إمام فمن وجهين: أحدهما: أن نفس الإمام إمام الأئمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد طابت به فكانت أوكد من أن تطيب به نفس إمام من بعده. والثاني: أنه عام يحمل على النفل، ويخص منه السلب، وأما حديث عوف بن مالك فهو دلل لنا من ثلاثة أوجه: أحدهما: أن عوفاً وخالد اتفقا على أن السلب للقاتل، ولكن استكثره خالد، واستحقاق السلب لا يسقط بالكثرة. والثاني: أن عوفاً حين أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يسأل عن الشرط. والثالث: أنه أمر خالداً برده على القاتل، فأما قوله لخالد حين غضب: "لا ترده" فتأديب منه لعوف حتى لا ينبسط الرعايا على الأمراء، ويحتمل أن يكون قد رده من بعد. وأما الجواب عن إعطائه سلب أبي جعل لأحد قاتليه فالمروي أن ابني عفراء اثخنا أبا جهل جراحاً، وخر صريعاً فأتاه ابن مسعود ليجز رأسه، فقال له أبو جهل: من أنت؟ فقال ابن مسعود، فقال له أبو جهل: ابن أم عبد رويعينا بالأمس فمكن يديك وجز الرقبة مع الرأس إذا لقيت أمك فأخبرها أنك قتلت أبا الحكم ففعل ذلك، وأخذ رأسه مع

الرقبة، وكان قصد أبي جهل أن يكون ذلك أبهى لرأسه، ثم أخبر أمه بذلك فقالت: والله أعتق تسعين رجلاً من قومك، ودفع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ابني عفراء أو إلى أحدهما (¬1) بحسب اختلاف الرواية؛ لأنه قد كان أثخنه بالجراح وبإثخان المقتول يستحق السلب لا بإماتة نفسه وروحه وأما الجواب عن قياسهم على النفل فالمعنى فيه افتقار النفل إلى تقدير الإمام، وليس كذلك السلب. وأما الجواب عن قولهم: لو كان مستحقاً بالقتل لاستحقه إذا قتله مولياً أو رماه بسهم، فهو أنه مستحق بقتل على صفة وهو أن يكون للقاتل مغراراً بنفسه ويكف شر المقتول بقتله، وهو إذا رماه لم يغرر، وإذا قتله مولياً فقد كف المولى شر نفسه، ألا تراه لو استحقه بشرط الإمام لم يستحقه، إلا على علي هذه الصفة، وأما الجواب عن قولهم: لو كان السلب مستحقاً بالقتل لوجب أن لا يغنم سلب مقتول لا يعرف قاتله فهو أنه قد يستحق بقتل على صفة لم يغنم بغنيمة فيمنع من قسمه، فلذلك قسم، ألا ترى لو شرطه الإمام لكان مغنوماً إذا لم يتيقن مستحقه؛ لجواز أن يكون القتل على صفة لا يستحق بها. فصل وأما مالك فاستدل على تخميس السلب بقوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] ولأنه مال مغنوم فأشبه الغنائم، ودليلنا ما قدمناه من الأخبار من إعطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - السلب من غير تخميس. وروي أن سلمة بن الأكوع قتل رجلاً فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - من قتله؟ قالوا: سلمة بن الأكوع قال: له سلبه" (¬2). وهذا نص. وروى سفيان عن الأسود بن قيس عن شبر بن علقمة قال: قتلت رجلاً يوم القادسية فبلغ سلبه اثني عشر ألفاً فنفلنيه سعد" (¬3)؛ ولأن أهل الغنيمة أقوى من أهل الخمس لأمرين: أحدهما: كثر سهمهم. والثاني: حضورهم الوقعة مع القتل، ثم كانوا مع قربهم لا يشاركون القاتل في السلب، فلأن لا يشاركه أهل الخمس الذين هو أضعف أولى، والجواب عن الآية قد مضى وقياسهم على الغنيمة مدفوع بهذا الاستدلال. فصل فإذا ثبت أن السلب للقاتل من غير تخميس فهو له من أصل الغنيمة قليلاً، كان أو ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3141، 4020)، ومسلم (42/ 1752). (¬2) أخرجه مسلم (45/ 1754)، وأبو داود (2654)، وأحمد (4/ 50 - 51). (¬3) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (12789).

كثيراً وقال بعض أهل العراق: هو له في الخمس سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - المعد لوجوه المصالح، فإن زاد السلب عليه ردت الزيادة إلى القسمة اعتباراً بالنفل المستحق من الخمس، وهذا غير صحيح؛ لأن قتيل سلمة بن الأكوع جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلبه له أجمع، وكان جميع الغنيمة - لأنه لم يغنم سواه، ولأن ما استحق من غير اجتهاد ولا شرط كان من أصل الغنيمة دون الخمس كالسهام، وخالف النفل الذي لا يستحق إلا باجتهاد أو شرط. فصل فإذا صح ما وصفنا من استحقاق السلب من أصل الغنيمة من غير تخميس، فقد اختلف أصحاب الشافعي فيه: هل هو ابتداء عطية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أو بيان لمجمل الآية من قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] على قولين: أحدهما: أنه ابتداء عطية. والثاني: أنه بيان لمجمل الآية، ولهذا القولين بيان نذكره من بعد، والله أعلم مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: "فالذي لا أشك فيه أن يعطى السلب من قتل مشركاً مقبلاً مقاتلا من أي جهة قتله مبارزاً أو غير مبارز وقد أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - سلب مرحب من قتله مبارزاً وأبو قتادة غير مبارز ولكن المقتولين مقبلان ولقتلهما مقبلين والحرب قائمة مؤنه ليست له إذا انهزموا أو انهزم المقتول وفي حديث أبي قتادة - رضي الله عنه - دل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من قتل قتيلا له عليه بينه" يوم حنين بعدما قتل أبو قتادة الرجل فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك حكم عندنا. قال الشافعي: ولو ضربه ضربة فقد يديه أو رجليه ثم قتله آخر فمان سلبه للأول وإن ضربة وهو ممتنع فقتله آخر كان سلباً للآخر ولو قتله اثنان كان سلبه بينهما نصفين وهذا صحيح". قال في الحاوي: إذا ثبت أن السلب للقاتل من أصل الغنيمة من غير تخميس فاستحقاق القاتل معتبر بأربعة شروط: أحدها: أن تكون الحرب قائمة والقتال مستمراً، فإن قتله بعد انقضاء الحرب وانجلاء الواقعة فلا سلب له. والثاني: أن يكون المقتول مقبلاً على الحرب، سواء كان يقاتل أو لا يقاتل: لأنه وإن لم يقاتل فهو رد لمن تقاتل، فأما إن قتله وهو مولي عن الحرب تاركاً لها فلا سلب له إلا أن يكون قد فر فيكون له سلبه؛ لأن الحرب كر وفر، ولكن فرق بين أن يقتله من أمامه أو من وارثه في استحقاق سلبه؛ لأن أبا قتادة قتل المشرك الذي أخذ سلبه من ورائه. ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 185، 186).

والثالث: أن يكون القاتل في قتله مغرراً بنفسه إما بأن يقتله مبارزة أو غير مبارزة، وإذا خرج القاتل عن صفة فغرر، فأما إذا قتله من الصف بسهم رماه فلا سلب له. والرابع: أن يكون المقتول ممتنعاً بسلامة خمسه حتى قتل ليكون في القتل كف لشره وأما أن كان قد صار بجراح قد تقدمت غير ممتنع فسلبه لمن كفه ومعه دون من قتله؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى سلب أبي جهل ابن عفراء دون ابن مسعود وإن كان هو القاتل؛ لأنهما صرعاه فجرحاه وكفاه عن القتال، وصفة الكف الذي يتعلق به استحقاق السلب أن يجتمع شرطان: أحدهما: أن يناله من الجراح ما يعجز معه عن القتال فيصير به مكفوف الشر، وسواء قطع أطرافه الأربعة أو بعضها أو كان الجراح في غير أطرافه، وقد روى المزني: ولو ضربه فقد يديه أو رجليه ثم قتله آخر فإن سلبه الأول" وروى الربيع: "ولو ضربه فقطع يديه ورجليه" وليس ذلك على اختلاف قولين فيما يصير به مكفوفاً كما وهم فيه بعض أصحابنا، وإنما الاعتبار فيه بأن يصير بالجراح عاجزاً عن القتال صريعاً. والثاني: أن لا تطول به مدة الحياة بعد الجراح، فيكفي شر رأيه وتدبيره فيصير باجتماع هذين الشرطين سلبه للجارح الأول دون الثاني القاتل. وأما إن جرحه لا تطول مدة الحياة بعدها لكنه قد يقاتل معه فلا سلب لجارحه؛ لأن ما كفى شر قتاله والسلب لقاتله ولو ناله بالجراح ما كفه عن القتال وأعجزه عنه أبداً، لكن طالب به مدة الحياة بعدة ففي سلبه قولان من قتل الشيوخ: أحدهما: السلب لجارحه دون قاتله إذا قيل إن الشيوخ والرهبان لا يقتلون. والثاني: لقاتله دون جارحه إذا قيل يقتلون، فهذه الشروط التي ذكرنا يستحق السلب بها، وقال أبو داود وأبو ثور: "من قتل قتيلاً فله سلبه" وهذا خطأ: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى سلب أبي جهل لابن عفراء دون ابن مسعود، وان كان قاتلاً، وقيل: إنه تقلد منه سيفه وحده. مسألة (¬1) قال الشافعي: رحمه الله: "والسلب الذي يكون للقاتل كل ثوب يكون عليه وسلاحاً ومنطقته وفرسه إن كان راكبه أو ممسكه وكل ما أخذ من يده". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا كان السلب مستحقاً بالقتل الذي وصفناه انتقل الكلام فيه إلى ثلاثة فصول: أحدها: فيمن يستحق السلب من القاتلين. والثاني: فيمن يستحق سلبه عن المقتولين. ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 186، 187).

والثالث: فيما يكون سلباً مستحقاً بالقتل. فأما الفصل الأول وهو: القاتل الذي يستحق السلب فهو كل ذي سهم في الغنيمة من فارس وراجل فله سلب قتيله. فأما من لا سهم له في الغنيمة فضربان: حدهما: من لا سهم له لكفره. والثاني: لنقصه. فأما م سهم له بكفره كالمشرك إذا قتل مشركاً فلا سلب له إن قتل؛ لأن السلب غنيمة نقلها الله تعالى عن المشركين إلى المسلمين فلم يجز أن ينقل عنهم إلى المشركين وإنما يعطون إذا قاتلوا أجراً من سهم المصالح لا سهماً من الغنيمة. فأما ما لا سهم له لنقصه كالعبيد والصبيان، والنسا، ففي استحقاقهم في السلب قولان مبينان على اختلاف قوليه في السلب، هل هو ابتداء عطية من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ أو بيان لمجمل الآية؟ فإن قيل إنه ابتداء عطية منه - صلى الله عليه وسلم - أعطيه القاتل عبداً كان أو صبياً أو امرأة؛ لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل قتيلاً له سلبه" وإن قيل إنه بيان لمجمل الآية لم يعط العبد والصبي والمرأة وإن كانوا قاتلين؛ لأن تملك السهم من الغنيمة مستحق لمجرد الحضور؛ فلما ضعفوا عن تملكه كانوا عن تملك السلب أضعف، والله أعلم. فصل وأما ما يستحق سلبه من المقتولين فهم من جاز قتله من المشركين، والمشركون على ثلاثة أقسام: مقاتلة ومن دونهم، من الذرية، ومن فوقهم من الشيوخ والرهبان. فأما المقاتلة فسلب من قتل سهم لقاتله، لأن قتلهم مباح له، سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا. وأما الذرية وهم النساء والصبيان فإن قاتلوا كان قتلهم مباحاً وللقاتل سلب ما قتله منهم، وإن لم يقاتلوا حرم قتلهم؛ لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والولدان، ولا سلب لقاتلهم؛ لحظر قتلهم عليه لكنه يكون مغنوماً؛ لأنه مال مشرك. وأما الشيوخ والرهبان فإن قاتلوا جاز قتلهم، وكان للقاتل سلب من قتله منهم وإن لم يقاتلوا ففي جواز قتلهم قولان: أحدهما: يجوز قتلهم، فعلى هذا يكون سلبهم للقاتل. والثاني: لا يجوز قتلهم، فعلى هذا الأسلوب لقاتلهم ويكون مغنوماً. فصل وأما ما يستحق سلباً فما ظهر عليه في الوقعة من مال المقتول وهو على ثلاثة أقسام: أحدها: ما يكون سلباً، وهو ما كان راكبه من فرسه أو بغير، ومستجناً به من درع

ومغفر ومتق به من ترس ودرقه ومقاتل به من سيف أو رمح، فهذا كله مع ما على الفرس من سرج ولجام، وما على المقتول من حلي ولباس سلب يستحقه القاتل. والثاني: ما لا يكون سلباً ويكون غنيمة، وهو ما في رحله من مال ورحل وسلاح وخيل، فهذا كله غنيمة يشترك فيها جميع الجيش، ولا يختص القاتل بشيء منه. والثالث: ما اختلف قوله فيه وهو كلما كانت يده عليه من المعركة قوة على القتال، وإن كان غير مقاتل به في الحال كالفرس الذي بجنبه عدة لقتاله أو هميان النفقة الذي في وسطه قوة ليستعين بها على قتاله ففيه قولان: أحدهما: يكون سلباً؛ لأنه قوة له على قتالنا فصار كالذي يقاتل به. والثاني: يكون غنيمة ولا يكون سلباً؛ لأنه غير مقاتل به وان كان قوة له كالذي في رحله. فصل وإذا أسر المسلم مشركاً غرر بنفسه بين الصفين في أسره ولم يقتله ففي استحقاق سلبه قولان: أحدهما: لا يستحقه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من قتل قتيلاً فله سلبه" وهذا لم يقتله ولا كفى المسلمين شره، فعلى هذا إن قتله بعد أسره فإن كان والحرب قائمة فله سلبه، وإن قتله بعد انقضاء الحرب فعلى وجهين: أحدهما: يستحقه؛ لأنه قتله بسبب كان منه في وقت الحرب. والثاني: لا سلب له؛ لأن الحرب قد انقطع حكمها بانقضائها. والثاني: أنه يستحق سلب أسره، وإن لم يقتله؟ لأن تغريره لنفسه في الأسر أعظم، ولأن من قدر على الأسر فهو على القتل أقدر، فإن سلمه إلى الإمام حياً أعطاه الإمام سلبه، وكان مخيراً فيه بين أربعة أقسام: بين أن يقتل، أو يمن عليه، أو يسترقه، أو يفادي، فإن قتله أو من عليه فليس للذي أسره غير سلبه، وإن استرقه أو فادى به على مال كان حكم استرقاقه ومال فدائه كحكم السلب فيكون على قولين: أحدهما: غنيمة إذا قلنا إن السلب مغنوم. والثاني: لمن أسره إذا قلنا: إن السلب لمن أسره. مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: "والنقل من وجه آخر نفل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غنيمة قبل نجد بعيراً. وقال سعيد بن المسيب: كانوا يعطون النفل من الخمس. قال الشافعي رحمه الله: "نفلهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من خمسه كما كان يصنع بسائر ماله فيما فيه صلاح ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 187، 188).

المسلمين وما سوى سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من جميع الخمس لمن سماه الله تعالى فينبغي للإمام أن يجتهد إذا كثر العدو واشتدت شوكته وقل من بإزائه من المسلمين فينقل منه إتباعاً لسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإلا لم يفعل وقد روي النفل في البداءة والرجعة الثلث في واحدة والربع في الأخرى. وروى ابن عمر أنه نفل نصف السدس وهذا يدل على أنه ليس للنفل قد لا يجاوزه الإمام ولكن على الاجتهاد". قال في الحاوي: وهذا صحيح. قد ذكرنا في أول الباب أن النفل في كلامهم هو زيادة من الخير، وهو هاهنا الزيادة من الغنيمة يختص بها بعض الغانمين دون بعض. وقد تكون من أربعة أوجه: أحدهما: السلب، يستحقه القتل من أصل الغنيمة من غير شرط على ما قدمناه. والثاني: ما ادعى إلى التحريض على القتال والاجتهاد في الظفر، مثل: أن يقول الإمام أو أمير الجيش من يقدم في السرايا إلى دار الحرب فله كذا وكذا، ومن فتح هذه القلعة فله كذا وكذا، أو من قتل فلاناً فله كذا، أو من أقام كميناً فله كذا، فهذا جائز، سواء جعل ما بذله مقدراً في الغنيمة كقوله: فله ألف دينار أو جعله شائعاً في الغنيمة كقوله: فله ربع الغنيمة أو ثلثها، أو جعله مقدار بالسهم فيها كقوله: فله نصف مثل سهم، كل ذلك سواء، والدليل على جوازه إذا دعت الحاجة إليه ما رواه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية قبل نجد فغنموا إبلاً كثيرة فكانت سهامهم اثني عشر بعيراً او أحد عشر بعيراً ثم نفلوا بعيراً (¬1). وروى زيد بن حارثة عن حبيب بن مسلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفل الثلث بعد الخمس في بدائه (¬2). وروى مكحول عن أبي أمامة عن عبادة بن الصامت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفل في البداءة الربع وفي الرجعة الثلث (¬3). وفيه لأصحابنا ثلاثة تأويلات: أحدهما: أن البداءة أن يبتديء بإنفاذ سرية إلى دار الحرب فجعل لها الربع، والرجعة أن ينفذ بعدها سرية ثانية فيجعل لها الثلث فيزيد الثانية، لأنها تدخل بعد علم أهل الحرب بالأولى. والثاني: أن البداءة أن ينفذ سرية في ابتداء دخوله دار الحرب فيجعل لها الربع، وللرجعة أن ينفذها بعد رجوعه عن دار الحرب، فيجعل لها الثلث؛ لأنها برجوع الجيش ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3134)، ومسلم (35/ 1749). (¬2) أخرجه ابن ماجه (1851)، وعبد الرزاق (9333)، وابن عدي في "الكامل" (2/ 159)، والبيهقي في "الكبرى" (12800). (¬3) أخرجه الترمذي (1560)، وابن ماجه (2852)، والبيهقي في "الكبرى" (12803).

أكثر تغريراً من الأولى؟ والثالث: أن البداءة أن يبتدئ بالقول فيقول من يفتح هذا الحصن وله الربع إما من غنائمه وإما مثل من ربع سهمه فلا يجيبه أحد فيرجع فيقول ثانية من يفتحه وله الثلث فيجاب إليه فيكون القول الأول بداءة والثاني رجعة، وإذا كان كذلك، فليس يتحدد الأقل في البداءة بالربع: لأن ابن عمر روى أنه نفل نصف السدس بعيراً من اثني عشر ولا يتحدد الأكثر في الرجعة بالثلث؛ لأنه معتبر بالحاجة الداعية وكان تقديره في الأقل والأكثر موكلاُ إلى اجتهاد الإمامء ولو أداه اجتهاده إلى أن يبذل في البداءة بدخول الحرب أكثر مما كان ببذله في الرجعة منهما؛ لأن أهل الحرب في البداءة متوفرون وفي الرجعة مهزمون جاز ثم يكون هذا النفل الذي جعل لهم في البداءة والرجعة من سهم المصالح وهو خمس الخمس سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المصروف بعده في وجوه المصالح لرواية أبي الزناد عن سعيد بن المسيب قال: كان الناس يعطون النفل من الخمس يعني خمس الخمس؛ ولأنه مبذول في المصالح فأشبه سائر المصالح؛ ولأنه لما تقدر بشرط الإمام واجتهاده بخلاف السلب كان مأخوذاً من سهم المصالح لأمن أصل الغنيمة بخلاف السلب، وحكى ابن أبي هريرة قولاً ثانياً أنه كالرضخ المستحق من الغنيمة على ما سنذكره: لأن الربع في البدا، ة والثلث في الرجعة أكثر من خمس الخمس: لأن الثلث سهم من ثلاثة، وخمس الخمس سهم من خمسة وعشرين وسهماً وهذا ليس بصحيح، وفيما ذكرناه تأويلان، وهما له جوابان: أحدهما: أنه جعل الربع في البداءة والثلث في الرجعة، مما اختصت تلك السرية بغنيمة وقد يجوز أن يكون ذلك خمس خمس جميع الغنائم ثم التي أجازها جميع الخمس وأقل منه. والثاني: أنه يجوز أن تكون الزيادة على خمس الخمس تممها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من غير ذلك من أمواله التي خص بها وهي أربعة أخماس الفيء وخمس وخمسه وما يصطفيه لنفسه. فصل والوجه الثالث: من النفل وهو الرضخ والرضح من وجهين: أحدهما: ما يرضخ به الإمام لمن لا سهم له من العبيد والصبيان الذين يشهدون الوقيعة والثاني: ما يرضخ به لمن اشتد بلاؤه في الحرب من فارس وراجل زيادة على سهمه لحسن أثره ولا يبلغ بالرضخ الزائد سهم فارس ولا راجل فقد فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذلك ونفل ابن مسعود سيف أبي جهل ونفل سعد بن أبي وقاص يوم بدر سيف سعيد بن العاص وكان يسمى ذا الكاشفة وفي الرضخ قولان: أحدهما: من أصل الغنيمة.

باب تفريق الغنيمة

والثاني: من أربعة أخماس على ما سنذكره. فصل والوجه الرابع: من النفل أن يقول الإمام أو أمير الجيش قبل اللقاء: من غنم شيئاً فهو له تحريضاً للمسلمين؛ لما يخاف من كثرة العدو وقوة شوكتهم، فالذي نص عليه الشافعي وهو المشهور من مذهبه، والمعول عليه من قوله أن هذا القول لا يوجب اختصاص كل إنسان بما أخذه، الواجب رد جميعه إلى المغنم، وإخراج خمسه، وقسمة أربعة أخماسه في جميع من شهد الوقعة. وقال أبو حنيفة: وهذا شرط لازم، ومن أخذ شيئاً فهو له، ولا يخمس؛ لأنهم على ذلك غزواً وبه رضوا. وقال الشافعي: ولو قاله قائل كان مذهباً، فمن أصحابنا من خرجه قولاً له ثانياً استدلالاً بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال يوم بدر: من أخذ شيئاً فهو له ودليل القول الأصح في أن هذا الشرط لا حكم له عموم قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] وقول أبي بكر - رضي الله عنه - موقوفاً عليه ومسنداً عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "الغنيمة لمن شهد الوقعة" فلم يجز أن يختص بها بعضهم؛ ولأن من استحق الغنيمة من غير شرط الإمام لم يسقط حقه لشرط الإمام كما لو شرطها لغير القائمين. فأما قوله - صلى الله عليه وسلم - يوم بدر: "من أخذ شيئاً فهو له" فليس بثابت، ولو ثبت لم يكن فيه دليل؛ لأن غنائم بدر كانت خالصة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويضعها حيث شاء حتى جعلها الله تعالى بعد بدر لمن شهدها بعد إخراج خمسها، والله أعلم. باب تفريق الغنيمة مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: "كل ما حصل مما غنم من أهل دار الحرب من شيء قل أو كثر من دار أو أرض أو غير ذلك قسم إلا الرجال البالغين فالإمام فيهم مخير بين أن يمن أو يقتل أو يفادي أو يسبي وسبيل ما سبي أو أخذ منهم من شيء على إطلاقهم سبيل الغنيمة وفادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رجلاً برجلين". قال في الحاوي: اعلم أن جميع ما ظهر عليه المسلمون عنوة من المشركين على ثلاثة أقسام: قسم هي أموال منقولة، وقسم هي أرض ثابتة، وقسم هم آدميون مقهورون، فأما الأموال المنقولة، كالفضة، والذهب، والسلاح، والآلة، والعروض، والأمتعة، والخيل، والرقيق فالواجب إخراج خمسها لأهل الخمس على ما يأتي بيانه ثم يقسم أربعة أخمساها ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 188).

بين جميع من شهد الواقعة بالسوية من غير تفضيل إلا ما استحقه بفرسه ولا يفضل ذا شجاعة على غيره، ولا من قاتل على من لم يقاتل، ولا يعطى من الغنيمة من لم يشهد الواقعة. وقال أبو حنيفة للإمام أن يفاضل بينهم في القسم، وليس له أن يعطي من لم يحضر الواقعة استدلالاً بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - فاضل بين الناس في غنائم حنين. وقال مالك: يجوز أن يفاضل بينهم، ويعطي منها من لم يحضر معهم استدلالاً بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم من غنائم بدر لثمانية لم يشهدوا بدرا منهم: عثمان وطلحة. والدليل عليهما عموم قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41] فاقتضى أن يكون الباقي بعد الخمس لمن غنم كمل قال: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُث} [النساء:11] فدل على أن الباقي للأب إذا اقتضت الآية أن يكون أربعة أخماس الغنيمة للغانمين أوجب بذلك التسوية ما لم يرد نص بالتفضيل وأن لا يشاركهم غيرهم لظاهر التنزيل. وروى عبد الله بن عمرو أن رجلاً أخذ من المغنم جبة غزل من شعر فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: أخذت هذه لأصلح بها بردعة بعيري، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أما ما كان له ولبني عبد المطلب فهو لك" فقال الرجل: أما إذا بلغت ما أرى فلا أرب لي بها (¬1)، فلو جاز التفضيل لفضل بهذا القدر اليسير ولأن ما اشتركوا في سبب تملكه أوجب تساويهم في ملكه كالاشتراك في صيد واحتشاش، فأما تفضيل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الناس في غنائم حنين، فإنما فعل ذلك بالمؤلفة قلوبهم، فألف عدداً منهم كل واحد منهم بمائة بعير منهم: أبو سفيان بن حرب وصفوان بن أمية، وعيينة بن حصن، والأقرع بن حابس، واستعتب العباس بن مرداس فقال (¬2): أتجعل نهبي ونهب العبيد ... بين عيينه والأقرع وما كان حصن ولا حابس ... يفوق مرداس في مجمع وما كنت دون أمري منهما ... ومن تضع البوم لا يرفع فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اقطعوا لسانه عني" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 184)، والنسائي (3688). (¬2) الأبيات من المتقارب، وهي في ديوانه (ص 84)، ولسان العرب (1/ 774 - نهب، 3/ 277 - عبد، (6/ 97 - ردس)، وتاج العروس (4/ 319 - نهب)، الأغاني (14/ 291)، والإنصاف (2/ 499)، خزانة الأدب (1/ 147، 148، 253)، وخزانة الأدب (1/ 147، 148، 253)، والدار (1/ 104)، وسمط اللآلئ (ص 33)، شرح التصريح (2/ 119)، شرح المفصل (1/ 68)، الشعر والشعراء (1/ 107، 306، 2/ 752). (¬3) انظر: اتحاف السادة المتقين (7/ 495) المغني عن حمل الأسفار للعراقي (3/ 124)، كشف الخفاء (1/ 182).

وأمر له بخمسين بعيراً، وكان ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - من إعطاء المؤلفة قلوبهم إما من سهمه من الخمس، وإما لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثبت بحنين مع ثمانية من أصحابنا وانهزم جميع الناس؛ فصارت جميع الغنائم له فصنع بها ما شاء وتألف بها من شاء، ولذلك قالت الأنصار حين رأوه قد تألف قريشاً أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عزم أن يرجع إلى قومه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا معشر الأنصار إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع، ولو سلك الناس شعباً ويسلك الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار أما ترضون أن ينصرف الناس بالشاة والبعير، وتنصرفون برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا: رضينا (¬1)، فكان ما فعله من التفضيل بحنين محمولاً على ما ذكرنا، وأما غنائم بدر فكانت خالصة له فوضعها فيمن شاء من حاضر وغائب على تساوي وتفضيل. فصل وأما ما لا ينقل من الدور والأرضين فحكمه عندنا حكم الأموال المنقولة، يكون خمسه لأخل الخمس، وتقسم أربعة أخماسه بين الغانمين. وقال أبو حنيفة: الإمام في الأرضين مخير بين ثلاثة أشياء بين أن يقسمها على الغانمين، أو يقسمها على المسلمين، أو يقرها في أيدي أهلها المشركين بخراج يضربه عليها، وجزية على رقاب أهلها، تصير خراجاً بعد إسلامهم لا تسقط عن رقابهم. وقال مالك: قد صارت بالغلبة وفقاً على المسلمين، فأما أبو حنيفة فاستدل بما روي عن عمر بن الخطاب لما فتح أرض السواد، أراد أن يقسمه بين الغانمين، فشاور علي بن أبي طالب رضوان الله عليهما، فقال دعها تكون عدة للمسلمين، فتركها ولم يقسمها وضرب عليها خراجاً، وروي أنه لما فتحت مصر، كان الأمير عمرو بن العاص، قال له الزبير أقسمها بين الغانمين، فقال: لا حتى أكتب إلى عمر فكتب إليه فأجابه عمر حتى يغدو فيهما حبل الحبلة (¬2)، ولأنه لما جاز أن يصالحهم على خارجها قبل القدرة جاز أن يكون مخيراً فيها بعد القدرة كالرقاب. وأما مالك فاستدل بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر:10] فكان هذا الدعاء منهم لأجل ما انتقل إليهم من فتوح بلادهم التي استبقوها وفقاً عليهم، وبما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فتح مكة عنوة فلم يقسمها وقسم غنائم هوازن ولم يقسم أرضهم؛ فدل على أن الأرض تصير وفقاً لا يجوز أن تقسم؛ ولأن الغنائم كانت على عهد من سلف من الأنبياء تنزل ناراً من السماء تأكلها فأحلها الله تعالى بعدهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولأمته والنار إنما تختص بأكل المنقول دون الأرضين فدل على اختصاص المنقول بالغنيمة المستباحة دون الأرضين والدلالة عليها ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3143)، ومسلم (132/ 1059). (¬2) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (12828).

عموم قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال:41] وروى مجمع بن جارية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم خيبر بين الغانمين على ثمانية عشر سهماً، وذلك أن الغانمين كانوا ألفاً وأربعمائة، منهم مائتا فارس أعطى كل فارس ثلاثة أسهم، فكان لهم ستمائة سهم ولألف ومائتي رجل ألف ومائتا سهم؛ صارت جميع السهام ألفاً وثمانمائة سهم فقسمها على ثمانية عشرة منهم، وأعطى كل مائة سهماً (¬1)، ولذلك روى أن عمر - رضي الله عنه - مالك مائة سهم من خيبر ابتاعها، وقال لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - أني قد أصبت ما لم أصب قط مثله، وقد أحببت أن أتقرب إلى الله تعالى فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "حبس الأصل وسبل الثمرة (¬2)؛ فدلت قسمتها وابتياع عمر لها المائة سهم منها على أنها طلق مملوك ومال مقسوم. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ظهر على بني قريظة، فقسم عقارهم من الأرضين والنخيل قسمة الأموال. وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "عصبة الله ورسوله فخمسها لله ورسوله ثم هي لكم مني (¬3) إنما قربه؛ ولأنه مال مغنوم فوجب أن يقسم كالمنفول، ولأن ما استحق به قسمة المنفول استحق به قسمة غير المنقول كالميراث. وأما الجواب عن استدلال أبي حنيفة أن عمر - رضي الله عنه - شاور علياً عليه السلام في قسم السواد، فأشار عليه بالترك، فهو أن عمر - رضي الله عنه - قسم أرض السواد بين الغانمين، واشغلوه أربع سنين ثم رأى أن الغانمين قد تشاغلوا به عن الجهاد، فاستنزلهم عنه فنزلوا؛ وترك جرير بن عبد الجبلي، وأكثر قومه وكانت نخيلة ربع الناس، فأبت طائفة منهم أن ينزلوا فعاوضهم عنه وجاءته أم كرز، فقالت: إن أبي شهد القادسية، وأنه مات ولا أنزل عن حقي إلا أن تركبني ناقة زلولاً، عليها قطيفة حمراء، وتملأ كفي ذهباً، ففعل حتى نزلت عن حقها، وكان قدر ما ملئ به كفها ذهباً نيفاً وثمانين مثقالاً، فلولا أن قسمة ذلك واجبة، وأن أملاك الغانمين عليها مستقرة، لما استنزلهم عنها بطيب نفس ومعاوضة، فلما صارت للمسلمين شاور عليها فيها فقال: دعها تكون عدة لهم، فوقفها عليهم، وضرب عليها خراجاً هو عند الشافعي أجرة وعنا أبي العباس بن سريج ثمن، وأما أرض مصر فبعض فتوحها عنوة وبعضها صلح، ولم يتعين نزاع عمرو والزبير في أحدهما فلم يكن فيه دليل. وأما الجواب عن قياسه عن الرقاب فهو أنه منتقض بالمنقول، فإن عمر صالح نصارى العرب على مضاعفة الصدقة على مواشيهم وزروعهم وسائر أموالهم وكان ذلك ¬

_ (¬1) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (12824)، وبنحوه أبو داود (2736). (¬2) أخرجه الشافعي في "المسند" (457)، وأحمد (2/ 114)، والنسائي (3605)، وابن ماجه (2397)، والبيهقي في "الكبرى" (11904، 11905). (¬3) أخرجه أحمد (2/ 317)، وأبو داود (3036).

خراجاً باسم الصدقة ثم لا يمنع ذلك من وجوب قسمة في الغنيمة كذلك الأرضون؛ ثم سلم من هذا النقص لكان المعنى في الرقاب أنها ليست في وقت خيار الإمام فيها مالاً، وإنما يصير بالاسترقاق مالاً، وليس للإمام بعد الاسترقاق خيار. وأما الجواب عن استدلال مالك بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الحشر:10] فهو أن هذا منهم لم يتعين أنه للمعنى الذي ادعاه، وقد يكون ذلك منهم لتمهيد الأرض لهم، وإزالة المشركين عنهم، ونصرة الدين بجهادهم ثم بما صار إليهم من بلاد الفيء ومواريث العنوة. وأما الجواب عن فتح مكة فتحت عندنا صلحاً، فالكلام في فتحها يأتي، وأما أرض هوازن فلم تغنم؛ لأن قتالهم لم يكن فيها، ونما قوتلوا بعد خروجهم منها إلى حنين، وأحرزوا أموالهم في أوطاس فلما أظفر الله تعالى بهم، وغنمت أموالهم، وسبيت ذراريهم، أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يدلون إليه بحرمة الرضاع؛ ن حليمة مرضعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت من هوازن، وقالوا: لو كنا ملحنا للحارث بن أبي شمر ونزلنا معه منزلنا منك لوعى ذاك، وأنت خير الكفيلين وقولهم ملحنا: أي وضعنا وأنشد شاعرهم: أمنن علينا رسول الله في كرم فإنك المرء نرجوه وننتظر أمنن على نسوة قد كنت ترضعها إذ فوك تملؤه من محضها الدرر فقال: اختاروا أموالكم، أو ذراريكم، فقالوا: خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا فنختار أحسابنا على أموالنا، فقال أما ما كان لي ولبني هاشم فلله ولكم، وقال المهاجرون والأنصار: وأما مالنا فلله ولرسوله، ولكم فانكفوا إلى ديارهم التي لا تملك عليهم آمنين، وقد أسلموا. وأما الجواب عن استدلالهم بأكل النار المنقول دون الأرضين فكان هو المغنوم، فهو أنه استدلال ركيك وضعه إسماعيل بن إسحاق القاضي ثم فيه دليل على أن الأرض لم تكن تحل للأنبياء من قبل فوجب أن تحل لنبينا - صلى الله عليه وسلم - لقوله أعطيب ما لم يعط نبي من قبلي أحلت لي الغنائم على أن النار لا تأكل الفضة والذهب، ولا يمنع ذلك من أن تكون غنيمة مقسومة كذلك الأرض. فصل وأما الآدميون المقدور عليهم، والمظفور بهم من المشركين فضربان: عبيد وأحرار. وأما الأحرار فضربان: ذرية ومقاتلة. فأما الذرية فهم النساء والصبيان ومنهم لا يصيرون بالقهر والغلبة، مرقوقين وليس للإمام فيهم خيار وعليه أن يقسمهم بين الغانمين بعد إخراج خمسهم وقد نهي رسول

الله - صلى الله عليه وسلم - عن قتل النساء والصبيان لكونهم مالاً مغنوماً وقسم سبي بني المصطلق بين الغانمين، واصطفى صفية بنت حيي من سبي خبير وقسم سبي هوازن بين الناس حتى استنزله هوازن فنزل واستنزل. وأما المقاتلة فللإمام فيهم بالخيار اجتهاداً ونظراً بين أربعة أشياء ومنها ما رآه صالحاً: أحدهما: القتل. والثاني: الاسترقاق. والثالث: الفداء بمال أو رجال. والرابع: المن، فإن كان ذا قوة يخاف شره أو ذا رأي يخاف مكره قتله، وإن كان مهيناً ذا كد وعمل استرقه، وإن كان ذا مال فأداه بمال، وإن كان ذا جاء فأداه بمن في أيديهم من الأسرى، وإن كان ذا خير ورغبة في الإسلام من عليه وأطلقه من غير فداء، فيكون خيار للإمام أو أمير الجيش، فمن أسر من المشركين بين هذه الأربعة الأشياء بين القتل أو الاسترقاق أو الفداء بمال، أو رجال، أو المن. وقال أبو حنيفة: هو بالخيار بين شيئين: القتل، أو الاسترقاق، وليس له الفداء والمن. وقال صاحباه أبو يوسف ومحمد: هم بالخيار بين ثلاثة أشياء: بين القتل أو الاسترقاق أو الفداء برجال وليس له الفداء بماء ولا المن، ونحن ندل على كل واحد من ذلك على انفراده. وأما القتل فالدليل على جوازه قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] الآية وقتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأسرى أربعة أنفس صبراً، ومنهم: أبو عزة الجمحي وعقبة بن أبي معيط وابن خطل وابن النضر بن الحارث، فأما أبو عزة الجمحي فإنه أسر يوم بدر فقال: يا محمد من علي، فمن عليه، فلما عاد إلى مكة ط قال: "سخرت بمحمد، وعاد لقتاله يوم أحد فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اللهم أوقع أبا عزة" فما أسر غيره، فأتي به فقال: يا محمد من علي فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمن عليك حتى تأتي مكة فتقول في نادي قريش: سخرت من محمد مرتين، لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، اقتلوه" (¬1) فقتل. وأما عقبة بن أبي معيط فلما أسر أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله، فقال: من المصيبة فقال: النار، وأما أبا خطل فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل مكة عام الفتح أباح دم ستة هو منهم، فتغلق بأستار الكعبة فهو آمن" وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - استثنى الستة وقال: "اقتلوهم وإن تعلقوا بأستار الكعبة" فلما أقر بذلك قال: "اقتلوه" (¬2) فقتل. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 379)، والدرامي (2/ 320)، والطبراني في "الكبير" (12/ 278)، والبيهقي في "الكبرى" (12839). (¬2) أخرجه النسائي (4067)، والدارقطني (3/ 59)، والحاكم (2/ 54 والبيهقي في "الكبري" (16879)، وابن أبي شيبة (14/ 491).

وأما النضر بن الحارث فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بقتله حين أسر فقتل فلما دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة عام الفتح استقبلته قتيلة بنت النضر بن الحارث وأنشدته (¬1): أَمُحَمَّدٌ وَلَدْتُكَ خَيْرُ نَجِيبَةٍ مِنْ قَوْمِهَا وَالفَحْلُ فَحْلٌ مُعْرِقُ مَا كَانَ ضَرّك لَوْ مَنِنْتَ وَرُبَّمَا مَنَّ الفَتى وَهُوَ المَغِيطُ المُخْنِقُ فَالنضْرِ أَقْرَبُ مَنْ تَرَكْتَ قَرَابَةً وَأَحَقَّهُمْ إِنْ كَانَ عَتِقَ يَعْتِقُ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر رضي الله عنه لو سمعت شعرها ما قتلته. فهذا دليل على جواز قتل الأسرى من المشركين. وأما الدليل على جواز استرقاقهم، فقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد: 4] وفي الآية تأويلان: أحدها: إذا أثخنتموهم بالظفر فشدوا الوثاق بالأسر. والثاني: إذا أثخنتموهم بالأسر فشدوا الوثاق بالاسترقاق وقد استرق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني قريظة وهوزان ورجلًا من بني عقيل، فقال له قد أسلمت، فقال: لو أسلمت قبل هذا لكنت قد أفلحت كل الفلاح. فصل وأما الفداء والمن فالاستدلال أبي حنيفة على المنع منهما بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] {لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] يعني من أموال الفداء في أسرى بدر وإذا منعت الآية من الفداء بمال كانت من الفداء بالمن لمن بغير مال أمنع، وقال تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] {فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] فأمر بقتلهم ونهى عن تخليتهم بعد أخذهم وحصرهم إلا بإسلامهم فدل على تحريم المن والفداء ولأنه لما لم يجز المن عليهم بسلاحهم وعبيدهم ولا منع السلاح والعبيد عليهم، وذلك تبع يقل ضرورة قصدًا لإضعافهم، فكان بأن لا يمن عليهم بأنفسهم ولا يفادوا بمال عن رقابهم أولى؛ لأن الضرر بهم أعظم، وإضعافهم بالقتل والاسترقاق أبلغ ولأن المصلحة في حظر المن والفداء ظاهرة؛ لأنهم إذا تصوروا جوازها عندنا أقدموا على الحرب تعويلًا على الفداء بعد الأسر ورجاء المن، وإذا تصوروا أنه لا خلاص لهم من القتل إذا أصروا كان ذلك أحجم لهم عن الأقدام وأمنع من القتال، وإن كانت المصلحة فيه ظاهرة كان ما دعى إليها لازمًا. ¬

_ (¬1) الأبيات من الكامل، وهي لقتيلة بنت النضر بن الحارث في لسان العرب (1/ 112 - ضنأ 10/ 241 - عرق)، تاج العروس (1/ 317 - ضنأ)، الأغاني (1/ 30)، حماسة البحتري (ص 276)، الجنى الداني (ص 288)، خزانة الأدب (11/ 239)، الدرر (1/ 250)، شرح الأشموني (3/ 598)، شرح التصريح (2/ 254)، شرح شواهد المعني (2/ 648)، المقاصد النحوية (4/ 471).

والدليل على جواز المن والفداء، قوله تعالى: {فَإِذا لَقِيتُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا} [محمد: 4] {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] وقال مجاهد: حتى لا يبقى في الأرض دين غير الإسلام، فكان المن والفداء صريحًا في هذه الآية وليس لهم نسخ ذلك بقوله تعالى {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] لأمرين: أحدهما: أنه إذا أمكن استعمال الآيتين لم يجز أن تنسخ إحداهما الأخرى، واستعمالهما ممكن في جواز الكل، ويعتبر كل واحد منهما باجتهاد الإمام ورأيه. والثاني: أن الأمر بالقتل على وجه الإباحة دون الوجوب، وإباحته لا تمنع من العدول عنه إلى غيره ويدل على جواز المنّ خاصة ما رواه جبير بن مطعم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأسارى بدر: "لو كان مطعم بن عدي حيًا ثم كلمني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له" (¬1) وهو لا يقول ذلك إلا لجوازه عنده. وروي سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعث خيلًا قبل نجد فجاءت برجل من بني حنيفة يقال له ثمامة بن أثال، فربطوه إلى سارية من سواري المسجد، فخرج إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "ما عندك يا ثمامة"؟ قال: عندي يا محمد خبر إن تقتل تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل تعط منه ما شئت فتركه، حتى إذا كان من الغد ذكر مثل هذا: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أطلقوا ثمامة" فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله"، وكتب إلى قومه فأتوه مسلمين (¬2). وقد منَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي عزة الجمحي يوم بدر على أن لا يعود لحربه أبدًا فعاد يوم أحد وأسره، ومنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أبي العباس بن الربيع وكان صهره على ابنته زينب. ويدل على جواز الفداء رواية عمران بن الحصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فادى رجل برجلين رواه الشافعي مفسرًا أن عمران بن الحصين قال: بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سرية فأسروا رجلًا من بني عقيل، فاستوثق منه، وطرح في الحرة فمنّ به النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "فيما أخذت وفيم أخذت سالفة الحاج" يعني العضباء قال: أخذت بجريرة حلفائكم من ثقيف قد أسروا مسلمين فقال العقيلي: إني جائع فاطعمني وعطشان فاسقني، وأنا مسلم فخلني فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو قلت هذا قبل هذا أفلحت كل الفلاح" يعني: قبل أن تسترق وفاده برجلين، وحبس العضباء وهي ناقته التي خطب عليها بمنى في حجّة الوداع (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (3139)، وأبو داود (2689)، والحميدي (558)، والطبراني في "الكبير" (2/ 119)، والبيهقي في "الكبرى" (12837) وابن عبد البر في "التمهيد" (9/ 147). (¬2) أخرجه البخاري (4372)، ومسلم (59/ 1764)، وأحمد (2/ 246)، وابن حبان (2281)، وابن خزيمة (253)، وعبد الرزاق (9834)، والبيهقي في "الكبرى" (12835). (¬3) أخرجه مسلم (8/ 1641)، والحميدي (1008)، وعبد الرزاق (5367)، والبيهقي في "الكبرى" (18066)، وفي "معرفة السنن" (5379).

فإن قيل: كيف يفادى به بعد إسلامه. قيل: لأنه كان مسترقًا فصارات مفاداته عتقًا؛ ولأنه لما جاز الاعتياض عنه بالفداء مع خروجهم من دارنا بالجزية مع إقرار هو في دارنا جاز الاعتياض عنهم بالفداء مع خروجهم من دارنا أولى. وتحريره أنه اعتياض رقبة مشركة فجاز كالحرية؛ ولأنه لما جاز تآلف المشركين بإعطائهم سهم المؤلفة كان تآلفهم بالمنّ أولى، وربما كان المن أبلغ في تآلفهم أثرًا أو أعم صلاحاء. وحكي أن الحجاج أتى بأسير من الخوارج من أصحاب قطري بن الفجاءة، وكان يعرفه فلما رآاه منّ عليه فعاد إلى قطري، فقال له قطري: عد إلى قتال عدو الله الحجاج فقال: هيهات علا يدًا مطلقها واسترق رقبة معتقها، وأنشد يقول: أُقَاتِلُ الحًجَّاجَ عَنْ سُلْطَانِهِ بِيَدٍ تُقِرُّ بِأَنَّهَا مُوْلَاتُه إِنّي إِذَنْ لأّخُو الدَّنَاءةِ وَالَّذِي شَهدت بِأَقْبَح فِعْلِهِ غَدَرَاتُه مَاذَا أَقُولُ إذَا وَقَفْتُ إِزَاءَه فِي الصَّفِّ وَاحْتَجَّتْ لَهُ فِعْلاتُه لَا قَولَ جَاٍر عَلَى أَنَّي إِذنضلاَ حَقَّ مَنْ جَارَتْ عَلَيْهِ وَلَاتُه وَتَحَدَّثَ الأَقْوَام أَنَّ ضَائِعًا ... عَرَسَتْ لِذِي مِحّبْبنطَل نَحَلَاتُه وإن كان المنّ بهذه المنزلة من التآلف والاستصلاح جاز إذا أدى الاجتهاد إليه أن يفعل. فأما الجواب عن استدلالهم بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] فهو أن سبب نزول هذه الآية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - شاور أصحابه في أسرى بدر فقال أبو بكر: هو قومك وعشيرتك فاستبقهم لعل الله أن يهديهم، وقال عمر: هم أعداء الله ورسوله كذبوك وأخرجوك فاضرب أعناقهم، فمال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد انصرافه عنهم إلى قول أبي بكر وأخذ فداء الأسرى ليتقوا به المسلمون فقيل إنه فدى كل بأربعة آلاف درهم، وقيل: أربعمائة درهم، وقال للمهاجرين: أنتم عالة يعني فقراء، فنزلت هذه الآية إنكارًا على نبيّه في فداء أولئك الأسرى، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: لو عذبنا في هذا الأمر يا عمر ما نجا غيرك في إنكار هذا الفداء فكان دليل على إباحة الفداء من ثلاثة أوجه: أحدها: قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67] وهو كثرة القتل فاقتضى إباحة ذلك بعد الإثخان في الأرض وقد أثخن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الأرض وكثرة القتل وكذلك المسلمون بعده. والثاني: قوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ} [الأنفال: 68] وفيه تأويلان: أحدهما: لولا كتاب من الله سبق في أنه سيحل لكم الغنائم لسهمكم في تعجلها من

أهل بدر عذاب عظيم قاله ابن عباس وأبو هريرة والحسن وعبيدة. والثاني: لولا كتاب من الله سبق في أهل بدر أن يعذبهم لمسهم فيما أخذوا من فداء أسرى بدر عذاب عظيم قال مجاهد وسعيد بن جبير. والثالث: قول الله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} [الأنفال: 69] يعني به مال الغنيمة والفداء، والله أعلم. وأما الجواب عن قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة:5] فهو أنه على طريق الإباحة وإن أخرج مخرج الأمر؛ لأنه بعد حظر، وإذا أباحت هذه الآية القتل لم تمنع من جواز المنّ والفداء. وأما الجواب عن تحريم المنّ عليهم لسلاحهم وعبدهم؛ فمن وجهين: أحدهما: أن السلاح والعبيد والمال لا يجوز للإمام إتلافه فلم يجز له المنّ به، وليس الرجال الأحرار مال لأنه يجوز له إتلافهم فجاز له المنّ بهم. والثاني: أن السلاح والعبيد قد دخلا في ملك الغانمين فلم يكن للإمام في المنّ بهما اجتهاد. ولم يدخل الرجال الأحرار في ملك الغانمين، فجاز أن يكون للإمام في المنّ عليهم اجتهاد. وأما الجواب عن قولهم إنه لا مصلحة في المنّ والفداء فهو إننا نجوزه مع ظهور المصلحة فيمن يرجئ إسلامه أو تآلف قومه ويمنع عند عدم المصلحة وظهور الضرر، والله أعلم. مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: "لا ينبغي للإمام أن يعزل خمس ما حصل بعدها وصفنا كاملًا ويقر أربعة أخماسه لأهلها ثم يحسب من حضر القتال من الرجال المسلمين البالغين ويرضخ من ذلك لمن حضر من أهل الذمة وغير البالغين من المسلمين والنساء فينفلهم شيئًا لحضورهم ويرضخ لمن قاتل أكثر من غيره وقد قيل: يرضخ لهم من الجميع". قال في الحاوي: وهذا صحيح، وجملة مال الغنيمة أنه لصنفين: لحاضر، وغائب فأما الغائبون فهم أهل الخمس يستحقونه بأوصافهم لا بحضورهم ولا يزاد منهم حاضر لحضوره على غائب لغيبته. وأما الحاضرون فضربان: أحدهما: من تفرد منهما بحق معين لا يشاركه فيه غيره وهو القاتل يستحق سلب قتيله لا يشارك فيه وقد مضى حكمه. ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 188، 189).

والثاني: ما كان حقه مشتركا غير معين وهم ضربان: أحدهما: ما كان له سهم قدر. والثاني: من عين له رضخ غير مقدر، فأما أصحاب السهام المقدرة فهم أهل القتال قد تعذرت سهامهم في الغنيمة بأعداد رؤوسهم لا يفضل فيها إلا الفارس بفرسه بما سنذكره من تفصيله على الراجل. وأما أصحاب الرضخ فهم من لم يكن من أهل الجهاد، وهم خمسة أصناف: الصبيان، والمجانين، والنساء، والعبيد، وأهل الذمة، يرضخ لهم من الغنيمة لحضور الواقعة بسبب غيابهم، ويفضل من قاتل على من لم يقاتل، ولا يبلغ برضخ أحدهم سهم فارس ولا رجل وقال الأوزاعي، بسهم لجميع هؤلاء وهو في الغنيمة كغيرهم ن أهل الجهاد استدلالا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الغنيمة لمن شهد الواقعة" وتعليلا بأنهم شهدوا الواقعة فأسهم لهم كأهل الجهاد. ودليلنا قوله تعالى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنْ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] فلما كان الوعد فيما أخذوه متوجها إلى أهلها الجهاد كان السهم فيما غنموه مستحقاً لأهل الجهاد، ولأن سهم الغنيمة في مقابلة فرض الجهاد فلما خرج هؤلاء من الفرض خرجوا من السهم، ولأن كل هؤلاء قد حضروا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في غزواته فرضخ لهم ولم يسهم حتى أنه استعان بيهود بني قينقاع فرضخ لهم ولم يسهم، وفيما ذكرنا تخصيصا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الغنيمة لمن شهد الواقعة " على أننا نجعلها لجميعهم، وإنما نفاضل بين أهل الرضخ والجهاد. فصل فإذا ثبت أنه يرضخ لهؤلاء الخسمة ولا يسهم، فالرضخ يتقدر باجتهاد الإمام ورأيه أو من يتخلفه الإمام من أمير جيش أو قاسم يغنم؛ فيقع التفضيل بينهم بحسب تفاضلهم في القتال. فإن قيل: فهلا سوى بينهم وان تفاضلوا كالغانمين. قيل: لأن سهام الغانمين مقدرة، فلم يعتبر فيهم التفاضل كدية الحر، والرضخ غير مقدر فاعتبر فيه التفاضل كغنيمة العبد، ولا يبلغ بالرضخ سهم فارس ولا راجل؛ لأنه تبع للسهام فنقص عن قدرها كحكومات الجراح على الأعضاء لما كانت تبع للأعضاء لم تبلغ بأرشها ديات تلك الأعضاء. فصل فإذا ثبت هذا فمن أين يكون الرضخ فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: من أصل الغنيمة قبل إخراج خمسها كالسلب لأنهم أعوان، فصاروا كحافظي الغنيمة وحامليها الذين أعطون أجورهم من أصل الغنيمة، فعلى هذا يبدأ من

الغنيمة بإعطاء السلب وأجور الحفظة والحمالين ثم الرضخ ثم يخمس الباقي، فيعزل خمسه لأهل الخمس، وتقسم أربعة أخماسه في الغانمين. والثاني: أن يرضخ لهم من أربعة أخماس الغنيمة؟ لأنهم أضعف من الغانمين حكماً فلم يجز أن يكونوا أقوى حقاً؛ فعلى هذا يبدأ بالسلب ثم بالأجوز ثم بالخمس ثم بالرضخ ثم يقسم الباقي بين الغانمين. والثالث: أنه يرضخ لهم من سهم المصالح العامة: لأنهم من جملتها وهو أضعف الأقاويل ذكره الشافعي في بعض منصوصاته. مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: " ثم يعرف عدد الفرسان والرجالة الذين حضروا والقتال فيضرب كما ضرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للفرس سهمين وللفارس سهماً وللراجل سهماً وليس يملك الفرس شيئاً إنما يملكه صاحبه لما تكلف من اتخاذه واحتمل من مؤنته وندب الله تعالى إلى اتخاذه لعدوه ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا أفرد الإما خمس الغنيمة على أربعة أخماسها يبدأ بالغانمين، فقسم فيهم أربعة أخماس الغنيمة، وقدمهم، على أهل الخمس لثلاثة معاني: أحدهما: لحضورهم وغيبة أهل الخمس. والثاني: أنه في مقابلة اجتهادهم فصار معاوضة وحق أهل الخمس مواساة. والثالث: أن يهم ملك أهل الخمس خمسهم؛ فكانوا أقوى في الغنيمة منهم فإذا شرع في قسمتها فيهم لم يخل حالهم من ثلاثة أقسام: إما أن يكونوا رجاله لا فارس فيهم، أو فرساناً لا رجال فيهم أو يكونوا فرساناً ورجالاً. فإن كانوا رجالة لا فارس فيهم أو فرساناً لا رجال فيهم سوى بينهم، وقسمها على أعداد رؤوسهم ولم يفضل شجاعاً على جبان، ولا محارباً على كاف، لأن جميعهم حاضر مكثر، ورد مهيب كما يسوي في المواريث بين البار والعاقء والمحسن والمسيء لتساويهم في النسب. وان كانوا فرساناً ورجالة فضل الفارس على الراجل. واختلفوا في قدر ما يفضل به، فذهب الشافعي: إلى أنه يعطي الفارس ثلاثة أسهم، سهماً له وسهمين لفرسه، ويعطي الراجل سهماً واحداً، وبه قال من الصحابة عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما ومن التابعين: عمر بن عبا العزيز والحسن البصري، وابن سيرين، ومن الفقهاء: مالك مع أهل المدينة، والأوزاعي مع أهل الشام، ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 189).

والليث بن سعد مع أهل مصر، وأحمد وإسحاق مع أصحاب الحديث، والثوري أبو يوسف ومحمد مع أهل العراق، إلا أبا حنيفة وحده فإنه تفرد عنهم فأهب إلى أنه يعطي الفارس سهمين والراجل سهما استدلالاً برواية عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى الفارس سهمين فبرواية المقداد قال: أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهماً لي وسهماً لفرس وبرواية مجمع بن حارثة الأنصاري قال: قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خيبر على ثمانية عشر سهما وكان الجيش ألفا وخمسمائة فمنهم ثلاثمائة فارس فأعطى الفارس سهمين، والراجل سهماً؛ لأنه جعل لثلاثمائة فارس ستمائة سهم حتى صار لكل مائة منهم سهم واحد من خيبر (¬1). ومن القياس: أنه حيوان يسهم له: فوجب أن لا يزاد على سهم كالراجل، ولأن الفرس تبع ألا تراه لو حضر بلا صاحبه لم يهم له، ولو حضر صاحبه بلا فرس أسهم له، ولا يجوز أن يكون سهم التابع أفضل من سهم المتبوع، ولأن عناء صاحبه أكثر تأثيرا وتأثيره أظهر لأنه هو المقاتل دون الفرس، وسهم الغنيمة إنما يستحق بحسب العناء وعلى قدر البلاء: فلم يجز أن يفضل ما قل تأثيره على ما كثر قال أبو حنيفة: لأن في إعطاء الفرس سهمين وصاحبه سهماً تفضيلاً للبهيمة على الآدمي وإني لأستحي أن أفضل بهيمة على آدمي. قال أصحابه: ولأن القياس يقتضي أن لا يسهم للفرس: لأنه آلة كالسلاح: ولأنه بهيمة كالبغال، ولكن صرنا إلى إعطائه سهماً واحداً بالإجماع ومنع القياس من الزيادة عليه. ودليلنا ما رواه عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أسهم للراجل ولفرسه ثلاثة أسهم سهماً له، وسهمين لفرسه (¬2). وهذا حديث صحيح رواه أئمة الحديث، وقد روى جابر وأبو هريرة مثله عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وروى الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب وطلحة والزبير قالوا: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يسهم للفارس ثلاثة أسهم: سهماً له وسهمين لفرسه (¬3). وهذا إخبار عن استدامة فعله، لكن الحديث الأول أشهر وأصح: لأن مدار هذا على بشر بن معاذ، وفيه لين. وروى ابن عباس إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم يوم خيبر للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم (¬4). وروى الشافعي أن الزبير بن العوام كان يضرب في المغنم بأربعة أسهم سهماً له؛ وسهمين لفرسه، وسهم لأمه صفية (¬5)؛ لأنهما من ذوي القربى وكل هذه الأخبار نصوص ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه. (¬2) أخرجه البخاري (4228)، ومسلم (57/ 1762). (¬3) أخرجه أحمد (2/ 2)، والدارمي (2/ 225)، وأبو داود (2733)، وابن ماجه (2854)، والبيهقي في "الكبرى" (12868). (¬4) أخرجه البيهقي في "اكبرى" (12872). (¬5) أخرجه البيهقي في "اكبرى" (12876، 12877).

تمنع من الخلاف. فإن قيل: فيحمل السهم الثالث في هذه الأخبار على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دفعه إلى الفارس نقلاً كما نقل الربع في البداءة والثلث في الرجعة فعل ذلك أربعة أجوبة: أحدهما: أن السهم عبارة عن المستحق لا عن النفل. والثاني: أن النفل يستحق بالشرط وليس في الفرس شرط. والثالث: أن النفل لا يكون للفرس. والرابع: أن حكم السهم الثالث كحكم الهمين المتقدمين، فلما لم يكونا نفلاً لم يكن الثالث نفلاً. ثم الدليل من جهة القياس أنه مقدر يزيد على مقدر على وجه الرفق، فوجب أن يكون بالضعف قياساً على المسح على الخفين، لما مسخ المقيم يوماً وليلة أرفق المسافر بثلاثة أيام وليالهن؛ ولأن مؤنة الفرس أقصر لما يتكلف من علوفه وأجره خادمه وكثرة آلته فاقتضى أن يكون المستحق به أكثر، ولأنه في الحرب أهيب، وتأثيره في الكر والفر أظهر. فاقتضى أن يكون سهمه أوفر. فأما الجواب عن حديث عبيد الله بن عمرو العمري فمن ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه عند أصحاب الحديث ضعيف وأخوه عبد الله أقوى عندهم منه وأصح حديثاً، وقد روينا عنه خلاف ما رواه. والثاني: أن خبر عبد الله أزيد من خبره والأخذ بالزيادة أولى. والثالث: أنه يحمل سهم الفارس على الزيادة استحقها بفرسه على السهم الراتب لنفسه فيصير ذلك ثلاثة أسهم كما روينا استعمالاً للروايتين فيكون أولى من إسقاط إحداهما بالأخرى كما روي في صلاة العيدين، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر في الأولى سبعا وفي الثانية خمساً فحملنا ذلك على التكبير الزائد على التكبيرة الراتبة في الإحرام والقيام. وأما حديث المقداد فقد روت عنه بنته كريمة أنه قال: أعطاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أسهم: سهماً لي، وسهمين لفرس فتعارضت الروايتان عنه وسقطتا واستعملنا على ما وصفنا. وأما حديث مجمع بن حارثة فعنه جوابان: أحدهما: ما قاله أبو داود أن مجمعاً وهم في حديثه: أنهم كانوا ثلاث مائة فارس، وإنما كانوا مائتي فارس. والثاني: أنه قد روي عنه أنهم كانوا ألفاً وأربعمائة فهم مائتا فارس وهذه الرواية أصح من وجهين: أحدهما: أن رواية ابن عباس توافقهما. والثاني: أن هذا الجيش هم أهل الحديبية، وقد اتفق أهل السير على أن عدتهم

ألف وأربعمائة وأما الجواب عن قياسهم على الراجل لعلة أنه حيوان يسهم له فهو أن الفرس لا يسهم له، وإنما يسهم لصاحبه لأجله؛ فكان الوصف غير سليم ثم المعنى في الفرس أن مؤنته أكثر وبلائه أظهر فجاز أن يكون ما يستحق به أكثر. وأما قولهم أنه تابع فلا يجوز أن يكون سهمه أكثر من مهم المتبوع. فالجواب عنه أن كلا السهمين للمتبوع ليس للتابع سهم وهو أكثر، على أن ذلك لو جاز أن يمنع من الزيادة لجاز أن يمنع من المساواة؛ لأنه إذا لم يجز أن يزيد على المتبوع لم يجز أن يساويه. وأما قولهم أن عناء صاحبه أكثر لأنه هو المقاتل. فالجواب عنه أن كلا العنائين مضاف إلى صاحبه إلا أن تأثيره لفرسه أكثر من تأثيره لنفسه؛ لأنه بالفرس يلحق إن طلب ولا يلحق إن هرب. وأما قول أبي حنيفة: "إنني أستحي أن أفضل بهيمة على آدمي" فيقال له لئن استحييت أن تفضل بينهما فاستحي أن تساوي بينهما وأنت قد سويت ثم يقال له: ألست قد فضلت قيمة البهيمة إذا تلفت على ذمة الحر إذا قتل ولم يوجب ذلك الاستيحاء، فكذلك في السهم على أنه ليس السهم للبهيمة فيستحي من تفضيلها بهء وإنما هو لصاحبها والبهيمة لا تملك. وأما قولهم: أن القياس يمنع من الهم للبهيمة فهذا قياس قد أبطله النص فبطل. فصل فإذا ثبت أن للفارس ثلاثة أسهمء فالفرسان هم أصحاب الخيل دون البغال والحمير والمطايا والفيلة، لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: "يا خيل الله اركبي" (¬1) وقال - صلى الله عليه وسلم -: "الخيل معقود بنواصيها الخير" (¬2) ولأنها هي المختصة بالكر والفر دون البغال والحمير وإذا كان كذلك فالخيل كلها سواء لا فرق بين عتيقها وبزاذينها ومقارفها وهجنها؛ والعتيق: ما كان أبواه عربيين والبرذون: وما كان أبواه أعجميين. المقرف: ما كانت أمه عربية وأبوه أعجمي. والهجين: ما كان أبوه عربياً وأمه أعجمية وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وقال الأوزاعي: إن كان الفرس عتيقاً أسهم له سهمان وان كان برذوناً لم يسهم له، (وإن) كان ¬

_ (¬1) أخرجه ابن سعد (2/ 1 / 58)، وابن جرير (6/ 133)، وانظر: فتح الباري (7/ 413). (¬2) أخرجه البخاري (2850)، ومسلم (98/ 1873) من حديث عروة بن الجعد، والبخاري (2849)، ومسلم (96/ 187) من حديث ابن عمر، والبخاري (2851)، وأنس (100/ 1874) من حديث أنس. ومن حديث أبي هريرة أخرجه الترمذي (1636)، والنسائي (3562).

مقرفاً أو هجينا أسهم له سهم واحد. وقال أحمد بن حنبل: يهم للعتيق سهمان ولغيره من الخيل سهم واحد استدلالا بأن المختصة بالكر والفر هي العتق فاختصت بالسهم الأوفى وكان ما سواهما بالنقص أولى وهذا خطأ لعموم قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] ولأن العتيق وان كان أحد وأسرع فالبرذون أشد وأبهى وأصبر فصار اختصاص العتيق بالحدة في مقابلة اختصاص البرذون بالشدة فتقابلا واستويا، ولأن أصحاب الخيل لما يستوي عربيهم وعجميهم في السهم فالخيل أولى بأن يستوي عربيها وعجميها في السهم، وفيما ذكرناه دليل وانفصال والله أعلم. مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: "ومن حضر بفرسين فأكثر لم يعط إلا لواحد لأنه لا يلقى إلا بواحد ولو أسهم لاثنين لأسهم لأكثر ولا يسهم لراكب دابةٍ غير دابة الخيل". قال في الحاوي: وهذا صحيح. إذا حضر الفارس الوقعة بأفراس لم يعه إلا أسهم فرس واحد، ولو حضرها بمائة فرس، وبه قال أبو حنيفة ومالك وأكثر الفقهاء، وقال الأوزاعي والثوري وأحمد وإسحاق: يسهم لفرسين، ولا يهم لأكثر استدلالاً بما روى مكحول أن الزبير بن العوام حضر خيبر بفرسين فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - خمسة أسهم: سهم له، وأربعة أسهم لفرسيه (¬2)؛ ولأن الثاني عدة مجيئها يراوح بينه وبين الأول إن أعيا أو زمن فكان تأثيرهما أكثر مع ما قد تكلفه لهما من زيادة المؤنة، وهذا خطأ. ودليلنا ما رواه أبو عاصم عن نافع عن ابن عمر أن الزبير بن العوام حضر خيبر معه أفراس فلم يسهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا لفرس واحد (¬3). وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حضر خيبر ومعه ثلاثة أفراس: السكب والظرب والمرتجز فلم يأخذ الهم إلا لواحد؛ لأنه لا يقاتل إلا على واحد منهما ولو تحول عنه صار تاركاً له ويكون الثاني إن انتقل إليه كالثالث في أنه قد يجوز أن ينتقل إليه ولا يسهم له فكذلك الثاني، ويصير ما سوى الأول زينة واستظهار لا يتعلق به حكم الاستحقاق كخدم الزوجة لا تستحق إلا نفقة واحدة منهم لوقوع الكفاية به ويصير ما عداه زينة وزيادة واستظهاراً. وأما حديث مكحول فقد روينا عن ابن عمر خلافه وهو صحابي خبره مسند وذاك تابعي خبره مرسل وأما استدلالهم أن الثاني وقد تكلف له زيادة مؤنة فهذا مال الثالث أيضا ولا يوجب لهم له فكذلك الثاني. ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 189). (¬2) أخرجه البيهقي في "الكبرى" (12886). (¬3) أخرجه الشافعي في ا"الأم" (4/ 145)، والبيهقي في "الكبرى" (12876).

فرع وإذا حضر الرجل الوقعة بفرس يقاتل عليه أسهم له، لأنه قد هيب به وقد يقاتل عليه إن احتاج إليه، وهكذا لو قاتل في الماء أسهم له؛ لأنه قد ربما انتقل إلى البئر وقاتل محليه، وهكذا لو قاتل على حصار حصن أسهم لفرسه، لأنه عدة يلحق به أهل الحصن إن هربوا أو يرهبهم به إن حوصروا. فرع وإذا غضب الرجل فرساً، فشهد به الوقعة، أسهم للغرس للحضور مع الغاضب، لظهور التأثير فيه، وحصول الإرهاب به، وليس ذلك معصية، وان كان الغصب معصية، وإذا كان سهم الفرس المغصوب مستحقاً، ففي مستحقه وجهان مخرجان من اختلاف قوليه في ربح المال المغصوب. فإن قيل: إنه للغاصب بعمله، جعل سهم الفرس المغصوب للغاصب لقتاله. وان قيل: إن ربح المال المغصوب لرب المال بحق ماله، جعل سهم الفرس المغصوب لماله بحق ملكه، ولكن لو كان صاحب ممن حضر الوقعة فغصب فرسه غاصب قاتل عليه كان سهم الفرس لمالكه دون غاصبه، وجهاً واحداً؛ لأنه قد استحقه بالحضور فلم يسقط بالغصب، ويكون على الغاصب أجرة المثل كان السهم لغيره لوجوبها بالغصب. فرع ولو استعار فرساً أو استأجره، فشهد به الوقعة نظر، فإن استعاره أو استأجره للقتال عليه ملك سهمه، لتملكه هذه المنفعة بالعارية والإجارة، وان استعاره، أو استأجره للركوب دون القتال، ممار كالغاصب فيكون في سهمه وجهان. فرع وإذا حضر رجل بفرس فضل منه الفرس نظر، فإن حضر لم يخرج عن الوقعة ومصاف القتال أسهم له، وان خرج عنها وتجاوز مصاف القتال لم يسهم له. وقال بعض أصحابنا: يسهم له لبقائه وخروجه عنه بغير اختياره، وهذا خطأ، لأن الأعذار لا تؤثر في تملك الأموال لو ضل صاحبه من حضور الوقعة حتى فاتته، لم يسهم له، وان كان معذوراً. فرع وان خلف الرجل فرسه في معسكر الحرب، ولم يشهد به وقعة القتال، لم يهم له، لأن مالكه لو تأخر في المعسكر عن حضور الوقعة لم يسهم له، ففرسه أولى أن لا يسهم له ولكن لو استخلفه أمير الجيش بالمعسكر على حفظه وحراسته حظراً من هجوم العدو عليه أسهم له ولفرسه؛ لأنه قد يكون أنفع للجيش من حضوره معهم، وهكذا لو أن

أمير الجيش أفرد منهم كميناً ليظفر من العدو بغرة، أسهم لهم، وان لم يشهدوا الوقعة؛ لأنهم عون فيها يخافهم العدو ويقوى بهم الجيش. مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: "وينبغي للإمام أن يتعاهد الخيل فلا يدخل إلا شديد أو لا يدخل حطماً ولا قمحاً ضعيفاً ولا ضرعاً. مال المزني رحمه الله: القحم الكبير والضرع الصغير ولا أعجف رازحاً وإن أغفل فدخل رجل على واحدة منها فقد قيل: لا يشهد له لأنه لا يغني غناء الخيل التي يهم لها ولا أعلمه أسهم فيما مضى على مثل هذه" قال في الحاوي: وهذا كما قال: ينبغي للإمام أن يتعاهد خيل المجاهدين وتجهيزها، ولا يدخل فيها حطماً وهو الكبير ولا ضرعاً وهو الصغير، ولا أعجف رازحاً، وهو الهزيل الذي لا حراك به لأنها لا تفي غناء الخيل الشديدة وقد تضر من وجهين: أحدهما: عجزهما عن النهضة وعجز راكبها عن المقاتلة. والثاني: فيق الغنيمة بالإسهام لها على ذوي العناء والشدة، فلو دخل رجل بواحد من هذه الضعيفة العاجزة عن عناء الخيل السليمة نظر، فإن كان الإمام أو أمير الجيش قد نادى فيهم ألا يدخل أحد من الجيش بواحد، منها فلا سهم لمن دخل بها لأن في البغال التي لا سهم لها ما هو عناء منها، وان لم يناد فيهم بذلك، فقد قال الشافعي هاهنا وفي الأم قيل لا يسهم، وقيل: يسهم لها فاختلف أصحابنا فكان أبو علي بن خيران يخرج ذلك على قولين: أحدهما: لا يسهم لما ذكرنا من التعليل، فعجزها عن العناء كالبغال والحمير. والثاني: يسهم لها؛ لأن اختلاف القوة والضعف لا يوجب اختلافهما في السهم كالمقاتلة وقال أبو إسحاق المروزي: ليس ذلك على اختلاف قولين، وإنما هو على اختلاف حالين، فقوله يسهم لها إذا أمكن القتال عليها مع ضعفها، وقوله: لا يمهم لها إذا لم يمكن القتال عليها لضعفها. مسألة (¬2) قال الشافعي رحمه الله: "وإنما يسهم للفرس إذا حضر صاحبه شيئاً من الحرب فارساً فأما إذا كان فارساً إذا دخل بلاد العدو ثم مات فرسه أو كان فارساً بعد انقطاع الحرب وجمع الغنيمة فلا يضرب له ولو جاز أن يسهم له لأنه ثبت في الديوان حين دخل لكان صاحبه إذا دخل ثبت في الديوان ثم مات قبل الغنيمة أحق أن يسهم له". ¬

_ (¬1) انظر الام (3/ 189، 190). (¬2) انظر الأم (3/ 190).

قال في الحاوي: وهذا صحيح. وهذه المسألة تشتمل على فصلين: أحدهما: فيمن دخل أرض العدو فارساً، ثم نفق فرسه أو باعه أو أجره قبل حضور الوقعة حتى حضرها راجلا، لم يسهم له. وقال أبو حنيفة: يسهم له إذا زال عن ملكه بعد دخول الحرب وان لم يشهد الوقعة. وقال محمد بن الحسن: إن زال ملكه عنه بغير اختياره كنفاقه أو سرقته أسهم له، وان زال باختياره كبيعه أو هبته، لم يسهم له، وقد روى عن أبي حنيفة مثله، وروى عنه مثل قولنا، فصار عن أبي حنيفة ثلاث روايات أشهرها الأولى. والثاني: فيمن دخل أرض العدو راجلاً، ثم ملك قبل تقضي الحرب فرساً بابتياع أو هبة فحضر به الوقعة أسهم له. وقال أبو حنيفة: لا يسهم له اعتباراً في استحقاق السهم بدخول دار الحرب فارساً في الفصلين معاً استدلالاً لقوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] فكان المأمور به هو الإعداد، وقد أعده بدخول دار الحرب فاستحق سهمه. وروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: "ما غزى قوم في عقر دارهم إلا ذلوا" فدل على أن دخول دار الحرب قد حصل الإذلال والقهر، فاستحق به السهم، قالوا: ولأن سهم فرسه في مقابلة ما تكلفه من مؤنته، وقد تكلفها فاستحق السهم بها، وربما حرروا هذا الاعتلال قياساً فقالوا: لأنه دخل دار الحرب فارساً مجاهداً، فاستحق سهم الفارس كالحاضر للواقعة والدليل على أن اعتبار استحقاق السهم في الفصلين معاً بحضور الوقعة لا بدخول دار الحرب قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] فاعتبر بملك حال المغنم إجازته، فلم يجز أن يملك قبلها، لأن الفرس تابع والمالك متبوع، فلما كان موت المالك المتبوع بعد دخول دار الحرب وقبل الوقعة يمنح من استحقاق سهمه فالفرس التابع أولى أن يكون موته مانعاً من استحقاقه. وتحريره قياساً أنه ذو سهم مات قبل حضور الوقعة، فلم يسهم له كالمالك ولأن يا المسلمين على ما دخل إلى دار الإسلام أثبت وأقوى منها على ما في دار الحرب، فلما استوي اعتبار سهم الغارس والفرس في دار الإسلام، كان أولى أن يعتبر في دار الحرب بحضور الوقعة. ويتحرر من هذا الاعتلال قياسان: أحدهما: أن كل حال منع ما قبلها من استحقاق سهم الفارس منع من استحقاق سهم الفرس قياساً على دار الإسلام. والثاني: أن كل مغنم منع بدار الإسلام من استحقاقه منعت دار الحرب من

استحقاقه قياساً على موت الفارس. فأما الجواب عن الآية، فهو أن المأمور به هو القتال بعد الاستعداد لا الاقتصار على الاستعداد ألا ترى أن لو استعد ولم يحضر لم يسهم له، ولو حضر ولم يستعد أسهم له، فإن قيل: فالرهبة قد وقعت بالفرس في دخول دار الحرب قبل الرهبة بالفارس لا بالفرس، ثم ليت الرهبة من الفارس بدخوله دار الحرب موجبة لهمهء فكذلك لفرسه. وأما قول علي بن أبي طالب عليه السلام: "ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا"، فالجواب عنه أنه جعل الغزو في الدار هو الإذلال لا دخول الدار على أن الغنيمة لا تملك بالإذلال، وإنما تملك بالغلبة والإجازة وأما الجواب عن استدلالهم بما تكلفه من مؤنته، فهو أنه ليس تكلف المؤنة موجباً لملك السهم في المغنم، ألا تراه لو تكنها لفرسه فهلك قبل دخول دار الحرب، أو تكلفها لنفسه وهلك بعد دخول دار الحرب لم يسهم لواحد منها، فبطل التعليل بذلك. مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: "ولو دخل يريد الجهاد فمرض ولم يقاتل أسهم له". قال في الحاوي: أما الصحيح إذا حضر الواقعة فله سهمه، قاتل أو لم يقاتل لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية من حنين إلى أوطاس فغنمتء فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم وبين من أقام بحنين، ولم يحضر معهمء فكان الحاضر معهم وان لم يقاتل أولى أن يشركهم ولأنه إذا حضر هيب وكثر وأرهب وخوف، فصار حضوره مؤثرا كالمقاتل؛ ولأنه ليس من عادة جميع الجيش أن يقاتل بعضهم، ويكون الباقون رداً لهم لتقوى نفى المقاتل بحضور من لا يقاتل. وأما إذا أحضرها وهو مريض أو كان صحيحاً فمرض فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون مريضا يقدر على القتال كالصداع والسعال ونفور الطحال والحمى القرنية، فهذا يسهم له، لا يختلف فيه لعدم تأثيره، وقله خلو الأبدان من مثله. والثاني: أن يكون مريضا لا يقدر على القتال معه ففي استحقاقه للسهم ثلاثة أوجه لأصحابنا: أحدها: وهو ظاهر نص الشافعي هاهنا أنه يهم له لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الغنيمة لمن شهد الوقعة"، ولأنه مهيب ومكثر كالصحيح؛ ولأنه قد ينفع برأيه أكثر من نفعه بقتاله. والثاني: أن لا يسهم له ويعطي رضخاً؛ لأنه مسلوب النهوض بالمرض فصار كالصبي والمجنون. والثالث: أنه إن كان مريضا يخرج به، من أهل الجهاد كالعمى وقطع اليدين أو ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 190).

الرجلين، أو الزمانة المقعدة فلا يسهم له. وان كان مريضاً لا يخرج به أهل الجهاد فيرجى زواله بالعود إلى الصحة كالحمى الشديدة، ورمد العين، وانطلاق الجوف أسهم له؛ لأن الفرق بين الأمرين في فرض الجهاد فرق بينهما في استحقاق الهم، والله أعلم. مسألة قال الشافعي رحمه الله: "ولو كان لرجل أجير يريد الجهاد فقد قيل يسهم وقيل يخير بين أن يسهم لأ وتطرح الإجارة ولا يسهم له وقيل يرضخ له". قال في الحاوي: وجملة ذلك، أن الأجير إذا حضر الواقعة لم يخل حال إجارته من أحد أمرين: إما أن تكون ثابتة في ذمته أو معينة في رقبته. فإن كانت في الذمة أسهم له؛ لأن ثبوت الحقوق في الذمم، السهم في المغنم كالديون. وان كانت معينة في رقبته وعلى يديه فعلى ضربين: أحدهما: أن تكون مقدرة بالعمل. والثاني: أن تكون مقدرة بالزمان. فإن كانت المنفعة فيها مقدرة بالعمل كرجل استأجر لخياطة ثوب أو صناعة حلي فهذا على ضربين: أحدهما: أن تكون إجازة لازمة لا يقدر على فسخها. والثاني: أن تكون إجارة يقدر على فسخها فإن كانت لازمة لا يقدر على فسخها ففي استحقاقه للسهم قولان: أحدهما: لا سهم له؛ لأن منفعته بالعقد مستحقة فأشبه العبد فعلى هذا يرضخ له وهو على إجارته مستحق لأجرته؛ لأنه لم يعتض عن منفعته فانصرفت إلى إجارته. والثاني: أنه يسهم له؟ لأن استحقاق منافعه بالعقد لا يمنع من استيفاء أحكام قربه كالحج، ومن هذا الوجه خالف أحكام العبد فعلى هذا إن كان حضور الوقعة لا يمنع من منافع إجارته كأجير يخدم من حضر الوقعة فله الأجرة مع السهم كما يكون له الحج مع الأجرة وان كان حضور الوقعة يمنع من منافع إجارته فهذا على ضربين: أحدهما: أن يدعوه المستأجر إلى خدمته فيأبى ويغلبه على منافع نفسه. فهذا يرد من الأجرة ما قابل مدة حضوره لئلا يجمع فيها بين بدلين وقد امتلكها في إحدى الجهتين.

والثاني: لا يدعوه المستأجر إلى خدمته ففي استحقاق الأجر وجهان: أحدهما: لا يستحقها تعليلاً بما ذكرنا. والثاني: يستحقها، لأن الأجرة في مقابلة التمكين من الخدمة، والتمكين موجود وان لم يقترن به الاستيفاء، وان كانت الإجارة تقدر على قسمها ففيه ثلاثة أقاويل: أحدهما: لا يسهم له سواء أقام عليها من بعد أو فسخ. والثاني: يسهم له سواء أقام عليها من بعد أو فسخ. والثالث: أنه مخير بين أن يقيم على الإجارة فلا يسهم له ويعطي رضخاً وتكون له الأجرة، وبين أن يفسخ فيسهم له وتسقط الأجرة. فإذا قيل: يسهم له فسواء قاتل أو لم يقاتل له سهمه كغيره من الجيش. وإذا قيل: لا يسهم له كان ذلك حكمه ما لم يقاتل في حضوره، فأما إذا قاتل وأبى فإنه يستحق على هذا القول السلب إن قتل قتيلاً، وفي استحقاقه للسهم وجهان: أحدهما: وهو قول أكثر البصريين منهم أبو الفياض يستحق الهم لبلائه وظهور عنائه. والثاني: وهو الظاهر من قول أبي إسحاق المروزي، والأصح عندي أنه لا سهم له؛ لأن من لم يستحق السهم بالحضور إذا لم يقاتل لم يستحقه وان قاتل كأهل الرضخ طرداَ وأهل الجهاد عكساً. مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: "ولو أفلت إليهم أسير قبل تحرز الغنيمة فمد قيل يسهم له وقيل لا يسهم له إلا أن يكون قتال، فيقاتل فأرى أن يسهم له". قال في الحاوي: إذا كان في أيدي المشركين أسير أفلت منهم وقت القتال وصار إلى المسلمين، فلا يخلو حاله من أن يختلط بالجيش أو لا يختلط فإن لم يختلط وتوجه إلى وطنه فلا حق له في الغنيمة، وان اختلط في الجيش فلا يخلو حاله من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يحضر قبل تقضي الحرب فهذا يهم له قاتل أو لم يقاتل. وقال أبو حنيفة: لا يسهم له إلا أن يقاتل؛ لأنه ما قصد الجهاد ولا تكلف له وهذا خطأ؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الغنيمة لمن شهد الوقعة" ولأن من أسهم له إذا قاتل أسهم له، وان لم يقاتل كسائر الجيش؛ ولأن ما عاناه من شدة الأسر وذله لا يجوز أن يكون سبباً لحرمانه فأما نية القصد وتكلف المؤن فليس بشرط في سهم غيره فكذلك في سهمه. والثاني: أن يحضر بعد الوقعة وقبل إجازة الغنيمة ففي استحقاقه للسهم قولان بناء ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 191).

على اختلاف قوليه متى يملك الغانمون الغنيمة. فأحد القولين: أنه لهم بانقضاء الحرب أن يتملكوها، فعلى هذا يسهم منها لأسير لأنه قد شاركهم في سهم التملك لها. والثاني: أنهم يتملكونها بشرطين: القتال عليها والإجازة لها. فعلى هذا لا سهم لأسير بحضوره بعد أن ملك الجيش أن يتملكها. فإذا قيل: يسهم له، فبحسب حاله فارسا كان أو راجلا، وإذا قيل: لا يسهم له، فإن حضر بعد قم الغنيمة فلا رضخ له فيها، وان حضر قبل قسمتها رضخ له منها، ويحتمل وجها آخر أن لا يرضخ له لفوات زمان والله أعلم. مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: "ولو دخل تجار، فقاتلوا لم أر بأساً أن يسهم لهم وقيل لا يسهم لهم". قال في الحاوي: إذا اتبع الجيش تجار وصناع قصدوا كسب منافعهم وصنائعهم في جهاد عدوهم فإن تأخروا عن الوقعة لم يسهم لهم وان حضروها نظر فإن قاتلوا أسهم لهم: لأنهم بالقتال قد عدلوا عن قصد الكسب إلى نية الجهاد وان لم يقاتلوا ففيه قولان: أحدهما: لا سهم لهم وهو قول أبي حنيفة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات". والثاني: يسهم لهم لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الغنيمة لمن شهد الوقعة، ولأنه لما لم تمنع التجارة والصناعة من الحج لم تمنع من الجهاد، فإذا أسهم لهم اعتبرت أحوالهم فرساناً ورحالة. وإذا قيل: لا يسهم، أعطوا رضخا لا يختلف فيه لإدراكهم زمان الاستحقاق. مسألة (¬2) قال الشافعي رحمه الله: " ولو جاءهم مرد قبل أن تنقضي الحرب فحضروا منها شيئاً قل أو كثر شركوهم في الغنيمة فإن انقضت الحرب ولم يكن للغنيمة مانع لم يشركوهم". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا ألحق بالجيش في دار الحرب مرد لم يدخل حال المرد من ثلاثة أقام: أحدهما: أن يدركوا الوقعة قبل نقضي الحرب فيكونوا شركاء للجيش في الغنيمة سوا، قاتلوا معهم أم لا وسواء احتاج الجيش إليهم أم لا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الغنيمة لمن حضر الوقعة"، ولأن لورودهم تأثيراً في القوة وربما كان سبباً للظفر. والثاني: أن يدركوهم بعد تقضي الحرب، وانجلاء الوقعة، وقبل إجازة الغنيمة. ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 191). (¬2) انظر الأم (3/ 191).

والإجازة أن (يستولي) عليها الملمون ويولي عنها المشركون ونأمن رجعتهم في الحال فتكمل الإجازة بهذه الشروط الثلاثة فإن انخرم شرط منها لم تكمل الإجازة فإذا كان حضور المرد بعد تقضي الحرب وقبل الإجازة فهل يشركونهم فيها أم لا على القوين الماضيين نصاً، وتخريجاً. والثالث: أن يدركوهم بعد تقضي الحرب وبعد إجازة الغنيمة على ما ذكرنا من صفة الإجازة فلا حق لهم في الغنيمة والجيش أحق بها من المرد. وقال أبو حنيفة: المرد شركاء الجيش في الغنيمة إذا أدركوهم في دار الحرب وان أحرزت الغنائم ما لم يقتسموها أو يكن الإمام قد باعها ولو كان المرد أسرى لحقوا بالجيش في دار الحرب بعد إجازة الغنائم لم يشركوهم. واستدل على مشاركة المرد لهم بأنهم جيش اجتمعوا على نفل الغنيمة من دار الحرب، فوجب أن يشركوا فيها قياسا على الحاضرين قبل الحرب: ولأن لما كان الرد مشاركاً وجب أن يكون المرد مشاركاً لأن كلا الغريقين عون وللجيش بهما قوة، ولأن الغنيمة لا تملك إلا بالإجازة إلى دار الإسلام فصار المرد مدركاً لها قبل إجازتهما. ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الغنيمة لمن شهد الوقعة" والذي شهدها الجيش دون المرد فوجب أن يكون أحق بهما من المرد. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر أبان بن سعيد على سرية قبل نجد فقدموا على النبي - صلى الله عليه وسلم - بخيبر، وقد فتحها وأجازها فسأله أن يسهم له ولأصحابه منها فأبى! فدل على اختصاص الجيش بها دون المردء ولأن لحوقهم بالجيش بعد إجازة الغنيمة يمنع مشاركتهم في الغنيمة قياساً على الأسرى ولأن كل غنيمة لا يسهم للأسرى منها لم يسهم للمرد منها قياساً على ما نفل أو أقسم. وأما الجواب عن قوله: أنهم اجتمعوا على نفل الغنيمة فليس النفل علة في التملك إلا ترى أن الأسرى لو نفلوا لم يتملكوا وكذلك الأجراء على النفل. وأما استدلالهم بالردء فهم والمراد سواء أن أدرك الوقعة أسهم لهم كالرد وان لم يدرك الرد الوقعة لم يسهم لهم كالمرد. وأما قوله: إن الغنيمة يمكن إجازتها إلى دار الإسلام فليس للدار تأثيراً في تملكها وإنما تملك بمجرد الإجازة على ما ذكرنا من الشروط المعتبرة والله أعلم بالصواب. مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: "ولو أن قائداً فرق جنده في وجهين فغنمت إحدى الفرقتين أو غنم العسكر لم تغنم واحدة منهما شركوهم لأنهم جيش واحد كلهم ردء لصاحبه وقد مضت خيل المسلمين فغنموا بأوطاس غنائم كثيرة وكثر العساكر بحنين ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 191، 192).

فشركوهم وهم مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولكن لو كان قوم مقيمين ببلادهم منهم طائفة فغنموا لم يشركوهم وان كانوا منهم قريباً لأن السرايا، كانت تخرج من المدينة فتغنم فلا يشركهم أهل المدينة ولو أن إماماً بعث جيشين على كل واحد منهما قائد وأمر كل واحد منهما أن يتوجه ناحية غير ناحية صاحبه من بلاده عدوهم فغنم أحد الجيشين لم يشركهم الآخرون فإذا اجتمعوا فغنموا مجتمعين فهم كجيش واحد". قال في الحاوي: وهذا صحيح وللسرايا متقدمة على الجيوش حالتان: إحداهما: أن تسري من جملة جيش خارج في الجهاد. والثانية: إن تسري من جملة جيش مقيم. فأما الحالة الأولى وهو أن تسري من جملة جيش خارج في الجهاد فصورتها أن يخرج الإمام لجيشه أو يستخلف على الجيش أميراً فينفذ السرايا من جملة الجيش الخارج ففيه ثلاث مسائل: فالمسألة الأولى: أن يتقدم من جملته سرية واحدة إلى بعض الجهات؛ فتكون السرية والجيش شركاء بجميع ما غنموه، فإن غنمت السرية شاركهم الجيش، وان غنم الجيش شركتهم السرية وسواء كان تفرد السرية إلى الجهة التي يقصدها أو إلى غيرها، وهذا قول الجمهور. وقال الحسن البصري يتميز حكم السرية عن الجيش ويختص كل واحد منهما بما غنمه استدلالاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الغنيمة لمن شهد الوقعة " وهذا خطأ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين هزم هوازن بحنين أسرى قبل أوطاس سرية غنمت فقسم غنائمهم في الجميع. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم ويجير عليهم أقصاهم وهم يد على من سواهم يرد مشدهم عل مضعفهم ومتسريهم على قاعدهم، لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده" (¬1) فأخبر أن السرايا ترد على القاعد ولأنهم جيش واحد وكل واحد منهما ردا لصاحبه ألا ترى أن الجيش إن احتاج إليها رجعت إليه وان احتاجب إليه لحق بها. والمسألة الثانية: أن ينفذ من الجيش سريتين إلى جهة واحدة في طريق واحد أو طريقين فيكون الجيش والسريتان جيشاً واحداً إن غنمت السريتان اشتركتا مع الجيش، وان غنمت إحداهما شركتهما الأخرى والجيش، وان غنم الجيش شاركته السريتان؛ لما ذكرنا من النص والتعليل. والمسألة الثالثة: أن ينفذ سريتين إلى جهتين مختلفتين فتكون السريتان مشاركتين للجيش والجيش مشارك للسريتين وهل تكون إحدى السريتين مشاركة للأخرى أو لا؟ على وجهين: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه مراراً.

باب تفريق الخمس

أحدهما: تكون مشاركة لها؛ لأنها من جملة جيش واحد فصار الكل جيشاً واحداً. والثاني: أن لكل واحد من السريتين حكم نفسها لا تشارك الأخرى ولا يشاركها؛ لأن الجيش أصل السريتين وليست إحدى السريتين أصله للأخرى. فصل وأما الحالة الأخرى وهو أن يكون الجيش مقيماً والسرايا منه نافذة ففيها ثلاث مسائل: إحداها: أن ينفذ الإمام من جملة جيشه المقيم سرية فتغنم فتختص السرية بغنيمتها ولا يشركها الجيش المقيم سواء أسرت إلى موضح قريب أو بعيد، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ينفذ السرايا من المدينة فلا يشركهم أهل المدينة، ولأن الغنيمة للمجاهدين وليس المقيم مجاهداً. والمسألة الثانية: أن ينفذ الإمام من جملة جيشه المقيم سريتين إلى جهة واحدة في طريق واحد أو طريقين فتكون السريتان جيشاً واحداً، أيهما غنمت شاركتها الأخرى، ولا يشاركهما الجيش المقيم لكون غير مجاهد. والمسألة الثالثة: أن ينفذ الإمام من جملة الجيش المقيم سريتين إلى جهتين مختلفتين وقد أفرد كل سرية منهما بقائد فإن اجتمعت السريتان على جهة واحدة فهم شركاء في غنائمها دون الجيش المقيم، وان انفردت كل سرية بالجهة التي نفذت إليها لن تشاركها الأخرى في غنائمها، ولا يشارك الجيش واحدة منها؛ لأن كل واحدة من السريتين إذا اختصت بجهة لم تكن ردا للأخرى فصارت جيشاً منفردا فلو انضم نفراً من إحدى السريتين إلى الأخرى وغنموا شاركوها في غنائمهم، لأنهم بالانضمام إليها قد صاروا من جملتها فإذا جاز النفر سهمهم منها فهل يشاركهم فيه باقي أصحابه من السرية الأخرى أو لا؟ على وجهين: أحدهما: يشاركونهم فيه، لأن جميعهم جيش واحد، فعلى هذا لو كان باقي السرية غنمت شاركهم فيها النفر المنفرد عنهم. والثاني: أن هؤلاء النفرد يختصمون بما أخذوا من السرية التي انضموا إليها؛ لأنهم لما صاروا من جملتها بالانضمام إليها خرجوا من جملة سريتهم بالانفراد عنها؛ فعلى هذا لو أن الباقين من سريتهم غنموا لم يشاركوهم كما لم يردوا عليهم، والله أعلم. باب تفريق الخمس مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: "قال الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 192، 193).

41] الآية وروي أن جبير بن مطعم قال: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما قسم سهم ذي القربى بين بني هاشم وبني المطلب أتيته أنا وعثمان بن عفان رضي الله عنه فقلنا: يا رسول الله هؤلاء إخواننا من بني هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذي وصفك الله به منهم أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطتهم أوتركتنا وإنما قرابتنا وقرابتهم واحد، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد هكذا وشبك بين أصابعه"، وروي جبير بن مطعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعط بني عبد شمس ولا بني نوفل من ذلك شيئا". قال في الحاوي: وقد مضى الكلام في أربعة أخماس الغنيمة، فأما خمسها وخمس الفيء فهما سواء، ولأربعة أخماس الفيء حكم يخالف حكم خمسه، وخمس الفيء والغنيمة مقسوم على مذهب الشافعي على خمسة أسهم: سهم كان لرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته ويصرف بعده في مصالح المسلمين العامة، وسهم لذوي القربى من بني هاشم وبني المطلب باق لهم ما بقوا، وسهم لليتامى، وسهم المساكين، وسهم لبني السبيل. وقال أبو العالية الرياحي: يقسم الخصى على ستة أسهم: سهم منها لله تعالى مصروف في رياح الكعبة وزينتهاء ثم الخمة الأسهم بعده على ما وصفناه وقال بعض العلماء: يقسم الخمس على أربعة أسهم أسقط منها سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بموته. وقال أبو حنيفة: يقسم الخمس على ثلاثة أسهم سهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لبني السبيل وقال بعض العلماء نقسم الخمس على أربعة أسهم أسقط منها سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسهم ذي القربى. وقال مالك: يصرف الخمس من أربعة أخماس الفيء في وجوه المصالح. فأما أبو العالية فاستدل بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الانفال: 41] فذكر الله تعالى نفسه من المستحقين فاقتضى أن يكون له ودليلنا ما روى محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس مردود فيكم " فلو كان مقسوماً على ستة لقال إلا السدس، وروى ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقسم الخمس على خمسة أسهم. فأما الآية فالجواب عنها أن تقديم ذكر الله تعالى إنما هو للتبرك باسمه، ولإباحة المال بعد حظره، والا فجميع الأموال له، ولتغلظ حظر ذلك على غير من سماه. وأما أبو حنيفة فاستدل على أن سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سقاط بأمرين: أحدهما: أن من ملك في حياته حقا كان بعد موته، إما موروثاً، واما ساقطا فلما لم يكن سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - موروثاً سقط. والثاني: أنه كان يملك سهمه من الخمس كما كان يملك من الغنيمة الصفى فلما سقط حقه من الصفى بموته سقط سهمه من الخمس به. واستدل أيضا على أن لا حق لذوي القرب فيه إلا بالفقر من جملة اليتامى

والمساكين؛ بقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] فحظروا بهذا التعليل على الأغنياء وثبوت حقهم فيه يوجب التسوية بين الفقراء والأغنياء؛ فدل على سقوطه بما روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: دعاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقد عزل لنا سهم ذي القربى فقلت إن بني هاشم عنه في غناء وان بالمسلمين حلة وفاقة فإن رأيت أن ترده عليهم، فلما تركه للغني دل على أنهم كانوا يأخذونه بالفقر. قال: ولأن كل مال لم يجز صرفه إلى أغنياء غير ذي القربة لم يجز صرفه إلى أغنياء ذي القربى كالصدقات، ولأنهم صنفه مسمى في الخمس؛ فوجب أن لا يستحقوه مع الغني كاليتامى والدليل على ما قلناه وهو أن سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثابت في رواية محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم: فدل رده ثبوته وان تغير حكمه، لا على سقوطه. وروى الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا وكاب فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - دون المسلمين، وكان ينفق منها على أهله نفقة سنة، فما فضل جعله في الكراع والسلاح عدة في سبيل الله، ثم توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فوليها أبو بكر مثل ما وليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم وليها عمر بمثل ما وليها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو بكر فموضع الدلالة من هذا الخبر أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما سلكا بحقه بعد وفاته مسلكه بحقه في حياته؛ فدل على بقائه وثبوته؛ ولأن ما استحق من سهام الخمس لم يسقط كسائر السهام. فصل والدليل على أن سهم ذوي القربى ثابت يستحق مع الغنى والفقر، قوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى} [الحشر: 7] فأضاف الخمس إلى خمسة أصناف بلام التمليك، وجمع بينهم بواو التشريك، فاقتضى الظاهر تساويهم بجميعهم بالأوصاف التي أضافها الله تعالى إليهم، وهو إنما وصفهم بأي القربى فدل على استحقاقهم إياه باسم القرابة لا بالفقر وقال تعالى: {فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ} [الروم: 38] قال السدي: هم ذوي القربى من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بني هاشم وبني المطلب وروى الشافعي عن مطرف بن مازن عن معمر بن راشد عن ابن شهاب قال: اخبرني محمد بن جبير عن أبيه قال لما قسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهم ذي القربى بين بني هاشم وبني المطلب أتيته أنا وعمان بن عفان فقلت: يا رسول الله هؤلاء لإخواننا من بني هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله منهم أرأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم وتركتنا وإنما قرابتنا واحدة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد

كذا وشبك بين أصابعه (¬1)، وفي بعض الروايات لم يفترقوا في جاهلية ولا إسلام. والدلالة في هذا الخبر من وجهين: أحدهما: أن عثمان بن عفان وجبير كانا من أغنياء قريش، سألاه لما أعطيت بني هاشم وبني المطلب وحرمتنا، ونحن وهم في القرابة سواء؟ فلم يجعل سبب المنع الغني فدل على أن الغني فيه كالفقير. والثاني: أنه كان في بني هاشم وبني المطلب أغنياء وفقراء وقد أعطاهم. وكان من عبد شمس أغنياء وفقراء وقد حرمهم؛ فدل على أنه اعتبر القرابة دون الفقر. فإن قيل: النبي - صلى الله عليه وسلم - أعتبر النصرة دون القرابة؟ لأن هاشماً والمطلب وعبد شمس ونوفل كانوا أخوة وكلهم بنو عبد مناف، وقد خص النبي - صلى الله عليه وسلم - سهم ذوي القربة بني هاشم وبني المطلب دون بني عبد شمس ونوفل وجميعهم في القرابة سواء، لما قال في ضم بني المطلب إلى بني هاشم بأنهم شيء واحد، ولم يفترقوا في جاهلية ولا إسلام ليعلمهم أن بني عبد شمس وبني نوفل قد خالفوهم في الجاهلية والإسلام، فدل على أن العطاء إنما كان لأجل الندرة التي ميزتهم بها دون القرابة التي قد اشتركوا فيها فاختلف أصحابنا لأجل ذلك في سبب الاستحقاق على ثلاثة أوجه: أحدهما: أن الاستحقاق بالقرابة وحدها دون النمرة، ولأنهم ليس للنصرة فيها تأثير، لأنه لم يذكره عثمان وجبير في طلبها ولا ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - في منعهما ودفع ذلك لمن لا نصرة فيه من صغير وكبير ورجل وامرأة ومنع من ظهرت من غيرهم، وان لم يكن من بني المطلب من قام بالنصرة مقام أبي بكر وعمر وعثمان وأبي دجانة وخالا بن الوليد فمنعهم وأعطى من بني المطلب من هو أقل نصرة منهم، فدل على أنهم استحقوا ذلك بالقرابة لا بالنصرة. والثاني: أن الاستحقاق بالقرابة والتقديم بالنصرة كما نقول في الأخوين أحدهما لأب وأم، والآخر لأب ابنهما في التعصيب بالأب سواء، ويقدم أحدهما على الآخر للأم، وان اشتركا في التعصيب، كذلك بني المطلب وان شاركوا بني عبد مناف وبني نوفل في القرابة قاموا عليهم بما اختصوا به من النصرة. فإن قيل: فإذا كان التقديم بالنصرة فهلا زال حكمهما بزوالها، وقد زالت اليوم، قيل: النصرة في الآباء أوجبت ثبوت حكمها في الأبناء، كما تقول في تمييز كفرة أهل الكتاب على المشركين في قبول الجزية أن حرمة آبائهم حين كانوا على حق أوجبت ثبوتها لأبنائهم وإن زالوا عن الحق. والثالث: أن الاستحقاق بالقرابة وحدها، والمنع مع وجودها لسبب آخر كما نقول ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4/ 211)، وأبو داود (2978)، والنسائي (4148)، وابن ماجه (2881)، واليهقي في "الكبرى" (12952) وفي "معرفة السنن" (3987).

في ابنين أحدهما قاتل أنهما وإن استويا في البنوة فالقاتل ممنوع بعلة، فكذلك بنو عبد الشمس وبنو نوفل وان ساووا بني هاشم وبني المطلب في القرابة، فقد كان منهم ما يسقط به حقهم كما يسقط حق الابن القاتل. فإن قيل: جبير بن مطعم راوي هذا الحديث أسلم بعد فتح خيبر فلم يلتفت إلى حديثه في أحكام غنائمها فعن ذلك جوابان: أحدهما: أنه لم يعين الخبر في خمس خيبر، وقد كان بعدها غنائم يحمل خبره على خمسها. والثاني: قد كان أكثرها فيئاً فيستغل في كل عام فكان خمسة باقياً. وروي أن الفضل بن العباس استشفع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعلي رضوان الله عليهما في عمالة الصدقات فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أوساخ الناس"، فجعل لهم خمس الخمس تنزيهاً عما يملك بالفقر من الصدقات؛ فم يجز أن يستحقوه بالفقر المشروط في الصدقات، ويدل على ذلك حديث عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد روي على وجهين يكون في أحدهما نصاً مسنداً، فهو ما رواه عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: سمعت علياً رضي الله عنه يقول: اجتمعت أنا والعباس وفاطمة وزيد بن حارثة عند النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقلت: يا رسول اله أرأيت إن تولينا حقنا من هذا الخمس في كتاب الله فاقسمه في حياتك كي لا ينازعنا أحد بعدك فافعل، قال: فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "نفعل ذلك" فولاينه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقسمته في حياته، ثم في رواية أبي بكر حتى كانت آخر سنة من سني عمر، فإنه أتاه مال كثير فعزل حقنا ثم أرسل إلي فقلت: لنا عنه العام غناء، وبالمسلمين الآن حاجة فاردده عليهمء فرده عليهمء فلقيت العباس بعدما خرجت من عند عمر فقال يا علي: حرمتنا لا ترد علينا أبدأ، وكان راجلاً داهياً فلم يدعني إليه أحد بعد عمر. فدل قول علي للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن رأيت إن تولينا حقنا على أنه حق يختص بهم لا يتحق بالفقر الذي هو في غيرهم. وأما الوجه الذي يكون إجماعاً منعقداً فهو ما رواه الحكم بن عيينة عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: لقيت علياً عليه السلام عند أحجاز الركب فقلت له: بأبي وأمي ما فعل أبو بكر وعمر في حقكم أهل البيت من الخمس فقال علي: أما أبو بكر فلم يكن في زمانه أخماس وما كان فقد أوفاناه، وأما عمر فلم يزل يعطينا حتى جاءه مال السوس والأهواز أو قال مال فارس الشافعي يشك، فقال عمر: إن المسلمين فله فإن أجبتم تركتم حقكم فجعلناه في خلة المسلمين حتى يأتينا مال أو فيكم حقكم، فقال العباس لعلي: لا تطعمهم في حقنا، فقلت يا أبا الفضل ألسنا أحق من أجاب أمير المؤمنين، ودفع خلة المسلمين، فتوفي عمر قبل أن يأتيه مال فيقضيناه.

فدل استنزال عمر لهم ثمنه بخلة المسلمين، أنهم لم يستحقوه بالفقر الذي قد شاركوا فيه فقراء المسلمين، ولكنه حق لهم لا يسقط بمطالبتهم ولا يؤخر لفقرهم، وإنهم يستحقون قضاء ما أخروه من حقهم. وروى زيد بن هرمز أن نجدة الحروري حين حج في فتنة ابن الزبير أرسل إلى ابن عباس يسأله عن سهم ذي القربى، ويقول لمن تراه قال ابن عباس: لقربى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقسمه لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد كان عمر عوض من ذلك عوضاً رأيناه دون حقنا فرددناه عليه، وأبينا أن نقبله؛ ولأنهم أحد أصناف أهل الخمس، فوجب أن لا يسقط حقهم منه كسائر الأصناف. ولأن من حرمت عليه الصدقات المفروضات في جميع الأحوال ثبت لهم سهم في الخمس كالنبي - صلى الله عليه وسلم -. ولأنهم عوضوا عن الصدقات المفروضات بحمس الخمس لقوله - صلى الله عليه وسلم - أو ليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أوساخ الناس، فلما كان تحريم الصدقات عليهم ثابتاً لا يزول؛ كان ما عوضوه من خمس الخمس ثابتاً لهم يزول. وتحريره أن ما تتميز به ذوو القربى في الأموال استلزم ثبوته قياساً على تحريم الصدقات. فأما الجواب عن استدلال أبي حنيفة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يكن موروثاً كان ساقطاً، فهو أن الميراث إذا انتفى عنه رد إلى ما قد أقيم مقامه من وجوه المصالح لقومه في حقه مقام الميراث في حق غيره، فوجب أن يكون ذلك مصرف ماله. وأما الجواب عن قوله: إن سقوط حقه الصفي بموته يوجب سقوط حقه من غيره فهو أن الحق من الصفي غير مقدر فلا يكون ثابتاً بعد موته، وإنما كان يأخذ من الغنيمة ما شاء باختياره واختيار للصفي معدوم بعد موته فقط بخلاف غيره. وأما الجواب عن استدلال أبي حنيفة في سقوط سهم ذي القربى لقوله تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] من وجهين: أحدهما: أنه راجع إلى جميع الخمس وليس هو دولة بين الأغنياء؛ لأن سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل يستحق بالفقر. والثاني: أنه سهم ذي القربى ليس هو دولة بين الأغنياء؛ لأنه يشترك فيه الأغنياء والفقراء وما كان دولة بين الأغنياء خرج عن أن يكون فيه حق للفقراء وأما الجواب عن استدلاله بحديث علي عليه السلام أنه رد سهم ذي القربى لغناهم على المسلمين لخلقهم وفقرهم فمن وجهين: أحدهما: أنه اختار ترك حقه ومن يترك حقه باختياره لم يدل على سقوط استحقاقه. والثاني: أنه أخره لخلة المسلمين ليأخذ عوضه عند استغنائهم فكان حقه ثابتاً باقياً، وهو أول شيء على ثبوت استحقاقه.

وأما الجواب عن قياسه على الصدقات مع جواز أن يدفع من الصدقات إلى أغنياء العاملين والمؤلفة قلوبهم والغارمين فهو أن الصدقة مواساة: فجاز أن يكون الفقراء أحق بها، والخمس يملك من غنائم المشركين قهراً لا بالمواساة، فجاز أن يشترك فيه الفقراء والأغنياء كالغانمين. وأما الجواب عن قياسهم على اليتامى والمساكين فهو أن ما أخذ باسم المسكنة والفقرا جاز أن يكون الفقر فيه شرطاً، وما أخذ باسم القرابة كانت القرابة شرطاً فيه إذا وجدت ولم يكن الفقر شرطاً وما أخذ باسم القرابة كانت كالميراث والله أعلم. مسألة (¬1) قال الشافعي: "فيعطى سهم ذي القربى حيث كانوا ولا يفضل أحد على أحد حضر القتال أو لم يحضر إلا سهمه في الغنيمة كسهم العامة ولا فقير على غني ويعطى الرجل سهمين والمرأة سهماً لأنهم أعطوا باسم القرابة فإن قيل: فما أعطى - صلى الله عليه وسلم - بعضهم مائة وسقٍ، وبعضهم أقل قيل لأن بعضهم كان ذا ولدٍ فإذا أعطاه حظه وحظ غيره فقد أعطاه أكثر من غيره والدلالة على صحة ما حكيت من التسوية أن كل من لقيت من علماء أصحابنا لم يختلفوا في ذلك وإن باسم القرابة أعطوا وإن حديث جبير بن مطعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم سهم ذي القربى بين بني هاشم وبني المطلب". قال في الحاوي: وهذا صحيح وقد مضى الكلام في أن سهم ذي القربى ثابت وثبوته يقتضي إبانة أحكامهم فيه وذلك يشتمل على خمسة فصول: فالفصل الأول: في ذي القربى من هم؟ وهم بنو هاشم وبنو المطلب دون بني عبد شمس وبني نوفل، وجميعهم بنو عبد مناف، وكان لعبد مناف مع هؤلاء الأربعة خامس اسمه عمرو وليس له عقب فأما هاشم فهو جد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، فهاشم في عمود الشرف الذي تعدى شرفه برسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى إخوته، والمطلب أخوه الشافعي من ولده ثم عبد شمس أخوهما وعثمان من ولاه ثم نوفل أخوهم وجبير بن مطعم من ولده؛ فاقتص بسهم ذي القربة بنو هاشم وبنو المطلب دون بني عبد شمس ونوفل لقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن بني هاشم وبني المطلب شيء واحد لم يفترقوا في جاهلية ولا إسلام" يعني أنهم كانوا متناصرين بحلف عقدوه بينهم في الجاهلية، ويتميز به عن بني عبد شمس ونوفل، ولهذا الحلف دخل بنو المطلب مع بني هاشم الشعب بمكة حين دخله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروى الزهري عن سعيا بن المسيب عن جبير بن مطعم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقسم لبني وفقيرهم وقال أبو حنيفة: لا حق لغنيهم فيه وهذا خطأ من وجهين: ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 193، 194)

أحدهما: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطى منه العباس وكان ليساره يعول عامة بني عبد المطلب. والثاني: أن ما استحق بالقرابة استوى فيه الغني والفقير كالميراث، ثم لا فرق بين من حضر القتال ومن لم يحضره، ولا فرق بين من شاقق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو لم يشاققه في أنهم سواء بعد الإسلام في سهمهم، إلا أن من حضر القتال أخذ سهمه من الغنيمة خارجاً عن حقه في الخمس. والفصل الثالث: أنه يشترك فيه الذكور والإناث لأن الزبير بن العوام أحذ من الخمس سهم أمه صفية بنت عبا المطلب رضي الله عنهم. ولأن من استحق بالقرابة اشترك فيه الرجال والنسا، كالميراث وخالف الفعل الذي يختص الرجال بتحمله دون النساء، لأن العاقلة من ذب عن القاتل منع منه بالسيف، وهذا يختص بالرجال دون النساء، وسهم ذي القربى لأجل النسب الذي يشترك فيه الرجال والنساء، فإذا ثبت اشتراك الذكور والإناث فيه فضل الذكور على الإناث وكان للذكر مثل حظ الأنثيين سهمان وللأنثى سهم كالميراث. وقال المزني وأبو ثور: يسوى بين الذكور والإناث كالوصايا للقرابة يسوى فيها بين الذكور والإناث وهذا خطأ، لأن اعتبار سهمهم بالميراث أولى من اعتباره بالوصايا من وجهين: أحدهما: أن الميراث وسهم ذي القربى عطيتان من الله تعالى، والوصايا عطية من آدمي تقف على خياره. والثاني: أن في ذي القربى نصرة هي بالذكور أخص فجاز أن يكونوا بها أفضل، وليس كذلك في الوصايا ثم لا حظ لأولاد الإناث فيه إذا لم يكن آبائهم من ذوي القربى، لأنهم يرجعون في النسب إلى الآباء الذين ليسوا من ذوي القربى. والفصل الرابع: أن يسوى بين جميع الذكور ويسوى بين جميع الإناث ويفضل الذكور على الإناث، ويسوى بين القريب والبعيد وبين المطيع والعاصي وبين العدل والباغي كما يسوى بينهم في الميراث. فإن قيل: فقد أعطى النبي سو بعضهم مائة وسق، وبعضهم أقل. قال الشافعي: لأن بعضهم كان ذا ولد فإذا أعطاه حظه وحظ غيره فقد أعطاه أكثر من غيره. فإن قيل: فهلا قسم سهمهم على اجتهاد الإمام ورأيه في التسوية والتفضيل كما يقسم سهم الفقراء في الزكاة على اجتهاده؟ قيل: لأن الفقراء يأخذون سهمهم بالحاجة التي قد تختلف فيهم فجاز أن يفضل بينهم لأجلها وسهم ذي القربى للقرابة التي قد صاروا فيها سواء فوجبت التسوية بينهم لأجلها. والفصل الخامس: أن سهم ذي القربى من غنائم جميع الثغور مقسوم بين جميع ذوي القربى في جميع الإقليم. وقال أبو إسحاق المروزي: يقسم سهامهم من غير كل ثغر في إقليم ذلك الثغر

الذين هم بالجهاد فيه أخص، ولا ينتقل سهمهم من غنائم ثغر المشرق إلى من كان منهم في بلاد المغرب لما فيه من المشقة ليحال كل فريق منهم على غنائم الثغر الذي هي إقليمهم فيكون أسهل كما يحال ثغر كل بلد على ذكواته وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه يفضي إلى إعطاء بعضهم دون بعض، وكلا الأمرين خطأ يخالف نص الآية، وخالف سهم الفقراء في الزكاة من وجهين: أحدهما: أنه لما جاز إعطاء بعض فقراء البلد دون جميعهم لم يجز ذلك في ذوي القربى، جاز أن يختص بها فقراء ذلك البلد بخلاف ذوي القربى. والثاني: أنه لما نفل سهم ذي القربى وغنيمة الثغر إلى بلاد الإقليم بخلاف الزكاة وجب نقله إلى جميع الأقاليم بخلاف الزكاة. والمعنى الذي لأجله وقع الفرق بين الزكاة والغنيمة من هذين الوجهين هو أن هي كل البلاد زكوات وفقراء، فجاز أن يحال فقراء كل بلد على زكواته وليس لكل بلد غنيمة ولا في كل بلد ذوي القربى، فلذلك اشترك جميع ذوي القربى في جميع الغنائم حتى لا يختص بها بعضهم دون بعض والله أعلم. مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: "ويفرق ثلاثة أخماس الخمس على من سمى الله تعالى على اليتامى والمساكين وابن السبيل في بلاد الإسلام يحصون ثم يوزع بينهم لكل صنف منهم سهمه لا يعطى لأحدٍ منهم سهم صاحبه". قال في الحاوي: وهذا كما قال وإذا قد مضى الكلام في سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وسهم ذي القربى من الخمس: انتقل الكلام إلى باقي السهام وهي ثلاثة أسهم لثلاثة أصناف: سهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لبني السبيل على ما تضمنته الآية من قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الأنفال: 41]. فأما اليتامى فهم الذين مات آباؤهم، وان بقيت أمهاتهم فيكون اليتم بموت الآباء دون الأمهات لاختصاص الآباء بالنسب فاختصوا باليتم، وسموا بذلك لغة لتفردهم بموت الآباء دون الأمهات كما يقال درة يتيمة لتفردها عن أن يكون لها نظير ثم يعتبر فيهم مع فقد الآباء شرطان آخران: هما الصغر والإسلام، فأما الإسلام فيعتبر فيهم شرعا لا لغة؛ لأن اليتيم يعم مسلمهم ومشركهمء إنما خص الشرع بهذا الهم من كان منهم مسلماً لأمرين: أحدهما: أنه قال الله تعالى فاختص به أهل طاعته. ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 195).

والثاني: أنه مال قد ملك من المشركين فكان لغيرهم لا لهم، وأما الصفر فكان فيهم معتبراً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يتم بعه الحلم " لكن اختلف في هذا الشرط هل ثبت اعتباره شرعاً أم لغة، فقال بعضهم: يثبت اعتباره شرعاً للخير وإلا فهو اللغة ينطلق على الصفير والكبير، وقال أحرون: بل يثبت اعتباره لغة وشرعاً لأن اسم اليتيم في اللغة موضوع لمن كان متضعفاً محروماً، وهذا بالصغار أحص منه بالكبار فإذا ثبت اعتبار هذه الشروط الثلاثة في اليتامى فقد اختلف أصحابنا في اعتبار شرط رابع فيهم وهو الفقر على وجهين: أحدهما: وهو مذهب الشافعي أن الفقر شرط رابع يعتبر في استحقاقهم لهذا السهم من الخمس، لأن مصروف في ذوي الحاجات، فخرج منهم الاعتبار ولأنه إرفاق لمن توجه إليه المعونة والرحمة وهو الفقراء دون الأغنياء. والثاني: أنه لا يعتبر فيهم الفقر أنه مستحق لغنيهم وفقيرهم لأوي القربى اعتباراً بمطلق الاسم: لأنهم لو اعتبر فيهم الفقر لدخلوا في جملة المساكين، ولما كان تخصيصهم بالذكر فائدة: فعلى الوجه الأول أن الفقر فيهم معتبر يتعلق عليه ثلاثة أحكام: أحدهما: أنه لا فرق بينهم من مات أبوه أو قتل لاشتراكهم في الحاجة المعتبرة فيهم. والثاني: أنه يجوز الاقتصار على بعض اليتامى دون جميعهم كالفقراء. والثالث: أنه يجوز أن يجتهد الإمام برأيه في التوبة بينهم والتفضيل كالفقراء وعلى الوجه الثاني أن الفقر فيهم غير معتبر يتعلق عليه ثلاثة أحكام تخالف تلك: فالحكم الأول: أنه يختص بذلك من قتل أبوه في الجهاد دون غيره رعاية لنصرة الإباء في الأبناء كذوي القربى. والحكم الثاني: أن يفرق في جميعهم ولا يخص به بعضهم فعلى قول الشافعي يفرق في أيتام جميع الأقاليم، وعلى قول أبي إسحاق المروزي يفرق في إقليم ذلك الثغر دون غيره من الأقاليم. والحكم الثالث: أنه يسوي بينهم من غير تفضيل كذي القربى وأن يسوى بين الذكور والإناث بخلاف ذوي القربى، لأن سهم ذوي القربى كالميراث، ففضل فيه الذكر على الأنثى وسهم اليتامى عطية كالوقف والوصية يسوى فيه بين الذكر والأنثى. فصل وأما المساكين والفقراء يدخلون في جملتهم إذا أطلقوا وكذلك إذا أطلق الفقراء والمساكين يدخلون في جملتهم ويميز بين الفريقين إذا جمعوا، والفقير هو الذي لا شيء له، والمسكين هو الذي له ما يكفيه فصار الفقير أسوأ حالاً من المسكين، واستدل عليه في قسم الصدقات، وإذا دخل الفقراء مع المساكين في سهمهم من الخمس فقد اختلف أصحابنا في مستحقيه منهم على وجهين:

أحدهما: أنه يستوي فيه جميع المساكين من الناس كلهم لدخول المسكنة في جميعهم. والثاني: أنه يختص به مساكين أهل الجهاد الذين قد عجزوا عنه بالمسكنة أو الزمانة ولا حق فيه لغيرهم من المساكين؛ لأن مال الغنيمة لأهل الجهاد أخص وليصير ذوو القدرة على الجهاد؛ فعلى الوجه الأول أنه يستوي في جميع المساكين ويتعلق عليه ثلاثة أحكام: أحدهما: أنه يجوز أن يختص به بعض المساكين دون جميعهم كالزكاة. والثاني: أنه يجوز أن يجتهد الإمام برأيه في التوبة والتفضيل بحسب الحاجة. والثالث: أنه يجوز أن يجمع لهم بين سهمهم من الزكاة وسهمهم من الخمس وحقهم في الكفارات فيصير إليهم ثلاثة أموال: وعلى الوجه الثاني: أنه يخص به مساكين أهل الجهاد دون غيرهم ويتعلق عليه ثلاثة أحكام: أحدهما: أنه يجب أن يفرق في جميعهم ولا يختص به بعضهم، فعلى مذهب الشافعي في مساكين جميع الأقاليمء وعلى مذهب أبي إسحاق المروزي في مساكين إقليم الثغر المغنوم فيه دون غيره من الأقاليم. والثاني: أنه يستوي بينهم فيه من غير تفضيل ولا يفضل ذكر على أنثى، ولا صغير على كبير، فإن اجتمع في الشخص الواحد مسكنة ويتم أعطى باليتم دون الممكنة: لأن اليتم منعة لازمة والمسكنة صفة زائلة. والثالث: أنه لا يجمع لهم بين سهمهم من الخمس وبين سهمهم من الزكاة لتميز أهل الفيء على أهل الزكاة، وتميز مساكين الخمس عن مساكين الزكاة، ولكن يجوز أن يافع إليهم من الكفارات فيصير إليهم مالان ويمنعوا مالأ، ولا يختص الكفارات بأحد الفريقين والله أعلم. فصل وأما بنو السبيل فهم المسافرون سموا بذلك: لأنهم بملازمة سبيل السفر قد صاروا كأبنائه وهم ضربان: منشئ سفر، ومجتاز فيه، وكلا الفريقين يعتبر فيهم الحاجة في سفرهم ولا يدفع إليهم مع عدم الحاجة إلا أن الناشئ لسفره لا يدفع إليه مع الفقر والمجتاز يجوز أن يدفع إليه مع الغني، إذا كان في سفره معدماً ثم اختلف أصحابنا فيهم على وجهين: أحدهما: أنه لبني السبيل من جميع الناس. والثاني: أنه لبني السبيل من المجاهدين خاصة، فعلى الوجه الأول أنه لبني السبيل من جميع الناس يتعلق عليه الأحكام الثلاثة التي ذكرناها في المساكين: أحدها: أنه يجوز أن يختص به بعض المساكين دون جميعهم.

والثاني: أنه يجوز أن يجتهد الإمام برأيه في التسوية والتفضيل. والثالث: أنه يجوز أن يجمح لهم بين سهمهم من الخمس وبين سهمهم من الزكاة. وعلى الوجه الثالث: أنه يخص به بنو السبيل من المجاهدين؛ فعلى هذا يتعلق عليه الأحكام الثلاثة: أحدها: أنه يجب أن يفرق في جميعهم ولا يخص به بعضهم؛ فعلى مذهب الشافعي يفرق في بني السبيل في الإقليم كلها، وعلى مذهب أبي إسحاق المروزي يفرق بني السبيل في إقليم الثغر المغنوم فيه. والثاني: أنه يسوي بين جميعهم فيه تقسيطاً على مسافة أسفارهم فيكون تسوية بينهم في الباطن وان تفاضلوا في الظاهر، ومن هذا الوجه باينوا المساكين الذي يسوي بينهم في الظاهر والباطن. والثالث: أنه لا يجمع لهم بين سهم من الخمس وبين سهم من الزكاة، وتميز بنو السبيل في الخمس عن بني السبيل في الزكاة، فعلى هذا لو أن شخصاً جمع بين المسكنة وبين كونه ابن السبيل أعطى بأي السببين شاء ولا يكون أحدهما أخص به من الأخر ولا يجمح له بين الأمرين والله أعلم. مسألة (¬1) قال الشافعي: "فقد مضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي هو وأمي - فاختلف أهل العلم عندنا في سهمه فمنهم من قال: يرد على أهل السهمان الذين ذكرهم الله تعالى معه لأني رأيت المسلمين قالوا فيمن سمي له سهم من الصدقات فلم يوجد رد على من سمي معه وهذا مذهب يحسن. ومنهم من قال: يضعه الإمام حيث رأى على الاجتهاد للإسلام وأهله. ومنهم من قال: يضعه في الكراع والسلاح والذي أختار أن يضعه الإمام في كل أمر حصن به الإسلام وأهله من سد ثغر أو إعداد كراع أو سلاح أو إعطاء أهل البلاء في الإسلام نفلاً عند الحرب وغير الحرب إعداداً للزيادة في تغرير الإسلام وأهله على ما صنع فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فإنه أعطى المؤلفة ونفل في الحرب وأعطى عام حنين نفراً من أصحابه من المهاجرين والأنصار أهل حاجة وفضل وأكثرهم أهل حاجة ونرى ذلك كله من سهمه والله أعلم ومما احتج به الشافعي في ذوي القربى أن روى حديثاً عن ابن أبي ليلى قال: لقيت عليا رضي الله عنه فقلت له بأبي وأمي ما فعل أبو بكر وعمر في حقكم أهل البيت من الخمس؟ فقال علي: أما أبو بكر رحمه الله فلم يكن في زمانه أخماس وما كان فقد أوفانا، وأما عمر فلم يزل يعطيناه حتى جاءه مال السوس والأهواز أو مال: مال فارس. الشافعي يشك وقال عمر في حديث ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 195 - 199).

باب تفريق ما أخذ من أربعة أخماس الفيء غير الموجف عليه

مطرٍ أو حديثٍ آخر إن في المسلمين خلة فإن أحببتم تركتم حقكم فجعلناه في خلة المسلمين حتى يأتينا مال فأوفيكم حقكم منه. فقال العباس: لا تطعه في حقنا فقلت: يا أبا الفضل ألسنا من أحق من أجاب أمير المؤمنين ورفع خلة المسلمين فتوفي عمر قبل أن يأته مال فيقضيناه. وقال الحكم في حديث مطر أو الآخر: إن عمر رضي الله عنه قال لكم حقا ولا يبلغ علمي إذ كثر أن يكون لكم كله فإن شئتم أعطيتكم منه بقدر ما أرى لكم فأبينا عليه إلا كله فأبى أن يعطينا كله. قال الشافعي رحمه الله: "للمنازع في سهم ذي القربى: أليس مذهب العلماء في القديم والحديث أن الشيء إذا كان منصوصاً في كتاب الله مبينا على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - بخبر الثقة لا معارض له في إعطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - غنياً لا دين عليه في إعطائه العباس بن عبد المطلب وهو في كثرة ماله يعول عامة بني المطلب دليل على أنهم استحقوا بالقرابة لا بالحاجة كما أعطى الغنيمة من حضرها لا بالحاجة وكذلك من استحق الميراث بالقرابة لا بالحاجة وكيف جاز لك أن تريد إبطال اليمين مع الشاهد بأن تقول هي بخلاف ظاهر القرآن وليست مخالفة له ثم تجد سهم ذي القربى منصوصاً في آيتين من كتاب الله تعالى ومعهما سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فترد؟ أرأيت لو عارضك معارض فأثبت سهم ذي القربى وأسقط اليتامى والمساكين وابن السبيل ما حجتك عليه إلا سهمي عليك". قال في الحاوي: قد مضى الكلام في ثبوت سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في خمس الفيء والغنيمة، وأنه لا يسقط بموته. واختلف الناس في مصرفه فحكى الشافعي فيه مذاهب فمنه من جعله مصروفاً إلى الإمام القائم بالأمر من بعده، ومنهم من جعله لورثته، ومنهم من جعله مصروفاً في الكراع والسلاح خاصة ومذهب الشافعي أن سهمه مصروف في مصالح المسلمين العامة لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "مالي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس والخمس مردود فيكم". ولأنه قد كان ما فضل منه في حياته بعد فوت سنة يصرفه في إعزاز الدين ومصالح المسلمين فكذلك حكمه بعد موته. فأما ما استدل به الشافعي في ثبوت سهم ذي القرابة فقد ذكرناه واستوفينا حكم كل سهم من السهام الخمسة بما أغنى من الإعادة والله أعلم بالصواب. باب تفريق ما أخذ من أربعة أخماس الفيء غير الموجف عليه قال (¬1) الشافعي رحمه الله: "وينبغي للوالي أن يحصي جميع من في البلدان من المقاتلة وهم من قد احتلم أو استكمل خمس عشرة سنة من الرجال ويحصي الذرية وهم من دون المحتلم ودون خمس عشرة سنة والنساء صغيرهم وكبيرهم ويعرف قدر ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 199).

نفقاتهم وما يحتاجون إليه من مؤناتهم بقدر معاش مثلهم في بلدانهم". قال في الحاوي: وهذا كما قال: قد مضى الكلام في الغنيمة، وهو المأخوذ من المشركين عنوة بقتال، فأما الفيء وهو المأخوذ منهم بغير قتال فضربان: أحدهما: ما تركوه علينا خوفاً ورعباً كالأموال التي بخلوا عنها وما بذلوه صلحاً في كفنا وردنا عن أنفسهم، فهذا بخمس ويكون خمسه كخمس الغنيمة مقسوم على السهام الخمسة. والثاني: ما وصل إلينا من أموالهم في غير خوف ولا رعب كالجزية وعشر تجارتهم ومال من مات منهم في داونا ولا وارث له ففي تخميسه قولان: أصحهما: وهو الجديد أنه يخمس ويكون خمسه مقسوماً على السهام الخمسة لقوله تعالى: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] ولأنه كالمتروك رعباً في كونه فيئاً فوجب أن يكون مخمساً. والثاني: قاله في القديم أنه لا يخمس لأنه لما كان في الغنيمة مالاً يخمس وهو السلب كان في الفيء مالاً يخمس وهو العقر والأول من هذين القولين أشهر وأصح. فأما أربعة أخماس الفيء ففي مصرفه الآن قولان للشافعي: أحدهما: أنه مصروف في صالح المسلمين العامة من أرزاق المقاتلة والأئمة والقضاة وبناء الحصون والمساجد والقناطر وإعداد القراع والسلاح؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يتملك ذلك فيصرفه في هذه الصالح، فكذلك بعد موته. والثاني: أنه مصروف في أرزاق الجيش المقاتلة الخاصة المندوبون لجهاد العدو والذب عن البيضة والمنع من الحريم، لأنهم القائمون بذلك بعد الرسول فملكوا بعده ما كان له، وجملة المجاهدين ضربان: مرتزقة، ومتطوعة. فأما المرتزقة فيهم الذين فرغوا أنفسهم للجهاد فلم يشاغلوا إلا به، وثبتوا في الديوان فصاروا جيشاً للمسلمين، ومقاتلة للمشركين فهؤلاء يرزقون من أربعة أخماس الفيء، ولا حق لهم في الصدقات وأما المتطوعة فهم أرباب المعاش والصنائع والأعراب الذين يتطوعون بالجهاد إن شاءوا ويقعدون عنه إن أحبوا، ولم يثبتوا في الديوان، ولا جعل لهم رزق فهؤلاء معطون من الصدقات من سهم سبيل الله، ولا حق لهم في الفيء، ولهذا تميز أهل الصدقة عن أهل الفيء وقد كان المتطوعية يسمون أعراباً، ويسمى المقاتلة مهاجرين فتيمزوا بهذين الاثنين لتميزهم في المالين، ومنه قول الشاعر (¬1): ¬

_ (¬1) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (1/ 87 - عرب، 1/ 608 - عصلب، 6/ 285 - حشحش)، تاج العروس (3/ 389 - عصلب، 17/ 153 - حشحش)، وجمهرة اللغة (ص 1126)، والمخصص (2/ 92)، وديوان الأدب (2/ 33)، وكتاب الجيم (2/ 322)، وتهذيب اللغة (3/ 335، 392)، والبيان والتبيين (2/ 308)، وكتاب العين (2/ 338)، ومقاييس اللفة (ط / 370).

قد حسها الليل بعصلبي أروع خراج من الدوي مهاجر ليس بأعرابي فصل وإذ قد تميز أهل الفيء عن أهل الصدقة بما وصفنا فسنذكر أهل الصدقة في تم الصدقات، ونبين حكم أهل الفيء فنقول: ينبغي للإمام أن يثبت المقاتلة في جميع التغور والبلدان في ديوانه وما يحتاجون إليه في نفقاتهم ومؤناتهم فيعطيهم من مال الفيء قدر كفاياتهم حتى لا يتشاغلوا باكتساب المال عن جهاد العدو، ويكونوا متشاغلين بالحرب في الذب عن البيضة. وإذا لزم الإمام القياس بكفايتهم فكغايتهم، تختلف من خمسة أوجه: أحدهما: كثرة العيال وقلتهم الذين تلزم نفقاتهم من الأولاد والزوجات والعبيد والخدم فيثبت ذرية كل واحد منهم، وهم من لم يبلغ من أولاده فثبت ما يحتاجون إليه في حال الفقر ثم في حال النشوء والكبر، وهذا معنى قول الشافعي: وتعطى المنقوص شيئاً، وكلما كبر يزاد على قدر مؤنته يعني أنه يعطى أباه لأجله ويزيد لكبره. ويفعل مثل ذلك في الزوجات والعبيد والخدم ليعلم بذلك قدر مؤنته. والثاني: أن يعرف ماله هل هو من الرجالة أو الفرسان فإن كان من الفرسان عرف عدد خيله وظهره. والثالث: أن يعرف حال بلده في قربه من المغزى وبعده، فإنه إن كثرت مؤنته، وان قرب قلت. والرابع: أن يعرف خصب بلده وجدبه فإن المؤن في بلاد الخصب قليلة في بلاد الجدب كثيرة. والخامس: أن يعرف غلا، السعر ورخصه ليزيده مع الغلاء، وينقصه مع الرخص، فإذا كشف عن أحوالهم في هذه الوجوه الخمسة عرف قدر كفايتهم، فأثبتها أو جعلها مبلغ أرزاقهم في كل عام من غير صرف ولا تقصير، وذلك يقد يختلف بحسب اختلاف أحوالهم في الوجوه الخمسة؛ فلذلك ما اختلف قدر أرزاقهم، وان وجبت بالتسوية بينهم في القيام بكفاياتهم، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه بلغ بالعطاء خمسة آلاف درهماً فمن الناس من زعم أن هذا أكثر من قدر الكفاية، ولا يجوز أن يفرض للمقاتلة أكثر من كفايتهم، وقيل: ليس هكذا لأن خمسة آلاف درهم مع بعد المغزى وغلاء الأسعار بأكثر من كفاية ذي عيال، فإذا ثبت ما ذكرنا من تقدير أرزاقهم بحسب كفاياتهم خرج ما يعطونهم منها على القولين في مصرف أربعة أخماس الفيء. فإن قيل: إنه مصروف في مصالح المسلمين العامة أعطوا منه قدر أرزاقهم من غير زيادة ولا نقص، فإن فضل، فإن فضل عنها كان الفضل باقياً في بيت المال، وإن نقص

عنها كان الباقي لهم ديناً على بيت المال، وان قيل: إنه للجيش خاصة قسم بينهم على قدر كفاياتهم بزيادة ونقص. مثاله: أن يكون رزق أحدهم الكافي له ألف درهم، ورزق الآخر ألفي درهم ورزق الثالث الآخر ثلاثة آلاف درهم ورزق الرابع أربعة آلاف درهم فيكون رزق هؤلاء الأربعة عشرة آلاف درهم لصاحب الألف عشرة آلاف درهم لصاحب الألف عشرها ولصاحب الألفين خمسها ولصاحب الثلاثة آلاف ثلاثة أعشارها ولصاحب الأربعة ألاف خمساها، فينقسم الحاصل من أربعة أخماس الفيء على عشرة أسهم لصاحب الألف سهم ولصاحب الألفين سهمان، ولصاحب الثلاثة آلاف ثلاثة أسهم، وعلى هذا الحساب فإن كان المال عشرة آلاف درهم بقدر أرزاقهم فقد استوفوها، وان كان أكثر قسم جميعه على هذا أو كانت الزيادة لهم، ولا يحتسب بما عليهم، وان كانت أقل كل النقصان عليهم لا يحتسب به لهم فيكون الفرق بين القولين من وجهين: أحدهم: أنهم على القول الأول إذا اتسع المال لم يزادوا على أرزاقهم وعلى الثاني يزادون. والثاني: من الفرق بينهما أنهما على القول الأول إذا ضاق المال يقضون بقية أرزاقهم على الثاني لا يقضون. فصل وينبغي لوالي الجيش أن يستعرض أهل العطاء في وقت كل عطاء فمن ولد له منهم زاده ولده من مات له ولد نقصه فسقط ولده وإذا ينفى المولود زاده حالا بعد حال حتى يبلغ، فإذا بلغ خرج من جملة الذرية، وصار من المقاتلة، فأثبته في الديوان، وفرض في العطاء رزقاً، وراعى من ينكح من الزوجات أو يطلق ومن يملك من العبيد والإماء أو يبيع ليزيده ممن نكح أو ملك وينقصه لأجل من طلق أو باع وكذا يراعى حال خيله في الشراء والبيع إلا أن يتجاوز قدر الحاجة في شراء العبيد والخيل فلا يزاد لأجلهم. مسألة (¬1) قال الشافعي: "ثم يعطي المقاتلة في كل عطاءهم والذرية والنساء ما يكفيهم لسنتهم في كسوتهم ونفقاتهم طعاماً أو قيمته دراهم أو دنانير تعطى المنفوس شيئاً ثم يزداد كلما كبر على قدر مؤنته وهذا يستوي لأنهم يعطون الكفاية ويختلف في مبلغ العطاء باختلاف أسعار البلدان وحالات الناس فيها فإن المؤنة في بعض البلدان أثقل منها في بعض ولا أعلم أصحابنا اختلفوا في أن العطاء للمقاتلة حيث كانت إنما مكون من الفيء. وقالوا: لا بأس أن يعطى الرجل لنفسه أكثر من كفايته وذلك أن عمر رضي الله ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 199، 200).

عنه بلغ في العطاء خمسة ألاف وهي أكر من كفاية الرجل لنفسه ومنهم من قال: خمسة ألاف بالمدينة ويغزو إذا غزى وليست بأكثر من الكفاية إذا غزا عليها لبعد المغزى. قال الشافعي: وهذا كالكفاية على أنه يغزو وان لم يغز في كل سنة". قال في الحاوي: وهذا صحيح وإذا قد مضى ما يتعذر به العطاء فهذا الفصل يشتمل على فصلين: أحدهما: وقت العطاء وزمانه. والثاني: جنسه ونوعه. وهذا الفصلان يختلفان باختلاف قوليه في مال الفيء. فإن قيل: إنه ملك للجيش خاصة فوقت العطاء هو الوقت الذي يتكامل فيه حصول المال سواء تعجل أو تأجل، وليس للإمام أن يؤخره عنهم إذا حصل ولا لهم مطالبته به إن تأخر إلا أن يؤخر جبايته بعد استحقاقه فلهم أن يطالبوه باجتبائه واستخلاصه، ثم الجنس الحاصل من المال هو الذي يستحق دفعه إليهم سوا، كان ورقاً أو ذهباً أو حنطة أو شعيراً إلا أن يكون من جملة عروض فتباع وتضم أثمانها إلى المال ثم مذهب الشافعي أنه يجمع الفيء في جميع الأقاليم فيقسم في جميع أهل الفيء حتى يساوي جميع أهل الفيء في كل مال الفيء، وعلى مذهبه أبي إسحاق المروزي أنه يقسم مال كل إقليم في أهله. فصل فأما إذا قيل إن أربعة أخماس الفيء مصروف في وجوه المصالح العامة التي منها عطاء الجيش وجب بيان الفصلين في وقت العطاء وجني المال المعطى. فأما وقت الوعطاء فهو معتبر بمال الفيء فإن كان مستحقاً في دفعة واحدة جعل وقت العطاء في دفعة واحدة من السنة، وينبغي أن يكون الوقت من السنة معلوماً عند جميع أهل الفيء ليقدر إليه نفقاتهم يتوقعوا فيهم أرزاقهم وينظرهم إليه تجارهم، ويختار أن يكون في المحرم، لأنه أول السنة العربية، فإذا حل وفاهم عطاء السنة بأسره، وإذا كان مال الفيء مستحقاً في أوقات شتى من السنة جعل للعطاء وقتين وقسمة نصفين وأعطاهم بعد كل ستة أشهر نصفه ولا يجب أن يعجل للعطاء في السنة أكثر من وقتين ولا أن يجعله مشاهرة، وإن قبض مال الفيء مشاهرة لأمرين: أحدهما: لئلا يصير الجيش متشاغلاً في كل السنة بالقبض والطلب. والثاني: كي لا ينقطع عن الجهاد توقعاً لحلول الشهور أو تتأخر عنهم إن خرجوا. فإن قيل: أفيكون العطاء لما مضى من المدة أو لما يستقبل منها. قيل: ليس هو لما مضى ولا لما يستقبل لأن أرزاق المقاتلة تجري مجرى الجعالة، والوجوب متعلق بحصول المال والأداء مستحق بحلول الوقت وعلى القول الأول يكون الوجوب والأداء معاً متعلقين بحصول المال والله أعلم.

فصل وأما جنس المال المعطى فلا بد أن يكون في جملة ما قدره من كفاياتهم طعام لأقواتهم وشعير لدوابهم وثياب لكسوتهم إلى غير ذلك مما يحتاج إليه أهل الأمصار فيجب اختلافها على قدر عاداتها، فيقوم ما سوى الحنطة والشعير ورقاً أو ذهباً، فأما الحنطة والشعير فينظر فإن كان في مال الفيء المستحق حنطة وشعير قدره لهم حباً، وأعطاهم إياه مع أرزاقهم من الورق والذهب، وان لم يكن في مال الفيء المستحق حنطة ولا شعير أعطاهم قسمته ورقاً أو ذهباً بسعر وقته والورق أخص بالعطاء من الذهب لأمرين: أحدهما: ابتاع الأئمة الراشدين. والثاني: أنه يصرف في قليل النفقات وكثيرها فلا يعدل عنه إلى الذهب إلا إذا كان مال الفيء ذهباً أو كان هو الأغلب، في معاملات الناس، فلو تعامل الناس بالفلوس لم يجعل ماء العطاء فلوساً، لأنها في المعاملات نادرة ولذلك خرجت عن أن يثبت فيها الربا، وتجب فيها الزكاة. مسألة (¬1) قال الشافعي: "ولم يختلف أحد لقيته في أن ليس للمماليك في العطاء حق ولا الأعراب الذين هم أهل الصدقة". قال في الحاوي: وهذا كما قال: المملوك لا يفرد له في العطاء سواء قاتل مع سيده أو تشاغل بخدمته لكن يزاد السيد في عطائه لما يتكلفه من نفقة عبده، وحكي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أعطى العبيد في أيام خلافته فلما أفضى الأمر إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه حرمهم ولم يعطهم وهو الأصح لأمرين: أحدهما: أن العبد لا يملك وإنما هو عون لسيده عليه نفقته وكسوته وله كسبه. والثاني: أنه ليس من أهل الجهاد فيعطى عطاء المجاهدين ألا تراه لو حضر الوقعة ثم يتعين عليه القتال فيها. فإن قيل: فكيف قال الشافعي لم يتخلف أحد لقيته في أن ليس للمماليك في العطاء حق فادعى في ذلك الإجماع، وأبو بكر قد خالف ولا ينعقد الإجماع مع خلافه فعن ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه صار بذلك إلى من لقيه من أهل عصره وهو لم يعاصر الصحابة. والثاني: قد يعقب خلاف الصحابة إجماع من بعدهم من الأعصار فصار حكم ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 201).

الخلاف (عند) كثير من أصحابنا مرتفعاً. والثالث: أنه أشار بذلك إلى عبيد الخدمة لا عبيد المقاتلة ولم يعطهم أبو بكر ولا أحد بعدهم شيئاً. فصل فأما الأعراب فالمراد بهم من لم يثبت في ديوان الجيش، ولا التزم ملازمة الجهاد ولكن يغزو إذا أراد ويقعد إذا شاء، فهؤلاء هم المسمون أعراباً سواء كانوا عرباً أو عجماً فيعطى هؤلاء إذا غزوا من الصدقات من سهم سبيل الله ما يعينهم على غزوهم ولا يعطون من مال الفيء شيئاً، فإن دخلوا في أهل الفيء وأثبتوا أنفسهم في الديوان والتزموا الجهاد معهم، إذا جاهدوا صاروا في عدد الجيش ومن جملة المقاتلة فيفرض لهم في عطاء أهل الفيء ويخرجوا من عداد أهل الصدقة ويحرموا ما كانوا يعطوه منها كي لا يجمعوا بين مال الصدقة ومال الفيء؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد ميز أهل الصدقة من أهل الفيء في أيامه وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعد فصار الغزاة ضربين: أهل صدقة وهم ما ذكرنا. وأهل فيء وهم من وصفنا، وحكمها متميز على ما بينا، وكان بعض أصحابنا يجعل الأعراب المعطون من الصدقة دون الفيء الذين هم أشذاذ مفترقون لا يرهبهم العدو ولا يستعين بهم الإمام، فإن قوي جمعهم وكثر عددهم حتى رهبهم واستعان بهم الإمام صاروا من أهل الفيء والأول هو المذهب والله أعلم. مسألة (¬1) قال الشافعي: "واختلفوا في التفضيل على السابقة والسبب فمنهم من قال: أسوي بين الناس فإن أبا بكر رضي الله عنه حين قال له عمر: أتجعل للذين جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم وهجر ديارهم كمن دخل في الإسلام كرهاً؛ فقال أبو بكر: إنما عملوا لله وإنما أجورهم على الله وإنما الدنيا بلاغ. وسوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه بين الناس ولم يفضل. قال الشافعي رحمه الله: وهذا الذي اختاره وأسأل الله التوفيق وذلك أني رأيت الله تعالى قسم المواريث على العدد فسوى فقد تكون الإخوة متفاضلي الغناء عن الميت في الصلة في الحياة والحفظ بعد الموت ورأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسم لمن حضر الوقعة من الأربعة الأخماس على العدد فسوى. ومنهم من يفني غاية الغناء ويكون الفتوح على يديه ومنهم من يكون محضره إما غير نافع وإما ضارا بالجبن والهزيمة فلما وجدث الكتاب والسنة على التسوية كما وصفت كانت التسوية أولى من التفضيل على النسب أو السابقة ولو وجدت الدلالة على التفضيل ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 201 - 203).

أرجح بكتاب أو سنة كنت إلى التفضيل بالدلالة مع الهوى أسرع. قال الشافعي: فإذا قرب القوم من الجهاد ورخصت أسعارهم أعطوا أقل ما يعطى من بعدت داره وغلا سعره وهذا وان تفاضل عدد العطية تسوية على معنى ما يلزم كل واحد من الغريقين في الجهاد إذا أراده". قال في الحاوي: وهذا كما قال. اختلف الناس في التسوية بين أهل الفيء والتفضيل بالسابقة والنسب، وفي السابقة التي أشير بالتفضيل إليها تأويلان: أحدهما: أنها السابقة في الإسلام. والثاني: السابقة في الهجرة فحكي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه سوى بين الناس في العطاء ولم يفضل أحداً بسابقة ولا نسب، وأعطى العبيد فقال له عمر أتجعل الذين جاهدوا في الله بأموالهم وأنفسهم وهجروا ديارهم كمن دخل في الإسلام كرهاً، فقال أبو بكر إنما عملوا لله، وإنما أجورهم على الله، وإنما الدنيا بلاغ يعني بلاغ إلى الآخرة التي هي دار الجزاء، فلما أفضى الأمر إلى عمر فضل بين الناس ولم يعط العبيد وأعطى عائشة اثني عشر ألفاً وأعطى غيرها من زوجات النبي - صلى الله عليه وسلم - العربيات عشرة آلاف وأعطى صفية وجويرية ستة آلاف لأنهما كانتا معتقتين وأعطى كل واحد من علي والعباس عليهما السلام ستة آلاف، وأعطى كل واحد من المهاجرين الأولين والأنصار السابقين خمسة آلاف وأعطى الحسن والحسين عليهما السلام كل واحد أربعة آلاف وأعطى أسامة بن زيا ألفين، وأعطى ابنة عبد الله بن عمر ألفاً وخمسمائة، فقال له ابنة عبد الله: أتفضل على أسامة وتنقص منه فقال له عمر: لأنه كان أحب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منك، وكان أبوه أحب إليه من أبيك، فلما قضى الأمر إلى علي رجع إلى رأي أبي بكر في التسوية بين الناس في العطاء ولا يفضل أحدهم بسابقة ولا نسب، ومذهب عمر التفضيل بينهم بالسابقة والنسب، ومذهب الشافعي أن التسوية بينهم أولى من التفضيل إتباعاً لرأي أبي بكر وعلي رضي الله عنهما واستدلالاً بأمرين: أحدهما: أن أربعة أخماس الغنيمة لما سوى فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين الغانمين ولم يفضل ذا غنى على فقير، ولا فضل شجاعاً على جبان بعدما حضر الوقعة؛ ذلك أربعة أخماس الفيء يسوى فيه بين أهله لإرصاد أنفسهم للجهاد الذين هم فيه سواء، وان تفاضلوا بالسابقة والنسب تسوية بين الفيء والغنيمة في أربعة أخماسه كاستواء الحكم بينهما في خمسه. والثاني: أن الله تعالى سوى في الميراث بين البار والعاق، وبين المحب والمشاق لاستوائهم في سبب الاستحقاق كذلك أهل الفيء. قال الشافعي: "ولو وجدت الدلالة على أن التفضيل أرجح بكتاب الله عز وجل وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كانت إلى التفضيل بالدلالة مع الهوى أسرع بمكان الشافعي من

السابقة والنسب الذي لو جاز أن يستحق به التفضيل لكان أسرع إلى هواه من التسوية ولكن إتباع الدلالة أحق. مسألة (¬1) قال الشافعي: "وعليهم أن يغزوا إذا غزا ويرى الإمام في إغزائهم رأيه فان استغنى مجاهده بعدد وكثرة من قربه أغزاهم إلى أقرب المواضع من مجاهدهم ". قال في الحاوي: وهذا صحيح ليس لأحد من أهل الفيء والأعراب أن ينزوا إلا بأمر الإمام وإذنه لأمور. منها: أنه لم يكن أحد يغزو على عهد عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بأمره وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده، ولأن الإمام أعرف بأحوال العدو، وفيما هم عليه من قوة وضعف وخصب وجدب واختلاف ووفاق وينفذ من الجيش من يكافئ العدو في القلة والكثرة والقوة والضعف ولأنهم ربما اضطروا لتكاثر العدو عليهم إلى مدد فيمدهم، ولأنهم ربما احتاجوا إلى ميزة فيميزهم، ولأنه ربما عرف لاتصال الأخبار به من مكامن العدو وما سددهم. فبهذه الأمور ونظائرها ما منعوا من الغزو إلا بأمرهء فإذا أمرهم بالغزو لزمتهم طاعته وإجابته، فإن لم يطيعوه مع ارتفاع الموانع سقطت أرزاقهم، لأن ما يرزقون من العطاء في مقابلة ما يأخذون به من الجهاد، فإذا قعدوا عنه بعد الأمر سقط ما يعطونه عليه من الرزق كالزوجات لما استحقوا نفقاتهم بالطاعة سقطت بالنشوز، وإذا كان كذلك فينبغي للإمام أن يستفسر من الجهاد مع المكنة إتباعاً لأمر الله تعالى واقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتحقيقا لوعده تعالى وإظهاراً على الدين كله، وأقل ما عليه أن يغزو في كل عام مرة إما بسنفه أو خلفائه؛ لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما تركه في كل عام منذ فرض عليه الجهاد، وكي لا يمضي عطا، العام هدراً، وكي لا يقوى العدو بالمشاركة، وكي لا يألف أهل الجهاد الراحة. فصل قال الشافعي (¬2): "الإمام في إغزائهم رأيه" يعني: في الزمان الذي يأمرهم بالغزو إليه والعدد الذي يقتصر عليهء فإذا أراد ذلك اختار لهم من الزمان أولاه، ومن المكان أدناه، ويندب عن كل طائفة إلى من يليها، ولقوله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] ولأن كل قوم بمن يليهم أخبر، وعلى قتالهم أقدر ما يتكلفونه من المؤنة في قتالهم أيسر، فلا ينفذ أهل ثغر إلى غيره إلا لأحد أمرين: إما أن يلم أهله فينقلهم عنه إلى الجهة التي لم يسلم أهلها وليتوطنوا فيما يقابلها ويليها. ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 203). (¬2) انظر الأم (4/ 78).

وإما لظهوره قوة من عدو غير جهتهمء فأقربها على من بإزائهم يكون هؤلاء أظهر على عدوهم فيستمد منهم من يدفع بهم قوة الآخرين، ثم يعودوا بعد الفراغ إلى أماكنهم، فإذا فعل الإمام هذا بهم زادهم نفقة ما تكلفوه من زيادة سفرهم، فإن تزايدت قوة العدو في إحدى الجهات وضعفت في غيرها من الجهات عن المناداة جاز للإمام أن يجمع على تلك الجهة القوية جميع أهل الفيء؛ لأن كسرها كسر لمن هو أضعف منها، وليس في كسر الأضعف كسر إليها، ويفعل في إعطاء المنقول من زيادة النفقة ما ذكرنا. مسألة (¬1) قال الشافعي: "واختلف أصحابنا في إعطاء الذرية وياء أهل الفيء. فمنهم من قال: يعطون واحسب من حجتهم فإن لم يفعل فمؤنتهم تلزم رجالهم فلم يعطهم الكفاية فيعطهم كمال الكفاية. ومنهم من قال: إذا أعطوا ولم يقاتلوا فليسوا بذلك أولى من ذرية الأعراب ونسائهم ورجالهم الذين لا يعطون من الفيء". قال في الحاوي: وهذا ما قال. إذا مات من أهل الفرق مرتزق وخلف ذرية لم يدفع إليه جميع عطائه، وفي إعطائهم من قدر الكفاية، قولان حكاهما الشافعي خلافاً عن أصحابه: أحدهما: يعطون من مال الفيء قدر كفايتهم اعتبارا بالمصلحة في ترغيب أهل الفيء في الجهاد، ثقة لحفظ الذرية وإلا يتشاغلوا عنه بطلب الكسب لمن يخلفون، أو يجيبوا عن الجهاد فلا يقدمون. والثاني: أنهم لا يعطون؛ لأن ما استحق به العطاء وهو إرصاد النفس للجهاد مفقود فيهم، ولأنهم كانوا تبعا فإذا بطل حكم المتبوع بطل حكم التابع، ومن أصحابنا من قال: إن كان في الذرية من أصاغر الذكور يرجى أن يكون من أهل الفيء إذا بلغ أعطوا قدر الكفاية، وإلا منعوا فامتنع قائل هذا الوجه من تخريج القولين وخرجه على اختلاف الحالين، وحكاه أبو بكر بن الدقاق. فإذا قيل: إنهم لا يعطون اعتبرت أحوالهم، فإن كانوا أغنيا، فلا حق لهم في مال الفيء ولا في مال الصدقات، وان كانوا فقراء صاروا من أهل الصدقات وأعطوا منها من سهم الفقراء والمساكين. وإذا قيل: إنهم يعطون قدر الكفاية فسواء كانوا أغنياء ذوي كفاية أو فقراء ذوي حاجة، ويكون ذلك منهم لمن كانت نفقته واجبة على ميتهم من أولاده الأصاغر وزوجاته ما لم يتزوجن وأقمن على رعاية الزوج في حفظ ذريته، فإن تزوجن قطع عطاؤهن فإذا بلغ الأولاد خرجوا بالبلوغ من جملة الذريةء فإن أحبوا أن يكونوا من أهل الفيء أثبتوا في ديوانه وصاروا بأنفسهم مرتزقين وتبعتهم ذريتهم، وان عدلوا عن أن يكونوا من أهل الفيء ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 203).

رغبة في غيره فلا حق لهم في مال الفيء، لا تبعاً ولا متبوعين لخروجهم من الذرية بالبلوغ ومن أهل الفيء بالعدول عنه والله أعلم. مسألة (¬1) قال الشافعي: "حدثني سفيان بن عيينه عن عمرو بن دينار عن الزهري عن مالك بن أوس بن الحدثان أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ما أحد إلا وله في هذا المال حق إلا ما ملكت أيمانكم أعطيه أو منعه. قال الشافعي: وهذا الحديث يحتمل معاني منها أن نقول ليس أحد بمعنى حاجه من الصدقة أو بمعنى أنه من أهل الفيء الذين يغزون إلا وله في مال الفيء أو الصدقة حق وكان هذا أو على معانيه به فإن قيل: ما دل على هذا؟ قيل: قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الصدقة: "لا حظ فيها لغني ولا لذي مرةٍ مكتسب" والذي أحفظ عن أهل العلم أن الأعراب لا يعطون من الفيء. قال: وقد روينا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن أهل الفيء كانوا في زمان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعزل عن أهل الصدقة وأهل الصدقة بمعزل عن أهل الفيء". قال في الحاوي: إن قيل فكيف تأويل هذا الحديث عندكم ومن مذهبكم أن أهل الفيء لا يأخذون من أهل الصدقات، وأهل الصدقات، لا يأخذون من أهل الفيء قيل فيه ثلاث تأويلات: أحدها: أنه عائد على مال بيت المال الجامع لمال الفيء ومال الصدقات، والناس صنفان: أغنياء وحقهم في مال الفيء، وفقراء وحقهم في مال الصدقة. أما ما ملكت أيمانهم من العبيد والإناء فلا حق لهم في المالين جميعاً. والثاني: أنه عائد إلى مال الفيء وحده وليس أحد إلا وله فيه حق، أما الفقراء ففيه خمسة من سهم اليتامى والمساكين وبني السبيل، وأما الأغنياء ففي أربعة أخماسه فإن كانوا من أهل الفيء فالعطاء وان كانوا في غيرهم فمن المصالح، وهذا على القول الذي نجعله مصروفاً في المصالح. والثالث: أنه عائد إلى مال الفيء لأنه إن اختص بأهل الفيء فنفعه عائد إلى غيرهم من الناس كلهم، لذب أهل الفيء عنهم وقيامهم بالجهاد الذي به سقط الفرض عنهم، فصار المال المصروف إلى من قام بغرض الجهاد عنهم كالمصروف إليهم، وعلى هذا القول الذي جعله ملكاً للجيش خاصة. مسألة (¬2) قال الشافعي: "والعطاء الواجب في الفيء لا يكون إلا لبالغ يطيق مثله القتال. قال ابن عمر رضي الله عنهما: عرضت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام أحدٍ وأنا ابن أربع ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 203 - 205) (¬2) انظر الأم (3/ 205).

عشرة سنةً فردني وعرضت عليه يوم الخندق وانأ ابن خمس عشرة سنةً فأجازني. وقال عمر بن عبد العزيز: هذا فرق بين المقاتلة والذرية". قال في الحاوي: وهذا كما قال. لا يجوز أن يدخل في أهل الفيء إلا من استكمل شروط الجهاد فصار من أهله، فحينئذ يثبت نفسه في ديوان الفيء ويفرض له من العطاء قدر كفايته، وشروط الجهاد التي يتعلق فرض الجهاد بها ويجوز الدخول في أهل الفيء معها ستة وهو أن يكون ذكراً بالغاً عاقلاً حراً مسلماً، قادر على القتالء فإن أخل بشرط منها لم يكن من أهل الجهاد ولا ممن يجوز أن يدخل في أهل الفيء، وان استكملها صار من أهل الجهاد إلا أنه لا يتوجه الفرض إليه إلا بالاستطاعة لجواز أن يدخل في أهل الفيء مع عدم الاستطاعة، لأنه قد يستطيع بعطائه إذا أخذه على القتال إذا ندب. مسألة (¬1) قال الشافعي: "فإن كملها أعمى لا يقدر على القتال ابدأ وان منقوص الخلق لا يقدر على القتال أبداً لم يفرض له فرض المقاتلة وأعطي على كفاية المقام وهو شبيه بالذرية". قال في الحاوي: وهذا صحيح. إذا بلغ لصفار من ذرية أهل الفيء بالاحتلام أو باستكمال خمس عشرة سنة لم يخل حالهم من أحد أمرين: إما أن يكونوا قادرين على القتال أو عاجزين عنه، فإن كانوا قادرين محليه خرجوا من جملة الذرية سواء كانوا من ذرية أموات أو أحياء لما روي عن عمر بن عبد العزيز أنه جعل البلوغ فرقأ بين الذرية والمقاتلة، ولأن بلوغ الذرية يسقط نفقاتهم عن المقاتلة فخرجوا من جملة الذرية، ثم هي بالخيار بين أن يكتبوا أنفسهم في ديوان الفيء فيكونوا من أهله، وبين أن لا يفعلوا فيمنعوا من الفيء، ويصيروا من أهل الصدقات، وان كانوا فقراء وان بلغوا عاجزين على القتال لعمى أو زمانه، لم يجز أن يثبتوا في ديوان الفيء منفردين وهل يبقوا على حكم الذرية في إعطائهم مال الفيء تبعاً أم لا؟ على ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم باقون على حكم الذراري في منعهم من مال الصدقة وإعطائهم قدر الكفاية بين مال الفيء، سواء كانوا ذرية لأحياء أو لأموات، استصحاباً لما تقدم في حكمهم. والثاني: أنهم قد خرجوا في حكم الذراري لتميزهم بالبل غ ويعدل بهم إلى مال الصدقات إن كانوا من أهلها، وسواء كانوا ذرية لأحياء أو لأموات. والثالث: أنهم إن كانوا من ذرية أموات منعوا من مال الفيء وعدل بهم إلى مال ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 205).

الصدقات (وإن) كانوا من ذرية أحياء بقوا في مال الفيء على حكم الذراري ومنوا ط ل الصدقات، لأن الحي يجوز أن يكون متبوعاً في مال الفيء لبقاء عطائه، والميت لا يجوز أن يكون متبوعاً فيه لسقوط عطائه، والأصح عندي أن ينظر فإن كان الذي أقعدهم عن القتال موجباً، لنفقاتهم على الآباء بعد بلوغهم، كوجوبهما عليهم في صغرهم كالجنون والزمانة المانعة من الاكتساب بقوا على حكم الذراري في مال الفيء، ولم يعدل بهم إلى مال الصدقات سواء كانوا ذرية أحياء أو أموات؟ لأن بقا، حكمهم في وجوب النفقة لبقائهم على حكم الذرية في مال الفيء وان كان ما أعجزهم عن القتال لا يوجب نفقاتهم بعد البلوغ لقارتهم على الاكتساب مع العجز عن القتال خرجوا عن حكم الذرية في مال الفيء، وعال بهم إلى مال الصدقات، إن كانوا من أهلها سواء كانوا ذرية أحياء أو أموات، لأن سقوط نفقتهم بالبلوغ تخرجهم عن حكم الذرية والله أعلم. مسألة (¬1) قال الشافعي: "فإن فرض لصحيح ثم زمن خرج من المقاتلة وان مرض طويلاً يرجى أعطي كالمقاتلة". قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا مرض أحد المقاتلة من أهل الفيء لم يخل حال مرضه من أحد أمرين: إما أن يكون يرجى من الله زواله، أو لا يرجى فإن كان زواله مرجواً كان على حقه في العطاء سواء أكان مرضا مخوفا أم غير مخوف؛ لأن الأمراض تناول ولا تنفك الأبدان منها في الغالب، وان كان المرض مما لا يرجى زواله كالعمى والفالج سقط عطاؤه المقاتلة بخروجه منها بالعجز عن القتال، وصار كالذرية إذا انفردوا فهل يعطى كغايته من مال الفيء، أو يعدل به إلى مال الصدقة؛ على قولين: أحدهما: يعطى من مال الفيء قدر كفايته كالذرية، فيكون حقه في أربعة أخماس الفيء. والثاني: أنه لا يعطى من مال الفيء فيمنع من أربعة أخماسه، ثم ينظر فإن كانت زمانته بمرض عدل إلى مال الصدقات، وان كانت زمانته عن جراج ثالثة في القتال، فهل يعدل به إلى مال الصدقات، أو إلى سهم المساكين من خمس الفيء، على وجهين: أحدهما: أنه يعدل به إلى سهم المساكين من خمس الفيء، ويميز عن مساكين الصدقات استيفاء لحكم الفيء فيه. والثاني: أنه يعدل به إلى مال الصدقات، كالذي زمانته بمرض، والله أعلم. مسألة (¬2) قال الشافعي: "ويخرج العطاء للمقاتلة كل عام في وقتٍ من الأوقات ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 205). (¬2) انظر الأم (3/ 205).

والذرية على ذلك الوقت". قال في الحاوي: أما إذا كان مال الفيء لا يجيء إلا مرة واحدة في كل عام لم يجعل العطاء إلا مرة في كل عام، في وقت منه معلوم متقدو باستكمال المال فيه، وأولى ذلك أن يكون في المحرم، إذا أمكن، وان كان مال الفيء يحصل في مرتين من كل عام أو مراراً لم ينبغ أن يجعل العطاء أكثر من مرتين في كل عام لما ذكونا من تشاغل المجاهدين بالاقتضاء، وتشاغل الإمام بالعطاء، ثم ينظر الإمام في أرفق الأمرين به وبالجيش، فإن كان الأرفق أصلح أن يجعله في كل عام مرة لبعد المغزى أو طول المدة فعل، وان كان الأرفق الأصلح أن يجعله في مرتين منها صيفاً وشتاء، كي لا يتشاغل بحفظ المال إذا استبقاه ولا يستبطئ الجيش مع قرب المغزى وبعد مداه فعل، ومن أصحابنا من قال: لا ينظر الإمام في ذلك ولا يجوز أن يجعله إلا مرة واحدة من كل عام وهذا خطأ، لأنه كالزكاة لا تجب في العام إلا مرة فلم يجز أن يغرق في العام إلا مرة، وفي الفيء ما قد يحصل في السنة بأكثر من مرة فجاز أن يفرق في العام في أكثر من مرة والله أعلم بالصواب. مسألة (¬1) قال الشافعي: "وإذا صار مال الفيء إلى الوالي ثم مات ميت قبل أن يأخذ عطاءه أعطيه ورثته فمان مات قبل أن يصير إليه مال ذلك العام لم يعطه ورثته". قال في الحاوي: وهذا كما قال. قد ذكرنا أن استحقاق العطاء يكون بحصول مال الفيء وأداؤه يجب بحلول وقت العطاء. وقال الإسفراييني: استحقاقه وأداؤه يكونان معاً بحلول وقت العطاء، ولا اعتبار بحصول المال في الاستحقاق والأداء، وهذا مع كونه مخالفاً لنص الشافعي خطأ من وجهين: أحدهما: أنه لما لم يجب على مؤديه لم يجب بمستوفيه، وقد يجوز أن يحل وقت العطاء قبل استحقاق مال الفيء على أهله. والثاني: أن العطاء يتعلق استحقاقه بعين لا بذمة وفي اعتبار وجوبه بالوقت دون المال نقل له من العين إلى الذمة، فبطل تقدير ما اعتبره. وإذا كان حصول المال معتبراً فمذهب الشافعي أن حصوله هو قبضه من أهله، ومن أصحابنا من قال: حصوله هو حلول وجوبه على أهله، وهذا خطأ؛ لأنه قد يحل وجوبه ولا يحصل بموت وإعسار، فإذا ثبت ما ذكرنا، لم يخل حال من مات من أهل الفيء من أربعة أقسام: ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 206).

أحدها: أن يكون موته قبل حصول المال وقبل حلول وقت العطاء، فعلى مذهب الشافعي لا يكون حقه فيه ثابتاً. والثاني: أن يكون موته بعد حصول المال وبعد حلول وقت العطاء، فحقه فيه ثابت وهو لورثته من بعده لئلا يختلفوا. والثالث: أن يكون موته بعد حصول المال وقبل حلول وقت العطاء، فعلى مذهب الشافعي يكون حقه ثابتاً فيه ينتقل عنه إلى ورثته، وعلى قول أبي حامد الإسفراييني لا حق له فيه. والرابع: أن يكون موته بعد حلول وقت العطاء وقبل حصول المال، فعلى مذهب الشافعي لا حق له فيه، وعلى قول أبي حاما يكون حقه فيه ثابتاً يورث عنه. مسألة (¬1) قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن فضل من الفيء شيء بعدما وصفت من إعطاء العطايا وضعه الإمام في إصلاح الحصون والازدياد في السلاح والكراع وكل ما قوي به المسلمون فإن استغنوا عنه وكمله كل مصلحه لهم فرق ما يبقى منه بينهم على قدر ما يستحقون في ذلك المال". قال في الحاوي: وجملة القول في مال الفيء إذا حصل أن يبدأ منه بعل إخراج خمسة بأرزاق الجيش، لأنه إن قيل إنه للجيش خاصة فلا شريك لهم فيه، وإن قيل إنه للمصالح فمن أهمها أرزاق الجيش، فإن كان بقدر أرزاقهم لم يفضل منه متى أعطوا جميعه، وان كان أكثر من أرزاقهم وكان يفضل من بعد إعطاء جميعهم فضل فمصرف الفضل معتبر باختلاف القولين في مصرف الفيء. فإن قيل: إنه للجيش خاصة واستوفوا منه قدرا أرزاقهم رد الغافل عليه بقسط أرزاقهم، وهل يجوز أن يصرف من الفضل في الكراع والسلاح وإصلاح الحصون والثغور ما دعت الحاجة إليه أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا يجوز استحقاقهم له كالغنيمة. والثاني: يجوز، لأنه معونة لهم وان لم يفضل تكلفوه من أموالهم، فيبدأ بعد أرزاقهم بشراء ما احتيج إليه من الكراع والسلاح وإصلاح ما تشعث من الحصون والثغور، ثم رد ما فضل بعد ذلك عليهم، وان قيل: إن أربعة أخماس الفيء مصروف في المصالح قدم الجيش منه يقدر أرزاقهم، وصرف الفضل في الكراع والسلاح وما يحتاج إليه من إصلاح الحصون والثغور، فإن فضل منه بعد المصالح كلها فضل ففي رده على الجيش، وجهان: ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 206).

أحدهما: يستبقي في بيت المال ولا يرد عليهم؟ لأنه قد يتجدد من وجوه المصالح ما يكون ذلك معداً له. والثاني: أنه يرد على الجيش بعد استكمال المصالحء بقسط أرزاقهم ولا يستبقي لمصلحة لم يعلم بها مع ظهور المصلحة في اتساع الجيش بها، ولما روي عن عمر رضي الله عنه أنه حلف في المال المحمول من فارس أنه لا يأوي تحت سقف حتى يقسمه، ولما روي عنه في أهل الرمادة أنه لم يكن قد استبقى لهم في بيت المال ما يسد به خلتهم، حتى انتظر بهم ما يأتي من مال بعد مال إلى أن استقلوا فرحلوا، فعلى هذا في حكم رده عليهم وجهان: أحدهما: أنه يرد عليهم معونة لهم لا يحتسب بها عليهم. والثاني: يرد عليهم سلفاً معجلاً، يحتسب به عليهم من وزق العام القابل والله أعلم. مسألة (¬1) قال الشافعي: "وإن ضاق عن مبلغ العطاء فرقأ بينهم بالغاً ما بلغ لم يحبس عنهم منه شيء". قال في الحاوي: إذا ضاق مال الفيء عن أرزاق الجيش وجب أن يقسمه بين جميعهم على قدر أرزاقهم، كما لو ضاقت أموال المفلس عن ديون غرمائه قسم بينهم على قدر ديونهم، ولا يجوز أن يعطى ذلك بعض الجيش كما لا يجوز أن يعطى ذلك مال المفلس بعض الغرماء لاستوائهم في الاستحقاق ثم ينظر في الباقي من أرزاقهم. فإن قيل: إن مال الفيء ملك للجيش سقط الباقي من أرزاقهم ولم يلزم أن يقضوه من عام قابل، ولكن ينبغي للإمام أن يعوضهم من الغنائم ما يتممون باقي كفاياتهم. وان قيل: إن مال الفيء مصروف في المصالح كان الباقي من أرزاق الجيش، ديناً على بيت المال يقضونه في المستقبل من بيت المال، وان عوضوهم بمغنم قبله كان أولى. مسألة (¬2) قال الشافعي: "ويعطى من الفيء رزق الحكام وولاة الأحداث والصلاة لأهل الفيء وكل من قام بأمر أهل الفيء من والٍ كاتب وجندي ممن لا غناء لأهل الفيء عنه رزق مثله فإن وجد من يغني غناءه وكان أميناً بأقل لم يزد أحداً على أقل ما يجد، لأن منزلة الوالي من رعيته منزلة والي اليتيم من ماله لا يعطى منه عن الغناء لليتيم إلا أقل ما ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 206). (¬2) انظر الأم (3/ 206، 213).

يقدر عليه ومن ولي على أهل الصدقات كان رزقه مما يؤخذ منها لا يعطى من الفيء عليها كما لا يعطى من الصدقات على الفيء. قال: واختلف أصحابنا وغيرهم في هشم الفيء وذهبوا مذاهب لا أحفظ عنهم تفسيرها ولا أحفظ أيهم مال ما أحكي من القول دون من خالفه وسأحكي ما حضرني من معاني كل من قال في الفيء شيئاً، فمنهم من هال: هذا المال لله تعالى دل على من يعطاه فماذا اجتهد الوالي ففرقه في جميع من سمى له على قدر ما يرى من استحقاقهم بالحاجة إليه وإن فضل بعضهم على بعض في العطاء فذلك تشويه إذا كان ما يعطى كل واحدٍ منهم سد خلته ولا يجوز أن يعطي صنفاً منهم ومحرم صنفاً. ومنهم من مال: إذا اجتمع المال نظر في مصلحه المسلمين فرأى أن يصرف المال إلى بعض الأصناف دون بعض، فمان كان الصنف الذي يصرفه إليه لا يستغنى عن شي، مما يصرفه إليه وكان أرفو بجماعة المسلمين صرفه وحرم غيره ويشبه قول الذي يقول هذا أنأ إن طلب المال صنفان وكان إذا حرمه أحد الصنفين تماسك ولم يدخل عليه خله مضره وان ساوى بينه وبين الأخر كانت على الصنف الأخر خله مضرة أعطاه الذين فيهم الخلة المضرة كلأ. قال: ثم مال بعض من مال: إذا صرف مال الفيء إلى ناحية فسدها وحرم الأخرى ثم جاءه مال آخر أعطاها إياه دون الناحية التي سدها فكأنه ذهب إلى أنأ إنما عجل أهل الخلة وأخر غيرهم حتى أوفاهم بعد. قال: ولا أعلم أحداً منهم مال يعطى من يعطى من الصدقات ولا مجاهداً من الفيء. وقال بحض من أحفظ عنه: وإن أصابت أهل الصدقات سنة فهلكت أموالهم أنفق عليهم من الفيء فإذا استغنوا عنه منعوا الفيء. ومنهم من قال في مال الصدقات هذا القول يرد بعض مال أهل الصدقات. قال الشافعي فعي رحمه الله: "والذي أقول به وأحفظ عمن أرضى ممن سمعت أن لا يؤخر المال إذا اجتمع ولكن يقم فإن كانت نازله من عدو وجب على المسلمين القيام بها وإن غشيهم عدو في دارهم وجب النفير على جميع من غشت أهل الفيء وغيرهم. مال الشافعي رحمه الله: "أخبرنا غير واحد من أهل العلم أنه لما قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه مال أصيب بالعراق فقال له صاحب بيت المال ألا تدخله بيت المال؟ قال: لا ورب الكعبة لا يأوي تحت سقف بيتٍ حتى أقسمه فأمر به فوضع في المسجد ووضعت عليه الأنطاع وحرساً رجال من المهاجرين والأنصار فلما أصبح غداً معه العباس بن عبد المطلب وعبد الرحمن بن عوف أخذاً بيد أحدهما أو أحدهما أخذ بيده فلما رأوه كشفوا الأنطاع عن الأموال فرأى منظراً لم ير مثله الذهب فيه والياقوت والزبرجد واللؤلو يتلألأ فبكى فقال له أحدهما: أنه والله ما هو بيوم بكاء لكنه والله يوم شكر وسرور فقال: إني والله ما ذهبت حيث ذهبت ولكن والله ما كثر هذا في قوم قط إلا وقع بأسهم بينهم ثمص أقبل على القبلة ورفع يديه إلى السماء وقال: اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجاً فاني أسمعك تقول "تستدرجهم من حيث لا يعلمون، ثم قال: أين سراقة بن جعشم؟ فأتي به أشعر الذراعين دقيقهما

باب ما لم يوجف عليه من الأرضين بخيل ولا وكاب

فأعطاه سواري كسرى ومال: البسهما ففعل فقال: قل الله أكبر فقال: الله أكبر، قال: فقل الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز وألبسهما سراقة بن جعشم أعرابياً من بني مدلج وإنما ألبسه إياهما؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لسراقة ونظار إلى ذراعه: "كأني بك وقد لبست سواري كسرى" ولم يجعل له إلا سواريه وجعل يقلب بعض ذلك بعضاً، ثم قال: إن الذي أدى هذا الأمين، فقال قائل: أنا أخبرك أنك أمين الله وهم يؤدون إليك ما أديت إلى الله فماذا ارتعت رتعوا. قال: صدقت ثم فرقه. قال الشافعي: وأخبرنا الثقة من أهل المدينة، قال: أنفق عمر رضي الله عنه على أهل الرمادة في مقامهم حتى وقع مطر فترجلوا فخرج عمر راكباً إليهم فرساً ينظر إليهم كيف يترحلون فدمعت عيناه، فقال رجل من محارب خصفه: أشهد أنها انحسرت عنك ولست بابن أمية، فمال عمر رضي الله عنه: ويلك ذاك لو كنت أنفق عليهم من مالي أو مال الخطاب إنما أنفق عليهم من مال الله عز وجل". قال في الحاوي: أما أرزاق الجيش وكتابهم وقضائتهم وأثمهم ومؤذنيهم وعمالهم ففي أربعة أخماس الفيء على القولين معاً، وأما أرزاق القضاة بين الكافة وولاة الأحادث هم أصحاب الشرط وأئمة الجوامع والمؤذنون فيها فإن قيل: إن أربعة أخماس الفيء مصرف في المصالح أعطوا منها أرزاقهم وان قيل: إنه ملك الجيش لم يجز أن يعطوا منه وأعطوا من سهم المصالح من الخمس وهو سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المصروف بعده في وجوه المصالح، وإذا وجا الإمام متطوعاً بالقضاء والإمامة والأذان لم يجز أن يعطى عليه رزقاً وإذا وجد مرتزقاً بأقل من أجرة مثله لم يجز له أن يكمل له جميع أجرته، فإن لم يجد إلا مستوفياً لأجرته وفاه ولا يزيد على أجرة مثله، لأنه في مال المسلمين بمنزلة الولي في مال اليتيم. فأما عمال الصدقات فأرزاقهم منها، ولا يجوز أن يرزقوا من مال الفيء على القولين معاً؛ فأما مال الفيء ومال الصدقات فقد ذكرنا أنهما مختلفان ومصرفهما متميزان لا يجوز أن يشرك بينهما ولا أن يعال بأحدهما إلى مصرف الآخر، وان خالف فيه من قهره بالدليل، والله ولي التوفيق. باب ما لم يوجف عليه من الأرضين بخيل ولا وكاب مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: "كل ما صولح عليه المشركون بغير قتال خيل ولا ركاب فسبيله سبيل الفيء على قسمه وما كان من أرضين ودور فهي وقف للمسلمين يشتغل ويقسم عليهم في كل عام كذلك أبداً. قال: وأحسب ما ترك عمر رضي الله عنه من ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 213، 214).

بلاد أهل الشرك هكذا أو شيئاً استطاب أنفس من ظهر عليه بخيل وركاب فتركوه كما استطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنفس أهل سبي هوازن فتركوا حقوقهم وفي حديث جرير بن عبد الله عن عمر رضي الله عنه أنه عوضه من حقه وعوض امرأته من حقها بميراثها كالدليل على ما قلته". قال في الحاوي: وهذا كما قال. لا يخلو مال الفيء من أن يكون منقولاً أو غير منقول، فإن كان منقولاً كالدراهم والدنانير والعروض والسلع قسم بين أهل الفيء بوضع خمسه في أهله، وأربعة أخماسه في مستحقه وجاز له أن يبيع العروض إذا رأى ذلك ملاحا بالدراهم والدنانير لماله فيه من الاجتهاد إلا سهم ذي القربى فلا يجوز بيعه عليهم إلا بإذنهم لانقطاع اجتهاده فيه وأنه صائر إليهم على سبيل الميراث وان كان مال الفيء غير منقول كالدور والعقار والأرضين. قال الشافعي فهي وقف فاختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: أنها تكون وقفاً على القول الذي يجعل مصرف الغي، في وجوه المصالح لما في وقفها من استدامة المملحة واستدرار العلة في كل عام، وأنه يستغلها لأهل الفيء في كل عصره، فأما على القول الذي يجعل مال الفيء ملكا للجيش خاصة فلا يجوز وقفها إلا بإذنهم واختيارهم كالغنيمة التي لا يجوز وقف دورها وأرضيها إلا برضى الغانمين واختيارهم. والثاني: قاله كثير من أصحابنا أنها تصير وقفاً على القولين معاً، لأن تمليك الغلة في كل عام أما وأنفع، ولأن أهل الفيء قاموا في تملكه مقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حقه وما ملكه رسول - صلى الله عليه وسلم - وحقه في الفيء وقف، فكذلك ما ملكه الجيش بعده فصار الحكم فيه أن يصير وقفاً على القول الذي يجعل مصرفه في وجوه المصالح وهو يصير وقفاً على القول الآخر أنه ملك للجيش خاصة أم لا؟ على وجهين. فصل فإذا تقرر ما ذكرنا من كون ذلك وقفاً كان جميعه من الخمس وغيره وقفاً إلا سهم ذي القربى وحده فإن أصحابنا اختلفوا فيه هل يصير سهمهم منه وقفاً معه أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا يصير وقفاً إلا عن رضى منهم واختيار لتملكهم له على سبيل الميراث. والثاني: وهو الأصح أنه قد صار وقفاً لأنهم قد ملكوا خمس الخمس من مال محكوم له بالوقف فلهم يميز حكم سهمهم منه عن حكم جميعه وصار ما ملكوه منه وهو استغلاله في كل عام مع بقاء أصله، وإذا ثبت أن جميع ذلك يكون وقفاً فإنها تصير وقفاً بمصيرها فيها ولا يحتاج إلى واقف يقفها. وقال بعض أصحابنا البصريين: لا تصير وقفاً إلا أن يقفها الإمام لفظاً لأن عمر

رضي الله عنه استنزل أهل السواد عنه وعارض من أبى أن ينزل عنه ثم وقفه، وهذا خطأ، لأمرين: أحدهما: أن ما لا يتم وقفه إلا باللفظ إنما يكون فيما رد إلى خيار الواقف في تملكه ووقفه وهذا غير مردود إلى خيار الواقف في تملكه ووقفه فلم يحتج إلى لفظ. والثاني: أنه حكم قد يبت لأرض الفيء مد انتقالها من المشركين فصارت بالانتقال وقفاً، وأما عمر رضي الله عنه نفي فعله جوابان: أحدهما: أن الذي فعله هو أن حكم بوقفها. والثاني: أنه استنزل الغانمين عن ملك فجاز أن يقفه بلفظ وليس كذلك الفيء، وانه أعلم. مسألة (¬1) قال الشافعي: قال الله تبارك وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً} [الحجرات: 13] الآية. قال: وروى الزهري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عرف عام حنين على كل عشرة عريفاً. قال: وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للمهاجرين شعاراً وللأوس شعاراً وللخزرج شعاراً. قال: وعقد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الألوية فقعد للقبائل قبيلة فقبيلة حتى جعل في القبيلة ألوية كل لواء لأهله كل هذا ليتعارف الناس في الحرب وغيرها فتخف المؤنة عليهم باجتماعهم وعلى الوالي كذلك؛ لأن في تفرمهم إذا أريدوا مؤنة عليهم وعلى واليهم فهكذا". قال في الحاوي: وهذا صحيح ينبغي للإمام أن يمين الجيش بما يتزينون به ويتعارفون، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13] وفي الشعوب والقبائل ثلاثة تأويلات: أحدها: أن الشعوب للنسب الأبعد والقبائل للنسب الأقرب. والثاني: أن الشعوب عرب اليمن من قحطان والقبائل ربيعة ومضر وسائر عدنان. والثالث: أن الشعوب بطون العجم والقبائل بطون العرب فجعل ذلك سمة للتعارف وأصله التمييز وذلك يكون من وجهين: أحدهما: ها يتعارفون به. والثاني: ما يترتبون فيه. فأما ما يتعارفون به فثلاثة أشياء العرفاء والنقباء واختلاف الشعار. فأما العرفاء فهم أن يضم إلى كل جماعة واحد منهم يكون عريفاً عليهم وقيماً بهم يرجعون إليه في عوارضهم، ويرجع الإمام إليه في تعرف أحوالهم ويضيفهم إليه إذا أراد ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 214، 215).

أغزاهم لما روي عن النبي ش عرف عام حنين على كل عشرة عريفاً، وقد سمى العرفاء في وقتنا هذا قواداً. وأما النقباء فجعل على كل جماعة من العرفاء نقيباً؛ ليكون لهم مراعياً ولأحوالهم وأحوال أصحابهم منهياً ولهم إذا ارتدوا مستدعياً لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - اختار من الأنصار حين بايعهم اثني عشر نقيباً. وأما الشعار فهي العلامة التي تميز بها كل قوم من غيرهم في مسيرهم وفي حروبهم حتى لا يختلطوا بغيرهم ولا يختلط بهم غيرهم؟ فيكون ذلك أبلغ في تضافرهم لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل للمهاجرين شعاراً وللأنصار شعاراً علامة من ثلاثة أوجه: أحدها: الراية التي يتبعونها ويسيرون إلى الحروب تحتها فتكون راية كل مخالفة لراية غيرهم. والثاني: ما يعلمون به في حروبهم فيعلم كل قوم بخرقة ذات لون هن أسود أو أحمر أو أصفر أو أخضر تكون إما عصابة على رؤوسهم وإما مشدودة في أوساطهم. والثالث: النداء الذي يتعارفون به فيقول كل فريق منهم يا آل كذا أو يا آل فلان أو كلمة إذا تلافوا تعارفوا بها ليجتمعوا إذا افترقوا ويتناصروا إذا أرهبوا، فهذا كله وان كان سياسة، ولم يكن فقهاً، فهو من أبلغ الأمور في مصالح الجيش وأحفظها للسير الشرعية. فصل وأما ما يترتبون فيه فهو الديوان الموضوع لإثبات أسمائهم ومبلغ أرزاقهم يترتبون فيه بشيئين: أحدهما: النسب. والثاني: السابقة على ما سنذكره من بعد حتى إذا دعوا للعطاء أو الغزو وقدم فيه المقدم في الديوان لما روي أن عمر رضي الله عنه وضع الديوان على هذا حفظاً للأسماء والأرزاق فإن قيل: لم استحدث عمر وضع الديوان ولم يكن على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولا على عهد أبي بكر، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: "كل محدث بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار". قيل: لأمرين: أحدهما: الحاجة دعته إليه عند كثرة الجيش واختلاف الثغور ليحفظ به ثلاثة أشياء لا تتحفظ بغيره: أحدها: حفظ أسمائهم وأنسابهم. والثاني: حفظ أرزاقهم وأوقات عطائهم. والثالث: ترتيبهم بالنسب والسابقة في إسلامهم وبأنفسهم وكل ذلك احتياط في

الدين ومستحسن بين المسلمين وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيء" (¬1). فهذا وجه. والثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فعل ما نبه به على وضع الديوان وان أخره للاستغناء عنه مع اجتماع الجيش وقلتهم كالذي فعله من تعريف العرفاء واختيار النقباء والمخالفة بين الشعار والنداء، فتمم عمر بوضع الديوان ما ابتدأ به النبي - صلى الله عليه وسلم - من مقدماته حين احتاج إليه وان كان النبي - صلى الله عليه وسلم - مستغنياً عنه فلم يكن في ذلك مخالفاً ولا مبتدعاً، وباء التوفيق. مسألة (¬2) قال الشافعي: "وأحب للوالي أن يضع ديواناً على القبائل ويستظهر على من غاب عنه ومن جهل ممن حضره من أهل الفضل من قبائلهم. قال الشافعي رحمه الله: "وأخبرني غير واحد من أهل العلم والصدق من المدينة ومكة من قبابل قريش وكان بعضهم أحسن امتصاصاً للحديث من بعض وقد زاد بعضهم على بعض أن عمر رضي الله عنه - لما دون الديوان. قال: أبدأ ببني هاشم. ثم قال: حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطهم وبني المطلب فإذا كانت السن في الهاشمي قدمه على المطلبي وإذا كانت في المطلبي قدمه على الهاشمي، فوضع الديوان على ذلك وأعطاهم عطاء القبيلة الواحدة، ثم استوت له بنو عبد شمس ونوفل في قدم النسب، فقال: عبد شمس إخوة النبي - صلى الله عليه وسلم - لأبيه وأمه دون نوفل فقدمهم، ثم دعا ببني نوفل يلونهم ثمة استوت له عبد العزى وعبد الدار، فقال: في بني أسد بن عبد العزى أصهار النبي - صلى الله عليه وسلم - وفيهم أنهم من المطيبين وقال بعضهم: هم حلف من الفصول وفيهم كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل ذكر سابقة فقدمهم على بني عبد الدار، ثم دعا بني عبد الدار يلونهم ثم انفردت له زهرة فدعاها تتلو عبد الدار، ثم استوت له تيم ومخزوم، فقال في تيم: إنهم من حلف الفصول والمطيبين وفيهما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - وقيل: ذكر سابقة وقيل ذكر صهراً فقدمهم على مخزوم، ثم دعا مخزوماً يلونهم، ثم استوت له سهم وجمح وعدي بن كعب فقيل أبدأ بعدي فقال: بل أقر نفسي حيث كنت فإن الإسلام دخل وأمرنا وأمر بني سهم واحد ولكن انظروا بين جمح وسهم فقيل قدم بني جمح، ثم دعا بني سهم وكان ديوان عدي وسهم مختلطا كالدعوة الواحدة، فلما خلصت إليه دعوته كبر تكبيره عاليه، ثم قال: الحمد لله الذي أوصل إلى حظي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم دعا عامر ابن لؤي. قال الشافعي: فقال بعضهم: إن أبا عبيدة بن عبا الله الجراح الفهري رضي الله عنه لما رأى من تقدم عليه. قال: أكل هؤلاء يدعى أمامي؟ فمال يا أبا عبيدة اصبر كما صبرت أو كلم قومك ¬

_ (¬1) أخرجه الحاكم (3/ 78)، وانظر كشف الخفاء (2/ 263)، والأسرار المرفوعة (106)، والدرر المنتثرة (156). (¬2) انظر الأم (3/ 215 - 219).

فمن قدمك منهم على نفسه لم أمنعه فأما أنا وبنو عدى فنقدمه إن أحببت على أنفسنا. قال: فقدم معاوية بعد بني الحارث بن فهر ففصل بهم بن بني عبد مناف وأسد بن عبد العزى وشجر بين بني سهم وعدي شيء في زمان المهدي، فافترقوا فأمر المهدي ببني عدي فقدموا على سهم وجمع لسابقة فيهم: فإذا فرغ من قريش بدئت الأنصار على العرب لمكانهم من الإسلام. قال الشافعي؛ الناس عباد الله فأولاهم أن يكون مقدماً أقربهم بخيره الله تعالى لرسالته ومستودع أمانيه وخاتم النبيين وخير خلق رب العالمين محمد - صلى الله عليه وسلم -. قال الشافعي: ومن فرض له الوالي من قبائل العرب رأيت أن يقدم الأقرب فالأقرب منهم برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فماذا استووا قدم أهل السابقة على غير أهل السابقة ممن هو مثلهم في القرابة". قال في الحاوي: وإذا كان وضح الديوان مأثورا قد عمل الأئمة الراشدون ولم يجد الإمام منه يداً فقد اخلف في تسميته بالديوان. فقال قوم: لأن كسرى أطلع يوماً على كتابه وهم منحتون مع أنفسهم فقال: ديوانه أي مجنون فسمى وضع جلوسهم ديواناً. وقال آخرون: سمي ذلك لأن الديوان اسم السلاطين فسمي الكتاب باسمهم لوصولهم إلى غوامض الأمور وضبطهم الشاذ وجمعهم المتفرق ثم سمي موضع جلوسهم باسمهم فقيل ديوان، فإذا أراد الإمام أن يضح ديوان الجيش قدم فيه العرب على العجم لما فضلهم الله به من رسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال الشافعي (¬1): الناس عباد الله وأولاهم أن يكون مقدماً أقربهم فخيره الله لرسالته ومستودع أمانته وخاتم النبيين وخير خلق رب العالمين محمد - صلى الله عليه وسلم - فإذا أراد تقديم العرب قدم منهم قريشاً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قدموا قريشاً ولا تتقدموها" (¬2) ثم من يليهم من بطون قريش بحسب قرب آبائهم من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأنه محمد بن عبد الله بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان. فأقربهم إليه نسباً بنو هاشم وضم إليهم بنو المطلب لقوله - صلى الله عليه وسلم - أن بني هاشم وبني المطلب كالشيء الواحد وشبك بن أصابعه لم يفترقوا في جاهلية ولا إسلام. وروي أن عمر رضي الله عنه لما أراد وضع الديوان، قال: بمن أبدأ؟ فقال له بعض الحاضرين: ابدأ بنفسك يا أمير المؤمنين، إما على عادة الفرس في تقديم الولاة، وإما لتخيير عمر فيما يفعله. فقال عمر رضي الله عنه. اذكرتني بأن أبدأ ببني هاشم، فإني حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - معطيهم وبني المطلب، فكان إذا كانت السن في الهاشمي قدمه على المطلبي، وإذا كانت في المطلبي قدمه على الهاشمي، فوضع ديوانه على ذلك وأعطاهم عطاء القبيلة الواحدة ثم استوت له عبد شمس ونوفل من قدم النسب لأن عبد ¬

_ (¬1) انظر الأم (4/ 66). (¬2) تقدم تخريجه.

شمس ونوفلاً أخوا هاشم والمطلب لأن جميعهم بنو عبد مناف وحكي الزبير بن بكار أنه كان يقال لهاشم والمطلب البدران ولعبد شمس ونوفل الأبهران. وأصل عبد شمس أنه قيل له عباء الشمس أي يستر الشمس ثم خففوا فقالوا عبد شمس وكان أكبر ولد عبد مناف وأصغرهم المطلب فقدم عمر بني عبد شمس على بني نوفل، لأن عبد شمس أخو هاشم لأبيه وأمه ونوفل أخو هاشم لأبيه دون أمه، وأنشد أبو عبيدة لآدم بن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز: يَا أَمِير إنِّي قَائِلٌ قَوْل ذِي دِينِ وَبِر وَحَسَبْ عَبْدِ شَمْسَ .. ... أَنَّهَا عَبْدَ شَمْسِ عَم عَبْد المُطَّلبْ عَبْدَ شَمْسَ كَانَ يتلو هَاِشماً ... وَهُمَا بَعْدُ لأُمِّ وَلَأبِ فقدم عمر بني عبد شمس ثم دعا بعدهم بني نوفل ثم استوبت له بنو عبد العزى وبنو عبد الدار وهما أخوا عبد مناف وجميعهم بنو قصي، فلما فرغ من بني عبد مناف عدل بعضهم إلى أخوي عبد مناف وعبد العزى وعبد الدار ابني قصي، فقدم بني عبد العزى على بني عبد الدار لأربعة أمور: منها: أنهم أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن خديجة منهم. ومنها السابقة للزبير بن العوام، لأنه منهم. ومنها لأنهم من حلف المطيبين. ومنها لأنهم من حلف الفضول، فأما حلف المطيبين فإنه حلف عقدته قبائل من قريش على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى رع الظالم ونصرة المظلوم وقالوا: إن لنا حرماً يعظم وبيتاً يزار فأخرجوا من أموالهم ما أعدوا للتعاون على حلفهم فصار الاجتماع على هذا الحلف كالاشتراك في النسب. واختلف في تسميته بحلف المطيبين، فقال قوم: لأنهم طيبوا مكة برع الظالم ونصرة المظلوم، لأن قريشاً تسلطوا حين قووا. وقال آخرون: بل سموا بذلك لأن أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب أخرجت لهم عند عقد هذا الحلف جفنة فيها طيب فغمسوا أيديهم فيها عند التحالف وتطيبوا به فسمي حلف المطيبين وكان من دخل فيه من قريش بنو عبد مناف وبنو أسد، وبنو زهرة، وبنو تيم، وبنو الحارث بن فهر فلما سمعت بذلك بنو هاشم نحروا جزوراً ثم قال من أدخل يده في دمها ثم علق منه فهو منا ليتميزوا عن حلف المطيبين فأدخلت أيديها بنو هاشم فادخلوا أيديهم بنو سهم وبنو عبد الدار وبنو جمح وبنو عدي وبنو مخزوم فسمي هذا أحلاف اللعقة، فقال الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب في ذلك. وَسُمِينَا الأَطَايَبْ مِنَ قُرَيْش عَلَى كَرَمِ فَلَا طِبْنَا وَلَا طَابَا وَأَيُّ الخَيْرِ لَمْ نَسْبِق إلَيْهِ وَلَمْ تَفْتَح بِهِ لِلنَّاسِ بَابَا

وأما حلف الفضول فهو حلف عقدته أيضا قبائل من قريش على نحو ما ذكرنا في حلف المطيبين وكان سببه ما حكاه الزبير بن بكار: أن قيس بن شيبة السلمي باع متاعاً على ابن أبي حلف الجمحي فلواه وذهب بحقه، فاستجار عليه بني جمح فلم يجيروه فقام قيس منشداً فقال: يا آل قصي كيف هذا في الحرم وحرمة البيت وأخلاق الكرم أظلم لا يمنع من ظلم فجددوا لأجله حلف الفضول في دار عبد الله بن جدعان على رد الظلم بمكة، وإن لا يظلم بها أحد إلا منعوه ودخل في الحلف بنو هاشم وبنو المطلب وبنو أسد بن عبد العزى وبنو زهرة وبنو تيم وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومئذٍ معهم وذلك قبل النبوة، وهو ابن خمس وعشرين سنة فروت عائشة رضي قال الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلف الفضول، ولو دعيت إليه في الإسلام لأجبت وما أحب أن يكون لي حمر النعم، واني كنت نقضته" وما يزيده الإسلام إلا شدة، ولم يدخل بنو عبد شمس فيه. واختلف في تسميته بحلف الفضول فقال قوم: لما فيه من الأخذ بالفضل. وقال آخرون: لأن قريشاً وسائر الأحلاف كرهوه فعابوا من دخل فيه ونسبوهم إلى الفضول. فسمي بحلف الفضول. وقال آخرون: بل سمي حلف الفضول لأنهم تحالفوا على مثل ما تحالف عليه قوم من جرهم فيهم الفضل وفضيل وسمي بإضافته إليهم حلف الفضول، فهذا الكلام من ترتيب بني قصي، ثم انفرد، بعدهم بنو زهرة أخو قصي وهما ابنا كلاب، وليس له عقب من غيرهما، وقد روى الأوزاعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "ضريح قريش ابنا كلاب" يعني قصي وزهرة ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينسب إليهما لأن أباه من قصي، وأمه من زهرة، ثم استوت له بعد بني كلاب بنو تيم وبنو مخزوم لأن تيماً ومخزوماً أخو كلاب وجميعها بنو مرة بن كعب فقدم بني تيم على بني مخزوم لأربعة أمور: منها السابقة لأبي بكر لأنه منهم. ومنها لأنهم أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأن عائشة منهم. ومنها لأنهم من حلف المطيبين. ومنها لأنهم من حلف الفضول. ثم استوت لهم بعد ذلك بنو عدي وبنو سهم وبنو جمح لأنهم إخوة مرة وجميعهم بنو كعب بن عامر فقيل له: ابدأ ببني عدي وهم قومه، فقال: بل أقر نفسي حيث كنت، فإن الإسلام دخل وأمرنا وأمر بني سهم واحد ولكن انظروا بين بني جمح وبني سهم فقيل إنه قدم بني جمح ثم دعا بني سهم وكان ديوان عدي وسهم مختلطاً كالدعوة الواحدة فلما بلغت إليه دعوته كبر تكبيرة عالية ثم قال: الحمد لله الذي أوصل إلي حظي من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم دعا بني عامر بن لؤي بن غالب، وكان أبو عبيدة بن الجراح حاضراً وهو من

بني فهر بن مالك فلما رأى من تقدم عليه قال: أكل هذا يدعى أمامي، فقال له عمر: يا أبا عبيدة اصبر كما صبرت أو كلم قومك، فمن قدمك منهم على نفسه لم أمنعه، فأما أنا وبنو عدي فنقدمك على أنفسنا إن أحبت ثم دعا بعد بني لؤي بن غالب بن غالب بن فهر. ثم دعا بعدهم بني فهم بن مالك حتى استكمل قريشاً واختلف النسابون من علماء الشرع من قريش على قولين: أحدهما: أنهم بنو فهر بن مالك فمن تفرق نسبه من فهر فهو من قريش ومن جاوز فهر بن مالك بنسبه فليس من قريش وهذا قول ابن شهاب الزهري وطائفة. والثاني: أن قريشاً هم بنو النضر بن كنانة جد فهر بن مالك؛ لأنه فهر بن مالك بن النضر بن كنانة فكل من كان من ولد النضر بن كنانة فهو من قريش ومن جاوز النضر بنسبه فليس من قريش، وهذا قول الشعبي وطائفة أخرى، واختلفوا في تسميتهم قريشاً على ستة أقاويل: أحدها: أن فهر بن مالك كان اسمه قريشاً وإنما نبزته أمه فهراً لقياً وهذا قول الزهري. والثاني: أنه سمي قريشاً لأن قريش بن بدر بن مخلد بن النضر بن كنانة كان دليل بني كنانة في تجارتهم، وكان يقال قدمت عير قريش فسميت قريش به، وأبوه بدر بن مخلد هو صاحب بدر الموضع الذي لقي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قريشاً وهو احتفر بئرها وفيه أنزل الله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمْ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} [آل عمران:123] وهذا القول حكاه الزبير بن بكار عن عمر. والثالث: أنهم سموا قريشاً؛ لأن النضر بن كنانة سمي قريشاً لأنه كان يقرش عن خلة الناس وحاجتهم فيسدها والتقرش هو التفتيش ومنه قول الحارث بن حلزة (¬1): أيها الناطق المقرش عنا عند عمرو، فهل له إبقاء وهذا قول الشعبي. والرابع: أنهم سموا قريشاً للتجارة لأنهم كانوا تجاراً في رحلتي الشتاء والصيف؛ لأن التجار يقرشون ويفتشون عن أموال التجارة وحكاه الزبير بن بكار. والخامس: أنهم سموا قريشاً لتجمعهم إلى الحرم بعد تفرقهم لأن قصياً جمعهم إليه والتقرش التجمع ومنه قول الشاعر: إخوة قرشوا الذنوب علينا في حديث من دهرهم وقديم وهذا قول أبي عبيدة معمر بن المثنى. ¬

_ (¬1) البيت من الخفيف، وهو للحارث بن حلزة في ديوانه (ص 24)، لسان العرب (6/ 334)، تهذيب اللغة (8/ 322)، شرح القصائد السبع (ص 453)، شرح القصائد العشر (ص 381)، شرج المعلقات العشر (ص 121)، المعاني الكبير (2/ 872)، تاج العروس (17/ 327 - قريش).

والسادس: أنهم سموا قريشاً لقوتهم تشبيهاً بدابة في البحر قوية تسمى قريشاً كما قال تبع بن عمرو الحميري: وقريش هي التي تسكن البح ر بها سميت قريش قريشا تأكل الغث والسمين ولا تت رك يوماً من جناحين ريشا هكذا في العباد حي قريش يأكلون البلاد أكلا كشيشا ولهم آخر الزمان بني يكثر القتل فيهم والخموشا يملأ الأرض خيلة ورجالاً يحشرون المطي حشراً كميشا فلما فرغ عمر من قريش دعا بعدهم بالأنصار وقدمهم على سائر العرب بعد قريش لقوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ} [التوبة:100] لنصرتهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا} [الأنفال:72] ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الأنصار كرشي وعيبتي لو سلك الناس شعباً والأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار" (¬1). قال الشافعي: وشجر بين بني سهم وعدي في زمان المهدي فافترقوا فأمر المهدي ببني عدي فقدموا على سهم وجمع لسابقة فيهم، لأنهم أصهار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قبل حفصة بنت عمر رضي الله عنهما. فصل فإذا ثبت ما وصفنا ينبغي أن يكون منع الديوان على مثل ما وضعه عمر يبدأ بقريش فيقام منهم بني هاشم وبني المطلب ثم من يليهم من بني أب بعد أب حتى يستوعب جمع قريش، ثم يقدم بعدهم الأنصار من الأوس والخزرج، ثم يعدل بعدهم إلى مضر ثم ربيعة ثم جميع ولد عدنان، ثم يعدل بعدهم إلى قحطان فيرتبهم على السابقة كما ذكرنا في قريش، فإذا فرغ من جميع العرب عدل بعدهم إلى العجم فرتبهم على سابقة إن كانت لهم. فأما ترتيب أهل القبيلة الواحدة من قريش أو غيرهم فينبغي أن يقدم منهم ذو السابقة ثم ذو السن ثم ذو الشجاعة، فإذا أراد تفريق العطاء فيهم بدأ بالقبيلة المقدمة في الديوان، فقدمها في العطاء وقدم منها من كان في الديوان مقدماً؛ لأنه لا يمكن إعطاء جميعهم إلا واحداً بعد واحد، فيقدم الأسبق فالأسبق في الديوان حتى يتوفي جميع أهله، وبالله التوفيق. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

كتاب الصدقات

كتاب الصدقات مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: "فرض الله تبارك وتعالى على أهل دينه المسلمين في أموالهم لغيرهم من أهل دينه المسلمين المحتاجين إليه لا يسعهم حبسه عمن أمروا بدفعه إليه أو ولاته". قال في الحاوي: وهذا كما قال. اعلم أن وجوب الزكاة يتعلق بثلاثة أحكام: إحدها: المال الذي تجب فيه. والثاني: المال الذي تجب عليه. والثالث: المستحق الذي تصرف إليه. فأما المال الذي تجب فيه فقد ذكرنا في كتاب "الزكاة" أنه المال الثاني على شروطه الماضية وأما المالك الذي تجب عليهم فهم المسلمون واختلف أصحابنا في المشركين ها هم مخاطبون بها؟ وإن لم تؤخذ منهم على وجهين بناء على اختلاف أصحابنا، هل خوطبوا مع الإيمان بالعبادات الشرعية أم لا؟ فذخب أكثر أصحابنا إلى أنهم مخاطبون بالعبادات الشرعية من الصلاة والصيام والزكاة والحج كمخاطبتهم بالإيمان، وأنهم معاقبون على ترك ذلك لقوله تعالى: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44)} [المدثر:42 - 44] وقال آخرون: وهو قول العراقيين أنهم في حال الكفر إنما خوطبوا بالإيمان وحده، ولم يتوجه إليهم الخطاب بالعبادات الشرعية إلا بعد الإيمان لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا اله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها، ولان الزكاة لو وجبت عليهم لطولبوا بها بعد إسلامهم". فصل وأما المستحق لصرف الزكاة إليه فهذا الكتاب مقصور عليه، والأمل فيه قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة:103] أي تطهر ذنوبهم وتزكى أعمالهم فكان في هذه الآية وجوب لأدائها من غير ذكر لمستحقها وقال تعالى: {وَفِي ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 219).

أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} [الذاريات:19] فأما السائل: فهو الذي يسائل الناس لفاقته. وفي المحرم خمسة تأويلات: أحدهما: أنه المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئاً ولا يعلم بحاجته، وهو قول قتادة. والثاني: أنه المحارف الذي لا يتيسر له مكسبه، وهو قول عائشة. والثالث: أنه الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه، وهو قول ابن عباس. والرابع: أنه المصاب بزرعه وثمره بعينه من لم يصب وهو قول ابن زيد. والخامس: أنه المملوك وهو قول عبد الرحمن بن حميد. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم" وقال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل حيث بعثه إلى اليمن: "يا معاذ بشر ولا تنفر ويسر ولا تعسر، ادعه إلى شهادة أن لا إله إلا الله فإن أجابوك فأعلمهم أن في أموالهم حقاً يؤخذ من أغنيائهم فيرد على فقرائهم" (¬1) فدل ما ذكرنا من الكتاب والسنة على أن الزكاة مصروفة في ذوي الفقر والحاجة من غير حرفة ولا تعيش وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمنا أنه من اجتهاده إلى أن كان ما رواه الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن أبي سعيد الخدري قال: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم قسماً إذ جاءه ذو الخويصرة اليماني، فقال: إعدل يا رسول الله، فقال: "ويلك فمن يعدل إذا لم أعدل" فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ائذن لي فاضرب عنقه، فقال: دعه (¬2) فأنزل الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)} [التوبة:58] ثم إن الله تعالى نزه بنيه عن هذا العتب وتولى قسمها بين أهلها فقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:58] إلى قوله تعالى: {فَرِيضَةً مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة:60] أي عليم بالمصلحة حكيم في القسمة فعند ذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى لم يرض في قسمة الأموال بملك مقرب ولا نبي مرسل" حتى تولى قسمها بنفسه فصار مال الزكوات مقسوماً في أهله بنص الكتاب كالفيء والغنيمة. وروى زياد بن الحارث الصدائي، فقال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعته فجاءه رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال: "إن الله تعالى لم يرض في الصدقة بحكم نبي ولا غيره حتى حكم فيها هو فجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من أهل تلك الأجزاء أعطيتك حقك" (¬3). ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (4341، 4342)، ومسلم (1733)، وأحمد (3/ 56)، وابن ماجه (172)، والحاكم (2/ 145). (¬2) أخرجه البخاري (3610)، ومسلم (1064). (¬3) أخرجه أبو داود (1630)، والطبراني في "الكبير" (5/ 303)، والدارقطني (2/ 137)، والبيهقي في "الكبرى" (7733)، وفي "معرفة السنن" (1266).

فصل فإذا ثبت أنها تصرف إلى من سماه الله تعالى من الأصناف الثمانية فلا يجوز صرفها إلا إلى المسلمين كما لم يجز أخذها إلا من المسلمين هذا مذهب الشافعي ومالك وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وقال ابن شبرمة: يجوز صرف الزكوات كلها إلى أهل الذمة، وكذلك الكفارات وقال أبو حنيفة: يجوز أن تصرف إليهم زكاة الفطر استدلالاً بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: "في كل ذات كبد حرى أجر" وبرواية سعيد بن جبير أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى أهل الذمة من الصدقات، ولأن كل من جاز أن تدفع إليه صدقة التطوع جاز أن تدفع إليه زكاة الفطر كالمسلم. ودليلنا رواية أنى بن مالك أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله نشدك الله، الله أمرك أن تأخذ الصدقة من أغنيائنا فتردها على فقرائنا، فقال: نعم، فأخبر أن المأخوذ منهم عم المردود عليهم وهي من المسلمين مأخوذة فوجب أن تكون عليهم مردودة، ولأنه مال يخرج على وجه الطهر فلم يجز دفعه إلى من ليس من أهل الطهرة قياساً على زكاة المال: ولأن من لا يجوز دفع زكاة المال إليه لا يجوز دفع زكاة الفطر إليه كالأغنياء وذوي القربى، ولأن من نقص بالكفر حرم دفع الزكاة إليه كالمستأمن: ولأن الله تعالى خولنا أموال المشركين استعلاء عليهم فلا يجوز أن نملكهم أموالنا استدلالاً لهم. فأما عموم الآية والخبر مخصومان بما ذكرنا. وأما حديث سعيد بن جبير، فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه مرسل لا يلزمنا العمل به. والثاني: أنه محمول على صدقة التطوع. والثالث: يجوز أن يكون افترض منهم لأهل الصدقة فرد عليهم الفرض من مال الصدقة. وأما قياسهم بأنه من يجوز دفع صدقة التطوع إليه كالمسلم فمنتقض بذوي القربى، ثم المعنى في المسلم أنه يجوز دفعه زكاة المال إليه وليس كذا الذمي، فكان إلحاقه بالمستأمن أولى، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "ولا يسع الولاة تركه لأهل الأموال لأنهم أمناء على أخذه لأهله ولم نعلم أن وسول الله - صلى الله عليه وسلم - أخرها عاماف لا يأخذها فيه وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لو منعوني عتاقاً مما أعطوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليها". قال الماوردي: أعلم أن الأموال ضربان: ظاهرة، وباطنة، فالظاهرة هي المواشي والزروع والمعادن، والباطنة الذهب والورق وعروض التجارات فأما الباطنة: فأرباب التجارات وسائر الأموال فصاحبها بالخيار في تفريقها بنفسه أو دفعها إلى الإمام العادل

ليتولى تفريقها بنفسه ولا يلزم دفعها إليه، وهو قول الجمهور. وأما الظاهرة ففيها قولان: أحدهما: قاله في القديم: إن على أربابها دفع زكاتها إلى الإمام ولا يجزئهم تفريقها بأنفسهم وبه قال مالك وأبو حنيفة. والثاني: وهو قوله في الجديد: إن أربابها بالخيار في دفعها إلى الإمام أو تفريقها بأنفسهم، ودليل قوله في القديم أن دفعها إلى الإمام واجب وهو مذهبه مالك وأبي حنيفة قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة:103] وإذا دلت هذه الآية على أن على الإمام الآخذ دلت على أن على الأرباب الدفع، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنياتكم فأردها على فقرائكم" فدل ذلك من قوله على مثل ما دلت عليه الآية، وقال أبو بكر رضي الله عنه في مانعي الزكاة لو منعوني عتاقاً أو عقالاً مما أعطوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه، فوافقته الصحابة بعد مخالفته، فدل على أن عليه الأخذ وعليهم الدفع بإجماع الصحابة، ولأنه حق يتعلق بالمال الظاهر يصرف إلى الأصناف على أوصاف، فوجب أن يكون تفرد الإمام به شرطاً في أجزائه كالخمس. ودليلنا، قوله في الجديد أن تفرد أربابها تفريقها يجوز لقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] فجعل كلا الآمرين مجزئاً وقوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً وَعَلانِيَةً} [البقرة:274] فدل عموم الآيتين على جواز إخراج الصدقات فرضاً ونفلاً من غير تخصيص. وروي أن أبا ثعلبة الخشني حمل صدقته إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فردها وحملها إلى أبي بكر فردها وحملها إلى عمر، فردها، فلو كان تفرده بإخراجها لا يجزئه لما استجاز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ردها عليه، لأن فيه تضييعاً لها من غير إجزاء، ولأنه مال مخرج على وجه الطهرة فجاز أن ينفرد أربابه بإخراجه، ولأنه مال مخرج على وجه الطهرة فجاز أن ينفرد أربابه بإخراجه كالكفارات؛ ولأن ما أخرج زكاة لم يجز دفعه إلى الإمام كالمال الباطن، ولأن من جاز له أن ينفرد بإخراج زكاة المال الباطن جاز له أن ينفرد بإخراج زكاة المال الظاهر كالإمام. فصل فإذا تقرر توجيه القولين انتقل الكلام إلى التفريع عليهما فإذا قيل بوجوب دفعها إلى الإمام، وإن تفريق ربها لا يجوز، فلا يخلو حال الإمام من أن يكون عادلاً أو جائزاً، فإن كان الإمام عادلاً، فعلى رب المال أن يدفعها إلى الإمام أو إلى من استخلفه الإمام عليها من عماله وسعاته، فإن كان الإمام والعامل حاضرين كان رب المال بالخيار في دفعها إلى أيهما شاء والأفضل أن يدفعها إلى الإمام، لأنه أصل. وإن كان الإمام غائباً عن المال والعامل حاضراً، فعلى رب المال أن يدفعها إلى

العامل، وليس له أن يؤخرها حتى يدفعها إلى الإمام وإذا دفعها رب المال إلى الإمام أو إلى عامله برئ رب المال منها، وكانت يد الإمام ويد عامله سواء لنيابته عنه، فإن هلك ذلك في يده كان تالفاً لأهل السهمان من مال أهل السهمان ولم يضمنه إلا بالعدوان. وإن كان الإمام جائراً لم يجز دفعها إليه، لأنه بالجور قد خرج من الأمانة، وجاز لرب المال أن يفرقها بنفسه للضرورة، فإن دفعها إلى الإمام الجائر لم يجز رب المال إلا أن يعلم وصولها إلى أهل السهمان، ولا يكون الإمام الجائر نائباً عنهم، فإن هلك المال في يده أو استهلكه بنفسه، فعلى رب المال إخراجها ثانية سواء أخذها الإمام الجائر منه جبراً أو دفعها إليه مختاراً. وقال أبو حنيفة: يجزئه أخذ الإمام الجائر لها سواء أخاها جبراً أو دفعها رب المال مختاراً. وقال مالك: إن أخذها الإمام الجائر جبراً أجزأه، وإن دفعها رب المال مختاراً لم يجزئه. واستدل من أجاز ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "السلطان يفسد، وما يصلح الله به أكثر، فإن عدل فله الأجر عليكم، وإن جاز فله الوزر وعليكم الصبر" فلما جعل وزر جوره عليه لم يجز أن يعود على غيره، في تكليف رد المال الإعادة يحتمل لوزره، ولأن الإمام الجائر في استيفاء الحدود كالعادل فكذلك في الزكاة، ويتحرر من هذا الاعتلال قياسان: أحدهما: أن من سقطت الحدود باستيفائه لها سقطت الزكاة بقبضه لها كالعادل. والثاني: أن ما سقط باستيفاء الإمام العادل له سقط باستيفاء الإمام الجائر له كالحدود ولأن خيانة النائب لا تقتضي فساد القبض كالوكيل. ودليلنا، ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله فلا طاعة لي عليكم" فجعل حدوث المعصية منه، وإن كان من المعصية بعيداً رافعاً لوجوب الطاعة، وإذا ارتفعت طاعة الوالي لجوره صار كغيره من الرعية التي لا تجزئ الزكاة بأخذهم لها، ويتحرر من اعتلال هذا الخبر قياسان: أحدهما: أن من سقطت طاعته سقطت نيابته كالعاصي. والثاني: أن من بطلت نيابته لم يصح قبضه كالوكيل، ولأن الإمام يختص بتنفيذ الأحكام كما يختص باستيفاء الأموال فلما لم تنفذ أحكامه بجوره لم يصح استيفاؤه الأموال بجوره وتحريره أن ما وقفت صحته على عدالة الإمام كان مردوداً بجوره كالأحكام، ولأن إمامته تبطل بجوره كما تبطل بعزله وخلعه، ثم ثبت أنه لو قبضها بعد خلع نفسه لم تقع موقع الأجزاء كذلك إذا قبضها بعد جوره. وتحريره: أن ما أبطل إمامته منح من إجزاء قبضه كالخلع. فأما الجواب عن استدلالهم بالخبر، فمن وجهين: أحدهما: اختصاص الوزر بالإمام دون الأحكام.

والثاني: أنه وإن لم يتعد وزره إلى غيره لم يتعد وزر غيره إليه، ورب المال مأخوذ بوزر زكاته حتى تصل إلى مستحقها فلم يسقط عنه وزرها لها. وأما قياسهم على الحدود فهي من حقوق الله تعالى المحضة التي لا حق فيها لآدمي والمقصود بها الزجر الحاصل بعد الإمام وجوره، ولذلك جوزنا لغير الإمام من سيد العبد والأمة أن يحدهما، وليس كذلك الزكاة، والمقصود بها وصولها إلى مستحقها، وذلك بجور الإمام معدوم فافترقنا. وأما قياسهم على الوكيل فالمعنى في الوكيل أن وكالته لا تبطل بجنايته؟ فلذلك صح قبضه والإمام تبطل ولايته بجوره فلذلك لم يصح قبضه. فصل وإذا قيل بالقول الجديد: إن دفع الزكاة إلى الإمام ليس بواجب، وإن تفريق أرباب الأموال لها جائز، فإن كان الإمام جائزا لم يجز دفعها إليه، وإن كان عادلاً كان رب المال بالخيار في زكاة ماليه الظاهر والباطن بين دفعها إلى الأمام أن تفريقها بنفسه، فإن أراد دفعها إلى الإمام كان بالخيار بين أن يسلمها إلى الإمام وهو أفضل أو إلى عامله وإن أراد تفريقها بنفسه كان بالخيار أن يتولاها بنفسه وهو أفضل أو بوكيله. فإن قيل: فما أفضل الأمرين؟ أن يدفع زكاة ماله إلى الإمام أو تفريقها بنفسه. قيل: إن كان ماله ظاهراً فدفع زكاته إلى الإمام أفضل لما فيه من إظهار الطاعة بأن يقتدي به الجماعة، وإن كان ماله باطناً فتفرده بإخراج زكاته أفضل من دفعها إلى الإمام لما قد استقر عليه فعل الأئمة الراشدين من إقرار أرباب الأموال على إخراجها، ولتكون مباشرة التأدية ما لزمه من حقها وليخص أقاربه وذوي رحمه بها. فإن قيل: فأي الأمرين أفضل في تفريق الزكاة؟ أن تخفى أو تبدى؟ قيل: إن كان الإمام هو المفرق لها فإبداؤها أفضل من إخفائها سواء كان زكاة مال ظاهر أو باطن، لأنه ثابت فيها فكان إظهار إخراجها أفضل له أن إخفائها وكتمها، وإن كان المفرق لها رب المال، فإن كانت زكاة مال ظاهر فالأفضل له إظهارها بالعدول أهل السهمان عن الإمام إليه، ليعلم الإمام أنه قد أخرج ما عليه، وإن كانت زكاة مال باطن، فالأفضل إخفاؤها إذا أخرجها من أن يجهز بها، لقوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] ولأن إخفاءه في حقه أبعد من الرياء وفي حق أهل السهمان أبعد من الاستحياء، والله أعلم. مسألة (¬1) قال الشافعي: "فإذا أخذت صدقة مسلم دعي له بالأجر والبركة كما قال تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] أي ادع لهم". ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 220).

قال في الحاوي: وهذا كما قال: لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] وفي قوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103] تأويلان: أحدهما: الاستغفار لهم، وهو قول ابن عباس. والثاني: أنه الدعاء لهم، وهو قول الأكثرين. وفي قوله تعالى: {إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ} [التوبة:103] ثلاثة تأويلات: أحدها: قربه لهم رواه الضحاك عن ابن عباس. والثاني: رحمة لهم، رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. والثالث: أمن لهم. ثم الدعاء ندب على الآخذ لها إن لم يسأل الدعاء وأوجبه داود، وإن سئل الدعاء، ففي وجوبه عليه وجهان: أحدهما: أنه واجب لرواية عبد الله بن أبي أوفى عن أبيه، قال: أتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصدقات قومي فقلت: يا رسول الله صل علي فقال: "اللهم صل على آل أبي أوفى" (¬1)، وليقع بذلك الفرق بين الجزية المأخوذة صغاراً بين الزكاة المأخوذة تطهيراً. والثاني: أنه مستحب غير واجب، لأن أجره على الله تعالى لا على الآخذ لها كغيرها من العبادات التي لا يلزم الدعاء لفاعلها. وقيل: إنه إن كان الإمام هو الآخذ لها لزمه الدعاء لما في دفعها إليه من إظهار طاعته، وإن كان الفقير وهو الآخذ لها لم يلزمه وقيل: بضده: إن الدعاء يلزم الفقير دون الإمام، لأن دفعها إلى الإمام متعين والى الفقير غير متعين، فأما ما يدعو به الآخذ فقد مضى في كتاب الزكاة. مسألة (¬2) قال الشافعي: "والصدقة هي الزكاة والأغلب على أفواه العامة أن للثمر عشراً والماشية صدقة وللورق زكاة وقد سمى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هذا كله صدقه". قال في الحاوي: وهذا صحيح قد كان الشافعي يرى في القديم: أن المأخوذ من الزرع والثمر يسمى عشراً، والمأخوذ من الماشية يسمى صدقة، والمأخوذ من الذهب والورق يسمى زكاة، ولا يجعل لاختلاف الأسماء تأثيراً في اختلاف الأحكام. وقال أبو حنيفة: هي مختلفة الأسماء على ما ذكرنا، واختلاف الأسماء يدل على اختلاف الأحكام، فخص المأخوذ من الزرع والثمر باسم العشر دون الصدقة والزكاة، وجعل حكمه مخالفاً لحكم الصدقة والزكاة من وجهين: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه مراراً. (¬2) أنظر الأم (3/ 220).

أحدهما: وجوب العشر في مال المكاتب والذمي، وإن لم تجب في مالهما وصدقة ولا زكاة. والثاني: جواز مصرف العشر في أهل الفيء، وإن لم تصرف فيهم صدقة ولا زكاة. وقال الشافعي في الجديد: الأسماء مشتركة والأحكام متساوية، وإن المأخوذ من الزرع والثمر يجوز أن يسمى صدقة وزكاة، أما تسميته بالصدقة فلقوله - صلى الله عليه وسلم -: فما دون خمسة، أوسق من التمر صدقة، وأما تسميته زكاة فلقوله - صلى الله عليه وسلم - في الكرم: "يخرص كما يخرص النخل ثم تؤدي زكاته زبيباً كما تؤدي زكاة النخل ثمراً" (¬1) وإذا ثبت أن الأسماء مشتركة ثبت أن الأحكام متساوية، ولأنه لما ثبت ذلك في مال المسلم، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس في المال حق سوى الزكاة" (¬2) ثبت أنه زكاة، ولأن كل ما كان طهرة للمسلم في ماله كان زكاة لماله كالزكاة. مسألة (¬3) قال الشافعي: "فما أخذ من مسلم من زكاة مال ناض أو ماشية أو زرع أو زكاة فطر أو خمس ركاز أو صدقة معدن أو غيره مما وجب عليه في ماله بكتاب أو منه أو إجماع عوام المسلمين فمعناه واحد وقسمه واحد وقسم الفيء خلاف هذا فالفيء ما أخذ من مشرك تقوية لأمل دين الله وله موضع غير هذا الموضع". قال في الحاوي: وهذا كما قال كلما وجب في مال المسلم من حق، إما بحلول الحول كالمواشي وزكاة الذهب والورق أو بتكامل المنفعة كالزروع والثمار أو الاستفادة كالمعادن والركاز أو عن رقبة كزكاة الفطر، فمصرف جميعه واحد في السهمان الموضوعة في الزكوات والصدقات بقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] الآية إلى أنه ما تجب زكاته بالحول إذا حال عليه في يده أحوال زكاة في كل حول كالمواشي والذهب والورق، وما يجب زكاته بتكامل المنفعة كالزروع والثمار، إذا بقي في يده أحوال لم يزكه إلا الزكاة الأولى وما استفيد من معادن الذهب والورق أو ركاز زكى في كل حول؛ لأنهما ذهبه وورق يراعى فيها بعد الاستفادة حلول الحول، وخولف الشافعي في هذه الجملة في أربعة أشياء: أحدها: الزروع والثمار، فجعل أبو حنيفة مصرف عشرها مصرف الفيء دون الزكاة، وقد مضى الكلام معه في كتاب الزكاة. والثاني: زكاة الفطر جعل مالك مصرفها في المساكين خاصة، وقال أبو سعيد الاصطخري: إن فرقت في ثلاثة فقراء أجزأت. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في كتاب "الزكاة". (¬2) تقدم تخريجه في كتاب "الزكاة". (¬3) انظر الأم (3/ 220).

والثالث: المعادن. والرابع: الركاز، جعل أبو حنيفة مصرفها الفيء استدلالاً بثلاثة أشياء: أحدهما: أن المستحق فيها الخمس كالفيء والغنيمة مباينة لمقادير الزكوات كلها، فانصرف مصرف الفيء لا مصرف الزكاة. والثاني: أن الحق فيها معجل وفي الزكاة مؤجل فلو جريا مجرى الزكاة المأخوذة من المسلمين لتأجلت ولما تعجلت المأخوذة من المشركين. والثالث: إذا اعتبر بالركاز حال الدافن أنه كافر، وقد ملك عنه كالفيء والغنيمة. ودليلنا، قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وليس في المال حق سوى الزكاة" ولأنه حق يجب في مال مسلم فلم يجز أن يكون فيئاً كالزكاة، ولأن أربعة أخماسه لما خرجت عن حكم الفيء خرج خمسه عن حكم الفيء. وتحريره أن ما لم يجز على المستبقى منه حكم الفرع لم يجز على المأخوذ منه حكم الفيء كسائر أموال المسلمين، ولأن حق المعدن والركاز لما اختص ببعض أموال دون بعض كالزكاة كان زكاة ولم يجز أن يكون فيئاً لاستواء حكمه في جميع الأموال. وأما الجواب عن استدلاله باستحقاق الخمس فيه فهو أن مقادير الزكوات مختلفة فتارة يكون ربع العشر وتارة نصف العشر وتارة العشر، ولا يخرج عن أن يكون جميع ذلك زكاة فكذلك تكون تارة الخمس، ولا يخرج عن أن يكون زكاة ويكون اختلاف المقادير بحسب اختلاف المؤمن ألا ترى أن ما سقي بناضح أو رشاء لما كثرت مؤنته قلت زكاته، فكانت نصف العشر وما بسيح أو سماء لما قلت مؤونته كثرت زكاته، فكانت العشر، ولما لم يكن للركاز مؤنته أضعفت زكاته فكانت الخمس. وأما الجواب عن استدلاله بتعجيل الحق فيه فهو لأنه تعجلت الفائدة به فتعجل الحق، وما تأجلت الفائدة به تأجل الحق فيه، ألا ترى أن ما لم تكمل فائدته إلا بالحول ووعي فيه الحول كالمواشي، وما كملت فائدته قبل الحول لم يراعى فيه الحول كالزروع والثمار. وأما الجواب عن اعتباره بحال الدافن دون الواجد فهو أن اعتباره بالواجد دون الدافن أولى من وجهين: أحدهما: أنه اعتبر بحال الدافن لما جاز أن يسلك لجواز أن يكون لمن لا يملك عليه ما له من مسلم أو من هو على دين موسى وعيسى قبل التبديل أو لمن لم تبلغه الدعوة، وكل هؤلاء لا يجوز أن تملك عليهم أموالهم فلم يجز أن يعتبر به الدافن. والثاني: أنه لو اعتبر به الدافن لما جاز أن يملك الواحد أربعة أخماسه، ولكان إما ملكا للغانمين أو لأهل الفيء فيثبت أن اعتباره بحال الواحد أولى من اعتباره بحال الدافن والله أعلم.

مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: "وقسم الصدقات كما قال الله تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60] ثم أكدها وشددها فقال فريضة من الله" الآية وهي سهمان ثمانية لا يصرف منها سهم ولا شيء منه عن أهله ما كان من أهله أحد يستحقه". قال في الحاوي: وهذا كما قال قم الصدقات يستحق في الأصناف الثمانية، ولا يجوز الاقتصار على بعضها مع وجود جميعها وقال أبو حنيفة يجوز اقتصار أي الأصناف شاء، وإن دفع جميع الزكاة إلى نفس واحدة من صنف واحد أجزأه وقال مالك: يدفعها إلى أمس الأصناف حاجة. وقال إبراهيم النخعي: إن كثرت الزكاة دفعها إلى الأصناف كلها، كما قال الشافعي وإن قلت دفعها إلى أي الأصناف ساء كما قال أبو حنيفة. واستدلوا بقوله تعالى: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] فجعل تخصيص الفقراء بها خيراً مشكوراً فدل على جوازه، وصرف ذلك في حقه وبقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)} [المعارج:24 - 25] فدل على جواز تفردهم به، وبما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم" (¬2) وبما روي من أن سلمة بن صخر الأنصاري ظاهر من امرأته فذكر للنبي - صلى الله عليه وسلم - عجزه عن الكفارة، فقال له: "انطلق إلي بصدقة بني زريق فلتدفع إليك فأطعم منها وسقاً من تمر ستين مسكيناً، وكل أنت وعيالك بقيتها" (¬3) فدل نص هذا الخبر على جواز دفعها إلى نفس واحدة عن صنف واحد. قالوا: ولأن الله تعالى خص الأصناف الثمانية بالذكر كما خص الصنف الواحد بالذكر، فلما لم يلزم استيفاء جميع الصنف فجاز الاقتصار على بعضه لم يلزم استيفاء جميع الأصناف، وجاز الاقتصار على بعضها ويتحرر منه قياسان: أحدهما: أنها صدقة يجوز أن يخص بها بعض الفقراء فجاز أن يخص بها بعض الأصناف كالكفارات. والثاني: أن من جاز الاقتصار عليه في الكفارات جاز الاقتصار عليه في الزكواة قياساً على بعض الفقراء. قالوا: ولأن لو استحق كل صنف منهم سهماً يخصه لما جاز فيمن فقد أن يرد سهمه على من وجد، وفي إجماعهم على جواز ذلك مع فقد بعضهم دليل على ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 221). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) أخرجه أحمد (4/ 7) وأبو داود (2213)، وابن ماجه (2062)، والحاكم (2/ 203) 0 والبيهقي في "الكبرى" (15281).

جوازه مع وجود بعضهم. قالوا: ولأن المقصود بها مد الخلة التي لا يمكن أن يعمر بها الجميع فلا فرق بين أن تكون من صنف واحد ومن جميع الأصناف، كما لا فرق بين أن تكون من بعض الصنف أو من جميعه. ودليلنا، قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] الآية والدليل فيها من وجهين: أحدهما: أنه أضاف الصدقة إلى الأصناف الثمانية يلام التمليك وعطف بعضهم على بعض بواو التشريك، وكلما يصح أن يملك إذا أضيف إلى من يصح أن يملك اقتضت الإضافة ثبوت الملك كما لو قال: هذه الدار لزيد وعمرو. فإن قيل: فالإضافة إلى الأشخاص توجب التمليك لتعيين المالك، والإضافة إلى الأوصاف لا توجب التمليك للجهالة بالمالك ألا تراه لو قال هذه الدار لزيد صح إقراره، ولو قال هذه الدار لإنسان لم يصح إقراره. قيل: قد يصح تمليك الأصناف كما يصح تمليك الأعيان ألا تراه لو قال: قد أوصيت بثلث مالي للفقراء والعازمين صح أن يملكوه كما يصح إذا أوصى به لزيد وعمرو وبكر أن يملكوه. والدليل الثاني: من الآية أن للإضافة وجهين: تشريك وتخيير ولكل واحد منهما صيغة، وصيغة التشريك الواو كقوله أعط هذا المال لزيد وعمرو، فيقتضي اشتراكهما فيه ولا يقتضي تفرد أحدهما به، وصيغة التخيير تكون ب"أو" كقوله: أعط هذا المال لزيد أو عمرو فيكون مخيراً في إعطائه لأحدهما، ولا يقتضي أن يشرك بينهما، فلما كانت الإضافة في آية الصدقات على صيغة التشريك دون التخيير وجب حملها على ما اقتضته. فإن قيل: فيحمل ملك الأصناف الثمانية لجميع الصدقات لا لكل صدقة منها فتدفع صدقة زيد إلى الفقراء وصدقة عمرو إلى المساكين وصدقة بكر إلى الغارمين. قيل: هذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن أبا حنيفة لا يعتبر هذا في الصدقات. والثاني: أنه قد يجوز أن يتفق جميع أهل الصدقات على صرفها كلها في أحد الأصناف فلا يوجد ما ذكره على أن حقيقة هذه الإضافة تقتضي أن تكون كل صدقة لمن سمى ألا ترى أن رجلاً لو قال: هذه الدور الثلاثة لزيد وعمرو وبكر كانت كل دار بينهم أثلاثاً، ولم يجعل كل دار من الثلاثة لكل واحد من الثلاثة ثم يدل على ذلك من طريق السنة ما روى زياد بن الحارث الصدائي، قال: كنت عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فأتاه رجل فقال: أعطني من الصدقات فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن الله تعالى لم يرض في قسمه الصدقات بنبي مرسل ولا ملك مقرب فتولى قسمتها بنفسه وجزأها ثمانية أجزاء فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك حقك".

فأخبر أنها مقسومة ثمانية أجزاء، وأن الواحد لا يعطى منها إلا قدر حقه، وهذا نص لا يحتمل خلافه ولأنه مال أضيف شرعاً إلى أصناف فلم يجز أن يختص به بعض تلك الأصناف كالخمس ولأنه مال لو جعل لصنف واحد لم يعده فوجب إذا جعل الأصناف أن يقتسموه كالوصايا ولأن الفقراء أحد أصناف الصدقات فلم يجز أن يختصوا بها كالعاملين. فأما الجواب عن استدلالهم بقوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:271] فهو أن المقصود بالآية تفضيل الإخفاء على الإبداء لإتيان المصرف، وإنما قصد بيان المصرف، في قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ ِ} [التوبة:60] الآية فوجب أن يقضي بهذه الآية على تلك أو تحمل هذه على الفرض وتلك على التطوع. وكذلك الجواب عن قوله تعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)} [الذاريات:19] على أنه جعل للسائل والمحروم في ذلك حقاً ولا يتمنع أن يكون لغيرهم فيه حق. وأما الجواب عن قوليه - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم" فمن وجهين: أحدهما: أنه متروك الظاهر لأن أبا حنيفة وإن جوز دفعها إلى الفقراء فليس يمنع من صرفها في غيرهم من الأصناف فيكون معنى قوله في "فقرائكم" أي في ذوي الحاجة منكم وجميع أهل الأصناف من ذوي الحاجات وإن اختلفت حاجاتهم. والثاني: المقصود بالخبر عود الصدقات علينا وأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يستبد بشي، منها دوننا فحمل الخبر على مقصوده كالذي رواه بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في سائمة الإبل: "في كل أربعين ابنة لبون من أعطاها مؤتجراً فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمه من عزمات ربنا ليس لآل محمد منها شيء" (¬1) فحمل هذا الخبر على المقصود به في أنه ليس لآل محمد فيها شيء، ولم يحمل على أخذ الشطر إن منع. وأما الجواب عن حديث سلمة بن صخر الأنصاري. فمن وجهين: أحدهما: أنه يحتمل أن يكون صدقة بني زريق كانت وقفاً لا زكاة فلا يكون فيها دليل. والثاني: أن معناه فليدفع إليك حقك منها، أو يكون: لم يبق منها إلا حق فيعتبر واحد فدفعه إليه. وأما الجواب عن استدلالهم لما جاز دفعها إلى بعض الصنف جاز دفعها إلى بعض الأصناف فهو أن دفعها إلى بعض الصنف تخصيص عموم فجوزناه ودفعها إلى بعض ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1975)، والنسائي (2444،2449)، والدارمي (1/ 386)، والحاكم (1/ 398)، وابن خزيمة (2266)، والبيهقي في "الكبرى" (7328)، وفي "معرفة السنن" (2254).

الأصناف نسخ نص فأبطلناه. وأما الجواب عن استدلالهم برد سهم من فقد من الأصناف على من وجد فهو باطل بميراث الزوجات الأربع الربع، ولو بقيت واحدة لكان لها فلم يصح الاستدلال. وأما الجواب عن استدلالهم بأن المقصود هو سد الخلة فمن وجهين: أحدهما: أن المقصود ببعضه سد الخلة في الفقراء والمساكين وبعضه معونة لفك رقاب المساكين والغارمين. والثاني: أن المقصود سد خلات الأصناف كلها لا بعضها فلم يسلم الدليل. فصل فإذا تقرر ما وصفنا من وجوب مصرفها في الأصناف كلهم لم يخل حال رب المال من أن يتول تفريقها بنفسه أو يدفعها إلى الأمام فإن فرقها بنفسه سقط منها سهم العاملين عليها لأنهم لا عمل لهم فيها وقسم على سبعة أصناف إن وجدوا فإن أخل ببعضهم ضمن سهمهم منها، وإن دفعها إلى الإمام أو ساعيه كانت يده لأهل السهمان بنيابته عنهم وولايته عليهم، وكان حصولها في يد الإمام أو ساعيه مسقطاً لفرضها عن رب المال ثم الإمام بالخيار بحسب ما يؤدي اجتهاده إليه في أن يفرق كل صدقة في جميع الأصناف ويكونوا ثمانية يدخل فيهم العاملين عليها إن عملوا فيها أو يدفع كل صدقة إلى صنف من الأصناف؛ لأن جميع الصدقات إذا دخلت بيده صارت كالصدقة الواحدة. مسألة (¬1) قال الشافعي: "ولا يخرج عن بدل وفيه أهله وقال - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ بن جبل رضي الله عنه حين بعثه: "فإن أجابوك فأعلمهم أن عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم". قال في الحاوي: وهذا كما قال زكاة الأموال يجب صرفها في بلد المال ولا يجوز نقلها عنه، فإن نقلت فقد أساء ناقلها وفي إجزائها قولان: أحدهما: يجزئه وهو قول أبي حنيفة ويكون عنده مسيئاً إلا أن تكون البلد الذي نقلها إليه أمس حاجة فلا يكون عنده مسيئاً. والثاني: لا يجزئه نقلها وعليه الإعادة، وبه قال مالك والثوري: فإذا قيل بالأول أنه يجزئ وهو قول أبي حنيفة فدليله قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] الآية فكان على عمومه، وروي أن قبيصة بن المخارق الهلالي وفد على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني تحملت بحمالة فأعني فقال: نؤدها ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 221).

عنك إذا قدمت لنا نعم الصدقة. فدل على أنه قد كانت تحمل إليه صدقات البلاد. وروي أن عدي بن حاتم حمل صدقة قومه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم إلى أبي بكر من بعده. وروي أن معاذ بن جبل قال لأهل اليمن ائتوني بخميس أو لبيس آخذه منكم مكان الذرة والشعير، فإنه أهون عليكم وخير للمهاجرين بالمدينة (¬1) فدل على أنه قد كان ينقل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - زكاة اليمين إلى المدينة، ولأن ما لزم إخراجه للطهرة لم يختص ببلده كالكفارة ولأنه لما جاز فعل الصلاة في غير بلد الوجوب جاز نقل الزكاة إلى غير بلد الوجوب. إذا قيل بالقول الثاني أن ذلك لا يجزئ وهو القول الأصح، فدليله قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ حين بعثه إلى اليمن: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله، فإن أجابوك فأعلمهم أن في أموالهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم" (¬2). فجعل وجوب أخذها من أغنياء اليمن موجباً لردها على فقراء اليمن. فإن قيل: فلا يمنع ذلك من نقلها عن بلد من بلاد اليمن إلى غيرها من بلاد اليمن، وإن دل على المنع من نقلها إلى غير اليمن. قيل: لما جعل محل الوجوب محل التفرقة اقتضى أن يتميز فيها بلاد اليمن كما يتميز بها جميع اليمن على أن من جوز نقلها سوى في الجواز بين الإقليم الواحد والأقاليم، ومن منع من نقلها سوى في المنع بين الإقليم الواحد والأقاليم، وقد روي عن معاذ أنه قال: أيما رجل انتقل من مخلاف عشيرته إلى غير مخلاف عشيرته (¬3) فجعله النقلة عن المكان بعد وجوب الزكاة فيه يمتنع من نقلها عنه، وذلك صار عنه بالأمر الذي تقدم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصار كالمنقول عنه نصاً، ولأن حقوق الله تعالى ضربان: أحدهما: على الأبدان. والثاني: في الأموال. فلما كان في حقوق الأبدان ما يختص بمكان دون مكان، وهو الطواف والسعي والوقوف بعرفة وجب أن يكون في حقوق الأموال ما يختص بمكان دون مكان، وهو الزكاة ولأن اختصاص الزكاة بالمكان كاختصاصهما بأهل السهمان، فلما لم يجز نقلها عن أهل السهمان لم يجز نقلها عن المكان وأما الأجوبة عن دلائل القول الأول فالآية قصدها بيان أهل السهمان دون المكان فلم يعدل بها عن مقصودها. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري معلقاً (3/ 365)، والبيهقي في "الكبرى" (7372). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) أخرجه سعيد بن منصور كما في "تلخيص الحبير" لابن حجر (1517).

وأما حديث قبيصة بن المخارق فمحمول على أحد وجهين: إما على ما في سواد المدينة من الصدقات أو على ما لم يوجد في بلد المال مستحق لها. وأما قول معاذ "ائتوني بخميس أو لبيىس"، فإنه محمول على مال الجزية، لأن المهاجرين بالمدينة من بني هاشم وبني المطلب يصرف إليهم الجزية ولا تصرفه إليهم الزكاة. وأما نقل عدي بن حاتم صداقات قومه ففيه أجوبة: أحدها: أنه يجوز أن يكون قومه حول المدينة وفي موادها فنقل زكاتهم إلى أهل المدينة. والثاني: أنه يجوز أن يكون نقلها ومستحقوها بالمدينة ليتولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قسمها فيهم. والثالث: أنه أظهر الطاعة بنقلها لاسيما وقد منع الناس الزكاة على عهد أبي بكر ثم يجوز أن يكون ردها إليه ليفرقها. على أنه قد روي عن أبي بكر أنه رد عليه صدقات قومه وأما الكفارة فالفرق بينهما وبين الزكاة في الجواز ما جعلوه فرقاً بينهما في الكراهة لأنهم كرهوا نقل الزكاة ولم يكرهوا نقل الكفارة. وكذلك الجواب عن الجمع بين الصلاة والزكاة أن الفرق بينهما في الكراهة فرق بينهما في الجواز على أن الصلاة لا ينتفع أهل البلد بإقامتها فيهم، وينتفعوا أهل البلد بتفريق الزكاة فيهم فجاز أن يكون لهم في فريق الزكاة حق، وإن لم يكن لهم في إقامة الصلاة حق. فصل فإذا تقرر اختصاص الزكاة بمكانها ووجوب تفريقها في ناحيتها فلا يخلو حال الزكاة من أن تكون زكاة مال أو زكاة فطر، فإن كانت زكاة مال فالمراعى فيها مكان المال لا مكان المالك فلو كان في ناحية وماله في أخرى كانت ناحية المال ومكانه أحق بتفريق زكاته فيها من ناحية المالك ثم في ناحية المال التي هي أحق بتفريق زكاته فيها وجهان لأصحابنا: أحدهما: أنهما من المال لمسافة أقل من يوم وليلة؛ لأنها مسافة الإقامة التي لا يقصر في مثلها الصلاة فكانت حد المستحق الزكاة. والوجه الثاني: أنها البلد الذي فيه المال، وما أحاص به ببنائه دون ما خرج عنه، وإن كانت زكاة زرع وثمر في صحراء لا بنيان فيها ففي أقرب البلاد والبنيان إليها، وسواء كان البلد صغيراً أو كبيراً يكون جميع أهل البلاد مستحقين لها، وإن كانت زكاة مال ناض، فإن كان البلد صغيراً فجميع أهله فيه سواء، وإن كان البلد واسعاً كالبصرة وبغداد

كان جبران المال من أهل البلد أخص بها من غيرهم، وهل يكون ذلك هن طريق الأولى أو من طريق الاستحقاق على وجهين: أحدهما: أنهم أولى بهما لأجل الجوار، وإن لم يكونوا أحق فإن فرقت في غيرهم من أهل البلد أجزاء وإن عدل عن الأولى. والثاني: أنهم أحق بها وإن فرقت في غيرهم من أهل البلد لم يجزه إذا قيل إن نقل الزكاة، ولا يجزئ لقوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء:36] يعني الجار ذي القربى الجار القريب في نسبه، والجار الجنب البعيد في نسبه، فاعتبر في القريب والبعيد الجوار ثم قال: "والصاحب بالجنب" وفيه ثلاثة تأويلات: أحدهما: أنه الرفيق في السفر وهو قول ابن عباس، ومجاهد، وقتادة. والثاني: أنه الذي يلزمك ويصحبك رجاء نفعك وهو قول ابن زيد. والثالث: أنها الزوجة التي تكون إلى جنبك وهو قول ابن مسعود. هذا إذا كان رب المال هو المفرق لزكاته فأما إن فرقها الإمام أو عامله فجميع أهل البلد فيها سواء، لما في مراعاة الإمام لذلك مع الاجتماع الزكوات بيده في المشقة التي لا يقدر عليها ولا يمكنه حفظها فأما زكاة الفطر، فإن كان مال المزكي في بلد أخرجها منه، وإن كان ماله في غير بلده فغيها وجهان: أحدهما: أن يراعى فيه بلد المال لا بلد المزكي لتعلق وجوبها بالمال فكان بلد المال أحق أن يراعى كسائر الزكوات. والثاني: أن يراعى فيه بلد المزكي لأنها عنه لا عن ماله فكان بلده أن يراعى إخراجها فيه أولى من بلد ماله. مسألة (¬1) قال الشافعي: "ويرد حصة من لم يوجد من أهل السهمان على من وجد منهم". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن الزكاة مستحقة للأصناف الثمانية المنصوص عليهم في كتاب الله تعالى فإذا كانوا هم المستحقون لم يخل حالها من ثلاثة أقسام: إما أن يفرقها رب المال بنفسه أو يدفعها إلى الإمام أو يدفعها إلى عامل الإمام عليها، فإن فرقها رب المال بنفسه سقط منها سهم العاملين عليها لفقد عملهم فيها، ووجب قسمها على الأصناف السبعة على سبعة أسهم متساوية لا يفضل صنفاً على سهمه، وإن كانوا في أمس الحاجة ولا ينقص صنفاً عن سهمه وإن كانوا أقل حاجة، لأن الله تعالى تولى قسمتها بنفسه وقطع الاجتهاد فيها بتفضيل أو نقصان، فإن فضل صنفاً على غيره وكان التفضيل متطوعاً وضمن للمفضول قدر حصته من الفضل كما لو أسقط جميع ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 221).

سهمه صار لجميعه ضامناً. فأما سهم كل صنف فإن قدر على تفريقه في جميع الصنف كان أولى، وإن فرقه في بعض الصنف أجزأه إذا فرقه في ثلاثة منهم فصاعداً، ولا يجزئه إن يفرقه في أقل من ثلاثة إذا وجدوا لأنهم أقل الجمع المطلق، وله الخيار في الصنف الواحد بين التسوية بينهم والتفضيل، والأولى أن يكون بينهم على قدر حاجتهم فإن تساووا في الحاجة سوى بينهم في العطية، وإن كان لو سوي أجزأه وإن تفاضلوا في الحاجة فاضل بينهم في العطية، وإن كان لو سوى أجزأه فلو فرق سهم الصنف الواحد في أقل من ثلاثة ودفعه إلى اثنين فإن كان لعدم الثالث من ذلك الصنف أجزأه، وإن كان مع وجوده ضمن حصة الثالث، وفي قدرها وجهان: أحدهما: يضمن ثلث ذلك الهم اعتباراً بالتساوي فيه. والثاني: يضمن قدر الأجزاء وهو القليل الذي لو أعطاه ثالثاً أجزأه. فصل وإذا دفعها إلى الإمام سقط عنه فرضها بقبض الإمام؛ لأنه نائب عن أهل السهمان في فرضها فصارت يده كأيديهم ثم سهم العاملين عليها قد سقط منها لفقد عملهم، وليس للإمام أخذه لأن نظره لا يختص بالصدقات وإن تولاها فلم يستحق فيها سهماً، وإنما هو عام النظر ورزقه في مال الغير ثم هو بالخيار بحسب ما يؤديه اجتهاده إليه من ثلاثة أمور: إما أن يفرق كل صدقة في جميع الأصناف، وإما أن يجمع جميع الصدقات ويفرقها بالتسوية بين جميع الأصناف ثم يفاضل بين كل صنف أو يساوي، وإما أن يدفع كل صدقة إلى أحد الأصناف فيراعى التسوية بينهم في جميع الصدقات، فإن أخل بصنف من الأصناف فلم يعطهم شيئاً من جميع الصدقات ضمن في أموال الصدقات لا في مال نفسه قدر سهمهم من تلك الصدقات وخالف في ذلك رب المال الذي لا يضمنه في مال نفسه. فصل وإن دفعها إلى العامل أجزأه وكان سهم العامل فيها ثابتاً فإن فوض الإمام إليه جبايتها وتفريقها أخذ سهم الجباية والتفريق وفعل فيها مثل ما فعله الإمام إلا أن خياره بين أمرين بين أن يفرق كل صدقة في جميع الأصناف، وبين أن يجمع جميع الصدقات ويصرفها في جميع الأصناف، وليس له أن يخص بكل صدقة صنفاً كالإمام لأن نظر العامل خاص لا يستقر إلا على ما جباه وربما صرف فلم يقض باقي الأصناف، وإن اقتصر الإمام بالعامل على جباية الصدقات دون تفريقها أخذ العامل منها قدر حقه من الجباية دون التفرقة، ولم يكن للعامل أن يفرقها، فإن فرقها ضمن ما فرقه في مال نفسه، وكان الإمام بالخيار بين أو يتولى تفريقها بنفسه فيسقط منها سهم التفرقة، وبين أن يولى من عمال الصدقات من يفرقها فيأخذ منها سهم التفرقة.

فصل فأما إذا عدم بعض الأصناف فهذا على ضربين: أحدهما: أن يعدموا في جميع البلاد فيسقط بعدمهم ويقسم الصدقة على من وجد منهم فإن كان الباقون من الأصناف خمسة قسمت الزكاة على خمسة أسهم لكل صنف منهم سهم، وإن بقي ثلاثة أصناف قسمت على ثلاثة أسهم لكل صنف سهم. فإن قيل: أفليس لو وصى بثلثه لثلاثة فقد أحدهما لم يرد سهمه على من وجد فهلا كانت سهام الأصناف هكذا. قيل: لأن ليس للصدقات مصرف غير الأصناف فلم يجز أن يرد سهم المفقود عليهم والضرب على غيرهم، ولمال الميت مصرف غير أهل الوصايا فلم يرد سهم المفقود عليهم. والثاني: أن يعدموا في بلد المال ويوجدوا في غير البلاد، فينقسم مال من عدم منهم من بلد المال ثلاثة أقسام: قسم ينقل سهمهم، وقسم لا ينقل سهمهم، وقسم اختلف أصحابنا في نقل سهمهم، فأما من ينقل سهمهم إلى البلاد التي يوجدون فيها فهم الغزاة ينقل سهم سبيل الله المصروف إليهم من بلد المال الذي فقدوا فيه إلى البلاد التي يوجدون فيها من الثغور وغيرها؛ لأنهم يكثرون في الثغور ويقلون في غيرها فلم يكتفوا بسهمهم من صدقات بلادهم، وأما من لا ينقل سهمهم فهم العاملون عليها؛ لأنهم إذا قعدوا قام أرباب الأموال مقامهم فيها؛ ولأن سهمهم يسقط مع الحضور إذا لم يعملوا فكيف بهم إذا قهدوا، وأما من اختلف من أصحابنا في نقل سهمهم فهم باقي الأصناف، وفيهم وجهان: أحدهما: لا ينقل اعتباراً بتغليب المكان على الصنف ويقسم على من وجد دون من فقد كما يعتبر عدم الماء في جواز التيمم لمكان عدمه، ويعتبر حال ابن السبيل بمكان حاجته. والثاني: ينقل اعتباراً بتغليب الصنف على المكان فينقل إلى أقرب البلاد التي توجد فيها من فقد من الأصناف، لأن استحقاق الأصناف لها ثابت بالنص واختصاص المكان بها ثابت بالاجتهاد، فإذا تعارض كان تغليب ما ثبت بالنص أولى من تغليب ما ثبت بالاجتهاد والله أعلم بالصواب. مسألة (¬1) قال الشافعي: "ويجمع أهل السهمان أنهم أهل حاجة إلى مالهم منها وأسباب حاجتهم مختلفة وكذلك أسباب استحقاقهم معان مختلفة" قال في الحاوي: وهذا كما قال مال الصدقات لا ينصرف إلا في ذوي الحاجات إلا أنها ضربان: ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 221).

أحدهما: من يدفع إليه لحاجته إليها وهم الفقراء والمساكين والمكاتبون وأحد صنفي الغارمين الذي أذنوا في مصالح أنفسهم وبنو السبيل. والثاني: من تدفع إليه لحاجتنا إليه وهو العاملون عليها والمؤلفة قلوبهم، وأحد صنفي الغارمين وهم الذين أذنوا في صلاح ذات البين، والغزاة، فمن دفعت إليه لحاجته إليها لم يستحقها إلا مع الفقر ولم يجز أن يدفع إليه من الغنى. ومن دفعت إليه لحاجتنا إليه جاز أن تدفع إليه من الغنى والفقر ثم ينقسم جميعهم ثلاثة أقسام: فمنهم من يأخذها ويستحقها بسبب متقدم ومنهم من يأخذها ويستحقها بسبب مستحدث، فأما الذي يأخذها ويستحقها بسبب متقدم فهم ثلاثة أصناف: الفقراء والمساكين والعاملون عليها؛ لأن السبب الذي به أخذوا وبه استحقوا هو الفقر والمسكنة والعمل، وذلك متقدم على الأخذ فإذا قبضوها فقد استقر ملكهم عليها فلا يجوز أن تسترجع منهم وإن زال سبب استحقاقهم. وأما الذي يأخذها ويستحقها بسبب مستحدث فهو صنفان: بنو السبيل، والغزاة، فيأخذ ابن السبيل ليبتدئ سفره، ويأخذ الغازي ليبتدئ جهاده فإذا أخذوا سهمهم منها لم يستقر ملكهم عليه إلا أن يسافر ابن السبيل ويجاهد الغازي فيستقر حينئذ ملكهم على ما أخذوا، فإن لم يسافر ابن السبيل ولم يجاهد الغازي استرجع منهما ما أخذاه لفقد السبب الذي يعتبر به الأخذ والاستحقاق، وأما الذي يأخذها بسبب متقدم واستحقاق مستحدث فهم ثلاثة أصناف المؤلفة قلوبهم يدفع إليهم لتغير نياتهم المتقدمة ويستحقونها بجنس نياتهم المستحدثة والمكاتبون يأخذونها للباقي عليهم من أموال كتابتهم ويستحقونها بما يستحدثون من قضاء ديونهم وزوال غرمهم، فهؤلاء إن حدث منهم بعد أخذها ما به يستقر الاستحقاق من حسن نيات المؤلفة وعتق المكاتبين بالأداء وقضاء ديون الغارمين بالقضاء فلا يجوز الرجوع عليهم بشيء منها لاستقرار الاستحقاق، والحادث بعد الأخذ بالسبب المتقدم وإن لم يحدث منهم بعد الأخذ ما يستقر به الاستحقاق، فلم يحسن به نيات المؤلفة قلوبهم، ولم يؤد المكاتبون ذلك في عتقهم ولا قضاه الغارمون في ديونهم فهذا ينظر، فإن كان سبب الأخذ باقياً وهو بقاء الكتابة على المكاتبين وبقاء الدين على الغارمين لم يسترجع ذلك منهم، لأنه يجوز أن يستأنف دفعها إليهم فلم يجز أن يسترجع المتقدم منهم وكذلك المؤلفة لأن ضعف نياتهم التي قصدوا له بتآلفهم باق يقتضي استئناف العطاء فلم يجز أن يعارض بالاسترجاع المنكر وإن كان سبب الأخذ قد زال مع بقاء الصدقة بأيديهم كعتق المكاتب تبرعاً أو بأداء من كسب وزال الغرم بإبراء أو بقضاء من كسبه استرجعت منهم؛ لأن سبب الاستحقاق لم يوجد. مسألة (¬1) قال الشافعي: "فإذا اجتمعوا فالفقراء الزمني الضعاف الذين لا حرفه لهم وأهل ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 222).

الحرفة الضعيفة الذين لا تقع فيهم موقعاً من حاجتهم ولا يسألون الناس. وقال: وفي الجديد زمناً كان أولى أو غير زمن سائلاً أو متعففاً. قال الشافعي: والمساكين السؤال ومن لا يسأل ممن له حرفه لا تقع منه موقعاً ولا تغنيه ولا عياله. وقال في الجديد: سائلاً كان أو غير سائل. قال المزني: أشبه بقوله ما قاله في الجديد؛ لأنه قال: لأن أهل هذين السهمين يستحقونهما بمعنى العدم وقد يكون السائل بين من يقل معطيهم وصالح متعفف بين من يبدونه بعطيتهم". قال في الحاوي: اعلم أن الفقر والمسكنة اسمان يشتركان من وجه ويفترقان من وجه، فأما الوجه الذي يشتركان فيه فهو الضعف، وأن كل واحد منهما إذا أفرد بالذكر شاركه الآخر فيه حتى لو وصى بثلث ماله الفقراء شاركهم المساكين ولو وصى به للمساكين شاركهم الفقراء. وأما الوجه الذي يفترقان فيه فهو أنه إذا جمع بينهما تميزا ثم اختلف في تميزهما عند الاجتماع هل يكون التميز بينهما باختلافهما في الحاجة أو باختلافهما في الصفة فذهبت طائفة إلى تميزها بالاختلاف في الصفة مع تساويهما في الضعف والحاجة ومن قال بهذا اختلفوا في الصفة التي بها وقع التمييز بينهما على أربعة أقاويل: أحدها: أن الفقير هو المحتاج المتعفف عن السؤال والمسكين هو المحتاج السائل وهذا قول ابن عباس والحسن والزهري. والثاني: أن الفقير هو ذو الزمانة والمسكين هو الصحيح الجسم من أهل الحاجة، وهذا قول قتادة. والثالث: أن الفقراء هم المهاجرون والمساكين غير المهاجرين، وهذا قول الضحاك بن مزاحم وإبراهيم النخعي. والرابع: أن الفقراء من المسلمين والمساكين من أهل الكتاب، وهذا قول عكرمة. وذهب الشافعي وأبو حنيفة وجمهور الفقهاء إلى أن تميزها بالاختلاف في الضعف والحاجة وإن تساويا في الصفة وأن أحدهما أسوأ حالاً من الآخر، فبذلك تميز عنه ثم اختلفوا في أيهما أسوأ حالاً الفقير أو المسكين، فذهب الشافعي إلى أن الفقير هو أسوأهما حالاً وهو الذي لا شي، له أو له يسير تافه لا يؤثر في قدر حاجته. والمسكين: هو الذي له ما يؤثر في حاجته، ويقتصر على كفايته، فإذا كانت كفاية الواحد عشرة فإن وجدها فليس بمسكين ولا فقير، وإن عدمها أو وجد أقلها كان فقيراً، وإن وجد أكثرها كان مسكيناً وهذا في أهل اللغة قول الأصمعي وقال أبو حنيفة المسكين أسوأ حالا من الفقير فالمسكين عنده على صفة الفقير عندنا، والفقير عنده على صفة المسكين عندنا، وهو في أهل اللغة قول الفراء وثعلب واختاره أبو إسحاق المروزي من أصحابنا استدلالاً بقوله تعالى: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (16)} [البلد:16] أي ملصق بالتراب لضره وعربيه وليس أحد أسوأ حالاً ممن هذه صفته، فدل على أن المسكين أسوأ حالاً

من الفقير، وبقوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ} [البقرة:177] والسائل أحسن حالاً فدل على أن المسكين أسوأ حالاً، ولأن الله تعالى خص بمصرف أموال الطهرة من ذوي الحاجات من القرب والكفارات على المساكين دون الفقراء، فدل تخصيصهم بالذكر على اختصاصهم بسوء الحال. قالوا: وقد حكي عن يونس قال: قلت لأعرابي أمسكين أنت، فقال: لا والحمد لله بل فقير، فدل على أن الفقير أحسن حالاً من المسكين؛ لأن الحمد يكون على أحسن الحالين ويدل على هذا أيضا قول (¬1): أما الفقير الذي كانت حلوبته وفقاً العيال فلم يترك له سيد فسماه فقيراً وله حلوبة وهي وفق عياله. ودليلنا قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] فبدأ بذوي الحاجات بالفقراء والبداية تكون بالأهم فاقتضى أن يكون الفقر أسوأ حالاً، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر:15] ولم يقل المساكين فدل على أن الفقير أمس حاجة وأسوأ حالاً من المسكين، وقال تعالى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الكهف:79] فسماهم مساكين ولهم سفينة، فدل على أن المسكين أحسن حالاً. وروى أبو زهرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين المتعفف، اقرؤوا إن شئتم: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً} [البقرة:273] (¬2) فكان هذا نصاً في أن المسكين أحسن حالاً. وروى أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "كاد الفقر أن يكون كفراً، وكاد الحسد أن يغلب القدر" (¬3) فكان هذا نصاً على أن الفقير أسوأ حالاً وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين" (¬4) فدل على أن المسكين أحسن حالاً. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه كان يتعوذ من الفقر اللازب يعني اللازم فدل على أن الفقير أسوأ حالاً. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ليس المسكين الذي لا مال له، ¬

_ (¬1) البيت من البسيط، وهو للراعي النميري في ديوانه (64)، ولسان العرب (5/ 60 - فقر، 383 - وفق 13/ 215 - سكن)، ومجمل اللغة (4/ 159)، وتهذيب اللغة (9/ 114، 342)، وإصلاح المنطق (ص 326)، وأدب الكاتب (34)، والفاخر (ص 119)، وأساس البلاغة (ص 505 - وفق)، وجمهرة اللغة (ص 856)، والمخصص (12/ 285). (¬2) أخرجه البخاري (2/ 153)، ومسلم (1039/ 102)، وأبو داود (1631)، والنسائي (2572)، وأحمد (2/ 260). (¬3) أخرجه العقيلي (4/ 206) في الضعفاء، وأبو نعيم في "الحلية" (3/ 53). (¬4) تقدم تخريجه.

ولكن المسكين الأخلق الكسب قال ابن علية: الأخلق الكسب: المخارف، ولأن في اشتقاق الفقر والمسكنة دليلاً على أن الفقر أسوأ حالاً من المسكنة. أما الفقر فقد اختلف في اشتقاقه فقال قوم: هو مشتق من انكسار الفقار، وهو الظهر الذي لا تبقى معه قدرة. وقال آخرون: هو مشتق من الفاقة، ومن قوله تعالى: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)} [القيامة:25] وفيها ثلاثة تأويلات: أحدهما: أنها الفاقرة الداهية العظمى، وهو قول مجاهد. والثاني: أنها الهلاك المستأصل، وهو قول السدي. والثالث: أن السر المحلى، وهو قول قتادة، وعلى أي التأويلات كان فهو للمبالغة في سوء الحال. وأما المسكنة فقد اختلف في اشتقاقها فقال قوم: هي مشتقة من التمسكن وهو الخضوع، وقال آخرون: هي مشتقة من السكون، لأن المسكين ما يكن إليه فدل على أنه أحسن حالاً، ولأن شواهد أشعار العرب تدل على ذلك، أنشد ابن الأعرابي لبعض العرب (¬1): هل لك في أجر عظيم تؤجره تغيث مسكيناً قليلاً عسكره عشر شياه سمعه وبصره قد حدث النفس بمصر يحضره فسماه مسكيناً وله عشر شياه، فدل على أن للمسكين مالاً وأنه أحسن حالاً وأما الجواب عن قوله تعالى: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ (16)} [البلد:16] فهو أن المراد بالمسكين ها هنا الفقير لأنه لم يطلق ذكره، ولكن قيده بصفات الفقراء، وقد يطلق اسم المسكين على الفقير كما ذكرنا، وإنما كلامنا في المسكين الذي قد أطلقت صفته. وأما الجواب عن الآية الأخرى فهو أن السائل لا يكون أحسن حالاً من المتعفف: لأنه قد يسأل فيحرم ويتعفف فيعطى. وأما الجواب عن قول الأعرابي: لا والحمد لله أنا فقير، فهو إذا أبان بذلك منزلته في الشكر مع شدة الضر. وأما الشعر فلا دليل فيه: لأنه بعد أخذ الحلوبة سماه فقيراً حين لم يترك له سبد، فإذا ثبت أن الفقير أسوأ حالاً من المسكين، فقد يكون الفقير سائلاً وغير سائل وقد يكون المسكين سائلاً وغير سائل، وهو معنى قول الشافعي في الجديد والقديم من التسوية فظن المزني أن قوله قد اختلف فيه فجعل الجديد أولى وليس كما ظن والله أعلم. ¬

_ (¬1) الرجز بلا نسبة في لسان العرب (4/ 568 - عسكر،315 - سكن)، وتهذيب اللغة (3/ 303)، وتاج العروس (13/ 39 - عسكر).

مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: "فإن كان رجل جلد يعلم الوالي أنه صحيح مكتسب يغني عياله أو لا عيال له يغني نفسه بكسبه لم يعطه". قال في الحاوي: وهذا كما قال المكتسب بصنعته قدر كفايته وكفاية عياله لا يكون فقيراً وتحرم عليه الزكاة، وإن لم يكن له مال وقال أبو حنيفة: لا تحرم عليه الزكاة وإن كان مكتسباً يملك نصاباً تجب فيه الزكاة أو ما يبلغ قيمته نصاباً فجعل الفقر معتبراً بعدم النصاب وإن كان قادراً على كفايته بنفسه وجوز له أخذ الزكاة، وجعل الغناء معتبراً بملك النصاب وإن عجز عن كفايته وحظر عليه أخذ الزكاة استدلالاً لقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] والفقير هو العادم، وهذا عادم وإن كان مكتسباً، وبما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "أمرت أن أخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم" (¬2) فميز الأغنياء بأخذ الصدقة منهم وميز الفقراء بدفع الصدقة إليهم، فوجب أن يكون من تؤخذ منه الصدقة غنياً وإن كان غير مكتسب، ومن تدفع إليه فقيراً، وإن كان مكتسباً. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من سألنا أعطيناه" (¬3) وقال: "أعطوا السائل ولو جاء على فرس" (¬4) وقد سئل المكتسب فوجب أن يعطى؛ ولأنه لا يملك نصاباً ولا قيمته فوجب أن يكون فقيراً تحل له الصدقة قياساً على غير المكتسب؛ ولأنه لما لم يكن المكتسب غنياً في وجوب الحج والتكفير بالعتق لم يكن غنياً في تحريم الزكاة؛ ولأنه لما حلت الزكاة من سهم الغارمين حلت له من سهم الفقراء والمساكين ودليلنا ما رواه الشافعي عن سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عبيد الله بن عدي أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألاه من الصدقات فصعد النظر فيهما وصوب وقال: "إن شئتما ولا حظ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب" (¬5) فجعل الكسب كالغني بالمال في تحريم الصدقات. وروى سالم بن أبي الجعد عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن الصدقة لا تحل لغني ولا لذي مرة قوي" (¬6) فحرم الصدقة بالقدرة على الكسب كما حرمها بالغنى؛ ولأنه مستديم القدرة على كفايته فوجب أن تحرم عليه الزكاة والمسكنة كالقادر على ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 222). (¬2) تقدم تخريجه. (¬3) أخرجه ابن عساكر كما في تهذيب تاريخ دمشق (4/ 421). (¬4) أخرجه مالك في "الموطأ" (996)، وعبد الرزاق (20017)، وابن عدي في "الكامل" (4/ 158). (¬5) أخرجه أحمد (4/ 224 - 5/ 362)، وأبو داود (1633)، والنسائي (2598)، والدارقطني (2/ 119). (¬6) أخرجه أبو داود (1634)، والترمذي (652) والنسائي (2597)، وابن ماجه (1839)، وأحمد (2/ 377، 389)، وابن حبان (3279)، والحاكم (1/ 407).

نصاب أو كالمشتغل لوقف؛ ولأن من حرمت عليه المسألة حرمت عليه الصدقة كالغني، ولأنه لما كان الاكتساب كالغنى في سقوط نفقته عن والديه ومولوديه ووجوبها عليه لوالديه ومولوديه كان كالغني في تحريم الصدقات. فأما الجواب عن الآية فهو أن الفقر ليس العدم وإنما هو الحاجة، والمكتسب غير محتاج وأما الجواب عن قوله: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم" فهو أنه قد يكون في الناس من لا تؤخذ منه ولا تدفع إليه فهو مالك ما لا يزكى فكذلك المكتسب فجاز أن يكون منهم من تؤخذ منه فتدفع إليه وهو مالك ما يزكى إذا كان غير مكتسب. وأما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من سألنا أعطيناه" فهو أن معناه من أظهر لنا الفقر قبلنا منه، لأن الأصل في الناس العدم. وأما قوله: "أعطوا السائل ولو جاء على فرس"، فهو دليلنا لأن أبا حنيفة يمنعه إذا كان ثمن فرسه نصاباً ونحن نعطيه إذا كان محتاجاً. وأما قياسه على غير المكتسب فالمعنى فيه الحاجة والمكتسب غير محتاج. وأما قوله: "لما لم يكن الاكتساب كالمال في وجوب الحج والتكفير بالعتق كذلك في تحريم الزكاة" فهو فاسد بنفقات الأقارب التي يجعل الاكتساب فيها كالمال، ثم وجوب الحج والتكفير بالعتق يتعلقان بوجود المال والمكتسب غير واجد، وتحريم الزكاة يتعلق بالكفاية والمكتسب مكتف وبالله التوفيق. مسألة (¬1) قال الشافعي: "فإن قال الجلد لست مكتسباً لما يغنيني ولا يغني عيالي ولا عيال وليس عند الوالي يقين ما قال فالقول قوله، واحتج بأن رجلين أتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - فسألاه من الصدقة فقال: "إن شئتما ولا حظ فيها لغني ولا لذي مكتسب" قال الشافعي: رأى عليه الصلاة والسلام صحة وجلداً يشبه الاكتساب فأعلمهما أنه لا يصلح لهما مع الاكتساب ولم يعلم أمكتسبان أو لا فقال: "إن شئتما" بعد أن أعلمتكما أن لا حظ فيها لغني ولا لمكتسب فعلت". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا تقرر فرق ما بين الفقير والمسكين بما ذكرنا فخص رجل ادعى فقراً مسكنة فللوالي على الصدقة ثلاثة أحوال: أحدها: أن يعلمه فقيراً فيدفع إليه لعلمه من سهم الفقراء ولا يكلفه ببينة ولا يميناً. والحال الثانية: أن يعلمه غنياً فلا يدفع إليه من سهم الفقراء شيئاً فإن ادعى تلف ماله لم يقبل قوله إلا ببينة، فإذ أقامها على تلف ماله الذي كان به غنياً سمعها من ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 223).

شاهدين أو شاهد وامرأتين، وسواء كانت بنيته من أهل المعرفة الباطنة أم لا، وإن أقام البينة على فقره لم يسمعها إلا من أهل المعرفة الباطنة به؛ لأنه قد يستر الغنى ويتظاهر بالفقر فلم تسمع منه البينة بعد تقدم العلم بغناه إلا ممن يعرف باطن أمره من أقاربه وجيرانه، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: لقبيصة بن المخارق: "إن المسألة حرمت إلا في ثلاث ذكر فيها أو رجل أصابته جائحة" الخبر إلى أن قال: حتى يشهد له ثلاثة من ذوى الحجى من قومه (¬1). إن تدخلت له المسألة فاختلف أصحابنا في الثلاثة هل يكونون شرطاً في بينته أم لا؟ على وجهين: أحدهما: أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر الثلاثة تغليظاً، وإن شهادة العدلين مجزئة. والثاني: أن الثلاثة ها هنا شرط، فعلى هذا هل يكون شهادة أو خبراً على وجهين: أحدهما: أنها شهادة غلظت يراعى فيها عدالة الشهود في الحقوق لنقلها خلاف المعلوم. والثاني: أنه خبر لزم فيه الاحتياط فميز بعدد وروعي فيه صدق المخبرين لا عدالة الشهود. والحالة الثالثة: أن يجهل الوالي أمره ولا يعلمه غنياً ولا فقيراً فلا يخلو حال السائل من أحد أمرين: إما أن يكون ظاهره موافقاً لمسألته أو مخالفاً لها، فإن كان ظاهره موافقاً لمسألته لما عليه من سمات الفقر والفاقة ودلائل الضر في ضعف بدنه ورثاثة هيئته فهذا يعطى من سهم الفقراء تعويلاً على شاهد حاله من غير قول يوعظ به ولا يمين يحلف بها، وإن كان ظاهره مخالفاً لمسألته وهو أن يكون قوي البدن حسن الهيئة فينبغي للوالي أن يقول له على طريق الوعظ والإخبار بحال من يحل له الصدقة، ما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للذين سألاه الصدقة فصعد النظر فيهما، وصوب ثم قال: "إن شئتما ولا حظ فيها لغني ولا لذي قوة مكتسب" فإذا قاله له هذه المقالة وأقام على المسألة وأنه يستحق الصدقة أعطاه منها؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للرجلين: "إن شئتما" فدل على أن ذلك لهما، وهل يحلف على فقره قبل الدفع إليه أم لا؟ على قولين: أحدهما: لا يحلف؛ لأن الأصل الفقر ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما عرض اليمين على الرجلين. والثاني: يحلفه على فقره؛ لأن ظاهره بخلاف قوله، فأما إن دعي عيالاً ففي قبول قوله فيهم وجهان: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه.

أحدهما: لا يقبل قوله في دعوى العيال إلا ببينة تشهد بهم، لأنها دعوى تخالف الظاهر. والثاني: أنه يقبل قوله فيهم كما يقبل قوله في نفسه لاختصاصهم به وإضافتهم إليه لكن لا تقبل إلا يمين يحلف بها وجهاً واحداً، لأنه يستزيد بها على حق نفسه. مسألة (¬1) قال الشافعي: "والعاملون عليها من ولاه الوالي قبضها ومن لا غنى للوالي عن معونته عليها وأما الخليفة ووالي الإقليم العظيم الذي لا يلي قبض الصدمة وإن كانا من القائمين بالأمر يأخذها فليسا عندنا ممن له فيها حق لأنهما لا يليان أخذها وشرب عمر رضي الله عنه لبناً فأعجبه فأخبر أنه من نعم الصدقة فأدخل أصبعه فاستقاءه. قال: ويعطى العامل بقدر غنائه من الصدقة وإن كان موسراً لأنه يأخذه على معنى الإجارة". قال في الحاوي: وقد ذكرنا أن سهم العاملين على الصدقات ثابت إذا تولوا قبضها وتفريقها، وساقط منها إذا تولى رب المال بنفسه فإن قال رب المال المتولي للتفريق زكاته أنا آخذ سهم العاملين لنفسي للقيام بالعمل في التفرقة مقام العاملين لم يجز لأن العامل من ولاه الإمام قبضها وتفريقها نيابة عن أهل الصدقات، ورب المال إنما هو نائب عن نفسه لأنه لا يجوز أن يكون وكيلاً عليها لغيره؛ وإذا كان هكذا لم يخل حال رب المال إذا دفع زكاة ماله إلى الوالي من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يدفعها إلى الإمام الذي هو الخليفة على الأمر. والثاني: أن يدفعها إلى والي الإقليم الناظر في جمع أموره. والثالث: أن يدفعها إلى العامل الذي ولاه الإمام قبضها وجعل نظره مقصوراً عليها، فإن تولاه الإمام سقط منها سهم العاملين عليها؛ لأن ولاية الإمام عامة قد أخذ رزقه عليها من بيت المال فلم يجمع له بين رزقين على عمل واحد، ولما روى الشافعي عن مالك عن زيد بن أسلم عن أبيه أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بلبن فشربه فأعجبه فقال من أين لك هذا فقال: مررت بلقاح الصدقة فأعطونيه فجعلته في سقائي فاستقاءه عمر رضي الله عنه، فدل على أنه يحرم عليه مال الصدقة، ولذلك لم يستبقه في جوفه. فإن قيل: فما تأثير استقائه بعد استهلاكه ومن أكل حراما لم يلزمه أن يستقيئه. قيل في استيقائه لذلك ثلاثة أمور: أحدها: أن يعلم الناس تحريم الصدقات على الإمام. والثاني: أن من أخذ مالاً يحل له من مغصوب وغيره فتغير في يده لم يملكه بخلاف ما قال أبو حنيفة. ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 223، 224).

والثالث: لئلا يستديم الاغتذاء والانتفاع بحرام، وهكذا لو تولى قبض الصدقات وتفريقها وإلى الإقليم سقط منها سهم العاملين لأنهم في عموم ولايته على ذلك الإقليم الذي قد ارتزق على عمله فيه جار مجرى الإمام. فأما إذا اختص لعامل بقبض الزكاة تفريقها ثبت فيها حينئذ سهم العاملين عليها ليكون مصروفاً إلى العامل وأعوانه فيها وإذا كان كذلك وجب أن يوصف من يجوز أن يكون عاملاً فيها بها في القبض والتفرقة وهو من تكاملت فيه ست خصال: أحدها: البلوغ لأن الصغر معه قبض ولا تقبيض. والثانية: العقل الذي يصح التمييز به. والثالثة: الحرية. والرابعة: الإسلام لأن الكفر يمنع من الولاية على مسلم لقوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة:1] وقدم أبو موسى الأشعري من البصرة على عمر بحساب استحسبه عمر فقال من عمل هذا فقال: كاتبي فقال: أين هو؟ قال: هو على باب المسجد قال: أجنب هو؟ قال: لا، ولكنه ذمي فأمره بعزله وقال: لا تأمنوهم إذ خونهم الله تعالى، ولا تقربوهم إذ بعدهم الله: والخامس: الأمانة لأنها بيانه ليقصد بها حفظ المال على غير المستنيب فأشبه ولي اليتيم الذي إن خيفت خيانته سقطت ولايته. والسادسة: الفقه بأحكام الزكوات فيما تجب فيه من الأموال وما لا تجب وفي مقاديرها وقدر الحق فيها وأوصاف مستحقيها ومبلغ استحقاقهم منها لئلا يكون جاهلاً بما هو موكول إلى نظره، فلا يصح تقليده كالحاكم إذا كان جاهلاً وليس يلزم من عامل الصدقة أن يكون ففيهما في جميع الأحكام؛ لأن ولاية الحاكم جامعة فاحتاج أن يكون عالماً بجميع الأحكام وولاية عامل الصدقات مخصوصة فلا يحتاج إلى أن يكون عالماً يعني أحكامها، فإذا تكاملت فيه هذه الخصال الستة جاز أن يكون عاملاً عليها وسواء كان رجلاً أو امرأة وإن كرهنا تقليد النساء لذلك لما عليهن من لزوم الحفر لأن المرأة لما جاز أن تلي أموال الأيتام جاز أن تلي أموال الصدقات فأما أعوان العامل من كتابه وحسابه وجباته ومستوفيه فأجورهم من سهم العاملين لعملهم فيها، ولا يلزم اعتبار الحرية والفقه فيهم، لأنهم خدم فيها مأمورون ويلزم اعتبار الخصال الأربعة من البلوغ والفضل والإسلام والأمانة. وأما الرعاة والحفظة لها بعد قبضها ففي أجورهم وجهان: أحدهما: أنها من سهم العاملين عليها. والثاني: من أصل الصدقات فأما أجرة الحمالين والنقالين فإن كانت عند أخذ ذلك من أرباب الأموال ففيها وجهان: كالرعاة، والحفظة وإن كانت لحملها لأهل الصدقات فأجورهم في أموال الصدقات وجهاً واحداً. وأما أجور الكيالين والوزانين والعدادين، فعلى وجهين:

أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنها على أرباب الأموال، لأن ذلك من حقوق التسليم والتمكين فأشبه أجرة الكيال والوزان في المبيع يختص بها البائع دون المشتري. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي إنها في سهم العاملين والفرق بين هذا وبين البيع مكيل في حق البائع، وهذا مكيل في حق أهل السهمان فصار ما يلزم من أجور العمل في أموال الصدقات تنقسم أربعة أقسام: أحدها: ما كان في سهم العاملين من الصدقات وهو العامل وأعوانه. والثاني: ما كان في أموال الصدقات من غير سهم العاملين وهو أجور الحمالين والنقالين إلى أهل الصدقات. والثالث: ما كان على أرباب الأموال في أحد الوجهين ومن سهم العاملين في الوجه الثاني وهو أجرة الكيال والوزن. والرابع: ما اختلف أصحابنا فيه وهو أجرة الرعاة والحفظة فأخذ الوجهين أنه من سهم العاملين. والثاني: من مال الصدقات. فصل فإذا ثبت ما وصفنا فالإمام فيمن قلده من عماله الصدقة بين أمرين: إما أن يعقد معه إجارة على عمل معلوم في زمان معلوم بأجرة معلومة فيكون العقد لازماً له وله الأجرة إذا عمل، وإما أن يجعلها جعالة فيقول: إن عملت كذا فلك كذا، فتكون هذه جعالة لا تلزم وله إن عمل ما يسمى له فإن استعمله من غير جارة ولا جعالة فله أجرة الثمل ثم لا يخلو سهم العاملين عليها وأجرهم من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يتساويا فتكون الأجرة بقدر سهمهم من غير زيادة ولا نقص فنقص عليها وقد استوفوا أجورهم من سهمهم وسواء كانوا أغنياء أو فقراء، لأنها معاوضة فلم يعتبر فيها الفقر. وقد روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تحل الصدقة إلا لخمسة". العامل عليها وغاز في سبيل الله (¬1). الحديث وروى ابن الساعدي قال: بعثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه عاملاً على الصدقة فلما رجعت بها وأديتها أعطاني عمالتي فقلت: إنما عملت لله وإنما أجري على الله، فقال: خذ ما أعطيتك، فقد قلت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل ما فعلت فأعطيت مثل ما أعطيت فقلت مثل ما قلت فقال: "إذا أعطيت ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (3/ 56)، وأبو داود (1635)، وابن ماجه (1841)، وابن الجارود (365)، وابن خزيمة (4/ 71)، والدارقطني (2/ 121)، والحاكم (1/ 407)، والبيهقي في "الكبرى" (13166)، وفي "معرفة السنن" (4033).

من غير أن تسال فكل وتصدق" (¬1) لدل على ما ذكرنا من الخبرين على جواز ذلك مع الغنى والفقر. والثاني: أن تكون أجور العاملين أقل وسهمهم أكثر فيدفع إليهم من سهمهم قدر أجورهم، ويرد الفاضل منه على السهمان كلها بالتسوية ولا يستبقي لعامله غلى غير ذلك الصدقة. والثالث: أن تكون أجور العاملين أكثر وسهمهم أقل فيدفع إليهم سهمهم ويتمم له باقي أجورهم ومن أين يتمم؟ فيه قولان: أحدهما: من تلك الصدقة التي عملوا فيها لاختصاص عملهم بها. والثاني: من مال المصالح وهو خمس الخمس من الفيء والغنيمة لأن ذلك جملتها. فصل وأما استعمال ذوي القربى على الصدقات فإن تطوعوا بالعمل من غير أجر جاز وسقط من تلك الصدقة التي عملوا فيها سهم العاملين عليها كما يجوز للإمام أن يتولاها، وإن كان من ذوي القربى لأنه يأخذ منها ويسقط سهم العاملين منها، وإن أراد العامل من ذوي القربى أن يعمل عليها ويأخذ سهم عمله منها، ففي جوازه ثلاثة أوجه: أحدهما: يجوز لأنها معاوضة لا يراعى فيها الفقراء فلم يراعى فيها النسب، ولأنه لما جاز أن يفاضلوا على عملهم فيها ما يلزم رب المال من أجره الكيل والوزن وما يلزم أهل الصدقات من أجرة الحفظ والنقل، جاز أن يفاضلوا عليه بما يزم في مال الصدقات من سهم العاملين. والثاني: وهو الظاهر من مذهب الشافعي أنه لا يجوز لتحريم الصدقات عليهم، روي أن الفضل بن العباس والمطلب بن ربيعة أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسألاه عمالة الصدقة فقال: إن الصدقة من أوساخ الناس لا يحل لمحمد وأل محمد منها شيء". وروي عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة، ولأن الله تعالى جعل سهمهم من خمس الخمس من الفيء والغنيمة عوضاً عن مال الصدقة. والثالثة: وهو قول أبي سعيد الاصطخري إن كانوا يعطون سهمهم من الخمس لم يجز وإن كانوا لا يعطون جاز لأن لا يجمعوا بين مالين إن أعطوا لا يحرموا المالين إن منعوا، فأما مولى ذوي القربى فقد اختلف أصحابنا فيهم على وجهين: أحدهما: أنهم كذوي القربى في تحريم الصدقات عليهم لرواية أبي رافع مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استعمل على الصدقة رجلاً من بني مخزوم فقلت له: ¬

_ (¬1) أخرجه مسلم (112/ 1045)، وأبو داود (1647)، والنسائي (2604)، وأحمد (1/ 52) والبيهقي في "الكبرى" (13169).

أثبت لي سهماً منها، فقال حتى أستأذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فسأله عن ذلك فقال: "إن مولى القوم منهم وإنا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة" (¬1). والثاني: أنها لا تحرم عليهم ويجوز أن يكون المولى منهم عاملاً عليها، لأن تحريمه على ذوي القربى لأمرين تفردوا بهما عن مواليهم: أحدهما: شرف نسبهم الذي فضلوا به. والثاني: سهمهم من الخمس الذي تفردوا به. فوجب أن يختصوا بتحريم الصدقات دون مواليهم والله أعلم. فصل إذا تلفت الصدقة في يد العامل فهو عليها أمين لا يضمنها إلا بالعدوان ثم لا يخلو أن يكون قد أخذ سهمه منها أو لم يأخذ، فإن أخذه لم يلزمه رده؛ لأنه قد استحقه بعمله، إلا أن يكون قد أخذ أجرة القبض والتفريق، فيلزمه إذا تلفت قبل التفريق أن يرد من الأجرة ما قابل أجرة التفريق، وإن لم يكن قد أخذ سهمه من المال قبل تلفه أعطى أجره من سهم المصالح من الخمس، لم يفوت عليه بغير بدل وبالله التوفيق. مسألة (¬2) قال الشافعي: "والمؤلفة قلوبهم في متقدم الأخبار ضربان: ضرب مسلمون أشراف مطاعون يجاهدون مع المسلمين فيقوى المسلمون بهم ولا يرون من نياتم ما يرون من نيات غيرهم، فإذا كانوا هكذا فأرى أن يعطوا من سهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو خمس الخمس ما يتألفون به سوى سهامهم مع المسلمين وذلك أن الله تعالى جعل هذا السهم خالصاً لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فرده في مصلحة المسلمين. واحتج بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعطى المؤلفة يوم حنين من الخمس مثل عيينة والأقرع وأصحابهما ولم يعط عباس بن مرداس وكان شريفاً عظيم الغناء حتى استعتب فأعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - مال الشافعي رحمه الله لما أراد ما أراد القوم احتمل أن يكون دخل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه شيء حين رغب عما صنع بالمهاجرين والأنصار فأعطاه على معنى ما أعطاهم واحتمل أن يكون رأى أن يعطيه من ماله حيث رأى أن يعطيه لأنه له - صلى الله عليه وسلم - خالصاً للتقوية بالعطية ولا نرى أن قد وضع من شرفه فإنه - صلى الله عليه وسلم - قد أعطى من خمس الخمس النفل وغير النفل لأنه له وأعطى صفوان بن أميه ولم يسلم ولكنه أعاره أداة فقال فيه عند الهزيمة أحسن مما قال بعض من أسلم من أهل مكة عام الفتح وذلك أن الهزيمة كانت في أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين أول النهار فقال له رجل غلبت هوازن وقتل محمد - صلى الله عليه وسلم - فقال صفوان بن أميه بفيك الحجر فوالله لرب من قريش أحب إلي من رب من هوازن ثم أسلم قومه من قريش وكان كأنه لا ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في كتاب "الزكاة". (¬2) انظر الأم (3/ 224 - 229).

يشك في إسلامه والله تعالي أعلم. قال الشافعي: فإذا كان مثل هذا رأيت أن يعطي من سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا أحب إلى للإقتداء بأمره - صلى الله عليه وسلم - ولو قال قائل كان هذا السهم لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان لع أن يضع سهمه حيث يري فقد فعل هذا مرة وأعطي من سهمه بخيبر رجالاً من المهاجرين والأنصار لأنه ماله يضعه حيث رأي ولا يعطي أحداً اليوم على هذا المعني من الغنيمة ولم يبلغنا أن أحداً من حلفائه أعطي أحداً بعده. ولو قيل: ليس للمؤلفة في قسم الغنيمة سهم مع أهل السهمان كان مذهباً والله أعلم. قال: وللمؤلفة في قسم الصدقات سهم والذي أحفظ فيه من متقدم الخبر أن عدي بن حاتم جاء إلى أبي بكر الصديق أحسبه بثلاثمائة من الإبل من صدقات قومه فأعطاه أبو بكر منها ثلاثين بعيراً وأمره أن يلحق بخالد بن الوليد بمن أطاعه من قومه فجاءه بزهاء ألف رجل وأبلي بلاء حسناً والذي يكاد يعرف القلب بالاستدلال بالأخبار أنه أعطاه إياها من سهم المؤلفة فإما زاده ترغيباً فيما صنع وإما ليتألف به غيره من قومه ممن لم يثق منه بمثل ما يثق به من عدي بن حاتم. قال: فأرى أن يعطى من سهم المؤلفة قلوبهم في مثل هذا المعنى إن نزلت بالمسلمين نازلة ولن تنزل إن شاء الله تعالى وذلك أن يكون العدو بموضع منتاط لا يناله الجيش إلا بمؤنه ويكون بإزاء قوم من أهل الصدقات فأعان عليهم أهل الصدقات إما بلية فأري أن يقووا بسهم سبيل الله من الصدقات وإما أن لا يقاتلوا إلا بأن يعطوا سهم المؤلفة أو ما يكفيهم منه وكذا إذا انتاط العدو وكانوا أقوى عليه من قوم من أهل الفيء يوجهون إليه ببعد ديارهم وثقل مؤناتهم ويضعفون عنه فإن لم يكن مثل ما وصفت مما كان في زمن أبي بكر رضي الله عنه من امتناع أكثر العرب بالصدقة على الرده وغيرها لم أر أن يعطى أحد من سهم المؤلفة ولم يبلغني أن عمر ولا عثمان ولا عليا رضي الله عنهم أعطوا أحداً تألفاً على الإسلام وقد أغنى الله- فله الحمد- الإسلام عن أن يتألف عليه رجال. وقال في الجديد: لا يعطى مشرك يتألف على الإسلام لأن الله تعالى خول المسلمين أموال المشركين لا المشركين أموال المسلمين وجعل صدقات المسلمين مردودة فيهم". قال في الحاوي: وجملة ذلك أن مالكاً وأبا حنيفة أسقطا سهم المؤلفة كما أسقط أبو حنيفة سهم ذي القربى للاستغناء بقوة الإسلام واستعلاء أهله على الفريقين، وقد مضى الكلام في سهم ذوي القربى. فأما سهم المؤلفة فهو باق على ما سنشرحه قال الله تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:60] وتآلف النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك. والمؤلفة قلوبهم على عها النبي - صلى الله عليه وسلم - ضربان: مسلمون ومشركون. فأما المشركون فضربان: أحدهما: أشراف مطاعون فيهم قوة وبأس وليس لهم في الإسلام نيات لكنهم إن أعطوا كفوا عن قتال المسلمين، وعن أذارهم مجتازين، أو مسافرين، وإن لم يعطوا قاتلوهم وتتبعوهم بالأذى في أسفارهم ومساكنهم مثل عامر بن الطفيل فقد كان ذا غلظة

على المسلمين، وقتل أهل بني معونة وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتآلفه ويستكفه فأتى المدينة وقال: يا محمد شاركني في أمرك، وكنت أنت على المدر وأنا على الوبر، فقال: لم يجعل الله ذلك لي قال: والله لأملأتها عليك خيلاً ورجالاً، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - يأبى الله ذلك عليك وأبناء قبيلة الأرض والخزرج يعني الأنصار فخرج من عنده بأخبث نية فأخذته غدة مات بها وقد نزل على امرأة من سلول قال: وهو يجود بنفسه غدة كغدة البعير وموت في بيت سلولية. والثاني: من الكفار أشراف ومطاعون لهم في الإسلام ونيات لم تخلص إن أعطوا قويت نياتهم في الإسلام فأسلموا، وإن لم يعطوا بقوا على كفرهم مثل صفوان بن أمية فإنه كان ذا نية في الإسلام واستعار منه النبي - صلى الله عليه وسلم - أداة فأعاره مائة درع وحضر معه حنيناً وقال: قد انهزمت الصحابة في أول الوقعة أحسن مما قاله بعض المسلمين الذين أسلموا عام الفتح بمكة، فإن أبا سفيان قال عند الهزيمة غلبت هوازن، وقتل محمد، فقال له صفوان بن أمية: لفيك الحجر، والله لرب قريش أحب إلى من رب هوازن، فلما انجلت الوقعة وأحيزت غنائم هوازن أعطاه النبي - صلى الله عليه وسلم - منها مائة بعير، فلما رآها وقد امتلأ بها الوادي فقال: هذا عطاء من لا يخاف الفقر ثم أسلم بعد ذلك. هذان الضربان من المشركين تألفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي جواز تآلفهم الآن بعد وفاته قولان: أحدهما: يجوز اقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع قوله تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:60] والقول الثاني: لا يجوز لأن الله تعالى قد أعز الإسلام وأهله بما أعطاهم من قوة وزادهم من قدرة عن أن يتآلفوا بأموالهم مشركاً، ويكون تآلف النبي - صلى الله عليه وسلم - لهم إما عن حاجة إليهم عند قلة المسلمين وكثرتهم، وإما لأنه كان يعطيهم من ماله الذي ملكه الله تعالى من خمس الخمس، فكان يصنع به ما شاء مما ليس لغيره من الولاة أن يصنع مثله. فإذا قيل: لا يجوز أن يتآلفوا بمال لما جعل الله تعالى أموالهم للمسلمين حولاً، ولم يجعل لهم في أموال المسلمين حقاً منعوا ذلك من أموال الصدقات وغيرها. وإذا قيل: بجواز تآلفهم جاز إذا وجد فيهم نفع التآلف يعطوا مع الغنى والفقر لا من أموال الصدقات التي جعلها الله تعالى للمسلمين ولكن من سهم المصالح وهو خمس الخمس من الفيء والغنيمة المعدة لمصالح المسلمين العامة. فصل وأما المسلمون من المؤلفة فضربان: ضرب لم يختلف قوله في جواز تآلفهم. وأما الضرب الذي اختلف قوله في جواز تآلفهم وحملهم فيه على حكم المشركين فضربان:

أحدهما: الأشراف المطاعون وقد حسنت في الإسلام نياتهم ولكن في إعطائهم تآلف لقومهم وترغيب لأكفائهم ونظرائهم كالزبرقان بن بدر وعدي بن حاتم فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أعطاهما تآلفاً لقومهما وترغيباً لنظرائهما. والضرب الثاني: أشراف مطاعون قد أسلموا بنيات ضعيفة إن أعطوا قويت نياتهم وحسن إسلامهم، وإن منعوا وبما أفضى بهم ضعف النية إلى الردة فقد أعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمثال هؤلاء مثل عيينة بن حصن الفزاري والأقرع بن حابس التميمي، فإنه تآلف كل واحد منهما بمائة بغير وترك العباس بن مرداس السلمي فلم يعطه ثقة بحسن إسلامه كما ترك الأنصار وقصر به على مهاجرة الفتح حتى استعتب العباس بن مرداس فيما أنشده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من شعره حيث يقول: كانت ذهاباً تلافيتها وكرى على القوم بالأجرع وحتى الجنود لكي يدلجوا إذا هجع القوم لم أهجع أتجهل نهبي وذهب العبي د بين عيينة والأقرع الأبيات إلى آخرها. فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فأعطي مائة (¬1) بعير فاحتمل إعطاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك له أحد أمرين: ذكرهما الشافعي: أحدهما: أن يكون قد بطن به حسن النية في الإسلام فمنعه ثم بان منه ضعف النية فتآلفه. والثاني: أن يكون على حسن نيته لكن خشي نقص الرتبة وحظ المنزلة فأحب المساواة بينه وبين أكفائه فأعطاه مع حسن إسلامه وهذا أشبه الأمرين بشعره، فهذان الضربان من مؤلفة المسلمين قد تآلفهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حياته، وفي جواز تآلفهم الآن بعد وفاته قولان: أحدهما: يجوز اقتداء به - صلى الله عليه وسلم - مع عموم قوله تعالى: {وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ} [التوبة:60] ولأن أبا بكر رضي الله عنه لما أتاه عدي بن حاتم الطائي بثلاثمائة بعير من صدقات قومه أعطاه منها ثلاثين بعيراً ليتآلف بها قومه، وأمره أن يلحق بخالد بن الوليد، فيمن أطاعه من قومه فلحق به في زهاء ألف وجل وأبلى بلاء حسناً. والثاني: لا يجوز أن يتآلفوا لأن الله تعالى قد أعز الإسلام وأهله بالقوة والكثرة عن أن يتألف فيه أحد، ولأن عمر وعثمان وعلياً رضي الله عنهم ما تآلفوا من مال الصدقات أحداً وقد روى حسان بن عطية: أن عيينة بن حصن أتى عمر فسأله شيئاً فلم يعطه فقال: وقل الحق من ربك تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29] فإن قيل: لا يعطى الكفار فلا مقال وإذا قيل: يعطون تآلفاً لقلوبهم، فعن المال الذي يتآلفون منه قولان: ¬

_ (¬1) انظر القصة والأبيات في "طبقات ابن سعد" (4/ 205، 206).

أحدهما: هو سهم المؤلفة من الصدقات، فإن النص على سهمهم منها، ولأن أبا بكر أعطى عدي بن حاتم ثلاثين بعيراً من صدقات قومه. والثاني: أنهم يعطون من مال المصالح وهو خمس الخمس من الفيء والغنيمة لأنهم من جملتها، ويعطون ذلك مع الغناء والفقر. فصل وأما الضرب الثاني: من المسلمين الذين لم يختلف قول الشافعي في جواز تآلفهم فهم أربعة أصناف: أحدها: أن يكونوا من أعراب أو غيرهم من المسلمين في طرف من بلاد الإسلام بإزاء مشكرين لا يقاتلونهم على الإسلام إلا بمال يعطونه، إما لفقرهم، وإما لضعف نيتهم وفي مسير المجاهدين إليهم مشقة عظيمة والتزام مال جزيل. والثاني: أن يكون من ذكرنا بإزاء قوم مرتدين لا يقاتلونهم على الردة إلا بمال إما لفقر أو لضعف نية، وفي تجهيز الجيش إليهم مؤنة ثقيلة. والثالث: أن يكونوا بإزاء قوم من البغاة وهذه حالهم معهم. والرابع: أن يكونوا بإزاء قوم مانعي الزكاة ولا يقاتلونهم على بذلها إلا بمال فهؤلاء الأصناف الأربعة يجوز تألفهم بالمال لما في تآلفهم من معونة المسلمين ونفعهم والذب عنهم وفي المال الذي يتألفون منه ثلاثة أقاويل ورابع معلول: أحدها: من سهم المؤلفة من الصدقات لأنهم من المؤلفة. والثاني: من سهم سبيل الله لأنهم غزاة. والثالث: من مال المصالح من الخمس لأنهم من جملة المصالح. والرابع: المعلول أنهم يعطون من سهم المؤلفة وسهم سبيل الله وهذا قول معلول لما فيه من الجمع في دفع الصدقة بين سببين من سهمين فاختلف أصحابنا في هذا القول على ثلاثة أوجه: أحدها: أن هذا على القول الذي جوز الشافعي فيه إعطاء الشخص الواحد من الزكاة الواحدة بسببين من سهمين إذا كانا فيه موجودين، فأما على القول الذي منع فيه من ذلك فلا يعطون إلا من أحد السهمين. والثاني: أن ذلك على ظاهره في إعطائهم من السهمين معاً على القولين جميعاً لوجود كل واحد من السببين فيهم مع الحاجة الداعية إليهم وإنما يمنع من إعطاءه بالسببين لمن كانت حاجته إلينا. والثالث: أنه مختلف باختلاف الحال فيمن قاتل منهم مانعي الزكاة أعطي من سهم المؤلفة ومن قاتل منهم المشركين أعطى من سهم الغزاة والأصح عندي في هذا القول الرابع غير هذه الوجوه الثلاثة أنه يجمع لهذه الأصناف كلها بين سهم المؤلفة وبين سهم

سبيل الله في الجملة إلا أن يصبح الشخص الواحد منهم لا يجوز أن يعطى من السهمين لكن يعطى بعضهم من سهم المؤلفة ولا يعطى من سهم سبيل الله، ويعطى بعضهم من سهم سبيل الله ولا يعطى من سهم المؤلفة فيكون الجمع بين السهمين للجنس العام والمنع من الجمع بينهما للشخص الواحد، وهذا أصح ما يحمل عليه تخريج هذا القول الرابع، والله أعلم. مسألة (¬1) قال الشافعي: "والرقاب المكاتبون من حيز إنما الصدقات والله أعلم ولا يعتق عبد يبدأ عتقه فيشتري ويعتق". قال في الحاوي: وهذا صحيح والرقاب صنف من أهل الصدقات، لقوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة:177] فاختلف الفقهاء فيهم فذهب الشافعي إلى أنهم المكاتبون يعطون المسمى لهم يستعينون به في مال كتابتهم ولا يبتدئ عتق رقاب تشترى، وهو في الصحابة قول علي بن أبي طالب عليه السلام وفي التابعين قول سعيد بن جبير والنخعي. وفي الفقهاء قول أبي حنيفة والثوري. وقال مالك: الرقاب أن يبتدأ عتق رقاب تشترى وهو في الصحابة قول عبد الله بن عباس، وفي التابعين قول الحسن البصري، وفي الفقهاء قول أحمد وإسحاق استدلالاً بقوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [البقرة:177] وفيها ثلاثة أدلة: أحدها: أن مطلق اسم الرقبة يتناول العبد القن دون المكاتب بدليل قوله تعالى: {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة:89] يقتضي عتق العبد القن دون المكاتب. والثاني: أن الله تعالى أضاف سهمان الصدقات إلى الأصناف بلام التمليك: "إنما الصدقات للفقراء" وخالف صيغة اللفظ في الرقاب بأن حذف لام التمليك، فقال: وفي الرقاب فجعل ذلك فيهم ولم يجعله لهم فاقتضى أن لا يملكه المكاتبون ويشترى به عبيد يعتقون ليصح أن يكون فيهم ولا يكون لهم. والثالث: أن المكاتبين من جملة الغارمين فلو أريدوا بالآية لاكتفى بذكر الغارمين عن ذكرهم ولأن ما وجب من أموال الطهرة نوعان زكوات وكفارات، فلما كان في الكفارات عتق وجب أن يكون في الزكوات عتق. وتحريره: أنه أحد نوعي الطهرة فوجب أن يختص بعتق، ويفرقه كالكفارات، ودليلنا قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التوبة:60] ومنها سبعة أدلة: أحدها: أن الله تعالى جعل ذلك في الرقاب لا في السادة، وملك يجعله في السادة لا في الرقاب. ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 229).

والثاني: أن سائر الأصناف لما استحقوا الأخذ وجب أن يكون صنف الرقاب مستحقاً الأخذ. والثالث: أن الله تعالى ذكر في الآية ثمانية أصناف وقرن فيها بين كل صنفين يتقارب معناهما فنقارب في حاجتنا إليهم وفرق بين سبيل الله وابن السبيل لأن معناهما متقارب في اختصاصهم بقطع مسافة، وفرق بين الرقاب والغارمين، فوجب أن يكون معناهما متقارباً فلما أخذ الغارمون لما في الذمة اقتضى أن يأخذ الرقاب لما في الذمة. الرابع: أن الله تعالى جعل المصروف إلى الأصناف صدقة وفي صرفه في العتق يصير ثمناً يخرج عن حكم الصدقة. والخامس: أن الله تعالى جعل كل صنف من أهل الذمة، ممن يمكن دفع سهمه إليه من كل صدقة ولا يمكن إذا جعل سهم الرقاب في العتق أن يعتق سهمهم من كل صدقة إذا جعل في المكاتبين أمكن أن يدفع إليهم في كل صدقة. والسادس: أنه لو صرف سهم الرقاب في مكاتبين وبقي عليهم من آخركم آخر نجم ما يعتقون به فأعطوا ما عتقوا به أجزأ، ولو خرجوا من حكم الآية لم يجز كالعتق في الكفارة فدل على أنهم المواد بالآية. والسابع: أن الله تعالى لو أراد بالرقاب المعتق لقرنه بذكر التحرير كالكفارة حيث قال: "فتحرير رقبة مؤمنة" ولا يقتضي أن يحمل مطلق الرقاب في الصدقة على المقيد منها في الكفارة لأن في المطلق في الرقاب ما يجزئ وهو ما ذكرنا من المكاتبين، فكان حمل المطلق على المطلق أولى من حمله على المقيد، وخالف تقيد الشهادة بالعدالة في موضع وإطلاقها في آخر، لأنه ليس في الشهادة مال يعتبر فيه العدالة، فلذلك وجب حمل المطلق على المقيد، ويدل عليه من طريق الاعتبار أنه ضعف من أهل الصدقة فوجب أن يكونوا على صفة يستحقوا بها الأخذ قياساً على سائر الأصناف، ولأن العتق يقتضي ثبوت الولاء للمعتق فلو أعتق سهم الرقاب لم يخل أن يثبت على المعتق ولاء أو لا يثبت عليه، ولا سلب حكم العتق. وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الولاء لمن أعتق" (¬1) وإن ثبت عليه الولاء لم يخل أن يكون لرب المال أو لغيره فلم يجز أن يكون لغيره؛ لأنه غير معتق بماله ولم يجز أن يكون لرب المال الأمرين: أحدهما: أنه ما اشتراه ولا أشتري له. والثاني: أنه لا يستفيد بإخراج زكاته ملكاً كسائر الأصناف فثبت امتناع العتق. فإن قيل: فلو أخذ الغارم سهمه وعليه لرب المال دين جاز أن يستعيده من دينه فيصير ملكاً له. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (2536)، ومسلم (1504)، وأحمد (1/ 281)، وابن ماجه (2076).

قيل: ليس هذا في كل غارم ولا الغارم الذي عليه الدين يلزمه رد ذلك بعينه، لأنه لو دفع غيره أجزأ. فأما الجواب عن استدلالهم من الآية من أن مطلق الرقبة يتناول العبد القن دون المكاتب فهو أن ادعاء ذلك غير مسلم؛ لأنه إن أطلق تناول القن وغيره، وإن قيد بقرينة كالتحرير تخصص لأجل القرينة بالقن دون غيره فلما أطلق ذكر الرقاب في الصدقة وجب أن يحمل على عمومه ولا يجري مجرى ما خص في الكفارة بقرينة. وأما الجواب عن استدلالهم من الآية بأن الله تعالى أصناف الصدقات إلى أهل السهمان بلام التمليك إلا الرقاب فهو أنه قد قال مثل ذلك في الغزاة وبني السبيل فقال: "وفي سبيل الله وابن السبيل" لا يقتضي ذلك أن لا يدفع إليهم تمليكاً كذلك الرقاب. وأما الجواب عن استدلالهم فيها بأن المكاتبين من جملة الغارمين فمن وجهين: أحدهما: أنهم غير الغارمين لأن ديونهم غير مستقرة وديون الغارمين مستقرة. والثاني: أنهم وإن تقاربوا في المعنى فإنه يستفاد بذكرهم أن لا يقتصر على الغارمين لو لم يذكروا عليهم دون الغارمين؛ لأنهم منهم وجرى ذلك مجرى ذكر الفقراء والمساكين وإن كانوا متقاربين يستغنى بذكر أحدهما عن ذكر الآخر؛ لأن لا يقتصر على أحدهما حتى يلزم الجمع بينهما. وأما الجواب عن استدلالهم بالكفارات فهو أن المأمور بإخراجه في الكفارات هو العتق لذلك لو أعتق رقبة يملكها أجزأه، والمأمور بإخراجه في الصدقات هو المال ولذلك لو أعتق رقبة يملكها لم يجزه فافترقا. فصل فإذا ثبت أن سهم الرقاب مصروف في المكاتبين فلا يخلو حال المكاتب من أحد أمرين: إما أن يكون قادراً عليه من مال الكتابة أو عاجزاً عنه، فإن كان قادراً عليه وذلك بأحد وجهين: إما بمال في يده بقدر الباقي من مال كتابته أو بصناعة يكتسب بها فذلك يكونا في الحكم سواء ولا يجوز أن يدفع إليه من شيء من الصدقات لأنها مصروفة في ذوي الحاجات وليس هذا المكاتب منهم وإن كان عاجزاً عما عليه من مال الكتابة فلا يخلو حاله من أحد أمرين: إما أن يكون نجم الكتابة قد حل عليه أو لم يحل، فإن كان نجم الكتابة قد حل عليه واستحق السيد المطالبة به دفع إليه وكان رب المال والعامل بالخيار بين أن يدفعه إلى المكاتب حتى يدفعه المكاتب إلى سيده أو يدفعه ابتداء إلى السيد بأمر المكاتب أو بغير أمره، وإن كان نجم الكتابة لم يحل ومطالبة المكاتب به لم تجب ففي جواز الدفع إليه وجهان: أحدهما: لا يدفع إليه لأن غير محتاج إليه.

والثاني: يدفع إليه لأنه قد يحل مال النجم فيحتاج إليه. فصل فإذا تقرر ما وصفنا لم يخل المكاتب بعد الدمع إليه من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يعتق بالأداء فقد استقر استحقاق ما أخذه من كتابته. والثاني: يعتق بغير أداء مال الصدقة وذلك إما بإبراء السيد له أو بأداء آخر عنه أو بأدائه من كسبه فيكون الحكم في هذه الأحوال الثلاثة سواء، وينظر فإن كان ذلك في النجم الأخير أسترجع منه ما دفع إليه؛ لأنه لم يكن للأخذ تأثير في المقصود من عتقه، وإن كان فيما قبل النجم الأخير وقد أداه فيه لم يسترجع؛ لأنه قد كان لذلك الدفع تأثير في تحرير العتق ولو استرجع لم يعتق. والثالث: أن يسترقه السيد بالعجز فلا يخلو حال المدفوع إليه من أحد أمرين: إما أن يكون في النجم الأخير أو فيما قبله فإن كان في النجم الأخير استرجع المدفوع إليه سواء كان باقياً في يد المكانب أو قد قبضه السيد منه، لأن المقصود من العتق لم يقع، وإن كان فيما قبل النجم الأخير من النجوم المتقدمة فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون ذلك باقياً في يد المكاتب فيسترجع منه ولا يجوز أن يأخذه السيد بعد العجز ولا يتملك المكاتب بعد الرق لفوات المعنى المبيع للأخذ. والثاني: أن يكون السيد قد قبضه منه، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون قد قبضه من مال النجم الذي عجزه فيه فهذا يسترجع منه أيضاً لفوات المقصود بذلك الأخذ. والثاني: أن يكون قد قبضه منه من مال نجم متقدم قبل نجم التعجيز، ففي جواز استرجاعه منه وجهان: أحدهما: يسترجع منه لفوات المقصود من العتق فشابه مال النجم الأخير. والثاني: لا يسترجع منه لأن لكل نجم حكماً. فصل فإذا وجب استرجاع المأخوذ من مال الصدقة فتلف قبل الاسترجاع فلا يخلو حال تلفه من أحد أمرين. إما أن يتلف في يد السيد أو في يد المكاتب، فإن تلف في يد السيد فهو مضمون عليه بالغرم سواء تلف استهلاكه له أو بغيره، لأنه أخذه على وجه البدل عن العتق فإذا فات العتق ضمنه بالرد إن بقي، وبالغرم إن تلف كالمبيع، وإن تلف في يد المكاتب فعلى ضربين: أحدهما: أن يتلف باستهلاكه فإن تلف باستهلاكه ضمن فمان المغصوب يقدم على

ديون المعاملات فإن فاق ما بيده عن غرمه ضمنه في رقبته، وإن تلف بغير استهلاكه فعلى ضربين: أحدهما: أن يتلف بيده قبل عجزه. والثاني: أن يتلف بعد عجزه فإن تلف قبل عجزه، فعلى ضربين: أحدهما: أن يتلف قبل إمكان دفعه إلى سيده فلا ضمان عليه ولا على سيده؛ لأنه كان مؤتمناً على أدائه. والثاني: يتلف بعد إمكان دفعه إلى سيده فهذا على ضربين إما أن يكون قد حل عليه نجم الكتابة وأخر دفع ذلك إليه فهو مضمون عليه ضمان المغصوب لعدوانه بتأخير الأداء. والثاني: أن لا يكون نجم الكتابة قد حل عليه ففي ضمانه عليه وجهان من اختلاف الوجهين في جواز الدفع إليه قبل حلول النجم عليه. أحدهما: يضمنه إذا جعل كالذي حل عليه في جواز الدفع إليه. والثاني: لا يضمنه إذا لم يجعل في جواز الدفع إليه كالذي حل عليه وإن تلف في يده بعد عجزه فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون تلفه بعد إمكان رده على رب المال أو العامل فهذا مضمون عليه ضمان المغصوب لعدوانه بتأخير الرد ويكون الضمان في رقبته دون ما بيده لتقدم استحقاق ما بيده في معاملاته. والثاني: أن يكون تلفه قبل إمكان رده فهو غير مضمون على المكاتب لأنه ما قبضه لنفسه ولا كان متعدياً في جنسه وهل يكون مضموناف على سيده فيه وجهان: أحدهما: لا يضمنه لأنه ما صار إليه. والثاني: يضمنه لأن المكاتب قبضه لسيده ويده بعد العجز كيده. مسألة (¬1) قال الشافعي: "والغارمون صنفان: صنف دانوا في مصلحتهم أو معروف وغير معصية ثم عجزوا عن أداء ذلك في العرض والنقد فيعطون في غرمهم لعجزهم فإن كانت لهم عروض يقضون منها دونهم فهم أغنياء لا يعطون حتى يبرؤوا من الذين ثم لا يبقى لهم ما يكونون به أغنياء وصنف دانوا في صلاح ذات بين ومعروف ولهم عروض تحمل حمالاتهم أو عامتها وإن بيعت أضر ذلك بهم وإن لم يفتقروا فيعطى هؤلاء وتوفر عروضهم كما يعطى أهل الحاجة من الغارمين حتى يقضوا سهمهم. واحتج بأن قبيصة ابن المخارق قال: تحملت بحمالة فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "نؤديها عنك أو نخرجها عنك إذا قدم نعم الصدقة يا قبيصة المسألة حرمت إلا في ثلاث رجل تحمل ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 229 - 232) ,

بحمالة فحلت له المسألة حتى يؤديها ثم يمسك ورجل أصابته فاقة أو حاجة حتى شهد أو تكلم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه أن به فاقة أو حاجة فحلت له المسألة حتى يصيب سداداً من عيش وقواماً من عيش ثم يمسك ورجل أصابته جائعة فاحتاجت ماله فحلت له الصدقة حتى يصيب سداداً من عيش أو قواماً من عيش ثم يمسك وما سوى ذلك من المسألة فهو سحت" قال الشافعي رحمه الله: "فبهذا قلت في الغارمين وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تحل له المسألة في الفاقة الحاجة" يعني والله أعلم من سهم الفقراء والمساكين لا الغارمين وقوله حتى يصيب سداداً من عيش" يعني والله أعلم اسم الغنا ولقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة؛ لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل اشتراها بماله أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين للغني" فبهذا قلت يعطى الغازي والعامل وإن كانا غنيين والغا رم في الحمالة على ما أبان عليه السلام لا عاماً". قال في الحاوي: وهذا كما قال: والغارمون صنف من أهل الصدقات، قال الله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ} [التوبة:60] فجعل لهم من الصدقات سهماً وهو صنفان: صنف أدانوا في مصالح أنفسهم، وصنف أدانوا في مصالح غيرهم، فأما من أدان في مصلحة نفسه فعلى ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون قد أدان في حق. والثاني: في بتذير. والثالث: في معصية. فأما الأول وهو أن يكون قد أدان في حق فكر جل أدان في جوائح إصابة أو نفقات لزمته أو معاملات أضرت أو زكوات وجبت وحج أدى وفرض قضى إلى ما جرى مجرى ذلك من واجبات أو مباحات فيجوز أن يدفع إلى من صار بها غارماً من سهم الغارمين إذا كان فقيراً، فأما إن كان غنياً فلا يخلو ماله من أن يكون ناضاً أو عقاراً فإنه كان ماله ناضاً كالذهب والورق وعروض التجارات فلا يجوز أن يدفع إليه من سهم الغارمين لأنه مستغن عن المعونة على قضاء دينه، ولأنه قل ما يخلو موسر من دين فيجعل كل الموسر من الغارمين، وإن كان ماله عقاراً من دور وضياع كفى أثمانها بدينه ففي جواز إعطاءه من سهم الغارمين قولان: أصحهما: وهو المنصوص عليه في هذا الموضع وأكثر كتبه أنه لا يجوز أن يعطى لأنه قادر على قضاء دينه كالموسر بمال ناض. والثاني: قاله في القديم وحكي عنه في كتاب "الأم" أنه يجوز أن يعطى، لأن العاجز عن قضاء الدين إلا من عقار مستقاً هو بالمعسرين أشبه عنه بالموسرين فاقتضى أن يكون من حملة الغارمين. وأما القسم الثاني: وهو أن يكون قد أدان في تبذير كرجل بذر في الشهوات

واللذات وأسرف في الصلاة والهبات لا في بر ولا تقوى فهذا لا يعطى من سهم الغارمين، وله ما يقدر على قضاء دينه منه من ناض أو عقار، لأنه ممنوع من التبذير، فلأن يعود تبذيره على ماله أولى من أن يعود على مال الصدقات، وإن كان فقيراً لا يقدر على قضاء دينه من ناض ولا عقار جاز أن يعطى من سهم الغارمين؛ لأنه منهم في الغرم والحاجة. وأما القسم الثالث: وهو أن يكون قد أذان في معصية فإن لم يتب منها وكان مصراً على تلك المعصية لم يجز أن يعطى من سهم الغارمين؛ لأنه ممنوع من المعصية فلا يجوز أن يعان عليها بتحمل الغرم فيها، وإن كان قد تاب منها وأقلع عنها لم يجز أن يعطى من سهم الغارمين مع الغني بمال ناض أو عقار؛ لأن ماله في غرم المعاصي أولى من مال الصدقات وفي جواز إعطائه مع الفقر وجهان: أحدهما: يجوز لبقاء الغرم مع زوال المعصية. والثاني: لا يجوز لأنه غرم سببه المعصية. فصل وأما من أدان في مصلحة غيره فعلى ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون قد أدان في إصلاح ذات البين في تحمل دية لنفس أو طرف كف بها فتنة بين قبيلتين وقطع بها حرباً بين طائفتين، فهذا يعطى من سهم الغارمين مع الفقر والغنى الناض والعقار ولا يراعى فيه فقر، ولا اعتبار لرواية سفيان عن هارون بن رباب عن كنانة بن نعيم عن قبيصة بن المخارق: أنه تحمل بحمالة فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فسأله فقال: نؤديها عنك ونخرجها من نعم الصدقة يا قبيصة إن المسألة حرمت إلا في ثلاث: رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يؤديها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة فيسأل حتى يصيب قواماً من عيش ثم يمسك ورجل أصابته حاجة وفاقة حتى يشهد له ثلاثة من ذوي الحجى من قومه إن قد حلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش ثم يمسك ما سوى ذلك من المسألة فهو سحت، ولأن ذلك غرم من المصالح العامة فكان أولى من الغرم في المصالح الخاصة، ولأنه لما جاز أن يعطى في الغرم من حاجته إلينا، فأولى أن يعطى في الغرم من حاجتنا إليه. والثاني: أن يكون قد أدان في صلاح ذات البين في غرم مال كف به فتنة ومنع به حرباً فيجوز أن يعطى مع الفقر والغنى بالعقار وفي جواز إعطائه مع الغنى وجهان: أحدهما: يجوز كالغرم في الدم لما فيهما من قطع الفتنة. والوجه الثاني: لا يجوز لأن للدم فضلاً على غيره. والثالث: أن يكون قد أدان في مصلحة لا تتعلق بقطع فتنة ولا منع حرب كرجل أدان في عمارة مسجد أو جامع أو بناء حصن أو قنطرة أو فك أسرى أو ما جرى مجرى

ذلك من المصالح العامة التي تتعلق لحسم فتنة، فهذا يجوز أن يعطى مع الفقر والغنى بالعقار ولا يجوز أن يعطى مع الغنى بالناض؛ لأنه في النفع متردد بين الأمرين فاقتضى أن يكون فيه متردداً متوسطاً بين الحكمين. فصل فإذا تقرر ما وصفنا من أحكام الغارمين فلا يجوز أن يزاد الواحد منهم على قدر دينه، ويكون الغارم هو المتولي لقبضه ودفعه إلى غرمائه، فإن دفع رب المال أو العامل حقه إلى غرمائه بإذنه جاز، وإن كان بغير إذنه لم يجز بخلاف المكاتب الذي يجوز دفع حقه إلى سيده، بأمر. وغير أمره. والفرق بينهما أن المكاتب محجور عليه في حق سيده، وليس الغارم محجوراً عليه في ديون غرمائه، فلو كان الغارم محجوراً عليه بالفلس فدفع إلى غرمائه بالحصص جاز، وإن كان بغير إذنه، لأنه يصير بالحجر في معنى المكاتب فلو كان دين الغارم مؤجلاً ففي جواز الدفع إليه وجهان كالمكاتب قبل حلول النجم عليه. فصل فإذا أخذ الغارم سهمه وجب عليه أن يصرفه في دينه وهو بالخيار في دفعه إلى غرمائه شاء إلا أن يكون غارماً في حمالة دية قد أعطى فيها من مال الصدقات مع غنائه، ويكون عليه دينان دين الحمالة ودين عن معاملته فعليه أن يصرف ما أخذه في دين الحمالة ولا يصرفه في دين المعاملة، ولو قد أخذ مع الفقر في دين المعاملة كان بالخيار في أن يصرفه فيما شاء في دين المعاملة أو دين الحمالة، والفرق بينهما أن الشرط في دين المعاملة أغلظ، لأنه لا يستحقه إلا بالفقر ودين الحمالة، أخف لأنه يستحقه مع الغنى والفقر فجاز أن يصرف ما غلظ شرط استحقاقه فيما خف شرطه، ولم يجز أن يصرف ما خف شرط استحقاقه فيما غلظ شرطه فإذا أراد الغارم أن يصرف ما أخذه في غير دينه لم يجز لاستحقاقه في الدين إلا أن يعدم قوت يومه فيجوز أن يأخذ منه قوت يومه وحده؛ لأنه غير مستحق في دينه كالمفلس يقسم ماله بين غرمائه إلا قوت يومه. فصل وإذا أخذ الغريم سهمه فلم يصرفه في دينه حتى أبرى، منه أو قضى عنه أو قضاه من غير استرجع منه كما قلنا في المكاتب إلا أن يقضيه من قرض يقترضه فلا يسترجع منه؛ لأن الفرض ما أسقط عنه الدين، وإنما انتقل من يستحق إلى مستحق فصار كالحوالة، فلو أبرئ من الدين أو قضاه من غير قرض فلو يسترجع منه ما أخذه حتى لزمه دين أخر صار به من الغارمين ففي استرجاعه وجهان: أحدهما: لا يسترجع منه لأنه لو استرجع لجاز أن يرد إليه.

والثاني: أنه يسترجع لأنه يصير كالمستسلف له قبل غرمه، والله أعلم. مسألة (¬1) قال الشافعي: "ويقبل قول ابن السبيل أنه عاجز عن البلد لأنه غير قوي حتى تعلم قوته بالمال ومن طلب بأنه يغزو أعطى ومن طلب بأنه غارم أو عبد بأنه مكاتب لم يعط إلا ببينة لأن أصل الناس أنهم غير غارمين حتى يعلم غرمهم والعبيد غير مكاتبين حتى تعلم كتابتهم ومن طلب بأنه من المؤلفة لم يعط إلا بأن يعلم ذلك وما وصفت أنه يستحقه به". قال في الحاوي: وهذا صحيح والذي قصده الشافعي بذلك أن يبين من يقبل قوله من أهل السهمان في استحقاق الصدقة ومن لا يقبل قوله إلا ببينة ونحن نذكر حكم كل صنف من الأصناف الثمانية. أما الفقراء والمساكين فإن لم يعلم لهم غناء متقدم قبل قولهم في الفقر والمسكنة غير بينة، وإن علم لهم مال متقدم لم يقبل قولهم في تلفه وفقرهم إلا ببينة تشهد لهم بذلك. وأما العاملون عليها فحالهم في العمل أشهر من أن يحتاجوا إلى بينة أو تحليف يمين. وأما المؤلفة قلوبهم فلا يرجح إلى قولهم لأنهم ممن تدعو الضرورة إليهم بظهور الصلاح وتآلفهم. وأما المكاتبون فلا يقبل قولهم في دعوى الكتابة إلا ببينة تشهد بها وبالباقي منها لأن الأصل أنهم غير مكاتبين فإذا تصادق المكاتب والسيد عليها وعلى الباقي منها ففيه وجهان: أحدهما: أن تصادقهما بغنى عن البينة بعد إحلافهما؛ لأنه قد صار بالتصادق مكاتباً في الظاهر. والثاني: أنه لا يقبل ذلك منهما مع التصادق إلا ببينة لأنهما قد يتواطأن على ذلك اجتلاباً للنفع. وأما الغارمون فمن استدان في إصلاح ذات البين فحاله فيه أظهر من أن يكلف عليه بينة فإن شك في قضائه الدين من ماله أحلف؛ لأن الأصل بقاؤه ومن أدان في مصلحة نفسه لم يقبل قوله في دعوى الدين إلا ببينة؛ لأن الأصل براءة الذمة فإن تصادق الغارم ورب الدين كان على ما ذكرنا من الوجهين. ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 232).

وأما ابن السبيل فالقول قوله في فقره، والقول قوله في إرادته للسفر، وفي إحلافه على أنه مريد للسفر وجهان: أحدهما: يحلف على إرادة السفر ولا يعطى إلا بعد يمينه، وهذا قول أبي إسحاق المروزي. والثاني: لا يحلف لأنه إن لم يسافر استرجع منه وهذا قول أبي علي بن أبي هريرة. وأما الغازي فيقبل قوله فيما يريد أن يستأنفه من غزوه وهل يحلف على إرادة الغزو أم لا على وجهين: أحدهما: يحلف وهو قول المروزي. والثاني: لا يحلف وهو قول ابن أبي هريرة. مسألة (¬1) قال الشافعي: "وسهم سبيل الله كما وصفت يعطى منه من أراد الغزو من أهل الصدقة فقيراً كان أو غنياً ولا يعطى منه غيرهم إلا أن يحتاج إلي الدفع عنهم فيعطاه من دفع عنهم المشركين لأنه يدفع عن جماعة أهل الإسلام". قال في الحاوي: وهذا كما قال. سهم سبيل الله مصروف في الغزاة، وهو قول أبي حنيفة ومالك. وقال أحمد بن حنبل: وهو مصروف في الحج، وبه قال ابن عمر استدلالاً بما روي أن رجلاً جعل ناقة في سبيل الله فأرادت امرأته أن تحج فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اركبيها فإن الحج في سبيل الله" (¬2). ودليلنا هو أن سبيل الله إذا أطلق فهو محمول على الغزو ولقوله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة:41] وقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً} [الصف:4]. وروى أبو سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله" ولأن مال الصدقات مصروف في ذوي الحاجات وليس الحج منها، ولأن مال الصدقات لا ينصرف إلا في الجهات المالكة فخرج الحج منها، ولأن الحج وإن كان عن رب المال فلا يجب إلا مع عجزه وفي غير زكاته من أمواله وإن كان عن غيره فلا يجوز أن يصرف فيه زكاة غيره، وإن كان في الحجاج أعطوا إما من سهم الفقراء أو من سهم بني السبيل فبطل بذلك ما قالوه وليس يمتنع ما جاء به الخبر من أن الحج من سبيل الله لقرينه وإن كان إطلاقه يتناول الجهاد. ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 232). (¬2) تقدم تخريجه في كتاب "الحج".

فصل فإذا ثبت أن سهم سبيل الله مصروف في الغزاة فالغزاة ضربان: ضرب هم من أهل الفيء وهم المرتزقة من أهل الديوان فهو لا يأخذ أرزاقهم على الجهاد من مال الفيء ولا يجوز أن يعطوا من مال الصدقات. والثاني: هم أهل الصدقات وهم الذين لا أرزاق لهم إن أرادوا غزواً وإن لم يريدوا قعدوا وقد سماهم الشافعي أعراباً فهم غزاة أهل الصدقات يجوز أن يعطوا منها مع الفيء والفقر. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يعطوا إلا مع الفقر، وإن كانوا أغنياء لم يعطوا استدلالاً بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم" ولأن من تجب عليه الصدقة لا يجوز أن تدفع إليه الصدقة كالأصناف الباقية. ودليلنا رواية أبي سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة لغاز في سبيل الله أو لعامل عليها أو لغارم أو لرجل له جار مسكين فتصدق على المسكين فأهدى المسكين إلى الغني" ولأن من أخذ الصدقة لحاجتنا إليه جاز أن يأخذها مع الغني والفقر كالعامل. فإن قيل: فالعامل يأخذ أجرة، لأنه في مقابلة عمل. قيل: هو صدقة: وإن كان في مقابلة عمل لتحريمه على ذوي القربى وعلى أن ما يأخذه الغازي في مقابلة عمل وهو الجهاد ولذلك يسترجع منه إن لم يجاهد. فأما الخبر فمخصوص العموم. وأما القياس فغير مسلم الأصل. فصل فإذا تقرر ما وصفنا أعطى الغازي من سهم سبيل الله قدر كفايته إن كان المال متسعاً وكفايته تعتبر من وجهين: أحدهما: قرب المغزى وبعده. والثاني: أن يكون فارساً أو راجلاً فإذا أعطى ذلك فلم يغز استرجع منه وإن غزا فبقيت بقية لم تسترجع؛ لأن ما أخذه في مقابلة عمل قد عمله فلو خرج للغزو ثم عاد قبل لقاء العدو فهذا على ضربين: أحدهما: أن يرجع قبل دخول أرض العدو فهذا يسترجع منه جميع ما أخذه ولا يعطى منه قدر نفقته؛ لأن المفقود من غزوة قد فوته بعوده. والثاني: أن يرجع بعد دخول أرض العدو، فهذا على ضربين: أحدهما: أن تكون وفقة مع المشركين، قابل فيها المجاهدون فتأخر هذا على

حضورها فهذا يسترجع منه ما أخذه، لأن المقصود بالغزو لقاء العدو. والثاني: أن لا تكون وقفة ولا حارب المجاهدون فيها أحداً لبعد المشركين عنهم فهذا لا يسترجع منه ما أخذه لأن المقصود بغزوهم هو الاستيلاء على ديارهم وقد وجد لبعدهم. مسألة (¬1) قال الشافعي: "وابن السبيل عندي ابن السبيل من أهل الصدقة الذي يريد البلد غير بلده لأمر يلزمه". قال في الحاوي: وهذا صحيح وبنو السبيل هو صنف من أهل السهمان قال الله تعالى: {وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60] وبنو السبيل هم المسافرون؛ لأن السبيل الطريق سموا بها لسلوكهم لها وهم ضربان: مجتاز ومنشئ. فأما المجتاز فهو المار في سفره ببلد الصدقة. وأما المنشئ: فهو المبتدئ لسفره عن بلد الصدقة وهما سواء في الاستحقاق وقال أبو حنيفة ومالك: ابن السبيل من أهل السهمان هو المجتاز دون المنشئ استدلالاً بقوله تعالى: {وَاِبْنِ السَّبِيلِ} [التوبة:60] يعني ابن الطريق وهذا ينطبق على المسافر المجتاز دون المنشئ الذي ليس بمسافر مجتاز. ودليلنا هو أن ابن السبيل يعطي لما يبتدئه من السفر لا لما مضى منه فاستوي فيه المجتاز المنشئ، لأن كل واحد منهما مبتدئ؛ لأن المسافر لو دخل بلداً أو نوى إقامة خمسة عشر يوماً صار في حكم المقيمين من أهله ويصير عند إرادة الخروج كالمنشئ ثم يجوز بوفاق فكذا كل مقيم منشئ وفيه انفصال عن الاستدلال. فإن قيل: فكيف يسمى من لم يسافر مسافراً. قيل: كما يسمى من لم يحج حاجاً ومثل ذلك قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282]. فصل فإذا تقرر أن المجتاز والمنشئ سواء فلا يخلو حاله فيما ينشئه من سفر من ثلاثة أقسام: إما أن يكون في طاعة أو يكون في معصية أو يكون مباحاً، فإن كان سفره طاعة كالحج وطلب العلم وزيارة الوالدين أعطى من سهم ابن السبيل معونة على سفره وطاعته، وإن كان سفره معصية كالسفر لقطع الطريق وإتيان الفجور، فلا يجوز أن يعطى ولا يعان على معصية كما يمنع من رخص سفره، فإن تاب العاصي في سفره صار بعد التوبة ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 232).

كالمبتدئ للسفر فيعطى نفقة باقي سفره بعد توبته وإن كان سفره مباحاً فعلى ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكون لغير حاجة كالسفر إلى نزهة وتفرج فلا يجوز أن يعطى وإن أبيحت له الرخص لأن مال الصدقات مصروف إلى ذوي الحاجات وليس هذا منها ولكن لو سافر للنزهة بماله ثم انقطعت به النفقة لعوده جاز أن يعطى لحاجته وضرورته. والثاني: أن يكون لحاجة ماسة كالسفر في طلب غريم هرب أو عبد آبق أو جمل شرد فهذا يعطى لسد حاجته. والثالث: أن يكون لحاجة لكنها غير ماسة كالسفر في تجارة ففي جواز إعطائه وجهان: أحدهما: يعطى لوجود الحاجة. والثاني: لا يعطى لأنه طالب للاستزادة. فصل فإذا ثبت من يجوز إعطاؤه من بني السبيل فلا يخلو إما أن يكون منشئاً للسفر أو مجتازاً فيه، فإن كان منشأ لسفره لم يجز أن يعطى إلا مع الفقر وهو بالخيار بين أن يأخذ من سهم الفقراء والمساكين ومن سهم ابن السبيل، وإن كان مجتازاً في سفره جاز أن يأخذ مع العدم في سفره وإن كان غنياً في بلده، ولم يجز أن يأخذ إلا من سهم بني السبيل ولا يأخذ من سهم الفقراء والمساكين لمراعاة الجوار في الفقر، وليس المجتاز جاراً ثم يعطى عند اتساع المال بحسب مسافة سفره، فإن أراد العود أعطي نفقة ذهابه وعوده ونفقة ثلاثة أيام هي مقام المسافر في بلاد سفره، وإن لم يرد العود أعطي نفقة الذهاب وحده ولم يعط نفقة ثلاثة أيام لانتهاء سفره بالقدوم، فإن قصر بعد المسافة في نفقته وضيق على نفسه حتى بقيت معه بقية بعد انتهاء سفره استرجعت منه. والفرق بينه وبين الغازي لم تسترجع منه بقية نفقته أن الغازي كالمعاوض على غزوه عناء فلم يلزمه رد الباقي لاستكمال العمل والمسافر معان على سفره فلزمه رد ما زاد على معونته، فإن أخذ ابن السبيل نفقة سفره ثم أفاد قدر نفقته استرجع منه ما أخذ، ولو أخذ الفقير ثم أفاد ما زال به فقره لم يسترجع منه ما أخذه. والفرق بينهما أن ابن السبيل يعطى لأمر منتظر فاعتبرت حاله فيما بعد والفقير يعطى للحال التي هو فيها فلم يعتبر حاله من بعده، ولو أن ابن السبيل أخذ نفقة سفره إلى غاية قدرها مائة فرسخ شطر المسافة ثم قطع سفره نظرنا في نفقته، فإن كان أنفق في شطر المسافة جميع نفقته نظر، فإن كان قد فعل ذلك لغلاء سعر أو زيادة مؤنة لم يسترجع منه وإن كان لسرف في شهوة وإكثار استرجعت منه نفقة الباقي من سفره كما لو لم يسافر وأنفق في ذلك في مقامه استرجع منه جميعاً؛ لأنه أخذها ليستقبل بها ما لم يفعله والله أعلم بالصواب.

باب كيف تفريق قسم الصدقات

باب كيف تفريق قسم الصدقات مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: "ينبغي للساعي أن يأمر بإحصاء أهل السهمان في عمله حتى يكون فراغاه من قبض الصدقات بعد تناهي أسمائهم وأنسابهم وحالاتهم وما يحتاجون إليه ويحصى ما صار في يديه من الصدقات فيعزل من سهم العاملين بقدر ما يستحقون بأعمالهم فإن جاوز سهم العاملين رأيت أن يعطيهم سهم العاملين ويزيدهم قدر أجور أعمالهم من سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفيء والغنيمة ولو أعطاهم ذلك من السهمان ما رأيت ذلك ضيقاً ألا ترى أن مال اليتيم يكون بالموضع فيستأجر عليه إذا خيف ضيعته من يحوطه وإن أتى ذلك على كثير منه. قال المزني: هذا أولى بقوله لما احتج به من مال اليتم". قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا توجه عامل الصدقات إلى عمله في جباية الصدقات وتفريقها، فينبغي له مع ابتداء تشاغله بجبايتها أن يستنيب من يتصرف له أحوال أهل السهمان حتى يعرف أهل كل صنف منهم فيثبت كل واحد باسمه ونسبه وحليته، وإنما أثبت الأنساب والحلي لئلا يأخذ الواحد من صدقة مرتين فيميز كل صنف منهم على ما وصفنا ليعلم أعداد الأصناف وعدد كل صنف منهما ويكون فراغه من تفرقه ذلك مع فراغه من جباية الصدقات حتى لا يتأخر عن أهلها وجودهم ولا يلزم لها مؤونة بالإمساك، ولا تكون معرضة للتلف بالاحتباس فإذا فعل ذلك لم يخل أن يكون بتلك الناحية جميع تلك الأصناف أو بعضهم، فإن كان بها جميع الأصناف قسم الصدقة على ثمانية أسهم متساوية، ولا يفضل بعض الأصناف على بعض، وإن تفاضلوا في الحاجة والكثرة؛ لأن الله تعالى أضافها إليهم بلام التمليك وجميع بينهم بواو التشريك فاقتضى أن يكونوا فيها سواء فإن وجد خمسة أصناف وعدم خمسة، قسم الصدقة على ثلاثة أسهم، فإذا فعل ذلك فأول سهم يبدأ بقسمه سهم العاملين عليها لأمرين: أحدهما: أنه مستحق على عمل فصارت كالمعاوضة وغيره مواساة. والثاني: أنه مقدر بأجورهم من زيادة ولا نقصان فهو قدر حقهم أو يكونوا أكثر من أجورهم فيعطوا منه قدر أجورهم، ويرد الباقي على سهام أهل السهمان بالسوية أو يكون أقل من أجورهم فيجب أن يتمم لهم أجورهم، ومن أين يكون تمامها، قال الشافعي: هاهنا أعطاهم من سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفيء والغنيمة فلو أعطاهم من السهمان ما رأيت ذلك ضيفاً فاختلف أصحابنا في ذلك على ثلاثة مذاهب: أحدهما: يخرج ذلك على قولين: ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 233).

أحدهما: أن يتممها من سهام أهل السهمان لاختصامهم بالعمل فيها. والثاني: يتممها من مال المصالح وهو سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الفيء والغنيمة لأن ذلك من جملتها ولأن لا يفضلوا على أهل السهمان. والمذهب الثاني: أن ليس ذلك على قولين، ولكن للإمام اجتهاد رأيه في أحد الأمرين فأيهما أداه اجتهاده إليه كان مذهبنا. والمذهب الثالث: أن ذلك على اختلاف حالين، فإن كان في أهل السهمان تماسك يقنعهم الباقي بعد أجور العاملين تممت أجورهم من مال الصدقات، وإن كانوا ذوي فاقة لا يتماسكون بما يبقى تممت أجورهم من مال المصالح والله أعلم. مسألة (¬1) قال الشافعي: "وتفض جميع السهمان على أهلها كما أصف إن شاء الله تعالى كان الفقراء عشرة والمساكين عشرين والغارمون خمسة وهؤلاء ثلاثة أصناف وكان سهمانهم الثلاثة من جميع المال ثلاثة آلاف فلكل صنف ألف فإن كان الفقراء يغترفون سهمهم كفافاً يخرجون به من حد الفقر إلى أدنى الغنى أعطوه وإن كان يخرجهم من حد الفقر إلى أدنى الغنى أقل وقف الوالي ما بقي منه ثم يقسم على المساكين سهمهم هكذا وعلى الغارمين سهمهم هكذا وإذا خرجوا من اسم الفقر والمسكنة فصاروا إلى أدنى أسم الغنى ومن الغرم فبرئت ذممهم وصاروا غير غارمين فليسوا من أهله". قال في الحاوي: وهذا صحيح قد ذكرنا أن مال الصدقات مقسوم على الموجودين من أهلها فإن كملوا قسمت على ثمانية أسهم، وإن قلوا قسمت على من وجد منهم فإن كان الموجودون بعد العاملين ثلاثة أصناف الفقراء والغارمون والمساكين، وقسمت الصدقة على ثلاثة أسهم متساوية سواء تساوي أصناف في الأعداد والحاجة أو تفاضلوا فإذا كان الفقراء على المثل الذي صوره الشافعي عشرة والمساكين عشرين، والغارمون خمسة، وقد قسمت الصدقة على ثلاثة أسهم متساوية فكان كل سهم منها ألف درهم قسم سهم الفقراء عليهم، وهو الألف على قدر حاجاتهم فإنه ربما تفاضلت حاجاتهم، وربما تساوت، فيقتسم على الحاجة لا على العدد، وكذلك سهم المساكين يقسم بينهم على قدر حاجاتهم، ويقسم سهم الغارمين على قدر ديونهم، كما يقسم مال المفلس بين غرمائه على قدر ديونهم لا على أعداد رؤوسهم. فإن قيل: فأيهم يبدأ بالعطاء قبل أن يعجل حضور أحدهم، وتأخر الباقون بدأ بمن تعجل حضوره على من تأخر، وإن حضروا جميعاً، فقد قيل: يبدأ بأشدهم حاجة وأمسهم ضرورة، وقيل: يبدأ بمن إذا فيض عليهم سهمهم وبقيت منه بقية لتفضي على الباقين قبل القسمة فلا يحتاج فيها إلى استئناف قسمتها منه. ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 233، 234).

وقيل: يبدأ بمن بدأ الله تعالى به في أية الصدقات على ترتيبهم فيها، فأما الصنف فيبدأ بأسبق أهله، فإن جاؤوا معاً بدأ بأمسهم حاجة وضرورة، فإن تساووا بدى بمن يرى، هذا كله من طريق الأولى، وبأيهم بدأ من الأصناف والأعيان جاز ثم يقسم سهم الفقراء وهو ألف عليهم، وهم عشرون بحسب حاجاتهم، ويقسم سهم الغارمين وهو ألف عليهم، وهو خمسة بحسب ديونهم، مثال ذلك أن يكون دين أحدهم مائة درهم ودين الآخر مائتي درهم، ودين الثالث ثلاثمائة درهم، ودين الرابع أربعمائة درهم، ودين الخامس خمسمائة درهم فيكون مبلغ دينهم ألف درهم وخمسمائة، وسهمهم ألف درهم هي ثلثا دينهم فيعطى كل واحد من دينه ثلثه، ولو كان سهمهم ألف درهم وخمسمائة درهم لكان كافياً لجميعهم فيعطى كل واحد جميع دينه، ولو كان سهمهم وألفي درهم أعطي كل واحد منهم قدر دينه وحبس الباقي عنهم، وكذلك يفعل بالفقراء والمساكين. فصل فإذا قسم ذلك عليهم كما وصفنا لم يخل حالهم من ستة أقسام: أحدها: أن تكون سهام جميعهم وفق كفاياتهم من غير زيادة ولا نقص فقد استوفوها وخرجوا بها، إن استحقوا مثلها من غيرها. والثاني: أن تكون سهام جميعهم مقصرة عن كفاياتهم، فإذا قسمها فيهم من الباقي من كفاياتهم من أهل الصدقات فيما يأتي منها حتى يستوفوا قدر الكفايات إن أمكنت. والثالث: أن يكون سهام جميعهم زائدة على قدر كفاياتهم فإذا أخذوا منها قدر كفاياتهم نقل الفاضل عنهم إلى أقرب البلاد بهم. والرابع: أن تكون سهام بعضهم وفق كفاياتهم وسهام بعض مقصرة عن كفاياتهم فإذا قسم الكافي على أهله خرجوا به من أهل الصدقة. وإذا قسم المقصر على أهله كانوا في الباقي من أهل الصدقة. والخامس: أن تكون سهام بعضهم زائدة على قدر كفاياتهم وسهام بعضهم ناقصة عن كفاياتهم فإذا فض الناقص على أهله، وحبس من الزائد ما فضل عن وفق الكفاية ففي مصرفه وجهان: أحدهما: أنه يرد الفضل إلى أهل السهام المقصرة حتى يستوفي جميع الأصناف قدر كفاياتهم تغليباً لحكم المكان أن لا تنقل صدقة إلى غيره، وفيه مستحقها. والوجه الثاني: أن تنقل الفضل عن السهام الزائدة إلى تلك الأصناف من أقرب البلاد بهم ولا ترد على غيرهم تغليباً لحكم الأعيان أن لا يفضل بعض الأصناف على بعض. والسادس: أن تكون سهام بعضهم وفق كفاياتهم وسهام بعضهم زائدة على قدر كفاياتهم فإذا قسم الكافي وحبس الزائد عن أهله نقلت تلك الزيادة إلى أقرب البلاد بهم

لا يختلف، ولكن إذا نقلها فهل يختص بها أهل تلك الأصناف أو تكون كالصدقة المبتدأة تقسم في جميع الأصناف على وجهين بناء على الوجهين الماضين: أحدها: أن يختص بها أهل تلك الأصناف إذا قيل في القسم الماضي بتغليب الأعيان وأن الفاضل ينقل إلى أقرب البلاد ولا يرد على باقي الأصناف. والثاني: أن الفاصل يقسم في أقرب البلاد على جميع الأصناف، إذا قيل في القسم الماضي بتغليب المكان، وأن الفاضل يرد على باقي الأصناف والله أعلم. مسألة (¬1) قال الشافعي: "ولا وقت فيما يعطى الفقير إلا ما يخرجه من حد الفقر إلى الغنا قل ذلك أو كثر مما تجب فيه الزكاة أو لا تجب لأنه يوم يعطاه لا زكاة فيه عليه وقد يكون غنيا ولا مال له تجب فيه الزكاة وفقيراً بكثرة العيال وله مال تجب فيه الزكاة وإنما الغنى والفقر ما يعرف الناس بقدر حال الرجال". قال في الحاوي: اعلم أن الكلام في هذه المسألة يشتمل على فصلين: أحدهما: فيمن يجوز أن يأخذ بالفقر من الزكاة. والثاني: في القدر الذي يجوز أن يعطاه من الزكاة وكلا الأمرين معتبر بأدنى الغنى واختلف الناس في أدنى الغنى على ثلاثة مذاهب: أحدها: ما ذهب إليه أحمد بن حنبل أن أدنى الغنى على ثلاثة مذاهب: أحدها: ما ذهب إليه أحمد بن حنبل أن أدنى الغنى خمسون درهماً، فلا تحل الزكاة لمن تملكها ولا يجوز أن يعطى أكثر منها، وقد حكي ذلك في الصحابة عن عمر وعلي وسعد رضوان الله عليهم، وبه قال من الفقهاء الزهري والثوري. والثاني: ما ذهب إليه أبو حنيفة: أن أدنى الغنى نصاب تجب فيه الزكاة فلا يحل الزكاة لمن يملك نصاباً ولا يعطى منها نصاباً، فإذا ملك مالاً تجب فيه الزكاة من عقار ورقيق، فإن احتاج إليه كدار يسكنها أو دابة يركبها أو أمة يستخدمها حلت له الزكاة، وإن كانت قيمته أكثر من نصاب، وما استغنى عنه من ذلك اعتبرت قيمته، فإن بلغت نصاباً حرمت عليه الزكاة، وإن نقصت عن نصاب حلت له الزكاة. والثاني: مذهب الشافعي أن الغنى غير معتبر بالمال، وإنما هو القدوة على الكفاية الدائمة لنفسه ولمن تلزمه نفقته إما بضاعة أو تجارة أو زراعة، وبيان ذلك أن الناس أربعة أصناف: صناع، وتجار، وأصناف عقار وأصحاب مواش. فأما الصناع فكالفلاحين والملاحين والنجارين والبنائين، فإن كان الواحد منهم يكتسب بضاعته قدر كفايته على الدوام لنفسه، ولمن تلزمه مؤنته حرمت عليه الزكاة، وإن ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 234).

لم يملك ديناراً ولا درهماً، وإن كان لا يكتسب بضاعته قدر كفايته على الدوام حلت له الزكاة وأن يأخذ منها تمام كفايته. وأما التجار فهم الذين يستمدون أرباح بضائعهم، فإن كانت بضاعة الواحد منهم تربحه غالباً قدر كفايته كان غنياً تحرم عليه الزكاة، وإن لم يملك نصاباً، وإن كانت لا تربحه قدر كفايته كان فقيراً وإن ملك نصاباً وحل له أن يأخذ من الزكاة، ما إذا ضمه إلى بضاعته ربح بها قدر كفايته، وذلك يختلف بحسب اختلافهم في متاجرهم فإذا كان البقلي يكتفي بخمسة دراهم والباقلاني بعشرة والفاكهاني بعشرين والخباز بخمسين والبقال بمائة والعطار بألف والبازاز بألفي درهم والصيرفي بخمسة آلاف والجوهري بعشرة ألاف وملك كل واحد ممن ذكرنا بضاعته التي يكتفي بربحها حرمت عليه الزكاة، وإن ملك أقل منها حلت له الزكاة أن يأخذ منها تمام بضاعته التي يكتفي بربحها حتى أن البقلي إذا ملك خمسة دراهم هي كفايته كان غنياً والجوهري إذا ملك تسعة ألاف درهم هي دون كفايته كان فقيراً أو مسكيناً، وكذلك القول من أصحاب العقار والمواشي إن كان يستغل منها قدر كفايته حرمت عليه الزكاة، وإن كان لا يستغل منها قدر كفايته حلت له الزكاة أن يأخذ منها ما يشتري به من العقار والمواشي ما إذا ضمه إلى ماله ما اكتفى بغلته على الدوام. فصل فأما أحمد فاستدل برواية ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سأل الناس وهو غني كانت مسألته يوم القيامة خموشاً أو خدوشاً أو كدوحاً في وجهه"، قيل: يا رسول الله وما غناه قال: خمسون درهماً أو عدلها" (¬1). وأما أبو حنيفة فاستدل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم" (¬2) فجعل المأخوذ منه غير المدفوع إليه قالوا، ولأنه مالك لنصاب من مال فوجب أن يكون غنياً تحرم عليه الصدقة أصله، إذا كان له كفاية على الدوام قالوا؛ لأن اعتبار الكفاية لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يعتبروا كفاية زمان المقدر أو كفاية العمر فلم يجز أن يعتبر العمر لأنه مجهول وأما الزمان المقدر فلستم في اعتباره بسنته بأولى من اعتباره بأقل منها أو أكثر، فبطل اعتبار الكفاية ودليلنا حديث قبيصة بن المخارق: أنه تحمل بحمالة فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله فقال: نؤدها عنك من نعم الصدقة يا قبيصة إن المسألة حرمت إلا في ثلاثة: رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يؤدها ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش ثم يمسك، ورجل أصابته حاجة حتى تكلم ثلاثة من ذوي الحجى من قومه أن به حاجة فحلت له المسألة حتى يصيب قواماً من عيش ثم يمسك، وما سوى ذلك من المسألة فهو سحت. فدل نص هذا الخبر على أن الصدقة تحل بالحاجة وتحرم بإصابة القوام من العيش وهو ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه (¬2) تقدم تخريجه

الكفاية على الدوام من غير أن يعتبر النصاب ولأن من عجز عن الكفاية الدائمة زال عنه حكم الغنى كالذي لا يملك نصاباً، ولأن ملك النصاب والحاجة معنيان مختلفان يجوز اجتماعهما فجاز اجتماع حكمهما، وهما أخذ الصدقة منه بالنصاب ودفعها إليه بالحاجة كالعشر؛ ولأنه لما لم يكن ملك قيمة النصاب من المتاع والعروض يمنح من أخذ الصدقة لأجل الحاجة لم يكن ملك النصاب مانعاً منها لأجل الحاجة. وتحريره: أنه ذو حاجة فلم تحرم عليه الصدقة بالقدرة على نصاب كمالك المتاع. وأما الجواب عن استدلال أحمد بحديث ابن مسعود فهو أنه لم يقصد به تحديد الغنى في جميع الناس وإنما أراد به من كانت كفايته خمسين درهماً، بدليل ما روى أبو سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سأل الناس وله قيمة أوقية فقد ألحف" (¬1) يعني لمن كان مكتفياً بها. وروى سهل ابن الحنظلية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من سأل وعنده ما يغنيه فقد استكثر من النار" (¬2) قيل: وما يغنيه، قال: قدر ما يغذيه ويعيشه وهذا فيمن يكتسب بصنعته قدر عشائه وغذائه. وأما الجواب عن استدلال أبي حنيفة بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم فأردها في فقرائكم" فهو أنه قصد بذلك إنما يأخذه من صدقاتهم ليس يأخذه لنفسه وأهله، وإنما يرده على فقرائهم من ذوي الحاجات، وليس يمنع أن يكون المأخوذ منه مردوداً عليه كالعامل وابن السبيل، وكالمأخوذ منه العشر والعشر عندنا زكاة، وأما إذا كان واجداً لكفاية فتحرم عليه الزكاة لوجود الكفاية لا يملك النصاب فلم يصح قياسهم. وأما استدلالهم بأنه لا يخلو اعتبار الكفاية من أن يكون بالعمر أو بزمان مقدر فقد اختلف أصحابنا في ذلك، فكان مذهب أبو العباس بن سريج إلى أنه معتبر بزمان مقدر وهو سنة وذلك أولى من اعتباره بأقل منهما أو أكثر، لأن الزكاة تجب بعد سنة، فاعتبر في مستحقها لكافية السنة، وذهب سائر أصحابنا إلى أنه يعتبر في ذلك كفاية العمر ولئن كان العمر مجهولاً فالكفاية فيه لا تجهل؛ لأن كفاية الشهر من أجل معيناً أو صنعة تدل على كفاية العمر وإن جهل. فإن قيل: فقد يمرض فيعجز عن الكسب أو يغلا السعر فلا يكتفي بذلك القدر. قيل: إذا كان ذلك صار حينئذ من أهل الصدقة كما أنه قد يجوز أن يملك النصاب فيصير من أهل الصدقة. مسألة (¬3) قال الشافعي رحمه الله: "ويأخذ العاملون عليها بقدر أجورهم في مثل كفايتهم ¬

_ (¬1) أخرجه أبو داود (1628)، والنسائي (2595). (¬2) أخرجه أبو داود (1629). (¬3) انظر الأم (3/ 235).

وقيامهم وأمانتهم عليهم فيأخذ لنفسه بهذا المعنى ويعطي العريف ومن يجمع الناس عليه بقدر كفايته وكلفته وذلك خفيف لأنه في بلاده". قال في الحاوي: وهذا صحيح وليس وإن كان الشافعي قد ذكره فإنما أعاده ليبين قدر ما يعطى كل صنف من أهل السهمان بعد أن يبين كل صنف منهم، فالعاملون عليها صنف من أهل السهمان يعطون أجورهم منها صدقة. وقال أبو حنيفة: هو أجرة وليس بصدقة؛ لأنهم يأخذونه مع الغنى ولو كانت صدقة حرمت عنده على الأغنياء، وهذا خطأ؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} [التوبة:60] فلم يجز أن يزال عن الصدقة حكمها باختلاف المتملكين، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع ذوي القربى من العمل عليها لتحريم الصدقات عليهم، ولو خرجت عن حكم الصدقة إلى الأجرة ما منعهم منها، وليس ينكر أن تكون الأجرة صدقة إذا كانت مأخوذة من مال الصدقة فإذا ثبت هذا فإن كان العاملون عليها مستأجرين بعقد إجارة لم يجز أن يكون المسمى فيه من الأجرة أكثر من أجور أمثالهم، كما لا يجوز في المستأجر على أموال الأيتام أن يسمى له أكثر من أجرة المثل وإن لم يكونوا مستأجرين، بعقد كان لهم أجرة المثل كمن استهلك عمله بغير عقد، وذلك يختلف بقرب المسافة وبعدها وقلة العمل وكثرته. قال الشافعي: "وأماناتهم" ليس يريد أنه قد يجوز أن يستعمل غير أمين ولكنه إن كان معروف الأمانة كانت أجرته أكثر من غير المعروف بالأمانة، وإن كان لا يجوز أن يستعمل عليها غير أمين، ومن العاملين عليها العريف والحاشر والحاسب والكيال والعداد فأما العريف: فعريفان: عريف على أرباب الأموال، وعريف على أهل السهمان. فأما العريف على أرباب الأموال فهو الذي يعرفهم ويعرف أموالهم، وهذا يجب أن يكون من جيران أهل المال ليصلح أن يكون عارفاً بجميعها وبأربابها. وأما عريف أهل السهمان فهو الذي يعرف كل صنف منهم ولا يخفى عليه أحوالهم، وهذا يجب أن يكون من جيران أهل السهمان ليصح أن يكون عارفاً بظاهر أحوالهم وباطنها، وكلا الفريقين أجرته من سهم العاملين وأجرتهما أقل لأنهما ممن لا يحتاج إلى قطع مسافة لكونهما من بلد الصدقة لا من المسافرين إليه. وأما الحاشر فحاشران: حاشر لأهل السهمان يقتصر على النداء في الناحية باجتماعهم لأخذ الصدقة، وهذا أقلهما أجرة لكونه أقلهم تحملاً. والثاني: حاشر الأموال لأنه لا يلزم العامل أن يتبع المواشي سارحة في مراعيها فاحتاج إلى حاشر يحشرها في مياه أهلها، وهذا أكثرهما أجرة لكونه أكثرهما عملاً، وكلاهما أجرتهما في سهم العاملين. فأما الحاسب فهو الذي يحسب النصب، وقدر الواجب فيها وما يستحقه كل صنف

من أهل السهمان، ويجوز أن لا يكون من جيران المال، وأجرته من سهم العاملين، فإن كان كاتباً كانت أجرته أكثر وإن لم يكن كاتباً وكان العامل يكتب وإلا احتاج إلى كاتب يكتب ما أخذ من الصدقات من كل مالك ثبت عليه قدر ماله ومبلغ صدقته، وما أعطى كل صنف من أهل السهمان بإثبات أسهم كل واحد ونسبه وحليته، وقدر عطيته وكتب براءة لرب المال بأداء صدقته، ويعطى أجرته من سهم العاملين. وأما العداد فهو الذي يعد مواشي أرباب الأموال فيعطى أجرته من سهم العاملين. وأما الكيال: فكيال مال رب المال، وكيال لحقوق أهل السهمان، فأما كيال المال على رب المال ففي أجرته وجهان مضياً. وأما الكيال لحقوق أهل السهمان، ففي أجرته وجهان: أحدهما: في مال أهل السهمان. والثاني: من سهم العاملين، وربما احتاج العامل إلى غير من ذكرنا من الأعوان فيكون أجور من احتاج إليه منهم على ما ذكرنا من اعتبار حاله فيما يختص به من عمله والله أعلم. مسألة (¬1) قال الشافعي: "وكذلك المؤلفة إذا احتيج إليهم". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن المؤلفة قلوبهم إن احتيج إليهم أحد أصناف أهل الصدقات على ما وصفنا من أقسامهم وأحكامهم وقدر ما يعطاه الواحد منهم ما يتآلف به قلبه فيقلع عن سيء الاعتقاد، فإذا صح اعتقاده وحسن إسلامه خرج من جملة المؤلفة قلوبهم، وإن لم يؤثر فيه ما أعطى منح لئلا يكون سهمهم مصروفاً في غير نفع، وإن أثر تأثيراً لم يستكمل معه حتى الاعتقاد أعطى من بعد حتى يستكمل حسن إسلامه وصحة اعتقاده. مسألة (¬2) قال الشافعي: "والمكاتب ما بينه وبين أن يعتق وإن دفع إلى سيده كان أحب إلى". قال في الحاوي: قد مضى الكلام أن المكاتبين هم المستحقون لسهم الرقاب في الصدقات، وقدر ما يعطاه كل واحد منهم معتبر بما عليه، فإن كان الباقي عليه وهو عاجز عنه من أخر نجومه أعطى جميعه، ولأن كان من أوسط نجومه أعطى مال ذلك النجم الذي قد حل عليه، وهل يجوز عند اتساع المال أن يعطى ما عليه من باقي نجومه حتى يستكمل عتقه أم لا؟ على وجهين بناء على الوجهين في جواز إعطائه مال النجم قبل حلوله: ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 235). (¬2) انظر الأم (3/ 235).

أحدهما: يعطى مال ذلك النجم وحده، وهذا على الوجه الذي لا يجوز إعطاء النجم قبل حلوله. والثاني: يعطى الجميع، وهذا على الوجه الذي يجوز فيه أن يعطى مال النجم قبل حلوله. مسألة (¬1) قال الشافعي: "ويعطى الغازي الحمولة والسلاح والنفقة والكسوة وإن اتسع المال زيدوا الخيل". قال في الحاوي: أما غزاة الصدقات فلهم سهم سبيل الله منها وما يعطونه منها معتبر بمؤنة غزوهم وإن كان الجهاد في بلدهم أعطوا النفقة والسلاح والحمولة التي تحملهم ورحالهم، إما في ماء أو على ظهر ثم لا يخلو أن يكونوا فرساناً أو رجالة فإن كانوا فرساناً أعطوا نفقات خيلهم ومؤنتهم في ذهابهم وعودتهم، وإن كانوا رجالة لا خيل لهم، فإن كانوا لا يقاتلون إلا رجالة على الأرض لم يعطوا الخيل، وإن كانوا يقاتلون فرساناً أعطوا الخيل إذا عدموها. فإن قيل: فكيف يعطون من مال الزكاة الخيل والسلاح وليس فيها خيل ولا سلاح. قلنا: لا يخلو دافع الزكاة إليهم من أحد أمرين. إما أن يكون رب المال أو الوالي فإن كان دافعها رب المال أعطاهم أثمان الخيل والسلاح ليتولوا شراء ذلك لأنفسهم ولم يجز أن يشتريه رب المال لهم؛ لأن إخراج القيم في الزكوات لا يجوز، وإن كان الوالي عليها هو الدافع لها ففيه وجهان: أحدهما: تدفع إليهم أثمانها، ولا يجوز أن يتولى شراءها رب المال، وهذا قول أبي إسحاق المروزي وابن أبي هريرة. والثاني: يجوز أن يتولى شراء ذلك لهم، والفرق بينه وبين رب المال أن للوالي عليهم ولاية ليست لرب المال، فجاز أن يتولى شراءه لهم إن لم يتوله رب المال. مسألة (¬2) قال الشافعي رحمه الله: "ويعطى ابن السبيل قدر ما يبلغه البلد الذي يريد من نفقته وحمولته إن كان البلد بعيداً أو كان ضعيفاً وإن كان البلد قريباً وكان جلداً الأغلب من مثله لو كان غنياً المشي إليها أعطي مؤنته ونفقته بلا حمولة فإن كان يريد أن يذهب ويرجع أعطي ما يكفيه في ذهابه ورجوعه من النفقة". قال في الحاوي: والذي يعطاه ابن السبيل معتبر بكفايته في سفره بحسب قربه وبعده ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 235). (¬2) انظر الأم (3/ 235).

وذهابه وعوده فيعطى ما يكفيه من نفقة ومؤونة فإن كان جلداً يقدر على المشي في سفره لم يزد على مؤونته، وإن كان لا يقدر على المشي وإن كان مسافراً في بحر لا يجد من الركوب بدأ أعطي مع النفقة كراء مركوبة، فإن أراد العودة أعطى مع اتساع المال نفقة الذهاب والعودة ونفقة مقام المسافر وهو مدة ثلاثة أيام ولا يزاد عليها وقد ذكرنا من ذلك ما أقنع. مسألة (¬1) قال الشافعي: "فإن كان ذلك يأتي على السهم كله أعطيه كله إن لم يكن معه ابن سبيل غيره وإن كان لا يأتي إلا على سهم، سهم من مائة سهم من سهم ابن السبيل لم يزد عليه". قال في الحاوي: وهذا كما قال لا يخلو حال ابن السبيل وكل صنف من أصناف أهل السهمان من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكونوا ثلاثة وهم أقل الجمع المطلق لا يزيدون عليها ولا ينقصون منها، فالواجب أن يقضي عليهم سهمهم بقدر حاجاتهم ولا يجوز الاقتصار على بعضهم سواء كان دافع الزكاة هو الوالي أو رب المال فإن كان سهمهم وفق كفاياتهم من غير زيادة ولا نقص أعطوه فإن أعطى اثنان منهم وحرم الثالث ضمنت حصته بقدر حاجته، وإن كان سهمهم أقل من كفاياتهم لم يخل حال المعطي من أحد أمرين: إما أن يكون ربه المال أو العامل فإن كان رب المال قسمه على خياره من تسوية وتفضيل، وإن كان العامل قسمه بينهم على قدر الحاجة ووكلوا في باقي كفاياتهم على ما يأتي من الصدقات، فإن أعطى اثنان منهم وحرم الثالث ضمنت حصته، فإن كان فاعل ذلك هو العامل ضمن حصة الثالث بقدر حاجته، وإن كان رب المال ففي قدر ما يضمنه قولان: أحدهما: ثلث سهمهم اعتباراً بالعدد. والثاني: يضمن أقل ما يجزئ أن يدفعه إليهم، لأن التسوية بينهم لا تلزم، وإن كان سهمهم أكثر من كفاياتهم أعطوا منه قدر كفاياتهم من غير الزيادة، وفيما يصنع بالفاضل من سهمهم وجهان مضيا. أحدهما: وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يرد على باقي الأصناف. والثاني: ينقل إلى أهل ذلك الصنف في أقرب البلاد بهم. فصل والقسم الثاني أن يكونوا أكثر من ثلاثة كأنهم كانوا عشرة فصاعداً فهذا على ضربين: ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 235/236).

أحدهما: أن يكون سهمهم وفقاً لكفاية جميعهم فالواجب أن يقسم على جميعهم ولا يجوز الاقتصار على بعضهم، فإن اقتصر المعطى على بعضهم وحرم الباقين ضمن لمن حرمه قدر كفايته وجهاً واحداً سواء كان المعطي رب المال أو العامل. والثاني: أن يكون سهمهم يقضي عن كفاية جميعهم، فهذا على ضرين: أحدهما: أن يكون المعطي رب المال فيجوز له أن يقتصر ثمنهم على ثلاثة فصاعداً ولا يجوز أن يقتصر على أقل من ثلاثة لاستحقاق ذلك لأقل الجمع فإن اقتصر على اثنين ضمن حصة الثالث، وفي قدرها وجهان مضيا. أحدهما: الثلث. والثاني: قدر الأجزاء. والثاني: أن يكون المعطي الوالي فعليه أن يفرق ذلك على جميعهم، ولا يجوز أن يقتصر على بعضهم والفرق بينهم وبين رب المال أن ما يعطيه رب المال هو بعض الصدقات فجاز أن يقتصر على بعض أهل السهمان وما يعطيه الوالي هو جميع الصدقات فوجب أن يفرقه على جميع أهل السهمان فهذا قسم ثان. فصل والقسم الثالث أن يكونوا أقل من ثلاثة كأنه وجد واحدافه لم ير سواه فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون السهم أكثر من كفايته فيعطي منه قدر كفايته، وفيمن ينقل إليه الفاضل منه الوجهان الماضيان: أحدهما: إلى باقي الأصناف. والثاني: إلى ذلك الصنف في أقرب البلاد. والثاني: أن يكون السهم كله بقدر كفاية هذا الواحد، ففي جواز دفع جميعه إليه وجهان: أحدهما: وهو مذهب الشافعي المنصوص عليه في هذا الموضع يجوز أن يدفع إليه جميع السهم لأنه لما جاز الاقتصار على بعض الأصناف عند عدم من سواه جاز الاقتصار على بعض الأصناف عند عدم من سواه جاز الاقتصار على بعض الصنف عند عدم من سواه. والثالث: أنه لا يجوز أن يعطيه من السهم إلا ثلثه من غير زيادة، لأن الله تعالى جعله لجمع أقله ثلاثة، وينقل باقي السهم، وهو ثلثاه لأن الله تعالى جعله لجمع أقله ثلاثة، وينقل باقي السهم، وهو ثلثاه إلى ذلك الصنف في أقرب البلاد ولا يعاد على باقي الأصناف.

مسألة (¬1) قال الشافعي: "ويقسم للعامل بمعنى الكفاية وابن السبيل بمعنى البلاغ لأني لو أعطيت العامل وابن السبيل والغازي بالاسم لم يسقط عن العامل اسم العامل ما لم يعزل ولا عن ابن السبيل اسم ابن السبيل ما دام مجتازاً أو يريد الاجتياز ولا عن الغازي ما كان على الشخوص للغزو". قال في الحاوي: وإنما قصد الشافعي بذلك تمييز أهل السهمان، وأنهم صنفان: أحدهما: ما يعطى بالاسم حتى يزول عنه. والثاني: من يعطى لمعنى يقترن بالاسم، لا يراعى زواله عنه، فأما المعطون بالاسم حتى يزول عنهم فأربعة أصناف. الفقراء يعطون حتى يستغنوا فيزول عنهم اسم الفقر والمساكين يعطون حتى يستغنوا فيزول عنهم اسم المسكنة والمكاتبون يعطون حتى يعتقوا فيزول عنهم اسم الكتابة، والغارمون يعطون حتى يقضوا ديونهم، فيزول عنهم اسم الغرم، فأما المعطون لمعنى يقترن بالاسم ولا يراعى زوال الاسم عنه فأربعة أصناف. العاملون يعطون أجورهم وإن سموا بعد الأخذ عمالاً. والمؤلفة قلوبهم يعطون وإن سموا بعد الأخذ مؤلفة. والغزاة يعطون وإن سموا بعد الأخذ غزاة، وبنو السبيل يعطون وإن سموا بعد الأخذ بني السبيل ولا يراعى فيهم زوال الاسم عنهم كما يراعى فيمن تقدمهم. مسألة: قال الشافعي: "رأي السهمان فضل عن أهله رد على عدد من عدد من بقي السهمان كان بقي فقراء ومساكين لم يستغنوا وغارمون لم تقض كل ديونهم فيقسم ما بقي على ثلاثة أسهم فإن استغنى الغارمون رد باقي سهمهم على هذين السهمين نصفين حتى تنفذ السهمان وإنما رد ذلك لأن الله تعالى لما جعل هذا المال لا مالك له من الآدميين بعينه يرد إليه كما ترد عطايا الآدميين ووصاياهم لو أوصى بها لرجل فمات الموصى له قبل الموصي كانت وصيته راجعة إلى ورثة الموصي فلما كان هذا المال مخالفاً المال يورث ههنا لم يكن أحد أولى به عندنا في قسم الله تعالى وأقرب ممن سمى الله تعالى له هذا المال وهؤلاء من جملة من سمى الله تعالى له هذا المال ولم يبق مسلم محتاج إلا وله حق سواه". قال في الحاوي: إذا قسمت الزكاة على الموجودين من الأصناف فكانت سهام بعض الأصناف أكثر من كفاياتهم، وسهام الباقين من الأصناف أقل من كفاياتهم لم يعط ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 237).

المكتفون ببعض سهامهم إلا قدر كفاياتهم ونقل عنهم الفاضل من كفاياتهم ثم مذهب الشافعي المنصوص عليه في هذا الموضع وغيره: أن يرد على باقي الأصناف الذين قصرت سهامهم عن كفاياتهم على ما وصفه من المثال في القسمة، وذهب بعض أصحابه إلى أنه ينقل الفاضل من تلك السهام إلى أهلها في أقرب البلاد، ولا يرد على باقي الأصناف لأن لا يفاضل بين الأصناف مع تسوية الله تعالى بينهم، وما ذهب إليه الشافعي أصح لثلاثة معان: أحدها: أنه لا يجوز العدول بالصدقة عن جيران المال ما وجدوا، وفي هذا عدول عنهم. والثاني: أنه لما عدم بعض الأصناف وجب رد سهمه على من وجد ولا ينقل، فأولى لي أن يكون الفاضل عن كفاية الموجودين يرد على من احتاج ولا ينقل. والثالث: أنه لما كانت الوصايا إذا ضاقت ورد بعضهم حصته منها ردت على من بقي ولم ترد على الورثة كانت الصدقة بمثابتها، والله أعلم. مسألة (¬1) قال الشافعي: "أما أهل الفيء فلا يدخلون على أهل الصدقة وأما أهل الصدقة الأخرى فهو مقسوم لهم صدقتهم فلو كثرت لم يدخل عليهم غيرهم وواحد منم يستحقها فكما كانوا لا يدخل عليهم غيرهم فكذلك لا يدخلون على غيرهم ما كان من غيرهم من يستحق منها شيئاً". قال في الحاوي: وهذا كما قال وهي جملة تشتمل على فصلين: أحدهما: تمييز أهل الصدقة عن أهل الفيء. والثاني: تمييز أهل الصدقات بعضهم عن بعض. فأما تمييز أهل الصدقة عن أهل الفيء فقد ذكرناه، وقلنا لمن قال: الفيء لأهله لا يجوز أن يأخذ منه أهل الصدقات، وأما الصدقة لأهلها، لا يجوز أن يأخذ منها أهل الفيء، وهو قول أهل الحجاز وإن خالف فيه أهل العراق بعد مضي الكلام فيه. وأما تمييز أهل الصدقات فهو معتبر بحال معطيها، فإن كان رب المال هو المعطي تميزوا بالجواز فإذا أعطى زكاة ماله لأهلها من جيرانه فإن اكتفوا بها لم يجز أن يأخذوا من زكاة غيرهما، وإن لم يكتفوا جاز أن يأخذوا من زكاة أخرى، لأن أرباب الأموال قد يتجاورون فيكون في جيران جميعهم أهلاً لصدقاتهم كلهم، فإن كان العامل هو المعطي فأهل عمله أهل الصدقات التي يجيبها، فإذا فرقها فيهم لم يجز أن يأخذوا من غيرها هن الصدقات سواء اكتفوا بما قد أخذوا من الصدقات أم لا؛ لأنه لا حق لهم في صدقة ليس ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 237).

من أهلها، وهو معنى قول الشافعي: "فكما لا يدخلون على غيرهم فكذلك لا يدخل عليهم غيرهم"، ودل الشافعي بهذا على أن الصدقة إذا فضلت عن كفاية بعضهم فاحتاج إليها الباقون أنها لا تنقل عنهم تعليلاً بأنهم لما لم يدخلوا على غيرهم في صدقة أخرى لم يدخل عليهم غيرهم في الفاصل من صدقات بعضهم، وهذا تعليل صحيح. فإن قيل: فما الفرق بين ما يعطيه العامل وبين ما يعطيه رب المال. قيل: الفرق بينهما أن رب المال يعطى بعض الصدقات فجاز أن يعطى الأخذ من صدقة أخرى، والعامل يعطى جميع الصدقات فلم يجز أن يعطي الأخذ من صدقة أخرى، والله أعلم. مسألة (¬1) قال الشافعي: "وإن استغنى أهل عمل ببعض ما قسم لهم وفضل عنهم فصل رأيت أن ينقل الفضل منهم إلى أقرب الناس بهم في الجوار". قال في الحاوي: إذا استغنى أهل ناحية ببعض صدقاتهم ووجب نقل فاضلها إلى أقرب البلاد بهم، لأنه لا حق لهم فيما فضل عن كفاياتهم فكان أقرب الناس بهم أحق بها من غيرهم فلو قرب منهم بلدان، فإن كان أحدهما أقرب إليهم من الأخر كان أقرب البلدين أولى من أبعدهما سواء كان الأقرب مصراً أو قرية، وإن كانا في القرب سواء نظر في العامل في الصدقة، فإن كانت مع رب المال كان بالخيار في إخراجها في أي البلدين شاء، وإن كانت مع الوالي كان عليه أن يخرجها في البلدين معاً، أن على الوالي أن يعم وليس على رب المال أن يعم، ولو تساويا في القرب إليهم قربة وبادية استويا في الاستحقاق، وكانا كالبلدين المتساويين في القرب سواء كانا في جهة واحدة أو في جهتين من عمل واحد أو من عملين إلا أن يكون أحد البلدين من ولاية هذا العامل والآخر من غير ولايته فيكون البلد الذي هو في ولايته أولى بنقل هذا الفاضل إليهم من البلد الذي ليس فيه ولايته. مسألة (¬2) قال الشافعي: "ولو ضاقت السهمان قسمت على الجوار دون النسب وكذلك إن خالطهم عجم غيرهم فهم معهم في القسم على الجوار فإن كانوا أهل بادية عند النجعة يتفرقون مرة ويخطلطون أخرى فأحب إلي لو قسمها على النسب إذا استوت الحالات، وإذا اختلفت الحالات فالجوار أولى من النسب وإن قال من تصدق إن لنا فقراء على غير هذا الماء وهم كما وصفت يختلطون في النجعة قسم بين الغائب والحاضر ولو كانوا بالطرف من باديتهم فكانوا ألزم له قسم بينهم وكانت كالدار لهم وهذا إذا كانوا ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 237). (¬2) انظر الأم (3/ 237، 239).

معاً أهل نجعة لا دار لهم يقرون بها فأما إن كانت لهم دار يكونون لها ألزم فإني أقسمها على الحوار بالدار. وقال في الجديد: إذا استوي في القرب أهل نسبهم وعدي قسمت على أهل نسبهم دون العدى وإن كان العدى أقرب منهم داراً وكان أهل نسبهم دون العدى وإن كان العدى أقرب منهم داراً وكان أهل نسبهم منهم على سفر تقصر فيه الصلاة قسمت على العدى إذا كانت دون ما تقصر فيه الصلاة لأنهم أولى باسم حضرتهم وإن كان أهل نسبهم دون ما تقصر فيه الصلاة والعدى أقرب منهم قسمت على أهل نسبهم لأنهم بالبادية غير خارجين من اسم الجوار وكذلك هم في المنعة حاضرو المسجد الحرام". قال في الحاوي: لهذه المسألة مقدمتان: إحداهما: أن الصدقة إن قسمها العامل لزمه أن يقسمها على جميع أهل السهمان، ولا يجوز أن يقتصر من كل صنف على طائفة حتى يقسمها على على جميعهم وإن قسمها رب المال جاز أن يقتصر من كل صنف على طائفة أقلها ثلاثة، ولا يلزمه أن يفرقها في جميع الصنف إلا أن تتسع صدقته لجميعهم فيلزمه من الاتساع أن يفرقها في الجميع، والفرق بين العامل وبين رب المال ما قدمناه، فإن العامل يقسم جميع الصدقات فيلزمه أن يقسمها في جميع أهل السهمان، ورب المال يقسم بعض الصدقات فجاز أن يقسمها في بعض أهل السهمان. والمقدمة الثانية: أن ينقل الصدقة عن مكانها لا يجوز إذا وجد فيه أهلها، وإن نقلت فقد أساء ناقلها، وفي أجزائها قولان. فإن عدم أهل السهمان في مكانهما نقلت إلى أقرب البلاد به. فإذا تقررت هاتان المقدمتان فلا يخلو قسم الصدقات من أن يتولاه رب المال أو العامل، فإن تولاه العامل فلا يخلو أن يكون صدقات أمصار أو بواد، فإن كانت صدقات أمصار لزمه أن يقسم صدقه كل مصر في أهله وأهل المصر من اشتمل عليهم بنياته وأحاط بهم سوره، فأما من خرج عن سوره ولم يتصل ببنيانه فإن كانوا على مسافة يوم وليلة فصاعداً لم تكن لهم في زكاة ذلك المصر حق لكونهم من المصر على سفر يقصر فيه الصلاة، فلم يجز أن يضافوا إليه وإن كانوا على مسافة أقل من يوم وليلة، ففيهم وجهان لأصحابنا: أحدهما: أنهم مستحقون لصدقات المصر وهم كسكانه في أن الخارج إليهم لا يكون مسافراً يستبيح القصر. والثاني: أنه لا حق لهم في صدقاته، لأنه لا يجوز أن يضاف إلى بلد من ليس فيه والذي أراه مذهب وهو أصح عندي من هذين الوجهين أن ينظر في الخارج عن المصر فإن كان ممن يلزمه حضوره كصلاة الجمعة كان مضافاً إلى أهله في استحقاق صدقاتهم كما كان مضافاً إليهم في وجوب الجمعة عليه في مصرهم، وإن كان ممن لا يلزمه حضور

المصر لصلاة الجمعة لم يكن مضافاً إلى أهله في استحقاق صدقاتهم كما لم يضف إليهم في وجوب الجمعة عليهم في مصرهم، وهذا حكم صدقات الأمصار إذا قسمها العامل في أهلها، وسواء في ذلك من كان قاطناً في المصر أو طارئاً إليه، وأقارب أرباب الأموال والأجانب؛ لأن استيعاب جميعهم في قمة العامل واجب. وإن كان ما يقسمه العامل صدقات بادية لا تضمنهم أمصار فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكونوا مقيمين بمكان قد استوطنوه من باديتهم لا يظعنون عنه شتاء ولا صيفاً ولا ينقلون عنه لمرعى ولا كلاء، فهؤلاء كأهل المصر لاشتراكهم في المقام، وإن اختلفوا في صفات المساكن فتكون صدقاتهم مقسومة فيمن كان نازلاً معهم في مكانهم، وهل يشركهم من كان على مسافة أقل من يوم وليلة أم لا على ما حكيناه من الوجهين. والثاني: أن يكونوا ممن ينتجع الكلأ، وينتقل لطلب الماء والمرعى فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكونوا مجتمعين لا ينفصل حال بعضهم من بعض، فجميعهم جيران وإن تميزت أنسابهم فتقسم الزكاة في جميعهم وفيمن كان منهم على مسافة أقل من يوم وليلة وإن تميزوا عنهم وجهاً واحداً بخلاف أهل الأمصار، لأن البادية لما لم تضمهم الأمصار روعي في تجاورهم القرب والبعد، فمن كان منهم على أقل من مسافة يوم وليلة كان جارا لقربه ومن كان على مسافة يوم وليلة فصاعداً لم يكن جاراً لبعده. والثاني: أن يتميز حالهم وتنفصل كل حلة عن الأخرى، فتقسم زكاة كل حلة عن الأخرى فتقسم زكاة كل حلة على أهلها، وعلى من كان منها على أقل من مسافة يوم وليلة، وهذا حكم العامل إذا تولى قسمها بنفسه في الأنصار والبوادي. فصل وإن كان رب المال هو المتولي لقسم زكاته على ما قدمناه من جوازه في تفضيل حكم المال الظاهر والباطن فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون من أهل الأمصار أو من البوادي فإن كان من أهل الأمصار لم يكن من خرج عن مصره من جيرانه، ولا من مستحقي زكاته وجهاً واحداً بخلاف ما يقسمه العامل؛ لأننا نراعي فيما يقسمه رب المال الجوار وفيما يقسمه العامل الناحية، ثم لا يخلو حال مصره من أحد أمرين: إما أن يكون صغيراً أو كبيراً، فإن كان صغيراً كان جميع أهل جيرانه، فإن كان أهل الصدقة فيه أجانب من رب المال أو جميعهم أقارب له فجميعهم سواء، وله أن يدفع زكاة ماله إلى من شاء منهم بعد أن يعطى من كل صنف ثلاثة فصاعداً، وإن كان بعضهم أقارب لرب المال وبعضهم أجانب منه كان أقاربه أولى

بزكاته من الأجانب لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خير الصدقة على ذي الرحم الكاشح" (¬1) يعني المعادي، وقال - صلى الله عليه وسلم -: "صدقتك على غير ذي رحمك صدقة وعلى ذي رحمك صدقة وصلة" (¬2) فإن عدل بها عن أقاربه إلى الأجانب فقد أساء وأجزأته؛ لأن تقديم الأقارب من طريق الأولى مع اشتراك الأقارب والأجانب في الاستحقاق، وإن كان البلد كبيراً واسعاً، فقد اختلف أصحابنا هل يراعى فيه الجوار الخاص والجوار العام؟ على وجهين: أحدهما: أن المراعى فيه الجوار الخاص، فعلى هذا يكون جيرانه من أضيف إلى مكانه من البلد. وقيل: إنهم إلى أربعين دار من داره، ولا يكون جميع أهل البلد جيرانه، وهذا قول. والثاني: أنه يراعى فيه الجوار العام لقوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ} [النساء:36] يعني البعيد، فعلى هذا يكون جميع أهل البلد جيرانه، وهذا هو الظاهر من قول البغداديين، فعلى الوجه الأول: إن فرقها في غير جيرانه من أهل بلده لأن ناقلاً لزكاته عن محلها، وعلى الوجه الثاني لا يكون ناقلاً لها وهو أصح الوجهين. فصل وإن كان رب المال بدوياً، فعلى ضربين: أحدهما: إن يكون في حلة قاطناً بمكانها لا يظعن عنها شتاء ولا صيفاً فهي كالبلد وجميعها جيران سواء صغرت أو كبرت؛ لأنها لا تبلغ وإن كبرت مبلغ كبار الأمصار فيخص منهم أقاربه، فإن عدل عنهم إلى الأجانب أجزأ، ولا يكون من فارق الحلة جاراً، وإن كان على مسافة أقل من يوم وليلة، ولأن ذلك جار للحلة، والواحد من الحلة جيرانه أهل الحلة، فبان الفرق بينهما. والثاني: أن يكون في حلة ينجع الكلأ ويظعن الماء والمرعى، فهذا على ضربين: أحدهما: أن تكون الحلة مجتمعة لا ينفصل بعضها عن بعض فجميع أهلها جيرانه كبرت أو صغرت. والثاني: أن تكون متفرقة كتميز كل جماعة منهم عن غيرهم، إما لتميزهم في الأنساب وإما لتميزهم في الأسباب فهذا على ضربين: أحدهما: أن يختلفوا في الرحيل والنزول، فيكون جيرانه من الحلة من يرحل برحيله وينزل بنزوله ولا تكون الفرقة التي تخالفه في الرحيل والنزول جيراناً له. والثاني: أن يتفقوا في الرحيل والنزول، ففيه وجهان: ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (3/ 402). (¬2) أخرجه أحمد (4/ 17)، والدارمي (1/ 397)، والبيهقي في "الكبرى" (13222).

أحدهما: أن جميع الحلة من الفرق كلها جيران له اعتباراً باتفاقهم في النجعة، وإن تفرقوا في البقعة كما يتفرق أهل الأمصار في محالهم، ويكونوا جيرة إذا جمعهم المصر. والثاني: أن جيرانه منهم من هو في بقعته دون من فارقه اعتباراً بالمكان فعلى الوجه الأول إن عدل بزكاته إلى غير طائفة من فرق الحلة لم يكن ناقلاً لها، وعلى الوجه الثاني يكون ناقلاً لها. مسألة (¬1) قال الشافعي: "وإذا ولي الرجل إخراج زكاة ماله قسمها على قرابته وجيرانه فإن ضاق فآثر قرابته فحسن". قال في الحاوي: وإن كان لرب المال أقارب فلا يخلو أن يكونوا جيرانًا أو أباعد، فإن كان أقاربه جيراناً فلا يخلو أن يكون معهم أجانب أم لا، فإن لم يكن معهم أجانب فقد استحقوا زكاة ماله بالجوار وجاز الفضيلة بالقرابة وإن كان معهم أجانب، فعلى ضربين: أحدهما: أن تسع زكاته للأقارب والأجانب فيفضها على الفريقين. والثاني: أن تضيق زكاته على الفريقين فأقاد به أولى بزكاته من الأجانب لكن اختلف أصحابنا هل الأفضل أن يخلط بأقاربه نفراً من الأجانب أو يتوفر بها على أقاربه؟ على وجهين: أحدهما: أن يتوفر بها على أقاربه للخبر المتقدم. والثاني: أن الأولى أن يخلط بهم نفراً من الأجانب لقوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ (15)} [البلد:14 - 15] فجمع بين القريب والبعيد في استحقاق الثناء. فصل فأما إذا كان جيرانه أجانب وأقاربه أباعد فجيرانه الأجانب أولى بزكاته من أقاربه الأباعد وقال أبو حنيفة: أقاربه الأباعد أولى من جيرانه الأجانب، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "لا يقبل الله صدقة امرئ وذو رحمه محتاج" ولأن اجتماعهم في النسب صفة لازمة واجتماعهم في الجوار صفة زائلة، ولأن النفقة لما وجبت بالنسب دون الجوار كان اعتبار النسب في الزكاة أولى من اعتبار الجوار. ودليلنا عموم قوله تعالى: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى} [النساء:36] الآية وعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الجار أحق بسقبه" (¬2) أي بقربه ولأنه لما تميز الأقارب بوجوب النفقة تميز الجيران باستحقاق الزكوات؛ ولأنه لما كان جيرانه في الحرب كان جيرانه في بلده أولى بها من ¬

_ (¬1) الأم (3/ 239). (¬2) أخرجه أحمد (4/ 389)، وأبو داود (3516)، والنسائي (4702)، وابن ماجه (2495)، والطبراني في "الكبير" (1/ 308)، والدارقطني (4/ 223).

أقاربه في غير بلده وتحريره قياساً أن قرب الدار أحق بالزكاة في قرب النسب قياساً على دار الحرب فأما الخبر فمحمول على أحد وجهين: أحدهما: على صدقة التطوع. والثاني: على ذي الرحم الذي يجب نفقته، فأما الاعتبار للزوم الصفة في النسب دون الجوار ففاسد بالشفعة حيث روعي فيها الجوار دون النسب وأما الاستدلال بوجوب النفقة بالنسب دون الجوار فهو أحق أن يكون دليلاً عليهم لتميز مستحقي النفقة عن مستحقي الزكاة، والله أعلم. مسالة (¬1) قال الشافعي: "وأحب إلي أن لا يوليها غيره لأنه المحاسب عليها والمسؤول عنها وأنه على يقين من نفسه وفي شك من فعل غيره". قال في الحاوي: وكذلك دفعها إلى الأمام أولى من استنابة الوكيل فيها لأنها تسقط عنه بقبض الإمام لها ولا تسقط عنه بقبض وكيله لها، فأما رب المال والإمام، فإن كان المال ظاهراً فدفع زكاته إلى الإمام أولى من تفرد رب المال بإخراجها على قوليه في القديم والجديد لكنها على القديم من طريق الاستحقاق وعلى الجديد من طريق الأولى وإن كان المال باطناً، ففيه وجهان أحدهما: وهو قول ابن سريج وأبي إسحاق إن دفعها إلى الإمام أولى وتفرد رب المال بإخراجها؛ لأن الإمام يعم بها جميع أهل السهمان إذا انضمت إلى غيرها، ورب المال يخص بها بعضهم ولأن رب المال إذا دفعها خطأ إلى غير مستحق لم يسقط فرضها عنه، ولو دفعها الإمام خطأ إلى غير مستحق سقط فرضها عنه. والثاني: أن رب المال أولى بإخراجها من دفعها إلى الإمام؛ لأن ما باشره مع عباداته كان أفضل مما عول فيه على غيره؛ ولأنه أوسع اجتهاداً في مستحقي زكاته من الإمام؛ ولأنه أعرف منه بأقاربه وذوي رحمه. مسألة (¬2) قال الشافعي: "وأقل من يعطى من أهل السهم ثلاثة لأن الله تعالى ذكر كل صنف جماعة فإن أعطى اثنين وهو يجد الثالث ضمن ثلث سهم وإن أخرجه إلى غير بلاه لم يبن لي أن عليه إعادة لأنه أعطى أهله بالإثم وإن ترك الجوار". قال في الحاوي: اعلم أن قسم الصدقة يختلف فيها حال العامل وحال رب المال من وجهين: أحد الوجهين: أن على العامل فيما يقسمه أن يعم به جميع أهل (السهمان)، ويجوز ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 239). (¬2) انظر الأم (3/ 239).

لرب المال أن يقتصر في كل صنف على ثلاثة فصاعداً، فالفرق بينهما قد ذكرناه وهو أن العامل يقسم جميع الصدقات، فلزمه أن يعم بها جميع أهل السهمان، ورب المال يقسم بعض الصدقات فجاز أن يقتصر على بعض أهل السهمان. والثاني: أن على العامل أن يقسم سهم كل صنف على قدر حاجاتهم، ولا يجوز أن يساوي بينهم مع تفاضلهم في الحاجة ولا أن يفاضل بينهم مع تساويهم في الحاجة، ورب المال يقسم ذلك على خياره مع تسوية وتفضيل، ولا يلزمه أن يقسمه بينهم على قدر الحاجة والفرق بينهما أن العامل لما لزمه أن يعم جميع أهل السهمان لم يلزمه التسوية بينهم بحسب الحاجة، وكان على خياره في قدر العطاء كما كان على خياره في تميز العطاء فإذا ثبت الفرق بين هذين الوجهين فقد مضى الكلام فيما يتولاه العامل؛ فأما رب المال فلا يجوز أن يقتصر من الصنف الواحد على أقل من ثلاثة، إذا وجدوا؛ لأن الله تعالى ذكر كل صنف بلفظ الجمع المطلق وقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] وأقل الجمع ثلاثة فرقاً بين الجمع والتثنية، فأما الجمع بين الأصناف كلهم فيستوي فيه العامل ورب المال فلا يجوز لرب المال أن يخل بصنف منهم إذا قدر عليه في بلده كالعامل، والفرق بين هذا وبين أن لا يلزمه استيعاب كل صنف بخلاف العامل، لأن الله تعالى جعل كل زكاة لجميع الأصناف ولم يجعلها الجميع كل صنف فإذا تقرر أن الواجب عليه أن يعطي ثلاثة من كل صنف بالخيار بين التسوية بينهم والتفضيل اعتباراً بالحاجة، فأي هذه الثلاثة فعلى أجزأه، فإن قسمها على اثنين مع وجود الثالث ضمن حصة الثالث وفي قدر ما ضمنه، قولان: أحدهما: ثلث ذلك السهم وهو المنصوص عليه في هذا الموضع اعتباراً بالتسوية عند ترك الاجتهاد في التفضيل. والثاني: يضمن أقل ما يجزئ اعتباراً بما جعل من الخيار والله أعلم بالصواب. مسألة (¬1) قال الشافعي: "وإن أعطى قرابته من السهمان ممن لا تلزمه نفقته كان أحق بها من البعيد منه وذلك أنه يعلم من قرابته أكثر مما يعلم من غيرهم وكذلك خاصته ومن لا تلزمه نفقته من قرابته ما عدا ولده ولا يعطى ولد الولد صغيراً ولا كبيراً زمناً ولا أخاً ولا جداً زمين ويعطيهم غير زمني لأنه لا تلزمه نفقتهم إلا زمني". قال في الحاوي: قد ذكورا أن أقارب صاحب المال من مناسبه وذوي رحمه أولى بزكاة ماله من الأجانب، وإذا كان كذلك فهم ضربان: ضربة تجب نفقاتهم، وضرب لا تجب. فأما من تجبه نفقته بفقره وزمانته من أقاربه فهم الوالدون والمولودون؛ فالوالدون الآباء، والأمهات والأجداد من قبل الآباء والأمهات. ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 239، 240).

وأما المولودون فالبنون والبنات وبنو البنين وبنو البنات. وأما من لا تجب عليه نفقتهم فهم من عدا من ذكرنا من الإخوة والأعمام والعمات والأخوال والخالات ومن اتصل بهم من أبنائهم. وقال أبو حنيفة: تجب نفقة كل ذي رحم محرم والكلام عليه في كتاب النفقات فإذا كان الأقارب ممن تجب نفقاتهم كانوا أولى بالزكاة من الأجانب البعداء سواء كان يتطوع بالنفقة عليهم أم لا. وقال أحمد بن حنبل: إن تطوع بالنفقة عليهم صاروا في تحريم الزكاة كمن تجب نفقتهم. وهذا خطأ، لأن له قطع ما تطوع به من النفقة فلم تحرم عليهم الصدقة كتطوعه بنفقات الأجانب. فصل وإن كانوا ممن تجب نفقاتهم لم يجز أن يدفع إليهم من الزكاة بأن كانوا فقراء أو مساكين لأنهم بوجوب نفقاتهم عليه قد صاروا به أغنياء، ولأنه يصير مرتفقاً بها في سقوط نفقاتهم عنه، فلم يجز لهذين الأمرين أن يعطيهم من سهم الفقراء والمساكين، فأما إن كانوا من العاملين عليها جاز أن يعطيهم سهم العاملين منها؛ لأن سهمهم في مقابلة عمل فكان عوضاً فإن كانوا من المؤلفة أعطاهم من سهم المؤلفة إن كانوا أغنياء ولم يعطهم منه إن كانوا فقراء، لأنه تسقط نفقاتهم عنه بما يأخذونه منه فصار مرتفقاً بها. وإن كانوا مكاتبين جاز أن يعطيهم من سهم الرقاب؛ لأن نفقة المكاتب لا تجب على مناسب وإن كانوا من الغارمين جاز أن يعطيهم من سهمهم سواء كانوا ممن أداء في مصلحة نفسه أو مصلحة غيره فلا يعطى إلا مع الفقراء، وإن كانوا ممن أدان في المصالح العامة فيعطى مع الغنى والفقر؛ لأن ما يعطونه يلزمهم صرف ديونهم التي تجب عليه قضاؤها عليهم، فليس يرتفق بها في سقوط نفقتهم. وإن كانوا من الغزاة أعطاهم من سهم سبيل الله قدر ما يستعينون به في مؤونة حمولتهم، وثمن سلاحهم ودوابهم ونفقات خيلهم وغلمانهم ولا يعطيهم نفقات أنفسهم لوجوبها عليه حتى لا يصير مرتفقاً بسقوطها عنه. وإن كانوا من بني السبيل أعطاهم من سهمهم كراء مسيرهم ولم يعطهم نفقات أنفسهم إلا ما زاد على نفقة الحضر لئلا يصير مرتفعاً بها في سقوطها عنه؛ لأنه لا يلزمه أن يسافر بهم ولا يقرهم كما لا يلزمه أن يقضي ديونهم فجاز أن يعطيهم منها ما اختص بالسفر والغزو والله أعلم. مسألة (¬1) قال الشافعي: "ولا يعطي زوجته لأن نفقتها تلزمه فإن أدانوا أعطاهم من سهم ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 240).

الغارمين وكذلك من سهم ابن السبيل لأنه لا يلزمه قضاء الدين عنهم ولا حملهم إلى بلد أرادوه فلا يكونون أغنياء عن هذا به كما كانوا به أغنياء عن الفقر والمسكنة". قال في الحاوي: قد مضى الكلام في الأقارب المناسبين، فأما الزوجة فلا يخلو حالها من أحد أمرين: إما أن تكون مقيمة أو مسافرة فإن كانت مقيمة لم تخل من أن تكون مطيعة أو ناشزة فإن كانت مطيعة تلزمه نفقتها ولم يجز أن يعطيها من سهم الفقراء والمساكين، لأنها غنية به وإن كانت ناشزة لم تلزمه نفقتها وسقطت عنه بالنشوز ولا يجوز أن يعطيها من سهم الفقراء، والمساكين، وإن لم يكتسب لقدوته على الكفاية فأما إعطاء الزوجة من سهم العاملين فليست ممن يستعمل على الزكاة فيعطاه وأما من سهم المؤلفة فلا يجوز أن تعطى لأن المؤلفة هم الرجال المقاتلة، ولو قيل: يعطى لكان مذهباً لأن ما يقصد من حسن إسلام الرجل وترغيب قومه في الإسلام موجود في المرأة. وأما إن كانت مكاتبة أو غارمة جاز أن تعطى من سهم الرقاب والغارمين؛ لأنه لا يلزمه قضاء دينها، وأداء كتابتها، أما من سهم سبيل الله فلا يجوز أن تعطاه؛ لأنها ليست من أهل الجهاد وأما من سهم بني السبيل فنذكر حكم سفرها، فلا يخلو أن تسافر وحدها أو مع زوجها فإن سافرت مع زوجها فلا يخلو أن يكون بإذنه أو بغير إذنه، فإن كان بإذنه فلا يعطيها من سهم ابن السبيل؛ لأن مؤنة حمولتها تلزمه لأجل إذنه، وإن كان بغير إذنه فلها النفقة لكونها معه ولا يلزمه حمولتها لخروجها بغير إذنه، ولا يجوز أن يعطيها من سهم بني السبيل كراء حمولتها؛ لأن سفر معصية وإن سافرت وجدها فلا يخلو أن يكون بإذنه أو بغير إذنه فإن كان بغير إذنه فلا نفقة لها لكونها ناشزة، ويجوز أن يعطيها من سهم الفقراء والمساكين بخلاف المقيمة الناشزة. والفرق بينهما أن المقيمة إذا نشزت قدرت على النفقة بتعجيل المطاوعة ولا يجوز أن يعطيها من سهم بني السبيل؛ لأنه سفر معصية، وإن كان سفرها بإذنه، فعلى ضربين: أحدهما: فيما يختص بزوجها فعليه نفقتها وحمولتها فلا يجوز أن يعطيها من سهم الفقراء والمساكين ولا من سهم بني السبيل. والثاني: أن يكون فيما يختص بها ففي وجوب نفقتها قولان: أحدهما: تجب عليه، فعلى هذا لا يجوز أن يعطيها من سهم الفقراء والمساكين لقناها به، ويجوز أن يعطيها سهم بني السبيل لأن حمولتها لا تلزمه. والثاني: لا نفقة لها، فعلى هذا يجوز أن يعطيها من سهم الفقراء والمساكين ويجوز أن يعطيها من سهم بني السبيل. فصل فأما إذا كانت في عدة طلاقه فإن وجبت نفقتها لكونها رجعية أو حاملاً في طلاق

بائن فلا يجوز أن يعطيها من سهم الفقراء والمساكين لوجوب نفقتها عليه، ولا من سهم بني السبيل لحظر السفر عليها في العدة وإن لم تجب نفقتها لكونها حائلاً في طلاق بائن جاز أن يعطيها من سهم الفقراء والمساكين ولم يجز أن يعطيها من سهم بني السبيل، وإن كانت في عدة من وطئه بشبهة فإن كانت حائلاً لم تجب عليه نفقتها، فجاز أن يعطيها من سهم الفقراء والمساكين ولم يجز أن يعطيها من سهم بني السبيل لحظر السفر عليها في العدة وإن كانت حاملاً ففي وجوب نفقتها عليه قولان: أحدهما: تجب، فيجوز أن يعطيها من سهم الفقراء والمساكين ولا يعطيها من سهم بني السبيل. والثاني: تجب نفقتها فلا يجوز أن يعطيها من سهم الفقراء والمساكين ولا من سهم بني السبيل. فصل فأما الزوجة فيجوز لها دفع زكاتها إلى زوجها من السهام كلها وقال أبو حنيفة: لا يجوز استدلالاً بأنه أحد الزوجين فمنع زكاة صاحبه كالزوج إلى زوجته. ولأنه وارث لا يسقط بالحجب فوجب أن يمنع من الزكاة كالأب ولأنه قد ترتفق بدفع زكاتها إليه؛ لأنه قد يستغنى بها فتلزمه لها نفقة موسر. ودليلنا عموم قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التوبة:60] وحديث أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لزينب امرأة عبد الله بن مسعود: "زوجك وولدك أحق من تصدقت عليهم" (¬1) فكان على عمومه. فإن قيل: فهذا محمول على التطوع، لأنه جمع بين الزوج والولد ولا يجوز أن يدفع إلى الولد من الفرض فثبت أنه التطوع، فعن ذلك جوابان: أحدهما: وهو جواب أبي عبيد أنه يحتمل أن يكون أولاده من غيرها. والثاني: وهو جواب الشافعي أن أولاده وإن كانوا منها فإنهم كانوا بالغين أصحاء فسقطت نفقاتهم، وجاز دفع الزكاة إليهم. ومن القياس أنه نسب لا يستحق به النفقة فلم تحرم به الصدقة قياساً على ذوي الأرحام، ولأن الزوج مع الزوجة بمنزلة الأجنبي في سقوط النفقة فوجب أن يكون بمنزلته في استباحة الصدقة. فأما الجواب عن قياسهم على منع الزوج من دفعها إلى زوجته فهو لأن نفقتها تلزمه فمنعت من صدقته ونفقته لا تلزمها فلم يمنع من صدقتها وأما قياسه على الأب أنه لا يسقط بالحجب، فالمعنى فيه أن الأب تميز باستحقاق النفقة فيمنع من الصدقة، وليس كذلك الزوج. ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في كتاب "الزكاة".

وأما الجواب عن قولهم أنها قد ترتفق بدفع زكاتها إليه، فهو أنها لا ترتفق بالدفع، وإنما ترتفق بما قد يحدث بعده من اليسار وذلك لا يمنع من الزكاة كمن دفعها إلى غريم له فأخذها من بعد قبضها من دينه جاز، ولا يكون ذلك رفقاً يمنع من جوازها لحصول ذلك بعد استقرار الملك بالقبض كذلك ما يأخذه الزوج والله أعلم. مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: "فأما آل محمد - صلى الله عليه وسلم - الذين جعل لهم الخمس عوضاً من الصدقة فلا يعطون من الصدقات المفروضات، وإن كانوا محتاجين وغارمين وهم أهل الشعب وهم صلبية بني هاشم وبني المطلب ولا تحرم عليهم صدقة التطوع وروي عن جعفر بن محمد عن أبيه أنه كان يشرب من سقايات بين مكة والمدينة فقلت له أشرب من الصدقة؟ فقال: إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة وقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - الهدية من صدقة تصدق بها على بريرة وذلك أنها من بريرة تطوع لا صدقة". قال في الحاوي: وجملته أن الناس في صدقة الفرض والتطوع ينقسمون ثلاثة أقسام: منهم من تحرم عليه صدقة الفرض والتطوع، ومنهم من تحل له الصدقتان جميعاً، ومنهم تحرم عليه صدقة الفرض دون التطوع. فأما من تحرم عليه صدقة الفرض والتطوع فهو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما رفع الله تعالى من قدره وفضله على جميع خلقه. روى أبو رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنا لا تحل لنا الصدقة" (¬2). وروى أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجدتموه وقال: لولا أخاف أن تكون صدقة لأكلتها" (¬3). وروي أن سلمان الفارسي حمل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - طبقاً من رطب فقال: "ما هذا"؟ قال: صدقة، قال: "إنا لا تحل لنا الصدقة" فحمل إليه طبقاً آخر فقال: "ما هذا"؟ قال: هدية، قال: "إنا نقبل الهدية ونكافئ عليها". وإذا ثبت هذا فقد كان يمتنع من صدقة الغرض تحريماً وفي امتناعه من صدقة التطوع قولان: أحدهما: أنه كان يمتنع منها تحريماً كالقرض، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أكل من لحم تصدق ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 240، 241). (¬2) أخرجه أحمد (6/ 8، 10)، وأبو داود (1650)، والترمذي (657)، والنسائي (2612)، وابن حبان (3282)، والحاكم (1/ 404). (¬3) أخرجه أحمد (3/ 292)، وأبو داود (1652)، والبيهقي في "الكبرى" (13234).

به على بريرة قال: "هو لها صدقة لنا هدية وصدقات اللحوم بالمدينة كانت من ضحايا تطوع غير واجبة". والثاني: أنه كان يمتنع منها تنزيهاً لا تحريماً، لأنه قد كان يصلي في المساجد وهي صدقات ويشرب من بئر رومة بالمدينة وبئر زمزم بمكة وهما صدقتان. وقال أبو علي بن أبي هريرة: ما كان من صدقات التطوع على الأعيان كانت محرمة عليه، وما كان منها مسألة على الكافة لم تحرم عليه مثل صلاته في المساجد وشربه من الآبار. والذي أراه عندي أصح أن ما كان منها أموالاً مقومة كانت عليه محرمة وما لم تكن أموالاً مقومة كانت له مباحة، فعلى هذا كانت صلاته في المساجد وشربه من بئر رومة وزمزم، ولو كانت الصدقة المسيلة ثمار لا تحل له، وعلى قول ابن أبي هريرة تحل له. فصل وأما من تحرم عليه الصدقة- الفرض دون التطوع- فهم آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرواية أبي هريرة أن الحسن بن علي أخذ تمرة من تمرة الصدقة فجعلها في فيه فنزعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من فيه بلعابها وقال كخ كخ، وقال: "إنا آل محمد لا تحل لنا الصدقة". وسأله الفضل بن العباس عمالة الصدقات فغضب وقال: "أليس في خمس الخمس ما يغنيكم عن أوساخ الناس". فدل هذا الخبران على تحريم الفرض عليهم. فأما التطوع فحلال لما روي أن جعفر بن محمد شرب من سقايات بين مكة والمدينة. فقيل: له: أليس قد حرم عليكم الصدقات؟ فقال: إنما حرم الله علينا الصدقات المفروضات؛ لأن الله تعالى عوضهم مالاً واحداً عن مال واحد، فإذا ثبت أن آل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحرم عليهم الصدقات المفروضات دون التطوع فهم ذو القربى من بني هاشم وبني المطلب. وقال أبو حنيفة: إنما تحرم على آل العباس وآل حمزة وآل الحارث بني عبد المطلب وعلى آل علي وآل جعفر والفضل ولا تحرم على آل أبي لهب ولا على غير المذكورين من بني عبد المطلب ولا على جميع بني المطلب، وهذا خطأ؛ لأن من استحق سهم ذي القربى منع صدقة الفرض وقد ثبت أن سهم ذي القربى مشترك بين جميع بني هاشم وبني المطلب وكذا صدقة الفرض حرام على جمع بني هاشم. وأما من تحل له صدقة الفرض والتطوع فهم سائر الناس تحل لهم صدقاه الفرض والتطوع بالفقر وصدقات التطوع مع الغنى والفقر، وقد دللنا عليه من قبل.

مسألة (¬1) قال الشافعي: "وإذا كان فيهم غارمون لا أموال لهم فقالوا أعطنا بالغرم والفقر قيل لا إنما تعطيكم بأي المعنيين شئتم فإذا أعطيناه باسم الفقر فلغرمائه أن يأخذوا مما في يديه حقوقهم وإذا أعطيناه بمعنى الغرم أحببت أن يتولى دفعه عنه ولا فجائز كما يعطى المكاتب فإن قيل: ولم لا يعطى بمعنيين؟ قيل: الفقير مسكين والمسكين فقير يجمعهما اسم ويتفرق بهما اسم فلا يجوز أن يعطى إلا بأحد المعنيين ولو جاز ذلك جاز أن يعطى رجل بفقر وغرم وبأنه ابن سبيل وغاز ومؤلف فيعطى بهذه المعاني كلها فالفقير هو المسكين ومعناه أن لا يكون غنياً بحرفة ولا مال فإذا جمعا معاً فقسم لصنفين بهما لم يجز إلا أن يفرق بين حاليهما بأن يكون الفقير الذي بدئ به أشدهما فقراً وكذلك هو في اللسان". قال في الحاوي: وصورتها في رجل من أهل الصدقات جمع بين سببين يستحق بكل واحد منهما فيهما كغارم فقير، وعامل مسكين طلب أن يطعى بالفقر أو بالغرم أو بالعمالة والمسكنة فالذي نص عليه الشافعي في هذا الموضع، وأكثر كتبه أنه لا يجوز أن يجمع له بهما ولا يعطى إلا بأحدهما وقال في كتاب فرض الزكاة من قسم الصدقات: أنه يجوز أن يعطى بالسببين، فاختلف أصحابنا في ذلك على ثلاثة مذاهب: أحدهما: وهو قول أبي حامد الإسفراييني وكثير من البغداديين أن ذلك على قولين لاختلاف نصه في الموضعين. أحد القولين: أنه لا يجوز أن يعطى إلا بأحد السببين، وهذا هو الأشهر قوله، والأصح من مذهبه لئلا يؤدي ذلك إلى الأخذ بجميع الأسباب كما لا يورث المجوس إذا اجتمعت له قرابتان إلا بأحدهما. والقول الثاني: يجوز أن يعطى بهما معا؛ لأنه لما جاز أن يأخذ بالسبب الواحد إذا انفرد به جاز أن يأخذ بالسببين إذا اجتمعا فيه، وكما يجوز أن يورث الزوج إذا كان ابن عم لها بالسببين. والثاني: قاله أبو حامد المروروذي جمهور البصريين: أن ذلك على قول واحد لا يعطى إلا بأحدهما ولا يجمع له بينهما وما قاله في فرض الزكاة من جواز إعطاءه بالسببين محمول على أنه من زكاتين. والثالث: أنه يجوز أن يعطى بالسببين إذا اختلفا ولا يجوز أن يعطى بهما إذا اتفقا فاختلافهما أن يكون أحدهما لحاجته إلينا، والآخر لحاجتنا إليه كالعامل إذا كان فقيراً والغازي إذا كان مسكيناً، واتفاقهما أن يكونا معاً لحاجته إلينا كالفقير إذا كان غارماً والمسكين إذا كان مكاتباً، كما أنه لا يورث أحد بسببين متفقين كغرضين أو نصيبين ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 241، 242).

ويورث بسببين مختلفين من فرض وتعصيب، فإذا تقرر هذا: إنه لا يعطى بهما وكان فقيراً غارماً خير في إعطائه بأي السببين شاء من فقر وغرم، فإن اختار أن يعطى بالفقر سلم إليه وكان لصاحب الدين أن يأخذه من دينه، وإن اختار أن يعطى بالغرم جاز أن يسلم إليه وجاز أن يعطيه لصاحب الدين بأمره. فإن قيل: فأيهما أولى، قلنا: إن كان بقدر دينه كله فأولى دفعه إلى صاحب الدين وإن كان أقل فالأولى دفعه إلى الغارم لعله أن يتجر به فينمى. وإن قيل: يجوز أن يعطى بالسببين أعطى بالفقر والغرم، فإن كان في سهم الغرم وفاء لدينه استبقى سهم الفقر، وإن كان يعجز عن دينه كان له أن يأخذ منه سهم الفقر ليستوفي دينه، والله أعلم بالصواب. مسألة (¬1) قال الشافعي: "فإن كان فيهم رجل من أهل الفيء ضرب عليه البعث في الغزو ولم يعط فإن قال لا أغزو واحتاج أعطي فإن هاجر بدوي واحتاج واقترض وغزا صار أهل الفيء وأخذ فيه ولو احتاج وهو في الفيء لم يكن له أن يأخذ من الصدقات حتى يخرج من الفيء ويعود إلى الصدقات فيكون ذلك له". قال في الحاوي: وهذا كما قال. قد ذكرنا أن أهل الفيء بمعزل عن أهل الصدقات ينصرف إليهم مال الفيء دون الصدقات وأهل الصدقات بمعزل عن أهل الفيء ينصرف إليهم مال الصدقات دون الفيء وضرب هم من أهل الصدقة، فأما غزاة أهل الفيء فهم المقترضون في ديوان الفيء من المقاتلة فهو لا يعطون أرزاقهم من مال الفيء ولا يجوز أن يعطوا من الصدقات وأما غزاة أهل الصدقات فهم المتطوعة من الأعراب وأهل الصنائع من أهل الأمصار الذين إن شاؤوا غزوا وان شاؤوا أقاموا، فهؤلاء إذا أرادوا الغزو أعطوا من مال الصدقات من سهم سبيل الله، ولم يجز أن يعطوا من مال الفيء لرواية عباس، وقال: كان أهل الفيء على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمعزل على أهل الصدقات، وأهل الصدقات بمعزل عن أهل الفيء، فلو أن رجلاً من أهل الفيء معترضاً في ديوانه ضرب عليه البعث في الغزو أو لم يضرب عليه فأراد الخروج من أهل الفيء والدخول في أهل الصدقات ليغزوا إن شاء ويقعد عنه إن اختار كان ذلك له لأنه لم يكن عليه عقد لازم وإنما هو جعالة فيسقط رزقه من ديوان الفيء ويعطى من مال الصدقات، ولو أن أعرابياً من أهل الصدقات هاجر وأراد أن يقترض من ديوان الفيء جاز أن يقرضه الإمام فإذا رآه الإمام أهلاً لذلك، خرج من أهل الصدقات. ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 242).

مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: "وإن لم يكن رقاب ولا مؤلفة ولا غارمون ابتدئ القسم على خمسة أسهم أخماساً على وصفت فإن ضاقت الصدقة قسمت على عدد السهمان ويقسم بين كل صنف على قدر استحقاقهم ولا يعطى أحد من أهل سهم وإن اشتدت حاجته وقل ما يصيبه من سهم غيره حتى يستغني ثم يرد فضل إن كان عنه ويقسم". قال في الحاوي: وهذه مسألة قد مضت، فذكرنا أن أهل السهمان ثمانية أصناف فإن كملوا قسمت الزكاة أثماناً بينهم متساوية، وإن عدموا نقلت إلى أقرب البلاد بهم، وإن وجد بعضهم قسمت على من وجد منهم، وسقط سهم من عدم إلا الغزاة فإنهم يسكنون الثغور فينقل إليهم سهمهم إن كان الإمام هو القاسم لها. فأما إن كان رب المال هو المتولي لقسمها سقط سهمهم إن عجز عن إيصاله إليهم؛ لأن الإمام يقدر على نقل سهمهم على ما لا يقدر عليه أرباب الأموال فافترق الحكم فيه. مسألة (¬2) قال الشافعي: "فإن اجتمع حق أهل السهمان في بعير أو بقرة أو شاة أو دينار أو درهم أو اجتمع فيه اثنان من أهل الهماز أو أكثر أعطوه ويشرك بينهم فيه ولم يبدل بغيره كما يعطاه من أوصى لهم به وكذلك ما يوزن أو يكال". قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا كان مال الزكاة ينقسم قليلة ويتجزأ كالحبوب أعطي كل واحد من أهل السهمان حقه منه ولم يشرك فيه بين اثنين للاستغناء عن الشريك، وإن كان مما لا يتجزأ، كالإبل، والبقر، والغنم فإن اتسعت الصدقة أن ينفرد كل واحد منهم ببعير له أو بقرة أو شاة لم يشرك بينهم وأفرد كل واحد منهم بحقه وإن ضاقت الصدقة عن ذلك جاز أن يشرك الجماعة في البعير الواحد أو البقرة أو الشاة الواحدة سواء كانت الجماعة من صنف واحد أو أصناف بعد أن يبين حصة كل واحد منهم فيه؛ لأن التفضيل بينهم بحسب الحاجة معتبر من جهة العامل وغير معتبر من جهة رب المال، فإن لم يبين حصة كل واحد كانوا في الظاهر شركاء بالسوية فلم يجز أن يباع ذلك ويقسم عليهم ثمنه قبل أن يملكه إياهم، لأن القيم في الزكاة لا تجزئ، وسواء كان القاسم رب المال أو العامل، لأنهم أهل رشد لا يولى عليهم بعجز أرباب السهام إلا أن تدعو العامل الضرورة إلى بيعه، وإما لعطب الحيوان وخوفه من تلفه، وإما لبعد المسافة وإحاطة مؤونة نقله بجميع قيمته فيجوز له في هاتين الحالتين بيعه للضرورة، وقسم ثمنه فيهم، ولا يجوز ذلك لرب المال بحال لثبوت الزكاة في ذمة رب المال دون العامل وأن ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 242). (¬2) انظر الأم (3/ 242، 243).

للعامل ولاية ليست لرب المال. قال الشافعي: وكذلك ما يوزن أو يكال يعني في أنه لا يجوز بيعه على أهل السهمان إلا عند الضرورة فتجوز للعامل دون رب المال. مسألة (¬1) قال الشافعي: "وإذ أعطى الوالي من وصفنا أن عليه أن يعطيه ثم علم أنه غير مستحق نزع ذلك منه إلى أهله فإن فات فلا ضمان عليه لأنه أمين لمن يعطيه ويأخذ منه لا لبعضهم دون بعض لأنه كلف فيه الظاهر وإن تولى ذلك رب المال ففيها قولان أحدهما أنه يضمن والأخر كالوالي لا يضمن. قال المزني ولم يختلف قوله في الزكاة أن رب المال يضمن". قال في الحاوي: وصورة هذه المسألة في زكاة دفعت إلى مستحق لها في الظاهر فبان غير مستحق لها في الباطن، فهذا على ثلاثة أقسام: أحدهما: ما يكون الضمان فيه على الدافع واجباً سواء كان الدافع لها إماماً أو مالكاً. والثاني: ما لا يجب فيه الضمان على الدافع سواء كان إماماً أو مالكاً. والثالث: ما يختلف في وجوب الضمان فيه بحسب اختلاف الدافع إن كان إماماً أو مالكاً. فأما القسم الأول: الذي يجب فيه الضمان على الدافع إماماً كان أو مالكاً فهو أن تدفع إلى من لا يجوز الدفع إليه إلا ببينة على سبب استحقاقه كالمكاتب والغارم، فإذا دفعها إلى من ذكر أنه مكاتب أو غارم بغير بينة ثم بان أنه غير مكاتب ولا غارم فعلى الدافع الضمان إماماً كان أو مالكاً، لأن إخلاله بالبينة التي هي شرط في جواز الدفع تفريط منه، فإن أمكنه استرجاعها من المدفوع إليه مكان مسترجعاً لهما في حق نفسه لا في حق أهل السهمان لوجوب ضمانها عليه فلو دفعها بينة ثم بان أن البينة شهدت بزور أو خطأ كانت البينة ضامنة فإن كان الدافع إماماً ضمت البينة ذلك لأهل السهمان وكان الإمام بريئاً من الضمان وإن كان الدافع مالكاً كانت البينة ضامنة للمالك الذي هو رب المال وكان وجوبها باقياً في ذمة رب المال، والفرق بينهما أن للإمام ولاية على أهل السهمان ليست لرب المال. فصل وأما القسم الثاني الذي لا يجب فيه الضمان على الدافع سواء كان إماماً أو مالكاً فهو أن يدفعها إلى من يستحقها بسبب يستحدثه كابن السبيل والغازي فلا يسافر ابن السبيل ولا يغزو الغازي فلا ضمان على الدافع، لأنه لم يكن منه تفريط في الدفع سواء كان إماماً ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 243).

أو مالكاً؟ لأن بالدفع قد سقطت الزكاة عن رب المال من غير أن يكون مراعاً بإحداث سفر أو جهاد لكن على الدافع مطالبة المدفوع إليه فإن كان عام الزكاة باقياً خيره في المطالبة بين رد ما أخذه وبين أن يستأنف سفراً، وغزواً، وإن كان عام الزكاة قد انقضى طالبه بالرد من غير تخيير، لأن زكاة كل عام مستحقة لأهلها في ذلك العام، لا في غيره، فإن لم يسترجع منه حتى سافر وغزا في العام الثاني نظر فإن كان قد أخذ في العام الثاني من زكاة ثانية استرجع منه ما أخذه في العام الأول، لأنه قد أخذ في العام الثاني ما استحقه بسفره وغزوه، وإن كان لم يأخذ في العام الثاني من زكاته ثانية يسترجع منه ما أخذه العام الأول، وكانت بمثابة زكاة أخرت من عام إلى عام، فإنها تقع موقع الأجزاء، وإن كره التأخير مع إمكان التعجيل فلو مات المدفوع إليه قبل السفر والغزو ولم يكن استرجاع ما أخذ، كان ذلك تالفاً في حق أهل السهمان. فصل وأما القسم الثالث: الذي يختلف فيه الضمان باختلاف حال الدافع إن كان إماماً أو مالكاً فهو مسألة الكتاب، وهو أن يدفعها إلى من يستحقها بالفقر والمسكنة فتبين غير مستحق فهذا على ضربين: أحدهما: أن لا يستحقها لعدم الفقر. والثاني: أن لا يستحقها مع وجود الفقر لسبب يمنع من جواز الأخذ فأما الضرب الأول: فهو أن يدفعها إلى رجل ظن به فقراً فبان غنياً، فإن كان الدافع لم يجتهد عند الدفع ضمن إماماً أو مالكاً لأن ترك الاجتهاد تفريط وإن كان قد اجتهد عند الدفع نظر فإن كان الدافع لها إماماً أو والياً عليها من قبل الإمام لم يضمن، لأنه أمير عليها لم يفرط فيها ولكن له استرجاعها من الآخذ لها إن كان حياً من تركته إن كان ميتاً سواء شرط عند الدفع أنها زكاة أو لم يشرط؛ لأن الوالي لا يدفع من الأموال إلا ما وجب وإن كان الدافع لها هو رب المال، ففي وجوب ضمانه قولان: أحدهما: أنه لا يضمن كالإمام. والثاني: يضمن بخلاف الإمام، والفرق بينهما من ثلاثة أوجه: أحدها: أن للإمام عليها ولاية ليست لرب المال فلم يضمنها إلا بالعدوان. والثاني: أن الإمام بريء الذمة من ضمانها قبل الدفع فلم يضمنها إلا بتفريط ظاهر ورب المال مرتهن الذمة بضمانها قبل الدفع فلم يبرأ منها إلا باستحقاق ظاهر. والثالث: أن الإمام لا يقدر على دفعها إلى مستحقها إلا باجتهاد دون اليقين فلم يضمن إذا اجتهد، ورب المال يقدر على دفعها إلى مستحقها بيقين، وهو الإمام مضمونة إذا دفعها بالاجتهاد. فإذا تقرر هذا نظر في رب المال، فإن شرط عند الدفع أنها زكاة كان له استرجاعها من الآخذ لها إذا كان غنياً، وإن لم يشترط ذلك عند الدفع نظر في الآخذ لها فإن صدقه

أنها زكاة لزمه ردها، وإن لم يصدقه من يلزمه ردها بخلاف الإمام؛ لأن رب المال قد يعطى فرضاً وتطوعاً فلم يسترجع إلا بشرط والإمام لا يعطى إلا فرضاً واجباً فجاز أن يسترجع بغير شرط، ولأن للإمام ولاية على أهل السهمان فكان قوله عليهم مقبولاً وليس لرب المال عليهم ولاية فلم يقبل قوله عليهم فكان هذا فرقاً بين الإمام ورب المال في جواز الاسترجاع عند عدم الشرط، ولكن اختلف أصحابنا هل يكون لرب المال إحلاف المدفوع إليه؟ أنه لا يعلم أن ما أخذه تعجيل أم لا؟ على وجهين: أحدهما: له إحلافه، لأنه لو عمل لزمه الرد. والثاني: ليس له إحلاف لأنه هو المفرط حيث لم يشترط، ولكن لو قال رب المال: شرطت التعجيل وقال المدفوع إليه: لم يشترط، كان له إحلافه وجهاً لوجه. فصل وأما الضرب الثاني وهو أن يكون غير مستحق لها مع الفقر لسبب يمنع من جواز الآخذ كفقير دفعت إليه، وظاهره الحرية فبان عبداً أو كان ظاهره الإسلام فبان كافراً، أو كان ظاهره أنه في سائر الناس فبان في ذوي القربى من بني هاشم بني المطلب رضوان الله عليهم فإن كان الدافع لم يجتهد في الآخذ لها عنا الدفع فعليه الضمان والياً كان أو مالكاً، وإن كان قد اجتهد فقد اختلف أصحابنا في ذلك على طريقتين: إحداهما: أن الخطأ في ذلك كالخطأ في الفقير فلا يضمن إن كان والياً وفي ضمانه أن يكون مالكاً قولان، فهذه طريقة كثير من المتقدمين. والثانية: أن الخطأ في هذا أخص بالضمان من الخطأ في الفقير فيضمن الدافع إن كان مالكاً، وفي ضمانه إن كان والياً قولان، وهذه طريقة أبي علي بن أبي هريرة وطائفة من المتأخرين وفرقوا بين الخطأ في الفقير وبين الخطأ في الحرية والإسلام بأنه لا يعلم يقين الفقر قطعاً فجاز أن يعمل فيه على الظاهر، ويعلم يقين الحرية والإسلام قطعاً فلم يجز أن يعمل فيه على الظاهر. مثاله: أن من صلى خلف جنب أو محدث لم يعد صلاته لأنه لا يعلم يقين طهارة إمامه قطعاً، فإذا عمل فيها على الظاهر لم يعد، ولو صلى خلف امرأة وكافر، أعاد؛ لأنه قد يعلم يقين كون إمامه رجلاً مسلماً فإذا عمل على الظاهر أعاد. وسوى أبو حنيفة بين خطأ الوالي والمالك وفرق بين الخطأ في الفقير وبين الخطأ في الحرية والإسلام الذي قدمناه وفيما مضى دليل كاف. مسالة (¬1) قال الشافعي: "ويعطى الولاة زكاة الأموال الظاهرة الثمرة والزرع والمعدن ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 243).

والماشية فإن لم يأت الولاة لم يسع أهلها إلا قسمها فإن جاء الولاة بعد ذلك لم يأخذوهم بها وإن ارتابوا بأحد فلا بأس أن يحلفوه بالله لقد قسمها في أهلها وإن أعطوهم زكاة لتجارات والفطرة والركاز أجزأهم إن شاء الله". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن الأموال ضربان: ظاهرة كالثمار، والزروع والمواشي، وباطنه كالدراهم والدنانير وعروض التجارات والركاز وزكاة الفطر فما كان منها باطناً لم يلزمه دفع زكاته إلى الإمام وجاز لأربابها أن يتولوا إخراجها وقسمها في أصلها وإن دفعوها إلى الولاة جاز وما كان منها ظاهراً ففيها قولان: أحدهما: وهو قوله في الجديد أنها كالباطنة يجوز لأهلها أن يتولوا إخراج زكاتها ولا يلزمهم دفعها إلى الإمام. والثاني: أن عليهم دفع زكاتها إلى الإمام أو عامله عليها، ولا يجوز لأربابها أن يتولوا إخراجها بأنفسهم مع القدرة على دفعها إلى الإمام أو عامله عليها، وبه قال مالك وأبو حنيفة وقد مضى توجيه القولين. فإن تأخر الإمام وعامله وتعذر على أرباب الأموال دفع زكاتهم إليه فهل لهم على القول القديم إخراجها بأنفسهم أم لا على وجهين: أحدهما: لا يجوز وتكون محبوسة عليه حتى يأتي فيتولى إخراجها لأن من استحق قدر مال لم يجز أن يدفع إلى غيره لتأخره كالديون. والثاني: وهو ظاهر نصه في هذا الموضع يجب على أهلها تعجيل إخراجها بأنفسهما إذا تأخر الوالي عنهم؛ لأنه مستحق لجهات يمكن إيصاله إليها والوالي نائب، وتأخر الوالي النائب لا يوجب تأخر الحق كالوالي والوكيل، فإذا أخرجها أربابها عند تأخر الوالي ثم حضر فأخبروه بإخراجها فالقول قولهم وله إحلافهم إن استراب بهم، وفي هذه اليمين وجهان: أحدهما: أنها مستحقة، فإن نكلوا عنها لم تؤخذ منهم الزكاة. والثاني: أنها واجبة فإن نكلوا عنها أخذت منهم الزكاة بالوجوب المتقدم لا بالنكول وقد مضى تعليل ذلك في كتاب الزكاة. مسألة (¬1) قال الشافعي: "إنما يستحق أهل السهمان سوى العاملين حقهم يوم يكون القسم". قال في الحاوي: اعلم أن الشافعي قد نص في هذا الموضع على أن استحقاق أهل السهمان للزكاة يكون يوم القسم ونص في كتاب الزكاة أنها إذا وجبت في قرية فمات أحد ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 243، 244).

باب ميسم الصدقات

أهل السهمان أن نصيبه لوارثه فجعلها مستحقة يوم الوجوب وليس ذلك على قولين وإنما هو باختلاف حالين فالموضع الذي جعلها مستحقة يوم الوجوب إذا تعين أهل السهمان فيها مثل أن تجب الزكاة عليهم في قرية فيها من كل صنف من أهل السهمان ثلاثة فما دون فيكونوا في استحقاقها معنيين لا يجوز العدول عنهم إلى غيرهم، فعلى هذا يكون استحقاقهم لها معتبراً بيوم الوجوب لا بعد القسم، فلو مات أحدهم كان حقه لوارثه ولو غلب أو أيسر لم يسقط حقه منها ولو حضر القرية بعد الوجوب غريب لم يجز دفعها إليه. والموضع الذي جعلها مستحقة يوم القسم إذا لم يتيقن أهل السهمان فيها مثل أن تجب الزكاة عليه في بلد كبير فيه كل صنف من أهل السهمان عدد كبير فيلزمه أن يعطى من كل صنف ثلاثة ويمنع الباقين، فلا يكونوا فيها معنيين فيكون الاعتبار باستحقاقهم يوم القسم لا يوم الوجوب، فعلى هذا لو مات أحدهم قبل القسم لم يعط وارثه ولو غاب أو أيسر لم يكن له فيها حق ولو حضر غريب بعد الوجوب وقبل القسم أعطى وبالله التوفيق. باب ميسم الصدقات مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: "ينبغي لوالي الصدقات أن يسم كل ما أخذ منها من بقر أو إبل في أفخاذها ويسم الغنم في أصول آذانها وميسم الغنم ألطف من ميسم الإبل والبقر ويجعل الميسم مكتوباً بالله؛ لأن مالكها أداها لله تعالى فكتب لله وميسم الجزية مخالف لميسم الصدقة لأنها أديت صغاراً لا أجر لصاحبها فيها وكذلك بلغنا عن عمال عمر رضي الله عنه أنهم كانوا يسمون. وقال أسلم لعمر: إن في الظهر ناقة عمياء فقال عمر رضي الله عنه: ندفعها إلى أهل بيت ينتفعون بها يقطرونها بالإبل. قال: قلت: كيف تأكل من الأرض؟ قال عمر: أمن نعم الجزية أو من نعم الصدقة؟ قلت: لا بل من نعم الجزية قال: فأمر بها عمر: أردتم والله لأكلها فقلت: إن عليها ميسم الجزية. قال: فأمر بها عمر فنحرت. قال: فكانت عنده صحاف تسع فلا تكون فاكهة ولا طريفة إلا وجعل منها في تلك الصحاف فيبعث بها إلى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكون الذي يبعث به إلى حفصة رضي الله عنها من آخر ذلك، فإن كان فيه نقصان كان في حظها. قال: فجعل في تلك الصحاف من لحم تلك الجزور فبعث به إلى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وأمر بما بقي من اللحم فصنع فدعا عليه المهاجرين والأنصار. قال: ولا أعلم في الميسم علة إلا أن يكون ما أخذ من الصدقة معلوماً فلا يشتريه الذي أعطاه لأنه خرج لله كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر رضي الله عنه في فرس حمل عليه في سبيل الله فرآه ويباع أن لا يشتريه وكما ترك المهاجرون نزول منازلهم بمكة لأنهم تركوها لله تعالى". ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 244، 245).

قال في الحاوي: وهذا كما قال: الميسم عندنا مستحب في مواشي الزكاة والجزية وحكي عن أبي حنيفة كراهيته لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن تعذيب الحيوان ودليلنا رواية أنس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يسم إبل الصدقة (¬1). وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى العباس وهو يسم إبله في وجوهها فقال: يا عباس لا تسم في الوجه فقال: العباس والله لا وسمتها بعد هذا إلا في الجاعرتين. وروى ابن عيينة عن عاصم بن مسعد بن نقادة عن أبيه عن جده نقادة الأسدي، أنه قال: يا رسول الله إني رجل مغفل فأين أسم قال: في موضع الجرم من السالفة، فقال: يا رسول الله أطلب لي طلبة، قال: أبغني حلبانه ركبانة غير أن لا تولد ذات ولد عن ولدها. المغفل صاحب الإبل الغفل التي لا سمة عليها والجرم: الزمام. والسالفة: مقدم صفحة العتق، والحلبانة: ذات لبن يحلب والركبانة ذات ظهر يركب، وروى زيد بن أسلم عن أبيه أنه قال لعمر بن الخطاب: إن في الظهر ناقة عمياء، فقال عمر ادفعها إلى أهل بيت ينتفعون بها يقطرونها بالإبل قلت: فكيف تأكل من الأرض، قال عمر: من نعم الجزية أو من نعم الصدقة؟ فقلت: الإبل هي من نعم الجزية، فقال عمر: أردتم والله أكلها فقلت: إن عليه وسم الجزية، قال: فأمر بها فنحرت. الحديث فدل على أن الميسم فعل الأئمة وإجماع الصحابة، ولأن به تمتاز الأموال مع تميز مستحقها وليكون إذا ضلت سبباً لردها فإذا ثبت جواز الوسم، فالكلام فيه يشتمل على فصلين: أحدهما: أن يكون الميسم منها. والثاني: فالذي يكتب عليه. فأما مكانه فهو كل موضع صلب من البدن وقل شعره، فإن كان في الإبل والبقر فعلى أفخاذها وإن كان في الغنم فعلى أصول آذانها، ويكون ميسم الغنم ألطف لأنها ضعيفة لا تصبر من الألم على ما يصبر عليه غيرها، فأما ما يكتب فإن كانت من نعم الصدقة كان بالخيار بين ثلاثة أسماء، إما أن يكتب عليها صدقة أو طهرة أو لله، وهذا أحبها إلى الشافعي تبركاً بذكر الله تعالى واقتداء بالسلف، وإن كانت من الجزية كان بالخيار بين أمرين: إما أن يكتب جزية أو يكتب صغاراً، وهذا اجتهاد الشافعي إتباعاً لقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] فأما تمييزها بجدع الأنوف وقع الآذان فمكروه، لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهى عن المثلة (¬2)، والله أعلم. ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1502، 5543)، ومسلم (2119). (¬2) أخرجه أحمد (4/ 246، 440 - 5/ 12)، والطبراني في "الكبير" (12/ 403 - 18/ 157)، وابن عدي في "الكامل" (3/ 109)، والبيهقي في "الكبرى" (18045)، والخطيب في "تاريخه" (7/ 37).

باب الاختلاف في المؤلفة

باب الاختلاف في المؤلفة مسألة (¬1) قال الشافعي رحمه الله: "قال بعض الناس لا مؤلفة فيجعل سهمهم وسهم سبيل الله في الكراع والسلاح في ثغور المسلمين". قال في الحاوي: قد مضت مسائل هذا الباب مشروحة بدلائلها وإنما أورده الشافعي مقصوراً على ذكر الاختلاف فيها والاحتجاج عليها فاقتصرنا منه على الإشارة إلى تفصيل ما أورده، فمن ذلك مسألتان قدمهما في هذا الفصل: إحداهما: في سهم المؤلفة. والثانية: في سهم سبيل الله. فأما سهم المؤلفة فإن أبا حنيفة أسقطه وزعم أن لا مؤلفة للاستغناء عنهم بقوة الدين وإعزاز المسلمين، وهو عند الشافعي ثابت على الشرح الذي قدمناه؛ لأن الله تعالى أثبت لهم في آية الصدقات سهماً فلم يجز نسخه بعد انقطاع الوحي؛ ولأن ما بقي للإسلام أعداء يلزم جهادهم بقي مؤلفة يتآلف قلوبهم كالعصر الأول. وأما سهم سبيل الله تعالى، فإن أبا حنيفة زعم أنه مصروف مع سهم المؤلفة في الكراع والسلاح في ثغر المسلمين وعند الشافعي أنه مصروف على ما قدمناه في الغزاة والمجاهدين، ولا يجوز أن يشتري به كراعاً ولا سلاحاً لمن لم يتعين منهم، لأن الله تعالى جعل مال الصدقات مصروفاً إلى مالكين فإن تعين الغزاة الذين يعطون تلك الصدقات واحتاجوا إلى كراع وسلاح فإن كان قاسم الصدقة رب المال لم يجز أن يشتري لهم بسهمهم كراعاً وسلاحاً ودفع إليهم عين ماله ليتولوا لأنفسهم شراء ما احتاجوا إليه من كراع وسلاح لئلا يصير رب المال دافعها قيمة زكاة إذ يمنع الشافعي منها وإن كان قاسم الصدقة والياً ففي جواز إتباعه ذلك لهم وجهان مضيا. مسألة (¬2) قال الشافعي: "وقال بعضهم ابن السبيل من مر يقاسم في البلد الذي به الصدقات". قال في الحاوي: وهذه مسألة ثالثة أراد بها أبا حنيفة حيث يقول: إن ابن السبيل الذي يستحق سهمه من الصدقات هو المجتاز ببلد الصدقة دون المنشئ لسفره منه ليكون مصروفاً إلى من تناوله حقيقة الاسم، وعند الشافعي أنه مصروف إلى المجتاز والمنشئ اعتباراً بالعموم، ولأن المنشئ جاز للمال فكان أولى من المجتاز الغريب، ولأنه لما جاز أن يعان المجتاز على بعض سفره فأولى أن يعان المنشئ على جميع سفره. ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 246). (¬2) انظر الأم (3/ 246).

مسألة (¬1) قال الشافعي: "وقال أيضاً حيث كانت الحاجة أكثر فهي واسعة كأنه يذهب إلى أنه فوضى بينهم يقسمونه على العدد والحاجة لأن لكل أهل صنف منهم سهماً". قال في الحاوي: وهذه مسألة رابعة أراد بها أبا حنيفة حيث يقول: إن مال الصدقات لا يلزم صرفه في جميع الأصناف ولكن يصرف في أمسهم حاجة ويعدل عن الباقين، وعند الشافعي: أنه يصرف في جميع الأصناف الثمانية المسماة في آية الصدقات؛ لأن الله تعالى سمى لكل صنف منهم حقاً، فلم يجز العدول عن بعضهم كما لم يجز العدول عن جميعهم، ولأنه لما كان عطايا الآدميين من الوصايا إذا سمى فيها أصناف لم يجز الاقتصار على بعضها كانت عطايا الله تعالى أولى؛ ولأنه لو كانت الحاجة معتبرة لبطل حكم التصريف والتسمية، والله أعلم. مسألة (¬2) قال الشافعي: "ومن أصحابنا من قال: إذا تماسك أهل الصدقة وأجدب آخرون نقلت إلى المجدبين إذا كانوا يخاف عليهم الموت كأنه يذهب إلى أن هذا مال من مال الله عز وجل قسمة لأهل السهمان لمعنى صلاح عباد الله على اجتهاد الإمام". قال في الحاوي: وهذه مسألة خامة أراد بها أبا حنيفة، فإنه يجوز نقل الصدقة عن بلد المال إلى غيره بحسب ما يؤدي اجتهاد الإمام إليه في شدة الحاجة، وعند الشافعي أنه لا يجوز نقل الصدقة عن بلد المال إلى غيره لأحل الحاجة لما قدمناه من الدليل. فإن قيل: فقد نقل عدي بن حاتم والزبرقان بن بدر صدقات قومهما إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه بالمدينة قيل أجاب الشافعي عنه بأربعة أجوبة. أحدها: أنه يحتمل أن يكون نقل إلى المدينة ما فضل من جيران المال. والثاني: أنه كان من بالمدينة أقرب الناس بهم نسباً وداراً فكانوا أحق بها. والثالث: أنه يحتمل أن يكون من حولهم ارتدوا؛ لأنه كان وقت الردة فلم يستحقونها مع الردة فنقلت إلى المدينة. والرابع: أنه يحتمل أن يكون قد حملت إلى أبي بكر إظهارا لطاعته؛ لأن الناس قد كانوا منعوا الزكاة في ذلك الوقت، فلما أظهروا الطاعة بنقل الزكاة ردها عليهم ليتولوا قسمها في جيرانهم. مسألة (¬3) قال الشافعي: " وأحسبه يقول وتنقل سهمان أهل الصدقات إلى أهل الفيء بأن ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 246). (¬2) انظر الأم (3/ 246). (¬3) انظر الأم (3/ 246 - 251).

جهدوا وضاق الفيء وينقل الفيء إلى أهل الصدقات إن جهدوا وضاقت الصدقات على معنى إرادة صلاح عباد الله. وقال الشافعي: وإنما قلت بخلاف هذا القول لأن الله جل وعز جعل المال قسمين أحدهما في قسم الصدقات التي هي طهرة فسماها الله لثمانية أصناف ووكدها وجاءت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن يؤخذ من أغنيائكم فترد على فقرائهم لا فقراء غيرهم ولغيرهم فقراء فلا يجوز فيها عندي والله أعلم أن يكون فيها غير ما قلت من أن لا تنقل عن قوم وفيهم من يستحقها ولا يخرج سهم ذي سهم منهم إلى غيره وهو يستحقه وكيف يجوز أن يسمي الله تعالى أصنافاً فيكونون موجودين معاً فيعطي أحد سهمه وسهم غيره ولو جاز هذا عندي جاز أن يجعل في سهم واحد جميع سهام سبعة ما فرض لهم ويعطى واحد ما لم يفرض له والذي يخالفنا يقول: لو أوصى بثلثه لفقراء بني فلان وغارمي بني فلان رجل آخر وبني سبيل بني فلان رجل آخر إن كل صنف من هؤلاء يعطون من ثلثه وأن ليس لوصي ولا والي أن يعطى الثلث صنفاً دون صنف وإن كان أحوج وأفقر من صنف لأن كلا ذو حق سمي له وإذا كان هذا عندنا وعند قائل هذا القول فيما أعطي الآدميون أن لا يجوز أن يمض إلا على ما أعطوه فعطاء الله أولى أن لا يجوز أن يمض إلا على ما أعطى. قال: وإذا قسم الله الفيء وسن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن أربعة أخماسه لمن أوجف على الغنيمة للفارس ثلاثة أسهم وللراجل سهم ولم نعلم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فضل ذا غناء على من دونه ولم يفضل المسلمون الفارس أعظة الناس غناء على جبان في القسم وكيف جاز لمخالفنا في قسم الصدقات وقد قسمها الله تعالى أمين القسم بعضاً دون بعض وينقلها عن أهلها المحتاجين إليها إلى غيرهم لأن كانوا أحوج منهم أو يشركهم معهم أو ينقلها عن صنف منهم إلى صنف غيره. أرأيت لو قال قائل لقوم أهل غزو كثيراً وجفوا على عدو أنتم أغنياء فآخذ ما أوجفتم عليه فأقسمه على أهل الصدقات المحتاجين إذا كان عام سنة لأنهم من عيال الله تعالى هل الحجة عليه إلا من قسم الله له بحق فهو أولى به وإن كان من لم يقسم له أحوج منه وهكذا ينبغي أن يقال في أهل الصدقات وهكذا لأهل المواريث لا يعطى أحد منهم سهم غيره ولا يمنع من سهمه لفقر ولا لغنى ومضى معاذ بن جبل رضي الله عنه أيما رجل انتقل من مخلاف عشيرته إلى غير مخلاف عشيرته ففي هذا معنيان: أحدهما: أنه جعل صدقته وعشرة لأهل مخلاف عشيرته لم يقل لقرابته دون أهل المخلاف والأخر أنه رأى أن الصدقة إذا ثبتت لأهل مخلاف عشيرته لم تحول عنهم صدقته وعشره بتحوله عنهم وكانت كما ينبت بدأ فإن قيل فقد جاء عدي بن حاتم أبا بكر رضي الله عنه بصدقات والزبرقان بن بدر فهما وإن جاءا بها فقد تكون فضلاً عن أهلها ويحتمل أن يكون بالمدينة أقرب الناس بهم نسباً وداراً ممن يحتاج إلى سعة من مضر وطيئ من اليمن ويحتمل أن يكون من حولهم ارتدوا فلم يكن لهم فيها حق ويحتمل أن يؤتى بها أبو بكر رضي الله عنه ثم يردها إلى غير أهل المدينة وليس في

ذلك خبر عن أبي بكر نصير إليه فإن قيل: فإنه بلغنا أن عمر رضي الله عنه كان يؤتى بنعم من الصدقة فبالمدينة صدقات النخل والزرع والناض والماشية وللمدينة ساكن من المهاجرين والأنصار وحلفاً لهم وأشجع وجهينة ومزينة بها وبأطرافها وغيرهم من قبائل العرب فعيال ساكني المدينة بالمدينة وعيال عشائرهم وجيرانهم وقد يكون عيال ساكني أطرافها بها وعيال جيرانهم وعشائرهم فيؤتون بها وتكون مجمعاً لأهل السهمان كما تكون المياه والقرى مجمعاً لأهل السهمان من العرب ولعلهم استغنوا فنقلها إلى أقرب الناس بهم وكانوا بالمدينة. فإن قيل: فان عمر رضي الله عنه كان يحمل على أبل كثيرة إلى الشام والعراق فإنما هي والله أعلم من نعم الجزية لأنه إنما يجعل على ما يحتمل من الإبل وأكثر فرائض الإبل لا تحمل أحداً وقد كان يبعث إلى عمر بنعم الجزية فيبعث فيبتاع بها إبلاً جلة فيحمل عليها. وقال بعض والناس: مثل قولنا في أن ما أخذا من مسلم فسبيله سبيل الصدقات". قال في الحاوي: وهذه مسألة سادسة أراد بها أهل العراق، ولعل أبا حنيفة معهم فإنهم جوزوا نقل الصدقات إلى أهل الفيء، ونقل الفيء أهل الصدقات اعتباراً بشدة الحاجة ثم اختلفوا بعد النقل، وهل يقضي من نقل عنه سهمه إذا اتبع مال المنقول إليه؟ فمنهم من أوجب القضاء، ومنهم من أسقطه وعند الشافعي لا يجوز نقل الصدقة إلى أهل الفيء وإن جهدوا ولا نقل الفيء إلى أهل الصدقات وإن جهدوا، ويقسم كل واحد من الحالين في أهله؛ لأن الله تعالى سمى لكل مال مالكاً فلم يجز أن يعدل به عنه لما فيه من إبطال النص، ولأنه لما لم يجز أن يعدل بالغنيمة عمن سماه الله تعالى فيها انقيادا لحكم النص، وإن كان غيرهم أشد ضرورة وأمس حاجة لم يجز في مال الفيء والصدقات أن يعال به عن حكم النص، ولأنه لما كانت عطايا الآدميين من الوصايا لا يجوز أن يعدل بها عمن سميت له فعطايا الله تعالى أولى؛ ولأنه لما لم يجز أن يعدل بالمواريث عمن سماه الله تعالى إلى من هو آثر وأحوج، فكذلك مال الفيء والصدقات؛ ولأن عمر رضي الله عنه كان يسم إبل الصدقة ميسم وإبل الجزية ميسم فلولا تميز المستحق لكل واحد من المثالين لما ميز بالميسم. فإن قيل: فإن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يحمل على إبل كثيرة من إبل الصدقة إلى الشام والعراق، فدل على جواز دفع الصدقة إلى أهل الفيء. قال الشافعي جواباً عن هذا: إن عمر إنما كان يحمل على إبل الجزية لا على إبل الصدقة، لأن أكثر فرائض الإبل في الصدقات لا يحمل عليه، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان ليبعث إليه بنعم الجزية فيبعث بها فيبتاع بها إبلاً يحمل عليها. مسالة (¬1) قال الشافعي: "وقالوا والركاز سبيل الصدقات ورووا ما روينا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 251 - 254)

قال: "وفي الركاز الخمس" وقال: "المعادن من الركاز وكل ما أصيب من دفن الجاهلية من شيء فهو ركاز" ثم عادا لما شدد فيه فأبطله فزعم أنه إذا وجد ركازاً فواسع له فيما بينه وبين الله تعالى أن يكتمه وللوالي أن يرده عليه بعدما يأخذه منه أو يدعه له فقد أبطل بهذا القول السنة في أخذه وحق الله في قسمه لمن جعله الله له ولو جاز ذلك جاز في جميع ما أوجبه لله لمن جعله له. قال: فإنا روينا عن الشعبي أن رجلاً وجد أربعة أو خمسة آلاف درهم فقال علي رضي الله عنه لأقضين فيها قضاء بيناً أما أربعة أخماس فلك، وخمس للمسلمين. ثم قال والخمس مردود عليك. قال الشافعي رحمه الله: فهذا الحديث ينقض بعضه بعضاً إذا زعم أن علياً قال: والخمس للمسلمين فكيف يجوز أن يرى للمسلمين في مال رجل شيئاً ثم يرده عليه أو يدعه له وهذا عن علي مستنكر، وقد رووا عن علي رضي الله عنه بإسناد موصول أنه قال: أربعة أخماسه لك واقسم الخمس في فقراء أهلك فهذا الحديث أشبه بحديث علي رضي الله عنه لعل علياً علمه أميناً وعلم في أهله فقراء من أهل السهمان فأمره أن يقسمه فيهم. قال الشافعي رحمه الله: "وهم يخالفون ما رووا عن الشعبي من وجهين أحدهما أنهم يزعمون أن من كانت له مائتا درهم فليس للوالي أن يعطيه ولا له أن يأخذ شيئاً من السهمان المقسومة بين من سمى الله تعالى ولا من الصدقات تطوعاً والذي يزعمون أن علياً ترك له خمس ركازه رجل له أربعة آلاف درهم ولعله أن يكون له مال سواها ويزعمون أنأ إذا أخذ الوالي منه واجباً في ماله لم يكن له أن يعود عليه ولا على أحد يعوله ويزعمون أن لو وليها هو لم يكن له حبسها ولا دفعها إلى أحد يعوله". قال الشافعي رحمه الله: "إذا كان له أن يكتمها وللوالي أن يردها إليه فليست بواجبة عليه وتركها وأخذها سواء وقد أبطلوا بهذا القول السنة في أن في الركاز الخمس وأبطلوا حق من قسم الله من أهل السهمان الثمانية فإن قال: لا يصلح هذا إلا في الركاز. قيل: فإن قيل لك: لا يصلح في الركاز ويصلح فيما سوى ذلك من صدقة وماشية وعشر زرع وورق فما الحجة عليه إلا كهي عليك؟ والله سبحانه وتعالى أعلم". قال في الحاوي: وهذه مسألة سابقة أراد بها أبا حنيفة، فإنه جعل في الركاز الخمس للخبر المروي فيه ثم ناقض في قوله بعد وجوب الخمس فيه، فجعل واجد الركاز مخيراً بين إظهاره للإمام وبين كتمه ثم جعل للإمام إذا ظهر له الركاز، مخيراً بين أخذ خمسه منه وبين رده عليه وعول فيه على أنه ضعيف رواه الشعبي منقطعاً: أن رجلاً وجد أربعة أو خمسة آلاف درهماً فقال علي لأقضين فيها قضاء بيناً، أما أربعة أخماسه فلك وخمس للمسلمين ثم قال: والخمس مردود عليك، وهذا خطأ بل الخمس مستحق لأهل الصدقات لا يجوز تركه عليه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "في الركاز الخمس" (¬1) ولأنه لا يخلو أن يكون ¬

_ (¬1) أخرجه البخاري (1499)، ومسلم (1710)، وأبو داود (3085)، والترمذي (1377)، وابن= =ماجه (2509)، وأحمد (1/ 314)، والدارمي (2/ 196)، وابن الجارود (372)، وعبد الرزاق (17873)، والطبراني في "الكبير" (10/ 107).

واجباً فلا يجوز تركه أو غير واجب فلا يجوز أخذه، ولأنه لو كان غنياً لم يكن له حبس الخمس على نفسه بوفاق أبي حنيفة فكذلك إذا كان فقيراً كالعشر. فأما حديث الشعبي فقد قال الشافعي بعضه ينقض بعضاً إذا زعم أن علياً قال: إن الخمس للمسلمين، فكيف يجوز أن يرى للمسلمين في مال رجل شيئاً ثم يرده عليه، وهذا عن علي مستنكر، وقد روي عن علي رضي الله عنه بإسناد موصول أنه قال: أربعة أخماسه لك واقسم الخمس في فقراء أهلك وهل الحديث أشبه بعلي عليه السلام مما رواه الشعبي، ولأن رد الصدقة على الفيء لا يجوز عنده، ومن وجد أربعة آلاف درهم كان غنياً عنده ببعضها ولعله قد كان يملك غيرها فكيف يجوز أن يرد عليه صدقة هو عنده غير مستحق لها ولو جاز مثل هذا في الركاز لجاز في غيره من الصدقات، فدل على فساد ما ذهب إليه وتناقض ما عول عليه وبالله التوفيق وهو الهادي إلى سواء الطريق. تم كتاب الصدقات والحمد لله كثيراً وصلواته على سيدنا محمد وآله يتلوه بحول الله وعونه كتاب النكاح وحسبنا الله ونعم الوكيل.

كتاب العارية

كتاب العارية [2/أ] مسألة (¬1): قال: وكل عارية مضمونة على المستعير. الفصل وهذا كما قال: أعلم أن العارية إباحة الانتفاع بعين من الأعيان، وقيل: إنها هبة المنافع مع استيفاء ملك الرقبة، وقال الأزهري: هي مشتقة من عاد الشيء إذا ذهب وجاء وتردد، ومنه قيل للغلام الخفيف: عيار لتردده وخفته في بطالته وكثرة ذهابه ومجيئه فيها، والعارية اسم وجمعها عواري وعواري بتخفيف الياء وتشديدها والعارية عقد معونة وإرفاق جاء الشرع بها وندب الناس إليها ولا يجب ذلك وقد كانت واجبة في ابتداء الإسلام حتى توعد الله تعالى من منعها فقال عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)} إلى قوله {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)} [الماعون:4 - 7] قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما: "الماعون العارية، وفسرها ابن مسعود فقال: هي عارية القدر والدلو والميزان (¬2)، وروي عن على وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا: "الماعون الزكاة"، وروى سعيد بن المسيب والزهري: "إنه المال بلسان قريش"، وقال محمد بن كعب القرظي: إنه المعروف، وقال أبو عبيد: الماعون اسم لكل منفعة وعطية، وقال محمد بن جرير الطبري: إنه المنافع. والأصل فيها الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فالآية التي ذكرناها وأيضاً قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ} [النساء:114] والعارية من المعروف، وقال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] وهذا من البر. وأما السنة فما روى أبو أمامة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبته عام حجة الوداع: "العارية مؤداة والمنحة مردودة والدين مقضي والزعيم غارم" (¬3) ورواه أبو هريرة: "العارية مضمونة". وروى أمية بن صفوان عن أبيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعار منه يوم حنين أدرعاً فقال: أغصباً يا محمد أم عارية؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "لا بل عارية [2/ب] مضمونة مؤداة" (¬4). وروى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "ما من صاحب إبل ولا بقر لم ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 32). (¬2) أخرجه أبو داود (1647). (¬3) أخرجه أحمد/ (5/ 267)، وأبو داود (3565)، والترمذي (1265)، وابن ماجه (2398)، والبيهقي في "الكبرى" (11474). (¬4) أخرجه مسلم (3/ 401)، وأبو داود (3562)، والنسائي (5776)، والحاكم (2/ 47)، والبيهقي (11478).

يؤد حقها إلا بطح يوم القيامة بقاع قرقر تطأه بأظلافها وتنطحه بقرونها كلما نفذت أخراها عادت أولاها" قيل: يا رسول الله وما حقها؟ قال: "إعارة دلوها، وإطراق فحلها، ومنحة لبنها" (¬1). وأما الإجماع فلا خلاف بين المسلمين في جوازها واستحبابها. لأنه لما جازت هبة الأعيان بالإجماع كذلك هبة المنافع كما تصح الوصية بهما. فإذا تقرر هذا فاعلم أنه لا تصح الإعارة إلا من جائز التصرف في المال، أما من لا يملك التصرف في المال كالصبي والسفيه لا تصح منه الإعارة ولا يجوز للعبد المأذون أن يعير خلافاً لأبي حنيفة ولا تنعقد إلا بإيجاب وقبول لأنه إيجاب حق لآدمي كالبيع والإجارة، وتصح بالقول من أحدهما: والفعل من الآخر فإن قال المستعير: أعرني فسلمها المعير إليه انعقد، وإن قال المعير: أعرتك فقبضها المستعير انعقد لأنه إباحة التصرف في ماله فتصح بالقول من أحدهما: والفعل من الآخر كإباحة الطعام. واعلم أن تمام العارية بالقبض ويصح القبض فيه بالإذن فيه من غير إقباض، ولا يصح القبض في الهبة بالإذن في القبض من غير إقباض، والفرق أن قبض المستعير لا يزول به ملك المعير فجاز أن يأذن بالتصرف فيه والقبض في الهبة مزيل لملك الواهب فلم يتم إلا بإقباض الواهب ولا تلزم العارية وله الرجوع فيها متى شاء، وقال مالك: إن قدر العارية بمدة تلزمه ولم يكن له الرجوع قبل انقضائها بناء على أصله الهبة تلزم بالقول من غير قبض وهذا غلط لأن لزومها يخرجها عن حكم العارية إلى حكم الإجارة فلا يجوز ذلك. ثم اعلم أنها مضمونة عندنا سواء تعدى فيها أو لم يتعد وسواء كان حيواناً أو غير حيوان، وسواء شرط الضمان أو لم يشرط وبه قال ابن عباس وعائشة وأبو هريرة رضي الله عنهم وهو مذهب عطاء وأحمد وإسحاق، وقال ربيعة: العارية مضمونة بكل حال إلا أن تكون حيواناً فيموت في يد المستعير فلا يضمنه، وقال مالك: إن كان مما يخفى [3/أ] هلاكه ضمن، وإن كان مما يظهر لم يضمن، وقال أبو حنيفة: العارية أمانة غير مضمونة إلا بالتعدي وبه قال النخعي والشعبي وشريح والحسن والثوري والأوزاعي ويحكى هذا عن مالك وإسحاق، وروي هذا عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما، وقال عثمان البتي: العارية مضمونة بكل حال إلا أن تكون حيواناً فلا يضمن سواء مات حتف أنفه، أو بفعل المستعير من غير تفريط، ويحكى هذا عن مالك أيضاً، وقال قتادة وعبيد الله العنبري وداود: إن شرط ضمانها على المستعير ضمن وإلا فلا يضمن وهذا كله غلط لما ذكرنا من خبر أبي هريرة وصفوان ولأنه أخذ ملك غيره لمنفعة نفسه منفرداً بها من غير استحقاق ولا إذن في الإتلاف فيضمنه كالمغصوب. واحتجوا بما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ¬

_ (¬1) تقدم تخريجه في "الزكاة".

ليس على المستعير غير المغل ضمان، وليس على المستودع غير المغل ضمان (¬1) قلنا: قال الدارقطني: رواه عبيد بن حسان وهو ضعيف ثم أراد به ضمان الأجزاء التالفة بالاستعمال بدليل ما ذكرنا. واحتج قتادة بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - شرط لصفوان الضمان قلنا: ذاك إخبار عن صفة العارية وبيان لحكمها ولم يكن شرطاً ولأن أصول الشرع على أنه لا يتغير حكم الضمان بالشرط وعدمه كما في البيع والإجارة والوديعة، فإذا تقرر هذا قال الشافعي ها هنا وقال: من لا يضمن العارية فإن قلنا: إذا اشترط المستعير الضمان ضمن قلت: إذاً تترك قولك وإنما قصد الشافعي بهذا الكلام قتادة والعنبري ومعنى هذا الكلام قريب من معنى الاستفهام أي إن قلنا: إذا شرط المستعير الضمان ضمن فهل تستنكر هذا المذهب وهل تستبعده؟ فقال الشافعي لهذا المستفهم إذاً تترك يعني يناقض مذهبك فقال الخصم: وأين المناقضة في مذهبي؟ فقال: ما تقول في الوديعة إذا شرط الضمان أو في القرض أن لا يضمن أيتغير الحكم؟ فقال: لا قال: فكذلك ها هنا وجب أن لا يتغير بوجود الشرط لأن الشرط لا يغير حكم الأصل فقال الخصم: إن لم يكن للشرط تأثير فلم شرط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الضمان قال: لجهالة صفوان [3/ب] بالحكم فإنه كان مشركاً لا يعرف حكم الإسلام ولو عرفه ما ضره شرطه له قال: فهل قال هذا أحد يعني ضمان العارية من غير شرط قال: في هذا كفاية وغنية وقد قال بذلك أبو هريرة وابن عباس رضي الله عنهما هذا شرح كلام الشافعي في مناظرته، فإن قيل: ما تأويل قول الشافعي في موضع من كتاب الإجارات العارية غير مضمونة إلا بالتعدي؟ قلنا: هذا ليس بقول ثان في سقوط ضمانها كما وهم فيه الربيع وهو محمول على سقوط ضمان الأجرة أو على سقوط ضمان الأجزاء أو حكاية عن مذهب غيره. فرع إذا استعار شيئاً وانتفع به ثم رده على صاحبه لم يكن عليه ضمان المنافع ولا ضمان ما تلف بالاستعمال من أجزائه قولا واحداً وهو مثل ذهاب أجزاء المنشفة بالنشف والثوب باللبس لأنه مأذون فيه، وعلى هذا لو كان سيفاً لتقاتل به فانكسر في الضربة لا ضمان، ومن أصحابنا من قال: فيه وجه آخر أنه يضمن الأجزاء التالفة بالاستعمال ذكره ابن سريج وهو غلط لما ذكرنا. فرع آخر لو تلفت في يده نظر، فإن تلفت عقيب القبض فعليه كمال قيمتها، فإن قيل: هلا أسقطتم عنه ضمان الأجزاء المأذون في إتلافها. قيل: إنما يسقط ضمان الأجزاء إذا ¬

_ (¬1) أخرجه الدارقطني (3/ 41)، والبيهقي (6/ 91).

أتلفها منفردة عن العين على وجه الاستعمال المأذون، فأما إذا تلفت بتلف العين ضمنها لأنه لا يمكن تمييزها عن العين في الضمان، وإن تلفت بعد الاستعمال فالمذهب أن عليه قيمتها يوم التلف لأنه لا يضمن الأجزاء التي أتلفها بالاستعمال على ما ذكرنا فلا يضمن الزيادة التي حدثت في العين لأنه لم يقبضها ولم يكن مأموراً برد العين في حال الزيادة، ويخالف المغصوب والمقبوض بعقد فاسد لأن كل واحد منهما مأمور برد العين على صاحبها في كل حال، ومن أصحابنا من قال: يلزمه أكثر ما كانت قيمتها من حين القبض إلى حين التلف كالمقبوض عن العقد الفاسد وهذا لأن الأجزاء غير مضمونة عليه مع بقاء العين، فأما إذا تلفت العين ضمن الجميع كما نقول في زيادة السوق والزيادة التي تحدث في العين تدخل في العارية فيجب أن تكون مضمونة [4/أ] عليه، ومن أصحابنا من قال: يلزمه قيمتها يوم القبض تمثيلاً بالقرض وهذا والذي قبله ضعيف والأصح الأول. فرع آخر لو كانت العارية مما له مثل فإن قلنا: فيما لا مثل له يضمن بأكثر ما كانت قيمتها يلزمه مثلها، وإن قلنا: يضمن ذاك بقيمتها يوم التلف ضمنها ها هنا بقيمتها. فرع آخر لو استعملها في غير ما أذن فيه مثل أن استعار قميصاً ليلبسه فنقل فيه الطعام والشراب والطين ونحو ذلك، أو استعار دابة ليركبها فنقل عليها الطعام أو غيره يلزمه أجرة مثلها وضمان ما نقص من الأجزاء قولاً واحداً، وإن تلفت يلزمه أكثر ما كانت قيمتها من حين التعدي إلى حين التلف. فرع آخر إذا رجع المعير في العارية تلزم مؤونة الرد على المستعير قولاً واحداً لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خبر صفوان بن أمية: "لا بل عارية مضمونة مؤداة" فقوله: مضمونة أفاد ضمان الأصل، وقوله: مؤداة أفاد ضمان الرد. فرع آخر إذا ردها نظر، فإن كان إلى مالكها أو إلى من يقوم مقامه في القبض كان رداً صحيحاً، وإن ردها إلى زوجته أو جاريته لم يكن رداً صحيحاً، وإن كانت دابة فردها إلى اصطبلها لا يكون رداً صحيحاً ويلزمه الضمان، وقال أبو حنيفة: القياس أن لا يبرأ والاستحسان أن يبرأ ويكون رداً صحيحاً لجريان العادة به وهذا غلط لأنه لم يردها إلى صاحبها ولا إلى من يقوم مقامه فلا يكون رداً صحيحاً كما لو ردها إلى زوجته، وكما لو رد المغصوب إلى بيت مالكه أو رد السارق المسروق إلى الحرز لا يبرأ بالإجماع. فرع آخر لو حمل السيل حباً لرجل أو النوى فأدخله أرض غيره فنبت منه الزرع أو الشجر

فالزرع والشجر لصاحب الحب والنوى دون صاحب الأرض وقد نبت في أرض غيره بغير تفريط منه فلا أجرة عليه، وكذلك لو أطارت الريح إلى دار غيره طعاماً له فامتلأت به لا أجرة عليه، ثم لصاحب الزرع والشجر تحويله عن الأرض فإن اختار الاستبقاء فيها نظر، فإن رضي صاحب الأرض فلا كلام وإن أبى هل يجبر على قلعه؟ فيه وجهان أحدهما: لا يجبر لأن مالكه غير متعد ولكن يلزمه بدل [4/ب] الأجرة، ومن أصحابنا من قال: على هذا الوجه هو كالمستعير لا تلزمه الأجرة وهو ضعيف، والثاني: يجبر لأنه نبت في أرضه بغير اختياره كما لو دخل غصن شجرة في هواء دار غيره يلزمه تحويل الغصن عن ملكه كذلك ها هنا وهذا هو المذهب الصحيح. فرع آخر إذا قلع في هذه المسألة يلزمه تسوية الحفر لأنه أدخل النقص في ملك غيره لاستصلاح ملكه. فرع آخر لو أعاره حائطاً ليضع عليه جذعاً فله أن يرجع في العارية قبل وضعه لأنه لا ضرر عليه في ذلك، وإن أراد الرجوع بعد الوضع والبناء عليه لا يصح الرجوع ولا يجبر على قلعه لأن العرف فيه التأبيد، فإن قيل: العارية جائزة فكيف تجعلونها لازمة ها هنا؟ قلنا: من أصحابنا من قال: العارية ضربان جائزة ولازمة وهذه عارية لازمة وهذا لا يصح بل العواري كلها جائزة وإنما لا يمكن الرجوع ها هنا لإلحاق الضرر بالمستعير كما لو أعار سفينة فطرح المستعير فيها طعاماً فطالبه المعير بالرد وهي في لجة البحر لم يكن له لا لكون العارية لازمة بل لما ذكرنا من علة الضرر كذلك ها هنا. فرع آخر لو رجع ها هنا في العارية وقلنا: لا يطالب بالقلع هل يستحق عليه الأجرة بعد الرجوع؟ فيه وجهان أحدهما: يستحق كما يستحق أجرة أرضه بعد الغرس إذا غرسها بإذنه ورجع في العارية وعلى هذا لو امتنع من بذلها أخذ بقلعها، والثاني: وهو الأصح لا أجرة له والفرق بين هذه المسألة وبين مسألة الأرض أن الحائط قد يصل مالكه إلى منافعه، وإن كانت الأجذاع موضوعة فيه ولا يصل إلى منافع الأرض مع بقاء الغراس والبناء فيها مع أن العرف لم يجر بإجارة الحائط وجرى بإجارة الأرض. فرع آخر لو أراد المعير أن يعطيه قيمة الجذوع كلها أو قيمة أطرافها التي في ملكه أو يطالبه بالنقص وعليه ما نقص لم يكن ذلك له، لأن بعضها في ملك المستعير ويفارق إذا غرس شجراً في أرضه بإذنه ثم رجع صاحب الأرض له دفع قيمته لأن كلها في ملك الغير.

فرع آخر [5/أ] لو تلفت الأجذاع ثم أراد أن يعيد مثلها على الحائط لم يجز إلا بإذن جديد لأن الإذن تناول الأول دون غيره، وهكذا لو انكسر الجذع وأراد أن يطرح مكانه جذعاً آخر، وفيه وجه آخر له إعارته لأن هذه الإعارة اقتضت التأبيد ولو سقط الحائط قد ذكرنا فيما قبل أنه إن أعاره بغير الآلة الأولى لم يكن للمستعير إعادة خشبه عليه، وإن أعاره تلك الآلة بعينها فيه وجهان والصحيح أنه ليس له ذلك لأن هذا الحائط غير الأول، ألا ترى أنه لو أوصى له بحائط فانهدم قبل موته وبناه ثانياً لم تصح الوصية في الثاني، وقيل: لا فرق بين أن يعداه بتلك الآلة أو بغيرها فيه وجهان وعلى هذا لو أعاره بقعة تغرس فيها غراساً فانقلع الغراس أو قلعه هل له إعادة مثله؟ وجهان. فرع آخر لو أعاره جذعاً ليسمك به حائطاً ليس له بعد السمك أن يرجع فيه ما كان الحائط قائماً وكان الجذع صحيحاً لأنه يخاف السقوط وهل له المطالبة بعد الرجوع بأجرته؟ وجهان على ما ذكرنا. فرع آخر لو أعار أرضاً لدفن ميت فدفن لزم، ولو أوصى الميت بنقله منها منعوا منه لأن فيه انتهاك حرمته وليس لصاحب الأرض المطالبة بالأجرة بعد الرجوع في العارية وجهاً واحداً لأن الميت زائل الملك والأولياء لا يلزمهم ولو نبشه السبع حتى ظهر يلزم أن يعاد إلى قبره جبراً لأنه قد صار حقاً للميت مؤبداً. فرع آخر إذا دفن في أرضه ميتاً بإذنه ليس لصاحب الأرض أن يتصرف على ظاهر القبر من أرضه، ولو أراد أن يدفن فيه ميتاً آخر لم يجز إلا أن يتجاوز مكان لحد. فيجوز، وإن كان مقارباً. فرع آخر لو مات المستعير يلزم الوارث أن يبادر بردها على المعير طلب أو لم يطلب علم بموته أو لم يعلم لأن رد العارية واجب بخلاف ما لو مات المودع لا يلزم وارثه ردها لأن ردها لا يجب وإنما يجب التمكين فقط. فرع آخر لو لم يقدر وارث المستعير على الرد حتى هلكت ضمن في تركة المستعير [5/ب] ولو كان مع القدرة على ردها فهي مضمونة على ورثة المستعير مع الأجرة، وكذلك لو جن المستعير يلزم الولي أن يبادر بردها على المعير.

فرع آخر لو باع العارية وردها غير ممكن كالأرض إذا غرست فالبيع باطل لأن مدة بقاء الغرس فيها مجهولة واسترجاعها غير ممكن إلا ببذل قيمة الغراس وأرش النقص وذلك غير واجب على المعير ولا على المشتري، وفيه وجه آخر أنه يصح البيع ويؤخذ المستعير بقلع الغراس ويجبر البائع المعير على بذل نقص الغرس لأنه من حقوق التسليم كما يجبر على مؤونة التسليم. فرع آخر لو بطلت العارية بالشرط الفاسد وتصرف فيها هل يلزمه أجرة المنفعة؟ وجهان أحدهما: يضمن لأن فسادها رافع لحكمها، والثاني: لا يضمن لأن كل عقد فسد فحكمه في وجوب الضمان وسقوطه حكم الصحيح منه كفاسد القرض وصحيحه. فرع آخر لو استعار شيئاً له أن يستوفي منفعته بنفسه وبوكيله، ولو أراد إجارته لم يجز وجهاً واحداً لأنه لم يملك المنافع فلا يجوز أن يملكها، ولأن العارية غير لازمة والإجازة لازمة فلا يجوز أن يترتب اللازم على غير اللازم، وإن أراد إعارته فيه وجهان أحدهما: لا يجوز وهو المذهب وبه قال أحمد لأن العارية إباحة المنفعة له فلا يجوز أن يبيح للغير كما لو أبيح له طعام لا يجوز له أن يبيح لغيره، والثاني: يجوز له ذلك وبه قال أبو حنيفة لأنه مثل ما ملك فصار كالمستأجر يؤاجر ما استأجره. فرع آخر لو أعار المستعير العارية من رجل بإذن المعير جاز ثم نظر، فإن لم يسمه فالمستعير الأول على عاريته وهو المعير لها من الثاني وضمانها باق عليه وله الرجوع فيها إن شاء، ولو ردها إلى المستعير الأول يبرأ، وإن سماه المعير برئ المستعير الأول من ضمانها، ولو ردها المستعير الثاني على المستعير الأول لا يبرأ. فرع آخر يجوز إعارة كل ما يجوز إجارته وما لا يجوز [6/أ] إجارته لا يجوز إعارته إلا الفحل للنزو ويجوز إعارته، ولا يجوز إجارته وتجوز إعارة الدراهم والدنانير، وإن كان في جواز إجارتها وجهان لأن حكم العارية أوسع بدليل أنه يجوز أن يستعير ما يرهنه، ولا يجوز أن يستأجر ما يرهنه ويجوز إعادة الكلب للصيد وجهاً واحداً، وإن كان في إجارته وجهان ويجوز إعارة النخل لربط السفن والبهائم، وإن كان في إجارتها وجهان. فرع آخر يجوز إعارة الإبل والبقر والخيل والبغل والأحرار والعبيد ويجوز للرجل أن يعير ولده الصغير ليخدم من يتعلم منه، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - استعار من أبي طلحة فرساً فركبه.

فرع آخر لا يجوز إعارة الشاة، ولكن يجوز أن يمنح قال الشافعي: والمنحة أن يدفع الرجل ناقته أو شاته إلى رجل ليحلبها ثم يردها فيكون اللبن ممنوحاً ولا ينتفع منها بغير اللبن، وقد روى أبو هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في قال: "المنحة أفضل الصدقة تغدو بإناء وتروح بآخر" (¬1)، وقال القاضي الطبري: أطلق أصحابنا أنه لا يجوز إعارة الشاة وعندي يجوز ولا ينبغي أن يكون فيها اختلاف ثم فسر بما ذكرنا من المنحة والأولى ما قاله أصحابنا لأن إباحة اللبن لا تسمى عارية. فرع آخر لا يجوز استعارة الجواري للخدمة في الجملة، وهل يكره؟ فإن كان المستعير امرأة أو محرماً لها لا يكره، وإن لم يكن محرماً لها فإن كانت موسومة بالجمال يكره أن يخلو بها في الاستخدام خوفاً من غلبة الشهوة، وإن كانت ممن لا يشتهى لكبرها أو وحشتها لم يكره لأنه يؤمن عليها، ومن أصحابنا من قال: إذا كانت شابة يخاف منه عليها لا تجوز الإعارة منه وتحرم وهذه الكراهة كراهية تحريم وقيل: يكره مطلقاً من غير فرق بين الشابة والكبيرة لئلا يخلو الرجل بالمرأة فيدخل الشيطان بينهما. فرع آخر لا يجوز إعارتها للاستمتاع بحالٍ، فإن أعارها للخدمة فوطئ المستعير فإن كان جاهلاً بالتحريم [6/ب] لا يلزمه الحد ويلزمه المهر ويلحق به النسب والولد حر وعليه قيمته لسيدها، وإن كان عالماً بالتحريم فهو زناً، وهكذا لو أعارها للاستمتاع ووطئها، وقال داود: لا يلزمه الحد وهذا غلط لأنه حرام محض لا شبهة فيه. فرع آخر يكره أن يعير العبد لخدمة ولاه لأنه يكره للإنسان أن يستخدم أباه أو أمه، ولو أعار منه صحت العارية، وإن أراد أن يستعيره ليرفهه ولا يستخدمه لا يكره بل يستحب ذلك، وكذلك حكم الأجداد والجدات ولا يعتق عليه بالعارية بحال لأنه لا يملك بها رقبة المال. فرع آخر لو استعار رجلاً من حلال من محرم صيدا فقتله أو تلف في يده نظر، فإن كان المحرم اصطاده في حال إحرامه لم يجب على المستعير شيء ويجب على المعير الجزاء، وإن كان اصطاده قبل إحرامه فإن قلنا: يزول ملكه بالإحرام فالحكم ما ذكرنا ولا يجوز إعارته، وإن قلنا: لا يزول ملكه عنه فعليه قيمته لصاحبه ولا جزاء على الحلال ولا على المحرم لأن المحرم على هذا القول لم يمنع من إمساكه وإنما منع من إتلافه ولم يتلفه. ويجوز إعارته منه فلم يلزمه الجزاء وهذه العارية تتصور في حمار ¬

_ (¬1) أخرجه الطبراني في "الكبير" (10/ 103).

الوحش أو بقر الوحش ونحو ذلك، ولو استعار محرم من حلال صيداً فتلف في يده يلزمه الجزاء لله تعالى والقيمة لصاحبه ولا تجوز هذه العارية. فرع آخر لو استعار دابة ليركبها إلى موضع بعينه فجاوز ذلك الموضع فإنه قبل أن يجاوز بها ذلك الموضع هي في يده عارية لا تلزمه غرامة النقصان إن حصل بالاستعمال ولا يلزمه أجر مثلها، وإن تلفت يضمنها ضمان العارية. وأما بعد مجاوزة ذلك الموضع فهو متعد فيها وحكمه حكم الغاصب من وقت المجاوزة، فإن ردها إلى ذلك الموضع الذي جاوزه لا يبرأ من الضمان، وكذلك لو استأجرها إلى موضع فجاوز ذلك الموضع [7/أ] ثم ردها إليه لا يبرأ من الضمان ووافقنا أبو حنيفة في هاتين المسألتين أنه لا يبرأ عن الضمان بالرد إلى ذلك الموضع وإن خالفنا في الوديعة وقال: إذا ردها إلى مكانها بعد التعدي يزول الضمان. فرع آخر لو استعار عارية واستعملها مدة لمثلها أجرة ثم بانت مستحقة كان لمالكها أجر مثلها وبدل ما نقص من الأجزاء بالاستعمال وله أن يرجع بذلك على من شاء من الغاصب والمستعير معاً فإن رجع على المستعير به هل يرجع المستعير على المعير بما غرم؟ قولان قال في "الجديد": لا يرجع عليه لأن التلف حصل في يده بغير حق فاستقر الضمان عليه، وقال في القديم وبه قال أحمد: يرجع عليه لأنه غره فإنه دفع إليه على أن لا يضمن الأجرة ولا ما تلف عن الأجزاء باستعماله فاستقر الضمان على المعير، وإن رجع المالك على المعير هل يرجع على المستعير؟ قولان بناءً على القولين في تضمين المستعير فإن قلنا: قرار الضمان على المستعير رجع عليه فإن قلنا: قراره على المعير لا يرجع عليه، وإن تلفت في يد المستعير فالكلام في الأجرة والأجزاء التالفة بالاستعمال على ما ذكرنا، وأما قيمتها فالمستعير دخل على أن ضمانها ضمان العارية وهو قيمتها حال التلف على الصحيح من المذهب وقد وجب ضمان الغصب وهو أكثر ما كانت قيمتها من وقت القبض إلى حالة التلف فإن كانت القيمتان سواء فالضمان مستقر على المستعير قولاً واحداً لأنه دخل على أنها عارية مضمونة، وإن كانت قيمتها غصباً أكثر فتلك الزيادة بمنزلة الأجرة والأجزاء وقد ذكرنا، وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يتقرر الضمان على المستعير؟ قولان وهو ضعيف غريب. مسألة (¬1): قال: "ولو قال رب الدابة أكريتها إلى موضع كذا وكذا، وقال الراكب: بل عارية". الفصل وهذا كما قال: إذا اختلف صاحب الدابة وراكبها فقال صاحبها: أجرتكها بكذا ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 33).

وكذا، وقال الراكب: بل أعرتنيها ولا أجرة لك قال الشافعي [7/ب] ها هنا: القول قول الراكب مع يمينه. وقال في كتاب "المزارعة": وإذا زرع رجل أرض رجل ثم اختلفا فقال الزارع: أعرتنيها، وقال رب الأرض: أكريتكها فالقول قول رب الأرض مع يمينه فاختلف أصحابنا فيه فقال الأكثرون: المسألتان على قولين، ولا فرق بين الدابة وبين الأرض وهو الصحيح، وقد قال الربيع لما نقل هذه المسألة كما نقل المزني وفيه قول آخر إن القول قول المالك وهكذا ذكر المزني في "الجامع الكبير". ووجه قولنا إن القول قول المالك فيهما وهو اختيار المزني ورواه أصحابنا عن مالك أن المنافع تجري مجرى الأعيان بدليل جواز العقد عليها كجوازه على الأعيان وتضمن بالمسمى في العقد الصحيح وبعوض المثل في العقد الفاسد، ولو اختلفا في العين فقال: أذنت لي في إتلافه أو تناوله أو وهبت مني وأنكر المالك فالقول قول المالك كذلك ها هنا، ولأنهما لو اختلفا في أمل الإذن كان القول قول المالك فكذلك إذا اختلفا في وصف الإذن ووجه قولنا القول قول الآخذ وبه قال أبو حنيفة إن الأصل براءة الذمة عما يدعي عليه من الكراء وقد تصادقا على أن الاستعمال صدر عن الإذن والأول أصح، فإذا قلنا: القول قول الآخذ حلف أنه ما استأجره ويسقط عنه ما يدعيه من الأجرة ويرد الدابة على صاحبها، فإن لم يحلف ونكل رددنا اليمين على المالك فيحلف ويستحق المسمى قولاً واحداً لأن اليمين مع النكول إما أن تكون بمنزلة البينة أو الإقرار وأيهما كان يثبت به المسمى وإذا قلنا: القول قول المالك حلف وله الأجرة، وهل تجب الأجرة المسماة أو أجرة المثل؟ فيه وجهان: أحدهما: يجب المسمى لأنه جعل القول قوله وحلف عليه والثاني وهو الأصح وقيل: نص عليه في "الأم" تجب أجرة المثل لأنهما لو اتفقا على الإجارة واختلفا في الأجرة لا يقبل فيه قول المؤجر فلأن لا يقبل قوله فيه مع اختلافهما في أصل الإجارة أولى. [8/أ] ويخالف هذا إذا حلف مع نكول الآخر لما ذكرنا أن يمينه مع نكوله تجري مجرى البينة أو الإقرار، ومن أصحابنا من قال في مسألة النكول: هل يستحق المسمى أو أجر المثل؟ وجهان أيضاً وهذا غلط والفرق ظاهر وعلى هذا القول إن لم يحلف المالك لا ترد اليمين على الآخذ لأنه لا يدعي شيئاً والأجرة ساقطة عنه بنكول المالك وصار هذا بمنزلة المدعي إذا رأت عليه اليمين فلم يحلف لا ترد اليمين ثانياً على المدعى عليه. ومن أصحابنا من غلط ها هنا وقال: إنه يحلف عند نكوله وليس بشيء هذا إذا كانت الدابة باقية، فإن كانت الدابة تلفت في يد الآخذ لا يخلو إما أن تتلف عقيب الدفع أو بعد مضي مدة تجب لمثلها أجرة فإن تلفت عقيب الدمع لا معنى للأحلاف لأن صاحبها يدعي الإجارة وقد انفسخت بتلفها ولكن صاحب الدابة يقول: تلفت في يدك بإجارة فلا ضمان عليك، وقال الآخذ تلفت في يدي بالعارية فعلي ضمان القيمة فهو يقر بالقيمة لمن لا يدعيها فيسقط حكم إقراره ولا شيء عليه، وإن كانت قد مضت مدة

لمثلها أجرة ثم تلفت فصاحب الدابة يدعي عليه الأجرة ولا يدعي القيمة، والآخذ ينكر الأجرة ويقر بالقيمة فإن كانت الأجرة التي يدعيها أكثر من قيمة الدابة فالمالك يدعي فضل الأجرة والآخذ ينكرها فيكون الحكم فيه كما لو كانت العين قائمة وقد ذكرنا حكمها، وإن كانت الأجرة وفق القيمة فالمالك يدَّعيها أجرةً والآخذ ينكرها والآخذ يقر قيمة والمالك لا يدَّعيها فما الذي يصنع بها؟ فيه وجهان: أحدهما: يأخذها الحاكم من الآخذ ويدفع إلى المالك وتنقطع الخصومة بينهما لأنه ادعى عليه حقاً وقد أقر له بقدره فلم إليه ولا يعتبر اختلاف جهة الدعوى والإقرار. والثاني: لا يؤخذ منه شيء لأنه أقر له قيمة تجب بالتلف وهو لا يدعيها فلا يمكن دفعها إليه والحق الذي ادعاه هو أجرة المدة والآخذ لم يقر به فلا يلزمه تسليمه فعلى هذا هما على الخصومة فالقول قول من على ما ذكرنا من القولين وعلى هذا إذا كانت الأجرة التي يدعيها أكثر [8 / ب] من قيمتها ففي قدر قيمتها هل يؤخذ منه أم لا؟ وجهان أحدهما: ما ذكرنا والحكم في الزيادة على القولين، وإن كانت العين قائمة والاختلاف كان عقيب العقد فالقول قول الآخذ مع يمينه وترد الدابة والأرض إلى المالك ولا يتصور الكلام في الأجرة ولا في القيمة، ومن أصحابنا من قال: المسألتان على ظاهر النصين ففي الدابة القول قول الراكب وفي الأرض القول قول رب الأرض، والفرق أن العادة جرت بإعارة الدواب ولم تجر بإعارة الأرض للزراعة فالعادة تشهد لرب الأرض فجعلنا القول قوله وتشهد ها هنا للراكب فكان القول قوله وهذا غلط لأن الشافعي لا يعتبر العادات في الدعاوى ولهذا لا يقدم دعوى العطار مع الدباغ في دعوى العطر. فرع لو كانت المسألة بالضد من هذا فقال ربها: أعرتكها، وقال الراكب: أجرتنيها لا يخلو من أحد أمرين إما أن تكون قائمة أو تالفة فإن كانت قائمةً فإن اختلفا عقيب القبض فالمالك يدعي الإعارة والقابض يدعي الإجارة والمالك ينكرها فالقول قول المالك مع يمينه فيحلف ويأخذ الدابة وإن اختلفا بعد انقضاء مدة الإجارة مثل أن يقول: أعرتكها في هذه السنة، وقال الآخذ: بل أجرتنيها سنةً بمائةٍ وقد مضت فالقابض يعترف له بأجرةٍ لا يدعيها فلا يلزمه تسليمها ويأخذ المالك دابته وينصرف، وإن اختلفا بعد مضيّ نصف المدة فالقابض يعترف له باستقرار خمسين من الأجرة والمالك لا يدعيها فلا يلزمه تسليمها، والقابض يدعي أن له في الدابة بقية الإجارة تمام المدة فيكون القول قول المالك مع يمينه ويأخذ الدابة، وإن كانت تالفة لا يخلو إما أن يكون التلف عقيب القبض أو بعد مدةٍ، فإن كان عقيب القبض فالمالك يدعي عليه قيمتها لأنها عارية والقابض يدعي أمانة بعقد إجارة فالقول قول المالك قولاً واحداً وعليه قيمة الدابة لأنهما اتفقا على أن الملك له، واختلفا في جهة سقوط بدله فالقول قول المالك ويخالف الأجرة في المسألة قبلها في أحد القولين لأن هناك على حدوث المنافع (9/أ) في ملك المدفوع إليه وادعى المالك عوضاً عليه في مقابلتها فلم يقبل قوله، وان كان التلف

مضي مدة لمثلها أجرة فالقابض يعترف بالأجرة والمالك لا يدعيها والمالك يدعي القيمة والقابض لا يعترف بها فإن كانت القيمة أكثر من الأجرة فالقول قول المالك فيما زاد على الأجرة مع يمينه ويستحق وفي القدر الذي هو وفق الأجرة وجهان أحدهما: يسلم الحاكم منه بلا يمين، والثاني: لا يدفع إليه إلا بيمين لأنه لا يدعيها أجرة وإنما يدعيها قيمة فلا يدفع إلا بعد أن يحلف أنه أعارها منه ثم يأخذ القيمة بالتمام. مسألة (¬1): قال: "ولو قالَ: آعرتنيهَا، وقال ربُّها: بل غصبتنيهَا". الفصل وهذا كما قال: إذا كانت لرجل دابة فوجدت في يد رجل فقال صاحبها: غصبتنيها، وقال من في يده: بل أعرتنيها لا يخلو إما أن يكون الاختلاف عقيب الدفع أو بعد مدة فإذا كان عقيب الدفع أو بعد مدة أخذ المالك دابته بلا يمين لأنه يقول: دابتي في يده غصباً وهو يقول: بل عارية فله أخذ دابته لأن الرجوع في العارية يجوز ورد المغصوب واجب فإن كان هذا بعد مضيّ مدة لملها أجرة فالمالك يدعي أجرة المثل لأن القبض عن غصب والقابض ينكر لأن القبض عارية نص الشافعي في الإقرار والمواهب على أن القول قول المستعير، واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: الحكم فيه كما لو قال: أجرتكها وقال: بل أعرتنيها وقد ذكرنا فيه طريقين، ومن أصحابنا من قال: ها هنا قول واحد القول قول المالك والذي قاله في الإقرار والمواهب ونقله المزني قول مرجوع عنه لأن الربيع قال: رجع الشافعي عن قبول قول المستعير وجعل القول قول ربّ الدابة مع يمينه وعلى الراكب كرا مثلها حكاه أبو حامد في الجامع، والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها أن هاهنا لم ينقضا على أنه ركبها بإذن مالكها والأصل عدم الإذن وهناك اتفقا على أنه ركبها بإذنه ثم ادعى عليه العوض فكان حدّ ماله مثل أن يجتمع عليه البينة في ذلك في أحد القولين، أو نقول: في تلك المسألة اتفقا على حدوث المانع ني ملك المنتفع وصاحبها يدعي العوض فلم يقبل [9/ب] قوله في العوض، وهاهنا اختلفا ني ملكه والأمل أن المانع للمالك فلا يقبل قول المنتفع إلا بحجة، وهذا هو الصحيح. وتال أبو حامد الاسفراييني: الصحيح الطريقة الأولى، والطريقة الثانية ذكرها أبو إسحاق، وهو يخطئ المزني فيما نقله، والشافعي نص عليه في "لأم"، والعلة تدل على هذا أيضاً، لأن في المسألة الأولى جعلنا القول قول المنتفع؛ لأن العرف والعادة معه، وهو أن الناس يعيرون الدابة في العادة، وهذا المعنى موجود هاهنا، ومدعي الغصب يدعي خلاف ظاهر اليد وهذا لا يصح؛ لأنَّا لم نقل أخطأ المزني، بل نقول رجع الشافعي عنه، وتد أبطلنا اعتبار العادة وبينَّا الفرق بين المسلمين، وإن كانت الدابة تالفة لا يخلو إما أن يكون التلف عقيب القبض أو بعد مدة، فإن كان عقيب القبض أخذ ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 35)

قيمتها بلا يمين: لأن الراكب يقر له بالقيمة بالإعارة، وهو يدعيها بالغصب والقيمة فيهما سواء، لأنه عقيب القبض، واختلافهما في السبب الموجب للقيمة لا يجري مجرى إقرار أحدهما بالأجرة، ودعوى الآخر القيمة؛ لأن ذلك حقان مختلفان، وهاهنا اتفقا على وجوب القيمة، فإن كان بعد مضي مدة لمثلها أجرة فالكلام في الأجرة على المضي إذا كانت قائمة، وأما القيمة فالمالك يدعي قيمة المغصوب أكثر ما كانت من وقت القبض إلى حين التلف، والمستعير يعترف بقيمة العارية وهي ما يكون يوم التلف، فإن كانت القيمتان سواء أخذها المالك بغير يمين، وإن كانت قيمتها غصباً أكثر أخذ المالك قدرها عارية بلا يمين، وما زاد على قيمة العارية لا يأخذ إلا باليمين؛ لأنه يدعيه والمستعير ينكره. واختار المزني أن القول قول مالك وهو منصوص في كتاب "المزراعة"، وهو الصحيح على ما ذكرنا واعترض على القول المنصوص هاهنا فقال: "هذا خلاف أصله لأنه من سكن دار غيره كمن تعدى على سلعته فأتلفها، ولو أكل طعام رجل وقال: أكلته بإذنك، فالقول قول المالك كذلك هاهنا "قلنا للمزني إن كان مرادك في هذا الاختيار مسألة الاختلاف في الغصب والعارية فكما رأيت وقد بينا ذلك. وإن كان [10/أ] مرادك المسألة الأولى فقد ذكرنا فيه الاختلاف وما يمكن أن يجعل فرقأ بين ما أوردت من النظير وبين تلك المسألة. مسألة (¬1): قال: "ومن تعدَّى في وديعةٍ ثم ردَّها إلى مّوْضِعِها الذي كانت فيه ضَمِنَ". الفصل وهذا كما قال، هذه المسألة من كتاب "الوديعة"، وذكرها المزني في هذا الكتاب، وكان الأولى بالمزني أن يذكرها هناك ونحن نستقصي بيانها هناك، ولكنا نشير إلى المذهب هاهنا، فالرجل إذا أودع عند رجل وديعة ثم تعدى فيها بأن كانت ثوباً فأخرجه ليلبسه، أو كانت دابة فأخرجها ليركبها، أو كانت دراهم فأخرجها لينفقها ضمنها فعل ذلك أو لم يفعل، وإذا ضمنها ثم ردها إلى حرزها لم يبرأ من ضمانها إلا أن يردها على صاحبها أو إلى وكيله. وقال أبو حنيفة ومالك: يسقط الضمان إذا ردها إلى حرزها. وعند أبي حنيفة إذا أخرجها من الحرز الانتفاع لا تدخل في ضمانه ما لك ينتفع، وزاد أبو حنيفة على مالك فقال: لو أنفق الدراهم أو الدنانير ثم رد مثلها إلى حرزها سقط عنه الضمان. وخالفه مالك في هذا، وبني هذا على أصله أن المودع الموسر يقترض الوديعة وينفقها ويكون بدلها في ذمته. وهذا غلط، لأن صاحبها أودعها للحفظ لا للإنفاق ولم يوجد منه الرضا بذلك. فرع لو قال ربها بعدما ضمنها: أبرأتك من الضمان أو أودعتها ثانياً عندك هل يبرأ ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 35)

ويخرج من الضمان؟ المذهب أنه يبرأ، نص عليه في "كتاب الرهن" وقال هاهنا: لأنه خرج من الأمانة ولم يحدث له رب المال استئماناً، فدل أنه يبرأ بإحداث الاستئمان. ومن أصحابنا من قال: لا يبرأ حتى يتلف ثم يبرئه من قيمته؛ لأن الإبراء لا يصح من الأعيان وإنما يصح مما في الذمة، وأراد بالاستئمان الجديد بعد الرد. فرع أخر لو أذن له المالك في ردها إلى الحرز هل يسقط الضمان به؟ وجهان كالإبراء. مسأله: قال (¬1): "ولو أعاره بقعة يبني فيها". الفصل وهذا كما قال. إعارة الأرض للبناء والغراس والزرع جائزة: لأن منفعة الأرض تستباح لهذه الوجوه بالإجارة فكذلك بالإعارة، ويجوز [10/ب] أن يطلق ولا يعين المنفعة ويحمل في الانتفاع بها على العادة الجارية في مثلها بخلاف الإجارة، والفرق أن في الإجارة عوضاً ينفي عنه الجهالة ولهذا لزم فيها تقدير المنفعة بخلاف العارية فجازت مع الجهالة ويجوز إطلاق المدة فيها ويجوز تقييدها وإن طال لأنه إذا جاز الإطلاق فالتقييد أولى وهذا لأنها جائزة يمكن الرجوع فيها متى شاء، ثم إن أعارها لهذه الأشياء الثلاثة التي ذكرناها فعلها كلها وأيها شاء، وإن عين واحداً منها فإن أعارها للزرع لا يجوز له أن يغرس، ولا أن يبني ولا أن يزرع زرعاً هو أضر مما عينَّ إن عين نوعا منه وله أن يزرع ما ضرره مثل ضرره أو دونه فإن أعارها لزراعة الحنطة ليس له أن يزرع الدُّخْن وان أعارها للبناء أو الغراس له أن يزرع لأنه أقل ضرراً منهما، وإن أذن له بزرع الدخن له أن يزرع الحنطة لأنها أقل ضرراً، وإن أذن له في البناء أو الغراس هل يجوز له أن يعدل من إلى الآخر وجهان: أحدهما: يجوز له ذلك لأن كل واحد منهما يراد للتأبيد فيكون ضرر أحدهما مثل ضرر الآخر. والثاني: لا يجوز وهو الصحيح لأن كل واحد منهما يختص بضرر لا يشاركه الآخر فيه فضرر الغراس تحت الأرض أكثر لأن عروقه تنتشر في الأرض وضروه في الظاهر أقل والبناء ضرره في الظاهر أكثر وفي الباطن أقل فإذا صح هذا وكانت الإعارة مطلقة غير مؤقتة كان له ذلك ما لم يرجع فيها، فإن رجع لم يكن له إحداث شيء من ذلك وما أحدثه بعد رجوعه فله مطالبته بقلعه من غير دفع القيمة وحكمه حكم الغاصب في ذلك، وإن أحدثه بعد بإذنه قبل الرجوع لا يخلو إما أن يكون قد شرط القلع أو لم يكن شرط، فإن كان قد شرط يلزمه قلعه متى طالب لأنه على هذا الشرط دخل فإذا قلعه لم يلزمه تسوية الأرض لأن صاحب الأرض حيث شرط القلع علم أنه يحصل بذلك ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 35)

تخريب الأرض ورضي بذلك الضرر فلم يلزم المستعير إزالة ذلك عنه، وإن لم يكن شرط القلع لا يخلو المستعير من أحد [11/أ] أمرين إما أن يختار القلع أو التبقية فإن اختار القلع كان له ذلك وليس للمعير منعه لأنه عين ماله فإذا قلع هل يلزمه تسوية الأرض من الحفر؟ وجهان: أحدهما: ليس عليه ذلك لأنه لما أذن له في ذلك فقد رضي بالضرر. والثاني: يلزمه ذلك وهو الصحيح لأن القلع ليس من مقتضى العارية وإنما له قلعه بحق الملك وقد قلع باختياره بعد زوال العارية من غير أن ألجئ إليه، وإن اختار التبقية نظر في المعير فإن مكنه وأقره عليه فلا كلام، وإن منعه من ذلك نظر، فإن اختار أن يعطيه قيمة الغراس والبناء كان له لأن للمعير أن يسترد العارية على وجه لا يضر بالمستعير ويلزم قيمته قائماً ولا يعتبر قيمة الطوب والخشب غير قائم لأن المستعير كان كالبناء والتأليف غير متعدٌ والاعتبار بقيمة البناء يوم يخرجه لا يوم بناه لأن هذا الوقت وقت نقل الملك إليه بالقيمة، وإن كان مكان الغرس زرع فإن كان الزرع مما يقصل في العادة فللمعير الإجبار على قلعه وان عين واحداً منها فإن أعارها للزرع لا يجوز له أن يغرس ولا أن تبنى ولا أن يزرع من غير دفع القيمة، وإن كان مما يترك إلى أن يستحصد يجبر على تركه إلى الحصاد لأن مطلق الإعارة محمول على ما يكون هي العرف فإن قال: أنا أدفع إليه قيمة زرعه قائماً ليكون الزرع لي فيه وجهان: أحدهما: له ذلك كما قلنا في الغراس سواء وهو اختيار القاضي الطبري. والثاني: ليس له ذلك بل عليه أن يقره في أرضه بأجرة مثله إلى حين حصاده وليس له ذلك من غير الأجرة لأن له وقتاً ينتهي إليه بخلاف البناء والغراس وهكذا لو امتنع المعير من بذل القيمة وامتنع المستعير من قلعه قيل للمستعير: إما أن يقلع أو يعطي الأجرة على ما ذكرنا ولفظ الشافعي ها هنا أنه يقر على ذلك إذا بذل الأجرة بعد الرجوع في العارية ولا يجبر على القلع، ومن أصحابنا من قال: لا يلزم المستعير بذل الأجرة لأن العارية تقتضي الانتفاع من غير ضمان وهذا اختيار المزني فعلى هذا إذا لم تدفع القيمة يترك البناء من غير أجرة، وان أراد المستعير أن يعطي المعير قيمة أرضه ليكون له [11/ب] الأرض مع الغراس لم يكن له لأنها الأصل المتبوع والبناء والغراس يتبعان الأرض ولو طالبه بالقلع فإن ضمن له ما ينقص بالقلع كان له، وإن لم يضمن ذلك لم يكن له بل عليه تمكينه منها، وقال أبو حنيفة ومالك: له مطالبته بالقلع من غير أن يغرم له شيئاً إلا أن تكون العارية مؤقتة فأراد أن يرجع قبل انقضاء الوقت ليس له ذلك ها هنا إلا بالقيمة وهذا غلط لأنه بني في ملك غيره بإذنه فلم يكن له مطالبته بقلعه من غير ضمان كما لو طالبه به قبل انقضاء المدة. ومن أصحابنا من قال: إذا لم يختر المستعير القلع ولا المعير دفع القيمة وما ينقص بالقلع يباعان جميعاً ويقسم الثمن على قدر قيمتهما فيقال: كم تساوي أرضه وفيها الغراس دون الغراس فيقال: تسعون قلنا: وكم تساوي الغراس في أرض غيره؟ فيقال: عشرة فللمستعير عشر الثمن وللمعير تسعة أعشاره والمذهب الصحيح ما تقدم وهو أنهما

يتركان ويمنع صاحب البناء من الانتفاع بالأرض وصاحب الأرض من الانتفاع بالبناء، فإن أراد أحدهما: دخول الأرض لتعهد ماله نظر، فإن أراد المعير أن يدخلها كان ذلك له، وان كان مستظلاً بغرسه وبنائه وان أراد المستعير دخولها لتعهد بنائه أو غراسه فيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك لأن التطرق ضربٌ من التصرف واستحقاق الترك لا يوجب التصرف فيها بعد الرجوع في العارية. والثاني: له ذلك وهو المذهب واختاره ابن أبي هريرة ويجبر المعير على تمكينه لأن الإذن بالغرس والبناء إذن به وبمنافعه ولا يجوز أن يمنع من مراعاة ملكه وليس له دخولها من غير حاجة، ولو أراد المستعير بيع غرسه وبنائه فإن باعه من المعير جاز، وإن أراد بيعه من غيره فيه وجهان: أحدهما: يجوز وهو المذهب وليس للمعير أن يأخذ المشتري بالقلع كما لم يكن له أن يأخذ به المستعير وهذا لأنه ملكه وأكثر ما فيه أن غيره يملك إسقاط حقه منه وإزالة ملكه [12/أ] ولا يمنع هذا صحة البيع كما لو اشترى شقصاً مشفوعاً فللمشتري بيعه، وإن كان الشفيع يملك إزالة ملكه عنه، والثاني: لا يجوز لأن المشتري غير مستعير وترك ما اشتراه غير مستديم لأن المعير متى بذل القيمة استحق بها أخذ الغرس أو قلعه وهذان الوجهان من اختلافهم هل يجوز له أن يعير ولأنه ممنوع من دخوله في أحد الوجهين فإذا باعه لا يمكنه تسليمه، وإن كانت العارية مؤقتة فالحكم على ما ذكرنا في المطلقة إذا شرط القلع بعد انقضاء المدة لو لم يشترط. وقال المزني: إذا انقضت المدة له مطالبته بقلعه من غير قيمة وحكاه الساجي عن الشافعي ذكره القاضي أبو عليّ الزجاجي رحمه الله. وقال أيضاً: لو وقّت له وقتاً ثم اختلفا فقال رب الأرض: انقضت المدة، وقال الباني: لم تنقض المدة فالقول قول رب الأرض مع يمينه، وهذا غير صحيح لأن البناء حيث يُبنى إنما يبنى للتأبيد وقول المعير: إلى وقت كذا يتردد بين احتمالات منها أن يكون إلى ذلك الوقت بغير أجر المثل ومنها هذا الوقت بأجر المثل ومنها أن يرضى بعد ذلك الوقت بالنقض والنقل ويرضى بنقل الملك إلى رب الأرض على شرط القيمة فلما احتمل لفظه هذه المعاني لم يجبره على القلع ومخالفة عادة التأبيد إلا بأن يكون له حق على رب الأرض، ولو كانت العارية مؤقتة ثم أراد ربّ الأرض إخراجه عنها قبل انقضاء الوقت كان له ولا يستحب ذلك ونعني بالإخراج الإخراج بشرط القيمة على ما ذكرنا. واعلم أن المزني أخل بالنقل ها هنا لأنه نقل هذا الفصل في العارية المطلقة فقال: وإذا أعاره بقعة يُبنى فيها بناء ثم ألحق العارية المؤقتة بالمطلقة حيث قال: ولو وقت له وقتاً ثم غلط فعطف على المؤقتة العارية المطلقة التي سبق ذكرها في أول الفصل فقال: وكذلك لو أذن له في البناء مطلقاً وهو عن هذا العطف مستغنى لأن أول الفصل كان في العاوية [12/ب] المطلقة. وبالله التوفيق.

كتاب الغضب

كتاب الغضب مسألة (¬1): قال: " وإذا شَقَّ رجَلٌ لرجلٍ ثوباً". الفصل وهذا كما قال: قال ابن فارسٍ الغصب أخذ الشيء مجاهرة لا سراً فإن أخذه من حرز سراً يسمى سرقة، وإن أخذه مكابرةً في صحراء سمى محاربا، وان أخذه استيلاء سمي مختلساً، وان أخذه من شيء كان من مؤتمناً عليه سمي خائناً، وان أخذه قهراً بغلبة وقوة فضلٍ سمي غاصباً والغصب في الشرع منع الإنسان من ملكه والتصرف فيه من غير استحقاقٍ، فإن منع ولم يتصرف كان تعديا ولم يتعلق به ضمان، وإن تصرف ولم يمنع كان تعدياً ولا يتعلق به ضمان لأنه تعد على المالك دون الملك وإذا أجمع بين المنع والتصرف تم الغصب ولزمه الضمان. والأصل في تحريم الغصب الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى: {لَا تَاكُلُوا أَمْوَالكُمْ بَيْنكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أَنْ تَكُون تِجَارَة عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] والغصب خارج عن ذلك وأيضا قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وإذَا كَالُوهُمْ أَو وزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 1 - 3] وهذا الوعيد على الظلم فيما بين الكيلين تنبيه على تحريم الغصب الذي هو أعظم منه. وأما السنة فما روى أنس رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يحل مال أمريء مسلم إلا عن طيب نفس منه" (¬2)، وروى جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خطبة الوداع: "ألا إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا" (¬3) ومعناه دماء بعضكم على بعض وأموال بعضكم على بعض. وروى عبد الله بن السائب بن يزيد عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا يأخذن أحدكم متاع أخيه جاداً ولا لاعباً" (¬4) ومن أخذ عصا أخيه بغير طيب نفسه فليردها" وذلك ما حرم الله مال المسلم على المسلم، وروي عن عمرو بن يثربي الضمري أنه قال: شهدت خطبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنى فقال: [13/أ] "ولا يحل لأحد مال أخيه إلا ما طابت به نفسه" فقلت: يا رسول الله أرأيت لو لقيت غنم ابن عمي فأخذت منه شاة ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 35) (¬2) أخرجه الدارقطني (3/ 26)، والبيهقي في ((الكبرى)) (6/ 100)، وابن عبد البر في ((التمهيد)) (10/ 231). (¬3) أخرجه البخاري (67، 105، 1741، 5550، 7447)، ومسلم (1678). (¬4) أخرجه أحمد (4/ 221)، وأبو داود (5003)، والحاكم (3/ 637)

فاجتررتها فعليٌ في ذلك شيء، فقال: "إن لقيتها نعجةً تحمل شفرةً وزناداً بخبث الجميش [فلا تمسها" (¬1). الجميش (¬2)]: اسم موضع. وروى يحيى بن عروة عن أبيه عروة أن رجلاً غصب أرضاً من رجل من بني بياضة من الأنصار فغرسها نخلاً "عُماً) فرفع ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمر بقلعه وقال: "ليس لعرق ظالمٍ حق" قال عروة: فأخبرني من رأى الفؤوس تعمل في أصولها (¬3) وقال أيضاً: رأيتها وأنه لتضرب في أصولها بالفؤوس وإنه لنخلٌ عمُّ حتى أخرجت وقوله: عُماً يعني طوالاً وقيل: يعني عمَّت بخيرها ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عمَّتكم النخلة" (¬4) يعني عمت بخيرها وقيل: أراد أنها خلقت من فضل طينة أدم - صلى الله عليه وسلم - فصارت عمة في النسب. وروى سعيد بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من ظلم من الأرض شيئاً فإنها تطوقه من سبع أرضين" (¬5) وزاد جابر مرفوعاً: "وكلف نقل ترابه إلى المحشر" وروي: "من اقتطع شبراً من الأرض" (¬6) وروى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لعن الله من غيَّر منار الأرض" (¬7) وروي أنه قال: " لعن الله سارق المنار قيل: يا رسول الله وما سارق المنار قال: "يأخذ الرجل العلامة من أرض نفسه إلى أرض غيره" (¬8) وقال أيضاً: "ملعون من غير تخوم الأرض" (¬9) يعني حدودها وأعلامها. وأما الإجماع فلا خلاف بين المسلمين فيه. فإذا تقرر هذا فالأموال ضربان حيوان وغير حيوان فأما غير الحيوان فضربان: ما له مثل، وما لا مثل له فإن كان له مثل يلزمه رده إن كان باقياً لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "على اليد ما أخذت حتى ترد" (¬10) وروي "حتى تؤديه" ويلزمه رد مثله إن كان تالفاً لقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة:194] وعلى هذا لو غصب قفيزاً من طعام قيمته دينار فرده أو ردَّ (13/ب) مثله وقيمته درهم لم يكن عليه غيره وهذا لأن الرجوع إلى المثل رجوع إلى المشاهدة والرجوع إلى القيمة ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 72)، والبيهقي (11525) (¬2) ما بين المعقوفتين سقط من الأصل. (¬3) أخرجه الترمذي (1378)، والنسائي (5760، 5762)، وأبو داود الطيالسي (1440)، والبيهقي (11776). (¬4) أخرجه العقيلي في ((الضعفاء)) (4/ 256)، وابن عدي في ((الكامل)) (6/ 2424)، وابن الجوزي في ((الموضوعات)) (1/ 184). (¬5) أخرجه البخاري (2452، 3198)، ومسلم (140، 1610). (¬6) أخرجه البخاري (3195)، ومسلم (1611). (¬7) أخرجه مسلم (23/ 1978). (¬8) أخرجه الحاكم (4/ 82)، والبيهقي (8/ 231) (¬9) أخرجه أحمد (1/ 217، 317)، وابن حبان (53)، والطبراني في ((الكبير)) (11/ 218). (¬10) أخرجه أبو داود (32561)، والترمزي (1269)، وابن ماجه (2400)، واحمد (5/ 8، 12، 13)، والدرامي (2/ 262)، والبيهقي (6/ 90، 95).

رجوع إلى الاجتهاد، والمشاهدة أولى من الاجتهاد، وإن لم يكن له مثل يضمن بالقيمة. وحكي عن عبيد الله العنبري أنه قال: يضمن للأشياء كلها بالمثل فإذا أتلف خشبةً يلزمه مثلها من جنسها وكذلك في الثوب وقيل: هو مذهب أحمد ذكره في "الحاوي" (¬1). وحكي عن داود أنه قال: يجب في الحيوان المثل فيجب في العبد العبد وفي العصفور العصفور وشبَّهه بجزاء الصيد وهذا غلط لما روى عبد الله بن عمر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من أعتق شركاً له في عبد قُوّم عليه" (¬2) فأمر بالتقويم في حصة الشريك لأنهما متلفة بالعتق ولم يأمر بمثيلها ولأن القيمة فيما لا مثل له أعدل فإنهما قد يتساويان في القيمة ويختلفان في الصفة، وقد يتساويان في الصفة ويختلفان في القيمة فاعتبار القيمة أولى. وأما تشبيهه بجزاء الصيد لا يصح لأن ذلك من حق الله تعالى المبني على المساهلة ونصَّ فيه على المثل بخلاف هذا، واحتج عبيد الله العنبري بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما رأيت صانع طعام مثل صفية صنعت طعاماً لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعثت به فأخذني إفكل فكسرت الإناء فقلت: يا رسول الله ما كفارة ما صنعت؟ قال: "إناء مثل إناء وطعام مثل طعام" (¬3) والإفكل: الرعدة من الغيرة قلنا: ذكر هذا على وجه المعونة والإصلاح دون بتّ الحكم فإن القصعة والطعام ليس لهما مثل معلوم، وهذا الطعام والإناء حملا من بيت صفية والغالب أنه ملك الرسول - صلى الله عليه وسلم - وله أن يحكم في ملكه كيف شاء، أو يحمل على مثل القيمة. وأما الحيوان فعلى ضربين آدمي وغير آدمي فأما غير الآدمي يضمن بقيمة عند الإتلاف وفي الجناية يضمن ما نقص. وأما الآدمي فضربان حرّ، وعبد فالحر لا يضمن باليد ويضمن بالجناية، وأما العبد فيضمن باليد والجناية. فرع حدُّ ماله مثل أن يجتمع [14/أ] فيه شرطان؛ تماثل الأجزاء، وأمن التفاضل كالحبوب، والأدهان، والأثمان، والتمور، والخل ونحو ذلك، فإن كان مكيلاً كان الكيل شرطاً في المماثلة دون الوزن، وان كان موزوناً كان الوزن شرطاً في المماثلة دون الكيل، ولو خيف تفاضله كالثمار الرطبة فلا مثل له وتجب القيمة. وقيل: حده ما يتساوى أجزاؤه وقيمة أجزائه، وأن يكون على حالة الادخار أو حالة الكمال. وقال القفال: حده ثلاثة أشياء، أن يكون مكيلاً أو موزوناً، وأن يكون مضبوطاً بالصفة بحيث يجوز فيه السلم، وأن يجوز بيع بعضه ببعضٍ، فالرّبُ لا يكون من ذوات ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماردوي (7/ 136) (¬2) أخرجه البخاري (2522)، ومسلم (1/ 1501). (¬3) أخرجه أحمد (6/ 148)، وأبو داود (3268)، والنسائي (3957)

الأمثال؛ لأنه لا يجوز بيع بعضه ببعض، والغالية ليست من ذوات الأمثال؛ لأنها لا تضبط بالصفة. ومن أصحابنا من قال: يكفي شرطان ولا يعتبر جواز أحدهما بالأخر، وأفاد الاختلاف أن الرطب هل هو من ذوات الأمثال أم لا؟ وجهان، والصحيح ما ذكرنا أولاً. فرع أخر الدقيق من ذوات الأمثال في أصح الوجهين وبه قال المزني وفي القطن وجهان والصحيح أنه من ذوات الأمثال لأن النوع الواحد منه لا يختلف غالباً، وكذلك الإبريسم والغزل والسمن واللبن والثلج والجمد والسكر والفانيد والعسل والمسك والعنبر والكافور والنفط، وقال الشافعي: في الصوف يضمن بالمثل إن كان له مثلٌ وقيل فيه قولان. فرع آخر في اللحمان ثلاثة أوجه أحدهما: أنها من ذوات الأمثال، والثاني: من ذوات القيم، والثالث: اليابس منها من ذوات الأمثال دون الطري وهكذا حكم الثمار والبقول والبطيخ. فرع آخر الخبز من ذوات القيم، وقال أبو حنيفة: من ذوات الأمثال وبه أفتى القفال وجوَّز السلم في الخبز وحكاه المزني في المنثور قولاً واختاره واعتبر الجنس والنوع فقط فرع آخر إذا أوجبنا المثل طالبناه به ما دام موجوداً فإن أعوز المثل وتأخر قبضه حتى لا يوجد في ذلك الموضع قال أبو إسحاق: قيل للمغصوب منه: إن صبرت إلى أن يحمل [14/ب] إلى هذا الموضع مثله أو تتسلمه في الموضع الذي يوجد فيه فذاك إليك، وان أبيت إلا أن تطالبه من وقتك في هذا الموضع فليس لك إلا قيمته أكثر ما كانت من يوم الغصب إلى يوم الانقطاع وهذا ظاهر المذهب ووجهه أنه كان مأموراً بردّ العين مع بقائها ثم صار مأموراً بردّ مثلها بعد تلفها فلزمه القيمة أكثر ما كانت في جميع الأحوال التي هو مأمور بالرد فيها، وقال جماعة من أصحابنا: وهو اختيار ابن أبي أحمد يلزمه قيمة المثل يوم المحاكمة لأن الذي لزمه بالتلف هو المثل ولهذا لو تأخرت المطالبة حتى وجد المثل بعد الفقد كان له المطالبة بالمثل فإذا أراد القيمة يلزمه قيمة ما في ذمته من المثل واعتبر التقويم يوم المحاكمة، وقال القاضي الطبري: هذا وجه محتمل ولكنه خلاف نص الشافعي ولا يصح لأن هذا القائل يجعل المثل بمنزلة المغصوب والمثل لم يتناوله الغصب فلا يجوز أن يجري مجراه. وقال بعض أصحابنا: يلزمه أكثر ما كانت قيمته من وقت الغصب إلى وقت

المحاكمة، ومن أصحابنا من قال: يلزمه قيمة المثل وقت العدم ولا اعتبار بما كان زائداً قبله أو بعده لأن نقص ثمنه مع وجود المثل لا يوجب غرم النقص مع دفع المثل فعلم أن ما تقدم من زيادة الثمن ونقصه غير معتبر وقد اعتبرت قيمته في آخر وقت إمكانه وهذا قول للشيخ الجليل أبي عبد الله الحناطي والقاضي أبي عليّ الزجاجي والقاضي الماوردي وجماعة وبه أقول. ومن أصحابنا من قال: إن كان ذلك مما يوجد في وقت وينقطع في وقت كالعصير وجبت قيمته وقت الانقطاع لأن بالانقطاع يسقط المثل وتجب القيمة، وان كان مما لا ينقطع عن أيدي الناس ولكن يتعذر في موضع تجب قيمته يوم الحكم لأنه لا ينتقل إلى القيمة إلا بالحكم ويحكى هذا عن ابن أبي أحمد، وحكي عن ابن أبي أحمد أنه قال: إن وجد له مثل يوم التلف ثم انقطع كالعصير يلزمه قيمته يوم الانقطاع لأن المثل قد استقر في ذمته ها هنا [15/أ] ثم انقطع، وان لم يوجد مثله يوم التلف يلزمه أكثر ما كانت قيمته من وقت الغصب إلى يوم التلف لأنه لما تلف في وقت لا يوجد مثله فيه صار في الحكم كمتلفٍ لا مثل له، وقد قال الشيخ أبو عبد الله الخشن في شرح "التلخيص": قال الشافعي في كتاب الغصب ونقله المزني إلى الجامع الكبير: لو غصب حبا أو تمراً أو أدماً فاستهلكه فعليه مثله إن وجد له مثل فإن لم يوجد له مثل فعليه أكثر ما كانت قيمته ما بين الغصب والتلف والعلة ما ذكرنا، ومن قال يلزمه قيمته يوم المحاكمة خالف هذا النص فحصل ستة أوجهٍ. وقال القفال: اختلاف أصحابنا في هذا يبُنى على اختلافهم فيما لو أتلف المثل فلم يوجد المثل فغرم القيمة ثم وجد المثل هل للمالك رد القيمة وأخذ المثل؟ أو هل للغاصب استرداد القيمة ورد المثل؟ وجهان أحدهما: له ذلك لأن العدول إلى القيمة كان للضرورة فإذا أتلفت للضرورة بغير الحكم كما لو غصب عبداً فأبق من يده غرم قيمته ثم وجد العبد له الرد واسترجاع القيمة وللسيد الاسترداد ورد القيمة، والثاني: ليس له ذلك لأن للمتلف بدلين المثل والقيمة فإذا عدم المثل فالقيمة هي البدل فإذا بذل القيمة ليس له العود إلى البدل الآخر بخلاف العبد الآبق فإنه عين ماله فله الرجوع إليه متى قدر فإذا قلنا: له الرجوع إلى المثل ورد القيمة فها هنا يغرم أكثر ما كانت قيمته من يوم الغصب إلى يوم فقد المثل لأن العين وإن تلفت حلَّ المثل محل العين وإذا قلنا: ليس له ذلك فها هنا يغرم قيمة المثل يوم فقد المثل ويحتمل أن يقال: يوم يحكم عليه، وقال أصحابنا بالعراق: إذا أخذ القيمة لا يطالب بالمثل بعده إذا وجد وجهاً واحداً والفرق بينه وبين مسألة الآبق أن قيمة الآبق أخذت عند الإياس منه فلزمه الرد عند القدرة وها هنا أخذ القيمة مع العلم بالقدرة عليه من بعد فلم يلزمه ردها بعد القارة عليه، وقال في "الحاوي": إذا عدم المثل فيه قولان حكاهما أبو حفص بن الوكيل أحدهما: يلزمه قيمة الأمل المغصوب أكثر ما كانت من وقت الغصب إلى يوم التلف، والثاني: يلزمه قيمة المثل.

وفي زمان القيمة وجهان: أحدهما: أكثر ما كانت من وقت الغصب إلى وقت [15/ب] العام، والثاني: يعتبر قيمته وقت العدم على ما ذكرنا. فرع آخر لو وجد المثل بأكثر من ثمن المثل يحتمل وجهين أحدهما: لا يلزمه المثل لأن وجود الشيء بأكثر من ثمن مثله كعدمه كما قلنا في الماء في الوضوء والرقبة في الكفارة، والثاني: يلزمه لأن المثل كالعين، ولو احتاج في رد العين إلى أضعاف ثمنه لزمه فكذلك المثل وهذا أقيس عندي. فرع آخر لو اصطلحا على أخذ القيمة مع وجود المثل يصح في أصح الوجهين. فرع آخر لو اختلفا فقال المالك: للمغصوب مثل وقال الغاصب: لا مثل له فقال المالك: المثل موجود، وقال الغاصب: المثل معدوم يكشف الحاكم عن وجوده وعدمه فإن عدم قد ذكرنا أنه بالخيار بين أن يصبر إلى وجوده وبين أن يعدل إلى القيمة فإن صبر ثم رجع مطالباً بالقيمة قبل الوجود فله ذلك بخلاف السَّلم إذا انقطع المسلم فيه فرضي بالصبر إلى وجوده ثم رجع ليس له الرجوع، والفرق أن تعذر وجود المسلم فيه عيبٌ فإذا رضي به لزمه ذلك بالفقد وصبر المغصوب منه إلى وقت وجود المثل إنظار وتأجيل تطوع به فلم يلزم. فرع آخر إذا أوجبنا القيمة يجب من نقد البلد الذي تلف فيه لأنه موضع الضمان. فرع آخر لو لم يتلف العين المغصوبة ولكنه جنى عليها يلزمه ضمان ما نقص فإن كان ثوباً فخرّّقه ومزَّقه، أو كانت آنيةً فرفضها أو كسرها يؤخذ منه الأرش وترد العين إلى صاحبها وليس له تسليم الثوب وغيره إلى الغاصب وأخذ بدله صحيحاً سواء كثرت الجناية أو قلَّت، والأصل فيه كل جناية استقر أرشها لم يجب على الجاني إلا أرشها فقط وهذه المسألة هي التي بدأ بها صاحب الكتاب وهي من باب الجنايات. وقال أبو حنيفة: إن شق الثوب عرضا فعلى الشاقّ ما نقص ويرده إلى مالكه وان شقه طولاً لا بأخذها من طرفيه حتى لو تلف جل منافعه صار الثوب ملكاً للشاق [16/أ] وعليه قيمته لصاحبه وهذا بعيد عن الصواب لأن الجناية على الأملاك من غير شبهة لا يجوز أن يصير سبباً له مثل الملك كما لو شقه شقاً لم يتلف جل منافعه وعلى هذا يود ما بقي إلى صاحبه عنانا نفعه أو لم ينفعه وربما يقولون: صاحبه بالخيار بين أن يتركه به ويأخذ منه كل القيمة وبين أن يسترده ويأخذ الأرش وبه قال مالك، وحكي عن مالك أنه قال: يتخير المالك بين أن يتركه به ويأخذ منه كل القيمة وبين أن يسترده

ناقصاً ولا أرش له، وحكي عنه أيضاً أنه قال: له أن يرفأ الثوب إذ أراد ثم يغرم ما بين قيمته مخرقاً مرفوءاً وبين قيمته صحيحاً، وإن شاء لم يرفؤ ويغرم ما بين قيمته صحيحاً ومخرقاً وكذلك قال في الإناء إذا كسره أصلحه إن شاء وعندنا ليس له الرفؤ والإصلاح. فرع آخر لو كان المتلف من جنس الأثمان ولا صنعة فيه كالنقرة والخلاص والتبر يضمن قيمته من غالب نقد البلد فإن كان غالب نقد البلد من غير جنسه مثل إن كان فضة ونقد البلد دنانير أو كان ذهباً ونقد البلد دراهم فعليه أكثر ما كانت قيمته من ذلك من يوم الغصب إلى يوم التلف، وان كان غالب نقد البلد من جنسه مثل إن كان فضة وغالب نقد البلد دراهم نظر، فإن كانت القيمة فوق وزنه سواء أخذ ذلك، وإن كانت قيمته أقل من وزنه أو أكثر من وزنه ضمنه بقيمته من غير جنسه، وإن لم يكن نقد البلد ولا يجوز أخذ قيمته من جنسه لأنه رباً. فرع آخر لو كان فيه صنعة مباحة كحلي النساء المباح كالخاتم والمنطقة وكانت قيمته أكثر من وزنه كخلخال وزنه مائة وقيمة الصنعة فيه مائة وعشرون تضمنه بغالب نقد البلد من غير جنسه، وإن كان من جنسه فيه وجهان أحدهما: يضمنه مصوغاً بغير جنسه كالسبيكة سواء لئلا يؤدي إلى الربا وهذا اختيار ابن أبي هريرة، والثاني: يضمنه بمثل وزنه من جنسه وبأجرة صياغته، ثم هل يجوز أن تكون الأجرة ذهباً وجهان [16/ب] أحدهما: لا يجوز لئلا يفضي إلى الربا، والثاني: وهو الأصح وبه قال أحمد يجوز لأنه بال من الصياغة ولا يدخلها الربا، ولو دخلها الربا إذا كان ذهباً خالصا لدخلها إذا كان ورقاً لأنه لا يجوز أن يباع مائة دينار بمائة دينار ودرهم وقد ذكرنا هذا في كتاب الزكاة وذكرنا حكم الصنعة المحرمة وحكم الأواني إذا كسرها. فرع آخر لو غصب أبواباً وأحرقها تلزمه قيمة الأبواب وهل يكون الرماد للغاصب؟ وجهان. فرع آخر إذا قتل بهيمة يلزمه كمال قيمتها وإن جنى عليها يلزمه ما نقص من قيمتها سواء كان الانتفاع بظهرها دون لحمها كالبغل والحمار، أو بلحمها دون ظهرها كالغنم والطيور أو بهما كالإبل والبقر والخيل وسواء كانت الجناية قلع عين أو قطع طرف أو غيره وقدر الأرش أن يقوم بعد الاندمال فيقال: كم يساوي صحيحاً من غير جرح به، وكم يساوي صحيحاً مندملاً فيكون عليه ما بين القيمتين وإنما قومنا بعد الاندمال لأنه لا يدري سرايتها ونهايتها، وقال أبو حنيفة: إن كان ينتفع بظهرها ولحمها كالإبل والبقر والخيل فقلع عينها يلزمه نصف قيمتها، وان قلع إحدى عينيها يلزمه ربع قيمتها استحساناً،

واحتج بما روي عن عمر رفي الله عنه أنه "قضى في إحدى عيني الدابة بربع قيمتها" وهذا غلط لأنها جناية على بهيمة فلا يتقدر أرشها كما على الحمار، وأما عن روي عن عمر رضي الله عنه محمول على أن ذلك قدر ما نقص كما روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه "قضى في العين القائمة بثلث الدية" وأراد طريق الحكومة، وحكي عن مالك أنه قال: يلزمه أن يداويها لتبرأ ويقل الغرم وعندنا ليس له ذلك ويمنع، ولو داواها فاندملت وعادت قيمتها كما كانت فلا شيء عليه في ظاهر نص الشافعي ومشهور مذهبه. فرع آخر لو قطع ذنب حمار القاضي يلزمه ما نقص، وتال مالك: يلزمه جميع قيمته لأن فيه غضاضة على المسلمين [17/أ] ووهنأ في الدين، وذكر أصحابه علة أخرى وهي أنه أتلف عليه عوضه لأنه لا يركبه في العادة وهذا غلط لأنه لو خرق ثيابه أو تعدى في قماشه أو جني على بدنه يسوي بيه وبين غيره، فكذلك في هذه الجناية وهذا لأن الاعتبار في الجنايات بالإتلاف لا بالإعراض فإنه إذ لم يصلح له يصلح لغيره فمنفعته باقية. فرع آخر إذا جنى على عبدٍ جناية فإن كان مما لا أرش له مقدر في الحر يلزمه ما نقص فيقوم العبد سليماً ويقوم به هذه الجناية فيضمن ما بين القيمتين فإن كان مما له أرش مقدر في الحر مثل قطع اليد والرجل ونحو ذلك نعتبر أرشه بقيمته كما يعتبر أرش أطراف الحر من ديته فيلزم في إحدى يديه نصف قيمته وفي بدنه تمام قيمته هكذا ذكره أصحابنا بالعراق وهو المنصوص، وقال بعض أصحابنا بخراسان: يلزم فيه ما نقص كما قلنا في البهيمة وهذا أقيس، وقال مالك: لا يلزم المقار في جراحاته إلا في الشجاج الأربع الموضحة والمنقلة والمأمومة والجائفة ويلزم في غيرها ما نقص وهذا غلط لأن كل جناية لها في الحر أرش مقدر كان لها أرش مقدر في العبد كالشجاج الأربع. فرع آخر لو غصب عبداً فسقطت يده بأكلٍة يلزمه ما نقص لأن ضمان الغصب لا يتعلق به وجوب القصاص ولا الكفارة ولا تحمل العقل وكان بمنزلة ضمان الأموال وذكر ابن أبي هريرة عن بعض أصحابنا أنه يجب فيه نصف قيمته كما في الجناية وهذا غلط لما ذكرنا، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان أحدهما: يلزمه ما نقص، والثاني: يلزمه الأكثر من المقدر الذي يجب بالجناية ومما نقص حتى لو نقص بسقوط اليد من ألف ستمائة غرم ستمائة، وأن نقص عن أربعمائة غرم خمسمائة وهذا حسن غريب. فرع آخر لو غصبه وقطع يده فإن قلنا: ضمانهما واحد يلزمه نصف [17/ب] قيمته فإن قلنا:

بالمذهب إن ضمانهما مختلف يلزمه أكثر الأمرين من نصف قيمته أو ما نقص لأن سبب فمان كل واحد منهما قد وجد. فرع آخر لو غصب عبداً فجاء آخر وقطع يده يلزم الجاني نصف قيمته فإن قلنا: ضمان الغاصب والجناية واحد طالب بنصف القيمة الغاصب أو الجاني لأن الغاصب ضمنه باليد، والجاني ضمنه بالجناية فإن غرم الغاصب يرجع به الغاصب على الجاني، وإن غرم الجاني لم يرجع به على الغاصب وإن قلنا: يلزم الغاصب أكثر الأمرين فإن رجع على الغاصب رجع بالأكثر، ثم إن كان نصف القيمة أكثر مما نقص رجع الغاصب على الجاني بجميعه، وان كان ما نقص أكثر رجع على الجاني بنصف القيمة ولا يرجع بما زاد عليه وان رجع صاحبه على الجاني رجع بنصف القيمة فإن كان ذلك أكثر من النقصان لم يرجع به الجاني على الغاصب بشيء، وإن كان نصف القيمة أقل من أرش النقصان رجع صاحبه بالنصف على الجاني ولا يرجع بما زاد عليه إلا على الغاصب. فرع آخر لو قطع يدي عبد يلزمه جميع قيمته ويرد العبد إلى صاحبه وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: المالك بالخيار بين أن يترك به العبد ويأخذ منه جميع قيمته فيملكه بها وبين أن يسترده ولا شيء، له، وقال أبو يوسف ومحمد: هو بالخيار بين أن يتركه به ويأخذ منه القيمة وبين أن يسترده مع النقصان. واحتج الشافعي عليه فقال: وكيف غلط من زعم أن الجاني لو جنى على يد واحدة فأبانها ولم يفسد المملوك أخذه مالكه وقيمة ما نقصه وهو نصف قيمته ثم لو زاد الجاني معصية فقطع يديه فأفسده سقط حق المالك عن الجاني ولا شيء له عليه إلا أن يسلمه إلى الجاني ليملكه الجاني فأسقط حق المالك بالفساد حين عظم وأثبت الحق له حين صغر وجعل للجاني حق الملك في جميع العبد حين عصى وأفسد ولم يجعل له حق الملك في بعض العبد [18/أ] ببعض الفساد حتى يملك نصفه بقطع يد واحدة والله تعالى جعل المالكين أولى بأملاكهم لا يزول عنها ملكهم إلا برضاهم وهذا القول خلاف لأصل حكم الله تعالى بين المسلمين، فإن قيل: أليس يملك الوالد جارية الولد إذا استو لدها لأن الاستيلاد كالاستهلاك لجل منافعها، كذلك ها هنا قلنا: حكي المزني قولاً عن الشافعي أن الوالد لا يملكها بالاستيلاد فلا نسلم، وإن سلمنا فذاك لقوة شبهة الآباء وأما قول الشافعي في هذا الفصل: وهذا خلاف المعقول والقياس فإنما فمل بين المعقول والقياس لنكتةٍ وهي أن من المسائل ما يكون حجتها جلية ظاهرة حتى يكاد يلتحق بحجج العقول ويستدركها العاقل ببديهة عقله استدراكاً يستغني معه عن الاشتغال بترشيح القياس وتحريره ورد الفرع إلى أصله. وهذه المسألة من هذه الجملة لأن العاقل متى سمع هذا المذهب الذي ذهب إليه الخصم مع هذا التفصيل الذي فصله غلب على

قلبه أنه نوه تحكم وأن تحرير القياس فيها نوع تكلّف. فرع آخر لو كان للرجل عبد فجني عليه بقطع الأنف أو قلع العين لا يزول ملكه، وقال مالك: إذا مثل بعبده هكذا يصير حراً وزال ملكه واحتج بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من مثل بعبده فهو حر" (¬1) وهذا غلط لا تبين به الزوجة في يعتق به المملوك أو نقيس على الجناية التي ليست بمثله. وأما الخبر فالمقصود به التغليظ والزجر أو نحمله على ما علق عتقه بالمثلة. فرع آخر لو غصب عبداً فمات في يده أو قتله يلزمه قيمته بالغةً ما بلغت، وإن زادت على دية حر ووافقنا أبو حنيفة فيه، وإن خالفنا فيما لو قتله وقال: لا تزاد قيمته على عشرة آلاف درهم وينقص عنها عشرة دراهم، ولا فرق في هذا الحكم بين العبد القن والمدبر وأم الولد، وقال أبو حنيفة: لا تضمن أم الولد باليد وخالفه صاحباه وهذا غلط لأنه يضمن قيمتها بالجناية فتضمن باليد كالقن. فرع آخر لو قطع المالك إحدى يديه في يد الغاصب كان استيفاء لأقل الأمرين من نصف القيمة المقدرة في إحدى [18/ب] اليدين شرعاً أو ما نقص من قيمته وكان ما بقي بعد أقلهما مضموناً على الغاصب، فإن نقص من قيمته ثلثاها أخذ الغاصب بعد رده مقطوعاً يغرم السدس من قيمته لأنه نقص زائد في يده، ولو أعتقه السيد كان قبضاً يبرأ من ضمانه، ولو كاتبه لم يبرأ إلا أن يعتق بالأداء فيبرأ. فرع آخر لو تراضى الغاصب والمالك على أخذ القيمة عن ضمان المغصوب مع القدرة على المثل وجهان بناءً على الوجهين في جواز أخذ أرش العيب مع القدرة على رد المعيب. مسألة (¬2): قال: "ولو غصبَ جاريةً تُساوي مائةً فزادتْ في يدهِ بتعليمٍ منه". الفصل وهذا كما قال: إذا غصب شيئاً فزاد ني يده مثل إن كانت جارية فسمنت أو تعلمت القرآن أو كان عبداً فتعلم صنعةً فإن هذه الزيادة مضمونة في يده كما لو كانت موجودة يوم الغصب فإن كانت الزيادة قائمة يردها بزيادتها ولا شيء عليه، وإن ذهبت الزيادة بأن هزلت أو نسيت الصنعة أو القرآن، فعادت قيمها إلى أقل من ذلك فعليه ضمان ذلك النقص وبه قال أحمد. ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (2/ 225)، والحاكم (4/ 368)، والبيهقي (8/ 36)، وابن عدي (2/ 786). (¬2) أنظر الأم (3/ 37).

وقال أبو حنيفة ومالك: لا يضمن هذا النقصان إلا أن يطالبه بالرد وقت الزيادة فيمتنع وهذا غلط لأنها زيادة في عين المغصوب فيضمنها كما لو طالبه بردها فلم يردها مع الإمكان، فإذا تقرر هذا لو كانت قيمتها مائة فسمنت فبلغت قيمتها ألفاً ثم تعلمت القرآن فبلغت قيمتها ألفين ثم ذهب السمن ونسيت القرآن فعادت قيمتها إلى مائة ردها ورد معها ألفاً وتسعمائة، ولو زادت ثم نقصت ثم زادت ثانياً لم تخل الزيادة من أحد أمرين إما أن تكون من جنس الأولى أو من غيرها، فإن كانت من غيرها بأن سمنت فبلغت ألفاً ثم هزلت فعادت إلى مائة ثم تعلمت القرآن فصارت قيمتها ألفاً ردها بحالها ورد معها تسعمائة لأن هذه الزيادة غير التي ذهبت وهكذا لو تعلمت فبلغت ألفاً ثم نسيت فعادت إلى مائة ثم سمنت فعادت إلى ألف ردها وضمن ما نقص، وان كانت الزيادة (19 لم أ) من جنسها مثل أن سمنت فبلغت ألفا ثم هزلت فعادت إلى مائة ثم سمنت فبلغت ألفاً ردها بحالها وهل يلزمه ما نقص؟ وجهان: أحدهما: يلزمه ذلك لأن هذه الزيادة غير الأولى فهي كالجنسين وصار كما لو ولدت المغصوبة ولداً فمات في يد الغاصب، ثم ولدت ولدا آخر لزمه ردها مع ولدها ويلزمه قيمة الولد التالف. والثاني: لا يلزمه شيء، لأن ما قدرناه تالفاً قد عاد فعلى هذا إن عادت فبلغت قيمتها ألفا أو أكثر ردها ولا شي، عليه، وإن عاد إليها بعض ما ذهب منها سقط بقدر ما عاد إليها وضمن ما بقي، وقال القاضي الطبري: هذان الوجهان مبنيان على القولين فيمن أتلف سن من قد ثغر ودفع الأرش ثم نبت السن هل يسترد الأرش؟ قولان وعلى هذا إذا كانت سمينة فهزلت في يده حتى صارت قيمتها مائة، ثم سمنت فعادت إلى ألف ثم ردها بسمنها هل يلزمه النقصان على الوجهين؟. فرع لو تعلمت القرآن فبلغت قيمتها ألفاً ثم نسيت فعادت قيمتها إلى مائة، ثم تعلمت القرآن الذي نسيت فبلغت قيمتها ألفا ردها بحالها وهل يلزمه النقصان؟ من أصحابنا من قال: فيه وجهان أيضاً، ومن أصحابنا من قال: ها هنا وجه واحد أنه لا يلزمه النقصان لأنه يعود العلم الذي كان بخلاف السمن العائد فإنه غير العين الأول قال هذا القائل: ولهذا لو مرض العبد في يد الغاصب ثم برئ لا يضمن ما نقص، وكذلك لو حملت الجارية ونقصت قيمتها بالحمل ثم وضعت وعادت قيمتها إلى ما كانت لا يضمن نقص الحمل، ولو تعلمت غير ما نسيت حتى رجعت قيمتها إلى ما كانت لا يزول ذلك الضمان وجهاً واحداً، ومن أصحابنا من قال في السمن إذا عاد لا يزول الضمان السابق بالهزال قولاً واحداً وفي مسألة التعليم وجهان وهذا اختيار القفال. فرع آخر قال ابن سريج تفريعاً على هذا: لو غصب زجاجه تساوي درهماً فاتخذها قدحاً

يساوي عشرة فانكسر القدح فصار يساوي درهماً ثم أعاده قدحاً [19/ب] يساوي عشرة ثم انكسر أيضاَ فصار يساوي درهماً، ثم أعاده قدحاًَ فصار يساوي عشرة يرد القدح وثمانية عشر درهماً، وفيه وجه أخر لا يضمن شيئاً لأن اتخاذ القدح من فعله وفعله الثاني كفعله الأول بخلاف السمن. فرع آخر قال في "الحاوي" (¬1) تفريغاً على هذا: لو غصب جارية تساوي ألفاً فمرضت حتى صارت إلى مائة، ثم برأت حتى صارت ألفاً، ثم مرضت حتى صارت مائة فيه وجهان أحدهما: يضمن النقص مرةً، والثاني: يضمن النقص كل مرة. فرع آخر لو غصب عبدا سميناً يساوي ألفا فهزل أو أهزله حتى ذهب سمنه فزادت قيمته بالهزال أو لم ينقص قيمته لفرط سمنه لا شيء عليه لأن ما نقص منه لا قيمة له، كما لو قلم أظفاره أو حلق شعر وأسه، فإن قيل: أليس لو غصب عبداً فخصاه فزادت قيمته بالخصا يلزمه رده وجميع قيمته عندكم فما الفرق؟ قلنا: الفرق أن للخصيتين قيمة مقدرة بالشرع فأوجبنا فيه جميع القيمة بالشرع دون التقويم، ولهذا لو قطع إحدى الخصيتين ونقص أكثر من نصف القيمة في غير الغصب يلزمه نصف القيمة اعتباراً بالشرع دون التقويم وليس كذلك ما نقص من السمن لأنه لا قيمة له في الشرع ولا في السوق فإذا لم ينقص لا يضمن. فرع آخر لو قطع منه إصبعان زائدة فبرئ، أو زادت قيمته، أو لم تزد قال ابن سريج: لا شيء عليه لما ذكرنا أنه لا قيمة له في الشرع ولا في السوق، وقال أبو إسحاق: يلزمه ما نقص ويقوَّم قبل البرء والدم سائل والجراحة حاصلة قال: ولا أقوَّم قبل البرء إلا في هذه المسألة للضرورة وهي أن لا تهدر الجناية. فرع آخر لو زادت قيمتها بتعليم الغناء ثم نسيت الغناء فانتقصت قيمتها لا يضمن لذلك النقصان شيئاً ذكره أصحابنا وكذلك كل ما تحسن من محرم، وقال بعض أصحابنا بخراسان: يضمن النقصان ها هنا ولا فرق بين أن تكون الزيادة بتعليم مباح [20/أ] أو محرم لأن قيمتها قد ترتفع بصنعة محظورة كما ترتفع بصنعة مباحة وهذا أقيس والأول أظهر. فرع آخر لو كان النقصان من جهة السوق مثل أن غصب جارية تساوي مائة فغلا السعر ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للمارودي (7/ 147)

وعزت الجارية يردها ولا شيء عليه، وقال أبو ثور: يضمن هذا النقصان أيضاً وهذا غلط لأنه لم يحصل النقص في عينها ويستحيل وجوب الضمان بقلة الرغبات فيها بعد كثرة الرغبات فيها فإن قال قائل: أليس لا يفترق الحكم بين أن يحصل التعليم من الغاصب وبين أن يحصل من غيره فما بال الشافعي قيد كلامه بتعليم الغاصب حيث قال: فإن زادت في يده بتعليم منه قلنا: إنما قيد بهذا التعيين التقييد قطعاً لنوعين من التوهم أحدهما: أن الغاصب إذا باشر تعليمها ربما يتوهم أنها إذا نسيت ما تعلمت من الغاصب لم يغرم الغاصب نقصان ذلك لحصول تلك الزيادة من جهته، والثاني: أن الغاصب ربما يتوهم أن له بتعليمها على مالكها أجرة المثل حتى يحسبها له في قصاص النقصان عند التراجع فبين الشافعي أنه لا يستحق أجراً تصرف في ملك الغير متبرعاً بغير إذن، وعلى هذا لو زادت قيمتها بحسن اغتذائه وتربيته إياها ثم تراجعت كان حكم الاغتذاء حكم التعليم، فإن قيل: لم قيد الشافعي بمال الغاصب حيث قال: واغتذاء من ماله ولا فرق في الحكم بين أن يكون الاغتذاء من ماله أو من مال غيره؟ قلنا: الجواب ما ذكرنا من قطع التوهمين. فرع آخر لو غصب عبداً فصاد به فالصيد للمغصوب منه لأن يده لسيده، وهل على الغاصب أجرته في مدة صيده؟ وجهان أحدهما: يلزمه لأنه غاصب، والثاني: لا يلزمه لأن السيد صار إلى منافعه في ذلك الزمان. فرع آخر لو كان المغصوب كلباً أو فهداً ففي الصيد وجهان أحدهما: للغاصب لأنه المرسل وعلى هذا يلزمه أجرة الفهد، وفي أجرة الكلب وجهان والوجه الثاني أنه للمالك تغليباً للملك وعلى هذا يلزم الغاصب أجرة ذلك في زمان صيده وجهان على ما ذكرنا. مسألة (¬1): قال " "وكذلك [20/ب] هذا في ابيع الفاسد". وهذا كما قال: معناه إذا اشترى جارية شراء فاسداً وقبضها دخلت في ضمانه كما يدخل المغصوب بالغصب في ضمان الغاصب وقد ذكرنا هذا في كتاب البيع وبينا أن هذا يدل على أن زيادة المبيع مضمونة على المشترى شراءً فاسداً بخلاف ما قال بعض أصحابنا وهو اختيار ابن أبي هريرة، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان وفيه نظر، فإن قال قائل: يحتمل أن يكون هذا التشبيه راجعاً إلى أصل الضمان لا إلى كيفية الضمان قلنا: هذا محتمل ولكن أظهر الاحتمالين ما ذكرنا وهو أنه شبهها بالمغصوبة في أصل الضمان وفي كيفية الضمان أيضاً وهذا لأنه زيادة عين نهي عن إمساكها ووجب ردها على صاحبها، فإن قيل: أذن البائع له بالإمساك فينبغي أن لا يضمن له ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 37)

قلنا: إنما أذن بشرط أن يسلم له العوض، فإذا لم يسلم لم يرض أن تكون العين في يده فكان في الضمان بمنزلة المغصوب وقيل: أراد الشافعي بقوله هذا: بيع الغاصب لا كل بيع فاسد وقد صرح الشافعي هذا ولم ينقله المزني وهذا غير صحيح عندي. مسألة (¬1): قال: "والحكم في ولِدهَا الذينَ ولدوا في الغصب كالحكم في بدنها". وهذا كما قال: ولد المغصوبة مضمون على الغاصب سواء غصبها حاملاً أو حائلاً ثم حدث الحمل، وسواء أمكنه رده على صاحبه أو لم يمكنه وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة ومالك: لا يضمن الولد إلا بالامتناع من الرد بعد المطالبة، وحكي عن مالك أنه فوق بين أن تكون وقت الغصب حاملا أو حائلاً وهذا غلط لأن كل ولد حدث في يده لغيره من عين نُهي عن إمساكها يجب أن يكون مضموناً كولد الصيد في حق المحرم وولد المبيعة بيعاً فاسداً مضمون على المشتري وقد ذكرناه في كتاب البيع. فإن قيل: أليس الشافعي لما جاء إلى ذكر الولد خص ولد الغصب قال: والحكم في ولدها الذين ولدوا في الغصب فيجب أن لا يضمن ولد المبيعة بيعاً فاسداً قلنا: ذكر حكم الجارية المغصوبة وعطف عليها حكم البيع الفاسد ثم ذكر الولد بعد ذلك [21/أ] فاستغنى بالتشبيه السابق في الأم عن إعادة ذلك التشبيه في الولد. مسألة (¬2): قال: "ولو باعها الغاصبُ فأولدها المشتري". الفصل وهذا كما قال: في هذا الفصل مسألتان الأولى إذا غصب جارية وباعها فوطئها المشتري. والثانية إذا وطئها الغاصب والأولى مبنية على الثانية فيقدم الثانية ثم نذكر الأولى فالرجل إذا غصب جارية ووطئها لا يخلو من ثلاثة أحوال إما أن يكونا جاهلين بالتحريم، أو عالمين به، أو أحدهما: عالماً والأخر جاهلاً فإن كانا جاهلين به مثل أن أسلما حديثاَ أو كانا في بادية نائية عن بلد الإسلام أو قالا: كنا نرى إباحة الوطيء إذا كانت مضمونة عليه فلا حد على واحد منهما لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" ويجب المهر على الواطئ لأن كل وطء سقط فيه الحد للشبهة يجب به المهر ثم ينظر، فإن كانت بكراً يلزمه أرش البكارة أيضاً، وان كانت ثيباً فلزم المهر وحده ويلزمه أجر مثلها من حين الغصب إلى حين الرد، وان أحبلها يلحق به النسب. وإذا ولدت يلزمه أرش ما نقصته الولادة، وأما الولد فإن وضعته حياً فالولد حر وعليه قيمته حين الولادة لأنه أول وقت إمكان التقويم، وإن وضعته ميتاً فلا شيء عليه لأنا لا نعلم حياته قبل ذلك ولأنه لم يحل بينه وبينه وإنما يجب التقويم لأجل الحيلولة وإن ضرب أجنبي بطنها فألقته ميتاً فعليه دية الجنين الحر غرةٌ عبد أو أمةٌ قيمتها عُشر دية أمه لو كانت حرة والغرة للواطئ لأنه وارثه ولا شيء لأمه لأنها مملوكة وللسيد على ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 37) (¬2) انظر الأم (3/ 37)

الغاصب ضمان جنينها لو كان مملوكاً وهو عُشر قيمة أمه لأنه كان من سبيله أن يكون له لو كان مملوكاً، ولما أحبلها بحرَّ حول ما كان يكون للسيد إلى نفسه فألزمناه قيمة جنينها لو كان مملوكاً فيكون للغاصب على الضارب الغرة خمسون ديناراً وللسيد على الغاصب عُشر قيمة أمه فقابل بين هذا وبين الغرة فإن كانا سواء أخذ السيد ذلك وانصرف، وان كانت القيمة أكثر [21/ب] فعلى الغاصب التمام، وإن كانت القيمة أقل أخذ السيد القيمة وما فضل من الغرة للغاصب، ولو ضربها الغاصب فألقته ميتاً يجب عليه عشر قيمة أمه لسيدها أيضاً لأنه يضمن بالجناية ما يضمنه الأجنبي بجنايته هكذا ذكره أصحابنا. وأما الأمة فإن كانت قائمة ردها على سيدها ورد معها ما أوجبناه عليه من مهر وأجرة وأرش نقص، وإن كانت تالفة عليه قيمتها ورد ذلك معها إلا شيئين أرش البكارة وما نقصته الولادة لأن هذا يدخل تحت تقويمها لأن التقويم أكثر ما كانت قيمتها من حين الغصب إلى حين التلف. وإن كانا عالمين بالتحريم فعليهما الحد ويلزمه المهر إن أكرهها، وإن طاوعته فالمنصوص أنه لا مهر لأنها بغي "ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن مهر البغي (¬1) وفيه قول مخرج يلزمه المهر هكذا قال أصحابنا بالعراق، وقال بعض أصحابنا بخراسان: النص في هذا الموضع يدل على الإيجاب وهو اختيار ابن الحداد لأن الشافعي أوجب المهر مع الحد على الغاصب ولم يتعرض للفصل بين الطواعية والكراهية والفرق أن بضع الأمة ملك لسيدها ولم يوجد من السيد الرضا بسقوطه بخلاف الحرة، ولهذا لو أباحت الحرة قطع يدها واندملت سقطت دية اليد، ولو أباحت الأمة قطع يدها لا تأثير لإباحتها ويجب الأرش والصحيح ما سبق وقد ذكرنا فيما قبل أن المهر، وإن كان للسيد إلا أن لها طريقاً إلى إسقاطه بالرضاع والردة قبل الدخول فكذلك بهذا السبب، وان أحبلها لم يلحقه النسب والولد مملوك فإن خرج حياً فهو مضمون في يده يرده إلى سيده إن كان باقياً ويلزمه قيمته إن كان تالفاً، وإن خرج ميتاً نقل المزني أنه يلزمه الضمان فقال: قال الشافعي: ويلزمه قيمة من كان منهم ميتاً، واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق: لا يلزمه ضمانه لأنا لا نعلم حياته والذي نقله المزني أراد إذا خرج حياً ثم مات في يده ويفارق حالة الجناية لأنها مباشرة يتعلق الحكم بها وهذا أقيس. وقال جماعة من أصحابنا: يضمن [22/أ] قيمته لو كان ميتاً وهو ظاهر النص لأنه مملوك والمملوك يضمن باليد وقد ثبت اليد عليه قبل ظهوره ويفارق هذا إذا كان الولد حراً وخرج ميتاً لا يضمن لأن الحر لا يضمن باليد إذ لا تثبت عليه اليد، ولو ضرب أجنبي بطنها فألقت جنيناً ميتاً يلزمه عشر قيمة أمه لسيدها ولا حق للغاصب فيه لأنه ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (1/ 235، 356)، وابن أبي شيبة في " المصنف" (4/ 375، 6/ 244، 234)، والبيهقي (6/ 6).

مملوك ويفارق هذا إذا كان حراً لأن الواجب فيه الدية فلهذا ورثها الغاصب، وأما الأمة فإن كانت قائمة ردها وما ذكرنا من أرش النقصان بالولادة وغيره ولا فرق بين أن يبلغ قيمة ولدها قار نقصانها بالولادة وبين أن تتقاصر عن ذلك أو تزيد ولا يجبر نقصان الأم بالولد بحال. وقال أبو حنيفة: إذا نقص من قيمة الأم مائة وبلغ قيمة الولد مائة رد الأم والولد ولا يغرم من نقصان الأم شيئاً وهذا غلط لأنه لو غصب شجرة فغرسها الغاصب في ملكه فأثمرت ثمرة تقطعت بها أغصانها وانتقصت قيمتها عليه أرش ما نقص منها مع رد العين والثمرة ولا يجبر نقصان الشجرة بالثمرة كذلك ها هنا، وان كانت تالفة رد قيمتها وجميع ما وجب إلا شيئين أرش البكارة ونقصان الولادة على ما ذكرنا. وإن كان أحدهما جاهلاً والآخر عالماً فإن كان الجاهل هو الواطئ فإن أكرهها لها المهر والحكم كما لو كانا جاهلين وقد مضى بيانه، وان طاوعته فالحكم كما لو كانا عالين إلا في الحد عليها والمهر على المذهبين على ما ذكرنا، فإن كان العالم هو وهي جاهلة فالحكم كما لو كانا عالمين إلا في فصلين سقوط الحد عنها والمهر يجب قولا واحداً. وأما المسألة الأولى وهي إذا باعها للغاصب فوطئها المشتري فالكلام في ثلاثة فصول فيما يجب من الضمان وفيمن يضمن وفي الرجوع به، فأما ما يجب من الحد والضمان فالحكم في المشتري كالحكم في الغاصب حرفاً بحرف إلا أن الجهالة في حق المشتري أكثر لأنه قد لا يعلمها مستحقة والولد [22/ب] سقط ميتا ها هنا لا ضمان على ما ذكرنا في كتاب البيع ولا تصير الجارية أم ولد له قبل أن يملكها. وقال المزني: تصير أم ولد له ويقوَّم عليه ولا ترجع منه للحوق ولدها بها في شبهة ملك بخلاف الغاصب وهذا غلط لأن ولدها يلحق بالغاصب أيضا عند الشبهة ولم يوجب ذلك تقويمها عليه فكذلك على المشتري، وأما التضمين فكل ما وجب بفعل المشتري فللسيد أن يرجع به على من شاء منهما فيوجع به على المشتري لأنه وجب بفعله، ويرجع به على الغاصب لأنه سبب يد المشتري ولا يرجع على المشتري بما وجب بفعل الغاصب قبل التسليم بلا خلاف على المذهب. وأما الكلام في الرجوع نظر، فإن رجع السيد على المشتري رجع بأرش البكارة وما نقصته الولادة، وإن كانت تالفة فقيمتها وقيمة الولد والمهر وأجرة المثل فإذا أخذ ذلك منه فهل يرجع على الغاصب؟ فإن كان قد دخل مع العلم بالغصب لم يرجع بشيء لأنه غرَّ نفسه، وإن كان جاهلاً بالغصب فهل يرجع المشتري عليه بذلك؟ قد ذكرنا فيما مضى أن هذا على ثلاثة أضرب منها ما لا يرجع به عليه قولاً واحداً وهو كل ما دخل على أنه يملكه بعوض وهو أرش البكارة وما نقصته الولادة وقيمتها إن تلفت لأنه قد دخل في العقد على أنه يتلف من ضمانه بعوض وبذل الثمن بمقابلة ذلك فلا يرجع بعوضه على أحد بل يرجع بالثمن الذي دفعه إليه، وكذلك لو حدث بها نقص فغرمه أرش النقص لا يرجع عليه لأنه عوض جزء من العين ولا يرجع عليه بما يغرم من بدل العين.

وحكي عن ابن سريج أنه قال: لو قلنا: يرجع بما يغرم من أرش النقص فله وجه وذلك أن من اشترى شيئاً وقبضه فذلك القبض موجب عليه ضمان الكل دون ضمان النقص والعيب وكذلك البائع قبل القبض يضمن الكل لا البعض وبيان [23/أ] هذا أنه لو تلف في يد البائع لزمه رد الثمن، وإن دخله نقص فليس للمشتري أن يقول: استرد الثمن مع نقص العيب بل إن شاء المشتري رده، وإن شاء أخذه ناقصاً ودفع كل الثمن وفي ضده لو حدث عيب في يد المشتري ثم وجد البائع بالثمن عيباً فرده فليرض بالمبيع يسترده وليس له أرش النقص وبمثله لو تلف عند المشتري استرد البائع كل قيمته إذا رد الثمن بالعيب. كذلك ها هنا ومنها ما يرجع به قولاً واحداً وهو ما دخل على أنه يستفيد بغير بدل فأخذ منه بدله ولم يحصل له في مقابلة الغرم نفع وهو قيمة الولد فقط لأنه أخذ منه قيمته وولده حر لا ينفعه ولأنه لم يتلفه ولا تلف بإمساكه وحيلولةً من جهته وإنما تلف بالشرع بتدليس من جهة الغاصب وعقد البيع الذي جرى بينهما اقتضى أن لا يكون الولد مضموناً على المشتري فكان له الرجوع به ومنها ما هو على قولين وهو ما دخل على أنه بغير عوض فأخذ منه بدله وحصل له بمقابلته منفعة وهي المهر غرمه وحصل له الاستمتاع والأجرة غرمها وحصلت له الخدمة في مقابلتها فهل يرجع المشتري بذلك أم لا؟ فيه قولان قال في "القديم": يرجح لأنه غرَّه، وقال في الجديد: لا يرجع وبه قال أبو حنيفة لأنه وان غرم فقد حصل له في مقابلة الغرم نفع وأتلف المنفعة بفعله وهذا ظاهر المذهب والفتوى عندي القول الأول. ومن أصحابنا من عدَّ في هذه الجملة أرش البكارة أيضاً وقال: فيه قولان هل يرجع به أم لا؟ ومن أصحابنا من قال في الأجرة: ينظر إن كان استهلك منافعها فعلى ما ذكرنا، وإن لم يكن استهلكها يرجع بما غرم من الأجرة قولاً واحداً لأن منافعها تلفت من غير صنع من جهته فهي كقيمة الولد وهذا غلط لأن إمساك العين حيلولة بين المنافع وبين صاحبها وإتلاف لها، فلا فرق بين أن يباشر إتلافها أو لا وهذا [23/ب] إذا رجح على المشتري فإن رجع على الغاصب فهل يرجع الغاصب على المشتري أم لا؟ يبُنى على رجوعه بذلك على المشتري فكل ما لو رجع به على المشتري رجع المشتري به على الغاصب فالغاصب لا يرجع به عليه إذا أخذ منه وكل ما لو رجع به على المشتري لم يرجع به المشتري على الغاصب، فإذا أخذ من الغاصب رجع الغاصب به على المشتري لأن الضمان استقر على المشتري. فرع لو كان الغاصب آجرها مدةً معلومة فإن المالك يرجع على المستأجر بأجرة مثلها، ثم هو يرجع على الغاصب بالمسمى الذي دفع إليه ولا يرجع بأجرة المثل التي غرمها للمالك لأنه دخل فيه على أن تكون المنافع مضمونة عليه، وان تلفت الجارية في يد المستأجر من غير فعله أو نقصت فعلى المستأجر للمالك قيمتها أو ما نقص منها ويرجع على الغاصب قولاً واحداً، لأن مقتضى العقد الذي تعاقداه أن لا يكون ذلك مضموناً

عليه وان أتلفها أو نقصها بجناية من جهته غرّمه ولا يرجع به على الغاصب ولو كان الغاصب أودعه إياها أو وكله في بيعها فتلفت في يده أو نقصت يرجع على الغاصب بما تغرم من القيمة وأرش النقص والأجرة. فرع آخر لو أن هذا المشتري من الغاصب وطئها جاهلاً لا يغرم إلا مهراً واحداً، وإن كان قد وطئ مراراً لأن الشبهة واحدة، ولو وطئها ثم علمها مغصوبة ثم غلط بها مرة أخرى ووطئها يلزمه مهران لأن الشبهة الأولى قد ارتفعت، ونظيره ما قال أصحابنا في السارق: إذا نقب وأخرج أقل من نصاب ثم أخرج شيئاً آخر حتى تم النصاب، فإن لم يكن أطلع المالك على الأمر فالكل سرقة واحدة ويلزمه القطع، وإن علم المالك وسد النقب ثم عاد السارق ونقب ثانياً وأخرج ثانياً لا يقطع إذا كان في كل دفعة دون [24/أ] النصاب لأنهما سرقتان، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجه آخر يلزمه بكل وطئ مهر جديد وهذا ليس بشيء. مسألة (¬1): قال: "فإن كانَ ثوباً فأبلاهُ المشتري". الفصل وهذا كما قال: هذه المسألة مثل مسألة الجارية ولكنهما تختلفان في الصورة وفيه أيضاً مسألتان إحداهما إذا لبسه الغاصب، والثانية إذا اشتراه غيره ولبسه. فأما الأولى نقول: لا يخلو من أربعة أحوالٍ إما أن لا ينقص في يد الغاصب ولم تمض مدة لمثلها أجرة أو مضت مدة لمثلها أجرة من غير نقص، أو نقص من غير مضيّ مدة لمثلها أجرة أو نقص ومضت مدة لمثلها أجرة معاً، فإن لم تمض مدة لمثلها أجرة ولا نقص في يده ورده على المالك ولا شيء عليه، وإن مضت مدة من غير نقص مثل إن كان شيئاً من الفرش والزلالي ونحوها رد الأجرة معه ولا شيء عليه غيرها، وإن نقص من غير مدة مثل إن كان ثوباً ينقص باللبس كالدبيقيّ والشَّهجاني والقصب نشره وقطع تنور القصب فعليه ما نقص ولا أجرة فإن حصل الأمران معاً مضى مدة ونقص لم يخل النقص من أحد أمرين إما أن يكون بالاستعمال أو بغير استعمال، فإن كان بغير استعمالٍ مثل إن كان من القصب فقطع التنور ولم يستعمله نحو هذا فعليه الأجرة وما نقص معاً، وان كان النقص تحت الاستعمال مثل إن كان فرشاً فاستعمله فذهب من الأجزاء بعضها تحت الاستعمال فهل يضمن النقص والأجرة معاً؟ نقل المزني أنه يرده وما بين قيمته صحيحاً يوم غصبه وقيمته وقد أبلاه فأوجب النقص ولم يتعرض للأجرة، وقال فيمن غصب داراً فسكنها يلزمه أجرة مثلها ولم يتعرض للنقص فاختلف أصحابنا في هذا فمنهم من قال: يلزمه أكثر الأمرين من الأجرة أو النقص ويدخل الأقل منهما في الأكثر ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 38).

لأنهما تجبان بمعنى واحدٍ وهو اللبس فلا يجوز أن يجمع بينهما أو استهلاك الأجزاء في مقابلة الأجرة كما في الإجارة ويفارق العبد إذا غصبه [24/ب] ومضت مدة هُزل فيها بدنه تلزمه الأجرة مع أرش الهُزال بلا خلاف لأن استخدام العبد لا يوجب هُزاله واستعمال الثوب يوجبه بلاه قال هذا القائل: والشافعي نص في الثوب على ما نقص دون الأجرة لأنه في الغالب يكون أكثر من الأجرة ونص في الدار على الأجرة لأنها أكثر من النقص في الغالب، ومنهم من قال: وهو الأصح والمذهب تجب عليه الأجرة مع أرش النقص كما لو كان النقص لا بالاستعمال ولأن الأرش عوض ما أتلفه من أجزاء الثوب والأجرة عوض ما أتلفه من المنافع فاختلف موجبهما فيجتمعان. وقال القاضي الطبري: نص الشافعي في السير ما يدل على هذا فقال: لو أخذ بعض الغانمين من الغنم غنماً أو بعيراً وذبحه واتخذ من جلوده دلاء ونعالاً ودرقاً ردها في المغنم ورد أجرة المثل وأرش ما نقص قيمتها ويحتمل أنه أراد ما نقص بالذبح وتقطيع الجلود دون الاستعمال، فإذا قلنا: يلزمه أكثر الآمرين نظر، فإن كانت الأجرة أكثر ولو حبةً لزمت ودخل فيها أرش النقص، وإن كان أرش النقص أكثر ولو حبةً لزم ودخلت الأجرة فيه، وإذا قلنا: يجب كلاهما فعليه أجرة المثل إلى حين الرد. وأما النقص فعليه أكثر ما نقص من حين الغصب إلى حين البلى لأنه أجزاء تلفت في يد الغاصب فعليه أكثر ما كانت قيمته من حين الغصب إلى حين التلف ولا يراعى زيادة التلف القيمة بعد تلف الأجزاء كما لا يُراعى زيادة قيمة الثوب بعد تلفه، فعلى هذا لو غصب ثوباً قيمته عشرون فتراجع بإتلاف الاستعمال إلى عشرة ثم تراجع من جهة السوق إلى خمسة ثم وده يلزمه عشرة وهذا لأنه لا يغرم نقصان السوق مع رد العين، وذكر المزني هذه المسألة في "الجامع الكبير". وذكر عن الشافعي أنه قال: عليه أكثر ما كانت قيمته من حين الغصب إلى حين الرد ثم قال: هذا غلط بل عليه أكثر ما كانت قيمته من حين الغصب إلى حين البلى قال ابن سريج: الأمر على ما قلت وهو مذهب الشافعي وعليه نص غير أنك نقلت إلى [25/أ] جامعك الكبير كلاماً لا نعرفه للشافعي واعترضت عليه وقد قال الشافعي ها هنا وبين قيمته وقد أبلاه ومعناه حين أبلاه دون ما بعده فليس ها هنا خلاف. وقد ذكر ابن الحداد نحو ما حكي المزني عن الشافعي مع الاعتراض عليه فقال: لو كانت قيمته عشرة فتراجعت بالبلى إلى خمسة ثم ارتفع السوق فصار قيمة هذا البالي عشرة يضمن عشرة، وهو غلط، بل يضمن خمسة لأن القدر الذي بلى ما زادت قيمته من يوم الغصب إلى يوم التلف على خمسةٍ فما حاث من الزيادة بالسوق في الباقي لا يقال: إن القدر الباقي لو كان باقياً يحدث فيه مثله فيجب الغرم فيه على التوهم، ولكن لو تراجعت أولاً بالسوق إلى عشرةٍ من عشرين وبالبلى إلى خمسةٍ ثم رده يضمن عشرة لأنه أتلف بالبلى نصف الثوب وهذا النصف أكثر ما كانت قيمته من يوم القبض إلى يوم التلف عشرة وفرع ابن سريج على ما ذكرنا فرعين فقال: فإن اختلفا فقال الغاصب:

زيادة السوق كانت بعد البلى فلا شيء عليّ، وقال المالك: كانت حين الاستعمال قبل البلى فالقول قول الغاصب لأنه غارمٌ، ولو غصبه ثوباً ثم هلك في يده وقد كانت السوق زادت ونقصت فاختلفا فقال المالك: زادت قبل التلف فعليك الزيادة، وقال الغاصب: بل بعد التلف فلا أضمن الزيادة فالقول قول الغاصب لأنه غارمٌ. وقال ابن سريج: هذا مخرَّجٌ وفيه نظر قال أصحابنا: هذا صحيح لا نظر فيه لأنه لا شبهة في أن القول قول الغارم عند الاختلاف والأصل براءة الذمة. وأما إذا باعه الغاصب فأبلاه المشتري وهي المسألة الثانية فالكلام فيها في ثلاثة فصول أيضاً في الواجب ومن يضمن الواجب والرجوع فيه، فأما الواجب فكل ما حصل بفعل المشتري فالحكم فيه كما لو حصل في يد الغاصب وقد ذكرناه، وأما من يضمن فكل ما حصل بفعل الغاصب قبل إقباضه فالضمان عليه وحده لا يرجع به على المشتري وما حصل بفعل المشتري فللمالك أن يرجع به على من شاء منهما من المشتري والغاصب. [25/ب] فإن قيل: فما تقولون في نقل المزني ها هنا أخذه من المشتري وما بين قيمته صحيحاً يوم غصبه وبين قيمته وقد أبلاه فاعتبر قيمته يوم الغصب في تغريم المشتري وهذا يوجب ضمان النقصان الحادث في يد الغاصب على المشتري؟ قلنا: صوَّر الشافعي المسألة حيث يستوي قيمته يوم الغصب وقيمته قبض المشتري لا بحيث يفضل قيمته يوم الغصب قيمته يوم القبض. والثاني: لعل الشافعي سمى قبض المشتري غصباً لأنه يضمن بالقبض ما يضمن الغاصب بالغصب فلا يبعد أن يسمى قبضه بهذا الاسم. والثالث: تأويله أنه غصبه وباعه في الحال ولم يحدث في يد الغاصب نقص. والرابع: لم يرد به الرجوع على المشتري بل أراد به أن للمالك الرجوع بذلك وعلى من يرجع فإنه على ما بينه في غير هذا الموضع قال أبو حامد: وقد ذكر في "الأم" ما يدل على هذا فقال: يأخذه من المشتري وله ما بين قيمته صحيحاً يوم غصبه وقيمته وقد أبلاه فقد أخبر أن هذا للمالك ولم يقل على من يرجع به المالك، وقد حذف المزني قوله: وله. والخامس قال القاضي أبو علي البندنيجي: كل هذا ظلم والمزني إنما قال: وله ما بين قيمته يوم قبضه ولم يقل يوم غصبه وغلط الكاتب، وأما الكلام في الرجوع فإن ضمن المشتري هل يرجع على الغاصب؟ فهو على ما ذكرنا في أرش النقص لا يرجع وفي الأجرة قولان، وإن ضمن الغاصب فعلى ما ذكرنا. فرع لو تزوج بجارية ووطئها ثم استحقت وغرم الناكح مهر المثل، قال بعض أصحابنا بخراسان: لا يرجع به على الغاصب المزوّج قولا واحداً بخلاف المشتري ها هنا على أحد القولين فإنه يرجع به على الغاصب، والفرق أن الزوج دخل في العقد على أن يضمن منافع البضع بالعوض والمشتري لم يدخل على أن يضمنه قال: ويفارق أيضاً

مسألة الغرور بالحرية في نكاح الأمة إذا فسخ النكاح وغرم المهر هل يرجع على الغارّ بذلك المهر؟ قولان لأن الملك حصل له هناك ثم لما فسخ قطع على نفسه ذلك الملك [26/أ] بسبب العيب والغرور وها هنا في المستحقة لم يستحق الواطئ الوطئ فأتلف من غير استحقاق حتى إن كان الرجل ممن لا يحل له نكاح الإماء وغُرَّ من أمة فلم يصح النكاح ووطئ وغرم المهر لم يرجع بذلك على الغازّ قولاً واحداً كالمتسحقة سواء وفي هذا نظر ويحتمل خلافه. مسألة (¬1): قال: "ولستُ أنظرُ في القيمةِ إلى تغيرِ الأسواق وإنما أنظرُ إلى تغيرِ الأبدانِ". وهذا كما قال: قد بينا أن تغير السوق لا يوجب الضمان ما دام العين باقياً خلافاً لأبي ثور لما ذكرنا أنه ليس بنقصان عين ولا أثر ويخالف نقصان السَّمن ونسيان الصنعة لأنه نقصان يرجع إلى العين وهو المراد بتغير الأبدان ولأن رد العين أقوى من رد بدلها، ثم لو رد البدل وهو المثل ناقصاً قيمته عما كان يوم الغصب لا يضمن فلأن لا يجب الضمان الراجع إلى السوق عند رد العين أولى ولو تلف في يده يجب عليه أكثر ما كانت قيمته من حين الغصب إلى أن تلف في يده لأنه إذا وجبت القيمة ووجوبها مستند إلى حال الغصب وجبت أكثر ما كانت من حين الغصب إلى حين التلف، ويخالف هذا إذا كانت قائمة فإن القيمة غير واجبة فلم يكن لنقصانها اعتبار. فإن قيل: فكيف أطلق لفظه حيث قال: ولا أنظر إلى تغير الأسواق وقد نظر عند التلف إليه؟ قيل: أطلق الشافعي وأراد به تخصيص بعض الأحوال، ألا ترى أنه صور المسألة في الثوب الباقي حيث قال: أخذه من المشتري وما بين قيمته ثم عطف على هذه الصورة فقال: ولست أنظر في القيمة إلى تغير الأسواق وعلى ما ذكرنا لو غصب ثوباً يساوي مائة فحدث فيه خرق نقصت به من قيمته عشرة ثم نقص السعر عشرة أخرى يلزمه رده مع عشرةٍ وهي التي نقصت بحدوث العيب فيه، ولو غصب ثوباً فقطعه بنصفين وأتلف أحدهما: يلزمه قيمة النصف الذي أتلفه أكثر ما كانت من حين غصب إلى أن تلف، أما النصف الباقي ينظر فيه فإن كان يساوي [26/ب] نصف قيمة الثوب أكثر ما كانت يرده ولا شيء عليه لأنا علمنا أن الخرق لم ينقصه، وإن كانت قيمته أقل من نصف قيمة الثوب نظر في النقصان فإن كان لأجل القطع لزمه، وإن كان لنقصان السوق لم يلزمه. مسألة (¬2): قال: "وإنْ كانَ المغصوب دابةً فشغَلهَا الغاصبُ أو لم يشغلها". ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 38) (¬2) أنظر الأم (3/ 38)

الفصل وهذا كما قال: إذا غصب دابة أو داراً فعلى غاصبها أجرة مثلها من يوم غصبها إلى يوم ردها لأن المنافع تجري مجرى الأعيان في معظم الأحكام وقد تلفت المنافع في يد الغاصب وبه قال أحمد، وقال مالك: إن انتفع بها يلزمه الضمان وإلا فلا يلزم. وقال أبو حنيفة: لا يضمن المنافع بحالٍ إلا أن يكون في شبهة العقد مثل أن يؤاجر العبد المغصوب نفسه من الغاصب يلزمه أجر المثل إن استعمله، وان لم يستعمله تلزم الأجرة قال: وإذا وجبت الأجرة ها هنا يلزمه الأقل من المسمى أو أجر المثل وهكذا قال في جميع الإجارات الفاسدة واحتج بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "الخراج بالضمان" والغاصب ضامنٌ للعين وكان الخراج له ومنافع العين خراجها حتى قال أبو حنيفة: لو أن الغاصب اكترى الدابة المغصوبة فما قبض من الكراء له ولا يلزمه رده على صاحب الدابة لأنه ضامن للعين والخراج بالضمان فقال الشافعي (¬1): وليس الغلة بالضمان إلا للمالك الذي قضى له بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومعنى هذا أن قوله: الخراج بالضمان إنما ورد في المشتري إذا رد السلعة بالعيب فالخراج له وما ورد في الغاصب بدليل خبر مخلد بن خفاف وقد ذكرناه في كتاب البيع. وإذا ثبت الحديث في المشتري لا يجوز إلحاق الغاصب به لأن المشتري مالك للسلعة حين يستغلها فتكون الغلة ملكاً له بإزاء ما عليه من ضمان الأمل المملوك، فأما الغاصب فليس بمالك في الأصل وإن كان ضامناً له، وإذا لم يكن مالكا للأمل فكيف يكون للفرع؟ ثم قال المزني: وأدخل الشافعي على من قال: إن الغاصب إذا ضن سقط عنه الكراء قوله [27/أ] إذا اكترى قميصاً فاتزر به أو بيتاً فنصب فيه رحى أنه ضامن وعليه الكراء فمقصود الشافعي من هذا بيان مناقضة أبي حنيفة حيث قال: الخراج بالضمان على الغاصب فإذا ضمن الأصل بالعدوان كانت المنافع له لا يغرمها بحال ثم ناقض فقال: إذا اكترى قميصاً فاتزر به صار ضامناً لما اتزر به وعليه كراؤه لصاحبه فاجتمع عليه ضمان الأصل وضمان المنافع. وناقض أيضاً فقال: إذا اكترى بيتاً فنصب فيه رحىً أنه ضامن للبيت وعليه الكراء فجمع بين الكراء والضمان فليقل مثل ذلك في سائر المعصومات، فإن اعتذر بأن الأجرة في هاتين المسألتين إنما وجبت بالعقد والمنافع بالعقل تصير مالاً قلنا: هذا المستأجر كان غير ضامن في أول الأمر فلما تعدى في الإجارة صار حكمه حكم الغاصب في ضمان الأصل ثم لم يجعله كالغاصب في حكم المنافع حتى يسقط عنه ما لزم بالعقد كذلك ها هنا. ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 38).

فرع لو غصب مكاتبا فحبسه ضمن أجرة مثله، ولو حبسه السيد عن تصرفه فيه وجهان أحدهما: تلزمه الأجرة، والثاني: عليه أنظاره بمال الكتابة قدر تلك المدة التي حبسها فكأنه أخَّر زمان كتابته ذكره في"الحاوي" (¬1). فرع آخر لو غصب عبداً يحسن صنائع كثيرة تلزمه أجرة أعلى الصنائع ويدخل ما دونها فيها. مسألة (¬2): قال: "ولو استكرَهَ أمةً أو حرةً فعليه الحدُ". الفصل وهذا كما قال: إذا أكره حرةً أو أمةً على الزنا يلزمه الحد لأنه زانٍ، ولا حد عليها لأنها ليست بزانية ويجب المهر عليه اعتباراً بحالها وبه قال مالك وأحمد في أصح الروايتين، وقال أبو حنيفة: لا يجب المهر اعتباراً بحال الرجل، وحكي عن مالك أنه قال: إذا أكره أمةً على الزنا يلزم المهر وفي الحرة لا يلزم وهذا غلط لأنه وطئ في غير ملك سقط الحد فيه عن الموطوءة والواطئ من أهل الضمان في حقها فيلزمه المهر لها كما لو وطئها بشبهةٍ، ثم إن الشافعي قال: لا معنى للجماع إلا في منزلتين إلزاماً على أبي حنيفة فقال: للجماع [27/ب] منزلتان إحداهما أن تكون بنكاح، والثاني: أن تكون بصريح الزنا وبين هاتين المنزلتين منزلة ثالثة وهي الإصابة بالشبهة على نكاح فاسد وقد أجمعنا على أن المصابة بالشبهة في نكاح فاسد ملحقة بالمصابة في النكاح الصحيح حتى يوجب المهر عليه عوضاً من بضعها وربما تكون عالمة بفساد النكاح عاصية بالتمكين فالمستكرهة أحسن حالاً من هذه العاصية المقدمة على النكاح الفاسد فوجب أن يثبت لها مهر المثل والحد لا ينافي المهر لأنهما حقان لمستحقين متباينتين، فالحد حق لله تعالى على ما ارتكب من هتك المحارم، والمهر حق لها عوضاً عما استهلك من منافع بضعها كما تعلق بالزنا في نهار رمضان حد الزنا وكفارة الجماع وبالقتل كفارة القتل لله تعالى وعوض النفس للآدمي. فرع لو اختلفا فادعت الموطوءة الاستكراه وادعى الواطئ الطواعية فيه قولان أحدهما: القول قول الواطئ ولا مهر اعتباراً ببراءة الذمة، والثاني: القول قولها ولها المهر لأنه متلف ويشبه أن يكون بناء على القولين في رب الدابة وراكبها إذا اختلفا في العارية والكراء على ما ذكرنا. فرع آخر لو غصب جاريةً ولم يطأها ردها ولا شيء عليه، فإن قيل: هلاّ أوجبتم ضمان ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (7/ 163) (¬2) انظر الآم (3/ 39)

الاستمتاع النفي حال بينه وبينها كما أوجبتم ضمان سائر المنافع قلنا: الفرق أنه لا يحصل التفويت هذا هنا لأن لسيدها تزويجها وإحراز مهرها، ولا يجوز إجارتها وهي مغصوبة وأيضاً المقصود من الاستمتاع العوض الواحد ويمكنه تحصيله من هذا الوقت بخلاف الأجرة ولأنه لا يمكن تقويمه بمضي المدة لأنها غير مقدَّرة بخلاف الأجرة. فرع آخر لو أكره الحربي مسلمة على الزنا لا مهر لأنه لم يلتزم حكم الإسلام. مسألة (¬1): قال: "وفي السرقة حكمان". الفصل وهذا كما قال: إذا سرق ما يبلغ نصاباً فالقطع يلزم لحق الله تعالى والضمان عند تلفه للآدمي وأحدهما: لا يمنع الآخر، وقال أبو حنيفة: إذا قطع السارق [28/أ] لا غرم عليه، وقال مالك: إن كان موسراً قطع وغرم، وان كان معسراً قطع ولم يغرم والدليل على بطلانه ما احتج الشافعي به حيث قال: فإن لم يؤجد فقيمته لأني لم أجد أحداًَ ضمن ماله بعينه بغصب أو عدوان فيفوت إلا ضمن قيمته، وفي قوله بغصب أو عدوان احتراز عن المبيع في يد البائع يكون مضموناً بعينه ولا يضمن البائع قيمته عند فواته لأنه غير مضمونٍ بعدوان ثم قال الشافعي: وفي المغتصبة حكمان على ما ذكر، ومقصوده أن المهر حق لها كالغرم على السارق حق للمالك فكما أجمع بين الغرم والقطع أجمع بين المهر والحد. فإن قيل: نظم كلام الشافعي في هذا الموضع غير مستقيم لأنه كان يصنف مسائل الغصب فانتقل منها إلى مسألة من كتاب السرقة ثم فرغ منها وعاد إلى مسائل الغصب فأيّ معنى لذلك قلنا: الشافعي ذكر مسألة السرقة ها هنا استشهاداً بها على مسألة المستكرهة. فإن قيل: كيف يصح الاستشهاد بها وفيها خلاف أيضاً؟ قلنا: في السرقة صورتان إحداهما صورة الوفاق استشهد بها، والثانية صورة الخلاف أثبتها بالدليل ثم بني عليها فأما الوفاق إذا كانت العين المسروقة باقية في يد السارق يتوجه حكمان القطع لله تعالى ورد المال للآدمي ولا يمانع بينهما كذلك في المستكرهة. وأما صورة الخلاف إذا كانت عين السرقة تالفة أثبتها بالعلة التي ذكرناها ثم بني عليها مسألة المستكرهة والدليل على أن الشافعي قصد هذا أنه لما فرغ من مسألة السرقة عطف عليها فقال: وفي المغتصبة حكمان على ما ذكر والأظهر أن الشافعي اختار سلوك طريق البناء، ألا ترى أنه قال فأثبت ذلك والحد على المغتصب كما أثبت الحد والغرم على السارق وإثبات الحد والغرم إنما هو في صورة الخلاف لأن الغرم لا ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 39).

يطلق على رد العين المسروقة وإنما يطلق على غرم قيمتها. مسألة (¬1): قال: "ولو غصبَ أرضاً فغرسها". الفصل وهذا كما قال: إذا غصب أرضاً وغرس فيها نخيلاً لزمه [28/ب] قلعها لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "ليس لعرق ظالم حق" وروي بالتنوين لعرق لا بالإضافة فجعل العرق ظالماً لما كان يحصل به الظلم ثم إذا قلعها يلزمه تسوية الأرض على حالها وضمان النقص إن كان قد دخل فيها النقص وأجر المثل في المدة التي أمسكها، وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يجمع بين نقصان الأرض وأجر المثل؟ وجهان أحدهما: يجمع وهو الأصح، والثاني: يلزم أكثر الأمرين منهما وذكرنا مثل هذا في الثوب إذا بليَ وانتقص وهذا بعيد عندي في مسألة الأرض، وقال في "الحاوي" (¬2): إذا صارت الأرض حفراً تضر بها قال الشافعي ها هنا يردّ ما نقصت الأرض، وقال في كتاب "البيوع": إذا قلع البائع الحجارة المستودعة يلزمه تسوية الأرض ولا يتركها حفراً فقيل فيهما قولان على سبيل النقل والتخريج أحدهما: يضمن النقصان لأنه نقص فعلٍ مضمون، والثاني: يلزمه تسوية الأرض لأن زوال التعدي بالمثل أولى من القيمة وقيل: المسألتان على ظاهرهما، والفرق أن الغاصب متعدَّ فيغلَّظ حكمه بالأرش والبائع غير متعدَّ فخفّف حكمه بتسوية الأرض. فرع لو غصب أرضاً وغرس فيها ثم باع الغاصب الغراس فإن باع بشرط الترك فالبيع باطل، وإن باع بشرط القلع فالبيع جائزٌ، وإن أطلق فيه وجهان أحدهما: باطل لأن العرف في مثله الترك ولا يستحق الترك ها هنا، والثاني: يجوز ويؤخذ المشتري بالقلع ولكن له الخيار إن لم يكن علم. فرع آخر لو كان الغرس ملكاً لرب الأرض له أن يطالب الغاصب بالقلع إن كان له غرضٌ ويغرمه النقصان، وإن لم يكن في قلعه غرض صحيح بوجٍه فهل يجبر الغاصب على قلعه؟ وجهان أحدهما: لا يجبر لأنه عبثٌ وسفه، والثاني: له ذلك لأنه متحكم على الغاصب لتعديه. فرع آخر لو كانت قيمته تنقص إن قلع عما كانت مليه تبل الغرس نطالب بأرش النقص مع ترك الغراس قائماً فإن قلنا بالوجه الأول إنه لا يجبر على القلع لم يكن له الأرش إذا لم يكن له قائماً نقص وإن قلنا بالوجه الثاني [29/أ] استحق الأرش، وإن كان قائماً ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 40) (¬2) أنظر الحاوي للماوردي (7/ 169).

غير ناقص لأنه لما استحق المطالبة به مع التزام مؤونة القلع فأولى أن يستحق المطالبة به مع عفوه عن القلع. فرع آخر لو غصب أرضا وغصب غراساً وغرس فيها وهرب الغاصب أن يلتزم لهما مؤونة القلع واختلفا في تحملها فعلى من يجب؟ وجهان أحدهما: يجب على صاحب الأرض لأنه يريد أخذ غرسه ثم هي لمن غرمها دينٌ على الغاصب. فرع آخر لو حمل السيل بذر رجل إلى أرض غيره فنبت هناك قد ذكرنا فيه وجهين قال صاحب "الحاوي" (¬1): والأصح عندي أن ينظر في الزرع بعد قلعه فإن كانت قيمته مقلوعاً كقيمة الحنطة أو أكثر أجبر على قلعه لأنه لم يدخل عليه نقصُ حين نبت، وإن كانت قيمته لو قلع أقل من قيمة الحنطة ترك ولم يقلع لأنه لم يتعدَّ فيلتزم ضرر عدوانه وما يدخل على رب الأرض من الضرر فقد استدركه بالأجرة التي يستحقها بعد العلم والتنازع ولا أجرة لرب الأرض فيما قبل لأنه لم يكن منه فعل يتعلق به ضمان، وقال مالكٌ: زال ملك الأول وصار ملكاً للثاني وهذا غلط لأن ضياع المال لا يزيل ملك المالك عنه. فرع آخر يضمن العقار عندنا بالغصب ويتصور فيه الغصب وبه قال مالك ومحمد، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يضمن بالغصب ولا يتصور فيه الغصب، وروي عن أحمد أنه قال: إذا غرقت الأرض بفعله ضمن وهذا يدل على أن عنده لا يضمن العقار بالغصب وهذا غلط لما روي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من غصب شبراً من أرضٍ طوقه من سبع أرضين" ولأن ما يضمن بالقبض في البيع يضمن بالغصب كالمنقول. فرع آخر لو غصب أرضاً فلم يزرعها فنقصت بترك الزراعة فيها كأراضي البصرة تلزمه أجرة المثل وما نقص بترك الزراعة. فرع آخر لو دخل دار رجل بغير إذنه وصاحبها فيها لم يضمنها لأن يد صاحبه ثابتة عليها والغصب أن تثبت يده عليها وتزول يد صاحبها عنها ولهذا نقول: إذا حبس [29 /ب] صاحبه عن ماله لم يضمنه لأن يده لم تثبت عليه، وقال أبو حامد لا نص فيه وهذا يحتمل أن يكون مذهباً، وقال بعض أصحابنا: يضمن نصفها لأن يدهما عليها. ¬

_ (¬1) أنظر الحاوي للمارودي (7/ 170)

[فرع آخر] لو لم يكن صاحبها فيها فدخلها قال أصحابنا: ضمنها حتى إن أنهدم منها شيء لزمه أرش النقص، وإن قدرها دار نفسه فدخلها قال أصحابنا: يضمن كما لو أخذ ثوب غيره فيظنه لنفسه ضمنه ذكره القاضي الطبري وسمعت فيه وجهاً آخر بخراسان أنه لا يضمن بهذا القدر. فرع آخر لو اشترى أرضاً من الغاصب وهو لا يعلم فنقصت في يد المشتري فلصاحبها الرجوع بالنقض على من شاء من الغاصب أو المشتري، ولو قبضها المشتري وكانت دارا فنقصها ثم بناها ثانياً فعليه رد العَرصَة على مالكها وعليه ما بين قيمتها مبنيةً ومنقوضةً، وعليه نقض ما بناه وأجرة مثلها من حين القبض إلى حين النقض وأجرة العرصة من حين النقض إلى حين الرد وليس عليه أجرة ما بناه منها وللمالك الرجوع على من شاء منهما على ما ذكرنا وقرار الضمان على من يكون قد ذكرنا. فرع آخر لو دفن في الأرض المغصوبة ميتاً أخذ الغاصب بنبشه منها، وإن كان فيه انتهاك حرمة الميت ثم إذا نبش ضمن أرش نقصها إن نقصت. فرع آخر لو قال مالك الأرض: أنا أقر الميت مدفوناً في الأرض إن ضمن لي نقص الأجرة بالدفن فيها ففي إجبار الغاصب على بذله وجهان أحدهما: يجبر على بذله حفظاً لحرمة الميت المتعدَّى هو بدفنه فيها، لا والثاني: يلزمه ذلك لأنه مدفون بغير حق. فرع آخر لو غصب أرضاً وزرع فيها زرعاً قلع الزرع والغلة لصاحب البذر، وإن كان غاصباً وعليه ما ذكرنا، وحكي عن أحمد ليس له قلع الزرع وصاحب الأرض بالخيار بين أن يدفع إليه ثمن البذر والبقعة وبين أن يقره في الأرض إلى أوان الحصاد بأجرة المثل وهذا غلط قياساً على الغراس، وإن كان قد غصب بذراً وبذره في أرض نفسه كان [30/أ] الزرع لصاحب البذر والغلة له وليس للغاصب عليه أجرة المثل. فرع آخر لو غصب شجرا فأثمرت ونقصت الثمار بأن شمسَّها فنقصت قيمتها يلزمه ما نقص، وإن تلفت رطباً يلزمه قيمتها، وإن تلفت بعد التشميس يلزمه مثلها ولا يلزمه الأجرة للشجرة، ولكن إن نقصت الشجرة يلزمه أرش النقص. فرع آخر لو غصب حيواناً وحلب لبنها فإن استهلك اللبن حليباً رد مثله، وإن كان قائماً فإن

كان حليباً رده بحاله، وإن حمض رده وما نقص، وأما أصوافها وأشعارها وأوبارها قال الشافعي: عليه مثلها إن كان لها مثل وقيمتها إن لم يكن لها مثل، وقال أبو حامد: ضمانها بالمثل لا غير كالقطن، ومن أصحابنا من قال: توقف الشافعي فيها والمذهب أنه لا مثل لها لأنها تختلف وتتباين فتضمن بالقيمة وهذا أظهر عندي. فرع آخر لو غصب بيضاً فحضنها دجاجةً له كانت الفراريج لصاحب البيض ووافقنا المزني في هذا وخالفنا في الحَبّ إذا زرع فقال: الزرع للغاصب ويلزمه مثله فنقيس على البيض، ومن أصحابنا من قال: فيهما وجهان وليس بشيء. فرع آخر لو غصب بذر الدود وربَّاه حتى صار دوداً وحصل القزّ منه كان القز لصاحبه ولا شيء له خلافاً لأبي حنيفة. فرع آخر لو غصب عصيراً فصار خمراً في يده رجح ببدل العصير. وهل له أخذ الخمر؟ وجهان قال أبو حامد: ليس له لوجوب إراقتها وإتلافها، وقال بعض أصحابنا: له أخذها لأنه قد ينتفع بإراقتها في طين أو سقي حيوان ذكره في "الحاوي". فرع آخر لو صارت خلاً في يد الغاصب رجح به المغصوب منه وفي رجوعه عليه بالقيمة وجهان كنقص المرض إذا زال أحدهما: يرجح بالقيمة لوجوبها عند مصيره خمراً، والثاني: لا يرجع بها لعدم استقرارها وهما مخرجان من اختلاف قوليه في عود السن بعد الذهاب ووجوب الأرش هل يوجب رد الأرش أم لا؟ فإذا قلنا: ترد القيمة ردها والخل فائدة [30/ب] مجددة في المالك ولا ينظر إلى نقصان قيمة الخل، وإن قلنا: لا ترد القيمة نظر، فإن كانت قيمة الخل مثل قيمة العصير أو أكثر فلا شيء على الغاصب سواه، وإن كانت قيمة الخل أقل من قيمة العصير فعليه رد ما نقص من قيمة العصير، وقال أبو حنيفة: إذا صارت خلا فالخل للغاصب وعليه مثل العصير. فرع آخر لو غصب منه تمراً فعمله دبساً أو سمسماً فعصره فللمالك أن يأخذه وما نقص فإن تركه بالغاصب وطالبه بالبدل فإن كان مما لا مثل له كالتمر اللصيق المكنوز بالبصرة رجع على الغاصب بما استخرجه من دبسه وليس له المطالبة بقيمة تمره، لأن أجزاء المغصوب أخص به من قيمته، وإن كان مما له مثل كالسمسم فيه وجهان أحدهما: أنه بمثابة ما لا مثل له في استرجاع ما استخرج منه، والثاني: المالك يستحق مطالبته بمثل الأصل لأنه أشبه بالمغصوب من أجزائه.

فرع آخر لو استهلك ما قد استخرجه من المغصوب، فإن لم يكن الأصل مثلياً ولم يكن المستخرج منه مثلياً كالتمر المكنوز إذا استخرج بالماء فالمالك يرجع بأكثر قيمته تمراً أو دبساً، وإن كان للأصل مثل وليس للمستخرج منه مثل كالحنطة إذا طحنها دقيقاً فللمالك أن يرجع بمثل الأصل من الحنطة ولا يرجع بقيمة الدقيق لأن مثل ذي المثل أولى من قيمته، ولو كانت الحنطة بعد الطحن زادت قيمتها دقيقاً استحق أن يرجع بعد أخذ المثل بقدر الزيادة في الدقيق كما لو غصب منه جارية فسمنت ثم ردها بعد ذهاب السمن ضمن نقص السمن الحادث في يده مع بقاء العين فلا يضمن نقص الزيادة مع استرجاع المثل أو لا، وإن كان الأمل مما لا مثل له والمستخرج منه مثل كالزيتون إذا اعتصره زيتأ فللمالك أن يضمنه مثل الزيت المستخرج والنقص إن حدث بالزيتون لأنه لما صار المغصوب ذا مثل كان المثل أولى من قيمة الأصل لتقديم المثل على القيمة، وإن كان للأصل والمستخرج مثل كالسمسم إذا اعتصره شيرجاً فالمالك بالخيار في الرجوع بمثل أيهما [31/أ] شاء من السمسم أو الشيرج لثبوت ملكه على كل واحدٍ منهما بعد الغصب فإن رجع بالسمسم وكان أنقص ثمناً من الشيرج فأراد نقصه لم يجز وقيل له: إن رضيت به وإلا فاعدل عنه إلى الشيرج ولا أرش لك، لأن عين مالك مستهلكة ولكل حقك مثلٌ فلا معنى لأخذ الأقل مع الأرش مع استحقاقك لمثل لا يدخله أرش. فرع آخر لا كانت دابة واقفة فجاء رجل وركبها ولم يسّير ولم ينقلها عن موضعها قال القاضي الطبري: لا أعرفها لأصحابنا والذي عندي أنه لا يضمنها لأن ضمان الغصب عندنا معتبر بضمان القبض في العقد والقبض في العقد في الدابة نقلها وتبديلها كذلك ها هنا، وكذلك إذا وضع يده على ثوب إنسانٍ بغير أمره لم يضمن، وقال بعض أصحابنا بخراسان: يضمن وهذا محتمل لأنه استولى عليها بأبلغ غايات الاستيلاء وثبتت يده عليها بذلك القدر. فرع آخر لو أن الغاصب دفع صاحب الصبرة عن صبرته أو صاحب المتاع عن متاعه فزال عنه لا ضمان ما لم ينقله، وان كان قد حال بينه وبين متاعه ذكره أصحابنا ويحتمل عندي وجهاً آخر يضمن. فرع آخر لو غصب داراً وفيها متاع ولم ينقله هل يصير غاصبا له؟ وجهان على قياس ما ذكرنا.

مسألة (¬1): قال: " ولو حفرَ فيها بئراً". الفصل وهذا كما قال: إذا غصب أرضاً فحفر فيها بئراً كان للمالك مطالبة الغاصب بطمّها فإذا فعل ذلك نظر، فإن لم يزدها ولم ينقصها أو زادت فليس على الغاصب إلا أجرة المثل، وإن نقصت فعليه أرش النقص وأجرة المثل من حين حفر إلى أن طمَّها وسوّاها إن كان لموضع البئر أجرة هكذا نص الشافعي، فإن كانت بحالها ولم يطالبه مالكها بطمها أو نهاه عن طمها كان ذلك له لأنه قد يقع فيها ما إذا تلف بها ضمنه وقد يكون نقل التراب إلى ملك نفسه أو ملك غيره أو طريق المسلمين، ولو قال له المالك: دع الطم وقد أبرأتك عن ضمان ما يتعلق بك بحفرها فهل له الطم؟ يبنى هذا على صحة البراءة وفيه وجهان: أحدهما: يبرأ لأنه يصير [31/ب] كأنه مأذون له في حفرها ولا فرق بين الإذن المقترن بوقت الحفر وبين الإذن الطارئ وهو الصحيح وبه قال أبو إسحاق والمزني وأبو حنيفة. والثاني: لا يبرأ لأنه إبراء مما لم يجب ولأنه إبراء عن حقوق سائر الناس وذلك لا يصح منه ومن قال بالأول أجاب عن هذا بأن الإبراء عما لم يجب يصح إذا وجد سبب وجوبه وسبب الوجوب ها هنا موجود وهو الحفر ولو لم يتلفظ بالإبراء ولكنه منعه من طمها قال أصحابنا: ينبغي أن يكون الحكم كما لو تلفظ به لأنه يتضمن رضاه به فإن قال قائل: لمَ قال الشافعي فإن أراد الغاصب دفنها فذلك له، وإن لم ينفعه ودفع الضمان نفع ولا يخلو دفنها عن دفع الضمان قلنا: مراده بيان النفع في الحال ولا نفع له في الحال بل ربما يتضرر ويحتاج إلى نفقةٍ وأعوانٍ وإنما ينفعه ذلك في الثاني لأنه بدفنها يصير أمنا من ضمانها. ولو وصل بالكلام فقال: وإن لم ينفعه في الحال كان كلامنا مستقيماً وقيل: معناه وإن لم ينفع المغصوب منه وللغاصب غرضٌ فيه على ما ذكرنا فإذا قلنا: لا يبرأ كان الحكم كما لو لم يبرئه وإذا قلنا: يبرأ برئ من ضمانها ثم ينظر، فإن كان له غرض في طمها مثل إن كان طرح ترابها في ملك نفسه أو ملك غيره والغير يطالبه بنقله أو يخاف أن يطالبه وإن لم يطالب بعد أو كان في طريق المسلمين كان له طمها لأن له غرضاً فيه، وإذا رد التراب ها هنا فليس له أن يبسطه على وجه الأرض إذا قال المالك: لا تبسطه وألقه في جانب من الأرض، ولو كان له عين مال من طوبٍ وخشبٍ له نزعه وان انهار البئر ثم يلزمه طمها، فإن قيل: أليس إذا خرق الثوب ليس له رفؤه لا بتلك الخرقة بعينها ولا بخرقة من عند نفسه فكذلك وجب أن لا يجوز له طم البئر؟ قلنا: الفرق أن ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 40)

الثوب بالرفؤ لا يعود إلى الذي كان لأن المرفوء يخالف الصحيح ويدخل عليه خيطاً أو خرقة من عنده وفي الأرض يعود بالطم إلى ما كانت فافترقا. مسالة (¬1): قال: "وكذلك لو زَوَّقَ [32/ب] داراً كان لهُ نزعُ التزويق حتى يردَّ ذلك بحاله". وهذا كما قال إذا غصب داراً فجصَّصها أو زوقها كان لصاحب الدار مطالبته بنزع التزويق ورد الدار إليه لأنه شغل مال نفسه بملكه فكان له مطالبته بنقله، ولو قال المالك: لا تذع التزويق، وقال الغامب: أريد نزعه كان له لأنه عين ماله، ولا فرق بين أن ينتفع به أو لا ينتفع لأن من له عين مالٍ فله أخذه، وإن لم يكن له فيه منفعة هكذا ذكر عامة أصحابنا، وقال بعض أصحابنا بخراسان: إنما له نزعه إذا كان له غرض صحيح في نزعه مثل أن يعلم أنه بنزعه يصل إلى شيء من أعيان ماله التي استنفقها في تزويقها أو كان في التزويق معاليق يخشى انقطاعها وسقوطها على الناس ولحوق الضمان به كما يخشى في البئر، فأما إذا لم يكن له غرض محيح وتيقن أنه لا يصل إلى عين ملك ولا يأمن به من ضمان لا يمكن من إفساد ما زوّق، ثم إذا نزع التزويق نظر، فإن لم ينقص قيمة الدار عما كانت عليه قبل التزويق فلا يلزمه إلا الأجرة من حين القبض إلى حين الرد، وإن كانت ناقصةً عما كانت عليه فعليه أجرة المثل وأرش النقص معاً وإن امتنع الغاصب من إزالة ذلك ووهب أعيان ماله فيها لمالكها هل يجبر المالك على قبولها؟ وجهان: أحدهما: لا يجبر كما لو وهب له جصاً منفصلاً عن ملكه لا يلزمه قبوله. والثاني: يلزمه قبوله ويجبر عليه لأنه متصلٌ بملكه فيجري مجرى الآثار كغسل الثوب وقصارته، ولو زوق وطَّين بآلةٍ من ملك صاحب الدار ليس للغاصب إتلافه بحالٍ ونقل بعض المتقدمين لو روق بالراء غير معجمٍة من الرواق وحكمه حكم البناء وقد ذكرنا. مسألة (¬2): قال: "وكذلك لوْ نقلَ عنها تراباً كان لهُ أن يردَّ". الفصل وهذا كما قال: إذا نقل التراب عنها مثل إن قشط التراب عن وجهها وحوله عنها فلمالكها مطالبته برد ترابها إليها، فإن كلفه أن يفرشه فيها كالذي كان فله ذلك، وإن كلفه أن يردها إليها ويتركه كالقبة [30/أ] ولا يفرشه فيها وأبى الغاصب إلا أن يفرشه فيها نظر، فإن كان له غرض في ذلك بأن كان فيها حفر فخاف أن يعثر عاثرٌ بها فيقع ويتلف كان له فرشه فيها، فإذا فعل ذلك نظر، فإن زادت الأرض بذلك أو لم تزد ولم ينقص فعلى الغاصب أجر المثل لا غير مدة شغل الأرض برد التراب إليها، وإن كانت ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 40) (¬2) أنظر الأم (3/ 40)

مردودة على صاحبها وإن نقصت فعليه أرش النقص والأجرة معاً، وإن قال صاحب الأرض: لا أدعه يرد التراب إليها، وقال الغاصب: لا بد لي من الرد كان للغاصب أن يرده لأن له في ذلك غرضاً صحيحاً وهو أن يكون نقل التراب إلى أرض نفسه أو إلى أرض غيره غصباً أو إلى طريق المسلمين، وإن كان قد نقله إلى أرض المغصوب منه ليس له رده إليها لأنه لا يخاف منه تبعة في الثاني، وهكذا لو نقله إلى أرض موات ولو قال المالك: انقل التراب كله إلى الجانب الأقصى من الأرض لم يلزم الغاصب ذلك بل يلقيه حيث رفع ويسوي الأرض. وقال المزني: ليس للغاصب طم البئر ورد التراب إلى الأرض لأن هذا أثر لا عين والآثار لا حق فيها للغاصب لأن ذلك مضرة على أخيه بما لا منفعة له فيه فلم يجز له وهو بمنزلة أن يغصب نُقرةً فطبعها دراهم أو غزلاً فنجه ثوباً أو طيناً فضربه لبناً لا يكون له نقصه ورده إلى حاله، كذلك ها هنا قلنا: المنفعة التي ذكرناها في دفن البئر منفعة ظاهرة وهي أن تسلم من الضمان في المستقبل مثل هذه المنفعة لا يوجد في نقص المنسوج وإفساد الطبع ورد اللبن إلى الطين وعلى هذا لو كان ضرب النقرة أنقص من غيار السلطان له نقضه ورده إلى حاله لأن له فيه غرضاً صحيحاً وهو أن يخرج من خوف السلطان فإن أقل ما فيه أن يُضرب على طريق التعزير ومن أهل العلم من جعل فيه القطع فكان له نقضه ورده إلى حاله حتى لا يظهر أمره، وإن كان بعيار السلطان لم يكن له ذلك لأنه لا غرض حتى لو كان يخاف من العقوبة على هذا أيضاً لأن الضرب إلى السلطان [33/أ] كان له نقضه، وأما في رد التراب إليها غرض صحيح على ما ذكرنا حتى لو نقل التراب إلى صحراء لا حق لأحد فيها، وقال المالك أبرأتك من ضمان التراب ليسر له الرد. فرع لو نقل عنها تراباً وأتلفه يلزمه رد مثله لأن للتراب مثلا فإن لم يقدر على المثل لأنه من تربة ليس في الناحية مثلها ضمن القيمة وفيها وجهان أحدهما: تقوَّم الأرض وعليها ذلك التراب ثم تقوم بعد أخذه منها ويضمن ما بين القيمتين، والثاني: يضمن أكثر الأمرين من هذا أو من قيمة التراب بعد نقله عن الأرض. فرع آخر لو غصب أرضاً وقلع منها شجراً والشجر باق ففي كيفية ضمانه ثلاثة أوجه أحدهما: يضمن ما بين قيمة الشجر قائماً ومقلوعاً لأنه متعدَّ على الشجر، والثاني: يضمن ما بين قيمة الأرض ذات شجر قائم وما بين قيمتها والشجر مقلوع فيها لأن تعديه قد سرى إلى الأرض، والثالث: يضمن أغلظ الأمرين لاجتماع العلتين في تغليظ الغصب، ولو استهلك الشجر حين قلعه فضمانه على الأوجه الثلاثة فعلى الوجه الأول يضمن قيمة الشجر قائماً، وعلى الوجه الثاني يضمن ما نقص من قيمة الأرض بقلع الشجر، وعلى

الوجه الثالث: يضمن أغلظ الآمرين. فرع آخر لو غصب أرضاً وطرح فيها تراباً فزادت قيمتها به ولا يمكن نقلها لاختلاطها وبسطها فيه فإن كان نجساً كالأرْواث والكسايح النجسة فلا شيء للغاصب فيها، وإن كان طاهراً فيه وجهان أحدهما: أنه مستهلك لا شيء له فيه لاستهلاكه إياه بنفسه فيما لا يتميز عنه، والثاني: يكون شريكاً في ثمن الأرض بقدر ثمن التراب كما نقول في صبغ الثوب بصبغ من عنده. مسألة (¬1): قال: "ولو غصبَ جاريةً فهلكتْ فقال الغاصبُ: ثمنها عشرة". الفصل وهذا كما قال: إذا غصب جاريةُ أو عبداً أو غيره فتلف في يده قد ذكرنا أنه تلزمه قيمته أكثر ما كانت من حين القبض إلى حين التلف، وقال أبو حنيفة: تلزمه قيمتها يوم الغصب [33/ب] لأن ما زاد فيها لا يصير مغصوباً، وقال أحمد: يعتبر قيمتها يوم التلف لأن زيادة السوق لا تضمن مع بقاء العين فكذلك بعد التلف وهذا غلط لأنه مخاطبٌ بردها في كل وقت، فإذا فات الرد ضمنها بقيمتها في جميع زمان وجوب الرد، فإذا تقرر هذا لو اختلف الغاصب والمالك في قدر قيمتها فالقول قول الغاصب لأنه غارم والقول في الأصول قول الغارم لأن الأصل براءة الذمة فإن حلف برئ، وإن نكل عن اليمين ردت اليمين على المالك فإن حلف استحق ما يدعيه من القيمة، فإن قيل: أليس قلتم: لو أعتق شقصاً من عبدٍ واختلف هو والشريك في قدر قيمة نصيب الشريك الذي سرى إليه العتق القول قول الشريك الذي لم يعتق، وإن كان الغارم هو الشريك المعتق قيل: متى يسري العتق؟ فيه أقوال: أحدهما: يسري باللفظ فعلى هذا القول قول المعتق لأنه غارم. والثاني: يسري باللفظ ودفع القيمة. والثالث: أنه موقوف على أداء القيمة فعلى هذين القولين القول قول الشريك الذي لم يعتق لأنا لا نزيل ملكه إلا بما يقوله ولهذا نقول: المشتري والشفيع إذا اختلفا في مقدار الثمن كان القول قول المشتري لأنا لا نزيل ملكه عما اشتراه إلا بما يقر به. فرع لو حلف الغاصب ثم أقام المالك بينةً أن القيمة ما ادعاه فالبينة العادلة أولى من اليمين الفاجرة. فرع آخر لو أقام المالك شاهدين فشهدا أن قيمته كانت ألفاً قبل الغصب لم يحكم بها، وقال ¬

_ (¬1) انظر الأم (7/ 41).

بعض أصحابنا: يصير لأجل هذه البينة القول قوله المالك مع يمينه لأن الأصل بقاء هذه القيمة ما لم يعلم نقصها وهذا غلط لأن ما قبل الغصب غير معتبر والبينة فيه غير مسموعة، ولو اعتبر هذا لكان القول قوله بلا يمين. فرع آخر لو شهدت البينة أن قيمتها أكثر من مائة فهي شهادة بالمجهول هل يقبل؟ وجهان وقيل: نص الشافعي أنها لا تقبل لأنها شهادة بالمجهول. [34/أ]. فرع آخر لو ادعى الغاصب أن قيمتها خمسمائة، وقال المالك: ألف فشهد شاهدان أن قيمتها أكثر من خمسمائة ولم يقولا: قيمتها ألفٌ تقبل هذه الشهادة حتى لا يقبل يمين الغاصب ما لم يقر بزيادة على خمسمائة فإن قال: بل ستمائة وشهد الشاهدان بأنها أكثر من ستمائة طالبنا الغاصب بزيادةٍ على ذلك وهكذا أبداً. فرع آخر لو لم يقم بينة على قيمته ولكن أقام شاهدين على صفات المغصوبة التالفة بأنها كانت تزكية حسناء صفتها كذا وقيل: إن كانت بهذه الصفات تكون قيمتها أكثر مما قال الغاصب قال في "الأم": لا تقبل هذه الشهادة ولا يسقط قول الغاصب بذلك لأنه يجوز أن يعلم الغاصب بها داء ينقص قيمتها به مع وجود هذه الصفات المشهودة بها ولأن اختلافهما في القيمة لا في الصفة فلم تسمع البينة في غير ما اختلفا فيه، ولأن الجاريتين قد تتفقان في هذه الصفات ولكن تتفاوتان في دقائق الصفات من العقل وخفة الروح وحسن النطق ولا يمكن التقويم عليها وإنما يمكن ذلك على المشاهدة، فإن كان الشاهدان مقوَّمين يقبل قولهما إذا قالا: صفتها كذا وقيمتها كذا ولو شهدا بالقيمة دون الصفة كفى ذلك، فإن قيل: إذا كان الوقوف على كيفية الجارية بالوصف لا يمكن لم جوَّزتم السلم فيها قيل: الأمر في باب السلم أوسع، ألا ترى أنه يكفي في السلم أن يعطيه أقل ما يقع عليه اسم ذلك الموصوف وفي الإتلاف لا يكفي ذلك. فرع آخر لو أقر الغاصب بالأوصاف وادعى مع ذلك أن قيمتها خمسمائة ويعرف أن الجارية بتلك الصفة تُسوى ألوفاً لا يقبل قوله لأنه غير ممكن ذكره القفال. فرع آخر لو قال المالك: لا أدري كم قيمة مالي، وقال الغاصب: لا أدري قلنا للمالك: لا بد من أن تبين قدراً: واتق الله فلا تدَّح إلا القدر المتيقن فإن بين قدراً قلنا للغاصب: لا بد لك من أن تقر به أو تدعي أقل من ذلك فيكون القول قولك ولا نرضى منك بقولك لا أدري.

فرع آخر لو قال [34/ب] صاحب الجارية: كانت طباخةً أو قوالةً أو صناعةً وكانت قيمتها ألفين، وقال الغاصب: لم تكن كذلك وكانت قيمتها ألفاً فالقول قول الغاصب لأن الأصل عدم هذه الصفات والمالك يدعي حدوثها، ومن أصحابنا من قال: فيه وجه آخر القول قول المالك لأنه أعرفه بملكه وليس بشيء. فرع آخر لو قال الغاصب: كانت عمياء أو عوراء أو آبقة أو سارقة أو بها داء فكانت قيمتها كذا وأنكر المالك فالقول قول المالك لأن الأصل عدم هذه الصفات وهو المنكر واليمين في جانب المنكر، ومن أصحابنا من قال: القول قول الغاصب لأنه غارمٌ وقيل: فيه قولان وقيل قول واحد وهذا الثاني ليس بشيء، وقال القفال: إن كانت ختت هكذا إلا أنه حدث بها فالقول قول الغاصب، وإن قال: حدث قبل غصبي بها عوراً ونحوه فيه قولان أحدهما: القول قول الغاصب لأن الأصل براءة الذمة، والثاني: القول قول المالك لأن الأصل أن لا حدوث فقد اجتمع ها هنا أصلان. فرع آخر لو غصب عبداً فعور ثم اختلفا فقال الغاصب: عور قبل الغصب، وقال السيل: بل بعد الغصب فالقول قول الغاصب لأنهما يختلفان في وقت قبض العين والأصل عدم القبض، كما لو دفع إلى قصَّارٍ ثوباً فرد عليه ثوباً وقال: هذا ثوبك وأنكر المالك فالقول قول القصار لأن المالك يدعي عليه قبض غير هذا الثوب وهو ينكره فالقول قوله. فرع أخر لو قال المالك: هذا المغصوب يأتي في يدك، وقال الغاصب: قد تلف فالقول قول الغاصب ثم فيه وجهان أحدهما: لا شيء عليه للمالك ما لم يصدقه على تلفه، لأنه لا يدعي القيمة وقد حلف الغاصب على تلف العين، والثاني: عليه القيمة للمالك لأنه، وإن كان منكراً للتلف فيمين الغاصب مانعة من القدرة عليه فصار كالآبق يلزم الغاصب قيمته مع بقاء عينه. مسألة: قال (¬1): "وما كانَ لهُ كيلٌ فعليه مثلُ كيله". الفصل وهذا كما قال: قد بينا أن المثليَّ يضمن بالمثل والمماثلة معتبرة بالكيل في المكيل وقد ذكرنا في كتاب البيع [35/أ] إذا أتلف على رجل طعاماً ببلدٍ ثم لقيه ببلدٍ آخر كيف يطالب؟ فلا معنى للإعادة. ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 41).

مسألة: قال (¬1): " ولو كان ثواباً فصيغه فزاد في قيمته". الفصل وهذا كما قال: إذا غصب ثوباً فصبغه لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون الصبغ من عند الغاصب، أو من عند غيره فإن كان من عنده لم يخل من ثلاثة أحوال إما أن يزيد، أو ينقص، أو لا يزيد ولا ينقص فإن لم يزد ولم ينقص مثل إن كانت قيمة الثوب عشرة وقيمة الصبغ عشرة وكانا بعد الصبغ بقيمة عشرين فهما شريكان هذا بثوبه وهذا بصبغه ولا ضمان على الغاصب لأن الثوب ما زاد وما نقص وفيه بعد هذا مسائل وهي إن اختاراً أن يكون الثوب بحاله لهما فعلا، وإن اختارا بيعه كان الثمن بينهما نصفين، وإن أراد الغاصب إزالة الصبغ عن الثوب كان له ثم إذا أزاله نظر، فإن زادت قيمة الثوب أو لم تزد ولم تنقص فلا شيء له ولا عليه وإن نقصت فعليه ما نقص وإن اختلفا وتنازعا فقال صاحب الثوب: يباع الثوب، وقال الغاصب: أنزع الصبغ فللغاصب نزعه لأنه عين ماله، ولو قال صاحب الثوب أنزع الصبغ، وقال الغاصب: يباع اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: يجبر على نزع الصبغ كما يجبر على قلع الغراس والبناء في الأرض المغصوبة وبه قال ابن خيران وأبو إسحاق وهذا لأن الغاصب متعدَّ بصبغه فلا يستحق بتعديه إزالة ملك رب الثوب عن ثوبه، ومنهم من قال: لا يجبر عليه لأنه إذا قلعه لم ينتفع به ولا يجبر على استهلاك ماله وبه قال ابن سريج وهو ظاهر المذهب لأن الشافعي قال: إن شئت فاستخرج الصبغ، وإن شئت فأنت شريك فجعله إلى اختيار الغاصب ولم يجبر على نزعه والفرق بينه وبين البناء والغراس أنه ينتفع بمقلوع البناء والغراس بخلاف هذا. وقال أبو حنيفة: إن كان الصبغ سواداً لا شيء للغاصب فيه ورب الثوب بالخيار بين أن يأخذه ولا شيء عليه للصبغ وبين أن يسلمه إلى الغاصب ويأخذ منه قيمته، وإن كان [35/ب] حمرةً أو صفرةً فهو مخير بين أن يأخذه وعليه قيمة الصبغ وبين أن يعطيه الغاصب ويأخذ منه قيمة الثوب، واختلف أصحابه لم خصَّ السواد بإسقاط قيمته فقيل لما فيه من إتلاف أجزاء الثوب، وقال بعضهم: إنما قاله في آخر الدولة الأموية حين كان السواد نقصاناً مذموماً. فأما بعد أن صار شعار الدولة العباسية وزيادة في الثوب على غيره من الألوان فلا، وهذا ضعيف وتعليلُ لا يختص بالسواد لأن من الألوان ما يكون نقصاناً تارةً وقد يكون زيادة أخرى فاقتضى أن يكون التعليل عاماً في اعتبار النقص وزيادته ولا يكون مختصاً بالسواد، وإن قال الغاصب: لا أختار أن أكون شريكاً فيه ولا أنزع الصبغ ولكني أهبه لصاحب الثوب هل يجبر على قبوله؟ وجهان: ¬

_ (¬1) انظر الأم (3/ 41).

أحدهما: يجبر على قبوله وهو ظاهر قوله في "الأم" لأنه قال: لو غصب ساجة وشقَّها ألواحاً وأصلحها أبواباً وسمر فيها مسامير من عنده ثم رد الأبواب على مالكها ووهب له ما فيها من المسامير لزمه قبول ذلك. والثاني: لا يجبر عليه لأنه لا يجبر الإنسان على قبول هبة العين ابتداء وجملة ما يهب الإنسان لغيره ثلاثة أحدهما: أن يكون عيناً متميزةً عن ماله فلا يجبر على قبولها قولاً واحداً، والثاني: أن يهب له منفعة متصلة بماله فيجبر على قبولها كالسمن والتعليم عند رجوع الزوج في نصف الصداق، والثالث: أن يهب عيناً متصلةً بماله كمسألتنا والغراس في الأرض المغصوبة إذا وهبه من المالك على هذا الاختلاف وكذلك الأبواب المسمرة إذا ردها ووهب منه المسمار هل يجبر على قبولها على هذا الخلاف وإن أراد المالك أخذ الثوب مصبوغاً ولا يضمن للغاصب شيئاً نص في القديم على تولين أحدهما: له ذلك كما لو كان ثوباً فقصره وهذا لأنه صار صفةً لا يمكن تمييزه من ملكه والثاني ليس له ذلك لأن له عين مالٍ فيه وهذا هو المذهب والقول الأول ليس بشيء وقيل: إنه رجع عنه. ولو قال المالك: ادفع قيمة الصبغ إلى الغاصب [36/أ] ليكون لي الثوب مصبوغاً وامتنع الغاصب لا يجبر عليه كما قلنا في النخيل في أرضه إذا قال: ادفع قيمة النخيل لا يجبر على قبوله. وقال في "القديم": له ذلك ويجبر الغاصب على قبوله لأنه صار صفةً له بخلاف النخيل وإن زاد ذلك فبلغ قيمته ثلاثين لم تخل الزيادة من أحد أمرين إما أن يكون لاجتماع الصبغ والثوب أو لزيادة السوق فإن كان لاجتماع الصبغ والثوب فالزيادة بينهما نصفين وفيه المسائل التي ذكرناها، ويفارق المفلس إذا صبغ الثوب الذي قيمته عشرة بصبغ تسوى عشرة فبلغت قيمته ثلاثين فالزيادة كلها للمفلس توزع على غرمائه لأنه تصرف في ملكه فالزيادة على قيمة الثوب والصبغ حصلت في ماله وها هنا الملك لهما، وعلى هذا لو كانت قيمة الثوب عشرة وقيمة الصبغ خمسة فصارت قيمته ثلاثين تقسم على الثلث والثلثين، وإن كانت الزيادة لأجل السوق نظر، فإن كانت السوق زادت فيهما سواء فالزيادة بينهما والحكم فيه كما لو لم يزد ولم ينقص، وإن كانت السوق زادت في أحدهما: كانت الزيادة لمن زادت سلعته ينفرد بها وإن نقص نظر، فإن بلغ بعد الصبغ قيمته خمسة عشر فالنقصان على الغاصب وحده ويكون الثوب بينهما لرب الثوب الثلثان وللغاصب الثلث وفيه المسائل التي ذكرناها وإن بلغت بعد الصبغ عشرة فلا شيء للغاصب ولا يجيء ها هنا بيع الثوب لأنه ليس للصبغ قيمة ولا هبة الصبغ أيضاً لأنه مستهلك فإن أراد قلع الصبغ وعليه ما نقص كان ذلك له، وإن نقصت عن العشرة فعلى الغاصب ما نقص، ولو أراد قلع الصبغ ها هنا له ذلك أيضاً. وقال المزني: هذا نظير ما مضى في نقل التراب ونحوه وأراد به أن الصبغ وإن انمحق ولم تزد قيمة الثوب به لا يجوز له نزعه من الثوب كما قال في البئر لا يجوز له

طمها قال أبو إسحاق: وخطأ المزني ها هنا أظهر لأن الصبغ عين مال الغاصب ومن له عين مالٍ فله أخذه انتفع به أو لم ينتفع ولأنه ربما ينتفع به في صبغ ثوب آخر إذا أمر [36/ب] الصبغ بهذه العصارة المستخرجة من هذا الثوب والمسألة مصوَّرة حيث يقدر على الاستخراج، وإن كان الصبغ لغير الغاصب نظر، فإن كان لرب الثوب فقد خلط مالَه بمالِه فإن لم يزد ولم ينقص أو زاد فلا شيء على الغاصب والكل له، وإن نقص فعلى الغاصب ضمان ما نقص، ولو أراد المالك أن يأخذه من غير تقويم له ذلك لأنه لا فائدة في التقويم إذ لا حق فيه لغيره، وإن أراد التقويم ليعرف النقصان فله ذلك ولا أجرة له بحال بما لحقه من المؤونة كما لو أغلى زيتاً بالنار ردَّه ولا شيء عليه لثمن الحطب، وإن كان الصبغ لزيد والثوب لعمرو نظر، فإن لم يزد ولم ينقص فالثوب بين رب الثوب والصبغ نصفان وإن زاد بذلك وكانت الزيادة لاجتماع الصبغ مع الثوب فالحكم على ما مضى. وقال أصحابنا إذا قلنا: لصاحب الثوب إجبار الغاصب على قلع الصبغ إذا كان الصبغ له فها هنا أيضاً لصاحب الثوب قلعه وعلى الغاصب نقصانه، وإن كانت الزيادة لزيادة السوق نظر، فإن كانت فيهما بالسوية فالحكم على ما ذكرنا، وإن كانت السوق زادت في أحدهما: فالزيادة لمن زادت قيمة سلعته وحده، وإن نقصت عن عشرين فالنقصان في حق صاحب الصبغ وحده ويكون الثوب بينهما على ما ذكرنا. وهذا لأن قيمة الثوب كانت عشرة وفي الصبغ بفعل الغاصب حصل النقصان فكان محسوباً عليه. مسألة (¬1): قال: "ولو كانَ زيتاً فخلطَهُ بمثله". الفصل وهذا كما قال: إذا غصب صاعا من زيت فخلطه فيه خمس مسائل ذكرها في "الأم" إحداها: أن يخلطه بزيت خير منه. والثانية: أن يخلطه بمثله، والثالثة: أن يخلطه بدونه، والرابعة: أن يخلطه بجنس أخر من الأدهان كالشيرق والبان وغيرهما، والخامسة: أن يخلطه بالماء. فأما الأولى إذا خلطه بزيت خير منه مثل إن غصب صاعاً قيمته درهمان فخلطه بصاع قيمته أربعة فهل يكون كالمستهلك أم لا؟ قال: ها هنا يكون كالمستهلك لأنه قال: الغاصب بالخيار [37/أ] إن شاء أعطى بعينه من عينه ويكون متبرعاً بالجودة: وإن شاء أعطى من غيره مثل مكيلته قال أبو إسحاق: وإنما خَّيره بينهما لأنا لو أجبرناه على أن يعطيه من عينه لأضررنا بالغاصب فإن زيته أجود من زيت المالك، وإن أجبرناه على أن يعطيه من عينه ويرجع عليه بما بين القيمتين لكان رباً لأنه يدفع مكيلة زيتٍ ويأخذ مكيلةً أخرى مثلها وشيئاً من الدراهم وهذا رباً وإن قلنا: يأخذ من الجيد بمقدار قيمة زيته لكان رباً أيضاً وهذا هو المذهب، وقال في كتاب "التفليس" ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 42).

إذا اشترى زيتاً فخلطه بخيرٍ منه فيه قولان أحدهما: أنه يجعل كالمستهلك، والثاني: لا يجعل كالمستهلك فيكونان شريكين فمن أصحابنا من قال: ها هنا أيضاً قولان قال أبو إسحاق: وهذا محتمل في النظر ولكن الشافعي لم يومئ إليه. ومن أصحابنا من قال: في الغصب قول واحد أنه كالمستهلك، والفرق بينه وبين المفلس أن هناك لا يمكنه الرجوع إلى كمال حقه إذا ضارب الغرماء فجعل شريكاً فيه، وها هنا يرجع في بدله وهو كمال حقه ثم إذا قلنا: إنه لا يجعل كالمستهلك فوجهه أن عين ماله موجودة مختلطة بغيره ولا يتميز عنه وكانا شريكين كما لو اشتريا صاعين معا وعلى هذا فيه قولان: أحدهما: يباعان ويقسم الثمن بينهما. والثاني: تقسم العين بينهما على قدر القيمتين وأخذ من هذا الزيت المختلط ثلث الصاعين لأن المالك لا يجبر على بيع ملكه ولا يؤدي هذا إلى الرّبا لأن الربا يدخل في البياعات ولم يجبر بين الغاصب والمغصوب في هذا بيع وإنما هو تارك إليه بعض المكيلة مشاعاً والأول اختيار أبي إسحاق، وأما الثانية إذا خلطه بمثله فظاهر النص ها هنا يدل على أنه كالمستهلك أيضاً، واختلف أصحابنا في هذا فقال ابن سريج وأبو إسحاق: ها هنا لا يجعل كالمستهلك قولاً واحداً ويرجع المالك إلى عين ماله وهو قدر مكيلته من هذه الجملة والشافعي جمع بين المسألتين [37 /أ] ها هنا ورجع جوابه إلى الخلط بالخير دون الخلط بالمثل وكثيراً يفعل الشافعي ذلك، وقال غيرهما: هذا خلاف مذهب الشافعي لأنه أجاب عن المسألتين وفصَّل ذلك في "الأم" (¬1) فقال: وإن خلطه بمثله قيل للغاصب: إن شئت أعطيته مكيالاً من هذا الزيت لأنه غير مزدادٍ على حقه ولأنه لا يتميز زيته من زيتِه فيصير كالمستهلك فعلى هذا الخلط بالمثل كالخلط بالخير على ما ذكرنا ومن قال بالأول أجاب عن هذا بأنه يمكن ها هنا إجباره على إعطائه من عينه لأنه لا يؤدي إلى الضرر بالغاصب فأجبرناه، وأما الثالثة إذا خلطه بأردأ منه فالمنصوص ها هنا أنه كالمستهلك. ومن أصحابنا من قال: يكون شريكاً فيه ولا يكون كالمستهلك، وقول الشافعي وإن خلطه بشرَّ منه أو صبَّه في بانٍ جوابه يرجع إلى مسألة واحدٍة وهي الصب في البان فإن قلنا: يكون شريكاً فيه يباع لهما ولكل واحد منهما من الثمن بحصة زيته، وفيه قول آخر تقسم الجملة بينهما على قدر القيمتين ولا يؤدي إلى الربا على ما ذكرنا وإذا قلنا: إنه مستهلك فحقه في ذمة الغاصب فعلى الغاصب أن يعطيه مثله من غيره فإن أراد أن يعطيه صاعاً من عينه لم يجبر المالك عليه لأنه دون حقه، وإن طالبه المالك بصاع من عينه لم يجبر الغاصب عليه، وإن كان المالك رضيَ بدون حقه وإن اتفقا على ذلك جاز، وان أراد أن يعطي منه زيادةً بقيمة زيته لم يجبر لأنه رباً. ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 225).

وقال القاضي الطبري: نص الشافعي أن المالك بالخيار إن شاء أخذ منه محل مكيلته ولا شيء له غيره لنقصان قيمته ويجبر الغاصب على هذا، وإن شاء طالبه بمثل زيته وهذا أصح. وأما المسألة الرابعة إذا خلطه بغير جنسه فإن كان مما يتميز عنه كالعسل يؤخذ بتمييزه ويلزمه أرش ما نقص من قيمته ومثل ما نقص من مكيلته، وإن كان لا يتميز كالشيرج والبان فهو كالمستهلك بلا خلافٍ لأن تمييزه لا يمكن ولا يجوز أخذه منه لأنه مختلط بغير جنسه فيلزمه [38 /أ] أن يغرم مثل مكيلة زيته، وإن اتفقا محلى أخذ قدر مكيلته منه جاز لأن له أن يأخذ بدل حقه بما يتفقان عليه. ومن أصحابنا من ذكر فيه وجهاً آخر أنهما يكونان شريكين فيه بقدر القيمة وهذا ضعيفٌ لأن الخلط ها هنا ينقص من كل واحد منهما بخلاف الزيتين إذا خلط الجيد بالرديء لأنه ينقص الجيد ويزيد الرديء فيكونان شريكين فيه، فإن قلنا بهذا الوجه الضعيف فطلبه القسمة ليأخذ ثلث الجملة فإن زيته كان يُسوى خمسةً وخلطه بما يُسوى عشرة فإن قلنا: القسمة بيع لا يجوز لأن اختلاط الزيت بغيره مفضي إلى التفاضل وإن قلنا: القسمة تمييز نصيبٍ جاز. وأما الخامسة إذا خلطه بالماء أو بشيء يتميز عنه قال الشافعي: إذا أمكن تمييزه حتى يحصل زيته لا ماء فيه ولا ينقص مخالطة الماء إياه أجبر المغصوب منه على قبوله ويجبر الغاصب على تمييزه وإن لحقه مؤونة وإن قيل: مخالطة الماء إياه تنقص قيمته فإن كان قد تناهى نقصانه أخذه وأرش النقصان، وإن لم يتناه نقصانه فيه قولان: أحدهما: المالك بالخيار إن شاء أخذه وأرش ما نقص من قيمته على أنه إذا نقص بعده شيء أخر أقام البينة عليه وأخذه، وإن شاء طالبه بمثل مكيلة زيته من غيره. والثاني: حكاه الربيح يعطيه هذا الزيت بعينه وما نقصه الماء كالحنطة إذا عفنت عند الغاصب ردها وأرش ما نقص بالعفونة وليس له المطالبة بمثل زيته من غيره لأن عين ماله موجودة متميزة فلا يملك المطالبة ببدلها. ومن أصحابنا من قال: المسألة على قول واحدٍ والذي حكاه الربيع من كيسه وذلك لأن النقص ها هنا لم يستقر ويُخشى زيادته كل يوم ولا ندري قار ما يزيد حتى نوجب أرشه ويؤدي إلى التنازع أبداً وقد يؤول إلى الهلاك بفعل الغاصب فيجعل في الحال كالهالك فيرجح بمثله بخلاف الحنطة إذا عفنت لأن نقصانها مستقر متناهٍ، ومن أصحابنا من قال: أحد القولين ها هنا أنه يجعل كالمستهلك ويجب عليه بدله، ولو اختار الرجوع [38/ب] إلى هذه العين وبما ينقص كل يوم لا يجبر الغاصب عليه، وقال بعض أصحابنا بخراسان: أحد القولين أن المالك بالخيار بين أن يترده ويضمنه ما نقص إلى الآن ولا شيء له في زيادة نقصان توجد بعده وبين أن يتركه به ويرجع بمثله وما تقدم أصح من هذين الطريقين. فرع لو غصب حنطةً فخلطها بحنطةٍ فالحكم فيه كما ذكرنا في الزيت إذا خلطه بأجود منه

أو بمثله أو بأردأ، وإن خلطها بشعير أو غير ذلك من الحبوب يلزمه تمييزها، وإن شق ولزمته مؤونة بذلك كما لو غصب طعاماً وحمله إلى بلد آخر لزمه رده إليه، وإن لزمته مؤونة عظيمة فيه، وكذلك لو خلطه بجنسه ولكنه يمكنه التمييز مثل صغار الحب بكبار الحب والبيضاء بالسمراء. فرع آخر لو غصب ألف درهم وخلطه بألف آخر غصبه من آخر ولا يتميز وهما سواء فيه وجهان أحدهما: يقسم بينهما، والثاني: هما بالخيار بين القسمة وبين مطالبة الغاصب بالمثل كما لو كانا مختلفين. فرع آخر لو غصب حنطةً فزرعها وهي بذر بعد وجمعها ممكن يلزمه جمعها وردها على قياس ما ذكرنا، وقال في "الحاوي" (¬1) إن قلت: مؤونة جمعها فللمالك أن يطالبه بجمعها وردها، وإن كان يكثر مؤونة جمعها فيه وجهان، وكذلك لو غصب حنطةً في بلد فنقلها إلى غيره هل يكلف الغاصب نقلها ورد عينها أو يجوز له رد مثلها؟ وجهان أيضاً. فرع آخر لو لم يمكن جمعها فالمالك بالخيار بين أن يطالبه بمثلها وبين أن يصير إلى نباتها وإمكان أخذها فإن أخذ المثل ملك المثل وزال ملكه عن البذر فإذا نبت لا حق له فيه لزوال ملكه عنه بالمثل، وإن صبر إلى نباتها وإمكان أخذها فذلك له لبقائها على ملكه فلو تلف الزرع في الأرض قبل أخذه فإن كان تلفه قبل إمكان أخذه في حال كونه حباً فنقله النمل أو بعد أن نبت على حدٍ لا يمكن أخذه فأكله الدود فعلى الغاصبه ضمانه بالقيمة دون المثل في أكثر أحوالها لأن إعواز [39/أ] أخذه قبل التلف بتعديه، وإن كان تلفه بعد إمكان أخذه بقلاً ذا قيمةٍ فالغاصب بريء من ضمانه لأنه بالترك بعد المكنة من الأخذ قاطع لتعدي الغاصب، وإن كان البذر صار بقلاً ذا قيمةٍ يمكن أخذه فإن رضي بأخذه بقلاً فهو أحق به فإن كانت قيمته أقل من قيمته حباً ضمن النقصان. فرع آخر لو كانت قيمته نقصت عن قيمة الحب في أول إنباته ثم زادت قيمته بعد تمامه فهل يضمن الغاصب لذلك النقصان؟ وجهان أحدهما: كما لو نقصت الجارية بمرضٍ ثم زال النقص بزوال المرض هل يضمن أم لا؟ وجهان أحدهما: لا يضمن لأنه نقص لم يستقر فجرى مجرى نقص السوق، والثاني: يضمن لأن الضمان قد لزم بحدوث النقص فلم يسقط بحادث زيادة لا يملكها. ¬

_ (¬1) أنظر الحاوي للما وردي (7/ 191)

فرع آخر لو قال: لا أرضى به بقلاً وأريد مثل المغصوب مني حباً فيه وجهان أحدهما: يجاب إلى طلبته ليصل إلى مثل المغصوب منه، والثاني: لا يستحق ذلك لأن العين المغصوبة موجودة وإن انتقصت كالشاة إذا ذبحت والثوب إذا أخلق. فرع آخر لو كانت الأرض للغاصب فهل يجبر على استيفاء الزرع في أرضه إلى وقت حصاده؟ وجهان احدهما: لا يجبر عليه وله أخذ المغصوب منه بقلعه لحصول البذر في الأرض بالتعدي، والثاني: يجبر الغاصب على تركه إن بذل له المغصوب منه أجرة المثل من وقت التسليم إلى وقت الحصاد لحصول البذر في أرضه باختياره. فرع آخر لو صار سنبلاً فللمغصوب منه أخذه في سنبله، وليس له مطالبة الغاصب بالبذل لأنه في سنبله عاد إلى حاله قبل غصبه. فرع آخر لو أخذ العشر من الغاصب فإن كان والياً لا يجزى أخذه لجوره ضمن الغاصب ذلك، ولو أن الإمام أخذه لا ضمان على الغاصب لجوازه عن فرضه. فرع آخر لو غصب دقيقاً فنخله واستهلك نخالته فيه وجهان أحدهما: يضمن قيمة النخالة، والثاني: يضمن [39/ ب] أغلظ الأمرين من قيمة النخالة أو من نقص الدقيق بنخل النخالة وقد مضى نظير هذين الوجهين في استهلاك التراب من الأرض. مسألة (¬1): قال: "ولو أغلاه على النارِ". الفصل وهذا كما قال: إذا غصب زيتاً فأغلاه على النار لا يخلو من أربعة أحوال إما أن لا ينقص قيمته ولا مكيلته، أو نقصت مكيلته ولم تنقص قيمته، أو نقصت قيمته دون مكيلته، أو نقصت قيمته ومكيلته، فإن لم تنقص بأن غصب صاعين يساويان أربعة فأغلاهما وقيمتهما بعد الغلي أربعة ومكيلتهما صاعان يردان على المغصوب منه ولا شيء على الغاصب، وإن نقصت مكيلته دون القيمة بأن صار إلى صاع وقيمته أربعة ضمن الصاع الناقص بصاع مثله لأنه تلف بفعله ولا يجبر نقصان العين بزيادة القيمة، وفيه وجه آخر أنه يجبر ذلك بزيادة القيمة وليس بشيء وقيل: فيه وجهان ولا يصح ذلك لأن المنصوص ما ذكرنا، وإن نقصت القيمة دون المكيلة مثل أنه لم ينقص كيلهما ولكن أصابهما حر النار فتغير لونهما أو طعمهما فصارت قيمتهما درهمين فعليه أرش ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 41)

النقصان ويسترجع المغلي، وإن نقصت كلتاهما فصارت قيمتهما درهماً ورجعا إلى صاعٍ فعليه ضمان الصاع التالف وما نقص من القيمة أيضاً لأن كل واحدٍ منهما يضمن بالانفراد فيضمن عند الاجتماع. فإن قيل: إذا غصب زيتاً فخلطه بأردأ منه فنقصت قيمته قلتم: المالك بالخيار إن شاء أخذ مثل زيته، وإن شاء أخذ من عينه مثل مكيلته من غير أرش النقصان فما الفرق؟ قلنا: الفرق أن ها هنا يأخذ عين ماله فجاز أن يأخذ معها ما نقص من قيمته وليس كذلك في الخلط لأنه يأخذ بدل ماله ولا يجوز أن يأخذ بدل مكيلته وزيادة دراهم لأنه ربا وهذا كما نقول: لو غصب ديناراً فقرضه أخذه وما نقص من قيمته وان أتلفه لم يجز أن يأخذ ديناراً رديئاً [40/أ] وأرش النقصان، فإذا تقرر هذا رجعنا إلى لفظ الكتاب فمن أصحابنا من يقرأ: وما نقصت مكيلته أو قيمته بفتح التاء، ومنهم من يقرأ: أو قيمته بضم التاء وفي بعض النسخ وما نقصت مكيلنه وقيمته بحذف الألف وفي بعضها أو قيمته بإثبات الألف فمن قرأ: أخذه وما نقصت مكيلتُه وقيمتُه بحذف الألف وضم التاء من القيمة فمعناه إذا كان عين الزيت ناقصة والقيمة ناقصة أخذ العين الناقصة وغرم كلا النقصانين. ومن قرأ بإثبات الألف وضم التاء فمعناه تنويع الحالتين في النقصان أي إن كان النقصان واقعاً في المكيلة دون القيمة أخذه وما نقصت مكيلته، وإن كان النقصان واقعاً في القيمة دون المكيلة أخذ المكيلة بتمامها أو غرمه نقصان القيمة. ومن قرأ أخذه وما نقصت مكيلته أو قيمته بفتح التاء وإثبات الألف فمعناه إذا كان النقصان واقعاً في المكيلة وذلك النقصان غير متناه كان المالك بالخيار إن شاء أخذ ما وجد من زيته بنقصه ورجع على الغاصب بأرش النقصان، وإن شاء تركه في يد الغاصب وغرمه مثل زيته إن كان المثل موجوداً أو قيمته إن كان المثل مفقوداً. فإن قال قائل: على هذه القراءة إذا كان الزيت من ذوات الأمثال كيف يجوز إذا كان النقصان غير متناه أن يخيره الشافعي بين أخذ زيته وأخذ قيمته وهلاَّ قال: أخذه وما نقصت مكيلته أو مثله؟ قلنا: لعله عبّر عن المثل بالقيمة كما يعبر مجازاً عن القيمة بالمثل، وقال الشافعي في كتاب الطهارة في مسألة الجنب والميت: فإن خافوا العطش شربوه ويمّموه وأدوا ثمنه في ميراثه وأراد بالثمن المثل، والثاني: لعله صور المسألة عند عدم المثل والمثل إذا كان معدوماً كان المرجع إلى القيمة وهذه القراءة أضعف القراءات لهذا السؤال. فرع إذا أغلاه على النار فنقص من قيمته دون مكيلته ولم يكن النقص منتهياً بل يحدث نقص آخر بعده فإن كان ما ينتهي إليه من النقص الثاني [40/ب] محدوداً فليس له إبدال الزيت بغيره وينتظر حدوث نقصانه فيرجع به، ولو تلف الزيت قبل انتهاء نقصانه فهل يرجع بما كان ينتهي إليه من نقص؟ وجهان مخرجان من القولين فيمن قلع سن صبي لم

يُثغر فانتظرنا النبات فمات قبل معرفتنا أنه نبتت أم لا هل يستحق ديته؟ قولان: أحدهما: لا أرش لعدم حدوثه ولو كان باقياً فطالب بالأرش قبل حدوث النقص لم يكن له أيضاً. والثاني: له أرش للعلم به، ولو كان باقياً فطالب بالأرش قبل حدوث النقص لم يكن له أيضاً. فرع آخر لو لم يملك الزيت ولكنه باعه قبل انتهاء نقصانه فإن أعُلم به المشتري فلا ود له لعلمه نصيبه، وللمالك أن يرجع على الغاصب بنقصه لأنه عاوض عليه ناقصاً، وإن لم يُعلم المشترى به فله الرد بحدوث نقصه، فإن لم يرض به ورده رجع المالك بأرشه على الغاصب، وإن رضي به ولم يرده ففي رجوعه على الغاصب بأرش نقصه وجهان أحدهما: لا يرجع لأنه بالمعاوضة سليماً قد وصل إليه من جهة المشتري تمام ثمنه، والثاني: يرجع لضمانه له بالغصب ولا يكون حدوث رضا المشتري به براءة للغاصب منه، وإن كان ما ينتهي إليه من النقص في الثاني. غير محدود فقد ذكرنا قولين وقيل وجهان. فرع آخر لو غصب عصيراً فأغلاه حتى صار رُبّاً ونقصت مكيلته قال ابن سريج: يرده ولا يلزمه نقصان المكيلة لأن العصير إذا أغلي تداخلت أجزاؤه ويكون نقصان المكيلة بتداخل الأجزاء وذهاب الرطوبة المائية لا بتلفها، وليس كذلك في الزيت فإن نقصانه بتلف بعض الأجزاء، قال صاحب "الإفصاح": هذا عندي غير صحيح لأن النقصان قد حصل فيه من طريق المشاهدة كما في الزيت والأول أصح لأن أجزاء العصير كلها موجودة فيه، وإن كانت قد اجتمعت وثخنت، ألا ترى أنه إذا وُزن يحصل منه مثل وزن العصير، وقوله: إن النقصان حصل من طريق المشاهدة لا يصح لأنه لو غصب دقيقاً ولتَّه بدهن أو عجنه بماء قد نقص مكيلته من طريق المشاهدة ولا يلزمه [41/أ] النقصان لأن الأجزاء موجودة كذلك ها هنا. فرع آخر لو غصب لبناً فعمله جبناً رجع به جبناً وبالنقص إن كان في قيمته وهل يرجع بنقص مكيلته؟ فيه وجهان كما قلنا في العصير إذا أغلي فانتقص مكيلته. مسألة (¬1): قال: "وكذلك لو خلطَ دقيقاً بدقيقٍ فكالزيتِ". وهذا كما قال: إذا غصب دقيقاً فخلطه بدقيق من عنده قال الشافعي ها هنا: هو كالزيت إذا غصبه ثم خلطه بزيت من عنده، واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال وهو الصحيح: معناه أنه يصير شريكاً للغاصب كما نقول في الزيت ولكن لا يجوز قسمة الدقيق، كما لا يجوز بيع بعضه ببعضٍ بخلاف الزيت لأنه إذا غصب زيتاً فخلطه بزيت من عنده يجوز لهما أن يقتسماه لأن بيع الزيت بعضه ببعض متماثلين جائز وتشبيه الشافعي إياه بالزيت في ثبوت ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 43).

الشركة بالبيع دون المقاسمة، ومنهم من قال: قول الشافعي: أنه كالزيت أراد في أنه يصير مستهلكاً فتضمن قيمته ولم يرد به أنه كالزيت في أن له مثلاً وهذا لأنه لا مثل للدقيق لاختلاف طحنه المفضي بالصنعة والعمل إلى عدم تماثله ويفارق الحنطة التي ليس للآدميين صنعة في كبر حبها وصغره وهذا اختيار أبي إسحاق وابن أبي هريرة فعلى هذا إذا خلط الدقيق بالدقيق فيه وجهان أحدهما: يلزمه قيمته، والثاني: يكونان شريكين فيه فيقتسمان ثمنه، ولو أرادا الاقتسام فيه وجهان بناءً على أن القسمة بيع أو إقرار حقٍ، ومن أصحابنا من قال: إن كانت قيمتها متفاوتة لا تجوز القسمة لأنه إذا قسم على القيمة يتفاوت، وإن كانت قيمتها متساوية فعلى وجهين على ما ذكرنا. وقال أبو الطيب بن سلمة: تجوز القسمة بكل حال لأنه لا ربا في القسمة وهذا لا يصح لأنا إذا قلنا: إنها بيع فالربا فيهما واحد وان قلنا: إقرار حق لا يمكن إيصال كل واحدٍ منهما إلى حقه لجواز أن يكون بعضه أنقص من بعض فيأخذ المكيال من الناعم أكثر فلا تكون قسمة عدل، وقال ابن سريج: هو كالزيت في أن له مثلاً لظاهر كلام الشافعي ها هنا وهذا لأنه لا تتماثل أجزاؤه وإن تفاوت [41/ب] الطحن في النعومة والخشونة وهذا أقرب من تفاوت الحنطة في صغر الحب، وقد روى الكرابيسي عن الشافعي أنه يجوز بيع الدقيق بالدقيق فيكون كالزيت من كل وجهٍ وهذا ضعيف لما ذكرنا ولم تصح رواية الكرابيسي عن الشافعي. مسألة (¬1): قال: "ولو كانَ قمحاً فَعَفَّنَ عندهُ ردَّهُ وقيمةَ ما نقص". وهذا كما قال: إذا غصب حنطةً أو غيرها من الحبوب فعفنت لطول مكثها أو بلها بالماء فإن استقر نقصها ردها وما نقص، وغن لم يستقر فقد ذكرنا فيه الخلاف، وأعلم أن الشيخ أبا حامد جعل العفن كالبلّ، وقال القاضي الطبري: العفن ليس من فعله فلا يضمن ما يتولد منه بخلاف البل فيردها وما نقص به قولا واحدا وهذا أصح، فإن قيل: العفن مضمون عليه لوجوده في يده كالبل الذي حصل بفعله فكل ما تولد منهما سواء في الضمان ولهذا لا فرق بين أن يبتل بما، المطر أو بفعله أو بفعل غيره قلنا: النقص إذا حصل بالبل ثم زاد فتلك الزيادة متولدة من البلل فضمن، وأما العفونة تزيد ببقائه ومكثه في يده كما في الأصل حصل بذلك لا أن بعضها يتولد من بعض فافترقا. وقال أبو حنيفة: المالك بالخيار بين أن يطالبه ببدل العفنة وبين أن يمسكها ولا شيء له، لأنه لو ضمنه النقصان لحصل له مثل كيله وزيادة وهذا غلط لأن عين ماله باقية وإنما حدث فيها نقصان وكان له ما نقص كما لو كان ثوباً فخرَّقه عرضاً. مسألة (¬2): قال: "وإنْ غصَبُه ثوباً وزعفراناً فصبغه به فربُّهُ بالخيار، إن شاء أخذهُ، وإن شاء قومه أبيضَ وزعفرانُه صحيحاً". ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 42) (¬2) أنظر الأم (3/ 42)

الفصل وهذا كما قال: إذا غصب ثوباً وزعفراناً من رجل فصبغه به قد ذكرنا هذه المسألة وأعادها الشافعي ها هنا لأن الزعفران إذا كان صحيحاً كان أثمن منه إذا كان مطحوناً، وروى الربيع مثل هذا اللفظ أيضاً وموضع الإشكال أنه قال: فربه بالخيار إن شاء أخذه، وإن شاء قومه أبيض وزعفرانه صحيحاً وضمنه قيمة ما نقص وهذا الثوب لم يحدث به نقصان لا نهاية له فكيف يتخير المالك في أخذه وتركه، وظاهر اللفظ [42/أ] يقتضي تخييره فنقول: مراد الشافعي بذكر المشيئتين تنويع الحالتين أي: إن كان الثوب والصبغ غير ناقصين أخذ الثوب مصبوغاً ولا شيء له. وقد قال في الكبير: ولا شيء له والمزني ما نقله، وإن كانت القيمة ناقصة أخذ الثوب ورجح على الغاصب بالنقص ويحتمل معنى ثانياً وهو أن رب الثوب بالخيار بين الاستقصاء في استيفاء حقه وبين المسامحة فإن اختار المسامحة أخذ الثوب مصبوغاً على أي حالٍ كان ولم يغرم الغاصب شيئاً، وإن شاء الاستقصاء قوّم الثوب أبيض وزعفرانه صحيحاً وغرمه ما نقص إلا أن هذا يضعف بما حكينا من لفظ الشافعي في الكبير حيث قال: أخذه ولا شيء له ومن كان له حق فتركه على وجه المسامحة لم يحسن أن يقال: ولا شيء له. فرع قال (¬1): ولو غصب من رجل سمناً وعسلاً ودقيقاً فعصده كان لصاحبه أن يقوم كل واحد منها على الانفراد ثم يقومها معصوداً، فإن نقصت قيمتها غرمه النقصان، وإن زادت قيمتها كانت له بزيادتها ولا حق للغاصب فيها ولا أجرة له ولا قيمة ما أحرقه من الحطب، وإن كان نقصانها غير متناهٍ فعلى ما ذكرنا. فرع آخر لو غصب حنطة فطحنها يلزمه ردها مطحونة فإن نقصت قيمتها يلزمه ما نقص من قيمتها وإن طحنها ناعمة فزادت قيمتها فلا أجرة للغاصب فيما فعل وعليه رد الدقيق إلى صاحبه ولا يملكه بالطحن، وقال أبو حنيفة: يملكه بالطحن وهذا غلط لأنه عدوان محض فلا يملك به المغصوب وهكذا الخلاف إذا غصب غزلاً فنسجه ثوباً أو حديداً فعمل منه السكاكين أو ثوباً فقطعه وخاطه قميصاً، أو غصب شاةً فذبحها وشواها ويمكن أن يقال: هذا النقص بالشيء غير مستقر لأنه في المتعقب فيكون الحكم فيه ما ذكرنا من الطريقين واحتج بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - زار قوماً من الأنصار في دارهم وقدموا إليه شاة مشوية فتناول منها لقمة فجعل يلوكها ولا يُسيغها فقال: أن هذه الشاة لتخبرني أنها أخذت بغير حق فقالوا: نعم يا وسول الله طلبنا في السوق فلم نجد فأخذنا شاةً لبعض جيراننا ونحن نرضيهم من ثمنها فقال النبي [42/ب]- صلى الله عليه وسلم -: "أطعموها ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للماوردي (7/ 198).

الأسارى" (¬1) فدل على أنه انقطع عنها حق مالكها بالذبح والشواء لأنه لم يأمر بردها إلى مالكها قلنا: يحتمل أنه كان صاحبها غائباً وخاف فسادها فأمر بإطعام الأسارى لاضطرارهم إليها حتى يؤذي القيمة من بيت المال. فرع آخر لو غصب نقرة فضربها دراهم فهي لصاحب النقرة ووافقنا فيه أبو حنيفة، ثم إن لم يمكن نقص أصلاً ولا زاد فلا شيء، وإن زاد ولم ينقص فالزياد ة للمالك ولا شيء للغاصب وإن نقص من الأجزاء فعليه ضمان ما نقص من الأجزاء وإن نقصت القيمة والأجزاء فمن كليهما. فرع آخر لو غصب شاة ثم استدعى قصاباً وأمره بذبحها فذبحها يأخذها صاحبها مذبوحة وله أرش النقص ويطالب من شاء من الذابح والغاصب ولكن إن ضمن الذابح رجع على الغاصب لأنه ذبح للغاصب فصار كما لو ذبح بنفسه، ويفارق هذا إذا غصب طعاماً ثم أطعمه غير المالك فغرم الطاعم للمالك لا يرجع به على الغاصب في أحد القولين لأن هناك صرفه إلى ملك نفسه بخلاف الذابح. فرع آخر لو غصب مجوسي شاةً فذبحها ضمن جميع قيمتها والمغصوب منه أحق بجلدها لأنه بعين ماله فإن غلبه رجل فدبغه هل يملكه؟ فيه وجهان. فرع آخر لو اشترك مسلم ومجوسي في ذبح شاة مغصوبة قال في "الحاوي": ضمن المجوسي نصف قيمتها لأنه أحد الذابحين، وضمن المسلم نصفها لو لم يكن المشارك له في الذبح مجوسياً مثاله أن تكون قيمة الشاة عشرين درهماً، ولو ذبحها صارت قيمتها عشرة فيضمن المسلم خمسة والمجوسي عشرة وهذا غريب وعندي يلزم الضمان الكامل عليهما نصفين لأنهما أتلفاها معاً. فرع آخر لو قال الغاصب في الثوب المصبوغ: أذنت لي في صبغه وأنكر المالك فالقول قول المالك مع يمينه، فلو قال أذنت لك ثم رجعت عن الإذن قبل صبغك، وقال الغاصب: بل كنت إلى حين الصبغ على إذنك فيه وجهان. فرع آخر لو اختلفا في الصبغ فقال المالك: هو لي [43/أ] وقال الغاصب: بل هو لي فإن كان الصبغ مما يمكن استخراجه فالقول فيه قول الغاصب مع يمينه لأجل يده، وإن كان ¬

_ (¬1) أخرجه أحمد (5/ 294)، والدارقطني (4/ 286)، والطحاوي في شرح معاني الآثار (4/ 208).

مما لا يمكن استخراجه فالقول قول المغصوب منه مع يمينه لأنه صار مستهلكاً في الثوب فجرة مجرى أجزائه. فرع آخر صبَّاغ الثوب بالأجر إذا اختلفا هكذا فإن كان الصباغ أجيراً منفرداً فالقول قول رب الثوب، وإن كان أجيراً مشتركاً فالقول قول الصباغ، والفرق أن اليد في الأجير المنفرد لرب الثوب واليد في المشترك للأجير فافترقا في هذا الحكم. فرع آخر لو كان المغصوب حجراً فبني عليه منارة مسجد أخذ بنقض المنارة لرد الحجر ثم عليه غرم نقض المنارة للمسجد فإن كان هو المتطوع ببنائها لخروج ذلك عن ملكه. مسألة (¬1): قال: "ولو كانَ لوحاً فأدخله في سفينةٍ". الفصل وهذا كما قال: إذا غصب ساجةً فبنى عليها جداراً لا يملكها وعليه قلعها وردها على صاحبها، وإن لحقه ضرر عظيم في ذلك وبه قال مالك، وقال أبو حنيفة: لا يلزمه ردها ويملكها بالبناء عليها فيرد قيمتها وهذا غلط لأنه مغصوب يجوز له رده فوجب رده كما لو بني حولها ولم يبن عليها فإذا ثبت هذا فقلعها وردها، فإن نقصت قيمتها يلزمه أرش النقص، والأجرة إن مضت مدة لمثلها أجرة وإن عفنت تحت البناء بحيث لو أخرجت لا قيمة لها تؤخذ منه قيمتها ولا تقلع لأنها صارت مستهلكة فهو كالثوب إذا احترق، ولو أدخلها في سفينة لا يخلو إما أن يكون على الشط أو في الماء فإن كانت في الشط في موضع لا يخشى من قلع اللوح الغرق فهو كما لو كان في البناء يؤمر بنزعها وردها على صاحبها، وإن كانت في وسط الماء فإن كان اللوح في أعلاها بحيث إذا قلع لا يدخل الماء إليها قلع، وإن كان في أسفلها بحيث إذا قلع دخلها الماء نظر، فإن كان في السفينة أدمي أو بهيمة أو مال لغير الغاصب لا يجوز نزعها حتى ترد إلى الشط، ثم ينزع في موضع يؤمن فيه من غرق الحيوان وهلاك المال، وإن كان فيها مال للغاصب اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: [43/ب] يؤمر بنزعها وإن أدى إلى هلاك ماله كما نأمره بنزع الساجة من بنائه، وإن أدى إلى نقص بنائه ومنهم من قال: ترد إلى الشط ثم يؤمر بنزعها لان لنا طريقاً إلى نزعها من غير هلاك ماله وليس كذلك هناك وهذا أقرب إلى المذهب وأصح وكذلك إن لم يكن فيها مال وخيف غرق السفينة وحدها فإذا قلنا: لا ينزع حتى ترد إلى الشط يخير المغصوب منه فنقول له: إن شئت صبرت حتى تأخذ في الشط عين مالك، وإن شئت طالبت بالقيمة في الحال فأيهما اختار كان له، فإن صبر فالكلام في النقص والأجرة على ما ذكرنا. ومن أصحابنا من قال: لا فرق بين أن يكون المال للغاصب أو لغيره فحكمه نزع ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 42)

اللوح ورده إلى صاحبه وهذا ضعيف لأنه لم يوجد التعدي من غير الغاصب فلا يجوز إتلاف ماله، وقال أبو حنيفة: لا ينزع اللوح بحالٍ للضرر الذي يلحقه بالنزع فنقول: عندكم لو غصب ألواحاً ومساميراً واستأجر جماعة وكلفهم تركيب السفينة من الأعيان المغصوبة لم يكن لهم حق في أعيان أموالهم بل حقهم في القيمة وأي ضرر لحقه ها هنا فدل أن ما قاله ظاهر الفساد. فرع لو اختلطت هذه السفينة التي أدخل اللوح في بنائها بعشر سفن للغاصب ولا يوصل إليها إلا بهدم جميعها فيه وجهان: أحدهما: يهدم جميعها حتى يوصل إليه كما يهدم جميح السفينة الواحدة ليوصل إليه. والثاني: لا يجوز هدم شيء منها إلا أن يتعين اللوح فيها ويلزم القيمة لأنه لا يجوز أن يستهلك عليه مال لا يتيقن التعدي فيه، وأما إذا غصب خيطاً فخاط به شيئاً لا يخلو إما أن يخيط ثوباً أو جرح حيوان فإن خاط ثوباً أمر بفتقه ورد الخيط إلى صاحبه والتزام النقص إن كان قد دخله النقص، وإن خُلقَ الثوب وصار بحيث إذا خرج منه تقطع ولم ينتفع به لا ينزع ويصير كاللوح إذا عفن تحت البناء، وإن خاط به جرح حيوان لا يخلو إما أن يكون آدمياً أو بهيمةً فإن كان آدمياً نظر، فإن خاف من نزعه تلفه لا يحل نزعه قولاً واحداً [44/أ] لأنه لو احتاج إليه في الابتداء له غصبه لذلك، وإن كان يخاف من نزعه شدة الضنى وتباطؤ البرء فيه وجهان بناءً على القولين فيمن خاف من إمساس الماء شدة الضنى أو تباطؤ البرء هل له التيمم أم لا؟ وإن كان يخاف الزيادة في العلة قد قيل: لا ينزع قولاً واحداً وقيل: فيه وجهان أيضاً، وإن كان بهيمةً لا يخلو إما أن يكون مما يحل قتله كالذئب والكلب العقور فيؤمر بنزعه وإن أدى إلى تلفه لأنه لا حرمة له في نفسه وكذلك المرتد، وإن كان مما يحل قتله لا يخلو إما أن يكون مما يحل أكله أو لا يحل فإن كان مما لا يحل أكله فالحكم فيه ما ذكرنا في الآدمي لأن لهذاا الحيوان حرمة في نفسه فإن كان مما لا يحل أكله فيه قولان أحدهما: يؤمو بذبحه ورده رواه الربيع لأن أكثر ما فيه دخول الضرر على الغاصب ويجوز ذلك كما يجوز نقض بنائه، والثاني: وهو ما نقله المزني وهو المذهب لا يذبح بل تلزمه قيمته لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلةٍ" وهذا ذبح لغير مأكلةٍ فإذا قلنا: لا ينزع يؤخذ من الغاصب قيمة الخيط ثم إن أخرج الخيط يوماً وهو صحيح ينتفع به فللمالك أن يسترده ويرد القيمة كما قلنا في الآبق إذا غرم القيمة ثم عاد، وقال بعض أصحابنا بخراسان: القولان في الحيوان المأكول للغاصب، وإن كان لغير الغاصب لا ينزع قولاً واحداً. فرع لو خاط به جرح حيوان ثم مات الحيوان ثم طالب المالك، فإن لم يكن له حرمة بعد موته ينزع، وإن كان مما له حرمة كالآدمي فإن لم يفحش ابن آدم بعد نزع الخيط

نزع، وإن كان يفحش لم يذع لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "حرمة ابن آدم بعد موته كحرمته في حياته هكذا ذكر في "الحاوي" (¬1)، وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل ينزع بعد موته وجهان؟ والأصح أنه لا ينزع بحالٍ. مسألة (¬2) قال: "ولو غصبَ طعاماً فأطعمه من أكله". الفصل وهذا كما قال: إذا غصب طعاماً ثم أطعمه [44/ب] إنساناً لا يخلو إما أن أطعمه غير المالك أو أطعمه المالك فإن أطعمه غير المالك فالكلام في ثلاثة فصول في الضمان وقدره والرجوع، وأما الضمان فله أن يضمن من شاء منهما من الغاصب والآكل لآنه أتلف مال غيره من غير إذنه والغاصب أخذه من غير إذنه. وأما قدر الضمان يطالب الغاصب بأكثر ما كانت قيمته من حين الغصب إلى حين قبضه الآكل وأكله أو يطالب الآكل بأكثر ما كانت قيمته من حين قبضه إلى أن أكله ولا يضمنه ما حصل في يد الغاصب على ما ذكرنا فيما تقدم. وأما الكلام في الرجوع لا يخلو الغاصب حين أطعمه من ثلاثة أحوال إما أن يقول: كل وأطلق أو يقول: كل فإنه لفلان غصبته منه أو كُل فإنه مالي فإن قال: كُل وأطلق أو قال: قد وهبته لك فحكمهما سواء هل يرجع الآكل على الغاصب؟ قولان أحدهما: لا يرجع لأنه دخل فيه على أن لا يكون مضمونا عليه، والثاني: لا يرجع لأنه أتلفه في منفعة نفسه وهذا أشبه وهو بمنزلة الرجوع بالمهر على الغاصب إذا غرمه المشتري قولان على ما ذكرنا، وإن غرم الغاصب هل يرجع على الآكل؟ قولان: فإن قلنا: إذا غرم الآكل لم يرجع على الغاصب لا يرجع الغاصب على الآكل. وإن قلنا: إذا غرم الآكل يرجع على الغاصب لا يرجع الغاصب على الآكل، وقال البصريون من أصحابنا: لو أذن له بأكله فأكله من غير هبةٍ وإقباض يرجع الآكل على الغاصب قولاً واحداً، والقولان إذا أكله بعد الهبة والإقباض فعلى هذا لو غرم الغاصب لا يرجع به على الآكل قولاً واحداً وإن قال: كُلْه فإني غصبته فللمالك أن يرجع على من شاء على ما ذكرنا ثم إن رجع على الغاصب رجع الغاصب على الآكل قولاً واحداً، وإن رجع على الآكل لم يرجع به على الغاصب قولاً واحداً لأنه لم يغرم وإن قال: كُله فهو ملكي فإن رجع على الغاصب فغرم لم يرجع به على الآكل قولاً واحداً لأنه يقول أكلت ملكي فلا أرجع به عليك وإن رجع [45/أ] على الآكل هل له الرجوع على الغاصب؟ قولان وان أطعمه المالك فإن كان يعلم أنه طعامه فقد برئ من ضمانه، وإن لم يعلم فيه قولان: أحدهما: لا يبرأ من ضمانه وهو الصحيح المنصوص لأنه أكله على أنه مال المطعم ولم يأكله على أنه مال نفسه فلا يبرأ من ضمانه. والثاني: حكاه الربيع عنه أنه يبرأ من ضمانه لأنه باشر إتلافه بنفسه فلا يجوز أن ¬

_ (¬1) أنظر الحاوي للمارودي (7/ 201) (¬2) أنظر الآم (3/ 43)

يرجع بضمانه على غيره وبه قال أبو حنيفة وهو اختيار المزني، وقال البصريون: إذا قال لمالكه: كله فأكله لا يبرأ من ضمانه قولاً واحداً لأن استهلاكه كان بإذن الغاصب فكان وباله عليه. فرع لو وهبه ولم يعلمه بحاله فقبضه وأكله فيه طريقان أحديهما أنه لا فرق ففيه قولان أيضاً وهو ظاهر كلام الشافعي لأنه أطلق الإطعام من غير تفصيل، والثانية أنه لا يبرأ من الضمان قولاً واحداً لأنه رده إلى يده رداً تاماً وليس كذلك إذا أباحه له لأنه لم يرده إليه، ألا ترى أنه لا يجوز للمطعم أن يتصرف فيه إلا بالأكل وحده. فرع آخر لو دفعه إلى مالكه على وجه يجب به الضمان كالعارية أو الشراء أو الأخذ بالسوم يبرأ في جميع ذلك، ولو دفع إليه وديعة ورهنا أو قراضاً ونحو ذلك لا يبرأ من الضمان ذكره القفال، وفيه وجه أخر يبرأ لأنه عاد إلى يده. فرع آخر لو علفه دابة المالك أو أطعم عبده لا يبرأ من الضمان قولاً واحداً، وغن علف دابته بإذنه ولم يعلم هو أنه له ينبغي أن يكون على القولين. فرع آخر لو أذن له بعتقه فإن علم بحاله ينفذ عتقه ويبرأ هو من ضمانه، وإن لم يعلم بحاله قال أبو حامد: لا ينفذ عتقه، ومن أصحابنا من قال: يعتق ولا يبرأ من ضمانه وهو الأصح. فرع آخر لو كان عبداً فقال: اقتله فإنه ملكي فقتله المالك يبرأ الغاصب على الصحيح من المذهب لأن القتل لا يباح [45/ب] بالإباحة فلا يوجد التعزير، وفيه وجه أخر لا يبرأ من ضمانه. فرع آخر لو وهب من وجل فأكله ثم اختلفا فقال الغاصب للآكل: علمت غصبه وأنكر العلم فإن قال الغاصب: أعلمتك عند الهبة أنه مغصوب فالقول قول الغاصب وإن قال: علمت من غيري فالقول قول الموهوب له، والفرق أنه إذا ادعى إعلامه بنفسه فقد أنكر عقد الهبة على الصحة فقبل قوله بخلاف ما لو قال: علمت من غيري. مسألة (¬1): قال: "وإذا حلَّ دابةً أو فتح قفصاً عن طائر". الفصل وهذا كما قال: إذا حل دابة أو فتح قفصاً عن طائر نقل المزني أنهما إن وقفا ثم ¬

_ (¬1) أنظر الآم (3/ 43).

ذهبا فلا ضمان وهو منصوص في "الأم" في كتاب اللقطة، وقال في القديم: إذا خل دابة أو فتح قفصاً عن طائر فذهبا فلا ضمان وأطلق وجملته أن فيها مسائل إحداها أن يفتح القفص ويهيجه وينفره أو فتحه ينفره فطار فعليه الضمان قولا واحداً وكذلك في الدابة لأنه ألجأه إلى الذهاب. والثانية أن يفتحه فوقف وقفة ثم طار فلا ضمان عليه قولاً واحداً لأنه نص قوله في كتاب اللقطة وظاهر قوله في القديم، وكذلك الدابة لأن الفتح سبب غير ملجئ والطيران مباشرة وقعت باختيار الطير وإذا اجتمع السبب والمباشرة في الإتلاف ولم يكن السبب ملجئاً وتعلق الضمان بالمباشرة اختص بها كما لو حفر بئراً في طريق المسلمين وجاء أخر فطرح فيها حيواناً لإنسان فمات يلزم الضمان على الطارح دون الحافر. وقال مالك: يضمن، وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا قول أخر للشافعي وأنكره أهل العراق، واحتج بأن فتح القفص سبب في إتلافه فضمنه وهذا غلط لما ذكرنا. والثالثة أن لا يقفا عقيب الفتح والحل وذهبا في الحال فظاهر ما نقله المزني أن عليه الضمان لأنه شرط وقوفهما بعد الفتح ساعة [46/أ] في سقوط الضمان فدليله أنهما إذا لم يقفا وذهبا من ساعتهما يجب الضمان. وقال في "الإفصاح": ذكر الشافعي في هذه المسألة في كتاب اللقطة، وقال: لا ضمان عليه وأطلق والقاضي أبو حامد خالفه في هذه الحكاية، وقال: شرط الشافعي في كتاب اللقطة ذهابهما بعد وقوفهما في سقوط الضمان، وفي الجملة اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: لا ضمان عليه ولا فرق بين ذهاب الطير من ساعة الفتح وبين ذهابه بعد وقوفه، وقال: لا أجعل لكلام الشافعي دليل الخطاب وبه قال أبو حنيفة، وهذا لأن هذا السبب غير ملجئ فأشبه إذا وقف ثم خرج، وقال أكثر أصحابنا وهو اختيار أبي إسحاق وابن أبي هريرة: يلزمه الضمان لاتصاله بالسبب فصاركالإلجاء وهذا ظاهر ما نقل المزني، ومن أصحابنا من قال: إن كان الدنو منه هيجه ضمن وإلا فلا يضمن قولاً واحداً. فرع لو أمر طفلاً أو مجنوناً بإرسال طائر في يده فأرسله فطار فهو كفتح القفص عنه أو نفره أو أمر الطفل بتنفيره ضمنه، وإن لم ينفره ولبث زماناً لم يضمنه وإن طار في الحال فيه وجهان. فرع آخر لو كان الطائر ساقطاً على برجٍ فنفره بحجر رماه به فطار من تنفيره لم يضمن. فرع آخر لو رمى وجل حجراً في هواء فأصاب طير رجل ضمنه عمد أو لم يعمد لأنه ليس له منع الطائر من الطيران في هوائه، بخلاف ما لو دخلت البهيمة داره فمنعها بضرب لا تخرج إلا به لا يضمنها لأن له مع البهيمة من داره.

فرع آخر لو فتح مراح غنم فخرجت ليلاً فرعت زرعاً فإن كان الذي فتحه المالك ضمن الزرع، وإن كان غير المالك لم يضمنه، والفرق أن المالك يلزمه حفظها بالليل فإذا فتح عنها ضمن لترك حفظها بالليل حتى لو كان نهاراً لا يضمن وغير المالك لا يلزمه حفظها فإذا فتح عنها لم يضمن. فرع آخر لو حلَّ دابةً مربوطةً على علف أو شعير فأكلته لم يضمن لأن الدابة [46/ب] بالإباحة فلا يوجد التعزير، وفيه وجه أخر لا يبرأ من ضمانه. فرع آخر لو وهبه من رجل فأكله ثم اختلفا فقال الغاصب للأكل: علمت غصبه وأنكر العلم فإن قال الغاصب: هي المتلفة دونه، وكذلك لو كسرت إناء في الدار لم يضمنه سواء اتصل ذلك بالحل أو انفصل عنه. فرع آخر لو هدم حائط رجل فدخل آخر فأخذ ماله لم يجب على الهادم ضمان المال بل يجب ضمان الحائط فقط. فرع آخر لو حل قيد العبد فهرب لا ضمان عليه سواء هرب من ساعته أو بعده لأنه لا يمسك بالقيد عرفاً، وقال بعض أصحابنا: لو كان العبد مجنوناً فحل قيده فخرج يحتمل أن يضمن لأنه تمسك بالقيد عرفاً كالطير. مسألة (¬1): قال: "ولو حلَّ زَّقاً أو راوية فاندفقا ضمن". الفصل وهذا كما قال: إذا حلَّ زقاً فيه شيء فخرج فيه مسائل: إحداها: أن يكون ما فيه مائعاً كالماء والدهن وخرج بحله مثل أن كان خروجه عقيب فتحه يلزم ضمانه لأن المائع لا اختيار له وخروجه كان بفعله وفتحه للزق مع علمه بخروج ما فيه مباشرة لإخراجه بلا خلاف ويفارق الطير لأن له اختياراً. والثانية: أن يكون الزق مستنداً إلا أنه لما حلا اضطرب فسقط وخرج ما فيه يلزمه الضمان أيضاً لأنه خرج بفعله. والثالثة: أن لا يخرج عقيب الحل ولكنه لما حله مال أحد جانبيه ولم يزل يميل ويسيل من رأسه قليلاً قليلاً حتى سقط فخرج ما فيه يلزمه الضمان أيضاً، لأنه حصل بسراية فعله. والرابعة أن لا يخرج عقيب الحل وثبت الزق بعد الحل مستنداً إلى حائط ثم سقط بعد ذلك بهبوب الريح أو ¬

_ (¬1) أنظر الأم (3/ 43)

زلزلة أو تحريك إنسان أو لم يعلم كيف سقط فلا ضمان عليه لأن الظاهر أن حله لم يدفعه ولم يحصل من جهته سبب ملجئ. والخامسة: أن يكون في الزق شيء جامد مثل السمن والدبس فحله ثم وقعت عليه الشمس فذاب ثم اندفق فيه وجهان: أحدهما: لا ضمان عليه لأن الحل كان ولم يكن منه [47/أ] اندفاق وإنما حصل من الذوبان بوقوع الشمس عليه. والثاني: يلزمه الضمان وهو الصحيح لأن الاندفاق حصل من حله لا بمعنىَّ آخر ويخالف إذا كان ذائباً فوقف ثم أندفق لأنا نعلم أنه حدث فيه أمر آخر دفعه غير الحل، ولو أندفق بسبب آخر بتحريك ريح ونحوه لا يضمن وجهاً واحداً وعند أبي حنيفة يجب ضمان ما في الزق في جميع الأحوال. فرع (¬1) لو كان في الزق ما هو بطيء الذهاب كالدبس الثخين والعسل القوي فاندفع يسيراً يسيراً حتى ذهب ما فيه فإن كان مُستعلى الرأس فلبث زمانا لا يندفع شيء منه ثم اندفع فلا ضمان، وإن اندفع في الحال أو كان منكساً رأسه فإن لم يقدر مالكه على استدراك شده حتى ذهب ما فيه ضمنه، وإن قدر على استدراك ما فيه فتركه المالك مع القدرة على استدراك شده فهل يضمن؟ وجهان أحدهما: يضمن كما لو خرق ثوبه وهو قادر على منعه أو قتل عبده وهو قادر على منعه، والثاني: لا يضمن، والفرق أنه في القتل والتخريق مباشر وفي حل الوكاء متسبب والسبب سقط حكمه مع القدرة على الامتناع منه كمن حفر بئراً فمر بها الإنسان وهو يراها ويقدر على اجتنابها فلم يفعل حتى سقط فيها لم يضمنه الحافر. فرع آخر (¬2) لو كان الزق مُستعلى الرأس وهو يندفع بعد الحل يسيراً بعد يسير فجاء أخر فنكسه حتى تعجل خروج ما فيه فذهب فعلى الأول ضمان ما خرج قبل التنكيس وفيما خرج بعده وجهان أحدهما: ضمانه عليهما لاشتراكهما في سبب ضمانه، والثاني: ضمانه على الثاني لسقوط السبب مع المباشرة فمار كالذابح يسقط سراية الخارج. فرع أخر (¬3) لو أدنى من الجامد ناراً بعد كشف إناثه وحل وكائه فحمي بها وذاب فلا ضمان على واحدٍ منهما، أما صاحب النار فلم يباشر بها ما يضمن به، وأما كاشف الإناء وحال الوكاء فلم يكن منه عند فعله جناية يضمن بها وصارا كسارقين نقب أحدهما: الحرز وأخرج الأخر المال لم نقطع واحداً منهما لأنه [47/ب] لم يكمل فعل كل واحد فيما يوجب القطع. فإن قيل: لم ضمن إذا ذاب بالشمس في أحد الوجهين ولم يضمن إذا ¬

_ (¬1) أنظر الحاوي للمار ودي (7/ 211) (¬2) أنظر الحاوي للمار ودي (7/ 211) (¬3) أنظر الحاوي للمار ودي (7/ 211)

كان بالنار؟ قلنا: لأن طلوع الشمس معلوم فصار كالقاصد له ودنو النار غير معلوم فلم يصر قاصداً له هكذا ذكره في "الحاوي" (¬1)، ومن أصحابنا من قال: يجب الضمان على صاحب النار لأنه باشر الإتلاف بإدناء النار فصار كما لو ألقى رجلاً في بئر حفرها غيره يلزم الضمان على الملقي وليس كالسرقة لأنه يجب الضمان هناك على من أخرج المال والقطع لا يجب لأنه لم يهتك الحرز وهو شرط والضمان يجب بمجرد الإتلاف. فرع آخر (¬2) لو كان كاشف الإناء وحال الوكاء هو الذي أدنى النار منه فذاب ضمن وجهاً واحداً بخلاف الشمس في أحد الوجهين لأنه من فعله وليس طلوع الشمس من فعله وصار كتفرده بهتك الحرز وأخذ ما فيه في وجوب القطع عليه. فرع آخر (¬3) لو حل رباط سفينة فشردت بعد حل رباطها فغرقت فإن كان غرقها في الحال من غير لبثٍ يضمن لحدوث التلف بفعله، وإن تطاول بها اللبث بعد الحل ثم غرقت بعده فإن ظهر سبب غرقها بحادث من ريح أو موج فلا ضمان لتلفها بما هو غير منسوب إليه، وإن لم يظهر حدوث سبب لتلفها ففي ضمانها وجهان أحدهما: لا يضمنها كما لا يضمن الزق إذا لبث بعد حله ثم مال. والثاني: يضمن بخلاف الزق لأن الماء أحد المتلفات. مسألة (¬4): قال: "ولو غصبَهُ داراً فقال الغاصب: هي بالكوفةِ". الفصل وهذا كما قال: إذا ادعى رجلٌ على رجلٍ داراً في يده لم تسمع الدعوى حتى يحروها والتحرير أن يعين الدار بذكر حدودها وموضعها فإذا تحررت الدعوى لم يخل المدعي عليه من أحد أمرين إما أن يقر أو ينكر، فإن أنكر حلف وانصرف وإن أقر وقال: له في يدي دار ألزمناه أن يصفها فإذا وصفها لم يخل المدعي من أحد أمرين إما أن يقبل ذلك أو يرد، فإن قبل فغيه ثلاث مسائل إحداها قال: قد أقر بما ادعيته ووصفه ما أقر به تسلم وانصرف. والثانية قال: [48/ أ] أقر بغير ما ادعيته ووصف ما أقو به قلنا: اقبض التي أقر بها واستحلفه على شيء واحل وهو فيما رد عينه عليه. والثالثة قال: أقر بما ادعيته ووصف غير ما أقر به قلنا: تسلم التي وصفها واستحلفه على شيئين لأنك تدعي عليه شيئين أحدهما: الدعوى الأولى، والثاني: يدعي أنه قد اعترف لك بها فيحلف على الأمرين معاً هذا إذا قبل ما وصفه فأما إذا رد ما وصغه وقال: هذه التي وصفها ليست لي ففيه مسألتان: إحداهما: قال: أقر بغير ما ادعيته ووصف ما أقر به حلفناه على شيء واحد. ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للما وردي (7/ 212). (¬2) انظر الحاوي للما وردي (7/ 212). (¬3) انظر الحاوي للما وردي (7/ 212). (¬4) أنظر الآم (3/ 44).

والثانية: قال: أقر بما ادعيته ووصف غير ما أقر به حلفاه على الأمرين معاً وعلى هذا من أقر لغيره بدار كلف التعيين فإن عين الدار فقال: هي هذه نطر ني المقر له فإن قال: قد عين ما أقر به تلا للمقر له: فما قولك في التي تدعيها فإن قال: هي لي قلنا: تسلمها واستحلفه أن التي أقر لك بها هي التي عينها فإن قال: التي عينها ليست لي قلنا: قد أقر لك بما لا تدعيه وتدعي عليه أنه عين غير ما أقر به قلنا: فاستحلفه أن التي عينها هي التي أقر لك بها وبطل حكم الإقرار في التي أقر بها لإنكار المقر له نص عليه، وإن امتنع من التعيين قال الشافعي: حبي حتى يعين، وقال أصحابنا: قلنا للمقر له عيّن أنت فإذا عين سألنا المقر فإن قال: هي التي عينها تسلمها وانصرف، فإن قال: ليس له قلنا: فعليك اليمين أنها ليست له فإن حلف سقط التعيين، وإن نكل رددنا اليمين على المقر له فإن حلف تسلمها وإن لم يحلف انصرف حتى يحلف. فرع (¬1) لو قال: غصبته داره ثم قال: أردت دارة الشمس أو القمر فإن قال مبتدئاً قبل، وإن قال ذلك جواباً عن دعوى دار عليه قيه وجهان أحدهما: يقبل توله لاحتماله، والثاني: لا يقبل قوله فيه لأنه إذا كان جواباً انصرف عنه الاحتمال إلى ما تضمه الدعوى. فرع آخر لو ادعى أنه غصب هذه الدار وأقام بينة فشهد أحد الشاهدين أنها ملكه وشهد الآخر أنها [41/ب] حيزه لم تقبل هذه الشهادة لأنها قد تكون حيزه ملكاً وغير ملكٍ فإذ قال: حيزه ملكاً تمت الشهادة. فرع آخر (¬2) لو شهد أحدهما: أنه غصبها يوم الجمعة، وشهد الآخر أنه غصبها يوم الخميس لم يحكم بها لأنهما غصبان. فرع آخر لو شهد أحدهما: فقال: أقر عندي يوم الخميس أنه غصبها، وقال الأخر: أقر عندي يوم الجمعة أنه غصبها قال الشافعي: لم تقبل هذه الشهادة وأجمح أصحابنا أنها مقبولة لأن الإقرار، وإن كان في وقتين فإنه إخبار عن الغصب في وقت واحد ومسألة الشافعي إذا قال أحدهما: الغصب كان يوم الخميس، وقال الأخر: الغصب كان يوم الجمعة. فرع آخر (¬3) لو شهد أحدهما: أنه غصبها من وكيله، وقال الأخر: غصبه إياها ولم يقل: غصبها ¬

_ (¬1) انظر الحاوي للما وردي (7/ 213). (¬2) انظر الحاوي للما وردي (7/ 214). (¬3) انظر الحاوي للما وردي (7/ 214).

منه كملت البينة لأن المغصوب من وكيله مغصوب منه فلم تتناف الشهادتان. فرع آخر لو قال أحدهما: غصبها من وكيله، وقال الآخر: غصبها منه لم تكمل بينته، ولو قال أحدهما: رأيتها مغصوبة في يده يوم الخميس، وقال الآخر: رأيتها مغصوبة في يده يوم الجمعة كملت البينة، ولو قال أحدهما: أقر عندي أنه غصبها يوم الخميس، وقال الآخر: أقر عندي أنه غصبها يوم الجمعة لم تكمل البينة بهما لأنهما غصبان. فرع آخر لو اعترف له بدارٍ مبهمةٍ ومات قيل للوارث: بيّن فإن لم يبين قيل للمدعي: بيّن أنت، فإن بيّن وعيّن دارا ًقلنا للوارث: ما تقول؟ فإن قال: هي التي أقر له بها أخذها وإن أنكر فقال: ليست هذه فالقول قول الوارث مع يمينه، فإذا حلف سقط تعيين المدعي وقيل للوارث: نحبسك حتى تبين الدار التي أقر له أبوك بها. فرع آخر لا ادعى داراً في يده فقال: لا أمنعك منها سقطت الدعوى إلا أن يدعي أنه أنهدم شيءٌ منها أو نقصها حين كانت في يده فعليه ضمانه حينئذ فيحلف على أنه لا يلزمه ما ادعاه. فرع آخر قال ابن أبي أحمد [49/أ] في التلخيص: لو أن رجلاً كان يحمل خشباً فاستراح إلى جدارٍ وأسند الخشبة إليه فسقط الجدار على شيء فأتلفه فإن كان الجدار لغيره ولم يكن بأمر صاحبه فعليه ضمان الجدار وضمان ما سقط عليه، وإن كان الجدار للحمال نظر، فإن سقط من ساعته فعليه ضمان ما سقط عليه، وإن سقط من بعد فلا ضمان عليه قلته تخريجاً قال أبو عبد الله في شرح "التلخيص": هذا صحيح لأنه إذا لم يسقط في الحال فما يحدث بعده هدر لأن كل ما بناه في ملكه أو وضعه في ملكه إذا أنهدم من غير صنع منه لا يجب عليه ضمانه كذلك ها هنا وهذا لأن الفعل مباحٌ غير مضمّن بشرط السلامة وانقضى ذلك، وقال القفال: ما قاله ابن أبي أحمد غلط لأنه لا فرق في الحكم بين أن يكون الحائط ملكه أو غير ملكه فإذا سقط من بعد لا ضمان، وإن كان غير ملكه، وإنما يفترق ضمان نفس الجدار بين أن يكون ملكه أو ملك غيره ويدل على هذا أنه لو فتح قفصاً عن طائر فطار ما فيه لغيره إن طار بعد أن وقف ساعة لا ضمان سواء كان القفص له أو كان ملكاً لغيره كذلك هاهنا. فرع آخر لو ابتلع دابة جوهرةً لرجل لا يخلو إما أن تكون يد صاحبها عليها، أو لا يد له عليها، فإن لم تكن له يد عليها مثل إن كانت تمشي في الطريق بنفسها نهاراً فلا ضمان على أحد، وحكمها حكم بهيمةٍ لا مالك لها كالصيود لا تتعرض لها ولا لصاحبها، ولو سأله صاحب الجوهرة بيعها منه لم يجبر عليه، وقال أبو حنيفة: إن كانت قيمة

الجوهرة أكثر من قيمة البهيمة أجبر صاحبها على أخذ قيمتها وإلا فلا وهذا غلط لأن ما لا يستحق تملكه باستهلاك الأقل لا يستحق تملكه باستهلاك الأكثر كما لو كسرت إناء أو أكلت طعاماً، وإن كانت يد صاحبها عليه مثل إن كان راكباً أو قائداً أو سائقاً، فإن أمكن صاحب الجوهرة دفعها عنه فلا شيء على صاحب الدابة لأن التفريط من جهة صاحبها لما لم يدفعها عن الجوهرة وهو [49/ب] قادر على دفعها فتصير الجناية منسوبة إليه ذكره ابن أبي هريرة، وإن لم يمكنه دفعه عنها ولم يقدر صاحبها على دفعها أيضا بأن انفلتت من يده لا ضمان أيضاً، وإن كان صاحبها قادراً على دفعها فلم يدفع كان عليه ضمانها لأنه مفرّط في حفظها. وقال ابن أبي هريرة إن كانت البهيمة بعيراً ضمن، وإن كانت شاةً لم يضمن لأن للعرف في البعير النفور فلزم منعه ومراعاته والعرف في الشاة السكون فلم يلزمه منعها ومراعاته وهذا خطأ لأن سقوط مراعاة الشاة إنما كان لأن المعهود فيها السلامة، فإذا أفضت إلى غير السلامة لزم الضمان كما نقول في ضرب الزوجة وتأديب الصبي. فرع آخر إذا أوجبنا على صاحبها الضمان فإن كانت البهيمة مما لا يؤكل لحمه لم يجز ذبحها وعلى صاحبها الضمان، وإن كانت مما يؤكل لحمه فيه قولان كما ذكرنا في مسألة الخيط إذا خاط به جرحها. فرع آخر إذا قلنا: لا تذبح يؤخذ منه قيمة الجوهرة، ثم لو ماتت أو ذبحها لمأكلةٍ فوصل إلى الجوهرة رجع بها المالك ورد القيمة بلا خلافٍ بخلاف ما لو أخذ القيمة بدل المثل ثم قدر عليه لا يرجع بالمثل لأن اتفاقهما على ذبح البهيمة لأخذ ما فيها من الجوهرة حرام فكان أخذ القيمة ضرورة وإذا حصلت الجوهرة زالت الضرورة، ولو اتفقا على القدوم إلى بلد المثل يجوز ولم يحرم فلم يكن فيه ضرورة يعتبر زوالها في الرجوع فإذا أخذ القيمة لا رجوع بعدها. فرع آخر لو تبايعا بهيمة فأكلت ثمنها فإن كانت بعد قبض الثمن فالبيع صحيح ثم ينظر في البهيمة فإن كانت في يد البائع فالثمن غير مضمون لأن ما جنته في يده مضمون عليه والثمن ملك له وعليه تسليم البهيمة إلى المشتري فإن قدر على الثمن بموت البهيمة أو ذبحها لمالكه رَدَّ على البائع، وإن كانت البهيمة في يد المشتري فالثمن مضمون عليه للبائع فإن كانت غير مأكولة غرم مثله، وإن كانت مأكولةً فهل تذبح لأخذ الثمن منها؟ [50/أ] قولان وإن ابتلعت قبل قبض الثمن فإن كان الثمن في الذمة لا يبطل به البيع وهو باقٍ في ذمة المشتري ثم ينظر، فإن كانت البهيمة عند ذلك في يد المشتري فما ابتلعته غير مضمون على واحدٍ منهما، أما البائع فلزوال يده بالتسليم، وأما المشتري فلأنه ماله وجناية البهيمة من ضمانه، وإن كانت في يد البائع فهو مضمون عليه، فإن

كانت مما لا يؤكل لزمه غرم مثله فعلى هذا يكون له الثمن وعليه مثله فيتقاضَّانه، وإن كانت مأكولة اللحم فهل تذبح؟ قولان: فإن قلنا: لا تذبح لزمه غرم مثل الثمن وتقاصَّاه ولا خيار للمشتري في فسخ البيع. وإن قلنا: تذبح لم يجز أن يتقاصاه لأن وجود عينه يمنع من استقراره في ذمة البيع والعين لا تكون قصاصاً من الذمة فعلى هذا للمشتري الخيار في فسخ البيع لأن ذبح البهيمة قد استحق في يد البائع وذلك عيبٌ حادث في ضمانه، وإن كان هو المسحتق لما أوجب العيب. وإن كان الثمن معيّناً فإن كانت غير مأكولة بطل البيع لأنه يتعذر القدرة صار كالتالف ثم ينظر، فإن كانت البهيمة في يد المشتري فهو تالفٌ من ماله والبائع غير ضامن وعلى المشتري رد البهيمة على البائع، فإن قدر على الثمن بموتها رد على المشتري، وإن كانت البهيمة في يد البائع فالثمن مضمون عليه ويغرم مثله، وإن كانت البهيمة مأكولة ففي بطلان البيع قولان بناءً على القولين في الذبح إذا ابتلعته فإن قلنا: لا تذبح فالبيع باطل على ما ذكرنا. وإن قلنا: تذبح فالبيع لا يبطل لأن الثمن المعين مقدور عليه ثم ينظر، فإن كانت البهيمة في يد المشتري ذبحت ودفع الثمن إلى البائع ولا خيار للمشتري في فسخ البيع لأنه عيبٌ حدث في يده، وإن كانت في يد البائع ذبحت وكان للمشتري الخيار لحدوث العيب في يد البائع، فإن كفَّ البائع عن ذبحها لم يسقط خيار المشتري لأنه لو طالب به من بعد لاستحقه، ولو أبرأ المشتري منه لم يجز لأن البراءة عن الأعيان لا تجوز [50/ ب] ولو وهبه منه لم تجز لأنها هبة ما لم يقبض وخيار المشتري في الأحوال كلها على حاله. فرع آخر لو مرت بهيمة رجل بقدر باقلانيّ فأدخلت رأسها فيه ولا يخرج منها لا يخلو إما أن يكون بتفريط من صاحبها، أو بتفريط من الباقلاني، أو بغير تفريط منهما أو بتفريط منهما، فإن كان بتفريط مالكها مثل إن كانت يده عليها فكأنه أدخل رأس شاته في قدر غيره هل تذبح؟ وجهان: أحدهما: تذبح لأنه المفرط كما لو غصب ساجةً وبنى عليها ينُقض البناء. والثاني: لا تذبح وتكسر القدر وعليه ضمان الكسر، وكذلك إن كانت بهيمة لا يؤكل لحمها تكسر القدر ولا تذبح بلا خلاف وتضمن الكسر إن كان الباقلاني مفرطاً مثل إن لم تكن يد صاحبها عليها وكانت قدر الباقلاني في الطريق كسرنا القدر ولا ضمان على أحد، وكذلك إن كان القدر في دكانه ولكنه قدر على دفعها عنها فلم يدفع، وإن لم يكن منهما تفريط مثل إن كانت القدر في دكانه ولا يد لأحد عليها ولم يقدر هو على دفعها عنها، فإن لم تكن البهيمة مأكولة كسرت القدر وضمن كسرها لأنه كسرها لتخليص ملكه، وإن كانت مأكولةً فيه قولان: أحدهما: تذبح البهيمة.

والثاني: تكسر القدر، وإن كان منهما تفريٌط مثل إن أخذا معاً رأسها وأدخلاه معا في القدر فالتخليص مضمون عليهما لاشتراكهما في التعدي كالمتصادمين، فإن لم تكن مأكولةً كسرت القدر وضمن صاحب البهيمة نصف الكسر والباقي هدر، وإن كانت مأكولة فإن قلنا: لا يجوز ذبحها كسرت القدر وضمن نصفها صاحب البهيمة. وإن قلنا: يجوز ذبحها فتنازعا فقال صاحب البهيمة: تكسر القدر لأضمن نصف كسرها، وقال صاحب القدر: بل تذبح البهيمة لأضمن نصف النقص في ذبحها نظر إلى البادئ منهما لطلب التخليص فجعل ذلك في جنبته فإن بدأ به صاحب البهيمة أجبر على ذبحها وربح [15/أ] بنصف نقصانها فإن بدأ به صاحب القدر أجبر على كسرها ورجع بنصف نقصها فإن كانا ممسكين عن النزاع حتى تطاول بهما الزمان أجبر صاحب البهيمة على ذلك لأن عليه خلاص بهيمته لأنها نفسٌ يحرم تعذيبها وليس على صاحب القدر خلاص قَدره إلا أن يشاء. فرع آخر لو كانت البهيمة لا توصل إلى منحرها لدخوله في القدر لا يكون عقرها ذكاةً لها لأنه قد يوصل إلى منحرها بكسر القدر فعلى هذا وجب كر القدر لأن عقر البهيمة لغير الذكاة حرام ثم يضمن صاحب البهيمة نصف الكسر. فرع آخر لو دخل فصيل في دار رجل فكبر ولا يمكن إخراجه إلا بهدم الباب فإن كان التفريط من صاحب الفصيل هل يذبح؟ وجهان فإذا قلنا: لا يذبح أو كان مما لا يؤكل هدمنا الباب والضمان على صاحبه، وإن كان التفريط من صاحب الدار فلا ضمان على أحدٍ في الهدم، وإن لم يكن من واحدٍ منهما تفريط هدم الباب والضمان على صاحب الفصيل لأنه لتخليص ملكه ولم يكن من صاحب الدار تفريطٌ، وإن كان التفريط منهما فعلى صاحب الفصيل نصف ضمان الهدم على ما ذكرنا في القدر. فرع آخر لو طرح رجل ديناره في محبرة رجل لا تكسر المحبرة إلا أن يضمن صاحب الدينار قيمة المحبرة، وإذا بذل قيمة المحبرة وجب كسرها ورد الدينار إلى صاحبه إلا أن يضمن صاحب المحبرة مثل الدينار فلا تكسر وهذا لأن في ذلك إزالة الضرر عن كل واحدٍ منهما، وإن غصبه صاحب المحبرة وطرحه فيها كسرت المحبرة ولا تجب قيمتها على صاحب الدينار لأنه بتفريط من جهته، وإن لم يكن منهما تفريط قلنا له: إن كسرت المحبرة فعليك ضمان ما نقص بالكسر ولك ذلك لأنه يزول الضرر عنهما به ولرب المحبرة أن يضمن الدينار حتى لا تكسر محبرته، وإن كان منهما تفريطٌ فيه كسرت المحبرة وعلى صاحب الدينار نصف الضمان. فرع آخر [51/ب] لو سرق فرد خُفَّ وكانت قيمة الخفين عشرة فلما فرق بينهما كانت قيمة

كل واحدٍ درهمين وهلك الذي سرقه يلزمه الضمان وكم يضمن؟ فيه وجهان أحدهما: يضمن ضمان ما هلك في يده وهو درهمان لأنه قيمة ما أتلف، والثاني: يلزمه ضمانه وضمان ما نقص بالتفرقة وهو ثمانية دراهم، وإن كانت قيمة ما بقي أربعة ضمن السارق ستة وهذا أصح، لأن النقصان حصل بفعله ولا يجب القطع بلا خلاف لأن قيمة ما أخرجه درهمان والباقي في ذمته ولا قطع فيما يلزم ذمته من الضمان كما لو أتلف في الحرز شيئاً لا يقطع بضمانه، وقال القفال: الأول أصح لأنه لا يغرم إلا فعلٌ فيه وهذا الباقي لا فعل له فيه وهذا كما نقول في عبد بين شريكين قيمته مائة دينار أعتق أحدهما: نصيبه وهو موسر لا يغرم لشريكه خمسين ديناراً ولكن يقال: كم قيمة نصف هذا العبد إذا بيع نصفه منفرداً فيقال: أربعون إذا العبد لا يُشترى نصفه منفرداً عن النصف الآخر كما يشترى إذا بيع كله وجنايته كانت على هذا النصف خاصةً وفعله كان فيه وحده فضمنه وحده كذلك ها هنا. وقال الشيخ أبو حامد وجماعة: المذهب هذا الوجه الثاني لأن الخُفٌين كالخف الواحد في الحكم لأنه لا يقع الانتفاع إلا بهما في العادة الغالبة ففي إتلاف أحدهما: إتلاف عينه ورفع تأليفه مع الخفٌ الأخر، فهو كما لو قطع من فرد خفٍ قيمته خمسة بعضه وأتلفه فرجعت قيمة كل واحدٍ من بعضه على انفراده إلى درهم يضمن كل ما نقص كذلك ها هنا ولا يقطع يده على ما ذكرنا في قطع بعض الخف الواحد عنه السرقة لأن الغرم يجب لنقص التأليف وقطع اليد لا يجب إلا بإخراج عين قيمتها ربع دينار من الحرز وقد أخرج ما يُسوي أقل من ذلك فلا قطع، فإن قيل: أليس نقصان السعر لا يلزم مع بقاء عينه فكذلك ها هنا قلنا: ذاك ليس من فعله وهذا من فعله فضمن. فرع آخر [52/أ] لو أرسل في ملكه ماء فسال إلى ملك غيره لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون قدر الحاجة أو أكثر فإن كان أكثر يلزمه الضمان لأنه مفرّطٌ فيه، وإن كان قدر الحاجة نظر، فإن كان يعلم أنه يفيض إلى ضيعة غيره مثل إن علم للماء طريقاً كثقب الفارة ونحو ذلك يلزمه الضمان أيضاً لأنه مفرطٌ فيه، وإن لم يعلم ذلك فدخل الماء إلى ملك غيره فلا ضمان عليه لأنه غير مفرط فيه وكذلك إن لم تكن حاجة ولكنه أرسل قدراً جرى به العرف لا ضمان عليه، وقال في "الحاوي": إن لم يكن له في أرضه مفيض له ولا كان في حدودها ما يصده عن الخروج إليه ضمن لما في طبع الماء من الجريان. فرع آخر الحكم في النار كالحكم في الماء سواء، فإذا أشعل في د اره ناراً فانتشرت وتعدت إلى دار جاره فأحرقتها فإن كانت النار إذا انتشرت فيما هي فيه لم يخرج عن حدود داره لا يضمن لأنه لم يتعد بها، وإن كان انتشارها فيما هي فيه يخرجها عن حدود داره ضمن لأن من طبع النار انتشارها فيما وقعت فيه فصار متعدياً بها فضمن، وإن أجَّج

قدر حاجته فانتشرت إلى غيره بعارض الريح لا يضمن، ولو أشعل في أرضه في يومٍ شديد الريح لا تثبت النار في موضعها ضمن. فرع آخر لو غصب منه سجلاً أو صكاً أو كتاب عهدةٍ فأتلفه كان عليه قيمته وإن قلت وسواء بطل احتجاج المالك بها في تثبيت أملاكه أم لا، ولو لم يتلفه ولكن محا ما كان مثبتاً فيه من خطّ وثيقةٍ لا شيء عليه إلا أن ينقص بذلك قيمة الكتاب فيضمن ما نقص ولكن يعزر إن فعل ذلك إضراراً به وإبطالاً لوثيقته. فرع آخر لو أطارت الريح ثوباً في داره فأكلته البهيمة بعد علمه فإن قدر على منعها فلم يمنع ضمن وإن لم يقدر على منعها لم يضمن. فرع آخر لو علم هو مالك الثوب يلزمه إعلامه فإن لم يعلمه ضمن، وإن علم مالكه بوقوعه فيه ليس عليه إعلامه ولا ضمان عليه في تركه. فرع آخر لو أطارته الريح بعد تركه فهلك فإن لم يقدر على حفظه عنا هبوبه لا يضمن، وإن قدر على حفظه [52/ب] عند هبوبه فيه وجهان أحدهما: لا يضمن لأنه لم يكن منه ما يضمن به، والثاني: يضمن كما لو أكلته بهيمة يقدر على منعها. فرع آخر لو كان الثوب حين أطارته الريح إلى داره وقح في صبغ لصاحب الدار فانصبغ به لا ضمان على واحدٍ منهما لعدم التعدي منهما ثم ينظر، فإن أمكن استخراج الصبغ من الثوب استخرجه ويكون نقص الثوب والصبغ هدراً، وإن لم يمكن استخراجه كانا شريكين فيه بقيمة الصبغ والثوب على زيادته ونقصه. فرع آخر لو سقط في دار رجل طائر مملوك فلا ضمان عليه ولا يلزم إعلام صاحبه به سواء كان عالماً أو غير عالمٍ بخلاف الثوب لأن الطير ممتنع وعوده بنفسه ممكن. فرع آخر لو دخل الطير في برج صاحب الدار فأغلق عليه باب البرج فإن نوى بإغلاقه تملك الطير ضمنه، وإن لم ينو تملكه فلا ضمان عليه لأنه يملك التصرف في داره كيف شاء. فرع آخر لو جلس قصَّار في ملك نفسه وبجنبه حمَّام متى دقَّ الثياب في ملكه لا يثبت الحمَّام فله ذلك ولا يلتفت إلى ضرر جاره ذكره أصحابنا.

مسألة (¬1): قال: "ولو غصبَهُ دابةُ فضاعت فأدَّى قيمتَهَا". الفصل وهذا كما قال: إذا غصب دابة فضاعت أو عبداً فأبق ولا يعرف موضعها يلزم الغاصب قيمتها فإذا دفعها يملكها المالك ولا يملك الغاصب العين المغصوبة، فإذا ظهرت بعد دفع القيمة إلى صاحبها كان صاحبها أحق بها ويلزمه رد قيمتها على الغاصب، وقال أبو حنيفة: إذا غرم الغاصب القيمة زال ملك المالك عن العين وملكها الغاصب وإذا قدر عليها لا يلزمه ردها إلا أن يكون الغاصب دفع قيمتها بقوله مع يمينه وكانت القيمة أكثر مما قال. فللمالك ردها واسترجاع العين والخلاف في فصلين أحدهما: في أن الغاصب هل يملكها بدفع القيمة، والثاني: في أنه إذا قدر عليها هل يلزم الغاصب ردها أم لا؟ والدليل على قولنا إنه غرم ما تعذر عليه رده بخروجه عن يده فلا يملكه به كما لو غرم قيمة العبد المدبر [53/أ] عند إباقه، فإذا تقرر هذا فإنه يجب على الغاصب أجرتها من حين غصب إلى أن أخذ القيمة قولاً واحداً. وأما الأجرة من حين سلم القيمة إلى أن رد العين المغصوبة هل يلزم أم لا؟ فيه وجهان أحدهما: تلزم الأجرة لأن العين باقية على ملكه والمنفعة له ولزمته قبل دفع القيمة لأنه حال بينه وبين ملكه وهذا المعنى موجود بعد دفع القيمة أيضا وهذا ظاهر المذهب، والثاني: لا تلزم الأجرة لأنه ينتفع بالقيمة التي أقيمت مقام العين فلا تلزم الأجرة لمنافع العين وهذا أقيس، وأما نماؤها لمالكها متميزاً كان أو غير متميز ويلزمه ردها مع النماء، ولو زادت العين بعد دفع القيمة ثم ذهبت الزيادة ضمنها في ظاهر المذهب، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان أيضاً كما قلنا أيضاً في الأجرة، وكذلك قالوا في زيادة السوق إذا حصلت في هذه الحالة وبلغت العين بعد ذلك هل يضمنها أم لا؟ وأما القيمة إن كانت قائمةً ردها فإن كانت زادت فإن كانت الزيادة غير متميزة كالسمن وتعليم القرآن ردها بزيادتها، وإن كانت الزيادة متميزةً كالثمار والنتاج فهذه الزيادة للمغصوب منه دون الغاصب وهذا يتصور إذا أخذ في قيمتها عبداً أو جاريةً أو شجرة ونحو ذلك، وإن كانت تالفةً رد بدلها مثلها إن كان لها مثل أو قيمتها إن لم يكن لها مثل، وأعلم أن هذه الجملة ذكرها أصحابنا بخراسان والعراق وذكر صاحب "الحاوي" (¬2) حكم هذه المسألة خلاف هذا فقال: إذا أبق العبد المغصوب فإن قدر على رده بعد زمانٍ يسير لا يجبر على بدل القيمة، وإن كان العبد على مسافةٍ بعيدة يجبر الغاصب على دفع القيمة فإذا دفعها ملكها المالك ملكاً مستقراً وملك الغاصب العبد ملكاً مراعى ليتملَّكه بعد القدرة عليه إن شاء، أو يتوصل به إلى استرداد ما أجبر من دفع القيمة إن شاء لأن الإجبار يمنع من استقرار الملك بالعوض، ثم إذا قدر على العبد فهو ¬

_ (¬1) أنظر الآم (3/ 44) (¬2) أنظر الحاوي للمارودي (7/ 215).

بالخيار بين أن يتملكه الآن وبين أن يرده ولا خيار للمغصوب [53/ب] منه لأن المغصوب منه لما ملك الخيار في الابتداء لم يملكه في الانتهاء، والغاصب لما لم يملكه في الابتداء ملكه في الانتهاء. فإن اختار تملكه استقر ملكه عليه حينئذ باختياره، وإن طلب القيمة ولم يختر تملّكه قيل للمغصوب منه: إن رددت القيمة عاد العبد إليك ولا أجرة لك فيما مضى لأنك تملكه الآن ملكا مبتدءاً، وإن امتنعت من رد القيمة لم تجبر على ردها لأنك قد ملكتها وبيع العبد ليأخذ الغاصب من ثمنه ما دفعه من القيمة فإذا بيع فإن كان بقدر القيمة أخذ كله، وإن كان أكثر فالزيادة للمغصوب منه لأنها زيادة لم يستقر ملكه عليها، وإن كان أقل يأخذه الغاصب ويكون العجز عائداً إليه لضمانه نقص المغصوب، وإن كان رده ممتنعاً للجهل بمكانه يؤخذ منه قيمته جبراً فإذا أخذها ففي استقرار ملكه على القيمة وجهان أحدهما: أن ملكه مستقر عليها لفوات الرد، والثاني: أن ملكه عليها مراعى لجواز القدرة على الرد ثم إذا وجد العبد بعد أخذ قيمته فهو باقٍ على حكم ملك المالك يأخذه ويرد ما أخذ من قيمته فإذا استرجع رجع بنقص إن كان فيه، وبنماء إن كان وفي رجوعه بأجرته بعد أخذ قيمته وجهان مبنيان على أن ملكه على القيمة هل يكون مستقراً أو مراعى؟ ولو أن أجنبياً تصرف في هذا العبد الأبق رجع المالك عليه بالأجرة وجهاً واحداً وهل يكون مخيراً في الرجوع بها عليه وعلى الغاصب أم لا؟ على ما ذكرنا من الوجهين فإن قلنا: يضمن الغاصب الأجرة له الخيار، وإن قلنا: إنه لا يضمن الأجرة ليس له الخيار بل يرجع على المستخدم وحده ثم إذا رجع المالك بما ذكرنا فإن كان ما أخذه الغاصب من القيمة مستهلكاً تقاصّا في مقدار الأجرة وما نقص ورد مثل الباقي منه، وإن كان باقياً فإن قلنا: باستقرار ملكه عليه له أن يأخذه منها قدر ما يستحقه ويرد الباقي بعينه وإن قلنا: إنه مراعى لم يكن له أن يأخذ منه ذلك إلا برضا الغاصب لأن وجود المغصوب رفع ملكه عن القيمة فصار [54/أ] كسائر أموال الغاصب لا يجوز أن يأخذ منها حقه إلا بإذنه إذا أمكن أن يصل منه إلى حقه وليس أن يرتهن القيمة على أخذ الأجرة وله أن يرتهنها على أخذ النقص لأنها بدل عن العين دون المنفعة. فرع لو قال الغاصب: أنا أشتريها منك وهي عندي وقد عرفتها فباعها إياها فالبيع جائز نص عليه الشافعي قال المزني: قد أجاز بيع الغائب ومنعه في موضع آخر وهذا غير صحيح لأن هذا شيء رآه الغاصب وعرفه فلا يكون بيع الغائب كما لو كانت وديعة في يده فاشتراها بعدما رآها وعرفها وأعلم أن الشافعي يجوّز بيع المغصوب من الغاصب ومن غيره إذا كان قادراً على انتزاعه منه لا يختلف مذهبه فيه، والذي منع الشافعي هو بيع دابةٍ ضاعت من يد الغاصب وهو لا يعلم موضعها لا يجوز بيعها منه للعجز عن التسليم وجملة الأمر أن الغاصب إذا أراد شراء ما غصبه فباعه المالك نظر، فإن لم يأت عليه من المدة ما يجوز تغيره فيه يصح البيع بلا خلاف، وإن أتى عليه من المدة ما يجوز تغيره فيه يصح البيع أيضاً

على الصحيح من المذهب لأن العلم بصفات المبيع قد حصل. ومن أصحابنا من قال: حكم الرؤية قد بطل بتطاول المدة وجواز التغير فيكون كبيع الغائب لخيار الرؤية وفيه قولان، وإن طالت المدة ونسيا أوصافه فقد بطل حكم الرؤية أيضاً وعلى هذا إذا كحل الإنسان فباع أملاكه التي كان قد رآها من قبل هل يجوز على هذا الخلاف؟ واعلم أن الشافعي قال ها هنا: ولو كان هذا بيعاً ما جاز أن تباع دابة غائبة وهو احتجاج منه على أبي حنيفة بدليل لا يسلمه لأن أبا حنيفة يجوّز بيع الغائب فيقال لهم: لو كان هذا بيعاً لزمكم أن تفصلوا في هذه المسألة بين المدبر والعبد القنّ وقد زعمتم أن الغاصب لو غصب مدبراً فأبق من يده يلزمه أن يغرم قيمته لمالكه ولا يجوز بيع المدبر [54/ب] عندكم فعلمنا أنه غرم ما غرم على طريق الحيلولة لا على طريق المبايعة وأخلَّ المزني بالنقل ها هنا ونقل كلام الشافعي على غير وجهه فقال: ما جاز أن تباع دابةً غائبةً كعين جُنيَ عليها فابيضت أو على سن صبي فانقلعت، ولو أراد قل كلام الشافعي من غير خللٍ لكان يقول وردَّ ما قبض من قيمتها لأنه أخذ قيمتها على أنها فائتة فكأن الفوت قد بطل كعين جني عليها فابيضت، أو على سن صبي فانقلعت فأخذ أرشها بعد أن أيس منها ثم ذهب البياض ونبتت السن فلما عادا رجع حقهما وبطل الأرش بذلك فيهما، ولو كان هذا بيعاً ما جاز أن تباع دابةً غائبةً. فرع آخر لو أبق العبد المغصوب فاستأجر الغاصب مالكها لطلبها بأجرةِ سمَّاه فيه وجهان أحدهما: يجوز وله الأجرة المسماة لأنه مالك لمنافع نفسه فملك المعاوضة عليها، والثاني: لا تجوز الإجارة ولا أجرة له لأنه لا يصح أن يعمل في ماله بعوض على غيره. مسألة (¬1): قال: "ولو باعَهُ عبداً وقبضهُ المشتري ثم أقرَّ البائعُ أنه كانَ غصبَهُ منْ رجلٍ". الفصل وهذا كما قال: إذا باع رجل من أخر عبداً أو أقبضه إياه ثم أقر البائع أنه كان غصبه من رجل وصدقه ذلك الرجل لا يخلو المشتري من أحد أمرين إما أن يصدق البائع أو يكذبه فإن صدقه فالبيع باطلٌ وسلم العبد إلى المغصوب منه ورجع المشتري على البائع بما دفع إليه من الثمن، وان كذبه المشتري فلا يقبل قول البائع عليه في بطلان حقه من المبيع، وهل يلزم البائع قيمة العبد؟ بيناه فيما مضى فإن رجع العبد إلى البائع بشراء أو هبةٍ أو ميراث أو رد بالعيب لزمه تسليمه إلى المقر له بالغصب لأنه أقر بأنه ملكه لا حق له فيه كما نقول فيمن شهداً بعتق عبدٍ فردت شهادتهما ثم ملكاه عتق عليهما بإقرارهما السابق. وأما الثمن فإن كان البائع ما قبض الثمن لم يكن له مطالبته به، وإن كان قد قبض لم ¬

_ (¬1) أنظر الآم (3/ 45).

يكن للمشتري مطالبته به [55/ أ] لأن أحدهما: لا يدعي على صاحبه شيئاًَ، وإن كان هذا الإقرار من البائع قبل لزوم البيع في مدة الخيار حكمنا ببطلان البيع لأن البائع يملك فسخ البيع في هذه الحالة، وإن أقام البائع بينة بما يدعيه على المشتري بعد لزوم البيع لم تقبل بينته لأنه مكذب لها، وإن أقام المالك بينة بذلك نظر، فإن شهد له البائع لم تقبل شهادته وإن شهد غير البائع قبلت شهادته وحكمنا ببطلان البيع ورجع البائع على المشتري بالثمن إن كان قد قبضه، وإن لم يكن للمدعي بينة وأراد إحلاف المشتري كان له لأنه لما لزمه الحق بالإقرار لزمته اليمين مع الإنكار ويحلف أنه لا يعلم أنه مغصوب فإن لم يدع علمه بذلك لا يلزمه اليمين هكذا ذكره القفال، وكلام أصحابنا يدل على أنه يحلف على البتّ أنه له بحق ولا يلزمه رده إليه وان صدقه المشتري وحده قبل إقراره في حق نفسه وكلف تسليم العبد إلى المدعي ولا يقبل إقراره على البائع في نقض البيع ولا يرجع على البائع بالثمن، وإن كانت المسألة بحالها إلا أن المشتري أعتقه ثم اتفق البائع والمشتري على أن العبد كان مغصوباً لم يبطل البيع لأن هذا البيع تعلق به حق العبد فلا يقبل قولهما على إبطال حقه، فإن صدقهما العبد على ذلك لا يبطل البيع أيضاً لأن بالعتق يتعلق حق الله تعالى فلا يقبل قولهم في إبطال حق الله تعالى، وهل يرجع على البائع بقيمته؟ على ما ذكرناه فإذا قلنا: يرجع فإن شاء رجع بها على البائع، وإن شاء رجع بها على المشتري، فإن رجع على البائع رجع بها البائع على المشتري، وإن رجع بها على المشتري لم يرجع بها على البائع وإنما يرجع بالثمن الذي دفعه إليه، وإنما قلنا: إنه لا يرجع على البائع بما دفع من القيمة لأن الشراء اقتضى أن يكون العبد مضموناً عليه فلا يجوز أن يرجع عليه بضمانه على غيره، ولو كان هذا العبد يُسوى في يد البائع تسعمائة [55/ب] فباعه وسلمه إليه فصارت قيمته في يد المشتري ألفاً فغرم الغاصب ألفاً. قال القفال: لم يرجع على المشتري إلا بتسعمائة لأنه لم يدخل في هذا العقد ليضمن الزيادة. قال أصحابنا: يجب أن تستقر تمام الغرامة على المشتري ولا يجب على البائع إلا رد الثمن لأن المشتري أقر بأن البيع كان فاسداً، وفي البيع الفاسد بسبب الغصب يجب الضمان بأكثر القيمة كما في الغصب وهذا هو المذهب، وإنما القولان فيمن اشترى من المالك شراءً فاسداً هل يضمنه بيوم القبض أو بأكثر القيمة وقد مضى ذلك والولاء موقوف في هذه المسألة لأن أحداً لا يدعيه، فإن مات العبد وله مال كان للمدعي وحده لأنهم أجمعوا على أنه عبده، وإن أقام المدعي البينة نقضنا البيع ورددنا العتق وعاد العبد إليه. فرع لو باع شيئاً ثم قال: بعته وأنا لا أملكه ثم ملكته الآن بإرثٍ من فلان المتوفى فإن قال حين باع: إنه ملكي لم تسمع دعواه ولا بينته لأنه سبق من إقراره ما هو تكذيب لبينته وإن لم يحصل منه ما هو صريح في أنه ملكه وإنما قال: بعتك هذا الشيء، بكذا ثم ادعى ذلك تسمع دعواه فإن كانت له بينة حكم له بها، وإن لم يكن بينة حلف له

المشتري لقد باعه وهو ملكه لأنه لم يحصل من إقراره ما يكون تكذيباً لدعواه وبينته نص عليه في "الأم" حكاه القاضي الطبري وغيره ورأيت مشايخ آمل لا يقبلون هذه البينة، وكذلك قالوا: لو ادعى أن المبيع كان وقفاً عليه ولم يعلم هو لا تسمع دعواه ولا بينته والنص الذي ذكرنا أولى وعليه الفتوى وهذا لأن الإنسان قه يبيع ملكه وغير ملكه وقد يبيعه ولا يعلم الوقفية ثم يعلم. مسألة (¬1):قال: "وإنْ كَسَرَ لنصراني صليباً". الفصل وهذا كما قال: الصليب موضوع على زعمهم أن عيسى ابن مريم صلى الله عليهما قُتل وصلب على مثله فاعتقدوا إعظامه [56/أ] طاعة والتمسك به قربة وقد أخبر الله تعالى بتكذيبهم فقال: {ومَا قَتَلُوهُ ومَا صَلَبُوهُ ولَكِن شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] الآية فإن جاهرونا بالصليب وجب إنكاره ثم نظر، فإن كان الإمام شرط عليهم في عقد جزيتهم ترك مجاهرتنا به جاز في الإنكار عليهم أن يعمد إلى تفصيل الصليب وكسره رفعاً لما أظهروه من المعصية به، وإن لم يكن شرط ذلك عليهم في عقد جزيتهم وجب أن يقتصر على الإنكار عليهم في المجاهرة ولا يكسر إلا أن يقيموا بعد الإنكار على إظهاره فيكسر عليهم كسراً لا يوجب غرماً وهو بالتفصيل وإزالة التركيب فإن زاد عليه فإن كان له قيمة وهو مفصل ولم تنقص قيمته بالكسر الذي زاد على التفصيل فلا شيء عليه، وإن نقصت قيمته بالكسر فعليه ما بين قيمته مفصلاً مكسوراً وبين قيمته مفصلاً صحيحاً. مسألة (¬2): قال: "ولوْ أراقَ لهُ خمرًا". الفصل وهذا كما قال: إذا أراق مسلم لنصرانيَّ خمراً أو قتل له خنزيراً لا يضمن، وكذلك إن أراق الذمي هذه الخمرة لا يحكم عليه بالضمان فإن خرق وعاء الخمر يلزمه أرش ما نقص لأن له قيمة في الشريعة والاعتبار بما أوجبته شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - دون ما يعتقده الكفرة الفجرة، وقال أبو حنيفة ومالك: يلزم الضمان له في الخمر والخنزير، وقال أبو حنيفة: فإن أراقها مسلم يلزمه القيمة، وان أراقها ذمي يلزمه مثلها وهذا غلط لأن ما لا يضمن في حق المسلم لا يضمن في حق الذمي كالعبد المرتد والدم، واحتج الشافعي عليهم بالموقوذة لا تُضمن لهم وهم لا يسلّمون ذلك إذا اعتقدوه مالاً واحتجوا بما روي أن عامل عمر - رضي الله عنه - كتب إليه أن أهل الذمة يمرون بالعاشر ومعهم الخمور فكتب إليه عمر - رضي الله عنه - "ولوهم بيعها وخذوا منهم عشر أثمانها" فدل أنها مال لهم فتضمن لهم قلنا: معناه لا تتعرضوا عليهم في بيعها [56/ب] وإنما أمر بأخذ العُشر من أثمانها لأنهم إذا تبايعوا وتقابضوا بالرضا حكمنا لهم بالملك ولا ننقضه وسماه ثمناً مجازاً لا حقيقةً. فرع ¬

_ (¬1) أنظر الآم (3/ 45) (¬2) أنظر الآم (3/ 46)

[فرع] قال في "البويطي": لو غصب من رجل عبداً فجنى العبد على إنسان فالجناية تتعلق برقبة العبد إلا أنه يتعلق الضمان بالغاصب فإن كان قد قتل فاقتص منه فقد استوفى المجني عليه حقه وعلى الغاصب قيمته للمغصوب منه، وإن كان قد قطع يده فقطعت يده فهو كما لو سقطت يده بأكلةٍ فيلزم على الغاصب ما نقص أو نصف الدية على ما ذكرناه، وإن عفا المجني عليه على مالٍ وباعه فيه وأخذ ثمنه كان لصاحبه أن يرجع به على الغاصب. وقال بعض أصحابنا: لصاحبه مطالبة الغاصب بفكاكه من أرش الجناية. ومن أصحابنا من قال: هذا إذا قلنا: الواجب الأقل من أرش الجناية أو قيمة العبد فأما إذا قلنا: يجب تسليم العبد للبيع أو يضمن للمجني عليه جميع الأرش فلا يجب على الغاصب تخليصه منه بجمع الأرش. فرع آخر قال ابن الحداد: لو غصب عبداً لرجل فجنى العبد في يديه جنايةً ومات العبد فعلى الغاصب تسليم القيمة لمالكه فإذا أخذها المالك كان لأولياء المقتول أن يطالبوا السيد بدية صاحبهم من القيمة لأن حق الجناية تعلق بعين العبد فتعلق ببدله كحق الرهن ثم إذا أخذوا ذلك من السيد كان للسيد أن يرجع على الغاصب فيطالبه بما أخذوا لأن ذلك الغرم لزم والعبد حينئذ مضمون عليه حتى تخلص للسيد قيمة العبد، قال: ولو كان العبد وديعةً فجنى جنايةً استغرقت قيمته ثم قتله المودع بعد ذلك وجب عليه قيمته وتعلق بها أرش الجناية، فإذا أخذها ولي الجناية لم يرجع السيد على المودع لأنه حين جنى عليه لم يكن مضمونا عليه. فرع آخر [57/أ] وقال أيضاً: لو أن عبداً جنى في يد مالكه جنايةً تستغرق قيمته فبيع في الجناية وأخذ وليُّ كل مقتولٍ نصف الثمن كان للسيد أن يرجع على الغاصب بنصف ثمن عبده لأن نصف الثمن لزم وهو مضمون على الغاصب، فإذا أخذ ذلك كان لأولياء المقتول الأول أن يرجعوا على المالك بما أخذ لأنهم كانوا مستحقين بقيمته كلها ولم يكن للمغصوب منه أن يرجع على الغاصب بشيء لأنه قد غرم له النصف الذي لزم بسببه وإنما أخذ من السيد ما أخذ بما كان وجب وهو في يده. وقاك القاضي الطبري: العلة في هذه المسألة أنه وجب على الغاصب ضمان نصف الثمن بسبب الجناية فقط، فإذا غرم مرةً ثم أخذ من يد السيد لم يرجع السيد به على الغاصب ثانياً وإنما جعل أولياء المقتول الأول أحق بما نأخذه من الغاصب من نصف الثمن لأنهم استحقوا جميع قيمة العبد قبل تعلق حق الأولياء المقتول الثاني به، وليس كذلك أولياء المقتول الثاني لأنهم لم يستحقوا من العبد إلا نصف الثمن فلم يكن لهم غير ما أخذوه. قال أصحابنا: في هذه العبارة نظر لأن حق الثاني تعلق بجميع الرقبة أيضاً، ألا ترى أن الأول لو أبرأه استحق الثاني جميع قيمته وينبغي أن يقال: الذي يأخذه من الغاصب إنما هو عوض عما أخذه المجني عليه ثانياً فلا يتعلق حقه به ويتعلق به حق الأول لأنه بدل عن

قيمة الجاني لا مزاحم فيه فكان له قال: فإن كانت المسألة بحالها فمات في يد الغاصب بعد الجنايتين كان للمغصوب أن يطالب الغاصب بالقيمة وإذا أخذها أخذ أولياء المقتولين القيمة نصفين ثم لمالك العبد أن يطالب الغاصب بنصف قيمة العبد ثانياً لأنها أخذت منه بما جناه وهو في يد الغاصب فإذا أخذها كان لأولياء المقتول الأول أن يطالبوا السيد بها لأنهم كانوا قد استحقوا قيمته كلها قبل جناية العبد على الثاني ولم يكن للمغصوب منه أن يرجع على الغاصب بشي، لأنه لم يلزمه إلا ما أخذه منه. فرع آخر وقال أيضاً: لو أن رجلاً غصب عبدا فقتله عبد [57/ب] عمداً فاختار السيد القصاص لم يكن له على الغاصب شيء، ولو أخذ قيمة عبده من سيد العبد القاتل لم يكن له أيضاً على الغاصب شيء، ولو اختار أن يطالب سيد العبد الجاني بما غرم ولو قصرت قيمة العبد القاتل عن قيمة العبد المقتول فطالب سيد العبد القاتل بقيمة العبد الجاني وأخذها منه كان له أن يرجع على الغاصب بباقي قيمة سيده. فرع آخر لو غصب رجل عبداً فقُتل في يده رجلاً ثم عدا عبدٌ على العبد المغصوب فقتله عمداً فاختار سيد العبد المغصوب المقتول في يد الغاصب القود كان له ذلك ولم يكن عليه غرم لوليّ الرجل المقتول ولا له على الغاصب شيء. فرع آخر لو غصب فحلاً فأنزاه على عقبه فلا أجرة عليه فإن نقص بذلك يلزمه ما نقص وكان النتاج تابعاً للأم وحدها، ولو غصب شاة ثم أنزى عليها فحل نفسه فالولد لمالك الأم ولا شي، له في الفحل نقص أو لم ينقص لأنه بفعله. فرع آخر لو غصب عبداً أمرد فنبتت لحيته في يد الغاصب ونقصت قيمته بها وجب ضمان النقصان على الغاصب خلافاً لأبي حنيفة، ووافقنا أنه لو كان شاباً فصار شيخاً أو كانت جاريةً ناهدةً فسقطت ثدياها يلزمه أرش النقصان. فرع آخر إذا غصب عبداً فقال الغاصب: رددته حياً فمات في يدك، وقال المالك: مات في يدك وأقام كل واحدٍ منهما بينة بما ادعاه تعارضت البينتان وسقطتا وضمن الغاصب لأن الأصل بقاء العبد عنده حتى يثبت رده حياً، وقال أبو يوسف بينة المالك أولى لأن الأمل الغصب، وقال محمد بينة الغاصب أولى لأن الأصل براءة ذمته وهذا غلط لأن البينتين تعارضتا من كل وجه فلا بد من التساقط لأنه لا ترجيح لأحديهما: على الأخرى. فرع آخر إذا غصب ألف درهم من رجل وألف درهم من آخر وخلطهما ولا يتميز فإنهما

شريكان فيه، وقال أبو حنيفة يملكهما الغاصب ويجب لكل واحد منهما مثل دراهمه وبناه على أصله في تغيير المغصوب [58/أ] يوجب التملك. فرع آخر إذا غصب حراً صغيراً فمات في يده لم يضمن، ولو لدغته عقربٌ فمات لا يضمن أيضاً، وقال أبو حنيفة: تضمن عاقلته الدية وهذا غلط قياساً على ما لو مات في يده وقياساً على الكبير. فرع آخر لو غصب حراً كبيراً وحبسه مدةً لمثلها أجرة فإن استوفى فيها منفعته يلزمه الأجرة لأنه أتلف عليه متقوّماً، وإن لم يستوف منفعته فيه وجهان أحدهما: وهو ظاهر المذهب أنه لا يلزمه الأجرة لأنها تلفت تحت يده كأطرافه وثياب بدنه، والثاني: وهو اختيار ابن أبي هريرة يلزمه الأجرة لأنها منفعة تضمن بالإجارة فتضمن بالغصب كمنفعة العبد. فرع آخر لو غصب من مسلم خمراً يمسكها بنية الخلّ هل يلزمه ردها إليه؟ وجهان وظاهر المذهب أنه لا يلزم لخبر أبي طلحة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له: "أرقها" ولو غصبها من ذمي يلزمه ردها عليه لأنه يقر على شربها. فرع آخر لو غصب خمراً وتلفت عنده ثم اختلفا فقال المغصوب منه: صارت خلاً ثم تلف فعليك الضمان، وقال الغاصب: بل تلفت خمراً فلا ضمان عليَّ فالقول قول الغاصب لأن الأصل براءة ذمته وأنها خمر. فرع آخر لو اختلفا في الثياب التي على العبد المغصوب فقال الغاصب: إنها لي وادعى المالك أنها له فالقول قول الغاصب لأن العبد وما عليه في يده، ولو شهد شاهدان أنه رأى في يد الغاصب وعليه هذه الثياب فقال الغاصب: كانت لي فالقول قول الغاصب، وفيه وجه آخر القول قول المالك. فرع آخر لو قال المغصوب منه: غصبتني طعاماً حديثاً، وقال الغاصب: بل غصبتك طعاما عتيقاً فالقول قول الغاصب فإذا حلف جاز للمغصوب منه أن يأخذ العتيق لأنه أنقص من حقه. فرع آخر إذا غصب حنطة فطحنها ثم تلف الدقيق عنده قد ذكرنا أنه يغرم الحنطة قال والدي رحمه الله: ويحتمل أن يقال: يغرم قيمة الدقيق كما لو غصب خشباً واتخذ منه باباً ثم تلف عنده يضمن قيمة الباب وهذا لأن المغصوب [58/ب] مضمون بأكثر ضمانه من يوم الأخذ إلى يوم التلف ويحتمل أن يقال: المالك بالخيار إن شاء طالبه بمثل الحنطة، وإن شاء طالبه

بقيمة الدقيق لأن سبب ضمانهما حامل وهو قبض الحنطة وتلف الدقيق عنده بعدوان. فرع آخر لو غصب شيئاً لا مثل له ونقد البلد في ذلك الوقت دراهم ثم تلف في ياه ونقد البلد يوم التلف دنانير فأراد صاحب المال أن يضمنه الدراهم ثم يعدل إلى قيمتها بالدنانير فإن ذلك أحظ له من تضمينه بالدنانير هل له ذلك؟ قال والدي رحمه الله: يحتمل أن له ذلك لأنا نعتبر أكثر القيمة من وقت القبض إلى وقت التلف وهذا أكثر أحوال القيمة، ومن أصحابنا من قال: الاعتبار بالنقد الثاني كما في المسألة قبلها يلزمه قيمة الدقيق وهذا لأن الاعتبار بحال الاستقرار عند تغيٌر الحال. فرع آخر إذا قال لآخر: أرق ما في هذا الإناء وكان فيه خمر فصارت خلا فأراقه يلزمه الضمان، وكذلك لو قال: اقتُل عبدي هذا وكان مرتداً فقبل قتله صار مسلماً فقتله لزمه الضمان لأن الظاهر أن الإراقة والقتل لصفة الخمرية والردة فتفيد الإذن بهما لهذا الظاهر بدليل أن صاحب الشرع لو كان قال ذلك تقيا الإذن بهذين ويحتمل وجها آخر لا يلزمه الضمان. فرع آخر رجل حمل إلى أخر دستاراً فيه فاكهةً وقال له: ضعه في دكانك فأخذه ووضعه ثم تناول من الفاكهة شيئاً فجاءه الدافع وقال: ادفع إلي الدستار فإن الفاكهة جملتها لك هل يلزمه التحليل بما تناول يحتمل أن يقال: يلزمه ذلك لأن القبول لم يكن حصل فيه على جهة الهدية ولا تتم الهدية إلا بالقبول إما تصريحاً أو معنى والقبض بعده، فإن قيل: أليس لو دفع الصدقة إلى فقير ولم يعلم أنها صدقة يصح منه القبول، وإن كان لا يعرف جهة الدفع؟ قلنا: هناك وجد منه القبول على جهة التملك بغير عوضٍ والتسليط عليه من جميع الوجوه فأغنى عن معرفة التفصيل وها هنا بخلافه. فرع آخر لو أن لصاً معروفاً باللصوصية أودع مالاً عند رجل [59/أ] ويغلب على ظنه أن ذلك المال لغيره وربما يكون عليه الظن مثل اليقين ثم طالبه بالرد هل له الرد؟ يحتمل أن يقال: يلزمه الرد وهو القياس لجواز أن يكون ملكاً له واليد علامة الملك ويحتمل أن يقال: يتوقف في الرد ويطلب صاحبه، فإذا لم يظهر مع امتداد الزمان رده وهذا مثل من مات وترك أخاً ويحتمل له وارثاً آخر يتربص مدةً ويتفحص، فإذا لم يظهر وارث آخر سلم المال إليه. فرع آخر لو أعار من رجل أرضاً ليغرس فيها فغرس ثم مات المعير فمضت مدة لمثلها أجرة هل للوارث مطالبته بأجرة مثل سكان الغراس فقياس المذهب أن له المطالبة لأن العارية بطلت بالموت فصار كما لو بطلت في حال الحياة برجوع المعير فيكون له المطالبة بالأجرة.

فرع آخر إذا سعى رجل بآخر إلى ظالم فأخذ منه الظالم المال أفتى بعض أصحابنا أنه لا يلزمه الضمان في الحكم ولكن يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى ولا يصح هذا الفتوى لأن الضمان لو وجب في الباطن لوجب في الظاهر لأن الحالة ظاهرة في الظاهر والباطن. فرع آخر لو غصب جاريةً حاملاً من زنى فولدت عنده وكان الغصب بآمل مثلاً والآن بقي المالك والغاصب بجرجان ويطالبه برد الأم والولد عليه هل تلزم مؤونة رد الولد على المالك أو على الغاصب؟ القياس أن تلزم على الغاصب لأنه كان عليه مؤونة الولد حال كونه في بطن الأم لأن في رد الأم رد الولد الذي في البطن فلا يزول هذا الوجوب عن الغاصب بمفارقة الولد الأم. فرع آخر إذا كان عليه دين لرجل فمات ولا وارث له هل يتصدق به أو يدفعه إلى الحاكم؟ القياس أنه يدفع إلى الحاكم لأن هذا الدين صار لجماعة المسلمين والحاكم نائبهم، فإن قيل: أليس له التصدق باللقطة بعد الحول من غير إذن الحاكم؟ قلنا: هناك لا يدُرى أن الحق لواحدٍ معينٍ من المسلمين أو لجماعتهم وها هنا الحق للجماعة وحق القبض للإمام، ولهذا أجاز في (59/ب) اللقطة التملك بعوضٍ وهذا لأنه يندب إلى أخذ اللقطة، وإذا احتاج إلى الإمام لا يرغب في أخذها، فإن قيل: ما تقول إذا كان من عليه الدين بطبرستان فأنفذ الدين إلى حاكم جرجان هل يبرأ؟ قلنا: إن حمل هو ودفعه إلى قاضي جرجان برئ، وان أنفذه إليه وهو في طبرستان لا يبرأ لأنه في غير ولايته، وقال والدي رحمه الله: الأشبه أنه يبرأ لأنه قائم مقام الإمام مثل هذا القاضي الذي بطبرستان، ولو لم يكن في بلده قاضٍ يلزمه إنفاذه إلى قاضي بلدٍ آخر إذا أمكنه ذلك وكان لا يصل إلى الإمام. فرع آخر لو دفعه إلى قاضٍ ثم ظهر أنه كان له وارث لا يطالبه وقد برئ بالدفع إلى القاضي لأنه نائب الغائب، وقال والدي رحمه الله: يحتمل أن يقال: إن ظهر أنه كان في بلده لا يبرأ بالدفع إلى القاضي بخلاف ما لو كان في بلد آخر، والفرق أنه إذا كان في بلده وكان عالماً بالحال لا يبرأ بالدفع إلى الحاكم فكذلك في حال الجهل لأن العلم والجهل سواء فيما يعود إلى حق الآدمي، وإذا كان في غير بلده يبرأ بالدفع إلى الحاكم عند العلم فكذلك عند الجهل ويحتمل أن يقال: لا يبرأ أصلاً لأنه دفع على تقدير عام الوارث وكان بخلافه وهذا لا وجه له عندي. فرع آخر متى يجوز للمديون دفع الدين إلى الحاكم مع بقا، صاحبه إذا كان غائباً؟ قال والدي

رحمه الله: ينظر، فإن كان الأداء متعيناً عليه بأن طالبه صاحبه فلم يؤده حتى غاب يلزمه دفعه إلى الحاكم إذا لم يقدر على دفعه إليه أو نائبه لأنه قائم مقامه شرعاً، وإن لم يتعين عليه الأداء لا يلزمه دفعه إلى الحاكم ولو دفع هل يبرأ؟ يحتمل أن يقال: لا يبرأ إلا أن يكون هناك سبب يخاف إن أخر أداؤه يفوت قضاؤه فيبرأ حينئذ لأن الحاكم لا يقوم مقام الغائب عند سلامة الحال وإنما يقوم مقامه في حال الضرورة ولهذا لا يجوز للمودع إيداع الوديعة عند الحاكم إذا لم يرد السفر، ويحتمل أن يقال: يبرأ لأنه يلحقه المشقة في إيصاله إلى صاحبه فساغ له الدفع (60/ أ) إلى الحاكم ليبرأ ذمته وهذا أصح عندي. فرع آخر إذا كان عليه دين هل يلزمه أداؤه على الفور أو على التراخي؟ يحتمل أن يقال: إن كان وجوبه برضا المالك فهو على التراخي ويتعين أداؤه بالمطالبة أو تخوف منه على ماله فيفوت قضاؤه، وإن كان وجوبه بغير رضا المالك فالقضاء على الفور لأن صاحبه لم يرض بوجوبه في ذمته وهذا لأنه إذا كان برضا المالك فصاحب الدين مندوب إلى أن لا يطالب بالدين، فلو كان وجوب القضاء على الفور لكان مندوباً إلى المطالبة ليخرج من عليه الدين من العصيان بتأخير القضاء ويحتمل أن يقال: إذا كان الوجوب بغير رضاه ينظر، فإن كان صاحبه لا يعلم به لزمه القضاء على الفور، وان كان عالماً به فإن وجب بتعدَّ منه كان على الفور، وان كان بغير تعد وجب على التراخي فالأول مثل الزكاة فإنها على الفور لأن صاحبها لما لم يتعين لم يمكن تقدير وجود الرضا منه، والثاني: كقضاء الصلاة المتروكة بغير عذرٍ، والثالث: كقضاء الصلاة المتروكة بعذر فكما فصلنا في حق الله تعالى هذا التفصيل وجب مثله في حقوق الآدميين وبالله التوفيق. تم الجزء السادس حسب تقسيم المحقق ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السابع وأوله: كتاب الشفعة

بَحَرُ المَذْهَبَ في فرُوعِ المذْهَب الشّافعي تأليف القاضي العلامة فخر الإسلام شيخ الشافعية الإمام أبي المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني المتوفى سنة 502 تحقيق طارق فتحي السيد الجُزء السّابع يحتوي على الكتب التالية: الشفعة - القراض -المساقاة -الشرط في الرقيق- الإجارات العطايا والصدقات والحبس والسائبة- المزارعة وكراء الأرض والشركة في الزرع إحياء الموات -اللقطة- الجعالة- الفرائض

كتاب الشفعة

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الشفعة قال: أخبرنا مالك وذكر الخبر. وهذا كما قال: سميت الشفعة شفعة لأن الرجل إذا أراد بيع داره أتاه شريكه أو جاره يشفع إليه فيما يبيع فسميت شفعة وسمي طالبها شفيعًا وهذا قول أبي محمد بن قتيبة وقيل: سميت به لأن طالبها جاء تاليًا للمشتري فكان ثانيًا بعد أول فسمي شفيعًا لأن الاثنين شفع والواحد وتر وسمي الطلب شفعة، وقال ثعلب: الشفعة الزيادة ولهذا إذا أضيف إلى الوتر غيره صار شفعًا، والشفيع يضم نصيب شريكه إلى نصيبه فيصير نصيبه زائدًا بعد أن كان ناقصًا، والشفعة في الشرع حق تملك لدفع الضرر عن الملك بإخراج الدخيل في الملك، وحكي عن الأصم وإسماعيل ابن علية أنه لا أصل للشفعة وهي باطلة وهذا قول متروك عليهما والأصل فيها الكتاب والسنة [60/ ب] والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {وتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى} [المائدة:2] وهذا من جملة البر. وأما السنة ما روي جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشفعة في كل شرك ربعة أو حائط لا يصلح أن يباع حتى يؤذن شريكه فإن باعه فهو أحق به"، وروي أنه قضي بالشفعة في كل شرك ما لم يقسم ربعة أو حائط لا يحل له أن يبيع حتى يؤذن شريكه فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك فإن باع ولم يؤذنه فهو أحق به بالثمن والربع والربعة المنزل الذي يربع به الإنسان ويتوطنه يقال: هذا ربع وهذه ربعة كما قالوا: دار وداره وقيل: الربع اسم للدار مع بنائها والحائط اسم للبستان مع غراسه، وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة". وروي عن جابر أنه قال: إنما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم الشفعة في كل مل لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة وكلمة إنما تعمل بركنيها فهي مثبتة للشيء نافية لما سواه وهذا يدل على أنه لا شفعة في المقسوم، وقال الأزهري: قال أهل العربية: إنما تقتضي إيجاب شيء ونفي غيره كقولهم إنما المرء بأصغريه بقلبه ولسانه ومعناه أن كمال المرء بهذين العضوين وإن صغرا منظرًا، واعلم أن الشافعي روى قوله

الشفعة فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود فلا شفعة مرسًلا عن سعيد بن المسيب وأبي سلمة بن عبد الرحمن عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه في "الإملاء" عنهما عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم ورواه أيضًا عن جابر مرفوعًا. وأما الإجماع فلا خوف بين كافة الصحابة وجمهور العلماء فيه، فإذا تقرر هذا فالشفعة عندنا بالخلطة والشركة دون الجوار وبه قال عمر وعثمان وعلي في أصح الروايتين وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير والزهري وربيعة ومالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور رضي الله عنهم [61/ أ] وقال أبو حنيفة والثوري وابن شبرمة وابن أبي ليلى: تثبت الشفعة بالشركة في الطريق ثم بالجوار. وقال أبو حنيفة: فإن لم يكن شريك وكان الطريق مشتركًا كدرب لا ينفذ تثبت الشفعة لجميع أهل الدرب الأقرب فالأقرب، فإن لم يأخذوا وأثبت للملاصق من درب آخر خاصة وقال أيضًا: الشركة في النهر تثبت الشفعة في الأملاك التي تسقى بمائه إن كان النهر لا يحتمل السفن، وإن كان بحيث يحتمل السفن لا تثبت الشفعة بسببه وليس لأبي حنيفة صحابي يساعده على هذا المذهب وربما ينسبونه إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقال عبيد الله العنبري وسوار القاضي: تثبت الشفعة بالشركة في الملك والشركة في الطريق أيضًا ثم ذكر الشافعي مناظرة جرت بينه وبين الخصم فقال: واحتج محتج بما روى أبو رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الجار أحق بسبقه" فدل على أن الشفعة ثابتة للجار والسقب والصقب بالسين والصاد القرب، والصقوب العمد التي تعمد بها بيوت الأعراب وأحدها صقب فأجاب الشافعي: بأنك ما أجريت الخبر على عموده فإنك منعت الشفعة لمن بينك وبينه ذراع إذا كان الطريق نافذًا وأعطيت الشفعة من بينك وبينه رحبة أكثر من ألف ذراع إذا لم يكن نافذَا ثم قال: هذا الخبر لا يحتمل إلا معنيين أحدهما: أن يكون مطلقًا بعمومه على كل جار، أو يكون مختصًا ببعض الجيران فأحمله على الشريك الذي لم يقاسم فإنه يسمى جارا كما يسمى المقاسم جارًا بدليل خبرنا حتى يكون جمعًا بين الخبرين وخبرك لا يخالف خبرنا لأنه مجمل وخبرنا مفسر وأراد بالمجمل العام وبالمفسر الخاص، ويجوز أن يسمى العام مجهولاً على معنى أنه مشتمل بظاهر الاسم على جمل كثيرة فقال الخصم: وهل يقع اسم الجار على الشريك حتى يستقيم هذا التأويل؟ بل الشريك [61/ ب] أخص بشريكه وأقرب إليه من أن يسمى جارًا لان ملكه مختلط بملكه اختلاط شيوع وإنما يطلق اسم الجار على من جاور غيره بملك ممتاز عن ملكه فأجاب الشافعي بأن المرأة تسمى جارة مع أنها أقرب من الشريك لأنها ضجيعته تقول العرب: امرأة الرجل جارته مع قربها منه بدليل قول الأعشى: أجارتنا بيني فإنك طالقه وموموقةٌ ما عشت فينا ووامقه

الأشعار إلى آخرها قال المزني: والبيت الخامس من غير الشافعي رحمة الله عليه: وذوقي فتى حيًّ فإني ذائقٌ فتاةً لحيًّ مثل ما أنت ذائقه وقال عروة: نزل الطلاق في مقدار عدده موافقًا للأعشى ثم قال الشافعي: وحديثنا أثبت إسنادًا وأبينها لفظًا وأعرفها في الفرق بين المقاسم وبين من لم يقاسم، ثم ذكر الشافعي طريق القياس في المسألة متصلاً بكلامه على الخبر فقال: أنه إذا باع مشاعًا باع غير متجزئ فيكون شريكه أحق به لأن حقه شائع فيه وعليه في الداخل سوء المشاركة ومؤونة مقاسمةٍ وليس كذلك المقسوم ثم إن أصحابنا زادوا في الجواب فقالوا: أراد الجار أحق بقربه لأن السَّقب القرب قال الشاعر: كوفية نازحٌ محلَّتها لا أممٌ دارها ولا سقب فيحتمل أنه أحق بالإحسان إليه والبرّ، وقد روي أن رجلاً قال: يا رسول الله إنَّ لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: إلى أقربهما منك دارًا أو بابًا" أو يحتمل أنه أراد أنه أحق بالعرض عليه عند البيع بدليل ما روي عن عمرو بن الشريد أنه قال: وضع المسور بن مخرمة يده على منكبي هذا فانطلقت معه حتى أتينا سعدًا فجلسنا إليه فجاء أبو رافع فقال للمسور: ألا تأمر هذا أن يشتري مني بيتي فقال له سعد: والله لا أزيدك على أربعمائة دينار إما قطعة، وإما منجمة فقال أبو رافع: سبحان الله [62/ أ] لقد منعتهما من خمسمائة نقدًا ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الجار أحق بسبقه ما بعتك فدل على ما ذكرنا من التأويل. واحتج أبو حنيفة أيضًا بما روى الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشفعة والجوار وقال: "جار الدار أحق بالدار من غيره" وروي "جار الدار أحق بدار الجار والأرض" قلنا: قال يحي بن معين: لم يسمع الحسن من سمرة وإنما هو صحيفة وقعت إليه، وقال غيره: سمع الحسن من سمرة خبر العقيقة فحسب أو نحمله على الجار المشارك دون المقاسم بدليل ما روى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قسمت الأرض وحًدَّت فلا شفعة فيها". واحتج بما روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الجار أحق بشفعة جاره ينتظر بها، وإن كان غائبًا إذا كان طريقهما واحدًا" قلنا: تفرد به عبد الملك بن أبي سليمان وهو ضعيف الحديث وأنكر شعبة هذا الخبر وقال: إن روى عبد الملك حدثنا آخر مثل هذا تركت حديثه، ثم إن صح نحمله على المشاع لأن الطريق إنما يكون واحدًا على الحقيقة في المشاع دون المقسوم، ثم ذكر الشافعي المذهب بعد ما قدم الدلالة وهذه عادته في تصنيفه فقال: ولا شفعة إلا في مشاعٍ وإنما قيد مشاع لأن سهم كل واحدٍ من

الشريكين أشيع أي أذيع وفرَّق في أجزاء سهم الآخر حتى لا يتميز منه. مسألة: قال: "وللشَّفيع الشفعة بالثمنِ الذي وقعَ بهِ البيعُ". وهذا كما قال: إذا أراد الشفيع أخذ الشقص بالشفعة يأخذه بالثمن الذي وقع العقد عليه فإن كان له مثل فبالمثل، وإن لم يكن له مثل فبالقيمة، وقال الحسن البصر: وسوار القاضي: إذا لم يكن للمثل مثل لا شفعة فيه، وقال ابن أبي ليلى: إذا لم يكن له مثل يأخذه بقيمة الشقص وهذا غلط لما روي في خبر جابر فإن باعه فشريكه أحق به بالثمن ولأنه لا يخلو إما أن يأخذه بما يختار الشفيع أو بما يختار [62/ ب] المشتري أو بقيمته أو بالثمن لا يجوز أن يقال: يأخذ بما يختاره الشفيع لأنه يتحكم ويأخذ بالنقصان ولا يجوز أن يأخذ بما يختاره المشتري لأنه يتحكم أيضًا فلا يسلم إلا بزيادة ولا يجوز أن يأخذه بالقيمة لأنه قد تكون القيمة أكثر من الثمن فيؤدي إلى الإضرار بالشفيع، وإن كانت القيمة أقل من الثمن يؤدي إلى الإضرار بالمشتري فلم يبق إلى أن يقال: يأخذه بالثمن الذي وقع به البيع، فإن قيل: الشفيع يأخذه من غير اختياره لحاجته إليه فيجب أن يكون بالقيمة كالمضطر إلى طعام الغير يأكله بالقيمة قيل: المضطر يأخذه بالحاجة خاصة فالمرجع في بدله إلى القيمة، والشفيع يأخذه بالبيع لأنه لو ملك بهبة أو إرث لا شفعة مع الحاجة، وإذا اختص بالبيع اختص بالعوض الثابت بالبيع، فإذا تقرر هذا يأخذه بما استقر عليه العقد فإن زادا في الثمن أو نقص في مدة الخيار أخذ بما استقر بعد انقضاء الخيار لأن حالة الخيار كحالة التعاقد. فرع لو اشترى شقصًا بمائة من حنطة لم يأخذه الشفيع بالحنطة وزنًا بل يأخذه كيلاً فينظر كم تكون تلك الحنطة كيلاً لأنه يجري هذا الضمان مجرى ضمان الإتلاف وضمان الإتلاف في ذوات الأمثال يجري مجرى القرض وقرض المكيل وزنًا لا يجوز، فلو أقرض الحنطة وزنًا فالقرض فاسد بخلاف السلم لا ربا بين رأس المال والمسلم فيه وفي القرض بين ما يعطي ويأخذ ربًا إذا كان المال مال الربا إذ الجنس واحد. مسألة: قال: "فإنْ علمَ وطلبَ مكانَهُ فهي لهُ". الفصل وهذا كما قال: المستحب إذا باع شيئًا يستحق بالشفعة أن يعرضه على شريكه فإن اختار ذلك باعه منه، وإن لم يختر باعه من غيره، ولو باعه قبل أن يعرضه عليه أو بعد عرضه عليه كان للشفيع الشفعة والشفيع بالخيار بين أن يأخذ أو يدع وإذا أراد [63/ أ] الأخذ فسلم المشتري إليه أصح التسليم ولا يحتاج إلى حكم الحاكم فإن امتنع المشتري منه حاكمه إلى الحاكم بنفسه أو بوكيله، وقال أبو حنيفة: لا بد من حكم الحاكم وهذا غلط لأنه تسليم واجب بالإجماع فلا يفتقر إلى حكم الحاكم، وغن لم يعلم الشفيع

بالشفعة لغيبته أو لسبب آخر لا تبطل شفعته وإن طال الزمان. وقال أبو حنيفة: إذا امتدت غيبته سنة بطلت الشفعة، وإن لم يعلم وربما ينكرون هذا المذهب وهذا غلط لأنه حق ثبت لإزالة الضرر فلا يبطل مع عدم العلم به كالرد بالعيب، ثم إذا علم فخياره في الأخذ على الفور أو على التراخي فيه أربعة أقوال قال في الجديد: هو على الفور كخيار القبول في البيع والرد بالعيب وهذا هو الصحيح وبه قال أبو حنيفة إلا أنه يقدره بالمجلس وعندنا لا يتقدر في ظاهر المذهب عندي والدليل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "الشفعة لمن واثبها"، وروي: "الشفعة كنشاطة العقال إن قيدت ثبتت وإن تركت فاللوم على من تركها" وقيل: فيه وجهان والمذهب أن له الخيار ما دام في المجلس الذي بلغه، ومعنى الفور عندنا أنه على حسب الإمكان في العرف فإن علم بها وكان حاقنًا تطهر، وغن كان على صلاة صلاها، وإن كان به شدة جوع أكل وغسل يده، وإن كان عريان لبس ثيابه التي جرت عادته بلبسها، وإن كان بالليل فحتى يصبح ويصلي الصبح على ما جرت به العادة ولا يلزمه العدو إلى دار المشتري ولا الركوب طلبًا للمبادرة إليه، وأصل هذا عرف العادة، وإن كان معذورًا فأخر الطلب به لم يبطل أيضًا والعذر ثلاثة مرض وحبس وغيبة، فإن كان مريضًا نظر، فإن كان المرض خفيفًا يمكن المطالبة مع وجوده كالصداع ونحوه فهو كالصحيح، وإن كان شديدًا لا يمكنه المطالبة [63/ ب] به مع وجوده فإن قدر على التوكيل وكل، وغن ترك ذاك بطلت شفعته، وغن لم يقدر على التوكيل كان عذرًا فيصير إلى أن يقدر فيوكل أو يطلب هو وهل يلزمه الإشهاد؟ قال أكثر أصحابنا: الإشهاد لازم لأنه لابد من أن يظهر أمارة تدل على انه تركها للعذر لا للرضا بالترك وبه قال صاحب "الإفصاح" ويفارق هذا القادر على الطلب لا يلزمه الإشهاد لأن ظهور الطلب من القادر عليه يغني عن الإخبار بمراده والعاجز عنه يحتمل أن يكون إمساكه تركًا للشفعة ويحتمل أن يكون قصدًا للطلب مع المكنة فافتقر إلى نفي الاحتمال في الإخبار عن مراده بالإشهاد، وقال بعض أصحابنا: الإشهاد احتياط ولا يجب وهو ظاهر كلام الشافعي ها هنا لأنه قال: فإن كان له عذر من حبس أو غيره فهو على شفعته وإلا فلا شفعة له ولم يشترط فيه الإشهاد وقيل: فيه قولان ذكره في "الحاوي"، وقال القاضي الطبري: لو ترك التوكيل مع الإمكان هل تبطل شفعته؟ وجهان: أحدهما: لا تبطل وهو اختيار أبي إسحاق وغيره لأن له غرضًا في أن يتولى طلبها بنفسه لئلا يلزمه أجرة الوكيل أو المنة إن لم يكن بأجرة، أو لا يقر على الموكل بما يسقط حق الشفعة فيحكم الحاكم بصحة إقراره على قول بعض العلماء. والثاني: تبطل لأن وكيله يقوم مقامه، ألا ترى أنه إذا أمكنته أن يطلب بنفسه فوكل

غيره قام طلب الوكيل مقام طلبه فيجب أن يكون ترك الطلب بوكيلة بمنزلة ترك الطلب بنفسه وهذا أصح عندي قاله القاضي أبو حامد نصًا في جامعه: وفيه وجه ثالث إن وجد من يتطوع بالوكالة بطلت لأنه ترك الطلب من غير ضرر، فإن لم يجد من يتطوع لا تبطل للعذر وهذا قريب، وإن كان محبوسًا لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون محبوسًا بحق أو بغير حق [64/ أ] فإن كان بغير حق مثل الحبس للمصادرة أو الحبس بدين وهو معسر لا يقدر على القضاء فهو كالمريض سواء، وإن كان محبوسًا بحق مثل إن كان عليه دين يقدر على أدائه لا يكون عذرًا وتبطل شفعته بالتأخير، وإن كان غائبًا فأشهد على شفعته وقضى حوائجه وأخذ في المسير كان على شفعته، وإن لم يشهد على ذلك ولكنه قضى حوائجه وأخذ في المسير هل تبطل شفعته؟ على ما ذكرنا من الاختلاف والصحيح أنه لا تبطل لأن الظاهر أنه سار للطلب، وإن لم يقدر على المسير ولا على التوكيل لا يبطل فإن قدر على التوكيل دون المسير فعلى ما ذكرنا من الاختلاف والقول الثاني قاله في كتاب السنن أنه يتأقت بثلاثة أيام وبه قال الثوري لأنه لا بد له من تروي وتأمل والثلاث حد ما بين القليل والكثير، والثالث: قاله في القديم وبه قال مالك أنه على التأبيد لا تبطل إلا بأن يصرح بالعفو عن حقه لأنه استيفاء مال فأشبه استيفاء الدين وقد قال الشافعي: إن كان للقياس حكم بين الناس فخيار الشفعة على التأبيد كالقصاص، والقول الرابع قاله في القديم أيضًا أنه على التأبيد إلا أن يصرح بالعفو أو يظهر منه فعل يدل على الرضا بتركه مثل أن يقول للمشتري: بعينه أو آجرنيه أو أنفق عليه معي ونحو ذلك. فرع إذا قلنا: إنه على التأبيد هل للمشتري أن يرفع الشفيع إلى القاضي حتى يأخذ أو يترك؟ قال أبو إسحاق: إن قلنا بالقول الذي ذكره في القديم أولاً لا يجبره الحاكم على ذلك ولا يبطله عليه لأنه حقه على التراخي، وإن قلنا بالقول الثاني في القديم يجبره الحاكم على الأخذ أو الترك لأنه يؤدي إلى الضرر بالمشتري لو بقي على الحق أبدًا فلابد من إزالة الضرر منه إما بالأخذ أو بالترك، وروي عن مالك أنه قال: ينقطع بعد سنة، ورواه ابن وهب، وروى غيره أربعة أشهر، وروي عنه انه قال: ينقطع بأن يمضي عليه من الزمان ما يعلم أنه تارك لها. فرع آخر إذا قلنا: له الخيار ما دام [64/ ب] في المجلس فعفا عنها قبل مفارقة المجلس هل تسقط شفعته؟ فيه وجهان قال في اختلاف العراقيين: لا تسقط، وقال ابن سريج: تسقط لأنه بالإبراء والإسقاط أشبه. فرع آخر إذا قلنا: يلزمه الإشهاد يلزمه أن يشهد من يكون بينة كاملة عند الحكام، فإن أشهد

واحدًا ليحلف معه لم يجز لأن من الحكام من لا يحكم بالشاهد واليمين فلم يصر مستوثقًا لنفسه بالإشهاد. فرع آخر لو أشهد عبيدًا أو فساقًا أو صبيانًا لم يجز، وقال أبو حنيفة: يجوز ويكفي ذلك وهذا غلط لأن مقصود الشهادة الأداء ولا يصح من هؤلاء الأداء. فرع آخر إذا قلنا: الإشهاد واجب فقال الشفيع: أشهدت وسرت، وقال المشتري: لم نشهد أو قلنا: الإشهاد ليس بشرط فقال الشفيع: سرت عقيب السماع، وقال المشتري: لم تسر عقيب السماع مع الإمكان فالقول قول الشفيع لأن هذا اختلاف في فعله وهو أعلم به، وكذلك إن اختلفا فقال: أخرته للعجز، وقال المشتري: أخرته مع القدرة فالقول قول الشفيع. فرع آخر لو كان بآمل ولهما دار مشتركة بينهما بجرجان فباع أحدهما نصيبه منها من أجنبي فسكت شريكه عن المطالبة حتى قدم جرجان وقال: سكت لتكون مطالبتي بالبلد الذي فيه الدار قال الشافعي: بطلت شفعته كما لو بلغه وهو في البلد فلم يطالب حتى حضر عند الدار المبيعة وقال: أردت المطالبة عندها بطلت شفعته. فرع آخر لو أنكره المشتري بآمل أنه خليطه فأخرها ليقيم البينة بجرجان كان على شفعته إذا لم يجد بينه بآمل. فرع آخر اختلف أصحابنا فيمن يشهد به البينة في استحقاق الشفعة على وجهين أحدهما: لا شفعة له إلا أن تشهد له البينة بالملك وبه قال أبو حنيفة ومحمد لئلا ينتزع ملكًا بأمر محتمل، والثاني: يستحق الشفعة إذا شهدت له البينة باليد وبه قال أبو يوسف لأنها حجة في الملك لكن [65/ أ] يحلف الشفيع على بينته باليد أنه مالك ثم يحكم له بالشفعة. فرع آخر لو أخر الطلب وقال: إنما لم أطالب بها على الفور لأني لم أصدق من أخبرني بالبيع فإن أخبره عدلان بطلت شفعته، وغن أخبره عدل واحد هل تبطل شفعته؟ وجهان أحدهما: تبطل لأن طريقة الخبر ولأنه حجة مع اليمين، والثاني: لا تبطل لأنه لا يحكم به ورواه الحسن بن زياد عن أبي حنيفة، ولو أخبره رجل وامرأتان عدول بطلت شفعته.

فرع آخر لو أخبره عبد أو امرأة واحدة قال القاضي الطبري: يجب أن يكون على وجهين، وقال أبو حامد: لا تبطل، وروى الحسن بن زياد عن أبي يوسف أنه قال: تبطل شفعته لأن طريق الخبر وكذلك قال: لو اخبره صبي وهذا غلط لأن بقول هؤلاء لا تقوم الحجة فلا يسقط بهم حقه. فرع آخر لو أخبره كافر أو صبي أو فاسق لم تبطل شفعته ذكره أصحابنا، وقال في "الحاوي": يصير علمًا بكل خبر يقع في نفسه صدقه، ولو منت امرأة أو عبد أو كافر إذا وقع في قلبه أن المخبر صادق خلافًا لأبي حنيفة وهذا غريب والقياس عندي هذا. ولو ظهر به أخبار التواتر فقال: لم أعلم بطلت شفعته وعلم كذبه. فرع آخر لو علم الشفيع بالبيع فأمسك عن الشفعة لجهله باستحقاق الشفعة هل تبطل شفعته؟ وجهان مخرجان من اختلاف قوليه في الأمة إذا أعتقت تحت عبد فأمسكت عن الفسخ لجهلها باستحقاقه وهذا لأن هذا مما يحتمل خفاؤه على العوام. فرع آخر لو تعاقدا بالبيع بألف وأظهراه بألفين فسلم الشفيع الشفعة ثم قامت البينة على الألف كان له مطالبته بالشفعة، وقال ابن أبي ليلى: لا شفعة له وهذا غلط لأنه ترك الطلب لغلاء الثمن الأول ولعجزه عنه فإذا ثبت أنه أقل منه كان له أخذها. فرع آخر لو قامت البينة أن الثمن كان أكثر مما أظهراه لم يكن له المطالبة لأنه لا غرض لها في الزيادة. [65/ ب] فرع آخر لو أظهر أنه باع بعض نصيبه فترك الشفعة، ثم قامت البينة أنه باع جميع نصيبه كان له أخذه بالشفعة لان له غرضًا في الكثير. فرع آخر لو أظهر أنه كل نصيبه ثم بان أنه اشترى أقل مما أظهراه كان له الشفعة لأن له غرضًا في القليل من وجه آخر وهو أنه ربما لم يكن معه ثمن الكثير وكان معه ثمن القليل.

فرع آخر لو أظهر أنه اشترى كل الشقص بمائة منًا ثم بان أنه كان اشترى نصفه بمائة لم تكن له الشفعة لأن من لا يرضى الشقص كله بمائة لا يرضى نصفه بمائة. فرع آخر لو أظهر الشراء بالدنانير فترك الشفعة ثم بان أنه كان بالدراهم أو أظهر بالدراهم ثم بان أنه كان بالدنانير لا تبطل الشفعة وبه قال زفر، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إذا كانت قيمتهما سواء بطلت شفاعته لأنهما يجريان مجرى الجنس الواحد وهذا غلط لأن الأغراض تختلف به وربما تقدر على أحد النقدين دون الآخر. فرع آخر لو أظهر المشتري فلان فترك الشفعة ثم قامت البينة أنه وكل وأن المشتري غيره كان له مطالبته بالشفعة لأنه يحتمل أن يرضى بشركة المشتري ولا يرضى بشركة المشترى له هكذا ذكر جمهور أصحابنا، وقال في "الحاوي": فيه وجهان أحدهما: هذا الذي ذكرنا وهو على قول من جعل علة الشفعة الخوف من سوء المشاركة، والثاني: تبطل شفعته لأن معرفة المشتري ليست بشرط في المطالبة والعفو وهذا على قول من جعل علة الشفعة الخوف من مؤونة القسمة. فرع آخر لو كان مشتري الشقص وكيلاً فعفا عن الوكيل دون الموكل هل تبطل شفعته؟ وجهان أحدهما: تبطل لأن الوكيل خصم فيها، والثاني: لا تبطل لأنها مستحقة له على غيره. فرع آخر لو سمع وقوع البيع بمائة مؤجلة فعفا ثم علم أنه وقع بمائة [66/ أ] حالة له طلب الشفعة لأنه يقول: عرفت أن البيع إلى أجل لا يخلو عن زيادة ثمن فلم أرغب فلما علمت فقد الغبن في العقد رغبت في الشفعة هكذا ذكره بعض أصحابنا بخراسان، وقال بعضهم: الصحيح أنها تبطل ها هنا وتوهم أنه ربما يكون في الثمن غلاء وليس بعذر وهو اختيار أهل العراق. فرع آخر لو سمع البيع بالثمن الحال فعفا، ثم بان أنه كان بالأجل فله الطلب لأنه يرتفق بالأجل. فرع آخر لو سمع أن الشقص بيع من مشتر واحد فعفا، ثم علم أنه بيع من اثنين له طلب

الشفعة لأنه قد يرجو من أحد المشتريين من المسامحة وتأخير الثمن ما لا يرجو من الآخر، وهكذا لو بلغه في الابتداء أنه بيع من اثنين ثم علم أن المشتري كان واحدًا له أن يأخذ بالشفعة لأنه قد يصبر على مطالبة غريم واحد ولا يصبر على مطالبة غريمين. فرع آخر لو لم يسم له المشتري، أو لم يذكر له الثمن فأخر الطلب حتى يعرف لا تبطل شفعته لأن له غرضًا في ذلك حتى يعرف الحال وما فيه الحظ له. فرع آخر لو أخبر أنه اشتراه مشتر فقال: عفوت عن الشفعة بطلت شفعته وكأنه رضي بأي مشتر وبأي قدر من الثمن كان، ومن أصحابنا من قال: لا تبطل ما لا يعرف ذلك والأول أصح. فرع آخر لو لقي الشفيع المشتري فقال: سلام عليكم أنا مطلب بالشفعة ثبتت الشفعة لأن السلام قبل الكلام سنة فلا تسقط به الشفعة، ولو قال: سلام عليكم بارك الله لك في صفقة يمينك أنا مطالب بالشفعة لم تبطل شفعته أيضًا لأنه لما وصله بالمطالبة بالشفعة دل على أنه دعا بالبركة لنفسه لأنه يأخذ من الصفقة المباركة، وقال محمد: إذا قدم السلام على المطالبة سقطت الشفعة وهذا خطأ للعادة المستحسنة وللخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من بدأ [66/ ب] بالكلام قبل السلام فلا تجيبوه". فرع آخر لو قال له: بكم ابتعت أو كم الثمن؟ بطلت شفعته لأنه يمكنه أن يقول بدل ذلك: أخذت منك بالثمن الذي ابتعت وهذا على قولنا: لا بتعذر بالمجلس. فرع آخر إذا قلنا: تؤجل إلى ثلاثة أيام فحصل في خلال الثلاثة زمان يتعذر فيه المطالبة لم يحتسب به منها ولفق له من زمان المكنة ثلاثة أيام. فرع آخر لو باع الشفيع حصته كلها بعد علمه بالشفعة لا شفعة له، ولو باع بعض حصته هل تبطل شفعته؟ وجهان مخرجان من العافي عن بعض شفعته، ولو لم يعلم بالشفعة فباع بعض نصيبه قال ابن سريج: فيه وجهان أحدهما: لا شفعة له لأن العفو عن بعض الشفعة يوجب سقوط الباقي كالعفو عن الكل فكذلك بيع الشقص الذي يستحق الشفعة بمنزلة بيع الكل، والثاني: يستحق بالشفعة بما بقي لأنها تستحق بالقليل كما

تستحق بالكثير، ولو باع الكل قبل العلم بالشفعة فالصحيح وهو اختيار ابن سريج أنها تبطل لارتفاع الملك المقصود بالشفعة، وقال أبو حامد: هو على شفعته لأنه قد ملكها وليس في بيعه قبل العلم عفو عنها وقيل: هذا مرتب على ما سبق فإن قلنا في بيع البعض قبل العلم تبطل الشفعة فها هنا أولى وإن قلنا: لا تبطل هناك فها هنا وجهان. فرع آخر لو صالحه المشتري على تركها بعوضٍ لم يجز وعليه رد العوض، وقال مالك: يجوز ويستحق العوض وهذا غلط لأنه عوض على إسقاط خيارٍ فأشبه خيار المجلس وهل تبطل شفعته؟ وجهان ذكرناهما في البيع. فرع آخر لو ضمن الشفيع للبائع الدرك أو للمشتري أو تبايعًا بشرط الخيار للشفيع فأجاز البيع لم تبطل شفعته به لأنه سبب وجوب الشفعة فلا يبطل به خلافًا لأبي حنيفة في كلها، وكذلك لو قال الشفيع للمشتري: اشتر [67/ أ] نصيب شريكي فقد نزلت عن الشفعة فاشترى لم يسقط شفعته بالإجماع خلافًا لعثمان البتي وهذا لأنه إسقاط حق قبل الوجوب. فرع آخر يملك الشفيع الشقص المشفوع بأحد أشياء ثلاثة أحدها: أن يدفع الثمن ويأخذ الشقص، والثاني: أن يقضي له القاضي بذلك، والثالث: أن يقول المشتري: ملكتك الشقص فيقبل هو وإذا قال: اخترت التملك بالثمن الذي تم به العقد انتقل ملك المشتري إليه، فإن لم يرض المشتري ولا حضر لأنه استحق أخذه بغير اختياره، ولو كان الثمن مجهولاً عنده لم يصح أخذه لأنه تملك بعوضٍ فلا يجوز معها جهالة العوض كالبيع، وكذلك لو قال: أخذته بالثمن كان مائة فما دونها وكان الثمن مائة أو دونها لا يجوز الأخذ لأن مثل هذا لا يجوز في البيع. فرع آخر إذا قال: اخترت التملك وانتقل ملك المشترى إليه لا يجب على المشتري تسليم الشقص إليه ما لم يقبض الثمن إن كان موجودًا، فإن تعذر تسليمه في الحال قال ابن سريج: يجوز للحاكم أن ينظره يومًا ويومين وأكثره ثلاثة فإن جاء بالثمن وإلا فسخ الحاكم الأخذ وعاد ملك المشتري إلى الشقص وهذا التأجيل لأن تحصيل الثمن في الحال بتعذر في غالب العادة، ولو اعتبرنا النقد في الحال أدى إلى إسقاط الشفعة والإضرار بالشفيع ومدة الثلاث قريبة في العادة. فرع آخر لو هرب الشفيع بعد التملك فللحاكم فسخ الأخذ ورد الملك إلى المشتري ذكره أبو حامد وغيره، فإن قيل: أليس في البيع لو هرب المشتري قبل أداء الثمن لا يفسخ

الحاكم البيع فهلاّ قلتم ها هنا مثله قلنا: البيع حصل باختيارهما فلا يكون للحاكم فسخه عليهما وها هنا أخذه الشفيع من غير اختيار المشتري لإزالة الضرر عن نفسه، فإذا أدى إلى الضرر بالمشتري منعه الحاكم ورده. فرع آخر حتى لو كانت المسألة بحالها فأفلس الشفيع بعد أن ملك الشقص قبل دفع الثمن كان للمشتري الخيار [67/ ب] بين أن يسترجع الشقص وبين أن يضرب مع الغرماء بقدر الثمن كالبائع سواء إذا أفلس المشتري بالثمن. فرع أخر لو طلب ثم أمسك عن الأخذ بطلب شفعته، وقال أبو حنيفة: شفعته باقية أبدًا إذا قدم الطلب ما لم يصرح بالعفو، وقال محمد: شفعته إلى مدة شهر، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: لا يأخذ بالشفعة حتى يحضر الثمن ولا يقضي له القاضي بها حتى يحضر الثمن، وروى هشام عن محمد: يؤجله القاضي يومين وثلاثة ولا يأخذه إلا بحكم الحاكم أو برضا المشتري وهذا غلط لأنه تملك بعوض فلا يقف على إحضار العوض كالبيع. فرع آخر إذا لم يشاهد الشفيع الشقص المشفوع ليس له أن يأخذ بالشفعة قال ابن سريج: سواء قلنا يجوز بيع خيار الرؤية أو لا يجوز لأنه يأخذ من المشتري بغير اختياره فلا يمكن إثبات خيار الرؤية وساعده على ذلك جماعة من أصحابنا، وقال القاضي الطبري: إذا قلنا: ثبتت للشفيع بعد الأخذ بالشفعة خيار المجلس وهو المنصوص في اختلاف العراقيين يجب أن يثبت له خيار الرؤية كما في البيع، وقال ابن سريج: لو قال المشتري للشفيع: رضيت أن يكون له خيار الرؤية هل يثبت ذلك؟ قولان كالبيع سواء فإذا قلنا: لا يصح فلا كلام وإذا قلنا: يصح فشاهد الشفيع إن رضيه أمسكه وإلا رده، وقال في "الحاوي": هل يأخذ بالشفعة قبل الرؤية؟ قولان مبنيان على بيع خيار الرؤية فإن جوزنا فالمشتري بالخيار بين التسليم قبل الرؤية، وبين أن يمنعه منه حتى يراه فيسقط خياره بالرؤية لأن المشتري لا يلزمه تسليم شقص يثبت للشفيع فيه خيار الرؤية. فرع آخر هل يصح له أخذ الشفعة قبل قبض المشتري؟ فيه وجهان حكاهما ابن سريج أحدهما: وهو اختيار أبي إسحاق ليس له ذلك لأنه يحل محل المشتري ولا يجوز الشراء قبل القبض كذلك هذا فعلى هذا يأخذ الحاكم المشتري [68/ أ] بالقبض فإن

كان غائبًا وكل الحاكم من يقبض له ثم حكم للشفيع بأخذه منه، والثاني: وهو اختيار ابن سريج له أخذه قبل قبضه من البائع لأنه جبرًٍا ويبرأ البائع من ضمانه بقبض الشفيع لأنه يأخذه بحق توجه على المشتري. مسألة: قال: "فإن اختلَفا في الثمنِ فالقولُ قولُ المشتري معَ يميِنه". وهذا كما قال: إذا اختلف الشفيع والمشتري في قدر الثمن لم يخل من ثلاثة أحوال إما أن يكون مع أحدهما: بينة، أو مع كل واحدٍ منهما بينة، أو لا بينة مع واحدٍ منهما فإن كان مع أحدهما: بينة أقامها فإذا ثبت المقدار بالبينة أخذها الشفيع به سواء كان الشفيع صاحب البينة أو المشتري ويقبل في ذلك ما يقبل في شهادة الأموال، وإن لم يكن هناك شاهد غير البائع لا تقبل شهادته لواحدٍ منهما لأنه متهم في حق كل واحدٍ منهما لأنه يجرّ إلى نفسه نفعًا إذا شهد للشفيع، لأنه لو وقع الاستحقاق رجع المشتري عليه بألفٍٍ وإذا شهد المشتري شهد على فعل نفسه. وهذا كما ذكرنا أبو حامد في الجامع لو ادعى الشفيع الشراء على المشتري وأنكر المشتري وقال: ورثته من أبي فشهد البائع للشفيع وكان عدلاً لا يحلف معه لأنه يشهد على فعل نفسه قال القفال: ولو شهد البائع للشفيع قبل قبض الثمن تقبل شهادته لأنه يشهد على فعل نفسه وأصحابنا في العراق ينكرون هذا وقالوا: لا تقبل شهادته له بحال لأنه على فعل نفسه أيضًا فترد شهادته للشفيع لمعنيين وللمشتري لمعنى واحد، وإن كان مع كل واحد منهما بينة على ما ادعاه من الثمن قال أبو حامد: البينة بينة الداخل وهو المشتري لأن الملك في يديه ويكون الحكم فيه كما لو كانت البينة معه وحده وقد مضى حكمه. وقال القاضي الطبري وجماعة: تعارضت البينتان لأن بينة الشفيع تشهد أنه يستحق الشقص بألف وبينة المشتري تشهد أنه [68/ ب] يستحق تسليم الشقص إليه بألفين فقد حصل التعارض في البينتين المتعارضتين، قال الشافعي: قولان أحدهما: تسقطان فعلى هذا سقطتا ويكون القول قول المشتري مع يمينه، والثاني: تستعملان وفي كيفية الاستعمال ثلاثة أقوال: الوقف والقسمة والإقراع فيقرع ها هنا فمن خرجت القرعة على بينته هل يحلف مع قرعته؟ قولان: أحدهما: يحلف لقد شهد شهوده بحق. والثاني: لا يحلف لئلا يؤدي إلى إبطال القرعة وهذان القولان من اختلاف قوليه في القرعة هل جاءت مرجحة للدعوى أو للبينة؟ وخالف أبو حنيفة ومحمد بينة الشفيع أولى للاتفاق عليه، وقال أبو يوسف: بينة المشتري أولى لأن فيها زيادة علم، وإن لم يكن مع واحد منهما بينة فالقول قول المشتري مع يمينه لأن الملك في الحال له فكان القول قوله في بدله.

فإن قيل: هلا قلتم: القول قول الشفيع لأنه غارم قلنا: إنما يكون القول قول الغارم في الموضع الذي اتلف شيئًا فثبت ضمان قيمته في ذمته فيكون القول قوله لأن الأصل براءة الذمة من الزيادة التي يدعيها وها هنا ينتزع ملكه ببدل يبذله فلا يجوز ذلك إلا بالقدر الذي يقوله المالك. فإن قيل: هلا قلتم: الشفيع والمشتري يتحالفان كما لو اختلف البائع والمشتري في الثمن يتحالفان قيل: الفرق أن هناك كل واحد منهما مدعي ومدعى عليه على ما بينا فيما سبق فيتحالفان وها هنا الشفيع مدعي محض والمشتري منكر محض فتثبت اليمين في جانب المنكر دون جانب المدعي، وهكذا لو كان الاختلاف بينهما في جنس الثمن أو في تأجيل الثمن وحلوله. فرع لو اختلف البائع والمشتري في مقدار الثمن وقد قلنا في البيع يتحالفان ثم إذا تحالفا كان للشفيع أن يأخذ بالثمن الذي حلف البائع علبيه سواء قلنا: لا ينفسخ البيع بتحالفهما وإنما ينفسخ بحكم الحاكم أو قلنا: ينفسخ بتحالفهما أو قلنا: ينفسخ [69/ أ] ظاهرًا لا باطنًا أو قلنا: ينفسخ ظاهرًا أو باطنًا لأن الشفعة ثبتت له بالبيع وارتفاع البيع لا يمنع بقاء الشفعة كما لو تقايلا. فرع آخر لو ضمن اثنان الدرك للمشتري عن البائع ثم شهدا بعد ذلك أنه باع الشقص بعد الشراء أو سلم الشفعة إلى الشفيع أو الشفيع قد أخذ منه الشفعة قبلت شهادتهما لأن الضامن لا يجز نفعًا إلى نفسه ولا يدفع ضررًا به. فرع آخر لو قال المشتري: الثمن ألف، وقال الشفيع: لا اعلم مقدار الثمن مع علمي بنقصه عن الألف له إحلاف المشتري، فإن رد اليمين عليه لم يكن له أن يحلف حتى يعلم قدر الثمن. فرع آخر لو لم يعلم الشفيع هل الثمن ألف أو اقل هل يستحق إحلاف المشتري؟ وجهان أحدهما: لا يستحق حتى يعلم خلاف قوله لأن اليمين لا تجب بالشك، والثاني: يستحق ما لم يعلم صدقه لأن المالك لا يملك بمجرد القول. فرع آخر لو قال المشتري: لا أعلم قدر الثمن لنسيان حدث قيل للشفيع: أتعلم قدره فإن قال: لا أعلم لا شفعة له وله إحلاف المشتري وإنما بطلت الشفعة لأنها تستحق بالثمن فكان جهلهما به مانعًا من استحقاقها بمجهولٍ.

فرع آخر لو قال الشفيع: أنا أعلم وهو خمسمائة، وقال المشتري: نسيت قدره قيل للمشتري: أتصدق الشفيع فإن قال: نعم أخذ الشقص بخمسمائة من غير يمين، وإن أكذبه قال الشافعي: حلف المشتري بالله ما يعلم قدره ولا شفعة له فمن أصحابنا من قال به لأن الثمن موقوف على عاقده وقد جهل الثمن بنسيانه فيطلب الشفعة به وهو اختيار أبي حامد وجماعة، وقال ابن سريج وابن أبي هريرة: جواب الشافعي محمول على ما لو نسي المشتري وجهل الشفيع، فأما إذا علم الشفيع ونسي المشتري يجب تحليف الشفيع دون المشتري ويحكم له بالشفعة وهذا اختيار القفال. وقال صاحب "الحاوي": وهذا أصح لأن نسيان [69/ ب] المشتري كالنكول فيجب رد اليمين على الشفيع كما لو ادعى على رجلٍ ملاً فقال: لا ادري مقدار مالك عليّ يقال له: بين وإلا جعلناك ناكلاً ورددنا اليمين على المدعي، ومن قال بالأول أجاب عن هذا بأنه إذا قال: لا أدري وحلف حكمنا بجهالة الثمن والمجهول كالمفقود ويفارق ما ذكره من النظير لأن هناك لم يجب عن دعواه وقد أقر ها هنا باستحقاق الشفعة ولكنه يدعي أنه جاهل بالثمن ويمكن صدقه فهو جواب صحيح ومعرفة قدره شرط في استحقاق الشفعة فما لم يوجد الشرط بيقين لا يستحق ونظير تلك المسألة لو قال الشفيع: لا أدري أتستحق على الشفعة أم لا فيقال له: بين وإلا جعلناك ناكلاً فهما سواء وهذا ظاهر المذهب. فرع آخر قال القفال تفريعًا على ما ذكر ابن سريج: لو وقع المبيع بكف دراهم قيل للشفيع: بين كم مقدار الثمن، فإن ادعى علم المشتري نظر، فإن أقر أنه عالم بمقداره قيل له: بين لأن حق الشفعة ثابت عليه فليس له أن يكتم الثمن فإن قال: لا أعلم حلف أنه لا يعلم ثم يقال للشفيع: بين أنت مقدار الثمن وإلا فلا شفعة لك فإن بين مقدارًا فادعى المشتري أنه أكثر حلف أنه أكثر من هذا ثم يقال للشفيع: زد وعلى هذا أبدًا فإن لم يحلف حلف الشفيع وأخذ. فرع آخر قال الشافعي: وسواء في ذلك قديم الشراء وحديثه وأراد به الرد على مالك فإنه قال: إن ادعى المشتري نسيان الثمن والشراء حديث حلف الشفيع وحكم له، وإن كان الشراء قديمًا حلف المشتري وبطلت الشفعة وهذا قول مدخول وفرق معلول. فرع آخر إذا قال الشفيع: هذا البناء كان عند الشراء، وقال المشتري: أن أحدثته قال ابن

سريج: القول قول المشتري لأنه ملكه والشفيع يريد أن يتملكه عليه. مسألة: قال: "وإن اشتراها بسلعةٍ فهي لهُ بقيمةِ السلعةِ". وهذا كما قال: [70/ أ] قد بينا أنه إذا اشتراها بسلعةٍ كيف يأخذ بالقيمة والقيمة تراعي حالة وقوع البيع والشافعي أطلق القيمة ها هنا ولم يتعرض لذكر زمان القيمة غير أنه قال قبل ذلك: فللشفيع الشفعة بالثمن الذي وقع به البيع فإذا جمعنا بين اللفظين عرفنا أن الاعتبار بقيمته يوم البيع لا بما بعد ذ لك، وذكر الشافعي عن مالك أنه قال: يأخذها بقيمته يوم المحاكمة وهذا غلط لأن وقت الاستحقاق وقت العقد وما زاد زاد على ملك البائع فلا يقوم للمشتري، وقال ابن سريجفر تفريعه: يستحق قيمته حين استقر العقد بانقضاء خيار المجلس أو خيار الشرط إن كان في البيع لأنه وقت وجوب الشفعة وهذا صحيح فإن اختلفا في قدر القيمة في ذلك الوقت فالقول قول المشتري مع يمينه. مسألة: قال: "ولو تزوَّجَ بها فهيَ للشَّفيع بقيمةِ المهر". وهذا كما قال: إذا أصدق زوجته شقصًا يثبت فيه الشفعة ويأخذه الشفيع بمهر مثل الزوجة، وقال أبو حنيفة: لا شفعة فيه أصٍلاً وهذا غلط لأنها ملكت شقصًا قابلاً للشفعة بعقد معاوضة فتثبت فيه الشفعة كمل لو ملكت بالبيع، وقال مالك وابن أبي ليلى: يؤخذ الشقص بالشفعة بقيمته لا بمهر المثل وحكي نحو هذا عن الشافعي في القديم لأن المهور قد يزاد فيها وينقص وهذا غلط لأنته يؤخذ مثل هذا في ثمن المبيع، واحتج أيضًا بأنه يؤدي إلى تقويم البضع على الأجنبي وذلك لا يجوز وهذا غلط لأنه يجوز تقويم البضع على المرضعة وشهود الطلاق إذا رجعوا عندنا. فرع لو اختلفا في مهر المثل ترافعا إلى الحاكم ليجتهد في مهر مثلها ويسقط تنازعهما، فإن تعذر على الحاكم بموتها أو لتغير حالها أو لاختلاف ذلك في عشائرها وأمكن ما قالاه فالقول قولها مع يمينها كما لو اختلفا في الثمن [70/ ب]. فرع آخر لو تزوجها على شقص ودينار يدفع إليه فيخرج على القولين فإنه عقد جمع صداقًا وبيعًا فإن قلنا: يجوز فيهما يأخذ الشفيع الشقص بمهر مثلها وبدينار فلو قال الشفيع: أنا آخذ المبيع دون الصداق كان له لأنتهما عقدان فعلى هذا إن كان مهر مثلها خمسة دنانير ضم إليها الدينار وقسم الشقص على ستة أسهم، فإن اختار المبيع يأخذ السدس، وإن اختار الصداق يأخذ خمسة أسداسه.

فرع آخر لو استأجر عبدًا أو حرًا أو إبلاً إلى مكة في شقص من دار أخذه الشفيع بقيمة الإجارة وهي أجرة المثل خلافًا لأبي حنيفة حيث قال: لا شفعة فيه أصلاً. فرع آخر لو قال: من جاءني بالآبق فله هذا الشقص فجاء به ملك الشقص عليه ووجبت الشفعة فيه بأجرة المثل المجيء بالعبد. فرع آخر لو خالع زوجته على شقص يأخذ الشفيع من الزوج بمهر مثلها، ولو صالح من دم العمد على شقص يأخذه الشفيع بالدية خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله. فرع آخر لو كاتب عبده على شقص لا تثبت الشفعة لأن الشقص لا يجوز أن يكون عوضًا في عقد الكتابة لأن الكتابة لا تصح إلا بعوض مؤجل والشقص لا يثبت في الذمة. فرع آخر لو حل على المكاتب نجم فأخذ منته شقصًا من دار تجب الشفعة للشريك مثل مال النجم فإن أخذه الشفيع بمثله ثم أدى المكاتب أو عجز فهو على ملكه، وإن تأخر أخذه حتى عجز ورق ففي الشفعة وجهان أحدهما: بطلت لأن المكاتب إذا عجز صار ملكه لسيده بالملك لا بالمعاوضة، والثاني: تثبت الشفعة لأن السيد ابتدأ ملك الشقص بالمعاوضة فلا اعتبار بما أفضى [71/ أ] إليه من سقوط المعاوضة. فرع آخر إذا وجدت الشفعة للشفيع فلم يعلم بها حتى تقايلا أو رد بالعيب كان للشفيع إبطال الإقالة وأخذه بالثمن لأن حق الشفعة ثبت له فلا يملكان إبطاله، ولهذا لو باع المشتري الشقص كان له فسخ البيع، ولو كان الشفيع أسقط شفعته ثم تقايلا لا تستحق بها الشفعة لأن الإقالة فسخ قبل القبض وبعده، ولهذا لا يجوز أن يزاد في الثمن أو ينقص ولا يثبت فيها خيار المجلس، وقال أبو حنيفة: هي بيع تجب به الشفعة، وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان قبل القبض فهي فسخ لا شفعة بها، وغن كان بعد القبض فهي بيع تجب به الشفعة وهذا غلط لما ذكرنا. فرع آخر لو كان الثمن عينًا فتلفت قبل القبض بطل البيع وبطلت الشفعة، ولو عفا عن الشفعة ثم وجد المشتري العيب بالشقص فرده بالعيب لا تنثبت الشفعة، وقال أبو حنيفة: تثبت الشفعة إذا كان بالتراضي وهذا غلط لأنه فسخ لا معاوضة، ولو باع المشتري من البائع

بذلك الثمن أو بغيره كان للشفيع الشفعة، وكذلك لو قال له: وليتك هذا البيع لأنه عقد معاوضة جديدة فيستحق به الشفعة. فرع آخر لو وجب له الشفعة فقضى القاضي بها له والشقص في يد البائع ودفع الثمن إلى المشتري فقال البائع للشفيع: لأقلني فأقاله لم تصح الإقالة لأنها تصح بين المتبايعين والشفيع لم يملك من جهته. فرع آخر لو كان الثمن عبدًا فأعور في يد المشتري فالبائع بالخيار، فإن رضي بالعور وأمضى البيع أخذه الشفيع بقيمة العبد أعور، وقال أبو حنيفة: يأخذه بقيمته سليمًا وهذا غلط لأن رضاه بعيبه رضَا منه بأنه الثمن بعينه والفرق بين هذا وبين أن يرضى بالزيوف أن عور العبد لما أحدث له خيارًا في فسخ البيع صار العبد الأعور ثمنًا وزيافة الدراهم لا تحدث له [71/ ب] خيارًا في فسخ البيع وإنما يستحق بها أخذ بدلها فصار الجيد ثمنًا له فلا يقدر أن يأخذ بالزيوف بل يلزمه الجيد. مسألة: قال: "فإن طلَّقَها قبلَ الدُّخولِ رَجَعَ عليها بنصفِ قيمةِ الشَّقْصِ". وهذا كما قال: إذا أصدق امرأته شقصًا ثم طلقها قبل الدخول لا يخلو من ثلاثة أحوال غما أن يكون طلقها بعد ما أخذ الشفيع الشقص، أو بعد ما عفا مع العلم أو قبل أن يعلم بالشفعة ثم علم، فإن كان طلقها بعد ما أخذ الشفيع بالشفعة رجع الزوج عليها بقيمة نصف الشقص لأن ملكها زال عن الصداق فأشبه إذا باعته ثم طلقها، وإن طلقها بعد ما عفا الشفيع عن الشفعة يرجع الزوج في نصف الشقص لأن حق الشفيع سقط والشقص في يدها بصفته، وإن طلقها قبل أن يعلم الشفيع ثم علم الشفيع فالذي نص عليه ان الشفيع أولى، وقد ذكرنا فيه وجهًا آخر أن الزوج أحق لأن حقه ثابت بالنص لأنه إذا طلقها ملك الشقص ولا يحتاج إلى تمليك مستأنف بخلاف الشفيع فإنه يثبت حقه بالبيع ويحتاج إلى تمليك مستأنف. وقال في "الحاوي": فيه وجهان مخرجان من اختلاف أصحابنا في نصف المهر هل يملكه الزوج بالطلاق أو بالتملك فإن قلنا: بالطلاق كان الزوج أحق وإن قلنا: بالتملك كان الشفيع أحق وعلى هذا لو أفلس المشتري فيه وجهان أحدهما: البائع أولى بعين ماله إذا قلنا: الزوج أحق، والثاني: الشفيع أحق لتقدم حقه إذا قلنا: ها هنا الشفيع أحق من الزوج فعلى هذا هل يقدم بالثمن الذي أخذه من هذا الشفيع على جميع الغرماء؟ وجهان أحدهما: يقدم لأنه بدل من عين ماله التي كان أحق بها، والثاني: الكل سواء لفوات العين التي هو أخص بها.

فرع آخر قال القفال: لو وجد المشتري بالشقص عيبًا فيريد رده بالعيب ويريد الشفيع [72/ أ] الأخذ بالشفعةً فيه قولان أحدهما: الشفيع أولى لأن المشتري يتخلص من ظُلامه العيب به ولم يذكر القاضي الطبري سوى هذا القول، والثاني: المشتري أولى لأن حق أرد بالعيب من مقتضيات العقد والشفعة تثبت عقيب العقد ولا خلاف أنه لو كان هناك خيار الشرط فلا شفعةً للشفيع ما لم يمض زمان الخيار؛ فكذلك إذا كان هناك خيار العيب قال: ويقرب القولان من القولين في مسألةً أخرى وهي أن يقاسم الشفيع أو يبيع نصيبه قبل العلم بالشفعةً ثم علم ففي قول بطل حقه لأنه إنما يطلب الشفعةً ليتخلص من سوء المشاركةً وقسم تخلص، والثاني: لا يبطل لأنه ثبت حقه سابقًا فلا يبطل بحادث لا يكون به مفرطًا ولا راضيًا يترك حقه. فرع آخر لو طلق امرأته ثم أمتعها شقصًا بما وجب لها من متعةَ الطلاق تجب الشفعةً بمتعةَ المثل لا بمهر المثل لأن الطلاق يوجب متعةً ولا يوجب مهرًا. مسألة: "قالوا إن اشتراها بثمن إلى أجل". الفصل وهذا كما قال: إذا باع شقصًا بمائةَ درهم نسيئةً إلى سنةٍ فطالب الشفيع الشفعةً فيه ثلاثة أقوال: أحدها: ما قال ها هنا وهو الصحيح وبه قال أبو حنيفة: لا يأخذ الشفعةً في الحال، ويقال له: إما أن تصبر إلى أن يحل الأجل فتدفع الثمن وتأخذ الشقص وإن أردت أن تتعجل أخذ الشقص فعجل الثمن فإن اختار الصبر لا تبطل الشفعةً لأنه تأخير بعذر ووجه هذا أنه لا يخلو إما أن يأخذه بمائة حالةٍ أو بمائة مؤجلةٍ أو بقيمةً الشقص أو بسلعةً تساوي مائةً إلى الأجل لا يجوز الأول لأن فيه ما على الشفيع، ولا يجوز الثاني لأنه لا يجوز إبطال حق المشتري من العين إلى الذمةً إلا بالرضا ولأن الأجل يدخل في عقود المراضاةً مواساةً ولا يدخل في الاستحقاق جبرًا، ولا يحوز الثالث: لأن الشقص [72/ ب] لا يؤخذ إلا بمثل الثمن الذي وقع به العقد والقيمةَ ربما تكون أقل أو أكثر ولا يجوز الرابع لأن الشفيع يأخذ بنقد البلد إن بيع به، وإن بيع بغير نقد البلد يأخذ مثله إن كان له مثل أو بقيمتهُ إن لم يكن له مثلٌ والقيمةً تكون من غالب نقد البلد والسلعةَ ليست من نقد البلد فثبت أنه بالخيار على ما ذكرنا، والثاني: قاله في القديم وبه قال مالك وأحمد واختاره أبو حامد إذا كانت ذمةَ الشفيع في الملاءةً مثل ذمةً المشتري كان له أن يأخذ الشقص بالثمن المؤجل لأن الثمن إذا كان حالًا أخذ به حالًا، فكذلك إذا كان مؤجلًا أخذ به مؤجلًا، وإن لم يكن الشفيع ثقةً أقام ضمينًا ثقةً

يكون الثمن في ذمته لأن هذا أشبه لصلاح الناس والشفيع يدخل مدخل المشتري، والثالث: قاله في الشروط يأخذه بسلعةً تساوي مائةً إلى أجل لأنه أقرب إلى ما خرج من ألمشتري وهذا والذي قبله ضعيف لأن القول الثاني يؤدي إلى أن يلزم المشتري قبول ذمةً الشفيع والذمم لا تتماثل ولهذا إذا مات من عليه الدين لا ينتقل إلى ذمةً الوارث وربما يكون أحدهما أوفى وأسهل في المعاملةً من الآخر، والقول الثالث: يؤدي إلى العدول عن جنس المثمن الذي وقع به العقد مثلًا وقيمةً وذلك لا يجوز فرع إذا قلنا بالقول الصحيح فصبر الشفيع ثم مات المشتري قبل حلول الأجل حل الثمن عليه ولا يجب على الشفيع تعجيل المال والشفعة ثابتةً له إذا حل الأجل لأنه وجب له بالعقد. فرع آخر لو لم يمت المشتري ولكنه أراد أن يبيع ذلك الشقص لم يمنع فإذا حل الأجل كان للشفيع نقض البيع والأخذ بالشفعةً، وإن شاء أجاز البيع الثاني وأخذ منه ذلك، وكذلك لو أراد أن يؤاجره له ذلك لأنه بعد ذلك يقدر على أخذه. فرع آخر لو أخذ الشفع بالشفعةً بعد ما آجره المشتري لا تبطل الإجارة بأخذ الشفيع ولكن له الخيار في إمضاء الإجارةَ وفسخها بخلاف ما لو رص المشتري [73/ أ] ثم أخذ الشفيع بالشفعةً يبطل الرهن بأخذ الشفيع، ثم الشفيع إن لم يفسخ الإجارةً كانت الأجرةَ للمشتري لأنه عقدها في ملكه. فرع آخر لو رضيّ المشتري بتسليم الشقص وتأجيل الثمن يلزمه أن يأخذ أو يعفو عن الشفعةً على الأقوال كلها لأنه لا يضر به فإن لم يفعل وانتظر حلول الأجل بطلت شفعته إذا قلنا بالقول القديم، وإذا قلنا بالقول الجديد فيه وجهان: أحدهما: وبه قال أبو الفياض لا تبطل الشفعةً لأن تأجيل الثمن جعل حق الطلب مقدارًا به، والثاني: تبطل الشفعةً وهو الأصح لأن طلبه تقدر بمدةً الأجل رفقًا بالمشتري فصار من حقوقه لا من حقوق الشفيع فإن رضي به المشتري فقد زالت العلةً. فرع آخر لو كان الثمن منجمًا فالمسألةَ على الأقوال فلو حل نجم فقال الشفيع: أنا أدفع ما حل فيه وآخذ من الشقص بحصته منع لما فيه من تفريق الصفقةً على المشتري. فرع آخر إذا قلنا بالقول القديم وأخذ بثمنٍ مؤجلٍ ثم مات المشتري حل الأجل عليه ولا يحل على الشفيع، وكذلك إن مات الشفيع حل عليه دون المشتري.

مسألة: قال: "ولو ورثَه رجلانِ فماتَ أحدهما ولهُ ابنانِ". الفصل وهذا كما قال: صورةَ المسألةً أن يموت رجل وخلف ابنين فورثا دارًا ثم إن أحد الابنين مات وخلف ابنين فورثا نصيبه ثم باع أحد هذين الابنين نصيبه من الدار وهو الربع فهل يكون أخوه أولى بالشفعةً من عمه؟ أو يشترك هو والعم؟ في ذلك قولان منصوصان: أحدهما: الأخ أولى وبه قال مالك لأن شركة أخيه أخص بالمبيع من شركة العم، ألا ترى أنها إذا قسمت جعل نصيب العم حزبًا ونصيبهما حزبًا ثم قسم حزبهما نصفين. والثاني: وهو الصحيح يشتركان فيه نص عليه في "الإملاء" وقال: هذا هو القياس وبه قال أبو حنيفة وأحمد والمزني لأنهما شريكان في الملك حال الاستحقاق فيشتركان في الشفعةً كما لو كان بين ثلاثةَ شركاء دار فباع [73/ ب] أحدهم نصيبه فللآخرين الشفعةً كذلك ها هنا، وأما ما ذكروا من الاختصاص فلا معنى له لأن الاعتبار بالشركةً لا بسببها فإذا قلنا بهذا هل يأخذان على عدد الرؤوس أو على قدر النصيبين، قولان أحدهما: على عدد الرؤوس وهو اختيار المزني وبه قال أبو حنيفة والشعبي والنخعي وسفيان الثوري وابن أبى ليلى وابن شبرمةَ وأحمد في روايةٍ لأن كل واحدٍ منهما لو انفرد أخذ الكل بالشفعةَ فإذا اجتمعوا استووا كالبنين في الميراث، والثاني: أنه على قدر الأنصباء وهو الأصح، واختاره أبو إسحاق وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وعطاء ومالك وعبيد الله العنبري وسوار القاضي وإسحاق وأحمد في روايةً أخرى لأنه مرفق يستفاد بسبب الملك فكان على قدر الملك كالغلةَ والثمار، وأما ما ذكره القائل الأول لا يصح لأنه لا يمتنع أن يأخذ الكل عند الانفراد ولا يستويان عند الازدحام كما لو مات وترك ألف درهم وعليه دين لرجلين لواحدٍ منهما ألف درهم وللآخر ألفا درهم لو انفرد كل واحدٍ منهما استحق كل الألف وإذا اجتمعا يأخذان الألف على الثلث والثلثين، كذلك ها هنا قال المزني: وفي تسويته بين الشفعتين على كثرةَ ما للعم على الأخ قضاء لأحد قوليه على الآخر في أخذ الشفعاء بقدر الأنصباء يقال للمنني: كيف يقضى جوابه بأحد القولين على القول الثاني من غير دليل ولا حجةً وقد علمت أن الشافعي إن كان له قولان في مسألة فربما يجيب في بعض المواضع بأحدهما: ويجيب في موضع آخر على القول الآخر على أن مقصوده التسويةَ بين العم والأخ في أصل الشفعة لا في مقدارها عند قسمتها، ثم احتج المزني على التسويةً بأنه لو كان عبدًا مشتركًا بين ثلاثةٍ لأحدهم نصفه، وللثاني سدسه، وللثالث ثلثه فأعتق صاحب الثلث والشقص نصيبهما وهما موسران كان النصف الباقي مقومًا عليهما [74/ أ] وإن كان

ملك أحد المعتقين أكثر من ملك الآخر قلنا: قال بعض أصحابنا: في مسألةً العتق قولان أيضًا أحدهما: يقوّم عليهما على التفاوت وهذا غير صحيح والفرق ظاهر وذلك أن العتق يجري مجرى الجنايةً بما له من السرايةً في ملك الشريك فلذلك استويا في التقويم والتغريم وعلى هذا أصل الجنايات، ألا ترى أنه لو جرح رجلًا جراحةً وجرحهُ آخر مائةً جراحةً فمات كانت الديةَ على الجارحين نصفين، وكذلك لو طرح رجل في طعام رجل مقدار درهمٍ من النجاسةً وطرح آخر مائةً درهم من النجاسةً كانا في الغرامةً سواء. وأما الشفعةً فسبيلها في استحقاقها سبيل التجارات والمعاوضات، ومعلوم أن الأموال إذا جلبت أرباحها وفوائدها كانت الفوائد منقسمةً على مقدار الأصول كالأرباح والأكساب ومهور الجواري وثمار الأشجار ونتاج البهائم كذلك ها هنا ثم قال: المزني: وقد قال الشافعي: ولورثة الشفيع أن يأخذوا ما كان يأخذ أبوهم بينهم على العدد امرأته وابنه في ذلك سواء. قال أصحابنا: هذا الذي قاله المزني لا يعرف للشافعي في قديم ولا جديد والذي يقتضى مذهبه أن حق الشفعةً موروث كما أن الأعيان موروثةً فيجب أن تأخذ المرأة الثمن ويأخذ الباقي الابن، وقال أبو إسحاق: لو كان الشافعي قال هذا لكان له وجه وهو أن يقال: صورةً المسألةً أن يموت رجل بعد ثبوت الشفعةً له قبل أخذها فانتقلت إلى ورثته امرأةً وابن يستحقان على سواء لأن أول إزالةُ الملك عن المشتري إلى الشفعاء بعد الموت فصارت كشفعةٍ تثبت لهما ابتداء فيكونان فيها سواء وهو أحد القولين، ولأن الورثةَ إنما يستحقون الشفعةً في هذا الشقص من أجل الشقص الآخر الذي ورثوه فكأنهما استحقا ذلك بسبب ملك لهما، فإذا سويّ بين صاحب النصيب القليل وبين صاحب النصيب الكثير على أحد [74/ ب] القولين جاز أن يسوي بين المرأةَ والابن وإن اختلف ميراثهما عن الميت، ويمكن أن يكون المزني انفرد بسماعه من الشافعي ومن قال بالأول قال: هذا لا يصح لأنهما لا يأخذان بالشقص الموروث ألان بل يأخذان الشفعةً لأجل الشقص الذي كان ملكًا للموروث والابن والمرأة ورثا بالشفعةً كما ورثا الشقص. وقال القاضي الطبري: يمكن أن يقال: هما وإن ورثا الشفعةً فالاستحقاق متعلق بالشقص الموروث، ألا ترى أن من باع منهما حقه من الشقص قبل الأخذ بالشفعةً لم يكن له المطالبةَ بالشفعةً فإذا كان كذلك أمكن نُصرةً ما قاله أبو إسحاق والله أعلم. ومن أصحابنا من قال: مراد الشافعي بهذه المسألة أن يموت الرجل عن ورثةٍ قبل ثبوت الشفعةَ له ثم ثبتت ببيع بعد موته قبل قسمةَ التركةً وجواب الشافعي على قول التسويةً لأن ابتداءها يثبت لهم وكأن المزني ذهب إلى هذا التأويل والتصوير، وإذا صورنا هذه الصورةً لم تكن المسألةً موضوعه في الشفعةً الموروثةً لأن الميت مات قبل ثبوت الشفعةً بل هي شفعةً تجددت لطائفةٍ مشتركين في إرث ويستفاد من هذا التصوير

فائدةً غريبةً، وهي أن رجلًا لو مات نصف دارٍ وورثة وعليه دين يستغرق جميع تركته فبيع الممن الثاني من الدار قبل بيع التركة في الدين كان لورثةَ الميت طلب الشفعةً في النصف المبيع لأن ملك الورثةً على النصف المستغرق بالدين فإن بيع من الصف الموروث بعضه لم يكن للورثةً بالباقي من النصف طلب الشفعةً في بعض لأن ملكهم بيع عليهم فلا يثبت لهم شفعةً في ملكهم بملكهم، وكذلك لو كان لهؤلاء الورثةً في هذه الدار شقص مملوك قبل موت أبيهم فمات أبوهم عن شقص فيها فبيع شقص أبيهم في دينه فليس للورثةً طلب الشفعة في الشقص المبيع هكذا ذكر أكثر أصحابنا بخراسان والعراق. وقال القاضي [75/ أ] الطبري في هذه المسألةً الأخيرةً تثبت الشفعة للورثةً بملكهم القديم في الشقص المبيع للدين لأنه يجعل كأن الميت باعه في حياته لأنه يباع في دينه فوجب أن يكون الاعتبار بالشركةً الموجودةً في حياته دون ما يحدث بعد موته ولم يذم وجهًا آخر، وهكذا ذكره ابن الحداد ومن قال بالأول أجاب عن هذا بأنه إنما يلحق بحال الحياة إذا وجد سببه في حال الحياةَ ما لا يمكن ابتداؤه بعد الوفاةً، ولو كان كذلك لم يكن للوارث أن يقضي الدين من عنده ويمنع من البيع ولأن هذا ملك الورثةً وإنما تعلق الدين بهذه العين لأنهم ملكوها من جهةً الميت فهو كالعبد إذا جني يتعلق أرش الجنايةً برقبته وهو ملك لمولاه ويباع فيها، وإن كان الدين ليس على مولاه كذلك ها هنا، وقال ابن أبي هريرة: غلط أبو إسحاق فيما قال وأراد الشافعي بما قال: امرأته وابنه في ذلك سواء أي: سواء في الاستحقاق لا في المقدار فلا حجة للمزني فيه. فرع ذكره أبو العباس بن سريج على القول الأول فقال: إذا عفا الأخ عن الشفعةً هل يستحق العم الأخذ بالشفعةً أم لا؟ يحتمل وجهين أحدهما: يستحق لأنه شريك وإنما قدم الأخ عليه لقرب نسبه وامتزاجه فإذا عفا وسقط حقه استحق العم كما لو عفا ولي المقتول الأول عن القصاص يستوفى بالمقتول الثاني، والثاني: لا يستحق لأنه لم يستحق حال البيع فلا يستحقها بعد، فإذا تقرر هذا قال ابن سريج: لا يختص ما ذكرناه بالإرث والشافعي لم يخص الميراث لأن الحكم يتعلق به وحده بل كل ملك اختلف سببه فهو على هذا القياس، فلو اشترى نصف دارٍ ثم اشترى باقيها رجلان كان الأول كالعم والآخران كابني العم على ما فصلناه، وكذلك لو اشترى اثنان دارًا فباع أحدهما نصيبه من اثنين وعفا الشفيع عن الشفعةً ثم باع أحد هذين نصيبه من رجل [75/ ب] هل تكون الشفعةً للآخر الذي بقي من هذين أولهما؟ على قولين: ثم فرع ابن سريج على هذا فروعًا فقال: إذا مات رجل وخلَّف ابنتين وأختين فللابنتين الثلثان وللأختين ألثلث فإن باعت إحدى الأختين نصيبها يحتمل أن تكون الشفعةً لأختها وللابنتين، ويحتمل أن يكون على قولين أيضًا: أحدهما: الشفعةً لأختها وحدها.

والثاني: الشفعةً بين الكل والأظهر أن يشترك الجماعة ها هنا قولًا واحدًا لأن الجميع تملكوا بسبب واحي وهو الإرث من شخصٍ واحدٍ وفي تلك المسألةً ملك الأخوان من شخصٍ والعم من شخصٍ آخر. والفرع الثاني قال: لو خلف دارًا وثلاثةً بنين ثم مات أحدهم وخلف ابنين ثم باع أحد العمين نصيبه يحتمل أن هذا على القولين أيضًا ويحتمل أن تكون الشفعةً بينه وبين ابن أخيه قولا واحدا، والفرق أن ها هنا يقوم أبناء الميت منهم مقام أيهم ويخلفونه في الملك، ولو كان أبوهم باقيًا شارك أخاه في الشفعةً فلهذا شاركوه وفي مسألةَ الكتاب البائع ابن أخيهم وهم لا يقومون مقام أخيهم وإنما يقومون مقام أبيهم فافترقا. والفرع الثالث: قال: لو خلف دارًا وثلاثةً بنين فباع أحدهم نصيبه من ابنين وعفا أخواه عن الشفعةً، ثم باع أحد المشتريين نصيبه من الأجنبي فهذا على قولين أيضًا كمسألةً الشافعي أحدهما: الشفعةً لمن اشترى معه دون الأخوين، والثاني: الشفعةً بينه وبين الأخوين. والفرع الرابع قال: لو مات وخلف أريع نسوةٍ وأربعةً بنين ودارًا فباعت إحدى النسوةً حقها من الدار مشاعًا اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: يستحق الجمع الشفعةً قولًا واحدًا ومنهم من قال: فيه قولان أحدهما: أن النساء أولى به لأن شركتهن أخص بالمبيع لأنهن شركاء في الثمن [76/ أ] فنصيبهن حزبٌ ونصيب الأولاد حزب ومن قال: إنها على قول واحدٍ فرق بين هذه المسألةً وبين مسالةً الأخ والعم بأن في هذه المسألةً تقم الفريضة من ثمانية فيكون الجمع في الشركة سواء وليس كذلك في تلك المسألةً فإن الفريضةً تقسم نصفين ثم يقسم أحد النصفين بين الاثنين لأنهما تركتان وهذه تركةُ واحدةً. والفرع الخامس قال: لو أوصى بثلث ضيعةٍ له لرجل ثم مات وخلف ابنين وقبل الموصى له الوصيةً ملك الثلث، فإن باع أحد الابنين نصيبه من التركةً كانت الشفعةً لأخيه وللموصى له بالثلث على القول الذي يقول الأخ والعم سواء، فإن قلنا: الأخ أولى من العم كان الأخ ها هنا أولى عن الموصى له بالثلث. والفرع السادس لو كان شريكان في دار باع أحدهما: من رجل عشر نصيبه ثم باع منه تسعةَ أعشار نصيبه في صفقةٍ أخرى قال أبو حنيفة: يأخذ الشريك العشر الأول ثم هو والمشتري للعشر شريكان في الباقي يأخذانه بالسويةً فيأخذ الشفيع نصفًا هذه الأعشار التسعةَ وهكذا يفعل القوم قصدًا لإبطال بعض الشفعةً، وعندنا إذا أخذ النشر بالشفعةً أخذه بحقوقه ومن حقوقه ثبوت الشفعة بسببه في الباقي فيأخذ الأعشار التسعةً كلها فلا تنفع هذه الحيلةً ولأن ملكه على الأول لم يستقر فلا يستحق به الشفعةً. ومن أصحابنا من قال مثل قول أبى حنيفة لأن ملكه ثبت على الأول، فإذا اشترى الباقي كان شريكًا بالأول فأما إذا عفا عن العشر فحينئذ لا يمكنه أن يأخذ من الأعشار التسعةً إلا بعضها ففي قول يأخذ نصفها، وفي قول يقسم هذه الأعشار التسعةً بينهما

على أحد عشر سهمًا بأن يجعل [76/ ب] النصف الثاني من الدار عشرةً أسهم أيضًا فيكون لأحدهما: عشرةً وللآخر واحدُ فيكون لأحدهما: تسعةَ أعشار النصف على هذه السهام، فإذا تقرر هذا فاعلم أن الشفعةَ عندنا تورث كما يورث الرد بالعيب ويقسم بين الورثةً على قدر حقوقهم إلا على ما حكاه المزني وقد ذكرنا ما قيل فيه وبه قال مالك وعبيد الله العنبري، وقال أبو حنيفة والثوري وأحمد: لا يورث حق الشفعةً ويبطل بالموت وهذا غلط لأنه خيار لدفع الضرر عن المال فيورث كالرد بالعيب. فرع لو عفا بعض الورثةً عن حقه من الشفعةً هل تسقط حقوق الباقين من الشفعةً؟ وجهان أحدهما: تسقط وهو اختيار ابن أبي هريرة لأنهم قاموا مقام أبيهم، ولو عفا هو عن بعضها يسقط الباقي كذلك ها هنا، والثاني: لا يسقط وهو اختيار أبي حامد وهو الصحيح كما لو عفا بعض الشركاء عن الشفعة لا تسقط حقوق الباقين ويفارق الموروث إذا عفا عن بعض الشفعةً يسقط الكل لأنا لو لم نسقط حقه من الباقي أبي إلى تبعيض الصفقة على المشتري وذلك لا يجوز وها هنا لا يؤدي إلى هذا لأنه يقال: الآخر إما أن يأخذ الكل أو يدع قال أبو حامد: ولو ورثوا حق الرد بالعيب فعفا بعضهم عن حقه سقط حق الباقين قولًا واحدًا، لانا لو جوزنا للباقين الرد أدى إلى تبعيض الصفقةً على البائع إذ لا يمكنهم رد حصةً العافي، وقال أبو إسحاق المروزيّ: إذا عفا أحد الورثةً هل يرجع نصيبه إلى باقي الورثة؟ قولان أحدهما: يرجع كما في الشركاء وعلى هذا لو حضر أحد الورثةً وطالب بالشفعةَ قضي له بكل الشفعةً، والثاني: وهو الأصح لا يرجع نصيبه إلى من بقي لأن جميعهم شفيع واحد [77/ أ] وعلى هذا لو حضر واحد لا يقضى له بشيء حتى يجتمعوا فإذا قلنا: لا يبطل يأخذ منها يقدر ميراثه ولا يأخذ الكل بخلاف الشفيع الأصليّ لأن الشفيع الأصلي كان له أخذ جميعها فجاز أن يسقط بعفوه عن البعض كلها، وأما أحد الورثةً لا يملك منها إلا قدر حقه فلم يبطل بالعفو عن غير حقه. فرع آخر لو عفا الشفيع في مرضه عن الشفعة ثم مات من أصحابنا من قال: للوارث إبطال عفوه والأصح أنه يصح عفوه كما لو لم يقبضن الهبةً لأنه سبب يفضي إلى الملك وليس بملكٍ مستقرٍ. فرع آخر لو لم يكن للشفيع وارث إلا بيت المال فيه وجهان أحدهما: أنه موروث لبيت المال والإمام يأخذه لكافةَ المسلمين إذا رأى صلاحًا، والثاني: تبطل الشفعةً لأنه لدفع الضرر وها هنا لا يتعين الضرر بأحدٍ بخلاف الوارث.

فرع آخر لو كان الشقص موقوفًا على رجل بعينه أو جماعةً بأعيانهم وقلنا في أحد القولين: يملك الموقوف عليه رقبةً الوقف هل يستحق الشفعةً؟ به وجهان أحدهما: يستحق لثبوت ملكه واستقراره بسوء المشاركةً، والثاني: لا يستحق لأنه ليس بتام الملك ولا مطلق التصرف. فرع آخر لو باع في مرضه المخوف شقصًا من دار لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون البيع بثمن المثل، أو بالمحاباةً بأقل من ثمن المثل فإن كان بثمن المثل فللشفيع الشفعةً سواء كان الشفيع والمشتري وارثين أو غير وارثين أو أحدهما وارثًا والأخر غير وارث وبه قال أبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفةَ: لا يصح بيع المريض من وارثه، وإن كان بثمن المثل ولا شفعةً، وإن كان بيع محاباةٍ مثل إن باع شقصًا بألف درهم وهو يساوي ثلاثةَ آلاف درهم فقد حاباه في ثمنه بألفي درهم فإن كان المشتري والشفيع أجنبيين [77/ ب] فإن كان البائع يملك مالًا المحاباةً من ثلثه صحت المحاباةً وآخذ المشتري الشقص بألف وأخذ منه الشفيع بألف، وإن كان البائع لا يملك غير هذا الشقص فللمشتري الخيار في أن يأخذ ثلثي الشقص بألف ليحصل له نصف المحاباةً وهو ألف يكون ثلث التركةً ويرجع إلى الورثةً ثلث الشقص وقيمته ألف مع ألف، أو يفسخ البيع لأن الصفقةً تفرقت عليه ثم للشفيع أن يأخذ بالألف ثلثي الشقص الصائر للمشتري بألفٍ، وإن كان المشتري وارثًا والشفيع أجنبيًا فا لمحاباةً باطلةً، وإن خرجت من الثلث لأنها وصية لوارث والمشتري بالخيار بين أن يأخذ ثلث الشقص بألف وبين أن يرده فإن أخذ ثلثه فللشفيع أخذ الثلث منه بالألف، وإن رده المشتري عرض على الشفيع قبل رده فإن رضي أن يأخذ ثلث الشقص بالألف كان أحق وبطل رد المشتري لأنه يرد ليحصل له الثمن الخارج من يدم وقد حصل له من جهةَ الشفيع فوصل إلى حقه ومنع من إبطال حق الشفيع برده كما يمنع من رده بعيب لو ظهر إذا رضي الشفيع ويكون عهدة الشفيع على المشتري، ولو أن باقي الورثةً أجازوا الوارث محاباته وأعطاه الشقص كله بالألف جاز وفيما يأخذه الشفيع قولان مبنيان على أن إجازةَ الورثةً عطيةً أو إمضاء. فإن قلنا: إمضاءُ فللشفيع أن يأخذ الشقص كله بالألف وإن قلنا: عطيةً يأخذ ثلث الشقص بالألف وتخلص للمشتري ثلثاه لأنها عطية له خالصة، وإن كان المشتري أجنبيًا والشفيع وارثًا فإن لم يحتمل الثلث شيئا من المحاباةُ لإحاطةً الدين بالتركةً بطلت المحاباةَ وكان للمشتري الخيار في أخذ ثلث الشقص أو رده فإن أخذه كان الشفيع أحق به، وإن كان وارثًا لأنه لا محاباةً فيه، وإن احتمل الثلث كل المحاباة لأنه ذو مال [78/ أ] فالمحاباةً بثلثي الشقص، وإن احتمل الثلث بعضها وهو أن لا يملك غير

الشقص المقوّم ثلاثةَ آلاف درهم احتمل الثلث نصف المحاباةً وهو ثلث الشقص وفيها أربعةَ أوجهٍ حكاها ابن سرج. أحدها: أنها جائزةً للمشتري وللشفيع لأن المشتري بها فصحت له والشفيع داخل عليه فإنه يأخذ منه لا من المريض، ولأنه يجوز أن لا يجوز له المحاباةً ولكنها تؤول إليه بمعنى آخر كما لا يجوز إقرار العبد بما يوجب المال، ثم لو أقر بجنايةٍ توجب القود فعفا المقر له على مالٍ وجب المال فعلى هذا يأخذ المشتري بثلثي الشقص بألفٍ وللشفيع أخذ هذين الثلثين بأي ويرجع الثلث إلى الورثةً مع ألف الثمن. قال أصحابنا: هذا هو المذهب وإنما ذكر ابن سريج هذه الأقاويل على عادته في ذكر ما يحتمل المسألةً من الأقاويل وإن لم يخرج على أصل الشافعي ثم تخلص ما يخرج على مذهبه. والثاني: المحاباةً جائزةً للمشتري دون الشفيع لأن الشفيع ممن لا يصح محاباته وهو بها غير مقصودٍ فعلى هذا يأخذ المشتري ثلثي الشقص بألفٍ وللشفيع أن يأخذ منه ثلثه بألف ويرجع إلى الورثةً الثلث فيصير الشقص أثلاثًا ثلثه للورثةً، وثلثه للمشتري لأنها محاباةً له، وثلثه للشفيع. والثالث: المحاباة باطلةً لهما لأنها قد تفضي إلى الشفيع الذي لا يصح أن يملكها وهي مقترنةً بالمبيع الذي لا يجوز أن يفرد عنها فعلى هذا للمشتري أن يأخذ ثلث الشقص بالألف وللشفيع أن يأخذ منه بالألف ويرجع الثلثان إلى الورثةَ. والرابع: أن المحاباةً موقوفةً مراعاةً فإن عفا الشفيع عن شفعته صحت المحاباةً للمشتري وأخذ ثلثي الشقص بالألف رجع الثلث إلى الورثةً، وإن طالب الشفيع بالشفعةً بطلت المحاباةَ للمشتري وأخذ ثلث الشقص بالألف ويأخذ الشفيع منه بالألف ويرجع الثلثان إلى [78/ ب] الورثةً. ومن أصحابنا من حكي وجهًا خامسًا عن ابن سريج أنه يبطل البيع والشفعةً معًا، وحكي وجهًا سادسًا عنه أيضًا أنه يأخذ الشفيع من المشتري ثلثي الشقص بالألف لأن الشفيع يستحق على المشتري أخذ الشقص بالثمن الذي وقع العقد عليه ثم إذا أخذه يلزمه أن يرد ثلث الشقص على الورثةً لأنها محاباةً حصلت في يده ولا يجوز أن يأخذ من موروثه محاباةً لأنها وصيةً له، وفيه وجه سابع أنه تصح المحاباةً للمشتري ولا شفعةً للشفيع أصلًا لأنه لا يمكن أخذ الكزل ولا أخذ النصف لأنه يؤدي إلى تبعيض الصفقةً على المشتري وذلك لا يجوز فبطلت الشفعةَ أصلًا وبه قال أصحاب أبى حنيفة ولا معول على شيء منها والاعتماد على ما ذكرنا أولًا، وإن كان الشفيع وارث المشتري وهما أجنبيان من البائع صحت المحاباةَ للمشتري واستحق الشفيع المحاباة بشفعتهِ لأنها ليست محاباةً من المشتري ألا تراه يأخذها منه جبرًا بلا اختيار. فرع آخر لو قال لأم ولده: إذا خدمت بعد موتي ورثتي سنةً فلك هذا الشقص فخدمتهم سنةً

بعد موته استحقت الشقص، وهل يغلب في ملكها للشقص حكم المعاوضةً أو حكم الوصايا؟ وجهان أحدهما: يغلب حكم المعاوضةً لأنها استحقته بخدمتها فعلى هذا يأخذه السفير بعد انقضاء السنةً بأجرةً مثل خدمتها تلك السنةً، والثاني: وهو ظاهر المذهب يغلب حكم الوصايا لاعتباره من الثلث وملكه الشقص عن من لم يملك الخدمةً فعلى هذا يكون وصيةً على صفةٍ بعد الموت ولا شفعة فيها. مسألة: قال: "فإن حضر أحد الشفعاء أخذ الكل". الفصل وهذا كما قال: الدار إذا كانت بين أربعةً أنفس فباع واحد منهم نصيبه من أجنيي فلشركائه أن يأخذوا بالشفعة [79/ أ] لأنهم شركاء في الملك حال البيع ثم لا يخلو إما أن يكون حضورًا أو غيبًا فإن كانوا حضورًا يأخذون على السواء بينهم فإن عفا اثنان منهم عن الشفعةً قلنا للثالث: أنت بالخيار بين أن تأخذ الكل أو تترك فإن أراد أخذ الثلث لم يكن له لأن الشفعةً تجب لإزالةُ الضرر فلا يجوز إلحاق الضرر بها بالمشتري، وإن كان الشركاء غيبًا فحضر واحد منهم فطالب بحصته من الشقص لم يكن له وقيل له: إما أن تأخذ الكل بجميع الثمن أو تدع، فإن أخذ الكل بجميع الثمن ثم حضر الثاني كان له أن يأخذ منه النصف بنصف الثمن لأنهما لو حضرا معا أخذاه نصفين فإذا جاء أحدهما: بعد الآخر كان النصف لكل واحدٍ منهما، وإن حضر الثالث: أخذ منهما الثلث بثلث الثمن، فإن عفا الثاني والثالث: استقر على الأول، وإن عفا الثاني دون الأول استقر عليهما. فرع لو كان للشقص غلةً فحصلت في يد الشفيع الأول ثم حضر الثاني لم يشاركه الثاني فيها لأنها انفصلت في ملكه كما لو انفصلت في يد المشتري قبل الأخذ بالشفعةً كانت للمشتري، وكذلك لو أخذ الثاني الغلةَ ثم حضر الثالث: لم يشاركه الثالث: فيها لما ذكرنا. فرع آخر لو أخذ الشقص مستحقًا قال أكثر أصحابنا: عهدةَ الثلاثةً على المشتري ولا يرجع أحدهم على صاحبه لأنهم استحقوا الشفعةَ عليه، وذكر القاضي الطبري وجهًا آخر عن بعض أصحابنا أنه قال: عهدةَ الشفيع الثاني على الأول، وعهدةَ الثالث: عليهما لأنه أخذ الشقص من يده وقد كان ملكه له ودفع الثمن إليه فكانت عهدته عليه وعهدةَ الأول على المشتري والأول أشهر.

فرع أخر لو حضر أحد الشفعاء وقال: لا آخذ الكل بل أنتظر مجيء الشريكين الآخرين فإن عفوا أخذت الكل، وإن أخذا [79/ب] شاركنهما هل تبطل شفعته بهذا التأخير؟ اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال وهو اختيار أبي إسحاق وابن سريج: لا تبطل لأن له غرضًا في تأخير الأخذ فكان عذرًا وهو أن لا يغرم الثمن فيما ينتزع من يده وهذا أقيس، ومنهم من قال وهو اختيار ابن أبي هريرةَ: تبطل لأنه كان قادرًا على أخذ الكل فكف عنه. فرع آخر ذا قلنا: يبطل حقه بهذا التأخير سقط حق الأول فإن قدم الآخران وطالبا أخذا بالشفعةً وإن لم يطالبا سقط حقهما، وإذا قلنا: لا يبطل حقه بهذا التأخير فإذا قدم الشريكان نظرا فإن طالبا بالشفعةً شاركهما الأول فيكون الشقص بينهم أثلاثًا، وإن عفوا عن الشفعة هل للأول أن يأخذ نصيبهما بالشفعةً؟ قال أبو إسحاق; ينظر فإن كان قال: أنا مطالب بالشفعةً في الكل ولكني آخذ حصتي وأتوقف في حصةً شريكي لأنظر ما يكون منهما له أخن نصيبهما لأنه لم يعف عنه، وإن كان قال: لست أطالب إلا بحصتي وقد عفوت عما زاد على ذلك فقد بطلت شفعته فيما زاد على الثلث فليس له أخذه عند عفو الشريكين. فرع آخر لو أخذ الشفيع الأول الكل، ثم حضر الثاني وقال: أقبض ثلث ما في يده وهو قدر حصتي عند حضور الثالث: وطلبه فامتنع الأول وقال: خذ نصف ما في يدي أو تعفو فيه وجهان أحدهما: القول قول الأول ويقال له: إما أن تأخذ النصف أو تدع كما يمنع الأول مع المشتري من ذلك، والثاني: القول قوله وله أن يقتصر على أخذ الثلث بخلاف الأول مع المشتري لأن للمشتري صفقةً يمنع من تفريقها عليه وليس للشفيع الأول صفقةً تفرق عليه وإنما هو عفو عن بعض ما استحق عليه وهذا اختيار ابن سريج والأول أقيس. فرع آخر لو أخذ الشقص أحد الشفعاء الثلاثة [(80) /أ] عند غيبةَ الآخرين، ثم قدم أحد العامين فصالح الحاضر على ثلث الشقص وسلم له الثلثين فذلك جائز ولا يكون إبراء، فإذا قدم الغائب، الآخر فيه وجهان: أحدهما: يرجع على الأول الذي بيده الثلثان فيأخذ نصف ما بيده وهو الثلث فيصير الشقص بينهم أثلاثًا ليكونوا في الشفعةً سواء. والثاني: وهو قول محمد بن الحسن واختاره ابن سريج: الشقص يكون بينهم على ثمانيةَ عشر سهمًا أربعةً أسهم منها للعافي، وسبعةَ أسهم لكل واحدٍ من الآخرين،

ووجه ذلك أن العافي لما صالح على الثلث صار تاركا لثلث حقه لأنه كان مستحقًا للنصف فا تصر على الثلث فصار الشقص بينهما على ثلاثةً أسهم سهم للعافي، وسهمان للحاضر الأول فلما قدم الثالث: استحق ثلث ما بيد العافي وهو ثلث مهم يضم إلى السهمين اللذين مع الأول يصير سهمين وثلثًا فيكون منهما فيصير لكل واحدٍ منهما سهم وسدس فيضرب في مخرج السدس وهو ستةَ لتصح السهام فيكون له أربعةً أسهم من ثمانيةَ عشر وكان لكل واحدٍ من الآخرين سهم وسدس من ثلاثةً مضروب له في ستةَ فيكون له سبعةً أسهم والآخر مثلها. وقال صاحب الحاوي: الصحيح عندي غير هذين الوجهين فأقول: الشقص بينهم على تسعةَ أسهم سهمان للعافي، وثلاثةً أسهم للآخر، وأربعةً أسهم للمعفو عنه؛ ووجه ذلك أن العافي لما صالحه على الثلث صار الشقص سهمًا على ثلاثةَ أسهم سهم للعافي ومهما ن للمعفو عنه، فإذا قدِم الغائب الآخر فله أن يرجع على العافي بثلث ما في بيده لأن له ثلث الشفعةً فيكون ثلث سهم ويرجع على المعفو عنه بثلث ما بيده من السهمين فيكون ثلثي سهم فيصير جميع ما أخذه منهما سهمًا واحدًا ويبقى على العافي ثلثا سهم [80/ ب] وعلى المعفو عنه سهم وثلث فاضرب ذلك في مخرج الثلث وهو ثلاثةَ تكن تسعةً أسهم للعافي منها سهمان لأن له سهمًا وثلثًا في ثلاثةً، ولم يجز أن يكون الأخير مساويا المعفو عنه لأنه غير مقصود بالمحاباةً والعفو. فرع آخر لو حضر الأول وأخذ الشقص بالشفعةً ثم وجد به عيبًا فرده على المشتري ثم حضر الغائبان كان لهما الشفعةً لأن رده بالعيب بمنزلةً عفوه عنها، وقال محمد: لا يأخذان إلا نصيبهما لأن الأول لم يعف عن الشفعةً ولكنه ردّ لأجل العيب فلا يتوقف نصيبه على الآخر كما لو رجع إليه بسببٍ آخر وهذا غلط لأن الشفيع فسخ تملكه ورجع إلى المشتري بالسبب الأول فكان للشفيع الآخر أن أخذه منه، ويفارق إذا عاد بسبب آخر لأنه عاد غير الملك الأول الذي تعلقت به الشفعة بخلاف مسألتنا. فرع آخر لو حضر الشفيع الثالث: وكان أحد الشريكين غائبًا فإن قضي له القاضي على الغائب أخذ من الحاضر الثلث ومن الغائب الثلث، وإن لم يقض له فكم يأخذ من الحاضر؟ وجهان أحدهما: الثلث لأنه قدر ما يستحقهما في يده، والثاني: النصف لأن أحدهما: إذا كان غائبًا صار كأنهما الشفيعان فيقتسمان بينهما بالسويةً، فإذا ثبت هذا فإذا حضر الغائب وغاب هذا الحاضر ثلث ما في يده آخذ من الذي كان غائبا وحضر ثلث ما في يده أيضًا، وإن كان أخذ من الحاضر نصف ما في يده أخذ من هذا سدس

ما في يده فيتم بذلك نصيبه وتصح قسمةُ ذلك من ثمانية وأربعين فالمبيع اثنا عشر سهمًا أخذ كل واحتدٍ ستةَ فإن أخذ من أحدهما: مهمين وهو ثلث ما في يده أخذ من الآخر سهمين، وإن أخذ نصف ما في يده وهو ثلاثةَ أخذ من الآخر سهمًا وهو سدس ما في يده فيتم له أربعةَ أسهم وذلك ثلث السهم المبيع. فرع آخر قال الشافعي عقيب هذه المسألةً: وإن كان الاثنان [81/ أ] قد اقتسما قبل قدوم الثالث: كان له نقض قسمتهما لأن له فيه حق الشفعةً ولم يرد الشافعي أن القسمة تنتقض بالمطالبةً بنقضها بل أراد أنها تنتقض بالمطالبةَ بالشفعةً، فإذا طالب بالشفعةً انتقضت القسمةَ بين الأولين، وإن كانا قد اقتسما قسمةً صحيحةَ، فإن قيل: كيف تصح قسمتهما والشريك الثالث: غائب؟ قلنا: يتصور صحتها بآن وكل في القسمةَ قبل حصول البيع وغير ذلك على ما سنبين إن شاء الله تعالى. فرع آخر لو قال الشفيع الواحد: عفوت عن نصف الشفعةً ففي المسألةً وجوه أحدها: بطلت الشفعةً في الكل كالقصاص إذا عفا عن بعضه سقط كله لأنه لا يتجزأ وهو ظاهر المذهب وبه قال محمد وهو اختيار ابن سرج: والثاني: لا تبطل الشفعةً ويقال له: خذ له الكل آو دع الكل وبه قال أبو يوسف لأن العفو لما لم يكمل بطل، وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا هو المنصوص، والثالث: حكي عن ابن سرج أنه قال: يأخذ النصف ويدع الباقي وهذا لا وجه له، وقال أصحابنا: لعل هذا القائل أراد إذا كان المشتري راضيًا بالتفريق فأما دون رضاه فلا يكون ذلك بوجه. مسألة: قال: "ولو أصابها هدمٌ من السماءِ" الفصل وهذا كما قال: إذا عاب الشقص في يد المشتري قبل أن يأخذ الشفيع الشفعةَ نظر، فإن كان عيبًا لم يذهب به شيء من الأعيان ولا انفصل به شيء من البناء مثل تشقق الحائط وميلانه وانكسار الجذوع فالشفيع بالخيار بين أن يأخذه معيبًا بكل الثمن أو يتركه بلا خلاف، وإن كان ذلك بانتقاض بناء وانفصال شيء منه نقل المزني أن الشفيع بالخيار بين أن يأخذه ناقصًا بكل الثمن أو يدع وهو منصوص في كتاب التفليس، وقال في القديم: الشفيع بالخيار بين أن يأخذ ما بقى بالحصةً من الثمن آو يدع وهو روايةُ الربيع. واختلف أصحابنا في هذه المسألة على خمسة طرق [81/ ب]. إحداها: أنه لا يدخل في الشفعةً ما انفصل من البناء والشفيع بالخيار بين أن يأخذ

ما عداه أو (يدع) فإذا أخذ بكم يأخذ؟ فيه قولان: أحدهما: يأخذه بكل الثمن لأنه استحقه به وقت العقد فلا يحطّ عنه النقصان كالمبيع إذا نقص في يد البائع قبل القبض لا يحطّ من الثمن شيئًا إذا اختار المشتري إنفاذ البيع، والثاني: يأخذه بالحصةً وهو الصحيح لأنه أخذ ما تناوله العقد فوجب أن يأخذ بالحصةً من الثمن كما لو باع شقصًا وسيفًا يأخذ الشقص ببعض الثمن لا بجميعه، ولا فرق على هذه الطريقةَ بين أن يكون الشقص بفعل الآدمي أو بآفةً سماويةٍ ولا فائدةً لتقييد المسألةَ بهدمٍ من السماء، ولا فرق بين أن يكون قد ذهب بعض العرصةَ أم لا. والثانية المسألة على قول واحد أنه يأخذ بحصته من الثمن كما قال في القديم والذي نقل المزني لا يعرف للشافعي في شيء من كتبه، وقال أبو إسحاق: الذي قال في القديم والجديد: أنه يأخذ بالحصة ورد على أهل العراق قولهم: إن أنهدم بأمرٍ من السماء أخذه يجمع الثمن، وإن أنهدم بفعل الآدميين أخذه بحصته من الثمن، ولعل المزني غلط من قول الشافعي إلى قول أهل العراق مثل ما غلط من قول الشافعي إلى قول مالكٍ فيمن حلف على غريم له ألا يفارقه حتى يستوفي حقه منه فأخذ منه بحقه عرضًا أنه إن كان ذلك بقيمةَ الحق أو أكثر لم يحنث، وإن كان بأقل حنث وهذا قول مالك وعلى هذا لا يأخذ النقض وهو اختيار أبى بكر الفارسي وقيل: تأويله ما نقل المزني إذا استهدم ولم يبن من الدار. والثالثة المسألة على اختلاف حالين فالذي نقله المزني إذا انهدمت الدار وانتقض التأليف ولم يتلف من الأجزاء شيء فالشفيع يأخذ الكل بكل الثمن وهذا المتهدم [82/ أ] وإن صار منقولًا لا يمنع من الأخذ من الشفعةً لأنه كان عند البيع متصلًا غير منقول، وهذا كما لو اشترى دارًا فانهدمت قبل القبض لم يخرج ما بان منها لأنه كان متصلًا بها وقت البيع والذي نقله الربيع أراد إذا تلف بعض الأجزاء والأعيان، والفرق أن الأعيان إذا كانت باقيةً لم يتلف شيء مما يقابله الثمن بل بغير التأليف وذلك لا يقابله الثمن فافترقا، وهذا اختيار ابن أبى هريرةً وأكثر شيوخنا ببغداد وهذا لأن المزني ثقةً في الروايةً فلا يبغى أن ترد روايته. والرابعةُ المسألةً على اختلاف حالين من وجهٍ آخر فالذي نقل المزني: إذا تلف البناء والعرصةً قائمة بحالها والذي نقل الربيع: إذا ذهب بعض العرصةً بغرقٍ أو غيره لأن الآلات والبناء تابعةً للعرصةَ في الشفعةَ وظاهر قول هذا القائل أن الأعيان المنفصلةً لا تدخل في الشفعةً وهذا غير صحيح لأن الثمن يقابل العرصةً والأعيان، وإن كانت تابعةً ولأن الشافعي قال في القديم: ولو اشتراه عامرًا فهدمه قيل له:؛ وقعت الصفقةً على شيئين وقاتل: أحدهما: فيقسم الثمن على العرصةً والبناء ويأخذ مما أصاب العرصةً وهذا اللفظ لا يحتمل ما قاله هذا القائل. والخامسةً وهي على اختلاف الحالين من وجه آخر فالذي نقل المزني: إذا كان الهلاك بأمرٍ سماوي والذي نقل الربيع: إذا كان الهلاك من الآدمي، والفرق أنه إذا

حصل من الآدمي حمل للمشتري بدل بالضمان، وإذا حصل من الماء لم يحصل للمشتري بدل ذلك وهذا غير صحيح لأنه نص في القديم على أنه لا فرق بينهما وإنما هذا مذهب أبى حنيفةَ رحمه الله. مسألة: قال: "ولو قاسَمَ وبني قيلَ للشفيع: إن شئت فخذ بالثمن وقيمةٍ البناءِ اليوم، أو دع". [82/ب] فصل وهذا كما قال: إذا اشترى شقصًا من قزاز وثبت للشفيع ثم قاسم المشتري وبني فيه قال الشافعي رحمةُ الله عليه! قيل للشفيع إن شئت فخذ الشقص بالثمن وقيمةَ البناء يوم تأخذه لأنه بني وهو غير متعدٍ وقصد به الرد على أبى حنيفةَ حيث قال: ليس على الشفيع أن يغرم قيمةَ البناء ويجبر على قلعه، وبه قال الثوري والمزني وبقولنا قال النخعي ومالك وأحمد وإسحاق والآوزاعي واحتج المزني فقال: هذا الذي قاله الشافعي غلط كيف لا يكون متعديًا وقد بني فيما للشفيع فيه شرك مشاع، ولولا أن الشفيع فيه شركًا ما كان شفيعًا وقال: لا يخلو من أن يكون قسم مع الشريك أو قسم بنفسه فإن قسم بنفسه دون الشريك فالقسمةً فاسدةً والبناء تعدٍ، وإن قسم مع الشريك ولم يطالبه بالشفعةً فقد بطلت الشفعةً وهذا الذي قاله غلط لأنا نقول: غلطت في قولك للشفيع فيه شرك لأن الشرك عبارةً عن الملك في هذا الموضع والشفيع منفرد والملك للمشتري دون الشفيع وليس للشفيع في ذلك الملك شركةً وإنما له سلطان السلب، بدليل أن المشتري لو باعه صح بيعه وملك ثمنه بالإجماع، فلو كان للشفيع فيه ملك أو شرك لما جاز ذلك فإذا بني كان متصرفًا في ملكه فعليه أن يغرم ما نص من قيمةَ البناء، ولأنه لو بني المستعير في البقعةً المستعارةً بناةً ثم كلفه المعير قلع بنائه غرم ما نقص من قيمةً البناء فالباني في ملك نفسه أولى بأن يكون له على الهادم قيمةً بنائه، وأما قوله أن القسمةً فاسدةً قلنا: القسمةً قد تصح مع بقاء الشفعةً من خمسةَ أوجه: أحدها: أن يكون الشفيع غائبًا وقد وكل في مقاسمةُ شركائه وكيلًا يجوز للوكيل أن يقاسم المشتري لتوكيله في المقاسمةً ولا يطالبه بالشفعةً لأنه ليس بوكيل [83/ أ] فيه. والثاني: أن يأتي المشتري الحاكم فيسأله المقاسمةً عن الغائب فيجوز للحاكم ذلك إذا كان الشريك بعيد الغيبةً وليس له أن يأخذ بالشفعةً للغائب ويجعل الغائب على حقه من الشفعةً إذا قدم وسجل به سجلًا. والثالث: أن يذكر المشتري ثمنًا موفورا ثم يعفو أو يقاسم ثم تبين أن الثمن كان أقل فالقسمةَ صحيحةً والشفعةَ ثابتةً والشفيع غير متعدٍ ببنائه لأنه بالكذب متعدٍ في قوله لا في قسمته وبنائه.

والرابع: أن ينكر الشراء ويدعي الهبةً فلا شفعةً في الظاهر فقاسمه ثم علم الشراء. والخامس: أن يكون الشفيع طفلًا فيمسك الولي عن طلب الشفعة ويقاسم المشتري ثم بلغ الطفل تكون له الشفعةَ مع صحةً القسمةً فبطل ما قاله المزني، فإن قيل: هذا يبطل بما ذكره الشافعي: لو اشترى أرضًا وبناها ثم استحقها رجل يجبر المشتري على نقص بنائه وكان بناؤه على غير وجه التعدي قلنا: البينةً لما قامت على الاستحقاق انكشف لنا أن المشتري بناها وهي لغيره وأنه كان متعديًا في الباطن وليس كذلك في الشفعةً فإنه لم ينكشف لنا أن المشتري بالبناء كان متعديًا على أنا نقول للمشتري: لك أن ترجع بما دخل في البناء من النقص على الغاصب فيزول الضرر عنه، فإذا تقرر هذا وطالب الشفيع بالشفعةً لا يخلو المشتري من أحد أمرين إما أن يختار قلع ما أحدثه من البناء، أو لا فإن اختار القلع كان له وليس للشفيع منعه منه، وإذا فعل ذلك ليس عليه ما نقص بالقلع ولا تسويةً الحفر التي هي مواضع القلع، فإذا فعل ذلك كان الشفيع بالخيار بين آن يأخذ بعد القلع بكل الثمن أو يدع فإن أخذ فلا كلام، وإن لم يأخذ بطلت شفعته. وإن اختار المشتري الشفعةً قلنا للشفيع: لك الخيار بين ثلاثةً أشياء بين الترك وبين الأخذ بالقيمة [83/ب] وبين إجبار المشتري على القلع وإعطائه ما نقصى بالقلع وهو ما بين قيمته قائمًا في مكانه ومقلوعًا، ولو كان مكان البناء زرع قلنا للشفيع: خذ بالشفعةً ويكون للمشتري الزرع فيه إلى حين الحصاد لأنه لا يتباقى ضرره ولا أجرة للشفيع. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: يلزم أجرةَ المثل إلى أوان الحصاد، ولو قال الشفيع: أنا أؤخر حتى إذا حصد الزرع أخذت إذ ذاك كان ذلك له ولا تسقط شفعته لأن له في التأخير غرضًا صحيحًا وهو بقاء الثمن عنده إلى حين الحصاد ينتفع به فإذا حصد أخذه. فرع لو اختلفا في البناء الموجود فقال الشفيع: كان قبل الشراء، وقال المشتري: أحدثته بعد الشراء فالقول قول المشتري. فرع آخر لو غرس فيها فالغراس كالبناء ويجوز أن يغرس المشتري من غير مقاسمةً بأن تكون الأرض بين ثلاثةً شركاء فاكترى أحدهم نصيب صاحبه واشترى نصيب الآخر ثم غرس المشتري ثم علم المكري بالشفعةً. فرع آخر لو قال الشفيع: أنا آخذ من الشقص القدر الذي لا بناء فيه يكل الثمن لم يجز، لأنه متطوع بهبةً لا يلزمه قبولها وملزم له شركة ربما استضر بها، وكذلك لو قال: أقرّ في الأرض البناء.

فرع آخر لو تصرف المشتري قبل أن يعلم الشفيع بالشفعةً تصرفًا حكميًا بأن باعه أو وهبه أو أصدق أو وقف أو رهن صح تصرفه بكل وجهٍ يتصرف في ملكه المطلق ولا يصح ذلك في حق الشفيع ثم لا يخلو من أحد أمرين إما أن يكون تصرفًا تجب به الشفعةً، أو لا تجب به الشفعةً، فإن كان مما تجب به الشفعةً كالبيع والنكاح والإجارةً والصلح أو كان المشتري امرأةً فخالعت به كان الشفيع بالخيار بين أن يفسخ تصرف المشتري ويأخذ الشقص منه [84/ أ] وبين أن يقره ويأخذ الشقص من الثاني لأن الشركةَ قائمةً عند العقد بين معافان اختار نقض تصرف المشتري كان له ويأخذه منه، وإن اختار تنفيذ تصرفه وأن يأخذه من الثاني يكون العافي كأنه المالك الأول فيأخذه منه بالثمن الذي اشتراه هو، وإن كان صداقًا وأخذه بمهر المثل وعلى هذا، وإن كان تصرفًا لا تجب به الشفعةً كالهبةً والوقف والرهن كان للشفيع إبطاله والأخذ بالشفعةً. وقال القاضي الطبري: سمعت الماسرجسي يقول: في الوقف تبطل شفعته لأنها تجب في المملوك وقد خرج هذا الشقص من أن يكون مملوكًا وهذا غير مشهور ولا يصح لأن الوقف من المريض يبطل لحق الغرماء وإن صادف ملكه كذلك ها هنا. وقال مالك: إذا وهب المشتري يأخذ الشفيع من الموهوب له ويدفع الثمن إلى الموهوب له لا إلى المشتري وعندنا يدفع إلى المشتري لأن الهبةً تبطل بأخذه ولو أوصى المشترى لآخر ومات فللشفيع أخذه بالشفعةً ويبطل الوصيةً لأنه أوصى بشيء قد استحق عليه. فرع آخر لو ضمن الشفيع عن المشتري ثمن الشقص للبائع أو ضمن عن البائع درك المبيع للمشتري يصح الشراء والضمان وكان الشفيع على شفعته على ما ذكرنا خلافًا لأبي حنيفةَ، وعلى هذا إذا ضمن الثمن فطالبه البائع فغرمه ثم أخذ الشفعةً، فإن كان ضمن الثمن بأمر المشتري فقد برئ الشفيع مما استحقه المشتري عليه من الثمن لأنه تطوع يغرمه للبائع ويحكم عليه بدفعه ثانيًا إلى المشتري. مسألة: قال: "ولو كان الشقص في النخل فزادت كان له أخذها". الفصل وهذا كما قال: الأشياء في الشفعةً على ثلاثةً أضرب منها ما تجب فيه الشفعةً متبوعا وهو العراض والبراح التي لا أصل فيها من بناء ولا غيره، وعنه ما لا تجب فيه الشفعة لا تابعًا ولا متبوعًا وهو المنقول كالطعام والمتاع ونحو [84/ ب] ذلك، وقال عطاء: تثبت الشفعةً في كل مشترك من جميع الأموال وبه قال مالك في روايةً، وروي

عنه أنه قال: تثبت في السفن خاصًا، وروي عنه أنه قال: تجب الشفعةً في البناء المفرد والغرس وفي الثمار وفي المقاشي والمباطح لاتصاله بعراض الأرض المستحق فيها الشفعةً واحتجوا بما روى ابن أبي مليكةً عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الشريك شفيع والشفعةً في كل شيء"، وهذا غلط لقوله- صلى الله عليه وسلم -: "الشفعةً فيما لم يقسم فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة" وهذا لا يتناول المنقول، وأما خبرهم مرسل غير مشهور ولا يصح مرفوعًا وما روينا أصح وأشهر. قالوا: الشفعةً لضرر القسمةً ويوجد ذلك في الكل قلنا: الضرر المخصوص لا يوجد ها هنا وهو المؤونةً في إفراز المرفق عند القسمةً ولا يتأبد ضرره فلا يقاس على غير المنقول، ومنها ما يجب فيه الشفعةً تابعًا ولا يجب متبوعًا وهو كل ما كان في الأرض من يباع وأصل كالشجر فإذا بيعت أرض فيها نخيل ثبت للشفيع فيها الشفعةً ويكون النخيل تابعه للشقص في الشفعةً لاتصالها بها، ألا ترى أنها تدخل في بيع الشقص من غير تسميةً، وإن كانت عليها ثمرةً مؤبرةً تكون الثمرةً للمشتري بالشرط ولا يأخذها الشفيع بالشفعةً. وقال أبو حنيفة ومالك: تثبت الشفعة فيها مع أصولها لأنها متصلةً بما فيه الشفعةً وهكذا الخلاف في الزرع مع الأرض إذا شرط في البيع وهذا غلط لأنها لا تدخل في البيع إلا بالاشتراط فكانت منفردةً في الحكم بنفسها غير تابعةً للأرض كالفدان والثيران، فإذا تقرر هذا يأخذ الشفيع الأرض مع النخيل بحصتها من الثمن ويترك الثمرةً للمشتري بما يقابلها من الثمن، ولو كان الشفيع غائبًا فعاد من سفره وكانت النخيل زادت وكبرت واستغلت يأخذها بزيادتها لأن هذه الزيادةً غير متميزةً فكانت تابعةً [85/ أ] فرع لو بيع النخل مع قرارها من الأرض مفردةً عما يتخللها من بياض الأرض ففي وجوب الشفعةَ فيها وجهان: وكذلك إذا باع البناء مع قراره من الأرض دون البياض فهل تثبت الشفعةً على هذين الوجهين؟ أحدهما: فيها الشفعةً لأنها فرع لأصل ثابت وعلى الشريك فيها من جهةَ شريكه سوء المشاركةً ومؤونةً مقاسمةٍ، قال الإمام أبو محمد الجويني رحمه الله: هذا هو المذهب المشهور وقال: ولو كان البيع في الفسيل المنقول لم تثبت فيه الشفعةً لأن العادةً نقله من مكان إلى مكان الغراس، والوجه الثاني: لا شفعةً فيها لأن قرار النخل تبعٌ لها فلما لم تجب الشفعةً فيها مفردةٌ لم تجب فيها وفى تبعها وهذا هو المشهور عند أهل العراق.

فرع آخر لو باع الأرض والنخيل ثم لم يأخذ الشفعةً حتى أثمرت غير مؤبرةً ففي استحقاق الشفيع لها قولان قال في القديم: يأخذها كما يدخل في البيع تبعًا، وقال في الجديد: لا يستحقها وقد ذكرنا هذا في كتاب البيع، ولو كان وقت البيع عليها ثمرةً غير مؤبرةً دخلت في البيع تبعا ويأخذها الشفيع فإن تأثرت عند الأخذ بالشفعةً فيه وجهان أحدهما: لا حق فيها للشفيع لتميزها عما يكون تبعا فعلى هذا يأخذ الشفيع الشقص من النخل بحصته من الثمن، والثاني: يأخذها مع الشقص لأن ما كان تبعا وقت العقد لاتصاله لم يسقط حق الشفيع منه بانفصاله، وقال أبو حنيفة: إن جُدَّت فلا حق له فيها لانفصالها، وإن كانت على نخلها أخذها بشفعتهُ مؤبرةً وغير مؤبرةً وهذا غلط لما ذكرنا، ولو بيع الأرض دون النخل ففيها الشفعةً بلا خلاف، ولو أفرد النخيل دون قرارها بالبيع لا شفعةً فيها بلا خلاف. فرع آخر قال ابن سريج: والدولاب والميزاب والناعورةً أصل كالبناء [85/ ب] وأما الدواليب المرسلةً والذرموق وهو جذع الداليةً، والباطئةً وهي التي كالجفنةً من القصب المقيرةً والمعلقةً في رأس جذع الداليةً لا شفعةَ فيها، وإن بيعت مع الأرض لأنها كالغلمان يعملون في الضيعةَ فيشتري الأرض والغلمان معها فالشفعةَ فيها دون الغلمان. مسألة: قال: "ولا شفعة في بئر لا بياض لها". الفصل وهذا كما قال: إذا كانت بئر لرجلين فباع أحدهما: نصيبه، فإن كانت البئر لها بياض وهي الأرض التي حولها والموضع الذي تجيء الماشيةَ إليه إذا شربت ليرد غيرها وهو الذي يسمى العطن والبئر لا تستغني عنه ويكون قيمةَ البياض مثل قيمةَ البئر إذا أفرد كل واحدٍ منهما عن الآخر فهذا محتمل القسمةً بأن يأخذ أحدهما: البئر والآخر البياض، فإذا باع أحدهما: نصيبه من البئر والبياض كان لشريكه فيه الشفعةً، وكذلك إذا كانت بئرًا واسعةً جافةً لا ماء فيها تثبت الشفعةً فيها لأن قسمتها جائزةً، لأن كان فيها ماء ولم يكن لها بياض نظر، فإن كانت واسعةً لها عينان ويمكن أن يجعل بئرين ويجعل بينهما حاجزًا مثل الجزيرةً كآبار البادية فهذه أيضًا تحتمل القسمةً فتثبت فيها الشفعةَ، لأن كان فيها عين واحدةً أو كانت بئرًا ضيقةً مثل الآبار المعهودةً لا يجبر واحد منهما على قسمتها، فإذا باع أحد الشريكين نصيبه منها لم يكن لشريكه فيه الشفعةً وقيل: قوله: لا بياض لها أي: لا مزرعةً لها فإنه إذا لم يكن لها مزارع لا تحتمل القسمةً غالبًا.

وأما الرحى، فإن كانت حجرين فإن قسمتها ممكنةً فتثبت فيها الشفعةً، وإن كانت حجرًا واحدًا إلا أن لما بيّنّا لا يستغني عنه الرحى يجعل فيه الطعام وترد البهائم التي تعمل في الرحى إليه وقيمتها واحدةً فإن قسمتها ممكنةً بأن يجعل لواحدٍ فهذه [86/ أ] تثبت فيها الشفعةً، وإن لم يكن لها بيت لم تثبت فيها الشفعةً، وأما الحمام إن كان في بيوت واسعةً يمكن قسمتها ويجعل حمامين وجبت الشفعةَ في نصيب أحدهما، وإن كان ضيقًا لا يحتمل القسمةً فلا شفعةً فيه وبه قال ربيعة ومالك في رواية، وروي ذلك عن عثمان رضي الله عنه، وقال الثوري وأبو حنيفة: تثبت الشفعةً في البئر والرحى والحمام، وإن كانت لا تحتمل القسمةً وهو اختيار ابن سريج ولهذا القول وجه، وإن كان خلاف مذهب الشافعي وهو المشهور عن مالك وهذا لأن الشفعةً لأجل الضرر بالمشاركةً والضرر في هذه الأشياء أكثر لأنه يتأبد ضرره والفتوى على هذا اليوم ووجه قولنا: لا شفعةَ فيها أن إثبات الشفعةً فيها يضر البيع لأنه لا يمكنه أن يتخلص من إثبات الشفعةً في نصيبه بالقسمة ويمتنع المشتري من الشراء خوفًا من الشفيع فلا شفعةً لهذا المعنى. وقد روي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: "لا شفعة في بئر ولا فحل والأزفُ يقطع كل شفعةً" وأراد بالفحل فحل النخل، وأراد إذا كان للقوم نخيل في حائط توارثوها واقتسموها ولهم فحل نخل في أرض الغير يلقحون منه نخيلهم فباع أحدهم نصيبه المقسوم من ذلك الحائط بحقوقه من الفحل وغيره فلا شفعةً للشركاء في الفحل، لأنه لا ينقسم أيضًا كالبئر سواء والأزفُ المعالم والحدود بين المواضع المقسومةً وأحدها أزفةً ويقال: أزثةً بالثاء. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه ثقال: "لا شفعةً في فناء ولا طريق ولا منقبةً ولا ركح ولا رهوةً" والفناء الساحة المتصلةَ بدور القوم فلا شفعةً فيه لأنه ينقسم والمنقبة، قال أبو عبيد: الطريق الضيق بين الدارين أو بين الدور والنقب الطريق الضيق بين الجبلين، والركح ناحيةُ البيت من ورائه وما كان فضاء لا بناء فيه يعني إذا كان للسابلةَ والمارةً أو لأنه مرفق الدار تابع [86/ ب] لها فلا شفعةً فيه بانفراده، والرهوةً الجوبةً تكون في محلةً القوم يسيل فيها ماء المطر وغيره، وقال ابن أبي أحمد: وفي الرحى والحمام قولان قالهما ابن سريج تخريجًا. وقال القفال: اختلف أصحابنا في حد ما يحتمل القسمةً فمنهم من قال: حده أن يمكن الانتفاع بكل شقص منه بعد القسمةً على الوجه الذي كان ينتفع به من قبل فعلى هذا لا شفعةً في الرحى والحمام على ما ذكرنا ومنهم من قال: حده أن يمكن الانتفاع به لأنه يمكن الانتفاع ببعض بيوته وساحته من وجهٍ آخر قال: والعبارةَ الصحيحةً عنه أنه إذا كان بحيث لو دعا الدخيل إلى القمةً أجبر عليه الشريك فللشريك فيه الشفعةً لأنه

يأمن بها من مؤونة المقاسمة، وإن كان لا يجبر عليه الشريك فلا شفعة له حتى لو كانت دارًا واسعة غير أن لأحدهما: جزءًا من ألف جزء أو مائة جزٍء فباع ذلك فلا شفعة فيه للآخرين لأن مشتري هذا الجزء لو دعا إلى القسمة لم يجب إليها جبرًا، وإن بيع نصف الدار أو ثلثها تثبت الشفعة وهذا غريب، وقال جماعة أصحابنا بالعراق: حده ما لا تنقص قيمته بالقسمة وقيل: هو ما ينتفع به بعد القسمة وهو ظاهر المذهب وأراد ب المنفعة التي كانت. فرع لو كان السقف لأرباب العلو فباع أحدهم نصيبه فيه وجهان أحدهما: وهو الأصح لا شفعة فيه لأنه لا يتبع أرضًا، والثاني: فيه الشفعة لأن السقف كالعرصة وقد قال الشافعي في كتاب الصلح: السقف أرض لصاحب العلو ولأنه إذا جاز أحدهما: حصته من البناء والسقف أمكن سكناه كالأرض. فرع آخر إذا كانت أرصُا واسعةً تختص الرحى بموضع منها كأرحاء البصرة في أنهارا فإطلاق بيع الأرض هل يوجب دخول الرحى؟ فيّه ثلاثة أوج أحدهما: تدخل علوًا وسفلاً فعلى هذا تجب الشفعة فيه تبعًا للأرض كالبناء، والثاني: لا تدخل أصلاً فعلى هذا لا شرط فيه وإن شرط في البيع [87/ أ] كالزرع ويأخذ الأرض بحصتها من الثمن، والثالث: يدخل السفل دون العلو فتجب الشفعة في السفل دون العلو، وأما بيت الرحى فداخل فيه والشفعة فيه واجبة كسائر الأبنية. فرع آخر إذا بيع الأرض هل يدخل فيه الدولاب تبعًا؟ فيه ثلاثة أوجه أحدها: يدخل كالبناء فيدخل في الشفعة، والثاني: لا يدخل فلا شفعة، والثالث: إن كان كبيرًا لا يمكن نقله يدخل فتجب فيه الشفعة، وإن كان صغيرًا يمكن نقله ليدخل في البيع ولا شفعة وقد ذكرنا ما قال ابن سريج. فرع آخر المعدن إذا كان جاريًا كمعادن النفط فحكمه حكم البئر، فإن كان ضيقًا لا يصير ما قسم معدنًا لا شفعة فيه، وإن كان واسعًا، فإن كان نبوعه في أحد جوانبه لا شفعة، وإن كان نبوعه في جميع جوانبه ففيه الشفعة. فرع آخر إذا أثبتنا الشفعة فيه، فإن كان ما ينبع منه يجتمع فيه ولا يخرج منه فهل يكون ما اجتمع منه وقت العقد داخلاً في البيع ومأخوذًا بالشفعة؟ وجهان أحدهما: يدخل كاللبن في الضرع ويؤحذ في الشفعة لأنه تبع لما فيه الشفعة، والثاني: لا يدخل في البيع كالثمرة المؤبرة ولا تجب فيه الشفعة وإن شرط في البيع، وإن كان ما ينبع جاريًا لا

يجتمع فيه قال أبو إسحاق: لا يملك إلا بالإجارة، وإذا خرج من معدنه لم يمنع منه الناس، وقال ابن أبي هريرة: في المعدن مملوك قبل إجارته وله منع الناس منه إذا خرج عن معدنه فعلى هذا هل يكون داخلاً في البيع إذا كان ظاهرًا وقت العقد؟ على ما ذكرنا من الوجهين. فرع آخر لو كان المعدن جامدًا كمعادن الصفّر يدخل في البيع ثم ينظر، فإن كانت قسمته ممكنة وتصير كل حصة منه إذا قسمت معدنًا ففيه الشفعة، وإن لم يكن كذلك فلا شفعة. مسألة: قال: "فأما الطريقُ التي لا تُملَكُ فلا شفعَة فيها ولا بها ". وهذا كما قال: أراد به الشوارع لا شفعة فيها [87/ ب]، وإن كانت طريقًا إلى الدار المبيعة لأنها غير مملوكة وقوله ولا بها قصد به الرد على أبي حنيفة حيث قال: تثبت الشفعة بالطريق إذا كانت غير نافذة وعندنا لا تثبت به الشفعة في الدار المقسومة بحاٍل، وإن كان الطريق مملوكًا فكيف إذا كان غير مملوك؟ فرع آخر لو كانت عرصة يحيط بها دور وهي مشتركة بين أرباب الدار فهذه مملوكة وبيع كل واحٍد منهم لحصته جائز، فإذا باع أحدهم دار مع حصته من العرصة قال مالك وابن سريج: تجب الشفعة في الدار المحوزة وفي حصتها من العرصة للإشتراك في العرصة، وعند الشافعي لا شفعة في الدار لإجازتها وينظر في العرصة، فإن كانت ضيقة لا تحتمل القسمة لا شفعة، وإن كانت واسعة تحتمل القسمة، فإن كان للدار من غير العرصة طريق تجب الشفعة، وكذلك إن كان للمشتري دار يفتح بابها إليها أو يمكن فتحه إلى شارٍع تجب الشفعة ويأخذ مقدار حقه من الزقاق بما يخصه من الثمن، وإن لم يكن طريق من غير العرصة لا تثبت فيها الشفعة في ظاهر مذهب الشافعي لأن الشفعة تجب لإزالة الضرر وها هنا يؤدي إلى الضرر بالمشتري لأنه يبقى ملكه محبوسًا بلا طريق وهذا الضرر أعظم من ضرر الشفيع ولا يزال الضرر بالضرر. ومن أصحابنا من قال: في ثلاثة أوجه أحدها: هذا، والثاني: وهو اختيار ابن أبي هريرة تجب فيها الشفعة ويبطل استطراق المشتري فيها لأنه دخل على علم تضرره وهذا لا يصح لأنه لو علم هذا لم يرغب في الشراء بحاٍل، والثالث: تجب الشفعة وحق الاستطراق ثابت فيها بغير ملك ليزول الضرر عنهما، وعلى هذا الوجه لو باع دارًا ليس لها طريق كان البيع باطلاً وعلى قول ابن أبي هريرة يجوز وهذا ضعيف أيضًا لأنه يستحيل أن ينتقل الملك إلى الشفيع [88/ أ] ويستحق عليه الاستطراق وإذا استحق ذلك

لا يحصل مقصوده بالأخذ بالشفعة، وقال القاضي الطبري: لو قال الشفيع: أنا آخذه وأقر له حق التطرق فيه كان ذلك له بشرط أن يكون حق التطرق لازمًا لا يجوز له الرجوع فيه. فرع آخر إذا قلنا بالوجه الثالث: فأخذ الحصة من العرصة بالشفعة واستحق المشتري الاستطراق إلى داره في العرصة نظر في أخذ الحصة، فإن أخذها جميع الشركاء في العرصة فله حق الاستطراق على جميعهم حتى لو اقتسموا كان له أن يستطرق حصة من شاء منهم، وإن أخذ الحصة أحدهم فيه وجهان أحدهما: أنه يستحق الاستطراق في حصة الأخذ منه بالشفعة دون غيره من الشركاء حتى لو اقتسموا لم يكن له استطراق حصة غيره لأن طريق الدار في حصته، والثاني: يستحق الاستطراق على جميعهم لأن حقه منفعة شائعة في جميع العرصة فلم تصح إجارتها بالقسمة. فرع آخر لو اتسعت العرصة عن استطراق الشركاء لو اقتسموا وكان نصفها لو اقتسموه كافيًا لاستطراقهم فالشفعة في الفاضل عن استطراقهم واجبة وجهًا واحدًا ولا يملك المشتري فيه استطراقا وفي وجوبها على المستطرق ثلاثة أوجه على ما ذكرنا، وأعلم أن الشافعي قال ها هنا: وأما عرصة الدار تكون محتملة للقسم وللقوم طريق إلى منازلهم فإذا بيع منها شئ ففيه الشفعة وصورة هذه العرصة أن تكون الأرض الفضاء المملوكة للشركاء فلما اقتسموها لبناء المنازل تركوا في وسطها عرصة تكون لهم سكة واسعة كالرحبة يتطرقون منها إلى منازلهم، فإن كانت هذه الرحبة بحيث تحتمل القسمة فباع بعضهم حصته منها تثبت الشفعة للشركاء في الحصة المبيعة لأنها حصة شائعة في عقاٍر مملوٍك محتمل للقسمة، وإن كانت هذه العرصة [88/ ب] متضايقة بحيث لا تحتمل القسمة فباع بعضهم حصته فلا شفعة وبيان العرصة التي تحتمل القسمة والتي لا تحتملها ي أن تكون بحيث لو قسمت بقي للقوم طريق إلى منازلهم ولفظ الشافعي ها هنا مشكل لأنه قال: تكون محتملة للقسم وللقوم طريق إلى منازلهم ومعناه بعد القسم طريق إلى منازلهم والواو واو الحال، ولو كان يريد صفتها قبل القسم لكان يقول: وللقوم طريقًا إلى منازلهم خيرًا لقول: تكون محتملةٌ للقسم. مسألة: قال: "ولولي اليتيمِ وأبي الصَّبيِّ أن يَأخُذا بالشفعةِ ". الفصل وهذا كما قال: إذا ثبتت الشفعة للصبي وهو في حجر الأب أو الجد أو الوصي أو القيّم من جهة الحاكم فإن لمن يليه أن يأخذ الشفعة له ثم لا يخلو إما أن يكون الحظ

في الأخذ أو [في] الترك، فإن كان في الأخذ فعليه الأخذ وإذا أخذه ملكه المولى عليه فإن عفا فقد فعل ما لا يجوز له فعله، ولا يصح العفو وللصبي الأخذ بالشفعة إذا بلغ وهل يكون على الفور مع الإمكان أو على التراخي؟ على ما بيناه وبه قال محمد وزفر. وقال أبو حنيفة: يصح عفوه ولا يثبت له بعد البلوغ لأن من ملك الأخذ ملك العفو وهذا غلط لأنه إسقاط حق للمولى عليه لا حظ له فيه فلم يصح كالإبراء وإسقاط الرد بالعيب، وقال ابن أبي ليلى: لا يجوز للوليّ أن يأخذ الشفعة لليتيم أصلاً لأنها موقوفة على شهوات النفوس ولأن من لا يملك العفو لا يملك الأخذ ولا ينتظر لأن فيه إضرارًا بالمشتري فبطلت، وقال الأوزاعي: تثبت الشفعة وليس للولي أن يأخذها بل يتأخر إلى البلوغ وهذا غلط لأنه خياٌر ثبت لدفع الضرر عن المال فملكه الولي في حق الصبي كخيار الرد بالعيب وليس كالعفو لأنه إسقاط وهذا توفير فو كما يملك استيفاء الدين ولا يملك الإبراء عنه [89/ أ]. واحتج الأوزاعي بالقصاص لا يستوفيه الولي ويؤخر استيفاؤه إلى ما بعد البلوغ، قلنا: المقصود من القصاص التشفي ودرك الغيظ ولا تدخل فيه النيابة وها هنا الغرض إزالة الضرر عن المال وتدخله النيابة فافترقا، ولو أخذ الشفعة له ثم بلغ فأراد الرد ليسترد الثمن ليس له ذلك، وإن كان الشقص عند البلوغ متراجع القيمة لأن الاعتبار بساعة الأخذ وكانت المصلحة في أخذه بالشفعة، وإن كان الظ في الترك لا يجوز له الأخذ، فإن خالف وأخذ كان الأخذ باطلاً لا يملكه المولى عليه ولا الولي أيضًا لأنها تستحق بالشركة الموجودة حين البيع ولا شركة ل بخلاف ما لو اشترى شيئًا للصبي لا غبطة له فيه يلزم الولي الشراء، وإن عفا الولي ها هنا وتركها هل يسقط بعفوه حتى إذا بلغ ليس له الأخذ المذهب أنه يسقط. وحكي أبو إسحاق عن بعض أصحابنا أنه قال: لا يصح عفوه وللصبي الأخذ بالشفعة إذا بلغ لأنه ملك الآن ووجود معتبر في أخذ الولي لا في أخذ المالك وهذا غلط لأن أخذه صحيح عند الغبطة فعفوه صحيح عند الغبطة كالرد بالعيب والرضا به، وقيل: فيه قولان ذكره الربيع وغيره وهذا الثاني اختيار أبي إسحاق وبه قال زفر ومحمد وهذا غير مشهور وقد روى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الصبي على شفعته حتى يدرك فإن أدرك فإن شاء أخذ، وإن شاء ترك". فرع لو استوي الحظ في الأخذ والترك ففي أخذ الولي ثلاثة أوجهٍ أحدها: لا يأخذ الشفعة ما لم يظهر له الحظ في أخذها، والثاني: يلزمه أخذها لأن الأخذ حظ ما لم يظهر ضرر، والثالث: أنه مخير بين أخذها وتركها لاستواء الحالين، فإذا قلنا: ليس له الأخذ فإذا بلغ هل الأخذ وجهان.

فرع آخر لو كان لجماعة أيتام [89/ ب] وصي واحد فباع لأحدهم شقصًا في شركة أحدهم كان له أخذه بالشفعة للآخر. فرع آخر لو كان حق الشفعة للوصي فيما باع لليتيم قال ابن الحداد: لا شفعة له لأنه منَّهم في نقصان ثمنه، فإن رفعه إلى الحاكم فباعه كان له الشفعة لأن التهمة قد زالت، ومن أصحابنا من قال: له الشفعة لأن الشفعة يستحقها على المشتري بعد صحة البيع حكاه ابن القفال في "التهذيب" ولو باع الأب أو الجدّ وله الشفعة كان له الأخذ بالشفعة لأنهما غير متهمين فيه. فرع آخر لو اشترى الوصيّ لليتيم شقصًا وله فيه الشفعة ليس له أخذه بالشفعة لأنه يوجب بذلك العهدة على اليتيم إن استحق ذلك، وفيه وجه آخر له أخذه بالشفعة لأنه لا تهمة فيه. فرع آخر لو كانت دار بين رجلين نصفين فوكَّل أحدهما الآخر ببيع نصفها الربع من نصيبه والربع من نصيب شريكه فباعه فللموكل أن يأخذ ربع شريكه بالشفعة. وهل للوكيل أن يأخذ ربع الموكل؟ الوجهان كما ذكرنا في الوصي قال ابن الحداد: لا شفعة للوكيل لمكان التهمه والوجه الثاني له الشفعة وهو اختيار ابن سريج، ومن أصحابنا من فرق بين الوكيل والوصي فقال: الوكيل ينوب عن حيّ جائز التصرف يقدر على استدراك ظلامته إن جر نفعًا إلى نفسه بخلاف الوصي في حق اليتيم. فرع آخر قال ابن الحداد: لو وكله بشراء شقص فاشتراه الوكيل كانت له الشفعة ووافقه سائر أصحابنا، وقال أبو حنيفة: لا شفعة له بخلاف وكيل البائع وهذا بناء على أصله إن الملك ينتقل إلى ملك وكيل المشتري أولاً ثم ينتقل إلى الموكل وعندنا الفرق بينهما أن في الشراء لا تهمة لأن له أن يشتريه بأرخص ما يكون بخلاف البيع. فرع آخر لو خلف حملاً وشقصًا من دارِ وأوصى إلى رجل بالقيام [90/ أ] في تركته والنظر لحمله فبيع الشقص من الدار في شركة الحمل ليس له أن يأخذ بالشفعة للحمل ما لم يضع لأنه لا يُدرى أحملٌ هو أو ريح، وإن كان حملاً لا يُدرى أحيّ أم ميت ذكرًا أو أنثى، فيأخذ من التركة ما يخصه فإذا وضعته له الأخذ الآن ولا يسقط بالتأخير لأنه معذور.

فرع آخر لو حجر على الحر بفلس فبيع في شركته ما تجب فيه الفعة كان العفو والأخذ إليه ولا اعتراض للغرماء عليه لأنه تصرف في الذمة والتصرف في الذمة لا يدخل تحت الحجر. فرع آخر المكاتب يأخذ بالشفعة ولا اعتراض لسيده عليه إذا كان له فيه غبطة. فرع آخر لو اشترى المأذون نصف دارِ ثم بيع باقيها في شركته كان له الأخذ بالشفعة، لأنه لما جاز له أن يشتريها ابتداء جاز له أخذها بالشفعة، فإن عفا عنها فلسيده إبطال عفوه وإن عفا السيد سقطت الشفعة وليس للمأذون الاعتراض عليه. فرع آخر لو كانت دار بين ثلاثة للواحد الربع، وللآخر الربع، وللثالث النصف فقارض صاحب الربع صاحب الربع الأخر على ألفٍ فاشترى المقارض من صاحب النصف نصف ما في يديه من مال القراض قال ابن سريج: لا شفعة في هذا المبيع لا للعامل ولا لرب المال لأنه اشترى لمال القراض وإن باع صاحب النصف ما بقي له منها وهو الربع من أجنبي كان المبيع مستحقًا بالشفعة أثلاثًا ثلثه للعامل بربعه، وثلثه لرب المال بربعه وثلثه لمال القراض بربعه لأن مال القراض بمنزلة شريك ثالث فيفرد له ثلث الشفعة. فرع آخر لو دفع إليه ألفًا قراضًا فاشترى به شقصًا يساوي ألفًا وكان رب المال هو الشفيع ل له أخذه بالشفعة أم لا؟ قال ابن سريج: فيه ثلاثة أقوال وأراد [90/ ب] ثلاثة أوجه: أحدها: يأخذه من العامل برمته لا بالشفعة لأنه ملكه ولا فضل في المال يأخذه ويفسخ القراض. والثاني: يأخذه بالشفعة وليس له أخذه بغير الشفعة لأن رب المال لا يملك أخذ مال القراض من يد العامل إلا ناضًا فيأخذه بالشفعة ها هنا ويدفع إليه ألفًا وقد نضَّ مال القراض، فإن شاء أقره قراضًا بحاله وإن شاء قبضه وفسخ القراض. والثالث: ليس له أخذه بحاٍل لا بالشفعة ولا بحق القراض فعلى هذا إن باعه العامل من أجنبي هل لرب المال أخذه من الأجنبي بالشفعة؟ وجهان هذا إذا كان الشفيع رب المال، وإن كان العامل هو الشفيع وهو أن يشتري شقصًا في شركة نفسين نظر، فإن لم يكن في المال ربحٌ كان له أخذه بالشفعة لأنه وكيل المشتري له، فإن كان في المال ربحٌ فهي مبنية على القولين متى يملك حصته من الربح فإن قلنا: لا يملك بالظهور أخذ الكل بالشفعة ورد الفضل في مال القراض وإن قلنا: يملك بالظهور أخذ أصل المال

وحصة رب المال من الربح بالشفعة، وأما حصة نفسه قال ابن سريج: فيها ثلاثة أوجهٍ التي ذكرناها إذا كان رب المال هو الشفيع. مسألة: قال: "وإن اشترى شَقصًا على أَنَّهُمَا جميعًا بالخيارِ". الفصل: وهذا كما قال: وقت وجوب الشفعة حين ينتقل ملك الشقص من مالكه إلى من ملكه منه بالعوض الذي ذكرناه فإذا اشترى شقصًا تثبت فيه الشفعة واشترط خيار الثلاث لا يخلو إما أن يشترط لهما أو للبائع دون المتري أو المشتري دون البائع، فإن اشترط لهما أو للبائع وحده فالشفعة لا تثبت للشريك حتى تنقضي مدة الخيار أو يجبر البائع البيع لأن أخذ الشفيع بالشفعة يسقط حق البائع من الخيار ولا سبيل له إلى إسقاطه، وإن كان الخيار للمشتري دون البائع فللشافعي في ملك المبيع [91/ أ] في مدة الخيار أقوال فإن قلنا: الملك للبائع أو موقوف فلا شفعة له، وإن قلنا: الملك للمشتري هل للشفيع أن يأخذ منه بالشفعة؟ روي المزني عن الشافعي أن له الشفعة ونصَّ عليه في "الأم "لأن نفس الملك أقوى من حق الملك وللشفيع انتزاع نفس ملكه فكان له انتزاع حق ملكه وهذا اختيار المزني وهو قول أبي حنيفة، ونقل الربيع قولاً آخر أنه لا شفعة فيه حتى يتم البيع برضاه أو تمضي أيام الخيار، قال أبو إسحاق: ولعل هذا أصح القولين وهو اختيار القفال وبه قال مالك وأحمد فيكون أمر الشفعة موقوفًا فإن اختار إنفاذ البيع وانقضت أيام الخيار فالشفعة واجبة، وإن رده لم يكن فيه شفعة ولم يكن للشفيع أن يلزم المشتري ما لم يلزم المشتري نفسه وهذا لأنه إنما شرط الخيار لنفسه لينظر هل الحظ ل في إتمام البيع وضمان العهدة للشفيع، أو في إبطاله وتركه فإذا جعلنا للشفيع أخذه بالشفعة بطل هذا الغرض له قال أبو إسحاق: ويخالف هذا الرد بالعيب لأن غرض المشتري من الرد استدراك الظُّلامة، ألا ترى أنه لو ارتفع العيب بطل الرد فإذا أعطاه الشفيع ما وزن من الثمن فقد زالت الظلامة عنه فلا غرض له في رده فيصير كأن العيب قد ارتفع. فرع لو قال المشتري: اشتريته بشرط الخيار، وقال الشفيع: من غير شرط الخيار، قال أبو حامد في "الجامع ": القول قول المشتري مع يمينه. فرع آخر لو ادعى البائع اشتراط خيار الثلاث وأنكره المشتري والشفيع قال أبو حنيفة وأبو يوسف: القول قول البائع ولا شفعة. وقال محمد: القول قول المشتري وفيه الشفعة، وعندنا يتحالفان فإذا تحالفا ففي

بطلان البيع وجهان، فإن قلنا: بطل البيع لا شفعة وإن قلنا: لا يبطل إلا بفسخ الحاكم قيل للمشتري: أنت بالخيار بين إمضاء البيع بخيار ثلاثة أيامٍ للبائع، وبين فسخه وخيار ذا على الفور [91/ ب] لأنه خيار حكم فإن اختار المشتري فسخه بطل البيع ولا شفعة وليس للشفيع أن يجبر المشتري على إمضاء البيع بخيار الثلاث لأنه إجبار على التزام عقدٍ، وإن اختار المشتري إمضاء البيع بخيار الثلاث للبائع ثبت للبائع خيار الثلاث فإن اختار فيها فسخ البيع انفسخ ولا شفعة، وإن تم البيع استحق الشفعة. فرع آخر إذا شرط الخيار لهما وتم البيع له الشفعة على ما ذكرنا وبماذا يصير مالكًا لها ثلاثة أقوالٍ ولو انفسخ البيع بينهما إما بفسخ البائع وحده، أو بفسخ المشتري وحده لا شفعة وهل بطلت بعد أن وجبت لو لم يكن وجبت على الأقاويل الثلاثة. فرع آخر إذا ثبت الخيار في الشقص الذي يملك به الشفعة، فإن كان خيار عيب لا يمنع الشفعة لبقائه على ملك مشتريه ما لم يرده، وإن كان بخيار الرؤية لم يملك به الشفعة سواء قلنا بصحة البيع أو فساده لأنه لم يستقر ملكه وإن صح، وأما البائع فإن قلنا: ببطلان البيع يملك به الشفعة، وإن قلنا بصحة البيع ل يملك به البائع الشفعة؟ وجهان مبنيان على اختلاف أصحابنا في لزوم البيع في خيار الرؤية قبل وجود الرؤية، وأما خيار المجلس فلا يملك البائع فيه شفعةَ بالشقص الذي في مجلس بيعه وخياره سواء قلنا: ملكه انتقل إلى المشتري بالعقد أو قلنا: لا ينتقل إلا بانقضاء الخيار لأنا إن قلنا بزوال ملكه لا شفعة له بما زال ملكه عنهن وإن قلنا ببقاء ملك فبيعه رضًا منه بإسقاط شفعته. وأما المشتري فإن فسخ العقد فلا شفعة له بما لم يستقر ملكه عليه وإن تم له البيع. فإن قلنا: إنه لا ينتقل إليه الملك إلا بانقضاء الخيار فلا شفعة له لأنه كان غير مالك. وإن قلنا: ينتقل الملك إليه بالعقد أو قلنا مراعَى ففي استحقاق الشفعة به وجهان: أحدهما: له الشفعة لدخوله في ملكه. والثاني: لا شفعة له به لأن ملكه غير مستقر لا يجوز أن يعارض [92/ أ] عليه فلم يجز أن يملك به، وأما خيار الثلاث فإن كان لهما فحكمه حكم خيار المجلس وكذا إن كان الخيار للمشتري وحده، وإن كان الخيار للبائع وحده فيه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: لا شفعة لواحد منهما أما البائع فلِما في بيعه من الرضا بإسقاط حقه، وأما المشتري فلعدم ملكه أو لعدم استقراره. والثاني: أنها للبائع لأن في اشتراطه الخيار لنفسه تمسكًا بما تعلق به من حقوقه، والثالث: أنه موقوف فإن تم البيع فالشفعة للبائع اعتبارًا بما يُقضي إليه أحوالهما.

مسألة: قال: "ولو كان مع الشقصِ عَرَضٌ والثمنُ واحدٌ". الفصل وهذا كما قال: إذا اشترى شقصًا وسيفًا أو عبدًا وشقصًا أو عرضًا وشقصًا صفقةً واحدةٌ كان للشفيع الشفعة بحصته من الثمن ولا حق له فيما بيع معه ولا خيار للمشتري، وإن تبعَّضت الصفقة عليه لأنه دخل على بصيرة من الأمر فيقوَّم الشقص والسيف ويُقسَّط الثمن عليهما فيؤخذ بالحصة، فإن كان الثمن ثلاثمائةٍ وقيمة السيف عشرةٌ وقيمة الشقص عشرين كان الشقص بثلثي الثمن والسيف بثلثه فيكون الشفيع بالخيار بين أن يأخذ الشقص بمائتين أو يدع، وإن كانت قيمة الشقص عشرة وقيمة السيف عشرين كان الشقص مبيعًا بثلث الثمن وعلى هذا القياس وقد ذكرنا قول مالك فيه. فرع لو باع شقصين من أرضين أو دارين، فإن كان شفيع أحدهما: غير شفيع الاخر كان لكل واحدٍ منهما أخذ الشقص الذي له فيه حق الشفعة، وإن أدى إلى تبعيض الصفقة ويكون جمعه بينهما في صفقةٍ واحدة رضاَ منه بالتبعيض ولأنه أخذ جميع ما وجب له بالشفعة فكان ذلك له، وإن كان شفيعهما واحدًا فإنَّ أحدهما: كان له وإن أراد أن يأخذ أحدهما: ويترك الآخر فالذي نصّ عليه الشافعي أن له ذلك كما يكون ذلك للشفيعين ولأنه أخذ بالشفعة جميع ما بيع في شركته كما لو كان كل المبيع، وخرّج [92/ ب] بعض أصحابنا فيه قول آخر أنه لا يجوز لأن فيه تبعيض الصفقة على المشتري من غير رضاه. مسألة: قال: "وعهدةُ المشتري على البائعِ، وعهدةُ الشَّفيعِ على المشتري ". وهذا كما قال: إذا سلم المشتري ثمن الشقص إلى البائع وقبض الشقص فجاء الشفيع وأخذ من المشتري ثم استحق الشقص رجع الشفيع بالعهدة على المشتري، ورجع المشتري على البائع لأن الشفيع ملكه عن المشتري وملك المشتري عن البائع وهذا معنى قول الشافعي: عهدة المشتري على البائع وعهدة الشفيع على المشتري، وإن لم يكن المشتري قبض الشقص من البائع وقلنا: للشفيع أن يأخذ من يد البائع فأخذه يصير في الحكم كأنه أخذه من المشتري وتكون عهدته على المشتري أيضًا وبه قال مالك وأبو حنيفة وأبو يوسف وأحمد. وقال محمد: إن أخذ من يد المشتري رجع بالعهدة عليه، وإن أخذ من يد البائع رجع بالعهدة عليه، وحكي هذا عن أبي حنيفة، وقال ابن أبي ليلى وعثمان البتي: يرجع بالعهدة على البائع بكل حال وذا غلط لأنه استفاد الملك من جهته فعليه عهدته، وإن كان مستغنيًا عن عقدٍ يستأنفه ولهذا لو أراد البائع تسليم الشقص إلى الشفيع دون

باب

المشتري فليس له ذلك لأن المشتري هو الذي استحق على البائع الملك بالعقد. فرع لو اشترى شقصًا على أن المشتري بالخيار ثم أسقط المشتري خياره ثم أراد الشفيع الأخذ بالشفعة هل يأخذه في الحال قبل انقضاء الخيار المشروط له أو له التاخير إلى انقضائه؟ قال والدي رحمه الله: هذا مبني على ثبوت الشفعة فيه قبل غسقاط الخيار، فإن قلنا: لا يثبت فعلى هذا غذا انقطع الخيار يلزم المشتري تعجيل الأخذ لأن الشفعة على الفور، وإن قلنا: تثبت الشفعة له قبل انقضاء الخيار وهو الصح يحتمل أن يقال: لا يلزمه التعجيل كما لو اشترى شقصًا بثمن مؤجل [93/ أ] لا يلزم الشفيع تعجيل الأخذ وله التربُّص إلى انقضاء الأجل، وإن سقط الأجل قبله بموته ويحتمل أن يقال: لابد من التعجيل، والفرق أن الثمن المعجل أزيد من الثمن المؤجل وهذا المعنى لا يوجد هاهنا. باب قال المزني: هذه مسائل أجبت فيها على معنى قول الشافعي رحمة الله عليه. مسألة: قال: "وإذا تبرَّأ البائعُ من عيوبِ الشفعة ". الفصل وهذا كما قال: إذا باع شقصًا واشترط البراءة من العيوب كان البيع جائزًا على ما اختاره المزني وقد ذكرنا حكم هذه المسألة في كتاب البيع وقيل: لم يرد أنه باع بشرط البراءة، ولكنه أراد أنه اشتراه وهو عالم بعيوبه أو كان غير عالمِ فعلم ورضي به وأصل الباب في هذا أن الشفيع بمنزلة المشتري الثاني من الأول لأنه يأخذ منه بالثمن وإنما يفترقان في شيئين أحدهما: أن الشفيع ينتزعه من المشتري بغير اختياره بخلاف المشتري الثاني، والثاني: أن الشفيع يأخذه بالثمن الذي ملك به المشتري والمشتري الثاني يملكه بما يتفقان عليه من الثمن، فإذا ثبت هذا الأصل فاشترى الشقص وأخذه الشفيع منه وكان الشقص معيبًا لم يخل من أربعة أحوالِ، إما أن يكون المشتري والشفيع جاهلين بالعيب أو عالمين به أو يكون المشتري جاهلاً به دون الشفيع، أو عالمًا به دون المشتري، فإن كانا جاهلين به كان للشفيع رده على المشتري فإذا رده إليه كان المشتري بالخيار بين أن يرده على البائع أو يمسكه، وإن كانا عالمين به استقر الشراء والأخذ بالشفعة معًا، وإن كان المشتري جاهلاً دون الشفيع سقط رد الشفيع ولا يملك المشتري رده لأنه خرج عن يده ولا يطالب بالأرش لأنه استدرك ظلامته وقيل: لأنه لم ييأس من الرد فإن عاد إلى المشتري بوجهٍ من وجوه الملك هل له رده على البائع؟ وجهان مبنيان على [93/ ب] اختلاف التعليلين فإن قلنا بالعلة

الأولى لا يرد وإن قلنا بالعلة الثانية يرد، وأعلم أن المزني ذكر أنه فرع هذه المسألة وهي منصوصة عن الشافعي في القديم ورواها عن عليّ رضي الله عنه. فرع لو ادعى المشتري علم الشفيع بعيبه عند أخذه وأنكر الشفيع فشهد البائع عليه بعلمه، فإن كان برئ إلى المشتري من عيبه تقبل شهادته لأنه لا يدفع بها عن نفسه. وإن لم يبرأ إليه من عيبه لا تقبل لأنه يدفع بها عن نفسه. فرع آخر لو ظهر المشتري على عيبِ في الشقص فأمسك عن رده انتظارًا للشفيع، فإن كان الشفيع غائبًا لم يلزمه انتظاره وبطل بالإمساك خياره لأن حضور الشفيع من تعلق حقه بالشقص عذر في الإمساك ولا يكون عذرًا إن كان غائبًا. مسألة: قال: "وإنْ كانَ المشتري اشترَاهَا بدنانير بأعيانِها ثمَّ أخذَهَا الشَّفيعُ بوزنِها فاستُحقَّتْ". الفصل وهذا كما قال: إذا اشترى شقصًا بدنانير وأخذ الفيع بوزنها ثم استحقت الدنانير لا يخلو إما إن استحقت دنانير الشفيع أو دنانير المشتري، فإن استحقت دنانير المشتري لا يخلو إما أن تكون معيَّنة أو غير معينة فإن كانت معينة انفسخ العقد وبطلت الشفعة لأن الدنانير تتعيَّن بالتعين عندنا خلافًا لأبيِ حنيفة فإذا كانت مستحقةَ كان البيع باطلاً والشفعة تبطل أيضًا لأنها تُستفاد ببيع صحيح وهذا بيعٌ باطلٌ، وإن كانت في الذمة كان البيع صحيحًا والشفعة ثابتة على المشتري بدلها للبائع، وإن استحقت دنانير الشفيع فإن كان الشفيع عالمًا بأن الدنانير التي وزنها مغصوبة هل تبطل شفعته؟ وجهان أحدهما: تبطل لأنه لما أخذه بما لا يجوز أخذه كان مفرطًا وهذا هو الصحيح، واختاره الداركي وجماعة، والثاني: لا تبطل لأن الشفيع لا يتعلق بالنقد الذي دفعه إليه وإنما استحق أخذه يمثل ما وزن [94/ أ] المشتري، فإذا خرج ما أعطاه مستحقًا أعطاه بدل الذي ثبت في ذمته عند المطالبة وإن لم يعلم لا تبطل شفعته، وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن كان أخذ بدنانير معينة فيه وجهان علم أو لم يعلم، وإن كان أخذ يثمنٍ في الذمة ثم عين المغصوبة لا يبطل وجهًا واحدًا، وإن كان عالمًا وقيل: عيّن أو لم يعيَن لا يبطل شفعته وجهًا واحدًا وهذا اختيار المزني والقفال لأن الشفعة يصح أخذها وطلبها دون ذكر الثمن فلا معنى لتعيينه. فرع إذا قال الشفيع: أخذت الشفعة بهذه الدنانير فيه وجهان أحدهما: قال أبو إسحاق

وابن أبي هريرة: لا يتعين لأنه تملكها استحقاقًا فعلى هذا له أن يأتي ببدلها وهو على شفعته فإن أعسر بطلت شفعته، والثاني: حكاه أبو حامد تتعين لأنها ملحقة بعقد البيع لاستحقاق الثمن فيها فعلى هذا قد صار بتعينها مبطلاً لشفعته بغيرها. مسألة: قال: "ولو حطَّ البائعُ عنِ المشتري بعدَ التَّفرُقِ". الفصل وهذا كما قال: إذا حطَّ البائع عن المشتري بعض الثمن أو كله، فإن كان بعد التفرق فهو هبة من البائع للمشتري ولا يجب على المشتري أن يحطه عن الشفيع، وكذلك إن زاد في الثمن بعد التفرق لم يلحق بالعقد وأخذ الشفيع بالثمن الأول، وإن كان الحط أو الزيادة قبل التفرق فالمذهب أنه يلحق العقد، لأن الثمن لم يستقر بعد فكان الاعتبار بالثمن الذي يفترقان عليه، وقيل: فيه وجه آخر لا يلحق أصل العقد إذا قلنا: الملك للمشتري، وإذا لحق العقد لزم في حق الشفيع، وقال أبو حنيفة: إن حطَّ البعض لحق العقد ولزم في حق الشفيع، وإن حط الكل فلا يلق أصل العقد ولا يلزم في حق الشفيع قال: والزيادة لا تلزم الشفيع أصلاً وإن لحق العقد، وقال ابن أبي ليلى: يلحق حط بعض الثمن أصل العقد ولا يحط عن الشفيع، وإن كان قبل التفرق، وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا حط الثمن قبل التفرق هل يبطل البيع؟ وجهان أحدهما: يبطل لأنه خلا عن الثمن، والثاني: [94/ ب] لا يبطل ويكون كالإبراء ثم هل يكون بيعًا أو هبةَ؟ وجهان فإن قلنا: هبة لا شفعة، وإن قلنا: بيع تثبت الشفعة. فرع إذا أخذ المشتري من البائع أرش العيب لتعذر الرد أو صالح البائع على الأرش وقلنا: يجوز في أحد الوجهين بأخذ الشفيع بالباقي من الثمن بعد الأرش لأنه حطَّ باستحقاق لفقد جزء من المبيع بخلاف الحط تبرُّعًا. مسألة: قال: "ولو ادعىَ عليهِ أنهُ اشترَى شقْصًا له فيه شفعةٌ". الفصل وهذا كما قال: إذا ادعى رجل على رجل أنه اشترى شقصًا وله فيه شفعة، فإن هذه الدعوى تسمع إذا كانت محصورة وحصرها أن يقول: اشترى كذا وكذا سهمًا من الدار أو الضيعة التي موضعها في موضع كذا وحدودها كذا من فلان ابن فلان بكذا وكذا درهمًا وأنا أستحقه بالشفعة، فإذا بيَّن الدعوى على هذا الوجه سمعها الحاكم وطالب المدعى عليه بالجواب قال: فإن أقرَّ سلمه إليه بالثمن الذي وقع العقد عليه، وإن أنكر وقال: ما اشتريته وإنما رهنتنيه أو وهبه لي أو ورثته أو اشتريته قبل شراء هذا المدعي لنصيبه أو قال: اشتريته ولكنه لا يستحق عليّ بالشفعة فهذه كلها أجوبة صحيحة ويكون

القول قوله مع يمينه وعلى المدعي البينة كما نقول في سائر الدعاوى فإذا قامت البينة ثبت ما أدعاه وأخذه بالشفعة، وإن لم يكن له بينة فإنا نعرض اليمين على المدعى عليه ويحلف على حسب ما وقعت الدعوى والإنكار، فإذا ادعى أنه اشتراه وأنكر حلف أنه لم يشتره وسقطت الدعوى. ومن أصحابنا من قال: يحلفّه على أنه لا يستحق عليه بالشفعة ولا يحلف على أنه اشتراه لأن الشفعة هي المقصودة بالدعوى، ومن قال بالأول أجاب عن هذا وقال: هذا احتياطٌ بارد من الحاكم لأن المدعى عليه لما أنكر الشراء وأجابه به [95/ أ] وسمع ذلك دل على أنه يمكنه أن يحلف عليه، وإن قال: اشتراه بعدي وأجاب بأني اشتريته قبله حلف أنه اشتراه قبله وإن قال: أستحقه عليه بالشفعة وقال: لا شفعة لك حلف أنه لا يستحقه بالشفعة، ولو قال المدعي: اشتريت شقصًا ولي فيه الشفعة، وقال في الجواب: لا شفعة لك فيه أو لا يستحقه بالشفعة حلف أنه لاشفعة له فيه ولا يحلفه أنه ما اشتراه لأنه قد يشتريه في شفعته ثم تبطل شفعته، فلو حلَّفنا على أنه ما اشتراه ظلمناه وإن نكل عن اليمين رد اليمين على المدعي، فإذا حلف حكمنا له بالشقص وينظر في تحليفه، فإن كان أنكر الشفعة أنه لا يستحقها عليَّ حلف أنه يستحقها عليه بالشراء الذي ادعاه، وإن كان أنكر الشراء حلف الشفيع أنه لقد اشتراه وهل يلزمه أن يقول في يمينه فإنه يستحق الشفعة فيه أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه وهو اختيار أبي إسحاق، وإن أحلفه الحاكم عليه كان استحبابًا لأن هذا من حقوق المالك فما لم يطالب به لم يلزم. والثاني: أنه لازم لأن نقل الأملاك لا يجوز بالأمر المحتمل وقد يجوز أن يكون عفا بعد الشراء، ثم إذا حكم ل بالشفعة ففي الثمن ثلاثة أوجهٍ أحدها: يؤخذ منه ويدفع إلى المالك لئلا يؤخذ الشقص من يده بغير بدلٍ فإن امتنع يقال له: إما أن تقبض أو تبرأ، والثاني: أنه يوضع في بيت المال ما لم يدعه المالك ثمنًا، فإذا ادعاه دفع إليه، والثالث: يقر في ذمة الشفيع ما لم يأت المالك مطالبًا. وإن قال في جوابه: اشتريته لزيدٍ، فإن كان زيد حاضرًا أحضر مجلس الحكم وسئل عنه فإن صدقه أخذ منه بالشفعة وإن كذبه فإن البيع قد لزم المدعى عليه ويأخذ الشفيع منه، وإن كان زيد غائبًا فإن الحاكم يأخذ الشقص من المدعى عليه بالثمن الذي وقع العقد عليه وبسلمه إلى الشفيع [95/ ب] وسجل به سجلاً، ويُحكى فيه صورة الحال على وجهها وأن زيدًا على حجته إذا قدم فإذا قدم كانت الخصومة بينه وبين الشفيع على حسب ما بيناه لأنا لو قلنا: يتوقف إلى حضوره أدى إلى إسقاط الشفعة لأن أحدًا لا يعجز عن مثل هذا الإقرار. وإن قال صاحب اليد: هذا الشقص لفلان ينظر، فإن كان المقر له غائبًا لم يكن للشفيع فيه الشفعة إلى أن يقدم الغائب فيسأل عن جهة الملك، فإن كان مما تجب به الشفعة حكم بها، وإن كان مما لا تجب به الشفعة لم يحكم بها وأما الذي في يده

الشقص فلا يطالب ببيان جهة الملك للغائب بعد إقراره بأن الشيء لغيره فإن إقراره فيه غير مقبولٍ. وقال في "الحاوي ": قال البغداديون من أصحابنا: صورة المسألة في شقص مشتركٍ انتقل الملك إلى رجل فقال الشفيع: انتقل إليك بالبيع، وقال المالك: ملكته بهبةٍ وقد ذكرنا حكمها، وقال البصريون: وهو الشبه صورة المسألة في أن صاحب اليد في الشقص المشترك قال عند ادعاء الشفعة عليه لنا وكيل الغائب فيه ولم أملكه عنه فيكون القول قوله لليد والإنكار فإن حلف برئ، وإن نكل عن اليمين ردت اليمين على الشفيع، فإن حلف حكم له بالشفعة ولا يكون ذلك حكمًا على الغائب بنقل ملكه إلى الشفيع وإنما يكون رفعًا ليد الحاضر. ثم في الثمن وجهان: أحدهما: يوضع في بيت المال حتى يحضر الغائب، والثاني: يقر في ذمة الشفيع إلى قدوم الغائب ويمكن من التصرف في الشقص بما لا يؤدي غلى استهلاكه، وإن باعه لم يمنع من بيعه لأن الغائب على حقه فيه مع بقاء عينه وهل يؤخذ بكفيل فيما حصل له عليه؟ وجهان أحدهما: يؤخذ به حفظًا لحق الغائب، والثاني: لا يؤخذ به لأننا على غير يقين من استحقاقه. ولو قال في جواب الدعوى الأول: اشتريته لابني الطفل [96/ أ] أو الأجنبي طفل لي علي ولاية تثبت الشفعة له على الصحيح من المذهب لأن شراء الولي لمن يلي علي صحيح كشرائه لنفسه وقوله فيه مقبول. ومن أصحابنا من قال: لا تثبت الشفعة لأن هذا إقرار يثبت به حق في مال الطفل ولا يقبل إقرار الأب والولي على الطفل بما يوجب حقًا في ماله فإذا كان كذلك لم تثبت الشفعة وهذا ضعيف، ولو قال: ليس هذا بشريك فعليه إقامة البينة على الشركة والقول قول المشتري مع يمينه ويحلف أنه لا يعلم أن له شركة لأنه يحلف على نفي فعل الغير، وإن نكل عن اليمين رددناها إلى الشفيع ويحلف على البتّ أن له شركة في هذه الدار أو في هذ الضيعة. مسألة: قال: "ولوْ أقامَ الشفيعُ أنهُ اشتراهَا من فلانٍ الغائبِ بألفِ درهمٍ ". الفصل وهذا كما قال: إذا كان الدار في يد رجلين يد كل واحد منهما على نصفهما فقال أحدهما لصاحبه: ذا النصف الذي في يديك قد اشتريته أنت من فلان الغائب بألفِ ولي الشفعة وأقام بذلك بينةٌ فقال ل صاحبه: ما باعنيها الغائب بل أودعنيها فهي في يدي وديعة له وأقام بذلك بينةٌ نظر، فإن كانت البينتان مطلقتين أو مطلقة ومؤرخة قدمنا بينة الشفيع لأنها أثبت شراء وأوجب شفعة وبينة الإيداع لا تمنع الشراء، وكيف يعمل

بالثمن؟ على ما ذكرنا من الأوجه الثلاثة، وإن كانتا مؤرختين بوقتٍ واحدٍ كانتا متعارضتين، وإن كانتا مؤرختين بوقتين مختلفين، فإن كانت الوديعة سابقة فإن بينه البيع لا تعارض بينه الوديعة، وإن كان البيع سابقًا فكذلك لجواز أن يكون قد اشتراه ثم غصبه البائع عليه ثم رده إليه بلفظ الإيداع أو باعه النصف فأمسكه البائع لاستيفاء الثمن فيعذر عليه إيفاء الثمن فقال البائع: خذه وديعة عندك حتى إذا سلمت الثمن قبضته بعد ذلك قبض مبيع ولأن البيع ينافي الوديعة فكانت بينة البيع أولى، وهكذا إذا قال في الجواب: هو رهن أو إجارة [96/ ب] أو عارية كان الحكم على ما ذكرناه في الوديعة، ولو كانت المسألة بحالها فأقام الشفيع البينة بالشراء من فلان الغائب بألفٍ وأقام المدعى عليه البينة أنه ورثها من فلان الغائب فهما متعارضتان إذا كان التاريخ واحدًا لأن الميراث يمنع الشراء، فإذا قلنا: يسقطان فكأنه لا بينة مع واحدٍ منهما. وإن قلنا: يستعملان فله موضع يذكر فيه. وفرع أبو العباس هاهنا فقال: فإن كانت بحالها فادعى أحدهما: أن الذي هي في يديه اشتراها من زيد الغائب بألفٍ وأقام بذلك بينةً وأقام من هي في يديه البينة أن عمرًا الغائب أودعنيها، وأنه أودعني ما هو ملكه وكانت بينة الشراء مطلقة قدمت ببينة الإيداع ها هنا وسقطت بينة الشراء وتقر في يد من هي في يديه وكتب إلى عمرِو في ذلك فإن قال: صدق والشقص لي في يديه سقطت الشفعة والشيء وديعة على ما هي عليه، وإن عاد الجواب من عمرو ما أودعته ولا حق لي فيها قضينا للمدعي ببينة الشراء وسلمنا الشقص إليه ويكون معترفًا بالثمن لمن لا يدعيه عليه وقد مضى حكمه، فإن كانت بحالها ولم تكن هكذا ولكن شهدت بينة الشفيع بأن زيدًا باعه وهي ملكه وكانت بينة الإيداع مطلقة قدمنا ببينة الشراء وحكمنا عليه بالشفعة ولم يراسل ها هنا زيد بشيء لأنه لو أنكر الشراء لم يلتفت إليه. مسألة: قال: "ولوْ أنَّ رحلينِ باعاَ منْ رجلٍ شِقصًا فقالَ الشفيعُ: أنا آخذ ما باع فلان". الفصل وهذا كما قال: إذا كانت الدار بين ثلاثة نفرٍ أثلاثًا فباع اثنان منهم نصيبهما من رجلٍ واحدٍ وكان المشتري واحدًا والبائع اثنين فالشفيع بالخيار بين أن يأخذ الكل منه، أو يدع الكل أو يأخذ ما باع أحدهما دون الآخر وهكذا إن كان البائع واحدًا والمشتري اثنين فللشفيع أن يأخذ ما باع أحدهما دون الأخر لأن عقد الواحد مع الاثنين في حكم العقدين المفردين. وقال أبو حنيفة: يجوز [97/ أ] هذا بعد القبض ولا يجوز قبله وهذا غلط لأنهما مشتريان فجاز للشفيع أخذ نصيب أحدهما كما لو كان بعد القبض في روايةٍ، وقال

أيضًا في المسألة لا يفرق الشفيع الصفقة على المشتري وليس له أن يأخذ ما باع أحدهما دون الآخر، وبه قال مالك، وهذا غلط لأن البائع اثنان فأشبه إذا باعا بعقدين، ولو كانت المسألة بحالها فباع اثنان نصيبهما من رجلين صفقةٌ واحدةٌ فهي بمنزلة أربعة عقودٍ فالشفيع بالخيار بين أن يدع الكل أو يأخذ الكل أو يأخذ من بعضهم دون بعضٍ كيف شاء، كما لو باع واحدٌ منهم نصيبه من رجل واحدٍ في أربعة عقودٍ في كل عقدٍ ربع ملكه كان الشفيع بالخيار على ما ذكرته. فرعان لأبي العباس رحمه الله أحدهما: قال: لو كانت دار بين ثلاثةٍ أثلاثًا فباع أحدهم نصيبه من ثلاثة أنفسٍ صفقةً واحدةً كان للفيع أن يأخذ الكل وأن يأخذ من بعضهم دون بعضٍ فإن أخذّ من واحدٍ وعفا عن الآخرين كان ذلك له وليس للذين عفا عنهما مشاركة الفيع فيما أخذ من الثالث لأن ملك البائع انتقل غلى الثلاثة دفعةً واحدةً في زمانٍ واحدٍ لم يسبق بعضهم بعضًا، فو كما لو اشتري اثنان دارًا صفقةً ملك كل واحدٍ نصفها وليس لأحدهما مطالبة شريكه بالشفعة لأن ملك أحدهما ما سبق الآخر. والفرع الثاني: قال: لو كانت دار بين اثنين فباع أحدهما نصيبه من ثلاثة أنفسٍ في ثلاثة عقودٍ عقدًا بعد عقدٍ ثم علم الشفيع بالشفعة كان له أخذ الكل وبعض دون بعضٍ فإن أخذ من الأول وعفا عمن بعده لم يكن لمن بعده مشاركته في الشفعة لأنهما ملكًا بعد وجوب الشفعة، وإن أخذ من الثاني لم يشارك الثالث أيضًا وإن أخذ من الثالث وعفا عن الأول، والثاني كان لهما مشاركته في الشفعة، فإذا شاركاه فهل يستحقان على عدد الرؤوس أو الأنصباء على القولين. فرع آخر لو كانت دار بين أربعة لكل واحدٍ منهم ربعها [97/ ب] فباع ثلاثة منهم نصيبهم منها لم يخل من أحد أمرين إما أن يبيعوا من ثلاثة نفرٍ، أو من وادٍ فإن باعوا من ثلاثةٍ لم يخل من احد أمرين إما أن يكون الكل في زمانٍ واحدٍ أو كل واحدٍ على الإنفراد لم يسبق بعضهم بعضًا فالشفيع بالخيار على ما ذكرنا، وغن كل البيع من واحدٍ بعد واحدٍ فله أخذ الكل وترك الكل من بعضٍ دون بعضٍ فإن أخذ من بعضٍ دون بعضِ نظر، فإن أخذ من الأول وعفا عن الثاني والثالث لم يشاركاه في الشفعة وإن أخذ من الثالث وعفا عن الأولين كان لهما مشاركته في الشفعة، وإن باعوا نصيبهم من واحدٍ لم يخل من أحد أمرين إما أن يكون صفقةً واحدةً، أو عقدًا بعد عقدٍ، فإن كان صفقةً واحدةَ كان له أن يأخذ الكل ويدع الكل ويأخذ البعض ويدع البعض فإن أخذ الكل أو ترك الكل فلا كلام، وإن أخذ بعضًا دون بعضٍ انفرد به ولم يشاركه المشتري فيما أخذ لأن الملك في زمانٍ واحدٍ، وإن كان عقدًا بعد عقدٍ فقد ملك المشتري ثلاثة أرباعها في ثلاثة عقود فللشفيع أخذ بعضها دون بعض فإن أخذ الأول أو الأول والثاني لم يشاركه المشتري فيما أخذ وإن عفا عن الأول، والثاني وأخذ الثالث، فالمشتري شفيع فهل

يستحق الشفعة فيما ملكه من الربع الثالث؟ على وجهين على مذهب المزني وابن سريج له الشفعة. ومن أصحابنا من قال: لا شفعة له فإذا قلنا: لا شفعة له لأنه لا يملك الشفعة فيما اشتراه لنفسه كان للشفيع كل الربع الثالث بالشفعة، وإذا قلنا: للمشتري الشفعة فله الربعان الأولان وللشفيع في الدار ربعها والمستحق بالشفعة الربع الرابع فكيف يقسم بينهما؟ على قولين فإذا قلنا: على عدد الرؤوس كان الربع بينهما نصفين، وإذا قلنا: على قدر الأنصباء كان الرابع بينهما على الثلث والثلثين ثلثاه للمشتري وثلثه للشفيع. فرع آخر لو كانت الدار بين ثلاثة فوكل [98/ أ] أحدهم لواحدٍ منهم فباع نصيبه ونصيب موكله صفقةً واحدةً كان للثالث الشفعة وهل له أن يأخذ أحد النصيبين دون الآخر؟ وجهان أحدهما: له ذلك لأن المالك اثنان فهو كما توليا العقد، والثاني: ليس له ذلك لأن العاقد واحدٌ في الطريق. مسألة: قال: "ولوْ زعمَ المشتري أنهُ اشتراهَا بألف درهمٍ فأخذهَا الشفيعُ ". الفصل وهذا كما قال: إذا زعم المشتري أنه اشتراه بألفٍ فادعى البائع أنه باعه بألفين وأقام على ذلك بينةً يلزم المشتري للبائع ألفان ولم يكن للمشتري أن يأخذ من الشفيع إلا ألفًا واحدًا لأنه يزعم أن الألف الثاني ظلم من جهة البائع فلا يرجع بالظلم إلا على الظالم، ولو قال المشتري: كنت نسيت وقد تذكرت الآن لم يقبل رجوعه عنه في حق الشفيع، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: المشتري يطلب بألفين لأن الحاكم إذا حكم عليه بالبينة فقد أبطل إقراره وهذا غلط لما ذكرنا، وحكي عنه أنه قال: إن كان الشفيع أخذ الشقص من يد البائع حكم بها على الشفيع دون المشتري، وإن كان أخذه من يد المشتري حكم با على المشتري بناء على أصله في عهده المبيع. فرع لو كان هذا المشتري عقد الشراء بنفسه ليس له إحلاف الشفيع إذا قال: غلطت والبائع صادق في دعوى البيع بألفين، وإن كان اشترى بالوكيل ففي إحلاف الشفيع وجهان أحدهما: له ذلك لإمكان ما قالهن والثاني: ليس له ذلك كما لو تولى عقده. فرع آخر لو لم يكن للبائع بينة على المشتري يتحالفان، وقال أبو حنيفة: القول قول المشتري مع يمينه بناءٌ على أصله أنه صار مستهلكًا بالأخذ بالشفعة ولا يثبت التحالف بعد التلف.

فرع آخر لو كان الشفيع مصدّقًا للبائع جاز أن يشهد له على المشتري إن كان عدلاً لأنه يستضر بها ولا ينتفع وليس للمشتري أن يرجع بها على الشفيع إذا غرمها لأنه لا يدَّعيها، وإن تعذر غرم المشتري لها بعيبه أو عسرة فهل يستحق البائع أخذها من الشفيع أم لا؟ وجهان أحدهما: [98/ ب] لا يستحق أخذها منه وإن صدقه عليها لوجوبها على غيره وإقرار الشفيع بها لغيره، والثاني: يستحق أخذها منه لأنه عقد البيع منتقل غليه وثمنه مستحق عليه. فرع آخر لو كان الشفيع مكذبًا للبائع وتحالف البائع والمشتري لا تبطل الشفعة بتحالفهما، سواء قلنا: البيع يبطل بالتحالف أو لا يبطل لإستقرار الشقص على ملك الشفيع بالأخذ بخلاف ما لو تحالفا قبل الأخذ. فرع آخر لو أقام البائع البينة على الألفين وكان المشتري مستنيبًا في عقده ولم يعقد بنفسه في وجهان أحدهما: يرجع بها عليه لأنه لم يتقدم منه تكذيبٌ لبينته، والثاني: لا يرجع بها لأنه قد اقر باستيفاء حقه وهو الظاهر من قول المزني واختاره القاضي أبو حامد رحمه الله. مسألة: قالَ: "ولو كانَ الثمنُ عبدًا فأخذَه الشفيعُ بقيمةِ العبدِ ثمَّ أصابَ البائعُ بالعبدِ عيبًا". الفصل وهذا كما قال: إذا اشترى شقصًا بعبدٍ وأخذه الشفيع بالشفعة وأعطى المشتري قيمة العبد ثم أصاب بالعبد عيبًا لم يخل من أحد أمرين، إما أن يعلم بالعيب قبل أن حدث بالعبد ما يمنع الرد، أو علم بعد ما حدث به ما يمنع الرد، فإن كان قبل الحدوث رده على المشتري فإذا رده لم يخل الشفيع من أحد أمرين إما أن يكون قد أخذ الشقص بالشفعة، أو لم يكن أخذ، فإن كان قد أخذ لم يكن للبائع الرجوع في الشقص لأن ملك المشتري قد زال عنه فيرجع بقيمة الشقص لا ببدل العبد لأن البائع قد فسخ العقد وقد كان له أخذ الشقص أو كان موجودًا فكان له قيمته إذا كان مفقودًا والقيمة أقل ما كانت من وقت عقد البيع أو قبض المشتري، ثم إن عاد إلى المشتري هذا الشقص بوجهٍ من الوجوه لم يجب رده على البائع ولا له رده علاه ولا للبائع مطالبته به بحلاف الغاصب إذا غرم الآبق ثم رجع يلزمه رده إلى المالك، وللمالك أن يسترده لأن هناك بالتغريم لم يملك وها هنا ملك بالتغريم فافترقا وإن لم يعد إليه استقر [99/ أ] الشقص

للشفيع بقيمة العبد واستقر الشقص للمشتري بقيمة الشقص وانقطعت العلائق بين المشتري وبين البائع وهل بين الشفيع وبين المشتري تراجع أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تراجع بينهما لأن الرد بالعيب فسخ في الحال غير مستدٍ إلى حالة العقد. والثاني: بينهما تراجع لأن الشفيع يأخذ الشقص من المشتري بالثمن الذي يستقر على المشتري وها هنا استقر قيمة الشقص فعلى هذا يقابل بين قيمة العبد وقيمة الشقص، فإن كانت القيمتان سواء فلا كلام، وإن كان بينهما تفاضل تراجعا به، فإن كانت قيمة الشقص أكثر من قيمة العبد رجع المشتري على الشفيع بتمام قيمة الشقص، وإن كانت قيمة الشقص أقل من قيمة العبد رجع المشتري عليه بذلك الفضل وهذا لأنه انفسخ العقد الأول بهذا الرد وصار الثمن قيمة الشقص، وإن لم يكن أخذ الشفيع الشقص من المشتري واجتمع الشفيع والبائع ففي أحقهما بالشقص وجهان من اختلاف الوجهين إذا كان الشقص صداقًا وينازعه الشفيع والزوج المطلق قبل الدخول فإن قلنا هناك: الزوج أحق فها هنا البائع أحق ولا شفعة وإذا قلنا: هناك الشفيع أحق فها هنا الشفيع أحق ووجه هذا أنه استحق الشفعة بالبيع والبائع إنما يستحق أخذ الشقص بالرد بالعيب بعده فحق الشفيع أسبق ووجه الوجه الأول أن الشفيع إنما يساحق أخذه بالشفعة إذا لم يثبت للبائع على المشتري حق الفسخ وها هنا ثبت له ذلك فإذا قلنا البائع أحق أخذه وانصرف وإن قلنا: الشفيع أحق فبكم يأخذه؟ وجهان: أحدهما: بقيمة العبد الذي كان ثمنًا لأنه استقر عليه عقد البيع. والثاني: بقيمة الشقص الذي صار مغرومًا واستقر للبائع على المشتري، وإن كان هذا بعد حدوث عيب آخر عنده منع الرد كان له الرجوع بأرش العيب على المشتري، فإذا رجع به هل يرجع المشتري به على الشفيع؟ نظر، فإن كان الشفيع أخذه بقيمة عبدٍ [99/ ب] سليم لا عيب فيه لم يرجع بشيء، وإن كان أخذه بقيمة عبدٍ معيب من أصحابنا من قالَ: فيه وجهان: أحدهما: لا يرجع عليه المشتري لأنه استحقه ما سمى في العقد. والثاني: يرجع على المشتري لأن الثمن استقر على المشتري مع الأرش، ومن أصحابنا من قال: يرجع ها هنا على الشفيع وجهًا واحدًا لأنه من تمام الثمن وهذا أصح بخلاف ما تقدم من المسألة. مسألة: قال: "ولو استحقَ العبدُ بطلت الشفعةُ ". الفصل وهذا كما قال: إذا باع شقصًا بعبدٍ فأخذه الشفيع ثم استحق العبد يبطل البيع

والشفعة أيضًا بخلاف المسألة قبلها لأنه صح البيع وحصل الملك للمشتري هناك وها هنا بخلافه، ولو اقر المتبايعان والشفيع أن العبد كان حر الأصل يبطل البيع والشفعة أيضًا وإن أنكر الشفيع ما قالا لم يقبل قولهما عليه والشفعة له باقية، وقال بعض أصحابنا: يرجع البائع على المشتري بقيمة الشقص لخروجه عن يده وفواته وقيل: لا يتراجعان بشيء لأن الشفيع ينكر استحقاق قيمة الشقص فلا يطالبه بها وهذا أشبه، ولو كان الثمن معيّنًا فأخذ الشفيع الشفعة من المشتري ثم تلف الثمن في يد المشتري قيل القبض بطل البيع والشفعة معًا ولم يكن للمشتري أن يدفع بدل الثمن ولا يصح ذلك وإن اتفقا عليه. مسألة: قال: "ولوْ صالحَهُ منْ دعواه على شقصٍ". الفصل وهذا كما قال: إذا ادعى رجل على رجل شقصًا في يده فصالحه منه على مالٍ أخذه نظر، فإن كان الصلح على الإنكار فو باطل ولا شفعة، وإن كان بعد الإقرار له فالصلح صحيح ويأخذ الشفيع الشقص منه بمثل المال الذي يذله له إن كان له مثل أو قيمته إن لم يكن له مثل، وإن ادعى أجنبي على أحدهما ألفًا فصالحه منه على الشقص الذي في يده، فإن كان على إقرارٍ صار كأنه اشترى ذلك بألفٍ ففيه الشفعة، وقد ذكرنا ذلك، وإن كان على إنكارٍ فالصلح باطل. فرع لو وهب شقصًا من رجل فهل للشفيع الشفعة؟ مبني على أن الهبة هل تقتضي الثواب؟ وفيه قولان فإذا قلنا: لا يقتضي الثواب [100/ أ] لا شفعة وإذا قلنا: يقتضي الثواب تثبت الشفعة فيها ويأخذ الشفيع بقدر الثواب، وحكي عن ابن أبي ليلى أنه قال: تثبت الشفعة فيها بقيمة الشقص وهو رواية عن مالك لأن الشفعة لإزالة الضرر وهو موجود ها هنا وهذا غلط لأنه ملكًا بغير بدلٍ فأشبه إذا ورثها، ولو كانت الهبة بشرط الثواب، فإن كان معلومًا وقلنا: يصح كان ذلك بيعًا وتثبت الشفعة تقابضًا أو لم يتقابضا، وبه قال زفر. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا تثبت حتى يتقابضا، لأن الهبة لا تلزم إلا بالقبض وهذا قول بعض أصحابنا وهذا غلط لأنه ملكها بعوضٍ فلا يفتقر إلى القبض لحصول الملك كالبيع الصريح ولا يصح اعتبار لفظ الهبة لأن العوض يصرفها عن مقتضى لفظها ويصير لفظها عبارة عن البيع، ولو شرط ثوابًا مجهولاً نقل الربيع عن الشافعي أنه إذا أثابه الموهوب له أخذ الشفيع بمثله إن كان له مثل أو بقيمته إن لم يكن له مثل حكاه القاضي أبو عليّ الزجاجي والمشهور أن الهبة باطلة ولا شفعة قال: وفيه قول آخر لا شفعة في الهبة أصلاً لأن الهبة مخصوصة.

فرع آخر لو حضر رجل مغنمًا فأعطاه الإمام لحضوره شقصًا من دارٍ وطالبه الشفيع بالشفعة، فإن كان أخذه رضخًا لا شفعة لأن الرضخ عطية تبرع، وإن أخذه بسهمٍ مستحق فيه وجهان أحدهما: لا شفعة لأن الغنائم مستفادة بغير بدلٍ كإحياء الموات، والثاني: تثبت الشفعة لأنه قد اعتاضه بدلًا عن حضورٍ وعملٍ فعلى هذا يأخذه الشفيع بقدر سهمه من المغنم. مسألة: قال: "ولوْ أقامَ رجلانِ كلُّ واحدٍ منهما بيّنهً أنه اشترى منْ هذهِ الدار شقصًا". الفصل ? وهذا كما قال: إذا كانت الدار بين رجلين لكل واحدٍ منهما نصفها وادعى كل واحدٍ منهما على صاحبه أن النصف الذي في يديه يستحقه عليه بالشفعة رجعنا إليهما في وقت [100/ ب] الملك فإن قالا: ملكناها معًا في زمان واحد بالشراء من رجل واحد أو من رجلين فلا شفعة لأحدهما: على صاحبه وإن قال كل واحدٍ منهما: أنا السابق فلي الشفعة لا يخلو من ثلاثة أحوال إما أن لا يكون هناك بينة أو يكون مع أحدهما بينة، أو مع كل واحدٍ منهما بينة، فان لم يكن مع واحدٍ منهما بينة فكل واحد منهما مدعٍ ومدعّي عليه فإن سبق أحدهما فادعى على صاحبه قلنا له: أجب عن الدعوى فإن قال في الجواب: ملكي هو السابق قلنا: هذا ليس بجواب بل قد أعدت الدعوى فأجب عن الدعوى فإن قال: لا يستحق علىّ الشفعة فالقول قوله فإن نكل رددنا اليمين على المدعى، فإذا حلفا قضينا له بالشفعة وسقطت دعوى صاحبه لأنه لم يبق له ملك يستحق به الشفعة فإن لم ينكل وحلف سقطت دعوى صاحبه، ويقال: لك الدعوى بعد هذا فإذا ادعى عليه نظر، فإن نكل عن اليمين حلف هو واستحق الشفعة، وإن حلف ولم ينكل سقطت الدعوى وبقيت الدار بينهما على ما كانت عليه هذا إذا لم يكن هناك بينة، فإن كانت مع أحدهما بينة نظر، فإن شهدت له بالتاريخ مثل إن قال: ملكتها منذ سنة أو منذ شهر فلا فائدة: هذا التاريخ لأنا لا نعرف به وقت ملك الآخر فإن زادت على هذا فأخبرت أنه ملكه قبل ملك صاحبه قضينا بالبيئة وحكمنا له بالشفعة، وإن كان مع كل واحدٍ منهما بينة لم يخل من أحد أمرين إما أن تكونا متعارضتين أو غير متعارضتين، فإن لم تكونا متعارضتين بأن شهدت إحداهما أنه ابتاع النصف من زيد وشهدت الأخرى أنه ابتاع النصف من عمرو فلا تعارضه ها هنا لإمكان أن يكون كل واحدٍ منهما اشترى نصيبه مفردًا فلا يخلو حال البينتين من أربع أحوال إما أن تكونا مؤرختين تاريخًا واحدًا أو مؤرختين تاريخًا مختلفًا أو إحداهما مطلقة والأخرى [101/

أ] مؤرخة أو كانتا مطلقتين، فإن كانتا مؤرختين تاريخًا واحدًا بأن شهدت إحداهما أنه اشترى من زيد وقت طلوع الشمس والأخرى أنه اشترى من عمرو وقت طلوع الشمس فالملك حصل لهما في وقتٍ واحدٍ فلا يستحق أحدهما على الأخر شفعة، وإن كانتا مؤرختين تاريخًا مختلفًا فالذي ملك أولًا يستحق الشفعة على صاحبه لأن ملك صاحبه طرأ عليه، وإن كانت إحداهما مطلقة والأخرى مؤرخة فهو كما لو لم يكن مع أحدهما: بينة لأنا لا نعلم أيهما سبق الملك، وكذلك إن كانتا مطلقتين، وإن كانتا متعارضتين وهو أن تشهد كل واحدة منهما أن هذا هو السابق لصاحبه ففي المتعارضتين قولان أحدهما: تسقطان، والثاني: تستعملان. وفي كيفية الاستعمال ثلاثة أقوال القرعة والوقف والقسمة فإن قلنا: توقف وقفناه وإن قلنا: تقرع أقرعنا فمن خرجت قرعته قدمنا بينته وهل يحلف مع القرعة؟ وجهان، وإن قلنا: يقسم نظر، فإن كانا في الملك متساويين فلا فائدة في القسمة، وإن كانا فيه متفاضلين لأحدهما الثلث وللآخر الثلثان أخذ صاحب الثلث من صاحب الثلثين السدس بما يخصه من الثمن. مسألة: قال: "ولوْ أن البائع قال: قدْ بعتُ شقصي من فلانِ بألفِ". الفصل وهذا كما قال: إذا كانت الدار بين رجلين نصفين فادعى أحدهما: أنه باع نصيبه من فلان بألف درهم رجعنا إلى فلان فإن قال: صدق قضينا بالشفعة للشفع، وإن أنكر فلان الشراء فقد اعترف المالك بالبيع وأنكره للمشتري فهل للشفيع الشفعة؟ قال المزني: له الشفعة وصوَّبه سائر أصحابنا وبه قال أبو حنيفة وأحمد لأن البائع أقر بحقٍ للمشتري وبحق للشفيع فإذا سقط حق المشتري بإنكاره لم يسقط حق الشفيع كما لو أقر لاثنين بحق فرَّده أحدهما، وقال ابن سريج: لا شفعة للشفيع لأن البيع لم يثبت في حق المشتري والشفعة إنما تستحق على المشتري لا على [101/ ب] البائع ولأن الأصل المشتري والشفيع فرع فهو كما لو أقر أحد الأخوين بأخ ثالث وأنكر الآخر لا يثبت الإرث كما لا يثبت الأصل وهو النسب، فإن قلنا بهذا فالخصومة كن البائع والمشتري فالقول قول المشتري فإن حلف برئ وإن نكل عن اليمين حلف البائع وثبت البيع ووجب له الثمن على المشتري وقضينا للنفع بالشفعة على المشتري، وإذا قلنا: له الشفعة وهو المذهب وبه قال مالك لا يخلو البائع من أحد الأمرين إما أن يختار محاكمة المشتري أو لا يختار فإن اختار ترك محاكمته قلنا للبائع: تسلَّم أنت الثمن من الشفيع وسلّم الشقص إليه وتكون عهدة الشفيع ها هنا على البائع دون المشتري لأنه لما لم يلزمه الشراء مع إنكاره لم يلزمه عهدته، وإن اختار محاكمة المشتري هل له ذلك؟ وجهان:

أحدهما: ليس له ذلك لأنه حصل له الثمن وهو مقصوده فلا فرق بين أن يحصل ذلك له من المشتري أو من الشفيع ولأنه لا يؤمن إن أحلف أن يحكم بفسخ العقد وفيه إبطالّ لحق الشفيع فليس له ذلك. والثاني: له ذلك لاستحقاق اليمين عليه بإنكاره ولما فيه من البنية بوصول الملك إلى مستحقه ولا يبطل بذلك حق الشفيع ولأنه قد تكون معاملة المشتري أسهل من معاملة الشفيع وهذا أصح فإذا قلنا: له محاكمة المشتري فالقول قول المشتري مع يمينه فإن حلف سقطت دعوى البائع ويأخذ الشفيع منه الشقص على ما ذكرنا، وإن نكل عن اليمين حلف البائع وثبت الشراء والشفعة وتكون عهدة الشفيع على المشتري وعهدة المشتري على البائع هذا كله إذا اعترف البائع بالبيع دون قبض الثمن فإن اعترف بالبيع وقبض الثمن أيضًا وأنكر المشتري الكل فهل للشفيع الشفعة؟ يبنى على المسالة الأولى فإن قلنا هناك: لا شفعة كما قال ابن سريج فها هنا أولى، وإن قلنا هناك: تثبت الشفعة فها هنا وجهان: أحدهما: [102/ أ] لا شفعة لأنه لا يمكن دفعه إليه من غير ثمن ولا يمكن دفعه بالثمن لأن الثمن يستحقه المشتري ولا يمكن إجبار المشتري على قبض الثمن بعد يمينه أنه ما اشتراه وهذا اختيار أبي إسحاق وابن أبي هريرة. والثاني: وهو قول الأكثرين له الشفعة لأن البائع أقر بحقي للمشتري وللشفيع معًا، فإذا لم يقبل المشتري كان للشفيع أن يقبل ويأخذ ثم إذا أخذ فهو معترف بالثمن للمشتري وهو ينكره فيه ثلاثة أوجه على ما بيناه وقيل: هل يقبض منه الثمن؟ وجهان فإذا قلنا: يقبض فيه وجهان أحدهما: يوضع في بيت المال موقوفًا للمشتري، والثاني: يدفع إلى البائع ويسترجع من البائع ما أقر بقبضه من المشتري ليكون هو الموقوف للمشتري في بيت المال ذكره في "الحاوي"، وحكي بعض أصحابنا عن ابن سريج أنه قال: في الصورة الأولى إذا أراد الشفيع دفع الثمن يرفع الأمر إلى القاضي ليقيم رجلًا مقام المشتري ويقبض له الثمن كيلا يكون متطوعًا بما أعطى ويصير ماله بعرض الهلاك لو أقر المشتري بالشراء وقال: دفعت الثمن من غير إذني والشقص لي، فإذا كان القابض قبضه بأمر الحاكم صح قبضه في حقه. وقال بعض أصحابنا: لا يحتاج إلى هذا فإن الشفيع يقول: دفعت الثمن إلى البائع للضرورة وحين أنكرت أذن لي الشرع يدفعه فصار كأني دفعت بإذنك. واعلم أن المزني صوّر هذه المسألة حيث يكون البائع مع الإقرار بالبيع مقرًا بالقبض والإقباض والمشتري منكر فيحتمل أن كون هذا منه توسعًا في الكلام عند تصوير المسألة ولا فائدة في هذا التقييد ويحتمل أن يكون مراده يذكر هذا القبض قطع نوع من التوهم وهو أن البائع إذا أقر بأن المشترى قبض الشقص والمشتري جاحد فعلى الشفيع [102/ ب] تسليم الثمن

إلى البائع وربما يتوهم متوهم أن البائع بعد اعترافه بالإقباض لا يستحق على الشفيع بالثمن وليس كذلك بل يستحق ذلك إذا لم نعترف بقبض الثمن لأن شقصه لا يزول عن ملكه إلا بثمنٍ يصل إليه إما من جهة المشتري، وإما من جهة الشفيع. ثم اعلم أن هذا التصوير الذي ذكره إنما يستقيم مع جوابه إذا كان المشتري معترفًا بأن الشقص الذي قبضه البائع ملك البائع حصل في يده عارية أو وديعة فأما إذا قال المشتري: هو ملكي فالجواب أن القول قوله مع يمينه، فإذا حلف المشتري نظر إلى الشفيع، فإن كان يصدق البائع في عين الشقص الذي حلف المشتري عليه فلا سبيل للشفيع على البائع لأن البائع غير متعدٍ بتسليم الشقص إلى المشتري، وإن كان الشفيع يكذب البائع في العين ويقول: إن الشقص الذي اعترفت بالشفعة لي فيه غير هذا النقص الذي حلف المشتري عليه فالقول قول الباني مع يمينه. مسألة: قال: "ولو كانَ للشَّقصِ ثلاثٌة شفعاءٍ فشهدَ اثنان". الفصل وهذا كما قال: إذا كانت الدار بين أربعة نفرٍ فباع أحدهم نصيبه من أجنبي وجاء الثلاثة يطالبون المشتري بالشفعة فادعى المشترى أن أحدهم عفا عن الشفعة وشهد له الشفيعان الآخران نظر، فإن كانا مقيمين على طلب الشفعة لم تقبل شهادتهما للتهمة لأنهما يجرّان إلى أنفسهما غنمًا وشهادة الجار إلى نفسه غنمًا لا تقبل كما لا تقبل شهادة الدافع عن نفسه غرمًا، وإن كانا قد عفوا عن الشفعة قبلت شهادتهما لأنه لا تهمة عليهما، وإن كانا مقيمين على طلب الشفعة فرددنا شهادتهما ثم عفوا وأعادا الشهادة لم تقبل شهادتهما كالفاسقين إذا أعادا الشهادة بعد التوبة لا تقبل شهادتهما، وإن كان قد عفا أحدهما دون الآخر قبلت شهادة [103/ أ] العافي دون الذي لم يعف وقضينا بشهادته مع اليمين ومن الذي يحلف مع الشاهد نظر، فإن كان الذي ردت شهادته عفا عنها حلف مع شاهده واستحق الشفعة على المشتري لأنه لا شفيع غيره، فإن كان الذي ردت شهادته قد عفا عنها بعد ذلك حلف المشتري مع الشاهد وحصل الشقص له لأنه لم يبق من يطالب بالشفعة. فرع لو شهد البائع على الشفيع بالعفو قال ابن القفال في "التهذيب": نظر، فإن كان لم يقبض الثمن من المشتري لم تقبل شهادته لأنه يجوز أن يفلس المشتري فيرجع البائع بالشقص فيكون قد أثبت بشهادته لنفسه حقًا، وإن كان قد قبض الثمن وسلم الشقص قبلت شهادته.

فرع آخر لو شهد السيد على مكاتبه بالعفو عن الشفعة قبلت شهادته لأن ذلك شهادة عليه، وإن شهد بالشراء فيما للمكاتب فيه الشفعة تقبل شهادته أيضًا ذكره القاضي الطبري رحمه الله. مسألة: قال: "ولو ادعى الشفيع على رجل أنه اشترى هذا الشقص الذي هو في يديه من صاحبي الغائب". الفصل وهذا كما قال: إذا كانت دار بين رجلين أحدهما: حاضر والآخر غائب ونصيب الغائب في يد وكيل له حاضر ثم إن المالك الحاضر ادعى أن الوكيل الحاضر اشترى نصيب موكله بألفٍ وأقام بذلك شاهدين سمع الحاكم ذلك وقضى بالشراء وأوجب للحاضر الشفعة قال المزني رحمه الله: هذا قضاء على الغائب ووافقنا فيه الكوفيون وقد ناقضوا أصلهم، واختلف أصحابنا في هذا على وجهين: أحدهما: أن هذا قضاء على غائب لأن الدعوى والشهادة عليه بالبيع. والثاني: ليس هذا بقضاء على غائب لأن المزني لم يذكر أن يحلف المدعي مع الشاهد فثبت أنه قضاء على وكيل حاضر، فإذا قلنا: إنه قضاء على حاضر فلا كلام وإذا قلنا: قضاء [103/ ب] على غائب نقول: هم ناقضوا لأنهم إنما يمنعون القضاء على غائب إذا لم يتعلق بحق حاضر، فأما إذا كان هناك خصم حاضر يقضى عليه وفي هذا الموضع خصم حاضر وهو الذي يدعي عليه أنه اشترى ثم الثمن لا يدعي هذا المشتري فيأتي فيه الأوجه الثلاثة، وإن لم يذكر البينة قبض الثمن قبض الحاكم الثمن من المشتري للبائع ومن الشفيع للشفع للمشتري، واعلم أن المزني قيد هذه المسألة بذكر دفع الثمن ولا تتوقف الشفعة على دفع المشتري ثمن الشقص إلى البائع بل إذا انبرم البيع كانت الشفعة ثابتة فيحتمل أنه جعل ذلك بسطًا في عبارة الدعوى وتأكيدًا، وكذلك في الشهادة فإن الشهود متى ما شهدوا عند الحاكم على أنه اشترى ودفع الثمن إلى البائع كانت شهادتهم أوضح لأن دفع الثمن بعد البيع دلالة ظاهرة على الانبرام. مسألة: قال: "ولو اشترى شِقصًا وهو شقيعٌ فجاء شفيعٌ آخر". الفصل وهذا كما قال: إذا كانت دار بين ثلاثة شركاء فباع أحدهم نصيبه من آخر فقد حصل بائع وشفيع وشفيع هو المشتري فهل يستحق الشفيع المشتري الشفعة قيما اشتراه؟ قال المزني: هما في المبيع شريكان ولكل واحد منهما نصف المبيع، واختلف أصحابنا فيه على وجهين قال أكثر أصحابنا كما قال المزني، وقال ابن سريج: للشريك الذي لم

يشتر أن يأخذ الثلث كله بالشفعة وليس للمشتري أخذ شيء منه لأنا لو قلنا: تثبت له الشفعة لكان يأخذ من ملك نفسه وذلك لا يجوز وبه قال الحسن البصري وعثمان البتي وهذا غلط لأن المشتري شريك كالآخر فليس لذلك أن ينفرد بجمع المشفوع. واعلم أنا لا نقول: إنه أخذ الشفعة من نفسه ولكن نقول: لا يقدم الشريك الآخر عليه لأنه لا مزية له عليه فيجعل للشريك الآخر أخذ للنصف فحسب والنصف الآخر نقرّه في ملك المشتري لأنه شريك فإذا أقررناه حصل الملك بالابتياع لا بأخذه بالشفعة [104/ أ].وقال المزني في تعليل هذه المسألة لأنه مثله وليس له أن يلزم شفعته غيره فسمى ما تبقى في هذا المشترى شفعة له وهذه التسمية مجاز لا حقيقة لأن ما ملكه الإنسان بالشراء لا يسمى شفعة وإنما استجاز المزني إطلاق اسم الشفعة على الباقي من هذا الشقص لأنه بجملته لو حصل لأجنبي بالشراء لا لواحدٍ من الشركاء كان لهذا الشريك المشتري فيه هذه الحصة من الشفعة فسماه شفعة على هذا المعنى والله أعلم. فإذا قلنا بقول ابن سريج قلنا للشريك الآخر: لا شفيع ها هنا غيرك فأنت بالخيار بين أخذ الكل أو الترك وليس لك التبعيض وإذا قلنا بقول عامة أصحابنا: فإن اختارا كان الثلث بينهما نصفين، وإذا عفا الشفيع بقي الثلث كله للمشتري وإن قال المشتري: رضيت أن يأخذ الشفيع الكل لم يلزم الشفيع أن يأخذ الكل بل له أن يأخذ النصف ويترك النصف على ما ذكرنا فيما تقدم، فإن قيل: قد بعضتم الصفقة على المشتري قلنا: لأن المشتري لما دخل فيه رضي بالتبعيض، فإن قيل: إذا كان المشتري أجنبيًا فجاء أحد الشفعاء لم يكن له تبعيض الصفقة على المشتري فما الفرق؟ قلنا: الفرق أن الشريك إذا اشترى كان بمنزلة أخذ الشقص بالشفعة وآكد منه كما إذا طلق الرجل امرأته طلقة واحدة ثم عقد النكاح عليها في حال العدة كان بمنزلة الرجعة عند بعض أصحابنا فإذا كان كذلك فإذا أخذ الشفيع بالشفعة لم يجز أن يلزم شريكه أخذ ما دخل في ملكه وليس كذلك الأجنبي إذا اشترى فإنه لم يملك شيئًا منه بما هو أكد من الآخذ بالشفعة مع كونه شريكًا فافترقا. مسألة: قال: "ولو شجَّةُ موضحًة عمدًا". الفصل وهذا كما قال: إذا صالح من أرش الموضحة على شقصٍ فالكلام أولًا في الصلح ثم في الشفعة، وجملته أن الواجب في الموضحة خمس من الإبل أخماسًا إن كانت خطأ أو أثلاثًا إن كانت شبه عمد أو عمدًا، فإن كانت عمدًا فالوجوب على الجاني، [104/ ب] وإن كانت خطأ أو عمد خطٍأ فالوجوب على العاقلة فإذا صالح نظر، فإن كانت الإبل موجودة فإن لم يعرفا الأوصاف التي بقيت بها في الذمة وهي العدد والسّن

وأنها من نتاج قومه أو بلده فصالحه منها على شقٍص لم يصح الصلح، فإن عرفا الأوصاف الثلاثة فهل يصح الصلح؟ قولان: أحدهما: يصح لأنه لو أحضرها بهذه الأوصاف لزمه قبولها، والثاني: لا يصح لأن السّلم فيها بهذا القدر لا يصح حتى توصف الألوان ونحوها مما يختلف الثمن لأجله، فإذا قلنا: الصلح صحيح يأخذ الشفيع بقيمة خمٍس من الإبل أقلها قيمًة إذا كانت بالأوصاف التي ذكرناها، فإن لم تكن الإبل موجودة قال في القديم: تجب خمسون دينارًا أو ستمائة درهم، وقال في الجديد: تلزم قيمتها بالغة ما بلغت، فإن عرفا البدل المقدَّر ومقداره أو عرفا مقدار القيمة فصالحه منها صح الصلح ويأخذ الشفيع بمثل ذلك، وإن لم يعرفا أو عرف أحدهما: دون الآخر لم يصح الصلح ولا شفعة، وقال بعطر أصحابنا بخراسان: إذا كانت الجناية عمدًا وقلنا: الواجب هو القود فحسب هل يصح الصلح مع كون الدية مجهولة عند المتعاقدين؟ قولان بناًء على أن مطلق العفو هل يوجب المال أم لا؟ فإن قلنا: لا يوجب جاز وكأن المصالحة وقعت عن نفس القود وهو معلوم، وإن قلنا: يوجب المال لم يجز إلا أن يكون معلومًا على ما ذكرنا لأنه مصالحة عن المال. مسألة: قال: " ولوْ اشترى ذمَّي منْ ذمي شِقصًا بخمٍر" الفصل وهذا كما قال: إذا اشترى مشرك من مشرك شقصًا فإن للشريك المشرك أن يطالب بالشفعة إن كان الثمن حالًا والعقد صحيحًا، وإن تبايعا بخمٍر أو خنزير فلا شفعة، فإن كانوا تعاقدوا وتقابضوا وسلَّم المشتري الشقص لم نتعرض لهم فيه ولو كان الشريك مسلمًا لا شفعة له وإن تقابضوا لأنه لا عوض هناك يمكن أخذها منه، وقال أبو حنيفة: له الشفعة بقيمة الخمر وللذمي الشفعة بمثل الخمر بناءً على أصله أن الخمر مال [105/ أ] لهم وهذا غلط لأنه وقع العقد بثمن حراٍم فلا شفعة كما لو وقع بميتة أو دم. مسألة: قال: "والمسلمُ والذميُّ في الشفعة سواءٌ". وهذا كما قال: إذا باع ذمي شقصًا من ذمي وكان شريكه فيه مسلمًا يستحق الأخذ بالشفعة، ولو باع من مسلم وشريكه ذمي فالذمي يستحق الشفعة على المسلم وبه قال كافة العلماء، وقال الشعبي والحسن وعثمان البتي والحارث العكر وأحمد والحسن بن صالح ابن حي: لا شفعة للذمي على المسلم لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا شفعة لذمي على مسلّم"، وروي: "لا شفعة لنصراني" وهذا غلط للعمومات الواردة في الشفعة ولأنه خيار يثبت لدفع الضرر عن المال فاستوي فيه المسلم والذمي كالرد بالعيب، وأما للخبر لا أصل له.

فرع تثبت الشفعة للبدوي على الحضري خلافًا للشعبي وتثبت الشفعة للغائب على الحاضر خلافًا للنخعي وتثبت الشفعة في دور مكة، وقال أبو حنيفة: لا تثبت بناءً على قوله: لا يجوز بيعها. فرع آخر لو كان أحد الشريكين غائبًا وله وكيل فقال الوكيل: قد اشتريت منه نصيبه فهل يكون للحاضر أخذه بالشفعة، قال ابن سريج: فيه وجهان أحدهما: ليس له لأن إقراره لا يقبل على موكله ويكتب الحاكم إلى حاكم البلد الذي فيه الغائب ليستدعيه ويسأله عنه، والثاني: يؤخذ عنه بالشفعة وبه قال أبو حنيفة ويذكر الحاكم في السجل صورة الحال وينظر في الغائب فإن صدَّقه صح أخذه السابق، وإن كذّبه ولا بينة هناك كان القول قوله مع يمينه، فإذا حلف استحق الشقص وأجرة المثل في مدة ما أمسكه الشريك وأرش النقص إن دخل فيه النقص وهل يرجع الشفيع على الوكيل لأنه غرَّه؟ وجهان وقد مضى نظير هذه المسألة. فرع آخر لو أحال المشتري البائع على الشفيع بثمن الشقص فوزنه له عن المشتري برئ المشتري من الثمن ومن الشفعة. فرع آخر لو [105/ ب] اشترى رجل من رجل شقصًا وله شفيعان فقال المشتري: اشتريت لأحدهما: فصدقه المشترى له وكذبه الآخر وقال: بل اشتريته لنفسك كان النقص بين الشفيعين نصفين لأن للمكذب أن يأخذ نصف الشقص سواء اشتراه لنفسه أو لشريكه وعلى ما قال ابن سريج: أنه لا يكون للمشتري الشريك شفعة تجب ها هنا أن لا يكون للمكذب شفعة لأن شراء الشريك بتصادقهما عليه ولم يوجد ذلك، ولو قال الأخ المكذب: حلّفوا أخي أن الشقص اشتري لي لم يحلّف لأنه لا فائدة في استحقاقه على ما بيناه من أن الحكم لا يختلف بين أن يكون اشتراه لنفسه أو للشريك. فرع آخر لو قال المشتري في هذه المسألة: اشتريت هذا الشقص من رجل لا يملكه فصدقه أحد الأخوين وكذبه الآخر لا شفعة للمصدق لأنه أقر أنه لا يملكه، ولو قال: ملكت هذا الشقص بهبٍة فصدقه أحدهما في ذلك وكذبه الأخر وقال: ملكته بالابتياع بطلت شفعة المصدق لأنه أقر أنه ملك بالهبة ولا شفعة في الهبة، وأما المكذب يدعى أنه ملك الشقص بابتياع وأنه يستحق عليه الشفعة فيه وهو ينكر فإن أقام للمدعي بينة بالبيع استحق وإلا فالقول قول المنكر مع يمينه ولا شفعة.

فرع آخر لو اشترى شقصًا فيه شفعة فمات الشفيع وله وارثان فقال المشتري: إن الوارثين قد عفوا ولا بينة له بذلك فأنكر فحلف الواحد ونكل الآخر لم يكن للمشتري أن يحلف من أجل نكول الناكل، لأنه لو صح عفوه كان للذي لم يعف أن يطلب جميع الشقص بالشفعة فلا يفيده اليمين شيئًا فإذا ثبت هذا فإن الوارث الحالف لا يستحق الكل إلا بيمين منه لقد عنا صاحبه هذا الناكل عن اليمين، فإذا حلف أخذ الكل، وإن لم يحلف كان الناكل على شفعته وأخذا معًا ذكره ابن الحداد. فرع آخر لو اشترى [106/ أ] شقصًا فيه شفعة ثم ارتد فقتل أو مات قبل رجوعه إلى الإسلام كان للشفيع الأخذ بالشفعة لأنها وجبت له ويكون المطالب بذلك الإمام أو من ينوب عنه، وهكذا لو ارتد الشفيع وقتل بالردة أو مات كانت الشفعة للمسلمين والنظر في ذلك إلى الإمام. فرع آخر لو بيع شقصٌ وله شفيعان فعفا أحد الشفيعين والآخر غائب ثم مات الغائب والحاضر العافي وارثه كان له أن يأخذ بالشفعة، لأنه وإن عفا فإنما يأخذها من وجٍه غير الوجه الذي عفاها منه، وكذلك لو شهد شاهد بدين لأبيهما فقال أحدهما: لا أحلف مع الشاهد فمات أخوه وهو وارثه كان له أن يحلف ويأخذ ما يصيب الأخ من الدين لأن هذا لبس أتى اليمين عليه ذكره ابن الحداد، وعلى هذا لو ورث رجلان الشفعة عن أبيهما فعفا أحدهما: ثبت للآخر استيفاء الكل فإن مات والعافي وارثه ثبات له استيفاؤه بالنيابة عن موروثه. فرع آخر لو كانت الأرض بينهما نصفين فباع أحدهما قطعة بعينها بطل البيع في نصيب شريكه وهل يبطل قي نصيب نفسه؟ قولان فإذا قلنا: لا يبطل أخذه شريكه بالشفعة فيكون له نصف تلك القطعة المبيعة بالشفعة. فرع آخر لو كان في يد رجل نصف دار فادعى مدٍع عليه أنه يستحق سدسها فأنكر المدعى عليه وانصرف المدعي ثم قال له المدعى عليه: خذ مني السدس الذي ادعيته منها بسدس دارك فأجابه إلى هذا صح ولم يكن صلحًا على الإنكار ووجبت الشفعة للشفيع يأخذها من المدعي بقيمة سدس داره. فرع أخر لو كانت دار بين شريكين نصفين فوكل أحدهما شريكه في بقع نصف نصيبه وهو ربعها وقال: إن اخترت أن تبيع نصف نصيبك مع نصيبي صفقًة واحدًة فافعل فباع

الوكيل نصفها الربع بحق الوكالة والربع بحق الملك صح في الكل [106/ ب] والموكل شريك حين بيع نصيب الوكيل والوكيل شريك حين بيع نصيب الموكل فللموكل الشفعة فيما باعه الوكيل من نصيب ننه وهل للوكيل الشفعة فيما تولى بيعه من نصيب الموكل؟ قد ذكرنا وجهين. فرع آخر إذا اشترى بعيرًا وشقصًا بعبٍد وجاريٍة وقيمة البعير والشقص مائتان كل واحٍد منهما مائة وكذلك العبد والجارية قيمتهما مائتان كل واحٍد منهما مائة تليت الشفعة في الشقص بنصف قيمة العبد والجارية فإن تلف البعير قبل القبض بطل فيه العقد، وهل يبطل في الشقص على القولين في تفريق الصفقة؟ فإن قلنا: يبطل بطل في الكل وسقطت الشفعة وإن قلنا: يصح في الشقص صح فيه بنصف العبد والجارية وأخذه الشفيع بقيمة ذلك، وإن تلف العبد بطل العقد فيه وهل يبطل في الجارية؟ على طريقين فإذا قلنا: يصح في الجارية بطل العقد في نصف البعير ونصف الشقص وأخذ الشفيع نصف الشقص بنصف قيمة الجارية. فرع آخر قال ابن سريج: لو كانت دار بين اثنين فادعى أحد الشريكين على الآخر بأن النصف الذي في يده اشتراه من زيد وصدّقه زيد على ذلك، وقال الشريك: ما اشتريته وإنما ورثته مني أبي ولا شفعة لك فأقام الشفيع شاهدين شهدا بأن زيدًا ملك هذا الشقص ميراثًا عن أبيه ولم يشهدا بأكثر من ذلك، قال محمد بن الحسن: تثبت الشفعة للشفيع ويقال له: إما أن تدفع الشقص إليه وتأخذ الثمن أو ترده على البائع ليأخذه الشفيع من البائع ويأخذ الثمن فيدفعه إليك قال: وإنما كان كذلك لأن الشاهدين شهدا لزيد بالملك وعليه بالبيع، وقال ابن سريج: هذا غلط ولا شفعة لهذا المدعي بذلك لأن البينة لم تشهد بالبيع، أما إقراره فليس بينه وبين المشتري منازعة فثبت إقراره وإنما نقرّ [107/ أ] على المشتري بالشفعة وليست الشفعة من حقوق العقد على البائع فلا يقبل فيها قول البائع ولا شهادته مقبولة لأنه يشهد على فعل نفسه قال: وهذا بمنزلة أن يحلف رجل: إني ما اشتريت هذه الدار من زيد فيقول زيد: أنا بعتها منه وقد كانت ملكًا لزيد فإنه لا يقبل إقراره عليه في الحنث في يمينه كذلك ها هنا. فرع آخر? لو كانت الدار بين أربعة أرباعًا اشترى اثنان منهم من واحد نصيبه وهو الربع استحق الذي لم يشتر عليهما الشفعة واستحق كل واحٍد من المشتريين الشفعة على صاحبه. وفرع أبو العباس هذا على ما قاله المزني من أن المشتري إذا كان شريكة لا يسقط حقه من الشفعة وجعل الدار ثمانية وأربعين سهمًا، فالربع اثنا عشر بينهما، وذكر فيها أربع مسائل إحداها أن يطالب كل واحد منهم بشفعته فيقتسمون السبع أثلاثًا فيحصل لكل

واحٍد منهم أربعة أسهم. والثانية أن يعفو كل واحٍد من المشتريين عن صاحبه ويطالب الذي لم يشتر فإنه يأخذ من كل واحٍد منهما نصف ما في يده لأنه فيما اشتراه كل واحٍد شريكه في الشفعة إذ لا شفعة فيه إلا لهما فيحصل للذي لم يشتر نصف السهم ستة أسهم، ولكل واحٍد من المشترين ثلاثة أسهم. والثالثة أن يعفو الذي لم يشتر خاصًة فكل واحٍد من المشتريين يأخذ نصف ما في يده فيكون ذلك بقدر ما اشتراه لكل واحٍد ستة أسهم. والرابعة أن يعفو الذي لم يشتر عن أحدهما دون الأخر فإنه يأخذ ممن لم يعف عنه سهمين ويبقى معه أربعة يأخذ منهما المعفو عنه سهمين، ويأخذ الذي لم يعف عنه من المعفو عنه ثلاثة أسهم نصف ما في يده لأنه لا شفيع في هذا السهم سواهما فيحصل مع كل واحٍد [107/ ب] منهما على خمسة ومع العافي سهمان. وفرع أبو العباس على ذلك إذا كان أحدهما حاضرًا والآخر غائبًا والحكم في ذلك على ما ذكرنا فلا فائدة في تكراره. فرع آخر قال ابن الحداد: ولو كانت دار بين ثلاثة نصفها لأحدهم والنصف الآخر بين الآخرين نصفين فاشترى صاحب النصف من أحد شريكيه ربعه، والثالث: غائب، ثم باع صاحب الثلاثة الأرباع، ربعًا منها لرجلٍ ثم قدم الشريك الغائب كان له أن يأخذ ما يحصه من البيع الأول بالشفعة، ويأخذ المبيع الثاني جميعه لأنه لا شفيع فيه سواه، فإن أراد أن يأخذ حقه من الأول وعنا عن الثاني قال ابن الحداد: أخذ من المشتري الثاني سهمًا من ستة، ومن الأول سهمين من ستة فرض الربع ستة أسهم والأصل أربعة وعشرون لأنه أقل عدد ينقسم منه وإنما كان كذلك لأن صاحب النصف لما اشترى الربع كان الربع المشترى بينه وبين الشريك الغائب نصفين وهذا على المذهب، والمشهور في أن المشتري يشارك الشفيع إذا كان شريكًا فيما اشتراه وعلى أحد القولين في أن الشفعة على عدد الرؤوس فإذا باع الربع مما في يده وفي يده ثلاثة أرباع فقد باع ثلث ما في يده وهو ستة أسهم وبقي في يده اثنا عشر سهمًا وللغائب بشفعته ثلاثة أسهم فإذا قدم أخذ من المشتري سهمًا ثلث ما استحقه لأنه حصل له ثلث ما كان في يد بائعه وأخذ من الأول سهمين. فأما إذا قلنا: إن الشفعة على قدر الأنصباء فالذي يستحق الغائب سهمان من الستة لأن ملكه مثل نصف ملك المشتري حصل في المبيع من السهمين ثلثها فيأخذ من المشتري الأول سهما وثلثًا، ومن الثاني ثلثي سهم هذا إذا عنا عن الثاني، وإن عفا عن الأول فأخذ من البيع الثاني أخذ من المشتري ما اشتراه وهو [108/ أ] ستة أسهم لأن شريكه بائع فلا تثبت له الشفعة، وإن أراد أن يأخذ الشفعة بالعقدين أخذ جميع ما في يد الثاني وأخذ من الأول إن قلنا: إن الشفعة على عدد الرؤوس سهمين، وإذا قلنا: على قدر النصيب سهمًا وثلثًا.

فرع آخر قال ابن الحداد: إذا اشترى شقصًا فيه شفعة وأوصى به ومات ثم جاء الشفيع والموصى له يطالبان به كان للشفيع، ويدفع الثمن إلى الورثة دون الموصى له لأنه لم يوص له إلا بالشقص وقد سقط حقه. فصل في الحيل في إبطال الشفعة بالجوار مباحة قبل العقد وبعده لأنها حيلة في إبطال ما ليس بواجب، وأما الحيلة في إبطال الشفعة بالمشاركة نظر، فإن كان بعد وجوبها لا يحل ذلك لأنه حق وجب، وإن كان قبل وجوبها قال ابن سريج: يكره ذلك فإن فعل صح، وقال أبو بكر الصيرفي في كتاب" الحيل": هو مباح. ومن جملة الحيل ما يُزهّد الشفيع في الآخذ لكثرة ثمنها مثل أن يكون ثمن الشقص مائة فيشتريه بألف ثم يدفع المشتري إلى البائع بالثمن ما قيمته مائة كالثوب ونحوه فيكون الثمن ألفًا والذي دفع مائة أو يبيع من الذي عزم على البيع جارية وهي تساوي مائة فإذا ثبت الألف على البائع أخذ منه شقصًا بالألف الذي هو ثمن الجارية فيملكها المشتري بألٍف وهى تساوي مائة فلا ينشط الشفيع لأخذه، إلا أن في المسألة الأولى الغرر يكون على المشتري للشقص لأنه يثبت عليه الألف وربما لا يرضى الثاني أن يأخذ منه ما يساوي مائة، وفى المسألة الثانية الغرر على بائع الشقص لأنه ربما لا يختار صاحب الجارية أن يأخذ منه النقص بألٍف فتبقى الجارية التي تسوى مائة بألٍف في يده وهذا اتفاًق، ومن ذلك أن يشتري بألٍف وقيمتها مائة ثم يبريه عن تسعمائة وفيه [108/ ب] غرر على المشتري أيضًا وهذا عند الشافعي ومن ذلك أن يهب البائع الشقص من المشتري ويهب للمشتري الثمن من البائع. ومنها أن يكون الثمن جزافًا فيزن مائة في التقدير ويطرح فيها شيئًا من الفضة جزافًا فلا يعلم مبلغ الثمن، فإذا جهل مبلغه سقطت الشفعة. ومنها أن يشتري نصيب الباني من بناء الدار سوى العِرصة فلا شفعة ثم يهب نصيبه من العرصة فلا شفعة أيضًا. ومنها أن يكون الشقص يساوي ألفًا فيبيع نصفه منه ويهب منه النصف ويكتب الوثيقة أنه باع نصفه منه بألٍف ووهب النصف فلا يستحق الشفيع الموهوب ويأخذ المبيع بالألف ولا يرضى بذلك فيترك الشفعة وهذا أسلم. وأما الحيل على قول أبي حنيفة أن الشفعة تثبت للجار هو أن يهب له بعض الدار ثم يشتري ما بقي أو يشتري منه كل الدار إلا العرصة التي عليها سور الدار، فإذا لم يدخل ذلك في البيع لم تجب الشفعة للجار ثم يقر له بالعرصة، أو يشتري كل البناء دون العرصة ثم يهب له العرصة فالشفعة في كل هذا لا تجب. فإن كان قراحًا اشتراه إلا قدر شبرًا أو ذراع من جانب الشفيع فيزول الملاصقة وتسقط الشفعة إذا لم يكن شريكًا في الطريق ومن هذا الجنس كثير وفيما ذكرناه كفاية وبالله للتوفيق.

كتاب القراض

كتاب القراض قال: وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه للخبر وهذا كما قال: اعلم أن عقد القَراض جائز وهو أن يدفع إلى رجل دراهم أو دنانير ليتجر فيها فما يرزق الله تعالى من الربح بينهما على ما يتشارطانه ويسمى هذا العقد باسمين القَراض والمضاربة، والقراض اسم حجازيُّ، والمضاربة [109/ أ] اسم عراقيٌّ. واشتقاق انقراض من القَرض الذي هو القطع، ولهذا سمي المقراض مقراضًا فمعناه قطع ربّ المال من ماله قطعة ويُسلمها إلى العامل ثم قطع للعامل قطعة من الربح. وقيل: اشتقاق القراض من المقارضة التي هي الموازاة والمساواة يقال: تقارض الشاعران إذا تناشدا ووازن كل واحٍد منهما الآخر بشعره، وقال أبو الدرداء: قارض الناس ما قارضوك فإن تركتهم لم يتركوك على هذا المعنى وهذا لأن المال من أحدهما: والعمل من الآخر، ويحتمل أن يكون ذلك لاشتراكهما في الربح. واختلفوا في اشتقاق المضاربة فقيل: هو من الضرب في المال بالتصرف والتقليب برأيه واجتهاده يقال: فلان يضرب الأمور ظهرًا لبطن ومنه قوله تعالى: {وإذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء: 101] أي: تصَّرفتم فيها بالسفر. وقيل: هو من ضرب كل واحٍد منهما في الريح بسهم. وأما التسمية فالمقابض يكسر الراء رب المال لأنه هو الذي يضرب بالمال ويقلبه يقطع قطعة من ماله والمقارّض بفتح الراء العامل في المضاربة يقال للعامل: مضارب يكسر الراء لأنه هو الذي يضرب بالمال ويقلبه ولم يشتق لرب المال من المضاربة اسم بخلاف انقراض. وقال بعض أصحابنا: هو اسم رب المال وبه قال جماعة من العلماء وهو غلط لما روي عن علقة رضي الله عنه أنه قال: إذا خالف المضارب فلا ضمان هما على ما شرطا" والمخالفة أبدًا من جهة العامل. فإذا تقرر هذا فالأصل في جواز القراض الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {وآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} [المزمل: 20] الآية. وأما السنة فما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم ضارب [109/ ب] خديجة رضي الله عنها بأموالها إلى الشام وأنفذت معه لخدمته عبدًا لها يقال له مَيسرة. وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان العباس رضي الله عنه إذا دفع مالًا مضاربةً اشترط على صاحبه أن لا يسلك به بحرًا ولا ينزل به واديًا ولا يشتري به ذات كبٍد رطبٍة

فإن فعل فهو ضامن فرفع شرطه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأجازه. وأما الإجماع ما ذكره الشافعي رحمة الله عليه عن عمر رضي الله عنه وتمام الحديث أن عبد الله وعبيد الله ابني عمر رضي الله عنهم لما انصرفا من غزوة نهاوند اجتازا بالعراق وعليها أبو موسى الأشعري رضي الله عنه فقال لهما: إني أريد أن أصلكما بشيء وليس عندي ما أصلكما به ثم قال: نعم عندي من مال بيت المال مائة ألف درهم فأعطيكماها لتتجرا بها وتُسلما المال إلى أمير المؤمنين بالمدينة والربح لكما فأخذا المال واشتريا به من متاع العراق فربحا فيه بالمدينة ربحًا كثيرًا ثم أخبرا عمر بذلك فقال: أوَ أعطى كل رجل من المسلمين مثل ما أعطاكما؟ قالا: لا فقال عمر: أبناء أمير المؤمنين إنما أعطت لمكانكما منى فأدَّيا المال والربح اجعله في بيت المال، فسكت عبد الله ولم يراجع أباه بشيء، وقال عبيد الله وهو أصغرهما: أرأيت لو تلف هذا المال أما كان من ضماننا قال: نعم قال: فالربح إذا فأعاد عمر كلامه فراجعه عبيد الله فقال عبد الرحمن بن عوفٍ رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين لو جعلته قَراضًا ففعل فأخذ منهما المال ونصف الربح. فإن قيل: كان المال قَراضًا فكيف جعله قرضًا؟ قلنا: قال أصحابنا: كان قرضًا صحيحًا لأن أبا موسى أراد أن يحمله [110/ أ] إلى المدينة وخاف عليه فجعله قرضًا وكان الربح لهما، ولكن عمر رضي الله عنه استطاب قلبهما عن نصف الربح وللإمام أن يفعل ذلك بطيب قلب الصاحب والغرض التورع من أنه تقرب إليهما لمكانه، ولهذا قال: كأني بأبي موسى يقول: أبناء أمير المؤمنين، ومن أصحابنا من قال: كان قرضًا فاسدًا إذ كان شرط رد المال بالمدينة فحكمه حكم المغصوب غير أن عمر رضي الله عنه رآها أهلًا لوضع بعض مال بيت المال فيهما والربح للمغصوب منه على أحد القولين. وقيل كان قراضًا فاسدًا وبلغ أجر مثلهما نصف الربح. وقال الشافعي في كتاب اختلاف العراقّيين: روى أبو حنيفة عن حميد بن عبد الله بن عبيد عن أبيه عن جده أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أعطاه مال يتيم مضاربًة وكان يعمل به في العراق. وروى الشافعي أيضًا عن مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب عن أبيه عن جده أن عثمان رضي الله عنه قارضه.

وروى قتادة عن الحسن أن عليًا رضي الله عنه قال: إذا خالف المضارب فلا ضمان هما على ما شرطا. وروي عن ابن مسعوٍد وحكيم بن حزام أنهما قارضا والمسلمون أجمعوا على جوازه فلا يحل مخالفتهم. واعلم أن المشهور في جواز القَراض إجماع الصحابة والأشبه أن هذا الإجماع انعقد فيما بينهم عن ضرٍب من القياس على المساقاة والخبر في المساقاة مشهور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجه القياس ظاهر وهو أن الأشجار لا تؤاجر حتى يرتفق صاحبها بأجرتها فوردت الشريعة بنوع معاملٍة مخصوصٍة عليها يكون سببًا لتوفر مرافقها على مالكها والدراهم والدنانير بهذه المثابة لأنها غير قابلة عقد الإجارة [110/ ب] فكان عقد المضاربة سببًا لتوفر مرافقها على مالكها، وفي أثر عمر رضي الله عنه دليل على الوالي إذا أراد إيصال المال إلى حضرة الخليفة يجوز له إسلافه ويجوز للقارض تسلفه لأن ذلك من للنظر وهو أولى من أن يبعث إلى حضرته أمانة. مسألة: قال: "ولا يجوز القراض إلا في الدراهم والدنانير". الفصل وهذا كما قال: يجوز القراض في الدراهم والدنانير ولا يجوز فيما عداهما سواء كان له مثل أو لا، وقال طاوس وابن أبي ليلى والأوزاعي: يجوز على العروضي كلها، فإن كان له مثلّ رد مثله عند المفاصلة، وإن لم يكن له مثل رد قيمته لأنه يجوز أن يكون ثمنًا فجاز أن يكون رأس مال القراض وهذا غلط فإن موضوع القراض على أن لا يقتسما من الربح شيئًا ما لم يسلم إلى رب المال رأس المال، وأن لا يجوز لأحدهما: أن ينفرد بجميع الربح وأن لا يستحق من الربح شيئًا إلا بعلمه وأن يكون المال من أحدهما: والعمل من الآخر، فإذا تعاقدا القراض على شيء من ذلك، فلن كان مما له مثلُّ فأراد أن يعزلا مثل رأس المال فيجوز أن يكون قد زاد في حال المفاصلة سعره فلا يمكن شراء مثل رأس المال إلا بجميع ما في يد العامل من المال فيؤدي إلى أن ينفرد رب المال بجمع الربح وهذا لا يجوز، ولن كان مما لا مثل له فيجب أن يعزلا القيمة التي كانت السلعة وقت عقد القَراض ويجوز أن يكون قيمتها قد زادت قبل تصرف العامل فيستحق جزءًا من الربح قبل التصرف، ويجوز أن يكون قد نقصت فيحتاج أن يتمَّها من حصته من الربح وذلك يؤدي إلى أن يكون من جهته جزء من رأس المال وهذا كله مخالف لموضوع عقد القراض، فإن قيل: يبطل هذا بالدنانير فإن قيمتها تختلف وتزيد وتنقص قلنا: قيمة الدنانير بالفضة لا يختلف وإن زادت قيمتها لعارٍض فالزيادة يسيرة لا حكم لها. فإن قيل: أليس جوَّزتم الشركة فيما له مثل من الحبوب والأدهان [111/ أ] فما

الفرق؟ قلنا: الفرق أن الشريكين إذا عزلا رأس المال عند المفاصلة، فإن كانت قيمتها زائدة فالزيادة لهما، وإن كانت ناقصًة فالنقصان عليهما فلا يؤدي إلى استبداد أحدهما: بالربح وليس كذلك في القراض فإنه يؤدي إلى استرداد رب المال بجمع الربح على ما بيناه فافترقا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يجوز القراض في ذوات الأمثال؟ وجهان وليس بشيء. فرع قال الشافعي رحمة الله عليه: إذا دفع رجل إلى رجل سبيكة من ذهب أو فضٍة وجعلها رأس المال في القراض لا يجوز ولفظه في "المختصر" ولا يجوز إلا بالدراهم والدنانير التي هي أثمان الأشياء وقيمتها والسبيكة والنُقرة ليست منها فلا يجوز لأنها متقوّمة ويضمن عند الإتلاف بالقيمة وهو المشهور عن أبي حنيفة، وحكي عنه جوازه في النقرة. فرع آخر لا يجوز في الدراهم المغشوشة قليلًا كان الغش أو كثيرًا، وقال أبو حنيفة: إن كان الغش أكثر من النصف لا يجوز، وإن كان أقل يجوز لأن الاعتبار بالغالب في الأصول وهذا غلط لأنها مغشوشة فأشبه إذ كان الغش أكثر، وأما اعتبار الغالب لا يصح لأن المقصود مجهول غالبًا كان أو مغلوبًا. فرع آخر لا يجوز في الفلوس وإن تعامل بها بعض أهل البلاد وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف، وقال محمد: يجوز استحسانًا، ويحكى هذا عن أبي حنيفة لأنه ثمن في بعض البلاد وهذا غلط لأنه ليس بثمٍن غالبًا فأشبه الثياب. فرع آخر لو دفع إليه شبكًة ليصطاد بها ويكون الصيد بينهما نصفين لم يجز فإن اصطاد كان الصيد له ولصاحب الشبكة أجر مثلها، وكذلك لو أعطاه غزلًا لينسجه وما يحصل من الربح بينهما نصفين لم يجز والثوب لصاحب الغزل وللحائك أجر مثله، وكذلك لو دفع بغلًا إلى رجل وقال: آجره [111/ ب] فيما ترى واعمل عليه وانقل عليه ما ترى من لبن وطين وغير ذلك فما كان من فضٍل فهو بيننا فالقراض فاسد والفضل كله لصاحب البغل وللعامل أجر مثله. فرع آخر لو دفع إليه كرّ حنطة مضاربة على أن يشتري به ويبيع فما رزق الله من شيء فهو بينهما كانت المضاربة فاسدًة، فإن اشترى وباع وربح أو خسر فالربح لرب المال والخسران عليه، وللعامل أجر مثله فيما عمل.

فرع آخر لو دفع إليه عرضًا وقال: بعه فإذا نضَّ ثمنه فقد قارضتك على ثمنه لم يجز، وقال أبو حنيفة: يجوز وهذا غلط لأنه عقدٌ لا يصح على المجهول فلا يصح تعليقه بالشرط كالبيع ولأن ثمنه مجهول فلا يجوز عليه القراض ولأنه عقد مضاربٍة على دراهم يحصل في الثاني فأشبه إذا قال: قارضتك على دراهم أرفها ونحو ذلك. فرع آخر لو قال: وكلتك في بيع هذه السلعة وصرف ثمنها في سلعٍة أخرى وصفها كان التوكيل في البيع صحيحًا وفي التوكيل بالشراء قولان فإن قلنا: يصح فالفرق أن من شرط عقد القراض وجود المال وليس ها هنا مال، وأما الوكالة فعقدها يصح على غير مالٍ لأنه إذا قال: وكلتك قي أن تشتري عبدًا أو ثوبًا ولم يسلم إليه مالًا يصح الوكالة فدل على الفرق. فرع آخر لو كان له قي يد رجل وديعة فقارضه عليه صح القراض لأنه في يد العامل أمانة فهو بمنزلة كونه في يد ربّ المال ولو كان في يده مال غضبه عليه فقارضه عليه فيه وجهان أحدهما: لا يصح لأن مال القراض أمانة وهذا المال في يده مضمون عليه فلا يوجد فيه معنى القراض، والثاني: وهو المذهب يصح لأنه مقبوض له كالوديعة، وأما ما ذكره لا يصح لأن الشافعي قال: إذا رهن عنده المال المغضوب يصح، وإن كان مقتضى الرهن الأمانة فكذلك إذا تعدى العامل باستعمال القراض ضمن والقراض [112/ أ] بحاله. فرع آخر لو أبرأه من ضمانه ثم قارضه عليها قال في "الحاوي": يجوز وجهًا واحدًا لأنه صار وديعة بالإبراء والوجهان إذا لم يصرح بالإبراء وإذا قلنا: إنه باطل فما يحصل من الربح والخسران فلرّب المال لأنه عمل فيه بإذنه. فرع آخر إذا قلنا: إنه يصح فيه قال أصحابنا: إذا اشترى شيئًا به للقراض وسلم إلى البائع صح وبرئ من ضمانه لأنه سلمه بإذن صاحبه وقبل تسليمه إلى البائع يكون مضمونًا عليه، وقال أبو حنيفة ومالك: يزول عنه ضمان الغصب بنفس عقد المضاربة كما قال في الرهن، وقال في "الحاوي": فيه ثلاثة أوجه أحدها: برئ من ضمانه بالعقد لأنه صار مؤتمنًا عليه، والثاني: لا يبرأ كما لا يبرأ بالارتهان، والثالث: ما لم يتصرف فيه فضمانه باٍق، وإذا تصرف فيه ودفعه في ثمن ما ابتاعه به برئ من ضمانه إن عقد عليه

بعينه ولم يبرأ إن عقد عليه في ذمته لأن ني التعيين مدفوع إلى مستحقه بإذن مالكه فصار كرده عليه وفيما تعلق بذمته يكون مبرئًا لنفسه فلا يبرأ. فرع آخر إذا كان له في ذمة رجل مال فقال له: اعزل المال الذي في ذمتك وقد قارضتك عليه بكذا وكذا فعزل المال لم يصح تعيينه بالدين لأنه لا يجوز أن يكون قابضًا لغيره من نفسه ولا يبرئ ذمته بيده ويكون الدين باقيًا في ذمته فإن اشترى شيئًا للقراض نظر، فإن اشتراه بعين المال كان ملكة له ولم يكن قراضًا لأن المال ملكه فنيّته القراض لا تؤثر في الشراء، وإن اشترى شيئًا للقراض بثمن مطلٍق ودفع المال فيه اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: يكون المشتري للقراض ويكون قراضًا فاسدة لأنه علقه بشرٍط وهو عزل المال الذي في ذمته فهو كما لو قال: بع هذا العبد واجعل ثمنه قراضًا وقد برئ من الدين بدفع ثمن ما اشتراه كأنه دفعه بإذن صاحبه وله أجر المثل والربح لرب الدين، ومنهم من قال: وهو الأصح [112/ ب] لا يكون قراضًا لا صحيحًا ولا فاسدًا وما اشتراه له ولا يصح أن يشتري بنية القراض إلا إذا كان في يده مال القراض وهذا المال الذي في يده، فإذا اشترى وقع الشراء له ويكون الدين باقيًا في ذمته وهكذا الحكم إذا قال: قارضتك في الدين الذي عليك، وذكر القاضي الطبري عن أبى سريج أنه قال: هل يصح القراض في الدين الذي عليها وجهان أحدهما: ما ذكرنا، والثاني: يصح لأنه بمنزلة الوكيل فهو كما لو قال: اشتر لي سلعة بألٍف ثم قال: ادفع الألف الذي عليك في ثمنه وهذا غير مشهور. فرع آخر لو قال: قارضتك في مالي على فلان وهو ألف على أن تتقاضى وتأخذ ثم تتصرف فيه والربح بيننا كان فاسدًا وللعامل أجر المثل في التقاضي والتصرف بعد الأخذ والربح والخسران للأمر وإنما بطل، لأنه شرط عليه عملًا سوى عمل القراض والفرق بين هذه المسألة وبين التي قبلها حيث قلنا: الربح والخسران هناك للعامل أن هناك قبضه من نفسه فاسد لأنه يصير مبرئًا لنفسه بنفسه فعاد الربح إليه لحدوثه من ملكه وها هنا وكيلٌ فيه لرب المال وكان الربح له، ولو كانت المسألة بحالها ولم يشترط عليه أن يقبض بل قال: أنا أقبض وأسلم إليك لم يجز أيضًا لأن رأس المال في القراض يجب أن لا يكون دينًا بل يكون عينًا، ثم إن تبرع العامل بقبضه من فلان وتصرف كان له أجر مثل التصرف دون الأخذ والتقاضي، ولو قال: إذا قبضته فقد قارضتك عليه فهو أفسد لأنه على العقد يحظر غير أنه إذا فعل لا يجب له أجرة القبض والتقاضي لأنه شيء قبل القراض وعلى هذا لو قال: يعني هذه السلعة وخذ ثمنها واجعله قراضًا لم يصح. فرع آخر لو قال: قارضتك على ألف درهم وكان له على رجل ألف درهم ثم قال للذي عليه

الألف: احمل إليه صح، لأنه لا فرق بين أن يعطيه بنفسه وبين أن يأمر غيره ليعطيه. فرع آخر لو قارضه على مالٍ [113/ أ] مجهول المقدار لم يجز لأنه لا يمكن عزل رأس المال عند المفاصلة، وقال أبو حنيفة: يجوز والقول قول العامل في قدره قال: ولو أقام كل واحٍد منهما بينة على القدر فبينة رب المال أولى لأنه خارج. فرع آخر لو دفع إليه كيسين في كل واحٍد ألف درهم على أن يكون أحد الألفين قراضَا، والثاني: وديعة فيه وجهان أحدهما: يجوز ويكون قراضًا صحيحًا لأنه معقود على ألف درهم معلوم لتساوي الألفين، والثاني: لا يجوز للجهل بمال القراض من مال الوديعة. فرع آخر ينعقد القراض بلفظ القراض ويلفظ المضاربة وبما يؤدي معناه لأن المقصود هو المعنى فجاز بما دل عليه كالبيع يجوز يلفظ التمليك. فرع آخر لا يجوز إذا كان مال القراض دراهم أن يشتري بالدنانير لأن الشراء بغير مال القراض خارجٌ عن القراض ويكون الشراء للعامل، ولكن يجوز إذا كان المال دراهم وكان الشراء بالدنانير أوفق أن يبيع الدراهم بالدنانير ثم يشتري حينئذ بالدنانير. مسألة: قال: "وإن قارضة وجعل رب المال معه غلامه". الفصل وهذا كما قال: إذا قارض مع رجل وشرط رب المال معه غلامه على أن ما رزق الله تعالى من الربح يكون بينه وبين العامل والغلام أثلاثًا نص الشافعي على جوازه وبه قال أبو حنيفة، واختلف أصحابنا في تأويل هذه المسألة فمنهم من قال: أراد شرط لعبده ثلث الربح ولم يشترط عمله مع العامل لأن من شرط القراض أن يكون العمل من واحد والمال من آخر، ولا يجوز أن يشترط رب المال عمل نفسه وعمل عبده منزلة عمله فلا يجوز اشتراطه فإذا كان كذلك فما شرطه للعبد يكون للسيد لأن العبد لا يملك شيئٍا فكأنه شرط لنفسه ثلثي الربح وللعامل الثلث وهو الطاهر من كلام الشافعي ها هنا وفي "الأم" لأنه لم يشترط عمل العامل فيها ولم يذكره بوجٍه وهذا هو الصحيح هكذا ذكره [113/ ب] القاضي أبو حامد والقاضي الطبري. وقال أبو إسحاق وابن سريج وجمهور أصحابنا: أراد به شرط عمل الغلام معه ليكون عونًا له على تصرفه ويكون عمل العبد تابعًا للعامل يرجع إليه ويعمل برأيه وتدبيره فيدخل على طريق التبع ويخالف أن يشترط عمل رب المال لأنه لا يجوز أن يدخل تابعا للعامل في تدبيره وماله.

فرع لو شرط أن يكون المال في يد غلامه أو يعمل برأيه لا يجوز لأنه لم يتكامل تسليط العامل على المال، وكذلك لو قال: أنا أحفظ المال وكلما اشتريت أديت الثمن من عندي لا يجوز، وقال في "الحاوي": إذا قال: المال بيدي أو مع وكيلي فأنت المتصرف فيه بالبيع والشراء فيه وجهان أحدهما: لا يجوز لما ذكرنا، والثاني: يجوز لأنه مطلق للتصرف في للعقود فجاز أن يستوثق بغيره في حفظ المال. فرع آخر لو جعل عليه مشرفًا فإن ردَّ إلى المشرف تدبيرًا أو عملًا لا يجوز لأن العامل فيه محجور عليه، وإن ردَّ إليه مشارفة عقوده ومطالعة عمله من غير تدبير ولا عمل فيه وجهان كما مضى لأنه حافظ. فرع آخر قال ابن سريج تفريعًا على مسألة العبد: لو دفع إليه ألفًا قراضًا وبهيمة يستعين بها في ركوبه وينقل المتاع عليها جاز ويكون على سبيل الإعانة منه له، وكذلك لو دفع إليه مالًا في كيسٍ وقال: انتفع بالكبس جاز. فرع آخر لو شرط لنفسه ثلث الربح والثلث للعامل والثلث لغلام العامل جاز ويكون الثلثان للعامل. فرع آخر لو قال: ثلث الربح لي، وثلث لدابتي، وثلث لك فيه وجهان أحدهما: لا يجوز، والثاني: إن تقارا أنه أراد لنفسه وأضاف إلى دابته يجوز. فرع آخر لو شرط ثلث الربح لأجنبي كزوجة رب المال أو صديقه أو مكاتبه نظر، فإن شرط عمل الأجنبي مع العامل جاز وصار كأنه قارض مع نفسين، وإن لم يشترط عمل الأجنبي لم بجز لآن الربح في القراض [114/ أ] يستحق لمالٍ أو عملٍ وهذا خارج عنهما. فرع آخر لو قال: الثلث لي والثلثان لك وتدفع الثلث إلى امرأتك أو إلى فلان فإن أوجب ذلك عليه كانت المضاربة فاسدة قياسًا على ما قال الشافعي فيمن اشترى شيئًا على أن يهب بعضه كان الشرط باطلًا، وإن لم يوجب ذلك عليه إلا أنه جعل للعامل ثلثي الربح

على أن يعطي هو امرأته النصف كانت المضاربة جائزة وثلثا الربح للعامل فإن شاء أعطى امرأته، وإن شاء منعها قياسًا على ما قال الشافعي في كتاب الصداق: إذا نكحها على ألفين على أن تعطى إياها ألفًا جاز والألفان لها ولها الخيار في أن تعطى أباها هبة أو تمنعه. مسألة: قال:"ولا يجوز أن يقارضة إلى مدة من المدّدِ". وهذا كما قال: اختلف أصحابنا في معنى هذه المسألة فمنهم من قال: معناه إذا قال: قارضتك إلى سنٍة على أن لا يجوز لواحٍد منهما فسخه والرجوع فيه في أثناء السنة لا يجوز لأن موضوع هذا العقد على أنه جائَّز يفسخ متى شاء، فإذا شرط خلاف موضوعه بطل، ومنهم من قال: معناه إذا قال: قارضتك إلى سنة فإذا مضت السنة لا يجوز لك أن تتصرف فيه بالبيع والشراء فهذا لا يجوز خلافًا لأبي حنيفة وهذا لأنا إذا منعناه من البيع منعناه من حقه من الربح لأن الربح لا يظهر إلا بالبيع ويخالف المساقاة تجوز مع ضرب المدة لأنها بالإجارات أشبه، ولهذا كانت لازمة ولا يجوز مطلقًا بخلاف انقراض ولأن هذا شرط ليس من مصلحة العقد ولا له فيه منفعة فيفسد، ولو قال: قارضتك إلى سنة فإذا انقضت السنة، فإن كان في يدك متاع فبعه، وإن كان في يدك ناض فلا تشتر شيئًا كان جائزًا لأن هذا مقتضى عقد القراض وحكي أبو الطيب الساوي فيما علقه من الزيادات على الشرح عن أبي إسحاق: يبطل القراض ها هنا لأنه عقد عقدًا وشرط حله فهو كما لو تزوجها على أن يطلقها وليس بشيء لما ذكرنا [114/ ب] وإن أراد أن ابتداء العقد يكون بعد مضى شهر لا يجوز لأنه علق العقد بمضي وقٍت. فرع لو قال: خذ هذا المال قراضًا ما أقام العسكر أو إلى قدوم الحاج فإن شرط لزومه في هذه المدة كان باطلًا، وإن شرط فسخه بعدها في الشراء دون البيع فيه وجهان أحدهما: يجوز لأن لهما ذلك كما لو قال: إلى شهر على هذا المعنى، والثاني: لا يجوز لأن لجهالة المدة قسطًا من الغرر وتأثيًرا في الفسخ. الفصل مسألة: قال:" ولا أنْ يشترط أحدهما على صاحبه درهمًا ينفردْ به". الفصل وهذا كما قال: إذا قال: قارضتك في هذا المال على أن ما رزق الله تعالى من الربح يكون لي منه درهم وما بقي يكون بيننا نصفين لم يجز، لأنه يجوز أن يكون جمع الربح درهمًا واحدًا فيؤدي إلى أن ينفرد بالربح، وكذلك لو قال: الدرهم لك والباقي بيننا، ولو قال: الثلث لي والباقي بيننا نصفين جاز لأن الأجزاء معلومة وتقديره الثلثان

لي والثلث لك، ولو شرط رب المال على العامل أن يوليه سلعًا وصفها لا يجوز. والتولية أن تدفع السلعة التي اشتراها إليه بالثمن الذي اشتراها به وهذا لأنه يجوز أن يكون الربح في هذه السلعة فيؤدي إلى انفراده بجمع الربح، ولو قال: قارضتك في هذا المال على أنك إذا اشتريت ما يصلح لكسوتي من العمامة أو الطيلسان أو غير ذلك أعطيتني حتى ألبسه في جدَّته ثم أرده عليك فلا يجوز لأنه يجوز أن يكون فيها من الربح مقدار استعماله ولبسه ليؤدي إلى انفراده بجميع الربح، وكذلك لو شرطا أن يرتفقا معًا لا يجوز أيضًا وصور الشافعي المسألة إذا شرط أحدهما: لأنه أظهر الأحوال، ولو شرط أن لا يشتري إلا من فلانٍ بعينه لا يجوز لأنه يجوز أن لا يبيعه فلان أو يغالبه في الثمن أو تنقطع السلعة عنده فيكون الشرط مانعًا من طلب الربح في مال القراض فلم يصح وبه [115/ أ] قال مالك. وقال أبو حنيفة: يجوز لأنه يجوز في نوٍع خاٍص وكذلك في رجلي خاص وهذا غلط لما ذكرنا، وحكي عن الماسرجسي أنه قال: إن كان هذا الفلان بيعًا يكثر المتاع عنده ويحمل التجار عنه ولا ينقطع المتاع عنده في العادة يجوز لأن الطاهر أنه يتمكن من طلب الربح والفضل فيه ولا أعرف هذا لغيره من أصحابنا، وقال القاضي الطبري: هذا الذي قاله صحيح، ولو شرط أن لا يتجر إلا في سلعة واحدة بعينها كان باطلًا خلافًا لأبي حنيفة وهذا لأن صاحبها ربما لم يبعها، وإذا باعها واشتراها ثم باعها لا يمكنه شراءها منه فلا يمكنه التصرف وطلب الربح من جهته. فرع لو شرط أن يتجر في صنٍف مخصوٍص من المال لا ينقطع في الشتاء والصيف مثل الدقيق والطعام والتمر والثياب جاز لأنه قد يحسن التجارة في هذا الصنف دون غيره، ولو شرط أن يتجر في نوع يوجد في بعض السنة مثل الرطب أو الخيار أو البطيخ ونحو ذلك يجوز وهو اختيار أبي حامد وهو الأصح لأنه عام الوجود في وقته فهو بمنزلة سائر السلع وتعلقه بمدة لا يضر لأنا بينا أن تعليق عقد القراض بمدة جائز إذا لم يكن ممنوعًا من بيع المتاع الحاصل في يده، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز لأن الشافعي اشترط بقاؤه في الصيف والشتاء ولأنه يصير بمنزلة العقد المطلق بمدٍة فلا يجوز وهذا اختبار القفال قال: لا يجوز إلا أن يقول: تتصرف في الرطب في وقته ماذا انقضى وقته تنصرف في كذا فيجوز حينئذ. وقال في "الحاوي": إن قارضه فيه في غير أوانه لم يجز، وإن قارضه في أوانه جاز، ثم إذا انقطع فيه وجهان أحدهما: بطل بانقطاعها، والثاني: بقي على حاله في كل عاٍم أتت فيه تلك الثمرة فيتجر فيها بالعقد الأول.

فرع آخر لو كان القراض في نوع موجود في كل الزمان فانقض في بعض الزمان نقلته أو عزته فالقراض على حاله وجهًا [115/ ب] واحدًا، وكذلك إن انقطع لجائحٍة لأن العقد قد كان ممكن الاستدامة. فرع آخر لو أذن في جنٍس لا يعم وجوده كلحم الصيود ببغداد ونحو ذلك مما يوجد نادرًا فالقرار باطل، وكذلك لو أذن في العود الرطب أو الياقوت الأحمر أو الخيل البلق أو العبيد الخصيان لا يجوز سواء وجده أو لا لأنه كان على غير ثقٍة من وجوده إلا أن يكون في مكان يوجد ذلك فيه غالبًا فيجوز. فرع آخر لو قال: اتجر في البز له أن يتجر في القطن والكتان والإبريسم والصوف الملبوس، ولا يجوز أن يتجر في البسط والفرش، وهل يجوز أن يتجر في الإنبات والأكسية؟ وجهان أحدهما: يجوز لأنها ملبوسة، والثاني: لا يجوز لخروجها عن اسم البز عرفًا ولا يقال لبائعه: بزازًا بل يقال: كسائي. فرع آخر لو أذن له أن يتجر في الطعام اقتصر على الحنطة، وقال محمد: يجوز في الدقيق أيضًا. فرع آخر قال أبو حنيفة: لو قال: خذه على أن تنجر به في الحنطة لم يجز في غيرها، ولو قال: خذه والجر به في الحنطة جاز أن يتجر به في غيرها لأنه مشورة منه وعندنا هما سواء لأنه في الحالين غير آذٍن فيما سوى الحنطة. فرع آخر لو قال: قارضتك على هذا المال لتشتري به نخيلًا أو دواب وتحبس وفاءها وما تحصل من الثمن أو النتاج يكون بيننا نصفين لا يجوز، لأن عقل القراض موضوع على طلب الريح بالتصرف من البيع والشراء والثمرة والنتاج نماءً يحمل من غير التصرف وكان مخالفًا لعقد القرار فلا يجوز، وكذلك لو قال: اشتر عقارًا للأجرة لا يجوز. فرع آخر ل ودفع إليه ألفين مختلطين فقال: اعمل فيهما على أن يكون لي ربح أحد الألفين ولك ربح الألف الآخر فالقراض فاسد، قال أبو ثور: يصح وهو قول أبي حنيفة لأنه لا فرق بين أن يشترط [116/ أ] نصف ربح المال وبين أن يشترط ربح نصف المال وهذا غلط لما ذكرنا أن من شأن القراض أن يشترك رب المال والعامل في ربح جميعه، وقد

شرط ها هنا أن ينفرد كل واحد بربح بعضه كما لو كان الألفان متميزين. فرع آخر: لو أبضع رب المال عامله في مال القراض بضاعة لنفسه يختص بربحها جاز، وقال مالك: لا يجوز، وإن كان من غير شرط لأنه كالمعمول عليه بالشرط وهذا خطأ لأنه تطوع كما لو أبضعه شراء ثوٍب يكتسبه أو طعام يقتاته. فرع آخر إذا كان القراض فاسدًا فتصرف فيه فربح أو خسر فالربح لرب المال والخسران عليه وللعامل أجر مثله لأنه لم يشرع في العسل متبرعًا، ولا فرق بين أن يكون أجر مثله مثل المشروط أو أقل منه أو أكثر لأن الفساد الواقع في أصل العقد يوجب الرجوع إلى المثل قليلًا أو كثيرًا وهذا الربح يطيب لرب المال لأن الفساد وجد في أصل العقد لا في العقود التي باشرها العامل، وقال مالك: إن كان في المال ربح له الأجرة، وإن لم يكن ربح فلا أجرة له وهذا غلط لأن عمل العامل كان في مقابلة المسمى فإذا لم تصح التسمية وجب رد عمله عليه وذلك غير ممكن فيلزم له أجرة المثل كما في الإجارة الفاسدة، وحكي أصحاب مالك عنه أن له قراض المثل يعني يجب له ما تقارض به مثله وهذا غير مشهور. مسألة: قال: "ولو سافر بمال القراض كان له أن يكتري". الفصل وهذا كما قال: إذا تصرف في مال القرار لم يخل من أحد أمرين إما أن يتجر فيه حضرًا أو سفرًا فإن اتجر حضرًا فعليه أن يعمل بنفسه ما جرت العادة أن يعمله رب المال في ماله من شراء الثوب وطيّه وتقليبه على من يشتريه [116/ ب] وعقد البيع وقبض الثمن وشد الكيس وختمه، وما لم لجر عادته به كان أن يستأجر من يعمله كالنّداء على الأمتعة ونقل الأمتعة من مكان إلى مكان لأن ذلك من مصالحه، وما لا بد منه في ثمنه وطلب فضله فإن خالف العادة وعمل بنفسه ما كان له أن يستأجر له فلا أجرة له على عمله فيه، وإن لم يعمل بنفسه ما يلزمه بل استأجر من ينوب عنه فعليه ضمان الأجرة وعلى هذا الذي ذكرنا أجرة الوزّان في مال انقراض فيما يثقل وفيما يخف كالعود والمسك على العامل أن يزنه بنفسه لأن عادة التجار به جارية، وأما نفقته على نفسه من المأكول والمشروب والملموس والمركوب ففي خاص ماله لا في مال القراض، فإن خالف فأنفق منه شيئًا فقد تعدى وعليه الضمان وإن شرط أن تكون هذه المؤن من حصته أو المؤن التي ذكرنا أنها من المال تكون من حصة العامل لا يجوز لجواز أن لا يبقى من الربح إلا بقدر ما يذهب في المؤن. وإن كانت التجارة في السفر

فاعلم أولًا أنه ليس له أن يسافر بالمال بغير إذن رب المال كما قلنا في الوديعة. وقال أبو حنيفة: له أن يسافر به، وقال أبو يوسف: له أن يسافر به إلى حيث لا يلزمه إليه مؤونة وهذا غلط لأن الغالب من السفر الخوف فلا يجوز ذلك، فإن سافر من غير إذنه ضمن، وإن سافر بإذن مالكه فكل ما يعمله رب المال بنفسه في ماله إذا سافر فعليه أن يعمله بنفسه مثل الإشراف على رفع المتاع وجمعه في مكاٍن واحٍد وإحرازه وليس عليه أن يلي الرفع والحط بنفسه ولا نقله من مكاني إلى مكاٍن بل يستأجر من يلي عنه هذا فإن خالف [117/ أ] فالحكم ما ذكرنا في الحضر. وأما نفقته على نفسه من اللباس والمركوب والمأكول والمشروب نقل المزني: وله النفقة بالمعروف، وروى البويطي عن الشافعي أنه قالب وليس للعامل أن يأكل ولا يكتسي من مال القراض في سفر ولا حضر إلا بإذن صاحبه، واختلف أصحابنا فيه قال أبو إسحاق: المذهب ما نقله البويطي أنه ليس له أن ينفق على نفسه من مال المضاربة، ولا نعلم للشافعي في قديم ولا جديد أنه ينفق على نفسه وقوله ها هنا له النفقة بالمعروف أراد به المؤن التي ذكرناها من كراء الجمل والرفع وكراء البيت الذي يحفظ فيه وبه قال أكثر أصحابنا، ومن أصحابنا من قالب فيه قولان: أحدهما: هذا لأنه ربما لم يكن الربح إلا مقدار نفقته فيؤدي إلى الاسترداد بالربح ولأنه استحق نصيبه من الربح بالعمل فلا يستحق شيئًا آخر. والثاني: له أن ينفق على نفسه من مال القراض وبه قال مالك وأبو حنيفة لأنه سافر لأجل هذا المال فوجب أن تكون نفقته منه كما نقول في كراء الجمل والبيت الذي يحفظ فيه المال ونحو ذلك، وهذه الطريقة اختارها أبو حامد وجماعة وهذا ظاهر ما نقل المزني ولا يجوز تأويله بما فكره أبو إسحاق لأن ذلك لا يسمى نفقة بل يسمى كراء، فإذا قلنا: له النفقة اختلف أصحابنا فيها فمنهم من قال: ينفق جميع ما يحتاج إليه من نفقة الحضر والسفر، ومنهم من قال: ينفق ما زاد بالسفر وأما ما يحتاج إليه من نفقة الحضر فلا تأثير للمال فيها فتجب نفقة مركوبه في سفره وملبوسه المختص بالسفر ونحو ذلك وبه قال مالك وأبو حنيفة وهذا أصح. وحكي عن مالك أنه قال: له أن ينفق منه ما جرت العادة بمثله لأهل الأسواق وذلك أن يتغذى ولا يرجع للغذاء إلى بينه ويعطي السقاء قطعة ونحو ذلك ويجوز لم ذلك في الحضر أيضًا وعلى هذا هل يجب أن يجب أن يكون مقدار ما ينفق معلوما مشروطًا [117/ ب] في عقد القراض؟ قولان: أحدهما: يجب أن يكون مقدار ما ينفق معلومًا مشروطًا في عقد القراض لأن تقديرها أدفع للجهالة. قال المزني في "الجامع الكبير": والذي أحفظ أنه لا يجوز القراض إلا على نفقة معلومة في كل يوم وثمن ما يشتريه ليلبسه في عمله. والثاني: لا تتقدر لأنه قال ها هنا: وله النفقة بالمعروف ولم تتقدر، وقال ابن سريج: قدير النفقة ضعيف، وقال أبو إسحاق: تقديرها يتعذر وهو ضعيف جدا لأن

الأسعار تختلف تقل وتكثر والاحتياط للمال أن لا تقدر فإنه إن فضل شيء عن نفقة الرخص استرد به العامل، وقال أبو حامد: لا يلتفت إلى ما حكاه في "الكبير" ولعله خلاف الإجماع وهذا لأنها مؤونة في مال انقراض فلا تتقدر. فرع لا يلزم فيها أجرة الحمام والحجّام ولا ثمن الدواء، وقال أبو حنيفة: له في نفقته أجرة حمامه وحجامه وما احتاج إليه من دوايه وما قرب من شهواته وهذا غلط لأن نفقة الزوجات أكد منها ولا يلزم في مال القراض كذلك هذا، ولأن ذلك لا يختص بسفره ولا بعمله كصداق زوجته. فرع آخر لو أقام في سفره مدة انتظار بقع مال القراض وقبض ثمنه فهو كما لو كان في سفره. فرع آخر إذا أراد المفاصلة فكل ما حصل في يده من آلة السفر والثياب والكسوة مثل الكساء والسفرة ونحو ذلك ردها إلى المال وباعها كلها، وقال القاضي الطبري: رأيت في كتاب "التهذيب" لابن القفال يقول: في رد الكسوة وجهان كما نقول في كسوة المعدة على الزوج إذا انقضت العدة هل يلزم الرد؟ قولان. فرع آخر لو ادعى العامل قدر النفقة وخالفه رب المال فالقول قول العامل إذا كان محتملًا، وفيه وجه آخر القول قول رب المال وهو من اختلاف الوجهين في ادعاء العامل رد المال على ربه. فرع آخر [118/ أ] لو سافر من غير إذنه وتصرف ني ذلك البلد صح تصرفه إذا لم ينتقص ثمن ما بيع لاختلاف أسعار البلدين، فإن انتقل إلى بلد رخص بأقل مما كان في بلده لا يجوز. فرع آخر لو كان معه في السفر ماله مع مال انقراض فإن قلنا: لا ينفق من مال انقراض كانت نفقته من خالص ماله، وإن قلنا: تلزم نفقته من مال القراض أنفق ها هنا من المالين بالحصة، فإن قلنا: تلزم كل النفقة كانت على قدر المالين، وإن قلنا: تلزم قدر الزيادة للسفر يلزم قدر الزيادة على الماليين بالحصة. فرع آخر لو سافر بإذن رب المال فاجتمع رب المال والعامل فوجده وقد نضّ نأخذه رب المال عنه هناك فهل على رب المال نفقة الرجوع إلى البلد للعامل؟ نصَّ في أمالي

حرملة على قولين أحدهما: له مطالبته بها لأنه إنما سافر بإذنه ليذهب ويرجع إلى بلده، والثاني: لا نفقة له لرجوعه لأن عقد القراض قد زال فأشبه إذا مات العامل لا يجب على رب المال دفنه وهذا مبني على ما مبنى فإن قلنا: ينفق لذهابه ينفق لرجوعه أيضًا، وإن قلنا: لا ينفق لذهابه لا ينفق لرجوعه. واعلم أن الشافعي رحمة الله عليه صوَّر جواز استئجار الأجير في حالة السفر دون حالة الإقامة، وقد بينا أنه لا فرق فيما لا يعمل بنفسه في العادة وإنما صوَّر في حالة السفر لأن الحاجة إلى الأعوان أكثر هناك وهي أظهر الحالتين. مسألة: قال: " وإن اشترى وباع بالدَّين فضامن". الفصل وهذا كما قال: إذا اشترى المضارب معيبًا له الرد بالعيب لأن رب المال فوض إليه الاجتهاد وإقامة مقام نفسه وهذا إذا كان الخط في الرد، فإن كان فيها مع العيب فضل وربح ظاهر ليس للعامل أن يرد ولا لرب المال أن يرد أيضًا لأن لكل واحٍد منهما حقًا، فإن اجتمعا على الرد جاز لأن الحق لهما وإن اختلفا في للنظر نظر الحاكم فيما فيه الحظ والنظر وقد بينا في كتاب الوكالة أن له أن يشتري المعيب بخلاف الوكيل وذكرنا [118/ ب] الفرق بينهما. مسألة: قال: "وإنِ اشترى وباع بالدَّين فضامن." الفصل وهذا كما قال: إذا نص رب المال للعامل على صفة للتصرف فقال: بع بثمن مثله وبأقل وبأكثر نقدًا أو نساءً بنقد البلد وبغير نقده كان له ما نص عليه، وإن أطلق فلا يجوز إلا بثمن المثل نقدًا بنقد البلد كما قلنا في الوكيل خلافًا لأبي حنيفة. فرع لو خالف ما ذكرنا لا يخلو إما أن يمنع بدين أو يشتري بدين فإن باع بدين كان باطلًا فإن سلم السلعة إلى للمشتري صار ضامنًا لها، فإن كانت باقية أخذها، وإن كانت تالفة رجع إليه بقيمتها وله تضمين العامل والمشتري واستقرار الضمان على المشتري، وإن اشترى وهو أن يسلم في طعام أو ثياب لا يخلو إما أن يكون بعين مال انقراض أو في الذمة بشرط أن يوفي الثمن من مال انقراض أو في الذمة مطلقًا، فإن كان بعين مال انقراض فالشراء باطل ولا يجوز له تسليمه إليه فإن سلمه استرجعه على ما بيناه، وإن كان في الذمة بشرط أن بوفيه الثمن من مال انقراض فالشراء باطل كما لو عينه، وإن كان في الذمة مطلقة يلزمه الشراء ويوفر الثمن من مال نفسه ولا يقبل قوله أنه كان اشتراها بمال انقراض فان فيه إفساد البيع على البائع وذلك لا يقبل منه، وإن ذكر أنه

يشتريه لرب المال فيه وجهان واختار أبو إسحاق أنه يصح الشراء للعامل لأن الشراء يصح أم يقع له فإذا سمى فيه غيره بغير إذنه بطلت التسمية ووقع له بخلاف البيع لأنه لا يصح أن يقع له، والأقيس أنه يبطل ولا ينقذ على العامل أيضًا لأنه عين الشراء له فلا ينصرف إلى غيره. فرع آخر لو باع بدون ثمن المثل وكان الغبن في العادة عشرة في مائة فباع بخمسين وتلف فإن طالب المشتري يطالبه بكل القيمة، وإن طالب العامل فيه قولان أحدهما: يطالبه بكل القيمة، والثاني: يطالبه بما انحطَّ عما لا يتغابن الناس بمثله وهو التسعون لأنه هو الذي تعدى [119/ أ] فيه ويضمن الباقي للمشتري وقد ذكرنا نظيره في الرهن. فرع آخر لو نهاه عن البيع والشراء بالتقدم لا يلزم العامل لما فيه من التغرير بخلاف الوكيل وصار عقد القراض باطلًا بهذا الشرط. فرع آخر لو قال للعامل: اعمل فيه برأيك لم يجز له أن ينصرف نساء لأن عمله برأيه ينصرف إلى تدبيره واجتهاده في وفور الأرباح والتماس النماء دون المساء نص عليه في "الأم" قال أصحابنا: وكذلك لو قال: اصنع ما شنئت، وافعل ما ترى كان كالمطلق. فرع آخر لا يجوز له مع إذن النَّساء أن يشتري ويبيح سلمًا لأن عقد السلم أكثر غررًا من النَّساء في الأعيان، فإن أذن له في الشراء سلمًا جاز، وإن أذن له في البيع سلمًا لم يجز، والفرق بينهما أن وجود الحظ غالبة في الشراء وعدمه في البيع والمقصود منه طلب الحظ. فرع آخر لو قارضه على ماٍل وأذن له في الشراء بالّنساء لم يكن له أن نشتري شيئًا بأكثر من مال القراض قدرًا لأن ما زاد عليه خارج منه. مسألة: قال: "وهو مُصَدَق في ذهاٍب المالِ مع يمينه". وهذا كما قال: العامل أمين في المال الذي في يده فإن تلف من غير تفريط لا ضمان عليه، وإن ادعى التلف فالقول قوله إذا احتمل وإن لم يحتمل مثل أن يدعي قطع الطريق ولم يعرف في ذلك السفر قطع أو قال: خسرت خمسمائة من جملة الألف في ساعة واحدة بعد قبض المال لا يقبل، وهل يصدق في دعوى رد المال؟ قد ذكرنا فيما مضى والصحيح أنه يقبل لأن معظم المنفعة فيه لرب المال فهو كالوديعة. واعلم أن

الشافعي عطف هذا على ما تقدم فضامن إلا أن يأذن له فإذا صار ضامنًا ثم ادعى التلف لم يكن مصدقًا فنقول: لم يقصد رد العطف إلى هذا الفصل على التخصيص بل رده إلى أصل الكتاب فبَّين أن العامل في الأصل أمين كسائر الأمناء. مسألة: قال: "وإنِ اشترى منْ يعتقٌ على رب المالِ". الفصل وهذا كما قال: إذا اشترى العامل أبا [119/ ب] رب المال لا يخلو من أحد أمرين إما أن يكون اشتراه بعين مال القراض، أو اشتراه في الذمة للقراض، فإن اشتراه بعين مال القراض فالشراء باطل لأنه اشترى ما لم يتناوله إذن رب المال لأنه إنما أذن له في شراء ما يجوز له التصرف فيه وطلب الربح من جهته وهذا لا يمكن في هذا العبد لأنه يعتق على ابنه ويحل ذلك محل ما لو أذن له في صنفي من المال فاشترى غيره بعين مال انقراض كان الشراء باطلًا لأن إذنه لم يتناوله فكذلك ها هنا. وإن اشتراه في الذمة كان الشراء له ولزمه ثمنه من سائر ماله فإن نفذ مال القراض ضمن هذا إذا اشتراه من غير إذن رب المال، فإن اشتراه بإذنه لا يخلو من أحد أمرين إما أن يكون في المال فضل أو لا فضل فيه، فإن لم يكن فيه فضل عتق العبد ونظر فيه فإن لم يستغرق جميع مال انقراض انفسخ انقراض في مقداره وصح في الباقي وإن استغرق جميع مال القراض فإن عقد القراض ينفسخ في الجميع، وإن كان في المال فضل كان العتق من رأس المال ويكون بمنزلة ما لو أخذ يعصى المال كان من رأس المال فإن لم يستغرق جمع رأس المال انفسخ القرار قي مقداره وبقي الباقي صحيحًا والربح يكون بينهما، وإن استغرق مقدار رأس المال انفسخ انقراض واقتسما الربح بينهما، وإن استغرق جمع رأس المال والربح. فإن قلنا: العامل لا يملك شيئًا من الربح فقد عتق العبد لأن جمع المال كان على ملك رب المال وإن قلنا: العامل يملك حصته من الربح، فان كان علم أنه أبوه فاشتراه عتق جميعه عليه لأنه اشتراه لأجله، وإذا اشترى الإنسان بماله لغيره أباه بإذنه عتق عليه كذلك ها هنا، وإن كان لم يعلم بأنه أبوه واشتراه بإذنه يعتق عليه بمقدار ملك رب المال منه وما هو ملك للعامل لا يعتق إلا أن يكون لرب المال مال غيره فنقوّمه عليه ونعتقد بالقيمة، ولو لم يكن في المال ربح ولكنه لما اشترى العبد بالألف كان يساوي ألفين في الحال فالحكم [120/ أ] هكذا. وقال في "الحاوي": هل يكون عقد ابتياعه داخلة في عقد قراضه أم لا؟ فيه وجهان أحدهما: قاله أبو حامد: أنه داخلٌ فيه وإنما خرج منه بعد العنق بحكم الشرع فعلى هذا إن لم يكن في ثمنه فضل لو كان على رقه فلا شيء للعامل فيه، وإن كان فيه

فضل رجع العامل على رب المال بقدر حصته من فضله، والثاني: وهو الصحيح أنه غير داخل في عقد قراضه لخروجه عن حكمه فعلى هذا يكون للعامل في شرائه أجرة مثله سواء كان في ثمنه فضل أو لم يكن لأنه دخل في شرائه على عوني منه فصار كالمشتري فرق بين القرار الفاسد، ولو اشترى العبد المأذون له في التجارة أبا سيده لا يخلو من ثلاثة أحوال إما أن يكون أذن له فيه، أو نهاه، أو أطلق الإذن في التصرف، فإن كان أذن له في شراء أبيه صح الشراء وعتق الأب عليه وإن نهاه عنه فاشتراه لا يصح الشراء قولًا واحدًا، وإن كان قد أطلق له الإذن فيه قولان: أحدهما: يجوز، والثاني: لا يجوز نص عليهما في كتاب الدعوى والبينات ونص ها هنا أنه يجوز قال أبو إسحاق: ولا فرق بين أن يكون الشراء في الذمة أو بعين المال، وجه الأول أن العبد لا يشتري لنفسه وإنما يشتري لسيده فحسب فإذا أطلق الإذن كان إذنًا في جميع ما يصح شراؤه فإذا لم يستثن أباه كان إذنًا في شرائه وشراء غيره ويخالف العامل فإنه يشتري لنفسه ولرب المال لأجل انقراض فلم يحتج رب المال معه إلى استثناء ما يؤدي إلى تلف ماله، فإن اشترت ما يحل له التصرف فيه وإلا كان الشراء لازمًا له والعبد المأذون له في التجارة لا ذمة له ولا يشتري إلا لسيده، فإذا لم يستثن ما يؤدي إلى عتقه عليه كان الإذن المطلق متناولًا له. ووجه القول الثاني وهو الأصح، واختاره المزني أن إذنه تناول شراء ما يحل له التصرف فيه فلا يتناول من يعتق عليه كالعامل في القراض. وقد قال المزني: لأنه لا ذمة له وهو غير مستقيم لأن للعبد ذمة، وإن لم يكن مأذونًا فكيف إذا كان مأذونًا؟ والتعليل [120/ ب] الصحيح ما ذكرنا وهو معنى قول الشافعي لأنه مخالف ولا مال له أي: ليس كعامل القرار يمكن صرف الشراء إليه لأن له مالًا بخلاف المأذون وهذا إذا لم يكن عليه دين، فإن كان عليه دين من جهة التجارة، فإن كان قد نهاه عن شرائه فالشراء باطل، لأنه لو لم يكن عليه دين كان باطلًا فكيف إذا كان عليه دين، وإن كان قد أطلق الإذن؟ فإن قلنا: إذا لم يكن عليه دين لا يصح فإذا كان عليه دين أولى أن لا يصح. وإن قلنا: هناك يصح فهل يصح الشراء ها هنا؟ قولان: أحدهما: يصح ويباع العبد ولا يعتق، والثاني: يبطل الشراء وهذا أحسن قاله أبو إسحاق، وقال ابن أبي هريرة: وجهان: أحدهما: لا يصح، والثاني: يصح ويعتق ويكون دين الغرماء في ذمة السيد فحصل ثلاثة أوجه أحدها: يبطل الشراء، والثاني: يصح الشراء ولا يعتق، والثالث: يصح ويعتق والدين في ذمة السيد وهذا مثل الراهن إذا أعتق المرهون هل ينفذ؟ قولان. وقال أبو حنيفة: إن لم يكن السيد دفع إليه المال بل أذن له بالتجارة صح الشراء وعتق على مولاه، وإن كان دفع إليه مالًا لم يصح الشراء كما في المضاربة وهذا غلط لأنه إذن مطلق في الشراء فلا يتناول من يعتق على الإذن كما لو دفع إليه المال، وإن أبا نفسه لا يخلو إما أن يكون في المال ربح أم لا، فإن لم يكن فيه ربح

صح الشراء وملك رب المال لأن العامل وكيل في الشراء له فصح أن يكون وكيلاً في شراء أبيه له فإن بيع هذا العبد قبل أن يظهر في المال ربح فلا كلام، وإن بقى في يده حتى ظهر فيه ربح فهل يعتق على العامل شيء منه؟ فيه قولان بناءً على وقت ملك العامل حصته وفيه قولان فإن قلنا: يملك بالقسمة فلا يعتق شيء منه عليه، وإن قلنا: يملك بالظهور فهل يعتق عليه قدر حصته منه؟ وجهان أحدهما: لا يعتق لأنه لم يستقر ملكه عليه لأنه وقاية للمال، والثاني: يعتق فعلى هذا ينظر، فإن كان العامل موسرا قوم عليه نصيب رب المال وعتق كله بالثمن الذي اشتراه به لا بقيمته، وان كان معسرا عتق نصيبه واستقر الرق [121/ أ] في نصيب رب المال وانفسخ القراض في ذلك القار لأنه قد تبين نصيب العامل منه هكذا قال أصحابنا. وقال في "الحاوي": انفسخ القراض به في جميع المال بكل حال بخلاف ما لو اشترى أب رب المال بإذنه بطل من القراض بقدر ثمنه، والفرق أن أبا رب المال محسوب عليه من وأس المال فبطل من القراض بقدره ولم يبطل جميع عقده وأب العامل محسوب عليه من ربحه فسواء كانت حصته من الربح بقدر ثمنه أو أكثر يبطله لأن أخذ بعض الربح كأخذ كله في الفسخ, وإن كان في المال ربح فإن قلنا: لا يملك الربح بالظهور وهو الذي نص عليه ها هنا أو قلنا: يملك بالظهور ولا يعتق عليه صح الشراء، وان قلنا: يملك ويعتق عليه فهل يصح الشراء؟ وجهان أحدهما: يصح لأنهما شريكان في المال وأحد الشريكين إذا اشترى من يعتق عليه صح شراؤه، والثاني: لا يصح لأنه يؤدي إلى تنجز حق العامل قبل رب المال ولأنه إذا عتق بعضه نقص قيمته فيستضر به رب المال، فإذا قلنا: الشراء باطل, فإن كان بعين المال بطل، وان ك ن في الأمة وقع الملك له دون رب المال ويعتق, وان قلنا: الشراء صحيح عتق قدر نصيبه منه، فإن كان العامل موسراً قوم عليه ما بقي، وان كان معسراً عتق عليه قدر نصيبه واستقر الرق في نصيب رب المال، واختار المزني أنه لا يعتق على القولين معاً واحتج بأنه لا يملك من الربح شيئا إلا بالقسمة مما ذكرنا في كتاب الزكاة فلا نعيده. فرع إذا كان رب المال في القراض امرأة فاشترى العامل زوجها، فإن كان بإذنها صح الشراء وكان القراض بحاله لأنه لا يعتق عليها وينفسخ نكاحها، وان كان بغير إذنها فالمنصوص في "الإملاء" أن الشراء فاسد لأن الإذن يتناول شراء ما لها فيه حظ ولا حظ لها في شراء زوجها لأنها تستضر به في فسخ النكاح وارتفاع حقها من النفقة والكسوة، فهو كما لو اشترى من يعتق على رب المال، ومن أصحابنا من قال: يصح الشراء وبه قال أبو حنيفة [121/ ب] لأنه اشترى ما يمكنه طلب الربح فيه فإن قلنا: لا

يصح الشراء فالحكم ما ذكرنا إذا اشترى من يعتق على رب المال. مسألة: قال: "ومتى شاءَ ربُّهُ أخذَ مالَهُ قبلَ العملِ وبعدَهُ". وهذا كما قال: عقد القراض عقد جاز غير لازم وأيهما أراد فسخه كان له، فإذا فسخه أحدهما، فإن كان المال ناضاً سلم العامل رأس المال إليه، وإن كان سلعة لم يكن له منع العامل من بيعها لاح فيه ربح أو لم يلح لأنه قد يجد راغبا يزيد في ثمنه اللهم إلا أن يقول رب المال للعامل: أنا أعطيك القيمة بقول المقومين فلا يكون للعامل البيع. وقال في "الحاوي": إذ كان لا يرجو في ثمنه فضلا ولا يأمل ربحاً يمنع من بيعه، وان كان يرجو فضلاً لا يمنعه من بيعه، ولو بذل رب المال له حصته من ربحه ومنعه من بيعه فهل له بيعه؟ وجهاك مخرجان من قوله في السيد إذا بذل قيمة العبد الجاني وامتنع من بيع العبد ولا يفي بالأرش هل له ذلك أم لا؟ وهذا لأنه ربما يزيد راغب في ثمنه فيكون البيع أوفق له من القويم، ولو دعاه رب المال إلى البيع وامتنع، فإذ كان امتناعه لغيره ترك لحقه منه أجبر على بيعه لتنقطع علقته منه، وإن كان امتناعه تركا لحقه منه فيه وجهاك أحدهما: لا يجبر ملى بيعه لأن ذلك يلزم لحقيهما وها هنا يبطل أن يكوك حقاً لهما، والثاني: يجبر على بيعه وهو الأصح لأن رد أمل المال مستحق عليه كما أخذه. فرع لو كان المال ديناً مثل إن كان رب المال أذن له بالبيع ناء فإن على العامل الاقتضاء سواء كان في المال ربح أو لا ربح فيه, وقال أبو حنيفة: إن كان في المال وبح كان عليه أن يقتضيه، فإن لم يكن فيه ربح لا يلزمه ذلك وهذا غلط لأن ذلك مقتضاه رد رأس المال على صفته والدين لا يجري مجرى العين فهو كما لو كان عرضاً يلزمه بيعه. فرع آخر إذا ادعى العامل ظهور الربح في المال وطالبه بالقسمة لم يجبر المالك عليها ما لم [122/ أ] يعترف بظهور الربح أو يتحاسبا فيظهر لهما الربح, ولا يلزم رب المال أن يحاسبه إلا بعد حضور المال لأنه قد لا يصدق فيما يجبر به من وفوره أو سلامته, فإذا حضر المال تحاسبا فإن ظهر ربح تقاسما. فرع آخر لو رضي رب المال والعامل بالمحاسبة عليه مع غيبة المال عنهما ففي جوازه وجهان أحدهما: يجوز لأنه احتياط لهما تركه. والثاني: لا يجوز وقيل: إن الشافعي نص عليه

في موضعٍ من كتابه لأنهما يتحاسبان على جهالة فلا يجوز. فرع آخر إذا أراد العامل بيعه يلزمه بيعه في الحال وليس له إمساكه إلى وقت نفاقه، وقال مالك: إن كان بمكة أو ببلد بها موسم له أن يؤخر بيعه إلى وقت الموسم وهذا غلط لأن حقه معجل فلا يجبر على تأخيره. فرع آخر لو تركه العامل إلى رب المال ولا ربح فيه فارتفع السوق وباعه رب المال بربح هل للعامل طلب نصيبه من الربح؟ ظاهر المذهب أنه ليس له ذلك، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان أحدهما: ليس له ذلك لأنه ترك حقه وإنما ظهر الربح بعده بفعل رب المال وهو البيع، والثاني: له ذلك لأنه ترك حقاً لم يكن حاصلا ثم ظهر وسبب ظهوره شراء العامل فحقه ثابت وعفوه غير نافذ. فرع آخر إذا طلب رب المال أو العامل قسمة الربح مع بقاء عقد القراض وامتنع الآخر لم يجبر عليه لأن لكل واحد منهما غرضا صحيحاً في الامتناع منه لأن رب المال يقول: الربح وقاية لمالي والعامل يقول: لا آمن أن أخر فأحتاج إلى رد ما أخذته، فإن اتفقا على القسمة جاز, فإن خسر بعد ذلك كان على العامل أقل الأمرين من نصف الخسران أو جميع ما أخذه من الربح لأن الربح والخسران حصلا في عقد واحد فجبر أحدهما بالآخر. مسألة: قال: "فإنْ ماتَ ربُّ المالِ صار لوارثِه". الفصل وهذا كما قال: جملته أن القراض يبطل بموت أحد المتقارضين [(122) / ب] بلا خلاف لأنه عقد جائز فيبطل بالموت كالشركة، ثم لا يخلو إما أن يموت رب المال أو العامل، فإن مات رب المال انفخ وقام وارثه مقامه في المال لأن الملك انتقل إليه، ثم لا يخلو إما أن يختار هو والعامل أن يقيما على الفخ الذي حصل بالموت أو اختار تجديد القراض فإن اختار المقام على ذلك فالحكم فيه كما لو انفسخ بالفسخ، فإن كان المال ناضاً ولم يكن العامل تصرف فيه فهو رأس المال نفسه, وإن كان تصرف فيه فإن حصل ربح فبينهما وان لم يحصل ربح فالكل لرب المال، وان كان عرضاً فللعامل بيعه فإذا باع، فإن لم يكن فيه ربح فهو لرب المال, وان كان ربح فهو بينهما، وان اختار ابتداء القراض نظر، فإن كان المال ناضاً صح لأنه إن لم يكن ربح فهو تقارض على مال له مفرز, وان كان ربح فإنه يقارض على رأس المال ونصيبه من الربح

فيكون قراضاً على المشاع ويجوز ذلك عندنا، وان كان المال عرضا اختلف أصحابنا فيه قال أبو إسحاق: يجوز لأنه إنما لا يجوز ابتداء القراض على العروض وهذا ليس بابتداءٍ بل هو بناء على أمل القراض الذي عقده رب المال في هذا المال فجاز ذلك ويؤكده أن ملك الوارث في أحكامه مبني على ملك المورث في القديم وفي بعض كتبه الجديد حتى استجاز بناء حول الوارث في الزكاة على حول المورث، فجاز تقرير القراض ها هنا من غير أن يصير المال ناضاً. قال القاضي الطبري: وهذا ظاهر مذهب الشافعي، وقال سائر أصحابنا: وهو اختيار ابن أبي هريرة وأبي حامد وهو القياس لا يجوز ذلك لأن القراض الأول بطل بالموت وهذا ابتداء قراض ثان فلا يجوز بالعرض وما قاله أبو إسحاق ينكسر بما لو دفع مالأ قراضاً فعمل فيه العامل وحصل المال عروضاً ثم تفاسخا القراض ثم أرادا أن يعقدا معه القراض لا يجوز، [(123) / أ] وان كان مبنياً على ما سبق وقول الشافعي: إن رضي ترك العامل على قراضه أراد إذا كان المال ناضاً، وإن مات العامل انفسخ أيضا ثم إن اختار المالك ووارث العامل ابتداء القراض، فإن كان ناضاً جاز، وان كان عرفا لم يجز بلا خلاف بين أصحابنا بالعراق، والفرق ما ذكره أبو إسحاق وذلك أن وارث رب المال قد ورث المال وخلفه فيه فكان إقراره إياه على المال بمنزلة الاستدامة فجاز على العرض وليس كذلك وارث العامل لأنه لا يرث شيئا فلم يجز أن يقر عليه إلا على الوجه الذي يجوز الابتداء وهو أن يكون ناضاً. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا جعل الشافعي أحكام الوارث مبنية على أحكام المورث يحتمل أن يقال: يجوز تقرير القراض بين الوارثين بعد موت المتقارضين من غير أن يصير المال ناضاً ذكره الإمام أبو محمد الجويني وهذا غريب, وقال أيضا: قال الشافعي: إذا مات المال فإن رضي ترك المقارض على قراضه وإلا فقد انفسخ قراضه، وظاهره أنه لو أواد وارث المال تقرير العامل على ذلك القراض من غير استئناف عقد كان له ذلك, ثم قال: إذا مات العامل لم يكن لوارثه أن يعمل مكانه فظاهره أنه لا يجوز تقريره على القراض بالعقد الأول، ومعلوم أن القراض من الجانبين عقد جائز فالواجب التسوية بين الموتتين، فإن قلنا في رب المال: إذا مات لا يجب الاستئناف ففي العامل يجب أن نقول مثل ذلك وان قلنا في العامل لا يجوز إلا الاستئناف ففي المالك كذلك فمن أصحابنا من يتأول آخر كلامه على موافقة أوله فنقول: معنى قوله: لم يكن لوارثه أن يعمل إذا لم يرض بعمله رب المال فإن رضي كان له أن يعمل كما قال في موت الملك ووارثه، ومن أصحابنا من يفصل بين الموتتين على ظاهر النصين [(123) / ب] فقال: يجوز لوارث رب المال تقرير القراض نازلاً في ذلك منزلة أبيه لأن أصل الملك في هذا الجانب فيخلف الوارث مورثه في حق الملك وليس من جانب العامل أصل الملك فافترقا، وأصحابنا بالعراق قالوا: يفتقر إلى تجديد العقا في كلا الموضعين وهو الصحيح، وقال القفال: تقرير المالك الوارث استئناف عقد، وان كان بلفظ التقرير ويجوز ذلك.

فرع إذا مات رب المال فأذن الورثة للعامل بالمقام على القراض وهم يجهلون قدر المال فيه وجهان مخرجان الأول: لا يجوز لأنه معقود بمال مجهول، والثاني: يجوز لأنه مبتدئ بعقد صحيح ولو مات العامل فأذن رب المال لوارثه بالمقام على القراض وكانا جاهلين بقدر المال لم يجز وجهاً واحداً، والفرق أن المقصود في القراض المال من جهة ربه والعمل من جهة العامل فإذا مات رب المال كان المقصود من الأمرين باقياً فجاز استصحاب العقد المتقدم لبقاء مقصوديه ولم يبطل لحدوث الجهالة فيه وفي موت العامل فقد أحد المقصودين فلا يمكن استصحاب العقد المتقدم فبطل بحدوث الجهالة فيه. فرع آخر قد ذكرنا أنه إذا مات رب المال والمال عروض عند موته يجوز للعامل بيعه من غير إذن الورثة، وإن مات العامل لا يجوز لوارثه أن يبيع العروض قولا واحداً، والفرق أن رب المال رضي بتصرف العامل فثبت ذلك في حق وارثه ولم يرض بتصرف ورثة العامل ولم يأتمنهم على ذلك فلا يجوز لهم أن يتصرفوا فعلى هذا لا يبيع وارث العامل حتى يأذن رب المال به أو يرفعه إلى الحاكم ليأمر ببيعه، وقال بعض أصحابنا: لا فرق بينهما وليس للعامل أن يبيع أيضا بعد موت رب المال ولا يلزم وارث رب المال أن يمكنه من الانفراد [24/ أ] ببيعه ولا يلزم حكم أمانة مورثه، ولهذا لو كان لمورثه وديعة ولم يعلمه المودع فمن، وان كان المالك رضي بأمانته فعلى هذا للوارث أن يمكنه من البيع ويمنعه من قبض الثمن أو يسأل الحاكم أن يأمر من بيعه لأن غرضه تحصيل ربح إن كان فيه دون استحقاقه البيع وهذا حسن. فرع آخر لو كان الوارث صغيراً وبطل القراض بموت مورثه يرفع الأمر إلى القاضي حتى يقيم قيَماً للصبي يقاسمه، وكذلك إن كان الوارث بالغاً ولكن على الميت دين أو وصية لا يترك العامل على القراض الأول بل يقاسم حتى يقضي الدين وينفذ الوصية. فرع آخر لو كان الميت رب المال ولم يجدد القراض تباع جميع الأعيان للمقاسمة من ثياب أو أداة سفرٍ وغير ذلك مما قل أو كثر، وقال مالك: لا يباع الميزان والسفرة والكيل ونحو ذلك وهما للمالك دون العامل وبني ذلك على عادة الناس وهذا غلط لأنها مشتراة بمال القراض فيباع كغير ذلك. مسألة: قال: "وإن قارضَ العاملُ بالمالِ آخرَ بغيرِ إذنِ صاحبه".

الفصل وهذا كما قال: إذا قارض العامل بمال القراض رجلاً آخر لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون بإذنه أو بغير إذنه، فإن كان بإذنه كأن رب المال قال له: قارضتك بهذا المال ولك أن تقارض إنساناً آخر فهذا بمنزلة الوكيل فالقراض الثاني صحيح إن لم يشترط لنفسه جزءً من الربح لأن مقتضى القراض أن لا يستحق الربح إلا بالمال أو العمل والعامل الأول لا مال له ولا عمل فلا يجوز له شرط الربح لنفسه, فإن عمل الثاني بعدما شرط العامل الأول لنفسه ربحاً وحصل ربح فكله لرب المال وللعامل أجر مثله، هران كان من غير إذن رب المال فالقراض الثاني فاسد لأن رب المال رضي باجتهاد العامل الأول ولم يرض باجتهاد العامل الثاني ويصير الأول ضامناً بدفعه إلى الثاني ثم إن عمل الثاني ينظر، فإن لم يحصل ربح أخذه رب المال وان حصل ربح فهو [(124) / ب] مبني على مسألة وهي أن الغاصب إذا اتجر في المال المغصوب أو المودع تصرف من غير إذن المودع وربح لمن يكون الربح؟ فيه قولان: قال في القديم: يكون الربح لرب المال, وقال في الجديد: ينظر، فإن كان ابتاعه بعين المال كان باطلاً, وإن ابتاعه في الذمة ونقد الثمن من الغصب أو الوديعة فالثراء صحيح والربح له وعليه ضمان الأصل لصاحبه، فإذا قلنا بقوله القديم وهو قول مالك فوجهه أنا لو جعلنا ذلك للغاصب لأدى إلى خفر الأمانات وتسليط الظلمة والغاصبين على المال فعلى هذا نقل المزني عن الشافعي أنه قال: لصاحب المال شطر الربح ثم يكون للذي عمل شطره مما يبقى قال أبو إسحاق: هذا صواب ويكون الربح بين رب المال وبين العامل الأول لأنه وإن تعدى في المال فلم يسقط الشرط الذي بينهما في الربح كما لو سافر بالمال وربح كان الشرط باقياً، وان كان في المال متعدياً وإذا أذن له في السفر في البر فسافر في البحر كان ضامناً للمال والشرط باق ثم النصف الذي للعامل بينه وبين العامل الثاني نصفين لأن الثاني دخل مع الأول على أن ما رزق الله تعالى من ربح كان بينهما والذي رزق الله تعالى هذا النصف والنصف الذي أخذه رب المال في حكم التآلف وكأنه لا ربح إلا هذا فكان بينهما. ومن أصحابنا من غلط المزني في النقل وقال: يجب أن يكون للعامل الثاني على الأول نصف أجرة مثله مع ربع الربح لأنه دخل على أن يحصل له نصف الربح فإذا حصل له وبعد وجع بنصف أجرة مثله، ألا ترى أن القراض لو كان فاسداً ولم يحصل له من الربح شيء رجع بجميع أجرة المثل. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن كان اللفظ على أن ما رزق الله تعالى بيننا نصفين فكما ذكر المزني، وان قال: على أن الربح بيننا نصفين فهل يستحق مع ربع الربح نصف أجرة مثله؟ وجهان أحدهما: لا يستحق لأن لفظهما ما تناول إلا ما يصيبهما من الربح فذلك بينهما، والثاني: يستحق على ما ذكرنا [(125) / أ] وإذا قلنا بقوله الجديد وهو الصحيح فوجهه أنه إذا اشترى في ذمته فقد ملكه وإذا نقد الثمن من المغصوب لا

تبرأ ذمته وما دفعه مضمون عليه فلا يمنع ذلك من حصول الملك والربح له، وأما ما ذكره القائل الأول لا يصح لأن ذلك لا يوجب تغيير حكم البيع ويكفي في ذلك الإثم والمنع من الاغتصاب من جهة الإمام والمسلمين فعلى هذا قال المزني: إن كان اشترى بعين المال فالشراء باطل، وإن كان في الذمة فالشراء جائز والربح والخسران للمقارض الأول وعليه الضمان وللعامل الثاني أجر مثله في قياس قوله. واختلف أصحابنا في هذا أيضاً فمنهم من مترب المزني وقال: إن الثاني اشترى للأول فالملك وقع له والربح حصل في ملكه فكان الربح له، وللثاني أجرة المثل فيما عمله ويفارق الغاصب لأنه اشترى لنفسه فكان الربح له، ومن أصحابنا من خطأه فيه وقال: يجب أن يكون رأس المال لرب المال والربح كله للعامل الثاني ولا شي، ~مل الأول من الربح لأن الربح إذا كان للغاصب الذي يتصرف في المال ويعمل فيه على قوله الجديد يجب أن يكون ها هنا للعامل الثاني لأنه هو الذي تصرف في المال وهو ضامنه والأول أصح. ومن أصحابنا من قال: اعترض المزني في جوابه في القديم وقال: هذا قول قديم يعني وقف العقود فإن الشافعي جوّز وقف العقود في هذه المسألة حيث قال: لرب المال أن يأخذ شطر الربح، وان كان العامل الثاني تصرف بغير إذن رب المال فمن أصحابنا من سلَّم المزني ما ادعى أن هذا جواب على القول القديم. ومن أصحابنا من لم يسلم ذلك وقال: هذا قول جديد في وقف العقود والشافعي يجوز في الجديد الوقف لا سيما إذا كان فيه مصلحة أموال الناس وها هنا مصلحة لأنه ربما يدفع مالأ إلى رجل للتصرف على جهة القراض فيذهب العامل ويشتري ما شاء الله أن يشتري وينوي في عقوده صرفها إلى نفسه [(25) / ب] ثم يؤدي الأثمان من المال الذي في يده لولا ذلك المال لامتنع الناس من معاملته، فإذا استفاد الأرباح الكثيرة بسبب ذلك المال رجع بأصل المال بعد عشرين سنة إلى صاحبه ويقول: ما اشتريت بعين المال شيئاً ولا بنية القراض، وإنما كنت أشتري لنفي وهذا مالك فخذه ولا شيء لك في الربح وقد يغصب المال ويفعل هكذا فقلنا: في مثل هذا الموضع رب المال بالخيار إن شاء أجاز تلك العقود واستفاد أرباحها وان شاء لم يجزها واقتصر على أصل ماله فأخذه، وكذلك ما عقا العامل بعين المال من العقود وقد مال ابن سريج إلى هذا القول مراعاة للمصلحة، وأما ضمان المال يجب عليهما ولرب المال أن يطالبهما به فإن طالب الأول لم يرجع الأول على الثاني، وان طالب الثاني رجع على الأول لأنه غره وقيل: في الرجوع قولان. وقال أكثر أصحابنا بالعراق: لا يعرف وقف العقود عند الشافعي لا في القديم ولا في الجديد ولا يصح بناء هذه المسألة على هذا لأن البيع الموقوف أن يبيع مال غيره وها هنا إذا اشترى في ذمته فلنفسه اشترى فكيف يقف على إذن غيره؟ وقيل: حصل في هذه المسألة خمسة أوجه: أحدها: أن كل الربح لرب المال ولا شيء فيه للعاملين وبه

قال ابن سريج على قوله القديم: الربح للمغصوب منه, والثاني: نصف الربح لرب المال والنصف الآخر للعامل الأول وللعامل الثاني على العامل الأجرة مثله وبه قال أبو إسحاق على قوله في القديم وهذا أقيس, والثالث: نصف الربح لرب المال والنصف الباقي بين العاملين وبه قال ابن أبي هريرة على قوله في القديم وهذا ضعيف لأن المضاربة فاسدة والشرط لا يثبت في الفاسد, والرابع: الربح كله للعامل الثاني وهذا مذهب محكي على قوله في الجديد, والخامس: الربح كله للعامل الأول ويرجع العامل الثاني على العامل بأجرة مثله وبه قال ابن أبي هريرة على قوله في [(126) / أ] الجديد وهو اختيار أبي حامد ووجه أن العامل الثاني إنما يصح تصرفه في الذمة وما اشتراه في الذمة بنية الشراء للعامل الأول يقع للأول فيكون الربح له لأنه اشتراه بإذنه وباعه بإذنه ويفارق الغاصب لأنه اشتراه لنفسه. فرع لو قال له رب المال: اعمل فيه برأيك جاز إذ يدفع منه قراضاً إلى غيره، وعند أبي حنيفة وعندنا لا يجوز له ذلك لأن هذا يقتضي أن يكون عمله فيه موكولاً إلى رأيه وإذا قارض به كان العمل لغيره. فرع آخر لو أذن له في مقارضة غيره ولم يأذن له في العمل بنفسه فهذا وكيل في عقد القراض مع غيره وينظر, فإن كان عين من يقارضه لم يجز أن يعدل عنه إلى غيره، وان لم يعين اجتهد فيمن يراه أهلاً له من ذوي الأمانة والخبرة, فإن قارض أميناً غير خبير بالتجارة لم يجز، وكذلك على العكس لو قارض خبيراً بالتجارة غير أمين لم يجز حتى يجتمع الشرطان الخبرة والأمانة فإن عدل إلى مقارضة نفسه فضمن وجميع الربح لرب المال قولاً واحداً, وإن قلنا: الربح للغاصب في أحد القولين لأنه صار بمقارضة نفسه مشترياً لرب المال ولا أجرة له لأنه متطوع بالعمل. فرع آخر لو عيَّن من يقارضه فعدل إلى مقارضة غير من عينه رب المال ضمن هو والعامل وكل ربحه لرب المال لأنه اشتراه له ولا أجرة له على رب المال وهل يرجع بأجرته على الوكيل الغارّ؟ وجهان مخرجان من اختلاف قوليه في الزوج المغرور هل يرجع بالمهر الذي غرمه على الغار. فرع آخر لو تعدى العامل من غير هذا الوجه الذي ذكرنا, فإن كان لصرف مال القراض في ثمن ما لم يؤمر به ضمن وبطل معه من القراض, وهو كما لو قارض غيره بالمال متعدياً, وإن كان تعديه لتغريره بالمال مثل إن سافر من غير أمره, فإن كان فعل ذلك مع بقاء عين المال بيده ضمنه وبطل القراض [(126) / ب] بتعديه لأنه صار مع تعديه في عين

باب

المال غاصباً، وان كان قد فعل ذلك مع انتقال عين المال إلى عروض مأذونٍ فيها ضمنها بالتعدي ولم يبطل به القراض لاستقراره بالتصرف والشراء ذكره في "الحاوي". مسألة: قال: "ولو حالَ الحولُ على سلعةٍ في مالِ القراضِ". الفصل وهذا كما قال: قد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الزكاة واختار المزني أنه لا يملك العامل الربح إلا بالقسمة واحتج بأن الشافعي قال: لو اشترى العامل أباه لا يعتق عليه ولا فائدة في هذه الحجة لأن الشافعي أجاب به على أحد القولين، ثم احتج بما احتج الشافعي لهذا القول فقال: لو كان له ربح قبل دفع المال إلى ربه لكان به شريكاً، ولو خسر حتى لا يبقى إلا قدر رأس المال كان فيما بقي شريكاً لأن من ملك شيئاً زائداً ملكه ناقصاً وهذا مقابل بأنه يملك العامل مطالبة رب المال بالقسمة وتسليم حصته من الربح إليه فدل على أنه ملكه وهذا أصح. فرع لو سقاه النخل اختلف أصحابنا في زكاة الثمرة على طريقتين إحديهما فيه قولان كما في القراض لأن في كل واحد منهما من أحد الجانبين مال ومن الجانب الأخر عمل. والثانية تجب الزكاة عليهما في المساقاة قولاً واحداً، والفرق أنه استقر ملكه على الثمرة حتى لو بقي منها ثمرة واحدة كانت مشتركة بينهما وفي القراض الربح وقاية لرأس المال ولم يستقر عليه ملك العامل فافترقا والله أعلم. باب قال المزني: وهذه مسائل تحريت فيها مذهب الشافعي من ذلك قال: ولو دفع إليه ألف درهم فقال: خذه فاشتر بها هروياً أو مروياً. الفصل وهذا كما قال: إذا دفع إليه ألفا قراضاً وقال: اشتر به هروياً أو مروياً بالنصف أجمع أصحابنا على فساده كما قال المزني: واختلف أصحابنا في تعليله فقال ابن أبي هريرة: إنما فسد لأنه لم يبين أي الجنسين يشتري بل قال: هروياً أو مروياً [(127) / أ] ولم يعّين فلم يصح وهو معنى قوله: لأنه لم يبين، حتى لو خيره بين الهروي والمروي تفويضا إلى اجتهاده صح, وإن لم يتلفظ بلفظ القراض ولا بلفظ المضاربة، وقال أبو إسحاق: فسد لوجهين أحدهما: أنه قال: بالنصف ولم يبين بكون النصف لرب المال فيكون فاسداً لأنه لم يبين ما يستحقه العامل أو بكون النصف للعامل فيكون صحيحا ويكون الربح بينهما نصفين، فلما لم يبين ذلك فد، وقوله: هروياً أو مرويا تنويع الحال لا شمك، والثاني: أنه قال: اشتر ولم يأذن له في البيع والقراض يقتضي أن

يملك العامل الشراء والبيع جميعاً بأن يقول: خذه قراضاً أو ينص عليه فيقول: خذه وبع واشتر، ومن أصحابنا من قال: فد لأنه شرط التجارة فيما لا يعم وجوده وهذا ليس بشيء لأن الهروي والمروي يعم وجود كل واحد منهما، ومن أصحابنا من قال: فسد لأنه لم يتلفظ بلفظ موضوع لهذا العقد واقتصر على قوله: خذه ولفظ الأخذ لفظ صالح لمعانٍ مختلفة ومعنى قول المزني: لأنه لم يبين أي لم يبين جهة الدفع، فإذا تقرر هذا قال: فإن اشترى فجائز وله أجر مثله وإنما جاز الشراء لأنه مأذون فيه، وان لم يصح القراض وإنما وجب أجر المثل لأنه لم يتبرع بالعمل, ولو باع فباطل لأن البيع بغير أمره إذا لم ينزله منزلة عامل القراض بل نزلناه منزلة الموكل بالشراء وليس في لفظه أمر بالبيع وهذا يدل على صحة العلة الثانية التي ذكرها أبو إسحاق. مسألة: قال: "فإن قال: خذها قراضاً أو مضاربة على ما شرط فلان من الربح لفلانٍ". الفصل وهذا كما قال: إذا دفع دراهم أو دنانير إلى رجل وقال: خذها قراضاً على ما شرط فلان لفلان وهما عالمان بذلك الشرط كان ذلك القراض جائزاً, لأن الشرط المعلوم لهما قام مقام شرطهما بينهما، ألا ترى أن رجلاً لو قال لرجل: بعتك هذا العبد بما باع به فلان عبده من فلان وكانا عالمين بأنه باعه منه [(127) / ب] بألفٍ جاز وانعقد بألفٍ كذلك ها هنا، ولو كانا جاهلين أو أحدهما بما شرط فلان لغلان كان باطلاً، ولو كانا عند العقد جاهلين ثم علما لم ينفع العلم الحاصل بعد العقد. مسألة: قال: "ولو قالَ: خُذْهَا على أن يكونَ لكَ ثلثُ الربحِ وما بقي فلي منه الثلث ولك الثلثان فجائزٌ". الفصل وهذا كما قال: شرط صحة القراض أن تكون أجزاء الربح معلومة لهما فإذا قال: قارضتك على هذا الألف على أن ثلث ربحه للعامل وما بقي من الربح فثلثه لرب المال وثلثاه للعامل جاز لأن الأجزاء معلومة وحصته من تسعة أسهم ثلثها ثلاثة وتبقى ستة فيكون ثلثها سهمين وثلثاها أربعة فيكون لرب المال سهمان من تسعة وللعامل سبعة وصار في التقدير كأنه شرط للعامل سبعة أتساع الربح والباقي لرب المال. فرع لو قال: خذ هذا المال قراضاً ولم يزده حكي ابن سريج أنه قال: يجوز ويكون الربح بينهما نصفين لأن هذا هو الغالب من أحوال القراض فحكم إطلاقه يحمل عليه

وهذا غلط لأنه لو جاز هذا لجاز إطلاق البيع من غير ذكر الثمن ويحمل على الثمن المثل وهو القيمة. فرع آخر لو قال: قارضتك على أن نصف الربح لي لم يجز القراض لأن العامل لا يستحق الربح إلا بالشرط، فإذا لم يشترط له شيئاً لم يصح، ومن أصحابنا من قال: يصح لأن قوله: قارضتنى اقتضى أن يكون الربح بينهما نصفين، فإذا قطع النصف لنفسه كان الباقي للعامل والمذهب الأول. فرع آخر لو قال: قارضتك على أن لك نصف الربح جاز لأن رب المال يستحق الباقي من غير شرط، ومن أصحابنا من قال: لا يصح ها هنا أيضاً لأنه سكت عن الشرط لأن المتقارضين فلم يجز كما لو سكت عن الشرط للعامل والمذهب الأول والفرق بينهما ظاهر, وذلك أن رب المال يستحق الربح بماله لأنه نماء المال والعامل يستحقه بالعمل فإذا قار له نصيباً كان الباقي تابعاً للمال ولهذا [(128) / أ] قلنا: شركة العنان لا تحتاج إلى تقدير الربح بينهما لأنه تابع لماليهما. فرع آخر لو قال: على أن لك النصف ولي السدس صح على هذا القول الصحيح لأن الثلث الباقي له من غير شرط. فرع آخر لو قال: قارضتك على أن ما سهل الله تعالى من ربح كان بيننا قال ابن سريج: يصح ويكون بينهما نصفين لأنه قوله: بيننا يوجب الاشتراك والتسوية، ومن أصحابنا من قال: لا يصح لأن قوله: بيننا يحتمل بيننا نصفين ويحتمل ثلثاً وثلثين فما شرطه له من الربح مجهول فلا يصح والمذهب الأول وهو اختيار أبي حامد لأنه لما سوى في الإضافة كان بينهما نصفين كما لو قال: هذه الدار لزيد ولعمرو اقتضى أن يكون بينهما نصفين. فرع آخر لو قال: قارضتك على هذا المال بالنصف أو الثلث والثلثين قال ابن سريج: يصح ويكون المسمى من الربح راجعاً إلى العامل لأن الربح كله لرب المال والعامل إنما استحق منه سهما بالشرط، فإذا شرط انصرف الشرط إلى ما يفتقر إلى الشرط وهو نصيب العامل دون ما لا يفتقر إلى الشرط، وفيه وجه أخر لا يصح على ما ذكرنا. فرع آخر لو اختلفا في هذه المسألة فقال العامل: شرطته لي فالعقد صحيح، وقال رب المال: بل شرطت لنفسي قال ابن سريج: القول قول العامل لأن الظاهر معه على ما بيناه.

فرع آخر لو قال: خذ هذا المال فاشتر به وبع لم يزد عليه فلا خلافه أنه لا يكون قراضاً صحيحا، وهل يكون قراضاً فاسداً أو معونةً؟ وجهان أحدهما: أنه استعانة بعمله فهو كما لو قال: اشتر وبع على أن يكون كل الربح لي فعلى هذا لا أجرة للعامل، والثاني: أنه قراض فاسد لأنه الأغلب من حال أمره فعلى هذا يكون للعامل أجر مثله حصل فيه ربح أو لا. فرع آخر لو قال: خذ هذا الألف قراضاً ولك ربح نصفه لم يجز خلافاً لأبي حنيفة وأبي ثور، ولو قال: ولك نصف [(128) / ب] ربحه جاز والفرق ظاهر وهو أن هناك يصير منفردا بربح أحد النصفين من غير أن يكون لرب المال فيه حق، وعاملاً في النصف الأخر من غير أن يكون له فيه حق وهذا ليس من حكم القراض. فرع آخر لو قال: خذ هذا المال واعمل فيه على أن ما سهل الله تعالى من الربح كان بيننا نصفين يصح ويكون قراضاً, وان لم يتلفظ به لأنه ذكر ما يقتضيه القراض من العمل والاشتراك في الربح فهو كما لو قال: ملكتك هذا المال بكذا صح ويكون بيعا وإن لم يتلفظ بلفظ البيع. فرع آخر لو قال: قارضتك على هذا المال على أن تعمل فيه نما رزق الله تعالى من ربح فهو لك كان هذا قرضاً فاسدا لأنه شرط شرطاً ينافي مقتضى عقد القراض فأبطله. فرع آخر لو قال: قارضتك على هذا المال على أن الربح كله لي كان قراضاً فاسدا أيضاً، وهل يستحق العامل أجر المثل؟ وجهان أحدهما: قاله المزني: لا أجرة له لأنه متطوع بعمله، والثاني: قاله ابن سريج: له الأجرة لأنه عمل في قراضٍ فاسدٍ فهو كما لو نكح بلا مهر، وقال أبو حنيفة: يكون بضاعة والربح كله لرب المال ولا أجرة للعامل. فرع آخر لو قال: خذ هذا المال على أن الربح كله لك ولم يقل قراضاً فهو قرضٍ صحيح، وقال في "الحاوي": فيه وجهان أحدهما: يكون قرضاً، والثاني: يكون قراضاً فاسداً لأن القرض غير منطوق به. فرع آخر لو قال: خذ هذا المال واعمل فيه على أن يكون الربح كله لي فهو بضاعة، ومعنى البضاعة أن يعطيه مالا يتجر به له لا بعوضٍ استعانةً به فيكون كل الربح لرب المال ولا

أجرة للعامل لأنه لم يتلفظ بلفظ القراض ولا بمعناه، وذكر معنى البضاعة فيصير بضاعة قال ابن سريج: والأصل في هذه المسائل على قول الشافعي أن كل لفظةٍ موضوعة [129/ أ] لعقدٍ, فإذا وصل بها ما ينافيها بطلت، ألا ترى لو قال: بعتك بلا ثمنٍ وأجرتك بلا أجرةٍ لم يصح وكل لفظة تحتمل عقدين تميز بالصلة فإذا قال: ملَّكتك بالثمن كان بيعاً، ولو قال: بلا عوضٍ كان هبة لأن لفظ التمليك يحتمل البيع والهبة وإذا قال: ملكتك منافع هذه الدار شهراً بعشرةٍ كان إجارة، ولو قال: بلا أجرة كان عارية كذلك ها هنا إذا قال: قارضتك يقتضي اشتراكهما في الربح فإذا شرط خلاف ذلك بطل، ولو قال: أقرضتك يقتضي أن يكون الربح كله للمستقرض، فإذا قال: على أن الربح لي أو بيننا وكان قرضا فاسداً، وإذا قال: أبضعتك هذا المال على أن الربح بيننا أو لك كان فاسداً أيضا، ولو قال: خذ هذا ينظر إلى ما يصلح للقراض أو القرض والبضاعة، فإذا شرط ذلك عمل عليه. وقال بعض أصحابنا بخراسان عن ابن سريج أنه قال: إذا قال: قارضتك على أن لا شيء لك من الربح أو على أن جميع الربح لي فيه وجهان أحدهما: يراعى المعنى ويكون بضاعة، وبه قال أبو حنيفة، والثانى: يراعى اللفظ فهو قراض فاسداً وكذلك في ضده، ولو قال: على أن جميع الربح لك ففي الوجه الأول قرض صحيح وفي الثاني هو قراض فاسد، وكذلك لو قال: أبضعتك على أن جميع الربح لك ففي أحد الوجهين هو قرض صحيح مراعاة للمعنى وفي الوجه الثاني هو بضاعة غير أن العامل لم يتبرع بالعمل فله أجر مثله وهذا غير مشهور عن ابن سريج عند أصحابنا بالعراق، وقال مالك: إذا قال: قارضتك على أن يكون كل الربح لك أو لي يصح القراض ويكون الربح لمن شرط وكأنه وهبه من صاحبه وهذا غلط لأن الهبة لا تصح قبل حصول الموهوب. فرع آخر لو قال: خذ هذا وابتع به على أن ما وزق الله تعالى من ربحٍ يكون بيننا نصفين لم يجز لأنه لم يأذن له في البيع، ولو قال: خذ هذا واعمل فيه على أن ما رزق الله [(129) / ب] تعالى من ربح يكون بيننا صح لأن قوله: واعمل فيه يقتضي إطلاقه البيع والشراء على حسب ما يعمل في القراض، وليس كذلك إذا خص الابتياع وأمسك عن البيع فإن الظاهر منه أنه لم يأذن له إلا في الابتياع. فرع آخر لو قال: قارضتك في هذا المال على أن لك نصف الربح إلا عشرة دراهم لم يصح لأنه يجوز أن لا يكون فيه الربح إلا عشرة دراهم فينفرد به رب المال دون العامل فيؤدي ذلك إلى خلاف ما يقتضيه عقد القراض.

فرع آخر لو قال: قارضتك على أن يكون لك شركة في الربح أو شرك لم يصح، وروى عن محمد بن الحسن أنه قال: شركة يصح وكان له النصف، ولو قال: شرك لم يصح, وقال أصحاب مالك: يصح ويكون له مضاربة المثل. مسألة: قال: "فإنْ قارضهُ على دنانيرَ فحصلَ في يدهِ دراهم". الفصل وهذا كما قال: إذا قارضه على دنانير فحصل في يده دراهم وأراد المفاصلة كان على العامل صرف الدراهم إلى الدنانير لأن المقاسمة عند المفاصلة إنما ترد على النقد الذي لاقاه العقد، وكذلك إذا قارضه على دراهم فحصل في يده دنانير وأراد المفاصلة كان على العامل صرفها إلى الدراهم, ولو كان رأس المال دراهم صحاحاً وحصل في يده مكسرة باع المكسرة بالصحاح، فإن لم يكن بينهما فضل يمكن بيع أحدهما بالآخر متماثلاً، وان كان بينهما فضل باع المكسر بالذهب ثم الذهب بالصحاح من الدراهم قال أبو إسحاق: إلا أن يرضى رب المال أن يقبض منه ما حصل عوضاً من رأس المال بقيمة يتفقان عليها فيكون ذلك جائزاً ويتقاسمان الفضل من رأس المال، وان باع مقدار رأس المال وفضل فضل قال ابن أبي هريرة: إن تراضيا على قسمته اقتسماه، [(130) / أ] وإن أراد أحدهما بيعه كان لمن أراد البيع بيعه لأن له في ذلك بغية وهي أن العرض قد يشترى جملة بأكثر ما اشتري متفرقا، قال صاحب "الإفصاح": فإن كان ذلك مما لا يختلف فيه حكم التفريق والجمع لم يجبر الممتنع على البيع وهذا لأنه مشترك بينهما والمال المشترك لا يجب على أحد الشريكين بيعه وتصريفه من جنس إلى جنسٍ فيقتسمان ذلك على صفته، وان كان مما يختلف فيه حكم الجمع والتفريق أجبر على البيع على ما ذكرنا. مسألة: قال: "وإنْ دفع مالاً قراضاً في مرضِهِ وعليهُ ديونٌ". الفصل وهذا كما قال: إذا قارض المريض رجلاً بماله في مرضه المخوف فالقراض صحيح لأنه عقد يبتغى منه طلب الربح كالبيع ونحوه، فإذا تقرر هذا فما شرطه للعامل من الربح يحتسبه من رأس المال دون الثلث، وإن كان أكثر من أجرة المثل لأن اعتبار الثلث إنما يكون إذا أخرج من ماله شيئاً من غير عوض، وها هنا لم يخرج من ماله شيئاً والربح يحصل بتصرف العامل وعمله فلا يكون من الثلث، فإن قيل: أليس إذا آجر داره وحابى في أجرتها تعتبر المحاباة من الثلث ولم يخرج من ماله شيئاً؟ قلنا: الفرق أن منافح الدار تجري مجرى المال بدليل أنه تجوز المعاوضة عليها وليس كذلك منافع الدراهم لأنه لا تجوز المعاوضة

عليها وإنما يحصل الربح بتقليب العامل وتصرفه فهو فائدة عمله فافترقا. فإن قيل: ما تقولون إذا ساقي في مرضه وشرط للعامل من الثمرة أكثر من أجرة المثل قلنا: من أصحابنا من قال: يعتبر رأس المال كالقراض سواء, ومنهم من قال: تعتبر تلك الزيادة من الثلث وهو الأصح، والفرق أن ثمرة النخل حادثة من عين ماله فهي جارية مجرى العين وليس كذلك الربح لأنه [(30) / ب] متولد من تصرف العامل دون عين الدراهم والدنانير فافترقا، ولهذا لو غصب نخلة فأثمرت كانت الثمرة لصاحب النخل، ولو اتَّجر الغاصب في الدراهم المغصوبة فربح كان الربح للغاصب في أحد القولين، فإذا تقرر هذا ومات رب المال بعد عقد القراض من ذلك المرض فالعامل أحق بحصته من الربح من سائر الغرماء سواء قلنا: يملك العامل الربح بالظهور أو بالقسمة لأن حقه متعلق بعين المال فكان بمنزلة المرتهن والمجني عليه فيقدم على سائر الغرماء، ولو قال الوارث للعامل: أعطيك حقك من غير عينه ليس له ذلك وله أن يعطي سائر الغرماء ديونهم من غير عين المال لأن له اختصاصاً في هذه العين وهو كالشريك فيه. مسألة: قال: "فإن اشترى عبداً فقالَ العامل: اشتريته بمالي لنفسي". الفصل وهذا كما قال: إذا اشترى العامل سلعةً في ذمته وفيها ربح فقال: اشتريتها لنفسي، وقال رب المال: اشتريتها للقراض فالقول قول العامل مع يمينه لأن يده عليه ثابتة ولأن المرجع في شرائه إلى قصده ونيته فيقبل قوله فيما نواه، وهكذا لو اشترى سلعة فيها خسران فقال: اشتريتها لمال القراض، وقال رب المال: بل اشتريتها لنفسك فالقول قول العامل أيضاً لما ذكرناه، ولو أقام رب المال بينة على إقراره تقبل وإن أقام البينة في المسألة الأولى أنه عقد بعين مال القراض فيه وجهان أحل هما: قاله ابن أبي هريرة: تسمع ويحكم بها عليه لأن العقد على عين مال القراض لا يكون إلا في القراض، والثاني: وهو الأظهر: لا تسمع لاحتمال أن ينوي بالعقد على العين أن يكون لنفسه فيبطل، ولا يبطل في مال القراض. فرع لو قال الوكيل: اشتريت أو بعت وأنكر رب المال ذلك قد ذكرنا [(131) / أ] قولين، ولو قال العامل ذلك وأنكر رب المال قيل: فيه قولان أيضا وقيل: يقبل قول العامل قولاً واحداً وهو الأظهر لأنه عقد تسليط وتبسيطٍ في التصرف ويتعذر عليه إقامة البينة في كل بيع وشراء في الغالب فيسمع قوله في ذلك بخلاف الوكيل. مسألة: قال: "ولو قال: اشتريت هذا العبد بجميع الألف القراضِ، ثم اشتريت هذا العبد الثاني بذلك الألف".

الفصل وهذا كما قال: صورة المسألة أن يافع إليه ألفاً ويقارضه عليه فاشترى عبداً للقراض بألف فإن الألف الأول يكون للقراض، والثاني: لا يكون للقراض لأن العامل إنما يجوز أن يشتري للقراض بقدر رأس المال فلا يصح شراء الثاني للقراض، ولا فرق بين أن يكون الشراء الأول بعين الألف أو مطلقاً لأنه إن كان بعين الألف فقد استحق في ثمن العبد الأول فلا يبقى للثاني شيء, وإن كان مطلقاً بنية القراض فقد صار مال القراض مستغرقاً بثمنه وإن لم يصح معيناً, وهل يصح الشراء في حق العامل؟ قال المزني: يلزم العبد الثاني العامل وظاهره أنه لا فرق بين أن يشتريه بعين الألف أو في الذمة، وقال أصحابنا: هذا لا يصح على أمل الشافعي لأنه إذا اشترى بعين الألف بطل الشراء لأنه ملكه البائع الأول إن كان الشراء بعين الألف واستحق عليه تسليمه إليه، وان كان في الذمة فلم يصح الشراء بعينه ثانياً بحال لا له ولا للعامل، وان كان الشراء في الذمة ونقد هذا الألف في ثمنه فالابتياع صحيح والعبد يكون للعامل، فإذا نقد الألف في ثمنه ضمنه لأنه قد تعدى في ذلك وأما الربح الذي يحصل في هذا العبد فيه قولان على قوله في الجديد يكون للمشتري وعليه ضمان الألف، وعلى قوله في القديم: يكون لمالك الألف. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لعل المزني أراد بقوله: جميع الألف القراض أن يشتري الأول في الذمة على نية القراض فلذلك صح البيع الثاني لأن عين الألف ما صارت مستحقة في العقد السابق فيحتمل أن المزني صحح [(13) / ب] العقد الثاني في الحكم عند تكذيب البائع إياه في كون الألف مستحقة بالعقد الأول لأن من اشترى شيئاً بأعيان دراهم وتلك الدراهم في يده ثم ادعى أن هذه الدراهم التي عينها في العقد مستحقة بعقد سابق عقدته لم يقبل قوله وهذا أقرب من التأويل الأول وذلك بعيد. مسألة: قال: "وإنْ نهى ربَّ المال أنْ يشتري ويبيع". الفصل وهذا كما قال: قد ذكرنا الحكم إذا فسخ رب المال القراض وأنه إذا كان الحاصل عرضا له أن يبيع، ولو قال رب المال: لا تبعه فإني أقوم العرض كله وأدفع إليك قدر ما يحصل من الربح له ذلك في أصح الوجهين. مسألة: قال: "ولوْ قال العاملُ: ربحت ألفاً ثم قال: غلطتُ". وهذا كما قال: إذا قال العامل: ربحت ألفاً فلما كان عند المفاصلة قال: غلطت ورجعت إلى الحساب فتيقنت أنه كان بخلاف ذلك, أو كذبت خوفاً أن تنزع المال من يدي لم يقبل رجوعه لأنه رجوع عن الإقرار السابق وإسقاط لحق رب المال الذي ثبت بإقراره.

وقال مالك: إن كان في موضع يكون هناك موسم فقال: إنما قلت ذلك لخوف نزع المال من يدي قبل وقت الموسم قبل ذلك منه، ولو لم يكذب نفسه ولكن قال: كنت ربحت ثم خسرت قبل منه لأنه ليس برجوع عن الأول ولا تكذيب له وهذا إذا أمكن الخسران في مثل تلك المدة، وكذلك لو قال: رد المشتري علي بالعيب واسترجع الثمن ثم تلف الشيء في يدي قبل منه لأنه أمين ولا يخرج بتلك الكذبة السابقة عن قبول يمينه لأنه لم يأت بتعدٍ ولا جحود في أمل المال بل كذب في الربح فهو في أصل المال أمين على أن الكذب لم يظهر ها هنا لأنه قال: رُدَّ عليّ وتلف، ولو ظهر الكذب بأن قال: لم أربح فلم يقبل ثم قال: تلف فهو أمين أيضا يقبل قوله مع يمينه. فرع إذا قال: ربحت ألفاً ثم قال: غلطت فلم يقبل فأل إحلاف رب المال فإن ذكر شبهة محتملة يستحق بها إحلافه، وإن لم يذكر شبهة [(132) / أ] فيه وجهان أحدهما: قاله ابن سريج وابن خيران: له إحلافه لإمكان قوله، وقال أبو إسحاق: لا يحلف لما تقدم من إقراره. مسألة: قال: "وإنِ اشترى العاملُ أو باعَ بما لا يتغابن الناسُ بمثله". الفصل وقد ذكرنا هذه المسألة بالشرح فلا معنى للإعادة. مسألة: قال: "وإذا اشترى في القراض خمراً أو خنزيراً أو أم ولد". الفصل وهذا كما قال: جملته أنه لا يجوز للعامل أن يبيع الخمر ولا أن يشتريه سواء كان العامل نصرانياً أو مسلماً، وقال أبو حنيفة: إن كان العامل نصرانياً له أن يشتري الخمر ويبيع، وقال أبو يوسف ومحمد: يصح الشراء منه دون البيع لأنه يدخل ما يشتريه في ملكه أولاً ويجعل كأنه اشترى عصيراً فصار في يده خمراً فيكون ذلك لرب المال ولا يمكن بيعها من جهة المسلم وهذا غلط لأنه مائع نجس كالدم، فإذا تقرر هذا فلو اشترى خمراً أو خنزيراً أو أم ولد ودفع الثمن فالشراء باطل وهو للمال ضامن في قياس قوله: ويسترجع المال من البائع، فإن كان قد تلف كان لرب المال أن يطالب العامل أو البائع فإن رجع على العامل رجع العامل على البائع, وإن رجع على البائع لم يرجع على العامل لأنه دخل على أن يكون تلفه من ضمانه, وقال أصحابنا بخراسان: إنما يضمن العامل إذا علم أنه خمرا أو أم ولد, فإن لم يكن علم فبان ذلك لم يضمن لأن الاحتراز منه لا يمكن. ومن أصحابنا من قال: في الخمر يضمن لأنه لم يتأمل بل فرَّط بخلاف أم الولد،

واختار الشيخ أبو حامد أنه يلزمه الضمان لأنه دفع الثمن بغير حق وحكم ضمان المال لا يختلف بالعلم والجهل. فرع إذا قارض رجل رجلين بألف درهم على أن لهما نصف الربح صح القراض ولكل واحد منهما ربع الربح لأن العقد مع الاثنين بمنزلة العقدين فكأنه قارض كل واحد منهما على خمسمائة ويكون نصف ربحها لرب المال ونصفه للعامل، فإن قيل: إذا قارض اثنين بمالٍ واحدٍ وعملا فيه وقسما الربح فقد حصل بينهما [(132) / ب] شركة الأبدان وعندكم لا تصح شركة الأبدان قلنا: هما ليسا شريكين وإنما يعملان على المال المشترك بينهما في القراض، ولأن كل واحد منهما يعمل على نصف المال ولا اعتبار باشتراكهما في العمل فيه، ألا ترى أن في شركة العنان يعملان في المال والربح بينهما على قدر المالين ولا اعتبار بعملهما, وان كان له تأثير في الربح كذلك ها هنا وعلى ما ذكرنا يجوز أن يسوَّى بينهما في الربح، ويجوز أن يفاضل فيشترط لأحدهما: النصف وللأخر الثلث ونحو ذلك ويكون كأنه قارض أحدهما: في نصف المال بنصف الربح وللآخر في نصغه بثلث الربح وشرط لأحدهما: النصف وللآخر الثلث فيجوز، وقال مالك: لا يجوز لأنهما شريكان بأبدانهما فلا يجوز تفاضلهما في الربح كالمنفردين وهذا غلط لأن هذا بمنزلة العقدين فجاز أن يشترط في أحدهما أقل من الآخر كما لو انفردا وقد بينا أن هذا ليس بشركة الأبدان. فرع آخر لو دفع رجلان إلى رجلٍ ألف درهم هو بينهما نصفان وشرطاً له الثلث ولهما الثلثين جاز وان قالا له: لك النصف ولفلان الثلث, ولشريكه السادس لم يصح لأن المال لهما فيجب أن يشتركا في الربح على قدر المالين بالسوية، وإن شرطا له من نصيب أحدهما: تسعى الربح ومن نصيب صاحبه أربعة أتساع الربح ويكون الباقي بينهما لم يصح، وقال أبو حنيفة: يصح وهو اختيار أبي ثور وهذا غلط لأن صحتها من ثمانية عشر فيأخذ العامل من نصيب أحدهما: من تسعة سهمين ويبقى له سبعة ومن نصيب الآخر من تسعة أربعة ويبقى له خمسة فيؤدي إلى انفراد أحدهما بزيادة الربح وقولهما: يكون الباقي بيننا يقتضي التسوية بينهما في الباقي، ولو قالا: ويكون الباقي سبعة أتساعه لفلان وخمسة أتساعه لفلان صح ذلك لأنهما لم يشترطا التسوية بينهما في الباقي وهذا العقد بمنزلة العقدين فيجوز أن يشترط لأحدهما من نصيبه الربح أكثر مما يشترط الأجر. [(133) / أ] فرع آخر لو دفع إلى رجل ألفاً قراضاً على أن يعطيه ألفاً بضاعةً لم يجز نص عليه في "الأم" لأنه لم يرض بأن يكون عوض عمله في القراض ما شرط له من الربح حتى يعمل له في

الألف الذي هو بضاعة عملاً ويكون له ربحه ينفرد به وكأنه شرط لنفسه بعض الربح هن أحد الألفين وجميع الربح من الألف الآخر وهذا لا يجوز. فرع آخر قال: لو دفع إليه ألف درهم قراضاً ثم دفع إليه ألفاً آخر وقال له: ضمه إلى الأول حتى يكون الكل قراضاً لم يصح إن كان قد تصرف في الأول، وان لم يكن تصرف فيه صح لأنه إذا تصرف في الأول يجوز أن يحصل فيه خسران وفي الثاني ربح فيجبر الخسران في أحدهما: بربح الآخر ولا يجوز أن يجبر أحد العقدين بالآخر، وعلى هذا إن كان قد اشترى بالألف الأول متاعاً وباعه ونضَّ الثمن جاز ضم الآخر إليه لأن هذا المعنى مأمون فيه فيكون بمنزلة ما لو لم يتصرف فيه، ولو قال له: ضم إليه ألفاً من مالك ويكون الربح بيننا على الثلث والثلثين لم يصح لأن هذه شركة ويجب أن يكون الربح على قدر رأس المال، ولو عمل فربح كان الربح بينهما نصفين على قدر المالين ويكون للعامل نصف أجر مثله على رب المال, ولو قال: ضم إليه ألفا آخر واعمل فيه وما يحصل من الربح كان بيننا نصفين ولك السدس من نصيبي بحق العمل صح ويكون ذلك قراضاً في الألف والاختلاط بماله لا يمنع صحته لأن القراض يجوز في المال المشاع، وقال أصحاب مالك: لا يجوز أن تضم إلى القراض شركة وهذا غلط لأنه لم يجعل أحد العقدين شرطا في الآخر فجاز. فرع آخر لو اختلف العامل ورب المال في مقدار الربح فقال رب المال: شرطت لك النصف منه، وقال العامل: بل شرطت الثلثين تحالفا, فإذا حلفا انفسخ عقد القراض وكان لرب المال رأس المال والربح وللعامل أجر مثله وهذا لأنهما لما تحالفا بقي على الجهالة فانفسخ، وان حلف أحدهما [(33) / ب] ونكل الآخر عن اليمين حكم له عليه، وقال أبو حنيفة: القول قول رب المال مع يمينه وهذا غلط لأنهما اختلفا في صفة عقدٍ فيتحالفان كما لو اختلف المتبايعان في الثمن. فرع آخر لو دفع إليه مالاً فنضَّ في يده ثلاثة آلاف واتفقا على حصة العامل وأن المشروط له النصف واختلفا في رأس المال فقال العامل: رأس المال ألف والربح ألفان، وقال رب المال: بل رأس المال ألفان والربح ألف فالقول قول العامل لأن المال في يده ورب المال مدعي عليه، ومن أصحابنا من قال: يتحالفان إذا اختلفا في مقدار الربح والأول أصح، وقال في "الحاوي": فيه لأصحابنا وجهان مخرجان من اختلاف قوليه في العامل هل هو وكيل أو شريك أحدهما: القول قول رب المال إذا قلنا: إن العامل

وكيل مستأجر وبه قال زفر، والثاني: القول قول العامل, إذا قلنا: إنه شريك مساهم وبه قال محمد وهذا أصح وعن أبي حنيفة روايتان. فرع آخر لو أحضر العامل ثلاثة ألاف وقال: رأس المال منها ألف والربح ألف، والثالث: لي أو وديعة في يدي أو هو دين علي من قراضي وادعاه رب المال وبحاً فالقول قول العامل مع يمينه لمكان يده، وكذلك لو لم يكن ربح، واختلفا في قدر رأس المال فالقول قول العامل بلا إشكالٍ. فرع آخر لو اشترى العامل عبداً ثم اختلفا فقال رب المال: كنت نهيتك عن ابتياعه, وقال العامل: ما نهيتني عنه فالقول قول العامل لأن رب المال يدعي خيانته فلا يقبل قوله عليه. فرع آخر إذا دفع إلى رجلين مالاً قراضاً على أن له نصف الربح ولهما النصف نصفين بينهما فعملا ونضَّ المال ثلاثة ألاف, ثم اختلفوا فقال رب المال: رأس المال ألفان والربح ألف لي منه خمسمائة ولكما خمسمائة لكل واحد منكما مائتان وخمسون فكذبه أحدهما وصدقه الأخر فهذه المسألة مبنية على ثلاثة أصول أحدها أن رب المال والعامل [(134) / أ] إذا اختلفا في مقدار رأس المال فالقول قول العامل، والثاني: أن العامل لا يأخذ قسطه من الربح حتى يسلم لرب المال رأس ماله، والثالث: أن العاملين كالعامل الواحد في حكم الربح والخسران فإذا كان القول قول من كذبه فحلف ثبت أن رأس المال ألف وأن الربح ألفان في حقه يأخذ خمسمائة ويبقى هناك ألفان وخمسمائة يقول المصدق لرب المال: لك ألفان رأس مالك وقد بقي خمسمائة لك ثلثاها ولي ثلثها، لأن شريكي لو أنصف أخذ مائتين وخمسين ويبقى سبعمائة وخمسون لك ثلثاها ولي ثلثها فلما أخذ خمسمائة غصبنا معاً على مائتين وخمسين فيكون مناً بالحصة يكون ثلثا ما بقي لك ولي الثلث كما لو كان جميع الربح مائة وخمسين فغصب أجنبي منها مائتين وخمسين يكون منا معاً كذلك ها هنا فيفيد قولنا: القول قول العامل في قدر رأس المال أنهما لما اختلفا ها هنا كان القول قوله ويفيد قولنا: لا يأخذ العامل شيئا من الربح حتى يحصل رأس المال لصاحبه أن ما غصبه العامل يحتسب من الربح لا من رأس المال, ويفيد قولنا: إنهما يجريان مجرى عامل واحدٍ أن العامل المصدق لا يمكنه أن يقول: لا يلزمني حكم ما أخذه ذلك العامل بل استحق كمال نصيبي من الربح ويقال له: أنت وهو كالعامل الواحد فما يأخذه محسوب من حقك ويصير كما لو تلف شيء من المال.

فرع آخر يجوز لولي اليتيم أن يقارض في مال اليتيم ولا يأذن له بالتصرف نساء بحالٍ لأن في ذلك غررًا، ولا فرق بين أن يكون الولي أبًا أو جدًا أو قيّمًا أو وصيًا نصَّ عليه في "البويطي" وإنما يجوز أن يدفع إلى من يجوز له أن يودع ماله عنده وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم "ابتغوا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة". فرع آخر لو اشترى العامل من مال القراض عبدًا أو [134 ب] أمّةً فأراد رب المال أو العامل أن يزوج العبد أو الأمة وامتنع الآخر لم يجبر الممتنع منهما عليه لأن في ذلك نقصان قيمتها، وإن اتفقا عليه كان لهما عليه كان لهما ذلك ويفارق هذا أمة المأذون له في التجارة إذا أراد السيد تزويجها فإنه إن لم يكن عليه دين جاز له تزويجها لأنه لا حق فيه للعبد وإنما الحق للسيد، وإن كان عليه دين لم يجز تزويجها وإن وافقه العبد لأن حقوق الغرماء ما تعلقت بما في يده وفي مال المضاربة لا حق لغيرهما وكذلك لا يجوز لواحدٍ منهما أن يكاتبه لأن الكتابة كالإتلاف، ألا ترى أنه لو كاتب عبده في مرضه اعتبر قيمة العبد من الثلث، ولو اتفقا عليه جاز ثم إذا أدى المال وعتق قال في حرملة: فإن لم يكن في المال فضل فالولاء لرب المال، وإن كان فيه فضل فالولاء بينهما ولا يجوز لواحدٍ منهما وطئها إذا كان أمة سواء قلنا: يملك بالظهور أو بالقسمة لأنه يستضر العامل بنقصان قيمتها بالإحبال. فرع آخر لو اشترى رب المال سلعة من مال القراض من العامل لم يجز لأنه مال والعامل وكيله يتصرف فيه بإذنه ويفارق المولى يجوز له أن يشتري من مكاتبه ما في يده لأنه يتصرف فيه من غير إذن السيد فهو معه بمنزلة الأجنبي، وقال أبو حامد: قال بعض أصحابنا: يجوز للسيد أن يشتري من المأذون إذا ركبته الديون لأنه حق الغرماء ثم قال لا يصح لأنه ملك السيد ويحتمل أن يريد هذا القائل أن السيد يأخذه بقيمته كما يدفع قيمة العبد الجاني ولا يكون بيعًا ويحتمل أن يقال مثل هذا في مال القراض. فرع آخر لو دفع رجل إلى رجل ألف درهم قراضًا فاشترى العامل به عبدًا فتلف الألف قبل أن تدفع إلى البائع قال في "البويطي": كان المبيع للعامل والثمن عليه ولا شيء على رب المال، وظاهر هذا أن القراض زال بهلاك المال قبل تسليمه [135/ أ] إلى البائع،

واختلف أصحابنا في تأويلها على طريقين فمنهم من قال: إذا تلف الألف لا يخلو من أحد أمرين إما أن يتلف قبل الشراء فإن تلف قبل الشراء مثل إن اشترى عبدًا بألفٍ ثم بان له أن الألف قد هلك قبل الشراء فقد زال القراض وبطل وانقطع تصرف العامل في القراض، فإن ابتاع بعد هذا شيئًا كان له دون رب المال ولا شيء على رب المال وهذه مسألة "البويطي"، وإن كان التلف بعد حصول الشراء كان المبيع لرب المال قراضًا وعليه تسليم ألفٍ آخر في ثمنه لأن المبيع له لا للعامل، ثم إذا دفع الألف في ثمنه فأي الألفين يكون قراضاً؟ اختلف أصحابنا فيه على هذه الطريقة على وجهين: أحدهما: التالف من رأس المال والقراض الألف الآخر وهذا ليس بشيء والمذهب أن الألفين معًا قراض وأن التالف من الربح لا من رأس المال، فإن ربح العامل شيئًا كان من التالف حتى يرد الألفين معًا وما ربح بعدهما فله قسطه منه وبه قال أبو حنيفة ومحمد، وحكي عن مالك أن رب المال بالخيار بين أن يدفع ألفاً آخر تكون هي رأس المال دون الأول وبين أن لا يدفع ويكون الشراء للعامل، وقال ابن سريج: المبيع للعامل والثمن عليه ولا شيء على رب المال على ظاهر ما قاله في "البويطي" لأنه إن كان التلف قبل الشراء فلا إشكال فيه، وإن كان بعده تحول الملك إلى العامل لأنه قد تعذر عليه وزن الثمن من مال رب المال فتحول المبيع إليه قال: ولو كان مثل هذا في الوكيل فيه وجهان أحدهما: ينقلب إلى الوكيل والثمن عليه، ولا شيء على الموكل كما في القراض. والثاني: يكون للموكل وعليه أن يدفع ألفًا آخر ولم يذكر القاضي الطبري غيره، وقال بعض أصحابنا بخراسان: في مسألة القراض قولان، وقال في "الحاوي": لهذه المسألة مقدمة وهي أنه لو دفع إليه ألفين فتلف أحدهما بعد أن اشترى به [135/ ب] عرضًا وتلف العرض قبل بيعه فيه وجهان أحدهما: أنه قراض لتلفه بعد التصرف فيه في الابتياع فيكون رأس المال ألفي درهم وعلى العامل أن يجبر الألف التالف، والثاني: الألف التالف لا يكون قراضًا لتلفه قبل كمال التصرف في ببيع ما اشترى به فعلى هذا يكون رأس المال ألف درهم ولا يلزم العامل أن يجبر بالربح الألف التالف لأنه لم يصر قراضًا، فإذا تقرر هذا ففي مسألتنا وجهان أحدهما: الشراء للعامل وهذا على الوجه الذي نقول ما تلف بعد الشراء وقبل البيع خارج من القراض، والثاني: الشراء في القراض وهذا على الوجه الذي نقول: ما تلف بعد الشراء قبل البيع داخل في القراض فعلى هذا يلزم رب المال أن يدفع ألفًا ثانيًا ويصير رأس المال ألفي درهم وعلى العامل جبره بالربح.

فرع آخر لو أعطاه ألفي درهم قراضًا فتلف ألف قبل أن يتجر كان تلفه من رأس المال وينفسخ القراض فيه لأن رأس المال بعينه قد تلف هكذا قال عامة أصحابنا، وحكي عن أبي حامد أنه قال: هكذا قال أصحابنا ولكنه خلاف النص لأنه نصَّ في "الجامع الكبير" للمزني: أنه يكون التالف من الربح لا من رأس المال، وإن كان قبل أن يتجر وهكذا حكاه القاضي أبو علي الزجاجي ووجهه أن المال يصير قراضًا في يد العامل بالقبض فلا فرق بين أن يتلف قبل التصرف أو بعده، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان أحدهما: أن رأس ماله ألفا درهم لأنه وإن لم يضمن التالف من جهة أنه يغرم يضمنه من جهة أنه يجبر ذلك بالربح، والثاني: ما ذكرنا. فرع آخر لو اشترى بكلا الألفين وباع ونضَّ الثمن فالتالف من الربح بال خلافٍ، ولو اشترى بالألفين عبدين ثم تلف أحد العبدين فيه وجهان أحدهما: يكون التالف من الربح [136/ أ] وهو الصحيح لأن المال قد دار في القراض فما يتلف يكون من الربح، والثاني: يتلف من رأس المال ويكون حكمهما حكم ثمنيهما لأنهما بدلان عن الأصل وهذا ليس بشيء. فرع آخر لو دفع ألفًا قراضًا فعمل العامل به وخسر مائة وأخذ منه رب المال مائة ثم عمل العامل بالباقي فصار ألفًا وخمسمائة وأراد أن يعلما قدر رأس المال ليقتسما الربح فوجه العمل فيه أن يقال: لما خسر في الألف مائة لزم تقسيطها على التسعمائة فيكون قسط كل مائة درهم أحد عشر درهمًا وتسعًا، فلما استرجع رب المال مائة تبعها قسطها من الخسران وهو أحد عشر درهمًا وتسع وهو القدر المسترجع من الألف ويبقى رأس المال ثمانمائة وثمانية وثمانون درهمًا وثمانية أتساع درهم، فلو كان قد خسر العامل المال ثمانمائة وثمانية وثمانون درهمًا وثمانية أتساع درهم، فلو كان قد خسر العامل مائتي درهم واسترجع رب المال مائة صار رأس المال ثمانمائة وخمسة وسبعين درهمًا لأن القسط كل مائة من الخسران خمسة وعشرون درهمًا ثم على هذا القياس. فرع آخر لو أذن للعامل بالبيع نسيئة أو بالشراء سلمًا ففعل ثم جحد العامل معه ضمن العامل لأنه فرط بترك الإشهاد، ولو أذن بالبيع معجلًا وأذن له في تسليم المبيع أولًا ففعل ثم حلف المشتري على الثمن وجحد فلا ضمان على العامل لأن العادة لم تجر بالإشهاد في البيع الحال فلم يفرط في ترك الإشهاد. فرع آخر لو قارضه على مالين بعقدين فخلط العامل أحد المالين بالآخر ضمن خلافًا لأبي حنيفة.

فرع آخر لو أخذ من رجل مائة درهم قراضًا فاشترى بها جارية للقراض، وأخذ من آخر مائة درهم قراضًا فاشترى بها جارية أخرى للقراض واختلطتا ولم يعلم الأولى من الثانية قال في أمالي حرملة: فيه قولان أحدهما: هما لربي المال تباعان معًا، فإن لم يكن في المال فضل أخذ كل واحد منهما مائة ولو كان فيه فضل فالفضل على ما شرطا، وإن كان خسران كان على العامل لأنه [136/ ب] حصل بنسيانه وتفريطه قال أصحابنا: وفي هذا نظر لأن المتعدي لا يضمن نقصان السعر كالغاصب ولعله أراد الخسران بنقصان العين، والثاني: ينقلب ملكهما إلى العامل لأنه فرط في الاختلاط وعليه قيمتها كما لو أتلفهما يلزمه قيمتهما. فرع آخر لو أخذ مالًا قراضًا لا يمكنه القيام به والتصرف في فتلف بعضه ضمنه لأنه فرط بأخذه حين لا يمكنه القيام به. فرع آخر لو اشترى العامل ما يعلم أنه لا فضل فيه لا في الحال ولا في ثاني الحال لم يجز. فرع آخر لو كان مال القراض عبدًا فقتله عبد لأجنبي وجب القصاص علي قاتله، فإن لم يكن في المال فضل فلرب المال القصاص والعفو، فإن اقتص فلا كلام وزال القراض، وكذلك إن عفا على غير مال، وإن عفا على مال نظر، فإن عفا على قدر القيمة ولم يكن حال العفو في المال فضل فالكل لرب المال والقراض بحاله لأن بدل مال القراض على من أتلفه يقوم مقامه، وإن كان في حال العفو فضل كان الفضل بينهما على الشرط، وإن قتل وفي المال فضل حين القتل ليس للعامل أن يقتص وحده ولا لرب المال وحده أن يقتص، فإن اتفقا نظر، فإن عفوا على غير مال زال القراض، وإن عفوا على مال كان المال قراضًا والفضل بينهما على الشرط، وإن عفا أحدهما: سقط القصاص كالوليين إذا عفا أحدهما: سقط القصاص كالوليين إذا عفا أحدهما، ومن أصحابنا من قال: هل يسقط بعفو العامل؟ وجهان بناءً على أنه شريك أو وكيل، ولو قتل خطأ أخذت القيمة وكانت في مال القراض بلا إشكالٍ. فرع آخر لو سرق المال من يد العامل هلي يكون العامل خصمًا في المطالبة به من غير توكيل من مالكه؟ وجهان أحدهما: قال ابن سريج: يكون خصمًا فيه وكيلًا في المطالبة به لأن عقد القراض قد تضمنه، والثاني: وهو قول الأكثرين لا يكون خصمًا فيه لأن عمله مقصور على البيع والشراء، وقال صاحب "الحاوي": الأول أشبه بالصواب لأن عقد القراض موجبٌ [137/ أ] على العامل استبقاء ماله وحفظ أصله، ألا ترى أنه لو

استرجع من سارقه كان قراضًا بمتقدم عقد. فرع آخر لو قدم مائة دينار وألف درهم فقال: قارضتك على أحدهما: بالنصف لم يصح لأنه جهالة فتمنع صحته. فرع آخر لو دفع إلى رجل مائة دينار فخسر خمسين فقال لصديق له: خسرت خمسين وأخشى إن علم صاحب المال أخذه مني فأقرضني خمسين حتى أضمها إلى ما عندي وأريه إياها ثم أردها ففعل وأراها صاحب المال فأخذ المال وفسخ القراض، ثم أقام المقرض البينة بما فعله قال الشافعي في أمالي حرملة: ليس له استرجاع الخمسين لأنه أقرضه إياها وملكها وزال ملكه عنها إلى غيره فصار كما لو تلفت في يده فلم يكن له الرجوع إلى العين بل كان حقه في ذمة المستقرض. فرع آخر لو اشترى بمال القراض جارية قد ذكرنا أنه لا يجوز لواحدٍ منهما وطئها، فلو أذن أحدهما لصاحبه بالوطئ فإن أذن رب المال للعامل لم يجز لأن الوطء لا يستباح بالإباحة، وإن أذن العامل لرب المال، فإن كان في المال ربح وقلنا يملكه العامل بالظهور لم يستبح وطئها، وإن لم يكون في المال ربح أو قلنا: لا يملك العامل الربح بالظهور جاز له وطئها كما لو أذن المرتهن للراهن بالوطئ يجوز. فرع آخر لو دفع إلى رجلٍ أرضًا على أن يغرسها العامل بغرسٍ من عنده على أن تكون الأرض بينهما والغراس بينهما فالمعاملة فاسدة قال ابن سريج: هذه ليست بشركة ولا قراض فتكون الأرض لرب الأرض والغراس للعامل ولرب الأرض على العامل أجره مثل أرضه، فإن طالبه رب الأرض بالقلع، فإن كان لا ينقص قيمته بالقلع فعليه القلع ولا شيء له على رب الأرض، وإن كان ينقص كان لرب المال مطالبته به وعليه ما نقص، وإن اتفقا على ترك الغراس بالأجرة فلا كلام، وإن اختلفا فقال رب الأرض: اقلع غرسك وعليّ ما نقص [137/ ب] وقال رب الغراس: بل أنا أقره في أرضك بالأجرة قدمنا قول رب الأرض، ولو قال رب الغراس: اقلع وعليك ما نقص، وقال رب الأرض: بل تقره وعليك الأجرة قدمنا قول صاحب الغراس، ويقال لرب الأرض: أعطيك قيمة الغراس فيكون الغراس مع الأرض لي، وقال الغارس: اقلع وعليك ما نقص قدمنا قول العامل، ولو كان بالضد فقال العامل: أعطني قيمة غرسي ليكون لك مع الأرض، وقال رب الأرض: بل اقلع وعليّ ما نقص قدمنا قول رب الأرض، وإن اختلفا في القيمة والأجرة فقال رب الأرض: خذ القيمة ليكون الكل لي، وقال العامل: بل أقره ولك الأجرة أو قال رب الأرض: أعطني الأجرة وأقره في أرضي وقال: بل

أعطني القيمة ليكون الكل لك لم يجبر واحدٌ منهما على ما يطلبه الآخر، ولو كان مكان الغراس زرع لم يملك رب الأرض مطالبته بقلعه لأن له غاية ينتهي إليها ومتى قلع هلك ولم يحصل الزارع على شيء ولكنه يلزمه أجر المثل إلى الحصاد. فرع يجوز أن يضارب مع رجلٍ بماله ثم يضارب مع آخر، وقال أحمد: لا يجوز إذا كان فيه ضرر على الأول فإن ضارب ثانيًا وكان في المال ربح رده على شريكه الأول وهذا غلط لأنه عقد جائز فلا يمنع العقد مع غير المعقود معه كالوكالة. وبالله التوفيق والعصمة.

كتاب المساقاة

كتاب المساقاة مسألة: قال الشافعي ساقى رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل خيبر الخبر الفصل. وهذا كما قال: المساقاة عقد صحيح وهو أن يكون للرجل نخيل فيدفعها إلى رجل على أن يسقيها ويلحقها ويصرف جريدها مدةً معلومةً ويكون ما يخرج من الثمرة بينهما على ما يتشارطان والمساقاة مشتقة من السقي فكأن العقد لما كان واقعًا على السقي سمي [138/ أ] باسمه، فإن قيل: لم خصَّ باسم السقي وه يقع على غير السقي من التلقيح وغيره قلنا: لأن هذه العبارة أخف من أن يقال: ملاقحة أو مساعفة أو مجاردة ونحو ذلك ولأن المقصود ليبقى والباقي تابع له بساقٍ وقيل: لأن موضع النخل والشجر يسمى سقيًا والأصل في جوازها ما روى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم لما افتتح خيبر وأجلى أهلها أتوه وقالوا: نحن أعلم بأمر النخيل منكم فأعطونا نكفيكم فساقاهم على ذلك وقال: "أقركم ما أقركم الله على التمر بيننا نصفين" وإنما قال هذا لأنهم لا يرون الفسخ فخاف أن يظنوا أنه أمر لازم لا يجوز رده فشرط ذلك عليهم ولا يجوز لأحدنا هذا الشرط لأنا لا ندري كم يقرهم الله تعالى وجاز ذلك لرسول الله إذ كان يوحى إليه بأمر الله تعالى فيهم، ثم بعث عبد الله بن رواحة ليخرص عليهم فاستقبلوه بحليّ نسائهم رشوةً له ليخفف لهم في الخرص فقال: هذا سحت في ديني فأرادوا أن يستدرجوه بالكلام فقالوا: أنت أحب من تقدم علينا من هذه الجهة أنت ابن أختنا وكانت أمه خيبرية فقال عبد الله: أما أنا فقد قدمت من عند رجل هو أحب إلى من نفسي التي بين جنبّي، وقدمت على قومٍ أبغض إلى من القردة والخنازير، فقالوا: إذًا لا يمكنك أن تعدل بيننا فقال: حبي إياه لا يحملني على الميل إليه، وبغضي إياكم لا يحملني على الحيف بكم ثم خرص عليهم مائة ألف وسقٍ فقالوا: أجحفت بنا فقال: إن شئتم فلكم، وإن شئتم فلي يعني إن شئت خليت بينكم وبينها وتردون عليّ النصف بهذا الخرص، وإن شئتم خليتم بيني وبينها وأرد عليكم النصف فقالوا: هذا هو العدل وبه قامت السموات والأرض فأخذوا ذلك وضمنوا له التمر بخرصه فروي أنه لم ينقص علما قال بعشرة أوسقٍ، وروى جابرٌ: "خرصها أربعين ألف وسقٍ"، وروى ابن عمر رضي الله [138/ ب] عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج منها من ثمرٍ وزرعٍ. واعلم أنه لابد فيها من شرطين أحدهما: أن تكون مدتها معلومة، والثاني: أن

يكون نصيب العامل معلومًا بجزءٍ مثل النصف أو الثلث ونحو ذلك وهو لنا قال جماعة الفقهاء مالك والثوري والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد، وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب وسعيد بن المسيب وسالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم، وقال أبو حنيفة وحدة: المساقاة باطلة ووافقة زفر. وحكي عن النخعي أنها مكروهة واحتجوا بالقياس على المزارعة وهذا غلط للخبر الذي ذكرنا. فإن قيل: هذا الخبر صار منسوخًا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن المخابرة" هي معاملة أهل خيبر قلنا: المخابرة هي المزارعة واشتقاقها من الخبّار وهو الأرض اللنية، والخبّير الأكار وقال: قال الشافعي في "المختصر": المخابرة باطلة لما روى رافع بن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة ولم تردّ إحدى سنَّتيه بالأخرى وقصد به الرد على أهل العراق فإن منهم من قال: تجوز المخابرة قياسًا على المساقاة وبه قال محمد، ومنهم من أبطل المساقاة قياسًا على المخابرة وبه قال أبو حنيفة ونحن لا نرد سنَّة بسنَّةٍ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز المساقاة فأجزناها وأبطل المخابرة فأبطلناها. واعلم أن المزارعة والمخابرة باطلتان وصورة المزارعة أن يقول صاحب الأرض لرجل: ازرع هذه الأرض ببذري وآلتي والزرع بيننا. والمخابرة أن يقول: ازرع ببذرٍ وآلةٍ من عندك. وتمام خبر رافع بن خديج ما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: كنا نخابر أربعين سنةً ولا نرى بذلك بأسًا حتى أخبرنا رافع بن خديج أن النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم نهى عنها فتركناها لقول رافع وهذا دليل على أن العمل بالمنسوخ [139/ أ] جائز ما لم يبلغ النسخ المأمور واعلم أن الخبر الذي ذكرنا يدل على أن المساقاة إذا صحت بينهما يجوز الخرص فيها. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان أحدهما: هذا، والثاني: لا يجوز لأن تلك كانت معاملة بين الكفار والمسلمين فاحتمل نوعًا من الغرر بخلاف ما إذا كان بين المسلمين وفيه دليل على أن الثمرة إذا حرصت جاز تسليمها إلى العامل بعد أن يضمن لمالك النخيل حصته من الثمن وكما ضمنت اليهود حصة المسلمين ويجوز تسلميها إلى المالك أيضًا إذا ضمن حصة العامل وفيه دليل على أنها إذا سلمت إلى العامل بعد الضمان يتبسط العامل في جميعها بيعًا وأكلًا وانتفاعًا وأن الخرص تضمين وهو أحد القولين، ثم اعلم أن المساقاة جائزة في الكرم أيضًا كما تجوز في النخل. واختلف أصحابنا في الكرم هل قال به الشافعي نصًا أو قياسًا؟ فمنهم من قال: قاله نصًا وهو ما روى ابن عمر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر على الشطر مما يخرج من النخل والكرم"، وري أنه ساقي في النخل والكرم ومنهم من قال وهو

الأشبه: أنه قال به قياسًا على النخل لاشتراكهما في وجوب الزكاة فيهما وبدون ثمرتهما وإمكان خرصهما، وقال داود: لا يجوز الخرص في الكرم اعتبارًا بالنص وهذا غلط لما ذكرنا ولأنه لو كان الاعتبار بعين النص لما جازت المساقاة بالثلث والربع لأن النص ورد في المساقاة بالنصف فدل أن الاعتبار بالمعنى وهو ما قلنا، وقال الليث بن سعد: تجوز المساقاة فيهما إذا لم يكن بعلًا ولا يجوز فيما كان بعلًا، وأما ما عدا النخل والكرم على ضربين قولًا واحدًا، وحكي عن مالك أنه قال: تجوز في المقاتي والمطابخ والباذنجان وفي كل ما لم يبدُ صلاحه لحدوث ثمرها مرةً بعد مرةً وهذا خطأ لأن ما لم يكن [139/ ب] شجرًا يابسًا فهو بالزرع أشبه والمخابرة على الزرع باطلة بالاتفاق، والثاني: ما له أصل ثابت كالزيتون والتفاح والتين والسفرجل ونحو ذلك ففيه قولان قال في القديم: يجوز، وبه قال مالك وأبو يوسف ومحمد لما روى الدارقطني بإسناده "أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر بالشطر مما يخرج من النخل والشجر" ولأنها تثمر في كل حولٍ فهي كالنخل والكرم، وحكي عن مالك أنه قال: لو كان له زرع فاشتد جاز أن يدفعه إلى من يقوم بعمله من السقي وغيره ويكون بينهما، وقال في الجديد: لا يجوز وهذا ظاهر المذهب لأن ما لا تجب الزكاة في نمائه لا تجوز المساقاة عليه كالتوت ونحوه، وأما النخل والكرم ينميان بالعمل فالنخل يفتقر إلى اللقاح والكرم إلى الكساح ولا يحصل نماؤهما إلا بالعمل بخلاف سائر الأشجار لأنه يثمر من غير عمل عليه فافترقا، وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذان القولان مبنيان على أن الخرص هل يدخل فيما عدا النخل والكرم؟ وفيه قولان والأصح أنه يجوز فيها. فرع المساقاة عقد لازم يفتقر إلى مدةٍ معلومةٍ كالإجارة ولا يلزم على هذا الكتابة لأنها تفتقر إلى مدتين، والفرق بينهما وبين القراض أن المقارض يتصرف في رقبة المال بإذن صاحبه كالوكيل والمساقي لا يتصرف في رقبة المال بل يعمل بعوضٍ يحصل له فهو كالأجير والإجارة من العقود اللازمة. فرع آخر هل يدخل العرجون في المساقاة؟ وجهان: أحدهما: يدخل لأنه يصرم مع الرطب، والثاني: لا يدخل لأنه لا يدّخر عليه وينتفع به دونه فإن الأغداق يقطف عنها الرطب ويرمى بها فلم يدخل فيها. فرع آخر سواقط النخل من السعف والليف لرب النخل، فلو شرطا أن يكون بينهما فيه

وجهان أحدهما: يجوز لأنها نماء كالثمرة، والثاني: لا يجوز لأنها ليست من معهود النماء ولا [140/ أ] مقصوده. فرع آخر لا يجوز فيما لا ثمرة له بلا خلافٍ كالخلاّف والتوت الذكر والقص الفارسي ونحو ذلك. فرع آخر هل يجوزن على نخلٍ غائبٍ بشرط خيار الرؤية؟ قد قيل: فيه قولان والأصح أنها لا تجوز قولًا واحدًا، والفرق أن البيع تعدى على الغرر، فإذا دخل عليه غرر العين الغائبة بخيار الرؤية قوي على احتماله وعقد المساقاة غرر فيضعف عن احتمال غررٍ آخر. فرع آخر يلزم أن يعقداه بلفظ المساقاة فإن عقداه بلفظ الإجارة فقال: استأجرتك للعمل فيها كان باطلًا لأن الإجارة فيها لا تصح، فإذا عقد بلفظ الإجارة الصرف إليها فبطل. فرع آخر لو قال: عاملتك عليها بالعمل فيها على الشطر من ثمرها فيها وجهان أحدهما: يجوز لأن عقد المساقاة هكذا، والثاني: لا يجوز لأن هذا من أحكام العقد فلم يعقد به العقد وهذا كاختلاف أصحابنا في البيع بلفظ التمليك هل يجوز أم لا؟ فرع آخر لو أراد العامل أن يساقي غيره عليها مدة مساقاته جاز بمثل نصيبه فما دونه كالإجارة ولا يجوز بأكثر من نصيبه لأنه لا يملك الزيادة ويخالف العمل لا يقارض لأنه يتصرف في حق رب المال لأنه لا يلزم، وهذا تصرف في حق نفسه للزوم العقد فملك الاستنابة في تصرفه. مسألة: قال: "وتجوزُ المساقاةُ سنينَ". وهذا كما قال: المدة في المساقاة كالإجارة تجوز سنةً وفي الزيادة قولان أحدهما: لا تجوز الزيادة، والثاني: وهو الصحيح المنصوص ها هنا أنه تجوز الزيادة عليها فإذا قلنا: تجوز نص الشافعي في الإجارة أنها تجوز ثلاثين سنة والمساقاة في حكمها، واختلف أصحابنا في هذا فمنهم من قال: ذكره تحديدًا فلا تجوز الزيادة، وقال بعضهم: تجوز الزيادة وإنما ذكره على سبيل التكثير دون التحديد فتجوز الإجارة إلى الوقت الذي يبقى ذلك الشيء إليه غالبًا والمساقاة مثلها، وقال بعض أصحاب الحديث [140/ ب] تجوز المساقاة من غير تقدير بمدة لأن النبي صلى الله عليه وسلم "ما قدر لأهل خيبر مدةً"، وقال أبو ثور: إن قدرت بمدةٍ لزمت إلى انقضائها وإن لن تقدر بمدة صحت وكانت على سنة واحدة وهذا غلط قياسًا على عقد الإجارة. وأما ما ذكره لا يصح لأنه يحتمل

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر المدة ولم ينقل. فرع إذا جوزناها سنين هل يلزم ذكر نصيب كل سنة؟ ففي الإجارة قولان وفي المساقاة طريقان أحدهما: فيه قولان، والثاني: قاله أبو إسحاق يلزم قولًا واحدًا لأن ثمار النخل تختلف باختلاف السنين ومنافع الإجارة لا تختلف. فرع آخر لو ساقاه ثلاث سنين على أن الثمر في السنة الأولى بينهما نصفين، وفي السنة الثانية أثلاثًا وفي السنة الثالثة أرباعًا جاز، ذكره أكثر أصحابنا كما في الإجارة، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز حتى يتساوى نصيبه في جميع السنين لأنها عقود مختلفة في عقدٍ كما لو أسلم في قفيز حنطة وقفيز شعير في عقد واحد لا يجوز وهو ضعيف. فرع آخر يلزم أن تقدر بالشهور التي قد أجرى الله تعالى العادة بأن الثمار تطلع فيها إطلاعًا متناهيًا فإن تأخر اطلاع الثمرة فيها بحادثٍ ثم اطلعت بعد تقضيها فالصحيح من المذهب أن العامل شريط فتكون الثمرة بينهما، وإن انقضت مدة المساقاة قبل اطلاعها لأن ثمرة هذا العام حادثة على ملكها ولا يلزمه العمل بعد انقضاء المدة، وإن استحق الثمرة إلا فيها يختص بالثمرة من التأبير والتلقيح، ومن أصحابنا من قال: العامل أجير فعلى هذا لا حق له في الثمرة الحادثة بعد انقضاء المدة ولا يستهلك عمله غير بدلٍ فيحكم له حينئذ بأجرة المثل. فرع آخر لو ساقاه عشر سنين على أن له نصف الثمرة في سنةٍ منها فإن لم يعينها لا يجوز، وإن عينها فإن كانت غير السنة الأخيرة لا يجوز لأنه شرط عليه بعد حقه من الثمرة عملًا لا يستحق عليه [141/ أ] عوضًا، وإن كانت السنة الأخيرة فيها وجهان أحدهما: يجوز كما يجوز أن العمل في جميع السنة، وإن كانت الثمرة في بعضها، والثاني: لا يجوز لأنه يعمل مدةً يثمر فيها ولا يستحق شيئًا من ثمرها وبهذا خالف السنة الواحدة. فرع آخر لو ساقاه عشر سنين فاطلعت ثمرة السنة العاشرة بعد تقضيها لم يكن للعامل فيها نصيب لتقضي مدته وزوال عقده، ولو اطلعت قبل تقضي تلك السنة ثم تقضت ولم يبد صلاحها وهي طلع أو بلح بعد كان له حقه منها لحدوثها في المدة ثم إن قلنا: إنه أجير فعليه أن يأخذ حقه منها طلعًا أو بلحًا وليس له استبقاء حقه إلى بدء الصلاح، وإن قلنا: إنه شريك كان له استبقاؤها على النخل إلى بدء الصلاح وتناهي الثمرة. فرع آخر لو ساقاه على النخل فاطلعت بعد قبض العامل لها وقبل عمله فيها استحق نصيبه من

تلك الثمرة لحدوثها في يده، ولو أطلعت قبل قبضه وتصرفه فيها فإن قلنا إنه أجير لكم يكن له في تلك الثمرة نصيب لارتفاع يده، وإن قلنا: إنه شريك استحق نصيبه من تلك الثمرة لأنها بعد العقد حادثة عن ملكهما وعلى العامل أجرة مثل ما استحق عليه من العمل فيها. فرع آخر لو قال: ساقيتك على هذه النخيل سنةً ولم يذكر قدر نصيبه قال ابن سريج: يجوز وتكون الثمرة بينهما نصفين حملًا على عرف الناس في المساقاة، ولو قال: عاملتك على هذه النخيل سنة ولم يذكر قدر نصيبه لم يجز لأنه ليس للمعاملة عرفٌ، والمشهور عند أصحابنا أنه يجوز فيها لأن نصيب العامل مجهول. مسألة: قال: "وإذا ساقاهُ على نخلٍ وكانَ فيهِ بياضٌ لا يوصلُ إلى عملهِ إلا بالدخول إلى النخلِ". الفصل وهذا كما قال: إذا كان بين النخيل بياض لا يخلو إما أن يكون سيرًا أو كثيرًا، فإن كان يسيرًا يجوز أن يزارع فيه ولكن لا يدخل في عقد المساقاة إلا بالشرط [141/ ب] وقال مالك: له أن يزرع البياض بغير إذن مالكه إذا كان أقل من الثلث وهذا غلط لأن العقد لا يصح إلا بالتسمية كسائر العقود، فإذا تقرر هذا فلو قال: ساقيتك على النخل على كذا أو زارعتك في الأرض على كذا يجوز قولًا واحدًا وهذا روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دفع النخل إلى أهل خيبر دفع البياض إليهم على أن لهم نصف النخل والزرع ولرسول الله صلى الله عليه وسلم النصف وكان الزرع كما وصفنا بين ظهراني النخيل يسيرًا، ولولا الخبر لما جوّزناه ولا فرق بين أن يسوي بينهما في الحصة أو يخالف بينهما فيقول: ساقيتك على النخل بالنصف وخابرتك على الأرض بالدفع. وقال في "الحاوي": إذا خالف فيه وجهان قال البغداديون: يجوز، وقال البصريون: لا يجوز لأنهما إذا تفاصلا تميزًا ولم يكن أحدهما: تبعًا ولا متبوعًا، ولا فرق بين أن يأتي بلفظٍ والصريح في كل واحدٍ منهما نحو ما ذكرنا من لفظ المساقاة والمخابرة وبين أن يأتي بلفظٍ يجمع الأمرين معًا فيقول: عاملتك على الأرض والنخل معًا بالنصف مما تخرجه من ثمرٍ وزرعٍ، ولو قال: ساقيتك في النخل على أن أزارعك في البياض لم يجز لأنه جعل عقد المزارعة شرطٍا في عقد المساقاة فلا يجوز كما لو قال: أساقيك على هذا البستان على أن أساقيك في بستانٍ آخر، ولو عقدا على النخل ولم يعقدا على البياض ثم عقدا على البياض عقدًا مستأنفًا لا يخلو إما أن يكون مع العامل في النخل أو مع غيره، فإن كان مع غيره لا يجوز قولًا واحدًا، وإن كان مع العامل هل يجوز؟ فيه وجهان:

أحدهما: يجوز للضرورة فإنه لا يمكن تعهد النخل إلا بتعهده ويؤدي إلى اشتراك الأيدي فيه. والثاني: لا يجوز وهو اختيار البصريين من أصحابنا لأنه جوّز ذلك تابعًا للمساقاة فلا يجوز إفراد التابع بالعقد وعلى هذين الوجهين اختلفوا فيمن اشترى نخلًا ذات ثمرةٍ لم يبد صلاحها، ثم اشترى الثمرة [142/ أ] في عقدٍ آخر بغير شرط القطع فأحد الوجهين يجوز لأنه تبع لأصلٍ صار إلى مشترٍ واحد فصار كما لو جمعهما في عقدٍ واحد، والثاني: لا يجوز لتفرد كل عقد بحكمه وعلى هذا إذا بدا الصلاح في بعض ثمار النخيل فباع الكل مطلقًا ثم عقد معه على ما لم يبد فيه الصلاح مطلقًا هل يكون تابعًا للأول؟ وجهان فإن قال قائل: إذا جوزتم المخابرة على البياض تبعًا للمساقاة فهلا جوزتم إجارة النخل تبعًا لإجارة الأرض؟ قلنا: الفرق أن المساقاة والمخابرة تتجانسان لأن الثمار واجد يوجد من أصول باقية فجاز العقد عليهما تبعًا لتجانسهما، ومنافع الأرض في الإجارة آثار وفي النخل أعيان فلم يتجانسا ولم يجز العقد عليهما تبعًا لاختلافهما، ولو كان البياض كثيرًا والنخيل قليله قال أبو إسحاق: لا تجوز المزارعة فيه لأنه لا يجوز أن يكون الكثير تابعًا للقليل، ومن أصحابنا من قال: يجوز لأن الضرورة في اليسير والكثير واحدة وهي أنه لا يمكن سقيها إلا بسقي النخيل فإذا قلنا: لا يجوز يؤاجر الأرض ويساقي على النخل. فرع لو كان البياض في ناحية متميزًا عن النخيل لا يجوز أن يزارعه فيه بحالٍ لا منفردًا ولا مجموعًا لأنه لا ضرورة إلى تجويزها. فرع آخر إذا جوزنا وعقد عليهما عقدًا واحدًا هل يجب أن يكون البذر لرب المال أو للعامل؟ وجهان أحدهما: يجب أن يكون لرب المال لأنه أصل النماء كالنخيل، والثاني: يجب للعامل لأن الأصل هو الأرض والبذر يجري مجرى المؤن فيكون على العامل وقيل: البذر على من شرط منهما وكذلك البقر، ولو شرط البذر على العامل والبقر على رب المال وجهان لأن عمل البقر ينقطع قبل خروج الزرع وإدراكه. فرع آخر لو شرطا التبن لصاحب البذر والحب للثاني وجهان، ولو شرطا أن يكون التبن والحب لهما جاز. فرع آخر لو كان بين [142/ ب] النخل المساقاة زرع لرب النخل كالموز والبطيخ وقصب

السكر فساقاه على النخل والزرع معًا على أن يعمل فيها بالنصف منها فيه وجهان تجوز المساقاة في الزرع تبعًا للمساقاة في النخل كما تجوز المخابرة تبعًا للمساقاة، والثاني: لا تجوز، والفرق أن المساقاة على الزرع هي استحقاق بعض الأصل والمخابرة على الأرض لا يستحق فيها شيء من الأصل. فرع آخر لو كان في البياض بين النخيل زرع ثابت هل يجوز المزارعة عليه؟ وجهان مبنيان على القولين في الثمرة الخارجة هل تجوز المساقاة عليها أم لا. فرع آخر إذا زرع العامل البياض من غير إذن رب النخل قال الشافعي: هو كمن زرع أرض غيره لغير إذنه يعني أنه بمنزلة الغاصب، وقد ذكرنا، وقال أبو حنيفة: إذا زرع أرض غيره وقلعه مضر بالأرض أجبر الزارع على أخذ قيمته مقلوعًا إذا أراد صاحب الأرض، وعندنا لا يجبر عليه. فرع آخر لو قال: ساقيتك على النخل والأرض بالنصف لم يصح في الأرض لأن المساقاة لا يتناولها وصح في النخل ويجب أن يبنى هذا على تفريق الصفقة. مسألة: قال: "ولا تجوزُ المساقاةُ إلا على جزءٍ معلومٍ" الفصل وهذا كما قال: إذا ساقاه على جزء معلوم من الثمار يجوز كما قلنا في القراض، ولا فرق بين أن يشترط له الأقل ولرب المال الأكثر أو بالضد من هذا ولا يجوز حتى يكون السهم معلومًا من جميع ثمرة النخل، ولو ساقاه على أن لرب المال ثمرة نخلاتٍ بعينها وثمرة الباقي للعامل أو على أن للعامل ثمرة نخلاتٍ بعينها ولرب المال ما بقي أو على أن لرب المال صاعًا منها وما فضل للعامل أو على أن للعامل صاعًا منها ولرب المال ما بقي فالكل باطل لأنه يفضي إلى أن ينفرد أحدهما: بكل الثمار ولا شيء لصاحبه فيه، فإن عمل فله أجر مثله فيما عمل والثمرة كلها لرب النخل وهكذا الحكم في كل موضع حكمنا بفساد المساقاة. مسألة: قال: " ولو دخلَ في النخلِ على الإجارة" [143/ أ]. الفصل وهذا كما قال: هذه المسألة ليست من كتاب المساقاة وإنما هي من كتاب الإجارة، وإنما ذكرها الشافعي ها هنا ليبين الفرق بين المساقاة والإجارة فإن المساقاة جائزة على ثمرةٍ لم تخلق ولا تجوز الإجارة عليها إلا بعد وجودها، فإذا ثبت هذا نقول: إذا استأجر

رجلًا ليعمل له عملًا ثمرة النخل لا تخلوا الثمرة من أن يكون معدومة أو موجودة، فإن كانت معدومة لا يجوز أن يستأجر على بعضها، وإن كانت موجودة لا يخلو إما أن يكون قد بدأ فيها الصلاح أو لم يبد، فإن كان قد بدأ فيها الصلاح فالإجارة جائزة من غير شرط القطع سواء جعل جميع الثمرة له أو جزءًا معلومًا منها أو ثمرة نخلاتٍ بعينها، وإن لم يبد فيها الصلاح لا يجوز العقد عليها إلا بشرط القطع كما قلنا في البيع وإذا شرط القطع، فإن شرط له جميع الثمرة جاز لأنه إذا جاز أن يكون مبيعًا جاز أن يكون أجرةً، وإن شرط له جزءًا معلومًا لا يجوز لأنه لا يقدر على قطعه إلا بقطع جميعه ولا سبيل له إلى قطع نصيب صاحبه بوجهٍ من الوجوه فلم يصح العقد عليه بهذا الشرط، وإن كان بلفظ المساقاة لا يخلو إما أن تكون الثمرة موجودة أو معدومة، فإن كانت معدومة جاز، وإن كانت موجودة قال في "الأم" إذا ساق على ثمرةٍ حصلت جاز لأنه إذا جاز والثمرة معدومة كان جوازها والثمرة موجودة أولى لأن الغرر أقل وبه قال مالك. وقال في "البويطي": إذا ساق عليها وقد خلقت لم تجز فالمسألة على قولين ووجه ما قال في البويطي أن الثمرة إذا ظهرت دخلت في ملكه فلا يجوز أن يشترط سهمًا من عين ملكه كما في القراض، ولأن علة جوازها أن يكون لعلمه تأثير في حصول الثمرة كما يكون في القراض لعمل العامل تأثير في حصول الربح وهذا أصح وهذا إذا كان بقي من العمل عليها ما فيه مستزاد في الثمار مثل السقي وتصريف الجريد وقطع الحشيش المضر [143/ ب] بالنخل، فأما إذا لم يبق من العمل عليها ما فيه مستزاد في الثمرة مثل إن بلغت أوان الجداد لا يجوز قولًا واحدًا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: يجوز قبل بدو الصلاح قولًا واحدًا وبعد بدو الصلاح وجهان، وقال المزني: إن كان قبل بدو الصلاح يجوز وبعده لا يجوز، وقال أبو ثور: إن احتاجت إلى القيام بها حتى تطيب جاز وإلا فلا يجوز، وقال أبو يوسف ومحمد: إن كانت تزيد جاز وإلا فلا يجوز. مسألة: قال: "وكلُّ ما كانَ فيه مستزاد في الثمرةِ من إصلاحِ الماءِ". الفصل وهذا كما قال: الأعمال التي تعمل في النخل على ثلاثة أضرب أحدها ما كان مستزادًا في الثمرة ولا يزاد لأجل النخل مثل التلقيح والسقي وتصريف الجريد وإصلاح الآبار والأجاجين وهي المواضع التي يجتمع الماء فيها تحت النخيل وقطع الحشيش المضر بالنخل وإدارة ثور الدولاب واللقاط عند اللقاط والصرام عند الصرام ونحو ذلك يستحق على العامل من غير شرط، فإن شرطها في عقد المساقاة على رب النخل لم

يصح قال القفال: ومن جملة هذا تنقية البئر أو النهر من الحمأ الذي فيه لا من تراب آخر طرح فيه فطمت به. وقال بعض أصحابنا: في اللقاط والجداد وجهان أحدهما: ما ذكرنا، والثاني: لا يلزم العامل إلا بشرط لتكامل الثمرة بغيره، وقال في "الحاوي": السقي وقطع الحشيش المضر بالنخل مما يعود نفعهما إلى النخل والثمرة معًا، فإن كان مما لا تصلح الثمرة إلا به كالسقي فيما لا يشرب بعروقه من النخل فهو على العامل يستحق من غير شرط، وإن كان مما يشرب بعروقه كنخيل البصرة فهو وغيره من الشروط التي تكون من هذا الجنس على ثلاثة أوجه أحدها أنها على العامل والشرط فيه تأكيد لما يه من صلاح النخل وزيادة الثمرة، [144/ أ] والثاني: أنها على رب النخل واشتراطها على العامل يبطل العقد لأنه بصلاح النخل أخص منه بصلاح الثمرة، والثالث: يجوز اشتراطها على العامل لما فيه من زيادة الثمرة، ويجوز اشتراطها على رب النخل لما فيه من صلاح النخل، وإن أغفل لم يلزم واحدًا منهما، أما العامل فلأنه لا يلزمه إلا ما كان من موجبات العقد أو من شروطه، وأما رب النخل فأنه لا يجبر على تثمير ماله. وقال أبو إسحاق: إذا أهمل ذكر هذا العمل في العقد ولم يشترط على واحدٍ منهما لم يصح العقد لأنه ليس أحدهما: بالتزامه بأولى من الآخر حكاه القاضْي الطبري. والثاني: ما يراد لأجل النخل وليس فيه مستزاد في الثمرة مثل سد الحظار وإصلاح الدولاب وحفر الأنهار لاستخراج الماء فهذا كله على رب المال، فإن شرط على العامل بطل عقد المساقاة. وقال بعض أصحابنا: يبطل الشرط وتصح المساقاة بناءً على الشرط الزائد في الرهن يبطل ولا يبطل الرهن في أحد القولين، وقال مالك: يجوز أن يشترط على العامل كل ما يعود نفعه إلى رب النخل من عمارة الحائط ونحوها، والثالث: ما يراد للنخيل والثمرة كالثور الذي يدير الدولاب وكسح النهر لإجراء الماء فيه ونحو ذلك قال أكثر أصحابنا يجوز شرطها على العامل ويجوز شرطها على رب المال وإن أطلق بطل هكذا ذكره القاضي الطبري وقد ذكرنا في ثلاثة أوجه وقيل: ثور الدولاب كبناء الدولاب ولا يجوز شرطه على العامل قولًا واحدًا وهذا أقيس عندي، وكذلك كسح الأنهار لإجراء الماء إلا على ما وصفنا، وقال بعض أصحابنا: كل ما قلنا أنه على العامل إذا شرطه على رب المال يبطل العقد إلا السقي فإنه قال في البويطي: إذا شرط سقي الماء على رب المال يجوز لأن الشافعي قال: لو ساقاه على بعلٍ جاز والبعل لا يشرب بعروقه من غير سقي وبالله التوفيق.

كتاب الشرط في الرقيق

كتاب الشرط في الرقيق مسألة: [144/ ب] قال: "ولا بأسَ أنْ يشترطَ المساقي على رب النخل غلمانًا يعملون معه". الفصل وهذا كما قال: إذا شرط العامل على رب المال غلمانًا يعني عبيدًا يعملون معه في المساقاة أطلق الشافعي أنه يجوز، واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: إنما يجوز أن يعملوا من على السيد أن يعمله من سد الحظار وحفر الآبار، فإما أن يعملوا ما فيه مستزاد في الثمرة لا يجوز ذلك لأن عملهم كعمل رب المال ولا يجوز شرط ذلك، كذلك لا يجوز هذا وكما ذكرنا في القراض لا يجوز، ومن أصحابنا من تمسك بظاهر النص وقال: يجوز ذلك لأن ذلك مما يتوصل العامل به إلى تمام العمل ومقصود العقد، والفرق بينهم وبين ما لو شرط رب المال العمل معه لا يجوز أن الرقيق يجوز أن يكون في العمل والتدبير تابعًا للعامل، ولا يجوز أن يكون رب المال تابعًا وهذا اختيار عامة أصحابنا والمذهب الصحيح في القراض أنه لا يجوز ذلك، والفرق بينهما أن في المساقاة يجوز أن يشترط على رب النخل الثور وكسح النهر فجاز أن يشترط غلمانه أيضًا، وفي القراض لا يجوز أن يشترط غير الغلام فكذلك لا يجوز شرط الغلام، فإذا تقرر هذا إنما يجوز شرط الغلمان بشرطين أحدهما: أن يكون عددهم معلومًا وعملهم على طريق التبع للعامل ولا ينفردون بالتدبير، والثاني: أن العامل لا يستعملهم في غيره فإنه يكون قد انفرد بمنفعةٍ لم يشارك رب النخل فيها، واعلم أنه يقال للعامل المساقي ولرب المال أيضًا لأن كلٍ واحدٍ منهما ساقي لصاحبه والمساقى بفتح القاف أظهر لكن المساقي أصح في اللغة. فرع لو شرط غلمانًا موصوفين غير معينين يصح، وقال مالك: لا يجوز حتى يعينوا اعتبارًا بعرف أهل المدينة في تعيين العبيد في المساقاة وهذا غلط لأن الصفة تقوم مقام المشاهدة. فرع آخر لا فرق في هذا الشرط بين غلمان القراح وغيرهم، وقال مالك: [145/ أ] لا يجوز أن يشترط عمل غير غلمان القراح وهذا غلط لما قال الجميع ملك السيد فلا فرق،

وحكي عن مالك أنه قال: غلمان هذا الحائط الذين كانوا يعملون فيه دخلوا في المساقاة من غير شرطٍ وهذا غلط لأنه كان يستغني بهم عن العامل وإنما أدخل العامل في الوسط ليصرف غلمانه إلى شغلٍ آخر. فرع آخر يجوز لرب المال أن يشترط على العامل غلمانًا يعملون مع نص عليه الشافعي لأن العمل أخص بالعامل من رب المال فلما جاز اشتراط ذلك على رب المال فعلى العامل أجوز. فرع آخر يجوز في حق العامل سواء عينوا أو وصفوا وأطلقوا بخلاف اشتراطهم على رب المال، والفرق أنهم في اشتراطهم على رب المال مستثنون من عملٍ وجب على العامل فوقعت الجهالة بإطلاقهم وهم في اشتراطهم على العامل داخلون في جملة المستحق عليه فلم تقع الجهالة بإلاقهم. مسألة: قال: "ونفقةُ الرقيقِ على ما يتشارطهانِ عليه". وهذا كما قال: إذا شرطا نفقة الغلمان المشروطين على العامل صح، وتكون النفقة عليه بالمعروف غير مقدرةٍ ولا موصوفةٍ لأنها استعانة فقط فلم يفتقر إلى معرفة المقدار والجنس، وقال محمد: لا يجوز حتى يقدرها لأنها تكون مجهولة وهذا لا يصح، لأنه لو وجب تقديرها لوجب بيان صفاتها ولا يجب ذلك بالاتفاق، وإن شرطا على رب المال جاز أيضًا لأن بعمل الغلمان تحصل منفعة الأصل ومنفعة الثمار فجاز شرط نفقتهم على رب المال والعامل جميعًا، ويجوز أن يشترطا أن يكون النصف على هذا والنصف على الآخر. وقال مالك: لا يجوز إلا أن تكون نفقتهم على العامل فإن شرط على المالك لم يجز وهذا غلط لأن الأصل أن نفقة المملوك على مالكه فجوزنا شرطها على العامل بالاتفاق فقول من يقول: لا يجوز شرطها على المالك محال [145/ ب] واحتج الشافعي ها هنا عليه بأن قال: وليس نفقة الرقيق بأكثر من أجرتهم، فإذا جاز أن يعملوا للعامل من غير أجرةٍ عليه لهم مع كون منافعهم لسيدهم جاز أن يعملوا له من غير نفقةٍ عليه بل تكون نفقتهم على السيد، واحتج مالك بأنهم يعملون للعامل فإن العمل كله عليه فيجب أن تكون نفقتهم عليه قلنا: النفقة على المالك لا على المنتفع كمن آجر عبده أو أعار فالنفقة على المالك والمنفعة للغير. ومن أصحابنا من قال: هذا الذي ذكرنا ظاهر كلام الشافعي والقياس يوجب أن لا تجب نفقة المملوك على غير المالك، ولا يجوز شرطها على العامل ويحتمل هذا

باب مسائل المزني

الظاهر تأويل المقدار في النفقة المشروطة على السيد أي: إذا شرط العامل على السيد مقدارًا معلومًا لنفقة العبيد تقوم به الأبدان وتقوي على العمل كان ذلك المقدار واجبًا عليه على حسب ما يتشارطان إذ ربما تحوجهما الحالة إلى استيفاء النفقة جملةً، لأنها لو أخذت من السيد يومًا بيومٍ فربما ينقطع عمل العبيد لطلبها واستيفائها وهذا خلاف ظاهر اللفظ ذكره بعض أصحابا بخراسان. فرع لو أطلقا العقد وأغفلا عن اشتراط النفقة فيه وجهان أحدهما: يصح العقد لأن النفقة تبع العقد وهذا اختيار أبي حامد وجماعة، والثاني: لا يصح العقد للجهل بمحل النفقة وهذا اختيار القاضي الطبري، فإذا قلنا بالوجه الأول قال أبو حامد: يلزم المالك بحق الملك لأنه لا يلزم العامل إلا بالشرط ولم يوجد ذلك فلا نلزم إلا المالك، وقال في "الحاوي": فيه ثلاثة أوجه أحدهما: على العامل لاستحقاق العمل عليه، والثاني: على رب النخل لاشتراط عملهم عليه وأنه لما سقطت أجرتهم عن العامل سقطت نفقتهم عنه، والثالث: أنها من وسط الثمرة لاختصاص عملهم بها [146/ أ] فعلى هذا إن لم تأت الثمرة أخذ بها حتى يرجع بها في الثمرة إذا أنت. فرع آخر لو شرط أن تكون نفقاتهم من وسط الثمرة، فإن كان عملهم قبل حدوث الثمرة فهو باطل لعدم محلها، وإن ما لم يخلق لا يجوز أن يكون عوضًا على عمل، وإن كان عملهم بعد حدوث الثمرة، فإن كانت نفقاتهم من غير جنس الثمرة فتباع الثمرة ويصرف ثمنها في نفقاتهم لم يجز لأن الثمرة غير مستحقة والنفقة غير ثابتة في الذمة، وإن كانت نفقاتهم من نفس الثمرة يأكلونها قوتًا فيه وجهان أحدهما: يجوز لوجود محلها وأن الثمرة لما كانت لهما وجاز اشتراط النفقة على كل واحدٍ منهما جاز اشتراطهما في الثمرة التي هي لهما، والثاني: لا يجوز لأنه غير متعلقٍ بذمة ولا معلوم يستحق من عين وهذا أصح. باب مسائل المزني قال المزني: هذه مسائل أجبت فيها على معنى قوله قال: فمن ذلك لو ساقاه على نخلٍ سنين معلومة على أن يعملا الفصل. وهذا كما قال: إذا شرطا في المساقاة أن يعملا جميعًا لم يجز لأن العامل يجب أن يأخذ حصته من الثمرة بعمله، فإذا شرط عمل رب المال أخذ الحصة بعمل رب المال مع عمله فلا يجوز لأنه لا يجوز أن يشترط العمل على رب المال، كما لا يجوز لرب المال أن يشترط العمل عليه شيئًا من النخيل وأيضًا ما قال المزني لأنه أعانه معونة مجهولة الغاية بأجرةٍ مجهولة، وقال أبو

إسحاق: هذه العلة غير صحيحة لأنها لو صحت لبطل عقد المساقاة لأن العامل لا يعلم أبدًا قدر علمه وبالإجماع يجوز ولوجب إذا جعل ذلك العمل معلومًا أن يجوز، ولوجب إذا أعاره الغلمان لا يجوز، وقال في "الحاوي": العلة الصحيحة أن اشتراط عمل رب المال يقتضي لزوم ذلك ولا يلزم الإنسان العمل في ماله وعمل غلمانه حق تعلَّق بماله كما [146/ ب] يتعلق به غير ذلك من الحقوق فجاز، وعلى هذا لو شرط العامل على رب المال عملًا معلومًا كالسقي والتلقيح لا يجوز على هذه العلة وعلى ما علل المزني يجوز لانتفاء الجهالة عنه. مسألة: قال: "ولو ساقاهُ على النصفِ على أنْ يساقيهِ في حائطٍ آخرَ على الثلث لم يجز". وهذا كما قال: إنما لم يجز هذا لأنه عقد معه عقدًا وشرط عقدًا آخر فصار كبيعتين في بيعة، وهكذا لو قال: ساقيتك في هذا على النصف على أن تساقيني أنت في نخيلك على النصف لم يجز كما لو قال: بعتك عبدي بكذا على أن تبيعني دارك بكذا، ثم المساقاة الثانية جائزة لأنها خالية على الشرط إلا أن تجعل إيجاب أحد العقدين إيجابًا للآخر فلا يجوز، ولو قال: ساقيتك عليهما على أن لك النصف من هذا والثلث من هذا جاز لأنه يجوز أن تجمع صفقة واحدة شيئين مختلفين بعوضين مختلفين كما لو قال: بعتك هذا العبد وهذا العبد بثلاثة آلاف درهم هذا بإلفٍ وهذا بألفين جاز. فرع إذا فسدت المساقاة للعامل أجر مثله ربح أو خسر وذكرنا عن مالك أنه إن خسر في القراض الفاسد لا يكون للعامل أجر المثل ومثله نقول في المساقاة. فرع آخر أجر المثل فيهما يختلف باختلاف المال ويعتبر بأجرة مثله في الإجارة، وحكي عن مالك أنه قال: إذا حصل الربح في القراض يعطي أجر المثل من الربح ومعناه أنه إن قارضه على النصف قراضًا فاسدًا، وقال أهل العلم: بذلك التصرف إنما يعامل في مثل هذا العمل على الثلث فله ثلث الربح لا أجر مثل عمله ومثله نقول في المساقاة الفاسدة وهذا غلط لأنه أتلف منافع نفسه على شرط العوض فإذا لم يسلم له ذلك العوض فله أجر مثله كما في الإجارة. مسألة: قال: "فإن ساقاهُ أحدهما على نصفِ نصيبه، والآخرُ على ثلثِ نصيبهِ". الفصل وهذا [147/ أ] كما قال: صورة المسألة إذا كان بستان بين رجلين فساقى أحدهما:

في نصيبه على النصف والآخر في نصيبه على الثلث جاز، لأن العاقد إذا كان اثنين كان العقد عندنا بمنزلة عقدين، فإذا تقرر هذا لا يخلو البستان من أن يكون بينهما نصفين فيجوز سواء شرطا نصفين أو شرط أحدهما أقل من الآخر، وإن كان نصيبهما مختلفًا نظر، فإن اشتراطا له من نصيب كل واحدٍ منهما نصفه صح لأنه يعلم أنه يستحق على كل واحدٍ منهما نصف ثمرته، وإن اشترط أحدهما أقل والآخر أحدهما أقل والآخر أكثر مثل أن يشترط أحدهما نصف نصيبه والآخر ثلثه فإن علم صاحب الأقل من النخل وصاحب الأكثر جاز وإن لم يعلم صاحب الأقل من صاحب الأكثر لم يجز لأنه لا يدري أن من شرط له الثلث هو صاحب الأقل من النخل أو صاحب الأكثر، فإن كان صاحب الأقل كثر نصيب العامل لأنه يأخذ نصيب الأكثر، وإن كان صاحب الثلث صاحب الأكثر من النخل قل نصيب العامل فإذا كان كذلك لم يصح العقد حتى يعلم أن الذي شارطه على الثلث هو صاحب الأكثر من النخل أو صاحب الأقل، وإن كان البستان لواحدٍ فساقى عليه رجلين وشرط لأحدهما: الثلث وللآخر النصف جاز وكذلك إن شرط النصف لهما والنصف لنفسه. مسألة: قال: "ولو ساقاهُ على حائطٍ فيهِ أصنافُ ثمرٍ". الفصل وهذا كما قال: إذا كان البستان يجمع أنواعًا من النخل فساقى رجلًا عليها لا يخلو من أحد أمرين إما أن يشترط النصف من جميع ما في البستان فهذا يجوز، وإن لم يعرف مقدار كل نوع من النخل لأنه يسلم أنه يستحق نصف كل نوعٍ قل أو كثر، وإن خالف بين الأنصباء فقال: لك من الدقل النصف، ومن العجوة الثلث، ومن الصيحاني الربع لا يجوز حتى يعرف كل واحد من رب النخل والعامل قدر كل صنفٍ من النخل بالمشاهدة حتى يعلم مقدار ما يستحق عنه الأقل وما يستحق منه الأكثر وصار هذا كما لو ساقى [147/ ب] على ثلاثة حوائط لا يجوز حتى يعرف كلها. مسألة: قال: "ولو ساقاهُ على نخلٍ على أن العاملِ ثلث الثمرة ولمْ يقولا غيرَ ذلك كان جائزًا". وهذا كما قال: إذا بين نصيب العامل ولم يبين الباقي يجوز وجهًا واحدًا وما بعد نصيب العامل لرب النخل ولو بين رب النخل لنفسه نصيبًا ولم يذكر الباقي لمن يكون ظاهر المذهب أنه لا يجوز، ومن أصحابنا من جوّز اعتمادًا على المفهوم وكما أن أصحابنا اختلفوا في المفهوم اختلفوا في هذه المسألة ونظير هذا قد ذكرنا في القراض وحكمهما سواء. مسألة: قال: "ولو كانَ النخلُ بين رجلين فساقى أحدهما صاحبهُ".

الفصل وهذا كما قال: إذا كان بستان بين رجلين فساقي أحدهما: شريكه على أن يعمل فيه فإن شرط له أكثر من نصيبه من الثمرة جاز، وتكون الزيادة في مقابلة عمله وإن شرط له مثل نصيبه من الثمرة بالملك أو أقل منه كان فاسدًا فإن عمل فيه على ذلك كانت الثمرة بينهما نصفين قال المزني: ولا أجرة له لأنه عمل من غير بدلٍ قال أبو إسحاق: وهذا صحيح لأنه دخل فيه على أن يكون متبرعًا بعمله وإنما يكون له أجر مثله إذا شرط لعمله عوضًا وكان فاسدًا وخرج ابن سريج فيه وجهًا آخر أن له أجر مثله فيما عمل في نصيب شريكه لأن عقد المساقاة يقتضي العوض، فإذا كان فاسدًا رجع إلى أجر المثل وهو كقوله: زوجتك بلا مهرٍ وبعتك بلا ثمنٍ ومن قال بالأول أجاب عن هذا بأنه يفارق النكاح لأن البضع لا يستباح بغير عوض، وإذا قال: بعتك بلا ثمنٍ يحتمل أن لا يسلم ومن سلم اعتذر بأنه لم يملك بذلك ولكنه يضمنه باليد وها هنا لم يحصل العمل في يده بل تلف في يد صاحبه فلا ضمان على واحدٍ ونظير هذه المسألة قد ذكرنا في القراض. مسألة: قال: "ولو ساقي أحدهما صاحبهُ نخلٍ بينهما سنة معروفة على أن يعملا فيها جميعًا على أنّ لأحدهما: الثلث ولآخر الثلثين لم يكن لمساقاتهما معنى". وهذا كما قال: إذا ساقى أحدهما صاحبه على أن يعملا فيه [148/ أ] لم تصح المساقاة لأنه يجب أن يكون العمل من أحدهما فإذا شرط أن يكون من كليهما عمل لا يجوز فإن عملا على ذلك كانت الثمرة مقسومة نصفين على قدر المالين ثم ينظر في العملين، فإن كان سواء لم يرجع أحدهما على صاحبه بشيء، وإن كان عمل أحدهما أكثر نظر، فإن كان صاحب الأكثر قد شرط لنفسه زيادة الثمرة على ما يستحقه بالملك كان له أجرة المثل في مقدار ماله من زيادة العمل، وإن لم يكن شرط لنفسه زيادة الثمرة فهو متبرع بالعمل فعلى قول المزني لا أجرة وعلى ما خرّجه ابن سريج له أجر المثل فيما له من زيادة العمل وهو ضعيف، وقال بعض أصحابنا: يستحب مع التساوي في العمل أن يستحل أحدهما من الثاني مخافة أن يكون عمل أحدهما فيما خفي عليهما أكثر من الثاني وكذلك جميع الأكرة والعاملين المجتمعين على الأعمال المشتركة. مسألة: قال: "ولو ساقي رجلًا على نخلٍ مساقاةً صحيحةً فأثمرت ثم هربَ العاملُ". الفصل وهذا كما قال: إذا ساقاه على نخلٍ فعمل بعض العمل ثم هرب لا تنفسخ المساقاة

بهربه لأنها عقد لازم ثم إذا جاء رب النخل إلى الحاكم فاستعدى عليه لزمه أن يعدّيه فإن وجده أجبره على العمل لأنه لزمه فيجبره عليه عند الامتناع، وإن لم يجده نظر، فإن كان له مال حاضر اكترى منه من يعمل مكانه، وإن لم يجد له مالًا ووجد من يعمل ويأخذ أجرته من الثمرة اكتراه، وإن لم يجد من يؤُخّر أجرته أقرضه من بيت مال المسلمين وقضاه من الثمرة، وإن لم يكن في بيت المال مال استقرض له من غيره واستأجر، وإن تعذر ذلك أمر رب النخل بأن يكتري من مال نفسه من يقوم مقام العامل واستأجر، وإن تعذر ذلك أمر رب النخل بأن يكتري من مال نفسه من يقوم مقام العامل حتى تكون الأجرة في ذمته ويقضيه حقه من ثمرته التي هي حصته، أو يأمره بأن يعمل بنفسه حتى تكون أجرة عمله على العامل ويقضي من نصيبه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجه آخر أنه لا يؤتمن فيما يرجع به على الغير فيأمر واحدًا حتى يأخذ [148/ ب] منه ذلك وينفق وهذا ضعيف. وهل يجوز أن يساقي الحاكم على نصيب العامل الهارب؟ قال ابن أبي هريرة: يجوز وكذا قاله القاضي أبو الحاكم على نصيب العامل الهارب؟ قال ابن أبي هريرة: يجوز وكذا قاله القاضي أبو حامد في "الجامع" وهذا قبل بدو الصلاح فيساقي الحاكم عليها لأجل ما بقي من العمل فيها رجلًا آخر بسهمٍ مشاعٍ في الثمرة ويدفعه إليه من حصة العامل عند حصول الثمرة وتناهيها ويعزل الباقي من حصته إن بقي محفوظًا له إن عاد ويأخذ رب المال حصته. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز ذلك وهو الأصح لأنه يجب أن تكون المساقاة من جهة أحدهما: النخل ومن جهة الآخر العمل، فأما العامل الهارب ليس له إلا العمل فلا يجوز أن يساقي على عمله الذي استحقه في النخل، وإن لم يكن لرب النخل مال وليس هناك من يساقي في نصيبه لم تخل الثمرة من أحد أمرين إما أن تكون الثمرة ظهرت، أو لم تظهر فإن لم تظهر فهل لرب النخل الفسخ؟ المذهب أن له فسخ المساقاة لأنه تعذر العمل من جهة العامل، فإذا فسخ عادت الثمرة إليه ويكون للعامل الأجرة فيما عمل ولا نقول: لا يستحق شيئًا إلا بآخر العمل كالجعالة لأن هذا عقد لازم كالإجارة. وقال في "الحاوي": الأصح عندي هذا لأنه بالتعذر ظهر عيب يثبت به الخيار في المقام عليها أو الفسخ فإن أقام عليها صار متطوعًا بالباقي من العمل وللعامل حصته من الثمرة، وإن فسخ صار العقد منفسخًا في الباقي من العمل ثم الصحيح من مذهب الشافعي لزومه في الماضي من العمل وتكون حصة العامل من الثمرة مقسطة على العملين الماضي منه والباقي فيستحق العامل منها قابل الماضي من عمله ويستحق رب النخل ما قابل الباقي من عمله مضمومًا إلى حصته وهذا حسن غريب، وإن كانت الثمرة ظاهرة قلنا لرب النخل: هذه ثمرة مشتركة بينكما فإن اخترت البيع بعنا فإذا اختار البيع نظر، فإن كان بعد بدو الصلاح بعنا الكل واكترى عن العامل من يعمل عنده بقية

العمل، وإن لم يكن بدا صلاحها بيعت بشرط القطع وحفظ على العامل نصيبه [149/ أ] منها فإنه لم يبق بعد قطعها عمل، وإن كان رب المال ممتنعًا من البيع واختار أن يشتري نظر، فإن كان بعد بدو الصلاح فاشتراها جاز، وإن كان قبل بدو الصلاح هل يصح الشراء مطلقًا؟ وجهان لأن المشتري مالك النخل فإن قلنا: يصح فلا كلام، وإن قلنا: لا يصح فلا يمكن البيع بشرط القطع لأنه لا يمكن قطع البعض إلا بقطع الكل فيضر ذلك بصاحب النخل، وإذا لم نجوّز البيع هكذا أو جوّزنا ولكنه امتنع من الشراء قال المزني في "جامعه الكبير": يقال له: انصرف فما بقي لك عندي حكومة هذه الثمرة مشتركة بينكما وقد أبيتما إلا الخصومة فاذهبا حتى تصطلحا وهكذا ذكره أبو إسحاق وذكر في "الحاوي" الوجه الذي ذكرنا إذا لم يبد صلاحها هذا كله إذا رفعه رب النخل إلى الحاكم فإن أنفق عليه من غير إذن الحاكم نظر، فإن كان في البلد حاكم لم يرجع بما أنفقه وكان متبرعًا، وإن لم يكن هناك حاكم فإن لم يشهد أو أشهد ولم يشرط الرجوع لم يرجع بشيء، وإن شرط الرجوع فهل يرجع بما أنفق؟ وجهان والأصح أنه يرجع لأنه مضطر إليه وقيل: فيه ثلاثة أوجه أحدها: يرجع، والثاني: لا يرجع، والثالث: إن أشهد يرجع وإن لم يشهد لا يرجع. مسألة: قال: "ولو علمَ منه سرقة النخلِ". الفصل وهذا كما قال: إذا ساقي رجلًا على نخلٍ فالعامل أمين في النخل فإذا ادعى عليه رب النخل أنه سرق أو خان وحصر الدعوى وبين مقدار ما سرق سمع دعواه وكان القول قول العامل مع يمينه فإن حلف برئ، وإن نكل عن اليمين رددنا اليمين على رب النخل، فإذا حلف وكانت له بينة فأقامها قضي عليه بما لزمه قال المزني ها هنا واكترى الحاكم عليه من يقوم مقامه في العمل في النخل، وقال في موضع آخر: يكتري عليه من يكون معه ليحفظه من الخيانة وليس هذا باختلاف القول ولكن أي الأمرين رآه الحاكم فعله فإن رأى إزالة يده عنها ومنعه منها وإقامة غيره مقامه فيها فعل وهذا بأن يكون الرجل قويًا لا يمكنه حفظه من الخيانة، وإن رأى أن يضم إليه من يحفظه [149/ ب] فعل وتكون أجرته في مال العامل لأن العمل مستحق عليه، فإذا احتيج إلى عمل غيره بسبب كان منه وجب أن تكون الأجرة عليه وليس لرب النخل فسخه بظهور الخيانة كما لو ظهر من المرتهن خيانة في المرهون لا يفسخ الراهن الرهن، وقال أصحاب مالك: لا يقام غيره مقامه بل يحفظ من الخيانة. فرع لو كان مراد رب النخل رفع يد العامل بالخيانة عن الثمرة دون تغريم ما سرق هل

تسمع الدعوى مجهولةً؟ فيه وجهان أحدهما: تسمع لاستواء الحكم في رفع يده بقليل السرقة وكثيرها، والثاني: لا تسمع إلا معلومةً لأن رفع يده بها فرع على استحقاق الغريم فيها فصار حكم الغرم أغلب فإن قلنا: تسمع يحلف العامل، فإن نكل يحلف المالك ثم يرفع الحاكم يده أو يضم إليه من مال غيره على ما ذكرنا. مسألة: قال: "وإن ماتَ قامَ وارثهُ مقامهُ". وهذا كما قال: إذا مات أحد المتساقيين لم ينفسخ عقد المساقاة لأنه عقد لازم كالإجارة، فإن كان الميت رب المال فالعامل يعمل على ما تشارطا عليه فإذا صرمها قاسم ورثته على الشرط الذي كان بينه وبين الميت، وإن كان الميت هو العامل قال المزني في "الجامع الكبير": إن عمل الوارث فيها كان له فإن أبى الوارث لا يلزمه أ، يعمل لأن العمل استحق على العامل دون الوارث، ثم قال أصحابنا: إن كان له تركة يستأجر من ينوب عنه بأجرة مؤجلة فإن تطوع رب النخل بالإنفاق أو بالقرض فعل، وإن امتنع نظر، فإن لم تكن الثمرة ظاهرة حرفًا بحرفٍ وقد شرحنا ذلك، وهكذا لو كان حيًا فضعف عن العمل. وقال أبو حامد في "الجامع": من أصحابنا من قال: يلزم الورثة أن يعملوا كما يلزم مورثهم لو كان حيًا وما ذكر المزني أراد إذا ضعف عن العمل فإنه إذا مرض اكترى عليه الحكم من يقوم بذلك، فإن لم يجد له مالًا ساقي [150/ أ] السلطان عنه في نصيبه فيكون ما يأخذه العامل الثاني من نصيب العامل العاجز، فإن لم يجد من يساقيه قال السلطان لصاحب المال: أنفق عليه فإذا فرغت أخذنا نفقتك من نصيبه فإذا فضل شيء فهو له، وإن لم يتم فيكون دينًا عليه وهكذا قال في "البويطي" وقال فيه: ويكتب عليه صكًا في ذلك قال القاضي الطبري: هذا القائل أجرى عجزه مجرى هربه هو محتمل جدًا. مسألة: قال: "ولو عملَ فيها العاملُ فأثمرت ثم استحقها ربُّهَا". الفصل وهذا كما قال: إذا عمل العامل في النخيل ثم جاء رجل وأقام البينة أنها له استحقها وسلمت النخيل إليه ونظر في الثمرة فإن لم تكن ظاهرة فللعامل أجر مثله على الغاصب إلى حين أخذ النخل من يده، وإن كانت الثمرة ظاهرة كانت لرب النخل ولا حق للعامل فيها ولا أجرة له على ربها لأنه عمل عليها بغير إذن صاحبها وعمله في النخل أثر لا عين، وهو كما لو غصب من رجل غزلًا وباعه من حائك فنسجه ثم جاء صاحبه فاستحقه بينهما يجب للحائك على صاحبه شيء ويرجع العامل على الغاصب بأجر مثله

لأنه دخل على أن يحصل لعمله عوض، فإن قيل: أليس إذا تلفت الثمرة لا يرجع على الدافع بشيء فكذلك ها هنا قلنا: إذا كان عقد المساقاة صحيحًا فلم تثمر النخل أو أثمرت ثم تلفت فلا أجرة له وها هنا الثمرة باقية سالمة ولكن لا يمكنه أخذ ما شرطه لغرورٍ حصل من الدافع فيرجع بأجرة عمله، وإن كانا قد اقتسما الثمرة وأكلاها فلصاحبها المطالبة بقيمتها وله أن يطالب من يشاء من الغاصب والعامل، فإن أراد مطالبة الغاصب كان له ذلك بجميع قيمة الثمرة لأنه حال بينه وبينها بغصبه وكان هو السبب في حصولها في يده فيلزمه ضمانها، فإذا أخذ منه القيمة رجع الغاصب على العامل بنصف قيمة الثمرة لأنه أخذ النصف بعقد معاوضة وتلف في يده وبان أنه مستحق للغير فيتقرر الضمان عليه ويرجع على الغاصب بأجر مثله عمله، وإن أراد [150/ ب] صاحبها تضمين العامل ظاهر كلام المزني أن له تضمين نصف قيمة الثمرة وليس له تضمين قيمة الجميع. واختلف أصحابنا في هذا فمنهم من قال: بظاهر ما ذكره المزني لأن الثمرة لم تحصل في يد العامل بدليل أنه لا يلزمه حفظها كما يلزم العامل في القراض حفظ مال القراض فإذا لم تحصل في يده لم يضمنها وإنما يضمن القدر الذي حصل في يده وهو النصف الذي أخذه بالقسمة فعلى هذا الوجه يجب على العامل ضمان نصف الثمرة، وعلى الغاصب ضمان النصف الآخر، وإن تلفت الأصول أو شيء منها لم يجب على العامل ضمانه لأنه لم يثبت له يد عليه ولكن يجب ذلك على الغاصب وهذا اختيار القاضي الطبري. ومن أصحابنا من قال: لصاحب الثمرة تضمين العامل جميع قيمة الثمرة لأن الثمرة حصلت في يده من طريق المشاهدة لأنه كان يتصرف فيها ويعمل عليها فيثبت له اليد عليها كالعامل في القراض فعلى هذا إن هلكت أصول النخيل أو شيء منها لزم العامل ضمانه، لأن يده ثبتت عليه وهو اختيار كثير من أصحابنا وهو الأقيس لأن يده كانت مستولية على جميعها حين كانت الثمرة في يده، إذا قلنا: يضمّنه النصف فضمّنه لم يرجع العامل على الغاصب لأنه قبضه بمعاوضة وتلف في يده فاستقر ضمانه عليه على ما ذكرنا، وإن قلنا: يضمنه جميع القيمة فلا يرجع بقيمة النصف الذي قبضه عوضًا عن عمله، وهل يرجع بالنصف الآخر؟ قولان لأنه حصل في يده على أنه أمانة ثم بان أنه ضمان وكان المساقي غرَّه، وإن كانت الثمرة تلفت بآفة سماوية ولم يأكلها بُنيت على الوجهين فإن قلنا: لا يطالب إلا بالنصف فها هنا لا يرجع المستحق عليه بشيء، وإن قلنا: هناك يرجع بالكل فها هنا له الرجوع أيضًا، وإن كانت الثمرة باقية ولكنها نقصت بالجداد والتشميس فلمالكها النقصان وممن يأخذ على ما ذكرنا في كل القيمة. مسألة: قال: "ولو ساقاه على أنهُ إنْ سقاها بماءٍ سماءٍ أو نهرٍ فلهُ [151/ أ] الثلث".

الفصل وهذا كما قال: إذا قال: ساقيتك على أنك إن سقيته سيحًا أو بماء سماءٍ فلك الثلث، وإن سقيته بنضحٍ أو غربٍ فلك النصف فالمساقاة باطلة كما لو قال في القراض: قارضتك على أنك إن ربحت في البرّ فلك الثلث، وإن ربحت في التمر فلك النصف كان باطلًا والثمرة لرب النخل وللعامل أجر المثل. مسألة: قال: "وإن اشترطَ الداخلُ أنَّ أجرة الأجزاءِ من الثمرةِ". الفصل وهذا كما قال: صورة المسألة أن يشترط العامل أن الغلمان يعملون معه وتكون أجرتهم من الثمرة كانت المساقاة فاسدة بلا خلافٍ لأن مقتضى المساقاة أن يكون العمل كله على العامل فإذا شرط أن يعمل معه غيره وتكون أجرته من الثمرة فقد أسقط عن نفسه بعض العمل فلا يجوز، ولأنه لا يجوز تعليق الأجرة على ثمرةٍ معدومة ولم تخرج، ولأنه إذا كان العمل عليه يصير بهذا الشرط كأنه شرط لنفسه شيئًا خاصًا منها ولو شرط لنفسه صاعًا والباقي بينهما لا يجوز مع أن الصاع معلوم فالمجهول أولى أن لا يجوز وهكذا لو كان الأجراء غير الغلمان، ولو سمى فقال: لك النصف وللأجير الذي تستأجره السدس، قال بعض أصحابنا: يجوز وكأنه شرط للعامل ثلثي الثمرة وعندي ليس على هذا الإطلاق بل هو على ما ذكرنا فيما سبق إذا شرط الربح في القراض للزوجة أو الأجنبي وقد ذكرنا حكمه. مسألة: قال: "ولو ساقاه على وديِّ لوقتٍ يعلمُ أنه لا يثمر إليه". الفصل وهذا كما قال: الودي الفسيلان التي لم تدخل في الحمل فإذا ساقاه عليها لا يخلو من أحد أمرين إما أن يكون غير مغروس، أو يكون مغروسًا، فإن كان غير مغروس فقال له: خذ هذه الفسلان واغرسها وقد ساقيتك عليها فهذا لا يجوز، لأن المساقاة لا تجوز إلا على أصول ثابتة، وإن كانت مغروسة ثابتة لا تخلو من ثلاثة أحوال: إحداها: أن يساقيه إلى وقتِ يُعلم أنها لا تثمر فيه فهذا لا يجوز فإن عمل فلا أجرة له على قول المزني لأنه متبرع [151/ ب] بعمله وقد ذكرنا وجهًا آخر أنه يستحق الأجرة. والثانية: أن يساقيه إلى وقتٍ الظاهر أنها تثمر فيه فالمساقاة صحيحة فإن أثمرت استحق ما شرطه، وإن لم تثمر فلا أجرة له لا يختلف أصحابنا فيه لأنه دخل فيه على أن تكون أجرته من الثمرة، فإذا لم تثمر والعقد صحيح لم يستحق شيئًا، وعلى هذا لو ساقاه عشر سنين والظاهر أنها تثمر في السنة الأخيرة جاز وأكثر ما فيه أنه رضي ببذل.

عملٍ كثير ليحصل له سهم قليل، فإن لم تثمر في تلك السنة فلا شيء له على ما ذكرنا، ويفارق هذا إذا ساقاه سنين والنخل مما يثمر على أن له نصف الثمرة من سنةٍ واحدةٍ لم يجز لأن هناك جعل له نصف جميع ما يخرجه النخل، وها هنا جعل له بعض ما يخرجه وهو غير معلوم بالجزية من الجميع فلا يجوز، ولو فسدت المساقاة في هذه المسألة له أجر المثل لجميع السنين لا للسنة الأخيرة لأنه لم يكن متبرعًا بالعمل أصلًا. والثالثة: أن يساقيه إلى وقتٍ يجوز أن تثمر ويجوزم أن لا تثمر وليس أحدهما: بأظهر من الآخر قال أبو إسحاق: المساقاة فاسدة وهو الصحيح لأنه لا يدري هل تحصل له الأجرة أم لا، وفي هذا الموضوع له أجر مثله إذا فسدت المساقاة ولم يثمر لأنه لم يدخل على أن لا يأخذ أجرة لأنه كان يمكن أن يثمر النخل إلى هذه المدة فلم يجعله متبرعًا بعمله، ومن أصحابنا من قال: المساقاة صحيحة لأن الثمرة ممكنة كما نقول في النخيل الكبار، وكما نقول في القراض، وإن كان الربح غير متيقن وهذا غلط لأن الظاهر هناك حصول الغرض بخلاف مسألتنا، فإذا قلنا بهذا فإن لم يثمر فلا شيء للعامل على ما ذكرنا. فرع لو ساقاه على وديّ إلى وقتٍ يعلم أنه يثمر فيه على أن يكون له بعض الثمرة وبعض الودي لم يجز لأنه لا يستحق بعمله إلا ما ينمى بعمله ويزيد قياسًا على مال القراض. مسألة: قال: "ولوْ اختلفا بعدَ أن أثمرتِ النخلُ". الفصل وهذا كما قال: [152/ أ] لو ساقي رجلًا فلما أدركت الثمار اختلفا فقال العامل: ساقيني على أن لي النصف، وقال رب النخل: بل على أن لك الثلث ولي الثلثين تحالفا لأنه اختلاف في مقدار العوض في العقد فحكمه التحالف كالمتبايعين إذا اختلفا في مقدار الثمن أو المبيع تحالفا، فإن حلف أحدهما: ونكل الآخر حكم به لمن حلف، وإن حلفا معًا فسخ العقد ورجعت الثمرة إلى رب النخل ووجب عليه للعامل أجر مثله فإن أقام أحدهما: البينة حكم له بها، وإن أقاما جميعًا البينة قال المزني: ها هنا سقطتا وتحالفا، وفيه قول آخر أنهما تستعملان، وفي كيفية استعمالها ثلاثة أقوالٍ: القسمة، والقرعة، والوقف ولا يجيء ها هنا القسمة والوقف لأن اختلافهما في العقد ولا يجوز قسمة العقد ولا وقفه ويجئ فيه الإقراع فمن خرجت قرعته حكم له ببينته، وهل يحلف مع القرعة؟ قولان وهذان القولان مبنيان على أن القرعة تقدم البينة أو الدعوى، فإن قلنا: يقدم البينة وهو المذهب لا يمين عليه، وإنه قلنا أنه يقدم الدعوى ويكون دلالة على صدق دعواه فعليه اليمين وهذا ليس بشيء، وقال بعض أصحابنا

بخراسان: يأتي فيه قول القسمة فيجعل قدر التفاوت بين دعوتيهما نصفين بينهما وهذا غلط لأنهما اختلفا في المشروط في العقد فيتحالفان كما لو كان قبل العمل. مسألة: قال: "ولو دفعا نخلًا إلى رجلٍ مساقاة فلمّا أثمرت اختلفوا". الفصل وهذا كما قال: إذا كان بستان بين رجلين فساقيا جميعًا رجلًا واحدًا فلما أثمرت النخيل اختلفوا فقال العامل: شرطتما لي النصف ولكما النصف فصدقه أحدهما: وكذبه الآخر وقال: بل شرطت الثلث من حصتي فإن المصدق يقاسمه على النصف ثم ينظر فيه، فإن كان عدلًا شهد للعامل على شريكه وحلف العامل معه واستحق عليه أيضًا النصف، لأن هذه شهادة لا خلل فيه بوجهٍ وبالشاهد [152/ ب] واليمين يحكم فيما طريقة المال، وإن لم يكن عدلًا تحالفا والحكم في يمينهما على ما بيناه. مسألة: قال: "ولو شرطَ له من نصيبِ أحدهما يعينه النصفُ". الفصل وهذا كما قال: إذا كان العامل واحدًا ورب النخيل اثنين فساقيا على النصف من نصيب أحدهما والثلث من نصيب الآخر فإن علموا من يكون له النصف من حصته والمال يكون له الثلث من حصته يجوز، وإن جهلوا أو أحدهم لا يجوز ويشترط أيضًا أن يعلم قدر ملك كل واحدٍ منهما على ما ذكرنا فيما سبق. فرع قال في "الجامع الكبير": لو قال: ساقيتك على هذا النخل بنصف ثمرتها على أن يكون ذلك عوض عملك جاز لأن ما يأخذه العامل يكون كذلك فشرطه لا يؤثر. فرع آخر قال: لو ساقاه على نخل في أرض الخراج كان الخراج على رب المال لأنه يجب على الأصول أثمرت أو لم تثمر. فرع آخر قد ذكرنا أن العامل شريط في الثمرة على الصحيح من المذهب وتجب الزكاة عليهما، وإذا قلنا بالوجه الضعيف تجب الزكاة على رب النخل وحده فمن أين تعتبر؟ قد ذكرنا في القراض ثلاثة أوجه ويجيء ها هنا وجهان أحدهما: في مال رب المال وحده، والثاني: في نصيبهما وبالله التوفيق.

كتاب الإجارات

كتاب الإجارات قال: قال الله تعالى: {فَإنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] الآية وهذا كما قال: اشتقاق الإجارة من الأجر، والأجر هو الثواب وسمى الله تعالى المهر أجرًا يعني عوضًا في مقابلة البضع والأصل في جواز الإجارة الكتاب والسنَّة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {فَإنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فأجاز الإجارة على الرضاع، واللبن قد يقل ويكثر وشرب المرضَع يقل ويكثر فلأن تجوز [153/ أ] سائر الإجارات والضرر فيه أقل أولى وأيضًا قال الله تعالى: {إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَاجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] فجوّز إجارة موسى صلى الله عليه وسلم نفسه لبضع ابنة شعيب صلى الله عليه وسلم وأيضًا قوله تعالى في قصة الخضر وموسى صلى الله عليهما: {فَوَجَدَا فِيهَا جِداَرًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الكهف: 77] فدل على جواز أخذ الأجرة في الإجارة. وأما السنَّة فما روي أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجف عرقه"، وروى سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنهما أنه قال: كنا نكري الأرض بما على السواقي من الزرع فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأمرنا أن نكريها بذهب أو ورق، وروى أبو أمامة التيمي قال: سألت ابن عمر: ألستم تلبون وتطوفون بين الصفا والمروة إن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأل: عما تسألوني عنه فلم يردّ عليه حتى نزل {فَوَجَدَا فِيهَا جِداَرًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا} [البقرة: 198] فتلاها عليه. وروى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجَّام أجره، وروي أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قال ربكم: ثلاثة أنا خصمهم ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطى بي عهدًا ثم غدر ورجل باع حرًا وأكل ثمنه ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى عمله ولم يوفّه أجره"، وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة

ومن كنت خصمه خصمته رجل أعطاني صفقةً يمينه نم غدر"، وروي " رجل أعطى بي ثم غدر" الخبر وأيضًا قال - صلى الله عليه وسلم: "مثلكم ومثل من مضى من الأمم كمثل رجل [153/ ب] استأجر أجيرًا من الصبح إلى الظهر بقيراطٍ ألا فعملت اليهود " الخبر وأيضًا روي أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "أيعجز أحدكم أن يكون كصاحب الفرق" وذكر قصةً ثلاثةً من بني إسرائيل ألجأهم المطر إلى غارٍ وذكر أحدهم إني استأجرت أجيرًا بفرق من بر فعمل ولم يأخذ أجرته فزرعه له حتى نمى وصار قدرًا عظيمًا ثم عاد الأجير فدفع إليه جميعه. وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد الهجرة قال: يا عليّ ارتد لنا دليلا من الأزد فإنهم أوفى للعهد فاستأجر عبد الله بن أريقط الليثى من الأزد دليلًا إلى المدينةً، وروت عائشةً رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر استأجرا رجلًا من الذيل خريتًا عالمًا بالهدايةً، وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "من استأجر أجيرًا فليعلمه أجره". وأما الإجماع قال الشافعي: عمل بها بعض الصحابةَ والتابعين ولا اختلاف في ذلك بين أهل العلم ببلدنا وعوام أهل الأمصار، وروي أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه آجر نفسه من يهودي فاستقى له الماء كل دلو بتمرةٍ حتى استقى بضعا وأربعين دلوًا، وروي أنه كان يستقي الماء لامرأةً يهوديةً كل دلوٍ بتمرةٍ، وقال أبو هريرة: آجرت نفسي من ابنةَ غزوان بملء بطني، وإنما استقصى الشافعي في هذا الفصل لما بلغه من قول بعض السلف وهو ابن كيسان أن الإجارةً لا تصح لأنها لا ترد على منفعةُ لم تخلق بعد إلا أن هذا القائل ليس ممن يعدّ في الفقه خلافه. وروي عن عبد الرحمن الأصم والقاشاني وإسماعيل ابن علية وبعض المتكلمين أنه لا تجوز الإجارةً ولا اعتبار بخلافهم أيضًا لأنهم ليسوا من أهل الصنعةً، وقال الشافعي: هذا القول جهل من قائله ولأن الحاجةَ داعيةً إلى جوازها لأن كل أحدٍ لا يجد دارًا يسكنها [154/ أ] ملكًا ولا يجد من يتطوع به فجوز الإجارةً كما جوّز سائر البياعات فإذا ثبت جوازها فإنما تجوز على الوجهين إما أن يعقد على مدةٍ ومعلومةً، أو على عمل معلوم ولا يجوز أن يقدر المدةَ والعمل معا فيقول: استأجرتك كخيط لي ثوبًا في يوم أو أسبوع خلافًا لأبي يوسف ومحمد لأن ذلك يؤدي إلى التضاد فإنه ربما يفرغ من العمل في المدةً ولا يمكنه أن ينصرف لأنه قد بقي بعض المدة ولا يمكن المستأجر أن يطالبه بالعمل ثانيًا لأنه تمم العمل الذي استأجره عليه وقد يمضي اليوم ولا يكون

قد فرغ من العمل فلا يمكنه أن ينصرف لأنه بقي بعض العمل ولا يمكن المستأجر أن يطالبه بالعمل لأن المدةَ قد انقضت فيؤدي ذلك إلى التضاد فلا يصح. مسألة: قال: "والإجاراتُ صنفٌ من البيوعِ". فاصل وهذا كما قال: الإجارةً صنف من البيوع لأنها تمليك المنافع بعوض فكانت بمنزلةُ تمليك العين الحاضرةً بعوض وهل تنعقد بلفظ البيع؟ وجهان: أحدهما: تنعقد لأنها بيع المنافع، والثاني: لا تنعقد لاختصاصها بالاسم والحكم والإجارةً عقد لازم لا يجوز لأحد المتآجرين فسخها إلا بعيب كما نقول في البيع: فإذا اكترى دكانًا ليبيع فيه بزًا فاحترق البزّ أو أفلس لم يكن له فسخ الإجارة، وكذلك إذا اكترى جملًا ليسافر فمرض وانقطع عن القافلةً ليس له فسخ الإجارةً، وكذلك إذا اكترى دكانا ليبع فيه البز فمرض ولا يتمكن من التجارةً فيه ليس له الفسخ وهذا لأن المعقود عليه بحاله يمكن قبضه والمانع في العاقد دون المعقود عليه فلم يتعلق به ثبوت الخيار وبه قال مالك والثوري وأبو ثور، وقال أبو حنيفة: للمكتري فسخ الإجارةً بالأعذار وكذلك للمكتري وهذا غلط لما ذكرنا من المعنى. فرع لو استأجر ليقلع سنّه للوم جاز فإن سكن الوجع قبل قلعه لم يكن له قلعه ويحرم ذلك وانفسخ عقد الإجارة لأنه بمنزلة تلف المعقود عليه وإن لم يسكن الوجع وامتنع من القلع لم يجبر عليه [154/ ب] وقيل له: إما أن تقلع سنك أو تترك قلعهُ ولكن يلزمك أن تدفع إليه أجرته لأنه مكنك من المعقود عليه وإنما الامتناع من استيفائه من جهتك فهو كما لو اكتريت دارا فمكنك منها فامتنعت من قبضها لزمك أجر المثل كذلك هاهنا. وقال القاضي الطبري: لو مات هذا الأجير بعد هذا التمكين انفسخ العقد عندي لأن المعقود عليه لم يكن مقبوضا للمكتري وإنما تلف في يد المكري، ألا ترى أن من تزوج بامرأةً فمكنته من نفسها كان لها أن تطالب بالمهر فإن طلقها قبل الدخول سقط نصف المهر وإن ارتدت الزوجةً سقط جميع المهر لأنه لم يوجد منها غير التمكين ولم يصر مقبوضًا للزوج فكذلك ها هنا، فإن قيل: أليس إذا اكترى دابةً ليركبها إلى موضع معلوم فحبسها مدةً يمكنه أن يركبها إليه فلم يفعل لزمته الأجرةً وإن تلفت الدابةً في يده بعد مضي هذا القدر من الزمان لم تسقط الأجرة وكذلك إذا مضى من الزمان مقدار ما يمكن قلعه وجب أن تستقر الأجرة قلنا ت هذا غلط لأن منافع الدابة صارت مقبوضةً له فإذا تلفت في قبضه ويده استقرت الأجرةً عليه وها هنا منفعةً القلاع لم تصر مقبوضةً

للمكتري وإنما هي في يده ولا تثبت اليد على الحر بوجهٍ فلهذا يسقط بالهلاك بعده فحصل الفرق بينهما. وقال بعض أصحابنا بخراسان: تستقر الأجرةً بمضي المدة كما في مسألةً الدابةً وما ذكره القاضي أحسن وعلى هذا إذا اكترى رجلًا ليهدم له حائطًا فامتنع صاحب الحائط من هدمه لم يجبر عليه ولزمته الأجرةً وإن مكنه الأجير من عمله وهكذا لو استأجره للقصاص ثم أراد أن لا يقتص أو لقطع اليد للآكلةً ثم بدا له في ذلك. فرع آخر اختلف أصحابنا فيما تناوله عقد الإجارة فقال أكثرهم: تناول المنفعة وبه قال أبو حنيفة ومالك لأن الأجرة في مقابلةً المنفعةً ولهذا تضمن المنفعةً دون العين وإنما يوجه إلى العين كعين المنفعة بها ولو قال: [155/ أ] آجرتك منفعةً هذه الدار تصح الإجارةً، وقال أبو إسحاق: عقد الإجارةَ تناول العين دون المنفعةً ليستوفي من العين مقصوده لأن المنافع غير موجودةً عند العقد ويضاف العقد إلى العين وهذا غلط لأنه تجوز الإجارةً في الذمةَ وإن لم تضف إلى العين. فرع آخر قال الشافعي في أثناء الفصل: وكذلك تملك المنفعةً التي في العبد يريد به أن المستأجر يملك المنفعةَ المعقود عليها إلى المدةً التي اشترط وتحدث المنفعةُ في ملك المستأجر، وقال أبو حنيفة: المنفعةُ تحدث على ملك المؤجر ولا يملكها المستأجر بالعقد لأنها معدومةً فلا تكون مملوكةً وهذا غلط لأن الملك عبارة عن حكم وهو جواز التصرف المخصوص والتصرف فيها في الأيام المستقبلية يصح من المؤجر فثبت أن ملكها انتقل إلى المستأجر وأما قوله: إنها معدومةً قلنا: ولكنها جعلت كالموجودةً حكما كما في حق المؤجر. مسألة: "فإذا دفع ما أكرى وجب له جميع الكراء". الفصل وهذا كما قال: إذا آجر دارًا أو دابةً مدة معلومةً بأجرةً معلومةً لا يخلو من ثلاثةَ أحوال إما أن يشترط تأجيل الأجرةً إلى آخر المدةَ أو تعجيلها في الحال أو يطلق فإن شرط تأجيلها كانت مؤجلةَ ولم يكن للمكري طالبته بها حتى تنقضي مدةَ الإجارةً فإن شرط تعجيلها أو أطلقا العقد فإنه يملك الأجرةً بالعقد ويستحق المطالبة بها إذا سلم العين المؤاجرة إلى المستأجر وهذا لأن حكم المنافع في الإجارةً كحكم العين في البيع وليت منزلتها منزلة الدين إذ لو كان كذلك لما جاز عقد الإجارةً بأجرةً مؤجلةً لأنها تكون حينئذ بيع دين بدين وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الدين بالدين.

وقال أبو حنيفة: إذا أطلق تجب الأجرةً على مر الزمان جزءًا فجزءًا غير أنه لا يمكن استيفاء ما يصيب لحظةً أو ساعةً فمتى اجتمع قدر يمكن استيفاؤه ثبت حق الطلب في ذلك القدر وعن مالك روايتان [155/ ب] إحداهما لا يحل شيء منها ما لم تمض جميع المدةً وهذا أقيس من قول أبي حنيفةَ كما لو باع صبرةَ من طعام بمائةً لا يستحق بتسليم بعض المبيع طلب حصته من الثمن حتى يلم الكل، والثانية أنه على عادة الناس فأجرت العادةً به مشاهدةً يستحق عند انقضاء كل شهر حصته من أجرته وما جرت العادةً به مشافهةٌ تجب حصةً كل سنةً عند انقضائها. فرع هل يجوز أن تكون الأجرةً المعينةً في الإجارة جزافًا أم لا؟ فيه طريقان إحداهما فيه قولان كالقولين في رأس المال السّلم هل يجوز أن يكون جزافًا أم لا وهذا لأن مقصود كل واحد من العقدين منتظر غير منبرم، والثانيةً يجوز قولًا واحدًا بخلاف السلم، والفرق أن السلم معقود إلى أجل فهو غرر والجزاف غرر فلا يخاف الغرر إلى الغرر والإجارةً معقودةً على منفعةٍ حالةٍ ولكنها تتوفى شيئا فشيئا فصار كما لو اشترى صبرة طعام بثمنٍ جزافًا جاز. فرع آخر لو استأجر عبدا بنفقته أو بعيرًا بعلوفته لم يجز، وقال مالك: يجوز لأن أبا هريرةَ آجر نفسه بطعام بطنه وهذا غلط لأنها أجرةً مجهولةً والخبر يحتمل أنه كان مقدرًا فلا حجةً فيه. فرع آخر لو قال: آجرتك داري هذه كل شهرٍ بدرهم ولم يذكر آخر المدةً فالمذهب أنه لا يحوز أصلا ويخالف هذا إذا قال: آجرتك هذا الشهر بدرهم وما زاد فبحسابه لأن ها هنا أفرد الشهر الأول بالعقد، وقال الإصطخري: يصح في الشهر الأول وهذا خلاف مذهب الشافعي وغلط فيه لأنه لو قال: بعتك من هذه الخبرةَ كل قفيز بعشرةً دراهم لم يصح البيع في شيء من الأقفزةً كذلك ها هنا، ومن أصحابنا من قال: فيه قولان قال في "الإملاء" مثل ما قال الإصطخري وهذا غريب وهو قول أبي حنيفة، وحكي عنه أنه قال: يجوز في جميع الشهور فإذا قلنا: باطل فسكن الدار لم يلزم أجر المثل وإذا قلنا بالقول الآخر يلزم [156/ أ] للشهر الأول المسمى وللباقي أجر المثل. وحكي عن أبي حنيفةً أنه قال: لكل واحدٍ منهما عند انقضاء الشهر أن يفسخ فإن لم يفعلا حتى مضى يوم من الشهر الثاني ليس لواحدٍ منهما أن يفسخ لأنه اتصل بالعقد الفاسد القبض وهذا غلط لأن القبض لم يحصل بالإجماع ولا يلزم العقد الفاسد في الأعيان عنده بالقبض لأن للبائع أن يسترجع متى شاء ولا يضمن أيضا بالمسمى في العقد الفاسد بل يضمن بالقيمةَ فهذا مناقضة، وحكي عن مالك أنه قال: الإجارة

صحيحةً وكلما مضى شهرا يستحق المسمى إلا أنها لا تكون لازمة لأن المنافع مقدرةً بتقدير الأجرةً ولا يحتاج إلى ذكر المدةً إلا في اللزوم وهذا غلط لأن الأجرةً مقدرةً في كل شهر وجملةَ الأشهر مجهولةً والإجارةً عقد لازم فلا يجوز أن يقع غير لازم. مسألة: قال: "فإن قبض العبد فاستخدمه أو المسكن فسكنه". الفصل وهذا كما قال: ذكر هلاك العبد وانهدام المسكن فنقدم الكلام في هلاك العبد فنقول: إذا استأجر عبدا أو بهيمةً فمات في يده لا يخلو من أربعةَ أحوال إما أن يكون ذلك بعد انقضاء المدة أو عقيب العقد أو عقيب القبض أو بعد مضى شهر من المدةً، فإن كان بعد انقضاء المدةَ فقد استقرت الأجرةً ولا يضر العقد لأنها مقبوضةً بمضي المدةً ولا ضمان عليه في العين لأنه قبضها ليستوفي حقه منها وإن تلك عقيب العقد انفسخت الإجارةً وسقطت الأجرةً بالإجماع وإن تلفت عقيب القبض انفسخت الإجارةً وسقطت الأجرة وبه قال عامةُ الفقهاء. وقال أبو ثور: يلزمه كل الأجرة لأن جمع المنافع صارت مقبوضة له بقبض العين بدليل جواز التعرف فيها وهذا غلط لأن المنافع تلفت قبل استيفائها فأشبه إذا تلفت قبل تسليم العبد وأما جواز التصرف لا يدل على القبض، ألا ترى أن البائع يتصرف في الثمن قبل القبض ولا يكون مانعًا من الفسخ بالإفلاس وإن تلفت بعد مضي شهر من المدة [156/ ب] خلاف على المذهب أن عقد الإجارةً قد انفسخ فيما بقي من المدةَ لأن المنافع المستقبلية صارت تالفةً بهلاكه وأما ما مضى من المدة هل ينفسخ العقد فيه اختلف أصحابنا فيه على طريقين فمنهم من قال: فيه قولان لأن الصفقة إذا فسدت في بعضها هل تفد في جميعها قولان ومنهم من قال: لا تنفخ فيما ض قولًا واحدًا لأن الصفقةً في الابتداء وقت صحيحةً ثم ورد الفساد على بعضها فاختص ذلك البعض بالفساد وإنما القولان في تفريق الصفقةً إذا جمعت الصفقةً في الابتداء ما يجوز وما لا يجوز وهذا هو الأصح وعليه أكثر أصحابنا. فإذا قلنا: يفسخ فيما مضى فإن الأجرةً المسماة تسقط ويثبت للمؤجر على المستأجر في قدر ما استخدمه أجر المثل، فإن لم يكن قبض المسمى طالبه بأجرةَ المثل، فإن كان قد قبض المسمى رد عليه ما زاد على أجرةً المثل وإذا قلنا: لا يفسخ فيما مضى يلزمه لما مضى بحصته من الأجرةً، فإن كان ما مضى نصف المدةَ يلزمه نصف الأجرةً، وإن كان ربع المدةَ يلزمه ربع الأجرة وهذا إذا كانت قيمةُ المنفعةَ متساويةً في جميع المدةً، فإن كانت مختلفةً يقسط على قدر قيمةُ المناع في المدةَ ولو مرض العبد لا ينفسخ عقد الإجارةً لأن منافعه لم تتلف بالمرض بل صارت معيبة بالمرض فله الخيار

إن شاء فسخ العقد وإن شاء رضي به فإذا فسخ فهل ينفسخ فيما مضى على ما ذكرنا من الطريقين وأما الدار إذا انهدمت كلها في أثناء مدةَ الإجارةً انفسخ عقد الإجارةً في المستقبل قولًا واحدًا كما قلنا في موت العبد وهل ينفسخ فيما مضى على ما ذكرنا من الخلاف. فإذا قلنا: لا ينفسخ أخذها بما يخصها من الأجرةً المسماةَ، فإن كانت الشهور متساويةً لزمه ما يخص ما مضى من المدةَ، وإن كانت الشهور متفاوتة في الكراء وكان في بعض المدةً تقع أيام الموسم مثل ما يكون في القطيعةً أيام الحاج وفي مكةً وقت الحج فالأجرة المسماة تقسم على مقدار النماء [157/ أ] فيما مضى وفيما بقي فإذا كانت قيمةُ السكنى فيما مضى مائةً وفيما بقى مائتين أخذ لما مضى ثلث الأجرةً، وإن كان في الزمان الذي مضى مائتين أخذ ثلثي الأجرةَ وعلى هذا القياس وكذلك إذا استأجر حمامًا سنةٌ فمضى الصيف ثم انهدم وأجر مثل الصيف خمسون وأجر مثل الشتاء مائةً يلزم أجر المثل على حسب ما يليق بذلك ويعتبر أجر مثله يوم العقد لا فيما بعد ذلك لأن في ذلك اليوم تناول العقد المنافع، فإن قيل: إذا قلتم العقد لا ينفسخ فيما مضى فهلا قلتم: للمستأجر أن يفسخه لأنه جمع المعقود عليه لم يسلم له كما تقولون في الأعيان وكما لو صالح من عين أقر له بها على خدمةُ عبدٍ بعينه سنةً فمات العبد في بعض السنةً وقلنا: لا ينفسخ الصلح فيما مضى كان له أن يفسخه قلنا: ها هنا عوض المنافع دراهم أو دنانير وليس عليه في تبعيضها ضرر وليس كذلك في الأعيان حتى إذا كان عوض المنافع دارًا كان فجعلنا له الخيار، ومن أصحابنا من قال: هل له الخيار في فسخه؟ وجهان: أحدهما: لا خيار له لفواته على يده. والثاني: له الخيار لتفريق الصفقةً عليه فإن شاء أجاز فيما مضى وإن شاء فسخها فيها فإن أجاز لزمه من الأجرةَ بالقسط على ما ذكرنا وخرج بعض أصحابنا قولًا آخر أنه يجيز بجميع الأجرةً وإلا فسخ وهذا قول من يجعل الفساد الطارئ المقارن وإن فسخ الإجارةً في الماضي يلزم فيه أجر المثل على ما ذكرنا. ومن أصحابنا من قال: إذا انهدمت الدار لا تنفسخ الإجارةَ بل يثبت له حق الفسخ لأنه يمكن المنفعة بالعرصة بالجلوس ووضع القماش فيها بخلاف هلاك العبد فإن منفعتهُ فاتت من كل وجهٍ وعلى هذا لو اختار الفسخ فهو كما لو انفسخ وإن اختار الإجارةً أمسكنا بكل الأجرة قولًا واحدًا كما لو غاب المبيع فاختار المشتري إمساكه يمسكه بكل الثمن وهذا خلاف نص الشافعي [157/ ب] وغلط أيضًا لأن العقد تناول منفعةَ الدار والعرصةً ليست بدار ولا منفعتها منفعةُ دار وإنما هي أرض فلا تأثير لبقائها وعند أبي ثور انهدام الدار بعد قبضها لا يبطل الإجارة كما قال في موت العبد. فرع لو حدث بالعبد المستأجر برصٌ فهو لا يؤثر في العمل، فإن كان مما لا تعاف

النفس برصه فيه كالبناء ورعي المواشي لا خيار للمستأجر، وإن كان مما تعاف النفس برصه فيه كخدمته في مأكله ومشربه وملبسه فله الخيار. فرع أخر لو خربت الدار حوله أو بطلت الدكاكين وله وخربت السوق لا خيار له لأنه عيب حدث في غير المعقود عليه فرع آخر لو تشعثت الدار فلم يختر المستأجر الفسخ حتى عمرها المؤجر فني المستأجر وجهان أحدهما: لا خيار لارتفاع موجبه، والثاني: له الخيار لما تقدم من استحقاقه ولو رضي بها متشعثة هل يلزمه جميع الأجرةً؟ وجهان: أحدهما: يلزم كما في البيع إذا رضي بالعيب يلزمه كل الثمن، والثاني: لا يلزم كل الأجرةً لأنه لم يستوف جميع ما استحق من المنفعةً. فرع آخر لو استأجر دارًا فانطمَّت، آبارها وامتلأت حشوشها قال أصحابنا: تنقية ذلك على المؤجر من غير تفصيل لما عليه من حقوق التمكين، وقال القاضي الماوردي: الذي عندي وهو المذهب أن تنقيةُ ما انطمّ من آبارها على المؤجر وتنقيةُ ما امتلأ من حشوشها على المستأجر لأن امتلاء الحشوش من فعله فصار كتحويل القماش بخلاف انطمام الآبار ولو امتنع المستأجر من تنقيةُ ما يلزمه أجير عليه وإن امتنع المؤجر من تنقيةَ ما يلزمه من الآبار لم يجبر عليه وكان للمستأجر الخيار. مسألة: قال: "ولا تفسخ بموت أحدهما". الفصل وهذا كما قال: إذا مات أحد المتعاقدين مع بقاء المعقود عليه لا بطل الإجارةً ويقوم ورثته مقامه في أخذ الأجرةَ إن مات [1558/ أ] المكري وإن مات المكتري فورثته يقومون مقامه في استيفاء المنافع ولكن تتعجل الأجرةً المؤجلةً بالشرط عند الموت فإن لم يترك وفاء فله فسخ الإجارةَ لأنه مفلس وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور وعثمان البتي. وقال أبو حنيفة والثوري والليث بن سعد: تنفسخ الإجارةَ بموت أحدهما، وهذا غلط لأنها عقد لازم فلا تنفسخ بموت العاقد مع سلامةَ المعقود عليه كالبيع وقد قال الشافعي في هذا الفصل: وليس الوارث بأكثر من المورث ومراده بهذا أن المورث الذي أنشأ عقد الإجارةً على داره التي أكراها لو أراد أن يفسخ ذلك العقد لم يكن له فكذلك وارثه لا يستحق إلا ما استحقه فإن الوارث ينزل منزلةُ المورث ثم قال الشافعي

بعد مسألة الموت: فإذا قيل: فقد انتفع المكري بالثمن قيل: كما لو أسلم في رطبٍ لوقت فانقطع رجع بالثمن فالمزني أوهم بهذا العطف أن هذا السؤال سؤال في مسألة الموت وليس كذلك ولكنه سؤال ألزم نفسه في مسألةَ الانهدام ووجه الإلزام أن المكري في العقد الحال قبض جميع الأجرةَ وانتفع بها؛ فإذا انهدمت الدار وقد بقي نصف المدةَ كيف ينقص المكري، في بعض الثمن وقد كان ملكه على الجمع كاملًا وكان في الجميع متصرفا وبه منتفعًا؛ والجواب أنا حكمنا له بالملك حين سلم الدار فلما انهد مت الدار نقضنا ذلك الملك في وقت الانهدام ومثل ذلك لا يستبعد، ألا ترى أن رجلًا لو أسلم دينارًا في رطبٍ لوقت معلوم وسلم الدينار فقد ملكه بائع الرطب وملك التصرف فيه على الإطلاق والانتفاع به فإذا انقطع الرطب نقضنا ملكه في الدينار، وكذلك لو باع متاعًا غائبًا ببلد ودفع الثمن فهلك المتاع رجع بالثمن وقد انتفع به البائع فعلمنا أن الانتفاع لا يمنع نقض الملك عند وجود ما يوجب النقض قال المزني: هذه المسألةً التي ذكرها الشافعي في بيع الغائب تجويز منه بيع الغائب [158/ ب] وقد أباه في موضع آخر يقال له: يحتمل أنه صور المسألةَ في غائب تقدمت رؤيته فيكون البيع جائزًا قولًا واحدًا، وإن كان مما لم يره قط كان جوابًا على أحد القولين. فرع لو آجر الموقوف عليه أولا ثم مات قال ابن أبي هريرةَ: انفسخ العقد لأن الموقوف عليه ثانيا يأخذه عن الواقف دون العاقد وها هنا الوارث يأخذه عن العاقد ويخلف فيه وهو اختيار القاضي الطبري، ومن أصحابنا من قال: لا تبطل الإجارةَ ذكره أبو حامد وهو القياس. وقال في "الحاوي": إن كان متوليًا وله حق في غلته لكونه وقفًا عليه أيضًا فآجر ثم مات هل تبطل الإجارةَ؟ وجهان والأصح أنه لا تبطل لأن مؤجره والٍ قد آجره في حق نفسه وحق من بعده بولايته. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل للموقوف عليه أن يؤاجر الدار الموقوفةً؟ وجهان أحدهما: لا يجوز إلا أن ينصبه الواقف أو الحاكم قيمًا فيها فينصرف فيها بحكم الولايةَ فأما بحكم أن الغلةً تصرف إليه فلا يؤاجر وهذا على قولنا: إن الملك فيه للواقف أو قلنا: لا مالك له، والثاني: يجوز لأنه المستحق وهذا إذا قلنا: الملك فيه للموقوف عليه فإذا قلنا بهذا فآجره مدةً الغالب فيها سلامته فمات قبل مضي المدةً هل يحكم ببطلان العقد فيما زاد؟ وجهان أحدهما: يبطل، والثاني: لا يبطل بل ينظر إلى حصةُ ما بقي من الأجرةَ فيصرف إلى المستحق الثاني

فرع آخر إذا آجر الأب ولد، الصغير مدةً يحتمل أن لا يبلغ قبل انقضائها فبلغ مثل إن كان ابن أربع عشر سنةً فآجره سنةً ثم بلغ بالاحتلام لا تبطل الإجارةً ولا خيار له ولو آجر أم ولده ثم مات السيد بطلت الإجارةً، والفرق أن الصبي معقود عليه في حق نفسه فلم يزل العقد بزوال يد عاقدهُ وأم الولد معقود عليها في حق السيد فزال العقد بزوال ملك عاقدهُ، وإن كان يتيقن أنه يبلغ قبل انقضائها مثل [159/ أ] إن كان ابن أربع عشرةَ سنةً فآجره سنتين تبطل في السنةً الثانيةَ وهل يبطل في السنةُ الأولى؟ قولان بناء على تفريق الصفقةَ. ومن أصحابنا من قال: إذا بلغ في أثناء المدةً تبطل الإجارةَ بكل حالٍ، لأنه إذا بلغ بان أن تصرف الوالد إنما نفذ إلى هذا الوقت ولا ولايةً له فيما بعد ذلك، ومن أصحابنا من ذكر وجهًا آخر أنه لا تبطل أصلًا كما لو زوجه ثم مات وهذا ضعيف لأنه يؤدي إلى أن يعقد على منافعه طول عمرهُ ولا يشبه النكاح لأنه لا يمكن تأقيته وإنما يعقد الأبد الأبد. وقال أبو حنيفة: إذا بلغ يثبت للابن الخيار؛ وهذا غلط لأنه عقد عليه قبل أن يملك التصرف فيه بنفسه فلا يثبت له الخيار ببلوغه وعلى ما ذكرنا إذا آجر ملكه ثم بلغ هل تبطل الإجارةً أو لا؟ وحكم الوصي والقيّم من جهةُ الحاكم حكم الأب سواء. فرع آخر إذا آجر الحر نفسه ثم مات بطلت الإجارةً بلا خلافٍ لتلف المعقود عليه لا لموت العاقد. فرع آخر لو آجر عبده ثم أعتقه قبل انقضاء مدةَ الإجارةً نفذ العتق ولم بطل الإجارةً ولا خيار للعبد في فسخه لأن العقد وقع لازمًا فلا يملك إبطاله بالعتق ويفارق أم الولد إذا أعتقت بموت السيد تبطل الإجارةً عليها لأنه بالعتق ملك نفسه بتمليك السيد له فاختص بما كان على ملك السيد وأم الولد تملك نفسها بموت السيد من غير تمليكه فكان الملك على عمومه وخرج ابن سريج فيه قولًا آخر أنه تبطل الإجارةً بالعتق وهذا غريب لا يعرف للشافعي ما يدل عليه، وقال أبو حنيفة: لا تبطل الإجارةً ولكن للعبد الخيار إن شاء أجازها وإن شاء فسخها كالأمةُ إذا عتقت تحت زوج عبدٍ لها الخيار وهذا غلط؛ لما ذكرنا والخيار في النكاح يثبت لنقص الزوج بالرق وهي لم ترض به وقت العقد وها هنا لا يوجد هذا المعنى [195/ ب]. فرع آخر إذا أعتقه وبقي في الإجارةً هل يرجع على سيده بأجر مثله فيما بقي من مدةَ الإجارةً بعد العتق؟ قال في القديم: يرجع لأنه تستوفى منه المنفعةَ يسبب كان من السيد فرجع

بها عليه كما لو أكرهه على عمل، وقال في الجديد: لا يرجع بشيءٍ لأنه تصرف في منافعه تصرفًا كان له فإذا طرأت الحريةً لا يملك الرجوع عليه كما لو زوجها واستقر مهرها بالدخول ثم أعتقها ويخالف المكره لأنه تعدى بالإكراه عليه ولا يختلف المذهب أن السيد لو مات فأعتقه الوارث لا يرجع على الوارث بشيء. فرع آخر إذا آجر الدار من وارثه ثم مات وورثها بطلت الإجارةً كما لو تزوج أمةً ثم ورثها بطل نكاحها لأن كل واحدٍ منهما عقد على منفعةً وهذا اختيار ابن الحداد والقاضي الطبري، وقال بعض أصحابنا: لا تبطل الإجارةَ لأن الملك لا يبطل الإجارةً لأن الملك لا ينافي الإجارةً، ألا ترى أنه يجوز أن يؤاجر ملكه من رجل ثم يستأجر من مستأجره ويصح وفائدةُ هذا أنه لو وجد بها عيبًا بعد الشراء له أن يمسكها بحكم الإجارة على هذا الوجه. فرع اخر إذا قلتا: تبطل الإجارةً إذا ورثها رجع بالأجرةً في تركته إن لم تكن مضت المدةَ، فإن كان هناك غرماء يضار بهم في التركةً وإن مضى بعض المدةَ يرجع لما بقي. فرع آخر إذا آجر داره مدةً ثم باعها، فإن كانت الإجارة فاسدةً صح البيع لأنه لا يملك المكتري منافعها، وإن كانت الإجارةَ صحيحةً فباعها من المستأجر جاز لأنه ليس دونه حائل وعقد الإجارةً بحاله في أحد الوجهين وتحدث المنافع في ملك المكتري بعقد الإجارةَ إلى انقضاء المدةً فإذا انقضت المدة صارت حادثًا بحكم الملك فلو انهدمت الدار أو تلف العبد في مدةَ الإجارةَ انفسخت الإجارة واسترجع الأجرةً ولا يؤثر ذلك في البيع لأنهما عقدان فلم يؤثر فساد أحدهما [160/ أ] في الآخر والوجه الثاني أنه تبطل الإجارةً ويرجع بالأجرةً كما قلنا إذا ورثها وانفسخت الإجارةً، وقال ابن الحداد: إذا اشترى لا يرجع بالأجرة ًكما قلنا: إذا ورثها لما بقي على البائع لأنه باختيار، أبطل الكراء بخلاف ما إذا ورث وشبه هذا بما لو تزوج بجاريةً أبيه ثم مات الأب بعد قبض مهرها قبل دخوله بها رجع بالمهر الذي دفع لأن بطلان النكاح حصل لا بفعله ولو تزوج أمةً أجنبي ثم اشتراها قبل الدخول بها يلزمه نصف المهر كما لو طلق قبل الدخول، فإن قيل: إذا حكم بانفساخ العقد بالملك فهلا جعل له الرجوع على البائع بالأجرةً؟ قلنا: قال القاضي الطبري: عندي أنه لما اشتراها وهو مستحق لمنفعتها فقد أخذ منه من الثمن فحصل له في مقابلة ما أخذ منه من الأجرةً نقصان الثمن فلم يجز أن يرجع بالأجرةَ وعندي في هذا نظر لأنه يؤدي إلى جهالةُ الثمن وهي تبطل البيع. فرع آخر لو وجد بالدار عيبًا فردها وفسخ البيع قال ابن الحداد: لم يرجع بشيء دون الثمن

وهذا على أصله أن الإجارةً بطلت وشك الأجرةَ والرد بالعيب قطع للملك من حين الرد وإذا قلنا: لا تبطل الإجارةَ يستوفي المنابع في بقيةً مدةَ الإجارة بحكم الإجارةً، وقال ابن الحداد: ولو انهدمت الدار بعد الشراء لم يرجع بشيء وهذا على أصله صحيح. فرع آخر لو باعها بعدما آجرها من غير المستأجر لا تبطل الإجارة وهل يصح البيع؟ قولان أحدهما: يصح البيع ويملكها المشتري مسلوبةً المنفعةً، فإن كان المشتري عالمًا بالإجارةً لا خيار له، وإن كان جاهلًا بها له الخيار في فسخ البيع لأن الإجارةَ تمنعه من استيفاء منافعها والمنافع مقصودةً البيع وبه قال مالك وهو الأصح؛ وهذا لأن الإجارةَ عقد على المنفعةً والبيع عقد على الرقبةً فلم يتنافيا كما لو زوج أمته ثم باعها، والثاني: لا يصح البيع لأن يد [10/ ب] المستأجر حائلةُ بينه وبينها فهو كبيع المغصوب، وقال أبو حنيفة: البيع يتوقف على إجازةُ المستأجر فإن أجازه جاز وبطلت الإجارةً وان رد البيع بطل وبقيت الإجارةً. فرع آخر إذا قلنا: يصح البيع فوجد المستأجر بها عيبًا ففسخ الإجارة قال ابن الحداد رجعت المنافع إلى صاحب الرقبةً لأن المنفعةُ تابعةً للرقبةً وإنما استحقت بعقد الإجارة فإذا زالت الإجارةً عادت إليه كما نقول في الأمة المزوجةً إذا طلقها زوجها رجع البضع إلى مالك الرقبة، وقال بعض أصحابنا: هذا غلط بل ترجع المنفعةً إلى البائع لأن المشتري ملك الرقبةً مسلوبةً المنفعةً تلك المدة بالبيع فلا يرجع إليه ما لم يملكه ولأن البائع استحق عوضها على المستأجر فإذا سقط العوض عاد المعوض إليه وعلى هذا قال القاضي الطبري: يجوز أن يبيع عينًا وتستثنى منفعتها مدةً وهذا التخريج خلاف مذهب الشافعي وقيل: في هذا وجهان تخريجًا مما قال أصحابنا ها هنا فإذا قلنا: يرجع إلى البائع له أن يحبسها عن المشتري حتى يمضي تمام المدةً أو يؤاجرها أو يعيرها بقيةً المدةً وهذا أصح وأظهر. فرع آخر إذا استأجر رجل من أبيه دارا ثم مات الأب وله ابنان أحدهما: المستأجر ابن الحداد: انفسخت الإجارةً في نصف الدار الذي ورثه المستأجر ويرجع على أخيه بنصف أجرةً ما انتقض من حصته وهذا مبني على ما اختار من بطلان الإجارةً بملكه العين فلما ورث النصف انتقض فيه الإجارةً وبقيت الإجارة في النصف الذي ورثه أخوه فقط ما استحقه من الأجرةً لأن ذلك يجب عليه ويرجع على أخيه شصقها، ومن أصحابنا من قال: لا يرجع على أخيه بشيء لأنه لم ينتقض الإجارةً في النصف الذي لأخيه، وقال القاضي الطبري: [161/ أ] ما قاله ابن الحداد صح لأن ما استحقه بفسخ

الإجارة دين على الأب فيجب أن يكون في تركته وهي بينهما، ومن أصحابنا من قال: لا يصح ما ذكره ابن الحداد لأنه إذا جعل ما انفسخ العقد فيه من الأجرةً بينهما فقد ملك المستأجر بميراثه نصف الدار بمنفعته ويرث الآخر نصف الدار المسلوب المنفعةً والأولى من هذا أن يقوم نصيب أحدهما بمنفعته ويقوم نصيب الآخر مسلوب المنفعةَ ويكون له من التركةً ما بين القيمتين ويكون للمستأجر نصف المسمى من التركةً. مسألة: قال: "وإنْ تكاري دابةً من مكة إلى بطن مرَّ فتعدي بها إلي عسفانَ". الفصل وهذا كما قال: إذا اكترى دابةً ثم جاوز بها ذلك الموضع والشافعي صور ذلك في عسفان ومرَّ وعسفان قريةً من مكةً إليها مرحلتان ومر من مكةً إليها أرع فراسخ والكلام فيه في فصلين أحدهما: فيما يلزمه من الأجرةً، والثاني: فيما يلزمه من الضمان فأما الأجرةَ لما بلغ الموضع الذي استأجره إليه استقرت الأجرةً المسماةً لأن عدوانه لا يفسخ العقد حتى يسقط المسمى ويلزمه أجر المثل للزيادةً لأنه تعدى بها وصار كالغاصب فيها كما لو اكترى دارًا من رجل بعشرةً فسكنها شهرين يلزمه للشهر الأول الأجرة المسماةً وللشهر الثاني أجرةَ المثل ويفارق هذا إذا اكترى أرضا ليزرعها حنطة نزرعها ما ضرره أكثر من ضرر الحنطة لزمته أجرة المثل للكل في أحد القولين لأنه ابتدأ ها هنا بالتعدي من أول فعله إلى آخره فلا اعتبار بالمسمى ولزمته أجرة المثل وها هنا استوفى المستحق ثم زاد بالتعدي وهذه الزيادة متميزةً عن المستحق فلا تؤثر في المسمى بل يلزم ذلك وللزيادةً يلزم أجر المثل، وأما الضمان ينظر، فإن تلفت قبل أن جاوز بها الموضع فلا ضمان لأنها أمانةً في يده وإن تلفت بعد مجاوزةُ الموضع المأذون ينظر، فإن لم تكن [161/ ب] يد صاحبها عليها فقد تعدى بالمجاورةً وضمنها وكان حكمه فيها حكم الغاصب فعليه أكثر ما كانت قيمتها من حين جاوز بها إلى أن تلفت فإن ردها إلى ذلك الموضع المأذون لم يسقط الضمان خلافًا لمحمد وزفر ووافقنا فيه أبو حنيفةَ وأبو يوسف، فإن كان معها صاحبها فإنها في يد صاحبها ولم تبثا يد الراكب عليها ولا يجب ضمانها باليد وإنما يجب ضمانها عليه بالجناية وهي الركوب إلا أن الركوب إلى الموضع المأذون ليس بجنايةً لأنه مأذون له فيه وما بعد ذلك جنايةً فإذا تلفت نظر، فإن تلفت في حالةُ الاستراحةً للعلف والسقي ونحو ذلك فلا ضمان عليه لأنها في يد صاحبها ولا صنعةً للمكتري فيها في هذه الحالةً وهو كما لو ساق جملًا عليه صاحبه نائم لا يضمنه لأن يد صاحبه عليه وإن تلفت في حال السير ضمن لأن الركوب جنايةً منه عليها والظاهر أن تلفها من الركوب.

فإن قيل: هلا قلتم أن صاحبها لما شاهده راكبا ولم ينكر رضي بسقوط حقه قلنا: السكوت في مثل هذا لا يجعل إذنًا كما لو خرق ثوبه وهو ساكت وإذا ضمنها لا يلزمه كل الضمان وفى مقدار ما يلزمه قولان أحدهما: يضمن نصف القيمةَ لأن تلفها كان بالإعياء في مسافتين مباحةً غير مضمونةً ومحظورةً مضمونةً فقسمت القيمةَ عليها نصفين، والثاني: يقسط القيمةً على قدر المسافتين في الطول والقصر فيسقط عنه من القيمةَ قدر ما قابل مسافةَ الإجارةً وأصل هذين القولين الجلاد إذا أمر أن يجلد ثمانين سوطًا فجلده أحدًا وثمانين كم يضمن قولان معروفان أحدهما: يضمن النصف، والثاني: يسقط على عدد السياط، وإن كان نقص قيمتها بالركوب فما قابل المباح منه لم يضمنه وما قابل المحظور منه ضمنه سواء كان صاحبها معها أو لا لأنه ضمان جنايته. وقال أبو حنيفة: لا تلزم الأجرةً لزيادةَ المسافةً بناءً على أصله لا تضمن [162/ أ] المنافع بالغصب، وحكي عن مالك أنه قال: إن جاوز بها إلى مسافةٍ بعيدةٍ مثل إن اكتراها إلى واسط فحملها إلى البصرةً فصاحبها بالخيار بين أن يطالبه بأجرةً المثل وبين أن يطالبه بقيمتها يوم التعدي لأنه مانع مالكه عن أسواقها وهذا غلط لأن العين باقيةً بحالها فلا يكون لصاحبها المطالبةَ بالقيمةً كما لو كانت المسافةَ قريبةً. لو اكتراها إلى موضع ذاهبًا وجاثيًا مغل إن قال: احملها إلى مر الظهران وارجع إلى مكةً فجاوز بها إلى عسفان، فإن كان الطريق بين مرّ وعسفان كالطريق بين مكةً وبين مرّ في السهولةً والأمن والقدر لم يصر ضامنًا بالخروج من مرٍ نقول: هو ذا يستوفي ما استحق استيفاؤه في الرجوع إلى مكةً فإذا مضى القدر الذي لو رجع إلى مكةً وصل إليها انقضى زمان استحقاقه فإن وجد هناك المالك أو وكيله ورد عليه لا يضمن النقص الذي دخله ولا شيء عليه لأن لم يرد فالآن دخل في ضمانه ولا أجرةً عليه في الحالين إلى الآن هما يلزمه الأجرةً بعد هذا لو أمسك، وإن كان الطريق أخوف أو أكثر حزونةً فهو متعدٍ فيما فعل فهو كما لو استأجر بيتًا ليسكنه فأسكنه الحدادين على ما سنذكر إن شاء الله تعالى. فرع آخر لو اكترى دابةً ليركبها إلى موضع فركبها إلى موضع آخر من ناحيةٍ أخرى، فإن كان الطريقان في المسافةً والحزونةً والسهولة واحدًا فلا ضمان عليه، وإن كان مخالفًا له في هذا ضمن من حين ابتداء ملوك هذا الطريق. فرع آخر لو اكترى دابةً ليحمل عليها مائة منًا قطنًا فحمل عليها الحديد آو ليحمل عليها الحديد فحمل القطن فهلكت ضمنها وكم يضمن الأجرةً؟ فيه قولان أحدهما: أجرةً

المثل عن الكل ويسقط المسمى لأن التعدي لا يتميز وهو الأصح، والثاني: يستقر المسمى ويجب أجر المثل في الزيادةً كما قلنا في التعدي في المسافةً. مسألة: قال: [162/ ب] "وله أن يؤاجر داره وعبده ثلاثين سنةً". الفصل وهذا كما قال: قد ذكرنا فيما تقدم أن الأصح جواز الإجارةً وإن طالت المدةً بعدها يكون الغالب بقاء الشيء المستأجر فيها حتى لو كانت أرضا تجوز ألف سنةً وأكثر، وإن كانت دارًا روعي فيها مدةً يبقى فيها بناؤها في الغالب، وقال في كتاب المزارعةً ولو أكرى الأراضي عشر سنين بمائةً لم يجز حتى يسمى لكل سنة شيئًا معلومًا، وقال أبو إسحاق: للشافعي قول آخر لا يجوز إلا سنةً واحدةً ونقله القاضي أبو حامد عن الشافعي ولم يبين الموضع الذي قال فيه هذا القول والظاهر أنه هو الذي قال في كتاب المزارعةً: ولا يجوز الكراء إلا على سنةٍ معروفةٍ وقيل: نص عليه في موضعٍ من الإجارات، وقال في الدعوى والبينات: يجوز ما شاء فخرج من هذا إنها على قولين أحدهما: لا تجوز أكثر من سنةً لأن الإجارةً غرر وجوزت للحاجةَ والضرورةً والحاجةً لا تدعو إلى أكثر من سنةً لأن في سنةٍ واحدةً تتكامل منافع جميع الأشياء فلا تجوز الزيادةً عليها، والثاني: تجوز أكثر من سنةٍ فإذا قلنا بهذا فا لمذهب أنه لا يتقدر بثلاثين سنةً وقول الشافعي ثلاثين سنةً لم يقصد به التحديد بل أراد أن يبين أنها تجوز سنين كثيرة وهذا كما قال في كتاب المزارعة: ولو أكرى الأرض عشر سنين ولم يقصد به التحديد. ومن أصحابنا من قال: تقدر بثلاثين سنةً لأن هذه المدةَ نصف العمر والأشياء تتغير في أكثر منها فحصل ثلاثةَ أقوال أحدها: سنةٍ، والثاني: ثلاثون سنةٍ، والثالث: ما شاء على حسب بقاء الشيء وقيل: فيه قولان وقوله ثلاثين سنةً ليس بقول آخر وتأويله ما ذكرنا، وحكي عن مالك أنه قال: تجوز الإجارةً إلى خمس سنين أو ست سنين ولا تجوز الزيادةً عليها. فرع إذا قلنا: لا تجوز أكثر من سنةٍ لا يجب أن يبين قسط كل شهر من الأجرة قولًا واحدًا وإذا قلنا: يجوز أكثر من سنةٍ هل يحتاج إلى بيان القسط كل سنةٍ من الأجرة [163/ أ] قولان أحدهما: لا يحتاج كما قلنا في الشهور، والثاني: يلزم بيان ذلك كما قال في المزارعةَ وهذا اختيار أبي حامد وهذا لترددها بين السلامةً والعطب وأجور السنين تختلف في الغالب فيتعذر معرفةُ القسط والشهور تتماثل غالبًا فلا يلزم التقسيط هناك وهذا أصح وهو كما لا يجب بيان ما يخص كل عين من الثمن إذا جمعت الصفقةَ

أعيانًا كثيرةً والفتوى على هذا والاحتياط أن يذكر القسط وأن لا تزيد الإجارةً على ثلاث سنين خاصةً في الأوقات فإن قسط وسلم العقد حتى انتهت المدةً فلا كلام وإن بطل العقد بهلاك المكري أو بغير ذلك كان التقسيط على ما شرطه في العقد وهكذا إذا ذكر قسط كل شهرٍ وإذا قلنا: لا يجوز أكثر من سنةٍ فآجر ثلاث سنين فسدت الإجارةَ فيما زاد على السنةً وفي مقدار السنةَ قولان بناءً على تفريق الصفقةَ فإذا قلنا: يجوز هل يجوز بيجميع الأجرةَ أو بحصتها؟ قولان. فرع آخر إذا اكترى شيئًا جاز له أن يكريه في الجملةً لأنه ملك منافعها بعقد معاوضةً فجاز له أن ينقلها إلى غيره ثم ينظر، فإن كان قد قبض الدار المكتراةَ جاز أن يكريها ممن شاء لأنه قبض المعقود عليه، وإن لم يكن قبض الدار نظر، فإن أكراها من غير المكري المذهب أنه لا يجوز لأنه ملك المنفعةَ يغير معاوضةً فلا يجوز التصرف فيها قبل القبض كالبيع وبهذا قال أبو حنيفةً، وقال ابن سريج: فيه وجه آخر أنه يجوز لأنه لا أثر لقبض الدار في المنافع لأنها لو قبضها ثم انهدمت كان تلفها من ضمان المكري كما لو تلفت قبل قبض الدار فلا يقف جواز التصرف في المناع على قبض الدار وهذا لا يصح لأن للقبض فيها تأثير فإن المنافع لو تلفت بعد قبض المستأجر الدار كانت من ضمانه ويتقرر عليه الأجرةَ بمضي الزمان وقيل: هذان الوجهان بيان على الوجهين أن الإجارةَ تناولت العين لا تجوز إجارتها قبل القبض وإن قلنا: لاستيفاء المنفعةَ منها أو تناولت المنفعةَ فإن قلنا: تناولت العين [163/ ب] لا تجوز إجارتها قبل القبض فإن قلنا: تتناول المنفعةَ تجوز إجارتها قبل القبض وإن أكراها من المكري فإن قلنا: يجوز من غير المكري فلا يجوز من المكري أولى وإن قلنا هناك: لا يجوز فهاهنا وجهان ذكرهما أبو حامد أحدهما: يجوز ها هنا، والفرق أن الدار مقبوضةً له فجاز إجارتها منه بخلاف غيره وهو كبيع المبيع قبل القبض يجوز من البائع في أحد الوجهين ولا يجوز من غيره وجهًا واحدًا. فرع آخر لا يجوز أن يؤاجره دارًا على أن يسكنها بل يقول ليسكنها ولا يجوز أن يقول: وحدك ذكره بعض أصحابنا وعلى هذا لو قال: آجرتك هذه الأرض على أن تغرس ولا تنبئ لا يجوز. فرع آخر قد ذكرنا أنه يجوز أن يؤاجرها المستأجر من مؤجرها بعد القبض وهو المنصوص، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان أحدهما: هذا، والثاني: لا يجوز، وقال أبو حنيفة: لأنه يؤدي إلى أن يملك منفعةً ملكه لا يحكم ملكه للأصل بل بحكم الإجارةً وهذا محال كما لا يجوز أن يتزوج بأمتهِ ولأنه يؤدي إلى أن يكون الضمان في

تلك المنافع له وعليه في حالةٍ واحدةٍ لأن الدار لا تخرج عن ضمان الآجر بالتسليم بل بانقضاء المدة يزول عنه الضمان وقيل: هذان الوجهان مبنيان على الوجهين في المنافع هل تحدث على ملك المؤجر أو على ملك المستأجر فإن قلنا: تحدث على ملك المؤجر لم يجز وإن قلنا بالآخر يجوز وأشار الشافعي إلى هذا في كتاب الرهن. فرع آخر يجوز له أن يؤاجر بما شاء من الأجرةَ زاد على الأجرةَ الأولى أو نقص عنها، وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يؤاجرها بزيادةً إلا أن يكون أحدث فيها عمارةً فيجوز بالزيادةً لتكون الزيادةَ بمقابلةُ العمارة ولو آجر بأكثر قبل العمارةً لا تطيب له الزيادةً فتصدق بها وهذا غلط؛ لأن من ملك كراء الدار لنفسه لم ينحصر عليه مقدار الكراء كما لو أحدث فيها عمارةً. فرع آخر خيار المجلس هل يثبت في الإجارةً؟ قد ذكرنا وجهين فإذا قلنا: يثبت [164/ أ] فأجرها المؤجر من غيره في المجلس تصح الإجارة الثانية وكانت فسخًا للأولى، ومن أصحابنا من قال: تنفسخ الأولى ولا تصح الثانية لئلا يصير الفعل الواحد فسخًا وعقدا لتنافيهما والمذهب الأول لأن استقرار العقد الثاني يوجب فسخ الأول بالتأهب للثاني وإذا قلنا: لا يثبت فيه خيار المجلس فآجرها المؤجر لا يجوز بلا خلاف. فرع آخر لو أكرى داره سنةً ثم أكراها سنةً أخرى بعد هذه السنةُ من غير المكتري لا يجوز قولًا واحدًا وهكذا لو كان في شعبان فقال لرجل: آجرتك هذه الدار من أول رمضان لم يجز، وقال أبو حنيفة: يجوز وهذا غلط لأنه عقد معاوضةً على معين شرط فيه تأخير التسليم فلم يجز كما لو باع عينًا على أن يسلمها بعد أيام. فرع آخر لو أكراها ثانيًا من المكتري قبل مضي المدةَ الأولى نص الشافعي على جوازه لأن اليد له وسكناه في السنتين متصلةً وقيل. نص عليه في الرهن الكبير، ومن أصحابنا من قال: فيه قول آخر لا يجوز كما لا يجوز من غيره وهذا غلط والفرق ظاهر وقيل: في المسألةَ قولان والأقيس أنه لا يجوز ونظير هذه المسألةً بيع الثمرة قبل بدو صلاحها مطلقًا من غير مالك النخلةَ لا يجوز ومن مالك النخلة وجهان. فرع آخر لو استأجر دارًا سنةٍ بغير عينها أو شهرًا بغير عينه لم يجز حتى تكون السنة معلومةً والشهر معلومًا وهو أن يقول: آجرتك من هذا الوقت شهرًا أو سنة ولو قال: بعتك قفيزًا من هذا الصبرةَ جاز، والفرق أنه لو قال: بعتك قفيزًا من قفزان هذه الصيرةَ جاز ولو قال: آجرتك شهرًا من شهور هذه السنة لم يجز.

فرع آخر لو آجر نصف داره أو كانت بينه وبين شريكه فآجر نصيبه منها صحت الإجارة وبه قال مالك، وقال أبو حنيفةَ: يجوز مع الشريك ولا يجوز مع غيره، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز أصلًا، وروي عنهما مثل قولنا وهذا غلط قياسًا [164/ ب] على ما لو أجره من شريكه. فرع آخر يجوز أن يؤجر دارًا لمنفعة دار أخرى، وقال أبو حنيفة: لا يجوز بناءً على أصله أن الجنس الواحد بانفراده محرم النساء وهذا غلط لأنهما منفعتان يجوز إجارتهما فجاز استئجار أحديهما بالأخرى كمنفعةُ الدار والعبد. فرع آخر إذا آجر جميع داره من رجلين بعقدٍ واحدٍ يجوز وبملك كل واحدٍ منهما نصف السكنى مشاعًا فيسكنان جميعًا كالمالكين. فرع آخر إذا آجر داره يلزمه تسليم المفتاح إلى المستأجر لأنه من التمكين من منافعها فإن ضاع المفتاح فعليه البدل لأنه بمنزلةُ الآلةَ ولو انكسر شيء من آلةَ الدار أو انقلع يلزمه الإبدال كذلك هذا ولا نعني باللزوم أنه يجبر عليه؛ بل نعني به أنه إذا لم يفعل يثبت للمكتري الخيار إذا كان ذلك ينقص من الانتفاع وإنما يلزم الإبدال لأنه لو آجر خشبةً واحدةً فانكسرت لا يلزمه إبدالها فكذلك الخشبةَ في الدار فأما إذا لم يحتج إلى الإبدال بل يحتاج إلى الإصلاح بأن يعمد بعماد ونحو ذلك يلزمه ذلك ذكره القفال وهو الصحيح. فرع آخر إذا أعتق العبد المؤجر وبقيت الإجارةً وقلنا: لا يرجع على السيد بشيء ففي نفقته وجهان أحدهما: على سيده استبقاء لما تقدم من حكم الإجارةَ والنفقةً، والثاني: في بيت المال من سهم المصالح لأن ذلك من جملتها ذكره في "الحاوي". فرع آخر لو آجر دارًا ثم وقفها صح الوقف والإجارةً بحالها ولا يرجع من وقفت عليه بشيء من أجرة مدة الإجارة قولًا واحدًا واختص الوقف بها إلى انقضاء المدة لأن الوقف مقصور الحكم على شروط واقفةً بخلاف العتق. فرع آخر لو آجر عبده ثم كاتبه بطلت الكتابةً لأنه لا يملك بها منافع نفسه لما تقدم من إجارته.

باب كراء الإبل

فرع آخر لو استأجر دارُا فوجد ماء بئرها متغيرًا قال أبو حنيفة: إن استطيع الوضوء به لا خيار وعندنا إن خالف [165/ أ] مقصود آبار تلك الناحيةَ له الخيار، وإن كان معهودهم الشرب من آبارهم وتغيره يمنع من شربه فله الخيار وإن أمكن الوضوء به، وإن كان معهودهم أن لا يشربوا منها فلا خيار إلا أن يستطاع الوضوء منها. فرع آخر لو نقص ماء البئر، فإن كان معهودًا في وقته فلا خيار، وإن كان غير معهودٍ في ذك الوقت، فإن كان مع نقصانه كافيًا لما يحتاج إليه المستأجر من شرب أو طهور لا خيار، وان كان مقصرًا فله الخيار. فرع آخر إذا تغير ماء الرحا لا خيار لأنه لا يؤثر في عمله ولو نقص فله الخيار إلا أن يكون معهودًا في وقته فلا خيار فيه. باب كراء الإبل مسألة: قال: "وكراءُ الإبلِ جائز للمحامل والزوامل". الفصل وهذا كما قال: كراء الإبل والبهائم جائز بدليل قوله تعالى {َيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ} قال ابن عباس رضي الله عنه: ابتغاء الفضل الحج وإكراء الجمال ولأن الحاجةَ داعيةً إلى إجارتها كسائر الأشياء فجاز إجارتها، فإذا تقرر هذا فا لبهائم تكترى لأحد ثلاثةَ أشياء للركوب والحمل والعمل لأن كل ذلك منفعةً معقولًا من عين معروفةً فإذا اكترى بها للركوب لا بد من أن تكون البهيمةَ معلوفةً إما بالمشاهدةَ أو الصفةً فإن شاهدها جاز وإن وصفها فلا بد من ثلاثةَ أشياء ذكر الجنس إبل أو خيل أو بغل أو حمار وذكر النوع فيصف أنواع الإبل من عراب أو بخاتي وفي الخيل يذكر العربي وغيره وذكر الصفةَ وهى ذكورته وأنوثته لأن الأنثى أوطأ سيرًا وأسهل مشيًا والذكر أحسن سيرًا والأغراض تختلف بجميع ما ذكرنا. وقال في "الحاوي": لو ذكر له جنس المركوب ولم يذكر نوعه ولا صفته جاز؛ لأن تأثير ذلك في القيم وهذا غريب وينظر الجمال إلى الراكب حتى يصير معلومًا واحدًا [165/ ب] كان أو اثنين ولا يمكن معرفةُ الراكب بالصفةً فتحتاج إلى المشاهدةً، وقال القفال: إن ذكر راكبًا وزنه كذا جاز وحكي أصحاب مالك عنه أنه يجوز الإطلاق في ذلك لأن أجسام الناس متقاربةً في الغالب وهذا لا يصح لأن الرجال يختلفون في الطول والثقل ويتفاوتون تفاوتًا متباينًا فلا يجوز الإطلاق ثم إن كان يركب من غير شيء

لا يحتاج إلى ذكر ما يركب عليه فيركبه المكري على قتب أو زاملةٍ أو سرج أو ما شاء والزاملةٍ أن يشد عليه المتاع والزاد والماء ثم يركب فوقه من غير محمر، وإن كان يركب على محمل أو عمارية أو غير ذلك فلا بد من أن يكون معلوماً وإنما يصير معلوما بالمشاهدة فأما بالصفة فلا يمكن بطها لأنها تختلف وتتباين. وقال ابن أبي هريرة؛ يصير معلوما بالصفة ويصح العقد عليه، وقال أبو إسحاق: إنما لا يمكن ضبط المحامل الخراسانيةَ الثقال فأما البغداديةَ الخفاف يمكن ضبطها لأنها لا تتفاوت تفاوتًا كثيرًا وكذلك محامل خوارزم وهذا لا يصح لأن الكل يختلف ولا يمكن ضبطها هكذا ذكره أبو حامد واختار القفال ما ذكره أبو إسحاق وحصل ثلاثةَ أوجه ولا بد من أن يذكر مكشوفًا أو مغطى فإن ذكر مغطى فالأحوط أن يذكر ما يغطى به فإن لم يذكر ذلك جاز وغطاء على ما جرت به العادةَ من اللبد أو النطع وهذا لأنه لا يختلف اختلافًا متباينًا بل يتقارب ذلك وإن شرط شيئًا من هذا تعين ما شرطه. ومن أصحابنا من قال: يحتاج إلى مشاهدةُ الغطاء وطرف المحمل والظل أيضًا وهو ظاهر المختصر لأن ذلك يختلف والظلل التي يستظل بها ربما تكون مضاعفةً فتثقل وربما لا تكون مضاعفةً فتخف وينظر أيضًا إلى قدر ارتفاع الظل الذي على الكنيسةً فإنه كلما ارتفع كان أضر بالحمل وكلام القاضي الطبري يدل على هذا وهذا أصح عندي [166/ أ]، ومن أصحابنا من خرج قولًا آخر أنه لا يحتاج إلى مشاهدةً المحمل أيضًا لأنه يتبع الراكب أو الحمل فتكفي كون المتبوع معلومًا وهذا ليس بشيء قال أصحابنا: ولو ذكر محملًا أو مركبًا أو زاملةً واستقصى في الوصف حتى تصير الصفةُ معلومةً قامت الصفةً المحيطةً بالموصوف مقام المعاينةَ وكذا حكم الظروف لأن القصد من المشاهدة أن يصير معلومًا وأما المعاليق وهو السفرةً والسطيحةً والمسينةً والكساء والزليةً والزنبيل ونحو ذلك قال الشافعي: القياس أنه لا بد من معرفتها يعنى رؤيتها ومشاهدتها ولو قيل: يجوز إطلاقها ويحمل على العادة فيها جاز فاختلف أصحابنا فيه على طريقين فمنهم من قال: لابد من مشاهدتها وهو اختيار أبي حامد لأنها تختلف وتتباين فربما كثر وربما قبل وذاك الآخر حكايةً مذهب مالك ولهذا ذكر أن القياس هذا ولا يجوز على قوله ترك القياس إلى الاستحسان. وقال غيره: في المسألةُ قولان أحدهما: ما ذكرنا، والثاني: يجوز ويحمل على العرف في مثله قدر ما يراه الناس وسطاً والصحيح الأول ولو أركبه حطمًا وهو المنكسر أو فحمًا وهو الهرم أو ضرعًا وهو الضعيف الصغير له الرد وأما صفةُ مشيه، فإن كان مما لا يختلف مشي جنسه كالبغال والحمير والإبل لم يحتج إلى ذكره، وإن كان مما يختلف كالخيل وصف مشي المركوب من مهملجٍ أو قطوفٍ فإن أخل بذلك فيه وجهان: أحدهما: يصح وركب الأغلب من خيل الناس، والثاني: يبطل لما فيه من التباين واختلاف الأغراض ولو أكرى حمولةً لا يحتاج إلى ذكر جنس البهيمةَ والنوع لأنه لا غرض فيه وإنما الغرض تحصيل الحمولةَ في ذلك الموضع فعلى أي وجه حصلها جاز

ويخالف إذا اكتراها للركوب فإن الغرض يختلف فيما يركبه الإنسان فلم يكن بد من أن يكون المركوب معلومًا و [166/ ب] الحُمولةً بضم الحاء الأحمال وأحدها حمل والحَمولةً بفتح الحاء الإبل العظام الأجسام الني يحمل عليها قال الله تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام: (142)] والفرش الصغار ولا بد ها هنا من ذكر وزن الحمولةً وجنسه فإنه يختلف ضرورةً فيختص الحديد بالضرر لاجتماع ثقله من موضع واحي ويختص ضرر القطن بتجافيه وأخذه لجميع بدن الجمل وغير ذلك فلا بد س بيانه لأجل ذلك أو يذكر الكيل إن لم يذكر الوزن، وقال بعض أصحابنا: إن ذكر وزنه ولم يذكر جنسه جاز وكأن المكري رضي بأعظم الأمتعة ضررًا، وهذا صحيح إذا قال: احمل ما شئت بهذا الوزن، وإن لم يذكر الوزن ولا الجنس ولكن رآها المكري جاز وإن رآه المكري في وعاء ولم يعرف وزنه فرفعه بيده هكذا ليعرف قدر نقله على القارب جاز وإن لم يعرف جنسه لأن قصده معرفة الثقل والخفة لا الجنس وإن لم يعرفه بيده ولكن رآه في وعاء مملوءًا لم يجز لأنه قد يملأ حديدا وقد يملأ تبنًآ وفيه قول آخر لا تكفي المشاهدةً حتى يكون معلوم القدر والوزن عندهما مع المشاهدةً تخريجًا من رأس المال في السلم هل يجوز أن يكون جزافًا أم لا لأن عقد الإجارةَ لا ينبرم كالسلم بخلاف البيع ذكره في "الحاوي". فرع الوعاء الذي يحمل فيه من الجوالق إن ذكر وزنه مع الوعاء لا يحتاج إلى ذكر الوعاء لأنه دخل في جملةَ الوزن وإن قال: تحمل لي كذا وكذا في وعائه فلا بد من أن يكون الوعاء معلومًا ولا يمكن معرفته إلا بالمشاهدةً فأما بالصفة فلا لأنه يختلف قال الشافعي: إلا أن يكون من غرائر الجبل التي لا تختلف فتحمل على ذلك إذا قال من غرائر الجبل فإنها تنسج على منوال واحد لا تختلف وإذا وصف بحيث لا يتفاوت [167/ أ] في المتفاوت فالحكم على ما ذكرت في المحمل. فرع آخر إذا اكتراها ليحمل تبنًا لا يجوز حمل الحديد بوزنه كذلك على العكس لما ذكرنا ولكن لو حمل مكان التبن صوفًا أو مكان الحديد رصاصًا أو مكان الحنطة شعيرًا فلا بأس به لأنه يتقارب. فرع آخر إذا اكترى بهيمةً للركوب لابد من أن يبين أنه يركبها على الإكاف أو السرج أو فوق الزاملةً فإن ذلك يتفاوت ويختلف الغرض فيه وتختلف الأجرةً بذلك في العادةٌ.

فرع آخر إذا اكتراها للسقي يحتاج أن يذكر جنس البهيمة فيقول: ثورًا أو بغلاً أو بعيرًا لأنه يختلف فيحتاج إلى أن يكون الدولاب الذي استأجره لأجله معلومًا لأن الدواليب تختلف بالكبر والصغر وتحتاج أن يقدر ذلك بمدةٍ لأن تقدير العمل فيه لا يمكن. فرع آخر لو اكتراه للحرث يحتاج أن يذكر الجنس أيضًا لأنه يختلف ويذكر الأرض التي يعمل عليها لأنها تختلف بالصلابة والرخاوة ويقدر ذلك بالعمل فيقول: استأجرتك لتحرث هذه الأرض أو عشرة أجربة أو خمسة وإن لم تشاهدها ولا يقدر ذلك بمدة فإن قدر بمدةٍ بطل ولو اكتراه شهرًا للركب أو الحرث جاز وإن لم يذكر مقدار الأرض, ومن أصحابنا من قال: لا يجوز تقديره بالمدة وليس بمشهورٍ وهكذا إذا اكترى شهرًا للركوب أو الحمل عليها على ما ذكرنا جاز وإن لم يذكر المسافة وإن ذكر المسافة فلا ينبغي أن يذكر المدة لأنه إذا جمع في العقد بينهما كثر الغرر. فرع آخر لو استأجر ظهرًا للدياس لابد من معرفة الجنس لأن العمل يختلف به ولو عين الزرع لم يفتقر إلى تعيين الحيوان الذي يداس به ولأنه لا غرض في تعيينه, وإن كان إلى مدةٍ لم يجز [167/ ب] إلا بالتعيين لأن العمل يختلف باختلافه. فرع آخر لو اكتراها ليركبها بسرج فضرب عليها إكافًا لم يجز لأن السرج أخف عليها ولو أبدل الإكاف بالسرج قال القفال: ولو اكتراها لحمل متاع فأبدل السرج بالإكاف يجوز إذا لم يكن أثقل من السرج ولو أبدل الإكاف بالسرج لم يجز وفي هذا نظر. فرع آخر إذا اكتراها ليركبها قال الشافعي: له أن يركبها بنفسه ولو أن يركب من هو في مثل حاله وليس له أن يركبها من هو أثقل منه, وقال أبو حنيفة: ليس له أن يركبها غيره كما لو اكترى دابة ليس للمكري أن يبدلها بغيره وهذا غلط, والفرق أن المكتري قد ملك استيفاء المنافع فله أن يستوفي بنفسه وبغيره وليس كذلك المكري لأن المكتري قد ملك عليه المنفعة المكتراة ومن ملك عليه فغيره شيئًا لم يكن له إبداله كما لو اشترى عبدًا ليس له إبداله. فرع آخر إذا اكتراها للركوب فكل ما كان للتمكين من الركوب فهو على المكري وكل ما كان للتوطئة والتمهيد فعلى المكتري فالخطام والمقود والقتب أو السرج أو الإكاف أو الإكاف أو الجوبة والبرذعة والبرة وهي التي تكون في أنف الجمل كلها على المكري

لأنه لا يتمكن من الركوب إلا بها فكل ذلك عليه وهذا لأنه يستوي السرج والإكاف على الظهر إلا بالرذعة ونحوها والمحمل والكنيسة وما يفرش فيهما والحبل الذي يشد به أحد المحملين إلى الآخر على المكتري. فرع آخر الأعمال على من تكون؟ ينظر فإن كانت رفع المحمل وحطه وشده على الجمل ورفع الأحمال وحطها فكلها على المكري, وإن كانت شد أحد المحملين بالآخر فيه وجهان أحدهما: يجب على المكري لأنه للتمكين من الركوب فهو كحطه ورفعه, والثاني: أنه على المكتري [168/ أ] لأنه من تمام آلته وما يوطأ به الركوب لنفسه. فرع آخر أجرة الدليل والسائق والقائد ينظر فيها, فإن كان اكترى بهيمةً بعينها فليس عليه غيرها وتجب أجرتهم على المكتري, وإن كان اكترى منه الركوب أو الحمولة في الذمة كان على المكتري حمله إلى الموضع المشروط وأجرة هؤلاء على المكري دون المكتري. فرع آخر إذا استأجر رجلاً ليصطاد له شهرًا بدينار صح وإذا اصطاد شيئًا كان للكنري ذكره ابن سريج. فرع آخر أذا جوزنا الاستئجار للاصطياد يحتاج إلى ثلاثة شروط ذكر جنس الجارح من فهدٍ أو نمرٍ أو كلب صقرٍ ولو عين الجارح بالعقد كان أولى وإن لم يعين جاز بعد وصفه بالتعليم, والثاني: ذكر ما يرسل عليه من الصيد من غزال أو ثعلب أو حمار وحشٍ لأن كل صيد من ذلك في أتعاب الجارح أثرًا, والثالث: أن يكون العمل معلوم القدر ولا يعلم ذلك إلا بتقدير الزمان. فرع آخر لو شرط إرساله على جنسٍ فأرسله على غيره جاز إذا كان مثله أو الأقرب, وإن كان أصعب صار متعديًا وضمن الخارج إن هلك. مسألة: قال: " وإن اكترى إلى مكة فشرط سيرًا معلومًا فهو أصح". وهذا كما قال: إذا شرط في الطريق سيراً معلوماً كل يوم كان أولي وأصح وأبعد من أن يتنازعا في مقدار السير وإن لم يشترط قال الشافعي: الذي أحفظ أن السير معلوم على المراحل لأنها الأغلب من سير الناس قال أصحابنا: إذا كان الطريق آمنًا جاز تقدير السير فيها في كل يوم ووجب الوفاء به وأيهما أراد المجاوزة أو التقصير عنه

لم يكن له فإن قال أحدهما: إني أقيم هذا اليوم هاهنا وأسير غدًا وأطوي مقدار ما أقمت لم يكن له وإن أطلقا ذلك, فإن كانت منازل الناس فيه معلومة حمل عليهما كما يحمل مطلق البيع على النقد المعروف, وإن كان الطريق مخوفًا لم يجز شرطه لأن السير ليس إلى اختيارهما. وقال أبو إسحاق: هذا الذي ذكره الشافعي إنما [168/ ب] قال في وقتٍ كان للناس عرف وعادة يسيرون فيها ولا يجازون فأما اليوم فلا عرف ولا عادة فإن ذكر قدر السير كل يوم جاز وإن لم يذكر بطل, وقال أبو حامد: لا يحل أن يشترط السير الذي في وقتنا هذا لأن حملاً على البهائم ولو شرط سير هذه العادة بطل العقد. فرع لو تراضيا على المجاوزة عن المرحلة المعتادة كان ذلك لهما إذا كانت المجاوزة لا تعنف الدابة عنفًا يضر بها فيكون ذلك ممنوعًا بالشريعة ولا يجوز تحميلها وا لا طاقة لها بذلك. فرع آخر زمان السير هل يكون ليلاً أو نهارًا؟ فإن كان للطريق عرف وعادة حمل الإطلاق عليه وإن شرط فيه حمل على الشرط وإن أطلقا ولا عرف في زمان السير بطل. فرع آخر موضع النزول أين يكون؟ فإن كان له عرف حمل عليه, وإن لم يكن له عرف غالب فتارة ينزلون في جوف البلد وتارةً ينزلون خارجًا كان ذكره موضع النزول شرطًا ومتى اختلف إلى موضع النزول فقال المكتري: جوف البلد أصون لمالي, وقال المكري: خارج البلد أحوط لبهائمي قال المزني في "الجامع الكبير": قدمنا قول من العرف معه, وإن لم يكن عرف فلابد من الشرط فيحملان عليه على ما ذكرنا. مسألة: قال: "فإن تكارى إبلاً بأعيانها ركبها". الفصل وهذا كما قال: لابد من أن يكون المركوب الذي استأجره للركوب معلومًا ويصير معلومًا بالمشاهدة أو بالصفة على ما ذكرنا فإن اكتراها ولم يرها فيه قولان أحدهما: لا يجوز, والثاني: يجوز ويثبت خيار الرؤية وبه قال أبو حنيفة ثم إذا اكتراها بعينها, فإن كانت سليمة ركبها وإن وجدها خشنة المشي لم يكن له الرد لأن ذلك ليس بعيب وإن وجد بها عيبًا بأن تعثر في مشيها أو لا تبصر بالليل فهو بالخيار بين الإمساك مع العيب وبين الرد وفسخ العقد وليس له أن يبدلها بغيرها وإن ماتت بطلت الإجارة وإن أفلس

المكري فالمكتري أحق بعين الدابة [169/ أ] من الغرماء قلا يباع في الدين ما لم يعمل في الإجارة على قولنا: لا يباع المكري وإن اكتراها موصوفة وهو أن يحمله على جملٍ يحمله من غير ضررٍ لا يكون فتيًا شرسًا نفورًا ولا مسنًا قحمًا أو يقول: اكتريت منك جملاً تحملني عليه إلى بلد كذا أو تحمل هذه الحمولة إلى بلد كذا ولا يزيد على هذا يجوز لأنه لا حاجة إلى المستأجر إلا إلى قوته وصحته ومطلق العقد يقتضي الصحة وقوله: تحملني اشتراط القوة فإن شرطا أجلاً فيه جاز وإن أطلقا فهو سلم حالٍ على ما سنبين إن شاء الله فهاهنا إن ماتت أو وجد بها عيبًا يلزمه بدلها وإن فلس فالمكتري يساوي الغرماء, والفرق أن هناك تعلق العقد بعينه فلا يجوز الإبدال وهاهنا تعلق بالذمة فيجوز الإبدال وهذا كما في بيع العين لا يجوز الاستبدال عن المبيع ويجوز في السلم إذا أخذه معيبًا الرد والإبدال. مسألة: قال: "وعليه أن يركب المرأة ويمزلها عن البعير باركًا". الفصل وهذا كما قال: إذا اكترت المرأة جملاً يلزم على الجمال أن ينيخه لركوبها ونزولها كذلك إن كان المكتري رجلاً وكان شيخًا ضعيفًا أو مريضًا لا يقدر على ركوبه ونزوله وهو قائم يلزمه أن ينيخه وكان في معنى المرأة في ذلك لأن هذا هو العادة للضعف بهن وبهم ولأن المرأة عورة فربما تنكشف عند الركوب والنزول قائمًا, وإن كان الرجل قويًا باطشًا يقدر على الركوب والنزول قائمًا يضع رجله على عنق البعير ويركب ولا يلزم المكري إناخته وإن يحتاج إلى معاون يرفع رجله فعلي المكري معاونته. وقال أبو إسحاق: فإن كان قويًا عند العقد ضعيفًا عند الركوب لمرض كان حكمه حكم المريض, وإن كان مريضًا عند العقد ثم برئ كان حكمه حكم الصحيح القوي اعتبارًا بحال الركوب لا بحال وجود الإجارة وأما النزول للرواح طرفي النهار في الطريق مكة نظر, فإن شرط في العقد شيئًا معلومًا جاز ويلزم على ما شرط [169/ ب] وجرى ذلك مجرى أوقات الاستراحة, وإن كان مطلقًا وللناس عرف في ذلك هل يلزمه النزول له إذا كان قادرًا على المشي؟ وجهان أحدهما: يلزمه ذلك اعتبارًا بالعرف, والثاني: لا يلزمه ذلك تغليبًا لحكم العقد كما في الأحمال لا يلزمه حملها في بعض الطريق. وإن كان امرأة أو رجلاً مريضًا لا يلزمه النزول وأما ما يعمله الراكب كل ما أمكنه عمله على البعير فعليه أن يعمله عليه كالأكل والشرب واللباس والصلاة النافلة وكل ما لا يمكنه فعله على البعير حتى ينزل لذلك العمل وهو النزول لحاجة الإنسان والطهارة وصلاة الفرض وإذا نزل للصلاة كان له أن يصلي تامًة قصيرةً وليس له التطويل ولا عليه التخفيف لأنه هو القصد وينتظره حتى يفرغ منها ولو قال له

المكري: لا تطول صلاتك واقتصر فيها على قوله: [قل هو الله أحد] لا يقبل منه ذلك وهكذا لو أراد المكتري أن يطول القراءة ويسبح تسبيحات كثيرة ليس له ذلك وله أن ينزل في أول وقت للصلاة لإدراك فضيلة أول الوقت وله أن يصلي كل صلاة في وقتها وليس للجمال أن يطالبه بالتأخير للجمع أو التقديم للجمع لأن الجمع رخصةً والأفضل أن يصلي فعل كل صلاة في وقتها. مسألة: قال: "ولا يجوز أن يتكارى بعيرًا بعينه إلى أجلٍ معلومٍ إلا عند خروجه". الفصل وهذا كما قال: الإجارة على ضربين إجارة بهيمةٍ بعينها أو عمل رجلٍ بعينه وإجارة في الذمة فإن استأجر بهيمةً بعينها أو عمل رجل بعينه فشرط مسافة معلومة ولم يجز شرط تأخير التسليم فيها بأن يقول: اكتريتها لأركبها إلى موضع كذا أو في يوم كذا أو اكتريتك لتخرج إلى موضع كذا غدًا خلافًلا لأبي حنيفة وإن أطلقا العقد في الذمة جاز ووجب التسليم في الحال, فإن كان العقد مطلقًا وأخر التسليم لم يضره كما لو باع سلعةً بعينها وأخر تسليهما وإن استأجر [170/ أ] في الذمة بأن يقول: استأجرت منك جملاً لأركبه إلى مكة تسلمه إلي بعد شهرين أو في يوم كذا أو قال: أركبه شهرًا أوله يوم كذا أو أستأجر رجلاً على عمل مضمون في الذمة ولم يشترط عليه عمله وشرط الأجل فإن ذلك كله جائز لأن الإجارة صنف من البيوع فإذا تعلق بالعين لم يجز شرط الأجل وإذا تعلق بالذمة جاز شرط الأجل ويكون سلمًا في المنافع نص في "البويطي" عليه, وقال: إنه سلف في المنافع قال أصحابنا: فإن استأجره بلفظ السلم أن يقول: أسلمت إليك في ركوب جمل أو ظهرٍ من صفته كذا أو في مدة كذا تسلمه إلي في وقت كذا فإن ذلك جائز وعلى هذا يجب قبض الأجرة في المجلس وإن عقداه بلفظ الإجارة فهل يجب قبض الأجرة في المجلس وجهان أحدهما: يجب تسليم الأجرة في المجلس, والثاني: لا يجب وهذا المبنى على اختلاف أصحابنا في أن الاعتبار باللفظ أو بالمعنى فإن قلنا: الاعتبار باللفظ لم يجب تسليم الأجرة في المجلس لأنه عقد بلفظ الإجارة دون لفظ السلم وإن قلنا: الاعتبار بالمعنى دون اللفظ فإن معانه معنى السلم فوجب تسليم الأجرة في المجلس. وقال القاضي الطبري: نص الشافعي في "البويطي" على انه سلف ثم قال: ولا يجوز أن ينقضه بعض الكراء حتى ينقده كله مثل السلف وهذا نص يسقط الوجه الآخر, وقال فيه أيضًا: ولو اصطلحا من تلك المنفعة على شيء لم يجز لأنه استبدال عن المسلم فيه إلا أن يسلم إليه الدابة ثم يصطلحا على شيء فيجوز كما لو أجره المكتري كم غيره جاز لأن القبض في الإجارة يجوز التصرف فإن لم يحصل المنافع مقبوضة إذ

هي بالقبض تتلف فلا يمكن العقد عليها بعد. فرع لو قال: اكتريتك لحمل هذا إلى بلد كذا جاز وإن لم يذكر الدابة والكري يحمله على ما شاء. فرع آخر لو اكترى جملاً بعينه أو دابة بعينها فندت وشردت, فإن كان العقد على المدة ولم يقدر عليها حتى مضت المدة انفسخ العقد وأما في الحال لا ينفسخ العقد بل يثبت له الخيار فيه لأنه لم يتحقق تلف [170/ ب] المعقود عليه كما لو اشترى عبدًا فأبق قبل القبض لم يثبت الخيار, وإن كان العقد معقودًا على مسافة لا ينفسخ بحالٍ بل يثبت الخيار. فرع آخر لو سلم الدابة إليه فلم يركبها حتى مضت مدة الركوب مع الإمكان قد استقرت الأجرة وبه قال مالك, وقال أبو حنيفة: لا تستقر إلا أن يستوفي ذلك الطريق مع الدابة فتستقر الأجرة وإن لم يركب حينئذ وهذا غلط لأن المستأجر قبض العين المستأجرة وتمكن من استيفاء المنفعة عليها فتستقر عليه الأجرة كما لو استأجرها شهرًا للركوب وتسلمها. فرع آخر لو استأجر إجارةً فاسدةً وتمكن من الانتفاع به يلزمه أجر المثل, وقال أبو حنيفة: لا يلزمه الأجرة إلا أن ينتفع وهذا غلط لأن التمكن كالاستيفاء كما في الإجارة الصحيحة عندنا إذ انتفع يلزمه أجر المثل وإن زاد على المسمى, وقال أبو حنيفة: يلزمه أقل الأمرين من المسمى أو أجر المثل. فرع آخر لو غصب الشيء المستأجر مدةً فالحكم فيه كما لو اشترى عبدًا فهلك في يد البائع إن أتلفه المشتري استقر عليه الثمن وإن تلف بأمرٍ سماوي فإن أتلفه البائع بطل قولاً واحدًا وإن أتلفه أجنبي فقولان فإذا قلنا: لا يبطل فللمشتري الخيار وقيل: بالعمس من هذا إن أتلفه أجنبي لا يبطل قولاً واحدًا وفي إتلاف البائع قولان فذلك في مسألة الإجارة إن قبضها المكتري بغير إذن المكري استقرت الأجرة عليه وإن متعها المكري حتى انقضت المدة قيل: قولٌ واحدٌ يبطل وقيل: قولان, وإن كان المانع أجنبيًا قيل: لا يبطل قولاً واحدًا وقيل: قولان والأصح أنه لا يبطل في هذا إن كان الركوب مقدرًا بالمدة فهو بالخيار بين شيئين بين المقام على الإجارة والرجوع على الغاصب بأجرة المثل وبين الفسخ والرجوع على المكري بالأجرة المسماة, وإن كان الركوب مقدرًا بالمسافة كان خياره بين ثلاثة أشياء الفسخ والرجوع بالمسمى والمقام والرجوع

بأجرة المثل على الغاصب, والثالث: [171/ أ] المقام على الإجارة وركوب البعير الآخر ويرجع المالك الجمال على الغاصب بأجرة المثل إذا فسخ الإجارة فحكمه كما لو انفسخت الإجارة في أثناء المدة وقد ذكرنا. فرع آخر قال الشافعي: ليس له أن يخاصم الغاصب إلا بوكالة المالك, وقال أصحابنا: هل له أن يخاصم الغاصب في المنفعة؟ وجهان أحدهما: له ذلك لأن المنفعة له, والثاني: لا يخاصمه كالمرتهن والأصح عندي الأول وأراد الشافعي لا يخاصمه في الرقبة ورأيته عن القفال. فرع آخر لو كانت الإجارة في العقار لا يجوز إلا أن يكون معينًا ولا يثبت في الذمة بحالٍ ولابد أن تكون المنفعة معلومة على ما سبق بذكر المدة فإن وافق أول الهلال وذكر شهرًا مطلقًا اعتبر ما بين الهلالين تامًا كان أو ناقصًا, وإن كان قد مضى من الهلال بعضه أكمل ثلاثين يومًا فإن تأخر القبض يومًا أو يومين بطل العقد في قدر ما فات قبضه لأنه تلف قبل القبض وهل يبطل فيما بقي؟ طريقان فمنهم من قال: لا يبطل قولاً واحدًا ومنهم من قال: فيه قولان وأصل هذا إذا وقع الفساد بعد العقد قبل القبض مثل أن باع عبدين فمات أحدهما في يد البائع بطل البيع فيه عل يبطل فيما بقي؟ طريقان فإذا قلنا: لا يبطل فالمكتري بالخيار بين أن يقيم على العقد أو يفسخ فإن اختار الإقامة عليه أمسكه بالحصة وليس له أن يقول: استعمل يومًا من شهر آخر خلافًا أبي حنيفة على ما حكي عنه. فرع آخر لو قال: أجرتك هذه الدار شهرًا وأطلق لا يجوز ويحتاج إلى أن بقول: من هذا الوقت, وقال أبو حنيفة ومالك: يجوز ويكون من حين العقد وهذا غلط لأن العقد هاهنا على المدة دون الذمة فيصير كما لو قال: بعتك عينًا من هذه الأعيان لا يجوز. فرع آخر لو استأجر بعيرًا ليركبه مسافة شهرٍ إلى مكة لم يجز لأن ما يقدر العمل فيه لم يجز اشتراط المدة فيه على ما ذكرنا, وقال بعض أصحابنا: يجوز لما فيه من زيادة التأكيد [171/ ب] وقال أبو الفياض: إن كان العمل ممكنًا في تلك المدة جاز وإلا فلا يجوز والأول أصح. فرع آخر إذا قال: استأجرتك فتحصل لي خياطة خمسة أيام وقال القاضي الطبري: لا يصح ووجهه أن العمل مجول لأن الخياطين تختلف أعمالهم وإنما يصير ذلك بتعيين الخياطة أو تقدير العمل فأما بالمدة لا تزول الجهالة.

مسألة: قال: "وإن اختلفا في الرحلة رحل لا مكبوبًا ولا مستلقيًا". وهذا كما قال: اختلف أصحابنا في تأويله فمنهم من قال: تأويله اختلفا في شد القيد المؤخر فقال المكري: أنا أضيق المؤخر وأوسع المقدم فيكون المحمل منكبًا فيما يلي عنق البعير ليكون أخف على الجمل, وقال المكتري: وسع القيد المؤخر حتى يكون مستلقيًا فيكون أروح لي ومنهم من قال: تأويله أن يقول المكري: أضيق القيدين حتى يرتفع المحمل عن خاصرة الجمل وعن جنبيه, وقال المكتري: وسعه حتى ينزل فإني لا آمن أن أسقط وكيف ما كان لا يرجع إلى قول واحدٍ منهما ويشد لا مكبوبًا ولا مستلقيًا على ما في العرف والعادة طلبًا للإنصاف حتى لا يضر بهما, وكذلك لو اختلفا في جلوس الراكب في المحمل فقال المكري: اعتمد على ناحية عنق الجمل فيكون كالمكبوب على وجهه, وقال الراكب: بل استبقى على كفل الحمل فإنه يقعد لا مستلقيًا ولا مكبوبًا على وجهه فإن خير الأمور أوساطها. مسألة: قال: "والقياس أن يبدل ما يفني من الزاد". الفصل وهذا كما قال: إذا استأجر جملاً ليركبه ويحمل عليه ويحمل عليه زاده فلابد من بيان المزاد فإذا شرط أرطالاً معلومة ثم سرق ذلك في الطريق كان له إبداله قولاً واحدًا وإن أكل بعضه هل له أن يبدل قدر ما أكل؟ قولان أحدهما: له ذلك قال الشافعي: وهو القياس واختاره المزني لأنه شرط حمل مقدارٍ معلومٍ فصار مستحقًا كما لو حل المتاع وباع بعضه في الطريق كان له إبداله, والثاني: ليس له إبداله ويصير في التقدير كأمه اكتراه ليحمل عليه إلى [172/ أ] الموضع الذي يفنى وهذا لأن الغالب أن الرجل يرتحل عن وطنه ومعه قدر من الزاد هيأه وأصلحه فإذا فني في الطريق اقتصر على شراء الزاد يومًا بيوم في المراحل. وقال أبو إسحاق: إن كانت أسعار الزاد في المنازل متقاربة بالرخص والغلاء وكان انقطاعه مأمونًا لم يكن له إبدال ما فني منها لأنه لا غرض في حمله, وإن كان بخلاف هذا يبدل بلا خلاف لأن العرف جار به والقياس دالٌ عليه, وكذلك لو كان الطريق غامرًا يخاف فيه عدم ما لابد منه له أن يبدل قال أصحابنا: وله إبدال الماء كلما فني قولاً واحدًا لأن العادة في الماء الإبدال وقيل: الوجهان في النزول للرواح مأخوذان من هذين القولين. مسألة: قال: "وإن هرب الجمال فعلى الإمام أن يكتري". الفصل وهذا كما قال: إذا اكنري من رجل جمالاً ثم هرب الجمال لم يخلو من أحد أمرين

إما أن يهرب من الجمال أو يهرب وحده إن هرب بالجمال نظر إن كانت الإجارة في الذمة فالمكتري يرفع أمره إلى الحاكم ويقيم البينة عليه ثم الحاكم إن وجد له مالاً اكترى منه جمالاً للمكتري حتى يتوفي المنافع منها وإن لم يجد له مالاً كان له أن يستدين عليه فإن استدان اكترى له جمالاً ولا يجوز أن يدفع إلى المكتري مالاً ليكرى لنفسه بنفسه نص عليه في "البويطي" كما لا يجوز للمسلم إليه مالاً فيشتري لنفسه طعامًا وإن لم يجد من يستقؤض منه أو وجد ولكنه لم يرد ذلك لخوفه أن لا يتوصل إليه في الثاني فإنه يقول للمكتري: حقك معجل وقد تأخر فلك الخيار في فسخ العقد فإن فسخ رجع بما دفع من الأجرة ويكون في ذمته يتبع به إذا قدر عليه وإن صبر وأقام على العقد, فإن كانت الإجارة إلى مدة تنقضي بطلت بالفوات وكانت الأجرة دينًا على الجمال يتبعه متى قدر, وإن كانت إلى بلدٍ بعينه لم تبطل بالتأخير فإذا قدر [172/ ب] طالبه به, وإن كانت الإجارة تعلقت بجمال بأعيانها لا يجوز للحاكم أن يكتري عليه لأن الإبدال لا يجوز في المعين والمكتري بالخيار في الفسخ والمقام على الإجارة كما لو اشترى عبدًا فأبق فإن فسخ نظر, فإن كان له مال رجع بما دفع من الأجرة في ماله, وإن لم يكن له كال كانت الأجرة في ذمته يطالبه المكتري بها إذا قدر وإن أقام على العقد, فإن كانت الإجارة على مسافةٍ معلومةٍ صبر حتى يرجع الجمال ثم يطالبه بالمنافع لأنها لا تفوت أو لا تفوت بمضي الزمان, وإن كانت الإجارة على مدةٍ معلومة فإذا انقضت المدة قبل رجوعه انفسخ العقد. وإن هرب الجمال وترك الجمال فالمكتري يرفع أمره إلى الحاكم فإن وجد له مالاً أنفقه على الجمال لأن النفقة على المكتري لأنه من تمام التمكين وإن لم يجد له مالاً بوجهٍ فإن وجد من يستقرض منه ما ينفقه عليها استقرض وإن لم يجد وكان في الجمال فضل باع منها بقدر نفقتها ولا يبيع الكل لحق المكتري ذكره أبو إسحاق, وإن لم يكن فضل يقول الحاكم للمكتري: أنفق عليها إلى أن تستوفي حقك من المنافع ثم يرجع على المكري هكذا ذكره القاضي الطبري. وقال بعض أصحابنا: إن قبض منه الحاكم القرض وأنفق على الجمال بنفسه أو فوض إلى من ينفق عليه جاز وإن أذن له حتى ينفق بنفسه من ماله قرضًا نص في "الأم" على قولين فإذا قلنا: لا يجوز فخالف وأنفق لم يرجع بشيء لأنه تطوع بالإنفاق وإذا قلنا: يجوز وهو الأصح فانفق ثم عاد الجمال فإن اتفقا على قدر النفقة فلا كلام وإن اختلفا نظر, فإن كان الحاكم قدر له النفقة فادعى على أكثر منها لم يرجع في الزيادة ورجع بالقدر الذي أذن الحاكم به, وكذلك إم كان أنفق قدر ما قال الحاكم أو أقل وادعى ذلك فالقول قوله مع يمينه لأنه أمين, وإن لم يكن قدره الحاكم ويجوز ذلك لإختلافه المنازل فينفق بالمعروف من غير سرفٍ ولا تقصير ولو اختلفا بعد ذلك في قدر ما اتفق فيه [173/ أ] ثلاثة أوجه أشار إليها الشافعي في" الأم": أحدهما: القول فيه قول المكري لأن المكتري يدعي عليه مالاً والأصل براءة الذمة.

والثاني: القول قول المكتري في قدر المعروف لأنه أمين وهو الأصح. والثالث: يرجع إلى عرف الناس فإذا وافق ذلك قول أحدهما: فهو المعمول عليه قال في "الحاوي": وفي اختيار الشافعي قال: وإن خالف قياس الأصول الموجبة لأحد المذهبين وقد يترك القياس إذا تفاحش إلى ما يكون عدلاً بين الناس وإن يرجع الجمال فإذا بلغ المكتري الموضع باع الحاكم منها بقدر ما أنفق ويقضيه وما بقي منها ينظر فيه باجتهاد, فإن كان الحظ في حفظها حتى يرجع صاحبها فعل, وإن كان الحظ في بيعها وحفظ ثمنها فعل وإن أنفق من غير إذن الحاكم فقد ذكرنا في المساقاة إذا هرب العامل ما يغني عن الإعادة. فرع يجوز أن يكتري رجلاً ليحفر له بئرًا ولا يصح حتى يكون المعقود عليه معلومًا ولا يكون معلومًا إلا بأحد أمرين بالمدة أو بالعمل فالمدة أن يقول: استأجرتك لحفر البئر شهرًا وإن لم يعين الموضع فإذا صح العقد كان عليه العمل شهرًا ولا يحتاج إلى شرطٍ آخر, وإن كانت المنفعة معلومةٍ بالعمل فلابد أن تكون البقعة التي يحفر فيها معلومة بالمشاهدة ثم يعرف مقدار سعتها وهو الدور ومقدار عمقها وعند أبي حنيفة لا يحتاج إلى بيان هذا, وقال قوم من العلماء لا يجوز الاستئجار عليها لأن باطن الأرض يختلف بالصلابة والرخاوة وإن ما يخرجه من التراب غير معلومٍ وهذا غلط بخلاف الإجماع وهذا معلوم بالعرف والعادة في الجملة ويصير باطنها بمشاهدة الظاهر معلومًا وإن جاز أن يكون الأمر بخلافه كما يصير باطن الصبرة من الطعام معلومًا بمشاهدة الظاهر حتى يصح البيع, فإذا تقرر هذا فاشتغل الحفار بالعمل فإن مضى على السداد فلا كلام وإن وصل إلى حجر يمكنه حفره [173/ ب] لزمه وإن شق عليه لأنه التزم الحفر بالعقد هكذا ذكر عامة أصحابنا وقيل: لا يلزمه حفره لأنه يخالف ما شاهده من الأرض وإنما وجب مشاهدة الأرض لأنها تختلف فإذا ظهر فيها ما يخالف المشاهدة ويختلف به العمل وجب أن يثبت له الخيار وإن تعذر حفرها بحيث لا يعمل فيه الفأس والمعول أو نبع الماء فقد انفسخ الإجارة فيما بقي من العمل وهل تنفسخ فيما مضى على ما ذكرنا من الطريقين فإذا قلنا: ينفسخ فيما بقي يثبت الخيار في الفسخ في الكل فإن فسخ في الكل يلزم العامل أجر المثل فيما عمل وإن لم يفسخ قسطت الأجرة المسماة على ما بقي من العمل وعلى ما عمل ولا يعمل في هذا على الذرع بل يعتبر ما علا من البئر وما نزل منها فإن حفر الذراعين من أولها أسهل من حفر ذراعين من آخرها فيقسط ذلك فيقال: كم عمل قالوا: عشرة أذرع وكم بقي؟ قالوا: عشرة أذرعٍ فيقال: كم أجرة ما بقي وكم أجرة ما عمل؟ فيقال كذا وكذا فيقسط المسمى عليه.

فرع آخر شيء حفر واجتمع تراب في جوف البئر كان إخراجه على الأجير لأنه من العمل. فرع آخر لو انهارت من حولها ونزل فيها تراب كان على رب البئر إخراجه كما لو انثال فيه طعام أو وقع فيه بهيمة لا يلزمه إخراجها لأنه لا يلزمه أكثر من الحفر ونقل التراب الذي من الحفر لا غير. فرع آخر يجوز الاستئجار لحفر القني والأنهار ولا يصح حتى يكون معلومًا على ما ذكرنا فإذا عين العمل لابد من ضبط ثلاثة أوصاف العرض والعمق والطول. فرع آخر لو استأجره على حفر عشرة أذرع بثلاثين درهمًا فحفر خمس أذرع وترك خمسة قال الشافعي: يقال كم تساوي أجرة الخمس المحفورة؟ فإن قيل: خمسة قيل: وكم [174/ أ] تساوي أجرة الخمس المتروكة؟ فإن قيل: خمسة عشر درهمًا جمعتهما وجعلت كل خمسةٍ سهمًا فيكون جميع السهام أربعة ثم قسمت الثلاثين التي هي الأجرة المسماة على أربعة أسهم يخرج للسهم الواحد سبعة دراهم ونصف وهو الذي يستحقه بالخمس المحفورة وعلى هذا القياس وهذا شرح ما ذكرنا, وقال أبو حنيفة: يضاعف الأذرع المعقود عليها بقدر مسافتها ثم يقسم الأجرة على ما اجتمع منها فما خرج لكل ذراع فهو قدر أجرته مثاله أن يستأجر على حفر خمس أذرع بخمسة عشر درهمًا فيجعل الذراع الأولة ذراعًا واحدًا لأن نقل ترابها من ذراعٍ واحدة وتجعل الذراع الثانية ذراعين لأن نقل ترابها من ذراعين ويجعل الذراع الثالثة ثلاث لأن نقل ترابها من ثلاث أذرع ويجعل الذراع الرابعة أربع أذرع على هذا, والخامسة خمس أذرع على هذا ثم يجمع ذراعًا وذراعين وثلاثًا وأربعًا وخمسًا فيكون خمس عشرة ذراعًا وهي ما استؤجر عليه من الأذرع الخمس ثم تقسم الأجرة المسماة وهي خمسة عشر درهمًا يكون قسط كل ذراع درهمًا فإن حفر ذراعًا واحدًة استحق درهمًا وإن حفر ذراعين استحق ثلاثة دراهم لأن الأولة ذراع, والثانية ذراعان وإن حفر ثلاثًا استحق ستة دراهم وعلى هذا قال في "الحاوي": وقال بعض محققي أصحابنا ومجوديهم في الحساب بمذهب توسط مذهبي الشافعي وأبي حنيفة لأن مذهب الشافعي وإن كان في القياس مطردًا وعلى الأصول مستمرًا فإن فيه اطراحًا لعملٍ يصح فيه وينحصر به ومذهب أبي حنيفة وإن كان في العمل مطردًا وفي الحساب صحيحًا فإن فيه كل ما يفسد في القياس ويبطل ويبطل على الأصول وذلك أن حفائر الآبار تشتمل على حفرٍ ونقل تراب فالحفر [174/ ب] يتماثل في الأذرع كلها وليس في حفر الذراع الأخيرة عمل يزيد على حفر الذراع الأولة فلم يجز أن يفاضل بين أجورها فصار مذهب أبي حنيفة فاسدًا وأما التراب المحفور

فإنه يختلف باختلاف المسافة بأعداد الأذرع لأن مسافة الثانية مثلا مسافة الذراع الثانية مثلا مسافة الذراع الأولة ومسافة الثالثة ثلاثة أمثالها فلم يجز العدول عن تقسيط الأجرة عليها فصار في مذهب الشافعي من هذا الوجه اطراح لعملٍ هو أصح تحقيقًا وأحصر تقسيطًا, وإذا كان كذلك وجب أن تقسط الأجرة المسماة على الحفر والنقل فما قابل الحفر قسم على أعداد الأذرع من غير تفاضل لأن العمل في جميعها متماثل وما قابل النقل قسم على ما تنتهي إليه الأذرع لأن العمل فيها متضاعف, فإن قيل: لا يجوز أن يفصل بين أجرة الحفر والنقل لأن أحدهما تبع للآخر قلنا: هذا فاسد من وجهين أحدهما: أنه ليس جعل النقل تبعًا للحفر بأولى من جعل الحفر تبعًا للنقل وإذا لم يتميز التابع من المتبوع صار كل واحدٍ منهما مقصودًا, والثاني: وما كان تبعًا لغيره لم يجز أن يفرد بالعقد وقد ثبت أنه لو استأجر على الحفر أجيرًا لا ينقل التراب وعلى نقل التراب أجيرً لا يحفر جاز فإذا صح ذلك فللعمل عليه مقدمة وهو أنك إذا أردت أن تعلم مبلغ مسافة نقل التراب من عشر أذرع وشق عليك أن تجمع من الواحد إلى العشرة على الولاء فبابه المختصر أن تزيد على العشرة واحدًا تكن أحد عشر ثم تضربها في نصف العشرة تكن خمسة وخمسين وإن شئت ضربت نصف أحد عشر في عشرة تكن خمسة وخمسين وهو مبلغ العدد المجموع من واحد إلى عشرة على الولاء والعلة في ذلك ما ذكره شجاع بن نصر أن الواحد والعشرة يكون أحد عشر والاثنين [175/ أ] والتسعة تكون أحد عشر والثلاثة والثمانية تكون أحد عشر والأربعة والسبعة أحد عشر والستة والخمسة أحد عشر فتعلم أن الذي معك من جملة إعداد العشرة خمس مرارٍ أحد عشر فلذلك ضربت في نصف العشرة وهو خمسة في أحد عشر فعلى هذا إذا أردت أن تجمع من واحد إلى خمسة عشر على الولاء فزد الواحد على خمسة عشر يكن ستة عشر ثم أضربها في نصف خمسة عشر يكن مائة وعشرين وإن شئت ضربت نصف ستة عشر في خمسة عشر يكن مائة وعشرين ثم على هذا القياس, فإذا تقررت هذه المقدمة ضرنا إلى العمل فإذا قيل: رجل استؤجر على حفر بئر عمقها خمس أذرعٍ في دورٍ ومعلوم بعشرين درهمًا فإن يقال: كم تساوي أجرة الحفر فإذا قيل: خمسة قيل وكم تساوي أجرة النقل فإذا قيل: خمسة عشر فليس في ذبك محاباة فاجعل أجرة الحفر التي هي خمسة مقسومة على عدد الأذرع الخمس بالسوية لأنه ليس لبعضها على بعض في الحفر فضل فيكون قسط كل ذراع بالحفر وحده درهما واحدًا ثم اجعل أجرة النقل التي هي خمسة درهمًا مقسومةً وثلاث وأربع وخمس وإن شئت أن تعمله بالباب المختصر زدت على الخمسة واحدًا تكن ستة ثم ضربتها في نصف الخمسة تكن خمسة عشر وهي مبلغ مسافة النقل من خمس أذرع فإذا قسمت عليها قسطت من الأجرة وهي خمسة عشر درهمًا كان أجرة كل ذراعٍ فإذا حفر ونقل ذراعًا واحدةً استحق درهمين لأن له بالحفر درهمًا ولو حفر ونقل ذراعين استحق خمسة دراهم لأن له بحفر

ذراعين درهمين وبنقل ذراعين ثلاثة لأن الأول ذراع, والثانية ذراعان ولو حفر ونقل ثلاث أذرع استحق تسعةٍ لأن له بحفر الأذرع الثلاث ثلاثة وله بالنقل من ثلاث أذرع ستة دراهم [175/ ب] وعلى هذا القياس والله أعلم. فرع آخر لو استأجره لضرب اللبن جاز وتكون المنفعة معلومةً لأحد أمرين على ما ذكرنا, وإذا كان بالعمل لابد من تعيين مكان الضرب والموضع الذي يستقي منه الماء والتراب الذي يضرب منه فإذا كان في المصر قالب معروف معتاد عمل عليه لأنه كمكيال الطعام, وإن لم يكن قالب معروف فلابد من ضبط الطول والعرض والسمك فإذا ذكر السمك والدود أجزاه لأنه يشمل على الطول والعرض ويذكر كل ألفٍ بكذا, وقال القاضي الطبري: لو شاهد القالب جاز قال أصاحبنا: في هذا نظر لأن فيه ضربًا من الغور وهو كتعليق السلم بمكيال بعينه. فرع آخر تجوز الإجارة على بناء الدار نص عليه في كتاب الإجارة في الرواية البويطي, فإن كانت معلومةً بالعمل لابد من مشاهدة المكان ويعرف العرض والطول والارتفاع وآلة البناء من طين وجصٍ أو لبن أو آجر أو حجر وإن قدر بالزمان جاز. فرع آخر تجوز الإجارة على تطبيق السطوح والحيطان وتجصيصها ولا يصير هذا معلومًا بالعمل ولكن تذكر المدة لأن العمل يختلف اختلافًا لا يأتي عليه وصفٌ ولا يعرف عادةٌ في بعضه أثخن وفي بعضه أرق. فرع آخر يجوز أيضُا على طبخ الآجر وطحن الطعام ونسج الثياب وقصارتها وصبغها وخياطها ولى التجارة وغير ذلك من الصناعات إذا وقع العقد على عملٍ موصوفٍ معلومٍ على ما بيناه. فرع آخر لو استأجره لرعي الغنم لا يصح إلا مدةً معلومةً لأن المنفعة هاهنا لا تكون معلومة إلا بالعمل ثم لا يخلو إما أن يطلق أو يعين الغنم فإن أطلق وقال لرعي الغنم شهرًا انطلق إلى رعي العدد الذي يرعاه الواحد في العادة من مائة رأس فما دونها وفوقها فإذا سلم للرعي ما جرى به العرف لم يكن للمكتري [176/ أ] أن يزيد على ذلك فإن أراد أن يستبدل بغيرها كان له وإن ذبح بعضها كان له أن يستخلف غيرها للرعي فإن بقي منها ولو واحدة فرعاها بقية المدة كان له الأجرة وإن توالدت سخالاً حفظ سخالها على ما جرت به العادة, ومن أصحابنا من قال: لا يجوز الإطلاق حتى يذكر العدد لأنه يختلف وليس فيه عرفٌ واحدٌ وهذا أصح عندي, وإن كانت الغنم تعلق العقد

بأعيانها ولم يكن للمكتري أن يعطيه غيرها ليرعاها ولا له أن يزيد فيها فإن مات شيء منها بطلت الإجارة فيما مات منها وله أجرة ما بقي بالحصة وقيل: القياس أنه يجوز إبدالها كما قال الشافعي: إذا استأجر دابةً ليركبها له أن يركب غيره لأن الغنم غير معقودُ عليها بل يستوفيٍ بها منفعة الراعي ولهذا لو سلم لنفسه وجبت الأجرة وإن لم يرع فإن توالدت سخالاً لم يكن عليه حفظها ولا رعيها لأن العقد تعلق بأعيانها فلا تزاد. فرع آخر لو استأجر اليهودي عبدًا مسلمًا أو حرًا, فغن كان على عملٍ مضمون في ذمته جاز كما أن عليًا رضي الله عنه أجر نفسه من امرأةٍ يهوديةٍ ليستسقي لها الماء كل دلوٍ بتمرة, وإن كان على خدمةٍ تتعلق برقبته فإذا قلنا: تجوز بجبر على نقلها من نفسه إلى مسلم وإلا فسخا الحاكم عليه وهو كما لو اشترى عبدًا مسلمًا. فرع آخر لو استأجر المسلم أجيرًا فوجده يهوديًا, فإن كان ما يمنع منه حكمًا كالحج لا يجوز فإن حج لم يكن له أجرة, وإن كان يمنع حظرًا ككتبة المصاحف فإنه ممنوع من مسها لا يجوز فإن كتبه قبل أن يعلم بحاله له أجرة مثله دون المسمى, وإن كان عمل الصناعات التي ليس فيها طاعةً مقصودة لا خيار للمستأجر ويصح, وإن كان من الأعمال التي فيها طاعة مقصودة كبناء المسجد ونحر الأضاحي, فإن كانت الإجارة معينةً فللمستأجر الخيار لأن قيام المسلم به [176/ ب] أعظم ثوابًا, وإن كانت في الذمة قيل: للأجير إن استنبت فيها مسلمًا فلا خيار للمستأجر وإن توليتها بنفسك فللمستأجر الخيار. فرع آخر لو استأجر كحالاً لم يجز حتى يكون المعقود عليه معلومًا وإنما يصير معلومًا بالمدة دون العمل, فإن كانت المدة شهرًا نظر, فإن كان الكحل من عند المستأجر صحت الإجارة ولو شرط أن يكون الكحل من جهة المكري لا يجوز, وفيه وجه آخر يجوز لأن العادة جرت به ويشق على العليل تحصيل الدواء فجوز الرضاع ذكره القاضي الطبري. فرع آخر لو برأت العين مع انقضاء المدة استقرت الأجرة وإن تبرأ عند انقضاء المدة استقرت أيضًا وإن برأت قبل انقضاء المدة بطلت الإجارة فيما بقي من المدة وكان له من الأجرة ما مضي من المدة وحكي أصحابنا عن مالك أنه قال: إذا لم تبرأ لم تجب الأجرة وهذا غلط لأن العمل الذي عقد عليه الإجارة قد وجد وإن لم يحصل الغرض فوجبت الأجرة.

فرع آخر لو اشترى منه الكحل واستأجره للعمل في عقدٍ واحدٍ من غير شرطٍ فهو بيعٍ وإجارة فيه قولان, وحكى عن مالك أنه يجوز وقال: أيضًا لو استأجره ليبني له حائطًا والآجر من عنده يجوز كما لو استأجره لصبغ ثوبٍ والصبغ من عنده وهذا غلط لأن الإجارة عقدٌ على منفعة وشرط العين فيه شرط عقد البيع فيصير في معنى بيعتين في بيع ولا يشبه مسألة الصبغ لأنه بيع العين والعمل فيه تسليم الصبغ لأنه مقدر به. فرع آخر يجوز استئجار المرأة للحضانة والرضاع لقوله تعالى: {فَإنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6] ولأن الحاجة تدعو إلى ذلك لأنه قد يكون الإنسان ولد فتموت أمه فيحتاج إلى مرضعةٍ ولا يجد من يتطوع به. فرع آخر لا يجوز إلا بأربع شروط أحدها أن تكون الأجرة معلومة في سائر الإجارات فإن استأجرها بطعمة بطنها وهي نفقتها وكسوتها [177/ أ] لا يجوز وبه قال أبو يوسف ومحمد, وقال أبو حنيفة: ذلك في الطير خاصةً استحسانًا, وقال مالك وأحمد: يجوز في كل أجير أن يستأجر بنفقته وكسوته ويكون له ما يكون لمثله من الوسط واحتجوا بأن عرض المنفعة يقوم العرف فيه مقام التسمية كمنفعة الزوجة وهذا غلط لأن هذا عوض في عقد فلا يجوز أن يكون مجهولاً كالثمن في البيع والدليل على أبي حنيفة أن ما لا يجوز أن يكون أجرة في غير الرضاع لا يجوز أن يكون أجرة في الرضاع كالدراهم المجهولة, والثاني: لابد أن يكون الطفل معلومًا وإنما يكون معلومًا وإنما يكون معلومًا بالمشاهدة لأن الرضاع يختلف به وذكر في"الحاوي" أنه لابد من معرفة سنه مشاهدةً أو خبرًا لاختلاف شربه باختلاف سنه, والثالث: أن تكون المنفعة معلومة وإنما تصير معلومة بالمدة لا غير فيستأجروها شهرًا أو شهرين أو أكثر ولا يمكن تقدير ذلك بالعمل, والرابع: يشترط موضع الرضاع في بيتها أو بيت والده لأنه يختلف الغرض بذلك ولو أطلق من الاشتغال بأمور منزلي والرجل يقول: أرضعيه في بيتي حتى أشرف على ذلك. فرع آخر لو استأجرها على أن يعطيها كان يومٍ رطلين من الخبز لا يجوز لأن الخبز لا يثبت في الذمة ويجوز بالحب في الذمة.

فرع آخر ليس على المرضعة أن تأتي إلى الطفل بل يجب حمله إليها. فرع آخر لولي الطفل أن يمنعها من أكل ما يضر بلبنها, فإن كان الطفل لا يستمري لبنها لعلةٍ في اللبن كان عيبًا تفسخ به الإجارة. فرع آخر لو أجرت نفسها ثم تبين أنها ذات زوج له الفسخ فإن أجاز لا يمنع الزوج من وطئها. فرع آخر لو أجرت نفسها بإذن الزوج لم يكن له منعها بعد ذلك ولا يشغلها عن الرضاع إلا في الوقت الذي يستغني الصبي عن الرضاع فيه أو يكون نائمًا [177/ ب] ثم للزوج وطؤها وليس لها أن تمنعه نفسها ولا لأهل الصبي أن يمنعوا زوجها من ذلك مخافة الحبل وذهاب اللبن به, وقال لبعض أصحابنا بخراسان: يمنع من وطئها لأنه يؤدي إلى قطع اللبن كما يمنع الراهن من وطء المرهونة وهذا أقيس وبه قال مالك والأول ظاهر المذهب. فرع آخر لو أجرت نفسها ولم يكن لها زوج ثم تزوجت صح النكاح ولا تبطل الإجارة وليس للزوج مقال حتى تنقضي مدة الإجارة لأنه ملكها وهي مسلوبة المنفعة ولا يمنع من وطئها على ما ذكرنا لأن الوطء مستحق بالنكاح فلا يسقط لأمرٍ مشكوك فيه. فرع آخر لو أجرت نفسها ثم ذكرت أنها ذات زوج لم يقبل قولها في حق المكتري ولو نكحت مطلقًا ثم ذكرت بأنها أجرت نفسها للرضاع لم يقبل قولها في حق الزوج. فرع آخر لو كانت المرأة ذات زوج فأجرت نفسها لإرضاع مولود من غير إذن الزوج فالإجارة باطلة, وقال أبو حامد في"الجامع": وقد قيل: للزوج إبطال الإجارة وهذا يدل على أنه موقوف على فسخ الزوج ويصح المذهب الأول لأن الزوج يملك الاستمتاع بها كل وقت فلا يجوز التوقيت عليه وقيل: فيه وجهان أحدهما: ما ذكرنا, والثاني: يصح لأن العقد تناول محلاً غير المحل الذي تناوله عقد النكاح لأنه لا يملك خدمتها ولا إرضاعها وعلى هذا للزوج الخيار في فسخه لأنه يفوت به الاستمتاع في بعض الأوقات.

فرع آخر إذا كان للمرأة من زوجها لم يكن عليها أن ترضعه وإنما مؤونته على أبيه وإن أرادت إرضاعه كان له منعها لأنه يمنع استمتاعه وإن أراد أن يستأجرها للإرضاع لا يجوز, وقال أحمد: يجوز لأن كل عقد يجوز أن يعقد مع غير الزوج فكذلك مع الزوج كالبيع وهذا غلط لأنه يستحق حبسها وأخذت منه عوضًا في مقابلة الاستمتاع وعوضًا آخر في مقابلة التمكين فلا يلزمه عوض الحر ولو بانت منه جاز له [178/ أ] أن يستأجرها لإرضاع ولده ولو تبرعت بالإرضاع لم يكن له منعها لأنه أحظ لولدها من ضرر يلحقه. فرع آخر لو سقت المرضعة الطفل من لبن غيرها وكانت معيبة لا أجرة لها, وقال أهل العراق: لها الأجرة وهذا غلط لأنها لم تأت ما هو المستحق بالعقد عليها. فرع آخر الأجرة تجب حيث تجب النفقة, فإن كان للطفل مال فالأجرة منه, وإن لم يكن له مال فعلى أبويه على ما يقتضيه الإنفاق عليه فإن تطوع الأب ببدل الأجرة وللطفل مال فقد أحسن. فرع آخر اختلف أصاحبنا فيما يتناول العقد على وجهين أحدهما: العقد واقع على اللبن والحضانة والخدمة تابعة بدليل أن الإنسان إنما يقصد باستئجار المرضعة لبنها, والثاني: وهو المذهب العقد واقع على الحضانة والخدمة واللبن تابع لأن عقد الإجارة على العين على أن تكون المنافع تابعة لا يجوز والعقد على المنفعة والعين تابعة يجوز مثل أن يستأجر دارًا يدخل ماء البئر في الإجارة تابعًا فإذا جاز الاستئجار هاهنا ثبت أن العين تابعة. فرع آخر قالوا: استأجرها للرضاع والحضانة معا يلزمها الأمران معًا ولو استأجرها للرضاع دون الحضانة أو للحضانة دون الرضاع لزم ما ذكراه ولو استأجرها للرضاع مطلقًا هل تلزم الحضانة والخدمة وهي الحفظ والتربية والتدهين والتكحيل وغسله وتنويمه وشده وغسل خرقه وجهان أحدهما: لا يلزمها غير الرضاع, والثاني: يلزمها الأمراض لأنه العرف وأصل الوجهين ما الذي تناول العقد فإن قلنا: تناول اللبن والحضانة تابعة تجبر عليها وإن قلنا بالوجه الآخر لا تجبر عليها واعلم أن الشافعي قال في "المختصر" في أول الباب: وقد تختلف الرضاع فلما لم توجد فيه إلا هذا جازت الإجارة أي: إذا صارت جملة العمل معلومة فلا معتبر بالتفصيل إذ لا يوقف على ما يشرب الصبي من اللبن وعلى عدد الرضعات وهذا يدل على أن [178/ ب] العقد يتناول الحضانة لا اللبن.

فرع آخر لو استأجرها للحضانة, قال بعض أصحابنا بخراسان: لا يلزم الإرضاع وجهًا واحدًا, وقال بعضهم: يلزم الإرضاع وجهًا واحدًا والصحيح عندي أن هذا على وجهين أيضًا بناءً على ما ذكرنا من الوجهين أن اللبن تابعُ أو متبوع. فرع آخر لو مات من الجماعة واحدٌ نظر, فإن مات المكتري وهو الأب أو غيره فالإجارة بحالها وإن ماتت المكترأة وهي الظئر الإجارة فيما بقي من المدة وفيما مضى طريقان على ما ذكرنا, وكذلك لو جف ثدييها وإن مات الطفل فيه قولان المنصوص في الخلع وفي النفقات في"الأم" أنه يبطل العقد لأن المنفعة المعقود عليها فاتت لأن الولد الذي يرضع إرضاعه وغيره لا يقوم مقامه لأن شرب اللبن يختلف بالصبيان والمرأة قد تدر على ولدٍ ولا تدر على آخر فبطلت الإجارة وفيه قول مخرج لا تبطل الإجارة لأن المنفعة المعقود عليها باقية وإنما مات المستوفي فلا تبطل الإجارة كموت الراكب وهذا ضعيف فإذا قلنا بالمذهب فالحكم فيه كما لو ماتت الظئر وإذا قلنا: لا يبطل فالمكتري بالخيار بين أن يقيم غيره مقامه أو يدع فإن أقام غيره مقامه فلا كلام وإن لم يفعل أو اختلفا كان له فسخ العقد فإذا فسخ كان الحكم كما لو انفسخ وقد ذكرنا وإن مرضت الظئر نقص لبنها فلأهله فسخ الإجارة فإذا فسخ فالحكم كما لو انفسخ. فرع آخر للسيد أن يؤاجر الأمة القن أو المدبرة والمعتقة بصفةٍ وأم ولده للإرضاع وكذلك المأذون لها في التجارة نفسها بغير إذن سيدها لم يجز وله أن يجبر أمته وأم ولده على إرضاع ولده منها أو من غيرها. فرع آخر للمكاتبة أن تؤاجر نفسها للرضاع لأنه نوع من الاكتساب وكسبها لها وليس لسيدها الحكم عليها في ذلك. فرع آخر لو استأجر ملقحًا يلقح النخيل يجوز بشرط أن يكون [179/ أ] الكش وهو طلع الفحل من عند المكتري فإن شرط على الأجير ذلك بطل. فرع آخر لو استأجر رجلاً ليشتري له ثوبًا بعينه أو يبيعه صحت الإجارة لأن كل ما جاز العقد عليه إن كان مقدرًا بزمانٍ جاز العقد عليه إذا كان معلومًا في نفسه كركوب الدابة, وقال أبو حنيفة: لا يجوز ذلك لأن يتعذر عليه فأشبه ضراب الفحل وهذا غلط لما ذكرنا, ومن أصحابنا من قال: لا يجوز في الشراء ويجوز في البيع, والفرق أن البيع

في العادة ممكن لأنه لا يعدم راغبًا فيه والشراء لا يكون إلا من واحدٍ وقد لا يمنع فلا يمكن تحصيل العمل ظاهرًا ولو استأجره ليشتري له شيئًا ولم يعينه جاز بلا خلاف. فرع آخر لو استأجر رجلاً ليخيط له ثوبًا بعينه في يومه بدرهمٍ قد ذكرنا أنه لا يجوز قال القاضي الطبري: هكذا قال أصحابنا ورأيت في "البويطي" بخلاف ذلك كما لو اكترى بناءً أو نجاراً أو خياطًا أو رجلاً يعمل بيديه فوقع الكراء على عمل بدنه في مال صاحب المال فلا تجوز الإجارة على أن يعمل له بعد الإجارة بيوم ولا يجوز له إلا أن يشترط عليه أن يعمل له ساعة استأجره أو تكون الإجارة على خياطة هذا الثوب أو بناء هذه الدار ولا يسمى متى يعمله فتجوز الإجارة وعليه أن يبدأ في عملة ساعة تمت الإجارة فإن شرط له عليه أن يأخذ في عمله وسمي الفراغ إلى أجلٍ يمكن أن يعمل مثله فلذلك أفضل وإن لم يسم الأجل فهو جائز ويعمل له طاقته حتى يفرغ منه وهذا نص بين على ذكر الأجل فيه أفضل إذا كان الأصل مما يمكن العمل فيه وأنهما إذا تركا الأجل كان جائزًا وهذا حسن وهو صحيح عندي. فرع آخر لو استأجروا على أن يخيط له قميصًا وشرط أنه إن خاطه روميًا وهو مثل خياطة الصوف درزين درزين فله درهمان وإن خاطه فارسيًا فله درهم لم يصح عقد الإجارة [179/ ب] استأجرتك لتحمل لي هذه الرزمة إلى دكان فلان بدرهم أو تخيط لي هذا القميص بدرهمين لا يجوز, وقال أبو حنيفة يجوز ذلك وهذا غلط لما ذكرنا. فرع آخر إذا استأجر دابةً شهرًا ليقضي عليها الحقوق ويشيع الموتى لا يجوز. فرع آخر لو استأجر شيئًا أول ليرده بالعشي لم يجز لأنه لا يعرف, وفيه وجه آخر أنه يجوز ويرده بعد الزوال. فرع آخر إذا حط الحمولة بالبلد المكتري إليه ثم قال: غلطت منزلي فاحملها إليه ليس له ذلك. فرع آخر إذا حط الحمولة بالبلد المكتري إليه ثم قال: غلطت منزلي فاحملها إليه ليس له ذلك. فرع آخر إذا أدخل المستأجر إلى الدار ما له إدخاله من بعير أو بقر فانكسر طابق الدار لا يضمن.

فرع آخر إذا استأجر دارًا ليسكنها وحده فتزوج قال أبو ثورٍ: لا تسكنها معه وهو القياس ذكره الصميري. فرع آخر لو أبق العبد من يد الغاصب فاستأخر الغاصب المالك لطلبه بالأجرة فيه وجهان. فرع آخر إذا استأجر لخياطة ثوب فقال: إن خطته اليوم فلك درهم, وإن خطته غدًا فلك نصف درهم فالعقد فاسد, وإذا خاطه فله أجر مثله وبه قال مالك وزفر, وقال أبو حنيفة: الشرط الأول جائز, والثاني: فاسد, إن خاطه في اليوم الأول استحق درهمًا, وإن خاطه في اليوم الثاني فله أجرة مثله لا ينقص فيها عن نصف درهم ولا يزاد على درهم, قال أبو يوسف ومحمد: الشرطان جائزان وهذا غلط لأنه عقد واحد فإذا اختلف فيه العوض بالتأخير والتقديم كان فاسدًا كما لو قال: أجرتك هذا بدرهمٍ نسيئةً أو بنصف درهمٍ نقدًا. فرع آخر ولو اكترى مصحفًا ليقرأ فيه القرآن, أو دفترًا فيه الفقه أو اللغة أو الشعر مدةً معلومةً يصح عقد الإجارة عليها, وقال أبو حنيفة: لا يجوز لأنه ليس في ذلك أكثر من النظر إليه, ولا تجوز الإجارة على مثله كالنظر إلى التصاوير وهذا غلط لأن هذه منفعةٌ مباحة [180/ أ] مقصودة فجاز عقد الإجارة عليها وليس كالنظر إلى التصاوير لأنه ليس بمقصود, فإن كان شيئًا مقصودًا مباحًا جاز أن يؤاجر من الناظر إليها مثل الكتابة وصور الأشجار ذكره أصحابنا. فرع آخر تجوز إجارة الثياب للبس والبسط والفرش والستر وغير ذلك مما يفرش أو يلبس أو ينصب أو يتغطى به أو ينام فيه وعليه نص عليه. فرع آخر لو اكترى قميصًا يومًا إلى الليل ليلبسه فاتزر به كان ضامنًا, ولو تردى به فجعل كميه على كتفيه فيه وجهان أحدهما: لا يضمن لأن التردي أقل ضررًا من اللبس, والثاني: يضمن لأن العادة لم تجر بالتردي بالقميص فلم يتناوله العقد ذكره القاضي أبو حامد. فرع آخر قال: لو أن امرأة درعًا ثلاثة أيام لتلبسها لم يكن له أن تنام فيها ليلاً, ولها أن تنام فيها نهارا لأن العادة جرت بالنوم في الثياب بالنهار دون الليل, وقيل: إن نامت أكثر النهار فيها ضمنت لأنها خلاف العادة ويجوز أن تلبسها بالليل إلى وقت المبيت للعادة.

فرع آخر قال: ولو استأجرت ثوبًا يومًا مثل يوم عيد ونحوه بكراءٍ معلومٍ فلم تخرج كانت الأجرة لازمة لها فإن ضاع منها الثوب الذي اكترته فلم تجده حتى تقضي اليوم فلا أجرة عليها إذا علم ضياع الثوب, فإن ادعت أن الثوب ضاع ولم تجده إلى وقت انقضاء الإجارة لم تقبل منها إلا بالبينة ولم يكن لها أن تلبسه بعد تقضي اليوم, وإذا وجدته فإن لبسته بعدما وجدته كانت ضامنةً وعليها كراء مثله. فرع آخر قال الشافعي: وتجوز إجارة الحلي والجواهر وسائر ما تلبسه النساء ذهبًا كان أو فضة أو لؤلؤًا منظومًا أو خرزًا, والحكم في ذلك كالحكم في سائر ما تستأجره, فإن كان الحلي ذهبًا فاكتراها بذهبٍ أو فضةٍ جاز لأنه لا ربا بين الذهب ومنافع الذهب, وفيه وجه آخر لا تجوز [180/ ب] بجنسها ولو غصب حليًا يجوز أن يضمن منفعتها بجنسه أيضًا. فرع آخر قال: ويجوز إجارة القدور والطسوس والأباريق وسائر الأعيان القائمة التي ينتفع بها مع بقائها إذا كانت معلومةٍ, واشترطت منفعةً معلومةٍ في مدةٍ معروفةٍ, وكذلك لا بأس بإجارة الرماح والقسي ولا تجوز إجارة النشاب. فرع آخر لو استأجر دراهم أو دنانير مدةً معلومةً فيه وجهان أحدهما: لا يجوز وهو المشهور من المذهب لأن المقصود منها الانتفاع بها بإتلاف عينها, والثاني: يجوز لأن الانتفاع المباح يمكن بها مع بقاء عينها وهو أن يضعها الصيرفي بين يديه يتجمل بها أو يعبر بها السنجة والأوزان وهذا اختيار القاضي الطبري, وقال أبو حامد: الصحيح الأول لأنه لا خلاف أنه لا يضمن منافعه بالغصب وما ذكره من التجمل يبطل بالطعام لا يجوز إجارته ويحصل به التجمل أيضًا. فرع آخر لو استأجر رجلاً ليحمل له خمرًا إلى داره, أو استأجر جملاً ليحملها فالإجارة فاسدة وبه قال أبو يوسف ومحمد, وقال أبو حنيفة: يجوز لأن الفعل لا يتعين عليه, ولو حمل مثلها خلاً جاز وهذا غلط لأنه استئجار لأمرٍ محرم فأشبه الاستئجار على الزنا. فرع آخر لو استأجر لينقلها للإراقة يجوز لأنه غير محرمٍ بل هو واجب.

فرع آخر لو استأجر دارًا ليبيع فيها خمرًا كانت الإجارة فاسدة, وقال أبو حنيفة: يجوز ذلك من الذمي. فرع آخر إذا استأجر بيتًا ليتخذه بيت نار أو كنيسة لا يجوز وبه قال أبو يوسف ومحمد, وقال أبو حنيفة: لا بأس أن يؤاجر بيتًا في السواد ممن يتخذه بيت نارٍ أو كنيسة, ومن أصحابنا من قال: أراد أبو حنيفة إذا علم المؤجر ولم يشترطه فيرتفع الخلاف على هذا وهذا غلط [181/ أ] لما ذكرنا. فرع آخر لو استأجر دارًا أو بيتًا ليتخذه مسجدًا يصلي فيه جاز وبه قال مالك, وقال أبو حنيفة: لا يجوز وهذا غلط لأنه فعل جائز فجاز الاستئجار له كالخياطة. فرع آخر يجوز أن يستأجر من يقتص له في النفس والطرف وبه قال مالك, وقال أبو حنيفة: لا تجوز الإجارة على قصاص النفس لأن عدد الضربات وموضع القطع مجهول وهذا غلط لأنه يجوز التوكيل في استيفائه فجاز عقد الإجارة عليه كقصاص الطرف, وأما ما ذكروا يبطل بخياطة الثوب فإن الغرزات مجهولة ويجوز ذلك. فرع آخر أجرة السياف على المقتص من طرفه كأجرة الكيال على من عليه لأنه لإيفاء الحق, وقال أبو حنيفة: تجب الأجرة على المقتص له. فرع آخر ذكرنا أن الأجرة الناقد على المستوفي لأنه استوفى حقه في الظاهر ويريد بالانتقاد رده عليه إن ظهر عيب, وإذا اشترى ثمرةً فأجرة الجداد على المشتري وفي إجارة الكلب ذكرنا وجهين والأصح جوازها لأن منفعة الكلب لا تتصف بالنجاسة والطهارة والعقد يقع عليها, وقيل: الأعيان ضربان حيوان, وغير حيوان وغير الحيوان ضربان أحدهما: ما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه كالشمع والمطعومات فلا تجوز إجارته والحيوان على ضربين آدمي وغير آدمي, والآدمي تجوز إجارته فيؤاجر نفسه وولده ومماليكه من العبيد والإماء, وأما غير الآدمي فضربان مملوك وغيره فالمملوك على ثلاثة أضربٍ ضربٌ ينتفع بظهره فقط كالبغال والحمير تجوز إجارتها, وضربٌ ينتفع بدرها دون ظهرها كالأغنام لا تجوز إجارتها لأن منافعها أعيان اللهم إلا أن يستأجروها لتدوس [181/ ب] الزرع أو الطين فتجوز, وضرب ينتفع بدره ونسله وظهره كالإبل والبقر فإن استأجرها لغير الأعيان جاز, وإن كان الانتفاع بالأعيان لا يجوز وتفصيل هذا يرجع إلى ما تقدم ذكره.

فرع آخر لو استأجر شجرًا للاستظلال بها أو ليعلق به حبلاً يبسط عليه الثياب أو ليربط مواشي إليها وليبسط الثياب عليها قال أصحابها: يجوز, وقال في "الحاوي": إن كان هذا مقصودًا من منافعها غالبًا يصح, وإن كان نادرًا غير مقصود في العرف فيه وجهان كاستئجار الطعام لتعيير المكيال أو الدرهم للجمال وهذا خلاف ما ذكر أبو حامد في الطعام, ولو استأجر حبلاً ليعلق عليه الثياب جاز وجهًا واحدًا لأن هذا منفعة مقصودة فيه. فرع آخر لو قال: استأجرتك هذا اليوم بعينه لتبيع لي كذا وكذا أشياء بأعينها قال ابن القفال في "التهذيب": يحتمل أن يجوز ذلك لأن الأغلب إمكانه فإن تعذر البيع فيه كان له الأجر المسمى لأنه شغله عن منافع نفسه وبذل له العوض ويحتمل أن يقال: لا أجرة له لأن العمل لم يحصل, وقال القاضي الطبري: هذا يصح على ما نص عليه في "البويطي" أن العمل إذا كان معلومًا جاز تقديره بمدة وكان أفضل من السكوت عنه. فرع آخر قال في "الدعوى والبينات": لو استأجره لنقر جيفة من المزبلة وجعل أجرة نقلها جلدها ولم يجز لأنه نجس العين فلا يجوز أن تجعل أجرة لأنه مجهول لأنه لم يسلخ, ولو استأجره لسلخ شاه مدبوحة على أن جلدها له لم يجز لأنه مجهول, ولو سلخ جلد الميتة ثم استأجر من يحملها بجادها لم يجز لأنه جلد ميتة, ولو كان مذبوحًا والجلد مسلوخ فاستأجره لنقلها بجلدها جاز حينئذ لأنه طاهر معلوم, ولو رافعه إلى الحاكم, فإن كان قبل أن يعمل العمل فلا شيء له, وإن كان عمل له أجر المثل لأنه عمل بشرط عوضٍ لم يسلم له, وإن كان الأجير سلخ رده إليه لأنه [182/ أ] وإن كان ميتةً تقر يده عليه وله استصلاحه. فرع آخر لو استأجر دابةً من آمل إلى جرجان بدراهم مطلقة كانت الدراهم من نقد آمل, وقال أبو حنيفة: يلزمه من نقد جرجان وهذا غلط لأن الاعتبار بموضع العقد دون غيره. فرع آخر لو استأجر لضرب اللبن ليس عليه غير الضرب, وقال أبو حنيفة: عليه إقامة اللبن حتى تجف وهذا غلط لأنه لم يصرح به في عقد الإجارة فلا يلزمه. فرع آخر لو استأجره لحفر قبرٍ ليس عليه التراب إلى القبر بعد وضع الميت فيه, وقال أبو حنيفة: يلزمه ذلك.

فرع آخر لو استأجره لشيء اللبن فليس عليه إلا الشيء وليس عليه إخراج الآجر من الأتون خلافًا لأبي حنيفة. فرع آخر لو استأجر دابة من بغداد إلى البصرة فإذا بلغ عمران البصرة له استرداد الدابة ووضع الأحمال, وقال أبو حنيفة: عليه أن يأتي بالحمل إلى دار المكتري, وقال: لو نول في موضعٍ من البلد ثم قال: أخطأت منزلي في غيره لم يكن له أن يركبها إلى منزله وهذا غلط, لأنه لو كان ذلك حقًا له لو لم ينزل لكان حقًا له وإن نزل, وقال في "الحاوي": ولو كان البلد الذي ركب إليه صغيرًا تتقارب أقطاره له أن يسير عليها إلى منزله كما لو نزل في طريقه منزلاً جاز أن ينزل حيث شاء من أول المنزل وآخره. فرع آخر لو دفع إلى حائك غزلاً على أن ينسجه عشرة أذرع في عرض أربعةٍ فجاء به دون ذرعه أو عرضه استحق حصته من المسمى, وإن جاء به أطول لم يستحق الزيادة, وقال محمد: إن جاء به أطول أو أقصر كان صاحب الثوب بالخيار بين أن يطالبه بمثل غزله ويدفع إليه الثوب, وبين أن يدفع إليه حسابه من الأجرة لأنه لم يحصل غرضه فصار كأنه أتلفه عليه وهذا غلط لأنه استأجره ليعمل له عملاً فعمل بعضه فيستحق بقدره من الأجرة كما لو استأجره ليضرب [182/ ب] له ألف آجر فضرب بعضه. فرع آخر لو دفع ثوبه إلى غسال فقال له: اغسله حتى أحاسبك أقاطعك أو آتي بكلام يدل على الأجرة كان للغسال أجر مثله إذا غسل, ولو ألقى إليها لثوب وقال: اغسل هذا ولم يقل شيئًا آخر فغسله لم تكن له الأجرة ذكره أبو حامد في "الجامع" نصًا, وكذلك لو قال للجمال: احملني على بعيرك, أو قال للحمال: احمل هذا الطعام إلى منزلي, أو قال للخياط: خط ثوبي هذا فحمل أو خاط لا أجرة له, والغسال ومن ليس بغسالٍ والحمال ومن ليس بحمالٍ في ذلك سواء قال: وقد قيل فيه وجه آخر أنه إن كان معروفًا بالعمل بالأجرة تلزمه الأجرة, وإن لم يكن معروفًا بذلك لا تلزمه الأجرة لأنه إذا كان معروفًا بذلك فالظاهر يدل على العوض وبه أفتي, وذكر المزني في "الجامع الكبير" أنه يستحق الأجرة لأنه أتلف منفعته بأمره, وقال أبو إسحاق: لو بدأ الغسال فقال: أغسل ثوبك فأعطني فأعطاه لا يستحق الأجرة, ولو بدأ صاحب الثوب فقال: اغسل ثوبي يستحق الأجرة لأنه إذا دفع إليه فهو المتلف لمنافعه وإذا أخذ هو رضي بإتلاف منافع نفسه وهذا كله غير صحيح والمذهب الأول وهو اختيار ابن سريج والإصطخري وعامة أصحابنا ووجهه أن المنافع أضعف حالاً من الأعيان, ثم لو أتلف على غيره عينًا من أعيان ماله بإذنه لا يلزمه العوض وهو إذا قال للخباز: أطعمني هذا فأطعمه ولم

يذكر ما يدل على العوض فلأن لا يلزمه عوض المنافع هاهنا أولى ولأنه لو قال: أسكني دارك شهرًا فأسكنه لا يستحق الأجرة بالإجماع وما ذكروه يبطل بالأعيان وهكذا الخلاف لو دفع إلى صباغ ثوبًا ليصبغه أو أمره بالبناء أو التجارة ولم يذكر الأجرة. فرع آخر إذا قلنا: لا أجرة له عند الإطلاق فادعى الأجرة فالقول قول رب الثوب, كما لو قدم إلى رجل طعامًا فقال: كل فلما أكل قال: إنما أذنت لك في الأكل [183/ أ] يعوض فالقول قول الآكل, فإن قيل: أليس لو دفع إلى رجل عينًا وسكت فقال المدفوع إليه: وهبتها مني وأنكر الدافع كان القول قول الدافع ويلزمه ضمان العين إن لم يردها فقالوا في المنافع إذا لم تؤخذ منه الهبة يضمنها قلنا: الفرق أن دفع العين لا يتضمن إتلافها وقصارة الثوب تتضمن إتلاف العمل فيه فلهذا لم يضمنها. فرع آخر قال: وكراء الحمامات جائز, ولا يجوز حتى ينظر إلى الأشياء المقصودة التي تختلف المنافع باختلافها وهي سبعة أشياء البيوت والقدر والأتون ومطرح الرماد ومبسط الزبل والقماش والحطب والبئر والجنئة وجمعها جئات وهي موضع مستنقع ماء الحمام فإن أخذ برؤية شيء منها كانت الإجارة فاسدة كما نقول في البيع: لابد من مشاهدة هذه المواضع وهذا لأن الأغراض تختلف بكبر هذه المواضع وصغرها وسعتها وضيقها. فرع آخر كل ما كان للتمكين من الانتفاع فعلى المكري كالقير والجص والجامات والحوض والصاروج والأبواب والمفاتيح. وكل ما كان لاستيفاء المنافع كالدلو والحبل والبكرة والقصاع التي في الحمام والوقود فعلى المكتري, وأما التحسين والتزيين لا يجب على واحدٍ منهما كما نقول في الدار سواء فإن شاء المكتري فعل, وإن شاء ترك. فرع آخر تنقية الآبار والجئة على المكتري إلا أن تكون الآبار والجئة مملوءة حين اكترى فيكون ذلك على المكري لأنه من جملة التمكين من الانتفاع, وقال أبو حنيفة: القياس هذا ولكن الاستحسان أن يكون على المكري لأنها عادة الناس ذلك وهذا غلط لأنه حصل بفعل المكتري فكان تنظيفه عليه كما لو طرح فيها قماشًا, قال أبو حامد: وقد قال الشافعي في المساقاة: تنقية الأنهار وإصلاح طريق الماء على العامل فكذلك هاهنا يلزم على المكتري قال: ولا خلاف [183/ ب] بين أصحابنا أنه إذا اكترى دارًا فتنقية البالوعة والوحش على المكتري كذلك هذا, ومن أصحابنا من قال: كسح لأن والجئة في الحمام على المكتري أبدًا ذكره أبو حامد في "الجامع" وهو المذهب لأن التمكين من الانتفاع به لا يكون إلا به وفي المساقاة تنقية الأنهار على رب النخل أيضًا وإنما تنقية الآبار التي على حوالي النخل على العامل ولا يشبه الحش في الدار لأن

معظم انتفاع الدار لا يكون به بخلاف الحمام, وقال بعض أصحابنا بخراسان: في الدار والحمام وجهان أحدهما: على رب الدار والحمام لأنه من تمام التمكين وبه أفتي, والثاني: أنه على المكتري. فرع آخر إذا انقضت مدة الإجارة لا يجب على المكتري تنظيف البالوعة حتى يردها كما تسلمها ويلزمه نقل الكناسة والتراب الذي ألقاه, وهكذا في الحمام لا يجب عليه تنظيف مستنقع الماء عند الرد. فرع آخر لو شرط على المستأجر عمارته أو مرمته أو تطيين سطوحه أو تنقية بئره كانت الإجارة فاسدة, ولو أنفق يلزم المكري بإذنه بشرط العوض, ولو اختلفا في قدره قال القاضي الطبري: القول قول المنفق لأنه أمينه على ذلك, ومن أصحابنا من قال: لا يجعل القول قوله لأنه لم يأتمنه وإنما شرط أن تكون النفقة عليه وذلك لا يقتضي الأمانة. فرع آخر قال في كتاب "الدعوى والبينات": لو أكراه دارًا سنةً بعشرين دينارًا على أن ما يحتاج إلى عمارتها أنفق المكتري من الأجرة وأقاما على العقد حتى مضت المدة فعلى المكتري أجر المثل والقول قوله فيما أنفق مع يمينه ما لم تبلغ النفقة عشرين دينارًا, فإن تلف عشرين فعليه ضمان ما لم يأذن له فيه وهو ما تمت به العشرون لأنه ما أذن له به وعلى هذا عقد إجارة صحيحة من غير شرطٍ ثم أذن له في الإنفاق ليحتسب له بذلك من الأجرة ثم اختلفا في القدر [184/ أ] القول قوله في القدر لأنه إذا جعله الشافعي أمينًا في الإجارة الفاسدة فلأن يجعل أمينًا في الإجارة الصحيحة أولى, وقال بعض أصحابنا بخراسان فيه قول آخر القول قول المالك لأن الأصل براءة الذمة. فرع آخر لو اشترط في عقد الإجارة دراهم يأخذها منه عند العقد سلفًا لتكون محبوسة عليه إلى آخر مدة الإجارة كانت فاسدة, وهكذا لو اشترط على المستأجر تسويده بالقير أو تبييضه بالنورة كانت فاسدة. فرع آخر لو انهدم الحمام انفسخت الإجارة وليس له أن يقول: أعيده كما كان لأنه يكون حمامًا آخر. فرع آخر لو اشترط رب الحمام على المستأجر أن لا يكون لدخوله الأجرة ولا لدخول غلمانه كانت الإجارة فاسدة.

فرع آخر لو تعطل واحتاج إلى العمارة شهرًا ونحو ذلك لا يصح أن يشترط العطلة على المالك وعلى المكتري, فإن فعل ذلك فسدت الإجارة للجهل بمدة العطلة, وإن كان العقد مطلقًا كان كالعيب يحدث فيه فالمكتري بالخيار بين أن يقيم على العقد بكل الأجرة, أو يفسخ لأن المنفعة لم تتعذر جملةً بل نقصت. فرع آخر أو استأجر حمامًا فقل دخول الناس فيه, فإن كان لأمرٍ يعود إلى المؤجر من شعثه فعلى المؤجر إصلاحه فإن بادر إلى عمارته فلا خيار للمستأجر, وإن لم يبادر إلى عمارته فله الخيار, وإن كان لأمرٍ يعود إلى المستأجر من قلة الحطب ونحوه فلا خيار له, وإن كان لأمرٍ لا ينسب إلى واحدٍ منهما, فان كان لمانعٍ منه بفتنة حادثة أو لخراب الناحية فهذا عيب للمستأجر الخيار, وإن كانت فتنة يسيرة جرت بها العادة لا خيار, وإن كان لرغبة عنه بحدوث ما هو أعمر منه لا يكون عيبًا ولا خيار للمستأجر. فرع آخر لو نزل رجل في سفينة ملاح بغير إذنه فحمله فيها إلى بلدٍ له أجر مثله لأن الراكب صار مستهلكًا لمنفعة موضعه من السفينة على مالكها, ولو نزل فيها بإذنه [184/ ب] من غير ذكر الأجرة فهو كمسألة القصار وهكذا لو دخل حمامًا بالإذن من غير دليل الأجرة, وهكذا لو أخذ من سقاءٍ ماءً, فإن كان من غير طلب منه فعليه ثمنه, وإن كان بالطلب فعلى الاختلاف. فرع آخر قال الشافعي: ولا يجوز أن يكون أجيرًا على شيء وهو شريك فيه مثل أن يقول: اطحن هذه الحنطة لي ولك ربعا والمعنى الواضح في إبطاله أن الدقيق الذي يحصل من حنطةٍ بعينها بعد طحنها مجهول فكأنه استأجره على أن أجرته ربع دقيق مجهول وذلك لا يجوز, وكذلك قو قال: على أن النخالة لك لا يجوز, وكذلك لا يجوز أن يقول: انسج لي من هذا الغزل ثوبًا على أن لك ربعه شائعًا لا يجوز. فرع آخر لو استأجره للخدمة مطلقًا قال الشافعي: لا يجوز حتى يبين الجهة أن خياطة أو ماذا, وقيل: يجوز ويدخل فيه غسل الثوب والخياطة والخبز وتعليف الدواب وحمل الماء للشرب والطهارة وخدمة الزوجة وحلب المواشي, وقيل: تعليف الدواب وحلبها وخدمة الزوجة لا تدخل إلا بالشرط وهو اختيار شيوخنا بنيسابور. فرع آخر لو استأجر طحانًا لطحن تسعة أقفزة بالقفيز العاشر منها لأنه حصل تسعة أعشاره معقودًا عليه وعشرة معقودًا به.

فرع آخر قال في "البويطي": ومن اكترى ظهرًا في بلدٍ يحمل له طعامًا فذهب فوجد الطعام قد ضاع فالكراء لازم له ويكريها من شاء على مثل حمولته, فإن لم يفعل حتى ذهب الوقت الذي لو حمله فيه يرجع إلى بلده لزمه كل الكراء لأنه قابض لها. فرع آخر قال: ولو تكارى ظهرًا وجهها إلى بلدٍ تحمل له طعامًا وليس معها وكيله فلم يجد الطعام فعلى صاحب الظهر أن يأتي الوالي فيخبره حتى يطلب له الكراء, فإن لم يصب السلطان فرجع [185/ أ] فليس له في الرجوع شيء وله حصة الذهاب فارغة. فرع آخر قال ابن القاص: قال الشافعي: ولا يجوز أن يشتري لبنًا على أن يسلمه إليه مطبوخًا قال ابن القاص: وهكذا لا يجوز أن يدفع خفًا إلى إسكافٍ على أن ينعله بدرهم والنعل من عند الإسكاف إلا أن يقدر لثمن النعل وللأجرة شيئًا فيجعله عقدين, وهكذا نعل الدواب وهكذا لو دفع جبةً إلى ندافٍ بأجرة معلومة والقطن من عنده قال ابن القاص: وفيه قول آخر إن ذلك جائز وذلك أن الشافعي قال: ولو كاتب عبده على أن يبني له بيتًا والعمارة من عند العبد كان جائزًا إذا سمى الطوب والأحجار ومنتهى البنيان, قال أبو عبد الله الختن في "الرشح": في جميع هذه المسائل مع مسألة الكتابة قولان أحدهما: لا يجوز لأنه في معنى ما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه من بيعتين في بيعةٍ ولأن قسط كل واحدٍ من العقدين من العوض مجهول فلا يجوز, والثاني: يجوز لأن جملة العوض معلومة كما يجوز شراء الأعيان المختلفة بثمن واحد, وإن لم يعلم قسط كل عين من الثمن قال ابن القاص: إلا في الرضاع فإنه يجوز الجمع فيه بين اللبن والكفالة قولاً واحدًا, وكذلك نص الشافعي أنه يجوز أن يدفع ثوبًا إلى صباغٍ ليصبغه بصبغه, قال ابن القاص: ويجوز أن يدفع المصحف إلى الوراق ليكتبه بحبره قلته تخريجًا, وذلك إنما جاز للحاجة إليه لأن إفراد اللبن بالعقد لا يجوز لأنه مجهول مجوز على طريقة التبع لغيره, وكذلك مقدار الصبغ الذي يحتاج إليه والحبر الذي يكتب به مجهول المقدار فجرى فيه العفو والمسامحة. فرع آخر إذا استأجر بعيرًا عقبةً جاز نص عليه في "الأم" وذلك أن يركب زمانًا ويمشي زمانًا بقدره وإنما كان كذلك لأنه يجوز أن يكترى البهيمة ليركبها جميع المسافة فجاز أن يكريها ليركبها بعضها [185/ ب] ولأنه يكون بمنزلة ما اكترى نصف البهيمة وذلك جائز, فإذا ثبت هذا فإنه يركب ويمشي على حسب العادة, فإن كانت العادة تقدير ذلك بالزمان كأنه يركب ليلاً ويمشي نهارًا عمل على ذلك, وإن كانت العادة تقديره بالمسافة كأنه يركب فرسخًا ويمشي فرسخًا عمل على ذلك فإن طلب أن يركب ثلاثة أيام ويمشي

ثلاثة أيام قال الشافعي: لم يكن له ذلك يضر بالبعير لاتصال الركوب عليه, وكذلك إن طلبه صاحبه للبعير لم يكن له ذلك يضر بالراكب لاتصال الركوب عليه, وكذلك المشي عليه وأما زمان العلف وزمان النزول للاستراحة لا يحسب من ذاك لأن هذا ليس بزمان الركوب, وإن طالبا أن يركب يومًا وليلةً وينزل يومًا وليلة أجيب إلى ذلك, ولو اكترى دارًا للسكنى هكذا يجوز أن يسكن ثلاثة أيام ويفرغ ثلاثة أيام لأن العقار لا يستضر به, ولو اكترى اثنان بعيرًا ليتعاقبا عليه يجوز أيضًا. وقال المزني: لا يجوز لأن الذي يركب بعد الأول لا يتصل انتفاعه بالعقد وهذا يبطل عقد الإجارة وهذا غلط لأنهما إذا اكتريا ملكا جميعًا منافع الركوب بينهما, ألا ترى أنهما لو اكتريا البعير من واحدٍ جميعًا صح فثبت أنهما ملكا المنافع على وجه الإشاعة إلا أنه لا يمكنهما أن يستوفيا جميعًا فيتقدم أحدهما: على الآخر وذلك لا يقدح في العقد, ألا ترى أنهما لو اشتريا طعامًا من صبرةٍ فإن أحدهما: يقبض قبل الآخر ولا يكون ذلك تأخير التسليم, فإذا ثبت هذا فإن اتفقا على أن يبدأ أحدهما: ركب, وإن اختلفا أقرعنا بينهما لتساوي حقهما, وقال ابن القاص: يجوز اكتراء الحمولة للركوب معينة ومضمونة في الذمة إلا للعقب فإنه لا يجوز إلا مضمونة الذمة وقد ذكره المزني في "الجامع الكبير" تخريجًا على قياس المذهب وهذا اختيار القاضي الطبري لأنه إن اكتراه [186/ أ] رجلان لا يمكن تسليمه إلا إلى أحدهما وتسليمه إلى الآخر غير ممكن فلا يصح, وإن اكتراه واحدٌ عقبة شرط قطع التسليم في معقود عليه معين وذلك لا يجوز وهذا المعنى موجود أيضًا في اكتراء الاثنين فلم يجز إلا مضمونًا في الذمة وهذا ظاهر صحيح عندي, وقال القفال: يجوز إذا لم يكن الجمل معينًا ويمكن أن يكتري معينًا أيضًا بأن يكترياها معًا من صاحبها من غير شرط العقب ثم يهيئانها بينهما فيركبها هذا يومًا وهذا يومًا وهذا عندي إذا أمكن أن يركبا معًا, فإن لم يكن هكذا فلا يجوز كراءهما للركوب معًا. فرع آخر لو دفع رجلٌ إلى سقاء قطعة وأخذ الكوز وشرب منه الماء فوقع الكوز من يده وانكسر يلزمه الضمان لأنه لا يلزمه تسليم الماء في موز نفسه, فإذا أعطاه قائمًا فإنما هو بمنزلة العارية يكون مضمونًا عليه هكذا ذكره القاضي الطبري ويحتمل عندي وجهًا آخر أنه لا يضمن لأن القطعة إنما تجب بدفع عوضًا عن الماء ومنفعة تلك الآنية أيضًا, ولكن إن كان وقوع الكوز بتفريطٍ من جهته مثل دسمٍ كان في يده أو ضعفٍ استمساكه ضمن, وإن كان بصدم إنسانٍ أو بعارضٍ عرض من هدمٍ أو غلبة ريح أو علة اعترضت لا يضمن والله أعلم. فرع آخر قال المزني في "المنثور": لو اشترى رجلٌ بيتًا من صاحب الحانوت ودفع المشتري

إلى البائع الإناء ليصب فيه فوقع الإناء من يد البائع ساهيًا عير متعمد لا ضمان عليه لأنه أباح له الصب فيه فهو بمنزلة وكيله قال: ولو وضعه إلى جانبه فنام فسقط عليه فانكسر ضمن لأنه أتلفه بسقوطه عليه, وعندي لو كان سقوطه بتفريطٍ منه على ما ذكرت يضمن أيضًا. فرع آخر قال ابن الحداد: لو اكترى منه دواب على أن تحمل له خمسة أعبد من بلد إلى بلد فمات اثنان منهم وحمل الثلاثة الباقين فليس له إلا ثلاثة أخماس الكراء. فرع آخر قال: ولو أن رجلاً آجر أرضًا له من رجلٍ على أن يبني المستأجر فيها بناءً معلومًا فبني ثم حبسها يعني وقفها كان الحبس جائزًا, وقيل للباني: اقلعه إلى حيث شئت وسلم الأرض [186/ ب] لأن الأرض صارت غير مملوكة لا يجوز بيعها وإنما يجعل له قيمة البناء إذا كانت الأرض مما يجوز بيعها وعندي قبل مضي مدة الإجارة لا يطالب بالقلع وبعد انقضاء المدة إن شرط عليه قلعه يلزمه القلع, وإن لم يكن شرط عليه القلع يدفع المتولي قيمة العمارة إن رأى فيه الحظ لأن الوقف ورد بعد استحقاق البناء فيها. فرع آخر يجوز استئجار الرجل ولده للخدمة خلافًا لأبي حنيفة ووافقنا أنه يجوز لغير الخدمة. فرع آخر لو كان بينهما حنطة مشتركة فاستأجر أحدهما: صاحبه ليطحنها جاز خلافًا لأبي حنيفة على أنه لو استأجر جوالقًا ليجعل فيها حنطة مشتركة جاز. فرع آخر لو استأجر إلى مكة بعيرًا لم يكن له أن يحج له أن يحج عليه إذا وصل إليها, ولو استأجره ليحج عليه كان له أن يركبه إلى منى ثم إلى عرفة إلى المزدلفة ثم إلى منى إلى مكة لطواف الإفاضة, وهل له أن يركبه من مكة عائدًا إلى منى ليبيت بها ويرمي أم لا؟ فيه وجهان, أحدهما: له ذلك لأنه من بقايا الحج, والثاني: ليس له ذلك لإحلاله من الحج. فرع آخر لو تعادل رجلان على بعيرٍ استأجراه فارتدف معهما ثالث ركب بغير أمرهما لزمه أجرة المثل لمالكه ولزمه ضمان البعير إن تلف وفيه ثلاثة أوجه أحدهما: النصف اعتبارًا بجنس الإباحة والحظر, والثاني: الثلث اعتبارًا بأعدادهم دون وزنهم وبه قال أبو حنيفة لأن الرجال لا يوزنون. والثالث: يقدر ثقله من ثقل الثلاثة تقسيطًا على وزنهم؛ لأن الرجال لا يوزنون فيما لا يعتبر فيه الثقل والخفة والحمل مما يعتبر ذلك لتقسيط الأجرة عليه لجاز أن يوزنوا وإن كانوا رجالاً.

باب تضمين الأجراء

فرع آخر لو كان الراكبان أذنا للرديف أن يركب معهما ضمنوا جميعًا البعير إن تلف ورب البعير بالخيار في الرجوع على أيهم شاء فإن رجع على الرديف رجع بما ذكرنا من الأوجه، وإن رجع على أحد الراكبين، فإن كان البعير مع [187/ أ] الجمال ففي قدر ما يضمنه ثلاثة أوجه كالرديف ويرجع بها الغارم على الرديف بعد غرمها، وإن كان البعير معهما دون الجمال ضمنا جميع قيمتها ولم يرجع الغارم منهما على الرديف بعد غرمها إلا بقدر ما كان يلزم الرديف منها على الأوجه الثلاثة. باب تضمين الأُجراء مسألة: قال: "الأجراءُ كلهم سواءٌ". الفصل وهذا كما قال: الأجير هو المستأجر للعمل على مال الغير كالصانع والصائغ والحائك والقصار والخياط والنجار والخباز والراعي والرائض والمؤدب يسلم إليه العبيد، فإذا استؤجر واحد منهم لشيء مما ذكرنا لم يخل من أحد أمرين إما أن تكون يد المكتري على ملكه أو لا تكون له عليه يد، فإن كانت يده على ملكه وهو أن يكون صاحبه معه فيعمله بحضرته أو حمل الصانع إلى بيته ليعمل فيه أو استأجره ليرعى ماشيته في ملكه ولا يخرجها منه فلا ضمان عليه قولًا واحدًا لأن الشيء في يد صاحبه نص عليه في "الإملاء" قال ابن سريج: وهذا في الحقيقة استعانة به فإن تعدى في شيء منها يلزمه الضمان بالتعدي والجناية، وإن لم تكن يد مالكه عليه وهو العادة فسلم إليه ملكه حتى تثبت يده عليه هل يلزمه ضمانه؟ قولان: أحدهما: لا ضمان عليه وهو اختيار المزني وبه قال عطاء وطاوس وزفر وأحمد وإسحاق لأنه قبض الشيء لمنفعة نفسه ومنفعة مالكه فلا يضمن إلا بالتعدي كالعامل في القراض وكالمرتهن. والثاني: يلزمه الضمان وقبضه قبض ضمان وبه قال مالك وابن أبي ليلى، وروي عن عمر وعليّ رضي الله عنهما قال الشافعي: كان عليّ رضي الله عنه يضمن الأجراء ويقول: لا يصلح الناس إلا هذا ووجهه أنه قبض الشيء لمنفعته من غير استحقاق فيضمنه بالقبض كالمستعير. ومن أصحابنا من قال قولًا واحدًا لا ضمان عليه إلا بالتعدي لأن الربيع قال: كان اعتقاد الشافعي أنه لا ضمان عليهم ولكنه كان لا يبوح به مخافة أجراء [187/ ب] السوء وكذلك كان عنده أن الحاكم يحكم بعلمه ولكنه كان لا يبوح به مخافة قضاة السوء أو مخافة فساد القضاة والقول الآخر حكاية مذهب الغير وقد به تزييف قول من

يفصل بين أن يتلف بعمله الذي لم يتعدّ فيه أو دون عمله. وروى الحارث أن الشافعي سلم بمصر ثيابًا مرتفعةً إلى قصارٍ فاحترق دكان القصار واحترقت الثياب فتشفع القصار إليه بقومٍ في الصبر عليه إلى أجلٍ فقال: لا أضمنه شيئًا لأنه لم يصح عندي أن الصنَّاع يلزمهم الضمان هذا إذا كان الأجير مشتركًا وهو يعمل له ولغيره يكون مشتركًا بين الناس كلهم. فأما الأجير المنفرد وهو إذا استأجر رجلًا شهرًا ليعمل له عملًا فمنفعته في هذه المدة صارت مستحقة لهذا المستأجر وليس له أن يعمل فيها لغيره، قال في "الإفصاح": فيه قولان أيضًا ولا فرق بين الأجير المشترك والمنفرد، لأن الشافعي قال: والأجراء كلهم سواء. ومن أصحابنا من قال: لا ضمان على الأجير المنفرج قولًا واحدًا وهذا اختيار ابن أبي أحمد لأن منفعته صارت مملوكة للمستأجر، فإذا سلم ثوبه إليه فهو في الحكم في يده وقبضه وكان بمنزلة ما لو حمل الصانع إلى بيته والطريقة الأولى أصح، وقال في "الحاوي": الخياط الذي يعمل في دكان نفسه لرجلٍ واحدٍ ولا يعمل لغيره ومستأجره غائب عنه قال أبو إسحاق: وهو مذهب البصريين هو في حكم الأجير المنفرد لاختصاصه بمستأجر واحد. وقال ابن أبي هريرة: وهو مذهب البغداديين هو في حكم الأجير المشترك لاختصاصه باليد والتصرف دون المستأجر وقيل: صورة المشترك أن يستأجره ليعمل له شيئًا، وقال له: اعمل فيه في أي موضع شئت فجعله شريكًا في الرأي والتدبير. والمنفرد أن يقول له: اعمل في هذا الموضع ولا تعمل في غيره، والصحيح في صورة المشترك والمنفرد ما ذكرنا أولًا، وقال أبو يوسف ومحمد: إن تلف بأمر ظاهرٍ كالحريق [188/ أ] والنهب لا ضمان، وإن تلف بغير ذلك ضمن. وقال أبو حنيفة: إن تلف بفعله ضمن وإن دقَّ دقّ مثله ولم يتعدَّ إذا كان مشتركًا، وإن كان منفردًا لا يضمن وإن تلف بغير فعله لا ضمان أصلًا وهذا غلط لأن الضمان بالخرق عند الدق، وإن كان بالتعدي فلا فرق فيه بين المنفرد وغيره، وإن لم يكن بالتعدي فيجب أن يضمنا أيضًا، وإن كان بالتلف من غير التعدي فعلهما وعندنا إذا لم يبالغ في غسل الثوب ودقّة مبالغة تؤدي إلى حرقه أو خرقه لا يضمن. واحتج المزني على اختياره بثلاثة أشياء. أحدها: قال: قطع الشافعي بأن لا ضمان على الحجام يأمره الرجل أن يحجمه أو يختن غلامه أو يبيطر دابته. والثاني: قال: وما علمت أحدًا ضمن الراعي المنفرد بالرعي. والثالث: قال: قال الشافعي: لو اكترى رجلًا ليحفظ متاعه في دكانه فاحترق المتاع لا ضمان عليه. قال: فإذا ألقوا عن هؤلاء الضمان لزمهم إلقاؤه عن الصناع يعني بذلك

أن الضمان إذا كان ساقطًا عن الأجير المشاهد والأجير المنفرد فكذلك يجب أن يكون الضمان ساقطًا عن الأجير المشترك قال أصحابنا: لا فرق بين هذه المسائل وبين ما ذكرناه من مسألة القولين، وإنما قال الشافعي: لا ضمان على هؤلاء لأن الغالب أن الغلام يُختن في يد صاحبه وبيته ويحجم هكذا، وكذلك البيطار يبيطر في بيته أو في يده وصاحبها يكون معها فأما إذا أخذ الغلام أو الدابة وانفرد بهما فالمسألة على قولين أيضًا، وأما الأجير الذي في حانوته يحفظ متاعه فهو في ملكه والمتاع في يد صاحبه، وأما الراعي إن كان يرعى لا في ملكه فقولان أيضًا فلا ينتفع المزني بما أورده، وإن كان الصحيح ما اختار من القولين ثم قال الشافعي: ما أعلم أني سألت أحدًا منهم ففرق بينهما وهذا يوهم أن الفقهاء لم يفصلوا بين المنفرد والمشترك وليس كذلك فإن أهل العراق يفصلون بين هذين الأجيرين وإنما أراد الشافعي بذلك فرق المعنى لا فرق المذهب أي: ما سألت أحدًا منهم عن الفرق بين الأجير [188/ ب] المنفرد، وبين الأجير المشترك إلا عجز عن الفرق. فرع إذا قلنا بالقول الضعيف كيف يضمن؟ وجهان أحدهما: يضمن أكثر التركات ما كانت قيمته من حين قبض إلى حين أن تلف كالمغضوب وهذا اختيار أبي حامد، والثاني: يضمن قيمته يوم التلف ولا يضمن الزيادة الحادثة في يده لأن الشيء كان في يده بإذن صاحبه ولم يكن مأمورًا برده عليه في كل حالٍ قال القاضي الطبري: ويجب أن يكون ضمانه ضمان المأخوذ سومًا إذا تلف عنده على هذا الوجه. وأما نقصان الجزء من يوم قبض مضمون عليه بلا إشكال. فرع آخر الأجرة هل تلزم للأجير؟ ينظر فإن تلف الشيء قبل العمل لا أجرة له، وإن كان بعد الفراغ من العمل نظر، فإن كان الشيء في يد صاحبة استحق الأجرة لأن العمل صار مقبوضًا لصاحبه وكل ما عمل جزءًا من العمل استقر أجرته اللهم إلا أن يبتدئ بالتلف أول ما يعمل فلا يستحق، وإن كان في يد الأجير فلا أجرة له لأنه لم يسلم العمل، وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا قصره القصار ثم تلف عنده فإن قلنا: القصارة عينٌ لا أجرة له لأن العين تلفت قبل التسليم، وإن قلنا: أثر فله الأجرة وفي هذا نظر. فرع آخر إذا عمل الأجير ما استؤجر عليه هل له حبس المال عن مالكه لاستيفاء الأجرة؟ قال أبو يعقوب الأبيوردي: إن لم يكن له أثر قائم فيه لم يكن له حبسه عن مالكه قولًا واحدًا، وإن كان له عين مال فيه كالصبغ ونحوه له حبسه لأخذ الأجرة إذا جعلنا للبائع حبس المبيع لاستيفاء الثمن، وإن كان له فيه أثر كالقصارة والخياطة والتصبيغ بصبغ المالك فيه قولان مخرجان بناءً على أن هذه تجري مجرى الأعيان والآثار، وفيه قولان

ذكرناهما في التفليس فكل موضع قلنا له الحبس فحبس ثم تلف بغير جناية أحدٍ سقطت أجرته كما يسقط الثمن بتلف المبيع قبل التسليم، واختار الكشميهني أنه ليس لهم الحبس. فرع آخر قال بعض أصحابنا بخراسان: [189/ أ] لو قصر الثوب ثم جاء متلف فأتلفه في يد القصار فالمالك بالخيار إن شاء رجع على المتلف بقيمة الثوب مقصورًا ثم يؤدي أجرة القصار، وإن شاء رجع على المتلف بقيمة الثوب غير مقصور والقصار يطالب المتلف أيضًا بأجرته، كما لو أتلف المبيع في يد البائع فالمشتري بالخيار إن شاء فسخ العقد وتبع البائع المتلف بالقيمة، وإن شاء أجاز البيع وأدى الثمن وطالب المتلف بالقيمة، ولو أتلف القصار الثوب بعدما قصر فقولان كالقولين في جناية البائع أنها كآفٍة سماويةٍ أو كجناية الأجنبي، فإن قلنا: إنها كالآفة السماية لا أجرة للقصار سواء جعلنا القصارة أثرًا أو عينًا، وإن جعلناها كجناية الأجنبي فالمالك بالخيار بين أن يغرّم القصار قيمة الثوب مقصورًا أو يغرم له الأجرة أو يغرمه قيمة الثوب غير مقصور ولا أجرة له وهذا كله على ما ذكرنا أن القصارة تصير مسلَّمةً من صاحب الثوب وهذا لا يصح لأن القصارة، وإن كانت أثرًا لا بد من أن تصل إلى يد صاحبه وفيه الأثر حتى تتقرر الأجرة ويستقر حكم العمل فلا وجه لهذا القول والله أعلم. فرع آخر لو سلّم مملوكًا أو حرًا إلى رجلٍ ليعلمه الحرفة بأجرةٍ فمات قال صاحب "التلخيص": لا ضمان عليه قلته تخريجًا، وقال أبو عبد الله الختن في شرح "التلخيص": أما الحر فلا يضمنه لأن اليد لا تثبت على الحر، وأما العبد فإن أخذ وغاب معه فالقياس فيه أنه على قولين كما ذكرنا في الأجير ويحتمل أنه أراد به إذا كان يعمله في بيت صاحبه أو حانوته. فرع آخر إذا استأجر رجلًا ليحمل له طعامًا على ظهرٍ أو في سفينة فحمله فتلف في الطريق، فإن كان صاحبه معه فلا ضمان على الأجير إلا أن يتعدى فيه فإن تعثر فهلك لا ضمان وله الأجرة ذكره الصيمري، وإن لم يكن صاحبه معه نظر، فإن تعدى فيه ضمنه، وإن لم يتعدّ فيه فعلى قولين. فرع آخر لو استأجر الملاّح مدادًا له السفينة فهلكت في يده فإن نسب إلى تعدٍّ أو تفريطٍ ضمن وإن لم ينسب، فإن كان الملاّح حاضرًا لم يضمن، [189/ ب] وإن كان غائبًا فعلى اختلاف أصحابنا يكون منفردًا أو مشتركًا.

فرع آخر الحمَّامي إذا تلفت ثياب الناس عنده هل يضمن أم لا؟ اختلف أصحابنا فيما يأخذه من العوض هل هو ثمن الماء أو أجرة الحفظ والدخول أحدهما: أنه ثمن الماء ويكون متطوعًا بحفظ الثياب ومعيرًا للسطل، فعلى هذا لا يضمن الثياب إن تلفت وله غرم السطل إن هلك، والثاني: أنه أجرة الدخول والسطل وحفظ الثياب فعلى هذا لا غرم في السطل إن هلك ويكون في ضمان الثياب كالأجير المشترك. فرع آخر لو تلف المتاع في يد الوكيل بجعلٍ، فإن كان منفردًا لم يضمنه، وإن كان مشتركًا فيه قولان. فرع آخر لو وكل في شراء متاعٍ بجعلٍ يكون أجيرًا في الشراء مأذونًا له في قبض المبيع فإن تلف عنده المبيع لم يضمنه، وإن تلف الثمن فيه قولان. مسألة: قال "وإن استأجر من يخبز له خبزًا معلومًا في تنّور أو فرنٍ". الفصل وهذا كما قال: الفرن التنور الكبير الواسع الذي يخبز فيه الكعك وهو الفراني وذلك أنه يُسجَّر حتى يحمى فإذا حمي واشتد حماه أخذت النار والجمر والرماد من تحته ونظف أسفله ثم طرح في أسفله عجين حتى ينضج بحمى التنور ويحمرّ، فإذا استأجره ليخبز له فاحترق نظر، فإن كان معه صاحبه فلا ضمان إلا بالتعدي، وإن لم يكن معه صاحبه، فإن كان قد تعدى فيه ضمن، وإن لم يكن تعدى فيه قولان على ما ذكرنا في الأجير المشترك، ووصف الشافعي صفة التعدي فقال: هو أن يلزقه في حال استيقاد التنور وشدة حموه أو يلزقه بعد سكون وهجه واعتدال التنور ولكنه في التنور بعد نضجه حتى احترق فعليه الضمان، قال الشافعي: وإن كان حاضرًا فعمل الأجير عملًا فقال: هذا تعدي فيه، وقال الأجير: بل هو صلاح له رجع فيه إلى أهل البصر به فإن قال عدلان: إنه ليس تعدِّ [190/ أ] لم يضمن، وإن قالا: هو تعدِّ ضمن، وإن لم تكن بينة كان القول قول الأجير مع يمينه. فرع لو استأجر أجيرًا شهرًأ ليخبز له ألف رطلٍ من الخبز فالإجارة باطلة لأنه لا يجوز أن يجمع بين عملٍ مقدرٍ ومدة محصورة، ولأن الوصف مجهول لأن الرغفان تختلف في القلة والكثرة والصغر والكبر، ولو اقتصر على قوله: ألف رطل خبز ولم يذكر المدة كان باطلًا لهذا المعنى فكيف إذا ذكر المدة؟ وقول الشافعي: ولو استأجر من يخبز له

خبزًا معلومًا معناه حصر وزنه وعدده وقدره إلى سائر ما يجب حصره على أن يكون عملًا معلومًا في ذمته غير متعلقٍ بمدةٍ معلومة معينة مقدورة ويجوز للأجير حينئذ عقد إجارة ثانية وثالثة مع من شاء هكذا ثم يقسّط أيام العمل على الأعمال بقدرها فيعجل لكل واحدٍ منهم يومًا أو يومين ويقرع بينهم ليرتّب بعضهم على بعضٍ أن يستأجروا ويستوي فيه المتقدم والمتأخر من المستأجرين، كما يستوون في الديون قديمها وحديثها ذكره أبو عبد الله الختن. مسألة: قال: "وإن اكترى دابةً فضربَهَا أو كبحَهَا باللجَامِ". الفصل وهذا كما قال: هذه المسألة ليست من مسائل الأجراء وإنما ذكرها هنا ليبين الفرق بين الأجير إذا تلف الشيء في يده، وبين المستأجر إذا تلف المؤاجر في يده فقال: إن المؤاجر لا يضمن باليد قولًا واحدًا وإنما يضمن بالتعدي فإذا اكترى دابةً فضربها أو كبحها باللجام فماتت، فإن كان القدر الذي فعله من الضرب والكبح باللجام مثل ما يفعل في العرف والعادة لم يضمن وبه قال أبو يوسف ومحمد، وإن خرج عن العرف للمستأجر أن يضرب الدابة ما لم يأذن له المالك في ضربها وهذا خطأ لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اضربوها على العثار ولا تضربوها [188/ أ] على النّفار" يعني أنها في العثار ساهية فالضرب يوقظها وفي النّفار تزاد بالضرب نفورًا فإن قاسوا على ضرب الزوج زوجته يوجب الضمان إذا أدى إلى التلف قلنا: الفرق أنه يمكن تأديبها بالكلام والتخويف فجوّز الضرب بشرط السلامة، فإذا تلف ضمن وها هنا لا بد من الضرب فلم يضمن. مسألة: قال: "فأما الرّواض فإنَّ شأنهم استصلاحُ الدوابِ". الفصل وهذا كما قال: الرائض إذا ضربها فتلفت، فإن كان زاد في ذلك على ما جرت به عادة الرّواض كان ضامنًا لها سواء كانت في يده أو في يد صاحبها، وإن كان ضربها ضربًا جرت العادة من الرّواض به، فإن كانت في يد صاحبها لا ضمان، وإن كان منفردًا بها فعلى القولين، والشافعي لم يبيّن أن هذا من مسائل القولين وأصحابنا ذكروا ما قلنا، واعلم أن تسيير الرائض الدابة وضربه إياها أكثر في العادة من تسيير الراكب المستأجر وضربه لأن المستأجر لا يضربها إلا عند الحاجة وهو إذا وقفت أو عثرت والرائض يضربها في حال السير لأنه يقصد به التقويم والرياضة فيجب الرجوع في

ضرب الرائض وحمله عليها بالسير إلى أهل البصر بالرياضة على ما بيناه. مسألة: قال: "والراعي إذا فعلَ ما للرعاةِ أنْ يفعلوهُ ممّا فيه صلاحٌ لم يضمن، فإن فعل خلاف ذلك ضمن وهذا أيضًا على أحد القولين على ما ذكرنا ثم قال المزني: وهذا يقضي لأحد قوليه بطرح الضمان كما وصفتُ يقال له: هذا جواب على أحد القولين فكيف نحتج به ولا حجة فيه؟ مسألة: قال": "ولو اكترى لحملِ مكيلةِ وما زاد فبحسابه". الفصل وهذا كما قال: اختلف أصحابنا في تأويله فمنهم من قال: معناه إذا قال: احمل لي هذه الصبرة وهي عشرة أقفزة بكذا وكذا وما زاد من طعام آخر فبحسابه [191/ أ] صحت الإجارة في الصبرة، ولم تصح في الزيادة لأن الزيادة غير مشاهدة ولا موصوفة وهكذا في البيع لو قال: بعتك هذه الصبرة وهي عشرة أقفزة بكذا وكذا وما زاد بحسابه صح البيع في الصبرة ولم يصح في الزيادة، ومنهم من قال: تأويله أنه قال: إن زادت هذه الصبرة على عشرة أقفزة فبحسابه يصح في العشرة لأنها متيقنة ولا يصح في الزيادة لأن وجودها غير متيقن فلم يصح تعليق العقد عليه فعلى هذا إن كانت الزيادة متيقنة يجوز هكذا ذكره أبو حامد. ومن أصحابنا من قال: لا تصح في الزيادة، وإن كانت متيقنة لأنها غير مقدرة بمقدار معلوم ولا مشاهدة لأن الإشارة إليها غير ممكنة، ألا ترى أنه إذا قال: بعتك هذه الصبرة إلا مدًأ لم يجز لأن ما عدا المد ليس بمشاهد مشار إليه ولا مقدر بمقدار معلوم ذكره القاضي الطبري، فإن قيل: هلاّ قلتم: إن العقد إذا فسد في بعضه فسد كله لأن العقد إذا فسد في بعضه للجهالة فسد في جميعه كما لو قال: أجرتك هذه الدار كل شهرٍ بكذا لم يصح العقد في الشهر الأول ولا في الأشهر الباقية، أو هلاّ قلتم: يبنى على القولين في تفريق الصفقة لأن العقد تناول ما يجوز وما لا يجوز قلنا: العقد على المكيلة المعلومة منفصل عن العقد على الزيادة فهما عقدان مختلفان لأن المكيلة قد صح العقد عليها بأجرتها ثم عقد على الزيادة بمثل أجرتها فكان أحدهما منفصلًا عن الآخر كما لو قال: بعتك هذه السلعة بألف درهمٍ، وبعتك هذا العبد بمثل ثمنها كانا عقدين وكان له أن يقبل أحدهما ويرد الآخر ولم يفسد ها هنا أحد العقدين لفساد الآخر. وقال أبو إسحاق: تأويلها أنه كان له صبرتان حاضرة وغائبة فقال: اكتريتك لتحمل هذه الصبرة كل قفيز بدرهمٍ [191/ ب] والغائبة بحساب ذلك صح في الحاضرة وبطل في الغائبة لأنهما عقدان أحدهما: على الحاضرة، والثاني: على الغائبة، ولو قال:

لنقل هذه والتي في البيت كل قفيز بدرهمٍ بطل في الغائبة وفي الحاضرة حينئذ قولان والتأويل الأول أوضحها وأشبه بكلام الشافعي. فرع لو قال: استأجرتك على أن تحمل لي عشرة أقفزة من هذه الصبرة بكذا على أن ما زاد عليها بحسابه كان العقد باطلًا في الجميع لأنهما عقدان جعل أحدهما: شرطًا في الآخر، فهو كما لو قال: بعتك هذا بألفٍ على أن أبيعك هذا بمثله. فرع آخر لو قال: استأجرتك على أن تحمل هذه الصبرة كل قفيز بكذا جاز كما يجوز البيع، وقال ابن أبي هريرة: يحتمل أن يكون باطلًا في البيع والإجارة والأول هو المذهب، وقال أبو حنيفة: يصح في قفيز واحد، كما لو قال: آجرتك هذه الدار كل شهر بدرهمٍ يصح في الشهر الأول وهذا غلط لأن الصبرة معلومة الجملة بالمشاهدة والشهور غير معلومة. فرع آخر لو قال: تحمل هذه الصبرة بجملتها بعشرة دراهم يصح أيضًا لأن الصبرة معلومة بالمشاهدة والأجرة معلومة. فرع آخر لو قال: لتحمل من هذه الصبرة كل قفيز بدرهم فالإجازة فاسدة لأن من تقتضي التبعيض وهو مجهول. مسألة: قال: "ولو حملَ لهُ مكيلةً فوجدتْ زائدةً". الفصل وهذا كما قال: لو اكترى دابةً ليحمل عليها عشرة أقفزة طعامًا إلى موضعٍ معلومٍ فحمل فوجد الطعام هناك زائدًا فالكلام في ثلاثة فصول في الأجرة، وفي الضمان إن ركب الدابة وفي الطعام ما الذي يصنع به وجملته أنه لا يخلو الذي كال الطعام من ثلاثة أحوالٍ، إما أن يكون المكتري أو المكري [192/ أ] أو الأجنبي، فإن كان المكتري هو الذي اكتاله مثل أن قال له المكري: تول الكيل أنت وحصّله في الغرائر ففعل فوجد زائدًا فعلى المكتري المسمى وأجر المثل في الزيادة لأنه استوفى المستحق وزاد، وأما ضمانها إذا تلفت تحت الطعام نظر، فإن لم يكن يد صاحبها عليها فقد ضمنها باليد فلزمه كمال قيمتها، وإن كانت يد صاحبها عليها فالضمان ضمان الجناية وقد تلفت من مستحق وغير مستحق فكم يضمن؟ قولان ذكرهما في "الإملاء" أحدهما: نصف قيمة الدابة، والثاني: القسط من المكيلة فإن حمل خمسة زيادة يلزم ثلث الضمان.

ومن أصحابنا من قال: يجب القسط قولًا واحدًا لأن أثر المكاييل في الدابة لا يتفاوت غالبًا بخلاف ما لو زاد على الحد سوطًا لأنه قد يكون لسوطٍ واحدٍ من التأثير ما لا يكون لغيره، وأما الطعام فقد حصّل طعام نفسه هناك يفعل به ما شاء، وإن كان المكري اكتال فقد تعدى بحمل الزيادة فعليه ضمان تلك الزيادة إن تلفت ولا أجرة له فيها ولا ضمان للبهيمة على أحدٍ، وأما الطعام فقد وجده صاحبه في ذلك الموضع الذي حمل إليه فله أخذ طعامه هناك، فإن قال المكري: أنا أرده إلى موضعه لم يكن له ذلك، وإن اختار صاحب الطعام أن يكلفه رده إلى ذلك الموضع يلزمه رده لأنه نقله من غير أمره، وإن رجع صاحب الطعام إلى الموضع الذي حمل منه الطعام فصادف المكري هناك فطالبه ببدل الطعام هناك قال الشافعي في "الأم": لرب الطعام مطالبته برده إليه، وقيل: له مطالبته ببدل طعامه، ونقل المزني: له مطالبته ببدله وترك أصل قوله. واختلف أصحابنا فيه على طريقين فمنهم من قال: رب الطعام بالخيار بين مطالبته برده وبين مطالبته ببدله، وكلام الشافعي على هذا يحمل على التخيير فعلى هذا إن كلفه الرد فلا كلام وإن كلفه البدل [192/ ب] وأخذ منه البدل ملك ولم يملك المكري المبدل فإذا رد المكري عين الطعام إلى موضعه انتقص ملك صاحبه عن البدل الذي أخذه، ومن أصحابنا من قال: لرب الطعام مطالبته بالرد وليس له مطالبته بالبدل لأنه غاصب قادر على رد عين الطعام بخلاف الآبق فإن الغاصب لا يقدر على رده، قال هذا القائل: قول الشافعي: قد قيل له مطالبته بالبدل حكاية مذهب الغير، وقال أبو إسحاق: هذا إذا اتفقا على الزيادة فإن اختلفا فيها فالقول قول المكري لأن يده عليها وهذا إذا كانت الزيادة متفاوتة، فإن كانت يسيرة كالمكوك والمكوكين فلا أجرة لذلك ولا ضمان بهيمة لأنه لا يمكن الاحتراز منه كما نقول في بيع الوكيل بما يتغابن الناس بمثله لا يمنع صحة البيع، وإن كان الكيال أجنبيًا تراضيا به فعلى الكيال أجرة مثله للمكري والحكم ضمان البهيمة ورد الطعام وأخذ بدله على ما مضى فيكون الأجنبي كالمكري في حق المكتري وكالمكتري في حق المكري وقد بيناه. فرع لو اكتال صاحب الطعام ولكن أوقره الجمال فيه وجهان أحدهما: التدليس من جهة صاحب الطعام فهو كما لو أوقره بنفسه، والثاني: أنه كما لو اكتال الجمَّال بنفسه وأوقره لأن صاحب الجمل هو المفرط وكان يجب أن ينظر ويتأمل ويبحث عنه ولا يدخل فيه إلا على ثقةٍ وعلم به فإذا قصر فيه لم يعذر وهذا مبني على القولين في رجل طرح في طعامه سمًا وناوله إنسانًا فأكله هل يضمن؟ قولان.

فرع آخر لو اكتال الجمال زائدًا فقال رب الطعام في الموضع الحاصل فيه ردها إلى الموضع الذي حملت منه، وقال الجمال: أنا اضمن لك وأرد مثلها في ذلك الموضع فيه وجهان أحدهما: قاله أبو إسحاق وابن أبي هريرة القول قول رب الطعام كما في الغاصب، والثاني: القول قول الجمال ويأخذ الزيادة مضمونة [193/ أ] ليرد مثلها في الموضع المحمول منه لأن الزيادة لما اتصلت فارقت حكم الغصب. وإن كان المحمول مما لا مثل له كالسويق أو الدقيق لزم الجمَّال رد الزيادة بعينها إلى البصرة في الوجهين جميعًا. مسألة: قال: "ومعلم الكتاب والآدميين مخالف لراعي البهائم". الفصل وهذا كما قال: إذا ضرب المعلم صبيًا فمات، أو ضرب الزوج زوجته فماتت وكان الضرب بحيث لا يقتل مثله غالبًا فالدية تجب على عاقلته في ثلاث سنين قولًا واحدًا، وتكون الدية مغلَّظة لأن ذلك شبيه العمل، وإن كان ضربًا يقتل في الغالب يجب القصاص عليهما لأنه قتل عمد ولا فرق بين أن يضرب بإذن والده أو بغير إذنه لأن الضمان فيه لا يسقط بإذن الغير. ولو كان عبدًا فضربه بإذن سيده ولم يجاوز القدر المأذون فمات لم يضمن، ولو قال: أدّب عبدي فضربه فمات قال القفال: يضمن لأنه بان لنا أنه كان متعديًا بضربه، وكذلك الإمام إذا ضرب رجلًا في التعزير فمات يضمن قولًا واحدًا، وقال أبو حنيفة: لا يضمن وهذا بناء على أن التعزير عنده واجب وعندنا لا يجب. واحتج الشافعي على أنه لا يجب بأن قال: قد فعل غير شيء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم غير حدٍ يعني ارتكبوا أشياء كثيرة سوى الحدود فلم يضرب فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك الغلول في الغنيمة ومن ذلك الاعتراض على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة الغنائم حيث قال له قائل: أعدل فإنك لم تعدل، وقال له قائل: اتق الله يا محمد، وغير ذلك، وما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بحدٍ قط إلا استوفاه ولم يعف فلو كان التعزير جاريًا مجرى الحد لكانت عادة الرسول صلى الله عليه وسلم فيهما واحدة، فإذا تقرر هذا هل يلزم ضمان ذلك على عاقلة الإمام أو في بيت المال؟ قولان أحدهما: يلزم على عاقلته لما احتج الشافعي ها هنا أن عمر رضي الله عنه بعث إلى امرأةٍ رسولًا في شيء بلغه عنها ففزعت وكانت حبلى فأسقطت [193/ ب] فاستشار الصحابة فقال له عبد الرحمن بن عوف: إنك مؤدب لا شيء عليك، وقال عليّ: إن كان اجتهد فيه فقد أخطأ، وإن كان لم يجتهد فيه فقد غش عليك الدية فقال عمر رضي الله عنه: عزمت عليك ألا تجلس حتى تقسمها على

قومك، وروي تضربها على قومك يعني على بني عدي وهم رهط عمر بن الخطاب وهم قوم عليّ رضي الله عنه لأن قريشًا ضمهم جميعًا والصحيح من تفسير قول عليّ: إن كان اجتهد فقد أخطأ أنه أراد بذلك عبد الرحمن بن عوف، وقيل: أراد بذلك الرسول الذي بعثه عمر إليها وكأنه زاد في رسالته ما لم يقله عمر بن الخطاب وكانت تلك الزيادة سببًا للفزع فقال عليّ: إن كان اجتهد فزاد في الرسالة بالاجتهاد فقد أخطأ وإن زاد بغير اجتهاد فقد غش، والقول الثاني تجب الدية في بيت المال لأن الإمام منصوب لأمور المسلمين، فإذا أخطأ عاد خطأه إلى عامتهم بضمانه ويلزم الكفارة في ماله بكل حال، وفيه وجه آخر يلزم الكفارة في بيت المال إذا قلنا: الدية في بيت المال وقيل: في الكفارة قولان على هذا القول ذكره القاضي الطبري. وأما الإمام إذا جني خطأ فيما لا يتصل بالإمامة يلزم الدية على عاقلته قولًا واحدًا، فإذا تقرر هذا قال الشافعي: ومعلم الكتاب والآدميين وفائدة هذا الجمع أنه لو ضم صبيًا إلى رجل ليعلمه حرفة من الحرف فضربه على تعلمها فمات كان حكمه حكم معلم الكتاب في وجوب الضمان بأمر أبيه إذا مات لم يضمن، ولو ضربه الأب بنفسه فمات يضمن، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يضمن الأب والمعلم يضمن وهذا أولى من قول أبي حنيفة، وإن كان كلاهما فاسدٌ لاتصافهم على أن الزوج يضمن ما حدث عن التأديب كذلك هذا. مسألة: قال: "ولو اختلفا في ثوبٍ فقال ربُّ الثوبِ: أمرتك أن تقطعه قميصًا". الفصل وهذا [194/ أ] كما قال: إذا اختلف رب الثوب والخياط فقال ربه: أمرتك أن تقطعه قميصًا، وقال الخياط: أمرتني أن أقطعه قباءً، نقل المزني عن الشافعي فيه قولين أحدهما: القول قول رب الثوب وبه قال أبو حنيفة، ووجهه أنه لو أنكر أصل الإذن كان القول قوله فإذا أنكر كيفية الإذن كان القول قوله أو لأنه أحدث قطعًا في ملك غيره فكان القول قول المالك فيه، كما لو اختلفا في أصل القطع، والثاني: القول قول الخياط وبه قال ابن أبي ليلى ومالك، ووجهه أنهما اتفقا على أنه مأذون له في القطع والأصل أنه لم يتعد وكان القول قوله في صفته، وقال المزني: الصحيح القول الأول. وقال أبو إسحاق: ذكر الشافعي قول ابن أبي ليلى وأبي حنيفة واختار قول أبي حنيفة وقطع به، واحتج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" وذكر دلائله، وقال القاضي أبو حامد: القول قول رب الثوب في أولى قوليه، وحكى

الماسرجسي عن ابن أبي هريرة أنه قال: القول قول رب الثوب قولًا واحدًا، ولم يحك هؤلاء قولًا ثالثًا في المسألة. وقال في "الإفصاح": قال الشافعي في موضع آخر: يتحالفان وهذا اصح، وقال القاضي الطبري: ما نقله صاحب "الإفصاح" من "الجامع الكبير" وليس بمذهب الشافعي وإنما ذاك حكايةً عن غيره ولا يصح أيضًا في الاحتجاج ولهذا لم يحك سائر أصحابنا، وقال أبو حامد: نص على قول التحالف في "الإملاء" قال: وفي اختلاف الأجير والمستأجر ردهما إلى أصل السنة أنهما يتحالفان، فإذا تحالفا رد الثوب على صاحبه ولا أجرة للأجير وعليه أرش النقص فالمسألة على قولٍ واحدٍ أنهما يتحالفان وهذا لأنه لما حكي القولين في اختلاف العراقيين قال: وكلاهما مدخول، وكذا حكاه القفال وقيل: صور المسألة في "الإملاء" فيمن دفع ثوبًا إلى صبَّاغ فصبغه أسود فقال رب الثوب: أمرتك بالأحمر. وقال الصبَّاغ: بل أمرتني بالأسود يتحالفان وعلى الصبَّاغ ما نقص ووجهه أن كل واحدٍ [194/ ب] منهما مدعٍ ومدعّى عليه لأن صاحب الثوب يدعي على الخياط الأرش وينكر أن يكون له عليه أجرة، والخياط يدعي الأجرة وينكر الأرش فيتحالفان فحصل في المسألة ثلاث طرق أحدها في المسألة قولان على ما ذكره القاضي الطبري وهو الأظهر، والثانية في المسألة ثلاثة أقوال، والثالثة القول قول رب الثوب قولًا واحدًا وهو الأقيس، وقول التحالف لا يصح لأن الاختلاف وقع في الإذن لا في الأجرة والغرم فكان القول قول الآذن، فإذا قلنا: القول قول رب الثوب فإنه يحلف ما أمره بقطعه قباء ولا يحلف لإثبات ما ادعاه من إذنه في القميص. وقال بعض أصحابنا: ينبغي أن يحلف على النفي والإثبات فيقول: ما أمرته أن يقطعه قباء ولقد أمرته أن يقطعه قميصًا وهذا غير صحيح لأن اليمين على النفي والإثبات بالجمع إنما يكون عند التحالف الذي يصير كل واحد منهما فيه منكرًا ومدعيًا ولا يؤخذ ها هنا، ولأن الغرم وسقوط الأجرة يتعلق بعدم الإذن خاصةً فلا يحتاج إلى إثبات ما أمر به، فإذا حلف رب الثوب لا أجرة للخياط وله استرجاع الخيوط إن كانت له وليس له استرجاعها إن كانت لرب الثوب، وقال ابن أبي هريرة: له الأجرة في القدر الذي يصلح القميص وهذا ليس بشيء لأنه لم يقطعه للقميص، ولو دفع رب الثوب إليه قيمة الخيوط التي لم يجبر على قبولها لأن عين ماله باق فلا يجبر على أخذ قيمته، ولو قال: أشد في طرف الخيط خيطًا آخر حتى إذا جر ذلك الخيط حصل مكانه آخر لم يجبر عليه لأنه عين ماله فلا يجوز أن يصل به شيئًا، فإن تراضيا به جاز ثم على الخياط الضمان وفيما يضمنه قولان أحدهما: يضمن ما بين قيمته مقطوعًا قباءً وقميصًا لأن قطع القميص مأذون فيه فعلى هذا إن كانت قيمته قباءً مثل قيمته قميصًا أو أكثر فلا غرم عليه وهذا اختيار ابن أبي هريرة وعلى هذا ينظر إلى قطع ما يصلح للقميص فلا يضمنه وإلى ما لا يصلح [195/ أ] للقميص فيضمنه لأن المخالفة حصلت في الزيادة على قطع

ما يصلح للقميص، والثاني: وهو اختيار أبي إسحاق يغرم ما بين قيمته ثوبًا صحيحًا وما بيت قيمته مقطوعًا قباء لأنه بالعدول عن القميص ضمن القطع من أصله، وإذا قلنا: القول قول الخياط يحلف لقد أمره أن يقطعه قباء ولا يلزمه اليمين على النفي. ومن أصحابنا من قال: يحلق على النفي والإثبات فيقول: والله ما أمرني أن أقطعه قميصًا ولقد أمرني أن أقطعه قباءً فإذا حلف لا غرم عليه وهل له الأجرة؟ فيه وجهان أحدهما: لا أجرة له قاله أبو إسحاق لأن قوله قبل في سقوط الغرم عنه لأنه منكر ولم يقبل قوله في الأجرة لأنه فيها مدعٍ فعلى هذا إن كانت الخيوط لرب الثوب لم يكن للخياط نقضها لأنها آثار مستهلكة ويصير الثوب قباءً مخيطًا لربه، وإن كانت الخيوط للخياط له استرجاعها وضمان ما نقص الثوب بأخذها إلا أن يتراضيا على دفع قيمتها، والثاني: وهو اختيار ابن أبي هريرة وجماعة: له الأجرة لأنه صار محكومًا بقبول قوله في الإذن وهو الأصح وعلى هذا ليس له نزع الخيوط بحالٍ لأنها تابعة للثوب وأخذ الأجرة في مقابلتها، فإذا قلنا بهذا قال أصحابنا: لا يستحق الأخرى المسمى قولًا واحدًا لأنه قد يحلف على مالٍ عظيمٍ أو ألف أو ألفين ولأن أجرة المثل تلزم لوجود فعله المأذون فيه بحكم المعاوضة، ولو أوجبنا المسمى لثبت بيمينه وقوله وذلك لا يجوز. وقال في "الحاوي": فيه وجهان أحدهما: يستحق المسمى لتحقيق ما حكم به من قبول قوله، والثاني: أجرة المثل لئلا يصير مقبول القول في العقد، وإذا قلنا: يتحالفان قد ذكرنا أنه لا أجرة له وهل يضمن ما نقص بالقطع؟ فيه قولان أحدهما: لا يضمن شيئًا وهو الذي نقل المزني في "الجامع الكبير" فقال: يتحالفان ويبرأ كل واحدٍ منهما بيمينه لأنه لما حلف كل واحدٍ منهما على ما ادعاه ونفى ما ادعاه صاحبه برئ كل واحدٍ منهما بيمينه كالمتبايعين [195/ ب] إذا اختلفا وتحالفا، والثاني: يضمن أرش النقص لأنهما إذا تحالفا ارتفع العقد وحكمنا بأن القطع كان من غير فقدٍ فيلزم الأرش كما لو تلفت السلعة في يد المشتري وتحالفا على الثمن تجب قيمتها فإذا قلنا بهذا فكيفية الأرش ما ذكرنا إذا جعلنا القول قول ب الثوب وهذا هو المنصوص في "الإملاء". فرع لو اختلفا عند الرد فقال الخياط: هذا ثوبك وأنكر رب الثوب وقال: ثوبي في هذا فالحكم فيه وفي سائر الأحوال ويكون القول قول الأجير لأنه يدعي عليه إقباض ثوب غير هذا وهو ينكره، فإذا حلف فقد اعترف بثوبٍ لرب الثوب وهو لا يدعيه فماذا يفعل به؟ قد ذكرنا فيما تقدم.

فرع آخر لو قال رجل للخياط: إن كان يكفيني هذا الثوب قميصًا فاقطعه فقطعه فلم يكفه كان ضامنًا، ولو قال: أيكفيني هذا الثوب قميصًا؟ فقال: نعم قال: اقطعه فقطعه فلم يكفه لم يضمن، والفرق أن اللفظ الأول شرط، والثاني: استفهام فافترقا. مسألة: قال: "ولو اكترى دابة فحبسهَا قدرُ المسيرِ". الفصل وهذا كما قال: إذا اكترى دابةً ليركبها من آمل إلى الرَّى قد ذكرنا أنه يتقرر الأجرة، وهكذا لو عرضها على المكتري فامتنع من الأخذ ومضت لو أراد أن يستوفي المنفعة أمكنه تقررت الأجرة خلافًا لأبي حنيفة، وإن حبسها أكثر من ذلك يلزمه أجر المثل في مقدار ما زاد على مدة المسير أو فيما زاد عليها، فإن كان في مدة المسير لا يضمن لأن حبسها أرفق بها من السير وكدّه ومشقته، وإن كان فيما زاد عليها قال الشافعي: عليه الضمان وأراد به ضمان القيمة. وقال بعض أصحابنا: لا ضمان عليه في الحالين لأن مدة الإجازة إذا انقضت يكون الشيء في يده على طريق الأمانة ومتى حصل الشيء في يده بإذن صاحبه على طريق الأمانة لا يلزمه حمله إلى صاحبه [196/ أ] وإنما تجب مؤونة الرد على المكري ويجب على المكتري دفعها إليه إذا طالبه المكري كالوديعة وقول الشافعي: ضمن، أراد به إذا طالبه بالرد فلم يرد، قال في "الحاوي": وهذا مذهب الشافعي ولا وجه لمن خرّج وجهًا آخر من الرهن لأن في الرهن يتغلب نفع المرتهن فجاز أن يجب رده، وفي الإجارة يستويان في النفع فاختص المالك بمؤونة الرد لحق المالك، وقال القاضي الطبري: هذا وإن كان له وجه فهو خلاف مذهب الشافعي الذي نص عليه ها هنا وهذا لأنه يمسكه في مدة الإجارة بإذن صاحبه فهو أمين فإذا انقضت المدة سقط الإذن ولزمه رده عليه ولزمته مؤونة الرد، فإذ لم يفعل ضمن كما لو أطارت الريح بثوب إلى داره تلزمه مؤونة الرد فإن لم يفعل يلزمه الضمان، وكذلك إذا مات وعنده وديعة لزم ورثته الرد والضمان بتركه يوجب مؤونة الرد كما نقول في المستعير وبهذا قال مالك وبالأول قال أبو حنيفة وهو الصحيح عندي، وإذا أطارت الريح ثوبًا في داره يلزمه الإعلام لا الرد ولا المؤونة، وكذلك إذا مات المودع وترك الوديعة يلزم ورثته الإعلام، وذكر القفال هكذا وقال: ليس المذهب على الإطلاق الذي نقله المزني ولا بد فيه من تفصيل فنقول الحبس منقسم، فإن كان بذلك الحبس يمنعها عن صاحبها مع مطالبته إياه بردها صار ضامنًا لقيمتها، فأما إذا حبسها ليردها عند المطالبة لا يضمنها ولا يلزمه ردها ولا مؤونة ردها بل عليه التخلية بينها وبين مالكها إذا جاء يطلبها وهكذا نقول في الأجرة

فيما زاد على المدة إن كان ممتنعًا من الرد يلزمه أجر المثل لزيادة المدة استعملها أو لم يستعملها وإذا لم يكن ممتنعًا من الرد لا يلزمه أجر المثل إلا [196/ ب] بالاستعمال لأن عليه التخلية فقط لا يكلف بالرد. وقال صاحب "التقريب": لو اكترى دابةً لحمل أو ركوب ليرد الدابة إلى صاحبها بالبلدة التي اكتراها منه فعليه أن يفعل ذلك، وإن لم يشترط أن يردها إلى صاحبها فإن خرج المالك معها فذاك، وإن لم يخرج فعليه ردها إلى البلد الأول. وقال القفال: هذا عندي غلط بل لا يجب الرد، وإذا صار إلى البلد الآخر بالدابة ولم يكن المالك معه فهي كدابةٍ ضالةٍ فله رفعها إلى الحاكم فيأخذها الحاكم أو يأمره أن يودع أمينًا ثم إن رأى الحاكم بيعها على الغائب فعل، وإن رأى أن يستدين على المالك فعل. فرع آخر لو شرط على المكتري أن يرده إليه بعد انقضاء المدة فحبسه بعد انقضائها لزمه ضمانه بلا خلاف ذكره القاضي الطبري، وقال بعض أصحابنا: إذا قلنا: لا يلزمه الرد لا يجوز اشتراطه لأنه ينافي موجب العقد، وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا شرط عليه الرد إلى البلد الأول بطل العقد بهذا الشرط في القياس. فرع آخر لو انهدم عليها الاصطبل وتلفت بسبب الحبس ضمن سواء كان في المدة، أو بعد انقضائها. فرع آخر لو قال له المكري: إذا انقضت مدة الإجارة فاتركها عندك لم يلزمه ردها وإذا تلفت لا يضمن وتكون وديعة في يده، وكذلك لو لم يكن ردها لفساد في الطريق أو لعلة مانعة وعذر بيّن حتى تلفت الدابة لا يضمن. فرع آخر يجوز أن يؤاجر حائطه ليضع عليه خشبًا معلومًا مدةً معلومةً، وقال أبو حنيفة: لا يجوز هذا غلط لأن هذه منفعة مقصودة مقدور على استيفائها فجاز عقد الإجارة عليها. فرع آخر هل يصح استئجار الفحل للضراب؟ وجهان أحدهما: يجوز لأن يستباح بالإعارة، والثاني: لا يجوز وهو الصحيح لنهيه صلى الله عليه وسلم [197/ أ] عن ثمن عسب الفحل ولأن المقصود منه الماء الذي يخلق منه وهو محرم لا قيمة له.

فرع آخر لو استأجر رجلًا ليعلمه بنفسه سورةً وهو لا يحسنها فيه وجهان أحدهما: يصح كما يصح أن يشتري سلعةً بدراهم وهو لا يملكها ثم يحصلها ويسلم، والثاني: لا يصح لأنه عقد على منفعةٍ معينة لا يقدر عليها، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب المعلمين فقال: "إن أحق ما أُخذ عليه الأجر كتاب الله". فرع آخر لو استأجر دارًا للسكنى جاز أن يطرح فيها المتاع لأن ذلك متعارق في السكنى، ولا يجوز أن يربط فيها الدواب ولا تقصير الثياب ولا يطرح في أصول حيطانها الرماد والتراب لأن ذلك غير متعارف في السكنى، وهل يجوز أن يطرح فيها ما يتسارع إليه النار؟ فيه وجهان أحدهما: لا يجوز لأن النار تنقب الحيطان للوصول إلى ذلك، والثاني: يجوز هو الأظهر لأن ذلك متعارف في سكنى الدار فلا يمنع منه. فرع آخر لو استأجر دابةً ليركبها بسرج لا يجوز أن يركبها عريًا لأن ركوبة عريًا أضر، ولو اكتراها ليركبها عريًا لم يجز أن يركبها بسرج لأنه يحمل عليها أكثر ما عقد عليه، ولو اكتراها لحمل المتاع لم يجز أن يركبها لأن الراكب يقعد في موضع والمتاع يتفرق على جنبيه، ولو اكتراها للركوب لم يجز حمل المتاع بقدره لأن الراكب يعين المركوب بحركته بخلاف المتاع. فرع آخر لو استأجر عينًا لمنفعةٍ وشرط عليه أن لا يستوفي مثلها أو دونها ولا يستوفيها إلا بنفسه فلا يستوفيها بمن هو مثله أو دونه فيه ثلاثة أوجه أحدها: تبطل الإجارة لأنه شرط ما ينافي موجبها، والثاني: تصح الإجارة والشرط باطل لأنه شرط لا يؤثر في حق [197/ ب] المؤجر فألغي وبقي العقد على مقتضاه، والثالث: تصح الإجارة والشرط لازم لأن المستأجر يملك المنافع من جهة المؤجر فلا يملك ما لم يرض به. فرع آخر لو اختلف المتكاريان في مقدار المنفعة أو في قدر الأجرة تحالفا والحكم فيه ما ذكرنا في البيع، وإذا اختلفا في رد العين فإن قلنا: يضمن لا يقبل قوله في الرد، وإن قلنا: لا يضمن فيه وجهان كما قلنا في الوكيل بجعل، ولو ادعى هلاك العين بعد العمل وأنه يستحق الأجرة فالقول قول المستأجر لأن الأصل عدم البدل.

فرع آخر إذا استأجر من متولي الوقف قضاء الوقف على أن يُبنى فيه فبنى بإذن المتولي فأراد أن يأمره بالرفع هل تلزم قيمة النقض في مال الوقف أو مال المتولي؟ قال الإمام أبو عبد الله الحناطي رحمه الله: يلزم في مال الوقف دون مال المتولي إذا كان الإجارة صحيحة وكان الصلاح في إجارته كذلك، ولو كانت الإجارة فاسدة فبنى فيه بإذن المتولي يؤمر بالرفع فإذا أمر بذلك يلزم النقض في مال المتولي دون مال الوقف ويحتمل أن يقال: لا يلزمه في ذلك شيء. فرع آخر إذا أوصى بخدمة عبده لرجل على أن يخدمه ما دام الموصى له حيًا ولا ينتقل هذا الاستحقاق إلى ورثة الموصى له بوفاته فأجره الموصى له شهرًا ثم مات قبل انقضاء المدة هل تبطل الإجارة؟ وجهان أحدهما: لا تبطل كالمالك للعبد إذا أجره ثم مات، والثاني: وهو الأصح تبطل لأن المنفعة بعد وفاة الموصى له من حقها انتقالها إلى ورثة الموصي فلا يمكن جعل عقد الموصى له كعقد وارت الموصي لأنه غير قائم مقامه ولا تستفيد هذه المنفعة إرثًا من الموصى له فبطل العقد، وهذه المسألة بناء على مسألة الوقف إذا أجر من عليه الوقف ثم مات وانتقال الوقف [198/ أ] إلى البطن الثاني هل تبطل الإجارة أم لا؟ وبالله التوفيق والعون والعصمة. وجدت في الأصل المنقول من خط المصنف تمت المجلدة التاسعة بخط المصنف رحمه الله وكان قد فرغ منها يوم الخميس سلخ ذي الحجة سنة سبع وسبعين وأربعمائة وأول المجلدة العاشرة بخده رحمه الله كتاب المزارعة فنقلها كذلك وبالله التوفيق. فرغ من نسخة أضعف عباد الله يوم الأحد سلخ ربيع الآخر عبد الله بن أحمد بن بكر بن الحسين بن إبراهيم بن محمد بن علي الفقيه الشافعي الروياني ببلد بغداد في درب الخبازين في دريبة المدار في أيام المستنصر بالله أمير المؤمنين سنة اثنين وثلاثين وستمائة وهو يحمد الله على الآية ويصلي على النبي محمد خير خلقه وعلى آله وأصحابه ويستغفر من زللِه وخطئه وحسبنا الله ونعم الوكيل نعم المولى ونعم النصير ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. [198/ ب].

كتاب العطايا والصدقات والحبس والسائبة

كتاب العطايا والصدقات والحبس والسائبة مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: "يَجْمَعُ مَا يُعْطَى النَّاسُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ ثَلَاثَةُ وُجُوهٍ ثْمَّ يَتَشَعَّبُ وَجْهٍ مِنْهَا فَفِي الحَيَاةِ وَجْهَانِ وَبَعْدَ المَمَاتِ مِنْهَا وَجْهً فَمِمَّا فِي الحَيَاةِ الصَّدَقَاتِ وَاحْتَجَّ فِيهَا بِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَلَكَ مَائَةَ سَهْمٍ من مِنْ خَيْبَرَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لمْ أُصِبْ مَالًا مِثْلَهُ قَطُّ, وَقَدْ أَرَدْتُ أَنْ أَتَقَرَّبَ بِهِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَبْسُ الْأَصْلِ الثَّمَرَةِ" قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: "فَلَمَّا جَازَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُحْبَسَ أَصْلَ الْمَالِ وَتَسّبَلَ الثَّمَرَةُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى إِخْرَاجِهِ الأَصْلَ مِنْ مِلْكِهِ إِلَى أَنْ يَكُونَ مَحْبُوسًا لَا يَمْلِكُ مَنْ سَبَّلَ عَلَيْهِ ثَمَرَهُ بَيْعَ أَصْلِهِ، فَصَارَ هَذَا الْمَالُ مُبَايِنًا لِمَا سِوَاهُ وَمُجَامِعًا لَأَنْ يَخْرُجَ الْعَبْدُ مِنْ مِلْكِهِ بِالْعِتْقِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى غَيْرِ مَالِكٍ، فَمَلَّكَهُ بِذَلِكَ مَنْفَعَةَ نَفْسِهِ لَا رَقَبَتَهُ كَمَا يَمْلِكْ المُحْبَسُ عَلَيْهِ مَنْفَعَةَ الْمَالِ لَا رَقَبَتَهُ، وَمُحَرَّمٌ عَلَى الْمُحَبِّسِ أَنْ يَمْلِكَ الْمَالَ كَمَا مُحَرَّمٌ عَلَى الْمُعْتِقِ أَنْ يَملِكَ العَبْدَ وَيَتِمَّ الحَبْسُ وَإِنْ لَمْ يَقْبِضْ؛ لأَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عًنْهُ هُوَ المُصَدِّق بِأَمْرِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يَلِي صَدَقَتَهُ فِيمَا بَلَغَنَا حَتَّى قَبَضَهُ اللَّهُ وَلَمْ يَزَلْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَلِي صَدَقَتَهُ حَتَّى لَقِي اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ تَزَلْ فَاطِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا صَدَقَتَهَا حَتَّى لَقِيتَ اللَّهَ. وَرَوَى الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ حَدِيثًا ذَكَرَ فِيهِ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَصَدَّقَتْ بِمَالِهَا عَلَى بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي المًطَّلِبِ وَأَنَّ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ تَصَدَّقَ عَلَيْهِمْ وَأَدْخَلَ مَعَهُمْ غَيْرَهُمْ". قال في الحاوي: فأما الذي يكون بعد الوفاة فهو الوصية ولها كتاب مفرد نذكرها فيه إن شاء الله، وأما اللذان في حال الحياة فهما الهبة، والوقف، فأما الهبة فلها باب يجيء فيما بعد، وأما الوقف فهذا موضعه فالوقف يحبس الأصل ويسبل المنفعة، وجمعه وقوف وأوقاف، فإذا وقف شيئًا زال ملكه عنه بنفس الوقف ولزم الوقف، فلا يجوز له الرجوع فيه بعد ذلك ولا التصرف فيه ببيع ولا هبة، ولا يجوز لأحد من ورثته التصرف فيه، وليس من شرطه لزوم القبض ولا حكم الحاكم وهو قول الفقهاء، أجمع، وهو قول أبي سفيان ومحمد غير أن محمدًا يقول: من شروط لزومه القبض، وروى عيسى بن أبان أن أبا يوسف لما قدم بغداد كان على قول أبي حنيفة في بيع الأوقاف حتى حدثه

إسماعيل ابن علية بحديث عمر رضي الله عنه فقال: هذا لا يسع أحد خلافه. وقال أبو حنيفة: إن حكم الحاكم بالوقف لزم، وإن لم يحكم به لم يلزم، وكان الواقف بالخيار إن شاء باعه أو وهبه، وإن مات ورثه ورثته، وإن أوصى بالوقف يلزم في الثلث قال القاضي: قد ناقض أو حنيفة في هذا؛ لأنه جعل الوقف لازمًا في ثلثه في حال مرضه المخوف إذا أنجزه ولم يؤخره ولا لازمًا من جميع ماله في حال صحته، لأن كل ما لزم في الثلث بوصية لزم فيه في مرضه إذا أنجزه وفي جميع ماله في حال صحته مثل العتق، فإنه إذا أوصى به لزم في ثلثه، وإذا أنجزه في مرضه لزم في ثلثه، وإذا أنجزه في حال صحته لزم في جميع ماله واحتد بأشياء: أحدهما: ما روي عن ابن عباس قال: لما نزلت سورة النساء وفرض فيها الفرائض رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حبس بعد سورة النساء". وروي أن عبد الله بن زيد صاحب الأذان جعل حائطًا له صدقة وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم "فأتى أبواه النبي صلى الله عليه وسلم فقالا: يا رسول الله لم يكن لنا عيسى إلا هذا الحائط فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ماتا فورثهما" فدل هذا على أن وقفه إياه لم يخرجه من ملكه، ولو كان قد أخرجه عن ملكه لم يصح الرد على أبويه وروي عن شريح قال: جاء محمد صلى الله عليه وسلم بإطلاق الحبس. وروي عن سلمان بن زيد عن أبيه أن رجلًا وقف وقفًا فأبطله رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو كان قد لزم لم يصح إبطاله ومن القياس أنه قصد إخراج ماله عن ملكه على وجه الصدقة فوجب أن لا يلزم لمجدد القول. أصله: صدقة التمليك، لأنه عقد على منفعة فوجب أن لا يزول به الملك عن الرقبة قياسًا على الإجارة، ولأنه لو قال هذه الأرض محرمة لا تورث ولا تباع ولا توهب لم يصر وقفًا ولم يزل ملكه عنها، وقد أتى بصريح معنى الوقف فإذا قال وقفتها أو حبستها أولى أن لا يزول ملكه عنها. ودليلنا ما روى ابن عمر رضي الله عنه ملك مائة سهم من خيبر اشتراها فلما استجمعها قال: يا رسول الله إني أصبت مالًا لم أصب مالًا قط مثله وقد أردت أن أتقرب به إلى الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم "حبس الأصل وسبل الثمرة" وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "إن شئت تصدّقت بها وحبست أصلها" فجعلها عمر على الفقراء، والمساكين، والغزاة في سبيل الله، وفي الرقاب، وابن السبيل، ولا جناح على من ولاها إن أكل منها

بالمعروف ويطعم صديقه غير متمول، وأوصى بها إلى حفصة، ثم إلى الأكابر من أولاد عمر، والتعلق بهذا الحديث من وجهين. أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بأن يحبس الأصول، وعند المخالف لا يقع تحبيس الأصل بحال، فإن قيل: بل يصح منه، لأنه يقف ويرفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم حتى يحكم به، فإذا حكم به لزم قيل: فلا يكون ذلك اللزوم من جهته إنما يكون من جهة الحاكم بالحكم، كما يكون ذلك في جميع مسائل الخلاف، وعلى أنه لم ينقل أن عمر رفع ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم وحكم به، ولو كان ذلك لنقل، لأنه أولى بالنقل من غيره. والثاني: بالخبر أن عمر جعلها صدقة ثم ذكر أحكامها فقال: لا تباع، ولا توهب، ولا تورث فدل على أن هذه الأحكام تتعلق بها إذا صارت صدقة وإن لم يحكم بها الحاكم، ويدل على ذلك إجماع الصحابة، لأن أبا بكر وعمر، وعثمان، وعليًا، وطلحة، والزبير، وأنسًا، وأبا الدرداء، وعبد الرحمن بن عوف، وفاطمة وغيرهم وقفوا دورًا وبساتين ولم ينقل عن أحد منهم أنه رجع في وقفه فباع منه شيئًا ولا عن أحد من ورثتهم مع اختلاف همهم، فلو كان ذلك جائز لنقل عن أحد منهم الرجوع. ومن القياس: أنه تصرف يلزم بالوصية فجاز أن يلزم في حال الحياة من غير حكم الحاكم أصله: إذا بنى مسجدًا فإنه يلزم من غير حكم الحاكم، وقد قال أبو حنيفة: إذا أذن لقوم فصلوا فيه صار محبسًا وثبت وقفه، وكذلك إذا عمل مقبرة وأراد أن يقفها فأذن لقوم فدفنوا فيها ثبت الوقف، ولأنه إزالة ملك يلزم بحكم الحاكم فجاز أن يلزم بغير حكمه. أصله: سائر أنواع التصرف التي تزيل الملك. فأما الجواب عن حديث ابن عباس فمن وجهين: أحدهما: أنه أراد حبس الزانية، وذلك قوله تعالى: {َأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلا} [النّسِاَء] وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم السبيل فقال البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم. والثاني: أنه أراد به ما يثبته في آخر وهو قوله: "إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" فكأنه قال: لا يحبس عن وارث شيء جعله الله له. وأما الجواب عن حديث عبد الله بن زيد: فهو أن ذلك الحائط ما كان له إنما كان لأبويه بدليل أنه روي عن الخبر "ماتا فورثهما". وأما الجواب عن حديث شريح فهو أن نقول: هذا مرسل، لأن شريحًا تابعي، ولا نقول بالمراسيل أو نقول أراد بذلك الأحباس التي كانت تفعلها الجاهلية، وقد ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز فقال: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} [المائدة: 103]. وأما الجواب عن الخير فهو أنه لا حجة فيه، لأنه يجوز أن يكون ذلك الوقف ما صح لمعنى عرض فيه فرده لذلك المعنى، وذلك الرد لا يدل على بطلان الحبس كما لو

روي أن رجلًا باع مبيعًا فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدل ذلك على أن حبس البيع باطل. وأما قياسهم على صدقة التمليك فإنا نقلبه، فنقول: فوجب أن يكون وجود حكم الحاكم وعدمه سواء. أصله: ما ذكروه ثم لا يمتنع أنه لا يلزم بمجرد القول إذا أخرجه بلفظ الصدقة، وإذا أخرجه بلفظ الوقف لزم ألا ترى أن هبة العبد لا تلزم بمجرد القول، وعتقه يلزم بمجرد القول، وأما قياسهم على عقد الإجارة فهو إنا لا نسلم أنه عقد على منفعة وإنما هو عقد على الرقبة، لأن الوقف مزيل الملك عن الرقبة، فهو كالعتق، وأما استدلالهم الأخير فهو أنه لا يمتنع أنه لا يلزم إذا أتى بصريح المعنى، ويلزم إذا أتى بلفظة كما قال عن عقد النكاح أحللت لك هذه المرأة وأبحتها لك لم صح النكاح وقد صرح بمعناه ولو قال: زوجتك أو أنكحتك جاز ذلك والله أعلم. فصل: ذكر أصحابنا تفسير السائبة، والبحيرة، والوصية، والحاك، فأما السائبة فهي الناقلة تلد عشرة بطون كلها إثات فتسيب تلك الناقة فلا تحلب إلا للضيف ولا تركب، والبحيرة: ولدها الذي يجيء به في البطن الحادي عشر فإذا كان أنثى فهي البحيرة، وإنما سموها بذلك، لأنهم كانوا ينحرون أذنها أي يشقونها، والنحر الشق، ولهذا سموا البحر بحرًا لأنه شق في الأرض. وأما الوصيلة فهي الشاة تلد خسمة بطن في كل بطن عناقان فإذا ولدت بطنًا سادسًا ذكرًا أو أنثى قالوا: وصلت أخاها فما ولدت بعد ذلك يكون حلالًا للذكور وحرامًا للإناث وأما الحام فهو الفحل ينتج من ظهره عشرة بطون فيسيب ويقال: حمى ظهره فكان لا يركب. فصل: ليس من شرط لزوم الوقف عندنا القبض وقال محمد بن الحسن: من شرط لزومه القبض كالهبة. ودليلنا قول النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "حبس الأصل وسبل الثمرة" ولم يأمره بالإقباض ولأنه جعل إليه التحبيس، وعقد المخالف لا يملك الواقف للتحبيس؛ لأنه تصير بوقفه لازمًا حتى يقبضه من غيره وذلك سبب من جهة غيره، ولأن عمر وقف تلك السهام التي ملكها من أرض خيبر فكان يلي صدقته حتى قبضه الله، وكذلك وقف علي كرم الله وجهه ولم يزل يلي صدقته حتى قبضه الله عز وجل ولم تزل فاطمة عليها السلام تلي صدقتها حتى لقيت الله، فدل ذلك على أن الوقف يلزم قبل القبض، فأما ما ذكره المخالف فهو أنا لا تسلم أنه عطية، لأن الوقف بمنزلة العتق، والعتق والعقد لا يسمى عطية، فكذلك الوقف ثم المعنى في الأصل إن ذلك تمليك بدليل أن الموهوب له يملك التصرف في الموهوب

بالبيع وغيره، وليس كذلك الوقف، لأنه ليس بتمليك بدليل أن الموقوف عليه لا يملك التصرف فيه ببيع ولا غيره. فصل: إذا وقف أرضًا أو داراً، فالمذهب الصحيح أن ملك الواقف يزول عن الموقوف بالوقف كما يزول بالبيع وغيره وخرج أبو العباس فيه قولًا آخر أنه لا يزول ملكه، واحتج من نصره بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "حبس الأصل وسبل الثمرة" وتحبيس الأصل يدل على بقاء الملك، وهذا غلط، لأن الوقف سبب بقطع تصرف الواقف في الرقبة والمنفعة فوجب أن يزيل الملك، والدليل عليه البيع والعتق وغيرهما. وإن الجواب عما ذكروه فهو أن المراد به التحبيس ذكره أبو العباس، فإذا ثبت أن ملك الواقف يزول عن الموقوف فهل يزول إلى الموقوف عليه فيملكه أو ينتقل ملكه إلى الله تعالى؟ اختلف أصحابنا في ذلك على ثلاثة طرق فهم من قال المسألة على قولين: أحدهما: أن الملك ينتقل إلى الله تعالى ولا ينتقل إلى الموقوف عليه والذي يدل عليه من كلام الشافعي في هذا الباب أنه قال: كما يملك المحبس عليه منفعة المال لا رقبته. والآخر: أنه ينتقل إلى الموقوف عليه، والذي يدل عليه من كلام الشافعي أنه ذكر من كتاب الشهادات أن الرجل إذا أوعى وقفًا عليه فأقام شاهدًا أو أحدًا حلف معه، وهذا يدل على أن الملك قد انتقل إليه وخالف ذلك العتق، لأنه لا يقبل فيه اليمين والشاهد، فلو ادعى العبد أن سيده أعتقه وأقام على ذلك شاهدًا واحدًا لم يحلف معه فإذا تقرر القولان، فإن قال إنه ينتقل الملك إلى الموقوف عليه فوجهه أن الوقف لا يخرج الموقوف عن المالية، ألا ترى أنه يطعن بالغصب ويثبت عليه اليد وليس فيه أكثر من أنه لا يملك بيعه، وذلك لا يدل على أنه ما ملكه لأن السيد لا يبيع أم الولد وهي ملك له، وإذا قلنا: إن الملك ينتقل إلى الله تعالى، فوجهه أنه إزالة ملك عن الرقبة والمنفعة على وجه التقرب إلى الله تعالى فوجب أن ينتقل الملك إليه كالعتق. والجواب عن دليل القول الأول هو أنه ينتقص بحصير المسجد فإنها تضمن باليد وليست ملكًا لأحد من الآدميين وأما الطريقة الثانية من أصحابنا من قال أن الملك ينتقل إلى الله تعالى قولًا واحدًا كما ذكر الشافعي هاهنا وما ذكروه في الشهادات من قبول الشاهد واليمين على الوقف فإن ذلك لا يدل على أن الملك قد انتقل إلى الموقوف عليه، لأن الوقف وإن كان ينتقل ملكه إلى الله تعالى فإن المقصود به انتفاع الموقوف عليه فإن كان دارًا، فالمقصود به أن يأخذ عليه وإن كان بستانًا فالمقصود أن يأخذ ثمرته، وذلك المقصود مال، وكلما كان المقصود به مالًا قبل فيه الشاهد واليمين، وأما الطريقة الثالثة فإن من أصحابنا من قال: إن الملك ينتقل إلى الموقوف عليه قولًا واحدًا، والذي ذكره الشافعي هاهنا فإنما أراد به لا يملك بيع الموقوف كما لا يملك العتق بيع رقبته.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: "وَبَنُوهَا ثم وَبَنُو المُطَّلِبِ مُحَرَّمٌ عَلَيْهمُ الصَّدَقَاتُ المَفْرُوضَاتُ وَلَقَدْ حَفظْنَا الصَّدَقَاتِ عَنْ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصارِ وَلَقَدْ حَكَي لِي عَدَدٌ مِنْ أَوْلَادِهِمْ وَأَهْلِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَلَّوْنَهَا حَتَّى مَاتُوا يَنْقُلُ ذّلِكَ العَامَّةُ مِنْهُمْ عَنِ العَامَّةِ لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رّحِمَهُ اللَّهُ: "وَإِنْ أَكْثَرَ مَا عِنْدَنَا بِالمَدِينَةِ وَمَكَّةَ مِنَ الصَّدَقَاتِ لِعَليٍّ مَا وَصَفْتُ لَمْ يَزَلْ مِنْ تَصَدَّقَ بِهَا مِنَ المُسْلِمِينَ مِنَ السَّلَفِ يَلُونَهَا عَلَى مَنْ مَاتُوا وَإِنَّهُ نُقِلَ الحَدِيثُ فِيهَا كَالتَكَلفِ. قَالَ: وَاحْتَجَّ مُحْتَجُّ بِحَدِيثِ شُرَيْج أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم جَاءَ بِإِطْلاَقِ الحَبْسِ. فَقَالَ الشَّافِعِيُّ: الحَبْسُ الذِي جَاءَ بإطْلاقِهِ صلى الله عليه وسلم لَوْ كَانَ حَدِيثًا ثَابِتًا كَانَ عَلَى مَا كَانَتْ العَرَبُ تَحْبِسُ مِنَ البحِيرَةِ وَالوَصِيلَةِ وَالحَامِ لأَنَّهَا كَانَتْ أَحْبَاسَهُمْ وَلَا نَعْلَمُ وَجَاهِلِيًّا حَبَسَ دَارًا عَلَى وَلَدٍ وَلَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا عَلَى مَسَاكِينَ وَأَجَازَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ الحَبْسَ عَلَى مَا رَوَيْنَا وَالَّذِي جَاءَ بِإِطْلاَقِهِ غَيْر الحَبْس الَّذِي أجَازَهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَاحْتَجَّ مُحْتَجٍّ بِقَوْلِ شُرَيْجٍ لَا حَبْسَ عَنْ فَرَائِضِ اللَّهِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: "لَوْ جَعَلَ عَرَصَةً لَهُ مَسْجَدًا لَا تكُونُ حَبْسًا عَنْ فَرائِضِ اللَّهِ تَعَالَى فَكَذَلِكَ مَا أَخْرَجَ مِنْ مَالِهِ فَلَيْسَ بِحَبْسٍ عَنْ فَرائِضِ اللَّهِ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: جملة ذلك أن الناس على ثلاثة أضرب: النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل بيته، وسائر الناس. فأما النبي صلى الله عليه وسلم: فكانت الصدقة المفروضة محرمة عليه بدليل قوله عليه السلام: "إنَّا أهل بيت لا يحل لنا الصدقة"، وروى أنه عليه السلام رأى غرة ملقاة فقال: "لولا أني أخشى أن تكون من تمر الصدقة لأكلتها".ولأن الصدقات أوساخ الناس، وما كان من أوساخ الناس فإن النبي صلى الله عليه وسلم منزه عنه. وأما صدقة التطوع، فكان النبي صلى الله عليه وسلم لا يقبلها. وروي أن سلمان الفارسي حمل إليه تمرًا من طبق فقال: "ما هذا" قال: صدقة فرده، ثم حمل إلي يومًا آخر مثل ذلك، فقال: "ما هذا" قال: هدية فقبله، وروي أنه صلى الله عليه وسلم أكل من لحم تصدق به على بريرة وقال: "هو لها صدقة ولنا هدية" وهل كان ذلك الامتناع لأجل التحريم أو لأجل الاستحباب؟ فيه قولان: أحدهما: لأجل التحريم، لأنه رد الصدقة على سلمان، ولو لم تكن محرمة عليه لما ردها ولكان يطيب قلبه بقبولها والذي يدل على ذلك أنه قال للصعب بن جثامة لما رد

حماره الذي أهداه إليه ورأى الكراهة في وجهه ليس بنا رد عليك وكلنا حرم، ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في اللحم الذي تصدق به على بريرة: "هو لها صدقة ولنا هدية" وروى عنه عليه السلام أنه قال: "إنَّ أهل بيت لا يحل لنا الصدقة" وهذا عام، وإذا قلنا: إن ذلك الامتناع كان على وجه التنزه لا التحريم فوجهه: أن كل من حلت له الهدية حلت له الصدقة المتطوع بها لغيره صلى الله عليه وسلم لأن أهل بيته يحرم عليهم الصدقة المفروضة وتحل لهم الصدقة المتطوع بها، وكذلك النبي صلى الله عليه وسلم. فأما أهل بيته: فالصدقة المفروضة محرمة عليهم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "إنَّا أهل بيت لا تحل لنا الصدقة" وقوله للفضل "في خمس الخمس وما يغنيكم عن أوساخ الناس".وروي أن الحسن أخذ ثمرة من الصدقة فأكلها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كخ كخ" يعني إرم بها وأما صدقة التطوع فكانت حلالًا لهم. والدليل عليه ما روى الشافعي عن جعفر بن محمد أنه كان يشرب من ماء السقايات التي بين مكة والمدينة. فقيل له في ذلك فقال: "إنما حرمت علينا الصدقة المفروضة". فإذا ثبت هذا فنعني بأهل البيت: رسول الله صلى الله عليه وسلم وبذوي القربى بني هاشم وبني المطلب فهم الذين يحرم عليهم الصدقة المفروضة وهم ذوي القربى فأما آل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين يذكرون في التشهد فقد قيل: هم بني هاشم وبني المطلب وقيل: هم المؤمنون كلهم فآل الرجل: أتباعه وأشياعه كما قال الله تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العَذَابِ} [غافر: 46] وأراد به أشياع فرعون، وأما سائر الناس فتحل الصدقات كلها عليهم المفروضة وغير المفروضة والله أعلم بالصواب. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ": "وَيَجُوزُ الحَبْسُ فِي الرَّقِيقِ وَالمَاشِيَةِ إِذَا عُرِفَتْ بِعَيْنِهَا قِيَاسًا عَلَى النَّحْلِ وَالدُّورِ وَالأَرْضِينَ". قال في الحاوي: وهذا كما قال يجوز وقف العقار والدور والأرض والرقيق والماشية والسلاح وكل عين تبقى بقاء متصلاف ويمكن الانتفاع بها. وقال أبو يوسف: لا يجوز إلا في الأراضي والدور، والكراع والسلاح والغلمان فأما وقف الغلمان وغيرهم من الحيوان على الانفراد فلا تصح واحتج من نصره ما عدا الأرض والدور لا يثبت فيه الشفعة ولا يستحق بالشفعة فلم يصح وقفه كالأطعمة والسمومات. ودليلنا ما روي أن أم معقل جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبا معقل جعل ناضحه في سبيل الله وإني أريد الحج أفأركبه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اركبه فإن الحج والعمرة من سبيل الله".

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عمر ساعيًا فلما رجع ثلاثة أحدهم خالد بن الوليد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما خالد فإنكم تظلمون خالدًا إنه قد حبس أذرعه وأعبده. ومن وَجَهَهُ المعنى أنها عين تجوز بيعها ويمكن الانتفاع بها مع بقائها المتصل فجاز وقفها كالدور. وقولنا: "عين" احترازها يكون في الذمة لأنه لو كان له في ذمة رجل حيوان من مسلم أو غيره موقفه لم يصح. وقولنا: "يجوز بيعه" احتراز من أم الولد والحر. وقولنا: "يمكن الانتفاع بها" احتراز من الحشرات التي ينتفع بها. وقولنا: "مع بقائها المتصل" احتراز من الطعام فإنه ينتفع به ولكنه سلف بالانتفاع. وقولنا: "المتصل" احتراز" من السمومات فإنه لا يتصل بقاؤها وإنما تبقى يومًا ويومين وثلاثة فقط، ولأن كل ما جاز وقفه تبعًا لغيره جاز وقفه منفردًا كالشجرة لأنها وقف تبعًا للأرض وتوقف منفردة عنها، ولأن المقصود من الوقف انتفاع الموقف عليه هذا المعنى موجود فيما عدا الأرض والعقار فجاز وقفه. فأما الجواب عما ذكروه فهو أنه منتقص بالكراع والسلاح فإنه لا يثبت فيه الشفعة ويصح وقفه، ثم إن الشفعة إنما اختصت بالأرض والعقار، لأنه إنما تثبت لإزالة الضرر الذي يلحق بالشريك على الدوام، وإنما يدوم الضرر فيما لا ينفك فلا يدوم الضرر فيه فلهذا لم يثبت فيه الشفعة وليس كذلك الوقف، لأنه إنما جاز الانتفاع الموقوف عليه، وهذا المعنى موجود فيما ينفك ويحول إذا كان على الأوصاف التي ذكرنا فجاوز وقفه إذا ثبت هذا فكل عين جاز بيعها وأمكن الانتفاع بها مع بقائها المتصل فإنه يجوز وقفها إذا كانت معينة، فأما إذا كانت في الذمة أو مطلقة وهو أن يقول وقفت فرسًا أو عبد فإن ذلك لا يجوز؛ لأنه لا يمكن الانتفاع به ما لم يتعين ولا يمكن تسليمه ولهذا قلنا: لا يجوز أن يبيع ثوبًا مطلقًا لأنه لا يمكن تسليمه والإخبار عليه. فأما الكلب فالذي نصب عليه الشافعي أنه لا يجوز وقفه؛ لأنه ليس بمال. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمهُ اللَّهُ: "فَإذَا قَالَ: تَصَدَّقْتُ بِدَارِي عَلَى قَوْم أَوْ رَجُلٍ مَعْرُوفٍ حَيٍّ يَوْمَ تَصَدَّقَ عَليْهِ. وَقَالَ: مُحَرَّمَةٌ، أَوْ قَالَ: مَوْقُوفَةً، أَوْ قَالَ صَدَقَةٌ مُسْبَلةٌ فَقَدْ خَرَجَت مِنْ مِلْكِهِ فَلَا تَعُودُ مُيرَاثًا أبدًا". قال في الحاوي: وهذا كما قال ألفاظ الوقف ستة: تصدقت، ووقفت، وحبست؛ لأن التصديق يحتمل الوقف ويحتمل صدقة التمليك المتطوع بها ويحتمل الصدقة المفروضة فإذا قرنه بقرينة تدل على الوقف انصرف إلى الوقف وانقطع الاحتمال والقرينة

أن يقول: تصدقت صدقة موقوفة أو محبسة أو مسبلة أو محرمة أو مؤبدة، أو يقول صدقة لا تباع ولا توهب ولا تورث، لأن هذه كلها تصرف إلى الوقف وكذلك إذا نوى الوقف انصرف إلى الوقف فيما بينه وبين الله تعالى لا يصير وقفًا من الحكم، فإذا اقر بأنه نوى الوقف صار وقفًا في الحكم حينئذٍ كما قال أنت حل ونوى الطلاق وقع فيما بينه وبين الله تعالى فإذا أقرت بالنية وقع الطلاق في الحكم فأما إذا قال وقفت كان ذلك صريحًا فيه؛ لأن الشرع قد ورد بها حيث قال صلى الله عليه وسلم لعمر: "حبس الأصل وسبل الثمرة" وعرف الشرع بمنزله عرف العادة فأما إذا قال حرمت وبدت ففيه وجهان: أحدهما: أنهما كنايتان؛ لأنه مما ورد بهما، لأنهما لا يستعملان إلا في الوقف ولا يحتملان شيئًا آخر فإذا قلنا إنهما صريحان فيه فالحاكم على ما ذكرنا وإذا قلنا كنايتان فلا بد من القرينة أو النية على ما ذكرنا فيما هو كناية من ألفاظه والله أعلم. فصل: وأما ما اختلف فيه فلفظان التحريم والتأبيد، فإذا قال: حرمتها أو أبدتها ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه يكون كناية لاحتماله أنه يريد بتحريم الوقف أو يريد تحريم التصرف. والثاني: يكون صريح؛ لأن ذلك هو الوقف من الصريح. فصل: وقف المشاع يجوز، قال محمد بن الحسن: لا يجوز بناء على أصله من أنه رهنه وإجازته لا تجوز. ودليلنا: ما روي أن عمر رضي الله عنه ملك مائة سهم من خيبر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حبس الأصل وسبل الثمرة" فوقفها بأمره وكانت مشاعًا، ولأن ما صح بيعه من ذوات المنافع الباقية صح وقفه كالمحوز ولأنه عقد صح آخره والمشاع كالبيع. فصل: وقف الدرهم والدنانير لا يجوز وقفها لاستهلاكها فكانت كالطعام وروى أبو ثور عن الشافعي جواز وقفها وهذه الرواية محمولة على وقفها على أن يؤجراها لمنافعها لا لاستهلاكها بأعيانها فكأنه أراد وقف المنافع وذلك لم يجز وإن وقفها للإجارة والانتفاع الباقي فعلى وجهين كما قلنا في الإجارة. وأما وقف الحلي فجائز لا يختلف لجواز إجارته أو مكان الانتفاع به مع بقاء عينه.

فصل: أرض الخراج ضربان: أحدهما: أن تكون مملوكة الدوار فيكون خراجها جزية تسقط عنها بالإسلام ويجوز وقفها لكونها ملكًا تامًا لوقفها. والثاني: أن تكون غير مملوكة الدوار كأرض السواد فخراجها أجرة ووقفها لا يجوز وأجازه أهل العراق على أصلهم في جواز بيعها، وهو أصلنا في المنع من وقفها أو لا يجوز عندنا بيعها. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: "يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ مِلْكِهِ إِلَّا إِلى مَالكِ مَنْفَعَةٍ يَوْمَ يُخْرِجُهَا إِلَيْهِ فَإِنْ لَمْ يُسْبِلُهَا عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ كَانَتْ مُحَرَّمةً أَبَدًا وَرَدَدْنَاهَا عَلَة أقْرَبِ النَّاسِ بِالَّذِي تَصَدَّقَ بِهَا يَوْم تَرْجعُ". قال في الحاوي: اعلم أن الوقف ملحق بالهبات في أصله، وبالوصايا في فرعه، وليس كالهبات المحضة، لأنه قد يدخل فيها من ليس بموجود ولا كالوصايا، لأنه لا بد فيها من أصل موجودة، ثم اعلم أن صحة الوقف من يجوز وقفه وما يجوز وقفه معتبر بخمسة شروط: أحدها: أن يكون معروف السبيل، ليعلم مصرفه وجهه استحقاقه فإن قال: وقفته على ما شاء زيد، وهكذا لو قال وقفته على ما شاء زيد، كان باطلًا، وهكذا لو قال وقفته فيما شاء الله، كان باطلًا، لأنه لا يعلم مشيئة الله تعالى فيه، فلو قال: وقفته على من شئت، أو فيما شئت، فإن كان قد تعين له من شاء، أو ما شاء عند وقفه جاز، وأخذ بيانه، وإن لم يتعين له لم يجز، لأنهم إذا تعينوا له عند مشيئته غيره، فهي مجهولة عنده، وإن كانت معينة عند غيره، فلو قال: وقفت هذه الدار ولم يزد على هذا ففي الوقف وجهان: أحدهما: باطل وهو الأقيس للجهل باستحقاق المصرف. والثاني: جائز وفي مصرفه ثلاثة أوجه حكاهم ابن سريج. أحدها: وهو الأصح أنه يصرف إلى الفقراء والمساكين؛ لأن مقصود الوقف القربى، ومقصود القربى في الفقراء والمساكين، فصار كما لو وصى بإخراج ثلث ماله ولم يذكر في أي الجهات صرف في الفقراء والمساكين، ويكون أقرب الناس نسبًا ودارًا من ذوي الحاجة أحق بها.

والثاني: أنه يصرف في وجوه الخير والبر لعموم النفع بها. والثالث: وهو مذهب له أن الأصل وقف والمنفعة له، ولورثته، وورثة ورثته ما بقوا، فإذا انقرضوا كانت في مصالح المسلمين فكأنه وقف الأصل واستبقى المنفعة لنفسه ولورثته. وإن قيل: فلو قال وقفتها على من يولد لي وليس له ولدًا يجوز؟ قيل: لا، والفرق بينهما أنه مع الإطلاق قد يحمل بالعرف على جهة موجودة مع تعيين الحمل قد حمله على جهة غير موجودة. فلو قال: وقفتها على جميع المسلمين أو جميع الخلق أو على كل شيء فهو وقف باطل لعلتين: إحداهما: أن الوقف ما كان سبيل مخصوص الجهات لتصرف وليس كذلك هذا. والثانية: أنه لا يملك استيفاء هذا الشرط، ولو وقفها على الفقراء والمساكين جاز، وإن لم يمكن وقفها إلى جميعهم لأمرين: أحدهما: أن الجهة مخصوصة. والثاني: أن عرف الشرع فيهم لا يوجب استيعاب جميعهم، كالزكاوات، ولو وقفها على قبيلة لا يمكن استيفاء جميعهم كوقفة إياها على ربيعة أو مضر أو على بني تميم ففيه وجهان: أحدهما: أن الوقف باطل تعليلًا بأن استيفاء جميعهم غير ممكن وليس في الشرع لهم عرف. والثاني: أن الوقف جائز تعليلًا بأن الجهة مخصوصة معروفة ويدفع إلى من أمكن منهم كالفقراء والمساكين، وهذا حكم الشرط الأول وما يتفرغ عليه. فصل: والشرط الثاني: أن تكون مسبلة مؤبدة لا تنقطع، فإن قدره بمدة بأن قال وقفت داري على زيد سنة لم يجز، وأجازه ما ملك، وبه قال أبو العباس بن سريج، فقال: لأنه لما جاز له أن يتقرب بكل ماله وببعضه جاز له أن يتقرب به في كل الزمان وفي بعضه، قال أبو العباس وإن قيل فهذه عارية وليست وقفًأ. قيل له: ليس كذلك فإن العارية يرجع فيها وهذه لا رجعة فيها، أو هذا خطأ لقوله صلى الله عليه وسلم: "حبس الأصل وسبل الثمرة" وهذا أصل غير محبس ولأنه لو جاز أن يكون وقف إلى مدة لجاز أن يكون عتق إلى مدة، ولأنه لو جرى مجرى الهبات فليس في الهبات رجوع وإن جرى مجرى الوصايا والصدقات فليس فيها سد زوال الملك رجوع، ولهذا فرقنا بين أن يقف بعض ماله فيجوز، وبين أن يقف في بعض الزمان فلا يجوز، لأنه ليس في وقف بعض ماله رجوع في الوقف، وفي وقفه في بعض الزمان رجوع في الوقف،

وإذا صح أن الوقف إلى مدة لا يجوز فكذلك الوقف المتقطع وإن لم يتقدر بمدة لا يجوز. مسألة: أن يقول وقفت بعده الدار على زيد ولم يذكر آخره لم يصح لأن زيدًا يموت فيصير الوقف منقطعًا وكذلك لو قال على زيد وأولاده وأولاد أولاده ما تناسلوا لأنه وقف لا يعلم تأبيده لجواز انقراضهم فصار وقفًا منقطعًا، وهكذا لو وقف على مسجد أو رباط أو نفر لأن المسجد والرباط قد يخربان ويبطلان والثغر قد يسلم أهله فصار منقطعًا حتى يقول فإن بطل فعلى الفقراء والمساكين. وأما إن وقفه على قراء القرآن لم يكن منقطعًا، لأنهم باقون ما بقى الإسلام، وقد تكفل الله تعالى بإظهاره على الدين كله، وهكذا لو وقفه على المجاهدين في سبيل الله كان وقفًا باقيًا إذا لم يكن على ثغر بعينه وإذا لم يجز بما وصفنا أن يكون الوقف مقدرًا ولا منقطعًا ففيه قولان إن فعل ذلك. أحدهما: باطل؛ دون حكم الوقف أن يكون مؤبدًا، والمنقطع غير مؤبد فلم يصر وقفًأ. والثاني: أن الوقف جائز، لأنه إذا كان الأصل موجودًا لم يحتج إلى ذكر من ينتقل إليه كالوصايا والهبات. فإذا قيل ببطلان الوقف كان ملك الواقف ولا يلزم في الأصل، ولا في غيره، وله التصرف فيه كسائر أملاكه. وإذا قيل: بجواز الوقف كان على الأصل الموجود ما كان باقيًا لا حق لواقفه فيه فإذا هلك الأصل وهو أن يموت الوقف فينقطع مسبله فلا يخلو حال الواقف في شرطه الواقفة من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يشترط تحريمها وتأبيدها. والثاني: أن يشترط رجوعها إليه. والثالث: أن يطلق، وإن شرط رجوعها إليه ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج وهو مذهب مالك أنهما ترجع إليه لما ذكرنا لهما من الآثار لموجب الشرط. والثاني: وهو الأصح، لأنها لا ترجع تغليبًا للحكم في الوقف على الشرط، وإن اشترط تأبيدها أو أطلق لم يرجع إليه لا يختلف، لأن تعيين الأصل قد أخرجه عن ملكه، وفي مصرفه ثلاثة أوجه: أحدها: يصرف في وجوه الخير والبر لأنها أعم. والثاني: في الفقراء والمساكين، لأنهم مقصود الصدقات.

والثالث: وهو مذهب الشافعي نص عليه في هذا الموضع وغيره أنه يرد على أقارب الواقف لكن أطلق المزني والربيع ذكر الأقارب ولم يفرق بين الفقراء والأغنياء، وروى حرملة أنه يرد على الفقراء من أقاربه، وكان بعض أصحابنا يخرج اختلاف الرواية على اختلاف قولين: أحدهما: يرد على الفقراء والأغنياء من أقاربه، وهو ظاهر ما رواه المزني والربيع. والثاني: يرجع على الفقراء منهم دون الأغنياء، وهو نص ما رواه حرملة، وقال جمهور أصحابنا: ليست الرواية مختلفة وإنما اختلاف المزني والربيع محمول على تقييد حرملة ويرد على الفقراء من أقاربه دون الأغنياء، لأنه مصرف الوقف المنقطع في ذوي الحاجة وإنما خص الأقارب صلة الرحم كالزكاة، وإذا تقرر ما وصفنا فلا يخلو حال الوقف من أربعة أقسام: أحدها: أن يكون على أصل موجود وفرع موجود. والثاني: أن يكون على أصل معدوم وفرع معدوم. والثالث: أن يكون على أصل موجود وفرع معدوم. والرابع: أن يكون على أصل معدوم وفرع موجود. فأما القسم الأول: وهو أن يكون على أصل موجود وفرع موجود فهو أن يقول: وقفت الدار على زيد فإذا مات فعلى الفقراء والمساكين، فهذا جائز، لأنه قد جعل زيدًا أصلًا وهو موجود، والفقراء والمساكين فرعًا وهو موجودون، وهكذا إذا قال: وقفتها على زيد وأولاده وأولاد أولاده ما تناسلوا ثم على الفقراء والمساكين وإن لم يكن أولاد زيد موجودين، لأنهم تبع لموجود ويتعقبهم فرع موجود، ومن هذا الوجه صار الوقف ملحقًا بالوصايا في فرعه. وأما القسم الثاني: وهو أن يكون أصل معدوم وفرع معدوم، فهو أن يقول: وقفتها على من يولد ثم على أولادهم وأولاد أولادهم ما تناسلوا، فهذا وقف باطل، لأن من يولد له معدوم، ومن هذا الوجه صار ملحقًا بالهبات ثم يكون ما وقفه على ملكه قولًا، واحد بخلاف ما وقفه وقفًا مرسلًا لما ذكرنا من الفرق بين الأمرين. وأما القسم الثالث: وهو أن يكون على أصل موجود وفرع معدوم فهو ما ذكرنا من المقدر والمنقطع وفيه ما وصفنا من القولين. وأما القسم الرابع: هو أن يكون على أصل معدوم وفرع موجود، فهو أن يقول: وقفتها على من يولد لي، ثم على أولادهم، فإذا انقرضوا فعلى الفقراء والمساكين، فقد اختلف أصحابنا فكان أبو علي بن أبي هريرة يخرجها على قولين كما لو كان على أصل موجود وفرع معدوم. أحدهما: باطل لعدم أصله. والثاني: جائز لوجود فرعه وكان أبو إسحاق المروزي يجعل الوقف باطلًا قولًا

واحداً، وهذا هو الصحيح، والفرق بين هذا وبين أن يكون على أصل موجود وفرع معدوم أن ما عدم أصله فليس له مصرف في الحال، وإنما ينتظر له مصرف في ثاني حال، فبطل وما وجد، فله مصرف في الحال، وأما ما يخاف عدم مصرفه في ثاني حال فلو قال: وقفتها على الفقراء والمساكين إلا أن يولد لي ولد فيكون الوقف له ولولده وأولادهم ما تناسلوا، وإذا انقرضوا فالفقراء والمساكين، وهذا وقف جائز، لأن الفقراء فيه أصل وفرع، وإنما جعل ما بين الأصل والفرع معدوما، فلم يمنع من صحة الوقف، كما لو وقفه على ولد له موجود ثم على أولاده الذين لم يولدوا بعد ثم على الفقراء والمساكين كان الوقف جائزاً فهذا حكم الشرط الثاني وما تفرع عليه. والشرط الثالث: أن يكون على جهة تصح ملكها أو التملك لها، لأن غلة الوقف مملوكة، ولا تصح إلا فيما يصح أن يكون شي، من ذلك مالكاً. قيل: هذا وقف على كافة المسلمين وإنما عين مصرفه في هذه الجهة فصار مملوكا مصروفاً في هذه الجهة من مصالحهم. فعلى هذا لو قال: وقفت داوي على دابة زيد لم يجز، لأن الدابة لا تملك ولا يصرف ذلك في نفقتها، لأن نفقتها تجب على المالك، وهكذا لو قال: وقفتها على دار عمرو لم يجز, لأن الدار لا تملك فلو وقفها على عمارة دار زيد، نظر فإن كانت دار زيد وقفا صح هذا الوقف، لأن الوقف طاعة وحفظ عمارته قربة، فصار كما لو وقفها على مسجد أو رباط أو كانت دار زيد ملكاً طلقاً، بطل هذا الوقف عليها, لأن الدار لا تملك وليس استيفاؤها واجباً إذ لزيد بيعها، وليس في حفظ عمارتها طاعة، ولو وقفها على عبد زيد، نظر فإن كان الوقف على نفقة العبد لم يجز، لأن نفقته على سيده وان كان الوقف ليكون العبد مالكاً لغلته فعلى قولين من اختلاف قوليه في العبد هل يملك إذا أم لا؟ ولو وقفها على المكاتبين أو على مكاتب بعينه كان الوقف جائزاً لأن سهام الزكوات أغلظ حكماً، وفيها سهم الرقاب، ولو وقفتها على مدبر كان كالعبد وكذلك أم الولد، ولكن لو وقفها على عبده أو مدبره أو مكاتبه أو أم ولده قبل موته لم يجز, لأنه كالوقف على نفسه فهذا حكم الشرط الثالث. فصل: والشرط الرابع: أن لا يكون على معصية فإن كان على معصية لم يجز, لأن الوقف طاعة تنافي المعصية فمن ذلك أن يقفها على الزناة أو السراق أو شراب الخمر أو المرتدين عن الإسلام فيكون الوقف في هذه الجهات باطلاً, لأنها معاصي يجب الكف عنها فلم يجز أن يعان عليها فلو وقفها على رجل بعينه فكان الرجل حين وقفها عليه مرتداً فعلى الوقف وجهان: أحدهما: باطل كما لو وقفها على من ارتد.

والثاني: جائز والفرق بين أن يقفها على مرتد فيجوز وبين أن يقفها على من ارتد فلا يجوز من وجهين: أحدهما: أن الوقف على من ارتد, وقف على الردة، والردة معصية، والوقف على رجل هو مرتد ليس بوقف على الردة فلم يكن وقفاً على معصية. والثاني: في الوقف على من ارتد إغراء بالدخول في الردة, وليس في الوقف على مرتد إغراء بالدخول في الردة، لأن غيره لو ارتد لم يكن له في الوقف حق، وفي المسألة الأولى لكل من دخل في الردة إن لو صح الوقف. فأما إذا وقفها على مسلم وارتا عن الإسلام فالوقف صحيح وأبطله أهل العراق، وهذا خطأ, لأن أملاك المسلمين لا يبطل بالردة فصار الوقف على المرتد ينقسم على هذه الأقسام الثلاثة: باطل: وهو أن ينفقه على من ارتد. وجائز: وهو أن ينفقه على مسلم. فيرتد. ومختلف فيه: وهو أن يقفه على رجل مرتد. فأما الوقف على اليهود والنصارى فجائز سواء كان الواقف مسلماً أو غير مسلم، لأن الصدقة عليهم بجائزة وان منعوا المفروض منها، فلو وقف على رجل ليحج عنه ولا يكون وقفا على نفسه، لأنه لا يملك شيئا من غلته، فلو ارتد عن الإسلام لم يجز أن يصرف الوقف والحج عنه لأن الحج عن المرتد لا يصح وصرف في الفقراء والمساكين، فإن عاد إلى الإسلام أعيد الوقف إلى الحج عنه, ولو وقفها في الجهاد عنه جاز, فلو ارتد الواقف عن الإسلام كان الوقف على حاله مصروفا في المجاهدين عنه، والفرق بين الحج والجهاد أن المرتد لا يصح منه الحج ويصح منه الجهاد، فأما الوقف على الكنائس والبيع فباطل سواء كان الواقف مسلماً أو ذمياً, لأنها موضوعة للاجتماع على معصية، ولوقف داراً ليسكنها فقراء اليهود ومساكينهم، فإن جعل للفقراء المسلمين ومساكينهم فيها حظاً جاز الوقف، وان جعلها مخصوصة بالفقراء اليهود ففي صحة وقفها وجهان: أحدهما: جائز كالوقف على فقرائهم. والثاني: لا يجوز لأنهم إذا انفردوا بسكناها صارت كبيعهم وكنائسهم, فأما الوقف على كتب التوراة والإنجيل فباطل، لأنها مبدلة, فصار وقف على معصية, وكان بعض أصحابنا يعلل بطلان الوقف عليها بأنها كتب قد نسخت وهذا تعليل فاسد لأن تلاوة النسوخ من كتب الله تعالى وآياته خطأ ليس بمعصية ألا ترى أن في القرآن منسوخاً يتلى ويكتب كغير المنسوخ، فهذا حكم الشرط الرابع وما يتف ع عليه. فصل: والشرط الخامس: أن لا يعود الوقف عليه ولا شيء منه، وان وقفه على نفسه لم

يجز، وقال أبو يوسف: يجوز وقف الرجل على نفسه وبه قال أبو عبد الله الزبيري هن أصحابنا. وقال مالك: إن شرط أول الوقف لنفسه جاز، وان شرط جميعه لنفسه لم يجز، وبه قال أبو العباس بن سريج، واستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال حين ضاق المسجد به، "من يشري هذه البقعة ويكون فيها كالمسلمين وله في الجنة خير منها" فاشتراها عثمان وقال في بئر روقة من يشتريها من ماله" واشتراها عثمان رضي الله عنه واشترط فيها رشا كرشا المسلمين بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الزبيري: كيف ذهب هذا على الشافعي واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب البدنة: "اركبها إذا ألجئت إليها حتى تجد ظهراً" فجعل له الانتفاع بما أخرجه من ماله الله تعالى ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية، وجعل عتقها صداقها فعاد إليه بعد أن أخرجه الله، ولأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقف داراً له فسكنها إلى أن مات، وأن الزبير بن العوام جعل رباعه صدقات موقوفات فسكن منزلاً منها حتى خرج إلى العراق, ولأنه لما استوي هو وغيره في الوقف العام جاز أن يستوي هو وغيره في الوقف الخاص. ودليلنا هو أن وقفه على نفسه لا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم حبس الأصل وسبل الثمرة وبتسبيل الثمرة يمنع أن تكون له فيها حق ولأن الوقف صدقة، ولا تصح صدقة الإنسان على نفسه، ولأن الوقف عقد يقتضي زوال الملك فصار كالبيع والهبة، فلما لم تصح مبايعة نفسه ولا الهبة بها لم يصح الوقف عليها، ولأن استثناء منافع الوقف لنفسه كاستثنائه في العتق بعض أحكام الرق لنفسه فلما لم يجز هذا في العتق لم يجز مثله في الوقف، ولأن الوقف يوجب إزالة ملك باستحداث غيره وهو إذا وقف على نفسه لم يدل بالوقف ملكاً ولا استحدث به ملكاً فلم يجز أن يصير وقفاً وأما الجواب عن استدلالهم بأن عثمان شرط في بئر رومة أن لا يكون دلوه كدلاء المسلمين، فهو أن الماد على أصل الإباحة لا يملك بالإجازة فلم يقف ما اشترطه لنفسه من البئر شيئاً ولو لم يذكر ذلك لكان دلوه فيها كدلاء المسلمين وإنما ذكر هذا الشرط ليعلمهم أنه لم يستأثر بها دونهم وأنه فيها كأحدهم. وأما الجواب عن قوله لصاحب البدنة: "اركبها إذا ألجت إليها حتى تجد ظهورا"، فمن وجهين: أحدهما: أنه ليس المقصود من البدنة منافعها فجاز أن يعود إليه والمقصود من الوقف منافعه فلم يجز أن يعود إليه.

والثاني: أنه لما جاز في البدنة أن يأكل منها من غير شرط جاز أن يعود إليه منافعها ولا يجوز في الوقف أن يعود إليه شيء منه يعتبر شرط، فكذلك لا يعود إليه بالشرط، وأما الجواب عن عتقه لصفية فهو أن العتق على عوض جائز والوقف على عوض غير جائز. وأما سكنى عمر والزبير رضي الله عنهما وما وقفاه فقد يجوز أن تكون سكناهما بعد استطابة نفوس أربابه، لأن نفس من وقف عليه لا يأتي إرفاق الوقف به، ولو منعه لامتنع أو يكون قد استأجر ذلك من واقفه. وأما الوقف العام فسنذكر من حكمه ما يكون جواباً عنه. فصل: وإذا تقرر أن وقف الإنسان على نفسه لا يجوز فلا يخلو حال الواقف على نفسه من أحد أمرين إما أن يكون عاما أو خاصا، وان كان خاصا فعلى قسمين: أحدهما: أن يقول: وقفته على نفسي ثم على الفقراء والمساكين، ولا يجوز أن يكون وقفاً لنفسه، وهل يبطل أن يكون وقفاً للفقراء والمساكين؟ فعلى قولين: أحدهما: أنه باطل, لأنه فرع لأصل باطل. والثاني: جائز, لأنهم ماروا فيه أصلا عند بطلان الأصل، فعلى هذا هل يستحقونه قبل موته أم لا؟ على وجهين: أحدهما: أنهم لا يستحقون إلا بعد موته اعتباراً بظاهر شرطه ويكون أحق بغلته منهم. والثاني: أنهم يستحقون الوقف في الحال وإلا صار وقفاً بعد مدة، ولأنه لو صارت الغلة إليه قبل موته لصار وقفاً على نفه ومعمولا فيه على شرطه. موان كان الوقف عاما فعلى ضربين: أحدهما: أن تكون منافعه مباحة كمرافق المسجد وماء البئر فهذا يكون فيه كغيره من المسلمين سواء شرط ذلك لنفسه أو لم يشترط استدلالاً بوقف عثمان رضي الله عنه ولقوله عليه الصلاة والسلام: "المسلمون شركاء في ثلاث". والثاني: أن تكون منافعه ليست على أصل الإباحة كثمار النخل والشجر فهذا على ضربين: أحدهما: أن يطلقه ولا يشترط لنفسه شيئا منه كرجل وقف نخلاً على الفقراء والمساكين وأبناء السبيل وصار من جملتهم، دخل فيه وجاز أن يأكل منها كأحدهم, لأنه من جملتهم بوصفه لا بعينه فلم يكن ذلك وقفاً عليه, لأنه على موصوفين لا على معنيين فيساوي من شاركه في حقه. والثاني: أن يشترط لنفسه أن يأكل منها غنياً أو فقيراً كان فيه وجهان: أحدهما: وهو قول ابن سريج والزبيري، أنه يجوز لأنه قد أخرجه عاماً فجاز أن يدخل في العموم بعينه كما يدخل فيه بوصفه.

والثاني: وهو مذهب الشافعي رحمه الله أنه لا يجوز أن يدخل فيه بعينه كما لم يجز أن يدخل في الخاص بعينه، فإذا قلنا: يجوز دخوله فيه على الوجه الأول ففيه وجهان: أحدهما: أنه حق قائم على التأبيد يخلقه فيه ورثته وورثة ورثته ما بقوا فإذا انقرضوا عاد حينئذٍ على جماعة الفقراء والمساكين. والثاني: أنه مقدر بمدة حياته فإذا مات عاد إلى الفقراء دون ورثته إلا أن يكونوا من جملة الفقراء وإذا قيل إنه يجوز دخوله فيهم بعينه فهل يكون ما جعله من ذلك لنفسه باقياً على ملكه أم داخلاً في عموم وقفه على وجهين: أحدهما: أنه باق على ملكه، لأن الوقف بطل فيه وصح فيما سواه. والثاني: أنه دخل في عموم وقفه, لأن الوقف بقي في الجمع وإنما بطل الاستثناء في الحكم. فصل: فلو وقف وقفاً على ولده ثم على ورثة ولده، ثم على الفقراء والمساكين فمات الولد وكان الأب الواقف أحد ورثته فهل يرجع عليه قدر ميراثه منه أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يرجع عليه وهو قول ابن سريج والزبيري. والثاني: لا يرجع ولا على الباقين من ورثته, لأن الورثة إنما يأخذون منه قدر مواريثهم ولا يأخذون ميراث غيرهم، ويرد على الفقراء ثم ينظر فيما جعله لورثة ولده من بعده فلا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يجعله لهم على قدر مواريثهم فيكون بينهم كذلك. والثاني: أن يجعله بينهم بالسوية فيكون كذلك يستوي فيه الذكر والأنثى والزوجة والولد. والثالث: أن يطلق فيكون بينهم بالسوية, لأن الأصل التساوي في العطايا فلم يشترط التفاضل، فلو وقف وقفاً على ورثة زيد، وكان زيد حيا فلا حق فيه لأحد منهم, لأن الحق لا يكون موروثا وإنما يسمى أهله ورثة على طريق المجاز دون الحقيقة وإذا كان كذلك صار وقفاً على أصل معدوم فيكون على ما مضى، ولو كان زيا ميتاً كان ذلك وقفاً صحيحاً على ورثته ثم يكون على الأحوال الثلاث في التساوي والتفضيل. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "وَهِيَ عَلَى مَا شَرَطَ مِنْ الأَثَرةِ وَالتَّقْدِمَةِ" قال في الحاوي: اعلم أن الوقف عملية يرجع فيها إلى شرط الواقف فإذا وقف أولاده وكانوا موجودين ثم على الفقراء صح الوقف إن كان في الصحة وبطل على أولاده

إن كان في مرض الموت لأنهم ورثة وفي بطلانه على الفقراء قولان، ثم إذا كان الواقف على أولاده في الصحة فأمضياه دخل فيهم الذكور والإناث والخناثى, لأنه كلهم أولاده, فإن فضل الذكور على الإناث أو فضل الإناث على الذكور حملوا على تفضيله وهكذا لو فضل الصغار على الكبار أو الكبار على الصغار, وان أطلق سوى بينهم ولا يفضل ذكر على أنثى ولا مغير على كبير ولا غني على فقير ولا شيء لأولاد أولاده إذا كان وقفه على أولاده، ويكون للفقراء والمساكين, وبه قال أهل العراق. وقال مالك إذا وقف على أولاده دخل فيه أولاد أولاده وان سفلوا, لأنهم من أولاده وبه قال بعض أصحابنا وخرجه أبو علي الطبري قولا للشافعي, لأن اسم الولد ينطلق عليهم وهذا خطأ؟ لأن الأحكام تتعلق بحقائق الأسماء دون مجازها وحقيقة اسم الولد ينطلق على ولد الصلب دون ولد الولد. الفصل: ولو وقف وقفاً على أولاده وأولاد أولاده, كان ذلك للبطن الأول من أولاد صلبه وللبطن الثاني وهم أولاد أولاده يشترك البطن الثاني والبطن الأول فيه إلا أن يقول ثم على أولادهم أو يقول بطنا بعد بطن، ولا يشترط البطن الثاني والبطن الأولى حتى إذا انقرض البطن الأول أخذ البطن الثاني حينئذ فإذا انقرض البطن الثاني فلا حق فيه للبطن الثالث، وينتقل إلى الفقراء والمساكينء وعلى قول مالك ومن تابعه من أصحابنا يكون لمن يأتي بعدهم من البطون ولا ينتقل إلى الفقراء إلا بعد انقراضهم، وان سفلوا فلو قال: على أولادي وأولاد أولادي وأولاد أولاد أولادي استحق ثلاثة أبطن من ولده ثم ينتقل بعد البطن الثالث إلى الفقراء والمساكين ثم يشارك كل بطن لمن بعده إلا أن يرتب فيكون على الترتيب، فلو قال: على أولادي وأولاد أولادي أبدأ ما بقوا وتناسلوا استحقه كل بطن يحدث من ولده، فإن وتب كان على ترتيبه، وان أطلق شارك البطن الأعلى البطن الأسفل ولا حق للفقراء فيه ما بقي أحد من ولده وان سفل فإذا انقرض جميعهم صار للفقراء والمساكين. فصل: وإذا كان الوقف على أولاده وأولاد أولاده دخل فيهم ولد البنين مع البنات. وقال مالك: لا يدخل فيهم أولاد البنين دون أولاد البنات, لأن أولاد البنات لا ينبون إليه فلم يكونوا من ولده واستشهد بقول الشاعر: بَنُونَا بَنُوا أَبْنَائِنَا وَبَنَاتَنَا بَنُوهنَّ أَبْنَاءُ الرَّجَالِ الأَبَاعِدِ

والدليل على أن أولاد بناته هم خير أولاد أولاده، هو أن البنات لما كن من أولاده كان أولادهن أولاد أولاده وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في الحسن إن ابني هذا سيد فسماه ابناً. فصل: فلو قال: وقفت هذه الدار على نسلي، أو قال على عقبي، أو على ذريتي، دخل فيهم أولاد البنين وأولاد البنات وان بعدوا، لأنهم من نسله وعقبه وذريته قال الله تعالى: {ومِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وسُلَيْمَانَ وأَيُّوبَ ويُوسُفَ ومُوسَى وهَارُونَ وكَذَلِكَ نَجْزِي المُحْسِنِينَ [84] وزَكَرِيَّا ويَحْيَى وعِيسَى} [الأنعام: (84) - 85] فجعل عيسي من ذريته وهو إنما نسب إليه بأم لا بأب، ولكن لو وقفها على مناسبة، لم يدخل فيهم أولاد بناتهم, لأنهم ينبون إلى آبائهم دون أمهاتهم لكن يدخل فيهم الذكور والإناث من أولاد البنين دون أولاد البنات, ولكن لو قال: على عصبتي لم يدخل فيهم إلا الذكور ومن أولاده وأولاد بنيه دون الإناث. فصل: ولو قال: وقفت هذه الدار على بني لم يشركهم بناته ولا الخناثى، ولو قال: على بناتي لم يشاركهم بنوه ولا الخناثى، ولو قال: على بني وبناتي، دخل فيه الفريقان وفي دخول الخناثى فيهم وجهان: أحدهما: لا يدخلون فيهم، لأنهم لا يدخلون في البنين ولا في البنات. والثاني: يدخلون فيهم، لأنهم لا يخلو من أن يكونوا من البنين أو من البنات، وان كانوا عندنا مشكلين فهم عند الله غير مشكلين. فصل: ولو قال: وقفتها على بني فلان، فإن أشار إلى رجل لا إلى قبيلة اختص ذلك بالذكور دون الإناث، ولو أثمار إلى قبيلة كقوله: على بني تميم ففي دخول البنات فيهم وجهان: أحدهما: يدخلون تغليباً لحكم القبيلة. والثاني: لا يدخلون تغليباً لحقيقة الاسم, ولو قال: على بنات فلان، لم يدخل فيهم الذكور سواء أواد رجلاً أو قبيلة، والفرق بينهما أنه حد يجمع بين الذكور والإناث باسم الذكور ولا يجمع بينهما باسم الإناث. فصل: ولو وقفها على أهل بيته نفيهم ثلاثة أوجه: أحدها: من ناسبه إلى الجد. والثاني: من اجتمع معه في رحم.

والثالث: كل من اتصل منه بنسب أو سبب قال النبي صلى الله عليه وسلم "سلمان منا أهل البيت" ولو وقفها على آله ففيهم وجهان: أحدهما: أنهم أهل بيته. والثاني: أنهم من دان باينه. فصل: ولو وقفها على أقرب الناس به فهم المولودون، يقام الأقرب منهم فالأقرب، يستوي فيه الذكور والإناث وأولاد الذكور وأولاد الإناث، ثم الوالدون، يستوي فيهم الآباء والأمهات ثم يستوي بعدهم الأجداد والجدات من قبل الآباء والأمهات، وفي تقديم الإخوة على الجد قولان: أحدهما: يقدمون. والثاني: يستوون ثم يقدم الإخوة على الأعمام، ويسوي بين الأخوال والأعمام، ويسوي بين ولد الأب وولد الأم وهل يفضل عليهما ولد الأب والأم على قولين. فصل: وإن وقفها على مواليه فإن ذكر مولى من أعلى فهي له دون من سفل، وان ذكر مولى من أسفل فهي له دون من علا، وان أطلق ففيه ثلاثة أوجه حكاهما أبو سعيد الإصطخري: أحدهما: يكون لمن علا وهو المعتق لأنه المنعم. والثاني: يكون لمن سفل وعلا لاشتراكهما في اسم المولى. والثالث: أن الوقف باطل لامتياز الفريقين واستواء الأمرين. فصل: ولو وقفها على عياله فهم من في نفقته وان كان فيهم والد وولد، ولو وقفها على حاشية فهم من في نفقة سوى الوالد والولد، ولو وقفها على حاشيته فهم المتصلون بخدمته. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "وَالتَّسْوِيَة بينة أَهْلِ الغِنَى وَالحَاجَةِ" قال في الحاوي: وهذا صحيح للواقف أن يشرك في وقفه بين الأغنياء والفقراء وله

أن يخص به الفقراء دون الأغنياء وله أن يخص به الأغنياء دون الفقراء, ولو قال وقنت داري على الفقراء من بني تميم دفع من عليها إلى كل من ادعى الفقر منهم فإن جهلت حاله ما لم يعلم غناء ولا يكلف البينة على فقره, لأن الأصل في الناس العدم, ولو وقفها على الأغنياء منهم لم يدفع إلى من ادعى الغنى منهم عند الجهل بحاله إلا ببينة يشهد له بالغنى لأنه يدعي حدوث ما لم يعلم. فصل: فلو وقفها على من استغنى منهم لم يستحقها إلا من كان فقيراً، ثم استغنى فأما من لم يزل غنياً فلا حق له فيها, لأن الاستغناء يقتضي حدوث الغنى، ولا يدفع إلى هن ادعى ذلك إلا ببينة ولو وقفها على من افتقر لم يستحقها إلا من كان غنياً ثم افتقر، ولا يل فع إلى من ادعى ذلك إلا ببينة لأنه يدعي فقراً بعد غنى. فصل: فلو وقفها على فقر أهله فكان منهم صبي فقير له أب غني أو امرأة فقيرة لها زوج غني أو رجل فقير له ابن غني, نكل هؤلاء من فقراء المستحقين لها, وكذلك لو كان فيهم من لا مال له وهو يشتغل بعمل يديه كان من فقراء الوقف, وان لم يكونوا من فقراء الزكاة, ألا ترى أنهم يكفرون بالصيام تكفيرهم الفقراء. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "وَمِنْ إِخْرَاجِ مَنْ أَخْرَجَ مِنْهَا بِصِفَةٍ وَردَّةُ إليَهْاَ بِصِفَة". قال في الحاوي: وهذا صحيح وهو على ضربين: أحدهما: أن يخرج من أخرج منها م يدخل من أدخله فيها بصفة فيشترطها وإذا وجدت دخلت فيها بوجود الصفة، وإذا عدمت خرج منها بعدم الصفة فهذا جائز وهو على شرطه فيه محمول كقوله: وقفتها على أغنياء بني تميم، فمن استغنى من الفقراء أدخل فيه بعد أن كان خارجاً منه ومن افتقر من الأغنياء خرج منها بعد أن كان داخلاً فيها. والثاني: أن يخرج من أخرج منها باختياره ويدخل من أدخل فيها باختياره كأنه قال قد وقفت داري هذه على من شئت على أن أدخل في الوقف من أشاء، وأخرج منه هن أشاء ففيه وجهان: أحدهما: جائز كما لو أدخله بصفة وأخرجه بصفة. والثاني: هو أصح؟ لأنه لا يجوز ويكون الوقف باطلاً, لأنه لا يكون على موصوف ولا معين فإذا قيل: لا يجوز كان الوقف باطلاً إلا أن يجعل أخره على الفقراء،

فيكون على القولين، وإذا قيل بجوازه صح إن كان قد سمى فيه عند عقد الوقف قوماً، ثم له يدخل من شاء ويخرج من شاء وإذا فعل ذلك مرة واحدة فهل له الزيادة عليها أم لا؟ على وجهين: أحدهما: ليس له؟ لأنه قد فعل ما شاء، وله شرطه وقد استقر. والثاني: له أن يفعل ذلك مراراً ما عاش وبقي لعموم الشرطء فإذا مات فقد تعين، محلى من فيه عند موته من أدخل فيه فقد استقر دخوله فلا يجوز أن يخرج منه ومن أخرج منه فقد استقر خروجه ولا يجوز أن يدخل فيه. فصل: ولو قال وقفتها على الأرامل فهم النساء اللاتي لا أزواج لهن, وفي اعتبار فقرهن ما ذكرناه في اليتامى إن خص أرامل قبيلة لم يراعى فقرهن، وان عم وأطلق ففيه وجهان، وهل يدخل فيهم الرجل الذين لا أزواج لهم؟ على وجهين: أحدهما: لا يدخلون, اعتبارا بالعرف في الاسم. والثاني: يدخلون اعتبارا بحقيقة اللفة، ومريح اللسان وأن الأرامل الذي لا زوج له من الرجال والنساء قال الشاعر: كُلُّ الأَرَامِل قَدْ قَضَّيَتَ حَاجَتَهَا فَمَنْ لحَاجَةِ هَذَا الأَرْمَلِ الذَكَر فصل: ومن وقفها على الغلمان فهم من لم يبلغ من الذكور, ولو وقفها على الجواري فهم من لم يبلغ من الإناث, ولو وقفها على الفتيان فهم من قد بلغ إلى ثلاثين سنة, وكذا لو وقفها على الشباب فهم كالفتيان ما بين البلوغ والثلاثين، ولو وقفها على الكهول فهم من له من بين الثلاثين والأربعين، وقد قيل: في تأويل قوله تعالى: [وكَهْلاً ومِنَ الصَّالِحِينَ] [آل عمران: (46)] أنه كان ابن ثلاثين سنة، ولو وقفها فهم من تجاوز اأربعين. فصل ولو وقفها على جيرانه فقد اختلف الناس في الجيران, فقال بعضهم: من ليس بينك وبينهم درب يعلق وقال آخرون: من ملى معك في مسجدك ودخل معك إلى حمامك، وقال آخرون: من كان بينك وبينه أربعون داراً، ومذهب الشافعي أنهم من نسبوا إلى سكنى محلتك، وسواء من كان منهم مالكاً أو مستأجراً ويسوى بين أغنيائهم وفقرائهم وجهاً واحداً ما لم يميز لأنه ليس من الشيوع تخصيص الجواز بالفقر.

فصل: ولو وقفها على قراء القرآن أعطى من قراءة كله، وإن لم يكن حافظًا ولا يعطر من قرأ بعضه إلا أن يقول: من قرأ قرآنا فيعطى منه من قرأ ولو بعض آية، وهو قدر ما يمنع من الجنب ولو وقفه على حفاظ القرآن لم يعط من نسيه بعد حفظه. فصل: ولو وقفها على العلماء فهم علماء الدين لأنهم في العرف العلماء على الإطلاق دون القراء وأصحاب الحديث، لأن العلم ما تصرف من معانيه لا ما كان محفوظ التلاوة. فصل: ولو وقفها في سبيل الله فهم الغزاة، ولو وقفها في سبيل الثواب فهم القرابات فقيرهم وغنيهم قال النبي صلى الله عليه وسلم: "صدقتك على ذي وحمك صدقة وصلة" ولو وقفها في سبيل الخير والبر فهم سهمان للصدقات وقيل يدخل فيهم الضيف والسائل والمعير وفي الحج. فصل: فلو وقفها على أنه إن احتاج إليها باعها أو رجع فيها أو أخذ غلتها فهو وقف باطل، وأجازه مالك استدلالا بقوله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم " فكان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقف وكتب هذا ما وقفه علي بن أبي طالب وقف عين أي ابتغاء ثواب الله وليدفع انه بها عن وجهه حر جهنم على أنه متى احتاج الحسن أو الحسين إلى بيعها باين أو نيابة فلهما بيع ما رأياه منها، فاحتاج الحسن إلى بيعها لدين ثم ذكر قوله: "ليدفع الله بها عن وجهه حر جهنم" فامتنع والدلالة على بطلان الوقف قوله صلى الله عليه وسلم: "حبس الأصل وسبل الثمرة" ولأن الشروط المنافية للعقود مبطلة لها إذا اقترنت بها كالشروط المبطلة كسائر العقود، ولأنه لم يؤيد الوقف ولا حرمه فلم يصح كالقدر إلى وقت بل هذا أفسد لأنه بموته أجهل، فأما علي رضي الله عنه إن صح ما ذكر فيه فمحمول على بيع ما رأياه من غلته لا من أصله وحكي ابن سريج في هذا الوقف وجها آخر أن الشرط باطل والوقف جائز وليس له بيعه أبدا. فصل: فإذا وقفها على زيد وعمرو على أن لزيد منها النصف، ولعمرو منها الثلث كانت بينهما على خمسة أسهم ويرجع السدس الفاضل عليهما بالرد فيكون لزيد ثلاثة أخماسها ولعمرو خمسيها ولو وقفها على أن لزيد نصفها ولعمرو ثلثها ولم يقل في أصل الوقف إنها عليهما كان لكل واحد منهما ما سمى له وكان السدس الفاضل إذا صح الوقف فيه للفقراء

والمساكين ولا يرجع عليهما، ولو وقفها على أن لزيد نصفها ولعمرو ثلثها قسمت بينهما على أربعة أسهم فيكون لزيد منها ثلاثة أسهم، ولعمرو سهم فلو وقفها على زيد ثم على عمرو ثم على بكر ثم على الفقراء والمساكين يقسم بينهم على شرطه فكانت لزيد فإذا مات فلعمرو فإذا مات فلبكر فإذا مات فللفقراء فإذا مات عمرو قبل زيد ثم مات زيد فلا حق فيهما لبكر وكانت للفقراء والمساكينء لأن بكرًا رتب بعد عمرو، وجعل لم ما كان لعمرو، وعمرو بموته قبل زيد لم يستحق فيه شيئًا فلم يجز أن يملك بكر عنه شيئًا. فصل: الولاية على الوقف مستحقة فإن شرطها الواقف في وقفها كانت لمن شرطها له سواء شرطها لنفسه أو لغيره وان أعقل اشتراطها ففيه ثلاثة أوجه ذكرناها من قبل. أحدها: أنها للواقف استصحابًا بما كان عليه من استحقاقها على ملكه واستشهادًا بولا، عتقه. والثاني: للموقف عليه إلحاقًا بملك المنافع وتغليبًا لحكم الأخص. والثالث: أنها للحاكم وله ردها إلى من شاء لعموم ولايته ولزوم نظره، فعلى هذا لو أن الواقف جعلها للأفضل والأفضل من بينه كانت لأفضلهم، فلو استقرت له فحدث فيهم من هو أفضل لم ينتقل وإنما يراعي الأفضل فيهم عند استحقاق الولاية إلا أن يتغير حال الفاضل فيصير مفضولًا فتنتقل الولاية إلى من هو أفضل منه، فلو جعلها للأفضل من ولده فهل يراعي ا~فضل من البنين والبنات أم يراعي الأفضل من البنين دون البنات؟ على وجهين: أحدهما: يراعي أفضل الغريقين، لأن كلهم ولد. والثاني: يراعي أفضل البنين دون البنات لأن الذكور أفضل من الإناث ولو جعلها لا بنين من أفاضل ولده فلم يكن فيهم من ينطلق عليه هذه الصفة إلا واحدا لم يقتصر على نظره وحده وضم الحاكم إليه أمينا من غيره ولده، لأن الواقف لم يرض بأمانة واحدة ولو لم يكن منهم مستحق لها اختار الحاكم أمينين يكونا والبين وهكذا لو كان منهم فاضلان فلم يقبلا الولاية اختار للولاية غيرهما فإن طلبا الولاية بعد ردها لهما فإن لم يكونا من أهل الوقف بطلت ولا يتهما بالرد ولم يعد إليهما بالطلب كالوصية، وان كانا من أهله فعلى وجهين من اختلافهم لو لم يكن في الولاية شرط هل يكون الموقف عليه بالولاية أحق. أحدهما: قد بطلت ولايتهما إذا قيل إنها مع عدم الشرط بغيرهما. والثاني: هما أحق بها إذا قيل لو لم يكن شرط أنها لهما. الفصل: فإذا اختلف أرباب الوقف في شرطه وتنازعوا في ترتيب أو تفاضل ولا بينة لبعضهم

على بعض اشتركوا جميعا فيه بالسوية من غير ترتيب ولا تفاضل وان طلب بعضهم أيمان بعض لزمت، فلو كان الواقف حيا كان قوله فيه مقبولا ولا يمين عليه، ولو مات وكان وارثه باقيًا كان قول وارثه فيه مقبولا، فلو لم يكن واقف ولا وارث، وكان والٍ عليه نظر في ولايته فإن كانت من قبل حاكم لم يرجع إلى قوله في شركاء الوقف، وان كان من قبل الواقف رجع إلى قوله في شروطه عند اختلاف أهله، فلو اختلف الوالي عليه والوارث فأيهما أحق بالرجوع إلى قوله على وجهين: أحدهما: الوارث لأنه يقوم مقام الواقف. والثاني: الوالي لأنه أخص بالنظر فلو جعل الواقف للوالي عليه جعلا وكان أكبر من أجرة مثله صح، وكان له ما سمى من أجل العلة والله أعلم. الفصل: قال الشافعي رحمه الله: "ومنها في الحياة الهبات والصدقات غير المحرمات وله إبطال ذلك ما لم يقبضها المتصدق عليه والموهوب له فإن قبضها أو من يقوم مقامه بأمره فهي له". قال في الحاوي: وقد مضى الكلام في الأوقاف وسنذكر أحكام الهبات وهي من العطايا الجائزة بدليل الكتاب والسنة والإجماع قال الله تعالى:} تَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى {[المائدة: 2] والهبة بر، وقال:} وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ {[البقر:177] الآية يعني به الهبة والصدقة وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أهدي إلي ذرع لقبلت ولو دعيت إلى كراع لأجبت" وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تهادوا تحابوا" عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إننا نقبل الهدية ونكافئ عليها" واجمع المسلمون إباحتها، وقيل: إن الهدية مشتقة من الهداية، لأنه اهتدى بها إلى الخير والتألف. فصل: وإذا تقرر إباحة الهبة بما ذكرنا فتكون بخمسة أشياء بموهوب وواهب وموهوب له وعقد وقبض. وأما الشيء الموهوب فهو كل شيء صح بيعه جازت هبته، وذلك ما اجتمعت عليه أربعة أوصاف أن يكون مملوكا وان كان غير مملوك وان كان غير مملوك غير وقف أو طلق لم يجز وأن يكون معلومًا عليه أربعة أوصاف أن يكون مملوكًا وان كان غير مملوكًا من

وقف أو طلق لم يجز وأن يكون معلومًا فإن كان مجهولًا لم يجز، وأن يكون حاضرًا، فإن كان غائبًا لم يجز لا يمنع من نقل ملكه مانع، فإن منع منه مانع كالمرهون وأم الولد لم يجز فهذا حكم الموهوب، ولا فرق بين المحوز والمشاع سوا، كان مما ينقسم ولا ينقسم. وقال أبو حنيفة: هبة المشرع الذي لا ينقسم جائزة والمشاع الذي ينقسم باطلة ودليلنا قوله تعالى:} فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا {[النساء: 4] ولأن كل ما جاز بيعه جازت هبته كالمحوز. الفصل: وأما الواهب فهو كل مالك جائز التصرف، فإن كان غير مالك كالغاصب لم يجز، وان كان مالكًا عنه جائز التصرف كالسفيه والمولى عليه لم يجز، وان كان محجورًا عليه بالفلس فعلى قولين. الفصل: وأما الموهوب له فهو من صح أن يحكم له بالملك أن يكون موهوبًا له من صغير وكبير ومجنون ورشيد فأما من لا يصح أن يحكم له بالملك كالحمل والبهيمة ولا يصح أن يكون موهوبًا له، فأما العبا ففي صحة كونه موهوبا قولان من اختلاف قوليه هل يملك إذا ملك أم لا؟ الفصل: وأما العقد نهو بدل من الواهب، وتبول من الموهوب له، أو من يقوم فيه من ولي ووكيل، فإذا قال الواهب قد وهبت فتمامه أن يقول: الموهوب على الغور: قد قبلت، فإذا لم يقبل لم يتم العقد، وقال الحسن البصري: القبول غير معتبر في عقد الهبة كالعتق، وهو قول شذ به عن الجماعة، وخاف به الكافة إلا أن يريد به الهدايا فللهدية ني القبول حكم يخاف تبول الهبات نحن نذكره من بعد. والدليل على أن عقد الهبة لا يتم إلا بالقبول أن النبي صلى الله عليه وسلم أهدى إليه النجاشي مسكًا فمات النجاشي قبل وصول المسك إليه نعاد المسك إليه نقسمه بين نسائه ولو صار المسك للنجاشي لما استحل ذلك ولأوصله إلى وارثه، ولأنه تمليك تام يتقل عن حي فافتقر إلى قبول كالبيع، وفارق العتق من حيث إذ المعتق لو ورد العتق لم يبطل والموهوب له لو ورد الهبة بطلت فلذلك ما افتقرت الهبة إلى قبول ولم يفتقر العتق إلى قبول، نعلى هذا لو قال: قد وهبت لك عبدي هذا إن شئت فقال: قد شئت، لم يكن قبولا حتى يقول: قد قبلت، فيصح العقد وان كان معلقًا بمشيته، لأنها إنما تكون هبة له إذ شاءها، ولو قال الموهوب له: قد قبلته إن شئت، لم يصح، لأن قبول الهبة إنما يكون إلى مشيئة القابل دون الباذل فلو ابتدأ الموهوب له فقال: هب لي عبدك إن شئت فقال:

قد شئت لم يكن ذلك بادلًا حتى يقول قد وهبت فلو قال: قد وهبت إن شئت لم يجز لأن بذل الهبة إنما يكون إلى مشيئة الواهب دون الموهوب له. الفصل: وأما القبض فهو من تمام الهبة لا تملك إلا به وهو قول أهل العراق. وقال مالك وداود: الهبة تتم بالعقد ويؤخذ الواهب جبرًا بالقبض استدلالًا بقوله تعالى:} أَوْفُوا بِالْعُقُودِ {[المائدة:1] وبما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه" قالوا: ولأنها عطية فوجب أن لا تفتقر إلى قبض كالوصية. ودليلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أهدى إلى النجاشي ثلاثين أوقية مسكًا قال لأم سلمة إن النجاشي قد مات وسيرد علي فأعطيك فلما رد عليه أعطى كل واحدة من نسائه أو قية ودفع باقية إلى أم سلمة فلولا أنه بالقبض يملك لما استجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتملكه ويتصرف فيه، وروى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن أباها نحلها جداد عشرين وسقًا من ماله فلما حضرته الوفاة جلس فتشهد وحمد الله وأثنى عليه ثم قال أما بعد فإن أحب الناس غنى بعدي لأنت وان أعز الناس فقرًا بعدي لأنت، واني قد نحلتك جداد عشرين وسقًا من مالي ووددت لو كنت حزينة وإنما هو اليوم مال الوارث وإنما هو أخواك وأختاك، قالت: هذا أخواي فمن أختاي؟ قال: ذو بطن ابنة خارجة فإني أظنها جارية قالت: لو كان ما بين كذا وكذا لرددته ذلك من قوله على أن الهبة لا تتم إلا بالقبض. وروي أن عمر رضي الله عنه قال: ما لي أراكم تنحلون لا نحل إلا ما أجازه المنحول، ولا مخالف لهما في الصحابة ولأنه عقد إرفاق يفتقر إلى القبول فوجب أن يفتقر إلى القبض كالقرص ولأنه عقد لا يلزم الوارث إلا بالقبض، فوجب أن لا يلزم الموروث إلا بالقبض كالرهن طردًا والبيع عكسًا. وأما الجواب عن قوله تعالى:} أَوْفُوا بِالْعُقُودِ {[المائدة:1] [فهو أن المراد به لازم العقود ولزوم الهبة ركوب بالقبض لا بالعقد وقوله صلى الله عليه وسلم: "العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه" محمول على ما بعد القبض. وأما قياسهم على الوصية فالمعنى في الوصية أنها لما لزمت الوارث لزمت الموروث، والهبة قبل القبض لما لم تلزم الوارث لم تلزم الموروث. الفصل: فإذا ثبت أن القبض شرط في لزوم الهبة فهو مختلف بحسب اختلاف المقبوضات

فكل ما كان قبضا في البيع كان قبضًا في الهبة إلا أن في البيع لو قبض ما دفع ثمنه بغير إذن بائعه صح في الهبة لو قبضها بغير إذن بائعه صح في الهبة لو قبضها بغير إذن الواهب لم تصح والفرق بينهما أن الرضي غير معتبر في قبض البيع فصح وان كان بغير إذنه والرضي معتبر في قبض البيع فصح وان كان بغير إذنه والرضي معتبر في قبض البيع فصح وان كان بغير إذنه والرضى معتبر في قبض الهبة فلم يصح إلا بإذنه فلو كان الشيء الموهوب في يد الموهوب له فلابد أن يمضي عليه بعد عقد الهبة زمان القبض، وهل يحتاج أن يأذن له فيه أم لا؟ قال الشافعي: تمت الهبة بالعقد ومضى زمان القبض ولم يفتقر إلى إذن بالقبض، وقال في الرهن إذا كان في يد المرتهن أنه لابد أن يأذن له في القبض فكان أكثر أصحابنا ينقلون جواب كل من المسألتين إلى الأخرى ويخرجونها محلى قولين: أحدهما: لا يحتاج فيهما إلى إذن بالقبض على ما نص عليه في الهبة، ويكون العقد فيهما إذنًا بقبضهما. والثاني: لا بد فيهما من الإذن بالقبض على ما نص عليه في الرهن، وقال بعض أصحابنا ليس ذلك على قولين بل الجواب على ظاهر في الموضعين يحتاج في الرهن إلى إذن بالقبض ولا يحتاج في الهبة إلى إذن بالقبض والفرق بينهما أن الهبة تزيل الملك فقوي أمرها فلم تحتج في الهبة إذن بالقبض والرهن أضعف منها لأنه لا يزيل الملك وافتقر إلى إذن بالقبض. الفصل: وليس من شرط القبض أن يكون على الفور بل إن كان على التراضي ولو بعد طويل الزمان جاز، فإذا قبض الهبة ففيما استقر به ملكها قولان: أحدهما: أن القبض هو الملك فعلى هذا لبى حدث من الشيء الموهوب نماء كثمرة نخل ونتاج وماشية فهو للواهب دون الموهوب. والثاني: أن القبض يدل على ما تقدم الملك بالعقد فعلى هذا يكون ما حدث من النماء ملكًا للموهوب له دون الواهب فإن كان الواهب قد استهلكه قبل تسليم الأصل لم يضمنه ويكون استهلاكه وجوعًا فيه أنه لو كان هبة ولو استهلكه وقد حدث بعد تسليم الأصل ضمنه. الفصل: فأما الهدايا فهي مخالفة للهبات في حكمها لأن في الهبة عقدًا بالقول يفتقر إلى بدل وقبول وليس في الهبة عقد يفتقر إلى بدل وقبول بل إذا دفعها المهدي إلى المهدى إليه، فقبلها منه بالرضى والعقد فقد ملكها، وهكذا لو أرسلها المهدي مع رسوله جاز للمهدي

إليه إذا وقع في نفسه صدق الرسول أن يقبلها فإذا أخذها من الرسول أو أذن لغلامه في أخذها من الرسول أو قال للرسول ضعها موضعها استقر ملك المهدي إليه الهبة فلو قال المرسل لم أنفذها هدية وكذب الرسول بل أنفذتها وديعة فالقول قوله مع يمينه وهي باقية على ملكه، والهدايا تختص بالمأكولات وما أشبهها والهبات فيما زاد عليها، والعرف في ذلك قوي شاهد وأظهر دليل، فإن كانت الهدية في طرف فإن كان الطرف مما لم تجريه العادة مثل قواصر التمر والفواكه وقوارير ماء الورد والأزهار إذا كانت سقفًا فهي مملوكة مع الهدية لأن العرف لم يجز باسترجاعها، وان كانت الظروف كانت الظروف كالطيافير المدهونة والفضار والزجاج المحكم وما شاكله مما جرى العرف باسترجاعه فهو غير مملوك مع الهدية وللمهدي بعد إرسال الهدية أن يسترجعها ما لم تصل إلى المهدي إليه فإن النبي صلى الله عليه وسلم رجعت إليه هديته إلى النجاشي قبل وصولها إليه فملكها. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ويقبض للطفل أبوه، نحل أبو بكر عائشة رضي الله عنهما جداد عشرين وسقا فلما مرض قال: وددت أنك كنت قبضته وهو اليوم مال الوارث. ومنها بعد الوفاة الواصيا وله إبطالها ما لم يمت". قال في الحاوي: وهذا صحيح تجوز الهبة لكل من صح منه الملك من طفل أو مجنون أو سفيه إلا أن السفيه يصح أن يقبل الهدية، والطفل والمجنون لا يصح منهما قبول الهدية، لأن لقول السفيه حكما وليس لقول الطفل والمجنون حكم وإذا كان هكذا فالقابل للطفل والمجنون وليهما من أب أو وصي أو أمين حاكم وهو القابض لهما بعد. القبول وأما السفيه فهو العائل ووليه هو القابض فإن قبضها السفيه تمت الهبة أيضا، ولو قبضها الطفل والمجنون لم تتم الهبة والفرق بينهما ظاهر فإن كان الواهب للطفل أبوه فهل يحتاج في عقد الهبة إلى لفظ بالبدل والقبول أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا يحتاج إليه بل ينوبه، لأنه يكون مخاطب نفسه. والثاني: لا يريد من عقد بالقبول فيبذل من نفسه لابنه بنفسه فيكون في البذل والإقباض نائبا عن نفسه وفي القبول والقبض نائبا عن ابنه فأما أمين الحاكم فلا يصح ذلك منه إلا أن يقبله منه قابل ويقبضه منه قابض، وكذلك وصي الأب وهما معا بخلاف الأب كما خالفاه في بيعه وشرائه. فصل: قال الشافعي رحمه الله: ومنها بعد الوفاة الوصايا وله إبطالها ما لم يثبت وهذا صحيح لأن الشافعي قسم العطايا ثلاثة أقسام في الحياة منها قسمان: الوقف والهبة،

باب العمرى والرقبى

وبعد الموت قسم وهو الوصايا وقد ذكرنا الوصايا وان أفرد لها كتابًا لاقتضى التسليم لها وهي مخالفة للهبات من أربعة أوجه وان جاز بيعها في سائر الأحكام. أحدهما: أن الهبة عطية ناجزة، والوصية عطية متراضية بعد الموت. والثاني: جواز الوصية بالمجهول وما لم يملك وبطلان الهبة بذلك. والثالث: جواز الوصية لمن ليس بمالك في الحال من خمل وقبطر وبطلان الهبة كذلك. والرابع: تمام الوصية بالقبول دون القبض وتمام الهبة بالقبض فهذه أربعة. وخامس مختلف فيه: وهو المكافأة لا تستحق في الوصية وفي استحقاقها في الهبة قولان نذكرهما من بعد إن شاء الله عز وجل. باب العمرى والرقبى مسالة: قال الشافعي رحمه الله: "أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن طاوس عن حجر المدري عن زيد بن ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جعل العمرى للوارث ومن حديث جابر رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تعمرو ولا ترقبوا فمن أعمر شيئًا أو أرقبه فهو سبيل الميراث".قال الشافعي رحمه الله: "وهو قول زيد بن ثابت وجابر بن عبد الله وابن عمر وسليمان بن يسار وعروة بن الزبير رضي الله عنهم وبه أقول. قال المزني رحمه الله: معنى قول الشافعي عندي في العمرى أن يقول الرجل قد جعلت داري هذه لك عمرك أو حياتك أو جعلتها لك عمري أو رقبى ويدفعها إليه فهي ملك للمعمر تورث عنه إن مات". قال في الحاوي: اعلم أن العمرى والرقبى عطيتان من عطايا الجاهلية ورد الشرع فيهما بأمر ونهي، اختلف الفقهاء لأجلهما وفي الذي أريد بهما، أما العمرى، فهو أن يقول: جعلت داري هذه لك عمرى أو يقول: قد جعلتها لك عمرك أو مدة حياتك، فيكون له مدة حياته وعمره فإذا مات رجعت إلى المعمر إن كان حيًا أو إلى وارثه إن كان ميتًا سميت عمرى لتملكه إياها مدة عمره وحياتهء وإذا مات رجعت إلى المعمر ومنه قوله تعالى:} هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا {[هود: 61] يعني أسكنكم فيها مدة أعماركم فصرتم عمارها. وأما الرقبى فهو أن يقول: قد جعلت داري هذه لك رقبى، يعني: إنك ترقبني وأرقبك وان مت قبل رجعت إلي وان مت قبلك فالدار لك، فسميت رقبى من مراقبة كل واحد منهما لصاحبه، وكان الناس في الجاهلية على ما وصفنا في العمرى والرقبى إلى أن

جاء ما رواه الشافعي بإسناده في أول الكتاب فاختلف الفقهاء في الرقبى والعمرى، فذهبه داود وأهل الظاهر، وطائفة من أصحاب الحديث إلى بطلانها استدلالًا بعموم النهي، وذهب الشافعي ومالك وأبو حنيفة وصاحباه: إلى جوازها على ما سنذكره استدلالًا برواية قتادة عن عطا، عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العمرى جائزة ". وروى الشافعي عن عبد الوهاب عن هشام عن يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة عن جابر عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العمرى لمن وهب" فأما قوله: "لا تعمروا ولا توقبوا" فقد اختلف أصحابنا إلى ماذا يوجه النهي على وجهين: أحدهما: أنه يوجه إلى الحكم، وهذا أظهر الوجهين فيه، لأنه قال: "فمن أعمر شيئًا أو أرقبه فهو سبيل الميراث". والثاني: أنه يوجه إلى اللفظ الجاهلي والحكم المنسوخ على ما سنشرحه من بعد. الفصل: فإذا صح في الجملة جواز العمرى فقد اختلفوا هل يتوجه التمليك فيها إلى الرقبة أم المنفعة؟ على ثلاث مذاهب: أحدهما: وهو مذهب الشافعي وأبي يوسف: التمليك فيها يتوجه إلى الرقبة كالهبات. والثاني: وهو قول مالك: أن التمليك فيها متوجه إلى المنفعة والرقبة. والثالث: وهو قول أبي حنيفة ومالك أن التمليك في العمرى يتوجه إلى الرقبة وفي العمرى متوجه إلى المنفعة. والدليل على أنه تمليك بهما معًا الرقبة ما رواه الشافعي عن مالك عن ابن شهاب عن أبي سلمة عن جابر أن وسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيما وجل أعمر عمرى له ولعقبه فإنه للذي يعطاها لا يرجع إلى الذي أعطاها" لأنه أعطى عطا، وقعت فيه المواريث، وما رواه الشافعي في صدر الباب عن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم "جعل العمرى للوارث" ولأن لفظ العمرى والرقبى في قولهم قد جعلت داري هذه لك عمري أو رقبى متوجه إلى الرقبى لوقوع الإشارة إليها، وتعلق الحكم بها فوجب أن يتوجه التمليك إليها.

فصل: فإذا صح ما ذكرنا أن العمرى والرقبى يملك بهما الرقبى فسنشرح المأهب فيها ونبدأ بالعمرى متهما وللمعمر في العمرى ثلاثة أحوال: أحدها: أن يقول: قد جعلتها لك عمرك. والثاني: أن يقول: قد جعلتها لك عمرى. والثالث: أن يقول: قد جعلتها لك عمري أنا. فأما الحال الأول وهو أن يقول: قد جعلتها لك عمرك أو حياتك فلا يخلو في ذلك من ثلاثة أقسام. أحدها: أن يقول: قد جعلتها لك عمرك ولعقبك من بعدك، أو لورثتك بعدك، فهذه عطية جائزة وتمليك صحيح قد ملكها المعمر ملكًا تامًا ثم صارت لورثته من بعده هبة ناجزة وملكًا صحيحًا وتمامها بعد عقد العمرى بالقبض الذي به تتم الهبات، وليس للمعطى بعد الإقباض الرجوع فيها وان كان قبله مخيرا. والثاني: أن يقول: قد جعلتها لك مدة عمرك على أنك إذا مت عادت إلى أن كنت حيًا أو إلى ورثتي إن كنت ميتًا، فهذه عطية وتمليك فاسدة لأن تمليك الأعيان لا يصح أن يتقدر بمدة ولا يجوز أن يجعل على التأبيد لما كان الشرط يقتضي أن يكون فاسدًا ثم هي على ملك المعطي سواء أقبض أو لم يقبض، وله استرجاعها وان تصرف فيها المعطي، أو لا يرجع عليه بأجرها مدة تصرفه فيها لأنه قد أباحه إياها. والثالث: أن يقول: قد جعلتها لك مدة عمرك ولا يشترط أن يرجع إليه يعد موته كما ذكرنا في القسم الثاني ولأن يكون له ولورثته كما ذكرنا في القسم الأول ففيه قولان: أحدهما: وهو قوله في القديم وواه الزعفراني عنه أنه عطية باطلة لتقديرها بمدة الحياة ولأن جابر روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل أعمر له ولعقبه" فإنها للذي يعطاها لا يرجع إلى الذي أعطاها، لأنه أعطى عطاء وقعت فيه المواريث فجعل صحيح العطية بأن يجعله له ولعقبه، فإذا لم يجعلها لعقبه لم يصح، ولأنه تمليك عين قدر بمدة فوجب أن يكون باطلًا كما لو قال: بعتك داري هذه عمرك، ولأنها محمري مقارة فوجب أن تكون باطلة كما لو قال: قد أعمرتكها سنة، ولأنه إذا جعلها له مدة عمره فقد يحتمل أن يريد الرجوع إليه بعد موته فيبطل، ويحتمل أن يريد أن يورث عنه فيصح، فلم يجز أن يحمل على الصحة مع الاحتمال الفاسد. والثاني: وهو الصحيح وبه قال في الجديد وأكثر القديم أنها عطية جائزة وتمليك صحيح يكون للمعطي في حياته ثم لورثته بعد وفاته بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تعمروا ولا ترقبوا فمن أعمر شيئًا أو أرقبه فهو سبيل الميراث" ولرواية زيا أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل العمرى للوارث، ولما روي أن رجلًا من الأنصار أعمر أمه عبدًا فلما توفيت نازعه الورثة فيه فقضى النبي صلى الله عليه وسلم به ميراثًا فقال الرجل يا رسول الله إنما جعلته لها عمرها فقال عليه السلام:

"فذلك أبعد لك" ولأن الأملاك المستقرة إنما يتقدر زمانها بحياة المالك، ثم تنتقل بعد موته إلى ورثة المالك فلم يكن ما جعله له من الملك مدة حياته منافياً لحكم الأملاك وإذا لم تنافيه اقتضى أن يصح وإذا صح اقتضى أن يكون موروثاً فأما البيع إذا قال: بعتكها مدة حياتك فهو باطل. والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: وهو فرق ابن سريج على هذا الشرط فسخاً منتظراً، والبيع إذا كان فيه منتظر بطل، والهبة، إذا كان فيها فسخ منتظر لم تبطل كهبة الأب، فذلك بطل البيع بهذا الشرط ولم يبطل العمرى بهذا الشرط. والثاني: وهو فرق أبي إسحاق المروزي أن شرط البيع تقابل جزاء من الثمن فإذا بطلت سقط ما قبلها منه فأقضى إلى جهالة الثمن فلذلك بطل البيع بهذا الشرط وليس في العمرى ثمن يقضي هذا الشرط إلى جهالته فلذلك صحت الشروط. فأما رواية جابر أنه أعمر عمري له ولعقبه مع باقي الروايات المطلقة التي هي على العموم إذ ليس تتنافى في ذلك فإذا قلنا بقوله في القديم أن التمليك للرقبة لا يصح فإن الميراث فيها لا يستحق فقد اختلف أصحابنا على هذا القول هل يملك المعمر المعطي الانتفاع بها مدة حياته أم لا؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه قد ملك الانتفاع بها مدة حياته وهذا مذهب مالك. والثاني: وهو الصحيح أنه لا يملك الانتفاع بها، لأن التمليك متوجه إلى الرقبة بما ذكرناه وإذا بطل لم يجز أن ينتقل إلى ملك المنفعة كالبيع الفاسد، فعلى هذا الوجه لو تصدق فيها المعطي وانتفع لم يكن عليه أجره، لأنها مباحة له لأن كل ما لا يضمن بالعقد الصحيح لا يضمن بالعقد الفاسد، ولكن لو تلفت في يده كان تلفها من غير فعلي لم يضمن لما ذكرنا وإن كان تلفها بفعله ضمنها؛ لأنه عدوان، وهو غير مالك لها، فهذا حكم قوله "قد جعلتها لك مدة عمرك "وإن قلنا بقوله في الجديد أن العطية صحيحة وأن العمري موروثة فلا رجعة للمعمر المعطي فيها بعد القبض. فصل: فأما الحالة الثانية: وهو أن يقول: قد جعلتها لك عمري إشارة إلى عقد العمري من غير أن يقدر ذلك بعمر أحد، ففيها قولان: أحدهما: وهو قوله في القديم أنها باطلة، للنهي عنها ولا يملك بها المعمر المعطي المنفعة مدة حياته كما لا يملك لرقبته وجهاً واحداً لأننا قد دللنا التمليك بالعمري

باب عطية الرجل ولده

متوجه إلى الرقبة فإذا بطل لم يملك بها المقصود بها غير أنه لم يضمن الأجرة إن سكن أو تصرف فلو كانت العمري نخلاً فأثمرت لم يملك الثمرة ,ولو كانت شاة فنتجت لم يملك الولد, فإن تلفت الثمرة في يده وملك الولد, فإن كان بغير فعله لم يضمن, وإن كانت بفعله ضمن. والثاني: وهو قوله في الجديد أنها جائزة, وهي ملك له في حياته ثم لورثته بعد وفاته لرواية أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أعمر عمري فهي له ولعقبه يرثها من يرثه من عقبه". فصل: وأما الحالة الثالثة وهو أن يقول: قد جعلتها لك مدة عمري أو جعلتها عمر زيد والحكم فيها واحد والمذهب أنها عطية باطلة؛ لأنه لا يملكه إياها عمره فيورث عنه ولا جعلها عمري فيستعمل فيها الخبر، وإنما قدر ذلك بعمر نفسه أو عمر أجنبي فاقتضى لما هي عليه من خلاف الأصل خروجها من حكم النفي أن تبطل وهكذا لو قال: قد أعمرتكها سنة أو شهراً كانت كذلك في البطلان، وكان بعض أصحابنا يغلب فيها حكم العمري، ويخرجها على قولين وهو خطأ لما بيناه. فصل: وأما الرقبي فعلى ضربين: أحدهما: أن يشترط ارتقاب كل واحد منهما أصاحبه فيقول: قد جعلتها لك رقبي ترقبني وأرقبك فإن مت قبلي رجعت إليِّ وإن مت قبلك فهي لك، فهذه عطية باطلة، لما في هذا الشرط من منافاة الملك. والثاني: أن يشترط ذلك بل يقول: قد جعلتها لك رقبي فعلى قولين: أحدهما: وهو قوله في القديم أن ذلك باطل لا يحصل به التمليك اعتباراً بمقصود اللفظ. والثاني: وهو الجديد أنها عطية جائزة يملكها المعطي أبداً ما كان حياً ويورث عنه إن مات سواء كان المعطي حياً أو ميتاً استدلالاً بقوله [صلى الله عليه وسلم] [فمن أعمر شيئاً أو أرقبه فهو سبيل الميراث]. باب عطية الرجل ولده قال الشافعي رحمه الله: [أخبرنا مالك عن الزهري عن حميد بن عبد الرحمن وعن محمد بن النعمان بن بشير يحدثنانه عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن أباه أتى

به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني نحلت ابني هذا غلاماً كان لي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم [أكل ولدك نحلت مثل هذا]؟ قال لا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أليس يسرك أن يكونوا في البر إليك سواء؟] فقال بلى، قال: [فأرجعه] قال الشافعي رحمه الله: [وبه نأخذ وفيه دلالة على أمور منها حسن الأدب في أن لا يفضل فيعرض في قلب المفضول شيء يمنعه من بره فإن القرابة بنفس بعضهم بعضاً ما لا بنفس العدى ومنها إعطائه بعضهم جائز ولولا ذلك لما قال صلى الله عليه وسلم: [فأرجعه] ومنها للوالد أن يرجع فيما أعطى ولده وقد فضل أبو بكر رضي اللع عنه عائشة رضي الله عنها بنخل وفضل عمر رضي الله عنهما بشيء أعطاه إياه وفضل عبد الرحمن بن عوف ولد أم كلثوم]. قال في الحاوي: وهذا كما قال أفضل الهبات صلة ذوي الأرحام لقوله صلى الله عليه وسلم: [خير الصدقة على ذي الأرحام الكاشح] فإذا هب لولده فيختار التسوية في الهبة ولا يفضل ذكراً على أنثى، وبه قال مالك وأبو حنيفة وهو مذهب شريح ومحمد بن الحسن وأحمد وإسحاق إلى أن الأفضل أن يعطي الذكر مثل حظ الأنثيين استدلالاً بقسمته لأحدهم سهم في المواريث. ودليلنا ما رواه عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [سووا بين أولادكم في العطية ولو كنت مفضلاً لفضلت البنات] وهذا يمنع من حملهم على المواريث وإن كان فيها يسوي بين الذكور والإناث كالإخوة من الأم وكالأبوين مع الابن والله أعلم. مسألة: فإن لم يسو بينهم وخص بالهبة بعضهم كانت الهبة جائزة وإن أساء، وبه قال مالك، وأبو حنيفة. وقال طاووس وأحمد وإسحاق وداود: الهبة باطلة استدلالاً بقوله صلى الله عليه وسلم لبشير [كل ولدك نحلت مثله]؟ قال: لا قال: [فأرجعه] وروي أنه قال: [فأشهد غيري على التبرؤ من فعله] ودل قوله هذا جور على ذمة فعله، قالوا: لأن تفضيل بعضهم على بعض يؤدي إلى عقوق، والعقوق حرام. ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم [فأرجعه] فلولا يقود الهبة لما أمره بالاسترجاع ثم قوله [أشهد غيري] دليل على عدم الجواز لأن ما لا يجوز لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يشهد فيه لا يجوز لغيره أن يشهد فيه، وإنما أمره بإشهاد غيره استئنافاً، وهذا جواب ودليل قوله هذا جواب أي ميل يقال فجاز السهم إذا مال عن الرمية فقال ذلك لأنه مال إلى الموهوب له وقد روي أن أبا بكر رضي الله عنه خص عائشة رضي الله عنها بنحل عشرين وسقاً من تمر وقال وددت أنك قد قبضته وهو اليوم من مال الوارث وفضل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عاصماً بنخل وخص عبد الرحمن بن عوف ولد أم كلثوم ولأنه لما جاز أن يجمع جمعيهم جاز أن

يعطي جميعهم جاز أن يفعل ذلك بجمعيهم كالأجانب، ولأنه لما جازت هبة بعض الأولاد للأب جازت هبة الأب لبعض الأولاد. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: [ولو اتصل حديث طاووس: لا يحل لواهب أن يرجع فيما وهب ألا والد فيما يهب لولده] لقلت به ولم أرد واهباً غيره وهب. قال في الحاوي: وهذا صحيح والحديث متصل، وليس لواهب أقبض ما وهب أن يرجع فيه إلا أن يكون والداً فيجوز له الرجوع، فأما من سواه فلا رجوع له سواء كان أجنبياً أو ذا رحم، وقال أبو حنيفة: رحمه الله: إن وهب لذي رحم محرم لم يجز أن يرجع في هبته له وإن وهب لذي غير رحم جاز الرجوع، فأما أبو حنيفة فالكلام معه في فصلين: أحدهما: جواز رجوع الأب في هبته وأبو حنيفة يمنع منه. والثاني: منع الأجنبي من الرجوع في هبته، وأبو حنيفة فأما الفصل الأول وهو جواز رجوع الأب في هبته فاستدل أبو حنيفة على المنع من رجوعه بقوله صلى الله عليه وسلم [لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه] فكان عموم هذا يمنع رجوعه فيما ملك الابن عنه، وبراوية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [العائد في هبته كالكلب يقيئ ثم يعود فيه] وبما روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: من وهب لذي رحم لم يرجع ومن وهب لغير ذي رحم رجع ما لم يبيت. قال: لأن الهبة لذي الرحم صدقة، لأن المقصود بها ثواب الله تعالى دون المكافأة فلما لم يجز أن يرجع في الصدقة لم يجز أن يرجع في الهبة لذي الرحم، ولأن في الرجوع في الهبة عقوقاً وعقوق ذي الرحم حرام، ولأنه لو وهب بشرط الثواب فأثيب لم يرجع وهذا قد أثيب من قبل الله تعالى في هبة الرحم فلم يجز أن يرجع. ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم لبشير في هبته للنعمان من بين ولده [فأرجعه] فلولا أن رجوعه جائز لما أمر به ولكان الأولى لو فعله أن يمنعه منه، وروى عمرو بن سعيد عن طاووس عن ابن عمر وابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [لا يجوز لرجل أن يعطي عطيه أو أن يهب هبة فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي ولده، ومثل الذي يعطي العطية ويرجع فيها كمثل الكلب يأكل فإذا شبع قاء ثم عاد في قيئته] وهذا نص لم يكن متصلاً عند الشافعي وقد ثبت

اتصاله وبهذا يخص ما استدل به من عموم الخبر الأول، ويعمم ما اقتصر عليه من بقية الخبر الثاني، وقال صلى الله عليه وسلم [أولادكم من كسبكم فكلوا من طيب كسبكم] فيميز الولد من غيره جعله كسباً لوالده فكان ما كسبه الوالد منه أولى أن يكون من كسبه، وقد يتحرر من هذا الاعتلال قياس فيقال: لأنه وهب كسبه لكسب غير معتاض عنه فجاز له الرجوع فيه كما لو وهب لعبد، ولأن ما للولد في يد والده لجوز تصدقه فيه إذا كان صغيراً وأخذ النفقة منه إذا كان كبيراُ فصارت هبة له وإن خرجت عن يده في حكم ما وهبه وهو باق في يده، فإذا جاز أن يرجع فيما وهبه لغيره إذا لم يقبضه لبقائه في يده جاز أن يرجع فيما وهبه لولده وإن أقبضه، لأنه في حكم الباقي في يده، وتحرير هذا الاستدلال قياساً أنها هبة يجوز تصدقه فيها فجاز له الرجوع فيها قياساً على ما لم يقبض، ولأن الأب لفضل حنوه تباين أحكامه أحكام غيره فلا يعاديه ولا تقبل شهادته له، ويجوز أن يتصرف في يديه بالتزويج وفي ماله بالعقود لفضل الحنو وانتفاء التهم فجاز أن يخالف غيره في جواز الرجوع في الهبة؛ لأن انتفاء التهمة تدل على أن رجوعه فيها لشدة الحاجة منه إليها، ولأننا وأبا حنيفة قد أجمعنا على الفرق في الهبة بين الأجنبي وذي الرحم فلأن يكون الرجوع فيها مع الرحم المباغض دون الأجنبي أولى منه أن يكون مع الأجنبي دون ذي الرحم لثلاثة أمور: أحدهما: النص المعاضد. والثاني: البغيضة الممازجة. والثالث: التمييز بالأحكام المخصوصة، وفي هذه المعاني جواب، وجوابهم عن الاستدلال بالثواب فهو أنه إذا أثبت بالمال، فقد وصل إليه البدل فلم يجز أن يكون جامعاً بينه وبين المبدل فخالف من لم يصل إليه البدل على أن ثواب الله تعالى إنما يستحقه في الهبة غير الراجع فيها من الآباء. فصل: وأما الفصل الثاني في أن الأب لا يجوز أن يرجع في هبته، وأجاز أبو حنيفة للأجنبي أن يرجع فيها، استدلالاُ بحديث عمرو. ودليلنا مع ما قدمناه من حديث طاووس أن كل من وجب له القصاص على واهبه لم يملك واهبه الرجوع عليه في هبته كالأخ طرداً والوالد عكساً، ولأن انتفاء القرابة تمنع من الرجوع في الهبة المقبوضة كالزوجين، ولأنها هبة لا يجوز فيها بغير حكم حاكم فلم يجز الرجوع فيها بحكم حاكم كالهبة على الثواب. فصل: وإذا ثبت أن ليس الوالد أن يرجع فيما وهب لولده فلا فرق بين الأب والأم

والجد والجدة، ومنع مالك الأم والجد أن يرجعا في هبتهما تعلقا بحقيقة الأم في الولد فهذا ليس بصحيح، لأن كل منهم والد فيه بعضيه، فأما فأما الولد فلا يجوز له الرجوع في هبته للوالد لما بينهما من الفرق وفضل الحنو وحق الولاية وجواز التصرف، فإذا صح أن كل واحد منهما والد ووالده أو ووالدة أو جد وجدة وهب فله الرجوع في هبته سواء قال الأب: قصدت بالهبة برة فعتق ولم يبر، أو قال لم أقصد ذلك، وقال ابن سريج: إنما يرجع الأب في هبته إذا قال قصدت بها بره وظهور إكرامه ولم يبر ولم يكرم، ولا يجوز أن يرجع إن لم يقل ذلك ويدعيه، وهذا خطأ من وجهين: أحدهما: عموم الخبر. والثاني: أن ما جاز به الرجوع فهذا المعنى غير مؤثر فيه كما أن ما لا يجوز به الرجوع فهذا غير مؤثر فيه. فصل: فأما إذا تصدق الأب على ولده فقد اختلف أصحابنا هل يجوز له الرجوع فيها أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يجوز تغليبا لحكم الهبات. والثاني: لا يجوز اعتبارا بحكم الصدقات، ولا فرق بين أن يكون الولد ذكرا أو أنثى صغيرا أو كبيرا، عاقلا أو مجنونا، مسلما أو كافرا. فصل: ولو تداعا رجلان طفلا وقال كل واحد منهما هو ابني ثم وهب له هبة لم يكن لواحد منهما الرجوع في هبته، لأنه لا يحكم لواحد منهما بأبوته، فإن انتفى عن أحدهما ولحق بالآخر فهل لمن لحق به الرجوع فيما تقدم من هبته أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يرجع، لثبوت أبوته. والثاني: لا يرجع، لأنه حين وهب كان ممن لا يرجع. فصل: وإذا وهب الأب لأولاده ثم أراد أن يرجع في نفسه لبعضهم جاز وفي كراهيته وجهان: أحدهما: يكره له استرجاع الهبة من بعضهم حتى يسترجعها من جميعهم كما يكره له الهبة لبعضهم حتى يهب لجميعهم. والثاني: لا يكره لأن الخبر في التسوية في العطاء لا في المنع. فصل: وإذا وهب لأبنه هبة فباعها أو استهلكها فليس للأب الرجوع ببدلها وإنما

يرجع لو كانت باقية في يده، وهكذا لو رهنها الابن لم يكن للأب الرجوع بها كما كانت رهنا، فإن أفتكها الابن جاز للأب الرجوع بها، ولو باعها الابن ثم ابتاعها أو ورثها فهل للأب الرجوع فيها أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يرجع بها، لبقائها في يده. والثاني: لا يرجع بها، لخروجها عن ملك الابن. فصل: فلو كانت باقية في يد الابن ثم حكم الحاكم بفلسه ففي جواز رجوع الأب بها وجهان: أحدهما: يرجع بها، لبقائها في يده. والثانية: لا يرجع بها، لتعلق حق الغرماء بها. فصل: ولو وهب الأب لابنه هبة ثم وهبها الابن جاز للابن أن يرجع بها على ابنه وهل للأب الرجوع بها على ابن ابنه أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يرجع بها، لأنه ابن ابنه الذي يجوز له الرجوع عليه بهبته. والثاني: لا يرجع بها، لأنه غير الواهب له، فعلى هذا لو استرجعها الابن من ابنه ففي رجوع الأب بها وجهان. فصل: ولو وهب لابنه جارية فأعتقها الابن، أو دارا فوقفها لم يكن للأب الرجوع بها ولا بقيمتها، لأنه في حكم المستهلكة، وهكذا لو وطاء الابن الجارية، فأجلها لم يكن للأب الرجوع بها ولا بقيمتها، لأن من ملك أم الولد لا يجوز أن انتقل إلى مالك آخر ولكن لو لم يحبلها جاز للأب الرجوع بها ثم وطئها حرام عليه، لأنها صارت من حلائل أبنائه، وليس للأب مطالبته بأرش التحريم وهكذا لو كانت الأمة بكرا فافتضها الابن لم يكن له مطالبه بأرش البكارة، فلو جنى عليها في يد الابن جناية أحذ أرشها ثم رجع الأب بها لم يرجع بأرش الجناية على ابنه، لأنه بدل مما فات رجوع الأب به فصار أرش جنايتها كثمنها لو باعها، فلو كان الابن كاتبها لم يكن للأب الرجوع بها إلا أن تكون الكتابة فاسدة فيرجع بها، فإن عجزت عن الكتابة الصحيحة رجوع الأب بها وجها واحدا بخلاف ما لو باعها، لأن البيع يزيل الملك، والكتابة توقف الملك ولا تزيله، فلو دبرها الابن أو اعتقها بصفة لو بات جاز للأب الرجوع بها لبقائها على ملكه، ولم ينقل ملكها إلى غيره فلو كان الابن قد زوجها رجع الأب بها والنكاح على حاله، وكذلك لو أجرها الابن للأب جاز للأب الرجوع بها والإجارة بحالها إلى انقضاء مدتها والمهر معا للابن دون الأب.

فصل: ولو كانت الهبة شاة فنتجت ثم رجع الأب بها كان النتاج للابن دون الأب، فلو كانت الشاة عند الهبة حاملا ثم ولدت في يد الابن ثم رجع الأب بالشاة ففي ولدها قولان من اختلاف قوليه في الحمل، فلو كانت الشاة حائلا ثم رجع الأب بها حاملا ففي ولدها إذا وضعته أيضا قولان، ولو كانت الهبة نخلا فأثمرت في يد الابن ثم رجع الأب بالنخل فإن كانت الثمرة مؤبرة عند رجوع الأب فهي للابن، وإن كانت غير مؤبرة ففيها قولان: أحدهما: للابن أيضا، مما يتميز. والثاني: للأب، لأن ما يؤبر من النخل لأصله كالبيع. فصل: ولا يصح رجوع الأب في هبته إلا بالقول الصريح، سواء كان الابن صغيرا أو كبيرا بخلاف هبته لابنه الصغير حيث جوزناها بالنية في أحد الوجهين، لأنه استرجاع ملك فكان أغلط ثم لا يصح أن يكون الرجوع معلقا بصفة حتى لو قال إذا دخلت دار فقد رجعت في هبتي لابني لم يجز، وهل يجوز ذلك في رجوعه في الوصية؟ على وجهين: أحدهما: لا يجوز كالهبة. والثاني: يجوز، لأنه لما جازت الوصية بالصفة جاز الرجوع فيها بالصفة. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: [لمن يستثيب من مثله أو لا يستثيب]. قال في الحاوي: اعلم أن الهبة نوعان نوع لا يقتضي المكافأة ونوع يقتضيها، فأما ما لا يقتضي المكافأة فمن ثمانية أوجه. أحدهما: هبة الإنسان لمن دونه; لأنه المقصود بها التفضل. والثاني: هبة الغني للفقير ; لأن المقصود بهذا النفع. والثالث: هبة البالغ العاقل للصبي أو المجنون، لأنها ممن لا يصح الاعتياض منها. والرابع: الهبة للأهل والأقارب; لأن المقصود منها صلة الرحم. والخامس: الهبة للمنافر المعادي؛ لأن المقصود منها التآلف. والسادس: الهبة للعلماء والزهاد؛ لأن المقصود بها القربة والتبدر. والسابع: الهبة للأصدقاء والإخوان؛ لأن المقصود بها تأكيد المودة.

والثامن: الهبة بمن أعان بجاه أو بمال؛ لأن المقصود بها المكافأة، فهذا النوع من الهبة على هذه الأوجه الثمانية لا يستحق عليها المكافأة، وإذا أقبضها الموهوب له بعد القبول فقد ملكها مستقرا كالذي يملك بابتياع أو ميراث. فصل: وأما ما يقتضي المكافأة فهو ما سوى هذه الوجوه مما يظهر أن المقصود بها طلب المكافأة عليها ففي وجوب المكافأة قولان: أحدها: وهو قوله في القديم، وبه قال مالك: أن المكافأة عليها واجبة، لقوله صلى الله عليه وسلم لسلمان: " إنا نقبل الهدية ونكافئ عليها" ولرواية أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابيا أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ناقة مكافأة فلم يرضى فكافأه فلم يرضى فلم يزل يكافئه حتى رضي ثم قال: " هممت أن لا تهب إلا من قرشي أو أنصاري أو ثقتي" وإنما خص هذا، لأنهم مشهورون بسماحة النفوس وقلة الطمع فلولا وجوب المكافأة لما صبر على طمع الأعرابي وآذاه؛ لأن العرف الجاري في الناس المكافأة بها يجعله كالشرط فيها ويكون قبول الهبة رضي بالتزامها. والثاني: وبه قال في الجديد، وهو مذهب أبي حنيفة أن المكافأة عليها غير واجبة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" ولأن ما صح تملكه من غير ذكر بدل لم يستحق فيه البدل كالوصية والصدقة، ولأن العقود لا يختلف استحقاق البدل فيها باختلاف العاقدين لها اعتبارا بسائر العقود من البيع والإجارة في استحقاقه، والوصية والعارية في إسقاطه. فصل: فإذا تقرر بوصية القولين فإن قلنا بأن الثواب لا يجب فإن المكافأة لا تستحق فأثاب الموهوب له وكافأ فهي هبة مبتدأة لا يتعلق حكم واحدة من الهبتين بالأخرى، فلو استحقت إحداهما أو ظهر بها عيب فالأخرى على حالها لا يجوز أن تسترجع، فإن شرط على هذا القول في نفسه ثوابا ومكافأة فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون الثواب الذي شرط مجهولا فالهبة باطلة، لاشتراط ما ينافيها. والضرب الثاني: أن يكون معلوما ففيها قولان: أحداهما: باطلة، لما ذكرنا من التعليل. والثاني: جائزة، لأنها معاوضة على بدل معلوم كالبيع، فإن كان بلفظ الهبة فإذا قلنا ببطلان الهبة عند اشتراط الثواب معلوما كان أو مجهولا فالموهوب له ضامن بها

بالقبض، لأنها مقبوضة على وجه المعاوضة، وعليه ردها لفساد العقد، فلو تلفت في يده كان ضامنا لها كالمقبوض من بيع فاسد بأكثر ما كان قيمته من وقت القبض إلى وقت التلف على أصح المذهبين في ضمان البيع الفاسد، ولو نقصت مع بقاء عينها ضمن قدر نقصها، فإذا قلنا بصحة الهبة عند اشتراط الثواب المعلوم فهي كالبيع المحض يستحق فيه خيار المجلس بالعقد وخيار الثلث بالشرط، ويجوز اشتراط الرهن والضمين فيه، وإن استحقت الهبة وجب رد الثواب، وإن استحق الثواب وجب رد الهبة وإن كان الثواب معينا أو غرم مثله مع بقاء الهبة إن كان الثواب موصوفا، وإن ظهر في الهبة عيب كان الموهوب به بالخيار بين المقام والفسخ. فصل: وإن قلنا إن الثواب واجب والمكافأة مستحقة فلا يخلو أن يشترط الثواب أولا بشرطه، فإن لم يشترطه لزمه بالعقد، وفيه ثلاث أقاويل: أحدهما: أن عليه أن يثيب ويكافئ حتى يرضى الواهب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل يكافئ الأعرابي حتى رضي. والثاني: عليه أن يكافئ بما يكون في العرف ثوابا لمثل تلك الهبة، لأن الرضي لا ينحصر فكان العرف أولى أن يعتبره. والثالث: عليه أن يكافئ بقدر قيمته الهبة لا يلزمه الزيادة عليها، ولا يجزئه النقصان منها، لأن ما استحق فيه البدل إذا عدم المسمى رجع إلى القيمة اعتبارا بمهر المثل وقيم المتلفات، فعلى هذا يكون الموهوب له بالخيار أن يكافئ في مقدار ما ذكرناه من الثواب وبين أن يرد الهبة، ولا خيار للواهب في أحد الأمرين، فإن رد الهبة لم يكن للواهب أن يطالبه بالثواب، فإن ردها ناقصة فإن كان نقصها بفعله ضمنه للواهب، وإن كان بغير فهله ففي ضمانه إياه وجهان أصحهما عليه صفاته. والثاني: لا يضمنه، وإن ردها وقد زادت فإن كانت الزيادة لا تتميز كالطول والسمن أخذها الواهب زائدة، لأن ما لا يتميز من الزيادات تبع للأصل، وإن كانت الزيادة متميزة فهي للموهوب له كالنتاج والثمرة، لحدوثها على ملكه ولا يلزمه دفعها إلى الواهب وإن رد عليه الهبة، وإن لم يرد الهبة وكافأة عليها بما ذكرناه من الثواب فيها فالواهب بالخيار أن يقبل المكافأة وبين أن يقبل ولا خيار له في استرجاع الهبة، فإن قبل المكافأة ثم استحقت من يده فالموهوب له بالخيار بين أن يكافئه ثانية وبين أن يرد الهبة، ولو استحقت الهبة دون المكافأة كان للموهوب له أن يرجع بالمكافأة، فلو قال الواهب: أنا أهب لك مثل تلك الهبة ولا أرد المكافأة لم يكن ذلك له بخلاف استحقاق المكافأة، فلو لم يكافأ الموهوب له عن نفسه وكافأه عنه غيره جاز ولا رجوع للواهب، لوصول الثواب إليه، ولا رجوع للمكافئ على الموهوب له بما أثاب عنه وكافأ؛ لأنه متطوع إلا أن يكافئ بأمره فيرجع عليه، فلو لم يكافئه الموهوب له عنده الهبة حتى تلفت

في يده [بغير] فعله ففي وجوب الثواب عليه قولان: أحدهما: لا يجب عليه الثواب, لأنه إنما يجب أن يكافئ ويثيب في الحال التي إن رد ولم يثب فعلى هذا تتلف غير مضمونة عليه. والثاني: أن الثواب واجب عليه لاستحقاقه بالعقد, فإن أثاب وإلا ضمنها بالقيمة لتلفها عن بدل فائت. فصل: وإن اشترط الواهب الثواب على هذا القول فلا يخلو أن يشترطه معلومًا أو مجهولًا فإن اشترطه مجهولًا صحت الهبة ولزم الشرط, لأنه يوجب العقد, ثم حكي هذه الهبة والثواب على ما مضى, وفيه ثلاثة أقاويل غير أن الهبة لو تلفت في يده مع هذا الشرط قبل الثواب لزمه أن يثيب أو يضمن القيمة قولًا واحدًا, وإن اشترط الثواب معلومًا ففيه قولان: أحدهما: جائز, لأن ما منع عن الجهالة كان أولى بالصحة وله ما اشترط, ويكون الفرق بينه وبين البيع أنه في الهبة يشترط الثواب المعلوم يكون مخيرًا بين دفع الثواب وبين رد الهبة وفي البيع يلزمه دفع الثمن ولا خيار له في الرد ما لم يكن خيار أو عيب, ثم هما فيما سوى ذلك على سواء. والثاني: وهو قول أبي ثور أن الهبة باطلة لخروجها عن حكم الهبات المطلقة والبيوع اللازمة, فعلى هذا تكون مضمونة ضمان البيع الفاسد على ما مضى. فصل: هبة المريض في الثلث, فإن احتملها الثلث أمضيت وإلا ردت, لأنها في حكم الوصية, وإن احتمل الثلث بعضها أمضى منها قدر ما احتمله الثلث إلا أن يجيزه الوارث فيصح في الجميع, فلو وهب في الصحة وأقبض في المرض فهي هبة في المرض؛ لأنها بالقبض فيه تمت فلو اختلفا فقال وارث الواهب هي في المرض وقال الموهوب له في الصحة، فالقول قول الوارث مع يمينه؛ لأن الأصل فيها عدم لزوم فلو مات الواهب قبل القبض ففيها قولان: أحدهما: أن وارثه بالخيار بين إقباضها بالعقد الماضي أو المنع. والثاني: أن العقد قد بطل بالموت, فإن أحب إمضاء الهبة استأنف عقدًا وقبضًا. فصل: وإذا دخل المسلم دار الحرب فوهب له أهلها هبة قبلها وقبضها، ولم يغنمها المسلمون إن ظفروا بها، وفرق أبو حنيفة بين ما ينقل فيها وما لا ينقل، فجعل ما ينقل مملوكًا وما لا ينفع مغنومًا، استدلالًا بما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: من منحه المشركون أرضًا فلا أرض له وهذا إن صح عنه محمول على العارية دون الهبة.

فصل: هبة دور مكة وعقارها يجوز بخلاف قول أبي حنيفة بناء على البيع، فأما إجارتها للحجاج فيجوز هبتها إن جاز بيعها، وأبطل إن لم يجز بيعها. فصل: هبة الدين لغير ما هو عليه لا يجوز، ولمن هو عليه يجوز، لأن هبته لمن هو عليه إبراء ولغيره تمليك، وهبة المنافع عارية لا تلزم، لأن قبضها قبل انقضائها لا يصح. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: "قَالَ: وَتَجُوزُ صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ إِلَّا رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم كَانَ لَا يَاخُذُهَا لَمَّا رَفَعَ اللَّهُ مِنْ قَدْرِهِ وَأَبَانَهُ مِنْ خَلْقِهِ إِمَّا تَحْرِيمًا وَإِمَّا لِئَلَّا يَكُونَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ يَدْ؛ لأَنَّ مَعْنَى الصَّدقَةَ لَا يُرَادُ ثَوَابُهَا وَمَعْنَى الهَدِيَّةِ يُرَادِ ثَوَابُهَا وَكَانَ يَقْبَلُ الهَدِيَّةَ وَرَأَى لحَمْاً تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى بُرَيْرَةَ فَقَالَ: "هُوَ لَهَا صَدَقَةٌ وَلَنَا هَدِيَّةٌ"". قال في الحاوي: والمقصود بهذه المسألة فصلان مضيا. أحدهما: تحريم الصدقات على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وقد ذكرناه. والثاني: إباحة لصدقة التطوع على الأغنياء وقد بيناه فلم يكن للإطالة بتكرارهما وجه مع ما حصل من إطالة الاستيفاء، فأما المسألة فتحرم على الغنى وإن حلت له الصدقة، روى عبد الله بن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "إن المسألة لا تحل إلا من فقر مدقع أو غرم مفظع أو دم مولع" وبالله التوفيق.

كتاب المزارعة وكراء الأرض

كتاب المزارعة وكراء الأرض والشركة في الزرع وما دخل فيه مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "أَخْبَرَنَا سُفْيَانَ قَالَ: سَمِعْتُ عَمْرو بْنَ دِينَارٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: كُنَّا نُخَابِرُ وَلَا نَرَى بِذَلِكَ بَاسًا حَتَّى أَخْبَرَنَا رَافِعُ بْنَ خُدَيْج أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم نَهَى عَنْ المُخَابَرةِ فَتَرَكْنَاهَا لِقَوْلِ رَافِع قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَالمُخَابَرَةِ اسْتِكْرَاءُ الأَرْضِ بِبَعْضِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فِي نَهْبِه عَنِ المُخَابَرَةِ عَلَى أَنْ لَا تَجُوزَ المُزَارَعَةُ عَلَى الثُّلُثُ وَلَا عَلَى الرُّبع وَلَا جُزْءٍ مِنَ الَأجْزَاءِ لأَنَّهُ مَجْهُولٌ وَلَا يَجُوزُ الكِرَاءُ إِلَّا مَعْلُومًا". قال في الحاوي: وهذا كما قال، المخابرة هي المزارعة وهي ما وصفها الشافعي رضي الله عنه أنها استكراء الأرض ببعض ما يخرج منها، واختلف الناس في تسميتها بالمخابرة على قولين ذكرهما ابن قتيبة. أحدهما: أنها مأخوذة من معاملة خيبر حين أقرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فقال: خابروهم أي عاملوهم على خيبر. والثاني: أنها مأخوذة من الخبرة وهي النصيب. قال عروة بن الورد: أما جعلت الشاة للقوم خبرة فشأنك أني ذاهب لشؤون والخبرة: أن يشتري الشاة جماعة فيقتسمونها. وإذا كانت المخابرة هي استكراء الأرض لزراعتها ببعض ما يخرج منها فهي على ضربين، ضرب أجمع الفقهاء على فساده، وضرب اختلفوا فيه. فأما الضرب الذي أجمعوا على فساده، فهو أن تكون حصة كل واحد منهما من زرع أورض مفردة عن حصة صاحبه، مثل أن يقول قد زارعتك على هذه الأرض على أن ما زرعت من هرن كان لي وما زرعت من أقل كان لك, أو على ما بنت ما الماذيانات كان لي، وما نبت على السواقي والجداول كان لك، أو على أن ما سقي بالسماء فهو لي وما سقي بالرشاء فهو لك، فهذه مزارعة باطلة اتفق الفقهاء على فسادها لرواية سعيد بن المسيب عن سعد قال: كنا نكري الأرض بما على السواقي وما سقي بالماء منها فنهانا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عن ذلك,

وأمرنا أن نكريها بذهب أو ورق ولأن تميز ما لكل واحد منهما يمنع من إلحاقه بالمساقاة المشاعة, ويخرج بالجهالة عن حكم الإجارة الجائزة فصار باطلًا. فصل: وأما الضرب الذي اختلف الفقهاء فيه فهو أن يزارعه على أرضه ليكون العمل على الأجير والأرض لربها والبذر منهما أو من أحدهما بحسب شرطهما على أن ما أخرج الله تعالى من زرع كان بينهما على سهم معلوم من نصف أو ثلث أو ربع ليأخذ الزارع سهمه بعمله, ويأخذ رب الأرض سهمه بأرضه فهذه هي المخابرة والمزارعة التي اختلف الفقهاء فيها على ثلاثة مذاهب: أحدها: وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه أنها باطلة سواء شرط البذر على الزارع أو على رب الأرض، وبه قال من الصحابة عبد الله بن عمر، وجابر بن عبد الله, ورافع بن خديج رضي الله عنهم، ومن التابعين سعيد بن جبير، وعكرمة، ومن الفقهاء الشافعي ومالك وأبو حنيفة رضي الله عنهم. والثاني: أنها جائزة سواء شرط البذر على الزارع أو على رب الأرض، وبه قال من الصحابة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه وعمار بن ياسر وعبد الله بن مسعود وسعد بن أبي وقاص ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم، ومن التابعين سعيد بن المسيب، ومحمد بن سيرين وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومن الفقهاء سفيان الثوري وأبو يوسف ومحمد. والثالث: أنه إن شرط البذر على صاحب الأرض لم يجز، ولأن شرطه على الزارع جاز, وهو مذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه. واستدل من أجاز ذلك برواية عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنه: "أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عامل أهل خيبر على شطر ما يخرج من ثمر وزرع". وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: قلت لطاوس: يا أبا عبد الرحمن لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم نهى عنها فقال: يا عمرو وأخبرني أعلمهم ابن عباس أنه لم ينه عنها ولكن قال: لأن يمنح أحدكم أخاه خير له من أن يأخذ عليها خرجًا معلومًا. وروى عروة بن الزبير عن زيد بن ثابت، قال: "رحم الله رافع بن خديج أنا أعلم بهذا الحديث منه"، يعني ما رواه عن المخابرة قال لزيد: " أتى رسول لله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم رجلان من الأنصار، وكان قد اقتتلا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: إن كان هذا شأنكما فلا تكروا المزارع".

قالوا: ولأن المعاملة على الأصول ببعض نمائها يجوز كالمساقاة على النخل، المضاربة بالمال، وكذلك المخابرة على الأرض. قالوا: ولأنه لما جازت المخابرة إذا اقترنت بالمساقاة جازت بانفرادها. والدليل على فسادها مع ما رواه الشافعي رضي الله عنه في صدر الباب عن ابن عمر، رواية الشافعي عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء عن جابر قال: "نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عن المخابرة. والمخابرة كراء الأرض بالثلث والربع، وروى يعلى بن حكيم عن سليمان بن يسار أن رافع بن خديج قال: "كنا نخابر على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، وإن بعض عمومتي أتاني فقال: "نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عن أمر كان لنا نافعًا، وطواعية الله ورسوله أنفع لنا وأنفع، قال: فقلنا: "وما ذاك" قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم من كانت له أرض فليزرعها أو ليزرعها أخاه، ولا يكاريها بثلث ولا ربع ولا طعام مسمى، وروى ابن خيثم عن أبي الزبير بن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم يقول: "من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله، ولأن الأصول التي تصح إجارتها ولا تصح المعاملة عليها ببعض كسبها, وكذا الأرض لما جازت إجارتها لم تجز المخابرة عليها. فهذه دلائل الفريقين في صحة المخابرة وفسادها، ولما اقترن بدلائل الصحة عمل أهل الأمصار مع الضرورة الماسة إليها، وكان ما عارضها محتملًا أن يكون جاريًا على ما فسره زيد بن ثابت، وقال عبد الله بن عباس كان صحة المخابرة أولى من فسادها مع صحة شهادة الأصول لها في المساقاة والمضاربة. فصل: فإن قيل بجواز المخابرة حملًا فيها على ما شرطاه من بذر وسهم, وإن قيل بفسادها فالزرع لصاحب البذر, فإن كان البذر لمالك الأرض فالزرع له، وعليه للعامل أجرة مثل عمله, وبقره, وآلته, لأنه بذل ذلك في مقابة عوض فوته عليه فساده العقد فرجع بقيمه, وإن كان البذر للزارع له وعليه لرب الأرض أجرة مثل أرضه لأنه بدلها في مقابلة عوض فوته عليه فساد العقد، فرجع بقيمته، وإن كان البذر لهما، فالزرع بينهما, وعلى رب الأرض للعامل نصف أجرة عمله، وبقره، وآلته، وعلى العامل لرب الأرض نصف أجرة أرضه. قال الشافعي رضي الله عنه فلو اشترك أربعة في زراعة الأرض فكانت الأرض لأحدهم, والبذر للآخر, ومن الرابع العمل, على أن الزرع بينهم أرباعًا كان الزرع لصاحب البذر, وعليه أجرة المثل لشركائه. وقد روى الأوزاعي عن واصل بن أبي

جميل، عن مجاهد قال: اشترك أربعة رهط على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في زرع فقال أحدهم قبلي الأرض, وقال الآخر: قبلي البذر، وقال الآخر، قبلي العمل، وقال الآخر قبلي الفدان, فلما استحصد الزرع صاروا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم فجعل الزرع لصاحب البذر، وألغى صاحب الأرض، وجعل لصاحب الفدان شيئًا معلومًا, وجعل لصاحب العمل درهمًا كل يوم. فصل: ولمن قال بفساد المخابرة ثلاثة وجوه يتوصل بكل واحد منها إلى صحة الشركة في الزرع: أحدها: أن يشتركا في منفعة الأرض إما بملك رقبتها أو بإجارتها أو استعارتها أو تكون لأحدهما فيؤجر صاحبه أو لغيره نصفها مشاعًا فتصير منفعة الأرض لهما ثم يشتركان في البذر والعمل فيصير منفعة الأرض لهما ثم يشتركان في البذر والعمل فيصير الزرع بينهما. والثاني: أن يقول صاحب الأرض للعامل: قد أجرتك نصف أرضي مشاعًا سنة بدينار، واستأجرت نصف عملك ونصف عمل ما قد شاهدته من بقرك وآلتك سنة بدينار ثم يقع القصاص والإبراء، ويخرجان البذر بينهما فيصيران شريكين في الزرع. والثالث: أن يقول صاحب الأرض للعامل قد أجرتك نصف أرضي مشاعًا بنصف عملك ونصف عمل ما شاهدته من بقرك وآلتك سنة، فيصير كل واحد منهما مستأجرًا لنصف ما لصاحبه سنة، بنصف ما للآخر سنة، أو يعقدان ذلك سنين معلومة، ثم يخرجان البذر بينهما، فيصيران شريكين في الأرض والبذر، والعمل، فيصير الزرع بينهما. فإن أراد أن يكون لصاحب الأرض الثلث وللعامل الثلثان، قال صاحب الأرض قد أجرتك ثلثي الأرض بثلث عملك، ويخرج صاحب الأرض ثلث البذر فيصير ثلث الزرع لصاحب الأرض وثلثاه للعامل. ولو أراد أن يكون لرب الأرض ثلثا الزرع وللعامل الثلث، قال رب الأرض: قد آجرتك ثلث أرضي بثلثي عملك ويخرج ثلثي البذر فيصير لرب الأرض ثلثا الزرع، وللعامل الثلث. وإن أراد أن يكون البذر من رب الأرض والزرع بينهما، قال رب الأرض قد استأجرت نصف عملك بنصف هذا البذر، ونصف منفعة هذه الأرض فيصير الزرع بينهما نصفين. وإن أراد أن يكون البذر من العامل قال رب الأرض قد آجرتك نصف أرضي بنصف عملك ونصف هذا البذر فيصير الزرع بينهما نصفين. وقال أبو حامد الإسفراييني إذا عقدا على الوجه الذي يكون البذر فيه من أحدهما فهو بيع وإجارة فيخرج على قولين.

وليس الأمر فيه على ما قاله بل هو عقد إجارة محضة، والأجرة فيها نصف البذر ونصف العمل فيصح قولًا واحدًا وبالله التوفيق. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "وَيَجُوزُ كِرَاءُ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالوَرَقِ وَالعَرْضِ وَمَا نَبَتَ مِنَ الأَرْضِ أَوْ عَلَى صِفَةٍ تُسَمِّيهِ كَمَا يَجُوزُ كِرَاءُ المَنَازِلِ وَإِجَارَةُ العَبِيدِ". قال في الحاوي: وهذا صحيح، وقد اختلف الناس في إجارة الأرضين على ثلاثة مذاهب: أحدها: ما ذهب إليه الحسن البصري وطاوس إلى أن إجارة الأرضين باطلة لا تجوز بحال. والثاني: ما قاله مالك بن أنس أن إجارتها جائزة بالذهب والورق، ولا يجوز بالبر، والشعير، ولا بما ينبت من الأرض. والثالث: ما قاله الشافعي رضي الله عنه وأبو حنيفة وجماعة الفقهاء أنها تجوز بكل معلوم من ذهب او ورق أو عرض أو بما ينبت من الأرض من بر أو شعير أو غيره. واستدل الحسن طاوس على المنع من إجارتها بحديث رواه ابن شهاب عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر كان يكري أرضه حتى بلغه أن رافع ابن خديج الأنصاري كان ينهى عن كراء الأرض فلقيه عبد الله فقال: يا ابن خديج ماذا تحدث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في كراء الأرض فقال رافع لعبد الله بن عمر سمعت عمي وكانا قد شهدا بدرًا يحدثان أهل الدار أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم نهى عن كراء الأرض فقال عبدالله, والله لقد كنت أعلم في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أن الأرض تكري، ثم خشي عبد الله أن يكون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم أحدث في ذلك شيئاً لم يكن يعلمه، فترك كراء الأرض. وروى ابن المبارك عن سعيد بن أبي شجاع عن عيسى بن سهل عن رافع بن خديج قال إني ليتيم في حجر رافع، وحججت معه فجاءه أخي عمران بن سهل فقال: أكرينا أرضنا فلانة بمائتي درهم، فقال: دعه، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم نهى عن كراء الأرض. قال: ولأنه لما لم تجز إجارة النخل والشجر لكونهما أصلًا لكل ثمر فكذلك الأرض لأنها تجمع الأصل والفرع. فصل: واستدل مالك على أن إجارتها بالطعام وبما ينبت من الأرض لا يجوز، بحديث سليمان بن يسار، عن رافع بن خديج عن بعض عمومته، أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قال: "من كانت له ارض فليزرعها أو ليزرعها أخاه، ولا يكاريها بثلث ولا ربع ولا بطعام مسمى" وروى

طارق بن عبد (الرحمن) عن سعيد بن المسيب عن رافع بن خديج قال: "نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم عن المحالقة والمزابنة وقال: إنما يزرع ثلاثة، رجل له أرض فهو يزرعها، ورجل منع أرضًا، فهو يزرع ما منع، ورجل استكرى أرضًا بذهب أو فضة. ولأن استكراء الأرض ببعض ما يخرج منها باطل كالمخابرة. ودليلنا على مالك رواية الأوزاعي عن حنظلة بن قيس الأنصاري قال سألت رافع بن خديج عن كراء الأرض بالذهب والورق، فقال: لا بأس بها، إنما كان الناس يؤاجرون على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم بما على الماذيانات وأقبال الجداول، وأشياء من الزرع، فيهلك هذا ويسلم هذا، ويسلم هذا ويهلك هذا، ولم يكن للناس كراء إلا هذا فذلك زجر عنه، فأما شيء مضمون معلوم فلا بأس به فكان هذا على عمومه مع شبيهه على معنى النهي، فصار هذا تفسير لما أجمله من النهي. ولأن ما صح أن يؤاجر بالذهب والورق صح أن يؤاجر بالبر والشعير، كالدور والعقار، ولأن ما صح أن تؤاجر به الدور والعقار صح أن تؤاجر به الأرضون كالذهب والورق. فأما الجواب عما استدل به الحسن من حديثي رافع في النهي عن كراء الأرض فمحمول على ما فسره في هذا الحديث من كرائها بما على الماذيانات، لأن الروايات عن رافع مختلفة. وأما الجواب عن جمعه بين الأرض وبين النخل والشجر فهو أن المستفاد من النخل أعيان، ومن الأرض آثار. وأما الجواب عما استدل به مالك من حديثي رافع فهو ما ذكرنا، ونهيه عن إجارتها بطعام مسمى يعني من الأرض المؤاجرة. وأما الجواب عن قياسه على المخابرة فهو أن العوض في المخابرة لا يثبت في الذمة وفي الإجارة يثبت في الذمة والله أعلم. مسألة]: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "وَلَا يَجُوزُ الكِرَاءُ إِلَّا عَلَى سَنَةٍ مَعْرُوفَةٍ". قال في الحاوي: قد مضى الكلام في مدة الإجارة، وأن لا بد أن تكون معلومة، وأنها تجوز سنة، وفي جوازها سنين قولان: أحدها: أن يشترط سنة هلالية، فيصح ويكون العقد على اثني عشر شهرًا بالأهلة يحتسب بكل شهر ما بين الهلالين، كاملًا كان أو ناقصًا ويكون قدر السنة الهلالية ثلاثمائة

وأربعة وخمسين يومًا، وهذا أخص الآجال بالشرع، قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البقرة: 189]. والثاني: أن يشترط سنة عددية فيصح ويكون العقد على ثلاثمائة وستين يومًا كاملة لأن عدد الشهر مستوفٍ بكامله. والثالث: أن يشترط سنة شمسية وهي ثلاثمائة وخمسة وستون يومًا وربع يوم، فقد اختلف أصحابنا في صحة الإجارة بهذا الأجل على وجهين: أحدهما: يصح للعلم بالمدة فيها. والثاني: باطلة، لأنها مقدرة بحساب تنشأ فيه أيام، وقد حرم الله تعالى النسيء بقوله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ} [التوبة: 37]. والرابع: أن يطلق ذكر السنة، فلا يشترطها هلالية، ولا عددية ولا شمسية فتصح الإجارة حملًا على السنة الهلالية لأنه الزمان المقدر في الآجال الشرعية، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: "وَإِذَا تَكَارَى الرَّجُلُ الأَرْضَ ذَاتَ المَاءِ مِنَ العَيْنِ أَوْ النَّهْرِ أَوْ عَثْرِيًا أَوْ غَيْلًا أَوْ الآبْارِ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا غَلَّة شِتَاءٍ وَصَيْفٍ فَزَرَعَهَا إِحْدَى الغَلَّتَيْنِ وَالمَاءُ قَائِمٌ ثُمَّ نَضَبَ المَاءُ فَذَهَبَ قَبْلَ الغَلَّةِ الثَّانِيَةِ فَأَرَادَ رَدّ الأَرْضِ لِذِهَابِ المَاءِ عَنْهَا فَذَلِكَ لَهُ وَيَكُونُ عَلَيْهِ مِنَ الكِرَاءِ بِحِصَّةِ مَا زَرَعَ إِنْ كَانَ الثُلُثُ أَوْ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ وَسَقَطَتْ عَنْهُ حِصَّةُ مَا لَمْ يَزْرَعْ لأَنَّهُ لَا صَلَاحَ لِلزَّرْعِ إِلَّا بِهِ". قال في الحاوي: وهذا كما قال، إذا استأجر أرضًا فلا بد من ذكر ما قد استأجرها له، من زرع أو غرس أو بناء، فإن أغفل ذكر ما يستأجرها له بطلت الإجارة لاختلافه، ثم لا يذكر ذلك بلفظ الشرط بل يقول: "لتزرعها" فإن أخرجها مخرج الشرط، فقال: "على أن تزرعها" بطلت الإجارة لأنه إذا جعله شرطًا لزمه، والمستأجر لا يلزمه استيفاء المنفعة، وإنما هو إذا أمكن منها مخير بين استيفائها أو تركها ألا ترى أن من استأجر دارًا للسكنى كان مخيرًا بين سكانها وتركها، فإن شرط عليه سكانها في العقد فقيل فيه: "على أن يسكنها" بطلت الإجارة. فإذا استأجر أرضًا سنة لزرعها غلة شتاء وصيف، فلا بد من أن يكون لها وقت العقد ماء قائم يسقى به الزرع من عين أو نهر أو نيل أو عثريًا، وهو: الماء المجتمع في أصول الجبال أو على رؤوسها، أو غيلًا, وهو: السيح الجاري، سمي سيحًا لأنه يسيح في الأرض، أو غللًا: وهو الماء بين الشجر، وإنما افتقر عقد الإجارة عليها إلى وجود الماء لزرعها، لأن الزرع لا ينبت في جاري العادة إلا بماء يسقيه فلزم أن يكون لها ماء يمكن معه استيفاء المنفعة منها لأن على المؤجر تمكين المستأجر من استيفاء المنفعة، فبطلت الإجارة، وهكذا لو كان سقى زرعها بعلًا أو عذيًا، والبعل، ما شرب بعروقه، والعذي:

ما سقته السماء، فهي كالأرض التي لا ماء لها، لأنه غير قائم فيها، وقد يكون ولا يكون، فلا يصح إجارتها للزرع. فإذا استأجرها ولها ماء قائم فزرعها إحدى الغلتين، ثم نضب الماء أو نقص أو ملح وتعذر عليه لأجل ذلك زرع الغلة الثانية نظر، فإن توصل المؤجر إلى إعادة الماء بحفر نهر، أو بئر، أو استنباض عين فالإجارة بحالها ولا خيار للمستأجر فيها. وإن تعذر عليه إعادة الماء أو أمكنه فلم يفعل لم يجبر عليه كما لا يجبر على بناء الدار إذا انهدمت، ولا يجبر البائع على مداواة العبد المبيع إذا ظهر به مرض. ثم للمستأجر الخيار مع بقاء العقد بين المقام عليه أو الفسخ، لما حدث من النقص بتعذر التمكين. فإن قيل فهلا بطلت الإجارة بانقطاع الماء عنها كما لو انهدمت الدار أو مات العبد، قيل: الفرق بينهما أن الأرض المستأجرة باقية مع انقطاع عنها، والدار تالفة بانهدامها، وكذلك العبد بموته، فلم تبطل الإجارة بانقطاع الماء عن الأرض، وإن بطلت بانهدام الدار، وموت العبد واستحق المستأجر الخيار للنقص الداخل عليه، فإن أقام فعليه الأجرة المسماة، وإن فسخ فله فسخ الإجارة فيما بقي من المدة، وفي جواز فسخها فيما مضى وجهان: أحدهما: ليس له ذاك لأنه صار مستهلكًا لما مضى من المدة باستيفائها ومن استهلك معقودًا عليه لم يستحق خيارًا في فسخه، فعلى هذا يقيم على ما مضى من المدة بحصته من الأجرة، ويرجع لباقي المدة بحصته من الأجرة. والثاني: له الخيار في فسخ ما مضى، كما كان له الخيار في فسخ ما بقي لأنها صفقة فلم يفترق حكمها في الخيار، فعلى هذا إن فسخ في الجميع رجع بالمسمى، وكان عليه أجرة المثل ما مضى، وإن قام على ما مضى، وفسخ فيما بقي، لزم من الأجرة بقسط ما مضى، ورجع منها بقسط ما بقي، وقد خرج قول آخر: إنه يقيم على ما مضى بكل الأجرة وإلا فسخ وهذا ليس بصحيح. فإذا أراد أن يرجع بحصة ما بقي لم يقسط ذلك على المدة، وإنما يقسط على أجرة المثل، فإذا كان الماضي من المدة نصفها لم يرجع بنصف الأجرة وقيل: "كم تساوي أجرة مثل المدة الماضية؟ فإذا قيل عشرون دينارًا، قيل وكم تساوي أجرة مثل المدة الباقية؟ فإذا قيل: عشرة دنانير رجع بثلث الأجرة، ولو كان أجرة ما مضى عشرة وأجرة ما بقي عشرون، رجع بثلثي الأجرة لأنه قد تختلف أجرة مثل المدتين، فلم يجز أن يقسط على أعدادها ولزم أن يقسط على أجور أمثالها والله أعلم.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: "وَلَوْ تَكَارَاهَا سَنَةً فَزَرَعَهَا فَانْقَضَتِ السَّنَةُ، وَالزَّرْعُ فِيهَا لَمْ يَبْلُغْ أَنْ يُحْصَدَ فَإِنْ كَانَتِ السَّنَةُ يُمْكِنُهُ أَنْ يَزْرَعَ فِيهَا زَرْعَاً يُحْصَدُ مَا قَبْلَهَا فَالْكِرَاءُ جَائِزٌ وَلَيْسَ لِرَبِّ الزَّرْعِ أَنْ يُثَبِّتَ زَرْعَهُ وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْقُلَهُ عَنِ الْأَرْضِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبُّ الْأَرْضِ تَرْكَهُ. قَالَ َالشَّافِعِيُّ: وَإِذَا شَرَطَ أَنْ يَزْرَعَهَا صِنْفًا مِنَ الزَّرْعِ يُسْتَحْصَدُ أَوْ يُسْتَقْصَلُ قَبْلَ السَّنَةِ فَأَخَّرَهُ إِلَى وَقْتٍ مِنَ السَّنَةِ وَانْقَضَتِ السَّنَةُ قَبْلَ بُلُوغِهِ فَكَذَلِكَ أَيْضًا وَإِنْ تَكَارَاهَا لِمُدَّةٍ أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ وَشَرَطَ أَنْ يَزْرَعَهَا شَيْئَا بِعَيْنِهِ وَيَتْرُكَهُ حَتَى يُسْتَحْصَدَ وَكَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يُسْتَحْصَدَ فِي مِثْلِ الْمُدَّةِ الَّتِي تَكَارَاهَا فَالْكِرَاءُ فِيهِ فَاسِدٌ مِنْ قِبَلِ إِنْ أُثْبِتْ بَيْنَهُمَا شَرْطَهُمَا وَلَمْ أُثْبِتْ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ أَنْ يُسْقِيَ زَرْعَهُ فِيهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ أَبْطَلْتُ شَرْطَ الزَّارِعِ أَنْ يَتْرُكَهُ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ وَإِنْ أُثْبِتْ لَهُ زَرْعَهُ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ أَبْطَلْتُ شَرْطَ رَبِّ الْأَرْضِ فَكَانَ هَذَا كِرَاءً فَاسِدًا وَلِرَبِّ الْأَرْضِ كِرَاءُ مِثْلِ أَرْضِهِ إِذَا زَرَعَهُ وَعَلْيِهِ تَرْكُهُ حَتَّى يُسْتَحْصَدَ". قال في الحاوي: وصورة هذه المسألة أن يستأجر الرجل أرضًا مدة معلومة ليزرعها زرعًا موصوفًا فزرعها، ثم انقضت المدة، قبل استحصاد زرعها، فلا يخلو حال المدة من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يعلم أن ذلك الزرع يستحصد في مثلها، والثاني: أن يعلم أنه لا يستحصد في مثلها، والثالث: أن يقع الشك فيه. فأما الأول: وهو ان يعلم بجاري العادة أن مثل ذلك الزرع يستحصد في مثل تلك المدة فانقضت المدة قبل استحصاده، فلا يخلو ذلك من ثلاثة أقسام: أحدهما أن يكون تأخر استحصاده لعدوله عن الجنس الذي شرطه إلى غيره مثل أن يستأجر خمسة أشهر لزرع الباقلا، فيزرعها برًا، فستقضي المدة، والزرع غير مستحصد، فهذا يؤخذ بقلع زرعه قبل استحصاده لأنه بعدوله عن الباقلا إلى البر يصير متعديًا فلم يستحق استيفاء زرع تعدى فيه، فإن تراضى المؤجر والمستأجر على تركه إلى أوان حصاده بأجرة المثل فيما زاد على المدة أقر، وإن رضي المستأجر وأبى المؤجر، أو رضي المؤجر وأبى المستأجر من بدل أجرة المثل قلع. والثاني: أن يكون تأخير استحصاده لتأخير بذره من غير عدول عن جنسه، فهذا مفرط، ويؤخذ بقلع زرعه قبل استحصاده لأن تفريطه لا يلزم غيره، فإن بذل أجرة مثل المدة الزائدة، ورضي المؤجر بقبولها ترك وإلا قلع. والثالث: أن يكون تأخير استحصاده لأمر سمائي، من استدامة برد، أو تأخير مطر، أو دوام ثلج، ففيه وجهان: أحدهما: يترك إلى وقت استحصاده لأنه لم يكن من المستأجر عدوان، ولا تفريط فإذا ترك إلى وقت الحصاد ضمن المستأجر أجرة مثل المدة الزائدة على عقده. والثاني: أن يؤخذ بقلع زرعه ولا يترك لأنه قد كان يقدر على الاستظهار لنفسه في

استزادة المدة خوفًا من حادث سماء، فلما يستظهر صار مفرطًا. فصل: وأما القسم الثاني من أقسام الأصل، وهو أن يعلم بجاري العادة أن مثل ذلك الزرع لا يستحصد في مثل تلك المدة، مثل أن يستأجر أربعة أشهر لزرع من بر أو شعير فهذا على ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يشترط قلعه عند تقضي المدة، فهذه إجازة جائزة لأنه قد يريد زرعه قصيلًا، ولا يريده حبًا، فإذا انقضت المدة أخذ بقلع زرعه وقطعه. والثاني: أن يشترط تركه إلى وقت حصاده، فهذه إجارة فاسد لأن اشتراط استيفاء الزرع بعد مدة الإجارة ينافي موجبها، فبطلت ثم للزارع استيفاء زرعه إلى وقت حصاد، وإن بطلت الإجارة، فلا يؤخذ بقلع زرع، لأنه زرع عن إذن اشترط فيه الترك، وعليه أجرة المثل والفرق بين هذه المسألة في استيفاء الزرع مع فساد الإجارة، وبين أن يؤخذ بقلعه فيما تقدم من الأقسام مع صحة الإجارة: أن الإجارة إذا بطلت روعي الإذن دون المدة، وإذا صحت روعيت المدة. والثالث: أن يطلق العقد فلا يشترط فيه قلعًا ولا تركًا، فقد اختلف أصحابنا هل إطلاقه يقتضي القلع أو الترك على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه يقتضي القلع اعتبارًا بموجب العقد، فعلى هذه الإجارة صحيحة، ويؤخذ المستأجر بقلع زرعه عند تقضي المدة. والثاني: وهو ظاهر كلام الشافعي رضي الله عنه أن الإطلاق يقتضي الترك إلى أوان الحصاد اعتبارًا بالعرف فيه، كما أن ما لم يبد صلاحه من الثمار يقتضي إطلاق بيعه للترك إلى وقت الصرام اعتبارًا بالعرف فيه، فعلى هذا تكون الإجارة فاسدة، ويكون للمستأجر ترك زرعه إلى وقت حصاده، وعليه أجرة المثل كما لو شرط الترك. وأما القسم الثالث من أقسام الأصل وهو أن يقع الشك في تلك المدة هل يستحصد الزرع فيها كأنه استأجرها خمسة أشهر لزرع البر أو الشعير فقد يجوز أن يستحصد الزرع في هذه المدة في بعض البلاد وبعض السنين، ويجوز أن لا يستحصد، فيكون حكم هذا القسم حكم ما علم أنه يستحصد فيه ويكون حكم هذا القسم حكم ما علم أنه لا يستحصد فيه على ما مضى إسقاطًا للشك واعتبارًا باليقين والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "وَإِذَا تَكَارَى الْأَرْضَ الَّتِي لَا مَاءَ لَهَا وَاَلَّتِي إنَّمَا يُسْقَى بِنَطْفِ السَّمَاءِ أَوْ بِسَّيْلٍ إنْ جَاءَ فَلَا يَصِحُّ كِرَاؤُهَا إلَّا عَلَى أَنْ يُكْرِيهِ إيَّاهَا أَرْضًا بَيْضَاءَ لَا

مَاءَ لَهَا يَصْنَعُ بِهَا الْمُسْتَكْرَي مَا شَاءَ فِي سَنَتِهِ إلَّا أَنَّهُ لَا يَبْنِي وَلَا يَغْرِسُ فَإِذَا وَقَعَ عَلَى هَذَا صَحَّ الْكِرَاءُ وَلَزِمَهُ زَرَعَ أَوْ لَمْ يَزْرَعْ فَإِنْ أَكْرَاهُ إيَّاهَا عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا وَلَمْ يَقُلْ أَرْضًا بَيْضَاءَ لَا مَاءَ لَهَا وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنَّهَا لَا تُزْرَعُ إلَّا بِمَطَرٍ أَوْ سَيْلٍ يَحْدُثُ فَالْكِرَاءُ فَاسِدٌ". قال في الحاوي: وهذا صحيح، قد ذكرنا إجارة الأرض للزرع لا تجوز إلا أن يكون لها ماء قائم تغتذي به الزرع، فإذا كانت الأرض بيضاء لا ماء لها، وإنما تسقى بما حدث من نطف سماء من مطر أو طل أو بحدوث سيل من زيادة واد أو نهر فلا تصح إجارتها للزرع إلا يقول أجرتكها على أنها أرض بيضاء لا ماء لتصنع بها ما شئت على أن لا تبني ولا تغرس لأنه إذا لم يشرط هذا وقد استأجرها للزرع، توهم المستأجر أن المؤجر ملتزم بحفر بئر أو نهر لما عليه من حقوق التمكين، وذلك غير لازم له فلم يكن بد من شرط ينفي هذا التوهم، هذا الاحتمال وإذا كان هكذا فلا يخلو حال العقد من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يشترط أن لا ماء لها فالإجارة صحيحة على ما وصفنا وللمستأجر أن يزرعها ولا يغرسها، ويحفر فيها للزرع بئرًا إن شاء، وعليه طمها عند انقضاء المدة. والثاني: أن يشترط أن لها ماء، وهو ما يحدث من سيل أو مطر فالإجارة باطلة لأن السيل والمطر قد يحدث وقد لا يحدث. والثالث: أن يطلق العقد، فلا يشرط أنها بيضاء لا ماء لها، ولا يشرط أن لها ماء يحدث، فلا يخلو حال الأرض من أمرين: أحدهما: أن تكون رخوة يمكن حفر بئر فيها أو شق نهر إليها فالإجارة باطلة لما فيها من احتمال التزام المؤجر لذلك. والثاني: أن تكون صلبة لا يمكن من حفر بئر فيها ولا شق نهر إليها كأراضي الجبال ففيه وجهان حكاهما أبو إسحاق المروزي: أحدهما: وهو اختياره أن إجارتها مع عدم الشرط وإطلاق العقد جائزة لأن استحالة ذلك فيها يغني عن الشرط، ويقوم مقامه. والثاني: أن إجارتها مع الإطلاق باطلة ما لم يقترن بها شرط لأنه مع استحالة حفرها قد يجوز أن ينصرف إلى زرعها بما يحدث من سيل أو سماء. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "وَلَوْ كَانَتِ الْأَرْضُ ذَاتَ نَهْرٍ مِثْلِ النِّيلِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَعْلُو الْأَرْضَ عَلَى أَنْ يَزْرَعَهَا زَرْعًا لَا يَصْلُحُ إِلَّا بِأَنْ يُرْوَى بِالنِّيلِ لَا بِئْرَ لَهَا مَشْرَبَ غَيْرُهُ فَالْكِرَاءُ فَاسِدٌ".

قال في الحاوي: وصورتها في أرض على نهر يعلو على ماء البئر فلا يقدر على سقيها إلا بأن يزيد ماء ذلك النهر حتى يعلو فيسقيها كأرض النيل والفرات وما انحدر من أرض دجلة، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يؤجرها عند زيادة الماء وعلوه، وإمكان سقي الأرض به فالإجارة جائزة لوجود الماء وإمكان الزرع، وليس ما يخاف من صدور نقصانه بمانع من صحة الإجارة لأمرين: أحدهما: أن ما يظن من حدوث الأسباب المفسدة للعقد لا يمنع في الحال من صحته، كموت العبد، وانهدام الدار. والثاني: أن حدوث النقصان إنما يكون عرفًا بعد اكتفاء الأرض وارتواء الزرع فلم يكن له تأثير. والثاني: أن يؤجرها عن نقصان الماء وقبل زيادته فالإجارة باطلة لأمرين: أحدهما: أن زرعها بعد العقد غير ممكن فصار استيفاء المنفعة متعذرًا. والثاني: أن حدوث الزيادة مظنون قد يحدث ولا يحدث، وقد يحدث منها ما يكفي، وما لا يكفي، فلهذين بطلت الإجارة. فصل: فأما أرض البصرة ذات المد والجزر فإجارتها للزرع جائزة في وقت المد والجزر، لأنه معتاد لا يتغير المد عن وقته ولا الجزر عن وقته على حسب أيام الشهور وأحوال القمر لا تختلف عادته ولا يختلف وقته. فصل: فإذا كانت أرض من أراضي الجبال قد استقرت فيها نداوة المطر حتى يمكن زرعها به من غير مطر يأتي، ولا سيل يحدث جاز أن تؤاجر للزرع، وإن لم يكن له ماء مشاهد، لأن زرعها على حالها هذه ممكن، فصارت كالأرض ذات الماء. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "وَإِذَا تَكَارَاهَا وَالْمَاءُ قَائِمٌ عَلَيْهَا وَقَدْ يَنْحَسِرُ لَا مَحَالَةَ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ فِيهِ الزَّرْعُ فَالْكِرَاءُ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَنْحَسِرُ لَا مَحَالَةَ فِي وَقْتٍ يُمْكِنُ فِيهِ الزَّرْعُ فَالْكِرَاءُ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ قَدْ يَنْحَسِرُ وَلَا يَنْحَسِرُ كَرِهْتُ الْكِرَاءَ إِلَّا بَعْدَ انْحِسَارِه". قال في الحاوي: وصورتها في أرض دخلها الماء حتى علا عليها، وأقام فيها

فاستؤجرت للزرع فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون الماء كثيرًا يمنع من مشاهدتها لكدره وكثرته ولم تتقدم رؤية المستأجر لها قبل علوه فالإجارة باطلة للجهل بحال ما تناوله العقد. والثاني: أن يكون الماء صافيًا لا يمنع من مشاهدتها، أو يكون قد تقدم رؤية المستأجر قبل علو الماء عليها، وإن كان مانعًا من مشاهدتها فهما في الحكم سواء فهذا على ضربين أحدهما: أن يستأجرها لما يمكن زرعه مع بقاء الماء عليها كالأرز فالإجارة جائزة. والثاني: أن لا يمكن زرعه مع بقاء الماء عليه كالحنطة فهذا على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يعلم بجاري العادة أن الماء لا ينحسر عنها قبل وقت الزراعة فالإجارة باطلة لأن استيفاء ما استؤجرت له متعذر. والثاني: أن يشك في انحسار الماء عنها قبل وقت الزراعة فالإجارة باطلة إسقاطًا للشك واعتبارًا باليقين في بقاء الماء والله أعلم. والثالث: أن يعلم أن الماء ينحسر عنها يقينًا قبل وقت الزراعة، فإن كان لأن لها مغيضًا يمكن إذا فتح الماء أن يفيض فيه فالإجارة جائزة للقدرة على إرسال مائها، والمكنة من زراعتها، وإن كان ذلك للعادة الجارية فيها فإنها تشرب ماءها، وتنشفه الأرض والرياح عرفًا قائمًا فيها، وعادة جارية لا يختلف فيها، ففي صحة إجارتها وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي، والظاهر من مذهب الشافعي رضي الله عنه أن الإجارة جائزة لما استقر من العرف فيها. والثاني: حكاه أبو علي بن أبي هريرة عن بعض المتقدمين أن الإجارة باطلة لأن زرعها في الحال غير ممكن وارتقاء الماء عليها يقين. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "وَإِنْ غَرَّقَهَا بَعْدَ أَنْ صَحَّ كِرَاؤُهَا نِيلٌ أَوْ سَيْلٌ أَوْ شَيْءٌ يُذْهِبُ الْأَرْضَ أَوْ غُصِبَتِ انْتَقَضَ الْكِرَاءُ بَيْنَهُمَا مِنْ يَوْمِ تَلِفَتِ الْأَرْضُ". قال في الحاوي: وصورتها في أرض استؤجرت للزرع فغرقت، أو غصبت فلا يخلو حال غرقها أو غصبها من أحد أمرين، إما أن يكون زمانًا يسيرًا كالثلاث فما دون فالإجارة صحيحة لا تبطل بما حدث من غرقها أو غصبها في هذه المدة اليسيرة، لكنه عيب قد طرأ والمستأجر لأجله بالخيار بين المقام أو الفسخ، وإن كان الزمان كثيرًا فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون في ابتداء المدة من حين الإجارة، فقد بطلت للحائل بين

المستأجر وما استأجره كما لو مات العبد أو انهدمت الدار، ثم للمستأجر أن يرجع بالأجرة كلها. والثاني: أن يكون بعد مضي بعض المدة، كأنه مضى من المدة نصفها، وبقي نصفها، فالإجارة فيما بقي منها باطلة ثم مذهب الشافعي رضي الله عنه جوازها فيما مضى، ومن أصحابنا من خرج قولًا ثانيًا أنها باطلة فيما مضى لبطلانها فيما بقي جمعًا للصفقة ومنعًا من تفريقها في الحكم وهو تخريج فاسد لما تقدم من تعليل فساده. فإذا قيل بهذا التخريج في بطلان ما مضى وما بقي رجع المستأجر بجميع المسمى ورجع المؤجر بأجرة مثل ما مضى وإذا قيل: بصحتها فيما مضى، وأن تبطل فيما بقي فالمذهب لزومه وسقوط خيار المستأجر فيه، فعلى هذا يقيم عليه بقسطه من الأجرة، وفيه وجه آخر أن له فيه الخيار لما حدث من تفريق الصفقة بين المقام أو الفسخ. فإن فسخ التزم أجرة مثل ما مضى ورجع بالمسمى، وإن أقام فأصح القولين أنه يقيم بقسطه من الأجرة، والثاني: وهو مخرج أنه يقيم بكل الأجرة وإلا فسخ. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "فَإِنْ تَلِفَ بَعْضُهَا وَبَقِيَ بَعْضٌ وَلَمْ يَزْرَعْ فَرَبُّ الزِّرْعِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ مَا بَقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْكِرَاءِ وَإِنْ شَاءَ رَدَّهَا لِأَنَّ الْأَرْضَ لَمْ تُسَلَّمْ لَهُ كُلُّهَا وَإِنْ كَانَ زَرَعَ بَطُلَ عَنْهُ مَا تَلِفَ وَلَزِمَهُ حِصَّةُ مَا زَرَعَ مِنَ الْكِرَاءِ وَكَذَا إِذَا جَمَعَتِ الصَّفْقَةُ مِائَةَ صَاعٍ بِثَمَنٍ مَعْلُومٍ فَتَلِفَ خَمْسُونَ صَاعًا فَالْمُشْتَرِي بِالْخِيَارِ فِي أَنْ يَاخُذَ الْخَمْسِينَ بِحِصَّتِهَا مِنَ الثَّمَنِ أَوْ يَرُدَّ الْبَيْعَ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لَهُ كُلَّ مَا اشْتَرَى وَكَذَلِكَ لَوِ اكْتَرَى دَارًا فَانْهَدَمَ بَعْضُهَا كَانَ لَهُ أَنْ يَحْبِسَ مِنْهَا مَا بَقِيَ بِحِصَّتِهِ مِنَ الْكِرَاءِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَا يَتَبَعَّضُ مِنْ عَبْدٍ اشْتَرَاهُ فَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى حَدَثَ بِهِ عَيْبٌ فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ أَخْذِهِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ رَدِّهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْلَمْ لَهُ مَا هُوَ غَيْرُ مَعِيبٍ وَالْمَسْكَنُ يَتَبَعَّضُ مِنَ الْمَسْكَنِ مِنَ الدَّارِ وَالْأَرْضِ كَذَلِك". قال في الحاوي: وصورتها في رجل استأجر أرضًا فغرق السيل بعضها وبقي بعضها، فالإجارة في الذي غرق منها باطلة ثم المذهب أنها في الباقي منها جائزة وهو بالخيار في فسخ الإجارة فيه أو أخذه بقسطه من الأجرة لتقسيط الأجرة على أجزاء الأرض كتقسيط ثمن الصبرة على أجزاء الصبرة، وليس كالعبد الذي إذا قطعت يده لم يقسط عليه الثمن، كان ذلك عيبًا يوجب خيار المشتري في أخذه بجميع الثمن، أو فسخ البيع فيه، وقد خرج قول أن الإجارة باطلة فيما بقي لبطلانها فيما غرق، ويمنع المستأجر من زرع الباقي، فإن زرعه ضمن أجرة مثله دون المسمى وليس بصحيح.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:"وَإِنْ مَرَّ بِالْأَرْضِ مَاءٌ فَأَفْسَدَ زَرْعَهُ أَوْ أَصَابَهُ حَرِيقٌ أَوْ جَرَادٌ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَهَذَا كُلُّهُ جَائِحَةٌ عَلَى الزَّرْعِ لَا عَلَى الْأَرْضِ كَمَا لَوِ اكْتَرَى مِنْهُ دَارًا لِلْبَزِّ فَاحْتَرَقَ الْبَزّ". قال في الحاوي: وهذا كما قال، إذا استأجر الرجل أرضًا، فزرعها، ثم هلك الزرع بزيادة ماء أو لشدة برد، أو دوام ثلج، أو أكل جراد، فالإجارة بحالها، ولا خيار للمستأجر فيها: لأن الأرض المعقود عليها سليمة يمكن استيفاء منافعها، وإنما حدثت الجائحة في مال لم تبطل الإجارة لسلامة المعقود عليه، ولو احترق الدكان بطلت الإجارة لتلف المعقود عليه. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "وَلَوِ اكْتَرَاهَا لِيَزْرَعَهَا قَمْحًا فَلَهُ أَنْ يَزْرَعَهَا مَا لَا يَضُرُّ بِالْأَرْضِ إِلَّا إِضْرَارَ الْقَمْحِ". قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا استأجر أرضًا ليزرعها حنطة فله أن يزرع الحنطة وغير الحنطة مما يكون ضرره مثل ضرر الحنطة أو أقل، وليس له أن يزرعها ما ضرره أكثر من ضرر الحنطة، وقال داود بن علي: "لا يجوز إذا استأجرها لزرع الحنطة أن يزرعها غير الحنطة، وإن كان ضرره أقل من ضرر الحنطة استدلالًا بقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] فلم يجز عما تضمنه العقد، قال ولأنه لما لم يجز إذا اشترى بدراهم بأعيانها أن يدفع غيرها من الدراهم وإن كانت مثلها لما فيه من العدول عما اقتضاه العقد، كذلك في إجارة الأرض لزرع الحنطة لا يجوز أن يعدل فيها عن زرع الحنطة. ودليلنا هو أن ذكر الحنطة في إجارة الأرض إنما هو لتقدير المنفعة به لا لتعيين استيفائه، ألا تراه لو تسلم الأرض ولم يزرعها لزمته الأجرة لأن ما تقدرت به المنفعة المستحقة قد كان ممكنًا من استيفاءه، ولو تعين الاستيفاء بالعقد ما لزمته الأجرة. فإذا ثبت أن ذكر الحنطة لتقدير المنفعة، فهو إذا استوفى المنفعة بما تقدرت به في العقد وبغيره جاز، كما لو استأجر لحمل قفيز من حنطة فحمل قفيزًا غيره، وكما لو استأجرها ليزرع حنطة بعينها فزرع غيرها، ولأن عقد الإجارة يتضمن أجرة يملكها المؤجر ومنفعة يملكها المستأجر، فلما جاز للمؤجر أن يستوفي حقه من الأجرة كيف شاء بنفسه وبوكيله وبمن يحيله جاز للمستأجر أن يستوفي حقه من المنفعة كيف شاء بزرع الحنطة وغير الحنطة وبإعارتها لمن يزرعها وبتركها وتعطيلها. فأما استدلاله بقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] فمثل الحنطة مما تضمنه

العقد بما دللنا. وأما الجواب عما استدل به من تعيين الأثمان بالعقد فكذا في الإجارة، فهو أن الفرق بينهما في التعيين متفق عليه لأن الدراهم تتعين بالعقد حتى لا يجوز العدول إلى جنسها والحنطة لا تتعين في عقد الإجارة، وإنما الخلاف في تعيين جنسها، ألا تراه لو استأجرها لزرع حنطة بعينها جاز له العقود إلى غيرها من الحنطة، فكذلك يجوز أن يعدل إلى غير الحنطة. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا لم يخل حال من استأجر أرضًا لزرع الحنطة من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يستأجرها لزرع الحنطة وما أشبهها فيجوز له بوفاق داود أن يزرعها الحنطة وغير الحنطة مما يكون ضرره مثل ضرر الحنطة أو أقل إلا أن داود يجيزه بالشرط، ونحن نجيزه بالعقد، والشرط تأكيد. والثاني: أن يستأجرها لزرع الحنطة، ويغفل ذكر ما سوى الحنطة، فهذا القسم الذي خالف فيه داود، فمنعه من زرع غير الحنطة، ويجوز له عندنا أن يزرعها غير الحنطة مما ضرره كضرر الحنطة أو أقل. والثالث: أن يستأجرها لزرع الحنطة على أن لا يزرع ما سواها، ففيه ثلاثة أوجه حكاهما ابن أبي هريرة: أحدها: أن الإجارة باطلة: لأنه شرط فيها ما ينافي موجبها. والثاني: أن الإجارة جائزة، والشرط باطل، وله أن يزرعها الحنطة وغير الحنطة: لأنه لا يؤثر في حق المؤجر فالغنى. والثالث: أن الإجارة جائزة، والشرط لازم وليس له أن يزرعها غير الحنطة لأن منافع الإجارة إنما تملك بالعقد على ما سمي فيه، ألا تراه لو استأجرها للزرع لم يكن له الغرس فكذلك إذا استأجرها لنوع من الزرع. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "وَإِنْ كَانَ يَضُرُّ بِهَا مِثْلَ عُرُوقٍ تَبْقَى فِيهَا فَلَيْسَ ذَلِكَ فَإِنْ فَعَلَ فَهُوَ مُتَعَدٍّ وَرَبُّ الْأَرْضِ بِالْخِيَارِ إِنْ شَاءَ أَخَذَ الْكِرَاءَ وَمَا نَقَصَتِ الْأَرْضُ عَمَّا يُنْقِصُهَا زَرْعُ الْقَمْحِ أَوْ يَاخُذُ مِنْهُ كِرَاءَ مِثْلِهَا. قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ الْأَوَّلُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَخَذَ مَا اكْتَرَى وَزَادَ عَلَى الْمُكْرِي ضَرَرًا كَرَجُلٍ اكْتَرَى مَنْزِلًا يُدْخِلُ فِيهِ مَا يَحْمِلُ سَقْفُهُ فَحَمَلَ فِيهِ أَكْثَرَ فَأَضَرَّ ذَلِكَ بِالْمَنْزِلِ فَقَدِ اسْتَوْفَى سُكْنَاهُ وَعَلَيْهِ قِيمَةُ ضَرَرِهِ وَكَذَلِكَ لَوِ اكْتَرَى مَنْزِلًا سُفْلًا فَجَعَلَ فِيهِ الْقَصَّارِينَ أَوِ الْحَدَّادِينَ فَتَقَلَّعَ الْبِنَاءُ فَقَدِ اسْتَوْفَى مَا اكْتَرَاهُ وَعَلَيْهِ بِالتَّعَدِّي مَا نَقَصَ بِالْمَنْزِلِ". قال في الحاوي: ذا استأجر أرضًا لزرع الحنطة لم يكن له أن يغرسها ولا أن

يزرعها ما هو أكثر ضررًا من الحنطة كالدخن والكتان والذرة، فإن فعل فقد تعدى، ويؤخذ بقلع زرعه: لأنه غير مأذون فيه فصار كالغاصب، وهل يصير بذلك ضامنًا لرقبة الأرض حتى يضمن قيمتها إن غصبت أو تلفت بسيل؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي حامد الإسفراييني: أنه يضمنها: لأنه قد صار- بالعدول عما استحقه- غاصبًا والغاصب ضامن. والثاني: وهو الأصح: أنه لا يضمن رقبة الأرض، لأن تعديه في المنفعة في الرقبة. فإن تمادى الأمر بمستأجرها حتى حصد زرعه ثم طولب بالأجرة، فالذي نص عليه الشافعي أن رب الأرض بالخيار بين أن يأخذ المسمى، وما نقصت الأرض، وبين أن يأخذ أجرة المثل. فاختلف أصحابنا فكان المزني وأبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة يخرجون تخيير الشافعي رضي الله عنه على قولين: أحدهما: أن رب الأرض يرجع بأجرة المثل دون المسمى: لأن تعدي الزارع بعدوله عن الحنطة إلى ما هو أضر منها كتعديه بعدوله عن الأرض إلى غيرها، فلما كان بعدوله إلى غير الأرض ملتزمًا لأجرة المثل دون المسمى، فكذلك بعدوله إلى غير الحنطة. والثاني: أنه يرجع بالمسمى من الأجرة وينقص الضرر الزائد على الحنطة: لأنه قد استوفى ما استحقه وزاد، فصار كمن استأجر بعيرًا من مكة إلى المدينة فتجاوز به إلى البصرة فعليه المسمى وأجرة المثل في الزيادة وقال الربيع وأبو العباس بن سريج وأبو حامد المروروزي: إن المسألة على قول واحد، وليس التخيير منه اختلافًا للقول فيها فيكون رب الأرض بالخيار بين أن يفسخ الإجارة ويرجع بأجرة المثل: لأنه عيب قد دخل عليه فجاز أن يكون به مخيرًا بين المقام أو الفسخ. فأما المزني فإنه اختار أن يرجع بالمسمى وما نقصت الأرض واستدل بمسألتين: إحداهما: أن يستأجر بيتًا لحمولة مسماة فيعدل إلى غيرها، فهذا ينظر، فإن استأجر سفل بيت ليحرز فيه مائة رطل حديد فأحرز فيه مائة وخمسين رطلًا، أو عدل عن الحديد إلى القطن فلا ضمان عليه لأن سفل البيت لا تؤثر فيه هذه الزيادة، ولا العدول عن الجنس، وإن كان علو بيت تكون الحمولة على سقفه، فإن كانت الإجارة لمائة رطل من حديد فوضع عليه مائة وخمسين رطلًا، فهذه زيادة متميزة فيلزمه المسمى من الأجرة وأجرة مثل الزيادة، وإن كان قد استأجره لمائة رطل قطنًا فوضع فيه مائة رطل من حديد فهذا ضرر لا يتميز: لأن القطن يتفرق على السقف، والحديد يجتمع في موضع منه، فكان أضر، فيكون رجوع المؤجر على ما ذكرنا من اختلاف أصحابنا في القولين.

والثانية: من دليل المزني على اختياره: أن يستأجر دارًا للسكنى فيسكن فيها حدادين، أو قصارين، أو ينصب فيها رحى، فهذه زيادة ضرر لا يتميز، فيكون رجوع المؤجر على ما وصفنا من اختلاف أصحابنا في القولين فلم يكن للمزني فيما استشهد به دليل من مذهب ولا حجاج. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "وَإِنْ قَالَ لَهُ ازْرَعْهَا مَا شِئْتَ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ زَرْعِ مَا شَاءَ وَلَوْ أَرَادَ الْغِرَاسَ فَهُوَ غَيْرُ الزَّرْعِ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا استأجرها ليزرعها ما شاء صح الكراء وله أن يزرعها جميع أصناف الزرع مما يكثر ضرره أو يقل، فإن زرعها ما يكثر ضرره فقد استوفى جميع حقه وإن زرع ما يقل ضرره فقد استوفى بعض حقه وسامح ببعضه. فإن قيل: فهلا بطلت الإجارة كما لو استأجر دابة ليحمل عليها ما شاء قيل الفرق بينهما: أنه قد يشاء أن يحمل على الدابة ما لا تحتمله فتهلك وليس يشاء أن يزرع الأرض ما لا تحتمله لأنه إن شاء أن يزرع ما تضعف الأرض عن احتماله هلك الزرع دون الأرض. فأما إذا استأجرها للزرع فأراد الغرس لم يكن له ذاك لأن ضرر الغرس أكثر من ضرر الزرع من وجهين: أحدهما: أنه أدوم بقاء من الزرع. والثاني: أنه أنشر عروقًا في الأرض من عروق الزرع. ولكن لو استأجرها للفرس فأراد الزرع كان له: لأن ضرر الزرع أقل، وله أن يستوفي بعض حقه، وليس له أن يريد على حقه. فلو استأجرها للفرس، فأراد أن يبني فيها لم يجز، لأن ضرر البناء قد يزيد على ضرر الغرس في صلابة الأرض وخشونتها، ولو استأجرها للبناء لم يكن له أن يزرع ولا يغرس لأن الزرع والغرس يفسدها ويرخيها. مسالة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "وَإِنْ قَالَ ازْرَعْهَا مَا شِئْتَ فَالْكِرَاءُ جَائِزٌ قَالَ الْمُزَنِيّ أَوْلَى بِقَوْلِهِ أَنْ لَا يَجُوزَ هَذَا لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي يَغْرِسُ أَكْثَرَ الْأَرْضِ فَيَكْثُرُ الضَّرَرُ عَلَى صَاحِبِهَا أَوْ لَا يَغْرِسُ فَتَسْلَمُ أَرْضُهُ مِنْ النُّقْصَانِ بِالْغَرْسِ فَهَذَا فِي مَعْنَى الْمَجْهُولِ وَمَا لَا يَجُوزُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقِ".

قال في الحاوي: وهذا الفصل يشتمل على ثلاث مسائل: إحداهن: أن يقول قد أجرتكما لتزرعها إن شئت أو تغرسها إن شئت فالإجارة صحيحة وهو مخير بين زرعها إن شاء، وبين غرسها، فإن زرع بعضها وغرس بعضها جاز، لأنه لما جاز له غرس الجميع كان غرس البعض أولى بالجواز. والثانية: أن يقول قد أجرتكها لتزرعها أو تغرسها، فالإجارة باطلة لأنه لم يجعل له الأمرين معًا ولا أحدهما معينًا فصار ما أجره له مجهولًا. والثالثة: أن يقول قد أجرتكما لتزرعها وتغرسها ففيه وجهان: أحدهما: وهو مذهب المزني: أن الإجارة باطلة: لأنه لما لم يخيره بين الأمرين وجمع بينهما صار ما يزرع منها ويغرس مجهولا، وهذا قول أبي إسحاق. والثاني: وهو ظاهر كلام الشافعي، وقاله ابن أبي هريرة أن الإجارة صحيحة، وله أن يزرع النصف، ويغرس النصف لأن جمعه بين الأمرين يقتضي التسوية بينهما، فلو زرع جميعها جاز، لأن زرع النصف المأذون في غرسه أقل ضررًا، ولو غرس جميعها لم يجز: لأن غرس النصف المأذون في زرعه أكثر ضررًا. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "وَإِنِ انْقَضَتْ سِنُوهُ لَمْ يَكُنْ لِرَبَّ الْأَرْضِ أَنْ يَقْلَعَ غَرْسَهُ حَتَّى يُعْطِيَهُ قِيمَتَهُ وَقِيمَةَ ثَمَرَتِهِ إِنْ كَانَتْ فِيهِ يَوْمَ يَقْلَعُهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَلِرَبِّ الْغِرَاسِ إِنْ شَاءَ أَنْ يَقْلَعَهُ عَلَى أَنَّ عَلَيْهِ مَا نَقَصَ الْأَرْضَ وَالْغِرَاسُ كَالْبِنَاءِ إِذَا كَانَ بِإِذْنِ مَالِكِ الْأَرْضِ مُطْلَقًا قَالَ الْمُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ الْقِيَاسُ عِنْدِي وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ أَنَّهُ إِذَا أَجَّلَ لَهُ أَجَّلَ لَهُ أَجَلًا يَغْرِسُ فِيهِ فَانْقَضَى الْأَجَلُ أَوْ أَذِنَ لَهُ بِبِنَاءٍ فِي عَرْصَةٍ لَهُ سِنِينَ وَانْقَضَى الْأَجَلُ أَنَّ الْأَرْضَ وَالْعَرْصَةَ مَرْدُودَتَانِ لِأَنَّهُ لَمْ يُعِرْهُ شَيْئًا فَعَلَيْهِ رَدُّ مَا لَيْسَ لَهُ فِيهِ حَقٌّ عَلَى أَهْلِهِ وَلَا يُجْبَرُ صَاحِبُ الْأَرْضِ عَلَى غِرَاسٍ وَلَا بِنَاءٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَ يَقُولٌّ: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النِسَاء: 29] وَهَذَا قَدْ مَنَعَ مَالَهُ إِلَّا أَنْ يَشْتَرِيَ مَا لَا يَرْضَى شِرَاءَهُ فَأَيْنَ التَّرَاضِي". قال في الحاوي: وصورتها فيمن استأجر أرضًا ليبني فيها ويغرس فانقضى الأجل، والبناء والغراس قائم في الأرض، فليس له بعد انقضاء الأجل أن يحدث بناء ولا غرسًا، فإن فعل كان متعديًا وأخذ بقلع ما أحدثه بعد الأجل من غرس وبناء فأما القائم في الأرض قبل انقضاء الأجل فلا يخلو حالهما فيه عند العقد من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يشترطها قلعه عند انقضاء المدة فيؤخذ المستأجر بقلع غرسه وبنائه لما تقدم من شرطه، وليس عليه تسوية ما حدث من حفر الأرض لأنه مستحق بالعقد.

والثانية: أن يشترطا تركه بعد انقضاء المدة، فيقر ولا يفسد العقد بهذا الشرط لأنه من موجباته لو أخل بالشرط ويصير بعد انقضاء المدة مستعيرًا، مذهب الشافعي رضي الله عنه فلا تلزمه أجرة، وعلى مذهب المزني عليه أجرة ما لم يصرح له بالعارية، فإن قلع المستأجر غرسه وبناءه لزمه تسوية ما حدث من حفر الأرض لأنه لم يستحقه بالعقد، وإنما استحقه بالملك. وهذا قول جميع أصحابنا، وإنما اختلفوا في تعليله، فقال بعضهم: العلة فيه أنه لم يستحقه بالعقد، وهو التعليل الذي ذكرناه، فعلى هذا لو قلعه قبل انقضاء المدة لم يلزمه تسوية الأرض. والثالثة: أن يطلقا العقد فلا يشترطان فيه قلعه ولا تركه فينظر، فإن كان قيمة الفرس والبناء مقلوعًا كقيمته قائمًا أخذ المستأجر بقلعه لأنه لا ضرر يلحقه فيه، ولا نقص، وإن كان قيمته مقلوعًا أقل من قيمته قائمًا- وهو الأغلب- نظرًا فإن بذل رب الأرض قيمة الغرس والبناء قائمًا أو ما بين قيمته قائمًا أو مقلوعًا لم يكن للمستأجر تركه، لأن ما يدخل عليه من الضرر بقلعه يزول ببذل القيمة أو النقص وقيل: لا نجبرك على أخذ القيمة، ولكن نخيرك بين أن تقلعه، أو تأخذ قيمته، وليس لك إقراره وتركه. وإن لم يبذل رب الأرض قيمة الغرس والبناء ولا قدر النقص نظر في المستأجر فإن امتنع من بذل أجرة المثل بعد تقضي المدة لم يكن له إقرار الغرس والبناء وأخذ بقلعه، وإن بذل أجرة المثل مع امتناع رب الأرض من بذل القيمة أو النقص فمذهب الشافعي وجمهور أصحابه أن الغرس والبناء مقر لا يؤخذ المستأجر بقلعهما، ويؤخذ أجرة مثلهما، وقال أبو حنيفة والمزني ويؤخذ المستأجر بقلعهما ولا يجبر رب الأرض بعد انقضاء المدة على تركهما استدلالًا بما ذكره المزني من قول الله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [الّنِسَاء:29]. وليس من رب الأرض رضي بالترك فلم يجبر عليه، ولأنه لما أخذ بقلع زرعه عند انقضاء المدة لم يقر إلى أوان حصاده مع أن زمان حصاده محدود فلأن يؤخذ بقلع الغرس والبناء مع الجهل بزمانهما أولى، ولأن تحديد المدة يوجب اختلاف الحكم في الاستيفاء كما أوجب اختلاف الحكم في إحداث الغرس والبناء. وهذا المذهب أظهر حجاجًا وأصح اجتهادًا واستدل أصحابنا على تركه وإقراره بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لعرق ظالم حق". فاقتضى ذلك وقوع الفرق بين الظالم والمحق، فلم يجز أن يسوى بينهما في الأخذ بالقلع، قالوا ولأن من أذن لغيره في إحداث حق في ملكه كان محمولًا فيه على العرف المعهود في مثله كمن أذن لجاره في وضع أجذاعه في جداره كان عليه تركه على الأبد، ولم يكن له أخذه بقلعها لأن العادة جارية باستدامة تركها، كذلك الغرس والبناء العادة فيهما جارية بالترك والاستيفاء، دون التقلع والتناول فحملا على العادة فيهما، وهذا الاستدلال يفسد بالزرع لأن العادة جارية بتركه إلى أوان حصاده ثم هي غير معتبرة حين يؤخذ بقلعه والله أعلم.

فصل: وإذا كانت الإجارة فاسدة، فبنى المستأجر فيها وغرس فهو في الإقرار والترك على ما ذكرناه في الإجارة الصحيحة، لأن الفاسد من كل عقد حكمه حكم الصحيح في الأمانة والضمان. فصل: وإذا أراد المستأجر بيع بنائه وغرسه قائمًا في الأرض فإن باعه على رب الأرض جاز، وإن باعه على غيره ففي البيع وجهان: أحدهما: باطل لأن ملك المستأجر عليه غير مستقر، لأن رب الأرض متى بذل له قيمته أجبر على أخذها أو قلعه. والثاني: أن البيع جائز لأن ما يخاف من زوال ملكه في الثاني لا يمنع من جواز بيعه في الحال كالمبيع إذا استحقت فيه الشفعة. وهكذا رب الأرض إذا أراد بيعها فإن باعها على مالك الغرس والبناء جاز وإن باعها على غيره كان على هذين الوجهين. ولكن لو اجتمع رب الأرض وصاحب الغرس والبناء على البيع جاز وكان الثمن مقسطًا على القيمتين. فصل: فأما إذا أراد المزارع بيع الأكارة والعمارة فقد قال أبو حنيفة: إن كانت له إثارة جاز له بيعها، وإن لم يكن له إثارة لم يجز لأنه يصير إدخال يد بدلًا من يده بثمن. وقال مالك: يجوز له بيعها في الأحوال كلها ويجعل الأكار شريكًا لرب الأرض بعمارته، وعلى مذهب الشافعي رضي الله عنه لا يجوز بيع العمارة ما لم تكن أعيانًا لأن عمارة الأرض تبع لها. فصل: وإذا دفع الرجل أرضه إلى رجل ليبني فيها ويغرس على أن يكون ذلك بينهما نصفين لم يجز، وكانت الأرض على ملك ربها، والغراس والبناء على ملك ربه، وله إقراره ما بقي. وعليه أجرة المثل، وقال مالك يجوز أن يدفع الرجل أرضه إلى رجل ليغرسها فسيلًا، فإذا صارت الفسيلة على ثلاث سعفان كانت الأرض والنخل بينهما وهذا مذهب يغني ظهور فساده عن إقامة دليل عليه.

فصل: وإذا وقف صاحب الغرس والبناء غرسه وبناءه قائمًا صح للوقف ولم يكن لرب الأرض أن يبذل له قيمة ذلك قائمًا لأنه وقف لا يصح بيعه، وله أن يأخذ الواقف بقلعه إن بذل له أرض نقصه، فإذا قلعه لزمه أن ينقله إلى أرض أخرى يكون وقفًا فيها جاريًا على سبيله. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "وَمَا اكْتَرَى فَاسِدًا وَقَبَضَهَا وَلَمْ يَزْرَعْ وَلَمْ يَسْكُنْ حَتَى انْقَضَتِ السَّنَةُ فَعَلَيْهِ كِرَاءُ الْمِثْلِ". قد ذكرنا أن ما قبضه المستأجر عن عقد صحيح فمنافعه مضمونة عليه سواء تصرف فيه أو لم يتصرف، فأما ما قبضه عن عقد فاسد من أرض أو دار فهو أيضًا ضامن لأجرة مثلها سواء سكن وتصرف أو لم يسكن ولم يتصرف. وقال أبو حنيفة: إن تصرف ضمن الأجرة، وإن لم يتصرف لم يضمنها استدلالًا بأنه عقد لا يستحق فيه التسليم فلم يستحق فيه العوض إلا بالانتفاع، كالنكاح الفاسد طردَا، والصحيح عكسًا. ودليلنا هو أنها منافع يضمنها في العقد الصحيح فوجب أن يضمنها في العقد الفاسد، وإن تصرف، ولأن ما ضمنه من المنافع بالتصرف ضمنها بالتلف على يده من غير تصرف كالعقد الصحيح، ولأن المنافع جارية مجرى الأعيان في المعاوضة والإباحة، ثم ثبت أن ما قبض من الأعيان عن عقد فاسد فهو مضمون عليه، سواء تلف بتصرفه، أو غير تصرفه كالعقد الصحيح وجب أن تكون المنافع إذا تلفت مضمونة في العقد الفاسد كضمانها في العقد الصحيح. فأما الجواب عن قياسه على النكاح الفاسد، فهو أنه إن كانت المنكوحة حرة فالحرة لم تزل يدها عن نفسها ولا عن بضعها فلذلك لم يضمن مهر بضعها إلا بالتصرف وإن كانت أمة فإنه وإن استقر الغصب على منافعها فهو غير مستقر على بضعها بل يدها عليه أثبت، ولذلك وجب على الغاصب أجرة مثلها، استخدم أو لم يستخدم، ولم يجب عليه مهر مثلها ما لم يستمتع بها، ولذلك منع سيد الأمة من بيعها إذا غصبت لأن يد الغاصب حائلة، ولم يمنع من تزويجها إذا غصبت، لأنه ليس للغاصب على البضع يد حائلة، والله أعلم وأحكم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "فَإِذَا اكْتَرَى دَارًا سَنَةً فَغَصَبَهَا رَجُلٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ كِرَاءٌ لِأَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ مَا اكْتَرَى".

قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا غصبت الأرض المستأجرة من يد المستأجر فله الفسخ، وهل تبطل الإجارة بالغصب على قولين: أصحهما: باطلة، والمستأجر بريء من أجرة مدة الغصب، ولا يكون المستأجر خصمًا للغاصب فيها لأن خصم الغاصب إنما هو المالك أو وكيله، وليس المستأجر مالكًا ولا وكيلًا، فلم يكن خصمًا. والثاني: أن الإجارة لا تبطل، لأن غاصبها ضامن لمنافعها، لكن يكون المستأجر بحدوث الغصب مخيرًا بين المقام والفسخ، فإن فسخ سقطت عنه الأجرة، ولم يكن خصمًا للغاصب فيها، وإن أقام فعليه المسمى، ويرجع بأجرة المثل على الغاصب، ويصير خصمًا له في الأجرة دون الرقبة، إلا أن يبقى من مدة الإجارة شيء، فيجوز أن يصير خصمًا في الرقبة ليستوفي حقه من المنفعة. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "وَإِذَا اكْتَرَى أَرْضًا مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ أَوِ الْخَرَاجِ فَعَلَيْهِ فِيمَا أُخْرِجَتِ الصَّدَقَةُ خَاطَبَ اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَهَذَا مَالُ مُسْلِمٍ وَحَصَادُ مُسْلِمٍ فَالزَّكَاةُ فِيهِ وَاجِبَةٌ". قال في الحاوي: وجملة الأرضين ضربان، أرض عشر، وأرض خراج، فأما أرض العشر فهو ما أحياه المسلمون أو غنموه فاقتسموه، أو أسلموا عليه فملكوه، فالعشر في زرعها واجب إن زرعها مسلم، ولا عشر فيه إن كان الزرع لمشرك. وقال أبو حنيفة: إذا اشترى الذمي أرض عشر صارت أرض خراج ولا تعود إلى العشر أبدًا. وقال أبو يوسف وابن أبي ليلى: يضاعف عليه العشر ويكون فيئًا، فإن عادت إلى مسلم حولت إلى العشر. وقال مالك: يجبر الذمي على بيعها، ولا تقر في يده، ولا يؤخذ منه عشر وعلى مذهب الشافعي رضي الله عنه أن أرض العشر لا تنتقل إلى الخراج أبدًا فإن ملكها ذمي أقرت في يده ولا عشر عليه، وإن ملكها مسلم أخذ منه العشر عن زرعها. فلو أجرها المالك وزرعها المستأجر كان عشر زرعها واجبًا على الزارع المستأجر دون المؤجر المالك. وقال أبو حنيفة: على المؤجر دون المستأجر، لأنه قد عاوض على الأرض فانتقل الحق إليه، وهذا خطأ لقوله تعالى: {وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] ولقوله صلى الله عليه وسلم: "فيما سقت السماء العشر".

ولأن من ملك زرعًا التزم عشره إن كان من أهله كالمستعير، ولأن اعتياض المؤجر عن منافع الأرض لا يوجب التزام حقوق الزرع كالنفقة. فصل: وأما أرض الخراج فضربان خراج يكون جزية، وخراج يكون أجرة، فالخراج الذي يكون جزية هو ما ضربه الأئمة على أرض أهل العهد مع إقرارها على ملكهم، فهذه الأرض إن زرعها أهل العهد وجب عليهم الخراج دون العشر، وإن أسلموا أو انتقلت عنهم إلى مسلم وجب العشر في زرعها وسقط الخراج، فإن استأجرها منه مسلم وجب الخراج عليهم لبقاء ملكهم عليها، ووجب العشر على المسلم لملكه للزرع، وأما الخراج الذي يكون أجرة كأرض السواد التي ضرب عمر رضي الله عنه عليها خراجًا جعله إما ثمنًا وإما أجرة على اختلاف الناس فيه فلا يسقط عن رقاب الأرض بإسلام أهلها، فإن زرعها مسلم هي بيده لزمه الحقان الخراج عن الرقبة والعشر عن الزرع. وقال أبو حنيفة: عليه الخراج وحده دون العشر لأن لا يجتمع فيها حقان، وقد دللنا عليه في كتاب الزكاة في إيجاب الحقين معًا بما أغنى عن إعادته، ولو كان إسقاط أحد الحقين بالآخر لكان العشر المستحق بالنص أثبت وجوبًا من الخراج المضروب عن اجتهاد. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي اكْتِرَاءِ دَابَّةٍ إِلَى مَوْضِعٍ، أَوْ فِي كِرَائِهَا أَوْ فِي إِجَارَةِ الْأَرْضِ تَحَالَفَا فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الرُّكُوبِ وَالزَّرْعِ تَحَالَفَا وَتَرَادَّا وَإِنْ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ كِرَاءُ الْمِثْلِ ". قال في الحاوي: إذا اختلف المتكاريان في قدر الأجرة أو في قدر المدة أو في قدر المسافة تحالفا كما يتحالف المتبايعان إذا اختلفا، فإن أقام كل واحد منهما ببينته تعارضتا وفيهما قولان: أحدهما: تسقط البينتان ويتحالفان. والثاني: يقرع بينهما فأيهما قرعت يحكم بها. وقال أبو حنيفة: إن اختلفا في قدر المسافة فقال رب الدابة اكتريتها من مكة إلى الكوفة فقال الراكب إلى بغداد فالقول قول رب الدابة مع يمينه، ولو أقاما على ذلك بينة فالبينة بينة الراكب لأنها أزيد، ولو قال رب الدابة اكتريتها بعشرين وقال الراكب بعشرة فالقول قول الراكب، فإن أقاما بينة فالبينة بينة رب الدابة لأنها أزيد.

وهذا مردود باختلاف المتبايعين لأنهما معًا اختلفا في صفة عقد معاوضة فاقتضى أن يستويا في التحالف. فإذا اختلفا وفسخ العقد بينهما إما بالتحالف أو بالفسخ الواقع بعد التحالف على ما مضى في البيوع نظر فإن لم يمض من المدة شيء ترادا الكراء والمكرى، وإن مضت المدة التزم المكتري أجرة المثل واسترجع المسمى، وسواء كانت أجرة المثل أقل مما ادعاه المكري أو أكثر لأنها قيمة متلف. فصل: وليس لمؤجر الأرض أن يحتبس الأرض على المستأجر على دفع الأجرة، ولا للحمال أن يحبس ما استؤجر على حمله من المتاع ليأخذ الأجرة لأنه في يده أمانة وليس برهن، فأما الصانع المستأجر على عمل من خياطة أو صياغة أو صبغ هل له احتباس ما بيده من العمل على أجرته؟ فيه وجهان. أحدهما: ليس له ذاك قياسًا على ما ذكرنا. والثاني: له ذاك: لأن عمله ملك له كالبائع والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى:"وَلَوْ قَالَ رَبُّ الْأَرْضِ بِكِرَاءٍ وَقَالَ الْمُزَارِعُ عَارِيَةٌ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الْأَرْضِ مَعَ يَمِينِهِ وَيَقْلَعُ الزَّارِعُ زَرْعَهُ وَعَلَى الزَّارِعِ كِرَاءُ مِثْلِهِ إِلَى يَوْمِ قَلْعِ زَرْعِهِ وَسَوَاءٌ كَانَ فِي إِبَانِ الزَّرْعِ أَوْ غَيْرِهِ قَالَ الْمُزَنِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ فِي كِتَابِ الْعَارِيَةِ فِي رَاكِبِ الدَّابَّةِ يَقُولُ أَعَرْتَنِيهَا وَيَقُولُ بَلْ أَكْرَيْتُكَهَا إِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الرَّاكِبِ مَعَ يَمِينِهِ وَخِلَافُ قَوْلِهِ فِي الْغَسَّالِ يَقُولُ صَاحِبُ الثَّوْبِ بِغَيْرِ أُجْرَةٍ وَيَقُولُ الْغَّسَالُ بِأُجْرَةٍ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ صَاحِبِ الثَّوْبِ وَأَوْلَى بِقَوْلِهِ الَّذِي قَطَعَ بِهِ فِي كِتَابِ الْمُزَارَعَةِ. وَقَدْ بَيَّنْتُهُ فِي كِتَابِ الْعَارِيَةِ". قال في الحاوي: قد مضت هذه المسألة في كتاب العارية مستوفاة ولكن نشير إليها لمكان إعادتها، فإذا اختلف رب الأرض وزارعها فقال ربها بأجرة وقال زارعها عارية قال الشافعي رضي الله عنه القول قول رب الأرض دون الزارع وقال في الدابة إذا اختلف ربها والراكب فقال ربها بأجرة وقال راكبها عارية أن القول قول الراكب دون ربها، فاختلف أصحابنا فكان أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة وجمهور أصحابنا ينقلون جواب كل مسألة إلى الأخرى، ويخرجونها على قولين ذكرنا توجيههما. وكان أبو العباس بن سريج يحمل جواب كل واحدة من المسألتين على ظاهرة، ويجعل القول في الدابة قول راكبها دون ربها، وفي الأرض القول قول ربها دون زارعها اعتبارًا بالعرف في إعارة الدواب وإجارة الأرضين. فإذا قيل إن القول قول رب الأرض والدابة فمع يمينه وله أجرة المثل فيما مضى

على أصح وجهي أصحابنا وفي الآخر المسمى وإذا قيل إن القول قول الزارع والراكب فلا أجرة عليه فيما مضى، وعليه رفع يده في المستقبل، فإن كان له في الأرض زرع فإن امتنع من أجرة المثل في المستقبل قلع، لأن قوله إنما قبل في الماضي دون المستقبل، وإن بذلها أقر زرعه، والله أعلم.

كتاب إحياء الموات

كتاب إحياء الموات مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "بِلَادُ الْمُسْلِمِينَ شَيْئَانِ عَامِرٌ وَمَوَاتٌ، فَالْعَامِرُ لِأَهْلِهِ وَكُلُّ مَا صَلَحَ بِهِ الْعَامِرُ مِنْ طَرِيقٍ وَفِنَاءٍ وَمَسِيلِ مَاءٍ وَغَيْرِهِ فَهُوَ كَالْعَامِرِ فِي أَنْ لَا يُمْلَكَ عَلَى أَهْلِهِ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ وَالْمَوَاتُ شَيْئَانِ: مَوَاتُ مَا قَدْ كَانَ عَامِرًا لِأَهْلِهِ مَعْرُوفًا فِي الْإِسْلَامِ ثُمَّ ذَهَبَتْ عِمَارَتُهُ فَصَارَ مَوَاتًا فَذَلِكَ كَالْعَامِرِ لِأَهْلِهِ لَا يُمْلَكُ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ. وَالْمَوَاتُ الثَّانِي مَا لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ فِي الْإِسْلَامِ يُعْرَفْ وَلَا عِمَارَةَ مِلْكٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا لَمْ يُمْلَكْ فَذَلِكَ الْمَوَاتُ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَحْيَا مَوَاتًا فَهُوَ لَهُ ". قال في الحاوي: والأصل في جواز إحياء الموات وحصول الملك بالإحياء رواية هشام بن عروة عن أبيه عن سعيد بن زيد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحيا أرضًا ميتة فهي له وليس لغرق ظالم حق". وروى وهب بن كيسان عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من أحيا أرضًا ميتة فيها أجر وما أكلت العوافي منها فهو له صدقة" والعوافي: جمع عاف وهو طالب الفضل. وروى نافع عن ابن عمر عن ابن أبي مليكة عن عروة قال: أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى أن الأرض أرض الله والعباد عباد الله ومن أحيا مواتًا فهو أحق به جاءنا بهذا عن النبي صلى الله عليه وسلم الذين جاءوا بالصلوات عنه. وروى شعبة عن قتادة عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحاط حائطًا على أرض فهي له". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "موتان الأرض للهِ ورسوله ثم هي لكن مني". وروى الشافعي عن سفيان عن طاوس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عمارات الأرض لله ورسوله ثم هي لكم فيء"، ولأن ما لم يجر عليه ملك نوعان: أرض، وحيوان، فلما

ملك الحيوان إذا ظهر عليه بالاصطياد ملك موات الأرض إذا ظهر عليه بالإحياء. فصل: فإذا تقرر جواز الإحياء قال الشافعي: بلاد المسلمين شيئان: عامر، وموات، وإنما خص الشافعي بلاد المسلمين بما ذكره من قسمي العامر والموات، وإن كانت بلاد الشرك قسمين: عامر وموات لما ذكره من أن عامر بلاد المسلمين لأهله لا يملك عليه إلا بإذنهم وعامر بلاد الشرك قد يملك عليهم قهرًا وغلبة بغير إذنهم وإذا كان كذلك بدأنا بذكر العامر من بلاد المسلمين ثم بمواتهم أما العامر فلأهله الذين قد ملكوا بأحد أسباب التمليك وهي ثمانية: أحدها: الميراث. والثاني: المعاوضات. والثالث: الهبات. والرابع: الوصايا. والخامس: الوقف. والسادس: الصدقات. والسابع: الغنيمة. والثامن: الإحياء. فإذا ملك عامرًا من بلاد الإسلام بأحد هذه الأسباب الثمانية صار مالكًا له ولحريمه ومرافقه من فناء وطريق ومسيل ماء وغير ذلك من مرافق العامر التي لا يستغني العامر عنها، فلا يجوز أن يملك ذلك على أهل العامر بإحياء ولا غيره، فمن أحياه لم يملكه وقال داود بن علي: حريم العامر كسائر الموات من أحياه فقد ملكه استدلالًا بقوله صلى الله عليه وسلم من أحيا أرضًا مواتًا فهي له، وهذا خطأ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا حمى إلا في ثلاث: ثلة البئر، وطول الفرس، وحلقة القوم". وثلة البئر: هو ملقى طينها وطول الفرس وهو ما انتهى الفرس إليه بحبله الذي قد ربط به وحلقة القوم فإنه نهى منه عن الجلوس وسط الحلقة، ولأن حريم العامر قد كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم على عهد خلفائه مقرًا على أهله لم يتعرض أحد لإحيائه مع ما انتهوا إليه عند كثرتهم من ضيق العامر بهم، ولأنه لو جاز إحياء حريم العامر ومنع أهله منه بالإحياء ليبطل العامر على أهله وسبط الانتفاع به، لأنه يقضي إلى أن يبني الرجل دارًا يسد بها باب جاره فلا يصل الجار إلى منزله وما أدى إلى هذا من الضرر كان ممنوعًا منه، وليس الحريم مواتًا فيصح استدلال داود عليه. فصل: وأما الموات فضربان: أحدهما: ما لم يزل على قديم الدهر مواتًا لم يعمر قط هذا هو الموات الذي قال

فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضًا مواتًا فهي له" فمن أحيا من المسلمين فقد ملكه وإن أحياه ذمي لم يملكه. وقال أبو حنيفة: يملكه الذمي بالإحياء كالمسلم استدلالًا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضًا مواتًا فهي له" ولأنها أعيان مباحة فجاز أن يستوي في تملكها المسلم والذمي كالصيد، والحطب، ولأن من صح أن يملك بالاصطياد والاحتطاب صح أن يملك بالإحياء كالمسلم، ولأنه سبب من أسباب التمليك فوجب أن يستوي فيه المسلم والذمي كالبيع. ودليلنا: قوله تعالى صلى الله عليه وسلم: "الأرض للهِ ورسوله ثم هي لكم" فواجه المسلمين بخطابه وأضاف ملك الموات إليهم فدل على اختصاص الحكم بهم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" إشارة إلى إجلائهم حتى أجلاهم عمر رضي الله عنه من الحجار فلما أمر بإزالة أملاكهم الثابتة فأولى أن يمنعوا من أن يستحبوا أملاكًا محدثة، لأن استدامة الملك أقوى من الاستحداث، فإذا لم يكن لهم الأقوى فالأضعف أولى؛ ولأن من لم يقر في دار الإسلام إلا بجزية منع من الإحياء كالمعاهد، ولأن ما كل يملكه الكافر قبل عقد الجزية لم يملكه بعد عقد الجزية. أصله: نكاح المسلمة؛ ولأنه نوع تمليك ينافي كفر الحربي فوجب أن ينافيه كفر الذمي كالإرث من مسلم. فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضًا مواتًا فهي له" فهو أن هذا لخبر وارد في بيان ما يقع به الملك. وقوله: "ثم هي لكم مني" وارد في بيان من يقع له الملك فصار المعنى في كل واحد منهما فيما قصد له قاضيًا على صاحبه فصار الخبران في التقدير كقوله: "من أحيا أرضًا مواتًا من المسلمين فهي له". وأما الجواب عن قياسهم على الصيد والحطب فهو أنه منتفض بالغنيمة حيث لم يستو المسلم والذمي فيها مع كونها أعيانًا مباحة ثم لو سلم من النقص لكان المعنى في الصيد والحطب أن لا ضرر على المسلم فيه إذا أخذه الكافر وليس الإحياء. ولذلك لم يمنع المعاهد من الاصطياد والاحتطاب وإن منع الإحساء فكان المعنى الذي فرقوا به في المعاهد بين إحياءه واصطياده هو فرقنا في الذمي بين إحيائه واصطياده وهو الجواب عن قياسهم والثاني يكون لصغار الذمة فاستغلى على من خالف الملة. وأما الجواب عن قياسهم على البيع فهو أنه منتقض بالزكاة؛ لأنها بسبب من أسباب التمليك الذي يختص بها المسلم دون الذمي، ثم المعنى في البيع أنه لما جاز أن يملك به المعاهد جاز ان يملك به الذمي ولما لم يجز في الإحياء أن يملك به المعاهد لم يملك به الذمي.

فصل: والثاني من الموات: ما كان عامرًا ث خرب فصار بالخراب مواتًا فذلك ضربان: أحدهما: أن يكون جاهليًا لم يعمر في الإسلام فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون قد خرب قبل الإسلام حتى صار مواتًا مندرسًا كأرض عاد وتبع فهذا كالذي لم يزل مواتًا يملكه من أحياه من المسلمين لقوله صلى الله عليه وسلم: "الأرض للهِ ورسوله ثم هي لكم مني". والثاني: ما كان باقي العمارة إلى وقت الإسلام ثم خرب وصار مواتًا قبل أن يصير من بلاد الإسلام فهذا على ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يرفع أربابه أيديهم عنه قبل القدرة عليه فهذا يملك بالإحياء كالذي لم يزل مواتًا. والثاني: أن يتمسكوا به إلى حين القدرة عليه فهذا يكون في حكم عامرهم لا يملك بالإحياء. والثالث: أن يجهل حاله فلا يعلم هل رفعوا أيديهم عنه قبل القدرة عليه أم لا؟ ففي جواز تملكه بالإحياء وجهان كالذي جهل حاله. فصل: والثاني: في الأصل ما كان عامرًا من بلاد الإسلام ثم خرب حتى ذهبت عمارته، واندرست آثاره فصار مواتًا، فقد اختلف الفقهاء في جواز تملكه بالإحياء على ثلاثة مذاهب: فمذهب الشافعي منها: أنه لا يجوز أن يملك بالإحياء، سواء عرف أربابه أو لم يعرفوا. وقال مالك: يصير كالموات الجاهلي يملكه من أحياه سواء عرف أربابه أو لم يعرفوا. وقال أبو حنيفة: إن عرف أربابه فهو على ملكهم لا يملك بالإحياء، وإن لم يعرفوا ملك الإحياء، استدلالًا بعموم قوله صلى الله عليه وسلم: من أحيا أرضًا مواتًا فهي له، وحقيقة الموات: ما صار بعد الإحياء مواتًا، وما يزل مواتًا فإنما يسمى مجازًا، قالوا: ولأن ما صار مواتًا من العامر زال عن حكم العامر كالجاهل، ولأنه موات فجاز إحياؤه كسائر الموات؛ ودليلنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطبيب نفس منه" وهذا مال مسلم.

وروى عروة عن عائشة رضي الله عنها قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضًا ميتة ليست لأحد فهو أحق بها" فجعل زوال الملك عن الموات شرطًا في جواز ملكه بالإحياء فدل على أن ما جرى عليه ملك لم يجز أن يملك بالإحياء، وروى أسمر بن مضرس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من سبق إلى ما لم يسبقه إليه مسلم فهو له مال" فخرج الناس تبعًا يتخاطبون، وهذا نصن ولأنها أرض استقر عليها ملك مسلم فلم يجز أن تملك بالإحياء كالذي بقيت آثارها مع مالك، وكالذي تعين أربابها مع أبي حنيفة، ولن ما صار مواتًا من عامر المسلمين لم يجز أن يملك بالإحياء كالأوقاف والمساجد. وأما استدلالهم بقوله صلى الله عليه وسلم: من أحيا أرضًا مواتًا فهي له فهو دليل عليهم، لأن الأول قد أحياها فوجب أن يكون أحق بها من الناس لأمرين: أحدهما: أنه أسبق. والثاني: أن ملكه قد ثبت باتفاق. وأما الجواب عن قياسهم على الجاهل وعلى الذي لم ينزل أمواتًا فالمعنى فيهما أنهما لم يجر عليهما ملك مسلم. فصل: فإذا تقرر أن إحياؤه لا يجوز فإن عرف أربابه فهو أحق به ولهم بيعه إن شاءوا، وإن لم يعرف أربابه فقد اختلف أصحابنا هل يجوز للإمام أن يعطيه من يعمره أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا يجوز لاستقرار الملك عليه. والثاني: لا يجوز إذا رأى ذلك صلاحًا، لقيامه بالنظر العام، وهذان الوجهان حكاهما أبو القاسم بن كج. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَعَطِيَّتُهُ صلى الله عليه وسلم عَامَّةً لِمَنْ أَحْيَا المَوَاتَ أَثْبَتُ مِنْ عَطِيَّةِ مَنْ بَعْدَهُ مِنْ سُلْطَانِ وَغَيْره". قال في الحاوي: وهذا كما قال. الموات يملك بإحيائه من غير إذن الإمام وإقطاعه وبه قال أبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: من أحيا مواتًا بغير إذن الإمام لم يملكه وانتزعه من يده وقال مالك: إن كان للأرض ثمن ويشاع الناس عليها ويتنافسون فيها لم يجز إحياؤها إلا بإذن الإمام، وإن كانت مهملة جاز بغير إذنه، واستدل من منع من إحياؤها بغير إذنه، واستدل من منع من إحيائها بغير إذن الإمام بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس للمرء إلا ما طابت به

نفس إمامه، ولأن ما ثبت أصوله من المباحات لم يملك بغير إذن الإمام كالمعادن، ولأن وجوه المصالح إذا كان اجتهاد للإمام فيها يقطع الاختلاف والتنازع فيها كان إذن الإمام شرطًا في ثبوت ملكها قياسًا على بيت المال، ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: من أحيا أرضًا مواتًا فهي له، فكان على عمومه فيما كان بإذنه الإمام بغير إذنه، ولأن ما يبتدئ المسلم بملكه لا يفتقر إلى إذن الإمام كالصيد، ولأن كل ما لا يفتقر بملك الصيد إليه لم يفتقر إلى إذن الإمام كالصيد ولأن كل ما لا يفتقر بملك الصيد إليه ما لم يفتقر الإحياء له كإذن غير الإمام، ولأن كل ما لا ينحصر على الإمام الإذن فيه لم يفتقر الإحياء له كإذن غير الإمام، ولأن كل مال لم يملكه مسلم لم يفتقر المسلم في تملكه إلى إذن الإمام كالغنائم، ولأنه نوع تمليك فلم يفتقر إلى إذن الإمام كالبيع والهبة، ولأن الإذن في التمليك إنما يستفاد به رفع الحجر عن المتملك والموات مرفوع الحجر عنه فلم يفده الإذن صحة التمليك، فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: "موتان الأرض لله ورسوله ثم هي لكم مني". والثاني: أنه عام من أمواله الفيء وأنواع الغنائم وسائر المصالح فخض الموات منه، بقوله صلى الله عليه وسلم: طمن أحيا أرضًا موات فهي له"، وأما الجواب عن قياسه على المعادن فهو ان المعادن أموال في الحال يتوصل إلى أخذها بالعمل فصارت كأموال بيت المال وليس كذلك الموات، لأنه ليس بمال ولو جاز أن يستويا في كونهما مالًا، لأن الموات قد يصير مالًا لكان المعنى في أموال البيت المال أن إذن الإمام فيها محصور، وفي الموات غير محصور، فإذا ثبت أن الموات يجوز بإذن الإمام وبغير إذنه فكل مسلم أحياه من رجل أو امرأة أو صبي أو مجنون فقد ملكه وملك حريمه الذي لا يستغني عنه، فإن خرب بعد إحيائه حتى صار مواتٍا لم يزل عنه ملك ملكه. وقال مالك: قد زال ملكه بزوال العمارة فإن إحياها غيره كان أحق بها وقد مضى الكلام معه. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "سَوَاءٌ كَانَ إِلَى جَنْبِ قَرْيَةٍ عَامِرَةٍ أَوْ حَيْثُ كَانَ وَقَدْ أَقْطَعَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم الدُّورَ فَقَالَ حَيٌّ مِنْ بَنِي زُهْرَةَ يُقَالُ لَهُمْ بَنُو عَبْدِ بْنِ زَهْرَةَ نَكَبَ عَنَّا ابّن أُمِّ عَبْدٍ فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَلِمَ ابْتَعَثَنِي اللهُ إِذَنْ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَا يُقَدِّسُ أُمَّةً لَا يُؤْخَذُ فِيهِمْ لِلضَّعِيفِ حَقُّهُ" وَفِي ذَلِكَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْطَعَ بِالمَدِينَةِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ عِمَارَةِ الأَنْصَارِ مِنَ المَنَازِلِ وَالنَّخْلِ وَإِنَّ ذَلِكَ لأَهْلِ العَامِرِ وَدَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَا قَارَبَ العَامِرَ يَكُونُ مِنْهُ مَوَاتٌ". قال في الحاوي: وهذا صحيح هذه المسألة تشتمل على فصلين:

أحدهما: في حد الموات إذا اتصل بعامر. والثاني: هل يستوي فيه جميع الناس أو يختص به أهل العامر، فأما الفصل الأول في حد الموت فقد اختلف الفقهاء فيه فمذهب الشافعي: أن الموات كله ما لم يكن عامرًا ولا حريمًا لعامر سواء قرب من العامر أو بعد، وقال أبو حنيفة: الموات هو كل أرض لا يبلغها الماء وتبعد من العامر وليس عليها ملك لأحد، وقال أبو يوسف: أرض الموات كل ارض إذا وقف على أدناها من العامر ينادي بأعلى صوته لم يسمعه أقرب الناس إليها في العامر، استدلالًا بما رواه عن أبي بكر بن محمد عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أحيا أرضًا دعوة من المصر أو قال فيه من المصر فهي له". ودليلنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتطع بين ظهراني عمارة الأنصار ولأن البلاد المحياة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم على عهد خلفاء متصلة العمارة متلاحقة الجذور ولو كان على ما قالوا لوجب أن يفصل بين كل عمارتين بما ذكروه من التحديد، وما استدل به من حديث جابر فهو دليل عليه؛ لأن فحواه أن ما قرب من المصر جاز إحياؤه. فصل: وأما الفصل الثاني من الموات إذا قرب من العامر فإن الناس كلهم يتساووه في إحيائه ولا يكون أهل العامر أحق به، وقال مالك: أهل العامر أحق بإحيائه من غيرهم، والدلالة عليه عموم قوله صلى الله عليه وسلم: من أحيا أرضًا مواتًا فهي له، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد اقتطع بين ظهراني عمارة الأنصار لابن مسعود واقتطع المدينة وهو متصل بها، وأقطع للزبير بالبقيع رقض فرسه، وروى علقمة بن نضلة أن أبا سفيان بن حرب قام بفناء داره فضرب برجله وقال: لي سنام الأرض ان لها سنامًا زعم ابن فرقد الأسلمي أني لا أعرف حقي من حقه، لي بياض المروة وله سوادها، ولي ما بين كذا إلى كذا فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: ليس لأحد إلا ما أحاطت به جدرانه ولا يملك إلا ما حفر أو زرع، ولأن ما يملك أهل العامر لم يكن لهم المنع من إحيائه قياسًا على البعيد من عامره. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَالمَوَاتُ الَّذِي للسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهُ مَنْ يُعَمِرُهُ خَاصَّةً وَأَن يَحْمِي مِنْهُ مَا يَرَى أَنْ يَحْمِيَهُ عَامًّا لِمَنَافِع المُسْلِمِينَ وَالَّذِي عَرَفْنَا نَصًّا فَيمَا حَمَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ حَمَى النَّقِيعَ وَهُوَ بَلَدٌ لَيْسَ بِالوَاسِعِ الَّذِي إِذَا حُمِيَ ضَاقَتِ البِلَادُ عَلَى أَهْل المَوَاشِي حَوْلَهُ وَأَضَرَّ بِهِمْ وَكَانُوا يَجِدُونَ فِيمَا سِوَاهُ مِنَ البِلَادِ سَعَةٌ لأَنْفُسِهِمْ وَمَوَاشِيهِمْ وَأَنَّهُ قَلِيلٌ مِنْ كَثِيرٍ مُجَاوِزٍ لِلْقَدْرِ وَفِيهِ صَلَاحٌ لِعَامَّةِ المُسْلِمِينَ بِأَنْ تَكُونَ الخَيْلُ المُعَدَّةُ لِسَبيلِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَاَلَى وَمَا فَضُلَ مِنْ سَهْمَانِ أَهْلِ الصَّدقَاتِ وَمَا فَضُلَ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي تُؤْخَذُ مِنَ الجِزْيَةِ تُرْعَى جَمِيعُهَا فِيهِ فَأَمَّا الخَيْلُ فَقُوَّةٌ لِجَمِيعِ المُسْلِمِينَ وَمَسْلَكُ سَبِيلِها أَنَّهَا لأَهْلِ الفَيْءِ والمُجَاهِدِينَ وَأَمَّا النَّعَمُ الِّتِي تَفْضُلُ عَنْ سُهْمَانِ أَهْلِ الصِّدَقَاتِ فَيُعَادُ بِهَا عَلَى أَهْلَهَا وَأَمَّا نَعَمْ الجِزْيَةِ فَقُوَّةٌ لأَهْلِ الفَيْءِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَلَا يَبْقَى مُسْلِمٌ إِلَّا

دَخَلَ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا خَصْلَةُ صَلَاحٍ فِي دِينِهِ أَوْ نَفْسِهِ أَوْ مَنْ يَلْزَمُهُ أَمْرٌ مِنْ قَرِيبٍ أَوْ عَامَّةٍ مِنْ مُسْتَحِقَّي المُسْلِمِينَ فَكَانَ مَا حَمَى عَنْ خَاصَّتِهِمْ أَعْظَمَ مَنْفَعَةً لِعَامَّتِهِمْ مِنْ أَهْلِ دِيِنِهِمْ وَقُوَّةً عَلَى مَنْ خَالَفَ دِينَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عَدُوهِمْ وَقَدَ حَمَى عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ الله عَنْهُ عَلَى هَذَا المَعْنَى بَعْدَ رَسُولِ اللهِ عَنْهُ عَلَى هَذَا المَعْنَى بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَوَلَّى عَلَيْهِ مَوْلى لَهُ يُقَالُ لَهُ هَنِي وَقَالُ لَهُ: يَا هَنِي ضُمَّ جَنَاحَكَ لِلنَّاسِ وَاتَّقِ دَعْوَةَ المَظْلُوم فَإِنَّ دَعْوَةَ المَظْلُوم مُجَابَةٌ وَأَدْخَلَ رَبَّ الصَّرِيمَةِ وَرَبَّ الغَنِيمَةُ وَأَيَّايَ وَنَعَمَ ابْنَ عَفَّان وَنَعَمَ ابْنَ عَوْفٍ فَإنَّهُمَا إِنْ تَهْلِكْ مَاشِيَتِهَا يَرْجِعَانِ إِلَى نَخْلٍ وَزَرْعٍ وَإِنَّ رَبَّ الغَنِيمَةِ يَاتِينِي بِعِيَالِهِ فَيَقُولُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ أَفَتَارِكُهُمْ أَنَا؟ لَا أَبَا لَكَ وَالكَلَأ أَهْوَنُ مِنَ الدِّرْهَم وَالدِّينَارِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: وَلَيْسَ لِلإمَامِ أَنْ يَحْمِي مِنَ الأَرْضِ إِلَّا أَقَلَّهَا الَّذِي لَا يَتَبَيَّن ضَرَرُهُ عَلَى مَنْ حَمَاهُ عَلَيْهِ وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا حِمَى إِلَّا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، قَالَ وَكَانَ الرَّجُلُ العَزِيزُ مِنَ العَرَبِ إِذَا انْتَجَعَ بَلَداً مُخْصِباً أَوْ فَي بِكَلْبٍ عَلَى جَبَلٍ إِنْ كَانَ بِهِ أَوْ نَشَزَ إِنْ لَمْ يَكُنْ ثُمَّ اسْتَوَى كَلْباً وَأَوْقَفَ لَهُ مَنْ يَسْمَعُ مُنْتَهَى صَوْتِهِ بِالعُوَاءِ َفَحَيْثُ انْتَهَى صَوْتُهُ حَمَاهُ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ لِنْفِسِهِ وَيَرْعَى مَعَ العَامَّةِ فَيمَا سِوَاهُ وَيَمَنْعَ ُهَذَا مِنْ غِيْرِهِ لِضَعْفِ مَا شِيَتِهِ وَمَا أَرَادَ مَعَهَا فَنَرَى أَنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لَا حِمَى إِلَّا لِلهِ وَرَسُولِهِ" لَا حِمَى عَلَى هَذَا المَعْنَى الخَاص وَأَنَّ قَوْلَهُ: فَلِلِّهِ كُلُّ مَحْمِيٍّ وَغَيْرُهُ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم إِنَّمَا يَحْمِي لِصَلَاحِ عَامَّةِ المُسْلِمِينَ لَا لِمَا يَحْمِى لَهُ مِنْ خَاصَّةِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَمْلِكْ مَالاً إِلَّا مَا لَا غِنَى بِهِ وَبِعِيَالِهِ عَنْهُ وَمَصْلَحَتِهِمْ حَتَّى صَيَّرَ مَا مَلَّكَهُ اللهُ مِنْ خُمُسِ الخُمُسِ وَمَالِهِ إذَا حَبَسَ قُوتَ سَنَتَهَ مَرْدُوداَ فِي مَصْلَحَتِهِمْ فِي الكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ عُدَّةً فِي سَبِيلِ اللهِ وَلأَنَّ نَفْسَهُ وَمَالَهُ كَانَ مُفَرَّغاً لِطَاعَةِ اللهِ تَعَالَى". قال في الحاوي: أعلم أن هذا الباب يشتمل على ثلاثة أحكام تختص بالموات، وهي الإحياء، والإقطاع، والحمى، فأما الإحياء فقد ذكرنا جوازه ومن يجوز له وسنذكر صفته، وأما الإقطاع فإنه لا يصح غلا في موات لم يستقر عليه ملك، وعلى هذا كانت قطائع النبي صلى الله عليه وسلم حين أقطع الزبير رفض فرسه من موات البقيع فأجراه ثم رمى بسوطه رغبة في الزيادة فقال: أعطوه منتهى سوطه وأقطع راشد بن عبد ربه السلمي غلوة بسهم، وغلوة حجر برهاط، وأقطع العداء بن خالد بن هوذة ما يقال له سواح الوخيخ، وأقطع العباس بن مرداس منزله بالرشة إلى غير ذلك، فعلى هذا كانت قطائع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من شأن تميم الداري وأبي ثعلبة الخشني، فإن تميمًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطعه عيون البلد الذي كان منه بالشام قبل فتحه، وأبو ثعلبة سأل النبي صلى الله عليه وسلم أن يقطعه أرضًا كانت بيد الروم فأعجبه الذي قال فقال: ألا تسمعون ما يقول فقال: والذي بعثك بالحق ليفتحن عليك فكتبت له كتاب فاحتمل ذلك من فعله أن يكون أقطعها ذلك إقطاعًا تقيد لا إقطاع تمليك، ويجوز أن يكونا مخصوصين بذلك لتعلقه بتصديق إخبار وتحقيق إعجاز، وأما الأئمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما لم يقطعا غلا مواتًا لم يجر

عليه ملك واصطفى عمر من أرض السواد أموال كسرى وأهل بيته وما هرب عنه أربابه أو هلكوا فكان مبلغ تسعة ألف ألف فكان يصرفها في مصالح المسلمين ولم يقطع شيئًا ثم إن عثمان رضي الله عنه أقطعها، لأنه رأى اقتطاعها أو فر لغلتها من تعطيلها، وشرط على من أقطعها أن يأخذ منه حق الفيء فكان ذلك منه إقطاع إجازة لا إقطاع تمليك وقد توفرت عليه حتى بلغت خمسين ألف ألف فكانت منها إقطاعًا به وصلاته ثم تناقلها الخلفاء وبعده فلما كان عام الجماجم سنة اثنين وثمانين وفتنة ابن الأشعث لحرق الديوان وأخذ كل قوم ما يليهم، وإذا كان إقطاع الإمام إنما يختص بالموات دون العامرة فالذي يؤثره إقطاع الإمام ان يكون المقطع أولى الناس بإحياته من لم يسبق إلى إحيائه لما كان إذنه وفضل اجتهاده، فلو بادر بإحيائها غير المتقطع فهي ملك للمحيي دون المقطع، وقال أبو حنيفة: إن أحياها قبل مضي ثلاث سنين من وقت الإقطاع فهي المقطع، وإن أحياها بعد ثلاث سنين فهي للمحيي، وقال مالك بن أنس: إن أحياها عالمًا بالإقطاع فهي للمقطع، وإن أحياها غير عالم بالإقطاع خير المقطع بين أن يعطي المحيي نفقة عمارته وتكون الأرض له وبين أن ينرك عليه الأرض ويأخذ قيمتها قبل العمارة، استدلالًا براوية معمر عن ابن أبي نجيح عن عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع أقواها أرضًا فجاء آخرون في زمان عمر رضي الله عنه حين فرغوا إليه تركتموهم يعملون ويأكلون ثم جئتم تغيرون عليهم؟ لولا أنها قطيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطيتكم شيئًا، ثم قومها عامرة وقومها غير عامرة ثم قال لأهل الأصل: إن شئتم فردوا عليهم ما بين ذاك وخذوا أرضكم، وإن شئتم ردوا عليكم ثمن أرضكم ثم هي لهم، ودليلنا على أنها ملك المحيي بكل حال دون المقطع قوله صلى الله عليه وسلم: "من أحيا أرضًا مواتًا فهي له" ولأن الإقطاع لا توجب التمليك والإحياء يوجب التمليك فإذا اجتمعا كان ما أوجب التمليك أقوى حكمًا مما لا يوجبه، فأما حديث عمر رضي الله عنه، فقد قال في قضيته: لولا أنها قطيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعطيتكم شيئًا فدل على أن من رأيه أنها للمحيي وإنما عدل عن هذا الرأي لما توجه إليها من إقطاع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره أن يبطلهن فاستنزل الخصمين إلى ما قضى به مرضاة لا جبرًا، فأما إن كان المقطع قد جحرها وجمع ترابها حتى تميزت عن غيرها فجاء غيره فجمعها وحرثها نظر فإن كان المقطع مقيمًا على عمارتها حتى تغلب عليها الثاني فعمرها فهي للأول، ويكون الثاني متطوعًا بعمارته، وإن كان المقطع قد ترك عمارتها فعمرها الثاني فهي للثاني دون الأول، وهكذا لو كان الأول قد بدأ بالعمل من غير إقطاع، فهذا الإقطاع. فصل: وأما الحمى فهو المنع من إحياء الموات ليتوفر فيه الكلأ فترعاه المواشي، لأن

الحمى في كلامهم هو المنع. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: جنب المؤمن من حمى، والحمى على ثلاثة أضرب: حماة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وضرب حماة الإمام بعده، وضرب حماة غيره من عوام المسلمين. فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روي أنه وقف على جبل البقيع يقال له يعمل فصلى عليه ثم قال: هذا حماي وأشار بيده إلى البقاع، وهو قدر ميل في ستة أميال ما بين يعمل إلى ثلاثين، فحماه لخيل المسلمين والمهاجرين؛ ولأن اجتهاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمته أمضى وقضائه فيهم أنفذ، وكان ما حماه لمصالحهم أولى أن يكون مقرًا من إحيائهم وعمارتهم. فصل: وأما حمى الإمام بعده، فإن أراد الحمى لنفسه أو لأهله أو للأغنياء خصوصًا لم يجز وكان ما حماه باحًا لمن أحياه، وإن أراد يحمي لخيل المجاهدين ونعم الجزية والصدقة ومواشي الفقراء نظر فإن كان الحمى يضر بكافة المسلمين وأغنيائهم لضيق الكلأ عليهم بحمى أكثر مواتهم لم يجز وإن كان لا يضر بهم لأنه قليل من كثير يكتفي المسلمون بما بقى من مواتهم ففيه قولان: أحدهما: لا يجوز أن يحمي، لرواية مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والنار والكلأ وثمنه حرام. روى عبيد الله بن عبد الله بن عباس عن الصعب بن جثامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حمى البقيع وقال: "لا حمى إلا لله ولرسوله". والثاني: يجوز له أن يحمي، لما فيه من صلاح المسلمين، ولما روي أن أبا بكر رضي الله عنه حمى بالربذة لإبل الصدقة واستعمل عليه مولاه أبو أسامة وتولاه عليه قرط بن مالك، وحمى عمر بن الخطاب رضي الله عنه الشرف فحمى منه نحو ما حمى أبو بكر رضي الله عنه بالربذة وولى عليه مولى له يقال له هني وقال: يا هني اضمم جناحك عن الناس واتق دعوة المظلوم فإن دعوة المظلوم مجابة، وادخل رب الصريمة ورب الغنيمة، وإياك ونعم ابن عفان ونعم ابن عوف فإنهما إن تهلك ماشيتها يرجعان إلى نخل وزرع وإن رب الصريمة والغنيمة يأتيني بعياله فيقول: يا أمير المؤمنين: يا أمير المؤمنين: أتاركهم أنا؟ لا أبا لك فالكلأ أهون على الدينار والدرهم وأيم الله نودي أني قد طلحتهم إنما أكلأهم والذي نفسي بيده لولا المال الذي أحمله عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبرًا. فأما قوله: "المسلمون شركاء في ثلاث" فهو عام خص منه الحمى على أن الحمى يشرك فيه المسلمون، لأن نفع الحمى يعود على كافتهم من الفقراء والأغنياء، أما الفقراء فلأنه مرعى صدقاتهم، وأما الأغنياء فلخيل المجاهدين عنهم، وأما قوله: لا حمى إلا فمعنا لا حمى إلا أن يقصد به وجه الله كما فعل

رسول الله صلى فيسلم فيما حماه للفقراء المسلمون وفي مصالحهم وخالف فيه فعلى الجاهلية فإن العربي في الجاهلية كانوا إذا استولى على بلد أو في بكلب فجعله على جبل أو على شيء من الأرض واستعواه فحيث انتهى عواه حماه لنفسه فلا يرعى فيه غيره ويشارك الناس فيما سواه، وهكذا كان كليب بن وائل إذا أعجبته روضة ألقى فيها كلبًا وحمى إلى منتهى عوائه، وفيه يقول معبد بن شعبة الضبي كفعل كليب كنت أنبئت أنه مخطط أكلأ المياة ويمنع وقال العباس بن مرادس كما بغيها كليب لظلمة من العز حتى ضاع وهو قتلها على وائل أن يترك الكلب هائجًا وإذ يمنع الأكلأ منها حولها. فصل: وأما حمى الواحد من عوام المسلمين فمحظور وحماه مباح، لأنه إن حمى لنفسه فقد تحكم وتعدى يمنعه، وإن حماه للمسلمين فليس من أهل الولاية عليهم ولا فيمن يؤثر اجتهاده لهم، وقد روى أبو هانئ عن أبي سعيد عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تمانعوا فضل الماء ولا فضل الكلأ فيعزل الماء ويجوه العيال" فلو أن رجلًا من عوام المسلمين حمى مواتًا ومنع الناس منه زمانًا رعاه وحده ثم ظهر الإمام عليه ورفع يده عنه ولم يغرم ما رعاه، لأنه ليس لمالك ولا يعزره لأنه أحد مستحقيه ونهاه تعديه، فأما أمير البلد ووالي الإقليم إذا رأى أن يحمي لمصالح المسلمين كالإمام فليس له ذلك إلا بإذن الإمام، لأن اجتهاد الإمام أعم، ولكن لو أن والي الصدقات اجتمعت معه مواشي الصدقة وقل المرعى لها وخاف عليها التلف إن لم يحم الموات لها فإن منع الإمام من الحمى كان والي الصدقات أولى، وإن جوز الإمام الحمى ففي جوازه لوالي الصدقات عندما ذكرنا من حدوث الضرورة به وجهان: أحدهما: يجوز كما يجوز من غير الضرورة فعلى هذا يتعزر الحمى بزمان الضرورة ولا يستديم بخلاف حمى الإمام. والثاني: لا يجوز أن يحمي، لأنه ليس له أن يرفع الضرر عن أموال الفقراء، بإدخال الضرر على الأغنياء ويكون الضرر إن كان بالفريقين معًا وهذا أصح الوجهين والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَلَيْسَ لأَحَدٍ أَنْ يُعْطي وَلَا يَاخُذَ مِنَ الَّذي حَمَاهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَإِنْ أُعْطِيَهُ فَعَمَّرَهُ نُقِضَتْ عِمَارَتُهُ". قال في الحاوي: وهذا صحيح أما حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يجوز أن يمكن أحد من إحيائه، فإن أحياه إنسان لم يخل خال السبب الذي حماه من أجله من مواشي الفقراء ونعم بعلاقات من أن يكون باقيًا أو زائلًا، فإن السبب باقيًا والحاجة إليه ماسة فإحياؤه مردود وعمارته منقوضة وهو على ما حياه بمنع الناس كلهم من إحيائه، لأن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يتعقب بنقض، ولا أن يعترض عليه بإبطال، وإن كان السبب

باب ما يكون إحياء

زائلًا وحاجة الفقراء غليه قد ارتفعت ونعم الصدقات قد تحولت ففي جواز إحيائه وإقرار عمارته وجهان: أحدهما: قول قول أبي حامد الإسفراييني: يجوز، لأن السبب يقتضي زوال المسبب، لأن ما وجب لعلة زال بزوالها. والثاني: وهو قول جمهور أصحابنا: لا يجوز إحياؤه وإن زال سببه؛ لأنه قد يجوز أن يعود السبب بعد زواله كما أن ما خرب من المساجد بخراب بقاعها لايجوز بيعه لجواز أن تعود عمارة البقعة فيحتاج إلى مساجدها، ولأن في إحيائه نقض لحكم رسول الله فأما حمى الأئمة فإن قيل إنه لا يجوز فإحياؤه وتمليك محييه فيه قولان: أحدهما: لا يملكه بالإحياء كما لا يمتلك حمى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن كليهما حمى محرم. والثاني: يملك بالإحياء وإن منع منه، لأن حمى الإمام اجتهاد وملك الموات بالإحياء نص، والنص أثبت حكمًا من الاجتهاد والله أعلم. باب ما يكون إحياء مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَالإِحْيَاءُ مَا عَرَفَهُ النَّاسُ إحْيَاءً لِمِثْلِ المُحَيَّا إِنْ كَانَ مَسْكَنًا فَبِأَنْ يَبْنِيِ بِمِثْلِ مَا يَكُونُ مِثْلُهُ بِنَاءً وَإِنْ كَانَ لِلدَّوَابِّ فَبِأَنْ يَبْنِي مَحْظَرَةً وَأَقَلُّ عِمَارَةِ الزَّرْعِ الَّتِي تُمْلَكُ بِهَا الأَرْضُ أَنْ يَجْمَعَ تُرَابًا يُحِيطُ بِهَا تَتَبَيَّنُ بِهِ الأَرْضُ مِنْ غَيَرِهَا وَيَجْمَعَ حَرْثَهَا وَزَرْعَهَا وَإِنْ كَانَ عَيْنُ مَاءٍ أَوْ بِئْرٌ حَفَرَهَا أَوْ سَاقَةُ مِنْ نَهْرٍ إِلَيْهَا فَقَدْ أَحْيَاهَا". قال في الحاوي: وهذا صحيح وإنما أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الإحياء ولم يقيده وإن كان مختلفًا، لأن للناس فيه عرفًا وكلهم إليه كما أطلق ذكر الحرز في قطع السارق والتفريط في البيع والقبض، لأن الناس فيه عرفًا، لأن ما لم يتقدر في الشرع ولا في اللغة كان تقديره مأخوذ من العرف، وإن كان هكذا فعرف الناس في الإحياء يختلف بحسب اختلاف المحيا فيقال للمحيي: لماذا إحياؤه؟ فإن قال: أريد إحياؤه للسكنى قيل فأقل الإحياء الذي تصير به مالكًا أن تبني حيطانًا تحظر، وسقفًا يورى، فإذا بنيت الحيطان والسقف فقد أحييته وملكته، ولو تبيت ولم تسقف لم يكمل الإحياء ولم يستقر الملك، لأن سكنى ما لم يسقف غير معهود في العرف. فصل: فإن قال: أريد إحياؤه وللدواب أو الغنم فأقل الإحياء لذلك أن تبني حياطنًا فتصير بذلك محييًا مالكًا، لأن الدواب والغنم قد لا تحتاج في العرف إلى سقف، فلو لم يبن

حيطانها ولكن عبأ الأحجار حولهما فذلك تحجير يصير به أولى من غيره وليس بإحياء يصير به مالكاً، وهكذا لو حظر عليها بغضب إلا أن يكون ذلك مكاناً, جرت عادة أهله أن يبنو أوطانهم بالقصب كعيرين بين آجام البطائح فيصير بذلك محيياً اعتباراً بالعرف فيه, وهكذا في بلاد جبلان عرفهم أن يبنوا منازل أوطانهم بالخشب، فيصير بناؤها بذلك إحياء يتم به الملك لعرفهم به وان لم يكن في غير بلادهم إحياء. فصل فإن قال: أريد إحيائهما للزرع فلا بدلها من ثلاثة شروط: أحدهما: أن يجمع تراباً يحيط بها ويميزها عن غيرها، وهو الذي يسميه أهل العراق سناه. الثاني: أن يسوق الماء إليها إن كانت يبسا من نهر أو بئر، وان كان بطائح حبس الماء عنها، لأن إحياء البطائح يحبس الماء على شروطه. الثالث: أن يخزنها ليمكن زرعها، والحرث يجمع ويمسح ما استعلا من تطويل ما انخفض، فإن ساق الماء ولم يحرث فقد ملك الماء وحريمه ولم يملك ما تحجر عليه فإذا حدث بعد التحجير وسوق الماء فقد اختلف أصحابنا في كمال الإحياء وحصول الملك على ثلاثة أوجه: أحدها: وهو المنصوص في كتاب الأم واختاره أبو إسحاق المروزي أن الإحياء قد كمل الملك قد تم وان لم يزرع ولم يغرس، لأن مثابة الزرع بعد العمارة بمثابة السكنى بعد البناء وليس ذلك شرطاً في الإحياء كذلك الزرع والغرس. الثاني: وهو المنصوص عليه في هذا الموضع أنه لا يكمل الإحياء ولا يتم الملك إلا بالزرع والغرس بعد الحرث, لأنه من تمام العمارة، ومثابة السكنى بعد البناء بمثابة الحصاد بعد الزرع. الثالث: وهو قول أبي العباس بن سريج لا يكمل الإحياء ولا يتم الملك إلا بالزرع أو الغرس ثم بالسقي، فما لم يسق لم يكمل بالإحياء، لأن العمارة لم تكمل والوجه الأول أصحهما، فإذا كما الإحياء بما وصفنا واستقر ملك المحيي عليها بما بينا فهي أرض عشر وليست أرض خراج، سواء سقيت بماء العشر أو بماء الخراج, وقال أبو حنيفة فأبو يوسف: إن ساق إليها ماء الخراج وسقاها به فهي أرض خراج، وان ساق إليها ماء العشر فسقاها به فهي أرض عشر، وقال محمد بن الحسن: إن كانت الأرض المحياة على أنهار احتفرتها الأعاجم فهي أرض خراج وان كانت على أنهار أجراها الله تعالى

كدجلة (والفرات) والنيل والبحر فهي أرض عشر، وقد أجمع العراقيون على أن ما أحيي من موات البصرة وسباخها أرض عشر, أما على قول محمد بن الحسن فلأن دجلة البصرة مما أبراه الله تعالى من الأنهار, وما عليها من الأنهار المحدثة فهي محياة احتفرها المسلمون في الموات، وأما أبو حنيفة فقد اختلف في علة ذلك على قوله، فذهب بعض أصحابنا إلى أن العلة في ذلك أن ماء دجلة والفرات يستقر في البطائح فينقطع حكمه ويذهب الانتفاع به ثم يخرج إلى دجلة والبصرة فلا يكون من ماء الخراج، لأن البطائح ليست من أنهار الخراج وهذا قول طلحة بن أدم, وقال آخرون: إن علة ذلك ومعناه أن ماء الخراج يفيض إلى دجلة البصرة في حرزها وأرض البصرة يشرب من مدها، والمد من البحر وليس من دجلة والفرات، وهذا تعليل جعلوه عذراً لمذهبهم حين شاهدوا والصحابة ومن تعقبهم من التابعين رضي الله عنهم قد أجمعوا عند إحياء البصرة وهي أول مصر بني في الإسلام على أنها أرض عشر لم يضرب عليها خراج وليست العلة فيه إلا أنه موات استحدث إحياؤه, وكذلك كل موات أحيي, ولأنه لو كان حكم الأرض معتبراً بمائها حتى تصير أرض العشر خراجاً بماء الخراج لوجب أن تصير أرض الخراج عشراً بماء العشر، وفي تركهم للقول بذلك في ماء العشر إبطال لما قالوه في ماء الخراج، ولأن الأرض أصل والماء فرع لأمرين: أحدهما: أن الماء قد يصرف عن أرض إلى أخرى فيساق إليها ماء أرض أخرى. والثاني: أن الخراج مضروب على الأرض دون الماء, والعشر مستحق في الزرع دون الأرض والماء إذا كان الماء فرعاً لا يتعلق به أحد الحقين لم يجز أن يعتبر به واحد من الحقين. فصل: وإذا أراد الرجل حفر بئر بالبادية فإحيائها يكون بحفرها حتى يصل إلى مائها؟ فما لم يصل إليه فالإحياء غير تام, فإذا وصل إلى الماء نظر فإن كانت الأرض صلبة لا تحتاج إلى طي فقد كمل الإحياء وتم الملك, وان كانت الأرض رخوة لا تستغني عن طي صار الطي من كمال الإحياء فما لم يطو فالإحياء لم يكمل, فإذا كمل الإحياء نظر فإن حفرها للسابلة صارت سبيلاً على ذي كبد حرى من آدمي أو بهيمة، ويكن حافرها كأحدهم, فقد وقف عثمان رضي الله عنه بردمه فكان يغترف بدلوه مع الناس، وان حفرها لنفسه فقد ملكها وحريمها، وليس له أن يمنع فضل مائها, فلو أراد سدها منح منه، لما تعلق بفضل مائها من حقوق السابلة, وهكذا لو حفر نهراً أو ساق عيناً كان في حكم البئر.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَلَهُ مَرَافِقُهَا الَّتِي لَا يَكُونُ صَلَاحُهَا إِلَّا بِهَا". قال في الحاوي: وهكذا كما قال قد ذكرنا أن من أحيا أرضا فقد ملكها وحريمها بدليل ما قدمناه على داود فيما تفرد به عن الكافة في إبطال الحريم، فإذا كان حريم الأرض من حقوقها فهو عندنا معتبر بالعرف فيما لا تستغني الأرض عنه من مرافقها وليس بحدود، فإن كانت الأرض المحياة كان حريمها طرفها ومفيض مائها ويبدو زرعها وما لا تستغني عنه من مرافقهاء وقال أبو حنيفة: حريمها ما لم يبلغه مائها وبعل منها. وقال أبو يوسف: حريمها ما انتهى إليها صوت المنادي من حدودها، وكلا المذهبين تركيب لقار لم يركبه شرع ولا اقتضاه معهود ولا أوجبه قياسي وليس لما لم يوجبه واحد من هذه الثلاثة إلا أن يكون معتبراً بالعرف فيما لا يستغنى عنه. فصل: وان كان المحيا داراً فحريمها طريقها وفناؤها, ولما مصرت البصرة وجعلت خططا لقبائل أهلها جعل عرض كل شارع من شوارعها عشرون زراعا إلا الأعظم من شوارعها فإنهم جعلوه ستين ذراعاً, وجعلوا عرض كل زقاق تع أزرع, وجعلوا في وسط كل قبيلة رحبة فسيحة لمرابط خيلهم ومقابر موتاهم، وقد روى بشير بن كعب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اختلف القوم في طريق فليجعل سبعة أذرع " وهذا إنما قاله اختباراً لا حتماً، لأنه لم يجعل ذلك حدا فيما أحياه لأصحابه بالمدينة. فصل: وأما البئر والنهر فحريمها معتبر بالعرف أيضاً من غير تحديد، وكذلك العين وهو قدر ما تدعو الحاجة إليه فيما حولها، وقال أبو حنيفة حريم العين خمس مائة ذراع، وحريم بئر الناضج خمسون ذراعاً. وقال أبو يوسف: حريم بئر العطن أربعون ذراعاً إلا أن يكون رشاؤه أبعد فتكون له منتهى رشائه، وحريم النهر ملقى طينة عند حفره، وحريم الفناء ما لم يسمح محلى وجه الأرض وكان جامعا للماء، والعرف في ذلك أولى من تحديد ما لم يتقدر شرعاً ولا قياساً، فلو حفر بئرا في موات فملكها وحريمها ثم حفر آخر من بعد الحريم بئراً أخرى فنصب ماء الأولى إليها وغار فيها قال الملك: يمنع الثاني ويطم عليه بئره، وهكذا لو حفر الثاني بئرا طهورا فتغير ماء الأولى طمت الثانية على صاحبها، وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن بثر الثاني مقرة وان نصب بها ماء الأولى أو تغير، لأنه لا حق للأول فيما جاوز حريم ملكه ولو أستحق المنع لتقدير الحريم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَمَنْ أَقْطَعَ أَرْضاً أَوْ تَحَجَّرَهَا فَلَمْ يُعْمِرْهَا رَأَيْتُ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَقُولَ لَهُ إِنْ أَحْيَيْتَهَا وَإِلَّا خَلَّيْنَا يبَيْنَهَا وَيَبْنَ مَنْ يُحْيِيهَا فَإِنْ تَأَجَّلَهُ رَأيْتُ أَنْ يَفْعَلَ".

قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا تحجر أرض موات بإقطاع أو غير إقطاع فقد صار بالحجر عليها أحق الناس بها, لثبوت يده عليها, وله بعد ذلك أربعة أحوال: أحدهما: أن يأخذ في الإحياء ويسرع في العمارة فلا اعتراض عليه فيها وهو أحق الناس بها حتى يستكمل العمارة ويتم الإحياء, فلو غلب عليها وأكمل المتغلب إحيائها فذلك ضربان: أحدهما: أن يكون قد تغلب عليها قبل أن يشرع المحيي في عمارتها فيكون ملكاً للمتغلب المحيي دون المحجر. الثاني: أن يكون قد تغلب عليها بعد أن شرع المحجر في عمارتها وقبل استكمالها فأكمل المتغلب الإحياء وتمم العمارة ففيها وجهان: أحدهما: أنها ملك للمحجر, لما استقر من ثبوت يده وتقدم عمارته, ويصير المتغلب متطوعاً بنفقته. والثاني: أنها ملك المتغلب المحيي, لأنه أحدث ما به يتم الإحياء ويستقر الملك. فصل: الثانية: أن يوليها المحجر لغيره ويلمها إليه فهذا جائز ويصير الثاني أحق بها من الناس كلهم, لأن الأول قد أقامه فيها مقام نفسه وليست هبة منه وإنما هي تولية وإيثار، وهكذا لو مات المحجر كان وارثه قائماً مقامه في إحيائها وأحق الناس بعده، لأن حقوقه بموته تصير منتقلة إلى ورثته فأما إن جن المحجر فلا حق فيها لورثته، لأن الحي لا يورث ولكن يقوم وليه مقامه في إحيائها للمحجر المجنون لا لنفسه فإن أحياها الولي لنفسه صار كمن غلب على أرض موات قد حجرها إنسان فأحياها فيكون على ما مضى. فصل: الثالثة: أن يبيعها المحجر قبل العمارة، ففي جواز بيعه وجهان: أحدهما: وهو محكي عن أبي إسحاق المروزي وطائفة أن بيعها جائز, لأنه لما كان أولى بها يداً جاز أن يكون بها أولى بيعاً, وقد أشار الشافعي إلى هذا في كتاب السير: والثاني: وهو الأظهر من قول الشافعي وما صرح به في جمهور كتبه: أن بيعها لا يجوز، لأنه بالتحجير لم يملك وإنما ملك أن يملك كالشفيع الذي يملك بالشفعة أن يتملك فلم يجز أن يبيع قبل أن يملك، فإذا قيل بجواز البيع على وجه الأول فالثمن لازم للمشتري أحيا أو لم يحيي، فلو أحياها غير المشتري عليها صارت ملكاً للمتغلب

باب ما يجوز أن يقطع وما لا يجوز

المحيي، وفي سقوط الثمن عن المشتري وجهان حكاهما ابن أبي هريرة. أحدهما: وهو اختياره أن الثمن قد سقط عنه، لأنه من قبل المبيع صار مستهلكاً قبل استقرار الأرض بالإحياء وإذا قيل ببطلان البيع على الوجه الثاني فإن أحياها غير المشتري فإن تغلب عليها فهي ملك للمحيي ولا شيء على المشتري، فإن أحياها المشتري نظر فإن كان بعد أن حكم بفسخ البيع فهي ملك للمشتري لمحيي، وان كان لجر الحكم يفسخ البيع ففيه وجهان: أحدهما: أنها ملك للمشتري أيضاً، لأن بإحيائها صارت ملكاً كما لو كان المحيي متغلباً. الثاني: أنها ملك للبائع المحجر, لأن المشتري قصد أن يملكها بالثمن دون الإحياء فإذا لم يلزمه الثمن لفساد البيع لم يحصل له الملك. فصل: الرابعة: أن يمسكها المحجر بيده مواتاً لا يأخذ في عمارتها فينظر فإن كان في ترك العمارة معذوراً ترك ولم يعترض عليه فيها, وان أخر العمارة غير معذور فعلى السلطان أن يقول له: إن أحييتها وأخذت في عمارتها وإلا رفعت يدك عنها وخلينا بينها وبين من يحميها ويعمرها، لأن لا يصير مضراً بالحمى وتعطيل العمارة. وقال أبو حنيفة: يؤجل ثلاثة سنين لا نخاطب فيها فإن لم يحمها حتى مضت السنين الثلاث فلا حق له فيها، استدلالاً بأن عمر رضي الله عنه جعل أجل الإقطاع ثلاث منين، وهذا القول لا وجه له، وعمر رضي الله عنه إنما جعل ذلك في بعض الأحوال المصلحة رآها ولم يجعل ذلك أجلاً شرعياً، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقدر فيها أجلاً, فلو أن المحجر حين أمره السلطان بالإحياء أو رفع يده سأل التأجيل والإنظار أجله مدة قريبة إن ظهر له إعذار ويرجى قرب زوالها من إعداد آلة أو جمع رجال أو قدم مال قريب الغيبة، ولا يؤجل ما يطول زمانه أو ما لا تظهر فيه أعذاره وبالله التوفيق. باب ما يجوز أن يقطع وما لا يجوز مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "مَا لَا يَمْلِكُهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ يُعْرَفُ صِنْفَانِ: أحدهما مَا مَضَى, وَلَا يَمْلِكُهُ إِلَّا بِمَا يَسْتَحْدِثُهُ فِيهِ، وَالثَّانِي مَا لَا تُطْلَبُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ إِلَّا بِشَيْءٍ يَجْعَلُ فِيهِ غَيْرَهُ، وَذَلِكَ الْمَعَادِنُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ، مِنَ الذَّهَبِ وَالتِّبْرِ، وَالْكُحْلِ وَالْكِبْرِيتِ، وَالْمِلْحِ وَغَيْرِهِ".

قال في الحاوي: وجملة ما لم يملكه من الأرض ضربان: معادن وموات، فأما الموات فقد انقضى حكمه، وأما المعادن فهي البقاع التي أودعها الله عز وجل جواهر الأرض سميت بذلك، لإقامة الجواهر فيها كما قال تعالى: {جَنَّتِ عَدْنٍ} [التوبة: (72)] أي جنات إقامة غير أن المزني أخطأ في نقله فقال ما لا يطلب المنفعة فيه إلا بشيء يجعل فيه غيره وهذه صفة الموات التي لا منفعة فيه إلا أن يجعل فيه غيره من غرس أو زرع أو بناء, فأما المعادن فهي التي بطلت المنفعة فيها لا بشي، يجعل فيه غيره من غرس أو زرع أو بناء, لأن منفعته مخلوقة فيه. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: " وَأَصْلُ الْمَعَادِنِ صِنْفَانِ، مَا كَانَ ظَاهِرًا كَالْمِلْحِ فِي الْجِبَالِ تَنْتَابُهُ النَّاسُ، فَهَذَا لَا يَصْلُحُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقْطِعَهُ بِحَالٍ، وَالنَّاسُ فِيهِ شَرَعٌ، وَهَكَذَا النَّهْرُ وَالْمَاءُ الظَّاهِرُ وَالنَّبَاتُ فِيمَا لَا يُمْلَكُ لِأَحَدٍ، وَقَدْ سَأَلَ الْأَبْيَضُ بْنُ حَمَّالٍ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْطَعَهُ مِلْحَ مَارِبَ فَأَقْطَعَهُ إِيَّاهُ أَوْ أَرَادَهُ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ كَالْمَاءِ الْعِدِّ، فَقَالَ: " فَلَا إِذَنْ "، قَالَ: وَمِثْلُ هَذَا كُلُّ عَيْنٍ ظَاهِرَةٍ كَنِفْطٍ، أَوْ قِيرٍ، أَوْ كِبْرِيتٍ، أَوْ مُومِيًا، أَوْ حِجَارَةٍ ظَاهِرَةٍ فِي غَيْرِ مِلْكِ أَحَدٍ، فَهُوَ كَالْمَاءِ وَالْكَلَإِ، وَالنَّاسُ فِيهِ سَوَاءٌ". قال في الحاوي: وهذا صحيح والمعادن ضربان: ظاهرة وباطنة، فأما الباطنة فيأتي حكمها فيما بعد، وأما الظاهرة فهو كل ما كان ظاهره في معدنه يؤخذ عفوا على أكمل أحواله كالملح والنفط، والقار والكبريت والموهبا والحجارة فهذه المعادن الظاهرة كلها لا يجوز للإمام أن يقطعها ولا لأحد من المسلمين أن يحجر عليها، والناس كلهم فيها شرع يتساوى فيها لا فرق بين صغيرهم وكبيرهم, ذكرهم وأنثاهم، مسلمهم وكافرهم، روى ثابت بن سعد عن أبيه عن جده أن أبيض بن حمال استقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم ملح مأرب فأقطعه ثم إن الأقرع بن حابس التميمي قال: يا رسول الله إني قد وردت الملح في الجاهلية وهو بأرض ليس فيها ملح, ومن ورده أخذه، وهو مثل الماء العد بأرض، فاستقال الأبيض من قطيعته الملح، فقال الأبيض قد أقلتك منه على أن تجعله مني صدقة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو منك صدقة وهو مثل الماء العد من ورده أخذه وروت نهيسة عن أبيها أنه قال: يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال الماء, قال: يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه؟ قال: الملح قال: يا نبي الله ما الشيء الذي لا يحل منعه قال: أن تفعل الخير خيرا لك، وأنه ليس المانع بأحق من الممنوع، فاقتضى أن يكون فيه سواء, وإذا استوي الناس في المعادن الظاهرة فإن أمكن اشتراك له الناس فيه عند الإجماع عليه وإلا تقدم الأسبق فالأسبق فإن تساوى مجيئهم فعلى وجهين: أحدهما: يقرع بينهم فمن قرع منهم تقدم.

باب تفريق القطائع وغيرها

والثاني: يقام السلطان باجتهاده من رأى فلو أقام رجل على المعدن زماناً يتفرد به وبما فيه نظر فإن كان مع تفرده به يمنع منه فمنه تعدي وعلى السلطان أن يرفع يده عنه وقد ملك ما أخذه منه، ران لم يمنع غيره منه ففيه وجهان: أحدهما: أن يقر ما لم يكن في إقراره إدخال ضرر على غيره. الثاني: يمنع ليلاً بطول مكثه ويدوم تصرفه فينتقل عن حكم المباح إلى أحكام الأملاك، وهذان الوجهان في هذين الفرعين من اختلاف أصحابنا هل للسلطان استحقاق نظر فيها أم لا؟ فلهم فيها وجهان. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: " وَلَوْ كَانَتْ بُقْعَةٌ مِنَ السَّاحِلِ يَرَى أَنَّهُ إِنْ حَفَرَ تُرَابًا مِنْ أَعْلَاهَا ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا مَاءٌ ظَهَرَ لَهَا مِلْحٌ، كَانَ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهَا، وَلِلرَّجُلِ أَنْ يُعَمِّرَهَا بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَيَمْلِكَهَا" قال في الحاوي: وهذا صحيح لأنها ليت في الحال معدناً وإنما هي موات تصير بالإحياء معدناً فجاز إقطاعها كما يجوز إقطاع الموات والله أعلم. باب تفريق القطائع وغيرها مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَالْقَطَائِعُ ضَرْبَانِ؛ أحدهما مَا مَضَى، وَالثَّانِي: إِقْطَاعُ إِرْفَاقٍ لَا تَمْلِيكٍ، مِثْلَ الْمَقَاعِدِ بِالْأَسْوَاقِ الَّتِي هِيَ طَرِيقُ الْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ قَعَدَ فِي مَوْضِعٍ مِنْهَا لِلْبَيْعِ كَانَ بِقَدْرِ مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْهَا مَا كَانَ مُقِيمًا فِيهِ، فَإِذَا فَارَقَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ غَيْرِهِ، كَأَفْنِيَةِ الْعَرَبِ وَفَسَاطِيطِهِمْ، فَإِذَا انْتَجَعُوا لَمْ يَمْلِكُوا بِهَا حَيْثُ تَرَكُوا" قال في الحاوي: وهذا صحيح قد ذكرنا أن إقطاع السلطان إنما يتوجه إلى ما كان مباحاً من الأرض لم يجر عليه ملك مسلم، قال الشافعي في الأم ليس للسلطان أن يعطي إنساناً ما لا يحل للإنسان أن يأخذه من موات لا مالك له والسلطان لا يحل له شيئاً ولا يحرمه، ولو أعطى السلطان أحدا شيئا لا يحل له لم يكن له أخذه. فدل ذلك من قوله مع ما قد استقرت عليه أصول الشرع أن ما ستقر عليه ملك آدمي لم يجز للسلطان أن يقطعه أحداً وان أقطعه جاز للمقطع أن يملكه, فأما ما لم يستقر عليه ملك من سباخ الأرض فينقسم ثلاثة أقسام: قسم لا يجوز إقطاعه، وقسم يجوز إقطاعه, وقسم اختلف قوله في جواز إقطاعه، فأما ما لا يجوز إقطاعه فالماء والكلأ وسائر المعادن الظاهرة, وقد مضى الكلام فيها

وأما ما يجوز إقطاعه فينقسم ثلاثة أقسام: قسم يملك بعد الإقطاع وقسم لا يملك, وقسم اختلف قوله في تمليكه، فأما ما يملك بعد الإقطاع فهو الموات يملك بالإحياء ملكاً مستقراً وقد مضى، وأما ما يملك بالإقطاع فهو الذي ذكره في هذا الباب وهو الارتفاق بمقاعد الأسواق وأقنية الشوارع وحريم الأمصار، ومنازل الأسفار أن يجلس فيه الباعة وأن تحيط فيه الرجال فهذا مباح، قد أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس عليه بمكة والمدينة ومكن الخلفاء الراشدون بعده في الأمصار كلها فتوحها ومحياها، ولأن حاجة الناس إلى ذلك ماسة وضرورتهم إليه داعية فجرى مجرى الاستطراق والارتفاق، وأما ما اختلف قوله في تمليكه فهو المعادن الباطنة. فصل: فإذا تقرر جواز الارتفاق بما وصغنا فهو على ثلاثة أضرب: ضرب يختص الارتفاق فيه بالصحاري والفلوات، وضرب يختص الارتفاق فيه بأقنية المنازل والأملاك، وضرب يختص الارتفاق فيه بأقنية الشوارع والطرقات. فأما الأول: وهو ما يختص الارتفاق فيه بالصحاري والفلوات كمنازل المسافرين إذا حلوا في أسفارهم بمنزل استراحة فلا نظر للإمام عليهم فيه, لبعده عنهم ويجوز لهم النزول حيث لا يضروا المجتاز ولا يمنعوا سائلاً ثم لهم الماء والمرعى من غير منع ولا حمى، وهكذا البادية إذا انتجعوا أرضاً طلباً للماء والكلأ مكثوا فيها ولم يزالوا عنها وليس لهم أن يمنعوا غيرهم من انتجاعها ورعيها إلا أن يضيق بهم فيكون السابقون إليها أولى بها ممن جاء بعدهم روى يوسف بن ماهك عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله ألا نبني لك بمنى بناء يظلك من الشمس فقال: لا إنما هو مناخ من سبق إليه فلو ضاق المنزل عن جميع من ورد إليه ونزلوا فيه بحسب مسيرهم إليه يترتبون النزول كما كانوا مترتبين في المسير فمن قصر عنهم عن لحوق المنزل نزل حيث بلغ، ولو ضاق بهم الماء فإن كانوا تواسوا به عمهم لزمهم أن يتواسوا فيه ومنعوا من أن يجوز بعضهم أكثر من حاجته، وان ضاق عن مواساتهم فيه كان الأسبق إليه أحق بقدر كفايته عنهم فإن غلبه عليه المسبوق لم يسترجع منه، لأنه قد ملكه بالإجازة بعد أن كان مباحا، وان جاؤوا إليه على سواء لم يسبق بعضهم بعضاً وهو ينقص عن كفايتهم اقترعوا عليه فأيهم قرع كان أحق بما يمسك رمقه حتى يرتوي الآدميون, وليس لمن قرع منهم أن يقام بهائمه على ارتواء الآدميين، فإذا ارتوى الآدميون جميعا استؤنفت القرعة بين البهائم ولم يحملوا على القرعة المتقدمة، لأنهما جنسان يختلف حكمهما، وهل تستأنف القرعة على أعيان البهائم أو على أعيان أربابها؟ على وجهين. أحدهما: أن تستأنف على أعيان أربابها تغليبا لحرمة الملك، فعلى هذا إذا في ع أحد أرباب البهائم يسقي جميع بهائمه ثم هكذا من قرع بعده. الثاني: أن القرعة تستأنف محلى أعيان البهائم تغليباً لحرمتها وسواء في ذلك ما

يؤكل لحمه أو لا يؤكل، وهذا أصح الوجهين، لأن حرمة النفس أعظم من حرمة الملك فعلى هذا إن قرعت القرعة مال رجل مر تقدماً لمن قرع. فصل: الثاني: وهو ما يختص الارتفاق فيه بأقنية المنازل والأملاك كمقاعد الباعة والسوقة في أفنية الدور فينظر فيه فإن أضر ذلك بأرباب الدور منعوا من الجلوس إلا بإذنهم، وان لم يضر بهم نظر فإن كان الجلوس على عتبة الدار لم يجز إلا بإذن مالك الدار، وهو أحق بالإذن من الإمام، وان كان في فناء الدار وحريمها الذي لا يضر بالدار ولا يمالكها ففيه قولان: أحدهما: أنه يجوز لهم الجلوس فيه بغير إذن مالكها، لأن حريم الدار مرفق عام كالطريق، وليس لرب الدار أن يمنع من جلس ولا يقدر عليه غيره. الثاني: أنه لا يجوز لهم الجلوس فيه إلا بإذن مالكها، لأن مالك الدار أحق بحريمها ولا يجوز للمالك وان كان أحق بالإذن أن يأخذ عليه أجرة كما يجوز أن يأخذ عليه بانفراده ثمناً لأنه يقع للملك وليس بملك، فلو كان مالك الدار مولى عليه لم يجز لوليه أن يأذن في الجلوس فيه، لأنه غير مستحق في الملك ولا معاوض عليه ولا منتفع به، سواء كان مالك الدار مسلماً أو ذميا ولمالك الدار إذا أجلس رجلاً أن يقيمه إذا شاء ويقدم عليه من يشاء، فأما فناء المسجد فإن كان في الجلوس فيه إضرار بأهل المسجد منعوا منه، وان لم يكن فيه إضرار بأهل المسجد فهل يلزم استئذان الإمام فيه أم لا؟ وعلى وجهين إن قيل إن إذن اجتهاد في الأصلح, وسواء في فناء المسجد جيرانه والأباعد. فصل: الثالث: وهو ما يختص بالارتفاق فيه بأقنية الشوارع والطرقات أن يجلس فيها السوقة بأمتعتهم ليبيعوا ويشتروا فهذا مباح, لما قامنا من الدليل عليه، وللإمام أن ينظر فيه، واختلف أصحابنا في حكم نظر الإمام فيه على وجهين: أحدهما: أن نظره فيه مقصور على كفهم عن التعدي ومنعهم من الإضرار وليس له أن يمنع جالساً ولا أن يقدم أحداً. والثاني: أن نظره نظر مجتهد فيما يراه صلاحاً من إجلاس من يجلسه ومنع من يمنعه، وتقديم من يقدره، كما يجتهد في أموال بيت المال، فإذا أخذ الباعة مقاعدهم في أقنية الأسواق والطرقات روعي في جلوسهم ألا يضروا بمارٍ ولا يضيقوا على سائلٍ، وليس للإمام أن يأخذ منهم أجرة مقاعدهم, فلو جلس رجل بمتاعه في مكان فجاء غيره ليقيمه منه ويجلس مكانه لم يجز ما كان الأول جالسا بمتاعه, فلو قام ومتاعه في المكان فهو على حقه فيه ومنع غيره منه, فإذا قاموا من مقاعدهم بأمتعتهم عند دخول الليل ثم

باب إقطاع المعادن وغيرها

غدوا إليها من الغد كان كل من سبق إلى مكان أحق به، ولا يستحق العود إلى المكان الذي كان فيه وعرف به، وقال مالك: إذا عرف أحدهم بمكانه طال جلوسه فيه فهو أحق به من غيره لما فيه من المصلحة بقطع التنازل ووقوع الاختلاف وهذا عنه صحيح، لقوله صلى الله عليه وسلم: "منا مناخ من سبق" ولأنه لو جعل أحق به لصار في حكم ملكه ولحماه عن غيره فلو تنازع وجلان في مقعد ولم يمكنهما الجلوس بناء على نظر الإمام فيه. أحدها: يقرع بينهما فأيهما يقرع كان به أحق وهذا على الوجه الذي يجعل نظر الإمام مقصوراً على منع الضرر وقطع التنازع. الثاني: أن الإمام يجتهد رأيه في إجلاس من يرى منهما، وهذا على الوجه الذي يجعل نظر الإمام نظر اجتهاد ومصلحة, فلو أقطع رجلاً موضعاً من مقاعد الأسواق ليبيع فيه متاعه ففيه وجهان: أحدهما: أنه أحق بالمكان ما لم يسبق إليه كان السابق أحق به، وهذا إذا قيل إن نظره مقصور على منع الضرر. الثاني: أنه أحق من السابق بذلك المكان، وهذا إذا قيل إن نظره اجتهاد في الإصلح، فلو أن رجلاً ألف مقعداً في فناء طريق حتى تقادم عهده فيه وعرف به ففيه لأصحابنا وجهان: أحدهما: يقر في مكانه ما لم يسبقه إليه غيره. الثاني: أنه يقام عنه ويمنح منه لئلا يصير زريعة إلى تملكه وادعائه، فلو أراد رجل أن يبني في مقعد من فناء السوق بناء منع, لأن إحداث الأبنية يستحق في الأملاك، وأما إذا حلق الفقهاء في المساجد والجوامع حلقاً منح الناس من استطراقها والاجتياز فيها، لقوله صلى الله عليه وسلم: لا حمى إلا في ثلاث: ثلة البئر، وطول الغرس، وحلقة القوم فلو عرف فقه بالجلوس مع أصحابه في موضع من الجامح لم يكن له منع من سبق إليه، وكان السابق أحق به، وقال مالك قد صار من عرف بذلك الموضح من الفقهاء والقراء أحق به، وله منع من سبق إليه وهذا غير صحيح لقوله تعالى: {سَوَاءً العَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} [الحج: (25)]، والله أعلم بالصواب. باب إقطاع المعادن وغيرها مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَفِي إِقْطَاعِ الْمَعَادِنِ قَوْلَانِ؛ أحدهما: أَنَّهُ يُخَالِفُ إِقْطَاعَ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَقْطَعَ أَرْضًا فِيهَا مَعَادِنُ أَوْ عَمِلَهَا وَلَيْسَتْ لِأَحَدٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً أَوْ نُحَاسًا، أَوْ مَا لَا يَخْلُصُ إِلَّا بِمُؤْنَةٍ؛ لِأَنَّهُ بَاطِنٌ مُسْتَكِنٌّ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ تُرَابٍ أَوْ

حِجَارَةٍ، كَانَتْ هَذِهِ كَالْمَوَاتِ فِي أَنَّ لَهُ أَنْ يُقْطِعَهُ إِيَّاهَا، وَمُخَالِفَةٌ لِلْمَوَاتِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنَّ الْمَوَاتَ إِذَا أُحْيِيَتْ مَرَّةً ثَبَتَ إِحْيَاؤُهَا، وَهَذِهِ فِي كُلِّ يَوْمٍ يُبْتَدَأُ إِحْيَاؤُهَا لِبُطُونِ مَا فِيهَا". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن المعادن ضربان ظاهرة وباطنة وذكرنا أن الظاهرة منها لا يجوز إقطاعها, فأما الباطنة وهي التي لا شيء في ظاهرها حتى تحفر أو تقطع فيظهر ما فيها بالحفر والقطع كمعادن الفضة والذهب والنحاس والحديد، سواء احتاج ما فيها إلى سبك وتخليص كالفضة والنحاس أو لم يحتج إلى ذلك كالتبر من الذهب، ففي جواز إقطاعها قولان. أحدهما: أن إقطاعها لا يجوز والناس كلهم فيها شرع يتساوى جميعهم في تناول ما فيها كالمعادن الظاهرة التي يتساوى الناس فيها، ولا يجوز إقطاعها، لأن ما فيها جميعاً مخلوق يوصل إليه بالعمل ويملك بالأخذ، فعلى هذا يستوي حال المقطع وغيره في تناول ما فيها كما لو أقطه المعادن الظاهرة ولم يصر أحق بها من لم يستقطعها. الثاني: أن إقطاعها جائز والقطع أحق بها من غيره, روى كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقطع بلال بن الحارث المزني معادن القبلية جلسيها وغوريها وحيث يصلح الزرع من مدهن ولم يعطه حق مسلم وفيه تأويلان: أحدهما: وهو قول عبد الله بن وهب أن جليسها وغوريها أعلاها وأسفلها. الثاني: وهو قول أبي عبيد وابن قتيبة أن الغور ما كان من بلاد تهامة والجلس ما كان من بلاد نجد. قال الشماخ: فأضحت على ماء العذيب وعينها كوقب الصنعا جلسيها قد تغورا ولأن المعادن الباطنة تخالف الظاهرة من وجهين توافق بينهما الموات. أحدهما: ما يلزم من كثرة المؤونة في الباطنة حتى ربما ساوت مؤونة إحياء الموات وزادت ولا يلزم ذلك في الظاهر. والثاني: أن ما في الباطنة مظنون متوهم فشابه ما يظن من منافع الموات بعل الإحياء وما في الظاهرة مشاهد متيقن فصارت الباطنة من هذين الوجهين مفارقة للظاهرة في المنع من إقطاعها، وملحقة بالموات في جواز إقطاعها. فصل: فعلى هذا إذا أقطعها الإمام رجلاً فما لم يتصرف فيهما بالعمل لم يملكها كما لا يملك الموات بالإقطاع ما لم يحيه, فإذا عمل فيها صار مالكها، وفي ملكه قولان: أحدهما: أنه قد ملكها ملكاً مؤبداً, سواء أقام على العمل أو ترك كما يملك

الموات بالإحياء سواء استدام عمارته أو عطله, فعلى هذا يكون إذن الإمام شرطا في ثبوت ملكها وان لم يكن إذ له في إقطاعها شرطا في تناول ما فيها, لكونه على أصل الإباحة، والقول الثاني أن مالكه لها مقدر بمدة عمله فيها فما أقام على العمل فهو على ملكه, وله منع الناس منه, فإذا فارق العمل زال ملكه عنه وعاد إلى أصل الإباحة إلا أن يكون ذلك لتعذر آلة أو هرب عبد فلا يزول ملكه ما كان ناويا للعمل حتى يقطع قطع ترك فيزول ملكه، وإنما كان كذلك لأن عمله يكون إحياء للطبقة التي عمل فيها فصار مالكا لها بإحيائه وعمله، فأما ما تحت تلك الطبقة فلم يقع عليها عمل ولم يحصل فيها إحياء, فلم يملكها, فعلى هذا اختلف أصحابنا هل يكون إذن الإمام شرطاً في ثبوت ملكه عليها مدة عمله فيها على وجهن: أحدهما: أن إذنه شرطا فيه حتى يجوز منع غيره كما لو قيل بتأييد ملكه. الثاني: أن إذنه ليس بشرط كما لم يكن إذنه شرطاً في إحياء الموات, لأن ملكه فيها يختص بما باشر عمله, ويجوز له عند شروعه في العمل أن يمنع غيره من الموضع الذي عمل فيه، ولا يمنعه من غير ذلك الموضع من العذر كما لا يمنع بشروعه في إحياء الموات من غير إقطاع إلا من الموضع الذي عمل فيه والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُقْطِعَهُ مِنَ الْمَعَادِنِ إِلَّا قَدْرَ مَا يَحْتَمِلُ، عَلَى أَنَّهُ إِنْ عَطَّلَهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَنْعٌ مِنْ أَخْذِهِ، وَمِنْ حُجَّتِهِ فِي ذَلِكَ أَنَّ لَهُ بَيْعَ الْأَرْضِ، وَلَيْسَ لَهُ بَيْعُ الْمَعَادِنِ، وَأَنَّهَا كَالْبِئْرِ تُحْفَرُ بِالْبَادِيَةِ فَتَكُونُ لِحَافِرِهَا، وَلَا يَكُونُ لَهُ مَنْعُ الْمَاشِيَةِ فَضْلَ مَائِهَا، وَكَالْمَنْزِلِ بِالْبَادِيَةِ هُوَ أَحَقُّ بِهِ، فَإِذَا تَرَكَهُ لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَنْ نَزَلَهُ". قال في الحاوي: واعلم أن الإقطاع ضربان: إقطاع إرفاق, وإقطاع تمليك، فأما إقطاع الإرفاق فهو التمكين من المعدن ليعمل فيه ولا يمنع غيره منه فهذا يصح في المعادن الظاهرة والباطنة جميعاً, وأما إقطاع التمليك فهو الذي يمنع منه في المعادن الظاهرة، وفي جوازه في المعادن الباطنة قولان مضيا، فإذا جوزناه فلا ينتفي للإمام أن يقطع أحدا منه إلا قدر ما يحتمل أن يعمل فيه ويقدر على القيام به، فإذا كان واحداً أقطعه قدر ما يحتمله الواحد, وان كانوا عشرة أقطعهم قدر ما يحتمل العشرة، فإن اقتطع أحداً ما لا يقدر على العمل فيه ولا يتمكن من القيام به لم يجز، لما فيه من تفويت منفعته على المقطع وغيره فصار أسوأ حال من الحمى الذي ينتفع به من حماه وأما قوله على أنه إن عطله لم يكن له منع من أخذه فقد اختلف أصحابنا في مراده به فقال بعضهم: أراد به إقطاع الإرفاق دون التمليك, وقال آخرون: بل أراد به إقطاع التمليك, وهو أحد قوليه في أنه يملكه مدة عمله ولا يملكه إذا عطله, فأما ما ظهر بالعمل قبل التعطيل فقد صار في

ملكه وله منع غيره منه، وقال آخرون: بل أراد به إقطاع التمليك إذا قل ره بمدة العمل وشرط فيه زوال الملك عنا تعطيل العمل فلا يتأيد ملكه قولاً واحداً والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَلَوْ أُقْطِعَ أَرْضًا فَأَحْيَاهَا ثُمَّ ظَهَرَ فِيهَا مَعْدِنٌ مَلَكَهُ مِلْكَ الْأَرْضِ فِي الْقَوْلَيْنِ مَعًا ". قال في الحاوي: إذا أحيا الرجل أرضاً مواتا بإقطاع أو غير إقطاع فظهر فيها بعد الإحياء معدن فقد ملكاً مؤبداً قولاً واحداً, سواء كان المعدن ظاهراً أو باطناً، لأن المعدن لم يظهر إلا بالإحياء فصار كعين استنبطها أو بشرا احتفرها، ولأن المعدن من أرضه التي ملكها بإحيائه فخالف. المعادن التي في غير ملكه، فإن قيل أليس لو أحيا أرضاً فظهر فيها ركاز لم يملكه فهلا صار المعدن مثله لا يملكه قبل الفرق بينهما أن المعدن خلقه في الأرض فملكه يملك الأرض، والركاز مستودع في الأرض فلم يملك الأرض لمباينته لها، ألا ترى لو اشترى أرضا فكان فيها حجارة مستودعة لما يملكها ولو كانت الحجارة خلقة فيها ملكها. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: " وَكُلُّ مَعْدِنٍ عَمِلَ فِيهِ جَاهِلِيٌّ ثُمَّ اسْتَقْطَعَهُ رَجُلٌ فَفِيهِ أَقَاوِيلُ؛ أحدها: أَنَّهُ كَالْبِئْرِ الْجَاهِلِيِّ وَالْمَاءِ الْعِدِّ، فَلَا يُمْنَعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ، فَإِذَا اسْتَبَقُوا إِلَيْهِ، فَإِنْ وَسِعَهُمْ عَمِلُوا مَعًا، وَإِنْ ضَاقَ أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ أَيُّهُمْ يَبْدَأُ ثُمَّ يَتْبَعُ الْآخَرُ فَالْآخَرُ حَتَّى يَتَآسوا فِيهِ، وَالثَّانِي: لِلسُّلْطَانِ أَنْ يُقْطِعَهُ عَلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ يَعْمَلُ فِيهِ، وَلَا يَمْلِكُهُ إِذَا تَرَكَهُ، وَالثَّالِثُ يُقْطِعُهُ فَيَمْلِكُهُ مِلْكَ الْأَرْضِ إِذَا أَحْدَثَ فِيهَا عِمَارَةً ". قال في الحاوي: أحدهما: أنه كالبئر الجاهلي والماء العذب فلا يمنع أحد أن يعمل فيه فإذا استبقوا إليه فإن وسعهم غلوا معاً وان ضاق أقرع بينهم أيهم يبدأ ثم يتبع الآخر فالآخر فالآخر حتى يتساووا فيه. والثاني: للسلطان أن يقطعه على المعنى الأول يعمل فيه ولا يملكه إذا تركه والثالث يقطعه فيملكه ملك الأرض إذا أحدث فيها عمارة. اعلم أن المعادن الباطنة ضربان: ضرب لم يعمل فيه، وضرب عمل فيه، فأما ما لم يعمل فيه فضربان. أحدهما: أن يعمل منه بما يشاهد من ظاهرة أنه إن عمل فيه ظهر نيله وأجاب ولم يخلف فهذا هو الذي ذكرنا اختلاف قول الشافعي في جواز إقطاعه ومن لم يقطع فهو على

أصل الإباحة لمن ورده أن يعمل فيه. الثاني: أن لا يعلم منه ظهور نيله يقيناً وقد يجوز أن يخلف ويجوز أن لا يخلف، فقد اختلف أصحابنا فيه هل يجري عليه حكم الموات في جواز إقطاعه وتأييد ملكه بالإحياء أو يجري عليه حكم المعادن؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه يجري عليه حكم الموات في جواز إقطاعه وتأييد ملكه بالإحياء, لأنه من جملة الموات ما لم يتيقن كونه معدناً. الثاني: أنه يجري عليه حكم المعادن تغليباً لظاهر أمرها ما لم يتيقن كونه مواتاً، والأول أصح والله أعلم بالصواب. فصل: وأما ما عمل فيه فضربان: أحدهما: أن يكون العمل فيه إسلاماً فضربان: أحدهما: أن يكون عن إقطاع إمام. والثاني: عن غير إقطاع، فإنه كان قد عمل فيه مسلم بغير إقطاع فإذ ترك العمل عاد إلى أصله في الإباحة وجاز للناس العمل فيه، وفي جواز إقطاعه قولان، وان كان مسلم مقيماً على العمل فيه ففي جواز مشاركة الناس له فيه وجهان من اختلاف أصحابنا هل يكون إذن الإمام شرطاً في تملكه مدة العمل أم لا؟ أحدهما: أنه قد صار أحق به من غيره، وله مع الناس منه، وليس لأحد، مشاركته فيه حتى يقطع العمل وهذا على الوجه الذي لا يجعل إذن الإمام شرطاً في تملكه مدة العمل، وعلى هذا لا يجوز للإمام في مدة عمله أن يقطعه أحداً. الثاني: أنه فيه وغيره سواء، ولمن ورد إليه أن يشاركه في العمل، وإنما يختص هذا العمل بالموضع الذي قد عمل فيه دون غيره، وهذا على الوجه الذي يجعل إذن الإمام شرها ني تملكه مدة العمل، وعلى هذا يجوز للإمام في مدة عمله أن يقطعه من رأى ويتوجه إقطاع الإمام إلى ما سوى موضع عمله من المعدن، فإذا تطع العمل جاز إقطاع جميعه. فصل. فإذ كان قد عمل فيه مسلم بإقطاع إمام لم يجز في مدة العمل أن يشارك فيه، فأما بعد تطع العمل فإن قيل قد استقر ملكه عليه مؤبداً لم يجز أن يعمل فيه أحد بإذنه، ولا أن يجعله الإمام إقطاعا لغيره، ويجوز له أن يبيعه ويهبه، وان مات ورث عنه كسائر أمواله، وإن قيل إن ملكه مقدراً بمدة العمل جاز لغيره أن يعمل فيه وهل يفتقر إلى إذن الإمام أم لا؟ على وجهين مضيا وهل يجوز للإمام إقطاعه أم لا؟ على ما ذكرنا من القولين ولا يجوز له بعد قطع العمل أن يبيعه ولا أن يهبه وان مات لم يورث عنه فأما ني مدة العمل فلا يجوز له بيعه ولا هبته، لأن ملكه غير مستقر لكن ترتفع يده بالهبة ولا ترتفع بالبيع،

والفرق بينهما أن رفع يده في البيع كان مشروطاً بعوض لم يحصل له ولم ترتفع يده وليس كذلك الهبة, ولا يورث عنه بالموت, ويكون لوارثه إتمام ما شرع فيه من العمل وهو فيما يستأنفه كسائر الناس كلهم, هل يلزمه استئذان الإمام فيه بعد تقضي مدة الإقطاع بترك العمل أم لا؟ على وجهين: فصل: فإن كان العمل فيه جاهلياً كمعدن عملت الجاهلية فيه ثم وصل المسلمون إليه فلا يخلو حاله من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكون الجاهلي قد تملكه بعمله أو بإحيائه فهذا مغنوم ولا يجوز أن يقطع، ولا أن يستبيحه الناس، ويجري عليه حكم ما استقرت عليه أرضهم من صلح أو غيره. الثاني: أن يكون الجاهلي لم يتملكه بعمله ولا بإحيائه وإنما استمتع بما فيه وفارقه عفوا فهو في حكم المعادن المباحة إن كان ظاهراً منع من إقطاعه، وان كان بان فعلى قولين: أحدهما: أنه في حكم العامر من أموالهم لا يجوز إقطاعه ولا استباحته. والثاني: أنه من حكم المعادن الإسلامية وفي إقطاعها قولان والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: " وَكُلُّ مَا وَصَفْتُ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ وَإِقْطَاعِ الْمَعَادِنِ وَغَيْرِهَا، فَإِنَّمَا عَنَيْتُهُ فِي عَفْوِ بِلَادِ الْعَرَبِ الَّذِي عَامِرُهُ عُشْرٌ وَعَفْوُهُ مَمْلُوكٌ ". قال في الحاوي: اعلم أن الشافعي أواد بهذا الفصل أن جميع ما وصفه من إحياء الموات وإقطاع المعادن وغيرها من الحمى فإنما هو في بلاد الإسلام فقال إنما عنيته في عفو بلاد العرب، يريد بالعفو الموات الذي هو عفو متروك، ويريد ببلاد العرب بلاد الإسلام، لأن بلاد العرب هي دار الإسلام ومنها نشأ ثم قال: الذي عامره عشر يعني لا خراج عليه وإنما هي أرض عشر يؤخذ العشر من زرعها، ولا يؤخذ الخراج من أرضها، ثم قال: وعفوه مملوك، وروى الربيع وعفوه غير مملوك، فاختلف أصحابنا لاختلاف هذه الرواية فكان أبو علي بن أبي هريرة، وأبو حامد المروروزي، وأبو حامد الإسفراييني تنسبون المزني إلى الخطأ في نقله حين قال: وعفوه مملوك، لأنه لو كان مملوكاً ما جاز إحياؤه وان الصحيح ما نقله الربيع وان عفوه غير مملوك ليملك بالإحياء، وكان أبو القاسم الصيمري وطائفة يقولون: كلا الثقلين صحيح، والمراد بهما مختلف، فقول المزني وعفوه مملوك يعني لكافة المسلمين وذلك لم يجز لمشرك أن يحيي مواتاً في بلاد الإسلام، وقول الربيع وعفوه غير مملوك يعني لواحد من المسلمين بعينه، لأن من أحياه

منهم ملكه، فإن قيل فلما خص الشافعي رحمه الله بلاد الإسلام بهذا التقسيم من الحكم وقد تكون بلاد الشرك مثلها وعلى حكمها فعن ذلك جوابان: أحدهما: أنه خص بلاد الإسلام بذلك, لأن أحكامنا. والثاني: أن بلاد الشرك قد يكون حكمها كبلاد الإسلام في عامرها ومواتها بحسب اختلاف فتوحها لم يجز أن يجمعها في الحكم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَكُلُّ مَا ظُهِرَ عَلَيْهِ عَنْوَةً مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ فَعَامِرُهُ كُلُّهُ لِمَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ ". قال في الحاوي: اعلم أن بلاد الشرك إذا صارت من بلاد الإسلام فعلى ضربين: أحدهما: أن تصير من بلاد الإسلام عفواً بإسلام أهلها طوعاً من غير إيجاف خيل ولا ركاب، ولا بتهديد وإرهاب فحكم ذلك حكم ما أحياه المسلمون من أمصارهم في ملكهم لرقاب عامرها واستواء كافة المسلمين في إحياء موتاها، وجميعها أرض عشر فيما أسلموا عليه من عامر وما استأنفوا إحياؤه من موات. والثاني: ما ظهر عليه المسلمون باليد والغلبة وذلك ضربان: أحدهما: ما ملك عنوة: والثاني: ما فتح صلحاً, فأما المملوك عنوة فعامر مغنوم يقسم خمسة على خمسة من أهل الخمس, وتكون أربعة أخماسه مقسومة بين الغانمين، فأما مواته فلهم فيه حالان: أحدهما: أن لا يأبوا عنه ولا يمنعوا منه، ويخلو بينه وبين المسلمين من غير حائل عنه، فهذا في حكم موات المسلمين من أحياه فقد ملكه، ولا يختص به الغانمون دون غيرهم. والثانية: أن يذبوا عنه ويمنعوا منه، ويقاتلون دونه, فقد صار الغانمون أولى به، ثم اختلف أصحابنا هل صاروا أولى به يداً أو ملكاً؟ على وجهين: أحدهما: أنهم أولى به يداً كالمحجر على الموات وهو أولى به, لمحجره ويده من غيره وإن لم يصير ملكا له, فإن أخروا إحياؤه قال لهم الإمام: إما أن تحيوه أو ترفعوا أيديكم عنه ليحييه غيركم كما يقول لمن يحجر مواتا في بلاد الإسلام، وهذا قول أبي إسحاق المروزي وأبي حامل الإسفراييني, لأنه منح المشركين منه تحجير ثم انتقلت أيديهم إلى الغانمين فماروا بالغنيمة متحجرين فعلى هذا الوجه لو بدو غير الغانمين فأحياه ملكه كما يملك ما أحياه من موات ما يحجر عليه مسلم في بلاد الإسلام.

والثاني: وهو قول أبي حامد المروروذي وأبي الفياض أن الغانمين أولى بالموات ملكاً، لأنه قد صار بالمنع تتبعاً للعامر فلما ملك الغانمون العامر ملكوا ما صار تبعاً له من الموات, فعلى هذا لا يملكه غيرها بالإحياء، ولا يفترض عليهم برفع اليد بتأخير الإحياء, ولا يجوز لغيرهم أن يأخذ من معادن هذا الموات شيئاً لا من ظاهر ولا من باطنها، وعلى الوجه الأول يجوز فهذا حكم ما فتح عنوة، وسيأتي حكم ما فتح صلحاً، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَمَا كَانَ فِي قِسْمِ أَحَدِهِمْ مِنْ مَعْدِنٍ ظَاهِرٍ فَهُوَ لَهُ كَمَا يَقَعُ فِي قِسْمَةِ الْعَامِرِ بِقِيمَتِهِ فَيَكُونَ لَهُ". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا قسم عامر بلاد العنوة بين الغانمين فحصل في قسم أحدهما من العامر معدن فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون ظاهرا، فهذا ملك لمن قسم له من الغانمين لا يجوز لأحد أن يشاركه فيه وان كان ظاهراً. الثاني: أن يكون باطنا فلا يجوز أن يكون الإمام قد عرف حاله وقت القسم أو لم يعرف، فإن عرف حاله بعد ملكه للغانم بالقسم وان لم يعرف حاله ففيه وجهان: أحدهما: قد ملكه كما يملك ما أحياه. والثاني: لا يملكه لجهالة الإمام به، وان قسم المجهول لا يصح، فعلى هذا لا يملك المعدن وحده ويملك ما سواه مما قسم له، فإن لم يكن عليه في إفراده عن ملكه ضرر فلا خيار له ولا بدل، وان كان عله في إفراده ضرر فلا خيار له أيضا، لأن قسم الإمام لا يتعلق به المقسوم له خيار ولكن عليه أن يعطيه بدل النقص الداخل عليه بالضرر ما يكون عوضا عنه أو ينقص القسم من يعطيه غيره مما في سهمه. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَكُلُّ مَا كَانَ فِي بِلَادِ الْعَنْوَةِ مِمَّا عُمِرَ مَرَّةً ثُمَّ تُرِكَ فَهُوَ كَالْعَامِرِ الْقَائِمِ الْعِمَارَةِ، مِثْلَ مَا ظَهَرَتْ عَلَيْهِ الْأَنْهَارُ، وَعُمِرَ بِغَيْرِ ذَلِكَ عَلَى نَطْفِ السَّمَاءِ أَوْ بِالرِّشَاءِ، وَكُلُّ مَا كَانَ لَمْ يُعْمَرْ قَطُّ مِنْ بِلَادِهِمْ فَهُوَ كَالْمَوَاتِ مِنْ بِلَادِ الْعَرَبِ". قال في الحاوي: أعلن أن ما اندرست عمارته من بلاد المشركين حتى صار مواتا خرابا على ثلاثة أقسام. أحدهما: أن تكون الشروط المعتبرة في إحيائها باقية فيه كأرض الزراعات إذا كانت مستباتها باقية وماؤها قائماً، وصارت بنيات الخشبتين فيها خراباً وبتأخير عمارتها مواتاً

فهذه في حكم العامر من أموالهم يقسم بين الغانمين في العنوة. والثاني: أن تكون الشروط المعتبرة في إيجابها ذاهبة كالدور والمنازل إذا ذهب آلتها واندرست أثارها, فحكم هذا على ما استوفيناه تقسيماً، وحكماً في صدور هذا الكتاب. الثالث: أن تذهب بعض الشروط المعتبرة في إيجابها ويبقى بعضها عارض الزرع إذا ذهبت مسنياتها وبقي ماؤها أو ذهب ماؤها وبقيت مسنياتها ففيه ثلاثة أوجه. أحدها: أنه في حكم الموات ما لم يندرس جميع آثاره. والثاني: أنه في حكم الموات ما لم يبق جميع آثاره. والثالث: أنه إذا تقادم العهد بجوابها صارت مواتاً، وان قرب العهد لعمارتها فهي في حكم ما كان عامراً. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَمَا كَانَ مِنْ بِلَادِ الْعَجَمِ صُلْحًا، فَمَا كَانَ لَهُمْ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ غَيْرَ مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِمْ، فَإِنْ صُولِحُوا عَلَى أَنَّ لِلْمُسْلِمِينَ الْأَرْضَ، وَيَكُونُونَ أَحْرَارًا ثُمَّ عَامَلَهُمُ الْمُسْلِمُونَ بَعْدُ، فَالْأَرْضُ كُلُّهَا صُلْحٌ، وَخُمُسُهَا لِأَهْلِ الْخُمُسِ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهَا لِجَمَاعَةِ أَهْلُ الْفَيْءِ، وَمَا كَانَ فِيهَا مِنْ مَوَاتٍ فَهُوَ كَالْمَوَاتِ غَيْرِهِ، فَإِنْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى عَامِرِهَا وَمَوَاتِهَا كَانَ الْمَوَاتُ مَمْلُوكًا لِمَنْ مَلَكَ الْعَامِرَ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمَوَاتِ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ إِذَا حَازَهُ رَجُلٌ". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن ما انتقل إلينا من بلاد المشركين ضربان: عنوة وصلحاً, فأما بلاد العنوة فقد ذكرنا حكمها، وأما بلاد الصلح فضربان. أحدهما: أن يعقد الصلح فيها على بقاء ملكهم عليها وأن يؤووا عنها خراجاً فهذا جزية تسقط عنهم بإسلامهم, وهو في العامر والموات على ما كانوا عليه قبل الصلح. الثاني: أن يعقد الصلح معهم على أن رقاب أرضهم ملكاً للمسلمين وتقر في أيديهم بخراج بادوه عنها، فهذا خراج أجرة لا تسقط عنهم بإسلامهم، ويكون الخراج في الموضعين مصروفا في أهل الفيء، فأما مواتهم فلا يخلو أن يضم إلى العامر في الصلح أو بعقل، فإن أعقل ولم يذكر فهو في حكم الموات في بلاد المسلمين، وأرضهم إلى العامر في ملك المسلمين له صار في حكم ما غنم من مواتهم إذا منعوا منه يكون أهل الفيء أولى به، وهل يكونوا أولى به يدا أو ملكاً؟ على وجهين: أحدهما: أنهم أولى به يداً، فإن أحياه غيرهم من المسلمين ملك. والثاني: أنهم أولى به ملكا فإن أحياه غيرهم لم يملكوا، تعلقاً بظاهر قول

الشافعي: كان الموات مملوكاً لمن ملك العامر, ومن قال بالوجه الأول تأول ذلك بتأولين: أحدهما: أنه في موات كان عامراً ثم خرب محلى ما مضى من تقسيم حكمه. والثاني: أنه جعل ذلك ملكاً للمسلمين لا لمن ملك العامر من أهل الفيء، لأل في الفيء، خمس لأهل الخمس وأربعة أخماسه لأهل الفيء وهؤلاء هم كافة أهل الإسلام. فصل: فأما قول الشافعي رحمه الله: كما يجوز بيع الموات من بلاد المسلمين إذا أحازه رجل فقد اختلف أصحابنا فيه، فكان أبو إسحاق المروزي يحمل ذلك على ظاهره ويجوز بيع الموات بإجازة المسلم وان لم يحييه، لأنه قد صار بالإجازة أولى به، وكان غيره، وهو الظاهر من مذهب الشافعي يمنع من بيع الموات قبل الإحياء، لأن يده قد ترفع إن أخر الإحياء، وتأولوا قول الشافعي إذا أحازه رجل فعبر عن الإحياء بالإجازة. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: " وَمَنْ عَمِلَ فِي مَعْدِنٍ فِي أَرْضٍ مِلْكُهَا لِغَيْرِهِ، فَمَا خَرَجَ مِنْهُ فَلِمَالِكِهَا وَهُوَ مُتَعَدٍّ بِالْعَمَلِ". قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا ملك رجل معدناً ظاهراً أو باطناً، إما بإحيائه أو بمغنم حصل في سهمه أو بإقطاع, وقيل: يجوز إقطاعه واستدامة ملكه فليس لغيره من الناس أن يشاركه فيه ولا أن يأخذ شيئاً منه, فإن فعل كان متعدياً في حكم الغاصب يسترجع منه ما أخذه إن كان باقياً، ويغرم إن كان تالفاً بمثل وبقية ما ليس له مثل, ولا أجرة له في عمله لتعديه به، ومن تعدى في عمل له يستحق عليه عوضاً، وعليه غرم ما أفسد من المعدن بعمله، وكان أبو القاسم الصيمري يرى أن تعزيز عليه، تعليلاً بأن أصل المعدن قد كان مباحاً فصارت شبهة, والذي أرى أن يعزز وإن كان الأصل مباحاً قبل الملك كما يقطع في سرقة الأموال المملوكة وان كانت عن أصول مباحة. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَإِنْ عَمِلَ بِإِذْنِهِ أَوْ عَلَى أَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ عَمَلِهِ فَهُوَ لَهُ فَسَوَاءٌ، وَأَكْثَرُ هَذَا أَنْ يَكُونَ هِبَةً لَا يَعْرِفُهَا الْوَاهِبُ، وَلَا الْمَوْهُوبُ لَهُ، وَلَمْ يُحَزْ، وَلَمْ يُقْبَضْ، وَلِلْآذِنِ الْخِيَارُ فِي أَنْ يُتِمَّ ذَلِكَ أَوْ يَرُدَّ، وَلَيْسَ كَالدَّابَّةِ يَاذَنُ فِي رُكُوبِهَا؛ لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِمَا أَعْطَاهُ وَقَبَضَهُ". قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا ملك معدناً في أرض أحياها أو اشتراها فظهر فيها ثم إن رجلاً عمل فيه فأخرج منه قطعاً فلا يخلو أن يكون عمل بإذنه فإن كان بغير إذنه

فهو متعدٍ بذلك ولا أجرة له وما أخرجه فلصاحبه, وإن كان ذلك بإذنه فلا يخلوا من أن يأذن له على أن يخرجه العامل لنفسه أو له، فإن أذن له على أن يخرجه له فما يخرجه يكون له, وهل للعامل الأجرة أم لا يكون؟ يحكم فيه كالحاكم في الغسال إذا أعطاه الثوب ليغسله فغسله من غير أن يشترط له أجرة. وأما إذا له على أن ما يخرجه العامل فلنفسه دونه، فإن ذلك لا يصح, لأنها هبة مجهولة, والمجهول لا يصح تملكه وكل ما يخرجه فإنه يرده على صاحب المعدن إلا أن يستأنف له هبة بعد الإخراج، ويقبضه إياه ولا أجرة للعامل، لأنه عمل لنفسه وإنما تثبت له الأجرة إذا عمل لغيره بإجارة صحيحة أو فاسدة. فإن قيل: أليس إذا قارضه محلى أن يكون الربح كله للعامل فعمل وربح، فإن الربح يكون لرب المال وأجرة المثل للمقارض، وها هنا قد عمل لنفسه، لأنه شرط جميع الربح. فالجواب: أنه ليس كذلك، إنما عمل لغيره، لأن رأس المال ليس له وإنما هو لغيره، والبيع والشراء يقع لغيره دونه، فأما في مسألتنا فإن العمل وقع لنفسه ولم يقصد بذلك إلا نفسه فلهذا لم يكن له أبجره فأما إذا استأجره لإخراج شيء من المعدن فإنه ينظر فإن استأجره مدة معلومة صحت الإجارة، وان كان العمل معلوماً مثل أن يقول: تحفر لي كذا وكذا ذراعاً صح ذلك إذا كانت الأجرة معلومة، فأما إذا استأجره لذلك وجعل أجرته جزاء مما يخرجه من المعدن مثل أن يقول: وثلثه أو ربعه فإن الإجارة فاسدة، لأنها مجهولة، وله أجرة المثل فإن كان ذلك بلفظ الجهالة مثل أن يقول: إن أخرجت منه شيئاً فقد جعلت لك نصفه أو ثلثه فإنه لا يجوز، لأن الذر جعل له مجهول القدر موان جعل معلوماً فقال: إن أخرجت منه كذا فقد جعلت لك عشرة دراهم صح ذلك كما لو قال: من جاء بعبدي، أو قال: إن جئت بعبدي فلك دينار صح ذلك والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " مَنْ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ لِيَمْنَعَ بِهِ الْكَلَأَ مَنَعَهُ اللَّهُ فَضْلَ رَحْمَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ".قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: "وَلَيْسَ لَهُ مَنْعُ الْمَاشِيَةِ مِنْ فَضْلِ مَائِهِ، وَلَهُ أَنْ يَمْنَعَ مَا يُسْقَى بِهِ الزَّرْعُ أَوِ الشَّجَرُ إِلَّا بِإِذْنِهِ". قال في الحاوي: وهذا كما قال الآبار على ثلاثة أضرب: ضرب يحفره في ملكه، وضرب يحفره في الموات، لتملكه، وضرب يحفر في الموات لا للتملك. فأما الأول: وهو إذا حفر بئراً في ملكه فإنما نقل ملكه، ولأنه ملك المحل قبل الحفر.

وأما الثاني: وهو إذا حفر بئرًا في الموات ليتملكها فإنه يملكها بالإحياء، والإحياء أن يبلغ إلى مائها، لأن ذلك نيلها، وإذا بلغ نيل ما يحييه ملكه، وقيل: إن يبلغ الماء يكون ذلك تحجرًا وهذا كما قلنا في المعدن الباطن أن تحجيره ما لم يبلغ النيل، وإذا بلغ النيل كان ذلك إحياء ويملكه، ويفارق المعدن على أحد القولين، لأن المعدن لا ينتهي عمارته والبئر تنتهي عمارتها فإذا بلغ الماء تكررت منفعتها على صنفيها إذا ثبت هذا فهل يملك الماء الذي يحصل في هذين الضربين أم لا؟ نص الشافعي على أنه يملك، ومن أصحابنا من قال: لا يملك، لأن الماء في البئر لو كان مملوكًا يستبح بالإجارة، لأن الأعيان لا تستباح بالإجارة، ولأنه لو كان مملوكًا لما جاز بيع دار في بئرها ماء، لأن الربا يجري في الماء لكونه مطعومًا، ولما جاز ذلك دل على أنه ليس بمملوك، والدليل على أنه مملوك أنه نماء ملكه فهو كثمرة الشجرة، ولأن هذا الماء معدن ظهر في أرضه فهو كمعادن الذهب والفضة وغيرها إذا ظهرت في أرضه. فأما الجواب عن قولهم لو كان مملوكًا لم يستبح بالإجارة فهو أن العين قد تستباح بالإجارة إذا دعت الحاجة إليه، ألا ترى أنه يجوز أن تملك بعقد الإجارة على الإرضاع عين اللبن، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك وجواب آخر وهو أنه إنما جاز أن يستبيحه المستأجر لأنه لا ضرر على المكري في ذلك، لأنه يستخلف في الحال، وما لا ضرر عليه فيه فليس له منع الغير منه، ألا ترى أنه ليس له أن يمنع أن يستظل بحائطه فكذلك هاهنا. وأما الجواب عن دليلهم فهو أن الماء يجري فيه الربا على أحد الوجهين فهو مملوك، ولا يجري فيه الربا على هذا الوجه، فكذلك صح البيع، إذا تقرر هذان الوجهان فإن قلنا: إنه مملوك فليس لغيره أن يأخذ منه شيئًا لأنه يحتاج إلى أن يتخطى في ملك غيره بغير إذنه فإن تخطى بغير إذنه واستقى من ذلك الماء ملكه، وليس عليه رده كما إذا توغل في أرضه صيد فليس لغيره أن يأخذه، لأنه يحتاج أن يتخطى ملك غيره بغير إذنه، وذلك لا يجوز، فإن خالف وتخطى فأخذ ملكه، وأما إذا أراد أن يبيع منه شيئًا فإن خالف قلنا إنه غير مملوك لم يجز بيع شيء منه حتى يستقيه ويجوز فيملكه بالحيازة، وإن قلنا: إنه مملوك جاز أن يبيع منه وهو في البئر إذا شاهد المشتري كيلًا أو وزنًا، ولا يجوز أن يبيع جميع ما في البئر، لأنه لا يمكن تسليمه إذا كان يبيع ويريد كلما استقى منه شيء فلا يمكن تميز المبيع من غيره. وأما الثالث: من الآبار وهو إذا نزل قوم موضعًا من الموات فحفروا فيه بئرًا ليشربوا من مائها ويسقوا منه مواشيهم مدة مقامهم ولم يقصدوا التملك بالإحياء، فإنهم لا يملكونها، لأن المحيي إنما يملك بالإحياء مدة ما قصد به بملكه فإنه يكون أحق به مدة مقامه فإذا رحل فكل من يسبق إليه كان أحق به وكل موضع قلنا إنه يملك البئر فإنه أحق بمائها بقدر حاجته لشربه وشرب ماشيته وسقي زرعه فإذا فضل بعد ذلك شيء وجب عليه

بذله بلا عوض لمن احتاج إليه لشربه وشرب ماشيته من السائلة وغيرهم وليس له منع الماء الفاضل عن حاجته حتى لا يتمكن غيره من رعي الكلأ والذي يقرب ذلك الماء، وإنما يجب عليه ذلك لشرب المحتاج إليه وشرب ماشيته فأما لسقي زرعه فلا يجب عليه ذلك ولكن يستحب وقال أبو عبيد بن حربوية: يستحب ذلك لشرب ماشيته وسقي زرعه ولا يجب عليه، ومن الناس من قال: يجب عليه بذله بعوض لشرب الماشية وسقي الزرع فأما بلا عوض فلا، واحتج أبو عبيد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» وقال: ولأنه لو كان كلأ مملوكًا وبجنبه بئر ولا يمكن سقي المواشي من تلك البئر إلا بالرعي في ذلك الكلأ لم يلزمه بذل الفاضل من كلائه، فإن كان منعه يؤدي إلى منع الماء المباح فكذلك إذا كان الماء له، وكان الكلأ مباحًا لم يلزمه بذل الماء، وإن كان المنع يؤدي إلى منع الكلأ المباح، قال: ولأنه لما لم يجب ذلك لسقي زرعه فكذلك لمواشيه. ودليلنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من منع فضل الماء ليمنع به الكلأ منعه الله فضل رحمته يوم القيامة» وفيه أدلة: أحدها: أنه توعد على المنع فدل على أن البذل واجب. والثاني: أنه دل على أن الفصل هو الذي يجب بذله فأما ما تحتاج إليه الماشية ونفسه وزرعه فلا يجب عليه بذلك وهو أحق من غيره. والثالث: أنه دل على أنه يجب عليه البذل بلا عوض. والرابع: أنه دل على أنه يجب عليه ذلك للماشية دون غيرها وروى ابن عباس عن النبي ... صلى الله عليه وسلم قال: "الناس شركاء في ثلاث: الماء والنار والكلأ" وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع فضل الماء. وأما ما ذكره من الكلأ فهو أن الفرق بين الماء وبينه من وجهين: أحدهما: أن الماء إذا أخذ استخلف في الحال ونبع مثله، وليس كذلك الحشيش فإنه إذا أخذ لا يستخلف بدله في الحال. والثاني: أن الحشيش يتمول في العادة والماء لا يتمول في العادة. وأما الجواب عن دليله الأخير فهو أن الزرع لا حرمة له، وليس كذلك الحيوان فإن

له حرمة، ألا ترى أنه لو عطش زرعه فلم يسقه لم يجبر على ذلك، ولو عطش حيوان أجبر على سقيه، فبان الفرق بينهما إذا ثبت أنه يلزمه البدل لما ذكرنا، فإنه لا يلزمه أن يبذل آلته التي هي البكرة والدلو والحبل، لأنها تبلى بالاستعمال ولا تستخلف، ويفارق الماء، لأنه يستخلف في الحال بدله. فصل: فأما الذي قد حازه وجمعه في جبة أو مركبة أو مصنعة، فلا يجب عليه بذل شيء منه، وإن كان فاضلًا عن حاجته لأنه لا يستخلف وحكمه كحكم البئر يجب على صاحب العين بذل الفاضل عن حاجته لماشية غيره ولا يلزمه بذله لزرع غيره والله أعلم. فصل: في المياه وجملته أن الكلام فيها من فصلين: أحدهما: في ملكها. والآخر: في السقي منها. فأما الكلام في ملكها فهي على ثلاثة أضرب مباح، ومملوك، ومختلف فيه. فأما المباح كما البحر والنهر الكبير كدجلة والفرات والنيل، ومثل العيون النابعة في موات السهل والجبل فكل هذا مباح، ولكل أحد أن يستعمل منه ما أراد كيف شاء. والأصل فيه ما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «الناس شركاء في ثلاث الماء والنار والكلأ» ولأنه حادث في أرض موات فوجب أن يكون مباحًا كالحشيش وإن زاد هذا الماء ودخل أملاك الناس واجتمع فيها لم يملكوه؛ لأنه لو نزل مطر واجتمع في ملكه فمكث أو فرخ طائر في بستانه أو توحل ظبي في أرضه لم يملكه، وكان بمن حازه، فكذلك الماء، وأما المملوك فكل ما حازه من الماء المباح من قربة أو جرة أو ساقه إلى بركة فجمعه فيها فهذا مملوك له كسائر المائعات المملوكة ومتى غصب غاصب شيئًا من ذلك وجب رده على صاحبه. وأما المختلف في كونه مملوكًا فهو كل ما نبع في ملكه من بئر أو عين وقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: أنه مملوك وقد نص عليه في القديم. والثاني: أنه ليس بمملوك فإذا قلنا: إنه غير مملوك فإنه لا يجوز أن يبيعه ولا شيئًا منه كيلًا ولا وزنًا، ولا يجوز أن يبيع جميعه، لأنه لا يقدر على تسليمه فإنه يختلط به غيره، وإذا باع دارًا فيها بئر ما لم يدخل الماء في البيع، لأنه مودع فيها غير متصل بها فهو بمنزلة الطعام في الماء في البيع تبعًا قال: إذا اشترط صح البيع فإن قيل: قد قلتم لا يجوز بيع جميع ما في البئر من الماء وأجزتم هاهنا فما الفرق بينهما؟ فالجواب أنه إذا باع البئر مع مائها فما يحدث من الماء يكون ملكًا للمشتري ولا يتعذر تسليم المبيع إليه وليس كذلك إذا باع الماء وحده، لأنه لا يمكن تسليم المبيع، لأنه

إلى أن يسلم قد بيع فيه ماء آخر فاختلط به. فصل: وأما السقي منه فإن الماء المباح على ثلاثة أضراب: الأول: هو ماء نهر عظيم مثل دجلة والفرات وغيرهما والناس في السقي منه شرع سواء، ولا يحتاج فيه إلى ترتيب وتقديم وتأخير لكثرته واتساعه. والثاني: ماء مباح في نهر صغير يأخذ من النهر الكبير ولا يسع جميع الأراضي إذا سقيت في وقت واحد ويقع في التقديم والتأخير نزاع فهذا يقدم فيه الأقرب فالأقرب إلى أول النهر الصغير والأصل فيه ما روي أن رجلًا خاصم الزبير في سراح الحرة التي يسقون بها فقال الأنصاري: سرح الماء يمر عليه فأبى عليه الزبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك» فغضب الأنصاري، وقال: يا رسول الله إن كان ابن عمتك فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: "اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يبلغ إلى الجدر" قال الزبير: فو الله إني لأحسب هذه الآية نزلت في ذلك: {فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النِّساء: 65] الآية فدل هذا على أن الأقرب أولى فإذا استكفى أرسله إلى جاره إلى من يليه، وروي أيضًا أن رجلًا من قريس كان له سهم في بني قريظة فخاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرور السبل الذي يقتسمون ماءه فقضى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الماء إلى الكعبين ثم يحبسه الأعلى عن الأسفل لكي يرسله إليه وأيضًا فإن الأقرب إلى فرهة النهر بمنزلة السابق إلى المشرعة فوجب أن يكون أولى من الذي هو أبعد منه. وأما تأويل قصة البئر فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أولًا بأن لا يستوفي جميع حقه، ويرسل الماء إلى جاره فلما أساء جاره الأدب أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يستوفي في حقه فقال: «أحبس الماء حتى يبلغ الجدر»، فإن قيل: ففي الحديث الآخر أنه علق الحق بأن يبلغ الماء إلى الكعبين، وهذا مخالف لذلك. قلنا: ليس فيهما خلاف، لأن الماء بلغ الكعبين وكانت الأرض مستوية رجع الماء إلى الجدار. إذا تقرر هذا فإن الأقرب إلى الفرهة يسقى ويحبس الماء عمن دونه فإذا بلغ الماء الكعبين أرسله إلى جاره وهكذا الأقرب فالأقرب يفعل كلما حبس الماء وبلغ في أرضه إلى الكعبين أرسله إلى من يليه حتى يشرب الأراضي كلها فإن كان زرع الأسفل يهلك إلى أن ينتهي الماء إليه لم يجب على من وفقه إرساله إليه فإذا أحيا على هذا النهر الصغير رجل أرضًا مواتًا هي أقرب إلى فرهة النهر من أراضيهم، فإنهم أحق بمائه فإذا فضل عنهم شيء سقي المحيي منه ولا يقول إن هذا الماء ملك لهم كما إذا جازوه ملكوه، وإنما هو من مرافق ملكهم فكانوا أحق به مع حاجتهم إليه فما فضل منهم كان لمن أحيا على ذلك

الماء مواتًا وأما الذي في نهر مملوك فهو أن يحفروا في الموات نهرًا صغيرًا ليحيوا على مائه أرضًا، فإذا بدأوا بالحفر فقد تحجروا إلى أن يصل الحفر بالنهر الكبير الذي يأخذون الماء منه فإذا وصلوا إليه ملكوه كما إذا حفروا بئرًا فوصلوا إلى الماء ملكوه، وإذا حفروا معدنًا من المعادن الباطنة، وقلنا: يملك في أحد القولين، فإذا وصلوا إلى النهر ملكوه. إذا ثبت هذا فإنهم يملكونه على قد نفقاتهم عليه فإن أنفقوا على السواء كان النهر بينهم بالتسوية وإن تفاضلوا كان ملكهم على قدر ما أنفقوا. فإذا تقرر هذا فإن الماء إذا جرى فيه لم يملكوه كما إذا جرى الفيض إلى ملك رجل واجتمع لم يملكه ولكن يكون أهل النهر أولى به، لأن يدهم عليه وليس لأحد أن يزاحمهم فيه، لأن النهر ملك لهم ولكل واحدٍ منهم أن ينتفع به على قدر الملك لأن الانتفاع به لأجل الملك فإن كان الماء كبيرًا يسعهم أن يسقوا من غير قسمة سقوا منه وإن لم يسعهم فإن تهابوا وتراضوا على ذلك جاز لهم ما تراضوا به فإن لم يفعلوا ذلك واختلفوا نصب الحاكم في موضع القسمة خشبة مستوية الظهر محفرة بقدر حقوقهم، فإن كان لقوم مائة جريب ولآخر عشرة أجربة كانت الحفر إحدى عشر حفرة متساوية فيكون هزة منها لساقية من له عشرة أجربة والبواقي لأصحاب المائة جريب وذلك قسمة الماء العادلة.

كتاب اللقطة

كتاب اللقطة مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ مَوْلَى المُنْبَعِثِ عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الجُهَنِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَهُ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَانُكَ بِهَا». وَعَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ نَحْوَ ذَلِكَ قَالَ الشَّافِعِي: فَبِهَذَا أَقُول. قال في الحاوي: وهذا كما قال وهذا الحديث هو الأصل في اللقطة وقد رواه الشافعي في «الأم» بتمامه وأنه سأله بعد قوله فشأنك بها عن ضالة الغنم فقال: «لك أو لأخيك أو للذئب» فقال: فضالة الإبل؟ قال: «مالك ولها معها سقاؤها وحذاؤها ترد الماء وتأكل الشجر حتى يلقاها ربها» أما قوله في ضالة الغنم: «هي لك» يعني إن أخذتها أو لأخيك إن أخذها غيرك» أو للذئب يعني إن لم تؤخذ أكلها الذئب فأما قوله في ضالة الإبل: «مالك ولها» أي لا تأخذها وقوله: «معها سقاؤها» يعني أعناقها التي تتوصل بها إلى الماء فلا تحتاج إلى تقريب الراعي ومعونته وقوله: حذاؤها يعني خفاف أرجلها التي تقدر بها على السير وطلب المرعى وتمتنع من صغار السبع فخالفت الغنم من هذه الوجوه الثلاثة. وروى مطرب بن عبد الله عن ابيه أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إنا نصيب هوامي الإبل فقال: «ضالة المؤمن حرق النار» وهو من الإبل: هي المهملة التي لا راعي لها، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال: «لا يأوي الضالة إلا ضال».

وروى الشافعي يحيى بن سعيد عن الثوري عن سلمة بن كهيل عن سويد بن غفلة أنه سأل أبيّ بن كعب رضي الله عنه عن سوط وجده فقال: إني وجدت صرة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها مائة دينار فذكرتها لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لي: «عرفها حولًا فإن وجدت من يعرفها فادفعها إليه وإلا فاستمتع بها» وروى الشافعي عن عبد العزيز عن شريك عن عطاء بن يسار عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه وجد دينارًا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكره له فأمره أن يعرفه فلم يعرف فأمره بأكله ثم جاء صاحبه فأمره أن يغرمه. فصل: فإذا ثبت ما روينا فاللقطة والضوال مختلفان في الجنس والحكم. فالضوال الحيوان لأنه يضل بنفسه وسنذكر حكمه، واللقطة غير الحيوان سميت بذلك لالتقاط واجدها لها ولها حالتان. إحداهما: أن توجد في أرض مملوكة فلا يجوز لواجدها التعرض لأخذها وهي في الظاهر لمالك الأرض إذا دعاها. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن اللقطة فقال: «ما كان منها في طريق ميتاء فعرفها حولًا فإن جاء صاحبها وإلا فهي لك وما كان منها من خراب ففيها وفي الركاز الخمس». وقوله في طريق ميتاء يعني مملوكة قديمة سميت بذلك لإتيان الناس إليها وروي في طريق مأتى سميت بذلك لإتيان الناس إليها. والثانية: أن توجد في أرض غير مملوكة من مسجد أو طريق أو موت فلا يخلو ذلك من أحد أمرين أما أن تكون بمكة أو بغير مكة فإن كانت بغير مكة من سائر البلاد فعلى ضربين ظاهر ومدفون فإن كان ظاهرًا فعلى ضربين: أحدهما: ما لا يبقى كالطعام الرطب فله حكم نذكره من بعد. والثاني: أن يكون مما يبقى كالدراهم والدنانير والثياب والحلي والقماش فهذه هي اللقطة التي قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم «اعرف عفاصها ووكاءها وعرفها حولًا فإن جاء صاحبها وإلا فشانك بها».فعليه أن يقيم لشروط تعريفها ثم له بعد الحول إن لم يأت صاحبها أن يتملكها، وإن كان مدفونًا فضربان: جاهلي وإسلامي فإن كان إسلاميًا فلقطة أيضًا وهي على ما ذكرنا وإن كان جاهليًا فهو ركاز يملكه واجده وعليه إخراج خمسه في

مصارف الزكوات لقوله صلى الله عليه وسلم وفي الركاز الخمس. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وفي السيوب الخمس» يعني الركاز. قال أبو عبيد ولا أراه أخذ إلا من السيب وهو العطية. فصل: وإن كانت اللقطة بمكة فذهب الشافعي رحمه الله أنه ليس لواجدها أن يتملكها وعليه أن أخذها إن يقيم بتعريفها أبدًا بخلاف سائر البلاد. وقال بعض أصحابنا: مكة وغيرها سواء في اللقطة استدلالًا بعموم الخبر وهذا خطأ، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن إبراهيم حرم مكة فلا يختلي خلاءها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها ولا تحل لقطتها إلا لمنشد» وفي المنشد تأويلان: أحدهما: وهو قول أبي عبيد أنه صاحبها الطالب والناشد وهو المعرف الواجد لها قاله الشاعر: يَصِيحُ لِلنَّبْأَةِ أَسْمَاعَهُ إِصَاحَةَ النَّاشِدِ لِلْمُنْشِدِ فكأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل لأحد أن يتملكها إلا صاحبها التي هي له دون الواجد»، والتأويل الثاني وهو قول الشافعي أن المنشد الواجد المعرف الناشد هو المالك الطالب. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا ينشد ضالة في المسجد فقال: «أيها الناشد غيرك الواجد».معناه لا وجدت كأنه دعا عليه فعلى هذا التأويل معنى قوله لا تحل لقطتها إلا لمنشد أي لمعرف يقيم على تعريفها ولا يتملكها فكان في كلا التأويلين دليل على تحريم تملكها ولأن مكة لما باينت غيرها في تحريم صيدها وشجرها تغليظًا لحرمتها باينت غيرها في ملك اللقطة ولأن مكة لا يعود الخارج منها غالبًا إلا بعد حول إن عاد فلم ينتشر إنشادها في البلاد كلها فلذلك وجب عليه إدامة تعريفها ولا فرق بين مكة وبين سائر الحرم لاستواء جميع ذلك في الحرمة فأما عرفه ومصلى إبراهيم صلى الله عليه وسلم ففيه وجهان: أحدهما: أنه حل تحل لقطته قياسًا على جميع الحل، والوجه الثاني: أنه كالحرم لا تحل لقطته إلا لمنشد لأن ذلك مجمع الحاج وينصرف النفار منه في سائر البلاد كالحرم ثم اختلفوا في جواز إنشادها في المسجد الحرام مع اتفاقهم على تحريم إنشادها في غيره من المساجد على وجهين: أصحهما جوازه اعتبارًا بالعرف وأنه مجمع الناس. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَبِهَذَا أَقُولُ وَالْبَقَرُ كَالإِبِلِ لأَنَّهُمَا يَرِدَانِ المِيَاهَ وَإِنْ

تَبَاعَدَتْ وَيَعِيشَانِ أَكْثَرَ عَيْشِهِمَا بِلَا رَاعٍ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَعْرِضَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَالمَالُ وَالشَّاةُ لَا يَدْفَعَانِ عَنْ أَنْفُسِهِمَا فَإِنْ وَجَدَهُمَا فِي مَهْلَكَةٍ فَلَهُ أَكْلُهُمَا وَغُرْمُهُمَا إِذَا جَاءَ صَاحِبُهُمَا وَقَالَ فِيمَا وَضَعَهُ بِخَطِّهِ لَا أَعْلَمُهُ بِسَمْع مِنْهُ وَالخَيْلُ وَالبِغَالُ وَالحَمِيرُ كَالبَعِيرِ لأَنَّ كُلَّها قَوِيٌّ مُمْتَنِعٌ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ بَعِيدُ الأَثَرِ فِي الأَرْضِ وَمِثْلُهَا الظَّبْيُ لِلرَّجُلِ وَالأَرْنَبِ وَالطَّائرِ لِبُعْدِهِ فِي الأَرْضِ وَامْتِنَاعِهِ فِي السُّرْعِةِ». قال في الحاوي: اعلم أن ضوال الحيوان إذا وجدت لم يخل حالها من أحد أمرين: إما أن توجد في مصر أو في صحراء فإن وجدت في مصر فيأتي وإن وجدت في صحراء فعلى ضربين: أحدهما: أن تكون مما يصل بنفسه إلى الماء والرعي ويدفع عن نفسه صغار السباع. أما لقوة جسمه كالإبل والبقر والخيل والبغال والحمير وأما البعد أثره كالغزال والأرنب والطير فبهذا النوع لا يجوز لواجده أن يتعرض لأخذه إذا لم يعرف مالكه لقوله صلى الله عليه وسلم في ضوال الإبل: «ما لك ولها معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر ذرها حتى تلقى ربها» ولأنها تحفظ أنفسها فلم يكن لصاحبها حظ في أخذها، فإن أخذها لم يخل من أحد أمرين: إما أن يأخذها لقطة ليمتلكها إن لم يأت صاحبها فهذا متعد وعليه ضمانها فإن أرسلها لم يسقط الضمان. وقال أبو حنيفة ومالك قد سقط الضمان عنه بالإرسال بناء على من تعدى في وديعة ثم كف عن التعدي فعندهما يسقط الضمان عنه وعندنا لا يسقط فإن لم يرسلها ولكن دفعها إلى مالكها فقد سقط عنه ضمانها بأدائها إلى مستحقها وإن دفعها إلى الحاكم عند تعذر المالك ففي سقوط الضمان وجهان: أحدهما: قد سقط لأن الحاكم نائب عمن غاب. والثاني: لا يسقط لأنها قد تكون لحاضر لا يولى عليه. والثانية: ألا يأخذها لقطة ولكن يأخذها حفظًا على مالكها فإن كان عارفًا بمالكها لم يضمن ويده يد أمانة حتى تصل إلى المالك وإن كان غير عارف للمالك ففي وجوب الضمان وجهان: أحدهما: لا ضمان لأنه من التعاون على البر والتقوى. والثاني: عليه الضمان لأنه ولاية له على غائب فإن كان واليًا كالإمام أو الحاكم فلا ضمان عليه فقد روي أن عمر رضي الله عنه كانت له حظيرة يحضر فيها ضوال الإبل فهذا حكم أحد الضربين. فصل: والضرب الثاني: ما لا يدفع عن نفسه ويعجز عن الوصول إلى الماء والرعي كالغنم والدجاج فلو أخذه فأكله في الحال من غير تعريف غنيًا كان أو فقيرًا فعليه غرمه لمالكه إن وجده وبه قال أبو حنيفة وقال مالك وداود هو غير مضمون ويأكله أكل إباحة

ولا غرم عليه في استهلاكه استدلالًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هي لك أو لأخيك أو للذئب» ومعلوم أن ما استهلكه الذئب هدر لا يضمن وإنما أراد بيان حكم الأخذ في سقوط الضمان ولأن ما استباح أخذه من غير ضرورة إذا لم يلزمه تعريفه لم يلزمه غرمه كالدراهم. ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه» ولأنها لقطة يلزمه ردها مع بقائها فوجب أن يلزمه غرمها عند استهلاكها قياسًا على اللقطة في الأموال ولأنها ضالة فوجب أن تضمن بالاستهلاك كالإبل فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: «هي لك أو لأخيك أو للذئب» فهو أنه نبه بذلك على إباحة الأخذ وجواز الأكل دون الغرم وأما الركاز لا يلزم رده فلذلك سقط فرمه وليس كذلك الشاة لأن ردها واجب فصار غرمها واجبًا. فصل: فإذا ثبت جواز أخذ الشاة وما لا يدفع عن نفسه وإباحة أكله ووجوب غرمه فكذلك صغار الإبل والبقر لأنها لا تمنع عن أنفسها كالغنم ثم لا يخلو حال واحد الشاة وما في معناها من أربعة أحوال: إحداها: أن يأكلها فيلزمه غرم ثمنها قبل الذبح عند الأخذ في استهلاكها ويكون ذلك مباحًا لا يأثم به وإن غرم. والثانية: أن يتملكها ليستبقيها حية لدر أو نسل فلذلك له لأنه لما استباح تملكها مع استهلاكها فأولى أن يستبيح تملكها مع استبقائها ثم في صحة ضمانها وجهان كالعارية مخرجًا وفي اختلاف قوليه في ضمان الصداق أحدهما أنه ضامن لقيمتها في الوقت الذي يملكها فيه. والثاني: أنه ضامن لقيمتها أكثر ما كانت من حين وقت التملك إلى وقت التلف فإن جاء صاحبها وهي باقية وقد أخذ الواجد درها ونسلها كان الدر والنسل للواحد لحدوثه على ملكه وللمالك أن يرجع بها دون قيمتها فإن بذل له الواجد قيمتها لم يجبر على أخذها مع بقاء عينها إلا أن يتراضيا على ذلك فيجوز فلو كانت الشاة حين رجع المالك بها زائدة في بدنها أو قيمتها لم يكن للواجد حق في الزيادة وكانت للمالك تبعًا للأصل ولو كانت ناقصة رجع المالك بنقصها على الواجد، لأنها مضمونة بالتلف فكانت مضمونة بالنقص. فصل: والثالثة: أن يستبقيها في يده أمانة لصاحبها فلذلك له لأنه لما أجاز أن يتملكها على صاحبها فأولى أن يحفظها لصاحبها ولا يلزمه تعريفها لأن ما جاز تملكه سقط تعريفه ولا يلزمه إخبار الحاكم بها ولا الإشهاد عليها بل إذا وجد صاحبها سلمها إليه ولا ضمان عليه مدة إمساكها لصاحبها لو تلفت أو نقصت لأن يده يد أمانة كالمعرف.

وقال بعض أصحابنا وجهًا آخر إنه يضمنها لأن إباحة أخذها مقصور على الأكل الموجب للضمان دون الائتمان وهكذا القول فيما حدث من درها ولبنها على المذهب لا يضمنه، وعلى هذا الوجه يضمنه، فإن اتفق عليها أكثر من مؤنة علوفتها فإن كان ذلك منه مع وجود حمى للمسلمين ترى فيه فهو متطوع بالنفقة وليس له الرجوع بها، وإن كان مع عدم الحمى فإن كان عن إذن الحاكم رجع بما أنفق، وإن كان عن غير إذنه فإن كان قادرًا على استئذانه لم يرجع بها، وإن لم يقدر على استئذانه فإن لم يشهد لم يرجع وإن أشهد ففي رجوعه بها وجهان: أحدهما: يرجع للضرورة. والثاني: لا يرجع لئلا يكون حاكم نفسه. فلو أراد بعد إمساكها أمانة أن يتملكها ففي جوازه وجهان: أحدهما: له ذلك كالابتداء. والثاني: ليبس له ذلك لاستقرار حكمها فأما إن أراد أن يتملك درها ونسلها من غير أن يتملك أصلها لم يكن له ذلك وجهًا واحدًا لأنه فرع يتبع أصله فلو أرسلها بعد إمساكها أمانة لزمه الضمان إلا أن يدفعها إلى حاكم فلا يضمن ولو نوى تملكها ثم أراد أن يرفع ملكه عنها لتكون أمانة لصاحبها، لم يسقط عنه ضمانها وفي ارتفاع ملكه عنها وجهان: أحدهما: لا يرتفع ملكه لأن الملك لا يزول إلا بقبول المتملك فعلى هذا يكون مالكًا لما حدث من درها ولبنها لبقائها على ملكه. والثاني: يرتفع ملكه عنها مع بقاء ضمانها وذلك أحوط لمالكها فوجه ذلك أنه لما جاز أن يتملكها من غير بذل مالكها جاز أن يزول ملكه عنها من غير قبول متملكها. فعلى هذا يكون الحادث من درها ونسلها ملكًا لربها تبعًا لأصلها وعليه ضمانه كالأصل. فصل: والرابعة: أن يريد بيعها فلا يخلو ذلك من أحد أمرين: إما أن يبيعها بعد أن يتملكها، فلذلك له كما لو أكلها ويكون ضامنًا لقيمتها دون ثمنها؛ لأنه باعها في حق نفسه. فلو جاء صاحبها بعد البيع لم يكن له في رقبتها حق لنفوذ البيع ورجع بالقيمة على الواجد. فلو كان الخيار المجلس أو خيار الشرط في البيع باقيًا فأراد المالك أن يفسخ وأراد البائع الإمضاء ففيه وجهان حكاهما أبو القاسم بن كج: أحدهما: أن القول قول المالك في الفسخ لاستحقاقه الرجوع بعين ماله مع بقائه. والثاني: أن القول قول البائع في الإمضاء لأن خيار العقد يستحقه العاقد دون غيره فإذا أمضى غرم القيمة دون الثمن وإن أراد بيعها لمالكها جاز إن كان البيع أحظ من الاستبقاء لما يلزم من الإنفاق عليها. وجاز أن يكون الواجد هو المتولي لبيعها من غير استئذان حاكم بخلاف من أراد بيع مال غريم جاحد فيستوفي منه قدر دينه في أحد الوجهين لأن صاحب الدين يبيعه في حق نفسه فمنع من تفرده به في أحد الوجهين وهذا يبيعه في حق المالك فجاز كالوكيل فإن أراد المالك الفسخ في خيار العقد استحقه وجهًا

واحدًا لبيعها في حقه. فلو أراد بعد بيعها لمالكها أن يتملك ثمنها لم يكن له ذلك وجهًا واحدًا: بخلاف ما لو أراد أن يتملكها بعينها بعد إمساكها أمانة في أحد الوجهين لأن الثمن قد خرج عن حكم الضوال ولم تخرج هي مع بقائها عن أن تكون ضالة. فلو كانت الضالة عبدًا فإن كان كبيرًا فكالبعير لا يتعرض لأخذه وإن كان صغيرًا كالشاة يأخذه ويملكه إن شاء لو كانت أمة صغيرة ففي جواز تملكه لها وجهان: أحدهما: يجوز كالعبد الصغير. والثاني: لا يجوز كما لا يجوز قرض الإماء وإن جاز قرض العبد لأنها ذات فرج فكان حكمها أغلظ فعلى هذا إتباع على مالكها إن كان البيع أحظ. ثم هل يجوز للواجد أن يتملك ثمنها أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا يجوز كالأصل. والثاني: يجوز لأن معنى الأصل مفقود في الثمن. فلو كان عبدًا فباعه الواجد له ثم حضر المالك فذكر أنه كان قد أعتقه قبل البيع. قال الشافعي القول قوله وعليه اليمين إن طلبها المشتري لأنه مقر في ملك لم يزل قال الربيع وفيه قول آخر إن قوله غير مقبول لأن بيع الواجد كبيعه في اللزوم: فعلى ما نص عليه الشافعي من قبول قوله يكون البيع باطلًا ويصير العبد حرًا ويلزم بائعه الواحد أن يرد ثمنه على المشتري سواء باعه في حق المالك أو في حق نفسه، ولو كان الواجد قد باعه في حق المالك وضاع الثمن من يده بغير تفريط رجع المشتري به على الواجد القابض له فلم يكن للواجد أن يرجع على المالك بثمن ما قد حكم بنفوذ عتقه، فأما على القول الذي خرجه الربيع أن قول المالك فيه غير مقبول فيكون البيع نافذًا إن حلف المشتري عليه والعبد على رقه للمشتري ثم ينظر فإن كان الواحد قد باعه في حق نفسه فله أن يتملك الثمن ما لم يصدق المالك ولا يلزمه غرم القيمة لادعاء المالك حريته التي يسقط معها استحقاق قيمته. وإن كان الواجد قد باعه في حق المالك كان الثمن موقوفًا في يديه بين المشتري والمالك فإن عاد المشتري فأكذب نفسه وأقر بالعتق فله استرجاع الثمن ويحكم بحرية العبد، وإن عاد المالك فأكذب نفسه وأقر ببقاء الرق ففي قبول قوله في تملك الثمن وجهان: أحدهما: لا يقبل قوله في ملك الثمن كما لا يقبل قوله في استرقاق ما أقر بحريته. والثاني: أن يقبل قوله في تملك الثمن وإن لم يقبل قوله في استرقاق ما أقر بحريته لبقاء الملك على الثمن وزواله عن الحر والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «وَيَاكُلُ اللُّقَطَةَ الغَنِيُّ وَالْفَقِيرُ وَمَنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ

وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ قَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُبَيُّ بْنَ كَعْبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَهُوَ مِنْ أَيْسَرِ أَهْلِ المَدِينَةِ أَوْ كَأَيْسَرِهِمْ وَجَدَ صُرَّةً فِيهَا ثَمَانُونَ دِينَارًا أَنْ يَاكُلَهَا وَأَنَّ عَلِيًّا رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ذَكَرَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أّنَّهُ وَجَدَ دِينَارًا فَأَمَرَهُ أَنْ يُعَرِّفَهُ فَلَمْ يَعْرِفْ فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ بِأَكْلِهِ فَلَمَّا جَاءَ صَاحِبُهُ أَمَرَهُ بِدَفْعِهِ إِلَيْهِ وَعَلَيٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مِمَّنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ لأَنَّهُ مِنْ صُلْبِيَّةُ بَنِي هَاشِمْ». قال في الحاوي: وهذا كما قال يجوز لواجد اللقطة بعد تعريفها حولًا أن يتملكها ويأكلها غنيًا كان أو فقيرًا وقال أبو حنيفة يجوز له ذلك إن كان فقيرًا ولا يجوز له ذلك إن كان غنيًا أن يتملكها ويكون مخيرًا فيها بين أمرين: إما أن تكون في يده أمانة لصاحبها أبدًا كالوديعة وإما أن يتصدق بها فإن جاء صاحبها وأمضى صدقته فله ثوابها ولا غرم على الواجد وإن لم يمض الصدقة فثوابها للواجد عليه غرمها استدلالًا بما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال «فإن جاء صاحبها وإلا تصدق بها» وهذا نص، قال: ولأنه مال يعتبر فيه الحول فوجب أن يختلف فيه حار الغني والفقير كالزكاة ولأنه مال مسلم فوجب ألا يحل إلا للمضطر قياسًا على غير اللقطة ودليلنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم لواجد اللقطة: «فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك» بها يقتضي التسوية بين الغني والفقير. وروي عن أبيّ بن كعب وجد صرة فيها ثمانون دينارًا وروى مائة دينار فأخبر بها النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «عرفها حولًا فإن جاء صاحبها وإلا فاستمتع بها» قال الشافعي: وأبي من أيسر أهل المدينة أو كان أيسرهم ولو لم يكن موسرًا لصار بعشرين دينارًا منها موسرًا على قول أبي حنيفة فدل ذلك على أن الفقر غير معتبر فيها، وإن الغني لا يمنع منها. وروى عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجد دينارًا فأتى به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله وجدت هذا الدينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عرفة ثلاثًا» فعرفه ثلاثًا فلم يجد من يعرفه فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: «كله أو سائل به» فابتاع منه بثلاثة دراهم شعيرًا وبثلاثة دراهم تمرًا وقضى عنه ثلاثة دراهم وابتاع بدرهم لحمًا وبدرهم زيتًا وكان الصرف على أحد عشر درهمًا بدينار حتى إذا أكله جاء صاحب الدينار يتعرفه فقال علي عليه السلام: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بأكله، فانطلق صاحبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء ناشئ أديناه إليك» وكان صاحب الدينار يهوديًا. قال الشافعي: وعلى ممن تحرم عليه الصدقة لأنه من طينة بني هاشم ولو كانت اللقطة تستباح بالفقر دون الغنى لحظرها عليه ولأن كل من كان من أهل الالتقاط جاز أن يرتفق بالأكل والتملك كالفقير ولأن ما ثبت للفقير في اللقطة ثبت للغني كالنسك والصدقة، ولأن كل ما استباح الفقير إتلافه بشرط الضمان استباح الغني إتلافه بشرط الضمان كالقرض ولا يدخل عليه طعام المضطر لاستوائهما فيه وقد جعل المضطر أصلًا فيقول كل ارتفاق بمال الغير إذا كان مضمونًا استوى فيه الغني والفقير كأكل مال الغير

للمضطر، ولأنه استباح إتلاف مال الغير لمعنى في المال فوجب أن يستوي فيه حكم الغني والفقير كالنحل الصائل، ولأن كل ما استباح تناوله عند الإياس في الأغلب من مالكه استوى فيه حكم الغني والفقير كالركاز ولأنه لا يخلو حال اللقطة في يد واجدها من أن تكون في حكم المغصوب فيجب انتزاعها قبل الحول وبعده من الغني والفقير أو في حكم الودائع فلا يجوز أن يتملكها فقير ولا أن يتصدق بها غني أو حكم الكسب فيجوز أن يتملكها الغني والفقير. ومذهب أبي حنيفة فيها مخالف لأصول هذه الأحكام الثلاثة فكان فاسدًا. ثم يقال لأبي حنيفة: الثواب إنما يستحق على المقاصد بالأعمال لا على أعيان الأفعال لأن صورها في الطاعة والمعصية على سواء كالمرائي بصلاته ثم لا يصح أن يكون ثواب العمل موقوفًا على غير العامل في استحقاقه وإحباطه فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: «تصدق بها» فمحمول على أن الواجد سأله عن ذلك فأذن له فيه. وأما الزكاة فلا معنى للجمع بينها وبين اللقطة لأن الزكاة تملك غير مضمون ببدل واللقطة تأخذ مضمونة ببدل فكان الغني أحق بتملكها لأنه أوفى ذمة وأما ما ذكروه من المضطر فقد جعلناه أصلًا وبالله التوفيق. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «وَلَا أُحِبُّ لأَحِدٍ تَرْكَ لُقَطَةٍ وَجَدَهَا إِذَا كَانَ أَمِينًا عَلَيْهَا». قال في الحاوي: وهذا صحيح. وظاهر قوله ها هنا ولا أحب ترك اللقطة يقتضي استحباب أخذها دون إيجابه وقال في كتاب الأم ولا يجوز لأحد ترك اللقطة إذا وجدها فكان ظاهر هذا القول يدل على إيجاب أخذها فاختلف أصحابنا لاختلاف هذين الظاهرين وكان أبو الحسن بن القطان وطائفة يخرجون ذلك على اختلاف قولين: أحدهما: أن أخذها استحباب وليس بواجب عليه حراسة نفس أخيه المسلم وجب عليه حراسة مال أخيه المسلم. والثاني: أن أخذها واجب وتركها مأثم لأنه كما وجب عليه حراسة نفس أخيه المسلم وجب عليه حراسة مال أخيه المسلم. وقال جمهور أصحابنا: ليس ذلك على قولين إنما هو على اختلاف حالين فالموضع الذي لا يأخذها إذا كانت تؤمن عليها ويأخذها غيره ممن يؤدي الأمانة فيها والموضع الذي أوجب عليه أخذها إذا كانت في موضع لا يؤمن عليها ويأخذها غيره ممكن لا يؤدي الأمانة فيها لما في ذلك من التهاون وعلى كلا الحالتين لا يكره له أخذها إذا كان أمينًا عليها وحكي عن ابن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنهما كرها أخذها. وروي أن شريح مرّ بدرهم فلم يعرض له، وفي هذا القول إبطال التعاون وقطع

المعروف، وقد أخذ أبيّ بن كعب الصرة التي وجدها وأخذ علي عليه السلام الدينار، وأخبرا به النبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر ذلك عليهما ولا كرهه لهما ويجوز أن يكون المحكي عن ابن عباس وابن عمر فيمن كان غير مأمون عليها أو ضعيفًا عن القيام بها ونحن نكره لغير الأمين عليها وللضعيف عن القيام بها أن يتعرض لأخذها وإنما نأمر به من كان أمينًا قويًا فلو تركها القوي الأمين حتى هلكت فلا ضمان عليه وإن أساء فإن أخذها لزمه القيام بها وإن تركها بعد الأخذ لزمه الضمان ولو ردها على الحاكم فلا ضمان عليه بخلاف الضوال في أحد الوجهين؛ لأنه ممنوع من أخذ الضوال فضمنها وغير ممنوع من أخذ اللقطة فلم يضمنها. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «فَعَرَّفَهَا سَنَةً عَلَى أَبْوَابِ المَسَاجِدِ وَالأَسْوَاقِ وَمَوَاضِعِ العَامَّةِ وَيَكُونُ أَكْثَرُ تَعْرِيفِهِ فِي الجُمُعَةِ الَّتي أَصَابَهَا فِيهَا فَيَعْرِفُ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا وَعَدَدَهَا وَوَزْنَهَا وَحِليَتَهَا وَيَكْتُبُهَا وَيَشْهَدُ عَلَيْهَا». قال في الحاوي: وهذا كما قال: واجد اللقطة وإن كان مخيرًا في أخذها فعليه بعد الأخذ القيام بها والتزام الشروط في حفظها على مالكها والشروط التي يؤمر بها أخذ اللقطة سبعة أشياء جاء النص ببعضها والتنبيه على باقيها. أحدها: معرفة عفاصها وهو ظرفها الذي هي فيه عند التقاطها. والشرط الثاني: معرفة وكاءها وهو الخيط المشدودة به وبهذين الشرطين جاء النص ولأنها تتميز بمعرفة هذين عن جميع أمواله فيأمن اختلاطها بها. والشرط الثالث: معرفة عددها تنبيهًا بالنص لأنه معرفة عددها أحوط من تميزها عن الظرف لأن الظرف قد يشتبه. والشرط الرابع: معرفة وزنها ليصير به معلومًا يمكن الحكم به أن وجب غرمها. والشرط الخامس: أن يكتب بما وصفناه من أوصافها كتابًا وأنه التقطها من موضع كذا في وقت كذا لأنه ربما كان ذكر المكان والزمان مما يذكره الطالب من أوصافها. والشرط السادس: أن يشهد على نفسه بها شاهدين أو شاهدًا وامرأتين ليكون وثيقة عليه خوفًا من حدوث طمعه فيها ولأنه ربما مات ولم يعلم وارثه بها أو غرماؤه ولئلا يحدث من الورثة الطمع. وقد روي في بعض الأخبار أنه قال لواجد اللقطة وأشهد ذوي عدل. والشرط السابع: أن يعرفها لأمر النبي صلى الله عليه وسلم به لواجدها ولأنه طريق إلى علم مالكها إلا بالتعريف لها فإذا أكمل حال هذه الشروط السبعة على ما سنذكره من صفة التعريف

فقد أقام بحقوقها. وربما استغنى عن بعض هذه الشروط في بعض اللقطة لأنه ربما وجد دينارًا أو درهمًا فلا يكون له عفاص ولا وكاء فلا يحتاج إلى معرفتها، والواجب من ذلك كله شرطان متفق عليهما وثالث مختلف فيه أحد الشرطين المتفق عليهما تميزها عن أمواله كلها بأي وجه تميزت به سواء احتاج معه إلى معرفة عفاص ووكاء أو لم يحتج والثاني التعريف الذي به يصل إلى معرفة المالك وإعلامه. وأما المختلف فيه فالإشهاد عليها ولأصحابنا في وجوب الإشهاد على اللقطة والملقوط ثلاثة أوجه: أحدها: أن الإشهاد فيهما واجب لما فيه من الوثيقة وفي تركه من التغرير. والثاني: أن الإشهاد فيهما مستحب لأن الواجد مؤتمن فلم يجب عليه الإشهاد كالوصي والمودع. والثالث: أن الإشهاد على التقاط المنبوذ واجب والإشهاد على أخذ اللقطة ليس بواجب والفرق بينهما أن اللقطة كسب مال فكان أمرها أخف واللقيط يتعلق به نسب وإثبات حرية فكان أمره أغلظ. ألا ترى أن البيع لما كان اكتساب مال لم يجب فيه الشهادة ولما كان النكاح مفضي إلى إثبات نسب وجبت فيه الشهادة. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا من شروطها فنشرح حال المقصود منها وهو التعريف والكلام فيه يشتمل على ثلاثة فصول: أحدها: في مدة التعريف. والثاني: في مكان التعريف. والثالث: في صفة التعريف. فأما مدة التعريف فمذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك وجمهور الفقهاء أنه يعرفها حولاً كاملًا ولا يلزمه الزيادة عليه ولا يجز به النقصان عنه وقال شاذ من الفقهاء يلزمه أن يعرفها ثلاثة أحوال لا يجزيه أقل منها استدلالًا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر واجد اللقطة أن يعرفها حولًا وروى في ذلك خبرًا. وقال آخر: يعرفها ثلاثة أيام استدلالًا بحديث علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بتعريفها ثلاثًا. والدليل على وجوب تعريفها حولًا حديث زيد بن خالد الجهني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء صاحبها وإلا فشانك بها».وحدثنا أبيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بتعريفها حولًا. ولأن الحول في الشرع أصل معتبر في الزكاة والحرية فكان أولى أن يكون معتبرًا في اللقطة ولأن الحول جميع فصول الأزمنة الأربعة وينتهي إلى مثل زمان وجودها فكان الاقتصار على ما دونه تقصيرًا والزيادة عليه مشقة. فأما الاستدلال الأول بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره أن يعرفها حولًا ثم حولًا فعنه جوابان: أحدهما: أنه محمول على من اختار ذلك فسأله عن الجواز دون الوجوب. والثاني: يحصل على أنه أمره ثلاث مرات أن يعرفها حولًا فكان الحول واحدًا والأمر به ثلاثًا.

وأما الاستدلال أحمد على الشهر بالخبر الذي رواه عنه فمحمول على من بقي من حوله شهر. وأما من استدل بأنه أمر عليًا عليه السلام بأن يعرفه ثلاثًا فعنه جوابان: أحدهما: حمله على الأمر ثلاثًا بالتعريف على ما تقدم. والثاني: أنه أمره بتعريفه بنفسه ثلاثًا ليستكمل غيره مدة التعريف. والثالث: أنه يجوز أن يكون علم من ضرورته ما أباح له ذلك قبل بلوغ أجله فإن للمضطر أن يستبيح من مال غيره ما يدفع به ضرورة وقته وذلك ظاهر من قول بعض الشعراء حيث قال: إِذَا صَادَفَ الْمَلِكَ دِينَارٌ وَقَدْ حَلَّتْ لَهُ عِنْدَ الضَّرُورَاتِ اللُّقَطْ دِينَارُكَ اللهُ تَوَلَّى نَقْشَهُ كَذَلِكَ الْحِنْطَةُ مِنْ خَيْر الحِنطْ فإذا وجب تعريفها حولًا بما ذكرنا فأول وقت الحول من ابتداء التعريف لا من وقت الوجود وليس عليه أن يستديم تعريفها في جميع نهاره ولكن عليه أن يشيع أمرها في كل يوم بالنداء عليها مرتين أو ثلاثًا لا سيما في ابتداء الأمر وأوله ثم يصير التعريف في كل أسبوع مرتين أو ثلاثًا حتى يصير في الأسبوع مرة لا يقصر عنها فلو عرفها سنة أشهر ثم أمسك عن تعريفها ستة أشهر فهو غير مستوف لمدة التعريف وعليه أن يعرفها ستة أشهر أخرى ليستكمل الحول في تعريفها ثم ينظر حاله عند إمساكه لها بعد ستة أشهر من تعريفها فإن كان قد نوى تملكها فقد ضمنها ولا يصير مالكًا لها وإن لم ينو تملكها فهل يصير ضامنًا لها أم لا؟ على وجهين: أحدهما: قد ضمنها لأن إمساكه عن التعريف تقصير. والثاني: لا يضمنها لأن إتيانه بالتعريف يوجب عليه استيفاء جميعه ولا يكون ذلك تقصيرًا وهذا قول المزني. فصل: فأما مكان التعريف ففي مجامع الناس ومحافلهم من البلد الذي وجدها فيه وإن وجدها واجدها في صحراء قفرًا أو على حادتها من البلاد المقاربة لها، وليكن تعريفها على أبواب المساجد فقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا ينشد ضالته في المسجد فقال: «أيها الناشد غيرك الواجد» وليكثر من تعريفها في محاط الرجال ومناخ الأسفار وفي الأسواق فأما الضواحي الخالية فلا يكون إنشادها فيه تعريفًا. وروى المزني عن الشافعي أنه قال: ويكون أكثر تعريفها في الجمعة التي أصابها فيه. وروى الربيع عن أنه قال: في الجماعة التي أصابها فيها، فكان بعض أصحابنا ينسب المزني إلى الغلط في روايته وأن الأصح رواية الربيع؛ لأن الجمعة وغيرها من الأيام في التعريف سواء، وإنما يؤمر بتعريفها في الجماعة التي أصابها فيه؛ لأن من ضاع منه شيء في جماعة والأغلب أنه يلازم طلبه في تلك الجماعة. وقال سائر أصحابنا: إن كلا الروايتين صحيحة، ولهم في استعمال رواية المزني جوابان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه إنما خص يوم الجمعة بكثرة التعريف

فيه على سائر الأيام لاجتماع الأباعد فيه وإشهار ما يكون فيه. والثاني: أن رواية المزني محمولة على أن الواجد أصابها يوم الجمعة فيكون أكثر تعريفه لها يوم الجمعة لأنها ربما سقطت ممن كان خارج المصر الذي لا يأتيه إلا في كل جمعة ورواية الربيع محمولة على أنه وجدها في جماعة فيكون أكثر تعريفه لها في تلك الجماعة لأنها الأغلب من بقاع طالبها. فصل: فأما صفة التعريف فهو مخير بين أحد أمرين: إما أن يقول من ضاع منه شيء ولا يذكر جنسه وهذا أولى الأمرين وإما أن يذكر الجنس فيقول من ضاعت منه دراهم أو من ضاعت منه دنانير ولا يصفها بجميع أوصافها فينازع فيها فإن وصفها بجميع أوصافها من العدد والوزن وذكر العفاص والوكاء ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا ضمان عليه لأنها لا تدفع إلى الطالب بمجرد الصفة حتى يقيم البينة عليها. والوجه الثاني: عليه الضمان لأنه ربما كان الحاكم ممن يرى دفعها بالصفة فإذا سمعها بالتعريف من تقل أمانته أسرع إلى ادعائها وينبغي أن يكون المعرف لها مأمونًا غير مشهور بالخلاعة والمزاح حتى لا ينسب عند التعريف إلى الكذب والمجون فإذا وجه متطوعًا بالتعريف فهو أولى وإن لم يجد إلا مستعجلًا فإن تطوع الواجد ببدل جعله من ماله كان محسنًا وإن دفعه دينًا على صاحبها استأذن فيه حاكمًا ليصح له الرجوع به فإن لم يستأذن وهو قادر على استئذانه وأشهد بالرجوع ففيه وجهان: أحدهما: يرجع. والثاني: لا يرجع. فصل: فلو ضاعت اللقطة من الواجد لها فالتقطها آخر ثم علم الواجد الأول بها فإن كان ذلك بعد أن تملكها الأول عند استكمال تعريفها حولًا فالملتقط الأول أحق بها من الثاني لاستقرار ملكه عليها وإن كان ذلك قبل استكمال الأول لتعريفها حولًا ففي أحقها بها وجهان حكاهما ابن كج: أحدهما: الأول لتقدم يده. والثاني: أن الثاني أحق بها لثبوت يده. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فِهِيَ لَهُ بَعْدَ سَنَةٍ عَلَى أَنَّهُ مَتَى جَاءَ صَاحِبُهَا فِي حَيَاتِهِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَهُوَ غِرِيمٌ إِنْ كَانَ اسْتَهْلَكَهَا». قال في الحاوي: إذا استكمل تعريفها حولًا كان بعده بالخيار بين أن يتملكها وبين

أن تكون في يده أمانة وبين أن يدفعها إلى الحاكم ليحفظها على مالكها بأن يضعها في بيت المال أو على يد أمين. وقال عبد الله بن عمر: لا يجوز للواجد بعد تعريف الحول أن يتملكها بل عليه أن يضعها في بيت المالك وقال مالك إن كان غنيًا جاز له أن يتملكها وإن كان فقيرًا لم يجز لعجز الفقير عن الغرم وقدرة الغني عليه. وقال أبو حنيفة: يجوز للفقير أن يتملكها دون الغني وقد مضى الكلام معه والدليل على جميعهم قوله صلى الله عليه وسلم: «فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها».وروي في بعض الأخبار أنه قال: «فإن جاء صاحبها وإلا فهي لك» وقد أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي عليه السلام أن يتملك الدينار وهو لا يجد غرمه حتى غرمه عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فبطل به قول مالك وأذن لأبيّ بن كعب أن يتملك الصرة وهو غني فبطل به قول أبي حنيفة، ولأن الواجد لو منع بعد الحول من تملكها أدى ذلك إلى أحد أمرين: إما أن لا يرغب الواجد في أخذها وإما أن تدخل المشقة عليه في استدامة إمساكها فكان إباحة التمليك لها بعد التعريف أحث على أخذها وأحفظ على مالكها لثبوت غرمها في ذمته فلا تكون معرضة للتلف وليكون ارتفاق الواجد بمنفعتها في مقابلة ما عاناه في حفظها وتعريفها وهذه كلها معان استوى فيها الغني والفقير. ثم مذهب الشافعي لا فرق بين المسلم والذمي في أخذها للتعريف وتملكها بعد الحول لأنها كسب يستوي فيها المسلم والذمي. وقال بعض أصحابنا لا حق للذمي فيها فهو ممنوع من أخذها وتملكها لأنه ليس من أهل التعريف لعدم ولايته على مسلم ولا ممن يملك مرافق دار الإسلام كإحياء الموات. فصل: فإذا ثبت جواز تملكها بعد الحول لكل واحد من غني أو فرق فقد اختلف أصحابنا بماذا يصير مالكًا على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يصير مالكًا لها بمضي الحول وحده إلا أن يختار أن تكون أمانة فلا تدخل في ملكه، وهذا قول أبي حفص بن الوكيل؛ لأنه كسب على غير بدل فأشبه الركاز والاصطياد. والثاني: أنه يملكها بعض مضي الحول باختيار التملك، فإن لم يختر للتملك لم يملك، وهذا قول أبي إسحاق المروزي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها».فرد أمرها إلى اختياره، ولأنه أبيح له التملك بعد الحول بعد أن كان مؤتمنًا فاقتضى ألا ينتقل عن ما كان عليه إلا باختيار ما أبيح له. والثالث: أنه لا يملكها بعد مضي الحول إلا باختيار والتصرف وهو ما لم يتصرف غير مالك لأن التصرف منه كالقبض فأشبه الهبة. فصل: فإذا صار مالكها كما ذكرنا فقد ضمنها لصاحبها، فمن جاء طالبًا لها رجع بها إن كانت باقية وليس للمتملك أن يعدل به من بقائها إلى بدلها وإن كانت تالفة رجع ببدلها فإن كانت ذا مثل رجع بمثلها وإن كانت غير ذي مثل رجع بقيمتها حين يتملكها؛ لأنه إذ ذاك صار ضامنًا لها، فإن اختلفا في القيمة فالقول قول ممتلكها؛ لأنه غارم، فلو

كانت عند مجيء صاحبها باقية بعينها لكن قد حدث فيها نماء منفصل رجع بالأصل دون النماء لحدوث النماء على ملك الواجد، فلو عرف الواجد صاحبها وجب عليه إعلامه بها، ثم ينظر فإن كان ذلك قبل تملكها فمؤنة ردها على صاحبها دون الواجد كالوديعة، فإن كان قصد أن يتملكها الواجد فمؤنة ردها عليه دون صاحبها لبقائها على ملكه ما لم تصل إلى يد صاحبها، وقال الكرابيسي إذا تملك الواجد اللقطة فلا غرم عليه لصاحبها ولكن له الرجوع بها بعد التملك وإن كانت باقية بعينها. استدلالًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فإن جاء صاحبها وإلا فشأنك بها».وروى: «وإلا فهي لك» فلم يجعل عليه بدلًا، ولأنه تملك كالركاز، فلما ملك الركاز بغير بدل ملك اللقطة أيضًا بغير دبل. وهذا قول خالف فيه نص الشافعي وجمهور الفقهاء؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر عليًا عليه السلام بالغرم، فلما أعسر غرمه عنه؛ ولأن مقصود اللقطة حفظها على مالكها، وفي إسقاط الغرم استهلاك لها. ولأن ملك المسلم لا يستباح من غير اختياره إلا ببدل كأكل مال الغير، فأما الركاز فليس المقصود به حفظه على مالكه ولذلك سقط تعريفه وصار كسبًا محضًا لذلك وجب خمسة فافترقا. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «وَسَواءٌ قَلِيلُ اللُّقَطَةِ وَكَثِيرُهَا فَيَقُولُ مَنْ ذَهَبَتَ لَهُ دَنَانِيرُ إِنْ كَانَتْ دَنَانِيرَ وَمَنْ ذَهَبَتْ لَهُ دَرَاهِمُ إِنْ كَانَتْ دَرَاهِمَ وَمَنْ ذَهَبَ لَهُ كَذَا وَلَا يَصِفُهَا فَيُنَازِعُ فِي صَفَتِهَا أَوْ يَقُولُ جُمُلَةً إِنَّ فِي يَدَيَّ لُقَطَةً». قال في الحاوي: وجملة ذلك أن اللقطة على ثلاثة أقسام: أحدها: ما كان له قيمة وإذا ضاع من مالكه طلبه كالدينار والدرهم فهذا يجب تعريفه على واجده. والثاني: ما كان تافهًا حقيرًا لا قيمة له كالتمرة والجوزة فهذا لا يجب تعريفه، فقد روى أن عمر رضي الله عنه سمع رجلًا يعرف في الطواف زبيبة فقال: إن من الورع ما يمقته الله. وأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الحسن تمرة وجدها وقال: «لولا أني أخاف أن تكون من تمر الصدقة لتركتها». والثالث: ما كان له قيمة إلا أنه لا تتبعه نفس صاحبه ولا يطلبه إن ضاع منه كالرغيف والدانق من الفضة فقد اختلف أصحابنا في وجوب تعريفه على وجهين: أحدهما: يجب لكونه ذا قيمة. والثاني: لا يجب لكونه غير مطلوب ثم ما وجب تعريف من قليل ذلك أو كثيره عرفه حولًا كاملًا لا يجزيه أقل من ذلك في القليل ولا يلزمه أكثر منه في الكثير. وقال الحسن بن صالح: تعريف الحول يلزم في عشرة دراهم فصاعدًا وما دون العشرة يعرفه

ثلاثة أيام. قال إسحاق بن راهويه: ما دون الدينار يعرفه جمعة. وقال سفيان الثوري في الدرهم: يعرفه أربعة أيام، وهذا غير صحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: «عرفها حولًا» ولم يفرق بين القليل والكثير. وأمر النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا وجد سوطًا أن يعرفه حولًا، فأما صفة التعريف فقد مضى الكلام فيها والله أعلم بالصواب. مسألة: قَالَ الشَّافِعَيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «فَإِنْ كَانَ مَوْليًا عَلَيْهِ أَوْ لِسَفَهٍ أَوْ صِغَرٍ ضَمَّهَا القَاضِي إِلَى وَليِّهِ وَفَعَلَ فِيهَا مَا يَفْعَلُ المُلْتَقِطُ». قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا وجد اللقطة محجور عليه بسفه أو صغر أو جنون لم يجز إقرارها في يده؛ لأنه منعه الحجر من التصرف في مال نفسه، فأولى أن يمنعه من التصرف في مال غيره. وعلى الولي أن يأخذها من يده ليقوم بتعريفها حولًا، فإن جاء صاحبها دفعها الولي إليه وإن لم يجئ صاحبها، فللولي أن يفعل بها أحظ الأمرين للمولى عليه من تملكها له أو تركها أمانة لصاحبها، فإن رأى أن يتملكها له جاز؛ لأنها كسب له بوجوده لها، وليست كسبًا لوليه، فإن كان المولى عليه صغيرًا أو مجنونًا كان الولي هو الذي يتملكها له؛ لأن الصبي والمجنون لا يصح منهما قبول تملك، ولذلك لم يصح منهما قبول وصية ولا هبة، وإن كان سفيهًا كان هو المتملك لها عن إذن الولي بعد اجتهاده في أحظ الأمرين هو التملك؛ لأن السفيه لا يمنع من قبول الوصية والهبة بخلاف الصبي والمجنون. ثم إذا جاء صاحبها فعرفها في مال المولى عليه لدخولها في ملك المولى عليه دون الولي، وإن رأى الولي أن أحظ الأمرين للمولى عليه أن تكون أمانة لصاحبها لا يكون غرمها مستحقًا في مال المولى عليه وكانت على حالها أمانة مقره في يد الولي، فلو بلغ الصبي أو أفاق المجنون أو فك الحجر عن السفيه فأراد أن يتملكها وينزعها من وليه بعد أن نوى الأمانة فيها كان ذلك للمولى عليه؛ لأنها من اكتسابه، وهو الآن أقوم بمصالحه فهذا حكمها إن أخذها الولي من المولى عليه. فصل: فأما أن يأخذ الولي من يده فلا يخلو من أن يكون قد علم بها أو لم يعلم بها فقد ضمنها لمالكها، وإن لم يعلم بها لا يلزمه ضمانها، فإن تلفت في يد المولى عليه لم يخل تلفها من أن يكون بجانابة منه وجب غرمها في ماله كما يؤخذ من ماله غرم سائر جناياته، وإن كان تلفها بغير جناية منه ففي وجوب غرمها في ماله وجهان: أحدهما: يجب ويكون أخذه لها عدوانًا منه. والثاني: لا يجب الغرم؛ لأن الولي لو أخذها منه لما وجب في ماله غرمها فلو لم تتلف وكانت باقية في يده حتى انفك الحجر عنه وصار رشيدًا فله تعريفها وهل يكون

ضامنًا لها في مدة التعريف أم لا على ما ذكرنا من الوجهين في غرمها قبل فك الحجر لو تلفت ثم له بعد الحول أن يتملكها إن شاء. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «فّإِنْ كَانَ عَبْدًا أُمِرَ بِضَمِّهَا إِلىَ سَيِّدِهِ فَإِنْ عَلِمَ بِهَا السَّيِّدُ فَأَقَرَّهَا فِي يَدَيْهِ فَهُوَ ضَامِنٌ لَهَا فِي رَقَبَةِ عَبْدِهِ، قَالَ فِيمَا وَضَعَ بِخَطِّهِ: لَا أَعْلَمُهُ سُمِعَ مِنْهُ لَا غُرْمَ عَلَى العَبْدِ حَتَّى يُعْتَقَ مِنْ قِبَلِ أَنَّ لَهُ أَخْذَهَا. قَالَ المُزَنِيُّ: الأَوَّل أَقْيَسُ إِذَا كَانَتْ فِي الذِّمَّةِ وَالعَبْدُ عِنْدِي لَيْسَ بِذِي ذِمَّةٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بهَا السَّيِّدُ فَهيَ فِي رَقَبَتِهِ إِنْ اسْتَهْلَكَهَا قَبْلَ السَّنَةِ وَبَعْدَهَا دُونَ مَالِ السَّيِّدِ لأَنَّ أَخْذَهُ اللَّقَطَةَ عُدْوَانٌ إِنَّمَا يَاخُذُ اللُّقَطَةَ مَنْ لَهُ ذِمَّةٌ. قَالَ المُزَنِيُّ: هَذاَ أَشْبَهُ بِأَصْلِهِ وَلَا يَخْلُو سَيِّدُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عَلِمَهُ فَإِقْرَارُهُ إِيَّاهَا فِي يَدِهِ يَكُونُ تَعَدِّيًا فَكَيْفَ لَا يَضْمَنُهَا فِي جَمِيعِ مَالِهِ أَوْ لَا يَكُونُ تَعَدِّيًا فَلَا تَعْدُو رَقَبَةَ عَبْدِهِ». قال في الحاوي: وصورتها في عبد أخذ لقطة، فلا يخلو حاله في أخذها من أحد أمرين: إما أن يأخذها لسيده، أو لنفسه، فإن أخذها لسيده جاز ولم يتعلق بأخذه لها ضمان لأنه مكتسب لسيده ويده يد سيده، وعليه أن يُعلِم بها سيده ليضمنها إليه، فإذا علم بها أخذها السيد من يده وعرفها حولًا، فإن جاء صاحبها وإلا فللسيد أن يتملكها. وإن أقرها السيد بعد علمه في يد عبده ليقوم بها وبتعريفها نظر حال العبد، فإن كان ثقة عليها بحيث يجوز أن يكون مؤتمنًا عليها جاز ولا ضمان، وإن غير ثقة فالسيد متعد بتركها في يده وعليه ضمانها في ماله، وإن كان العبد حين أخذها لنفسه لم يعلمه بها حتى تلفت، فإن كان تلفها بجناية منه ضمنها العبد في رقبته كسائر جناياته، وإن كان تلفها بغير جناية نظر، فإن لم يقدر على إعلام سيده حتى تلفت فلا ضمان عليه وغرمها هدر، وإن قدر على إعلامه ضمنها العبد في رقبته؛ لأنه صار بترك إعلام سيده بها متعديًا. فصل: فأما أخذها العبد لنفسه لا لسيده ففيه قولان: أحدهما: أن ذلك جائز له ولا يصير به متعديًا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ذلك مال الله يؤتيه من يشاء».فجعلها كسبًا فلم يمنع العبد منه كما لا يمنع من الاصطياد والإحشاش وعلى هذا يعرفها العبد حولًا فإن جاء صاحبها وإلا فلكل واحد من العبد والسيد أن يتملكها، فإن تملكها العبد وجب غرمها في ذمته كالقرض وللسيد أخذها منه؛ لأنها من اكتسابه، فلو كان على كسبه بعد عتقه، وإن تملكها السيد كان ضامنًا لغرمها في ذمته دون العبد، وإن اتفقا أن تكون أمانة لصاحبها فللسيد الخيار في أن ينتزعها من يد عبده ليحفظها، فلو تلفت في يد العبد قبل أن يتملكها واحد منهما لم يضمن أمانة، وإن

استهلكها العبد لنفسه نظر في استهلاكه لها، فإن كان قبل الحول ضمنها في رقبته؛ لأن ذلك عدوان منه، وإن كان بعد الحول ضمنها في ذمته؛ لأن ذلك مباح له فهذا حكم أحد القولين. فصل: والثاني: أنه لا يجوز للعبد أن يأخذ اللقطة لنفسه ويكون بأخذها متعديًا لأمرين: أحدهما: أن في أخذ اللقطة ولاية على صاحبها وليس العبد من أهل الولاية. والثاني: أن المقصود اللقطة حفظها على مالكها بالتعريف في الحول وبالذمة المرضية أن تملكت بعد الحول وليس العبد من هذين؛ لأنه مقصوع لخدمة السيد عن ملازمته التعريف وليس بذي ذمة في استحقاق الغرم لتأخيره إلى ما بعد العتق فلأجل ذلك صار من غير أهلها؛ فعلى هذا للسيد حالتان؛ حالة يعلم بها وحالة لا يعلم بها، فإن لم يعلم السيد بها فالعبد ضامن للقطة في رقبته دون ذمته؛ لأن أخذه لها جناية منه، وسواء كان تلفها قبل الحول أو بعده بفعله أو بغير فعله، وإن علم بها السيد فله حالتان: إحداهما: أن ينتزعها من يده، فإذا فعل ذلك سقط ضمانها عن العبد وكانت أمانة في يد السيد فإن قيل قلم سقط ضمانها عن العبد يدفعها إلى السيد وليس السيد مالكًا لها وضمان الأموال بالعدوان لا يسقط إلا بردها على المالك قيل لأن السيد مستحق لأخذها ألا ترى أن العبد لو أخذها لسيده لم يلزمه الضمان فإذا دفعها إلى السيد سقط عنه الضمان فإذا صح أن ضمانها قد سقط عن العبد بأخذ السيد لها ففي يد السيد حينئذٍ وجهان: أحدهما: أنه يد مؤتمن لا يد ملتقط وليس له أن يتملكها بعد التعريف لنه غير الواجد لها فأشبه الحاكم الذي لا يجوز له بعد التعريف أن يتملكها. والثاني: أن يده ملتقط فيجوز له بعد التعريف أن يتملكها لأن يد عبده كيده والحال الثانية أن لا يأخذها السيد من يد عبده بعد علمه بها فهذا على ضربين: أحدهما: أن يأمره السيد بإقرارها في يده فيستبقيها عن إذن سيده فإن كان كذا نظر في العبد فإن كان ثقة أمينًا سقط ضمانها عن العبد بإذن السيد له في الترك؛ لأن يد العبد كيد سيده وصار كأخذ السيد فيكون على ما مضى من الوجهين، وإن كان العبد غير مأمون ضمنها السيد وهل يسقط ضمانها عن رقبة العبد أم لا على وجهين: أحدهما: سقط لتصرفه عن إذن السيد وصار ذلك تفريطًا من السيد. والثاني: أن ضمانها باقٍ في رقبة العبد لأنها لم تخرج عن اليد المتقدمة. والضرب الثاني: أن يقرها السيد في يده من غير أن يأمره فيها بل يمسك عنها عند علمه، فالذي نقله المزني عن الشافعي ها هنا أن السيد يكون ضامنًا لها في رقبة عبده، ونقل الربيع في «الأم» أن السيد يكون ضامنًا لها في رقبته عبده وسائر ماله، فاختلف أصحابنا لاختلاف هذين النقلين، فكان أبو إسحاق المروزي حمل ذلك على سهو المزني وغلطه وجعلها مضمونة على السيد في رقبة عبده وسائر ماله على ما رواه الربيع، وزعم

أن المزني قد ذكر ذلك في «جامعه الكبير» وإن كنت قد قرأته فلم أجد ذلك فيه. وقال آخرون من أصحابنا: إن اختلاف هذا النقل بعض اختلاف قول الشافعي فيكون على قولين: أحدهما: إن ذلك مضمون في رقبة العبد وحده؛ لأن رؤية السيد لجناية عبده وتركه لمنعه لا يوجب عليه ضمان جنايته، ألا ترى أن السيد لو شاهد عبده يقتل رجلًا أو يستهلك مالًا وقدر على منعه فلم يمنعه لم يضمن السيد قاتلًا، ولا مستهلكًا، ولا يجب عليه إن لم يمنعه غرم، ولا ضمان كذلك في اللقطة. والثاني: أن ذلك مضمون على السيد في رقبة عبده وسائر أمواله لأن يد السيد لو عادت اللقطة إليها مستحقة لها فصار تركه في يده عدوانًا منه وليس كالذي يجني عليه عبده أو يستهلك فلذلك ضمن اللقطة في رقبة عبده وسائر ماله ولم يضمن جناية العبد وإن علم بها وإلا فمضمونة في رقبته دون سيده. فإن قيل: فإن كانت مضمونة على السيد في سائر ماله فلم خصصتم رقبة العبد بها وهي من جملة ماله قلنا لأن تعلقها برقبة العبد معين كالجناية حتى لو كان السيد دين كان مالك اللقطة أحق برقبة العبد من سائر غرمائه كما لو جني وليس كذلك سائر أمواله. لأن ملك اللقطة وغيرها في الغرم فيها سواء وقال آخرون من أصحابنا: ليس اختلاف هذا النقل على اختلاف قولين وإنما هو اختلاف حاليه فرواية المزني: أنها مضمونة في رقبة عبده محمولة على أن العبد كان بالغًا عاقلًا فلم يتعلق ضمانها إلا برقبته ورواية الربيع أنها مضمونة في رقبة عبده وسائر ماله محمولة على أن العبد كان صبيًا أو عجميًا فصار فعله منسوبًا إلى سيده بعد العلم به وهذا حكاه أبو علي بن أبي هريرة فأما المزني فغنه تكلم على ذلك واختار منه ما أخذه. فصل: فأما إذا أمر السيد عبده بأخذ اللقطة فأخذها عن أمر سيده فذلك جائز لا يتعلق برقبة العبد ضمانها قولًا واحدًا ثم إن كان العبد من أهل الأمانات لم يضمنها السيد بإقرارها في يد العبد، وإن كان من غير أهلها ضمنها فأما إذا نهاه عن أخذها فأخذها بعد نهي السيد له فقد كان أبو سعيد الاصطخري يقول يضمنها العبد في رقبته قولًا واحدًا لأن نهي السيد قد قطع اجتهاده في أخذها وقال سائر أصحابنا بل يكون على ما مضى من القولين كما لم ينهه كالقرض الذي لو منع السيد عبده منه لما كان مضمونًا عليه لو فعله إلا في ذمته فلو كان العبد مأذونًا له في الجنازة والكسب فقد اختلف أصحابنا عل يكون أخذ اللقطة داخلًا في عموم إذنه أم لا على وجهين: أحدهما: أنه يكون داخلًا فيه فعلى هذا يضمنها العبد إن أخذها قولًا واحدًا. والثاني: لا يكون داخلًا في فعلى هذا في ضمانه لها إن أخذها قولان. فصل: فلو التقط العبد لقطة ثم عتق قبل الحول أنها تكون كسبًا لسيده وله أن يتملكها دونه لأن أخذه لها كان وهو عبد وهي تملك بالأخذ وإنما تعريف الحول شرط

وقال بعض أصحابنا تكون كسبًا للعبد لأنها قبل التعريف أمانة وبعد التعريف كسب والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «وَإِنْ كَانَ حُرًّا غَيْرَ مَامُونٍ في دِينِهِ فَفِيهَا قَوْلَانِ أحدهما أَنْ يَامُرَ بِضَمِّهَا إِلَى مَامُونٍ وَيَامُرَ المَامُونَ وَالْمُلْتَقِطَ بِالإِنْشَادِ بِهَا. وَالقَوْلُ الآخَرُ لَا يَنْزَعُها مِنْ يَدَيْهِ وَإِنَّمَا مَنَعْنَا مِنْ هّذَا القَوْلِ لأَنَّ صَاحِبَهَا لَمْ يَرْضَهُ. قَالَ المُزَنِيُّ: فَإِذَا امْتَنَعَ هَذَا القَوْلِ لِهَذِهِ العِلَّةِ فَلَا حَوْلَ لَهُ إِلَّا الأَوَّلُ وَهُوَ أَوْلَى بِالحَقِّ عِنْدِي وَباللهِ التَّوْفِيقُ. قَالَ المُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: وَقَدْ قَطَعَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِأَنَّ عَلَى الإِمَامِ إِخْرَاجَهَا مِنْ يَدِهِ لَا يَجُوز فِيهَا غَيْرُه وَهَذَا أَوْلَى بِهِ عِنْدِي». قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا كان واجد اللقطة غير مأمون عليها ففيه قولان منصوصان: أحدهما: أنها كسب لواجدها وإن كان غير مأمون كالركاز فتقر في يده ولا تنتزع منه فعلى هذا اختلف أصحابنا هل يضم إليه أمين يراعيها معه حفظًا لها أم لا على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي على بن هريرة أنه لا اعتراض عليه فيها بحال ويكون هو المقيم بحفظها وتعريفها من غير أن يكون لغيره نظر فيها، والوجه الثاني وهو قول أبي علي الطبري في «الإفصاح» أن الحاكم يضم إليه أمينًا يراعي حفظها في يد الواجد استظهارًا للمالك وإن لم تنتزع لما تعلق بها من حق الواجد. والثاني: وهو الأصح واختاره المزني: أن الحاكم ينتزعها من يد الواجد إذا كان غير مأمون عليها، ويدفعها إلى من يوثق به من أمنائه؛ لأن الحاكم مندوب إلى حفظ أموال من غاب، ولأن مالكها لم يرض بذمة من هذه حالة، ولأن الوصي لما وجب انتزاع الوصية من يده لفسقه مع اختيار المالك له فلأن يخرج يد الواجد الذي لم يختره أولى. فعلى هذا القول إذا أخرجها الحاكم من يده إلى أمين يقوم بحفضها ففي الذي يقوم بتعريفها قولان: أحدهما: رواه المزني أن الأمين هو الذي يقوم بتعريفها خوفًا من جناية الواجد في تعريفها. والثاني: في «الأم»: أن الواجد هو المعرف دون الأمين؛ لأن التعريف من حقوق التمليك وليس فيه تقرير، لأنها لا تدفع بالصفة فإذا عرفها حولًا ولم يأت صاحبها، فإن أراد الواجد أن يتملكها سلمت إليه وأشهد الحاكم عليه بغرمها إذا جاء صاحبها وإن لم يختر أن يتملكها كانت في يد الأمين.

فصل: فأما إذا كان الواجد لها مأمونًا لكنه ضعيف لا يقدر على القيام بها فإنها لا تنتزع من يده، ولكن يضم الحاكم إليه أمينًا يجتمع معه على القيام بها ليقوى به على الحفظ والتعريف. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «وَالمُكَاتِبُ فِي اللُّقَطَةِ كَالحُرِّ لأَنَّ مَالَهُ يُسَلمُ لَهُ». قال في الحاوي: وهذا هو الذي نص عليه الشافعي في هذا الموضوع، أن المكاتب في اللقطة كالحر في جواز أخذها وتملكها، وقال في «الإملاء»: إنه كالعبد في أنه إن أخذها لسيده جاز، وإن أخذها لنفسه فعلى قولين. فاختلف أصحابنا لاختلاف هذين النصين، فبعضهم يخرج ذلك على قولين: أحدهما: أنه كالحر في جواز أخذها وصحة تملكها لنفوذ عقوده وتملك هباته. والثاني: أنه كالعبد؛ لأن مالك اللقطة لم يرض بذمة من له استرقاق في نفسه بالتعجيز وإبطال ذمته بالفسخ. وهذه الطريقة هي اختيار أبي إسحاق المروزي. وقال آخرون من أصحابنا: إن ذلك على اختلاف حالين، فالموضوع الذي قال فيه كالحر إذا كانت كتابته صحيحة. والموضوع الذي قال هو كالعبد إذا كانت كتابته فاسدة، وهذا اختيار أبي علي الطبري؛ لأن في الكتابة الصحيحة كالحر في رفع يد سيده عنه، وفي الكتابة الفاسدة كالعبد القن في تصرف سيده. فصل: فأما المدبر فهو كالعبد القن في اللقطة، وأما أم الوالد فكالعبد في اللقطة إن أخذتها للسيد جاز وإن أخذتها لنفسها فعلى قولين: أحدهما: يجوز فعلى هذا يتعلق غرم اللقطة بذمتها إذا أعتقت. والقول الثاني: لا يجوز فعلى هذا إن لم يعلم السيد بها فهل يتعلق غرمها بذمة أم الوالد أم برقبتها على وجهين: أحدهما: بذمتها ولا يلزم السيد غرمها. والثاني: برقبتها وعلى السيد غرمها وافتكاك رقبتها كما يفعل في جنايتها وإن علم السيد بها فعلى ثلاثة أوجه: أحدها: في ذمتها بعد العتق. والثاني: في رقبتها وعلى السيد فكاكها بأقل الأمرين من قيمة اللقطة أو قيمتها. والثالث: أنها في ذمة السيد يغرمها بجميع قيمتها. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «وَالعَبْدُ نِصْفُهُ حُرٌّ وَنِصْفُهُ عَبْدٌ، فَإِنْ التَقَطَ فِي اليَوْمِ

الَّذِي يَكُونِ فِيهِ مُخَلَّى لِنَفْسِهِ أُقِرَّتْ فِي يَدِهِ وَكَانَتْ بَعْدَ السَّنَةِ لَهُ كَمَا لَوْ كَسَبَ فِيهِ مَالًا كَانَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فِي اليَوْمِ الَّذِي لسَيَّدِهِ أَخَذَهَا مِنْهُ لأَنَّ كَسْبَهُ فِهِ لِسَيِّدِهِ». قال في الحاوي: وصورتها في عبد نصفه حر ونصفه مملوك وجد لقطة فلا يخلو حاله من أن يكون مهايأة أو غير مهايأة فإن كان غير مهايأة فنصف أكسابه له بحق حريته وعليه نصف نفقته ونصف أكسابه لسيده وعليه نصف نفقته وإذا كان هكذا فنصف اللقطة له بما فيه من الحرية يقيم على تعريفه ويتملكه بعد حوله وأما النصف الآخر فهو فيه كالعبد فإن اخذه لسيده جاز ولم يضمنه ويتملكه بعد حوله وأما النصف الآخر فهو فيه كالعبد فإن أخذه لسيده جاز ولم يضمنه، وإن أخذه لنفسه فعلى ما مضى من القولين. وللسيد أخذ ذلك النصف منه دون النصف الذي أخذه بحريته ثم يصيران شريكين فيها يقيمان على تعريفها ويتملكانها بعد حولها، وإن كان مهايأة والمهايأة أن يكتسب لنفسه يومًا وعليه نفقته ولسيده يومًا مثله وعليه نفقته فيدخل في المهايأة الأكساب المألوف وهل يدخل فيها ما ليس بمألوف من الكساب كاللقطة والركاز على قولين. أحدهما: يدخل فيها وهو أظهرهما لأنه نوع من الكسب فعلى هذا إن وجدها في يوم نفسه فهو فيه كالحر يجب عليه تعريفها ويجوز له تملكها وإن وجدها في يوم سيده فهو فيها كالعبد المملوك جميعه فإن أخذها لسيده جاز وإن أخذها لنفسه فعلى ما مضى من القولين فهذا حكم دخولها في المهايأة. والثاني: أنها لا تدخل في المهايأة ولا المكاسب النادرة لنها قد توجد في أحد الزمانين دون الأخر فيصير أحدهما مختصًا في زمانه بما لا يساويه الآخر في زمانه فعلى هذا يكون في اللقطة كغير المهايأة على ما مضى وهكذا حكمه لو كان أقله الحر أو أكثر مملوكًا فأما المملوك بين شريكين فإن لم يكن بينهما فيه مهايأة اشتركا في قيمة اللقطة وإن كان بينهما فيه مهايأة ففي دخول اللقطة في مهايأتهما قولان على ما مضى. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «وَيُفْتِي المُلْتَقِطْ إِذَا عَرَفَ الرَّجُلُ العِفَاصَ وَالْوِكَاءَ وَالعَدَدَ وَالوَزْنَ وَوَقَعَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ صَادِقٌ أَنْ يُعْطِيَهُ وَلَا أُجْبِرُهُ عَلَيْهِ إِلَّا بِبَيَّنَة لأَنَّهُ قّدْ يُصِيبُ الصِّفَةَ بِأَنْ يَسْمَعَ المُلْتَقِطَ وَمَعْنَى قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: «اعِرفَ عِفَاصَهَا وَوَكَاءَهَا» وَاللهُ أَعْلَم لأَنَّ يُؤَدِّي عِفَاصَهَا وَوَكَاءَهَا مَعَهَا وَلْيَعْلَمَ إِذَا وَضَعَهَا فِي مَالِهِ أَنَّهَا لُقَطَةٌ وَقَدْ يَكُونُ لِيَسْتَدِلَّ عَلَى صِدْقِ المُعَرَّفِ أَرَأَيْتَ لَوْ وَصَفَهَا عشرة أَيُعْطُونَهَا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ كُلَّهُمْ كَاذِبٌ إِلاَّ وَاحِدًا بِغَيْرِ عَيْنِهِ فَيٌمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَادِقًا». قال في الحاوي: وصورتها في رجل ادعى لقطة في يد واجدها فإن أقام البينة العادلة على ملكها وجب تسليمها له وإن لم يقم بينة لكن وصفها فإن أخطأ في وصفها لم يجز دفعها إليه وإن أصاب في جميع صفاتها من العفاص والوكاء والجنس والنعت والعدد

والوزن فإن لم يقع في نفسه صدقه لم يدفعها إليه وإن وقع في نفسه أنه صادق أفتيناه بدفعها إليه جوازًا لا واجبًا فإن امتنع عن الدفع لم يجبر عليه وبه قال أبو حنيفة، وقال مالك وأحمد: يجبر على دفعها إليه بالصفة استدلالًا بقوله صلى الله عليه وسلم: «اعرف عفاصها ووكاءها ثم عرفها سنة فإن جاء طالبها، أو قال باغيها، فادفعها إليه».فلما أخبر بمعرفة العفاص والوكاء دل على انه كالبينة في الاستحقاق. وروى سويد بن غفلة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فإن جاء باغيها فعرفك عفاصها ووكاءها فادفعها إليه».وهذا نص قالوا: ولأن كل أمارة غلب بها في الشرع صدق المدعي جاز أن يوجب قبول قوله كالقسامة قالوا: ولأن البينات في الأصول مختلفة وما تعذر منها في الغائب مخفف كالنساء المنفردات في الولادة وإقامة البينة على اللقطة متعذرة لاسيما على الدنانير والدراهم التي لا تضبط أعيانها فجاز أن تكون الصفة التي هي غاية الأحوال الممكنة أن تكون بينة فيها ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: «لو أعطى الناس بدعاويهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم لكن البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه»، فلم يجعل الدعوى حجة ولا جعل مجرد القول حجة بينة ولأن صفة المطلوب لا تكون بينة للطالب كالمسروق والمغصوب ولأن صفة المطلوب من تمام الدعوى فلم يجز أن تكون بينة للطالب قياسًا على الطلب. قال الشافعي رحمه الله محتجًا عليهم: أرأيت لو وصفها عشرة أيعطونها ونحن نعلم أن كلهم كذبة إلا واحدًا بعينه فرد عليه ابن داود فقال كما لو ادعاها عشرة وأقام كل واحد عليها بينة نقسمها بينهم وإن كان صدق جميعهم مستحيلًا، كذلك إذا وصفوها كلهم. والجواب عن هذا من وجهين: أحدهما: أن كذب المدعي أسقط للدعوى من كذب الشهود، ألا ترى أن إكذاب المدعي لنفسه مبطلًا للدعوى وإكذاب الشهود ولأنفسهم غير مبطل للدعوى. والثاني: أن البينة هي أقصى ما يقدر عليه المدعي وأقوى ما يحكم به الحاكم فدعت ضرورة الحاكم في البينة إلى ما لم تدعه من الصفة. وأما الجواب عن قولهم عفاصها ووكاءها فهو أن ذلك لدفعها بصفة العفاص والوكاء ووجوب رده معه ولكن لمعانٍ هي أخص بمقصود اللفظ منها أنه نبه بحفظ العفاص والوكاء ووجوب رده مع قلته وندارته على حفظ ما فيه ووجوب رده مع كثرته ومنها أن يتميز بذلك عن ماله ومنها جواز دفعها بالصفة وإن لم يجب وعلى هذا حمل حديث سويد بن غفلة الذي جعلوه نصًا وأما استدلالهم به فنحن ما جعلنا المارة على الصدق حجة في قبول الدعوى وإنما الأيمان بعدها حجة وهم لا يقولون بذلك في اللقطة بعد الصفة فدل على اختلافهما.

وأما استدلالهم بأن البينات في الأصول مختلفة فصحيح وليس من جميعها بينة تكون بمجرد الصفة ولا يكون تعذر البينة موجبًا أن تكون الصفة بينة ألا ترى أن السارق تتعذر إقامة البينة عليه ولا يكون صفة ما بيده لمدعي سرقته حجة. فصل: فإذا ثبت أن دفعها بالصفة لا يجب فدفعها بالصفة وسعة ذلك إذا لم يقع في نفسه كذبه فإن أقام غيره البينة عليها بشاهدين أو شاهد وامرأتين أو شاهد ويمين كان مقيم البينة أحق بها من الآخذ لها بالصفة فإن كانت باقية في يد الواصف لها انتزعت منه لمقيم البينة وإن كان قد استهلكها نظر في الدافع لها فإن كان قد دفعها بحكم حاكم رأى ذلك مذهبًا فلا ضمان على الدافع ورجع مقيم البينة بغرمها على الآخذ لها بالصفة وإن كان قد دفعها بغير حكم حاكم فلصاحب البينة الخيار في الرجوع بغرمها على من شاء من الدافع الملتقط أو الآخذ الواصف فإن رجع بها على الآخذ لها بالصفة فله ذلك لضمانه لها باليد واستحقاق غرمها بالإتلاف وقد برئ الدافع لها من الضمان لوصول الغرم إلى مستحقه وليس للغارم أن يرجع بما غرمه على الدافع لأنه إن كان مستحقًا عليه فمن وجب عليه حتى لم يرجع به على أحد وإن كان مظلومًا به فالمظلوم بالشيء لا يجوز أن يرجع به على غير ظالمه وإن رجع مقيم البينة بغرمها على الدافع الملتقط نظر في الدافع فإن كان قد صدق الواصف لها على ملكها وأكذب الشهود لصاحب البينة عليها فليس له الرجوع بغرمها على الآخذ لها بالصفة لأنه مقر أنه مظلوم بالمأخوذ منه فلا يرجع به على غير من ظلمه وإن لم يكن قد صدق الواصف ولا أكذب الشهود فله الرجوع بالغرم على الأخذ لها بالصفة لضمانه لها بالاستهلاك فتكون البينة موجبة عليه وله. المسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «وَإِنْ كَانَتْ اللَّقَطَةُ طَعَامًا رَطِبًا لَا يَبْقَى فَلَهُ أَنْ يَاكُلَهُ إِذَا خَافَ فَسَادَهُ وَيُغْرِمَهُ لِرَبِّهِ. وَقَالَ فِيمَا وَصَفَهُ بِخَطِّهِ: لَا أَعْلَمُهُ سُمِعَ مِنْهُ إِذَا خَافَ فَسَادَهُ أَحْبَبْتُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيُقِيمَ عَلَى تَعْرِيفِهِ. قَالَ المُزَنِيُّ: هَذاَ أَوْلَى القَوْلَيْنِ بِهِ لأَنَّ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَقُلْ لِلْمُلْتَقِطِ شَانُكَ بِهَا إِلَّا بَعْدَ سَنَةٍ أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعِ مَهْلَكَةً كَالشَّاةِ فَيَكُونُ لَهُ أَكْلُهُ وَيَغْرِمُهُ إِذا جَاءَ صَاحِبُهُ». قال في الحاوية: أما الطعام الرطب فضربان: أحدهما: أن يكون مما ييبس فيبقى كالرطب الذي يصير خمرًا والعنب الذي يصير زبيبًا فهذا حكمه حكم غير الطعام في وجوب تعريفه واستبقائه فإن احتاج تجفيفه إلى مؤنة كانت على مالكه ويفعل الحاكم احظ المرين للمالك من بيعه أو الإنفاق عليه. والثاني: أن يكون مما لا يبقى كالطعام الذي يفسد بالإمساك كالهريسة والفواكه والبقول التي لا تبقى على الأيام فقد حكي المزني عن الشافعي ها هنا انه قال في موضع

يأكله الواجد وقال في موضع آخر أحببت أن يبيعه فاختلف أصحابنا فكان أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة وطائفة من أصحابنا يخرجونه على قولين: أحدهما: لواجده أكله كالشاة التي لم تعذر استبقاؤها أبيح لواجدها أكلها. والثاني: ليس لواجده أكله بخلاف الشاه لا يجب تعريفها فأبيح له أكلها والطعام وإن كان رطبًا يجب تعريفه فلم يستبح واجده أكله وحكي أبو علي بن أبي هريرة أن ذلك على اختلاف حالين إن كان الحاكم موجودًا يقدر على بيعه لم يكن لواجده أكله وإن كان معدومًا جاز أكله وكان أبو القاسم الصيمري رحمه الله يقول اختلاف حاليه في إباحة أكله معتبر بحال واجده فإن كان فقيرًا محتاجًا استباح أكله وإن كان غنيًا لم يستبحه. فصل: فإذا قلنا بجواز أكله فأكله صار ضامنًا لقيمته وعليه تعريف الطعام حولًا وهل يلزمه عزل قيمته من ماله عند أكله أم لا على قولين: أحدهما: يلزمه عزل القيمة لئلا يصير متملكًا للقطة يجب تعريفها قبل حولها. والثاني: لا يجب عليه عزلها لأنه لو عزلها فهلكت كانت من ماله فكانت ذمته أخط لها ولم يكن عزلها مقيدًا ومن قال بالأول جعل فائدة عزلها لو أفلس بعد عزل قيمتها ثم حضر المالك كان أولى بالمعزل من قيمتها من جميع الغرماء وزعم أن تلفها من يده بعد وجوب عزلها لا يوجب عليه غرمها فصار في ضمانه للثمن إن تلف بعد وجوب عزله وجهان: أحدهما: وهو قول ابن أبي هريرة أنه يكون مضمونًا عليه والثاني وهو أشبه أنه لا ضمان عليه لأن الثمن مع وجوب عزله يقوم مقام الأصل مع بقائه. فصل: وإذا قلنا لا يجوز له أكله فعليه أن يأتي الحاكم حتى يأذن له في بيعة ولا يجوز أن يتولى بيعه بنفسه مع القدرة على استئذان الحاكم بخلاف الشاة إذا وجدها وأراد بيعها لأن يده على الشاة أقوى لما استحقه عاجلًا من أكلها ويده على الطعام أضعف لما وجب عليه من تعريفه فإن أعوزه إذن الحاكم جاز بيعه له فلو باعة بإذن الحاكم كان الثمن في يده أمانة وعليه تعريف الطعام وحولًا فإن جاء صاحبه فليس له إلا الثمن دون القيمة ولو لم يأت صاحبه فللواجد أن يتملك الثمن ولو هلك الثمن في يده قبل الحول أو بعده، وقبل التملك لو كان تالفًا من مال ربه ولا ضمان على الملتقط وهكذا حكم الثمن لو كان الواجد هو البائع عند إعواز الحاكم فأما إن باعه مع وجود الحاكم فبيعه باطل وللمالك القيمة دون الثمن لفساد العقد فإن تلف الثمن من يد الواجد قبل الحول كان عليه غرمه لتعديه بقبضه مع فساد بيعه فإن حضر المالك والثمن بقدر القيمة من غير زيادة ولا نقص أخذه وهو مبلغ حقه وإن كان أقل فله المطالبة بإتمام القيمة ويرجع على المشتري لأن لما اشترى شراءً فاسدًا فكان ضامنًا للقيمة

دون المسمى إلا أن يشاء المالك أن يسامح بفاضل القيمة فيكون الباقي منه مردودًا على المشتري إذ ليس يلزمه إلا القيمة. مسألة: وقال فيما وضع بخطه لا أعلمه سمع إذا وجد الشاة أو البعير أو الدابة أو كانت بالمصر أو قرية فهي لقطة يعرفها سنة". قال في الحاوي: قد مضى حكم ضوال الإبل والغنم إذا وجدها في الصحراء فأما إذا وجدها في المصر أو في قرية فالذي حكاه المزني فيما وجد بخطه أنها لقطة له أخذها وعليه تعريفها حولًا وحكي عن الشافعي في "الأم" أنها في المصر والصحراء سواء يأكل الغنم ولا يعرض للإبل فاختلف أصحابنا فمنهم من خرج ذلك على قولين: أحدهما: أن المصر كالبادية يأكل الغنم ولا يعرض للإبل، وهو المحكي عنه في "الأم" لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: "ضالة المؤمن حرق النار". الثاني: أنها لقطة يأخذ الغنم والإبل جميعها ويعرفها كسائر اللقط حولًا كاملًا وهو للذي حكاه المزني عنه وفيما لم يسمع منه لأن قوله صلى الله عليه وسلم في ضوال الإبل: "معها حذاؤها وسقاؤها ترد الماء وتأكل الشجر" يختص بالبادية التي يكون فيها الماء والشجر دون المصر وهي تمنع، صغار السباع عن أنفسها في البادية ولا تقدر على مع الناس في المصر. والشاة تؤكل في البادية؛ لأن الذئب يأكلها وهو لا يأكلها في المصر، فاختلف معناهما في البادية والمصر، فاختلف حكمهما، ومن أصحابنا من حمل جواز أخذها على تسليمها إلى الإمام وحمل المنع من أخذها على سبيل التملك. فصل: فإذا قلنا إن حكم البادية والمصر سواء فله أخذ الغنم وأكلها وليس يتعرض للإبل إلا أن يعرف مالكها، وإذا قلنا إن حكم المصر يخالف البادية للمعنى الذي ذكرنا، فله أخذ الإبل والغنم جميعًا، ويكونان لقطة يلزم تعريفها حولًا، فإن تطوع الواجد بالإنفاق عليها لم يرجع بما ينفق، وإن أبى أن يتطوع بها أتى الحاكم حتى يجتهد الحاكم رأيه في الأحظ لصاحبها في أحد ثلاثة أمور؛ إما أن يرى الاقتراض على صاحبها في الإنفاق عليها، أو يرى بيعها لصاحبها ليكفي مؤنة النفقة عليها، أو يرسلها في الحمى إن كان لضوال المسلمين حمى، ثم يقوم الواجد على تعريفها إلا أن يدفعها إلى الإمام رافعًا ليده عنها فيسقط عنه حكم تعريفها وإلا فما كان مقيمًا على التقاطها فتعريفها حولًا واجب عليه، فإن جاء صاحبها سلمت إليه إن كانت باقية بعد أن يدفع النفقة إن كان بأمر الحاكم، وإن بيعت سلم إليه ثمنها دون القيمة إن باعها حاكم أو

بأمره، وإن كان الواجد هو البائع لها فلصاحبها قيمتها دون الثمن لفساد بيعه إلا أن يقدر على استئذان حاكم، فيجوز بيعه، وإن لم يأت صاحبها بعد الحول فهل لواجدها أن يتملكها؟ على ثلاثة أوجه حكاها ابن أبي هريرة: أحدها: يجوز له أن يتملكها اعتبارًا بحكم اللقطة. والثاني: لا يجوز له أن يتملكها لقوله صلى الله عليه وسلم: "ضالة المؤمن حرق النار". والثالث: إن كان قد أنفق عليها جاز له أن يتملكها وإن لم ينفق عليها لم يجز أن يتملكها ليكون ذلك أحث على الإنفاق وأرفق بالفريقين. فصل: إذا ترك الرجل الدابة أو البعير حسرًا في الصحراء لعجزه عن السير وعجز المالك عن حمله أو المقام عليه، فمز به رجل فأحياه بمقامه عليه ومراعاته حتى عاد إلى حاله في السير والعمل فقد اختلف الفقهاء في حكمه. فحكي عن الليث بن سعد والحسن بن صالح أنه يكون لأخذه ومحييه دون تاركه، إلا أن يكون تاركه تركه ليعود إليه فيكون التارك أحق به. وقال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه: إن آخذه المحيي له أحق من تاركه بكل حال سواء تركه ليعود إليه أم لا. وقال مالك: هو على ملك تاركه دون آخذه، لكن لآخذه الرجوع بما أنفق، ومذهب الشافعي رضي الله عنه أنه على ملك تاركه وليس لواجده الرجوع بنفقته لقوله صلي الله عليه وسلم "لا يحال مال امرئ مسلم بطيب نفس منه" ولأنه لو عالج عبدًا قد أشرف على الهلاك بالمرض حتى لو استنقذها مالًا من غرق أو حريق لم يملكه لكذا البهيمة. وحكي عن الحسن البصري أن من أخرج متاعًا قد غرق من البحر فقد ملكه على صاحبه وهذا شاذ من القول مدفوع بالخبر والإجماع، ولكن لو وجد في البحر قطعة عنبر في الموضع الذي يجوز أن يوجد فيه كانت ملكًا لواجدها في البر كانت لقطا، لعلمنا بحصول اليد عليها قبله إلا أن يكون على الساحل نضب الماء عنها، فنكون ملكًا لواجدها لجواز أن يكون الماء قد ألقاها حين نضب، وهكذا لو صاد سمكة من البحر فوجد في جوفها قطعة عنبر كانت للصياد إذا كان بحرًا، قد يجوز أن يوجد فيه العنبر فأما الأنهار وما لا يكون من البحار فأنها تكون لقطة، وهكذا الياقوت والمرجان إلا أن يكون مصنوعًا أو مثقوبًا فيكون لقطة، فأما اللؤلؤ فلا يكون في البحر إلا مع صدفه، فإن وجد فيه كان ملكًا لواجده وإن وجد خارجًا عن صدقه كان لقطة. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وإذ حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ضوال الإبل فمن أخذها ثم أرسلها ضمن".

باب الجعالة

قال في الحاوي: وهذا قد مضى وذكرنا أن ضوال الإبل في الصحراء لا يجوز لواجدها أخذها إلا في إحدى حالتين؛ إما أن يكون الإمام قد ندبه لأخذ الضوال حفظًا لها على أربابها كما يفعله الإمام في المصالح من حفظ الأموال، وإما أن يكون الواجد عارفًا لصاحبها فيأخذها ليردها عليه من غير احتياج إلى تعريف، فيجوز حينئذ للواجد في هاتين الحالتين أن يأخذها. أما الحالة الأولى فما عليه إلا العمل فيما ندب إليه، وأما الحالة الثانية فمستحب لما أمر الناس به من التعاون إلا أن يقول بوجوب أخذ اللقطة إذا خيف هلاكها فيصير حينئٍذ واجبًا، فإن أخذها الواعد في غير هاتين الحالتين كان متعديًا وصار لذلك ضامنًا، فإن تلفت وجب غرمها عليه وإن رفع يده عنها فله في رفع يده ثلاثة أحوال: أحدها: أن يردها على مالكها فيسقط الضمان عنه، والحال الثاني أن يرسلها من يده فعليه الضمان سواء أرسلها حيث وجدها أو في غيره. وقال مالك وأبو حنيفة: أرسلها حيث وجدها سقط الضمان عنه، ولا أدري ما يقولانه في إرسالها في غير موضع وجودها وبينا ذلك على أصلها في ضامن الوديعة بالتقصير إذا كفء عنه زال عنه ضمانها. واستدلالًا بأن ضمان الصيد على المحرم يسقط بإرساله، فكذلك ضمان الضوال بالأخذ يسقط الإرسال، وهذا جمع مفترق واستدلالًا فاسدًا، وأصل منازع؛ لأن الصيد يضمن على المحرم في حق الله تعالى، فإذا أرسله صار كعوده إلى مستحقه وليس الضوال كذلك؛ لأنها تضمن في حق آدمي فلم يكن إرسالها عود إلى مستحقها، ألا ترى أن الصيد لو كان ملكًا لآدمي فضمنه المحرم ثم أرسله سقط عنه حق الله تعالى في الجزاء ولم يسقط عنه حق الآدمي في الغرم. والحال الثالثة: أن يدفعه إلى الإمام أو الحاكم ففي سقوط الضمان عنه وجهان: أحدهما: يسقط كعودها إلى يد النائب عن الغائب. والوجه الثاني: أن الضمان لا يسقط لتعدي الوجد والله أعلم. باب الجعالة مسألة: قال: ولا جعل لمن جاء بآبق ولا ضالة أن يجعل له وسواء من عرف بطلب الضوال ومن لا يعرف به". قال في الحاوي: وهذا كما قال وليس يخلو من ردًا آبقًا أو ضالة من أحد أمرين:

إما أن يردها يأمر مالكها أو بغير أمره فإن رد ذلك يغير أمر المالك فقد كان ضامنًا باليد وسقط عنه الضمان بالرد ولا أجرة له سواء كان معروفًا يطلب الضوال ومن لا يعرف. وقال مالك إن كان معروفًا بطلب الفوال فله أجرة المثل في العبد والبهيمة وإن كان غير معروف بذلك فلا شيء له. وقال أبو حنيفة إن كان المردود عبدًا أو أمة فله إن رد من مسافة ثلاثة أيام فصاعدًا أربعون درهمًا وإن رده من أقل من مسافة ثلاثة أيام فله أجرة المثل ولا شيء له في رد البهيمة وسواء كان برد النوال معروفة أو غير معروف استدلالًا منهما على اختلاف مذهبيهما بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جعل لمن رد آبقًا من خارج الحرم دينارًا وروى أصحاب أبى حنيفة تارة موقوفًا على ابن مسعود وتارة هكذا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من رد آبقًا فله أربعون درهمًا".وروي أن رجلًا رد ضالة لرجل فقال الناس لقد حاز أجزًا عظيمًا. فقال ابن مسعود: وله مع ذلك أربعون درهمًا وكان من مسيرة ثلاثة أيام. وروي عن عمر وعلي رضوان الله عليهما أنهما قالا: من رَد آبقًا فله عشرة دراهم، وليس لهم في الصحابة مخالف، فصار ذلك منهما إجماعًا على استحقاق الجعل؛ قالوا: ولأنه حكم موضوع على ما أدى إلى حفظها ورفق أربابها فيها فلو منع الراد لها من جعل يستحقه عليها لامتنع الناس من ردها ولأدى ذلك إلى تلفها ولحوق المشقة الغالبة في طلبها. ودليلنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه منه" ولأن المنافع كالأعيان بل أضعف فلما كان لو استهلك أعيانًا في رد ضالة من طعام أو علف لم يستحق به عوضًا فإذا استهلك منافع نفسه، فالأولى أن لا يستحق بها عوضًا. وتحريره قياسًا أن ما تطوع باستهلاكه في الضوال لم يرجع بعوضه كالأعيان ولأنه لو أوصل المالك إلى ملكه لم يستحق به عوضًا فكذلك إذا أوصل الملك إلى مالكه لم يستحق به عوضًا لتطوعه في كلا الحالين وتحريره أنه جمع بين المالك وملكه تطوعًا فوجب أن لا يستحق به عوضًا كما لو أوصل المالك إلى ملكه. والدليل على مالك خاصة أن من تطوع باصطناع معروف لم يستحق به جعلًا كغير المعروف، ومن الدليل على أبي حنيفة خاصة أن استحقاق الجعل على رد العبد لا يخلو من أن يكون لكونه ملكًا أو لكونه آدميًا فإن كان لكونه ملكًا بطل استحقاقه وذلك لكونه ملكًا لأنه لو رد بهيمة أو لقطة لم يستحق شيئًا، ولم يجز أن يستحق ذلك لكونه آدميًا، (0) لأنه لو رد صبيًا قد ضاع لم يستحق شيئًا فبطل بهذين أن يستحق في رد العبد شيئًا. قال: أما الجواب عما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ذكروه من إجماع الصحابة رضي الله عنهم فقد قال أحمد بن حنبل: لم يصح عن

النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة شيء منه. ولو صح لكان محمولًا على أحد وجهين إما على اشتراط ذلك لمن جاء به خاصة قبل المجيء ليصير مستحقًا للجعل بالشرط، وأما لتقرير بأجرة المثل في الجعالة لا فاسدة وأما ما ذكروه من الإرفاق والمصلحة فمنتقض بالطعام والعلف. فصل: فأما رد الضالة عن أمر مالكها فضربان: أحدهما: أن يجعل له عند الأمر بردها عوضًا، فذلك مستحق فإن كان عوضًا معلومًا وعقدًا صحيحًا استحقه، وإن كان عوضًا مجهرلًا وعقدًا فاسدًا استحق أجرة المثل قال الله تعالي: {قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ المَلِكِ ولِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وكان حمل البعير عندهم معلومًا كالوسق. والضرب الثاني أن لا يذكر مع الأمر بالرد عوضًا لا صحيحًا ولا فاسدًا، بل قال له فلان: جئتي بعبدي الآبق فقد اختلف أصحابنا هل يستحق عليه أجرة مثله بمجرد الأمر أم لا؟ على أربعة أوجه: أحدها: وهو مذهب الشافعي أنه لا أجرة له سواء كان معروفة يأخذ الأجرة على ذلك أو لا لتردد الأمرين بين احتمال تطوع واستعجال. والثاني: وهو مذهب المزني له أجرة المثل سواء كان معروفًا بذلك أو غير معروف لاستهلاك منافعه يأخذه. والثالث: وهو مذهب ابن سريج إنه كان معروفًا بذلك فله أجرة المثل وإن كان غير معروف فلا أجرة له اعتبارًا. والرابع: وهو مذهب أبي إسحاق المروزي أنه إن ابتدأه مالك العبد بالأمر فعليه أجرة المثل وإن استئذنه الجاني بالضالة فإذن له فلا أجرة له انتصارًا على حكم اسبق الحالين. فصل: فلو اختلف مالك الضالة ومن ردها في الإذن فقال المالك: ردتها بغير إذن فأنت متطوع بغير أجر، وقال في ردها: بل ردتها عن أمرك بأجر فالقول قول المالك مع يمينه لبراءة ذمته، ولو اتفقنا على الإذن بالأجر في عين العبد المأذون برده وقد ردّ عليه عبده سالمًا وادعى الآخر نفيه، فقال المالك: بل فعلت ذلك ني عبدي غانم، فالقول قول: المالك مع يمينه ولا أجرة عليه؛ لأنه ينكر الإذن فيه وإن اعترف به في غيره. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالي: "ولو قال لرجل إن جئتني بعبدي فلك كذا ولآخر مثل ذلك ولثالث مثل ذلك فجاؤوا به جميعًا فلكل واحد منهم ثلث ما جعله له اتفقت

الأجعال أو اختلفت". قال في الحاوي: أما الجعالة فمن العقود الجائزة دون اللازمة، لما قدمناه من قوله عز وجل، ولمن جاء به. حمل بغير وأنا به زعيم، وهي تفارق الإجارة من ثلاثة أوجه: أحدها: جواز عقدها على عمل مجهول كقوله: "من جاء بعبدي الآبق فله دينار".وإن كان العبد مجهول المكان وفساد مثل ذلك في الإجارة. والثاني: أن الجعالة غير لازمة والإجارة لازمة. والثالث: أنها تصح من غير معين كقوله: "من جاءني بعبدي الآبق فله دينار" وإن لم يعين الجاني به، فأي الناس جاء به فله الدينار. والإجارة لا تصح إلا مع من يتعين العقد عليه، وإنما فارقت الإجارة من هذه الوجوه الثلاثة لأنها موضوعة على التعاون والإرفاق فكانت شروطها أخف وحكمها أضعف. فصل: فلو قال: من جاءني بعيدي الآبق فله دينار، فأي الناس جاء به استحق الدينار من رجل أو امرأة، حر أو عبد، مسلم أو كافر، صغيرًا أو كبيرًا، عاقلًا أو مجنونًا، إذا كان قد سمع النداء أو علم به لدخولهم في عموم قوله: "من جاءني" فلو جاء العبد بنفسه عند علمه بهذا القول من سيده لم يستحق عليه شيئًا؛ لأن الجعل عليه لا له فلو جاء به من لم يسمع النداء ولا علم به كان متطوعًا يحمله على حكم الأصل فلو علم بالنداء بعد المجيء به وقبل دفعه إلى سيده استحق الدينار؛ لأن السامع للنداء لو جاء به من أقرب المواقع أو أبعدها استحقه، فكذلك فلو أنفق عليه الجاني به في طعامه وشرابه كان متطوعًا بالنفقة، وليس له غير الدينار، فلو جاء بالعيد وهو مريض أو في قبضة حياته استحق الدينار؛ لأنه مبذول على حمله فلو اختلف العبد وحامله، فقال العبد: جئت بنفسي، وقال حامله: بل أنا جئت به، رجع إلى تصديق السيد، فان صدق الحامل لم يعتبر إنكار العبد واستحق الدينار، وإن صدق العبد حلف السيد، دون العبد، ولا شيء عليه، ولو اختلف السيد وحامل العبد فقال السير فلما لم تسمع النداء فلا شيء لك، وقال الحامل: بل سمعته وعلمت به فلي الدينار. فالقول قول الحامل، وله الدينار؛ لأن علمه بالشيء يرجع فيه إليه لا إلى غيره، فلو قال سيد العبد من جاءني بعبدي من سامعي ندائي هذا فله دينار، فجاء به من علم بندائه ولم يسمعه لم يستحق شيئًا، ولو قال الجائي به، سمعت النداء وقال السيد: لم تسمعه فالقول قول الجاني به أيضًا. فصل: فلو أمر السيد عبده فنادى: من جاء بعبدي فلان فله دينار كان نداء المنادي كنداء السير في وجوب الدينار عليه لحامل عبده فلو أنكر السير أمر المنادي بذلك فالقول قوله مع يمينه ثم ينظر في المنادي فإن قال في ندائه إن فلانًا قال من جاءني بعبدي فله دينار فلا شيء على المنادية لأنه جاهل وإن كان قد قال من جاء بعبدي فلان فله دينار فعلى المنادي دفع الدينار لأنه لا فرق بين أن ينزل ذلك من مال نفسه أو من مال غيره إلا

أن يكون الجائي بالعبد. قد صدق المنادي على أمر السيد له فلا يرجع على المنادي بشيء. فصل: فلو قال السيد: من جاءني بعبدي الآبق فله دينار فجاء به نفسك كان الدينار بينهما لحصول المجيء بهما، ولو جاء به عشرة كان الدينار بينهم بالسوية سواء اتفقت أجورهم أو اختلفت لاستوائهم في المجيء به، فلو قال: يا زيدان جئتني بعيدي فلك دينار، فجاء به غيره لم يستحق الدينار، ولو جاء به زيد وعمرو، نظر في عمرو، فإن قال: جئت به معينًا لزيد فلزيد جمل الدينار ولا شيء لعمرو؛ لأن لزيد أن يستعين في حمله بمن شاء، وإن قال عمرو: جئت به لنفسي طلبًا لأجرته فلزيد نصف الدينار؛ لأن له نصف العمل ولا شيء لعمرو، لأنه لم يبذل له على عمله شيت فلو اختلف زيد وعمرو فقال زيد: جئت به معينًا لي، وقال عمرو: بل جئت به مستعجلًا لنفسي رجع إلى السيد، فإن صدق زيدًا استحق الدينار كله، وإن صدق عمرًا حلف السيد دون عمرو، لأنه الغارم وليس عليه إلا نصف الدينار. فصل: فلو قال: يا زيد إن جئتني بعيدي فلك دينار، ويا عمرو إن جئتني بعبدي فلك خمسة دنانير ويا بكر إن جئتني به فلك عشرة دنانير فإن جاء به غيرهم فلا شيء له، وإن جاء به أحدهم فله ما جعل له، فإن جاؤوا به جميعا فلكل واحد منهم ثلث ما جعل له، لأن لكل واحد منهم ثلث العمل فيكون لزيد ثلث الدينار، ويكون لعموم ثلث الخمسة، ويكون لبكر ثلث العشرة، فلو قال زيد وعمرو: أعاننا بكر في حمله فله كل العشرة، فقولهم في ذلك مقبول؛ لأن لهما أن يتركا العمل لأنفسهما ويتطوعا به لغيرهما. فصل: وإذا قال: ما جاءني بعبدي فله دينار ثم رجع عن ذلك، فعليه إعلان الإذن فمن جاء به فله الدينار وإن أعلنه فلا شيء لمن جاء به بعد إعلان الإذن، سواء علم برجوعه أو لم يعلم، إذا كان قد شرع في المجيء به؛ لأن إعلام كل الناس برجوعه متعذر فلم يلزمه في الرجوع أكثر من الإعلان والإشاعة. ولو كان هذا الجائي به شرع في حمله قبل الرجوع فله الدينار ما لم يعلم بالرجوع فأما إن قال: يا زيد إن جئتني بعيدي فلك دينار ثم رجع السيد فعليه إعلام زيد برجوعه ما لم يشرع في حمله فإن لم يعلم فهو على حقه سواء أعلن السيد الرجوع أو لم يعلنه لأن إعلام زيد بالرجوع غير متعذر فلو شرع زيد في حمله ثم أعلمه السيد برجوعه قيل للسيد: أنت بالخيار بين أن تمكنه من المجيء به فيستحق كل الدينار أو تبذل له أجرة مثل ما قوته من عمله؛ لأنه وإن كان غير لازم لك فليس لك إبطال عمله عليه كالمضاربة إذا رجع فيها رب المال بعد عمل العامل لزمه تمكين العامل من بع ما اشتراه لئلا يفوت عليه عمله بالرجوع وإن كان العقد غير لازم. فصل: ولو جاء زيد بالعبد وقد مات السيد كان له الدينار في تركته إذا وصل العبد إلى ورثته ولو مات زيد قبل وصول العبد إلى سيده فإن تهم وارث زيد حمل العبد إلى

باب التقاط المنبوذ يوجد معه الشيء

سيده فله من الدينار المستحق بقسط عمل زيد منه؛ لأن عمله لم يفت ولا شيء للوارث منه لقسط عمل نفسه لأن ما لم يلزم من للعقود يبطل بالموت فلم يقم عمل الوارث مقام عمل الموروث وإن لم يأت الوارث بالعبد فالصحيح أنه لا شيء لوارث زيد فيما عمله من حمل العبد؛ لأن زيد لو كان حيًا فلم يتهم حمله لم يستحق شيئًا. وقال بعض أصحابنا باختياره فات عليه عمله، وهذا التعليل غير صحيح؛ لأن زيد لو كان على حمله فهرب العبد منه لم يستحق لما في عمله شيئًا وإن لم يختر تفويت العمل عليه، فلو مات العبد قبل وصوله إلى بلده فلا شيء له في حمله ولا ضمان عليه في موته، وهكذا لو مات بعد وصوله إلى بلده وقبل حصوله في يد سيده وهذا يوقع فساد ذلك التعليل. فصل: ولو قال وهو بالبصرة ن يا زيد إن جئتني بعيدي من بغداد فلك دينار فجاء به منها استحق، ولو جاء به من أبعد منها والموصل لم يستحق أكثر من الدينار، ولو جاء به من أقل منها نحو واسط استحق من الدينار بقسطه، لأن بعض العمل الذي جعل له الدينار في مقابلته. فصل: ولو قال: إن من جاءني بعيدي فله دينار، ثم قال بعده: من جاءني بعيدي فله عشرة دنانير، كان الآخر من توليه هو المعمول عليه، ويكون لسن جاء به عشرة دنانير ويعكس من قالب من جاءني فله عشرة، ثم قالب من جاءني به فله دينار كان للجار به دينار واحد والله أعلم بالصواب. باب التقاط المنبوذ يوجد معه الشيء قال الشافعي رحمه الله تعالي فيما وضع بخطه: ما وجد تحت منبوذ شيء مدفون من ضرب الإسلام أو كان قريبًا منه فهو لقطة أو كانت دابة فهي ضالة فإن وجد على دابته أو على فراشه أو على ثوبه مال فهو له". قال في الحاوي: وهذا كما قال، أما المنبوذ فهو الطفل يلقي: لأن النبذ في كلامهم الإلقاء وسمى لقيطًا لالتقاط واجده له، وقد تفعل المرأة ذلك بولدها لأمور؛ منها: أن تأتي به من فاحشة فتخاف العار، فتلقيه، أو تأتي به من زوج فتضعف عن القيام به فتلقيه رجاء أن يأخذه من يقدم به، أو تموت الأم فيبقى ضائعًا فيصير فرض كفاية والقيام بتربيته علي كافة من علم بحاله حتى يقوم بكفالته منهم من فيه كفاية، كالجماعة إذا رأوا غريقًا يهلك او من ظفر به سبع فعليهم خلاصه واستنفاذه لقوله عز وجل: {ومَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] وفيه تأويلان: أحدهما: أن على جميع الناس شكره حتى كأنه قد أحياهم.

والثاني: أنه قد ناب عن جمع الناس في إحيائه. ولقوله تعالى: {وتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى} [المائدة: 2] ولقوله تعالى: {وَافْعَلُوا الخَيْرَ} [الحج: 77] فدلت هذه الآية على الندب على أخذه والتوصل إلى حراسة نفسه وقد قال تعالى في قصة موسى صلى الله عليه وسلم: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ} [القصص: 8] طلبًا لحفظ نفسه ورغبة في ثوابه. وروي أن منبوذًا وجد على عهد عمر رضي الله عنه فاستأجر له امرأة تكفله واستشار الصحابة في النفقة فأشاروا أن ينفق عليه من بيني المال. وروى الزهري عن أبي جميلة أنه قال: أخذت منبوذًا على عهد عمر رضي الله عنه فذكره عريفي لعمر فأرسل إليّ فدعاني والعريف عنده قال عسى الغوير أبؤسًا، فقال عريفي إنه لا يفهم فقال عمر: ما حملك على ما صنعت؟ فقلت: وجدت نفسًا مضيعة فأحببت أن يأجرني الله عز وجل فيها. قال: هو حر وولاؤه لك وعلينا رضاعه. فصل: فإذا وجد الرجل لقيطًا فلا يخلو أن يجد معه مالًا أو لا يجد، فإن لم يجد معه مالأ تطوع يأخذه والنفقة عليه، وإن أبى أن ينفق عليه تطوعًا إما لعجز أو شح رفع أمره إلى الحاكم على ما ذكره وإن وجل معه مالًا؛ لأنه ربما فعل ذلك ليكون باعثًا على أخذه والقيام بتربيته، فذلك المال ملك له؛ لأنه لا يمتنع وإن كان طفلًا أن يكون ملكًا بميراث أو وصية؛ وإنما بحكم يملكه فيما كان بيده؛ لأن له يد توجب الملك كالكبير الذي ينسب إليه ويجري عليه حكم ملكه كلما كان عليه من ثياب أو حلي، أو كان تحته من فراش أو حصير، أو كان في يده من دراهم أو عنان فرس، أو كان راكبًا له من بعير أو فرس، فكل ذلك منسوب إلى يده كالكبير ومحكوم له به في ملكه. فصل: فما وجد منفصلًا عنه فضربان: أحدهما: أن يبعد عنه كالفرس المربوط على بعد أو كيس من دراهم أو ثوب فذلك غير منسوب إلى يده كما لا ينسب إلى يد الكبير ويكون لقطة. والثاني: أن يكون ذلك قريبًا منه فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون الموضع آهلًا كبير المارة فهذا يكون لقطة أيضًا. والثاني: أن يكون الموضع منقطعًا قليل المارة ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي والظاهر من كلام الشافعي أن يكون لقطة كالكبير الذي لا يملك ما يقاربه من المال إذا لم يكن له عليه يد.

والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه يكون ملكًا للقيط اعتبارًا بالظاهر من حاله، وفرق بينه وبين الكبير بأن الكبير يقدر على إمساك ما يقاربه من مال أو فرس، فإذا لم يفعل ارتفعت يده فزال الملك، والصغير يضعف عن إمساك ما يقاربه فجاز أن ينتسب إلى ملكه، وأنه في حكم ما في يده. فصل: فأما ما تحته من مال فضربان: مدفون وغير مدفون، فإن كان مدفونًا فليس بملك للقيط؛ لأن الكبير لو كان جالسًا على أرض تحتها دفين لم يحكم له بملكه، لم ينظر فإن كان من ضرب الإسلام فهو لقطة، وإن كان من ضرب الجاهلية فهو ركاز يملكه الواجد وعليه خمسة وإن كان غير مدفون فضربان: أحدهما: أن يكون فوق بساطه وتحت جسده فهذا ملك للقيط لكونه في يده وتحت جسده فهذا ملك للقيط لكون في يده. والثاني: أن يكون تحت بساطه ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون ملكًا له كالبساط إذا كان تحته يكون ملكه. والثاني: لا يكون ملكه ويكون لقطة بخلاف البساط؛ لأن الدراهم لم تجر العادة أن تكون مبسوطة على الأرضي تحت مالكها وجررت عادة البساط أن يبسط على الأرض تحت مالكه. فصل: وأما الموضع الذي هو منبوذ فيه، فإن كان مواتًا أو مسجدًا أو طريقًا مائلًا، فهو على حاله، وإن كان ملكًا فضربان: أحدهما: ما جرت العادة بسكناه كالدور فيكون ذلك له إذا لم يكن غيره فيها كالكبير يملك ما هو فيها من دار. والثاني: أن يكون ما لم تجر العادة بسكناه كالبساتين والضياع فعلى وجهين: أحدهما: يحكم بأنه ملكه ما لم يكن لغيره عليه يد كالدور. والثاني: لا يحكم له بذلك بخلاف الدار؛ لأن سكنى الدار تصرف وليس الحصول في البساتين سكنى ولا تصرف. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى:"وإن كان ملتقطة غير ثقة نزعة الحاكم منه وإن كان ثقة وجب أن يشهد بما وجد له وأنه منبوذ". قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا كان ملتقط المنبوذ غير مأمون عليه خوفًا من استرقاقه ولا على ماله خوفًا على استهلاكه نزعه الحاكم من يده لأمرين:

أحدهما: أن غير المأمون ليس من أهل الولايات. والثاني: أنه لاحظ للمنبوذ في تركه تحت يده. فإن قيل: أفليس لو كان واجد اللقطة غير مأمون عليها أقرت في يده على أحد القولين فهلا كان اللقيط كذلك؟ قيل: الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن اللقطة اكتساب فجاز أن يستوي فيها الأمين وغيره والتقاط المنبوذ ولاية فاختلف فيه الأمين وغيره. والثاني: ما يخاف على المنبوذ من استرقاقه وإضاعته أغلظ مما يخاف على المال من استهلاكه وتلفه؛ لأن للمال بدل وليس للحرية بدل. فصل: فإذا تقرر ما وصفناه لم يخل حال ملتقط المنبوذ من أربعة أقسام: أحدها: أن يكون مأمونًا عليه وعلى ماله فيقران معًا في يده، وهل يكون للحاكم عليه نظر أم لا على وجهين: أحدهما: وهو قول أبى علي الطبري لا نظر عليه لا اجتهاد له فيما إليه كما أنه لا نظر في اللقطة على واجدها إذا كان أمينًا. والثاني: وهو قول أبي علي بن خيران أن للحاكم عليه في المنبوذ نظر وله في كفالته اجتهاد لأنه الوالي على الأطفال وخالف حال اللقطة لأنها كسب وهكذا اختلف أصحابنا هل يكون الملتقط خصمًا فيما نوزع فنه المنبوذ من أمواله أم لا على وجهين: أحدهما: يكون خصمًا فيه نيابة عن المنبوذ لمكان نظره عليه. والثاني: لا يكون خصمًا إلا بإذن الحاكم. والقسم الثاني: أن يكون الملتقط غير أمين عليه فواجب على الحاكم انتزاعها من يده ويرتضي له من يقوم بكفالته وحفظ ماله. والقسم الثالث: أن كون أمينًا عليه فلا يخاف من استرقاقه له لكنه غير أمين على ماله خوفًا من استهلاكه له فهذا يقر المنبوذ في يده وينتزع المال منه لأنه قد صار له بالتقاطه حق في كفالته فما لم يخرج عن حل الأمانة فيه كان مقرأ معه وليس تراعي فيه العدالة فيكون جرحه في شيء جرحًا في كل شيء وإنما يراعى فيه الأمانة وقد يكون أمينًا في شيء وإن كان غير مؤتمن في غيره فإن قيل فهلا كان المال الذي ليس بمؤتمن عليه لأنهما في يده على أحد القولين كاللقطة لأنها جميعًا مال بخلاف المنبوذ قلنا لأن مال اللقطة كسب الملتقط وليس مال المنبوذ كسبًا للملتقط. والقسم الرابع: أن يكون أمينًا على ماله غير أمين على نفسه ما من استرقاقه وأما لأنها ذات فرج لا يؤمن غيره فينتزع المنبوذ منه وفي إقرار المال معه وجهان: أحدهما: يقر معه وان نزع المنبوذ منه. كما يقر المنبوذ معه وإن نزع المال منه.

والثاني: ينتزع المال منه مع المنبوذ لأن ماله تبع له والفرق بين المنبوذ وبين ماله أن لملتقط المنبوذ حق في كفالته وليس له حق في حفظ ماله وإنما الحق عليه في المال وله الكفالة فافترقا. فصل: ثم الحاكم مندوب إلى الإشهاد على من أخذ المنبوذ وماله في يده كما كان مندوبًا إلى الإشهاد على من أخذ المنبوذ ماله في يد ملتقط المال فإن كان القيم بكفالة المنبوذ وحفظ ماله غير الملتقط له التسليم الحاكم له إلى من ارتضاه لأمانته عند حياة ملتقطه فالإشهاد عليه مستحب وليس بواجب لأن تسليم الحاكم إليه ذلك حكم يغني عن الإشهاد فإن كان هو الملتقط ففيه وفي اللقطة ثلاثة أوجه مضيا. أحدها: أن الإشهاد واجب في اللقطة والمنبوذ. والثاني: أنه غير واجب فيهما جميعًا. والثالث: أنه واجب في المنبوذ وغير واجب في اللقطة لما ذكرنا من الفرق بينهما. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالي: "ويأمره بالإنفاق منه عليه بالمعروف وما أخذ ثمنه الملتقط وأنفق منه بغير أمر الحاكم فهو ضامن". قال في الحاوي: وهذا كما قال. إذا وجل مع اللقيط مال كانت نفقته في ماله كما يجب نفقة الطفل إذا كان له مال في ماله دون مال أبيه فإن تطوع الملتقط وأنفق عليه من مال نفسه كان محسنًا كالأب بالإنفاق على ولده الغنى وإن أراد الملتقط أن ينفق عليه من ماله لزمه استئذان الحاكم فيه سواء قيل إن للحاكم عليه نظر في اللقيط أو ليس له لأن للحاكم نظرًا في ماله لا يختلف فيه فإن أنفق يغير إذن لم يخل ماله من أحد أمرين: إما أن يكون قادرًا على استئذانه أو غير قادر فإن كان قادرًا على استئذانه كان ضامنًا لما أنفق قصدًا أو سرفًا لأن الحاكم هو الوالي على المال دونه وصار ذلك وإن وصل إلى مالكه كمن أخذ علف رجل أعده لدابته فأطعمها إياه ضمنها له وإن وصل إليه وإن لم يقدر على استئذان الحاكم ففي ضمانه وجهان. كالجمال إذا هرب من مستأجره فاكترى لنفسه عند إعواز حاكم ليستأذنه أحد الوجهين أن يسترجع المستأجر ولا يضمن الملتقط لضرورتها والثاني لا يرجع المستأجر ويضمن الملتقط لأن لا يكونا حاكم أنفسهما ومن أصحابنا من فرق بين حرب الجمال وبين ملتقط المنبوذ فجعل للمستأجر أن يرجع الملتقط ضامنًا لأن المستأجر مضطر إلى استيفاء حقه وليس الملتقط مضطر إلى التقاطه وهذا الوجه له لأنه ربما وجده ضائعًا في

مهلكة فلزمه أخذه لنفسه. فصل: فإن استأذن الحاكم فهل يأذن له في النفقة عليه بنفسه من يده أو يتولاه غيره من أمنائه على قولين: أحدهما: وهو الأصح: أنه يأذن له في للنفقة عليه إذا كان أمينًا أما بتقدير مثاله فإن زاد على القدر من غير حاجة ضمن وإما بأن رد ذلك إلى اجتهاده فما ادعاه فيها عن قصد قبل منه وما تجاوز للقصد لم يقبل منه لأنه متعد به وإن كان محقًا فيه. والثاني: أنه يؤخذ من الملتقط من مال المنبوذ القدر الذي ينصرف في نفقته حتى يتولى ذلك نره من أمناء الحاكم لما فيه من فضل الاحتياط له ثم فيه وجهان: أحدهما: أن الأمين يتولى شراء ما يحتاج إليه المنبوذ من طعام وكسوة ثم يدفعه إلى الملتقط حتى يطعمه ويكسوه لأنه أحوط. والثاني: أنه يدفع قدر النفقة إلى الملتقط ليتولى شراء ذلك بنفسه لما له حق الولاية عليه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالي: "فإن لم يوجد له مال وجب على الحاكم أن ينفق عليه من مال الله فإن لم يفعل حرم تضييعه على من عرفه حتى يقام بكفالته فخرج من بقي من المأثم". قال في الحاوي: وهذا كما قال، إذا الملتقط المنبوذ فقيرًا لا مال له ولم يتطوع أحد بالنفقة عليه وجب على الإمام الأعظم أو من ينوب عنه من والٍ وحاكم أن يقوم بنفقته؛ لأنها نفس يجب حراستها ويحرم إضاعتها ومن أين ينفق الإمام عليه فيه قولان: أحدهما: وهو الأصح: من بيت المال لأنه رصد للمصالح وهذا منها. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضوان الله عليه أنه قال: لئن أصاب الناس سنة لأنفقن عليهم من مال الله حتى لا أجد درهمًا فإذا لم أجد درهمًا ألزمت كل رجل رجلًا. وقد استشار عمر رضي الله عنه الصحابة رضي الله عنهم في للنفقة على اللقيط فقالوا: من بيت للمال فعلى هذا القول لا رجوع بما أنفق عليه من بيت المال على اختلاف ما يظهر من أحواله لوجوبها فيه. والثاني: أنها لا تجب في بيت المال لأنه قد يجوز أن يكون عبدًا فتجب على سيده أو حرًا له أب غني فتجب على أبيه وبيت المال لا يلزم فيه إلا ما لا وجه له سواه فعلى هذا يجب على الإمام أن يفترض له ما ينفق عليه أما من بيت المال أو من أحد من

المسلمين فإن لم يكن في بيت المال ولم ينفرد أحد من المسلمين به وجب عليه أن يخص نفسه ومن حضره من ذوي المكنة وجعلها مقسطة عليهم على عددهم جبرًا ولا يخص بالإجبار عليها واحدًا. قال الشافعي: فإن لم يفعل حرم تضييعه على من عرفه حتى يقام بكفالته، لآن ذلك من فروض الكفايات ثم ينظر فان بان عبدًا رجع بها على سيده وإن بان له أب غني أخذها من أبيه فإن بلغ ولا أب له ولا سيد فإن علمه مكتسبًا رجع عليه في كسبه وإن كان غير مكتسب فهو من جملة أهل الصدقات فيقضى ذلك عنه من أي المالين يراه فيها من سهم الفقراء أو المساكين أو من سهم الغارمين والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالي:" ولو أمره الحاكم أن يستلف ما أنفق عليه يكون عليه دينًا فما ادعى قبل منه إذا كان مثله قصدًا. قال المزني: لا يجوز قول أحد فيما يتملكه على أحٍد لأأنه دعوى وليس كالأمين يقول فيبرأ". قال في الحاوي: وصورتها في لقيط فقير أمر الحاكم ملتقطه أن يستقرض ما ينفقه عليه فذلك ضربان: أحدهما: أن يأمره أن يستقرض عليه من غيره فهذا جائز ولا يأخذ القرض جملة ولكن يستقرض له في كل يوم أو أكثر في كل أسبوع قدر حاجته إليه ويقبل قول الملتقط في إنفاقه عليه لأنه لا يستغني عن غذاء في كل يوم فإذا مرت به الأيام على سلامة وهو فيها نامي الجسد مستقيم الأحوال كان الأظهر من حاله وصول النفقة إليه. والثاني: أن يأمره أن يستقرض من نفسه فهل يجوز له أن يتولى إنفاقه عليه بنفسه أم لا على قولين: أحدهما: وهو نصه ها هنا: يجوز لكونه أمينًا وما ادعاه من شيء يكون مثله قصدًا قبل منه. والثاني: واختاره المزني أنه لا يجوز حتى يأخذها من غيره من الأمناء فينفقها عليه، لأنه لا يقبل قول أحد فيما يدعيه دينًا على غيره. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالي:" ولو وجده رجلان فتشاحاه أقرعت بينهما فمن خرج سهمه دفعته إلين وإن كان الآخر خيرًا له لم يكن مقصرًا عما فيه مصلحته". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا اشترك نفسك في التقاط المنبوذ وهما من أهل

الكفالة لاستوائهما في الإسلام والحرية والأمانة فهذا على ضربين: أحدهما: أن يتنازعاه ويتشاحنا عليه، فمذهب الشافعي وعليه جمهور أصحابه أن الحاكم يقرع بينهما، لأنهما لما استويا ولم يكن أن يشترك بينهما كانت القرعة بينهما ليتميز بها الأحق من غير تهمة. قال تعالى: {ومَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} [آل عمران: 44] الآية ثم يتعين حق من قرع منهما في كفالته قان أراد رفع يده عنه كان له ولم يجبر على إمساكه ويتسلمه الحاكم منه وهل يصير شريكه أولى بكفالته من غيره أم لا على وجهين: أحدهما: هو أولى به من غيره لاختصاصه بالتقاطه وإن تقدم الأخر بالقرعة. والثاني: أنه قد بطلت كفالته لما قرعه صاحبه وصار غيره سواء فيجتهد الحاكم فيه رأيه فهذا حكم ما ذهب إليه الشافعي من الإقراع بينهما عند التنازع وسواء كان من خرج بالقرعة أنفع له إذا لم يكن الذي خرج قرعته مقصرًا أو كانا سواء، وقال أبو علي بن خيران لا قرعة بينهما عند التنازع ولكن يجتهد الحاكم فيهما رأيه فأيهما رآه أحظ له كان أولى بكفالته ولهذا القول وجه وإن خالف نعى الشافعي غير أن تساويهما يمنع من تغليب أحدهما إلا بالقرعة كالبنتين إذا تعارضتا. فصل: والضرب الثاني: أن لا يتنازعا ويتفقا على تسليمه لأحدهما فهذا على ضربين: أحدهما: أن يسلمه قبل استقرار يده عليه فهذا يجوز لأن المسلم له بمثابة من رآه ولم يلتقطه ويصير المستلم أولى وكأنه التقطه وحده. والثاني: أن تستقر أيديهما جميعًا عليه حتى يصير الملقوط معهما ثم يتسلمه أحدهما ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأن الحق لهما وليس يتجاوزهما كالشقيقين إذا سلم أحدهما لصاحبه. والثاني: لا يجوز لآن للملتقط حق الكفالة وليس له حق التسليم كما لو كان هو الواجد وحده لم يكن له تسليمه إلى غيره حتى يتولى الحاكم. فصل: ولو التقطه رجل وامرأة كانا في كفالته سواء فيقترعان ولا تقدم المرأة كتقديم الأم على الأب في الحضانة لأن في الالتقاط ولاية إن لم يكن الرجل أحق لها لم يكن أنقص حضانة الأبوين. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالي:" وإن كان أحدهما مقيمًا بالمصر والآخر من غير

أهله دفع إلى المقيم". قال في الحاوي: " إذا وجد اللقيط في المصر رجلان أحدهما من أهل المصر والآخر من أهل مصر آخر وهو غريب في هذا المصر فالواجد له من أهل عصره أحق بكفالته من الغريب الذي ليس من أهله لأن قيامه في البلد الذي وجد فيه أشهر لحاله وأقرب إلى ظهور نسبه ولكن لو انفرد الغريب بالتقاطه وأراد إخراجه من البلد الذي وجد فيه إلى بلده فان كان غير أمين أو كان للطريق غير مأمون فلا حق له في كفالته، وإن كان أمينًا والطريق مأمون فعلى ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون بلده قريبًا على أقل من يوم وليلة فهو مستحق لكفالته إذا تساوى البلدان أو كان بلد الملتقط أصلح فأما إن كان بلد اللقيط مصر وبلد الملتقط قرية ففيه وجهان: أحدهما: لا حق له في كفالته لأن المصر أنفع له من القرية لما فيه من كثرة العلوم والآداب ووفور الصنائع والاكتساب. والثاني: يستحق كفالته وإخراجه إلى قريته، لأن القرية ريما كانت أعف وكان أهلها أسلم ومعايشهم أطيب ولأن حاله في القرية أيسر منها في المصر الكبير لقلة من فيها وكثرة من ني المصر وقلما يمكن أن يشعر ني للقرى بفاحشة تخفى وريبة تكتم. والثاني: أن يكون بلده بعيدًا وأخباره منقطعة والطارئ إليه أو منه نادر. كمن بالعراق إذا أراد نقله إلى للشرق أو الغرب فلا حق له في كفالته لإضاعة نسبه وخفاء حاله فلو قال الغريب: أنا أستوطن بلد اللقيط قلنا: أنت حينئذ أحق بكفالته وإنما تمتع منه إذا أردت .... إلى بلدك. والثالث: أن يكون بلده بعيدًا على أكثر من يوم وليلة لكن أخباره متصلة والوارد منه كثير كالبصرة وبغداد ففي استحقاقه لكفالته وجهان: أحدهما: لا حق له في كفالته، لأن حظ اللقيط ني بلده أكثر وحاله فيه أشهر. والثاني: أنه مستحق لكفالته لتساوي البلدين ني للتعليم والتأديب وربما كان في غير بلده أنفع فعلى هذا الوجه يتعين لحاكم بلد اللقيط أن يكتب إلى حاكم بلد الملتقط يذكر حاله وإشهار أمره. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالي:" وإن كان قرويًا وبدويًا دفع إلى القروي لأن القرية خير له من البادية".

قال في الحاوي: وهذا صحيح، وإذا التقطه رجلان: أحدهما قروي والآخر بدوي فالقروي أولى من البدوي، سواء وجداه في قرية أو بادية لأن القرية أمكن في التعليم وأبلغ في التأديب وأحسن في المنشأ وقد روى أبو حازم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بدا جفا ومن اتبع الصيد غفل ومن اقترب من أبواب السلاطين افتتن". معنى قوله من بدا جفا أي من سكن البادية صار فيه جفاء الأعراب وقوله من اتبع السيد غفل يريد من يشتغل به وينقطع إليه تصير فيه غفلة. فصل: فإذا انفرد اليدوي بالتقاطه فعلى ضربين: أحدهما: أن يجده في مصر أو قرية فلا حق له في كفالته، لأنه لا حظ له في نزول البادية لما ذكرناه. والثاني: أن يجده في البادية فلا تخلو حاله من أحد أمرين: أحدهما: أن يكون ممن يسكن حلة مقيمًا فيها ولا ينتجع عنها فهو مستحق لكفالته لأن وجوده في البادية يدل على أنه من أهلها. والحال الثانية: أن يكون ممن ينتجع ولا يلزم حلة ولا يقيم في مكان ففي استحقاقه لكفالته وجهان: أحدهما: يستحق، لأن هذا هو الأغلب من حال البادية. والثاني: أنه لا حق له فيها، لأن مداومة للنقلة وملازمة النجعة لا يشتهر بها حاله ولا يعرف معها مكانه مما يلحقه من المشقة في بدنه وتخير العادة في نقلته. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالي:" وإن كان عبدًا أو حرًا دفع إلى الحر". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا اجتمع على التقاطه حر وعبد فالحر أولى بكفالته من العيد لأمرين: أحدهما: أن العبد مولى عليه فلم يصح أن يكون واليًا. والثاني: أن العبد ممنوع من كفالته لخدمة سيده، فلو انفرد العبد بالتقاطه فإن كان بإذن سيده فالسيد هو الملتقط، لأن يد العبد يد له وهو المستحق لكفالته وإن كان بغير إذن سيده لم يجز بخلاف اللقطة في أحد القولين، لأن اللقطة كسب وهذه ولاية فلو أخذه السيد من عبده وقد التقطه بغير إذن فإن كان بعد رفعه إلى الحاكم فهو أولى، لأن يد العبد لما لم تكن مقرة لم يكن لها حكم وصار كأن السيد هو الملتقط له وهكذا حكم المدبر في التقاطه كالعبد وإما المكاتب فإن عللنا مع العبد منه بأنه من غير أهل الولاية فالمكاتب

ممنوع فيه، وإن عللناه بأنه ممنوع فيه لخدمة السيد فالمكاتب مستحق لكفالته، لأنه أملك من السيد بمنافع نفسه ولو شاركه في التقاطه حر كان الحر أولى به منه على العلتين لكمال الحر ونقص المكاتب وأما الذي نصفه حر ونصفه عبد فله حالتان: إحداهما: أن يكون غير مهايأة فهو كالعبد لا حق له في كفالته ما لم يأذن له المالك لرقه لإشراك حكمه وإن الشركة فيه مانعة عن كفالته. والثانية: أن يكون مهايأة فلا يخلو حال التقاطه من أحد أمرين: أحدهما: أن يلتقطه في زمان السيد فيكون فيه كالعبد لا حق له في كفالته. والثاني: أن يلتقطه في زمان نفسه ففيه وجهان: أحدهما: أنه مستحق لكفالته، لأنه في زمانه كالحر. والثاني: لا حق له في كفالته لنقصه وإنه سنعود إلى المع في غير زمانه وعلى كلى الوجهين لو شاركه الحر في التقاطه كان أحق به منه لكماله على من قصر عن حريته. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالي:" وإن كان مسلمًا ونصرانيًا في مصر به أحد به المسلمين وإن كان الأقل دفع إلى المسلم". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا اشترك في التقاط المنبوذ مسلم وكافر، فلا يخلو حال المنبوذ من أن يجري عليه حكم الإسلام أو حكم الكفر على ما سنصفه، فإن جرى عليه حكم الإسلام فالمسلم أحق بكفالته، وهكذا لو تفرد الكافر بالتقاطه نزع من يده لقوله تعالى: {ولَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] ولأنه غير مأمون عليه في بدنه أن يسترقه، وفي دينه أن يفتنه، وفي ماله أن يتلفه؛ لأن عداوة الدين تبعث على ذلك كله، وإن جرى على المنبوذ حكم الكفر فإن انفرد الكافر بالتقاطه أقر في يده؛ لأن الكافر يلي على الكافر وإن اشترك في التقاطه مسلم وكافر، فعلى الظاهر من مذهب الشافعي في إقراعه بين المسلمين إذا اشتركا في التقاطه يقرع بين المسلم والكافر، يكون في يد من خرجت له القرعة، وعلى مذهب أبي علي بن خيران يسلم إلى المسلم دون الكافرة؛ لأن كفالة المسلم أصلح ولما يرجى له باعتبار الإسلام ويتعين عليه أن يميل إليه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالي:"وجعلته مسلمًا وأعطيته من سهمان المسلمين حتى يعرب عن نفسه". قال في الحاوي: وهذا صحيح. وعلته أن حكم اللقيط في إسلامه وكفره أنه معتبر

بحكم الدار التي وجد فيها فهي ضربان: دار الإسلام ودار الشرك. فأما دار الإسلام فعلى ثلاثة أضرب: أحدها: أن ينفرد المسلمون بها حتى لا يدخلها مشرك كالحرم فالمنبوذ إذا التقط في مثل هذه الدار محكوم بإسلامه في الظاهر والباطن لامتناع اجتماع الشرك الظاهر في أبويه. والثاني: أن تكون دار الإسلام قد تخلطهم فيها أهل ذمة كالبصرة وبغداد أو معاهدون كأمصار الثغور فإذا التقط المنبوذ فيها كان مسلمًا في الظاهر دون الباطن وإنما حكمنا بإسلامه ظاهرًا تغليبًا لحكم الدار، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسلام يعلو ولا يعلى".ولم يحكم بإسلامه ني الباطن قطعًا لجواز أن يكون من ذمي أو معاهد. والضرب الثالث: أن تكون دار الإسلام قد تنفرد أهل الذمة يسكناها حتى لا يساكنهم فيها مسلم ولا يدخلها مثل يلد من بلاد الشرك فتحه المسلمون صلحًا أو عنوة فأقروا أهله فيه على أن لا يخالطهم غيرهم فإذا التقط المنبوذ فيه كان كافرًا في الظاهر لأن أهل الدار كفار وإن كانت في يد المسلمين عليهم غالبة وأحكام الإسلام فيهم جارية وأما دار الشرك فعلى ثلاثة أضرب أيضًا: أحدها: ما كان من بلادهم التي ليس فيها مسلم فإذا التقط المنبوذ منها جرى عليه حكم الشرك اعتبارًا بحكم الدار. والثاني: ما كان من بلاد الشرك فيها مسلمون ولو واحد كبلاد الروم فإذا التقط المنبوذ فيها ففيه وجهان: أحدهما: أنه مشرك في الظاهر اعتبارًا بحكم الدار. والثاني: وهو قول أبي علي ين أبي هريرة والظاهر من كلام الشافعي أنه يكون مسلمًا في الظاهر تغليبًا لحكم الإسلام. والثالث: كان من بلاد الإسلام التي غلب عليها المشركون حتى صارت دار شرك كطرسوس وأنطاكية وما جرى مجرى ذلك من الثغور والمملوكة على المسلمين فإذا التقط المنبوذ فيها نظر فإن كان فيها أحد المسلمين ولو واحدًا جرى على الملقوط فيها حكم الإسلام. وإن لم يكن فيها أحد من المسلمين أجرى عليه حكم الشرك في الظاهر لبعد للمسلمين عنها وامتناع حكمهم فيها. فصل: فإن أجرينا عليه حكم الإسلام فقد ذكرنا من أين ينفق عليه إذا كان فقيرًا وهو

على ما مضى من القولين وإن أجرينا عليه حكم الشرك لم يجز أن ينفق عليه من بيت المال إذا كان فقيرًا، لأن ما في بيت المال مصروف في مصالح المسلمين دون المشركين فإن تطوع أحد المسلمين أو من أهل الذمة بالنفقة عليه كان محسنًا لأنها نفس لها حرمة وإن لم يتطوع أحد بالنفقة عليه جمع الإمام أهل الذمة الذين كان المنبوذ بين أظهرهم وجعل نفقته مقسطة عليهم ليكون دينًا لهم إذا ظهر أمره فإن ظهر له أب رجعوا بالنفقة عليه وإن ظهر له سيد رجعوا بها عليه وإن لم يظهر ذلك كانت دينًا عليه يرجعون بها في كسبه إذا بلغ. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالي:" فإذا أعرب عن نفسه فامتنع من الإسلام لم يبن لي أن أقتله ولا أجبره على الإسلام وإن وجد في مدينة أهل الذمة لا مسلم فيهم فهو ذمي في الظاهر حتى يصف الإسلام بعد البلوغ". قال في الحاوي: اعلم أن من يجري عليه حكم الإسلام قبل بلوغه على أربعة أقسام: أحدها: من يجري حكم الإسلام عليه بإسلام أبويه فيصير بإسلامهما مسلمًا. وروى أبو اليزيد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه وينصرانه كما تناقح الإبل من بهيمة جمعاء هل تحسون من جدعاء" قالوا: يا رسول الله، أفرأيت من يموت وهو صغير، قال: الله أعلم بما كانوا عاملين" [.فمعنى قوله: يولد على الفطرة. يريد على للإقرار بأن الله خالقه، لأن جمع الناس على اختلاف أديانهم يعلمون أن الله خالقهم ثم يهود لليهود أبناءهم وينصر للنصارى أبناءهم أي يعلمونهم ذلك وضرب لهم مثلًا بالإبل إذا أنتجت من بهيمة جمعاء والجمعاء هي السليمة وإنما سميت بذلك لاجتماع السلامة لها في أعضائها فتجدع أنوف نتاجها وتفقأ عيونها فأما إذا أسلم أحد الأبوين فإن كان الأب منهما هو المسلم كان ذلك إسلامًا له وإن أسلمت الأم فذهب الشافعي وأبي حنيفة أن إسلامها إسلام له كالأب وقال مالك: لا يكون إسلام الأم إسلامًا له وهذا خطأ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يعلا ولقوله صلى الله عليه وسلم: "فأبواه يهودانه وينصرانه" فجعل اجتماعهما موجبًا لتهوده دون انفرادها، ولأنها لو أسلمت وهي حامل كان ذلك إسلامًا لحملها إذا وضعت كذلك إذا أسلمت بعد الوقع ولأنها أحد الوالدين فصار الطفل بها مسلمة كالأب، فأما استدلاله بالحرية فقد

يعتبر بالأب كما يعتبر بالأم، ألا ترى أنه لو ولد منه كان الولد حرًا، فإذا ثبت أن الإسلام أحد الأبوين يكون إسلامًا لغير البالغ من أولادهما، فكذلك يكون إسلامًا لمن بلغ منهم مجنونة، لأن المجنون تبع لغيره، فأما البالغ العاقل فلا يكون إسلام الأبوين أو أحدهما إسلامًا له، لأن الإسلام يصح منه، وأما إذا بلغ الكافر عاقلًا ثم جن فهل يكون إسلام أبويه إسلامًا له أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا يكون ذلك إسلامًا له، لأنه قد فعل الكفر بنفسه يعد بلوغه فاستقر حكمه عليه. والوجه الثاني: وهو اختيار أكثر أصحابنا أنه لا يصير مسلمًا، لأنه بزوال العقل وخروجه عن حدّ التكليف قد صار تبعًا فإذا تقرر ما وصفناه وصار الطفل أو المجنون مسلمًا بإسلام أبويه أو أحدهما ثم بلغ الصبي وأفاق المجنون فإن أقاما على الإسلام فقد استلام حكم إسلامها وإن رضيا الكفر لم يقبل منهما وصارا بذلك مرتدين يقتلان إذا أقاما على للردة سواء أقرا بالإسلام بعد البلد والإفاقة أو لم يقرا به. وقال بعض أصحابنا إن كانا يعد البلوغ والإفاقة قد أقرا بالإسلام والتزما حكمه بفعل عبادته من الصلاة والصيام جعلتهما مرتدين وإن لم يوجد ذلك متهما لم أحكم بردتهما، لأن جريان حكم الإسلام عليهما تبعًا لضعف من جريان حكمه عليهما إقرارًا وعملًا وهذا خطأ لقوله تعالى: {والَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطٌّور: 21].فأخبر بإيمان الذرية تبعًا لآبائهم فلم يجز أن ينتقل حكم الإيمان عنهم ولأن ما أوجب إسلامه أوجب إلزامه كالإقرار فهذا حكم القسم الأول. فصل: والقسم الثاني: أن يجري عليه حكم الاسم بإسلام السابي له من بلاد الشرك فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون السبي بعد البلوغ فلا يكون بإسلام سابيه مسلمًا ويكون حكم الكفر عليه جاريًا. والثاني: أن يكون سبته قبل البلد فهذا على ضربين: أحدهما: أن كون مسببًا مع أبويه أو أحدهما فلا يكون حكمه حكم سابيه، لأن إلحاق حكمه بأبويه أقوى من إلحاق حكمه بسابيه ويكون على حكم الكفر استصحابًا لدين أبويه. والثاني: أن يسبى وحده دون أبويه ففيه وجهان: أحدهما: وهو الظاهر من مذهب الشافعي أنه لا يتيح سابيه في الإسلام ويكون حكمه ني الشرك حكم أبويه؛ لأن يد السابي يد استرقاق فلم توجب إسلامه كالسيد. والوجه الثاني: أنه يتبع السلبي في إسلامه؛ لأنه قبل البلد تبع لغيره فهو أخرجه

بسبيه عن أبويه من أن يكون تبعًا لهما، قصار تبعًا لمن صار إليه بعدهما، فعلى هذا يجري عليه قبل بلوغه أحكام السابي في العبادات والاقتصاص من المسلم إذا جني عليه، وإذا مات صلى عليه ودفن في مقابر المسلمين وإن بلغ واستصحب الإسلام قولًا وعملًا ثم رجع عنه صار برجوعه مرتدًا، وإن وصف الكفر عند بلوغه فهل يحكم بارتداده أم لا؟ على وجهين مضى توجيههما فهذا حكم القسم الثاني. فصل: والقسم الثالث: أن يجري عليه حكم الإسلام بنفسه إقرارًا واعترافًا بشروطه فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون ذلك بعد بلوغه فهذا مسلم له ما للمسلمين وعليه ما عليهم. والثاني: أن يكون ذلك قبل بلوغه فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون ذلك منه في طفولته وعدم تمييزه فلا يكون بذلك مسلمًا، لأنه لا حكم لقوله ولا يصل إلى معرفة حق من باطل ولا صحيح من فاسد. والثاني: أن يكون مراهقًا مميزًا يصل بذهنه إلى معرفة الحق من الباطل ويميز ما بين الشبهة والدليل ففي الحكم بإسلامه إذا وصفه على شروطه ثلاثة أوجه: أحدها: وهو الظافر من مذهب الشافعي أنه لا يصير مسلمًا لقوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى ينتبه". فرفع القلم عنه قبل البلوغ في جميع أحواله، وجمع بينه وبين المجنون في سقوط تكليفه، ولأن عقود المعاملات أخف حالًا من شروط الإسلام، فلما امتنع قبل البلوغ أن تصح منه للعقود فأولى أن يمتنع منه شروط الإسلام. والثاني: وهو مذهب أبي حنيفة أن يصير مسلمًا؛ لأنه قد يصل إلى معرفة الدليل كما يصل إليه البالغ وخالف الطفل والمجنون، ولأن عليًا عليه السلام أسلم قبل بلوغه فحكم بصحة إسلامه؛ فعلى هذا إن بلغ فرجع عن الإسلام صار مرتدًا. والثالث: أن إسلامه يكون موقوفًا، فإن استدام ذلك بعد بلوغه علم أنه تقدم إسلامه، وإن فارقه بعد البلوغ علم أنه لم يكن مسلمًا، وعلى هذا الوجه يحتمل إسلام علي عليه السلام في قول من إسلامه إلى ما قبل البلوغ، وأنه لما استدامه بعد البلوغ علم به صحة ما تقدم إسلامه فهذا حكم القسم الثالث. والقسم الرابع: أن يجري عليه حكم الإسلام بالدار، وهذا هو اللقيط، وقد قسمنا أحواله التي تجري عليه بها حكم الإسلام أو حكم الشرك، فان أجرينا عليه أحكام الشرك فبلغ ووصف الإسلام بعد بلوغه استوثق به حكم الإسلام من حينئٍذ، وإن أقام على الشرك

أقر عليه من تخويف ولا إرهاب، وإن جرى عليه حكم الإسلام فذلك ضربان: أحدهما: أن يجريه عليه في الظاهر والباطن على ما ذكرنا من التقاطه في بلاد الإسلام التي لا يدخلها مشرك، فهذا لا يقبل منه بعد البلوغ الرجوع عنه ويكون إن رجع عنه مرتدًا. والثاني: أن يجري عليه حكم الإسلام في الظاهر دون الباطن، فما لم يبلغ فحكم الإسلام جاٍر عليه، فإن مات غسل وصلي عليه ودفن في مقابر المسلمين، وإن قتله مسلم فعليه دية مسلم وفي وجوب الاقتصاص منه قولان: أحدهما: يقتص منه لجريان حكم الإسلام عليه. والثاني: لا يقتص منه لاحتمال حاله، وأنه ربما وصف الكفر بعد بلوغه فلم يجز أن يراق دم بالشبهة، فإن وصف الإسلام قولًا وأقام عليه فعلًا استقر حكم إسلامه وجرى القصاص على قاتله، وإن رجع عنه إلى الشرك أرهب وخوف لرجوع عن الإسلام، فإن أبى إلا أن يكون مشركًا سئل عن سبب شركه، فإن قال: لأن أبي مشرك وصرت لأتباع أبي مشركًا ترك لما اختاره من الشرك لاحتماله، وأجرى عليه أحكام الشرك؛ لأننا لم نكن حكمنا بإسلامه قطعًا وإنما حكمنا به تغليبًا. فإن قال: لست أعرف دين أبى ولا أعلمه مسلمًا ولا مشركًا ولكني أختار الشرك ميلًا إليه ورغبة فيه ففيه وجهان: أحدهما: يقبل منه؛ لأنه لم يكن مقطوعًا بإسلامه. والثاني: هو الأصح أنه لا يقبل منه ويجعل إن أقام عليه مرتدًا إلا أن يدعي شرك أبيه فيقبل منه ويقر عليه ليكون في الشرك تبعًا ولا يكون متبوعًا. مسألة: قال الشافعي رحمه الله عليه: "ولو أراد الذي التقطه الطعن به فإن كان يؤمن لأن يسترقة فذلك له وإلا متعة". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا التقطه مقيم ثم أراد بعد حصوله في كفالته وإقراره في يده جاز أن يسافر به بأربعة شروط: أحدها: أن يكون قد اشتد بدنه بحيث يقوى على السير فإن كان طفلًا لا يحتمل السير لم يجز. والثاني: أن يكون السفر مأمونًا لا يخاف عليه من غلبة مسترق فإن خيف ذلك عليه. [لم يجز]

والثالث: أن يكون المسافر مأمونًا عليه فلا يسترقه ولا يسيء إليه فإن خيف ذلك لم يجز. والرابع: أن يكون بنية للعود إلى بلده، فإن لم يرد العود وسافر متنقلًا ففي تمكينه منه وجهان: أحدهما: أنه يمكن، لأنه قد صار في استحقاق كفالته كالأب الذي يجوز له أن يأخذه من الأم في سفر نقلته. والثاني: لا يجوز لما في نقله من إضاعة ما كنا نرجوه من ظهور نسبة ولهذا للمعنى جعلنا للمقيم إذا شارك في التقاطه مسافرًا أولى به. مسألة: قال الشافعي رحمه الله عليه: "وجنايته خطأ على جماعة المسلمين". قال في الحاوي: وهذا صحيح وجنايته ضربان على نفسر أو مال فإن كانت على مال فهي في ماله صغيرًا كان اللقيط أو كبير موسرًا أو معسرًا فإن كان له ماله دفع منه غرم جنايته وإن لم يكن له مال كان دينًا عليه إذا أيسر أداه فإن كانت جنايته على نفسر آدمي فضربان عمد وخطأ فإن كانت خطأ فعلى عاقلته وإن لم يكن له عصبة يعقلون عنه ففي بيت المال، لأن جماعة المسلمين عاقلته. ألا تراه لو مات بلا وارث كان ميراثه لبيت المال لجماعة المسلمين وإن كانت جنايته عمدًا يوجب العود فله حالان: أحدهما: أن يكون بالغًا القود واجب عليه في نفس كانت الجناية أو في طرف. والثانية: أن يكون صبيًا فلا قود عليه لارتفاع القلم عنه وفي محل الدية قولان من اختلاف قوليه في عمد الصبي هل يجري مجرى الخطأ أو مجرى العمد الصحيح وإن سقط عنه القود فإن قيل إنه يجري مجرى الخطأ كانت الدية في بيت المال مؤجلة كلية الخطأ وإن قيل إنه عمد صحيح وإن سقط عنه القود كانت الدية في ماله حالة فإن أعسر بها كانت دينًا عليه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله عليه: "والجناية عليه على عاقلة الجاني فإن قتل عمدًا فللإمام القود أو العقل وإن كان جرحًا حبس له الجارح حتى يبلغ فيحتار القود أو الأرش فإن كان معتوهًا فقيرًا أحببت للإمام أن يأخذ الأرش وينفقه عليه". قال في الحاوي: وهذا كما قال: لا يخلو حال الجناية على اللقيط من أن تكون

عمدًا أو خطأ فإن كانت خطأ فهي على عاقلة الجاني في نفس كانت أو طرف ودينه دية حر مسلم ما كان على حاله اعتبارًا بالأغلب من حكم الدار في الحرية والإسلام. وإن كانت عمدًا فضربان في نفس أو طرف فإن كانت في نفس استحق فيها دية حر مسلم وفي استحقاق القود إن كان القاتل حرًا مسلمًا قولان أصحهما عليه القود اعتبارًا بالأغلب من حاله وحال الدية في قتله. والقول الثاني: لا قود، لأنه حد يدرأ بالشبهة وكان بعض أصحابنا يحمل اختلاف هذين القولين على اختلاف حالين فيقول إن كان قتله قبل البلوغ وجب القود على قاتله وإن كان بعد البلوغ فلا يجب، لأنه يقدر على إظهار حاله وهذا الفرق مسلوب المعنى، لأنه إن اعتبر حال الشبهة ففي الحالين وإن اعتبر حال الظاهر ففي الحالين فلم يكن للفرق بينهما وجه فإن قلنا بإسقاط القود أخذت الدية لبيت المال وإن قلنا بوجوب القود كان للإمام عن كافة المسلمين مخيرًا فيما يراه أصلح لجماعتهم من القرد لئلا يسرع الناس إلى قتل النفوس وأخذ الدية. فصل: وإن كانت الجناية عليه في طرف فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون بالغًا بالخيار بين أن يأخذ الدية أو يقتص لنفسه على ما ذكرناه من القولين: والثاني: أن يكون غير بالغ فان قلنا بإسقاط القود على أحد القولين فليس له إلا دية الطرف ويأخذها الإمام له لينفق عليه منها أو يضم إلى ماله إن كان غنيًا. وإن قلنا بوجوب القود على الصحيح من المذهب فللقيط أربعة أحوال: إحداها: أن يكون عاقلًا غنيًا فعلى الإمام أن يحبس الجاني عليه إلى أن يبلغ فيختار القود أو الدية ولا يجوز للإمام أن يقتات عليه في أمرها كما لا يجوز لأب الطفل أن يقتات عليه فيما استحقه من قود أو دية. والثانية: أن يكون معتوهًا فقيرًا فينبغي للإمام أن يأخذ الدية من الجاني لينفق منها عليه ويعفو عن القود لأمرين: أحدهما: ظهور المصلحة بعد حاجته بالفقر. والثاني: بقاؤه في الأغلب على عتهه بعد البلوغ. والثالثة: أن يكون عاقلًا فقيرًا ففيه وجهان: أحدهما: أنه يحبس قاتله ليختار لنفسه ما شاء من قود أو دية تعليلًا بظهور عقله. والثاني: أن الإمام يأخذ له الدية ويعفو عن القود تعليلًا بحاجته وفقره، ولو بلغ فاختار القود ورد الدية ففيه وجهان: أحدهما له ذلك والثاني ليس له وعفو الإمام كعفو، وهذان الوجهان بناء على عفو الولي عن نفقته هل له المطالبة بها بعد لوغه أم لا على وجهين.

والرابعة: أن يكون معتوهًا غنيًا فعلى وجهين: أحدهما: يحبس قاتله ليختار لنفسه بعد بلوغه وإفاقته فإما اعتبارًا بغيابه عن الدية. والثاني: أن للإمام أن يأخذ الدية ويعفو عن القرد اعتبارًا بعتهه وعدم إفاقته في الأغلب. مسألة: قال الشافعي رحمه الله عليه: "وهو في معني الحر حتى يبلغ فيقر". قال في الحاوي: وهذا صحيح لا نقطع بحرية اللقيط ولا نعم فيه أحكام العبد أما عدم القطع بحريته فلإمكان ما عداها من الرق. وأما إسقاطها تغليبًا لأحكام الرق فلأن الأغلب من دار الإسلام الحرية كما كان الأغلب فيها الإسلام وإنما اختلف قول الشافعي في ظاهر أمره فأحد القولين إنه حر في الظاهر وإن جاز أن يكون عبدًا كما أجرينا عليه حكم الإسلام في الظاهر وإن جاز أن يكون كافرًا ولأن الرق طارئ والحرية أصل فلأن يجري في الظاهر على حكم الأصل أولى. والثاني: أنه مجهول الأصل لإمكان الأمرين وأن الرق قد يجوز أن يكون مستحقا فلم يجز أن نحكم بتغليب غيره عليه وليس كالكفر الذي هو باطل فجاز تغليب الإسلام عليه ومن هذين القولين خرج القولان في استحقاق القود من الحر. مسألة: قال الشافعي رحمه الله عليه: "فإن أقر الرق قبلته ورجعت عليه بما أخذه وجعلت جنايته في عنقه". قال في الحاوي: أما إقرار اللقيط قبل بلوغه فغير معمول عليه في حرية ولا في رق فإذا بلغ صار إقرار حينئٍذ معتدًا فإن ادعى الحرية وأنكر الرق كان قوله فيها مقبولًا وصار حرًا في الظاهر والباطن ما لم يقم بينة برقه ولا يقبل منه الإقرار بالرق بعد ادعاء الحرية كما لو بلغ فأقر بالإسلام لم يقبل منه الرجوع إلى الكفر فأما إذا أقر بالرق فإن جعلناه مجهول الأصل كان إقراره بالرق مقبولًا وإن جعلناه حرًا في الظاهر ففي قبول إقراره بالرق وجهان: أحدهما: لا يقبل منه إلا أن تقوم بينة، لأنه خلاف ما أجرى عليه من حكم الظاهر وحكاه أبو حامد المروزي في جامعه. والثاني: وهو الصحيح الظاهر من كلام الشافعي أن إقراره به مقبول وإن كان قد أجرى عليه في الظاهر حكم الحرية كما يقبل إقراره بالكفر إن أجرى عليه في الظاهر حكم

الإسلام ثم يجري عليه حكم الرق في المستقبل من أمره إن جني أو جني عليه فأما في الماضي من أمره فقد ذكر الشافعي ما سوى الجناية فيما بعد وقدم ذكر الجناية في هذا الموضع والنفقة عليه أما الجناية فالكلام فيها يشتمل على فصلين أحدهما فيما جنى عليه والثاني فيما جناه على غيره. فأما الجناية عليه فلا يخلو ما أخذه من أرشها بالحرية من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يستوي أرشها بالحرية والرق فلا يراجع فإن كانت عمدًا وعرفها الجاني من ماله فقد غرم ما لزمه وإن كانت خطأ تحملتها عاقلته ففي رجوع العاقلة بها قولان بناء على اختلاف قوليه في تحمل العاقلة بالجناية على العبد. والثاني: أن يكون أرشها في الرق أقل من أرشها في الحرية كأنها في الحرية ألف وفي الرق مائة فيسترجع منه ما زاد على أرش الرق وذلك بتسعمائة فإن كانت بعينها في يده أو كان بدلها موجودًا من كسبه ليسترجعه الجاني أو عاقلته، وإن كانت غير موجودة في يده ولا بد لها من كسبه نظر فإن كان الحاكم قد أنفقها عليه في صغره استحق الجاني الرجوع بها على سيده كما يرجع عليه بالقبض في النفقة عليه وهكذا لو كان المنفق لها على نفسه، لأن نفقته واجبة على سنده وإن لم يتصرف في نفقته لم يلزم السيد غرمها لأنها لم تصر في يديه ولا انصرفت في واجب عليه ثم ينظر فإن كان الحاكم قد أخذ ذلك في صغره ولم تصر إلى يده لتلفه لم يجب غرمه وكانت الزيادة هدرًا وإن كان هو القابض لها في كبره أو دفعها الحاكم إليه بعد كبره تعلق غرمها بذمته بعد عنقه ويساره لغروره ولم تتعلق برقبته. والثالث: أن يكون أرشها في الرق من أرشها في الحرية بأن كانت في الحرية مائة وفي الرق ألف ففي استحقاق الزيادة بالرق قولان: أحدهما: يستحق إلا أن يعترف الجاني بها ولا يقبل قوله فيها مع الإنكار لها لمكان للتهمة وهذا على القول للذي نجعله فيه حرًا في الظاهر. فصل: وأما الجناية على غيره فلا يخلو ما دفعه في أرشها بالحرية من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يستوي أرشها في الحرية والرق فليس للمجني عليه إلا ما أخذه ثم ينظر فإن كانت جنايته فقد أرشها من ماله أو كسبه كذلك ولن كانت خطأ أخذت من بيت المال وجب ردها فيه، لأن جناية العبد في عنقه دون بيت المال والسيد بالخيار بين أن يغرمها أو يبيع رقيقه فيها فإن ضاقت الرقبة عند بيعها عن غرم جميعها لم يلزم السيد ما بقي وهل يرجع به على المجني عليه في حق بيت المال أم لا على قولين. والثاني: أن يكون أرشها بالرق أكثر من أرشها بالحرية فهذا على ضربين: أحدهما: أن تكون رقبة العبد تتسع للزيادة فيستحق المجني عليه الرجوع بها في

رقبة العبد إلا أن يفديه السيد منها. والثاني: أن تكون رقبة العيد تضيق عن الزيادة ففيها قولان: أحدهما: تكون هدرًا. والقول الثاني: أنها مستحقة فإن فداه السيد وإلا بيع فيها. والثالث: أن يكون أرشيا بالرق أقل من أرشها بالحرية ففي قول قوله في استرجاعها قولان: أحدهما: يقبل قوله ويسترجع وهذا على القول الذي نجعله فيه مجهول الأصل. والثاني: لا يقبل قوله فيها ولا يسترجع وهذا على للقول الذي نجعله فيه حرًا في الظاهر. فصل: فأما النفقة التي أنفقها الحاكم عليه في صغره فان كانت من بيت المال لم تسترجع من السيد، لأنها دفعت من سهم المصالح وقد جعل ذلك مستحقًا فيه وإن كانت قرضًا اقترضه الحاكم من واحد أو عدد وجب على السيد غرمها وردها عليهم لوجوبها بحق الملك. مسألة: قال الشافعي رحمه الله عليه: "ولو قذفه قاذف لم أجد له حتى أساله فإن قال أنا حر حددت". قال في الحاوي: وصورتها في لقيط قذفه قاذف بالزنى فإن كان اللقيط صغيرًا فلا حدّ على قاذفه، وإن كان كبيرًا لم يعجل إلى حدّ القاذف حتى يسأل اللقيط المقذوف لا يختلف فيه، لجواز أن يكون حرًا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "جنب المؤمن حمى" فإن أقر بالرق ولم يدع الحرية فلا حدّ على قاذفه، لأن قاذف العبد لا حد عليه فان ادعى الحرية فإن صدقه عليها القاذف حدّ له حدًّا كاملًّا وإن كذبه وادعى رقه فعلى القول الذي نجعل فيه اللقيط مجهول الأصل يكون للقول فيه قول القاذف ولا حدّ عليه وعلى للقول الذي نجعل اللقيط فيه حرًا في الظاهر ففيه لأصحابنا وجهان: أحدهما: أن للقول قول اللقيط ويحدّ قاذفه كما يقتل هذا للقول قاتله. والثاني: أن القول قول قاذفه ولا حدّ عليه وإن قتل قاتله وفرق قائل هذا الوجه من أصحابنا بين القتل والقذف بأن المقذوف حي يسكنه إقامة البينة على حريته فإذا عجز عنها ضعف حاله والمقتول لا يقدر على إقامة البينة على حريته بعد قتله فعمل فيه على ظاهر حاله كالدية؛ فمن قال بهذا اختلفوا في قبول قوله في القرود إذا كان في طرف فمن أصحابنا من أجراه مجرى للقذف ولم يقبل قول اللقيط فيه لتمكنه من إقامة البينة على

حريته ومنهم من أجراه مجرى القتل في للنفس وقبل قوله في حريته إلحاق! له بالقتل الذي هو من جنسه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله عليه: "قاذفه وإن قذف حرًا حد". قال في الحاوي!: وصورتها في لقيط قذف حرًا بالزنى فإن كان قبل بلوغه فلا حدّ عليه لارتفاع القلم عنه وإن كان بعد بلوغه فما لم يدع المقذوف حريته لم يكمل حدّه وإن ادعى حريته فإن اعترف له اللقيط بالحرية حدّ لقذفه حدًا كاملًا ثمانين وإن أنكر الحرية وادعى الرق فعلى القول للذي نجعله فيه مجهول الأصل القول قوله وليس عليه إلا حدّ العبيد نصف الحد وعلى للقول الذي نجعله فيه حرًا في الظاهر فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن القول قول المقذوف وبحد له اللقيط حدًا كاملًا تغليبًا لظاهر حاله. والثاني: أن القول قول اللقيط القاذف وليس عليه إلا حد العبيد نصف الحد، لأن الحدود تدرأ بالشبهات. والثالث: أنه إن كان عند ادعاء الرق أقر لسيد بعينه قبل قوله وحد حدّ العبيد لاستقرار رقه فتعين المالك وإن لم يعينه وادعى رقأ مطلقة لغير سيد بعينه لم يقبل قوله وحدّ الأحرار ثمانين. مسألة: قال الشافعي رحمه الله عليه: "وسمعته يقول اللقيط حر لأن أصل الآدميين الحرية إلا من ثبتت عليه العبودية ولا ولاء عليه كما لا أب له فإن مات فميراثه لجماعه المسلمين. قال المزني: هذا كله يوجب أنه حر. قال المزني رحمه الله: وقوله المعروف أنه لا يحد القاذف إلا أن تقوم بينة للمقذوف أنه حر لأن الحدود تدرًا بالشبهات". قال في الحاوي: وهذا كما قال لا ولاء على اللقيط لملتقطه ولا لغيره من المسلمين ما لم يثبت عليه رق. وقال أبو حنيفة الولاء ثابت عليه لملتقطه دون غيره. إذا حكم له الإمام بولاية وقال مالك ولاؤه ثابت لجماعة المسلمين. واستدل من أثبت عليه الولاء بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليجوز للمرأة ثلاثة مواريث؛ ميراث عتيقها، وميراث لقيطها، وميراث ولدها الذي لاعنت عليه، وبما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال لرجل التقط منبوذًا: "لك ولاؤه وعلينا نفقته" قال: ولأنه منهم فجاز أن يستحق الولاء المعتق. ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن

أعتق". فانتفى الولاء بذلك عمن لا يعتق ولأن من لم يثبت عليه رق لم يستأنف عليه ولاء كالحر الأصلي ولأن ما استحق بالرق انتفى عن غير الرق كالملك، ولأن من جرى عليه حكم الحرية في أصله جرى عليه حكم الحرية في فرعه كالمعروف بالحرية طردًا وبالعبودية حكمًا. فأما الجواب عن الخبر إن صح فحمله على أحد وجهين إما على ميراثه إذا دعته ولدًا أو على ميراثه إذا دعته عبدًا وأما قول عمر رضوان الله عليه: "لك ولاؤه وعلينا نفقته" فيحمل على الكفاية والولاية دون الولاء، وأما الجواب عن قولهم إنه منعهم فمنتقض بمن استنفذ غريقًا أو أجار مظلومًا أو منح فقيرًا فإذا ليت هذا فميراثه في بيت المال كالحر الذي لا وارث له. مسألة: قال الشافعي رحمه الله عليه: "ولو ادعاء الذي وجده ألحقته به فإن ادعاه آخر أريته القافة فإن ألحقوه بالآخر أريتهم الأول فإن قالوا إنه ابنهما لم ننسبه إلى أحدهما حتى يبلغ فينتسب إلى من شاء منهما وإن لم يلحق بالآخر فهو ابن الأول". قال في الحاوي: وصورة هذه المسألة في رجل وجد لقيطًا فادعاه ولذا فدعواه مسموعة وقوله مقبول ويحكم له ببنوته سواء ادعاه مع التقاطه أو بعده، لأنه لا منازع له ليمنع منه وينبغي أن يسأله الحاكم استظهار من أين صار ولدك أمن أمة أو زوجة في نكاح أو شبهة فإن أغفل كل ذلك جاز، لأن قوله فيه مقبول فإن جاء آخر، لأن قوله فيه مقبول، فإن جاء آخر إلحاقه بالواجد فادعاه ولدًا لم يقبل قوله بمجرد الدعوى، لآن الأول بادعائه له قد صار دافعًا لدعواه ولا يمنع منها لاحتمالها وأن إلحاقه بالأول إنما كان تغليبًا لصدقه عند عدم المنازع وإذا كان كذلك وجب أن يرى الثاني مع الولد القافة، لأن فيها بيان عند التنازع في الأنساب فإن نفوه عن الثاني استقر لحوقه بالأول استصحابًا لسابق الحكم وإن ألحقوه بالثاني عرض عليهم الولد مع الأول فإن نفوه عن الأول لحق بالثاني وانتفى عن الأول، لأن القافة حجة في إثبات الأنساب وكالبينة فكانت أولى من إلحاقه بدعوى الأول فإن أقام الأول بعد إلحاق القافة له بالثاني بينة على الفراش بأربع نسوة عدول يشهدون أنه ولد على فراشه لحق بالأول ببينته وكان أولى من إلحاق القافة له بالثاني بشبهة، لأن حكم الشبه يسقط مع ثبوت الفراش ألا ترى لو أن ولدًا على فراش رجل فادعاه آخر وألحقته القافة به لم يلحق وكان ولد صاحب الفراش لتقديم الفراش على حكم الشبه. فصل: وإن قالت القافة حين رأوه مع الثاني يشبهه كشبهه بالأول لم يلحق بهما ولو

بواحد منهما لعدم البيان في القافة ووجب أن يوقف أمر حتى يبلغ الولد إلى زمان الانتساب فينسب إلى أحدهما وفي زمان انتساب قولان: أحدهما: البلوغ، لأنه لا حكم لقوله قبله. والثاني: إلى أن يميز باستكمال السبع أو الثمان وهي الحال التي يخير فيها بين أبويه عند تنازعهما في الحضانة فإن قيل فهلا إذا عدم البيان في القافة أقرّ على بنوة الأول بما تقدم من إلحاقه به إذا لم يقابل بما يوجب لحوقه بغيره كالمال إذا نوزع صاحب اليد في ثم تعارضت البينتان فأسقطنا حكم تملكه لصاحب اليد: قيل الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن اليد تدل غلى الملك فجاز عند تعارض البنتين أن يحكم بها ولا تدل على النسب فلم يجز أن يحكم بها وإنما حكمنا بما سبق من الدعوى دون اليد وهذا فرق أبي علي بن أبي هريرة وفيه دخل، لأنه يمكن أن يقال فهلا إذا كانت الدعوى في النسب كاليد في الملك وجب أن يحكم بها عند سقوط الحجج بالتعارض كاليد. والثاني: أن الأموال ليس لها بعد تعارض البينات بيان ينتظر فجاز أن يحكم باليد بالضرورة عند فوات البيان وليس كذلك حال النسب، لأن انتساب الولد عنه بلوغه حال منتظرة يقع البيان بها فلم يحكم بما تقدم من الدعوى لعدم الضرورة وهذا فرق أبي الحسين بن القطان ويدخل عليه فوت البيان بموت الولد. فصل: فإذا ثبت أن النسب موقوف على بلوغ الولد لينسب إلى أحدهما أخذ به الولد بعد البلوغ فإذا انتسب صار لاحقًا بمن انتسب إليه منتفيًا عن الأخر فلو رجع فانتسب إلى الآخر لم يقبل منه للحقوقه بالأول بانتسابه الأول فلو وقف على الانتساب إلى أحدهما فانتسب بعد البلوغ إلى غيرهما ففيه وجهان: أحدهما: لا يقبل منه، لأن القافة قد وقفته عليهما فلم يجز أن يعدل بالانتساب إلى غيرهما كما لو ألحقته القافة لم يكن له أن ينتسب إلى غيره. والثاني: يقبل منه ويصير ملحقًا بمن انتسب إليه، لأن وقفته بينهما لا يمنع دعوى غيرهما. فصل: وإذا تداعيا بنوة اللقيط رجلان ولم يسبق أحدهما بدعواه فيلحق به ولم يكن لواحد منهما بينه تشهد بولادته على فراشه رجع فيه إلى بيان القافة فإذا ألحقوه بأحدهما لحق به دون الآخر. وقال أبو حنيفة إن وصف أحدهما علامة غامضة في جسد المولود فهو أحق به، لأن علمه بذلك دليل على صدقه وهذا خطأ، لأنه قد يرى ذلك غير الوالد ولا يراه الوالد ولأنه لما لم يجز أن تدفع اللقطة بالصفة فالنسب أولى أن لا يثبت بالصفة.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَلَوْ ادَّعَى اللََّقِيط رَجُلاَنِ فَأَقَامَ كُلُّ وَاحِدٍ منْهُمَا بَيَنَةً أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ جَعَلْتُهُ لِلَّذِي كَانَ فِي يَدِهِ أَوَّلاٌ وَلَيْسَ هَذَا كَمِثْلِ المَالِ ". قال في الحاوي: وصورتها في رجلين تنازعا كفالة اللقيط دون نسبه وادعى كل واحد منهما أنه التقطه دون صاحبه وأقام كل واحد بما ادعاه بينة والبينة هاهنا شاهدان لا غير، لأنها ليست على مال وإنما هي على استحقاق كفالة تثبت بها ولاية فإن شهدت إحدى البينتين لأحدهما بتقديم يده كان المقدم غليه أولاهما به، قال الشافعي وليس كالمال، لأن المتنازعين في المال إذا أوجبت بينتاهما تقدم يد أحدهما كان فيها قولان: أحدهما: أن المتقدم إليه أولى كالمتنازعين في الكفالة. والثاني: أنهما سواء ويقدم في الكفالة من تقدمت يده. والفرق بينهما أن المال قد يصح انتقاله بحق من يد إلى يد فجاز أن يستوي فيه اليد المتقدمة واليد المتأخرة والكفالة لا يصح انتقال اللقيط فيها بحق من يد إلى يد فوجب أن يحكم بها لمتقدم اليد، فإن تعارضت بينتاها أو أشكلتا لعدم المنازع ففيه قولان: أحدهما: يقرع بينهما ويستحقه من فرع. والثاني: يسقطان ويتحالفان حلفا أو نكلا فقد استويا وصارا كالملتقطين له معًا فيكون على ما مضى من الوجهين أحدهما يقرع بينهما ويستحقه من قرع منهما والثاني: يجتهد الحاكم في أحظها. فصل: ولو ادعى أحد المتنازعين فيه أنه ولده وتفرد الآخر بادعاء الكفالة دون الولادة حكم به ولدًا لمدعي نسبه، لأنه غير منازع في نسب وصار أولى بكفالته، لأن الوالد أحق بالكفالة من الملتقط وهكذا لو استقرت يد الملتقط في الكفالة ثم رجاء رجل فادعاه ولدًا لحق به نزع من يد ملتقطه وصار من جعلناه أولى بكفالته. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَدَعْوَةِ المُسْلِمِ وَالعَبْدِ وَالذِّمِّيِّ سَوَاءٌ ". قال في الحاوي: وهذا كما قال، إذا تداعى نسب اللقيط حر وعبد ومسلم وذمي فهما في دعوة النسب سواء تداعى كالحرين وكالمسلمين، وقال أبو حنيفة: يقدم الحر على العبد والمسلم على الكافر استدلالاً بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الإسلام يعلو ولا يعلى "فلم يجز أن يتكافأ المسلم والذمي في الدعوى قال: ولأنه لما أجري على اللقيط حكم

الحرية والإسلام صار الحر والمسلم أقوى حالاً من العبد والكافر لاتفاقهما في الحكم واشتراكهما في الصفة ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر "فأثبت الولد للفراش ودون الاشتراك في الحرية والدين ولأن كل من سمعت دعواه إذا كان منفردًا لم يدفع عنها إذا كان منازعًا كالحرين والمسلمين ولأن كل دعوى لا يمنع الذمي منها مع البينة لم يدفع عنها بغير بينة كالمال، فأما قوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يعلى "فمن علوه الانقياد لحقوق أهل الذمة على أن علوه باليد ونفوذ الحكم ونحن نجري على الولد وإن لحق به أحكام الإسلام، وأما قوله إنه موافق لحال الحر والمسلم دون العبد والكافر فهذا فاسد بتفرد العبد والكافر بادعائه وبمسلم وكافر تنازعا لقيطًا في دار الحرب فقد أجرى عليه حكم الشرك فإنهما فيه سواء ولا يغلب الكافر على المسلم لحكم الدار كذلك في دار الإسلام يغلب المسلم على الكافر لحكم الدار. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "غَيَرَ أَنَّ الذِّمِّيِّ إِذَا ادَّعَاهُ وَوُجِدَ فِي دَارِ الإِسْلاَمِ فَأَلْحَقْتُهُ بِهِ أَحْبَبْتُ أّنْ أَجْعَلَهُ مُسْلِمًا فِي الصَّلاةِ عَلَيْهِ وَأَنْ آمُرّهُ إِذَا بَلَغَ بِالإِسْلاَمِ مِنْ غَيْرِ إِجْبَارٍ. وَقَالَ فِي كِتَابِ الدَّعْوَى: إِنَّا نَجْعَلُهُ مُسْلِمًا لأَنَّا لَ نَعْلَمُهُ كَمَا قَالَ. قَالَ المُزَنِيُّ: عِنْدِيِ هَذَا أَوْلَى بِالحَقُ لأَنَّ مَنْ ثَبَتَ لَهُ لَمْ يَزلْ حَقُّهُ بِالدَّعْوَى فَقَدْ ثَبَتَ لِلإِسْلاَمِ أَنّهُ مِنْ أَهْلِهِ وَجَرَى حَكْمُهُ عَلَيْهِ بِالدَّارِ فَلاَ يَزُولُ حَقُّ الإِسْلاَمِ بِدَعْوَى مُشْرِكِ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهُ ابْنُهُ بَعْدَ أَنْ عَقَلَ وَوَصَفَ الإِسْلاَمِ أَلْحَقْنَاهُ بِهِ وَمَنَعْنَاهُ أَنْ يَنْصُرَهُ فَإِذَا فَامْتَنَعَ مِنَ الإِسْلاَمِ لَمْ يَكُنْ مُرْتَدَّا نَقْتُلُهُ وَأَحْبِسُهُ وَأُخِيفُهُ رَجَاءَ رُجُوعِهِ. قَالَ المُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللهُُ: قِيَاسُ مَنْ جَعَلَهُ مُسْلِمًا أَنْ لاَ يَرُدَّهُ إِلى النَّصْرانِيَّةِ". قال في الحاوي: وصورتها في ذمي ادعى لقيطًا ولدًا وألحقناه به نسبًا فهذا على ضربين: أحدهما: أن يلحق به بعدما صار مسلمًا وصلى وصام والتزم شرائع الإسلام فهذا يجري عليه حكم الإسلام وإن لحق نسبه بذمي، لأن فعله للإسلام أقوى من إتباعه لغير في الكفر فهل يصير بوصف الإسلام قبل البلوغ مسلمًا حتى لو رجع بعد البلوغ صار مرتدًا أم لا على ما ذكرنا من الوجوه الثلاثة: أحدها: أنه لا يصير بذلك مسلمًا وسواء ألحق بالذمي بمجرد الدعوى أو ببينة شهدت له بأنه ولد على فراشه. والثاني: أن يلحق به في صغره وطفولته وقبل صلاته وصيامه فهذا على ضربين:

أحدهما: أن يلحق به ببينه تشهد بأنه ولد على فراشه فهذا تجري عليه أحكام الكفر تبعًا لبيه، لأن قيام البينة العادلة لولادته على فراشه تأصل عن حكم الأصل في ظاهر الدار. والثاني: أن يلحق به بمجرد الدعوى من غير بينة ففيه قولان: أحدهما: ينقل من حكم الإسلام إلى حكم الكفر، لأنه صار لاحقًا بكافر فصار الظاهر غير ذلك الظاهر. والثاني: وهو اختيار المزني أنه يكون باقيًا على حكم الإسلام ولا ينقل عنه للحوقه بكافر، لأن حكم الدار أقوى من دعوى محتملة فعلى هذا إن خيف عليه من افتتانه بدين أبيه حيل بينه وبين أبيه وأخذ بنفقته حتى يبلغ فإن بلغ ووصف الإسلام تحقق حكمه فيه وإن وصف الكفر ومال إلى دين أبيه أرهب وخوف رجاء عوده فإن أبي إلا المقام على الكفر فبعدًا له ولا يصير بذلك مرتدًا ويقر على ما اختاره لنفسه من الكفر، لأن فعله أقوى حكمًا من غالب الدار. فصل: فعلى هذا لو كان أبوه يهوديًا فقال وقد بلغ: لستُ يهوديًا ولا مسلمًا وإنما على غير اليهودية من الملل كالنصرانية والمجوسية ففيه وجهان: أحدهما: يقبل منه ويقر عليه، لأن الكفر كله ملة واحدة. والثاني: لا يقبل منه ما أراد الانتقال إليه من الكفر ولا يعاد إلى دين أبيه لإقراره بأنه ليس إلا على الإسلام فإن أباه صار مرتدًا. فصل: وإذا لحق اللقيط بمدعيه عند عدم منازع من مسلم أو كافر فبلغ وأنكر نسبه وادعى نسبًا غير لم يقبل منه إلا ببينة تثبت بولادته على فراش غيره، لأن لحوق نسبه لم يراع فيه قبول الوالد فيؤثر فيه إنكاره وإنما يراعي ذلك منه في إدعاء نسبه بعد البلوغ فلذلك أثر فيه إنكاره بعد البلوغ. فصل: فإذا ادعى العبد لقيطًا ولدًا فإن صدقه سيد في إدعائه لحق به وإن كذبه فيه ففي قبول دعواه وإلحاق نسبه به وجهان: أحدهما: لا يقبل كما لا يقبل إقراره باب لما فيه من إزاحته عن الميراث بالولاء لمن أعتقه. والثاني: يقبل منه، لأنه قد أدخله تحت ولايته بخلاف الأب وإذا لحق اللقيط بالعبد لم يصر بذلك عبدًا، لأنه في الرق تبعًا لأمه دون أبيه ولا يسمع قول العبد أنه من أمه، لأنه لا حق له في رقه وغنما يسمع ذلك من سيد أمة تدعيه ولدًا لها ليصير له بهذه الدعوى عبدًا فإن حضر من ادعى عليه هذه الدعوى كان على ما سنذكره في ادعاء رقه فلو كان العبد قد أعتق فادعى بعد عتقه ولدًا فإن أمكنه أن يكون مولودًا بعد عتقه لحق به صدق السيد أو كذب وإن لم تكن ولادته بعد عتقه ففي لحوقه به مع تكذيب السيد وجهان مضيا.

مسألة: قَالَ الشَّافعيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَلاَ دَعْوَةَ للِمَرْأَةِ إِلاَّ بِبيَنَّةٍ ". قال في الحاوي: واختلف أصحابنا في تأويل هذه المسألة على ثلاثة أوجه وخلافهم فيها قديم حكاه أبو إسحاق المروزي وغيره. فأحد الوجوه الثلاثة: أنه لا يقبل منها ادعاء اللقيط ولدًا لنفسها إلا ببينة تشهد لها بولادته سواء كانت ذات زوج أو لم تكن بخلاف الرجل الذي يقبل منه دعوى نسبه وإن لم تكن له ببينة والفرق بين الرجل والمرأة أن لجوق الولد بالمرأة يمكن أن يعلم يقينا بمشاهدتها عند ولادته فكانت دعواها أضعف لقدرتها على ما هو أقوى والرجل يلحق به الولد بغلبة الظن دون اليقين فجاز لضعف أسبابه أن يصير ولدًا بمجرد الدعوى. والوجه الثاني: أنها إن كانت ذات زوج لم يصر ولدًا لها بمجرد الدعوى حتى يقيم ببينة بولادته وإن كانت غير ذات زوج قبل منها وألحق بها، لأنها إذا كانت ذات زوج أوجب لحوقه بها أن يصير لاحقًا بزوجها، لأنها له فراش فلم يثبت ذلك إلا ببينة يثبت بها الفراش وإذا لم تكن ذات زوج فلحوقه بها لا يتعداها إلى غيرها كالرجل. والوجه الثالث: أن مراد الشافعي بذلك أنه لا دعوة لها في إلحاقه بزوجها ولا في ادعائه لنفسها إلا ببينة تقيمها على ولادتها له ردًا على طائفة زعمت أن المرأة إذا ادعت ولادة ولد على فراش الزوج كان قولها فيه مقبولاً وصار بالزوج لاحقًا فأما إذا أرادت أن تدعو لنفسها ولدًا فإنه يلحق بها بمجرد الدعوى كالرجل. فصل: فإذا لحق بها على ما ذكرنا من هذه الوجوه الثلاثة لم يلحق بزوجها إلا أن يصدقها على ولادته فيصير حينئِذ لاحقًا به بتصديقه، أو ببينة تقيمها على ولادته. فصل: فلو قالت المرأة وقد ألحق بها الولد وأنكرها الزوج أن تكون ولدته على فراشه: أنا أريه القافة معك ليلحقوه بك لم يجز، لأن الولادة لا تثبت بالقافة لإمكان البينة. مسألة: قَالَ الشَّافعيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "فَإِنْ أَقَامَتِ امْرَأَتَانِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بَيِّنَةً أَنَّهُ ابْنُهمَا لَمْ أَجْعَلْهُ ابْنَ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا حَتَّى أُرِيَةُ القَافَةَ فَإِنْ أَلْحَقُوهُ بِوَاحِدَةٍ لَحِقَ بِزَوْجِهَا وَلاَ تَنْفِيهِ إِلاَّ بِالِّلعَانِ. قَالَ المُزَنِيُّ: مَخْرَجُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا أَنَّ الوَلَدَ للِفْرَاشِ وَهُوَ الزَّوْجُ فَلَمَّا أَلْحَقَتْهُ القَافَةُ بِالمَرْأَةِ كَانَ زَوْجُهَا فِرَاشًا يَلْحَقُهُ وَلَدُهَا وَلاَ يَنْفيهِ إِلاَّ بِلعَانٍ". قال في الحاوي: وصورة هذه المسألة في امرأتين تنازعتا في لقيط وادعته كل واحدة منهما ولدًا فهذا على ضربين:

أحدهما: أن لا يكون لهما مع التنازع بينة ففي سماع دعواهما ما ذكرنا من الثلاثة الأوجه: أحدها: أنها غير مسموعة إلا ببينة سواء كانتا من ذوات الأزواج أو من الخلايا. والثاني: أنهما إن كانتا من ذوات الأزواج لم تسمع دعواهما إلا ببينة وإن كانتا من الخلايا سمعت دعواهما بغير بينة وإن كان إحداهما ذات زوج والأخرى خلية كانت دعوى الخلية مسموعة ودعوى ذات الزوج مدفوعة إلا ببينة. والثالث: أن دعواهما معًا مسموعة سواء كانتا من ذرات الأزواج أو الخلايا فعلى هذا إذا سمعت دعواهما وأقامتا على تنازعهما أو عدمت بينتاهما ففي الذي يحكم به فيهما وجهان: أحدهما: أنهما يريان القافة مع الولد فبأيهما ألحقوه ألحق بها وفي لحوقه بزوجها وجهان: أحدهما: يلحق به إلا أن ينفيه باللعان، لأن القافية كالبينة بخلاف الدعوى المجردة. والثاني: أنه لا يلحق به كالدعوى المجردة إلا أن يصدقها على ولادته فيصير لاحقًا به فإن عدمت القافة كان الولد موقوفًا بينهما إلى أن ينتسب عند بلوغه زمان الانتساب إلى إحداهما ويكون حكمهما فيه كحكم الرجلين إذا تنازعاه على العمل على القافة وإن وجدوا أو انتساب الولد إن عدموا. والوجه الثاني: وهو قول ابن أبي هريرة أنه لا مدخل للقافة في إلحاق الولد بأمه وإنما يحكم بهم في إلحاقهم بالأب دونها والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن الولد يعرف أمه يقينًا فلم يحتج إلى الحكم بالشبه ولا يعرف أباه ظنًا فاحتيج إلى الحكم بالبه. والثاني: وهو فرق استدلال أن حكم القافة لما فيه من مباينة الأصول فكان مقصورًا على ما ورد فيه النص من إلحاقه بالأب دون الأم ويكون تنازع المرأتين في يوجب وقوفه بينهما حتى ينتسب عند البلوغ إلى إحداهما، والوجه الأول أصح، لأن الله تعالى يقول: {إنَّا خَلَقْنَا الإنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيه} [الإنسان: 2] يعني إخلاطًا. قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: لاختلاط ماء الرجل بماء المرأة. وقال تعالى: {خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ [6] يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ والتَّرَائِبِ} [الطارق: 6 - 7] يعني أصلاب الرجال وترائب النساء وهي الصدور وقيل هي الأضلاع وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا سبق ماء المرأة ماء الرجل كان الشبه للخؤولة، وإذا سبق ماء الرجل كان الشبه للعمومة "فحصل للأم في الولد شبهًا كالأب، ولأن الولد

بالأم أخص وكان الشبه أحق. فصل: والضرب الثاني: أن يكون لهما عند التنازع فيه بينه تشهد على ولادته بأربع نسوة عدول فإن كانت البينة لإحداهما دون الأخرى حكم به لذات البينة ولحق بزوجها إلا أن ينفيه باللعان وإن أقامت كل واحدة منهما بينة على ولادته قال أبو حنيفة ألحقته بهما بالبينة وأجعله ابنًا لكل واحدة منهما ولزوجها وأجعل منهما وزوجها أمًا له وأبًا قال وإنما قلت ذلك، لأن الضرورة عند امتناع الممتنعين إذا لم يترجح أحدهما يوجب الحكم بهما كاللعان قد امتنع به صدقهما ثم حكم به بينهما وكاختلاف المتبايعين إذا تحالفا عليه وقد أوجب فسخ العقد بينهما وإن علم بالضرورة أنه إحداهما فهذا القول مع خطته مستحيل ومع استحالته شنيع واستحالة لحوقه بالاثنين أعظم من استحالة لحوقه بالأبوين، لأنه لا يمنع ماء الرجلين في رحم واحد ويمتنع خروق الولد الواحد في رحمين، وقد قال الله تعالى: {إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلاَّ اللاَّئِي ولَدْنَهُمْ} [المجادلة: 2] فأخبر أن أمه هي التي تلده، فإن لحق الولد بهما اقتضى ذلك ولادتها وفي القول بهذا من الاستحالة ما تدفعه بذاته العقول ويمنع منه الحسن الفطن ولا يحتاج مع الملاحظة إلى دليل ولا مع التصور إلى تعليل وحسب ما هذه حالة اطرادًا واستقباحًا لاسيما ما يقضي هذا القول أما مذهبًا وأما إلزامًا إلى أن يصير الولد الواحد ملحقًا بنساء القبيلة ورجالها ثم بنساء المدينة ورجالها ثم بنساء الدنيا ورجالها ونعوذ باللهِ من قول هذه نتجت ومذهب هذه قاعدته فأما اللعان فما حكمنا فيه بصدقها مستحيل وإنما علقنا عليه حكمًا قد أسماه الصادق منهما اقتضى ذلك نفيه في أحدهما وأما التحالف في اختلاف المتبايعين فإنما أوجب إبطال ما اختلفنا فيه دون إثباته. فصل: فإذا تقرر أنه لا يلحق بهما مع تعارض البينتين فقد اختلف الشافعي في تعارض البينتين في الأملاك هل يستعملان أو يسقطان وله في ذلك قولان: أحدهما: يستعملان بقسمة الملك بين المتداعيين. والثاني: يستعملان بالقرعة بين البينتين، فإن قلنا باستعمال البينتين في الأملاك استعملناهما في الانتساب ولم يجز أن تستعملهما بالقسمة لاستحالة ذلك في النسب ولا بالقرعة مع وجود القافة لأن القافة أقوى وأوكد ووجب أن يكون استعمالهما بتمييز القافة بينهما فينظر إلى الولد والمرأتين فإن ألحقوه بإحداهما لحق بها بالبينة، وكان تمييز القافة ترجيحًا فعلى هذا يصير لاحقًا بها وبزوجها إلا أن ينفيه باللعان وإن قلنا بإسقاط البينتين عند تعارضهما في الأملاك فهل يسقطان عند تعارضهما في الأنساب أم لا فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنهما يسقطان كالأملاك فعلى هذا يكون حكمهما كما لو تداعتاه ولا بينة لهما فيكون على ما مضى. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنهما لا يسقطان إذا تعارضتا في

الأنساب وإن سقطتا بتعارضهما في الأملاك والفرق بينهما أنهما لما تكافآ في الأملاك ولم يكن ما يترجح به إحداهما جاز أن يسقط ولما أمكن ترجيح أحدهما في الأنساب بالقافة ولم يسقطا وحكم لمن انضم إلى بينته بيان القافة. فصل: فإذا ثبت ما وصفنا ووجدت القافة فألحقت الولد بإحداهما صار لاحقًا بها بالبينة لا بالدعوى فإن عدمت القافة أو أشكل عليهم لم يجز أن يقرع بين البينتين لوجود ما هو أقوى من القرعة وهو انتساب الولد إذا بلغ زمان الانتساب وفيه قولان: أحدهما: إلى استكمال سبع أو ثمان. والثاني: إلى بلوغ فإذا انتسب إلى إحداهما لحق بها وبزوجها، لأنه صار لاحقًا بها بالانتساب مع البينة وصار كالقافة مع البينة. فصل: فلو ماتت واحدة منهما قبل انتساب الولد إلى أحدهما وقف من تركة الميتة ميراث ابن فإن انتسب إلى الميتة أخذ ما وقف له من تركتها وهو ميراث ابن وإن انتسب إلى الثانية منها رد ما وقف له من ميراث الميتة على ورثتها ولو مات زوج إحداهما وقف من تركته ميراث ابن لجواز أن ينسب إلى زوجته فيصير لاحقًا بها فإن انتسب إلى امرأة الميت أخذ ما وقف من تركة زوجها وإن انتسب إلى الأخرى رد ما وقف له من ميراث الميت على ورثته فلو ماتت إحدى المرأتين وزوج الأخرى وقف له من تركة الميتة ميراث ابن ومن تركة زوج الأخرى ميراث ابن فإن انتسب إلى الميتة أخذ ميراثها ورد ميراث زوج الباقية على ورثته وإن انتسب إلى الباقية أخذ ميراث زوجها ورد ميراث الميتة على ورثتها. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَإِذَا ادَّعَى الرَّجُلُ اللَّقِيطَ أَنَّهُ عَبْدُهُ لَمْ أَقْبَلِ البَيَّنّةَ حَتَّى تَشْهَدَ أَنَّهَا رَأَتْ أَمَةَ فُلاَنٍ وَلَدَتْهُ وَأَقْبَلَ نِسْوَةِ وَإِنَّمَا مَنَعَنِي أَنْ أَقْبَلَ شُهُودَهُ أَنَّهُ عَبْدُهُ لأَنَّهُ قّدْ يُرَى فِي فَيَشْهَدَ أَنَّهُ عَبْدُهُ. وَقَالَ فِي مَوْضِع آخَرَ: إنْ أَقَامَ بَيَّنَةَ أَنَّهُ كَانَ فِي يَدِهِ قَبْلَ التِقَاطِ المُلْتَقِطِ لَهُ. قَالَ المُزَنِيُّ: هَذَا خِلاَفُ قَوْلِهِ الأَوَّلِ وَأَوْلَى بِالحَقِّ عِنْدِيِ مِنَ الأَوَّلِ ". قال في الحاوي: وصورتها في رجل ادعى رق إنسان مجهول الحال وأنه عبد وليس وإن أقرّ صار عبدًا له. والثاني: أن تكون الدعوى على غير بالغ فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون ممن لم يعلم أنه لقيط فيكون قول المدعي رقه مقبولاً ويحكم بأنه عبده ما لم تكن يد تدفعه أو مدع يقابله، لأن ما جهل حاله إذا لم يكن فيه منازع لم

يتوجه إليه اعتراض كمن وجد مالاً فادعاه ملكًا أقرَ على دعواه ما لم ينازع فيه فلو بلغ هذا الطفل الذي حكم برقه لمدعيه وأنكر الرق وادعى بالحرية لم يقبل منه بعد الحكم برقه كما لا يقبل منه إذا أنكر النسب بعد الحكم به فإن أقام بينه الحرية حكم بها ورفع رق المدعى عنه فإن طلب عند تعذر البينة عليه إحلاف المحكوم له برقه كان له ذلك، لأنها دعوى حرية قد استأنفها على سيده. فصل: والضرب الثاني: أن تكون الدعوى برق لقيط فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون قبل ذلك التقاطه ففي قبول دعوى المدعي لرقه وجهان: أحدهما: يقبل كما يقبل منه ادعاء نسبه. والوجه الثاني: وهو قول الأكثرين من أصحابنا أن قوله لا يقبل في رقه وإن قيل في نسبه. والفرق بين الرق والنسب من وجهين: أحدهما: أن في دعوى النسب حقًا له وحقًا عليه ودعوى الرق حق له لا عليه. الثاني: أن النسب لا يمنع منه ظاهر الدار بل يقتضيه والرق يمنع منه ظاهر الدار وينافيه ويشبه أن يكون تحريج هذين الوجهين من اختلاف قولي في حكم اللقيط فإن قيل إنه حر في الظاهر لم يحكم برقه للمدعي وإن قيل إنه مجهول الأصل حكم به. فصل: والضرب الثاني: أن تكون دعوى رقه بعد التقاطه فلا تسمع هذه الدعوى إلا ببينه لا يختلف أصحابنا فيه سواء ادعاه ملتقطه أو غيره وفرق ما قبل التقاطه بعده أن قبل الالتقاط لم تستقر علي يد وبعد الالتقاط قد استقرت عليه يد وإذا كان كذلك فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون مدعي رقه هو الملتقط. والثاني: أن يكون غيره من الأجانب فإن كان المدعي هو الملتقط فلا يخلو من أحد أمرين أما أن تكون له بينه أو لا تكون فإن لم تكن له بينة كانت دعواه مردودة واللقيط على ظاهر الحرية لم يثبت عليه رق ويقر في يده مع ماله إن كان ولا ينزع منه وإن كان مدعيًا لما استحقه من كفالته بالالتقاط هو الذي نقله المزني في جامعه الكبير والذي أراه أولى أن انتزاعه من يده واجب، لأنه قد خرج بدعوى رقه من الأمانة في كفالته وربما صارت عليه استدامة يده ذريعة إلى تحقيق رقه وإن كانت له بينة فعلى ضربين: أحدهما: أن تشهد له باليد فلا يحكم بها، لأن اليد شاهدة وليس يحكم بها للعلم بسببها فلم يكن للشهادة بها تأثير. والثاني: أن تشهد البينة له بالملك فهذا على ضربين: أحدهما: أن تصف سبب الملك على وجه يوجب الملك وذلك من أحد خمسة

أوجه إما ابتياع من مالك أو هبة قبضها من مالك أو ميراث عن مالك أو بسبي سباه فملكه أو ولدته أمته في ملكه فإن كانت البينة على البيع أو الهبة أو الميراث أو السبي حكم فيا بشاهدين أو شاهد وامرأتين أو شاهد ويمين ولا يحكم بشهادة النساء منفردات وإن كانت الشهادة على أن أمته ولدته سمع فيه أربع نسوة يشهدن على ولادتها في ملكه وتكون شهادتين بملك الأم عند الولادة تبعًا للشهادة بالولادة وإذا لم يكن في ملك الأم نزاع فإن نوزع في ملكه الأم لم تقبل شهادتين بملك الأم حتى يشهد بملكها شاهدان أو شاهد وامرأتان بالملك والولادة فيه قبل فأما إن شهدت البينة بولادته من أمته ولم تشهد بأن الولادة كانت في ملكه فهذا مما لم يذكر فيه سبب ملكه، لأنه قد يجوز أن تكون أمه قد ولدته في ملك غيره فإذا ثبت هذا وشهدت البينة له بسبب الملك الموجب للملك حكم بها وصار عبدًا له. والثاني: أن تشهد البينة له بالملك ولا تذكر سبب الملك ففي وجوب الحكم بها قولان: أحدهما: أنه يحكم بها ويجعل اللقيط عبدًا له ولا يلزم أن يسألوا عن سبب الملك كما لو شهدوا بملك مال لم يذكروا سبب ملكه كان جائزًا فكذلك في ملك اللقيط. والثاني: أن لا يحكم بهذه الشهادة في اللقيط حتى يذكروا سبب ملكه ويحكم بها في غيره من الأموال وإن لم يذكروا سبب ملكه والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن حكم اللقيط أغلظ من سائر الأموال لما فيه من نقله عن ظاهر حاله في الحرية إلى ما تشهد له البينة من الرق وليس كذلك سائر الأموال، لأنها مملوكة في سائر الأحوال. والثاني: أن اليد في الأموال تدل على الملك وفي اللقيط لا تدل عى الملك فإن قبل فيجوز للشهود في الأموال أن يشهدوا فيا بالملك باليد وحدها قيل أما يد لم يقترن بها تصرف كامل فلا تجوز الشهادة بها في الملك وأما إذا اقترن بها تصرف فقد اختلف أصحابنا فحكي أبو علي الطبري في إفصاحه وجهين من غير ووجهًا ثالثًا عن نفسه. أحد الوجهين: يجوز كما يجوز للحاكم والحكم أوكد من الشهادة. والثاني: لا يجوز ذلك للشهود وإن جاز للحاكم، لأن للحاكم أن يجتهد وليس للشهود أن يجتهدوا. والثالث: الذي حكاه عن نفسه أنه إن اقترن بمشاهدة اليد والتصرف سماع من الناس ينسبونه إلى ملكه جاز أن يشهدوا بالملك. وإن لم يسمعوا الناس ينسبونه إلى ملكه لم يجز أن يشهدوا بالملك وشهدوا باليد. فصل: وإن كان المدعي لرق اللقيط أجنبيًا غير الملتقط فإن لم تكن له بينته ردت

دعواه وإن كانت له بينة فعلى ضربين: أحدهما: أن تشهد له بالملك فيكون على ما مضى في الشهادة للملتقط. والثاني: أن تشهد له باليد قبل التقاطه ففي الحكم بها قولان: أحدهما: لا يحكم بها لغير الملتقط كما لا يحكم با للملتقط ولا تكون اليد عليه موجبة لملكه لما ذكرنا من تغليظ حاله فعلى هذا لا يحكم بها في ملكه لرقه ولكن يحكم بها في تقدم يده واستحقاق كفالته، لأن بينته تشهد بأن يده كانت عليه قبل يد ملتقطه فعلى ما حكاه المزني ينتزع من الملتقط ويسلم إليه ليكفله وعلى ما أراه أولى يمنع لئلا يصبر ذريعة إلى استرقاقه. والثاني: ذكره المزني في جامعه الكبير أنا نحكم له برقه مع الشهادة ل باليد بخلاف يد الملتقط، لأن في إقرار الملتقط بأنه لقيط تكذيب لشهوده بأن اليد موجبة لملكه وليس من غير الملتقط إقرار يوجب هذا إلا أن المزني فيما نقله عن الشافعي في جامعه الكبير أنه قال بعد الحكم بالشهادة ل باليد ويحلف أنه كان في يده رقيقًا له فإن لم يحلف لم أرقه له فاختلف أصحابنا في إحلافه مع البينة هل وواجب أو استحباب على وجهين: أحدهما: أنه واجب لينفي بها احتمال اليد أن تكون بغير ملك فإن نكل لم يحكم له برقه. والثاني: أنها استحباب وليست بواجبة، لأن اليد إن أوجبت الملك أغنته عن اليمين إذا لم يكن منازع وإن لم توجب الملك لم يكن للشهادة بها تأثير ولأن في اليمين مع البينة اعتلالاً للشهادة. فصل: فلو ادعى الملتقط بنوة اللقيط ألحق به ولم يكلف ببينة فلو ادعى غيره بعد ذلك رق اللقيط لم يسمع منه إلا ببينة لما ذكرنا من الفرق بين الرق والنسب وإذا أقامها صار ابنًا للملتقط وعبدًا للآخر لإمكان الأمرين ويكون السيد أولى بكفالته من الأب. مسألة: قَالَ الشَّافِعيُّ رَحمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَإذَا بَلَغَ اللَّقيطُ فَاشْتَرَى وَبَاعَ وَنَكَحَ وَأَصْدَقَ ثُمِّ أَقَرَّ بالرّقِّ لِرَجُلِ أَلْزَمْتُهُ مَا يَلْزَمُهُ قَبْلَ إِقْرَارِهِ وَفِي إِلْزَامِهِ الرّقِّ قَوْلاَنِ أحدهما أَنََّ إِقْرَارِهِ يَلْزَمُه ُفِي نَفْسِهِ وَفِي الفَضْلِ مِنْ مَالهِ عَمَّا لَزِمَهُ وَلاَ يَصْدُقُ َفِي حَقِّ غَيْرِهِ وَمِنْ قَالََ أَصْدَقَهُ فِي الكُلِّ. قَالَ: لأَنَّهُ مَجْهُولُ الأَصْلِ وَمِنْ قَالََ القَوْلَ الأَوَّلَ قَالَهُ فِي امْرَأَةٍ نُكحتْ ثُمَّ أَقَرَّتْ بِمِلْك لِرَجُلٍ لاَ أُصَدِّقُهَا عَلَى إفْسَادِ النِّكَاح وَلاَ مَا يَجبُ عَلَيْهَا للِزَّوْجِ وَأَجْعَلُ طَلاَقَهُ إيَّاهَا ثَلاثَا وَعِدَّتُهَا ثَلاثُ حِيَضٍ وَفِي الوَفَاةِ عِدَّةُ أَمَةٍ لأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهَا َفِي الوَفَاةِ حَقِّ يَلْزَمُهَا لَهُ وَأَجْعَلُ وَلَدَهُ قَبْلَ الإقْرَارِ وَلَدَ حُرَّةٍ وَلَهُ الخِيَارُ فَإنْ أَقَامَ عَلَى النْكَاحِ كَانَ وَلَدُهُ

رَقيقًا وَأَجْعَلُ مِلْكَهَا لِمَنْ أَقَرَّتْ لَهُ بِأَنَّهَا أَمَتُهُ. قَالَ المُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: أَجْمَعَتِ العُلَمَاءُ أَنَّ مَنْ أَقَرَّ بِحَقِّ لَزِمَهُ وَمَنْ ادَّعَاهُ وَلَمْ يَجِبْ لَهُ بدَعْوَاهُ وَقَدْ لَزمَتْهَا حُقُوقٌ بإقْرَارِهَا فَلَيْسَ لَهَا إِبْطَالُهَا بدَعْوَاهَا". قال في الحاوي: وصورة هذه المسألة في لقيط بلغ فجرت عليه أحكام الأحرار في عقوده وأفعاله اعتبارًا بظاهر حاله في الحرية، لأنه ممكن من ذلك كله ولا يمنع منه بالإشكال سواء قيل إنه حرّ في الظاهر أو مجهول الأصل فإذا وجد ذلك منه وجرت أحكام الحرية عليه ظاهرًا ثم جاء رجل فادعى رقه وأنه عبد فلا يخلو أن يكون له بينة تشهد له برقه أو لا يكون فإن أقام برقه بينة على ما تقدم من وصف البينة حكمنا له برقه وأجرينا عليه أحكام العبيد في الماضي من حاله وفي المستقبل فلما بطل من عقوده الماضية بالرق أبطلناه وما وجب استرجاعه من غرم أو مال استرجعناه وسواء في ذلك ما ضر غيره أو نفعه أو نفع غيره وضره، لأن البينة حجة عليه وعلى غيره وإن لم يكن للمدعي بينة فلا يخلو أن يقر اللقيط له بالرق أو ينكره فإن أنكره حلف له وهو على ظاهر حريته وإن أقر له بالرق فلا يخلو أن يكون قد اعترف قبل ذلك بالحرية أو لم يعترف فإن كان قبل ذلك قد اعترف بالحرية لم يقبل إقراره بالرق إلا أن تقوم بينة، لأن اعترافه بالحرية قد تعلق به حق الله تعالى وإن تضمنه حق لنفسه فلم يكن له إبطال حق الله تعالى وإن أبطل حق نفسه وإن لم يكن قد اعترف قبل ذلك بالحرية قبل إقراره بالرق سواء قيل بجهالة أصله أو بظاهر حريته، لأن إقراره على نفسه أقوى من حكم الظاهر ولأن الكفر بالله تعالى أغلظ من الرق ثم كان قوله لو بلغ مقبولاً في الكفر فأولى أن يكون مقبولاً في الرق. فصل: فإذا ثبت أن إقراره بالرق مقبول أجريت عليه أحكام الرق في المستقبل وفي إجرائها عليه في الماضي قولان: أحدهما: تجري عليه أحكام الرق في الماضي كما تجري عليه أحكامه في المستقبل، وهذا على القول الذي نجعله فيه مجهول الأصل ووجهه شيئان: أحدهما: أن الرق أصل إذا ثبت تعلق في فرعه من أحكام فإذا ثبت أصله فأولى أن تثبت فروعه. والثاني: أنه لما كان إقراره بالرق موجبًا لإجراء أحكام الرق عليه في المستقبل كالبينة اقتضى أن يكون موجبًا لذلك في الماضي كالبينة. والثاني: أنه يجري عليه في الماضي أضر الأمرين به من أحكام الحرية أو الرق فما نفعه وضر غيره لا يقبل منه وما ضره ونفع غيره قبل منه وهذا على القول الذي نجعله فيه حرًا في الظاهر ووجهه شيئان: أحدهما: أن إقراره فيما ضر غيره متهوم فأمضى وإقراره فيما ينفعه متهوم فرد. والثاني: أنه كما لم يملك إبطاله من العقود بغير الإقرار بالرق لم يملكه بالإقرار،

لأن لزومها يمنع من تملك فسخها. فصل: فإذا تقرر توجيه القولين تفرع عليها ما مضى فمن ذلك هباته وعطاياه فإن قيل بنفوذ إقراره فيهما بطلت وأستحق السيد استرجاعها وإن قيل برد إقراره فيهما بطلت واستحق استرجاعها أمضيت ولم يسترجع وليس للسيد إحلاف الموهوب له والمعطي إن أنكر. فصل: ومن ذلك بيوعه وإجاراته إن قيل بنفوذ إقراره فيهما بطلت ولزم التراجع فيهما وإن قيل برد إقراره فيهما أمضيت ولا يراجع فيهما وما حصل بيده مما اشتراه لم يكن لسيده التصرف فيه، لأنه مقر أنه على ملك بائعه وله أن يتوصل إلى أخذ ثمنه منه فإن فضل منه لم يملكه. فصل: ومن ذلك ديونه التي لزمته وهي على ضربين: أحدهما: ما وجب باستهلاك وجناية فهي متعلقة برقبته على القولين معًا، لأن ذلك اضربه فنفذ إقراره فيه وإن ضاقت الرقبة عن غرم جميعه ففي تعلق الباقي بذمت بعد عتقه قولان إن قيل بنفوذ إقراره سقط ولم يلزم وإن قيل برد إقراره لزم في ذمته بعد عتقه. والثاني: ما وجب عن معاملة من ثمن أو أجرة أو صداق فإن قيل بنفوذ إقراره تعلق ذلك بذمته بعد عتقه وكان السيد أحق بما في يده وإن قيل يرد إقراره كان ذلك مستحقًا فيما بيده فما كان بإزائه جميع ما في يده في ديونه ولا شيء فيه لسيده، وإن كان أقل منه كان الباقي بعده في ذمته بعد عتقه فإن كان أكثر الفاضل منه لسيده وهو معنى قول الشافعي: أن إقرار يلزمه في نفسه وفي الفضل من ماله عما لزمه يعني من ديونه. فصل: ومن ذلك نكاحه وذلك ضربان: أحدهما: أن يكون اللقيط عبدًا فينكج امرأة. والثاني: أن تكون امرأة فتنكح رجلاً فإن كان اللقيط عبدًا فنكح امرأة فإن قيل بنفوذ إقراره فالنكاح باطل من أصله، لأنه مقرّ أنه نكح بغير إذن سيد فإن لم يدخل فلا شيء عليه وإن دخل بها قلها مهر المثل دون المسمى إلا أن يكون مهر المثل أكثر فلا تستحق إلا المسمى، لأنها تدعي الزيادة عليه وإن قيل برد إقراره بفسخ النكاح من وقته لإقرارها بتحريمها عليه ولم ينفسخ من أصله لقبول إقراره فيه فإن كان قبل الدخول فلها نصف المسمى وإن كان بعد الدخول فلها جميعه وإن كان اللقيط أمة فنكحت رجلاً فإن قيل بنفوذ إقرارها بطل النكاح، لأنها منكوحة بغير إذن سيدها سواء كان الزوج واحدًا للطول أو لم يكن فإن لم يدخل بها فلا شيء لها وإن دخل بها فلها مهر المثل دون المسمى وكان أولادها منه أحرارًا، لأنه أصابها على حرية أولادها فصارت كالغارة بحريتها لكن على الزوج قيمتهم لسيدها وفي رجوع الزوج بعد ذلك عليها بعد عتقها قولان كالمغرور وإن

قيل برد إقرارها لم يقبل في فسخ النكاح سواء كان الزوج واحدًا للطول أو لم يكن، لأن الزوج يدعي صحة العقد على حرة وجميع أولادها منه قبل الإقرار وبعده لأقل من ستة أشر أحرار لا يلزم الزوج غرم قيمتهم وله الخيار في المقام معها لم استقر من حكم رقها فإن أقام عليها رق أولاده منها إذا وضعتهم لأكثر من ستة أشهر من وقت إقراره ثم إن لزمتها العدة على هذا القول الذي يرد إقرارها فيه فعلى ضربين: طلاق أو وفاة فإن كانت وفاة فعدة أمه شهران وخمس ليال، لأنها حق الله تعالى فقيل: قولها فيه على القولين معًا، وإن كانت عدة طلاق فعلى ضربين: أحدهما: أن تملك فيها الرجعة فيلزمها ثلاثة أقراء، لأن حق الآدمي منها أقوى لثبوت رجعته فيها. والثاني: أن لا يملك فيها الرجعة ففيه وجهان: أحدهما: عدة أمه كالوفاة، لأنه لا يتعلق بها للزوج حق. والثاني: وهو الظاهر من منصوص الشافعي أنها ثلاثة اقراء كما لو فيها الرجعة والفرق بين عدة الطلاق وعدة الوفاة أن عدة الطلاق يغلب فيها حق الادمي، لأنها لا تجب على ضغيرة ولا غير مدخول بها، لأن مقصودها الإستبراء وعدة الوفاة يغلب فيها حق الله تعالى لوجوبها على الضغيرة وغير المدخول بها ولأن المقصود بها التعبد، فأما الجناية منه وعليه فقد تقدم ذكرها وفيما استوفيناه من ذلك تنبيه على ما أغفلنا فأما المزني فإنه اختار أن لا ينفذ إقراره في الماضي وإن نفذ في المستقبل وكان من استدلاله أن قال أجمعت العلماء أن من أقر بحق لزمه ومن ادعاه لم يجب ل بدعواه. وهذا القول صحيح غير أن الإستدلال به فاسد، لأن اللقيط لم يكن منه إقرار بالحرية فلا يقبل رجوعه عنه وإنما حمل أمره في الحرية على الظاهر وإقراه على نفسه أقوى فكان الحكم به أولى. مسألة: قَالَ الشَّافِعيُّ رَحمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَلَوْ أُقِرَّ اللَّقيطَ بِأَنَّهُ عَبْدٌ لِفُلاَنٍ. وَقَالَ الفُلاَنُ مَا مَلَكْتُهُ ثُمَّ أَقَرَّ لِغَيْرِهِ بِالرِّقِّ بَعْدُ لَمْ أَقْبَلْ إِقْرَارَهُ وَكَانَ حُرَّا فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ ". قال في الحاوي: وصورتها في لقيط بالغ ابتداء من غير دعوى فأقر برقه لزيد فأنكر زيد أن يكون مالكه فأقر اللقيط بعد ذلك برقه لعمرو فإقراره مردود وهو حر في الظاهر إلا أن يقوم بينة برقه لمالك فيحكم بها دون الإقرار. وقال أبو العباس بن سريج: إقراره مقبول للثاني، وإن رده الأول كما كان إقراره

مقبولاً للأول، وهكذا لو أنكره الثاني فأقر الثالث قبل منه، قال أهل العراق استدلالاً بأنه لو أقر بنسبه لرجل فرد ثم أقرّ بنسبه لغيره جاز، فكذلك إذا أقر برقه لرجل فرد ثم أقرّ به لآخر جاز وهكذا لو أقرّ بدار في يده لرجل فردّ إقراره ثم أقرّ بها لغيره نفذ إقراره، فكذلك في الرق، لأنه لا يخلو من ان يجري مجرى النسب وقد ذكرنا جواز ذلك فيه أو مجرى المال وقد ذكرنا جوازه فيه، وهذا الذي قاله أبو العباس ومن وافقه من أهل العراق خطأ من وجهين: أحدهما: أن إقراره بالرق للأول إقرار لا رق عليه لغير الأول فإذا رد الأول الإقرار فقد رفع رقه عنه بالإنكار فصار إقراره بالرق إذا رد كالعتق فلم يجز أن يقرّ بعد الرق. والثاني: أن في الحرية حقَا للهِ تعالى وحق للآدمي فصار أغلظ من حق الله تعالى إذا تجرد من حق الآدمي إذا انفرد فلم يكن لمن جرى حكمه عليه أن يدفعه عن نفسه فأما ما استدل به من إقراره بالنسب فقد كان بعد أصحابنا يضيق عليه الفرق بينهما فيجعل الحكم فيهما سواء ويقول إذا رد إقراره بالنسب لم أقبله إذا أقر به من بعد كما لو رد في العتق لم أقبله من بعد وذهب سائر أصحابنا إلى أنه يقبل في النسب ولا يقبل في الرق والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن إنكاره الرق يقتضي أن لا رق وليس إنكاره للنسب موجبًا لرفع النسب. والثاني: أن من أنكر شيئَا أقرّ به قبل ومن أنكر الرق ثم أقرّ به لم يقبل منه، وأما الإقرار بالدار فإذا ردّه المقرّ له لم يقبل إقرار المقر بها لغيره وإنما جعل الثاني أحق بها من حيث إنه لا منازع له فيها ولابد لكل ملك من مالك وليس كذلك اللقيط، لأنه قد يكون حرًا وليس له مالك. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا قيل للثاني إن أقمت البينة على رقه حكم لك به، لأن البينة توجب رقه وإن كان معترفًا بالرية فكانت بإثبات رقه في هذه الحال أولى. فصل: ولو أن لقيطًا أقرّ بالبنوة لرجل ثم أقرّ بالرق بعده لآخر قبلنا إقراره لهما بالبنوة والرق، لأنه ليس يمتنع أن يكون ابنًا لزيد وعبدًا لعمرو ولو ابتدأ فأقر بالرق لرجل ثم أقرّ بعده بالبنوة لآخر نفذ إقراره بالرق المتقدم فلم ينفذ بالبنوة المتأخرة، لأن العبد لا يقبل إقراره بأب بتصديق السيد لما فيه من إبطال الإرث بالولاء وليس كذلك إذا قدم الإقرار بالأب ثم أقرّ بعده بالرق. فصل: وإذا تنازع الرجلان طفلاً وادعاه كل واحد منهما ابنًا ثم سلمه أحدهما إلى الآخر واعترف بأبوته فإن كان تنازعهما في نسبه لإشتراكهما في الفراش لم يقبل تسليمه

إليه وإن كان لاشتراكهما في التقاطه قبل وصار ابنًا لمن سلم إليه دون من سلمه، والفرق بينهما أن الحادث عن الفراش ملحق بغير دعوى واللقيط لا يلحق إلا بالدعوى فلو رجع من سلم إليه وجعله ابنًا له وسلمه إلى غيره واعترف له بأبوته لم يجز، لأنه قدمكم له بعد التسليم بأبوته فلم يجز أن يدفعه عن نفسه ولا أن ينفيه باللعان لإعترافه به وهكذا لو تفرد رجل بالتقاطه وادعى بنوته ثم سلمه بعد ادعاء البنوة إلى غيره ولدًا لم يجز وصار لازمًا للأول لإلحاقه به فلو تنازع نسبه رجلان ثم تركاه معًا راجعين عن ادعاء نسبه لم يجز ورأينا فيما رأياه للقافة وألحقناه بمن ألحقوه به ولم سلمه المتنازعان إلى ثالث استحدث دعوى نسبه لم يجز لأنهما بالتنازع الأول قد اتفقا على أن نسبه لا يخرج عنهما ثم ينظر في الثالث فإن ألحقته القافة به صار بإلحاق القافة لاحقًا به لا بالتسليم وإن نفوه عنه وجب إلحاقه بأحد الأولين إما بالقافة أو بالتسليم والله أعلم.

كتاب الفرائض

كتاب الفرائض قال في الحاوي: حقيق بمن علم أن الدنيا منقرضة، وأن الرزايا قبل الغايات معترضة، وأن المال متروك لوارث، أو مصاب بحادث، أن يكون زهده فيه أقوى من رغبته، وتركه له أكثر من طلبته، فإن النجاة منها فوز والاسترسال فيها عجز، أعاننا الله على العمل بما نقول، ووقفنا الحسن القبول إن شاء الله. ولما علم الله عز وجل أن صلاح عباده فيما اقتنوه مع ما جبلوا علي من الضن به والأسف عليه أن يكون مصرفه بعدهم معروفًا، وقسمه مقدرًا مفروضًا؛ ليقطع بينهم التنازع والاختلاف، ويدوم لهم التواصل والائتلاف. جعله لمن تقاست أنسابهم وتواصلت أسبابهم لفضل الحنو عليهم، وشدة الميل إليهم، حتى يقل عليه الأسف، وليستقل به الخلف، فسبحان من قدر وهدى، ودبر فأحكم، وقد كانت كل أمة تجري من ذلك على عادتها، وكانت العرب في جاهليتها يتوارثون بالحلف والتناصر كما يتوارثون بالأنساب؛ طلبًا للتواصل به، فإذا تحالف الرجلان منهم قال كل واحد منهما لصاحبه في عقد حلفه هدمي هدمك، ودمي دمك، وسلمي سلمك، وحربي حربك، وتنصرني وأنصرك. فإذا مات أحدهما ورثه الآخر، فأدرك الإسلام طائفة منهم فروى جبير بن مطعم قال: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا حلفًا في الإسلام وإنما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة "فجعل الحلف في صدر الإسلام بمنزلة الأخ للأم فأعطى السدس، ونزل فيه ما حكاه أكثر أهل التفسير في قوله تعالى: {والَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] ثم نسخ ذلك بقوله عز وجل: {وأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6]، {إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الأنفال: 75]. فصل: وكانوا في الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال ولا يعطون المال إلا لمن حما وغزا فروى ابن جريج عن عكرمة أن أم كجة وبنت كجة وثعلبة وأوس بن سويد وهم من الأنصار، وكان أحدهما زوجها والآخر عم ولدها، فمات زوجها فقالت أم كجة: يا رسول الله توفي زوجي وبينه فلم نورث فقال عم ولدها يا رسول الله إن ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلا ولا ينكأ عدوًا يكسب عليها ولا تكتسب فأنزل الله تعالى: {لِلرِجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ ولِلنسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَّفْرُوضًا} [النساء: 7].

واختلف أهل التفسير في قوله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُوا ولِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ} [النساء: 32] على قولين: أحدهما: يعني: للرجال نصيب مما اكتسبوا من ميراث موتاهم، وللنساء نصيب منه، لأن الجاهلية لم يكونوا يورثوا النساء، وهذا قول ابن عباس. والثاني: للرجال نصيب من الثواب على طاعة الله والعقاب على معصية الله، وللنساء نصيب مثل ذلك في أن للمرأة بالحسنة عشر أمثالها، ولا تجزئ بالسيئة إلا مثلها كالرجل وهذا قول قتادة. فصل: وكان المسلمون قبل الهجرة إذا حضر أحدهم الموت قسم ماله بين أهله وأقاربه ومن حضره من غيرهم كيف شاء وأحب، ميراثًا ووصية، وفيه نزل قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إن تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًا عَلَى المُتَّقِينَ} [البقرة: 180]، واختلف أهل التفسير في قوله تعالى: {وآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ والْمِسْكِينَ وابْنَ السَّبِيلِ} [الإسراء: 26] قولين: أحدهما: أنهم قرابة الميت من قبل أبيه ومن قبل أمه فيما يعطيهم من ميراثه، والمسكين وابن السبيل فيما يعطيهم من وصيته، وهذا قول ابن عباس. والثاني: أنهم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا قول علي بن الحسن والسدي، ثن توارث المسلمون بعد الهجرة بالإسلام، فكان إذا ترك المهاجر أخوين أحدهما مهاجر والآخر غير مهاجر كان ميراثه للمهاجرون من لم يهاجر، ولو ترك عمًا مهاجرًا وأخًا غير مهاجر كان ميراثه للعم دون الأخ. قال ابن عباس: وفي ذلك نزل قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وهَاجَرُوا وجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ والَّذِينَ آوَوا ونَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ والَّذِينَ آمَنُوا ولَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن ولايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} [الأنفال: 72] قال ابن عباس: ثم أكد الله تعالى بقوله: {إلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال: 73] يعني: أن لا تتوارثوا بالإسلام والهجرة فكانوا على ذلك حتى نسخ ذلك بقوله تعالى: {وأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ المُؤْمِنِينَ والْمُهَاجِرِينَ إلاَّ أَن تَفْعَلُوا إلَى أَوْلِيَائِكُم مَّعْرُوفًا} [الأحزاب: 6] يعني: الوصية لمن لم يرث {كَانَ ذَلِكَ فِي الكِتَابِ مَسْطُورًا} [الأحزاب: 6] وفيه تأويلان: أحداهما: كان توارثكم بالهجرة في الكتاب مسطورًا. والثاني: كان نسخة في الكتاب مسطورًا. فصل: ثم إن الله تعالى فرض المواريث وقدرها وبين المستحقين لها في ثلاث آي من سورة النساء، نسخ بهن جميع ما تقدم من المواريث، فروى داود بن قيس عن عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله أن امرأة سعد بن الربيع قالت: يا رسول الله. إن سعدًا هلك وترك بنتين وقد أخذ عمهما مالهما فلم يدع لهما مالاً إلا أخذه، فما ترى يا رسول الله؟ فوالله لا ينكحان أبدًا وإلا ولهما مال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يقضي الله

في ذلك "فنزلت سورة النساء: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء: 11] الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ادعوا إليَّ المرأة وصاحبها "فقال للعم: "أعطهما الثلثين وأعط أمهما الثمن وما بقي فلك ".وروى ابن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: مرضت فأتاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يعودني هو وأبو بكر ماشين وقد أغمي عليَّ فلم أكلمه فتوضأ ثم صبه عليَّ، فأفقت فقلت: يا رسول الله، كيف اصنع في مالي ولي أخوات؟ قال: فنزلت: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ} [النساء: 176] إلى آخر السورة. وقال ابن سيرين: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يسير وإلى جنبه حذيفة بن اليمان فبلغها رسول الله عليه وسلم حذيفة، وبلغها حذيفة عمر بن الخطاب رضي الله عنهما وهو يسير خلفه. فبين الله تعالى في هذه الآي الثلاث ما كان مرسلاً، وفسر فبين ما كان مجملاً، وقدرت الفروض ما كان مبهمًا، ثم بين بسنته صلى الله عليه وسلم ما احتيج إلى بيانه، ثم قال بعد ذلك: "إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ". رواه شرحبيل بن مسلم غن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم دعا إلى علم الفرائض وحث عليه؛ لأنهم كانوا على قرب عهد بغيره، ولأن لا يقطعهم عنه التشاغل بعلم ما هو أعم من عباداتهم المترادفة أو معاملاتهم المتصلة فيؤول ذلك إلى انقراض الفرائض، فروى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تعلموا الفرائض فإنها من دينكم وإنه نصف العلم وإنه أول ما ينتزع من أمتي، وإنه ينسى".وروى أبو الأحوص عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تعلموا الفرائض وعلموها الناس فإني امرؤ مقبوض وإن العلم سيقبض حتى يختلف الرجلان في الفريضة لا يجدان من يخبرهما به "وروى عبد الرحمن بن رافع التنوخي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل آية محكمة أو سنة ماضية أو فريضة عادلة".

وقال صلى الله عليه وسلم: "أفرضكم زيد "فاختلف الناس في تأويله على أقاويل: أحدها: أنه قال ذلك حثًا لجماعتهم على مناقشة والرغبة فيه كرغبته؛، لأن زيدًا كان منقطعًا إلى الفرائض بخلاف غيره. والثاني: أنه قال له ذلك تشريفًا وإن شاركه عيره فيه كما قال أقرؤكم أبي، وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ، وأصدقكم لهجة أبو ذر، وأقضاكم علي ومعلوم أن أعرف الناس هو أعرفهم بالفرائض وبالحلال والحرام، لأن ذلك من جملة القضاء. والثالث: أنه أشار بذلك إلى جماعة من الصحابة كان أفرضهم زيد، ولو كان ذلك على عموم جماعتهم لما استجاز أحد منهم مخالفته. والرابع: أنه أراد بذلك أنه أشد منهم عناية به، وحرصًا به، وسؤالاً عنه. والخامس: أنه قال ذلك؛، لأنه كان اصحبهم حسابًا، وأسرعهم جوابًا، ولأجل ما ذكرناه من هذه المعاني أخذ الشافعي في الفرائض بقول زيد. فصل: إذا وضح ما ذكرنا فالميراث مستحق بنسب وسبب، فالنسب الإبوة والبنوة ما تفرع عليها، ولسبب نكاح وولاء. والوارثون من الرجال عشرة: الابن وابن الابن وإن سفل، والأب والجد وإن علا، والأخ وابن الأخ، والعم وابن العم، والزوج ومولى النعمة، ومن لا يسقط منم بحال ثلاثة: الابن والأب والزوج. والوارثات من النساء سبع: البت وبنت الابن وإن سفلت، والأم والجدة وإن علت، والأخت والزوجة ومولاة النعمة، ومن لا يسقط منهن بحال ثلاث: الأم والبنت والزوجة. وأما من لا يرث بحال فسبعة: العبد، والمدبر، والمكاتب، وأم الولد، وقاتل العمد، والمرتد، وأهل ملتين، وسنذكر في نظم الكتاب ما يتعلق من خلاف وحكم. فصل: والورثة على أربعة أقسام: أحدها: من يأخذ بالتعصيب وحده فلا يثبت لهم فرض ولا يتقدر لهم سهم، وهم البنون وبنوهم، والأعمام وبنوهم، فإن انفردوا بالتركة أخذوا جميعًا، وإن شاركهم ذو فرض أخذوا ما بقي بعده، ولا تعول فريضة يرثون فيها. والثاني: من يأخذ بالفرض وحده وهم خمسة: الزوج والزوجة والأم والجدة والإخوة للأم. والثالث: من يأخذ بالقرض تارة وبالتعصيب أخرى وهم ثلاثة أصناف: بنات الصلب، وبنات الابن، والأخوات، يأخذن بالفرض إذا انفردن وبالتعصيب إذا شاركهم الإخوة. والرابع: من يأخذ بالفرض تارة، وبالتعصب تارة أخرى، وبهما في الثالثة وهم

باب من لا يرث

الآباء والأجداد يأخذون مع ذكور الأولاد بالفرض، وبالعتصيب مع عدمهم وبالفرض والتعصيب مع إناثهم. فصل: أربعة من الذكور يعصبون أخواتهم وهم: الابن، وابن الابن، والأخ للأب والأب والأخ للأب، وأربعة يقسطون أخواتهم: ابن الأخ، والعم، وابن العم، وابن المولى، وأربعة ذكور يرثون نساء لا يرثنهم بفرض ولا تعصيب: ابن الأخ يرث عمته ولا ترثه، والعم يرث ابنة أخيه، ولا ترثه، وابن العم يرث بنت عمه ولا ترثه، والمولى يرث عتيقه ولا يرثه، وامرأتان ترثان ذكران ولا يرثانهما بفرض ولا تعصيب: أم الابن ترث ابن ابنتها ولا يرثها، والمولاة ترث عتيقها ولا يرثها، والرجل يرث من النساء سبع ومن الرجال تسعة؛ لأن الزوج لا يرثه رجل والمرأة ترث من الرجال عشرة ومن النساء ست؛ لأن الزوجة لا ترثها امرأة. باب من لا يرث مسألة: قال المُزَنِي رَحِمهُ اللهُ تَعَالَى وَهَوَ منْ قَوْلِ الشَّافِعِيُّ: "لاَ تَرِثُ الْعَمَّةُ وَالخَالَةُ وَبِنْتُ الأَخ وَبِنْتُ العَمِّ وَالجَدَّةِ أُمُّ أَبِ الأُمِّ وَالخَالُ وَابْنُ الأخِ لِلأُمِّ وَالعَمُّ أَخُو الأَبِ لِلأُمَّ وَالجَدُّ أَبُو الأُمِّ وَوَلَدُ البِنْتِ وَوَلَدُ الأُخْتِ وَمَنْ هُوَ أَبْعَدُ مِنْهَُمْ". قال في الحاوي: وإنما بدأ الشافعي بذوي الأرحام؛ لأنهم عنده لا يرثون مع وجود بيت المال، فبدأ بهم لتقديمه ذكر من لا يرث من الكافرين والمملوكين وذوو الأرحام هم: من ليس بعصبة ولا ذي فرض على ما سنذكره من عددهم وتفصيل أحوالهم، وقد اختلف الصحابة والتابعون والفقهاء في توزيعهم إذا كان بيت المال موجودًا فذهب الشافعي إلى أنه لا ميراث لهم وأن بيت المال أولى منهم، وبه قال من الصحابة زيد بن ثابت وإحدى الروايتين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. ومن الفقهاء مالك وأكثر أهل المدينة والأوزاعي وأكثر أهل الشام وداود بن علي. وقال أبو حنيفة: ذوو الأرحام أولى بالميراث من بيت المال. وبه قال من الصحابة علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وإحدى الروايتين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم. ومن التابعين عمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، وشريح والشعبي، وطاوس، ومن الفقهاء، أهل العراق، وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية غير أن أبا حنيفة قدم

المولى على ذوي الأرحام وخالفه تقدمه فقدموا ذوي الأرحام على المولى، واستدلوا على توريث ذوي الأرحام بقوله تعالى: {وأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6].فلم يجز أن يدفعوا عن الميراث، وقد جعلهم الله تعالى أولى به، ولرواية طاوس عن عائشة رضي الله عنهما وأبى أمامة عن عمر جميعًا رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الله ورسول مولى من لا مولى له، والخال وارث من لا وارث له".وبرواية المقداد بن معد يكرب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الخال وارث من لا وارث له". وبراوية واسع بن حبان قال: توفي ثابت بن الحداح ولم يدع وارثًا ولا عصبة فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأل عنه عاصم بن عدي هل ترك من أحد؟ فقال ما نعلم يا رسول الله ترك أحدًا فدفع رسول الله صلى الله عليه وسلم ماله إلى ابن أخته أبى لبابة بن عبد المنذر، ورواية الزهري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "العم والد إذا لم يكن دون أب والخالة والدة إذا لم يكن دونها أم".قالوا: ولأن كل من أدلى بوارث كان وارثًا كالعصبات، قالوا: ولأن اختصاص ذوي الأرحام بالرحم لا يوجب سقوط إرثهم كالجدة، قالوا: ولأن ذوي الأرحام قد شاركوا المسلمين في الإسلام وفضلوهم بالرحم، فوجب أن يكونوا أولى منهم بالميراث كالمعتق لما ساوى كافة المسلمين في الإسلام وفضل عليهم بالعتق وصار أولى منهم بالميراث وكالأخ للأب والأم لما ساوى الأخ للأب وفضله بالأم كان أولى بالإرث. ودليلنا: رواية شرحبيل بن سلم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تعالى قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" فأشار إلى ما في القرآن من المواريث وليس فيه لذوي الأرحام شيء. وروى عطاء بن يسار أتى رجل من أهل العالية فقال: يا رسول الله إن رجلًا هلك وترك عمة وخالة فقال: اللهم رجل ترك عمه وخاله ثم سكت هنيهة ثم قال: لا أرى نزل على شيء لا شيء لهما". وروي زيد بن أسلم عن علي أن النبي صلى الله عليه وسلم ركب إلى قباء يستخير الله تعالى في العمة والخالة فنزل عليه أن لا ميراث لهما.

(وروى) عمران بن سليمان أن رجلًا مات فأتت بنت أخته النبي صلى الله عليه وسلم في الميراث فقال: لا شيء لك اللهم من منعت ممنوع اللهم من منعت ممنوع. ثم الدليل من طريق المعنى هو أن مشاركة الأنثى لأخيها أثبتت في الميراث في انفرادها. ألا ترى أن بنات الابن يسقطن مع البنين وإن شاركهن ذكورهن وصرن به عصبة فلما كان بنات الإخوة والأعمام يسقطون مع إخوتهن كان أولى أن يسقطن بانفرادهن وتحريره قياسًا إن كان أنثى أسقطها من في درجتها بالإدلاء سقطت بانفرادها كابنة المولى، ولأن كل من أسقطه المولى لم يرث بانفراده كالعبد والكافر؛ ولأن كل ولادة لم يحجب بها الزوجين إلى أقل الفرضين لم يورث بها كالولادة من زنى، ولأنه وارث فوجب أن يكون من مناسبه من لا يرث كالمولى يرث ابنه ولا يرث بنته؛ ولأن المسلمين يعقلون عنه فوجب أن يسقط بهم ذوو الأرحام كالمولى. فأما الجواب عن قوله تعالى: {وأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] فمن أربعة أوجه: أحدهما: أن المقصود بالآية نسخ التوارث بالحلف والهجرة ولم يرد بهما أعيان من يستحق الميراث من المناسبين لنزولهما ما قبل أي المواريث. والثاني: أن قولهم: {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] دليل على أن ما سوى ذلك البعض ليس بأولى؛ لأن التبعيض يمنع من الاستيعاب. والثالث: أنه قال: {فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] وكان ذلك مقصورًا على ما فيه وليس لهم فيه ذكر فدل على أن ليس لهم في الميراث حق. والرابع: أن قوله: {أَوْلَى} [الأحزاب: 6] محمول على ما سوى الميراث من الحصانة وما جرى مجراها دون الميراث إذ ليس في الآية ذكر ما هم به أولى. وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم "الخال وارث من لا وارث له" فمن وجهين: أحدهما: أن هذا الكلام موضع في لسان العرب للسلب والنفي لا للإثبات، وتقديره أن الخال ليس بوارث كما تقول العرب الجوع طعام من لا طعام له والدنيا دار من لا دار له والصبر حيلة من لا حيلة له يعني أن ليس طعام ولا دار ولا حيلة. والثاني: أنه جعل الميراث للحال الذي يعقل وإنما يعقل إذا كان عصبة ونحن نورث الخال إذا كان عصبة وإنما الاختلاف في خال ليس بعصبه فكان دليل اللفظ يوجب سقوط ميراثه. فأما الجواب عن دفعه ميراث أبي الدحداح إلى ابن أخته فهو أنه أعطاه ذلك

لمصلحة رآها لا ميراثًا، لأنه لما قيل لا وارث له دفعه إليه على أنها قضية عين قد يجوز أن يخفي سببها فلا يجوز ادعاء العموم فيها وكان ذلك كالذي رواه عمرو بن دينار عن عوسجة عن ابن عباس أن رجلًا مات ولم يدع وارثًا إلا غلامًا له كان أعتق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هل له أحد" قالوا: لا إلا غلامًا له كان أعتقه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه له. ومعلوم أنه لا يستحق ميراثًا لكل فعل ذلك لمصلحة رآها وروي عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: مات رجل من خزاعة فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بميراثه فقال: "التمسوا له وارثًا أو ذات رحم" فلم يجدوا له وارثًا ولا ذات رحم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعطوه الكبر من خزاعة" فميز صلى الله عليه وسلم بين الوارث وذي الرحم فدل على أنه غير وارث ثم دفع ميراثه إلى الكبر من قومه وليس ذلك بميراث مستحق وهكذا ما دفعه إلى ابن الأخت والخال، لأنه رأى المصلحة في إعطائهم أظهر منها في إعطاء غيرهم وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: "الخالة والدة إذا لم يكن دونها أم".فهو أنه محمول على ما سوى الميراث من الحضانة وإلا فليست الخالة كالأم عند عدمها في الميراث إذا كان هناك وارث فعلم أن مراده به غير الميراث فأما قياسهم بعلة أنه يدلى بوارث فمنتقض ببنت المولى ثم المعنى في العصبة تقديم على المولى. وأما قياسهم على الجدة فالمعنى فيها: أنها لما شاركت العصبة كانت وارثة وليس ذوو الأرحام مثلها. وأما الجواب عن قولهم أنهم ساووا جميع المسلمين وفضلوهم بالرحم فهو أنه استدلال يفسد ببنت المولى، لأنها قد فضلتهم مع المساواة ثم لا تقدم عليهم على أن المسلمين فضلوهم بالتعصب لأنهم يعقلون وكانوا أولى بالميراث، فإن قيل: لا يجوز أن يكون المسلمون ورثته لجواز وصيته لهم والوصية لا تجوز لوارث قيل: هذا باطل بمن لا وارث له، لأن المسلمين ورثته بإجماع وتجوز الوصية لكل واحد منهم على أن الوصية إنما لا تجوز لوارث معين وليس في المسلمين من يتعين في استحقاق ميراثه، لأنه معروف في مصالح جميعهم والله أعلم. فصل: وإذ قد مضى الكلام في ذوي الأرحام فالرد ملحق به، لأن الخلاف فيهما واحد وكل من قال بتوريث ذوي الأرحام قال بالرد وكل من منع من توريث ذوي الأرحام منع من الرد. والرد: هو أن تعجز سهام الفريضة عن استيفاء جميع التركة فلا يكون معهم عصبة كالبنت التي فرضها النصف إذا لم يشاركها غيرها وقد بقي النصف بعد فرضها فهل يرد

عليها أم يكون لبيت المال وليس لها غير فرضها اختلف الفقهاء فمذهب الشافعي: أن الباقي من التركة بعد سهام ذوي الفروض يكون لبيت المال ولا يرد على ذوي الفروض إذا كان بيت المال موجودًا وبه قال زيد بن ثابت وهو مذهب مالك وأهل المدينة وداود. وقال أبو حنيفة: يرد ما فضل من سهام ذوي الفروض عليهم وهم به أولى من بيت المال وبه قال علي وابن مسعود رضي الله عنهما وأكثر التابعين والفقهاء على خلاف بينهم في مستحقي الرد منهم، واستدلوا جميعًا بوجوب الرد وتقديمهم على بيت المال بما تقدم من عمرو قوله تعالى: {وأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] وبما روي أن سالمًا مولى أبي حذيفة قتل يوم القيامة فترك أمه فورثها عمر رضي الله عنه ماله كله قالوا: ولأن كل مناسب ورث بعض المال مع غيره جاز أن يرث جميعه إذا انفرد بنفسه كالعصبة، قالوا: ولأنه لما جاز أن ينفقوا من فروضهم بالعدل عند زيادة الفروض على التركة جاز أن يزادوا بالرد عند عجز الفروض عن التركة. ودليلنا هو أن الله تعالى لما قسم فروض ذوي الفروض سماه في ثلاث آي من كتابه قال النبي صلى الله عليه وسلم "قد أعطى الله كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث" فدل على أن من سمي له فرضًا فهو قدر حقه وذلك يمنع من الزيادة عليه، ولأن كل من لم يورث مع غيره إلا بالفرض لم يورث مع عدم غيره إلا ذلك الفرض كالزوج والزوجة، لأنه لا يرد عليهما بوفاق ولأن كل قدر حجب عنه الشخص مع وجود من هو أبعد منه حجب عنه وإن انفرد به كالمال المستحق بالدين والوصية ولأن كل من تجردت رحمه عن تعصيب لم يأخذ بها من تركة حقين كالأخت للأب والأم لا تأخذ النصف، لأنها أخت الأب والسدس، لأنها أخت الأم فأما الجواب عن الآية فقد مضى. وأما استدلالهم بأن عمر رضي الله عنه أعطى ميراث سالم إلى أمه فلمصلحة يراها من يتولى مصالح بيت المال كما دفع النبي صلى الله عليه وسلم ميراث الخزاعي إلى الكبر من خزاعة. وأما قياسهم على العصبة فالمعنى فيهم إنما يستحقونه غير مقدر وليس كذلك ذوو الفروض، لأنه مقدر. وأما قولهم إنه لما جاز أن ينفقوا بالعدل جاز أن يزادوا بالرد، فالجواب عنه للزيادة جهة يستحقها وهي بيت المال فلم يجز ردها ولما لم يكن للنقض جهة تمام جاز عولها ألا ترى أن أهل الدين والوصايا إذا ضاق بهم دخل العول عليهم، ولو زاد عنهم لم يجز الرد عليهم. فصل: فإذا ثبت أن بيت المال أحق من ذوي الأرحام وبالفاصل عن ذوي السهام

وأنه يصير إلى بيت المال إرثًا لا فيئًا وهكذا من مات وليس له وارث صار ماله إلى بيت المال ميراثًا وقال بعض الناس يكون فيئًا لا ميراثًا لأمور. منهما: أنه لو كان ميراثًا لوجب صرفه إلى جميع المسلمين دون بعضهم ولوجب أن يفضل فيه الذكر على الأنثى ولا يفرد به أهل عصر الميت دون من تأخر، وفي جواز ذلك كله دليل على أن فيء لا ميراث ودليلنا قوله تعالى: {والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] فكانت الموالاة بينهم تمنع من أحكام من خالفهم ولأن بيت المال يعقل عنه فوجب أن يكون انتقال ماله إليه بالموت ميراثًا كالعصبة، ولأنه مال مسلم فلم يجز أن يكون انتقاله إلى بيت المال فيئًا كالزكاوات. وأما الجواب عن استدلالهم فهو أن تعيين الوارث يقتضي ما ذكروه وإذا لم يتعين لم يقتضيه. فصل: فإذا ثبت أن بيت المال أحق إذا كان موجودًا يصرف الإمام العدل أمواله في حقوقها فأما إذا كان بيت المال معدومًا بالجور من الولاة وفساد الوقت وصرف الأموال في غير حقوقها والعدول بها عن مستحقيها يوجب توارث ذوي الأرحام ورد الفاضل على ذوي السهام وهذا قول أجمع عليه المحصلون من أصحابنا وتفرد أبو حامد الإسفراييني ومن جذبه الميل إلى رأيه فأقام على منع ذوي الأرحام والمنع من رد الفاضل على ذوي السهام استدلالًا بأن ما ينصرف إلى بيت المال مستحق في جهات باقية إذا عدم بيت المال لم يبطل استحقاق تلك الجهات ووجب صرف ذلك المال فيها كالزكوات التي لم تسقط بعدم بيت المال ووجب صرفها في جهاتها، وهذا الذي قاله فاسد من ثلاثة أوجه: أحدهما: ما يستحق صرفه من بيت المال في جهات غير معينة وإنما يتعين باجتهاد الإمام فإذا بطل التعيين سقط الاستحقاق وإن علم أن الجهة لا تعدم كالعربي إذا مات علمنا أن له عصبة ذكورًا غير أنهم إذا لم يتعينوا سقط حقهم وانصرف ذلك إلى غير جهتهم وكذلك جهات بيت المال إذا لم يتعين سقط حقها وانصرف ذلك إلى غيرها وليس كذلك الزكوات لتعين جهاتها وقطع الاجتهاد فيها فلم يسقط حقها مع التعين وإن عدم من كان يقوم بمصرفها. والثاني: أن مال الزكاة له من يقوم بصرفه من جهاته إذا عدم القيم من الولاة وهم أرباب الأموال فلزمهم القيام بذلك ما كان لازمًا للولاة وليس المال الميت من يقوم بصرفه في هذه الجهات وليس يجوز أن يستحق مال بجهة لا تتعين بوصف ولا باجتهاد باطن لما فيه من تضييع المال عن جهته فاعلمه. والثالث: أن بيت المال إنما كان أحق بميراثه من ذوي الأرحام، لأن بيت المال يعقل عنه فصار ميراثه له فلما كان عدم بيت المال يسقط العقل عنه وجب أن يسقط

الميراث منه، وإذا كان ما ذكرناه ثابتًا وكان توريث ذوي الأرحام عند عدم بيت المال وجبًا فهكذا رد الفاضل عن ذوي السهام، وسنذكر كيفية توريثهم والرد على ذوي الفروض في باب ذوي الأرحام في هذا الكتاب فإن في ذلك دقة واستصعابًا ولعلها هي الصارفة لمن منعهم الميراث عند عدم بيت المال. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَالكَافِرُونَ". قال في الحاوي: وهذا كما قال الكافر لا يرث المسلم والمسلم لا يرث الكافر وهو قول الجمهور. وحكي عن معاذ بن جبل ومعاوية أن المسلم يرث الكافر ولا يرث الكافر المسلم وبه قال محمد ابن الحنفية وسعيد بن المسيب ومسروق النخعي والشعبي وإسحاق بن راهوية استدلالًا بما روي عن معاذ أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "الإسلام لا يزيد ولا ينقص" قالوا: وكما يجوز للمسلم أن ينكح الذمية ولا يجوز للذمي أن ينكح المسلمة، ولأن أموال المشركين يجوز أن تصير إلى المسلمين فهذا أولى أن تصير إليهم إرثًا، ولا يجوز أن تصير أموال المسلمين إلى المشركين قهرًا فلم يجز أن تصير إليهم إرثًا. ودليلنا رواية علي بن الحسين عن عمرو بن عثمان عن أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم".وروي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يتوارث أهل ملتين". وروي عن الزهري قال: كان لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا على عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، فلما ولي معاوية رحمه الله تعالى ورث المسلم من الكافر وأخذ بذلك الخلفاء حتى قام عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه فراجع السنة الأولى ثم أخذ بذلك يزيد بن عبد الملك فلما قام هشام بن عبد الملك أخذ بسنة الخلفاء، ولأن كل ملتين امتنع العقل بينهما امتنع التوارث بينهما كالكافر والمسلم، ولأن التوارث مستحق بالولاية وقد قطع الله الولاية بين المسلم والذمي فوجب أن ينقطع به التوارث ولأن بعدما بين المسلم والذمي أعظم مما بين الذمي والحربي فلما لم يتوارث الذمي والحربي لبعد ما بينهما كان أولى أن لا يتوارث المسلم والذمي، فأما قوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يزيد ولا ينقص" ففيه تأويلان وكل واحد منهما جواب

أحدهما: أن الإسلام يزيد بمن أسلم من المشركين ولا ينقص بالمرتدين. والثاني: أن الإسلام يزيد بما يفتح من البلاد. وأما النكاح فغير معتبر بالميراث ألا ترى أن المسلم ينكح الحربية ولا يرثها، وقد ينكح العبد الحرة ولا يرثها، وأما أخذ أموالهم قهرًا فلا يوجب ذلك أن تصير إلينا إرثًا، لأن المسلم لا يرث الحربي وإن غنم ماله وهم يقولون إنه يرث الذمي ولا يغنم ماله فلم يجز أن يعتبر أحدهما بالآخر. فرع: فإذا ثبت أنه لا يتوارث أهل ملتين فقد اختلفوا في الكفر هل يكون كله ملة واحدة أو يكون مللًا فمذهب الشافعي أن الكفر كله ملة واحدة وإن تنوع أهله وبه قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو مذهب أبي حنيفة وصاحبه. وقال مالك: الكفر ملك فاليهودية ملة، والنصرانية ملة والمجوسية ملة وبه قال من الصحابة على بن أبي طالب عليه السلام. ومن التابعين: الحسن البصري وشريح. ومن الفقهاء: الزهري والثوري والنخعي استدلالًا بما أخبر الله تعالى من التقاطع بينهم حيث يقول في حكايته عنهم: {وقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيءٍ} [البقرة: 113] وتقاطعهم يمنع من توارثهم، ولأن اختلاف شرائعهم يوجب اختلاف مللهم، ولأن ما بينهم من التباين كالذي بين المسلمين وبينهم من التباين فاقتضى أن تكون مللهم مختلفة. ودليلنا قوله تعالى: {والَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال: 73] وقال الله تعالى: "ولَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ ولا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ" [البقرة: 120] فجمعهما. وروي عمرو بن مرة عن أبي البختري الطائي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الناس خير وأنا وأصحابي خير" ولأنهم مشتركون في الكفر وإن تنوعوا كما أن المسلمون مشتركون في الحق وإن تنوعوا وليس التباين بينهم بمانع من توارثهم كما يتباين أهل الإسلام في مذاهبهم ولا يوجب ذلك اختلاف توارثهم، لأن الأصل إسلام أو كفر لا ثالث لهما. فرع: فإذا ثبت أن الكفر كله ملة واحدة فقد اختلف الناس في كيفية توارثهم فمذهب الشافعي أن أهل الذمة يتوارثون منهم وأهل العهد بعضهم من بعض على اختلاف ديارهم وأهل الحرب يتوارثون بعضهم من بعض وإن اختلفت ديارهم ولا توارث بينهم أهل الذمة. وقال أبو حنيفة: لا توارث بين أهل الذمة وأهل الحرب وكذلك أهل العهد لا

توارث بينهم وبين أهل الذمة وأهل الحرب يتوارثون ما لم يختلف بهم الدار، واختلاف دارهم يكون باختلاف ملوكهم ومعاداة بعضهم لبعض في الدين كالترك والروم فلا يورث بعضهم من بعض. فرع: فعلى ما ذكرنا من المذاهب إذا مات يهودي من أهل الذمة فترك أمًا مثله ي يهودية وابنًا مسلمًا وأربعة إخوة أحدهم يهودي ذمي والآخر نصراني ذمي والآخر مجوسي معاهد والآخر وثني حربي فعلى قول معاذ لأمه اليهودية السدس والباقي لابنه المسلم ولا شيء لإخوته، وعلى قول مالك لأمه اليهودية الثلث والباقي لأخيه اليهودي لموافقته له في ملته ولا يحجب الأم، لأنه واحد ولا شيء لمن سواه، وعلى قول أبي حنيفة لأمه السدس والباقي بين أخيه اليهودي والنصراني، لأنهما من أهل الذمة ولا شيء لأخيه المجوسي، لأنه معاهد ولا شيء لأخيه الوثني، لأنه حربي، وعلى مذهب الشافعي لأمه السدس والباقي بين أخوته الثلاثة اليهودي والنصراني، والمجوسي المعاهد، لأن أهل العهد يرثون أهل الذمة عنده ولا شيء لأخيه الوثني، لأنه حربي. فرع: ولو مات نصراني من أهل الذمة وترك زوجة وثنية من أهل العهد وأمًا يهودية من أهل الذمة وابنًا مسلمًا وبنت ابن وثنية تؤدي الجزية وأخوين أحدهما مجوسي يؤدي الجزية والآخر وثني من أهل العهد وعمًا نصرانيًا من أهل الجزية فعلى قول معاذ للزوجة الثمن وللأم السدس والباقي للابن المسلم، وعلى قول مالك المال كله للعم النصراني، وعلى قول أبي حنيفة لأمه السدس ولبنت ابنه النصف، لأنه يقبل الجزية من عبدة الأوثان ويجعلهم من أهل الذمة والباقي لأخيه المجوسي ولا شيء لزوجته ولا لأخيه الوثني، لأنه لا يورث أهل العهد من أهل الذمة، وعلى مذهب الشافعي لزوجته الربع، لأنها معاهدة ولأمه السدس والباقي لأخيه المجوسي وأخيه الوثني المعاهد، ولا شيء لبنت ابنه الوثنية التي تؤدي الجزية، لأنه لا يجوز أخذ الجزية عنده من عبدة الأوثان. فرع: فلو مات مسلم وترك ابنًا مسلمًا وابنًا نصرانيًا أسلم فإن كان إسلام النصراني قبل موت أبيه ولو بطرفة عين كان الميراث بينهما، وهذا إجماع وإن كان إسلامه بعد موت أبيه ولو بطرفة عين لم يرثه وهكذا لو ترك المسلم الحر ابنين أحدهما حر والآخر عبد أعتق فإن كان عتقه قبل موته أبيه ورثه، وإن كان بعده لم يرثه وبه قال من الصحابة أبو بكر وعلى وزيد وابن مسعود رضي الله عنهم. ومن الفقهاء: أبو حنيفة ومالك وأكثر الفقهاء وحكي عن الحسن البصري وقتادة ومكحول أنهم ورثوا من أسلم أو أعتق على ميراث قبل أن يقسم وروي ذلك عن عمر وعثمان رضي الله عنهما وحكي عن إياس وعكرمة وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه أنهم ورثوا من أسلم قبل القسمة ولم يورثوا من أعتق قبل القسمة استدلالًا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أسلم على شيء فهو له"

وروى أبو الشعثاء عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كل قسم قسم في الجاهلية فهو على ما قسم له وكل قسم أدركة الإسلام فإنه على قسم الإسلام" ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يتوارث أهل ملتين" ولأن الميراث ينتقل بالمورث إلى ملك الوارث لا بالقسمة ولأن تأخير القسمة لا يوجب توريث من ليس بوارث كما أن تقديمها لا يوجب سقوط من هو وارث، ولأنه إن ولد للميت إخوة قبل قسمة تركته لا يرثوه فهذا كما لو أسلموا لم يرثوه. فأما قوله صلى الله عليه وسلم "من أسلم على شيء فهو له" ففيه تأويلان: أحدهما: من أسلم وله مال فهو له لا يزول عنه بإسلامه. والثاني: من أسلم قبل موت مورثه رغبة في الميراث فهو له، وأما حديث ابن عباس فمعناه أن المشركين إذا ورثوا ميتهم ثم اقتسموه في جاهليتهم كان على جاهليتهم ولو أسلموا قبل قسمته اقتسموه على قسمة الإسلام والله أعلم. فرع: وإذا مات ذمي ولا وارث له كان ماله لبيت المال فيئًا لا ميراثًا ويصرف مصرف الفيء فلو كان له عصبة مسلمون لم يكن لهم فيها صار منه إلى بيت المال حق وهكذا إذا كان عصبة الذمي في دار الحرب ليس لهم عهد فلا ميراث لهم منه، ويكون ماله فيئًا ولو كان لهم عهد استحقوا ميراثه. فرع: وإذا تحاكم أهل الحرب إلينا في ميراث ميت منهم وله ورثة من أهل الحرب وورثة من أهل العهد وورثة من أهل الذمة لم يورث أهل الذمة منهم كما لا نورثهم من أهل الذمة وقسمنا ميراثه بين أهل الحرب وأهل العهد مع اتفاق دراهم واختلافها وتباين أناسهم واتفاقها كالروم والترك والهند والزنج. وقطع أبو حنيفة التوارث بين المختلفين من أجناسهم والمتباينين في ديارهم فلم يورث التركي من الرومي ولا الزنجي من الهندي، وهذا قول يؤول إلى أن يجعل الكفر مللًا وهو لا يقوله. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَالمَمْلُوكُونَ". قال في الحاوي: وهذا صحيح العبد لا يرث ولا يورث فإذا مات العبد كان ملاه لسيده ملكًا ولا حق فيه لأحد من ورثته وهذا إجماع فأما إذا مات للعبد أحد من ورثته لم يرثه العبد في قول الجميع، وحكي عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أنه إذا مات أبو العبد وأخوه اشترى العبد من تركته وأعتق وجعل له ميراثه فاختلف

أصحابنا هل قال ذلك استحبابًا أو واجبًا فقال بعضهم ذهبنا إلى استحبابه رأيًا وقال آخرون: بل ذهبنا إليه واجبًا وقالاه مذهبًا حتمًا، وبوجوب ذلك قال الحسن البصري وإسحاق بن راهويه وفي هذا القول إجماع على أن العبد لا يورث في حال رقه وهو أقوى دليل على أنه لا يملك إذا ملك؛ لأن الملك بالميراث أقوى منه بالتمليك وإنما أوجبوا ابتياعه وعتقه، وهذا غير لازم من وجهين: أحدهما: أن سيد العبد لا يلزمه عبده ولا يجوز أن يجبر على إزالة ملكه. والثاني: أنه لو بيع من سيده لكان يرث معتقًا بعد الموت وهذا دليل على أن المعتق بعد الموت لا يرث. فصل: فأما المدبر فكالعبد لا يرث ولا يورث وكذلك أم الوالد لا ترث ولا تورث فأما المكاتب فهو عبد ما بقي عليه درهم لا يرث ولا يورث، وبه قال من الصحابة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وزيد بن ثابت وعائشة وأم سلمة وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم. ومن التابعين سعيد بن المسيب وعمر بن عبد العزيز. ومن الفقهاء: الزهري وأحمد بن حنبل. وقال عبد الله بن عباس إذا كتبت صحيفة المكاتب عتق وصار حرًا يرث ويورث. وقال علي بن أبي طالب عليه السلام يعتق منه بقدر ما أدى ويرث به ويرق منه بقدر ما بقي ولا يرث به. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إن أدى قدر قيمته عتق وورث وإلا فهو عبد لا يرث. وقال أبو حنيفة ومالك: هو عبد ما بقي عليه درهم واحد فإن مات له ميت لم يرثه. قال: وإن مات أدى من ماله ما بقي عليه من كتابته وجعل الباقي لورثته إلا أن أبا حنيفة يجعل ذلك لمن كان معه في الكتابة ومن كان حرًا. وقال مالك: يكون لمن كان معه في الكتابة دون من كان حرًا. والدليل على جميعهم ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ولأن من منعه الرق من أن يرث منعه الرق أن يورث كالعبد. فصل: فأما المعتق بعضه فقد اختلف الناس هل يرث أم لا؟ فحكي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه يرث بقدر ما عتق منه ويحجب به، قال المزني وعثمان البتي وحكي عن عبد الله بن عباس أنه يرث كل المال كالأحرار، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وحكي عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت رحمه الله عليهما أنه لا يرث بحال، وبه قال

الشافعي ومالك؛ لأنه إذا لم تكمل حريته فأحكام الرق عليه جارية، فعلى هذا لو مات حر وترك ابنًا حرًا وابنًا نصفه حر فعلى قول المزني المال بينهما أثلاثًا؛ لأنه مقسوم على حرية ونصف فيكون للحر ثلثاه وللذي نصفه حر ثلثه وهو المروي عن علي عليه السلام وعلى قول أي يوسف يكون المال بينهما بالسوية لاستوائهما في حكم الحرية، وهو المروي عن ابن عباس وعلى قول الشافعي المال للحر وحده وهو المروي عن عمر وزيد رضي الله عنهما، ولو ترك الحر ابنًا نصفه حر وعمًا حرًا، على قول المزني للابن النصف والباقي للعم، وعلى قول أبي يوسف المال كله للابن وعلى قول الشافعي ومالك المال كله للعم، ولو ترك الحر ابنين نصف كل واحد منهما حرًا وعمًا حرًا فعلى قول أبي يوسف المال للابنين، وعلى قول الشافعي المال للعم، واختلف أصحابنا في قياس قول المزني على وجهين: أحدهما: أن لهما النصف؛ لأن نصف الحرية والنصف الآخر للعم. والثاني: أن يجمع حريتهما فيكون حرية ابن تام فيكون المال بينهما ولا شيء للعم، فلو ترك الحر ابنًا وبنتًا نصفها حر، فعلى قول أبي يوسف المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، وعلى قول الشافعي المال كله للحر من الابنين، وفيه على قول المزني وجهان: أحدهما: أن للابن خمسة أسداس المال، وللبنت السدس ووجهه أن البنت لو كانت حرة لكان للابن الثلثان، ولها الثلث، ولو كانت أمة كان للابن جميع المال، ولا شيء لها فوجب أن يكون لها بنصف الحرية النصف مما يستحقه بجميع الحرية، وذلك السدس ويرجع السدس الآخر على الابن. والثاني: أن للابن أربعة أخماس وللبنت الخمس. ووجهه: أن حرية البنت لو كملت قابلت نصف حرية الابن فصار نصف حريتها يقابل ربع حرية الابن، فيقسم المال على حرية وربع فيصير على خمسة أسهم للابن أربعة أسهم وللبنت سهم. فصل: وأما إذا مات هذا المعتق نصفه ففيه قولان: أحدهما: وهو قوله في القديم وبه قال مالك إنه لا يورث، ويكون لسيده، لأنه إذا لم يرث بحريته لم يرث بهما. والثاني: وهو قوله في الجديد إنه يكون مورثًا عنه لوراثته دون سيده؛ لأن السيد لم يكن يملك ذلك عنه في حياته فكذلك لا يملكه بعد موته. وقال أبو سعيد الاصطخري: يكون ما كان له بالحرية منتقلًا إلى بيت المال لا يملكه السيد، لأنه لا حق له في حريته ولا يورث عنه لبقاء أحكام رقه فكان أولى الجهات به بيت المال ولهذا القول عندي وجه أراه والله أعلم.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَالقَاتِلُونَ عَمْدًا أَوْ خَطًَأ وَمَنْ عَمِيَ مَوْتُهُ كَلَّ هَؤُلَاءِ". قال في الحاوي: وهذا صحيح لا اختلاف بين الأمة إن قاتل العمد لا يرث عن مقتوله شيئًا من المال ولا من الدية وإن ورث غير الخوارج وبعض فقهاء البصرة، فقد حكي عنهم توريث القاتل عمدًا استصحابًا لحاله قبل القتل، والدليل عليهم ما رواه مجاهد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليس لقاتل شيء". وروي أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القاتل لا يرث". وروي عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلًا فإنه لا يرثه وإن لم يكن له وارث غيره وإن كان والده أو ولده فليس لقاتل ميراث".وروي محمد بن راشد عن مكحول قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "القاتل عمدًا لا يرث من أخيه ولا من ذي قرابته ويرثه أقرب الناس إليه نسبًا بعد القاتل"، لأن الله تعالى جعل استحقاق الميراث تواصلًا بين الأحياء والأموات لاجتماعهم على الموالاة والقاتل قاطع للموالاة عادل عن التواصل فصار أسوأ حالًا من المرتد، ولأنه لو ورث القاتل لصار ذلك ذريعة إلى قتل كل مورث رغب وارثه في استعجال ميراثه، وما أفضى إلى مثل هذا فالشرع مانع فيه. فصل: فأما القاتل إذا لم يكن عامدًا في القتل قاصدًا للإرث فقد اختلف الفقهاء فيه فقال مالك: قاتل الخطأ يرث من المال ولا يرث من الدية. وقال الحسن وابن سيرين: قاتل الخطأ يرث من المال والدية جميعًا. وقال أبو حنيفة: لا يرث قاتل العمد والخطأ إلا أن يكون صبيًا أو مجنونًا فيرث وكذلك العادل إذا قتل باغيًا ورثه ولا يرث الباغي إذا قتل عادلًا، ومال أبو يوسف ومحمد بن الحسن إلى إرث الباغي العادل كما يرث العادل الباغي إذا كان متأولين. وقال الشافعي: كال قاتل يطلق عليه اسم القتل من صغير أو كبير عاقل أو مجنون عامد أو خاطئ محق أو مبطل فإنه لا يرث.

فصل: فأما مالك فاستدل على أن قاتل الخطأ يرث من المال دون الدية بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وروي محمد بن سعيد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يرث الزوج زوجته مالها وديتها وترث من زوجها ماله وديته". فإن قتله أحدهما عمدًا لم يرثه وإن قتل خطأ ورث ماله دون ديته وهذا نص إن صح، ولأن منع القاتل من الميراث عقوبة والخاطئ لا عقوبة عليه كما لا قود عليه والدليل عليه عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "القاتل لا يرث".وروي أبو قلابة قال: "قتل رجل أخاه في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه فلم يورثه منه". وقال: "يا أمير المؤمنين إنما قتلته خطأ" قال: لو قتلته عمدًا لأقدناك به".وروي خلاس: "أن رجلًا قذف بحجر فأصاب أمه فقتلها فغرمه علي بن أبي طالب عليه السلام الدية ونفاه من الميراث" وقال: "إنما حظك من ميراثها ذاك الحجر" ولأن كل من سقط إرثه دية مقتولة سقط عن سائر ماله كالعامد، لأن كل مال حرم إرثه لو كان عامدًا حرم إرثه، وإن كان خاطئًا كالدية، فأما قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أمتي الخطأ" فمعناه مأثم الخطأ. وأما حديث عمرو بن شعيب فمرسل ورواية محمد بن سعيد المصلوب صلب في الزندقة على ما قيل، ثم لو سلم لحمل على إرث ما استحقه من دين أو صداق. وأما قولهم: إن الخاطئ لا يعاقب بمنع الميراث قلنا: هلا أنكرتم بذلك وجوب الدية عليه والكفارة. فصل: وأما أبو حنيفة فاستدل على أن القاتل إذا كان صبيًا أو مجنونًا ورث وهكذا من قتل بسبب كحافر البئر وواضع الحجر بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رفع القلم من ثلاث عن الصبي حتى يحتلم وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى ينتبه" فاقتضى عموم ذلك رفع الأحكام عنه. قال: ولأن كل عقوبة تعلقت بالقتل سقطت عن الصبي والمجنون كالقود ودليلنا عموم قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس لقاتل شيء". ولأن موانع الإرث يستوي فيها الصغير والكبير والمجنون والعاقل كالكفر والرق، ولأنه قتل مضمون وجب أن يمنع الإرث كالبالغ العاقل ولأن كل فعل لو صدر عن الكبير

قطع التوارث فإذا صدر عن الصغير وجب أن يقطع التوارث. أصله فسخ النكاح ولأن منع القاتل من الإرث لا يخلو أن يكون بمكان الإرث فهو ما يقوله من منع الإرث لكل من انطلق عليه الاسم أو يكون لأجل التهمة فقد يخفي ذلك من الخاطئ والمجنون والصبي لاحتمال قصدهم وتظاهرهم بما ينفي التهمة عنهم، فلما خفي ذلك منهم صار التحريم عامًا كالخمر التي حرمت، ولأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة فحسم الله تعالى الباب في تحريم قليلها وكثيرها وإن كان قليلًا لا يصد لاشتباه الأمر بما يصد. فأما قوله صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث" فإنما أراد به رفع المأثم، وليس رفع الإرث متعلقًا برفع المأثم كالخاطئ والنائم لا مأثم عليهما ولو انقلب نائم على مورثه فقتله لم يرثه بوفاق أبي حنيفة، وهكذا الجواب عن قولهم إن منع الإرث عقوبة فأشبه القود، لأن الخاطئ لا عقوبة عليه وكذلك المسلم يمنع من ميراث المسلم وإن لم يستحق العقوبة. فصل: فإذا تمهد ما وصفنا فلا يخلو حال القتل إذا حدث عن الوارث من أن يكون عن سبب أو مباشرة فإن كان عن سبب فعلى ضربين: أحدهما: أن لا يوجب الضمان كرجل حفر بئرًا في ملكه فسقط فيها أخوه أو سقط حائط داره على ذي قرابته أو وضع في داره حجر فعثر به، فإذا مات في هذه الأحوال كلها لم يسقط ميراثه بشيء منها، لأنه غير منسوب إلى القتل لا اسمًا ولا حكمًا. والثاني: أن يكون السبب موجبًا للضان كوضعه حجرًا في طريق أو حفر بئر في غير ملك وسقوط جناح من داره فإذا هلك بذلك ذو قرابته لم يرثه عند الشافعي وورثه أبو حنيفة. وقال أبو العباس بن سريج: ما كان فيه متهمًا لم يرثه به وما كان منه غير متهم فيه ورثه هذا ينكسر الخاطئ. والثاني: أن يكون القتل مباشرة فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون بغير حق فيكون مانعًا من الميراث في جميع الأحوال من عمد أو خطأ في صغر أو كبر في عقل أو جنون. والثاني: أن يكون بحق كالقصاص وما في معناه فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون قتلًا هو مخير في فعله وتركه كالقود إذا أوجب له فلا يرث به. والثاني: أن يكون قتلًا واجبًا كالحاكم والإمام إذا قتل أخاه قودًا لغيره فمذهب الشافعي لا ميراث له اعتبارًا بالاسم. وقال أبو العباس بن سريج: إن قتله بالبينة لم يرثه، لأنه متهوم في تعديلها وإن قتله بإقراره ورثه، لأنه غير متهوم.

فرع: فمن فروع ما مهدناه أن ثلاثة إخوة لو قتل أحدهم أباهم عمدًا كان ميراث الأب للأخوين سوى القاتل، ولهما قتل القاتل، فإن قتلاه قودًا لم يرثاه فلو لم يقتلاه حتى مات أحدهما كان ميراثه بين القاتل والثاني منهما، لأن القاتل لا يرث مقتوله، ويرث غيره وليس للأخ الباقي أن يقتل قاتل أبيه؛ لأنه قد ورث من أخيه نصف حق، وذلك ربع دم نفسه فسقط عنه القود، لأن من ملك بعض نفسه سقط عنه القود ووجب عليه لأخيه ثلاثة أرباع دم أبيه نصفه بميراثه عن أبيه وربعه بميراثه عن أخيه. فرع: ومن فروعه أيضًا لو أن أخوين وأختًا لأب وأم، قتل أحد الأخوين أمهم عمدًا وأبوهم وارثها، كان ميراث الأم بين زوجها وابنها وبنتها على أربعة أسهم، وعلى القاتل القود لأبيه وأخيه وأخته فلو لم يقتصوا منه حتى ماتت الأخت كان للأب والأخ غير القاتل أن يقتلاه، لأن ميراث الأخت صار إلى الأب فلم يرث القاتل منه شيئًا فلو مات الأب سقط القود عن القاتل، لأن ميراثه صار إليه وإلى أخيه، وصار للأخ على القاتل ثلاثة أرباع دم الأم، لأن الأب قد كان ورث منهما بالزوجية الربع وورث عن بنته الربع فصار له بالميراث النصف، وللأخ النصف ثم مات الأب عن النصف فصار بين القاتل والأخ نصفين والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَمَنْ عَمِيَ مَوْتُه صِنْفَان غَرقَى وَمَفْقُودُونَ فَأَمَّا الغَرْقَى وَمَنْ ضَارَعَهُمْ مِنْ المَوْتَى تَحْتَ هدمٍ أَوْ فِي حَرِيقٍ فَلَا يَخْلُو حَالَهُمْ مِنْ أَرْبَعَة أَقْسَامٍ": أحدهما: أن يعلم ويتيقن موتهم فيمن تقدم منهم وتأخر فهذا يورث المتأخر من المتقدم، ولا يورث المتقدم من المتأخر وهذا إجماع. والثاني: أن يعلم يقين موتهم أنه كان في حالة واحدة لم يتقدم بعض على بعض فهذا يقطع فيه التوارث بينهم بإجماع. والثالث: أن يقطع أيهم مات قبل صاحبه ثم يطرأ الإشكال بعد العلم به فهذا يوقف من تركة كل واحد منهم ميراث من كان معه ويقسم ما سواه بين الورثة ويكون الموقوف موضوعًا حتى يزول الشك أو يقع فيه الصلح. والرابع: أن يقع الشك فيهم فلا يعلم هل ماتوا معًا أو تقدم بعضهم على بعض ثم لا يعلم المتقدم من المتأخر فمذهب الشافعي أنه يقطع التوارث بين بعضهم من بعض ويدفع ميراث كل واحد إلى غير ما هلك معه من ورثته.

وبه قال من الصحابة أبو بكر وابن عباس وزيد بن ثابت ومعاذ بن جبل والحسن بن علي بن أبي طالب رضوان الله عليهم، وأصح الروايتين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ومن التابعين عمر بن عبد العزيز وخارجة بن زيد بن ثابت. ومن الفقهاء: مالك وأبو حنيفة وأصحابه والزهري. وقال إياس بن عبد الرحمن أورث بعضهم من بعض من تلاد أموالهم ولا أورث ميتًا من ميت مما ورثه عن ذلك الميت وبه قال من الصحابة: علي بن أبي طالب. وإحدى الروايتين عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما. ومن التابعين: شريح والحسن البصري. ومن الفقهاء: الشعبي والنخعي والثوري وابن أبي ليلى وإسحاق بن راهويه استدلالًا بأن إشكال التوارث لا يمنع من استحقاقه كالخناثى. والدليل على سقوط التوارث بينهم أن من أشكل استحقاقه لم يحكم له بالميراث كالجنين، وكما لو أعتق عبدًا مات أخوه وأشكل هل كان عتقه قبل موته أو بعده لم يرثه بالإشكال، لأن بيانه مرجو وليس كذلك الغرقى لفوات البيان. فصل: وعلى هذا لو غرق أخوان أحدهما مولى هاشم والآخر مولى تميم ولم يعلم أيهما مات قبل صاحبه فعلى مذهب الشافعي، ومن قال بقوله يقطع التوارث بين الأخوين ويجعل ميراث الهاشمي لمولاه وميراث التميمي أولاه، وعلى قول إياس، ومن ورث بعضهم من بعض قال: ميراث الهاشمي لأخيه التميمي، ثم مات التميمي يورثه مولاه، وميراث التميمي لأخيه الهاشمي ثم مات الهاشمي فورثه مولاه ثم مات التميمي وورثه مولاه فيصير مال كل واحد منهما لمولى أخيه، فلو خلف كل واحد منهما زوجة وبنتًا: فعلى مذهب الشافعي، ومن لم يورث بعضهم من بعض: يجعل ميراث كل واحد منهما لزوجته من الثمن، ولبنته النصف، والباقي لمولاه، وعلى قول إياس ومن ورث بعضهم من بعض جعل ميراث كل واحد منهما بين زوجته وبنته وأخيه على ثمانية أسهم كل واحد منهما من زوجته وبنته وأخيه للزوجة الثمن سهم، وللبنت النصف أربعة أسهم، وللأخ ثلاثة أسهم ثم نقسم أسهم الأخ الثلاثة بين الأحياء من ورثته وهم زوجة، وبنت، ومولى فتكون على ثمانية، وهي غير منقسمة عليهم ولا موافقة، فاضرب ثمانية في ثمانية تكن أربعة وستين سهمًا، فاقسم مال كل واحد منهما على أربعة وستين، لزوجته الثمن ثمانية أسهم، ولبنته النصف اثنان وثلاثون سهمًا، ولأخيه أربعة وعشرون سهمًا تقسم بين الأحياء من ورثته معهم زوجته وبنت مولى، فيكون لزوجته منها الثمن ثلاثة أسهم، ولبنته النصف اثنا عشر سهمًا ولمولاه ما بقي وهو تسعة أسهم. فصل: وأما المفقود إذا طالت غيبته فلم يعلم له موت ولا حياة فمذهب الشافعي أنه

على حكم الحياة حتى تمضي عليه مدة يعلم قطعًا أنه لا يجوز أن يعيش بعدها، فيحكم حينئذٍ بموته، من غير أن يتقدر ذلك بزمان محصور، وهذا ظاهر مذهب أبي حنيفة ومالك. وقال أبو يوسف: يوقف تمام مائة وعشرون سنة مع سنه يوم فقد، لأنه أكثر ما يبلغه أهل هذا الزمان من العمر. وقال عبد الملك بن الماجشون: يوقف تمام تسعين سنة مع سنه يوم فقد ثم يحكم بموته. وقال ابن عبد الحكم: يوقف تمام سبعين سنة مع سنه يوم فقد يحكم بموته وكل هذه المذاهب في التحديد فاسدة لجواز الزيادة عليها وإمكان التجاوز لها، فلم يجز أن يحكم فيه إلا باليقين، وإذا كان هكذا وجب أن يكون ماله موقوفًا على ملكه، فإذا مضت عليه مدة لا يجوز أن يعيش إليها قسم ماله حينئذٍ بين من كان حيًا من ورثته، ولو مات للمفقود ميت يرثه المفقود وجب أن يوقف من تركته ميراث المفقود حتى يتبين أمره، فإن بان حيًا كان له وارثًا، وإن بان موته من قبل رد على الباقين من الورثة، وكذلك لو أشكل حال موته. فصل: مثل ذلك امرأة ماتت وخلفت أختين لأب، وزوجًا مفقودًا، وعصبة، فقال إن كان الزوج المفقود حيًا فالتركة من سبعة أسهم: للزوج النصف ثلاثة أسهم، وللأختين الثلثان أربعة أسهم، وإن كان الزوج المفقود ميتًا فللأختين الثلثان، والباقي للعصبة، وتصح من ثلاثة، فاضر ثلاثة في سبعة تكن أحدًا وعشرين، فإن كان الزوج حيًا فله تسعة أسهم، وللأختين اثنا عشر سهمًا، ولا شيء للعصبة، وإن كان الزوج ميتًا فللأختين أربعة عشر سهمًا، والباقي للعصبة، وهو سبعة أسهم فيعطي الأختان أقل الفرضين وذلك اثنا عشر سهمًان لأنه اليقين، ولا يدفع للعصبة شيئًا لجواز أن يكون الزوج حيًا فإن بان الزوج حيًا فالتسعة كلها له، وإن بان ميتًا رد على الأختين سهمان تمام أربعة عشر سهمًا، ودفع إلى العصبة الباقي وهو سبعة أسهم. فلو خلفت المرأة زوجًا، وأمًا، وأختًا لأم، وأختًا لأب، وأخًا لأب مفقودًا فالعمل أن نقول: إذا كان الأخ المفقود حيًا فللزوج النصف، وللأم السدس، وللأخ للأم السدس، والباقي بين الأخ والأخت من الأب على ثلاثة، وتصح المسألة من ثمانية عشر، وإن كان ميتًا فللزوج النصف، وللأم السدس، وللأخ من الأم السدس وللأخت للأب النصف وتعول إلى ثمانية، والثمانية توافق الثمانية عشر بالإنصاف فاضرب نصف إحداهما في الأخرى تكن اثنين وسبعين، ومنها تصح فمن له شيء من ثمانية يأخذه في نصف الثمانية عشر وهو تسعة، ومن له شيء من ثمانية عشر يأخذه في نصف الثمانية وهو أربعة، فللزوج من الثمانية عشر تسعة في أربعة تكن ستة وثلاثين، وله من الثمانية ثلاثة في

تسعة تكن سبعة وعشرين فأعطه سبعة وعشرين، لأنه أقل النصيبين وللأم من الثمانية عشر ثلاثة في أربعة تكن اثني عشر ولها من الثمانية سهم في تسعة فأعطها تسعة أسهم، لأنها أقل النصيبين وللأخ من الأم أيضًا تسعة أسهم، وللأخت من الثمانية عشر سهم واحد في أربعة، ولها من الثمانية ثلاثة في تسعة تكن سبعة وعشرين فأعطها أربعة، لأنها أقلها ويوقف الباقي بعد هذه السهام وهو ثلاثة وعشرون سهمًا، فإن كان الأخ المفقود حيًا أخذ ثلاثة أسهم ضعف ما أخذته أخته، وأعطي الزوج تسعة أسهم تمام النصف، وأعطيت الأم ثلاثة أسهم تمام السدس، وأعطى الأخ للأم ثلاثة أسهم أيضًا، وإن كان المفقود ميتًا دفعت ما وقفته عليه وهو ثلاثة وعشرون سهمًا إلى الأخت حتى يتم لها تسعة وعشرون سهمًا هو تمام نصيبها من مسألة العول، ومعلوم أن الأخ إن كان حيًا فإنه لا يستحق من الثلاثة والعشرين الموقوفة أكثر من ثمانية أسهم، فلو أصطلح الورثة قبل أن يعمل المفقود على ما بقي من السهام الموقوفة بعد نصيب المفقود وذلك خمسة عشر سهمًا جاز الصلح، لأنها موقوفة لهم وإن اصطلح على الثمانية الموقوفة للمفقود لم يجز، لأنها لغيرهم، ولو خلفت زوجًا، وأختًا لأب وأم، وأختًا لأب، وأخًا لأب مفقودًا كان للزوج النصف ثلاثة أسباع، وللأخت للأب والأم ثلاثة أسباع، ويوقف السبع فإن ظهر المفقود ميتًا دفع إلى الأخت للأب، وإن ظهر حيًا رد على الزوج والأخت للأب والأم، ويجوز لهم قبل ظهور حال المفقود أن يصطلحوا على السهم الموقوف، لأنه لا حق فيه للمفقود. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "لَا يَرِثُونَ وَلَا يَحْجِبُونَ". قال في الحاوي: وهذا كما قال من لم يرث برق أو كفر أو قتل لم يحجب فلا يرثون ولا يحجبون، وبه قال الجماعة. وقال عبد الله ب مسعود: يحجبون ذوي الفروض إلى أقل الفرضين، كالزوج من النصف إلى الربع، والزوجة من الربع إلى الثمن، والأم من الثلث إلى السدس ولا يسقطون العصبة كالابن الكافر لا يسقط ابن الابن، واختلف الرواية عنه في إسقاط ذوي الفروض عن كل الفروض، كإسقاط الإخوة للأم بالبنت الكافرة، وبه قال النخعي وأبو ثور استدلالًا بأن الحجب غير معتبر بالميراث، كالإخوة مع الأبوين يحجبون الأم إلى السدس ولا يرثون والدليل على إسقاط حجبهم قوله تعالى: {وإن كَانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ولأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ} [النِّسَاء: 11] فاقتضى أن يكون الإسلام شرطًا في حكم العطف كما كان شرطًا في المعطوف عليه، ولأن من سقط إرثه يعارض سقط

حجبه بذلك العارض كالإسقاط ولأن كل من ضعف بوصفه عن حجب الإسقاط ضعف بوصفه عن حجب النقصان، كذوي الأرحام، لأن كل وارث فهو لا محالة يحجب إذا ورث، لأن الابن إذا ورث مع أخيه فقد حجبه عن الكل إلى النصف، فلما ضعف الكافر عن حجب من يساويه في النسب كان أولى أن يضعف عن حجب من يخالفه في النسب. فأما استدلالهم بحجب الأخوة للأم مع الأب فلم يسقطوا لأنهم غير ورثة، لكن الأب حجبهم عنه، ألا ترى لو لم يكن معهم أب لورثوا فبان الفرق والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَلَا تَرِثُ الإِخْوَةُ وَالأَخَوَاتُ مِنْ قَبْلِ الأُمِّ مَعَ الجَدِّ وَإِنُ عَلَا وَلَا مَعَ الوَلَدِ وَلَا مَعَ وَلَدِ الابْنِ وَإِنْ سَفُلَ". وقال في الحاوي: وهذا كما قال الإخوة والأخوات ثلاثة أصناف: صنف يكونون لأب وأم ويسمون بني الأعيان. سموا بذلك لأنهم من عين واحدة أي من أب واحد وأم واحدة ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم "أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات" والصنف الثاني الإخوة والأخوات للأب يسمون بني العلات، يسموا بذلك، لأن أم كل واحد منهم لم تعل الأخرى، أي لم تسقه لبن رضاعها، والعلل الشرب الثاني والنهل الأول، وقد قال الشاعر: وَالنَّاسُ أَبْنَاءُ عِلاتٍ فَمَنْ عَلِمُوا أَنْ قَدْ أَقَلَّ فَمَحْجُورٌ وَمَحْقُورُ وَهُمْ بَنُو أُمِّ مَنْ أَمْسَى لَهُ نَشَبُ فّذَاكَ بِالغَيْبِ مَحْظُوظٌ وَمَنْصُورُ وَالخَيْرُ وَالشَّرُّ مَقْرُونَانِ فِي قَرن وَالخَيْرُ مُتَّبَعٌ وَالشَّرَُ مَحْذُورُ والصنف الثالث الإخوة والأخوات للأم يسمون بني الأخياف، والأخياف الأخلاط، لأنهم من أخلاط الرجال، وليس هم من رجل واحد، ولذلك سمي الخيف من مني لاجتماع أخلاط الناس فيه، وقيل: اختلاط الألوان الخافية، وقد قال الشاعر: النَّاسُ أَخْيَافُ وَشَتَّى فِي الشِّيَمُ وَكُلُّهُمُ يَجْمَعُهُمْ بَيْتُ الأَدَمْ يعني: أنهما أخلاط منهم الجيد، ومنهم الرديء، كبيت الأدم الذي يجمع الجلد كله، فمنه الكراع ومنه الظهر. فرع: فأما الإخوة والأخوات للأم فيسقطون مع أربعة: مع الأب، مع الجد، ومع الولد ذكرًا كان أو أنثى، ومع ولد الابن ذكرًا كان أو أنثى، والدليل على ذلك قوله

تعالى: {وإن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ ولَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النِّسَاء:12] وقد كان سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يقرأ وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت من أم فلكل واحد منهما السدس، وهذا يجوز أن يكون قاله تفسيرًا، ويحتمل أن يكون تلاوة، وقد أجمعوا على أنهم الإخوة والأخوات من الأم، لأن الله تعالى قال: {فَإن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النِّسَاء:12] فرع: وأما الكلالة لقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: تكفيك آية الصيف يعني: قوله في آخر سورة النساء: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ} [النِّساء: 176]، لأنها نزلت في يوم صائف فلم يفهمها عمر وقال لحفصة رضي الله عنهما: إذا رأيت من رسول الله صلى الله عليه وسلم طيب نفس فاسأليه، فرأت منه طيب نفس فسألته عنها فقال لها: أبوك كتب لك هذا ما أرى أباك يعلمها أبدًا، فكان عمر يقول: ما أراني أعلمها أبدًا. وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ثلاث، لأن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليّ من الدنيا وما فيها الكلالة والخلافة والرب، وإنما لم يزده النبي صلى الله عليه وسلم في بيان الكلالة، لأن في الآية من الإشارة ما يكتفي به المجتهد، وقد كان عمر رضي الله عنه من أهل الاجتهاد، وإن قصر عن إدراكه لعارض، وقد اختلف في الكلالة فروي عن ابن عباس في إحدى الروايتين عنه أن الكلالة ما دون الولد تعلقًا بقوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ ولَدٌ} [النِّسَاء: 176] وقال قوم: الكلالة ولد الأم تعلقًا بقوله تعالى: {وإن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ ولَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النِّسَاء:12]، يعني في أم فاقتضى أن يكون هو الكلالة. وقال الجمهور: إن الكلالة ما عدا الولد والوالد، وهذا قول أبي بكر وعلي وزيد وابن مسعود رضي الله عنهم وبه قال الشافعي وأبو حنيفة ومالك ووجه ذلك أن ولد الأم لما سقطوا مع الولد لسقوطهم مع الولد دل على أن الكلالة من عدا الوالد والولد وقد ذكر أبو إسحاق المروزي في شرحه عن عمرو بن شعيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأخ من الأب والأم أولى من الكلالة"، ولأن الكلالة مصدر من تكلل النسب تشبيهًا بتكلل أغصان الشجرة على عمودها فالوالد أصلها والولد فرعها من سواهما من المناسبين كالأغصان المتكللة عليها وقيل: إن الكلالة من تكلل طرفاه فخلا عن الآباء والأبناء، وقيل: إن الكلالة مأخوذة من الإحاطة ومنه سمي الإكليل لإحاطته بالرأس فسمي هؤلاء كلالة لإحاطتهم بالطرفين، وقد قال الفرزدق في سليمان بن عبد الملك في وصول الخلافة إليهم عن آبائهم لا عن غيرهم:

وَرِثْتُمْ قَنَاةِ المُلْكِ غَيْرَ كَلَالَةٍ عَنْ ابْنِ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمِ وقال الآخر: فَإِنَّ أَبَا المَرْءِ أَحْمَى لَهُ وَمَوْلَى الكَلَالَةِ لَا يَغْضَب يعني: مولى غير الوالد والولد. فرع: فإذا ثبت أن الكلالة من عدا الوالد والولد فقد اختلفوا هل هو اسم للميت أو للورثة، فقال قوم: الكلالة اسم الميت إذا لم يكن له والد ولا والد، وبه قال أبو بكر وعلي وزيد وابن مسعود رضي الله عنهم وإليه مال الشافعي، لأن الله تعالى قال: {وإن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} [النِّسَاء:12] فجعل ذلك صفة للموروث ولو كانت صفة للوارث لقال وإن كان رجل يرثه كلالة، ولأنه يقال عقيم لمن لا والد له، ويتيم لمن لا والد له، وكلالة لمن لا ولد له، ولا والد، وقال آخرون: الكلالة اسم للورثة إذا لم يكن فيهم ولد ولا والد، قال الشافعي وهذا أيضًا صحيح. وإن قيل: لم يتعد، لأن الله تعالى قال: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ ولَدٌ ولَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النِّسَاء: 176] فكانت الفتيا عن الكلالة ما بينه من الحكم من ولد الأب. وقال آخرون: الكلالة من الأسماء المشتركة تنطلق على الميت إذا لم يترك ولد ولا والد وعلى الورثة إذا لم يكن فيها ولد ولا والد، لاحتمال الأمرين. قالو: فالكلالة التي في قوله تعالى: {وإن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} [النِّسَاء:12] اسم للميت والتي في قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ ولَدٌ} [النِّسَاء: 176] سم للورثة والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَلَا تََرِثُ الإخْوَةُ وَلَا الأَخَوَاتُ مَنْ كَانُوا مَعَ الأَبِ وَلَا مَعَ الابْن وَلَا مَعَ ابْنِ الابْنِ وَإِنْ سَفُلَ". قال في الحاوي: وهذا صحيح الإخوة والأخوات للأب والأم يسقطون مع ثلاثة مع الابن دون البنت ومع ابن الابن ومع الأب ولا يسقطون مع الجد على ما نذكره في باب الجد، وحكي عن عبد الله بن عباس في رواية تشذ عنه أنه كان مع الأبوين إخوة حجبوا الأم من الثلث إلى السدس واستحقوا السدس الذي حجبوا الأم عنه، لأن الأب لا يستحقه مع عدم الإخوة، فوجب أن لا يستحقه بوجود الأخوة، والدليل على فساد هذا القول قول الله تعالى: {ووَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النِّسَاء: 11] فكالباقي بعده للأب ثم

قال: {فَإن كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النِّسَاء: 11] فدل الظاهر على أن الباقي أيضًا للأب. ولأن الإخوة لا يرثون مع الأب وحده، فكان أولى أن لا يرثوا معه ومع الأم، ولأن من أدلى بعصبة لم يرث مع وجود تلك العصبة كابن الابن مع الابن وكالجد مع الأب. فإن قيل: أفليس الإخوة للأم يدلون بالأم ويرثون معها، فهلا كان الإخوة مع الأب وإن أدلوا به يرثون معه. قيل: الفر بينهما من وجهين: أحدهما: أن الإخوة للأب عصبة يدلون بعصبة فلم يجز أن يدفعوه عن حقه مع إدلائهم به، والإخوة للأم ذو فرض لا يدفعون الأم عن فرضها فجاز أن يرثوا معها. والثاني: أن الإخوة للأم لا تأخذ الأم فرضهم إذا عدموا فلم يدفعهم عنه إذا وجدوا والأخوة للأب يأخذ الأب حقهم، إذا عدموا فدفعهم عنه إذا وجدوا. فأما حجبهم الأم عن السدس فليس كل من حجب عن فرض استحق ذلك الحجب، ألا ترى أن فرض البنت النصف لو لم تحجب أحدًا ولو حجبت الزوج إلى الربع والزوجة إلى الثمن والأم إلى السدس لم يعد عليها ما حجبتهم عنه من الفروض وكذلك الأخوة. فرع: فأما الأخوة والأخوات للأب فيسقطون مع من تسقط معه الإخوة والأخوات للأب والأم من الابن وابن الابن والأب ويسقطون أيضًا مع الإخوة والأخوات للأب والأم لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات". مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَلَا يَرِثُ مَعَ الأَبِ أَبَوَاهُ ولَا مَعَ الأُمِّ جَدَّةٌ وَهّذَا كُلُّهُ قَوْلُ الشَّافِعِيُّ وَمَعْنَاهُ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: لا خلاف أن الجدات لا يرثن مع الأم سواء من كن منهن من قبل الأب أو من قبل الأم لأنهن يرثن بالولادة فكانت الأم أولى منهن لأمرين: أحدهما: أنها مباشرة للولادة بخلافهن. والثاني: أن الولادة فيها معلومة وفي غيرها مظنونة فلفوتها بهذين أحجبت جميع الجدات. وأما الأب فلا خلاف أنه يحجب أباه وهو الجد ولا يحجب الجدة من قبل الأم

باب المواريث

واختلفوا في حجبه لأمه فمذهب الشافعي إلى أن الجدة أم الأب تسقط بالأب كالجد، وبه قال من الصحابة عثمان وعلين والزبير وسعد بن أبي وقاص وزيد بن ثابت رضوان الله عليهم ومن التابعين سعيد بن المسيب وابن سيرين ومن الفقهاء: مالك والثوري والأوزاعي. وقال أبو حنيفة: الجدة أم الأب ترث مع الأب كما ترث مع أم الأم وبه قال من الصحابة: عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وعمران بن الحسين وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم، ومن التابعين: الحسن البصري وشريح وعروة بن الزبير ومن الفقهاء: عطاء بن أبي رباح وأحمد بن حنيل وإسحاق بن راهويه وأهل البصرة استدلالًا بما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال في الجدة مع ابنها أنها أول جدة أطعمها رسول الله صلى الله عليه وسلم سدسًا وابنها حي. وروي الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ورث الجدة مع ابنها. وروي أنه ورث الجدة مع ابنها ولأنه ضعف الأب عن حجب أم الأم وهي بإزائها ضعف أيضًا عن حجبها، ولأن الجدة، وإن أدلت بالأب فهي غير مضرة به، لأنها تشارك أم الأم في فرضها فجرى مجرى الإخوة للأم لما لم يضروا بالأم لم يسقطوا مع الأم. ودليلنا هو أن كل من أدلى إلى الميت بأب وارث سقط به كالجد والإخوة ولأن الإدلاء إلى الميت بمن يستحق جميع الميراث يمنع من مشاركته في الميراث كولد الابن مع الابن وولد الإخوة مع الإخوة، ولأنها جدة تدلي بولدها فلم يجز أن تشارك ولدها في الميراث كالجدة أم الأم مع الأم، وأما المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ورث الجدة وابنها حي فضعيف، لأن صحته تمنع من اختلاف الصحابة رضي الله عنهم فيه، ثم لو سلم لكان عليه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه محمول على توريث الجدة أم الأم مع ابنها الذي هو الخال. والثاني: أنه محمول على توريث أم الأب مع ابنها وهو العم. والثالث: أنه يجوز أن يكون مع الأب إذا كان كافرًا أو قاتلًا ويستفاد بذلك أن لا يسقط ميراثًا بسقوط من أدلت به. فأما أم الأم فإنما لم يحجبها الأب لإدلائها بغيره وليس كذلك أمه لإدلائها به وأما عدم إضرارها بالأب فقد تضر به، لأنها تأخذ فرضها من مال كان يستوعبه بالتعصيب، ثم لو لم تضر لجاز أن يسقطها كما يسقط الإخوة للأم وإن لم يضروه والله أعلم. باب المواريث قَالَ المُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "وَللزَّوْجِ النِّصْفُ فَإِنْ كَانَ لِلمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ وَلَدٍ وَإِنْ

سَفُلَ فَلَهُ الرُّبُعُ". قال في الحاوي: اعلم أن ما نص الله تعالى عليه من المواريث نوعان: أحدهما: ما جعله مرسلًا وهو مواريث العصبات يستوعبون المال إذا لم يكن فرض ويأخذون الباقي بعد الفرض قال الله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النِّسَاء: 11] فذكره بلفط الوصية لأنهم كانوا يتوارثون قبل نزولها بالوصية وقال الله: {وإن كَانُوا إخْوَةً رِّجَالاً ونِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النِّسَاء: 176] والثاني: جعله فرضًا مقدرًا والفرض المنصوص عليها في كتاب الله تعالى ستة نص الله تعالى عليها في الآي الثلاث من سورة النساء وهي: النصف والربع والثمن والثلثان والثلث والسدس فكأنهما النصف ونصفه ونصف نصفه والثلثان ونصفهما ونصف نصفهما. فأما النصف ففرض خمسة: فرض الزوج إذا لم يحجب، وفرض البنت فرض بنت الابن وفرض الأخت للأب والأم وفرض الأخت للأب. وأما الربع ففرض اثنين فرض الزوج مع الحجب وفرض الزوجة أو الزوجات مع عدم الحجب. وأما الثمن فهو فرض واحد وهو فرض الزوجة والزوجات مع الحجب. وأما الثلثان ففرض أربعة: فرض البنتين فصاعدًا وفرض الابن فصاعدًا وفرض الأخت من الأب فصاعدًا وفرض الأختين للأب فصاعدًا أما الثلثان فرض كل اثنين كان فرض إحداهما النصف، وأما الثلث ففرض فريقين فرض الأم إذا لم تحجب وفرض الابنين فصاعدًا من ولد الأم. وأما السدس ففرض سبعة فرض الأب وفرض الجد وفرض الأم مع الحجب وفرض الجدة أو الجدات وفرض الواحد من ولد الأم، وفرض بنت الابن مع بنت الصلب، وفرض الأخت مع الأب مع الأخت من الأب والأم، ولا يجوز أن يجتمع ثلثان وثلثان، ولا ثلث وثلث، ولا نصف ولا نصف إلا في زوج وأخت، فأما في بنت وأخت فليس نصف الأخت مع البنت فرضًا، ولا يجوز أن يجتمع ربعان ولا ربع وثمن. فصل: فإذا تقرر ما ذكرنا من الفروض فقد بدأ الشافعي بفرض الزوج وفرضه النصف إن لم يكن للميتة ولد ولا ولد ابن فإن كان لها ولد أو ولد ابن ففرضه الربع. قال الله تعالى: {ولَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ ولَدٌ فَإن كَانَ لَهُنَّ ولَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النِّسَاء: 12] فصار فرض الزوج النصف وقد يأخذه تارة كاملًا وتارة عائلًا وأقل فرض الربع، وقد يأخذه تارة كاملًا وتارة عائلًا ولا فرق في حجب الزوج بين أن يكون الولد منهما أو منها دونه سواء

كان ذكرًا أو أنثي، صغيرًا أو كبيرًا، وهكذا ولد الابن يحجب الزوج كما يحجبه الولد واختلف أصحابنا هل يحجب بالاسم أو بالمعنى، فقال بعضهم: يحجب بالاسم، لأنه يسمى ولدًا. وقال آخرون: يحجب بالمعنى لا بالاسم، لأن حقيقة الولد ينطلق على ولد الصلب، فلذلك قلنا إن من وقف على ولده لم يكن لولد والده فيه حق فأما في الحجب فقد أجمعوا أنه يقوم فيه مقام الولد إلا ما يحكى عن مجاهد حكاية شاذة أن الزوج والزوجة لا يحجبان بولد الولد، وهذا قول مدفوع بالإجماع، والمعنى إن نازع في الاسم، فعلى هذا لا فرق في ولد الابن بين ذكورهم وإناثهم الواحد والجماعة فيه سواء. فأما ولد البنت فلا يحجب، لأنه من ذوي الأرحام، وقول الشافعي فإن كان للميت ولد أو ولد ولد إنما أراد به ولد الابن دون ولد البنت، وليس كما جهل بعض الناس فعابه وخطأه فيه. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَلِلْمَرْأَةِ الرُّبُعُ فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ وَلَدٍ وَإِنْ سَفُلَ فَلَهَا الثُّمُنُ وَالمَرْأَتَانِ وَالثَّلَاثُ وَالأَرْبَعُ شُرَكَاءُ فِي الرُّبُعِ إِذَا لَمْ يَكُنْ وَلَدٌ وَفِي الثُّمُنِ إِذَا كَانَ وَلَدٌ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: للزوجة فرضان أعلى وأدنى فأما الأعلى فهو الربع يفرض لها إذا لم يكن للميت والد ولا ولد ابن فأعلى فرضها هو أدنى فرض الزوج، لأن ميراث المرأة على النصف من ميراث الرجل إلا في موضعين: أحدهما: الأبواب معهم الابن. والثاني: الإخوة والأخوات للأم فإنه يستوي فيهما الذكور والإناث ويتفاضلون فيما سواهما. ثم هذا الربع قد تأخذه تارة كاملًا وتارة عائلًا فإن كان للميت ولد أو ولد ابن وإن سفل منهما أو منه دونها فلها الثمن ثم قد تأخذ الثمن تارة كاملًا وتارة عائلًا ثم هذان الفرضان أخذا من نص الكتاب قال الله تعالى: {ولَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ ولَدٌ فَإن كَانَ لَكُمْ ولَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم} [النِّسَاء: 12] فإن كن أكثر من واحدة اشتركن ولو كن أربعًا، إذا لم يحجبن. وفي الثمن إذا حجبن وصرن والجدات سواء يستركن في الفرض الواحد وإن كثرن ولا يزيد بزيادتهن.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَلِلأُمِّ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ وَلّدٌ أَوْ وَلَدُ وَلَدٍ أَوْ اثْنَانِ مِنَ الإِخْوةِ أَوْ الأّخَوَاتِ فَصَاعِدًا فَلَهَا السُّدُسُ إِلَّا فِي فَرِيضَتَيْنِ إِحْدَاهُمَا زَوْجٌ وَأَبَوَانِ وَالأُخْرَى امْرَأَةٌ وَأَبَوَانِ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي هَاتَيْنِ الفَرِيضَتَيْنِ للأُمِّ ثُلُثُ مَا يَبْقَى بَعْدَ نَصِيبِ الزَّوْجِ أَوْ الزِّوْجَةِ وَمَا بَقِيَ فَلِلأَبِ". قال في الحاوي: اعلم أن للأم في ميراثها ثلاثة أحوال: إحداهن: أن يفرض لها الثلث وهو أكمل أحوالها وذلك إذا لم يكن للميت ولد ولا ولد ابن ولا اثنان فصاعدًا من الإخوة والأخوات قال الله تعالى: {ووَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النِّسَاء: 11] فاقتضي الكلام أن الباقي بعد ثلث الأم للابن وهذا الثلث قد تأخذه تارة كاملًا وقد تأخذه تارة عائلًا. والحالة الثانية: أن يفرض لها السدس وذلك أقل أحوالها إذا حجبت عن الثلث وحجبها عن الثلث إلى السدس يكون بصنفين: أحدهما: الولد أو ولد الابن يحجب الأم عن الثلث إلى السدس ذكرًا كان أو أنثى كما قلنا في حجب الزوج والزوجة وسواء في ذلك الولد أو ولد الابن بالإجماع إلا ما خالف فيه مجاهد وحده حيث لم يحجب بولد الابن وقد تقدم ذكره. والدليل على ذلك قوله تعالى: "وإن كَانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ ولأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ " [النِّسَاء: 11]. والثاني: حجبها بالإخوة والأخوات فالواحد منهم لا يحجبها إجماعًا والثلاثة من الإخوة والأخوات يحجبونها عن الثلث إلى السدس إجماعًا لقوله تعالى: {ووَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإن كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النِّسَاء: 11].وسواء كان الإخوة لأب وأم أو لأب أو أم وسواء كان الإخوة ذكورًا أو إناثًا وقال الحسن البصري: لا أحجب الأم بالأخوات المنفردات تعلقًا بقوله تعالى: {فَإن كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النِّسَاء: 11]. واسم الأخوة لا ينطلق على الأخوات بانفرادهن وإنما يتأولهن العموم إذا دخلن مع الإخوة تبعًا، وهذا خطأ، لأن الله تعالى إنما أراد بذلك الجنس وإذا كان الجنس مشتملًا على الفريقين غلب في اللفظ حكم التذكير، على أن الإجماع يدفع قول الحسن عن هذا القول. فأما حجب الأم بالاثنين من الإخوة والأخوات فالذي عليهن الجمهور أنها تحجب بهما إلى السدس وهو قول عمرو وعلي وزيد بن مسعود رضي الله عنهم والشافعي ومالك وأبي حنيفة وجماعة الفقهاء وانفرد عبد الله بن عباس فخالف الصحابة بأسرهم فلم

يحجبها إلا بالثلاثة من الإخوة والأخوات فصاعدًا وهي إحدى مسائله الأربعة التي خالف فيها جميع الصحابة استدلالًا بظاهر قوله تعالى: {فَإن كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النِّسَاء: 11].فذكر الإخوة بلفظ الجمع، وأقل الجمع المطلق ثلاثة وروي أن عبد الله بن عباس دخل على عثمان بن عفان رضي الله عنهما فقال: ما بال الأخوات يحجبن الأم عن الثلث والله تعالى يقول: {فَإن كَانَ لَهُ إخْوَةٌ} [النِّسَاء: 11]، فقال عثمان: ما كانت لأغير شيئًا توارث الناس عليه وصار في الآفاق فدل هذا القول من عثمان على انعقاد الإجماع وإن لم ينقرض العصر على أن الأخوين يحجبانها، ولم يأخذ بقول ابن عباس أحد ممن تأخر إلا داود بن علي. والدليل على صحة ما ذهب إليه إجماع من حجبها بالاثنين من الإخوة والأخوات هو أن كل عدد روعي في تغيير الفرض فالاثنان منهم يقومان مقام الجمع كالأختين في الثلثين وكالأخوين من الأم في الثلث، فكذلك في الحجب وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الاثنان فما فوقهما جماعة".وقد جاء في كتاب الله تعالى في العبارة عن الاثنين بلفظ الجمع في قوله تعالى: {إذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص:22] فذكرهم بلفظ الجمع وهم اثنان وقال تعالى {ودَاوُدَ وسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الحَرْثِ إذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ وكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] فإذا ثبت هذا لم يمتنع ذلك في ذكر الإخوة في الحجب بلفظ الجمع وإذا كان كذلك وجب حجبها بما اتفق عليه الجمهور من الاثنين فصاعدًا سواء كانا أخوين أو أختين أو أخ وأخت لأب وأم أو لأب أو لأم. فصل: من فروض الأم أن تكون الفريضة زوجًا وأبوين فيكون للأم الثلث ما بقي بعد فرض الزوج أو الزوجة والباقي للأب وبه قال جمهور الصحابة وتفرد ابن عباس بخلافهم وهي المسألة الثانية من المسائل الأربع التي خالفهم فيها، فقال للأم ثلث جميع من الزوجين والأبوين وفي الزوجة استدلالًا بقوله تعالى: {ووَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النِّسَاء: 11] فلم يجز أن تأخذ أقل منه، وحكي عن محمد بن سيرين مذهب خالف به القولين فقال: أعطيها ثلث ما بقي من زوج وأبوين كقول الجماعة، لأنها لا تفضل على الأب وأعطيها من زوجة وأبوين ثلث جميع المال كقول ابن عباس، لأنها لا تفضل بذلك على الأب. والدليل على أن لها في المسألتين معًا ثلث الباقي بعد فرض الزوج والزوجة قوله تعالى: {ووَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النِّسَاء: 11] فجعل للأم الثلث من ميراث الأبوين

(وميراثهما) هو ما سوى فرض الزوج أو الزوجة فلم يجز أن يزاد على ثلث ما ورثه الأبوان، ولأن الأبوين إذا انفرد كان المال بينهم أثلاثًا للأم ثلثه وللأب ثلثاه فوجب إذا زاحمها ذوو فرض أن يكون الباقي منه بينهما للأم ثلثه وللأب ثلثاه ولأن الأب أقوى من الأم، لأنه يساويها في الفرض ويزيد عليها بالتعصيب فلم يجز أن تكون أزيد سهمًا منه بمجرد الرحم. فإن قيل: فالجد يساوي الأب إذا كان مع الأم عند عدم الأب ثم للأم مع الزوج والجد ثلث جميع المال، وإن صارت فيه أقل من الجد كذلك مع الأب قبل الأب أقوى من الجد لإدلاء الجد بالأب، ولإسقاط الأب من لا يسقط بالجد، ولأنه مساوٍ للأم في درجته مع فضل التعصيب، والجد أبعد منها في الدرجة وإن زاد الأب في التعصيب فلقوة الأب على الجد لم يجز أن يساوي بينهما في التفضيل على الأم والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَللْبنْتِ النِّصْفُ وَلِلابْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا الثُلُثَانِ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: أما البنت الواحدة إذا انفردت ففرضها النصف بنص الكتاب قال الله تعالى: {وإن كَانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النِّسَاء: 11] فإن كن اثنين فصاعدًا ففرضها الثلثان وبه قال جمهور الصحابة رضي الله عنهم وسائر الفقهاء وقال عبد الله بن عباس في رواية عنه شاذة إن فرض البنتين النصف كالواحدة وفرض الثلاث فصاعدًا الثلثان استدلالًا بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النِّسَاء: 11] فجعل الثلثين فرضًا لمن زاد على صرح في الأخوات بأن فرض الاثنتين فصاعدًا الثلثان وقال في البنات: {فَإن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النِّسَاء: 11] فاحتمل أن يكون هذا العمل محمولًا على ذلك التصريح المقيد في الأخوات واحتمل أن يكون بخلافه على ما حكي عن ابن عباس فكان حمله على الوجهين الأولين أولى من حمله على ما قال ابن عباس لأمرين ترجيح واستدلال. أحدهما: أنه لما استوى فرض البنت والأخت في النصف اقتضى أن يستوي فرض البنتين والأختين. والثاني: أن البنات أقوى في الميراث من الأخوات، لأنهن يرثن مع من يسقط الأخوات، فلم يجز أن يكون فرض الأختين مع ضعفهن الثلثين ويكون فرض البنتين مع قوتهن النصف: وليس يمنع أن يكون قوله فوق صلة زائدة كما قال الله تعالى: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ

الأَعْنَاقِ} [الأنفَال:12] ثم يدل على ذلك من طريق السنة ما رواه عبد الله بن محمد بن عقيل عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى بنتي سعد بن الربيع مع أمها وعمها الثلثين والأم والثمن والباقي للعم وهذا نص. وقد روينا الخبر بكماله في صدر الكتاب، ولأنه لما كان فرض البنت الواحدة مع بنت الابن الثلثين النصف والسدس، فلا يكون الثلثان فرض البنتين أولى. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمهُ اللهُ تَعَالَى: "فَإِذَا اسْتَكْمَلَ البَنَاتُ الثُّلُثَيْنِ فَلَا شَيْءَ لِبَنَاتِ الابْنِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمَيِّتِ ابْنُ ابْنٍ فَيَكُونَ مَا بَقِي لَهُ وَلِمَنْ فِي دَرَجَتِهِ أَوْ أَقْرَبَ إِلَى المَيِّتِ مِنْهُ مِنْ بَنَاتِ الابْنِ مَا بَقِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنْثَييْنِ". قال في الحاوي: وهذا كما قال متى استكمل بنات الصلب الثلثين فلا شيء لبنات الابن إذا انفردن عن ذكر في درجتهن أو أسفل منهن وسقطن إجماعًا، فإن كان معهن ذكر في درجتهن كبنت ابن وابن ابن من أب واحد أو من أبوين أو كان الذكر أسفل منهن بأن يكون مع البنت الابن ابن ابن فإنه يعصبهن ويكون الباقي بعد الثلثين فرض البنات بين بنات الابن والابن للذكر مثل حظ الأنثيين، وهكذا إذا كان الذكر أسفل منهن وهذا قول الجماعة من الصحابة والفقهاء وتفرد عبد الله بن مسعود فجعل الباقي بعد الثلثين لابن الابن دون بنات الابن وهي إحدى مسائله التي تفرد فيها بمخالفة الصحابة ووافقه على ذلك أبو ثور وداود استدلالًا بأن فرض البنات الثلثان فلا يجوز أن يزدن عليه فإذا استكمله بنات الصلب سقط بهن بنات الابن لاستيعاب الفرض وصار الفاضل عنه إلى ابن الابن بالتعصيب. ودليلنا قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النِّسَاء: 11] فكان على عمومه ولأن الذكر من الولد إذا كان في درجته أنثى عصبها ولم يسقطها كأولاد الصلب، ولأن كل أنثى تشارك أخاها إذا لم يزاحمها ذو فرض تشاركه مع مزاحمة ذي الفرض كمزاحمة الزوج. فأما استدلاله بأن فرض البنات الثلثان فهو كذلك ونحن لم نعط بنت الابن فرضًا، وإنما أعطيناها بالتعصيب والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ إِلَّا ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ وَبِنْتُ ابْنٍ أَوْ بَنَاتُ ابْنٍ فَلِلابْنَةِ النِّصْفُ وَلِبِنْتُ الابْنِ أَوْ بَنَاتِ الابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةُ الُّثلُثَيْنِ وَتَسْقُطُ بَنَاتُ

ابن الابن إذا كن أسفل منهن إلا أن يكون معهن ابن ابنٍ في درجتهن أو أبعد منهن فيكون ما بقي له ولمن في درجته أو أقرب إلى الميت منه من بنات الابن ممن لم يأخذ من الثلثين شيئا للذكر مثل حظ الأنثيين ويسقط من أسفل من الذكر فإن لم يكن إلا ابنة واحدة وكان مع بنت الابن أو بنات الابن ابن ابنٍ في درجتهن فلا سدس لهن ولكن ما بقي له ولهن للذكر مثل حظ الأنثيين وإن كان مع البنت أو البنات للصلب ابن فلا نصف، ولا ثلثين ولكن المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا ترك الميت بنتًا وبنت ابن كان للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملةً الثلثين لروايةَ الأعمش عن أبي قيس الأودي عن هذيل بن شرحبيل الأودي قال: جاء رجل إلى أبي موسى الأشعري وسلمان بن ربيعةَ يسألهما عن ابنةَ وابنةُ ابن وأخت لأب وأم فقالا لابنته النصف وللأخت من الأب والأم الصف ولم يورثا بنت الابن شيئًا، وأما ابن مسعود فإنه سيتابعنا فأتاه الرجل فسأله وأخبره بقولهما، فقال: لقد ضللت إذا وما أنا من المهتدين ولكن سأقضي فيها بقضاء رسول الله- صلى الله عليه وسلم -لابنتهِ النصف ولابنه الابن سهم تكملةُ الثلثين، وما بقي فللأخت من الأب والأم. وهكذا لو كانت الفريضةً بنتًا وعشر بنات ابن كان للبنت النصف ولعشر بنات الابن السدس وإن كثرن؛ وهكذا لو كانت الفريضةً بنتًا وعشر بنات ابن ابنِ أسفل من بنت الصلب بثلاث درج كان لهن السدس، كما لو علون فإن كان معهن ذكر سقط فرض السدس لهن، وكان الباقي بعد نصيب البنت بين بنات الابن وأختهن للذكر مثل حظ الأنثيين، لأنه عصبهن، وهذا قول الجماعةً. وقال ابن مسعود: وهي ثان مسائلهً التي تفرد فيها بخلاف الصحابة أن لبنات الابن إذا شاركهن ذكر أقل الأمرين من السدس الباقي من فرض البنات بعد نصف البنت أو المقاسمةً. فإن كانت مقاسمةً الذكر الذي في درجتهن أنقص لسهمين من السدس قاسمهن ثم ما بقي للذكر مغل حظ الأنثيين، وإن كانت المقاسمةَ أزيد من السدس فرض لهن السدس، وجعل الباقي بعد الثلثين للذكور من بني الابن، وتابعه على ذلك أبو ثور داود استدلالًا بأن فرض البنات الثلثان فلم يجز أن يزدن عليه، وهذا فساد من وجهين: أحدهما: أن اشتراك البنتين والبنات في الميراث يوجب المقاسمةً دون الفرض قياسًا على ولد الصلب. والثاني: أن الذكر إذا دفع أخته عن المقاسمةً أسقطها كولد الأخوةً وإذا لم يسقطها شاركته كالولد، وفي قول ابن مسعود دفع لهذين الأصلين وقوله إن فرض البنات لا يزيد

على الثلثين فهو على ما قال غير أننا نسقط مع مشاركةَ الذكر فرضهن فيما يأخذنه بالتعصيب دون الفرض. فرع: فلو ترك بنتًا وبنت ابن وابن ابن ابنٍ كان للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكمله الثلثين والباقي لابن ابن الابن لا يعصب عمته إذا كان لها فرض كما أن ابن الابن لا يعصب البنت، لأنها ذات فرض فلو كانت المسألةً بحالها بنتًا وبت ابن ابنٍ معها أخوها كان للبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملةُ الثلثين والباقي بين السفلى وأخيها للذكر مثل حظ الأنثيين وهكذا لو كان الذكر أسفل منها بدرجةً فكان ابن ابن ابن ابن كان بعد نصف البنت وسدس بنت الابن من بنت ابن الابن وبين ابن أخيها الذي هو ابن ابن ابن للذكر مثل حظ الأنثيين وعصبها مع نزوله عن درجتها، لأنها ليست ذات فرض والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وَإِن كَانَ مَعَ الْبِنْتِ أَوْ الْبناتَ لِلْصَلْبِ اِبْنَ فَلَا نِصْفَ وَلَا ثُلْثَيْنِ وَلَكنَّ الْمَالَ بَيْنَهُمْ لِلْذَكَرِ مِثْلُ حَظَّ الأُنْثَيَيْنِ وَيُسْقِطُ جَمِيعَ ولدَ الِابْنِ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا كان مع البنت أو البنات اللاتي للصلب ابن سقط به فرض البنات وأخذن المال معه بالتعصيب للذكر مثل حظ الأنثيين لقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11] إلا شيئين فسقط بالابن جميع أولاد الابن سواء كانوا منه أو من غيره كما سقط بالإخوةً بنو الإخوةَ وبالأعمام رواه ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أقسم المال بين أهل الفرائض على كتاب الله فما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر". مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وَوَلَدُ الْاِبْنِ بِمَنْزِلَةِ وَلَدِ الصّلْبِ فِي كُلَّ إذاً لَمْ يَكِنْ وَلَدُ صَلْبِ". قال في الحاوي: وهذا صحيح وهذا مما قد انعقد الإجماع عليه أن ولد الابن يقومون مقام ولد الصلب إذا عدم ولد الصلب في فرض النصف لإحداهن الثلثين لمن زاد وفي مقاسمةُ إخوتهن للذكر مثل حظ الأنثيين وفي حجب الأم والزوج والزوجةً إلا مجاهدًا، فإنه خالف في الحجب بهم ووافق فيها سوى ذلك من أحكامهم وهو مع دفع

قوله بالإجماع محجوج بموافقته على ما سوى الحجب أن يكون دليلا عليه في الحجب ثم إذا كانت بنت الابن تقوم مقام بنت الصلب عند عدمها كانت بنت الابن معها في استحقاق السدس قائمةً مقام بنت الابن مع ابنةَ الصلب، والله أعلم. فصل: فعلى هذا لو ترك ثلاث بنات ابن بعضهن أسفل من بعض فتنزيلهن أن العليا منهن هي بنت ابن والوسطى هي بنت ابن ابنٍ والسفلى منهن هي بنت ابن ابن ابنٍ على هذا يكون للعليا النصف وللوسطى السدس وتسقط السفلى فإن كان مع السفلى أخوها كان الباقي بعد النصف والسدس بين السفلى وأخيها للذكر مثل حظ الأنثيين وهكذا لو كان مع السفلى ابن عمها كان في درجتها وعصبها فأخذ الباقي معها للذكر مثل حظ الأنثيين وهكذا لو كان مع الوسطى ابن أخيها فهو في درجةً السفلى فيعصبها فيما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين فلو كان مع السفلى ابن أخيها وكان أسفل منها بدرجةٍ فيعصبها أيضًا فيما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين، لأن ولد الابن يعصب أخته ومن علا عماته اللاتي ليس لهن فرض مسمى ويعصب من كان في درجتهُ وإن كان لها فرض مسمى فلو ترك أربع بنات ابن بعضهن أقل من بعض مع السفلى منهن أخوها أو ابن عمها أو ابن أخيها فللعليا النصف وللثانيةً السدس والباقي بين الثالثةَ والرابعةً والذكر الذي في درجةً السفلى أو أسفل منها للذكر مثل حظ الأنثيين فلو ترك بنتي ابن وبنت ابن ابنٍ وبنت ابن ابن ابنٍ معها أخوها كان لبنتي الابن الثلثان والباقي بين بنت ابن الابن وبين بنت ابن ابنِ الابن وأخيها للذكر مثل حظ الأنثيين، لأن استيفاء بنتي الابن الثلثين يسقط فرض من بعدهما ويأخذ الباقي بمشاركةَ الذكر الذي في درجتهن أو أسفل منهن بالتعصيب فلو ترك بنت صلب وثلاث بنات ابن بعضهن أسفل من بعض كان لبنت الصلب النصف ولبنت الابن العليا السدس تكملة الثلثين وسقطت الوسطى والسفلى من بنات الابن فإن كان مع السفلى أخوها أو ابن عمها أو ابن أخيها عصبها وعصب الوسطى التي هي أعلى منها وكان الباقي بعد النصف والسدس بين الوسطى والسفلى وأخيها أو ابن أخيها للذكر مثل حظ الأنثيين فلو ترك بنات ابن بعضهن أسفل من بعض مع كل واحدةٍ منهن أخوها كان المال كله بين العليا وأخيها للذكر مثل حظ الأنثيين وسقط من بعدهما فلو كان مع كل واحدةٍ من بنات الابن الثلاث ابن أخيها كان للعليا منهن النصف، لأن ابن أخيها في درجةً الوسطى وكان الباقي بعد نصفها للوسطى وابن أخي العليا للذكر مثل حظ الأنثيين فلو كان مع كل واحدةٍ من بنات الابن الثلاث ابن عمها كان كالأخ، لأنه في درجةً كل واحدةٍ منهن فيكون المال كله بين العليا وبين ابن عمها للذكر مثل حظ الأنثيين فلو كان مع كل واحدةٍ من بنات الابن الثلاث خالها فخال بنات الابن أجنبي من الميت فيكون وجوده كعدمه فلو كان مع كل واحدةٍ منهن عم ابن أخيها فهو أخوها فيكون على ما مضى المال كله بين العليا وعم ابن أخيها للذكر مثل حظ الأنثيين فلو كان مع العليا ثلاث بنات أعمام مفترقين ومع السفلى

ثلاثة بنات أعمام متفرقين. فإن كان الميت رجلا كان للعليا وبنت عمها لأبيها وأمها وبنت عمها لأبيها الثلثان وتسقط بنت عمها، لأنها بنت أم الميت وكان الباقي بين الوسطى والمثلى وابن عمها لأبيها وأمها وابن عمها لأبيها للذكر مثل حظ الأنثيين ويسقط ابن عم السفلى لأمها وإن كان الميت امرأةً كان الثلثان بين العليا وبنت عمها لأبيها وأمها وبنت عمها لأمها وتسقط بنت عمها لأبيها، لأنها بنت زوج الميتةً فلو كان مع العليا ثلاث عمات متفرقات ومع السفلى عم وعمةُ ابن أخيها وخال وخالةُ ابن أخيها فإن كان الميت رجلًا فلعمته العليا لأبيها وأمها وعمتها لأبيها الثلثان، لأنها بنت الميت ولا شيء لعمتها لأمها، لأنها بنت امرأتهُ وإن كان الميت امرأةً فلعمتها لأبيها وأمها وعمتها لأمها الثلثان ولا شيء لعمتها لأبيها، لأنها بنت زوج الميتةَ ثم يكون ما بقي بعد الثلثين في الحالين جميعًا بين العليا والوسطى والسفلى وعم وعمةُ ابن أخيها وخال وخالةُ ابن أخيها، لأن كل هؤلاء في درجتها للذكر مثل حظ الأنثيين ثم على قياس هذا جميع مسائل هذا الفصل. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وَبِنَوِّ الإخْوةِ لَا يَحَجِّبُونَ اِلْأَمْ عَنْ الثُّلْثِ". قال في الحاوي: وهذا صحيح لا اختلاف فيه بين الفقهاء أن بين الأخوةً لا يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس بخلاف آبائهم وإن حجبها ولد الولد كآبائهم والفرق بين بني الإخوة وبين بني الابن في الحجب من ثلاثة أوجه: أحدها: أن بني الإخوةَ لا ينطلق عليهم اسم الإخوةَ وبني الابن ينطلق عليهم اسم الابن. والثاني: أن بني الإخوةً لما ضعفوا عن تعصيب أخواتهم بخلاف آبائهم ضعفوا عن حجب الأم بخلاف آبائهم وبنو الابن لما قووا عي تعصب أخواتهم كآبائهم قووا على حجب الأم كآبائهم. والثالث: أن الولد أقوى في الحجب من الإخوةَ لأنهم يحجبون مع الأم الزوج والزوجةً بخلاف الإخوةً فكان ولد الولد أقوى في الحجب من أولاد الإخوة والله تعالى مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وَلَا يَرْثُونَ مَعَ الْجِدِّ". قال في الحاوي: وهذا صحيح، لأنه إجماع لا يعرف فيه خلاف أن بني الإخوةَ لا

يرثون مع الجد إن ورث معه آبائهم لأمرين: أحدهما: أن الجد أقرب إلى أب الميت من بني الإخوةَ فوجب أن يكون أحق بميراثه من بني الإخوة. والثاني: أن الجد كالإخوةَ في المقاسمةً فوجب أن يسقط معه بنو الإخوةَ كما يسقطون بالإخوة. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وَلِوَاحِدِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا الثُّلُثُ ذَكَرُهُمْ وَأُنْثَاهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: فرض الواحد من الإخوةَ والأخوات للأم السدس قال الله تعالى: {وإن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ ولَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ} [النساء: (12)] وكان سعد بن أبي وقاص يقرأ وكان له أخ أو أخت من أمه فإن كانوا اثنين فصاعدًا ففرحهم الثلث نصًا وإجماعًا {فَإن كَانُوا أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ} [النساء: (12)] يستوي فيه ذكورهم وإناثهم. وروى ابن عباس روايةً شاذةً أنهم يقسمون الثلث للذكر مثل حظ الأنثيين قياسًا على ولد الأب والأم وهذا خطأ؛ لأن الاشتراك في الشيء يوجب التساوي إلا أن يرد نص بالتفاضل ولأن الإخوةَ والأخوات للام يرثون بالرحم والأبوان إذا ورثا فرضًا بالرحم تساويًا فيه وأخذ كل واحد منهما سدسًا مثل سدس صاحبه كذلك ولد الأم لميراثهم بالرحم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وللأخت للأب والأم النصف، وللأختين فصاعدا الثلثان، فإذا استوفى الأخوات للأب والأم الثلثين، فلا شيء للأخوات للأب إلا أن يكون معهن أخ، فيكون له ولهن ما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين، فإن لم يكن إلا أخت واحدةً لأب وأم وأخت أو أخوات لأب، فلأخت الأب والأم النصف، وللأخت أو الأخوات للأب السدس تكملةُ الثلثين، وإن كان مع الأخت أو الأخوات للأب أخ لأب فلا سدس لهن ولهن وله ما بقي للذكر مثل حظ الأنثيين، وإن كان مع الأخوات للأب والأم أخ للأب والأم، فلا نصف ولا ثلثين، ولكن المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين، وتسقط الإخوةً والأخوات للأب، الإخوة والأخوات للأب بمنزلةُ الإخوةً والأخوات للأب والأم إذا لم يكن أحد من الإخوة والأخوات للأب والأم إلا في فريضةً وهي زوج وأم وإخوةً لأم وإخوةً لأب وأم، فيكون للزوج النصف، وللأم السدس، وللإخوة من الأم الثلث، ويشاركهم

الإخوة للأب والأم في ثلثهم ذكرهم وأنثاهم سواء، فإن كان معهم إخوة لأب لم يرثوا". قال في الحاوي: وهذا كما قال: حكم الأخوات من الأب والأم حكم بنات الصلب وحكم الأخوات للأب حكم بنات الابن ففرض الأخت الواحدةً من الأب والأم النصف قال الله تعالى: {إنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ ولَدٌ ولَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: (176)] وفرض الأختين للأب والأم فصاعدا الثلثان إجماعًا ووافق عليه ابن عباس وإن خالف في الثلثين لقوله تعالى: {فَإن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ} [النساء: (176)] فإن كان مع الأخوات للأب والأم أخ لأب وأم سقط به فرضهن وكان المال بينهن للذكر مثل حظ الأنثيين لقوله تعالى: {وإن كَانُوا إخْوَةً رِّجَالاً ونِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: (176)] لم يكن أخوان لأب وأم قام الأخوات من الأب مقامهن كما يقوم بنات الابن مقام بنات الصلب عند عدمهم فيكون للأخت الواحدةَ للأب النصف وللاثنين فصاعدًا الثلثان فإن كان معهن ذكر سقط فرضهن وعصبهن فكان المال بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. فصل: فإن كانت أخت لأب وأم وأخت لأب أو أخوات لأب فللأخت من الأب والأم النصف وللأخت أو الأخوات من الأب السدس تكملةُ الثلثين كبنت الصلب وبنت ابن فلو كان مع الأخوات من الأب ذكر لم يفرض لهن السدس وكان ما بعد النصف بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين. وقال ابن مسعود: يعطى الأخوات من الأب مع الذكر أقل الأمرين من السدس أو المقاسمةً، لأن لا يزيد فرض الأخوات على الثلثين كما قال في بنت الابن إذا شاركها أخوها مع البنت ووافقه على هذا أبو ثور وخالفه داود في الأخوات للأب، وإن وافقه في بنات الابن وفيما قد بيناه عليه دليل مقنع. فرع: فلو ترك أختين لأب وأم وأخا لأب كان للأختين من الأب والأم الثلثان وسقطت الأخت من الأب إذا لم يكن معها ذكرًا. وقال الحسن البصري: يفرض لها السدس كما يفرض لها إذا انفردت الأخت للأب والأم وهذا يقول في بنت الابن مع بنت الصلب يفرض لها السدس وهذا خطأ، لأن فرض الأخوات والبنات لا يزاد على الثلثين فإذا انفردت الأخت الواحدةُ للأب والأم بالنصف فرض للأخت للأب السدس تكملة الثلثين لبقائه من فرضهن. فرع: فلو كان مع الأختين للأب والأم أخت لأب معها أخوها كان الباقي بعد الثلثين بين الأخت للأب والأخ للأب للذم مم حظ الأنثيين. وقال ابن مسعود يكون الباقي للأخ للأب دون الأخت كما يجعل الباقي بعد بنتي الصلب، لأن الابن دون أمه، لأن لا يزيد

فرض البنات والأخوات على الثلثين وقد مضى الدليل. فرع: فلو ترك أختين لأب وأم وأختًا لأب وابن أخ لأب كان للأختين للأب والأم الثلثان والباقي لابن الأخ للأب وسقطت الأخت للأب لاستكمال الثلثين الأختين للأب والأم فلا يعصب ابن الأخ فيه بخلاف ما ذكرنا في بنات الابن، لأن ابن الأخ لما ضعف عن تعصيب أخته كان أولى أن يضعف عن تعصيب عمته وليس كذلك أولاد البنين، لأن الذكور منهم يعصب أخته فجاز أن يعصب عمته والله أعلم. فرع: والإخوة والأخوات للأب يقومون مقام الإخوة والأخوات للأب والأم عند عدمهم إلا في مسألةَ المشتركةً وهي زوج وأم وأخوان لأم وأخوان لأب وأم فيكون للزوج النصف وللأم السدس وللإخوةَ من الأم الثلث يشاركهم فيه الإخوةَ للأب والأم لاستوائهما في الإدلاء بالأم على ما سنذكره من الخلاف فيه ولو كان مكان الإخوةً للأب والأم إخوةَ لأب لا يشاركون الإخوةً للأم لعدم إبلاغهم بالأم، والله أعلم. فرع: ثلاث أخوات متفرقات مع كل واحدةً أخ لأب فللأخت من الأم السدس وأخوها أجنبي، وأما الأخت من الأب فيحتمل أن يكون أخاها لأبيها أخا الميت لأبيه وأمه ويحتمل أن يكون أخاه لأبيه فإن كان أخاه لأبيه وأمه فإن الباقي بعد سدس الأخت من الأم بينه وبين الأخت من الأب والأم للذكر مثل حظ الأنثيين وسقطت الأخت من الأب وأخو الأخت من الأب والأم النصف وكان الباقي بين الأخت من الأب وأخيها وأخي الأخت من الأب والأم وابنها للذكر مثل حظ الأنثيين، لأن كلهم إخوة وأخوات لأب. فرع: ثلاث أخوات متفرقات مع كل واحدةً أخ لأم فللأخت من الأب أخوها لأمها أجنبي والأخت من الأم أخوها لأمها يحتمل أن يكون أخا الميتةً لأيه وأمه ويحتمل أن يكون أخاه لأمه فإن كان أخاه لأبيه وأمه كان للأخت من الأم وأخت الأخت من الأب والأم الثلث بينهما بالسريةً والباقي بين الأخت من الأب والأم وأخي الأخت من الأم، لأنه أخ لأب وأم للذكر مثل حظ الأنثيين وتسقط الأخت من الأب وإن كان أخًا لأم كان الثلث للأخت من الأم وأخيها من أمها وأخي الأخت للأب والأم من الأمر أثلاثًا بالسويةً، لأن جميعهم إخوةً وأخوات لأم وكان للأخت من الأب والأم النصف وللأخت

للأب السدس. فرع: ثلاث أخوات متفرقات مع كل واحدة أخ لأب وأم فللأخت من الأم وأخيها لأبيها وأمها الثلث والباقي للأخت للأب والأم وأخيها لأبيها وأمها للذكر مثل حظ الأنثيين وتسقط الأخت للأب وأخوها، والله أعلم. فرع: أخت لأب معها ثلاثةً بني إخوةً متفرقين أما ابن أخيها لأب فأجنبي وأما ابن أخيها لأبيها وأمها فابن آخ لابن وأما ابن أخيها لأيها فإن كان الميت رجلًا احتمل ثلاثةَ أوجه: أحدهما: أن يكون ابن الميت فيكون المال كله له ويحتمل أن يكون ابن أخ لأب وأم فيكون للأخت للأب النصف والباقي له وسقط ابن الأخ للأب ويحتمل أن يكون ابن أخ لأب فيكون للأخت النصف والباقي بينه وبين ابن الأخ للأب، لأن كلاهما ولد أخ لأب وإن كان الميت امرأةً احتمل أن يكون ابن أخ لأب وأم فيكون الباقي بعد نصف الأخت له ويحتمل أن يكون ابن أخ لأب فيكون الباقي بينه وبين الآخر الذي هو ابن أخ لأب ولا يحتمل أن يكون ابن الميتةً، لأنه من أخت الميتةً ابن أخ وليس ابن أخت، والله أعلم. مسالة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وللأخوات مع البنات ما بقي إن بقي شيء وإلا فلا شيء لهن ويسمين بذلك عصبةً البنات". قال في الحاوي: وهذا كما قال: الأخوات مع البنات عصبةً لا يفرض لهن ويرثن ما بقي بعد فرض البنات فإن كان بنت وأخت فللبنت النصف والباقي للأخت وإن كان وأخت فللبنتين الثلثان والباقي للأخت ولو كان مع البنتين عشر أخوات كان الباقي بعد الثلثين بين الأخوات بالسويةَ سواء كن لأب وأم أو لأب وبهذا قال الخلفاء الأربعةَ وجميع الصحابةَ رضي الله عنهم إلا ابن عباس فإنه تفرد بخلافهم وهي المسالةُ الثالثةً التي تترب بخلاف الصحابةَ فيها فأسقط الأخوات مع البنات. وبه قال داود، وكان عبد الله بن الزبير يذهب إلى هذا حتى أخبره الأسود بن يزيد أن معاذًا قضى باليمن في بنت وأخت جعل المال ينهما نصفين ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - حي فرجع عن قوله. وقال إسحاق بن راهويه: إن كان مع البنات عصبةً غير الأخوات كالأعمام وبني الإخوة سقط الأخوات وإن لم يكن معهن غير الأخوات صرن إذا انفردن معهن عصبةً يأخذن ما بقي بعد فرضهن واستدل ابن

عباس وقد بلغه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم أعطى الأخت مع البنت النصف فقال: أأنتم أعلم أم الله قال الله عز وجل: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: (176)] وأنتم تقولون لها النصف وإن كان له ولد وبما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اقسموا المال بين أهل الفرائض على كتاب الله فيما تركت الفرائض فلأولى رجل ذكر"، ولأنها لو كانت عصبةً مع البنات لكانت عصبةً تستوجب جميع المال في الانفراد كالإخوةً وفي إبطال ذلك دليل على عدم تعصيبهن ولأنها لو كانت عصبةً لورث ولدها كما يرث ولد الأخ، لأنه عصبةً ولأنها لو كانت عصبةً لعملت وزوجت والدليل على صحةُ ما ذهب إليه الجماعةً قوله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} [النساء: (7)] فكان على عمومه. وروى الأعمش عن ابن قيس عن هذيل بن شرحبيل قال: "جاء رجل إلى أبي موسى الأشعري وسلمان بن ربيعةً فألها عن بنتا وبنتا ابن وأخت لأب وأم فقالا للبنت النصف والباقي للأخت فأتِ ابن مسعود فإنه سيوافقنا فأتاه الرجل فسأله وأخبره بقولهما فقال: لقد ضللت إذن وما أنا من المهتدين ولكن سأقضي فيها بقضاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - للبنت النصف والبت الابن السدس تكملةُ الثلثين وما يقي فللأخت للأب والأم"، وهذا نص ولأن الأخوات لما أخذت الفاضل عن فرض الزوج وتقدمن به على بني الإخوةً والأعمام كالإخوةً أخذن الفاضل عن فرض البنات وتقدمن به على بني الإخوةً والأعمام كالإخوةً، ولأن للأخوات مدخلًا في التعصيب مع الإخوةً فكان لهم مدخل في التعصيب مع البنات، لأن جميعهم من ولد الأب ولأن الإخوة أقوى تعصيبًا من بني الإخوةً فلما لم تسقط الأخت مع الإخوةَ في الفاضل بعد فرض البنات فأولى أن لا تسقط مع بني الإخوةً فأما الجواب عن الآيةً فهو أن الآيةَ منعت من إعطائها فرع ونحن نعطيها تعصيبًا وأما الخير فعموم خص منه الأخوات بدليل أخذهن مع عدم البنات. وأما الجواب عن قوله لو كانت عصبة لأخذت جميع المال إذا انفردت ولكان ولدها وارثًا هو أنه لما لم يكن ذلك مانعًا من أن تكون عصبةً مع الإخوةً لم يمنع أن تكون عصبة مع البنات. وأما الجواب عن أنها لو كانت عصبةً لعقلت وزوجت وورثت فهو أن هذا لو كان مانعًا من ميراثها مع البنات لمنع من ميراثها مع عدم البنات ثم قد نجد العصبات ينقسمون ثلاثةَ أقسام: قم يعقلون ويزوجون وهم الأعمام والإخوةً، وقسم لا يزوجون ولا يعقلون وهم البنون وقم يزوجون ولا يعقلون وهم الآباء ثم جميعهم مع اختلافهم في العقل

والتزويج وارث التعصيب وكذلك الأخوات. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وللأب مع الولد الابن السدس فريضة وما بقي بعد أهل الفريضة وإذا لم يكن ولد ابن فإنما هو عصبة له المال". قال في الحاوي: وهذا كما قال: للأب في ميراثه ثلاثة أحوال: حال يرث فيها بالتعصيب وذلك مع عدم الولد وولد الابن فإن لم يكن معه ذوو فرض لا يسقط بالأب كالأم أخذت الأم فرضها كاملا إن لم يحجبها الإخوةً وهو الثلث وكان الباقي للأب لقوله تعالى: {ووَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: (11)] فدل ذلك على أن الباقي للأب وإن حجب الأم إخوةً كان لها السدس وكان الباقي بعد سدس الأم للأب لقوله تعالى: {فَإن كَانَ لَهُ إخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: (11)] وكان ابن عباس في رواية شاذةً عنه بجعل السدس الذي حجبه الإخوةً عن الأم لهم ولا يرده على الأب وقد تقدم الكلام سه، فلو كان مع الأبوين زوج أو زوجة فقد ذكرنا أن للأم ثلث ما بقي بعد فرض الزوج والزوجةً والباقي للأب فهذه حال. فصل: والحال الثانية: أن يرث الفرض وحده وذلك مع الولد وولد الابن فيأخذ السدس قال الله تعالى: {ولأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إن كَانَ لَهُ ولَدٌ} [النساء: (11)] وإن كان سه ابن لم يأخذ السدس إلا كاملا فيكون للأب الدس والباقي للابن ولو كان معها زوج كان للزوج الرج وللأب الدس والباقي للابن وإن كان مع البنات فقد يأخذ السدس تارةً كاملًا وتارةً عائلًا فالكامل يأخذه في أبوين وابنتين فيكون للأبوين السدسان وللبنتين الثلثان والعائل جدةُ وزوج وأب وبنتان آو زوج وأبوان وبنتان فيكون للزوج الربع وللأم السدس وللأب السدس وللبنتين الثلثان وتعود إلى خمسةَ عشر وفي زوجة وأبوين وابنتين يكون للزوجةً الثمن وللأبوين السدسان وللبنتين الثلثان وتعود إلى سبعةَ وعشرين وهذه هي المسألة المنبرية سئل عنها علي بن أبي طالب رضوان الله عليه وهو في طريقه إلى المجد فبدأه السائل فأله عن زوجة وأبوين وبنت فقال للزوجة الثمن وللأبوين السدسان وللبنت النصف والباقي للأب ثم صعد إلى منبره فعاد السائل فقال: كان مع البنت أخرى فقال: صار ثمنها تسعها، لأنها لما عالت صار الثمن ثلاثة من سبعة وعشرين وذك التسع بعد أن كان الثمن وهذا من أحسن جواب صدر عن سرعةً وإنجاز فسميت لأجل ذلك المنبريةً فهذه حالة ثانيةً. فصل: والحال الثالثة: أن يرث بالفرض والتعصيب وذلك مع البنات أو بنات الابن كأبوين وبنت فللأبوين السدسان وللبنت النصف والباقي للأب بالتعصيب أو أب وبنتان

فيكون للأب السدس وللبنتين الثلثان وما بقى للأب أو بنت وبنت ابن وأب فيكون للأب السدس وللبنت النصف ولبنت الابن السدس تكملة الثلثين والباقي للأب والجد أبو الأب يقوم مقام الأب في هذه الأحوال كلها في ميراثه بالتعصيب تارة وبالفرض أخرى وبهما معاً في أخرى غير أنه لا يقوم مقام الأب في حجب الإخوة والأخوات اللذين يحجبهم الأب إلا على قول من يسقط الإخوة والأخوات مع الجد ولذلك باب يستوفى فيه بعد. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَللجَدَّةِ وَالجَدَّتَيْنِ السُّدُسُ". قال في الحاوي: الأصل في ميراث الجدة السنة وإنه ليس لها في كتاب الله عز وجل فرض مسمى. روى عثمان بن إسحاق بن خرشة عن قبيصة بن ذؤيب قال: جاءت الجدة إلى أبي بكر رضوان الله عليه تسأله ميراثها فقال مالك في كتاب الله عز وجل شيء وما عملت لك في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً فارجعي حتى أسأل الناس فسأل الناس فقال المغيرة بن شعبة حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطاها السدس فقال أبو بكر: هل معك غيرك فقام محمد بن مسلمة فقال ما قال المغيرة: فأنقذه لها أبو بكر ثم جاءت الجدة الأخرى إلى عمر رضوان الله عليه تسأله ميراثها فقال مالك في كتاب الله شيء وما كان القضاء الذي قضى به إلا لغيرك وأما أنا بزائد في الفرائض ولكن هو ذلك السدس فإن اجتمعتا فيه فهو بينكما وآيتكما خلت به فهو لها. وحكي أن الجدة التي ورثها أبو بكر أم الأم والجدة التي جاءت إلى عمر فتوقف عنها أم الأب فقالت أو قال بعض من حضره: يا أمير المؤمنين ورثتم التي لو ماتت لم يرثها ولا تورثون من لو ماتت ورثها فحينئٍذ ورثها عمر. وروى سليمان بن بريده عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للجدة السدس إذا لم يكن دونها أم وأجمعوا على توريث الجدات وإن فرض الواحدة والجماعة منهن السدس لا ينقصن منه ولا يزيدن عليه إلا ما حكي عن طاوس أنه جعل للجدة الثلث في الموضوع الذي ترث فيه الأم الثلث تعلقاً بقول ابن عباس الجدة بمنزلة الأم إذا لم تكن أم فمنهم من جعل هذا مذهباً لابن عباس أيضاً ومنهم من منع أن يكون له مذهباً وتأول قوالة إنها بمنزلة الأم في الميراث لا في قدر الفرض لما روي عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ورث الجدة السدس وهو لا يخالف ما رواه ولأن قضية أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في إعطائها السدس مع سؤال الناس عن فرضها ورواية المغيرة ومحمد بن مسلمة ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وقبول الصحابة ذلك منهما مع العمل به إجماع منعقد لا يسوغ خلافه. وروى قاسم بن محمد

قال: جاءت جدتان إلى أبي بكر رضي الله عنه فأعطى التي من قبل الأم السدس فقال عبد الله بن شرحبيل أخو بني حارثة: يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ورثت التي لو ماتت لم يرثها فجعله أبو بكر بينهما ولله أعلم. فصل: فإذا تقرر أن فرض الجدة أو الجدات السدس فالجدة المطلقة هي أم الأم، لأن الولادة فيها متحققة والاسم في العرف عليها منطلق واختلف أصحابنا في الجدة أم الأب هل هي جدة على الإطلاق أم بالتقييد فقال بعضهم هي جدة على الإطلاق أيضاً كأم الأم وقال آخرون بل هي جدة بالتقييد وعلى هذا اختلفوا فيمن سأل عن ميراث جدة هل يسأل عن أي الجدتين أراد أم لا فقال: من جعلها جدة على الإطلاق أنه لا يجاب حتى يسأل عن أي الجدتين أراد وقال: من جعلها جدة بالتقييد إنه يجاب عن أم الأم حتى يذكر أنه أراد أم الأب والأصح أن ينظر فإن كان ميراثها يختلف في الفريضة بوجود الأب الذي يحجب أمه لم يجب عن سؤاله حتى يسأل عن أي الجدتين سأل وإن كان ميراثها لا يختلف أجيب ولم يسأل ثم اختلفوا في عدد من يرث من الجدات فقال مالك لا أورث أكثر من جدتين أم الأم وأم الأب وأمهاتهما وإن علون ولا أورث أم الجد وإن انفردت وبه قال الزهري وابن أبي ذئب وداود. ورواه أبو ثور عن الشافعي في القديم استدلالاً بقضية أبي بكر رضي الله عنه في توريث جدتين وكما لا يرث أكثر من أبوين. وقال أحمد بن حنبل لا أورث أكثر من ثلاث جدات وبه قال الأوزاعي استدلالاً برواية منصور عن إبراهيم أن النبي صلى الله عليه وسلم أطعم ثلاث جدات قال منصور: فقلت لإبراهيم: من هن؟ فقال: جدتا الأب أم أبيه وأم أمه وجدة الأم أم أمها. وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى توريث الجدات وإن كثرن. وبه قال جمهور الصحابة والفقهاء لاشتراكهن في الولادة ومحادثهن في الدرجة وتساويهن في الإدلاء بوارث وهذه المعاني الثلاث توجد فيهن وإن كثرن. فأما توريث أبي بكر وعمر رضوان الله عليهما الجدتين فإنما ورثا من حضرهما من الجدات ولم يرو عنهما منع من زاد عليهما. وهكذا المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أطعم ثلاث جدات ولا يمنع من إطعام من زاد عليهن وليس بممتنع أن يورث أكثر من أعداد الأبوين لأنهن يكثرن إذا علون. فصل: فإذا ثبت أنهن يرثن وإن كثرن فلا ميراث منهن لأم أبي الأم وهو أن يكون بينهما وبين الميت أب بين أمين. قال محمد بن سيرين أم أبي الأم ورائه وإن أدلت بذكر لا يرث لما فيها من

الولادة وبه قال عطاء وجابر بن زيد. واختلف في ذلك عن ابن عباس رضي الله عنه وابن مسعود فكان الحسن البصري يقول به ثم رجع عنه. وروي أن ابن سيرين بلغه أن أربع جدات ترافعن إلى مسروق فورث ثلاثاً وأطرح واحدة هي أم أبي الأم فقال: أخطأ أبو عائشة لها السدس للجدات طعمه. وذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أن أم أبي الأم لا ترث وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين لإدلائها بمن لا يرث وقد تمهد في الأصول أن حكم المدلى به أقوى في الميراث من حكم المدلي، لأن الأخوات يرثن ولا يرث من أدلى بهن وليس يوجد وارث يدلي بغير وارث فلما كان أبو الأم غير وارث كانت أمه التي أدلت به أولى أن تكون غير وارثة. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَإِنْ قَرُبَ بَعْضُهُنَّ دُونَ بَعْضٍ فَكَاَنَتْ الأَقْرَبَ مِنْ قِبَلِ الأُمَّ فَهِيَ أَوْلَى وَإِنْ كَانَتِ الأَبْعَدَ شَارَكتْ فِي السُّدُسِ وأَقْرَبُ اللاَّئِي مِنْ قِبَلِ الأَبِ تَحْجُبُ بُعْدَاهُنَّ وكذلك تَحْجُبُ أَقْرَبُ اللاَّئِي مَنْ قِبَل الأُمَّ بُعْدَاهُنَّ". قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا تحاذى الجدات في الزوج ورث جميعهن إلا التي تدلي بأبي الأم إذا اختلفت درجتهن فقد اختلف في توريثهن فحكي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه ورث القربى دون البعدى، وبه قال الحسن وابن سيرين وأبو حنيفة وأصحابه وداود بن علي، وقد حكاه الكوفيون والشعبي والنخعي عن زيد بن ثابت، وحكي عن عبد الله بن مسعود أنه ورث القربى والبعدى إلا أن يكون إحداهما أم الأخرى، وبه قال إسحاق بن راهويه وأبو ثور، وحكي الحجازيون عن سعيد بن المسيب وعطاء وخارجة بن زيد عن زيد بن ثابت وهو المعملول عليه من قوله إنه إن كانت التي من قبل الأب أقرب فالسدس لها وسقطت التي من قبل الأب وإن كانت التي من قبل الأب أقرب فالسدس بينهما. وبه قال الشافعي ومالك والأوزاعي واستدل من ورث القربى دون البعدى بأن اشتراك من تساوت درجتهم في الميراث توجب سقوط أبعدهم عن الميراث كالعصبات واستدل من ورث القربى والبعدي بأن الجدات يرثن بالولادة كالأجداد فلما كان الجد الأبعد مشاركاً للجد الأقرب في مقاسمة الإخوة كانت الجدة البعدي مشاركة للجدة القربى في الفرض. والدليل على صحة ما ذهب إليه الشافعي هو أن الجدات يرثن بالولادة كالأب فلما كانت الأم تسقط جميع الجدات وإن كن من قبل الأب لقربها وبعدهن لا يسقط الأب ومن بعد من جدات الأم مع قربه وبعدهن وجب أن تكون القربى من جدات الأم تحجب

البعدى من جدات الأب كالأم ولا تكون القربى من جدات الأب تحجب البعدي من جدات الأم كالأب وهذا دليل وانفصال. فصل: وإذا قد وضح ما ذكرنا من أحكام الجدات فسنصف درجتهن ليعرف به الوارثات منهن فأول درجتهن جدتان متحاذيتان وارثتان أحدهما أم الأم والأخرى أم الأب ثم جدات وارثات فضلن من أربع جدات بعد ثلاث درج. إحداهن: من قبل الأم وهي أم أم الأم واثنتان من قبل الأب إحداهما أم أم الأب والأخرى أم أبي الأب وتسقط الرابعة وهي من قبل الأم، لأنها أم أبي الأم ثم أربع جدات متحاذيات يرثن من جملة ثماني جدات بعد أربع درج واحدة من قبل الأم وهي أم أم أم الأم وثلاث من قبل الأب إحداهن أم أم أم الأب والأخرى أم أم أبي الأب والأخرى أم أبي أبي الأب ثم خمس جدات متحاذيات يرثن من جملة ست عشرة جدة بعد خمس درج واحدة من قبل الأم وهي أم أم أم أم الأم وأربع من قبل الأب إحداهن أم أم أم أم الأب والأخرى أم أم أب أبي الأب والأخرى أم أبي أبي أبي الأب ثم ترث ست جدات متحاذيات من جملة اثنين وثلاثين جدة وترث سبع جدات متحاذيات من جملة أربع وستين جدة وترث ثماني جدات متحاذيات من جملة مائة وثمانية وعشرين جدة وليس في الوارثات من قبل الأم إلا واحدة والباقيات من قبل الأب، لأن الأم لا يخلص من جداتها من لا يدلي بأبي أم ولا يكون دونها أم إلا واحدة فلذلك لم يرث من جداتها إلا واحدة وتكثر الوارثات من قبل الأب لأنهن أمهات الأجداد اللائي ليس دونهن أب بين أمين فإذا أردت أن تزيد في الجدات الوارثات واحدة صعدت إلى درجة هي أعلى ليحصل لك أم جد أعلى ولا يكون ذلك إلا بتضاعيف أعدادهن لتزيد لك وارثة منهن تسلم من الشروط المانعة من ميراثهن فإذا كانت الوارثات ستة متحاذيات فواحدة منهن من قبل الأم إلى ست درج من الأمهات وخمس من قبل الأب واحدة هي جدة الأب إلى خمس درج من أمهاته. والثانية: هي جدة الجد إلى أربع درج من أمهاته والثالثة: هي جدة أبي الجد إلى ثلاث درج من أمهاته. والرابعة: هي جدة جد الجد إلى درجتين من أمهاته. والخامسة: هي أم أبي جد الجد بعد درجة منه فتصير الخمس جدات مدليات بخمسة آباء ليس فيهن أم أبي أم فتصور ذلك تجده صحيحاً واعتبره فيما زاد تجده مستمراً فصل: فأما إذا اختلفت درجتهن فقد ذكرنا اختلاف الناس في توريثهن فعلى هذا أم أم وأم أم الأب فعلى قول علي وزيد رضي الله عنهما هو لأم الأم وهو مذهب الشافعي

باب أرب العصبة

وأبي حنيفة وعلي وقول ابن مسعود هو لهما ولو ترك أم أم وأم أم الأب وأم أب أبي الأب فعلى قول على ورواية الكوفيين عن زيد رضي الله عنهما هو لأم أم الأب، لأنها أقربهن درجة على قول ابن مسعود هو بين ثلاثهن. وعلى رواية الحجازيين عن زيد وهو مذهب الشافعي هو بين أم أم الأم وأم أم الأب وتسقط أم أبي أبي الأب، لأنها وإن ساوت التي من قبل الأم في الدرجة فقد تقدمتها أم أم الأب فسقطت بها ثم هذا المثال يرثن. فصل: فأما الجدة الواحدة إذا أدلت بسببين وبولادة من جهتين كامرأة تزوج ابن ابنها بنت بنتها فإذا ولد لهما مولود كانت المرأة جدته من وجهين فكانت أم أبي أبيه وأم أم أمه فإن لم يكن معها من الجدات غيرها فالسدس لها فإن كانت معها جدة أخرى هي أم أم أب فقد اختلف الناس هل ترث بالوجهين وتأخذ سهم جدتين. فقال محمد بن الحسن وزفر بن الهذيل والحسن بن صالح: ترث بالوجهين وتأخذ سهم جدتين وحكاه أبو حامد الإسفراييني عن أبي العباس بن سريج واختاره مذهباً لنفسه وقال سيفان الثوري وأبو يوسف ترث بأحد الجهتين وتأخذ سهم جدة واحدة وهو الظاهر من مذهب الشافعي ومالك رضي الله عنهما، لأنهما يد واحدة فلم تكن إلا جدة واحدة ولأن الشخص الواحد لا يرث فرضين من تركة وإنما يصح أن يرث بفرض وتعصيب كزوج هو ابن عم وربما أدلت الجدة الواحدة بثلاثة أسباب وحصلت لها الولادة من ثلاثة أوجه مثل أن تكون أم أم أم الميت وأم أبي أبيه وأم أم أبي أبيه فإذا اجتمعت معها جدة أخرى فعلى قول محمد بن الحسن ترث ثلاثة أرباع السدس كأنها ثلاث جدات من أربع وعلى قول أبي يوسف وهو الظاهر من مذهب الشافعي ترث نصف السدس، لأنها إحدى جدتين والله أعلم بالصواب. باب أرب العصبة قَالَ المُزَنِيُّ رَحِمهُ اللهُ: "وَأَقْرَبُ العَصَبَةِ البَنُونَ ثُمَّ بَنُو البَنِينَ ثُمَّ الأَبُ ثُمَّ الإِخْوَةُ لِلأبِ وَالأُمَّ إِنْ لَمْ يَكُنْ جَدُّ فَإِنْ كَانَ جَدُّ شَارَكَهُمْ فِي بَاب الجَدُ ثُمَّ الإِخْوَةُ لِلأَبِ ثُمَّ بَنُو الإِخْوَةِ لَلأَبِ وَالأُمَّ ثُمَّ بَنُو الإِخْوَةِ لِلأَبِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدُ مِنَ الإِخْوةِ وّلاَ مِنْ بَنِهمْ وِلاِ بَنِي بَنِهمْ وَإِنْ سَفُلُوا فَالعَمُّ لَلأَبِ وَالأُمَّ ثُمَّ العَمُّ لَلأَبِ ثُمَّ بَنُو العَمَّ لِلأَبِ وَالأمَّ ثُمَّ بَنُو العَمَّ لِلأَبِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَحَدُ مِنَ العُمُومَةِ وَلاَ بَنِيهْم وَلاَ بَنيِهِمْ وِلاَ بَنِي بَنِيهْم وَإِنْ سَفُلُوا فَعَمُّ الأَبِ لِلأَبِ وَلأُمَّ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فَعَمُّ الأَبِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبَنُهُمْ وَبَنُو بَنِيمْ عَلَى مَا وَصَفَتْ مَنَ العُمُومَةِ وَبَنِيهمْ وَبَنَي بَنِيهمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَعَمُّ الجَدَّ لَلأَب وَالأمَّ فَإَنْ لًمْ يَكُنْ فَعَمُّ الجَدَّ لَلأَبِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبَنُوهُمْ وَبَنٌو بَنِيهِمْ عَلَى مَا وَصَفْتُ عُمُومَةِ

الأَبِ فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَأَرْفَعُهُمْ بَطْناّ وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ فِي العَصَبِة إِذَا وَجِدَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ المَيَّتِ وَإِنْ سَفُلَ لَمْ يُوَرَّثْ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ ابْنِهِ وَإِنْ وُجِدَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ ابِنِهِ وَإِنْ سَفُلَ لَمْ يُوِرَّثْ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ جَدَّهِ وَإِنْ قَرُبَ وَإِنْ وُجِدَ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ جَدَّهِ وَإِنْ سَفُلَ لَمْ يُوِرِثْ أَحَدٌ مِنْ وَلَدِ لأَبِي جَدَّهِ وَإِنْ قَرُبَ وَإنْ كَانَ بَعْضُ العَصَبَةِ أَقْرَبَ بأَن فَهُوَ أَوْلَى لأَب كَانَ أَوْ أُوْ أُمَّ وَإِنْ كَامُوا فِي دَرَجَةٍ وَاحِدةٍ إِلاَّ أَنْ يَكُومَ بَعْضُهُمْ لأَبٍ وَأُمَّ فَالَّذي لأبٍ وأمِّ أَوْلَى فَإذَا اسْتَوَتْ قَرَابَتُهُمْ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي المِيرَاثِ". قال في الحاوي: وهذا صحيح واختلفوا في العصبة لم سموا عصبة؟ فقال بعضهم: سموا عصبة لالتفافهم عليه في نسبه كالتفاف العصائب على يده وقال آخرون: بل سموا عصبة لقوة نفسه بهم ولقوة جسمه بعصبة فأقرب عصبات الميت إليه بنوه، لأنهم بعضه ولأن الله تعالى قدمهم في الذكر وحجب بهم الأب عن التعصيب حتى صار ذا فرض ثم بنو البنين لأنهم بعض النبيين، لأن الأب معهم ذو فرض كهو مع البنين ولأنهم يعصبون أخواتهم كالبنين ثم بنو بني البنين وإن سلفوا فإن قبل أفليس الأب مقدماً على الابن في الصلاة عليه بعد الوفاة والتزويج في حال الحياة، لأنه أقوى العصبات فهلا كان مقدماً في الميراث قيل إنما يقدم في الصلاة والتزويج بمعنى الولاية والولاية في الآباء دون الأبناء وفي الميراث يقدم بقوة التعصيب وذلك في الأبناء أقوى منه في الآباء فإذا عدموا فلم يكن ولد ولا ولد ولد وإن سفل فالأب حينئذٍ أقرب العصبات بعدهم، لأن الميت بعضه، ولأنه لما كان أقربهم من ولده الميت كان الأقرب من بعدهم من ولد الميت ولأن سائر العصبات بالأب يدلون وإليه ينسبون فكان مقدماً على جميعهم فإن لم يكن بعد الأب إخوة فالجد وإن كان إخوة فعلى خلاف يذكر في باب الجد ثم بعد الجد ثم جد الجد ثم أبو جد الجد ثم جد جد الجد ثم هكذا أبداً حتى لا يبقى أحد من عموم الآباء لما فيهم من الولادة والتعصيب، ثم الإخوة إذا لم يكن جد لأنهم والميت بنو أب قد شاركوهم في الصلب وراكضوهم في الرحم ولأنهم يأخذون شبهاً من البنين في تعصيب أخواتهم فيقدم منهم الأخ للأب والأم على الأخ للأب لقوته بالسببين على من تفرد بإحداهما ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وأعينان بني الأم يتوارثون دون بني العلات" وأصل ميراثها مأخوذ من قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ} [النساء: 176] فيكون حكم الإخوة مع الأخوات كحكم البنين مع البنات في اقتسامهم المال لذكر مثل حظ الأنثيين بعد فرض إن كان مستحقاً ثم بعد الأخ للأب والأم الأخ للأب وهو مقدم على ابن الأخ للأب والأم لقرب درجته، ثم بنو الإخوة وهو مقدمون على الأعمام وإن سلفوا، لأنهم من بني أبي الميت والأعمام بنو جده فيقدم من بني الإخوة من كان لأب وأم، ثم من كان لأب ثم بنو بنيهم وإن سلفوا يقدم من كان أقرب في الدرجة وإن كان لأب على من بعد وإن كان لأب

وأم فإن استوت درجتهم قدم من كان منهم لأب وأم على من كان لأب ثم الأعمام لأنهم بنو الجد ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ورث عم سعد بن الربيع ما فضل عن فرض زوجته فيقدم العم للأب والأم على العم للأب لإدلاته بالسببين ثم للعم للأب ثم ابن العم للأب والأم ثم ابني العم للأب ثم بنو بنيهم على هذا الترتيب وأن سلفوا مقدمين على أعمام الأب ثم أعمام الأب يقدم منهم من كان لأب وأم على من كان لأب ثم بنوهم وبنو بينهم على ما ذكرنا في بني الأعمام ثم أعمام الجد ثم بنوهم ثم أعمام ابن الجد ثم بنوهم ثم أعمام جد الجد ثم بنوهم ثم أعمام أبي جد الجد ثم بنوهم هكذا أبداً حتى يستنفذ جميع العصبات لا يقدم بنو أب أبعد على بنو أب هو أقرب وإن نزلت درجتهم وإذا استووا قدم منهم من كان لأب وأم على من كان لأب وليس الإخوة للأم من العصبة إدلائهم بالأم التي لا مدخل لها من التعصيب ولا الأعمام للأم من الورثة لأنهم ذو أرحام والله أعلم. فصل: وليس يرث مع أحد من هؤلاء العصبات أخت له إلا أربعة فإنهم يعصبون أخواتهم ويرثون معهم الابن يعصب أخته وترث معه للذكر مثل حظ الأنثيين بنص الكتاب وابن الابن يعصب أخته وإن سفل ويعصب من لا غرض له من عماته فيشتركون في الميراث للذكر مثل حظ الأنثيين والأخ للأب والأم يعصب أخته وبقاسمها للذكر مثل حظ الأنثيين والأخ للأب كذلك أيضاً يعصبها ويقاسمها ومن سوى هؤلاء الأربعة من العصبات كلهم يسقطون أخواتهم ويختصون بالميراث كبني الإخوة والأعمام من جميع العصبات. فصل: فأما إذا ترك ابني عم أحدهما أخ لأم فللذي هو أخ للأم السدس فرضاً بالأم والباقي بينهما بالتعصيب. وبه قال علي وزيد رضي الله عنهما وهو الظاهر من قول عمر وقول أبي حنيفة ومالك والفقهاء. وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: المال كله لابن العم الذي هو أخ لأم. وبه قال شريح وعطاء والحسن وابن سيرين والنخفعي وأبو ثور استدلالاً بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وبنو الأم يتوارثون دون بني العائلات" ولأنهما قد استويا في الإدلاء بالأب واختص أحدهما بالإدلاء بالأم فصار كالأخوين أحدهما لأب وأم وآخر لأب فوجب أن يقدم من زاد إدلاءه بالأم على من تفرد بالأب. ودليلنا قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ} [النَسِاَء: 12] فأوجب هذا الظاهر أن لا يزاد بهذه الإخوة على السدس، ولأن السبب المستحق به الفرض لا يوجب أن يقوى به التعصيب بعد أخذ الفرض كابني عم أحدهما زوج، ولأن ولادة الأم توجب أحد الأمرين إما استحقاقاً بالفرض أو تقديماً بالجميع ولا توجب كلا الأمرين من فرض وتقديم ألا ترى أن الإخوة المتفرقين إذا اجتمعوا اختص الإخوة للأم بالفرض واختص الإخوة للأب والأم بالتقديم

في الباقي على الإخوة للأب ولم يجز أن يشاركوا باقيهم الإخوة للأم لتنافي اجتماع الأمرين في الإدلاء بالأم وكذلك ابن العم إذا كان أخاً لأم لما استحق بأمه فرضاً لم يستحق بها تقديمة على ابن العم ولأن اجتماع الرحم والتعصيب إذا كانا من جهة واحدة أوجب التقديم وكالإخوة للأب وللأم في تقديمهم على الإخوة للأب وإن كانا من جهتين لم يوجبا التقديم والأخ للأم إذا كان ابن عم فيعصبه من جهة الإدلاء بالجد ورحمه بولادة الأم فلم يوجب التقديم، وفي هذا انفصال عن استدلالهم بالإخوة للأب والأم. فأما الخبر فمحمول على الإخوة، لأن الرواية "أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات" فإذا تقرر أنهما في الباقي بعد السدس سواء وإنما ذلك في المال فأما ولاء الوالي فمذهب الشافعي أن ابن العم الذي هو أخ لأم يقدم به على ابن العم الذي ليس بأخ لأم، لأنه لما لم يرث بأمه من الولاء فرضاً استحق به تقديماً، لأن الإدلاء بالأم إذا انضم إلى التعصيب أوجب قوة على مجرد التعصيب إما في فرض أو تقديم فلما سقط الفرض في الولاء ثبت التقديم. فصل: ولو ترك ابني عم أحدهما أخ لأم وأخوين لأم أحدهما ابن عم فعلى قول ابن مسعود رضي الله عنه المال بين ابن العم الذي هو أخ لأم وابن أخ الأم الذي هو ابن عم لاستوائهما في التعصيب والإدلاء بالأم ولا شيء للأخ الذي ليس بابن عم ولا ابن العم الذي ليس بأخ لأم وعلى قول الجماعة الثلث لثلاثة للأخ للأم الذي هو ابن عم ولابن العم الذي هو أخ لأم وللأخ للأم الذي ليس بابن عم، لأن جميعهم إخوة لأم والباقي بعد الثلث بين الثلاثة بين ابن العم الذي هو أخ لأم والأخ للأم الذي هو ابن عم وابن العم الذي ليس بأخ لأم فلو ترك بنتاً وابني عم أحدهما أخ لأم فعلى قياس قول ابن مسعود للبنت النصف والباقي لابن العم الذي هو أخ لأم. وحكي عن سعيد بن جبير أن الباقي بعد نصف البنت لابن العم الذي ليس بأخ لأم، لأن الأخ للأم لا يرث مع البنت وعلى قول الشافعي والجماعة إن الباقي بعد فرض البنت بينهما، لأن البنت تسقط بورثته بالأم ولا تسقط ميراثه بالتعصيب كالإخوة للأب والأم فلو ترك ابن عم لأب وأم وابن عم لأب هو أخ لأم فعلى قول ابن مسعود المال لابن العم للأب الذي هو أخ لأم وعلى قول الجماعة لابن العم للأب الذي هو أخ للأم السدس بأنه أخ لأم والباقي لابن العم للأب والأم، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَصَبَةُ بِرَحِمٍ يَرِثُ فَالمَوْلَى المُعْتِقُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَأَقْرَبُ عَصَبَةٍ مَوْلاَةُ الذُّكُورُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَبَيْتُ المَالِ".

قال في الحاوي: وهذا كما قال، والولاء يورث به كالتعصيب قال الله تعالى: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ} [النّساَء: 33].وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مولى القوم منهم وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الولاء لحمة كلحمة النسب".وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من تولى إلى غير مواليه فقد خلع رقبة الإسلام من عنقه" [3].وأعتقت بنت حمزة بن عبد المطلب عبداً فمات وترك بنتاً فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم نصف ماله لبنته والباقي لبنت حمزة معتقته فإذا بت هذا فكل من أعتق عبده فله ولاؤه مسلماً كان المعتق أو كافراً وقال مالك: لا ولاء للكافر إذا أعتق عبداً مسلماً لقطع الله تعالى الموالاة بينهما باختلاف الدين وهذا فاسد بقول النبي صلى الله عليه وسلم قضاء الله أحق وشرط الله أوثق وإنما الولاء لمن أعتق. وقال صلى الله عليه وسلم: "الولاء كلحمة النسب" فلما كان النسب ثابتاً بين الكافر والمسلم وإن لم يتوارثا كان الولاء بينهما ثابتاً ولا يتوارثان به، فإن أسلم ورث فإذا ثبت استحقاق الميراث بالولاء فعصبة النسب تتقدم في الميراث على عصبة الولاء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم شبه عصبة الولاء بعصبة النسب ومعلوم أن ما ألحق بأصل، فإنه متأخر عن ذلك الأصل. ألا ترى أن ابن الابن لما كان في الميراث ملحقاً بالابن تأخر عنه والجد لما كان ملحقاً بالأب تأخر عنه وإذا كان كذلك فمتى كان للمعتق عصبة مناسب كان أولى بالميراث من المولى وإن لم يكن له عصبة وكان له ذو فرض تقدموا بفروضهم على الموالي، لأنهم يتقدمون بها على العصبة فكان تقديمهم بها على المولى أولى فإن لم يكن عصبة نسب ولا ذو فرض يستوعب بفرضه جميع التركة كانت للتركة أو ما بقي منها بعد فرض ذي الفرض للمولى يتقدم به على ذوي الأرحام في قول من ورث ذوي الأرحام من المتأخرين إلا ما روي عن عمر وابن مسعود وابن عباس ومعاذ بن جبل رضي الله عنهم أنهم قدموا ذوي الأرحام على الموالي وفيما مضى من إسقاط ميراث ذوي الأرحام دليل كاف والله أعلم. فصل: فإن لم يكن مولى فعصبة المولى يقومون في الميراث مقام المولى، لأنهم لما قاموا في ماله قاموا مقامه في ولائه، فإذا كان كذلك فالأبناء أحق بولاء الموالي من الآباء فإذا كان أب مولى وابن مولى فابن المولى أولى من أب الموالى وكذلك ابن الابن وإن سفل وبهذا قال أبو حنيفة ومالك وجمهور الفقهاء.

وقال أبو يوسف: لأب المولى سدس الولاء والباقي للابن كمال وهكذا الجد وإن علا يجعلون له مع الابن سدس الولاء. وبه قال النخفعي والأوزاعي وأحمد وإسحاق وهذا خطأ، لأن الولاء مستحق لمجرد التعصيب وتعصيب الابن أقوى من تعصيب الأب لتقديمه عليه فوجب أن يكون أحق بالولاء فإذا ثبت أن الأبناء أولى بالولاء من الآباء فهو للذكور منهم دون الإناث فيكون لابن المولى دون بنت المولى وهو قول الجمهور. وقال طاوس: هو بين الابن والبنت للذكر مثل حظ الأنثيين كالمال وهكذا قال في الأخ والأخت يرثان الولاء للذكر مثل حظ الأنثيين. وحكي نحو هذا عن شريح وهذا خطأ، لأن النساء إذا تراخى نسبهن لم يرثن بتعصيب النسب كبنات الإخوة وبنات الأعمام وتعصيب الولاء أبعد من تعصيب النسب فكان بسقوط ميراث النساء أحق. فصل: فإذا لم يكن ابن مولى فأبو المولى بعده أحق بالولاء من الجد والإخوة لإدلائهم به ثم اختلفوا بعد الأب في مستحق الولاء فقال أبو حنيفة: الجد أحق به من الإخوة، وبه قال أبو ثور. وقال مالك: الإخوة أحق به من الجد. وقال يوسف ومحمد: إنه بين الجد والأخ نصفين وبه قال أحمد بن حنبل وللشافعي فيه قولان: أحدهما: إنه للأخوة دون الجد وهو قول مالك؛ لأن الإخوة أقرب إلى الأب من الجد كما أن ابن الابن أحق من الأب فعلى هذا يقدم الأخ للأب والأم على الأخ للأب ولا حق فيه للأخ للأم. والثاني: إن الجد فيه سواء كقول أبي يوسف؛ لأنه يقاسم الإخوة في المال فقاسمهم في الولاء فعلى هذا لو نقصته مقاسمة الإخوة من ثلث الولاء لم يفرض له الثلث بخلاف المال، لأن الولاء لا يستحق بالفرض، وإنما يستحق بالتعصيب المحض. فلو كانوا خمسة إخوة وجداً كان الولاء بينهم أسداساً على عددهم للجد منه السدس ولا يقاسم الجد الإخوة للأب مع الإخوة للأب والأم بخلاف المال ثم الإخوة مع أبي الجد وجد الجد وإن علا كلهم مع الجد الأخير فأما بنو الإخوة والجد فعلى قولين: وأحدهما: إن بني الإخوة أحق بالولاء من الجد، وهو مذهب مالك، وكذلك بنوهم وإن سلفوا. والثاني: إن الجد أولى من بني الإخوة، لقرب درجته ولا يحجب اشتراك بني الإخوة مع الجد، ويقدم من بني الإخوة من كان لأب ولأم على من كان لأب، ثم بنوهم وبنو بنيهم وإن سلفوا على هذا الترتيب يتقدمون على الأعمام وبنيهم، ويتقدم الجد بالولاء على الأعمام ولأنهم بنوه فأما أبو الجد والعم ففيه ثلاثة أقاويل:

أحدها: إنا أبا الحد أولى بالولاء لولادته. والثاني: إن العم أولى بالولاء لقربه. والثالث: إن أبا الجد والعم سواء يشتركان في الولاء يترتبون بعد ذلك ترتيب العصبات، فإن لم يكن للمولى عصبة فمولى المولى، فإن لم يكن فعصبته ثم مولاه كذلك أبداً ما وجدوا، فإن لم يوجدوا ووجد مولى عصبته: فإن كان مولى آبائه وأجداده ورص، لأن الولاء يسري إليه من أبيه وجده، وإن كان مولى أبنائه أو أخواته لم يرث، لأن ولاء الابن لا يسري إلى أبيه ولا إلى أخيه، فإن لم يكن له إلا مولى من أسفل قد أنعم عليه بالعتق لم يرثه في قول الجماعة. وقال طاوس: له الميراث استدلالاً برواية عوسجة عن ابن عباس أن رجلاً مات ولم يدع وارثاً إلا غلاماً له كان اعتقه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل له أحد" قالوا: لا إلا غلاماً له كان اعتقه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ميراثه له والدليل على أن لا ميراث له: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الولاء لمن اعتق". وروى أن عبد الله بن عمر كان يورث موالي عمرو دون بناته، لأن المولى الأعلى ورث لإنعامه فصار ميراثه كالجزاء، والمولى الأسفل غير منعم فلم يستحق ميراثاً ولا جزاء، فأما إعطاء النبي صلى الله عليه وسلم ذلك له فيجوز أن يكون ذلك طعمة منه، لأنه كان أولى بمال بيت المال أن يضعه حيث يرى، والله أعلم. فصل: والولاء للمعتق في النسب، وصورته أن يعتق الرجل عبداً ثم يموت السيد ويخلف ابنين فيرثان ماله بينهما ثم يموت أحد الابنين ويخلف أبناً فينتقل ميراث ابنه عن الجد إليه فإذا مات بعد ذلك العبد المعتق ورثه ابن المولى دون ابن ابنه. وقال شريح وابن الزبير وسعيد بن المسيب وطاوس ينتقل الولاء انتقال الميراث فيصير ولاء المعتق بين الابن وابن الابن، لأن الميراث السيد المعتق صار إليهما ولم يجعلوا الولاء للكبير اعتباراً بمستحق الولاء عند موت المولى الأعلى ومن جعل الولاء للكبير اعتبر مستحق الولاء عند موت المولى الأسفل وبتوريث الكبير. قال جمهور الصحابة والفقهاء تعلقاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب ولا يورث" فلو جعل كالمال صار موروثاً، ولأن المال ينتقل بموت المولى الأسفل إلى عصبة مولاه الأعلى وليس ينتقل إلى المولى بعد موته فينتقل إليهم كالمال فلذلك صار مخالفاً للمال، فعلى هذا لو مات المولى الأعلى فترك أخاً لأب وأم، وأخاً لأب فأخذ الأخ للأب والأم، لأنه الآن أقربهما إلى المولى الأعلى ومن جعله موروثاً كالمال جعله لابن الأخ للأب والأم، لأنه صار أحق بميراث المولى الأعلى وللولاء كتاب يستوفي فروعه فيه مع جر الولاء وما يتعلق عليه إن شاء الله تعالى.

باب ميراث الجد

فصل: فأما ولاء الموالاة وصورته: في رجل لا يعرف له نسب ولا ولاء فيوالي رجلاً يعاقده ويحالفه ويناصره فهذا عند الشافعي وجمهور الفقهاء لا يتوارثان به. وقال إبراهيم النخعي: يتوارثان بهذه الموالاة وليس لواحد منهما نقضهما، وقال أبو حنيفة يتوارثان بها ولكل واحد منهما نقضها ما لم يعقل عنه صاحبه، فإن عقل له لم يكن له نقضها فاستدل على استحقاق التوارث بها بقوله تعالى: {والَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] وبرواية تميم الداري أن رجلاً فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق الناس بمحياه ومماته". والدليل على فسادها ما ذهبا إليه قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن أعتق" فأثبته للمعتق ونفاه عن غير المعتق. وروى جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا حلف في الإسلام وأيما حلف كان في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدة" ولأن كل من لماله جهة ينصرف إليها لم يجز أن ينقله بالموالاة إلى غيرها كالذي له نسب أو عليه ولاء، ولأن كل جهة لا يتوارث بها مع النسب والولاء لا يتوارث بها مع عدم النسب والولاء كالنكاح الفاسد، فأما الآية فمنسوخة حين نسخ التوارث بالحلف وقد ذكرناه. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق بمحياه ومماته" فمعناه أحق بنفسه دون ماله في نصرته في حياته ودفنه والصلاة عليه بعد وفاته والله أعلم بالصواب. باب ميراث الجد مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: "والجد لا يرث مع الأب فإن لم يكن أب فالجد بمنزلة الأب إن لم يكن الميت ترك أحداً من ولد أبيه الأدنين أو أحداً من أمهات أبيه وإن عالت الفريضة إلا في فريضتين زوج وأبوين أو امرأة وأبوين فإنه إذا كال فيهما مكان الأب جد صار للأم الثلث كاملاً وما بقى فللجد بعد نصيب الزوج أو الزوجة وأمهات الأب لا يرثن مع الأب ويرثن مع الجد". قال في الحاوي: أما الجد المطلق فهو أبو الأب لا غير، فأما أبي الأم فهو جد بتقييد، ثم الجد يجمع رحماً وتعصيباً كالأب، فيرث تارة بالرحم فرضاً مقداراً ويرث

بالتعصيب تارة مرسلاً، ويجمع بين الفرض والتعصيب في موضع ولا خلاف أن الجد لا يسقط إلا بالأب وحده، وله في ميراثه ثلاثة أحوال اجمعوا أنه فيها كالأب، وحال اجمعوا أنه فيها بخلاف الأب، وحال اختلفوا هل هو فيها كالأب أم لا؟ فأما الحال التي اجمعوا على أنه فيها كالأب فمع البنين وبينهم يأخذ بالفرض وحده مع البنات وبنات الابن يأخذ بالفرض والتعصيب إن بقي شيء كالأب ويسقط سائر العصبات سوى الإخوة من الأعمام وبينهم وبين الإخوة إلا في رواية شاذة حكاها إسماعيل بن أبي خالد عن علي عليه السلام أنه قاسم الجد مع بني الإخوة وليست ثابتة، ويسقط الإخوة للأم فهذه حال هو والأب فيها سواء، وأما ما أجمعوا عليه على أنه فيه مخالف للأب ففي فريضتين هما زوج وأبوان، أو زوجة وأبوان، فإن للأم ثلث ما يبقى بعد فرض الزوج والزوجة، فإن كان مكان الأب جد، فللأم ثلث جميع المال في الفريضتين أما مع الزوجة فباتفاق، وأما مع الزوج فهو قول الأكثرين، وحكي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه جعل للأم ثلث ما بقي والباقي للجد للأب، وحكي عن ابن مسعود أنه جعل المال أرباعاً، والذي عليه الجمهور ما ذكرنا، والجد يحجب أم نفسه دون أمهات الأب، فهذه حال ذهبوا إلى أنه فيها مخالف للأب، وأما ما اختلفوا هل الجد فيه كالأم أم لا؟ فمع الأخوة والأخوات، وقد كانت الصحابة رضي الله عنهم لاشتباه الأمر فيه تكره القول فيه حتى روى سعيد بن المسيب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجركم على قسم الجد أجرأكم على النار". وقال علي عليه السلام: "من سره أن يقتحم جراثيم جهنم فليقض بين الإخوة والجد". وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه سلوناً عن عضلكم ودعونا من الجد لا حياة الله".فاختلف الصحابة ومن بعدهم في سقوط الإخوة والأخوات بالجد: فروس عن أبي بكر الصديق وعبد الله بن عباس وعائشة وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وأبي الدرداء وأبي موسى الأشعري وأبي هريرة وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم أن الجد يسقط الإخوة والأخوات كالأب، وعن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم مثله، ثم رجعوا عنه بل روي عنهم أنهم لم يختلفوا فيه أيام أبي بكر حتى مات رضي الله عنه. وبهذا قال من التابعين عطاء وطاوس والحسن وقال به من الفقهاء: أبو حنيفة والمزني وأبو ثور وإسحاق وابن سريج وداود وروي عن عمر وعثمان وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت وعمران بن الحصين رضي الله عنهم أن الجد يقاسم الإخوة والأخوات ولا يسقطهم على ما سنذكره من كيفية مقاسمته لهم.

وبه قال من التابعين شريح والشعبي ومسروق وعبيدة السلماني ومن الفقهاء: الشافعي ومالك والأوزاعي والثوري وأبو يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل واستدل من أسقط الإخوة والأخوات بالجد بقول الله تعالى: {واتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إبْرَاهِيمَ وإسْحَاقَ} [يوسف: 38] وقال تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] فسماه أباً وإذا كان اسم الأب منطلقاً على الجد وجب أن يكون في الحكم كالأب، ولأن للميت طرفين أعلى وأدنى فالأعلى الأب ومن علا والأدنى الابن ومن سفل فلما كان ابن الابن كالابن في حجب الإخوة ووجب أن يكون أبو الأب كالأب في حجب الإخوة. وتحرير قياساً أنه أحد الطرفين فاستولى حكم أوله وآخره كالطرف الآخر قالوا: ولأن الجد عصبة لا يعقل فوجب أن يسقط العصبة التي تعقل كالابن، ولأن من جمع الولادة والتعصيب أسقط من عدم الولادة وتفرد بالتعصيب كالابن، ولأن للجد تعصيباً ورحماً يرث بكل واحد منهما منفرداً فكان أقوى من الأخ الذي ليس يدلي إلا بالتعصيب الإدلاء بالابن أقوى من الإدلاء بالأب، ولأن للجد ولأية يستحقها بقوته في نكاح الصغيرة وعلى مالها ويضعف الأخ بما قصر فيها. قالوا: ولأن الأخ لو قاسم الجد كالأخوين لوجب أن يقتسمها في كل فريضة ورث فيها جدكما يقاسم الأخ الأخ في كل فريضة ورث فيها أخ، فلما لم يقاسمه في غير هذا الموضع يقاسمه في هذا الموضع. قالوا: ولأن الجد في مقاسمة الأخوة لا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يكون كالأخ للأب والأم، أو كالأخ للأب والأم، أو كالأخ للأب أو أقوى منهما، وليس يجوز أن يكون أضعف منهما، لأنه لا يسقط بهما، فلو كان كالأخ للأب والأم لم يرث معه الأخ ولو كان كالأخ للأب لما ورث مع الأخ للأب والأم، وإذا امتنع بما ذكرنا أن يكون كأحدهما ثبت أنه أقوى منهما، والله أعلم. فصل: واستدل من ورث الإخوة والإخوات مع الجد بقول تعالى: {لِلرِجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] وبقوله تعالى: {وأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] والجد والإخوة يدخلون في عموم الآيتين فلم يجز أن يخص الجد بالمال دون الإخوة، ولأن الأخ عصبة يقاسم أخته فلم يسقط بالجد كالابن طرداً وبني الإخوة والعم عكساً. فإن قيل: هذا تعليل، لأن الأخ وإن عصب أخته يسقط بالأب وهو لا يعصب أخته فكذلك لا يمتنع أن تسقط بالجد الذي لا يعصب أخته. قيل: إنما سقطوا بالأب لمعنى عدم في الجد وهو إدلائهم بالأب دون الجد، ولأن قوة الأبناء مكتسبة من قوة الآباء، فلما كان بنو الأخوة لا يسقطون مع بني الجد فكذلك الإخوة لا يسقطون مع الجد. فإن قيل: فهذا الجميع يقتضي أن يكون الإخوة يسقطون الجد كما أن بني الإخوة يسقطون بني الجد وهم الأعمام.

قيل: إنما استدللنا بهذا على ميراث الإخوة لا على من سقط بالإخوة وقد دل على ميراثهم فصح، ولأن كل من لا يحجب الأم إلى ثلث الباقي لا يحجب الإخوة كالعم طرداً وكالأب عكساً، ولأن كل سببين يدليان إلى الميت لشخص واحد لم يسقط أحدهما بالآخر كالأخوين وكابني الابن، لأن الأخ والجد كلاهما يدليان بالأب، ولأن تعصيب الإخوة كتعصيب الأولاد، لأنهم يعصبون أخواتهم ويحجب الأم من أعلى الوجهين، ويفرض النصف للأنثى منهم والجد في هذه الأحوال كلها بخلافهم فكانوا بمقاسمة الجد أولى من سقوطهم به، ولأن كل شخصين إذا اجتمعا في درجة واحدة وكان أحدهما يجمع بين التعصب والرحم والآخر يتفرد بالتعصيب دون الرحم: كان المتفرد بالتعصيب وحده أقوى كالابن إذا اجتمع مع الأب فلما كان الجد جامعاً للأمرين والأخ مختص بأحدهما وجب أن يكون أقوى، لأن الجد والأخ كلاهما يدليان بالأب والجد يقول: أنا أبو أبي الميت، والأخ يقول: أنا ابن أبي الميت فصار الأخ أقوى من الجد لثلاثة معان منها: أن الأخ يدلي بالبنوة والجد يدلي بالأبوة، والإدلاء بالبنوة أقوى، ومنها أن من يدليان به وهو الأب لو كان هو الميت لكان للجد من تركته السدس وخمسة أسداسها للابن، ومنها أن الأخ قد شارك الميت في الصلب وراكضه في الرحم، وإذا كان الأخ أقوى من الجد بهذه المعاني الثلاثة كان أقل أحواله أن يكون مشاركاً له في ميراثه، ثم يدل على ذلك ما جرى من نظر الصحابة فيه، فروي أن عمر رضي الله عنه كان يكره أن يذكر فريضة في الجد حتى صار هو جداً وذلك أن ابنه عاصماً مات وترك أولاداً ثم مات أحد الأولاد فترك جده عمر وإخوته فعلم أنه أمر لابد من النظر فيه، فقام في الناس فقال: هل فيكم من أحد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في الجد شيئاً؟ فقام رجل فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن فريضة الجد فأعطاه السدس فقال من كان معه من الورثة؟ فقال: لا أدري قال: لا دريت ثم قال آخر: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فريضة الجد فأعطاه الثلث فقال: من كان معه من الورثة؟ قال: لا أدري قال: لا دريت؟ ثم دعا زيد بن ثابت فقال: إنه كان من رأيي ورأي أبي بكر قبل أن أجعل الجد أولى من الأخ فماذا ترى؟ فقال: يا أمير المؤمنين لا يجعل شجرة خرج منها غصن ثم خرج من الغصن غصنان فيم تجعل الجد أولى من الأخ وهما خرجا من الغصن الذي خرج منه الجد؟ ثم دعا علي بن أبي طالب وقال له مثل مقالته لزيد فقال: على يا أمير المؤمنين لا تجعل واد سأل فانشعبت منه شعبة ثم انشعبت من الشعبة شعبتان فلو رجه ماء إحدى الشعبتين دخل في الشعبتين جميعاً فيم تجعل الجد أولى من الأخ؟ فقال عمر: لولا رأيكما أجمع ما رأيت أن يكون ابني ولا أن أكون أباه.

قال الشعبي: فجعل الجد أخاً مع الأخوين ومع الأخ والأخت فإذا كثروا ترك مقاسمتهم وأخذ الثلث، وكان عمر رضي الله عنه أول جد ورث مع الإخوة في الإسلام، فهذه القصة وإن طال الاحتجاج بها تجمع خبراً، واحتجاجاً، ومثلاً، فلذلك استوفيناها. فأما الجواب عن استدلالهم بأن الله تعالى سمي الجد أباً فهو أن اسم الأب انطلق عليه توسعاً ألا ترى أن تسميته بالجد أخص من تسميته بالأب، ولو قال قائل هذا جد وليس بأب لم يكن مضلاً، والأحكام تتعلق بحقائق الأسماء دون مجازها، ولا يتعلق عليه حكم الأب، وكما تسمى الجدة أماً ولا ينطلق عليها أحكام الأم. وأما استدلالهم بأن طرفه الأدنى يستوي حكم أوله وآخره فكذلك طرفه الأعلى فالجواب عنه: أن ابن الابن لما كان كالابن في الحجب الأم كان كالابن في حجب الإخوة، ولما كان الجد مخالفاً للأب في حجب الأم إلى ثلث الباقي كان مخالفاً للأب في حجب الإخوة فيكون الفرق بين الطرفين في حجب الأم هو الفرق بينهما في حجب الإخوة، وأما قياسهم على الابن بعلة أنه عصبة لا يعقل. فالجواب عنه أن استحقاق العقل دل على قوة التعصيب فلم يجز أن يجعل دليلاً على ضعفه ألا ترى أن أقرب العصبات اختص بتحمل العقل من الأباعد، لقوة تعصيبهم وضعف الأباعد، وليس خروج الآباء والأبناء عن العقل عنه لمعنى يعود إلى التعصيب فيجعل دليلاً على القوة كما لا يجوز أن يجعل دليلاً على الضعف وذلك لأجل التعصيب ثم المعنى في الابن أنه لما كان أقوى من الأب أسقط الإخوة المدلين بالأب فلما لم يكن الجد أقوى من الأب لم يسقط الإخوة المدلين بالأب. وأما الجواب عن استدلالهم بأن الجد قد جمع الولادة والتعصيب كالأب فهو أن الأب إنما أسقطهم لإدلائهم به لا لرحمه وعصبته ألا ترى أن الابن وأن انفرد بالتعصيب وحده أقوى من الأب والجد، وهكذا الجواب عن قولهم يجمع تعصيباً ورحماً. وأما الجواب عن استدلالهم بأن إدلاء الجد بابن وإدلاء الأخ بأب فهو ما قدمناه دليلاً من أن إدلاء الأخ بالبنوة وإدلاء الجد بالأبوة لإدلائهما جميعاً بالأب فكان إدلاء الأخ أقوى. وأما استدلالهم بولاية الجد في المال والتزويج فليس ذلك من دلائل القوة في الميراث، ألا ترى أن الابن لا يلي ولا يزوج وهو أقوى من الأب، وإن ولي وزوج. وأما استدلالهم بأنه لو شاركه في موضع لشاركه في كل موضع، فالجواب عنه أن كل موضع ورث الجد فيه بالتعصيب الذي شارك الأخ فيه فإنه يشاركه في ميراثه لا لميراثهما في نسبة، وإنما لا يشاركه في الموضع الذي لا يرث الجد فيه بالرحم، لأنه ليس للأخ رحم يساويه فيها.

وأما استدلالهم بأن الجد لا يخلو من أحوال ثلاثة: فالجواب عنه أن الجد والإخوة مجتمعون على الإدلاء بالأب فلم يضعف عنه الأخ للأب بعد الأم لمساواته فيما أدلى به، كما لم يقو عليه الأخ للأب والأم بأمه، وليس كذلك حال الإخوة حالهم بعضهم مع بعض، لأنهم يدلون بكل واحد من الأبوين فكان من جمعهما أقوى من انفرد بأحدهما، والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وكل جد وإن علا فكالجد إذا لم يكن جد دونه في كل حال إلا في حجب أمهات الجد وإن بعدن فالجد يحجب أمهاته وإن بعدن لا يحجب أمهات من هو أقرب منه اللاتي لم يلدنه". قال في الحاوي: وهذا كما قال: لا فرق بين الجد الأدنى والجد الأبعد في مقاسمة الإخوة والأخوات، فأبعدهم فيه كأقربهم، كما كان الأبعد في الإدلاء كأقربهم، فإن قيل: فإذا جعلتم الجد الأعلى كالجد الأدنى في مقاسمة الإخوة فهلا جعلتم بني الإخوة معهم كالإخوة؟ قيل: المعنى في توريث الجد ما فيه من التعصيب والولادة، وهذا موجود في البعيد كوجوده في القريب، كما أن معنى الابن في التعصيب والحجب موجود في ابن الابن وإن سفل، وليس كذلك حال الإخوة وبينهم، لأن مقاسمة الإخوة للجد، إنما كان بقوتهم على تعصيب أخواتهم وحجب أمهم، وبنو الإخوة قد عدموا هذين المعنيين فلا يحجبون الأم ولا يعصبون الأخوات، فلذلك قصروا عن الإخوة في مقاسمة الجد ولم يقصروا في الجد عن مقاسمة الإخوة كالجد، فإذا ثبت هذا فحكم الجد الأعلى في الميراث والحجب ومقاسمة الإخوة كالجد الأدنى إلا في حال واحدة وهي أن الجد الأدنى يسقط سائر أمهات الأجداد، ولأنهن ولدنه، والجد الأعلى لا يسقط أمهات الجد الأدنى، لأنهن لم يلدنه، وإنما يسقط أمهات نفسه اللاتي ولدنه، ثم هو فيما سوى كذلك في حجب الإخوة للام كالجد الأدنى، والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وإذا كان مع الجد أحد من الأخوة أو الأخوات للأب والأم وليس معهن من له فرض مسمى قاسم أخاً أو أختين أو ثلاثاً أو أخاً وأختاً فإن زادوا كان للجد ثلث المال وما بقي لهم". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا ثبت ما وصفنا من أن الجد يقاسم الإخوة والأخوات ولا يسقطهم فقد اختلف من قال بتوريثه معهم في كيفية مقاسمته لهم،

فالمروي عن عمر وعثمان وزيد بن ثابت وابن مسعود رضي الله عنهم أنه يقاسمهم ما لم تنقصه المقاسمة من الثلث، فإن نقصته فرض له الثلث، وبه قال الشافعي، وروي عن علي بن أبي طالب عليه السلام: أنه قاسم بالجد إلى السدس، فإن نقصته المقاسمة من السدس فرض له السدس، فيقاسم به إلى خمسة إخوة، ويفرض له مع الستة السدس، هذا هو المشهور عنه. وحكي عن عمران بن الحصين أنه قاسم بالجد إلى نصف السدس، فإن نقصته منه فرض له نصف السدس، فكأنه قاسم به إلى أحد عشر أخاً، وفرض له نصف السدس مع الثاني عشر، وهذا القول ظاهر الخطأ، لأنه ليس الجد مع الإخوة أضعف منه مع البنين وقد ثبت أنه لا ينقص مع الابن من السدس فكيف يجوز أن ينقص مع الإخوة من السدس، وأما مقاسمة على عليه السلام به إلى السدس: فاستدل على السدس: فاستدل له بأن الجد ليس بأقوى من الأب وقد ثبت أن الأب إذا فرض له لم يزد في فرضه على السدس فكان الجد إذا فرض له أولى أن لا يزاد على السدس، والدليل على أن الجد يفرض له الثلث مع الإخوة إن نقصته المقاسمة هو أن في الجد رحماً وتعصيباً فميراثه مع الابن يرحمه فيأخذ به السدس، وميراثه مع الإخوة بتعصيبه كما أنهم بالتعصيب يرثون، فلو فرض له السدس لا يسقط تعصيبه وورث برحمه، وليس في الإخوة ما يدفعون الجد عن تعصيبه فلذلك فرض له الثلث ليكون السدس بالرحم. والسدس بالتعصيب الذي أقل أحواله أن يكون كالرحم، ولأن الجد يحجبه الأخوان في الثلث، وقد استقر في أصول الحجب أن الابنين إذا حجبا إلى فرض كان من زاد عليهما في حكمها في استقرار ذلك الفرض بعد الحجب، ولا يحجب الثالث زيادة على حجب الثاني، كالأخوين لما حجبا الأم إلى السدس لم يزدها الثلث حجباً على الثاني حتى ينقص به من السدس، كذلك الجد لا ينقصه الثالث من الثلث. وقد روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: دخلت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقلت: إني قد رأيت أن أنقص الجد للإخوة فقال عمر: لو كنت مستنقصاً أحداً لأحد لأنقصت الإخوة للجد، أليس بنو عبد الله يرثون دون أخوتي فما لي لا أرثهم دون أخوتهم، لأن أصبحت لأقولن في الجد قولاً فمات من ليلته رضوان الله عليه. فصل: فإذا ثبت ما وصفنا فلا يخلو أن يكون مع الإخوة والجد ذو فرض أم لا فإن كان معهم ذو فرض فسيأتي، وإن لم يكن معهم ذو فرض فلا يخلو حال من شارك الجد من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكونوا إخوة منفردين، فإن الجد يقاسم أخوين ولا يقاسم من زاد، فإن كانت الفريضة جداً وأخاً: كان المال بينهما نصفين، وإن كانت جداً وأخوين: كان المال بينهم أثلاثاً، وإن كانت جداً وثلاثة إخوة فرض للجد الثلث وكان الباقي بين الإخوة على

ثلاثة وتصح من تسعة وهكذا يفرض له الثلث مع من زاد على الثلاثة. والثاني: أن يكون مع الجد أخوات متفرقات فقد حكي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما كانا يفرضان للأخوات المتفرضات له السدس، ونحوه عنه عمر رضي الله عنه، وكان زيد بن ثابت لا يفرض للأخوات المنفردات مع الجد إلا في الأكدرية ونحوها، وترك الفرض لهم مع الجد أولى كالأخ، فلما لم يفرض لهن مع الجد، لأن كل من قاسم الذكور قاسم الذكور قاسم من في درجته من الإناث كالابن، فعلى هذا لو كانت الفريضة جداً وأختاً فالمال بينهما أثلاثاً للذكر مثل حظ الأنثيين كالأخ والأخت، ولو كانت جداً وأختين: كان المال بينهم على أربعة للجد سهمان، ولكل أخت سهم، فلو كانت جداً وثلاث أخوات كان المال بينهم على خمسة، للجد سهمان ولكل أخت سهم فلو كانت جداً وأربع أخوات كان المال بينهم على ستة للجد سهمان ولكل أخت سهم وتستوي المقاسمة والثلث ولو كانت جداً، وخمس أخوات فرض للجد الثلث، لأن المقاسمة تنقصه من الثلث فيكون الباقي بعد ثلث الجد بينهن على أعدادهن. والثالث: أن يكون مع الجد إخوة وأخوات فيقاسمهم إلى الثلث ثم يفرض له الثلث إن نقصته المقاسمة منه، فعلى هذا لو كانت الفريضة جداً وأخاً وأختاً كان المال بينهم على خمسة للجد سهمان وللأخ سهمان وللأخت سهم ولو كانت جداً وأخاً وأختين: كان المال بينهم على ستة للجد سهمان، وللأخ سهمان، وللأختين سهمان، وتستوي المقاسمة والثلث، ولو كانت جداً، وأخوين، وأختاً فرض له الثلث، لأن المقاسمة تنقصه منه، لأنه يحصل له بها سهمان من سبعة، فذلك فرض له الثلث، وكان الباقي بين الأخوين والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين، وهكذا يفرض له الثلث مع أخ، وثلاث أخوات، لأن المقاسمة تنقصه منه ثم هكذا من زاد. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وإن كان معهن من له فرض مسمى زوج أو امرأة أو أم أو جدة أو بنات ابن وكان ذلك الفرض المسمى النصف أو أقل من النصف بدأت بأهل الفرائض ثم قاسم الجد ما يبقى أختاً أو أختين أو ثلاثاً أو أخاً وأختاً وإن زادوا كان للجد ثلث ما يبقى وما بقي فللأخوة والأخوات للذكر مثل حظ الأنثيين وإن كثر الفرض المسمى بأكثر من النصف ولم يجاوز الثلثين قاسم أختاً أو أختين فإن زادوا فللجد السدس وإن زادت الفرائض على الثلثين لم يقاسم الجد أخاً ولا أختاً وكان له

السدس وما بقي فللإخوة والأخوات للذكر مثل حظ الأنثيين". قال في الحاوي: قد مضى الكلام في تفرد الجد والإخوة بالميراث، فأما إذا شاركهم ذو فرض فللجد معهم عند دخول ذوي الفروض عليهم الأكثر من أحد ثلاثة أشياء: إما المقاسمة أو ثلث ما بقي، أو سدس جميع المال، فإن كانت المقاسمة أكثر قاسم لما قدمناه من الدليل على مقاسمته لهم، فإن كان الثلث الباقي أكثر فرض له ثلث الباقي لما ذكرناه من أنهم لا يحجبون إلى أقل من الثلث، وإن كان السدس أكثر فرض له السدس، لأنه لا ينقص برحمه عن السدس، فلذلك جعلنا له الأكثر من المقاسمة، أو ثلث الباقي، أو سدس الجميع، فإذا تقرر ما وصفنا فلا يخلو حال من دخل عليه من ذوي الفروض من أربعة أقسام. الأول: أن يكون الفرض أقل من النصف: فيعطي الجد الأكثر من المقاسمة، أو ثلث الباقي، لأنه أكثر من سدس الجميع، فعلى هذا لو ترك زوجة، وأخاً، وجداً، كان للزوجة الربع، والباقي بين الجد والأخ نصفين، لأن المقاسمة أوفر له، ولو ترك زوجة، وجداً، وأخاً، وأختاً، كان للزوجة الربع، والباقي بين الجد والأخ نصفين، لأن المقاسمة أوفر له، ولو ترك زوجة وأخاً، وجداً، وأختاً، كان للزوجة الربع، والباقي بين الجد والأخ والأخت على خمسة أسهم والمقاسمة أوفر ولو ترك أماً وأخاً وأختين، وجداً، كان للأم السدس، والباقي بين الجد والأخ والأختين على ستة أسهم، والمقاسمة وثلث الباقي سواء، ولو ترك أماً، وأخوين، وأختاً، وجداً، كان للأم السدس، وللجد ثلث ما بقي، لأنه أكثر المقاسمة وما بقي بين الأخوين والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين، ولو ترك زوجة، وأماً، وأخاً، وأختاً، وجداً، كان للزوجة الربع، وللأم السدس، والباقي بين الجد والأخ والأخت على خمسة أسهم والمقاسمة أكثر من ثلث ما بقي. والثاني: أن يكون الفرض النصف لا غير: وذلك فرضان: فرض الزوج وفرض البنت، فإن كان للزوج فكانت الفريضة زوجاً، وأخاً، وجداً كان للزوج النصف والباقي بين الجد والأخ نصفين، والمقاسمة أوفر، فلو كانت زوجاً، وأخاً، وأختاً، وجداً، كان للزوج النصف، والباقي بين الأخ والجد والأخت على خمسة، والمقاسمة أوفر، فلو كانت زوجاً، وأخوين، وجداً، كان للزوج النصف، والباقي بين الجد والأخوين على ثلاثة، والمقاسمة وثلث الباقي وسدس جميع المال سواء، فلو كانت زوجاً، وأخوين وأختاً وجداً، كان للزوج النصف، وللجد ثلث ما يبقى، وهو سدس الجميع أيضاً والباقي بين الأخوين والأخت لا يقاسمهم الجد، لتساويه بالمقاسمة عن ثلث ما يبقى وسدس الجميع، وإن كان النصف فرض البنت: فقد حكي عن علي عليه السلام أنه لا يزيد الجد على السدس مع البنت، أو بنت الابن، وعلى قول الجماعة إن الجد يقاسم الإخوة مع البنت كما يقاسم مع غير البنت، لأن الجد لا يضعف عن الأخ والأخت،

فلما اقتسم الأخ والأخت ما فضل عن فرض البنت اقتسمه الأخ والجد, فعلى هذا لو ترك بنتا, وأخا, وجدا, كان للبنت النصف, والباقي بين الأخت والجد على ثلاثة, ولو ترك بنتا وأخوين, وأختا وجدا, كان للبنت النصف, وللجد ثلث ما يبقى وهو السدس, لأن المقاسمة تنقصه عنه والباقي بين الأخوين والأخت للذكر مثل حظ الأنثين. والثالث: أن يكون الفرض يزيد على النصف ولا يزيد على الثلثين فيكون للجد الأكثر من المقاسمة أو سدس جميع المال, لأن ثلث الباقي أقل منه, فعلى هذا لو ترك زوجة, وأما, وأختا, وجدا, كان للزوجة الربع, وللأم الثلث, والباقي بين الجد والأخ, لأنه أكثر له من السدس, وتفضل الأم بسهمها على الجد, وحكي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما كان لا يفضلان أما على جد, وفضلها زيد؛ لأن الأم أقوى ولادة وأقرب درجة فلم يمتنع تفضيلها على الجد, فلو ترك بنتا, وأما, وأختا, وجدا, كان للبنت النصف, وللأم السدس, والباقي بين الجد والأخت على ثلاثة, والمقاسمة أوفر, ولو ترك بنتا وبنت ابن, وأخا, وجدا, كان للبنت النصف ولبنت الابن السدس, والباقي بين الجد والأخ نصفين, والمقاسمة والسدس سواء ولو كان مع الأخ أخت فرض للجد السدس, لأن المقاسمة أقل. والرابع: أن يكون الفرض أكثر من الثلثين: للجد السدس, وربما استوى السدس والمقاسمة, فإذا كانت الفريضة زوجا وبنتا وأخا وجدا, كان للزوج الربع, وللبنت النصف, وللجد السدس, والباقي للأخ سهم من اثنى عشر, فلو كانت زوجة, وأما, وبنتا, وأخا, وجدا, كان للزوجة الثمن, وللأم السدس, والباقي للأخ سهم من أربعة وعشرين سهما فلو كانت زوجا, وبنتا, وأختا, فللزوج الربع, وللبنت النصف, وسدس للجد والمقاسمة سواء, فيقاسم به, لأن المقاسمة ما لم تنقصه عن فرضه أولى فيكون المال بينهم على ثلاثة, والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "فإن عالت الفريضة فالسدس للجد والعول يدخل عليه منه ما يدخل على غيره". قال في الحاوي: وأما العول فهو زيادة الفروض في التركة حتى تعجز التركة عن جميعها فيدخل النقص على الفروض بالحصص, ولا يخص به بعض ذوي الفروض من دون بعض, فهذا هو العول, وبه قال جمهور الصحابة, وأول من حكم به عن رأي جميعهم عن بن الخطاب رضوان الله عليه, وأشار به علي, والعباس رضي الله عنهما, ثم

اتفقوا جميعا عليه إلا ابن عباس وحده, فإنه خالفهم في العول, وأظهر خلافه بعد موت عمر, وهي المسألة الرابعة التي تفرد ابن عباس فيها بخلاف الصحابة, وقال أكمل فرض من نقل الله تعالى من فرض إلى فرض كالزوج والزوجة والأم, وأدخل النقص على من نقله الله من فرض إلى غير كالبنات والأخوات لانتقالهن مع إخوتهن من فرض إلى غير فرض كالبنات والأخوات لانتقالهن مع إخوتهن من فرض إلى غير فرض. وروى عطاء بن أبي رباح قال: سمعت ابن عباس يقول: أترون الذي أحصى رمل عالج عددا لم يحص في مال قسمه نصفا ونصفا وثلثا, فبهذان النصفان قد ذهبنا بالمال فأين موضع الثلث قال عطاء: فقلت لابن عباس يا أبا عباس إن هذا لا يغني عنك ولا عني شيئا لو مت أو مت قسم ميراثنا على ما قاله اليوم من خلاف رأيك قال: فقال: عالج عددا لم يحص في مال قسمه نصفا ونصفا وثلثا, فبهذان النصفان قد ذهبنا بالمال فأين موضع الثلث قال عطاء: فقلت لابن عباس يا أبا عباس إن هذا لا يغني عنك ولا عني شيئا لو مت أو مت قسم ميراثنا على ما قاله اليوم من خلاف رأيك قال: فقال: إن شاؤوا فلندع أبناءنا وأبنائهم ونسائنا ونسائهم, وأنفسنا وأنفسهم, ثم نبتهل فنجعل لعنه الله على الكاذبين ما جعل الله في مال نصفا وثلثا. وروى الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: أتيت ابن عباس أنا وزفر بن أوس وما كنت ألقى رجلا من العرب يحيك في صدري أحب إلي من ذلك الرجل قال: فقال له زفر: يا أبا عباس من أول من أعال الفرائض؟ فقال عمر بن الخطاب وأيم الله لو قدم من قدم الله ما عالت فريضة, قال: فقال له: يا أبا عباس, وأيها التي قدمها الله وأيها التى أخر؟ فقال: كل فريضة لم تزل عن فريضة إلا فريضة هي التي قدمها الله, وكل فريضتين عالت عن فريضتها لم يكن لها إلا ما بقي فهي التي أخر, فأما التي قدم الله فالزوج فله النصف, فإذا دخل عليه من يزيله فله الربع لا يزيله عنه شيء, والمرأة لها الربع فإذا زالت عنه صار لها الثمن لا يزيلها عنه شيء, والأم لها الثلث فإذا زالت عنه صار لها السدس لا يزيلها عنه شيء, فهذه الفرائض التى قدم الله, والتي أخر فريضة البنات والأخوات النصف والثلثان, فإذا أزالتهما الفرائض عن ذلك لم يكن لهم إلا ما يبقي, فإذا اجتمع ما قدم اللد وما أخره بدئ بما قدمه الله ولم تعل فريضة, فقال له البصري: فما منعك أن تسير بهذا الرأي على عمر قال: هبته وكان امرءا ورعا لما اختلف على ابن عباس اثنان من أهل العلم فهذا مذهب ابن عباس في إسقاط العول واحتجاجه فيه فلم يتابعه على هذا القول إلا محمد ابن الحنفية ومحمد بن علي بن الحسين علي عليهم السلام. ومن الفقهاء: داود بن علي علي دليل ذلك مع ما أشار إليه ابن عباس من الاحتجاج أنه ليس البنات والأخوات بأقوى من البنين والإخوة فلما أخذ البنون والإخوة ما بقي بعد

ذوي الفروض وإن قيل كان أولى أن يأخذه البنات والأخوات والدليل على استعمال العول وإدخال النقص على الجماعة بقدر فروضهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها" وكان الأمر لجميعهم على سواء فامتنع أن يختص بعضهم بالنقص دون بعض, ولأنه لما كان قصور التركة عن الدين وضيق الثلث عن الوصية توجب توزيع ذلك بالحصص وإدخال النقص على الجميع بالقسط ولا يخص به البعض مع تساوي الكل وجب أن يكون فرض التركة بمثابة في إدخال النقص على جميعها بالحصص, ولأن لو جاز نقص بعضهم توفيرا على الباقين لكان نقص الزوج والزوجة لإدلائهما بسبب أولى من نقص البنات والأخوات مع إدلائهما بنسب, ولأن الزوج والزوجة والأم, إن أعطوا مع كثرة الفروض وضيق التركة أعلى الفرضين كملا وإدخال النقص على غيرهم ظلم من شاركهم وجعلوا أعلى في الحالة الأدنى وإن أعطوا أقل الفرضين فقد حجبوا بغير من حجبهم الله تعالى به وكلا الأمرين فاسدا, وإذا فسد الأمران وجب العول. فأما استدلاله بأن ضعف البنات والأخوات يمنع من أن يفضلوا على البنين والإخوة. فالجواب عنه: إن في إعطائهن الباقي تسوية بينهم وبين البنين والإخوة والمرسل. وأما ضيق المال عن نصفين وثلث: فلعمري إنه يضيق عن ذلك مع عدم العول, ويتبع له مع وجود العول فلم يمتنع, وأما قوله إنه يقدم من قدم الله فكلهم مقدم لأمرين: أحدهما: أنه ليس يحجب بعضهم بعضا, وفيما قاله ابن عباس حجب بعضهم ببعض. والثاني: أن فرض جميعهم مقدر وفيما قاله ابن عباس إبطال التقدير فرضهم فثبت ما قلناه والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وليس يقال من الإخوة والأخوات مع الجد إلا في الأكدرية وهي زوج وأم وأخت لأب وأم أو لأب وجد فللزوج النصف وللأم الثلث وللجد السدس وللأخت النصف يقال به ثم يضم الجد سدسه إلى نصف الأخت فيقسمان ذلك للذكر مثل حظ الأنثيين أصلها من ستة وتعول بنصفها وتصح من سبعة وعشرين للوج تسعة وللأم ستة وللجد ثمانية وللأخت أربعة". قال في الحاوي: أعلم أن لزيد بن ثابت في مسائل الجد ثلاثة أصول:

أحدها: أنه لا يفرض للأخوات المنفردات مع الجد وحكي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما فرضا للأخوات المنفردات مع الجد وقد دللنا عليه فيما تقدم. والثاني: أنه يفضل أما على جد, حكي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما كانا لا يفضلان أما على جد وقد دللنا عليه. والثالث: أنه لا يعيل مسائل الجد, وحكي عن عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم أنهم يعيلون مسائل الجد, والدليل على أنها لا تعول شيئان: أحدهما: أن الجد يرث مع الإخوة بالتعصيب ومسائل العصبات لا تعول. والثاني: أنه لما كان اجتماع الإخوة والأخوات يمنع من عول مسائل الجد فإن انفراد الأخوات مانعا من العول فهذه ثلاثة أصول لزيد عمل عليها في مسائل الجد ولم يخالف شيئا منها إلا في الأكدرية فإنه فارق فيها أصلين منها, والأكدرية هي: زوج, وأم, وأخت, وجد, اختلف الناس فيها على أربعة أقاويل: أحدها: وهو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه ومن تابعه أن للزوج النصف, وللأم الثلث, وللجد السدس, وتسقط الأخت, وقد حكي هذا القول قبيصة بن ذؤيب عن زيد. والثاني: وهو قول عمر وعبد الله بن مسعود أن للزوج النصف وللأم السدس, وللأخت النصف, وللجد السدس, لأنهما لا يفضلان أما على جد وعالت بثلثها إلى ثمانية. والثالث: وهو قول علي بن أبي طالب عليه السلام أن للزوج النصف, وللأم الثلث, وللأخت النصف, وللجد السدس, وتعول بنصفها إلى تسعة بينهما على ذلك. والرابع: وهو قول زيد بن ثابت والمشهور عنه للزوج النصف, وللأم الثلث, وللأخت النصف, وللجد السدس, ويعول نصفها إلى تسعة ثم تجمع سهام الأخت والجد وهي أربعة فتجعلها بينهما على ثلاثة فلا تقسم فاضرب ثلاثة في تسعة تكن سبعة وعشرين, للزوج ثلاثة في ثلاثة تسعة, وللأم سهمان في ثلاثة ستة, ويبقى اثنا عشر للأخت ثلثها أربعة, وللجد ثلثها ثمانية, ففارق زيد في هذه المسألة أصلين: أحدهما: أنه فرض للأخت مع الجد وهو لا يرى الفرض لها. والثاني: أنه أعال مقاسمة الجد وهو لا يعيلها وأقام على أصله الثالث في جواز تفضيل الأم على الجد, وإنما فارق فيها أصلية في الفرض والعول, لأن الباقي بعد فرض الزوج والأم السدس, فإن دفعه إلى الجد أسقط الأخت وهو لا يسقطها, لأنه قد عصبها

والذكر إذا عصب أنثى فأسقطها سقط معها كالأخ إذا عصب أخته وأسقطها سقط معها, ولو كان مكان الأخت أخ أسقطه الجد, لأنه لم يتعصب بالجد كالأخت فجاز أن يسقطه الجد ويرث دونه فلهذا المعنى لم يفرض للجد وتسقط الأخت ولم يجز أن يفرض للأخت يسقط الجد, لأن الجد لا يسقط مع الولد الذي هو أقوى من الأخت فلم يجز أن يسقط بالأخت فدعته الضرورة إلى أن فرض لهما وأعال ثم لم يجز أن يقر كل واحد منهما على ما فرض له؛ لأن فيه تفضيل الأخت على الجد والجد عنده كالأخ الذي يعصب أخته وكل عصب أنثى قاسمها للذكر مثل حظ الأنثيين فلذلك ما فرض زيد وأعال وقاسم, وبه قال الشافعي واختلفوا في تسمية هذه المسألة بالأكدرية فقال الأعمش: سميت بذلك؛ لأن عبد الملك بن مروان سأل عنها رجلا يقال له الأكدر فأخطأ فيها فنسبت إليه, وقال آخرون: سميت بذلك, لأن الجد كدر على الأخت فرضها, وقال آخرون سميت بذلك, لأنها كدرت على زيد مذهبه في أن فارق فيها أصلين له وقد يلقى الفريضون هذه المسألة في معاياة الفرائض فيقولون: أربعة ورثوا تركة فجاء أحدهم فأخذ ثلثها, ثم جاء الثاني فأخذ الباقي, ثم جاء الثالث فأخذ ثلث الباقي, ثم جاء الرابع فأخذ الباقي, لأن الزوج يأخذ ثلثها ثم الأم تأخذ ثلث الباقي ثم الأخت تأخذ ثلث باقيها. فصل: فلو كان في الأكدرية مكان الأخت أخا سقط بالجد والفرق بين الأخ والأخت ما قدمناه من أن الأخت تعصيبها بالجد فلم يجز أن يسقطها ولا يسقط معها والأخ لم يتعصب بالجد بل بنفسه فجاز أن يسقطه الجد ويأخذ بالرمم, فلو كانت زوجا, وأما, وأخا, وجدا, وأختا, كان للزوج النصف, وللأم السدس, وللجد السدس, والباقي وهو السدس بين الأخ والأخت على ثلاثة, فلو كانت زوجا, وأما, وبنتا, وأختا, وجدا كان للزوج الربع, وللأم السدس, وللبنت النصف, وللجد السدس, تعول إلى ثلاثة عشر, وتسقط الأخت, لأنها تعصبت بالبنت فلم يوجب سقوطها سقوط الجد معها, ولم يمتنع عولها, لأن الجد لم يرث فيها بالتعصيب, وإنما لا تعول مسائل الجد التي يقاسم فيها الإخوة والأخوات وهي المنسوبة إلى مسائل الجد, وقد تعول في غيرها كما تعول مع الأب. فصل في ملقبات الجد: منها: الخرقاء وهي أم, وأخت, وجد واختلف الصحابة فيها على ستة أقاويل: أحدها: وهو قول أبي بكر ومن تابعه من الصحابة رضي الله عنهم والفقهاء: إن للأم الثلث, والباقي للجد. والثاني: وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أن للأم السدس وللأخت النصف, والباقي للجد, لأنه لا يفضل أما على جد.

والثالث: وهو قول عثمان رضي الله عنه: أن للأم الثلث, وللأخت الثلث, وللجد الثلث. والرابع: وهو قول علي عليه السلام: أن للأم الثلث, وللأخت النصف, والباقي للجد, لأنه يفضل أما على جد. والخامس: وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه أن للأخت النصف والباقي بين الأم والجد نصفان: والسادس: وهو قول زيد بن ثابت رضي الله عنه للأم الثلث والباقي بين الأخت والجد على ثلاثة وتصح من تسعة وبهذا يقول الشافعي وقد قدمنا من الدلائل ما يوضح هذا الجواب, وسميت هذه المسألة الخرقاء, لأن أقاويل الصحابة رضي الله عنهم تخرقها, وسميت مثلثه عثمان رضي الله عنه؛ لأنه جعل المال بينهم أثلاثا, وسميت مربعة ابن مسعود رضي الله عنه؛ لأنه جعل المال بينهم أرباعا بالصواب. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "والإخوة والأخوات للأب والأم يعادون الجد والأخوات بالأخوة للأب ولا يصبر في أيدي الذين للأب شيء إلا أن تكون أخت واحدة لأب وأم فيصيبها بعد المقاسمة أكثر من النصف فيرد ما زاد على الإخوة للأب والإخوة والأخوات للأب بمنزلة الأخوة والأخوات للأب والأم مع الجد إذا لم يكن أحد من الإخوة والأخوات للأب والأم". قال في الحاوي: وهذا كما قال: لا اختلاف بين من قاسم الجد بالإخوة والأخوات في أنه متى انفرد معه الإخوة والأخوات للأب والأم قاسموه, وإذا انفرد معه فحكي عن علي وابن مسعود أن ولد الأب يسقطون بولد الأب والأم في مقاسمة الجد, إلا أن يكون ولد الأب والأم أنثى واحدة وولد الأب إناثا ولا ذكر معهن فيفرض لهن السدس تكملة الثلثين, فإن كان معهن ذكر سقطن به مع ولد الأب والأم استدلالا بأنه ولد الأب لما سقطوا بولد الأب والأم عن الميراث مع الجد سقطوا في مقاسمة الجد, لأن المقاسمة سبب للاستحقاق فسقطت بسقوط الاستحقاق, وذهب زيد بن ثابت إلى أن ولد الأب يقاسمون الجد مع ولد الأب ثم يردون ما حصل لهم على ولد الأب والأم إلا يكون ولد الأب والأم أنثى واحدة فلا تزاد فيما يرد عليها على النصف, فإن وصل بعد النصف شيء تقاسمه ولد الأب بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين, وحكي نحوه عن عمر رضي الله عنه وبه قال الشافعي ومالك.

والدليل على مقاسمة الجد بولد الأب مع ولد الأب والأم: وهو أن مقاسمة الإخوة للجد إنما كان الإدلاء جميعهم بالأب فلما ضعف الجد عن دفع الإخوة للأب بانفرادهم كان أولى أن يضعف عن دفعهم إذا اجتمعوا مع من هو أقوى منهم فلذلك ما استوى الفريقان في مقاسمته, ثم لما كان الإخوة للأب والأم أقوى سببا من الإخوة للأب دفعوهم عما صار إليهم حين ضعف الجد عن دفعهم فلذلك عاد ما أخذه الإخوة للأب عليهم, وليس يمتنع أن يحجب الإخوة شخصا ثم يعود ما حجبوه على غيرهم, ألا ترى أن الأخ للأب يحجب الأم مع الأخ للأب والأم يعود السدس الذي حجبها عنه على الأخ للأب والأم, فهكذا في مقاسمة الجد, وهكذا الأخوان يحجبان الأم مع الأبوين ثم يعود الحجب على الأب دون الأخوين. فأما الجواب عن الاستدلال بأن المقاسمة إنما تحجب الاستحقاق بها فهو أن الاستدلال به صحيح وقد استحقه الإخوة للأب والأم فصارت المقاسمة للاستحقاق لا لغيره. فصل: فعلى هذا لو ترك أخا لأب وأم, وأخا لأب, وجدا, كان المال بينهم أثلاثا, ثم يرد الأخ للأب سهمه على الأخ للأب والأم فيصير للأخ للأب والأم سهمين, وللجد سهم, ولو ترك أختا وأم, وأختا لأب, وأم, وأختا لأب, وجدا, كان المال بينهم على أربعة, ثم ترد الأخت للأب يهما على الأخت للأب والأم فيصير للأخت للأب والأم سهمان, وللجد سهمان, ولو ترك أخا لأب وأم, وأختا لأب وجدا, كان المال بينهم على خمسة ثم ترد الأخت للأب على الأخ للأب والأم سهما فيصير للأخ للأب والأم ثلاثة أسهم, وللجد سهمان, ولو ترك أخا وأم, وأختين لأب وجدا, كان المال بينهم على ستة ثم ترد الأختان سهما على الأخ للأب والأم فيصير له أربعة أسهم وللجد سهمان, ولو ترك أختا للأب وأم, وأخا لأب, وجدا, كان المال بينهم على خمسة, ثم يرد الأخ للأب من سهمه على الأخت للأب والأم تمام النصف سهما ونصفا فيصير مع الأخت للأب والأم سهمان ونصف, ومع الأخ للأب نصف سهم, ومع الجد سهمان, وتصح من عشرة, فلو ترك أختا لأب وأم, وأختين لأب, وجدا كان المال بينهم على خمسة ثم ترد الأختان من الأب على الأخت من الأب والأم تمام النصف لينتقل إلى عشرة وتصح من عشرين, فلو ترك أختا لأب وأم, وثلاث أخوات لأب, وجدا, كان المال بينهم على ستة هم ترد الأخوات للأب على الأخت والأم تمام النصف سهمين ويقتسمون السهم الباقي وتصح من ثمانية عشر. فلو ترك أختين لأب وأم, وأختين لأب, وجدا, كان المال بينهم على ستة ثم ترد الأختان للأب سهميهما على الأختين للأب والأم, لأن ذلك تمام الثلثين فيصير مع الأختين أربعة ومع الجد سهمان, ويرجع إلى ثلاثة ولو ترك أما, وأختا لأب وأم,

وأخوين وأختا لأب وجدا, كان للأم السدس وللجد ثلث ما يبقى, لأنه خير له من المقاسمة ومن سدس جميع المال فاضرب ثلاثة في ستة تكن ثمانية عشر سدسها للأم ثلاثة, والباقي للجد خمسة, وللأخت للأب والأم تمام النصف تسعة, ويبقى سهم واحد لولد الأب على خمسة فاضربها في ثمانية عشر تكن ومنها تصح, وهذه المسألة يسميها الفرضيون تسعينية زيد, ولو ترك أما, وأختا لأب ولأم, وأخا, وأختا لأب وجدا, كان للأم السدس والباقي بينهم على النصف, وجعلت الباقي بين ولد الأب على ثلاثة ويصح عملها من مائة وثمانية, وإم عملتها على إعطاء الجد ثلث الباقي أخذنا عددا تصح منه مخرج السدس وثلث الباقي وأصله ثمانية عشر للأم منها السدس وللجد ثلث الباقي خمسة, وللأخت للأب والأم النصف تسعة, والباقي وهو سهم بين ولد الأب على ثلاثة فاضربها في ثمانية عشر تكن أربعة وخمسين فتصح منها على هذا العمل المختصر, وهذه المسألة يسميها الفرضيون مختصرة زيد. والجواب في هذه المسألة كلها على قول زيد الذي يذهب إليه ويعمل عليه وقد حذفنا الجواب على قول من سواه كراهة الإطالة وبالله التوفيق. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وأكثر ما تعول به الفريضة ثلثها". قال في الحاوي: أعلم أن هذا الكتاب مقصور على فقه الفرائض دون العمل, غير أننا لا نحب أن نخله من فصول تشتمل على أصول الحساب وطريق العمل ليكون الكتاب كافيا ولما قصدنا حاويا. فأول الفصول أصول المسائل: قد ذكرنا جمعا وتفصيلا أن الفروض ستة, النصف, والربع والثمن, والثلثان, والثلث, والسدس, ومخرج حسابها من سبعة أصول, أربعة منها لا تعول, وثلاثة تعول, فالأربعة التي لا تعول ما أصله من اثنين, ومن ثلاثة, ومن أربعة, ومن ثمانية, فإذا كان في المسألة نصف وما بقي أو نصفان فأصلها من اثنين ولا تعول؛ لنه لابد أن يرث فيها عصبة إلا في فريضة واحدة, وهي زوج وأخت, وإذا كان في المسألة ثلث أو ثلثان أقرهما فأصلها من ثلاثة ولا تعول, لأنه لابد أن ترث فيها عصبة الأخ فريضة واحدة وهي أختان لأب وأختان لأم وإذا كان في المسألة ربع أو نصف وربع فأصلها من أربعة ولا تعول, لأنه لابد أن يرث فيها عصبة وإذا كان في المسألة ثمن أو كان مع الثمن نصف فأصلها من ثمانية ولا تعول, لأنه لابد أن يرث فيها عصبة فهذه أربعة أصول لا تعول. وأما الثلاثة التي تعول فما أصله من سنة ومن أثني عشر عشر ومن اربعة وعشرين فإذا

كان في المسألة سدس أو كان مع السدس ثلث أو نصف فأصلها من ستة وتعول إلى سبعة وإلى ثمانية وإلى تسعة وإلى عشرة وهو أكثر العول وله أراد الشافعي بقوله وأكثر ما تعول به الفريضة ثلثها, لأنها عالت بأربعة هي ثلثا الستة فانتهى عولها إلى عشرة وكل فريضة عالت إلى عشرة لم يكن الميت إلا امرأة, لأنه لابد أن يرث فيها زوج ولا يرث فيها أب, لأنه لابد أن يرث فيها أخوات ولا يرث فيها جد, لأنه لابد أن يرث فيها ولد الأم وهذه الفريضة التي تعول إلى عشرة يسميها الفرضيون أم القروح ما تعول إلى تسعة فلا يكون الميت إلا امرأة ولا يرث فيها أب ويجوز أن يرث فيها جد وهو أكثر ما تعول إليه مسائل الجد ويسميها الفرضيون الغراء وما تعول إلى ثمانية فلا يكون الميت إلا امرأة ولا يجوز أن يرث فيها أب ولا جد ويسميها الفرضيون المساهمة فهذا أحد الأصول الثلاثة التي تعول. والثاني: أن يكون في المسألة ربع مع سدس او ثلث وثلثين فأصلها من اثني عشرة ولا تعول إلى الإفراد إلى ثلاثة عشر وإلى خمسة عشر وإلى سبعة عشر ولا تعول إلى أكثر من ذلك ولا إلى الأزواج فيما ذلك وما عال إلى سبعة عشر لم يكن الميت فيه إلا رجلا ولا يرث فيه أب ولا جد ومال عال إلى خمسة وإلى ثلاثة عشر جاز أن يكون الميت رجلا أو امرأة وجاز أن يرث فيه أب أو جد فهذا ثاني الأصول التي تعول. والثالث: أن يكون في المسألة مع سدس أو ثلث أو ثلثين فأصلها من أربعة وعشرين وتعول إلى سبعة وعشرين وهي المنبرية ولا يكون الميت فيها إلا رجلا ولابد أن يرث فيها الأبوان مع البنات وكل مسألة عالت فلا يجوز أن يورث فيها بالتعصيب والله أعلم بالصواب. الفصل الثاني في تصحيح المسائل ووجه تصحيحها إذا اجتمع في سهام الفريضة عددان, فإنه لا يخلو من أن يكون جنسا واحد أو أجناسا فإن كان جنسا واحد لم تخل سهام فريضتهم المقسومة على أعداد رؤوسهم من ثلاثة أقسام إما أن تكون منقسمة على عدد رؤوسهم عليهم أو موافقة لعددهم أو غير منقسمة ولا موافقة. فالأول: أن تكون سهام فريضتهم منقسمة على عدد رؤوسهم فالمسألة تصح من أصلها. مثاله: زوج وثلاثة بين أصلها من أربعة للزوج الربع سهم وما بفي وهو ثلاثة أسهم بين البنين الثلاثة. وهكذا زوجة وابنان وثلاث أصلها من ثمانية للزوجة الثمن سهم وما بقي وهو سبعة أسهم بين البنين والبنات للذكر مثل الأنثيين على سبعة أسهم منقسمة عليهم لكل

ابن سهمان ولكل بنت سهم فهذا قسم. والثاني: أن لا تنقسم سهامهم عليهم ولا يوافق عدد رؤوسهم لعدد سهامهم إما لزيادة عدد الرؤوس على عدد السهام وإما لزيادة السهام على عدد الرؤوس فتصرب عدد الرؤوس في أصل المسألة فما خرج صحت منه المسألة. مثاله: أم وثلاثة إخوة أصلها من ستة للأم السدس سهم والباقي وهو خمسة أسهم بين الإخوة الثلاثة لا ينقسم عليهم ولا توافق عددهم فاضرب عدد رؤوسهم وهو ثلاثة في أصل المسألة وهو ستة تكن ثمانية عشر فتصح منها فهذا قسم ثان. والثالث: أن تنقسم سهامهم على عددهم ولكن يوافق عدد سهامهم لعدد رؤوسهم والموافقة أن يناسب أحد الفردين الآخر يجزء صحيح من نصف أو ثلث أو ربع أو خمس أو سدس أو سبع أو ثمن أو غير ذلك من الأجزاء الصحيحة على ما سنذكره من الطريق إلى معرفتك لما يوافق به أحد العددين الآخر فرد عدد الرؤوس إلى ما يوافق به عدد سهامها من نصف أو ثلث أو ربع ثم تضرب وفق عددها في أصل المسألة وعولها إن عالت فتصح منه ويجعل من كان له شيء من أصل المسألة مضروبا في وفق العدد الذي ضربته في أصل المسألة. مثاله: زوج وستة بين أصلها من أربعة للزوج منها الربع سهم والباقي ثلاثة على ستة لا ينقسم ولكن الستة توافق الثلاثة بالأثلاث, لأن لكل واحد منهما ثلث صحيح فترد الستة إلى وفقها وهو اثنان ثم تضرب الاثنين في أصل المسألة وهو أربعة تكن ثمانية ومنه تصح فهذا إذا كانت السهام المنكسرة على جنس واحد فأما إذا انكسرت السهام على أجناس مختلفة فأكثر ما تنكسر على أربعة أجناس فإن كان المنكسر على جنسين فلا يخلو عدد الجنسين اللذين قد انكسر عليهما سهامها من أربعة أقسام: أحدها: أن يكون كل واحد منهما مساويا للآخر. والثاني: أن لا يساويه ولكن يدخل فيه. والثالث: أن لا يساويه ولا يدخل فيه ولكن يوافقه. والرابع: أن لا يساويه ولا يدخل فيه ولا يوافقه. فأما الأول: وهو أن يكون أحد العددين مساويا للآخر فتقتصر على أحد العددين وتضربه في أصل المسألة وعولها فتصح منه وينوب أحد العددين عن الآخر. مثاله: أم وخمس أخوات لأب وأم وخمس أخوات لأم أصلها من ستة وتعول إلى سبعة للأم السدس سهم وللخمس الأخوات من الأب الثلثان أربعة لا تنقسم عليهن ولأولاد الأم الثلث سهمان لا ينقسمان عليهن فاضرب أحد الجنسين في أصل المسألة وعولها وهو سبعة تكن خمسة وثلاثين ومنه تصح للأم سهم من سبعة مضروب لها في

خمسة وللأخوات من الأب والأم أربعة من سبعة مضروب لهن في خمسة يكن عشرين وللأخوات من الأم سهمان مضروبان في خمسة تكن عشرة. والثاني: أن يكون أحد العددين لا يساوي الآخر ولكن يدخل فيه كدخول الاثنين في الأربعة والستة وكدخول الثلاثة في الستة والتسعة وكدخول العشرة في العشرين والثلاثين ومعرفتك بدخول أحدهما في الآخر يصح من أحد ثلاثة أوجه: أحدهما: إما أن تقسم الأكثر على الأقل فتصح القسمة. والثاني: إما أن تضاعف الأقل فيفنى به الأكثر. وإما أن ينقص الأقل من الأكثر فلا يبقى شيء من الأكثر فإذا دخل أحد العددين في الأخر كان الأقل موافقاً للأكثر بجميع أجزائه كدخول الثمانية في الستة عشر توافقها بالأثمان والأربع والأنصاف وكدخول ألاثني عشر في الستة والثلاثين توافقها بأجزاء اثني عشر وبالأسداس والأثلاث والأنصاف فيجعل ذلك ويقاس عدد الرؤوس وعدد السهام بأقل الأجزاء ولا يستعمل ذلك في الجنسين من رؤوس الورثة، لأن دخول أحدهما هي الآخر يغنيك عن الوفق بينهما فاقتصر على ضرب العدد الأكثر في أصل المسألة وعولها إن عالت. مثاله: زوجتان وأربعة إخوة للزوجتين الربع سهم ولا ينقسم عليهما والباقي وهو ثلاثة أسهم بين الإخوة على أربعة لا ينقسم عليهم والاثنان يدخلان في الأربعة ظ نرب الأربعة التي هي عدد الإخوة في الأربعة التي هي أصل المسألة تكن ستة عشرة ومنها تصح. والثالث: أن يكون أحد العددين لا يساوي الآخر ولا يدخل فيه ولكن يوافقه بجز، صحيح من نصف أو ثلث أو ربع ومعرفتك لما بين العددين من الموافقة يكون من وجهين: أحدهما: من دخول أحدهما في الآخر فيصير العددان متفقين بجميع أجزاء الأقل منها غير أنك لا تستعمله في وفق ما بين الجنين لما ذكرنا من استغنائك عنه بالاقتصار على ضرب الأكثر في الأقل. والثاني: أن لا يدخل الأقل في الأكثر فينبغي أن تعد به الأكثر ثم تنظر به الباقي من الأكثر فتعد به الأقل، فإن عده عداً صحيحا حتى ممار داخلاً فيه والباقي من عدد الأكثر هو الوفق بين العددين، فإن كان ثلاثة كان اتفاقهما بالأثلاث وان كان أربعة فبالأرباع وان كان خمسة فبالأخماس مثل أن يكون أحد العددين ثمانية والآخر ثمانية وعشرين فإذا عددت الثمانية والعشرين بالثمانية بقي منها أربعة فإذا عددت الثمانية بالأربعة استوفتها ودخلت فيها فيعلم أنهما متفقان بالأرباع فإن كان بقية الأكثر لا تعد الأقل عدداً صحيحاً

يستوفيه وبقيت بقية عددت بها بقية الأكثر فإن عدتها عداً صحيحاً واستوفتها ففيه أقاويل هو وفق العادين وإن بقيت منها بقية عددت بها البقية التي قبلها تفعل ذلك أبداً بعدد كل بقية ما بقي قبلها حتى تجد عددا يعد ما قبله ويستوفيه عددا صحيحا فيكون ذلك العدد هو الوفق بين العددين إلا أن يكون الباقي واحدا فردا فيعلم به أن العددين لا يتفقان بشيء، فعلى هذا لو كان أحد العددين ستة وخمسين والآخر سبعة وسبعين فيبقى بعد إسقاط الأقل من الأكثر أحد وعشرين فنعد بها الأقل يبقى أربعة عشر فنعد الأحد والعشرين بالأربعة عشر يبقى سبعة فتعد الأربعة عشر بالسبعة تعد بها وتستوفيها فيعلم أن العادين يتفقان بالأسباع ولو كان أحد العادين أحداً وعشرين والآخر خمسة وعشرين فإذا أسقطت الأحد والعشرين من الخمسة والعشرين بقيت أربعة فتعد بالأربعة الأحد والعشرين يبقى واحد فتعلم أن العددين لا يتفقان فهذا أصل فافهمه ثم عدنا إلى جواب القسم الثالث فإذا كان أحد العددين موافقا للآخر ضربت وفق أحدهما في الآخر فإن شئت ضربت وفق الأقل في الأكثر وان شئت ضربت وفق الأكثر في الأقل قل فهما سواء ثم ضربت ما حصل بيدك في أصل المسألة وعولها إن عالت. مثاله: زوج وست جدات وتسع أخوات تعول إلى ثمانية للزوج النصف ثلاثة وللجدات السدس سهم على ستة لا ينقسم وللأخوات الثلثان أربعة على تسعة لا تنقسم عليها ولا توافقها وعاد الجدات وهو ست يوافق عاد الأخوات وهو تسع بالأثلاث فاضرب وفق أحدهما في الآخر فإن شئت ضربت وفق الستة وهو اثنان في التسعة تكن ثمانية عشر وان شئت ضربت وفق التسعة وهو ثلاثة في الستة تكن ثمانية عشر ثم اضربها في أصل المسألة وعولها وهو ثمانية تكن مائة وأربعة وأربعين ومنها تصح ولو كان بين الرؤوس والسهام موافقة وبين عدد الجنسين موافقة رددت عد كل جنس إلى وفق سهامه بما وافقت بين وفق العادين ثم ضربت ما حصل من وفق أحدهما في الآخر ثم ما اجتمع في أصل المسألة مثاله: أم وستة عشر أختاً لأب وأم واثنتا عشرة أختا لأم تعول إلى سبعة للأم منها السدس سهم وللأخوات الثلثان أربعة على ستة عشر لا تنقسم ولكن توافق بالأرباع ترد الأخوات إلى الأربعة وللأخوات من الأم الثلث سهمان على اثني عشر لا تنقسم ولكن توافق بالإنصاف إلى ستة ثم أربعة توافق الستة بالإنصاف فاضرب نصف أحدهما في الآخر تكن اثني عشر ثم اضرب ذلك في أصل المسألة وعولها وهو سبعة تكن أربعة وثمانين ثم تضرب كل من له شيء من سبعة في اثني عشر فيكون للأم اثنا عشر وللأخوات من الأب والأم ثمانية وأربعون على ستة عشر ينقسم لكل واحدة منهن ثلاثة أسهم للأخوات من الأم أربعة وعشرون على اثني عشر ينقسم لكل واحدة سهمان. والرابع: أن يكون أحد العادين لا يساوي الآخر ولا يدخل فيه ولا يوافقه فتضرب أحدهما في الآخر ثم ما اجتمع في أصل المسألة وعولها إن عالت مثاله: زوج وخمس

بنات وثلاث أخوات أصلها من اثني عثر للزوج الربع ثلاثة وللبنات الثلثان ثمانية على خمسة لا تنقسم ولا توافق وللأخوات ما بقي وهو سهم على ثلاثة فاضرب خمسة هي عدد البنات في ثلاثة لأنهما لا يتفقان يكن خمسة عشرة ثم اضرب الخمسة عشر في اثني عشر هي أصل المسألة يكن مائة وثمانين فإذا أردت أن تعرف ما لكل واحد من الجنس فربت سهام ذلك الجنس في عدد رؤوس الجنس الأخر فما خرج فهو مال كل واحد. مثاله: إذا أردت في هذه المسألة أن تعرف ما لكل بنت ضربت عدد سهام البنات وهي ثمانية في رؤوس الأخوات وهي ثلاثة تكن أربعة وعشرين فيكون هو القدر الذي تستحقه كل بنت وهن خمس فيكون لهن مائة وعشرون سهماً وإذا أودت أن تعرف ما لكل أخت ضربت عدد سهامهم وهو واحد في عدد رؤوس البنات وهو خمسة تكن خمسة فيكون هذا القدر الذي تستحقه كل أخت وهن ثلاثة فيكون لهن خمسة عشر فهذا حكم الجنسين إذا كان الحيز من كل جنس لا ينقسم عليهم سهامهم فإذا كان ثلاثة أجناس وكان كل جنس لا تنقسم عليهم مهامهم فإن كان عدد كل جنس مساويا لعدد الجنس الآخر اقتصرت على فرب أحد الأعداد في أصل المسألة فما خرج فمنه تصح المسألة. مثاله: ثلاث جدات وثلاث بنات وثلاث أخوات فتضرب ثلاثة في أصل المسألة وهو ستة تكن ثمانية عشر ومنها تصح وان كان بعض الأعداد يدخل في بعض اقتصرت على فرب الأكثر في أصل المسألة. مثاله: زوجتان وست أخوات لأب وأم واثنتا عثر أختا لأب فيكون عدد الزوجتين داخلا في عدد الإخوة، لأن الاثنين يدخلان في الستة وفي الاثني عثر والستة تدخل في الاثني عشر فاضرب عدد الإخوة وهو اثنا عشر في أصل المسألة وهو اثنا عشر تكن مائة وأربعة وأربعين ومنه تصح، فإن كان بعض الرؤوس كل يوافق بعضاً وقفت أحدهما ثم رددت إليه من رؤوس كل واحد من الجنسين ثم فربت أحد الوفقين في الآخر ثم ضربت ما اجتمع في عدد الجنس الموقوف فما اجتمع ضربته في أصل المسألة. ومثاله: أحد وعشرون جدة وخمس وثلاثون بنتا وثلاثون أختا لأب أصلها من ستة سهام الجميع لا ينقسم عليهن ولا يوافقهن, لأن للجدات سهما على أحد وعشرين وللبنات أربعة أسهم على خمسة وثلاثين وللأخوات الباقي وهو سهم على ثلاثين لكن أعداد الرؤوس يوافق بعضها بعضا فإن وفقت عدد الجدات وهو أحد وعشرون كان عدد البنات وهو خمس وثلاثون موافقا له بالأسباع فيردها إلى خمسة وعدد الأخوات وهو ثلاثون موافقا له بالأثلاث فيرده إلى عشرة والخمسة التي خرجت من وفق البنات داخلة في العشرة التي رجعت من وفق الأخوات فاضرب العشرة في الواحد والعشرين تكن مائتين وعشرة ثم في أصل المسألة وهو ستة تكن ألفا ومائتين وستين فمن له شيء من ستة أخذه مضروبا له في مائتين وعشرة وان وفقت عدد البنات وهو خمسة وثلاثون وافقها عدد

الأخوات وهو ثلاثون بالأخماس إلى ستة ووافقها عدد الجدات وهو أحد وعشرون بالأسباع إلى ثلاثة والثلاثة الراجعة من فوق الجدات تدخل في الستة فاضرب ستة في خمسة وثلاثين تكن مائتين وعشرة ثم في ستة هي أمل المسألة تكن ألفا ومائتين وستين فإن وفقت عدد الأخوات وهي ثلاثون وافقها عدد الجدات وهو أحد وعشرون بالأثلاث إلى سبعة ووافقها عدد البنات وهو خمسة وثلاثون بالأخماس إلى سبعة وإحدى السبعتين تنوب عن الأخرى فاضرب إحداهما في ثلاثين تكن مائتين وعشرة ثم في ستة هي أصل المسألة تكن ألفاً ومائتين وستين فإذا أردت معرفة ما لكل جنس ضربت عدد سهامه في مائتين وعشرة وإذا أردت أن تعرف ما لكل واحد من كل جنس ضربت سهمه فيما عاد من وفق الجنس المضروب في عدد جنسه فما خرج فهو سهم كل واحد فعلى هذا يكون لكل جدة عشرة, لأن سهم الجدات واحد وما رجع من وفق عدد الجنسين المضروب في عددهن عشرة فلكل بنت أربعة وعشرون، لأن سهام البنات أربعة وما رجع من وفق عه د الجنسين المضروب في عددهن ستة وإذا ضربت الأربعة في الستة كان أربعة وعشرين فلكل أخت سبعة، لأن سهم الأخوات واحد وما رجح من وفق عدد الجنسين المضروب في عددهن سبعة فصار سهم كل واحدة منهن سبعة ولو اتفقت الرؤوس مع السهام رددت الرؤوس إلى وفق سهامها ثم وافقت بين وفق الرؤوس بعضا لبعض ثم ضربت وفق بعضها في بعض فما اجتمع ضربته في أمل المسألة وعولها. مثاله: اثنا عشر جدة واثنتان وثلاثون أختاً لأب وعشرون أختا لأم تعول بسدسها إلى سبعة للجدات سهم على اثنتي عشرة منكسر وللأخوات للأب أربعة على اثنتين وثلاثين يوافق بالأرباع إلى ثمانية وللأخوة للأم سهمان على عشرين يوافقه بالأنصاف إلى عشرة فإن وفقت عدد الجدات وهو اثنا عشر كان وفق الأخوات للأب وهو ثمانية موافقاً لها بالأرباع إلى اثنين وكان وفق الإخوة للأم وهو عشرة يوافقها بالأنصاف إلى خمسة فاضرب اثنتين في خمسة تكن عثرة ثم اضرب العثرة في اثني عشر تكن مائة وعشرين ثم في أصل المسألة وعولها وهو سبعة تكن ثماني مائة وأربعين ومنه تصح وان وافقت وفق الأخوات للأب وهو ثمانية وافقها عدد الجدات وهو اثنا عشر بالأرباع إلى ثلاثة ووافقها وفق الإخوة من الأم وهو عشرة بالأصناف إلى خمسة فاضرب ثلاثة في خمسة تكن خمسة عشر ثم في ثمانية وفق الأخوات تكن مائة وعشرين ثم في سبعة هي أمل المسألة وعولها تكن ثمان مائة وأربعين وان وافقت وفق الإخوة من الأم وهو عشرة وافقها عدد الجدات وهو اثنا عشر بالأنصاف إلى ستة ووافقها وفق الأخوات وهو ثمانية بالأنصاف إلى أربعة والأربعة توافق لستة بالأنصاف فاضرب نصف أحدهما في الأخر تكن اثنا عشر ثم في عشرة وهي الموافقة من وفق الإخوة تكن مائة وعشرين في سبعة هي أصل المسألة وعولها تكن ثمان مائة وأربعين ومتى وفقت أحد الأعداد فصحت المسألة من عدد ثم وقفت غير

ذلك العدد فصحت من عدد أخر فالعمل خطأ حتى يصح العملان من عدد واحد فإذا أردت في هذه المسألة أن تعرف ما لكل واحدة من الجدات فاضرب سهم الجدات وهو واحد فيما ضربته من وفق الجنسين لوفق لعددهن حين وفقته وهو عشرة تكن عشرة وهو ما تستحقه كل واحدة وان أردت أن تعرف ما لكل أخت ضربت وفق سهامهن لرؤوسهن وهو واحد، لأنهما اتفقا بالأرباع فيما ضربته من وفق الجنسين بوفق عددهن حين وقفته وهو خمسة عشر يكن خمسة عشر وهو ما تستحقه كل أخت وان أردت أن تعرف ما لكل أخ ضربت وفق سهامهم لرؤوسهم وهو واحد، لأنهما اتفقا بالأنصاف فيما ضربته من وفق الجنسين لوفق عددهم وهو اثنا عشر تكن اثنا عشر وهو ما يستحقه كل أخ، فهذا أصل قد أوضحت لك فيه ما يسهل العمل عليه إن شاء الله. فصل في المناسخات وإنما قيل مناسخة, لأن الميت الثاني لما مات قبل القسمة كان موته ناسخا لما صحت منه مسألة الميت الأول فإذا مات ميت فلم يقسم ورثته تركته حتى مات أحدهم وخلف ورثة فلا يخلو حال ورثته من أن يكونوا شركاء في الميراث أو غير شركائه فيه فإن كانوا غير شركائه فيه عملت مسألة الميت الأول ونظرت سهام الميت الثاني منها ثم عملت مسألة الميت الثاني وقسمتها على سهامه فستجدها لا تخلو من ثلاثة أقسام: إما أن تقسم عليها أو توافقهما أو لا تقسم عيلها ولا توافقهما فإن انقسمت عليها صحت المسألتان بما صحت منه المسألة الأولى. مثاله: زوج وثلاث أخوات متفرقات لم تقسم التركة بينهم حتى ماتت الأخت للأب والأم وخلفت ابناً وبنتاً فمسألة الميت الأول من ثمانية أسهم لهولها بثلثها للأخت للأب والأم منها ثلاثة أسهم بين ابنها وبنتها على ثلاثة فتقسم فصحت المسألتان من ثمانية من كانت مسألة الميت الثاني لا تنقسم على سهامه ولكن توافقها وافقت بينهما ثم ضربت وفق مسألته في سهام المسألة الأولى فما اجتمع محت منه المسألتان فمن كان له شئ من المسألة الأولى ضربته في وفق الثانية لسهامها ومن له شيء من المسألة الثانية ضربته فيما وجع من وفق سهامها مثاله ابنان وبنتان مات أحد الابنين وخلف زوجة وبت وثلاثة بني ابن فالمسألة الأولى من ستة لكل ابن سهماهم ولكل ميت سهم ومسألة الابن من ثمانية توافق سهميه بالأنصاف إلى أربعة فاضربها في سهام المسألة الأولى وهي ستة تكن أربعة وعشرين ومنها تصح المسألتان فمن كان له من المسألة الأولى شيء ضربته له في أربعة هي الراجعة من دفعه المسألة الثانية لسهام ميتها ومن له شيء من المسألة الثانية ضربته في واحد هو الراجع من وفق سهم الميت الثاني لهام مسألته وان كانت مسألة الميت الثاني لا تنقسم على سهامه ولا توافقها ضربت سهام المسألة الثانية في سهام المسألة الأولى في اجتمع محت منه المسألتان فمن كان له شيء من المسألة الأولى ضربته له في سهام

المسألة الثانية ومن كان له شيء من المسألة الثانية ضربته له في سهام الميت الثاني من المسألة الأولى. مثاله: زوجة، وبنت، وأخت، ماتت الأخت وخلفت زوجا، وبنتاً، وعماً، المسألة الأولى من ثمانية، ماتت الأخت عن ثلاثة أسهم منها ومثلها من أربعة لا تنقسم عليها ولا توافقها، فاضربها في سهام المسألة الأولى تكن اثنين وثلاثين ومنها تصح المسألتان، فمن كان له شي، من المسألة الأولى ضربته له في أربعة هي سهام المسألة الثانية، ومن كان له شيء من المسألة الثانية ضربته له في ثلاثة هي سهام الميت الثاني من المسألة الأولى، وهكذا لو مات ثالث قسمت مسألته على سهامه، فإن انقسمت صحت المسألة الثانية مما صحت منه المسألتان، وان لم تنقسم ووافقت ضربت وفقها في سهام المسألتين ثم ما اجتمع صحت منه المسائل الثلاث، وان لم توافق ضربت سهامها في سهام المسألتين فما اجتمع صحت منه المسائل الثلاث، ثم هكذا لو مات رابع وخامس، فأما إن كان ورثة الميت الثاني هم شركاء في التركة فذلك ضربان: أحدهما: أن يكونوا عصبة ليس فيهم ذو فرض فتجعل التركة مقسومة على سهام والباقين ولا تعمل مسألة الثاني، وهكذا لو مات ثالث ورابع. ومثاله: أربعة بنين، وأربع بنات، مات أحد البنين وخلف إخوته, وأخواته، كانت المسألة الأولى بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين من اثني عشر سهما ثم مات أحد البنين عن سهمين فعاد سهماه للذكر مثل حظ الأنثيين على عثرة أسهم فصار المال كله بينهم على عشرة أسهم، فإن ماتت بنت عن سهم من عشرة وخلفت إخوتها الباقين صار سهمها بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين على تسعة فصار المال كله بينهم على تسعة أسهم، فإن مات ابن أخر عن سهمين من تسعة صار المال كله بينهم على سبعة، وان ماتت بنت أخرى عن سهم من سبعة صار المال كله بينهم على ستة، فإن مات بعد ذلك ابن أخر عن سهمين من ستة صار المال مقسوما بينهم على أربعة، وهكذا أبدا حتى إن لم يبق إلا ابن وبنت صار المال بينهما على ثلاثة للذكر مثل حظ الأنثيين؟ لأن المال صار إليهما من الجماعة على وجه واحد فكأن الذين ماتوا لم يكونوا، وان كان فيهم ذو فوض: فإن كان فوض ذي الفرض من الميت الأول لفرضه من الميت الثاني كالأم والجدة إذا ورث كل واحد منهما السادس بأنها أم أو جدة: فالجواب كذلك، وان كان الفرض من الميت الأول مخالفا للفرض من الميت الثاني كالزوجة ترث من الأول بأنها زوجة وترث من الثاني إذا كان ابنا بأنها أم فإنك تعطيها فرضها من التركتين ثم تقم الباقي بين العصبة إذا كانوا للأول بنين وبنات وللثاني إخوة وأخوات للذكر مثل حظ الأنثيين؟ لأن سبيل ميراثهم من التركتين واحد وربما كانت مسائل المناسخات بعد التصحيح ترجح بالاختصار إلى أقل من عددها الموافق بعض السهام لبعض فسقطت وفقها من نصف أو ثلث أو ربع فترد سهام المسائل كلها إلى ذلك الوفق وترد سهام كل واحد من الورثة إلى مثله، فإن كان الوفق نصفا رددت

الجميع إلى النصف، وان كان ثلثاً رددت الجمع إلى الثلث وباتاً التوفيق. فصل: في قسمة التركات وإذا أردت قسمة التركة لم تخل حالها من أحد أمرين إما أن تكون مما يكال أو يوزن كالدراهم والدنانير والبر والشعير، وما أن تكون مما لا يكال ولا يوزن كالعقار والضياع، فإن كانت التركة دراهم أو دنانير أو ما قوم بالدراهم والدنانير نظرت مبلغ التركة وسهام الفريضة ولك في قسمتها عليها أربعة أوجه. أحدهما: أن تقسم عدد التركة على سهام الفريضة مما خرج لكل سهم ضربته في سهام كل وارث فيكون ذلك مبلغ حقه منها. مثاله: زوج، وأبوان، وبنتان، والتركة خمسون دينارا فالفريضة تصح مع عولها بالربع من خمسة عشر سهما، فتقسم الخمسين عليها يخرج لكل منهم سهم في ثلاثة وثلث, فتضرب سهام كل وارث في ثلاثة وثلث فللزوج ثلاثة أسهم في ثلاثة وثلث تكن عشرة، وهو حقه من التركة, ولكل واحد من الأبوين سهمان في ثلاثة وثلث تكن ستة وثلاثين، وهو حق كل واحد منهما فهذا وجه. والثاني: أن تضرب سهام كل وارث في عدد التركة فما اجتمع قسمته على سهام الفريضة فما خرج بالقسم فهو نصيبه، مثاله في هذه المسألة: أن تأخذ سهام الزوج وهي ثلاثة فتضربها في عدد التركة وهو خمسون تكن مائة وخمسين، ثم تقسمها على سهام الفريضة وهي خمسة عشر تكن عشرة, وهي حق الزوج، ثم تضرب سهام كل وامن الأبوين وهي سهمان في الخمسين تكن مائة, ثم تقسمها على الخمسة عشر تكن ستة وثلاثين، ثم تضرب سهام كل بنت وهي أربعة في الخمسين تكن مائتين، ثم تقسيمها على الخمسة عثر يكن ثلاثة عثر وثلثا فهذا وجه ثان. والثالث: أن تنسب سهام كل وارث من عدد سهام الفريضة فما خرج بالنسبة جعلته من عدد التركة. مثاله في هذه المسألة: أن تنسب سهام الزوج من سهام الفريضة وهي ثلاثة من خمسة عشر تكن خمسها, فأعطه به خمس التركة وهو عشرة، ولكل واحد من الأبوين سهمان هما ثلثا خمسها فتعطيه ثلثي خمس التركة وهو ستة وثلثان، ولكل بنت أربعة هي خمس وثلث وخمس فتعطيها خمس التركة وثلث خمسها تكن ثلاثة عشر وثلثاً، فهذا وجه ثالث. والرابع: أن توافق بين سهام الفريضة وعدد التركة ثم تضرب سهام كل وارث في وفق التركة، ويقسم ما اجتمع على وفق الفريضة فما خرج فهو حقه. مثاله في هذه المسألة: أن سهام هذه الفريضة فيها وهي خمسة عشر توافق عدد

باب ميراث المرتد

التركة التي هي خمسون بالأخماس فاردد كل واحد منهما إلى وفقه تجد الخمسين ترجح بالأخماس إلى عشرة, والخمسة عشر إلى ثلاثة, فإذا أردت أن تقم للزوج فاضرب عاد سهامه وهي ثلاثة في وفق التركة وهو عشرة تكن ثلاثين, ثم اقسم الثلاثين على وفق الفريضة وهو ثلاثة يكن الخارج بالقسم عشرة وهو حق الزوج, ولكل واحد من الأبوين سهمان تضرب في وفق التركة وهي عشرة تكن عشرين, ثم يقسم على وفق الفريضة وهو ثلاثة تكن ستة وثلاثين وهو حق كل واحد من الأبوين, ولكل بنت أربعة تضرب في وفق التركة وهو عشرة تكن أربعين ثم تقسم كل وفق الفريضة وهو ثلاثة تكن ثلاثة عشر وثلثاً، وهو حق كل بنت فهذا وجه رابع, وقد لا تجتمع هذه الأوجه الأربعة في كل تركة؟ لأنه قد لا توافق سهام الفريضة لعاد التركة فيسقط الوجه الرابع، وقد لا تتناسب سهاه كل وارث لسهام الفريضة فيسقط الوجه الثالث. وأما الوجهان الأولان فيمكن العمل بهما في كل تركة، فأما إن كانت التركة عقاراً أو ضياعاً فلك في قمة ذلك أحد وجهين إما أن تجعله بين الورثة على سهام الفريضة فتستغني عن فرب وقسم وهذا أولى الوجهين فيما قلت سهام الفريضة فيه، وإما أن تجري السهام على أجزاء الدراهم وذلك أولى من أجزاء الدنانير لاتفاق الناس على قراريطه وحباته, فتقسم سهام الفريضة على دوانيق الدرهم وهي ستة, ثم على قراريطه وهي أربعة وعشرون، ثم على حباته وهي ثمانية وأربعون، ثم على أجزاء حباته بما تجزأت وهذا أولى الوجهين فيما كثرت سهام الفريضة فيه عند المناسخات فإذا كانت الفريضة ألفاً ومائتي سهم كان النصف ست مائة سهم, والثلث أربع مائة سهم، والربع ثلاثمائة سهم والسادس مائتي سهم, ونصف السدس مائة سهم والقيراط خمسون سهماً، والحبة خمسة وعشرون سهماً, لأن قيراط الدرهم حبتان ثم تتجزأ الخمسة والعشرون على الحبة فالواحد خمس خمسها ثم تتضاعف إلى أن تستكملها، فإذا عرفت ذلك نظرت إلى سهام الواحد من الورثة وقسطها من أجزاء الدرهم فأوجبته له وبالله التوفيق. باب ميراث المرتد قاَلَ: "وَمِيرَاثُ الْمُرْتَدِّ لِبَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ فِي الْمُرْتَدِّ بِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: " لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ "، وَاحْتَجَّ عَلَى مَنْ وَرَّثَ وَرَثَتَهُ الْمُسْلِمِينَ مَالَهُ وَلَمْ يُوَرِّثْهُ مِنْهُمْ، فَقَالَ: هَلْ رَأَيْتَ أَحَدًا لَا يَرِثُ وَلَدَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَاتِلًا، وَيَرِثُهُ وَلَدُهُ، وَإِنَّمَا أَثْبَتَ اللَّهُ الْمَوَارِيثَ لِلْأَبْنَاءِ مِنَ الْآبَاءِ، حَيْثُ أُتِيَتِ الْمَوَارِيثُ لِلْآبَاءِ مِنَ الْأَبْنَاءِ. قال في الحاوي: وهذا كما قال: لا اختلاف بينهم أن المرتد لا يرث, واختلفوا

هل يورث أم لا على ستة مذاهب. أحدها: وهو مذهب الشافعي أن المرتد لا يورث ويكون جميع ماله فيئاً لبيت مال المسلمين، وسواء الزنديق وغيره، وبه قال ابن أبي ليلى وأبي ثور وأحمد بن حنبل. والثاني: وهو مذهبه مالك أن مال المرتد يكون فيئاً في بيت مال المسلمين إلا الزنديق فإنه يكون لورثته المسلمين، أو يقصا بردته ازواء ورثته في مرض موته فيكون ميراثاً لهم. والثالث: وهو مذهب أبي يوسف ومحمد أن جميع ماله الذي كسبه في إسلامه وبعد ردته يكون موروثا لورثته المسلمين، وهو قول علي بن أبي طالب, وعبد الله بن مسعود، وسعيد بن المسيب, وعمر بن عبد العزيز, والحسن، وعطاء. والرابع: وهو مذهب أبي حنيفة أن ما كسبه قبل ردته يكون لورثته المسلمين وما كسبه بعد ردته يكون فيئاً لبيت المال إلا أن يكون المرتد امرأة فيكون جميعه موروثاً, وبه قال سفيان الثوري، وزفر بن الهذيل. والخامس: وهو مذهب داود بن علي أن ماله لورثته الذين ارتد إليهم دون ورثته المسلمين. والسادس: وهو مذهب علقمة وقتادة وسعيد بن أبي عروبة وأن ماله ينتقل إلى أهل الدين الذين ارتد إليهم. واستدل من جعله ماله موروثاً على اختلاف مذاهبهم بقوله تعالى: {وأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] بما روي أن علي بن أبي طالب عليه السلام أتى بالمستورد العجلي وقد ارتد فعرض عليه الإسلام فأبى أن يسلم فضرب عنقه وجعل ميراثه لورثته من المسلمين، وبما روي عن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: بعثني أبو بكر رضي الله عنه عند وجوعه إلى أهل الردة أن أقسم أموالهم بين ورثتهم المسلمين، قالوا: ولأن كل من لا يرثه وارثه المشرك ورثه وارثه المسلم كالمسلم طرداً وكالمشرك عكساً, قالوا: ولأنه مال كب ملم فلم يجز أن يكون فيئاً كمال المسلمين، قالوا: ولأنه مال كسبه في حال حقن دمه فلم يصر فيئاً بإباحة دمه كمال القاتل والزاني المحصن، قالوا: ولأن ورثته من المسلمين قد ساووا بإسلامهم جميع المسلمين وفضلوهم بالرحم والتعصيب فوجب أن يكونوا أولى منهم لقوة شبههم، واستدل من جعل ماله لأهل الدين الذي ارتد إليه بقوله تعالى {ومَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: (5) 1]. والدليل على أن المرتد لا يورث ويكون ماله فيئاً رواية أسامة بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم " فإن منعوا من إطلاق اسم الكفر على

المرتد للفاعلية بقوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} [النساء:137] وقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان".وروي معاوية بن قرة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أباه جد معاوية إلى رجل عرس بامرأة أبيه فأمرني بضرب عنقه وخمس ماله فجعله النبي صلى الله عليه وسلم باستحلال ما نص الله تعالى على تحريمه مرتداً, وجعل ماله بتخميسه إياه فيئاً، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما قرية عصت الله ورسوله فإن خمسها لله وللرسول ثم هي لكم" وإنما أشار إلى من حدث عصيانها بالكفر بعد تقدم طاعتها بالإيمان, لأن حكم من لم يزل كافراً مستفاد بنص الكتاب, ولأن كل من لم يرث بحال لم يورث كالكاتب, ولأنه كل من لم يورث عنه ما ملكه في إباحة دمه لم يورث عنه ما ملك في حقن دمه كالذمي طرداً والقاتل عكساً, ولأن كل مال ملكه بعوده إلى الإسلام لم يورث عنه بقتله على الردة قياساً على ما كسبه بعد الردة, فأما الجواب عن الآية فإنه قال: {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] فلما لم يكن المرتد أولى بالمسلم يقطع الموالاة بالردة لم يصر المسلم أولى بالمرتد لهذا المعنى, وأما دفع على رضوان الله عليه مال المستورد إلى ورثته إنما كان لما رأى المصلحة باجتهاده وهو إمام يملك التصرف في أموال بيت المال برأيه فيجوز أن يكون ذلك تمليكاً منه ابتداء عطية لا على جهة الإرث. وأما توريث زيل بن ثابت بأمر أبي بكر الصديق رضوان الله عليه ودفع أموال المرتد ين إلى ورثتهم: فيجوز أن يكون على مثل ما فعله علي عليه السلام في مال المستورد على طريق المصلحة، أو يحمل على المرتدين عن بدل الزكاة حين لم يحكم بكفرهم بالمتع لتأويلهم ومقامهم على الإسلام واشتباه الأمر قبل الإجماع. وأما قياسهم على المسلم بعلة أنه لا يرثه المشرك: فمنتقض بالمكاتب، ثم المعنى في المسلم بقاء الولاية بينه وبين المسلمين. وأما قياسهم على القاتل فهو دليلنا, لأنه لما كان ما ملك في إباحة دمه موروثاً كان ما ملك في حقن دمه موروثاً، ولما كان المرتد لا يورث عنه ما ملك في إباحة دمه لم يورث عنه ما ملك في حقن دمه وأما استدلالهم بأن ورثته من المسلمين قد جمعوا الإسلام والقرابة فكانوا أولى من بيت المال المنفرد بالإسلام ففاسد بالأمي لا يرثه المسلم وان كان بيت المال أولى بماله ثم ليس يصير مال المرتد إلى بيت المال ميراثاً فيجعل ورثته أولى وإنما يصير إليه فيئاً كما أنهم يجعلون ما كسبه بعد الردة فيئاً ولا يجعلون ورثته أولى به.

فصل: فإذا ثبت أن ماله يصير فيا غير موروث فهو مقر على ملكه ما لم يمت أو يقتل سواء أقام في دار الإسلام أو لحق بدار الحرب وقال أبو حنيفة: إذا لحق المرتد بدار الحرب قسم الحاكم ماله بين ورثته المسلمين وأعتق أمهات أولاده ومدبريه وقضى بحلول ديونه المؤجلة فإن وجع مسلماً وجع بما وجد من أعيان ماله على ورثته ولم يرجع بما استملكوه ولا يرجع في عتق أمهات أولاده ومدبريه استدلالاً بما روي عن عمر بن عبد العزيز: "أنه كتب إليه في أسير تنصر في أرض الروم فكتب إن جاء بذلك الثبت فاقسم ماله بين ورثته", ولأنه بالردة قد صار غيره أملك بالتصرف في ماله فجرى مجرى الموت, ولأن ما أوجب زوال الملك أوجب انتقاله كالموت. ودليلنا هو أن كل من جرت عليه أحكام الحياة في غير الأموال قياساً جرت عليه أحكام الحياة في الأموال قياساً على غير المرتد، ولأن المرتد لا يخلو أن يكون معتبراً بحال المسلم أو بحال المشرك وليس يحكم بموت واحد منهما في حياته وكذلك المرتد ولأن الله تعالى جعل الميت موروثاً والحي وارثاً فلو جاز أن يصير الحي موروثاً لجاز أن يصير الميت وارثاً، ولأن كل ما أوجب إباحة الدم لم يحكم فيه بالموت مع بقاء الحياة كالقتل ولأن حدوث الردة لا توجب أحكام الموت كالمقيم في دار الإسلام ودخول دار الحرب لا يوجب ذلك كالمسافر إليها فأما الأثر المحكي عن عمر بن عبا العزيز فليس فيه أنه كان مسلما فتنصر ولو كان ذلك لجاز أن يكون قسمة بينهم ليتولوا حفظه إلى أن يتبين أمره على أنه مذهب له وليس يلزمنا قبوله. وأما الجواب على انتقال ملكه وتصرف غيره فيه مع أن في انتقال ملكه اختلاف وليس هذا موضع ذكره ثم ليس انتقال الملك بموجب لحكم الموت، لأن مال الحي قد تنقل بأسباب غير الموت. فصل: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "قَالَ الْمُزَنِيّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدْ زَعَمَ الشَّافِعِيُّ أَنَّ نِصْفَ الْعَبْدِ إِذَا كَانَ حُرًّا يَرِثُهُ أَبُوهُ إِذَا مَاتَ، وَلَا يَرِثُ هَذَا النِّصْفَ مِنْ أَبِيهِ إِذَا مَاتَ أَبُوهُ، فَلَمْ يُوَرِّثْهُ مِنْ حَيْثُ وَرِثَ مِنْهُ، وَالْقِيَاسُ عَلَى قَوْلِهِ أَنَّهُ يَرِثُ مِنْ حَيْثُ يُورَثُ". قال في الحاوي: وهذا اعتراض من المزني على الشافعي في تعليله إبطال ميراث المرتد بأن الله تعالى أثبت المواريث للأبناء من الآباء حيث أثبت المواريث للآباء من الأبناء فأبطل المزني هذا التعليل عليه بالعبد إذا كان نصفه حرا أنه يورث عنده بنصفه الحر ولا يرث هو بنصفه الحر فجعل ذلك إبطالا لتعليله واحتجاجاً لنفسه في أنه يرث بقدر حريته كما يورث بقدر حريته. والجواب عنه من وجهين: أحدهما: رد لاعتراضه.

والثاني: فساد استدلاله، فأما ود اعتراضه فمن وجهين: أحدهما: أن في ميراث المعتق نصفه قولان أصحهما لا يورث كما لا يرث فعلى هذا يسلم الاستدلال ويسقط الاعتراض. والثاني: أن تعليل الشافعي كلما توجه إلى السبب الذي يشترك فيه الوارث والموروث إذا منع من أن يكون وارثا منع من أن يكون موروثا كالكفر والردة، لأن المعنى في قطه التوارث به قطع الموالاة بينهما وهذا معنى يشترك فيه الوارث والموروث. فأما المعنى الذي يختص به الموروث وحده فلا ألا ترى أن القاتل لا يرث وهو يورث, لأن المعنى الذي منعه من الميراث به وغير متعد إلى وارثه وهكذا الذي نصفه حر قد اختص بالمعنى المانح دون وارثه فجاز أن يكون موروثا ولم يجز أن يكون وارثاً. وأما فساد استدلاله في أنه يجب أن يرث بقدر حريته كما يورث بقدر حريته فهو أن الكمال يجب أن يكون مراعاً في الوارث دون الموروث فلذلك جعلناه موروثا، لأن وارثه كامل ولم نجعله وارثاء لأنه ليس بكامل والله أعلم بالصواب. مسألة: وَقَالَ فِي الْمَرْأَةِ، إِذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا ثَلَاثًا مَرِيضًا: فِيهَا قَوْلَانِ؛ أحدهما: تَرِثُهُ، وَالْآخَرُ: لَا تَرِثُهُ، وَالَّذِي يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يُورِثَهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَرِثُهَا بِإِجْمَاعٍ لِانْقِطَاعِ النِّكَاحِ الَّذِي بِهِ يَتَوَارَثَانِ، فَكَذَلِكَ لَا تَرِثُهُ كَمَا لَا يَرِثُهَا؛ لِأَنَّ النَّاسَ عِنْدَهُ يَرِثُونَ مِنْ حَيْثُ يُورَثُونَ، وَلَا يَرِثُونَ مِنْ حَيْثُ لَا يُورَثُونَ" قال في الحاوي: وهذه المسألة أوردها المزني من جملة اعتراضه على الشافعي في ميراث المرتد وهذا الموضح يقتضي شرحها وذكر ما تفرع عليها والانفصال عن اعتراض المزني بها ما قدمناه في اعتراض بمن نصفه حر ونصفه مملوك وأصل هذه المسألة أن الطلاق على ضربين: طلاق في الصحة وطلاق في المرض فأما الطلاق في الصحة فضربان: بائن ورجعي فأما البائن فلا توارث فيه بين الزوجين سواء كان في المدخول بها أو دون الثلاث في غير المدخول بها وهذا إجماع. وأما الرجعي فهو دون الثلاث في المدخول بها فإنهما يتوارثان في العدة فإن مات ورثته واعتدت عدة الوفاة وان ماتت فإن كان الموت بعد انقضاء العدة. ولو بطرفة عين لم يتوارثا وحكي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنها ترثه ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة وليس يخلو قولهما ذلك من أحد أمرين: إما أن يجعل الفل من بقايا العدة فيكون ذلك مذهبا لهما في العدة دون الميراث ولا وجه له, لأن العدة استبراء وليس الغسل مما يقع به الاستبراء, وأما أن يجعلاه انقضاء العدة بانقضاء الحيض ويوجبا الميراث مع بقاء

الغسل فيكون ذلك مذهباً لهما في الميراث دون العدة ولا وجه له, لأن انقضاء العدة يوجب انقضاء علق النكاح والميراث منها فارتفع بارتفاعها ولو جاز اعتبار ذلك لصار الميراث موقوفاً على خيارها إن شاءت تأخير الغسل فلو مات أحد الزوجين في الطلاق الرجعي ثم اختلف الباقي منهما ووارث الميت فقال وارث الميت مات بعد انقضاء العدة فلا توارث. وقال الباقي منهما: بل كان الموت قبل انقضاء العدة فلي الميراث، فالقول قول الباقي من الزوجين مع يمينه في استحقاق الميراث سواء كان هو الزوج أو الزوجة لأمرين: أحدهما: أن الأصل استحقاق الميراث حتى يعلم سقوطه. والثاني: أننا على يقين من بقاء العدة حتى يعلم تقضيها. فصل: وان كان الطلاق في المرض فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون غير مخوف فحكمه حكم الطلاق في الصحة على ما مضى. والثاني: أن يكون مخوفاً فعلى ضربين: أحدهما: أن يتعقبه صحة فيكون حكمه حكم الطلاق في الصحة وبه قال أبو حنيفة ومالك. وقال زفر بن الهذيل: هو طلاق في المرض يرث فيه وهذا خطأ، لأن ما يتعقبه الصحة فليس بمخوف وإنما ظن به الخوف. والثاني: أن لا يتعقبه الصحة فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون الموت حادثاً عن طريق غيره كمريض غرق أو أحرق أو سقط عليه حائط أو افترسه سبع فهذا حكم الطلاق فيه كحكم الطلاق في الصحة. وبه قال أبو حنيفة وقال مالك: هو طلاق في المرض يرث فيه، وهذا خطأ, لأن حدوث الموت من غيره يرفع حكمه. والثاني: أن يكون حدوث الموت منه فهو الطلاق في المرض فإن كان الطلاق رجعياً توارثاً في العدة سواء مات الزوج أو الزوجة، وان كان الطلاق بائناً فإن ماتت الزوجة لم يرثها إجماعاً، وان مات الزوج فقد اختلف الفقهاء في ميراثها على مذاهب شتى حكي الشافعي منها أربعة مذاهب جعلها أصحابنا أربعة أقاويل له قولان منها أربعة، وقولان منها تخريجاً. أحدهما: لا ميراث لها منه كما لا ميراث له منها. وبه قال من الصحابة علي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن عوف وابن الزبير رضي الله عنهم ومن التابعين ابن أبي مليكة ومن الفقهاء: المزني وداود ونص عليه الشافعي في الجديد. والثاني: أن لها الميراث ما لم تنقض عدتها فإن انقضت فلا ميراث لها وبه قال من

الصحابة عمر وعثمان رضوان الله عليهما ومن التابعين: عروة وشريح. ومن الفقهاء: أبو حنيفة وصاحباه وسفيان الثوري وهو القول الثاني للشافعي قاله نصاً. والثالث: أن لها الميراث ما لم تتزوج وان انقضت عدتها، فإن تزوجت فلا ميراث لها. وبه قال من الصحابة أبي بن كعب رضي الله عنه ومن التابعين: عطاء. ومن الفقهاء: ابن أبيا ليلى وجعله أصحابنا قولا ثالثا للشافعي تخريجا. والرابع: أن لها الميراث أبداً وان تزوجت وهو قول مالك وكثير من فقها، المدينة وجعله أصحابنا قولاً رابعاً للشافعي تخريجا، فإذا قيل: لا ترث فدليله ما رواه بعض أصحابنا البغداديون عن الشافعي في بعض أماليه في كتاب الرجعة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ترث مبتوتة" وهذا الحديث إن كان ثابتاً سقط به الخلاف, ولأنها فرقة تمنح من الميراث في حال الصحة فوجب أن تمنع من الميراث في حال المرض كاللعان، ولأن كل طلاق يمنع من ميراث الزوج منع من ميراث الزوجة كالطلاق في الصحة، ولأن استحقاق الميراث فرع على ثبوت العقد، فلما ارتفع العقد بطلاق المريض كان سقوط الميراث أولى وإذا قيل: ترث، فدليله ما روي أن عبا الرحمن بن عوف طلق زوجته تماضر بنت الأصبغ الكلابية في مرضه ثلاثا قال أبو سلمة بن عبد الرحمن ثم مات بعد تسعة أشهر فورثها عثمان بن عفان. وروى إبراهيم التميمي أن عبد الله بن مكمل طلق امرأته وكان به الفالج فمات بعد سنة فورثها عثمان بن عفان رضي الله عنه وهاتان القضيتان من عثمان عن ارتياء واستشارة الصحابة لاسيما زوجة عبد الرحمن مع إشهار أمرها ومناظرة الصحابة فيها، فإن قيل: فقد روى ابن أبي مليكة عن عبد الله بن الزبير أنه قال: أما أنا فلا أرى أن تورث مبتوتة قلنا: ما ادعينا في المسألة إجماعا فيرتفع بخلاف ابن الزبير وإنما قلنا: هو قول الأكثرين، ولأنه لما كان المريض ممنوعاً من التصرف فيما زاد على الثلث لما فيه من إضرار الوارث فكان أولى أن يكون ممنوعا من إسقاط الوارث، ولأن التهمة في الميراث تهمتان تهمة في استحقاقه وتهمة في إسقاطه فلما كانت التهمة في استحقاقه وهي تهمة القاتل رافعة لاستحقاقه الميراث وجب أن تكون التهمة في إسقاطه بالطلاق رافعة لإسقاط الميراث. فصل: فأما إذا أقر في مرضه الطلاق في صحته لم ترثه، وكان إقراراً في المرض لا طلاقاً، وقال أبو حنيفة ومالك: هو طلاق في المرض وترث، وهذا ليس بصحيح, لأن الإقرار بالعقد لا يكون عقداً، وان صار بالإقرار لازماً فكذلك الإقرار بالطلاق لا يكون طلاقاً وإن صار بالإقرار لازماً ولو أنه حلف لا يطلقها فأقر بتقديم طلاقها لم يحنث, لأن

الإقرار ليس بطلاق فكذلك الإقرار به في المرض لا يكون طلاقاً في المرض فلو كان له زوجتان فقال في صحته إحداكما طالق ثلاثاً ثم بين المطلقة منهما في مرضه فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون قد عين الطلاق عند لفظه فلا ترث، لأنه مقر في المرض بطلاق وقع في الصحة. والثاني: أن يكون قد أتم الطلاق عند لفظه ثم عينه عنا بيانه ففيه وجهان بناء على اختلاف أصحابنا في المعينة بالطلاق عند البيان هل يقتضي وقوع الطلاق عليها وقت اللفظ أو وقت البيان فأحد الوجهين: أن الطلاق يقع عليها عند وقت لفظه ومنه تبتدئ بالعدة فعلى هذا لا ميراث لها, لأنه في وقت لفظه كان صحيحاً. والثاني: أن الطلاق يقع عليها وقت البيان فعلى هذا ترث، لأنه عند بيانه مريض. فرع: فأما إذا طلقها في الصحة لصفة وجدت ني المرض كقوله ني محته أنت طالق إن قدم زيد فقدم زيد والزوج مريض، أو قال: أنت طالق بعد شهر فجاء الشهر وهو مريض فلا ميراث لها على قول الشافعي وأبي حنيفة. وقال مالك: لها الميراث، لأنه طلاق وقع في المرض وهذا غير صحيح, لأن التهمة عنه في هذا الطلا~ مرتفعة، وإنما وجب لها الميراث للتهمة في إزوائها. فأما إذا قال في صحته: إن دخلت أنا هذه الدار فأنت طالق ثم دخلها في مرضه كان كالطلاق في المرض في استحقاق الميراث, لأنه دخلها باختياره في مرضه نصار متهوماً في إزوائها عن الميراث ولكن لو وكل في محته وكيلا في طلاقها فلم يطلقها الوكيل حتى مرض الزوج ثم طلقها نقد اختلف أصحابنا في هذا الطلاق هل يكون حكمه حكم الطلاق في الصحة أو حكم الطلاق في المرض, على وجهين: أحدهما: أنه في حكم الطلاق في الصحة، لأن عقد الوكالة كان في الصحة فصارت التهمة عنه عند عقده مرتفعة. والثاني: أنه ني حكم الطلاق ني المرض, لأنه قد كان قادرا على فسخ وكالته في مرفه فصار بترك الفسخ متهوماً. فرع: ولو قال لها في صحته: أنت طالق في مرض موتي وقع طلاقها فيه وكان لها الميراث, لأنه متهوم بعقد يمينه ولو كان قال لها: إن مت من مرض فأنت طالق لم تطلق لارتفاع العقد بموته فلم يلحقها بعد ارتفاع العقد طلاق، ولو قال لها وهو في الصحة: أنت طالق في آخر أوقات صحتي المتصل بأول أسباب موتي ثم مرض ومات فلا ميراث

لها, لأن وقوع طلاقه كان قبل مرضه فصار طلاقاً في الصحة ألا ترى لو قال لعبده أنت حر في أخر أوقات صحتي المتصل بأول أسباب موتي كان عتقه إن مات من وأس المال دون الثلث. فرع: وإذا طلقها في مرضه باختيارها مثل أن يخالعها أو تسأله الطلاق فيطلقها، أو يعلق طلاقها بمشيئتها، فتشاء الطلاق فلا ميراث لها في هذه الأحوال كلها، وبه قال أبو حنيفة وقال مالك: لها الميراث إن اختارت الطلاق، لأنه طلاق في المرض، وهذا فاسد: لأن توريثها إنما كان لاتهامه في حرمانها وقصد الإضرار بها وهذا المعنى مرتفع باختيارها وسؤالها، فلو علق طلاقها في مرضه بصفة من صفة أفعالها ففعلت ذلك وطلقت، نظرت فإن كان ذلك الفعل مما لا بد لها منه كقوله لها: إن أكلت أو شربت فأنت طالق، فلا تجد بداً من الأكل والشرب فإذا فعلت ذلك لم يدل على اختيارها الطلاق فيكون لها الميراث، وهكذا لو قال لها: أنت طالق إن صليت الفرائض أو صمت شهر رمضان فصلت وصامت، كان لها الميراث، لأنها لا تجد بداً من الصلاة والصيام، ولكن لو قال لها: إن أكلت هذا الطعام أو لبست هذا الثوب أو كلمت هذا الرجل، أو دخلت هذه الدار أو تطوعت بصلاة أو صيام فأنت طالق ففعلت ذلك طلقت ولا ميراث لها, لأن لها من ذلك كله بدأ فصارت مختارة لوقوع الطلاق إلا أن لا تعلم يمينه فترث، لأنها غير مختارة للطلاق. فرع: وإذا طلق المريض زوجته وكانت ذمية فأسلمت أو أمة فأعتقت لم يرث: لأنه لو مات وقت طلاقها لم ترث فصار غير متهم ولو طلقها بعد إسلامها وعتقها ورثت: لأنه متهم إلا أن لا يعلم بإسلامها ولا بعتقها حين طلقها فلا ترث: لأنه غير متهم، فلو قال لها السيد: أنت حرة غد وطلقها الزوج في يومه ورثت, لأنه متهم حين علم بعتقها فإن لم يعلم فلا ميراث، ولو قال لها الزوج: أنت طالق في غد فأعتقها السيد في يومه فلا ميراث لها ولو قال لها الزوج: أنت طالق: لأنه غير متهم حين طلقها فلو قال لها السيد أنت حرة في غد فلما علم الزوج بذلك قال لها: أنت طالق في غد ففيه وجهان: أحدهما: لها الميراث لاتهامه فيه. والثاني: لا ميراث لها, لأن العتق والطلاق يقعان معاً في حال واحدة فلم تستحق الميراث بطلاق لم يتقدم عليه الحرية. فرع: وإذا طلقها في مرضه فارتدت عن الإسلام ثم مادت إليه لم ترثه وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: ترثه وهذا خطأ لأمرين:

أحدهما: ما قدمناه من أن اختيارها للطلاق مانع من ميراثها وهي بالردة مختارة له. والثاني: أنها بالردة قد صارت إلى حال لو مات لم ترثه. فأما إذا ارتد الزوج دونها بعد طلاقه وفي مرفه فمذهب الشافعي لا ترثه وقال أبو حنيفة ومالك: ترثه، وفرق أبو حنيفة بين ردتها وردته، بأن ردتها اختيار منها للفرقة وليس ردته اختيار فيها لذلك، وهذا الغرق فاسد, لاستواء الردتين في إفضائها إلى حال لو ط ت فيها لم ترثه فاستوت ردتها في ذلك وردته, ولو ارتدت الزوجة في مرضها ثم ماتت لم يرثها الزوج. وقال أبو حنيفة: يرثها, لأنها متهمة بذلك في إزوائه عن الميراث كما يتهم الزوج في الطلاق في المرض، وهذا خطأ من وجهين: أحدهما: قدمناه من أن المرتد لا يورث. والثاني: أنه لا ينسب العاقل أنه قصد بالردة إزواء وارث وضرره عليه أعظم من ضرره على الوارث وليس كالطلاق الذي لا ضرر عليه فيه. فرع: ولو قال لها في صحته إن لم أدفع إليك مهرك فأنت طالق ثلاثاً ثم لم يل فعه إليها حتى ماتت لم يرثها؟ لأنها قد بانت منه بالحنث ولو مات قبلها ورثته, لأنها مطلقة في المرض، ولو ماتت فاختلف الزوج ووارثها، فقال الزوج: قد كنت دفعت إليها مهرها في حياته فقد برئت منه، ولي الميراث، وقال وارثها: ما دفعت إليها وهو باب عليك ولا ميراث لك، فالقول قول الزوج في أن لا يقع الطلاق والقول قول الوارث في بقاء المهر، فإذا حلف الزوج أنه قد دفع المهر لم يلزمه الطلاق, لأن الأصل أن لا طلاق، وإذا حلف الوارث حكم له بالمهر؟، لأن الأصل بقاء المهر. فرع: وإذا لاعن الزوج من امرأته في مرضه لم ترثه سواء كان لعانه عن قذف في الصحة أو عن قذف في المرض، وقال أبو يوسف: ترثه كالمطلقة سواء كان في قذف في الصحة أو في المرض، وقال الحسن بن زياد اللؤلؤي إن كان عن قذف في الصحة لم ترثه، وان كان عن قذف في المرض ورثته وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن الفرقة في اللعان تبع لنفي النسب وسقوط الحد وذاك مما يستوي فيه حال الصحة والمرض، والفرقة في الطلاق مقصودة فجاز أن يفترق حكمها في الصحة والمرض. والثاني: أن سقوط الميراث بنفي النسب أغلظ من سقوطه بوقوع الطلاق فلما كان في نفي النسب باللعان في الصحة والمرض سواء في سقوط الميراث به وجب أن يكون

وقوع الفرقة به في الصحة والمرض سواء في سقوط الميراث. فإن قيل: فلم لا كان نفي النسب باللعان في حال المرض مانعاً من الميراث كالطلاق في المرض لا يمنع من الميراث قيل: الفرق بينهما أنه قد يدخل عليه من ضرر اللعان ما ينفي عنه التهمة ولا يدخل عليه من ضرر الطلاق ما ينفي عنه التهمة فافترقا. فرع: فأما إذا ألي من زوجته في مرضه ثم طلقها فيه لأجل إيلائه ورثت كما ترث بالطلاق في غير الإيلاء بخلاف اللعان ولو كان ألي منها في الصحة ثم طلقها في المرض لم يتقدم من إيلائه في الصحة فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون طلاقه قبل مضي أربعة أشهر، ومطالبته بحكم الإيلاء من فيئه أو طلاق فهذه لا ترث, لأنه طلقها مختاراً فصار متهما. والثاني: أن يكون طلاقه بعد أربعة أشهر فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون قبل مطالبة الزوجة له بالفيئة أو الطلاق فهذه ترث أيضاً, لأنه مختار لوقوع الطلاق فصار متهماً. والثاني: أن يكون طلاقه بعد مطالبته بالفيئة أو الطلاق ففيها إذا ورثت المطلقة في المرض وجهان مخرجان من اختلاف قوليه في المولى إذا امتنع بعد أربعة أشهر من الفيئة أو الطلاق هل يطلق الحاكم عليه جبراً أم لا؟ فأحد القولين يطلق عليه جبراً فعلى هذا لا ميراث لها: لأن طلاقها كان واجباً, لأنه لو لم يفعله لأوجبه الحاكم جبراً. والثاني: لا يطلق عليه فعلى هذا لها الميراث: لأنه أوقع الطلاق مختارا ولله بالصواب. فرع: وإذا فسخ الزوج نكاح امرأته في مرضه بإحدى العيوب التي توجب فسخ نكاح لم ترثه بخلاف الطلاق، ولأن الفسخ بالعيوب مستحق على الفور، وفي تأخيره إسقاطه فلم يتهم وليس كالطلاق: لأن تأخيره لا يسقطه، ولو أرضعت أم الزوج امرأته الصغيرة خمس رضعات في الحولين يفسخ نكاحها ولم ترثه سواء أرضعتها بأمره أو غير أمره, لأن وقوع الفرقة تبع لتحريم الرضاع وثبوت المحرم وهكذا لو كان الزوج قد وطيء أم زوجته بشبهة وهو مريض بطل نكاحها ولم يرث. فرع: وإذا طلق المريض أربع زوجات له ثلاثاً ثلاثاً ثم تزوج أربعاً سواهن ثم مات، فإن قيل: بمذهبه الجديد إن المطلقة في المرض لا ترث فالميراث للأربع اللاتي تزوجهن.

باب الميراث المشتركة

وإن قيل: إن المطلقة في المرض ترث ففيه وجهان: أحدهما: أن الميراث بين الأربع المطلقات والأربع المنكوحات على ثمانية أسهم, لأن كلا الفريقين وارث. والثاني: أن الميراث للأربع المطلقات دون المنكوحات, لأنه لما لم يكن له إسقاط ميراثهن، لم يكن له إدخال النقص عليهن، وليس يمتنع بثبوت النكاح مع عدم الإرث كالأمة والذمية، فعلى هذا لو كان له أربع زوجات فقال في مرضه إحداكن طالق ثلاثاً ثم تزوج خامسة ومات ففيه ثلاثة أوجه. أحدهما: أن للمنكوحة ربع الميراث ويوقف ثلاثة أرباعه بين الأربع حتى يصطلحن عليه وهذا إذا قيل إن المطلقة في المرض لا ترث. والثاني: أن الميراث بينهن أخماساً وهذا إذا قيل إن المطلقة في المرض ترث مع المنكوحة. والثالث: أن الميراث للأربع أرباعاً المنكوحة الخامسة وهذا إذا قيل إن المطلقات يدفعن المنكوحات عن الميراث. فرع: وإذا ورثت المطلقة في المرض اعتدت بالإقراء عدة الطلاق وبه قال مالك وقال أبو حنيفة تعتد بأكثر الأجلين من عدة الطلاق أو الإقراء أو عدة الوفاة بأربعة أشهر وعشر وهذا ليس بصحيح؟ لأن المرض لا يغير من أحكام الطلاق شيئاً إلا الميراث الذي هو فيه متهم وما سواه فهو على حكمه في الصحة والله أعلم. باب الميراث المشتركة مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "قُلْنَا فِي الْمُشْتَرَكَةِ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأَخَوَيْنِ لِأُمٍّ وَأَخَوَيْنِ لِأب وَأُمٍّ للزوج النصف، وللأم السدس وَلِلْأَخَوَيْنِ لِلْأُمِّ الثُّلُثُ، وَيُشْرِكُهُمْ بَنُو الْأَبِ وَالْأُمِّ؛ لِأَنَّ الْأَبَ لَمَّا سَقَطَ سَقَطَ حُكْمُهُ، وَصَارَ كَأَنْ لَمْ يَكُنْ، وَصَارُوا بَنِي أم معا. قَالَ: وَقَالَ لِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: هَلْ وَجَدْتَ الرَّجُلَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَالٍ ثُمَّ تَاتِي حَالَةٌ أُخْرَى فَلَا يَكُونُ مُسْتَعْمَلًا؟.قُلْتُ: نَعَمْ، مَا قُلْنَا نَحْنُ وَأَنْتَ، وَخَالَفْنَا فِيهِ صَاحِبَكَ، مِنْ أَنَّ الزَّوْجَ يَنْكِحُ الْمَرْأَةَ بَعْدَ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا فَتَحِلُّ لِلزَّوْجِ قَبْلَهُ، وَيَكُونُ مُبْتَدِئًا لِنِكَاحِهَا، وَتَكُونُ عِنْدَهُ عَلَى ثَلَاثٍ، وَلَوْ نَكَحَهَا بَعْدَ طَلْقَةٍ لَمْ تَنْهَدِمْ كَمَا تَنْهَدِمُ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ لَهُ مَعْنًى فِي إِحْلَالِ الْمَرْأَةِ هَدَمَ الطَّلَاقِ الَّذِي تَقَدَّمَهُ إِذَا كَانَتْ لَا تَحِلُّ إِلَّا بِهِ، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى فِي الْوَاحِدَةِ وَالثِّنْتَيْنِ

وَكَانَتْ تَحِلُّ لِزَوْجِهَا بِنِكَاحٍ قَبْلَ زَوْجٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَعْنًى فَنَسْتَعْمِلُهُ. قَالَ: إِنَّا لَنَقُولُ بِهَذَا، فَهَلْ تَجِدُ مِثْلَهُ فِي الْفَرَائِضِ؟ قُلْتُ: نَعَمُ، الْأَبُ يَمُوتُ ابْنُهُ وَلِلِابْنِ إِخْوَةٌ فَلَا يَرِثُونَ مَعَ الْأَبِ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ قَاتِلًا وَرِثُوا, وَلَمْ يَرِثِ الْأَبُ مِنْ قِبَلِ أَنَّ حُكْمَ الْأَبِ قَدْ زَالَ, وَمَنْ زَالَ حُكْمُهُ فَكَمَنْ لَمْ يَكُنْ". قال في الحاوي: وهذه المسألة تسمى المشتركة لاختلاف الناس في التشريك فيها بين ولد الأم وولد الأب والأم وتسمى الحمارية، لأن رجلاً قال لعلي عليه السلام حين منع التشريك أعطهم بأمهم وهب أن أباهم كان حماراً. وشروط المشتركة أن يجتمع فيها أربعة أجناس زوج وأم أو يكون مكان الأم جدة وولد الأم أقلهم اثنان أخوان أو أختان أو أخ وأخت ذو فرض، ومن لا فرض له من ولد الأب والأم أخ أو أخوان أو أخ وأخت فإذا استكملت شروطها على ما ذكرنا كان للزوج النصف وللأم أو الجدة السدس وللأخوين من الأم الثلث واختلفوا هل يشاركهم فيه الأخوان من الأب والأم أم لا فمذهب الشافعي أن ولد الأب والأم يشاركون ولد الأم في ثلثهم ويقتسمونه بالسوية بين ذكورهم وإناثهم، وبه قال من الصحابة عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضوان الله عليهما ومن التابعين: عمر بن عبد العزيز وشريح بن المسيب وطاوس وابن سيرين. ومن الفقهاء: مالك والنخعي والثوري وإسحاق وقال أبو حنيفة: ولد الأم يختصون بالثلث ولا يشاركهم فيه ولد الأب والأم، وبه قال من الصحابة علي بن أبي طالب وأبي بن كعب وأبو موسى الأشعري رضي الله عنهم، ومن التابعين: الشعبي، ومن الفقهاء: ابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد وأحمد بن حنبل وأبو ثور وداود. وروي عن زيد وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم القولان معاً. أما زيد فروى الشعبي عنه أنه لم يشرك. وروى النخعي عنه أنه شرك وهو المشهور عنه. وقال وكيع بن الجراح: ما أجد أحداً من الصحابة رضي الله عنهم إلا وقد اختلف عنه في المشتركة إلا علي بن أبي طالب عليه اللام فإنه لم يختلف عنه أنه لم يشرك وأتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في العام الأول فلم يشرك وأتى في الثاني فشرك وقال: تلك على ما قضينا وهذه على ما تقضى، فأما من منع من التشريك فاستدل عليه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اقسم المال بين أهل الفرائض على كتاب الله فما تركت االفرائض فلأولي عصبه ذكر" فمنع من مشاركه العصبة لذوي الفروض وإعطائهم ما فضل عنها إن فضل وليس في المشتركة بعد الفروض فضل فلم تكن لهم مشاركة ذي فرض لأنهم عصبة فلم يجز أن يشاركوا ذوي الفروض كالأخوة للأب، ولأن من كان عصبة سقط عند استيعاب الفروض للتركة قياسا على زوج وأم وجد وأخ جاز لما استوعب الزوج والأم والجد المال فرضاً سقط الأخ، ولأن كل

أخ حاز جميع المال إذا تفرد جاز أن يكون بعصبته موجبًا لحرمانه قياسًا على زوج وأخت للأب وأم لو كان معها أخ لأب سقط ولو كان مكانه أخت للأب كان لها السدس فكان تعصيب الأخ موجبًا لحرمانه سدس الأخت كذلك تعصيب ولد الأب والأم يمنعهم من مشاركة ولد الأم، ولأنه لما جاز أن يفضل ولد الأم على ولد الأب والأم يمنعهم من مشاركة ولد الأم، ولأنه لما جاز أن يفضل ولد الأم على ولد الأب والأم مع إدلاء جميعهم بالأم جاز أن يقضوا بالفرض دونهم وإن أدلى جميعهم بالأم، ألا ترى لو كانت الفريضة زوجًا وأمًا وأخًا لأن وعشرة إخوة لأب وأم أن الأخ من الأم السدس ولجميع الإخوة للأب والأم وهم عشرة السدس فلما لم يمتنع أن يفضل عليهم لم يمتنع أن يختص بالإرث دونهم. قالوا: ولأنه لو جاز أن يكون ولد الأب والأم يشاركوا ولد الأم في فرضهم إذا لم يرثوا بأنفسهم لمشاركتهم لهم في الإدلاء بالأم لجاز إذا كانت الفريضة بنتًا وأختًا لأب وأم وأختًا لأب أن يكون للبنت النصف ويكون النصف الباقي بين الأخت للأب والأم، والأخت للأب لاشتراكهما في الإدلاء بالأم، ولا يفضل ذلك بالأم؛ لأن ولد الأم لا يرث مع البنت وفي الإجماع على إسقاط هذا القول دليل على إسقاط التشريك بين ولد الأم وولد الأب والأم. قالوا: ولأنه لو جاز أن يكون ولد الأب والأم يشاركون ولد الأم في فرضهم إذا لم يرثوا بأنفسهم لمشاركتهم لهم في الإدلاء بالأم لجاز إذا كانت الفريضة بنتًا وأختًا لأب وأم وأختًا لأب أن يكون للبنت النصف ويكون النصف الباقي بين الأخت للأب والأم والأخت للأب لاشتراكهما في الإدلاء بالأب ولا يفضل تلك بالأم، لأن ولد الأم لا يرث مع البنت وفي الإجماع على إسقاط هذا القول دليل على إسقاط التشريك بين ولد الأم وولد الأب والأم. قالوا: ولأنه لو جاز أن يرث ولد الأب والأم بالفرض إذا لم يرثوا بالتعصب لجاز أن يجمع لهم بين الفرض والتعصيب فيشاركوا ولد الأم في فرضهم ويأخذون الباقي بعد الفرض بتعصيبهم وفي إبطال هذا إبطال لفرضهم. ودليلنا على التشريك عموم قوله تعالى: {لِلرِجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] فاقتضى ظاهر هذا العموم استحقاق الجميع إلا من حصة الدليل، ولأنهم ساووا ولد الأم في رحمهم فوجب أن يشاركوهم في ميراثهم قياسًا على مشاركة بعضهم لبعض، ولأنهم بنو أم واحدة فجاز أن يشتركوا في الثلث قياسًا عليهم إذا لم يكن فيهم ولد أب، ولأن كل من أدلى بسببين يرث بكل واحد منهما على الانفراد جاز إذا لم يرث بأحدهما أن يرث بالآخر قياسًا على ابن العم إذا كان أخًا لأم ولأن كل من فيه معنى التعصيب والفرض جاز إذا لم يرث بالتعصيب أن يرث بالفرض قياسًا على الأب، ولأن أصول المواريث موضوعة على تقديم الأقوى على الأضعف، وأدنى الأحوال مشاركة

الأقوى للأضعف، وليس في أصول المواريث سقوط الأقوى بالأضعف وولد الأب والأم أقوى من ولد الأم لمشاركتهم في الأم وزيادتهم بالأب، فإذا لم يزدهم الأب قوة لم يزدهم ضعفًا وأسوأ حاله أن يكون وجوده كعدمه كما قال السائل: هب أن أباهم كان حمارًا. فأما الجواب عن قول النبي صلى الله عليه وسلم أبقت الفرائض فلأولى ذكر فهو أن ولد الأب والأم يأخذون بالفرض لا بالتعصيب فلم يكن في الخير دليل على منعهم. وأما قياسهم على الإخوة للأب فالجواب عنه: أنهم لا يأخذون بالفرض لعدم إدلائهم بالأم، وخالفهم ولد الأب والأم وأما استدلالهم بأن من كان عصبة سقط عند استيعاب الفروض لجميع التركة. فالجواب عنه: إن تعصيب ولد الأب والأم قد سقط وليس سقوط تعصيبهم يوجب سقوط رحمهم كالأب إذا سقط أن يأخذ بالتعصيب لم يوجب سقوط أخذه بالفرض. فإن كانت المسألة زوجًا وأمًا وجدًا وأخًا سقط الأخ؛ لأنه الجد يأخذ فرضه برحم الولادة فجاز أن يسقط مع الأخ لفقد هذا المعنى فيه وخالف ولد الأم لمشاركته له من جهة الأم. وأما استدلالهم بأن من جاز جميع المال بالتعصيب جاز أن يكون بعصبته سببًا لحرمانه كزوج، وأخت لأب وأم، وأخت لأب لو كان مكانها أخ لأب سقط. فالجواب: إن الأخ للأب ليس له سبب يرث به إلا بالتعصيب وحده فلم يجز أن يدخل بمجرد التعصيب على ذوي الفرض. ألا ترى أنه لو اجتمع في هذه المسألة مع الأخت للأب الأخ للأب أسقطها؛ لأنه نقلها عن الفرض إلى التعصيب، وليس كذلك الإخوة للأب والأم؛ لأن لهم رحمًا بالأم يجوز أن يشاركونها ولد الأم. ألا ترى أنهم لو اجتمعوا معهم لم يسقطوهم فكذلك لم يسقطوا بهم. وأما استدلالهم بأنه لما جاز أن يفضل ولد الأم على ولد الأب والأم جاز أن يسقطوا بهم. فالجواب عنه إنه لما جاز أن يفضلوا عليهم؛ لأنهم ورثوا بتعصيبهم دون أمهم وميراثهم بالتعصيب أقوى؛ لأنهم قد يأخذون به الأكثر، فجاز أن يأخذوا به الأقل، فإذا سقط تعصيبهم لم يسقطوا برحمهم؛ لأنها أقل حالتهم فلهذا المعنى جاز أن يفضلوهم ولم يجز أن يسقطوهم وأما استدلالهم بالبنت والأخت للأب والأم والأخت للأب فالجواب عنه إن البنت إنما تسقط من الإخوة والأخوات من تفرد إدلائه بالأم فإذا اجتمع الأمران في واحد لم يسقط، ثم رأينا من جميع الإدلاء بالأبوين لأقوى فجاز أن يكون أحق وهذا

باب ميراث ولد الملاعنة

بخلاف المشتركة؛ لأن المخالف فيها جعل الأضعف أقوى وأحق فأين وجه الجمع بين المضادة وكيف طريق الاستدلال مع التباين. وأما استدلالهم بأنهم لو ورثوا بالفرض لجمعوا بين التعصيب والفرض كالأب. فالجواب عنه إن الفرض منهم أضعف من التعصيب؛ لأن الميراث به اجتهاد عن نص فلم يجز أن يجمع لهم بين التعصيب الأقوى والفرض الأضعف وليس كذلك فرض الأب لقوته ومساواته التعصيب الذي فيه جاز أن يجتمع له الميراثان. فصل: فإذا ثبت وجوب التشريك بين ولد الأم وبين ولد الأب والأم في المشتركة وجب أن يسوي فيه بين ذكورهم وإناثهم، لأن ولد الأم لا يفضل ذكرهم على إناثهم. فلو كانت المسألة زوجًا وأمًا وأختين لأم وأخوين لأب وأم كان الثلث بين الأختين من الأم والأخوين للأب والأم بالسوية فلو كان مكان الأخوين للأب والأم أختان لأب وأم لم تكن مشتركة، لأن للأخوات فرضًا فيكون للزوج النصف وللأم السدس وللأخوين من الأم الثلث وللأختين من الأب والأم الثلثان وتعول إلى عشرة ولو كان مع الأختين للأب والأم أخ صارت مشتركة؛ لأن مشاركة الأخ لهما أسقط فرضهما ويأخذون جميعًا بالتشريك فلو كان ولد الأم واحدًا سقط التشريك؛ لأنه يبقى من الفروض سدس يأخذه ولد الأب والأم بالتعصيب والله أعلم بالصواب. باب ميراث ولد الملاعنة قاَلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَقُلْنَا إِذَا مَاتَ وَلَدُ المُلَاعَنَةِ وَوَلَدُ الزِّنَى وَرِثَتْ أُمُّهُ حَقَّهَا وَإِخْوَتُهُ لأُمِّهِ حُقُوقَهُمْ وَنَظَرْنَا مَا بَقِيَ فَإِنْ كَانَتْ أُمُهُ مَوْلَاةً وَلَاءَ عِتَاقَةً كَانَ مَا بَقِيَ مِيرَاثًا لِمَوَالِي أُمِّهِ وَإِنْ كَانَتْ عَربِيَّةً أَوْ لَا وَلَاءَ لَهَا كَانَ مَا بَقِيَ لِجَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ فِيهَا بِقَوْلِنَا إِلَّا فِي خُصْلَةٍ إِذَا كَانَتْ عَرَبِيَّة أَوْ لَا وَلَاءَ لَهَا فَعَصَبَتْهُ عَصَبَةُ أُمِّهِ وَاحْتَجُّوا بِرِوَايَةٍ لَا تَثْبُتُ وَقَالُوا: كَيْفَ لَمْ تَجْعَلُوا عَصَبَتُهُ عَصَبَةُ أُمِّهِ كَمَا جَعَلْتُمْ مَوَالِيهِ مَوَالِي أُمِّهِ؟ قُلْنَا: بِالأَمْرِ الَّذِي لَمْ نَخْتَلِفْ فِيهِ نَحْنُ وَلَا أَنْتُمْ ثُمَّ تَرَكْتُمْ فِيهِ قَوْلَكُمْ أَلَيْسَ المَوْلَاةُ المُعْتَقَةُ تَلِدُ مِنْ مَمْلُوكٍ؟ أَلَيْسَ وَلَدُهَا تَبْعًا لِوَلَائِهَا كَأَنَّهُمْ أَعْتَقُوهُمْ يَجْعَلُ عَنْهُمْ مَوَالِي أُمُهِمْ وَيَكُونُونَ أَوْلِيَاءَ فِي التَّزْوِيجِ لَهُمْ؟ قَالُوا: نَعَمْ قُلْنَا: فَإِنْ كَانَتْ عَرَبِيَّةً أَتَكُونُ عَصَبَتُهَا عَصَبَةَ وَلَدِهَا يَعْقِلُونَ عَنْهُمْ أَوْ يُزَوِّجُونَ البَنَاتِ مِنْهُمْ؟ قَالُوا: لَا قُلْنَا: فَإِذَا كَانَ مَوَالِي الأُمِّ يَقُومُونَ مَقَامَ العَصَبَةِ فِي وَلَدِ مَوَالِيهِمْ، وَكَانَ الأَخْوَالُ لَا يَقُومُونَ ذَلِكَ المَقَامَ فِي بَنِي أُخْتِهِمْ فَكَيْفَ أَنْكَرتَ مَا قُلْنَا وَالأَصْلُ الَّذِي ذَهَبْنَا إِلَيْهِ وَاحِدٌ؟ ". قال في الحاوي: وهذا كما قال ولد الملاعنة ينتفي عن أبيه ويلحق بأمه لرواية مالك عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم ألحق ابن الملاعنة بأمه، واختلفوا في نفيه عن

أبيه بماذا يكون من اللعان على ثلاثة مذاهب: أحدها: وهو مذهب الشافعي أنه بلعان الزوج وحده تقع الفرقة وينفى عنه الوالد. والثاني: وهو مذهب مالك أن بلعانهما جميعًا تقع الفرقة وينتفي عن الوالد. والثالث: وهو مذهب أبي حنيفة أن بلعانها وحكم الحاكم تقع الفرقة وينتفي عنه الولد، وحجاج هذا الخلاف يأتي في كتاب اللعان إن شاء الله. فإذا انتفى الولد باللعان عن الزوج ولحق بالأم انتفى تعصيب النسب فقد اختلفوا هل تصير الملاعنة أو عصبتها عصبة له أم لا؟ فمذهب الشافعي أنها لا تكون له عصبة ولا تصير أمه ولا عصبتها له عصبة، وبه قال من الصحابة زيد بن ثابت وابن عباس في إحدى الروايتين عنه، ومن التابعين سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير. ومن الفقهاء: الزهري ومالك وقال أبو حنيفة: تصير أمه عصبة له ثم عصبتها من بعدها، وبه قال ابن مسعود، وقال أحمد بن حنبل: تصير عصبة الأم عصبة له، وللأم فرضها. وبه قال علي بن أبي طالب عليه السلام. واستدل من جعل أمه وعصبته عصبة له بما روى عمرو ن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ميراث ابن الملاعنة لأمه ولورثتها من بعدها. وما رواه عبد الواحد بن عبد الله البصري عن واثلة بن الأسقع عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المرأة تحوز ثلث مواريث عتيقها ولقيطها وولدها الذي لاعنت عليه. وروي عن داود بن أبي هند عن عبد الله بن عبيد بن عمر الأنصاري قال: كتبت إلى صديق لي من أهل المدينة من بني زريق أسأله عن ولد الملاعنة لمن قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب إليه إني سألت فأخبرت أنه قضى به لأمه هي بمنزلة أبيه وأمه. وروي عن الشعبي قال: بعث أهل الكوفة رجلًا إلى الحجاز في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه ما بعثوه إلا في ميراث الملاعنة يسأل عنه فجاءهم الرسول أنه لأمه وعصبتها، ولأن الولاء كالنسب في التعصيب والعقل فلما ثبت عليه الولاء من جهة الأم إذا لم يكن عليه ولاء من جهة الأب جاز أن يثبت له بالتعصيب من قبل الأم إذا لم يثبت له بالتعصيب من جهة الأب ويتحرر منه قياسان: أحدهما: أن كل جهة جاز أن يثبت عليها الولاء فيها جاز أن يثبت عليه بالتعصيب منها كالأب.

والثاني: أن ما حيز به الميراث من جهة الأب جاز أن يحاز به من جهة الأم كالولادة. ودليلنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألحقوا الفرائض بأهلها فما أبقت الفرائض فلأولي رجل ذكر".وقد فرض الله تعالى للأم الثلث فلا يجوز أن يزاد عليه. وروى الزهري عن شريك بن سحماء أن النبي صلى الله عليه وسلم لاعن بين الزوجين وكانت حاملًا فانتفى من ولدها فكان يدعى إليها ثم جرت السنة أن يرثها وترث منه ما فرض الله تعالى لها. وهذا نص ولأن كل من أدلى بمن لا تعصيب له لم يكن له تعصيب كابن العم للأم؛ لأنها قرابة بعتق يقدم عليها المعتق فلم يستحق بها الإرث كالرضاع، ولأن كل من أحرز معه المولى المعتق جميع التركة لم يستحق الإرث بالقرابة كالعبد الكافر، ولأن التعصيب قد يعدم بالموت مع معرفة النسب كما يعدم باللعان للجهل بالنسب فلما كان عدمه بالموت لا يوجب انتقاله إلى الأم وجب أن يكون عدمه باللعان لا يوجب انتقاله إلى الأم وتحريره قياسًا أن عدم التعصيب من جهة لا يوجب انتقاله إلى غير جهته كالموت، ولأن الأم لو صارت عصبة كالأب لوجب ان تحجب الإخوة كما يحجبهم الأب، وفي إجماعهم على توريث الإخوة لوجب معها دليل على عدم تعصيبها، ولأن استحقاق العصبة للميراث في مقابلة تحملهم للعقل وولاية النكاح فلما لم تعقل عصبة الأم ولم يزوجوا لم يرثوا. وتحريره قياسًا أن ما تفرع من النسب لم يثبت إلا بثبوت النسب قياسًا على العقل. فأما الجواب عن حديث عمرو بن شعيب فهو أنه مرسل؛ لأن له جدين: الأول منهما تابعي، والثاني: صحابي، فإذا لم يعين أحدهما لحق بالمرسل فلم يلزم الاحتجاج به على أنه محتمل أنه جعل ميراثه لأمه إذا كان لها عليه ولاء ثم لورثته ولائها من بعدها وبمثله يجاب من حديث واثلة بن الأسقع، أو يحمل على أنها تحوز ميراثه وهو قدر فرضها، ويستفاد به أن لعانها عليه لا يؤثر في سقوط ميراثها منه. أما حديث داود بن أبي هند فمرسل ثم لا دليل فيه؛ لأنهم سألوا عن ولد الملاعنة لمن قضى به قالوا: قضى به لأمه هي بمنزلة أبيه وأمه في كفالته والقيام بحضانته؛ لأنه لم يجز للميراث فيه ذكر. وأما قياسهم على الولاء فالمعنى فيه أنه قد يثبت من جهة الأم كثبوته من جهة الأب وهو من جهة الأم أقوى وخالف النسب الذي لا يثبت إلا من جهة الأب فكذا ما تفرع عنه من التعصيب. فصل: فإذا تقرر م وصفنا ومات ابن الملاعنة فترك أمه وخالًا فعلى قول أبي حنيفة

وهو قول ابن مسعود رضي الله عنه المال كله لأمه على قول أحمد بن حنبل وهو قول علي بن أبي طالب عليه السلام لأمه الثلث والباقي للخال؛ لأنه عصبة الأم وعلى قول الشافعي وهو قول زيد بن ثابت رضي الله عنه لأمه الثلث والباقي لمواليها إن كان على الأم ولاء؛ لأن الولد داخل في ولاء أمه، فإن لم يكن على الأم ولاء فالباقي بعد فرضها لبيت المال فلو ترك ابن الملاعنة أمًا وأختًا فعلى قول أبي حنيفة، وهو قول ابن مسعود المال كله للأم، وعلى قول أحمد بن حنبل وهو قول علي عليه السلام لأمه السدس ولأخيه وأخته الثلث بينهما بالسوية والباقي بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، وعلى قول الشافعي وهو قول زيد بن ثابت للأم السدس وللأخ والأخت الثلث بينهما بالسوية والباقي للمولى، فإن لم يكن فلبيت المال فلو كان ولد الملاعنة توأمين ابنين فمات أحدهما فترك أمه وأخاه فقد اختلف أصحابنا في أخيه هل يرثه ميراث أخ لأم أو ميراث لأب وأم على وجهين: أحدهما: وهو قول الأكثرين من أصحابنا أنه يرث ميراث أخ للأم، لأنهما لما عدما الأب عدما الإدلاء بالأب، فعلى هذا يكون لأمه الثلث ولأخيه السدس والباقي للمولى إن كان أو لبيت المال. والثاني: حكي عن أبي إسحاق المروزي وأبو الحسن بن القطان وهو مذهب مالك أنه يرث ميراث أخ لأب وأم، لأن التوأمين من حمل واحد، والحمل الواحد لا يكون إلا من أب واحد، ألا ترى أن أيهما اعترف به الملاعن تبعه الآخر في اللحوق فعلى هذا يكون لأمه الثلث والباقي للأخ؛ لأنه أخ لأب وأم فكان أولى من المولى وبيت المال. فصل: فأما ولد الزنى فحكمه حكم ولد الملاعنة في نفيه عن الزاني ولحوقه بالأم وعلى ما مضى من الاختلاف هل تصير الأم وعصبتها عصبة له أم لا؟ غير أن توأم الزانية لا يرث إلا ميراث أخ لأم بإجماع أصحابنا ووفاق مالك، وإن اختلفوا في توأم الملاعنة فإذا ادعى الزاني الولد الذي ولدته الزانية منه، فلو كانت الزانية فراشًا لرجل كان الولد في الظاهر لاحقًا بمن له الفراش، ولا يلحق بالزاني لادعائه له لقوله صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر". فأما إذا كانت الزانية خلية وليست فراشًا لأحد يلحقها ولدها فمذهب الشافعي أن الولد لا يلحق بالزاني، وإن ادعاه وقال الحسن البصري: يلحقه الولد إذا ادعاه بعد قيام البينة. وبه قال ابن سيرين وإسحاق بن راهويه. وقال إبراهيم النخعي: يلحقه الولد إذا ادعاه بعد الحد ويلحقه إذا ملك الموطوءة وإن لم يدعه، وقال أبو حنيفة: إن تزوجها قبل وضعها ولو بيوم لحق به الولد، وإن لم يتزوجها لم يلحق به، ثم استدلوا جميعًا مع

باب ميراث المجوس

اختلاف مذاهبهم بما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يليط أولاد البغايا في الجاهلية بآبتئهم في الإسلام، ومعنى يليط أي يلحق. قالوا: ولأن لما كان انتفاء الولد عن الواطئ باللعان لا يمنع من لحوقه به بعد الاعتراف فكذلك ولد الزنى، وهذا خطأ فاسد لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فحمد الله وأثنى عليه ثم ذكر ما شاء الله أن يذكر فأتاه رجل فقال: يا رسول الله إني عاهرت بامرأة في الجاهلية فقال صلى اللخه عليه وسلم: "لا اعتهار في الإسلام الولد للفراش وأيما رجل عاهر بأمة لا يملكها أو امرأة لا يملكها فادعى الولد فليس بولده، ولا يرث ولا يورث، ولأن ولد الزنى لو لحق بادعاء الزاني إياه للحق به إذا أقر بالزنى، وإن لم يدعيه كولد الموطوءة يشبه في إجماعهم على نفيه عنه مع اعترافه بالزنى دليل على نفيه عنه مع ادعائه له ولأنه لو لحق بالاعتراف لوجب عليه الاعتراف وقد أجمعوا على أن الاعتراف به لا يلزمه فدل على أنه إذا اعترف به لم يلحقه. فأما الجواب عن الحديث المروي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يليط أولاد البغايا في الجاهلية بآبائهم في الإسلام فهو أن ذلك منه في عهار البغايا في الجاهلية دون عهار الإسلام، والعهار في الجاهلية أخف حكمًا من العهار في الإسلام، فصارت الشبهة لاحقة به ومع الشبهة يجوز لحوق الولد، وخالف حكمه عند انتفاء الشبهة عنه في الإسلام. وأما ولد الملاعنة مخالف لولد الزنى، والفرق بينهما أن ولد الملاعنة لما كان لاحقًا بالواطئ قبل اللعان جاز أن يصير لاحقًا به بعد الاعتراف؛ لأن الأصل فيه اللحوق والبغاء طارئ وولد الزنى لم يكن لاحقًا به في حال فيرجع حكمه بعد الاعتراف إلى تلك الحال. باب ميراث المجوس قاَلَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "إِذَا مَاتَ المَجُوسِيُّ وَبِنْتُهُ امْرَأَتُهُ أَوْ أُخْتُهُ أُمُّهُ نَظَرْنَا إِلَى أَعْظَمِ السَّبَبَيْنِ فَوَرَّثْنَاهَا بِهِ وَأَلْقَيْنَا الآخَرَ وَأَعْظُمُهُمَا أَثْبَتَهُمَا بِكُلِّ حَالٍ فَإِذَا كَانَتْ أُمُّ أُخْتًا وَرَّثْنَاهَا بِأَنَّهَا أُمُّ وَذَلِكَ لأَنَّ الأُمَّ تَثْبُتُ فِي كُلِّ حَالٍ وَالأُخْتُ قَدْ تَزُولُ وَهَكَذَا جَمِيعُ فَرَائِضِهِمْ عَلَى هَذِهِ المَسْأَلَةِ. وَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ أَوْرَثَهَا مِنْ الوَجْهَيْنِ مَعًا، قُلْنَا: فَإِذَا كَانَ مَعَهَا أُخْتٌ وَهِيَ أُمٌّ؟ قَالَ: أَحْجُبُهَا مِنَ الثُّلُثُ بِأَنَّ مَعَهَا أُخْتَيْنِ وَأُوَرِّثُهَا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ بِأَنَّهَا أُخْتُ. قُلْنَا: أَوَلَيْسَ إِنَّمَا حَجَبَهَا اللهُ تَعَالَى بِغَيْرِهَا لَا بِنَفْسِهَا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْنَا: وَغَيْرُهَا خِلَافُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ. قُلْنَا: فَإِذَا نَقَّصْتَهَا بِنَفْسِهَا فَهَذَا خِلَافُ مَا نَقَّصَهَا اللهُ تَعَالَى بِهِ أَوْ رَأَيْتَ مَا إِذَا كَانَتْ أُمًّا عَلَى الكَمَالِ كَيْفَ يَجُوزُ أَنْ تُعْطِيهَا بِبَعْضِهَا دُونَ

الكَمَالِ؟ تُعْطِيهَا بِبَعْضِهَا دُونَ الكَمَالِ؟ تُعْطِيهَا أُمًَّا كَامِلَةً وَأُخْتًَا كَامِلَةً وَهُمَا بَدَنَان وَهَذَا بَدَنٌ وَاحِدٌ؟ قَالَ: فَقَدْ عَطَّلَتْ أَحَدَ الحَقَّيْنِ. قُلْنَا: لَمَّا لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ إِلَى اسْتِعْمَالِهِمَا مَعًا إِلَّا بِخِلَافِ الكِتَابِ وَالْمَعْقُولِ، لَمْ يَجُزْ إِلَّا تَعْطِيلُ أَصْغَرِهِمَا لأَكْبَرِهِمَا". قال في الحاوي: إذا تزوج المجوسي أمه فأولدها ابنًا كان الولد منها ابنها وابن ابنها وكانت له أمًا وجدة أم أب، وكان للأب ابنًا أخًا لأم وكان الأب له أبًا وأخَا لأم. ولو تزوج المجوسي بنه فأولدها ابنا فكان الولد منه ابنَا وابن بنت وكان الأب أبًا وجدًا أب أم وكان الابن للبنت ابنًا وأخًا لأب وكانت له أمًا وأختًا لأب. ولو تزوج المجوسي أخته فأولدها ابنًا كان الأب أباه وخاله، وكان الابن له ابنًا وابن أخت، وكان للأخت ابنًا وابن أخ، وكانت له أمًا وعمة، وقد تتفق هاتان المسألتان في وطء الشبهة فإذا كان ذلك في المجوسي وقد أسلموا أو تحاكموا إلينا في مواريثهم أو كان المسلمين مع الشبهة فإن اجتمع فيه عقد نكاح وقرابة سقط التوريث بالنكاح لفساده وتوارثوا بالقرابة المفردة بالاتفاق وإن اجتمع في الشخص الواحد منهم قرابتان بنسب توجب كل واحدة منهما الميراث فإن كانت إحداهما تسقط الأخرى كأم هي جدة، أو بنت هي أخت لأم، ورثت بابنتها وألغيت المحجوبة منهما إجماعًا، وإن كان إحداهما لا تسقط الأخرى كأم هي أخت أو أخت هي بنت فقد اختلف الناس هل تورث بالقرابتين معًا أم لا فقال أبو حنيفة أورثها بالقرابتين معًا وبه قال من الصحابة عمر وعلي وابن مسعود وابن عباس ومن التابعين: عمر بن عبد العزيز ومكحول. ومن الفقهاء: النخعي والثوري وابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق. وقال الشافعي: أورثها بأثبت القرابتين، وأسقط الأخرى، ولا أجمع لها بين الميراثين، وبه قال من الصحابة: زيد بن ثابت رضي الله عنه ومن التابعين: الحسن البصري، ومن الفقهاء: مالك والزهري والليث وحماد واستدل من ورث بها بأن الله تعالى نص على التوريث بالقرابات، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألحقوا الفرائض بأهلها" فلم يجز مع النص إسقاط بعضها. قالوا: ولأن اجتماع السببين من أسباب الإرث عند انفصالها لا يمنع من اجتماع الإرث بهما كابني العم إذا كان أحدهما أخًا لأم. قالوا: لأن اجتماع القرابتين يفيد في الشرع أحد أمرين: إما التقديم كأخ للأب والأم مع الأخ للأب وأما التفضيل كابني العم إذا كان أحدهما أخًا لأم ولا يجوز أن يكون اجتماعهما لغوًا لا يفيد تقديمًا ولا تفضيلًا لما فيه من هدم الأصول المستقرة في المواريث ولذلك لم يجز الاقتصار على إحدى القرابتين. ودليلنا قوله تعالى: {وإن كَانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] فلم يزد الله

تعالى البنت على النصف وهم يجعلون للبنت إذا كانت بنت ابن النصف والسدس، والنص يدفع هذا، ولأن الشخص الواحد لا يجتمع له فرضان مقدران من ميت واحد كالأخت للأب والأم لا تأخذ النصف بأنها أخت لأب والسدس بأنها أخت لأم، ولأن كل نسب أثبت الله تعالى به التوارث جعل إليه طريقًا كالبنوة والمصاهرة فلما لم يجعل إلى اجتماع هاتين القرابتين وجهًا مباحًا دل على أنه لم يرد اجتمع التوارث منهما وقد يتحرر منه قياسان: أحدهما: أن ما منع الشرع من اجتماعهما في بدن واحد لم يجتمع التوارث بهما كالخنثى لا يرث بأنه ذكر وأنثى. والثاني: أن سبب الإرث إذا أحدث عن محظور لم يجز التوارث به كالأخت إذا صارت زوجة واستدل بأن مجوسيًا لو ترك أختًا وأمًا هي أخته لم يخل أن تحجب الأم إلى السدس أو لا تحجب، فإن لم تحجب فقد كمل فرض الأم مع الميراث الأختين حجبت والله تعالى قد حجبها بغيرها وهم قد حجبوها بنفسها وذلك مخالف لحجب الله تعالى وحكم الشرع. فأما الجواب عن استدلالهم بالظاهر فهو حمل المقصود بها على انفراد الأسباب اعتبارًا بالعرف المعتاد دون النادر الشاذ وليس يجوز حملها على ما حظره الشرع ومنع العرف دون ما جاء الشرع به واستقر العرف عليه وقرابات المجوس الحادثة عن مناكحهم لم يرد بها شرع ولم يستقر عليها عرف، وبهذا يجاب عن قياسهم على ابني أحدهما أخ لأم، لأن الشرع إباحة والعرف استمر فيه. وأما استدلالهم بأن اجتماع القرابتين يفيد أحد أمرين من تقديم أو تفضيل ففاسد بالأخت من الأب والأم مع الزوج يأخذ النصف الذي تأخذه الأخت للأب على أن جميعها بين القرابتين من مساواة الأمرين. فصل: فإذا ثبت توريث ذي القرابتين من المجوس أو من وطء الشبهة بأقواهما، نظرت فإن كانت إحداهما تسقط الأخرى فالمسقطة هي الأقوى والتوريث بها أحق، وإن كانت إحداهما لا تسقط الأخرى فالتوارث يكون بأقواهما واجتماع القرابتين التي يستحق التوارث بكل واحدة منها في مناكح المجوس يكون في ست مسائل: إحداها: أب هو أخ، وهذا لا يكون إلا أخًا لأم فهذا يرث لكونه أبًا، لأن الأخ يسقط مع الأب. والثانية: ابن هو ابن ابن فهذا يرث بأنه ابن. والثالثة: بنت هي بنت ابن فهذه ترث بأنها بنت. والرابعة: أم هي أخت وهذه لا تكون إلا أختًا لأب فترث بأنها أم، لأن ميراث الأم أقوى من ميراث الأخت، لأنها ترث مع الأب، والابن، والأخت تسقط معهما.

باب ميراث الخنثى

والخامسة: بنت هي أخت فإن كانت الجدة أم الأم فإن الأخت لا تكون إلا الأم ولا يخلو حال من وجد من ورثة الميت في هذه المسألة أن يورث معهم بكل واحدة من هاتين القرابتين أم لا، فلإن كانوا ممن يرث معهم الأخت والجدة فقد اختلف أصحابنا هل ترث هذه بأنها جدة أم بأنها على وجهين: أحدهما: ترث بأنها جدة؛ لأن الجدة ترث مع الأب والابن والأخت تسقط مع الأب والابن. والثاني: أنها ترث بأنها أخت، لأن ميراث الجدة طعمة وميراث الأخت نص، ولأن فرض الجدة لا يزيد بزيادة الجدات وفرض الأخت يزيد بزيادة الأخوات، ولأن الأخوات يرثن بالفرض تارة، وبالتعصيب أخرى، والجدات لا يرثن إلا بالفرض فلهذه المعاني الثلاث صارت الأخت أقوى من الجدة. فأما إن كان الورثة ممن يورث معهم بإحدى هاتين القرابتين فهذا ينظر فإن كان التوارث معهم يكون بالتي جعلناها أقوى القرابتين مثل أن يغلب توريثها بأنها أخت وهم ممن ترث معهم الأخت دون الجدة فهذه ترث معهم بالقرابة التي غلبناها وجعلناها أقوى وإن كان التوارث معهم بالقرابة التي جعلناها أضعف مثل أن يغلب توريثها بأنها جدة وهم ممن ترث معهم الجدة دون الأخت أو يغلب توريثها بأنها أخت وهم ممن ترث معهم الأخت دون الجدة كالأم والبنت أو يغلب توريثها بأنها أخت وهم ممن ترث معهم الجدة دون الأخت كالأب والابن ففيه وجهان: أحدهما: أنها تورث معهم بالقرابة التي لا تسقط معهم، لأن القرابة الأخرى إن لم تزدها خيرًا لم تزدها شرًا، ولا يداعي حكم الأقوى في هذا الموضع كالمشاركة. والثاني: أن يسقط توريثها بأضعفهما إذا لم ترث بالأقوى؛ لأن أقواهما قد أسقط حكم أضعفهما حتى كان الإدلاء بالأضعف معدومًا والله أعلم بالصواب. باب ميراث الخنثى قال الشافعي: الخنثى هو الذي له ذكر كالرجال وفرج كالنساء أو لا يكون له ذكر ولا فرج ويكون له ثقب يبول منه، وهو وإن كان مشكل الحال فليس يخلو أن يكون ذكرًا أو أنثى، وإذا كان كذلك، نظر، فإن كان يبول من أحد فرجيه فالحكم له، وإن كان بوله من ذكره فهو ذكر يجري عليه حكم الذكور في الميراث وغيره، ويكون الفرج عضوًا زائدًا وإن كان بوله من فرجه فهو أنثى يجري عليه أحكام الإناث في الميراث وغيره ويكون الفرج عضوًا زائدًا لرواية الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن مولود له ما للرجال وما للنساء فقال صلى الله عليه وسلم: "يورث من حيث يبول".وروى

الحسن بن كثير عن أبيه أن رجلًا من أهل الشام مات فترك أولادًا رجالًا ونساء فيهم خنثى فسألوا معاوية فقال ما أدري ائتوا عليًا بالعراق قال: فأتوه فسألوه فقال: من أرسلكم، فقالوا: معاوية، فقال: يرضى بحكمنا وينقم علينا بوله فمن أيهما بال فورثوه. فإن بال منهما فقد اختلف الناس منه فقال أبو حنيفة صاحباه: أعتبر أسبقهما وأجعل الحكم له قال أبو الحسن بن اللبان الفرضي: وقد حكاه المزني عن الشافعي ولم أر هذا في شيء من كتب المزني، وإنما قال الشافعي ذلك في القديم حكاية عن غيره ثم رد عليه، ومذهبه الذي صرح به أنه لا اعتبار بأسبقهما، ولو اعتبر السبق كما قالوا: لاعتبر الكثرة كما قال أبو يوسف وقد قال أبو حنيفة لأبي يوسف حين قال: أراعي أكثرهما أفتكيله؟ وحكي عن الحسن البصري أن الخنثى إذا أشكل حاله اعتبرت أضلاعه فإن أضلاع الرجال ثمانية عشر، وأضلاع المرأة سبعة عشر وهذا لا أصل له لإجماعهم على تقديم المال على غيره فسقط اعتباره. فصل: فإذا تقرر أن خروج البول منهما يقتضي أن يكون مشكلًا فقد اختلف الفقهاء في ميراثه فمذهب الشافعي أنه يعطي الخنثى أقل نصيبه من ميراث ذكر أو أنثى، وتعطي الورثة المشاركون له أقل ما يصيبهم من ذكر أو أنثى ويوقف الباقي حتى يتبين أمره، وبه قال داود وأبو ثور، وقال أبو حنيفة أعطيه أقل ما يصيبه من ميراث ذكر أو أنثى وأقسم الباقي بين الورثة، ولا أوقف شيئًا، وسئل مالك عن الخنثى فقال: لا أعرفه إما ذكرًا أو أنثى، وروي عنه أنه جعله ذكرًا، وروي عنه أنه أعطاه نصف ميراث ذكر ونصف ميراث أنثى، وهذا قول ابن عباس والشعبي وابن أبي ليلى والأخير من قول أبي يوسف. فإن ترك خنثين: قال أبو يوسف إن لهما حالين حالًا يكونان ذكرين وحالًا يكونان أنثيين وأعطيه نصف الأمرين، وهكذا يقول في الثلاثة وما زادوا، وقال محمد بن الحسن: أنزل الخنثين أربعة أحوال: ذكرين وأنثيين والأكبر ذكر والأصغر أنثى، أو الأكبر أنثى والأصغر ذكرًا، وأنزل الثلاثة ثمانية أحوال والأربعة ستة عشر حالًا، والخمسة انثتين وثلاثين حالًا. وما قاله الشافعي من دفع الأقل إليه ودفع الأقل إلى شركائه، وإيقاف المشكوك فيه أولى الأمرين: أحدهما: أن الميراث لا يستحق إلا بالتعين دون الشك وما قاله الشافعي يعين وما قاله غيره شك. والثاني: أنه لما كان سائرًا أحكامه سوى الميراث لا يعمل فيها إلا على اليقين، فكذلك الميراث، فعلى هذا لو ترك الميت ابنًا وولدًا خنثى فعلى قول الشافعي للابن

النصف إن كان خنثى رجلًا، وللخنثى الثلث كأنه أنثى ويوقفوا السدس فإن بان ذكرًا رد على الخنثى، وإن بان أنثى رد على الابن، وعلى مذهب أبي حنيفة يكون للخنثى الثلث والباقي للابن ولا يوقف شيء، وعلى قول أبي يوسف ومحمد ومن قال بتنزيل الأحوال لو كان الخنثى ذكرًا كان له النصف ولو كان أنثى كان له الثلث فصار له في الحالين خمسة أسدس، فكان له في أحداهما أنثى سدسان ونصف وللابن لو كان الخنثى أنثى الثلثان ولو كان ذكرًا النصف فصار له في الحالين سبعة أسداس فكان له في إحداهما نصف ونصف سدس فيقسم بينهما من اثنى عشر للابن سبعة وللخنثى خمسة. ولو ترك بنتًا وترك ولدًا خنثى وعمًا، فعل مذهب الشافعي للبنت الثلث وللخنثى الثلث، لأنه أقل والثلث الباقي موقوف لا يدفع إلى العم فإن بان الخنثى ذكرًا رد عليه، وإن بان أنثى دفع إلى العم. وعلى قول أبي حنيفة يدفع الثلث الباقي إلى العم، ولا يوقف. وعلى قول من نزل حالين قال للبنت الثلث في الحالين فيدفع إليها، وللخنثى السدس إن كان ذكرًا الثلثان، وإن كان أنثى الثلث، فصار له في الحالتين الكل، وكان له في أحدهما النصف، فيأخذه، وللعم إن كان الخنثى أنثى الثلث وليس له إن كان ذكرًا شيء، فصار له في الحالين الثلث، فكان له في إحداهما السدس، ويقسم من ستة للبنت سهمان وللخنثى ثلاثة أسهم وللعم سهم، ولو ترك ابنًا وبنتًا وخنثى فعلى مذهب الشافعي هو من عشرين سهمًا؛ لأن الخنثى إن كان ذكرًا فهو من خمسة، وإن كان أنثى فمن أربعة، فكان مجموع الفريضتين، من عشرين، وهو مضروب خمسة في أربعة، للابن الخمسان ثمانية أسهم، وللبنت الخمس أربعة أسهم وللخنثى الربع خمسة أسهم ويوقف ثلاثة أسهم، فإن بان الخنثى رد عليه فصار له ثمانية أسهم كالابن، وإن كان أنثى رد منها على الابن سهمان، وعلى البنت سهم. وعلى قول أبي حنيفة هي من أربعة أسهم للابن سهمان وللبنت سهم وللخنثى سهم ولا يوقف شيء. وعلى قول من نزل حالين يقول هي من عشرين للابن إن كان الخنثى ذكرًا ثمانية وإن كان أنثى عشرة فصار له في الحالين ثمانية عشر سهمًا، فكان له في إحداهما تسعة أسهم وللبنت إن كان الخنثى ذكرًا أربعة، وإن كان أنثى خمسة فصار له في الحالين تسعة فكان له في إحداهما أربعة ونصف وللخنثى إن كان ذكًا ثمانية، وإن كان أنثى خمسة، فصار له في الحالين ثلاثة عشر فكان له في إحداهما ستة ونصف وتصح من أربعين لنزول الكسر فلو ترك ولدًا خنثى ولد ابن خنثى وعم فعلى مذهب الشافعي للولد النصف ويوقف السدس بين الابن وابن الابن والخنثيين، لأنه لأحدهما ويوقف الثلث بين العلم والخنثيين. وعلى قول أبي حنيفة للولد النصف ولولد الابن السدس والباقي للعم.

وعلى قول من نزل حالين يقول: إن كانا ذكرين فالمال للولد، وإن كانا أنثيين فللولد النصف ولولد الابن السدس والباقي للعم، فيأخذ الولد نصف الحالين وهو ثلاثة أرباع المال ويأخذ ولد الابن نصف الحالين وهو نصف السدس ويأخذ العم نصف الحالين وهو السدس. وعلى قول من ينزل بجميع الأحوال ينزلها أربعة أحوال فيقول إن كانا ذكرين فالمال للولد وإن كانا أنثيين فللولد النصف ولولد الابن السدس، والباقي للعم، وإن كانا الولد ذكرًا وولد الابن أنثى، فالمال للولد، وإن كانا الولد أنثى وولد الابن ذكرًا فلولد النصف والباقي لولد الابن، فصار للولد في الأربعة الأحوال ثلث المال فكان له في حالة واحدة ربع ذلك وهو نصف السدس ثم على قياس هذا والله أعلم بالصواب. فصل: في ميراث الحمل إذا مات رجل وترك حملًا يرثه، نظر حال ورثته فإن كان الحمل يحجبهم فلا ميراث لهم، وإن كان لا يحجبهم ولكن يشاركهم فقد اختلف الفقهاء في قدر ما يوقف للحمل فحكي عن أبي يوسف أنه يوقف للحمل نصيب غلام، ويؤخذ منه للورثة ضمين وحكي عن محمد بن الحسن أنه يوقف له نصيب أنثى وحكي عن أبي حنيفة أنه يوقف له نصيب أربعة. وبه قال أبو العباس بن سريج استدلالًا بأنهم أكثر من وجد حمل واحد. وروى يحيى بن آدم فقال: سألت شريكًا فقال يوقف نصيب أربعة فإني قد رأيت بني ابن إسماعيل أربعة ولدوا في بطن محمد وعلي وعمر. قال يحيى وأظن الرابع إسماعيل، ومذهب الشافعي أنه يوقف سهم من يشارك الحمل في ميراثه حتى يوضع فيتبين حكمه، ولا يدفع إليهم شيء إذا لم يتقدر أقل من فرضهم، لأن عدد الحمل غير معلوم على اليقين والميراث لا يستحق بالشك، ولا بالغالب المعهود، وليس لما ذكروه من تقديره بالواحد أو بالاثنين أو بالأربعة وجه لجواز وجود من هو أكثر وقد أخبرني رجل ورد علي من اليمن طالبًا للعلم وكان من أهل الدين والفضل أن امرأة باليمن وضعت حملًا كالكوشي وظن أن لا ولد فيه فألقي على قارعة الطريق فلما طلعت عليه الشمس وحمي بها تحرك فأخذ وشق فخرج منه سبعة أولاد ذكورًا عاشوا جميعًا، وكانوا خلقًا سويًا إلا أنه قال في أعضائهم قصر قال: وصار عني رجل منهم قصر عني فكنت أعير باليمن، فيقال لي: صرعك سبع رجل وإذا كان هذا مجوزًا، وإن كان نادرًا جازت الزيادة عليه أيضًا، فعلى هذا لو ترك الميت ابنًا وزوجة حاملًا فللزوجة الثمن لا ينقصها الحمل منه، ولا يدفعها عنه، وإنما الخلاف في الابن فعلى قول أبي يوسف له النصف، ويوقف النصف وعلى قول محمد بن الحسن له الثلث ويوقف الثلثان وعلى قول أبي حنيفة له خمس وتوقف الأربعة الأخماس وعلى قول الشافعي يوقف الجميع حتى يوضع الحمل ولو تركت الأم زوجًا وابن عم وأمًا حاملًا، وطلبت الورثة أنصيائهم نظر في حمل الأم،

فإن كان من غير أب أعطى الزوج النصف والأم السدس؛ لأنها ما تلد اثنين فيحجبانها ويوقف الثلث فإن ولدت اثنين فأكثر دفع الثلث إليهم، فإن ولدت واحدًا دفع إليه السدس ورد السدس الباقي على الأم لتستكمل الثلث فإن وضعت ميتًا كمل للأب الثلث ودفع السدس إلى ابن العم وينبغي لزوج الأم في مثل هذه الحال أن يمسك عن وطئها ليعلم تقدم حملها فإن لم يفعل ووطئها نظر فإن ولدت لأقل من ستة أشهر من حين الوفاة كان الولد وارثًا لتقدم العلوق به على الوفاة، وإن ولدته لستة أشهر فأكثر لم ترث لإمكان حدوثه بعد الوفاة إلا أن يعترف الورثة بتقدمه فيرث هذا إذا كان حملها من غير الأب. فأما إن كانت الأم حاملًا من أبي الميتة دفع إلى الزوج ثلاثة المال وغلى الأم الثمن ووقف أربعة أثمانه؛ لأنها قد تلد بنتين فيكونا أختين من أب فتعول إلى ثمانية؛ فإن وضعت اثنين بنين أخذ الموقوف وإن وضعت بنتًا واحدة دفع إليها من الموقوف بثلاثة أثمان المال ورد الثمن الباقي على الأم، وإن وضعت ابنًا كمل للزوج النصف وللأم الثلث ودفع الباقي إلى الابن. وإن وضعت ابنتين كمل للزوج النصف وللأم السدس ودفع الباقي إلى الابنتين ولو تركت زوجًا وأختًا لأب وأم وأختًا لأب وزوجة أب حاملًا منه أعطى الزوج ثلاثة أسباع المال والأخت للأب والأم ثلاثة أسباعه ووقف السبع الباقي فإن ولدت ذكرًا لم يرث ولم ترث أخته ورد السبع الموقوف على الزوج والأخت نصفين فإن ولدت أنثى أو إناثًا دفع السبع الموقوف إلى المولودة والأخت للأب لأنهما أختان لأب والله أعلم بالصواب. فصل: في الاستهلال روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما من مولود يولد إلا ركضه الشيطان فيستهل صارخًا ركضته إلا عيسى ابن مريم وأمه عليهما السلام ثم قرأ: {وإنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمرن: 36] فمتى استهل المولود صارخًا فلا خلاف بين الفقهاء أنه يرث ويورث. روى محمد بن عبد الله بن قسيط عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن استهل المولود ورث" والاستهلال هو الصراخ، ورفع الصوت، لذلك قيل: إهلال الحج لرفع الصوت فيه بالتلبية، وسمي الهلال هلالًا لاستهلال الناس بذكر الله تعالى عند رؤيته. فأما ما سوى الاستهلال فقد اختلف الناس فيه فحكي عن شريح والنخعي وأبي سلمة بن عبد الرحمن أنه لا يرث حتى يستهل صارخًا ولا يقوم غير الاستهلال مقام الاستهلال، وقال الزهري: العطاس استهلال ويورث به، وبه قال مالك بن أنس وقال

القاسم بن محمد البكاء والعطاس استهلال ويرث بالثلاثة لا غير. وقال الشافعي وأبو حنيفة والصحابة بأي وجه علمت حياته من حركة أو صياح أو بكاء أو عطاس ورث وورث؛ لأن الحياة علة الميراث فبأي وجه علمت فقد وجدت، ووجودها موجب لتعلق الإرث بها ثم اختلفوا إذا استهل قبل انفصاله ثم خرج ميتًا فقال أبو حنيفة وأصحابه إذا استهل بعد خروج أكثره ورث وورث وإن خرج باقيه ميتًا، وعلى مذهب الشافعي أنه لا يرث إلا أن يستهل بعد انفصاله؛ لأنه في حكم الحمل ما لم ينفصل ألا ترى أن العدة لا تنقضي به وزكاة الفطر لا تجب عليه إلا بعد انفصاله، وكذلك الميراث فإذا تقرر هذا ومات رجل وخلف ابنين وزوجة حاملًا فولدت ابنًا وبنتًا فاستهل الابن أولًا ثم مات ثم استهلت البنت بعده ثم ماتت فالمسألة الأولى من ثمانية؛ لأن فيها زوجة وثلاثة بنين وبنت ثم مات الابن المستهل عن سهمين منها. والمسألة من ستة، لأن فيها أمًا وأخوين وأختًا فعادت المسألة الأولى بالاختصار إلى ستة، لأن الباقي ستة ثم ماتت البنت المستهلة عن سهم منها ومسألتها من اثني عشر؛ لأن فيها أمًا وأخوين فاضربها في الست التي رجعت المسألة إليها يكن اثنتين وسبعين، ومنها تصح المسائل فمن كان له شيء من اثني عشر أخذه مضروب له في واحد، ومن كان له شيء من ستة فهو مضروب له في اثني عشر، فلو كانت البنت هي المستهلة أولًا وماتت ثم استهل الابن بعدها ومات فقد ماتت البنت عن سهم من ثمانية ومسألتها من ثمانية عشر؛ لأن فيها أمًا وثلاثة أخوة فاضرب الثمانية عشر في الثمانية يكن مائة وأربعة وأربعين من له شيء من ثمانية مضروب له في ثمانية عشر، ومن له شيء من ثمانية عشر مضروب له في واحد هو تركت البنت المستهلة. فعلى هذا كان للابن المستهل بعدها سهمان من ثمانية في ثمانية عشر يكن ستة وثلاثين، وله خمسة من ثمانية عشر في واحد فصار ماله منها أحدًا وأربعين من مائة وأربعة وأربعين ثم مات عنها ومسألته من اثني عشر، لأن فيها أمًا وأخوين وهي لا توقف تركته بشيء فاضرب اثني عشر في مائة وأربعة وأربعين تكن ألفًا وسبع مائة وثمانية وعشرين سهمًا ومنها يصح له شيء من مائة وأربعة وأربعين، فلو مات رجل وخلف أمًا وأخًا وأم ولد حاملًا منه فولدت ابنًا وبنتًا توأمين فاستهل أحدهما ووجدا ميتين، ولم يعد أيهما كان المستهل فالعمل في مسائل هذا الفصل مشترك بين عمل المناسخات؛ لأن الوارث المستهل قد صار موروثًا وبين عمل مسائل المعقود لاستخراج أقل الأنصباء فنقول إن كان الابن هو المستهل فللأم السدس والباقي للابن وهو خمسة أسهم ثم مات عنها ومسألته من ثلاثة، لأن فيها أمًا وعمًا فاضرب ثلاثة في ستة تكن ثمانية عشر للأم منها سهم من ستة في ثلاثة تكن ثلاثة ولأم الولد سهم من ثلاثة في خمس تكن خمسة وللعم سهمين من

باب ذوي الأرحام

ثلاثة في خمسة تكن عشرة. وإن كانت البنت هي المستهلة فللأم السدس وللبنت النصف والباقي للأخ هي من ستة، ثم ماتت البنت عن ثلاثة أسهم ومسألتها من ثلاثة، لأن فيها أمًا وعمًا فينقسم سهامها عليهما الستة تدخل في الثمانية عشر وهي توافقها بالأسداس، من له شيء من أحدى المسألتين مضروب له في سدس الأخرى فللأم السدس من المسألتين فهو لها؛ لأن لها من الأول ثلاثة في ثمانية عشر مضروب في سدس الستة وهو واحد تكن ثلاثة ولها من الستة واحد مضروب في سدس الثمانية عشر وهو ثلاثة تكن ثلاثة فاستوى سهمها في المسألتين فأخذته ولأم الولد الأولى خمسة من ثمانية عشر مضروبة في سدس الستة وهو واحد يكن خمسة ولها من الستة سهم من ستة مضروب في سدس الثمانية عشر وهو ثلاثة يكن ثلاثة فتعطى ثلاثة أسهم، لأنه أقل النصيبين، وللأخ من الأولى عشرة مضروبة في واحد تكن عشرة وله من الثانية أربعة أسهم مضروبة في ثلاثة تكن اثني عشر فيعطى عشرة أسهم؛ لأنه أقل النصيبين ويوقف سهمان من العم وأم الولد حتى يصطلحا عليه، لأنه لا شيء فيه للأم ثم على قياس هذا والله أعلم بالصواب. باب ذوي الأرحام قَالَ المُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "احْتِجَاجُ الشَّافِعِيُّ فِيمَنْ يُؤَوِّلُ الآيَةِ فِي ذَوِي الأَرْحَامِ قَالَ لَهُمُ الشَّافِعِيُّ: لَوْ كَانَ تَاوِيلُهَا كَمَا زَعَمْتُمْ كُنْتُمْ قَدْ خَالَفْتُمُوهَا قَالُوا فَمَا مَعْنَاهَا؟ قُلْنَا: نَوَارَثَ النَّاسُ بِالْحِلْفِ وَالنُّصْرَةِ ثُمَّ تَوَارَثوُا بِالإِسْلَامِ وَالهِجْرَةِ ثُمَّ نَسَخَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] عَلَى مَا فَرَضَ اللهُ لَا مُطْلَقًا أَلَّا تَرَى أَنَّ الزِّوْجَ يَاخُذُ أَكْثَرَ مِمَّا يَاخُذُ ذَوُو الأَرْحَامِ وَلَا رَحِمَ لَهُ؟ أَوْ لَا تَرَى أَنَّكُمْ تُعْطُونَ ابْنَ العَمِّ الْمَالَ كُلَّهُ دُونَ الخَالِ وَأَعْطَيْتُمْ مَوَالِيَهُ جَمِيعَ المَالِ دُونَ الأَخْوَالِ فَتَرَكْتُمْ الأَرْحَامَ وَأَعْطَيْتُمْ مَنْ لَا رَحِمَ لَهُ؟ ". قال في الحاوي: قد مضى الكلام في ذوي الأرحام مع وجود بيت المال وأن لهم الميراث عند عدمه لعدول بيت المال عن حقه هذا إذا لم يكن عصبة وإن بعدت ولا ذو فرض برحم ولا مولى معتق فيصير حينئذ ذوو الأرحام مع وجود بيت المال وأن لهم الميراث مع عدمه وورثته وإن خالف فيه من أصحابنا من رددنا قوله وأوضحنا فساده وإذا صح توريثهم فهم خمسة عشر يتفرعون. وهم الجد أبو الأم وأم أبي الأم والخال وأولاده والخالة وأولادها والعمة وأولادها وولد البنات وبنات الإخوة وولد الأخوات وولد الإخوة للأم وبنات الأعمام والعم للأم

وأولادهم فاختلف مورثوهم في كيفية توريثهم فذهب أبو حنيفة وصاحباه وأهل العراق إلى توريثهم بالقرابة على ترتيب العصبات فأولادهم من كان ولد من ولد الميت وإن سفلوا ثم من كان من ولد الأبوين أو أحدهما ثم ولد أبوي الأبوين يجعلون ولد كل أب أو أم أقرب أولى من ولد أب أو أم أبعد منه ويقولون في الخالات المفترقات والعمات المفترقات إذا أحقهن من كان لأب وأم فإن لم يكن فمن كان لأب فإن لم يكن فمن كان لأم وذهب جمهور مورثيهم إلى التنزيل فيقولون كل واحد منهم بمنزلة من أدلى به من الورثة من عصبة أو ذي فرض وهو الظاهر من قول عمر وعلي وابن مسعود رضي الله عنهم وعلقمة والشعبي والنخعي والثوري وابن أبي ليلى وشريك والحسن بن صالح واللؤلؤي وأبي عبيد وعن أبي يوسف نحوه ثم رجع عنه فيجعلون ولد البنات والأخوات بمنزلة أمهاتهم وبنات الإخوة وبنات الأعمام بمنزلة آبائهم والأخوال والخالات وآباء الأم بمنزلة الأم وخال الأم بمنزلة أم الأم وخال الأب بمنزلة أم الأب والعم للأم بمنزلة الأب. فأما العمات فاختلف المنزلون فيهن فنزلهم عمر وعبد الله رضي الله عنهما بمنزلة الأب وهي إحدى الروايتين عن علي عليه السلام وبه قال النخعي والحسن بن صالح والرواية المشهورة عن علي عليه السلام أنهن بمنزلة العم، وهو قول الشعبي ويحيى بن آدم وضرار بن صرد وكأنهم ذكروهن وقد حكي عن الثوري وأبي عبيد ومحمد بن سالم أنهم نزلوا العمة منزلة بنات الإخوة وولد الأخوات بمنزلة الجد ونزولها مع غيرهم بمنزلة الأب واختلف المنزلون في توريث القريب والبعيد فالمعمول عليه من قول الجمهور أن أقربهم أولى بوارث أولادهم بالميراث فإن استووا أخذ كل واحد منهم نصيب من أدلى به وذهب قوم إلى أن كل ذي رحم بمنزلة سببه، وإن بعد فورثوا البعيد مع القريب إذا كانا من جهتين مختلفتين، هذا قول الثوري والحسن بن صالح وأبي عبيد ومحمد بن مسلم، وضرار بن صرد فإن كانا من جهة واحدة ورثوا الأقرب فالأقرب. واختلف أهل التنزيل في تنزيل وارث الأم مثل ابن أخيها وعمها وابن عمها وابن أبيها وأم جدها هل ينزلون في أول درجة بمنزلتها وإن بعدوا منها أو ينزلون بطنًا بعد بطن، فذهب جمهورهم إلى أنهم ينزلون بطنًا بعد بطن. وقال إبراهيم النخعي: لقب الأم ثم أجعلها لورثتها وبه قال أبو عبيد ويحيى بن آدم واختلفوا في تفضيل الذكر على الأنثى فذهب جمهورهم إلى أنه بينهم للذكر مثل حظ الأنثيين إلا ولد الإخوة من الأم والأخوال والخالات من الأم والأعمام والعمات من الأم، فإنه يستوي فيه ذكورهم وإناثهم، وذهب قوم إلى التسوية بين ذكورهم وإناثهم وهو قول نعيم بن حماد وأبي عبيد وإسحاق بن راهويه وبالجمهور من قول المنزلين يفتي وعليه يعمل؛ لأنه أجرى على القياس من قول أهل القرابة فلذلك ذهبنا إليه والله أعلم بالصواب. فصل: في ولد البنات إلى ترك بنت بنت وثلاثة بنات بنت وأربع بنات بنت ثالثة

فالمال في الأصل مقسوم بينهم على ثلاثة أسهم بعدد من أدلين به من الأمهات ثم يجعل كل سهم لولدها وتصح من ستة وثلاثين سهمًا الثلث منها اثنا عشر سهمًا لبنت البنت الواحدة واثنا عشر سهمًا لثلاث بنات البنت الثانية أثلاثًا لكل واحدة منهن أربعة أسهم واثنا عشر سهمًا لأربع بنات البنت الثالثة أرباعًا لكل واحدة منهن ثلاثة أسهم، وقال أبو حنيفة: يقسم بينهن على عدد رؤوسهن أثمانًا لكل واحدة سهم، كما يقسم بين العصبات على أعدادهم ولا يعتبر أعداد آبائهم كما لو ترك ابن ابن وخمسة بني ابن آخر قسم المال بينهم أسداسًا على أعدادهم ولم يقسم نصفين على أعداد آبائهم وهذا خطأ، لأن العصبات يرثون بأنفسهم فلذلك قسم على عددهم، وذوو الأرحام يدلون بغيرهم فقسم بينهم على عدد من أدلوا به، فلو ترك ابن بنت مع أخته وبنت بنت أخرى كان لبنت البنت النصف ولابن البنت مع أخته النصف بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، وتصح من ستة وعلى قول أبي عبيد وإسحاق النصف بينهما بالسوية، وعلى قول أبي حنيفة المال: بين جميعهم للذكر مثل حظ الأنثيين على أربعة أسهم فلو ترك بنت بنت وبنت وبنت ابن كان لبنت البنت النصف سهم أمها ولبنت بنت الابن السدس سهم أبيها والباقي رد عليها فيصير المال بينهما على أربعة أسهم وعلى قول أبي حنيفة: المال كله لبنت البنت، لأنها أقرب فلو ترك بنت ابن بنت وبنت بنت بنت ابن فالمال كله لبنت بنت الابن في قول الجميع. أما على قول أهل التنزيل فلأنها بعد درجة بنت ابن وارثة. وأما على قول أبي حنيفة فلأنهما استويا في البعد وهذه تدلي بوارث ومن مذهبه أنه مع استواء الدرج يقدم من أدلى بوارث، فلو ترك ابن ابن بنت وابن ابن بنت ابن كان المال كله لابن ابن بنت الابن في قول الجميع؛ لأنه مع استواء الدرج أقرب إدلاء بوارث. فصل: في ولد الأخوات وإذا ترك بنت أخت وابني أخت أخرى كان النصف لبنت الأخت والنصف لابني الأخت الأخرى، وتصح من أربعة وعلى قول أبي حنيفة المال بينهم على خمسة للذكر مثل حظ الأنثيين فلو ترك ابن أخت لأب وأم وابن أخت لأب كان لابن الأخت للأب والأم النصف ولابن الأخت للأب السدس والباقي رد عليهم وتصح أربعة وهو محمد بن الحسن وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة. وعلى قول أبي يوسف المال كله لابن الأخت للأب والأم وهي إحدى الروايتين عن أبي حنيفة. فلو ترك بنت أخت لأب مع أخيها وابن أخت لأم مع أخته كان الولد الأخت من الأب ثلاثة أرباع بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين ولولد الأخت من الأم الربع بينهما نصفين وتصح من ثمانية.

فلو ترك ثلاثة بنين وثلاث بنات أخوات مفترقات كان المال بينهم في الأصل على خمسة أسهم سهم لابن وبنت الأخت من الأم بينهما نصفين وسهم لابن وبنت الأخت من الأب بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين وثلاثة أسهم للابن وبنت الأخت من الأب والأم بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين وتصح من ثلاثين سهمًا. فصل: في بنات الإخوة وإذا ترك بنتي أخ وخمس بنات أخ آخر كان النصف بين بنتي الأخ نصفين والنصف الآخر بين خمس بنات الأخ الآخر على خمسة وتصح من عشرين سهمًا وعلى قول أبي حنيفة المال بينهم على سبعة أسهم. على أعدادهن فلو ترك ثلاث بنات أخوة متفرقين كان لبنت الأخ من الأم السدس والباقي لبنت الأخ للأب والأم ولا شيء لبنت الأخ للأب، لأن أباها مع أخويها غير وارث وهو قول محمد وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة وعلى قول أبي يوسف الأخير وإحدى الروايتين عن أبي حنيفة المال لبنت الأخ للأب والأم. ولو ترك ابن أخ لأم مع أخته وبنت أخ، لأن كان السدس بين ابن الأخ وبنت الأخ من الأم نصفين ولبنت الأخ من الأب الباقي، وعلى قول محمد بن الحسن لابن الأخ وبنت الأخ من الأم الثلث كأنهما أخ وأخت من أم والباقي لبنت الأخ من الأب. وعلى قول أبي يوسف المال كله لبنت الأخ للأب. ولو ترك بنت أخ لأم وابن أخت لأم وبنت أخ لأب كان لبنت الأخ للأم السدس ولابن الأخت للأم السدس والباقي لبنت الأخ للأب ويصح من اثني عشر. وعلى قول محمد بن الحسن لولد الأخ من الأم الثلث بينهما ثلاثًا على عددهم والباقي لبنت الأخ للأب وعلى قول أبي يوسف المال كله لبنت الأخ للأب والله أعلم. فصل: في ولد الأخوات مع بنات الأخوة وإذا ترك بنتي أخ لأب وأم وابن أخت لأب وأم كان المال ينهما على ثلاثة أسهم لابن الأخت للأب والأم سهم نصيب أبيه ولابنتي الأخ للأب والأم سهمان نصيب أبيهما، وعلى قول محمد بن الحسن هي من خمسة لبنتي الأخ أربعة كأنهما أخوان، ولابن الأخت سهم كأنه أخت. وعلى قول أبي يوسف لابن الأخت سهمان ولبنتي الأخ سهمان يقسم على رؤوسهم للذكر مثل حظ الأنثيين. فلو ترك ابني أخت لأب وأم وبنت أخ لأب كان لابني الأخت للأب والأم النصف والباقي لبنت الأخ للأب وعلى قول محمد بن الحسن لابني الأخت للأب والأم الثلثان والباقي لبنت الأخ للأب وعلى قول أبي يوسف المال لابني الأخت للأب والأم.

ولو ترك ابن أخت لأب وأم معه أخته وبنتي أخ لأب وبنت أخت لأب كان المال بينهم على ستة أسهم لابن الأخت للأب والأم النصف ثلاثة أسهم بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين، ولبنتي الأخ للأب ثلثا الباقي وهو سهم واحد، وعلى قول محمد بن الحسن لولد الأخت للأب والأم الثلثان، ولابنتي الأخ للأب أربعة أخماس الباقي، والخمس الباقي لبنت الأخت. ولو ترك بنت ابن أخت لأب وأم وبنت ابن أخ لأب كان المال كله لبنت ابن الأخ للأب في قول الجميع. ولو ترك ثلاث بنات ثلاث أخوات مفترقات وبنت ابن أخ لأب كان لبنت الأخت من الأم السدس ولبنت الأخت من الأب والأم النصف ولبنت الأخت من الأب السدس والباقي لبنت ابن الأخ وفي قول محمد بن الحسن المال بين بنات الأخوات على خمسة أسهم وعلى قول أبي يوسف هو لبنت الأخت للأب والأم. فصل: في العمات والخالات خالة من أم وعمة من أب وأم للخالة الثلث والباقي للعمة في قول الجميع كذلك إن كانت الخالة من أب عمة لأم وبنت خالة لأب وأم المال للعمة للأم، لأنها أقرب خالة لأم وبنت عمة لأب وأم المال للخالة، لأنها أقرب. ثلاث خالات مفترقات وثلاث عمات مفترقات الثلث بين الخالات على خمسة والثلثان بين العمات على خمسة، لأنهن أخوات مفترقات وعلى قول أهل القرابة الثلث للخالة للأب والأم والثلثان للعمة للأي والأم. عمة لأب وخالتان لأب وأم خال وخالة لأب للعمة الثلث وللخالتين للأب والأم ثلث وباقي الثلث للخال، والخال من الأب على ثلاثة وتصح من سبعة وعشرين عمتان من أب وعم وعمة من أم وخالة من أم وخالة من أب تصح من ستة وثلاثين سهمًا للخالة من الأم ربع الثلث ثلاثة أسهم، وللخالة من الأب ثلاثة أرباعه تسعة أسهم وباقي الثلث للخال وللعمتين من الأب ثلثا الثلثين ستة عشر أسهم وللعم والعمة من الأب ثلث الثلثين ثمانية أسهم. خال وخالة من أب وخال وخالة من أم وعمة من أب وأم وعمة من أب تصح من أربعة وخمسين سهمًا للخال والخالة من الأم ثلث الثلث اثنا عشر سهمًا بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين وللعمة للأب والأم ثلاثة أرباع الثلثين سبعة وعشرون سهمًا، وللعمة من الأب ربع الثلثين تسعة أسهم. خال وخالة من أم وبنت عم لأب وأم للخال والخالة الثلث بينهما نصفين والباقي لبنت العم وفي قول أهل القرابة المال كله للخال والخالة من الأم للذكر مثل حظ الأنثيين، لأنهما أبعد وأقرب ويورثون كل ذكر مثل حظ الأنثيين إلا ولد الإخوة والأخوات من الأم.

فصل: في ولد الأخوال والخالات ثلاث بنات ثلاث خالات مفترقات وثلاث بنات ثلاث عمات مفترقات الثلث بين ثلاث بنات الخالات على خمسة، والثلثان بين بنات العمات المفترقات على خمسة كأمهاتهن وعلى قول أهل القرابة الثلث لبنت الخالة للأب والأم والثلثان لبنت العمة للأب والأم ثلاث بنات ثلاثة أموال مفترقين وبنت عمة من أب وبنت عمة من أم سدس الثلث لبنات الخال من الأم وباقية وهو خمسة أسداسه لبنت الخال للأب والأم وتسقط معها بنت الخال من الأب لسقوط أبيها مع أبويها ويكون الثلثان بين بنتي العمتين على أربعة ثلاثة منها لبنت العمة من الأب والأم وسهم لبنت العمة من الأم وتصح من ثمانية عشر. ابن وبنت خال من أم وخمس بنات خالة من أم وبنت عم وابنا عمة من أم نصف الثلث بين الابن وابنة الخال من الأم نصفين ونصفه الآخر بين بنات الخالة من الأم على أعدادهن أخماسًا ولبنت العم من الأم نصف الثلثين ونصفه الآخر بين ابني العمة من الأم فيأخذ كل فريق نصيب من يدلي به وتصح من ستين سهمًا ابن خال من أم وبنت خالة من أب وبنت عمة لأب وأن وابن عم لأب فلابن الخال من الأم ربع الثلث ولبنت الخالة من الأب ثلاثة أرباع الثلثين وتصح من اثنى عشر سهمًا. فصل: في خالات الأم وعماتها وخالات الأب وعماته خالة أم وخالة أب فخالة الأم بمنزلة أم الأم وخالة الأب بمنزلة أم الأب فصارتا جدتين فكان المال بينهما نصفين وعلى قول أهل القرابة لخالة الأم الثلث ولخالة الأب الثلثان. وعمة أم وعمة أب فعمة الأب بمنزلة أبي الأب وهو وارث وعمة الأم بمنزلة أبي الأم وهو غير وارث فكان المال كله لعمة الأب. وعلى قول أهل القرابة لعمة الأم الثلث ولعمة الأب الثلثان. وخالة أم وعمة أب لخالة الأم السدس، لأنها بمنزلة أم الأم والباقي لعمة الأب، لأنها بمنزلة أب الأب وعلى قول أهل القرابة الثلث والثلثان. خالة أم وعمة أم وخالة أب وعمة أب لخالة الأم وخالة الأب السدس بينهما نصفين لأنهما بمنزلة جدتين، والباقي لعمة الأب، لأنها بمنزلة أب الأب ولا شيء لعمة الأم، لأنها بمنزلة أب الأم. ثلاث خالات وثلاث عمات أب كلهن مفترقات وثلاث عمات وثلاثة أعمام وثلاث خالات أم كلهن مفترقين فنصف السدس بين خالات الأم على خمسة ونصف السدس بين خالات الأب على خمسة؛ لأن الفريقين بمنزلة جدتين والباقي بعد السدس بين عمات الأب على ثمانية لأنهن بمنزلة أب الأب وتسقط أعمام الأم وعماتها لأنهم بمنزلة أبي الأم.

ابن عم معه أخته وبنت خال أم مع أخيها وابن خال أب معه أخته فالنصف بين بنت خال الأم وأختها أثلاثًا، لأنهما بعد درجتين بمنزلة أم الأم والنصف الآخر بين ابن خال الأب وأخته أثلاثًا؛ لأنهما بعد درجتين بمنزلة أم الأم والنصف الآخر بين ابن خال الأب وأخته أثلاثًا، لأنهما بعد درجتين بمنزلة أم الأب ولا شيء لابن عم الأم وأخته لأنهما بعد درجتين بمنزلة أبي الأم والله أعلم بالصواب. فصل: في الأجداد والجدات الذين يرثون برحم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "إِذَا وَرِثَ الجَدُّ مَعَ الإِخْوَةِ لِلأَبِ وَالأُمَّ أَوْ لِلأَبِ قَاسَمَهُمُ مَا كَانَتْ المُقَاسَمَةُ خَيْرًا لَهُ مِنَ الثُّلُثُ فَإِذَا كَانَ الثُّلُثُ خَيْرًا لَهُ مِنْهًا أُعْطِيَهُ وَهَذَا قَوْلُ زَيْدٍ وَعَنْهُ قَبِلْنَا أَكْثَرَ الفَرَائِضِ وَقَدْ رُوِيَ هَذَا القَوْلُ عنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيّ وَابْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَالُوا فِيهِ مِثْلَ قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَهُوَ قَوْلُ الأَكْثَرِ مِنْ فُقَهَاءِ البُلْدَانِ فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنَّا نَزْعُمُ أَنَّ الجَدَّ أَبٌ لِخِصَالٍ، مِنْهَا أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَالَ: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] " فَأَسْمَى الجَدَِّ فِي النَّسَبِ أَبًا وَلَمْ يُنْقِصْهُ المُسْلِمُونَ مِنَ السُّدُس وَهَ! ذَا حُكْمُهُمْ لِلأَبِ وَحَجَبُوا بِالجَدِّ بَنِي الأُمِّ وَهَكَذَا حُكْمُهُمْ فِي الأَبِ فَكَيْفَ جَازَ أَ! نْ تُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحْكَامِهِ وَأَحْكَامِ الأَبِ فِيمَا سِوَاهَا؟ قُلْنَا إِنَّهُمْ لَمْ يَجْمَعُوا بَيْنَ أَحْكَامِهِمَا فِيهَا قِيَاسًا مِنْهُمْ لِلجَدِّ عَلَى الأَبِ، لأَنَّهُ لَوْ كَانَ إِنَّمَا يَرِثُ بِاسْمِ الأُبُوَّةِ لَوَرِثَ وَدُونَهُ أَبٌ أَوْ كَانَ قَاتِلاً أَوْ مَمْلُوكًا أَوْ كَافِرًا فَالأُبُوَّةُ تَلْزَمُهُ وَهُوَ غَيْرُ وَارِثٍ وَإِنَّمَا وَرَّثْنَاهُ بِالخَبَرِ فِي بَعْضِ المَوَاضِعِ دُونَ بَعْضٍ لاَ بِاسْمَ الأُبُوَّةِ وَنَحْنُ لا َنُنْقِصُ الْجَدَّةِ مِنَ السُّدُسِ أَفَنَرَى ذَلِكَ قِيَاسًا عَلَى الأَبِ يَحْجُبُونَ بِهَا الإِخْوَةِ لِلأُمَّ وَقَدْ حَجَبَهُمُ الإِخْوَةِ مِنَ الأُمَّ بِابْنَةِ ابْنِ مُتَسَفَّلَةٍ أَفَتَحْكُمُونَ لَهَا بِحُكْمِ الأَبِ؟ وَهَذَا يُبَيَّينُ أَنَّ الفَرَائِضَ تَجْتَمِعُ فِي بَعُضِ الأُمُورِ دُونَ بَعْضٍ؟ وَقُلْنَا أَلَيْسَ إِنَّمَا يُدَْلِي الجَدُّ بِقَرِابَةِ أَبِي المَيَّتِ؟ قُلْنَا: أَفَرَأَيْتُمْ لَوْ كَانَ أَبُوهُ المَيْت فِي تِلْك السَّاعَةِ أَيُّهُمَا كَانَ أَوْلَى بِكِثْرَةِ المِيرَاثِ مِمَّنْ يُدْلِيَِانِ بِقَرَابَتِهِ فَكَيْفَ جَازَ أَنْ يَحْجُبَ الَّذِي أَوْلَى بِالأَبِ الَّذِي يُدْلِيَانِ بِقَرَابَتِهِ بِالَّذِي هُوَ أَبْعَدُ؟ وَلَوْلاَ الخَبرُ كَانَ القِيَاسُ أَنْ يُعْطَى الأَخُ خَمْسَةَ أَسْهُمٍ وَالجَدُّ سَهْمًا كَمَا وَرَّثْنَاهُمَا حِينَ مَاتَ ابْنُ الجَدَّ وَأَبُو الأَخِ". قال في الحاوي: أبو أبي أم، وأبو أم أب، المال لأبي أم الأب؛ لأنه يدلى بوارث

وعلى قول أهل القرابة: لأبي أبي الأم الثلث، ولأبي أم الأب الثلثان. أبو ام أم، وأبو أم أب، المال بينهما نصفين، لأنهما بمنزلة أم أم وأم أب. جد أم أم، وجد أم أب المال بين أبي أم أم الأم، وأبي أم أم الأب نصفين. أبو أبي أم، وأبو أم أب، المال لأبي أم الأب. أبو أبي أم أم، وأبو أبي أبي أم، وأبو أبي أم أب نصف المال بين أبوي أبي أم الأم على ثلاثة، والنصف بين أبوي أبي أم الأب على ثلاثة؛ لأنك إذا نزلت أبوي أبي أم الأم صار في أول درجته بمنزلة أبي أم أم وهي وارثة، وإذا نزلت أبوي أبي أم الأب صار في أول درجته بمنزلة أبي أم أب ثم بمنزلة أم أب وهي وارثة، فهاتان جدتان المال بينهما نصفان نصف لأم الأم يرثه عنها أبوها ثم يرث عن ابنها أبواه، وكذلك النصف الذي لأم الأب يرثه عنها أبوها ثم يرث عن أبيها أبواه، وأما أبو أبي أبي الأم فبعد درجتين يصير أبا أم وليس بوارث؛ فلذلك لم يرثها، فهذا هو المشهور من قول المنزلين، والصحيح مذاهبهم. أما أبي أبي أم، وأبو أم أبي أم، وأبو أبي أم أب، وأبو أبي أم أم، النصف بين أبوي أبي أم الأم على ثلاثة، والنصف بين أبوي أبي أبي أم الأب على ثلاثة؛ لأن أبوي أبي أم الأم في أول درجته بمنزلة أبي أم أم ثم بمنزلة أم أم وهي وارثة وأبو أبي أم الأب في أول درجة بمنزلة أم أب وهي وارثة. فصار معك بعد درجتين جدتان: أم أم، وأم أب وأما أبو أبي أبي أم فبعد درجتين أبو أم وليس بوارث، وأما أبو أم أبي أم فبعد درجتين أيضًا أبو أم وليس بوارث، فأما على قول من أمات السبب فجعل كلها نصف على ستة السدس وما بقي على ما ذكرنا والله أعلم بالصواب. فصل: في توريث الزوج والزوجين مع ذوي الأرحام اختلف من قال بتوريث ذوي الأرحام فيهم إذا دخل معهم زوج أو زوجة هل يعتبر إدخالهما مع من يدلي بذوي الفروض منهم والعصبات أم لا؟ ويكون الباقي بعد فرض الزوج والزوجة كتركة تستأنف قسمتها بينهم على قدر ما يدلون من ذي فرض أو تعصيب على قولين: أحدهما: وهو قول محمد بن الحسن والحسن بن زياد اللؤلؤي، وأبو عبيد القاسم بن سلام: أن الزوج والزوجة يعطيان فرضهما ويخرجان ويقسم الباقي بين ذوي الأرحام على قدر فروضهم كأن لا زوج معهم ولا زوجة. والقول الثاني: وهو قول يحيي بن آدم وضرار بن صرد ومن تابعها: أن الزوج والزوجة يدخلان على ذوي الأرحام ويقسم الباقي بعد فرض الزوج والزوجة على قدر سهام من يدلون به من الزوج والزوجة.

مثاله: زوج، وبنت بنت، وخالة، وبنت أخت، فعلى قول من قال بالإخراج: يأخذ الزوج النصف، ويقسم الباقي على ستة أسهم: لبنت البنت النصف ثلاثة أسهم وللخالة السدس سهم واحد، والباقي وهو سهمان لبنت الأخت وتصح من اثني عشر سهمًا، وعلى قول من قال بالإدخال أنهم بعد التنزيل يصيرون زوجًا، وأمًا، وبنتًا وأختًا فتكون من اثني عشر للزوج الربع ثلاثة أسهم وللأم السدس سهمان، وللبنت النصف ستة أسهم، وللأخت ما بقي وهو سهم ثم أجمع سهام الأم والبنت والأخت وهي تسعة وأعط الزوج النصف سهمًا من اثنين ثم اقسم الباقي على تسعة أسهم لا تنقسم فاضرب تسعة في اثنين تكن ثمانية عشر للزوج النصف تسعة أسهم، ولبنت البنت ستة أسهم، وللخالة سهمان، ولبنت الأخت سهم والفرق إنما يقع بين الإدخال والإخراج فيما يورث بفرض وتعصيب، فأما إن كان بفرض وحده أو تعصيب وحده فلا فرق بين الإدخال والإخراج. زوجة وبنت وبنت، وبنت بنت ابن، وبنت عم. فعلى قول من قال بالإخراج: للزوجة الربع والباقي على ستة أسهم لبنت البنت نصفه ثلاثة أسهم ولبنت بنت الابن سدسه سهم ولبنت العم باقيه وهو سهمان، وتصح من ثمانية أسهم، وعلى قول من قال بالإدخال جعلهم بعد التنزيل زوجة، وبنتًا وبنت ابن، وعمًا فتكون من أربعة وعشرين للزوجة الثمن ثلاثة، وللبنت النص 2 ف اثني عشر ولبنت الابن السدس أربعة والباقي لبنت العم وهو خمسة فاجمع سهام من ذوي الزوجة تكن أحدًا وعشرين سهمًا ثم أعط الزوجة الربع واقسم الباقي وهو ثلاثة أرباع المال على احد وعشرين سهمًا لا تنقسم لكن توافق بالأثلاث إلى سبعة فاضربها في الأصل وهو أربعة تكن ثمانية وعشرون: للزوجة منها الربع سبعة أسهم، والباقي وهو واحد وعشرون سهمًا لبنت البنت منها اثنا عشر ولبنت بنت الابن أربعة ولبنت العم خمسة. زوج وثلاث بنات ثلاثة إخوة متفرقين فعلى قول من قال بالإخراج للزوج النصف والباقي على ستة أسهم لبنت الأخ للأم سدسه سهم، وباقيه وهو خمسة أسهم لبنت الأخ للأب والأم وتصح من اثني عشر سهمًا. وعلى قول من قال بالإدخال: للزوج النصف ولبنت الأخ من الأم سدس جميع المال والباقي لبنت الأخ للأب والأم وتصح من ستة أسهم. زوج هو ابن خال، وبنت بنت عم، على قول من قال بالإخراج للزوج النصف وله سدس الباقي، وما بقي لبنت العم وتصح من اثني عشر للزوج سبعة ولبنت بنت العم خمسة، وعلى قول من قال بالإدخال: للزوج النصف، وله سدس جميع المال، وما بقي لبنت بنت العم، وتصح من ستة أسهم للزوج أربعة، ولبنت بنت العم سهمان.

زوجة هي بنت عم، وبنت أخت. على قول من قال بالإخراج للزوجة الربع، ولبنت الأخت نصف ما بقي والباقي للزوجة لكونها بنت عم،÷ وتصح من ثمانية أسهم للزوجة خمسة أسهم، ولبنت الأخت ثلاثة أسهم وعلى قول من قال بالإدخال: للزوجة الربع ولبنت الأخت نصف جميع المال، والباقي للزوجة فيصير المال بينهما نصفين. فصل: في توريث من يدلي بقرابتين ابن بنت بنت هو ابن ابن بنت أخرى، وبنت بنت بنت واحدة على قول أهل التنزيل: للابن النصف بقرابة أبيه، وله الثلث بقرابة أمه، وللبنت وهي أخته من أمه السدس، وتكون من ستة للابن خمسة، وللبنت سهم، لأنهما في التنزيل بمنزلة بنتين أخذتا المال نصفين ثم تركت إحداهما ابنًا فصار النصف له، وأما الأخرى فتركت بنتًا صار النصف إليها، ثم تركت البنت ابنًا وبنتًا فصار النصف بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين فصار إلى الابن النصف عن جدته أم أبيه والثلث عن جدته أم أمه، وصار إلى جدته السدس عن جدتها أم أمها، وقول أبي حنيفة ومحمد، وعلى قول أبي يوسف: للذكر أربعة أخماس، وللأنثى خمس، لأنه يجعل من يدلي بقرابتين كشخصين. بنتا أخت لأم إحداهما بنت أخ لأب، وبنت أخت لأم وأب، وهي من اثني عشر، لبنت الأخت من الأب والأم النصف ستة، ولبنت الأخ من الأب أربعة بقرابة أبيها، وسهم بقرابة أمها، فصار لها خمسة، ولأختها سهم؛ لأنهم بمنزلة أخت لأب وأم وأخت لأم وأخ لأب. بنتا بنت أخت لأب، وإحداهما هي بنت ابن أخت لأب، والأخرى هي بنت ابن أخ لأم، هي من عشرة أسهم للتي هي بنت ابن أخت ثلاثة أسهم بأمها وسهمان بأبيها، ولأختها كذلك، فيصير المال بينهما نصفين؟ لأنهما بمنزلة أخت لأب وأم وأخت لأب، وأخ لأم، فكان المال على خمسة: ثلاثة أسهم منها وهي سهام الأخت للأب والأم صارت إلى بنتي بنتيها، وسهم الأخت من الأب صار إلى بنت أبيها، وسهم الأخ من الأم صار إلى بنت ابن. خالتان من أم إحداهما هي عمة من أب، وعم من أم هو خال من أب، هي من ثمانية عشر، للخالة التي هي عمة من أب تسعة أسهم بأنها عمة وسهم بأنها خالة، ولأختها سهم، وللعم ثلاثة أسهم بأنه عم من أم، وله أربعة أسهم بأنه خال من أب، لأنهم ينزلون بمنزلة خالتين من أم، وخال من أب، وعمة من أب وعم من أم فكان الثلث بين الخالتين من الأم والخال من الأب على ستة، والثلثان بين العمة من الأب والعم من الأم على أربعة فصحت من ثمانية عشر سهمًا لبنت ابن الخال الأب التي هي بنت عم من أم ستة أسهم بأمها وسهم أبيها، ولأختها التي هي بنت خالة من أب سهم بأبيها وسهم

بأمها؛ لأنها بمنزلة خال وخالة من أب وعم من أم، فكان الثلث على ثلاثة وصحت من تسعة وبالله التوفيق. فصل: في الرد وهذا إنما يكون عند نقصان الفروض عن استيعاب المال والخلاف فيه كالخلاف في ذوي الأرحام. فالشافعي رحمه الله يمنع من الرد مع وجود بيت المال وبه قال من الصحابة: زيد بن ثابت رضي الله عنه ومن التابعين: عروة بن الزبير،÷ وسليمان بن يسار ومن الفقهاء: مالك والزهري والأوزاعي وداود وأبو ثور وذهب أبو حنيفة وأهل العراق إلى الرد، وبه قال علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس، رضي الله عنهم، وقد قدمنا في الدليل على تقديم بيت المال على ذوي الأرحام والرد على أصحاب الفرائض بقية المال إذا لم تكن عصبة إذا كان بيت المال موجودًا، فأما إذا عدم بيت المال فالضرورة تدعو إلى الرد كما دعت إلى توريث ذوي الأرحام. واختلف القائلون بالرد في كيفية الرد فكان علي بن أبي طالب عليه السلام يرد على كل ذي سهم بقدر سهمه إلا على الزوج والزوجة وهو الذي يعمل عليه ويفتي به. وروي عن النخعي أنه كان لا يرد على الجد وليس بصحيح. وكان عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يرد على كل ذي سهم بقدر سهمه إلا على الزوج والزوجة، وكان لا يرد على أربع مع أربع: على بنت الابن مع بنت الصلب، وعلى الأخت للأب مع الأخت للأب والأم، وعلى ولد مع الأم، وعلى الجد مع ذي سهم من ذوي الأرحام. وكان عبد الله بن عباس يرد على كل ذي سهم بقدر سهمه إلا على الزوج والزوجة والجد. من مسائل الرد: إذا ترك أمًا، وبنتًا، فللأم السدس، وللبنت النصف والباقي رد عليهما فيصير المال بينهما على أربعة. ولو ترك أمًا، وأختًا، كان للأم الثلث وللأخت النصف والباقي رد عليهن فيصير المال بينهن على خمسة. ولو ترك أمصا وبنتين، كان للأم السدس، وللبنين الثلثان والباقي رد عليهن، فيصير المال بينهن على خمسة. ولو ترك زوجة، وأختًا لأم، وأختًا لأب وأم كان للزوجة الربع وللأخت للأم السدس، وللأخت للأب والأم النصف ويبقى نصف سدس يرد على الأختين دون الزوجة

فيصير الباقي بعد ربع الزوجة وهو ثلاثة أرباع المال بين الأختين على أربعة وتصح من ستة عشر سهمًا. ولو ترك زوجًا، وأمًا، وبنتًا كان للزوج الربع، وللأم السدس، وللبنت النصف، والباقي رد على الأم والبنت فيصير الباقي بعد ربع الزوج بين الأم والبنت على أربعة وتصح من ستة عشر كالمسألة قبلها. ولو ترك بنتًا، وبنت ابن، كان للبنت النصف، ولبنت الابن السدس، والباقي رد عليهما على قول علي عليه السلام ويقسم المال بينهما على أربعة أسهم. وعلى قول ابن مسعود يرد على البنت فيكون لبنت الابن السدس والباقي للبنت بالفرض والرد وتصح من ستة وهكذا القول في أخت لأب وأم وأخت لأب أو لأم. ولو ترك جدًا، وبنتًا، وبنت ابن فعلى قول علي عليه السلام: المال بينهم على خمسة، وعلى قول ابن مسعود رضي الله عنه للجدة السدس، ولبنت الابن السدس، والباقي للبنت بالفرض والرد، وتصح من ستة. وعلى قول ابن عباس: للجدة السدس، والباقي بين البنت وبنت الابن على أربعة، وتصح من أربعة وعشرين ثم على قياس هذا يكون الرد وبالله التوفيق. آخر كتاب الفرائض والحمد الله كثيرًا. تم الجزء السابع بتقسيم المحقق ويليه إن شاء الله الجزء الثامن وأوله: كتاب الوصايا

بحر المذهب في فروع المذهب الشافعي تأليف القاضي العلامة فخر الإسلام شيخ الشافعية الإمام أبي المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني المتوفى سنة 502 هـ تحقيق طارق فتحي السيد الجزء الثامن يحتوي على الكتب التالية: الوصايا- العتق- الولاء- المدبر- المكاتب

كتاب الوصايا

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الوصايا إن الله تعالى قدر لخلقه آجالًا وبسط لهم فيها آمالًا، ثم أخفي عليهم حلول آجالها وحذرهم غرور آمالهم، فحقيق على الإنسان أن يكون مباهيًا للوصية حذرًا من حلول المنية. قال الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إن تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًا عَلَى المُتَّقِينَ (180)} [البقرة: 180] {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} [البقرة: 181] إلى قوله تعالى: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 182]. أما قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} فيعني: فرض عليكم. وقوله: {إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ} يعني أسباب الموت. {إن تَرَكَ خَيْرًا}: يعني مالًا. قال مجاهد: الخير في الق {آن كله المال: {وإنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} [العاديات: 8]. المال. فقال: {إنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32] المال. {فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] المال. وقال شعيب: {إنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ} [هود: 84] يعني: الغني. وقال الشافعي: الخير كلمة تعرف ما أريد بها المخاطبة. قال الله تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ} [البينة: 7]. فقلنا: إنهم خير البرية بالإيمان والأعمال الصالحة لا بالمال. وقال تعالى: {أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ}. فقلتا. إن الخير المنفعة بالأجر، وقال: {إن تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ} فقلنا: إنه إن ترك مالًا؛ لن المال هو المتروك. ثم قال: {الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} وفي الأقربين في هذا الموضع ثلاث تأويلات: أحدها: أنهم الأولاد الذين لا يسقطون في الميراث، دون غيرهم من الأقارب الذين يسقطون. والثاني: أنهم الورثة من الأقارب كلهم. والثالث: أنهم كل الأقارب من وارث وغير وارث. فدل ذلك على وجوب الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف. واختلفوا في ثبوت حكمها: فقال بعضهم: كان حكمها ثابتًا في الوصية للوالدين والأقربين حقًا واجبًا، وفرضًا لازمًا، فلما نزلت آية المواريث نسخ منها الوصية للوالدين وكل وارث، وبقي فرض الوصية لغير الورثة في الأقربين على حالة، وهو قول طاوس، وقتادة، والحسن البصري، وجابر بن زيد.

فإن وصى بثلثه لغير قرابته فقد اختلفوا: فقال طاوس: يرد الثالث كله على قرابته. وقال قتادة: يرد ثلث الثلث على قرابته، وثلثا الثلث لمن أوصى له به. وقال جابر بن زيد: رد ثلثا الثلث على قرابته وثلث الثلث لمن أوصى به. واختلفوا في قدر المال الذي يجب عليه أن يوصي منه على أقاويل: أحدها: أنه ألف درهم، وتأولوا قوله تعالى: {إن تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180] ألف درهم، وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه. والثاني: خمس مائة، وهذا قول النخعي. والثالث: يجب في قليل المال وكثيره وهو قول الزهري. فهذا قول من جعل حكم الآية ثابتًا. وذهب الفقهاء وجمهور أهل التفسير إلى أنها منسوخة بالمواريث. واختلفوا بأية أي نسخة؟ فقال عبد الله بن عباس: نسخت بآية الوصايا بقوله تعالى: {لِلرِجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوَالِدَانِ والأَقْرَبُونَ} [النساء: 7] وقال آخرون: نسخت بقوله تعالى: {وأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأنفال: 75] وسنذكر دليل من أثبتها ومن نسخها فيما بعد. ثم قال: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 182]. وأصل الجنف في كلام العرب: الجور والعدل عن الحق. ومنه قول الشاعر: هم المولى وقد جنفوا علينا وإنا من لقائهم لزور وفي تأويل قوله تعالى: جنفًا أو إثمًا ثلاثة أقاويل: أحدهما: أن الجنف: الميل، والإثم، أن يأثم في إثره بعضهم على بعض وهذا قول عطاء وابن دريد. والثاني: أن الجنف: الخطأ، والإثم: العمد. والثالث: أن الرجل يوصي لولد بنيه، وهو يرد بنيه، وهذا قول طاوس. واختلفوا في تأويل قوله تعالى: {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إثْمَ} [البقرة: 182] على أربعة أوجه: أحدهما: أنه تأويلها فمن حضر مريضًا وهو يوصي عند إشرافه على الموت فخاف أن يخطئ في وصيته، فيفعل ما ليس له، أو يعمد جورًا فيها فيأمر بما ليس له، فلا حرج على من حضره فسمع ذلك منه أن يصلح بينه وبين ورثته، بأن يأمره بالعدل في وصيته، وهذا قول مجاهد. والثاني: أن تأويلها فمن خاف من أوصياء الميت جنفًا في وصيته التي أوصى بها الميت، فأصلح بين ورثته، وبين الموصى لهم، فيما أوصى لهم به، فيرد الوصية إلى العدل والحق، فلا إثم عليه، هذا قول ابن عباس وقتادة. والثالث: أن تأويلها فمن خاف من موصٍ جنفًا أو إثمًا في عطيته لورثته عند حضور

أجله، فأعطى بعضهم دون بعض، فلا إثم على من أصلح بين الورثة في ذلك. وهذا قول عطاء. والرابع: أن تأويلها فمن خاف من موصٍ جنفًا أو إثمًا في وصيته لمن لا يرثه لم يرجع نفعه على من يرثه فأصلح بين ورثته فلا إثم عليه وهذا قول طاوس. وقال تعالى: {مِنْ بَعْدِ وصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وصِيَّةً مِّنَ اللَّهِ} [النساء: 12] فلا ضرار في الوصية أن يوصي بأكثر من الثلث، والإضرار في الدين أن يبيع بأقل من ثمن المثل. ويشتري بأكثر منه. وقد روي عكرمة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الإضرار في الوصية من الكبائر». وقال تعالى: {ووَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ} [البقرة: 132] الآية. وروي الشافعي عن مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته عند رأسه مكتوبة». وروي شهر بن حوشب عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة سبعين سنة، ثم يوصي، فيجنف في وصيته فيختم له بشر عمله، وإن الرجل يعمل عمل أهل النار سبعين سنة، ثم يوصي فيعدل في وصيته، فيختم له بخير عمله». وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أعجز الموصي أن يوصي كما أمره الله». وروي أبو قتادة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دخل المدينة، سأل عن البراء بن معرور، فقالوا: هلك وأوصي لك بثلث ماله، فقبله، ورده على ورثته وقيل: إنه كان أول من أوصى بالثلث، وأول من وصي بأن يدفن إلى القبلة، ثم صارا جميعًا سنة متبوعة. والوصية على ثلاثة أقسام: قسم لا يجوز، وقسم يجوز ولا يجب، وقسم مختلف في وجوبها. فأما الذي لا يجوز: فالوصية للوارث. وروي شرحبيل بن مسلم قال: سمعت أبا أمامة قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: «إن الله تعالى قد أعطي كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث» وأما التي تجوز ولا

تجب، فالوصية للأجانب، وهذا مجمع عليه، فقد أوصى البراء بنمعرور للنبي - صلى الله عليه وسلم - بثلث ماله فقبله، ثم رده على ورثته. وأما التي اختلف فيها: فالوصية للأقارب. ذهب أهل الظاهر من قدمنا ذكره في تفسير الآية إلى وجوبها للأقارب، تعلقًا بظاهر قوله تعالى: {الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًا عَلَى المُتَّقِينَ} [البقرة: 180] وبما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من مات من غير وصية، مات ميتة جاهلية». وبقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته عنده مكتوبة». والدليل على أنها غير واجبة للأقارب والأجانب، ما روي ابن عباس وعائشة، وابن أبي ليلي رضي الله عنهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوص. وروي الشافعي عن سفيان عن الزهري عن عامر بن سعد عن أبيه سعد بن أبي وقاص قال: «مرضت عام الفتح مرضًا أشرفت منه على الموت، فأتاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعودني فقلت: يا رسول الله: إن لي مالًا كثيرًا، وليس يرثني إلا ابني، أفأتصدق بثلثي مالي؟ قال: لا، قلت: فبالشطر. قال: لا. قلت: فالثلث؟ قال: الثلث. والثلث كثير. إنك إن تدع ورثتك أغنياء خيرًا من أن تدعهم عالة يتكففون الناس». فاقتصر به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الوصية على ما جعله خارجًا مخرج الجواز، لا مخرج الإيجاب. ثم بين أن غني الورثة بعده أولى من فقرهم. وروي أبو زرعة عن أبي هريرة قال: قال رجل للنبي - صلى الله عليه وسلم - يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: «أن تتصدق وأنت صحيح حريص، تأمل الغني وتخشي الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت لفلان كذا، ولفلان كذا، وقد كان لفلان». فلما جعل الصدقة في حال الصحة أفضل منها عند الموت، ثم لم تكن في حال الصحة واجبة، فأولى أن لا تكون عند الموت واجبة. وروي ابن أبي ذؤيب عن شرحبيل عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «لأن يتصدق المرء في حياته بدرهم، خير له من أن يتصدق بمائة عند موته» ولأن الوصية لو وجبت لأجبر عليها، ولأخذت منه ماله إن امتنع منها، كالديون والزكوات ولأن الوصايا عطايا فأشبهت الهبات. فأما الآية: فمنع الوالدين من الوصية مع تقديم ذكرها فيها، دليل على نسخها وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من مات من غير وصية مات ميتة جاهلية» فمحمول على أحد أمرين، وأما على من كانت عليه ديون حقوق لا يوصل إلى أربابها إلا بالوصية، فتصير الوصية ذكرها وأدائها واجبة.

وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» فهذا خارج منه مخرج الاحتياط ومعناه ما الحزم لامرئ. على أن نافعًا قال لابن عمر بعد أن روي هذا الحديث حين حضره الموت: هلا أوصيت؟ قال: أما مالي، فالله أعلم ما كانت أفعل فيه في حياتي، وأما رباعي، ودوري، فما أحب أن يشارك ولدي فيها أحد. فلو علم وجوب الوصية لما رواه لما تركها. فصل: فإذا ثبت ما وصفنا من جواز الوصية دون وجوبها فالوصية تشتمل على أربعة شروط: وهي: موصي، وموصى له، وموصي به، وموصي إليه. فأما الفصل الأول: وهو الموصي فمن شرطه أن يكون مميزًا، حرًا، فإذا اجتمع فيه هذان الشرطان صحت وصيته في ماله مسلمًا كان أو كافرًا. فأما المجنون، فلا تصح وصيته، لأنه غير مميز، وأما الصبي فإن كان طفلًا غير مميز فوصيته باطلة. وإن كان مراهقًا ففي جواز وصيته قولان: أحدهما: لا يجوز. وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني لارتفاع القلم عنه كالمجنون ولأن الوصية عقد فأشبهت سائر العقود. والقول الثاني: وبه قال مالك أن وصيته جائزة لرواية عمرو بن سليم الزريقي قال: «سئل عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عن غلام يبلغ من غسان أوصي لبنت عمه وله عشر سنين، وله وارث ببلد آخر، فأجاز عمر -رضي الله عنه- وصيته، ولأن المعني الذي لأجله منعت عقوده هو المعني الذي لأجله أمضيت وصيته، لأن الحظ له في منع العقود، لأنه لا يتعجل بها نفعًا، ولا يقدر على استدراكها إذا بلغ. والحظ له في إمضاء الوصية، لأنه إن مات فله ثوابها وذلك أحظ له من تركه على ورثته. وإن عاش وبلغ، قدر على استدراكها بالرجوع فيها فعلي هذا: لو أعتق في مرضه، أو حابي، أو وهب ففي صحة ذلك وجهان: أحدهما: أنه صحيح ممضي، لأن ذلك وصية تعتبر في الثلث. والوجه الثاني: أنه باطل مردود، لأن الوصية يقدر على الرجوع فيها إن صح والعتق والهبة لا يقدر على الرجوع فيها إن صح. فأما وصية المحجور عليه بسفه، فإن قيل بجواز وصية الصبي، فوصية السفيه أجوز، وإن قيل ببطلان وصية الصبي، كانت وصية السفيه على وجهين، لاختلافهم في تعليل وصية الصبي، فإن علل في إبطال وصيته بارتفاع القلم عنه جازت وصية السفيه لجريان القلم عليه، وإن علل في إبطال وصية الصبي بإبطال عقوده، بطلت وصية السفيه لبطلان عقوده.

وأما المحجور عليه بالفلس، فإن ردها الغرماء بطلت، وغن أمضوها جازت فإن قلنا: إن حجر الفلس كحجر المرض صحت. وإن قلنا: إنه كحجر السفيه كانت على وجهين. وأما العبد فوصيته باطلة. وكذلك المدير، وأم الولد، والمكاتب، لأن السيد أملك منهم لما في أيديهم. فأما الكافر: فوصية جائزة، ذميًا كان أو حربيًا، إذا وصي بمثل ما وصي به المسلم. فأما الفصل الثاني: في الموصي له. فتجوز الوصية لكل من جاز الوقف عليه، من صغير وكبير، وعاقل ومجنون وموجود ومعدوم، إذا لم يكن وارثًا، ولا قاتلًا. فأما الوارث فلقوله عليه السلام: «لا وصية لوارث» ولو وصي لأحد ورثته، كان في الوصية قولان: أحدهما: باطلة إذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهي إلا أن يستأنفه الورثة الباقون هبتها له بعد محضة لا تجري فيها حكم الوصية. وهذا قول المزني. والثاني: أنها موقوفة على إجازة الباقين من الورثة، كالوصية بما زاد على الثلث، فإن أجازها الباقون من الورثة: صحت، وإن ردوها رجعت ميراثًا وكان الموصي له به كأحدهم، يأخذ فرضه منها، وإن أجازها بعضهم وردها بعضهم صحت الوصية في حصة من أجازه، وكان الموصي له في الباقي منها وارثًا من رده. ثم هل تكون إجازتهم على هذا القول ابتداء عطية منهم أو إمضاء على قولين. وعلى كلا القولين لا تفتقر إلى بذل وقبول بخلاف القول الأول. فصل: وأما الوصية للقاتل ففيها قولان: أحدهما: وهو مذهب مالك أنها جائزة وإن لم يرث، كما تجوز الوصية للكافر وإن لم يرث، ولأنه تمليك يراعي فيه القبول، فلم يمنع منه القتل كالبيع. وأما القول الثاني: وبه قال أبو حنيفة: الوصية باطلة لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: «ليس للقاتل وصية»، ولأنه مال يملك بالموت، فاقتضي أن يمنع منه القاتل كالميراث، على أن الميراث أقوى التمليكات، فلما منع منه القتل كان أولى أن يمنع من الوصية. فإذا تقرر هذان القولان، فلا فرق أن يوصي له بعد جرحه إياه وجنايته عليه، وبين أن يوصي له قبل الجناية ثم يجني عليه فيقتله في أن الوصية على قولين. ولكن لو قال الموصي، وليس بمجروح: قد وصيت بثلث مالي لم يقتلني فقتله رجل لم تصح الوصية قولًا واحدًا لأمرين: أحدهما: لأنها وصية عقد على معصية. والثاني: أن فيها إغراء بقتله.

فإن وصى بثلثه لقاتل زيد، فإن كان قبل القتل، لم يجز لما ذكرنا وإن كان بعد قتله جاز، وكان القتل تعريفًا. وهكذا لو وهب في مرضه لقاتله هبة أو حاباه في بيع أو أبرأه من حق فكل ذلك على قولين، لأنها وصية له تعتبر من الثلث. وهكذا لو أعتق في مرضه عبدًا فقتل العبد سيده، كان له في عقته قولان، لأن عتقه وصية له ولكن لو وهب هبة في صحته، أو أبرأ من حق، أو حابي في بيع، أو أعتق عبدًا ثم إن الموهوب له قتل الواهب، والمبرأ قتل المشتري، والمحابا قتل المحابي، والعبد المعتق قتل سيده، كان ذلك كله نافذًا ماضيًا؛ لأن فعله في الصحة يمنع من إجرائه مجرى الوصية. ولو جرح رجل رجلًا ثم إن المجروح وصي للجارح بوصية، ثم أجهز على الموصي آخر فذبحه جازت الوصية للجارح الأول، لأن الذابح الثاني صار قاتلًا ولو لم يكن الثاني قد ذبحه ولكن لو جرحه صار الثاني والأول قاتلين، فرد الوصية للأول على أحد القولين. وإذا قتل المدبر سيده، فإن قيل إن التدبير وصية، ففي بطلان عتقه قولان، لأنه يعتق من الثلث، ولو قتلت أم الولد سيدها بعد عتقها قولًا واحدًا لأمرين: أحدهما: أن عتقها مستحق من رأس المال. والثاني: أن في استبقائها على حالها إضرار بالورثة لأنهم لا يقدرون على بيعها وخالف استيفاء رق المدبر للقدرة على البيعة، ثم ينظر في أم الولد إذا كان قتلها عمدًا فإن لم يكن ولدها باقيًا، قتلت قودًا، وإن كان باقيًا، سقط القود عنها، لأن ولدها شريك للورثة في القود منها، وهو لا يستحق القود من أمه. فسقط حقه وإذا سقط القود عنها، في حق بعض الورثة سقط في حق الجميع، ولو أن رجلًا وصي لابن قتله، أو لأبيه أو لزوجته ولو أوصي لعبد القاتل لم تجز في أحد القولين، لأنها وصية للقاتل. ولو أقر رجل لقاتله دين، كان إقراره نافذًا قولًا واحدًا، لأن الدين لازم وهو من رأس المال فخالف الوصايا، ولو كان للقاتل على المقتول دين مؤجل حل بموت المقتول، لأن الأجل حق لمن عليه الدين لا يورث عنه، وليس كالمال الموروث، إذا منع القاتل منه صار إلى الورثة، وسواء كان القتل في الوصية عمدًا أو خطأ، كما أن الميراث يمنع منه قتل العمد والخطأ، فلو أجاز الورثة للقاتل، وقد منع منهما في أحد القولين، كان في إمضائها بإجازتهم وجهان من اختلاف قوليه في إمضائهم الوصية للوارث فإن قلنا: إن الوصية للوارث مردودة ولا تمضي بإجازتهم ردت الوصية للقاتل، ولم تمض بإجازتهم. وإن قلنا: إنه يمضي الوصية للوارث بإجازتهم أمضت الوصية للقاتل بإجازتهم. والأصح: إمضاء الوصية للوارث بالإجازة ورد الوصية للقاتل مع الإجازة، لأن حق الرد في الوصية إنما هو للوارث لما فيه من تفصيل الموصي له عليهم فجازت الوصية له بإجازتهم وحق الرد في الوصية للقاتل إنما هو للمقتول، لما فيه من حسم الذرائع المقتضية إلى قتل نفسه، فلم تصح الوصية بإجازتهم. فصل: وأما الوصية للعبد، فإن كان لعبد نفسه لم يجز، لأنها وصية لورثته. وإن

كان لعبد غيره جاز وكانت وصية لسيده، وهل يصح قبول العبد لها بغير إذن سيده على وجهين: أحدهما: تصح، كما يصح أن يملك والاحتشاش بالاصطياد من غير إذن. والثاني: وهو قول أبي سعيد الإصطخري: لا تصح، لأن السيد هو المملك. فعلي الوجه الأول: لو قبلها السيد دون العبد، لم يجز، وعلى الوجه الثاني: يجوز. فأما إذا أوصي لمدبره فالوصية جائزة إذا خرج المدبر من الثلث، لأنه يملكها دون الورثة، لعتقه بموت السيد. ولو خرج بعضه من الثلث دون جميعه، صح من الوصية بقدر ما عتق منه، وبطل منه بقدر ما رق منه. ولو وصي لمكاتبه. كانت الوصية جائزة، لأن المكاتب يملك، فإن عتق بالأداء فقد استقر استحقاقه لها، فإن كان قد أخذها قبل العتق وإلا أخذها بعده، وغن رق بالعجز نظر فإن لم يكن قد أخذها فهي مردودة، لأنه صار عبدًا موروثًا، وإن كان قد أخذها ففيه وجهان: أحدهما: ترد اعتبارًا بالانتهاء في مصيره عبدًا موروثًا. والثاني: لا ترد، اعتبارًا بالابتداء في كونه مكاتبًا مالكًا. فأما الوصية لأم ولده: فجائزة، سواء كان لها ولد وارث أو لم يكن، لأن عتقها بالموت أنفذ من عتق المدبر، ولا يمنع ميراث ابنها من إمضاء الوصية، لأن الوصية لأبي الوارث وابنه جائزة، وقد روي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أوصى لأمهات أولاده. فصل: وأما الوصية للكافر فجائزة، ذميًا كان أو حربيًا. وقال أبو حنيفة: الوصية للحربي باطلة، لأن الله تعالى أباح للمسلمين أموال المشركين، فلم يجز أن يبيع للمشركين أموال المسلمين. وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه لما يمنع شرك الذمي، لم يمنع شرك الحربي من الوصية، كالنكاح. والثاني: أنه لما جازت الهبة للحربي وهو أمضي عطية من الوصية، كان أولى أن تجوز له الوصية، وسواء كان الموصي مسلمًا، أو كافرًا. فأما وصية المرتد فعلي ثلاثة أقسام. ذكرناها في كتاب الوقف: أحدها: أن يوصي لمن يرتد عن الإسلام. فالوصية باطلة لعقدها على معصية. والثاني: أن يوصي بها لمسلم فيرتد عن الإسلام بعد الوصية له. الوصية جائزة، لأنها وصية صادفت حال الإسلام. والثالث: أن يوصي بها لمرتد معين ففي الوصية وجهان: أحدهما: باطلة.

والثاني: جائزة. فصل: فأما الوصية للميت: فإن ظنه الموصي حيًا، فإذا هو ميت، فالوصية باطلة. وإن علمه ميتًا حين الوصية: فقد أجازها مالك وجعلها للورثة، لأن علمه بموته يصرف قصده إلى ورثته. وهذا فاسد، والوصية باطلة، لأنه لو وهب للميت مع علمه بموته كانت الهبة باطلة فكذلك الوصية أولى. والله أعلم. فصل: وأما الوصية لمسجد، أو رباط، أو قنطرة، فجائزة، وتصرف في عمارته، لأنه لما انتفي الملك عن هذا كله توجهت الوصية إلى مصالحهم. وأما الوصية للبيع، والكنائس، فباطلة، لأنها مجمع معاصيهم. وكذلك الوصية بكتب التوراة والإنجيل، لتبديلها وتغييرها. وسواء كان الموصي مسلمًا أو كافرًا، وأجازها أبو حنيفة من الكافر دون المسلم، كما أجاز وصيته بالخمر والخنزير. وهذا فاسد لقوله تعالى: {وأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]. وأما الفصل الثالث: من الموصي به. فهو كل ما جاز الانتفاع به من مال ومنفعة، جازت الوصية به، وسواء كان المال عينًا، أو دينًا حاضرًا، أو غائبًا، معلومًا، أو مجهولًا، مشاعًا أو مفرزًا. ولا تجوز الوصية بما لا يجوز الانتفاع به. من عين أو منفعة كالخمر والخنزير والكلب غير المعلم. وهو مقدر بالثلث، وليس للموصي الزيادة عليه لقوله - صلى الله عليه وسلم - لسعد: «الثلث، والثلث كثير» وأولى الأمرين به أن يعتبر حال ورثته، فإن كانوا فقراء، كان النقصان من الثلث أولى من استيعاب الثلث، وقد روي عن علي عليه السلام أنه قال: «لأن أوصي بالسدس أحب إلى من أن أوصي بالربع، والربع أحب إلى من الثلث وإن كان ورثته أغنياء، وكان في ماله سعة، فاستيفاء الثلث أولى به». وقد روي عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: «الثلث وسط، لا بخس فيه ولا شطط». ولو استوعب الثلث من قليل المال وكثيره، مع فقر الورثة، وغناهم، وصغرهم، وكبرهم، كانت وصية ممضاة به. وأما الزيادة على الثلث: فهو ممنوع منها في قليل المال وكثيره؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - منع سعدًا من الزيادة عليه وقال: «الثلث، والثلث كثير». فإن وصي بأكثر من الثلث أو بجميع ماله، نظر: فإن كان له وارث: كانت الوصية موقوفة على إجازته ورده فإن ردها رجعت الوصية إلى الثلث. وإن أجازها صحت، ثم فيها قولان. أحدهما: أن إجازة الورثة ابتداء: عطية منهم، لا تتم إلا بالقبض، وله الرجوع فيها ما لم يقبض. وإن مات قبل القبض بطلت كالهبة.

والقول الثاني: إجازة الورثة إمضاء لفعل الموصي، فلا تفتقر إلى قبض، وتتم بإجازة الوارث، وقبول الموصي له، ليس الرجوع بعد الإجازة، ولا تبطل الوصية بموته بعد إجازته، وقبل إقباضه. فصل: وإن لم يكن للميت وارث، فأوصي بجميع ماله: ردت الوصية إلى الثلث والباقي لبيت المال وقال أبو حنيفة: وصيته إذا لم يكن له وارث نافذة في جميع ماله، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما منع سعدًا من الزيادة على الثلث قال: «لأن تدع ورثته أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس» فجعل المنع من الزيادة حقًا للورثة، فإذا لم يكن له وارث سقط المنع. وبما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: «من لا وارث له وضع ماله حيث شاء» ولأن من جازت له الصدقة بجميع ماله، جازت وصيته بجميع ماله. ودليلنا ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إن الله تعالى أعطاها عند وفاتكم ثلث أموالكم، وزيادة في أعمالكم»، ولأن الأنصاري أعتقد ستة مملوكين له، لا مال له غيرهم، فجزأهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين، وأرق أربعة» ولم يكن له وارث ولأنه لو كان له وارث، لوقف على إجازته، ولأن مال من لا وارث له يصير إلى بيت المال إرثًا لأمرين: أحدهما: أنه تخلف الورثة في استحقاق ماله. والثاني: أنه يعقل عنه كورثته. فلما ردت وصيته مع الوارث إلى الثلث ردت إلى الثلث مع بيت المال، لأنه وارث، وقد تحرر منه قياسان: أحدهما: أن كل جهة استحقت التركة بالوفاة، منعت من الوصية بجميع المال كالورثة. والثاني: أن ما منع من الوصايا مع الورثة. منع منها مع بيت المال، كالديون فأما الجواب عن قوله - صلى الله عليه وسلم -: «لأن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة». فهو أنه لم يجعل ذلك تعليلًا، لرد الزيادة على الثلث، ولو كان ذلك تعليلًا لجازت الزيادة على الثلث مع غناهم، إذا لم يصيروا عالة يتكففون الناس، وإنما قال صلة الكلام وتنبيهًا على الخط. وأما قول ابن مسعود: يضع ماله حيث يشاء، فما له الثلث وحده. وله وضعه حيث شاء. وأما الصدقة فهي كالوصية، إن كانت في الصحة أمضيت، مع وجود الوارث، وعدمه، وإن كانت في المرض ردت إلى الثلث مع وجود الوارث وعدمه.

فصل: وتجوز الوصية بثلث ماله وإن لم يعلم قدره. واختلف أصحابنا هل يراعي ثلث ماله وقت الوصية أو عند الوفاة؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول مالك، وأكثر البغداديين، أنه يراعي ثلثه وقت الوصية ولا يدخل فيه ما حدث بعده من زيادة، لأنها عقد والعقود لا يعتبر بها ما بعد. والوجه الثاني: وهو قول أبي حنيفة وأكثر البصريين أن يراعي ثلث ماله وقت الموت، ويدخل فيه ما حدث قبله من زيادة، لأن الوصايا تملك بالموت فاعتبر بها وقت ملكها. فعلي هذين الوجهين: إن وصي بثلث ماله ولا مال له ثم أفاد مالًا قبل الموت، فعلي الوجه الأول تكون الوصية باطلة اعتبارًا بحال الوصية. وعلى الوجه الثاني تكون الوصية صحيحة اعتبارًا بحال الموت. وعلى هذين الوجهين: لو وصي بعبد من عبيده، وهو لا يملك عبدًا، ثم ملك قبل الموت عبدًا صحت الوصية إن اعتبر بها حال الموت، وبطلت، إن اعتبر بها حال القول. وعلى هذين الوجهين: لو وصي بثلث ماله، وله مال، فهلك ماله، وأفاد غيره، صحت الوصية في المال المستفاد إن اعتبر بها حال الوصية. وأما الفصل الرابع: في الموصي إليه، فقد أفرد الشافعي للأوصياء بابًا استوفى فيه أحكامهم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «فيما يروي عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من قوله: «ما حق امرئ مسلم» يحتمل ما الحزم لامرئ مسلم «يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده» ويحتمل ما المعروف في الأخلاق إلا هذا لا من جهة الفرض. قال: فإذا أوصي الرجل بمثل نصيب ابنه ولا ابن له غيره فله النصف فإن لم يجز الابن فله الثلث». قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا كان للموصي ابن واحد، فوصي لرجل بمثل نصيب ابنه كانت وصيته بالنصف، وهو قول أبي حنيفة، وصاحبه فإن أجازها الابن، وإلا ردت إلى الثلث. وقال مالك: وهي وصية بجميع المال. وهو قول زفر من الهذليين، وداود بن علي استدلالًا بأن نصيب ابنه إذا لم يكن له غيره، أخذ جميع المال فاقتضي أن تكون الوصية بمثل نصيبه وصية بجميع المال، ولأنه لما كان لو أوصي له بمثل ما كان نصيب ابنه كان ةصيى بجميع ماله إجماعًا. وجب له أوصي له بمثل نصيب ابنه أن يكون وصية بجميع المال حجاجًا. وهذا فاسد من ثلاثة أوجه: أحدها: أن نصيب الابن أصل، والوصية بمثله فرع، فلم يجز أن يكون الفرع رافعًا لحكم الأصل. والثاني: أنه لو جعلنا الوصية بجميع المال لخرج أن يكون للابن نصيب، وإذا لم

يكن للابن بطلت الوصية التي هي بمثله. والثالث: أن الوصية بمثل نصيب الابن فوجب التسوية بين الموصي له وبين ابنه فإذا وجب ذلك كانا فيه نصفين وفي إعطائه الكل إبطاله للتسوية بين الموصي له وبين الابن. وأما الجواب عن قولهم: إن نصيب الابن كل المال فهو أن له الكل مع عدم الوصية وأمان مع الوصية فلا يستحق الكل. وأما قوله وصيت لك بمثل ما كان نصيب ابني فيكون وصية بالكل، والفرق بينهما، أنه إذا قال بمثل نصيب ابني فقد جعل له مع الوصية نصيبًا، فكذلك كانت بالكل. فصل: فعلى هذا لو قال: قد وصيت له بنصيب ابني، فالذي عليه جمهور أصحابنا أن الوصية باطلة، وهو قول أبي حنيفة، لأنها وصية بما لا يملك، لأن نصيب الابن ملكه، لا ملك أبيه. وقال بعض أصحابنا: الوصية جائزة: وهو قول مالك ويجري بها مجري قوله بمثل نصيب ابني ولا ابن له فيجعلها وصية بالنصف وعند مالك بالكل ولو أوصى بمثل نصيب ابنه، ولا ابن له، كانت الوصية باطلة. وكذلك لو كان ابن قاتل أو كافر، لأنه لا نصيب له، والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ولو قال بمثل نصيب أحد ولدي فله مع الاثنين الثلث ومع الثلاثة الربع حتى يكون كأحدهم». قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا أوصي وله أولاد ذكور لرجل بمثل نصيب أحدهم فللموصي له مع الاثنين الثلث، لأنه يصير كابن ثالث، ومع الثلاثة الربع؛ لأنه يصير كابن رابع، ومع الأربعة الخمس؛ لأنه يصير كابن خامس، ومع الخمسة السدس، ويصير كابن سادس. ثم كذلك ما زار ليصير كأحدهم، ولا يفضل عليهم. وعلى قول مالك يكون له مع الاثنين النصف ومع الثلاثة الثلث، ومع الأربعة الربع. وقد ذكرنا وجه فساده، مع ما فيه من تفصيل الموصي له على ابنه وهو إنما أوصي له بمثل نصيب أحدهم. فصل: فلو كان له ثلاثة بنين، فأوصي لرجل بمثل نصيب أحدهم، والآخر بما بقي من ثلثه، زدت على عدد الفريضة مثل نصفها، وهي ثلاثة أسهم ليصح لك ثلثها، لأن كل عدد زدت عليه مثل نصفه خرج ثلثه، فإذا زدت على الثلاثة مثل نصفها، صارت أربعًا ونصفًا فليبسطها من جنس الكسر أيضًا فليخرج كسرها تكن تسعة، الثلثان منها ستة بين البنين الثلاثة لكل واحد منهم سهمان. والثلاث ثلاثة أسهم، للموصي له بمثل نصيب أحد بنية سهمان، ويبقي سهم يكون للموصي له بباقي الثلث. ولو ترك أربعة بنين وأوصى

لرجل بمثل نصيب أحدهم، والآخر بما بقي من ثلثه، ردت على الأربعة مثل نصفها، تكن ستة، الثلثان منها أربعة بين البنين الأربعة لكل واحد منهم سهم، والثلث سهمان للموصي له بمثل أحدهم سهم، وللوصي له بباقي الثلث سهم. فصل: ولو ترك خمسة بنين، وأوصي لرجل بمثل نصيب أحدهم، ولآخر بما بقي من خمسة، زدت على الخمسة التي هي عدد فريضة البنين مثل ربعها ليصح خمسها؛ لأن كل عدد زدت عليه مثل ربعه كانت الزيادة خمس ما اجتمع من العددين. فعلي هذا: إذا زدت على الخمسة مثل ربعها كانت ستة وربعًا، فأبسطها من جنس الكسر أرباعها تكن خمسة وعشرين، أربعة أخماسها عشرون بين البنين الخمسة لكل واحد منهم أربعة، والخمس خمسة منها للموصي له بمثل نصيب أحدهم، أربعة وللموصي له بباقي الخمس سهم. ولو ترك ستة بنين، وأوصي لرجل بمثل نصيب أحدهم، والآخر بما بقي من ربعه، زدت على الستة مثل ثلثها، وهو اثنان، تكن ثمانية، ثم أخذت ثلاثة أرباعها وهو ستة فجعلته للبنين الستة، لكل واحد منهم سهم، وربعها وهو سهمان جعلت منه للموصي به بمثل نصيب أحدهم سهمًا وللموصي له بباقي الربع سهمًا على هذا. فصل: ولو ترك ثلاثة بنين، وأوصي بمثل نصيب أحدهم، ولآخر بربع ماله وأجاز الورثة ذلك فخذ مالًا له ربع، وهو أربع فاعزل ربعه وهو واحد، ثم أقسم الثلاثة الباقية على أربعة، تكن حصة كل واحد ثلاثة أرباع، فأبسطها من جنس الكسر أرباعًا تكن ستة عشر، للموصي له بالربع أربعة تبقي اثني عشر على أربعة لكل ابن ثلاثة، وللموصي له ثلاثة ثم على هذا القياس. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ولو كان ولده رجالًا ونساءً أعطيته نصيب امرأة ولو كانت له ابنة وابنة ابن أعطيته سدسًا». قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا كان ولد الموصي عددًا من رجال ونساء. فإن كان ولده، رجالًا ونساء كما لو ترك ابنين، وبنتين، ثم وصي لرجل بمثل نصيب أحدهم، فإن وصي له بمثل نصيب الابن: كان له الربع، وكأنه ابن ثالث مع ابنين، فإن وصي له بمثل نصيب البنت كان له السبع، وكأنه بنت ثالثة مع ابنين، وإن أطلق له الوصية بمثل نصيب أحدهم ولم يذكر ابنًا، ولا بنتًا، أعطيته مثل نصيب البنت، لأنه اليقين ولا يعطه مثل نصيب الزوجة وإن كانت أقل ورثته نصيبًا؛ لأنه قال: مثل نصيب إحدى ولدي، وليست الزوجة من ولده، ولكن لو قال مثل نصيب إحدى ورثتي أعطيته مثل نصيب الزوجة، إذا كانت أقل ورثته نصيبًا كما لو ترك زوحة، وابنين وبنتًا، أصلها من ثمانية: للزوجة منها الثمن سهم واحد وللموصي له مثله، فتصير التركة بينهم على تسعة أسهم،

للموصى له سهم، وللزوجة ثمن الباقي سهم وما بقي بين الابن والبنت للذكر مثل حظ الأنثيين. وتصح من تسعة وعشرين. ولو ترك: بنتًا، وبنت ابن، وأخًا، ووصي لرجل بمثل نصيب أحدهم: كان له مثل نصيب بنت الابن، لأن الأقل، وهو السدس، فنصفه إلى فريضة الورثة، وهي ستة، تصير سبعة أسهم، يعطي للموصي له منها سهمًا، وللبنت ثلاثة أسهم، وبنت الابن سهمًا، وللأخ ما بقي وهو سهمان. فلو ترك ثلاث زوجات، وابنًا، وبنتًا، ووصي لرجل بمثل نصيب أحدهم، ففريضة الورثة من أربعة وعشرين سهمًا، للزوجات منها الثمن ثلاثة أسهم، وهو الأقل، فيجعل للموصي له مثل نصيب إحداهن، وهو سهم واحد، فضمه إلى الفريضة، وهو أربعة وعشرين، تصير خمسة وعشرين فتقسم التركة بين الموصي له وبين الورثة، على خمسة وعشرين سهمًا، للموصي له منها سهم واحد. فلو ترك بنتًا، وخمس بنات ابنًا، وعمًا، صحت فريضة الورثة من ثلاثين سهمًا، لبنات الابن منها السدس خمسة أسهم، لكل واحدة منهم سهم، فلو وصي لرجل بمثل نصيب أحدهم، أعطيته مثل نصيب واحدة من بنات الابن، وهو سهم؛ لأنه الأقل، وضممته إلى فريضة الورثة وهي ثلاثون تصير إحدى وثلاثين سهمًا، فتقسم التركة بين الموصي له، وبين الورثة على أحد وثلاثين سهمًا، منها للموصي له سهم، ليدخل نقص العول بسهم الوصية لعى جماعتهم، ثم على هذا القياس. فصل: ولو ترك ثلاثة بنين، ووصي لرجل بمثل نصيب ابن رابع، لو كان فللموصي له الخمس؛؟ لأن له مع الأربعة الخمس، وتكون الأربعة أخماس بين البنين الثلاثة، وهي غير منقسمة، فتضرب ثلاثة في خمسة تكن خمسة عشر. للموصي له بالخمس ثلاثة أسهم، ويبقي اثني عشر سهمًا بين البنين الثلاثة لكل ابن أربعة. ولو ترك ثلاثة بنين، ووصي لرجل بمثل نصيب ابن خامس لو كان، وبنت لو كانت: كان للموصي له، ثلاثة أسهم من أربعة عشر سهمًا، وذلك سهم ابن وبنت من جملة ستة بنين وبنتين، ويبقي أحد عشر سهمًا، تقسم بين البنين الثلاث، على ثلاثة، فاضرب ثلاثة في أربعة عشر تكن اثنين وأربعين سهمًا، للموصي له تسعة أسهم، ويبقي ثلاثة وثلاثون سهمًا، لكل ابن أحد عشر سهمًا. فصل آخر: فإذا ترك ثلاثة بنين، وأوصي لرجل بمثل نصيب أحدهم، ولآخر بثلث ما يبقي من ثلثه. فوجه عملها بحساب الباب: أن تأخذ عدد البنين، وهو ثلاثة وتضم إليه نصيب أحدهم وهو واحد تصير أربعة، وتضرب به في مخرج الثلث وهو ثلاثة. تكن اثني عشر، ثم تلقي منه المثل، وهو واحد، يبقي أحد عشر، وهو ثلث المال، ثم تعرف قدر النصيب، بأن تضرب مخرج الثلث وهو ثلاثة، تكن تسعة، ثم تلقي منها المثل، وهو

واحد يبقى ثمانية، فهو نصيب، فيأخذه الموصي له بمثل نصيب أحدهم، ويبقي من الثلث ثلاثة فيدفع ثلثها، وهو واحد، إلى الموصي له بثلث، الباقي من الثلث، ويبقي من الثلث سهمان، تضمها إلى الثلثين وهو اثنان وعشرون تصير أربعة وعشرين تقسم بين البنين الثلاثة فيكون لكل واحد ثمانية مثل ما أخذه الموصي له بمثل نصيب أحدهم، وتصح من ثلاثة وثلاثين سهمًا. فصل آخر: فإذا ترك ثلاثة بنين، وأوصي لرجل بمثل نصيب أحدهم إلا ثلث ما بقي من الثلاث فوجه عملها بالباب، أن تأخذ عدد البنين وهو ثلاثة، وتضم إليه نصيب أحدهم، تكن أربعة ثم اضربها في مخرج الثلث ثلاثة، تكن اثني عشر، تزيد عليها واحدًا، كما نقصت من الفصل الأول واحدًا تصير ثلاثة عشر وهو ثلث المال، ثم تعرف قدر النصيب، بأن تضرب مخرج الثلث في مثله تكن تسعة، وتزيد عليها واحدًا كما نقصت في الفصل الأول واحدًا تكن عشرة، وهو النصيب، فتنقص منه ثلث الثلاث، وهو واحدي بقي تسعة، وهي سهام الموصي له، ثم تضم الباقي من الثلث، وهو أربعة إلى ثلثي المال، وهو ستة وعشرون تكن ثلاثين، تقسم بين البنين الثلاثة، لكل ابن عشرة، وتصح من تسعة وثلاثين. فصل: وإذا ترك خمسة بنين وأوصي لرجل بمثل نصيب أحدهم، ولآخر بثلث ما بقي من ثلثه، وأوصي لأحد بنيه، أنه لا يدخل عليه ضيم فيما أوصي به ولا نقصان وأن يوفر عليه نصيبه، وهو الخمس فذلك موقوف على الإجازة من الورثة، وغن كان خارجًا من الثلث، لأن تفضيل أحد الورثة على الباقين وصية لوارث. وإذا كان كذلك وأجاز الوصية الورثة فوجه عملها بالباب أن تجعل الابن الذي وصي أن لا يدخل عليه ضيم، كالموصي له بالخمس، فتصير المسألة كأنه ترك أربعة بنين، وأوصي لرجل بمثل نصيب أحدهم، ولآخر بثلث ما يبقي من ثلثه، ولآخر بخمس ماله فتأخذ عددًا تجمع مخرج الجميع من الوصايا وهو الخمس وثلث الباقي، وذلك خمسة وأربعون، مضروب خمسة في تسعة، فاضربها في مخرج الوصايا وهو خمسة وأربعون تكن مائة وثمانين، ثم انظر سهم الموصي له بمثل نصيب أحدهم وهو واحدًا، فاضربه في مخرج الوصايا تكن خمسة وأربعين، وانقص منه ثلثه وهو خمسة عشر، لأنه أوصي بثلث ما يبقي بعده ويبقي ثلاثون فزدها على مائة والثمانين تكن مائتين وعشرة، وهي سهام جميع المال. فإذا أردت معرفة سهام النصيب، فانقص من مخرج الوصايا بثلث ثلثه وهو خمسة، وانقص منه خمس جميعه، وهو تسعة، يبقي منه بعد النقصانين أحد وثلاثون وهو نصيب كل ابن. فإذا أردت القسم فخذ ثلث المال، وهو سبعون فاعط منه الموصي له بمثل نصيب أحدهم، إحدى وثلاثين، يبقي من الثلث تسعة وثلاثون أعط منها الموصي له بثلث الباقي له من الثلث ثلثها، وهو ثلاثة عشرة واضمم الباقي، وهو ستة وعشرون إلى ثلثي

المال، وهو مائة وأربعون تصير مائة، وستة وستون، فاعط منها الابن الذي وصي له بأن لا يدخل عليه ضيم، خمس جميع المال الذي هو مائتان وعشرة يكن اثنين وأربعين وهو سهمين، ويبقي مائة وأربعة وعشرون تقسم بين البنين الأربعة، يكن لكل ابن أحد وثلاثون، وهو مثل ما أخذه الموصي له بمثل نصيب أحدهم. ثم على هذا القياس. فصل: وإذا ترك الرجل زوجة، وابنًا، وبنتًا، وأوصي لرجل بتكملة الثلث بنصيب الزوجة. فوجه عملها بحساب الباب: أن تصحح الفريضة، وتسقط منها سهم ذوي التكملة ثم تزد على الباقي مثل نصفه، وتقسم سهام الفريضة بين أهلها فما بقي بعدها فهو للموصي له، فإذا صححت فريضة الزوجة والابن والبنت، كانت من أربعة وعشرين، فإذا ألغيت منها سهام الزوجة، وهي ثلاثة كان الباقي أحدًا وعشرين، فإذا زدت عليها مثل نصفها لم يسلم فأضعف الأحد والعشرين يكن اثنين وأربعين فزد عليها مثل نصفها وهو أحد وعشرون تصير مائة وستين، ومنها تصح سهام الفريضة مع الوصية للزوجة منها ستة، وللابن ثمانية وعشرون، للبنت أربعة عشر، وللموصي له بتكملة الثلث بنصيب الزوجة خمسة عشر. وإذا ضممت إليها سهام الزوجة، وهي ستة، صار أحدًا وعشرين، وذلك ثلث جميع المال. فلو كانت المسألة بحالها وأوصي لرجل بتكملة الثلث بنصيب البنت أسقطتها من سهام الفريضة وهي سبعة من أربعة وعشرين، يكن الباقي سبعة عشر، ثم زدت عليها مثل نصفها، وذلك غير سليم فأضعفه، ليسلم يكن أربعة وثلاثين، ونصفه سبعة عشر تكن إحدى وخمسين، ومنها تصح سهام الفريضة مع الوصية. منها للزوجة ستة، وللابن ثمانية وعشرون وللبنت أربعة عشر، وللموصي له بتكملة الثلث بنصيب البنت ثلاثة أسهم؛ لأنك إذا ضممتها إلى سهام البنت صارت سبعة عشر، وذلك ثلث جميع المال. ولو أوصي له بتكملة الثلث بنصيب الابن كانت الوصية باطلة، لأن سهام الابن أكثر من الثلث. مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «ولو قال مثل نصيب أحد ورثتي أعطيته مثل أقلهم نصيبًا». قال في الحاوي: وهذا صحيح؛ لأن الوصايا لا يستحق فيها إلا اليقين، والأقل يقين، والزيادة عليه شك، فإن كان سهم الزوجة أقل، أعطيته مثل سهام الزوجة، وإن كان نصيب غيرها أقل من البنات، أو بنات الابن، أعطيته مثله. واعتبار ذلك باعتبار سهام كل واحد من الورثة من أصل فريضتهم، فتجعل للموصي له مثل سهام أقلهم، وتضمه إلى أصل الفريضة، ثم تقسم المال بين الموصي له والورثة على ما اجتمع معك من العددين، وقد بيناه.

ولو وصى بمثل نصيب أكثرهم نصيبًا، اعتبرته، وزدته على سهام الفريضة ثم قسمت ما اجتمع من العددين على ما وصفنا. فعلي هذا: لو اختلف الورثة فقال بعضهم، أراد مثل أقلنا نصيبًا، وقال بعضهم: بل أراد مثل أكثرنا نصيبًا، أعطيته من نصيب كل واحد من الفريقين حصته مما اعترف به. ومثاله: أن يكون الوراثة ابنين، وبنتين، فيقول الابنان: وصي لك بمثل نصيب ذكر، وتقول البنتان: وصي لك بمثل نصيب أنثي. فوجه العمل أن يقال: لو أراد ذكرًا لكان المال مقسومًا، على ثمانية أسهم فريضة ثلاثة بنين، وبنتين، فيكون لكل ابن سهمان، ولكل بنت سهم، وللموصي له بمثل نصيب الذكر سهمان، وإن أراد أنثي كان المال مقسومًا على سبعة أسهم، فريضة ذكرين وثلاث بنات فيكون لكل ابن سهمان، ولكل بنت سهم، وللموصي له بمثل نصيب أنثي سهم. فاضرب سبعة في ثمانية، تكن ستة وخمسين. للبنتين سبعاها: ستة عشر سهمًا، وللموصي له على أن له مثل نصيب أنثي: السبع ثمانية أسهم وعلى أن له مثل نصيب ذكر الربع، أربعة عشر سهمًا، فيكون له اثني عشر وللابنين لو لم يعترفا له بمثل نصيب ذكر أربعة أسباع المال اثنان وثلاثون سهمًا، ولهما عند اعترافهما له بنصيب ذكر أربعة أثمان المال، ثمانية وعشرون سهمًا. فيرد الابنان ما بين نصيبهما، وهو أربعة أسهم على الموصي له ليأخذه مع ما حصل له من الأسهم الثمانية، فيصير له اثني عشر سهمًا، وللبنتين ستة عشر سهمًا، وللابنين ثمانية وعشرون سهمًا ويرجع بالاختصار إلى نصفها، ثم على هذا القياس. فصل: ولو ترك ابنًا، وبنتًا، وأوصي لرجل بمثل نصيب الابن، ولآخر بمثل نصيب البنت فهذا على ضربين: أحدهما: أن يوصي بمثل نصيب البنت قبل دخول الوصية عليها. والثاني: أن يكون بعد دخول الوصية عليها، فعلي هذا يكون للموصي له بمثل نصيب الابن ربع المال، وللموصي له بمثل نصيب البنت قبل دخول الوصية عليها خمس المال، فتصير الوصيتان بخمس المال وربعه، فتوقف على إجازتهما. والضرب الثاني: أن يريد بمثل نصيب البنت بعد دخول الوصية عليها، فعلي هذا يكون للموصي له بمثل نصيب الابن خمس المال وللموصي له بمثل نصيب البنت سدس المال فتصير الوصيتان بخمس المال وسدسه، فتوقف على إجازتهما ولو ابتدئ فوصي لرجل بمثل نصيب البنت، ولآخر بمثل نصيب الابن، فإن أراد قبول دخول الوصية عليه كان له خمسا المال وإن أراد بعد دخول الوصية، كان له ثلث المال ... ثم على هذا القياس. فصل: ولو ترك بنتًا، وأختًا، وأوصي لرجل بمثل نصيب البنت فقد اختلف أصحابنا في قدر ما يستحقه الموصي له على وجهين: أحدهما: له الربع نصف حصة البنت، لأنه لما تستحق مع الابن الواحد إذا أوصى

له بمثل نصيبه النصف، لأنه نصف نصيب الابن، وجب أن يستحق مع البنت الواحدة النصف من النصف، لأنه نصف نصيبها. والوجه الثاني: وهو أصح له الثلث، لأنه يصير مع البنت الواحدة، كبنت ثانية، كما يصير مع الابن الواحد كابن ثان وللواحدة من البنتين الثلث وكذلك للموصي له بمثل نصيب البنت الواحدة الثلث. وعلى هذا: لو أوصي بمثل نصيب أخت مع عم، كان فيما يستحقه بالوصية وجهان: وهكذا: لو لم يرث مع البنت والأخت غيرها، لأن لكل واحدة منهما لو انفردت النصف، والباقي لبيت المال. فعلي هذا: لو وصي بمثل نصيب أخ لأم، فله في أحد الوجهين نصف السدس، وفي الآخر السدس والله أعلم. مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «ولو قال ضعف ما يصيب أحد ولدي أعطيته مثله مرتين. وإن قال: ضعفين، فإن كان نصيبه مائة أعطيته ثلثمائة فكنت قد أضعفت المائة التي تصيبه بمنزلة مرةٍ بعد مرةٍ». قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا وصي لرجل بمثل ضعف نصيب أحد أولاده، كان الضعف مثل أحد النصيبين. فإن كان نصيب الابن مائة كان للموصي له بالضعف مائتين، وبه قال جمهور الفقهاء وبه قال الفراء، وأكثر أهل اللغة. وقال مالك: الضعف مثل واحد، فسوي بين المثل والضعف. وبه قال من أهل اللغة أبو عبيدة معمر بن المثني استدلالًا بقوله تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَاتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 3 -] فلما أراد بالضعفين مثلين، علم أن الضعف الواحد مثل واحد. واستدلوا على أن المراد بضعفي العذاب مثليه بأنه لا يجوز أن يعاقب على السيئة بأكثر مما يجوز على الحسنة. وقال الله تعالى في نساء النبي: {ومَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ وتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] فعلم أن ما جعله من ضعف العذاب على السيئة مرتين، فدل على أن الضعف والمثل واحد والدليل على أن الضعف مثلان هو اختلاف الأسماء توجب اختلاف المسمي إلا ما خص بدليل، ولأن الضعف أعم في اللغة من المثل، فلم يجز أن يسوي بينه وبين المثل. ولأن انشقاق الضعف من المضاعفة، والتنبيه من قولهم أضعف الثوب إذا طويته بطاقتين ونرجس مضاعف: إذا كان موضع كل طاقة، طاقتين ومكان كل ورقة، ورقتين فاقتضي أن يكون الضعف مثلين. وقد روي أن عمر -رضي الله عنه- أضعف الصدقة على نصاري بني تغلب، أي أخذ مكان الصدقة صدقتين، ويدل عليه قول الشاعر عبد الله بن عامر: وأضعف عبد الله إذا كان حظه على حظ لهفان من الخرص فاغر

أراد به إعطائه مثلي جائزة اللهفان. فأما الآية: فعنها جوابان: أحدهما: ما قاله أبو العباس عن الأثرم عن بعض المفسرين أنه جعل عذابهن إذا أتين بفاحشة ثلاثة أماثل عذاب غيرهن فلم يكن فيه دليل. والثاني: أن الضعف قد يستعمل في موضع المثل مجازًا، إذا صرفه الدليل عن حقيقته. وليست الأحكام معلقة بالمجاز وإنما تتعلق بالحقائق. فصل: فأما إذا أوصي له بضعفي نصيب ابنه، فقد اختلفوا فيه على ثلاثة مذاهب: أحدهما: وهو مذهب مالك، أن له مثلي نصيبه، لأنه جعل الضعف مثلًا فجعل الضعفين مثلين. والمذهب الثاني: وهو مذهب أبي ثور أنه له اربعة أمثال نصيبه، لأنه لما استحق بالضعف مثلين، استحق بالضعفين أربعة أمثال. والمذهب الثالث: وهو مذهب الشافعي، وجمهور الفقهاء، أن له بالضعفين ثلاثة أمثال نصيبه. فإذا كان نصيب الابن مائة استحق بالضعفين ثلاثمائة؛ لأنه لما أخذ بالضعف سهم الابن ومثله حتى استحق مثليه وجب أن يأخذ بالضعفين بسهم الابن ومثليه فيستحق به ثلاثة أمثال، فعلي هذا: لو أوصي له ثلاثة أضعام نصيب ابنه استحق أربعة أمثاله، وبأربعة أضعافه: خمسة أمثاله. وكذلك فيما زاد، والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ولو قال لفلان نصيب أو حظ أو قليل أو كثير من مالي ما عرفت لكثير حدًا ووجدت ربع دينار قليلًا تقطع فيه اليد ومائتي درهم كثيرًا فيها زكاة وكل ما وقع عليه اسم قليل وقع عليه اسم كثير وقيل للورثة أعطوه ما يقع عليه اسم ما قال الميت». قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا أوصي لرجل بنصيب من ماله، أو حظ، أو قسط، أو قليل أو كثير ولم يجد ذلك بشيء فالوصية جائزة ويرجع في بيانها إلى الورثة فما بينوه من شيء كان قولهم فيه مقبولًا فإن ادعي الموصي له أكثر منه أحلفهم عليه، لأن هذه الأسماء كلها لا تختص في اللغة، ولا في الشرع، ولا في العرف بمقدار معلوم، ولا لاستعمالها في القليل والكثير حد، لأن الشيء قد يكون قليلًا إذا أضيف إلى ما هو أكثر منه، ويكون كثيرًا إذا أضيف إلى ما هو أقل منه. وحكي عن عطاء، وعكرمة أن الوصية بما ليس بمعلوم من الحظ والنصيب باطلة للجهل بها. وهذا فاسد: لأن الجهل بالوصايا لا يمنع من جوازها ألا ترى أنه لو أوصي بثلث ما له وهو لا يعلم قدره جازت الوصية مع الجهل بها. وقد أوصي أنس بن مالك لثابت البناني بمثل نصيب أحد ولده.

فصل: فأما إذا أوصي له بسهم من ماله، فقد اختلف الناس فيه فحكي عن ابن مسعود والحسن البصري، وإياس بن معاوية، وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل أن له سدس المال. وقال شريح: يدفع له سهم واحد من سهام الفريضة. وقال أبو حنيفة: يدفع إليه مثل نصيب أقل الورثة نصيبًا، ما لم يجاوز السدس، فإن جاوزه أعطي السدس. وقال أبو يوسف، ومحمد: يعطي نصيب أقلهم مثل نصيبًا ما لم يجاوز الثلث، فإن جاوزه، أعطي الثلث. وقال أبو ثور: أعطيته سهمًا من أربعة وعشرين سهمًا. وقال الشافعي: السهم اسم عام لا يختص بقدر محدود لانطلاقه على القليل والكثير، كالحظ والنصيب، فيرجع إلى بيان الوارث. فإن قيل: فقد روي ابن مسعود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فرض لرجل أوصي له سهمًا سدسًا. قيل: هي قضية في عين، يحتمل أن تكون البينة قامت بالسدس واعترف به الورثة. وإذا ثبت أنه يرجع فيه إلى بيان الورثة قبل منهم ما بينوه، من قليل أو كثير، فإن نزعوا، أحلفوا فإن لم يبينوا لم يخل حالهم من أن يكون عندهم بيان، أو لا يكون فإن لم يكن عندهم بيان: رجع إلى بيان الموصي له. فإن نوزع حلف. وإن لم يكن عند الموصي له بيان وقف الثلث على ما يكون من بيان أحدهما، وتصرف الورثة في الثلثين، وإن كان عندهم بيان، فأبوا أن يبينوه ففيه وجهان من اختلاف قوليه فيمن أقر بمجمل وامتنع أو يبين أحدهما: يحبس الورثة حتى يبين. والثاني: يرجع إلى بيان الموصي له والله اعلم. مسألة: قال الشافعي -رحمه الله- تعالى: «ولو أوصي لرجل بثلث ماله ولآخر بنصفه ولآخر بربعه فلم تجز الورثة قسم الثلث على الحصص وإن أجازوا قسم المال على ثلاثة عشر جزءًا لصاحب النصف ستة ولصاحب الثلت أربعة، ولصاحب الربع ثلاثة حتى يكونوا سواءًا في العول». قال في الحاوي: وصورتها في رجل أوصي لرجب بنصف ماله، ولآخر بثلثه، ولآخر بربعه. فقد عالت المسألة على كل حاله فلا يخلو حال ورثته من ثلاثة أحوال أما أن يجيزوا جميعًا، أو لا يجيزوا جميعًا، أو يجيز بعضهم، ويرد بعضهم فإن أجازوا جميعًا: قسم المال بينهم على قدر وصاياهم، وأصلها من اثني عشر، لاجتماع الثلث والرابع، وتعول بسهم، وتصح من ثلاثة عشر، لصاحب النصف ستة أسهم ولصاحب الثلث أربعة أسهم، ولصاحب الربع ثلاثة أسهم. وكان النقص بسهم العول داخلًا على جميعهم، كالمواريث وهذا متفق عليه، لم يخالف أبو حنيفة ولا غيره فيه، والله أعلم. فصل: وإن رد الورثة الوصايا بكل المال رجعت إلى الثلث، وكان الثلث مقسومًا

بينهم بالحصص على ثلاثة عشر سهمًا، كما اقتسموا كل المال مع الإجازة. فيكون لصاحب النصف ستة أسهم، ولصاحب الثلث أربعة أسهم، ولصاحب الربع ثلاثة أسهم. وبه قال الشافعي، ومالك، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة: أرد من وصية صاحب النصف ما زاد على الثلث، يستوي في الوصية صاحب الثلث، وصاحب النصف، ويكون الثلث مقسومًا بينهم على أحد عشر سهمًا. لصاحب النصف أربعة، ولصاحب الثلث أربعة، ولصاحب الربع ثلاثة، استدلالًا بأمرين: أحدهما: أنه لا يملك الزيادة على الثلث، لاستحقاق الورثة لها، فيبطل حكمها وصار كمن وصي بماله ومال غيره، تمضي الوصية في ماله، وترد في مال غيره. والثاني: أن الزيادة على الثلث تضمنت تقديرًا وتفصيلًا، فلما بطل التقدير، بطل التفصيل. وتحريره: أنه أحد مقصودي الزيادة، فوجب أن يبطل كالتقدير. ودليلنا: هو أنه لما قصد تفضيلهم في كل المال، قصد تفضيلهم في كل جزء منه قياسًا على الغرماء. ولأنهم تفاضلوا في الوصية، فوجب أن يتفاضلوا في العطية قياسًا على صاحب الثلث والربع، ولأنهم يأخذون المال على التفاضل عند الكمال، فوجب أن يأخذوه على التفاضل عند العجز قياسًا على صاحب الثلث والربع، ولأن كل شخصين جعل المال بينهما على التفاضل، لزم عند ضيق المال، أن يتقاسماه على التفاضل كالعول في الفرائض، ولأنه لو كانت الوصية بالنصف والثلث مالًا والرد مقدر كمن أوصي لزيد بألف درهم هي ثلث ماله، ولعمرو بألف وخمسمائة، هي نصف ماله، لتفاضلا مع الإجازة والرد، فوجب إذا كانت الوصية بالنصف والثلث مطلقًا أن يتفاضلا مع الإجازة والرد. ويتحرر من هذا الاعتلال قياسان: أحدهما: أن ما تفاضلا فيه مع التقدير يتفاضلان فيه مع الإطلاق كالإجازة. والثاني: أن ما تفاضلا فيه مع الإجازة تفاضلا فيه مع الرد كالمقدر. وأما الجواب عن استدلالهم بأن الوصية بما زاد لا يملكهم فصارت في حق غيره: فهو أن الرد وإن استحق فليس بمستحق في واحد دون غيره وسواء على الورثة انصراف الثلث إلى أهل الوصايا على استواء، أو تفاضل فيبطل حقهم فيه، ويرجع إلى قصد الموصل فيه. وقولهم: إن الزيادة على الثلث قد تضمنت تقديرًا وتفضيلًا، فيقال: ليس بطلان أحدهما موجبًا لبطلان الآخر، ألا ترى أن كل النصف يعد الثلث زيادة على الثلث ولو لزم ما قالوا، لبطلت وصية صاحب النصف بأسرها. فلما لم تبطل بالرد إلى الثلث، لم يبطل حكم التفضيل بالرد إلى الثلث، والله أعلم. فصل: وأما إذا أجاز الورثة الوصية لبعضهم وردوها لبعضهم مثل أن يجيزوا صاحب الثلث ويردوا صاحب النصف والربع، فتسم الوصايا من تسعة وثلاثين سهمًا، لأنها أقل ما ينقسم ثلاثة على ثلاثة عشر، فيعطي صاحب النصف ستة أسهم من ثلاثة

عشر من الثلث، فيكون ثلاثة من تسعة وثلاثين. ويعطي صاحب الربع ثلاثة أسهم من ثلاثة عشر من الثلث فتكون ثلاثة من تسعة وثلاثين. وأما صاحب الثلث ففيه وجهان: أحدهما: أنك تعطيه ثلث جميع المال، مع دخول العول عليه، كالذي كان يأخذه، لو وقعت الإجازة لجميعهم فعلي هذا يأخذ أربعة أسهم من ثلاثة عشر من جميع المال فيكون ذلك اثنا عشر سهمًا من تسعة وثلاثين. والوجه الثاني: أنه يأخذ ثلث جميع المال كاملًا من غير عول، لأنه إنما أخذ الثلث عائلًا مع عدم الإجازة لجميعهم لضيق المال عن سهامهم وإذا أجازوا ذلك لبعضهم، اتسع المال لتكمل سهم من أجيز له منهم. فعلي هذا يأخذ ثلاثة عشر من تسعة وثلاثين، ثم على هذا القياس ولو أجيز لصاحب النصف وحده، أو لصاحب الربع وحده، أو لهما أو أحدهما مع صاحب الثلث. فصل: ولو أوصي لرجل بجميع ماله، ولآخر بثلث ماله وأجاز الورثة ذلك لهما كان المال مقسومًا بينهما على أربعة أسهم، لأنه مال وثلث، يكون أربعة أثلاث، فيكون لصاحب المال ثلاثة أسهم، ولصاحب الثلث سهم. وقال داود: يكون لصاحب المال ثلثا المال، ولصاحب الثلث جميع ثلث المال. قال: لأنه لما أوصي بالثلث بعد الكل، كان رجوعًا عن ثلث الكل وبني ذلك على أصله في إبطال العول. وهذا أصل قد تقدم الكلام معه فيه فلو رد الورثة ذلك. كان الثلث مقسومًا بينهما على أربعة أسهم لصاحب المال ثلاثة أسهم، ولصاحب الثلث سهم. وقال أبو حنيفة: الثلث بينهما نصفين، إبطالًا لما زاد على الثلث عند الرد وقد تقدم الكلام معه فلو أجاز الورثة لصاحب الثلث، وردوا صاحب الكل، كان لصاحب الكل ثلاثة أسهم من أربعة من الثلث، فيكون له ثلاثة أسهم من اثني عشر سهمًا. وأما صاحب الثلث فعلي وجهين: أحدهما: يكمل له سهمه مع العول: فعلي هذا يأخذ ثلاثة أسهم من اثني عشر سهمًا، ويبقي منها بعد الوصيتين ستة أسهم ترجع على الوارث. والوجه الثاني: يكون له الثلث مع غير عول، فعلي هذا يأخذ أربعة أسهم، ويبقي بعد الوصيتين خمسة ترجع على الوارث. فلو أجاز الورثة لصاحب الكل، وردوا لصاحب الثلث: أخذ صاحب الثلث سهمًا من اثني عشر فإن أعيل سهم صاحب الكل مع الإجازة له أخذ تسعة أسهم ويبقي بعد الوصيتين سهمان للوارث فإن أكمل سهمه من غير عول، أخذ جميع الباقي وهو أحد عشر سهمًا، وهو دون الكل بسهم زاحمه فيه صاحب الثلث ولم يبق للوارث شيء وبالله التوفيق.

مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «ولو أوصي بغلامه لرجل وهو يساوي خمسمائة وبداره لآخر وهي تساوي ألفًا وبخمسمائة لآخر والثلث ألف دخل على كل واحدٍ منهم عول نصف وكان للذي له الغلام نصفه وللذي له الدار نصفها وللذي له خمسمائة نصفها». قال في الحاوي: وهذا كمال قال: إذا ضاق الثلث عن الوصايا، فللورثة حالتان: حالة يجيزون، وحالة يردون، فإن ردوا: قسم الثلث بين أهل الوصايا، بالحصص، وتستوي فيه الوصية بالمعين والمقدر. وحكي عن أبي حنيفة: أن الوصية بالمعين، مقدمة على الوصية بالمقدر استدلالًا بأن القدر يتعلق بالذمة فإذا ضاق الثلث فيها زال تعلقها بالذمة، وهذا غير صحيح، لأن محل الوصايا في التركة سواء ضاق الثلث عنها أو اتسع لها، فاقتضي أن يستوي المعين والمقدر مع ضيق الثلث، كما يستويان مع اتساعه؛ ولأن الوصية بالمقدر أثبت من الوصية بالمعين، ولأن المعين إن تلف بطلت الوصية به والمقدر إن تلف بعض المال: لم تبطل الوصية. فإذا تقرر استواء المعين، والمقدر مع ضيق الثلث عنهما: وجب أن يكون عجز الثلث داخلًا على أهل الوصايا بالحصص فإذا أوصي بعبده لرجل، وقيمته خمسمائة درهم، وبداره الآخر وقيمتها ألف درهم وبخمسمائة لآخر، فوصاياه الثلاثة كلها تكون ألفي درهم. فإن كان الثلث ألفين فصاعدًا، فلا عجز، وهي ممضاة. وإن كان الثلث ألف درهم، فقد عجز الثلث عن نصفها، فوجب أن يدخل القول على جميعها، ويأخذ كل موصي له بشيء نصفه، فيعطي الموصي الموصى له بالعبد نصفه وذلك مائتا درهم وخمسون درهمًا. ويعطي الموصي له بالدار نصفها وذلك خمسمائة. ويعطي الموصي له بالخمسمائة نصفها وذلك مائتا درهم وخمسون درهمًا. صار جميع ذلك ألف درهم. وعلى قول أبي حنيفة: تسقط الوصية بالخمسمائة المقدرة، ويجعل الثلث بين الموصي له بالعبد والدار، فيأخذ كل واحد منهما ثلثي وصيته لدخول العجز بالثلث عليهما. فلو كان الثلث في هذه الوصايا خمسمائة درهم فهو ربع الوصايا الثلاث. فيعطي كل واحد ربع ما جعل له. ولو كان الثلث ألفًا وخمسمائة، فيجعل لكل واحد منهم ثلاثة أرباع وصيته ثم على هذا القياس والله أعلم. فصل: وإن أجاز الورثة الوصايا كلها مع ضيق الثلث عنها، ودخول العجز بالنصف

عليها ففي إجازتهم قولان: أحدهما: أن إجازتهم ابتداء عطية منهم لأمرين: أحدهما: أن ما زاد على الثلث منهي عنه، والنهي يقتضي فساد المنهي عنه. والثاني: أنهم لما كانوا بالمنع مالكين لما منعوه، وجب أن يكونوا بالإجازة معطين لما أجازوه. فعلي هذا: قد ملك أهل الوصايا نصفها بالوصية لاحتمال الثلث لها ولا يفتقر تمليكهم لها إلى قبض. ونصفها بالعطية، لعجز الثلث عنها ولا يتم ملكهم إلا بقبض. القول الثاني: وهو أصح، وبه قال أبو حنيفة: أن إجازة الورثة تنفيذ وإمضاء لفعل الميت، وأن ذلك مملوك بالوصية دون العطية لأمرين: أحدهما: أن ما استحقوه بالخيار في عقود الميت لا يكون الورثة بالإمضاء لها عاقدين كالمشتري سلعة إذا وجد وارثه بها عيبًا فأمضي الشراء ولم يفسخه: كان تنفيذًا ولم يكن عقدًا، فكذلك خياره في إجازة الوصية. والثاني: أن لهم رد ما زاد على الثلث في حقوق أنفسهم، فإذا أجازوه سقطت حقوقهم منه، فصار الثلث وما زاد وعليه سواء في لزومه لهم فإذا استوي الحكم في الجميع مع اللزوم: اقتضي أن يكون جميعه وصية لا عطية فعلي هذا: يلزمهم نصف الوصايا بالوصية من غير إجازة لاحتمال الثلث لها. ونصفها بالإجازة بعد الوصية من غير قبض يعتبر، ولا رجوع يسوغ. فصل: وأما العطايا في المرض: فهي مقدمة على الوصايا إذا ضاق الثلث عنها، لأن تلك ناجزة، وهذه موقوفة، فلو ضاق الثلث عن عطايا المرصد قدم الأسبق. ولو ضاق الثلث عن الوصايا: لم يقدم الأسبق، لأن عطايا المرض تملك بالقبض المترتب، فثبت حكم المتقدم، والوصايا كلها تملك بالموت فاستوي فيها حكم المتقدم والمتأخر إلا إن رتبها الموصي فيمضي على ترتيبه ما لم يتخلل الوصايا عتق. فإن تخللها عتق فإن كان واجبًا في كفارة أو نذر قدم على وصايا التطوع، وإن كان تطوعًا ففيه قولان: أحدهما: أن العتق مقدم على جميع الوصايا لقوته بالسرايا في غير الملك وبه قال من الصاحبة: عبد الله بن عمر، ومن التابعين شريح والحسن، ومن الفقهاء: مالك والثوري. والقول الثاني: أن العتق والوصايا كلها سواء في مزاحمة الثلث؛ لأن جميعها تطوع. وبه قال من التابعين: ابن سيرين، والشعبي ومن الفقهاء: أبوثور. فصل: ولو أوصي رجل أن يشتري عبد زيد بألف درهم وأن يعتق عليه فاشتراه

الموصي بخمسمائة، وأعتق عنه، والبائع غير عالم فقد اختلف الناس في الخمس مائة الباقية من الألف: فحكي عن سفيان الثوري: أنها تدفع إلى البائع، وجعلها وصية له. فحكي عن أحمد بن حنبل: أنها تدفع إلى الورثة وجعلها تركة. وحكي عن إسحاق بن راهوية أنها تصرف في العتق، وجعلها وصية له، ومذهب الشافعي أنه ينظر قيمة عبد زيد الموصي له بشرائه وعتقه فإن كان يساوي ألفًا فليس فيها وصية فيعود الباقي من ثمنه إلى الورثة. وإن كان يساوي خمسمائة عاد الباقي إلى زيد البائع، لأنها وصية له وإن كان يساوي سبعمائة. فالوصية منها بثلاثمائة درهم، فتدفع إلى البائع؛ وترد المائتان على الورثة ميراثًا. فصل: وإذا أوصي بعتق أمه على أنها لا تتزوج، أعتقت على هذا الشرط، فإن تزوجت لم يبطل العتق، ولا النكاح. ووجب الرجوع عليها بقيمتها ولا يعود ميراثًا؛ لأن عدم الشرط منع من إمضاء الوصية، ونفوذ العتق يمنع من الرجوع فيه. فلو طلقها الزوج لم يستحق استرجاع القيمة، لأن شرط الوصية قد عدم بتزويجها وإن طلقت، فإن أوصي لأم ولده بألف درهم على أن لا تتزوج وأعطيت الألف على هذا الشرط، فإن تزوجت استرجعت الألف منها بخلاف العتق؛ لأن استرجاع المال ممكن، واسترجاع العتق غير ممكن. فرع: وإذا أوصي بعتق عبد، فاشتري الوصي أبا نفسه فأعتقه عن الموصي: أجزأ سواء كان العتق تطوعًا، أو واجبًا. ولو اشتري أبا الموصي فأعتقه: فإن كان عن واجب لم يجزئ وإن كان تطوعًا أجزأ. فصل: ولو أوصي رجل بعبده لرجل، وقيمته مائة درهم، وبسدس ماله لآخر، وماله خمسمائة درهم. فقد حكي عن ابن سريج فيها قولين: أحدهما: ان العبد بين الموصي له بالعبد وبين الموصي له بالسدس على سبعة أسهم.، لأن السدس إذا انضم إلى الكل صار سبعة يأخذ الموصي له بالعبد ستة أسباعه، ويأخذ الموصي له بالسدس سبعة ثم يعود صاحب السدس إلى الأربعمائة الباقية من المال فيأخذ سدسها، وذلك ستة وستون درهمًا، وثلثا درهم، إذا ضمت إلى قيمة العبد، وهي مائة درهم، صار الجميع مائة درهم وستة وستون درهمًا وثلثي درهم. وهي ثلث جميع المال من غير زيادة ولا نقصان. والقول الثاني: أن خمسة أسداس العبد يختص بها الموصي له بالعبد، لأنه لم

يوص به لغيره، والسدس الباقي يكون بين الموصي له بالعبد، والموصي له بالسدس نصفين، لأنه موصي به لهما، فيصير العبد بينهما اثني عشر سهمًا، للموصي له بالعبد منها أحد عشر سهمًا، وللموصي له بالسدس سهم، ثم يعود صاحب السدس فيأخذ سدس الأربعمائة الباقية. وذلك تمام ثلث جميع المال. ولكل من القولين وجه، والأول أشبه. فصل: ولو أوصي لرجل بثلث ماله، ولآخر بفرس قيمته سوى الفرس ألفي درهم فالوصيتان تزيد على الثلث بمثل ثلثيه، لأن المال ثلاثة آلاف درهم، والوصيتان بفرس قيمته ألف درهم، وبثلث الألفين وهو درهم وستة وستون درهمًا، وثلثا درهم. فإذا أسقطت الزيادة على الثلث، عند رد الورثة، سقط خمسا الوصيتين ورجعت إلى ثلاثة أخماسه، لأن الألف منها ثلاثة أخماسها، ثم في قسمة ذلك بين صاحب الفرس والثلث قولان على ما حكاه ابن سريج: أحدهما: وهو الأول منهما: أن ثلاثة أخماس الفرس مقسومة بين صاحب الثلث، وصاحب الفرس على أربعة أسهم لصاحب الفرس ثلاثة أسهم، ولصاحب الثلث سهم فيصير الفرس مقسومًا على عشرين سهمًا منها لصاحب الفرس: تسعة أسهم، وذلك أربعة أعشاره ونصف عشرة، وقيمة ذلك أربعمائة وخمسون درهمًا ولصاحب الثلث ثلاثة أسهم، وذلك عشرة ونصف عشرة، وقيمة ذلك مائة وخمسون درهمًا ثم يأخذ صاحب الثلث ثلث أخماس الألفين، وذلك أربعمائة درهم فيصير مع صاحب الثلث خمسمائة وخمسون درهمًا من الفرس والمال، ومع صاحب الفرس أربعمائة وخمسون درهمًا من الفرس، فتصير الوصيتان ألف درهم هو ثلث جميع المال. وهذا القول هو الأشبه بمذهب الشافعي. والقول الثاني: أن ثلاثة أخماس الفرس مقسوم بين صاحب الفرس، وصاحب الثلث، على ستة أسهم، منها خمسة أسهم لصاحب الفرس، وسهم لصاحب الثلث؛ لأن ثلثي ذلك يسلم لصاحب الفرس، والثلث موصي به لصاحب الثلث، وصاحب الفرس، فصار بينهما، فيصير الفرس مقسومًا على عشرة أسهم منها لصاحب الفرس أربعة أسهم، وذلك أربعة أعشاره، وقيمة ذلك، أربعمائة، ولصاحب الثلث سهمان وهما عشرة وقيمة ذلك مائتا درهم. ثم يأخذ صاحب الفرس حقه من ألفين وذلك أربعمائة درهم. فصار مع صاحب الفرس الثلث ستمائة درهم من الفرس. ومع صاحب الفرس أربعمائة من الفرس وهما جميعًا ألف درهم ثلث جميع التركة وهذا قياس قول أبي حنيفة، والله اعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «ولو أوصي لوارث وأجنبي فلم يجيزوا

فللأجنبي النصف ويسقط الوارث». قال في الحاوي: وللورثة أن يعترضوا في الوصية من وجهين: أحدهما: فيما زاد على الثلث، لأن غاية ما يستحقه الميت من جملة ما له بالوصية لقوله - صلى الله عليه وسلم - لسعد: «الثلث والثلث كثير» فإن أوصي باكثر من الثلث، لزمت الوصية في الثلث، وكانت الزيادة عليه موقوفة على إجازة الورثة وردهم. والثاني: في اعتراض الورثة الوصية لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى قد أعطي كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث». فإن أوصي لوارث فمذهب المزني، وهو أحد قولي الشافعي مخرج من كلام له من بعض كتبه أنها باطلة، لا تصح وغن أجازها الورثة للنهي عنها، ولثبوت الحكم بنسخها. والقول الثاني: وهو الذي نص عليه الشافعي في جميع كتبه أنها موقوفة على إجازة الورثة كالزيادة على الثلث. وعلى هذا القول يكون التفريع فعلي هذا لو أوصي لوارث بثلث ماله، ولأجنبي بثلث ماله، فقد استحق الورثة المنع في الوجهين من الزيادة على الثلث لوارث وغير وارث، ومن الوصية لوارث وإن احتملها الثلث. وإن كان كذلك: فللورثة أربعة أحوالي: أحدها: أن يجيزوا الأمرين، الوصية للوارث، والزيادة على الثلث، فتمضي الوصية. والحال الثانية: أن يجيزوا الزيادة على الثلث، ويمنعوا الوصية للوارث فيأخذ الأجنبي الثلث كاملًا، لأنهم لم يعترضوا عليه في الزيادة، وكملت وصيته. والحالة الثالثة: ان يردوا الزيادة على الثلث، ويجيزوا الوصية للوارث فيكون الثلث بين الأجنبين والوارث نصفين، ويأخذ كل واحد منهما سدسًا، لاشتراكهما فيما رجعت إليه الوصية. والحال الرابع: أن يردوا الزيادة على الثلث، ويمضوا الوصية للوارث، فيكون للأجنبي السدس، لأن ما زاد مردود في حقهما معًا فصار الثلث لهما، ثم منع الوارث منه فصار سهمه ميراثًا وأخذ الأجنبي سهمه منه لو كان الوارث له مشاركًا فلو كانت الوصية لأجنبي ووارثين، ولم يجيزوا: كان للأجنبي ثلث الثلث، لأنه أحد ثلاثة أشركوا في الثلث. ولو كانت لأجنبيين ووارث. كان لهما ثلث الثلث، والاعتبار بكونه وارثًا، عند الموت لا وقت الوصية. فعلي هذا، لو كان وارثًا ثم صار عند الموت غير وارث: صحت له الوصية. ولو أوصي له وهو غير وارث ثم صار عند الموت وارثًا: ردت الوصية. ولو أوصي لامرأة أجنبية ثم تزوجها: بطلت الوصية، ولو أوصي لزوجته، ثم طلقها: صحت الوصية، والله أعلم.

فصل: ولا تصح إجازة الورثة إلا من بالغ، عاقل، جائز الأمر. وإن كان فيهم صغير أو مجنون، أو محجور عليه بسفه: لم تصح منه الإجازة، ولا من الحاكم عليه، ولا من وليه لما في الإجازة عليه من تضييع حقه، ولا ضمان على الولي المجيز، ما لم يقبض، فإن أقبض، صار ضامنًا لما أجازه من الزيادة. فصل: وإذا أجاز الورثة الزيادة على الثلث، ثم قالوا: كنا نظن أن الزيادة يسيرة، أو كنا نظن ماله كثيرًا، أو كنا لا نرى عليه دينًا: كان القول قولهم مع أيمانهم. فإن قيل إن الإجازة ابتداء عطية منهم، بطلت في الزيادة على الثلث، لأنها هبة جعلوا بعضها، فطلت. وإن قلنا إنها تنفيذ وإمضاء، قيل لهم قد لزمكم من إمضاء الزيادة القدر كنتم تظنوه يزيد على الثلث لأنكم قد علمتموه، وبطلت الزيادة فيما جعلتموه فإن اختلفوا مع الموصي له في القدر الذي علموه: كان القول فيه قولهم مع أيمانهم. فصل: وإذا مات رجل وترك ابنين، فادعي رجل أن أباهما وصي له بثلث ماله، فصدقه أحدهما، وكذبه الآخر، حلف المكذب ولا شيء عليه في حصته وفيما يلزم الصمدق وجهان: أحدهما: يلزمه ثلث حصته، وهو سدس جميع المال. والوجه الثاني: يلزمه سدس جميع المال من حصته. وهذان الوجهان: مخرجان من اختلاف قوليه في إقرار أحد الابنين بدين، فلو صدقه أحدهما على جميع الثلث، وصدقه الآخر على السدس. لزم المصدق على السدس نصف السدس، وفيما يلزم المصدق على الثلث وجهان: أحدهما: نصف الثلث، وهو السدس. والثاني: ثلاثة أربع الثلث، وهو الربع. والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي- رحمه الله تعالى-: «وتجوز الوصية لما في البطن وبما في البطن إذا كان يخرج لأقل من ستة أشهر فإن خرجوا عددًا ذكرانًا وإناثًا فالوصية بينهم سواء وهم لمن أوصي بهم له». قال في الحاوي: وهذه المسألة مشتملة على فصلين: أحدهما: الوصية بالحمل. والثاني: الوصية للحمل. فأما الوصية للحمل فجائزة، لأنه لما ملك بالإرث، وهو أضيق، ملك بالوصية التي هي أوسع. ولو أقر للحمل إقرارًا مطلقًا بطل في أحد القولين. والفرق بينهما: أن الوصية

أحمل للجهالة له من الإقرار. ألا ترى أنه لو أوصي لمن في هذه الدار صح. ولو أقر له لم يصح. فإذا قال: قد أوصيت لحمل هذه المرأة بألف نظر حالها إذا ولدت، فإن وضعته لأقل من ستة أشهر من حين تكلم بالوصية لا من حين الموت صحت له الوصية لعلمنا أن الحمل كان موجودًا وقت الوصية. وإن وضعته لأكثر من أربع سنين من حين الوصية: فالوصية باطلة لحدوثه بعدها، وأنه لم يكن موجودًا وقت تكلمه بها. وإن وضعته لأكثر من ستة أشهر من وقت الوصية، ولأقل من أربع سنين، فإن كانت ذات زوج أو سيد يمكن أن يطأها فيحدث ذلك منه: فالوصية باطلة لإمكان حدوثه فلم يستحق بالشك. وإن كانت غير ذات زوج أو سيد يطأ، فالوصية صحيحة، لأن الظاهر تقدمه والحمل يجري عليه حكم الظاهر في اللحوق، فكذلك في الوصية. فصل: فإذا صحت الوصية فسواء كان الحمل حرًا، أو مملوكًا، لأن الوصية للمملوك جائزة، إلا أنها في المملوك لسيدة، وفي الحر له، دون غيره. ثم إن وضعت حملها ذكرًا أو أنثي، فالوصية له. وإن وضعت ذكرًا وأنثي كانت الوصية بينهما نصفين، لأنها هبة لا ميراث، إلا أن يفضل الموصي الذكر على الأنثى. لو على هذه فيحمل على تفضيله. فلو قال: إن ولدت غلامًا فله ألف، وإن ولدت جارية فلها مائة، فولدت غلامًا: استحق ألفًا، وإن ولدت جارية استحق الغلام ألفًا والجارية مائة. وإن ولدت خنثي دفع إليه مائة، لأنها يقين، ووقف تمام الألف حتى يستبين. وهكذا لو قال: إن كان في بطنك غلام فله ألف، وإن كان في بطنك جارية فلها مائة، فولدت غلامًا أو جارية، كان للغلام ألف وللجارية مائة. فلو ولدت غلامين، أو جاريتين، صحت الوصية، وفيها ثلاثة أوجه حكاها ابن سريج. أحدها: أن للورثة أن يدفعوا الألف إلى أي الغلامين شاؤوا والمائة إلى الجاريتين شاؤوا؛ لأنها لأحدهما فلم تدفع إلى أحدهما، ورجع فيها إلى بيان الوارث، كما لو أوصي له بأحد عبديه. والوجه الثاني: أنه يشترك الغلامان في الألف، والجاريتان في المائة، لأنها وصية لغلام وجارية، وليس أحد الغلامين أولى من الآخر فشرك بينهما، ولم يرجع فيه إلى خيار الوارث، بخلاف الوصية بأحد العبدين اللذين يملكهما الوارث، فجاز أن يرجع إلى خياره فيهما. والوجه الثالث: أن الألف موقوف بين الغلامين، والمائة موقوفة بين الجاريتين حتى يصطلحا عليهما بعد البلوغ؛ لأن الوصية لواحد فلم يشرك فيها بين اثنين وليس للوارث فيها خيار، فلزم فيها الوقف. فصل: ولو قال: إن كان الذي في بطنك غلام فله ألف، وإن كان الذي في بطنك جارية فلها مائة، فولدت غلامًا وجارية.

فلا شيء لواحد منهما، بخلاف قوله: إن كان في بطنك غلام فله الألف، لأنه إذا قال: إن كان الذي في بطنك غلام فقد جعل كون الحمل غلامًا شرطًا في الحمل والوصية معًا، فإذا كان الحمل غلامًا وجارية لم يوجد الشرط كاملًا فلم تصح الوصية. وإذا قال: إن كان في بطنك غلام، فلم يجعل ذلك شرطًا في الحمل وإنما جعله شرطًا في الوصية فصحت الوصية. وهكذا لو قال: إن كان ما في بطنك غلامًا، فهو كقوله إن كان الذي في بطنك فإن وضعت غلامًا وجارية فلا وصية. وكذلك لو قال: إن كان حملك ذكرًا فكان ذكرًا وأنثي فلا وصية فلو قال إن كان الذي في بطنك غلامًا فله ألف، ولدت غلامين ففي الوصية وجهان: أحدهما: باطل كما لو ولدت غلامًا وجارية، لأنه لم يكن كل حملها غلامًا. والوجه الثاني: أنها جائزة، لأن كل واحد منهما غلام فاشتركا في الصفة، ولم تضر الزيادة، فعلي هذا يكون على الوجوه الثلاثة التي حكاها ابن سريج من قبل أنها ترجع إلى بيان الورثة في دفع الألف إلى أحدهما. والثاني: يشتركان جميعًا فيها. والثالث: توقف الألف بينهما حتى يصطلحا عليها، والله أعلم. فصل: ولو قال: قد أوصيت لحمل هذه المرأة من زوجها، فجاءت بولد نفاه زوجها باللعان، ففي الوصية وجهان: أحدهما: وهو قول ابن سريج أن الوصية باطلة، لأن لعانة قد نفي أن يكون منه. والوجه الثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي، أن الوصية له جائزة؛ لأن لعان الزوج منه، إنما اختص بنفي النسب دون غيره من أحكام الأولاد. ألا ترى أنها تعتد به، ولو قذفها به قاذف حد. ولو عاد فاعترف بنسبة لحق به، ولكن لو وضعت بعد أن طلقها ذلك الزوج ثلاثًا ولدًا لأكثر من أربع سنين من وقت الطلاق، ولأقل من ستة أشهر من حين الوصية، فلا وصية لها وهو ليس منه، وبخلاف الملاعن الذي يجوز أن يكون الولد منه. فصل: وإذا وضعت الموصي بحملها ولدًا ميتًا، فلا وصية له، كما لا ميراث له، ولو وضعته حيًا، فمات، صحت الوصية، وكانت لوارث الحمل، كالميراث ولو ضرب ضارب بطنها، فألقت جنينًا ميتًا، كان فيه على الضارب غرة ولا وصية له، كما لا ميراث له، والله أعلم. فصل: وأما الوصية بالحمل فجائزة، كجوازها بالمجهول. فإذا أوصي بحمل جاريته لرجل، فولدت لأقل من ستة أشهر من حين الوصية، صحت الوصية به، سواء وضعته غلامًا أو جارية. وإن ولدت لأكثر من ستة أشهر، ولا أقل من أربع سنين: فإن كان لها زوج يمكن

أن يطأ فالظاهر حدوثه بعد الوصية، فلا وصية، وإن لم يكن لها زوج، فالظاهر تقدمه فتصح الوصية. فصل: وأما إذا قال قد أوصيت بمن تحمله جاريتي هذه. ففي الوصية وجهان: أحدهما: باطلة، والثاني: جائزة من اختلاف الوجهين في الوصية هل يراعي بها وقت الوصية أم لا؟ ولكن لو أوصي لما تحمله هذه المرأة لم يجزها هنا قولًا واحدًا، لأن المالك ها هنا معدوم، وعدم الملك أعظم في التمليك من عدم المملوك. فإذا قيل الوصية باطلة فلا مسألة. وإذا قيل جائزة، نظر: فإن وضعته ولدًا لأقل من ستة أشهر لم تصح فيه الوصية، لأنه كان موجودًا وقت الوصية، وإنما أوصي بولد يحدث بعد الوصية. وإن وضعت ولدًا لأكثر من أربع سنين صحت فيه الوصية لحدوثه بعد الوصية. فإن وضعت ولدًا لأكثر من ستة أشهر ستة أشهر، ولأقل من أربع سنين فإن كانت ذات زوج يطأ فالظاهر حدوثه فصحت فيه الوصية. وإن لم تكن ذات زوج يطأ فالظاهر تقدمه فلم تصح فيه الوصية فأما إذا قال: قد أوصيت لمن تلده جاريتي فقد اختلف أصحابنا هل يراعي وجود الحمل حال الوصية أم لا؟ على وجهين: أحدهما: أنه يراعي وجوده حال الوصية، ويكون كقوله: «قد أوصيت بحمل جاريتي». والوجه الثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه لا يراعي وجوده وفي أي زمان ولدته، صحت الوصية به. فصل: ولو قال: إن ولدت هذه الجارية ذكرًا فهي وصية لزيد، وإن ولدت أنثي فهي وصية لعمرو. جاز وكان على ما قال: إن ولدت غلامًا ذكرًا كان لزيد. وإن ولدت جارية أنثي كان لعمرو، وإن ولدت ذكرًا وأنثي كان لكل واحد منهما ما جعل له. ولو ولدت خنثي مشكلًا ففيه وجهان: أحدهما: لا حق فيه لواحد منهما، لأنه ليس بذكر فيستحقه زيد، ولا بأنثي فيستحقها عمرو. ويكون موروثًا. والوجه الثاني: أنه موقوف بين زيد وعمرو حتى يصطلحا عليه، لأنه لا يخلو أن يكون ذكرًا أو أنثي فإن أشكل: فلم يجز أن يملكه الورثة، وإنما الإشكال مؤثر في مستحق الوصية لا في الاستحقاق للورثة. فصل: وإذا أوصي بحمل أمته لرجل، ضرب بطنها ضارب، فألقت جنينًا ميتًا: صحت الوصية، وكان للموصي له الدية. ولو أوصي له بحمل ناقته فضرب بطنها، فألقت جنينًا ميتًا: فالوصية باطلة، وما نقصها الضرب للورثة. والفرق بينهما: أن ما في جنين الأمة بدل منه. وما في جنين البهيمة لا بدل له منها. ألا ترى أن من جنين الأدمية ديته،

وفي جنين البهية ما نقص من ثمنها. فصل: ولو أوصي بحمل جارية لحمل أخرى، فلا يخلو حملهما، من أربعة أقسام: أحدها: أن يكون الحملان موجودين حال الوصية لولادتهما، لأقل من ستة أشهر، فالوصية جائزة. فمن ولدته الموصي بحملها، من غلام أو جارية، أو هما، فهو لمن ولدته الموصي لحملها من ذكر أو أنثي أو هما بالسوية بينهما. والقسم الثاني: أن يكون الحملان معدومين عند الوصية لولادتهما لأكثر من أربع سنين، فالوصية باطلة، لأنها وصية بمعدوم. والقسم الثالث: أن يكون الحمل الموصي به موجودًا عند الوصية لولادته لأقل من ستة أشهر. والحمل الموصي له معدومًا عند الوصية لولادته لأكثر من أربع سنين. فالوصية باطلة، لأنها وصية بموجود لمعدوم. والقسم الرابع: أن يكون الحمل الموصي معدومًا عند الوصية لولادته لأكثر من أربع سنين، والحمل الموصي له موجودًا عند الوصية لولادته لأقل من ستة أشهر، فالوصية باطلة، لأنها وصية بمعدوم لموجود. مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «ولو أوصي بخدمة عبده أو بغلة داره أو بثمر بستانه والثلث يحتمله جاز ذلك». قال في الحاوي: الوصية بمنافع الأعيان جائزة، كالوصية بالأعيان، لأنه لما صح عقد الإجارة عليها، فأولى أن تصح الوصية بها، وسواء قيدت الوصية بمدة، أو جعلت مؤيدة. وقال ابن أبي ليلي: إن قدرت بمدة تصح فيها الإجارة: صحت. وإن لم تقدر بمدة تصح فيها الإجارة بطلت حملًا للوصية على الإجارة. وذهب الشافعي وأبو حنيفة، وجمهور الفقهاء إلى جواز الوصية بها على التأييد بخلاف الإجارة، لأن الوصايا تجوز من الجهالة كما لو أوصي بسهم من ماله وماله مجهول، بخلاف الإجارة، فإنها لا تصح مع الجهالة. فإذا صح جوازها مقدرة ومؤبدة، فقد ذكر الشافعي الوصية بخدمة العبد، وبغلة الدار وبثمرة البستان. فأما الوصية بخدمة العبد فله أن يستخدمه وله أن يؤجره. وقال أبو حنيفة: لا يجوز لمن أوصي له بخدمة عبده أن يأمره اعتمادًا على ما تضمنته الوصية من الاستخدام دون الإجارة. وهذا خطأ، لأن الوصية بالخدمة كالوصية بالرقبة، فلما كان الموصي له بالرقبة يجوز له المعارضة عليها، لأنه قد ملكها بالوصية كان الموصي له بالخدمة أيضًا يجوز له المعارضة عليها، لأنه قد ملكها بالوصية.

فإذا ثبت هذا: فالوصية بخدمته ضربان: إما مقدرة بمدة ومؤبدة. فإن قدرت بمدة كأنه قال: قد أوصيت لزيد بخدمة عبدي سنة، فالوصية جائزة له بخدمة سنة. والمعتبر في الثلث منفعة السنة دون الرقبة، وفي كيفية اعتبارها وجهان: أحدهما: وهو قول ابن سريج: أنه يقوم العبد كامل المنفعة في زمانه كله، فإذا قيل مائة دينار، قوم وهو مسلوب المنفعة سنة، فإذا قيل: ثمانون دينارًا فالوصية بعشرين دينارًا وهي خارجة من الثلث، إن لم يكن على الموصي دين. والوجه الثاني: وهو الذي أراه مذهبًا أنه يقوم خدمة مثله سنة، فتعتبر من الثلث، ولا تقوم الرقبة، لأن المنافع الممتلكة في العقود والغصوب هي المقومة دون الأعيان. وكذلك في الوصايا: فإذا علم القدر الذي تقومت به خدمة السنة إما من العين على الوجه الأول، أو من المنافع على الوجه الثاني نظر، فإن خرج جميعه من الثلث، صحت الوصية له بخدمة جميع السنة، وإن خرج نصفه من الثلث، رجعت الوصية إلى نصفها، واستخدمه نصف السنة، وإن خرج ثلثه من الثلث رجعت الوصية إلى ثلثها، واستخدمه نصف السنة. وإن خرج ثلثه من الثلث رجعت الوصية إلى ثلثها، واستخدمه ثلث السنة، فإن كان في التركة مال غير العبد إذا أمكن الموصي له من استخدامه سنة، أمكن الورثة في تلك السنة أن يتصرفوا في التركة بما يقابل مثل العبد. فللموصي له أن يستخدم جميع العبد سنة متوالية حتى يستوفي جميع وصيته. والورثة يمنعون من التصرف في رقبة العبد حتى تمضي السنة، فإن باعوه قبلها كان في بيعه قولان كالعبد المؤاجر. وإن لم يكن في التركة مال غير العبد ولا خلف الموصي سواه. ففي كيفية استخدام الموصي له سنة ثلاثة أوجه حكاها ابن سريج: أحدها: أن يستخدمه سنة متوالية، ويمنع الورثة من استخدامه والتصرف فيه حتى يستكمل الموصي له سنة وصيته ثم حينئذٍ يخلص للورثة بعد انقضائها. والوجه الثاني: أن يستخدم ثلث العبد ثلاث سنين ويستخدم الورثة ثلثيه حتى يستوفى الموصي له سنة وصيته من ثلث العبد في ثلاث سنين، لأن لا يختص الموصي له بما لم يحصل للورثة مثلاه. والوجه الثالث: أنه يتهيأ عليه الموصي له والورثة، فيستخدمه الموصي له يومًا، والورثة يومين حتى يستوفي سنة وصيته في ثلاث سنين: والوجه الأول: أصح، لأنهم قد صاروا إلى ملك الرقبة فلم يلزم أن يقابلوا الموصي له بمثلي المنفعة، ولأن حق الموصي له في استخدام جميع العبد، فلم يجز أن يجعل من ثلثه، ولأن حقه متصل ومعجل فلم يجز أن يجعل مؤجلًا أو مفرقًا. فصل: فإن كانت الوصية بخدمة العبد على التأييد كأن قال: قد أوصيت لزيد بخدمة عبدي أبدًا، فالوصية جائزة إذا تحملها الثلث.

واختلف أصحابنا في الذي يعتبر قيمته في الثلث على وجهين: أحدهما: قاله في اختلاف العراقيين وهو اختيار ابن سريج أن تقوم جميع الرقبة في الثلث، وإن اختصت الوصية بالمنفعة، كما تقوم رقبة الوقف في الثلث وإن ملك الموقوف عليه المنفعة. فعلي هذا: هل يصير الموصي له مالكًا الرقبة وإن منع من بيعها أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا يملكها لاختصاص الوصية بمنافعها. والثاني: يملكها، كما يملك أم ولده، وإن كان ممنوعًا من بيعها لتقويمها عليه في الثلث. وهذا قول أبي حامد المروزي. وهذا إذا قيل إن الرقبة هي المقومة. والوجه الثاني: أنه يقوم منافع العبد في الثلث دون رقته، لأن التقويم إنما يختص بما تضمنته الوصية ولا يجوز أن يتجاوز بالتقويم إلى غيره، ولأنه لو أوصي بالمنفعة إلى رجل، وبالرقبة لغيره، لم يقوم في حق صاحب المنفعة إلا المنفعة دون الرقبة. كذلك إذا استبقي الرقبة على ملك الورثة. واعتبار ذلك أن يقال: كم قيمة العبد بمنافعه فإذا قيل مائة دينار. قيل: وكم قيمته مسلوب المنافع فإذا قيل عشرون دينارًا على أن قيمة منافعه ثمنانون دينارًا، فتكون هي القدر المعتبر من الثلث فعلي هذا: هل يحتسب الباقي من قيمة الرقبة وهو عشرون دينارًا على الورثة أم لا؟ على وجهين أحدهما: يحتسب به عليهم، لأنه قد دخل في ملكهم. وهذا قول أبي إسحاق المروزي. والوجه الثاني: لا يحتسب به عليهم، لأنه ما زالت عنه المنفعة زال عنه التقويم، فإذا ثبت ما ذكرناه، وخرج القدر الذي اعتبرناه من الثلث صحت الوصية بجميع المنفعة، وكان للموصي له استخدامه أبدًا ما دام حيًا، وأخذ جميع أكسابه المألوفة. وهل يملك ما كان غير مألوف منها كاللقطة؟ على وجهين أصحهما يملكه وفي نفقته ثلاثة أوجه: أحدها: وهو قول أبي سعيد الاصطخري أنها على الموصي له بالمنفعة، لأن المنفعة تختص بالكسب. والثاني: وقول أبي علي بن أبي هريرة: أنها على الورثة لوجوبها بحق الملك. والوجه الثالث: حكاه أبو حامد الإسفراييني تجب في بيت المال، لأن كل واحد من مالكي الرقبة والمنفعة، ولم يكمل فيه استحقاق وجوبها عليه، فعدل بها إلى بيت المال، فإذا مات الموصي له، فهل تنتقل المنفعة إلى وارثه أم لا؟ على وجهين حكاهما أبو علي الطبري في إفصاحه. أحدهما: أن المنفعة تنتقل إلى ورثته لتقومها على الأبد في حقه. فعلي هذا: تكون المنفعة، مقدرة بحياة العبد. والوجه الثاني: قد انقطعت الوصية بموت الموصي له، لأنه وصي له في عينه بالخدمة، لا لغيره. فعلي هذا: تكون المنفعة مقدرة، بحياة الموصي له، ثم تعود بعد موته إلى ورثة الموصي.

فصل: وإن لم يخرج ما قومت به المنافع كلها من الثلث وخرج بعضها منه كان للموصي له منها، قدر ما احتمله الثلث، مثل أن تكون قيمة المنافع على ما بيناه: ثمانون دينارًا، وقد احتمل الثلث منها أربعين دينارًا، استحق من منافعه النصف، لاحتمال الثلث للنصف، وإن احتمل الثلث منها عشرين دينارًا، استحق من منافعه الربع لاحتمال الثلث للربع. فعلي هذا: إذا كان هذا الذي احتمله الثلث نصف الخدمة ففيه وجهان: أحدهما: يستخدم الموصي له نصف العبد بأخذ النصف من كسبه ويستخدم الورثة النصف الآخر بأخذ النصف الآخر من كسبه. والوجه الثاني: أنه ينهانا عليه الورثة، والموصي له يومًا ويومًا أو أسبوعًا وأسبوعًا. فأما لنفقة: فإن قبل بوجوبها على مالك الرقبة كانت على الورثة. وإن قيل بوجوبها على مالك المنفعة، كانت بين الموصي له والورثة نصفين لاشتراكهما بالتسوية في منفعته، ولو تفاضلا فيها لفضل بينهما بقدرها. فأما زكاة الفطر: فلا تجب على الموصي له بالمنفعة بحال، سواء ملك جميعها أو بعظها وفي وجوبها على الورثة وجهان: أحدهما: تجب عليهم لتعلقها بالرقبة. والثاني: تسقط ولا تجب، لأن ملكهم لم يكمل، وصارت كزكاة المكاتب والله أعلم. فصل: وأما بيع هذه العبد الموصي بخدمته. فإن أراد الموصي له بخدمته له بالمنفعة بيعه: لم يجز، سواء ملك جميع المنفعة أو بعضها، وسواء قيل إنه مالك أو غير مالك وإن أراد ورثة الموصي بيعه، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجوز لثبوت الملك. والثاني: لا يجوز لعدم المنفعة. والثالث: يجوز بيعه من الموصي له بالمنفعة، ولا يجوز من غيره، لأن الموصي له ينتفع به، دون غيره. فصل: وأما عتقه، فإن أعتقه الموصي له بالمنفعة، لم يجز لاختصاص حقه بالمنفعة، سواء قومت الرقبة في حقه أم لا؛ لأن تقويمها عليه في أحد الوجهين لاستحقاقه كل المنفعة لا غير وإن أعتقه ورثة الموصي ففي نفوذ عتقهم وجهان: أحدهما: ذكره أبو الحسن بن القطان: أنه لا ينفذ عتقهم. وهذا على الوجه الذي يجعل الرقبة دخلت في ملك الموصي له. والوجه الثاني: وهو الأصح. أن عتقهم نافذ وإن لم يملكوا الانتفاع والبيع كالمكاتب فعلي هذا تكون الوصية بالمنفعة على حالها للموصي له بها. وليس للمعتق أن يرجع ببدل منافعه على الورثة المعتقين بخلاف العبد إذا أجره سيده، ثم أعتقه في مدة إجارته، فإنه يرجع على سيده ببدل منافعه، بعد عتقه في أحد القولين، والفرق بينهما أن

المعتق في الإجارة هو واحد، وفي الوصية اثنين. فصل: وإذا جني العبد الموصي بمنافعه جناية فعلي ضربين: أحدهما: أن تكون جناية عمد توجب القود، فإذا اقتص منه وكانت في النفس بطلت الوصية في باقيه. وإن كانت في طرف أو جرح بطن فيها، فإن كان باقي المنافع بعد القصاص، كالأنثى والذكر: كانت الوصية بحالها. وإن ذهب منافعه بعدها، كاليدين والرجلين بطلت الوصية بمنافعه لفواتها بالقصاص. والصرب الثاني: جناية خطأ توجب الأرش، فإذا وجب أرشها، فإن فداه مالك الرقبة، كان الموصي له على حقه من المنفعة، ولم يرجع عليه بالأرش، وإن فداه مالك المنفعة، كان الورثة على حقوقهم من ملك الرقبة، ولم يرجع عليهم بالأرش. وإن لم يفده واحد منهما، لم يجبر أحدهما عليهما، وبيع منه بقدر جنايته بخلاف أم الولد التي يؤخذ أرش جنايتها من سيدها، لأن سيدها هو المانع من بيعها، وليس كذلك مالك الرقبة، ولا مالك المنفعة. وإذا كان هذا كذلك نظر في الأرش، فإن كان بمثل قيمة العبد كله بيع في جنايته، وقد بطلت الوصية. وإن كان بمثل النصف من قيمته، بيع نصفه، ومالك مشتريه نصف رقبته ونصف منافعه، لأنه ملك بالابتياع نصفًا تامًا. فأما النصف الآخر فهو على ما كان عليها من حكم الوصية، فينظر فيه، فإن كان الموصي له مالكًا لكل منافعه، صار بعد البيع مالكًا لنصفها وصار المشتري والموصي له شريكين في منافعه، وإن كان الموصي له قد ملك نصف المنافع، لعجز الثلث عن جميعها صارت منافع النصف الباقي بين الموصي له وبين الورثة نصفين لخروج النصف المبيع من الحقين، فتنقسم المنافع بينهم على أربعة أسهم. فصل: وأما الجناية على العبد الموصي بمنافعه، فلها حالتان: حالة توجب القود، وحالة توجب الأرش، فإن وجب القود، فالخيار فيه للورثة، دون الموصي له بالمنفعة، وإن اقتص: كان له، وإن عفار عن القصاص إلى المال كان له، وإن عفا عن القصاص والمال، صح عفوه عن القصاص، وفي صحة عفوه عن المال وجهان على ما نذكره من مستحق المال. وإن كانت الجناية توجب الأرش: لم يخل حال العبد بعد الجناية من أحد أمرين: إما أن يكون باقي المنافع أو تالفها، فإن كانت منافعه لاختصاص الجناية بما لا يؤثر في منافعه، كجدع أنفه، وجب ذكره، فهو ملك للورثة دون الموصي له بالمنفعة، لأن المنفعة بكمالها، لم تؤثر الجناية فيها، وإنما أثرت في رقبته التي لا حق له فيها .. وإن كانت المنافع تالفة كحدوث الجناية على نفسه، ففي مستحق جنايته أربعة أوجه: أحدها: أنها لمالك المنفعة، لأنها من منافعه.

والوجه الثاني: أنها للورثة، لأنها بدل من الرقبة. والوجه الثالث: أنها مقسطة بين مالك المنفعة ومالك الرقبة عن قدر القيمتين، كما ذكرنا من قبل في تقويم المنفعة. والوجه الرابع: أنه يشتري بقيمته عبد مثله يكون مكانه، وعلى حكمه فتكون رقبته للورثة، ومنافعه للموصي له، والله أعلم. فصل: إن كان الموصي بمنافعه أمة: جاز أن تزوج لاكتساب المهر ويملك الولد، وفي مستحق تزويجها ثلاثة أوجه: أحدها: مالك المنفعة؛ لأن المهر له. والثاني: مالك الرقبة، لأن الملك له. والثالث: ليس لواحد من مالك المنفعة والرقبة أن ينفرد بتزويجها، حتى يجتمعا عليه معًا، لأن لكل واحد منهما فيها حقًا، فإذا تزوجت كان مهرها لمالك المنفعة، ولأنه من كسبها المألوف، فإن جاءت بولد ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون للموصي له بمنافعها، لأنه من كسبها. والثاني: أنه للورثة، لأنه عبد معهود من كسبها، وأنه تابع لرقبتها. والثالث: لا أنه يكون في حكم الأم، رقبته للورثة، ومنافعه للموصي له، لأن حكم الولد حكم أمه. فإن أراد الموصي له بالمنفعة وطء الأمة، لم يجز، لأنه لا يملكها، وإن وطأها حد المستأجر في وطئها، لأن الإجارة تناولت الخدمة وليس الوطء خدمة والوصية تناولت المنفعة، والوطء منفعة، وإنما منع لأجل الرقبة، ثم لا مهر عليه، لأن مهرها لو وجب لصار إليه. فإن جاءت بولد كان حرًا لاحقًا لمكان الشبهة وفي قيمته ثلاثة أوجه: الأول: قيمته لمالك المنفعة. والثاني: قيمته للورثة، إذا قيل إن الولد يكون لهم. والثالث: أن يشتري بقيمة الولد من يكون كالأم ملكًا، للورثة رقبته، وللموصي له منفعته، ولا تكون أم ولد الموصي له، لأنه لا يملكها. فإن ملكها من ثاني حال، ففي كونها له أم ولد بذلك الولد قولان: فأما إن وطئها مالك الرقبة، وهو الوارث، فلا حد عليه، وإن كانت محرمة عليه، لمكان الشبهة في ملكه للرقبة، وعليه مهرها للموصي له بالمنفعة، ويكون ولده منها حرًا، يلحق به. وفي قيمته ثلاثة أوجه: أحدها: لا قيمة عليه، إذا قيل إنها له. والثاني: عليه قيمتها للموصي له، إذا قيل إنها له. والثالث: أن يشتري بالقيمة من يكون مكانه وفي حكم الأم.

وهل تصير له أم ولد أم لا؟ على وجهين كما لو أعتقها. فصل: وإذا أوصي بخدمة عبده لرجل وبرقبته لآخر صحت الوصية لهما بما سمي لكل واحد منهما، وكان تقويم الرقبة في حقهما وتسقط القيمة في وصيتهما، بأن تجعل قيمة الرقبة مسلوبة المنافع، هو القدر الموصي به لصاحب الرقبة، وما زاد عليها إلى استكمال قيمته بمنافعه، هو القدر الموصي به لصاحب المنفعة، وهذا ما لم يختلف أصحابنا فيه. فصل: فأما إذا أوصي له بغلة داره: فكالوصية بخدمة عبده، إن كان مقدرة بمدة، قومت المنفعة في الثلث على ما ذكرنا من الوجهين: فإذا خرجت من الثلث، اختص بغلة تلك المدة على ما ذكرنا من الأوجه الثلاثة التي حكاها ابن سريج. وإن كانت مؤبدة ففيما تقوم به في الثلث وجهان. أحدهما: جميع الرقبة. والثاني: المنفعة، وذلك ما بين قيمتها كاملة المنفعة ومسلوبة المنفعة. فإن احتاجت الدار إلى نفقة من مرمة. لم يلزم ذلك واحدًا منها. إلا أن يتطوع به أحدهما. فإن انهدمت الدار: فقط سقط حق الموصي به بالغلة. فإن بناها الوارث جاز ولم يمنع ثم نظر. فإن بناها بغير تلك الآلة: فلا حق للموصي له بالمنفعة في تمليكها؛ لأنها غير تلك الدار. وإن بناها بتلك الآية ففي استحقاقه لغلتها وجهان: أحدهما: يستحقها الموصي له لمكان الآلة. والثاني: لا حق له فيهما وتكون الدار للوارث لمكان العمل وانقطاع الوصية بالهدم. ولو أراد الموصي له، بعد هدمها أن يبنيها، فإن كان بغير تلك الآلة لم تكن له، وإن كانت بتلك الآلة فعلي وجهين: إن قيل إنه يملك رقبتها: كان له بناؤها. وإن قيل لا يملكها فليس له. فصل: فأما إذا أوصي له بثمرة بستانه، فذلك ضربان: أحدهما: أن تكون الثمرة موجودة، فالوصية بها صحيحة وتعتبر قيمة الثمرة عند موت الموصي، لا حين الوصية، فإن خرجت من الثلث: فهي للموصي له. وإن خرج بعضها: كان له منها قدر ما احتمله الثلث وكان الورثة شركاء فيها بما لم يحتمله الثلث منها. والضرب الثاني: أن يوصي بثمرة لم تخلق أبدًا: فهذا على ضربين: أحدهما: أن يوصي بثمرته على الأبد: فالوصية جائزة وفيما يقوم في الثلث وجهان: أحدهما: جميع البستان. والثاني: أن يقوم كامل المنفعة، ثم يقوم مسلوب المنفعة، ثم يعتبر ما بين القيمتين

من الثلث، فإن احتمله نفذت الوصية بجميع الثمرة أبدًا ما بقي البستان، وإن احتمل بعضه كان للموصي له قدر ما احتمله الثلث يشارك فيه الورثة مثل أن يحتمل النصف فيكون للموصي له النصف من ثمرة كل عام، وللورثة النصف الباقي وإذا احتمل الثلث جميع القيمة، وصارت الثمرة كلها للموصي له، فإن احتاجت إلى سقي، فلا يجب على الورثة السقي، بخلاف بائع الثمرة، حيث وجب عليه سقيها للمشتري إذا احتاجت إلى السقي، لأن البائع عليه تسليم ما تضمنه العقد كاملًا، والسقي من كماله وليس كذلك الوصية، لأن الثمرة تحدث على ملك الموصي، ولا يجب على الموصي له سقيها، لأنها بخلاف نفقة العبد، لأن نفقة العبد مستحقة لحرمة نفسه، بخلاف الثمرة. وكذلك لو احتاجت النخل إلى سقي: لم يلزم واحد منهما. وأيهما تطوع به لم يرجع به على صاحبه، فإن مات النخل، أو استقطع فأجذاعه للورثة دون الموصي له، وليس للموصي له أن يغرس مكانه ولا إن غرس مكانه نخيلًا، وكان للموصي فيه حق، لأن حقه في النخل الموصي له به دون غيره. والثاني: أن يوصي بثمر له مدة مقدرة. كأن أوصي له بثمرة عشر سنين، فمن أصحابنا من ذهب إلى بطلان الوصية مع التقدير بالمدة. بخلاف المنفعة، لأن تقويم المنفعة المقدرة ممكن وتقويم الثمار المقدرة بالمدة غير ممكن. وذهب سائر أصحابنا إلى جوازها كالمنفعة، وفيما يقوم في الثلث وجهان: أحدهما: أنه يقوم البستان كامل المنفعة، ويقوم مسلوب المنفعة، ثم يعتبر ما بين القيمتين في الثلث. والثاني: أن ينظر أوسط ما يثمره النخل غالبًا في كل عام، ثم يعتبر قيمة الغالب من قيمة الثمرة في أول عام، ولا اعتبرا بما حدث بعده من زيادة ونقص، فإن خرج جميعه من الثلث، فقد استحق جميع الثمرة في تلك المدة. وإن خرج نصفه. فله النصف من ثمرة كل عام، إلى انقضاء تلك المدة وليس له أن يستكمل هذه كل عام في نصف تلك المدة، لأنه قد تختلف ثمرة كل عام في المقادير والأثمان، فخالف منافع العبد والدار. ومثل الوصية بثمرة البستان: أن تكون له ماشية فيوصي لرجل برسلها ونسلها. وتجب نفقة الماشية، كوجوب نفقة العبد، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «ولو كان أكثر من الثلث فأجاز الورثة في حياته لم يجز ذلك إلا أن يجيزوه بعد موته». قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا أوصي بأكثر من ثلثه، وسأل وارثه إجازة

وصيته، فأجازها في حياته، لم يلزمه الإجازة وكان مخيرًا بعد الموت بين الإجازة والرد وبه قال أبو حنيفة، وأكثر الفقهاء. وقال الحسن البصري، وعطاء، الزهري، قد لزمتهم الإجازة، سواء أجازوا في الصحة، أو في المرض وقال مالك، والأوزاعي، وابن أبي ليلي: إن أجازوه في الصحة: لم يلزمهم وإن أجازوه في المرض: لزمهم استدلالًا، بأن التركة بين الموصي والورثة فإذا اجتمعوا فيها على عطية لم يكن عليهم فيها اعتراض، كالمفلس مع غرمائه، والمرتهن مع راهنه. وهذا فاسد من وجوه: أحدهما: أن الإجازة إنما تصح ممن يملك ما أجاز. وهو قبل الموت، لا يملكه فلم تصح منه إجازته. والثاني: أنه يملك الإجازة من يملك الرد. فلما لم يملك الرد في حال الحياة، لم يملك الإجازة. والثالث: أن الإجازة إنما تصح من وارث، وقد يجوز أن يصير هذا المجيز غير وارث فلم تصح منه الإجازة. والرابع: أن إجازته قبل الإرث، كعفوه عن الشفعة قبل البيع وعن العيب قبل الشراء، وذلك مما لا حكم له. وكذلك الإجازة قبل الموت وبذلك المعني فارق الغرماء مع المفلس، والمرتهن مع الراهن لاستحقاقهم لذلك في الحال. فصل: فإذا ثبت أن إجازة الورثة في حال الحياة غير لازمة، فالأولى لهم إمضاء ما أجازوه؛ لأن في ذلك صدقًا في قول، ووفاء بوعد، وبعدًا من عذر، وطاعة للميت، وبرًا للحي. وكذلك لو أجازوا وصيته لبعض ورثته في حياته. وسواء شهد عليهم بالإجازة أو لم يشهد. مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «ولو قال أعطوه رأسًا من رقيقي أعطي ما شاء الوارث معيبًا كان أو غير معيب». قال في الحاوي: وهذا صحيح والكلام فيها يشتمل على فصلين: أحدهما: أن يوصي برأس من رقيقه. والثاني: أن يوصي برأس من ماله. فأما إذا أوصي برأس من رقيقه: فهذا على ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكون له عند الوصية رقيق يخلفهم من تركته. فالوصية جائزة فإن خلف رأسًا واحدًا: فهو للموصي له. وإن خلف جماعة فالخيار إلى الورثة، في دفع أيهم شاؤوا من صغير أو كبير، وصحيح أو مريض، ذكر أو أنثي، مسلم أو كافر، لأن كل واحد منهم ينطلق عليه اسم رأس من رقيق.

فأما الخنثى المشكل: ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول الربيع. أنه لا يجوز لخروجه عن العرف. ولكن لو قال أمة: لم يجز أن يعطي عبدًا ولا خنثى. ولو قال عبدًا: لو يجز أن يعطي أمة، ولا خنثي. ولو كان في كلامه ما يدل على مراده: حملت الوصية على ما يدل عليه مراده، كقوله: «أعطوه رأسًا يستمتع بها»، فلا يعطي إلا امرأة، لأنها هي المقصودة بالمنفعة. ولو قال: رأسًا يخدمه، لم يعط إلا صحيحًا؛ لأن الزمن لا خدمة فيه، وكذلك الصغير، ولو أراد الورثة أن يشتروا له رأسًا، لا من رقيقه لم يجز:، لأنه عين الوصية في رقيقه. والثاني: أن لا يكون له عند الوصية يرأس من رقيقه رقيق، ولا يملك بعد الوصية رقيقًا، فالوصية باطلة:، لأنه أحالها إلى رقيق معدوم. والثالث: أن لا يكون له عند الوصية برأس من رقيقه، ويملك بعد الوصية وقبل الموت رقيقًا، ففي صحة الوصية وجهان، كمن أوصي بثلث ماله ولا مال له: أحدهما: جائزة، والثاني: باطلة. فصل: وأما إن أوصي برأس من رقيق من ماله. فالوصية جائزة، سواء خلف رقيقًا أم لا، لأنه جعل وصيته بالرقيق في المال، والمال موجود. وإن لم يكن له رقيق، كان الورثة بالخيار في شراء ما شاؤوا من الرقيق. وإن كان له رقيق: فالورثة بالخيار بين أن يعطوه رأسًا منهم، وبين أن يشتروا له. فصل: ولو أوصي بعبده النوبي، ولم يكن له إلا عبدًا زنجي، لم يعط إلا النوبي، ولو كان له جماعة من العبيد النوب: أعطوه أي النوبي شاؤوا. ولو قال: أعطوه عبدي سالمًا الحبشي، فاجتمع الاسم والجنس في عبد فكان له عبد حبشي يسمي سالمًا: صحت فيه، ولو كان له عبدًا يسمي سالمًا، وليس بحبشي، وعبدًا حبشي وليس بسالم: فالوصية باطلة، لأن الصفتين اللتين علق بهما وصية من الاسم والجنس لم يجتمعا. فصل: فلو شهد شاهدان أنه أوصي لزيد بعبده سالم الحبشي وكان له عبدان حبشيان اسم كل واحد منهما سالم. فإن عينا الموصي به منهما: صحت شهادتهما في الوصية لمن عيناه، وإن لم يعين الشاهدان أحدهما، ففي شهادتهما قولان حكاهما ابن سريج: أحدهما: باطلة، للجهل بها والشهادة المجهولة مردودة، ويكون القول قول الوارث في إنكار الوصية وإثباتها. والثاني: أن الشهادة جائزة، لأنها تضمنت وصية لا يؤثر فيها الجهالة بها، ثم فيها وجهان حكاهما ابن سريج: أحدهما: أن العبدين موقوفين بين الموصي له والوارث حتى يصطلحوا على

الموصى له منهما، لأنهما أشكلًا بالشهادة عليهم، لا باعترافهم فلم يرجع إلى بيانهم. والثاني: أنه يرجع إلى بيان الورثة في أي العبدين شاءوا، لأن وجوب الوصية بالشهادة، كوجوبها باعترافهم فوجب أن يرجع في الحالين إلى بيانهم. مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «ولو هلكت إلا رأسًا كان له إذا حمله الثلث». قال في الحاوي: أما إذا أوصي برأس من ماله: فالوصية حائزة لا تبطل بموت رقيقة إذا كان ماله باقيًا. فأما إذا أوصي برأس من رقيقه فقد مضي الكلام إذا لم يمت منهم أحد. وأما إذا حدث فيهم موت فعلي ضربين: أحدهما: أن يهلك جميعهم. والثاني: بعضهم. فإن هلكوا جميعًا فعلي ضربين: أحدهما: أن يكون هلاكًا غير مضمون كالموت، فالوصية قد بطلت، إلا أنه إن كان قبل موت الموصي، فلا وصية، وإن كان بعده فقد هلك ذلك من مال الموصي له والورثة جميعًا. والثاني: أن يكون هلاكهم مضمونًا كالقتل الذي يوجب ضمان قيمتهم على قاتلهم، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون قتلهم بعد موت الموصي: فالوصية صحيحة، لأن القيمة قائمة مقامهم، ثم للورثة أن يعطوه قيمة أيهم شاؤوا، كما كان لهم مع بقائهم أن يعطوا أيهم شاؤوا. والثاني: أن يكون قتلهم قبل موت الموصي ففي الوصية وجهان: أحدهما: جائزة، لأن القيمة بدل منهم. فصار كوجودم فعلي هذا يعطونه قيمة أيهم شاؤوا. والثاني: أنها باطلة، لأن انتقالهم إلى القيمة في القتل كانتقالهم إلى الثمن في البيع، فلما كان بيعهم في حياة الموصي موجبًا لبطلان الوصية كذلك قتلهم في حياة الموصي موجبًا لبطلان الوصية. ومن قال بالوجه الأول يفرق بين البيع والقتل بأن البيع كان باختيار الموصي، فكان رجوعًا. والقتل بغير اختياره، فلم يكن رجوعًا. فصل: وإن هلك بعضهم وبقي بعضهم كأنهم هلكوا جميعًا إلا واحدًا منهم، فهذا على ضربين:

أحدهما: أن يهلك من هلك منهم بالموت دون القتل، فالوصية قد بقيت في العبيد الباقي، ولا خيار للورثة في العدول بها إلى غيره لتعيينها من رقيقه. والثاني: أن يكون هلاكهم بالقتل المضمون فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون قتلهم قبل موت الموصي، فالوصية بقيت في العبد الباقي، وليس للورثة أن يعدلوا بها إلى قيمة أحد المقتولين قبل موت الموصي. نص عليه الشافعي، لأن بقاء الجنس للموصي به، يمنع من الرجوع إلى غيره. والثاني: أن يكون قتلهم بعد موت الموصي ففيه وجهان: أحدهما: أن الوصية متعينة في العبد الباقي فليس للورثة أن يعدلوا بها إلى قيمة أحد المقتولين، كما ليس لهم ذلك إذا كان القتل قبل موت الموصي. والثاني: أن للورثة الخيار في أن يعطوه العبد الباقي، أو يعدلوا به إلى قيمة أحد المقتولين، كما لهم الخيار لو قتلوا جميعًا في أن يعطوه قيمة أيهم شاؤوا. فصل: فلو كان لرجل ثلاثة عبيد فأوصي لرجل بثلثهم، استحق من كل واحد الثلث، ولم يكن له أحدهم كاملًا، إلا أن تراضيه الورثة عليه سلمًا. فصل: ولو قال لورثته استخدموا عبدي سنة بعد موتي، ثم هو بعد السنة وصية لفلان جاز ولم تقوم خدمة السنة على الورثة في حقهم، لنهم قبل السنة استخدموا ملكهم، وليس كالموصي له بخدمة سنة، حيث قومت خدمة السنة في حقه؛ لأنه استخدم بالوصية غير ملكه. ولو قال: استخدموا عبدي سنة ثم أعتقوه عني، كان لهم استخدامه ثم عتقه، بعد الخدمة، ويقوم العبد في سنة الوصية في العتق، بعد خدمة السنة من موت الموصي، لأنه لا يجوز أن نعتبر قيمته في الحال التي لا يملك بالوصية ولا يحرر بالعتق. مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «ولو أوصي له بشاةٍ من ماله قيل للورثة أعطوه أو اشتروها له صغيرة كانت أو كبيرة ضائنة أو ماعزة». قال في الحاوي: وهذا صحيح. إذا أوصي لرجل بشاة من ماله: فالوصية جائزة، ترك غنمًا، أو لم يترك، لأنه جعلها من ماله. ويعطيه الورثة ما شاؤوا من ضان أو معز، صغير أو كبير، سمين أو هزيل. ومن استحقاق الأنثى وجهان: أحدهما: وهو الظاهر من نص الشافعي: أنه يعطي إلا أنثي، لأن الهاء موضوعة للتأنيث. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة. أن الورثة بالخيار في إعطائه، ذكرًا أو أنثي، لأن الهاء من أصل الكلمة من اسم الجنس، فاستوي فيه الذكر والأنثى. ولكن لو قال شاة من غنمي، وكانت غنمه كلها

إناثًا، لم يعط إلا أنثى. وكذلك لو كانت كلها ذكورًا: لم يعط إلا ذكرًا منها، ولو لم يخلف غنمًا كانت الوصية باطلة. وكذلك لو دل كلامه على المراد منها: حمل عليه مثل قوله: شاة ينتفع بدرها، ونسلها، لم يعط إلا من الضأن. ولا يجوز إذا أوصى بشاة من ماله أن يعطي غزالًا أو ظبيًا، وإن انطلق اسم الشاة عليهما مجازًا. ولكن لو قال: شاة من شياهي، ولم يكن في ماله إلا ظبي، ففيه وجهان: أحدهما: أن الوصية باطلة، لأن اسم الشاة يتناول الغنم، وليس في تركته، فبطلت. والثاني: أن تصح؛ لأنه لما أضاف ذلك إلى شياهه، وليس في ماله إلا ما ينطلق عليه مجاز الاسم، دون الحقيقة حمل عليه، وانصرفت وصيته إلى الظبي الموجود في تركته، حتى لا تبطل وصيته. مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «ولو قال بعيرًا أو ثورًا لم يكن لهم أن يعطوه ناقة ولا بقرة. ولو قال عشر أينق أو عشر بقراتٍ لم يكن لهم أن يعطوه ذكرًا. ولو قال عشرة أجمال أو أثوار لم يكن لهم أن يعطوه أنثى، فإن قال عشرة من إبلي أعطوه ما شاؤوا». قال في الحاوي: أما إذا أوصى له بثور: لم يعط إلا ذكرًا، لأن الثور اسم للذكور، دون الإناث، ولو قال بقرة: لم يعط إلا أنثي؛ لأن الهاء موضوعة للتأنيث، وكان بعض أصحابنا يخرج في البقرة وجهًا آخر، أنه يجوز أن يعطي ذكرًا أو أنثي كالشاة؛ لن الهاء من أصل اسم الجنس ولا يجوز أن يعدل في الوصية بالثور والبقرة إلى الجواميس، بخلاف الشاة التي ينطلق عليها اسم الضأن والمعز، إلا أن يكون من كلامه ما يدل عليه أو يقول بقرة من بقري وليس له إلا الجواميس، وإن كان اسم البقر يتناولها مجازًا؛ لن إضافة الوصية إلى التركة، قد صرف الاسم عن حقيقته إلى مجازه، ولا يجوز أن يعدل به إلى بقر الوحش، فإن أضاف الوصية إلى بقرة، ولم يكن له إلا بقر الوحش، فعلى ما ذكرناه من الوجهين في الظبي. فصل: فأما إذا أوصى ببعير فمذهب الشافعي: أنه لا يعطي إلا ذكرًا، لأن اسم البعير بالذكور أخضر، وقال بعض أصحابنا: هو اسم للجنس فيعطي ما شاء الوارث من ذكر أو أنثي، فأما إذا أوصى له بجمل: لم يعط إلا ذكرًا لاختصاص هذا الاسم بالذكور، ولو أوصى بعشرة من إبله أعطاه الوارث ما شاء من ذكور وإناث، وسواء أثبت التاء في العدد، أو أسقطها. ومن أصحابنا من قال: إن أثبت التاء في العدد فقال: عشرة من إبلي. لم يعط إلا من الذكور، لأن عددها بإثبات التاء. وإن أسقط التاء في العدد: فقال

عشر من إبلي لم يعط إلا من الإناث، لأن عددها بإسقاط التاء. ألا ترى أنه يقال: عشر نسوة، وعشرة رجال. وهذه الأوجه له، لأن اسم الإبل إذا كان يتناول الذكور والإناث تناولًا واحدًا، صار العدد فيها محمولًا على القدر، دون النوع وأما إذا قال: أعطوه مطية، أو راحلة. فذلك يتناول الذكور والإناث، فيعطيه الوارث منهما ما شاء والله أعلم. مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «فإن قال أعطوه دابة من مالي فمن الخيل أو البغال أو الحمير ذكرًا كان أو أنثي صغيرًا أو كبيرًا أعجف أو سمينًا». قال في الحاوي: وهذا صحيح. أما اسم الدواب: فينطلق على كل ما دب على الأرض من حيوان اشتقاقًا من دبيبه عليها، قال الله تعالى: {ومَا مِن دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] غير أنه في العرف مختص ببعضها، فإن قال: أعطوه دابة من دوابي، قال الشافعي: يعطي من الخيل أو البغال، أو الحمير. واختلف أصحابنا: فكان أبو العباس بن سريج يحمل ذلك على عرف الناس بمصر، حيث قال ذلك فيهم، وذكره لهم اعتبارًا، لأن اسم الدواب في عرفهم منطلق على الأجناس الثلاثة من الخيل، والبغال، والحمير. فأما بالعراق والحجاز، فلا ينطلق إلا على الخيل ولا يتناول غيرها إلا مجازًا بعرف بقرينته، فإن كان هذا الموصي بمصر: خير ورثته بين الخيل والبغال والحمير، وإن كان بالعراق: لم يعطوه إلا من الخيل. وقال أبو إسحاق المروزي، وأبو علي بن أبي هريرة بل الجواب محمول على ظاهرة في كل البلاد، لأن اسم الدواب ينطلق على هذه الأجناس الثلاثة من الخيل، والبغال، والحمير. فإن شذ بعض البلاد بتخصيص بعضها بالاسم لم يعتبر به حكم العرف العام. فلو فرق ذلك بما يدل على التخصيص، حمل على قرينته، كقوله: أعطوه دابة يقاتل عليها، فلا يعطي إلا من الخيل عتيقًا، أو هجينًا، ذكرًا أو أنثي، ولا يعطي صغيرًا ولا قمحًا لا يطيق الركوب. ولو قال دابة يحمل عليها: أعطي من البغال، أو الحمير دون الخيل. ولو قال دابة ينتفع بنتاجها: أعطي من الخيل أو الحمير دون البغال، لأنها لا نتاج لها. ولو قال دابة ينتفع بدرها وظهرها: لم يعط إلا من الخيل، لأن لبنها من لبن غيرها من البغال والحمير: محظور. ولو قال: دابة من دوابي، ولم يكن في ماله إلا أحد الأجناس لم يعط غيره. ولو كان في ماله جنسان: أعطاه الوارث أحدهما، ولم يعطه الثالث الذي ليس من ماله، ولو قال دابة من مالي وكان في ماله أحد الأجناس. كان الوارث بالخيار، في إعطائه ذلك الجنس، أو العدل عنه إلى أحد الجنسين الآخرين شراء من غير ماله.

مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «ولو قال أعطوه كلبًا من كلابي أعطاه الوارث أيها شاء». قال في الحاوي: وهذا كما قال: الوصية بالكلب المنتفع به جائزة، لأنه لما جاز إحرازه من يد صاحبه، وحرم انتزاعه من يد صاحبه، جاز أن يكون وصية وميراثًا. فإذا أوصى بكلب، ولا كلاب له. فالوصية باطلة، لأنه لا يصح أن يشتري، ولا يلزم أن يستوهب. وإن كان له كلاب: فضربان، منتفع بها، وغير منتفع بها، فإن كانت كلاب كلها غير منتفع بها، فالوصية باطلة، لحظر اقتنائه وتحريم إمساكه، وإن كانت كلها منتفعًا بها، فكان له كلب حرث وماشية وكلب صيد نظر. فإن كان الموصي له صاحب حرث، وماشية، وصيد، فالوارث بالخيار في إعطائه أي كلب شاء، من حرث أو ماشية أو صيد. وإن كان الموصي له، ليس بصاحب حرث، ولا ماشية، ولا صيد، ففي الوصية وجهان: أحدهما: الوصية باطنة، اعتبارًا بالموصى له، وأنه غير منتفع به. والثاني: الوصية جائزة، اعتبارًا بالكلب، وأنه منتفع به، وأن الموصي له ربما أعطاه ما ينتفع به. وإن كان الموصي له ممن ينتفع بأحدها بأن كان صاحب حرث لا غير أو صاحب صيد لا غير، فالوصية جائزة وفيها وجهان. أحدهما: يلزم الوارث أن يعطيه الكلب الذي يختص بالانتفاع به، دون غيره اعتبارًا بالموصي له. والثاني: أن للوارث الخيار في إعطائه أي الكلاب شاء، اعتبارًا بالموصي به. فأما الوصية بالجرو الصغير المعد للتعليم، ففي جوازها وجهان، من اختلاف الوجهين في اقتنائه. أحدهما: اقتنائه غير جائز، والوصية به باطلة، لأنه غير منتفع به في الحال. والثاني: أن اقتنائه جائز، لأنه سينتفع به في ثاني حال، ولأن تعليمه منفعة في الحال. فصل: ولو كان لرجل ثلاث كلاب، ولم يترك شيئًا سواها، فأوصى بجميعها لرجل. فإن أجازها الورثة فله، وإلا ردت إلى ثلثها، ثم في كيفية رجوعها إلى الثلث وجهان: أحدهما: أنه يستحق من كل كلب ثلثه، فيحصل له ثلث الثلاثة، ولا يستحق واحدًا بكماله إلا (عن) مراضاته.

والثاني: أنه قد استحق بالوصية أحدها، بخلاف الأموال مقومة لا تختلف أثمانها وليست كالكلاب التي تقوم، فاستوي حكم جميعها. فعلي هذا فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي: أنه يأخذ أحدها بالقرعة. والثاني: أن للورثة أن يعطوه أيها شاؤوا. فصل: فأما إن كان له كلب واحد، وليس له مال غيره، أوصي به لرجل فهو كمنت أوصى بجميع ماله. فإن أجازه الوارث، وإلا كان للموصي له ثلثه، وللورثة ثلثا، ويكون بينهما على المهايأة. وإن ملك مالًا فأوصى بهذا الكلب الذي ليس له كلب سواه، ففي الوصية وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة: أن الوصية جائزة، والكلب كله، للموصي له به، لأن قليل المال خير من الكلب الذي ليس بمال. والثاني: وهو قول أبي سعيد الاصطخري. إن للموصي له ثلث الكلب، إذا منع الورثة من جميعه، وإن كثر مال التركة، لأنه مما لا يمكن أن يشتري، فيساويه الورثة فيما صار إليهم من المال، فاختص الكلب بحكمه، وصار كأنه جميع التركة. فلو ترك ثلاث كلاب، ومالًا. أوصى بجميع كلابه الثلاثة، فعلي قول أبي علي بن أبي هريرة، الوصية بجميع الكلاب الثلاثة ممضاة، وإن قل مال التركة، وعلى قول أبي سعيد الاصطخري: تصح الوصية في أحدها، إذا منع الورثة من جميعها. فصل: والوصية بالميتة جائزة، لأن قد يدبغ جلدها، ويطعم بزاته لحمًا. وكذلك الوصية بالروث، والزبل؛ لأنه قد ينتفع به في نخله وزرعه. فأما الوصية بالخمر والخنزير، فباطلة؛ لأن الانتفاع بهما محرم. ولو أوصي بجرة فيها خمر. قال الشافعي -رحمه الله- أريق الحمر ودفعت إليه الجرة؛ لأن الجرة مباحة، والخمر حرام. فأما الوصية بالحياة، والعقارب، وحشرات الأرض، والسباع والذباب: فباطلة، لأنه منفعة في جميعها. فأما الوصية بالفيل، فإن كان منتفعًا به: فجائز، لجواز أن يبيعه، ويقوم في التركة، ويعتبر من الثلث. وإن كان غير منتفع به: فالوصية باطلة فأما الفهد، والنمر، والشاهين، والصقر فالوصية بذلك كله جائزة، لأنها جوارح ينتفع بصيدها وتقوم في التركة لجواز بيعها، وتعتبر في الثلث. وأما الوصية بما تصيده كلابه فباطلة:، لأن الصيد، لمن صاده. مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «أعطوه طبلًا من طبولي وله طبلان للحرب

واللهو أعطاه أيهما شعاء فإن لم يصلح الذي للهو إلا للضرب لم يكن لهم أن يعطوه إلا الذي للحرب». قال في الحاوي: وأصل هذه المسائل أن الوصية بما لا منفعة فيه باطلة والوصية بما فيه على ثلاثة أضرب. منفعة مباحة، ومنفعة محظورة ومنفعة مشتركة بين الحظر والإباحة. فإن كانت المنفعة مباحة، جاز بيع ذلك، والوصية به. وإن كانت المنفعة محظورة: لم يجز بيعه ولا الوصية به. وإن كانت مشتركة: جاز بيعه والوصية به لأجل الإباحة، ونهي عن استعماله في الحظر. فإذا ثبت هذا: وأوصى له بطبل من طبوله، فإن لم يكن له إلا طبول الحرب، فالوصية به جائزة، لأن طبل الحرب مباح، ثم ينظر، فإن كان اسم الطبل ينطلق عليه بغير جلد، دفع إليه الطبل بغير الجلد. وإن كان لا ينطلق عليه الاسم إلا بالجلد: دفع إليه مع جلده. وإن كانت طبوله كلها طبول اللهو، فإن كانت لا تصلح إلا للهو فالوصية باطلة، لأن طبول اللهو محظورة. وإن كانت تصلح لغير اللهو في غير المنافع المباحة جازت الوصية بها. وإن كانت طبوله نوعين: طبول حرب، وطبول اللهو، فإن كانت طبول اللهو، لا تصلح لغير اللهو، لم يعط إلا طبل الحرب. وإن كانت طبول اللهو: تصلح لغيره من المباحات، كان الوارث بالخيار في إعطائه ما شاء من طبل لهو، أو حرب، لانطلاق الاسم عليها. إلا أن يدل كلامه على أحدهما، فيحمل عليه كقوله: أعطوه طبلًا للجهاد، أو الإرهاب، فلا يعطي إلا طبل الحرب. وإن قال طبلًا للفرح، والسرور: لم يعط إلا طبل اللهو. فأما الوصية بالدف العربي، فجائزة لورود الشرع بإباحة الضرب به في المناكح، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «ولو قال أعطوه عودًا منعيداني وله عيدان يضرب بها وعيدان قسي وعصي فالعود الذي يواجه به المتكلم هو الذي يضرب به فإن صلح لغير الضرب جاز بلا وتر». قال في الحاوي: وهذا صحيح. إذا قال: أعطوه عودًا من عيداني، فمطلق هذا الاسم يتناول عيدان الضرب واللهو وعيدان القسي، والعصي فإن كان عود الضرب لا يصلح لغير الضرب واللهو، فالوصية به باطلة وإن كان لا يصلح لغير اللهو فالوصية به جائزة، ويعطي بغير وتر، لانطلاق الاسم عليه، وإن لم يكن عليه وتر ينظر. فإن كان لا يصلح لغير اللهو إلا بعد تفصيله وتخليعه، فصل وخلع، ثم دفع إليه. وإن كان يصلح لغير اللهو: لم يفصل: ودفع إليه غير مفصل. مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «وهكذا المزامير».

قال في الحاوي: يعني أنه إن كان لا يصلح إلا للهو: فالوصية باطلة. وإن كان يصلح لغير اللهو: فالوصية به جائزة. ثم الكلام في التفضيل على ما مضي. فأما الشبابة التي ينفخ فيها مع طبل الحرب، وفي الأسفار فالوصية بها جائزة. مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «ولو قال عودًا من القسي لم يعط قوس ندافٍ ولا جلاهق وأعطي معمولة أي قوس نبل أو نشاب أو حسبان». قال في الحاوي: وهذا صحيح. إذا أوصى لرجل بقوس من القسي، فمطلق القوس يتناول قوس السهام العربية دون قوس النداف. والجلاهق الذي يرمي عنها البندق، فلا يعطي إلا قوس السهام العربية سواء أعطاه قوس نشاب وهي الفارسية، أو قوس نبل وهي العربية أو قوس حسان والخيار فيها إلى الوارث لاشتراك الاسم في جميعها، ولا يلزمه أن يدفع الوتر معه، لأنه يسمي قوسًا بغير وتر، وهكذا لو أوصي له بدابة: لم يعط سرجها، أو عبد: لم يعط كسوته. فأما إن قال: أعطوه قوسًا من قسي، وله قوس نداف، وقوس جلاهق: أعطي قوس الجلاهق التي يرمي عنها، لأنها أخص بالاسم. فإن لم يكن له إلا قوس ندف دفع إليه. ولو اقترن بكلامه ما يدل على مراده: عمل على ما دل عليه كلامه من القسي الثلاث، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «وتجعل وصيته في الرقاب في المكاتبين ولا يبتدأ منه عنق». قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا أوصى بثلثه في الرقاب، صرف في المكاتبين، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: يشتري به رقاب يعتقون. وأصل هذا اختلافهم في سهم الرقاب في الزكاة، هل ينصرف في العتق أو في المكاتبين. فمالك يقول: يصرف في العتق. والشافعي وأبو حنيفة: يصرفانه في المكاتبين، والدليل على ذلك قوله تعالى: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} [التوبة: 60]. فأثبت ذلك لهم بلام الملك، والعبد لا يملك فيصرف إليه، والمكاتب يملك فوجب صرفه إليه، ولأنه مصروف في ذوي الحاجات، ولأن مال الزكاة مصروف لغير نفع عاجل يعود إلى ربه فلو صرف في العتق لعاد إليه الولاء. فصل: فإذا تقرر أن سهم الرقاب في الزكاة يصرف إلى المكاتبين. وجب أن يكون سهام الرقاب في الوصية مصروفًا في المكاتبين، لأن مطلق الأسماء المشتركة محمولة على عرف الشرع المعتبر فيه.

مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «ولا يجوز في أقل من ثلاث رقاب فإن نقص ضمن حصة من ترك». قال في الحاوي: وهذا صحيح؛ لأن الثلاثة أقل الجمع المطلق، فلم يجز أن يتصرف سهم الرقاب في أقل من ثلاث. وإن زاد على الثلاثة كان حسنًا ولو اقتصر على الثلاقة مع وجود الزيادة أجزأ. ولا يلزم أن يسوي بينهم في العطاء، وسواء كان مال الوصية من جنس كتابتهم، أو من غيره. والأولى أن يدفعه إلى سيد المكاتب بإذنه فإن دفعه إلى المكاتب دون سيده أجزأ. ولو أبرأه السيد بعد أخذه، وقبل استهلاكه، لم يسترجع منه في الوصية، واسترجع منه في الزكاة؛ لأن الوصايا يجوز دفعها إلى الأغنياء بخلاف الزكاة. فلو لم يجد من المكاتبين ثلاثة: دفع إلى من وجد منهم ولو واحدًا. ولو وجد ثلاثة: لم يجز أن يقتصر على أقل منهم. فإن دفعه إلى اثنين من وجود الثالث: ضمن حصته وفيها وجهان حكاهما أبو إسحاق المروزي: أحدهما: يضمن الثلث، وقد أشار إليه الشافعي في الأم، لأن التفضيل جائز مع الاجتهاد، فإذا عدل عن الاجتهاد، لزم التسوية. والثاني: يضمن قدر ما كان يؤديه اجتهاده إليه لو اجتهد، لأن القدر الذي تعدي فيه. مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «فإن لم يبلغ ثلاث رقاب وبلغ أقل رقبتين يحدهما ثمنًا وفضل فضل جعل الرقبتين أكثر ثمنًا حتى يعتق رقبتين ولا يفضل شيئًا لا يبلغ قيمة رقبة». قال في الحاوي: وهذه مسألة أغفل المزني صورتها، ونقل جوابها، وقد ذكرها الشافعي نصًا في الأم. وصورتها في رجل قال: أعتقوا بثلثي رقابًا. أو قال حرروا بثلثي رقابًا. فهذا يشتري بثلثه رقاب يعتقون عنه ولا يصرف في المكاتبين، لأن ذكر العتق والتحرر صرفه عنهم. وأقل ما يشتري به ثلاث رقاب إذا أمكنوا. اعتبارًا بأقل الجمع فإن اتسع للزيادة على الثلاث: اشتري به ما بلغوا، ولا يقتصر على الثلاث مع إمكان الزيادة بخلاف صرف في المكاتبين حيث جاز الاختصار على الثلاثة مع إمكان الزيادة؛ لأنه يجوز أن يعطي الواحد من المكاتبين قليلًا أو كثيرًا، ولا يجوز في عتق الرقبة أن يزيد على ثمنها ولا

يتقص منه. فإن لم يبلغ مال الوصية ثمن ثلاث رقاب صرفه في رقبتين: فإن فضل من الرقبتين، ليكون أكثرهما ثمنًا، فتكون أكثر ثوابًا. وإن كان يقدر بالفضلة على بعض ثالثة، ففيه وجهان، حكاهما أبو إسحاق المروزي: أحدهما: أنه يشتري بالفضلة بعض ثالثة، لأن ذلك أقرب إلى الثلاث الكاملة. والثاني: وهو الظاهر من كلام الشافعي أنها تزد في ثمن الرقبتين؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن أفضل الرقاب فقال: «أكثرها ثمنًا، وأنفسها عند أهلها». ولأن في تبعيض الرقبة في العتق، إدخال ضرر على الرقبة، وعلى مالك الرقبة فيها، فكان رفع الضرر أولى. وأما إن اتسع الثلث لأكثر من ثلاث رقاب، فاستكثار العدد من استرخاص الثمن أولى من إقلال العدد مع استكثار الثمن وجهًا واحدًا، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «من أعتق رقبة، أعتق الله بكل عضو منها، عضوًا منه من النار، حتى الذكر بالذكر، والفرج بالفرج». مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «ويحزيء صغيرها وكبيرها». قال في الحاوي: وهذا كما قال. إذا أوصى أن يصرف ثلث ماله في عتق الرقاب، جاز أن يعتق عنه الذكور والإناث في إعتاق الخناثى وجهان: وجاز أن يعتق عنه الصغار والكبار، لانطلاق الاسم على جميعهم. وفي جواز عتق من لا يجزيء في الكفارة من الكبار، والزمني وجهان: تخرجا من اختلاف القولين في نذر الهدى، هل يلزم فيه ما يجوز في الأضاحي؟ أحدهما: يلزم، فعلي هذا، لا يجزئه إلا عتق من هي سليمة من العيوب المضرة. والثاني: لا يلزم: ويجوز أن يهدي كل مال، فعلي هذا يجزئه عتق الكافرة، والمؤمنة. فصل: وإذا أوصى أن يعتق بثلث ماله رقاب، أو اشتري بثلث ماله رقابًا، وأعتقوا ثم ظهر عليه دين يستوعب التركة، نظر في الرقاب، فإن كانوا قد اشتروا بعين الثلث: بطل الشراء لاستحقاق الثمن في الدين، ورد العتق لعدم الملك، وإن كانوا قد اشتروا في ذمة الوارث، لا بعين المال من الثلث نفذ عتقهم على الوارث، لثبوت الشراء في ذمته، ولزومه صرف الثلث في الدين. فصل: وإذا أوصى بعتق عبد بألف درهم، فكان الثلث خمسمائة درهم، اشترى بها عبدًا وأعتق عنه.

وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يعتق عنه بأقل من الألف، ويكون عجز الثلث عنها مبطلًا للوصية بالعتق، لأنه جعل الألف صفة في العتق مع العجز لعدم الصفة، وصار كقوله: أعتقوا عبدي الأسود، فإذا عدم الأسود، لم يجز أن يعتق غيره للوصية بالعتق، لأنه جعل الألف صفة في العتق فلم يصح العتق مع العجز لعدم الصفة وصار كقوله: أعتقوا عبدي الأسود، فإذا عدم الأسود، لم يجز أن يعتق غيره. وهذا فاسد، لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم». ولأنها وصية إذا عجز الثلث عنها، لم يسقط حكم ما احتمله منها، قياسًا على سائر الوصايا؛ ولأن العتق إذا ضاق الثلث عن احتمال جميعه، رد إلى ما احتمله الثلث من أجزائه، كالوصية بعتيق عبد بعينه، ولم يذكر للألف صفة، فتكون شرطًا، وإنما ذكرها قدرًا وجعلها في العتق حدًا. مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «ولو أوصي أن يحج عنه ولم يكن حج حجة الإسلام فإن بلغ ثلثه حجة من بلده أحج عنه من بلده وإن لم يبلغ من حيث بلغ. قال المزني -رحمه الله- والذي يشبه قوله أن يحج عنه من رأس ماله؛ لأنه فيقوله دين عليه». قال في الحاوي: وجملة ذلك أن للميت في الحج عنه حالتين: حالة يوصي به، وحالة لا يوصي به، فإن لم يوصي به، فلا يخلو حاله من أحد أمرين: إما أن يكون عليه حج واجب، أو لا حج عليه، فإن لم يكن عليه حج. لم يجز أن يتطوع عنه بالحج. وإن كان عليه حجة الإسلام، فمات قبل أن يوصي بها، فوجب أن يحج عنه من رأس ماله بأقل ما يوجد من ميقات بلده، وكذلك يخرج عنه من رأس ما وجب عليه من زكاة وكفارات وإن لم يوص بها. وقال أبو حنيفة: لا يصح لاحج عنه، ولا الزكاة، إلا بوصية منه، وهذا فاسد، لما ذكرناه في الحج، ولأن ما تعلق وجوبه بالمال، لزم أداؤه عنه، وإذا لزم أداؤه عنه، فمن رأس المال كالديون. ويخرج منه أجرة المثل من الميقات، لا من بلده، وإن كانت استطاعت من بلده شرطًا من وجوب، لأنه إذا كان حيًا، لزم أدواة بنفسه فصارت بضع المسافة معتبرة في استطاعته فإذا مات، لم يتعين في النائب عنه أن يكون من بلده، وإنما لزم أن يؤتي بالحج من ميقات بلده، فلذلك اعتبر أجرة المثل من ميقات بلده. فصل: وإن أوصى أن يحج عنه فلا يخلو حاله من أحد أمرين.

إما أن يكون حج أو ليس عليه حج فإن كان عليه حج فلا يخلو حاله من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يجعل الحج من رأس ماله فهذا على ضربين: أحدهما: أن يذكر قدر ما يحج به عنه. والثاني: أن لا يذكر فإن لم يذكر قدر ما يحج به عنه أخرج عنه من رأس ماله قدر أجرة المثل من ميقات بلده ولا يستفاد بوصيته إلا للإذكار والتأكيد وإن ذكر قدر ما يحج به عنه فله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون قد أجرة المثل في الميقات فيخرج ذلك من رأس ماله. والثاني: أن يكون أقل من أجرة المثل من ميقات بلده ولا يستفاد بوصيته وإن وجد من يحج به وإلا تمم من أجرة المثل وكان جميعه من رأس المال. والثالث: أن يكون أكثر من أجرة المثل من الميقات فتكون الزيادة على أجرة المثل وصية في الثلث لا تجوز أن يدفع إلى وارث وإن تراجع عينه، لأنه لا وصية لوارث فهذا حكم القسم الأول إذا جعل الحج من رأس ماله. فصل: والقسم الثاني: أن يوصي بالحج من ثلثه. فهذا على ضربين: أحدهما: أن يجعل كل الثلث مصروفًا إلى الحجة الواجبة، فهذا يحج عنه بالثلث من بلده إن أمكن، ولا يجوز أن يدفع إلى وارث إن زاد على أجرة المثل، ويجوز أن يدفع إليه إن لم يزد، فإن عجز الثلث عن الحج من بلده: أحج به عنه من حيث أمكن من طريقه. فإن عجز إلا من ميقات البلد أحج به عنه من ميقات بلده. فإن عجز عن الحج من ميقات بلده وجب إتمام أجرة المثل ميقات بلده من رأس المال، فصار فيها دور، لأن ما يتمم به أجرة المثل من رأس ماله يقتضي نقصان ثلث المال مثاله: أن يكون ماله مائة درهم، وأجرة المثل أربعون درهمًا، فإن أردت أن تعرف قدر الثلث وقدر ما يتم به الثلث من رأس المال أسقطت من المال قدر أجرة المثل وذلك أربعون درهمًا يكون الباقي ستين درهمًا ثم زدت عليه مثل نصفه فيصير تسعين درهمًا، فهو المال الباقي بعدما أخذ تمام الثلث، فإذا أخذت ثلثه، كان ثلاثين درهمًا، وضممت إليه العشرة الباقية من المائة صارت أربعين درهمًا، هي قدر أجرة المثل، فمنها ثلاثون درهمًا هي ثلث المال، وعشرة دراهم من رأس المال وعرضه. والثاني: أن لا يجعل كل الثلث مصروفًا إلى الحج بل يقول أحجوا عني من ثلثي رجلًا فهذا على ضربين: أحدهما: أن يذكر قدرًا كأنه قال: أحجوا رجلًا بمائة درهم. فلا يزاد عليها إن وجد، ويستأجر من يحج بها من حيث أمكن من بلده، أو من ميقاته. وإن لم يوجد من يحج بها من ميقاته: وجب إتمامها من رأس المال، لا من ثلثه، لأنه القدر الذي جعله

في الثلث: هو المائة، لا ما زاد عليها. والثاني: أن لا يذكر القدر فيخرج من ثلثه قدر أجرة المثل. ثم فيها وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي، والظاهر من كلام الشافعي أجرة المثل من بلد الموصي، لأن الوصية في الثلث تقتضي الكمال. والثاني: أجرة مثل الميقات، كما لو جعله من رأس المال، وما يزاد عليه تطوع لا يخرج إلا بالنص. فإن عجز الثلث عن جميع الأجرة تمم جميعًا مثل أجرة الميقات من رأس المال. فلو كان في الثلث مع الحج عطايا ووصايا، ففي تقديم الحج على الوصايا وجهان حكاهما ابو إسحاق المروزي: أحدهما: يقدم على الحج على جميع الوصايا في الثلث، لأنه مصروف في فرض، ثم يصرف ما فضل بعد الحج في أهل الوصايا. والثاني: أن يسقط الثلث بين الحج، والوصايا بالحصص، لأن الحج وإن وجب فحمله في الثلث، فساوي في الثلث أهل الوصايا، ثم تمم أجرة المثل من رأس المال. وعلى هذين الوجهين: لو كانت عليه ديون واجبة، وأوصي بقضائها من ثلثه، ففيه وجهان: أحدهما: يقدمون على أهل الوصايا. والثاني: يحاصونهم، ثم يستكملون الوصايا من رأس المال. فهذا حكم القسم الثاني، إذا جعله من ثلثه. فصل: والقسم الثالث: أن يطلق الوصية بالحج، فلا يجعله في الثلث ولا من رأس المال، فالذي نص عليه الشافعي في المناسك في كتابه الجديد أنه يحج عنه من رأس المال. وقال في هذا الموضع من الوصايا بالحج عنه من ثلثه فاختلف أصحابنا: فكان أبو الطيب بن سلمة، وأبو حفص بن الوكيل يخرجان ذلك على قولين: أحدهما: يكون من راس المال كما لو يوص به، لوجوبه كالديون. والثاني: أنه يكون من الثلث، ليستفاد بالوصية، ما لم يكن مستفادًا بغيرها. وقال أبو علي بن خيران: ليس هذا على الاختلاف قولين، بل الحكم على حالين، فالذي جعله في الثلث هو أجرة مثل السير من بلده إلى الميقات والذي جعله من رأس المال، هو أجرة المثل من الميقات. وقال أبو إسحاق المروزي: وقال أبو علي بن أبي هريرة: إنه يكون ذلك من رأس المال قولًا واحدًا. والذي قاله ها هنا أنه يكون في الثلث إذا صرح بأنه في الثلث توفيرًا عن ورثته. ألا تراه قال: فإن لم يبلغ، تمم من رأس المال. فإن قلنا: إنه يكون من رأس المال: أحج عنه من ميقات بلده. وإن قلنا: يكون من الثلث، فعلي وجهين: أحدهما: من بلده، والثاني: من ميقات بلده.

والذي قاله ها هنا إذا كان الحج واجبًا، وسواء كان حج الإسلام، أو نذرًا أو قضاء. ومن أصحابنا من فرق بين حجة النذر وغيرها. فجعل حجة النذر في الثلث؛ لأنه تطوع بإيجابها على نفسه، وسوى الأكثرون بينها وبين الواجبات. فصل: ولو كان ما أوصى به عنه من الحج تطوعًا، ففيه قولان: أحدهما: أن الوصية باطلة. والثاني: جائزة. فإذا قيل ببطلان الوصية: كان الحج عن الأجير، لا عن المستأجر عنه، وفي استحقاقه للأجر قولان: فإذا قيل بجواز الوصية، نظر مخرج كلامه فيها، فله فيه أربعة أحوال: أحدها: أن يقول أحجوا عني بمائة درهم من الثلث. والثاني: أن يقول أحجوا عني بما اتسع له الحج من الثلث. والثالث: أن يقول: أحجوا عني بالثلث. والرابع: أن يقول أحجوا عني. فأما الحال الأول: وهو أن يقول: أحجوا عني بمائة درهم من الثلث فلا يزاد عليها، ولا ينقص، مع احتمال الثلث لها. ثم لا يخلو إما أن يسمي من يحج بها، أو لا يسميه، فإن لم يسميه: دفعت إلى من يحج بها واحدًا من أفضل ما يوجد، ثم لا تخلو المائة من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون بقدر أجرة المثل، إما من بلده، أو من الميقات، فتدفع إلى وارث، أو غير وارث، لأنها وإن كانت في الثلث وصية، فهي في مقابلة عمل، فلم تصر له وصية وصارت كالموصي يشتري عبدًا يعتق عنه، جاز أن يشتري من الوارث، وإن كان ثمنه في الثلث، لأنه في مقابلة بدل. والقسم الثاني: أن يكون بقدر أجرة المثل، فتدفع إلى أجنبي، ولا يجوز أن تدفع إلى وارث، لأن فيها وصية بالزيادة. والقسم الثالث: أن يكون أقل من أجرة المثل. فإن وجد من يحج عنه أحججناه، وارثًا كان، أو غير وارث، فإن لم يوجد من يحج بها، بطلت الوصية بالحج، وعادت ميراثًا، ولم يزد في الثلث على أهل الوصايا، كمن أصوى بمال لرجل، فرد الوصية، عادت إلى الورثة، دون أهل الوصايا. وإن سمي من يحج بها بمائة لم يعدل بها عنه إلى غيره، مع إمكان دفعها إليه. ثم لا تخلو حالها من ثلاث أقسام: أحدها: أن يكون بقدر أجرة المثل فتدفع إلى المسمي لها، وارثًا كان، أو غير وارث، فإن لم يقبلها المسمي بها، فدعت حينئذ إلى غيره.

والثاني: أن يكون أكثر من أجرة المثل فلا يخلو المسمي لها من أن يكون وارثًا أو غير وارث. فإن كان وارثًا: فالزيادة على أجرة المثل وصية يمنع منها الوارث، فإن وصي بأجرة المثل منها: دفعت إليها دون غير وردت الزيادة على الورثة. وإن لم يرض إلا بالمائة كلها، منع منها، ولم يجز أن تدفع إليه لما فيها من الوصية لها، وعدل إلى غيره بأجرة المثل دون المائة، لأن الزيادة على أجرة المثل وصية بمسمي، ويعود الباقي ميراثًا. وإن كان المسمي غير وارث دفعت إليه المائة إن قبلها، وإن لم يقبلها عدل إلى غيره باجرة المثل، وعادت الزيادة عليها ميراثًا. والثالث: أن تكون المائة أقل من أجرة المثل، فإن قنع المسمي بها، دفعت إليه، وارثًا كان أو غير وارث. وإن لم يقنع بها، ووجد غيره مما يقنع بها، دفعت إليه، لأنه ليس فيها وصية للمسمي فتبطل بالعدول. وغن لم يوجد من يحج عادت ميراثًا، ولم يرجع إلى الثلث. فأما إن عجز الثلث عن احتمال المائة كلها: أخرج منها قدر ما احتمله الثلث فيصير هو القدر الموصي به، فيكون على ما مضي. فصل: وأما الحال الثانية: وهو أن يقول: أحجوا عني بثلثي، فلا يجوز أن يصرف الثلث، إلا في حجة واحدة، وإن اتسع لغيرها، لأنه عين عليها فتصير كالوصية بمائة درهم، في أن يسمي من يحج عنه، أو يسميه فتكون على ما مضي من التقسيم والجواب. فإن أمكن أن يحج عنه بالثلث من بلده، لم يجز أن يقتصر بالحج عنه من ميقاته، وإن قصر عنه الثلث، فمن حيث أمكن، حتى ينتهي إلى الميقات، فإن قصر عن الميقات، ولم يوجد من يحج به بطلت الوصية وعادت ميراثًا. فصل: وأما الحالة الثالثة: وهو أن يقول: أحجوا عني بثلثي حجًا فيصرف الثلث فيما اتسع من الحج، ولا يقتصر على حجة واحدة، مع اتساعه لأكثر منها، ولا يزاد أحد على أجرة مثله من بلد الموصي، لا من ميقاته، لأن كل ذلك تطوع، فاعتبر فيه أكمل الأحوال. فإن اتسع الثلث لثلاث حجج، فاقتصر في صرفه على حجتين ضمن الموصي الحجة الثالثة في ماله، فلو اتسع الثلث لحجتين، وفضلت فضلة، لم تتسع لحجة ثالثة من بلده، نظر فيها. فإن أمكن أن يحج بها عنه من ميقاته صرفت في حجة من الميقات، وإن لم يمكن أن يصرف من الميقات وإلا ردت على الورثة ميراثًا، ولم يزد على الحجتين بخلاف الفاضل عن ثمن الرقبتين، لأن أثمان الرقاب تختلف، فردت الفضلة في أثمانها لوفور الأجر بتوافر أثمانها وأجور الحج غير مختلفة. فلو أمكن صرف الفضلة في عمرة: لم تصرف فيها، لأن الوصية في الحج، لا من العمرة. فصل: وأما الحال الرابعة: وهو أن يقول: أحجوا عني ولا يذكر بكم، فيحج عنه حجة واحدة، بأجرة المثل من بلده، لا من ميقاته، إن احتمل الثالث ذلك. وإن لم يحتمل، فمن حيث احتمل الثلث ذلك من الميقات، وإن لم يحتمل حجة من الميقات:

بطلت الوصية، وعادت ميراثًا. مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «ولو قال: أحجوا عني رجلًا بمائة درهم وأعطوا ما بقي من ثلثي فلانًا وأوصي بثلث ماله لرجلٍ بعينه فللموصي له بالثلث نصف الثلث وللحجاج والموصي له بما بقي من الثلث، نصف الثلث ويحج عنه رجل بمائة». قال في الحاوي: وصورتها من رجل قال في وصيته: أحجوا عني رجلًا بمائة درهم، وأعطوا ما بقي من ثلثي فلانًا، وأوصي بثلث ماله لرجل ثالث. فهذا رجل قد أوصي بثلثي ماله. فإن أجاز الورثة ذلك دفع إلى الموصي له بالثلث ثلث المال كاملًا ولا يشاركه فيه أحد، ودفع الثلث الآخر مائة درهم، إلى الموصي له بالثلث ثلث المال كاملًا، ولا يشاركه فيه احد، ودفع الثلث الآخر مائة درهم، إلى الموصى له بالحج، بالثلث ولا يشاركه فيه أحد. فإن بقيت من الثلث بعد ذلك رقبة: دفعت إلى الموصى له بما بقي من الثلث، وسواء قلت النفقة أو كثرت. فإن لم يبق من الثلث بعد المائة شيء، فلا شيء إلى الموصى له بما بقي، لأنه لم يبق منه شيء. فهذا حكم الوصية إذا أجازها الورثة. فأما إذا لم يجزها: ردت الوصايا كلها إلى الثلث: ثم نظر: فإن كان الثالث مائة درهم فما دون، فلا شيء للموصي له بما بقي من الثلث: وانقسم الثلث الموصي له بالمائة بالحج، والموصي له بالثلث نصفين، يتعادلان فيه، كما يتعادل أهل الوصايا، إذا ضاق الثلث عنها: فإن لم يجد بما احتمله الثلث من المائة من يحج عنه، عادت ميراثًا، ولم تعد على الموصي له بالثلث، ولا على الموصي له، بما بقي من الثلث. وإن كان الثلث أكثر من مائة درهم، فإن الموصي له بالمائة في الحج، والموصي له بما بقي من الثلث، يعادلان الموصي له بالثلث، وإحدى الوصيتين تعادل الأخرى فيقسم الثلث بينهما نصفين، أو أعطي الموصي له بالثلث نصفه. وهو السدس ودخل عليه من نقص العول: نصف وصيته، لأن وصيته، رجعت إلى نصفها. وأما النصف الآخر من الثلث ففيه وجهان: أحدهما: وهو الظاهر من كلام الشافعي، وبه قال أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة، يقدم فيه الموصي له بالمائة في الحج، على الموصي له بما بقي من الثلث حتى يستوفي مائة، ثم يأخذ الآخر بقيته؛ لن الوصية بما بقي بعد المائة، لا تستحق قبل كمال المائة لاستحالتها فعاد صاحب الثلث به توفيرًا على صاحب المائة، بما يعاد الجد بالأخوة من الأب، توفيرًا على الأخ من الأب والأم. فعلى هذا: إن كان نصف الثلث، مائة درهم فما دون، أخذه الموصي له بالمائة، ولا شيء للموصي له بما بقي.

وإن كان نصف الثلث أكثر من مائة دهم، أخذ منه الموصي له بالمائة، مائة درهم كاملة، وأخذ الموصي له بما بقي الفاضل على المائة بالغًا ما بلغ. والثاني: وهو قول أبي العباس بن سريج: أن الموصي له بالمائة والحج، والموصي له بما بقي من الثلث يتعادلان فيه. وإن كان من الثلث مائتي درهم: فهما متساويان فيه لو كمل. وإذا عاد الثلث الذي جعل لهما إلى نصفه، وهو مائة درهم جعلت المائة بينهما نصفين، ليكون فيه متساويين. ولو كان الثلث، مائة وخمسين درهمًا، فللموصي له بالمائة مثل ما للموصي له بما بقي فيكون نصف الثلث وخمسة وسبعون درهمًا بينهما على ثلاثة، لموصي له بالمائة، نصف ما كان يأخذه من الثلث، وهو خمسون درهمًا. وللموصي له بما بقي: نصف ما كان يأخذه من الثلث، وهو خمسة وعشرون درهمًا. وإن كان الثلث ثلاثمائة: كان للموصي له بما بقي ثلثي ما للموصي له بالمائة، فيكون نصف الثلث، وهو مائة وخمسون درهمًا وللموصي له بما بقي وهو مائة درهم. ولو كان الثلث أربعمائة درهم: كان للموصي له بما بقي ثلاثة أرباع فيكون نصف الثلث وهو مائتا درهم بينهما على أربعة أسهم. فللموصي له بالمائة ربع ما كان يأخذه وهو مائة وخمسون. وللموصي له بما بقي ثلاثة أرباع ما كان يأخذه وهو مائة وخمسون. ثم على هذا القياس. هذا فيما زاد أو نقص. وهذا أصح الوجهين، لأنه إنما أوصي بالمائة لصاحب المال من كل الثلث، لا من بعضه، فلم يجز أن يأخذ نصف الثلث ما كان يأخذه من جميعه. فصل: فأما إذا ابتدأ بالوصية بثلث ماله لرجل. ثم أوصي بأن يحج عنه رجل بمائة درهم، ثم أوصي بالباقي من ثلثه لآخر. فقد اختلف أصحابنا في الموصي له بالباقي في هذا المسألة على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي: أنها باطلة؛ لأن تقدم الوصية بالثلث، يمنع أن يبقي شيء من الثلث. فعلي هذا: إن أجاز الوصية الورثة بالثلث وبالمائة: إمضاء. وإن لم يجيزوها: ردًا إلى الثلث، وتعادل فيه صاحب الثلث والموصي له بالمائة، ثم ينظر قدر الثلث، فإن كان مائة درهم، فقد تساوت وصيتها، فيقتسمان الثلث بينهما نصفين. وإن كان الثلث، خمسمائة درهم، كان الثلث مقسومًا بينهما على ستة أسهم، للموصي له بالثلث خمسة أسهم، وللموصي له بالمائة سهم. والثاني: وهو قول ابن أبي هريرة، أن الجواب في هذه المسألة إذا قدم الوصية بالثلث، كالجواب في المسألة الأولى، إذا أخر الوصية بالثلث؛ لأن إذا أوصي بالمائة بعد الثلث، علم أنه لم يرد ذلك الثلث، لأن الوصية الأولى قد استوعبته، ولولا ذلك، لبطلت الوصية بالمائة، وإنما أراد ثلثًا ثانيًا.

فإذا أوصى بعد المائة بما بقي من الثلث دل على أنه أراد ما بقي من الثلث الثاني وصار موصيًا بثلثي ماله فإذا امتنع الورثة من إجازته، رد الثلثان إلى الثلث فجعل نصف الثلث لصاحب الثلث، وكان النصف الآخر بين الموصي له بالمائة وبين الموصي له بالباقي على ما مضي من الوجهين. فصل: وإذا أوصي بعبده لرجل، وأوصي بباقي الثلث لآخر قوم العبد بعد موت الموصي، فإن كانت قيمته الثلث فصاعدًا فالوصية بالباقي من الثلث باطلة. وإن كانت قيمته أقل من الثلث، مثل أن يكون قيمة العبد ألف درهم والثلث ألف وخمسمائة، فالوصية بالباقي من الثلث جائزة وقدرها خمسمائة درهم. فلو نقتص قيمة العبد بعد ذلك عن الألف مثل أن يصير أعود فيساوي بعد عوره سبعمائة، فلا يزاد الموصي له بالباقي على الخمسمائة التي كانت قيمة الثلث بعد قيمة العبد سليمًا عند الموت ولا يحتسب للعبد في الثلث إذا كان عوره بعض قبض الموصي له إلا سبعمائة، ويكون نقصه بالعور، كالشيء التالف من التركة. وعلى هذا: لو زادت قيمة العبد على الألف بعد الموت وقبل قبض الموصي له حتى صار يساوي ألف درهم ومائتي درهم، لم ينقص الموصي له بالباقي عن الخمسمائة التي كانت بقية الثلث من قيمة العبد بعد موت الموصي فلو مات العبد بعد موت الموصي، وقبل قبض الموصي له: لم تبطل الوصية بباقي الثلث، وقوم العبد حيًا عند موت الموصي، ولو مات الموصي له في حياة الموصي، بطلت الوصية به. فأما الوصية بالباقي من الثلث بعد موت العبد فينظر: فإن جوز أن ينتهي قيمة العبد إن كان حيًا إلى استغراق الثلث: صار الوصية بالباقي من الثلث باطلة، لتردد بين الثبوت والإسقاط. وإن علم قطعًا أن قيمته لا تجوز أن تستغرق الثلث: كانت الوصية بالباقي من الثلث جائزة، ورجع فيها إلى قول الوارث مع يمينه إلى توزع، وبالله التوفيق. مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «ولو أوصى بأمة لزوجها وهو حر فلم يعلم حتى وضعت له بعد موت سيدها أولادًا فإن قبل عتقوا ولم تكن أمهم أم ولد حتى تلد منه بعد قبوله بستة أشهر فأكثر؛ لأن الوطء قبل القبول وطء نكاح ووطء القبول وطء ملك». قال في الحاوي: أعلم أن لهذه المسألة ثلاث مقدمات لا يصح جوابها إلا بتقرير مقدماتها: أحدها: الحمل هل يكون له حكم يختص به؟ أو يكون تبعًا لا يختص بحكم وفيه قولان:

أحدهما: أن له حكمًا مخصوصًا، ويصح أن يكون معلومًا، وأن الحامل إذا بيعت يقسط الثمن عليها، وعلى الحمل المستجد في بطنها، لأنه لما صح أن يعتق الحمل فلا يسري إلى أم ويوصي به لغير مالك الأم، دل على اختصاصه بالحكم وتمييزه عن الأم. والثاني: أن الحمل يكون تبعًا لا يختص بحكم ولا يكون معلومًا؛ لأنه لما سري عتق الأم إليه صار تبعًا لها كأعصابها، ولما جاز أن يكون موجودًا أو معدومًا: لم يجز أن يكون معلومًا فهذه مقدمة. والثانية: وهي أقل مدة الحمل وهي ستة أشهر لا يجوز أن يحيي ولد وضع لأقل من ستة أشهر اعتبارًا بالعرف المعهود ثم بالنص الوارد. قال تعالى: {وحَمْلُهُ وفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15]. فلما كان الفصال حولين كاملين، دل على أن الستة الأشهر الباقية هي أقل مدة الحمل. فإن ولدت زوجة رجل لأقل من ستة أشهر من عقد نكاحها، وولدت أمة لأقل من ستة أشهر من وطء سيدها: كان الولد منتفيًا عنه، وغير لاحق به. والثالثة: ملك الوصية متى يحصل للموصي له، ويدخل في ملكه؟ وفيه قولان منصوصان: أحدهما: أنه يملك الوصية بالقبول. واختلف أصحابنا فيما قبل القبول وبعد الموت، على هذا القول، هل تكون باقية على ملك الموصى، أو داخلة في ملك الورثة على وجهين: أحدهما: وهو قول ابن سريج وأكثر البصريين، أن ملك الوصية منتقل عن الميت إلى ورثته، ثم بالقبول يدخل في ملك الموصي له لزوال ملك الموصي بالموت. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي، وأكثر البغداديين أن الوصية باقية على ملك الموصي بعد موته حتى يقبلها الموصي له فتدخل في ملكه بقبوله، وتنتقل إليه عن الموصي، لأن الوصية تملك عنه كالميراث. ووجه هذا القول، بأن الوصية تملك بالقبول هو أنها عطية فلم يجز أن يتقدم الملك على قبولها كالهبات. قال الشافعي: «وهذا قول ينكسر». والثاني: وهو أصحهما أن القبول يدل على حصول الملك بالموت، فيكون الملك موقوفًا، فإن قبل حمل على تقدم ملكه. وإن لم يقبل دل على عدم ملكه. ووجه هذا القول: هو أنه امتنع أن يبقي للميت ملك. وأن الوارث لا يملك الإرث، اقتضي أن يكون الملك موقوفًا على قبول الموصي له ورده وحقه في القبول باق، ما لم يعلم. فإن علم، فإن كان عند إنقاذ الوصايا، وقسمة التركة فقبوله على الفور فأقبل، وإلا بطل حقه في الوصية، فأما بعد علمه، وقبل إنفاذ الوصايا وقسمة التركة، فمذهب الشافعي وقول جمهور أصحابه، أن القبول فيه على التراخي، لا على الفور. فيكون ممتدًا ما لم

يصرح بالرد، حتى تنفذ الوصايا، وتقسم التركة، لأنه لما لم يعتبر القبول مع الوصية، اعتبر نفاذ الوصية. وحكي أبو القاسم بن كج عن بعض أصحابنا أن القبول بعد علمه على الفور، لأنها عطية كالهبات. وحكي ابن عبد الحكم عن الشافعي قولًا ثالثًا أن الوصية تدخل في ملك الموصي له بغير قبول ولا اختيار، الميراث. فاختلف أصحابنا في تخريجه قولًا ثالثًا للشافعي. فخرجه أبو علي بن أبي هريرة وأكثر المتأخرين من أصحابنا قولًا ثالثًا تعليلًا بالميراث، وامتنع أبو إسحاق المروزي، وأكثر المتقدمين من أصحابنا من تخريجه قولًا ثالثًا، وتأولوا رواية ابن عبد الحكم بأحد تأويلين: إما حكاية عن مذهب غيره، وإما على معني أنه بالقبول يعلم دخولها بالموت في ملكه. وفرقوا بين الوصية والميراث، بأن الميراث عطية من الله تعالى، فلم يراع فيها القبول. والوصية عطية من آدمي، فروعي فيها القبول. فهذه مقدمات المسألة. فصل: فإذا تقررت المقدمات، فصورة المسألة في رجل تزوج أمة رجل ثم أوصي السيد بها للزوج. فلا يخلو حال الزوج من أن يقبل الوصية بها بعد موت الموصي أو يرد، فإن رد الوصية ولم يقبلها: فالنكاح بحاله والأمة ملك لورثة الموصي وأولادها موقوفون لهم. فإن قبل الوصية فلا يخلو حالها من أن تأتي بولد، أو لا تأتي بولد، أو لا تأت فإن لم تأت بولد فالنكاح قد بطل بالملك، لأن النكاح والملك تتنافي أحكامهما، فلم يجتمعا، وغلب حكم الملك، لأنه أقوى. فإن قيل بالقبول قد ملك: انفسخ نكاحها حين القبول، وكان الوطء قبله وطئًا في نكاح، وبعده وطئًا في ملك، ولا استبراء عليه بحدوث الملك، لأنها لم تزل فراشًا له. فإن قيل القبول يبني عن ملك سابق من حين الموت، انفسخ نكاحها حين الموت، وكان وطئه قبل الموت وطئًا في نكاح وبعد الموت وطئًا في ملك. فإن قيل فلم قال الشافعي، على هذا القول، لأن الوطء قبل القبول وطء نكاح وبعد القبول وطء ملك وهو قبل القبول وبعده وطء ملك. وإذا كان بعد الموت؟ ففيه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه غلظ من المزني في النقل. والثاني: أنه منقول من القول الأول أنه بالقبول يملك. والثالث: أن معناه أن الوطء قبل زمان القبول وطء نكاح يعني قبل الموت. فصل: وإن أتت بولد. فعلي ثلاثة أقسام: أحدها: أن تضعه قبل موت الموصي. والثاني: أن تضعه بعد موت الموصي، وقبل قبول الموصي له. والثالث: أن تضعه بعد قبول الموصي له. فأما الأول: وهو أن تضعه قبل موت الموصي فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون موجودًا عند الوصية.

والثاني: أن يكون حادثًا بعدها. فإن كان موجودًا عند الوصية، مثل أن تضعه لأقل من ستة أشهر من حين الوصية، ففيه قولان من اختلاف قوليه في الحمل هل له حكم أم لا؟ فإن قيل لا حكم له: فالولد مملوك للموصي ومنتقل عنه إلى ورثته وإن قيل للحمل حكم فهو للموصي له، وكأن الموصي وصي له بالأم والولد، ثم قد أعتق الولد عليه بالملك، وصار له ولاؤه. ولا تصبر أمه به أم ولد، لأنها ولدته من نكاح. ويعتبر في الثلث قيمة كل واحد من الأم والولد يوم موت الموصي. وإن كان حادثًا بعد الوصية، مثل أن تضعه لستة أشهر فصاعدًا من حين الوصية فهو مملوك للموصي قولًا واحدًا ومنتقل عنه إلى ورثته. فصل: وأما القسم الثاني: وهو أن تضعه بعد الموت الموصي وقبل قبول الموصي له فهذا على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يكون موجودًا عند الوصية. والثاني: أن يكون حادثًا بعد الوصية وقبل موت الموصي. والثالث: أن يكون حادثًا بعد موت الموصي، وقبل قبول الموصي له. فإن كان موجودًا عند الوصية: فهو أن تضعه لأقل من ستة أشهر من حين الوصية ففيه قولان بناء على اختلاف قوليه في الحمل هل له حكم أم لا؟ فإن قلنا: للحمل حكم: فالوصية بهما معًا، وفيما تقوم عليه وجهان حكاهما ابن سريج. أحدهما: تقوم عليه الأمة حاملًا، يوم موت الموصي، فإن خرجت قيمتها كلها من الثلث: صحت الوصية بها وبولدها. وإن خرج نصفها من الثالث كان له نصفها، ونصف ولدها. والثاني: أنه تقوم الأم يوم موت الموصي، ويقوم الولد يوم ولد، ويعتبر قيمتها جميعًا من الثلث، فإن احتملها الثلث صحت الوصية بهما، وإن عجز الثلث عنهما، أمضي له من الوصية بهما: قدر ما احتملهما الثلث منهما من غير تفضيل. ثم إذا صحت الوصية لهما، لاحتمال الثلث لهما، فقد عتق عليه الولد بالملك، وله ولاؤه لحدوث عتقه بعد رقة. فلم تصر الأم به أم ولد، لأنها علقت به في نكاح. فهذا إذا قلنا إن للحمل حكمًا. وإذا قلنا: إن الحمل لا حكم له. ففيه قولان بناء على اختلاف قوليه، في قبول الوصية هل يقع به التمليك؟ أو يدل على تقدم الملك بالموت فإن قيل: إن القبول هو الملك، فالولد مملوك، وفيه وجهان: أحدهما: أنه مملوك للموصي ومضموم إلى تركته ثم منتقل عنه إلى ورثته. والثاني: أنه حادث على ملك الورثة من غير أن يثبت عليه للموصي ملك. وإن قيل إن القبول يدل على تقدم الملك بالموت كان الولد للموصي له وقد عتق عليه بالملك، وله ولاؤه، ولا تكون أمه به أم ولد، وفيما يقوم في الثلث وجهان على ما ذكرنا. وإن كان

الولد حادثًا بعد الوصية، وقبل الموت، فهو أن تضعه لأكثر من ستة أشهر من حين الوصية، ولأقل من ستة أشهر من حين الموت، ففي الولد قولان بناء على اختلاف قوليه في القبول. فإن قلنا: إن القبول هو المملك، فالولد للورثة، فإن جعل للحمل حكم، فقد ثبت عليه ملك الموصي، ثم انتقل إلى ورثته وإن لم يجعل للحمل حكم ففيه وجهان: أحدهما: يكون للموصي وتنتقل عنه إلى الورثة. والثاني: يكون للورثة ولم يثبت على ملك الموصي. ولا يحتسب عليهم من تركته. وإن قلنا: إن القبول يدل على تقدم الملك، فالولد للموصي له وقد عتق عليه بالملك، وله ولاؤه، ولا تصير الأم به أم ولد، وفيما يقوم في الثلث وجهان: أحدهما: تقوم الأم حاملًا عند الموت لا غير. والوجه الثاني: تقوم الأم عند الموت، ويقوم الولد عند الوضع وتعتبر قيمتها جميعًا من الثلث. وإن كان حادثًا بعد موت الموصي، وقبل قبول الموصي له، فهو أن تضعه لأكثر من ستة أشهر من حيث موت الموصي. فإن قيل: إن القبول هو المملك، فالولد مملوك لورثة الموصي لم يجر عليه للموصي ملك وجهًا واحدًا. وإن قيل: إن القبول يدل على تقدم الملك بالموت، فالولد حر لم يجر عليه رق، ولا عليه، وقد صارت الأم به، أم ولد، لأنها علقت به في ملك الموصي له، ولا يقوم الولد عليه في الثلث وجهًا واحدًا، لأنه لم يجر عليه رق، وإنما تقوم الأم عند الموت، وقد كانت عنده حائلًا. فصل: وأما القسم الثالث: وهو أن تضعه بعد قبول الموصي له، فهذا على أربعة أضرب: أحدها: أن يكون موجودًا عند الوصية. والثاني: أن يكون حادثًا بعد الوصية وقبل موت الموصي. والثالث: أن يكون حادثًا بعد موت الموصي وقبل القبول. والرابع: أن يكون حادثًا بعد القبول. فإن كان موجودًا عند الوصية، مثل أن تضعه لأقل من ستة أشهر من حين الوصية بالولد للموصي له على القولين معًا سواء قيل إن للحمل حكم، أو قيل إنه يكون تبعًا، لأنه إن قيل إن له حكمًا، فهو مع الأم موصي بهما وإن قيل: يكون تبعًا فحكمه معتبر بحال الولادة، وهي مولود في ملك الموصي له. وإذا كان له فقد عتق عليه بعد رقه، فله ولاؤه، فلا تكون أمه بعد أم ولد. وإن كان حادثًا بعد الوصية، وقبل الموت: فهو أن تضعه لأكثر من ستة أشهر من وقت الوصية، ولأقل من ستة أشهر من حين الموت ففيه قولان: أحدهما: أنه مملوك للموصي، وهذا على القول الذي يقول إن الحمل حكمًا.

والثاني: إنه للموصى له، إذا قيل إن الحمل تبع. فعلي هذا يعتق عليه بعد رقه. ويكون له عليه الولاء، ولا تصير أمه به أم ولد. وإن كان حادثًا بعد موت الموصي، وقبل القبول فهو أن تضعه، لأكثر من ستة أشهر من حين الموت، ولأقل من ستة أشهر من حين القبول، ففيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه حر من حين العلوق، لم يجر عليه حكم رقم، وأن أمه به أم ولد. وهذا على القول الذي يجعله بالقبول مالكًا. ويجعل الحمل تبعًا من حين الموت. والثاني: أنه حر بعد رقه وعليه الولاء لأبيه، ولا تكون أمه به أم ولد. وهذا على القول الذي يجعله بالقبول مالكًا ويجعل الحمل تبعًا. والثالث: أنه مملوك لورثة الموصي دون الموصي له. وهذا على القول الذي يجعله بالقبول مالكًا، ويجعل للحمل حكمًا. وهكذا: لو ولدت أولادًا، وكان بين أولهم وآخرهم أقل من ستة أشهر فحكمهم حكم الولد الواحد، لأنهم من حمل واحد ولوكان بين بعضهم وبعضهم ستة أشهر لاختلف حكمهم لاختلاف حملهم وإن كان حادثًا بعد القبول فهو أن تضعه لستة أشهر فصاعدًا من حين قبوله، فهذا حر الأصل، لم يجر عليه رق، ولا ولاء عليه للأب، وتصير الأم به أم ولد، لأنها علقت به في ملك لا في نكاح. مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «فإن مات قبل أن يقبل أو يرد قام ورثته مقامه فإن قبلوا فإنما ملكوا أمة لأبيهم وأولاد أبيهم الذين ولدت بعد موت سيدها أحرارًا وأمهم مملوكة وإن ردوا كانوا مماليك وكرهت ما فعلوا. قال المزني: لو مات أبوهم قبل الملك لم يجز أن يملكوا عنه ما لم يملك، ومن قوله: أهل شوال ثم قبل كانت الزكاة عليه وفي ذلك دليل على أن الملك متقدم لولا ذلك ما كانت عليه زكاة ما لا يملك». قال في الحاوي: هذا صحيح. وجملته أن موت الموصي لا يخلو أن يكون في حياة الموصي له أو بعد موته. فإن مات الموصي له في حياة الموصي، فالذي عليه جمهور الفقهاء أن الوصية له قد بطلت، وليس لوارثه قبولها بعد موت الموصي. وحكي عن الحسن البصري أن الوصية لا تبطل بموته ولورتثه قبولها وهذا فاسد من وجهين: أن الوصية في غير حياة الموصي غير لازمة. وما ليس بلازم من العقود يبطل بالموت، ولأن الوصية له، لا لورثته وهو لا يملك الوصية في حياة الموصي. وإن مات الموصي له، بعد موت الموصي، لم يخل حال الموصي له قبل موته من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون قد رد الوصية قبل موته فقد بطلت برده: وليس لوارثه قبولها بعد موته إجماعًا.

والثانية: أن يكون قد قبلها قبل موته، وبعد موت الموصي، فقد ملكها أو انتقلت بموته إلى وارثه. وسواء قبضها الموصي له في حياته، أم لا، لأن القبض ليس بشرط في تملك الوصية. والثالثة: أن يموت قبل قبوله ورده. فعلي مذهب الشافعي: يقوم وارثه مقامه في القبول والرد، ولا تبطل الوصية بموته قبل القبول. وقال أبو حنيفة: إذا مات قبل القبول، بطلت الوصية له كالهبة، وهذا فاسد:، لأن ما استحقه في التركة لم يسقط بالموت كالدين، ولأن كل سبب استحق به تملك عين بغير اختيار مالكها، لم يبطل بموته، قبل تملكها كالرد بالعيب. وفارقت الوصية الهبة، من حيث إن الهبة قبل القبض غير لازمة فجاز أن تبطل بالموت، والوصية قبل القبول لازمة، فلم تبطل بالموت. فصل: فإذا ثبت أن الوصية لا تبطل بموت الموصي له قبل الرد والقبول، فورثته يقومون مقامه في القبول والرد، ولهم ثلاثة أحوال: حال يقبل جميعهم الوصية، وحال يرد جميعهم الوصية، وحال يقبلها بعضهم ويردها بعضهم. فإن قبلوها جميعًا فعلي القول الذي يجعل القبول دالًا على تقدم الملك، فالملك للوصية بقبول الورثة، هو الموصي له، لا الورثة فعلي هذا يكون أولاد الأمة أحرارًا، لأن الأب لا يملك ولده ويجعلها له أم ولد في الموضع الذي تصير بالولادة أم ولد. فأما القول الذي يجعل القبول ملكًا، فقد اختلف أصحابنا، هل تدخل الوصية في ملك الموصي له بقبول ورثته أم لا؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة، وأبي حامد المروروذي أن الوصية يملكها الورثة دون الموصي له، الحدوث الملك بقبولهم. فعلي هذا لا يعتق الأولاد الذين ولدتهم بعد القبول، ولا تصير الأمة بعد، أم ولد، لأن الأخ يملك أخاه. وعلى هذا: لو كانت الوصية مالًا: لم يقص منها ديون الموصي له. والثاني: وهو الظاهر من مذهب الشافعي، وبه قال أكثر البصريين وحكاه أبو القاسم بن كج عن شيوخه. أن الوصية يملكها الموصي له بقبول ورثته، وإن كان القبول مملكًا؛ لأنها لو لم تدخل في ملكه، لبطلت، لأن الورثة غير موصي لهم، فلم يجز أن يملك الوصية من لم يوص له. فعلي هذا قد أعتق الأولاد الذين ولدتهم بعد القبول، وصارت ممن يجب أن تصير به أم ولد. وعلى هذا لو كانت الوصية مالًا: قضي منها ديون الموصي له. فصل: فإذا ثبت حرية الأولاد على ما وصفنا لم يخل حال الورثة القابلين للوصية أن يسقطوا بالأولاد، أو لا يسقطوا.

فإن لم يسقطوا بالأولاد، كالأخوة والأعمام، عتق هو والأولاد، ولم يرثوا، لأن توريثهم مخرج لقابل الوصية من الميراث، وخروجهم من الميراث: يبطل قبولهم للوصية، وبطلان الوصية موجب لرق الأولاد، وسقوط ميراثهم. فلما أفضي توريثهم إلى رقهم وسقوط ميراثهم منعوا الميراث، ليرتفع رقهم، وتثبت حريتهم، كما قلنا في الأخ إذا أقر بابن أن نسب الابن يثبت ولا يرث. فصل: ولو رد الورثة بأجمعهم بطلت الوصية بردهم لها، وكان الأولاد عبيدًا للورثة، وكذلك أمهم. قال الشافعي رضي الله عنه: وكرهت ذلك لهم: لما فيه من استرقاق أولادهم، وأنهم قد خالفوا ظهر فعله لو كان حيًا. فأما إذا قبل بعض الورثة الوصية وردها بعضهم: كانت حصة من رد موقوفة لورثة الموصي، وحصة من قبل إنهم قد دخلوا في ملك الموصي له. ويقوم ما بقي من رق الأولاد في حصة القابل من تركته، إن كان موسرًا بذلك، ويصير جميع الأولاد أحرارًا يرثون إن لم يحجبوا القابل الموصي له. وإن كان معسرًا فلا تقويم في تركته ولا يرث هؤلاء الأولاد، لأن حريتهم: لم تكمل، ولا تقويم على القابل، لأن العتق كان على غيره. وإن قيل: إنهم لم يدخلوا في ملك الموصي له لم يعتق شيء من حصة القابل من الورثة إذا كان ممن يجوز أن يتملك أولاد الموصي له. فصل: وإذا كان الموصي له بزوجته مريضًا فقبل الوصية في مرضه المخوف. فقد اختلف أصحابنا في أولاده منها: إذا أعتقوا بقبوله، هل يرثونه إذا مات من مرضه ذلك؟ فالذي عليه قول الأكثرين منهم: أنهم لا يرثون، لأن عتقهم في مرضه بقبوله وصية لهم، ولو ورثوا، منعوا الوصية، وإذا منعوها عادوا رقيقًا لا يرثون، فلذلك عتقوا ولم يرثوا، كما لو اشتراهم في مرضه. وقال أبو العباس بن سريج: يرثون بخلاف من اشتراه منهم، لأن من اشتراه قد خرج ثمنه من ماله فصار إخراج الثمن وصية من ثلثه، فلذلك لم يرثوا، وليس كذلك إذا قبل الوصية بهم، لأنه لم يخرج أثمانهم من ماله فيصيروا من ثلثه، فلذلك لم يكن قبولهم صية، وإذا لم يكن ذلك وصية لم يمنعوا الميراث، ولو كان قاله عند الوصية مريضًا، فلم يقبلها حتى مات، ثم قبلها ورثته، بعد موته: كان ميراث الأولاد على ما ذكرنا، لأنها وصية له في حال لو قبلها: كان ميراث الأولاد على ما ذكرنا، فكذلك إذا قبلنا ورثته بعد موته. ولو كانت الوصية له في صحته فلم يقبلها حتى مات: لم يسقط ميراث هؤلاء الأولاد بقبول ورثته. فأما المزني: فإنه نص ما اختاره من أن القبول يدل على تقدم الملك بالموت وهو أصح القولين، والله أعلم بالصواب.

مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «ولو أوصي بجارية ومات ثم وهب للجارية مائة دينار وهي تسوي مائة دينار وهي ثلث مال الميت وولدت ثم تحبل الوصية فالجارية له ولا يجوز فيما وهب لها وولدها إلا واحد من قولين الأول أن يكون ولدها وما وهب لها من ملك الموصي له وإن ردها فإنما أخرجها من ملكه إلى الميت وله ولدها وما وهب لها؛ لأنه حدث في ملكه. والقول الثاني أن ذلك مما يملكه حادثًا بقبول الوصية. وهذا قول منكر لا نقول به لأن القبول إنما هو على ملك متقدم وليس بملك حادث. وقد قيل: تكون الجارية وثلث ولدها وثلث ما وهب لها. قال المزني -رحنه الله-: هذا قول بعض الكوفيين. قال أبو حنيفة: تكون له الجارية وثلث ولدها. وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن: يكون ثلثا الجارية وثلثا ولدها. قال المزني: وأحب إلى قول الشافعي لأنها وولدها على قبول ملك متقدم. قال المزني: وقد قطع باتلقول الثاني إذ الملك متقدم وإذا كان كذلك وقام الوارث في القبول مقام أبيه فالجارية له بملك متقدم وولدها وما وهب لها ملك حادث بسبب متقدم. قال المزني: وينبغي في المسألة الولى أن تكون امرأته أم ولد وكيف تكون أولادها بقبول الوارث أحرارًا على أبيهم ولا تكون أمهم أم ولد لأبيهم وهو يجيز أن يملك الأخ أخاه وفي ذلك دليل على أن لو كان ملكًا حادثًا لولد الميت لكانوا له مماليك وقد قطع بهذا المعني الذي قلت في كتاب الزكاة فتفهمه كذلك نجده إن شاء الله تعالى». قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا وهب للجارية الموصي بها مال وولدت أولادًا من رق لم يخل حال أولادها، وما وهب لها من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون في حياة الموصي، فهو ملكه وصائر إلى ورثته بعد موته ومحسوب في ثلثي التركة. والثاني: أن يكون حادثًا بعد قبول الموصي له. فذلك ملك له لحدوثه بعد استقرار ملكه. والثالث: أن يكون حادثًا بعد الموت، وقبل القبول، فيكون على القولين في القبول. فإن قيل إن القبول هو المملك فذلك ملك الورثة دون الموصي له، وهل يحتسب به عليهم من ثلثي التركة، على وجهين من اختلاف ما ذكرنا من الوجهين في الموصي به قبل القبول، هل يكون باقيًا على ملك الميت أو متنقلًا إلى ورثته، فإن جعناه باقيًا على ملك الميت، كان ما حدث من الهبة والأولاد محسوب على الورثة.

وإن جعلناه متنقلًا إلى الورثة لم يحتسب على الورثة، فهذا حكم القول الذي يجعل الوصية بالقبول مملكة. وقال الشافعي: وهذا قول ينكر اهـ. وإن قيل: إن القبول يدل على تقدم الملك بالموت، فأولاد الجارية وما وهب لها ملكًا للموصي له، لا يحتسب به من الثلث، لأن الميت لم يملكه. إلا أن الشافعي قال على هذا القول وإن ردها فإنما أخرجها من ملكه إلى الميت وله ولدها وما وهب لها. واختلف أصحابنا، فكان بعضم يجعل ذلك خارجًا على القول الذي رواه عنه ابن عبد الحكم، أن الوصية تدخل في ملك الموصي له بالموت كالميراث، فكذلك إذا رد الوصية بعد الموت، فقد أخرجها من ملكه وملك ما حدث من كسبها وولدها. وقال آخرون: بل هذا خارج منه على القول الذي يجعله بالقبول مالكًا من حين الموت. واختلف من قال بهذا في تأويل كلامه على وجهين: أحدهما: أن معناه وإن رد فكأنما أخرجها من ملكه؛ لأنه قد كان له أن يتملكها، فإذا ردها، فقد أبطل ملكه، وقوله: «وله ولدها وما وهب لها» يعني لوارث الموصي. والثاني: أنه محمول على أنه قبلها ثم ردها بالهبة. هذا جواب أبي علي بن أبي هريرة فهذا شرح مذهب الشافعي في كسبها وولدها. وقال أبو حنيفة: «للموصي له الجارية، وثلث ولدها، وثلث ما وهب لها» تعليلًا بأنه لا يجوز أن يملكها الموصي له بالوصية إلا ما صار للورثة مثلاه، وقد صار إليهم مثلًا الجارية فلذلك صار جميعها للموصي له، ولم يصر إلهيم مثلًا الولد والكسب فلذلك صار للموصي له من ذلك ثلثه، وللورثة ثلثاه. وقال أبو يوسف ومحمد: له ثلثا الجارية، وثلثا ولدها وكسبها. ولست أعرف تعليلًا محتملًا ما ذكراه وكلا هذين المذهبين فاسد، لأن الكسب والولد تبع لمالك الأصل فإن كانت الجارية عند حدوث النماء والمكسب بعد الموت وقبل القبول ملكًا للورثة: فلهم كل الكسب ولا يجوز أن يملك منه الموصي له شيئًا. وإن كانت ملكًا للموصي له، فله كل الكسب، ولا يجوز أن يملك منه الورثة شيئًا. فأما تبعيض الملك في النماء والكسب من غير تبعيض ملك الأصل وجه له، وليس بلازم أن يملك الورثة مثلي ما يملكه الموصي له بعد استقرار ملكه، كما لا يلزم فيما حدث من ذلك بعد القبول، وإنما يلزم ذلك فيما ملك من تركة بينهم. فصل: فأما لا يتميز من الزيادة، كالسمن وزيادة البدن، إذا حدث بعد موت الموصي وقبل قبول الموصي له، فهو للموصي له، ومحسوب عليه من الثلث، لأن ما اتصل من الزيادة تبع لأصله يتنقل مع الأصل إلى حث انتقل. فصل: فأما الوصية إذا ردها. فللموصي له في ردها أربعة أحوال: أحدها: أن يردها في حياة الموصي، فلا يكون لرده تأثير كما لا يكون لقبوله له،

لو (قبل) في هذه الحال تأثيرًا، وخالف فيه خلافًا يذكره بعد. والثانية: ان يردها بعد موت الموصي، وقبل قبوله: فالرد صحيح قد أبطل الوصية، ورد ذلك إلى التركة، ولا يعتبر فيه قبول الورثة ويكونوا فيه على فرائضهم. فإن قال: رددت ذلك لفلان. قال الشافعي في الأم: احتمل ذلك معنين: أحدهما: وهو أظهرهما، أن يريد لرضا فلان، أو لكرامة فلان، فإن أراد ذلك، صح الرد، وبطلت الوصية، وعادت إلى التركة. والثانية: أن يريد بالرد لفلان: هبتها له فلا تصح هبته لها قبل القبول، لأنه لم يملكها بعد. ولو قبلها: صح إذا وجدت فيها شروط الهبة، ولا يكون فساد هذه الهبة مبطلًا للوصية، ومانعًا من قبولها، لأن هبته لها إنما اقتضت زوال الملك بعد دخولها فيه. والثالثة: أن يردها بعد قبول الوصية وقبل قبضها ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا تصح إلا بلفظ الهبة إيجابًا وقبولًا، لدخول الوصية في ملكه بالقبول. فعلي هذا تعود الوصية للورثة خصوصًا دون أهل الدين والوصايا، ويكون الذكر والأنثى فيها سواء، لأنها هبة لهم محضة. والوجه الثاني: أنه يصح ردها بلفظ الرد دون الهبة، لكن لا يتم إلا بالقبول، لأنها وغن دخلت في ملكه فهي كالإقالة. وإن كان ملك المشتري فيها ثابتًا، فإنه ينتقل بغير لفظ الهبة، لكن لا بد فيها من قبول، كذلك الوصية بعد القبول. فعلي هذا: تعود بعد الرد والقبول تركة، يجري فيها حكم الدين والوصايا، وفرائض الورثة. والثالث: أنها تصح بالرد من غير قبول، لأنها وإن كانت ملكًا للموصي له بقبولها، فملكه لها قبل القبض، غير منبرم، فجرت مجرى الوقف إذا رده الموقوف عليه بعد قبوله وقبل قبضه. صح رده، ولم يفتقر الرد إلى القبول، وإن كان ملكًا، ثم تكون الوصية بعد الرد تركة. فصل: وإذا رد الوصية بما يدل له على الرد: لم يملك ذلك المال ولم يبطل حقه في الوصية بالرد. وقال مالك: يملك المال، ويصح الرد ومثله يقول في الشفعة، إذا عفي عنها على مال بذل له. وهذا خطأ في الموضعين، لأن أخذ العوض على ما لم يستقر ملكه عليه باطل كالبيع، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي -رحمه الله تعالى-: «ولو أوصى له بثلث شيء بعينه استحق ثلثاه كان له الثلث الباقي إن احتمله ثلثه». قال في الحاوي: إذا أوصي له بثلث دار هو في الظاهر مالك لجميعها فاستحق ثلثا

الدار، وبقي على ملك الموصي ثلثها. فالثلث كان الموصي له إذا احتمله الثلث وهو قول الجمهور: وقال أبو ثور: يكون له ثلث الثلث، استدلالًا بأنه: لما أوصي له بثلثها، وهو في الظاهر مالك لجميعها، تناولت الوصية ثلث ملكه منها، فإذا بان أن ملكه منها الثلث، وجب أن تكون الوصية بثلث الثلث، لأنه كان ملكه منها، كمن أوصي بثلث ماله، وهو ثلاثمائة درهم، فاستحق نها مائتان كانت الوصية بثلث المائة الباقية. وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن ما طرأ من استحقاق الثلثين، ليس بأكثر من أن يكون عند الوصية غير ملكه للثلثين. وقد ثبت أنه لو أوصي له بثلث دار قدر ملكه: كان له جميع الثلث إذا احتمله الثلث، كذلك إذا أوصي له بثلثها فاستحق ما زاد على الثلث منها. والثاني: هو أن رفع يده بالاستحقاق كزوال ملكه بالبيع وقد ثبت أنه لو باع بعد الوصية بالثلث منها ما بقي من ثلثها صحت الوصية بكل الثلث الباقي بعد البيع، فكذلك تصح الوصية بالثلث الباقي بعد المستحق وليس لما ذكره من الاستدلال بثلث المال وجه؛ لأن الوصية لم تعتبر إلا من ثلث ملكه، وملكه هو الباقي بعد الاستحقاق. ولو فعل مثل ذلك في الوصية بالدار فقال: قد أوصيت لك بثلث ملكي من هذه الدار فاستحق ثلثاها كان له ثلث ثلثها الباقي، والله أعلم. فصل: فإذا تقرر أن له جميع الثلث بعد استحقاق الثلثين، فقد قال الشافعي في الوصايا في كتاب «الأم» بعد أن ذكر مسألة الاستحقاق. ولو أوصي بالثلث من دار أو أرض، فأذهب السيل ثلثيها، وبقي ثلثها، فالثلث الباقي للموصي له، إذا خرج من الثلث وقيل: إن الوصية موجودة وخارجة من الثلث أهـ. فسوى الشافعي بين استحقاق الثلثين مشاعًا، وبين ذهاب ثلثها بالسيل تجوزًا في أن الوصية تجوز بالثلث الباقي بعد الاستحقاق والتلف بالسيل. والذي أراه الفرق بين المسألتين من أن استحقاق الثلثين لا يمنع من إمضاء الوصية بالثلث الباقي كله. وذهاب الثلثين منها بالسيل بمنع أن تكون الوصية بجميع الثلث الباقي ويوجب أن تكون الوصية بثلث الثلث الباقي. والفرق بينهما أن الوصية بالثلث منها هو ما تبع من جميعها، فإذا استحق ثلثاها لم يمنع أن يكون الثلث الباقي سائغًا في جميعها فصحت الوصية في جميعه. وإذا هلك ثلثاها بالسيل، يجوز إن لم يكن الثلث الباقي منها هو الثلث المشاع في جميعها، فوجب أن تكون الوصية بثلث ما بقي وثلث ما هلك فيكون حكم الإشاعة في الجميع باقيًا. ألا ترى لو أن رجلًا اشترى من رجل نصف دار جميعها بيده، ثم استحق بعد الشراء نصفها: كان النصف الباقي هو المبيع منها، ولو لم يستحق نصفها ولكن أذهب

السيل نصفها، كان للمشتري نصف ما بقي بعدها أذهب السيل منها. فإن قيل: فليس لو أوصي له برأس من غنمه فهلك جميعها إلا رأسًا منها بقي: فإن الوصية تتعين فيه ولا يكون الهالك وإن كان متميزًا من الوصية وغيرها فهلا كان ما ذهب بالسيل مثل ذلك؟ قيل الوصية برأس من غنمه يوجب الإشاعة في كل رأس منها وإنما جعل إلى الوارث أن يعنيه فيما شاء من ميراثه، وليس كذلك الوصية بثلث الدار، لأن الثلث شائع في جميعها فافترقا. فإذا تقرر ما وصفته من مذهب الشافعي في التسوية بين الاستحقاق، والتلف، وما رأيته من الفرق بين الاستحقاق والتلف، تفرع على ذلك ما يصح به الجوابان. فمن ذلك أن يخلف رجل ثلاثمائة درهم، وثلاثين دينارًا وقيمتها ثلاثمائة درهم، ويوصي بثلث ماله لرجل، فيكون له ثلث الدنانير، وثلثا الدراهم، فإذا أراد الورثة أن يعطوه ثلث الجميع من أحدهما، لم يكن ذلك لهم، لأن الموصي جعله في الجميع مشاركًا لهم فلو تلف من الدنانير عشرون، وبقي منها عشرة، كان له ثلث العشرة الباقية، وثلث الثلاثمائة درهم كلها. فأما إذا أوصي لرجل بثلث الدنانير بعينها، وأوصي لآخر بثلث الدراهم بعينها، فهلك من الدنانير عشرون، وبقي منها عشرة وسلمت الدراهم كلها. فعلي الوجه الذي أراه أن يكون للموصي له بثلث الدنانير ثلث العشرة الباقية وهو ثلاثة دنانير وثلث دينار، وللموصي بثلث الدراهم، ثلث الثلاث مائة وهو مائة درهم. وعلى الظاهر مما قاله الشافعي، يكون للموصي له بثلث الدنانير من العشرة الباقية ستة دنانير وثلثي دينار. ويكون للموصي له بثلث الدراهم من جميع الثلاث مائة ستة وستون درهمًا، وثلثا درهم قيمة الجميع ثلاثة عشر دينارًا وثلث دينار، ويبقي مع الورثة ثلاثة دنانير وثلث، ومائتان وثلاثة وثلاثون درهمًا وثلث، وقيمة الجميع ستة وعشرون دينارًا وثلثا دينار، وهو ضعف ما صار إلى الموصي له. وهكذا لو كانت الوصيتان لرجل واحد. ووجه العمل في ذلك أن يقال: الوصيتان تعادل عشرين دينارًا من ستين دينارًا، فإذا تلف من التركة عشرون دينارًا فهو ثلث التركة، ويرجع النقص على الوصيتين معًا دون أحدهما، فنقص من كل واحد منهما الثلث. فالموصي له بثلث الدنانير كان له قبل التلف عشرة دنانير فصار له بعد التلف ثلثاها، وذلك ستة دنانير وثلثا دينار، وللموصي له بثلث الدراهم، كان له قبل التلف مائة درهم، فصار له بعد تلف الدنانير ثلثا الدراهم، وذلك ستة وستون درهمًا، وثلثا درهم. وعلى هذا: لو أوصي لرجل بسدس الدراهم بأعيانها، وسدس الدنانير بأعيانها والتركة بحالها: كان له خمسة دنانير وخمسون درهمًا، فلو تلف من الدراهم مائتا درهم وبقيت مائة درهم مع جميع الدنانير، وهي ثلاثون دينارًا، فعلي الوجه الذي رأيته: يكون للموصي له خمسة دنانير وستة عشر درهمًا وثلث درهم، وهو سدس كل واحد من المالين. وعلى الظاهر من مذهب الشافعي يكون للموصي له ثلاثة دنانير وثلث دينار، وثلاثة وثلاثون درهمًا وثلث درهم.، لأنه يجعل نقص أحد المالين راجعًا إلى المالين، وقد نص الثلث من الوصية بسدس كل واحد من المالين الثلث. فصار مع الموصى له

ثلاثة دنانير وثلث دينار، وثلاثة وثلاثون درهم وثلث درهم قيمة الجميع ستة دنانير وثلثا دينار، وذلك سدس الأربعين الباقية من التركة عينًا وورقًا. فصل: في خلع الثلث: قال مالك بن أنس -رحمه الله عليه- «إذا أوصي الرجل بمائة دينار له حاضرة، وترك غيرها ألف دينار دينًا غائبة، فالورثة بالخيار بين إمضاء الوصية بالمائة كلها عاجلًا سواء أمضي الدين وسلم الغائب أم لا، وبين أن يسلوا ثلث المائة الحاضرة، وثلث الدين من المال الغائب، ويصير الموصي له بالمائة شريكًا بالثلث في كل التركة وإن كثرت، وسمي ذلك خلع الثلث، واستدلالًا بأن للموصي له ثلث ماله، فإذا غير الوصية في بعضه فقد أدخل الضرر عليهم بتعيينه فصار لهم الخيار بين التزام الضرر بالتعيين، وبين العدول إلى ما كان يستحقه الموصي فهذا دليل مالك وما عليه في هذا القول. واستدل إسماعيل بن إسحاق بأن تعيين الموصي للمائة الحاضرة من جملة التركة الغائبة، بمنزلة القبول للجاني إذا تعلقت الجناية في رقبته فسيده بالخيار بين أن يفديه بأرش جنايته أو تسليمه. فهذا مذهب مالك، ودليلاه. ومذهب الشافعي: أن الموصي له ثلث المائة الحاضرة، وثلثاها الباقي موقوف على قبض الدين ووصول الغائب، لا يتصرف فيه الوارث ولا الموصي له، وإذا قبض الدين ووصل من الغائب ما يخرج المائة كلها من ثلثه، أمضيت الوصية بجميع المائة. وإن وصل ما يخرج بعضها أمضي قدر ما احتمله الثلث منها، فإن بريء الدين وقدم الغائب: استقرت الوصية في ثلث المائة الحاضرة، وتصرف الورثة في ثلثيها، لأنها صارت جميع التركة. واختلف أصحابنا إذا انتظر بالوصية قبض الدين، ووصول الغائب، هل يمكن الموصي له من التصرف في ثلث المائة على وجهين: أحدهما: يمكن من التصرف فيها، لأنه ثلث محض. والثاني: يمنع من التصرف فيها، لأنه لا يجوز أن يتصرف الموصي له فيما لا يتصرف الورثة في مثليه، وقد منع الورثة من التصرف في ثلث المائة الموقوف، فوجب أن يمنع الموصي له من التصرف في الثلث الممضي. والدليل على فساد ما ذهب إليه مالك: أنه يأول إلى أحد أمرين يمنع الوصية منها، لأنه إذا خير الورثة بين التزام الوصية في ثلث كل التركة أو إمضاء الوصية في كل المائة. فكل واحد من الأمرين يخارج عن حكم الوصية، لأنهم إذا اختاروا منعه من كل المائة، فقد ألزمهم ثلث كل التركة، وذلك غير موصي له، وإن اختاروا ألا يعطوا ثلث التركة، فقد ألزمهم إمضاء الوصية بكل المائة، فعلم فساد دليل مذهبه بما يأول إليه حال كل واحد من الخيارين. وأما جعلهم تعيين الوصية بالمائة الحاضرة، أدخل ضرر، فالضرر قد رفعناه بوقف الثلثين فعلي قبض الدين، ووصول الغائب، فصار الضرر بذلك مرتفعًا، وإذا زال الضرر

ارتفعت الجناية منه فبطل الخيار فيه. فإذا تقرر ما وصفناه بفرع على ذلك أن يوصي بعتق عبد حاضر وباقي تركته التي يخرج كل العبد من ثلثها دين غائب فيعتق في العبد ثلثه ويوقف ثلثاه على قبض الدين ووصول الغائب. فإذا قبض أوصل منهما، أو من أحدهما كما يخرج كل العبد من ثلثه عتق جميعه، وهل يمكن الورثة في خلال وقف الثلثين الموقوفين من العبد أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يمكنون من ذلك لئلا يلزمهم إمضاء الوصية بما لا ينتفعوا بمثليه وهذا على الوجه الذي يقول إن الموصي له بالمائة إذا وقف ثلثيها وهذا على الوجه الذي يقول إن الموصي له بالمائة إذا وقف ثلثيها منع من التصرف في ثلثها اعتبارًا بالتسوية. فعلي هذا إن تلف الدين، وتلف الغائب، استقر ملكهم على ما وقف من ثلثيه وجاز لهم بيعه. وإن قبض من الدين أو قدم من الغائب ما يخرج جميعه من ثلثه رجع العبد عليهم بما أخذه من كسبه وأجرة خدمته، وليس للورثة أن يرجعوا على العبد بما أنفقوا عليه، أو استخدموه، لأنه قد كان لهم إجازة عتقه، فصاروا متطوعين بالنفقة عليه. والثاني: أنهم يمنعون من ذلك، كما يمنعون من التصرف بالبيع، لأن الظاهر نفوذ الوصية بعتقه، وهذا على الوجه الذي يجوز للموصي له التصرف في ثلث المائة. وإن منع الورثة من التصرف في ثلثيها فعلي هذا إن برئ الدين وتلف الغائب: رق ثلثاه، ورجع الورثة بثلثي كسبه. فصل: وإذا مات رجل وترك ابنين وترك عشرة دراهم عينًا، وعشرة دراهم دينًا على أحد الابنين وأوصي لرجل بثلث ماله: فلمموصي له الثلث، ثلث العين وثلث الدين فيصير ذلك بينهم على ثلاثة أسهم، سهم للموصي له، ويبقي سهمان بين الابنين. وفي استيفاء الابن حقه من دينه وجهان: أحدهما: أنهم يشتركون في العين والدين فلا يستوفي من عليه الدين حقه من الدين لاستحقاق للتسوية بينهم في العين والدين كما لو كان الدين على أجنبي. فعلي هذا تكون العشرة العين بينهم أثلاثًا، يأخذ الموصي له ثلثها، ثلاثة دراهم وثلث، ويأخذ كل واحد من الابنين ثلاثة دراهم وثلث ويبرأ من عليه الدين من ثلث ما عليه وهو قدر حقه، ثلاثة دراهم وثلث ويبقي عليه ستة دراهم وثلثان منها ثلاثة دراهم وثلث للموصي له، وثلاثة دراهم وثلث للابن الآخر، وعلى هذا القياس لو كانت الوصية بالربع أو الخمس. والثاني: أن من عليه من الابنين يستوفي حقه منه، ويختص بالعين الموصي له والابن الذي ليس عليه دين. وهذا اختيار ابن سريج، وعليه فرع؛ لأنه لا معني، لأن يأخذ من عليه الدين من التركة ما يلزم رده إلى التركة، ويجعل بدل أخذه بقدر حقه ورده قضاها من دينه. فعلي هذا يكون وجه العمل فيه: أن تكون التركة وهي عشرون دينارًا عينًا ودينًا بينهم

على ثلاثة أسهم، يستحق بكل سهم منها في التركة ستة دراهم وثلثان، فيبرأ من عليه الدين من قدر حقه وهو ستة دراهم وثلثان، من الدين عليه، ويبقي عليه ثلاثة دراهم، وثلث. وتقسم العشرة العين بين الموصي له والابن الآخر بالسوية، فيأخذ الموصي له خمسة، ويبقي له من استكمال الثلث، درهم وثلثان، يرجع به على من عليه الدين، ويأخذ الابن الآخر خمسة، ويرجع بباقي حقه، وهو درهم وثلثان على أخيه، وقد استوفوا جميعًا حقوقهم. فعلي هذا: لو كانت الوصية بالربع والتركة بحالها: قيل التركة في الأصل على أربعة أسهم سهم وهو الربع للموصي له، ويبقي ثلاثة بين الابنين لا تصح، فأبسطها من ثمانية يخرج الكسر منها فتقسم العشرون العين والدين على ثمانية أسهم، سهمان منهما للموصي له بالربع، وثلاثة أسهم لكل ابن فيسقط من دين من عليه الدين قدر حقه من جميع التركة، وهو ثلاثة أثمان العشرين، سبعة دراهم ونصف، وتقسم العشرة العين بين الموصي له، والابن الآخر على خمسة أسهم، فيأخذ الموصي له بسهم منها أربعة دراهم ويأخذ الابن بثلاثة أسهم منها ستة دراهم، ويبقي على صاحب الدين درهمان ونصف وهي بين أخيه والموصي له على خمسة أسهم منها لأخيه ثلاثة أسهم، درهم ونصف، ينضم إلى ما أخذه من العين وهو ستة، تصير سبعة دراهم ونصف وهو جميع حقه. وللموصي له من بقية السدس سهمين، درهم واحد، ينضم إلى ما أخذه من العين وهو أربعة، تصير خمسة دراهم وهم جميع الربع الذي أوصي له به. وعلى هذا: لو كانت الوصية بالخمس، كانت التركة على خمسة أسهم، منها سهم للموصي له، وسهمان لكل ابن فيأخذ صاحب الدين سهمين من دينه وهو ثمانية دراهم، ويبقي عليه درهمان، وتكون العشرة العين بين أخيه والموصي له ثلاثة أسهم، سهمان للأخ، ستة دراهم وثلثان، وسهم للموصي له، ثلاثة دراهم وثلث، ويكون الدرهمان الباقيان على صاحب الدين بين أخيه، والموصي له على ثلاثة، ثلثاه لأخيه وهو درهم وثلث ويصير مع ما أخذه ثمانية دراهم وثلثه للموصي له وهو ثلثي درهم، يصير مع ما أخذه أربعة دراهم، ثم يتفرع على هذا الوجه. والمسألة الثانية: أن يكون على الابن مع دين أبيه، عشرة دراهم دين لأجنبي، وقد فلس بها في حال حياة الأب. ففيما يستحقه الابن من العشرة العين وجهان ذكرهما ابن سريج: أحدهما: أن يختص بها أخوة الموصي له، دون غريمة؛ لأنه قد أخذ منها بإزائه من دينه، فيكون الجواب على ما مضي، ويبقي عليه دين الغريم بكماله. والثاني: أن حقه من العين مال مكتسب، فلا يختص به بعض الدين ويستوي فيه شركاؤه والغريم. ويشبه أن يكون تخريج هذين الوجهين من اختلاف قوليه من الشفعة، إذا ورث الأخوان دارًا، ثم مات أحدهما وخلف ابنين، فباع أحد الابنين حقه في الدار ففي

مستحق الشفعة قولان: أحدهما: أنها لأخيه والموصي له دون عمه. والثاني: أن الشفعة بين أخيه وعمه. فعلي هذا تكون حصة صاحب الدين بين أخيه والموصي له وغريمه. فإذا قيل بهذا الوجه، فطريق العمل به أن يقال: يبرأ صاحب الدين من ثلث دينه وهو ثلاثة دراهم وثلث قدر حقه منه، عليه ثلثاه ستة دراهم وثلثان ثم تقسم العشرة العين أثلاثًا ويأخذ كل واحد من الموصي له والأخ ثلثها ثلاثة دراهم وثلث، ويبقي ثلاثة دراهم وثلث هي حصة صاحب الدين، فتقسم بين غرمائه على قدر ديونهم، والذي عليه لأخيه ثلاثة دراهم وثلث قدر ميراثه من دينه، وللموصي له ثلاثة دراهم وثلث قدر الوصية له من دينه، وعليه لغريمه عشرة دراهم، فتقسم الثلاثة والثلث بينهم على خمسة أسهم، ويأخذ الأخ بسهمه منها، ثلثي درهم، ويبقي له درهمان، وثلثان، ويأخذ الموصي له بسهم منها ويبقي له درهمان وثلثان، ويأخذ الغريم بثلاثة أسهم منها، درهمين، ويبقي له ثمانية دراهم. ثم يتفرع على هذا أن يترك عشرة عينًا، وعشرة دينًا على أحد ابنيه ولا وارث له غيرهما، ويوصي لرجل بثلثي دينه، فتقسم العشرة العين نصفين، يأخذ الابن الذي لا دين عليه نصفها خمسة، ويبقي خمسة هي حصة الابن الذي عليه الدين، فتصرف فيما يستحق عليه من دينه، وفي مستحقها وجهان حكاهما ابن سريج بينا على الوجهين الماضيين: أحدهما: أنها تقسم بين أخيه، وبين الموصي له، بثلثي الدين على قدر حصتهما، وذلك على خمسة أسهم، لأن الباقي لأخيه، ودرهم وثلثان وللموصي له بثلث الدين ستة دراهم وثلثان، فيكون للأخ سهم من الخمسة ويأخذ به من الخمسة درهمًا واحدًا، ويبقي من حقه ثلث درهم، ويرجع به على أخيه، ويكون للموصي له أربعة دراهم من خمسة، ويأخذ بها من الخمسة أربعة دراهم، ويبقي له من وصيته درهمان وثلثان، ويرجع بها على الذي عليه الدين، وقد بريء الذي عليه الدين من ستة دراهم وثلثين. والثاني: أن الخمسة العين التي هي حصة الابن الذي عليه الدين مع العين مختص بها الموصي له بثلثي الدين دون الأخ، لأنه قد صار إلى الأخ منها أربعة، للموصي له من بقية ثلثي الدين درهم وثلثان، ويرجع به على من عليه الدين، ويبقي للآخر درهم وثلثان، يرجع به على أخيه. وفي هذا الفصل مندقيق المسائل فقه وحساب، وما أغفلناه كراهة الإطالة والضجر والله المعين وبه التوفيق. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ولو أوصي بثلثه للمساكين نظر إلى ماله فقسم

ثلثه في ذلك البد». قال في الحاوي: ولو أوصي بثلثه للمساكين دخل معهم الفقراء، ولو أوصي به للفقراء دخل معهم المساكين. قال الشافعي: «لأن الفقير مسكين، والمسكين فقير، وإنما يتميز الطرفان، إذا جمع بينهما بالذكر» أهـ. فالفقير هو الذي لا مال له، ولا كسب. والمسكين: هو الذي له مال أو كسب لا يغنيه. فالفقير أسوأ حالًا من المسكين على ما يستدل عليه في قسم الصدقات. فإذا أوصي بثلث ماله للمساكين. قسم في ثلاثة فصاعدًا من المساكين أو من الفقراء والمساكين. أو من الفقراء دون المساكين. وهكذا إذا أوصي بثلث ماله للفقراء. قسم في ثلاثة فصاعدًا من الفقراء، أو من المساكين والفقراء، أو من المساكين دون الفقراء، لأن كلا الصنفين في الانفراد واحد. ثم قسم ذلك بينهم على قدر حاجاتهم فإن كان فيهم من يستغني بمائة ومنهم من يستغني بخمسين أعطي من غناه مائة سهمان وأعطي من غناه خمسين سهمًا واحدًا. ولا يفضل ذو قرابة بقرابته، وإنما يقدم ذو القرابة على غيره إذا كان فقيرًا لقرابته، لأن للعطية له صدقة، وصلة، وما جمع ثوابين كان أفضل من التفرد بأحدهما. فإذا صرف الثلث في أقل من ثلاثة من الفقراء والمساكين ضمن. فإن صرفه حصته في اثنين كل في قدر ما يضمنه وجهان: أحدهما: وهو الذي نص عليه الشافعي في كتاب الأم: إنه يضمن ثلث الثلث، لأن أقل الأجزاء ثلاثة، والظاهر مساواتهم فيه. والثاني: أنه يضمن من الثلث قدر ما لو دفعه إلى ثالث آخر، فلا ينحصر بالثلث، لأن له التسوية بينهم والتفضيل. ولو كان اقتصر على واحد، فأحد الوجهين أنه يضمن ثلثي الثلث. والثاني: أنه يضمن أقل ما يجزئه في الدفع إليهما. فلو أوصي بثلث ماله للفقراء والمساكين: صرف الثلث في الصنفين بالتسوية ودفع السدس إلى الفقراء، وأقلهم ثلاثة، وإن صرفه في أحد الصنفين ضمن السدس للنصف الآخر وجهًا واحدًا. ثم عليه صرف الثلث في فقراء البلد الذي فيه المال، دون المالك، كالزكاة، فإن تفرق ماله: أخرج في كل بلد ثلث ما فيه، فإن لم يوجدوا فيه، نقل إلى أقرب البلاد إليه

كما قلنا في زكاة المال، فأما زكاة الفطر ففيه وجهان: أحدهما: أنها تخرج في بلد المال، دون المالك كزكاة المال. والثاني: أنها تخرج في بلد المالك، دون المال، لأنها عن فطرة بدنه، وطهور لصومه. فإن نقل الزكاة عن بلد المال إلى غيره كان في الأجزاء قولان. وأما نقل الوصية: فقد اختلف أصحابنا: فمنهم من خرجه على قولين كالزكاة ومنهم من قال: يجزئ قولًا واحدًا، وإن أساء؛ لأن الوصية عطية من آدمي فكان له أن يضعها حيث شاء. فصل: فإذا فرق الثلث فيما وصفنا من الفقراء والمساكين، لم يملكوه إلا بالقبول والقبض، قولًا واحدً، وهكذا كل وصية علقت بصفة لا يلزم استيعاب جنسها وإنما القولان فيمن كان مسمي في الوصية. والفرق بينهما: أن من تعين بالعطية لم يملك إلا بها، ومن تعين بالوصية ملك بها. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «وكذلك لو أوصي لغازين في سبيل الله فهم الذين من البلد الذي به ماله». قال في الحاوي: وهذا صحيح: إذا جعل ثلث ماله مصروفًا في الغارمين. والغارمون ضربان: ضرب استدانوا في المصالح العامة كتحمل للدية «العمد» أو غرم مال في إصلاح ذات البين، أو تيسير الحج، أو إصلاح سبيلهم. فهذا الصنف من الغارمين، لا يراعي فقرهم، ويجوز أن يعطوا مع الغني. والثاني: أن يستدينوا في مصالح أنفسهم، فيراعي فيهم الفقر، ولا يجوز أن يعطوا مع الغني والقدرة. ثم ينظر فيما استدانوا: فإن كانوا صرفوه في مستحب أو مباح: أعطوا، وإن صرفوه في معصية: فإن لم يتوبوا منها لم يعطوا، لما في إعطائهم من إعانتهم عليها وإغرائهم بها. وإن تابوا ففي إعطائهم وجهان: وأحدهما: «لا يعطون» لهذا المعني. والثاني: يعطون لارتفاعها بالتوبة. وأقل ما يصرف الثلث في ثلاثة فصاعدًا في الغارمين، وأي الصنفين أعطي منهم أجزأ، ويكون ما يعطيهم بحسب غرمهم، قال الشافعي: «ويعطي من له الدين عليهم، أحب إلى، ولو أعطوه في دينهم رجوع أن يسع». فإن صرفه في اثنين: غرم للثالث، وفيه وجهان:

أحدهما: يضمن ثلث الثلث. والثاني: أنه يضمن أقل ما يجزئه أن يعطيه ثالثًا ويكون ذلك خاصًا بغارمي بلد المال، ومن كان منهم ذا رحم، أولى لما في صلتها من زيادة الثواب، فإن لم يكونوا فجيران المال، لقوله تعالى: {والْجَارِ ذِي القُرْبَى والْجَارِ الجُنُبِ والصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ} [النساء: 36]. ولقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه». قال الشافعي: «وأقصى الجوار بينهم أربعين دارًا، من كل ناحية» أهـ. هكذا لو أوصي لجيرانه كان جيرانه منتهي أربعين دارًا من كل ناحية. وقال قتادة: الجار: الدار والداران. وقال سعيد بن جبير: الذين يسمعون الإقامة. وقال أبو يوسف: هم أهل المسجد. ودليلنا: ما روي أن رجلًا كان نازلًا بين قوم فأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - ليشكوهم، فبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر وعمر وعليًا رضي الله عنهم، وقال: اخرجوا إلى باب المسجد، وقولوا: ألا إن الجوار أربعون دارًا». فصل: ولو أوصي بإخراج ثلثه في سبيل الله وجب صرفه في الغزاة، كما قلنا في الزكاة، ويصرف ذلك في ثلاثة فصاعدًا من غزاة البلد الذي فيه ماله، على حسب مغازيهم، في القرب، والبعد، ومن كان منهم فارسًا، أو راجلًا، فإن لم يوجدوا في بلد المال، نقل إلى أقرب البلاد فيه. فصل: ولو أوصي بإخراج ثلثه في بني السبيل صرف فيمن أراد سفرًا، إذا كان في بلد المال سواء كان مجتازًا، أو مبتدئًا بالسفر. فلو أوصي بثلثه في الأصناف الثمانية: صرف فيهم وهم أهل سهمان الزكاة وقسم بين أصنافهم بالتسوية وجاز تفضيل أهل الصنف، بحسب الحاجة، كما قلنا في الزكاة، إلا في شيء واحد وهو أن الزكاة إذا عدم صنف منها، رد على باقي الأصناف، وإذا عدم في الوصية أهل صنف لم يرد على باقي الأصناف ونقل إلى أهل ذلك النصف في أقرب بلد يوجد فيه، فإن عدموا، رجع سهمهم إلى ورثة الموصي. والفرق بين الوصية والزكاة: أن الوصية لما تعينت للأشخاص، تعينت للأصناف، والزكاة لما لم تتعين للأشخاص، لم تتعين للأصناف. فصل: ولو قال: اصرفوا ثلثي في سبيل الخير، أو في سبيل البر، أو في سبيل الثواب.

قال الشافعي: «جزئ أجزاء، فأعطيه ذو قرابته فقراء كانوا أو أغنياء، والفقراء والمساكن، وفي الرقاب، والغارمين، والغزاة، وابن السبيل، والحاج، ويدخل الضيف، والسائل، والمعتر فيهم». فإن لم يفعل الموصي: ضمن سهم من منعه إذا كان موجودًا. فصل: ولو أوصي بثلث ماله إلى رجل يضعه حيث رآه لم يكن له أن يأخذ لنفسه شيئًا وإن كان محتاجًا؛ لأنه أمره بصرفه لا بأخذه. ولم يكن له أن يصرف إلى وارث للموصي، وإن كان محتاجًا؛ لأن الوارث ممنوع من الوصية، وليس له أن يحبسه عند نفسه، ولا أن يودعه غيره. قال الشافعي -رضي الله عنه-: «واختار له أن يعطيه أهل الحاجة من قرابة الميت حتى يغنيهم دون غريهم، وليس الرضاع قرابة. فإن لم يكن له قرابة من جهة الأب والأم، وكان رضيعًا، أحببت أن يعطيهم، فإن لم يكن له رضيع: أحببت أن يعطي جيرانه، الأقرب منهم فالأقرب، وأقصي الجوار منتهي أربعين دارًا من كل ناحية، وأحب أن يعطيه أفقر من يجده، وأشدهم تعففًا، واستئثارًا، ولا يبقي في يده شيئًا يمكنه أن يخرجه من ساعته. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ولو أوصي له فقبل أو رد قبل موت الموصي كان له قبوله ورده بعد موته وسواءٌ أوصي له بأبيه أو غيره». قال في الحاوي: أعلم أن الوصية تشتمل على أمرين: أحدهما: العطية. والثاني: الولاية. فأما العطية: فهو ما يوصي به الرجل ن أمواله، لمن أحب: فالوقت الذي يصح فيه قبول ذلك ورده، بعد موت الموصي. فإن قبل أو رد بعد موته: صح وكان على ما مضي من حكم القبول والرد. فأما في حياة الموصي: فلا يصح قبوله ولا رده. وقال أبو حنيفة: «يصح الرد ولا يصح القبول، لأن الرد أوسع حكمًا من القبول» أهـ. وهذا فاسد لأمور منها: أن الرد في مقابلة القبول، لأنهما معًا يرجعان إلى الوصية، فلما امتنع أن يكون ما قبل الموت زمانًا للقبول، امتنع أن يكون زمانًا للرد، وصار كزمان ما قبل الوصية الذي لا يصح فيه قبول، ولا رد عكسه ما بعد الموت كما صح فيه القبول، صح فيه الرد.

ومنها: أن الرد في حال الحياة عفو قبل وقت الاستحقاق، فجري مجري العفو عن القصاص قبل وجوبه، وعن الشفعة قبل استحقاقها. ومنها: أنه قبل الموت مردود عن الوصية، فلم يكن رده له مخالفًا لحكمها. فصل: قال الشافعي: «وسواء أوصي له بأبيه، أو غيره» أهـ. وهذا قاله ردًا على طائفتن، زعمت إحداهما أن من أوصي له بأبيه وأمه أو بابنه فعليه قبول الوصية، ولا يجوز له ردها. وزعمت الثانية أنه إذا قبل الوصية بأبيه في حياة الموصي: صح القبول وإن لم يجب عليه، وليس له الرد بعد الموت بخلاف غيره من الوصايا. وكلا القولين عندنا خطأ، ويكون مخيرًا بعد الموت في قبوله ورده كغيره، لأنها وصية. فعلي هذا إن قبل الوصية بأبيه بعد موت الموصي عتق عليه ثم نظر. فإن كانت قبوله صحيحًا: ورثه أبوه لو مات. فلو كان عند قبوله مريضًا كان في ميراثه لو مات وجهان: أحدهما: لا يرث، لأن عتقه بالقبول وصية لا تصح لوارث. والثاني: وهو قول ابن سريج أنه يرث، لأنه لم يخرج ثمنه من ماله فيكون وصية منه. فعلي هذين الوجهين: لو قبله في مرضه ولا مال له غيره، فعلي الوجه الأول، يعتق ثلثه، ويرق ثلثاه؛ لأنه وصية له وليس الوصية منه. فصل: وأما الفضل الثاني: وهو الوصية بالولاية على مال طفل، وتفريق ثلثه، أو تنفيذ وصية، فيصح قبولها وردها في حياة الموصي، وبعد موته، بخلاف وصايا العطايا؛ لأن هذا عقد، فكان قبوله في حياة العاقد أصح وتلك عطية تقبل في زمان التمليك، وقبولها على اتراخي ما لم يتعين تنفيذ الوصايا. ولو رد الوصية في حال حياة الموصي، لم يكن له قبولها بعد موته، ولا في حياته. ولو قبلها في حياة الموصي، صحت، وكان له المقام عليها إن شاء والخروج منها إن شاء، في حياة الموصي، وبعد موته. وقال أبو حنيفة: ليس له الخروج من الوصية بعد موت الموصي، ويجوز له الخروج منها في حياته، إذا كان حاضرًا، وإن غاب، لم يجز. وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن ما كان لازمًا من العقود استوى حكمه في الحياة، وبعد الموت، وما كان غير لازم بطل بالموت، والوصية إن خرجت عن أحدهما صارت أصلًا يفتقر إلى دليل. والثاني: أنه لو كان حضور صاحب الحق شرطًا في الخروج من الوصية، لكان

رضاه معتبرًا، وفي إجماعهم على أن رضاه وإن كان حاضرًا غير معتبر دليل على أنه ليس بشرط. فصل: وإذا اشترى الرجل أباه في مرض موته، بمائة درهم، هي قدر ثلثه، لأنه لا يملك سوى ثلاثمائة درهم عتق عليه من الثلث، ولم يرثه، لأن عتقه إذا كان في الثلث وصية ولا يجمع له بين الوصية والوريث. ولو ورث لمنع الوصية، ولو منعها لبطل العتق والشراء، وإذا بطل العتق والشراء بطل الميراث، فلما كان توريثه، يفضي إلى إبطال الوصية والميراث، أثبتنا الوصية، وأبطلنا الميراث. فلو اشترى بعد أن عتق أبوه عبدًا بمائة درهم، وأعتقه، كان عتقه باطلًا، لأنه قد اشترى ثلثه بعتق أبيه، فرد عليه عتق من سواه. ولو كان قبل شراء أبيه أعتق عبدًا هو جميع ثلثه، ثم استوى أباه وليس له ثلث يحتمله، ولا شيئًا منه، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن الشراء باطل؛ لأنه لو صح، لثبت الملك، لو ثبت الملك لنفذ العتق، والعتق لا ينفذ جبرًا فيما جاوز الثلث، فكذلك كان الشراء باطلًا، وسواء أفاد بعد ذلك، ما خرج ثمن الأب من ثلثه، أو لم يفد، لفساد العقد. والثاني: أن الشراء صحيح؛ لنه لم يقترف بالعقد ما يفسده وإنما عتقه بالملك حال يختص بالعاقد، فلم يؤثر في فساد العقد. فعلي هذا: يستبقي رق الأب، على ملك ولده، وإن أفاد ما يخرج به من ثمن الأب من ثلثه، عتق ولم يرث وإن لم يستفد شيئًا كان على رقه، فإذا مات الابن المشتري، صار الأب موروثًا لورثه ابنه. فإن كانوا ممن يعتق عليهم الأب، لأنهم أخوة، أو بنون، عتق عليهم بملكهم له بالميراث. وإن لم يكن الورثة ممن يعتق عليهم الأب، لأنهم أعمام أو بنو أعمام كان ملكهم موقوفًا. والثالث: أن الشراء موقوف فإن أفاد الابن ما يخرج به عن الأب من ثلثه، عتق عليه، ولم يرثه، وإن أبرأه البائع من ثمنه، عتق عليه، لأنه صار كالموهوب له، وفي ميراثه وجهان، لأن عتقه عليه بغير ثمن. وإن لم يفد شيئًا، ولا أبريء من ثمنه، فسخ البيع حينئذ، ورد الأب على البائع، لأنه لا يجوز أن يملك الابن أباه، فلا يعتق عليه، فلذلك فسخ العقد فيه. والأول: حكاه أبو حامد الإسفراييني، والوجه الثاني والثالث: حكاهما ابن سريج. فعلي هذا لو اشترى الابن أباه في مرض موته، وثمنه خارج من ثلثه ثم مات، وعليه دين يستوعب جميع تركته. فإن أمضي الغرماء ما أعتقه نفذ، وإن ردوه فهو على الرق، وفي بطلان الشراء وجهان:

أحدهما: باطل، لئلا يستبقي ملك الابن لأبيه. والثاني: جائز، ويباع في دينه، لعجز الثلث عن ثمنه. ثم يتفرع على هذا: لو وهب أبوه في مرض موته، فقبله وقبضه، وكانت عليه ديون تستوعب جميع تركته، لم يبطل الهبة. وهل ينفذ عتقه، أو يباع ديون غرمائه؟ على وجهين: أحدهما: أن عتقه نافذ، لأنه لم يستهلك على غرمائه من ماله شيئًا. والثاني: جائز، ويباع في دينه، لعجز الثلث عن ثمنه. ثم يتفرع على هذا: لو وهب أبوه في مرض موته، فقبله وقبضه، وكانت عليه ديون تستوعب جميع تركته، لم يبطل الهبة. وهل ينفذ عتقه، أو يباع ديون غرمائه؟ على وجهين: أحدهما: أن عتقه نافذ، لأنه لم يستهلك على غرمائه من ماله شيئًا. والثاني: أن عتقه يرد، كما يرد عتق المباشرة، وتباع ديون غرمائه، لأن ديونهم مقدمة على العتق في المرض، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ولو أوصي بدار كانت له وما ثبت فيها من أبوابها وغيرها ما فيها». قال في الحاوي: وهذا صحيح، لأن الوصية إذا كانت بالدار، دخل فيها كل ما كان من الدار ولها، ولم يدخل في الوصية كل ما كان في الدار إذا لم يكن منها. الداخل في الوصية: حيطانها وسقوفها، وأبوابها المنصوبة عليه، وما كان متصلًا بها من زخرفها، ودرجها. ولم يدخل فيها ما انفصل عنها من أبوابها، ورفوفها، وسلالمها المنفصلة عنها. وجملة ذلك: أن كل ما جعلناه داخلًا في البيع «معها» دخل في الوصية بها وكل ما جعلناه خارجًا عن البيع لم يدخل في الوصية. ولم يدخل فيها ما انفصل عنها من أبوابها، ورفوفها، وسلالمها المنفصلة عنها. وجملة ذلك: أن كل ما جعلناه داخلًا في البيع «معها» دخل في الوصية بها وكل ما جعلناه خارجًا عن البيع لم يدخل في الوصية. ولو كان الموصي به أرضًا: دخل في الوصية نخلها، وشجرها، ولم يدخل فيه زرعها. ولو كان نخلها عند الوصية مثمرًا: لم يدخل ثمرها في الوصية إن كان موزًا. وفي دخوله فيها إن كان غير موز وجهان: أحدهما: يدخل كالبيع. والثاني: لا يدخل لخروجه عن الاسم وإن كان متصلًا. وهذان الوجهان مخرجان من اختلاف قوليه في دخوله في الرهن. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ولو انهدمت في حياة الموصي كانت له إلا ما انهدمت منها فصار غير ثابت فيها». قال في الحاوي: وصورتها في رجل أوصي لرجل بدار فانهدمت، فلا يخلو انهدامها من ثلاثة أحوال:

أحدها: أن تنهدم في حياة الموصي. والثاني: بعد موته، وبعد قبول الموصي له. والثالث: بعد موته، وقبل قبول الموصي له. فإن انهدمت في حياة الموصي، فهذا على ضربين: أحدها: أن يزول اسم الدار عنها بالانهدام. والثاني: أن لا يزول، فإن لم يزل اسم الدار عنها لبقاء بنيان فيها يسمي به دارًا: فالوصية جائزة، وله ما كان ثابتًا فيها من بنيانها. فأما المنفصل عنها بالهدم، فالذي نص عليه الشافعي: أنه يكون خارجًا عن الوصية. فذهب جمهور أصحابنا إلى حمل ذلك على ظاهره، وأنه خارج عن الوصية، لأن ما انفصل عنها دارًا، فلم يكن للموصي له بالدار فيه حق. وحكي عن أبو القاسم بن كج وجهًا آخر عن بعض أصحابنا أن نص الشافعي على خروج ما انهدم من الوصية محمول على أنه هدمه بنفسه فصار ذلك رجوعًا فيه. ولو انهدم بسبب من السماء، لا ينسب إلى فعل الموصي وكان ما انفصل بالهدم للموصي له مع الدار؛ لأنه منها، وإنما بان عنها بعد أن تناولته الوصية، وإن كانت الدار بعد انهدامها، لا تسمي دارًا، لأنها صارت عرصة لا بناء فيها، ففي بطلان الوصية وجهان: أحدهما: لا تبطل وهذا قول من جعل الآلة بعد انفصالها ملكًا للموصي له. والثاني: أن الوصية بها باطلة، وهو الأصح، لأنها صارت عرصة لم تسم دارًا. ألا ترى لو حلف لا يدخلها، لم يحنث بدخول عرصتها، بعد ذهاب بنائها. وهذا قول من جعل ما انفصل عنها، غير داخل في الوصية. فإن كان انهدامها بعد موت الموصي، وبعد قبول الموصي له، فالوصية بها ممضاة، وجميع ما انفصل من آلتها كالمتصل، يكون ملكًا للموصي له لاستقرار ملكه عليه بالقبول. فصل: فأما إن كان انهدامها، بعد موت الموصي، وقبل قبول الموصي له: فإن لم يزل اسم الدار عنها: فالوصية بحالها، فإن قبلها الموصي له فإن قيل إن القبول يبني على تقدم الملك بموت الموصي، فكل ذلك ملك للموصي له، المنفصل منها، والمتصل. فإن قيل إن القبول هو الملك فله ردها وما اتصل بها من البناء، وفي المنفصل وجهان: أحدهما: للموصي له. والثاني: للوارث.

وإن لم تسم الدار بعد انهدامها دارًا، فإن قلنا إن القبول يبني على تقدم الملك: فالوصية جائزة، وله العرصة، وجميع ما فيها من متصل، أو منفصل إذا كان عند الموت متصلًا. وإن قيل إن القبول هو الملك، ففي البطلان بانهدامها وجهان على ما مضي: أحدهما: باطلة. والثاني: جائزة، وله ما اتصل بها، وفي المنفصل وجهان. فصل: فأما إذا كانت الوصية بعبد فعمي، أو زمن، في حياة الموصي أو بعد موته، فالوصية بحالها، لا يؤثر فيها عمي العبد ولا زمانته. ولو قطعت يده في حياة الموصي: فالوصية بحالها في العبد مقطوعًا، ودية «يده» للموصي، تنتقل إلى ورثته وجهًا واحدًا، بخلاف ما انهدم من آله الدار على أحد الوجهين، لأن الآلة، عين من أعيان الوصية، وليست الدية كذلك، لأنها بدل. فأما إذا قتل العبد قتلًا مضمونًا بالقيمة: ففي بطلان الوصية قولان من اختلاف قوليه في العبد المبيع إذا قتل في يد بائعه، هل يبطل البيع بقتله أم لا؟ على قولين: كذلك يجيء ها هنا في بطلان الوصية قولان: أحدهما: قد بطلت، لأن القيمة لا تكون عبدًا، وكما لو قطعت يده لم يكن أرشها له. والثاني: أن الوصية لا تبطل، لأن القيمة بدل من رقبته فأقيمت مقامها، وخالفت قيمة رقبته، أرش يده، لأن اسم العبد منطلق عليه، وبعد قطع يده فلم يستحق أرش يده، لأنه جعل له ما ينطلق اسم العبد عليه، وليس كذلك بعد قتله. ولكن لو قتله السيد بطلت الوصية به قولًا واحدًا، لأنه لا يضمن قيمة عبده في حق غيره، وكما لو أوصي له بحنطة، فطحنها، وبالله التوفيق. فصل: ولو أوصي بعتق عبده، فقتل العبد قبل عتقه، نظر: فإن قتل في حياة الموصي: بطلت الوصية بعتقه، لخروجه في حياة السيد عن أن يكون عبدًا. وإن كان قتله بعد موت السيد، فقد حكي عن المزني أن الوصية لا تبطل بعتقه، ويشتري بقيمته عبد يعتق مكانه؛ لأن قيمته بدل منه فصار كمن نذر أضحية فأتلفها بتلف، صرفت قيمتها في أضحية غيرها، ويحتمل أن تبطل الوصية، لخروج القيمة عن أن تكون عبدًا، وخالف نذر الأضحية لاستقرار حكمها والعبد لا يستقر حكمه إلا بالعتق. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ويجوز نكاح المريض». قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا تزوج امرأة: صح نكاحها، ولها الميراث،

والصداق إن لم يزد على صداق مثلها. فإن زاد: ردت الزيادة إن كانت وارثة، وأمضيت في الثلث إن كانت غير وارثة. وهكذا المريضة إذا نكحت رجلًا صحيحًا صح نكاحها وورثها الزوج، وعليه صداقها، إن كان مهر المثل فيما زاد. فإن نكحته بأقل من صداق مثلها بالمحاباة فالنقصان وصية له فترد إن كان وارثًا، وتمضي في الثلث إن كان الزوج غير وارث. وقال مالك: نكاح المريض فاسد، لا يستحق به ميراثًا، ولا يجب فيه صداق، إلا أن يكون قد أصابها فيلزمه مهر المثل من الثلث مقدمًا على الوصايا. وكذلك نكاح المريضة فاسد، ولا ميراث للزوج. وقال الزهري: النكاح في المرض جائز، ولا ميراث وقال الحسن البصري: إن ظهر منه الإضرار في تزويجه لم يجز، وإن لم يظهر منه الإضرار وظهر منه الحاجة إليه في خدمة أو غيرها جاز. ودليل من منع منه شيئان: أحدهما: وجود التهمة بإدخالها الضرر على الورثة فصار كالمتلف لماله في مرضه. والثاني: مزاحمتهم لميراثها ودفعهم على ما ترثه ولدان صار لها فصار كالمانع للورثة من الميراث. ودليلنا عموم قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ} [النساء: 3] ولم يفرق بين صحيح ومريض، وروي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه قال في مرضه: «زوجوني لئلا ألقي الله عزبًا». وروي عن ابنمسعود رضي الله عنه أنه قال: «لو لم يبق من أجلي إلا عشرة أيام ما أحببت إلا أن تكون لي زوجة». وروي هشام بن عروة عن أبيه، أن الزبير رضي الله عنه دخل على قدامه يعوده، فبصر عنده بجارية فقال قدامة: زوجني بها فقال: ما تصنع بها وأنت على هذه الحالة فقال: إن أنا عشت فثبت الزبير إن مت فهم أحق من يرثني». ولأن كل من لم يمنع من التسري بالإماء لم يمنع من نكاح الحرائر كالصحيح. ولأنه فراش لا يمنع منه الصحيح، فوجب ألا يمنع منه المريض كالاستمتاع بالإماء، ولأن عقد فلم يمنع منه المرض كالبيع والشراء، ولأنه لا يخلو عقده من أن يكون لحاجة أو لشهوة، فإن كان لحاجة لم يجز منعه وإن كان لشهوة فهي مباحة له كما أبيح له أن يلتزم بما شاء من أكل أو لبس.

(فأما) الجواب عن استدلالهم بالتهمة ودخول الضرر فهو أن التهمة تبعد عمن هو في مرض موته؛ لأنه في الأعلب يقصد وجه الله عز وجل والضرر لا يمنع من جواز العقود كالبيع، ولأنه إن كان ضررًا لورثته فهو منفعة لنفسه وهو أحق بمنفعة نفسه من منفعة ورثته. فأما الجواب عن استدلالهم بأن فيه مزاحمة لبعض الورثة «ودفع» لبعضهم فهو أن ما لم يمنع الصحة منه لم يمنع المرض منه كالإقرار بوارث وكالاستيلاء للأمة. فصل: فإذا ثبت إباحة النكاح في المرض، فله أن يتزوج ما أباحه الله تعالى من واحدة إلى أربع، كهو في الصحة، ولهن الميراث، إن مات من ذلك المرض أو غيره. وأما الصداق، فإن كان مهرهن، صدق أمثالهن، فلهن الصداق مع الميراث. وغن كانت عليه ديوان، شاركهن الغرماء في التركة، وضربن معهم بالحصص. وإن تزوجهن، أو واحدة منهن، بأكثر من صداق مثلها، كانت الزيادة على صداق المثل وصية في الثلث. فإن كانت الزوجة وارثة ردت الوصية، لأنه وصية لوارث. وإن كانت غير وارثة لرق أو كفر، دفعت الزيادة إليها، إن احتملها الثلث، وما احتمله منها يتقدم منها على الوصايا كلها، لأنها عطية في الحياة. وهكذا لو كانت الزوجة حرة مسلمة، فماتت قبله، صحت الزيادة لها، إن احتملها الثلث، لأنها بالموت قبله، غير وارثة. فلو كانت حين نكاحها في المرض أمة، أو ذمية، فأعتقت الأمة، وأسلمت الذمية، صارت وارثة، ومنعت من الزيادة على صداق مثلها، ولو صح المريض من مرضه، ثم مات من غيره أو لم يمت، صحت الزيادة على صداق المثل من رأس المال لوارثه، وغير وارثه. فعلي هذا: لو تزوج في مرضه ذمية على صداق ألف درهم، وصداق مثلها خمسمائة، ومات، ولا مال له غير الألف التي هي صداقها: أعطيت من الألف ستمائة وستة وستين درهمًا وثلث درهم؛ لأنها لها خمسمائة من المال، وتبقي خمسمائة هي جميع التركة، وهي الوصية لها، فأعطيت ثلثها، وذلك مائة درهم وستة وستون درهمًا، وثلث درهم، تأخذها مع صداق مثلها. ولو خلف الزوج مع الصداق خمسمائة درهم: صارت التركة بعد صداق المثل ألف درهم، فلها ثلثها، ثلاثمائة وثلاثة وثلاثون درهمًا وثلث. ولو خلف مع الصداق ألف درهم، خرجت الزيادة على صداق المثل من الثلث وأخذت الألف كلها. فصل: فإذا تزوج الرجل في مرضه امرأة على صداق ألف درهم، ومهر مثلها خمسمائة، ثم ماتت المرأة قبله، ثم مات الزوج من مرضه، ولا مال له غير الألف التي أصدقها ولا لها، فإنه يجوز من المحاباة، قدر ما احتمله الثلث، لأنها صارت بالموت

قبله غير وارثه، وصاروا وارثًا لها، فزادت تركته بما ورثة منها. وإذا أرادت تركته بما ورثه منها، زاد في قدر ما يجوز من المحاباة لها، فإذا ردت منها النصف: صح لها من المحاباة، ثلاثمائة درهم، فتضم إلى صداق مثلها، وهو خمسمائة، يصير لها من الألف بصداق المثل، والمحاباة، وله النصف، وهو أربعمائة درهم يصير معه ستمائة درهم، وذلك ضعف ما خرج من المحاباة وهي ثلاثمائة درهم. ومخرجه بحساب الجبر سهل على المرياض، ولكن نذكر وجه عمله بحساب الباب لسهولته على من لم يكن له بحسب الجبر ارتياض. عمله بحساب الباب أن ننظر تركة الزوج، وهي خمسمائة درهم التي هي المحاباة من الصداق، ويضم إليه ما ورثه زوجته من صداق مثلها، وهو نصف الخمسمائة، مائتان وخمسون، تصير جميع التركة سبعمائة وخمسين درهمًا، وتستحق الزوجة منها بالمحاباة ثلثها، وهو سهم من ثلاثة وقد عاد إلى الزوج نصف بالميراث وهو نصف سهم فأسقطه من الثلث يبقي سهمان ونصف فأضعفها ليخرج الكسر منها يكن خمسة أسهم، ثم أضعف التركة لأجل ما أضعفته من السهام تكن ألف درهم وخمسمائة، ثم أقسمها على السهام الخمسة، تكن حصة كل منهم، منها ثلاث مائة، وهي قدر المحاباة. فعلي هذا: لو كانت المسألة بحالها، وخلف الزوج مع الألف التي أصدقها مائتي درهم. فطريق العمل فيها بحساب الباب الذي ذكرته أن ينظر تركة الزوج وهي سبعمائة، لأن له مائتي درهم سوى الصداق وخمسمائة محاباة من الصداق فاضمم إليها ما ورثه عن زوجته من صداق مثلها، وهو مئتان وخمسون، تصير جميع التركة تسعمائة وخمسين درهمًا تقسم على سهمين ونصف، فأضعف السهام والتركة، تكن السهام خمسة والتركة ألف درهم وتسعمائة درهم، ثم أقسمها على السهام الخمسة تكن حصة كل سهم منها ثلاثمائة درهم، وثمانين درهمًا وهو القدر الذي احتمله الثلث من المحاباة. وإذا ضممته إلى صداق المثل وهو خمسمائة صار ثمانمائة وثمانين درهمًا وقد بقي مع وارث الزوج ثلاثمائة وعشرون درهمًا وعاد إليه نصف تركة الزوجة بالميراث، وذلك أربعمائة وأربعون درهمًا يصير الجميع تسعمائة وستين درهمًا وهو ضعف ما خرج بالمحاباة، لأن الذي خرج منها ثلاثمائة وثمانون درهمًا. فلو كانت المسألة بحالها وخلف الزوج مع الألف التي أصدق خمسمائة درهم صحت المحاباة كلها، لأن بيد ورثة الزوج عنده الخمسمائة ويعود إليه نصف ميراث الزوجة وهو خمسمائة يصير بيده ألف درهم هي ضعف المحاباة. فلذلك صح جميعها، ولو لم يخلف الزوج شيئًا سوى الألف الصداق ولكن خلفت الزوجة سوى الصداق ألفًا أخرى صحت المحاباة كلها، لأنها تصير تركة الزوجة ألفي درهم، يرث الزوج نصفها وهو ألف درهم، وهي ضعف المحاباة، فلذلك صحت. فلو تركت الزوجة سوى الألف الصداق خمسمائة درهم كان الخارج لها بالمحاباة

أربع مائة درهم، لأن تركة الزوجة هي الخمسمائة المحاباة وورث من الزوجة، نصف تركتها وهي ألف درهم، لن تركتها صداق مثلها، وهي خمسمائة درهم، وما خلفته سوى ذلك وهو خمسمائة درهم، فإذا أخذ الزوج نصف تركتها وهو خمسمائة درهم، وضم إلى ما اختص به من التركة، صارت تركته «ألف» درهم، تقسم على سهمين ونصف فإذا أضعف سهام التركة صارت السهام خمسة، والتركة ألفين فإن قسمتها على الخمسة كانت حصة كل سهم منها، أربعمائة درهم، وذلك قدر ما احتمله الثلث من المحاباة وقد بقي مع وارث الزوج من بقية الصداق مائة درهم، وصار إليه من تركة الزوج، بحق النصف سبعمائة درهم، فصار الجميع ثمان مائة درهم، وذلك ضعف ما خرج بالمحاباة، لأن الخارج منها أربعمائة درهم. فصل: فإذا تزوجها على صداق ألف لا يملك غيرها، ومهر مثلها خمسمائة درهم، ثم ماتت قبله وهي ذات ولد يحجب الزوج إلى الربع، ولم يخلف سوى الألف فباب العمل فيه أن يضم «ربع» الخمسمائة التي هي صداق مثلها وهي مائة وخمسة وعشرون إلى الخمسمائة التي له، وهي المحاباة تكن ستمائة وخمسة وعشرين درهمًا للزوجة منها ثلثها، وهو سهم من ثلاثة، وقد ورث الزوج أربعة وهو ربع سهم فأسقطه من الثلاثة، ويبقي سهمان وثلاثة أرباع فأبسطها أرباعًا تكن أحد عشرًا، ثم اضرب الستمائة، والخمسة والعشرين في أربعة تكن ألفان وخمسمائة فاقسمها على أحد عشر تكن حصة كل سهم منها ما تبقي، درهم وسبعة وعشرون درهمًا وثلاثة أجزا من أحد عشر جزءًا من درهم، وهو الخارج لها بالمحاباة. وإذا ضممته إلى الخمسمائة التي هي صداق المثل صارت تركتها سبعمائة وسبعة وعشرين ودرهمًا وثلاثة أجزاء من أحد عشر جزءًا من درهم الألف مائتان واثنان وسبعون درهمًا وثمانية أجزاء من أحد عشر جزءًا من درهم وورث من الزوجة ربع تركتها وذلك مائة درهم وأحد وثمانون درهمًا وتسعة أجزاء من أحد عشر جزءًا من درهم. يصير الجميع أربعمائة وأربع وخمسين درهمًا وستة أجزاء من أحد عشر جزءًا من درهم، وذلك مثل ما خرج بالمحاباة، لأن الخارج بها مائتان وسبعة وعشرون درهمًا وثلاثة أجزاء من أحد عشر جزءًا من درهم. فلو كانت المسألة بحالها ولحق ربع الزوج عول؛ لأنه كان معه من ورثتها أبوان فقد صارت فريضتها من خمس عشر للزوج منها ثلاثة فصارت معه خمسة فإذا كان كذلك فاضمم إلى تركته وهي خمسمائة المحاباة ما ورثه عن زوجته من صداق مثلها وهو خمس الخمسمائة تكن مائة درهم تصير معه ستمائة درهم للزوجة منها بالمحاباة الثلث سهم من ثلاثة قد ورث الزوج خمسة فأسقطه من الثلاثة يبقي سهمان وأربعة أخماس فأبسطه أخمسًا تكن أربعة عشر ثم اضرب تركة الزوج وهي ستمائة في خمسة تكن ثلاثة الآلف ثم اقسمها على أربعة عشر تكن حصة كل سهم منها مائتان درهم وأربعة عشر درهمًا وسبعا

درهم وهو قدر ما احتمله الثلث في المحاباة فإذا ضم إلى صداق مثلها وهو خمسمائة صارت تركتها سبعمائة درهم وخمسة وثمانين درهمًا وخمسة أسباع درهم وورث من تركة الزوجة خمسها وذلك مائة درهم واثنان وأربعون درهمًا ستة أسباع درهم فصار معه أربعمائة درهم وثمانية وعشرون درهمًا وأربعة أسباع درهم وذلك مثلًا ما خرج بالمحاباة؛ لأن الخارج بها مائتا درهم وأربعة عشر درهمًا وسبعا درهم. فلو كانت المسألة بحالها وكان ميراث الزوج بالعول خمسًا وأوصت الزوجة بإخراج ثلثها فوجه العمل بالباب الذي قدمناه أن تضم إلى تركة الزوج وهي خمسمائة المحاباة قدر ما يرثه من زوجته من صداق مثلها وهو الخمس من ثلث الخمسمائة وذلك ستة وستون درهمًا وثلث درهم تكن خمسمائة درهم وستة وستين درهمًا وثلثي درهم للزوجة منها بالمحاباة ثلثها وقد أوصت في هذا الثلث بإخراج ثلث فبقي لها من الثلث ثلثاه وذلك تسعًا المال ثم ورث الزوج خمس هذين التسعين وذلك سهمان من خمسة وأربعين سهمًا هي مضروب ثلاثة في ثلاثة في خمسة، لأن فيها ثلث ثلث وخمسًا فأسقط هذين السهمين من عول هذه السهام. تبقي ثلاثة وأربعون درهمًا ثم اضرب التركة وهي خمسمائة وستة وستون درهمًا وثلثا درهم في خمسة عشر هي مخرج الثلث والخمس لأنك ضربت الثلاثة في خمسة عشر، فإذا فعلت ذلك كان معك ثمانية آلاف وخمسمائة فاقسمها على ثلاثة وأربعين سهمًا يكن قسط السهم الواحد منها مائة درهم وتسعة وتسعين درهمًا وتسعة وعشرين جزءًا من ثلاثة وأربعين جزءًا من درهم وهو ما احتمله الثلث من المحاباة. فإذا ضممته إلى صداق مثلها وهو خمسمائة صار جميع ما تملكه من الألف ستمائة درهم وسبعة وتسعين درهمًا وتسعة وعشرين جزءًا من ثلاثة وأربعين جزءً من درهم وبقي للزوج من الألف ثلاثمائة درهم وأربعة عشر جزءًا من ثلاثة وأربعين جزءًا من درهم، يكن باقي تركتها بعد إخراج الثلث أربعمائة درهم وخمسة وسبعين درهمًا وخمسة أجزاء من ثلاثة وأربعين جزءًا من درهم يرث الزوج خمسها وهو ثلاثة وتسعون درهمًا وجزءًا من ثلاثة وأربعين جزءًا من درهم فإذا ضممته إلى ما بقي له من الألف وهو ثلاثمائة درهم ودرهمان وأربعة عشر جزءًا صار الجميع ثلاثمائة وخمسة وتسعين درهمًا وخمسة عشر جزءًا من ثلاثة وأربعين جزءًا من درهم وهو مثلي ما خرج بالمحاباة، لأن الخارج بها مائة درهم وسبعة وتسعون درهمًا وتسعة وعشرون جزءًا من ثلاثة وأربعين جزءًا من درهم. ولو كان الزوج قد أوصي في هذه المسألة بإخراج ثلثه ردت وصيته، لأن ثلثه مستحق في محاباة مرضه، والعطايا في المرض مقدمة على الوصايا بعد الموت. فصل: فإذا أعتق الموصي جارية في مرضه وقيمتها خارجه من ثلثه ثم تزوجها على صداق لا يعجز المال عن احتماله كان العتق نافذًا في الثلث والنكاح جائز النفوذ والعتق ولها والصداق من رأس المال إن لم يكن فيه محاباة وإن كانت فيه محاباة كانت في الثلث

ولا ميراث لها منه، لأنه لا يجوز أن يجمع لشخص بين الميراث والوصية فلو ورثت منعت الوصية، وإذا منعت الوصية بطل العتق وإذا بطل العتق بطل النكاح، وإذا بطل النكاح سقط الميراث، فلما كان توريثها مقضيًا إلى إبطال عتقها، وميراثها أمضيت الوصية بالعتق وصح النكاح وأسقط الميراث. ولو كان هذا المعتق لا يملك غير هذه الأمة: عتق ثلثها، ورق ثلثاها، وبطل نكاحها لأجل ما بقي له من رقها فإن لم يجامعها فلا دور فيها وقد صار العتق مستقرًا في ثلثها، والرق باقيًا في ثلثيها، وإن وطئها دخلها دور لأجل ما استحقته من مهر مثلها بالوطء. فلو كانت قيمتها مائة ليس للسيد غيرها، ومهر مثلها خمسون استحقت منه بقدر ما يجزئ من عتقها، وسقط منه بقدر ما بقي من رقها فيعتق سبعاها ويرق للورثة أربعة أسباعها، ويوقف سبعها، لأجل ما استحقته من سبعي مهرها. ووجه العمل فيه: أن تجعل للعتق سهمًا وللورثة سهمين، ليكون لهم مثل ما أعتق، ولهم المثل نصف سهم، لأن مهر المثل نصف قيمتها يكون ثلاثة أسهم ونصف فابسطها لمخرج النصف يكن سبعة أسهم فاجعلها مقسومة على هذه السهام السبعة سهمان منها للعتق فيعتق سبعاها، وذلك بثمانية وعشرين درهمًا وأربعة أسباع درهم، ورق أربعة أسباعها للورثة، وذلك سبعة وخمسون درهمًا وسبع درهم، وهو مثلًا ما خرج بالعتق، ويوقف سبعاها، وذلك أربعة عشر درهمًا وسبعا درهم، بإزاء سبعي مهر مثلها الذي استحق بقدر حريتها، فإن بيع لها استرقه المشتري، وإن فداه الورثة استرقوه على أربعة أسباعهم، وإن أخذته بحقها عتق عليها بالملك، فإن أبرأت السيد منه، عتق عليها مع سبعيها وصار ثلث أسباعها حرًا. فلو كانت قيمتها مائة درهم فأعتقها، فتزوجها على صداق مائة درهم، وخلف معها مائتا درهم، فإن لم يدخل بها قبل موته عتق جميعها، وصح نكاحها وبطل صداقها، وسقط ميراثها، واعتدت عدة الوفاة، وأما نفوذ عتقها فلأنه قد حصل للورثة مائتا درهم هي مثلًا قيمتها، وأما صحة نكاحها: فلأنه قد عتق جميعها، وأما سقوط مهرها: فلأنها لو أخذته لعجزت التركة عن جميعها وعجزها عن جميعها يوجب بطلان نكاحها وبطلان نكاحها يوجب سقوط مهرها، فصار إيجاب صداقها مقضيًا إلى بطلان عتقها ونكاحها وصداقها. فأسقط الصداق ليصح العتق والنكاح، وأما سقوط الميراث: فلئلا يجمع لها بين الوصية والميراث. وأما عدة الوفاة فلموته عنها وهي على زوجتيه، وإن كان قد دخل بها فقد استحقت بالدخول مهرًا، فإن أبرأت منه بعد العتق فقد صح النكاح، واعتدت عهدة الوفاة، وإن طالب به كان لها لاستحقاقها له بالدخول وصار دينًا لها في التركة لعجز الثلث عن عتق جميعها، وإذا عجز الثلث من عتق جميعها رق منها قدر ما لا يحتمله الثلث وإذا رق منها شيء بطل نكاحها ولم يلزمها عدة الوفاة، واستحقت حريتها من مهر المثل دون المسمي، لأن بطلان النكاح قد أسقط الميم ودخلها دور.

فإذا كان مهر مثلها خمسين درهمًا وقيمتها مائة درهم قد خلف معها مائتا درهم صارت تركته ثلاثمائة درهم فقسمت على سبعة أسهم، لأن لها بالعتق سهمًا وبالمهر نصف سهم وللورثة سهمان تكون ثلاثة أسهم ونصفًا فإذا بسطت كانت سبعة أسهم فيعتق عنها بسبعي التركة ستة أسباعها وذلك بخمس وثمانين درهمًا وخمسة أسباع درهم وجعلت لها ستة أسباع مهر مثلها سبع التركة وذلك ثمانية وأربعون درهمًا وستة أسباع درهم وجعلت للورثة أربعة أسباع التركة، وذلك مائة درهم واحد وسبعون درهمًا وثلاثة أسباع درهم وقد بقي معهم من الدراهم مائة وسبعة وخمسون درهمًا وسبع درهم ورق لهم من المائة سبعها وذلك أربعة عشر درهمًا وسبعي درهم صار جميع ماله مائة درهم واحدًا وسبعين درهمًا وثلاثة أسباع درهم وهو مثلًا ما أعتق منها. فلو كانت المسألة بحالها وكانت المائتا درهم التي تركها السيد من كسبها فقد صار لها في التركة حقان: أحدهما: ما يستحقه من كسبها بقدر حريتها. والثاني: ما يستحقه من مهر مثلها فيجعل لها بالعتق سهمًا وبالكسب سهمين لأنها كسبت مثلي قيمتها ويجعل لها بمهر المثل نصف سهم، لأن مهر مثلها مثل نصف قيمتها ويجعل للورثة سهمين وذلك مثلا سهم عتقها يصير الجميع خمسة أسهم ونصفًا فأضعف لمخرج النصف منها تكن أحد عشر سهمًا، منها للعتق سهمان وللكسب أربعة أسهم وللمهر سهم وللورثة أربعة أسهم ثم أجمع بين سهم العتق وسهام الكسب الأربعة تكن ستة وهي قدر ما يعتق منها فيعتق منها ستة أسهم من أحد عشر سهمًا وقيمة ذلك أربعة وخمسون درهمًا وستة أجزاء من أحد عشر جزءًا من درهم ويملك بذلك ستة أسهم من أحد عشر سهمًا من كسبها وذلك مائة درهم وتسعة دراهم وجزء من أحد عشر جزءًا من درهم وتستحق بذلك ستة أجزاء من أحد عشر سهمًا من مهر مثلها، وذلك سبعة وعشرون درهمًا وثلاثة أجزاء من أحد عشر جزءًا من درهم ويبقي مع الورثة من الكسب ثلاثة وستون درهمًا وسبعة أجزاء من أحد عشر جزءًا من درهم وقد رق لهم من رقبتها خمسة أسهم من أحد عشر سهمًا وقيمة ذلك خمسة وأربعون درهمًا وخمسة أجزاء من أحد عشر جزءًا من درهم يصير جميع ما بأيديهم مائة وتسعة دراهم وجزءًا من أحد عشر جزءًا من درهم وذلك مثلا ما عتق منها، لأن الذي عتق منها أربعة وخمسون درهمًا وستة أجزاء من أحد عشر جزءًا من درهم والله أعلم بالصواب. فصل: وإذا أعتق المريض عبدًا هو بقدر ثلثه، ثم أعتق بعده عبدًا آخر هو بقدر ثلثه: نفذ الأول، ورق الثاني، من غير قرعة. وقال أبو حنيفة رضوان الله عليه: يكون الثلث بينهما نصفين، ويعتق من كل واحد منهما نصف أهـ. وهذا فاسد لأن الأول قد استوعب الثلث كله. فأما إذا أعتقهما معًا بلفظة واحدة، وهما ثلثا ماله، أعتق أحدهما بالقرعة تكميلًا

للعتق في أحدهما: فلو استحق أحدهما، تعين العتق في الثاني منها، وبطلت القرعة. ولو أعتق عبدًا هو قدر ثلثه، فاستحق نصف، لم يبطل العتق في النصف المستحق، وكان لمستحقه قيمته، وكان كشريك أعتق حصته في عبد وهو موسر وخالف استحقاق أحد العبدين. ولو دبر عبدًا هو قدر ثلثه، فاستحق نصفه، بطل فيه التدبير، ولا تقويم بخلاف المعتق، لأن من دبر حصته من عبد لم يقوم عليه، وإن مات موسرًا، لأنه بعد الموت معسر. ولو قال: إذا أعتقت سالمًا، فغانم حر، ثم قال: يا سالم أنت حر، فإن خرج سالم وغانم من ثلثه، عتقا جميعًا، وكان عتق سالم بالمباشرة، وعتق غانم بالصفة. وإن خرج أحدهما من الثلث دون الآخر: عتق سالم المنجز عتقه بالمباشرة دون غانم المعلق عتقه بالصفة، لأن سالم يعتق سالم، لم تكمل الصفة التي علق بها عتق غانم. فلذلك قدم عتق سالم على غانم. ولو كان قال: إذا أعتقت سالمًا فغانم في حال عتق سالم حرم، ثم أعتق سالمًا، والثلث يحتمل أحدهما، ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول ابن سريج أنها على سواء، كما لو أعتقهما معًا، لأن جعل عتق الصفة، في حال عتق المباشرة، وبخلاف ما تقدم، فيعتق أحدهما بالقرعة، ولا يقدم عتق المباشرة على عتق الصفة. والثاني: وهو قول أبي حامد الإسفراييني أنه يقدم عتق سالم، والمعتق بالمباشرة على عتق غانم المعتق بالصفة؛ لأن عتق المباشرة أصل وعتق الصفة فرع، فكان حكم الأصل، أقوى من حكم الفرع، فسوى بين هذه المسألة، والتي تقدمت. ولو قال لعبده، يا سالم إذا تزوجت فلانة، فأنت حر، ثم تزوج فلانة على صداق ألف، ومهر مثلها خمسمائة، وقيمة سالم خمسمائة، وثلث ماله خمسمائة درهم، فإن كانت الزوجة وارثة، بطلت المحاباة في صداقها، لأنها وصية لا تصح لوارث، وعتق سالم، لأنه بقدر الثلث. وإن كانت غير وارثة كانت أحق بالثلث، في محاباة صداقها من العتق، ورق سالم، لأن صفة عتق، تقدم النكاح، فصارت المحاباة فيه أسبق من العتق. ولو قال: إذا تزوجت فلانة فأنت حر في حال تزوجي لها: فإن ورثت الزوجة: عتق سالم، وإن لم ترث فعلي قولي ابن سريج وأبي حامد جميعًا، يكون سهمًا، لأنه مثل قيمة العبد وللورثة سهمين، ثم أجمع السهام تكن أربعة، وتقسم التركة عليها، وهي ثلاثمائة درهم، يكن قسط كل سهم خمسة وسبعين درهمًا، وهو سهم العتق، فأعتق منه بخمسة وسبعين درهمًا، تكن ثلاثة أرباعه، فيصير ثلاثة أرباعه حرًا، ويأخذ من التركة ثلاثة أرباع أرش

جنايته، وذلك خمسة وسبعون درهمًا، ويبقي مع الورثة مائة وخمسة وعشرين درهمًا وربع العبد بخمسة وعشرين درهمًا، وهو مثلًا ما خرج بالعتق. فلو كانت المسألة بحالها وكان أرش الجناية ثلاثمائة درهم، جعلت للعتق سهمًا وللأرش ثلاثة أسهم، لأنه ثلاثة أمثال قيمة العبد، وللورثة سهمين يكون الجميع ستة أسهم، ثم قسمت التركة، وهي ثلاثمائة درهم، على ستة أسهم تكن حصة كل سهم خمسين درهمًا، وهو سهم للعتق فأعتق منه بالخمسين درهمًا، تكن نصفه، فيصير نصفه حرًا، ونصفه رقًا، ونأخذ من التركة نصف أرش جنايته، وذلك مائة درهم وخمسون درهمًا، ويبقي مع الورثة خمسون درهمًا ونصف العبد خمسين درهمًا، يصير الجميع مائة درهم، وذلك مثلي ما خرج بالعتق والله أعلم. الثلث في المحاباة والعتق بالسوية، ولا يقدم أحدهما على الآخر، لأن صفة العتق، وجود النكاح، والنكاح قد كمل، وإن بطلت بعض محاباته، وليس كالعتق والله أعلم. فصل: وإذا أعتق المريض عبدًا قيمته مائة درهم، لا مال له سواه، عتق ثلثه ورق ثلثاه. فإن أجاز الورثة عتق ثلثية، فإن قيل: إن إجازتهم تنفيذ وإمضاء لم يحتج الوارث مع الإجازة أن يتلفظ بالعتق، وكان ولاء جميعه للمعتق. وإن قيل: إن إجازتهم ابتداء عطية منهم، لم يعتق بالإجازة إلا أن يتلفظ بعتقه، أو ينوي بالإجازة العتق؛ لأن الإجازة كناية في العتق، ثم قد صار جميعه حرًا، وولاء ثلثه للمعتق الميت، وفي ولاء باقي ثلثيه وجهان: أحدهما: وهو قول الاصطخري: للوارث، لأنه تحرر بعتقه. والثاني: وهو قول أبي الحسن الكرخي: أنه للمعتق الميت، تبعًا للثلث، لأن الوارث ناب فيه عن الموروث، المعتق، وصار كمن أعتق عبده عن غيره بأمره فإن ولاءه يكون للمعتق عنه دون المالك. فإذا أعتق في مرضه عبدًا قيمته مائة درهم، وخلف سوى العبد مائة درهم: عتق ثلثا العبد وذلك ثلث التركة، لن التركة مائتا درهم وثلثها ستة وستون درهمًا وثلثان، وذلك قيمة ثلثي العبد. فلو خلف سوى العبد مائتي درهم عتق جميعه لخروجه من ثلث التركة. فلو كان السيد والمسألة بحالها قد جني على العبد بعد عتقه جناية أرشها مائة درهم: قيل للعبد إن عفوت عن أرش الجناية نفذ عتقك لخروج قيمتك من الثلث وإن لم تعف عجز جميع الثلث عن قيمتك فرق منك، قدر ما عجز الثلث عنه وسقط من أرش الجناية بقسط وكان لك من الأرش بقدر ما عتق منك وصار فيك دور، وإذا كان هكذا فباب العمل فيه أن تجعل للعتق سهمًا (وللأرش) سهمين.

فصل: وإذا أعتق المريض عبدًا قيمته مائة درهم ولا مال له سواه فكسب العبد في حياة سيده مائة درهم فكسب لنفسه على حريته ورقه فما قابل حريته فهو له غير مضموم إلى التركة ولا محسوب في الثلث وما قابل رقه فهو للسيد مضموم إلى تركته فوائد في ثلثه فيصير بالكسب دور في العتق وقدر الدائر السدس، لأنه لو لم يكتسب شيئًا لعتق ثلثه وإذا كسب مثل قيمته عتق نصف فصار الزائد بكسبه في العتق بقدر سدسه وبابه أن نجعل للعتق سهمًا وللكسب سهمًا وللورثة سهمين تصير أربعة أسهم فأقسم العبد عليها فأعتق منه بسهمين منها وهو سهم المعتق وسهم الكسب فيعتق نصفه بخمسين درهمًا يملك به نصف كسبه وهو خمسون درهمًا يصير معهم من رقبته وكسبه مائة درهم هي مثلًا ما خرج بالعتق وإن كسب العبد والمسألة بحالها مائتي درهم جعلت له بالعتق سهمًا وبالكسب سهمين، لأنه مثل قيمته وجعلت للورثة سهمين تكن خمسة أسهم يقسم العبد عليها فيعتق منه ثلاثة أسهم هي سهم العتق وسهما الكسب ثلاثة أخماسه بستين درهمًا ويملك به ثلاثة أخماس كسبه مائة وعشرون درهمًا ويزيد للورثة خمساه بأربعين درهمًا ويبقي لهم خمسا كسبه ثمانون درهمًا وذلك مائة وعشرون درهمًا وهي مثلًا ما أعتق منه وإن شئت ضممت للسب وهو مائتا درهم إلى قيمة العبد وهي مائة درهم تكن ثلاثمائة درهم ثم قسمتها على خمسة أسهم يكن قسط كل سهم ستين درهمًا، فيعتق منه بقدر ما خرج به السهم الواحد وهو ثلاثة أخماسه وتتبعه ثلاثة أخماس كسبه فيزيد خمساه وتتبعه خمسا كسبه ولو كان كسبه خمسين درهمًا جعلت له بالعتق سهمًا وبالكسب نصف سهم، لأنه مثل نصف قيمته وجعلت للورثة سهمين فيصير ذلك ثلاثة أسهم ونصفًا فأبسطها لمخرج النصف تكت سبعة ثم أقسم العبد عليها وأعتق منه ثلاثة أسهم منها وهي سهما العتق وسهما الكسب يعتق منه ثلاثة أسباعه مع اثنين وأربعين درهمًا وستة أسباع درهم ويملك به ثلاثة أسباع كسبه أحدًا وعشرين درهمًا وثلاثة أسباع درهم ويزيد للورثة أربعة أسباعه لسبعة وخمسين درهمًا وسبع درهم وتبقي لهم أربعة أسباع كسبه وهو ثمانية وعشرون درهمًا وأربعة أسباع درهم يكن الجميع خمسة وثمانين درهمًا وخمسة أسباع درهم وذلك مثل ما عتق منه ولو أعتقه وقيمته مائة درهم وخلف سواه مائة درهم وكسب العبد قبل موت سيده مائة درهم فاجعل للعتق سهمًا وللكسب سهمًا وللورثة سهمين ثم اجمع الكسب إلى التركة تكن ثلاثمائة درهم ثم أقسمها على أربعة أسهم تكن حصة كل سهم خمسة وسبعين درهمًا وهو قدر ما خرج بالعتق فأعتق في العبد بخمسة وسبعين درهمًا تكن ثلاثة أرباعه وتأخذ ثلاثة أرباع كسبه خمسة وسبعين درهمًا يبقي مع الورثة مائة درهم من أصل التركة وخمسة وعشرون درهمًا بقية الكسب وربع العبد بخمسة وعشرين درهمًا يكن الجميع مائة درهم وخمسين درهمًا وهو مثلًا ما عتق منه، وهكذا لو زادت قيمة العبد كانت في حكم كسبه، لأنه في قدر ما عتق منه مقوم ليوم العتق وفيما رق منه مقوم يوم الموت فإن زاد مثل قيمته كان كما لو كسب مثل قيمته وإن زاد نصف قيمته كان كما لو كسب نصف قيمته فإذا كانت قيمته مائة درهم يوم العتق فصارت قيمته مائتي درهم يوم الموت عتق منه نصفه (وقيمة)

نصفه يوم العتق خمسون درهمًا ورق نصفه وقيمة نصفه يوم الموت مائة درهم وذلك مثلًا ما عتق منه والعمل فيه كالعمل في الكسب. فصل: وإذا أعتق في مرضه أمة حاملًا وعتقت مع حملها سواء أراده أو لم يرده، لأنه لا يجوز أن تلد الحرة مملوكًا وفيما يقوم في ثلث العتق وجهان: أحدهما: تقوم الأمة حاملًا يوم العتق ولا اعتبار بقيمة الولد فإن خرجت الأمة من الثلث نفذ عتقها وعتق ولدها، وإن لم تخرج الأمة من الثلث عتق منها بقدر ما احتمله الثلث من نصف مثله وعتق من ولدها مثله ورق منها ما لم يحتمله الثلث ورق من ولدها مثله. والثاني: أن ينظر بالأمة حتى تلد ثم تقوم بعد الولادة ويقوم الولد يوم ولد وتجمع بين القيمتين فيعتبر أنه في الثلث فإن احتملها الثلث عتق، وإن لم يحتملها الثلث عتق منهما معًا بالسوية قدر ما احتملت الثلث ولم يقرع بينهما بخلاف العبدين، لأن الولد تبع الأمة إذا كان حملًا يعتق بعتقها ويرق برقها ولا يجوز أن يكون بينهما شيء لا يعتق من حملها مثله فعلي هذا لو كانت قيمة الأم مائة درهم وقيمة الولد يوم ولد خمسين درهمصا فإن كان الثلث مائة وخمسين درهمًا عتق معًا وإن كان الثلث مائة فهو يقدر ثلثي العبد فيعتق من الأم ثلثاها ستة وستين درهمًا وثلثي درهم ويعتق من الولد ثلثاه ثلاثة وثلاثين درهمًا وثلث درهم ورق ثلث الأم، وثلث الولد، ولو أن مريضًا أعتق كل حمل أمته لم يسر العتق إلى الأم وكان الحمل وحده حرًا ذكرًا كان أو أنثي، واحدًا أو عددًا، لن الأمة قد يجوز أن تلد حرًا، فلذلك لم يسر عتق الحمل، إلى الأم، والحرة لا يجوز أن تلدا عبدًا، فلذلك سري عتق الأم إلى الحمل. فعلي هذا تعتبر قيمة الحمل بعد الولادة وجهًا واحدًا. فلو أعتق الأم بعد عتق حملها نظر: فإن كان الثلث محتملًا لقيمة الأولاد والأم عتقوا جميعًا كلهم، وإن احتمل قيمة الأولاد دون الأم عتق الأولاد ورقت الأم من غير قرعة، لأنه قدم عتقهم على عتق الأم، ولو اتسع الثلث للأولاد وبعض الأم: عتق جميع الأولاد وعتق من الأم قدر ما بقي من الثلث وكان باقيها رقًا ولو ضاق الثلث عن قيمة الأولاد كلهم أقرع بين الأولاد وجري عتقه من احتمله الثلث منهم ورق من لم يحتمله الثلث مع الأم، وإنما أقرع بينهم، ولم يجعل ما احتمله الثلث من العتق مقسطًا بينهم، لأنه قد يجوز أن يعتق بعضهم ويرق بعضهم وقد أعتقهم بلفظة واحدة فصار كمن أعتق ثلاثة أعبد له بكلمة واحدة والثلث لا يحتمل إلا أحدهم عتق أحدهم بالقرعة. ولو أن مريضًا أعتق أمة حاملًا وأعتق حملها من بعد ذلك لم يكن لما استأنفه من عتق الحمل تأثيرًا لأنهم قد أعتقوا مع الأم بالقول الأول. ولو أن صحيحًا قال لعبده أو أمته: إذا جاء رأس الشهر فأنت حر ثم صار رأس الشهر والسيد في مرض موته كان عتقهم عتق صحة من رأس المال، لأنه تلفظ به فيهم في

حصته فلم تنتقل عن حكمه لحدوث المرض، والله أعلم. فصل: وإذا ذهب المريض في مرضه، هبة، فإن كانت لوارث، فهي مردودة، لن هبة المريض وصية من ثلثه، والوارث ممنوع من الوصية، وكذلك لو وهب لغير وارث، فصار عند الموت وارثًا، كانت باطلة، لأنها صارت هبة لوارث، ولو وهب لوارث، فصار عند الموت غير وارث، فهي هبة لغير وارث اعتبارًا بحاله عند الموت. ولو وهب في مرضه لوارثه، ثم مات الموهوب له قبل الواهب، صحت الهبة إن احتملها الثلث، لأنه لما مات قبله صار غير وارث. ولو وهب لوارث في مرضه، ثم صح منه، ومات من غيره، كانت الهبة جائزة؛ لأن تعقب الصحة يمنع من أن يكون ما يقدمه وصية. فأما إذا وهب لأجنبي في مرضه الذي مات منه، هبة فإن لم يقبضها حتى مات فالهبة باطلة، لأنها لا تتم إلا بالقبض. وإن أقبضه قبل الموت: صحت الهبة، وكانت من الثلث، تمضي إن احتملها الثلث، ويرد منها ما عجز الثلث عنه. وهكذا لو وهب في صحته، وأقبض في مرضه، كانت في ثلثه، لأنها بالقبض في الموصي، فصارت هبة في المرض. فلو وهب في مرضه وأقبض، وأعتق، فإن كان الثلث يحتملها، صحت الهبة والعتق، وإن كان الثلث لا يحتملها: لم يصح. وإن كان الثلث يحتمل أحدهما صحت الهبة لتقدمها، ورد العتق لتأخره. ولو أعتق قدر ثلثه ثم وهب صح وردت الهبة اعتبارًا بالتقدم سواء كان المتقدم عتقًا أو هبة. ولو وهب قدر ثلثه ثم أوصي بالثلث بعد موته في عتق أو غيره كانت الهبة في المرض مقدمة على الوصية، لنها عطية ناجزة. فإذا تقررت هذه الجملة فدور هذا الفصل يتصور في مريض وهب لأخيه عبدًا قيمته مائة درهم لا يملك غيره ثم مات الموهوب له قبل الواهب وخلف بنتًا وأخاه الواهب فقد زادت تركة الواهب بما ورثه من الموهوب له فزادت الهبة بالزائد في الميراث وإذا كان هكذا فطريق العمل فيه أن تقول الخارج بالهبة سهم من ثلاثة فإذا ورث الوارث نصفه وأسقط من سهميه يبقي له سهم ونصف والهبة سهم فابسط ذلك لمخرج النصف تكن خمسة منها للهبة سهمان فتصح الهبة في خمس العبد ويبقي مع الواهب ثلاثة أخماسه ثم ورث من الموهوب أحد الخمسين فصار معه أربعة أخماس العبد وذلك مثلي ما صحت فيه الهبة من الخمسين. فلو كان الواهب والمسألة بحالها مع العبد الموهوب الذي قيمته مائة درهم صار مال الواهب مائتي درهم فاقسمها على خمسة يكن قسط كل واحد سهم أربعين درهمًا فامض من هبة العبد بسهمين منهما تكن أربعة أخماسه وهو قدر ما جازت فيه الوصية

وبقي مع الواهب مائة درهم وخمس العبد بعشرين درهمًا وورث من الأربعة الأخماس الموهوبة، خمسين بأربعين درهمًا ومعه مائة وستون درهمًا وذلك مثلًا ما جازت فيه الوصية. ولو كان الواهب قد خلف مائة وخمسين درهمًا جازت الهبة في العبد كله، لأن التركة تصير مائتي وخمسين درهمًا فإذا قسمتها على خمسة كان قسط كل سهم خمسين درهمًا فإذا جمعت بين سهمين كان مائة درهم وهي قيمة كل العبد ويبقي مع الواهب مائة وخمسون درهمًا ثم ورث نصف العبد خمسين درهمًا صار معه مائتا درهم وذلك مثلًا قيمة العبد. فلو كان الواهب لا يملك غير العبد وكان عليه خمسون درهمًا دينًا كان نصف العبد مستحقًا في الدين ونصفه الباقي مقسومًا على خمسة للهبة منه بسهمين الخمس بعشرين ويبقي مع الواهب خمس ونصف بثلاثين درهمًا وورث من الخمس الموهوب نصفه بعشرة دراهم صار معه أربعون درهمًا وهي مثلًا ما خرج بالهبة. فلو كان الواهب لا يملك غير العبد ولا دين عليه لكن خلف الموهوب له سوى ما وهب له مائة درهم فطريق العمل فيه أن تقول: ترك الواهب عبدًا قيمته مائة درهم وقد ورث عن أخيه نصف المال خمسين درهمًا صار الجميع مائة وخمسين درهمًا. فإذا قسمت على الخمسة كان قسط كل سهم ثلاثين درهمًا فامض من هبة العبد بسهمين قدرهما ستون درهمًا تكن ثلاثة أخماسه وهو قدر ما كانت فيه الهبة وقد بقي مع الواهب خمساه بأربعين درهمًا وورث نصف ثلاثة أخماسه ثلاثين درهمًا ونصف المائة خمسين درهمًا صار معه مائة وعشرون درهمًا وذلك مثلي ما جاز بالهبة. فصل: وإذا وهب المريض لمريض عبدًا ثم وهبه المريض الموهوب له للمريض الواهب ثم ماتا ولم يخلفا غير العبد الذي يواهباه فالعبد بين ورثتيهما على ثمانية أسهم منها لورثة الواهب الأول ستة أثمانه ولورثة الواهب الثاني ثمناه. فوجه العمل فيه أن الواهب الأول لما وهبه نفذه الهبة في ثلثه، ولما وهب الثاني الثلث نفذت الهبة في ثلثه فصار الدائر على الأول ثلث الثلث وهو سهم من تسعة فأسقطه ليتقطع دوره بقي من التسعة ثمانية أسهم للعبد مقسوم عليها منها هبة الأول للثاني ثلاثة أسهم وهبة الثاني للأول من هذه الثلاثة سهم وقد كان مع الأول خمسة أسهم وعاد إليه سهم فصار مع ورثته ستة أثمان العبد وهو مثلًا ما جاز من هبته، لن الجائز منها ثلاثة أثمانه ومع ورثة الثاني ثمنا العبد وهو مثلًا ما جاز من هبته، لأن الجائز ثمنه، وسواء مات الثاني قبل الأول أو الأول قبل الثاني؛ لأنها هبة بتاتًا. ولكن لو كان الواهب الثاني ما وهب هبة بنات وأوصي ولو أوصي الثاني للأول بثلث ماله نظر، فإن مات الثاني قبل الأول كان الجواب على ما مضي؛ لأنه قد عاد إلى الأول ثلث ما وهب وإن مات الأول قبل الثاني بطلت وصية الثاني للأول وصحت هبة الأول في ثلث العبد لانقطاع الدور. فصل: وبيع المريض وشراؤه جائزًا إذا كان بثمن مثله، ولم يدخله عبن لا يتغابن

أهل المصر بمثله وسواء باع المريض على وارث أو غير وارث أو اشتري المريض من وارث أو غير وارث. وقال أبو حنيفة: إذا باع المريض على وارثه كان بيعه مردودًا وإن لم يكن فيه غبن ولا محاباة؛ لنه قد خص بعض ورثته بمال يتساوي فيه. وهذا فاسد بل بيعه عليه لازم إذا لم يكن فيه محاباة ولا غبن، لأن اعتراض الورثة على المريض في المقدار لا في الأعيان ألا تراه لو باع أجنبي بثمن مثله صح البيع مع انتقال العين لحصول المقدار، ولو باعهم بأقل كان لهم فيه اعتراض لنقص المقدار. فأما إذا حابي المريض في بيعه بما لا يتغابن أهل المصر بمثله، كان ذلك منه عطية في مرضه محلها الثالث إن لم ينقصه به، وإن كان المشتري وارثًا ردت المحاباة، لأنها لا تجوز لوارث. فعلي هذا: لو باعه عبدًا بمائة درهم والعبد يساوي مائتي درهم فالمائة التي هي ثمنه تقابل نصف قيمته فصارت المحاباة بنصفه فيقال للوارث لك الخيار في أن تأخذ بالمائة نصف العبد وهو قدر مثلها محاباة فيه، ويكون النصف الآخر الذي هو المحاباة مردودًا إلى التركة. وإنما كن له الخيار، لأنه عاقد بالمائة على جميع العبد فوصل له نصفه. ولو كان العبد يساوي مائة وخمسين درهمًا وقد باعه عليه بمائة درهم كان له الخيار في أحد ثلثي العبد بمائة درهم ورد ثلثه الذي هو قدر المحاباة أو يفسخ البيع ويسترجع المائة وله بدل الباقي للورثة قيمة ما زاد بالمحاباة من نصف أو ثلث لم يجيزوا عليه، لأن العقد فيه قد بطل فلم يلزمهم أن يستأنفوا معه عقدًا فيه إلا عن مراضاة، وإنما يملك عليهم بعقد البيع ما لا محاباة فيه. وكان أبو القاسم الداركي يحمل صحة البيع فيما لا محاباة فيه على القول الذي يجوز فيه تفريق الصفقة فأما على القول الذي لا يجوز فيه تفريق الصفقة فيجعل البيع في الجميع باطلًا وليس كما قال، لأن قدر المحاباة في حكم الهبة وما لا محاباة فيه بيع لم تفترق صفته، فكذلك صح العقد فيه قولًا واحدًا وإن ثبت فيه خيار وإن كان المشتري أجنبيًا كان قدر المحاباة في الثلث فإن احتملها الثلث أمضي البيع في الجميع وإن عجز الثلث عنها أمضي منه قدر ما احتمله الثلث وعلى هذا لو باع على الأجنبي عبدًا بمائة درهم والعبد يساوي مائتي درهم فالمحاباة هي نصف العبد وقيمة نصفه مائة درهم، فإن خلف البائع مع هذا العبد مائة درهم خرجت المحاباة كلها من الثلث وأخذ المشتري العبد بمائة درهم وقدر المحاباة نصفه بمائة درهم وحصل مع الورثة مائتنا درهم مائة منها ثمن، ومائة منها تركة، وهما مثلي المحاباة، فلو وجد المشتري بالعبد عيبًا فأراد رده، فله ذلك ويسترجع المائة التي دفعها ثمنًا فلو قال: أرد نصف المائة وأخذ نصف بالمحاباة لم يكن له ذلك، لأنها محاباة في عقد فلم يصح ثبوتها مع ارتفاع العقد. فأما إذا لم يخلف البائع غير العبد الذي باعه بمائة وقيمته مائتان فالمحاباة بنصفه

ولزمه ثلث جميع التركة وهو ثلث العبد فيكون له الخيار في أن يأخذ خمسة أسداسه بالمائة أو يفسخ ويسترجع المائة وإن شئت أن تقول له مائة درهم ثمنًا وله ثلث التركة وصية وذلك ستة وستون درهمًا وثلثا درهم يصير الجميع مائة درهم وستة وستين درهمًا وثلثي درهم فيأخذ من العبد بها وذلك خمسة أسداس العبد ويبقي مع ورثة البائع سدسه بثلاثة وثلاثين درهمًا وثلث درهم ومائة درهم ثمنًا يصير الجميع مثلي ما خرج بالمحاباة. فلو كان البائع قد خلف سوى العبد خمسين درهمًا: كان للمشتري أن يأخذ خمسة أسداسه ونصف سدسه بالمائة، لأن التركة تصير مائتين وخمسين درهمًا، ثلثها ثلاثة وثلاثون درهمًا وثلث درهم، فإذا انضم إلى الثمن وهو مائة درهم وثلاثة وثلاثون درهمًا وثلث درهم فيأخذ من العبد ثمنًا فيكون ذلك مقابلًا لخمسة أسداسه ونصف سدسه ويبقي مع الورثة نصف سدسه بستة عشر درهمًا وثلثي درهم وخمسون درهمًا تركة، ومائة درهم ثمن صار الجميع مائة درهم وستة وستين درهمًا وثلثي درهم وذلك مثلا ما خرج بالمحاباة فلو كان العبد الذي باعه المريض بمائة درهم يساوي مائة وخمسين درهمًا صح البيع في جميعه وإن لم يخلف غيره، لأن قدر المحاباة فيه خمسون درهمًا هي قدر ثلثه فصح جميعها، فهذا حكم المحاباة في البيع. فصل: فأما المحاباة في الشراء: فهو أن يشتري المريض عبدًا بمائتي درهم، يساوي مائة. فقدر المحاباة في ثمنه، مائة درهم. فإن صح المشتري من مرضه، لزمه دفع المائتين ثمنًا. وإن مات من مرضه، نظر في البائع، فإن كان وارثًا لا تجوز له المحاباة في المرض وردت وكان مخيرًا بين أن يمضي البيع في العبد كله بمائة درهم التي هي ثمن مثله، وبين أن يفسخ ويسترجع العبد، لأنه باعه بثمن صار له بعضه، فلذلك ثبت له الخيار، فإن اختار إمضاء البيع، فلا خيار لورثة المشتري؛ لأنهم لم يدخل عليهم نقص. وإن كان البائع أجنبيًا: فإن خلف المشتري مع الثمن مائة درهم صحت المحاباة، لأن التركة ثلاثمائة درهم، وقدر المحاباة مائة درهم، وهي ثلث التركة فلو وجد ورثة المشتري بالعبد عيبًا، لم يعلم به المشتري: كان لهم في الخيار في فسخ البيع، وإبطال المحاباة، واسترجاع الثمن كله، لأن المحاباة إنما تلزمهم عند احتمال الثلث لها إذا لم يحدث خيار يستحق به الفسخ. ألا ترى أن المريض لو رآه، لا يستحق به الفسخ، فكذلك ورثته. وإن لم يخلف المشتري شيئًا سوى الثمن وهو مائتا درهم: صحت المحاباة بثلث المائتين، وذلك ستة وستون درهمًا، وثلثا درهم ويكون للبائع الخيار في إمضاء البيع في العبد كله بمائة درهم وستة وستين درهمًا وثلثي درهم، ويرد الباقي الذي لا يحتمله الثلث وهو ثلاثة وثلاثون درهمًا وثلث درهم.

فإذا عاد إلى الورثة معهم عبد يساوي مائة درهم، صار معهم مائة درهم، وثلاثة وثلاثون درهمًا، وثلث درهم، فذلك مثلُا ما خرج بالمحاباة، ثم على هذا القياس. ويكون الفرق بين المحاباة في الشراء، والمحاباة في البيع من وجهين: أحدهما: أن ما لا يحتمله الثلث من المحاباة في البيع يكون مردودًا من المبيع، دون الثمن. وما لا يحتمله الثلث من المحاباة في الشراء يكون مردودًا من الثمن دون المبيع. والثاني: أنه إذا زادت المحاباة في البيع، كان الخيار للمشتري دون البائع. وإذا زادت المحاباة في الشراء، وكان الخيار للبائع دون المشتري، فلو اشترى المريض من مريض عبدًا يساوي مائة درهم، بعبد يساوي مائتي درهم، فمشتري العبد الأعلى غابن فلا خيار لورثته. ومشتري العبد الأدنى مغبون، فإن لم يخلف غير العبد الذي دفعه ثمنًا وقيمته مائتا درهم، فلورثته أخذ العبد الأدنى، بخمسة أسداس العبد الأعلى، ولورثة صاحب الغبن الأدنى الخيار في إمضاء البيع أو في الفسخ. وهكذا الغبن في المرض يجري مجرى المحاباة في اعتبارها من الثلث. فلو اشترى المريض عبدًا بأكثر من ثمنه، ثم اشترى عبدًا ثانيًا بأكثر من ثمنه: فإن كان الثلث يحتمل المحاباة في العبدين: لزمت المحاباة فيهما. وإن كان الثلث يحتمل المحاباة في أحدهما، ويعجز في الآخر، قدمت المحاباة في الأول، ثم جعل ما بقي من الثلث مصروفًا في محاباة الثاني. ولو كان الثلث بقدر المحاباة في العبد الأول جعل الثلث مصروفًا في محاباة العبد الأول وزادت المحاباة في العبد الثاني، فعلي هذا: لو وجد ورثة المشتري بالعبد الأول عيبًا، فلهم الخيار في إمضاء البيع فيه ورده. فإن أرضوه فالمحاباة فيه هي اللازمة، دون المحاباة الثانية. وإن ردوه: أمضيت المحاباة في العبد الثاني، وصار الثلث مصروفًا إليهما، لأن الميت قد جعل ثلث ماله لها، وغنما اختص الأول به لتقدمه. فإذا امتنع منه بالفسخ صار الثاني، لأن إخراج الثالث لازم للورثة في حق أحدهما. فصل: فلو اختلف ورثة الميت البائع، والمشتري، فقال ورثة البائع للمشتري، حاباك فباعك بأقل من ثمنه، وأنكر المشتري المحاباة، أو قال ورثة المشتري للبائع: حاباك فاشتري منك بأكثر من ثمنه، وأنكر البائع المحاباة فهذا على ضربين: أحدهما: أن تكون السلعة باقية. والثاني: أن تكون تالفة. فإن كانت باقية، فعلي ضربين: أحدهما: أن يتفقا على أنها: لم تزد في بدنها، ولا سوقها، ولم تنقص.

وإن كان كذلك قطع اختلافهما بتقويم مقومين، فما قالاه من ظهور المحاباة أو عدمها عمل عليه. والثاني: أن يختلفا مع بقائها في سوقها وبدنها. فهذا على ضربين: أحدهما: أن يذكر مدعي المحاباة أنها كانت زائدة في بدنها، أو سوقها عند العقد فنقصت عند التقويم. وقال منكر المحاباة: لم تزل ناقصة في سوقها وبدنها عند العقد والتقويم. فالقول، قول منكر المحاباة مع يمينه، لأنه منكر لما ادعي عليه من تقدم الزيادة. والثاني: أن يذكر مدعي المحاباة، أنها لم تزل عند العقد والتقويم على هذه الزيادة في سوقها وبدنها، ويذكر منكر المحاباة أنها كانت ناقصة عند العقد، فزادت عند التقويم في سوقها، أو بدنها. فالقول، قول مدعي المحاباة مع يمينه، لأنه منكر لتقدم النقصان فهذا حكم اختلافهما، إذا كانت السلعة باقية. فأما إذا كانت تالفة لا يمكن الرجوع إلى تقويمها، فإنهما يتحالفان، لأن اختلافهما في المحاباة مؤول إلى الاختلاف في قدر الثمن، أو قدر المثمن. وإذا باع المريض كد طعام يساوي ثلاثمائة درهم، لا مال له غيره، بكد شعير يساوي مائة درهم، فقدر المحاباة مائتا درهم والثلث مائة درهم، فللورثة أن يأخذوا كد الشعير بثلثي كد الطعام. وقيمته مائتا درهم قد دخلها من المحاباة قدر الثلث بمائة درهم ثم الخيار لصاحب الشعير؛ لأنه قد أخذ بكل الشعير بعض الطعام، ولا خيار لصاحب الطعام؛ لأنه قد أخذ ببعض الطعام كل الشعير. ولو كان كد الشعير يساوي مائة وخمسين درهمًا، كان لورثة صاحب الطعام أن يأخذوا الشعير بخمسة أسداس كد الطعام، لأن الثلث مائة درهم، فإذا زادته على ثمن الشعير، صار مائتين وخمسين درهمًا، وذلك يقابل خمسة أسداس ثمن الطعام فلذلك أخذ خمسة أسداسه. فلو باع المريض كد طعام، يساوي مائتي درهم، بكد طعام يساوي مائة درهم، فيحتاج في اعتبار هذه المحاباة من الثلث إلى أن يكون الخارج منها داخلًا في قدر يتساوي فيه الطعام بالطعام؛ لأن التفاضل فيه حرام. وإذا كان كذلك: صح البيع في ثلثي كد من الطعام الأجود، بثلثي كد من الطعام الأدنى، لأن التركة مائتنا درهم، ثلثها ستة وستون درهمًا وثلثا درهم، وقد حاباه في الكد الأجود بمائة درهم، فإذا أخذ ثلثي كده من الطعام الأجود قيمته مائة درهم، وثلاثة وثلاثون درهمًا، وثلث درهم، بثلثي كد من الطعام الأردأ وقيمته ستة وستون درهمًا، وثلثا درهم، كان قدر المحاباة بينهما ستة وستين درهمًا وثلثي درهم وهو قدر الثلث. وأحضر بابًا تصل إلى الاستخراج للعمل فيه، بأن استخرجته، سهل الطريقة واضح

العمل، وهو أن تنظر قدر المحاباة، وقدر الثلث ثم تنظر قدر الثلث والمحاباة فإذا ناسبه إلى جزء معلوم، فهو القدر الذي إن أنفذ البيع فيه استوعب ما احتمله الثلث من المحاباة من غير تفاضل. مثاله: أن تقول: إذا باعه الكد المساوي مائتي درهم بالكد المساوي مائة درهم: أن المحاباة بينهما مائة درهم، وقدر الثلث: ستة وستون درهمًا وثلث درهم، فإذا قابلت بين الثلث والمحاباة، وجدت الثلث مقابلًا لثلثي المحاباة، فتعلم بذلك أن ثلثي المعقود عليه إذا بيع بمثله: استوعب ثلث التركة. فعلى هذا: إذا باع كدًا يساوي ثلاثمائة درهم، بكد يساوي مائة درهم فعمله بالباب الذي قدمته أن تقول: قدر المحاباة مائتا درهم، والثلث مائة درهم، والمائة نصف المائتين فيعلم أن قدرها: يحتمل الثلث من المحاباة وهو نصف كد من الطعام الأجود قيمته مائة وخمسون درهمًا، بنصف كد من الطعام والأردأ قيمته خمسون درهمًا، وبينهما من الفضل مائة درهم هي قدر الثلث. ولو باعه كد طعام يساوي أربعمائة درهم، بكد طعام يساوي مائة درهم، ويخلف البائع مع الكد مائتين درهم، فالتركة ست مائة ثلثاها، مائتا درهم، وقدر المحاباة ثلاثمائة درهم، فكان الثلث، مقابل لثلثي المحاباة فيصح البيع في ثلثي كد الطعام الجيد قيمته مائتا درهم وستة وستون درهمًا وثلثا درهم، بينهما من الفضل مائتي درهم هي قدر الثلث. فلو باعه كدًا من طعام يساوي خمسمائة درهم، بكد من طعام يساوي مائة درهم، وخلف مع الكد الذي باعه مائة درهم، فالتركة ستمائة درهم ثلثاها: مائتا درهم، وقد حاباه، بأربعمائة درهم، فكان الثلث نصف المحاباة، فيصح البيع في نصف كد من الطعام الجيد، قيمته مائتان وخمسون درهمًا، بنصف كد من الطعام الأردأ قيمته خمسون درهمًا، وبينهما من الفضل مائتا درهم: هي قدر الثلث ثم على هذا القياس، والله أعلم. فصل: وإذا باع المريض على أخيه كد طعام يساوي مائتي درهم بكد شعير يساوي مائة درهم، ولا مال لهما غير الكد، ثم مات صاحب الشعير قبل أخيه، وخلف بنتًا وأخاه، ثم مات صاحب الطعام، وخلف ابنًا: فالبيع في جميع الكد الطعام بجميع الكد الشعير، صحيح؛ لأن صاحب الشعير يتقدم موته، قد صار غير وارث والمحاباة تخرج من ثلث صاحب الطعام؛ لأن قدر المحاباة بين الكدين مائة درهم، وقد صار إلى صاحب الطعام كد شعير يساوي مائة دره، ثم ورث نصف الكد الطعام، وقيمته مائة درهم، فصار معه مائتا درهم، وذلك مثلًا ما خرج بالمحاباة. وباب العلم فيه، أن تقول: تركة صاحب الطعام مائتا درهم، وقد ورث نصف تركة أخيه خمسين درهمًا، فصارت التركة مائتين وخمسين درهمًا، الخارج منها بالمحاباة سهم

من ثلثه، قد فوت نصفه، فأسقطه من الثلث، يبقي سهمان ونصف، فاقسم التركة عليها، يكن قسط كل سهم مائة درهم، وهو قدر المحاباة، فعلي هذا: لو باع المريض على أخيه كد طعام يساوي ثلاثمائة درهم، بكد شعير يساوي مائة درهم، ومات صاحب الشعير، وخلف مع كد الشعير مائتي درهم، وترك بنتين وأخاه، ثم مات الأخ صاحب الطعام، وهو لا يملك غيره، وترك ابنًا، صح البيع في كد الشعير بخمسة أسداس كد الطعام. وعمله بالباب المقدم أن تقول: تركة صاحب الطعام ثلاثمائة درهم، وتركة صاحب الشعير، ثلاثمائة درهم، فإذا ورث صاحب الطعام مع البنتين ثلث تركة أخيه مائة درهم، صارت تركته أربع مائة درهم، فالخارج بالمحاباة ثلثها سهم من ثلاثة، فأسقطه من الثلاثة يبقي سهمان من ثلاثة، فابسطها أرباعًا، تكن ثمانية، ثم اقسم التركة عليها وهي أربعمائة يكن قسط كل سهم منها خمسين درهمًا، وللمحاباة ثلاثة أسهم، تكن قدر المحاباة مائة درهم وخمسين درهمًا، فإذا ضممته إلى ثمن الشعير، وهو مائة درهم، فصار مائتي درهم وخمسين درهمًا، وذلك يقابل من كد الطعام خمسة أسداسه، لأن قيمته ثلاثمائة درهم، فيصح البيع في كد الشعير، بخمسة أسداس كد الطعام، وفضل ما بينهما مائة وخمسون درهمًا، وهو قدر المحاباة، وقد بقي مع صاحب الطعام سدس كد قيمته خمسون درهمًا، وأخذ كد شعير قيمته مائة درهم، وورث من أخيه ثلث مائتي الدرهم ستة وستون درهمًا وثلث درهم، وثلث خمسة أسداس كدا الطعام، بثلاثة وثمانين درهمًا وثلث درهم، فصار معه ثلاثمائة درهم، وهي مثلًا ما خرج بالمحاباة، لأن الخارج بها مائة وخمسون درهمًا. فعلي هذا: لو كانت المسألة بحالها، وكان بدل كد الشعير الذي قيمته مائة درهم، كد طعام قيمته مائة درهم، يحرم التفاضل بينه وبين الطعام الجيد، الذي قيمته ثلاثمائة درهم. وعمله بالباب الذي قدمت لك استخراجه، فقلت المحاباة في الكد الأجود مائة درهم، وقدر ما احتمله الثلث منها مائة وخمسون درهمًا، على ما بيناه وبقي من المائتين ثلاثة أرباعها، فيصح البيع في ثلاثة أرباع كد الطعام الأجود وقيمته مائتان وخمسة وعشرون درهمًا، بثلاثة أرباع كد من الطعام الأدون، وقيمته خمسة وسبعون درهمًا، وفضل ما بينهما من المحاباة، مائة وخمسون درهمًا، وهو قدر ما احتمله الثلث، فهذا آخر تعلق بالدور الذي نعمله بقياسه ما أغفلناه، وبالله التوفيق. مسألة: قال المزني: «وقال في الإملاء يلحق الميت من فعل غيره ثلاث: حج يؤدي ومال يتصدق به عنه أو دين يقضي ودعاء أجاز النبي - صلى الله عليه وسلم - الحج عن الميت وندب الله

تعالى إلى الدعاء وأمر به رسوله عليه الصلاة والسلام. فإذا جاز له الحج حيًا جاز له ميتًا وكذلك ما تطوع به عنه من صدقه». قال في الحاوي: وذهب قوم من أهل الكوفة إلى أن الميت لا يلحقه بعد موته ثواب استدلالًا بقوله تعالى: {وأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى (39)} [النجم: 39]، ولأنه لما لم يجز أن يلحقه الإيمان إذا مات كافرًا، بإيمان غيره عنه، لم يجز أن يلحقه ثواب فعل غيره عنه. وذهب بعض الفقهاء إلى أن الميت قد يلحقه الثواب بفعل غيره على ما سنصفه لقوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)} [الأحزاب: 56]. فأمر الله تعالى بالصلاة على نبيه، ولا يجوز أن يأمر بما لا يقبله من الدعاء. وقال الله تعالى: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ} [الحشر: 10] فلولا تأثير هذا الدعاء عنده لما ندب إليه. وروي سليمان بن بلال عن العلاء بن عبد الرحمن، رواه عن أبيه عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاثة أشياء، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له». وروي هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة رضي الله عنها أن امرأة قالت: يا رسول الله: إن أمي افتلتت نفسها، ولولا ذلك لتصدقت وأعطيت، أفيجز لي أن أتصدق عنها؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «نعم فتصدقي عنها». قولها: اقتتلت نفسها، أي ماتت فلتة من غير وصية. وروي عمر بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس أن رجلًا قال: يا رسول الله إن أمي توفيت، أفينفعها أن أتصدق عنها؟ قال: نعم، قال: فإن لي لمخرفًا وأشهدك أني قد تصدقت به عنها. ولأن الصلاة على الميت واجبة علينا، وهي دعاء له، فاقتضي أن يكون الدعاء لاحقًا به، مسموعًا منه في صلاة وغير صلاة. ولأن لما لحق الميت قضاء الديون عنه حتى لا يكون مؤخذًا بها ومعاقبًا عليها، ولعله لم يجز ذلك حين جاز في الصدقة، وإن لم يوص به حيًا. فأما قوله تعالى: {وأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى (39)} [النجم: 39].

فيحتمل أن يكون معناه: وأن ليس على الإنسان، كما قال تعالى: {وإنْ أَسَاتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]، أي فعليها، على أن ما مات عن غيره فيه، جاز أن يكون في حكم ما يسعي في قصده. وأما الإيمان: فإنه لا تصح النيابة فيه عن الحي، فكذلك عن الميت، وليس كالصدقة على أنه قد يتيسر حكم الإيمان عن الإنسان إلى غيره، كما يكون الأب متيسرًا إلى صغار ولده. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا من عود الثواب إلى الميت، بفعل غيره، فما يفعل عنه على أربعة أقسام: أحدها: ما يجوز أن يفعل عنه بأمره وغير أمره. وذلك قضاه الديون، أداء الزكاة، وفعل ما وجب من حج أو عمرة، والدعاء له والقراءة عند قبره. والثاني: ما لا يجوز فعله عنه بأمره ولا بغير أمره. أحدها: ما يجوز أن يفعل عنه بأمره وغير أمره. وذلك قضاء الديون، وأداء الزكاة، وفعل ما وجب من حج أو عمرة، والدعاء له والقراءة عند قبره. والثاني: ما لا يجوز فعله عنه بأمره ولا بغيره أمره. وذلك: كل ما لا تصح فيه النيابة من العبادات، كالصلاة والصيام وكان في القديم: يري جواز النيابة في صوم الفرض، إذا أناب عنه وارث. وفي نيابة الأجنبي عنه وجهان والمشهور عنه خلافه. والثالث: ما يجوز أن يفعل عنه بأمره، ولا يجوز أن يفعل عنه بغير أمره، وهو النذر بالعتق، لما فيه من لحوق الولاية. والرابع: ما لا يجوز أن يفعل عنه بغير أمره، وفي فعله عنه، فأمره قولان: وهو حج التطوع. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «وقال في كتاب آخر ولو أوصي له ولمن لا يحصي بثلثه فالقياس أنه كأحدهم». قال في الحاوي: وصورتها: في رجل أوصي بثلث ماله لزيد والمساكين فلا يخو حال زيد من أن يكون غنيًا أو مسكينًا، فإن كان مسكينًا فقد اختلف أصحابنا فيما يعطي من الثلث على ثلاثة أوجه: أحدها: وهو الظاهر من كلام الشافعي: أنه يكون كأحدهم يعطيه الوصي ما يراه من قليل أو كثير فيعطاه أحد المساكين ويستفاد بتعينه أنه لا يحرم. والثاني: أنه يعطي الربع من الثلث الموصي به ويصرف ثلاثة أرباعه للمساكين، لأنه قد ذكره مع جمع أقلهم ثلاثة، فصار معهم رابعًا، فاختص بالرابع اعتبارًا بالتسوية ثم تجوز الثلاثة الأرباع في أكثر من ثلاثة تفضيلًا وتسوية.

والثالث: أنه (يعطى) النصف من الثلث، لأنه جعل الثلث مصروفًا في خمسين. وإن كان غنيًا ففيما يعطاه وجهان: أحدهما: الربع والثاني النصف فأما جعله كأحدهم فلا يجوز، لأن مخالفته في صفتهم تقتضي مخالفتهم في حكمهم. فصل: فلو امتنع المسمي مع المساكين من قبول ما جعل له من الثلث لم يجز رد حصته على المساكين؛ لأنه موصي به لغيرهم، وصرف فيهما ما سوي قدر استحقاقه من الثلث. وهكذا: لو أوصي بثلث ماله لزيد ولعمرو فقبل زيد ولم يقبل عمرو كان لزيد نصف الثلث ويرجع ما كان لعمرو، ولو قبل كان ميراثًا، ولو أوصي بعبده سالم لزيد ويباقي ثلثه لعمرو، فمات عبده سالم، قبل دفعه في الوصية: قوم العبد كما لو كان حيًا يوم مات الموصي وأسقطت قيمته من الثلث، ثم دفع إلى عمرو ما بقي من الثلث بعد إسقاط قيمة العبد. فصل: وإذا أوصي لزيد بدينار وأوصي بثلث ماله للفقراء كان زيد فقيرًا لم يجز أن يعطي غير الدينار، لأنه بالتقدير قد قطع اجتهاد الوصي وإعطائه زيادة على تقديره. فصل: ولو أوصي رجل بثلث ماله لزيد وولده فإن لم يكن لزيد ولد فله نصف الثلث، وإن كان له ولد فإن كان واحدًا كان الثلث بينه وبين ولده نصفين سواء كان الولد ذكرًا أو أنثي وإن كانوا عددًا ففيما لزيد منه وجهان: أحدهما: أن له نصف الثلث. والثاني: أنه كأحدهم. فصل: ولو قال: ادفعوا ثلثي إلى زيد وإلى جبريل دفع إلى زيد نصف الثلث وكان النصف الباقي الذي سماه لجبريل راجعًا إلى ورثته. ولو قال: ادفعوا ثلثي إلى زيد وإلى الملائكة كان في قدر ما لزيد منه وجهان: أحدهما: أن له نصف الثلث. والثاني: أنه كأحدهم. فصل: ولو قال: ادفعوا ثلثي إلى زيد وإلى جبريل دفع إلى جبريل دفع إلى زيد نصف الثلث وكان النصف الباقي الذي سماه لجبريل راجعًا إلى ورثته. ولو قال: ادفعوا لثي إلى زيد وإلى الملائكة كان في قدر ما لزيد منه وجهان: أحدهما: النصف. والثاني: الربع ويرد الباقي على الورثة. ولو قال: ادفعوا ثلثي إلى زيد والشياطين ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن له جميع الثلث. والثاني: له نصف الثلث. والثالث: ربع الثالث ثم يرد باقي الثلث على الورثة، ولو قال: اصرفوا ثلثي إلى زيد والرياح كما فيه لزيد وجهان: أحدهما: جميع الثلث، لأن ذكر الرياح لغو. والثاني: له نصف الثلث، لأنه أحد الجهتين ويرجع النصف الآخر على الورثة.

باب الوصية للقرابة من ذوي الأرحام

فصل: وإذا (أوصى) بثلث ماله لبني فلان: فإن كانوا عددًا محصورًا، صرف الثلث في جميعهم بالسوية، من غير تفضيل كبير على صغير، ولا يدخل فيهم الإناث لأنهم غير بنين. فإن كانوا عددًا لا يحصر كبني هاشم وبني تميم: ففي الوصية وجهان: أحدهما: باطلة لتعذر الوصول إلى جميعهم. والثاني: جائزة ويعطي الثلث لثلاثة فصاعدًا على تسوية وتفضيل كالمساكين ويدخل الإناث فيهم على أصح الوجهين اعتبارًا بالقبيلة. وهكذا لو أوصي بثلث لأهل البصرة: كان على هذين الوجهين إلا أن يزيد فقراء أهل البصرة، فيجوز وجهًا واحدًا. فصل: ولو أوصي بثلث ماله لله تعالى ولزيد ففيما لزيد وجهان: أحدهما: له جميع الثلث ويكون ذكر الله تعالى افتتاحًا للسلام تبركًا باسمه كما قال تعالى: {واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41]. والثاني: أن لزيد نصف الثلث، لأنه أحد الجهتين للثلث وفي النصف وجهان: أحدهما: أن يكون مصروفًا في سبيل الله وهم الغزاة. والثاني: في الفقراء والمساكين. باب الوصية للقرابة من ذوي الأرحام مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ولو قال ثلثي لقرابتي أو لذوي أو رحمي لأرحامي فسواء من قبل الأب والأم، وأقربهم وأبعدهم وأغناهم وأفقرهم سواء لأنهم أعطوا باسم القرابة كما أعطي من شهد القتال باسم الحضور وإن كان من قبيلة من قريش أعطي بقرابته المعروفة عند العامة فينظر إلى القبيلة التي ينسب إليها فيقال من بني عبد مناف ثم يقال: وقد تفترق بنو عبد منافٍ فمن أيهم؟ قيل: من بني عبد يزيد بن هاشم بن المطلب فإن قيل: أفيتميز هؤلاء؟ قيل: نعم، هم قبائل، فإن قيل: فمن أيهم؟ قيل: من بني عبيد بن عبد يزيد، فإن قيل: أفيتميز هؤلاء؟ قيل: نعم، وبنو السائب بن عبيد بن عبد يزيد، فإن قيل: أفيتميز هؤلاء؟ قيل: نعم، بنو شافع وبنو علي وبنو عباس أو عياش شك المزني وكل هؤلاء بنو السائب، فإن قيل: أفيتميز هؤلاء؟ قيل: نعم، كل بطنٍ من هؤلاء يتميز عن صاحبه، فإذا كان من آل شافع قيل لقرابته هم آل شافع دون آل علي والعباس لأن كل هؤلاء متميز ظاهر». قال في الحاوي: أما الوصية للأقارب فمستحبة وغير واجبة لقوله تعالى: {وأَذَا

حَضَرَ القِسْمَةَ أُوْلُوا القُرْبَى والْيَتَامَى والْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ} [النساء: 8] وقد ذهب قوم إلى وجوبها لقوله تعالى: {وآتِ ذَا القُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: 26] وذهب آخرون إلى بطلانها للجهل بعددهم، وأن الناس كلهم قرابة، لن أبيهم يجمعهم. وكلا القولين فساد، أما الدليل على أنها غير واجبة فما قدمنا من الآية. وأما الدليل على بطلان قول من قال إن الوصية للأقارب باطلة للجهل بعددهم فمنتقض بالزكاة، فإن الله تعالى أمر بإخراجها إلى أقوام لا ينحصر عددهم ثم هي واجبة. فصل: فإذا ثبت جواز الوصية للقرابة فقد اختلف الناس في مستحق الوصية منهم عند إطلاق ذكرهم. فقال أبو حنيفة: هم كل ذي رحم محرم. وقال مالك: هم كل من جاز أن يرث دون من لا يرث من ذوي الأرحام. وقال أبو يوسف ومحمد: هم كل من جمعه وإياهم أول أب في الإسلام. وذهب الشافعي: إلى أنهم المنسوبون في عرف الناس إلى قرابته المخصوصة إذا كان اسن القرابة في العرف جامعًا لهم، لأن عرف الشرع في سهم ذي القربي لم يخص قريبًا من بعيد فبطل به قول أبي حنيفة حيث جعل ذلك لذوي الأرحام المحارم وبطل به قول أبي يوسف حيث جعله لمن جمعه أول أب في الإسلام، ولأن اسم القرابة ينطلق في العرف على ذوي الأرحام من العمات والخالات، فبطل به قول مالك، لأن مطلق كلام الموصي محمود على العرف شرعًا أو عادة وعرفها جميعًا بما قلنا. فصل: فإذا تقرر أن ما انطلق عليه اسم القرابة عرفًا وهو المعتبر فاعتباره أن ينظر في الموصي، فإن كان عربيًا خرج منه العجم، ولم يدفع إلى كل العرب حتى يقال من أيهم، فإذا قيل من مضر، قيل: من أيهم ولم يدفع إلى جميع مضر، فإذا قيل من قريش لم يدفع إلى جميعهم وقيل: من أي قريش فإذا قيل بني هاشم لم يدفع إلى جميعهم وقيل: من أي بني هاشم. فإذا قيل: عباس لم يدفع إلى كل عباس، وإن قيل: طالبي لم يدفع إلى كل طالبي. فإذا قيل: في العباس منصوري: لم يدفع إلى جميعهم حتى يقال من بني المأمون، أو من بني المهتدي، فيدفع ذلك إلى آل المأمون وآل المهتدي. فإن قيل: في المطلبي إنه علوي لم يدفع إلى جميعهم حتى يقال من أيهم، فإذا قيل: حسيني لم يدفع إلى جميعهم حتى قال من أيهم، فإذا قيل: زيد أو موسوي دفع ذلك إلى آل زيد وآل موسي. وقد شبه الشافعي ذلك بنسبه، وسواء اجتمعوا إلى أربعة آباء، أو أبعد. وذهب بعض أصحابنا إلى أن من اجتمع معه من الأب الرابع كان من قرابته. ومن اجتمع بعد الرابع خرج من القرابة، استدلالًا بأن الرابع جعل قرابة من اجتمع معه في الأب الرابع. وهذا خطأ؛ لن جعلهم قرابة اعتبارًا بالنسب الأشهر

لا تعليلًا بالأب الرابع. فصل: وسواء في ذلك قرابته من قبل أبيه أو قرابته من جهة أنه فتعتبر قرابة أمه كما اعتبرنا قرابة أبيه. وهكذا لو قال: لذوي أرحامي فهو كقوله لقاربته، فيدفع إلى من كان من قبل أبيه، ومن كان من قبل أمه. وذهب قوم إلى أن القرابة: من كان من قبل الأب، وذوي الأرحام من كان من قبل الأب. وهذا فاسد، لأن عرف الناس في الاسمين ينطلق على من كان من الجهتين. فصل: وسواء من كان منهم قريبًا أو بعيدًا. وقال أبو حنيفة: القريب منهم أحق من العبد، فجعل الأخوة أولى من بينهم، وبني الأخوة أولى من الأعمام، فأما بنو الأعمام فليسوا عنده من القرابة. وهذا فاسد:، لأن اسم القرابة إذا انطلق عليهم مع عدم من هو أقرب، انطلق عليهم مع وجود من هو أقرب. فصل: وسواء من كان منهم غنيًا أو فقيرًا. وقال مالك: يختص به الفقراء منهم دون الأغنياء. وهذا فاسد: لأنهم أعطوا بالاسم لا بالحاجة فاستوي فيه الغني والفقير كالميراث وسهم ذوي القربي. فصل: ويسوي بين ذكورهم وإناثهم. وحكي عن الحسن وقتادة: أنه يعطي للذكر مثل حظ الأنثيين، كسهم ذي القربي. وهذا فاسد:، لأنها عطية لمسمي فأشبهت الهبات والصدقات، وأما سهم ذي القربي: فإنهم لم يستحقوه بالقرابة وحدها، وإنما استحقوه بالنصرة مع القرابة، ألا ترى أنه أخرج بني عبد شمس ونوفل وأدخل بني المطلب وقرابتهم واحدة؛ لأن بني المطلب نصروا بني هاشم في الجاهلية وإسلام وإذا استحقوا بالنصرة مع القرابة، فضل الرجال على النساء لاختصاصهم بالنصرة. فصل: ويدخل فيهم من لم يرث من الآباء والأبناء. ومن الفقهاء: من لم يجعل الآباء والأبناء من القرابة وهذا خطأ لما قيل في قوله تعالى: {لِلْوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ (214)} [الشعراء: 214]. كانت فاطمة في جملة من دعاها للإنذار. فصل: فإذا ثبت ما وصفنا نظر في أقاربه، فإن كانوا عددًا محصورًا فرق الثلث على جميعهم بالتسوية بين قريبهم وبعيدهم، وصغيرهم، وكبيرهم، وغنيهم، وفقيرهم، ذكورهم، وإناثهم، ولو منع أحدهم من سهمه كان الوصي المانع له ضامنًا بقدر حقه. ولو رد أحدهم سهمه من الوصية ولم يقبل كان راجعًا إلى الورثة في التركة، ولا يرجع إلى باقي القرابة. وإن كان أقاربه عددًا كبيرًا لا ينحصرون جاز الاقتصار على بعضهم كالفقراء، فيدفعه إلى ثلاثة فصاعدًا منهم، ويجوز له التفضيل بينهم، لأن كل موضع لم يلزم إعطاء

الجميع، لم يحرم التفضيل، فلو أن من صرف الثلث إليه لم يقبله. لم يعد ميراثًا وصرف إلى غيره من القرابة. فصل: فأما الزوج والزوجة فلا يدخلان في اسم القرابة، وكذلك المعتق والرضيع. ولو أوصي لأهله فهم القرابة، وفي دخول الزوج والزوجة معهم دون المعتق والريضيع وجهان، ولكن لو أوصي لعصبته دخل فيهم المعتق دون الزوج والزوجة ودون ذوي الأرحام وإن كان قرابة. فصل: ولو أوصي لمناسبة فهو لمن ينتسب إلى الموصي من أولاده الذين يرجعون إليه في نسبهم دون من علا من آبائه الذي يرجع الموصي إليهم في نسبه، لأنه أضاف نسبهم إليه، ونسب الآباء لا يرجع إلى الولد. واختلف أصحابنا في دخول أولًا بناته فيهم على وجهين: أحدهما: لا يدخلون فيهم لأنهم من ولده. والثاني: هو أشبه أنهم لا يدخلون فيه لأنهم يرجعون في النسب إلى آبائهم. ولكن لو قال: ادفعوا ثلثي لمن أناسبه دخل فيهم الآباء دون الآباء ودخل فيهم الأخوة والأخوات، والأعمام والعمات. واختلف أصحابنا في دخول الأجداد فيهم والجدات على وجهين كاختلافهم في أولاد البنات. ولكن لا يدخل فيهم الأخوال والخالات ولا الأخوة للأم لأنهم غير مناسبة، بخلاف الأم المختصة بالولادة والبعضية. فصل: ولو أوصي لورثة زيد فالوصية موقوفة حتى يموت زيد، ثم تدفع الوصية إلى من ورثه ولا اعتبار بمن كان منسوبًا إلى ورثته في حياته، لأن الوارث من حاز الميراث، وقد يجوز أن لا يرثه هؤلاء لحدوث من يحجبهم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ولو قال لأقربهم بي رحمًا أعطي أقربهم بأبيه وأمه سواء وأيهم جمع قرابة الأب والأم كان أقرب ممن انفرد بأب أو أم فإن كان أخ وجد للأخ في قول من جعله أولي بولاء الموالي». قال في الحاوي: قد ذكرنا في الوصية للقرابة أنه يشترك فيها القريب والبعيد إذا كان اسم القرابة عليهم منطلقًا، أو كان في جملتهم داخلًا. فأما إذا قال ثلثي لأقرب الناس إلى أو قال لأقربهم رحمًا لي فلا حق فيه للأبعد مع وجود من هو أقرب. وإذا كان هكذا راعيت الدرجة، فأيهما كان أقرب كان أحق، وإن استوت الدرجة تشاركوا، ويستوي فيه من أدلي بأم، ومن أدلي بأب، فإن كان فيهم من أدلى بالأبوين معًا كان أولى ممن أدلي بأحدهما. فعلي هذا: الأولاد عمود، وهو أقرب من الآباء، لأنهم بعض الموصي،

وأقرب الأولاد صلبة فإن كان واحدًا أخذ الثلث كله ذكرًا كان أو أنثي مسلمًا كان أو كافرًا، وارثًأ أو غير وارث إذا أجاز الورثة الوصية للوارث بخلاف ما لو قال: لقرابتي فلا يدخل فيهم وارث، لأنه بالأقرب قد عين به ثم هو بعد أولاد صلبه لأولاد ولده دون من نزع عنهم بدرجة، يستوي فيه أولاد البنين وأولاد البنات، ثم هو بعدهم، لأولادهم، وأهل الدرجة الثالثة، ثم هو بعد الثالثة لأهل الدرجة الرابعة هكذا أبدًا. فإذا عدم عمود الأولاد، فالأبوان، وهما الأب والأم، يشتركان فيه دون غيرهما، فإن عدم أحدهما كان الثلث للباقي منهما، سواء كان أبًا أو أمًا. فإن عدم الأبوان ففيه قولان: أحدهما: أن الإخوة والأخوات أقرب من الأجداد والجدات؛ لأنهم قد راكضوه في الرحم، فإن كانوا لأب فهو بينهم بالسوية، وإن كانوا لأم فهو بينهم بالسوية، وإن كان بعضهم لأب وبعضهم لأم فهو بين جميعهم ذكرهم وأنثاهم فيه سواء؛ وإن كان بعضهم لأب وبعضهم لأم بالسوية، وبعضهم لأب وأم، فمن كان لأب، وأم فهو أقرب وأحق لقوته بها على ما تفرد بأحدهما. ثم بعد الإخوة والأخوات: بنوهم وبنو بنيهم، وإن سفلوا يكونوا أقرب من الجد وإن دنا، ويشترك في ذلك أولاد الأخوة وأولاد الأخوات كما اشتركوا فيه أولاد البنين وأولاد البنات لأنهم أخذوا باسم القرابة لا بالميراث، ثم هكذا بطنًا بعد بطن. وإذا عدموا: عدلنا حينئذ إلى الأجداد والجدات فيكون بعدهم لجدين وجدتين، جد وجدة لأب وجد وجدة لأم فينقسم بينهم أرباعًا، فإن لم يكن أعمام ولا عمات فهم بعدهم لأربعة أجداد وأربع جدات، بعد ثلاث درجة فينقسم بينهم أثلاثًا. ثم هو في الدرجة الرابعة بين ثمانية أجداد وثمان جدات، وإن كان مع جد الأب أعمام وعمات ومع جد الأم أخوال وخالات ففيه على هذا القول وجهان: أحدهما: أن الأعمام والعمات أولى من جد الأب وجدته، والأخوال والخالات أولى من جد الأم وجدتها، كما كان على هذا القول الأخوة أولى من الجدة، ويشرك بين الأعمام والعمات، وبين الأخوال والخالات لاستوائهما في الدرجة وتكافئهما في القرب. والثاني: أنهم يشاركون أجداد الأبوين وجداتهما. فعلي هذا: يجمع مع الأعمام والعمات، ومع الأخوال والخالات أربعة أجداد، وأربع جدات، فينقسم ذلك بين جميعهم بالسوية. فصل: والقول الثاني: في الأهل أن الجدة والأخوة سواء لاجتماعهم في الإدلاء بالأدب. وعلى هذا يشرك بين الأخوة وبين الأخواتت وبين جدين وجدتين جد جدة لأب وجد جدة لأم، ويكون الجدان والجدتان أولى من ولد الأخوة والأخوات على هذا

القول. ثم يكون بعد الجد والجدة، لجد الأب وجدته، ولجد الأم وجدتها، وإن لم يكن مع جد الأب وجدته عم ولا عمة، ولا مع جد الأم وجدتها خال ولا خالة. فينقسم ذلك بين أربعة أجداد، وأربع جدات أثمانًا وجدان وجدتان للأب وجدان وجدتان للأم. وإن كان مع جد الأب وجدته عم وعمة، ومع جد الأم وجدتها خال وخالة ففيه على هذا القول وجهان: أحدهما: أن العم والعمة والخال يساوي جد الأبوين وجدتيهما فتقسم بين العم والعمة، والخال والخالة، وبين أربعة أجداد، وأربع جدات كما تشارك الأخوة والجد. والوجه الثاني: أن جدي الأبوين وجدتيهما أولى من الأعمام والعمات، ومن الأخوال والخالات لاختصاصهم بالبعضية. فصل: فعلي هذا الأصل المقرر يكون التفريع ليتضح ويستبين فمن ذلك أن يجتمع جد لأب، وأخ لأم ففيه قولان: أحدهما: أن الأخ للأم أولى. والثاني: أنه والجد سواء. وهكذا لو اجتمع جد لأم وأخ لأب وأم كان على قولين: أحدهما: استويا. والثاني: يقدم الأخ. ولو اجتمع جد وابن أخ: فأحد القولين: أن الجد أولى. والثاني: أن ابن الأخ أولى، ولا يشرك بينهما على القولين معًا. ولو اجتمع جد وعم: كان الجد أولى، ولو اجتمع جدان وعم ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن جد الأب أولى. والثاني: أن العم أولى. والثالث: أنهما سواء. وهكذا لو كان مع جد الأب عمة أو خال أو خالة، أو كان مع العم والعمة، والخال والخالة، جدة أنه على هذه الوجوه الثلاثة. ولو اجتمع جد الأم وخال وخالة، كان على هذه الأوجه الثلاثة: أحدها: أن جد الأم أولى. والثاني: أن الخال والخالة أولى. والثالث: أنهم سواء. وهكذا لو كان مع جد الأم، أو مع جدة الأم عمة وعم، كان على هذه الأوجه الثلاثة، لأنه لا فرق بين العم والخال، ولا فرق بين جد الأم وجد الأم.

باب ما يكون رجوعا في الوصية

وهكذا لو اجتمع جدان وابن عم كان جد الأب أولى، وهكذا لو اجتمع جد أم وابن خال كان جد الأم أولى، وهكذا لو اجتمع جد أم وابن عم كان جد الأم أولى، ولو اجتمع جد جد وابن عم ففيه وجهان: مثل جد وابن أخ، أحدهما: أن الجد أولى. والثاني: أن العلم أولى، ولا يجيء الوجه الثالث: في التسوية بينهما، كما لا يسوي بين الجد وابن الأخ فهذا مستمر على الأصل الذي بيناه، ثم إن كان الأقرب إليه واحدًا انفرد بالوصية، وإن كانوا عددًا، اشتركوا فيه بالسوية ولم يختص به بعضهم. فصل: ولو قال: ادفعوا ثلثي إلى جماعة من أقرب الناس مني وكان الأقرب إليه واحدًا ضم إليه من هو أبعد منه ليصرف في ثلاثة هم أقل الجمع. فعلي هذا لو كان ثلاثة بني ابن بعضهم أسفل من بعض دفع إلى الأول ثلث، وإلى الثاني ثلث، وإلى الثلث ثلث، ليكون الثلث مقسومًا بينهما أثلاثًا. فلو كان البطن الثالث من بني الابن ثلاثة قسم الثلث أثلاثًا فدفع إلى الأول ثلث، وإلى الثاني ثلث، وجعل الثلث الثالث بين ثلاثتهم من البطن الثالث أثلاثًا ولم يخص به بعضهم لاستوائهم في الدرجة فيصير الثلث مقسومًا بينهم على تسعة. ولو كان له بنت بنت وخمس أخوات: كان لبنت البنت ثلث الثلث، وللأخوات ثلثاه. ولو كان له أخ وبنت أخ وعشرة أعمام: كان للأخ ثلث الثلث، ولبنت الأخ ثلث آخر، وكان الثلث الثالث بين الأعمام العشرة على عشرة، فيصير الثلث مقسومًا بينهم على ثلاثين سهمًا. فصل: وإذا أوصي بثلث ماله لزيد وعمرو فمات عمرو بعد الوصية في حياة الموصي: كان لزيد نصف الثلث، ولو كان عمرو عند الوصية ميتًا، قال أبو حنيفة: لزيد جميع الثلث، لأن الوصية لما لم تصح لميت صار الثلث كله للحي، بخلاف موته بعد الوصية. وعلى مذهب الشافعي: لا يكون لزيد إلا نصف الثلث كما لو مات عمرو بعد الوصية، لأنه لم يجعل لزيد مع الشريك في الوصية إلا نصفها كما لو مات بعدها، والله أعلم بالصواب. باب ما يكون رجوعًا في الوصية مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «وإذا أوصي لرجل بعبد بعينه ثم أوصي به لآخر فهو بينهما نصفان». قال في الحاوي: أعلم أن للموصي الرجوع في وصيته، لأنها عطية لم يزل عنها

ملك معطيها فأشبهت الهبات قبل القبض، وإنما ليس له الرجوع في عطايا مرضه لزوال ملكه. ثم الرجوع في الوصية يكون بقول أو دلالة على ما سنذكره. وإذا كان حكم الوصية جاريًا على ما ذكرناه فصورة مسألتنا هذه في رجل أوصي بعبده لزيد ثم أوصي به لعمرو فقد اختلف الناس في حكم ذلك على أربعة مذاهب: أحدها: وهو مذهب داود أنه يكون وصية للأول دون الثاني كالبيع والنكاح. والثاني: وهو مذهب الحسن وعطاء وطاوس أنه يكون وصية للثاني دون الأول، لأنه بالرجوع أشبه. والثالث: وهو مذهب أبي عبد الرحمن الشافعي أن الوصية بها باطلة لا تصح واحد منها لإشكال حالهما. والرابع: وهو مذهب الشافعي ومالك وأبي حنيفة: أنها تكون وصية لهما فتجعل بينهما نصفين. وهكذا لو أوصي به لثالث، جعلناه بينهم أثلاثًا. ولو أوصي به لرابع جعلناه بينهم أرباعًا. والدليل على ذلك: ثلاثة معاني: أحدها: أنه لما كان قوله في وقت واحد قد أوصيت بعبدي هذا لزيد وأوصيت به بعمر كان بينهما إجماعًا فوجب أن يتراخي بين الوصيتين وأن يكون بينهما حجابًا إذ لا فرق بين اقتران الوصيتين وبين اقترانهما. والثاني: أنه لما كان لو أوصي بثلث ماله لزيد ثم أوصي بعد زمان بثلث ماله لعمرو وأن الثلث إذا لم تجز الورثة بينهما كذلك يكون للعبد بينهما في الوصية. والثالث: أنه قد يجوز أن تكون الوصية الثانية رجوعًا، ويجوز أن تكون لنسيان الأولى، ويحتمل أن يقصد بها التشريك بين الأول والثاني فوجب أن يحمل مع هذا الاحتمال على التشريك بينهما لاستوائهما في الوصية لهما، وليس يلزم في الوصايا المطلقة تقديم الأول على الثاني، ولا الثاني على الأول، وإنما يلزم ذلك في العطايا الناجزة. فصل: وإذا كان لرجل جارية حامل فأوصي بها لرجل ثم أوصي بعد ذلك بحملها لآخر فالجارية تكون للأول والولد يكون بين الأول والثاني. وإنما كان كذلك، لأنه لما أوصي بالجارية للأول كان يحملها داخلًا في الوصية تبعًا، فلما أوصي بالحمل للثاني صار موصيًا به لهما، فكان بينهما، وهكذا لو ابتدأ فأوصي بحملها لرجل ثم أوصي بها لاآخر كان الحمل بينهما والجارية للثاني منهما لما

ذكرناه، ولكن لو قال: أوصيت لزيد بهذه الجارية دون حملها، وأوصيت لعمرو بحملها دونها، صح وانفرد بالأم وعمرو بالولد، فعلي هذا لو أن زيدًا الموصي له بالأم أعتقها وهي حامل، عتقت ولم يسر عتقها إلى الحمل، وكان الحمل إذا ولد رقيقًا لعمرو وسواء كان معتق الأم موسرًا أو معسرًا، لأن الأم تتميز عن الولد وقد تميزا في الملك فلذلك لم يسر العتق. فصل: وإذا أوصي الرجل بعبده لواحد من رجلين لم يعينه كانت الوصية باطلة. ولو أوصي لرجل بواحد من عبدين لم يعينه، كانت الوصية جائزة ودفع الوارث أيهما شاء. وقال أبو حنيفة: الوصية لأحد الرجلين جائزة، كالوصية بأحد العبدين. ودليلنا: هو أن الوصية إنما تصح إذا كانت لموصي له إما بالنص أو بإطلاق اسم تدخل في عمومه، وليس في الوصية لأحد الرجلين نص ولا عموم اسم وإنما تدخل في العموم إذا قال: ادفعوا عبدي أي هذين الرجلين شئتم فتصح الوصية كلها. والفرق بين الوصية لأحد الرجلين وبين الوصية بأحد العبدين: هو الجهل بمستحقها في أحد الرجلين، والعلم بمستحقها في أحد العبدين. وقد قال الشافعي في كاب «الأم»: ولو أن شاهدًا قال: أشهد أن أحد هذين الرجلين قتل زيدًا لم يكن لأوليائه أن يقسموا مع شهادتهم ولا يكون لوثًا، ولو قال: أشهد أن زيدًا قتل أحد هذين الرجلين كان ذلك لوثًا لمن ادعاه من أولياء المقتولين ويقسمون مع شهادتهم، وفصل بينهما بأنه إذا ثبت القاتل توجهت الدعوى عليه وإن لم يثبت المقتول وليس كذلك إذا لم يثبت القاتل، لأن الدعوى لا تتوجه عليه مع إثبات المقتول. ومثله أن يقول على أحد هذين الرجلين ألف لم تسمع الدعوى منه ولو قال لي: على هذا الرجل أحد هذين المالين سمعت الدعوى منه توجهًا وأخذًا بالبيان تعيينًا. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ولو قال العبد الذي أوصيت به لفلان أو قد أوصيت بالذي أوصيت به لفلان كان هذا رجوعًا عن الأول إلى الآخر». قال في الحاوي: وحكي عن المزني أنه لا يكون رجوعًا، ويكون العبد وصية لهما كما لو أوصي به للثاني من غير ذكر الأول وساعده على هذا بعض أصحابنا احتجاجًا بأنه لو وكل زيدًا ببيع سلعة سماها، ثم قال: قد وكلت عمرًا بما وكلت به زيدًا أنهما يكونا معًا وكيلين في بيعهما، ولا يكون لوكيل الثاني رجوعًا عن الأول مع ذكره فكذلك في الوصية. وهذا فاسد: لأنه إذا صرح بذكر الأول عند الوصية به للثاني زال احتمال النسيان

بالذكر، وزال احتمال التشريك بقوله فقد أوصيت به للثاني فصار ذلك صريحًا في الرجوع. فأما الوكالة: فمن أصحابنا من ضيق عليه الفرق فجعل ذلك رجوعًا في توكيل الأول، ومنهم من فرق بينهما بأن الوكالة نيابة فصح أن يوكل كل واحد من الجماعة في كل البيع، والوصية تمليك لا يصح أن يملك كل واحد من الجماعة كل الوصية. فكان هذا فرقًا بين الوكالة وبين الوصية. فصل: فإذا تقرر أن يكون رجوعًا عن الأول إلى الثاني، فسأل الأول إحلاف الثاني أن الموصي أراد به الرجوع، لم يكن له عليه يمين، لأن الرجوع في هذا إلى لفظ الموصي فيما احتمله من المعني دون إرادته. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ولو أوصي أن يباع أو دبره أو هبه كان هذا رجوعًا». قال في الحاوي: قد ذكرنا أن للموصي الرجوع في وصيته متى شاء، وأن الرجوع قد يكون بقول، أو دلالة أو فعل. فأما القول فهو أن يقول صريحًا: رجعت في وصيتي أو قد أبطلتها، فيكون ذلك رجوعًا منه وتبطل به وصيته. وأما دلالة الفعل فقد ذكر الشافعي في هذا الفصل ثلاث مسائل: إحداها: أن يوصي ببيعه. والثانية: أن يدبره. والثالثة: أن يهبه. فأما البيع فعلي ضربين: أحدهما: أن يتولاه في حياته. والثاني: أن يوصي به بعد موته، فإن باعه في حياته كان هذا رجوعًا، لأن الوصية إنما تصح إذا انتقلت عنملك الموصي بموته إلى مالك الموصي له بقبوله والبيع قد أزال ملكه عنها فلم يصح بقاء الوصية به. فلو اشتراه بعد بيعه: لم تعد الوصية به لبطلانها بالبيع وخالف المفلس إذا اشتري ما باعه في رجوع به في أحد الوجهين. والابن إذا اشتري ما باعه في هبة أبيه في رجوع الأب به في أحد الوجهين. والفرق بينهما: أن رجوع الأب فيما وهبه لابنه ورجوع البائع على المفلس بعين

ماله، حق لهما، ليس للابن ولا للمفلس إبطال ذلك عليهما، فكذلك لم يكن بيعهما وعوده إلى ملكهما مانعًا من الرجوع بذلك عليهما، وليس كذلك الوصية، لأن للموصي إبطالها فإذا بطلت بالبيع لم تعد بالشراء ولكن لو أن الموصي عرض ذلك للبيع ففي كونه رجوعًا في الوصية وجهان: أحدهما: يكون رجوعًا في الوصية، لأن تعرضه للبيع دليل على قصده للرجوع وهذا قول أبي إسحاق المروزي. والثاني: لا يكون رجوعًا في الوصية لبقائها على ملكه. فأما إذا أوصي أن يباع بعد موته، فهذا على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يقول: بيعوه بعد موتي، ولم يذكر بكم يباع ولا على من يباع فالوصية بهذا البيع باطلة، والورثة بالخيار إن شاؤوا باعوه، وإن شاؤوا تمسكوا به، لأنه لم يتعين من يصح له الوصية فيه لكن يستفاد بذلك إبطال الوصية وأن تكون ملكًا لورثته. والثاني: أن يوصي ببيعه على زيد بثمن ذكره يعلم أن فيه محاباة، فالوصية بهذا البيع جائزة، ثم مذهب الشافعي أن يكون رجوعًا عن الوصية الأولى، وكان بعض أصحابنا يقول: إنه يحمل على الوصيتين جميعًا كما لو أوصي به لزيد ثم أوصي به لعمرو. قال: ويكون بينهما على قدر المحاباة في الثمن، فإن كانت المحاباة بنصف ثمنه صار كأنه قد أوصي بجميعه لزيد، ثم أوصي بنصفه لعمرو، فيكون بينهما أثلاثًا، وإن كانت المحاباة بثلث ثمنه كانت بينهما أرباعًا. والثالث: أن يوصي ببيعه على زيد ولا يذكر قدر ثمنه الذي يباع عليه به، فهو بذلك مبطل لوصيته الأولى، وفي صحة وصية بيعه على زيد وجهان: أحدهما: باطلة، لأنه لم ينص على ثمن تكون المحاباة فيه وصية، ويكون الخيار للورثة في بيعه وإمساكه. والثاني: أن الوصية جائزة، لأنها تتضمن قصد تمليكه إياه ويباع عليه بثمن مثله أن اشتراه. وأما المسألة الثانية: فهو تدبير ما أوصي به فإن قلنا: إن التدبير عتق بصفة، كان تدبيره رجوعًا في الوصية، وإن قلنا: إنه كالوصية فإن قلنا بتقديم الوصية بالعتق، على الوصية بالتمليك، كان التدبير رجوعًا في الوصية. وإن قلنا: إن الوصية بالعتق والتمليك سواء، ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي الطبري أنه يكون نصفه وصية ونصفه مدبرًا كما لو أوصي بالثاني بعد أول، كان بينهما نصفين.

والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي، أنه يكون جميعه مدبرًا ورجوعًا عن الوصية، لأن عتق التدبير ناجز بالموت، فيقدم على الوصايا، كالناجز من العطايا. وإن قدم تدبيره، ثم أوصي به، فإن قلنا: إن التدبير عتق بصفة، لا يجوز الرجوع فيه، كان على تدبيره، وكانت الوصية باطلة، وإن قلنا: إنه كالوصايا، نظر: فإن قال العبد الذي دبرته قد أوصيت به لزيد: كان رجوعًا في تدبيره، وموصي بجميعه، وإن لم يكفل ذلك ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول ابن أبي هريرة: أنه يكون نصفه باقيًا على تدبير ونصفه موصيًا به. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي، أن تدبيره، أقوى من الوصية ويكون على التدبير. ولو أوصي بعتقه: ففيه وجهان: أحدهما: يكون رجوعًا عن الوصية الأولى، وموصًا بعتق، وهذا قول أبي إسحاق المروزي. والثاني: يكون رجوعًا عن الوصية بصفة، وموصًا بعتق نصفه، وهذا قول ابن أبي هريرة. ولو قدم الوصية بعتقه، أوصي به لزيد ففيه وجهان: أحدهما: يكون موصًا بعتقه، والوصية به بعد ذلك باطلة. والثاني: أن نصفه يكون موصًا بعتقه، ونصفه موصًا بملكه. فصل: وأما المسألة الثالثة: وهو أن يهب ما أوصي به، فهذا ينظر فإن أقبضه في الهبة: كان رجوعًا في الوصية، لإخراجه بالقبض عن ملكه وإن لم يقبضه ففي كونه رجوعًا وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي وأبي علي بن أبي هريرة: يكون رجوعًا، لأنه قد عقد فيه عقدًا يقضي إلى زوال الملك مخالفًا لما قصده من قبل. والثاني: وهو قول بعض المتأخرين من البغداديين: أنه لا يكون رجوعًا، لأنه لم يؤثر في ملكه، فلم يؤثر في رجوعه. ولو وهبه فاسدة: ففي كونه رجوعًا ثلاثة أوجه: أحدها: يكون رجوعًا قبض أو لم يقبض، وهذا قياس قول أبي إسحاق المروزي. والثاني: لا يكون رجوعًا قبض أو لم يقبض، لبقائه على ماله. والثالث: أنه إن أقبض كان رجوعًا، وإن لم يقبض لم يكن رجوعًا، لأن في القبض تصرفًا بيانيًا. وهكذا لو رهنه كان في كون الرهن رجوعًا في الوصية ثلاثة أوجه:

أحدها: يكون الرجوع أقبض أو لم يقبض. والثاني: لا يكون رجوعًا أقبض أو لم يقبض. والثالث: أنه إن أقبض كان رجوعًا، وإن لم يقبض لم يكن رجوعًا. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ولو أجره أو علمه أو زوجه لم يكن رجوعًا». قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا أجر العبد الذي أوصي به لم تكن الإجارة رجوعًا في وصيته، لأن الإجارة عقد على منافعه، وله استيفاء المنفعة واستخدامًا بغير بدل، فكذلك إذا استوفاها إجارة ببدل، فإن مات الموصي بعد انقضاء مدة الإجارة انتقل العبد إلى الموصي له بمنافعه، وإن مات قبل انقضاء المدة كانت لازمة إلى انقضاء مدتها. وإذا قبله الموصي له لزمه تمكين المستأجر إلى انقضائها، والأجرة للورثة، لأن الموصي قد ملكها بعقد، ثم تملك منافعه بعد الرقبة من بعد انقضاء مدة الإجارة، فكذلك قد رجع في الإجارة في بعض منافعه. فأما إذا أوصي له بسكني داره ثم أجرها: ولم يكن ذلك رجوعًا في الوصية بسكناها، لأنه قد يجوز أن تنقضي مدة الإجارة قبل موت الموصي، فإن انقضت قبل موت صحت الوصية بجميع السكني، وإن مات قبل انقضائها فعلي وجهين: أحدهما: أنه يسكن مدة وصيته كلها بعد انقضاء ما بقي من مدة الإجارة، ولا يكون بقي شيء من المدة مؤثرًا في الرجوع في الوصية لاستيفاء مدة الوصية ممكن. فإذا كان الباقي من مدة الإجارة شهرًا والوصية بالسكني سنة فإذا أمضي شهر الإجارة بعد موت الموصي سكنها الموصي له سنة. والوجه الثاني: أنه يبطل من الوصية بالسكني بقدر ما بقي من مدة الإجارة كأن الوصية بالسكني سنة والباقي من مدة الإجارة شهر، فيبطل من الوصية بالسنة شهر ويبقي للموصي له أحد عشر شهرًا. ولو كان الباقي منها سنة بطلت الوصية بالسكني كلها. فصل: ولو أوصي بعبد فعلمه علمًا، أو صناعة، لم يكن ذلك رجوعًا، لأن هذا من مصالحه فصار كالنفقة عليه، وهكذا لو ختنه أو حجمه أو داواه لم يكن رجوعًا. وهكذا لو زوجه: لم يكن رجوعًا ونفقة الزوجة ومهرها في كسبه. وهكذا لو كانت أمه فزوجها، لم يكن ذلك رجوعًا، والمهر للموصي فإذا مات لم يكن للموصي له أن يفسخ نكاحها، وكأنه قد رجع في الاستمتاع بها مدة مقام الزوج معها كالإجارة فلو وطئها الموصي لم يكن وطئه رجوعًا كما لو استخدمها إلا أن يحبلها فتصير له أم ولد وتبطل الوصية. وقال ابن الحداد المصري من أصحابنا: إن عزل عنها لم يكن رجوعًا وإن لم يعزل عنها كان رجوعًا، وزعم أنه أخذ ذلك من قول الشافعي في الإيلاء: «ولو حلف لا يشتري

فوطء جارية له فإن كان يعزل عنها فهو غير متسر، ولا حنث عليه وغن لم يعزل عنها فهو متسر، وقد حنث. قال: فلما جعل المتسري طلب الولد لا الاستمتاع دل على الفرق بينهما، وكان طلب الولد رجوعًا في الوصية دون الاستمتاع. فصل: ولو كان الموصي به أرضًا فزرعها: لم يكن رجوعًا، لأن الزرع لا يتبقي ولو بني فيها أو غرسها: ففيها وجهان: أحدهما: يكون ذلك رجوعًا، فعلى هذا إن كان البناء والغرس في جميعها: كان رجوعًا في الجميع، وغن كان في بعضها: كان رجوعًا فيما غرسه وبناه، دون ما لم يغرسه ولم يبنه. والثاني: لا يكون رجوعًا، لأن ذلك من استيفاء منافعها، فعلي هذا تكون الوصية فيما بين البناء والغرس من بياض الأرض بحالها. فأما أساس البناء، وقرار الغرس، ففيه وجهان: أحدهما: لا يكون رجوعًا، وإذا تلف الغرس، وانهدم البناء: عاد إلى الموصي له. والثاني: يكون رجوعًا، لأنه قد صار تباعًا لها عليه ومستهلكًا به. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ولو كان الموصي به قمحًا فخلطه بقمح أو طحنه دقيقًا فصيره عجينًا كان أيضًا رجوعًا». قال في الحاوي: وهذه ثلاث مسائل. أحدها: إذا أوصي له بحنطة فخلطها بحنطة أخرى كان هذا رجوعًا، لأن الوصية كانت بحنطة معينة، وبخلطها قد تعذر الوصول إلى عينها، سواء خلطها بمثلها في الجودة أو بأجود أو بأردأ. وإن خلها بغير جنسها فلا يخلو من أحد أمرين: أما إن يكون مما يشق تمييزه أو لا يشق، فإن خلطها بما يشق تميزه منها كحنطة أخلط بها شعيرًا، أو أرزًا أو عدسًا: فهذا رجوع، لأنه خلط بما لا يتميز. وإن خلطها بما لا يشق تمييزه كالجوز، واللوز، لم يكن رجوعًا كما لو أحرزها ولو نقل الحنطة عن البلد إلى غيره فهذا على ضربين: أحدهما: أن ينقلها إلى ما هو أقرب على بلد الموصي له، فهذا لا يكون رجوعًا، لأنه يدل على الحرص وتمامها. والثاني: أن ينقلها إلى بلد هو أبعد إلى الموصي له من البلد الذي كانت فيه فهذا على ضربين:

أحدهما: أن يكون ذلك لعذر ظاهر من خوف طرأ، أو فتنة حدثت، فلا يكون ذلك رجوعًا. والثاني: أن يكون ذلك لغير عذر ففي كونه رجوعًا وجهان: أحدهما: يكون رجوعًا اعتبارًا بظاهر فعله. والثاني: لا يكون رجوعًا اعتبارًا ببقائها على صفتها على ملكه، والله أعلم. فصل: فالمسألة الثانية: أن لو أوصي له بحنطة فيطحنها: فيكون ذلك رجوعًا لعلتين إحداهما: زوال الاسم عنها بالطحن. والثانية: القصد إلى استهلاكها بالأكل. وهكذا: لو قالاها سويقًا فإن طحنها كان رجوعًا لعلتين، وغن لم يطحنها بعد القلي كان رجوعًا لإحدى العلتين وهو قصد استهلاكها. وهكذا لو بذرها: كان رجوعًا، وكذلك لو عملها نشًا أو بلها بالماء كان رجوعًا. فصل: والمسألة الثالثة: أن يوصي له بدقيق فيصيره عجينًا فهذا رجوع، لأنه حصد به الاستهلاك وهكذا لو أوصي له بعجين فخبزه خبزًا، كان رجوعًا لزوال الاسم دون الاستهلاك، ولو أوصي له بخبز فدقه فتوتًا ففي كونه رجوعًا وجهان: أحدهما: أن يكون رجوعًا لزوال عن صفته. والثاني: لا يكون رجوعًا لبقاء اسم الخبز عليه؛ ولأن دقه إبقاء له. ولكن لو جعل ثريدًا كان رجوعًا. فصل: ولو أوصي بقطن فعزله: كان رجوعًا لزوال الاسم عنه. ولو حشاه في مخدة أو مضربه ففي كونه رجوعًا وجهان: أحدهما: هو قول أبي علي بن خيران أنه يكون رجوعًا كما لو عزله. والثاني: لا يكون رجوعًا، لأنه ما أزال عنه الاسم، ولا قصد به الاستهلاك ولو أوصي له بعزل فنسجه ثوبًأ كان رجوعًا، لزوال اسم الغزل عنه. ولو أوصي له بثوب فقطعه قميصًا كان رجوعًا لانتقال الاسم وقصد الاستعمال ولو غسله لم يكن رجوعًا، ولو صبغه كان رجوعًا، ولو قصره ففي كونه رجوعًا وجهان: أحدهما: لا يكون رجوعًا كالغسل. والثاني: يكون رجوعًا كالصبغ. فصل: فلو أوصي بشاة فذبحها: كان رجوعًا لزوال الاسم وقصد الاستهلاك وقال أبو حنيفة: لا يكون رجوعًا ولو أوصي له بلحم فقدده لم يكن رجوعًا؛ لأنه بالتقديد يستبقي ولو طحنه: كان رجوعًا، لأنه صار مستهلكًا. وإذا شوي كان أبقي له. فصل: ولو أوصي له بنقرة فضة، فطبعها دراهم، أو صاغها حليًا كان رجوعًا، لانتقال الاسم وهكذا: لو أوصي له بحلي، أو دراهم فسبكها نقرة، كان رجوعًا. ولو

(أوصى) له بتمر فكذا: لم يكن رجوعًا، لأنه يستبقي به. ولو جعله دبسًا: كان رجوعًا لزوال الاسم. وهكذا: لو أوصي له بعنب، فجعله عصيرًا، أو زيتون فجعله زيتًا، أم بسمسم فجعله شيرجًا، كان رجوعًا. ولو أوصي برطب فجففه تمرًا أو بعنب فجففه زبيبًا، لم يكن رجوعًا، لأنه بذلك يدخر وهو على صفته فصار كما لو أوصي له بجدي، فصار تيسًا، أو ببصل فصار خلًا. فصل: وإذا أوصي له دار فهدمها: كان رجوعًا. وقال أبو حنيفة: لا يكون هدم الدار رجوعًا، وهذا خطأ، لأنه لما كان طحن الحنطة رجوعًا، كان هدم الدار فأولى أن يكون رجوعًا. ولو جعل الدار حمامًا: كان رجوعًا، كان هدم الدار فأولى أن يكون رجوعًا. ولو جعل الدار حمامًا: كان رجوعًا بوفاق مع أبي حنيفة، وهو حجة عليه في هدمها. ولكن لو عمرها، لم يكن رجوعًا، ولو جعل عليها سباطًا لم يكن داخلًا في الوصية. وهل يكون وضع السباط عليه من حيطانها على وجهين كما قلنا في قرار الغرس وأساس البناء. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ولو أوصي له بمكيلة حنطة مما في بيته ثم خلطها بمثلها لم يكن رجوعًا وكانت له المكيلة بحالها». قال في الحاوي: قد مضي الكلام فيمن أوصي بصبرة مميزة وأنه متى خلطها بغيرها كان رجوعًا. فأما مسألتنا هذه مصورة في رجل أوصي لزيد بقفيز من صبرة حنطة في بيته، ثم خلطها، فهذا على ثلاثة أقسام: أحدها: ان يخلطها بمثلها، فهذا لا يكون رجوعًا، لأن القدر الموصي به كان مختلطًا بغيره، وحالف الحنطة المتميزة التي يصير خلطها رجوعًا. والثاني: أن يخلطها بأجود منها: فهذا يكون رجوعًا، لأنه قد أحدث فيها بالخلط زيادة لا يملكها الموصي له فصار كالذهب إذا صاغه. والثالث: أن يخلطها بأردأ منها، ففي كونه رجوعًا وجهان: أحدهما: وهو قول علي بن أبي هريرة لا يكون رجوعًا، لأنه نقص أحدثه فيها، فصار كما لو أخذ بعضها: لم يكن رجوعًا فيما بقي عنها. والثاني: يكون رجوعًا، لأن الحنطة تتغير بالأردأ كما تتغير بالأجود وجملة ما

باب المرض الذي تجوز فيه العطية ولا تجوز والمخوف غير المرض

يكون رجوعًا في الوصية مع بقائها على ملك الموصي أن يقصد إلى استهلاكها أو يحدث فيها بفعله زيادة لا يمكن تميزها. فصل: ولو حجر الموصي الوصية كان رجوعًا. وحكي عن محمد بن الحسن أن الحجور لا يكون رجوعًا، وهذا فاسد، لأن الحجور أغلظ من الرجوع. ولو قال: هذا علي حرام كان رجوعًا؛ لأن الوصية لا تكون عليه حرامًا. وقال محمد بن الحسن لا يكون ذلك رجوعًا. ولو قال: هي لورثني كان رجوعًا. ولو قال: هي من تركتي ففي كونه رجوعًا وجهان: أحدهما: يكون رجوعًا، لأن التركة للورثة. والثاني: لا يكون رجوعًا؛ لأن الوصايا من حملة التركة والله أعلم. باب المرض الذي تجوز فيه العطية ولا تجوز والمخوف غير المرض مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «كل مرض كان الأغلب فيه أن الموت مخوف عليه فعطيته إن مات في حكم الوصايا وإلا فهو كالصحيح». قال في الحاوي: أعلم أن ما يخرجه الإنسان من ماله ضربان: أحدهما: وصاياه بعد موته. والثاني: عطاياه المنجزة في حياته. فأما الوصايا: فهي من الثلث، سواء أوصي بها في صحة أو مرض، فإن اتسع الثلث لجميعها أمضيت، ولم يكن للوارث فيها اعتراض، وإن ضاق الثلث عنها: رد الفاضل على الثلث إن لم يجزه الورثة ويحاص أهل الوصايا الورثة بالثلث. وسواء من تقدمت الوصية له أو تأخرت، إلا أن يكون فيه عتق، فيكون في تقديمه على الوصايا قولان: وأما العطايا المنجزة في الحياة: فكالهبة، والصدقة، والمحاباة، والعتق، والوقف فضربان: أحدهما: ما كان في الصحة. والثاني: ما كان في المرض. فأما عطايا الصحة فمن رأس المال، سواء قرب عهدها بالموت أو بعد. وأما عطايا المرض فالمرض، ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

قسم يكون غير مخوف: كوجع الضرس، ورمد العين، ونفور الطحال، وحمي يوم. فالعطايا فيه: من رأس المال، لأن الإنسان مطبوع على أحوال متغايرة ولا يبقي معها على حالة واحدة ولا يخلو في تغييره واستحالته، فإن أعطي في هذه الحالة كانت عطيته من رأس ماله، مثاله كالصحيح، وإن مات عقيب عطيته، لأن حدوث الموت بغيره فهذا هو قسم. والثاني: حال المعاينة وحشرجة النفس، وبلوغ الروح التراقي، فلا يجري عليه فيها حكم قلم، ولا يكون لقوله حكم، لأنه في حكم الموتى وإن كان يتحرك حركة المذبوح، وكذلك من شق بطنه وأخرجت حشوته لا يحكم بقوله ووصيته في هذه الحالة، وإن كان يتحرك أو يتكلم؛ لأن الباقي منه كحركة المذبوح بعد الذبح. والثالث: المرض المخوف الذي الحياة فيه باقية والإياس من صاحبه واقع كالطواعين، والجراح النافذة، فعطاياه كلها من ثلثه، سواء كان هبة أو محاباة أو عتقًا. وقال داود بن علي: العتق كله من الثلث، للخبر فيه وما سواه من رأس المال. وقال طاوس: العتق وغيره من رأس المال استدلالًا بعموم قوله تعالى: {وَافْعَلُوا الخَيْرَ} [الحج: 77]، ولأنه لما كان ما أنفقه من ماله في ملاذه وشهواته من رأس ماله. كان ما يتقرب به من عتقه وهباته ومحاباته أولى أن تكون من رأس ماله. والدليل على فساد هذا القول قوله تعالى: {ولَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وأَنتُمْ تَنظُرُونَ (143)} [آل عمران: 143]. يعني به خوف القتل وأٍباب التلف وسماه باسمه لقربه منه، واتصال حكمه بحكمه، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إن تَرَكَ خَيْرًا الوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180]. يعني بحضور الموت ظهور دلائله ووجود أسبابه. ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إن الله تعالى أعطاكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم». فأما استدلاله بنفقات ملذاته، وشهواته، فالجواب عنه: أن ما اختص به المريض من مصالحه، هو أحق به من ورثته، وما عاد إلى غيره من هبته ومحاباته، فورثته أحق به. فلذلك أمضت نفقاته من رأس ماله لتعلقها بمصالحة في حال حياته، وجعلت هباته من ثلثه لتعلقها بمصلحة غير ثم بنفسه بعد مماته فلم يكن له إلا ما جعلت له الشريعة والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ومن المخوف منه إذا كانت حمي بدأت بصاحبها ثم إذا تطاولت فهو مخوف غلا الربع فإنها إذا استمرت بصاحبها ربعًا فغير مخوفة وإن

كان معها وجع كان مخوفًا وذلك مثل البرسام أو الرعاف الدائم أو ذات الجنب أو الخاصرة أو القولنج ونحوه فهو مخوف». قال في الحاوي: قد ذكرنا أن عطايا المرض المخوف من الثلث كالوصايا، وإن تقدمت عليها فالمرض المخوف، هو الذي لا تتطاوله بصاحبه معه الحياة. وقال أهل العراق: المخوف هو من المضني، المضعف عن الحركة الذي يصير به الإنسان صاحب فراش، وإن تطاول به أجله، وهذا خطأ عندنا، لأن ما تطاول بالإنسان فهو مهلته، وبقية أجله، لأن الموت طارئ على كل حي وإن صح، وإنما يختلف حاله فيما تعجل به الموت وجاء. وقد قال تعالى: {إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ} [البقرة: 180]. والحاضر ما كان قريبًا منه لا ما بعد. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله تعالى أعطاكم ثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة في أعمالكم». فصل: فإذا تقرر أن المخوف ما جاء وعجل، فالأمراض كلها على أربعة أقسام: أحدها: ما كان غير مخوف في الابتداء والانتهاء كوجع الضرس ورمد العين، وحرب اليد، فعطاياه من رأس ماله، فإن مات فبحدوث غيره. والثاني: ما كان مخوفًا في الابتداء والانتهاء كالبرسام، وذات الجنب، والحاضرة، فعطاياه فيه من ثلثه، فإن صح فيه أو قتل أو مات تحت هدم، بان أنه كان غير مخوف فيكون عطاياه فيه من رأس ماله. والثالث: ما كان في ابتدائه غير مخوف، وفي انتهائه مخوفًا كالحمي، والسل، فعطيته في ابتدائه من رأس المال وفي انتهائه من ثلثه. والرابع: ما كان في ابتدائه مخوفًا وفي انتهائه غير مخوف كالفالج يكون في ابتدائه عند غلبة البلغم عليه مخوفًا فإذا انتهي بصاحبه حتى صار فالجًا فهو غير مخوف؛ لأنه قد يدون بصاحبه شهرًا والله أعلم. فصل: وإذا تقرر ما مهدناه من أصول الأمراض فسنذكر من تفصيلها ما يكون مثالًا لنظائره فمن ذلك الحمي، فهي يوم أو يومان أو ثلاثة أيام غير مخوف، لأنها قد تكون من تعب الإغماء وظهور الحمي وقد قال بعض أهل العلم في قوله تعالى: {وإن مِّنكُمْ إلاَّ وارِدُهَا} [مريم: 71] إنها الحمي. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «الفيح الحمي من فيح جهنم فأبردوها بالماء». فإن استمرت بصاحبها فهي مخوفة، لأنها تدفن القوة التي هي قوام الحياة، وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: الحمي دابر الموات، وهي هجرة الله تعالى في أرضه، يحبس عبده بها

إذا شاء فيرسله إذا شاء». وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «حمي يوم كفارة سنة» وقد قيل إنه يضرب بها عروق البدن كلها وهي ثلاثمائة وستون عرقًا فجعل كل عرق لكل يوم من أيام السنة التي هي ثلاثمائة وستون يومًا فإن صارت الحمي عند استمرارها رفعًا فهي غير مخوفة، لأن ما يحدث من القوة في أيام الاستراحة يكون خلفًا مما ذهب بها في يوم النوبة فصارت القوة محفوظة فزال الخوف. فأما إذا اقترن بما لا يكون مخوفًا من حمي يوم أو يومين ببرسام أو ذات الجنب أو وجع الخاصرة، أو القولنج، فقد صار مخوفًا. فإن قيل: هذه الأمراض بانفرادها مخوفة فيكف جعلها الشافعي مع حمي يوم أو يومين مخوفة، فلأصحابنا عنه جوابان: أحدهما: أنه أراد من هذه الأمراض ما كان منها لا يكون بانفراده مخوفًا. فإذا اقترن بحمي يوم أو يومين صار مخوفًا. والثاني: أن من حمي حمي يوم فهو كالصحيح ولا يكون مخوفًا عليه إلا أن تحدث به هذه الأمراض التي يصير حدوثها بالصحيح مخوفًا. وهكذا حمي الربع إذا اقترن بها هذه الأمراض صارت مخوفة فأما الرعاف فإن قل ولم يستقر فهو غير مخوف؛ لأنه قد يكون من غلبة الدم زيادته فبطلت من منافذ الجسد ما يخرج منه وإن كثر واستمر فهو مخوف، لأنه قد ينزف دمه، والدم هو قوام الروح ومادة الحياة. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «وإن سهل بطنه يومًا أو اثنين وتأتي منه الدم عند الخلاء لم يكن مخوفًا فإن استمر به بعد يومين حتى يعجله أو يمنعه النوم أو يكون البطن متحرقًا فهو مخوفٌ فإن لم يكن متحرقًا ومعه زخير أو تقطيع فهو مخوف». قال في الحاوي: أما سهل البطن، يوم أو يومين، إذا لم يكن البطن متحرقًا ولا وجد معه وجعًا، لم يكن مخوفًا، لأنه قد يكون من فضله في غذاء أو خلط في بدن، ولأن الصحيح، قد يققصد إسهال بطنه بشرب الدواء المطبوخ، لإخراج الخلط الفاسد، فما أجاب به الطبع من ذلك، فهو أدل على الصحة. فأما إن استدام به الإسهال صار مخوفًا، لأنه تضعف معه القوة ولا يثبت معه الغذاء.

ولم لم يتطاول وكان يومًا أو يومين لكن كان البطن متخرقًا بعجلة، فلا يقدر على حبسه كان مخوفًا، وهكذا لم يكن متخرقًا لكن كان معه زخير وتقطيع دم، أو ألم يمنعه من النوم فهو مخوف. وأما إن كان معه في اليوم أو اليومين دم فقد نقل المزني في مختصره هذا: «ويأتي معه الدم عند الخلاء لم يكن مخوفًا». وقال الشافي في «الأم»: «لا يأتي فيه دم لا شيء غير ما يخرج الخلاء لم يكن مخوفًا فاختلف أصحابنا فكان بعضهم ينسب إلى المزني الخطأ في نقله وجعل خروج الدم مع الإسهال مخوفًا على ما دل عليه كلامه في الأم وحكي الداركي عن أبي إسحاق المروزي، أن النقل صحيح، وأن الجواب مختلف على اختلف حالين، وحملوا نقل المزني على أنه لا يكون مخوفًا إذا كان خروج الدم من بواسير أو بواصير، وما دل عليه كلام الشافعي من أن يكون مخوفًا إذا كان خروج الدم من المخوف والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «وإذا أشكل سئل عنه أهل البصر». قال في الحاوي: اعلم أن الأمراض ضربان: ضرب يكون العلم به جليًا يشترك في معرفته الخاص والعام، فهذا لا يحتاج في معرفته إلى سؤال أهل العلم به. وضرب يكون العلم به خفيًا يختص به أهل العلم فيسألوا أو يرجع إلى قولهم فيه. كما أن علم الشريعة ضربان: ضرب جلي يشترك فيه الخاص والعام كالصلوات الخمس وأعداد ركعاتها، وصوم شهر رمضان ووجوبه، فلا يحتاج فيه إلى سؤال العلماء إلا فيما يتفرع من أحكامه وضرب يكون خفيًا فيلزمهم سؤال العلماء عنه إذا ابتلوا به. ثم إذا لزم سؤال أهل الطب فيما أشكل من الأمراض، لم يقتنع فيه بأقل من عدلين من طب المسلمين، لأنها شهادة. فإن قالوا غالبه التلف جعلت العطايا من الثلث لكونه مخوفًا. وإن قالوا غالبه السلامة فهو غير مخوف. وهكذا لو قالوا: غالبه الموت بعد زمان طويل فهو غير مخوف. والعطايا فيه من رأس المال. فلو مات فقال: من شهد بسلامته من الطب أخطأنا قد كنا ظنناه أنه غير موح فبان موحيًا: قبل قولهم، لأن ما رجعوا إليه من هذا القول أمارة دالة وهو الموت، فلو اختلفوا في المرض فحكم بعض بأنه مخوف موح. وقال بعضهم غير مخوف: رجع إلى قول الأعلم منهم فإن استووا في العلم، وأشكل على الأعلم: رجع إلى قول الأكثر منهم عددًا، فإن استووا في العدد رجع إلى قول من حكم بالمخوف، لأنه قد علم من غامض المرض ما خفي على غيره.

فلو اختلف المعطي والوارث في المرض عند اعوزاز البينة، فادعي الوارث أنه كان مخوفًا، وقال المعطي غير مخوف: فالقول فيه قول المعطي مع يمينه دون الوارث لأمرين: أحدهما: أننا على يقين من تقدم السلامة، وفي شك من حدوث الخوف. والثاني: أنه مالك لما أعطي فلا ينزعه بعضه بالدعوى. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ومن ساوره الدم حتى تغير عقله أو المرار أو البلغم كان مخوفًا فإن استمر به فالج فالأغلب إذا تطاول به أنه غير مخوف». قال في الحاوي: أما مساورة الدم يعني به ملازمة الدم وغلبته. ومنه قول الشاعر: فبت كأني ساورتني ضئيلة من الرقش في أنيابها السم ناقع ومساورة الدم هو ما يسميه الطب: الحمرة وهو أن يغلب الدم بزيادته فلا يسكن بالفصد، وربما حدث منه الخناق والذبحة فيوصي صاحبه فهو مخوف. وأما المراد إذا غلب عليه فهو مخوف، فإن انقلب المرار إلى السوداء فهو غير مخوف، لأن السوداء قد تفضي بصاحبها إلى أحد أمرين، إما تغير العقل، وإما ظهور حكة وبثور، وذلك في الأغلب غير مخوف. وأما البلغم إذا غلب فمخوف، فإن استمر فصار فالجًا فهو غير مخوف، لأن المفلوج قد تسترخي بعض أعضائه فيعيش دهرًا. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «والسل غير مخوف». قال في الحاوي: وهذا صحيح؛ لأن السل قد يطول بصاحبه فيعيش المسلول دهرًا لاسيما إذا كان شيخًا، وقد ذكرنا أن المخوف ما كان موحيًا، فإن استدام بصاحبه حتى استسقي وسقط فهو مخوف، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «والطاعون مخوف حتى يذهب».

(قال) في الحاوي: وإنما قال ذلك، لأنه إذا حدث في الإنسان وخاف لم يتطاول. وقد جاء في الحديث أنه وخز من وخز الشيطان فإن ظهر الطاعون في بلد حتى لا يتدارك الناس بعضهم بعضًا، وكفي الله حسن الكفاية فما لم يقع الإنسان فليس بمخوف وإن وقع به صار مخوفًا. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ومن أنفذته الجراح فمخوف فإن لم تصل إلى مقتل ولم تكن في موضع لحم ولم يغلبه لها وجع ولا ضربان، ولم يأتكل ويرم فغير مخوف». قال في الحاوي: والجراح ضربان: أحدهما: أن تصل إلى جوفه في صدر أو ظهر أو خصر أو إلى الدماغ فهذا مخوف، لأنه ربما دخل منها إلى الجوف ريح تصل إلى القلب، أو تماس الكبد فيقتل، أو ربما خرج بها من الجوف ما يقتل، وهكذا كانت حال عمر رضي الله عنه حين جرح. والثاني: أن لا تصل إلى الجوف ولا إلى الدماغ فينظر. فإن ورمت، أو اتكلت أو اقترن بها وجع، أو ضربان فمخوف، لأن ألم وجعها إذا وصل إلى القلب قتل وورمها، وأكلتها تسري إلى ما يليها، فتقتل، وإن لم يكن معها من ذلك شيء فهي غير مخوفة؛ لأن السلامة منها أغلب، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «وإذا التحمت الحرب فمخوف فإن كان في أيدي مشركين يقتلون الأسرى فمخوف. وقال في الإملاء إذا قدم من عليه قصاص غير مخوف ما لم يجرحوا لأنه يمكن أن يتركوا فيحيوا. قال المزني: الأول أشبه بقوله وقد يمكن أن يسلم من التحام الحرب ومن كل مرض مخوف». قال في الحاوي: ذكر الشافعي ها هنا ثلاث مسائل: فيمن التحم في الحرب فهذا ينظر فإن تكافأ الفريقان فمخوف عليهما، وإن كان أحدهما أكثر عددًا من الآخر فليس بمخوف على الأكثرين وهو مخوف على الأقلين. وسواء كان القتل بين المسلمين أو مع المشركين فجعل الشافعي التحام القتال مخوفًا. والثانية: إذا حمل المسلم أسيرًا في أيدي المشركين، فإن كانوا لا يقتلون الأسرى على عادة قد عرفت لهم في استيفائهم لمن رق أو فدي فغير مخوف، وإن عرفوا بقتل الأسرى. قال الشافعي: هو مخوف، فجعل الأسر خوفًا كالتحام القتال.

والثالثة: من قدم للقصاص وجب عليه قال الشافعي: هو غير مخوف ما لم يجرح، فلم يجعل التقديم للقصاص مخوفًا بخلاف التحام القتال والأسير. واختلف أصحابنا فكان أبو إسحاق المروزي، وأبو علي بن أبي هريرة، وأبو حامد المروزي، وطائفة كبيرة يجمعون بين الجوابين في المسائل الثلاث، ويخرجونها على قولين: أحدهما: أن يكون مخوفًا، الحال في المسائل الثلاث لقوله تعالى: {ولَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ المَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وأَنتُمْ تَنظُرُونَ (143)} [آل عمران: 143] فجعل خوف القتل كخوف المرض في رؤية الموت فيهما فدل على استوائهما ولأن نفس المريض أسكن من هؤلاء لما يرجو من صلاح الدواء فكان ذلك بالخوف أحق. والثاني: أنه لا يكون مخوف الحال في هذه المسائل الثلاث، لأن خوف المرض حال من جسمه، ومماس لجسده، فصار حكمه فيه مستقرًا وليست حاله في هذه المسائل الثلاث كذلك، لأنه يخاف من قرب أجله بحلول ما يحدث في جسده ويناله في يده وذلك غير حال ولا مستقر، وإنما هو بمنزلة الشيخ الهرم الذي هو لعلو السن منتظر الموت في يوم بعد يوم وعطاياه من رأس ماله فكذلك هؤلاء. وقال آخرون من أصحابنا: بل جواب الشافعي على ظاهره في المسائل الثلاث فيكون الأسر، والتحام القتال خوفًا، ولا يكون التقديم للقصاص خوفًا. والفرق بينهما أن المشتركين يرون قتل الأسرى دينًا ونحلة فالعفو منهم غير موجود وليس كذلك ولي القصاص، لأن ما وصف الله تعالى به المسلمين من الرأفة والرحمة وندبهم إليه من الأخذ بالعفو هو الأغلب من أحوالهم والأشبه بأحوالهم فكان ذلك فرقًا بين الفريقين. وقال ابن سريج: المسائل الثلاث كلها على سواء في اعتبار ما يدل عليه الحال وتشهد به الصورة من أن ينظر: فإن كان ولي القصاص قاسيًا جنفًا فالأغلب من حال التشفي، وأنه ممن لا يمن ولا يعفو فتكون حال المقتص منه مخوفة كالأسير إذا كان في يد من لا يعفو عن أسير. وإن كان ولي القصاص رحيمًا ومن الخنق والقوة بعيدًا فالأغلب من حاله العفو، وأن يمن عن قدرة، فتكون حال المقتص منه غير مخوفة، كالأسير إذا كان في يد من يعفو عن الأسرى. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا فالأمور المخوفة ضربان: أحدهما: ما دخل في الحسن وماس البدن كالأمراض فهي مخوفة إذا كان عليها التوحية. والثاني: ما فارق الجسم واختص بحاله كالأسير والملتحم في القتال، فإن تردت

حاله بين خوف ورجاء فغير مخوف، وإن كان الخوف أغلب على ما ذكرنا من القولين فمن ذلك أن يقترضه الأسد فلا يجد محيصًا، فإن كانوا جماعة لم تكن حالهم مخوفة، لأن الأسد لا يفترس في الحال غلا أحدهم، فلم يكن الأغلب من حال كل واحد التلف، وإن جاز أن يكون الهالك. وإن كان واحدًا فإن باشره الأسد فحاله مخوفة. فأما قبل المباشرة فعلى ما ذكرنا من القولين. ومن ذلك من غشية سيل، أو غشيته نار، فإن وجد منها نجاة فحاله غير مخوفة وإن لم يجد منها نجاة فإن أدركه السيل ولحقته النار، فحاله مخوفة لأجل المحاسة. وفيما قبل إدراك السيل ولفح النار قولان: وكذلك من طوقته أفعى فإن نهشته مخوفة وقبل نهشته على قولين، إلا أن تكون من حيات الماء التي قد يقتل سمها وقيل: لا يقتل فلا تكون مخوفة قولًا واحدًا. ومن ذلك: أن يقيه في مغارة لا يجد فيهما طعامًا ولا شرابًا فإن جوز أن يجد الماء إلى أقصى مدة يتماسك فيها رمقه طعامًا أو شرابًا أو ما يمسك رمقه من حشيش أو ميته إما بالوصول إلى عمارة أو بالحصول على جارة، أو بأن يدركه سائر فحاله غير مخوفة لترددها بين الأمرين. وإن يئس من ذلك كله واشتد جوعه وعطشه فعلي قولين. وكذلك راكب البحر لإإن كانت الريح ساكنة والأمواج هادئة فهو غير مخوف وهكذا لو اشتدت بهم ريح معهودة وأمواج مألوفة فغير مخوفة، وإن عصفت بهم الريح وتلاطمت بهم الأمواج حتى خرجوا عن معهود السلامة فإن كسر بهم المركب حتى صاروا على الماء فمخوف، لأن الأغلب منه سرعة الهلكة فأما قبل حمولهم على الماء فعلي قولين ومن ذلك من وجب عليه الرجم في الزني أو القتل في الحرابة فإن كان بإقراره فحاله غير مخوفة، لأنه لو رجع عن إقراره لم يرجم ولم يتحتم قتل الحرابة عليه وصار إلى خيار ولي الدم وإن كان بمشاهدة الإمام له فمخوف، لأنه لا سبيل إلى سلامته وإن كان بنية عادلة قامت عليه قد يجوز في النادر رجوعها، فعلى قولين، لأن الغالب تمام الشهادة ووجوب القتل. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «وإذا ضرب الحامل الطلق فهو الخوف، لأنه كالتلف وأشد وجعًا، والله تعالى أعلم». قال في الحاوي: حكي عن مالك: أن الحامل إذا أثقلت بمعني ستة أشهر من حملها فهو مخوف لقوله تعالى: {فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا} [الأعراف: 189]. وعندنا أنه ما لم يضربها الطلق فغير مخوف، لأن الغالب من حالها السلامة، ولو

باب الأوصياء

جاز أن يكون حالها عند ثقلها مخوفة، لأنها قد تؤول إلى الخوف أن يكون حال الخوف من أول الحمل. لقوله تعالى: {فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الأعراب: 189]. فأما إذا ضربها الطلق عند حضور الولادة فحالها مخوفة سواء كانت بكرًا أو ثيبًا. وقال بعض أصحابنا: إننا نخاف من ذلك على الأبكار والأحداث، فأما من توالت ولادتها من كبار نساء غير مخوف، لسهولة لك عليهم لاعتيادهن وأن الأغلب سلامتهن. فأما بعد وضع الحمل فما لم تنفصل المشيمة ويسكن ألم الولادة فمخوف فإذا أثقلت المشيمة وسكن ألم الولادة فغير مخوف. فأما إلقاء السقط فإن كان لأكثر من ستة أشهر فمخوف، وإن كان لأقل من ستة أشهر وقبل حركته فغير مخوف، وإن كان بعد حركته فعلي وجهين: أحدهما: وهو الأظهر أنه مخوف. والثاني: وهو قول أبي حامد الإسفراييني أنه غير مخوف إلحاقًا بما قبل الحركة وليس كذلك، لأن إلحاق المتحرك بما بعد ستة أشهر أشبه، والله أعلم بالصواب. باب الأوصياء مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ولا تجوز الوصية إلا إلى بالغ مسلم حر عدل أو امرأة كذلك». قال في الحاوي: الأصل في قبول الوصايا، والتعاون عليها، قوله تعالى: {وتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى} [المائدة: 2]. وقوله تعالى: {وَافْعَلُوا الخَيْرَ} [الحج: 77]. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أمتي كالبنيان يشد بعضه بعضًا» وقد أوصي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى علي رضوان الله عليه وأوصي أبو بكر إلى عمر رضي الله عنهما». وإذا كان ذلك مندوبًا إليه ومأمورًا به، فيختار لمن علم في نفسه القدرة، والأمانة أن يقبلها ولمن علم في نفسه العجز والخيانة أن يردها. ثم الكلام فيها يشتمل على ثلاثة فصول: أحدهما: في الوصي. والثاني: في الموصي. والثالث: في الموصي به.

فأما الوصي، فيعتبر فيه استكمال خمسة شروط ولا تصح الوصية إليه إلا بها وسواء كانت الوصية بالولاية على أطفال أو بتفريق مال. وهي: البلوغ، والعقل، والحرية والإسلام، والعدالة. وهي الشروط المعتبرة في جواز الشهادة. فأما الشرط الأول: وهو البلوغ فلأن القلم عن غير البالغ مرفوع، ولأن تصرفه في حق نفسه مردود، فأولى أن يكون في حق غيره مردودًا. فلو جعل الصبي وصيًا بعد بلوغه، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون لهما في الحال قابل لها. والثاني: أن لا يكون. فإن لم يكن في الحال من يقبلها، بل قال: قد اوصيت إلى هذا الصبي إذا بلغ، فالوصية إليه باطلة في الحال وبعد بلوغه؛ لأنه ليس في الحال بأهل لو مات الصبي قام بها، فلذلك بطلت. فإن كان لها في الحال من يقبلها، مثل أن يقول: قد أوصيت إلى فلان حتى يبلغ ولدي، فإذا بلغ فهو وصي: جاز، ولا يجوز مثل ذلك في الوكالة. والفرق بينهما: أن عقد الوكالة معجل، فلم يصح بحدوث شرط مؤجل، وعقد الوصية مؤجل فجاز أن يصح بحدوث شرط مؤجل. فصل: وأما الشرط الثاني: وهو العقل، فلأن الجنون يرفع القلم، ويمنع من جواز التصرف. فإن كان ممن يجن في زمان ويفيق في زمان: فالوصية إليه باطلة، وسواء قل زمان جنونه أو كثر. فلو أوصي إلى عاقل حتى إذا أفاق هذا المجنون كان وصيًا له، ففيه وجهان: أحدهما: يجوز كالصبي إذا بلغ. والثاني: لا يجوز، لأن بلوغ الصبي لازم، وإفاقة المجنون مجوزة فلو أوصي إلى عاقل، وطرأ عليه جنون فهذا على ضربين: أحدهما: ان يستديم به، فالوصية إليه باطلة. والثاني: أن يفيق منه، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يطرأ الجنون بعد موت الموصي، فالوصية إليه قد بطلت كالوكالة، والوكالة تبطل بحدوث الجنون فكذلك الوصية. والثاني: أن يكون حدوث الجنون والإفاقة في حياة الموصي ففي بطلان الوصية إليه وجهان: أحدهما: أن يطرأ الجنون بعد موت الموصي، فالوصية إليه قد بطلت كالوكالة، والوكالة تبطل بحدوث الجنون فكذلك الوصية. والثاني: أن يكون حدوث الجنون والإفاقة في حياة الموصي ففي بطلان الوصية إليه وجهان: أحدهما: قد بطلت كما تبطل بحدوث ذلك بعد موت الموصي.

والثاني: لا تبطل؛ لأنه ممنوع من التصرف في حياة الموصي فلم يجز أن يكون ممنوعًا بحدوث الجنون، وليس كذلك حاله بعد الموت. فصل: وأما الشرط الثالث: وهو الحرية، فلأن العبد مولى عليه الرق، فلم يصح أن يكون واليًا، ولأنه ممنوع لحق السيد، فلم يقدر على التصرف، وسواء كان عبد نفسه، أو عبد غيره. وقال مالك: تجوز الوصية إلى عبد نفسه وعبد غيره. وقال أبو حنيفة: تجوز إلى عبد نفسه إذا كان ولده أصاغر، ولا تجوز إلى عبد غيره، ولا إذا كان ولده أكابر تعليلًا بأن عبده مع أصاغر ولده محتبس الرقبة ممنوع من بيعه، فصح نظره عليهم، ودامت ولايته إلى بلوغهم. وهذا التعليل فاسد من وجهين: أحدهما: أن احتباس رقبته عليهم والمنع من بيعه في حقهم: لا يصح، لأنهم لو احتاجوا إلى نفقة لا يجدونها إلا من ثمنه جاز للحاكم بيعه في نفقاتهم. والثاني: أن احتباس الرقبة لا يجيز من التصرف ما كان ممنوعًا منه، كالمجنون ولما ذكرناه من المعنيين المتقدمين. فأما المكاتب: فلا تجوز الوصية إليه، لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم وجوزها أبو حنيفة. وأما الوصية إلى المدبر، وأم الولد: ففي جوازها وجهان: أحدهما: تصح، لأنهما يعتقان بالموت الذي يكون تصرفها بعده. والثاني: لا يصح اعتبارًا بحالها عند الوصية. فصل: وأما الشرط الرابع: وهو الإسلام لقوله تعالى: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاًّ ولا ذِمَّةً} [التوبة: 10]. ولقوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لا يَالُونَكُمْ خَبَالاً ودُّوا مَا عَنِتُّمْ} [آل عمران: 118]. وهذا الآية كتب بها عمر إلى أبي موسي رضي الله عنهما حين اتخذ كاتبًا نصرانيًا، وقال أبو حنيفة: الوصية إليه موقوفة على فسخ الحاكم، فإن تصرف قبل أن يفسخها الحاكم عليه: كان تصرفه نافذًا. وهذا فاسد؛ لأنه لا يخلو أن تكون الوصية إليه جائزة، فلا يجوز للحاكم أن يفسخها عليه، أو تكون باطلة فلا يجوز فيها تصرفه. وإذا كان هكذا وجب أن يكون تصرفه فيما يتعلق بعقد أو اجتهاد مردودًا فأما ما تعين من دين قضاه، أو وصية بمعين لمعين دفعها فلا يضمنها، لوصول ذلك إلى مستحقه، ولأن لو أخذه مستحقه من غير نائب أو وسيط صار إلى حقه، وليس كالذي يعقده من بيع، أو يجتهد فيه من تفريق ثلث بل ذلك كله مردود وهو لما دفعه من ذلك ضامن. فأما وصية الكافر إلى المسلم فجائزة لظهور أمانته فيها. وأما وصية الكافر إلى الكافر ففيها وجهان: أحدهما: وهو قول ابن أبي هريرة تجوز كما يجوز أن يكون الكافر وليًا لكافر.

والثاني: لا تجوز، كما لا يجوز أن تقبل شهادة الكافر لكافر ولا مسلم، فهكذا لا يجوز أن يكون الكافر وصيًا لكافر ولا مسلم. فصل: وأما الشرط الخامس: وهو العدالة: فلقوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ (18)} [السجدة: 18]. فكان منع المساواة بينهم، موصيًا لمنع المساواة في أحكامهم، ولأنه لما منعه الفسق من الولاية على أولاده، كان أولى أن يمنعه من الولاية على أولاد غيره. وقال أبو حنيفة: الوصية إليه موقوفة على فسخ الحاكم، يمضي فيها تصرفه قبل فسخها عليه، كما قال في الكافر، وفيما مضي من الكافر دليل عليه في الفاسق. فإن قيل: فهلا جازت الوصية إليه كما جازت الوكالة له؟ قيل له:، لأن الوكالة تصرف في حق الأذن، والوصية تصرف في حق غيره فعلى هذا: لو أن رجلًا أذن لوكيله في التوكيل، فوكل الوكيل فاسقًا. ففي جواز وكالته وجهان: أحدهما: لا يجوز، لأنه تصرف في حق الغير، فأشبه الوصية. والثاني: يجوز، لأنه يقوم مقام الوكيل الأول الذي ليس من شرطه العدالة. فإذا ثبت أن العدالة شرط في صحة الوصية، فقد اختلف أصحابنا في الوقت الذي يراعي فيه عدالة الوصي على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يراعي عدالته عند موت الموصي، ولا يضر أن يكون فاسقًا عند عقد الوصية كما رتراعي عدالة الشاهد عند الآداء دون التحمل. وهذا قول أبي إسحاق المروزي. والثاني: أنه يراعي عدالة الموصي في الطرفين عند الوصية وعند الموت، ولا يضر أن يكون بين الوصية والموت غير عدل، لأن وقت الوصية هو حال التقليد، ووقت الموت هو حال التصرف، فاعتبر فيهما العدالة، ولم يعتبر في غيرهما، وهذا قول أبي سعيد الإصطخري. والثالث: وهو أصحهما أنه تعتبر عدالته من حين الوصية إلى ما بعد، لأن كل زمان منه قد يستحق فيه التصرف لو حدث فيه الموت، فإن طرأ عليه في شيء منه فسق، بطلت الوصية إليه. فصل: فإذا تكاملت هذه الشروط الخمسة في شخص، كان موضعًا للوصية إليه، فجاز أن يكون وصيًا في مال أو على أطفال، سواء كان رجلًا أو امرأة. وحكي عن عطاء: أن الوصية إلى المرأة لا تصح، لأن فيها ولاية يعجز النساء عنها. وهذا فاسد:، لأنها وإن كانت ولاية فالمغلب فيها الأمانة وجواز الشهادة وقد تجوز شهادة المرأة، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف».

فجعلها القيمة على أولادها في النفقة عليهم، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج في بعض المغازي، فأودع أموالًا كانت عند أم أيمن رضي الله عنها فدل ذلك على جواز استنابة المرأة في المال وعلى الأطفال، فكان لها الحضانة عليهم، وإن كان فيها معني الولاية. فإذا ثبت أن لا فرق بين الرجل والمرأة، فلا فرق بين الصحيح والمريض إذا لم يغيره المرض عن فضل النظر. ولكن اختلف أصحابنا في جواز الوصية إلى الأعمي على وجهين: أحدهما: تجوز، لأنه من أهل الشهادة. والوجه الثاني: لا تجوز لأنه قد يفتقر في الوصايا إلى عقود لا يصح من الأعمى، وفضل نظر لا يدرك إلا بالمعاينة. فهذا حكم الوصي. فصل: فأما الموصي: فلا يخلو ماله من أحد أمرين: إما أن يكون مالًا، أو ولاية على أطفال. فإن كان الموصي به مالًا يفرق في أهل الوصايا، فالمعتبر في الموصي شرطان متفق عليهما. وشرطان مختلف فيهما، فأحد الشرطين المتفق عليهما: التمييز. فإن كان ممن لا يميز لصغر أو جنون، لم تصح وصيته. والثاني: الحرية، فإن كان عبدًا لم تصح وصيته. وأما الشرطان المختلف فيهما: فأحدهما البلوغ. والثاني: الرشد وفيهما قولان: أحدهما: أنهما شرطان، فلا تصح وصية غير بالغ ولا سفيه. والثاني: ليسا بشرط في جواز الوصية وتصح من غير البالغ والسفيه، ولكن لا فرق بين وصية المسلم والكافر، والعدل والفاسق، والرجل والمرأة. فصل: وإن كانت الوصية بالولاية على أطفال اعتبر في الموصي بها ستة شروط، ولا تصح الوصية منه إلا بها: أحدهما: جريان القلم عليه وصحة التكليف له، لأن من لا يجري عليه قلم بجنون أو صغر، لا تكون له ولاية، ولا يصح منه توليه. والثاني: الحرية، لأن الولاية تنافي الرق. والثالث: الإسلام في الطفل إذا كان مسلمًا، وفي اعتباره في الطفل إذا كان مشتركًا وجهان. والرابع: العدالة، لأن الفاسق ليس له ولاية، فكان أولى أن لا تصح منه تولية. والخامس: ان يكون ممن يلي على الطفل في حياته بنفسه، ولأنه يقيم الوصية مقام نفسه، فلم تصح إلا ممن قد استحق الولاية بنفسه، وذلك في الوالدين دون

غيرهم من الأخوة والأعمام. وقال أبو حنيفة: تصح الوصية بالولاية على الأطفال من غير الآباء، كما تصح من الآباء. وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن في الوالد بعضية باين بها غيره. والثاني: أن للوالد في حياته ولاية لا يستحقها غيره، فمن هذين الوجهين اختصت الوصية بالآباء دون غيرهم. وإذا كان هكذا، فالذي يستحق الولاية في حياته، ويوصي بها عند وفاته هو الأب وآباؤه، فأما الأم ففي ولايتها على صغار ولدها وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الاصطخري أنه لها عليهم ولاية كالأب، لما فيها من البعضية، وأنها برأفة الأنوثة، أحن عليهم وأشفق. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي، لا ولايه، لأنها لما قصرت بنقص الأنوثة عن ولاية النكاح التي تسري في جميع العصبات، كان أولى أن تقصر عما يختص من الولاية بالآباء دون سائر العصبات. فعلي هذا: إن قيل إنه لا ولاية لها: لم تصح منها الوصية بالولاية على أطفالها. وإذا قيل: إن لها الولاية بنفسها، فكذلك أمهاتها وأمهات الأب. وهل يتحقها أبو الأم؟ على وجهين: أحدهما: يستحقها كأم الأم لما فيه من الولادة أنه أحق بالولاية على الأم من أمها. والثاني: لا ولاية له، لأن سقوط ميراثه قد حطه من منزلة أم الأم. فعلى هذا يكون بعد الآباء للأم. فإذا اجتمع بعد الأم، أم أب وأم أم ففي أحقيتهما بالولاية وجهان: أحدهما: أم الأب، لأن الأب بالولاية أحق. والثاني: أم الأم، لأنها بالحضانة أحق. فإذا أوصيت مستحقه الولاية من الأمهات، بالولاية على الأطفال: صحت الوصية. والسادس: أن لا يكون للطفل من يستحق الولاية بنفسه، لأن مستحق الولاية بنفسه، أولى من مستحقها بغيره، فعلى هذا لو أوصي الأب بالولاية على أطفال وهناك جد: كانت الوصية باطلة. وقال أبو حنيفة: لا اعتبار بهذا الشرط، ويجوز للأب أن يوصي بالولاية على أطفاله إلى أجنبي وهناك جد، كما يجوز في إنفاذ الوصايا. وهذا غير صحيح، لأن الوصايا لا يستحقها الجد بنفسه وليس كالولاية على الأطفال، لأن الجد يستحقها بنفسه، فكان أحق من الموصي. فلو أوصي الأب بها وهناك أم، فإن قيل: إنه لا ولاية للأم: صحت الوصية إلى

غيرها. وإن قيل لها: تصح ولكن يجوز أن يوصي بتفريق ثلثه إلى من شاء مع وجود الآباء، فهذا حكم الموصي. فصل: وأما الموصي به، فإن كان مالًا، فقد تقدم ذكره، واستقصينا شرحه. وإن كان ولاية: فلا تصح إلا على صغير لم يبلغ، أو مجنون لا يفيق، وأما إن كان الابن بالغًا عاقلًا: لم تصح الوصية بالنظر في ماله، سواء كان حاضرًا أو غائبًا. وقال أبو حنيفة: تصح الوصية بالولاية على مال البالغ إذا كان غائبًا، وهكذا إذا كان حاضرًا وشريكه في الميراث طفل. ويجوز للوصي أني بيع على الكبير ماله إذا رأي بيع مال الطفل. وقال أبو سعيد الإصطخري: هذا قول لا يسوغ فيه الاجتهاد ولو أن حاكمًا حكم به، نقض حكمه؛ لأنه لما لم يكن للموصي ولاية على البالغ في حياته، فكيف يجوز لوصية بعد وفاته. وأما إذا كان الابن بالغًا عاقلًا لكن قد حجر عليه بسفه، فلا يصح من الأب أن يوصي بالولاية عليه بخلاف المجنون، لأن ولايته على المجنون بنفسه، لأنها لا تقتصر إلى حكم حاكم، وولايته على صغير لا تكون بنفسه، لأنها تفتقر إلى حكم حاكم، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «فإن تغيرت حاله أخرجت الوصية من يده وضم إليه إذا كان ضعيفًا أمين معه فإن أوصي إلى غير ثقة فقد أخطأ على غيره فلا يجوز ذلك». قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا تغير حال الوصي بعد استكمال الشروط فيه، فذلك ضربان: أحدهما: ما خرج به من الوصية. والثاني: ما عجز به عنها. فأما الذي يخرج به من الوصية: فالطارئ عليه من جنون أو فسق أم مرض يؤثر في صحة تدبيره وفضل نظره، فهذه أمور يخرج به من الوصية. وقال أبو حنيفة: طرؤ الفسق لا يخرجه من الوصية، كما أن فسق من حكم بشهادته لا يوجب نقص الحكم بها، ولكن يضم إليه بعد فسقه عدل. وهذا القول لا وجه له؛ لأنه لما كان الفسق مانعًا من ابتداء الوصية كان مانعًا من استدامتها، كالكفر، وإذا كان كذا صار طرؤ الفسق كغيره من الأسباب المانعة فيلزم الحاكم معها إخراجها عن يده، واختيار من يقوم بها من أمنائه.

فإن تصرف الوصي في المال بعد خروجه منها بأحد هذه الأسباب نظر، فإن كان عقدًا، أو ما يفتقر إلى اجتهاد، رد وكان له ضامنًا إن مات. وإن كان معينًا من وصية أو دين لا يفتقر إلى اجتهاد: أمضي، ولم يضمنه. وأما العجز عنها، فالضعف الذي يقدر معه على القيام بها، فهذا مقر على حاله، ولكن على الحاكم أن يضم إليه من أمنائه، من يعنيه على إنفاذ الوصايا، والولاية على الأطفال. فلو تفرد هذا الوصي قبل أن يضم الحاكم إليه أمينًا، فتصرف في الوصية: أمضي، ولم يضمنه، لأنه ما انفرد به إلا وهو قادر عليه. وهكذا: لو ابتدئ بالوصية إلى غير أمين: أخرجها الحاكم من يده ولو أوصي إلى ضعيف: ضم إليه غيره من أبنائه، فإن قيل، فهل يلزم الحاكم أن يستكشف عن الأوصياء، وولاة الأيتام أم لا؟ قلنا هذا على ضربين: أحدهما: يكون فيمن يلي بنفسه من أب، أو جد، فليس للحاكم أن يستكشف عن حاله، وعليه إقراره على ولايته ونظره حتى يثبت عنده، ما يوجب زوال نظره، من فسق أو خيانة، فيعزله حينئذ ويولى غيره، لأن الوالي بنفسه أقوى نظرًا من الحاكم. والثاني: أن تكون ولايته بغيره، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون أمين حاكم. والثاني: أن يكون وصي أب. فإنكان أمين الحاكم، لم يجب أن يستكشف عن حاله، إلا أن يثبت عنده خيانته، أو فسقه؛ لأن ما ولاه الحاكم، قد اعتبر من حاله ما صحت به ولايته. وإن كان وصي اب، ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي: لا يجوز استكشاف حاله، إلا بعد ثبوت فسقه، كالأب وأمين الحاكم. والثاني: وهو الأصح عندي، أن على الحاكم استكشاف حاله؛ لأنه لم ينفذ بولايته حكم، ولا هو مما تنتفي عنه التهمة، كالأب، وقد يجوز أن يكون بوصف من لا يستحق النظر، فافتقر إلى الكشف. فصل: وإذا دفع الوصي من ماله للفقراء وصاياهم ليرجع به في التركة، وكان متطوعًا بما دفعه إليهم، وليس له الرجوع به في التركة ما لم يحكم بذلك قبل الدفع حاكم. وقال أبو حنيفة: إذا عجل ذلك من ماله، ناويًا به الرجوع رجع به. وهذا قول ينكسر عليه، بقضاء دين الحي إذا عجله الوكيل من ماله، لم يرجع به في ماله موكله، فكذلك الوصي.

مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ولو أوصي إلى رجلين فمات أحدهما أو تغير أبدل مكانه آخر». قال في الحاوي: وهذا صحيح: يجوز للرجل أن يوصي إلى واحد أو إلى جماعة على الاجتماع والانفراد. ويجوز أن يوصي إلى زيد ويجعل عمرًا عليه مشرفًا، فيختص الوصي بالعقد والتنفيذ، ويختص عمرو بالإشراف عليه. فإذا أراد الوصي أن ينفرد بالعقد والتنفيذ من غير مطالعة المشرف: لم يجز وإن أراد المشرف أن يتولى العقد والتنفيذ لم يجز. وقال أبو حنيفة: المشرف وصي يجوز أن يفعل ما يفعله الوصي، لأنها ولاية، فلم تقف على شيء دون غيره. وهذا خطأ، لأن الوصية نيابة عن إذن فكانت مقصورة على ما تضمنه الإذن كالوكالة، وهو لم يجعل إلى المشرف مباشرة عقد أو تنفيذ أمر، وإنما جعله مشرفًا على الوصي في العقد والتنفيذ. فصل: فأما إذا أوصي إلى رجلين جعلهما جميعًا وصيين فهذا على ضربين: أحدهما: أن يخص كل واحد منهما بشيء من وصيته، دون صاحبه. والثاني: أن يشرك بينهما. فأما إن خص كل واحد منهما بشيء منهما، مثل أن يجعل إلى أحدهما إنفاذ وصاياه، وإلى الآخر الولاية على أطفاله، أو يجعل إلى أحدهما إخراج الثلث، وغلى الآخر قضاء الديون: فولاية كل واحد منهما مقصورة على ما جعل إليه، وليس له التصرف فيما جعل إلى الآخر، فللموصي له بإنفاذ الوصايا لا ولاية له على الأطفال، والموصي له بالولاية على الأطفال، لا ولاية له في إنفاذ الوصايا. وقال أبو حنيفة: النظر في الوصية، لا يتميز، ولكل واحد منهما النظر في الجميع بما جعل إليه وإلى الآخر، فالوالي على الأطفال إليه إنفاذ الوصايا والوالي على إنفاذ الوصايا، إليه الولاية استدلالًا، بأنها ولاية فلم تقف على شيء دون غيره، كولاية الحاكم. وهذا فاسد، لأن الوصية ولاية عن عقد فوجب أن تكون مقصورة على ما تضمنه ذلك العقد كالوكالة، ولأنه لو جمع بينهما في الكل لما جاز أن ينفرد أحدهما بالنظر في الكل، فإذا خص أحدهما بالبعض، فأولى لا يجوز له النظر في الكل، ولأن من أؤتمن على بعض المال، لم يملك بذلك ثبوت اليد على جميعه، كالمودع والمضارب. فصل: فإذا جمع بينهما في الوصية، ولم يخص أحدهما بشيء منها دون صاحبه

فهذا على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يوصي إليهما مجتمعين، ومنفردين، فكل واحد منهما وصي كامل النظر، فأيهما انفرد بإنفاذ الوصايا، والنظر في أمور الأطفال جاز. وإن اجتمعا عليه كان أولى، وإن مات أحدهما، أو فسق، فالباقي منهما هو الوصي، وليس للحاكم أن يجعل معه بدل الميت أو الفاسق أحدًا إلا أن يظهر منه ضعف فيقويه بغيره. فصل: والقسم الثاني: أن يوصي إليهما مجتمعين على أن لا ينفرد أحدهما: بالنظر دون صاحبه، فعليهما الاجتماع في إنفاذ الوصايا والنظر في أموال الأطفال. فإن انفرد أحدهما بشيء منهما، لم يجز وكان لما أمضاه من ذلك ضامنًا إن تعلق بعقد، أو اجتهاد، وإن كان معينًا من قضاء دين أو إنفاذ وصية عينت لمعين: لم يضمن. ولو مات أحدهما منع الباقي منهما من النظر حتى يقيم الحاكم مقام الميت غيره. فلو أذن الحاكم أن ينفرد بالوصية: لم يجز، لأن الموصي لم يرض بنظره وحده. ولو ماتا جميعًا رد الحاكم الوصية إلى اثنين، فإن ردها إلى واحد ارتضاه لها ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، لأنه لو نظر فيها الحاكم بنفسه، جاز وإن كان واحدًا فكذلك إذا استناب فيها واحدًا. والثاني: أنه لا يجوز، لأن الموصي لم يرض في وصاياه إلا بنظر اثنين مجتمعين استظهارًا لنفسه في وصيته فلم يكن للحاكم أني حالفه في إرادته ويمنعه فضل استظهاره، وليس كالحاكم الناظر بنفسه. فصل: والقسم الثالث: أن يوصي إليهما، فلا يأمرهما بالاجتماع، ولا يأذن لهما في الانفراد، فمذهب الشافعي: عليهما أن يجتمعا على الوصية إذا أطلقت وليس لواحد منهما التفرد بها، كما لو أمرهما بالاجتماع عليهما. وقال أبو يوسف: يجوز لكل واحد منهما أن ينفرد بها. وقال أبو حنيفة: يجوز انفراد كل واحد بما يخاف فواته، أو ضرره، وذلك سته أشياء: الكفن، ورد الودائع، وقضاء الديون، وإنفاذ الوصايا المعينة، والنفقة على الأطفال، وكسوتهم، وعليها الاجتماع فيما سوى هذه الستة، فإن انفرد بها أحدهما لم يجز. وكلا المذهبين فاسد، لأن الوصايا موضوعة لفضل الاحتياط، وهي أغلظ حالًا من الوكالات، فلما كان توكيل اثنين على الإطلاق من تفرد أحدهما بالوكالة، كانت الوصية إلى اثنين على الإطلاق أولى أن يمنع من تفرد أحدهما بالوصية، ولأن تخصيص أبي حنيفة للستة من بين الجميع خوف الضرر، قول يفسد، لأنه لو ترك طعامًا رطبًا يخاف تلفه إن ترك لم يكن لأحدهما أن ينفرد ببيعه وإن خيف ضرره، فكذلك غيره، فعلى هذا:

يكون حكم إطلاق الوصية إليهما، كالحكم في اجتماعهما عليها، فإن مات أحدهما أو فسق، أبدل الحاكم مكانه غيره، فإن تفرد الباقي منهما بالنظر: ضمن متعلق بعقد أو اجتهاد، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «فإن اختلفا قسم بينهما ما كان ينقسم وجعل في أيديهما نصفين وأمر بالاحتفاظ بما لا ينقسم». قال في الحاوي: أعلم ان الوصية إلى مقصودها، فضل النظر، فإذا دعي الوصيان إلى قسم المال بينهما، نظر، فإن كان الموصي قد صرح بمنعها منه، منعًا. وإن كان قد صرح لهما بالإذن فيه، مكنا. وإن أطلق نظر في القسمة، فإن أضرت بالمال أو كان مما لا تتأتي فيه القسمة، منعا منها، ولم يجز إذا كانا مجتمعين إن ينفرد أحدهما يحفظ المال دون صاحبه، كما لا يجوز أن ينفرد بإنفاذ الوصايا. وقال أبو حنيفة: تقع بينهم المهايأة، فيحفظ هذا يومًا، وهذا يومًا. وهذا فاسد؛ لأن المهايأة تقتضي انفراد أحدهما بالحفظ في زمانه ولو جاز هذا، لجاز تفرده به في كل الزمان، لأن من لا يرتضي بانفراده في جميع الزمان، لا يرتضي بانفراده في بعضه. فصل: فأما إذا لم يكن في القسمة ضرر، ولا كان بين الموصي فيها نهي نظر: فإن كانا منفردين، قد جعل إلى كل واحد منهما مثل ما إلى الآخر: جاز أن يقتسما المال إلا أنها قسمة حفظ، وليست قسمة مناقلة، فيقتسمان على القيم، لا على الأجزاء؛ لأن قسمه المناقلة تكون بين الورثة على الأجزاء، وقسمة الحفاظ تختص بالأوصياء، وتكون على القيمة، فياخذ أحدهما دارًا، والآخر متاعًا، ثم لكل واحد منهما بعد القسمة أن ينصرف فيما بيده، وفيما بيد صاحبه، لأن لكل واحد منهما أن ينفرد بالنظر في الجميع. وإن كانت الوصية إليهما مجتمعين وليس لأحدهما التفرد بالنظر، ففي جواز اقتسام المال حفاظًا له، وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي، والأظهر عندي، ليس لهما ذلك كما ليس لهما التفرد بالإنفاذ. والثاني: وهو قول أبي سعيد الإصطخري، وأبي علي بن أبي هريرة، لهما القسمة، لأن اقتسامهما المال أعون لهما على حفظه، وإنما الاجتماع على التنفيذ فإذا اقتسما: لم يكن لواحد منهما أن يصرف فيما بيده إلا مع اجتماع صاحبه. فصل: وإذا أوصى الرجل بوصية أسندها إلى رجل ثم أوصي بعدها بوصية أخرى، أسندها إلى رجل آخر، فإن صرح في الثانية بالرجوع عن الأولى، فالوصية الثانية هي المعمول عليها، وإن لم يصرح في الثانية بالرجوع عن الأولى، عمل عليهما معًا، فما كان

في الوصية الأولى من زيادة تفرد بها الوصي الأول، وما كان في الوصية الثانية من زيادة، تفرد بها الوصي الثاني وما اتفقت فيه الوصيتان اجتمعا عليه الوصيان، ولم يكن لأحدهما التفرد به، كما لو أوصي إليهما معًا وصية مطلقة. ولو أوصي إلى رجل بوصية ثم صح بعدها من مرضه ذلك وعاش دهرًا، ثم مات، أمضيت وصيته المتقدمة، ما لم يعلم منه الرجوع في شيء منها. ولكن لو قال: قد أوصيت إلى فلان بكذا إن مت من مرضي هذا، فصح منه: بطلت وصيته، لأنه جعلها مشروطة بموته من هذا المرض. وقال مالك: الوصية بحالها، ما لم يخرق الموصي كتاب وصيته. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «وليس للوصي أن يوصي بما أوصي به إليه لأن الميت لم يرص الموصي إليه الآخر». قال في الحاوي: وهذا كما قال. إذا أوصي إلى رجل بإنفاذ وصاياه، والولاية على الأطفال، ثم حضرت الوصي الوفاة، لم يكن له أن يوصي بتلك الوصية إلى غيره. وقال أبو حنيفة: «إن أوصي بها إلى غيره جاز، ولو أوصي بإخراج ثلثه كان لوصيه القيام بتلك الوصية، وغن لم يأمره بها استدلالًا بأمرين: أحدهما: أن الوصي قد ملك من النظر بالوصية مثل ما ملك الجد من النظر بنفسه، فلما جاز للجد أن يوصي بما إليه من النظر، جاز للموصي أن يوصي إليه بما إليه من النظر. والثاني: أن ولاية الوصي عامة في حق الموصي، كما أن ولاية الإمام عامة في حقوق الأمة، فلما كان للإمام أن يستخلف بعده من يقوم مقامه: جاز للوصي أن يستخلف بعده من يقوم مقامه. ودليلنا شيئان: أحدهما: أن من كانت نيابته عن عقد بطل بالموت كالوكيل. والثاني: أن استنابته حيًا، أقوى من استنابته ميتًا، فلما لم يصح منه إبدال نفسه بغيره في الحياة، فأولى أن لا يصح منه إبدال نفسه بغير الوفاة. فأما الجد: فولايته بنفسه فجاز أن يوصي، كالأب، وليس كذلك الوصي، لأن ولايته بغيره فلم يجز أن يوصي كالحاكم، على أن نظر الحاكم أقوى لعمومه. وأما الإمام: فيجوز أن يستخلف بعده إمامًا ينظر فيما كان إليه من أمور المسلمين، كما فعل أبو بكر في استخلاف عمر رضوان الله عليهما، لأنه عام بالولاية، وليس لغيره معه ما إليه، فجاز أن يختص لفضل نظره

بالاستخلاف كما لم يبطل بموته ولاية خلفائه من القضاة والولاة. ومن كان خاص النظر بطل موته ولاية خلفائه كالقضاة والولاة. على أن من أصحابنا من جعل صحة استخلاف الإمام بعده لإمام، معتبرصا برضي أهل الحل والعقد ورضاهم أن يعلموا به فلا ينكروه، كما علمت الصحابة باستخلاف عمر رضي الله عنه فجعل إمساكهم عن الإنكار، رضا به انعقدت به الإمامة له. فعلي هذا الوجه: لو استخلف إمامًا بعده، ولم يعلم به أحد من أهل الحل والعقد: لم يصح استخلافه، ولم تنعقد إمامته، إلا أن يجمع عليه ويرضي بعد موت الأول ممن يصح اختياره من أهل الحل والعقد. وعلى الوجه الأول: قد انعقدت إمامته، وإن لم يعلموا به عند العهد، ولم يتفق عليه أهل الاختيار بعد الموت إذا كان ممن يصح أن يكون إمامًا، وإذا كان كذلك، فالولايات تنقسم ثلاثة أقسام: ولاية حكم، وولاية عقد، وولاية نسب. فأما ولاية الحكم فضربان: عامة، وخاصة، فالعامة: الإمامة، ولا تبطل بموت من يقلدها، ولاية مستخلف ولا نظر مستناب. وأما الخاصة: فالقضاء، ويبطل بموت من يقلده ولاية، لمستخلف ونظر كل مستناب. وأما ولاية العقد: فضربان: عقد يتضمن نيابة عن حي، وعقد يتضمن نيابة عن ميت. فالذي يتضمن النيابة عن الحي هو: الوكالة، فإن مات الموكل؛ بطلت وإن مات الوكيل: لو تكن له الوصية. والذي يتضمن النيابة عن الميت هو: الوصية، فإذا مات الموصي، استقرت ولاية الوصي، وإن مات الوصي: لم يكن له أن يوصي. وأما ولاية النسب: فضربان: عامة وخاصة. فالعامة: ولاية الأب والجد على صغار ولده، وتصح منه عند الموت الوصية. والخاصة: ولاية العصبات في الأبضاع، ولا تصح فيه عند الموت الوصية. فصل: فإذا ثبت أنه لا يجوز للوصي أن يوصي لم يخل ما تولاه من أمرين: أحدهما: أن يتمكن من تعجيل إنفاذه، فواجب عليه أن يتولاه بنفسه إن لم يكن راجعًا عن الوصية، لأن إمكان تنفيذها مع ضيق وقتها، والمقام على النظر فيها، يمنع من تأخيرها. والثاني: أن لا يمكن تعجيل إنفاذه، لما تتضمنها من الولاية على يتيم يلزمه حفظ ماله، أو قضاء دين لغائب، فلا يخلو حال المال من أحد أمرين: إما أن يكون ممن يحفظ نفسه، كالعقار، فليس عليه في مثله عند حضور الموت حق؛ لأن الموت يرفع يده عن النظر، لا عن الحفظ.

والثاني: أن يكون ممن لا يحفظ نفسه، كالأموال المنقولة، فعليه حقان: الحفظ، والنظر، فيلزمه عند زوال نظره بالموت أن يستديم حفظه، بتسليمه إلى من يعم نظره، وهو الحاكم، فإن لم يفعل مع المكنة كان ضامنًا. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ولو قال فإن حدث بوصي حدث فقد أوصيت إلى من أوصي إليه لم يجز لأنه إنما أوصي بمال غيره، وقال في كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلي: إن ذلك جائز إذا قال قد أوصيت إليك بتركه فلان. قال المرني رحمه الله: وقوله هذا يوافق قول الكويين والمدنيين والذي قبله أشبه بقوله». قال في الحاوي: قد ذكرنا أنه لا يجوز للموصي أن يوصي، إذا لم يجعل له الموصي أن يوصي. فأما إذا جعل إليه أن يوصي، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يعين إليه من يوصي. والثاني: أن لا يعين. فإن عين له من يوصي إليه، فهو أن يقول: قد أوصيت إليك وجعلت لك أن توصي إلى عمرو، وسواء قال: فإذا أوصيت فهو وصي أو لم يقل، فهذا جائز؛ لأنه قد أذن له في الوصية، وقطع اجتهاده في الاختيار، فجري ذلك مجري قوله: قد أوصيت إليك، فإن مت: فقد أوصيت إلى عمرو. ولا يقع الفرق بينهما إلا من وجه واحد، وهو أنه إذا قال: إن مت فقد أوصيت إلى عمرو، فإنه يصير عمرو بموت الوصي وصيًا لا يحتاج إلى وصية من جهة الوصي. ولو قال: وقد جعلت إليك أن توصي إلى عمرو: لم يصر عمرو وصيًا إلا بوصية الوصي، فإذا أوصي إليه صار عمرو وصيًا للميت الأول لا للوصي. فلو مات الوصي قبل ان يوصي إلى عمرو: لم تثبت وصية عمرو إلا أن يردها الحاكم إليه. فلو أراد الحاكم رد الوصية إلى غيره ففيه وجهان: أحدهما: ليس له ذلك، لأن الموصي قد قطع الاجتهاد في تعيينه، كما لا يجوز للوصي أن يوصي إلى غيره. والثاني: أنه يجوز له ذلك، لأن تعيين الوصية إليه إنما جعل إلى الوصي، فإذا مات قبل أن يوصي، بطل حكم تلك الوصية، فصار نظر الحاكم فيها، نظر حكم، لا نظر وصي، فجاز أن يختار من يراه للنظر أوفق. وهكذا لو قال الموصي، قد أوصيت إلى زيد، فإن مات فقد أوصيت إلى عمرو، فإن مات فقد أوصيت إلى بكر: جاز وكان كل واحد من الثلاثة وصيًا بعد موت من

تقدمه، فقد جهز رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيش مؤتة، وقال لهم: «أميركم زيد بن حارثة، فإن أصيب: فجعفر بن أبي طالب، فإن أصيب: فعبد الله بن رواحة، فإن أصيب: فليرتض المسلمون رجلًا». فأصيب زيد فقام بهم جعفر، ثم أصيب جعفر، فقام بهم عبد الله بن رواحة، ثم أصيب عبد الله فارتضي المسلمون خالد بن الوليد. فلو قال: قد أوصيت إلى زيد سنة، ثم بعد السنة إلى عمرو: كان هذا جائزًا، وقيل: إن الشافعي رضي الله عنه هكذا أوصي. فصل: فأما إذا جعل إلى وصية أن يوصي، ولم يعين له من يوصي إليه، فهو أن يقول: جعلت إليك أن توصي، أو يقول: من أوصيت إليه فهو وصي، فالحكم فيه على سواء وفي جوازه قولان: أحدهما: وهو قول أبي حنيفة، ومالك، يجوز لأمرين: أحدهما: أن نظر الوصي، أقوى من نظر الوكيل، فلما جاز للوكيل إذا أذن له في التوكيل أن يوكل عنه معينًا، وغير معين، كان أولى في الوصي إذا أذن له في الوصية أن يوصي عنه إلى معين، وغير معين. والثاني: أن الوصي بالإذن قد صار كالأب، فلما جاز للأب أن يوصي جاز للموصي مع الإذن أن يوصي. والقول الثاني: وهو اختيار المزني أنه لا يجوز للوصي مع عدم التعيين أن يوصي وإن أذن له، لأمرين: أحدهما: ان الوصي لا يملك الاختيار بالوصية المطلقة، فكذلك لا يملك بالوصية المقيدة. والثاني: أن اختيار الحاكم، أقوى من اختيار الموصي، لأن له الاختيار بإذن وغير إذن، فكذلك كان اختيار الحاكم أولى من اختيار الوصي، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ولا ولاية للوصي في إنكاح بنات الميت». قال في الحاوي: اعلم أن ولاية الوصي على اليتيم كولاية الأب عليه، إلا في ثلاثة أشياء: أحدها: أن للأب أن يشتري من مال ولده لنفسه، ويبيع عليه من مال نفسه وليس ذلك للوصي. والثاني: أن للأب أن يوصي بالولاية على ولده، وليس للوصي أن يوصي. والثالث: أن للأب أن يزوجهم، وليس ذلك للوصي.

باب ما يجوز للوصي أن يصنعه في أموال اليتامي

ثم الوصي فيما سوى هذه الثلاثة، كالأب سواء، فلو جعل الأب إلى الوصي ما كان مختصًا به من هذه الثلاثة، ليكون مساويًا له فيها، نظر فإن جعل له أن يشتري من مال الصبي لنفسه، أو يبيع عليه من مال نفسه، لم يجز؛ لأنه إذن بعقد في مال لا يملكه وإن أذن له أن يوصي، فهو على ما مضي من التفصيل. وإن أذن له في التزويج، فقد أجازه مالك وجعل الوصي أحق من الأولياء، كما كان أحق بالولاية على المال. ومنع منه الشافعي وأبو حنيفة، وجمهور النفقهاء، لأنها وصية في حق غيره من الأولياء، وستأتي هذه المسألة في كتاب النكاح مستقصاة إن شاء الله تعالى وبالله التوفيق. باب ما يجوز للوصي أن يصنعه في أموال اليتامي مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ويخرج الوصي مال اليتيم كل ما لزمه من زكاة ماله وجنايته وما لا عناء به عنه من نفقته وكسوته بالمعروف». قال في الحاوي: اعلم أن ولي اليتيم مندوب إلى القيام بمصالحة، قال تعالى: {ولا تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152]. والذي يلزمه في حق اليتيم، أربعة أشياء: أحدها: حفظ أصول أمواله. والثاني: تميز فروعها. والثالث: الإنفاق عليه منها بالمعروف. والرابع: إخراج ما تعلق بماله من الحقوق. فأما حفظ الأصول: فيكون من وجهين: أحدهما: حفظ الرقاب عن أن تمتد إليها يد، فإن فرط، كان لما تلف منها ضامنًا. والثاني: استيفاء العمارة لئلا يسرع إليها خراب، فإن أهمل عمارتها حتى عطل ضياعه، وتهدم عقاره، نظر: فإن كان لإعوان ما ينفق عليها، فلا ضمان عليه، وإن كان مع وجود النفقة، فقد أثم وفي الضمان وجهان: أحدهما: يضمن ويصير بهذا العدوان كالغاصب. والثاني: لا ضمان عليه، لأن خرابها، لم يكن من فعله، فيضمن به، ولا يده غاصبة فيجب بها عليه ضمان. فصل: وأما تميز فروعه، فلأن النماء مال مقصود، فلم يجز أن يفوته على اليتيم كالأصول، وهو نوعان:

أحدهما: ما كان نماؤه أعيانًا من ذاته، كالثمار، والنتاج، فعليه في ذلك ما عاد يحفظه وزيادته، كتلقيح النخل، وعلوفه الماشية فإن أخل بعلوفة الماشية: ضمنها وجهًا واحدًا، وإن أخل بتلقيح الثمرة: فلا ضمان عليه وجهًا واحدًا؛ لأنها إن لم تتميز، فلا يجوز أن يضمن، ما لم يخلق، ولم يستقر عليه لليتيم ملك، وإن خلقت ناقصة: فالنقصان أيضًا مما لم يخلق. والنوع الثاني: ما كان نماؤه بالعمل. وذلك نوعان: أحدهما: تجارة بمال. والثاني: استغلال العقار. فأما التجارة بالمال فيعتبر فيها، أربعة شروط، يؤخذ الولي بها في التجارة: أحدهما: أن يكون ماله ناضًا، فإن كان عقارًا لم يجز بيعه للتجارة. والثاني: أن يكون الزمان آمنًا، فإن كان مخوفًا لم يجز. والثالث: أن يكون السلطان عادلًا، فإن كان جائزًا، لم يجز. والرابع: أن تكون المتاجر مربحة، فإن كانت مخسرة: لم يجز. فإن استكمل هذه الشروط: كان مندوبًا إلى التجارة له بالمال، فلو لم يتجر بها: لم يضمن لأمرين: أحدهما: أنه لم يستقر له ملك على ربح معلوم فيصح ضمانه. والثاني: أن ربح التجارة بالعقد والمال، تبع، ولذلك جعلنا ربح الغاصب في المال المغصوب له، دون المغصوب منه. فإن أتجر الولي بالمال مع إخلاله ببعض هذه الشروط: كان ضامنًا لما تلف من أصل المال. وأما استغلال العقار: فإنما يكون بإجارته، فإن تركه عاطلًا لم يؤجره، فقد أثم، في ضمانه لأجرة مثله إذا كان غير معذور في تعطيله، وجهان، لأن منافعه تملك كالأعيان. فصل: وأما النفقة عليه بالمعروف فلأن في الزيادة سرفًا، وفي التقصير ضررًا، فلزم أن ينفق عليه قصدًا بالمعروف من غير سرف، ولا تقصير، وكذلك ينفق على كل من تجب نفقته في ماله من والدين، ومملوكين، ثم يكسوه وإياهم في فصل الصيف، والشتاء، كسوة مثلهم في اليسار والإعسار، ومن أصحابنا من قال: يعتبر بسكوة أبيه، فيكسوه مثلها. وهذا غير صحيح؛ لأن أباه قد ربما كان مسرفًا، أو مقصرًا، فكان اعتبار ذلك في الكسوة في يساره وإعساره عادة وعرفًا، أولى من اعتباره عادة أبيه.

وإنما تعتبر عادة أبيه في صفة الملبوس إن كان تاجرًا، كسي كسوة التجار، وإن كان جنديًا، كسي كسوة الأجناد، ولا يعدل به عن عادة أبيه حتى يبلغ، ويلي أمر نسه فيغيرها إن شاء فإن أسرف الولي في الإنفاق عليه: ضمن زيادة السرف وإن قصر به عن العقد: أساء ولم يضمن. فإن اختلف هو والولي بعد بلوغه في قدر النفقة، فذلك ضربان: أحدهما: أن يختلفا في قدر النفقة مع اتفاقهما على المدة، كأنه قال: أنفقت عليك عشر سنين في كل سنة مائة دينار، فقال: أنفقت على عشر سنين في كل سنة خمسين دينارًا. فالقول فيه قول الولي، إذا لم يكن ما ادعاه سرفًا، فإن كان الولي وصيًا، أو أمين حاكم: فله إحلافه على ما ادعاه. وإن كان أبًا، أو جدًا، ففي إحلافه له وجهان: أحدهما: يحلف، كالأجنبي، لأنهما يستويان في حقوق الأموال. والثاني: لا يحلف، لأنه يفارق الأجنبي في نفي التهمة عنه. وكثرة الإشفاق عليه. والضرب الثاني: أن يتفقا على قدر النفقة، ويختلفا في قدر المدة، كأنه قال: أنفقت عليك عشر سنين، في كل سنة مائة دينار، فقال: بل أنفقت على خمس سنين، في كل سنة مائة دينار. فعند أبي سعيد الإصطخري: أن القول قول الولي، كاختلافهم في القدر مع اتفاقهما في المدة. وقال جمهور أصحابنا: بل القول قول اليتيم مع يمينه. والفرق بين اختلافهما في القدر، وبين اختلافهما في المدة: أنهما في القدر مختلفان في المال، فقبل منه قول الولي، لأنه مؤتمن عليه وفي المدة مختلفان في الموت الذي يعقبه نظر الولي، فلم يقبل قولي الولي، لأنه غير مؤتمن عليه، مع أننا على يقين من حدوث الموت، في شك من تقدمه، فلذلك افترق الحكم فيهما. فصل: وأما إخراج ما تعلق بماله من الحقوق، فضربان: حقوق الله تعالى: وحقوق الآدميين. فأما حقوق الله تعالى فالزكوات، والكفارات. أما الزكوات: فزكاة الفطر، وأعشار الزروع والثمار، واجبة إجماعًا. وأما زكاة الأموال: فقد أسقطها أبو حنيفة، ولم يوجبها إلا على بالغ عاقل. وعندنا: تجب بالحرية والإسلام، على كل صغير وكبير، عاقل ومجنون. وقد مضي الكلام معه في كتاب الزكاة. وإذا وجبت: لزم إخراجها، ولم يجز تأخيرها عن مستحقها، وقال عبد الله بن

مسعود رضي الله عنه: «ليس للولي إخراج الزكاة عنه ويتركها في ماله حتى يبلغ الصبي، فيخرجها عن نفسه. ودليلنا: ما روي أن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، ولي مال يتيم، فلما بلغ، سلم إليه المال، فنقص كثيرًا: فقالوا له: نقص المال، فقال: احبسوا قدر الزكاة والنقصان، فحبسوا فوافق، فقال: أتراني ألي مالًا ولا أخرج زكاته. فلو لم يخرجها الولي، لزم اليتيم إذا بلغ أن يخرجها بنفسه، وأما حقوق الآدميين فنوعان: أحدهما: حق وجب باختيار كالديون، فعلى الولي قضاؤها إذا ثبت وطالب بها أربابها، فإن أبرئوا منها: سقطت وإن أمسكوا عن المطالبة من غير إبراء، نظر في مال اليتيم، فإن كان ناضًا، ألزمهم الولي قبض ديونهم، أو الإبراء منها، خوفًا من أن يتلف المال ويبقي الدين. وإن كان أرضًا وعقارًا، تركهم على خيارهم في المطالبة بديونهم إذا شاؤوا. والثاني: ما وجب بغير اختيار، والجنايات وهي ضربان: أحدهما: على مال، فيكون غرم ذلك في ماله، كالديون. والثاني: على نفس، وذلك ضربان، عمد وخطأ، فإن كان خطأ فديته على عاقلته، لا في ماله. وإن كان عمدًا، ففيه قولان: من اختلاف قوليه في عمد الصبي هل يجري مجري العمد، أو مجري الخطأ: أحدهما: انه جاري مجري العمد، فعلى هذا تكون الدية في ماله. والثاني: أنه جار مجري الخطأ، فعلى هذا تكون الدية على عاقلته. فأما الكفارة: ففي ماله على القولين معًا. وقال مالك وأبو حنيفة: «لا كفارة على الصبي». فهذا ما يجب على الولي في حق اليتيم. فصل: فأما شهادة الوصي فيما يتعلق بالوصية فضربان: أحدهما: أن يشهد على الموصي، فشهادته مقبولة. والثاني: أن يشهد للموصي، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون له نظر فيما شهد به، وكأن شهد له بمال، أو ملك هو وصي في تفريق ثلثه، أو ولاية على أطفال، فشهادته مردودة. والثاني: أن لا يكون له نظر فيما شهد به، كأنه وصي في تفريق مال معين من تركته، فشهد للموصي بملك لا يدخل في وصيته، وليس وارث، مثلًا، فيكون في ولايته: فشهادته مقبولة، لأنه لا يجربها نفعًا.

مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «وإذا بلغ الحلم ولم يرشد زوجه وإن احتاج إلى خادم». قال في الحاوي: ولا يزوجه بأكثر من واحدة. أما إذا كان اليتيم على حال صغره، فلا يجوز لوصيه أن يزوجه وقال أبو ثور: يجوز له أن يزوجه في صغره، كالأب. وهذا فاسد، لأن الوصي لما منع من تزويج الصغيرة، وإن كان للأب تزويجاه مع ما فيه من اكتساب المهر، كان أولى أن يمنع من تزويج الصغير وغن كان للأب تزويجه، لما فيه من التزام المهر، ولأن الموصي ممنوع أن يخرج من مال الصغير ما لا حاجة به إليه، وهو غير محتاج إلى النكاح. فإذا بلغ اليتيم: زال اسم اليتيم عنه، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا يتم بعد حلم». ثم لا يخلو حاله بعد بلوغه من أن يبلغ رشيدًا، أو غير رشيد، فإن بلغ رشيدًا: وجب فله حجره، وإمضاء تصرفه. ثم لا يخلو حال وليه من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون أبًا، فينفك حجره بظهور الرشد بعد البلوغ من غير حكم حاكم، لأن ثبوت الولاية للأب كانت من غير حكم به، فارتفعت بالرشد من غير حكم. والحالة الثانية: أن يكون الولي أمين الحاكم، فلا ينفك حجره عنه بظهور الرشد إلا أن يحكم الحاكم بفك حجره، لأن الولاية عليه، تثبت بحكم فلم يرتفع إلا بحكمه. والحالة الثالثة: ان يكون الولي عليه وصيًا لأب، أو وجد، ففي فك الحجر عنه بظهور رشده من غير حكم وجهان: أحدهما: ينفك حجره بغير حكم، لأنه يقوم مقام الأب. والثاني: لا ينفك عنه إلا بحكم، لأنها ولاية من جهة غيره، كالأمين. فصل: وإن بلغ غير رشيد: كان حجره باقيًا، لأن فكه مقيد بشرطين: البلوغ والرشد، فلم ينفك بالبلوغ دون الرشد، كما لا ينفك بالرشد دون البلوغ. وإذا كان الحجر عليه باقيًا، كانت ولاية الوالي عليه بحالها، سواء كان الوالي عليه أبًا، أو وصيًا أو أمينًا. وإن كان حجره بعد البلوغ. حجر سفه، لا يتولاه إلا حاكم، تقديم حجر مستديم، فحجر متقدم، فدامت الولاية عليه لوليه المتقدم، ولا يحتاج إلى استئناف توليه، كما لا

يحتاج إلى استئناف حجر. فإن كانت جارية: لم يجز للوصي تزويجها. وإن كان غلامًا: فإن لم يكن به حاجة إلى النساء، لم يزوج. وإن كانت به إلى النساء حاجة لما يري من فورته عليهن، وميله إليهن، زوجه الوصي، لما فيه من المصلحة له، وتحصين فرجه، ولا يزيده على واحدة، ولا يزوجه إلا بمن اختارها من أكفائه. فإذا أذن له الوصي في تولى العقد بنفسه، جاز بمهر المثل فما دون وإن نكح بأكثر من مهر المثل، ردت الزيادة على وليه، ودفع المهر عند طلبه، والإنفاق على زوجته وعليه بالمعروف لمثلها من غير سرف ولا تقصير. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «ومثله يخدم اشترى له ولا يجمع له امرأتين ولا جاريتين للوطء وإن اتسع ماله لأنه لا ضيق في جارية للوطء». قال في الحاوي: فإن كان له مال ومثله يخدم اشترى له خادمًا. أما إذا لم يحتج إلى خادم: تركه وخدم نفسه، وإن احتاج إلى خادم فإن اكتفي بخدمة زوجته: اقتصر عليها. وإن لم يكتف بخدمة زوجته نظر: فإن ضاق ماله اكترى له خادمًا وإن اتسع اشترى له خادمًا. فإن كانت خدمته، تقوم بها الجواري، وأمكن أن تقوم الجارية بخدمته واستمتاعه: اقتصر على جارية الخدمة والاستمتاع بزوجه. وغن لم تكن الجارية لاستمتاع مثله: اشترى له مع التزويج جارية لخدمته. وإن كانت خدمته مما لا يقوم بها إلا الغلمان: اشترى له غلامًا لخدمته. فإن احتاج في خدمته إلى خدمة جارية لخدمة منزله وغلام لخدمته في تصرفه، اشتراهما له إذا اتسع ماله، وفي الجملة أنه يراعي في ذلك ما دعت الحاجة إليه، وجرت العادة بمثله. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «فإن أكثر الطلاق لم يزوج وسري والعتق مردود عليه». قال في الحاوي: وهذا كما قال: طلاق السفيه واقع، وهو قول الجمهور. وقال أبو يوسف: طلاق السفيه لا يقع استدلالًا بأن الطلاق استهلاك مال؛ لأنه يجوز أخذ العوض عليه في الخلع فمنع منه السفيه، كالعتق.

وهذا فاسد، لأن الطلاق قاطع للاستدامة ومانع من الاستمتاع وليس بإتلاف مال، إنما يستفاد به إسقاط مال، لأنه إذا كان قبل الدخول: أسقط نصف الصداق، وإن كان بعده، أسقط النفقة والكسوة، وخالف العتق الذي هو استهلاك مال، ولذلك جاز للكاتب أن يطلق ولم يجز أن يعتق، وجاز طلاق العبد وإن لم يأخذن له فيه السيد، والعوض المأخوذ في الخلع إنما هو لرفع اليد عن التصرف في البضع بالاستمتاع، فصار العوض مأخوذًا على ترك الاستمتاع، لا على أنه في مقابلة مال، والله أعلم. فصل: فإذا ثبت أن طلاق السفيه واقع: نظر، فإن كان مطلقًا يكثر الطلاق لم يزوجه لما يتوالى في ماله من استحقاق مهر بعد مهر، وسراه بجارية يستمتع بها، فإن أعتقها، لم ينفذ عتقه، وإنما عدل به عن التزويج إذا كان مطلقًا إلى التسري؛ لأن ذلك أحفظ لماله. فإن قيل: فقد يحبل الجارية فيبطل ثمنها، فصار ذلك كالطلاق أو أسوأ حالًا؟ قيل: إحبالها لا يمنع من جواز الاستمتاع بها فكان مقصده فيها باقيًا، وليس كالطلاق الذي يمنع من الاستمتاع ويرفع الاستباحة، وبالله التوفيق. فصل: فإذا استقر ما اشتمل عليه هذا الباب من أحوال الأوصياء، فلا يخلو حال الوصي من أحد أمرين إما أن يكون متطوعًا، أو مستعجلًا. فإن تطوع فهي أمانة محضة، أو استعجل: فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون بعقد. والثاني: بغير عقد. فإن كان بعقد فهي إجازة لازمة يجب عليه القيام بما يضمنها، وليس له الرجوع بها، وإن ضعف عنها، استأجر عليه من ماله من يقوم مقامه فيما ضعف عنه، ولو الأجرة المسماة. وإن كان بغير عقد فهي جعالة، ثم هي ضربان: معينة، وغير معينة. فإن كانت معينة: كأنه قال: إن قام زيد بوصيتي له مائة درهم، فإن قام بها غير زيد، فلا شيء له، وإن قام بها زيد وعمرو، فلا شيء لعمرو، وإن عاون زيدًا فيها فلزيد جميع المائة، وإن عمل لنفسه، فليس لزيد إلا نصف المائة؛ لأن له نصف العمل. وإن كانت غير معينة: كقوله من قام بوصيتي هذه فله مائة درهم: فأي الناس قام بها وهو من أهلها، فله المائة. فإن قام بها جماعة: كانت المائة بينهم، وإذا قام بها واحد وكان كافيًا: منع غيره بعد العمل أن يشاركه فيها. فإن رجع بعد شروعه في إنفاذ الوصايا والقيام بالوصية عن إتمامها: لم يجبر، لأن عقد الجعالة لا يلزم وجاز لغيره بعد رفع يده أن يتمم ما بقي، وللأول من الجعالة بقدر عمله.

وللثاني: بقدر عمله مقسطًا على أجور أمثالها. فإذا ثبت ما وصفنا: لم يخل حال الوصي إذا كان مستعجلًا من أحد أمرين. إما أن يكون وصيًا في كل المال، أو في بعضه. فإن كان وصيًا في جميع ما وصي به: لم يخل حال ما جعله له من الأجرة من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يجعله من رأس ماله. والثاني: من ثلثه. والثالث: أن يطلق. فإن جعله من رأس ماله، نظر: فإن لم يكن في الأجرة محاباة، كانت من رأس ماله، وإن كانت فيها محاباة: كانت أجرة المثل من رأس المال، وما زاد عليها من المحاباة، في الثلث، يضارب بها أهل الوصايا. فإن جعل ذلك من ثلثه، كان في ثلثه. فإن لم يكن في الأجرة محاباة، وعجز الثلث عنها: تمت له الأجرة من رأس المال. فلو كان في الثلث مع الأجرة وصايا، ففي تقديم الوصي بأجرته على أهل الوصايا وجهان: أحدهما: يقدم بأجرته، لأنها واجبة عن عمل، لا محاباة فيه، ثم يتمم ما عجز الثلث عنه من رأس المال. والثاني: أن يكون مساويًا لهم في المضاربة بها معهم في الثلث، لأن لباقي أجرته محلًا يستوفيه منه، وهو رأس المال، وهذان الوجهان بنيا على اختلاف الوجهين فيمن جعل حجة الإسلام من ثلثه، وجعل دينه من ثلثه، هل يقدم ذلك على أهل الوصايا أم لا؟ فلو كان في أكرة هذا الوصي محاباة، كانت أجرة المثل إذا عجز الثلث عنها متمة من رأس المال، وكانت المحاباة وصية يضارب بها مع أهل الوصايا ويسقط منها ما عجز الثلث عنه. وإن أطلق أجرة الوصي ولم يجعلها من رأس ماله ولا من ثلثه: فهي من رأس ماله، إن لم يكن فيها محاباة، إذا تعلقت بواجب من قضاء ديون، وتأدية حقوق وكان تعلق بها مما ليس بواجب تبعًا: فإن كان في الأجرة محاباة كان قدر أجرة المثل من رأس المال، وكانت المحاباة في الثلث يضارب بها أهل الوصايا. فهذا حكم أجرة الوصي، إذا كان وصيًا في جميع المال. فأما إذا كان وصيًا في شيء دون غيره، فهذا على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون وصيًا في قضاء ديون وتأدية حقوق فأجرته إن لم يكن فيها محاباة، تكون من رأس المال؛ لأنها بدل عن واجب عليه، وإن كان فيها محاباة، كانت في الثلث يضارب بها أهل الوصايا. فإن جعل كل الأجرة في ثلث ولا محاباة فيها: تممت وعند عجز الثلث عنها من

رأس المال ودخلها دور، كالحج إذا أوصي به في الثلث فعجز الثلث عنه، فيكون على ما مضي. والقسم الثاني: أن يكون وصيًا في تفريق الثلث، فأجرته تكون في الثلث فإن لم يكن فيها محاباة قدمتها على أهل الوصايا وجهًا واحدًا؛ لأنها مقابلة عمل يتعلق بإنفاذ وصاياها وليس لها محل غير الثلث، فلذلك يقدم بها. وإن كان فيها محاباة: تقدمهم بأجرة المثل، وشاركهم في الثلث لمحاباته. والقسم الثالث: أن يكون وصيًا على أيتام ولده: فإن أجرته عند إطلاق الموصي تكون في مال اليتيم إذا لم يكن فيها محاباة، ويكون الوصي وكيلًا مستأجرًا بعقد الأب الموصي. فإن كان في الأجرة محاباة: كانت أجرة المثل في مال اليتيم، وكانت المحاباة وصية ثلث الموصي يضرب بها مع أهل الوصايا. فإن جعل الموصي جميع الأجرة في ثلثه: كانت فيه، فإن احتملها الثلث فلا شيء في مال اليتيم، ولا خيار للوصي. وإن عجز الثلث عنها: فإن لم يكن فيها محاباة، ضرب من أهل الوصايا بجميع الأجرة، وأخذ منها قدر ما احتمله الثلث، ثم قسط الباقي في المسمي له على أجرة المثل والمحاباة، فما بقي من أجرة المثل، رجع به في مال اليتيم، وما بقي من المحاباة، يكون باطلًا. مثاله: أن يكون قد جعل له مائة درهم، وأجرة مثله خمسون درهمًا، وقدر ما احتمله الثلث من المائة خمسون درهمًا، فإذا أخذها فقد أخذ نصف المسمي من أجرة المثل والمحاباة، وبقي النصف خمسون درهمًا، منها نصفها خمسة وعشرون درهمًا بقية أجرة مثله يرجع بها في مال اليتيم ونصفها خمسة وعشرون درهمًا نصيب المحاباة، فتكون باطلة ويكون الوصي بالخيار في الفسخ لنقصان ما عاقد عليه، فإن فسخ أقام الحاكم من أمنائه من يقوم مقامه من غير أجرة، لأن الحاكم نصب للقيام بذلك، ورزقه، وأجور أمنائه من بيت المال. فإن لم يكن بيت المال مال، يدفع أجرة أمين، ولا وجد متطوعًا: كانت أجرته في مال اليتيم. وأكثر هذه المسائل يدخلها دور وطريق عمله ما ذكرنا في الحج، فصار محصول هذا الفصل في إطلاق أجرة الوصي إذا لم يكن فيها محاباة أن ينظر فإن كان وصيًا في البعض نظر: فإن كان وصيًا في تأدية حقوق، فأجرته من رأس المال. وإن كان وصيًا في تفريق ثلث، فأجرته مقدمة في الثلث، وإن كان وصيًا على يتيم، فأجرته في مال اليتيم.

مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: «هذا آخر ما وصفت من هذا الكتاب أنه وضعه بخطه لا أعلم أحدًا سمعه منه وسمعته بقول لو قال أعطوه كذا وكذا من دنانيري أعطي دينارين ولو لم يقل من دنانيري أعطوه ما شاؤوا اثنين». قال في الحاوي: وهذا الفصل مشتمل على أربع مسائل: المسألة الأولى: أن يقول أعطوه كذا وكذا من دنانيري الذي نقله المزني ها هنا أنها وصية بدينارين، لأنه لما ذكر عددًا من دنانيره دل على دينارين وفيه قول آخر مخرج من الإقرار أنها وصية بدينار، لأنه قد يحتمل أن يكون كل واحد من الفردين أقل من دينار وهما معًا دينار فإذا كان ذلك وصية بما ذكرنا نظر فإن كانت له دنانير صحت الوصية بالقدر الذي ذكرناه على اختلاف القول فيه وإن لم يكن له دنانير كانت الوصية باطلة. والمسألة الثانية: أن يقول كذا وكذا من الدنانير فيكون أيضًا على ما ذكرنا من القولين: أحدهما: انها وصية بدينارين. والثاني: بدينار لكن تصح الوصية بهذا القدر سواء ترك دنانير أو لم يترك. والمسألة الثالثة: أن يقول كذا وكذا فهذه وصية بعد دين يرجع في بيانها إلى الوراث فإن ذكر شيئًا بينه قبلنا منه مع يمينه إن حلف فيه وسواء بين ذلك من جنس أو جنسين والله أعلم. فصل: إذا قال: أعطوا ثلثي لأعقل الناس فقد حكي عبد الرحمن بن أبي حاتم عن الربيع عن الشافعي أنه قال: يعطي أزهد الناس وهذا صحيح؛ لأن العقل مانع من القبائح والزهاد هو أشد الناس منعًا لأنفسهم من الشبهات. فصل: ولو قال: أعطوا ثلثي لأجمل الناس فقد قال أبو حامد الإسفراييني يعطاه أهل الذمة والذي أراه أن يعطاه أهل الكبار من المسلمين لأمرين. أحدهما: أنهم قد أقاموا على فعل ما يعتقدون استحقاق العذاب عليه وليس كأهل الذمة الذين لا يعتقدون ذلك. والثاني: أن الأغلب من قصد المسلم بوصيته المسلمين دون غيرهم. فصل: ولو قال: أعطوا ثلثي لأحمق الناس قال إبراهيم الجريري: يعطاه من يقول بالتثليث من النصارى والذي أراه أن يعطاه أسفه الناس، لأن الحمق يرجع إلى الفعل دون الاعتقاد. فصل: ولو قال: أعطوا ثلثي لأعم الناس كان مصروفًا في الفقهاء لاضطلاعهم

بعلوم الشريعة التي هي بأكثر العلوم متعلقة. فصل: ولو أوصي بثلثه لسيد الناس كان للخليفة- رأيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه في المنام فجلست معه ثم قمت أماشيه فضاق الطريق بنا، فوقفت فقلت: تقدم يا أمير المؤمنين فإنك سيد الناس، قال: لا تقل هكذا قلت: بلي يا أمير المؤمنين ألا ترى لو أن رجلًا أوصي بثلث ماله لسيد الناس كان للخليفة أنا أفتيك بهذا فخذ حظي به ولم أكن سمعت هذه المسالة قبل هذا المنام وليس الجواب فيها إلا كذلك، لأن سيد الناس هو المتقدم عليهم والمطاع فيهم وهذه صفة الخليفة المتقدم على جميع الأمة، والله أعلم بالصواب.

كتاب العتق

كتاب العتق باب عتق الشرك في الصحة والمرض والوصايا في العتق مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: «من أعتق شركًا له في عبد وكان له مال يبلغ قيمة العبد قوم عليه قيمة عدل وأعطي شركاءه حصصهم وعتق العبد وإلا فقد عتق ما عتق وهكذا روي ابن عمر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -». قال في الحاوي: إنما عتق العبيد والإماء من القرب التي تتردد بين وجوب وندب والأصل فيه قول الله تعالى: {فَلا اقْتَحَمَ العَقَبَةَ (11) ومَا أَدْرَاكَ مَا العَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 11 - 13] يعني عتق رقبة من الرق. وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «في جهنم عقبة لا يقتحمها إلا من فك رقبة». وقال تعالى: {وإذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] يعني زيد بن حارثة أنعم الله عليه بالإسلام وأنعم عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالعتق ولذلك سمي المولى المعتق منعمًا وقال الله تعالى فيما أوجبه من كفارة القتل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] وفيما أوجبه من كفارة الظهار {فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] وروي عن ابن عيينة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أعتق رقبة مؤمنة كانت فداءه من النار». وروي واثلة بن الأسقع، وعبد الله بن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منها عضوًا منه من النار». وروي أن عائشة رضي الله عنها نذرت أن تعتق عشرة من بني إسماعيل فسبي قوم من بني تميم فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن سرك أن تعتقي الصميم من ولد إسماعيل فأعتقي هؤلاء». وأعتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سلمان، وشقران، وثوبان، وزيد بن حارثة، واشتري أبو بكر رضي الله عنه بلالًا وكان يعذب على الإسلام فأعتقه لوجه الله تعالى، فقال فيه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: بلال سيدنا وعتيق سيدنا.

وفي قوله بلال سيدنا ثلاثة تأويلات: أحدها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: «سيد القوم خادمهم». والثاني: لسابقته في الإسلام، وأنه كان من المعذبين فيه. والثالث: أنه قصد به التواضع وكسر النفس. وقد أعتق عمر، وعثمان، وعلي رضوان الله عليهم، عبيدًا وإماءًا وكذلك أهل الثروة من الصحابة رضي الله عنهم في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وبعده، فدل على فضل العتق فقيل: يا رسول الله: أي الرقاب أفضل؟ قال: أكثرها ثمنًا وأنفسها عند أهلها» ولأن في العتق فكًا من ذل الرق بعز الحرية وكمال الأحكام بعد نقصانها، والتصرف في نفسه بعد المنع منه وتملك المال بعد حظره عليه فكان من أفضل القرب من المعتق وأجزل النعم على المعتق ولأن الله تعالى كفر به الذنوب وجبر به المآثم ومحا به الخطايا وما هو بهذه الحال فهو عند الله عظيم. فصل فإذا تقرر هذا فالعتق ضربان: واجب وتطوع. فالواجب خاص في بعض الرقاب. وهي أن تكون مؤمنة سليمة من العيوب. والتطوع أن يكون عامًا في جميع الرقاب من مؤمنة وكافرة وسليمة ومعيبة. والعتق يقع بالقول الصريح وكناية. والصريح لفظتان: أعتقت، وحررتك، يقع العتق بهما مع وجود النية وعدمها. والكناية: قوله حرمتك، وسبيتك، وأطلقتك، وخليتك، وما في معناه، فإن نوى به العتق عتق وإن لم ينو لم يعتق ولا يعتق بالنية من غير لفظ كالطلاق ويصح معجلًا ومؤجلًا وناجزًا وعلى صفة وبعوض وبغير عوض اعتبارًا بالطلاق وبعلم العبد وبغير علمه ومع إرادته وكراهته. فصل وإذا كان العتق على ما وصفنا فهو يسري كسراية الطلاق وسرايته أعم من سراية الطلاق لأنه يسري إلى ملك المعتق وإلى غير ملكه وسراية الطلاق لا تسري إلا إلى ملك المطلق، فإذا أعتق الرجل بعضًا من عبده كقوله: نصفه حر عتق جميعه ولم يقف العتق الذي باشره. وروي قتادة عن أبي المليح أسامة بن عمير عن أبيه أن رجلًا أعتق شقصًا من غلام فرفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: «هو حر كله ليس لله شريك». وإذا أعتق شركاء له في عبد شرك بينه وبين غيره عتق عليه ما يملكه منه وروعيت حاله في يساره وإعساره فإن كان موسرًا سري عتقه إلى شريكه، وعتق عليه جميعه،

ووجب عليه لشريكه قيمة حصته، ولم يكن للشريك أن يستبقيها على ملكه ولا أن يعتقها في حق نفسه، وإن كان المعتق موسرًا لم يسر عتقه إلى حصة الشريك، وكانت حصته باقية على ملكه إن شاء أعتقها وإن شاء استبقاها ولا يجبر العبد على الاستسعاء فيما رق منه في حق واحد منهما وتتبعض في العبد الحرية والرق. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن تتبعض فيه فيكون بعضه حرًا وبعضه مرقوقًا. والواجب تكميل الحرية فيه فإن كان المعتق موسرًا كان شريكه بالخيار بين ثلاثة أحوال: أحدها: أن يعتق حصته مباشرة فيكون الولاء بينهما. والحالة الثانية: أن يستسعي العبد في حصته فيعتق عليه بالسوية ويكون الولاء بينهما. والحالة الثانية: أن يأخذ المعتق بقيمة حصته ويكون المعتق فيه بين خيارين إن شاء أعتقه، وإن شاء استسعاه في حصته فيه بقيمتها، وإن كان المعتق معسرًا كان الشريك في حصته بين خيارين: إما أن يعتقلها وإما أن يستسعي العبد فيها. وقال ربيعة بن أبي عبد الرحمن: لا يصح أن ينفرد أحدهما بعتق حصته في يساره وإعساره إلا أن يجتمعا على عتقه فيعتق عليهما، فإن تفرد أحدهما بالعتق لم يقع. وقال الأصم وابن علية: يعتق حصة المعتق ولا يعتق عليه حصة الشريك موسرًا كان أو معسرًا. وقال أبو يوسف ومحمد: يعتق حصة الشريك على المعتق موسرًا كان أو معسرًا، واستدل أبو حنيفة بما رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن النضر بن أنس عن بشير ابن نهيك عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أعتق شركًا له من عبد فعليه خلاصة في ماله فإن لم يكن له مال! استسعي العبد غير مشقوق عليه». قالوا: وهذا نص. قالوا: ولأن تنافي أحكام الحرية والرق تمنع من تبعيض الحرية والرق كما امتنع من تبعيض الزوجية إباحة وحظرًا. قالوا: ولأنه ما لم تبعض الحرية والرق في ملك الواحد. لم تبعض في ملك الاثنين. قالوا: ولأن عتق أحد الشريكين يجعل العبد فيما يملكه من حرية نفسه كالغاصب في حق الآخر فوجب أن يستسعي في قيمة نفسه كما يؤخذ الغاصب بقيمة غصبه. ودليلنا ما رواه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أعتق شركًا له في عبد وكان له مال يبلغ قيمة العبد قوم عليه قيمة عدل فأعطي شركاؤه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه فأعتق ورق منه ما رق». وهذا يدل على عتقه في حق الموسر دون حق المعسر، ويدل عليه ما رواه عطاء عن سعيد بن المسيب عن عمران بن الحصين، وروي سماك بن حرب عن الحسن عن عمران بن الحصين، وروي أيوب عن محمد بن سيرين عن عمران بن الحصين أن رجلًا

من الأنصار أعتق ستة أعبد عند موته وليس له مال غيرهم فبلغ ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاهم وجزأهم ثلاثة أجزاء فأعتق اثنين وأرق أربعة. فمنع هذا الخبر من قول أبي حنيفة، لأن فيه أنه جزأهم وأبو حنيفة لا يجزئهم وأقرع بينهم، وأبو حنيفة لا يقرع بينهم، وأعتق منهم اثنين وأبو حنيفة يعتق من كل واحد ثلثه، وأرق أربعة وأبو حنيفة لا يسترقهم، وأوجب استسعاءهم والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم يوجبه فصار مذهبه مخالفًا للخبر في جميع أحكامه فوجب أن يكون مدفوعًا به، لأن الاستسعاء عتق بعوض فلم يجبر عليه العبد كالكتابة، ولأنه لما لم يقوم على المعتق المعسر فأولى أن لا يقوم على العبد بالسعاية، لأنه أسوأ حالًا من المعسر للعلم بإعسار العبد في الظاهر والباطن وإعسار المعتق في الظاهر دون الباطن. ولأن ما يقتضيه التقويم هو العتقد لدخول الضرر به في حصة الشريك فلما سقط التقويم في حق المعتق بإعساره وهو مباشر كان أولى أن يسقط عن العبد بما قد يجوز أن لا يصل إليه من سعايته، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من ضر أضر الله به». فأما الجواب عن احتجاجهم بالخبرين فمن وجهين: أحدهما: اختلاف الرواية فيه. والثاني: استعماله. فأما اختلاف الرواية فمن أوجه: أحدها: أن الاستسعاء تفرد به سعيد بن أبي عروبة عن قتادة فيما رواه العراقيون عنه وقد رواه أبو داود عن ابن أبي عيسي عن سعيد ولم يذكر السعاية. والثاني: أن سعيد بن أبي عروبة تفرد برواية السعاية من بين أصحاب قتادة، وقد رواه من أصحاب قتادة من هو أضبط منسعيد وهو مسعر الحافظ وهشام الدستوائي ولم يذكرا فيه السعاية. والثالث: أنه قد رواه هشام عن قتادة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «من أعتق شركًا له من عبد فعليه خلاصه في ماله» وأن قتادة قال فإن لم يكن له مال استسعي العبد غير مشقوق عليه فذكر قتادة ذلك عن نفسه فوهم فيه سعيد بن أبي عروبة فضمه إلى روايته. قال أبو بكر النيسابوري: رواية همام أصح، لأنه فصل مذهب قتادة عن روايته وسعيد أزوجها في الرواية. وأما استعمال الخبر في السعاية فمن وجهين: أحدهما: أنه يحمل على المراضاة، دون الإجبار إذا طلبها العبد وأجاب إليه السيد، لأنه قال: غير مشقوق عليه والإجبار شاق، ولأن الاستسعاء استفعال وهو في اللغة موضوع للطلب كقولهم استسلف واستصعب واستقرض.

والثاني: أنه يحمل على استسعائه في خدمة الشريك واكتسابه له بحق ملكه لا لإطلاق الاستسعاء في احتمال الأمرين. وأما الجواب عن استدلالهم بأن تنافي أحكام الحرية والرق يمنع من الجمع بينهما فهو أنا نغلب أحدهما ولا نجمع بينهما فزال التنافي. وأما الجواب عن امتناع الجمع بينهما في ملك الواحد فهو أن اختياره للمعتق أوجب سرايته إلى ملكه، ولم يوجب سرايته إلى ملك شريكه إذا استقر. وأما الجواب عن جعلهم العبد كالغاصب فهو أنه لم يكن من العبد فعل ولا له على رقه يد فلم يجز أن يجعل كالغاصب المعتدي بيده واستهلاكه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «ويحتمل قوله في عتق الموسر وأعطي شركاءه حصصهم وعتق العبد معنيين أحدهما أنه يعتق بالقول وبدفع القيمة والآخر أن يعتق الموسر ولو أعسر كان العبد حرًا واتبع بما ضمن وهذا قول يصح فيه القياس (قال المزني) وبالقول الأول قال في كتاب الوصايا في العتق وقال في كتاب اختلاف الأحاديث يعتق يوم تكلم بالعتق وهكذا قال في كتاب اختلاف ابن ليلي وأبي حنيفة وقال أيضًا فإن مات المعتق أخذ بما لزمه من أرش المال لا يمنعه الموت حقًا لزمه كما لو جني جناية والعبد حر في شهادته وميراثه وجناياته قبل القيمة ودفعها (قال المزني) وقد قطع بأن هذا المعني أصح (قال المزني) وقطعه به في أربعة مواضع أولى به من أحد قولين لم يقطع به وهو القياس على أصله في القرعة أن المعتق يوم تكلم بالعتق حتى أقرع بين الأحياء والموتى فهذا أولى بقوله (قال المزني) رحمة الله قد قال الشافعي لو أعتق الثاني كان عتقه باطلًا وفي ذلك دليل لو كان ملكه بحاله لو عتق بإعتاقه إياه وقوله في الأمة بينهما أنه إن أحبلها صارت أم ولد له إن كان موسرًا كالعتق وأن شريكه إن وطئها قبل أخذ القيمة كان مهرها عليه تامًا وفي ذلك قضاء لما قلنا ودليل آخر لما كان الثمن في إجماعهم ثمنين أحدهما: في بيع عن تراض يجوز فيه التغابن والآخر قيمة متلف لا يجوز فيه التغابن وإنما هي على التعديل والتقسيط فلما حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - على المعتق الموسر بالقيمة دل على أنها قيمة متلف على شريكه يوم أتلفه فهذا كله قضاء لأحد قوليه على الآخر وبالله التوفيق». قال في الحاوي: وهذا القول يصح فيه القياس قد ذكرنا أن عتق الموسر يسري إلى حصة شريكه، واختلف قول الشافعي في عتقها عليه بماذا يقع على ثلاثة أقاويل: أحدها: نص عليه في اختلاف الحديث، واختلاف العراقيين وكتاب الوصايا أنه يعتق عليه حصة الشريك بنطقه قبل دفع القيمة، فيدفعها بعد نفوذ العتق، وهو قول ابن أبي ليلي وسفيان الثوري، وأحمد وإسحاق. والقول الثاني: نص عليه في القديم لا يعتق عليه إلا بعد دفع القيمة إلى شريكه وهو قبل دفعها على بقاء حصته وهو قول مالك.

والقول الثالث: الأشبه ذكره عنه البويطي وحرملة، أن العتق في حصة الشريك موقوف مراعي فإذا دفع القيمة بان أن العتق وقع باللفظ، وإن لم يدفعها بان أنه لم يزل عن الرق. ونظير هذه الأقاويل في ملك المبيع متى ينتقل عن البائع إلى المشتري على ثلاثة أقاويل: أحدها: بالعقد قبل مضي زمان الخيار. والثاني: بالعقد وانقضاء الخيار. والثالث: أنه موقوف مراعي. فإن تم البيع بان أنه كان مالكًا بنفس العقد، وإن لم يتم البيع بان أنه لم يكن مالكًا. فإذا قيل بالقول الأول أنه يعتق عليه باللفظ قبل دفع القيمة وهو المشهور من مذهبه فدليله رواية ابن أبي مليكة عن نافع عن ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا كان العبد بين رجلين فاعتق أحدهما نصيبه وكان له مال فقد عتق كله» ولأن فيه الحصة معتبرة وقت عتقه فدل على نفوذ العتق فيها بلفظة. وإذا قيل بالقول الثاني: أنه لا يعتق إلا بدفع القيمة فدليله رواية عمرو بن دينار عن سالم عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «أيما عبد كان بين اثنين فأعتق أحدهما نصيبه فإن كان موسرًا قول عليه قسمة عدل ليست بوكس ولا شطط ثم يعق» ولأن العتق عن عرض فتحريمه يدفع العوض كالكتابة. وإذا قيل بالقول الثالث: أن العتق موقوف مراعي فدليله أن تعارض الروايتين يقتضي الوقف والمراعاة لاستعمال الخبرين، ولأن في الوقف إزالة الضرر عن الشريك والعبد فكان أولى من إدخاله على الشريك بتعجيل العتق أو على العبد بتأخيره، ويكون وقف عتقه على هذا القول كمن أعتق عبده في مرض موته وله مال غائب لا يعلم أيسلم فيخرج العتق من ثلثه، أو يتلف فلا يخرج من ثلثه كان تحرير عتقه بعد موته موقوفًا على سلامة ماله، فإن سلم عتق جميع العبد من حين تلفظ بعتقه وإن تلف ماله بان أنه لم يعتق منه إلا ثلثه، وأن باقيه لم يزل موقوفًا. فصل فأما المزني، فإنه اختار أِهر هذه الأقاويل وهو الأول أن حصة الشريك تعتق بلفظ المعتق، وتكون القيمة في ذمته حتى يؤديها، وتكلم على قيمته فصولًا بعضها تحقيق لمذهبه وبعضها نصرة لصحته. فالفصل الأول: قال المزني بالقول الأول في كتاب الوصايا في العتق وقال في كتاب اختلاف الأحاديث يعتق يوم تكلم بالعتق وهكذا قال في كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلي فجعل المزني تكرار هذا القول في هذه المواضع التي لم يذكر غيره فيها إثباتًا له ونفيًا لغيره، وليس الأمر على ما توهم لأن أقاويله إذا فرقت لم يحتج إلى

تكرارها في كل موضع ولو كان ما توهم صحيحًا لاقتضي إذا كرر أحدهما في مواضع وكرر الأخرى في مواضع أن يكون نافيًا لهما والذي يقتضي تحقيق مذهبه في أحد القولين أن يقول وبهذا أقول وهو أولى أن يحتج له. فأما تكراره والتفريع عليه فقال بعضهم: لا تأثير لهما كما لا تأثير لزيادة الشهود في تعارض البينتين. وقال آخرون: لها تأثير في أن غيرها لا يترجح عليه. واختلفوا هل يصير بها أرجح من غيره فرجح بها بعضهم ولم يرجح بها آخرون. والفصل الثاني: قال المزني: فقال -يعني الشافعي- فإن مات المعتق أخذ ما لزمه من رأس المال لا يمنع الموت حقًا لزمه، كما لو جني جناية، وهذا ذكره المزني احتجاجًا أن أخذ قيمة الحصة من شريكه بعد موته دليل على نفوذ العتق في حياته ولا حجة في هذا، لأن القيمة مأخوذة من شريكه على الأقاويل كلها، لأنه وإن لم يعتق عليه في أحدها، فقد كان منه السبب الموجب لعتقه، فكان مأخوذًا بعتقه في تركته كما لو جرح عبدًا فسرى الجرح إلى نفسه بعد موته أخذت قيمة العبد من تركته، وإن وجبت بعد موته، وكذلك إن حفر بئرًا في غير ملكه، ومات، كان غرم ما تلف فيها بعد موته من تركته، وإن وجبت بعد موته، لتقدم السبب في حياته، فلم يكن لما ذكره المزني من أخذ القيمة من تركته دليل على نفوذ العتق في حياته، لأننا إن قلنا بالأول أنه يعتق عليه بلفظه، كان المأخوذ من تركته، ما وجب عليه غرمه في حياته. وإن قلنا بالثاني: أنه يعتق بأداء القيمة، فقد وجد منه السبب الموجب لعتقه، فوجب أن يكون غرم القيمة في تركته، لتقدم السبب الموجب لعتقه، كحفر البئر. والفصل الثالث: قال المزني: قال الشافعي: إن العبد حر في شهادته، وحدوده، وميراثه، وجناياته، قبل القيمة وبعدها، وهذا الذي حكاه المزني مبني على الأقاويل الثلاثة، فإن قيل: بنفوذ عتقه باللفظ، جرت عليه أحكام الأحرار في شهادته، وواجباته، وجناياته، وحدوده، وميراثه. وإن قيل إنه لا يعتق، إلا بأداء القيمة، جرت عليه أحكام العبيد في هذا كله. وإن قيل: إن عتقه موقوف على أداء القيمة، كانت أحكامه في هذا كله، موقوفة، فإن عتق بأداء القيمة، جرت عليه أحكام الأحرار في جميعها، وغن لم يعتق بها، جرت عليه أحكام العبيد في جميعها، فكان ما ذكره الشافعي -رحمه الله- على أحد أقاويله، فلم يكن فيه دليل. والفصل الرابع: قال المزني: فقد قطع بأن هذا المعني أصح قال المزني، وما قطع به في أربعة مواضع، أولى من أحد قولين لم يقطع به، وهذا الذي حكاه عن الشافعي وقطع به في أربعة مواضع، إن كان منه قطعًا بصحته كان تحقيقًا لمذهبه وعدولًا عن غيره، وإن كان قطع به، لأن ذكره فيها، ولم يذكر غيره، فقد تقدم الجواب عنه، والمزني عدل فيها رواه معمول بها حكاه، والظاهر من روايته القطع بصحته، فلا امتناع من تصحيحه على مذهبه. والفصل الخامس: قال المزني، وهو اقياس على أصله في القديم، أن العتق يوم

تكلم بالعتق، حتى أقرع بين الأحياء، والأموات، فهذا بقوله أولى. فيقال له. أما القرعة بين من أعتقهم في مرضه إذا عجز الثلث عن قيمتهم بعد موته، واجبة، وخروجها لأحدهم، موجب لتقدم عتقه في حياته، ولو مات أحدهم، وخرجت عليه القرعة بعد موته، بان أنه كان حرًا قبل موته، وهذا مما لا يختلف فيه مذهبه، وليس فيه دليل على عتق حصة الشريك قبل أخذ قيمته، لوقوع الفرق بينهما، فإن عتقه في المرض صادف ملكه، فوقع وإنما دخلت القرعة لاسترقاق ما عجز عنه الثلث، فصار العتق متقدمًا، واستدراكه بالعجز متأخرًا، وليس كذلك عتقه في حصة الشريك، لأنه عتق سري إلى غير ملكه، فلم تستقر السراية إلا بدفع بدله، لئلا يزال ملكه المستقر بغير بدل مستقر، ثم يستخرج من معني العتق في المرض دليل عليه أن العتق في حصة الشريك لا يقع إلا بدفع القيمة بأن العتق في المرض لما لم يتحرر إلا بأن يجعل للورثة، مثلًا قيمته وجب أن لا تعتق حصة الشريك، إلا بأن يصل إلى قيمته فيصير ما ذكره دليلًا عليه. الفصل السادس: قال المزني: وقد قال الشافعي: فإن أعتق الثاني، كان عتقه باطلًا، وفي ذلك دليل على أنه لو كان ملكه بحالة العتق، بإعتقاه إياه، قيل: قد ذهب أبو علي ابن أبي هريرة إلى أن عتق الشريك لا يقع إذا قيل: إن حصته قد عتقت على المعتق بلفظه، ويعتق على الشريك إذا قيل: إن حصته لا تعتق إلا بدفع القيمة، فخلص من هذا الاعتراض، والذي عليه جمهور أصحابنا، وهو الظاهر من منصوص الشافعي، أن عتق الشريك لا يقع على الأقاويل كلها، لأنه إن قيل: إن العتق قد سري إلى حصته، فقد أعتق بعد زوال ملكه. وإن قيل: إن العتق لا يسرع إليها بعد دفع القيمة، فقد تعلق بها للمعتق حق السراية، واستحقاق الولاء، فأوقع على الشريك في ملكه حجرًا منع من التصرف فيه بعتق وغيره، والحجر يمنع من وقوع العتق مع ثبوت الملك، كالأمة إذا أعتقت تحت عبد فطلقها قبل الفسخ، لم يقع طلاقه في الحال، وغن كان مالكًا للبعض لما في وقوع طلاقه من إبطال حق الزوجة من الفسخ، وصار حقها فيه موقعًا للحجر عليه في طلاه، فإن فسخت لم يقع طلاقه وإن أقامت وقع الطلاق لرفع الحجر بالإقامة. والفصل السابع: قال المزني: وقوله في الأمة بينهما أنه إن أحبلها أحدهما، صارت أم ولد له وإن كان موسرًا، كالعتق وإن شريكه إن وطئها، قبل أخذ القيمة، كان مهرها عليه تامًا. وفي ذلك قضاء لما قبل، لأن إحبال أحد الشريكين لها جار مجري عتقه، له على الأقاويل الثلاثة: أحدها: أنها قد صارت كلها أم ولد له بالإحبال، فإذا وطئها الشريك الآخر، كان عليه جميع مهرها. والقول الثاني: أن حصة الشريك، لا تصير للمحبل أم ولد، إلا بدفع القيمة، وإن وطئها الشريك، كان عليه نصف مهرها. والقول الثالث: أنه موقوف، فإن دفع المحبل القيمة بان أنها أم ولده بالإحبال، وكان على الشريك، إذا

وطئ جميع المهر، وإن لم يدفع القيمة بان أن حصة الشريك باقية على ملكه، فلم يجب عليه بوطئها إلا نصف المهر فلم يكن بين الإحبال والعتق فرق، ولم يكن في استشهاده به دليل. والفصل الثامن: قال المزني: ودليل آخر لما كان الثمن في إجماعهم بتمييز أحدهما بيع عن تراض، يجوز فيه التغابن والآخر فيه متلف لا يجوز فيه التغابن وإنما هي على التعديل والتقسيط، فلما حكي النبي - صلى الله عليه وسلم - على الموسر المعتق بالقيمة، دل على أنها قيمة متلف على شريطه، يوم أتلفه. فهذا كله قضاء لأحد قوليه على الآخر وبالله التوفيق. فيقال للمزني: جعلت الأثمان ضربين: الأول: ضرب لأعيان ثابتة بعقد عن تراض يجوز فيه التغابن كالبيع. الثاني: وضرب يكون فيه متلفًا ولا يجوز فيه التغابن كالشريك فجعلت هذا دليلًا على أن حصة الشريك لما استحق فيها مقدارًا، لا يجوز فيه التغابن، أنه قيمة متلف بالعتق. وها هنا ضرب ثالث، يستحق فيه مقدر لا يجوز فيه التغابن وليس بمتلف، ولا مستهلك وهو الشفيع ينتزع الشقص من المشتري بالثمن المقدر الذي لا يستحدث فيه التغابن، وليس بتالف، وإذا أوصي الرجل ببيع عبده، على زيد استحق بيعه عليه بقيمته المقدرة، وليس بتالف فلما كان هذا ضربًا ثالثًا تقدر فيه الثمن وزال عنه التغابن، وهذا باق غير تالف دخلت فيه حصة الشريك المقدرة عن غير متلف. وهذا من الضرب الثالث وإهن خرج عن الضربين الأولين. فصل وإذا تقرر أن نفوذ العتق في حصة الشريك يكون على الأقاويل الثلاثة، انتقل الكلام إلى التفريع على كل قول منها. فإذا قيل بالأول أنه يعتق بنفس اللفظ، فقد اختلف أصحابنا في وقوع العتق عليها، هل يقترن بعتق ملكه؟ أو يتعقبه بالسراية بعد نفوذ العتق في ملكه؟ على وجهين: أحدهما: يعتق بالسراية بعد نفوذ العتق في ملكه ولا يعتق الجميع في حالة واحدة بلفظة، لأنه لو تلفظ بعتق حصة الشريك لم يعتق بلفظه، فدل على عتقه بالسراية دون لفظه. والوجه الثاني: قاله شاذ من أصحابنا أن جميعه يعتق في حالة واحدة عتق مباشرة، لا يتقدم أحدهما على الآخر، لأن عتقهما عن لفظ، فوجب أن يقع عليها باللفظ، ويكون المعتق مأخوذًا بالقيمة على الوجه الأول، عقيب عتقه، وعلى الوجه الثاني بقيمته مع عتقه، ولو مات العبد عقيب العتق، مات حرًا، وما له لورثته، ولم تسقط القيمة عن معتقه، ويملك إكساب نفسه، وتسقط نفقته، وزكاة فطره، عن معتقه، ولو مات المعتق قبل دفع القيمة، أخذت من تركته لو أعسر بها، بعد يساره كانت دينًا يحاص بها الشريك جميع غرمائه، ولو اختلف المعتق والشريك في قيمة الحصة، وتعذرت البينة بها، كان القول فيها قول المعتق مع يمينه، لأنه غارم، ولو كان مكان

العبد أمة حامل، فولدت بعد عتقها، وقبل دفع قيمتها، عتق معها، ولم يلزمه قيمة ولدها. ولو مات الولد كان موروثًا ووارثًا. ولو ضرب بطنها فألقت جنينًا ميتًا، كان فيه غرة عبد، أو أمة كجنين الحرة. وإذا قيل بالثاني: أنه لا يعتق إلا بدفع القيمة، فهل يكون العتق معتبرًا بالدفع من جهة المعتق، أم بالقبض من جهة الشريط؟ على وجهين: أحدهما: يكون العتق معتبرًا بدفع المعتق، وتمكين الشريكين قبضه، سواء قبضه منه، أو لم يقبضه، لأن العتق واقع بها فاعتبر بفعل من كان العتق واقعًا في حقه، فعلي هذا تصير القيمة داخلة في ملك الشريك بدفع المعتق لها، وتمكن الشريك من قبضها، ولو تلفت قبل قبضها كانت تالفة من مال الشريك دون المعتق، ولم يلزمه غرمها. والوجه الثاني: لا يعتق بدفع القيمة، حتى يقبضها الشريك لأن تأخر العتق على دفع القيمة، إنما وجب ليصل إلى حقه منها، وهو قبل القبض غير واصل إليه، فعلى هذا لا يدخل في ملكه إلا بعد قبضه، فإن تمانع من القبض أجبره الحاكم عليه، ولو تلفت قبل قبضه، كانت تالفة من مال المعتق دون الشريك، وعلى المعتق غرمها، وعلى الوجهين معًا لو أبرأ الشريك من القمية، لم يبرأ منها المعتق، لوقوع العتق بدفع القيمة، وليس الإبراء دفعًا، وهذا بخلاف إبراء المكاتب حيث عتق به، وقام مقام أدائه به، لأن عتق الكتابة عن مراضاة فغلب فيها حكم الديون في الذمم، وهذا المعتق عن إجبار فغلب فيها حكم العتق بالصفة، ولو مات العبد قبل دفع القيمة، ففي استحقاقها على المعتق وجهان: أحدهما: لا يستحق عليه، لأن العتق لم يحصل له، ويكون لمعتقه نصف ولائه. يستحق به نصف ميراثه، ونصفه الآخر رقًا لشريكه يملك به نصف ما تركه العبد من مال. والوجه الثاني: يستحق عليه الشريك قيمة حصته لمنعه من التصرف فيه، وحبسه على المعتق في حقه، فعلى هذا هل يكون دفع القيمة موجبًا لنفوذ العتق فيه؟ على وجهين: أحدهما: يعتق، لأنه لا يجوز أن يغرم بحكم العتق ما لا ينفذ فيه العتق. والوجه الثاني: لا يعتق، لأنه لا يجوز أن يقع العتق بعد الموت. وإذا كان مكان العبد أمة حامل، فولدت قبل دفع القيمة، كانت حصة المعتق منه مولودة على الحرية، وحصة الشريك منه مولودة على الرق، والمعتق مأخوذ بقيمتها كالأم، ويعتقان معًا عليه بدفع القيمة. ولو ضرب بطنها فألقت جنينًا ميتًا، ففيه نصف دية جنين حر، ونصف دية جنين مملوك، فيكون فيه نصف الغرة، ونصف عشر قيمة أمة يرث المعتق ما وجب بحريته، ويملك الشريك، ما وجب برقه، ولا يضمن المعتق حصة الشريك من الجنين وجهًا واحدًا، لأن الجنين، لا يضمن إلا بالجناية، ثم نفقة العبد، وزكاة فطره ساقطة عن معتقه، ومشتركة بينه وبين الشريك المالك لرق حصته، لا يسقط عنه إلا بعد عتقها، بأخذ قيمتها وإن اختلفا في القيمة، فالقول فيها قول الشريك دون المعتق، لبقائها على ملكه، فلم يزل إلا بقوله.

وإن قيل بالثالث: أن العتق في حصة الشريك، موقوف مراعي، فإن أخذ القيمة بأن بها، تقدم العتق بلفظ المعتق وجري عليه أحكام القول الأول، وإن لم يصل على القيمة لم يعتق وجرى عليه أحكام القول الثاني، ودفع القيمة واجب في حق كل واحد منهما، فإن بذلها المعتق أجبر الشريك على قبضها، وغن طلبها الشريك أجبر المعتق على دفعها، وإن أمسك الشريك عن الطلب، وأمسك المعتق عن الدفع، كان للعبد أن يأخذ المعتق بالدفع، والشريك بالقبض، وإنما أخذهما ذلك لما استحقه عليهما من تكميل عتقه، فإن أمسك العبد مع إمساكهما كان للحاكم أن يأخذهما بتكميل العتق، لما فيه من حق الله تعالى. وإذا مات العبد قبل دفع القيمة استحقها الشريك على المعتق، وجهًا واحدًا، لأن دفعها يوجب تقدم عتقه باللفظ، ويكون ولاء نصف مستحقًا للمعتق، وولاء نصفه الباقي موقوفًا على دفع القيمة، ويكون أكساب العبد في حياته يملك منها نصفها بحريته، ونصفهاموقوف بينه وبين الشريك المالك لرقه وينفق منه على نفسه بقدر رقه. وإذا أعسر المعتق بالقيمة بعد يساره، أنظر بها إلى مسيرته وكان قدر الرق، والكسب على وقفه، فإن مات المعتق على إعساره ارتفع الوقف وتصرف الشريك في القدر المسترق وملك ما قابله من الكسب. وبالله التوفيق. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: «ولو قال أحدهما لصاحبه وصاحبه موسر أعتقت نصيبك وأنكر الآخر عتق نصيب المدعي ووقف ولاؤه لأنه زعم أنه حر كله وادعي قيمة نصيبه على شريكه». قال الماوردي: وصورتها: في عبد بين شريكين ادعي أحدهما على صاحبه أنه أعتق حصته وهو موسر، وأن عتقه سري إلى حصته، وطالبه بقيمة حصته، فلا يخلو المدعي عليه من أن يقر بالعتق، أو ينكر فإن أقر بالعتق عتقت عليه حصته بإقراره، وفي عتق حصة شريكه ثلاثة أقاويل: أحدها: يعتق بإقراره على نفسه ويؤخذ بقيمتها، ويكون له ولاء جميعه. والقول الثاني: لا تعتق حصة الشريك إلا بدفع القيمة إليه ويؤخذ بدفعها حتى يتكامل العتق بدفع القيمة. والقول الثالث: إن عتقها موقوف على دفع القيمة، فإذا دفعت بان تقدم العتق باللفظ، وإن أنكر المدعي عليه العتق، فإن كان للمدعي بينة سمعت وهي شاهدان، وحكم عليه بعتقه لملكه وكان عتق حصة المدعي على الأقاويل الثلاثة، ولا يقبل فيها شاهد، وامرأتان، لأنها بينة في عتق، وإن عدمت البينة، فالقول قول المدعي عليه مع يمينه، أنه لم يعتق وحصته باقية على ملكه. وفي عتق حصة المدعي قولان: أحدهما: وهو الذي نص عليه الشافعي في هذا الموضع أن حصته تعتق عليه، إذا قيل أن العتق يسري بنفس اللفظ، لأنه مقر على نفسه بما يضره، وينفع غيره، فقيل

إقراره، على نصيبه ولم يقبل، دعواه على غيره. والقول الثاني: لا يعتق عليه إذا قيل بالقولين الآخرين أن العتق يقع بدفع القيمة، أو أنه موقوف على دفع القيمة، وإن عتقت حصة المدعي على القول الأول، لم يسر عتقه إلى حصة المدعي عليه، لأنه عتق لزمه بغير اختياره فصار كمن ورث من رق ابنه سهمًا، عتق عليه، ولم يسر إلى باقيه. وكان ولاء ما عتق منه، موقوفًا، لأنه لا يدعيه واحد منهما، وإذا لم تعتق حصة المدعي على القول الثاني كانت مقرة على ملكه، وفي جواز تصرفه فيها بالبيع والعتق وجهان: أحدهما: يجوز لاستقرار ملكه عليها بإبطال السراية إليها. والوجه الثاني: لا يجوز لإقراره بالمنع من ذلك في حق شريكه، فلو عاد المنكر فاعترف بالعتق بعد جحوده، عتق ملكه عليه، وكانت سراية عتقه إلى حصة الشريك على الأقاويل الثلاثة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «فإن ادعي شريكه مثل ذلك عتق العبد وكان له ولاؤه فقال وفيها قول آخر إذا لم يعتق نصيب الأول لم يعتق نصيب الآخر لأنه إنما يعتق بالأول (قال المزني) قد قطع بجوابه الأول أن صاحبه زعم أنه حر كله وقد عتق نصيب المقر بإقراره قبل أخذه قيمته فتفهم ولا خلاف أن من أقر بشيء يضره لزمه ومن ادعي حقًا لم يجب له وهذا مقر للعبد بعتق نصيبه فيلزمه ومدع على شريكه بقيمة لا تجب له ومن قوله وجميع من عرفت من العلماء أن لو قال لشريكه بعتك نصيبي بثمن وسلمته إليك وأن موسر وإنك قبضته وأعتقته وأنكر شريكه أنه مقر بالعتق لنصيبه نافذ عليه مدع لثمن لا يجب له فهذا وذاك عندي في القياس سواء وهذا يقضي لأحد قوليه على الآخر (قال المزني) وقد قال الشافعي لو قال أحدهما لصاحبه إذا أعتقته فهو حر فاعتقه كان حرًا في مال المعتق». قال الماوردي: اختلف أصحابنا فيما أراده الشافعي بهذه المسألة، فقال بعضهم: أراد بها أن يعود الشريك المنكر، لما ادعي عليه من العتق، فيعترف بأنه قد كان أعتق، فتعتق عليه حصته وتلزمه قيمة حصة شريكه، ويكون عتقها على الأقاويل الثلاثة: أحدها: يعتق عليه باعترافه، وتكون اقيمة دينًا، في ذمته، وله ولاء جميعه، ويكون عتقه في القولين الآخرين موقوفًا على دفع قيمته. وقال الأكثرون منهم إن مراد الشافعي بها أن يدعي كل واحد من الشريكين على صاحبه، أنه أعتق حصته، وهو موسر، فسري العتق إلى نصيبه، واستحق به قيمة حصته، وينكر كل واحد منهما دعوى صاحبه، فإنهما يتحالفان مع عدم البينة، فإن حلف أحدهما، ونكل الآخر، قضي للحالف على الناكل، وإن حلفا معًا، أو نكلا ففي عتق حصة كل واحد منهما عليه قولان: أحدهما: قد عتقت حصة كل واحد منهما عليه، إذ قيل: إن العتق يسري باللفظ فيصير جميع العبد حرًا، وولاؤه موقوفًا لأن كل

واحد منهما ينفي أن يكون مالكًا لولائه. فإن تصادقا بعد التحالف والإنكار، حملًا على مقتضي تصادقهما. والقول الثاني: أنها لا تعتق حصة واحد منهما بهذه الدعوى إذا قيل: بالقولين الآخرين أن حصة الشريك لا يعتق إلا بدفع القيمة أو أنها موقوفة على دفع القيمة، ويكون العبد بينهما على رقه، وفي جواز تصرفهما فيه بالبيع والعتق ما قدمناه من الوجهين. ثم عاود المزني تصحيح القول الذي اختاره من سراية العتق إلى حصة الشريك بلفظ المعتق بخمسة فصول: أحدها: إن قال قد قطع يعني «الشافعي» بجوابه الأول أن صاحبه زعم أنه حر كله، وقد أعتق نصيب المقر بإقراره قبل أخذه قيمته فتفهم. فيقال للمزني: هذا إنما قاله الشافعي على أحد أقاويله الثلاثة أن العتق يسري باللفظ، ولم يقله على القولين الآخرين اقتصارًا بالتفريع على أحدهما اختصارًا وقد ذكرنا ما يقتضيه تفريعه على أحد أقاويله، فأغني عن إعادته. والفصل الثاني: قال المزني: ولا خلاف أن من أقر بشيء يضره لزمه، ومن ادعي حقًا لم يجب له، وهذا مقر للعبد بعتق نصيبه فلزمه، ومدع على شريكه قيمة لا تجب له. وهذا قاله المزني تحقيقًا لاختياره، وتعليلًا لصحته، فمن أصحابنا من صحح هذا التعليل وأجراه في كل معلول به، لكنه تعليل لحكم القول إذا جعل العتق ساريًا باللفظ. وليس بتعليل لصحته أنه يسري باللفظ. ومن أصحابنا من نقض تعليله، ومنع أن يكون جاريًا في كل معلول به، فإن من ادعي أنه باع عبدًا على زيد بثمن لم يقبضه، وأنكر زيد فهو مقر له بالعبد، ومدع عليه الثمن، وليس يلزمه تسليم العبد وإن كان مقرًا به، كما لم يستحق الثمن وإن كان مدعيًا له. والفصل الثالث: قال المزني في قوله: «وجميع من عرفت من العلماء أن لو قال لشريكه: بعتك نصيبي بثمن، وأسلمته إليك، وأنت موسر، وأنك قبضته وأعتقته، وأنكر شريكه أنه مقر بالعتق لنصيبه، نافذ عليه، ومدع لثمن لا يجب له. وهذا وذاك عندي في القياس سواء، وهذا قضاء لأحد قوليه على الآخر» وهذا قاله المزني: احتجاجًا على وقوع العتق في حصة الشريك باللفظ والسراية بأن الشريك لو ادعي على شريكه أنه باعه حصته بثمن له فقبضه، وأنه سلم الحصة إليه وعتقها، وأنكر الشريك التسليم والعتق فحصة المدعي قد عتقت عليه قولًا واحدًا عند جميع أصحابنا إذا كان بعد التسليم. وقول قال: عتقته قبل التسليم كان في نفوذ عتقه عليه لأصحابنا وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة يعتق لأنه قد جعله معتقًا لملك. والوجه الثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي لا يعتق لأنه قبل التسليم في حكم الحجر لارتهانه على ثمنه ثم إذا لزمه العتق على هذا التفصيل لم يكن فيه دليل على سراية العتق باللفظ دون القيمة، لوقوع الفرق بينهما بأنه في مسألة البيع جعله معتقًا لملك ينفذ فيه العتق، فلذلك

عتق عليه بهذه الدعوى، وفي مسألة السراية جعله معتقًا لغير ملكه فجاز أن لا تقع فيه السراية حين لم يقع عتق المباشرة، لأن العتق بالسراية يتفرع عن عتق المباشرة فلم يثبت حكم الفرع مع عدم أصله. والفصل الرابع: قال المزني: وقد قال الشافعي: «لو قال أحدهما لصاحبه إذا أعتقته فهو حر فأعتقه كان حرًا في مال المعتق» وهذا قاله المزني إلزامًا لنفوذ العتق بسراية اللفظ دون دفع القيمة بأن أحد الشريكين لو قال لصاحبه: إذا أعتقت نصيبك فنصيبي حر، فأعتق الشريك نصيبه، فإن كان معسرًا فقد عتقه في حصته، ولم يسر إلى حصة شريكه، وعتقت حصة الشريك عليه بالصفة التي عقلها بعتق صاحبه، وإن كان المعتق موسرًا لم يعتق على الشريك حصته بالصفة على الأقاويل كلها سواء قيل: إن العتق يسري باللفظ، أو يقع بدفع القيمة، أو يكون موقوفًا. وعند ابن أبي هريرة أنه يعتق بالصفة إذا قيل: إن عتقها في حق المعتق لا يقع إلا بدفع القيمة، ونص الشافعي وما عليه قول سائر أصحابه أنه لا يعتق بالصفة على الأقاويل كلها، لأنه لما عتق على المعتق بالسراية فقد تقدم عتقه على عتق الصفة، وإن قيل: لا يعتق عليه إلا بدفع القيمة، فقد أوقع عتقه حجرًا في استحقاق الولاء على عتق باقية فلم ينفذ عتق محجور عليه. فإن قيل: فقد عقد الشريك صفة عتقه في حال هو فيها غير محجور عليه. قيل: هو وإن كان غير محجور عليه في هذه الحال فقد علق عتقه بصفة يصير فيها محجورًا عليه في ثاني حال. والفصل الخامس: قال المزني: ودليل آخر من قوله إنه جعل قيمته يوم تكلم بعتقه، فدل أنه في ذلك الوقت حر قبل دفع قيمته. قيل للمزني: لا يختلف مذهب الشافعي أن قيمة حصة الشريك معتبرة بوقت العتق على الأقاويل كلها، لكن لا يدل اعتبارها بالعتق على وجوبها وقت العتق، كالجناية على العبد إذا سرت إلى نفسه، اعتبرت قيمته بوقت الجناية وإن وجبت بموته، وكالضارب بطن الأمة، إذا ألقت جنينًا ميتًا اعتبرت دية جنينها بقيمتها وقت ضربها وإن وجبت بإلقائه ميتًا. وقد أطال المزني فأطلنا ولو اختصر كان أولى به وبنا وإن مضي في خلال الكلام أحكام مستفادة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «وسواء كان بين مسلمين أو كافرين أو مسلم وكافر (قال المزني) وقد قطع بعتقه قبل دفع قيمته ودليل آخر من قوله أنه جعل قيمته يوم تكلم بعتقه فدل أنه في ذلك الوقت حر قبل دفع قيمته». قال الماوردي: لا يخلو حال العبد بين الشريكين إذا أعتقه أحدهما من ثلاثة أقسام: أن يكون بين مسلمين يعتق أحدهما حصته فاعتباره بيساره وإعساره على ما قدمناه، وسواء كان العبد مسلمًا أو كافرًا.

والقسم الثاني: أن يكون بين كافرين، فللعبد حالتان: إحداهما: أن يكون كافرًا، فلا اعتراض عليهما في عتقه، ما لم يتحاكموا فيه إلينا، فإن تحاكموا فيه إلى حاكمنا ففي وجوب حكمه بينهما قولان: أحدهما: لا يجب ويكون فيه مخيرًا وهم فيه مخيرون. والقول الثاني: يجب عليه الحكم، ويجب عليهم الالتزام، ويحكم بما يوجبه حكم الإسلام. والحالة الثانية: أن يكون العبد مسلمًا. فعلى حاكمنا أن يحكم بينهما فيه، وعليهما التزام حكمه لتعلقه بحق المسلم، فينفذ عتق المعتق وينظر حاله. فإن كان موسرًا، وقيل: يسري عتقه بلفظه، لم يعترض عليه في دفع القيمة، ما لم يطالب بها الشريك، وكان له جميع ولائه، ولا يمتنع ثبوت الولاء لكافر على مسلم، لأنه كالنسب الذي يستوي فيه المسلم والكافر. وإن قيل: إنه لا يعتق حصة الشريك إلا بدفع القيمة أو أنه موقوف مراعي، فعلى الحاكم أن يأخذ المعتق بتعجيل القيمة ليتعجل بها عتق المسلم ولا يبقي عليه رق لكافر، فإن عجلها وإلا أخذها الحاكم من ماله جبرًا، فإن قبلها الشريك وإلا أعتقها عليه حكمًا. والقسم الثالث: أن يكون أحدهما مسلمًا والآخر كافرًا، فللعبد حالتان: إحداهما: أن يكون كافرًا، فيستوي في حكم الشريكي، سواء كان المعتق مسلمًا أو كافرًا وسواء كان معسرًا أو موسرًا. والحالة الثانية: أن يكون العبد مسلمًا فلا يخلو حال معتقه منهما أن يكون هو المسلم، أو الكافر. فإن كان هو المسلم، عتقت حصته، وكان له ولاؤها فإن كان موسرًا قوم عليه باقية. فإن قيل: بنفوذ عتقه بسراية لفظه، وقفت القيمة على مطالبه الشريك بها. وإن قيل: إن عتقه لا يسري إلا بدفع القيمة، أخذ بتعجيلها لأن يتعجل عتقها، ولا يستديم الكافر ملك رقها. وإن كان معسرًا لم يسر عتقه، وقيل: للشريك الكافر لا يقر ملكك على استرقاق مسلم، وأنت بين خيارين: إما أن تعتقه، أو تبيعه على مسلم، فإن دبره لم يقر تدبيره لما فيه من استيفاء رقه مدة حياته، وإن كاتبه ففي إقراره على كتابته قولان، وإن كان المعتق هو الكافر نفذ عتقه في حصته، ونظر فإن كان معسرًا لم يسر عتقه وأقر رق باقيه على ملك الشريك المسلم وإن كان موسرًا. فإن قيل: بسراية عتقه بلفظه، عتقت عليه وكان فيها كالمسلم، لأنه يغرم قيمة متلف، يستوي فيه المسلم والكافر. وإن قيل: إن عتقه لا يقع إلا بدفع القيمة، فقد اختلف أصحابنا في هذا التقويم، هل يجري مجري البيع، أو مجري قيمة مستهلك؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول المزني، وبعض المتأخرين، أنه تقويم مستهلك. فعلى هذا يقوم عليه كتقويمه على المسلم. ويؤخذ بتعجيل القيمة ليتعجل بها العتق. والوجه الثاني: وهو قول شاذ من المتأخرين أنه يجري مجري البيع، فعلى هذا يكون جواز تقويمه في حق الكافر على قولين من ابتياع الكافر لعبد مسلم: أحدهما: يبطل

البيع، ويبطل التقويم، ويكون ملك رقة باقيًا على الشريك المسلم. والقول الثاني: لا يبطل البيع، ولا يبطل التقويم، ويعتق في حق الكافر كما يعتق في حل المسلم، وهذا أظهرهما في التقويم. والأول أظهرهما في البيع، لإفضاء التقويم إلى العتق وإفضاء البيع إلى الملك. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «وإذا أدي الموسر قيمته كان له ولاؤه». قال الماوردي: إنما يريد بيسار المعتق أن يكون مالكًا لقدر قيمة الباقي من رقه، وليس عليه فيه حق لغيره فاضلة عن قوته وقوت عياله في يومه وليلته، وسواء صار بعد دفع القيمة فقيرًا أو كان غنيًا. فإذا تحرر عتق باقية بدفع القيمة على الأقاويل كلها، وكان له ولاء جميعه بعتق المباشرة وعتق السراية واستحقاق الولاء بهما على سواء، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «والولاء لمن أعتق» وهو معتق بالمباشرة والسراية، وسواء تماثل العتقان، أو تفاضلا، وأنه يسري عتق اليسير إلى الكثير كما يسري عتق الكثير إلى اليسير، واعتبار يساره وإعساره وقت العتق. فلو كان موسرًا وقت العتق معسرًا وقت التقويم فإن قيل: إن العتق يسري باللفظ لم يؤثر فيه حدوث اعتباره، وكانت القيمة دينًا عليه يؤخذ بها إذا أيسر. وإن قيل: إنه لا يعتق إلا بدفع القيمة، فما لم يحاكمه الشريك فيها، كانت حصته على وقفها، وإن حاكم فيها وطلب القيمة، أو فسخ الوقف ليتصرف في حصته، كشف عن حال المعتق، فإذا ثبت عنده إعساره، حكم بفسخ الوقف كما يحكم للزوجة بفسخ النكاح إذا أعسر الزوج وجاز للشريك أن يتصرف في حصته بما شاء من بيع أو غيره. ولو كان موسرًا ببعض الحصة معسرًا ببعضها، عتق عليه من الحصة قدر ما أيسر بقيمته، وكان فيما أعسر به منها في حكم المعسر. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «وإن كان معسرًا عتق نصيبه وكان شريكه على ملكه يخدمه يومًا ويترك لنفسه يومًا فما اكتسب لنفسه فهو له». قال الماوردي: وهذا صحيح والمعتبر بإعساره أن لا يملك قيمة الحصة الباقية لشريكه، ولا قيمة شيء منها وقت عتقه، فإن ملكها وعليه دين قد استحق فيها يصير باستحقاقها في الدين معسرًا بها فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون الدين مؤجلًا لا يستحق تعجيله فيجري عليه حكم اليسار في عتق الحصة عليه، لأن في يده ما هو مقر على ملكه. والضرب الثاني: أن يكون الدين حالًا ففيه قولان من اختلاف قوليه في الدين هل يمنع من وجوب الزكاة في العين؟: أحدهما: يجري عليه حكم اليسار، إذا قيل إن الدين لا يمنع من وجوب الزكاة في العين. والقول الثاني: يجري عليه حكم الإعسار إذا قيل: إن الدين يمنع من وجوب الزكاة في العين، فإذا كان معسرًا بها نفذ

عتقه في ملكه، ولم يسر إلى حصة شريكه. وقال أبو يوسف، ومحمد: يسري عتقه مع إعساره كما يسري مع يساره، وتكون القيمة دينًا عليه يؤخذ بها إذا أيسر كما يسري الطلاق في الزوجة إذا طلق بغضها في الأحوال كلها، لاستحالة أن يجتمع طلاق وإباحة، كذلك يستحيل أن يجتمع حرية ورق. ودليلنا حديث ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «وغن كان معسرًا فقد عتق فأعتق». ولأن المقصود بتكميل العتق رفع الضرر عن الشريك، بأن لا يختلف حكم الحرية والرق في عبده المشترك، وأن يصير العبد كامل التصرف، سراية العتق مع إعسار المعتق أعظم ضررًا على الشريك من استبقاء رقه، فلم يجز أن يرفع أقل الضررين بأعظمهما، ووجب أن يرفع أعظمهما بأقلهما. والفرق بين العتق والطرق من وجهين: أحدهما: انه لما لم يجز أن يحصل في الزوجة شرك بين زوجين، وجاز أن يقع في الرق شرك بين مالكين لم يجز أن يتبعض الطلاق وجاز أن يتبعض الرق. والثاني: أن طلاق بعض الزوجة يمنع من الاستمتاع بباقيها، وعتق بعض العبد لا يمنع من استخدام باقيه، فإذا ثبت أن حصة الشريك باقية على رقها بإعسار المعتق، فقال المعتق: أنا استدين واقترض قيمة حصة الشريك إن حدث له يسار بعد العتق، كان الشريك أملك بحصته ولم يؤخذ بإجابته. فصل فإذا تبعضت في العبد الحرية والرق بإعسار معتقه فقد قال الشافعي: «يخدم سيده يومًا ويترك لنفسه يومًا فما اكتسب فيه فهو له»، فأجرى عليه حكم المهايأة. فاختلف أصحابنا فيها على ثلاثة أوجه: أحدها: أن المهايأة كانت متقدمة بين الشريكين، فلما أعتق أحدهما حصته أجرى العبد بعد العتق لبعضه عليها ولو لم يكن بين الشريكين فيها مهايأة لم يجز أن يتستأنفها بعد العتق مع الشريك الباقي لنقصان تصرفه. والوجه الثاني: يجوز أن يقيم على المهيأة المتقدمة، ويجز أن يستأنفها مع الشريك الثاني، لأن تصرفه بالحرية كامل في حقه من الكسب. والوجه الثالث: إن كان له كسب مألوف بصناعة معروفة يتماثل فيها كسب أيامه كلها جاز أن يستأنفها مع الشريك، وإن لم يكن له كسب مألوف، لم يجز أن يستأنفها معه وإن جاز ذلك للشريكين في الحالين، لأنهما قد يعدلان عند عدم الكسب إلى الاستخدام، وليس العبد كذلك في حق نفسه عند تعذر كسبه. فإذا صحت المهايأة على ما ذكرناه من الوجوه الثلاثة فهي من العقود الجائزة دون اللازمة، ولكل واحد منهما فسخها متى شاء، وإذا كانا مقيمين عليها، يومًا للعبد، ويومًا للسيد، دخل فيها مألوف الكسب، ومألوف النفقة، فاختص العبد بما كسبه في يومه، ويحمل فيه ما لزمه من نفقته، واختص السيد في يومه بما كسب العبد، ويحمل فيه ما لزمه من نفقته.

فأما غير المألوف من الكسب، كالكنزل واللقطة، وغير المألوف من النفقة، كزكاة الفطر، ففي دخولها في المهاياة وجهان: أحدهما: وهو الظاهر من مذهب الشافعي، وقول أبي سعيد الاصطخري أنهما داخلان في المهيأة، كالمألوف منها، فإن كانا في يوم العبد اختص بالكنزل، واللقطة، وتحمل زكاة الفطر وإن كانا في يوم السيد اختص بذلك دون العبد. والوجه الثاني: وهو محكي عن أبي إسحاق المروزي، أنهما لا يدخلان في المهيأة لأنه قد يكون هذا في زمان أحدهما دون الآخر، فلا يتساويان فيه، ويكون حدوث ذلك في زمان أحدهما، موجبًا لأن يكون بينهما وإن كان ما عداهما من المألوف جاريًا على المهايأة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «وإن مات وله وارث ورثه بقدر ولائة فإن مات له مورث لم ييرث منه شيئًا (قال المزني) القياس أن يرث من حيث يورث، وقد قال الشافعي: إن الناس يرثون من حيث يورثون وهذا وذاك في القياس سواء». قال الماوردي: وهذه المسألة فيمن عتق بعضه، ورق بعضه، هل يرث ويورث؟ وهما فصلان: أحدهما: هل يرث إذا مات له موروث، أم لا؟. وفيه بين الصحابة رضي الله عنهم خلاف محكي عن ابن عباس انه يرث كالحر ميراثًا كاملًا، وبه قال أبو يوسف، ومحمد، وحكي عن علي عليه السلام أنه يرث بقدر ما فيه من الحرية، ويحجب بقدر ما فيه من الرق، وبه قال المزني، وعثمان البتي، وذهب بقية الصحابة، وجمهور التابعين والفقهاء إلى أنه لا يرث إذا كان فيه جزء من الرق وإن قل، لأنه لما جرت عليه أحكام الرق فيما سوى الميراث، من نكاحه وطلاقه، وولايته، وشهادته، جرت عليه أحكام الرق في ميراثه، ولأن الرق مانع من الميراث، فإذا لم يزل الرق لم يزل مانع الميراث. قال المزني: «القياس أن يرث من حيث يورث». قيل: قد يورث من لا يرث، كالجنين يورث ولا يرث، والعمة تورث ولا ترث، والجدة أم الأم، ترث ولا تورث، فلم يكن هذا قياسًا مستمرًا في غير المعتق بعضه، فلم يزل في المعتق بعضه. فإن قيل: فقد قال الشافعي: «الناس يرثون من حيث يورثون» قيل له: لم يقله الشافعي تعليلًا عامًا، فيجعله قياسًا مستمرًا، وإنما قال ردًا على من ألحق الولد بماء أبيه ولم يورث كل واحد منهم ميراث أب، وورث الولد من كل واحد منهم، ميراث ابن، فقال: الناس يرثون من حيث يورثون؛ لنه كمل النسب، ولم يكمل الميراث فتوجه الرد به للشافعي، ولم يتوجه الرد به للمزني. فصل وإذا مات هذا الذي تبعضت فيه الحرية والرق هل يورث أم لا؟

قال الشافعي في القديم: لا يورث، وهو قول مالك، ويكون ماله لسيده، لأنه إذا لم يرث بحريته، لم يورث بها. وقال في الجديد: يكون موروثًا عنه لورثته دون سيد رقه، لأن السيد لا يملك ذلك عنه في حياته، فلم يملكه بعد موته. وقال في موضع ثالث: يكون ماله بين ورثته، وسيد رقه بقدر حريته ورقه. فاختلف أصحابنا في هذه النصوص الثلاثة. فكان أبو إسحاق المروزي في طائفة يخرجون هذه النصوص الثلاثة على ثلاثة أقاويل: أحدهما: تكون لسيدة دون ورثته. والثاني: تكون لورثته دون سيده. والثالث: تكون بينهما تورث عنه بقدر ما فيه من الحرية، ويكون للسيد بقدر ما فيه من الورق، تعليلًا بما ذكرناه. وكان أبو علي بن أبي هريرة، وطائفة من بعض البصريين، يمتنعون من تخريج هذه النصوص على اختلاف الأقاويل، ويحملونها على اختلاف الأحوال، والذي نص عليه أنه يكون لسيدة، فإذا كان قد مات في زمن سيده وقد استهلك ما كان قد ملكه بحريته يكون ماله لسيده دون ورثته، والذي نص عليه أن يكون لورثته إذا كان قد مات في زمان نفسه، وقد أخذ السيد ما ملكه عند برقه، فيكون ما له لورثته دون سيده، ويكون بينهما إذا كان غير مهايأة، وفي يده مال بالحقين، كان بين الورثة والسيد ميراثًا بالحرية، وملكًا بالرق. وقال أبو سعيد الإصطخري، يكون جميع ما يخلفه في الأحوال كلها بالحرية، والرق، منتقلًا إلى بيت المال، لا يملكه السيد، لأنه لا حق له في حريته، ولا يستحقه الورثة، لبقاء أحكام رقه، فكان بيت المال أولى لاجهات باستحقاقه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «فإن قال قائل لا تكون نفس واحدة بعضها عبدًا وبعضها حرًا كما لا تكون امرأة بعضها طالقًا وبعضها غير طالق قيل له أتتزوج بعض امرأة كما تشتري بعض عبد أو تكاتب المرأة كما تكاتب العبد أو يهب امرأته كما يهب عبده فيكون الموهوب له مكانه؟ قال: لا، قيل: فما أعلم شيئًا بعد من العبد مما قسته عليه». قال الماوردي: قصد الشافعي بهذا أبا حنيفة، وابن أبي ليلي في وجوب السعاية، حين منعا أن تكون نفس واحدة بعضها حر وبعضها مملوك، لأن من منع من اجتماع الحرية والرق، أوجب السعاية ومن جوز اجتماعهما لم يوجبها؛ والشافعي ومالك لا يمنعان من اجتماعهما؛ فلذلك لم يوجبها السعاية وأبو حنيفة وابن أبي ليلي منعًا من اجتماعهما؛ فلذلك أوجبا السعاية وكان من دليلهم على المنع من اجتماعهما شيئان: أورد الشافعي أحدهما وانفصل عنه، واعرض عن الآخر، لأنه أضعف منه. فأما الذي أورده الشافعي إن قالوا: لا يجوز أن تكون نفس واحدة بعضها حر، وبعضها رق، لتنافي أحكام الحرية والرق، كما لا يجوز أن تكون امرأة واحدة بعضها

طالق، وبعضها غير طالق، لتنافي أحكام الزوجية والطلاق. فانفصل الشافعي عنه بالفرق المانع من الجمع بين الزوجة، والعبد من وجهين: أحدهما: أن الاشتراك في العبد بأن يملكه جماعة يجوز لأن الرق يجوز أن يتبعض، والاشتراك في الزوجة بأن يتزوجها جماعة، لا يجوز لأن النكاح لا يجوز أن يتبعض، فلذلك جاز أن يكون العبد بعضه حر وبعضه مملوك، لأن رقه يتبعض في مالكيته فيتبعض في أحكامه، ولم يجز أن تكون الزوجة الواحدة بعضها طالق، وبعضها غير طالق، لأن نكاحها لا يتبعض في الأزواج، فلم يجز أن يتبعض في أحكامه. والفرق الثاني: أن العبد مملوك يجوز أن يباع ويورث ويوهب، لأن المقصود منه الملك، والملك يجوز أن يتبعض والزوجة غير مملوكة، لا يجوز أن تباع ولا توهب ولا تورث لأن المقصود منها الاستمتاع، والاستمتاع لا يجوز أن يتبعض. وأما الثاني: من استدلالهم الذي أعرض عنه الشافعي، أن قالوا: ايمان أصل للحرية، والكفر أصل للرق، فلما لم يجز أن يجتمع الإيمان والكفر في النفس الواحدة، لم يجز أن تجتمع الحرية والرق في النفس الواحدة. وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: انه ليس الكفر موجبًا للرق، لأنه قد يكون الكافر حرًا، ولا إيمان موجبًا للحرية، لأنه قد يكون المؤمن مسترقًا، وإنما كانا سببًا لهما يزولان مع بقائهما. والثاني: أنه لما جاز أن يطرأ الإيمان على رق ثابت، ولم يجز أن يطرأ الإيمان على كفر ثابت لم يجز أن يجتمع الإيمان والكفر، وجاز أن يجتمع الحرية والرق. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «ولو أعتق شريكان لأحدهما النصف وللآخر السدس معًا أو وكلا رجلا فأعتق عنهما معًا كان عليهما قيمة الباقي لشريكيهما سواء لا أنظر إلى كثير الملك ولا قليله (قال المزني) هذا يقضي لأحد قوليه في الشفعة أن من له كثير ملك وقليله في الشفعة سواء». قال الماوردي: وصورتها: في عبد مشترك بين ثلاثة لأحدهم نصفه وللآخر ثلثه وللآخر سدسه، وأعتق صاحبا النصف والسدس حقهما معًا واجتماعهما عليه يكون من أحد ثلاثة أوجه: أحدها: أن يجتمعا على اجتماع اللفظين حتى لا يتقدم أحدهما على الآخر بحرف، ولا مد ولا تشديد. والثاني: أن يعلقا عتقه بصفة واحدة، كقول كل واحد منهما: إن دخل هذا العبد الدار، أو طار هذا الغراب فنصيبي منه حر، فإن دخل الدار، أو طار الغراب عتق نصيبهما معًا. والثالث: أن يوكلا في عتقه وكيلًا، فيعتقه عنهما بلفظ واحد، فإذا اجتمع عتقهما من أجل هذه الوجوه الثلاثة، وكانا موسرين، قومت حصة الثالث، وهي الثالث، عليهما بالسوية نصفين. وكان ولاؤه بين المعتقين فيصير لصاحب النصف ثلثا ولائه، ولصاحب السدس ثلث ولائه، ولا يعتبر فيهما قدر الملكين ويسوي بين من قل سهمه، وكثر.

وقال مالك: يقوم عليهما بقدر الملكين، ويفضل بينهما لتفاضلهما في المالين، لأن التقويم مستحق بسراية عتقهما، وسراية كثير العتق أكثر من سراية قليلة. ودليلنا رواية ابن عمر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من أعتق شركًا له في عبد وكان له مال قوم عليه» فاستوى فيه الواحد، والجماعة، لإطلاق أمره، ولأنهما قد اشتركا في إدخال الضرر على شريكهما بقليل الملك وكثيره، لأن قليله مدخل للضرر عليه مثل كثيره، فوجب أن يستويا في التقويم الموجب لرفع ضررهما، ولأن عتقهما يجري مجرى الجناية منهما، وهما لو اشتركا في جناية تفاضلا في عدد جراحها فجرحه أحدهما جراحة، وجرحه الآخر مائة جراحة كانت الدية بينهما على أعدادهما، ولا تتقسط على أعداد جراحهما، كذلك العتق يجب أن يكون معتبرًا، بأعداد المعتقدين، ولا يتقسط على أملاك المعتقين، وسراية العتق كسراية الجناية، فلم يسلم لمالك استدلاله. فأما المزني فإنه قال: «إذا استويا في التقويم مع تفاضلهما في الملك وجب أن يكونا في الشفعة، كذلك إذا تفاضلا في الملك أن يستويا في الأخذ». قيل في الشفعة قولان: أحدهما: أن الأمر فيها على هذا، وأن يشترك صاحب النصف والسدس فيها بالسوية كالعتق. والقول الثاني: أنهما يتفاضلان فيها بقدر المالين، وإن تساويا في العتق. والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن الشفعة مستحقة بالملك، فتقسط عليه، والتقويم مستحق بالعتق، فاستويا فيه. والثاني: ان استحقاق الشفعة لإزالة الضرر بالتزام مؤونة القسم وغيره، والمؤونة معتبرة بالملك، فتقسطت الشفعة على الملك، والتقويم مستحق بدخول الضرر بالعتق، الجاري مجري الجناية، فتقسطت على المعتقين، دون الملك؛ ولو كانت المسألة بحالها، وكان صاحب النصف موسرًا، ومعتق السدس معسرًا، قومت الحصة كلها على معتق النصف، ولو كان معتق السدس موسرًا ومعتق النصف معسرًا، قومت الحصة كلها على معتق السدس، ولو كانا معسرين، لم تقوم على واحد منهما، وكانت الحصة على رقها لمالكها، فلو ادعي عليها اليسار فأنكراه حلفا له، ولا تقويم عليهما، وفي عتق الحصة على مالكها بهذه الدعوى قولان: يعتق عليه في احدهما، إذا قيل إن العتق في حصته يقع بالسراية، ولا يعتق عليه في الثاني إذا قيل إنها لا تعتق، إلا بدفع القيمة. ولو ادعي أحد المعتقين على الآخر اليسار، فإن كان المدعي معسرًا، لم تسمع دعواه، لأنها غير مؤثرة في حقه وتسمع من مالك الحصة، لتأثيرها في حقه، ولو كان موسرًا سمعت دعواه، لأنه يصير بيساره مشاركًا له في تحمل القيمة، ولا يسمع من مالك الحصة هذه الدعوى، لأنها غير مؤثرة في حقه. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «وإذا اختلفا في قيمة العبد ففيها قولان

أحدهما أن القول قول المعتق والثاني أن القول قول رب النصيب لا يخرج ملكه منه إلا بما يرضي (قال المزني) قد قطع الشافعي في موضع آخر بأن القول قول الغارم وهذا أولى بقوله وأقيس على أصله على ما شرحت من أحد قوليه لأنه يقول في قيمة ما أتلف أن القول قول الغارم ولأن السيد مدع للزيادة البينة والغارم منكر فعليه اليمين». قال المارودي: قد ذكرنا أن قيمة حصة الشريك معتبرة بوقت العتق على الأقاويل كلها، ولا اعتبار بما حدث بعده من نقصان، لأن عتقه متردد بين أن يكون إتلافًا، أو سببًا للإتلاف، وكل واحد منهما موجب لاعتبار القيمة عند حدوثه، كالجناية على العبد إذا كانت قتلًا، أو سببًا أفضى إلى القتل، وتعتبر قيمته قتل عتق بعضه، لأن عتق البعض موكس لقيمته، وهذا الوكس بعتقه الجاري مجري جنايته، فأما ما حدث بعد العتق من زيادة في قيمة الحصة فمحمول على الأقاويل الثلاثة في نفوذ عتقها فإن قيل: إنها عتقت بلفظ المعتق، لم يضمنها المعتق، وكذلك إن قيل بالثاني إن عتقها موقوف مراعي لم يضمنها، لأن دفع القيمة يدل على تقدم عتقها، وغن قيل: إنها تعتق بدفع القيمة ومعها ففي ضمان المعتق لها حدث من زيادة القيمة، بعد عتقه وقبل دفعها، وجهان: أحدهما: لا يضمنها، لأن سبب الإتلاف في اعتبار القيمة كالإتلاف. والوجه الثاني: يضمن الزيادة دون النقصان، كالغاصب في ضمانه لأكثر القيمة، لأن الزيادة حادثة على ملك الشريك فلم يجز أن يستهلك عليه بغير عوض. فصل فإذا تقرر ما وصفناه في اعتبار القيمة، فاختلفا فيها فقال: المعتق مائة، وقال الشريك مائتان. فإن كان العبد باقيًا لم تتغير قيمته بتطاول الزمان، فلا اعتبار باختلافهما ويقومها ثقتان من أهل الخبرة، فإذا قوماها لم يخل حال ما ذكرناه من القيمة من خمسة أقسام: أحدها: أن يوافق ما أقر به المعتق، وهو المائة فلا يلزمه غيرها، ولا يمين عليه فيها. والثاني: أن يوافق ما ادعاه الشريك وهو المائتان فيستحقها ولا يمين عليه فيها. والثالث: أن يكون وسطًا بينهما، غير موافقة لواحد منهما، وذلك بأن تقوم مائة وخمسين، فيحكم بها عليهما ولا يستحق الشريك أكثر منهما، ولا نقتنع من المعتق بأقل منهما. والرابع: أن تكون زائدة على أكثرهما، وذلك بان تقوم بمائتين وخمسين، فلا يحكم للشريك إلا بمائتين، لأنه بالاقتصار عليها مبرَّأٌ من الزيادة عليها. والخامس: أن تكون ناقصة عن أقلهما وذلك بأن تقوم بخمسين، فلا نقتنع من المعتق بأقل من مائة، لأنه قد أقر بها، وإن تعذر تقويمه في زمان العتق، إما لموته، أو غيبته، وإما لتغير أحواله بالكبر بعد الصغر، أو بالمرض بعد الصحة، أو بالزمانة بعد السلامة، ففي اختلافها في القيمة قولان:

أحدهما: أن القول فيها قول المعتق مع يمينه، إذا قيل: إن عتقه قد يسري إلى حصة الشريك بلفظه، لأنه يصير غارمًا. والقول في الغرم قول الغارم. والقول الثاني: أن القول فيها قول الشريك مع يمينه، إذا قيل: ببقاء ملكه، إلى أن يأخذ قيمة حصته، لأن له عليها يدًا لا تنتزع مع عدم البينة، إلا بقوله كالثمن في الشفعة، إذا اختلف فيه الشفيع والمشتري كان القول فيه قول المشتري. وقال الربيع في كتاب «الأم»: وفيه قول آخر أنهما يتحالفان كما يتحالف المتبايعان إذا اختلفا وهو من تخريجه وليس بقول للشافعي، لأن تحالف المتبايعين موجب لارتفاع العقد فأفاد وتحالف هذين غير موجب لرفع العتق، فلم يفد وهما بعد التحالف عليه باقيان على الاختلاف فيها. وأما المزني فإنه أعاد نصرة اختياره، وفي بعض ما مضي من كلامه وجوابه مقنع. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «ولو قال هو خباز وقال الغارم ليس كذلك فالقول قول الغارم». قال الماوردي: وصورتها: أن يجب على المعتق قيمة حصة شريكه فيدعي الشريك أن العبد كان صانعًا خبازًا، أو نجارًا، أو كاتبًا فله القيمة الزائدة بصنعته، ويقول المعتق هو غير صانع فلك القيمة من غير زيادة بصنعته، فللعبد حالتان: حي وميت. فإن كان ميتًا فقد قال الشافعي: القول قول المعتق الغارم فاختلف أصحابنا فيه على طريقين: إحداهما: أنه على قولين، لأنه اختلاف في قدر القيمة، فكان على القولين الماضيين، وغنما نص الشافعي على أحدهما. والطريقة الثانية: أن القول فيه قول المعتق الغارم قولًا واحدًا لن الشريك يدعي حدوث صنعة ليست في الخلقة، والأصل أن ليست فيه هذه الصنعة، فكان القول فيه قول منكرها دون مدعيها، وإن كان العبد حيًا يمكن اختبار حاله اختبرت فيه تلك الصنعة فإن كان لا يحسنها ردت دعوى الشريك، فيها ولا يمين له على المعتق، ولا تلزمه إلا قيمته غير صانع، فإن قال الشريك قد كان يحسن الصنعة، وقت العتق لكنه نسيها بعلة، فإن كان زمان العتق قريبًا؛ لا تنسي الصنعة في مثله لم نسمع منه هذه الدعوى، وإن تطاول وجاز أن تنسي تلك الصنعة في مثله سمعت منه وأحلف عليها المعتق، ولم يلزمه إلا قيمته غير صانع. ولو قال الشريك هو يحسن هذه الصنعة، ولكنه قد كتمها، وامتنع من إظهارها. فقوله محتمل، وهو منسوب إلى العبد دون المعتق، لكن لا يجوز أن يدعيه على العبد، لأنه لا يجب به عليه حق، ولا يدعيه على المعتق، لأنه منسوب إلى غيره إلا أن يدعي عليه علمه بكتمانه فتتوجه الدعوى إليه، ويحلف على النفي أنه كتم ما يحسن، ولو اختبر العبد فكان يحسن الصنعة نظر، فإن قصر زمان ما بين العتق والتقويم عن تعلم تلك الصنعة، ثبت تقدمها، ولم يحلف الشريك عليها، واستحق قيمته صانعًا، وإن

تطاول واتسع لتعلم تلك الصنعة، صار تقدمها داخلًا في الجواز فصار كادعائها في ميت، فيكون على ما قدمناه من الميت في اختلاف أصحابنا على الطريقين: أحدهما: أنه على قولين. والطريق الثاني: أن القول قول المعتق مع يمينه بالله. أنه كان وقت العتق غير صانع، ولم يحلف أنه غير صانع كما يحلف في الميت والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «ولو قال هو سارق أو آبق وقال الذي له الغرم ليس كذلك فالقول قوله مع يمينه وهو على البراءة من العيب حتى يعلم (قال المزني) قد قال في الغاصب إن القول قوله أن به داء أو غائلة والقياس على قوله في الحر يجني على يده فيقول الجاني، هي شلاء أن القول قول الغارم». قال الماوردي: قد مضي اختلافهما في الصنعة الزائدة، وهذه المسألة في اختلافها في عيب ينقص من القيمة فيدعي المعتق أنه كان سارقًا، أو آبقًا، فعليه قيمة عبد سارق، أو آبق ويقول الشريك كان سالمًا ليس بسارق، ولا آبق. قال الشافعي: القول فيه قول الشريك المالك مع يمينه أنه غير سارق، ولا آبق وله قيمة عبد سليم، فاختلف أصحابنا فيه على طريقين: أحدهما: أنه على قولين. والطريق الثاني: أن القول فيه قول المالك، وإن كان في الزيادة القول فيها قول الغارم فيختلف حكم الزيادة، والنقصان، فيكون في الزيادة بالصنعة القول قول منكرها، وهو الغارم، لأن الأصل عدم الزيادة ويكون في النقصان بالعيب القول قول منكرها، وهو المالك لأن الأصل السلامة من العيب فأما الغاصب إذا اختلف مع المالك في قيمة العبد المغصوب فادعي الغاصب أنه به داء، أو غائلة فقد حكي المزني عن الشافعي أن القول فيه قول الغاصب، دون المالك وجعل في ضمان العتق القول فيه قول المالك دون المعتق وضمان الغاصب والمعتق سيان فاختلف أصحابنا في اختلاف هذين الجوابين مع تساوي الضمانين على وجهين: أحدهما: أن دعوى الغاصب كانت في نقص يعود إلى أصل الخلقة من شلل، أو خرس يجوز أن يكون خلقة فيه، وطارئًا عليه، فكان القول فيه قول الغاصب الغارم، دون المالك، لأن المالك قد يقدر على إقامة البينة، أنه لم يكن به شلل ولا خرس، ولو كان مثل ذلك في دعوى المعتق لكان القول فيه قوله دون المالك كالغاصب. والذي قاله في دعوى المعتق أن القول فيه قول المالك كان في ادعاء نقص طارئ، ليس من أصل الخلقة، كالإباق والسرقة، لأنه لم يخلق سارقًا ولا آبقًا فالقول فيه قول المالك دون المعتق، لأنه لا يقدر على إقامة البينة، أنه ليس بسارق ولا آبق، ولو كانت مثل هذه الدعوى من جهة الغاصب، كان القول فيها قول المالك كالمعتق. والوجه الثاني: أن القول في الغصب قول الغاصب في النقض والقول في العتق قول المالك في النقصين والفرق بين الغصب، والعتق: أن الغصب استهلاك محصن لا

يملك بغرمه شيئًا، فجعل القول فيه قول المستهلك والعتق معاوضة يملك المعتق به الولاء، فجعل القول فيه قول المتعوض فأما ما ذكره المزني في الجناية على الأعضاء، فإن كانت على أعضاء ظاهرة يمكن المجني أن يقيم البينة على سلامتها، فالقول في نقصها قول الجاني. وإن كانت على أعضاء باطنة، يتعذر إقامة البينة على سلامتها، ففي نقصها إذا ادعاه الجاني قولان ذكرناهما في الجنايات. والله اعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «وإذا أعتق شركًا له في مرضه الذي مات فيه عتقًا بتاتًا ثم مات كان في ثلثه كالصحيح في كل ماله». قال الماوردي: وأصل هذا أن العتق في المرض المخوف الذي يتعقبه الموت معتبر في ثلث المعتق، فإن احتمله الثلث تحرر العتق، ونفذ، وإن عجز عن الثلث رد، وعاد المعتق رقيقًا، وهو قول جمهور الأئمة وحكي عن مسروق أنه من رأس المال وأصل التركة لصدقات الزوجات، وما يصرفه في النفقات والشهوات وهذا خطأ خالف به من سواه. والنص الوارد فيه برواية عمران بن الحصين أن رجلًا أعتق ستة أعبد له عند موته، وليس له مال غيرهم، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعاهم، وجزأهم ثلاثة أجزاء، فأعتق اثنين وأرق أربعة، وهذا نص يدفع كل خلاف. فإذا أعتق المريض شركًا له في عبد كان عتقه معتبرًا من ثلث ماله، كما يكون عتق الصحيح من كل ماله، ويسري عتقه إلى حصة شريكه إذا احتملها الثلث، كما يسري عتق الصحيح إذا احتمله كل ماله. وإذا كان كذلك لمي حل حال الثلث من خمسة أقسام. أحدهما: أن يتسع الثلث لعتق المباشرة، وعتق السراية، فينفذ العتق في جميعه بالمباشرة ثم بالسراية، ويؤخذ من ثلثه قيمة حصة الشريك، ويكون له جميع ولائه. والقسم الثاني: أن يعجز الثلث عن عتق المباشرة، وعتق السراية لاستحقاق تركته في دينه، ويرد عتقه في جميعه بالمباشرة، وبالسراية، ويعود إلى الرق، ويباع في الدين. والقسم الثالث: أن يتسع الثلث لأحد المعتقين، ويعجز عن الآخر، فيجعل الثلث مصروفًا في عتق المباشرة دون عتق السراية، لأن عتق المباشرة أصل وعتق السراية فرع كعتق المعسر. والقسم الرابع: أن يتسع الثلث لأحدهما، وبعض الآخر، فيكمل عتق المباشرة، ويجعل النقص في عتق السراية كعتق من أيسر ببعض حصة شريكة. والقسم الخامس: أن يتسع الثلث لبعض أحدهما، ويعجز عن الباقي، فيجعل البعض نافذًا في عتق المباشرة، ويرد الباقي في عتق المباشرة، ويبطل عتق السراية، فلو قال الورثة: نحن نمضي عتق المباشرة، ونغرم عتق السراية كان لهم تكميل العتق في

باب في عتق العبيد لا يخرجون من الثلث

المباشرة، ولم يكن لهم تجاوزه إلى عتق السراية، لأن المعتق معسر به، وهو لو أراد ذلك في جناية منع، فكان ورثته بالمنع أحق. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «ولو أوصي بعتق نصيب من عبد بعينه لم يعتق بعد الموت منه إلا ما أوصي به». قال الماوردي: وهذا صحيح: إذا وصي بعتق شرك له في عبد أن يعتق عنه بعد موته، كان عتق حصته معتبرًا في ثلثه، ومستحق تحريرها على ورثته، ولا يعتق عليه بالموت حتى يعتقها الورثة عنه، ولو قال: إذا مت، فنصيبي منه حر عتق عليه بالموت، ولم يعتبر فيه عتق الورثة له لأنه جعل الموت في هذا صفة للعتق، وجعل الموت في ذلك وصية بالمعتق، ثم يستويان في اعتبارهما من الثلث، فإذا احتمل الثلث قيمة نصيبه عتق عليه، ولا يسري العتق بعد الموت إلى حصة شريكه، وإن كان الثلث متسعًا لقيمتها، لأن ملكه قد زال عنه بالموت إلا قدر ما استثناه في وصيته، فلو وصي بعتق نصيبه بعد موته، وبعتق نصيب شريكه، قال أبو حامد الإسفراييني تصح وصيته بعتقها إذا احتملها الثلث؛ لنه بالوصية مستثني لهما من ماله، فصار موسرًا بهما كالحر، فصار عتق نصيبه مباشرة، وعتق نصيب الشريك سراية، وهذا عندي ليس بصحيح، بل تصح الوصية بعتق نصيبه، ولا تسري إلى نصيبه شريكيه لأمرين: أحدهما: أنه موصي بعتق ملك غيره، فلم يلزم غيره. والثاني: أن عتق السراية ما سري بغير اختيار ولا وصية، وهذا موجود في عتق الحي، ومعدوم في عتق الميت، ولكن لو كان الموصي يملك جميع العبد، فوصي بعتق بعضه بعد موته، ففيه وجهان من اختلاف أصحابنا في الحي إذا أعتق بعض عبده، هل ينفذ العتق في جميعه مباشرة أو سراية؟ فأحد الوجهين: أنه يعتق عليه جميع العبد مباشرة، فإذا أوصي بعتق بعضه عتق عليه جميعه. والوجه الثاني: يعتق باقيه على الحي بالسراية، فإذا أوصي بعتق بعضه عتق ذلك البعض، ولم يسر إلى جميعه، وإذا عجز الثلث عن عتق ما أوصي به رد العتق إلى ما اتسع له الثلث إلا أن يمضيه الورثة فيما زاد على الثلث، فيمضي عتقه وبالله التوفيق. باب في عتق العبيد لا يخرجون من الثلث مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «ولو أعتق رجل ستة مملوكين له عند الموت لا مال له غيرهم جزئوا ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم كما أقرع النبي - صلى الله عليه وسلم - في مثلهم وأعتق اثنين ثلث الميت وأرق أربعة للوارث وهكذا كل ما لم يحتمل الثلث أقرع بينهم ولا سعاية لأن في إقراع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينهم وفي قوله إن كان معسرًا فقد عتق منه ما عتق إبطالًا للسعاية من حديثين ثابتين. وحديث سعيد بن أبي عروبة في السعاية ضعيف

وخالفه شعبه وهشام جميعًا ولم يذكروا فيه استسعاءً وهما أحفظ منه». قال الماوردي: إذا أعتق في مرض موته عبيدًا لا يملك غيرهم، ولم يمض الورثة عتقهم جزئوا ثلاثة أجزاء بالعدد إن تماثلوا، أو بالقيمة إن تفاضلوا على ما سنصفه من بعد، وأقرع بينهم لتتميز الحرية بها، ويتميز الرق بها في ثلثهم، وسواء كانوا ستة أو أكثر أو أقل وإنما ذكر الشافعي الستة إتباعًا للخبر، فإذا جزأهم، وهم ستة جعل كل اثنين جزءًا، وأقرع بينهم، فأعتق اثنين، جمعهما جزء خرجت عليه قرعة الحرية، وأرق أربعة جمعهم جزءان خرجت عليهم قرعة الرق. وقال أبو حنيفة: لا تجزئه، ولا قرعة، ويعتق من كل واحد منهم ثلاثة، ويستسعيا في قيمة باقية، لتتكامل حريته بالعتق والسعاية، فخالفنا في ثلاثة أحكام: أحدها: التجزئة لتتكامل بها حرية بعضهم، ورق بعضهم، فنحن نجزئهم، وهو لا يجزئهم. والثاني: تمييز الحرية من الرق بالقرعة نحن نقرع لتمييزهما، وهو لا يقرع. والثالث: وجوب السعاية ليمنع بها من حرية بعض العبد، ـ واسترقاق بعضه، ونحن لا نوجبها، ويجوز حرية بعضه، واسترقاق بعضه. وأما السعاية، وتبعيض الحرية، والرق، فقد تقدم الكلام فيها. وأما التجزئة والقرعة، فالكلام في هذا الموضع مختص بهما: فأما التجزئة لتتكامل بها الحرية في جزء، ويتكامل بها الرق في جزأين، فمنع منه أبو حنيفة استدلالًا بأمرين: أحدهما: أن العتق في المرض كالوصية لاعتبارهما في الثلث، وقد ثبت الإجماع أنه لو أوصي بستة أعبد لا مال له غيرهم أمضيت الوصية في ثلث كل واحد منهم، ولا يكمل في اثنين منهم وجب أن يكون عتقهم بمثابته في حرية الثلث من كل واحد منهم، ولا يكمل في اثنين منهم. والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن المقصود بالوصية التمليك، وهو موجود في الاشتراك، فلم يلزم تكميله بالقرعة، والمقصود بالرق إزالة أحكام الرق، وهو غير موجود في الاشتراك، فلم يلزمه تكميله بالقرعة. والثاني: أن الموصي لم يقدر على إجازة حقه بالقسمة، فاستغني عن تكميله بالوصية، والمعتق لا يقدر على ذلك، فافتقر إلى تكميله بالقرعة. والاستدلال الثاني: أن قالوا: إن حكم المريض في ثلث ماله كحكم الصحيح في كل ماله، ثم ثبت أن الصحيح لو ملك الثلث من ستة أعبد، فأعتقهم لم يكمل عتقه في اثنين منهم، وعتق من كل واحد منهم ثلثه وهو قدر ما يملكه، فوجب مثله في المريض إذا ملكهم، وأعتقهم، وحقه في الثلث منهم أن يعتق من كل واحد منهم ثلثه ولا يكمل عتقه في اثنين منهم. والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن مالك الثلث يكون مكملًا لهم من ملك غيره فمنع والمريض يكمل للثلث في ملك نفسه، فلم يمنع. والثاني: أن مالك الثلث لو عين عتقه في اثنين منهم لم يجز، والمريض لو عين عتقه في اثنين منهم جاز فافترقا.

فصل وأما القرعة التي تتميز بها الحرية من الرق، فمنع منها أبو حنيفة استدلالًا بأمرين: أحدهما: أن القرعة رجم بالغيب تنقل الحرية إلى الرق، والرق إلى الحرية، فجرت مجرى الأزلام التي منع منها الشرع بقوله تعالى: {إنَّمَا الخَمْرُ والمَيْسِرُ والأَنصَابُ والأَزْلامُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن القرعة إنما دخلت لتمييز عتق مطلق غير معين فلم تنقل الحرية إلى رق، ولا رقًا إلى حرية، ألا ترى عين العتق في اثنين منهم لم ينقل بالقرعة إلى غيرهم. وإنما يقرع إذا أطلق العتق في الستة، واستحق في اثنين منهم دخلت لتمييز ما يعتق، ويرق. والثاني: أن القرعة خارجة عن حكم الأزلام التي هي رجم بالغيب؛ لأنهم كانوا يعتقدون في الأزلام أنها هي الآمرة، وهي الناهية، وكانوا يكتبون على أحدهما: أمرني ربي، وعلى الآخر: نهاني ربي، وآخر يجعلونه عقلًا، ويجرونها مجاري النجوم التي يعتقد المنجم أنها هي الفاعلة، فنهي الله تعالى عنها، ولم يرد الشرع بإباحة شيء منها. والقرعة مميزة لحكم وجب بالشرع، لأنها قد عمل بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الشرع، ووافق عليها في كثير من الأحكام، فلم يجز أن تجعل القرعة التي ورد الشر عبها مجرى الأزلام التي نهي الشرع عنها. والاستدلال الثاني: أن قالوا لو كانت القرعة دليلصا لم تتناقض، لأن أدلة الله لا تتناقض، واستعمال القرعة موجب للتناقض، لأنها لو أعيدت ثانية لخرجت بغير ما خرج به الأول، فلم يجز أن تستعمل. والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنه لما لم يمنع هذا المعني من دخول القرعة في قسمة الأملاك لم يمنع منها في العتق. والثاني: أنه لا تناقض فيها، لأنها لا تستعمل إلا مرة، فكانت دليلًا في الأول، ولم تكن دليلًا في الثاني فلم يدخلها إذا كانت دليلًا تناقض وإن دخلها إن لم تكن دليلًا تناقض. فصل والدليل على صحة ما ذهبنا إليه في الأمرين من التجزئة والقرعة من وجهين: نص واستدلال. فأما النص: فوارد من طريقين اثنين: أحدهما: عن عمران بن الحصين رواه الشافعي عن عبد الوهاب بن عبد الحميد عن أبي قلابة عن أبي المهلب عن عمران بن الحصين: أن رجلًا من الأنصار أعتق عند موته ستة مملوكين ليس له مال غيرهم، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، «فقال قولًا شديدًا ثم دعاهم، فجزأهم ثلاثة أجزاء، فأقرع بينهم، فأعتق اثنين، وأرق أربعة». والطريق الثاني: عن أبي سعيد الخدري رواه حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن

سعيد بن المسيب عن أبي سعيد الخدري: أن رجلًا أعتق ستة مملوكين عند موته، فرفع ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «فأقرع بينهم، فأعتق اثنين، ورد أربعة إلى الرق». فدل هذا الحديث على ثلاثة أحكام خالف فيها أبو حنيفة: أحدها: أنه جزأهم ثلاثة أجزاء، لتتكامل الحرية والرق، وأبو حنيفة لا يجزئهم. والثاني: أنه أقرع بينهم لتمييز الحرية من الرق، وأبو حنيفة لا يقرع بينهم. والثالث: أنه كمل الحرية في اثنين، والرق في أربعة، وأبو حنيفة يعتق من كل واحد ثلثه، ويرق ثلثيه، وما خالف النص كان مدفوعًا. فإن قالوا: معني هذا الحديث مستعمل في غير ما قلتموه، وهو أن قوله: «جزأهم ثلاثة أجزاء» أي: جعل جزءًا حرية، وجزأين رقًا. وقوله: «أقرع بينهم» أي: استقصاء في اعتبار القيمة اشتقاقًا من المقارعة، لا من القرعة مأخوذ من قولهم: قرع فلان فلانًا إذا استقصي عليه. وقوله: أعتق اثنين، وأرق أربعة أي أعتق سهمين، وأرق أربعة أسهم. قيل: هذا تأويل معدو لبه عن الظاهر بغير دليل، ويبطل بالدليل. أما قولهم: إن معني جزأهم أي جعل جزءًا حرية، وجزأين رقًا، فليس بصحيح، لأن هذه تجزئة الأحكام دون الأعيان، وحمل التجزئة على الأعيان أولى من حملها على الأحكام؛ لأمرين: أحدهما: أن تجزئة الأحكام معلومة بالعتق، فاستغنت عن تجزئة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والثاني: أنها فعل، والفعل متوجه إلى الأعيان دون الأحكام. وأما قولهم: إن معني أقرع أي استقصي في القيمة، فليس بصحيح من وجهين: أحدهما: أنه لو أعتق من كل واحد ثلثه، لم يحتج إلى اعتبار القيمة. والثاني: أن القرعة بينهم لا تكون قرعة في قيمتهم. وأما قولهم: «أعتق اثنين» أي: سهمين «وأرق أربعة» أسهم فليس بصحيح من وجهين: أحدهما: أنه لو كان ما قالوه لكان العتق بينهما والرق سهمين. والثاني: أن التجزئة مغنية عن هذا فلم يجز أن يحمل على ما لا يفيد، وهذا مغنٍ عن التجزئة، فلم يجز أن يفعل ما لا يفيد. وأما الاستدلال عليهم فمن وجهين: أحدهما: على جواز التجزئة لتكميل الحرية، وتكميل الرق. والثاني: على جواز القرعة لتمييز الحرية من الرق. وأما الدليل على جواز التجزئة لتكميل الحرية والرق، فمن وجهين: أحدهما: أن التجزئة موافقة لأصول الوصايا أن لا يمضي في الوصايا إلا ما يحصل للورثة إلا مثلاه، فإذا جزئوا أثلاثًا، وعتق منهم اثنان، رق أربعة للورثة، فصار لهم مثلًا ما خرج بالعتق، وإذا أعتق ثلثهم على ما قالوا، واستسعوا في باقيهم خرج بالعتق ما لم يحصل للورثة مثلاه، وتردد مال السعاية بين أن يحصل، فيتأخر به حقوق الورثة، وبين أن لا يحصل، فتبطل به حقوق الورثة، وما أدي إلى واحد منهما كانت الأصول مانعة منه.

والاستدلال الثاني: أن في التجزئة إيصال الورثة إلى حقوقهم من غير التركة، فيصير المعتق مستوعبًا لتركته، وحقه في ثلثها، والوارث ممنوع منها، وقد استحق ثلثيها. وما أدي إلى هذا كان الشرع مانعًا منه. وأما الدليل على جواز القرعة لتمييز الحرية من الرق، فمن وجهين: أحدهما: ما روي أن عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، استشار خارجة بن زيد ابن ثابت، وأبان بن عثمان في القرعة بين العبيد في الحرية والرق، فأشارا عليه باستعمالها فيه، فعمل بها، ولم يظهر في عصره مخالف فيها، فصار قول ثلاثة من التابعين انعقد بهم الإجماع. والاستدلال الثاني: أنه لما استعملت القرعة فيقسمة الأملاك المشتركة ليتميز بها نقل أملاك عن ملاك، كان استعمالها في ملك الواحد ليتميز بها حرية ملكه من رقه أولى من وجهين: أحدهما: أنه في ملك واحد، وذلك في ملك جماعة. والثاني: أن في العتق حقًا لله تعالى، فكان بنفي التهمة أحق. فصل فإذا ثبت ما ذكرنا من تجزئتهم، والإقراع بينهم، فحكمهم موقوف في بقاء المعتق في مرضه لا يجري عليه حكم العتق، لجواز أن يحدث عليه دين يستغرق قيمتهم، فيرقوا، ولا يجري عليهم حكم الرق لجواز أن يفيدها ما لا يخرجون من ثلثه، فيعتقوا ولا يجزؤون، ويقرع بينهم، لأنه غير موروث في حياته، وقد يجوز أن يصح، فلا يورث، وتكون أكساب العبيد المعتقين موقوفة على ما يستبين. فإذا مات المعتق وجبت التجزئة، واستعملت القرعة واعتبر قدر التركة ليكون العتق معتبرًا بثلثها إذا أقنع الورثة من إجازته، ولو كان للمعتق في مرضه مال يخرجون من ثلثه لم يحكم بعتقهم قبل موته، لجواز أن يتلف ماله، فلا يصل إلى ورثته أو يركبه دين يسترقون في قضائه. فصل فإذا مات المعتق، وأقرع بينهم كان من خرج عليه سهم العتق حرًا بلفظ المعتق، وملك جميع أكسابه في حياة معتقه. ومن خرج عليه سهم الرق مملوكًا لم يزل، وجميع أكسابه تركة موروثة، ولا تقع بالقرعة حرية ولا رق، وإنما لتتميز بها الحرية من الرق. وحكي عن مالك أن بالقرعة يقع العتق، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «حين أقرع بين العبيد الستة أعتق اثنين، وأرق أربعة» وهذا المحكي عنه ليس بصحيح من وجهين: أحدهما: أنه لما كان خروجهم من الثلث موجبًا لعتقهم بلفظ المالك، وجب إذا عجز الثلث عنهم أن تكون حرية من عتق منهم بلفظ المالك. والثاني: أن عتقهم بالقرعة مبطل لعتق المالك، وإبطال عتق المالك موجب لإبطال القرعة، وكل حكم علق بسبب أدي ثبوته إلى إبطال سببه، بطل الحكم بإثبات سببه.

باب كيفية القرعة بين المماليك وغيرهم

فأما قولهم: إن النبي - صلى الله عليه وسلم -: «أقرع، فأعتق اثنين، وأرق أربعة»، فلم يكن العتق إلا من المالك، فصارت القرعة تمييزًا للعتق من الرق -والله أعلم-. باب كيفية القرعة بين المماليك وغيرهم مسألة: قال الشافعي رحمه الله: «أحب القرعة إلى وأبعدها من الحيف عندي ان تقطع رقاع صغار مستوية فيكتب في كل رقعة اسم ذي السهم حتى يستوظف أسماءهم ثم تجعل في بنادق طين مستوية وتوزن ثم تستجف ثم تلقي في حجر رجل لم يحضر الكتابة ولا إدخالها في البندق ويغطي عليها ثوب ثم يقال له أدخل يدك فأخرج بندقة فإذا أخرجها فضت وقرئ اسم صاحبها ودفع إليه الجزء الذي أقرع عليه ثم يقال له أقرع على الجزء الثاني الذي يليه وهكذا ما بقي من السهمان شيء حتى تنفد وهذا في الرقيق وغيرهم سواء». قال الماوردي: أعلم أن القرعة تدخل في الأحكام لتمييز ما اشتبه إذا تعذر تمييزه بغيرها، لتزول فيه التهمة، ويخرج عن توهم الممايلة فوجب أن تستعمل على أحوط الممكنات فيها، وهي على ما وصفها الشافعي أحوط ممكن فيها، فاعتبر فما وصفه منها خمسة أشياء مبالغة في الاحتياط، واحترازًا من الحيلة، وبعدًا من التهمة. وقال مالك: كيفما أقرع الحاكم بينهم، ولو بأقلام دواته أجزأ، وهذا عدول عن الاحتياط، وتعرض للارتياب الذي يمنع منه الحكام. واختار الشافعي أن تكون الرقاع في بنادق طين، وهو أولى من الشمع والحديد، لأن الشمع لين تتم فيه الحيلة، والحديد شديد لا ينفتح، وإن لين بالنار ربما أحرقت رقاعه. واختار ثانيًا: بأن تكون البنادق متساوية الوزن والصفة، مدورة قد ملست، لئلا تختلف فتتميز. واختار ثالثاً: أن تجفف حتى تيبس، فلا تتم فيها حيلة. واختار رابعًا: أن توضع مغطاة، ويؤمن من لم يشاهدها بالإخراج حتى لا يرى ما تتوجه به إليه تهمة. واختار خامسًا: أن يكون المخرج قليل الفطنة السلامة ليبعد من الإدغال والحيلة، فهذا أحوط ما يمكن فيها، وليس بعد ما ذكره الشافعي في صفتها من هذه الفصول الخمسة احتياط يؤمر به الحكام، فإن قصر في بعضها أساء، ولم يبطل حكمه. والله أعلم. باب الإقراع بين العبيد في العتق والدين والتبدئة بالعتق مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «ويجزأ الرقيق إذا أعتق ثلثهم ثلاثة أجزاء إذا كانت قيمهم سواء ويكتب سهم العتق في واحد وسهما الرق في اثنين ثم يقال: أخرج على هذا الجزء بعينه ويعرف فإن خرج عليه العتق عتق ورق الجزءان الآخران وإن خرج على الجزء الأول سهم الرق رق ثم قيل أخرج فإن خرج سهم العتق على الجزء الثاني عتق ورق الثالث وإن خرج سهم الرق عليه عتق الثالث وإن اختلفت قيمهم

ضم قليل الثمن إلى كثير الثمن حتى يعتدلوا فإن تفاوتت قيمهم فكان قيمة واحدة مائة وقيمة اثنين مائة وقيمة ثلاثة مائة جزأهم ثلاثة أجزاء ثم أقرع بينهم على القيم فإن كانت قيمة واحد مائتين واثنين خمسين، وثلاثة خمسين فإن خرج سهم العتق على الواحد عتق منه نصفه وهو الثلث من جميع المال والآخرون رقيق وإن خرج سهم اثنين عتقًا ثم أعيدت القرعة بين الثلاثة والواحد وأيهم خرج سهمه بالعتق عتق منه ما بقي من الثلث ورق ما بقي منه ومن غيره وإن خرج السهم على الاثنين أو الثلاثة فكانوا لا يخرجون معًا جزئوا ثلاثة أجزاء وأقرع بينهم كذلك حتى يستكمل الثلث ويجزأون ثلاثة أجزاء أصح عندي من أكثر من ثلاثة». قال الماوردي: وهذا الباب يشتمل على بيان استعمال القرعة، ويتضمن ثلاثة فصول: أحدها: في التجزئة. والثاني: في التعديل. والثالث: في الإخراج. فأما التجزئة، فهو أن يجزئوا ثلاثة أجزاء إذا كان المقصود عتق الثلث لأن مخرجه من ثلاثة ولو كان المقصود عتق الربع جزأوا أربعة أجزاء لأن مخرجه من أربعة. ولو كان المقصود عتق النصف جزأوا جزأين، لأن مخرجه من اثنين ثم على هذا. وأما التعديل فمعتبر بأعداد العبيد وقيمهم، وهم في العدد والقيمة على ستة أقسام: أحدها: أن يوافق عددهم مخرج الثلث، وتتساوي قيمهم، فيكونوا في موافقة العدد ثلاثة، أو ستة، أو تسعة، وتكون قيمة كل واحد منهم مائة درهم، فإن كانوا ستة جعل كل اثنين جزءًا، وكان الجمع بين كل اثنين معتبرًا برأي الحاكم، فإن كان فيهم متناسبان أخوان أو أب وابن كان الجمع بينهما أولى من التفرقة وإن كان منهم أمتان، فالجمع بينهما أولى من التفرقة، وإن كان فيهم زوجان فالجمع بينهما أولى من التفرقة؛ فإن فرق بين المتناسبين جاز إلا أن تكون أمة معها ولد صغير، فلا يجوز أن يفرق بينهما في التجزئة، لئلا تختلف أحكامهما، فيفرق بينها وبين ولدها، فتوله عليه، وقد ورد النهي عنه. وإن فرق بين الزوجين، ففي جوازه وجهان: أحدهما: يجوز كجواز التفرقة بين الأخوين والأمتين. والوجه الثاني: لا يجوز أن يفرق في التجزئة بين الزوجين، وإن جاز أن يفرق فيها بين الأخوين، ليجتمعا على الحرية والرق، ولا يختلفان فيها، فيفضي إلى فسخ النكاح المعقود في التفرقة بين الأخوين والأمتين. فإذا جزأوا أثلاثًا، وجمع بين كل جزأين اثنين كان الحاكم في الإخراج بين خيارين: أحدهما: أن يكتب في الرقاع الأسماء، ويخرج على الحرية والرق، فيكتب سالمًا وغانمًا في رقعة، ونافعًا وبلالًا في أخرى، ونجاحًا وإقبالًا في الثالثة. وهو فيما يقوله عند الإخراج من الحرية والرق بين أمرين: أولاهما وأعجلهما إلى فصل الحكم: أني قول: أخرج على الحرية، فإذا خرج أحد الأجزاء أعتق من فيها، ورق من في الجزأين الآخرين، لأنه لم يبق للعتق ما يخرج لأجله.

والثاني: أن يقول: أخرج على الرق، فإذا خرج أحد الأجزاء رقم من فيه، وبقي جزءان أحدهما رقيق، والآخر حر وهو بين أمرين: إما أن يقول: أخرج على الرق، فيرق من فيه، ويعتق من في الجزء الثاني، وإما أن يقول: أخرج على الحرية، فيعتق من فيه، ويرق من في الجزء الباقي. والخيار الثاني: أن يكتب في الرقاب الحرية والرق، ويخرج على الأسماء، فيكتب في رقعة عتقًا، وفي رقعتين رقًا. ويقول: أخرج لسالم وغانم. فإن خرج لهما سهم الحرية عتقًا، ورق الأربعة الباقون، وإن خرج لهما سهم الرق رقا، وقال: أخرج لنافع وبلال فإن خرج لهما سهم العتق عتقًا، ورق الآخران، وإن خرج لهما سهم الرق رقا، وعتق الآخران. فهذا حكم القسم الأول في تجزئته وإخراجه. والقسم الثاني: أن يوافق العدد، وتختلف القيم، ويمكن التعديل. مثاله: أن يكونوا ستة، قيمة اثنين منهم مائتان، وقيمة اثنين منهم ثلاثمائة، وقيمة اثنين منهم أربعمائة. فإذا جمعت قيمهم كانت تسعمائة ثلثها ثلاثمائة فيجعل العبدان اللذان قيمتهما ثلاثمائة سهمًا ونضم واحدًا من العبدين اللذين قيمتهما مائتان إلى أحد العبدين اللذين قيمتهما أربعمائة، ويجعل كل اثنين منهما سهمًا قيمته ثلاثمائة فتتعدل السهام الثلاثة في العدد والقيمة، ثم الحاكم في الإخراج بين خيارين على ما قدمناه من كتب الأسماء والإخراج على الحرية والرق وبين كتب الحرية والرق والإخراج على الأسماء. والقسم الثاني: أن يوافق العدد، وتختلف القيم، ولا يمكن التعديل. مثاله: أن يكونوا ستة، قيمة واحدة منهم مائة، وقيمة اثنين منهم مائة، وقيمة ثلاثة مائة، فمجموع قيمهم ثلاثمائة، فمذهب الشافعي المنصوص عليه أن يجزأ سهامهم على القيمة دون العد، فنجعل العبد الذي قيمته مائة سهمًا، ونجعل العبدين اللذين قيمتهما مائة سهمًا، ونجعل الثلاثة الذين قيمتهم مائة سهمًا، وكان الإخراج على ما مضي من الخيارين، فإن خرج سهم العتق على الواحد الذي قيمته مائة عتق، ورق الخمسة، وغن خرج على العبدين اللذين قيمتهما مائة عتقًا، ورق الأربعة، وإن خرج على الثلاثة الذين قيمتهم مائة عتقوا، ورق الثلاثة. وذهب بعض أصحابه إلى خلاف قوله فجزأهم على العدد دون القيمة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقرع على العدد دون القيمة، فكان العدد أولى أن يكون معتبرًا من القيمة فنجعل العبدين اللذين قيمتهما مائة سهمًا، ويضم أحد العبدين الثلاثة الذين قيمتهم مائة إلى العبد الذي قيمته مائة، فيصير سهمه أكثر من مائة، وسهم الباقين أقل من مائة، ثم يقرع بينهم فإن خرج سهم العتق على العبدين المقوم أحدهما بمائة والآخر بثلث المائة رق الأربعة الباقون فصار سهم العتق خارجًا على أكثر من الثلث، فلم ينقذ العتق في جميعها لزيادتهما على الثلث، وأقرع بينهما قرعة ثانية، فإن خرج سهم العتق على المقوم بمائه عتق، ورق الآخر، وإن خرج على المقوم بثلث المائة

عتق جميعه، وثلثا الآخر لاستكمال الثلث، ورق ثلثه الزائد على الثلث، وهذه طريقة غير مرضية، لما تقضي إليه من إعادة القرعة مرارًا أو تبعض الحرية والرق في شخص واحد. والقسم الرابع: أن تختلف قيمهم، ولا يوافق عددهم، ويمكن التعديل بينهم. مثاله: أن يكونوا ثمانية: قيمة واحد منهم مائة، وقيمة ثلاثة مائة، وقيمة أربعة مائة، فمجموع قيمتهم ثلاثمائة، فيجزأون على القيم دون العدد وجهًا واحدًا، وافق عليه من خالف فيما تقدم لأن العدد لما لم يوافق سقط اعتباره، فوجب أن يعتبر ما يعدل من القيمة فنجعل العبد المقوم بمائة سهمًا، والثلاثة المقومين بمائة سهمًا، والأربعة المقومين بمائة سهمًا، فإن خرج سهم العتق على الواحد المقوم بمائة عتق ورق السبعة، وغن خرج على الثلاثة المقومين بمائة عتقوا، ورق الخمسة، وإن خرج على الأربعة المقومين بمائة عتقوا، ورق الأربعة. وعلى هذا لو كانا عبدين قيمة أحدهما مائة، وقيمة الآخر مائتين جعلا سهمين، وأقرع بينهما، فإن خرج سهم المعتق على المقوم بمائة عتق جميعه، ورق جميع الآخر، وإن خرج على المقوم بمائتين عتق نصفه، ورق نصفه، وجميع الآخر. والقسم الخامس: أن تختلف قيمهم، ولا يوافق عددهم، فلا يمكن التعديل في القيمة ولا في العدد. مثاله: أن يكونوا خمسة: قيمة أحدهم مائة، وقيمة الثاني مائتان، وقيمة الثالث ثلاثمائة وقيمة الرابع أربعمائة، وقيمة الخامس خمسمائة، فمجموع قيمهم ألف وخمسمائة ثلثها خمسمائة، ففي الإقراع بينهم قولان: أحدهما: أنه لا يعتبر فيهم التعديل، لتعذره في القيمة والعدد، وتكتب أسماؤهم في رقاع بعددهم، وتخرج على العتق، فإن خرج اسم المقوم بخمسمائة عتق، ورق الأربعة الباقون، وإن خرج اسم المقوم بأربعمائة عتق، وبقي بعده من الثلث مائة، فيخرج اسم آخر، فإن خرج اسم المقوم بثلاثمائة عتق منه ثلثه، ورق ثلثاه، والثلاثة الباقون، إن خرج في الابتداء اسم المقوم بثلاثمائة عتق، وبقي بعده من الثلث مائتان، فيخرج اسم آخر، فإن خرج اسم المقوم بمائتين عتق جميعه، ورق الثلاثة الباقون، ولو خرج في الابتداء سهم المقوم بمائتين عتق، وبقي بعده من الثلث ثلاثمائة فيخرج اسم آخر، فإن خرج اسم المقوم بمائة عتق، وبقي بعده من الثلث مائتان، فيخرج اسم آخر، فإن خرج اسم المقوم بخمسمائة عتق منه خمساه، ورق ثلاثة أخماسه الاثنان الباقيان، ثم على هذا القياس. والقول الثاني: يجزأون ثلاثة أجزاء على القيمة دون العدد فيجعل المقوم بخمسمائة سهمًا، ويجمع بين المقوم بأربعمائة، والمقوم بمائة، فيجعل سهمًا ثانيًا بخمسمائة سهم ويجمع بين المقوم بثلاثمائة والمقوم بمائتين، فيجعل سهمًا ثالثًا، ثم يخرج على العتق، فأي السهام خرج عتق من فيه، وقد استكمل به الثلث، ورق الباقون.

فصل والقسم السادس: أن تتساوي قيمهم، ولا يوافق عددهم. مثاله: أن يكونوا أربعة قيمة كل واحد منهم مائة، فمجموع قيمهم أربعمائة، ثلثها مائة وثلاثة وثلاثون وثلث، فتكتب أسماؤهم في الرقاع بعددهم قولًا واحدًا، فإذا خرج اسم أحدهم عتق، وأخرج اسم ثان فأعتق ثلثه، ورق ثلثاه، وجميع الآخرين، ثم على هذا القياس. والله اعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «وإن كان عليه دين يحيط ببعض رقيقه جزئ الرقيق على قدر الدين ثم جزئوا فأيهم خرج عليه سهم الدين بيعوا ثم أقرع ليعتق ثلثهم بعد الدين وإن ظهر عليه دين بعد ذلك بعت من عتق حتى لا يبقي عليه دين». قال الماوردي: وهذه المسالة مصورة في عتق ودين يستوعبان التركة، وهو أن يكون له عبيد لا يملك غيرهم، وقد أعتقهم في مرض موته أو أوصي بعتقهم، وعليه دين يستوعب قيمهم أو قيمة بعضهم، فإن كان الدين مستوعبًا لقيمهم ارتفع حكم العتق بالدين سواء أعتقهم في مرضه أو وصي بعتقهم بعد موته، لأن العتق في المرض وبعده وصية تعتبر من الثلث، والدين مقدم على الوصايا، فلذلك بطل به حكم العتق، كما بطل به حكم جميع الوصايا والمواريث، وإن كان الدين غير مستوعب لقيمهم ارتفع حكم العتق فيما قابل قدر الدين، وكان باقيًا فيما عداه. والدين خارج من أصل التركة، والعتق معتبر من ثلثها، فتصور المسألة في أسهل أمثلتها، ليكون مثالًا لغيره، وهو أن يكون له أربعة عبيد يعتقهم في مرضه، ولا مال له غيرهم، وقيمة كل عبد منهم مائة درهم، ويموت ويظهر عليه مائة درهم دينًا فلظهور الدين حالتان: إحداهما: أن يظهر قبل تحرير العتق بالقرعة. والثانية: بعد تحريره بها. فإن ظهر قبل القرعة وجب أن يقرع بينهم لقضاء الدين ثم يقرع بينهم للعتق فإن قيل: فقضاء الدين لا يحتاج إلى قرعة، كما لو اجتمع الدين مع الوصايا لم يقرع في التركة بين أرباب الديون والوصايا. قيل: إنما أقرع في الدين مع العتق، وإن لم يقرع فيه مع الوصايا لأمرين: فرق وتعليل. فأما الفرق فهو أن القرعة لما استعملت في العتق إذا انفرد، ولم تستعمل في الوصايا إذا انفردت استعملت في العتق إذا اجتمع مع الدين، وإن لم يستعمل في الوصايا إذا اجتمعت مع الدين. وأما التعليل: فهو أن العتق لا يترك بالعجز على إشاعته حتى يميز بالقرعة، فلم يجز أن يشارع ما دخله العجز إلا بالقرعة والوصايا تترك بالعجز على إشاعتها، ولا تميز بالقرعة، فجاز ان يشارع ما دخله العجز بغير قرعة. وإذا وجب الإقراع للدين كما وجب الإقراع للعتق، وجب تقديم الإقراع للدين كما

وجب الإقراع للعتق، لإمضاء العتق بعد قضاء الدين، ولم يجز أن يجمع في الإقراع الواحد بين قضاء الدين والعتق، كما وهم فيه بعض الفقهاء، لأمرين: أحدهما: لتقديم الدين على الوصايا. والثاني: يجوزو أن تزيد قيمة من قرع في الدين، فتضم الزيادة إلى من أفرد للعتق أو تنقص القيمة، فتتمم ممن أفرد للعتق. فإن تقررت هذه الجملة، فمعلوم من صورة ما قلناه أن الدين مقابل لربع التركة، لأنه مائة والتركة أربع مائة، فوجب أن يجزأوا أرباعًا، ويكتبوا في أربع رقاع، والمقرع فيه بين خيارين: أحدهما: أن يكتب أسماءهم، ويخرج على الدين، فمن خرج اسمه بيع فيه. والثاني: أن يكتب في رقعة دينًا، وفي ثلاثة رقاع تركة، ويخرج على الأسماء فمن خرج عليه سهم الدين بيع فيه، فإذا تعين المبيع في الدين بالقرعة لم يجز أن يقرع بين الباقين في العتق إلا بعد بيعه في الدين، لأنه قد يجوز أن تزيد قيمته، فيزاد على سهام العتق، ويجوز أن تنقص، فتتمم من سهام العتق، ويجوز أن يهلك فيقرع للدين ثانية من سهام العتق، فلذلك وجب التوقف على الإقراع للعتق حتى يباع القارع في الدين، ويقضي بثمنه جميع الدين ثم تستأنف قرعة العتق بين الثلاثة على ثلاثة أجزاء، فيعتق منهم من خرج عليه سهم العتق، ويرق من خرج عليه سهم الرق، فلو كانوا ثلاثة عبيد قيمتهم أربعمائة درهم، والدين مائة درهم، جزئوا في الدين ثلاثة أجزاء على عددهم، فإن خرجت فيه قرعة أحدهم بيع منه ثلاثة أرباعه، لأن قيمته مائة. وثلاثة وثلاثون وثلث. والمائة الدين هي ثلاثة أرباعها، ويبقي عبدان، وربع قيمتهم ثلاثمائة فيجزأون أثلاثًا، ويقرع بينهم للعتق، فإن خرج سهم العتق على أحد الكاملين عتق ثلاثة أرباعه، ورق ربعه مع جميع الآخر والربع الباقي من المبيع في الدين، وإن خرج سهم العتق على الربع الباقي من المبيع في الدين عتق، وقرع بين الكاملين، وأعتق من القارع نصفه، ورق نصفه، وجميع الآخر. والله أعلم. فصل وإذا كان ظهور الدين بعد تحرير العتق بالقرعة. مثاله: أن يقرع بين العبيد الأربعة، فيعتق منهم عبد وثلث، ثم تظهر علي مائة درهم دينًا لم يعلم به قبل القرعة، ففيه وجهان: أحدهما: وهو مذهب الشافعي المنصوص عليه في المبسوط من كتاب «الأم» أن قرعة العتق ماضية، ويباع في الدين بما استرقه الورثة، وهو عبدان وثلثا عبد بمائة لقضائه للدين إن لم يقضوه من أموالهم، وهم بالخيار في بيع من شاؤوا منهم بغير قرعة، لأنه لا حق فيهم للمعتق، فلم يحتج في بيعه إلى قرعة، ويبقي معهم عبدان وثلثان، وقد صارت التركة بعد قضاء الدين ثلاثة عبيد قيمتهم ثلاثمائة، فيبقي للورثة تمام حقهم في الثلثين ثلث عبد، وقد خرج بالعتق عبد وثلث، فيقرع بين العبد والثلث، ليسترق منهما ثلث عبد يستكمل به الورثة ثلثي التركة، فإن خرجت قرعة الرق على ثلث العبد رق للورثة، وتحرر عتق الآخر كله، وغن خرجت على هذا الآخر الكامل العتق

قرعة الرق رق ثلثه، وعتق ثلثاه والثلث الآخر، وصار عتق العبد مبعضًا في عبدين، فهذا حكم الوجه الأول في استيفاء حكم القرعة الأولى. والوجه الثاني: وهو قول طائفة من أصحاب الشافعي أن قرعة العتق تبطل بظهور الدين بعدها، كما كانت تبطل بظهور الدين قبلها، لأنها وقعت في غير حقها كأخوين اقتسما تركة ثم ظهر لهما أخ ثالث بطلت قسمتهما، ووجب ان يستأنفاها مع الثالث، فعلى هذا تنقض القرعة، ويعود من أعتق بها إلى الحكم الأول، ويبتدئ فيقرع بين الأربعة للدين، فيباع أحدهم، ويبقي بعد المبيع في الدين ثلاثة يستحق عتق أحدهم، فيقرع بينهم للعتق، ويعتق منهم من قرع، ويرق الآخران. والوجه الأول أصح؛ لأنه تحفظ به حرية من عتق وعبودية من رق، وعلى هذا الوجه الثاني قد يعتق به من رق، ويرق به من عتق. والله أعلم. فصل ولو كان العبيد الأربعة في حالهم، وعليه مائة درهم دينًا فأقرع بينهم للدين، وبيع فيه أحدهم، ثم أقرع بين الثلاثة الباقين للعتق، وأعتق أحدهم، ورق للورثة اثنان منهم ثم ظهر عليه مائة درهم ثانية دينًا، كان على الوجهين المتقدمين: أحدهما: وهو مذهب الشافعي يباع في الدين أحد العبدين المسترقين، ويسترق من العبد المعتق ثلثه، فيصير للورثة عبد وثلث، وينفذ بالعتق ثلثا عبد. والوجه الثاني: تبطل قرعة العتق، ويستأنف القرعة بين الثلاثة للدين، فإذا قرع فيه أحدهم بيع للدين سواء كان محكومًا بعتقه أو برقه، ثم استؤنفت قرعة العتق، فأعتق بها ثلثا أحدهما، ورق للورثة ثلثه، وجميع الآخر، وعلى هذا لو ظهرت عليه مائة ثالثة دينًا بعد ما بيع في المائة الثانية، فعلى الوجه الأول الذي هو المذهب لا تنقض قرعة العتق، ويباع مما استرقه للورثة عبد بمائة درهم، ويبقي معهم ثلث عبد، فيسترقون من ثلثي من عتق ثلثه، ليصير لهم ثلثا عبد، وللعتق ثلث عبد. وعلى الوجه الثاني: تنقض قرعة العتق، ويعود العيدان الآخران إلى حكم الرق، فيباع في الدين احدهما بالقرعة، ويبقي الآخر، فيعتق ثلثه، ويرق ثلثاه. ولو ظهرت بعدها مائة رابعة دينًا بيع فيه من أعتق ومن رق على الوجهين معًا لاستيعاب الدين جميع التركة، فلو كانت التركة عبدًا قيمته مائة درهم أعتقه في مرضه، ومات فحكم بعتق ثلثه، ورق ثلثيه لورثته، ثم ظهر عليه دين قدره مائة درهم يستوعب جميع تركته، فمذهب الشافعي وجمهور أصحابه أنه ينقض ما حكم به من عتق ثلثه، ويباع جميعه في دينه، ووهم بعض أصحابه، فأعتق تسعه، وأرق في الدين ثمانية اتساعه، وجعل وجه ذلك أن مال للعتق سهم، وللدين سهمان ثم سهم العتق مقسوم بين العتق والورثة على ثلاثة، فيصح من تسعة ستة منها، وهي الثلثان للدين وثلثه بين العتق والورثة أثلاثًا، للعتق سهم وهو التسع، فيعتق تسعة، ويبقي للورثة سهمان ترد على أصحاب الدين، ولا وجه لهذا القول لأن عتق المرض وصية في الثلث، ولا

وصية إلا بعد قضاء الدين كما لا ميراث إلا بعد قضائه. فصل ولو كانوا أربعة فبيع من الأربعة أحدهم في الدين، وأعتق من الثلاثة أحدهم في الثلث، ورق الآخران للورثة، ثم استحق أحد العبدين المسترقين كان استحقاقه كالدين الحادث بعد العتق، فيكون على ما ذكرناه من الوجهين: أحدهما: يسترق من المعتق ثلثه، ولا تنقض القرعة. والثاني: تنقض القرعة، وتستأنف في العبدين، ويعتق ثلثا أحدهما بالقرعة الثانية على من خرجت منهما، ولو استحق العبد المعتق بطل فيه العتق، واستؤنفت القرعة بين الباقين على الرق وجهًا واحدًا، وأعتق ثلثا أحدهما، ورق باقية، وجميع الآخر، ولو استحق المعتق، وأحد المسترقين صارت التركة عبدًا واحدًا، فيعتق ثلثه، ويرق ثلثاه بغير قرعة. فصل وحكم هؤلاء العبيد لو لم يعتقهم في مرضه، ووصي بعتقهم بعد موته، وهم جميع تركته كحكمهم لو أعتقهم في مرضه إلا في أربعة أحكام: أحدها: أن عتقهم في المرض متقدم على الموت، وفي الوصية متأخر عنه. والثاني: أن عتق المرض مباشرة ينفذ بلفظه، وعتق الوصية ينفذ بلفظ الورثة، فإن امتنعوا استوفاه الحاكم منهم. والثالث: أن قيمة المعتقين في المرض معتبرة بوقت عتقهم قبل الموت، وقيمة المعتقين في الوصية معتبرة بقيمتهم ووقت الموت على ما سنذكره. والرابع: أن العتق في المرض يملكون به ما اكتسبوه في حياة المعتق، وبعد موته، وكسب من رق منهم يملك المعتق منه ما كسبوه فيحياته، ويضاف إلى تركته، ويملك الورثة ما اكتسبوه بعد موته، والعتق بالوصية يوجب أن تكون أكسابهم قبل الموت من تركة الموصي وأكسابهم بعد الموت للورثة، يستوى فيه كسب من عتق منهم، ومن رق قبل القرعة للعتق، ولا يقضي من هذه الأكساب ديون الميت، لأنها حادثة على ملك الورثة، وحكي عن أبي سعيد الاصطخري أن ديون الميت تقضي من هذه الأكساب الحادثة على ملك الورثة، لأنهم استفادوها من تركة لا يستقر ملكهم عليها، إلا بعد قضاء ديونها. ويتفرع على هذا الفصل: إذا أعتق عبدًا في مرضه قيمته مائة درهم لا مال له غيره، فكسب في حياة سيده مائة درهم وبعد موته مائة درهم فالمائة التي كسبها في حياة سيدة داخلة في تركته تضم إلى قيمته، ويدخل بها دور يزيد في عتقه، والمائة التي كسبها بعد موته خارجة من التركة، ولا يدخل بها دور، ولا يزيد بها عتق، وقدر ما يعتق منه نصفه، ويملك به نصف كسبه في حياة سيده، ونصف كسبه بعد موته، ويرق نصفه للورثة، ويستحقون به نصف كسبه في حياة سيده ميراثًا، ونصف كسبه بعد موته ملكًا، وبابه في عمل الدور ان يجعل العتق سهمًا، والكسب سهمًا لأن الكسب مثل قيمة العبد، ويجعل للورثة سهمين، ليكونا مثلي سهم العتق، وتجمع السهام، وهي أربعة،

وتقسم التركة عليها، وهما مائتا درهم، لأن قيمة العبد مائة درهم، وقد ضم إليها الكسب في حياة السيد مائة، فيكون قسط كل سهم منها خمسين درهمًا، وللعتق سهم واحد، وهو نصف قيمته، فعتق به نصفه، وملك به نصف كسبه في حياة السيد، ورق نصفه للورثة، وملكوا نصف كسبه في حياة السيد ميراثًا، فصار لهم بالرق والكسب مائة درهم هي مثلًا ما عتق من نصفه، ويكون الكسب بعد موت السيد بين العبد والورثة نصفين، بحسب ما فيه من حرية ورق. فلو كانت المسالة بحالها في عتق هذا العبد الذي قيمته مائة درهم، وكسب العبد في حياة سيده مائة درهم، وبعد موته مائة درهم، وكان على السيد مائة درهم ضم كسب الحياة إلى التركة، وخرج الكسب بعد الموت منها، فصارت التركة مائتي درهم يقضي نصفها في الدين، ويبقي نصفها في العتق والميراث فيعتق منه ربعه، ويرق ثلاثة أرباعه، وبابه أن يجعل للعتق سهمًا، وللكسب سهمًا، وللورثة سهمين، ويقسم باقي التركة بعد الدين، وهو مائة على هذه السهام الأربعة يكون قسط السهم منها خمسة وعشرين درهمًا، فيعتق منه بسهم العتق ربعه، ويملك به ربع كسبه، ويرق للورثة ثلاثة أرباعه، وهو بخمسة وسبعين درهمًا، ويملكون به ثلاثة أرباع كسبة، وهو خمسة وسبعون درهمًا، يصيران مائة وخمسين درهمًا يقضي منهم الدين مائة درهم يبقي مع الورثة خمسون درهمًا هي مثلًا ما خرج بالعتق المقدر بخمسة وعشرين درهمًا، وتكون المائة المكتسبة بعد موت السيد بين العبد والورثة بقدر الحرية والرق، يملك العبد ربعها بقدر حريته، ويملك الورثة ثلاثة أرباعها كسبًا مستفادًا، بما ملكوه من رقه لا تدخل التركة، ولا يقضي منها الدين. فأما على قول أبي سعيد الاصطخري: يقضي الدين منها، فيدخل بها دور يزيد في العتق لزيادة ما يقضي به الديون وزيادة دورها بثلثها، لأن المحكي عن أبي سعيد أن الكسب بعد الوفاة يقضي به الديون ولا ينفذ به الوصايا، فتجعل المائة المكتسبة بعد الموت أثلاثًا، ثلثًا للعبد بكسب عتقه، وثلثًا للورثة بكسب رقه، وثلثًا يضاف إلى التركة لقضاء دينه، فتصير التركة مع هذا الثلث مائتين وثلاثة وثلاثين وثلثًا، يقضي منها الدين مائة، يبقي من التركة بعد قضائها مائة وثلاثة وثلاثون وثلث تقسم على أربعة هي سهم للعتق وسهم للكسب وسهمان للورثة، يخرج قسط السهم ثلاثة وثلاثين وثلث فأعتق منه بقدرها، وهو الثلث، ويملك به ثلث كسبه، ويرق للورثة ثلثاه، وهو مثلًا ما عتق منه، وقد ملك من المكتسب بعد الموت ثلث، وملك الورثة ثلثيه، وهما مستفادان من غير التركة. قلت: كأنه جعل جزءٌ من العبد يقضي به الدين، فهو لما يستحق بذلك الجزء من كسبه في حياة سيده، وبعد موت السيد للدين ثم جعل سهمًا من رقبته ببيعه سهمًا من الكسب بقدر ثلاثة أسهم ما بقي، ولو كسب بعد الموت مائة لصار في ملكه الذي مع ربع كسبه، وبقية كسبه بعد الموت، فسقط، لأنه ليس من التركة، فيبقي ما (يبقى)، لأنه

عبد أعتقه في مرض موته، وبقية كسبه في حياة سيده. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «فإن أعتقت ثلثًا وأرققت ثلثين بالقرعة ثم ظهر له مال يخرجون معًا من الثلث أعتقت من أرققت ودفعت إليه ما اكتسبوا بعد عتق المالك إياهم». قال الماوردي: وهذا صحيح إذا أعتق عبدًا في مرضه، وعليه دين، ولم يظهر له مال، فبيع بعضهم في دينه، وأعتق منهم قدر ثلثه، ورق باقيهم ثم ظهر له مال، فإن خرجوامن ثلثه عتقوا جميعهم، وإن نقص ثلثه عنهم أعتق منهم قدر ثلثه. مثاله: أن يعتق أربعة عبيد قيمة كل عبد مائة درهم، ويترك دينًا قدره مائة درهم، ولم يظهر له مال، فيبيع أحدهم في دينه، وأعتق أحدهم في ثلثه، واسترق اثنان لورثته، ثم ظهر له مائة درهم، فيسترجع بظهور المائة العبد المبيع في الدين، ويفسخ فيه البيع، ويصير بظهور هذه المائة بمثابة من ليس عليه دين، فعلى هذا لا يختلف مذهب الشافعي، ومن خالفه من أصحابه في نقص القرعة بظهور الدين أنها لا تنقص بظهور المال، لأن ظهور الدين يوجب نقصًا في العتق، وزيادة الرق، تنقص به قرعة الرق وظهور المال يوجب زيادة العتق ونقصان الرق، فلم يجز ان تنقص به قرعة العتق، فيكون عتق من قرع باتًا لا رجعة فيه، وقد بقي في الثلث بعد عتقه أن يعتق من الثلث ثلث واحد يستوعب به الثلث، فيقرع بينهم، ويعتق ثلث أحدهم، ويسترق ثلثاه مع الآخرين، ولو ظهر له مائتا درهم كان الباقي منها بعد قضاء الدين مائة، فيعتق من الثلاثة ثلثا عبد، لأن التركة خمسمائة. ولو ظهر له ثلاثمائة درهم عتق بها من الثلاثة عبد كامل، لأن التركة بعد الدين ستمائة. ولو ظهر له أربع مائة عتق بها من الثلاثة عبد وثلث، لأن التركة بعد الدين سبعمائة. ولو ظهر له خمسمائة عتق بها من الثلاثة عبد وثلثان، لأن التركة بعد الدين ثمانمائة. ولو ظهر له ستمائة عتق بها من الثلاثة عبدان، لأن التركة بعد الدين تسعمائة. ولو ظهر له سبعمائة عتق بها من الثلاثة عبدان وثلث. ولو ظهر له ثمانمائة عتق بها من الثلاثة عبدان وثلثان. ولو ظهر له تسعمائة عتق بها الثلاثة كلهم، لأن التركة تصير بها بعد قضاء الدين ألفًا ومائتين، والعبيد أربعة قيمتهم أربعمائة هي قدر الثلث، فيعتقوا جميعًا. فصل فإذا تحرر عتق جميعهم على ما وصفنا بان بعد أن أجرى حكم الرق عليهم أنهم كانوا أحرارًا، بعتق السيد في حياته يوم أعتقهم، فيبطل ما جرى عليهم من أحكام الرق، فيصيرون مالكين لجميع أكسابهم التي كسبوها في حياة السيد، وبعد موته، ولو

كان مات لأحدهم موروث، ومنع من ميراثه بالرق كان أحق بميراثه من الأبعد، وانتزع ميراثه منه. ولو كان هو الميت، وأخذ الوارث ماله انتزع منه، وكان وارثه أحق به، ولو تزوج بأمة لا يستحقها في الحرية بطل نكاحها، ولو كانت أمة زوجاه الوارث بالملك بطل نكاحها حتى يستانفه وليها، ولو وطئها الوارث بحكم الملك كان عليه مهرها، ولو كان قد زني احدهم، وجلد خمسين كمل حده، ليتم جلد مائه إن كان بكرًا، ويرجم إن كان ثيبًا، ولو كان الوارث قد باع أحدهم بطل بيعه، ورجع مشتريه على الوارث بثمنه، فلو كان قد رهنه بطل رهنه وإن كان قد أخره بطلت إجارته، ورجع على مستأجره بأجرة مثله من الأحرار دون العبيد، ورجع المستأجر على الوارث بما دفعه إليه من الأجرة، ولو كان الوارث قد اعتقه بطل عتقه، وكان ولاؤه للأول، ولو كاتبه بطلت كتابته، ورجع بما أدي، ولو جنيت عليه جناية عمد، وأخذ الوارث أرشها، كان له أن يقص من الجاني، ولا يسقط بأخذ الوارث للأرش ويرد الأرض على الجاني، ولو كان قد بيع في جناية جناها بطل بيعه، وكانت جنايته خطأ على عاقلته وعمدًا في ماله، واسترجع من المجني عليه ثمنه، ورد على مشتريه، ثم على هذا القياس في جميع الأحكام. والله أعلم. فصل وإذا أعتق في مرضه عبدًا قيمته مائة درهم لا مال له غيره، ومات العبد في حياة سيده ففي عتقه ونفوذه ثلاثة أوجه: أحدها: وهو قول أبي العباس بن سريج أنه قد نفذ عتقه في جميعه، ويموت حرًا قد جد ولاء ولده، وموروثًا ينتقل كسبه إلى ورثته، وإن لم يخرج من ثلث سيده، لأنه مات قبل حقوق الورثة، فلم تجز فيه المواريث، وصار كعتق الصحيح. والوجه الثاني: أن عتقه قد بطل، ويموت عبدًا، وينتقل كسبه إلى سيده بالملك، ولا يجر ولاء ولده، لأن عتقه في المرض وصية تبطل بموت الموصي له قبل موت الموصي. والوجه الثالث: وهو الظاهر من مذهب الشافعي، والمعمول عليه من قوله: أن موته لا يرفع حكم العتق في حقه ويرفع عنه حكم الرق في حق ورثته، وعتقه ليس بوصية له إن جري في اعتباره من الثلث مجري الوصية، لأنه لا يراعي فيه قبوله، ولا يؤثر فيه رده، وعلى هذا تختلف أحكامه باختلاف أحواله، فإن مات عن غير كسب كان ثلثه حرًا، وثلثاه مملوكًا، يجر بثلثه ثلث ولاء ولده، وإن مات عن كسب فله حالتان: إحداهما: أن لا يكون له وارث غير سيده، فينظر في قدر كسبه، فإن كان مائتي درهم ورثها السيد، وعتق جميعه، لأنه قد صار إلى التركة مثلًا قيمته، وإن كان كسبه مائة درهم مات نصفه حرًا ونصفه مملوكًا، وكانت المائة للسيد نصفها بحق الولاء ونصفها بحق الملك، وهي مثلًا قيمة نصفه.

والحالة الثانية: أن يكون له وارث غير سيده، فإن قيل: بمذهب الشافعي في القديم أن المعتق بعضه إذا مات لم يورث، وكان ماله لسيده، كان حكمه على ما مضي إذا لم يخلف وارثًا غير سيده. وإن قيل: بمذهبه في الجديد أنه يكون موروثًا دخل الدور في عتقه بقدر كسبه، فإن كان كسبه مائتي درهم عتق نصفه، ورق نصفه. وبابه في حسابه أن يجعل له برقبته سهمًا لعتقه، وبكسبه سهمين لورثته، لأن الكسب صعف قيمته، ويجعل لورثة سيده سهمين ضعف قيمته، وجمع سهم ورثته وسهمي ورثة سيده، وهي أربعة، ولا تجمع إليها سهم الرقبة لتلفها ثم أقسم الكسب عليها، وهو مائتان يخرج قسط السهم خمسين درهمًا، فيعتق منه بقدرها، وهو نصف يملك وارثه به نصف كسبه ويملك ورثة سيده نصف كسبه، ويرق نصفه، وهو مثلًا ما أعتق من نصفه. ولو كان كسب مائة درهم عتق ثلثه، وباب أن جعل له برقبته سهمًا لعتقه وبكسب سهمًا لورثته، ولورثة سيده سهمين، وتجمع بين سهم ورثته وسهمي ورثة سيده، وهي ثلاثة، وتقسم ذلك عليها، وهو مائة يخرج قسط السهم ثلاثة وثلاثين درهمًا. ثلثًا، فيعتق منه بقدرها، وهو ثلثه يملك ورثته به ثلث كسبه، ويملك ورثة سيده ثلثي كسبه برق ثلثيه، وهو مثلًا ما عتق من ثلثه. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «وأي الرقيق أردت قيمته لعتقه فزادت قيمته أو نقصت أو مات فإنما قيمته يوم وقع العتق». قال الماوردي: وهذا صحيح والكلام فيها مشتمل على ثلاثة فصول: أحدها: اعتبار قيمة من أعتقه في مرضه. والثاني: اعتبار قيمة من وصي بعتقه. والثالث: اعتبار قيمتها في حق ورثته. فأما الفصل الأول: في اعتبار قيمة من أعتقه في مرضه، فمعتبرة بوقت عتقه لاستهلاكه له بعتقه. وأما الفصل الثاني: في اعتبار قيمة من وصي بعتقه، فمعتبرة بوقت موته، ولا تعتبر بوقت وصيته، ولا بوقت عتق الورثة بعد موته؛ لاستحقاق عتقه بالموت، فاعتبرت بوقت الاستحقاق. وأما الفصل الثالث: في اعتبار قيمته في حق ورثته، فمعتبرة بأقل قيمته من بعد موته، وإلى وقت قبض، لأن الزيادة بعد الموت تحدث على ملكهم، فلم تحتسب عليهم كالثمرة والنتاج، والنقصان قبل القبض تلف من التركة، فلم يحتسب عليهم كالميت والمغصوب، فلذلك كان محتسبًا في حقهم بأقل قميته.

فصل فإذا تقرر هذا صحت أحكامه في ثلاثة فصول: أحدها: في القيمة إذا زادت. والثاني: في القيمة إذا نقصت. والثالث: في الجمع بين العتق في المرض، والعتق بالوصية. فأما الفصل الأول: في القيمة إذا زادت، فحكم الزيادة مثل حكم الكسب، فإذا أعتق عبدًا قيمته مائة درهم لا مال له غيره، فزادت قيمته حتى بلغ مائتين، فالزيادة معتبرة بوقتها، فإن حدثت بعد موت السيد، فلا اعتبار بها في التركة، ولا يدخل بها دور في زيادة العتق، ويعتق ثلثه، ويرق ثلثاه. وإن حدثت في حياة السيد كانت معتبرة في التركة، ودخل بها دور في زيادة العتق، وباب دورة في وصولك إلى مقدار عتقه أن تجعل له بعتقه سهمًا، وله بفضل قيمته سهمًا، وللورثة سهمين، واجمعها، وهي أربعة، وأقسم قيمة العبد عليها، وهي مائتان، يخرج قسط السهم خمسين فأعتق منه بها على قيمته، وقت العتق يعتق نصفه، ويرق نصفه، وقيمته وقت الموت مائة، وهو مثلًا ما عتق منه. ولو ترك السيد مع العبد مائة جعلت للعتق سهمًا، ولزيادة القيمة سهمًا، وللورثة سهمين، وقسمت التركة، وهي ثلاثمائة على هذه السهام الأربعة، فيخرج قسط السهم خمسة وسبعين، فأعتق منه بها ثلاثة أرباعه، ويرق ربعه، وقيمته خمسون يضمها الورثة إلى المائة، فيصير معهم مائة وخمسون مثلًا ما خرج بالعتق، ولو كانت قيمته مائة درهم، فزادت قيمته قبل موت سيده حتى بلغت ثلاثمائة جعلت له بعتقه سهمًا، وبفضل قيمته خمسة أسهم، وجعلت للورثة سهمين، واقسم التركة، وهي ستمائة على هذه السهام، وهي ثمانية يخرج قسط السهم خمسة وسبعين، فأعتق منه بها على قيمته وقت العتق ثلاثة أرباعه، وترق ربعه، وقيمته وقت الموت مائة وخمسون، وهو مثلًا ما خرج بالعتق. ولو زادت قيمته مائة، وكسب مائة جعلت له بالعتق سهمًا، وبفضل القيمة سهمًا، وبالكسب سهمًا، وللورثة سهمين، تصير خمسة أسهم، فاقسم التركة عليها، وهي أربعمائة يخرج قسط السهم ثمانين، فأعتق منه بها أربعة أخماسه، ويملك بها أربعة أخماس كسبه ثمانين، ويرق للورثة خمسة، وقيمته أربعون، ويملكون خمس كسبه، وهو عشرون، فإذا ضم المائة المتروكة صار معهم مائة وسون، وهي مثلًا ما خرج بالعتق. فصل وأما الفصل الثاني: في القيمة إذا نقصت، فيدخل بنقصانها دور على العتق يزيد به الرق كما دخل بزيادتها دور على الرق زاد به العتق. فإذا أعتق في مرضه عبدًا قيمته مائة، فنقصت قيمته قبل قبض الورثة حتى صارت

خمسين، جعلت للعتق سهمًا، وللورثة سهمين، وقد عادت القيمة إلى نصفها، فأنقص من سهم العتق نصفه يبقي سهمان ونصف، فأقسم التركة عليها، وهي خمسون يخرج قسط نصف السهم خمسها، فأعتق خمسه، وقيمته وقت العتق عشرون، واسترق للورثة أربعة أخماسه، وقيمته وقت الموت أربعون، وهو مثلًا ما خرج بالعتق. وفيه وجه آخر لبعض أصحابنا أنه لا يحتسب على العبد نقصان قيمته، كما لم يحتسب على الورثة، ويعتق ثلثه ويرق ثلثاه، وهذا ليس بصحيح، لأنه لما احتسب له زيادة قيمته حتى زاد في دور عتقه، وجب أن يحتسب عليه نقصانها ليزيد في دور رقه. ولو كانت قيمته خمسمائة، فنقصت حتى صارت مائتين، جعلت له بالعتق سهمًا، وللورثة سهمين، وقد عاد عليه من نقصان القيمة ثلاثة أخماسها، فأنقصها من سهم عتقه، يبقي له خمسا سهم، فأقسم القيمة على سهمين وخمسين، يكن الخمسان منها السدس، لأن مبسوطها اثنا عشر خمسًا، ويقر سهم العتق، فأعتق سدسه، وقيمة السدس من الخمسين مائة وثلثه مائة وثلاثة وثلاثون وثلث، ويرق الورثة خمسة أسداسه، وقيمتها من المائتين مائة وستة وستون وثلثان، مثلا ما خرج بالعتق. ولو كانت قيمته وقت عتقه ستمائة، فنقصت حتى صارت ثلاثمائة وكسب العبد ثلاثمائة فأجبر نقصان القيمة بزيادة الكسب، وأعتق ثلثه، وقيمته من الستمائة، مائتان يملك به ثلث كسبه مائة فيرق ثلثاه للورثة، وقيمته من الثلاثمائة مائتان، ولهم به ثلثا كسبه مائتان، يصير معهم أربعمائة وهي مثلا ما خرج بالعتق. ولو كانت قيمته ستمائة، فنقصت حتى صارت أربعمائة وكان على السيد دين مائة، فأضمم الدين إلى نقصان القيمة، يصير الباقي منها ثلاثمائة فأجعل للعتق سهمًا، وللورثة سهمين، وأنقص من سهم العتق نصفه يعود النقصان إلى نصفه، يبقي سهمان ونصف يكون نصف سهم العتق منها خمسها، فأعتق منه خمسه، وقيمته من الستمائة مائة وعشرون، وأقضي المائة الدين من قيمته، وهي أربعمائة يبقي ثلاثمائة للورثة بأربعة أخماسه مائتان وأربعون، وهي مثلًا ما خرج بالعتق. وأما الفصل الثالث: في الجمع بين العتق في المرض والوصية بالعتق، وهما جميعًا من الثلث لكن عتق المرض مقدم على عتق الوصية، فإذا أعتق عبدًا في مرضه، ووصي بعتق آخر بعد موته، فهو على أربعة أضرب: أحدها: أن يعين العبد المعتق في المرض، والعبد المعتق بالوصية، فيقول: هذا العبد حر، وأعتقوا هذا العبد الآخر بعد موتي، فللثلث أربعة أحوال: أحدها: أن يحتمل قيمته العبدين، فيتحرر به عتق المرض، وعتق الوصية. والحال الثانية: ان يحتمل الثلث قيمة أحدهما دون الآخر، فيتحرر به عتق المرض، ورد عتق الوصية. والحال الثالثة: أن يحتمل الثلث قيمة أحدهما، وبعض الآخر فيتحرر به عتق المرض كاملًا، ويعتق من عبد الوصية بقدر الباقي من الثلث، ويرق باقيه. والحال الرابعة: أن يحتمل الثلث بعض أحدهما، ويعجز عن الباقي، فيتحرر به من عتق المرض، قدر ما

احتمله الثلث، ويرق باقية، وجميع الآخر. والضرب الثاني: أن يبهم عتق المرض وعتق الوصية في عبيده، ولا يعينهما، فيقول في مرضه: أحد عبيدي حر، وأعتقوا أحدهم بعد موتي، فإنهما مبهمان، فوجب التعيين، وفيما يتعينان به قولان: أحدهما: يتعينان ببيان الورثة، فيرجع إلى بيانهم من غير قرعة، لأنهم يقومون مقامه بعد موته، فإذا عينوهما من بين العبيد صار كتعيين السيد، فيكون على ما مضي من الأحوال الأربعة. والقول الثاني: انه يرجع في تعيينها إلى القرعة دون الورثة، وهو أصح لأمرين: أحدهما: أنها أبعد من التهمة. والثاني: لتعذر علم الورثة بإرادة السيد. فيبدأ بالقرعة بعتق المرض فإن استوعب الثلث بطل عتق الوصية، وإن بقي من الثلث بقية أقرع لعتق الوصية، فإن احتمل بقية الثلث جميع قيمته عتق، وإن عجز عتق منه بقدر ما احتمله الباقي، ورق باقية. والضرب الثالث: أن يعين المرض، ويبهم عتق الوصية، فيقول: هذا العبد حر، وأعتقوا آخر بعد موتي، فينظر في عتق المرض. فإن استوعب الثلث بطل عتق الوصية، ولم يحتج إلى بيانه، وإن بقي من الثلث بقية صرفت في عتق الوصية، فاحتج إلى بيانه، فيرجع إلى بيان الورثة في أحد القولين، وإلى القرعة في القول الثاني. والضرب الرابع: أن يعين عتق الوصية، ويبهم عتق المرض فيقول: أحد عبيدي حر، وأعتقوا هذا بعد موتي، فلا تمضي الوصية بعتق المعين حتى يتعين في أحدهم عتق المرض، فيرجع في تعيينه إلى بيان الورثة في أحد القولين، وإلى القرعة في القول الثاني ثم يعتبران في الثلث، ويكونان فيه على الأحوال الأربعة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «فإن وقعت القرعة لميت علمنا أنه كان حرًا». قال الماوردي: وأصل هذا أن العتق في المرض يقع قبل الموت، والعتق في الوصية يقع بعد الموت، وملك الورثة يستقر باليد والقبض بعد الموت، فإذا أعتق ثلاثة عبيد لا مال له غيرهم أو وصي بعتقهم ثم مات أحدهم قبل أن يتعين فيه عتق أو رق لم يخل موته من أحوال: أحدها: أن يموت في حياة السيد، فلا يخلو العتق من أن يكون عتق وصية أو عتق مرض، فإن كان عتق وصية لم يقع عليه قرعة في عتق، ولا رق؛ لأن عتق الوصية بعد الموت، وقد مات قبله على ملك سيده، ويصير العبدان الباقيان هما التركة، فيجتمع فيهما عتق الوصية، وحق الورثة، فيقرع بينهما لعتق الوصية، ويعتق بها ثلثا من قرع ويرق للورثة باقية، وجميع الآخر. وإن كان عتق مرض أدخل الميت في قرعة العتق،

وعند مالك: لا يدخل في قرعة العتق، لأنه يري أن عتقه واقع بالقرعة دون اللفظ، ونحن نرى وقوع عتقه باللفظ، ودخول القرعة للتمييز، وقد مضي الكلام معه. وإذا أوجب دخوله في القرعة لم يخل أن تقع عليه قرعة العتق أو قرعة الرق. فإن وقعت عليه قرعة العتق بان بها أنه مات حرًا استوفى السيد بعتقه ما استحقه من ثلثه، ورق الآخران للورثة، ولم يؤثر موته في نقصان التركة، وإن وقعت عليه قرعة الرق لم يحتسب به على الورثة لموته قبل استحقاقهم، وصارت التركة هي العبدان الباقيان والعتق واقع فيهما، ويستأنف الإقراع بينهما، ويعتق ثلثا من قرع منهما، ويرق للورثة باقية، وجميع الآخر. والحال الثانية: أن يموت بعد موت السيد، وبعد قبض الورثة دخل في قرعة العتق، وقرعة الرق، ويستوي فيه عتق المرض وعتق الوصية، لأن عتق الوصية مستحق بالموت، وإن تأخر عنه، والقرعة مميزة لمن كان عتقه مستحقًا إذا صار الورثة إلى مثليه، ويستوي فيه عتق المرض وعتق الوصية، فإن وقعت عليه قرعة العتق بان أنه مات حرًا، ورق الآخران للورثة، وإن وقعت قرعة العتق على أحد الباقيين عتق، ورق الآخر من الميت، وبان أنه مات على ملك الورثة، فإن كان عتق مرض لم يحتج من وقعت عليه قرعة العتق إلى تلفظ الورثة بعتقه، لتقدمه من المعتق، وإن كان عتق وصية، ففي احتياج عتقه إلى تلفظ الورثة بعتقه وجهان: أحدهما: أنه يحتاج إلى تلفظ الورثة، لأن العتق لا يتحرر إلا بلفظ ولم يوجد من الموصي، فاعتبر من الورثة. والوجه الثاني: لا يحتاج عتقه إلى لفظ الورثة، لأن القرعة مميزة لعتق قد وقع، ولفظ السيد بعتقه في الوصية هي الموجب لعتقه فأقنع. والحال الثالثة: أن يموت بعد موت السيد، وقبل قبض الورثة، نظر حال عتقه. فإن كان عتق مرض دخل في قرعة العتق، ولم يدخل في قرعة الرق، فإن وقعت عليه قرعة العتق بان أنه مات حرًا، ورق الآخران للورثة وغن وقعت عليه قرعة الرق بان أنه مات عبدًا لا يحتسب به على الورثة، واستؤنفت القرعة بين الباقيين، وعتق بها ثلثا من قرع، ورق للورثة باقية، وجميع الآخر. وإن كان عتقه وصية، فلا يدخل في قرعة الرق، وفي دخوله في قرعة العتق وجهان: أحدهما: لا يدخل فيها، لن تنفيذ الوصية يلزم بعد قبض الورثة لمثليها، فعلى هذا يكون خارجًا من جملة التركة في العتق والميراث، ويقرع لعتق الوصية بين الباقيين، ويعتق من القارع ثلثاه، ويرق للورثة ثلثه، وجميع الآخر. والوجه الثاني: أنه يدخل في قرعة العتق وإن لم يدخل في قرعة الرق لاستحقاق عتقه بالموت، فإن وقعت عليه قرعة العتق بان أنه مات حرًا، ورق الآخران للورثة، وإن وقعت عليه قرعة الرق خرج من التركة، وبان أنه مات عبدًا غير محسوب على الورثة. وأعتق من الآخرين ثلثا أحدهما بالقرعة.

فصل ولو أعتق عبدًا في مرضه قيمته مائة درهم، لا مال له غيره، فكسب العبد ثلاثمائة درهم، ومات قبل سيده، فإن لم يخلف وارثُا غير سيده مات حرًا، لأن سيده قد ورث كسبه بالولاء، فخرج عتقه من ثلثه، وإن خلف ابنًا، وحكم له بالميراث دخل في عتقه دور، فرق له بعضه، وذلك بأن نجعل للعبد بالعتق سهمًا وللكسب ثلاثة أسهم، وللورثة سهمين يكون جميعها ستة أسهم، فأسقط سهم العتق بموته بخروجه من التركة، يبقي خمسة أسهم، فأقسم عليها الكسب، لأنه قد صار هو التركة، يخرج قسط السهم منها ستين وأعتق منه بقدرها، فيعتق بها ثلاثة أخماسه، ويرق خمساه، وورث ابنه ثلاثة أخماس كسبه، ولم يحتسب على ورثة السيد بخمسي رقه لموته، وورثوا خمسي كسبه، وذلك مائة وعشرون درهمًا، وهو مثلًا ما عتق منه. فصل ولو أعتق عبدًا في مرضه قيمته مائة درهم، وكسب العبد في حياة سيده ثلاثمائة درهم واقترض السيد منه مائة درهم استهلكها ثم مات السيد، وترك مائة درهم قيل: للعبد إن أبرأت سيدك من قرضك عتق جميعك، لأنه قد ترك مثلي قيمتك، وإن لم تبرئه دخل في عتقك دور رق به بعضك، فتجعل بالعتق سهمًا، وبالكسب ثلاثة أسهم، وللورثة سهمين تصير ستة أسهم، والتركة بعد مائة القرض خمسمائة، فأسمها على السهام الستة يخرج قسط السهم ثلاثة وثمانين درهمًا وثلثًا، فأعتق منه بقدرها، فعتق بها خمسة أسداسه، ويملك خمسة أسداس كسبه، ويأخذ مائة قرضه من التركة، ويرق للورثة سدسه، وقيمته ستة عشر درهمًا وثلثان، ويملكون به سدس كسبه، وهو خمسون درهمًا يضمونها إلى المائة الباقية من تركته تجمع معهم مائة وستة وستون درهمًا وثلثان، وهو مثلا ما عتق منه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «أو لأمة فولدت علمنا أنها حرة وولدها ولد حرة لا أن القرعة أحدثت لأحد منهم عتقًا يوم وقعت إنما وجب العتق حين الموت بالقرعة». قال الماوردي: وصورتها: أن يعتق في مرضه أمة، فتلد ولدًا، فهذا على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يعتقها في جملة عبيد، ويخرج عليها سهم العتق، فولدها يجري مجري كسبها، وهو حر بحريتها. والضرب الثاني: أن يعتقها في جملة عبيد، ويخرج عليها سهم الرق، فولدها يجري مجرى كسبها، وهو مرقوق برقها. والضرب الثالث: أن يعتقها وحدها، وليس له مال غيرها، فهذا على أربعة أضرب: أحدها: أن يكون الحمل حادثًا بعد عتقها، ومولودًا قبل موت سيدها، فيكون في

حكم الكسب المحض يعتق منه بقدر ما عتق منها، ويرق منه بقدر ما رق منها، ويدخل به دور يزيد في عتقها. فإذا كانت قيمة الأم مائة درهم قبل الولادة وبعدها، وقيمة الولد مائة درهم بعد ولادته عتق نصفها، وعتق من ولدها نصفه، تبعًا لعتقها، ورق للورثة نصفها ونصف ولدها، وقيمة النصفين مائة درهم، هي مثلًا ما عتق من نصفها، ولا يكتمل العتق بالقرعة في أحدهما، لأنه عتق تلك الأم بمباشرة السيد، فترك العتق في كل واحد منهما على انفراده. والضرب الثاني: أن يكون الحمل موجودًا وقت عتقها، ومولودًا قبل موت سيدها، ففيه قولان من اختلاف قوليه في الحمل، هل له من الثمن قسط أم لا؟ فإن قيل: لا قسط له من الثمن، وهو تبع كان كالحادث بعد عتقه، فيكون على ما مضي من كونه جاريًا مجري كسبها، ويعتق منه بقدر عتقها، ويرق منه بقدر رقها، ويدخل به دور يزيد في عتقها. وإن قيل: إن للحمل قسطًا من الثمن كان الحمل مباشرًا بالعتق مثل أمه، ويعتق من كل واحد منهما ثلثه، ولا يدخل دور في زيادة عتقها، وهل يقر عتق الثلث من كل واحد منهما أو يكمل بالقرعة من أحدهما؟ على وجهين محتملين: أحدهما: يكمل عتق الثلثين في أحدهما بالقرعة كما لو كان ذلك في عبدين. والوجه الثاني: يقر عتق الثلث من كل واحد منهما، ولا يكمل في أحدهما، لأنه في حكم البائع لها. والضرب الثالث: أن يكون الحمل حادثًا بعد عتقها، ومولودًا بعد موت سيدها، فلا يجري عليه حكم عتق المباشرة، لحدوثه بعد العتق. وهل يكون لهما كسبًا أو تبعًا؟ على قولين: إن قيل: للحمل قسط من الثمن كان كسبًا لها اعتبارًا بعلوقه فيدخل به دور في زيادة عتقها، ويكون رقه للورثة ميراثًا، فيعتق منها إذا كانت قيمة كل واحد منهما مائة درهم نصفها، ويتبعها نصف ولدها تبعًا لها، ويرق للورثة نصفها، ونصف ولدها. وهو مثلًا ما عتق منه. وإن قيل: ليس للحمل قسط من البيع، وهو تبع اعتبارًا بولادته، خرج من التركة، ولم يدخل به دور في زيادة العتق، وعتق ثلثها، وعتق ثلث ولدها تبعًا، لأنه من كسبها، ويكون لها ولاء ما عتق من ولدها، ولسيدها ولاء ما عتق منها على القولين معًا، ورق ثلثاها للورثة ميراثًا، ورق ثلثا ولدها للورثة ملكًا، ولا يكمل العتق بالقرعة في أحدهما، ويترك في كل واحد منهما على انفراده، لأنه عتق من كسبها، ولم يعتق على سيدها. والضرب الرابع: أن يكون الحمل موجودًا وقت عتقها، ومولودًا بعد موت سيدها، فلا يكون الولد كسبًا لها، وفيمن تكون كسبًا له قولان: أحدهما: تكون كسبًا للسيد، إذا قيل: للحمل قسط من الثمن يضاف إلى تركته، ويدخل به دور يزيد في العتق، ويجريه في عمل الدور مجري الكسب، لتماثل العتق

فيهما، ولا يتفاضل، لأنه لا يجوز أن تلد بحريتها مملوكًا، ولا برقها حرًا فيعتق نصفها ونصف ولدها، ويعتبر ما عتق منها في ثلث السيد، ولا يعتق فيه ما عتق من ولدها، لأنه عتق عليه بالسراية من غير اختياره، فصار كالتالف من تركته، ويكون ولاء ما عتق من الولد لسيده دون أمه، ويرق للورثة نصفها ونصف ولدها ميراثًا، وهو مثلًا ما عتق منها. والقول الثاني: يكون كسبًا للأم والورثة بقدر الحرية والرق، ولا تزيد به التركة، ولا يدخل به دور في زيادة العتق، فيعتق ثلثها، وتبعها في الحرية ثلث ولدها، لأنه من كسبها، ويكون ولاء ما عتق منه لها دون سيدها، ويرق للورثة ثلثاها ميراثًا، وثلثا ولدها كسبًا. فصل وإذا أعتق السيد في مرضه أمة، وتزوجها ووطئها، ثم مات عنها، ففي نكاحه وجهان: أحدهما: باطل، لأن حالها مترددة بين أن يعتق من ثلثه، فيصح نكاحها، وبين أن ترق بالدين، فيبطل نكاحها، ومن هذه حالها لا يصح نكاحها، لأن النكاح الموقوف باطل. والوجه الثاني: وهو قول أبي العباس بن سريج. أن النكاح ينعقد، وعقده موقوف على خروجها من ثلثه، أو إجازة ورثته لعتقه لا لنكاحهما، فإن خرجت من الثلث أو أجاز الورثة العتق صح النكاح، ولم ترث به، لأن عتقها وصية تبطل بالميراث، وإن لم يخرج من الثلث، ولم يجز الورثة العتق بطل النكاح، واتفق حكم الوجهين مع بطلانه، وفي وطئه لها وجهان: أحدهما: يكون هدرًا لا تستحق به مهرًا، لتردد حالها بين أن تستحقه بعتقها أو يسقط برقها. والوجه الثاني: يكون المهر منه مستحقًا اعتبارًا بظاهر العتق، وفيه إذا كان مستحقًا وجهان حكاهما ابن سريج: أحدهما: يكون من رأس المال اعتبارًا بمهور الأحرار. والوجه الثاني: انه يكون من الثلث اعتبارًا بعتقها أنه من الثلث. فإذا استقر هذا لم يخل حالها من ثلاثة أقسام: أحدها: أن تتسع التركة لقيمتها ومهرها، فينفذ عتقها، وتستحق به جميع مهرها. والقسم الثاني: أن يتسع لقيمتها، ويضيق عن مهرها، فيكون نفوذ عتقها في جميعها موقوفًا على إبرائها من مهرها، فإن أبرأت منه بعد العتق في جميعها، وإن طالبت به دخل به دور يبطل به من عتقها. بقدر ما تستحقه بحريتها على ما سنذكره. والقسم الثالث: أن تضيق التركة عن قيمتها ومهرها، بأن لا يكون له مال غيرها. مثال: أن تكون قيمتها ثلاثمائة درهم، ومهر مثلها مائة درهم، فإن جعلنا المهر من رأس المال جعلت لهما بالعتق سهمًا، وبالمهر ثلث سهم، وجعلت للورثة سهمين تكون ثلاثة أسهم وثلثًا، فأبسطها من جنس الكسر تصر عشرة أسهم، فأعتق منها بسهم العتق، وهو ثلثه فيعتق بها ثلاثة أشعارها، وبيع منها بسهم المهر عشرة يكون هو بقدر

ثلاثة أعشار مهرها، ويرق للورثة ستة أعشارها، وهو مثلا ما عتق منها. وإن جعل المهر من الثلث جعلت ثلثها، وقيمته مائة درهم، مقسوما بين العتق والمهر على أربعة أسهم، يكون قسط السهم خمسة وعشرين درهمًا، فأعتق منها بسهام العتق، وهي ثلاثة أسهم قدرها خمسة وسبعون درهما، فعتق بها ربعها، وبيع منها بسهم المهر وهو خمسة وعشرون درهما بقية ثلثها، وقدره نصف السدس، وهو ربع مهرها، فقد استكمل بها ثلثها، وقيمته مائة درهم، ورق للورثة ثلثاها، وقيمته مائتا درهم، وهو مثلا ما خرج بالعتق والمهر. فصل ولو أعتقت امرأة عبدًا لها في مرضها، وقيمته مائتا درهم، فتزوجت به على صداق مثلها، وهو مائة درهم، ففي نكاحها له وجهان كالرجل إذا أعتق في مرضه أمة، وتزوجها: أحدهما: أن نكاحها باطل، ولا شيء عليه إن لم يدخل بها، وينفر بحكم العتق، ولا يكون للنكاح تأثير. والوجه الثاني: وهو قول أبي العباس بن سريج النكاح موقوف على خروج قيمتها من ثلثها أو إجازة ورثتها لعتقه، فيصح النكاح أو لا، فيبطل. فإن صح النكاح بكمال عقته لم يرثها، لأن عتقها وصية يمنع الميراث منها، وإن بطل النكاح على الوجهين، وقد دخل بها، ولم يترك مالا سواه دخل الدور في زيادة تركتها بالصداق المستحق عليه في التركة، وقيمته مائتا درهم، وما وجب عليه بعتقه من المائة الصداق، وباب دوره إذا كان واجدًا لما يؤديه في الصداق من كسب ملكه عقيب الموت أن تجعل له بالعتق سهما، وعليه بالصداق نصف سهم، وتجعل للورثة سهمين تكون سهمين ونصفا، وأقسم التركة عليها، وهي مائتا درهم، يخرج قسط السهم منها ثمانين درهما، وأعتق منه بالسهم خمسيه، لأن النصف الذي من الصداق يستوفى منه، ويرق للورثة ثلاثة أخماسه، وقيمته مائة وعشرون درهما، ويؤخذ منه خمسا الصداق أربعين درهما. يصير مع الورثة مائة وستون درهما، وهو مثلا ما عتق منه. وإنما سلكت هذه الطريقة وعدلت عن حساب الجبر، لنه ربما خفي على من لم يأنس به من الفقهاء. وبالله التوفيق. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «ولو قال في مرضه سالم حر، وغانم حر وزيادة حر ثم مات فإنه يبدأ بالأول فالأول ما احتمل الثلث لأنه عتق بتات». قال المارودي: وهذا صحيح: عتق المريض وعطاياه معتبرة من ثلثه في حقوق الورثة، ومن جميع ماله في حقوق نفسه، فإن صح من مرضه غلب فيها حق نفسه، فلزم جميعها، ولم يكن له أن يرجع في شيء منها، وإن استوعبت جميع ماله.

وإن مات من مرضه غلب فيها حقوق الورثة، فردت إلى الثلث، وكان لهم رد ما زاد على الثلث إن لم يجيزوه، فإذا جمع في مرضه الذي مات فيه بين عتق وعطايا، وعجز الثلث عن جميعها قدم من ثلثه ما قدمه في حياته من عتق أو عطية، فإن قدم العتق، واستوعب به جميع الثلث أبطلت عطاياه في حقوق الورثة. وإن قدم العطايا، واستوعب بها الثلث أبطل بها العتق تغليبا لحكم أسبقها، عتقا كان أو عطية. وقال أبو حنيفة: إن كان في العطايا محاباة في عقد معاوضة قدمت على جميع العتق. والعطايا، وإن تأخرت، وإن لم يكن فيها محاباة قدم الأسبق، فالأسبق من العطايا أو العتق، فخالف في المحابات، ووافق فيما سواها، احتجاجًا بأن المحاباة معاوضة فكان حكمها أقوى وألزم من غيرها. ودليلنا: هو أن ما تقدم اتخاذه، ووجب أن يقدم تنفيذه، كما لو كان كل العطايا محاباة أو كلها غير محاباة، وليس لاحتجاجه بأن المحاباة معاوضة وجه، لأن المعاوضة تختص بما ليس فيه محاباة، ولذلك لزم، ولم تسقط، والمحابات عطية محضة، ولذلك سقطت ولم تلزم. فصل فإذا استقر هذا الأصل في تقديم الأول فالأول، فبدأ بالعتق، فقال: سالم حر، وغانم حر، وزياد حر، ثم وهب وحابى قدمنا ما بدأ به من عتق سالم، فإن استوعب الثلث أبطلنا عتق غانم وزيادة من غير قرعة، سواء أعتقهم بلفظ متصل أو بألفاظ منفصلة، وسواء قرب ما بينهم أو بعد، تعليلا بالتقدم، فاستوى فيه القريب والبعيد. ولو اتسع الثلث بعد عتق سالم لعتق غيره أعتقنا بعده غانما، لأنه الثاني بعد الأول، فإن استوعب الثلث أبطلنا ما بعدهم من الهبات والمحاباة. وإن اتسع الثلث بعد عتقهم لهباته أو محاباته قدمنا في بقية ثلثه ما قدمه من هبة أو محاباة حتى يستوعب جميع الثلث، ويبطل ما عجز عنه الثلث، فلو اتسع الثلث لعبد وبعض آخر، وضاق عما سواه عتق جميع العبد الأول وبعض الثاني، وأبطل ما عداه من عتق وعطية. ولو قال في مرضه: سالم وغانم وزياد أحرار، كانوا في العتق سواء، لا يقدم فيه من قدم اسمه، لنه أعتقهم بلفظة واحدة بعد تقدم أسمائهم، فلم يتقدم عتق بعضهم على بعض وفي قوله: سالم حر وغانم حر وزياد حر، تقدم عتق بعضهم على بعض، فافترق الأمران. ووجب إذا عجز الثلث عن عتقهم أن يقرع بينهم، وعتق بالقرعة من استوعب الثلث، ورق من عداه. فصل فلو أعتق في مرضه عبدين بلفظة واحدة، وليس له مال غيرهما، وقيمة أحدهما مائة

درهم، وقيمة الآخر مائتان، وكسب كل واحد منهما مثل قيمته أقرع بينهما بعد موته، ويدخل بالكسب دور في زيادة العتق، فنجعل للعتق سهما، وللكسب سهما، وللورثة سهمين تكون أربعة أسهم، وتقسم التركة عليها وهي ستمائة منها ثلاثمائة قيمتها، وثلاث مائة كسبها، يخرج قسط السهم مائة وخمسين درهما، وهو سهم العتق، فيعتق منها بقدره. فإن وقعت قرعة العتق على من قيمته مائتا درهم عتق ثلاثة أرباعه، وملك ثلاثة أرباع كسبه، ورق ربعه بخمسين درهما، وملك الورثة ربع كسبه خمسين درهما، ورق لهم جميع الآخر، وقيمته مائة درهم، وملكوا به جميع كسبه، وهو مائة درهم، صار ثلاثمائة درهم، وهي مثلا ما خرج في العتق. وإن وقعت قرعة العتق على الذي قيمته مائة درهم عتق جميعه، وربع الآخر لاستكمال الثلث، وملك الأول جميع كسبه، وملك الثاني ربع كسبه، ورق للورثة ثلاثة أرباع الثاني، وقيمة ذلك مائة وخمسون درهما، وملكوا به ثلاثة أرباع كسبه مائة وخمسين درهما، صار لهم بالرق والكسب ثلاثمائة درهم هي مثلا ما خرج بالعتق. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «فأما كل ما كان للموصي أن يرجع فيه من تدبير وغيره فكله سواء». قال الماوردي: وهذه المسألة مصورة في الوصايا بالعتق والعطايا بعد الموت، وتنقسم ثلاثة أقسام: أحدها: أن تشتمل على العتق وحده. والثاني: أن تشتمل على العطايا وحدها. والثالث: أن يجتمع فيها العتق والعطايا. فأما القسم الأول: في اشتمالها على العتق وحده، فعلى ثلاثة أضرب: أحدها: أن يكون كله عتقًا، فيقول: اعتقوا عني سالماً، ثم يقول: اعتقوا عني غانمًا، ثم يقول: اعتقوا عني زيادًا، فكلهم في الوصية بعتقهم سواء لا يقدم فيهم من قدم الوصية به، بخلاف عتقه الناجز في مرضه الذي تقدم فيه من قدمه. والفرق بينهما: أن العتق بالوصايا مستحق بالموت الذي يتساوون فيه، وفي المرض مستحق باللفظ الذي يقدمون به، فلذلك قدم في المرض عتق الأول، ولم يقدم في الوصية عتق الأول، وأقرع بينهم إن عجز الثلث عنهم، وأكساب جميعهم قبل الموت تركة. والضرب الثاني: أن يكون كل عتقه تدبيرًا، فيقول: إذا مت، فسالم حر، ثم يقول إذا مت، فغانم حر، ثم يقول: إذا مت، فزياد حر، ففيه وجهان: أحدهما: أنهم يتقدمون في الثلث على ترتيب من قدم، فيعتق الأول إن استوعب الثلث، ورق الثاني والثالث. ولو اتسع الثلث لاثنين عتق الأول والثاني، ورق الثالث اعتبارًا بالعتق في المرض، ولا تستعمل فيهم القرعة، لأنه عتق ناجز بالموت لا يقف على الورثة.

والوجه الثاني: وهو المذهب: أنهم سواء لا يتقدمون على الترتيب لوقوع ذلك بالموت الذي يتماثلون فيه. فإن عجز الثلث عنهم، ولم يتسع لجميعهم ففيه وجهان: أحدهما: وهو المذهب: أنه يقرع بينهم، ويعتق منهم من احتمله الثلث، ويسترق من عجز عنه. والوجه الثاني: أنه يعتق من كل واحد منهم قدر ما احتمله الثلث، ويسترق باقيه، ولا يقرع بينهم في تكميل الحرية. فإن احتمل الثلث نصف قيمتهم عتق من كل واحد نصفه، ورقه نصفه، وإن احتمل الثلث ربع قيمتهم عتق من كل واحد ربعه، ورق ثلاثة أرباعه اعتباراً بالوصايا، والأول أصح لفرق ما بين العتق والوصايا. والضرب الثالث: أن يكون عتقه مشتملا على وصية بالعتق، وعلى تدبير يتحرر بالموت، ففيه قولان: أحدهما: يقدم التدبير على العتق، لتقدم نفوذه بالموت، فإن استغرق الثلث بطل به عتق الوصية. والقول الثاني: وهو الظاهر من المذهب: أنهما سواء، لأن عتق جميعهم مستحق بالموت، فإن ضاق الثلث عن جميعهم أقرع بينهم، وفي القرعة وجهان: أحدهما: يفرد كل فريق، ويقرع بين عتق التدبير، وعتق الوصية، فإذا وقعت قرعة العتق على أحدهما، وقد استوعب الثلث عتق ورق الفريق والآخر وصية كان أو تدبيرًا. والوجه الثاني: يجمع في القرعة بين الفريقين واستوعب بالثلث من وقعت القرعة عليه من كل واحد من الفريقين، ورق من عداه من الفريقين. وأما القسم الثاني: في اشتمال الوصية على العطايا دون العتق، فجميع أهلها يتحاصون في الثلث إذا ضاق عنها، يستوي فيه من تقدمت الوصية له ومن تأخرت، وسواء كان هبة أو محاباة، وأحسب أبا حنيفة يوافق على هذا، ويستهمون في الثلث على قدر وصاياهم إذا اختلفت مقاديرهم، فإن رد بعضهم الوصية توفرت على الباقين في زيادة حقوقهم، ولم يقدم بعضهم بالقرعة على بعض بخلاف العتق الموجب لتكميله بالقرعة في بعضهم، لما قدمنا من الفرق بينهما. ولهذا الفصل أحكام قد تقدم ذكرها في الوصايا، وما حدث من نتاج ماشية أو ثمار نخيل أو كسب عبيد قبل موت الموصي تركة يتسع لها الثلث في تنفيذ الوصايا، وما حدث بعد موته للورثة لا يتسع لها الثلث في حقوق أهل الوصايا. وأما في قضاء الديون منها إذا ضاقت التركة عنها، ففيه وجهان: أحدهما: وهو مذهب الشافعي: لا تقضى منها الديون كما لم تنفذ منها الوصايا. والوجه الثاني: وهو قول أبي سعيد الإصطخري: تقضى منها الديون، وإن لم تنفذ منها الوصايا لحدوثها عن التركة المستحقة في الديون بخلاف الوصايا، لأن الورثة شركة في الوصايا بالثلثين، وليس لهم شركة في الدين.

وأما القسم الثالث: من اشتمال الوصية على العتق والعطايا إذا ضاق الثلث عنهما، ففيه قولان: أحدهما: يقدم العتق على الوصايا، لدخوله في حقوق الله تعالى، وقوته بالسراية. والقول الثاني: أنهما سواء لاعتبارهما من الثلث واستحقاقهما بالموت فيسقط الثلث عليهما بالحصص، فما حصل للعتق أقرع بينهم فيه، وما حصل للعطايا اشتركوا فيه، ولم يقرعوا، فلو اجتمع مع العطايا عتق وتدبير، ففيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يقدم التدبير عند ضيق الثلث عن العتق والعطايا لانتجازه، بالموت، فإن فضل عن التدبير صرف في العتق دون الوصايا. والقول الثاني: يشترك بين التدبير والعتق، ويقدمان على العطايا. والقول الثالث: أن كل ذلك سواء، ويقسط الثلث على الجميع بالحصص، ثم يكون الإقراع في سهم العتق والتدبير على ما ذكرناه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «ولو شهد أجنبيان أنه أعتق عبده وصية وهو الثلث وشهد وارثان أنه أعتق عبدا غير وصية وهو الثلث أعتق من كل واحد منهما نصفه (قال المُزني) إذا أجاز الشهادتين فقد ثبت عتق عبدين وهما ثلثا الميت فمعناه أن يقرع بينهما». قال الماوردي: قد مضت هذه المسألة وسنذكر ما نتج فيها من زيادة. فإذا شهد أجنبيان أنه وصى بعتق عبده سالم، وقيمته الثلث، وشهد وارثان بأنه وصى بعتق عبده غانم، وقيمته الثلث لم يخل حال الوارثين من أن يكونا عدلين قبلت شهادتهما، لسلامتها من معاني الرد، وقد ثبت بالشهادتين عتق عبدين، وهما ثلثا الميت، فيقرع بينهما، ليكمل بالقرعة عتق أحدهما على ما ذكره المزني. وإنما قال الشافعي: «أعتق من كل واحد منهما نصفه» إشارة إلى أن الشهادة أوجبت أن يعتق من كل واحد منهما نصفه، والشرع قد أوجب أن يكمل العتق في أحدهما بالقرعة، فإذا أقرع بينهما، ووقعت قرعة العتق على من شهد الوارثان بعتقه أمضى على هذا، ورق من شهد الأجنبيان بعتقه، وإن وقعت قرعة العتق على من شهد الأجنبيان بعتقه عتق، ونظر ما يقوله الوارثان في ضهادة الأجنبيين، فإن صدقاهما رق لهما من شهدا بعتقه، وإن كذباهما لم يسترق من شهدا بعتقه إذا اتسع له ثلث الباقي. وإن كان الوارثان مجروحين لم تقبل شهادتهما، وأعتق من شهد الأجنبيان بعتقه، ونظر قول الوارثين في شهادة الأجنبيين، فإن صدقاهما رق لهما من شهدا بعتقه، ويكون التأثير في رد شهادتهما إبطال القرعة. وإن كذباهما لزمهما أن يعتقا ممن شهدا بعقته قدر ما احتمله الثلث بعد خروج الأول من التركة، ويسترقا منه ما عجز عنه الثلث.

ولو شهد الأجنبيان بعتق سالم في المرض، وشهد الوارثان بعتق غانم وصية بعد الموت، وليس بينهما تكاذب عتق سالم، ورق غانم، لأن عتق المرض مقدم على عتق الوصية، وكان للوارثين أن يسترقا من شهدا بعتقه في الوصية لعجز الثلث عنه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: «ولو قال لعشرة أعبد له أحدكم حر سألنا الورثة فإن قالوا لا نعلم أقرع بينهم وأعتق أحدهم كان أقلهم أو أكثرهم». قال الماوردي: وإطلاق قوله: لعشرة أعبد له، أحدكم حر، ولم يسمه ينقسم قسمين: أحدهما: أن يقصد بإطلاقه تعيين العتق في أحدهم، فهو الحر من بينهم، ويرجع إليه في بيانه منهم، فإن بينه، فقال: هو سالم عتق، وكان بيانه خبرا، ورق من سواه. فلو قال: هو سالم أو غانم رق من سواهما، وأخذ ببيان من أراده منهما. ولو قال: هو سالم لا بل غانم عتقا معا، لأنه صار راجعًا عن سالم، وقمرا بغانم فلزمه إقراره، ولم يقبل رجوعه، ورق من عدا سالما وغانما من عبيده، فإن أكذبه أحدهم، وادعى أنه هو المعين بالعتق أحلف له السيد، وكان على رقه، وإن نكل السيد ردت اليمين على العبد، فإذا حلف عتق، فإن فات بيان السيد حتى مات رجع بعده إلى بيان ورثته إن كان عندهم بيان، وقام بيانهم مقام بيانه، لأنهم في ماله بمثابته، وإن لم يكن عند الورثة بيان، فمذهب الشافعي أنه يقرع بينهم، ويعتق من قرع منهم، ويسترق باقيهم، لأن القرعة موضوعة لتمييز الحرية من الرق. وذهب أصحابه إلى المنع من القرعة، وتوقفهم على بيان قاطع، لن دخول القرعة يفضي إلى رق من أعتقه، وعتق من أرقه، وهذا فاسد، لأن البيان فائت، ووقوف أمرهم مضر بالحر في حق نفسه، ومضر بالأرقام في حقوق الورثة، فلم ينتف الضرر في الجهتين إلا بالقرعة. والقسم الثاني: أن يبهم العتق فيهم، ولا يقصد تعيينه في أحدهم، فيؤخذ بتعيينه، ويكون في التعيين على خياره، فإذا عينه في أحدهم عتق، ورق من سواه، وسواء كان أكثرهم قيمة أو أقلهم، فلو ادعى غيره التعيين لم تسمع دعواه، لنه في هذا التعيين مخبر وليس بمخير، فلو قال عند التعيين: هو سالم لا بل غانم عتق سالم دون غانم بخلافه في القسم الأول، لأن هذا تخيير في تعيين عتق قد لزم، فإذا عينه في الأول سقط خياره في الثاني، وليس كذلك حكمه في القسم الأول، لأنه إخبار لا خيار له فيه، فلم يسقط حكم خبره في واحد منهما، فإن فات تعيينه للعتق بموته، فقد اختلف أصحابنا: هل يقوم ورثته مقامه في التعيين؟ على وجهين: أحدهما: يقومون مقامه فيه، ولهم أن يعينوا ما أبهمه من العتق فيمن أرادوا، لأنهم يقومون مقامه في حقوق الأموال. والوج الثاني: لا حق لهم في تعيين ما أبهمه، لأن تعيين المبهم موقوف على خيار المعتق بحسب غرضه، وهذا معدوم في ورثته، فعلى هذا يعدل إلى تعيينه بالقرعة، ويعتق منهم من قرع.

باب من يعتق عليه بالملك

فصل وإذا أعتق في مرضه عبدا قيمته مائة درهم وترك مائتي درهم دينًا أو غائبة لم يجعل عتق جميعه، وإن خارجًا من ثلث التركة لو نضت لجواز أن يقوى الدين أو تتلف الغائبة، وعجل عتق ثلثه، ووقف ثلثاه مترددًا بين العتق إن نضت والرق إن تلفت، وملك ثلث كسبه المستحق بعتقه. فأما ثلثا كسبه المستحق بالموقوف عنه، فله أن ينفق منه على نفسه ثلثي نفقته، وفي الباقي منه وجهان: أحدهما: يكون موقوفًا معه، فإن عتق باقية كان له، وإن رق كان للورثة، لن كسبه نفع له. والوجه الثاني: أنه يكون للورثة لئلا يمتنعوا من الانتفاع بالوقف، فعلى هذا إن رق باقيه استقر ملكهم على ما أخذوه من كسبه، لاستقرار ملكهم على رقه، وإن عتق باقيه، ففي وجوب رده عليه وجهان: أحدهما: يرده الورثة عليه، لأن كسب الحر لا يملك عليه. والوجه الثاني: لا يلزمهم رده عليه، لأن حكم الرق في حال الوقف أغلب من حكم الحرية، فإن نض من الدين أو الغائب مائة، وبقيت مائة عتق منه ثلث آخر، وكان حكمه الثلث الأول، وكان ثلثه موقوفًا على نض ما بقي ويمنع لورثة من بيع ما وقف منه، ومن رهنه، لأن الرهن موضوع البيع. فأما إجارته، فإذاه راضاهم العبد عليها جاز، وإن منعهم منها، ففيها وجهان بناءً على اختلاف الوجهين في كسبه: هل يكون موقوفًا أو لورثته. أحدهما: يمنعون منها إذا جعل كسبه موقوفًا. والوجه الثاني: يمكنون منها إذا جعل كسبه لهم، فإن أعتقه الورثة ما وقف منه لم يعتق، وإن ملكوه، لأنه موقوف على عتق موروثهم، فلم ينفذ فيه عتق غيره إلا بعد إبطال عتقه، ولو دبروه كان في تدبيرهم وجهان: أحدهما: باطل كالعتق. والثاني: جائز لتأخير العتق به، وتغليب حكم الرق عليه، والله أعلم بالصواب. باب من يعتق عليه بالملك مسألة: قال: [1/ أ] ومن ملك أحدًا من آبائه أو أمهاته أو أجداده أو جداته». الفصل جملة هذا أن مذهب الشافعي رضي الله عنه أن كل من كان من عمود الولادة مثل الآباء والأجداد والأمهات والجدات والبنين والبنات وأولادهم، وإن سفلوا يعتقون عليه بالملك، ولا يعتق غير هؤلاء، ويستحب لمن يشتريه حتى يعتق، ولا يجب ذلك، قال في «الأم»: ومن عتق عليه منهم فله ولاءه سواء كان الذي يملكه فيعتق عليه مسلما أو كافرًا صغيرا أو كبيرا معتوها أو عاقلا، وقال داود: لا يعتق عليه بحال فإنه إذا ملك والده يؤخذه بعتقه، واحتج بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لن يجزي والد ولده إلا أن

يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه» فلو كان يعتق بنفس الملك لما قال فيعتقه. ودليلنا قوله سبحانه وتعالى: {اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] فأخبر أنه لا يجتمع الولادة والعبودية. وروى الحسن عن سمرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ملك ذا رحم محرم، فهو حر». وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «من ملك ذا رحم محرم فهو عتيق حين يملكه». وأيضا فالولد حرد من الأب لقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ [1/ ب] والتَّرَائِبِ (7)} [الطارق: 7]، والترائب: قيل في التفسير: يخرج من صلب الرجل وترقوة المرأة، وقيل: من عظام صدر المرأة. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها». وكل من ملك نفسه عتق فكذلك إذا ملك ولده. وأما خبرهم قلنا قوله، فيعتقه معناه فيعتق عليه فعبر عن العتق بالإعتاق لأنه بسبب شراءه، وقال مالك: لا يعتق عليه الوالدان والمولودون والأجداد والجدات والإخوة والأخوات فقط. وقال أبو حنيفة: يعتق عليه كل ذي رحم محرم بالنسب من العمات والخالات والأخوال وأولاد الإخوة والأخوات، به قال جابر بن زيد وعطاء والشعبي والزهري والحكم وحماد والثوري وأحمد وإسحاق، واحتج بالخبر الذي ذكرنا، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: من ملك ذا رحم محرم، فهو حر ومثله عن الحسن البصري. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن ابن الأخ يعتق على العم. ودليلنا أن كل قريب جاز للمكاتب بيعه لا يعتق على الحر إذا ملكه كابن العم وأما الخبر، قلنا: يخصه بالوالدين والمولودين بدليل ما ذكر. فرع إذا عتق عبد ملكه فبماذا يعتق وجهان: أحدهما، يعتق بالسبب الذي ملكه به بابتياع كان العقد موجبا للملك والعتق فعلى هذا يسقط فيه خيار البائع والمشتري ويجري مجرى قوله للبائع: أعتقد عبدك عني بألف فأعتق. والثاني: أنه يعتق بعد استقرار العقد الذي ملكه به ليكون بالعقد مالكا، وبالملك معتقا لأن العقد الواجب [2/ ب] لا يجوز أن يكون موجبا لإثبات الملك، ولإزالته في حالة واحدة فعلى هذا يثبت فيه خيار المجلس في حق البائع وفي ثبوته في حق المشتري وجهان، بناء على أنه يملك بالعقد أو بانقضاء الخيار، فإن قلنا: يملك بالعقد فلا خيار له، فإن اختار البائع الفسخ انتقض

به العتق، وإن اختار الإمضاء، استقر العتق، وإن قلنا: يملك بانقضاء الخيار فله الخيار وله الفسخ ما لم يختر البائع الإمضاء فإن اختار البائع الإمضاء سقط خيار المشتري فكان إمضاء البائع قطعا لخياره وخيار المشتري. فرع آخر لو وهب له من يعتق عليه، فإن قلنا: الهبة توجب المكافأة لم يلزمه قبولها، وإن قلنا: لا توجب المكافأة، فهل يلزمه قبولها وجهان: أحدهما، يلزمه ليعتق به من هو مأخوذ بحقه وعلى هذا لو قال لعبده: أنت حر إن شئت يلزمه أن يشاء ليعتق، والثاني: لا يلزمه لما يتعلق عليه بالقبول من حقوق لا تجب عليه قبل القبول، فعلى هذا لو قال لعبده: أنت حر إن شئت يلزمه أن يشاء. فرع آخر لو أوصى له بمن يعتق عليه فليس في قبول الوصية مكافأة. وفي وجوب قبولها وجهان، ذكره في الحاوي. مسألة: قال: «وإن ملك شقصًا من أحدٍ منهم بغير الميراث قوم عليه ما بقي». الفصل إذا ملك جزءا من أبيه عتق عليه ثم لا يخلو، إما أن يكون معسرا أو موسرًا، فإن كان معسرا لا يقوم عليه لأنه يزاد لإزالة الضرر، فلا يلحق الضرر بالغير، وإن كان موسرا لا يخلو إما أن يملك باختياره أو بغير اختياره، فإن كان باختياره كقبوله الهبة، والابتياع [2/ ب]، أو القبول عند الوصية له به يقوم عليه كما لو باشر عتقه لأن الضمان لا يجب بالسبب وهذا الشراء سبب العتق، فإن قيل: هلا قلتم يقوم عليه إذا كان بغير عوض كالموهوب منه، إذا ملك الشقص بغير عوض ليس للشفيع أخذه. قلنا: لنه يؤدي هناك إلى إلحاق الضرر بالتملك، وها هنا لا يؤدي إلى إلحاق الضرر بالشريك المالك، وهو اختيار العتق حين قبل ذلك الملك المؤدى إلى الغير فقومنا عليه، فإن كان بغير اختياره ولا يتصور ذلك إلا في الميراث بأن يرثه لا يقوم عليه لأنه دخل في ملكه بغير اختياره فأشبه إذا أوصى بعتق جزء من عبده، فمات أعتق ذلك الجزء عنه، ولا يقوم عليه الباقي. فرع لو لم يختر تملكه ولكمنه باشر فعلا تضمن ذلك الفعل اجتلابا للملك، ففي تقويم الباقي عليه وجهان، مثل أن يملك المكاتب بعض من يعتق على سيده، ثم عجزه السيد فعتق عليه ذلك الشخص، هل يقوم عليه الباقي أم لا؟ وكذلك لو ملك ابن عمه فباعه بثوب ومات فورثه عمه فوجد العم بذلك الثوب عيبا فرده، فعاد إليه بعض ابنه فعتق

عليه ففي التقويم وجهان فغن رد عليه بالعيب لم يقوم الباقي وجها واحدا. وكذلك لو أوصى لرجل ببعض ابنه فمات الموصي، ثم مات الموصى له قبل القبول وورثه عمه فقبل الوصية عتق عليه ما أوصى له من ابنه، وفي تقويم الباقي الوجهان. مسألة: قال: وإن وهب لصبي من يعتق عليه. الفضل المولى عليه إذا وهب منه أبوه لا يخلو [3/ أ]، إما أن يكون معسرا أو موسرا، فإن كان معسرا يجب عليه قبوله لأنه إذا كان حرا يكون أجمل له من أن يكون عبدا، ولأنه ربما ينتفع به بأن يكون مكتسبا، فيصير الكسب موسرا، فينفق عليه. وإن كان موسرا ينظر فيه فإن كان صحيحا مكتسبا يجب عليه قبوله لأن لا يستضر بذلك، وإن كان زمنا لا يجب عليه قبوله لأنه يستضر به لوجوب النفقة. ولا يجوز لهذا المعنى، وإن كان صحيحا غير مكتسب فهل يجب قبوله هو مبني على القولين في وجوب النفقة عليه، فإن قلنا: تجب نفقة الصحيح غير المكتسب على الابن لا يجوز قبوله لأنه يستضر به، وإن قلنا: لا تجب النفقة يجب قبوله وهكذا إذا أوصى له بهذا الأب. وقال في الحاوي: إذا كان موسرا والابن زمن غير مكتسب بل يلزمه قبوله فيه وجهان: أحدهما، ما ذكرنا، والثاني يلزمه قبوله لأنه يستفيد بالقبول عتق أبيه، واستحقاق الولاء عليه، وهذا غريب، وإن وهب له أو أوصى له ببعض من يعتق عليه، فإن كان معسرا لا مال له سواه كان على الوصي أن يقبل لأنه لا يستضر به من أجل أنه لا يقوم عليه الباقي والمقبول يعتق على الصبي وحده. وإن كان الصبي موسرا لم يجز للوصي القبول مخافة السراية في مال الصبي لأنه موسر، فإن قبله مردود. نص عليه في كتاب العتق من «الأم»، ونقله المزني. وقال في كتاب الوصايا: يعتق ما ملك على الصبي ويقبل الوصي ذلك لأن في قبوله منفعة ويقف العتق على المقدار المقبول، ولا يسري إلى الباقي، وإن كان الصبي موسرا [3/ ب] لأن في السراية ضررا عليه والشرع أمر بدفع الضرر عنه فلم يتعلق ذلك قبوله ولأنه يدخل في ملكه بغير اختياره، فلا يقوم عليه. وهذا إذا كان الأب كسوبًا، فإن كان زمنا غير كسوب لا يقبل الضرر على ما ذكرنا، وكل موضع، قلنا: يقبله الوصي فلم يقبله قبله الحاكم، أو نصب من يقبله، فإن لم يفعل وتركه، فإذا بلغ الصبي كان له قبوله. فرع لو باع عبدا من أبيه وأجنبي صفقة واحدة بعتق نصيب أبيه ويسري إلى نصيب شريكه ويجب عليه قيمته إذا كان موسرا. وقال أبو حنيفة: لا يضمن لشريكه لأن ملكه لا يتم

إلا بقبول شريكه فصار كأنه أذن له في إعتاق نصيبه، وهذا لا يصح لأنه عتق عليه نصيبه بملكه باختياره فيقوم عليه الباقي مع يساره كما لو انفرد بشرائه. وأما ما ذكره فلا يصح لأنه لا نسلم أنه لا يصح قبوله إلا بقبول شريكه ولا نسلم أنه إذا أذن له في إعتاق نصيبه يسقط ضمان نصيبه. فرع آخر لو ملك المحجور عليه بالسفه نصف أبيه بهبة أو وصية يعتق عليه وفي تقويم باقية عليه إذا كان موسرا به وجهان: أحدهما: لا يقوم عليه لأنه بالحجر كالمعسر، والثاني: يقوم عليه لاستحقاقه بالشرع كالنفقات. فرع آخر لو اشترى نصف أبيه ولم يعلم يقوم عليه الباقي لأن التقويم معتبر باختيار الملك لا باختيار العتق. فرع آخر لو غنم أبوه وهو أحد شركاء غانميه، فإن لم يكن في الغنيمة غير أبيه فقد [4/ ب] تعين حقه فيه، فإن باشر غنيمته عتق عليه سهمه منه، وقوم عليه باقيه لأنه قد ملكه باختياره، وإن غنمه شركاؤه ولم يباشر غنيمته عتق عليه سهمه منه، ولم يقوم عليه باقيه لأنه ملكه بغير اختياره. فرع آخر لو قال لمن لا يولد لمثله: هو ابني لم يعتق عليه، وبه قال أحمد، قال أبو حنيفة: يعتق ولا يثبت نسبه لأنه اعترف بما يثبت به حريته، فأشبه إذا أقر بحريته ودليلنا أنا إذا تحققنا كذبه فيما أخبر به، فلم يثبت ما تضمنه، كما لو قال: أعتقتك منذ ألف سنة وهذا الخلاف إذا قال لعبده، وهو أكبر سنا منه، أنت ابني. فرع آخر إذا ولدت المزني بها ولدا وملكه الزاني لم يعتق عليه، وقال أبو حنيفة: يعتق عليه لأنه مخلوق من ماءه في الظاهر، ودليلنا أنها ولادة لا يتعلق بها ثبوت النسب، فلا يتعلق بها وجوب الإعتاق كما لو أتت به لأكثر من أربع سنين من حين الزنا. فرع آخر قال في «الأم» إذا قال لعبده أو لأمته: أنت طالب لو ملكتك نفسك أو أزلت ملكي عنك أو ملكت على نفسك، وأراد العتق عتق، وقال أبو حنيفة: لا يقع الإعتاق بلفظ الطلاق. قال: ولو أعتقه بصفة أو شرط لم ينفذ إلا بما أوقعه، ولو أعتقه على

شرطين، أو على صفتين أو أكثر لم يعتق إلا بكمال الشرطين أو الصفتين. فرع آخر لو قال لعبده: أنت حر على مائة دينار وخدمة سنة، فقبل العبد العتق على ذلك كان حرا، وكان عليه ما شرطه [4/ ب] سيده، فإن مات قبل أن يخدم رجع المولى بقيمة العبد عليه في ماله إن كان له. فرع آخر لو أعتق عبدا على أن يخدمه بعد العتق مدة معلومة اتفقا عليه ورضيا به جاز خلافا لبعض العلماء، ويجعل عتقه ناجزا وعليه الخدمة. وروي أن عمر رضي الله عنه أعتق عبيدا من بيت المال وشرط عليهم أن يحفروا القبور فكانوا على ذلك، وروى أنه أعتق عبيدًا وشرط عليهم أن يخدموا الخليفة بعده ثلاث سنين. وقال سفينة: أعتقتني أم سلمة رضي الله عنها وشرطت علي أن أخدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما عشت، قلت: إن لم تشترطي علي ما فارقت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وكان ابن سيرين يثبت الشرط في مثل هذا، وسئل أحمد عنه فقال: يشتري هذه الخدمة من صاحبه الذي اشترط له، قيل له: يشتري بالدراهم، قال: نعم. فرع آخر لو قال: أنت حر وعليك مائة دينار، أو أنت حر أو خدمة سنة عتق في الحالين معًا ولم يلزمه شيء. قال: وإن أجل أعتق عليه لم يقع العتاق قبله. فرع آخر لو قال لعبد لا يملكه: إن اشتريتك فأنت حر لوجه الله تعالى، أو قال لأمة رجل: إن اشتريتك ووطئتك فأنت حرة، فاشتراها ووطئنها لم تعتق. فرع آخر لو قال لعبده إن دخلت الدار، فأنت حر فباعه ثم دخل الدار لم يعتق، فإن لم يدخل الدار حتى ابتاعه لم يعتق في قوله الجديد، وفي أحد قوليه القديم وقد تقدم الكلام فيه. فرع آخر قال بعض أصحابنا بخراسان: لو اشترى المديون [5/ أ] من يعتق عليه في مرضه فيه وجهان: أحدهما: لا يصح الشراء، وبه قال ابن سريج، والثاني: يصح الشراء ولا يعتق عليه بل يباع عليه في دينه. فرع آخر لو وهب من المديون من يعتق عليه يترتب على الشراء، فإن قلنا: يصح الشراء، فالهبة أولى، فيباع عليه، وإن قلنا: لا يصح الشراء، ففي الهبة وجهان: أحدهما: يصح ويعتق عليه بخلاف الشراء لأن ها هنا لم يخرج بإزائه شيئاً، وفي البيع إخراج الثمن.

فرع آخر لو قال: إن بعتك فأنت حر، فباعه بيعا فاسدا لا يعتق خلافا للمزني، وهذا لن مطلق البيع الصحيح. فرع آخر قال لعبديه: أحدكما حر فقتلا طولب بالبيان. وقال أبو حنيفة: انقطع البيان ووفقنا فيه إذا أفقئ عينيهما، أو قطع أيديهما أنه يطالب بالبيان. فرع آخر إعتاق الحربي ينفذ عندنا وله ولاءه إذا أسلما خلافا لأبي حنيفة، وهذا لأنه ملكه ملكا تاما فينفذ فيه عتقه كالذمي. فرع آخر قال ابن الحداد: إذا كانت أمة لرجل لها ابن موسر ... فتزوجها رجل فحملت منه ثم اشتراها ابنها وزوجها صفقة واحدة، فإن نصيب الابن من أمه يعتق عليه ويسري إلى نصيب الزوج ويعتق عليه، ونصيب الزوج من الحمل يعتق عليه ببنوته، ونصيب الابن من الحمل يعتق ولا يجب لأحدهما على الآخر من قيمة الحمل شيء لأنه عتق عليهما في حالة واحدة، قال: فلو كانت المسألة بحالها، ولكن مالك الجارية يوصي لهما بها فقبلا الوصية نظر فإن كانا قبلاها في حالة واحدة، فالحكم [5/ ب] في ذلك على ما ذكرنا فيه إذا اشتراها، فإن قبل أحدهما دون الآخر بنى ذلك على القولين متى يملك الموصى له، فإن قلنا: يتبين بالقبول أنه ملك بالموت فالحكم فيه على ما ذكرنا فيه إذا قبلا دفعة واحدة، وإن قلنا: إنه يملك بالقبول من حين القبول، فإن قبل الزوج أولا عتق عليه حصته من الحمل ويسري إلى الباقي ووجب عليه قيمة الباقي إذا كان موسرا، فإن قبل الابن عتق عليه حصته من الأم وسرى إلى الباقي، ويقوم عليه ويتقاصان ويرد من عليه الفصل وإن قبل الابن أولا عتق حصته من الأم وتبعها حصته من الولد وسرى العتق إلى الباقي من الأم والولد، ووجب عليه قيمتهما. فرع آخر قال: إذا كان لرجل نصفان من عبدين وقيمة العبدين سواء ولا مال له سواهما فأعتق أحدهما في صحة نفذ العتق وسري إلى نصيب شريكه لأنه يملك بقدره، وهو النصف الآخر، فإن أعتق النصف الآخر من العبد عتق أيضا إن كان في صحته ولم يسر إلى نصيب شريكه لأنه معسر ولا يمنع ثبوت قيمة النصيب الذي سرى إليه عتقه في ذمته من نفوذ عتقه في نصيب الآخر لأنه لم يتعلق بعين ماله وإنما تعلق بذمته، فإن أعتقه في مرضه المخوف لم ينفذ لأن الدين معلق بماله. فرع آخر قال أيضا: إذا شهد شاهدان أنه أعتق زيدا في مرضه وحكم الحاكم بشهادتهم ثم

رجعا عن الشهادة وشهد آخران أنه أعتق عمرًا وحكم بشهادتهما وقيمة كل واحد منهما قدر الثلث ومات أقرع بين العبدين لأن رجوع الشهود بعد حكم الحاكم لا يبطله، فإن خرجت القرعة على الأول عتق ورد الثاني، ووجب على الشاهدين، قيمة الأول للورثة، وإن خرجت القرعة على الثاني عتق ورق الأول، ولا شيء على الشاهدين، [6/ أ] وقال بعض أصحابنا: هذا لا يصح ويجب إذا خرجت القرعة على الأول أن يعتق الأول والثاني، وتجب قيمة الأول على الشاهدين لأن الورثة يصدقون الشاهدين في رجوعهما ولو كذبوهما لم يرجعوا عليهما بشيء، وإذا كان كذلك وجب أن يعتق الثاني بكل حال، وإن اقتضت شهادتهما عتق الأول غرمنا قيمته وصار كأنه لم يعتق إلا الثلث وعلى ما قال ابن الحداد يحصل للورثة جميع التركة ويبطل عتق الثلث. فرع آخر قال أيضا: لو شهد شاهدان على رجل أنه أعتق شقصا له من عبد ثبت عتقه وسرى العتق إلى الباقي لأنه موسر وغرم قيمته لشريكه ثم رجعا عن هذه الشهادة غرما قيمة النصيب الذي شهدا بعتقه دون قيمة نصيب شريكه. وقال القاضي الطبري: إنما كان كذلك لأنهما شهدا بعتق نصيبه وغرما قيمة نصيب شريكه والشهادة بالعتق توجب الضمان على الشاهدين فأما الشهادة بالمال لا توجب الضمان على أحد القولين، إذا رجعا على الشهادة فأما على القول الآخر فيجب الضمان أيضا. قال بعض أصحابنا في هذا نظر لأنهما لم يشهدا بالمال بل تضمن ذلك شهادتهما وتضمن شهادتهما عتق نصيب الشريك، فإذا ألزمناهما ما تضمنته شهادتهما من المال وجب أن يلزمها ما تضمنته من العتق فيكون الضمان عليهما قولا واحدا. فرع آخر قال أيضا: إذا كان عبد بين شريكين، [6/ ب] فقال أحدهما: إن كان هذا الطائر غرابا فنصيبي حر وقال الآخر: إن لم يكن غرابا فنصيبي حر، وذهب ولم يعلما ما هو نظر، فإن كانا معسرين، فالعبد بحاله، وإن كان أحدهما حانثا لأنه لم يتعين فلا يزيل ملك أحد منهما، قال: فإن باع كل واحد منهما نصيبه من واحد كان لهما أن يتصرفا فيه أيضا، وإن باعاه جميعا من واحد عتق على المشتري نصفه، لنه قد تيقن أن نصفه حر فلا يكون له أن يتصرف في جميعه وإن كانا موسرين، فإن قلنا: العتق يسري باللفظ عتق جميعه لأن كل واحد منهما إن عتق شريكه يسري إلى نصيبه لأنه يقول: شريكي حانث ولا يجب لأحدهما على الآخر شيء لأنه لا يقبل قوله عليه، وإن قلنا: إنه يسري بأداء القيمة لم يعتق العبد ولكن لا يشكون لكل واحد منهما بيع نصيبه لأنه قد استحق عتقه، وهل ينفذ عتقه فيه وجهان مضيا، وإن كان أحدهما موسرا، والآخر معسرا عتق نصيب المعسر لأنه يعترف بأن شريكه الموسر حنث وإن عتقه سرى إلى نصيبه، ولا يعتق نصيب الموةسر لأن شريكه معسر وعتق المعسر لا يسري هذا إذا قلنا:

يسري باللفظ، وإن قلنا: يسري بأداء القيمة لم يحكم بنفوذ العتق ولكن يمنعه من التصرف فيه على ما بيناه. فرع آخر لو ابتاع في مرضه من يعتق عليه قد ذكرنا من قبل أن ثمنه معتبر من الثلث ولا يورث عند جمهور أصحابنا، وقال أبو الحسن بن اللبان الفرضي: يورث لأن المعتبر من الثلث هو الثمن وهو حق البائع [7/ أ] يخرج أن يكون وصية لهذا المعنى، وإن ضاق الثلث عن ثمنه ولم يملك غيره فيه وجهان: أحدهما: يمضي البيع في جميعه ويعتق عليه ثلثه ويرق ثلثاه لورثته، فإن كان ورثته ممن يعتق عليهم عتق من ملكهم، ويكون لهم ولاء ثلثيه وللموروث ولاء ثلثه، وإن كانوا ممن لا يعتق عليهم كان ثلثاه باقيا على رقهم، والثاني: يمضي البيع في ثلثه ويفسخ في ثلثيه إذا رضي البائع بتفريق الصفقة، فإن لم يرض ففي فسخه وجهان من الوجهين في عتقه، هل وقع بالعقد، أو بعد استقراره، فإن قلنا: وقع بالعقد لا يفسخ، وإن قلنا: وقع بعد استقرار العقد، فله الفسخ، فإن جوزنا الفسخ ففسخ عاد رقيقا إلى ملك البائع وعاد إلى الورثة كل الثمن، وإن قلنا: لا يفسخ أمضى البيع في ثلثه وعتق على المشتري وفسخ البيع في ثلثيه ورد على بائعه واسترجع منه ثلثا الثمن ودفع إلى الورثة وإنما جعل لهما ثلثا الثمن ولم يجعل لهما ثلثا الرقبة لأنهم لا يملكون بالإرث إلا ما ملكه الموروث والموروث لا يجوز أن يستقر ملكه عليه فلم يستقر ملك ورثته عليه، فلذلك عدلنا عن توريث رقبته إلى توريث ثمنه، وإن كان ثلثاه مسترقا في الحالين. فرع آخر لو اشترى أباه في مرضه بمائتي درهم وقيمته مائة درهم وترك مائة درهم فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: يجعل العتق مستوفي على المعتق والمحاباة والعتق مائة والمحاباة مائة والتركة ثلاثمائة فيعتق من الأب نصفه بمائة نصفها محاباة ونصفها عتق. ويفسخ البيع في نصفه بمائة تدفع إلى ورثته مع المائة التي تركها [7/ ب] يصير معهم مائتا درهم هي مثلا ما خرج بالعتق والمحاباة، والثاني: تقدم المحاباة في الثلث على العتق لأنها أصل العتق وهي مستوعبة للثلث ويرق الأب للورثة إن كان ممن لا يعتق عليهم وقيمته مائة درهم تضم إلى المائة يصير معهم مائتا درهم وهي مثلا ما خرج بالمحاباة، والثالث: يفسخ فيه البيع ويعاد إلى رق البائع حتى لا يورث عن غير مالك وتسترجع الورثة جميع ثمنه ويبطل بذلك حكم البيع والمحاباة. فرع آخر إذا ملك ذوي حرمه من الرضاع لا يعتق، وبه قال جمهور العلماء. وقال شريك بن عبد الله القاضي: يعتق وهذا خطأ لأنه يفارق أهل الأنساب في الأحكام من الميراث والولاية وغيرهما.

كتاب الولاء

كتاب الولاء قال: أخبرنا محمد بن الحسن الخبر. الأصل في ثبوت الولاء للمعتق الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب، فقوله تعالى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ومَوَالِيكُمْ} [الأحزاب: 5]، الآية. وأما السنة: فما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب»، ومعناه امتشاجا كامتشاج النسب واختلاطا كاختلاطه ولهذا قيل مولى القوم منهم، ولهذا لا تحل الصدقة لموالي بني هاشم، وأيضًا روى ابن عمر أن عائشة رضي الله عنهم أرادت أن تشتري [8/ أ] جارية فتعتقها، فقال أهلها: نبيعكها على أن ولاءها لنا فذكرت عائشة رضي الله عنها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «لا يمنعك ذلك، فإن الولاء لمن أعتق»، ومعنى لا يمنعك ذلك إبطال ما شرطوه من الولاء لغير المعتق، وأيضًا ما روى عروة: أن بريرة جاءت عائشة رضي الله عنها تستعينها في كتابتها ولم تكن قضت من كاتبها شيئًا، فقالت لها عائشة: ارجعي إلى أهلك، فإن أحبوا أن أقضي عنك كتابتك ويكون ولاءك لي فعلت، فذكرت ذلك بريرة لأهلها، فأبوا، وقالوا: إن شاءت أن تحسب عليك فلتفعل ويكون ولاءك لنا، فذكرت ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال لها، رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ابتاعي وأعتقي فإن الولاء لمن أعتق»، قم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «ما بال أناس يشترطون شروطا ليست في كتاب الله، من اشترط شرطًا ليس في كتاب الله فليس له وإن شرط مائة شرط شرط الله أحق وأوثق». وروي أنها قالت: إن باعوني إياك صببت لهم صبا على أن يكون الولاء لي الخبر الذي قالت، ثم قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الناس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: «ما بال رجالٍ يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ما كان من شرط ليس في كتاب الله فهو باطل، وإن كان مائة شرط قضاء الله أحق وشرط الله أوثق، وإنما الولاء لمن أعتق»، فإن قيل: هذا الخبر لا يصح لأنه يؤدي إلى الغرور، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لا يأمر بالغرور. وقد روي: ابتاعي واشترطي لهم الولاء، وهذا غرور ولأن فيه بيع المكاتب، وهذا لا يجوز [8/ ب]. وقد طعن فيه يحيى بن أكثر القاضي بمثل هذا قلنا: ليس فيه شيء يشبه معنى الغرور

والحلف وإنما فيه أن القوم رغبوا في بيعها فأجازه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأذن لعائشة في إمضائه وكانوا جاهلين بحكم الدين في الولاء لا يكون إلى لمعتق فطمعوا أن يكون الولاء لهم بلا عتق فلما عقدوا البيع وزال ملكهم إلى عائشة فأعتقها صار الولاء لها لأن الولاء من حقوق العتق، فلما تنازعوه قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فبين أن الولاء في الشرع للمعتق، وقوله: اشترطي لهم الولاء لم يذكره أبو داود وإن صحت فتأويلها: لا تبالي بما يقولون، فإن الولاء لا يكون إلا للمعتق، وليس ذلك على أن يشترط لهم ذلك قولا بل على معنى لا تلتفتي إليه، فإنه لغو من الكلام، وكان المزني يتأوله، فيقول قوله: اشترطي لهم الولاء، أي اشترطي عليهم كما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ} [الرعد: 25] أي عليهم. وأما قوله: بيع المكاتب لا يجوز ففي الخبر ما يدل على أنها كانت عجزت عن أداء نجومها ورضيت بأن تباع وبيعها يكون فسخًا للكتابة. وقوله: ما بال أقوام يشتطرون شروطا ليست في كتاب الله تعالى يريد ليست على حكم الله تعالى، وعلى موجب قضاياه، ولم يرد به ليست في كتاب الله نصًا فإن أكثر الشروط الجائرة ليست في كتاب الله نصًا. وروي هذا الخبر، أنه قال: اشتريها وأعتقيها، فإن الولاء لمن أعطى الثمن. وأما الإجماع فلا خلاف بين المسلمين فيه. واعلم أن الولاء يشتمل ثلاثة أحكام أحدها: الميراث والثاني: تحمل العقل، والثالث: الولاية في عقد النكاح والصلاة على الميت، [9/ أ] وقد ذكرنا هذا فيما تقدم. واعلم أنه لا يجوز بيع الولاء وهبته. وبه قال جمهور العلماء، وروي ذلك عن عمر وعلي وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم. وقال عروة بن الزبير وسعيد بن المسيب والأسود وعلقمة والشعبي والنخعي: يجوز بيع الولاء وهبته والوصية به واحتجوا بما روي عن عمرو بن دينار أنه قال: وهبت ميمونة بنت الحراث زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - ولاء سليمان بن يسار لابن عباس رضي الله عنها، وكان مكاتبًا لها وابن عباس ابن أختها، ودليلنا، ما روى ابن عمر رضي الله عنها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن بيع الولاء وهبته. وقال محمد بن زياد كانت العرب تبيع ولاء مواليها وتأخذ عليه المال وأنشد في ذلك: فباعوه مملوكًا وباعوه معتقًا وليس له حتى الممات خلاص فنهاهم عن ذلك وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: «من تولى غير مواليه فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه»،وأما ما رووه فلا يصح لأن الزهري أنكره. وقال علي رضي الله عنه: «الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب»، أقروه حيث جعله الله. وقال ابن مسعود

رضي الله عنه: الولاء نسب أفيبيع الرجل نسبه. مسألة: قال وفي قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الولاء لمن أعتق» دليل على أنه لا ولاء إلا لمعتق». وقد ذكرنا أن لا ولاء إلا للمعتق وحكي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ولاء اللقيط للملتقط، وقال الحكم وحماد: [9/ ب] يثبت الولاء لمن أسلم على يديه، وله الرجوع فيه ما لم يعقل عنه، فإن عقل عنه أوعن صغار ولده لم يكن له أن يرجع فيه. وقال أبو يوسف: إن اقترن به موالاة توارثا وإلا فلا يتوارثان، وقال عمر بن عبد العزيز وإسحاق والزهري: سيرثه على الأحوال كلها، واحتجوا بما روي أن تميمًا الداري رضي الله عنه قال: يا رسول الله، ما السنة فيمن أسلم على يدي رجل، فقال: هو أحق بمحياه ومماته ودليلنا ما ذكرناه، وقوله: أحق بمحياه ومماته أي بدفنه والقيام بأموره والإيثار والبر والصلة. مسألة: قال: «ولو أعتق مسلم نصرانيًا أو نصراني مسلمًا، فالولاء ثابت لكل واحد منهما». الفصل قد ذكرنا: أنه إذا أعتق الذمي عبدًا مسلما أو المسلم عبدًا ذميًا ثم مات المعتق، فالولاء للمعتق ويرث المعتق من كان على دينه لأن اختلاف الدين يقطع الإرث، وإن لم يقطع لولاء كما يقطع إرث النسب وإن كان لا يقطع النسب، قال الله تعالى: {ونَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} [هود: 42]، وقال تعالى: {إذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ} [الأنعام: 74]، فلم يقطع النسب باختلاف الدين فكذلك الولاء. وقال سفيان الثوري: يثبت الولاء ويرث به وحكي عنه أنه قال: إذا كان المعتق مسلمًا يرث من المعتق الكافر لأن الإسلام يعلو، وحكي عن مالك أنه قال: إذا أعتق الكافر مسلما لا ولاء له بل يكون ولاءه لكافة المسلمين. وقال أيضا لو أعتق نصراني نصرانيًا ثم أسلم المعتق بطل ولاء مولاه، فإن أسلم مولاه لم يعد إليه الولاء [10 /أ]. مسألة: قال: «من أعتق سائبة فهو معتق، وله الولاء». صورة المسألة أن يقول لعبده: أعتقتك سائبة، أو أنت حرة سائبة فإنه يعتق ولا يتعلق بقوله سابية حكم ويلغى ذلك، وقد ذكرنا أنه لو قال: أنت سائبة فهو كناية، فإن نوى به العتق وقع، وإلا فلا. وقال مالك: إذ قال: أعتقتك سائبة، أو على أن لا ولاء لي

عليك أو على أن ولاءك للمسلمين ويكون ولاءه للمسلمين دون المعتق. وبه قال عمر بن عبد العزيز والزهري وربيعة، ودليلنا قوله - صلى الله عليه وسلم -: «إنما الولاء لمن أعتق»، وقيل في قوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ ولا سَائِبَةٍ} [المائدة: 103]، أراد بالسائبة هذا. وروي أن رجلا جاء إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، وقال: إن أعتقت غلامًا لي وجعلته سائبة، فمات وترك مالا، فقال عبد الله: إن أهل الإسلام لا يسيبون إنما كان يسيبه أهل الجاهلية، وأنت وارثه، وولي نعمته، فإن تحرجت من شيء فأدناه أن تجعله في بيت المال، ويروى عن سالم مولى أبي حذيفة أنه كان مولى لامرأة من الأنصار، ويقال لها: عمرة بنت يعار أعتقته سائبة فقتل يوم اليمامة فأتى أبو بكر الصديق رضي الله عنه بميراثه فقال: أعطوه عمرة فأبت تقبله، وقيل: أتى عمر رضي الله عنه بميراثه فدعا وديعة بن خدام وكان وارث عمرة بنت يعار، فقال: هذا ميراث مولاكم فخذوه، فقال: يا أمير المؤمنين أعتقته صاحبتنا سائبة وقد أغنانا الله عنه فلا حاجة لنا به فجعله عمر رضي الله عنه في [10/ ب] بيت مال المسلمين. وروي أن طارق بن المرتع أعتق أهل بيته سوائب، فأتي بميراثهم، فقال عمر رضي الله عنه: أعطوه ورثة طارق فأبوا أن يأخذوه، فقال عمر: اجعلوه في مثلهم من الناس. ولأن الولاء من مقتضى العتاق كالرجعة في الطلاق الرجعي ولا تسقط الرجعة بالشرط فكذلك الولاء. ثم قال الشافعي رضي الله عنه بعد هذا ردًا على مالك في السائبة، فقال: والمعتق سائبة معتق وهو أكبر من هذا في معنى المتعتقين يعني قد زاد على سائر المعتقين في قصد إزالة الملك، فكيف لا يكون له ولاء، فالمعتق سائبة قد أنفذ الله له العتق لأنه طاعة، وأبطل الشرط بأن لا ولاء له لأنه معصية، وقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «الولاء لمن أعتق». مسألة: قال: "ومن ورث من يعتق عليه أو مات عن أم ولده فله ولاءهم وإن لم يعتقهم صريحا لأنهم في معنى من أعتق». جملة هذا أن كل مملوك عتق على غيره باختياره، أو غير اختياره ثبت ولاءه ل هـ ولو باع عبده من نفسه بمال في ذمته، ففي ولائه وجهان: أحدهما: أنه لسيده والثاني: لا ولاء لسيده لأنه لم يعتق من ملكه ولا يملك العبد الولاء على نفسه. مسألة: قال: «وإذا أخذ أهل الفرائض فرائضهم، ولم يكن له عصبة قرابة من قبل الصلب كان ما بقي للمولى المعتق». جملة هذا أن ما يكون العصبات للنسب فهو للمعتق إن لم يكن عصبة النسب لما

روي أن ابنة حمزة أعتقت جارية لها [11 /أ] فماتت المعتقة وخلفت مالا ولم يرثها إلا ابنة واحدة فأعطى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الابنة الصنف وأعطى المعتقة الباقي وليس هذا حمزة عم النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو حمزة آخر. وروى الحسن: أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - برجل، فقال: اشتريته وأعتقته، فقال: هو مولاك إن شكرك فهو خير له وإن كفرك فهو شر له وخير لك، فقال: ما أمر ميراثه، فقال: إن ترك عصبة، فالعصبة أحق به وإلا فالولاء. وروى سعيد بن المسيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المولى أخ في الدين ونعمة يرثه أولى الناس بالمعتق». مسألة: قال: «ولو ترك ثلاثة بنين، اثنان لأم، فهلك الذي لأم وترك مالا». الفصل جملة هذا أن الولاء للكبير، وهكذا قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد صور الشافعي فيما قضى به عثمان رضي الله عنه وإن كان في غيره أقرب وهي في رجل أعتق عبيدًا استحق ولاءهم ثم مات المعتق عن ماله وولاء مواليه، وخلف ثلاثة بنين اثنان منهم لأم واحد من أم أخرى فورثوا ماله وولاء مواليه أثلاثًا بالسوية ثم مات أحد اللذين من أم وخلف أخاه لأبيه وأمه وأخاه لأبيه وأخاه لأبيه ثم مات الأخ من الأبوين وخلف ابنين وأخاه لأبيه فورث ماله ابناه دون أخيه وتنازعوا في ولاء المولى، فقال الأخ: بولائهم منكما لأني ابن مولى، وأنتما ابنا ابن مولى، وقال ابنا الابن: لك ثلث ولائه ولنا ثلثاه حق أبينا بميراثه عن أبيه وأخيه [11/ ب] فقد اختلف في استحقاق الولاء هل يكون معتبرًا بموت العبد المعتق فيستحقه الكبير من عصابات المولى، أم يكون معتبرًا بموت المولى المعتق، فيكون مشتركًا بين القريب والبعيد، فمذهب عمر وعثمان وعلي وزيد بن ثابت وأبي بن كعب وابن عمر وأسامة بن زيد وأبي مسعود البدري رضي الله عنهم والحسن وابن سيرين وعطاء والزهري والشعبي والشافعي وأبي حنيفة وداود رحمهم الله: أن الولاء يستحقه الكبير اعتباراً بموت العبد المعتق، فيكون ولاء من مات منهم لابن المولى دون ابن أبيه، وتفسير الكبير بالدرجة لا بالسن، فمن كان أقرب إلى المعتق، فهو الأكبر ولو كان أصغر سنًا. ولو قال الشافعي: إذا مات أحد أبني المعتق عن ابن وأخ، فالأخ الذي هو ابن المعتق أولى بالولاء لا أن يكفيه في تفسير قوله: الولاء للكبير. ولكنه صور فيما ذكرنا لما بينا أن الواقعة كانت هكذا في زمان عثمان رضي الله عنه، وذلك فيما روى عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن أبيه أن العامر بن هشام هلك وترك ثلاثة بنين، اثنان لأم وواحد من أم أخرى، فهلك أحد اللذين لأم وترك

مالاً وموالي فورثه أخوه لأبيه وأمه وورث ماله وولاءه إليه ثم هلك الذي ورث المال والموالي وترك ابنه وأخاه لأبيه، فقال ابنه: قد أحرزت ما كان أبي أرحز فقد أحرزت المال وولاء الموالي. وقال أخوه ليس كذلك إنما أحرزت المال فأما ولاء الموالي فلا: أرأيت لو هلك أخي اليوم ألست أنا أرثه فاختصما إلى عثمان رضي الله عنه فقضى لأخيه [12/ أ] بولاء المولى، وحكى عن ابن مسعود في رواية وشريح أن ولاء من مات منهم موروث يستحقه القريب والبعيد له اعتبارًا بموت المعتق، فيكون لابن المولى في هذه المسألة ثلث ولأبيه وابني ابنه ثلثاه. ودليلنا ما روى جابر رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الولاء لحمة كلحمة النسب لا يباع ولا يوهب ولا يورث ولا يتصدق به»، يعني لا يورث ميراث المال ولكن الكبير أقرب، فكان بالميراث أحق كالنسب ولأنه لما كان الميراث بالنسب معتبرًا بموت الموروث كان كذلك في الميراث بالولاء، وعلى هذا لو خلف رجل ثلاثة بنين فمات واحد منهم وخلف ابنًا ومات الآخر، وخلف ابنين ومات الآخر، وخلف ثلاثة بنين، وظهر لجدهم المتوفى مولى فإن ولاءه بينهم على ستة لكل واحد منهم سهم، ولو ظهر له مال لكان المال بينهم أثلاثًا للابن الواحد الثلث وللابنين الثلث وللثلاثة الثل. والفرق بينهما أنهم يأخذون الولاء عن الجد لا عن آبائهم والمال يأخذونه عن آبائهم لا عن الجد فورث كل واحد منهم مقدار ما مات عنه أبوه وهو الثلث، وعلى قوله من جعل الولاء موروثا يعطيهم سهام آبائهم فيجعل الثلث لابن الابن والثلث لابني الابن الآخر والثلث لثلاثة بني الابن الآخر وتصح من ثمانية عشر سهمًا، وعلى هذا لو اشترك أب وابن في إعتاق عبد ثم مات الأب وخلف ابنًا آخر ومات المعتق كان لابن المعتق ثلاثة أرباع ولاءه النصف منه بمباشرة عتقه والربع بميراثه عن أبيه والابن الذي ليس بمعتق ربع ولاية بميراثه عن أبيه [12/ ب]. فلو مات ابن المعتق وترك ابنًا وأخًا ثم مات العبد المعتق كان لأخيه نصف ولائه وللابن نصف ولائه اعتبارًا بالكبر على قول من جعل الولاء موروثًا جعل للأخ ربع ولائه وللابن ثلاثة أربع ولائه، وعلى هذا لو أعتقت امرأة عبدًا وماتت وخلفت ابنًا وأخًا ثم مات العبد كان ولاءه لخاله دون عمه لأن الخال أخو المعتقة والعم أجنبي عنها وهذا قول من جعله الولاء للكبر وعلى قول من جعل موروثًا يجعل الولاء لعم الابن، وإن كان أجنبيًا من المعتقة دون الخال وإن كان أخًا لانتقال ماله إلى عمه دون خاله. ثم قال الشافعي والإخوة من الأب والأم أولى من الإخوة للأب، وقد ذكرنا ذلك ولا خلاف فيه بخلاف صلاة الجنازة وولاية النكاح في أحد القولين لأن للنساء مدخلا في الولاء إذا أعتقن، أو أعتق من اعتقن فكان اجتماع قرابة الأم مع قرابة الأب فيه يوجب الترجيح على التفرد بقرابة الأب بخلاف ذلك.

فرع لو خلف أخًا لأمٍ وعمًا وابن عم كان الولاء للعم وابن العم ولا ولاء للأخ من الأم لأنه ليس بعصبة وابن العم عصبة، ولو خلف ابني عم، أحدهما أخ لأم. قال القاضي أبو حامد في الجامع كان ابن العم الذي هو أخ للأم أولى نص عليه الشافعي، قال أصحابنا: هذا صحيح بخلاف النسب، فغن هناك أخذ الأخ للأم شيئا ثم الباقي بينهما لأنه استحق هناك فرضًا بالإخوة، فلم يترجح بها وههنا يأخذ فرضًا بها فترجح بها. واعلم أن الولاء يستحق بشيئين أحدهما بأن يعتق [13/ أ] مملوكًا ويعتق ذلك المملوك مملوكًا آخر فيثبت له الولاء على ذلك، ويستوي فيه الرجال والنساء والثاني بأن يكون عصبة للمعتق والتعصيب لا يثبت إلا للرجال ولا تعصيب للنساء فلا يستحقن الولاء عن المعتق، فإن قيل: إذا خلف المعتق ابنًا وابنة فقد عصب الابن أخته فيجب أن يستحقا الولاء قلنا: الولاء بمنزلة النسب المتراخي، والأخ لا يعصب أخته في النسب المتراخي بدليل أن ابن الأخ لا يعصب أخته وابن العم لا يعصب أخته وعلى ما ذكرنا لو اشترت البنت أباها ثم مات الأب، فالمال كله لها نصفه بالنسب ونصفه بالولاء، ولو كان هناك ابن وابنة فاشتريا أباهما ثم مات كان المال بينهما للذكر مثل حظ الأنثيين بالنسب ولا حكم للولاء مع النسب، ولو أعتق هذا الأب عبدًا ثم مات الأب ثم مات العبد كان ولاء العبد للابن دون البنت لأنه عصبة مولاه، فكان مقدما على مولاه فولاه. وأما جره الولاء فقد شرحناه في كتاب الفرائض. ونشير ههنا إلى بعض المسائل. وجملته أن جر الولاء ثابت عندنا خلافًا للزهري ومجاهد وهو رواية شاذة عن زيد بن ثابت رضي الله عنه واحتجوا بأن الولاء كالنسب والنسب إذا ثبت في جهة لم ينتقل كذلك الولاء ودليلنا أن النسب معتبر بالآباء دون الأمهات كذلك الولاء، وإنما اعتبر ههنا بالأم للضرورة من جهة الأب إذا ارتفعت الضرورة انتقل كولد الملاعنة إذا اعترف به أبوه عاد إلى نسبه. وروي هشام بن عروة عن أبيه، [13/ ب] قال: مر الزبير بموال لرافع بن خديج، فأعجبوه، فقال: لمن هؤلاء، فقالوا: هؤلاء موالي لرافع بن خديج وأبوهم عبدًا لفلان، فاشترى الزبير أباهم، فأعتقه، ثم قال: أنتم موالي فاختصم الزبير ورافع إلى عثمان رضي الله عنهم، فقضى عثمان للزبير، فقال: هشام، فلما كان معاوية خاصمونا فقضى لنا معاويه. وقد ذكرنا أنه إذا أعتق الجد هل يجر الولاء فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجر أيضًا إلى معتق نفسه وبه قال شريح ومالك والشعبي، والثاني: لا يجر أصلا وبه قال أبو حنيفة، والثالث: إن كان الأب حيًا لا يجر، وإن كان ميتًا جره لأن الجر بموت الأ ب يستقر ومع بقائه لا يستقر، فإذا قلنا: يجر فلو جر معتق الجد ولاءه ثم أعتق العبد بعده ف قد ذكرنا أن معتق الأب يجر من معتق الجد وهو الصحيح لأن الولادة فيه مباشرة وفي الحد بعبده وفيه وجه آخر لا يجر لاستقراره في نسب الأبوة.

ولو أعتقت أمة حامل من زوج مملوك فولدت ابنًا ثم أعتق إن كان ولاء الابن لمعتق الأم ولم يجر معتق الأب لأن عتق الابن مباشرة والولاء في عتق المباشرة لا يزول ولو لم تلده قبل، وعتق الأب وولدته بعد عتقه فإن ولدته لأقل من سنة أشهر من عتقها كان عتقه عن مباشرة لعلمنا بكونه حملا وقت عتقها، وإن ولدته لأكثر من أربع سنين جر معتق الأب ولاءه عن معتقها لعلمنا بعدمه وقت عتقها وإن ولدته لأكثر من ستة أشهر، وأقل من أربع سنين، فإن لم يلحق بالزوج فولاءه غير مجرور وإن ألحق بالزوج، [14/ أ] ففي جر ولائه وجهان: أحدهما: إنه مجرور لأننا على يقين من حدوث الولادة في شك من تقدمها، والثاني: أنه غير مجرور لأننا على يقين من ثبوت ولائه لمعتق الأم وفي شك من جره إلى معتق أبيه. ولو تزوج حر لا ولاء عليه بمعتقة عليها ولاءه فأولدها ولدًا فإن كان معروف النسب فحققنا حريته كالعرب، فلا ولاء على ولده لأنه لو أولدها في الرق لم يكن الولد رقيقًا فكان أولى إذا أولد بعد ثبوت الولاء أنه لا يكون عليه ولاء وإن كان الأب مجهول النسب، ففي ثبوت الولاء على ولده لمعتق أمه وجهان: أحدهما: لا يثبت تغليبا لظاهر الحرية وهو وظاهر مذهب الشافعي والثاني: عليه الولاء لاحتمال حال الأب وثبته الولاء على الأم وحكي هذا عن أبي حنيفة ومحمد. ولو تزوج بمعتقة عليها ولاء وأولدها ابنًا دخل في ولاء أمه ثم اشترى الابن أباه عتق عليه وكان له ولاءه وفي جره لمولى نفسه من معتق أمه وجهان: أحدهما: لا يجره بعتق أبيه لأنه لا يملك ولاء نفسه ويكون ولاؤه باقيًا لمعتق أمه وهو ظاهر مذهب الشافعي لأنه لا يعقل عن نفسه ولا يرثها. وحكي هذا عن أبي حنيفة، والثاني: يجر ولاءه نفسه بعتق أبيه ولا يملكه على نفسه ولكن يزول به الولاء عن نفسه ويصير به حرًا ولا ولاء عليه لأن عتق الأب يزيل الولاء عن معتق الأم. وبه قال ابن سريج: فعلى هذا لو أولدها ابنتين، فاشترت إحداهما أباه يعتق عليها، وكان لها ولاؤه وجرت إلى نفسها ولاء أختها وفي جرنا لولاء نفسها وجهان: [14/ ب] على ما ذكرنا فإذا قلنا: يجره ويسقط به الولاء عنها فإن مات الأب كان ثلثا ميراثه بين بنتيه نصفين بالنسب والثلث الباقي لبنته المعتقة بالولاء، ولو ماتت بعد الأب البنت التي ليست بمعتقة كان لأختها المعتقة نصف ميراثها بالنسب ونصفه الباقي بالولاء الذي جرته من معتق الأم ولو كانت الميتة بعد أبيها هي البنت المعتقة وخلفت أختها كان لأختها نصف ميراثها، وفي نصفه الباقي وجهان: أحدهما: أنه لمولى أمها إذا قلنا: لا تجر ولاء نفسها، والثاني: لبيت المال إذا قلنا: جرت ولاء نفسها. فرع آخر ولو قال لأمته: إذا ولدت ولدًا، فهو حر فولدت ولدًا ميتًا ثم ولدت ولدًا آخر فالذي يقتضي المذهب أن الثاني لا يعتق، وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: يعتق لأن العتق يستحيل في الميت فتعلقت اليمين بالحي كما يقال: إن ضربت فلانًا فعبدي

حر فضربه حيًا عتق وإن ضربه ميتًا لم يعتق، وهذا لا يصح لأن شرط العتق وجد، وهو الولادة بدليل أنه لو قال لها: إن ولدت فأنت حرة، فولدت ولدًا ميتًا عتقت. فرع آخر ولو قال لعبده أنت حر كيف شئت. قال أبو حنيفة: يعتق في الحال ولا يقف العتق على مشيئته، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يعتق حتى يشاء، وهذا يشبه أن يكون مذهبًا ولا نص فيه. فرع آخر لو كان عبده مقيدا فحله بعتقه أن ما في قيده عشرة أرطال حديد وحلف بعتقه أن لا يحله هو ولا أحد من الناس، فشهد عند القاضي شاهدان أن قيده خمسة أركال، [15/ أ] فحكم بعتقه وحل القيد فوجد فيه عشرة أرطال حديد. قال أبو حنيفة: يجب على الشاهدين قيمة العبد، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجب عليهما شيء، وهو الصحيح وبناه أبو حنيفة على أصله أن حكم القاضي ينفذ في الباطن وإن كان بشهادة الزور فكان العتق وقع بشهادتهما ووجه الآخر أنه عتق بحل القيد دون ما شهدوا به، وقال أبو حنيفة: إذا شهدوا بموت السيد للعبد المدبر، وحكم بعتقه، ثم بان أنه حي بطل الحكم بعتقه لثبوت كذبهم قطعًا فكذلك ههنا.

كتاب المدبر

كتاب المدبر قال: «أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار، وذكر الخبر». التدبير أن يعتق عبده دبر الحياة، يقال: أعتقه عن دبر أي بعد الموت ولا يستعمل ذلك في غير العتق من الوصايا، وفي تسميته تدبيرًا ثلاثة أوجه أحدها: لأنه يعتق عليه في دبر الحياة وهو آخرها، والثاني: لأنه لم يجعل تدبير عتقه إلى غيره، والثالث: لأنه دبر أمر حياته باستخدامه وأمر آخرته بعتقه. وفي ابتدائه وجهان: أحدهما: أنه تقدم في الجاهلية وأقره الشرع في الإسلام على ما كان عليه في الجاهلية فصار بالتقرير شرعًا، والثاني: أنه مبتدأ في الإسلام بنص ورد فيه عمل به المسلمون فاستغنوا بالعمل عن نقل النص فصار بالنص شرعيًا وصار العمل على النص دليلا فدبر المهاجرون والأنصار عبيدا. ثم قد يكون مطلقا بأن يقول: دبرتك، أو أنت مدبر، أو إذا مت فأنت حر، [15/ ب] أو إذا دخلت الدار ومت فأنت مدبر، أو إذا دخلت الدار فأنت مدبر، وقد يكون مقيدًا بأن يقول: إن مت من مرضي هذا أو في شهري هذا أو في سنتي هذه فأنت حر، وغن صلت فأنت حر وكلاهما عندنا سواء، فإذا وجد ذلك تعلق العتق بموته وله الرجوع فيه متى شاء والتصرف فيه بالبيع والهبة وغير ذلك، ثم ينظر، فإن رجع عنه قبل موته وتصرف فيه بطل التدبير، وإن لم يرجع حتى مات نظر، فإن كان عليه دين مستغرق لم يعتق وبيع في الدين وإن لم يكن عليه دين واحتمل الثلث جميعه عتق، وإن لم يحتمل الثلث بقدر الثلث دون الباقي، وبه قالت عائشة رضي الله عنها وعمر بن عبد العزيز وطاوس ومجاهد وإسحاق وأحمد. وقال ابن أبي نجيح كان مجاهد وفقهاء أهل مكة يرون التدبير وصية صاحبها فيها بالخيار ما عاش يمضي منها ما شاء ورد منها ما شاء. وقال مالك: إذا دبر عبده لا يجوز له التصرف فيه بحال مقيدًا كان أو مطلقًا ولكن إن مات وعليه دين بيع في دينه كما لو أعتق عبدًا في مرضه لا يجوز له التصرف فيه في حياته ويباع في دينه، وهو رواية عن أحمد وكان الحسن بن ربيعة: يجوز بيعه إذا احتاج صاحبه إليه. وقال الليث بن سعد: يكره بيع المدبر ويجوز بيعه إذا أعتقه الذي اشتراه. وقال ابن سيرين لا يباع المدبر إلا من نفسه، وقال أبو حنيفة: إن كان التدبير مقيدًا لا يلزمه ذلك وله التصرف فيه والرجوع عنه متى شاء وإن كان [16/ أ] التدبر مطلقًا لم يلزمه ذلك ولا رجوع له فيه، وإن مات واحتمله الثلث عتق وإن لم يجعله الثلث عتق

قدر الثلث واستسعى الوارث في ثلثه وإن كان عليه دين يستغرقه يستسعي العبد في قدر قيمته، فإذا أدى ذلك عتق وروي منع البيع عن سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي والزهري وسفيان والأوزاعي. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه وسعيد بن جبير ومسروق وحماد والحكم والنخعي وداود أن المدبر عتق من رأس المال. ودليلنا ما روى جابر رضي الله عنه أن رجلا أعتق غلامًا له عن دبر منه لم يكن له مال غيره فأمر النبي - صلى الله عليه وسلم - فبيع بسبع مائة وأة بتسع مائة، وفي رواية أخرى أن رجلا من الأنصار يقال له: أبو مذكور أعتق غلامًا له يقال له: يعقوب عن دبر لم يكن له مال غيره فدعا به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: من يشتريه فاشتراه نعيم بن النحام بثمانمائة درهم فدفعها إليه، وقال: إذا كان أحدكم فقيرًا فليبدأ بنفسه، فإن كان فيها فضل فعلى عياله فإن كان فضل فعلى ذوي قرابته، أو على ذوي رحمه، فإن كان فضل فههنا وههنا. وقال عمرو بن دينار: سمعت جابرًا يقول: كان عبدًا قبطيًا مات عام أول في إمارة ابن الزبير. وروى باعه بثمانمائة درهم ودفعه إلى مولاه. وروى شريك بإسناده عن جابر أن رجلا مات وترك مدبرا الخبر. قال أهل الحديث: [16/ ب] هذا خطأ من شريك والحفاظ أثبتوا حياة مالكه وقت بيعه ولأنه عتق بصفة ثبت بقول المعتق وحده، فلا يكون لازما كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت حر. والدليل على أنه يعتبر عتقه من الثلث، وهو قول علي وابن عمر رضي الله عنهم وسعيد بن المسيب والزهري وأبي حنيفة ومالك والثوري وأحمد وإسحاق ما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المدبر من الثلث»، ورواه أبو قلابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا، وقيل: هذا لا يصح مرفوعا بل هو موقوف على ابن عمر رضي الله عنهما ولأن إعتاقه في المرض أقوى وأمضى، وهو يعتبر من الثلث، فهذا أولى ولأنه تبرع يلزم بالموت فكان من الثلث كالوصية، واحتجوا بما روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المدبر لا يباع ولا يشترى»، ولأنه استحق العتق بموت السيد على الإطلاق فلا يجوز بيعه، أكان عتقه من رأس المال كأم الولد. قلنا: قال الطحاوي: هذا لا يصح مسندًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما هو موقوف على ابن عمر، أو نحمله على ما بعد الموت، أو على الاستحباب بدليل خبرنا. وقد روى جابر رضي الله عنه أن رجلاً من الأنصار أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله ما لي إلا غلامًا جعلته حرًا من بعدي، فأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - ببيعه، وقال: «أنت إلى ثمنه أحوج والله عنك أغنى»، وإنما ذكر الشافعي هذا الخبر بألفاظ الاستادلال به على تمام حفظ الراوي، [17/ أ] وصحح مسلم بن الحجاج، هذا

الخبر وروى أن أمة لعائشة رضي الله عنها كانت دبرتها فسحرت عائشة فأمرت بعتقها فبيعت في الأعراب وجعلت ثمنها في الرقاب، فإن كان هذا في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو عن أمره وإن كان بعد وفاته فعملها به من جهته. وباع عمر بن عبد العزيز مدبرصا في دين صاحبه. وقال طاوس: يعود الرجل في مدبره. مسألة: قال: «فإذا قال الرجل لعبده أنت مدبر أو عتيق». الفصل الكلام في هذا في ألفاظ التدبير، فإذا قال: أنت حر بعد موتي أو أنت محرر بعد موتي أو عتيق، أو دبرتك، أو أنت مدبر، أو إذا مت فأنت حر، أو متى مت فأنت حر يكون مدبرًا فنص الشافعي أن قوله: دبرتك صريح في التدبير، وقال في الكتابة، إذا قال: كاتبتك لا يكون صريحا حتى يقول: فإذا أديت إلى ذلك فأنت حر واختلف أصحابنا فيه على طريقين أحدهما، أن ينقل الجواب إلى إحدى المسألتين إلى الأخرى ففيهما قولان: أحدهما، يكفي قوله: دبرتك، وقوله: كاتبتك ولا يفتقر كلاهما إلى النية لأنهما لفظان موضوعان لهذين العقدين فلا يفتقر إلى النية كلفظ البيع في البيع، والثاني: يفتقر إلى النية لأنهما لفظان لم يكثر استعمالهما، فافتقر إلى النية كسائر الكتابات، والثانية: المسألتان على ظاهرهما فالتدبير لا يفتقر إلى النية والكتابة تفتقر إلى النية، والفرق من وجهين: أحدهما: أن التدبير لفظ ظاهر مشهور [17/ ب] ويعرفه عوام الناس فاستغنى عن النية، والكتابة لا يعرفها إلا خواص الناس، فافتقرت إلى النية، والثاني: التدبير لا يحتمل إلى العتق بعد الموت، والكتابة لفظ مشترك لأنه يحتمل أن يريد به المخارجة، فيقول: كاتبتك كل شهر بكذا، ويحتمل أن يريد به الكتابة الشرعية التي تتضمن العتق، فلا ينصرف إلى أحد احتماليه إلا بنية. فرع أدخل الشافعي رضي الله عنه في جملة ألفاظ التدبير أن يقول لعبده: إذا دخلت الدار فأنت مدبر وليس هذا تدبيرًا بنفسه، بل هو تدبير معلق بصفة، وهي دخول الدار فقبل أن يدخل الدار لا يصير مدبرًا، فإذا دخل صار مدبرًا يعتق بالموت ويحتاج أن يوجد دخول الدار في حال حياة السيد، فإن مات السيد قبل دخول الدار بطلت الصفة لأن إطلاق الصفة تقتضي وجودها في حال الحياة فإذا مات قبل وجودها بطلت كما لو قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر فمات قبل دخول الدار بطلت الصفة. فرع لو قال: إذا مت ودخلت الدار فأنت حر لا يكون مدبرًا بل يكون ذلك عتقًا بصفة

فإذا دخل الدار بعد موته عتق ومعنى قولنا: لا يكون مدبرًا أنه لا يصح رجوعه عنه إلا بإخراجه من ملكه، ولو قال: رجعت عنه لا يكون رجوعًا قولاً واحدًا. فرع آخر لو قال: إن مات أبي فأنت حر لا يكون مدبرا بل هو عتق معلق بصفة. فرع آخر قال في الأم: لو قال لعبده: أنت حر بعد موتي أو لست بحر لم يكن شيئا كما لو قال: أنت طالق أو لست بطالق [18/ أ]. فرع آخر لو قال: أنت حر بعد موتي بيوم لا يحتاج إلى إنشاء العتق كالمدبر سواء، وقال أبو حنيفة: لا بد من مباشرة العتق بعد موته بيوم. فرع آخر لو قال لعبده: إذا قرأت القرآن بعد موتي فأنت حر لا يعتق إلا بقراءة جميع القرآن. ولو قال: إذا قرأت قرآنًا بعد موتي فأنت حر يعتق بقراءة بعضه، والفرق أن هناك علق العتق بقراءة جميع القرآن لأنه ذكره بالألف واللام وههنا ذكره منكرًا فاقتضى بعض القرآن، فإن قيل: أليس قال الله تعالى: {فَإذَا قَرَاتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98]، الآية، ولم يرد به جميعه. قلنا: هناك قام الدليل والظاهر يقتضي جميعه. اعلم أنه إذا دبر عبدًا قيمته مائة درهم وله مائتا درهم في بلد آخر أو في ذمة معسر فمات السيد لا يخلف المذهب أنه لا يعتق كله وهل يعتق ثلثه في الحال اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: عتق ثلثه في الحال وهو اختيار القاضي أبي حامد لأنه تتحقق حريته فإنه إذا سلم جميع المال عتق كله، وإن لم يسلم ذلك عتق قدر الثلث، ومن أصحابنا من قال: لا يعتق منه شيء لأنا إذا أعتقنا الثلث وقفنا الثلثين منه، وهذا يؤدي إلى نقلهم حق التدبير على حق الورثة، قال أبو حامد: وهذا ظاهر المذهب، فإذا قلنا: بهذا فإن حضر المال كله عتق من الثلث وإذا تلف المال كله عتق ثلثه دون ثلثاه وإن حضرت إحدى المائتين وتلفت الأخرى عتق ثلثا العبد ورق ثلثه، ويكون ذلك [18/ ب] مثل ما عتق، وإن حضرت إحدى المائتين والمائة الأخرى غائبة يرجى حصولها يعتق منه النصف لأنه حصل للورثة مائة، فيعتق بقدر نصفها وهو النصف من العبد ويوقف النصف الآخر على حضور المائة الأخرى، فإن حضرت عتق وإن تلفت عتق منه ثلثه ورق ثلثاه، وإن قلنا: بالأول قال القفال: عتق ثلثه وللورثة التصرف في الثلثين فإن حصر المال الغائب نقض تصرفه فلو أعتق الوارث الثلثين ثم لم يسلم المال

الغائب فولاء الثلثين له، وإن حضر المال الغائب. قال ابن سريج: ولاء الثلثين للوارث أيضا لأنه أعتق وكان له الإعتقا وفيه وجه آخر أن كل الولاء للموروث بناء على أن إجازة الورثة تنفيذًا أو ابتداءً عطيته ذكره القفال. قال القفال: على هذا لو أوصى لرجل بعين وما سواها من المال غائب هل يسلم ثلث ذلك إلى الموصى له أو لا يسلم شيء حتى يحضر المال فعلى الوجهين. وكذلك لو أبرأه من مال عليه ومات وباقي المال غائب هل يبرأ في الحال من الثلث أم يتوقف فيه وجهان، وكذلك لو كان على أحد ابنيه دين، فمات وخلفهما يبرأ من نصفه قبل أن يوفر على أخيه النصف الباقي فيه وجهان. فرع آخر لو كان المال غائبًا وقدر الورثة على التصرف فيه قبل قدومه لا يعتبر فيه عتقه قدوم المال ويعتبر قدرتهم على التصرف، فإذا مضى زمان قدرتهم على التصرف فيه عتق عليهم وإن لم يتصرفوا لأنهم بالقدرة في حكم المتصرفين فيه، فإن قدر على التصرف فيه بعضهم عتقت حصة القادر [19/ أ] ووقفت حصة العاجز، ذكره في الحاوي. مسألة: قال: «ولو قال: إن شئت فأنت حر متى مت فشاء فهو مدبر». في هذا الفصل ثلاث مسائل: إحداها أن يقول لعبده: إن شئت فأنت حر متى مت أو إذا شئت فأنت حر بعد موتي أو مدبر فليس هذا بتدبير مطلق بل هو تدبير معلق بصفة وهو المشيئة فقبل المشيئة لا يكون مدبرًا، وإذا وجدت المشيئة صار مدبرا، والمشيئة فيه كالمشيئة في الطلاق، وقد ذكرنا أنه يتعلق ذلك بالمجلس على مذهب الشافعي، ولا بد من المشيئة في حياة السيد ومن أصحابنا من قال: تعتبر المشيئة على الفور بحيث صلح أن يكون جوابًا لكلامه. فرع هذه المسألة لو قال: متى شئت فأنت حر بعد موتي فهذا تدبير معلق بالمشيئة مثل المسألة الأولى إلا أن ههنا المشيئة على التراخي لأن قوله: متى شئت يتناول الأزمان كلها ويحتاج إلى وجودها في حياة السيد أيضا. فرع آخر لو قال في المسألة الأولى في المجلس شئت ثم قال: ليست أشاء انعقد التدبير بالمشيئة الأولى ولا يبطل بتركه لها. ولو قال: ابتداءً لست أشاء، ثم قال: شئت بطل التدبير ولم تبطل المشيئة الثانية. فرع آخر لو قال متى شئت على ما ذكرنا في الفرع فقال: شئت ثم قال لا أشاء ثبت التدبير،

ولو قال: لست أشاء، ثم قال: شئت ثبت التدبير بهذه المشيئة المتأخرة لوم يبطل بتركها المتقدم بخلاف ما تقدم والعرف [19/ ب] أن المشيئة ههنا على التراخي فراعينا وجودها متقدمة ومتأخرة وهناك على الفور فراعينا ما تقدم. والمسألة الثانية: إذا قال: إذا مت فشئت فأنت حر، فهذا ليس بتدبير لأن التدبير هو العتق الواقع بالمواقع بالموت وإنما يقع بالمشيئة بعد الموت ولكنه عتق بصفة توجد بعد الموت، ويحتاج أن توجد المشيئة بعد موته على الفور وهل يتقيد بالمجلس فعلى ما ذكرت. وهكذا لو قال: أنت حر إذا مت إن شئت وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان: إذا قال إذا مت فشئت فأنت حر والأصح أنه متى شاء بعد الموت عتق قال: ولو قال: أنت حر إذا مت إن شئت فإن شاء في المجلس ولم يشأ بعد الموت أو شاء بعد الموت ولم يشأ في المجلس لم يعتق لأن الكلام يحتمل المعنيين فإن شاء مرتين مرة في المجلس ومرة عقبيب الموت أو بعده بزمان قليل أو كثير عتق يقينًا ثم لا يدري أنه عتق بالتدبير أو عتق بصفة بعد الموت وهذا خلاف المذهب المنصوص. فرع آخر هذه المسألة لو قال: إذا مت متى شئت فأنت حر فالحكم كما في المسألة قبلها إلا أن المشيئة ههنا على التراخي، وهناك على الفور. فرع آخر إذا مات السيد كان العتق موقوفًا على مشيئته ونفقته من كسبه، فإذا شاء عتق وفيما بقي من كسبه لمن يكون قولان، كما قلنا: إذا أوصى بعبد لرجل ومات، فاكتسب قبل قبول الموصى له الوصية قبلها ففي كسبه قولان: أحدهما: يكون للورثة، والثاني: يكون للموصى له، هكذا قال القاضي الطبري. وقال بعض أصحابنا: الكسب ههنا للورثة قولا واحدًا والفرق [20 /أ] أن العبد ها هنا قبل مشيئته مملوك، بلا خلاف، فلا يثبت له كسبه، وهناك الموصى له إذا قبله تبينا أنه ملكه بموت الموصي في أحد القولين، فكان كسبه له في هذا القول. فرع آخر إذا قال: أنت حر إذا مت إن شئت فشاء قبل موت سيده فيه وجهان من الوجهين في معنى قول الشافعي، وسواء قدم الوصية أو أخرها، فذهب البغداديون إلى أنه أراد سواء قدم المشيئة قبل الموت أو أخرها، بخلاف قوله: إذا مت فشئت لأن الفاء في المشيئة توجب التعقيب، فعلى هذا يعتق إذا شاء قبل موت سيده، ويكون هذا تدبيرً، وإن لم يشأ إلا بعد موت السيد عتق، وكان عتقًا بصفة بعد الموت. وقال البصريون: من أصحابنا أراد سواء قدم المشيئة في لفظه، أو أخرها، وتكون مشيئته معتبرة بعد الموت، ولا تأثير لها قبل الموت فإن شاء قبل الموت عتق وإلا رق للورثة. المسألة الثالثة: أن يقول: إذا مت فأنت حر إن شئت فظاهر كلام الشافعي والذي

عليه عامة أصحابنا أن ذلك عتق معلق بالمشيئة بعد الموت مثل قوله: إذا مت فشئت فأنت حر لأنه لما ذكر الموت وعقبه بذلك المشيئة والحرية كان الظاهر أنه علق الحرية بوجود المشيئة، وبكون وقت هذه المشيئة، وفي المسألة قبلها بعد الموت السيد فإن العبد قبل موته لم يتعلق به حكم لأنه قيد المشيئة بما بعد الموت، فإذا تقدمت على تلك الحالة لم تصح كإجازة الورثة الوصية فيما زاد على الثلث لو كانت في حال الحياة لم يتعلق بها حكم، وجملة هذا أن العتق بالصفات على ثلاثة أضرب: عتق متعلق بصفة مطلقة [20 / ب] فيقتضي وجود الصفة في حياة العاقد فإن مات قبل وجودها بطلت بموته. وعتق معلق بصفة مقيدة بحال الحياة، فيقتضي وجودها في حال الحياة، ويكون التقييد تأكيدًا. وعتق معلق بصفة توجد بعد الوفاة، فيقتضي وجودها بعد الوفاة فإن وجدت قبله لم يصح. وأما قول الشافعي رضي الله عنه: إذا مت فشئت الآن فأنت حر ذكره في المنهاج. فرع آخر لو قال: إن شاء زيد فأنت حر إذا مت فمشيئة زيد على التراخي بخلاف العبد والفرق أن تعليقه بمشيئة زيد صفة معتبر بوجودها فاستوى فيها قريب الزمان وبعيده، وتعليقه بميشئة العبد تمليك وتخيير فافترق قريب الزمان وبعيده. فرع آخر لو أخر زيد المشيئة ههنا حتى مات السيد ثم شاء لم ينعقد التدبير لأن تعليق الحكم بالصفة هو شرط يتقدم على المشروط. فرع آخر إذا قال: إن مت فشئت فأنت مدبر فلا معنى لهذا لأن التدبير لا يتصور بعد الموت وهو كما لو أوصى، فقال: إذا مت فدبروا هذا العبد لا معنى له لأن التدبير أن يصير مدبرًا في حال الحياة ليعتق بالموت. فرع آخر قال في «الأم»: إن قال: إن شاء فلان فعبدي حر بعد موتي ف شاء كان مدبرًا، ولو قال: إن شاء فلان، وفلان، فعبدي حر بعد موتي فشاءا كان مدبرًا فإن شاء أحدهما، ولم يشاء الآخر أو غاب أحدهما وحضر الآخر لم يكن مبرًا حتى يجتمعا على المشيئة فإن مات أحدهما قبل أن يشاء يبطل التدبير مشيئتهما.

فرع آخر لو قال لرجلين دبرا عبدي هذا إن شئتما فأعتقاه عتق بتات كان العتق باطلا، ولم يكن [21/ أ] مدبرا إلا باجتماعهما على تدبيره. فرع آخر لو قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر بعد موتي، وذهب عقل السيد ثم دخل العبد الدار كان مدبرًا، فلو مات السيد قبل دخول العبد الدار ثم دخلها لم يعتق، ولو قال: إذا مت ودخلت الدار فأنت حر عتق إذا دخل الدار بعد موت السيد من الثلث ولا يكون مدبرًا حتى يصير حرًا بموته في كل حال إذا كان خارجًا من الثلث. فأما إذا كان عتقه بعد موته موقوفًا على صفة تحدث، فهو وإن كان حرًا من الثلث فليس بتدبير كقوله لعبده: أنت حر إذا مت وشئت الحرية أو أنت حر: إذا مت وشاء فلان، أو أنت حر بعد موتي إذا خدمت إلى سنة. فرع آخر قال في البورطي: لو قال: أنت حر إن مت من مرضي هذا، أو سفري هذا، فهذه وصية ليس بتدبير فإن مات من مرضه، أو في سفره كان حرًا من الثلث. فرع آخر قال في «الأم»: وجماع هذا أنه متى أعتقه على شرط، أو شرطين أو أكثر لم يعتق إلا بكمال الشروط التي أعتقه عليها، وكذلك إذا دبر على صفة أو صفتين لم يكن مدبرًا إلا بكمال الصفات التي دبر عليها. فرع آخر لو قال رجل: إن مت من مرضي هذا فأنت حر وأوصي للناس بوصايا بهذه الشروط ثم أفاق من مرضه، ثم مات من مرض آخر ولم ينقض وصيته لم يقع العتق، ولا يستحق أحد من الوصايا وصيته لأنه أعطاهم في حال، فلا يكون لهم في غيرها. مسألة: قال: ولو قال: شريكان في عبدٍ متى متنا فأنت حر. الفصل صورة المسألة أن يكون عبد بين شريكين لكل واحد [21 /ب] منهما نصفه، فقالا: متى متنا فأنت حر، فقد علقا عتقه بموتهما فإن ماتا جميعًا دفعة واحدة، أو تقدم أحدهما: على الآخر عتق العبد لوجود الصفة، وإذا ماتا معًا، ففي حكم عتقه عليهما وجهان: أحدهما، أنه عتق تدبيرًا لإيصال عتقه بالموت والثاني: عتق عليهما وصية لا تدبيرًا، لأن التدبير ما تفرد عتقه بموته ولم يقترن بغيره، وإن مات أحدهما وبقي الآخر فنصيب الميت انتقل إلى الورثة إلا أنه يعتق بالصفة لأن الشريط الآخر إذا مات يعتق

ويصير هذا العبد مستحقًا لهذا العتق، فلا يجوز للورثة بيعه، ولهم استخدامه ويكون كسبه لهم ويكون نصيب الثاني مدبرًا لأنه يعتق بموته من غير شرط آخر، ويجوز له بيع نصيبه لأن بيع المدبر جائز، فإذا باعه ومات بعد البيع عتق نصيب الذي مات أولا لوجود الصفة فيه وهي موتهما جميعًا، وأما نصيب الشريك، فقد بطل تدبيره فيه بالبيع، فإن قال قائل: هل تقولون إن هذا تدبيرًا وعتق معلق بالصفة؟ قلنا: هو في الحال ليس بتدبير لأنه يجوز أن يموت واحد منهما فلا يعتق نصيبه، فإن ماتا جميعًا عتق، ولم يكن تدبيرًا، وإن مات أحدهما وبقي الآخر صار نصيب الشريك الباقي مدبرًا لأنه يعتق بموته من غير شرط آخر ونصيب الميت يكون معتقًا بالصفة، ولا يكون مدبرًا، وقال بعض أصحابنا بخراسان إذا مات الأول هل يتصرف ورثته؟ فيه وجهان، أحدهما: لا يتصرفون على ما ذكرنا كما إذا قال: إذا مضت سنة من موتي، فاعتقوا هذا العبد، وأعطوه كذا لا يجوز إزالة الملك عنه، [22/ أ] وإنما جوز لهم استخدامه بخلاف ما لو قال: أعتقوه عني بعد موتي، فإن الورثة لا يتصرفون فيه بشيء لأن الإعتاق لهم فمن حقهم أن لا هيؤخرون، وموت الشريك ليس إليهم، والثاني: ذكره صاحب التقريب ويتصرف فيه الورثة لأن شرط العتاق لم يوجد بعد، كما لو قال: إن أكلت هذين الرغيفين فأنت حر فأكل أحدهما لا يقع التصرف فيه. وقال أيضًا في كسب هذا العبد بين الموتتين وجهان: أحدهما: أنه معد في تركة الأول أعني كسب نصيبه، والثاني: لوارثه ويمكن بناء الوجهين على الوجهين الأولين، فإذا جوزنا للورثة التصرف في جميع الوجوه فالكسب للورثة وإن منعناه من إزالة الملك، فهو موقوف على حكم الميت، فالكسب من حملة التركة، والمذهب الصحيح ما ذكرنا أولاً. فرع لو كان هذا القول من أحد الشريكين، فقال واحد منهما إذا متنا، فأنت حر لم تعتق حصته إلا بموتهما سواء تقدم موته أو تأخر، وكان عتق حصته مترددًا بين أن يعتق عليه بالوصية إن تقدم موته وبالتدبير إن تأخر موته وحصة الشريك باقية على الرق في حياته وبعد موته سواء تقدم موته أو تأخر. فرع آخر قال في المبسوط من كتاب «الأم» إذا قال الشريكان: أنت حبيس على موت الآخر منا ثم تكون حرًا، كان الجواب على ما مضى من عتق صحة الأول بالوصية، والثاني بالتدبير ولهذا الفرع حكم زائد وهو أن يكون كسب العبد [22/ ب] بعد موت الأول، وقبل موت الثاني، ولا يكون لورثة الأول لأنه لما جعله حبيسًا على موت الثاني جعله كالعارية في حقه بمدة حياته، ولم يكن وفقًا لأن الوقف ما كان مؤبدًا، ولم يتقدر بمدة فإذا قدر بها خرج عن حكم الوقوف إلى العواري، ولم يكن للورثة أن يرجعوا فحاكم هذه العارية وإن جاء الرجوع في العواري لأنها عن وصية ميتهم، فلزمت بموته كسائر

الوصايا وليس لهم أن يحتسبوا كسب العبد في ثلث الميت وإن كان موصى به لدخول كسبه في قيمة رقبته. فرع آخر فلو كانت المسألة بحالها فقبل العبد بعد موت الأول قبل موت الثاني مات عبدًا لأن صفة عتقه لم تكتمل، وكانت قيمته بين الثاني وورثه الأول، فكان لهم أن يحتسبوا بما أخذه الثاني من كسب العبد في ثلث الأول لأنه مأخوذ بوصيته، ولم يدخل في قيمة رقبته. فرع آخر قال في «الأم»: إذا كان العبد بين اثنين فدبر أحدهما نصيبه فنصيبه مدبر، ولا قيمة عليه لشريكه لأنه أوصى لعبده بوصية له الرجوع فيها، ولم يوقع العتق، فلم يكن ضامنًا لشريكه وهذا هو المذهب الذي لا يحتمل غيره ومن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما، هذا، والثاني: يقوم عليه نصيب شريكه وبه قال مالك لأن التقويم يستحق بالحرية وبسببها ألا ترى أنه يستحق بالإحبال والتدبير سبب للحرية. وهذا لا يصح لأن الإحبال سبب الإتلال بخلاف التدبير، ولهذا لا يمنع التدبير البيع عندنا بخلاف الاستيلاد، ولأنه بالتدبير كالعازم على عتقه فلا يكون كالإعتاق. وقال أبو حنيفة: إذا دبر أحدهما نصيبه فشريكه [23/ أ] بالخيار من أربعة إن شاء ضمنه القيمة، وإن شاء استسعى، وإن شاء دبر نصيب نفسه، وإن شاء أعتق. فرع آخر قال في «الأم»: لو كان العبد بين اثنين، فقالا معًا أو متفرقين متى متنا معًا، فأنت حر لم يعتق إلا بموت الآخر منهما، فلم يحمل الشافعي متى متنا معًا فأنت حر على موتهما دفعة واحدة لأنه إذا مات أحدهما قبل الآخر يقال: ماتا معًا. فرع آخر قال في «الأم»: وإذا كان العبد بين اثنين فدبر أحدهما نصيبه فنصيبه مدبر ولا قيمة عليه لشريكه لأنه أوصى لعبده بوصية له الرجوع فيها ولم يوقع العتق، فلم يكمن ضامنًا لشريكه، إذا قلنا: لا يقوم وهو اختيار المزني فمات فعتق نصفه لم يكن عليه قيمة لأنه لا مال له إلا الثلث وهو لم يأخذ من الثلث شيئا غير ما أوصى به وشريكه على شركته من عبده لا يعتق إن مات شريكه الذي دبره، أو عاش. فرع آخر إذا قلنا: لا يقوم عليه فنصفه مدبر ونصفه عبد قن لصاحبه فإن رجع السيد في التدبير

بطل وصار العبد كله رقيقًا، وإن أعتق الشريك الذي لم يدبر نصيبه عتق، وهل يقوم عليه نصيب شريكه؟، فإن رجع هو في تدبير قومت على المعتق حصة شريكه وإن كان التدبير باقيًا فهل يقوم على المعتق نصيب شريكه المدبر؟ فيه قولان: أحدهما: لا يقوم لأنه قد ثبت فيها سبب عتق المالك قبل عتقه، والتقويم إنما يراد لتحصيل الحرية، وقد حصل له سبب الحرية فلا يحتاج إلى التقويم. والثاني نص عليه في البويطي، وهو الصحيح يقوم عليه [23/ ب] لأن المدبر بمنزلة العبد القن لأن السيد يتصرف فيه كما يتصرف العبد القن، فإذا قلنا: لا يقوم فيه يكون نصبه حرًا ونصفه مدبرًا، فإذا ملك السيد الذي دبره عتق بموته، فإن رجع في تدبيره بعد ذلك بزمان صار عبدًا قنًا، ويقوم على الشريك المعتق الأول قولاً واحدًا لأن سبب الحرية بطل، وعلى ما ذكرنا لو كان شريكًا في عبدٍ فدبراه معًا ثم أعتق أحدهما نصيبه هل يقوم عليه نصيب شريكه فيه قولان. فرع آخر إذا قلنا: يقوم فبعد التقويم فيه وجهان: أحدهما: قاله ابن أبي هريرة يكون رقيقًا ولا يصير مدبرًا بالسراية حتى يريدها لأن المقصود من التقويم إزالة الضرر عن الشريك فعلى هذا إذا مات السيد عتقت بموته الحصة التي دبرها، وهل يسري عتقه إلى باقيه فيه وجهان، والثاني: قاله بأو حامد يصير مدبره بسراية التدبير إليها، وإن لم يتلفظ به فيكون كله مدبرًا، وهو المشهور، والأول قول أبي حنيفة. وقال أيضا: لو أعتق الشريك الآخر، أو استسعى فعتق بالأداء كان للمدبر أن يضمنه قيمة نصيب نفسه ويبطل التدبير وهذا مناقضة حيث جوز أحد قيمة المدبر بالتقويم. فرع لو قال لعبده الخالص: إذا مت فنصفك حر انعقد، وهل يسري إلى الباقي؟ فيه، قولان: أحدهما: يسري كالعتق لأنه يفضي إليه، والثاني: وهو المنصوص الصحيح لا يسري لأن التدبير أضعف، وهو كما لو علق عتق ذلك القدر بصفة بعد موته [24 /أ] لا يسري. فرع آخر إذا قلنا بالمنصوص: أنه لا يسري ومات السيد عتق نصفه بموته عن تدبير، وهل يعتق النصف الباقي فيه وجهان من الوجهين، في سراية عتق الحي إلى بقية ملكه هل يسري بلفظه، أو بعد استقرار عتقه فعلى وجهين، فإن قلنا: يسري بلفظه يصير ههنا جميع العبد حرًا يعتق منه نصفه تدبيرًا، ونصفه سراية والفرق بين أن يجعل التدبير في الحياة وبين أن يجعل العتق بالموت ساريًا يظهر إذا رجع في تدبير نصفه، فإن جعلنا العتق ساريًا كان نصفه الباقي مدبرًا لأن الرجوع لا يسري إن كان التدبير يسري، وإن لم يجعل التدبير ساريًا إلى جميعه صار بالرجوع في تدبيره نصفه عبدًا قنًا لا يعتق، وإذا قلنا: عتقه في الحياة يسري بعد استقرار عتقه في بعضه فعلى هذا لا يعتق عليه بالتبدير

بعد الموت إلا نصفه ويكون نصفه الباقي رقيقًا لورثته. فرع آخر قال ابن الحداد: إذا قال أحد الشريكين: نصيبي من هذا العبد حر بعد موتي وأعتقوا الباقي من ثلثي، وقال الآخر: إذا عتق نصيبك فنصيبي حر عتق نصيب الأول وقوم الباقي من ثلثه لأنه استحق ذلك بوقوع عتقه كما لو قال أحد الشريكين: إذا عتق نصيبك فنصيبي حر، فأعتق الآخر نصيبه قوم عليه الباقي ولم ينفذ عتق الآخر. مسألة: قال: «ولو قال سيد المدبر: قد رجعت في تدبيرك أو نقضته، أو أبطلته لم يكن ذلك نقضًا للتدبير». الفصل جملة هذا أن الرجوع عن التدبير جائز قولاً واحدًا وسواء كان محتاجًا [24/ ب] إلى الرجوع أو غير محتاج إليه وبأي لفظ يصح الرجوع اختلف فيه قول الشافعي قال: في «القديم» وأحد قوليه في «الجديد» إذا قال: رجعت في تدبيره أو أبطلته أو نقضته أو فسخته كان راجعًا في التدبير، ومبطلاً. وهذا اختيار المزني والقاضي والطبري وجماعة، وقال: في أكثر كتبه الجديدة لا يكون راجعًا فيه إلا بإخراجه من ملكه ببيع وغيره. وهذا اختيار أبي إسحاق. وقال القفال: أصل القولين إنه وصية أو عتق بصفة فإن قلنا وصية يجوز الرجوع عنها بالقول وإن قلنا عتق بصفة لا يجوز ذلك ووجه القول الأول أنه جعل له نفسه بعد موته فكان ذلك وصية به فجاز الرجوع بالقول كما لو أوصى به للغير. ووجه القول الثاني: أنه علق عتقه بصفة، فلا يملك إبطالها مع بقاء ملكه كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت حر. واحتج المزني على اختياره بما قال الشافعي رضي الله عنه لو قال: إن أدى هذا المدبر بعد موتي كذا، فهو حر كان رجوعًا عن التدبير، ولم يزل بذلك ملكه قلنا: قال ابن أبي هريرة وصاحب الإفصاح هذا على أحد القولين فأما على القول الآخر لا يكون رجوعًا، واحتج أيضًا بأن قال: قال الشافعي: لو وهبه هبة بتات قبض، أو لم يقبض أو رجع فهذا رجوع في التدبير قلنا: قال أصحابنا إن كان قد أقبضه، فهو مبني على القولين. ومن أصحابه من قال: يكون رجوعًا قولا واحدًا وهكذا في المسألة السابقة ولا ينبني على القولين لأن الهبة قبل القبض [28/ أ]، وإن لم يزل الملك في الحال، فإنها تفضي إلى زوال الملك وهذا اختيار القاضي أبي حامد. وقال في «الجامع»: ولا يصح الرجوع عن التدبير إلا بإخراجه من ملكه في أظهر قوليه في «الجديد» وينتقض التدبير على هذا القول بكل عقد يؤدي إلى خروجه من ملكه وإن لم يتم، فإذا وهبه هبة بتات قبضه الموهوب أو لم يقبضه رجع في الهبة أو لم يرجع أو أوصى به لرجل أو تصدق به عليه، أو قال: إن أدى بعد موتي كذا فهو حر

فهذا كله رجوع في التبدير، ولم يذكر فيه اختلاف أصحابنا، وجعل ذلك على القول الصحيح رجوعًا. وهذا نقله من كتاب المدبر من «الأم» بعينه فبطل بذلك ما قال أصحابنا: من بناء ذلك على القولين في كلتا المسألتين ولهذا احتج به المزني على الشافعي. وقد نقل البويطي عنه والرجوع في المدبر لا يكون إلا بالبيع أو الهبة، أو تحويله إلى غير مله لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما باع، والبيع خروجه من ملكه وليس الرجوع بالكلام ثم قال بعده بمسائل، ولو قال الرجل لمدبره إذا أدى بعد موتي كذا وكذا فهو حر، فهو رجوع في التبدير واحتج المزني أيضا بأن قال: إذا كان التدبير وصية، فلم يرجع في الوصية لو جاز أن يخالف من هلك فيبطل الرجوع في المدبر ولا يبطل في الوصية لمعنى اختلفا فيه جاز عليه بذلك المعنى أن يبطل بيع المدبر ولا تبطل الوصية فيصير إلى قول من لا يبيع المدبر، ولو جاز أن يجمع بين المدبر وبين الأيمان في هذا الموضع لجاز إبطال عتق المدبر لمعنى الحنث لأن الأيمان لا يجب الحنث بها على الميت. أراد المزني [25/ ب] بهذا أن التدبير لو كان كالعتق المعلق بالصفة حتى لا يجوز الرجوع عنه بالقول لما عتق المدبر بصفة توجد بعد الموت إذ لا حنث على ميت. ثم قال المزني: وقوله في «الجديد» و «القديم» بالرجوع فيه كالوصايا بعدل مستقيم لا يدخل عليه منه كسر بتعديل أي كسر يحتاج فيه إلى التعديل. والجواب: أن التدبير وإن شاكل الوصايا في كونه من الثلث، فهو في نفسه تعليق عتق بصفة، وأجمعنا أن السيد لو علق عتق عبده بصفة لم يكن له الرجوع بالقول كذلك ههنا. واعلم أن المزني توهم أن التدبير من باب الأيمان عند من لا يجوز الرجوع عنه بالقول، وأن العتق يحصل فيه بالحنث حتى قال: لو جاز أن يجمع بين التدبير والأيمان لجاز إبطال عتق المدبر إذ لا حنث على ميت. وقد غلط في هذا الوهم لأنا لا نلحقه بالأيمان وإنما نلحقه بعتق معلق بصفة على غير جهة اليمين وتعليق العتق بالصفة على ضربين، وكذلك تعلق الطلاق بالصفة أحدهما أن يعلق بصفة بمنع نفسه عن شيء أو للحنث أو للتصديق وهذا الثلاثة في أوصاف الأيمان إما المنع، فمثل أن يقول: إن دخلت الدار فأنت حر. وإما الحنث فمثل أن يقول: إن لم أدخل هذه الدار غدًا فأنت حر. وإما التصديق فمثل أن يقول: إن كنت دخلت هذه الدار بالأمس فأنت حر، فهذا كله ليس بتدبير من هذا القسم. والضرب الثاني: أن يقول: إذا جاء رأس الشهر فأنت حر فهذا تعليق عتق بصفة لا على معنى اليمين؛ إذ ليس فيه منع ولا حنث ولا تصديق، والتدبير يلحق بهذا الضرب؛ إذ ليس فيه [26/ أ] منع، ولا حنث ولا تصديق اللهم إلا أن نجعل التصديق معلقًا بوصف، فيقول: إن دخلت الدار فأنت حر بعد موتي فهو حينئذ حالف في قوله: إن

دخلت الدار وليس بحالف في قوله: أنت حر إذا مت فصار التدبير في جميع الأحوال غير ملحق بالأيمان، وإن كان ملحقًا بالعتق المعلق بالصفة، فإن قال: لو كان عتقًا بصفة لبطل بالموت، قلنا: إنه لا يبطل بالموت لأنه قيد بالموت وهذا كالوكالة تبطل بالموت ولا تبطل الوصاية بالموت لتقييدها بالموت. فرع قال في البويطي: والكتابة في الصحة والمرض ليس برجوع عن التدبير إنما هي شبه الخراج يجعله عليه، وإذا جعل عليه شيئا من بعد موته فإنما جعل عليه شيئا لورثته بعد زوال ملكه فكان رجوعا. وقال القاضي أبو حامد: إذا كاتبه سئل عن كتابته فإن أراد بها رجوعًا في التدبير كان راجعًا في أحد قوليه دون الآخر، وإن قال: أردت إثباته على التبدير فهو مدبر مكاتب في القولين معًا، فإن أدى قبل موته عتق بالكتابة، وإن مات السيد عتق بالتدبير إن احتمله الثلث وإن لم يحتمله عتق منه ما حمل الثلث وبطل عنه من الكتابة بقدره وكان عليه ما بقي من كتابته يسعى فيها حتى يؤدي فيعتق، أو يعجز فلم يجعل الشافعي الكتابة رجوعًا عن التدبير على قوله الجديد كما جعل البيع لأن الكتابة لا تزيل ملكه عن الرقبة في الحال، وإنما تزيل ملكه عن كسبه ولأن الكتابة عقد على منفعة له يستوفيها بالاستخدام فعلى هذا إن أدى مال الكتابة عتق وإن لم يؤد حتى مات [26 /ب] عتق بالتدبير على ما تقدم بيانه. وقال بعض أصحابنا: إن قلنا: التدبير وصية بطل بالكتابة كما لو أوصى بعبد ثم كاتبه، وإن قلنا: عتق بصفة لم يبطل وتعلق عتقه نصفين. وقال صاحب «الحاوي» هكذا ذكره أبو حامد وهذا عندي لا يصح، وإن جرى مجرى الوصية لا تكون الكتابة رجوعًا فيه لأن الرجوع إبطال العتق والكتابة مفضية إلى العتق فتناسب التدبير ولم تضاده. فرع آخر لو دبر المكاتب كان جائزًا فإن أدى قبل موت السيد عتق بالكتابة، وإن مات السيد ولم يؤد شيئا عتق بالتدبير وبطل ما عليه من النجوم إذا احتمله الثلث، وإن لم يحتمله عتق منه ما حمل الثلث، وقد قال أبو حامد: إذا عتق بالتدبير بطلت الكتابة وأراد زوال العقد دون سقوط أحكامه حتى يتبعه ولده وكسبه. فرع آخر قال في «الأم»: لو دبره ثم أوصى بنصفه لرجل كان النصف للموصى له به كان النصف مدبرًا فإن رد صاحب الوصية ومات السيد المدبر لم يعتق من العبد إلا النصف لأن السيد قد أبطل التدبير في النصف الذي أوصى به، وكذلك لو ذهب نصفه، أو باعه وهو حي فقد أبطل التدبير في النصف الذي باعه، أو وهبه، والنصف الثاني مدبر.

فرع آخر لو رجع في تدبيره ربعه، فإن قلنا: إن التدبير كالوصية يجوز وإن قلنا: كالعتق بالصفة لا يجوز، فإذا قلنا: يجوز فما رجع فيه يكون رقيقًا، وما لم يرجع فيه يكون مدبرًا، ومن أصحابنا من قال: لا يجوز الرجوع في تدبير نصفه إذا قلنا: تدبير بعضه [27/ أ] يسري إلى كله. فرع آخر لو قال: رجعت في تدبير رأسك فيه وجهان: أحدهما: يكون كالتصريح بالرجوع في كله لأنه قد يعبر عنه بالرأس، فيقال: رأس من الرقيق: والثاني: لا يكون رجوعًا في شيء منه لأن التدبير صريح في جمعه والرجوع كناية محتملة في بعضه، فلم يبطل حكم الصريح بالإجماع ويخالف الرجوع في نصفه لأنه صريح في مقدر قابل صريحًا عامًا. فرع آخر لو عرضه على البيع هل يكون كالتصريح في الرجوع فيه وجهان: أحدهما، هو كالتصريح لأنه شروع في إخراجه من ملكه، والثاني: لا يكون تصريحًا وتدبيره بعد العرض باقٍ لأنه يحتمل أن يريد به معرفة قيمته، وقيل: إنه مبني على القولين في أنه كالوصية، أو كالعتق بالصفة. فرع آخر إذا قلنا: لا يكون رجوعًا إلا بالإخراج عن ملكه فوقفه كان رجوعًا لأنه أخرجه به عن ملكه. فرع آخر لو رهنه ففي صحة رهنه ثلاثة أقوال، أحدها: باطل على القولين سواء قلنا: إنه كالوصية، أو كالعتق بصفة، والثاني: أنه جائز على القولين، والثالث: إن قلنا كالإعتاق بصفة فيه وجهان، لأن الرهن يفضي إلى بيعه، فإذا قلنا: لا يجوز الرهن، فإن قلنا: كالعتق بصفة لم يبطل تدبيره، وإن قلنا: كالوصية هل يبطل تدبيره فيه وجهان، لأنه تعريض لبيعه. فرع آخر لو قال: بعضك مدبر ومات يرجع إلى الورثة فإن اتهمهم العبد أحلفهم على العلم. فرع آخر لو قال المدبر رددت التدبير في حياة السيد، أو بعده كان مدبرًا بحاله، [27/ ب] ولا يؤثر قوله في ذلك. فرع آخر لا يجوز تدبير أم الولد لأن الذي يقتضيه التدبير هو العتق بالموت، وقد استحق

ذلك بالاستيلاد فلم يفد التدبير شيئا إذا دبرها ثم مات عتقت بالاستيلاد من رأس المال. فرع آخر قال في «الأم»: لو دبر رجل عبده، ثم قال: اخدم فلانًا ثلاث سنين وأنت حر، فإن خرس السيد أو ذهب عقله قبل أن يسأل لم يعتق العبد أبدًا إلا أن يموت السيد وهو يخرج من الثلاث، ويخدم فلانًا ثلاث سنين، فإن مات فأبان قبل موت السيد أو بعده، ولم يخدم ثلاث سنين لم يعتق أبدًا لأنه أعتقه بشرطين، فبطل أحدهما، وإن سئل السيد، فقال: أردت إبطال التدبير، وأن يخدم فلانًا ثلاث سنين ثم هو حر فالتدبير باطل، فإن خدم فلانًا ثلاث سنين فهو حر وإن مات فلان قبل أن يخدمه، أو لم يخدمه العبد لم يعتق، وإن أراد السيد الرجوع في الإخدام رجع فيه، ولم يكن العبد حرًا، وإن قال: أردت أن يكون مدبرًا، وأن يخدم فلانًا ثلاث سنين فالتدبير بحاله، ولم يعتق إلا بهما. قال القاضي أبو حامد: معناه أن يخدمه في حياة السيد ثلاث سنين ثم يموت السيد فيعتق بهما. فرع آخر قال أيضا: ولو قال السيد على هذا المدبر خدمة عشر سنين بعد موتي ثم هو حر، أو هر حر بعد موعتي لسنة فإن خدم عشر سنين بعد موته، أو أتت عليه سنة بعد موته فهو حر، وإلا لم يعتق، قال الشافعي رضي الله عنه: وكل هذا وصية [28/ أ] أحدثها له وعليه بعد التدبير، فتكون أولى من التدبير كما لو قال: عندي هذا لفلان، ثم قال: بل نصفه لم يكن إلا نصفه. فرع آخر قال: ولو قال رجل عندي لفلان، ثم قال بعد ذلك: عندي لفلان إذا دفع إلى ورثتي عشرة دنانير أو إلى غير ورثتي، فإن دفع عشرة دنانير فهو له وإلا لم يكن له لأنه إحداث له، وعليه بعد الأولى، فينتقض الشرط في الأولى، والآخرة أحق من الأولى، وقال القاضي الطبري هاتان المسألتان ذكرهما في «الأم» في هذا الباب. وهما من جنس ما قال أصحابنا: إنه لا يكون رجوعًا في أحد القولين وقد جعلهما الشافعي رجوعًا، والصحيح ما اختاره المزني من جواز الرجوع بالقول كما يجوز الرجوع في الوصايا وهو معتدل مستقيم، كما قال، والله أعلم. وعلى هذا لو قال للمدبر: إذا مت فدخلت الدار فأ، ت حر كان رجوعًا عن التدبير، ولو قال: إن دخلت الدار فأنت حر وأطلق، لا يكون رجوعًا بل زاد أمرًا آخر يعتق به.

مسألة: قال: «وجناية المدبر كجناية العبد». الفصل الكلام في هذا في جناية المدبر، والجناية عليه، فأما جنايته فيتعلق أرشها برقبته كالعبد القن سواءً لأنه لما كان كالعبد في جواز تصرف السيد في رقبته كان مثله في تعلق الأرش برقبته، فإذا تعلق الأرش بها كان السيد بالخيار بين أن يفديه وبين أن يسلمه للبيع كما يكون له الخيار في العبد القن [28/ ب] فإذا اختار الفداء في كم يفدي فيه؟ قولان: أحدهما: بالأقل من قيمته والأرش، والثاني: بالأرش باغًا ما بلغ أو يسلمه للبيع كما قلنا في العبد القن سواءً، فإن فداه السيد، فالتدبير بحاله وإن سلمه للبيع فبيع في الجناية يبطل التدبير بزوال ملكه عنه، فإن عاد إلى ملكه بابتياع أو بهبة أو غير ذلك، فهل يعود التدبير، فإن قلنا: إنه كالوصية لا يعود التدبير؟ وإن قلنا: إنه كالعتق بصفة ففيه قولان: كما لو قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر، ثم باعه ثم دخل الدار هل تعود اليمين بعود الملك، فيه قولان، وقال أبو حنيفة: يلزمه الفداء كما في أم الولد إذا حنث إذ لا سبيل إلى بيعه عبده. فرع لو بيع بعضه في الجناية بطل التدبير في ذلك البعض، والباقي مدبر بحاله لأن الجناية لم تخلص إليه. فرع آخر لو مات السيد قبل البيع والفداء فهل يعتق؟ هو مبني على القولين في العبد الجاني إذا أعتقه سيده. هل ينفذ أم لا، وفيه قولان، فإن قلنا: ينفذ العتق المباشر ينفذ العتق بالصفة، وإن قلنا: لا ينفذ ذاك لا ينفذ هذا، فإذا قلنا: بالنفوذ أخذ من تركته أقل الأمرين من الأرش، أو القيمة ويسلم إلى المجني عليه لأن عتقه كان بسبب منه، وإن قلنا لا ينفذ فوارثه يقوم مقامه في الفداء والتسليم ليباع، فإن فدوه يعتق من الثلث. فرع آخر لو جنى المدبر بما يستغرق ثلث الرقبة مثلا ومات السيد قبل الفداء ففدى الوارث من ماله ذلك الثلث، ففي ولاء ذلك الثلث وجهان، قال ابن سريج: هو للوارث. [29/ أ] وقال القفال: عندي قول آخر إن كل الولاء للميت بناءً على القولين في إجازة الورثة هل هي تنفيذ أم ابتداء عطية لأن هذا الفداء من الورثة كالإجازة فإنه متمم به قصد الموروث وكانا في أحد الوجهين يجعل كأنه بيع ثم اشتراه الوارث، فأعتقه فيكون الولاء له، وفي الثاني: جعل تتميمًا للتدبير وهما كالوجهين فيما قال الشافعي في عبد مرهون جنا ففداه المرتهن بشرط أن يكون العبد عنده وثمنًا بأصل المال وبهذا الفداء

قال الشافعي: جاز، فمن أصحابنا من قال: هكذا إذا جوزنا الزيادة في الحق بالرهن الواحد، ومنهم من قال: وإن لم نجوز ذلك لأنه لما أشرف على الزوال والبيع في الجناية جعل ابتداء عقد رهن جديد، وكذا الوجهان، فيمن باع شجرة واستثنى لنفسه الثمرة مثلا قبل الإبار بل يحتاج إلى شرط القطع، فأحد الوجهين يحتاج إليه كما لو باع الكل ثم اشترى الثمرة، والثاني: لا يحتاج إلى شرطه لأنه استبقاء لها وليس بابتداء شراء فلا حاجة إلى شرط القطع. فرع آخر لو جنى على المدبر فإن كانت على الطرف فالأرش للسيد بلا خلاف والتدبير بحاله، وإن جنى على نفسه بطل التدبير لفواته ولا يتعلق التدبير بقيمته لأنه لا يصح أن يكون القن مدبرًا ويفارق العبد المرهون إذا قتل حيث قلنا: تجعل قيمته رهنًا لأنه يصح أن يتعلق حكم الرهن بالقيمة ابتداءً وهذا الفرق ضعيف لأنه يبطل بالعبد الموقوف إذا قتل [29/ ب] يشترى بقيمته عبد يكون وقفًا في أصح الوجهين، وإن كانت القيمة لا يصح وقفها، والفرق الصحيح أن الرهن لازم يتعلق الحق ببدله، والتدبير ليس بلازم لأنه يمكنه إبطال بالبيع فلم يتعلق ببدله. فرع آخر إذا دبر أمة حاملا فحنث يتعلق أرش جنايتها برقبتها دون حملها، فإن فداها السيد كان التدبير باقيًا فيها، وفي حملها، وإن إن لم يفدها، وأراد بيعها، فإن كان بعد ولادتها كان الولد خارجًا من بيعه في الأرش، ولم يجز أن يفرق بينهما في الملك فتباع مع ولدها ويكون ثمن الأم مستحقًا في الأرش، وثمن الولد خالصًا للسيد، وإن كانت وقت البيع حاملاً لم يلزم مستحق الأرش أو يؤخر بيعها لأنه حقه معجل ولم يجز استثناء حملها في البيع لأن بيع الحامل دون حملها باطل وبيعت حاملاً وكان جميع ثمنها مستحقًا في الأرش، إن قلنا: لا قسط للحمل من الثمن في البيع، وإن قلنا: له قسط ففيه وجهان: أحدهما: يدفع إلى السيد ما قابل ثمن الحمل، والثاني: وهو الأظهر أنه يدفع كل الثمن إلى مستحق الأرش لأنه لما لم يجز أن يتميز في البيع لم يجز أن يتميز في الثمن وصار الحمل في حق السيد كالمستهلك، ولو ضرب بطنها قبل البيع فألقت جنينًا كانت ديته للسيد دون مستحق الأرش بلا خلاف. مسألة: قال: «ولو ارتد المدبر ولحق بدار الحرب». الفصل صورة المسألة: أن يدبر عبدًا ثم ارتد العبد فالتدبير لا يبطل بارتداده لأنه لم يزل ملكه عنه، فإن لحق بدار الحرب فظهر المسلمون على الدار لم يجز أن يسترقوه سواء

كان السيد حيًا أو ميتًا إن كان [30/ أ] حيًا فهو على ملكه، ولا يجوز أن يملك مال المسلم بالقهر، وإن كان السيد ميتًا فقد عتق بموته وثبت عليه الولاء، فلا يجوز إبطال حقه الثابت عليه، ولو غنم المشركون مدبرًا مسلمًا ثم عاد إلى يد المسلمين فهو مدبر كما كان، ووافقنا أبو حنيفة فيه وعذره أن حق إلصاق ثبت فيه فلا سبيل إلى إبطاله بالاغتنام وإن وجده السيد بعدما قسمه الإمام فإن الإمام لا ينقص القسمة ويعوض من حصل هذا العبد في قسمه بقدر قيمته من بيت المال، فإن لم يكن في بيت المال شيء نقض القسمة لموضع الضرورة ورد على صاحبه وقسمت الغنيمة دونه. فرع لو دبر الذمي عبده ذميًا ثم مات، فلحق بدار الحرب وسباه المسلمون فهل يجوز استرقاقه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأن فيه إبطال حق الذمي من الولاء، والثاني: يجوز لأن سيده لو لحق بدار الحرب يجوز استرقاقه، فكذلك عبده ويخالف عبد المسلم لأن المسلم لو ارتد ولحق بدار الحرب لم يجز استرقاقه ويمكن أن يفرق بين لحوقه بدار الحرب وبين لحوق عبده بأنه إذا حلق بدار الحرب لم يكن ذميًا فجاز استرقاقه، وإذا لحق عبده فحكم الذمية باق فيه وفي ماله وحقوقه فافترقا. مسألة: قال: «لو أن سيده ارتد فمات كان ماله فيئا والمدبر حرا». اختلف أصحابنا في هذا على طرق، فقال أبو إسحاق: الأمر على ما نص عليه الشافعي قولاً واحدًا لأنه استحق الحرية [30 /ب] بالتدبير السابق في حالة الإسلام فلا يبطل بالردة المعارضة، يؤكده أن الردة إنما تؤثر في العقود المستقبلة لا في الماضية كما لو باع أو وهب ثم ارتد لا يؤثر في ذلك، ومن أصحابنا من قال: هذا مبني على زوال ملك المرتد وفيه طريقان: أحدهما: فيه قولان: أحدهما: ملكه باق إلى أن يقتل، أو يموت، والثاني: ملكه موقوف. والثانية: فيه ثلاثة أقوال اثنان ما ذكرنا، والثالث يزول ملكه بنفس الردة، فإذا قلنا بهذا بطل التدبير بزوال ملكه، وإذا قلنا: ملكه ثابت أو مراعي فالتدبير على ما كانت عليه، قال: القائل ونص الشافعي في القديم على قولين، فقال إذا دبر عبدًا ثم ارتد، فيه قولان: أحدهما: لا يعتق لأن ماله صار كالمستحق بالردة، والثاني: يعتق إذا مات السيد، أو قتل، وذكر القفال: أنا إذا قلنا: ملكه موقوف يكون التدبير موقوفًا وهذا أصح. ومن أصحابنا من قال: المسألة على قول واحد أنها لا يعتق وخالف المنصوص، ووجهه أن المدبر يعتق من الثلث فيحتاج إلى أن يحصل للورثة ثلثا المال حتى يعتق، وههنا لا يحصل للورثة شيء، فإن المال ينقلب إلى بيت المال فيئًا فلا يعتق المدبر، وهذا غلط لأنه يعتبر خروج المدبر من الثلث ولا يعتبر حصول الثلثين

للورثة المناسبين وههنا يحصل الثلثان لمن يستحق المال وهم المسلمون الذين يقومون مقام المناسبين ومن قال بهذه الطريقة الأخيرة، قال: وصاياه أيضا تبطل بموته على الردة [31/ أ] على جميع الأقوال لهذه العلة وهو غلط لما ذكرنا، وقال في «الحاوي»: إذا قلنا: زال ملكه هل يبطل تدبيره؟ فيه وجهان: أحدهما: يبطل فإن عاد إلى الإسلام، فإن قلنا: يجري مجرى الوصية لم يعد إلى التدبير وإن قلنا: يجري مجرى العتق بالصفة، فهل يعود إلى التدبير؟ فيه قولان، والثاني: لا يبطل تدبيره لأنه سبق في ملك يجوز فيه تصرفه: فعلى هذا إن خرج من ثلثه عتق بموته، أو قتله، وإن عجز عن الثلث، ولم يملك سواه فيه وجان: قال البصريون: يعتق ثلثه ويرق ثلثاه لكافة المسلمين لأنهم يقومون في ماله مقام ورثته فلم يعتق في حقهم حتى يصل إليهم ثلثاه، وقال البغداديون: وهو الأظهر عندي يعتق جميعه لأن المال المرتد ينتقل إلى المسلمين فيئًا لا إرثًا، معتبرًا، والثلث معتبر في الميراث دون الفيء، واختار الشافعي في المرتد: أن ملكه موقوف كما يوقف دمه على ثبوته، واختار المزني أنه باق، وبه قال أبو يوسف محمد، وقد ذكر الشافعي فيما نقله المزني أنه قال: ملكه بالردة خارج عن تصرفه لا عن ملكه فليس في الملك إلا قولان موقوف أو ثابت، وقيل: أراد خروجه عن ملكه، ففي الملك ثلاثة أقوال، وقد تقدم الكلام في هذه المسألة في مواضع، ولا بد من الإشارة إلى هذا القدر في هذا الموضع. مسألة: قال: «ولو دبره مرتدًا». يعني إذا ارتد ثم دبر عبدًا فيه ثلاثة أقوال منصوصة [31/ ب] في «المختصر»: أحدهما: باطل، والثاني: جائز، والثالث: موقوف. ولا يختلف أصحابنا في تصرف المرتد بالتدبير وغيره أنه على هذه الأقوال الثلاثة، وإنما اختلفوا في الملك على طريقين، فإذا قلنا: ملكه موقوف فتصرفه موقوف، وإذا قلنا: ملكه ثابت، ففي تصرفه قولان: أحدهما: جائز، والثاني: باطل، لأنه كالمحجور عليه، وقد قال الشافعي: أشبه الأقوال أنه يزول ملكه بنفس الردة وتصرفه باطل، وبه أقول لأن حرمة النفس أكثر من حرمة المال، وقد زالت حرمة نفسه لكفره فحرمة ماله أولى. واعلم أنه على كل حال يستحق الحجر في تصرفه بالردة وبهذا يصير محجورًا عليه ففيه وجان: أحدهما: بنفس الردة، وهو إذا قلنا: زال ملكه، والثاني: لا حجر إلا بحكم الحاكم وتصرفه باطل من التدبير وغيره بعد الحجر قولاً واحدًا. وقال أبو إسحاق: تصرفه بعد الحجر باطل إلا الوصية فإنها من تصح المحجور عليه، والتدبير في أحد القولين كالوصية وأما بيعه وكاتبه قبل الحجر هل يوقف؟ فيه وجهان: أحدهما: باطل لأن العقد لا يقبل الوقف، والثاني: جائز، لأنه موقوف على النسخ دون الإمضاء كالوقف في مدة الخيار، وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن كان التدبير

قبل الحجر؛ فإن قلنا: الملك باق صح التدبير، وإن قلنا موقوف فقولان أحدهما: باطل، والثاني: موقوف وهما قولا وقف العقود، وإن كان بعد الحجر فإن قلنا: ملكه زائل لا يصح وإن قلنا: باق، ففيه قولان بناء على تصرفاته من البيع والهبة ونظيره [32/ أ] القولان في تصرفات المفلس بعد الحجر عليه، أحدهما: باطلة، والثاني: موقوفة، والصحيح ما ذكرنا أولا واحتج المزني على ما اختاره بأن الشافعي قال: إذا كاتب المرتد عبده جاز فدل على أن ملكه ثابت. قلنا: قد ذكرنا حكم كتابته، وقيل: فيه قولان، فإن قلنا: ملكه زائل أو موقوف فباطلة، وإن قلنا: ملكه باق فجائز، وقال أبو إسحاق في الكتابة أيضًا ثلاثة أقوال، لأن الكتابة عقد يدخله الغرر، واحتج أيضًا بأن الشافعي اختار أن ينفق من مال المرتد ما يلزم المسلم نفقته فلو كان ماله خارجًا عن ملكه لما أمر بذلك لأنه لا يجوز أن ينفق من مال الغير، قلنا: قال الاصطخري: لا ينفق عليه ولا على عياله ولا يؤدي منه أروش جناياته لأنه مال الغير وسائل أصحابنا سلموا كل ذلك واعتذروا أنه أحق بذلك من بيت المال، وإن كان ملكه زائلاً عنه وعليه نص الشافعي، ولأن نفقة من يلزمه نفقته إنما أخذناها من ماله لأن سبب وجوبها سابق واحتج أيضًا بالمدبر، ولا يصح ذلك لأن حريته معلقة بموته، والارتداد ليس بموت وإن كان في بعض الأحكام كالموت. واحتج أيضًا باستصحاب الحال، فقال: مع أن ملكه له بإجماع قبل الردة، فلا يزول ملكه إلا بإجماع، وهو أن يموت، قلنا: نحن لا نزيل ملكه بعد الردة حيث انعقد الإجماع على ملكه، وهو في حال إسلامه، وإنما نزيل ملكه بعد الردة، وليس بعد الردة إجماع. واحتج بأنه لو خرج عن ملكه لصار فيئًا كما بعد موته، قلنا: لأن معرض أن يعود إليه كمن ماتت له بهيمة فالجلد معرض أن يعود إلى ملكه لما عاد بالإسلام [32/ ب] قلنا قد يعود كالعصير يصير خمرًا ثم يصير خلاً فيعود الملك فيه. مسألة: قال: «ولو قال لعبده: متى قدم فلان، فأنت حر فقدم، والسيد صحيح أو مريض». الفصل إذا قال: هذا فقدم والسيد مريض، فمات عتق من رأس المال لأنه غير متهم فيه لأنه لا يعلم هل يوافق قدومه مرضه أو صحته. وقال القفال: فيه قول آخر يكون من الثلث، وهو قول أبي حنيفة لأن نفوذ العتق كان في مرض الموت وهما كالقولين في رجل قال: إن قدم فلان فأنت طالق فقدم فلان وهو مريض مرض الموت هل يجعل كأنه طلقها في المرض أم لا يجعل كذلك؟ فيه قولان: وقال أبو حنيفة: ههنا يجعل كأنه طلقها في الصحة حتى ترث بخلاف ما لو قال في العتق أنه من الثلث وعندي

إطلاق القولين خطأ، وينبغي أن يقال: فيه وجه لبعض أصحابنا وكذلك الحكم في الطلاق. ولو قال: إذا مرضت فأنت طالق ثلاثًا فمرض ومات منه طلقت وهل ترثه؟ قولان كما لو ابتدأ الطلاق في حالة المرض وعلى هذا لو باع الصحيح حابى وشرط الخيار لنفسه ثم مرض في مدة الخيار فلم يفسخ حتى مات. نص الشافعي على المحاباة من الثلث لأنه لما كان قادرًا على فسخه في مرضه فلم يفسخ وأجازه لحقته التهمة فيه فاعتبرنا المحاباة فيه من الثلث، وكذلك لو وهبه في صحته وأقبضه في مرضه ثم مات يكون من الثلث وعلى هذا لو قال لعبده: إن دخلت الدار، [33/ أ] فأنت حر فمرض ثم دخل الدار ثم مات اعتبر من الثلث لأنه متهم باختيار الكلام في هذه الحالة. فرع لو قال: أنت حر إن جننت فجن هل يعتق؟ قال صاحب الإفصاح: يحتمل وجهين: أحدهما: لا يعتق لأن المضاف إلى حالة الجنون كما لو ابتدأه في حالة الجنون كما قال الشافعي في اعتباره من الثلث، والثاني: يعتق لأن الإيقاع حصل في الصحة. فرع آخر لو دبر أخاه، وعتق بموته لم يرثه قولا واحدًا، لأنه حصل العتق قبل الموت. فرع آخر لو قال لأخيه: أنت حر في آخر أجزاء صحتي المتصل بأول أسباب موتي ثم مات عتق من رأس المال وورثه لتقدم عتقه في الصحة بعد موته، ولو قال له: أنت حر في آخر أجزاء حياتي المتصل بموتي عتق من ثلثه إذا مات وفي ميراثه وجهان: أحدهما: لا يرث لأن عتقه في المرض وصية تمنع الميراث، والثاني: يرث ولا يكون عتقه وصية له وإن كان معتبرًا من الثلث لأن الوصية ما ملك عن الموصي، وهو لم يملك نفسه عنه. فرع آخر لو قال لأخيه في صحته: إن مت بعد شهر فأنت اليوم حر فمات قبل شهر لم يعتق وإن مات بعد شهر عتق يوم لفظه وورثه. ولو قال ذلك في مرضه كان في ميراثه الوجهان ثم أعاد المزني مسألة ذكرها فلعله نسيها فقال: «وجناية المدبر كجناية عبد» وقد مضت هذه المسألة. مسألة: قال: ولا يجوز على التدبير [33/ ب] إذا جحد السيد إلا عدلان. اعلم أنه إذا اختلف السيد والعبد في التدبير فادعى العبد ذلك وأنكره السيد فهو مبني على أن التدبير وصية أم عتق بصفة؟ فإن قلنا: إنه عتق بصفة صح الاختلاف فيه لأن الرجوع فيه بالقول لا يمكن، فإن لم يكن معه العبد بينة، فالقول قول السيد لأن

الأصل بقاء الرق فيحلف أنه ما دبره فإنها يمين على الإثبات، وإن كان مع العبد بينة يحكم بها، ولا يقبل في ذلك إلا ذكران لأن القصد منه العتق، وإن قلنا: التدبير وصية يصح الرجوع فيه بالقول، فمن أصحابنا من قال: ألقول قول السيد: ما دبرت، ويكون رجوعًا إذ لا فرق بين أن يقول: رجعت وبين أن يقول: ما دبرت فلا يتصور الإحلال على هذا الوجه، ومن أصحابنا من قال: لا يكون رجوعًا، وهو المذهب المنصوص عليه في كتاب الدعوى والبيانات فإنه قال فيه: إذا ادعى العبد على سيده أنه دبره، فأنكره، قلنا له: لا نحتاج إلى يمين في التدبير فنص على أن الإنكار لا يكون رجوعًا وهذا صحيح، لأن جحود الشيء لا يكون رجوعًا كجحود الزوج للزوجة لا يكون إقرارًا بالطلاق، فعلى هذا يتصور الإحلاف على القولين معًا وله أن يسقط اليمين على نفسه بأن يقول: إن كنت دبرته فقد رجعت عنه في أحد القولين، وكذلك إذا قامت البينة عليه على هذا القول فله إقاطها بما ذكرت وله بعد حكم الحاكم بالبينة أن يسقط الحكم أيضًا بما ذكرت، وقال في «الحاوي»: إذا أنكر السيد [34/ أ] فليس له إحلاف السيد ولا تسمع البينة عليه إذا أراد السيد بجحوده تعجيل بيعه لأن له إبطال تدبيره ببيعه، وإن أراد أن يستبقيه على ملكه سمعت دعواه وهل يحلف السيد فعلى ما ذكرنا. فرع لو وقع هذا الاختلاف بينه وبين ورثة مولاه بعد موته فرجوعهم عنه لا يصح إذا كان العبد يخرج من الثلث، فإن لم يكن للعبد بينة حلف الورثة ما علموا أن أباهم دبره، وكان رقيقًا، وإن نكلوا حلف العبد على البت وعتق إذا حلف، فإن حلف بعضهم ونكل البعض حلف العبد وعتق منه نصيب الناكلين ورق نصيب غير الناكلين. فرع آخر قال في «الحاوي»: الورثة مخيرون في نفي التدبير أو العتق، فإن حلفوا على نفي التدبير قالوا: والله لا نعلم أنه دبرك ولا يحتاج أ، يقول: وإنك لباقٍ على الرق، وإن حلفوا على نفي العتق، قالوا: لا نعلم أنك عتقت، وهل يلزمهم أن يقولوا في هذه اليمين وإنك لباق على الرق فيه وجهان: أحدهما: لا يلزم، والثاني: يلزم ههنا، والفرق [بينهما] أن التدبير صريح الدعوى فجاز الاقتصار على نفيه، والعتق حكم الدعى في حق العبد والرق حكم الإنكار في حق الورثة فيلزم الجمع بين الأمرين نفيًا وإثباتًا. فرع آخر إذا لم يحلف الورثة ورد اليمين على العبد يجب عليه أن يحلف إذا علم أنه صادق ليفتك رقبته من الرق.

باب وطئ المدبرة وحكم ولها

فرع آخر لو ثبت التدبير وادعى الوارث رجوع السيد عنه بأن قال: رجعت أو بأن باع ثم اشترى يقبل فيه شاهد ويمين وشاهد وامرأتان لأن قصد [34/ ب] الوارث منه المال ذكره بعض أصحابنا بخراسان، وعلى هذا العجز عن أداء مال الكتابة يثبت بشاهدٍ ويمين وشاهدٍ وامرأتين لأن القصد منه المال بخلاف الكتابة لا تثبت إلا برجلين، ومن أصحابنا من قال: إذا ادعى السيد الرجوع يقبل منه هذا ولا يقبل من الورثة في أحد الوجهين، لأن السيد يدعي الملك والورثة ينفون حرية حاصلة بموت السيد في الظاهر. باب وطئ المدبرة وحكم ولها مسألة: قال: «ويطأ السيد مدبرته». الفصل اعلم أنه إذا دبر أمته لم يحرم عليه وطئها لأنها مملوكة له ملك رقبتها ومنفعتها ويخالف الأمة الزوجة لأنه ملك منفعة الاستمتاع زوجها، فلم يجز له استباحتها ولأنه لما جاز للولي وطء أم الولد فلأن يجوز وطء المدبرة أولى لأن استحقاق أم الولد للحرية آكدة، ولا يمكن السيد إبطالها بالتصرف، ولا الرجوع عنها وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه دبر أمتين له وكان يطؤهما، فإذا وطئها وأحبلها فولدت منه، قال أصحابنا صارت أم ولده ويبطل التدبير لأنه آكد من التدبير إذا يعتبر من رأس المال، ولا يصح الرجوع عنه، فأزال الضعيف كما إذا ورد ملك اليمين على النكاح أبطله لأنه أقوى من النكاح. وقد قال الشافعي رضي الله عنه: لا فائدة في إبقاء التدبير لأنه لا يجوز أن يزول حكم الإحبال في حياة سيدها، فيكون لبقاء التدبير فائدة، ويخالف هذا إذا دبرها ثم كاتبها يبقى التدبير [35/ أ] في أحد القولين لا يجوز أن يفسخ عقد الكتابة ويبقى حكم التدبير، وأيضًا فالكتابة والتدبير معناهما واحد، وهو أن كل واحد منهما تعلق عتق نصفه من جهة القول، فلم يمنع أحدهما صحة الآخر بخلاف الاستيلاد والتدبير. وقال صاحب «الحاوي» هكذا ذكر أبو حامد ولا يصح ذلك لأنه قد طرأ على التدبير ما هو أغلظ منه، وهو الإيلاد فصار داخلا فيه، وغير مبطل له كما لو طرأ الجنابة على الحدث يدخل فيها ولا يرتفع بها، وقيل: يعتق بشيئين حتى لو رجع في التدبير قولا، وجوزنا ذلك في أحد القولين، بقي الاستيلاد. مسألة: قال: «وما ولدت من غيره ففيها واحد من قولين».

الفصل اعلم أن المدبرة إذا أتت بولد من زوج أو زنا فيه قولان منصوصان: أحدهما: يتبعها في التدبير لأنها تعتق بموت سيدها فوجب أن يتبعها ولدها في حكمها كأم الولد، ولأن ولد كل ذات رحم بمنزلتها فولد الحرة حر وولد المملوكة مملوك فكذلك ولد المدبرة مدبر، وبهذا قال عمر وعثمان وابن مسعود وابن عمر وجابر رضي الله عنهم وهو مذهب مالكٍ وأبي حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق، ولفظ جابر ما أرى ولد المدبرة إلا بمنزلة أمهم، ولفظ ابن عمر ولد المدبرة بمنزلتها يعتقون بعتقها ويرقون برقها، والثاني: لا يتبعها بل يكون مملوكًا للسيد وبه قال زيد بن ثابت وأبو الشعثاء جابر بن زيد من التابعين وعطاء وهو اختيار المزني، ولفظ زيد بن ثابت حين جاء رجل إليه، وقال: ابنة عم لي أعتقت جاريتها عن دبر ولا مال لها غيرها، [35/ ب] قال: لتأخذ من رحمها ما دامت حية. وروى أبو الزبير قال: سمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول في أولاد المدبرة: أنهم عبيد إلا أن تكون حبلى يوم دبرت، أورده الإمام البيهقي ووجهه أن التدبير عقد يدخله الفسخ فلم يسر حكمه إلى الولد كالرهن والوصية. واختلف أصحابنا في هذين القولين، فمنهم من قال: هما مبنيان على القولين في التدبير أنه وصية يصح الرجوع عنه أو لا، فإن قلنا: وصية لا يتبعها وإن قلنا عتق بصفة وليس بوصية يتبعها وهذه طريقة المزني، ومن أصحابنا من قال: سواء قلنا إنه وصية لو عتق بصفة فيه قولان، وهذا اختيار أبي إسحاق لأن الشافعي نص على أن ولد المعتقة بالصفة هل يتبعها قولان. ذكره القاضي الطبري، فلو كان مبنيًا على القولين لوجب أن يكون في ولد المعتقة بالصفة قول واحد أن الولد يتبعها، ولا يعني بهذا أن الولد يتبعها في الصفة حتى إذا أدخل الولد الدار وكان العتق معلقًا بدخول الدار يعتق الولد ولكن أردنا به أن الولد يعتق بدخول الأم الدار في أحد القولين، ولأن التدبير يفارق الوصايا لأنه يتضمن العتق المبني على التطيب والسراية. قال بعض أصحابنا بخراسان: هذا مرتب على التدبير، فإن قلنا: لا يتبع الولد المدبرة في التدبير ففي المعلق عتقها بصفة أولى، وإن قلنا: هناك يتبع فههنا قولان، وقيل: هذا في صفة لا توجد لا محال، فإما في صفة قد تكون مثل قدوم فلان لا يتبع الولد الأم قولا واحدًا وهذا ضعيف [36/ أ]. قال القفال: والصحيح من المذهب أنه لا يتبعها بخلاف التدبير، والفرق أن المدبرة أشبهت أم الولد لأن عتقها معلق بموت السيد كأم الولد سواء، فإن قلنا: الولد يتبعها

في التدبير فرجع السيد عن تدبيره الأم وهي حامل، أو ولدت وماتت الأم، فهل يبطل التدبير في الولد؟ نص الشافعي على أنه يبطل ويكون الولد باقيًا على تدبيره يعتق بموت السيد لأنهما مدبران، فإذا بطل التدبير في أحدهما لم يبطل في الآخر كالعبدين، ويفارق ولد المكاتبة إذا قلنا: يعتق بأداء النجوم فعجزت نفسها وفسخت الكتابة، فإنها تنفسخ في الولد ولا يعتق، والفرق بينهما أنا لم نجعل ولد المكاتبة مكاتبًا، ولا أدخلناه في العقد، وإنما جعلناه موقوفًا على حريتها في أحد القولين لأنه حصل في ملكها، فإذا عادت رقيقة عاد الولد رقيقا، وههنا جعلنا ولد المدبرة مدبرًا، ولأن عتق الولد هناك يتعلق بأدائها النجوم، فإذا فسخت الكتابة بطل أداء النجوم، فلا تحصل صفة العتق في الولد، وليس كذلك في التدبير، فإن الصفة موت السيد، وذلك لا يسقط بطلان التدبير في الأم، ولو رجع في تدبير الولد لم يكن رجوعًا في تدبير الأم للعلة التي ذكرناها، ولو أعتق الولد في البطن لم تعتق الأم، فلا يبطل تدبيرها بالرجوع في تدبير الحمل. فرع لو رجع في تدبيره ثم ولدت لأقل من ستة أشهر من يوم رجعل فالولد مدبر لأنه كان في بطنها قبل رجوعه عن تدبيره، وإن وضعت لأكثر من ستة أشهر من يوم رجع فهو مملوك، وهذا إذا كان لها زوج فأتت بولد وإن حكمنا بلحوق الولد [36/ ب] بالأب هل يكون مدبرًا؟ فيه قولان: أحدهما: يتبعها كما يحكم به في النسب، والثاني: لا يتبعها لأن النسب آكد في ثبوته بالإمكان. قال المزني: لما حكي هذا الفصل عن الشافعي رضي الله عنه هذا أيضا رجوع في التدبير بغير إخراج من ملكه فتفهم، قلنا له: أجاب الشافعي على أحد القولين، فأي إشكال في هذا حتى يحتاج إلى تفهمه؟ فرع آخر لو كانت له أمة حامل فدبرها فالحمل يتبع الأم في التدبير نص عليه في «الأم»، ولا يختلف مذهبه فيه، فإن قيل: جعلتم الولد تابعًا للأم في التدبير ولم تجعلوه تابعًا للأم في التدبير، ولم يجعلوه تابعًا لها في الرجوع، قلنا: لأن للحرية تغليبًا وسراية بخلاف الرجوع. وقال القفال: لا يتبع الحمل الأم في المدعو قولاً واحدًا، وهو اختيار المزني، وقال بعض أصحابنا: الترتيب فيه. أما إذا قلنا: الولد الحادث يتبعها فههنا قولان بناءً على أن الحمل يعرف أم لا؟ فإ، قلنا: لا يعرف، فهو كالحادث، وإن قلنا: يعرف فوجهان: أحدهما: يتبع لأنه عقد عتاق، والثاني: لا يتبع لأن العتاق سراية إلى نصيب الشريك إلى الولد بخلاف التدبير وهذا خلاف المنصوص والحمل يتبع الأم كما في العتق، والبيع ولا خلاف أنه لو مات السيد وهي حامل يعتق الولد

بعتقها أن حملها الثلث حاملا، وإلا فيقدر ما حمل من الثلث. فرع آخر لو قال لها: أنت مدبرة دون حملك صح الاستثناء إن ولدته قبل موته وبطل إن ولدته بعد موته لأن الحرة لا تلد إلا حرًا. فرع آخر قال في «الأم»: ولو دبر [37/ أ] الحمل دون الأم صح لأنه لو أعتق الحمل دون الأم صح، فإن باعها نظر فإن نوى الرجوع عن تدبير الأم صح البيع، وإن لم ينو ذلك وولدت قبل ستة أشهر بطل البيع لأنه بمنزلة استثناء الحمل، وإن ولدت بعد ستة أشهر قال في «الأم» فيه قولان: أحدهما: البيع مردود لأنه كان ممنوعًا من البيع حتى يعرف حال الحمل، والثاني: البيع جائز، ومن أصحابنا من قال: ليس على ظاهره فيما ذكر في «الأم» بل إذا باع الأم ونوى الرجوع عن تدبير الحمل أو لم ينو الرجوع كان رجوعًا وصح البيع، ألا ترى أنه لو كان له عبد فدبره، ثم نسي تدبيره فباعه كان رجوعًا وصح البيع؟ وإن لم ينعقد الرجوع، وإنما أراد الشافعي بما ذكر أنه إذا باع الأم مطلقًا، ولم يستثن حملها صح البيع، وكان رجوعًا في تدبير الولد، وإن استثنى الحمل لم يصح البيع لأنه لا يجوز استثناء العضو منها، وإذا لم يصح البيع كان التدبير بحاله. وقال في «الحاوي» إذا باعها مطلقًا، ولم يقصد به إبطال التدبير ولا الاستثناء في البيع هل يصح البيع؟ فيه قولان: أحدهما، يصح لأن بيع المدبر رجوع وإن لم يقصد به الرجوع، والثاني: هو المنصصو البيع باطل لأن حكم الحمل مخالف لحكم الأم وهذا أصح عندي. فرع آخر لو دبر أمته وقلنا: الولد يتبعها، وأن الرجوع عن التدبير يصح بالقول فقال: كلما ولدت ولدًا فقد رجعت في تدبيره لم يكن ذلك رجوعًا، وإذا ولدت ولدًا كان مدبرًا حتى يرجع في تدبيره بعد ولادته وهذا لأن الرجوع في التدبير، إنما يصح بعد [37/ ب] أن يثبت للولد حكم التدبير وقبل أن تلد ما يثبت له حكم التدبير، فلم يصح فيه الرجوع، وهو كما قال لعبده: إذا دبرتك فقد رجعت في تدبيرك لم يصح ذلك الرجوع بحالٍ. فرع آخر لو قال لأمته: أنت حرة بعد موتي بعشر سنين فقد علق عتقها بصفة توجد بعد الموت، فقبل الموت هي معتقة بصفة إذا أتت بولد في تلك الحالة هل يتبعها في حكم الصفة؟ قولان: فإن مات السيد فقد دخل وقت الصفة فيعزل من الثلث، وتكون رقبتها

موقوفة على العتق لا يتصرف الورثة فيها ومنفعتها وكسبها لهم فإذا أتت بولد في تلك الحالة، قال الشافعي: يتبعها في حكمها، واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال فيه قولان: كما لو أتت به قبل الموت، والشافعي نص على أحد القولين، ومنهم من قال: يتبعها قولا واحدًا على ما نص عليه، والفرق بين هذا وبين ما قبل الموت أن قبل الموت لم يستقر له حكم الصفة وله سبيل إلى إبطالها، وبعد الموت استقر حكم الصفة حتى لا سبيل إلى إبطالها قولا واحدًا فتبعها الولد قولاً واحدًا كأم الولد. فرع آخر إذا أعتق الولد معها كانا من الثلث ولا يقرع بينهما بل يعتق عنهما بقدر ما احتمل الثلث على سواء، وإن لم يعتق الولد معها ففيه وجهان: أحدهما: يكون من تركة السيد، والثاني: يكون ملكًا للورثة، ذكره في «الحاوي». مسألة: قال: «ولو قالت ولدته بعد التدبير». الفصل إذا قلنا: يسري التدبير إلى الولد فاختلفا فحاله حصل قبل التدبير أو بعده، فقالت: المدبرة ولدته بعد التدبير فعتق، وقالت: الورثة [38/ أ] ولدته قبل التدبير فالقول قول الورثة لأن الأصل عدم التدبير، ولا يد للمدبرة على ولدها، لأنها تدعي حرية الولد، ولا تثبت اليد على الحر، ويحالف هذا إذا كان في يده المدبرة التي عتقت بموت السيد مال، فتنازعت هي والورثة، فالقول قولها إنها استقادت ذلك بعد ما عتقت إذ لها يد في مالها ونظير هاتين المسألتين أن المكاتبة إذا قالت: ولدت بعد الكتابة، وقلنا: تسري الكتابة إلى الولد وقال السيد: بل ولدت قبل الكتابة فالقول قول السيد، ولو اختلفا في مال في يدها، فالقول قولها لأن لها على ما في يديها من المال يدصا، ولا يد لها على ولدها، ومثله لو حصل للمكاتب في أمته ولد وكانت الأمة من قبل للسيد، فقال السيد إن حصل الولد قبل أن ملكته بزنا، أو نكاح فهو ملكي، وقال المكاتب: بل حصل مني بعدما ملكت الأمة فهو موقوف على حكمي يعتق بعتقي فالقول قول المكاتب لا على معنى أن الكتابة تسري إلى هذا الولد منه بل هو بحكم أنه ولد أمته ولولا البنوة لكان ملكًا له أن يتصرف فيه كما يتصرف في سائر الأموال التي في يده، فالقول قوله في ذلك، ولأنها لو اختلفا في تدبير الأم كان القول قول الوارث فكذلك إذا اختلفا في تدبير الولد. فرع إذا نكل الوارث عن اليمين ردت على المدبرة، فإن نكلت ففيه وجهان: أحدهما: يحكم برق الولد، والثاني: يوقف أمره ليحلف الولد بعد بلوغه.

فرع آخر قال في «الأم» لو أقاما جميعًا البينة، فالبينة يبنة الوارث لأن الولد مملوك في يد الوارث [38/ ب]. فرع آخر قال لو تنازعا في الكسب الذي في يده فأقام العبد بينة أنه أفاده بعد موت سيده، أقام الورثة بينة أنه أفاد ذلك المال قبل موته كانت البينة بينة المدبر، والقول قوله. فرع آخر لو أقام الورثة البينة أنه كان في يده وسيده حي، وقال المدبر كان في يدي لغيري وإنما ملكته بعد موت سيدي، وأقام البينة، فالقول قوله مع يمينه ولا أخرجه من يده حتى يقول الشهود: كان في يديه وسيده يملكه. فرع آخر إذا قلنا: ولد المدبرة قبل موت السيد لا يتبعها، فاختلفا، فقالت المدبرة: ولدته بعد موت السيد فهو حر، وقالت الورثة: ولدته قبل موته فهو مملوك لنا، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يقر أنه جرى عليه في العلوق حكم الرق [لأنها ولدته لأقل من ستة أشهر من موت السيد، فالقول قول الوارث مع يمينه استصحابًا لحكم رقه. والثاني: أن ينكر أنه جرى عليه في العلوق حكم الرق]، وأنها علقت به في الحرية، وولدته بعد موت سيدها لستة أشهر، فصاعدًا، فالقول قولها مع يمينها لأن الحرية في الناس أصل والرق طارئ [فإن حلفت كان ولدها حرا]، وإن نكلت، ففيه وجهان: أحدهما: ترد اليمين على الوارث، إذا قلنا فيما تقدم أن نكول الوارث لا يوجب توقف اليمين، والثاني: لا ترد على الوارث ويوقف اليمين على بلوغ الصبي، فإذا حلف بعد بلوغه كان حرًا، وإن نكل ردت اليمين على الوارث وهذا إذا قلنا فيما تقدم أن النكول لا يوجب وقف اليمين، هكذا ذكره في «الحاوي»، وقال فيه أيضًا: لو اختلفا في الكسب فشهدت بينة الوارث أن هذا المال كان في يده في حياة سيده ففي قبولها والحكم بها قولان من القولين في حكم اليد [39/ أ] المتقدمة أحدهما: يقبل ويحكم به للوارث، والثاني: لا يقبل للمدبر مع يمينه. فرع آخر قال ابن سريج: لو كان لرجل عبد فدبره ثم ملك أمة فوطئها المدبر وأحبلها، فإن

باب تدبير النصراني

قلنا: لا يملك بالتمليك، فالولد يكون مملوكًا للسيد ولا حد على العبد لأنه وطئ بشبهة وثبت نسبه. قال القاضي الطبير: نص عليه في «الأم»، وإن قلنا: يملك بالتمليك، فالولد لا يمكننا أن نحكم له بالحرية وهو خارج من بين الرقيقين، ولكن بأيهما يلحق، قال ابن سريج فيه وجهان: أحدهما: يتبع الأم فيكون رقيقًا للسيد لأن حكم الولد حكم الأم في الحرية، والثاني: حكمه حكم الأب، فيصير مدبرًا كما لو كان حرًا، فأحبل مملوكة كان تابعة له في الحرية، وقال في «الحاوي»: على هذا القول الذي نقول يملك العبد بالتمليك والولد تبع له في التبدير قولا واحدًا. فرع آخر لو كان لأحدهما بينة، في المسألة السابقة سمعت ويحكم بها، والبينة أربع نسوة في حقيهما لأنها بينة على الولادة، وإن أفضت إلى الحرية أو الرق. فرع آخر قال في «الأم»: لو كانت أمة بين اثنين فدبراها ثم جاءت بولد أحدهما كان ابنه وضمن نصف قيمته ونصف قيمتها ونصف عقرها لشريكه إن شاء شريكه لأن مشيئته أخذ قيمتها رجوع في تدبيرها وكانت أم ولده. وقال القاضي الطبري عندي أنها لم يقوم نصيب شريكه عليه إلا برضاها لأنه قد ثبت له في عتقه حق الولاء، والله أعلم [39/ ب]. وعلى هذا إذا دبراه ثم أعتق أحدهما نصيبه وهو موسر وجب أن لا يقوم نصيب شريكه عليه إلا برضاه وقد ذكرنا فيه قولين، وقال القاضي أبو حامد وفي قيمة الولد الذي ادعى أنه منه لم يكن له قيمة وهذا لا يختلف مذهبه فيه. فرع آخر قال في «الأم»: لو قال ولدك ولد مدبر لم يكن هذا تدبيرًا إلا أن يريد تدبيرًا. فرع آخر قال في «الأم»: ولو ولدت ولدين أحدهما لأقل من ستة أشهر والآخر لأكثر من ستة أشهر يعني من يوم التدبير فهما حمل واحد وحكمهما واحد ويكون الكل مدبرًا، أو عتيقا. قال القاضي أبو حامد: هذا إذا كانت تحت زوج يعني في اعتبار ستة أشهر، فأما إذا كانت مطلقة أو متوفى عنها زوجها يعتبر أربع سنين. باب تدبير النصراني مسألة: قال: «ويجوز تدبير النصراني».

الفصل (جملة) هذا أن الكافر كالمسلم في جواز تدبيره سواء كان يهوديًا أو نصرانيًا أو مجوسيًا أو وثنيًا، ذميًا كان أو حربيًا لأنه لما كان كالمسلم في سائر التصرفات كذلك في هذا، وإذا دبر الكافر عبدًا، فهو بالخيار بين أن يرجع في تدبيره أو يقيم عليه وحكم الرجوع كما ذكرنا، وإن اختار المقام عليه عتق بموته من الثلث كالمسلم سواءًا، وإذا دبر الحربي عبدًا كافرًا وأدخله دار الإسلام أو دبره في دار الإسلام [40/ أ]، ثم أراد رده إلى ار الحرب لم يمنع منه لأنه مملوكه يجوز له استدامة ملكه عليه والتصرف فيه كيف شاء، والتدبير باق، ويفارق هذا إذا كاتب عبده يمنع من إجباره على الخروج معه لأنه قد زال ملكه عن منفعته وصار مخولاً دونه. مسألة: قال: «فإن أسلم المدبر». اعلم أنه إذا دبر الكافر عبده الكافر ثم أسلم العبد، فقال للسيد: أنت بالخيار فإن رجعت في تدبيره بطل التدبير وبعنا عليك ولا نمنعك الرجوع في التدبير كما لا نمنعك الرجوع في الوصية ولا ندعك تملك مسلمًا يمكن بيعه، عليك إن أقمت على التدبير ففيه قولان منصوصان، أحدهما: يباع عليه وبه قال مالك، واختاره المزني لأنه كالعبد القن في جواز التصرف فيه، والثاني: لا يباع عليه وهو الأصح. وبه قال أبو حنيفة لأن الحظ ها هنا للعبد في ترك البيع حتى لا يبطل حق حريته، فإذا قلنا: يباع فبيع بطل التدبير، وإذا قلنا: لا يباع قيل لسيده: لا تتركه في يدك فأنت بالخيار بين أن تسلمه إلى مسلم يكون في يده، وينف ق عليه من كسبه وبين أن تخارجه على شيء يدفعه إليك، أو إلى وكيلك إن لحقت بدار الحرب، وإذا مات واحتمله الثلث عتق كله، وإن لم يحتمله الثلث عتق منه قدر ما يحتمله الثلث، ويرق الباقي للورثة ويباع عليهم قولاً واحدًا لأن التدبير قد بطل في ذلك القدر ويمنعه خدمة السيد بكل حال لأنه مسلم والاستخدام استهانة. واحتج المزني على ما اختاره بأن التدبير وصية. ولو أوصى كافر [40/ ب] بكافر، ثم أسلم العبد يباع عليه لأنه صار بالإسلام عدوًا له كذلك ههنا، قلنا: الموصى به لا يرجو خلاصًا من وثاق الرق باستيفاء الوصية، والمدبر باستيفاء التدبير يرجو خلاصًا من وثاق الرق فله حظ في إبقاء التدبير بخلاف ذلك فافترقا. فرع لو كاتب الكافر عبده الكافر ثم أسلم المكاتب لا يباع عليه قولاً واحدًا لأنه يحول بينه وبينه، وله إكسابه، وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يباع عليه المكاتب إذا أسلم فيه قولان، والأصح أنه لا يباع، والأصح في المدبر أنه يباع عليه.

باب تدبير الصبي الذي يعقل ولم يبلغ

فرع آخر إذا أوصى بعتقه بعد موته، ففيه طريقان أحدهما: هل يباع عليه فيه قولان كما لو دبره، والثاني: يباع عليه قولا واحدًا لأن الوصية بعتقه أضعف من التدبير، ولو أوصى به لمسلم يباع عليه قولاً واحدًا لأنه لا يتوصل به إلى عتق هو أنفع له من البقاء في ملكه. باب تدبير الصبي الذي يعقل ولم يبلغ مسألة: قال: «من أجاز وصيته أجاز تدبيره». جملة هذا أن في وصية الصبي وتدبيره قولين: أحدهما: لا يجوز، وبه قال مالك وأبو حنيفة واختاره المزني لأنه التدبير عقد، فلم يصح من الصبي كالبيع ولنه لا يصح عتقه، فلا يصح تدبيره كالمجنون، والثاني: يجوز وبه قال مالك في رواية، قال القاضي أبو حامد: وهذا أظهر قوليه، واختاره الشيخ أبو حامد لأنه منع من التصرف لحظة والخط ها هنا في جوازه لأنه إن عاش لا يلزمه ذلك وإن مات [41/ أ] يبقى له الأجر والثواب ويخالف العتق، لأنه لازم لا يمكن أن يرجع فيه. وروي أن قومًا سألوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في غلام يافع لم يبلغ الحلم، وروي كان ابن عشر سنين وصي لبنت عمه، فأجاز عمر رضي الله عنه وصيته. فرع يصح التدبير من السفيه المحجور عليه قولاً واحدًا، لأنه إنما منع من التصرف لئلا يضيع ماله، وبالتدبير لا يضيع لأنه باقٍ على ملكه، فإن مات استغنى عن المال وحصل له الثواب، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان أيضًأ، وهو ظاهر كلام الشافعي لأنه سوى بينه وبين الصبي. فرع آخر إذا قلنا: تصح وصية الصبي، فإن قلنا: يصح الرجوع عنه بالقول، فللصببي أن يرجع بالقول، فيقول: فسخته أو أبطلته، وإن قلنا: لا يصح الرجوع عنه إلا بما يزيل ملكه لا يصح من الصبي إزالة ملكه، قال الشافعي: فيقوم وليه مقامه في ذلك، فإذا رأى حظه في بيعه باعه وأبطل تدبيره، لأنه مندوب إلى القياس بمصالحه. فرع آخر لو باعه الولي وقصد به الرجوع في التدبير، ولم يقصد به المصلحة لم يجز لأنه لا حجر عليه فيه، ولو أراد الولي أن يرجع عنه بالقول لا يجوز قولا واحدًا، ولو أذن الصبي للولي في بيعه كان بيع الولي عن إذنه رجوعًا بكل حالٍ ذكره في «الحاوي».

فرع آخر قال بعض أصحابنا: في تدبير السكران قولان، كما في طلاقه، وقيل: إن لم يكن عاصيًا بأن كان مكرهًا على الشرب لا يصح تدبيره ولا وصيته، وإن كان عاصيًا بالشرب، [41/ ب] فإن قلنا: لا يقع طلاقه لا يصح وإن فرقنا بين ماله وما عليه لا يصح أيضًا، لأن هذا له، وكذلك لا يجوز إعتاقه وإن وقع طلاقه، وإن قلنا: غنه كالصاحي يصح الكل، ذكره في «الحاوي». فرع آخر لو دبر المعتوه والمغلوب على عقله أو الصبي الذي لا يعقل لا يجوز، وإن كان يجن ويفيق لا يجوز فإن دبر في حال الإفاقة جاز، وإن دبر في غير حال الإفاقة لم يجز. فرع آخر لو دبر عبدًا ثم خرس فإن كان له إشارة معقولة أو كتابة مفهومة صح رجوعه عن التدبير بذلك، إن قلنا: يجوز الرجوع عنه بالقول، وإن قلنا: لا يصح الرجوع إلا بإزالة الملك فأشار بإزالة الملك كان رجوعًا وإن لم يكن له إشارة معقولة ولا كتابة مفهومة لم يصح رجوعه ولا يجوز أن يولى عليه، فيبقى العبد مدبرًا حتى يحصل له إشارة مفهومة فيرجع بها لأنه مكلف رشيد فلا يولى عليه.

كتاب مختصر المكاتب

كتاب مختصر المكاتب قال الله تعالى: {والَّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33]، الآية. الكتابة لفظة وضعت لعتق على مال منجم إلى أوقات معلومة يحل كل نجم لوقته المعلوم، وإنما سميت نجومًا لأن العرب كانوا أميين لا يحسبون ولا يكتبون وكانوا يحفظون أوقات السنة وفصولها التي ينتهون فيها ويرجعون إلى محاضرهم ويرسلون فيها الفحول وينتظرون النتاج بالأنواء في طلوع نجم وسقوط رقيبه وجميع ذلك ثمانية وعشرون نجمًا كلما طلع منها طالع سبقط ساقط، [42/ أ] وهي التي جعلت منازل القمر، قال الله تعالى: {والْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39]، وكانوا يقولون في الدية: تلزم الرجل نجومًا ليكون أرفق به، وكان الضامن للحق يقول: إذا طلع نجم الثريا أديت من حقك كذا وكذا، وإذا طلع الدبران وفيتك كذا وكذا، وإنما جعل مال الكتابة في الإسلام منجم لأن المكاتب لو جمع عليه نجومًا في أوقات شتى ليتيسر عليه تعجيل شيء بعد شيء ويكون أسلم من الغرر. وأصل الكتابة، ضم شيء إلى شيء، يقال: كتبت النغلة إذا ضم ما بين شفري فرجها بحلقة أو سير، وكتبت القربة إذا ضم فمها وأوكئ عليه، وسمى الكتيبة من الخيل لتتابعها واجتماعها، وسمي الخط كتابة لضم بعض الحروف إلى بعض فلما كانت الكتابة متضمنة لنجم بعد نجم سميت كتابة لكتب نجم إلى نجم، وقيل: سميت كتابة للعرف الجاري بكتابته في كتاب وثيقة يوقع فيه الشهادة. والأصل في الكتابة: الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {والَّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33]، الآية. قال ابن عمر وابن عباس: أراد بالخير القدرة على الكسب والاحتراف، وقال الحسن وطاوس والثوري وقتادة: إنه الرشد والصلاح في الدين. وقال الشافعي وأبو حنيفة ومالك: إنه الكسب والأمانة ليكون بالكسب قادرًا على الأداء وبالأمانة موثوقًا بوفائه، وبه قال عمرو بن دينار ومجاهد. وقال ابن عمر رضي الله عنهما: يكره أن يكاتب العبد [42/ ب] إذا لم يكن له حرفة، وقال مكحول: أراد به الكسب. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أنه أراد أمانة ووفاء، وقال الكلبي سبب

نزول هذه الآية أن عبدًا لحويطب سأله أن يكاتبه، فامتنع، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وأما السنة فما روى الشافعي، قال: أخبرنا سفيان قال: سمعت الزهري عن نبهان مولى أم سلمة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم - أنها كاتبته، وإنما سألته كم بقي عليك من كتابتك فذكر شيئا سماه وأنه عنده فأمرته أن يعطيه أخاها أو ابن أختها وألقت الحجاب واستقرت منه، وقالت عليك السلام وذكرت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «إذا كان لإحداكن مكاتب وكان عنده ما يؤدي فلتحتجب عنه» وروي أنها قالت له: كم بقي عليك، قال: قلت: ألف درهم قالت: فعندك ما تؤدي قلت: نعم، قال: ادفعها إلى فلان ابن أختها ثم ألقت الحجاب، وقالت: السلام عليك هذا أخر ما تراني. وذكرت الخبر. قال الشافعي: ولم أحفظ عن سفيان أن الزهري سمعه من نبهان، ولست أراه يثبته أهل العلم، قال الشافعي: ويجوز أن يكون أمرها بالحجاب على ما عظم الله تعالى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - أمهات المؤمنين وخصهن به وفرق بينهن وبين النساء إن لم يفتين، قال الله تعالى: {ومَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ولا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53]، وقال تعالى [43/ أ]: {وأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]، وقال تعالى في أزواج الرسول - صلى الله عليه وسلم -: {وإذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن ورَاءِ حِجَابٍ} [الأحزاب: 53]، فجعل عليهن الحجاب من المؤمنين، وهن أمهات المؤمنين، ولم يجعل على امرأة سواهن أن تحتجب ممن يحرم عليه نكاحها، فكان قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: إن كان قاله خاصة أو يكون ذلك بمعنى الاحتياط كما يجوز أن يؤمر بالاحتجاب من المراهق لقرب البلوغ ولأن احتجاب المرأة ممن له أن يراها واسع لها، وقد أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - سودة أن تحتجب من رجل قضى أنه أخوها وهي ترثه ويرثها للاحتياط فبان أن الاحتجاب ممن له أن يراها مباح. وجملته أن الشافعي رضي الله عنه ذهب أن المرأة ليس عليها أن تحتجب من مكاتبها وإن كان عنده وفاء. وضعف حديث أم سلمة وتأوله على تخصيص أزواج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، أو الاحتياط في الاحتجاب المباح، وأيضًا ما روى سهل بن حنيف رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: من أعان غارمًا أو غازيًا أو مكاتبًا في كتابته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله». وروي: «من أعان مجاهدًا في سبيل الله أو غارمًا في عسرته أو مكاتبًا في رقبته»، وروي عن سلمان الفارسي قال: كاتبت أهلي على أن أغرس لهم خمس مائة فسيلة فإذا علقت فأنا حر، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له فقال: «اشترط لهم ذلك، فإذا أردت أن تغرس فآذني [43/ ب] فآذنته» فجاء يغرس إلا واحدة غرستها بيدي ف علقن جميعًا إلا الواحدة. وروي: يغرس الكل إلا نخلة واحدة غرسها عمر

رضي الله عنه، وروى ابن عباس رضي الله عنهما قال سلمان: كاتبني صاحبي على ثلاثمائة نخلة أحييها وأربعين أوقية. وأيضًا ما روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيما مكاتب كوتب على ألف أوقية فأداها إلا عشر أواق فهو عبد، وأيما مكاتب كوتب على مائة دينار فأداها إلا عشرة دنانير فهو عبد». وروي أيضًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «المكاتب عبد ما بقي عليه من مكاتبته درهم». وأما الإجماع فلا خلاف بين المسلمين فيه، وروي أن بريرة كوتبت على تسع أواق تؤدي في كل عام أوقية، وعرف حالها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كاتب عبدًا له على خمسة وثلاثين ألف درهم. وروي أن ابن سيرين سأل أنس بن مالك رضي الله عنه أن يكاتبه، فأبى عليه فعلاه عمر رضي الله عنه بالدرة وقال: أما سمعت الله تعالى يقول: {فَكَاتِبُوهُمْ إنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]، فكاتبه وترك عليه من مال الكتابة خمسة آلاف درهم، وروى مسلم بن أبي مريم عن رجل أنه قال: كنت مملوكًا لعثمان رضي الله عنه ف بعثني في تجارة فقدمت عليه فأحمد ولايتي فقمت بين يديه ذات يوم ف قلت: يا أمير المؤمنين أسألك الكتابة فقطب فقال: نعم، ولولا آية كتاب الله تعالى ما فعلت أكاتبك على مائة ألف على أن تعدها [44/ أ] في عدتين والله لا أغصبك منها درهمًا. فإذا تقرر هذا، فاعلم أن الكتابة مستحبة إذا طلب العبد ذلك ولا تجب، وبه قال جمهور العلماء، وقال عمرو بن دينار وعطاء والضحاك وداود: إذا دعا السيد إلى الكتابة بقدر قيمته حر يحب أن يكاتبه، واحتج بظاهر قوله تعالى: {فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33]، وهذا أمر والأمر على الوجوب. وأيضًا حديث عمر حين طلب سيرين الكتابة على ما ذكرنا، ودليلنا أنه عتق بعوض، فلا يجب على السيد كالاستسعاء. وأما الآية، قلنا: هذا أمر إباحة ورخصة لأنه مبني على محظور، فإن بيع الرجل ماله بماله محظور وهذا كقوله تعالى: {فَإذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ} [المائدة: 2] ونحو ذلك ونحمله على الندب بدليل ما ذكرنا، وأما خبر عمر رضي الله عنه، قلنا: خالفه أنس بن مالك والقياس مقدم على قول الصحابي عند بعضهم.

مسألة: قال: «ولا يكون الابتغاء من الأطفال والمجانين». جملة هذا أن الكتابة لا تجوز إلا لبالغ عاقل، ولا تجوز للمجنون ولا للصبي مميزًا كان أو غير مميز، وقال أبو حنيفة وأحمد: إن كان مميزًا تجوز كتابته كما يجوز بيعه بإذن وليه، قلنا: هو غير مكلف، فلا تصح كتابته كالمجنون، ويفارق تدبير العبد المجنون، لأنه عتق بصفة ينفرد به السيد لا يحتاج إلى قبول العبد بخلاف الكتابة، فإذا ثبت هذا فالسيد إذا كاتب عبده المجنون، أو الصغير فليس بكتابة صحيحة ولا فاسدة [44/ ب] لأن العبد ليس من أهل الكتابة، ولا يصح منه القبول ولكن لو أدى المال عتق بوجود الصفة لأنه الكتابة تشتمل في معارضة وصفة، وإذا عتق يكون كسبه لسيده، ولا يكون بينهما تراجع، ويفارق العبد البالغ إذا كاتبه سيده كتابة فاسدة فأدى وعتق ثبت بينهما التراجع، لأنه من أهل العقد والضمان، وهذا ليس من أهل العقد والضمان، فلم يثبت بينهما التراجع ويلزمه رد الثمن عليه، ولا يرجع بقيمة السلعة. فرع إذا كاتب العبد على نفسه، وعن أولاده الصغار لا يجوز في أولاده، وفي المكاتب قولا تفريق الصفقة، وقال أبو حنيفة: يصح في حق الجميع، وإن كان الأب حرًا فكاتب السيد أولاده وقبل الأب عنهم لا يجوز، وواف قنا به أبو حنيفة. وقال مالك: يجوز. فرع آخر لو كاتب عبده الصغير الذي لا يميز أو المجنون وقبل السيد عنه لا يجوز، وقال: أبو حنيفة: يجوز، واحتج الشافعي بالآية، وقال: لا يكون الابتغاء إلا من البالغ والعاقل فلا يكون من الصبي والمجنون. مسألة: قال: «وأظهر معاني الخبر بدلالة الكتاب الاكتساب مع الأمانة». وجملة هذا أن الله تعالى ندب إلى كتابة العبد إذا كان فيه خيرًا وقد مضى معنى الخير، والدليل على صحة ما ذكره الشاف عي رضي الله عنه أن الله تعالى قال: {وإنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8]، وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إن تَرَكَ خَيْرًا} [البقرة: 180]، الآية. وأراد به المال والكسب، [45/ أ] وقال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا} [الزلزلة: 7]، وأراد به الطاعة فحملناه عليهما بدلالة، وهي أن المقصود من الكتابة العتق، وإنما يحصل العتق بالأداء، والأداء إنما يحصل باجتماع الكسب والأمانة، فإن العبد يكتسب ويجمع المال ويؤديه بالأمانة، والديانة فيعتق، والشافعي ذكر هذا في «الأم» مشروحًا فقال: الخير كلمة يعرف ما أريد بها

بالمخاطبة بها، قال الله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّةِ} [البينة: 7]، فعلمنا أنهم خير البرية بالإيمان وعمل الصالحات لا بالمال، وقال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [النور: 33]، كان أظهر معانيها بلادلة استدلالنا بها القوة على اكتساب المال والأمانة، لأنه قد يكون قويًا فيكتسب فلا يؤدي إذا لم يكن ذا أمانة، وقد يكون ذا أمانة، ولا يكون قويًا على الاكتساب فلا يؤدي، وقيل الخير في كتاب الله تعالى على ثلاثة أوجه، أحدها: المال، وهو ما ذكرنا، وقوله تعالى: {إنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32]، أي أقمت وتحلفت عن الصلاة حبًا مني للخير، وهو المال وذلك المال كان خيولا عرضت على سليمان صلوات الله عليه فاشتغل بها فنسي صلاة العصر، فلما تذكر قضى صلاته وسبل الخيل كلها في سبيل الله كفارة لذلك، والثاني: الطاعة على ما ذكرنا، والثالث: الاكتساب والقوة والأمانة، وهو في هذه الآية. واعلم أن الكتابة من خصائص الإسلام بخلاف التدبير [45/ ب] لأن العرب في الجاهلية كانت تعرف التدبير دون الكتابة، فإذا تقرر هذا، فاعلم أن العبد إذا جمع كسبًا وأمانة استحب كتابته، وإن فقد أحدهما لم يستحب كتابته، ولا يكره، نص عليه في «الأم»، والعبد والأمة البالغة في هذا سواء، وسواء كانوا ذوي صنعة أو لا، ومن أصحابنا من قال: إن كان له دين وأمانة يستحب كتابته أيضًا، وإن لم يكن له كسب لأنه يدفع إليه من مال الصدقات، فيؤدي ويعتق، ومن أصحابنا من قال: تستحب كتابة من له كسب وإن لم يكن أمينًا أيضًا ولكن يقدم في الاختيار مكاتبة الأمين غير المكتسب على مكاتبة المكتسب غير الأمين لأن صاحب الأمانة معاف والأول أصح، لأن الله تعالى ندب إلى الكتابة بشرط أن يعلم فيه خيرًا، وهو الأمانة والاكتساب على ما ذكرنا، فلا يستحب إلا بوجود كلا الشرطين، وقال أحمد وإسحاق: إذا لم يكن كسب يكره كتابته كالأمة إذا لم يكن لها كسب يكره مخارجتها، ودليلنا: أنه تعليق عتق بصفة، فلا يكره كما لو كان له كسب، ويخالف الأمة لأنها ربما تكسب بالفرج الحرام ولا تستفيد العتق وههنا يعان بمال الصدقات ويعتق فلا يكره، وقد قال الشافعي في «الأم» ولا أكره لمالك أن يكاتب مملوكه وإن كان غير قوي ولا أمين، ويأخذ من مكاتبه صدقات الناس فريضة أو نافلة ومن أين أدى المكاتب إلى سيده نجمه فحلال له أن يقبله ويجبر على قبوله [46/ أ] إلا أن يعلم أنه من حرام، فلا يحل له قبول الحرام. فرع قال في «الأم»: وعلى الحاكم أن يمنع الرجل أن يخارج عبده وإن كان ذا صنعة

إذا كره ذلك ولكن يؤجره وينفق عليه إن شاء، ويمنعه الإمام أن يجعل على أمته خراجًا إلا أن يكون في عمل واجب، وكذلك العبد إذا لم يطق الكسب، فمن أصحابنا من قال فيه قولان، أحدهما: لا يخارجه إلا برضاه وإن كان ذا صنعة، والثني: إذا كان مطيقًا للكسب وكان ذات صنعة فله أن يخارجه وإن لم يض، وقيل له ذلك قولاً واحدًا، ذكره القاضي الطبري. مسألة: قال: «وما جاز بين المسلمين في البيع والإجارة جاز في الكتابة». الفصل أراد به أن كل ما جاز أن يكون عوضًا في البيع جاز أن يكون عوضًا في الكتابة وما لا يجوز أن يكون عوضًا كالخمر والخنزير لا يجوز أن يكون عوضًا في الكتابة، ولا يريد به أن كل ما يجوز في عقد البيع يجوز في عقد الكتابة، وإن شرط خيار الثلاث يثبت في عقد البيع دون الكتابة وكذلك الخيار المجلس وقد مضى شرحه، وقيل: قصد بهذا اللفظ الرد على أبي حنيفة حيث قال: لو كاتبه على عبد مطلق غير موصوف جاز كما قال في النكاح والخلع، ويدفع إليه عبدًا سيدًا بين الأبيض والأسود، وعندنا لا يجوز ذلك كما لا يجوز في البيع والإجارة، وقال أحمد مثل ما قال أبو حنيفة، ودليلنا أن كل ما لا يجوز ان يكون عوضًا في البيع [46/ ب] والإجارة لا يجوز أن يكون عوضًا في الكتابة كالثوب المطلق. مسألة: قال: «ولا يجوز على أقل من نجمين». عندنا الكتابة الحالة باطلة، ولا تجوز على أقل من نجمين، وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة ومالك تجوز حالة وعلى نجم واحد، لأنه عقد على عين فجاز على عوض حال كالبيع، ودليلنا ما روى علي رضي الله عنه أنه قال: الكتابة على نجمين والإيتاء من الثاني. وهذا يقتضي أقل ما تجوز عليه الكتابة، لأنها تجوز في أكثر من نجمين. وروى ابن أبي هريرة: في تعليقه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «الكتابة على نجمين» وهذا نص إن صح وأيضًا فالصحابة رضي الله عنهم كاتبوا على نجوم مختلفة على ما ذكرنا، ولم يكاتب أحد منهم على أقل من نجمين، فلو كان يجوز ذلك لأشبه أن يكون قد فعل ذلك كما فعل على نجمين وأكثر، وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال لعبده: والله لا عاقبتك ولا كاتبتك إلا على نجمين، وقال الماسرجسي: رأيت أبا إسحاق المروزي في مجلس النظر نصر هذا الدليل نصرة حسنة، وقال: كانت الصحابة يتسارعون إلى القربة والطاعة خصوصًا إذا كان فيه تعجيل مال حلال فلو كانت الكتابة جائزة على لحم لفعلوا. وروي أن عثمان رضي الله عنه قال لعبده حين سأل الكتابة: أكاتبك على مائة ألف درهم على أن تعدها في عدتين، والله لا أغصبك منها درهمًا على ما ذكرنا، فقال

العبد: فخرجت من عنده فتلقاني الزبير، [47/ أ] فقال: ما الذي أرى بك، فأخبرته بالقصة، فقال: ارجع، فدخل على عثمان، فقال: يا أمير المؤمنين قلت كذا، فقال: نعم، فغضب الزبير، وقال: كاتبه كما تقول، فكاتبني فانطلق بي الزبير إلى أهله، فأعطاني مائة ألف درهم، وقال: انطلق فاطلب فيها من فضل الله تعالى، فأديت إلى عثمان ماله وإلى الزبير ماله، وفضلت في يدي ثمانون ألفًا وأيضًا فالكتابة إن كانت مشتقة من الضم والجمع، فأقل ما يكون به الضم والجمع اثنان فيعتبر ضم نجم إلى نجم وإن كانت من كتابة الحظ، فأقل ما تتقيد به الكتابة حرفان فيفتقر إلى نجمين فإن قيل: يتقيد الخط وهو «لا» قلنا: كلمة لا حرفان وهو ألف ولام والحرفان قد يتجانسان، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: «ما أنا من دد ولا الدد مني»، وأراد اللعب، وقيل: إنها إذا كانت حالة لم تكتب غالبًا وقد رفع الله تعالى الجناح في ترك كتبتها، فقال: {إلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ ألاَّ تَكْتُبُوهَا} [البقرة: 282] والكتابة مشتقة من الكتبة، وأما البيع فلأنه قادر على ما يتوجه عليه بالمطالبة بتسليمه، وههنا عاجز لأن العبد لا يملك شيئاً. فرع لو كاتبه إلى أجل ساعتين بمال عظيم يجوز في ظاهر المذهب لأنه ربما يقدر على تسليمه بالاستقراض، وقيل: فيه وجهان. فرع آخر لو كاتب من نصفه حر ونصفه عبد كتابة حالة لا نص فيه، وظاهر المذهب أنه لا يجوز، والأقيس جوازه لأنه يقدر على تسليم ما يتوجه عليه المطالبة بأدائه في الحال. فرع آخر لو قال [47/ ب] لعبده بعت نفسك منك بألف درهم حالة، قال ابن أبي هريرة: فيه وجه محتمل أنه لا يجوز لنه لا يقدر عليه، ونص الشافعي رضي الله عنه في كتاب الإقرار على جوازه لأن العتق فيه يحصل قبل الأداء بخلاف الكتابة. مسألة: قال: فلو كاتبه على مائة دينار موصوفة الوزن والعين إلى عشر سنين أولها كذا وآخرها كذا يؤدي في انقضاء كل سنة منها كذا فجائز. جملة هذا أن الكتابة لا تجوز حتى يكون الأجل معلومًا والعوض معلومًا، فالأجل أن يقول: كاتبتك على مائة دينار إلى عشر سنين نصفها إلى خمس والباقي إلى العشر، أو يقول: كاتبتك على مائة دينار إلى عشر سنين يحل في كل سنة عشرها يعني عند انقضائها، ويجوز ذلك فإن أراد في خلالها لا يجوز للجهل، وقال في «الأم» لا بأس أن يجعل الدنانير في النجوم مختلفة إذا كان ما يحل منها في كل نجم معلومًا، فأما إذا

قال: كاتبتك على مائة دينار إلى عشر سنين لا يصح لمعنى واحد وهي أنها كتابة إلى أجل واحد ولا فرق بين أن يقول: يؤديها في عشر سنين أم لا بمقضي عشر سنين حتى يؤدي بعضها عند انقضاء خمس ينين وبعضها عند تمام السنين لم يجز لأن البعض مجهول، وأما العوض فيحتاج أن يكون معلومًا، فإن كاتبه على عوض ينبغي أن يضبطه بالصفات التي يضبط بها المسلم فيه وإن كاتبه على دراهم أو دنانير، فإن ضبط النوع والجنس جاز، وإن أطلق وللبلد نقد واحد جاز وانصرف إليه، وإن كان نقودًا مختلفة [48/ أ] لم يجز حتى يعين ويضبطه ولا يجوز أن يقول: كاتبتك على مائة دينار أو ألف درهم لأنه لا يدري على أي شيء عقد الكتابة. وجملة هذا أن كل عوض وأجل يثبت في السلم يثبت في الكتابة، وما لا يثبت من العوض والأجل فيه لا يثبت في الكتابة. فرع لو كاتبه على مال إلى عشر سنين على أن يؤدي أول كل سنة كذا لم يجز لأنه يصير الأول منها حلاً. فرع آخر لو جعله في وسط السنة: فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأن وسط السنة ما بين طرفيها فصار مجهولا. والثاني: يجوز ويكون المحل في نصف كل سنة لأن الوسط على التحقيق موضوع لاستواء الطرفين. فرع آخر لو كاتبه على نجمين إلى سنتين على أن يكون النجم الأول في آخر السنة الأولى، والثاني: في أول السنة الثانية فيه وجان: أحدهما: لا يجوز لأنها بالاتصال صارت نجمًا واحدًا، والثاني: يجوز لاستحقاق كل واحد منهما في غير زمان الأول لأن الأول يستحق في آخر أجزاء السنة الأولى، والثاني: يستحق في أول جزء السنة الثانية، فصارا مختلفين وإن اتصلا. فرع آخر لو لم يقل قدر ما يستحقه كل نجم وأطلق فيه وجهان: أحدهما: الكتابة باطلة للجهل بقدر الاستحقاق، والثاني: الكتابة جائزة ويكون المال مقسوما على أعداد النجوم لأن الإطلاق يوجب التسوية، فإن كانت النجوم خمسة استحق في كل نجم خمس المال. مسألة: قال: ولا يعتق [48/ ب] حتى يقول في الكتابة، فإذا أديت هذا فأنت

الفصل جملة هذا أن الكتابة تشتمل على معاوضة، وصفة المعاوضة قوله: كاتبتك على كذا وكذا، والصفة قوله، فإذا أديت إلى ذلك فأنت حر، فإن ذكرهما جميعًا فهو النهاية، وإن ذكر المعاوضة ونوى الصفة بقلبه جاز. قال الشافعي رضي الله عنه: يقول فإذا أديت هذا فأنت حر، أو يقول بعد ذلك، قولي: كاتبتك كان معقودًا على أنك إذا أديت فأنت حر كما لا يكون الطلاق إلا بتصريح أو ما يشبهه مع النية، فإن لم يذكره ولم ينوه لا يصح، وقد ذكرنا حكم قوله: دبرتك وكاتبتك هل هما صريحان أم كناية؟ وقال أبو إسحاق قوله: دبرتك جعله الشافعي صريحًا في العتق من العالم ولو كان من المجاهل كان كناية، وقوله: كاتبتك جعله كناية من الجاهل، ولو كان من عالم كان صريحًا فجعلهما صريحين من العالم كنايتين من الجاهل وهذا فاسد لأن صريح الطلاق وكنايته سواء في حق العالم والجاهل كذلك هذا، وقال أبو حنيفة وأحمد قوله: كاتبتك صريح في عقد الكتابة، ولا يحتاج إلى التقيد ولا إلى النية وهذا لا يصح لما ذكرنا، وقال القفال، قال بعض أصحابنا: إذا ذكر ما تتميز به الكناية عن المخارجة كفاه مثل أن يقول: أعاملك وتعاملني أو أضمن لك أرش الجناية أو تستحق علي الإيتاء من الذي يؤدي وعن سهم الرقاب. مسألة: قال: ولا يجوز على العوض حتى يكون موصوفًا كالسلم. وقد ذكرنا [49/ أ] ذلك، واعلم أن ههنا إشكالاً وذلك أن مشايخنا قالوا: المعقود عليه في الكتابة رقبة المكاتب وعند أبي حنيفة الاكتساب، فإذا كاتبه على العوض فوجوب العوض على معنى السلم إذ لا يتصور في الذمة عوض من غير ضوات الأمثال إلا في السلم وفي السلم يعتبر رأس المال في المجلس والرقبة ما صارت مسلمة إليه في المجلس لأن تسليم الرقبة بالعتق، فبان أن الكتابة تنعقد على الإكساب، قلنا: هذا السؤال يتوجه على المذهبين لأن الإكساب ما صارت مسلمة في المجلس إذا المنافع غير مخلوقة، فإن قيل: التخلية الموجودة في الحال جعلت كالمنافع المستقبلة في حكم الموجودة المسلمة للضرورة التي بنيت عليها عقود المنافع، قلنا: ولمثل هذه الضرورة جعلت الحيلولة بين الرقبة في البيع والرهن وسائل التصرفات كالتسليم، ولهذه الضرورة باينت الكتابة سائرها حتى جاز للرجل أن يعامل نفسه بملك نفسه. مسألة: قال: «ولا بأس أن يكاتبه على خدمة شهر ودينار بعد الشهر». الفصل صورة المسألة أن يكاتب عبدًا على أن يخدمه شهرًا ويؤدي دينارًاه بعد الشهر وأراد الشافعي أن تكون خدمة الشهر متصلة بعقد الكتابة فإن شرط تأخيرها لا يجوز، وإذا

شرط اتصالها فقد عقدت الكتابة على نجمين مختلفين المنفعة والدينار، ولا بد أن يكون كل واحد منهما معلومًا، فالمنعفة تعلم بأن يقول: تخدمني شهرًا، أو تخيط أو تبني والدينار يعلم بما ذكرنا، وأطلق الشافعي أنه إذا كان [49/ ب] على هذا الوجه فلا بأس، واختلف أصحابنا في هذا، فقال أبو إسحاق: إنما يصح إذا جعل بين وقت أداء الدينار وانقضاء الشهر مدة، فيقول: تؤديه بعد الشهر بيومين أو ثلاثة، فأما إن شرط الأداء عقيب الشهر فلا يجوز لأن استيفاء المنفعة يتصل بالعقد والدينار يتصل استيفاؤه باستيفاء المنافع فيصير ذلك في معنى النجم الواحد، فلا يجوز كما لو كاتبه على خدمة شهر ودينار يؤديه إليه في أثناء الشهر لا يجوز، وهذا اختيار القاضي أبي حامد، ومن أصحابنا من قال: المسألة على ظاهرها ولا يحتاج أن يجعل بين الشهر والدينار مدة لأنه يعتبر أن يختلف استحقاق النجمين واستحقاقهما مختلف لأن المنافع تستحق عقيب الكتابة والدينار يستحق بعد انقضاء الشهر، وإنما استيفائهما يتصل، وهذا غير ممتنع. ألا ترى أنه لو كاتبه على دينارين: دينار بعد شهر ودينار بعد شهرين فأخر المطالبة بالدينار الأول حين حل الدينار والثاني: يستوفي الديناران بمرة واحدة، ولا يؤثر ذلك لأن وقت استحقاقهما مختلف، وهذا القائل يلتزم ما استشهد به أبو إسحاق، فقال: إذا قال: كاتبتك على خدمة شهر ودينار تؤديه في أثناء الشهر جاز أيضًا للمعنى الذي ذكرنا وهو أن وقت استحقاق النجمين مختلف، وهذا اختيار أبي حامد وهو الأصح لأن الشافعي نص في «الأم» على هذا، فقال: إذا كاتبه على منفعة شهر لم يجز حتى يشترط أن يؤدي مالا، إما معها أو بعدها وهذا اختيار [50/ أ] ابن أبي هريرة، والقفال أيضًا، وقال القاضي أبي حامد قوله: معها نقله الربيع، وهذا خطأ منه، فإن قيل: الخدمة نجم حال، وذلك لا يجوز على مذهب الشافعي حتى لو كاتبه على دينارين: دينار عقيب العقد، ودينار بعد شهر لم يجز، قيل: نحن إنما منعنا الكتابة الحالة للعجز عن التسليم عقيب العقد، وإذا شرطنا التنجيم ولا بد منه، وإذا شرط عقيب العقد دينارًا فهو عاجز عقيب العقد عنه، وإذا شرط خدمة شهر، فهو قادر على الخدمة والاعتبار بالمعنى لا باللقب والحلول لقب، وقال أبو إسحاق وغيره هذا نجم مؤجل في الحقيقة لأن الخدمة تتعلق بمضي المدة، وإنما نقول: المنفعة في الإجارة مقبوضة حكمًا على معنى أن للمستأجر التصرف فيها، والعقد عليها، ولم يحصل فيها حقيقة القبض، ألا ترى أنه لو تلفت انفسخ العقد فيما بقي. فرع قال في «الأم»: ولو كاتبه على خدمة شهر ودينار بعد الشهر فمرض في أثناء الشهر مدة بطلت الكتابة، قال أصحابنا: هذا مبني على مسألة في البيع وهي أن من باع

شيئين فتلف أحدهما قبل القبض، فالعقد باطل في التالف، وهل يتعدى إلى الباقي طريقان، والشافعي رضي الله عنه نص ههنا أنه يتعدى، وقال القاضي الطبري: ههنا قول واحد على ما نص عليه لأن عقد الكتابة لا يقع على بعض العبد فإذا انفسخ في بعضه انفسخ في كله. فرع آخر قال: وليس له ان يعطيه أحد الخدمة مكانه، ولا عليه إن أراد السيد ذلك [50/ ب] كما لو استأجر حرًا على أن يخدمه فمرض في الشهر لم يكن عليه ولا له أن يخدمه غيره وانقضت الإجارة، وقال مالك: لا تجوز الكتابة على الخدمة أصلا. مسألة: قال: وإن كاتبه [على أن يخدمه] بعد شهر لم يجز لأنه قد يحدث ما يمنعه العمل بعد الشهر وليس بمضمون يكلف أن يأتي بمثله. قد ذكرنا هذه المسألة ومعنى هذا الكلام أن الإجارة على العين تجري مجرى بيوع الأعيان ولا يجوز بيع عين وتسليمها مؤخر ولذلك قلنا: إذا أكرى داره في رمضان لشوال لا يجوز. مسألة: قال في «الأم»: لو كاتبه على أن يخدمه شهرًا حين كاتب وشهرًا بعد ذلك لم يجز لأنه ضرب للخدمة أجًلا لا يكون على المكاتب فيه خدمته. فرع آخر قال: ولو كاتبه على أن يخدمه شهرًا حين يكاتبه ثم يوفيه لبنًا أو حجارة أو طينًا معلومًا بعد شهر جاز وهذا أجل للمال، ولو قال: على أن يخدمني شهرًا وخياطة كذا وكذا عقيب الشهر جاز لأنه بمنزلة قوله: «كاتبتك على خدمة شهر ودينار بعده». فرع آخر قال: ولو كاتب على أن يضمن له بناء دار وصفها وسمى معه دينارًا يعطيه إياه قبله أو بعده كان جائزًا لأن هذا عمل يكلف فعله ما يكلف المال ومعه نجم غيره، وكذلك إن كاتبه على ضمان بناء دارين، إحداهما في وقت كذا والأخرى في وقت كذا، كانت هذه كتابة جائزة وليس هذا كالعمل بيده إلى أجل معلوم لأنه إذا كاتب أو استأجر حرًا على أن يعمل [51/ أ] بيده لم يكلف أن يأتي بغيره يعمل له، وإذا ضمن عملا كلف أن يوفيه إياه بنفسه أو غيره. مسألة: قال: «وإن كاتبه على إن باعه شيئًا لم يجز». علل الشافعي في هذه المسألة، فقال: لأن البيع يلزم بكل حال، والكتابة لا تلزم متى شاء تركها.

فإن قيل: هذا التعليل كيف يستقيم؟ ولا فرق في فساد مثل هذه الصفقة بين عقدين كلاهما لازم كالبيع والإجارة وبين عقدين، أحدهما: لازم، والثاني: غير لازم، قلنا: هذا التعليل دليل على أن مراد الشافعي بتصوير المسألة أن لا يجعل أحد العقدين شرطا في الثاني كما توهمناه وعللنا له، ولكن صورة مسألته أن يقول: كاتبتك وبعت منك هذا الثوب بألف درهم فجعل الألف ثمن الثوب ومال الكتابة، وذكر الأجل والنجوم فإذا تصور العقد بهذه الصورة ففيه قولان، أحدهما: وبه أجاب ههنا أنهما باطلان للعلة التي ذكرناها وهي أنهما عقدان مختلفان جمعهما في صفقة واحدة لأن البيع يلزم بكل حال، والكتابة لا تلزم متى شاء تركها، والثاني: أن العقدين صحيحان ومن أصحابنا من قال: البيع باطل قولا واحدا وفي الكتابة قولان، لأن أحد شطري البيع لاقى عبده القن ولا يصح مبايعة السيد عبده، ويمكن أن يجاب عنه بأن البيع يقع مع الكتابة فلا يؤدي إلى أن يبيع من عبده القن، وإنما يقع البيع من مكاتبه، فأما إذا تصورت المسألة إذا قال: [51/ ب] كاتبتك على أن تشتري مني هذا العبد بكذا، فالكتابة باطلة قولا واحدًا، وهي باب البيعتين في بيعة واحدة فلو أدى النجوم ههنا عتق وتراجعا بالقيمة سواء باعه ذلك الشيء أو لم يبعه لأنه لم يجعل البيع صفة في العتاق يقف العتاق على وجودها، وإنما الصفة أداء النجوم، وهذا شرط زائد فاسد، وقال القاضي الطبري في الصورة الأولى لا يختلف المذهب أن البيع باطل لما ذكرنا من العلة. وأما الكتابة قال أبو إسحاق: يبطل أيضا لوجهين، أحدهما: ما ذكرنا أنه جمع بين عقدين مختلفين الحكم، واثاني: أنه جمع بين الصحيح والفاسد بثمن واحد ونص الشافعي في «الأم» على فساد الكتابة، ونقله المزني، وذكر في «الإفصاح» في المسألة وجهين، أحدهما: يبطلان، والثاني: يصحان، وهو خطأ لا شك فيه لأن البيع لا يصح قولاً واحدًا، وإذا صححنا الكتابة وحدها، فهي بجميع العوض فعليه أداء جميع النجوم، والثاني: بحصته فتوزع النجوم على قيمته وقيمة الثوب، ولا فائدة في إثبات الخيار لمكان هذا التفريق لأن المكاتب أبدًا بالخيار، وإذا قلنا: الكتابة فاسدة فعليه إذا جمع النجوم لتحصل الصفة فيعتق به، ثم يتراجعان بالقيمة، وقال بعض أصحابنا بخراسان: ويحتمل قولا آخر أنه إذا أدى ما يخص قيمته من النجوم عتق وتراجعا بالقيمة الكاملة، ولو أفرد الكتابة بالعوض عن البيع فسد البيع وصحت الكتابة، ولو كاتبه كتابة صحيحة ثم اشترى السيد من مكاتبه، أو المكاتب من سيده كان جائزًا [52/ أ] لأن السيد حينئذ ممنوع من مال مكاتبه نص عليه في «الأم». فرع قال ابن سريج على دينارين: دينار بعد شهر، ودينار يؤديه بعد شهرين على أنه إذا أدى الدينار الأول عتق وأدى الدينار الآخر وهو حر كان فيه قولان، قال بعض أصحابنا: بنى هذه المسألة على الأصل الذي ذكرناه وهو أن الصفقة اشتملت على كتابة وعتق بصفة يقع قبل الأداء وهما مختلفا الأحكام فإن الكتابة من شأنها أن لا يقع العتق

فيها قبل الأداء والعتق على صفة، وعلى مال من شأنه أن يقع ثم يتبعه الأداء فهما عقدان مختلفان فيهما قولان، قال: وليس يمتنع أن يسبق العتق الأداء في الكتابة، فإن الشافعي قال: إذا كاتب عبده على نجمين فأدى أحدهما ثم عجز عن الآخر أو لم يعجز، فقال السيد: أعتقني وأنا أؤدي إليك النجم الآخر، كان جائزًا ويقع العتق ويكون المال ثابتًا يؤديه في نجومه، ومن أصحابنا من قال: هما قولان مختصان بهما، أحدهما: يفسد العقد لأنه شرط فيه ما ينافيه لأن مقتضى الكتابة أن يعتق بعد أداء جميع النجوم فقد شرط خلافه، والثاني: يصح العقد لأنه لو كاتبه مطلقًا فأدى بعض المال فأعتقه على أن يؤدي الباقي بعد عقته جاز على ما ذكرنا فإذا شرط في الابتداء وجب أن يصح. فرع آخر لو كاتب عبده على مال الغير لم تجز الكتابة سواء كان المال في يد العبد لذلك الإنسان أو في يد المالك، وقال أبو حنيفة: يصح على الدراهم [52/ ب] والدنانير لأنهما لا يتعينان، فالقصد من الإشارة إليهما المقدار وفي العروض اختلفوا إذا أذن له رب العرض في أن يكاتب عليه فمنهم من قال: لا يجوز ومنهم من قال: يجوز، وملك السيد ذلك العوض، وعندنا حصلت الكتابة فاسدة، ولكنه إذا أذن له رب المال بإعطائه سيده فأعطاه وقع العتق ثم يترادان، القيمة لفساد الكتابة وإن أدى بغير إذن المالك لا يحصل العتق بدفع المستحق بخلاف ما لو قال: إن أديت إلى هذا فأنت حر، فإذا أدى عتق وإن كان مستحقا لأنه محض الصفة وهذه كتابة فتقتضي التمليك، وإذا وجد إذن المالك، فقد وجد مقتضى التمليك غير أن الرد وأخذ القيمة إنما لزم لفساد الكتابة. مسألة: قال: «ولو كاتبه على مائة دينار يؤديها إليه في عشر سنين كان النجم مجهولا لا يدري في أولها أو آخرها» وقد ذكرنا هذه المسألة، قال المزني: «وكذلك لو قال تؤدي إليه في كل سنة عشرة مجهولة أيضا لأنه لا يدري في أول كل سنة أو في آخرها حتى يقول في انقضاء كل سنة عشرة». مسألة: قال: «ولو كاتب ثلاثة كتابة واحدة». الفصل إذا كاتب الرجل ثلاثة أعبد أو أربعة على عوض واحد صفقة واحدة نص الشافعي رضي الله عنه أنه يجوز فمن أصحابنا من قال: هو على قول واحد لأن البائع والمشتري في الحقيقة هو السيد وهو واحد فصار كما لو باع عبدًا من رجل بثمن واحد ومن أصحابنا من قال فيه، قولان: كما لو تزوج أربع نسوة في عقد واحد بمهر واحد هل يجوز المهر فيه؟ قولان: وقد مضى شرح ذلك فيما تقدم، وقال أبو إسحاق: لو اشترى ثلاثة أنفس ثلاثة أعبد من مالك كل واحدٍ منهم عبدًا كاملاً بثمن واحدٍ لم يصح قولا

واحدًا حتى يكون ثمن كل واحدٍ من العبيد معلومًا [53/ أ]. ويفارق هذا عقد الكتابة على ثلاثة أعبد فإنه يصح في أحد القولين. والفرق أن المقصود من الكتابة القربة فخف حكمها والمقصود من البيع المعاينة فيغلظ حكمه ولهذا ينفذ العتق في الكتابة الفاسدة، ولا يصحل المقصود في البيع الفاسد وأيضًا الثمن مقصود في البيع وليس بمقصود في الكتابة فافترقا وهكذا قال ابن أبي هريرة والاصطخري والقاضي الطبري. وقال ابن سريج فيهما، قولان. قال أبو حامد والمذهب هذا، لأن الشافعي نص في الكتابة على قولين وهي مثل البيع سواء في باب العوض صحة وفسادًا. فإذا تقرر هذا فإذا قلنا: تصح الكتابة، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، قال الشافعي: المائة مقسومة على قيمهم لا على رؤوسهم لأن المعقود عليه رقابهم وقيمها مختلفة فهي بمنزلة أعيان السلع في البيوع يوزع الثمن على قيمها وتعتبر قيمتهم يوم عقد الكتابة لأنه وقت زوال سلطان السيد عنهم. وأيهم أدى حصته عتق وأيهم عجز رق وهذا كما يقول لكل واحد من النساء أن يطالب الزج بما يصيبها من المستحق دون ما يصيب صواحبها إذا جمع بينهن بنكاح واحد على صداق واحد، ولذلك إذا باع عبدين فمات أحدهما قبل التسليم يجب للبائع مطالبة المشتري بثمن العبد الذي سلمه إليه فثبت أنه لا يتعلق أداء واحد منهم بأداء صاحبه ولا عجزه بعجزه ف إن قيل: الكتابة [53/ ب] عند الشافعي عتق بصفة والمكاتب يعتق بقوله: فإذا أديت إلى كذا فأنت حر، فإذا قال لهم السيد: إذا أديتم إلى كذا في نجمين فأنتم أحرار فأدى واحد منهم بعضه وجب أن لا يعتق لأن الصفة لم توجد، قلنا: هذا فيما إذا كان عتقًا بصفة فأما إذا كان معاوضة وهو الكتابة فحكمه حكم المعاوضات وإن كان فيه عتق بصفة، ألا ترى أنه لو كاتبه ثم أبرأه من مال الكتابة عتق! ولو مات السيد فأداه إلى وارثه عتق ولم توجد الصفة في هذين الموضعين فدل على ما قلناه، وقال بعض السلف يتوقف عتق أولهم على آخرهم. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: لا يعتق واحد منهم حت ى يؤدي كل المال فيصير بعضهم ضامنا عن بعض من غير ضمان ولأحدهم أن يؤدي جميع النجوم بل عليه ذلك، إذا طالبه السيد بالجميعليعتق هو وأصحابه ثم يرجع على أصحابه بحصتهم وبه قال مالك، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قول آخر يوزع عليهم النجوم بالسوية على عدد الرؤوس، وهذا غريب، قال الشافعي وإن مات أحدهم قبل أن يؤدي مات رقيقًا كان له ولد أو لم يكن وقصد به الرد على مالك حيث قال: يقوم وله مقامه في الأداء وعند أبي حنيفة لا تبطل الكتابة بالموت إذا كان له وفاء سواء كان هناك ولد أم لا، وهذا لا يصح لأن العقد مع الوالد لا مع الولد وقد مات مقصود الصدقة بموته، وهو العتق وإذا قلنا: الكتابة فاسدة

فقد بطل حكم المعاوضة وبقي حكم الصفة، [54/ أ] فإن الكتابة مشتملة على معاوضة وصفة، فإذا بطل أحدهما بقي الآخر وللسيد إبطال الصفة هناك والرجوع فيها لأنه التزمها على أن يحصل له العوض الذي سماه، فإذا لم يسلم له ذلك كان له الرجوع. ثم ينظر فإن رجع فيها وأبطلها بطلت وإن لم يرجع حتى أدى المال عتقوا لوجود الصفة، ويستحق السيد عليهم قيمتهم لأنه أزال ملكه بشرط أن يحصل له العوض، فإذا لم يحصل استحق استرجاع الرقبة فإذا تعذر استرجاعها لتلفها استحق السيد قيمتها كما لو باعه شيئا بيعًا فاسدًا وسلمه وتلف عند المشتري يجب عليه قيمته ويحتسب له بما أدى ويتراجعان. الفصل وإذا أدى واحد من العبيد حصته فظاهر كلام الشافعي ههنا ونص عليه في الإملاء أنه يعتق لأن الكتابة الفاسدة محمولة على الكتابة الصحيحة، والصحيحة لو أدى أحدهم نصيبه عتق، ومن أصحابنا من قال: لا يعتق لأن المعاوضة بطلت لفسادها وتجردت الصفة فلا يعتق حتى توجد كمال الصفة وهذا اختيار القفال، فإن قلنا: بالأول حصل التراجع بينه وبين سيده بما أدى من النجوم وبجميع قيمته وبقي الآخر على كتابته الفاسدة بحصته من النجم إلا أن يفسخ السيد كتابته، فتنفسخ. وإن أدى الوارث بعد موت السيد أو أبرأه السيد، أو أدى الغير عنه متبرعا [54/ ب] أو أدى غير جنس نجم الكتابة لا يعتق لأنه لم توجد الصفة إذا كانت الكتابة فاسدة، وقال أبو حنيفة: يعتق بكل ذلك كما في الكتابة الصحيحة، فإن قيل: العتق المطلق بصفة لا يمكن إبطاله بقوله: أبطلت فلم قلتم ههنا إذا أبطلها السيد بطلت، قلنا لأن هذه ليست بصفة مجردة بل بناها على المعاوضة، فإذا لم يسلم العوض لم يلزمه حكم الصفة. مسألة: قال: «ولوأدوا فقال: من قلت قيمته أدينا على العدد». الفصل معنى هذه المسألة أنه كاتبهم على مائة دينار، وقلنا: يصح وكانت قيمة أحدهم خمسين وقيمة الآخر ثلاثين، وقيمة الآخر عشرين، فأحضروا ستين دينار ووزنوها، فقال من قيمته عشرون أنا عتقت لأني قد أديت عشرين وهي حصتي لأن الستين التي أدينا هي بيننا أثلاثًا، وقال الآخران: إنما أدينا على قيمنا فلم يعتق واحد منا، قال الشافعي، فالقول قول من قال: أدينا بالسوية لأن الظاهر أنه في أيديهم أثلاثًا حتى وزنوه وسلموه، فإن قيل: إذا كان المال الذي حملوه سبعين دينارًا يجب أن لا يقبلوا قول من قلت قيمته أنه على عدد الرؤوس لأنه حصته أكثر مما عليه، قلنا: قال أبو

إسحاق: يجوز أن يكون حمله ليؤدي الزيادة على أصحابه، وقال الماسرجسي يجوز أن يكون حمل أكثر مما عليه حتى إن زيف شيء منها بدله، [55/ أ] ولا ينصرف إلا حرا. ومن أصحابنا من قال: صورة المسألة أنه كاتبهم على مائة وقيمة أحدهم مائة وقيمة كل واحد من الآخرين خمسون فأدوا مائة، ثم اختلفوا، فقال من كثرت قيمته أديناها على قدر ما علينا فأديت أنا النصف وأنتما النصف فعتقنا، وقال: من قلت قيمته بل أديناها أثلاثًا فأديناها بأكثر مما علينا لنرجع بها عليك أو وديعة عند سيدنا، قال الشافعي: ههنا القول قول من قلت قيمته، وقال في موضع آخر القول من كثرت قيمته، واختلف أصحابنا فيه على طريقتين، أحدهما: المسألة على قولين: أحدهما: القول قول من كثرت قيمته لأن الظاهر معه لأن من عليه قدر من المال لا يؤدي إلى سيده أكثر منه فرجحت بذلك دعواه، والثاني: القول قول من قلت قيمته لأن يد كل واحد منهم على ثلثه فكان القول قوله فيه. قال أبو إسحاق: وهذا كما أن ثلاثة اشتروا من رجل عبدًا بمائة دينار، اشترى أحدهما نصفه والآخران نصفه وسلموا إليه مائة دينار، وقالوا: هذه وديعة عندك لتدفع إليك الثمن منها، ثم اختلفوا فقال: من قال ما عليه هي بيننا أثلاثًا كان القول قوله. وقال الشيخ أبو حامد: هذا ضعيف لأن هذه وديعة وههنا دفعوه بما عليهم. قال: وأما ما احتج به القائل الأول، فلا يصح لأن اليد أقوى من هذا الظاهر، ألا ترى أنه لو اختلف العطار والدباغ في آلة العطر وهي في يد الدباغ كان القول قوله [55/ ب]. والطريق الثاني: المسألتان على اختلاف حالين، فالموضع الذي قال القول قول من قلت قيمته إذا كان المدفوع دون ما عليهم يشتركون في أدائه لأن الشافعي فرضها في «الأم» إذا أدوا ستين دينارًا. والموضع الذي قال القول قول من كثرت قيمته أراد إذا كان المدفوع جميع ما عليهم لأن الظاهر أنهم أدوا ما عليهم، قال أبو حامد: هذا تخريج مليح إلا أنه مخالف لنص الشافعي لأنه نص على أن القول قول من قلت قيمته إذا أدوا مائة دينار أو ستين، قال أصحابنا: وهكذا الحكم في كل شريكين اشتريا جميعًا وثبت الثمن عليهما على الاختلاف فأديا ما عليهما، ثم اختلفا، فقال أحدهما: أدينا على التفاضل، وقال الآخر: أدينا على العدد، وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن كان الاختلاف في نجم سوى النجم الأخير، فالقول قول من يقول: أدينا على العدد فإنه قد يؤدي زيادة ليحتسب به في النجم الثاني، وكذا في النجم الأخير إذا أدى الذي قال: أدينا على العدد قدرًا يتم به نجمه، ولا يبقى زيادة، والآخر يقول: أدينا على القيمة، فالقول قول من يقول: أدينا على العدد وإن أدوا في النجم الأخير، وقال الذي قال: أدينا على العدد، إني أديت أكثر مما علي لا يسترد البعض، وقال الآخرون: بل أدينا على القيمة

وكل واحد منا أدى القدر الذي عليه، فالظاهر مع هؤلاء الذين يقولون: أدينا على القيمة، فالقول قولهم. مسألة: قال: «ولو أدى أحدهم عن غيره [56/ أ] كان له الرجوع». الفصل جملة هذا أنه إذا أدى مكاتب عن مكاتب فلا يخلو، إما أن يكونا مكاتبي رجل أو مكاتبي رجلين، فإن كانا لرجل واحد لم يخل إما أن يؤدي عنه قبل العتق أو بعده، فإن كان قبل العتق، فإن كان ذلك بغير علم السيد لم يصح الأداء لأنه إن فعل ذلك بغير إذن المؤدى عنه فهو هبة وإن كان فعله بإذنه، فهو قرض، والمكاتب لا يملك هبة المال ولا الإقراض بغير إذن السيد، وإن أدى بعلم السيد فعلمه يجري مجرى إذنه ففيه قولان، كما لو ذهب شيئا بإذن سيده إذا أقرضه بإذنه، فإن قلنا: لا يصح، قال الشافعي كان له الرجوع وأراد به أن له أن يرجع على السيد بذلك فيسترجع. قال أبو إسحاق: ولو سأل السيد أن يحتسب له من نجومه كان عليه أن يفعله ثم يطالب السيد المؤدي عنه، وإن لم يسأل السيد ذلك، ولكن عليه النجم احتسب السيد منه. وإن لم يسترجع ذلك حتى أدى ما عليه وعتق فهل له أن يسترجع؟ ظاهر كلام الشافعي أنه لا يسترجع لأنه لم تصح هبته وإقراضه لنقصانه، فلما عتق وصار حرًا كاملاً صح ذلك منه، وقال أبو إسحاق: العلة فيه أنه إذا عتق وهو كاف عن المطالبة فقد صح الأداء ن من أدى عنه من الآن، وكانت الاستدامة في ذلك بمنزلة ابتداء الأداء، ومن أصحابنا من قال: له الاسترجاع أيضا لأن ذلك وقع فاسدًا في الأًل فلا يصح بعد ذلك. وقال القفال: فيه وجان، أصلهما: أن تصرف المحجور عليه لحق الغير [56/ ب] باطل أو موقوف كتصرف المفلس حتى إذا أطلق الحجر ينفذ؟ فيه قولان. وقيل: نص الشافعي ههنا أنه لا يسترجع ونص إذا عفا المكاتب سيده عن أرش الجناية عليه لا يصح وله الرجوع عليه وإن عتق نفذ، ولا فرق بينهما على قولين، فإذا قلنا: بالأول ينظر فيه، فإن كان أدى عنهم على أن يرجع عليهم كان له الرجوع بما أدى عنهم، فإن كانوا قد عتقوا طالبهم كما يطالب الأحرار بما عليهم من الديون، وإن كانوا لم يعتقوا، فهو بمنزلة الدين الذي يجب على المكاتب، فيقال له: إن عليك دينًا كهذا ونجوم الكتابة للسيد فإن أمكنك أداءهما جميعًا، فأد كليهما، وإن لم يمكنك ذلك، فالدين مقدم على النجوم لأن الدين لازم والكتابة ليست بلازمة، ويمكن السيد الرجوع إلى رقبته من حقه بخلاف صاحب الدين، فيقال للسيد: إن رضيت أن تصبر حتى يقضي الدين ثم يكتسب لك، وإلا عجزناه لصاحب الدين، فإذا عجز دفع إلى من أدى عنه ما وجد في يده ثم يباع من رقبته بقدر ما بقي، هكذا ذكره القاضي الطبري وربما أراد به إذا كان الدين دين الجناية ولا يحتمل غيره.

وإن كان الأداء عنهم بعد عتقه فالأداء يصح لأنه حر يصح منه قضاء دين الغير، ثم ينظر فإن كان أدى بغير إذنه لم يرجع وإن كان بإذنه، فالحكم على ما ذكرنا. وإن كان المكاتبان رجلين فأدى أحدهما عن الآخر فإن كان ذلك بعد العتق صح الأداء والحكم فيه على ما مضى، وإن كان قبل العتق لم يصح سواء كان بإذن المكاتب الآخر، أو بغير إذنه لأنه يكون هبة وقرضًا [57/ أ] إلا بإذن السيد، فلم يصح، ولا فرق بين أن يكون بعلم السيد أو بغير علمه، ويفارق هذا إذا كانا لواحدٍ لأن المال إذا حصل في يد السيد وعلم به قام ذلك مقام إذنه وههنا يحصل المال في يد غير السيد فيكون هبة وقرضًا بغير إذنه، وإن كان ذلك الأداء بإذن سيده ففيه قولان، وقال القفال: إن أدى بإذن السيد والمؤدى عنه فجائز لأن إقراضه بإذن السيد جائز قولاً واحدًا، وإن كان بإذن السيد لا بإذن المؤدى عنه، ففيه قولان، لأنه هبة بإذن السيد، وهذا أحسن، ولكن ما تقدم أصح عندي، وقال في «الحاوي»: الصورة الأولى إذا أدى أحدهم عن صاحبه بإذنه ليرجع به كالقرض، وجوزنا لم يخل حال المؤدي، والمؤدى عنه من أربعة أحوال، أحدها: أن يعجزا فيرقا فلا رجوع للمؤدي بما أدى لا على سيده، ولا على المؤدى عنه لأنه لا يثبت للسيد على عبده مال، ولا لعبده على سيده، والثانية: أ، يؤديا فيعتقا فللمؤدي أن يرجع على المؤدى عنه بعد عتقه بما أداه. والثالثة: أن يعتق المؤدى عنه ويبقى المؤدي على الرق، فينظر في عتق المؤدى عنه فغن كان بغير ما اقترضه المؤدي نفذ عتقه، وكان المال المؤدى عنه دينًا للسيد عليه وإن كان عتقه بما اقترضه المؤدي فيه وجهان خرجهما صاحب «الإفصاح» أحدهما: أن عتق المؤدى عنه قد نفذ ورق المؤدي قد استقر ويكون الأداء دينًا للسيد يرجع به على المعتق اعتبارًا بحكم الأداء والعجز، والثاني: [57/ ب] لا يعتق المؤدى عنه بذلك ويحتسب به للمؤدي فإن كان بقدر الباقي عليه من كتابته عتق به وأعيد المؤدى عنه إلى رقه وإن كان أهلاً أعيدا معًا إلى الرق اعتبارًا بحال الكسب، والرابعة: أن يعتق المؤدى عنه وهو على رقه فللمؤدى عنه ثلاثة أحوال، أحدها: أن يكون في يده ما يفي بمال الكتابة وبدل ما اقترض فيؤديهما ويتحرر، والثاني: أن يعجز عن باقي الكتابة وعن القرض جميعًا فللسيد أن يعيده إلى رقه ويكون قرض المؤدي في ذمة العبد إذا عتق وأيسر رجع به عليه، والثالثة: أن يكون في يده ما يصرف في أحدهما: إما في عتقه أو في قريضه فيقال للمؤدي انتظره بقرضك حتى يؤدي ما بيده في قرضه فإن أجاب فعل ذلك وإن امتنع قيل للسيد: انتظره بنفسه حتى يؤدي ما بيده في قرضه فإن أجاب فعل ذلك، وإن امتنع وتنازعا فالمؤدي للقرض أولى به على ما ذكرنا وهذا ترتيب حسن. مسألة: قال: «لا يجوز أن يتحمل بعضهم عن بعض». يعني إذا كاتب ثلاثة أعبد على ما ذكرنا لا يصير بعضهم ضامنًا عن بعض خلافًا

لمالك وأبي حنيفة، فانفرد مالك بأن قال: إذا قعد بعض العبيد عن الاكتساب والأداء كان للثاني: إجباره على ذلك وإلزامه للاكتساب والأداء وقال أيضا: إذا أعتق السيد واحدا منهم نظر فإن أعتق من لا كسب له جاز لأنه لا يضر على الباقين وإن أعتق من له كسب لم يجز لأن على الباقين ضررًا فيه وهذا غلط لأنها معاوضة مطلقة، فلم يلزم كل واحد منهم إلا قدر ما يخصه من العوض كما في البيع، ولو شرط عليهم في العقد [58/ أي أن كل واحد منهم ضامن عن الباقين كانت الكتابة فاسدة خلافًا لمالك وأبي حنيفة، وهذا ليس بلازم ولا إلى اللزوم، فلا يصح ضمانه وأيضًا لا يجوز لضمان من المكاتب لأنه لا يصح أن يضمن عن حر ولا عن مكاتب ليس معه في عقد كتابته، فلا يصح هذا الضمان أيضًا، ثم قال الشافعي رضي الله عنه ولا يجوز أن يتحمل مال عن نفسه، أي وقت شاء ولو شرط ذلك في عقد الكتابة فسد لأن الكتابة تفسد إذا شرط فيهها شرط فاسد، قال أبو إسحاق: وكذلك لو كاتب عبده على أن يضمن عنه رجل بعينه حر كانت الكتابة فاسدة. مسألة: قال: «ولو كاتب عبدًا كتابة فاسدة». الفصل اعلم أن العتق المعلق بالصفات على ثلاثة أضرب عتق معلق بصفة محضة لا مدخل للغوض فيها، كقوله: إن دخلت الدار فأنت حر، وإن كلمت زيدًا فأنت حر ونحو ذلك. وفي هذا المعنى إذا قال: إن أعطيتني فأنت حر فإن هذا وإن دخله عوض إلا أن المغلب فيه حكم الصفة فلهذه الصفة ستة أحكام، أحدها: أن تقع لازمة لا سبيل للعبد ولا للسيد إلى فسخها بحال ولا أن يتفقا على فسخها لأنها عقدت وعلق بها العتق، وهو حق الله تعالى فلزمت. والثاني: أن السيد لو أبرأه عن المال الذي علق عتقه به لم يعتق لأنه علق بأداء المال، وفي الإبراء لم يوجد المال. والثالث: [58/ ب] إذا مات السيد بطلت الصفة لأن إطلاق الصفات يقتضي وجودها في حال الحياة. والرابع: إن كسب العبد قبل أداء المال يكون لسيده لأنه باق على ملكه، ولم يوجد ما يقطع تصرفه. والخامس: أنه إذا أدى المال عتق لوجود الصفة وما في يده من فضل الكسب لسيده كما أن فضل الكسب كان لسيده. والسادس: لا يثبت بين سيده وبينه تراجع لأنه لم يثبت جهته يثبت بينهما التراجع.

والضرب الثاني: عتق معلق بصفة وعوض والمغلب فيه حكم العوض وهو الكتابة الصحيحة، فالمعاوضة لا بد من ذكرها، وهو قوله: كاتبتك على كذا أو الصفة لا بد من ذكرها باللسان أو ينويها بقلبه على ما ذكرنا. وإنما علينا حكم العوض ههنا لأنه لو كان المغلب للصفة لاحتيج إلى ذكرها كما في القسم قبله ولا يعتبر ذلك بل تكفي النية بالقلب، ويتعلق بهذا أيضًا ستة أحكام، أحدها: أنها تقع لازمة من جهة السيد لا سبيل له إلا فسخها لأنها معاوضة كالبيع، فأما العبد فليس له فسخ العقد ولكن له أن يمتنع من الأداء متى شاء ثم يكون للسيد الفسخ، وإن اتفق السيد والعبد على فسخ الكتابة جاز، ويكون ذلك بمنزلة الإقالة في البيع ويلزم ذلك. والثاتني: أن السيد لو أبرأ من مال الكتابة عتق كالبائع إذا أبرأ المشتري عن الثمن صح وبرئت ذمته وملك المبيع تامًا. والثالث: إذا مات السيد لا تبطل بل يؤدي المال إلى ورثته ويعتق كالبيع. والرابع: إن كسب العبد قبل الأداء يكون له لا لسيده لأنه عقد مع سيده عن التصرفات فيه وأخذ كسبه فهو كما لو باع العبد، كان الكسب للمشتري [59/ أ]. والخامس: أن المكاتب إذا أدى المال عتق ولا تراجع. والسادس: إذا أدى ما عليه وعتق وبقي فضل الكسب في يده فهو له ملكًا تامًا. والضرب الثالث: عتق معلق بصفة وعوض والمغلب فيه حكم الصفة، وهو الكتابة الفاسدة ولهذه الصفة أحكام ستة، أحدها: أنها تقع غير لازمة من جهة السيد، وله أن يرجع فيها متى شاء لأنه التزمها بشرط أن يحصل له العوض المشروط، فإذا لم يحصل كان له الرجوع ويفارق الصفة الأولى لأنها صفة محضة التزمها بمجردها فلزمته، ثم إذا ثبت أن الصفة لا تلزم له أن يفسخها بنفسه وله أن يرفعها إلى الحاكم حتى يفسخ الحاكم كما لو وجد عيبًا بما اشترى له الفسخ بنفسه وله المرافعة إلى الحاكم حتى يفسخ. قال الشافعي: وأشهد على ذلك ولم يرد به أن الشهادة شرط وإنما أراد أنه يشهد عليه حتى يثبت أنه قد ردع فعلا يمكن العبد جحود ذلك لأنهما لو اختلفا في الرجوع، ولم يكن مع السيد بينة كان القول قول العبد لأن الأصل أن لا رجوع. فرع إذا قال أبطلت كتابة عبدي أو فسختها يجوز بمشهد العبد وعيبته ولو نوى إبطالها لا تبطل، وإذا رفعها إلى الحاكم لم يكن له إبطالها إلا بعد ثبوت فسادها ومسألة السيد، فإذا سأل له إبطالها عليه، ولو سأل المكاتب من الحاكم الإبطال لم يكن للحاكم إجابته إليه لأنه حق مختص بالسيد لا يملكه المكاتب وإنما يملك هو الامتناع من الأداء على ما ذكرنا [59/ ب]. والثاني: أن السيد إذا أبرأه لم يعتق. والثالث: إذا مات السيد بطلت هذه الكتابة على ما ذكرنا خلافًا لأبي حنيفة وأحمد. والرابع: أن الكسب للمكاتب لأن الكتابة الفاسدة كالصحيحة في وقوع العتق فيها

بالأداء، فحصل له المعقود عليه وهو العتق فتبعه ملك الكسب. والخامس: أن العبد إذا أدى المشروط عتق لوجود الصفة وإن فضل في يديه كسب كان له لأن الأصل الكسب له ولا فرق بين أن يكون فساد الكتابة بشرط مجهول أو بعضو فاسد من الخمر والخنزير والميتة والدم. وقال أبو حنيفة: إن كانت بالميتة أو الدم لا يحصل العتق بالأداء لأنهما ليسا بمال بخلاف الخمر والخنزير فإنهما مالا لأهل الذمة. وهذا على أصله أن البيع بالميتة والدم باطل وبالخمر والخنزير فاسد يحصل الملك فيه عند القبض. والسادس: أنه يثبت التراجع فيها بين العبد وبين السيد فيستحق السيد على عبده قيمة رقبته وتجب القيمة من غالب نقد البلد ويستحق العبد على السيد ما دفعه إليه الكسب، ثم إن كان أحد الحقين من غير جنس الآخر لم يتقاصا بل يقبض كل واحد منهما من صاحبه ما له عليه لأن التقاص لا يثبت في الجنسين كالحوالة لا تكون في الجنسين وإن كان أحدهما من جنس الآخر، فإن كان غير الدراهم والدنانير لم يحصل فيه التقاص وإن كان من الدراهم أو الدنانير فهل يتقاصان فيه؟ أربعة أقوال، وهكذا الحكم في دينين من جنس واحد هل يحصل بينهما التقاص فيه هذه الأقوال؟ أحدها: يتقاصان [60/ أ] من غير تراض. والثاني: لا يتقاصان إلا بالتراضي. والثالث: يتقاصان إذا رضي أحدهما. والرابع: لا يحصل التقاص بذلك وإن تراضيا لأنه يكون بيع دين بدين، ولأنه لما لم يصح ذلك في غير النقود من العروض كذلك في النقود، فإذا قلنا: يحصل التقاص لهما بالتراضي أو غير التراضي فإن تساوي الحقان سقط أحدهما بالآخر وإن تفاضلا سقط بقدر ما يتساويان فيه، ويرجع صاحب الفضل بالفضل، وإن قلنا: لا يحصل التقاص فلا يحتاج إلى القبض من الجانبين معا بل يكفي أن يقبض أحدهما، ثم يرد قبضه إلى صاحبه، فإن قيل: ما الفرق بين الحقين من جنس الأثمان وغير الأثمان في حكم التقاص؟ قلنا: قال أبو حامد: الفرق أن ما عدا الأثمان يطلب فيه المعاينة لوجود الاختلاف فيها وقل ما يتساويا والأثمان متساوية يطلب فيها المعاينة. ومن أحكام الكتابة الفاسدة أن تسقط بها نفقته عن السيد وتكون الجناية مضمونة على السيد في كسبه. والتقويم فيه يكون حين وقوع العتق بخلاف التقويم في الكتابة الصحيحة إذا احتجنا إلى قسم العوض بين العبيد فإنا نقومهم حين العقد لأنه وقت الحيلولة بينهم وبين السيد، وههنا الحيلولة حصلت بالعتق، وقيل: لهذه الصفة ثمانية أحكام وعد هذه الأحكام فيها. فرع آخر لو أخذ المكاتب في الكتابة الفاسدة من سهم الزكاة وأدى عتق، وقال في

«الأم»: استرجع من السيد ولم يعتق به لأن فسادها [60/ ب] يخرجه من حكم الرقاب، قال صاحب «الحاوي»: والذي أراه أنه لا يسترجع منه لأنه يجري على حكم الرقاب، قال صاحب «الحاوي»: والذي أراه أنه لا يسترجع منه لأنه يجري على حكم فاسدها في ملك الاكتساب ووقوع العتق به حكم الصحة فكذلك في سهم الرقاب. مسألة: قال: «ولو لم يمت السيد، ولكنه حجر عليه أو غلب على عقله فأداها منه قبلت ولم يعتق». وقد ذكرنا أن الكتابة الفاسدة تبطل بموت السيد ولو لم يمت ولكنه جن أو حجر عليه بطلت الكتابة أيضًا لأنه عقد جائز في حقه والعقود الجائزة تبطل بالجنون والحجر كالوكالة وغيرها، ومعنى قولنا: عقد جائز أن له أن يفسخه. ولن قبضه ليس بصحيح، فلا يحصل الوصف، ولو جن العبد لا تبطل هذه الكتابة لأن الجنون كالحجر فإن كل ما يبطل بالجنون يبطل بالحجر وما لا يبطل الجنون لا يبطل بالحجر وما لا يبطل الجنون لا يبطل بالحجر والعبد محجور عليه أبدًا، فلو بطلت الكتابة بالجنون لوجب أن لا تصح كتابة العبد أبدًا، وهذا ضعيف لأن قوله صحيح قبل الجنون والعلة الصحيحة فيه أن العبد لا يملك إبطال الصفة وإنما له أن يعجز نفسه، فيفسخ السيد إن اختار كما في الكتابة الصحيحة، وإذا كان لا يملك الفسخ لا يفسخ بجنونه، وقيل: لا تبطل بالحجر فإذا أدى إلى وليه عتق. مسألة: قال: «ولو كان العبد مخبولا عتق بأداء مال الكتابة، ولا يرجع أحدهما على الآخر بشيء». في هذا الفصل مسائل، إحداها: أن يكاتبه كتابة صحيحة، وهو عاقل ثم جن المكاتب فلم تبطل الكتابة، فإذا أدى المال إلى سيده عتق لا لأن الأداء يصح منه ولكن لأن السيد لم يستحق المال، فإذا حصل في يده ما يستحقه كان له أخذه بحقه، فإذا أخذه برئت ذمة العبد من المال [61/ أ] وعتق، ولا تراجع لأن الكتابة الصحيحة لا تقتضي ثبوت التراجع. والثانية: أن يكاتب عبدًا عاقلا كتابة فاسدة ثم جن العبد فلم تبطل بجنونه أيضًا، فإذا أدى المال عتق بوجود الصفة ويثبت لهما التراجع لأن عقد الكتابة اقتضى لزوم الضمان للعبد وثبوت التراجع بينه وبين السيد فلم يبطل ذلك بالجنون كما لو أدى المال في حال إفاقته. والثالثة: إذا كاتب عبدًا مجنونًا، فالكتابة فاسدة فإن أدى المال عتق بوجود الصفة وهل يثبت بينهما التراجع؟ نقل المزني أنه لا يثبت ونقل الربيع عن «الأم» أنهما

يتراجعان. واختلف أصحابنا في المسألة على طرق، أحدها: قال ابن سريج: الصحيح ما نقله الربيع لأنه يعتق بكتابة فاسدة، فلا بد من التراجع، وما نقله المزني كان في الأصل ويرجع أحدهما على الآخر فزاد الناقل لا بالغلط، وقال أبو إسحاق: الصحيح ما نقله المزني أنه لا تراجع لأن التراجع إنما يكون في عقد فاسد يقتضي الضمان والعقد مع المجنون ليس بعقد، ولا هو من أهل الضمان فصار كما لو كاتب صبيا فأدى المال وعتق لا يثبت التراجع وأما التأويل الذي ذكره ابن سريج، فلا يصح لمعنيين، أحدهما: أنه لو أراد التراجع لقال، ولا يتراجعان ولا يحتاج إلى أن يقول ويرجع كل واحد منهما، والثاني: أنه قال بشيء ولا يصح أن يقول ويرجع كل واحد منهما على صاحبه بشيء، وقيل: قال أبو إسحاق: ما نقل الربيع أراد إذا عقد معه وهو عاقل ثم جن ولفظه في «الأم»، ولو خبل المكاتب فأداها إلى سيده عتق ونصب الحاكم أمينا، [61/ ب] ويتراجعان كما لو كان العقد صحيحا يرجع لأن كتابة المخبول كتابة فاسدة، ولم يرد به أنه يثبت له أحكام الفاسد مع العاقل في التراجع إذا كاتبه وهو مجنون، والذي نقل المزني أراد أنه إذا كاتبه وهو مجنون. والفرق ما ذكرنا، وهذه الطريقة أصح، وقال القاضي أبو حامد من أصحابنا من قال: فيه قولان. قال القفال: والفرق بينه وبين الصبي أن المجنون عارض فهو كعارض شرط فاسد بخلاف الصبي، ومن أصحابنا من سوى بين الصبي والمجنون في التراجع. فرع لو دفع المال إلى سيده في حال جنون السيد في الكتابة الصحيحة لا يعتق به لأنه لا حكم لقبضه، ثم إذا دفع مرة أخرى إلى الولي عتق ثم إن وجدن عين ماله في يد السيد استرد، وإن كان قد أتلف لا يرجع عليه بضمانه أبدًا، ذكره القفال. مسألة: قال: «ولو كاتبه كتابة صحيحة، فمات السيد وله وارثان». الفصل قال أصحابنا: قال الشافعي: ولو كاتبه صحيحة إذ لو عرفنا ذلك ما قبلنا قول من يقول لم يكاتب، وإنما قال لو مات رجل وخلف ابنين وعبدًا فادعى العبد أن أباهما كاتبه فصدقه أحد الابنين. واعلم أن الشافعي ذكر في «الأم» مسألتين، نقل المزني الثانية، وترك الأولى لسهولتها فالأولى ما ذكرنا من الصورة، ولكن الاثنان كلاهما، فالقول قولهما لأن الأصل عدم الكتابة ويكون يمينهما على نفي العلم لأنه يمين على فعل الغير فإن حلفا برءا وإن نكلا عن اليمين ردت اليمين على العبد، فإذا حلف يحكم بصحة الكتابة [62/ أ].

والثانية: أن يصدقه أحدهما وينكر الآخر فإقرار المقر مقبول ويصير نيبه مكاتبًا لأنه أقر بما يضره فقبل إقراره فيه ثم ينظر فإن كان عدلا وشهد مع شاهد آخر عدل حكم بشهادتهما وثبتت الكتابة، وإن لم يكن عدلا ولم يشهد شاهد آخر لا يجوز أن يحلف العبد معه لأنه لا يدخل فيها الشاهد واليمين لأن المقصود العتق دون المال ويكون القول قول الابن المنكر، فيحلف أنه لم يعلم ذلك فإن حلف برئ وإن نكل عن اليمين ردت اليمين، فإن حلف العبد ثبتت الكتابة، فإن نكل بطلت الكتابة في حقه وثبتت في حق المقر. فإن قيل: جعلتم نصفه مكاتبًا بغير إذن شريكه وذلك خلاف قول الشافعي رضي الله عنه، قلنا: ههنا لم تقع الكتابة في الأصل محضة بل أقر أن أباه كاتبه جملة، ولكن بطلت في نصفه لإنكار الابن الآخر، فلم يوجب ذلك بطلانها في الباقي، فهو بخلاف ما لو كاتب نصفه ابتداء قصدًا إلى الإضرار بشريكه. وأيضًا فإن ههنا ضرورة فهو كما لو أوصى أن يكاتب عبده عنه فلم يخرج من الثلث كاتبنا بعضه للضرورة. فإذا تقرر هذا نظير فيه فإن اتفقا على المهأيأة خدمة يومًا، واكتسب لنفسه يومًا، وإن لم يتفقا على المهايأة لا يجبر عندنا عليها خلافًا لأبي حنيفة. ثم ينظر فإن عجز نفسه استرقه السيد وما في يده من الكسب يكون له لأن السيد الآخر كان يأخذ كسبه في كل يوم فهذا الباقي حق لهذا الشريك. وفرع الشافعي على هذا، فقال: إذا وجد في يد المكاتب كسب فاختلف السيدان فيه، [62/ ب] فقال المكذب: كان اكتسابه قبل عقد الكتابة فهو بيننا، وقال الآخر: بل اكتسبه بعد عقد الكتابة، فهو لي، فالقول قول المصدق لأنهما يختلفان في حدوث الكسب قبل الكتابة والأصل أن لا حدوث حتى يعلم ذلك وإن أدى المكاتب ذلك عتق بالأداء وما فضل من الكسب، فهو له ولا يقوم باقية على الابن المصدق ولا على الميت. أما الابن فلأن التقويم إنما يكون على من باشر العتق أو تسبب إليه وهذا أخبر أن أباه كاتبه وأنه تسبب إلى عتقه، وأما الميت فقد زال ملكه بالموت فهو بمنزلة المعسر وهذا كما نقول إذا ترك ابنين وعبدًا فادعى العبد أن أباهما عتقه فأقر أحد الابنين وأنكر الآخر عتق نصيب أحدهما، وكان ولاءه لأبيه، ولا يقوم عليه. ولو بادر المصدق فأعتق نصيبه أو أبرأه ثمن نجومه فعتق فهل يقوم عليه نصيب أخيه فيه وجهان، أحدهما: لا يقوم لأنه يعتق على أبيه دونه ولهذا نقول الولاء يثبت له، والثاني: يقوم عليه لأنه يضر بشريكه بتقديمه العتق، والأول أصح فإذا عتق هذا النصف بالأداء وثبت عليه الولاء ولمن يكون هذا الولاء فيه وجهان، أحدهما: يثبت للميت وينتقل إلى ابنيه لأنه عتقد بسبب كان منه وهو عقد الكتابة. والثاني: يثبت للابن المصدق لأن المنكر أسقط حق نفسه من العتق والولاء، فإذا قلنا: الولاء بينهما فمات دفع إلى الابن المصدق نصف المال ويوقف نصيب المكذب إلى أن يقر به، [63/ أ]

فيدفع إليه، ولو شهد مع المصدق شاهد آخر وهما عدلان وحكمان بكتابة جميعه خلينا كبه فيؤدي إلى الابن المقر نصف مال الكتابة وفي النصف الآخر وجهان، أحدهما: يدفع إلى الابن المنكر، والثاني: يكون بمنزلة ما لو أقر لإنسان وهو يجحد. مسألة: قال: «ولو ورثا مكاتبا، فأعتق أحدهما نصيبه فهو بريء من نصيبه من الكتابة». الفصل جملة هذا إذا كاتب عبدًا ثم مات السيد وترك ابنين لا تنفسخ الكتابة بموته لأنها لازمة من جهة السيد ويقوم ابناه مقامه كما يقومان في سائر حقوقه فإذا أدى المكاتب المال إليهما عتق، وكذلك إذا أعتقاه أو أبرأه معًا يعتق ويثبت الولاء عليه للسيد ينتقل إلى عصبته وهما ابناه وإن عجز نفسه استرقاه وما أخذاه من الكسب وما يجدانه في يده يكون لهما، فإن أدى فهل يعتق فعلى ما سنبين إن شاء الله تعالى، وإن أعتقه أحدهما عتق نصيبه بلا خلاف وكذلك لو أبرأه أحدهما عن نفسه من المال عتق نصيبه عندنا. وقال أبو حنيفة لا يعتق حتى يبرئة الآخر، أو يستوفي نصيبه، واحتج بما لو أبرأه السيد عن نصف النجوم لا يعتق منه شيء، وهذا لا يصح لأنه أبرأه من جميع ما استحقه عليه من مال الكتابة فوجب أن يلحقه العتق كما لو أبرأه سيده من كل النجوم وبهذا فارق ما احتجوا به. وأيضًا فإعتاقه إياه إبراء عن المال الذي له في ذمته، فإنه لا يستحق عليه غير ذلك والحرية تقع من جهة الأب، ولو أعتق نصيبه عتق فكذلك إذا أبرأه عن قدر نصيبه [63 /ب]. فإذا تقرر هذا وعتق نصيبه فهل يقوم عليه نصيب شريكه؟ فيه قولان، أحدهما: لا يقوم نقله المزني في «جامعه الكبير» واختباره، ونقله إلى «المختصر» في آخر الباب الذي بعد هذا الباب ونصره بأن قال: العتق عن أبيه بدليل أن الولاء له. قال أبو إسحاق لا يختلف قول الشافعي في الولاء لأنه لأبيهما فوجب أن لا يقوم عليه، والقول الثاني يقوم عليه إن كان موسرًا، قال أبو حامد: وهذا أصح لأنه كان يمكنه أن لا يبرئ ولا يعتق حتى يعتق الجميع أو يعجز الجميع، فلما عجل العتق قبل الأداء إلى شريكه كان ذلك منه جناية أدت إلى تبعيض حريته فوجب التقويم عليه. وأما فصل الولاء فلا يدل على عدم التقويم لأنه قد يقع العتق والولاء لشخص ويكون التقويم على غيره لأن أحد الشريكين لو قال لصاحبه أعتق نصيبك عني على ألف، فأعتقه فإنه يسري إلى نصيب شريكه ويكون العتق عن السائل والولاء له والتقويم على المباشر للعتق، وكذلك لو قال أجنبي لأحدهما: اعتق نصيبك عني على ألف، فأعتقه فإنه يكون ولاءه للأجنبي، ويقوم على الشريك المعتق لأنه أعتقه.

وقال بعض أصحابنا: في الولاء وجهان ذكره القفال وغيره. وقال ابن أبي أحمد في «المفتاح» فيه قولان، أحدهما: ما ذكرنا، والثاني: أنه لمن أعتق على حكم الكتابة وما ذكره أبو إسحاق أصح، فإذا قلنا: يقوم. قال في «المختصر»: يقوم عليه إن عجز إذا كان موسرًا، أو هذا يقتضي أن لا يقوم في الحال. وهذا اختيار أبي إسحاق لأن عقد الكتابة تقدم [64/ أ] على السراية وفي التقويم فسخ العقد وإسقاط حق الأب من الولاء فلم يقوم ما دام العبد مقيمًا على عقده، فإذا عجز نفسه ورجع إلى ملك صاحبه سرت الحرية حينئذ ويقوم على المعتق، ومن أصحابنا من قال: فيه قول آخر يقوم في الحال عليه ولا ينتظر عجزه لأنه إذا اجتمع للعبد الحرية من جهتين بدئ بأعجلهما، والأول أشبه بالمذهب وهذان القولان مبنيان على أصل، وهو أن العبد بين شريكين إذا كاتباه، ثم أعتق أحدهما نصيبه، أو أبرأه يقوم عليه نصيب شريكه قولا واحدًا لأن الذي أعتق هو المعتق لا محالة إما بعقد كتابته، أو بإعتاقه بخلاف أحد الوارثين في أحد القولين، ولكن متى يقوم؟ فيه قولان، أحدهما: يقوم في الحال، والثاني: ينتظر تقويمه إلى حال الأداء فإن استغنى عن التقويم بأن أدى وإلا قوم حينئذ، ومن أصحابنا من قال: يقوم ههنا عاجلاً قولاً واحدًا، ومن أصحابنا من قال: يقوم ههنا بعد العجز قولا واحدًا بخلاف مسألة الشريكين لن أحد الوارثين ليس بمعتق فلا يبطل عقد الكتابة وأحد الشريكين معتق فحصل ثلاثة طرق. والصحيح الطريقة الأولى، والطريقة الثالثة أقرب من الطريقة الثانية، وكلاهما لا يصح، فإذا قلنا: لا يقوم عليه أصلا ينطر فإن أدى ما عليه من مال الكتابة عتق والولاء بينهما، وكذلك إن أعتقه الآخر أو أبرأه أيضًا، وإن عجز نفسه استرقه وأعاده إلى ملكه فيكون نصفه مملوكًا لهذا الابن الآخر والنصف الآخر قد عتق بإعتاق الابن الآخر فلمن يكون الولاء وجهان على ما ذكرنا، [64/ ب] وإذا قلنا: يقوم عليه في الحال قوم وتنفسخ الكتابة بالتقويم، ويعود هذا النصف مملوكًا له لأنه عتق في ملكه ومتى يحكم بنفوذ العتق فيه ثلاثة أقوال على ما ذكرنا في أحد الشريكين إذا أعتق متى يسيري إلى نصيب الشريك وولاء هذا النصف له وولاء النصف الأول على ما ذكرنا من الخلاف، فمن قال: الولاء للمعتق احتج بظاهر لفظ الشافعي وعتق إن كان موسرًا، وولاؤه له ومن قال: إنه للميت، قال: أراد به ولاء ذلك النصف الذي قوم عليه. وفي مسألة الشريكين في المكاتب إذا أعتقه أحدهما وقومنا عليه الولاء كله للمقوم عليه بلا إشكال، وهكذا إذا قلنا: يقوم بعد العجز في مسألتنا ولاء النصف الذي قومنا عليه له بلا إشكال. مسألة: قال: «والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم». اعلم أنه إذا كاتب عبدًا لا يعتق بأداء بعض مال الكتابة حتى يؤدي جمعيه، قال بعض «الأم»، وهو عبد في شهادته وميراثه وحدوده والجناية عليه وجنايته بأن لا يعقلها

عاقلة مولاه ولا قرابة العبد وبه قال عمر وابن عمر وزيد وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار والحسن البصري والزهري ومالك والثوري وأبو حنيفة. وقال ابن مسعود رضي الله عنه: إذا أدى قدر قيمته عتق ويؤدي الباقي في حال الحرية، فالخلاف بيننا وبينه إذا كوتب على أكثر من قيمته، وعن علي رضي الله عنه روايتان، أحدهما: أنه إذا أدى نصف مال الكتابة عتق، ويؤدي الباقي في حال الحرية وبه قال عروة [65/ أ] بن الزبير، والثانية: أنه كلما أدى جزءًا عتق بأدائه جزء منه وهو قول داود، وروي عن شريح أنه قال: إذا أدى ثلث كتابته عتق، وكان غريمًا بما فضل عنها. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إذا كتبت صحيفة المكاتب عتق بها، وكان غريمًا بما عليه، وقد روى عكرمة عن علي وابن عباس رضي الله عنهم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «يؤدي المكاتب بقدر ما أدى ديةن حر ما بقي دية عبد». وروي عن عكرمة عن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال: «إذا أصاب المكاتب حدًا أو ميراثًا ورث بحساب ما عتق منه»، وأقيم عليه الحد بحساب ما عتق منه ودليلنا ما ذكرنا من الخبر الصحيح المكاتب عبد ما بقي عليه درهم وما ذكروه، قال أصحابنا: الحديث لا يصح مرفوعًا، وإنما روي مرسلا أو موقوفًا على علي رضي الله عنه ولأنه جعل ديته بقدر ما عتق منه، ولم يقل إنه يعتق بقدر ما أدى ولا حجة لهم فيه أو نحمله على أحد الروايتين إذا أعتقه بعد موت السيد. وقد روى يحيى بن أبي كثير عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لا يقاوم على المكاتب إلا حد العبد، وأيضًا فهذا لا يخلو، إما أن يجري مجرى المعاوضات فلا يجب على البائع تسليم شيء من المثمن إلا بعد تسليم تمام الثمن أو يجري مجرى العتق المعلق بالصفات فلا يعتق حتى توجد جميع الصفة، فإن قيل: أليس قلتم لو أن أحد الابنين أبرأه عن نصيبه عتق نصيبه. وكان يجب أن يعتق على مولاه بقدر ما نقص [65/ ب] ثلثا الابن أبرأه عن جميع حقه فعتق عليه والسيد لم يسقط جميع حقه فوازان الابن أن يستوفي السيد جميع حقه فيعتق عليه. منسألة: قال: «وإن مات وله مال حاضر وولد مات عبدًا». الفصل هذه المسألة مبنية على أن عقد الكتابة جائز أم لازم فعندنا أنه لازم من جهة السيد

لا يفسخه ما لم يعجز المكاتب من الأداء وغير لازم من جهة العبد فله أن يعجز نفسه متى شاء. وقال مالك وأبو حنيفة هو لازم من جهة العبد أيضا، فإذا كان له مال يفي بما عليه أجبر على أدائه وليس له الامتناع وإن لم يكن له مال قد ذكرنا أن عند أبي حنيفة لا يجبر على الاكتساب خلافًا لمالك وهذا لا يصح لأن ما لا يجبر العبد على فعله إذا لم يحصل شرطا لعتقه لم يجبر عليه، وإن جعل شرطا لعتقه، كدخول الدار إذا قال: إن دخلت الدار فأنت حر، فإذا تقرر هذا الكلام الآن في الموت هل تفسخ به الكتابة؟ ولا خلاف أنه لا يفسخ بموت السيد على ما ذكرنا، فإذا مات المكاتب فعندنا تنفسخ به الكتابة ويكون ما في يده لسيده، ومات رقيقًا وبه قال أحمد في رواية، وروى هذا عن عمر ورزيد رضي الله عنهما وعمر بن عبد العزيز والزهري وقتادة ولفظ ابن عمر: إذا مات المكاتب وقد أدى طائفة من كتابته وترك مالا كل ما ترك لسيده ليس لورثته من ماله شيء، وروي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا: إذا ترك المكاتب وفاء بما بقي عليه من الكتابة عتق، وإن ترك [65/ ب] زيادة كانت لولده الأحرار وبه قال عطاء وطاوس والنخعي والحسن وأبو حنيفة ومالك والثوري. وقد قال أبو حنيفة: إن لم يخلف وفاء انفسخت الكتابة، ومات عبدًا وإن لم يخلف وفاء لم تنفسخ ويؤدي عنه ويحكم بأنه عتق في آخر جزء من أجزاء حياته، ويكون ماله لورثته المناسبين فإن لم يكن كان لمولاه. وقال مالك: إن لم يخلف ولدًا أو خلف ولدًا حرًا أو مملوكًا ولد قبل عقد الكتابة لا تنفسخ بل يكلف الولد أن يؤدي المال الذي على أبيه، فيعتق ويتبعه الولد في الحرية، وإن لم يكن أجبر هذا الولد على الاكتساب والأداء، وقد ذكرنا عن مالك خلاف هذا على ما ذكره القفال، وهذا الذي ذكرناه أصح من مذهبه، ودليلنا ما روى عمر بن شعيب عن أبيه عن جده، أنه قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يخطب يقول: «من كاتب عبد على مائة أوقية فبقي عليه عشر أواق أو عشرة دراهم فمات فهو رقيق»، ولأنه مات قبل أداء مال الكتابة فوجب أن تنفسخ الكتابة كما لم يخلف وفاء، وأيضًا فالعقد عقد العتق لأنه يقصد به العتق حقيقة، ومحل العتق قد فات فيستحيل بقاء عقد العقد مع فوت المحل. فرع قال في «الأم»: لو قال سيده بعد موته قد وضعت الكتابة عنه أو وهبتها له أو أعتقه لم يكن حرًا، وكان المال ماله بحاله لأنه إنما وهب لميت مال نفسه. فرع آخر قال: وإذا مات المكاتب فعلى سيده كفنه ومؤنة قبره لأنه عبد، وكذلك لو كان أحضر المال ليدفعه [66/ ب] إلى سيده، فلم يقبضه سيده حتى مات، مات عبدًا.

فرع آخر لو قتله سيده قبل أن يقبضه كان ظالمًا ومات عبدًا، وللسيد ماله ويعزر سيده في قتله. فرع آخر قال: ولو وكل المكاتب من يدفع إلى سيده آخر نجومه ومات المكاتب، فقال: ولد المكاتب الحر قد دفعها إليك الوكيل وأبي حي، وقال السيد: ما دفعتها إلا بعد موت أبيك، فالقول قول السيد لأنه ماله. فرع آخر لو أقاموا بينة على أنه دفعها إليه يوم الاثنين ومات أبوهم يوم الاثنين كان القول قول السيد حتى تقطع البينة على أنه دفعها إليه قبل موت المكاتب، أو توقت؟، فتقول دفعها إليه قبل طلوع الشمس يوم الاثنين ويقر السيد بأن العبد مات يوم الاثنين بعد طلوع الشمس من يوم الاثنين أو تقوم بينة بذلك، فيكون قد عتق. فرع آخر لو شهد وكيل المكاتب بأنه دفع لك إلى سيده قبل موت المكاتب لم تقبل شهادته وكذلك لو وكل السيد رجلا يقبض من المكاتب آخر نجومه، فشهد وكيل سيد المكاتب عليه وحلف ورثة المكاتب مع شهادته وكان أبوهم حر وورثه ورثته الأحرار، ومن يعتق بعتقه هكذا نص عليه، ومعناه أن وكيل السيد شهد أنه قبضه من المكاتب، فتقبل شهادته لأنه يشهد على موكله فكان متهم فيه، ويخالف وكيل المكاتب إذا شهد أن المكاتب دفعه إلى سيده لأنه يشهد لموكله فكان متهمًا فيه، وإنما حلف الوارث مع الشاهد الواحد على قبضه لأن ذلك شهادة على قبض مال. فرع آخر قال في «الأم» [67/ أ]: وكل ما اكتسبه المكاتب بعد الكتابة أو ملكه بوجه من الوجوه فذلك له وكل ما كان في يده قبل عقد الكتابة فهو لسيده، ولو اختلف العبد والسيد في مال في يد العبد بعد الكتابة، فقال العبد: أفدته بعد الكتابة، وقال السيد: قبلها، فالقول قول الع 9 بد مع يمينه وعلى السيد البينة، فإن أقام شاهدين أو شاهدًا وامرأتين أو شاهدًا، وحلف معه أنه كان في يده قبل عقد الكتابة، فهو ليسده وكذلك ما أقر العبد أنه كان في يده قبل الكتابة، ولو شهد الشهود على شيء كان في يد العبد، ولم يجد واحدًا يد له على أن ذلك كان في يده قبل الكتابة كان القول قول العبد حتى يجدوا وقتًا يعلم به أن المال كان في يد العبد قبل الكتابة، وكذلك لو كان في يده يوم الاثنين لغرة شهر كذا والكتابة كانت في ذلك اليوم. كان القول قول العبد حتى تحد

البينة حدًا يعلم أن المال كان في يده قبل الكتابة. ولو شهدوا أنه إن كان في يده في رجب فشهدوا على الكتابة في شعبان من سنة واحدة، فقال العبد: كاتبني بلا بينة قبل رجب أو في رجب قبل الوقت الذي شهدت عليه البينة فيه كان القول قول السيد. فرع آخر لو قال السيد في كتابته كلما أدى منها نجمًا عتق بقدره كانت كتابة فاسدة ويعتق بقسطه لوجود الصفة ويسري العتق إلى باقية وبماذا يرجع السيد على ماكتبه وجهان، أحدهما: بجميع القيمة لأن الكتابة أفضت إلى عتق جميعه ورجع بما أداه إليه، والبثاني: يرجع عليه بقيمة البعض الذي عتق منه بالصفة ولا يرجع عليه [67/ ب] بقيمة ما عتق بالسراية لاختصاص العتق في الكتابة بالصفات دون السراية. فرع آخر إذا مات وبقي عليه شيء يسير من آخر النجوم بقدر ما يجب عليه إيتاؤه إليه لم يعتق فإن قيل: أليس هذا القدر واجبًا عليه أن يؤتيه، فينبغي أن يعتق ويتقاصا، قيل: الإيتاء غير معلوم، فلا يسقط عليه شيء معلوم ولا يقع به المقاصة لأن على السيد أن يفعله وما عليه أن يفعله لا يقع بنفسه كما لو أوصى بأن يعتق عنه عبد لم يعتق إلا بإعتاق الورثة. فرع آخر إذا قال لعبده: إن كنت ملكي فقد كاتبتك على كذا فإن كان بشك في ملكه لم يجز وإن علمه ملكًا، فهذا القول تأكيد لم يضره. فرع آخر إذا قال: إن ملكت عبدًا فلله علي أن أكاتبه وكان بالغًا عاقلاً فملكه يلزمه عرض الكتابة عليه. فرع آخر لو قال لعبده: إن كنت مأمونًا قادرًا على الكسب فقد كاتبتك بطلت الكتابة للتعليق. فرع آخر لو قال: كاتبوا أحد عبيدي ولم يكن له إلا واحد كوتب. مسألة: قال: «ولو جاء بنجم، فقال السيد: هو حرام». الفصل ينظر في هذا فإن كان مع السيد بينة بذلك لم يجبر على أخذه، بل يقال للمكاتب:

إن جئت بمال آخر وإلا عجزت لأنه إنما كاتبه على شيء يسلم له أو يمكنه التصرف فيه ولا يحمك بهذه البينة لمن أقام له البينة أنه مغصوب منه لأن ذلك لا يدعيه، وإن لم يكن معه بينة يحلف المكاتب، فإن لم يحلف ردت اليمين على السيد فيحلف [68/ أ] ويحكم بأنه مغصوب أو حرام، ولا يجبر على أخذه، وإذا حلف المكاتب يقال لسيده: هذا مال محكوم له به فإما أن تقبضه منه أوتبرئه، فإن أبرأه سقط اليمين عنه وعتق، وإن لم يفعل يقبضه الحاكم وعتق المكاتب، ولو أخذه هو عتق المكاتب ثم ينظر فإن قال السيد: هو حرام، ولم يعين صاحبه يقال له: أمسكه في يدك إلى أن يتبين صاحبه ويمنع من التصرف فيه، وإن قال: هو مغصوب من فلان يلزمه تسليمه إليه، قال: القفال وشهادة السيد أنه مغصوب لفلان لا يقبل بعدما عرض عليه وأن تقبل شهادته ابتداء على مكاتبة بأنه غصب من فلان كذا، فإن قيل: أليس قال الشافعي في كتاب «التفليس» لو اختلف البائع والمفلس، فقال البائع: اخترت عين مالي قبل الإبار والثمرة لي، فقال المفلس: بل بعد الإبار فالثمرة للغرماء فصدق بعض الغرماء البائع في دعواه كان القول قول المفلس ويأخذ الثمرة من لم يصدق البائع دون من صدق، فما الفرق بين الموضعين؟، قلنا: قال أبو إسحاق: إنما أراد الشافعي إذا اختار المفلس ذلك لأن له أن يعين قضاء الدين من أي المال شاء، فأما إذا أراد أن يعطي من كذبه أجبر عليه، وقيل: فيهما قولان، والصحيح الفرق وهو أن ههنا إذا لم يجبر السيد على أخذه كان له مطالبته بمال آخر ثم يمكنه أن يقول في كل مال نحمله إليه مثل ذلك حتى يؤدي إلى عجزه ورقه، فأجبرناه عليه وليس [68/ ب] كذلك الغرماء، فإنهم إذا لم يجبروا على أخذ ما صدقوا البائع عليه لم يكن لهم مطالبة أخرى بمال آخر فلا يؤدي إلى الإضرار بأخذ فافترقا. فرع قال في «الأم»: ولا يجبر السيد إلا على أحد ما كاتبه عليه فغن كاتبه على دنانير لم يجبر على أخذ الدراهم وكذلك إن كاتبه على دراهم لم يجبر على أخذ الدنانير بدلها وإن كاتب على سلعة لم يجبر على أخذ قيمتها. فرع آخر قال: وإن جاءه بأجود من ذهبه أو ورقه أو سلعته كان عليه أخذه، بعد أن يجمع ذلك صفة واحدة ويؤيده جودة ولو أعطاه مكان عجوة من التمر صبحًا نيئًا لم يكن عليه أخذه وإن كان خيرًا من العجوة، فإن كاتبه على دنانير حدد جياد من ضرب سنة كذا فأدى إليه من ضرب غير تلك السنة كان عليه أخذه وإن كان الذي كاتبه عليها ينفق في بلد ولا ينفق بالذي أعطاه بذلك البلد لم يجبر على أخذه وإن كان خيرًا.

فرع آخر لو كان السيد غائبًا فجاء بالنجم إلى الحاكم يوم المحل يقبله منه ليعتق، ولا يقبل قبل المحل إلا أن يعرف أنه لا ضرر من السيد في أخذه نص عليه، ولو كان على حر دين لرجل غائب، فأتى به الحاكم، فهل يقبله على الغائب؟ فيه وجهان، أحدهما: يقبله، والثاني: لا يقبله لأنه ليس للمؤدى فيه غرض إلا سقوط الدين عنه، والنظر للغائب ترك المال في ذمة الملي وربما يتلف في يد الحاكم أمانة بلا ضمان، ويفارق مال الكتابة لأنه يتعلق به العتق بخلاف ذلك. مسألة: قال: «وليس له أن يتزوج [69/ أ] إلا بإذن سيده». اعلم أنه إذا تزوج المكاتب فإن كان من غير إذن سيده لا يجوز، فإن تزوج كان باطلاً كالعبد، وقد روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيما عبد نكح بغير إذن سيده فنكاحه باطل» والمكاتب عبد. ولأن في يده إتلاف ما في يده بالمهر والنفقة، ولا يجوز للمكاتب وإن أذن له السيد جاز قولاً واحدًا لا يختلف أصحابنا فيه لأن المكاتب أحسن حالا من العبد ولو أنه أذن للعبد في النكاح جاز، فالمكاتب أولى ولأن المكاتب حاجة إلى النكاح ليحصن فرجه ويحصل له الاستمتاع الذي جبل عليه الآدمي فلو منعناه بإذنه أضررنا به وبهذا يخالف العتق والهبة لا يجوزان من المكاتب مع الأذن في أحد القولين لأنه لا حاجة بالمكاتب إليهما، وأيضًا، فالهبة والعتق استهلاك مال عاجل والنكاح قد يفضي إلى الاستهلاك وقد لا يفضي، ومن أصحابنا من قال في نكاحه بإذن السيد قولان كما في تبرعاته لأنه إخراج مال لا بإزاء مال ذكره القفال، وهذا غير صحيح لما ذكرنا من الفرق، وقال ابن أبي ليلى أن شرط السيد على مكاتبه أن لا يتزوج إلا بأمره وجب أن يستأمره وإن لم يشترط جاز أن يتزوج بغير أمره وهذا غلط لما ذكرنا. فرع قال في «الأم»: وإن تزوج بإذن سيده لزمته نفقة زوجته وإن كان له ولد صغير أو كبير زمن محتاج لم تلزمه نفقته وأولاده من المنكوحة حكمهم حكم أمهم، فإن كانت أمهم حرة فهم أحرار، [69/ ب] وإن كانت مملوكة فهم مماليك لسيد أمهم وإن كانت مكاتبة لغير سيده، فليس للأب سبيل عليهم وكانوا مرقوقين على حكم أمهم، أو أرقاء لسيدها على أحد القولين، وإن كانت مكاتبة لسيده كانت معه في الكتابة، أو لم يكن فسواء فالأولاد مرقوقون على حكم أمهم أو أرقاء على ما ذكرنا. مسألة: قال: «ولا يشتري بحال». للمكاتب أن يشتري الإماء للفائدة والربح، ولكن لا يجوز أن يطأ أمةً بغير إذن سيده

لأنه ربما يحبلها فتموت في الأداء فيكون فيه تغرير بالمال، وإن أذن له السيد في الوطئ، فإن قلنا: العبد إذا ملك يملك فملكه، وأذن له في الوطء يحل له الوطء وإن قلنا: لا يملك لا يحل له الوطء وهو الصحيح، وقال ابن أبي هريرة يحتمل أن يجوز له ذلك قولاً واحدًا لأن إذن السيد للمكاتب لا يكمل ملكه. وقال القفال: هل يحل الوطء بالإذن؟ قولان كما في الهبة بإذن السيد، وإن قلنا: إنه يملك بالتمليك، وهذا لا يصح على ما ذكرنا في النكاح، وإذا قلنا: لا يحل الوطء على قوله الجديد فخالف ووطء لم يجب الحد للشبهة فإن ولجت منه، قال الشافعي: فإن كان لستة أشهر بعد العتق صارت أم ولد له قولا واحدً، قال أبو إسحاق بجواز أن تكون علقت منه بعد العتق، وإن ولدت لأقل من ستة أشهر من حين العتق، قال الشافعي: لا تصير أم ولد له لأنها علقت به في ملك ناقص هذا هو المشهور من قول الشافعي. وقال أبو إسحاق: على القول الذي نقول إذا وطئها بشبهة فأحبلها [70/ أ] ثم ملكها تصير أم ولدٍ له، فكذلك ههنا تصير أم ولد ونص على هذا في كتاب العدة، ذكر القاضي أبو حامد، أغني هذا النص، وهذا الذي ذكره أبو إسحاق فيه نظر لأن في تلك، المسألة علقت بحر وههنا علقت بممولك والنص الذي حكاه أبو حامد غير مشهور، وقيل في المسألة وجهان، لأن هذا الولد حرمه الحرية وإن كان مملوكًا لأنه لا يجوز بيعه، وقال القفال إن ولدت لستة أشهر، وكان وطئها بعد العتق صارت أم ولد، وإن لم يكن وطئنا واستبرائها، ثم جاءت بولد لستة أشهر لا تصير أم ولد له ولا يلحقه الولد، وإن لم يستبرئها وجاءت من يوم العتق لستة أشهر، فهو كما لو كان لأقل من ستة أشهر لأن العلوق كان قبل عتقه، ومن أصحابنا من قال: تصير أم ولد له ههنا كما لو أقر بوطئها بعد العتق ولا يستند علوق الولد إلى حالة الرق. قال: ومتى حكمنا بالعلوق قبل العتق هل تصير الجالية أم ولد؟ فيه قولان، أحدهما: تصير أم ولده فلا يبيعها، وإذا عتق استقر أمر الاستيلاد فيها وإن رق رق لأنها ملكه وثبت لولده منها حكم نفسه كالحر يستولد، والثاني: لا تصير أم ولده في الحال لتعلق حق السيد بها، فإذا قلنا: بهذا فلو عتق هل تصير أم ولده فيه قولان كمن استولد جارية غيره فولد حر ثم ملكها إذ لا تكون جارية المكاتب بأبعد من أن تصير أم ولده من جارية الأجنبي، والصحيح الطريقة الأولى، وأما الولد فثابت النسب ولا مهر عليه لأن [70/ ب] الوطء صادف ملكه وإن كان ناقصًا ولا يعتق عليه الولد، ولكنه يتكاتب عليه ومعنى التكاتب أنه لا يبيعه ولا يتصرف فيه بما يؤدي إلى إزالة الملك، وهكذا لو وهب له ولده ولا يثبت للولد من أحكام الكتابة شيء إلا هذا الحكم الواحد الذي ذكرنا. مسألة: قال: «ويجبر السيد على أن يضع من كتابته شيئًا». الإيتاء في الكتابة واجب عندنا وهو أن يحط السيد من مكاتبه شيئًا من مال الكتابة

أورد عليه منه، وقال أبو حنيفة ومالك والثوري هو مستحب غير واجب ودليلنا قوله تعالى: {وآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]، الآية. فأمر بالإيتاء وظاهره الوجوب، وروي عن علي رضي الله عنه موقوفًا ومرفوعًا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في هذه الآية «ينزل للمكاتب ويحط به ربع الكتابة»، وروينا عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كاتب عبدًا لخمسة وثلاثين ألفا ووضع عنه خمسة آلاف. قال الشافعي أحسبه قال: من آخر نجومه، وروي عن ابن عباس أن عمر رضي الله عنهم كاتب عبدًا فجاءه بنجمه، فقال: اذهب فاستعن به في كتابتك، فقال: لو تركت حتى يكون آخر نجم، قال: إني أخاف أن لا أدرك ذلك ثم قرأ قوله تعالى: {وآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]، وروي عن ابن عمر أنه قال في هذه الآية، يقول الله تعالى: «ضعوا عنهم من مكاتبتهم»، وروي عن فضالة، قال: كاتبني عمر رضي الله عنه فاستقرض من حفصة مائتي درهم فأعانني بها، فذكرت ذلك لعكرمة، فقال: هو قوله تعالى: {وآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ [71/ أ] الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]، فإذا ثبت هذا، فالكلام في الإيتاء في ثلاثة فصول في وقته وجنسه وقدره، فأما وقته فله وقتان وقت جواز ووقت وجوب، فأما وقت الجواز فهو بعد عقد الكتابة إلى وقت الأداء، وبعد الأداء والعتق لأن القصد منه منفعة العبد، وهذا يحصل في جميع هذه الأوقات. وأما وقت الوجوب فقد اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: وقته بعد العتق كوقت المتعة في النكاح بعد الطلاق. والمذهب وهو اختيار أبي إسحاق وجماعة أن وقته قبل العتق لأن الله تعالى فرض للمكاتب سهمًا من الصدقات، وليس للسيد دفع صدقته إلى مكاتبه فوجب عليه بإزائه الإيتاء قبل العتق أيضا، ويفارق المتعة في الطلاق لأن الغرب بها أن لا يخلو العقد من عوض، وذلك يحصل بالإيجاب بعد الطلاق، والغرب بالإيتاء المعونة حتى يحصل له العتق ولا يحتاج إليها بعد العتق ومن أصحابنا من قال: تجب بالعقد ويتضيق وجوبه عند آخر نجومه، قال أبو إسحاق: وإنما يتعين عليه إذا بقي عليه من مال الكتابة قد ما يلزمه أن يدفعه إليه، وقيل: ذلك لا يتعين عليه ومنهم من قال: يجب إذا استأدى منه شيئا بعد العقد وجوبًا موسعًا ويتضيق عند آخر نجومه لأن الله تعالى قال: {وآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33]، فلا بد من أن يحصل من جهة المكاتب إيتاء شيء حتى يتناوله الأمر بذلك. وحكى القفال عن بعض أصحابنا [71/ ب] أنه قال: إذا حط أو أتاه مالا قبل آخر النجوم لا يجوز بل أن يحصل العتق بحطه أو يؤتيه بعد العتق ليحصل فيه كمال التمليك.

وأما جنسه فاليسد بالخيار بين أن يحط بعض ما عليه وبين أن يدفع إليه من عنده، فأما الدفع من عنده ثابت بنص الكتاب والحط ثابت بالنسبة بدليل ما ذكرنا من الأخبار والحط أولى من الإيتاء لأنه ربما يصرفه في مال الكتابة، وربما لا يصرفه وإذا حط تحقق نفعه به فكان الحط أولى، وقال الشافعي رضي الله عنه في «الأم»: ويجبر سيد العبد على أن يضع عنه مما عقد عليه الكتابة شيئا ومهما وضع منه لم يجبر على أكثر منه وهذا يدل على أن الحط هو الواجب، وقال بعض أصحابنا الأصل هو الإيتاء أم الحط فيه وجهان، أحدهما: الأصل هو إيتاء، ومعناه إذا أدى جميع النجوم يؤتيه السيد مالا يتعيش به أيامًا ليهيئ أمر نفسه والحط يقوم مقام الإيتاء، والثاني: الحط هو الأصل، والإيتاء يقوم مقامه لأنه لا معنى للأخذ منه والرد عليه، وهذا خلاف النص الذي ذكرنا، فإذا تقرر هذا فالحط لا يتصور إلا من مال الكتابة وفي الإيتاء مسائل، أحدها: أن يدفع إليه من نفس المال الذي أعطاه فيجوز ذلك، والثانية: أن يعطيه من غير الجنس الذي كاتبه عليه لا يجوز بلا خلاف لأن الله تعالى أمر أن يعطى من مال الله يعني مما كوتب عليه، وليس هذا منه نص على هذا في «الأم»، وقال: إلا أن يشاء العبد أن يأخذه، والثالثة: أن يعطيه من غير المال الذي أعطاه، إلا أنه من جنسه، فالمذهب أن ذلك لا يجوز [72/ أ]. ومن أصحابنا من قال: يجوز لأنه ليس بآكد من الزكاة لو عدل عن العين إلى جنسه جاز، فهذا أولى وهذا غلط لظاهر الآية، وهي قوله تعالى: {وآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} {النور: 33]، وهذا غير ذلك هذا ذكره بعض أصحابنا، وقال القاضي الطبري: المشهور أنه يجوز ذلك. ومن أصحابنا من غلط، فقال: لا يجوز لأنه الشافعي قال: ويعطيه مما أخذه. والجواب عنه أن الشافعي أراد من جنسه لا من عينه، وهذا أصح عندي ومعنى قوله: لا يجوز، أي لا يجبر على قبوله فإن وصى المكاتب فلا شك في جوازه. وأما قدر الإيتاء فليس بمحدود بل للسيد أن يدفع إليه ما شاء مما يقع عليه اسم المال وإن كان حبة نص عليه في «الأم». وقال أبو إسحاق: يعتبر بمال الكاتهابة فيضع على حسب قلته وكثرته، فإن تراضى العبد والسيد على شيء منه، وإلا رفع إلى الحاكم حتى يجتهد فيه فيضع عنه ما يؤدي إليه اجتهاده كما نقول في المتعة على الموسع قدره على المقتر قدره، وهذا له وجه، ولكن خلاف نص الشافعي رضي الله عنه. والمستحب أن يضع ربع الكتابة للخبر الذي ذكرنا، ومن أصحابنا من قال: الثلث وليس بشيء. فرع لو أدى جميع مال الكتابة وامتنع السيد من الإيتاء، فللمكاتب أن يطالبه به متى شاء

فإن مات قبل (أن) يعطيه أو يضع عنه، قال في «الأم»: يجبر ورثته على ذلك ولا يسقط الدين بموته، بل يتعلق ذلك بتركته كدين الحر سواء. مسألة: قال في «الأم»: فإن كان ورثته [72/ ب] صغارًا وضع الحاكم عنه أول ما يقع عليه اسم الشيء وما زاد سيد المكاتب أو ورثته إذا كانت أمورهم جائزة فهم متطوعون به، وإن كان هناك وصى الورثة فعل الوصي ذلك، ويجبر الحاكم أن يعطيه أقل الأشياء، فإن كان على الميت دين أو وصية جعل للمكاتب أدنى الأشياء يحاصصهم فإن مات السيد فأعطى وارثه المكاتب أكثر مما يقع عليه اسم الشيء كان لمن بقي من الورثة رده، وكذلك لأهل الدين والوصية، وهكذا سيده إذا أفلس كان للغرماء رد الفضل، والشيء كل ماله ثمن وإن قل وكان أقل من درهم فإن كاتب على دنانير فأعطاه حبة ذهب أو أقل ما له ثمن جاز، وهذا كله نص على أنه غير مقدر. مسألة: قال: «فإن مات السيد بعد قبض جميع الكتابة حاص بالذي له أهل الدين والوصايا». قال المزني: يلزمه أن يقدمه على الوصايا على أصل قوله، وهذا كما قال: قال أصحابنا: معنى قول الشافعي أن الذي للمكاتب مقدم على الميراث ولم يرد به أنه يساوي الوصية ولو جاز أن يحمل على ذلك لوجب أن يكون الدين مساويًا للوصايا لأن الشافعي سوى ها هنا بين الجميع وقيل: أراد الشافعي بقوله: حاص أهل الوصايا أي ساواهم في وجوب حقه لا في التقديم والتأخير، وقال القاضي الطبري هذا اللفظ نقله المزني على المعنى وليس هو من كلام الشافعي، وإنما قال الشافعي في «الأم»، فإن كان على الميت دين أو وصية يجعل للمكاتب أدنى الأشياء يخاصمهم به، [73/ أ] وإنما أراد به يحاص أهل الدين فنقل المزني هذا الكلام على المعنى، وجعله صريحًا فيه ليعترض عليه، وقيل: غلط الكاتب وإنما هو حاص أهل الدين دون الوصايا وفي هذا نظر، وقال أبو إسحاق من أصحابنا من قال: إنما أجراه الشافعي مجرى الوصايا لأنه ليس بشيء محدود، فيضرب به مع الغرماء وإنما يمكنه أن يضرب به مع الغرماء إذا كان له حد معلوم. قال أبو إسحاق: والأول أشبه بمذهبه ومن أصحابنا من علل لهذا الوجه بأن هذا الدين ضعيف لأنه غير مقدر، فسوي بينه وبين الوصايا لضعفه، وهذا ليس بشيء لأنه لو كان كذلك لما جاز أن يسوي بينه وبين الديون الواجبة، ومن أصحابنا من قال: أراد بأهل الوصايا أهل الديون الذين تثبت ديونهم بالإقرار في حال المرض. ومن أصحابنا من قال: أراد إذا كان السيد أوصى عند موته بأن يدفع إلى مكاتبة أكثر من القدر الذي يستحقه فيكون، القدر الذي يستحقه من الإيتاء دينارًا واجبًا يحاص به أهل الديون وما زاد على ذلك يحاص به أهل الوصايا. أو أراد أن القاضي فرض له شيئًا باجتهاده ورضي به الوارث، فهو زيادة على ما

يلزمه ورضي به أهل الوصايا دون أهل الديون فبالأقل يحاص أهل الديون وبالزيادة يحاص أهل الوصايا وهذا ضعيف، وقيل: أراد ديونًا موصى بقضائها فيحاصها وسائر الديون بالقدر الذي قدر الحاكم له. قال القفال: وهذا كله إذا كان قد استهلك السيد ما قبض، [73/ ب] فإن كان العين باقيًا أو بعضه باقيًا، فما قدره الحاكم يؤخذ من تلك العين من غير مزاحمة. مسألة: قال: «وليس لولي أن يكاتب عبده». كل من يلي مال الطفل أو المجنون من أب أو جد أو وصي أو حاكم أو قيم من جهة الحاكم لا يكاتب عبده، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: يجوز، وزاد أحمد، فقال: يجوز عتقه على المال أيضًا، وهذا لا يصح لما قال الشافعي: إنه لا نظر له فيه، وأراد أن الكتابة عتق العبد بكسبه وكسبه ليسده لو لم يكاتبه فلا يكون لليتيم فيه حظ ولا نظر، فإن قيل قد يكاتبه على أكثر من ثمنه أضعافًا ويدفع إليه من صدقات المسلمين ولو تركه وكسبه لم يره إلا شيء يسير، قلنا: قد يكسب ويتلف ثم يعود إلى الرق فلا يحصل في يد السيد إلا رقبته بعد تلف كسبه مدة كتابته فإذا تقرر هذا فإن كاتب واحد منهم، فالكتابة فاسدة فإن أدى العبد المال لم يعتق لأن المعاوضة باطلة والعتق بالصفة إنما يقع، فمن يملك إيقاعه والولي لا يقدر على إعتاق عبد الطفل بصفة ثم المال الذي أدى منه حلال لسيده، وإن أعطى من سهم الرقاب رجع الوالي عليه فأخذه ممن صار إليه، لأنه ليس من الرقاب. فرع قال الشافعي رضي الله عنه: ولو كان العبد بين محجور عليه بائع أو صبي وبين رجل يلي نفسه لم تجز كتابته أذن فيها المحجور عليه ووليه أو لم يأذن فإن أدى عتق نصيب غير المحجور عليه وتراجع هو والعبد [74/ أي بنصف قيمة العبد وعتق كله عليه إن كان موسرًا وضمن المحجور عليه نصف قيمته مملوكًا، ولا يرجع على المحجور عليه بشيء أخذه منه لأنه أخذه من عبده، وأراد به ما أخذه في حال كتابته. فرع آخر قال في «الأم»: لو كاتب الصبي عبده لم تجز كتابته سواء أذن أبوه في ذلك القاضي أو نائبه وكذلك لو أعتقه على مال يأخذه منه لأن الصبي ممن لا يجوز عتقه وعند أبي حنيفة تجوز كتابته بإذن السيد. فرع آخر قال: ولو كاتب محجور عليه عبده لم يجز ولو أدى إليه لم يعتق سواء أدى إليه قبل أن يطلق الحجر عنه أو بعدما أطلق. وهكذا لو قال له إن دخلت الدار فأنت حر، ثم

أطلق عنه الحجر، ثم دخل الدار لم يعتق يحدد يمينًا أو عتقًا بعد إطلاق الحجر. فرع آخر قال: لو ادعى عبد على سيده أنه كاتبه، فقال: كاتبتك، وأن محجور، وقال العبد: كاتبتني وأنت غير محجور عليك، ثم حجر عليك، فالقول قول العبد، وعلى السيد البينة. قال القاضي أبو حامد وإن كان السيد في حجر أطلق عنه، أو كان به جنون، فالقول قوله مع يمينه، وما ادعى من الكتابة باطل. فرع آخر قال في «الأم»: ولو كاتب السيد عبده، وهو غير محجور عليه ثم حجر على السيد كانت الكتابة ثابتة ويستأدي وليه الكتابة، فإذا أدى العبد فهو حر، ولو دفع إلى المحجور عليه لا يعتق لأنه قبضه لا يصح ذكره أصحابنا وإن أطلق عنه الحجر بعد ذلك لا يعتق أيضًا. وقال بعض أصحابنا بخراسان [74/ ب] إذا دفع إليه وقلنا: لا يعتق ثم أطلق الحجر عنه من بعد هل يعتق بالإيتاء السابق قد قيل: قولان، وقيل: قولا واحدًا لا يعتق لأن الحجر عليه لا لغيره. مسألة: قال: ولو اختلف السيد والمكاتب تحالفا وترادا. هكذا نقل المزني وقال في «الأم» إذا تصادق السيد والعبد على أن كاتبه كتابة صحيحة واختلفا في الكتابة، فقال السيد: كاتبتك على ألفين، وقال العبد: على ألف تحالفا كما يتحالف المتبايعان ويترادان فمن أصحابنا من قال: لفظ التراد غلط من الكاتب في هذه المسألة لأن العتق لا يرد إذا وقع وهذا يتبين من كلام الشافعي في «الأم» لأنه ذكر التراد فيما شبه الكتابة به من اختلاف المتبايعين لا في الكتابة ومن أصحابنا من قال: المراد به فسخ الكتابة وهو صحيح وجملته أنه إذا اختلفا في مقدار الكتابة أو في مقدار النجوم، أو في مقدار الأجل، أو في جنس مال الكتابة فإنهما يتحالفان، وبه قال أبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: القول قول المكاتب وعن أحمد ثلاث روايات: إحداها كقولنا، والثانية: كقول أبي حنيفة، والثالثة: القول قول السيد، ودليلنا أنهما اختلفا في عوض العقد القائم بينهما، وليس مع أحدهما بينة فيتحالفان كما في المتبايعين إذا اختلفا في الثمن. فإن قيل: القياس أن لا تحالف، ولكن أثبتناه في البيع للخبر، قيل: القياس هو التحالف لأن كل واحد منهما مدعي ومدعى عليه ولأن في الإجارة يثبت التحالف، [75/ أ] ولم يرد فيها الخبر، فلم يصح ما قاله، فإذا تقرر هذا وتحالفا انفسخ عقد الكتابة فإن كان قبل العتق عاد العبد رقيقا كما كان وهذا إذا قلنا: ينفسخ البيع

بالتحالف من غير حكم الحاكم فأما إذا قلنا: في التحالف لا ينفسخ البيع ما لم يفسخ الحاكم بعد التحالف لا يعود العبد رقيقًا ههنا بنفس التحالف بل إذا تراضيا على شيء بعد التحالف أقرا عليه وعتق العبد بأدائه، وإن لم يتراضيا فسخها الحاكم ثم يعود العبد رقيقًا، وإن كان بعد الأداء ووقوع العتق لم يرد العتق ولكنهما يتراجعان بالقيمة لأن العقد ينفسخ ويسقط المسمى فيكون بمنزلة الأداء في الكتابة الفاسدة فيثبت التراجع، فإن قيل: كيف يتصور اختلافهما بعد عتقه، قيل: ذكر الشافعي في الإملاء وحرملة صورة ذلك، فقال: قال الشافعي: لو أن رجلا جاء إلى الحاكم ومعه عبد له، فقال: كاتبت عبدي هذا كتابة صحيحة على ألفي درهم وقبضها منه فعتق، وقال العبد: صدق في كل ما قال إلا في الألفين فإنه ما كاتبني إلا على ألف درهم وأعطيته ألفين على أن يكون لي عنده ألف، وليس لواحد منهما بينة تحالفا كما يتحالف المتبايعان الحران، وكان للسيد على العبد من الألفين قدر قيمته، فإن كانت قيمته أكثر من ألفين رجع السيد بالفضل عليه فإن أقاما جميعًا البينة، فقال بينة العبد كاتبه في شهر رمضان من سنة كذا على ألف، وقال: بينة السيد كاتبه في شوال من تلك السنة على ألفين، [75/ ب] واتفقا على أن الكتابة كانت واحدة، قال الشافعي: كان هذا كذابا من كل واحدة من البينتين للأخرى ويتحالفا وهو مملوك بحاله وإن لم يتفقا على أن الكتابة كانت واحدة. قال الشافعي: البينة المتأخرة أولى لأنهما قد يكونان صادقين فتكون كتابته في شهر رمضان ثم انقضت الكتابة وأحدث له كتابة أخرى، قال الشافعي: إلا أن تكون البينة الأولى أنه أدى وعتق، فتكون البينتان متعارضتين لأنه لا يمكن أن يكون مكاتبًا بعد العتق. فرع قال في «الأم»: ولو شهدت بينة المكاتب أنه كاتبه على ألف وأداها السيد ألفا وشهدت بينة سيده أنه كاتبه على ألفين فأدى ألفا ولم يوقت البينتان لم يعتق المكاتب وتخالفا وتراد الكتابة من قبل أن كل واحدة من البينتين تكذب الأخرى فليست إحداهما بأولى أن تقبل من الأخرى، فجعل الشافعي البينتين المطلقتين في التعارض مثل البينتين المؤرختين. وقول الشافعي: تحالفا وترادا دليل على صحة لفظ التراد في المسألة الأولى، وإن المراد به فسخ العقد. فرع آخر قال في «الأم»: ولو شهدا معًا بهذه الشهادة واجتمعا على أن السيد عجله العتق، وقالت: بينة السيد جعل الألف دينًا عليه وأخر ذلك أنفذت له العتق لاجتماعهما عليه،

وأحلفت كل واحد منهما لصاحبه ثم جعلت على المكاتب قيمته ليسده كانتأكثر من ألفين أو أقل من ألف. ولو تصادقا على أن الكتابة بألف في كل سنة منها كذا فمرت سنون، فقال السيد: لم يؤد إلى شيئًا، وقال العبد: [76/ أ] أديت إليه جميع النجوم كان القول قول السيد مع يمينه، وعلى المكاتب البينة فإن لم يقم بينه وحلف السيد، قيل للمكاتب: إن أديت جميع ما مضى من نجومك الآن وإلا فلسيدك تعجيزك. فرع آخر قال: ولو قال السيد: قد عجزته وفسخت كتابته وأنكر المكاتب أن يكون فسخ كتابته كان القول قول المكاتب مع يمينه، ولا يصدق السيد على تعجيزه إلا ببينة تقوم على حلول نجم أو نحوم على المكاتب، فيقول: ليس عندي أداء ويشهد السيد أنه فسح كتابته، فيكون كتابة مفسوخة سواء كان هذا عند حاكم أو غير حاكم. فرع آخر قال: ولو ادعى على سيده أنه كاتبه وأقام بينة بكتابته ولم تقل البينة إلى وقت كذا لم تجز الشهادة وكذلك لو قال: كاتبه على مائة دينار، ولم يثبت في كم يؤديها وكذلك لو قال: مائة دينار منجمة في ثلاث سنين، ولم تقل في كل سنة ثلثها، أو أقل أو أكثر لا تجوز الشهادة حتى يؤقتا المال، والسنين وما يؤدى في كل سنة، فإذا انقضت البينة من هذا شيئا سقطت وحلف السيد وكان مملوكًا وإن نكل حلف العبد وكان مكاتبًا على ما حلف عليه. فرع آخر قال: ولو أقام بينة على أنه كاتبه وأدى إليه فعتق، أو أقام بينة على أن سيده أقر أنه كاتبه على أنه إذا أدى فهو حر، وأنه أدى إليه وجحد السيد وادعى أن الكتابة كانت فاسدة أعتقته عليه وأحلفت العبد على صحة الكتابة، فإن حلف برئ وإلا حلف السيد وترادا القيمة. مسألة: قال: «ولو مات العبد المكاتب وكان له ولد من امرأة معتقة». الفضل صورة المسألة [76/ ب] أن يكاتب عبدًا فتزوج بحرة معتقة فأتت بولد يكون الولد حرا وولاءه إلى الأم لأنه عتق بعتقها، فإن أدى الأب مال الكتابة عتق وجر ولاء ولده عن موالي الأم إلى موالي نفسه. ولو قال السيد في حال حياة المكاتب قد أدى إلى كتابته عتق بقوله وانجر الولاء إليه، وإن لم يكن صادقًا لأنه يجعل هذا الكلام نمه ابتداءً إعتاق وإبراء.

وإن مات العبد فقامت البينة أن السيد أقر بقبض النجوم في حياته فكذلك الحكم، وإن لم تقم البينة ولكنه يقر بعد موته بأنه كان قد أدى المال وعتق ويدعي ذلك لجر الولاء. وقال موالي الأم مات قبل الأداء، فالولاء لنا، فالقول قول موالي الأم لأن الأصل بقاء الولاء لهم، فلا ينتقل عنهم إلا بيقين ويحلف مولى الأم على العلم أنه لا يعلم ذلك. قال في «الأم»: ودفع مال المكاتب إلى ورثته الأحرار بإقرار سيده أنه مات حرًا وهذه الصورة مسألة الكتاب. فرع لو أقر السيد في مرضه أنه قبض ما على مكاتبه حالا كان على المكاتب أو مؤجلاً صدق، وليس هذا بوصية وإنما هو أقر ببراءة دين كان عليه، فهو كما يصدق على إقراره لحر ببراءة دين له عليه. مسألة: قال: «ولو قال: استوفيت ما على مكاتبي أقرع بينهما». صورة المسألة: أن يكون مكاتبان فأقر أنه استوفى ما له على أحدهما وكانت كتابتهما سواءً أو أقر أنه أبرأ أحدهما ما عليه، وإنما أشكل عليه عينه، قال الشافعي: يقرع بينهما ولا خلاف أنه لا يقرع ما دام السيد حيًا بل يرجع إليه، [77/ أ] فيقال له: تذكر، وأخبر به، فإن الظاهر من حال الإنسان أنه إذا نسي شيئًا تذكره وأخبر عنه، فغن تذكر وأخبر به يعتق الذي أخبر به، فإن ادعى الآخر أنه هو الذي عتق، فالقول قول السيد فيحلف له وتسقط دعواه، فإن نكل عن اليمين حلف العبد وعتق أيضًا وإن لم يتذكر حلف لهما إذا تداعياه. ثم الحكم فيهما بعد اليمين اختلف أصحابنا فيه على وجهين، أحدهما: أن يكون كل واحد منهما على كتابته، ولا يعتق واحد منهما إلا بأداء جميع المال وحكي عن الشافعي هذا الوجه لأن كل واحد منهما لم يستقر له الأداء، والثاني: أن الدعوى ترد على المكاتبين حتى يتحالفا على الأداء، فإن حلفا أو نكلا كانا على الكتابة لا يعتقان إلا بالأداء وإن حلف أحدهما ونكل الآخر قضى بالأداء للحالف منهما دون الناكل وعتق، وكان الناكل على كتابته، وإن مات السيد قبل البيان، ففيه قولان، أحدهما: يقرع بينهما لأن الحرية قد تعينت في أحدهما لا بعينه فوجب تمييز ذلك بالقرعة، ولأن معنى ذلك أن أحدهما حر والآخر مملوك فهو كما لو قال أحدكما: حر، ولم يبين ومات وأراد واحدًا بعينه لأن العتق قد تعين في الذي أدى الكتابة والسيد المخبر عنه، والثاني: لا يقرع بينهما لأن أحدهما قد عتق، فلو أقرعنا أدى إلى نقل الحرية من شخص إلى شخص ولا سبيل إلى ذلك. وإذا قلنا: بهذا رجعنا إلى الورثة، فإن ذكروا أنهم يعرفون ذلك حكمنا بحرية المعين

بإقرارهم فإن ادعى الآخر ذلك يحلفون له، فإن نكلوا عن اليمين حلف العبد [77/ ب] أن الأول بالإقرار، والثاني: يرد اليمين وإن ذكروا أنهم لا يعرفون ذلك حلفوا لكل واحد منهما ويستوفون المال منهما جميعًا كرجل له دين على رجلين أقر أن أحدهما برئ مما عليه ولم يعينه ومات فالورثة يحلفون لكل واحد منهما ويستوفون الدينين معًا كذلك ههنا. ومن أصحابنا من قال: بيان الورثة مقدم على الإقراع في العتق المعين وهذا عتق معين، فإن قال الوارث: لا أعلم يقرع حينئذ على ما ذكره الشافعي ذكرها القاضي الطبري وهذا أصح عندي، وقال صاحب «الشامل»: عندي أنه إذا حلف الوارث لهما أنه لا يعلم عين المؤدي منهما، وقلنا: لا يقرع فقالا: نؤدي على أحدنا إن كانت الكتابتان سواء، وإن اختلف المالان، فقالا: نؤدي الأكثر منهما ليعتق. كان لهما ذلك لأنه إذا أدى ذلك فقد ثبت أداء جميع ما عليهما بحكم الإقرار السابق، وهذا حسن عندي. فإن قيل: أليس لو قال: استوفيت ديني من أحد الغريمين ولم يبين، ومات لا يقرع بينهما فما الفرق؟ قيل: الفرق أن ههنا في ضمن الاستيفاء عتقًا والإقراء لحق العتق لا لتبيين الاستيفاء، وهناك استيفاء محض، فلا تشرع القرعة ونظيره لو قال: استوفيت بعض نجوم، أحدهما ولم يبين لا يقرع لأن العتق لا يحصل به، بل الأمر موقوف. فإن قيل: هلا اعتبرتم ظاهر اللفظ وهو الاستيفاء حتى لا يقرع: لأنه إخبار وليس بإنشاء، وفي ذلك المخبر عنه استيفاء، وعتق والعتق مغلب [78/ أ]. وإذا أقرعنا، فخرجت القرعة لأحدهما عتق، وقد حصلت البراءة تبعًا للعتق وبقي الآخر مكاتبًا. وإن ادعى أحدهما على الورثة فأنكر له حصل بإنكاره الإقرار للآخر. ثم رجع الشافعي رضي الله عنه إلى مسألة الخلاف، فقال: والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم، قال: وكيف يموت عبدًا ثم يصير حرًا بالأداء بعد الموت؟، وإذا كان لا يعتق في حياة السيد إلا بعد الأداء فكيف يصح عتقه إذا مات قبل الأداء؟ وهذا ذكره دليلا على أبي حنيفة رحمه الله. مسألة: قال: «ولو أدى كتابته فعتق وكان عرضًا فأصاب السيد به عيبًا فرده». الفصل جملة هذا أن الكتابة على العرض جائزة كما تجوز على النقود لأنه تثبت في الذمة سلمًا، فإذا كاتب على عرضين موصوفين إل أجلين معلومين، فأداهما على صفتها، فإنه يعتق في الظاهر لأنه أدى المال الذي وقعت الكتابة عليه، فإن أصاب السيد

بالعرض عيبًا فله رده، وإمساكه لأنه ملكه بمعاوضة ولا فرق عندنا بين العيب اليسير والكثير. وقال أبو حنيفة لا يرد بالعيب اليسير، فإن اختار الإمساك سقط حكم الرد واستقر ملكه على المأخوذ واستقر العتق، وإن اختار الرد فرده وعجز ارتفع العقد، وارتفع العتق الواقع له كالمشتري إذا رد المبيع بالعيب ويفارق هذا إذا قال لامرأته: إن أعطيتني ثوبًا فأنت طالق وأعطته ثوبًا فإنها تطلق فلو وجد به عيبًا، فرده لم يرتفع الطلاق لأن المغلب هناك حكم الصفة وههنا المغلب حكم المعاوضة، [78/ ب] فإذا رده ارتفع حكمه كالبيع، وقال أحمد: لا يرتفع العتق الواقع به إذا رد لأن المال فيها غير مقصود كما في الخلع وهذا غلط لما ذكرنا، فإن قيل: إذا اختار الإمساك ينبغي أن لا يعتق لأنه لم يعطه جميع ما وقع عليه العقد كما لو كاتبه على عشرة فأعطاه خمسة أو تسعة لا يعتق، قلنا: إذا أمسك المعيب فقد رضي بإسقاط حقه منه فجرى مجرى ما لو أبرأه مما بقي من مال الكتابة، ولأن سلامة الصفة اقتضاها العقد والقدر منصوص عليه فتعلق العتق به لأن حكم الصفة أخف وكفى في سقوط حقه منها إمساكه، وقال أبو إسحاق: العتق قد وقع بقبضة معيبًا لأن كونه معيبًا لا يمنع كونه ملكًا للقابض إلى يفسخ ذلك، وإذا كان ملكه وجب أن يعتق المكاتب لأنه لا يجوز أن يجتمع في ملكه البدل والمبدل، ويقال للسيد إن رضيت به فالعتق نافذ من يوم قبضت، وإن لم ترض به فرده بالعيب فإذا رده عاد مكاتبًا، وقيل له: إن أعطيته سليمًا من العيب فليس له تعجيزك، فإذا عجزت عن ذلك، فليس عليه الصبر وله تعجيزك ورد الكتابة. قال المسارجسي: وبعض أصحابنا إذا وجد العيب تبينا أن العتق لم يقع فإن أمضاه ورضي به عتق من وقت الرضا وإن رد لم يقع العتق. وقول الشافعي ورد العتق ليس على ظاهره لأن العتق لا يرد بعد وقوعه، وإنما لم يقع العتق لأنه إذا وجد به عيبًا تبينا أنه لم يأت بالعوض الذي وصفه كالمسلم إليه إذا أتى بالمسلم فيه بغير فته، فإن المعقود عليه [79/ أ] لم يسلمه والذي يدل عليه أن الشافعي شبهه بدفع دنانير نقص، ولا شك أن العتق لا يقع بدفع دنانيرنا فضة. قال: وقد قال الشافعي في كتاب الخلع: إذا خالع بعبد بعينه فوجد به عيبًا رده، وكان له عليها مهر مثلها، وإنما أوقع الطلاق لأن العقد وقع على عوض موصوف، فإن كان به عيب لم يسلم ما وقع العقد عليه، قال: والدليل على أن العتق إذا وقع لا يرفع أن الشافعي، قال: ولو قال: أنا عبد فلان، فأنكره وقال: ليس لي عتق، فإنه أقر بعده لغيره لم يقبل منه ولا يرفع عتق واقع. ولأن الشافعي قال: إذا اختلفا في مقدار مال الكتابة بعد قبضه تحالفا ويرجع إلى قيمته، ولا يرفع العتق فصح أن العتق لم يصح في هذه المسألة، وهذا إذا كانت السلعة قائمة، فأما إذا كانت فائتة، قال أبو إسحاق: عاد إلى الكتابة من يوم المعيب لأنه بالتلف وجب للسيد أرشه فكأنه من ذلك اليوم قد بقي من الكتابة مقدار أرش العيب، فيكون مكاتبًا من ذلك الوقت، فيقال له: إن أعطيته نقصان العيب من وقتك وإلا فلسيدك تعجيزك، ولم يقل: يرد العتق، فلو كان العتق باقيًا مع تلف السلعة كبقائه إذا

كانت باقية لاحتاج أن يرد العتق أولا ثم يعجز، وقال القفال: لو رضي بالعيب بعدما علم به، وفاتت السلعة ففي وقت العتق وجهان، أحدهما: من يوم الدفع، والثاني: من يوم الرضا، قال وإذا أراد الأرش فإن كان العيب ينقص عشر قيمة العوض فعلى العبد أني غرم عشر قيمة [79/ ب] نفسه كما لو أسلم ثوبًا في حنطة، فأخذ الحنطة وأتلفها ثم وجد بها عيبًا ينقص عشر قيمتها فعلى البائع أن يرد عشر الثوب وههنا لا يمكن أن يرد عشر نفسه للفوت بالعتق فيرد عشر قيمة نفسه ومن أصحابنا من قال: يلزمه عشر قيمة العوض، وهذا غلط وهكذا الحكم لو كانت السلعة باقية ولكن حدث فيها عيب آخر، فلم يرض به لا يقع العتق حتى يدفع الأرش. وإن وجد ما أخذ مستحقًا بان أنه لم يعتق بلا إشكال. فرع قال الشافعي رضي الله عنه لو قبضه، وقال له: أنت حر ثم بان استحقاقه، فاختلفا، فقال السيد: أردت أنه حر على حكم الكتابة بقبض ما قبضت. وقال المكاتب: بل أردت إنشاء الحرية، فالقول قول السيد مع يمينه ثم هو على كتابته إلى أن يؤدي وعلى هذا لو قيل له: طلقت امرأتك، فقال: نعم، طلقتها، ثم اختلفا، قالت المرأة: أردت إنشاء الطلاق أو إقرارًا بطلاق آخر وقال الزوج: أنا قلت ذلك على ظن أن اللفظ الذي كان جرى بيننا وقع به الطلاق، وقد أفتى العلماء بأن ذلك اللفظ ليس بطلاق، فالقول قوله، ذكره القفال، وهو غريب ولو بان استحقاق العرض، ثم قال: أنت حر يعتق الآن بلا إشكال. مسألة: قال: «ولو ادعى أنه دفع مال الكتابة انظر يومًا». اعلم أنه إذا اختلف السيد والمكاتب، فقال: أديت المال وأنكر السيد، فإن لم يكن معه بينة، فالقول قول السيد لأن الأصل بقاء الحق في ذمته، وإن كان معه بينة تشهد له فإن كانت حاضرة أقامها، [80/ أ] قال: فإن جاء بشاهد حلف معه وبرئ. وهذا نص على أنه يقبل فيه شاهد ويمين ولا فرق بين النجم الأول، والثاني: وقد ذكرنا وجهًا آخر أنه لا يقبل في النجم الثاني، وهو خلاف النص وإطلاق الوجهين خطأ وإن ادعى أن له بينة غائبة لا يؤجل أكثر من ثلاثة أيام لأنها آخر حد القلة وأول حد الكثرة، فإن أحضر شاهدًا واستنظر بالثاني، ينظر ثلاثة أيام أخرى، ولو أحضر شاهدين انظر لإثبات عدا لتهما ثلاثًا. مسألة: قال: «ولو عجز أو مات وعليه ديون بدئ بها على السيد». الفصل قد ذكرنا فيما تقدم أنه إذا مات سقط دين السيد وبقيت ديون الناس، فيقضي مما في

باب كتابة بعض عبد، والشريكين في العبد يكاتبانه

يديه، فإن بقي شيء لا يلزم سيده قضاءه، وإن لم يمت ولكنه أفلس يبدأ بديون الناس على نجومه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لو كان لسيده عليه دين من معاملة لا من نجوم الكتابة فهو كأحدهم في ذلك، وإنما تقدم الديون على نجوم الكتابة فقط، وإن كان فيهم مجني عليه، ففيه وجها، أحدهما: يشاركهم، والثاني: يصرف ما في يده إلى الغرماء ويعجز ثم تباع رقبته للمجني عليه لأنه يمكن استيفاء حقه من رقبته ولا يمكن استيفاء حق الغرماء من رقبته فكانوا أحق بما في يده، وهذا أصح وهو اختيار القفال وغيره. قال القفال: فإن مات رقيقًا، وهناك ديون جناية ومعاملة، ففيه وجان أحدهما: يقدم دين المعاملة كما في حال الحياة، والثاني: هما سواء [80/ ب] لأن دين المعاملة كان في المال والأرش كان في الرقبة فلما مات انتقل إلى المال وعندي أن أرش الجناية سقط بموته لفوات محله، وهو الرقبة وليس له تعليق بالمدة. فرع قال في «الحاوي»: إذا عجز وكانت الجناية أقل من ثمنه بيع منه بقدرها، وكان الباقي منه على رق سيده، فإن أراد السيد أن يستبقي الباقي على الكتابة جاز له لأنه لم يبتدأ بها في بعضه فيمنع منها، وإنما بطلت الكتابة في بعضه فجاز أن يصح الباقي منها، فإذا أدى كتابة باقية عتق، وفي تقويم باقيه على السيد إن كان موسرًا وجهان، أحدهما: لا يقوم عليه لتقديم سبب العتق قبل التبعيض، والثاني: يقوم الباقي ويسري العتق في جميعه لأن اختياره للإنكار كابتداء العتق. فرع آخر قال: لو بيع بعضه في جنايته قبل أن يحل عليه مال الكتابة لزم السيد أن يقيم على الكتابة في باقية لأنها إذا لزمت في جميعه لزمت في بعضه ولا يقوم عليه باقيه إن عتق بالأداء وجهًا واحدًا لأن عتقه لم يقف على خياره بعد التبعيض. فرع آخر لو استسخر السيد مكاتبه فحبسه عن العمل واستخدمه، فهو مضموم عليه، فيؤخذ من السيد ثم هل يستأنف له ما فات من زمان الأجلظ قولان أحدهما: لا يستأنف لأنه قد أخذ أجر المتلف، والثاني: يستأنف إذ لا سبيل إلى تعجيزه، وقد أبطل عليه مدته، فإذا قلنا: لا يستأنف فإن وقت أجرة المثل بمال الكتابة عتق، وإن كان فيه فضل بقي له الفضل، [81/ أ] وإن نقص فبذلك النقصان يعجزه السيد إن كان قد حل النجم. باب كتابة بعض عبد، والشريكين في العبد يُكاتبانه مسألة: قال: «ولا يجوز أن يكاتب بعض عبد».

الفصل إذا كاتب بعض العبد لا يخلو أن يكون باقيه حرًا أو مملوكًا له، أو مملوكًا للغير فإن كان باقيه حرًا صحت الكتابة لأنه يتوفر عليه جميع مقاصد الكتابة ويعطى من سهم الرقاب، وإن كان الباقي مملوكًا له نص على أنه لا يجوز لأنه يملك به كمال الكسب والتصرف فإن له منعه من السفر والغيبة ولا يجوز له أن يأخذ سهم الرقاب لأن السيد يأخذ نصفه لحق الملك وذلك لا يجوز، فصار كما لو كاتب عبدًا بشرط أن لا يسافر ولا يأخذ من الصدقة لا يجوز، وقال بعض أصحابنا: فيه قول مخرج أنه يجوز لأن الشافعي، قال في العبد المشترك: إذا كاتبه أحدهما بإذن شريكه فيه قولان، لأنه شريكه، وهو قد رضي، ومن قال بالأول فرق بأنه أمكنه هناك أن يكاتب كله ليكون العقد مصونًا عما ذكر وأحد الشريكين لا يمكنه أن يكاتب أكثر من نصيبه، فإذا قلنا: لا يجوز فأدى ما سمى عتق بالصفة والنصف الثاني يعتق بالسراية، ويتراجعان بنصف القيمة، وهو أن يؤدي العبد إلى سيده نصف قيمته ويسترد ما أعطاه وإنما قومنا عليه الباقي لأن نصفه عتق بسبب كان منه، ولا يجب على العبد قيمة نصف الذي سوى العتق إليه كما لو قال: [81/ ب] إن دخلت الدار فنصفك حر، فدخل عتق نصفه وسري إلى باقيه، ولا يقوم على العبد النصف الباقي، وقال ابن سُريج هذا إذا أدى ما سمي بعد أداء حق سيده من كسبه، فإن أدى قبل أداء حق سيده منه، ففيه وجها، أحدهما: لا يعتق كما في الكتابة الصحيحة لاستحقاقه لبعضه بحكم الملك فلم يكمل به الأداء، والثاني: يعتق لأن في الفاسد يغلب حكم العتق بالصفة، وقد وجدت الصفة وإن لم يملك كما لو قال: إن أعطيتني هذا الثوب فأنت حر فأعطاه وكان مغصوبًا عتق. ومن أصحابنا من قال فيا يرجع به السيد على مكاتبه وجهان، أحدهما: ما ذكرنا، والثاني: يرجع بجميع قيمته لوقوع عتقه عن كتابة فاسدة ذكره في «الحاوي» وإذا قلنا: بالقول المخرج فإن هايأه السيد فكان يكسب يومًا ويخدم يومًا للسيد فأدى النجوم من نصيبه عتق النصف بالكتابة والنصف بالسراية، وإن لم يكن مهيأة بل اكتسب لنفسه كل يوم ووفر على السيد ضعف نجومه عتق أيضًا كما ذكرنا نصفه بالكتابة ونصفه بالسراية وإن لم يدفع إلا مقدار النجوم، فهل يعتق أم لا؟ فيه وجهان على ما ذكرنا. وهو مخير يجوز أن يهايئه ويجوز أن لا يهايئه بلا خلاف. وإن كان الباقي مملوكًا لغيره فإن كاتبه بغير إذن شريكه لا يجوز وبه قال مالك وأبو حنيفة وجماعة، وقال الحكم وعبيد الله العنبري وابن أبي ليلى والحسن بن صالح بن حي وأحمد: يجوز وهذا لا يصح لأنه إذا كان باقيه مملوكصا فالسيد لا يكنه من الاكتساب والسفر لا يدفع إليه شيء [82/ أ] من الصدقات، فلا يحصل له الأداء الذي هو المقصود لحصول العتق، وحكم الكتابة أن يكون عقدًا لا يكون المكاتب فيه ممنوعًا

من جميع وجود الاكتساب، وإن قلنا: لا يمكنه أخذ الصدقات لأن ذلك يؤدي إلى مقاسمة الشريك فتصير نصف الزكاة إلى سيده الذي لم يكاتبه فإذا ثبت أنه لا يجوز فقد اشتملت على معاوضة وصفة وبطلت المعاوضة فتجردت الصفة وللسيد إبطالها فإن أبطالها صار كأنه لم يكاتبه، وإن لم يبطلها حتى أدى مال الكتابة عتق وثبت بينه بين السيد التراجع على ما ذكرنا وسرى العتق إلى نصيب شريكه إن كان موسرًا ويلزمه قيمته، وإن جمع الكسب وأداه إلى السيد الذي كاتبه، فهل يعتق به وجهان على ما ذكرنا، والظاهر أنه لا يعتق لأنه يقتضي إعطاء ما يملكه وينتفع به وذلك لا يحصل بمال شريكه، وقال بعض أصحابنا بخراسان نقل الربيع: أنه لا يعتق ونص في كتاب ابن أبي ليلى: أنه يعتق فحصل قولان، قال: ولذا لو قال لعبده: إن أعطيتني عبدًا، فأنت حر فأعطاه عبدًا مستحقًا فهل يعتق؟ قولان، وهذا غريب، فإن قلنا: لا يعتق، فالسيد الذي لم يكاتبه يرجع على شريكه بنصف الكسب الذي أخذه من العبد فإن الكسب مشترك بينهما. ثم إن كان مع العبد ما يؤدي إلى شريكه تمام ما عليه من كسبه وثبت بين المكاتب وبين سيده التراجع على ما ذكرنا في القسم قبله ويسري العتق إلى باقي العبد إن كان موسرًا، ويقوم عليه نصيب شريكه ولا يلزم العبد شيء، لأنه [82/ ب] لم يدخل في عقد الكتابة على ضمانه. وإن كانت الكتابة بإذن شريكه فحصل، تصح الكتابة فيه قولان نقلها المزني، أحدهما يصح، وبه قال أبو حنيفة ومالك لأنه منع من ذلك لحق شريكه، فإذا رضي به بإسقاط حقه وإدخال الضرر على نفسه يصح ونص على هذا في الإملاء على مسائل محمد بن الحسن. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: إذنه في ذلك يقتضي أن يؤدي العبد مال الكتابة من جميع كسبه ولا يرجع الإذن بشيء منه وطلب أبو يوسف ومحمد يصير جميعه مكاتبًا لأن التدبير والكتابة يسريان وهذا لا يصح لأنه عقد معاوضة فلا يسري كالبيع، والثاني: نص عليه في «الأم»: أنه لا تصح الكتابة وهو اختيار المزني لما ذكرنا من العلة لأنه لا يكون ممكنًا من جميع وجوه التكسب والتصرف، فإذا قلنا: إنها باطلة فالحكم كما لو كاتبه بغير إذن شريكه سواء، وإذا قلنا: تصح الكتابة فنصف العبد يكون مكاتبًا ونصفه يكون مملوكًا للشريك، ويكون الكسب بينهما والنفقة عليهما، ثم ينظر فإن دفع إلى الشريك الذي لم يكاتب نصف الكسب وجميع النصف الآخر ودفعه إلى السيد الذي كاتبه عتق ولا تراجع لأنه عتق بكتابة صحيحة ولكنه يسري إلى الباقي إن كان موسرًا على ما ذكرنا، وإن جمع الكسب كله وأداه إلى المكاتب فهل يعتق من أصحابنا من قال: فيه وجهان، أو قولان كما ذكرنا في المسألة قبلها، وهذا خطأ بل لا

يعتق قولاً واحدًا والفرق أن الكتابة ها هنا صحيحة والمغلب فيها حكم المعاوضة وفي المعاوضة إذا دفع شيئًا غير مملوك كان بمنزلة ما لم يدفع [82/ أي كما في البيع وفي المسألة قبلها الكتابة فاسدة والمغلب حكم الصفة وقد وجدت الصفة فعتق، وقد ذكرنا أن كسبه مشترك بين المكاتب وبين الشريك، فإن لم يكن مهيأة لا يجوز أن يأخذ من سهم الصدقات وإن كان بينهما مهايأة يجوز أن يأخذ من سهم الصدقات للرقاب في أيام نفسه خاصة ذكره في «الحاوي». وقال الصيمري: إذا جوز كتابته هل يأخذ من الزكاة قولان، وهل تجب المهايأة إذا طلب أحدهما قال في «الحاوي»: فيه وجهان، أحدهما: تجب كالقسمة وأصل هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قسم بين نسائه وهذا مهايأة قد أوجبها لنفسه وعليها، والثاني: لا تلزم لأنها لا تفضي إلى تأخير حق معجل وتعجيل حق مؤخر بخلاف القسمة، وفي قسم الزوجات لا يمكن الجمع بينهن فلا بد من إفراد كل واحدة بحقها فلزمت المهايأة، واحتج المزني على ما اختاره، فقال: زعم الشافعي أنه لو كانت كتابتهما فيه سواءً فعجزه أحدهما وانظره الآخر فسخت الكتابة بعد ثبوتها حتى يجتمعا على الإقامة عليها فالابتداء بذلك أولى. ثم قال: ولا يخلو إما أن تكون كتابته جائزة كبيعه إياه فلا معنى لإذن شريكه أو لا يجوز فلم نجوزه بإذن من لا يملكه، وهذا اعتراض على القولين وجوابه عن الفصل الأول أن يقال للمزني: هذا جواب على القول الذي لا يجيز الكتابة، فأما على القول الذي يجيز الكتابة فلا تفسخ الكتابة في نصيب من أنظره، وقال القفال: من أصحابنا من سلم هذه المسألة أنه لا يجوز، لأنه بغير إذن الشريك، وإنما تراضيا في الابتداء ليكاتباه معًا، [83/ ب] فإذا اختلفا في التعجيز والإنكار حصل استبقاء الكتابة في النصف بغير إذن الشريك حتى لو قال للذي عجزه: رضيت بأن ينظره صاحبي جاز قولا واحدًا. وأما الفصل الثاني: إذا باع نصيبه ترك منزلته فلا يحتاج إلى إذن الشريك في بيعه كما لا يحتاج إلى إذنه في استبقاء ملكه، وأما إذا أراد أن يكاتبه، فالكتابة ضرر على شريكه من وجوه شتى بخلاف إعتاق نصفه إذ لا يجد المكاتب بدا من التغلب للتحمل فإذا أذن فقد رضي بالتزام الضرر فجاز، فإذا تقرر هذا ذكر الشافعي في هذا الفصل أن المكاتب لا يمنع من السفر والاكتساب، والمزني نقل هذا من «الأم»، وحكى المزني في «الجامع الكبير» عن الشافعي أنه قال في «الإملاء»، وليس للمكاتب أن يسافر بغير إذن سيده، واختلف أصحابنا في المسألة على طريقين فمنهم من قال: المسألة على اختلاف حالين، فالموضع الذي قال له أن يسافر إذا كان سفرًا قصيرًا لا تقصر فيه الصلاة، فيكون ذلك بمنزلة الحضر، والموضع الذي قال: لا يسافر إذا كان السفر طويلاً لأن فيه تغريرًا، ومن أصحابنا من قال: فيه قولان، أحدهما: لا يجوز له أن

يسافر إلا بإذن السيد وبه قال مالك: لأنه ممنوع من إتلاف ما في يجده فليس له أن يغيب المال عن سيده لأنه لا يؤمن أن يتلفه من حيث لا يقف عليه سيده ولا يمكنه منعه منه ولأن للمرتهن منع الراهن من السفر بالمرهون فالسيد أولى لأن حق السيد فيما في يد [84/ أ] المكاتب أكثر، فإنه قد يعجز أن يموت فيأخذ السيد جيمعه، والثاني: يجوز ذلك ولا يمنعه منه السيد وبه قال أبو حنيفة وأحمد حتى قال أبو حنيفة: لو شرط عليه سيده في الكتابة أن لا يسافر سقط الشرط وكان له أن يسافر ووجه هذا أن المكاتب في يد نفسه، وإنما للسيد عليه دين والدين لا يمنع السفر كالدين على الحر إذا كان مؤجلا، وقال المزني: هذا أقيس على أصله لأنه إذا كان على كتابته فهو مالك لنفسه ولتصرف إلى أن يعجز فليس له أن يمنعه منه لا سيما وفي السفر منفعة تؤدي إلى حريته، قلت: وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إن شاء الله أنه قال: مكتوب في التوراة. قال الله تعالى: «أحدث سفرًا أحدث لك رزقًا». مسألة: قال: «ولا يجوز أن يكاتباه معًا حتى يكونا فيه سواء». قال أصحابنا لم يرد بهذا أنه لا يجوز أن يكاتباه معًا حتى يكونا في قدر الملك سواءً بل يجوز أن يكاتباه معًا قولا واحدًا سواءًا تساويا في الملك أو تفاضلا لأن كل عقدٍ صح مع التساوي صح في الملك مع التفاضل كالبيع، وإنما أراد به، لا يجوز أن يكاتباه حتى يكونا في اعتبار مال الكتابة بقدر الملك سواء، فلا يجوز أن يكون العبد بينهما نصفين ويكون مال الكتابة بينهما ثلثًا وثلثين، ولا يجوز أن يكون العبد بينهما أثلاثًا، ويكون مال الكتابة بينهما نصفين، وإن رضيا لا يجد بدًا من أن يدفع حق احدهما إلى الثاني لأنه ربما يدفع إلى أحد السيدين مائتين، [84/ ب] وإلى آخر مائة ثم يفسخان الكتابة فيحتاج أن يرجع السيد الذي حصل معه مائة على الآخر بخمسين فيكون قد انتفع شريكه بهذه الخمسين مدة بقائها بغير حق ولا سبيل إلى ذلك، ويفارق هذا إذا باعاه من نفسه أحدهما بأكثر من الآخر جاز لأن ذلك لا يتعلق بالكسب والكتابة تتعلق بالكسب وكذلك إذا أجراه بأجرتين مختلفتين لما ذكرنا من الفرق، وهو أنه لا يفضي إلى أن ينتفع أحدهما بملك شريكه، وههنا يؤدي إلى ذلك واختلف أصحابنا في هذه المسألة هل هي أصل بنفسها أم مبنية على غيرها؟ فمنهم من قال: هي مبنية على أصل، وهو أن أحد الشريكين إذا كاتب بإذن شريكه هل يصح؟ فيه قولان، فإذا قلنا: يصح لم يجز ذلك، وعلى هذا يدل كلام الشافعي، فإنه ذكر هذه المسألة في «الأم»، وذكر أنه لا يجوز ثم قال: ولو أجزت هذا أجزت أن ينفرد بكتابة بحصته فثبت أنا إذا جوزنا ذلك جازت هذه الكتابة، وهذا لأن العقد يتعدد بتعدد العاقد فصار كما لو أفرد كل واحد منهما كتابة نصيبه وهذا اختيار القفال، ومن أصحابنا من قال: هذه المسألة أصل بنفسها ولا تجوز هذه الكتابة بحال مع التفاضل لأن المعنى الذي ذكرنا

موجود على القولين جميعًا وهذا اختيار القاضي الطبري وأجري على القياس وتلك الطريقة أشبه بكلام الشافعي، ومن أصحابنا من قال قوله حتى يكونا فيه سواءً أراد به: تساويهما في ملكه، فإن تفاضلا وكان لأخدهما ثلثه وللآخر ثلثاه [85/ أي لم يصح لقوة أحدهما فيصير التساوي بينهما معدومًا، ولهذا قيل: فيه سواء، يعني في العبد، ولو أراد الكتابة لقال: حتى يكونا فيها سواءً، وعلى هذا يجوز على مالٍ يتفاضلان فيه، ,به قال أبو حنيفة ذكره في «الحاوي»، ومن أصحابنا من قال: إذا كاتباه معًا فيه طريقان، أحدهما: هل يجوز ذلك فيه قولان، لأن العقد إذا اجتمع في أحد طرفيه عاقدان جرى عليه حكم العقدين فصار كأن كل واحد انفرد به، وفيه قولان، والطريقة الثانية: أنه يجوز قولاً واحدًا وهذا التخريج خطأ لأنه يكمل تصرفه إذا اجتمعا ويجوز أخذه من الصدقات بخلاف ما لو كاتبه أحدهما، فقولاً واحدًا يجوز وإذا قلنا: لا يجوز حتى يتساويان في النجم على قدر الملك لا يجوز أن يشترط أحدهما أن يحل نجمه قبل نجم صاحبه أو يحل لأحدهما في النجم الأول أكثر مما يحل للآخر أن يختلفا في جنس المال بل يجب أن يتساويا في جميع ذلك للمعنى الذي ذكرنا. مسألة: قال: «ولو كاتبناه جميعًا بما يجوز، فقال: قد دفعت إليكما مكاتبتي». الفصل في هذا الفصل مسائل إحداها: أن يدعي أنه دفع إلى كل واحدٍ منهما من المال حقه وأنه عتق فلا يخلو حال الشريكين من ثلاثة أحوال، إما أن يصدقاه أو يكذباه أو يصدقه أحدهما ويكبه الآخر فإن صدقاه عتق لأنهما أقرا ببراءة دمته، وإن كذباه قالقول قولهما لأن الأصل أن لا قبض فيحلفان ويكون المال لهما عليه، وإن صدقه أحدهما يعتق نصيبه بإقراره [85/ ب] بقبض المال، وأما المكذب فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل عدم القبض فيحلف ويكون حقه باقيًا على المكاتب ولا تقبل شهادة شريكه عليه، وإن كان عدلا لأنه يدفع بذلك ضررًا عن نفسه فإنه إذا لم يثبت أن شريكه قبض شيئًا من المال استحق أن يرجع عليه ويأخذ منه نصف ما دفعه إليه فهو بشهادته يسقط عن نفسه حق الرجوع فلم تقبل شهادته، فإذا ثبت هذا فإن نصف العبد قد عتق وهو نصيب المصدق ونصفه باق على الكتابة وهو نصيب المكذب، والمكذب بالخيار إن شاء طلب المكاتب بالخمسمائة التي كاتبه عليها بكمالها وإن شاء رجع على شريكه بمائتين وخمسين، وعلى المكاتب مائتان وخمسون لأن الكسب الذي حصل مع الشريك مستحق لهما، فلا يجوز لأحد الشريكين أن يأخذ شيئًا منه دون صاحبه، فإذا أخذه يصير ضامنًا لنصيب صاحبه منه، وإنما يعتق نصيبه بإقراره بأنه لا حق له عليه فيكون

ذلك بمنزلة الإبراء، فإن اختار الرجوع على المكاتب ومطالبته بالخمسمائة، وأخذها منه، وإن اختار مطالبة كل واحد منهما بما يلزمه ففعل عتق لأنه أدى جميع المال ولا يستحق المكاتب أن يرجع على الشريك المصدق بشيء ولا الشريك يستحق الرجوع على المكاتب بشيء فإنه يقول: أديت ما علي من مال الكتابة والشريك ظالم فيما يرجع علي به، فإنه قد استوفى حقه، ومن أقر أنه مفهوم لا يستحق الرجوع على غيره بما ظلم به وهكذا الشريك المصدق لا يستحق الرجوع على المكاتب بشيء، فإنه يقول [86/ أ] شريكي: قد استوفى حقه من المكاتب، وهو ظالم فيما يرجع به علي، وإن اختار السيد أ، يرجع على المكاتب بخمسمائة فطالبه بها فعجز فله أن يسترقه لأنه قد عجز عن أداء ما عليه، فإذا استرقه حصل نصفه حرًا، ونصفه مملوكًا وكسبه في المستقبل بينه وبين السيد نصفين. وأما الكسب الذي وجده في يده فنصفه يكون لسيده الذي استرقه ونصفه يترك عليه لأن نصفه قد عتق بعقد الكتابة، فكان كسب ذلك النصف له كما لو عتق جميعه. قال الشافعي رضي الله عنه، ولا يقوم باقي العبد على الشريك المصدق، والتعليل الصحيح فيه أن التقويم إنما يراد لحرية العبد وتكميل أحكامه والعبد يقول: أنا عتقت فلا أحتاج إلى التقويم، وإنما غصبني الشريك المنكر على نصفي فسقط التقويم في حقه لأن المغصوب لا يقوم على أحد، قال القاضي الطبري وهذا لا يختلف فيه قول الشافعي ولم يحك أبو إسحاق ولا صاحب «الإفصاح» غير هذا القول، وذكر المزني هذه المسألة في «لجامع الكبير» عن الشافعي هكذا، ثم قال: وهذه المسألة الثانية، وإن ادعى أنه دفع جميع مال الكتابة إلى أحدهما فقال المدعى عليه، بل دفعه إلينا جميعًا رجع عليه شريكه بنصف ما أقر بقبضه وعتق نصيبه وقوم عليه نصيب شريكه إن كان موسرًا، قال أبو إسحاق: وإذا وجب تقويمه فهو على قولين أحدهما تبطل الكتابة في نصيبه ويقوم على شريكه في الحال كما لو أعتق نصيبه، والثاني: يكون نصيبه [86/ ب] على كتابته فإن عجز حينئذ قوم على شريكه، والفرق بين هذه المسألة، والمسألة التي قبلها أن العبد في هذه المسألة لا يدعي حرية جميعه لأنه لا يعتق بدفع جميع مال الكتابة إلى أحدهما، فلهذا قومنا على المقر نصيب شريكه، وفي هذه المسألة التي قبلها ادعى دفع نصيب كل واحد منهما إليه وحرية جميعه فلم يجب تقويمه وهو يزعم أنه حر وقال القاضي الطبري من أصحابنا من قال يقوم نصيبه على شريكه وهذا له وجه ولكنه خلاف النص، وقال في «الحاوي» نص الشافعي أنه لا يقوم وعلل بأن العبد يبرئه من ذلك، وفي هذا التعليل نظر لأنه في تكميل العتق م حقوق الله تعالى ما لا يعتبر فيه الإبراء، ولا فرق بين المسألتين عندي على وجه يصح الفرق، وقال بعض أصحابنا ينقل جواب إحدى المسألتين إلى الأخرى، وهل يقوم فيهما على الشريك؟، فيه قولان،

وقال بعض أصحابنا بخراسان قولا واحدًا يقوم فيهما لأنه حصل عتق نصيب الواحد، إما بإقراره أو باتفاق الكل، وله الولاء فيقوم عليه نصيب الشريك وهذا والذي قبله ليس بشيء، والفرق ظاهر، وفي هذه المسألة الثانية القول قول المدعى عليه: أنه لم يقبض الخمسمائة الأخرى لأن الأصل أنه ما قبض وإذا حلف برئت ذمته من دعوى المكاتب عليه، ولا تقبل شهادة الشريك على الشريك الآخر لما ذكرنا والقول قول الشريك المنكر أنه ما قبض حقه، ولا يمين عليه لأنه لم يدع واحد منهما عليه أنه أقبضه وهو بعد إنكاره مخير بين أن يرجع على المكاتب بجميع حقه وبين أن يرجع على المقر بنصفه وعلى المكاتب بنصفه على ما ذكرنا في المسألة قبلها، ولا يرجع أحدهما على صاحبه بشيء لما ذكرنا من العلة. والمسألة الثالثة: أن يكاتب رجلان [87/ أ] عبدًا لهما على ألف كل على واحد منهما على خمسمائة ثم إن المكاتب ادعى أنه أدى الألف إلى أحد السيدين على أن يأخذ منهما خمسمائة، ويدفع إلى شريكه خمسمائة وصدقه السيد، وقال قبضت منك الألف وأخذت منها خمسمائة، ودفعت إلى شريكي خمسمائة، وأنكر الشريك ذلك، وقال ما دفع إلي شيئًا فنصيب المقر يعتق بإقراره بقبض نصيبه ولا تقبل شهادته على شريكه بأنه دفع إليه حقه لأنه يدفع بذلك ضررًا عن نفسه ويكون القول قول المنكر مع يمينه، فإذا حلف يكون نصيبه مكاتبًا ونصيب شريكه قد عتق، وللسيد أن يطالب بخمس مائة على الكمال من شاء منهما فله أن يطالب المكاتب لأنه كاتبه عليها، ولم يثبت أنه دفع إليه وله أن يطالب الشريك لأنه أقر بقبضها ولم يثبت أنه دفعها إلى الشريك، فإن رجع على المكاتب، وأخذ منه خمس مائة كان للمكاتب أن يرجع على السيد، فيأخذ منه الخمس مائة التي دفعها إليه سواء صدقه في أنه دفعها إلى شريكه أو كذبه لأنه إن كذبه فهو يقول: ما دفعت، ما قبضت وإن صدقه، فهو يقول: أنت منوط كأنه كان من سبيلك أن تدفع دفعًا يبرئني وهو بالشهادة، وإن رجع على شريكه، فأخذ منه خمسمائة لم يكن للشريك أن يرجع على المكاتب لأنه يقول: هو ظالم فيما يرجع به، فلا يستحق الرجوع بما ظلم به فإذا حصل للشريك الخمس مائة، إما من [87/ ب] المكاتب، أو من شريكه عتق العبد كله، وإن تعذر ذلك فإن اختار الرجوع على المكاتب فعجز عن الأداء، وهذا بعيد فإنه إذا رجع على المكاتب فيمكن للمكاتب مطالبة شريكه وأخذ خمس مائة منه فلا يتعذر عليه الأداء، اللهم إلا أن لا يختار الرجوع على شريكه الذي هو سيده ويختار التعجيز، فلا يجبر على الرجوع عليه ومطالبته لأن ذلك بمنزلة الاكتساب، فلا يجبر عليه المكاتب، فإذا تعذر حصول المال من المكاتب فالسيد يعجزه ويسترقه فإذا فعل ذلك عاد نصفه رقيقًا ويقوم على الشريك المقر بالقبض لأنه عتق بسبب كان منه وهو الكتابة، فإذا قوم لزمه نصف قيمته ويرجع عليه الشريك المكذب بخمس مائة لأنه لما استقر العبد استحق نصفه ونصف كسبه، وهو الخمس مائة التي هي كسبه للنصف الذي استرقه فاستحق أخذها فيصير المقر بعد

التعجيز غارمًا لكتابة الحصة، وهي خمس مائة ولقيمتها ولو دفع ذلك قبل التعجيز لم يلزم إلا مال الكتابة وحدها دون القيمة وإن حصل الأداء من جهة المكاتب وعتق باقيه يرجع على سيده المقر بالقبض الخمس مائة التي قبضها منه لأنه عتق بكتابة صحيحة، وقال القاضي الطبري: هذا التقويم على المقر إذا لم يصدق سيده في دفع خمس مائة إلى شريكه وإن كان قد صدقه لم يقوم لأنه يعترف بأنه حر وإن أحكامه قد كملت. مسألة: قال: «ولو أذن أحدهما لشريكه أن يقبض نصيبه فقبضه ثم عجز». الفصل جملة هذا أن الرجلين إذا كاتبا عبدًا لهما على ألف درهم فلا يجوز للمكاتب [88/ أ] أن يفضل أحدهما على الآخر فيما يدفعه، ولا أن يقدم أحدهما على صاحبه، بل يدفع إليهما شيئًا واحدًا على السواء في وقتٍ واحدٍ، فإن أذن أحدهما للمكاتب أن يدفع ما حصل له من الكسب إلى شريكه ويقدمه عليه فهل يصح هذا الإذن؟، ويصح قبض الشريك لما يأخذه فقولان منصوصان، أحدهما: لا يصح لأن السيد لا يملك ما في يد المكاتب حتى يقبضه فإذنه فيما لا يملكه لا حكم له ونعني به أنه لا يملكه ملكًا كاملاً فإنه مال مكاتبه وعتقه معلق به، وهذا قول أبي حنيفة واختاره المزني، فقال: هذا أشبه بقوله: أداء المكاتب عبد ما بقي عليه درهم وما في يده موقوف ما بقي عليه درهم، فليس معناه فيما أذن له بقبضه إلا بمعنى استغنى بوزن النصف حتى استوفى فليس يستحق بالسبق ما ليس له كأنه وزن لأحدهما قبل الآخر وصورة هذه المسألة التي استشهد بها المزني: أن يأتي المكاتب بالمال ليعطيهما حقهما فيقول أحدهما لصاحبه اسبقني بوزن نصيبك فسبقه ووزن لأحدهما نصيبه بإذن شريكه لم يعتق نصيبه حتى يزن للآخر مثله قولاً واحدًا حتى لو تلف الباقي قبل أن يسلمه إلى الشريك الآخر كان له أن يرجع على القابض بنصف ما قبضه. والقول الثاني: يصح ويحكى ذلك عن قول أبي حنيفة وعلى هذا يعتق نصيبه بقبض قسطه ووجه هذا أنا إنما منعناه من الانفراد ببعضه لحق شريكه، فإذا رضي بتقدمه عليه جاز ومن قال بهذا أجاب عما ذكر المزني بأن في هذه المسألة التي استشهد بها لم يرض بحقيقة السبق لكن إذا أراد أن يوفيهما حقهما منفردين لم يمكنه إلا هذا فهما في الحقيقة قابضان معًا، وههنا قد تطاول [88/ ب] زمان السبق، وخرج عن عادة إيفائهما معًا، فوجب أ، يتم حكم القبض المتقدم بعتق ذلك النصف، وقال القفال: من أصحابنا من بني القولين على جواز كتابة أحد الشريكين بإذن صاحبه لأن في كل واحد من الموضعين يؤدي الأمر إلى كتابة يكون في أحد النصفين، ومنهم من قال: بل ينبني هذا على أن تبرعات المكاتب هل تجوز بإذن السيد لأن هذا التعجيل والتخصيص تبرع

لأحدهما، فإذا قلنا: لا يصح التعجيل فلشريك الرجوع بمثل ما يعجله شريكه، فإن كان مع المكاتب مثله فدفعه إليه استقر التعجيل الأول وعتق كله وإن لم يكن بيده غير ما عجله كان للإذن الرجوع على المتعجل بنصف ما في يده، فإذا رجع لم يعتق شيء منه، وإن قلنا: يصح التعجيل، وهو الأصح عتق نصيبه. قال أبو إسحاق: فإن كان معه وفاء بنصيب الآخر أداه وعتق عليهما، فإن لم يكن معه وفاء به فلا يختلف المذهب أنه يقوم على شريكه، وقال في «الحاوي»: هل يقوم على شريكه فيه قولان، أحدهما: يقوم في الحال، والكتابة تنفسخ في نصيب شريكه في الحال، ويقوم عليه أختار الشريك تعجيزه، أو لم يختر لأنه إذا تعلق العتق بسببين روعي أعجلهما، والقول الثاني: قاله في «الإملاء» على كتاب مالك لا تنفسخ الكتابة في الحال فإن أدى المكاتب حصة الشريك الآخر عتق وكان الولاء بينهما، وإن عجز قوم نصيبه على الشريك القابض نصيبه إن كان موسرًا وإن كان معسرًا فقد عتق نصفه ورق نصفه. قال المزني: قد قال: لو أعتقه أحدهما قوم عليه الباقي إن كان موسرصا وعتق كله ولم يؤخذ التقويم إلى حالة العجز وإلا كان الباقي مكاتبًا، ولذلك لو أبرأه، [89/ أي فهو كإعتقاه إياه، قال المزني: هذا أشبه بقوله: يعني أ، تعجيل التقويم في الحال أولى بأصله لهذه المسألة، قلنا: هذا على أحد القولين، فأما على القول الآخر، فلا يقوم في الحال حتى يعجز في المسألة التي أوردها المزني أيضًا، على ما تقدم بيانه فإذا قلنا: تقوم في الحال، فإنجميع ما في يد العبد يكون للشريك لأن التقويم يفسخ الكتابة، والشريك قداستوفى نصيبه، فيكون ما بقي له وهذا إذا كان هذا الذي بقي مثل ما يعجله، فإن كان أكثر من المعجل كانت الزيادة بين الشريك الآذن بحق رقه وبين المكاتب بحق عتقه، وإذا قلنا: يقوم إذا عجز فإن كل ما يكسبه إلى أن عتق نصفه، فهو لسيده الذي لم يقبض نصيبه وما كسب بعده إلى أن قوم يكون بينه وبين السيد الذي لم يقبض نصيبه نصفين لأنه كسبه بنصفه الحر ونصفه المكاتب، وقال في الكتاب في أثناء الفصول فإن مات بعد العجز فما في يديه بينهما نصفان يرث أحدهما بقدر الحرية وهذا على أحد القولين والآخر بقدر العبودية وتسميته الآخر وارثًا عبارة مجاز وقد ذكرنا هذا في كتاب الفرائض. وهذا إذا استعجل ما عتق نصيبه به فأما إذا استعجل نصيبه من النجم الأول بإذن الشريك ففيه القولان في صحة الإذن وإذا قبض هل يخلص له أم يشاركه فيه صاحبه؟ كما ذكرنا فإن قلنا: صح الإذن أدى العبد مثل ذلك إلى الآخر، فإن لم يبق عنده مال، وعجز فلا شك أن عليه أن يناصف صاحبه ما قبض لأنه كسب عبدهما، فلا يخلص له بأن يقول له شريكه: أذنت لك في أخذه بل يناصفه ويأخذ [89/ ب] مثل ما أخذ، ثم الباقي بينهما واختار بن سُريج أنه لا يأخذه مثل ما أخذ لأنه يقول: لما أذنت لي في الأخذ رضيت بوقوع حقك في ذمته ثم لما عاد رقيقًا سقط دينك عن ذمته بالتعجيز.

مسألة: قال: «ولو مات سيد المكاتب فأبرأه بعض الورثة من حصته عتق نصيبه». قد ذكرنا هذه المسألة، وقال: ههنا ولاؤه للذي كاتبه يعني الميت لأن العقد له، ولا أقوم عليه، والولاء لغيره، وهذا أحد القولين اللذين ذكرناهما فيما تقدم، ثم قال: وأعتقه عليه بسبب رقه فيه لأنه لم يكن فيه رق فعجز لمن يكن له. وهذا اللفظ لإيجازه مشكل، وهو جواب سؤال لا يصح إلا بذكر السؤال كأنه يقول: إن قال قائل: إذا لم يقوم على هذا الوارث الذي قد أعتق نصيبه بالإبراء، فلم أعتقت بقوله ذلك النصيب؟ وإذا نفذ العتق فيه بقوله: وجب التقويم عليه، قلنا: إنما يعتق عليه ذلك النصيب بسبب رقه فيه، لأنه لو لم يكن فيه رق لم يكن له إذا عجز ومعلوم أنه إذا عجز كان ذلك النصف له، فإذا لم يعجز فالولاء لمن كاتبه، وإذا كان الولاء لغير هذا الوارث المعتق أو المبرئ لم يجز التقويم عليه. وحكى المزني في موضع آخر هذين القولين في أصل التقويم على هذا الوارث، وقال في موضع فيها قولان، أحدهما: لا يقوم عليه، والثاني: يقوم عليه إذا عجز وكان له ولاؤه كله لأن الكتابة الأولى بطلت، وأعتق هذا ملكه. وقال الإمام أبو محمد الجويني: ههنا نكتة وذلك أنه إذا أعتق أحد الوارثين نصيبه من المكاتب [90/ أ] الموروث. وقلنا: بالتقويم وانتظرنا العجز فعجز النصف الثاني فقومناه، قد ذكرنا أن الكتابة انتقضت في النصف المقوم بالعجز ف أما النصف الأول الذي أعتقه الوارث فهل يحكم الآن بإبطال الكتابة؟ فيه اختلاف أصحابنا فيه فمنهم من لم يبطل الكتابة فيه، وعليه الأكثرون، ومنهم من أبطل الكتابة فيه وعلل، فقال: العقد عقد واحد فإذا انفسخ بعضه في الانتهاء انفسخ جميعه وكنت استضعفت هذا الوجه حتى دل النص عليه في هذا الموضع حيث حكى المزني القولين في أصل التقويم، وقال في القول الثاني لأن الكتابة الأولى بطلت وأعتق هذا ملكه فوجدناه قولاً منصوصًا، وقال القاضي الطبري معناه ولاء هذا النصف له لا الكتابة إنما بطلت فيه دون نصيب المبرئ، قال المزني: الول أشبه بمعناه يعني أن لا يقوم عليه، واحتج بأنه زعم أنه إذا أبرأه من قدر حقه من مالك الكتابة عتق نصيبه، بمعنى عقد الأب فلم يجز أن يزيل ما ثبت يعني إذا ثبت أن العقد حصل على عقد الأب لم يجز أن يقوم عليه هذا الوارث ثم قال المزني: وإذا زعم أنه إن عجز فقد بطلت الكتابة الأولى فينبغي أن يبطل عتق النصيب بالإبراء من قدر النصيب لأن الأب لم يعتقه إلا بأداء الجميع فكأن الأب أبرأ من بعض مال الكتابة، فلا عتق بإبرائه من بعض مال الكتابة، قلنا: قال أصحابنا لم يرد الشافعي بقوله: بطلت الكتابة في الجميع وإنما أراد في النصيب الذي يقوم على الابن فلم يجب رد العتق، وقال الجويني: رحمه الله اعترض المزني بهذا [90/ ب] على القول الذي استضعفناه ووجدناه نصًا، فقال: إذا حكمنا في الانتهاء بإبطال جميع الكتابة وجب أن يبطل عتق النصف الأول الذي أعتقناه بلفظ الإبراء

باب ولد المكاتبة

ويكون كالسيد لو أبرأه من بعض مال الكتابة. والجواب: أو الوارث يومئذ كان كالسيد إذا أبرأه عن جميع مال الكتابة لأن الوارث أبرأ عن جميع حصته فلهذا حكم بعتق ذلك النصف، فإذا حكمنا اليوم بإبطال الكتابة فكيف يلزمنا حصته فلهذا حكم بعتق ذلك النصف، فإذا حكمنا اليوم بإبطال الكتابة فكيف يلزمنا أن نعترض على ذلك العتق؟ قال: ويحتمل أن يكون جميع كلام المزني من قوله: الأول أشبه بمعناه إلى آخر الباب اعتراضًا واحدًا على هذا القول الذي نصرناه وأجبنا عنه المزني رحمه الله، والله أعلم. باب ولد المكاتبة مسألة: قال: «وولد المكاتبة موقوف». الفصل جملة هذا أنه إذا كاتب أمة فأتت بولد لا يخلو إما أن تأتي به من السيد، أو من غيره فإن أتت به من السيد انعقد حرًا وتصير له أم ولد لأن له فيها ملكًا، وإن كان ضعيفًا، وتكون الكتابة باقية فيها، لأنها عتق بصفة، فلا ينافيها الاستيلاد كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت حرة ثم استولدها تكون أم ولده ومعتقته بصفة، فإن أدى مال الكتابة عتقت وبطل حكم الاستيلاد وإن عجزت بطلت الكتابة ويكون الاستيلاد باقيًا فيها فتعتق بموت السيد وإن مات السيد قبل الأداء عتقت بموته وبطلت الكتابة وإن أتت بولد من غير السيد، إما من زوج، أو من زنا يكون مملوكًا لأن الأم مملوكة، [91/ أ]. ولا يصير مكاتبًا لأن الكتابة عقد معاوضة يفتقر إلى إيجاب وقبول ورضى فلا يلزم حكمه إلا لمن عقد معه ويفارق ولد المدبرة يتبعها في التدبير في أحد القولين لأن التدبير يحصل بقبول السيد وحده ومن الفرق أن المكاتبة متى عجزت أو ماتت بطلت الكتابة وكان ولدها رقيقًا، وإذا مات المدبر قبل موت سيده يبطل تدبيره ولم يبطل في ولده ثبت أن الولد دخل في التدبير، ولم يدخل في الكتابة، فإن قيل: ولد المبيعة يدخل في حكم المبيع، وإن كان المبيع يفتقر إلى الإيجاب والقبول، قلنا: لا يدخل في البيع وإنما يتبع في الملك لأن المبيعة صارت ملكًا للمشتري وههنا الملك للمكاتب فلو تبع تبع في العقد دون الملك، وقال أبو حنيفة يسري إلى الولد لأنها سبب ثابت للعتق فسرى إلى الولد كالاستيلاد، وهذا خطأ لما ذكرناه. فإذا ثبت أنه لا يدخل في الكتابة فما حكمه؟ فيه قولان، أحدهما: أنه مملوك للسيد لأنه عقد يلحقه الفسخ فلا يثبت حكمه في الولد كالرهن، والثني: أنه موقوف على حكم الأم، فإن رقت رق الولد، وإن عتقت عتق الولد، قال الشافعي رضي الله عنه. وهذا القول أحب إلي، وقال أبو إسحاق: إذا اختار الشافعي هذا القول وجب أن يكون القول الآخر ساقطًا ووجه هذا القول أن الولد يتبع الأم في سبب الحرية كما يتبعها في

الحرية كولد أم الولد، ولأن الولد من كسبها فيقف على عتقها كمالها، فإذا قلنا: الولد يكون مملوكًا للسيد فله أن يتصرف فيه كيف شاء، ولو قيل: كانت قيمته له، وإذا قلنا: إنه موقوف فالكلام على هذا القول [91/ ب] في خمسة أحكام، أحدها: في الجناية عليه، والثاني: في نفقته، والثالث: في كسبه، والرابع: في عتقه، والخامس: في وطئها إذا كانت ثيبًا. فأما في الجناية عليه، فضربان جناية على نفسه وجناية على طرفه فإن كانت الجناية على نفسه وكانت خطأ يوجب المال فعليه قيمته لأنه مملوك، فيضمن بالقيمة ولمن تكون القيمة فيه قولان، أحدهما: أنها للسيد وهو اختيار الشافعي رضي الله عنه لأنه تابع لأمه، والأم لو قتلت كانت قيمتها للسيد فكذلك قيمة الولد للسيد وعلل أبو إسحاق فقال: لأن الولد لم يجز عليه العتق، ولا هو ملك الأم، وإنما هو ملك لسيده، وإنما وقف على الحرية والرق، فإذا قتل فقيمته للسيد. وأيضًا لو أعتق السيد الولد عتق فلو كان كسبًا لأمه تستعين به في كتابتها لما جاز أن يعتقه السيد لأنه يتلف على الأم بعتقه كسبه، قال أبو إسحاق: ويخالف هذا ولد المكاتب الذي أوصى له به فقبله أو وطئ جاريته في حال كتابته فولدت منه، فإنه يملك ولده ويصير موقوفًا من أجل ملكه إياه، ولو كان يجري عليه رق على الدوام لكان يستديم لملكه كسائر عبيده ولكن لا يستقر له ملكه على ولده فيعتق عليه إذا كان حرًا ويصير موقوفًا على حريته إذا كان مكاتبًا، فإذا كان كذلك يكون السيد ممنوعًا من ولده، ولا ينفذ فيه عتقه فلما نفذ دل على ما قلنا، والقول الثاني: أن قيمته للمكاتبة تستعين بها في مال الكتابة لأن القصد من الكتابة طلب حصتها، وهذا [92/ أ] من حصتها ولأن السيد لا يملك التصرف فيه مع كونه قنًا فلا يستحق قيمته، وإذا لم يستحقها السيد كانت لأمه لأنه لا فائدة في إيقاف القيمة بخلاف الولد لأنه يوقف ليعتق، وإذا كانت الجناية عليه عمدصا فإن جعلنا قيمته في الخطأ للسيد، فالقود في العمد مردود إلى خيار السيد، فإن اقتص أو عفا فلا اعتراض للأم عليه وإن جعلنا قيمته للأم، فإن اقتضت كان لها ولم يكن للسيد معها وإن عفت إلى المال كان لها وإن عفت عنهما، ففي صحة عفوها قولان، فإن قلنا: موجب العمد القصاص وحده يجوز ذلك أذن السيد أو لا لأنه لا حق للسيد في القصاص والمال لا يجب إلا باختيار الأم وليس للسيد أن يجبرها على تملكه، وإن قلنا: موجب العمد أحد الأمرين. أما القصاص أو المال لا يجوز ذلك لأن فيه إتلاف المال، وهل يجوز بإذن السيد قولان كالهبة. وإذا كانت الجناية على الطرف فإن كانت خطأ توجب المال ففيه ثلاثة أقوال، أحدها: الأرش للسيد لأنه ملكه، والثاني: الأرش للأم لأن الولد تابع لها، والثالث: أنه موقوف على الولد، فإن عتق بعتق الأم كان الأرش له وإن رق برقها كان للسيد وإن كانت عمدًا، فإن قلنا: الأرش للسيد كان القود في طرفه مستحقًا للسيد وإن جعلناه للأم كان القود في طرفه مستحقًا للسيد، وإن جعلناه موقوفًا على عتق الولد ورقه، فلا

حق للأم في القود، وهو موقوف بين الولد والسيد فإن اجتمعا عليه جاز أن يستوفياه وإن تفرد به أحدهما، لم يجز لأنه إن تفرد به الولد جاز أن يكون للسيد [92/ ب] أن يرق، وأن تفرد به السيد جاز أن يكون للولد إن عتق فلذلك منع أحدهما من التفرد حتى يجتمعا، أو يستقر أمر الولد على عتق فيكون القود له أو على رق فيكون لسيده، وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا قلنا: ولد المكاتبة يتبعها في الحرية فحق الملك للسيد في الولد أو للمكاتبة قولان، وفائدة هذا أنه لو جنى على طرف الولد فالأرش لمن يكون؟ فإن قلنا: للسيد حق الملك فيه، فالأرش موقوف، فإن عتق الولد فذلك له وإ÷ن رق برق الأم كان للسيد، وإن قلنا: حق الملك للمكاتب فالأرش للمكاتبة تستعين بها في كتابتها وإن قتل، فإن قلنا: حق الملك للسيد فأولى أن تكون القيمة له، وإن قلنا: حق الملك للأم، ففيه وجهان أحدهما: للأم، والثاني: للسيد أيضًا لأن حكمه إ÷ذا مات مات رقيقًا وما تقدم أصح على ما فسره في «الأم». وأما الكلام في كسبه فلن يكون فيه طريقان، أحدهما: فيه ثلاثة أقوال أحدها: للسيد، والثاني: للأم، والثالث: موقوف، والطريق الثاني فيه قولان: أحدهما: للأم، والثاني: موقوف وفيه قول ثالث مخرج أنه للسيد، وهو مخرج من كون القيمة للسيد وهذا ليس بشيء، والقولان منصوصان. وقال أبو إسحاق ما دام الولد حيًا لا تأخذ الأم كسبه وما في يده ويكون موقوفًا لا يختلف فيه قول الشافعي رضي الله عنه وزعم بعض أصحابنا: أنه في حياته قولان، أحدهما: وهم، والثاني: موقوف ولا نص فيه للشافعي نعلمه، قال الشافعي: والأول: أشبههما يعني أنه موقوف، [93/ أ] وإذا مات يكون للسيد، وقال المزني، بل الآخر أشبههما إذا كانوا يعتقون بعتقها، فهي أولى بها ومما يدل على ذلك قوله، ولو وطئ ابنه مكاتبته أو أمته كان عليه مهر مثلها وهذا يقتضي ما وصفت من معنى ولدها، قال أبو إسحاق: هذا ليس بإلزام صحيح لأن في حياة الولد لا يختلف قوله في الكسب أنه موقوف ولا تأخذ الأم، وإنما اختلف قوله بعد موت الولد، وقال غيره من أصحابنا: فيه قولان، وإن كان حيًا على ما ذكرنا ولا فرق بين المهر والكسب، فسقط السؤال هذا في مهر ابنتها، فأما في مهر أمتها يكون لها لا يختلف القول فيه، وقيل: يقال للمزني: كيف يقال القول الآخر أشبههما، وعلة القول الأول أظهر، وهي قوله لأن المكاتبة لا تملك ولدها. وأما إيجاب مهر المثل في وطء ابنة المكاتبة وأمتها فللحيلولة ورجاء العتق، ألا ترى أنها إذا لم تعتق كان ذلك المهر للسيد، فإذا قلنا: الكسب للمكاتبة، فإنها تأخذه يومًا بيوم وتستعين به في مال الكتابة، وإذا قلنا للسيد يومًا بيوم ويتصرف فيه، وإذا قلنا: إنه موقوف فإنه يجمع ثم ينظر فإن عجزت الأم واسترق الولد دفع الكسب إلى السيد، وإن عتقت وعتق الولد دفع الكسب إلى الولد، وإن أشرفت المكاتبة على العجز، فإن لم يكن في كسب الولد وفاء لأداء مال الكتابة لا يدفع إليها لأنها لا تستفيد به وإن كان فيه وفاء بمال الكتابة فهل يدفع إليها لتستعين به في مال الكتابة وتعتق، فيه

قولان: أحدهما: لا يدفع إليها لأنها غير [93/ ب] مستحقة له على هذا القول، وكان موقوفصا بين الولد والسيد فلم يكن كلام فيه حق، والثاني: يدفع إليها لأنه وقف طلبًا لحظ الولد إن عتق فإذا أخذته الأم فعتق بعتقها كان أحظ للولد من أن يأخذ السيد فيرق، ولو مات هذا الولد وكسبه موقوف، ففيه قولان بناءً على قيمته لو قتل أحدهما لها والثاني: لسيده، وأما الكلام في نفقته فإن كان مكتسبًا ففي كسبه وإن لم يكن مكتسبًا، فإن قلنا: كسبه للأم فالنفقة عليها، وإن قلنا: كسبه للسيد فنفقته عليه وإن قلنا: موقوف، ففيه وجهان: أحدهما على سيده لنه على ملكه، والثاني: في بيت المال من سهم المصالح لأنه محتاج، وليس له من ينفق عليه لأن السيد لا يملكه والأم لا تستفيد بالإنفاق عليه. وأما الكلام في عتقه فإن قلنا: كسبه له أو هو موقوف، والمكاتبة إذا أشرفت على العجز لم يدفع إليها ينفذ عتقه لنه تعجيل الحرية من غير أن يكون على المكاتبة فيه ضرر، وإن قلنا: كسبه للمكاتبة أو قلنا: موقوف ولكن أشرفت المكاتبة على العجز دفع إليها لم ينفذ عتقه لأن في هذا إضرارًا بالمكاتبة وتعطيلاً للكسب عليها. وقال أبو إسحاق: يعتق الولد قولا واحدًا. وذكره الشافعي في «الأم»، ومن أصحابنا من قال: لا ينفذ عتقه فيه. إذا قلنا: ما في يد الولد للأم، وليس بصحيح وهذه الطريقة أصح، وقال في «الحاوي»: إن قلنا: كسبه للأم لا ينفذ عتقه، وإن قلنا: كسبه للسيد نفذ عتقه فيه، وإن قلنا: موقوف، ففيه وجهان مخرجان من القولين في عجز الأم هل تتمم كتابتها بكسبه، [94/ أ] فإنا قلنا: تتمم لم ينفذ عتقه، وإن قلنا: لا تتمم، نفذ فيه عتقه وهكذا لو كاتبه السيد، فهو مبني على نفوذ عتقه فإن قلنا: يصح عتق بأسبق الأمرين من أدائه وأداء أمه لأنه إذا عتق بانفراد كل واحد منهما وجب أن يتحرر عتقه إذا اجتمعا بوجود أسبقهما فإن سبق أداؤه عتق عن كتابته، وإذا سبق أداء الأم عتق بأداء الأم تبعًا وبطلت كتابته بعتقه. وأما الكلام في وطئها إذا كانت ثيبًا، فإن قلنا: إنها مملوكة له؛ حل له وطئها، وإن قلنا: إنها موقوفة على الأم لحل ذلك لأنه لا يملكها ملكًا تامًا فإن وطئ فلا حد لأن له فيها شبهة الملك وفي المهر ثلاثة أقوال بناءً على الكسب أحدها: لا مهر إذا قلنا: الكسب للسيد، والثاني: يلزم المهر للأم، إذا قلنا: الكسب لها، والثالث: أنه موقوف كالكسب، فإن قلنا: بالوقف ففي كيفية وقفه وجهان: أحدهما: يوقف بعد قبضه من السيد، والثاني: يوقف في ذمة السيد وعلى حال يحرم الوطئ، فإن أحبلها انعقد الولد حرًا لشبهة الملك وتصير الجارية أم ولده لأنها علقت بحر في ملك وإن كان ضعيفًا، ولا يلزمه قيمتها لأن القيمة إنما تجب لمن يملكها، والمكاتبة لا تملك ابنتها ولا يلزمه قيمة الولد أيضًا لأنها وضعته، وهي أم ولد له، هكذا قال جميع أصحابنا المتقدمين،

وقال بعض المتأخرين من أصحابنا: هل يلزم قيمتها؟ ينبغي أن يكون فيه قولان كما إذا قلت ففي قيمتها قولان: أحدهما أنه له، والثاني: أنها لأمها تستعين به على كتابتها [94/ ب]. فرع كيف الحكم في ولد ولدها؟، قال الشافعي رضي الله عنه: ولد البنات كالبنات وولد البنين كالأمهات وأراد به أن ولد الابن يكون حكمها حكم أمه دون ابنه لأن ولد البنت تبع لها في الرق وولد الابن تبع لأمه في الحرية والرق فصار ولد البنات كالبنات وولد البنين كالأمهات. وقال أبو يوسف ومحمد: ولد البنت يكون داخلاً في كتابة جدته، كأمه وهذا نحو ما ذكره الشافعي، وقال أبو حنيفة: يدخل في كتابة أمه دون جدته واحتج بأن الحقوق التي تسري إنما تسري مع الاتصال، فأما الولد المنفصل فلا يسري إليه وهذا الولد اتصل بأمه دون جدته، وهذه لا يصح لأن الولد من كسب أمه والأمههنا تابعة للمكاتبة فكذلك ولدها كسائر كسبها، ونحن نقول بالسراية على ما ذكرنا فيما تقدم فلا يلزمنا ما ذكروا. مسألة: قال: «وهو ممنوع من وطء مكاتبته». العم أنه إذا كاتب أمته فليس له أن يطأها لأن الوطء إنما يستباح في زوجته أو ملك تام وليس ههنا واحد منهما، فغن وطئها فلا حد وبه قال جماعة العلماء. وحكي عن الحسن البصري أنه قال: يجب عليه الحد لأنه عقد عليها عقد معاوضة كما لو باعها وهذا لا يصح لأن له فيها ملكًا وإن كان ضعيفًا بدليل أنه لو أعتقها نفذ عتقه، ولو زوج ابنته من مكاتبه ثم مات وورثته البنت انفسخ نكاحها، لأنها ملكت جزءًا من زوجها فصار ذلك شبهة في سقوط الحد ولو شرط [94/ أ] في عقد الكتابة عليها أن يطأها كان الشرط والعقد باطلين وحكي عن مالك أنه قال: يصح العقد ويبطل الشرط، وقال أحمد: يصح العقد والشرط لأنه شرط عليه منفعتها فوجب أن يصح كما لو شرط الاستخدام، ودليلنا أنه لا يملك وطئها مع الإطلاق للعقد فلا يملكه بالشرط كما لو زوجها واشترط لنفسه الوطء، ويفارق الاستخدام لأنه يجوز أن يملك بما لا يمك به الوطء من الإعارة والإباحة، والدليل على بطلان قول مالك أن الشرط الفاسد يوجب فساد العقد كما لو شرط في الكتابة عوضًا فاسدًا، فإذا ثبت هذا فإن كانا عالمين بتحريم الوطء عزرًا وإن كانا جاهلين لم يعزرا، وإن كان أحدهما جاهلاً والآخر عالمًا لما عزر العالم دون الجاهل. وأما المهر، فنقل المزني عن الشافعي أنه قال: إن أكرهها فلها مهر مثلها، قال أبو إسحاق: ظاهر هذا أنه إذا وطئها طائعة لا مهر لها ولا نعلم أن الشافعي قال ذلك بل

نص أن لها مهر مثلها طائعة وطئها أو كارهة لأنه لا حد في هذا الوطئ فهو كما لو وطئ طائعة بنكاح فاسد فلها المهر، لأنه لا حد عليها وهذا هو الصحيح، وإنما يختلف الإكراه وغيره في المواضع الذي لو لم يكرهها لكان عليها الحد، ومن أصحابنا من قال: إذا أكرهها، ولم يتعرض لذكره إذا طاوعته وأوجب في «الأم» في الحالتين فلم يكن بينهما اختلاف، ومن أصحابنا من قال: ما حكاه المزني إن عرف للشافعي [95/ ب] فله وجه وذلك أنها إذا طاوعت فقد أباحت نفسها من غير عوض فلا مهر وهي مفارقة للمنكوحة نكاحًا فاسدًا لأنه المنكوحة لا تمكن إلا على أن لها المهر وليس بين المكاتبة والسيد عقد يوجب المهر لا صحيح ولا فاسد فإذا أباحت نفسها بلا عوض مع علمها به لم يجب لها العوض، قال أبو إسحاق: قد قيل: هكذا ولكنا لا نعرف للشافعي. قال: ذلك في شيء من كتبه. وقال في «الحاوي» قد قيل: فيه قولان بناء على الراهن إذا أذن للمرتهن في الوطء فوطئ هل يلزم المهر قولان. وقال القفال: أخل المزني بالنقل حيث خص بالمهر حالة الإكراه لأن في حالة الطوع يجب أيضًا، وإنما قال الشافعي: حالة الطوع حتى يكون حالة الإكراه أولى وهذا غريب، وذكر صاحب «المنهاج»: أن الصحيح أنه لا مهر لها إذا كانت طائعة وهكذا في الأمة إذا طاوعت على الزنا، وهذا سهو منه في هذا الموضع لما بينا. وحكي عن مالك أنه قال: لا مهر لها أصلا لأن بضعها ملكه ولهذا لا يجوز له أن تتزوج إلا بإذنه، وهذا لا يصح لأن منافع المكاتبة لها، ولهذا لو وطئها أجنبي بشبهة أو بالإكراه فالمهر لها وإنما يفتقر نكاحها إلى إذنه لأن النكاح لازم إلى الأبد فربما عجزن نفسها وتعود إليه ناقصة بالتزويج، فإذا ثبت وجود المهر، لها قال في «الأم»: فإن أصابها مرة أو مرارًا لم يكن لها إلا صداق واحد حتى تجبر فتختار الصداق، أو العجز فإن اختارت فعاد فأصابها السيد، فلها صداق آخر، قال أصحابنا: [96/ أ] هذا عبارة عن قبض الصداق، وفإذا قبضت ثم وطئها وجب صداق آخر. وهذا كما لو نكح امرأة نكاحًا فاسدًا، فأصابها رة أو مرارًا يجب صداق واحدًا، فإذا فرق بينهما وقضى بالصداق ثم نكحها نكاحًا آخر فلها مهر آخر إذا وطئها ثم هذا المهر يجب عليه من غالب نقد البلد ثم ينظر فإن لم يكن عليها نجم من مال الكتابة فإنها تأخذ وتتصرف فيه حتى يحل النجم. ثم قوله: وإن كان حل عليها نجم، فإن كان الذي حل عليها من غير جنس الآخر فهل يصير قصاصًا؟ فيه أربعة أقوال ذكرناها، فإن حبلت المكاتبة فقد ذكرنا أنها تصير أم ولد له والولد حر لا يلزمه قيمته وهي تعتق بحكم الكتابة ويكون كسبها له، ومتى تعتق بالاستيلاد يكون كسبها قبل العتق للسيد، وههنا الكتابة باقية، فإن أدت مال الكتابة قبل موت سيدها عتقت، وكان ما في يدها من الكسب لها، فإن عجزت نفسها

قبل موت السيد وفسخ الكتابة كان ما في يدها له، فإن مات عتقت بموته بحكم الاستيلاد وحدها. فرع لو أتت هذه المكاتبة بعد الاستيلاد بولد من زوج أو زنا فهذا ولد أم ولد وولد مكاتبة فيتبعها في الاستيلاد قولا واحدا، وهل يتبعها في الكتابة قولان، فإذا قلنا: لا يتبعها فليس له إلا سبب واحد وهو الاستيلاد فيعتق بموت السيد، وإذا قلنا: يتبعها فقد اجتمع لها سببان أيهما سبق عتق به، والحكم فيه كالحكم في الأم على ما ذكرنا. فرع آخر لو اشترى المكاتبة أمة للتجارة لا يحل للسيد وطئها، فإن وطئها قد ذكرنا أنه لا حد ويلزم المهر ههنا للمكاتبة بلا خلاف، [96/ ب] فإن حبلت انعقد الولد حرًا لشبهة الملك وتصير أم ولده لأنها عتقت بحر في ملك، ويلزمه قيمتها لأنها مملوكة للمكاتبة وقد أتلفها عليه بالإحبال، ويفارق للثبت على ما ذكرنا لأنها ليست بمملوكة له بل هي موقوفة معها أو مملوكة للسيد. وأما الولد فلا تجب قيمته لأنه قد ملك الأم بالتقويم، فإذا أتت بولد بعدما صارت أم ولده لم يلزمه قيمته. وأما إذا أحبل المكاتبة يلزمه قيمة ولدها إذا قلنا: ولدها موقوف لأنها مكاتبة كما كانت وقد أتلف ولدها عليها فلزمته قيمته لها ويدفع إليها أو تستعين بها أو يجعلها قصاصًا، وإذا قلنا: قيمته لو قتل تكون لسيدها فلا قيمة عليه. مسألة: قال: «ولو اختلفا في ولدها». الفصل إنما تتصور هذه المسألة على القول الذي يقول: ولد المكاتبة موقوف على كتابتها وصورتها أن يقول: المكاتبة ولدته بعد المكاتبة. وقال السيد: ولدته قبل الكتابة فهو ملكي فقد ذكرنا من قبل أن القول قول السيد لأنه اختلاف في التحقيق في قوت الكتابة، فإنها تقول عقدت معي الكتابة ثم أتيت بالولد، وهو يقول: لا بل أثبت به ثم عقدت معك الكتابة، والأصل أن لا عقد ولهذا نقول: لو اختلفا في أصل العقد، فالقول قوله أيضًا، وإذا قلنا: ولدها للسيد لا يتصور الاختلاف، فإنها سواء أتت به قبل الكتابة أو بعدها، فهو للسيد فإن نكل السيد عن اليمين ترد عليها اليمين، فإن نكلت ففي ردها على الولد بعد البلوغ، وجهان. مسألة: قال: «ولو اختلفا في [97/ أ] ولد المكاتب من أمته، فالقول قول المكاتب». في صورة هذه المسألة مضمون محذوف، ولا يمكن حمل اختلافهما على ظاهره

باب المكاتبة بين اثنين يطأها أحدهما أو كلاهما

لأنه ولد المكاتب من حرة حر لا يصح فيه الاختلاف، والمسألة مصورة فيمن كاتب عبده ثم زوجه أمته، فالتزويج صحيح ثم اشترى المكاتب من السيد زوجته فينفسخ النكاح عندنا خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله وصارت مملوكة له فأتت بولد فاختلف هو والسيد، فقال السيد: أتت به من قبل أن بعتكها، فهو مملوك لي، وقال: بل أتت به بعدما ابتعتها فهو لي يعتق بعتقي وأمكن ما قالاه، فالقول قول المكاتب لأنهما اختلفا في ملك الولد ويد المكاتب ثابتة على الولد فصار بيده أقوى من السيد. فرع قال بعض أصحابنا بخراسان: ذكر الشافعي رضي الله عنه: أنها لو أتت بولدين، أحدهما قبل الكتابة، والآخر بعدها، فهما للسيد لأنهما حمل واحد وهكذا لو أتت بأحدهما في يوم ملك الأم بأقل من ستة أشهر والآخر بأكثر فهما للسيد، وكذا أفتى الشيخ أبو زيد وليس بصحيح لأن الحمل يتبع الأم في البيع، وإذا وضعت ولدًا وفي بطنها ولد آخر فبيعت فالولد الثاني مبيع معها، وقد نص الشافعي كما قال الشيخ أبو زيد، فنقول: مراد الشافعي رضي الله عنه أنه يحكم بأن الولدين حصلا في ملك السيد ثم معقول أن الذي في البطن يصير مبيعًا يتبع الأم أو نقول صورة المسألة: [97/ ب] أنها أتت بالولد الثاني مع البيع لا بعده فيكونان للسيد. باب المكاتبة بين اثنين يطأها أحدهما أو كلاهما مسألة: قال: «إذا وطئها أحدهما فلم تحبل فلها مهر مثلها». اعلم أنه إذا كانت أمة بين رجلين فكاتباها لا يحل لأحدهما وطئها لأنه قبل الكتابة كان يملك بضعها ملكًا تامًا، ولم يكن يحل الوطئ فبعد الكتابة أولى أن يحل وطئها فإنها توجب تحريمًا لو كان الوطئ حلالاً من قبل، فإن وطئ أحدهما فلا حد لشبهة الملك ثم ينظر فإن كانا عالمين عزرا وإن كانا جاهلين لم يعزرا، وإن كان أحدهما جاهلاً لم يعزر الجاهل ويجب المهر لأنه وطئ شبهة ويكون للمكاتبة لأنه كسبها ثم ينظر فإن لم يكن قد حل عليها نجم من مال الكتابة، فإن كان المهر من جنس مال الكتابة، فإن كان معها بقدر ما يدفع إلى السيد الذي لم يطأها مثل المهر فعلت ذلك وسلمت، وللسيد الذي وطئ عليها قدر المهر فإن المهر يكون بين السيدين لأن الكسب بينهما والمهر من جملة الكسب، فيرجع الذي لم يطأ على الذي وطئ فيأخذ منه نصف المهر فيحصل المهر بينهما نصفين ثم ينظر، فإن فضل باقي مال الكتابة فأدتها إليهما عتقت وإن لم يكن معها شيء فللسيدين أن يعجزاها ويسترقاها، فإن فعلا عادت مملوكة لهما وكسبها بينهما والمهر من جملة الكسب، فإن كانت قبضت المهر من الواطئ فقد برئت ذمته منه، [98/ أ] فإن كان باقيًا بحاله اقتسماه بينهما، وإن كان قد

أتلف فقد تلف من ملكهما معًا، وإن لم تكن قبضت المهر فإن ذلك يكون كسبًا ليسدها ثم ينظر فإن كان في يدها شيء يدفع للسيد الذي لم يطأها بإزاء المهر ويحصل المهر لمن هو عليه فعل ذلك، وإن لم يكن معها شيء آخر، فإنهما يقتسمان المهر بينهما نصفين ويسقط ما بقي من حقهما، وإذا اقتسما نصفين دفع الواطئ إلى صاحبه نصف المهر وسقط نصفه عن ذمته، فإن أتت هذه المكاتبة بولد نظر فإن كان السيد قد استبرأها بعد الوطئ وأتت بولد بعد الاستبراء لستة أشهر فصاعدًا لم يلحق بالسيد بل يحكم بأنه ولد مكاتبته من شبهة أو نكاح أو زنًا فيه قولان على ما ذكرنا، وإن لم يكن استبرأها أو كان قد استبرأها إلا أنها أتت بالولد لأقل من ستة أشهر من حين الاستبراء فإنه يلحق بالوطئ، فإنه واطئ بشبهة وينعقد الولد حرًا ويصير نصف الجارية أم ولده لأنها علقت بحر في ملك، وإن كان ضعيفًا وجميعها يكون مكاتبًا لهما ثم ينظر في الواطئ فإن كان معسرًا فلا يسري إلى نصيب شريكه وإن كان موسرًا فيسري لأنه كالعتق، وهل يقوم عليه في الحال، أو فيما بعد، فعلى ما ذكرنا من القولين أحدهما: يقوم في الحال تغليبًا للإيلاد على الكتابة للزوم حكمه والثاني: يتوقف تقويمه على العجز تغليبًا لحكم الكتابة على الإيلاد لتقدمه، وقال أبو علي بن أبي هريرة: يقوم عند العجز ههنا قولاً واحدًا وإنما القولان في عتق أحد الشريكين، [98/ ب] والفرق أن السراية هناك إذا كانت في الحال استفادة العتق في الحال فلا ضرر على المعتقة، وههنا يضر التقويم والسراية لا تنفسخ فيما قومناه، وثبت لها حكم الاستيلاد فيقف عتقها على الموت، وإذا كانت مكاتبة يعتق بالأداء في الحال، وقال أبو إسحاق: الطريقة الأولى أصح، وما قاله أبو علي خطأ لأن الإحبال أقوى من العتق، والعتق إذا أوجب التقويم في الحال فالإحبال أولى، والذي قاله من الضرر لا يصح لأنا إذا قومنا في الحال تنفسخ الكتابة في نصيب الشريك وتبقى في نصيب المحبل، فإذا أدت إلى مولاها المحبل نصيبه من المال عتقت وسرى العتق إلى الباقي فالتقويم أحظُ لها، وقال بعض أصحابنا بخراسان: كلام الشافعي ههناه يدل على أنه لا يقوم في الحال في الإحبال وإنما يقوم يوم العجز قولاً واحدًا، وذلك أنه أجاب ههنا في الإعتاق بأنه يقوم في الحال، فقال: إذا مات الواطئ وعتق نصفها قوم النصف الثاني في الحال، ولم يقل إذا عجزت، وكذلك إذا أعتق أحدهما نصيبه وأجاب في الإحبال بأنه لا يقوم فيه الحال، فقال: فاختارت العجز أو مات الواطئ، فإن للذي لم يطأها نصف المهر، ونصف قيمتها على الواطئ فدل ذلك على أن قوله لم يختلف في الإحبال أن التقويم فيه يوم العجز لما تقدم من العلة وقد بينا خلاف هذا. فإن قلنا: يقوم في الحال تنفسخ الكتابة في نصيب شريكه بالتقويم وتصير أم ولد الواطئ ويكون النصف الآخر مكاتبًا وهي أم ولد له ثم ينظر فإن أدت مال الكتابة عتق نصفها وسرى العتق [99/ أ] إلى باقيها ويبطل حكم الإحبال والعتق بها، وإن قلنا: لا يقوم في الحال ينظر فإن أدت مال الكتابة إليهما عتقت ويكون الولاء بينهما ويبطل حكم

الإحبال، وإن عجزت نفسها استرقاها وبطلت الكتابة فتقوم حينئذ على الشريك الوطئ ويصير جميعها أم ولد يعتق بموته فهذا الحكم في الأم، وأما الولد فقد حكمنا بحريته فهل يجب على الواطئ شيء من قيمته لشريكه؟. الحكم في ذلك أن كل موضع أتت به وجميعها أم ولد للواطئ لا يلزمه شيء من قيمة الولد لأنها وضعته في ملكه وكل موضع أتت به ونصفها مكاتب لغيره يلزمه نصف قيمته لشريكه لأنه كان من سبيله أن يكون نصيبه من الولد مملوكًا له فلما صار حرًا باعتقاده وفعله صار متلفًا لذلك النصف عليه فيلزمه قيمته. وإن مات السيد قبل أن يعجز أو يؤدي فقد عتق نصفها بموته وانفسخت الكتابة فيه، فعلى هذا إن أدت إلى الشريك نصفه عتقت وإن لم تؤد قوم على الميت في تركته لأنه قد وجب بسبب كان منه في حال حياته. وكل موضع حكمنا بأنها أم ولده والكتابة باقية فمات السيد سبق عتق الاستيلاد على الكتابة فعتقت بموته واستتبع الاكتساب بخلاف العتق بالصفة والعتق بمجرد الإيلاد هذا كله إذا اختارت المقام على الكتابة، فاما إذا اختارت العجز في الحال فالحكم فيها كالحكم في الجارية بين الشريكين إذا أحبلها أحدهما، وحكمه أنه إن كان موسرًا عليه نصف مهرها ويقوم عليه نصيب شريكه، وهل يسري الإحبال في الحال أو بأداء القيمة؟، فعلى ما ذكرنا [99/ ب] فيما تقدم وفي نصف قيمة الولد قولان بناء على القولين في إحباله، فإن قلنا: يسري في الحال فليس عليه نصف قيمة الولد، وإن كان معسرًا فقيمة نصف المهر في ذمته ولا يقوم عليه نصيب شريكه وفي الولد وجهان. قال ابن أبي هريرة: الولد حر كله ويكون عليه نصف قيمته لشريكه لأنه وطئ شبهة كما لو وطئ أمة غيره بشبهة. وقال أبو إسحاق يكون الولد نصفه حرًا ونصفه مملوكًا لشريكه لأن الولد تابع للأم في الحرية، فهو بمنزلة ما لو ولدت جارية نصفها حر ونصفها مملوك من زوج أو زنا كان الولد نصفه حرًا ونصفه مملوكًا، وقيل: إن ابن أبي هريرة علل الوجه الأول أنه يستحيل أن ينعقد الولد ابتداءًا بعضه رقيقًا وبعضه حرًا، فألزم عليه إذا كانت الجارية نصفها حرًا ونصفها مملوكًا فلم يسلم هذه المسألة، وقال: الخلاف واحد. ويمكن أن يقال: علة ابن أبي هريرة أن الحرية الصادرة عن الملك لا تتبعض، وهذا العتق ليس بسراية ولهذا لا قف عتق الباقي على أداء القيمة قولا واحدًا، فإذا قلنا: لا يقوم، ففيه وجهان: أحدهما: يكون موقوفًا للشريك، والثني: يكون تبعًا لأمه يعتق إن عتقت، وإذا قلنا: تقويم الأم موقوف وعجزت عن أداء مال الكتابة. فلها وللمحبل حالتان: إحداهما: أن يتفقا على الإنظار بالكتابة في حقه فيجوز ذلك لهما إذا تراضيا به، لأنه لا يتعلق بالكتابة حق لغيرهما بخلاف الشريك غير المحبل، والثانية: أن لا يتفقا على الإنظار بل يختلفان فيه فالكتابة تنفسخ بينهما لأن المكاتبة لا يلزمها المقام على العقد، [100/ أ] والسيد يلزمه الإنظار بالمال.

مسألة: قال: «فإن وطأها فعلى كل واحد منهما مهر مثلها». جملة هذا أن السيدين إذا كاتبا جارية ثم وطئها كل واحد منهما فإن لم تحبل فلا حد على واحد منهما وغرر العالم منهما والمكاتبة أيضًا إن كانت عالمة وعلى كل واحد منهما كمال مهر مثلها ثم ينظر فإن عجزت نفسها، وفسخت الكتابة فقد سقط عن كل واحد منهما نصف ما عليه من المهر ولزمه النصف الآخر لشريكه فإن كانا سواءً تقاصا وإن كان أحدهما أكثر من الآخر. قال الشافعي بأن يطأ أحدهما وهي بكر ويطأ الآخر ثيبًا أو تكون في وطئ أحدهما صحيحة وفي وطء الآخر بغية، ونحو ذلك فإن التقاص يحصل في المقدار الذي اتفقا فيه ولصاحب الفضل أن يطالبه وإن كانت قد قبضت المهرين فقد برئت ذمة السيدين منهما ثم ينظر فإن كانا باقيين اقتسماهما وإن كانا تالفين فقد تلفا من ملكيهما وضمانهما، قال في «الأم»: فإن وطئها أحدهما وهي بكر وجب عليه أرش البكارة لأن ذلك لا يدخل في المهر فسقط عنه النصف ويجب النصف لشريكه، وإذا وجدت الجارية مفضاة، فقال كل واحد منهما: أنت أفضيتها حلف كل واحد منهما لصاحبه ويسقط حكم الإفضاء وهكذا إذا اختلفا في الوطئ فكل واحد منهما يقول لصاحبه: أنت وطئت حلف كل واحد منهما لصاحبه ويسقط المهر هذا كله إذا لم تحبل الجارية فإن حبلت الجارية، فالحكم في الحد والمهر على ما مضى. وأما الولد فينظر فإن ادعى كل واحد من الشريكين أنه استبرأها بعدما وطئها وأتت بالولد بعد الاستبراء [100/ ب] لستة أشهر فصاعدًا لا يلحق بواحدٍ منهما ويحكم أنه أتت به من زنا وقد ذكرنا فيه قولين: كيف يكون حكمه وإن لم يدع أحدهما: الاستبراء لا يخلو حال الولد من أربعة أحوال. إما أن لا يمكن أن يكون من واحد منهما أو أمكن أن يكون من الأول دون الثاني أو من الثاني دون الأول أو أمكن أن يكون من كل واحد منهما فإن لم يمكن أن يكون من كل واحد منهما بأن تأتي به لأكثر من أربع سنين من وقت الوطئ الأول ولأقل من ستة أشهر من وقت الوطئ الثاني، فإنه ينتفي عنهما ويصير كالولد الذي يؤتى به من زنا فيه قولان على ما ذكرنا وإن أمكن أن يكون من الأول دون الثاني بأن تأتي به لأكثر من ستة أشهر من وقت وطئ الثاني يلحق بالأول لأنه يمكن أن يكون منه وينتفي عن الثاني لأن لا يمكن أن يكون منه، ثم لا يخلو، إما أن يكون الأول موسرًا أو معسرًا فإن كان موسرًا فالولد يلحقه ويكون حرًا لشبهة الملك ويصير نصيبه من الجارية أم ولده لأنها علقت بحر في ملكه ويستحق عليه تقويم نصيب شريكه كما يستحق ذلك بالعتق وهل يقوم في الحال أم عند التعجيز؟ فعلى ما ذكرنا من القولين فإن قلنا: يقوم في الحال فقوم فإن الكتابة تنفسخ في نصيب الشريك الذي لم يحبل لأن التقويم ينفسخ بالكتابة ويعود نصيبه إلى ملكه ثم يقوم على شريكه وتبقى الكتابة في النصف الذي لشريكه فيكون نصف الجارية مكاتبًا للشريك المحبل وجميعها أم ولد له.

وإن اختار السيد المحبل أن ينظرهما بما عليهما، فإن نصيب شريكه يقوم عليه، [101/ أ] وتنفسخ الكتابة وتبقى الكتابة في نصيبه، فيكون جميعها أم ولد له ونصفها مكاتب له، والحكم فيها إذا أدت وعتقت بالأداء، ولم تؤد فعتقت بالموت على ما ذكرنا في المسألة قبلها. فإذا ثبت هذا الكلام بعده فيما يستحقه المحبل على لم يحبل وما يستحق الذي لم يحبل عليه، فأما الذي لم يحبل فيستحق على شريكه ثلاثة أشياء: المهر وقيمة نصيبه من الجارية وقيمة نصيبه من الولد، فأما المهر فإنه يستحق عليه نصفه لأنها لم قومت افنسخت الكتابة في نصفها، وعاد إلى ملكه وكان كسب هذا النصف له من المهر من جملة الكسب هكذا ذكر أبو حامد، وقال القاضي الطبري: هكذا ذكر الشافعي أنه يلزمه نصف مهر مثلها ولكنه أراد إذا عجزت نفسها، فأما إذا أقامت على الكتابة فإن نصيب الأول صار أم ولد له وهل يقوم في الحال أم إذا عجزت؟ فيه قولان: أحدهما، يقوم في الحال فتنفسخ بالتقويم الكتابة في نصيب شريكه لأن الأول يملك نصيب شريكه إذا قوم عليه وإذا انفسخت الكتابة في نصيب شريكه يكون جميعها أم ولد للأول، ونصفها مكاتب له ونصفها غير مكاتب ويلزمها جميع مهر مثلها، فيكون نصفه للجارية لأنه مكاتب للأول ونصفه للشريك لأنه وطئها، ونصفها مكاتب له، ثم فسخت الكتابة فيه فصار إليه ما كان في يدها، أو استحقته قبضته، أو لم تكن قبضته، وقيل: أراد الشافعي بقوله: ونصف مهرها ذكر النصف الذي لزمه بسبب الملك نفسه. فإن قيل: [101/ ب] المكاتب لا يملك، فكيف ملك ها هنا قلنا: يملك حكمًا كما بالإرث. وأما قيمة نصيبه من الجارية، فيستحقه عليه لأنه أتلفه بالإحبال، وأما قيمة نصف الولد، قال الشافعي: وفي نصف قيمة ولدها قولان: أحدهما، يغرمه، والثاني، لا يغرمه وهذان القولان مبنيان على أصل، وهو أن وقت نقل ملك النصف إليه بالتسرية متى يكون، وفيه قولان: أحدهما، أنه ينتقل إليه عقيب العلوق من غير فصل فعلى هذا يغرم نصف قيمة الولد لأن العلوق حصل في ملك الغير والثاني أن العلوق حصل في ملكه، وقال أصحابنا بالعراق: وهو مبني على أصل، وهو أن كل موضع وضعت الولد، وهو ملكه لا يلزمه شيء من قيمته وكل موضع وضعت قبل أن يصير جميعها أم ولد وهو إذا قلنا: إنها لا تقوم في الحال، وإنما تقوم بعد العجز فوضعته قبل العجز، وقلنا: الإحبال إنما يسري بعد دفع القيمة، فوضعت قبل دفع القيمة يلزمه نصف قيمته لأنها وضعته ونصفها مملوك لغيره وكان من سبيله أن يكون مملوكًا له، فصار حرًا بفعله واعتقاده. قال المزني: القياس على مذهبه أن ليس عليه نصف قيمة الولد لأنها بالحبل صارت أم ولد، قال أصحابنا: هذه العلة لا بيان فيها حتى يقال: لأنها بالحبل صارت أم ولده، وانتقل الملك قبل الحبل. وأما ما يستحق المحبل على الذي لم يحبل، قال في المختصر «المختصر»: «وفي الواطئ

الآخر قولان: أحدهما، يغرم نصف مهرها لأنها لا تكون أم ولد للمحبل إلا بعد أداء نصف القيمة والآخر، يغرم جميع مهر مثلها»، وهذان القولان [102/ أ] مبنيان على القولين في وقت التسوية، فإن قلنا: بتأخير السراية إلى وقت الأداء فليس على الثاني بالوطئ إلا نصف المهر لأن الجارية مشتركة بعد، وإذا قلنا: بتعجيل السراية فعليه جميع المهر لأنه وطئها، والملك خالص للأول ولا شك أنه لا يلزمه غير المهر شيء آخر، واختار المزني إيجاب جميع مهر المثل، وقال: لأنه وطئ أم ولد لصاحبه، وهذا التعليل دعوى لأن من قال بالقول الثاني: جعلها أم ولد لصاحبه بعد أداء القيمة، وقال أبو إسحاق: الصحيح ما اختار المزني أنها تصير أم ولد له في الحال دون أداء القيمة وهو الذي اختاره الشافعي، فعلى هذا يلزم على الثاني جميع مهر المثل ولا يجب على الأول نصف قيمة الولد كما ذكرنا عن المزني، فإذا قلنا: عليه جميع المهر وعلى الأول جميع المهر، وقد عجزت انتقل نصف المهر والواجب على الأول إلا الثاني فيصير النصف بالنصف قصاصًا إن استويا، ويبقى للأول على الثاني نصف مهر مثلها، وإذا قلنا: عليه نصف المهر وقد عجزت فللأول على الثاني نصف المهر، وللثاني على الأول نصف المهر أيضًا، فيتقاصان إن استويا، ولا يبقى شيء إذا كان المحبل موسرًا، فإن نصيب الأول يصير أم ولده ولا يقوم نصيب شريكه عليه، فيكون نصيب أم ولده وجميعها مكاتبة بينه وبين شريكه، ثم ينظر فإن اختارت المقام على الكتابة وأدى مال الكتابة، وعتقت استحقت على كل واحد منهما كمال مهرها، وإن عجزت كان نصفها مملوكًا للواطئ الثاني ونصفها أم ولد للواطئ الأول، [102/ ب] ويكون لكل واحد منهما على صاحبه نصف مهر مثلها فيقاصان على ما ذكرنا. وأما الولد فهل ينعقد كله حرًا أو نصفه حرًا، ونصفه مملوكًا فعلى ما ذكرنا من الاختلاف بين ابن أبي هريرة وبين أبي إسحاق. وقال القاضي الطبري: ما قاله ابن أبي هريرة أصح لما احتج به أنه وطئ شبهة، ولو وطئ جارية غيره بشبة كان الولد حرًا، ويلزمه قيمته في ذمته إذا كان معسرصا إلى أن يوسر فكذلك ههنا، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان، وهذا غريب. والحالة الثالثة: إذا أمكن أن يكون الولد من الثاني دون الأول بأن تأتي به لأكثر من أربع سنين من وقت وطئ الأول ولأكثر من ستة أشهر، وأقل من أربع سنين من وقت وطئ الثاني، فهذا الفصل لم ينقله المزني إلى «المختصر» وحكمه: أنه ينتفي الولد عن الأول ويلحق بالثاني، ويصير الثاني في هذا القسم كالأول في القسم الأول والأول ها هنا كالثاني هناك إلا في أشهر، فلا يخلو حال الثاني، إما أن يكون موسرًا أو معسرًا، فإن كان موسرًا، فالولد حر ونصيبه من الجارية أم ولده، ويسري إلى نصيب شريكه ويقوم في حقه ومتى يقوم فعلى ما ذكرنا من القولين، فإذا قلنا: يقوم في الحال، أو بعد العجز، فعجزت وقومت، فبالتقويم تنفسخ الكتابة في نصيب شريكه ويعود رقيقًا ويكون كسبه للشريك، والنصف الآخر يبقى على الكتابة والحكم فيه، إذا أدت أو

عجزت، (فاسترقت) على ما ذكرنا من القسم قبله. وأما الذي يجب على الثاني والذي يجب على الأول، [103/ أ] فإن الثاني يجب عليه نصف المهر وقيمة نصف الجارية، وأما قيمة نصف الولد، فإنها إن وضعته قبل أن صار جميعها أم ولد يلزمه ذلك وإلا فلا يلزم، وأما الأول فلا يجب عليه قيمة الجارية ولا قيمة الولد، وإنما يجب عليه نصف المهر فقط لا يزيد ولا ينقص وهذا هو الذي يخالف القسم قبله، فإن هناك يجب على الثاني الذي لم يحبل كمال المهر في حالة، ونصفه في حالة أخرى وها هنا يجب على الأول الذي قلم يحبل نصف المهر بكل حال، والفرق أن وطئ الجارية في الأول صادف الجارية بعدما صارت أم ولد للأول، فيلزمه كمال المهر ووطئ الأول ههنا لم يصادف، وهي أم ولد للثاني، فإن وطئه سبق وطئ الثاني بل صادفها ونصفها مكاتب له والكتابة تنفسخ في ذلك النصف، فيعود كسبه إليه، فلا يلزمه أكثر من نصف المهر وإن كان الثاني معسرا، فإن نصيبه يصير أم ولده ولا يسري ذلك إلى نصيب الشريك ويلزمه نصف مهر المثل والحكم فيها إذا ردت، أو عجزت على ما ذكرنا وهل ينعقد كله حرًا، أو نصفه حرًا فعلى ما ذكرنا من الاختلاف. والحالة الرابعة: أن يكون من كل واحد منهما بأن تأتي به لأكثر من ستة أشهر ولأقل من أربع سنين من وقت وطئ كل واحد منهما، فادعياه، أو ادعاه أحدهما ولم يدعيا، ولا أحدهما الاستبراء يعرض على القافة فإن ألحقته بالأول كان الحكم على ما ذكرنا إذا لم يمكن أن يكون من الأول، وإن ألحقته بالثاني كان الحكم على ما ذكرنا إذا لم يمكن [103/ ب] إلا من الثاني، فإن لم يكن قافه، أو كان فأشكل عليهم، أو ألحقته بهما أو أنفته عنهما ترك حتى يبلغ فينسب إلى أحدهما، وهذا لأن الأنساب تتعاطف، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «إن الرحم إذا تماست تعاطفت» وتتعلق بزمان الوقف، ثلاثة أحكام أحدها في كتاب «الأم»، وذلك معتبر بحال الواطئين، فإن كانا موسرين كانت كتابتهما على قولين: أحدهما: باقية بحالها في جميعها ويملك جميع كسبها، ويؤخذ كل واحد منهما بجميع مهرها، إذا أدت عتقت، وإن عجزت كانت أم ولد لأحدهما يوقف على البيان ولا تعتق إلا بآخرهما موتًا، وإن ماتا قبل البيان، والثاني: أن الكتابة قد بطلت في نصفها وبقيت في النصف الآخر، وبقي نصف كسبها موقوفًا على من تصير له أم ولد، والنصف الآخر لها تستعين به في كتابتها، فإن أدت تحرر عتق جميعها نصفها بالكتابة ونصفها بالسراية، وإن عجزت كانت أم ولد لأحدهما لا بعينه فيوقف أمرها فيه، وفي الفاضل من كسبها بعد العجز، وفي النصف الموقوف من الكسب على ما يتجدد من البيان فيما بعد وإن كانا معسرين، فنصفها يكون في حكم م الولد والكتابة في جميعها باقية والأداء يكون إليهما، فإن عتقت به، بطل حكم الإيلاد، وإن عجزت كان نصفها أم ولد ونصفها موقوفًا ويوقف على البيان، وإن كان أحدهما موسرًا والآخر معسرًا، فلا يقوم على الموسر لجواز أن يكون الولد من المعسر

فتكون الكتابة بحالها كما لو كانا معسرين لأنها على الصحة، فلا تفسخ بالجواز. والحكم الثاني: في الولد، وهو يعتبر [104/ أ] بحالها في اليسار والإعسار، ولا يخلو من الأحوال الثلاثة أن يكونا موسرين، فيكون جميع الولد حرًا وإن كانا معسرين فنصفها يكون في حكم أم الولد والكتابة في جميعها باقية، والأداء يكون إليهما، وإن كانا معسرين فنصفه حر، وفي نصفه الباقي وجهان: أحدهما، يكون حرًا، والثاني، يكون مملوكًا، فإن اجتمع الواطئان على بيع نصفه الرقيق جاز ووقف ثمنه على مستحقه منهما وإن تفرد أحدهما ببيع نصفه لم يجز لجواز أن يكون أبًا وإن كان أحدهما موسرًا، والآخر معسرًا، فنصفه حر، وفي الباقي وجهان: أحدهما، يكون حرًا، والثاني يوقف فإن ألحق بالموسر كان حرًا وإن لحق بالمعسر كان مملوكًا، ولو اجتمعا على بيعه لم يجز لتردده بين الرق والحرية. والحكم الثالث: في النفقة، وهما نفقتان، نفقة الولد ونفقة الأم، فأما نفقة الولد فتعتبر بأحواله الثلاث، فإن حكم بحريته كله يؤخذان جميعًا بنفقته، فإذا لحق بأحدهما رجع الآخر عليه بما أنفق وإن حكم بحرية نصفه ورق نصفه يؤخذان بها ولا رجوع لأحدهما على صاحبه إذا لحق به لأن الآخر يصير مالكًا لرقه، وإن حكم بحرية نصفه ووقوف نصفه يؤخذان بنفقته، فإذا لحق بالموسر وبان باقيه حرًا رد على صاحبه ما أنفق وإن لحق بالمعسر وبان باقيه مملوكًا، فلا تراجع بينهما. وأما نفقتها تعتبر بحالها وهي تنقسم ثلاثة أقسام: أحدها: أن يتحرر عتق جميعها بالأداء فنقتها ساقطة عنهما، فلا يؤخذ واحد منهما بها، والثاني: أن يكون جميعها صار أم ولد لعجزها ويسار الواطئين فنقتها واجبة [104/ ب] ويوقف جميعها بها، فإذا بان أنها أم ولد لأحدهما بعينه رجع الآخر عليه بما أنفق، والثالث: أن يكون نصفها أم ولد ونصفها مملوكًا لعجزها، وإعسار الواطئين فنفقتها واجبة عليها ومستقرة بينهما ولا رجوع لواحد منهما على صاحبه بعد البيان لأنه إذا صار نصفها أم ولد لأحدهما فقد صار نصفها الباقي موقوفًا للآخر فاستويا في التزامه. وقول الشافعي ههنا: فإذا لحق بأحدهما، أو انتسب إلى أحدهما، وهو معسر فنصفها لشريكه بحاله والصداقان ساقطان عنهما يعني: إذا كانا متساويين في الحال، والحال حال عجزها يدل على أحد الأقوال في التقاص. مسألة: قال: «ولو جاءت من كل واحد منهما بولد يدعيه ولم يدعه صاحبه». الفصل جملة هذا أن المكاتبة إذا كانت بين اثنين، فوطئها كل واحد منهما فأتت بولدين وكل واحد منهما لا يدعي الاستبراء، ولا يدعي أنه شارك صاحبه في الوطئ في طهر

واحد، وكان كل واحد منهما يعرف ولده بعينه، والشافعي فرض المسألة فيه إذا عجزت المكاتبة نفسها، فاسترقها السيدان، فالحكم فيها وفي الأمة القن إذا كانت بين شريكين فوطئاها، وأتت من كل واحد منهما بولد حكم واحد ففيه مسألتان إحداهما: أن يكون قد عرف الذي وطئها أولا والذي وطئها ثانيًا، والثانية: أن لا يعرف الأول منهما من الثاني بل كل واحد منهما يدعي أنه لأول وأن الآخر الثاني، فإن تعين الأول منهما من الثاني وادعى كل واحد منهما ولدًا غير الولد الذي يدعيه صاحبه فلا يخلو حالها من أربعة أحوال، [105/ أ] إما أن يكونا موسرين أو كان الأول موسرًا، والثاني، معسرًا، أو كانا معسرين أو كان الأول معسرًا، والثاني، موسرًا، فإن كانا موسرين فالكلام في الحد والتعزير على ما مضى، وأما المهر وكون الجارية أم ولد ووجوب قيمتها وقيمة الولد، فإن الأول لما وطئ وجب عليه نصف المهر لأن نصفها مملوك له ونصفها لغيره ويصير نصيبه منها أم ولده ويقوم عليه نصيب شريكه بالسراية ومتى يسري فيه ثلاثة أقوال: كالعتق سواء، وينعقد الولد حرًا، وهل تجب قيمته ينظر فطإن وضعته بعدما دفع قيمة نصيب شريكه لم تلزمه قيمته لأنا إن قلنا: يسري بالإحبال فقد صار جميعها أم ولد له بنفس الإحبال، وإن قلنا: يسري بالإحبال ودفع القيمة، أو قلنا: هو مراعي، فقد دفع القيمة وصارت أم ولده فلم يلزمه قيمة الولد الذي نصفه في ملكه، وإن وضعت قبل دفع القيمة، فإن قلنا: يسري الإحبال بنفسه أو هو مراعي ودفع القيمة لا يلزمه، وإن قلنا: بالآخر فقد وضعته ونصفها أم ولد له ونصفها مملوك لغيره، فيلزمه نصف قيمة الولد لشريكه فهذا الحكم فيما يجب على الأول، وأما الثاني، فلا يلزمه قيمة شيء من الجارية لأنه لا يتصور أن يكون شيء منها أم ولده على ما بينته، وإنما يلزم في حقه المهر وقيمة الولد فأما المهر فإنه ينظر فإن وطئها، بعدما صار جميعها وأم ولد له فعليه كمال مهر المثل للأول لأنه وطئ أم ولد غيره، وإن وطئها قبل أن صار جميعها أم ولد له فعليه نصف المهر لأنه وطئها ونصفها أم ولد للأول ونصفها مملوك له، وأما الولد فينعقد حرًا [105/ ب] لشبهة الملك ثم ينظر فإن وضعته وقد صار جميعها أم ولد للأول فعليه كمال قيمته، وإن وضعته قبل أن صار جميعها أم ولده فعليه نصف قيمته، ولا يصير نصيبه من الجارية أم ولد له في الحال سواء أحبلها بعد ما صار جميعها أم ولد للثاني، أو قبله لأنه وإن لم تصر باقية أم ولد للأول، فقد استحق أن تصير أم ولد له وتقوم في حقه فلو جعلناها أم ولد للثاني لأبطلنا حق الأول من التقويم في حقه وسراية الإحبال، ولا سبيل إلى ذلك، وقال القفال في نفوذ الاستيلاد من الثاني في نصيبه على القول الذي نقول: لا يصير جميعها أم ولد للأول في الحال وجهان كما قلنا: إذا أعتق الثاني نصيبه بعدما أعتق الأول نصيبه، وهو موسر، وقلنا: السراية يوم أداء القيمة هل ينفذ وجهان. فإذا استقر ما يجب لكل واحد منهما على صاحبه فإنهما يتقاصان ما يتساويان فيه على اختلاف الأحول في المقاصة ثم يرجع صاحب الفضل على صاحبه بما بقي له.

وإن كان الأول موسرًا والثاني: معسرا، فالأول لما وطئ لزمه نصف مهر المثل ويصير نصيبه أم ولده، ويري إلى نصيبه شريكه ويقوم عليه، ومتى يسيري فعلى الأقوال الثلاثة، وينعقد الولد حرًا وهل يلزمه قيمته؟ ينظر، فإن كانت وضعته بعد دفع القيمة لم يلزمه، وإن كان قبل دفع القيمة، فإن قلنا: الإحبال يسري بنفسه، أو قلنا: يراعي - ودفع القيمة لم يلزمه، وإن قلنا: يسري بعد دفع القيمة لزمه نصف لقيمته، فيكون حكم الموسر ههنا بحكمه في القسم الأول سواءً [106/ أ]. وأما الثاني، ألمعسر إذا وطئ فإن وطئ بعدما صارت الجارية أم ولد له يلزمه كمال المهر وإن وطئ قبل أن يصير جميعها أم ولد له يلزمه نصف المهر على ما ذكرنا، وهل يصير نصيبه أم ولد، فعلى ما ذكرنا، وأما الولد إن وطئها بعد ما صارت أم ولد الأول، قال أبو إسحاق: ينعقد مملوكًا لأن وطئه صادف أمة لا ملك له فيها ولا يلزمه قيمة الولد، وإن وطئها قبل أ، صارت أم ولد الأول، فقد وطئها ونصفها مملوك له ونصفها أم ولد الأول فيه وجهان على قول أبي إسحاق ويكون نصفه حرًا ونصفه مملوكًا وعلى قول ابن أبي هريرة ينعقد حرًا ويجب على هذا الشريك نصف قيمته في ذمته، فيكون الحكم في هذا القسم كالحكم فيه إن كانا موسرين إلا في هذا الولد في حق الثاني. وإن كانا معسرين فالأول لما وطئ يلزمه نصف مهر المثل، صار نصيبه منها أم ولده ولا يسري إلى الباقي، وفي الولد وجهان، فيستوي في هذه المسألة حكم الأول، والثاني: في جميع الأحكام وتصير الجارية أم ولدهما. وإن كان الأول معسرًا، والثاني: موسرًا فالأول لما وطئ يلزمه نصف المهر ويصير نصيبه من الجارية أم ولده، فلا يسري، وفي الولد وجهان، وأما الثاني لما وطئ لزمه نصف المهر لأن نصفها له ونصفها أم ولد لشريكه ويصير نصيبه أم ولده ولا يسري إلى نصيب شريكه لأنه قد صار أم ولد للأول، ولا يمكن أن يصير أم ولد للثاني، وينعقد ولده حرًا ويجب عليه نصف قيمته [106/ ب] لشريكه فيكون الحكم في هذا القسم كالحكم فيه، إذا كانا معسرين إلا في الولد على ما بيناه، والكلام في المقاصة بينهما على ما مضى قال المزني لما فرغ من ذكر هذه المسألة: قد مضى قوله في هذه المسألة بما قلت لأنها لو لم تكن للأول أم ولد إلا بعد أداء نصف القيمة لما كان على المحبل الثاني جميع مهرها ولا قيمة ولده منها. قلنا: جواب الشافعي ههنا صدر على قول تعجيل السراية وعليه فرع حكم المهر والقيمة، ولا يحتج بفرع قول على إبطال قول يرد ذلك الفرع. والمسألة الثانية: وهي إذا لم يعلم الأول منهما بل كل واحد منهما يدعي أنه هو الأول والمسألة مفروضة فيما فرضنا المسألة قبلها، وهو إذا كان كل واحد منهما لا يدعي الاستبراء ولا يدعي مشاركة صاحبه في الوطئ في طهر واحد، فلا يخلو حالهما من ثلاثة أحوال: إما أن يكونا موسرين أو معسرين أو أحدهما، موسرًا والآخر،

معسرًا، فإن كانا موسرين، وكل واحد منهما يقول: أنا الذي وطئت أولا فعلى نصف المهر، وقد صار نصيبي أم ولد وسرى ذلك إلى نصيب شريكي فصارت الجارية كلها أم ولد لي وعلي قيمة نصيب شريكي، والولد حر وعلي نصف قيمته إن كان وضعته قبل دفع القيمة وقلنا: الإحبال لا يسري إلا بعد دفع القيمة، ولا شيء علي إذا وضعته بعد دفع القيمة وأنت أيها الشريك، وطئت بعدي فعليك نصف المهر في حالة وكمال المهر في حالة أخرى على ما بيناه في المسألة قبلها ولا يجب عليك شيء من قيمة الجارية وعليك [107/ أ] كمال قيمة الولد في حالة، ونصف قيمته في حالة أخرى، فإذا ثبت هذا فإن كل واحد منهما يقر لصاحبه بنصف قيمة الجارية وصاحبه لا يدعي ذلك فسقط إقرارهما فيه، ويبقى الاختلاف بينهما في المهر وقيمة الولد، فإن قلنا: يجب على الأول نصف المهر وعلى الثاني النصف لا يفيد الاختلاف، وإن قلنا: يجب على الأول نصف المهر وعلى الثاني كمال المهر وهي إذا وطئها بعدما صارت أم ولد الأول فههنا يفيد الاختلاف، فإن كل واحد منهما يدعي على صاحبه نصف المهر، فيحلف كل واحد منهما للآخر على نفي ما يدعيه عليه ويسقط التداعي. وأما قيمة الولد فإنه إن كان للأول يجب عليه نصف قيمة الولد، وعلى الثاني نصف قيمة الولد، فلا يفيد الاختلاف شيئا بل يتقاصان، وإن كان الثاني يجب عليه كمال قيمة الولد والأول لا يجب عليه شيء أو يجب عليه نصف القيمة فالاختلاف بينهما يفيد فيحلف كل واحد منهما على نفي ما يدعيه صاحبه عليه ويسقط التداعي، فإذا تقرر هذا، فنقول: قال الشافعي رضي الله عنه في زمان الإشكال: وقفتها وأخذتهما بنفقتها فإذا مات واحد منهما عتق نصيبه وأخذ الآخر بنفقته نصيب نفسه، فإذا مات عتقت وولاؤها موقوف. وقال القاضي الطبري: هكذا ذكر الشافعي في «الأم»، قال عامة أصحابنا: إنما قال الشافعي يعتق نصيب من مات منهما لأن الظاهر أنه ولدها وأنها كانت ملكًا له وشككنا في إحبال شريكه [107/ ب] قد انتشر إلى نصيبه أم لا فأعتقنا نصيبه بالظاهر لأن العتق مبني على الغلبة والسراية، وإذا مات الآخر عتق الباقي ويكون ولاءها موقوفًا لأنا لم نتيقن أن الولاء لأحدهما. وبه قال ابن أبي هريرة وصاحب «الإفصاح»، وقال أبو حامد وأكثر أصحابنا: إذا مات أحدهما لا يعتق منها شيء لأنه يحتمل أن تكون أم ولد للحي خاصة فلا نوقع العتق بالشك. وهكذا قال صاحب «الحاوي»، فإن اتا عتقت الآن لأنها أم ولد لأحدهما وإن لم يتعين، قال صاحب «المنهاج»: هذا مشكل لأنا لا تعلم المستولد الأول منهما ونعلم أن أحدهما إذا سبق بالاستيلاد وهو موسر فعتق جميعها معلق بموته، ولا يتعلق بموت أحدهما وإزالة هذا الإشكال بأن يقال: لا يستقيم هذا الجواب إلا على أحد القولين وأحد الوجهين، أما أحد القولين، فالقول الذين يقوم بتأخير السراية إلى وقت الأداء، والأداء لم يحصل لأن الطالب لم يتميز من المطلوب،

وأما أحد الوجهين هو الوجه الذي يقول: إذا أعتق الموسر نصيبه وأخرنا السراية إلى الأداء، فأعتق الثاني نصيبه قبل قبض القيمة نفذ عتقه وكذلك في الاستيلاد ينفذ استيلاده فعلى هذا القول وعلى هذا الوجه إذا مات أحدهما عتق نصيبه يقينًا لأن الميت إذا كان أولهما استيلادًا فنصيب أم ولده باستيلاده، وإن كان الثاني فنصيبه أم ولده يتراخى قبض القيمة. وإن كانا معسرين فلا يفيد اختلافهما شيئيًا لأن كل واحد منهما يقول: علي نصف المهر، وقد صار [108/ أ] نصيبي أم ولد، ولم يسر ذلك إلى نصيب شريكي وفي ولدي وجهان فيتقاصان بنصف المهر ويتقاصان بنصف قيمة الولد إذا أوجبنا ذلك، وتكون الجارية أم ولد لهما معًا، فإن مات أحدهما عتق نصيبه منها ويثبت الولاء عليه لعصبته، ونقل الربيع: أن الولاء موقوف إذا كانا معسرين أيضًا ونص في «الأم» عليه، فقال: وولاءها موقوف بكل حال، وإن كانا معسرين أو أحدهما معسر، والآخر موسر، قال أبو إسحاق: هذا سهو منه في النقل، والصحيح ما رواه المزني وهو أنه قيد، فقال: وولاءها موقوف بكل حال إذا كانا موسرين فدل على أنهما إذا كانا معسرين لا يتوقف الولاء بل يكون الولاء بينهما، ويشبه أن يكون الذي في «الأم» شيئًا جرى به القلم، وهكذا قال الماسرجسي والقفال، وهذا لأن الولاء في اليسار مشكل متوقف، وفي الإعسار غير مشكل فلم يجز أن يوقف، وقال ابن أبي هريرة وصاحب «الإفصاح»: أراد به إذا كانا معسرين وقت التنازع والحكم لا في وقت الإحبال، وفي ذلك الوقت كانا موسرين. وإن كان أحدهما موسرًا، والآخر معسرًا، فالموسر يقول: أنا وطئت أولا فعلي نصف المهر وقد صار نصيبي أم ولدي وسري إلى نصيب شريكي، وعلي قيمته وولدي حر وعلي نصف قيمته في حال ولا شيء علي في حالة أخرى، وأنت أيها المعسر وطئت بعد ذلك، فعليك كمال المهر في حالة ونصفه وفي حالة أخرى، وولدك أن يكون مملوكًا أو نصفه حر أو جميعه حر، وعليك نصف قيمة الجارية لم يصر شيء منها أم ولد لك والمعسر يقول: أنا وطئت [108/ ب] أولا فعلي نصف المهر وقد صار نصيبي من الجارية أم ولد ولم يسر ذلك إلى نصيب شريكي وفي ولدي وجهان، وأنت وطئت بعد ذلك، فعليك نصف المهر وصار نصيبك من الجارية أم ولد وولدك حر وعليك نصف وعليك نصف قيمته. فأما الاختلاف في المهر وقيمة الولد فإنهما يتحالفان عليه ويسقط ما يدعيه كل واحد منهما على صاحبه منه. وأما الجارية فقد أقر أن نصفها أم ولد للموسر ونصفها الباقي يدعي هو والمعسر، فيكون موقوفا بينهما، فإذا مات الموسر عتق عليه نصفها وثبت الولاء في هذا النصف لعصبته، والنصف الآخر يوقف فإذا مات المعسر عتق، ويكون ولاء نصيبه موقوفًا بين ورثة السيدين على ما ينكشف فيما بعد.

باب تعجيل الكتابة

ونقل المزني: أن جميع ولاءها موقوف إذا كانا موسرين أو أحدهما، وهذا الجواب راجع إلى الموسرين، وقيل: لم يقل المزني جميع الولاء بل قال: وولاءها موقوف إذا كانا موسرين، أو أحدهما، وأراد نصف الولاء إذا كان أحدهما موسرًا. وقال القفال: هذا إذا قلنا بنفس العلوق تصير أم ولد للموسر، فأما إذا قلنا: يأخذ القيمة، وقلنا: ينفذ استيلاد الشريك في نصيبه، فههنا لم يكن أخذ القيمة فتكون الجارية أم ولد لهما بينهما نصفين وإذا عتقت، فالولاء بينهما نصفين ولا حاجة إلى الوقف. فرع إذا كاتب اثنان عبدهما فجنى العبد عليهما موضحة لزمه لكل واحد الأقل من أرش الجناية أو القيمة، أو الأرش بالغًا ما بلغ، فلم يؤد إليهما حتى عجز [109/ أ] سقط من حصة كل واحد منهما نصفها، فلو قال قبل عجزه: لا أؤدي إلى كل واحد إلا النصف خوفًا من عجزي، قيل: ليس لك ذلك قبله. باب تعجيل الكتابة مسألة: قال: «ويجبر على قبول النجم إذا عجله». الفصل اعلم أنه إذا كاتب على مال ثم إن المكاتب عجل للسيد المال قبل محله ينظر، فإن كان من الأشياء التي تتلف ولا تبقى على الدوام كالطعام الرطب ونحو ذلك لم يجبر على قبوله لأن له غرضًا في أن يحصل له هذا المال حين يحل الأجل، وإن كان مما يبقى إلا أنه يلزمه في حفظه مؤنة ككراء البيت مثل القطن ونحوه، لا يجبر عليه وكذلك إذا كان حيوانًا يلزمه كراء الموضع الذي يحفظ فيه، فلا يجبر عليه. وقول الشافعي: فليس عليه قبوله إلا في موضعه، يعني في موضعه من الزمان وموضعه من المكان، وإن لم يكن في حفظه مؤنة نظر، فإن كان هناك خوف فلا يخلو، إما أن يكون الخوف حال العقد موجودًا، أو لم يكن، فإن كان موجودًا حال العقد، فهل يجبر على قبوله، فيه وجهان: أحدهما، وهو الأصح لا يجبر لأنه خاف عليه في حال القبض قبل حلوله فأشبه إذا كان البلد آمنا حال العقد، ولأن اعتبار حالة الحلول أولى من اعتبار حالة العقد لأنه وقت الاستحقاق، ولا يعلم بقاء خوفه في تلك الحالة فلا يلزمه التسليم، في حالة الخوف، والثاني: يجبر على قبوله لتماثل الزمانين في الخوف نصًا كما لو عقد والبلد خراب وأقبضه المال، والبلد خراب يجبر على قبوله بلا خلاف. وقيل: هذا ظاهر مذهب الشافعي رر، وهو اختيار ابن أبي هريرة، [109/ ب] وإن كان هذا الخوف معهودًا لا يرجى زواله يلزمه قبوله وجهًا واحدًا ذكره في «الحاوي»، وإن

لم يكن في البلد خوف وفتنة يجبر عليه، فإن أخذه، وإلا أخذه الحاكم عنه، وحكم بعتق العبد، واحتج في ذلك بعمر بن الخطاب رضي الله عنه وفسره في «الأم»، فقال: روي أن مكاتبًا لأنس رضي الله عنه جاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: إني أتيت بمكاتبتي إلى أنس بن مالك، فأبى أن يقبلها، فقال: إن أنسًا يريد الميراث ثم أمر أنسًا أن يقبلها أحسبه، قال: فأبى فأراد أن يأخذها ويضعها في بيت المال، فقبلها أنس، وعتق هكذا ذكر القاضي الطبري، وروى ابن سيرين عن أبيه، قال: كاتبني أنس بن مالك على عشرين ألف درهم، فكنت فيمن فتح تستر فاشتريت رثة، فربحت فيها، فأتيت أنس بن مالك بكتابته، فأبى أن يقبلها مني إلا نجومًا فأتيت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فذكرت ذلك له، فقال: أراد أنس الميراث وكتب إلى أنس أن أقبلها من الرجل فقبلها، وروى بعض أصحابنا أن عمر أخذ ذلك، وقال لأنس: قد أعتقته، فإن شئت أخذتها، وإن شئت وضعتها في بيت المال، وروي أنه قال لعمر: إنه يريد أن أموت فيأخذ مالي وولدي، فقال له عمر: تأخذه، أو أضعه في بيت المال، فأخذه أنس وعتق سيرين. ومعنى قول عمر أضعه في بيت المال، أي أحفظه عليك، ولم يرد أنه يصير مالا للمسلمين أنفقه عليهم وكانت صورة الحال أنه لم يكن في تعجيله ضرر عليه، وفي هذا دليل على أن المكاتب إذا مات مات رقيقًا، وإن حلف وفاء لأن سيرين قال: يريد أن أموت فيأخذ أموالي وأولادي، ولم ينكر عليه عمر رضي الله عنه، [110/ أ] وروى سعيد المقبري عن أبيه: أن امرأة استرقته من سوق ذي المجاز وقدمت مكة فكاتبته على أربعين ألفًا، فأدى عامة المال، ثم أتى بباقيه، فقالت: لا، والله حتى تأتي سنة بعد سنة وشهرًا بعد شهر فخرج بالمال إلى عمر رضي الله عنه فأخبره بذلك، فقال: ضعه في بيت المال وراسلها أنه قد أخذ المال وعتق أبو سعيد، فإن اخترت أخذته شهرًا بشهر وسنة بسنة، فافعلي فأرسلت وأخذت المال. وروي معنى هذا عن عثمان رضي الله عنه، فإن قيل: إذا حصل القبض قبل حلول الأجل يجب أن لا يعتق لأن الصفة لم تحصل فإن السيد، قال: إذا أديت إلي في وقت كذا، فإذا قدمه عليه لم توجد الصفة فلا يعتق. قلنا: المغلب في الكتابة الصحيحة حكم المعاوضة دون العتق بالصفة، فإذا كان كذلك وقبضه برئ المكاتب منه، فإن برئ مما عليه عتق كما لو أبرأه مولاه من غير قبض ويفارق هذا إذا قال: إن أديت إلي ألفا في رمضان، فأنت حر، ثم أعطاه في شعبان لا يعتق لأن المغلب هناك حكم الصفة.

فرع قال في «الأم»: وهكذا لو كاتبه ببلد ولقيه ببلد غيره، فقال: لا أقبض منك في هذا البلد أجبر على القبول حيث كان إلا أن يكون في طريق فيه نهب فلا يجبر على أخذها منه، ثم قال: هذا في الدراهم، والدنانير فأما في الحديد والنحاس والرصاص مما في حمله مؤنه فلا يلزمه أن يقبله ببلده غيره لأن للحمولة مؤنة بخلاف الدنانير والدراهم، فإنه لا مؤنة لحملها، وقال لا فرق في هذا بين أن يأتي به في محله أو معجلا، فإن كان السيد في ذلك البلد لزمه قبوله، وإن لم يكن في ذلك البلد روعيت مسافة البلدين فإن كان بينهما قريب [10/ ب] لا يقصر في مثله الصلاة لزمه قبوله، وإن كان بعيدًا فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه لما عليه من الضرر في إبعاد ماله عن بلده، والثاني: يلزمه قبوله لأن أجزاؤهما متماثلة واستيطان كل واحد منهما ممكن. فرع آخر قال في «الأم»: ولا يكلف المكاتب أن يعطيه ذلك بغير البلد الذي كاتبه فيه فنص على أن المكاتب لا يجبر على دفع ما عليه في غير البلد الذي كاتبه فيه، وهو صحيح. فرع آخر قال: وإذا حل على المكاتب شيء فتأخر سنة أو أكثر ولم يعجزه سيده، ثم قال سيده: لا أقبضه لأنه في غير وقته أجبر على قبضه إلا أن يبرأه منه لأنه حال. فرع آخر قال: فإذا تدارك على مكاتبه نجمان أو أكثر ولم يعجزه السيد، ثم قال: أنا أعجزه، لم يكن له ذلك ويقال للمكاتب: أد جميع ما عليك قديمًا وحديثًا فإن فعل، فهو على الكتابة، وإن عجز عن شيء من ذلك، فهو عاجز. فرع آخر قال: فإن كان في طريق خربة وهي للتلصص أو بلد فيه يهب لم يلزمه قبوله إلا أن يكون في ذلك الموضع كاتبه فيلزمه قبوله لأن موضع العقد موضع التسليم إذا لم يذكر للتسليم موضعًا وهذا عند الحلول، فأما إذا أتى به في حال الخوف قبل الحلول فقد ذكرنا. فرع آخر ولو عجل له بعض الكتابة على أن يبرئه. الفضل إذا كاتب عبدًا على ألف درهم فجاء بخمسمائة قبل الأجل، وقال: خذ هذه على أن

تبرئني من الباقي لم يصح ذلك فإنه مضارع لربا الجاهلية، وذلك أن من كان له الدين إلى أجل إذا حل دينه يقول تقضي أو تربي، فإن قضى أدى وإن قال: أربي، زاد في الدين وفسح له في الأجل، وهذا المعنى موجود ههنا لأنه يسقط الحق في مقابلة نقصان الأجل [111/ أ] كما كانوا يزيدون في الدين في مقابلة الزيادة في الأجل وهذا لأن الأجال لا يجري عليها المعاوضات، فإذا ثبت هذا لم يصح القبض يسترجع المكاتب ما دفع إليه ويؤديه إذا حل الأجل ويرجع السيد إلى ما أسقط من المال. فرع آخر قال الشافعي رضي الله عنه: «فإن أحب أن يصح هذا فليرض المكاتب بالعجز، ويرض سيده بشيء يأخذه قبل أن يعتقه، فيجوز» فإن قال قائل: فإذا فعل هكذا ارتفعت الكتابة، وإذا ارتفعت فالسيد بالخيار إن شاء أعتقه وإن شاء لم يعتقه، قلنا: كذلك الأمر وما علينا من ذلك، وإنما أراد الشافعي: حالة تراضيهما ليحصل العتق بقبض صحيح، ويكون كالعتق على مال معلوم لما عجز عن مثل ذلك في الكتابة وبه قال صاحب «الإفصاح» وغيره الاحتياط للعبد أن يقول السيد: إذا عجزت نفسك وأديت خمسمائة، فأنت حر، فإذا عجز نفسه وأعطى ذلك فهو حر، ولا يمكن السيد الرجوع عنه وهذا أحوط مما ذكره الشافعي، وقيل: مراد الشافعي ما ذكر صاحب «الإفصاح»، وقال أبو حنيفة: يصح هذا الشرط والبراءة وعتق العبد إذا فعل السيد ما قال العبد وهذا لأن مال الكتابة غير مستقر فلا يكون دينًا صحيحًا، ولا يكون هذا معاوضة عن الأجل، فيحمل على أنه أخذ بعضه وأسقط بعضه وخالفه أبو يوسف وزفر، وهذا غلط لأن هذا ربا لأنه بيع ألف بخمسمائة على ما ذكرنا ولا شك أن هذا عوض في العقد وعدم الاستقرار لا يدل على أنه ليس بدين صحيح كالثمن قبل تسليم المبيع، فإذا تقرر هذا وفعل العبد ذلك وعتق يثبت بين السيد وبينه التراجع، فيحتسب له ما دفع من قيمته ويتراجعان الفضل لأنه جعل بدل العتق [111/ ب] الخمسمائة، والتعجيز، فلا يجوز أن يكون التعجيز بدلا عن العتق فكأنه أوقع العتق على بدل فاسد، فيسقط المسمى ويثبت التراجع بينهما. واعلم أن المزني قال: قال الشافعي في هذا الموضع: إن وضع وتعجل لا يجوز، وقال في موضع آخر: إن وضع وتعجل جاز فأجازه في الدين، قال المزني: يجوز أحب إلي، قال أصحابنا: ليس ذلك على قولين، وإنما هو على اختلاف حالين فالموضع الذي قال: يجوز في الدين على ما حكاه المزني هو أن يتعجل ويضع ولا يجعله شرطًا، فإذا كان كذلك فهو جائز، والذي قال: لا يجوز إذا جعله شرطًا وهذا كما قال في كتاب الصلح: إذا كان له على آخر ألف درهم فأعطاه خمسمائة على أن

باب بيع المكاتب وشرائه

يبرئه من الباقي لم يجز، وإن أخذ خمسمائة، وأبرأه من الباقي من غير شرط جاز وبرئ، وقيل: أشار المزني إلى قولين، وهو غلط منه وهذا لا يصح لأن المزني لم يعتقد إلا ما ذكرنا من غير إشكال. فرع آخر لو قال لمكاتبه إن أعطيتني دينارًا، فأنت حر، فأعطاه دينارًا أعتق بدفعه ويغلب حكم الكتابة به فصار العتق فيها على عوض فاسد فيلزم المكاتب فيها قيمته ويرجع بما أداه من قبل مع الدينار الذي عتق به من العبد ويتقاصان مع اتفاق الجنسين ويتراجعان الفضل إن كان فيه وهذا لا يصح لأنه لا تصح المعاوضة على المكاتب. باب بيع المكاتب وشرائه مسألة: قال: «وبيع المكاتب وشراؤه في الشفعة له وعليه فيما بينه وبين سيده والأجنبي سواء». جملة هذا أن المكاتب يصح بيعه وشراؤه من سيده وغيره لأن المقصود من الكتابة حصول العتق، [112/ أ] وإنما يحصل العتق بالأداء والتصرف فوجب أن يمكن من ذلك ليحصل له المال فيؤديه به ويعتق فإن شقص في شركته جاز له أخذه بالشفعة لأنه قد يكون له حظ في ذلك فوجب تمكينه من ذلك وله أن يأخذه من سيده بالشفعة ويأخذ السيد منه بالشفعة لأن السيد ممنوع من التصرف في المال الذي في يده كما هو ممنوع من التصرف في مال الأجنبي، وقال أبو إسحاق في علته: لأن المكاتب مالك لما في يده دون سيده غير أنه ممنوع من إتلاف ما في يده خوفًا من عجزه، وإلا فلا ملك للسيد في ذلك ما دام مكاتبًا وقد يمنع الإنسان أن يتلف ملكه أو يفسده فلا يكون ذلك دليلاً على أن لا ملك له فكذلك المكاتب وإن كان ملكه ناقصًا، فهو المالك والمتصرف ولو كان السيد هو المالك لتصرف هو فيه، وقام بتنميته دون المكاتب فلما كان التصرف إلى المكاتب علم أنه هو المالك ولكن لم يكمل ملكه فلم يكمل تصرفه، وعلى هذا لو كاتبت امرأة عبدها فوطئها بشبهة استحقت عليه مهر المثل، وإن كانا عالمين حدا فإنه لا شبهة بينها وبين عبدها فكيف بينها وبين مكاتبها، وقد قال الشافعي في «القديم»: يملك المكاتب ما في يده. مسألة: قال: إلا أن المكاتب ممنوع من استهلاك ماله، وأن يبيع بما لا يتغابن الناس بمثله. جملة هذا أن المكاتب لا يهب ماله ولا يبيعه بالمحاباة ولا يقرض بغير إذن السيد؟ لأنه ممنوع من هذه الأشياء قبل عقد الكتابة وإنما استفاد بالكتابة التصرف الذي فيه خطه ويتوصل به إلى تحصيل المقصود من العتق وهذه الأمور إتلاف للمال لا حظ له

فيها فيمنع منها كما منع منها قبل عقد الكتابة، [112/ ب] وإنما استفاد بالكتابة التصرف ولا فرق في الهبة بين أن يكون على مكافأة أو غير مكافأة لأنه لاحظ له في ذلك، لأن أكثر ما يجب من المكافأة على قول من يجبر ذلك قيمة الشيء الموهوب ويحتاج إلى تسليمه أو لا يطالبه بذلك، فلا حظ له فيها، وقوله: إنه ممنوع من استهلاك طلبه أراد بما ذكر من المحاباة أو الهبة، ولم يرد به الإتلاف المحض لأن سائر الناس ممنوعون من ذلك أيضًا، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: للمكاتب والمأذون أن يبيعها ما عز وهان من الثمن كالوكيل المطلق بالبيع وكلامنا ههنا أظهر لأن هناك لفظًا عامًا وهو قوله «بيع» ولم يوجد ذلك هاهنا كالولي في مال الصبي، فإن فعل شيئا مما ذكرنا بإذن سيده نص في «الأم» ونقله المزني: أنه يجوز، وقال الربيع: فيه قول آخر لا يجوز، ونص في الخلع على المكاتبة إذا اختلعت بإذن السيد على مال بذلته لم يجز، والخلع قريب من الهبة، فإنه إخراج المال بغير عوض، واختلف أصحابنا في المسألة على طريقين: أحدهما: أنه ينقل جواب كل واحد من المسألتين ويخرج كلاهما على قولين: أحدهما، ولا يجوز، وبه قال أبو حنيفة، لأن هذا المال غير مملوك لسيد المكاتب، وملك المكاتب عليه ناقص، فإذا وهبه أحدهما وأجازه الآخر لم يجز كما لو زوج الأخ أخته الصغيرة بإذنها لم يجز لأن ولايته عليها ناقصة، ولهذا لو أذن له السيد في وطئ جاريته، لم يجز له وطئها، والثاني، وهو الأصح يجوز لأن المال لم يخرج من بينهما كالشريكين، في المال إذا وهب أحدهما بأن صاحبه جاز، ومن أصحابنا من حمل المسألتين على ظاهرهما، وهي الطريقة الثانية، فقال: [113/ أ] الهبة تجوز بإذن السيد والخلع لا يجوز، والفرق أن بالهبة يحصل الثواب، إما من جهة الله تعالى أو من جهة الآدمي بالمكافأة، ولا يحصل لها بالخلع في مقابلة المال الذي يخرجه من يدها عوض بحال، فلا يصح ولهذا يندب إلى الهبة دون الخلع. وهذا ليس بشيء والاعتماد على الطريقة الأولى. فرع لو وهب المكاتب لسيده شيئا فقبله فهما كإذنه فيها فيكون على قولين ونص في «الأم»: أنه يجوز، فإذا قلنا: يصح، فإن قلنا: تجب المكافأة في الهبة المطلقة يجب على السيد أن يكافئه فيدفعه إلى مكاتبه أو يحتسب بها من مال كتابته، وإن قلنا: لا تجب المكافأة وروعي حال المكاتب، فإن أدى مال كتابته من غيره استقر ملك السيد على الهبة، وإن عجز وكان في الهبة وفاءً بما عليه ففي رجوع المكاتب بها ليؤديها في كتابته فيعتق به وجهان: أحدهما: لا يرجع كالهبة للأجنبي، والثاني: يرجع لأن مال الكتابة مستحق للسيد في كتابته فبأي وجه صار إليه استحق به العتق، ولو وهب لولد سيده، فإن كان صغيرًا فالسيد قابلها، فيصير قبوله لها كإذنه فيها، فيكون على قولين،

ولا يرجع بها المكاتب إن عجز ذكره في «الحاوي». فرع آخر قد ذكرنا أن نكاح المكاتب يجوز بإذن السيد وكذلك نكاح المكاتبة، وقال القفال: لا يصح نكاحها بحال، وإن زوجها سيدها بإذنها قولاً واحدًا لأن ملك السيد فيها ناقص، وهي في نفسها ناقصة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: [113/ ب] المشهور أنه لا يجوز وفيه وجه آخر أنه يجوز وكأنهما مبنيان على تبرعات المكاتب، وهذا غير صحيح عند أصحابنا بالعراق. قال القفال: ولا يجوز أيضًا تزويج أمة المكاتب وإن كان بإذن المكاتب، ولا يجوز للسيد أن يتزوج بأمة مكاتبه ولو تزوج بأمة ثم كاتب عبدًا، ثم اشترى المكاتب تلك الأمة لم يبطل النكاح، وكذلك لا تتزوج المرأة بعبد مكاتبها ولو تزوجت بعبد فاشتراه مكاتبها أو مكاتبتها لم تبطل كما لو اشترى لابنه زوجة ابنه لا يبطل، وقد ذكرنا فيما مضى وجهًا آخر أنه يبطل النكاح كما لا يجوز ابتداء النكاح وهو الأقيس. مسألة: قال: «ولا يكفر في شيء من الكفارات إلا بالصوم». قد ذكرنا هذا فيما تقدم لأن له عنية عن التكفير ب المال بأن يكفر بالصوم فلا يجوز له إتلاف المال بغير إذن سيده فيما لا حاجة له فيه، فإن أذن له السيد في التكفير بالمال، فإن كان بالإطعام، أو الكسوة، وقد ذكرنا قولين بناءً على أن العبد يملك بالتمليك أم لا، وقيل: إنهما مبنيان على القولين في تبرعاته بإذن سيده، ولو أذن له في التفكير بالإعتاق لا يجوز. مسألة: قال: «وإن باع ولم يتفرقا حتى مات المكاتب وجب البيع». ظاهر هذا أن خيار المجلس ينقطع بالموت، وقد ذكرنا ما فيه من الطرق في كتاب البيع، واختار ابن أبي هريرة أنه يقوم السيد مقامه. وقوله: وجب البيع أراد لا يبطل البيع بموته، ويقوم السيد مقامه فيه، [114/ أ] قال: وهذا أصح التأويلات، وقال القاضي الطبري: هذا مخالف لكلام الشافعي في «الأم»، وذلك أنه قال: لو باع المكاتب، أو اشترى شراء جائزًا على أن المكاتب بالخيار ثلاثًا، أو أقل فلم تمض أيام الخيار حتى مات المكاتب قام السيد في الخيار مقام المكاتب في رد البيع وإمضائه، ولو باع أو اشترى شراءًا جائزًا بلا شرط خيار، فلم يفترقا عن مقامهما الذي تبايعا فيه حتى مات المكاتب وجب البيع لأنه لم يختر الرد حتى مات، فالبيع جائز بالعقد الأول ففرق الشافعي بين خيار الشرط وخيار المجلس، فلم يصح ما قال هذا القائل، والظاهر منه قول آخر وأن المسألة على قولين، وأما خيار الشرط، فالفرق بينه وبين خيار المجلس أنه يختص بالعاقد ولا يتعداه وخيار الشرط لا يختص بالعاقد فإنه

يجوز شرطه لغير العاقد فجاز أن يقوم السيد فيه مقام المكاتب. مسألة: قال: «ولا يبيع بدين». اعلم أنه لا يجوز للمكاتب أن يبيع شيئًا بثمن مؤجل لأنه فيه تغريرًا بالمال إذا يخرج السلعة من يده ويستبدل مكانها ما لا يمكنه التصرف فيه، وقال في «الأم»: ولا يبيع بدين، وإن كثر فضله فيه بحال، وإن رهن عبده وأخذ حميلا لأن الرهن يهلك والغريم والحميل يفلس فلا يجوز فإن كان بإذن سيده، قال في «الأم»: يجوز وفيه قول آخر على ما ذكرنا في التبرعات، وقال بعض أصحابنا: يجوز أن يبيع ما يساوي مائة بمائة وعشرين، ويقبض المائة وتبقى العشرون إلى مدة وللمكاتب أن يشتري بالدين لأنه ليس فيه تغرير عليه، ,إنما التغرير على البائع، وهذا إذا لم يطلب منه الرهن به، [114/ ب] وبيع منه ما يساوي بيع مثل الأجل لأنه لا يكون غبنًا. وإن بيع منه مؤجلاً، فأولى وأجوز وهكذا له أن يستسلم في ذمته لأن له فيه خطأ إلا أنه لا يجوز أن يدفع بذلك رهنًا لأن الرهن أمانة في يده فربما يتلف ولا يضمن ذلك، ويبقى الدين في ذمته على حالته وله أن يستسلف يعني يستقر بين من ليس له أن يرهن في القرض، ولا يجوز أن يقرض ماله، ولا أن يسلف في طعام لأن ذلك دين قد يتلف، وقال في «الأم»: ليس له أن يضارب أحدًا، وإن كان أمينًا لأنه يخرج من يده إلى غيره مالاً ربما لا يصل إليه بأن يموت الرجل أو يجحد أو يفلس. قال أصحابنا: وله أن يأخذ المال من غيره قراضًا. قال الشافعي: وله أن يبيع بخيار الثلاث إذا قبض الثمن لأن البيع مضمون على قابضه، إما بالثمن أو بالقيمة، وهذه إشارة إلى قولي الملك إن قلنا: إن الملك للمشتري فمضمون بالثمن، وإن قلنا: للبائع فمضمون بالقيمة. وقال القفال: لو اشترى أو باع شيئًا لم يسلم ما في يده حتى يتسلم العوض إلا أن يسلم المسلم العوض في الحال أو المجلس فذلك القدر لا يمكن الاحتراز عنه، وعلى هذا قال بعض أصحابنا بخراسان: يصح منه السلم الحال فيتسلم العوض في الحال، وهذا بعيد. مسألة: قال: «ولا يهب لثواب». وقد ذكرنا ذلك ووجهه أن الهبة في الأصل عقد تبرع، ومذاهب العلماء مختلفة في الثواب ومقداره إذا لم يكن مسمى أحدهما ما يليق به، وهو الأظهر، ولا فائدة فيه ويتأخر ذلك عن الهبة كما ذكرنا. والوجه الثاني: أنه يكفي ما يقع عليه الاسم وهذا إضرار به، وفي أصل الهبة بشرط

الثواب قول آخر [115/ أ] إنه باطل ولهذا لا يجوز لولي اليتيم أن يهب بشرط الثواب، وقال بعض أصحابنا: نص الشافعي رضي الله عنه أنه تجوز تبرعاته بغذن السيد ونص أنه لا تجوز هبته بشرط الثواب أصلا، وهذا لأنه إن كان الثواب مجهولاً ربما يرى بعض القضاة أنه يكفي في الثواب ما يقع عليه الاسم، وبه قال أبو حنيفة، وإن كان الثواب معلومًا، فهو يسلم قبل قبض الثواب، وهذا غير صحيح بل كلاهما على قولين إذا وجد إذن السيد. مسألة: قال: «وإقراره في البيع جائز». إنما جاز إقراره لأنه من أهل ابتدائه فكان من أهل الإقرار به كالحر. قال أصحابنا: وإنما يجوز ذلك ما دام مكاتبًا، فإذا خرج من الكتابة لا يقبل إقراره كما لا يقبل قول الحاكم إذا عزل فيما حكم به، وليس هذا كإقراره الجناية لا يقبل لحق السيد إذا تعلق بالمال لأن السيد لم يسلط عليه بعقد الكتابة، وإن أقر السيد عليه بالجناية لا يقبل أيضًا لأنه لا سبيل له على ماله غير أنه إن أعجزه يومًا أخذ بإقراره ليقضي دين الجناية من ماله، أو من رقبته. فرع لو أقر المكاتب بالشراء بعد العجز فإن كان برئ من الثمن بدفع أو إبراء يقبل بخلاف ما لو أقر بالبيع لا يقبل لأن فيه إزالة الملك، وفي الشراء إثبات الملك، وإن كان الثمن باقيًا فإن كان بقدر قيمة السلعة ن فذ وإن كان أكثر فإن كان لمغابنة فيه عند الشراء نفذ والشراء مردود، وإن كان بسبب حادث من نقص سعر أو حدوث عيب ينفذ الإقرار يلزم الشراء لأن زيادة الثمن إذا عجز عنها تعلقت بذمته. وكذلك إقراره بالدين مقبول لأنه بالكتابة سلطه على ما أفضى إليه، فإن عجز ما [115/ ب] بيده عن أدائه كان في ذمته يؤديه بعد عتقه. مسألة: قال: «ولو كانت له على مولاه دنانير ولمولاه عليه دنانير فجعلا ذلك قصاصا جاز». اعلم أنه إذا حل للسيد على مكاتبه نجم من مال الكتابة وكان له على سيده من جهة المعاملة دين لم يخل من أن يكون أحد الدينين من جنس الآخر، أو من غير جنسه، فإن كان من جنسه ففيه أقوال. والمنصوص في التصرف أنهما لا يتقاصان، وإن تراضيا به، وإن كانا من جنسين مختلفين لا يسقط أحدهما بالآخر قولاً واحدًا لأن الجنسين لا يتقاصان، ولهذا لا يجوز أن يحيل بغير جنس ما عليه من الدين. ولأنه كما يكون دينًا بدين فلم يجز. فإذا ثبت هذا فلا يخلو من ثلاثة أحوال، إما أنا يكونا جميعًا نقدين كالدراهم

والدنانير، أو يكونا عرضين، أو أحدهما نقدًا، والآخر عرضًا، فإن كانا نقدين لا يحتاج إلى قبض الحقين معًا، بل يقبض أحدهما من صاحبه ثم يرده عما له في ذمته لأن دفع العرض عن الدراهم والدنانير التي في ذمته يجوز. وإن كان عرضين لا يجوز حتى يقبض كل واحد منهما ماله على صاحبه، فإن أخذ أحدهما من صاحبه ما عليه لم يجز أن يرده عليه بالجنس الذي له عليه لأنه بيع العرض قبل القبض إلا أنه يكون ذلك من جهة العرض، فيجوز، وهذا ليس بقرض لأنه لا يجوز ذلك من المكاتب فيشبه ذلك المسلم فيه. وإن كان أحدهما نقدًا، والآخر عرضًا فإن أحضر الذي عليه العرض وسلمه إلى صاحبه، فقبضه جاز له أن يرده عليه بماله في ذمته من النقد، وإن أحضر الذي عليه النقد [116/ أ] وسلمه إلى صاحبه لم يجز له أن يرد عليه بالعرض الذي له في ذمته إلا أن يكون العرض عليه من جهة القرض على ما ذكرنا. فرع قال في «الأم»: ولو كانت لمكاتبه على رجل مائة دينار فحلت عليه لسيده مائة دينار فإن أراد أن يبيعه المائة التي عليه بالمائة التي على الرجل لم يجز، ولكن إن أحاله على الرج فحضر الرجل ورضي السيد أن يحال عليه بالمائة جاز، وليس هذا بيعًا وإنما هذه حوالة، فأجاز الشافعي الحوالة بما في ذمة الغير ومنع من بيعه. وعلى هذا إذا كان له في ذمة رجل طعام، أو ثياب من جهة القرض فباعه من غير من هو عليه لم يجز، وكذلك إذا اشترى من إنسان سلعة بدين له في ذمة غير البائع لم يجز، وقال في «الإفصاح» في آخر كتاب الحوال: ذهب بعض أصحابنا إلى جواز ذلك وهذا خلاف النص، ولأنه لا يقدر على تسليم ما في ذمة غيره. فرع آخر قال في «الأم»: ولو خلت على مكاتب نجومه فسأل السيد أن يعتقه ويؤخره بما عليه فأعتقه كان العتق جائزًا، واتبعه بما عليه دينًا وكذلك لو كانت النجوم إلى آجال فسأله أن يعتقه وتكون النجوم ثابتة، فأعتقه جاز ويكون دينه عليه في الكتابة بحاله. مسألة: قال: «وإن أعتق عبده، أو كاتبه بإذنه». الفصل جملته أنه إذا كاتب عبدًا ثم اشترى المكاتب عبدًا وأعتقه بغير إذن السيد لا يجوز بلا خلاف، لأنه إتلاف للمال، وهكذا إن كاتبه بغير إذنه لا يجوز لأنه يجري مجرى الإعتاق بدليل [116/ ب] أنها في حق المريض من الثلث كالإعتاق. وقال أبو حنيفة: تجوز كتابته، وهذا لا يصح لما ذكرنا، وأما إذا أعتق، أو كاتب بإذن سيده، هل يصح

فيه قولان: أحدهما: لا يصح لأن العتق إنما يصح من مالك تام الملك، وليس له ذلك لأنه يقتضي الولاء وهو مملوك لا يثبت الولاء له لأنه يجوز أن يعتق فيثبت عليه الولاء ومن كان ممن يثبت عليه الولاء لا يجوز أن تثبت له الولاء، والثاني: يجوز لأن إيقاع الحرية تمليك العبد نفسه فملكه بإذن السيد كالهبة، وهذان القولان من فروع التبرعات. وقال القفال: إن قلنا: تبرعاته لا تجوز إلا بإذن سيده فهو أولى أن لا يجوز، وإن قلنا: ذلك يجوز فههنا قولان. وحكى المزني عن «الإملاء» على مسائل مالك أنه قال: إذا كاتب المكاتب عبده لا يجوز، وإذا أدى المال لم يعتق كما لو أعتقه لم يعتق، ثم اختار هذا القول، وهذا التشبيه مشكل لأنه يوهم فرقًا بين الكتابة والعتق، وليس كذلك لأن القولين في إعتاقه كالقولين في كتابته فيحتمل أن يكون مراده بقوله: كما لو أعتقه لم يعتق إذا كان بغير إذن سيده ولا يبعد أن يقيس الكتابة في حال إذن السيد على الكتابة في حالة عدم الإذن أو على الإذن في حالة عدم الأخذ يعني: نقصان ملكه في الحالين، وقيل قصد الشافعي أن يبين أن الكتابة تبرع كالإعتاق، فلا يصح من المكاتب دون إذن سيده كيلا يظن ظان أن الكتابة كالبيع فتصح دون إذن السيد، وقيل: هذا لأن للشافعي قولين في كتابة المكاتب عبده، وفي إعتاقه بإذن السيد قولان ولكن نضه في «الإملاء» يدل [117/ أ] على وجوب الترتيب وكيفية الترتيب ما ذكر القفال، والفرق أن بالكتابة يستفيد عوضًا وفي زيادة ماله منفعة سيده ولا يستفيد بالإعتاق عوضًا، فافترقا، وقال أبو إسحاق: القياس ما اختار المزني لولا ما فيه من الشفعة، فإذا قلنا: لا يصح، فالعتق لا ينفذ والكتابة باطلة والعبد باق على ملكه فإن أدى المال إليه لم يعتق لأنه إنما العتق في الكتابة الفاسدة بأداء المال إذا كان السيد ممن يملك العتق المباشر وههنا لا يملك ذلك، وإذا قلنا: يصح العتق والكتابة تصح أيضًا، فأدى المال وعتق وهو بعد لم يعتق، فلمن يكون الولاء قولان: أحدهما: أنه موقوف، فإن عجز المكاتب كان للسيد، وإن أدى وعتق كان له لأن حكم المكاتب في نفسه وماله موقوف ولأن المكاتب باشر العتق فيستحيل أن يكون الولاء للسيد الذي لم يباشره فيوقف عليه، ثم صور الشافعي رضي الله عنه فائدة الوقف فقال: «فإن مات عبد المكاتب المعتق بعدما يعتق وقف من ميراثه في قول من يقف الميراث كما وصفت، فإن عتق المكاتب الأول فهو له، وإن مات أو عجز فلسيد المكاتب إذا كان حيًا يوم يموت، وإن كان ميتًا فلورثته من الرجال ميراثه»، وإنما قال من الرجال لأن النساء لا يرثن بالولاء إلا في مباشرة العتاق. وقال أبو حامد على هذا القول: في هذه المسألة قولان: أحدهما، ما ذكرنا، والثاني: ميراثه لسيده لأن الولاء يجوز أن يتوقف فيثبت لشخص ثم ينجر الولاء إلى غيره والميراث لا يجوز لأن يتوقف قط، [117/ ب] ولأن السيد وارث في الحال، فلم ينتظر في المكاتب أن يصير وارثًا كالحر إذا مات وخلف

أبًا مملوكًا وجدًا حرًا كان ميراثه لجده ولا يوقف على عتق أبيه، وقال أصحابنا: هذا القول بعيد لأنه يؤدي إلى توريث السيد من هذا المعتق بلا نسب ولا ولاء، وهذا لا يجوز، وذكر القفال وجهًا آخر أنه يصرف ماله إلى بيت المال، وهذا الوجه الأول أبعد، والقول الثاني: الولاء لسيد المكاتب وبه قال أبو حنيفة، لأن العتق إذا كان معينًا لم يجز أن يكون الولاء موقوفًا كما لا يجوز أن يكون النسب موقوفًا مع تعين الواطئ، وإذا لم يثبت في الحال بطل النسب وكذلك الولاء والمكاتب في الحال من أهل الولاء والسيد من أهله فثبت له. قال القفال: وعلى هذا يجب أن يجري عن كفارة السيد إذا نوى وأعتقه المكاتب بإذنه، ومن قال بالأول أجاب عن هذا بأن النسب قد يقف على بيان القافة أو على الانتساب إذا لم يكن قافة، فكذلك الولاء يجوز أن يوقف ولأن الفرق بين النسب والولاء ظاهر لأن الولاء ينتقل بالجر من مولى الأم إلى مولى الأب بخلاف النسب، ولو أدى المكاتب الثاني المال بعدما عتق المكاتب الأول، فالولاء للمكاتب الأول إذا جوزنا تلك الكتابة لأنه يوم العتق من أهل الولاء. فرع إذا قلنا: الولاء للسيد فلا فرق بين أن يعجز المكاتب بعد ذلك لو أدى المال وعتق فقد استقر الولاء على السيد فلا ينتقل هكذا قال أصحابنا. وقال في «الحاوي»: حكى ابن أبي هريرة أنه إذا عتق المكاتب [18/ أ] بعده بالأداء هل يجر ولاء معتقه، وينتقل عن سيده إليه؟. اختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: ما ذكرنا كما لا يجوز أن ينتقل النسب، والثاني: يجره لأنه باشر العتق، وإذا جاز أن ينتقل ههنا، وقد باشر العتق وهناك لم يباشره. فرع آخر إذا أعتق المكاتب عبده عن سيده أو عن غير سيده بإذن سيده ففيه قولان. قال أبو حامد: الصحيح ههنا أنه يعتق والصحيح في عتق المكاتب عن نفسه بإذن سيده أنه لا يعتق لأنه ليس من أهل الولاء. مسألة: قال: «وبيع نجومه مفسوخ». الفصل جملة هذا: أنه إذا كاتب عبدًا على مال ثم إن السيد باع ذلك المال الذي له في ذمة المكاتب نص الشافعي ههنا، وفي «الأم» وعامة كتبه: أنه لا يجوز، وبه قال الثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد، وقال مالك: يصح ذلك لأن السيد يملكها في ذمة المكاتب فصار كسائر أمواله وهذا غلط لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - «نهى عن بيع ما لم يقبض» وهذا عوض غير مقبوض، فهو بمنزلة المسلم فيه، ولأنه ليس بلازم ومتى شاء المكاتب

أسقط ذلك عن نفسه، وقال أبو إسحاق: أومأ الشافعي في «القديم» إلى جوازه أيضًا ولكنه فاسد لا وجه له، وقيل: قال في «القديم» في بيع المكاتب، هل يجوز قولان، فإذا قلنا: يجوز، يجوز بيع رقبته أيضًا، وهذا البناء لا يصح لأن الغرر في المال الذي في الذمة أكثر منه في الرقبة فلا يصح بناء إحدى المسألتين على الأخرى [118/ ب]. وقيل: قال في بيع الديون وهبتها قولان أخرجهما ابن سريج، فههنا كذلك وهذا خطأ أيضًا لأن ذلك في الدين المستقر اللازم. والصحيح أن المسألة على قول واحد أن البيع باطل. فرع إذا قلنا: إن البيع باطل فالمشتري لا يملك مطالبة المكاتب بشيء ولا يجوز للمكاتب أن يدفع إليه أيضًا، فإن جمع مالا ودفعه إلى المشتري، فهل يعتق؟، قال الشافعي ههنا، فإن أدى المال إلى المشتري بأمر سيده عتق كما يؤدي إلى وكيله فيعتق، وقال في «الأم»: لا يعتق لأن أصل البيع باطل، وليس هذا كرجل وكله سيد المكاتب لأنه يأخذه لنفسه دون السيد بدليل أنه يضمن واختلف أصحابنا في هذا، فقال ابن سريج، ينبغي أن يخرج على قولين: أحدهما: لا يعتق وإن أدى إلى المشتري بإذن السيد لأنه أذن له أن يقبضه لنفسه لا للسيد، والذي على المكاتب أن يدفع إلى السيد أو إلى من يقبضه له بإذنه، وهذا لا يصح، والثاني: يعتق صرح البائع بالإذن، أو لم يصرح لأنه قبضه بإذنه وتسليطه كالوكيل، فإذا قلنا: يعتق فقد برئت ذمته من مال الكتابة، لأنه ما عتق إلا بعد براءة ذمته من المال وتبقى المنازعة بين السيد وبين المشتري في المال الذي قبضه من المكاتب وفي الثمن الذي دفعه المكاتب إليه فإن كان المال الذي قبضه المشتري، والثمن الذي دفعه المشتري باقيين يرجع المشتري بما دفع واسترجع منه ما أخذ وإن كانا تالفين حصل التقاص بينهما فيما تساويا فيه [119/أ] ورجع أحدههما على صاحبه بالفضل الذي بقي له، وإذا قلنا: لا يعتق فإن ذمته لا تبرأ من مال الكتابة فيستحق السيد مطالبته بمال الكتابة، ويستحق هو مطالبة المشتري بما دفعه إليه ويستحق المشتري مطالبة السيد بالثمن الذي دفعه إليه. وقال أبو إسحاق: المسألة على اختلاف حالين، فالذين قال يعتق: أراد إذا باع المال منه وأمر المكاتب بدفعه إليه، فيكون قد قبضه بأمرة ويعتق، والذي قال لا يعتق: أراد به إذا باعه مطلقًا، ولم يأمر المكاتب بالدفع إليه، فلا يعتق لأنه لم يوجد من السيد صريح الإذن بالدفع، وإنما البيع تضمن ذلك، فإذا بطل البيع بطل ما تضمنه. قال: وهذا هو الظاهر لأن الشافعي في «الأم» لم يشترط إذن السيد في دفعه إلى المشتري وشرط فيما نقل المزني الإذن قال: فإن أدى إلى المشتري بأمر سيده. قال أبو إسحاق قلت لابن

سريج هذا، فقال: ما تبين لي أن يكون بينهما فرق لأنه لا فرق بين أن يأذن في الدفع أو يلزمه بعقد سيده الدفع، ومن لفظ بالعقد فقد أذن في دفعه، فقلت: هذا يمكن أن يقال لأنه إذا لم ينص على الدفع فالدفع لا يلزمه وإنما دفعه متأولا، وقد كان يمكنه أن يحترز منه بأن لا يسلمه إليه إلا بإذن ينص له السيد عليه، أو يحكم به عليه حاكم، فلا يعتق ويدل على هذا أنه لو أعتقه لم ينفذ عتقه ولم يجعل بمنزلة العتق بإذن السيد وإن كان العقد يتضمن تصرفه بالعتق وغيره، واختار القاضي الطبري طريقة أبي إسحاق. مسألة: قال: «وليس للمكاتب أن يشتري من يعتق عليه». الفصل جملة هذا: أن المكاتب إذا اشترى [119/ ب] من يعتق عليه بحكم القرابة كالآباء والأمهات وغيرهم، فإن كان بغير إذن سيده لا يصح الشراء قولا واحدًا. وقال أبو حنيفة وأحد: يصح الشراء، وقال أبو حنيفة: القياس أن له أن يتصرف بعد الشراء ولكني أمنعه من ذلك استحسانًا، وهذا لا يصح لأنه استهلاك وإتلاف إذ يخرج من يده ويجوز له التصرف فيه وأداء نجومه منه ويأخذ عوض ذلك مالا يمكنه التصرف فيه، وذلك ضرب من إتلاف المال، وإن كان بإذن سيده. قال عامة أصحابنا: فيه قولان كالتبرعات بإذن سيده، وقال أبو إسحاق: يصح ذلك قولا واحدًا، والفرق بينه وبين التبرعات في أحد القولين، إن التبرعات لا تحصل له عوض بوجه فهي إتلاف محض فلا يصح العوض، وهو أن هذا العبد يصير ملكه ويكتسب فيستعين بكسبه وربما يخفي عليه، فيأخذ هو أرش الجناية ويؤدي ذلك ويعتق هو معه فتحصل له المنفعة بذلك، فجاز والطريقة الأولى أصح لأن هذا العوض غير مقصود ولا متحقق، ولو كان كما قال أبو إسحاق لجاز أن يشتريه بغير إذن السيد وليس هذا بأكثر من الهبة بشرط الثواب وقد نص الشافعي أنه لا يجوز ذلك على القول الذي يقول لا يجوز هبته بإذن السيد. وحكي أن أبا إسحاق، قال: وينبغي أن يكون على قول له شراؤه بالإذن لأنهما لو اجتمعا على إتلاف المال جاز فجعله أبو إسحاق بمنزلة الإتلاف فيكون مع الإذن كالهبة فلا فرق على هذا بين ما قال أبو إسحاق وبين ما قال غيره. فرع إذا قلنا: يصح الشراء لم يكن له بيعه وكان موقوفًا على كتابته، فيقف عليه بحكم الملك دون النسب، ولأنه [120/ أ] لا يجوز أن يملك ثمن والد، وحكي عن ابن أبي هريرة أنه قال: يجوز بيعه لأنه يملكه وللسيد فيه حق، وهذا يلزم إذا استولد أمته، فإن [ابنه ملكه ولا يجوز له بيعه].

فرع آخر قال الشافعي رضي الله عنه: «وله أن يقبلهم إن أوصى لهم به ويكسبون على أنفسهم». وجملته: أنه إذا أوصى له بهم فأراد أن يقبل الوصية ينظر فإنه كان ممن يجب عليه نفقته بأن يكون زمنًا، أو شيخًا ضعيفًا كبيرًا، أو طفلًا صغيرًا لم يجز له قبول ذلك لأنه يستضر بوجوب النفقة عليه ولا ينتفع بشيء ولا فرق بين أن يزن ما في يده من ثمنه، وبين أن ينفق عليه منه، وإن كان جلدًا مكتسبًا يقوم كسبه بنفقته فله أن يقبل ذلك بل هو مندوب إلى ذلك لأنه لا يستضر به بل فيه تكسب، لأنه ينتفع بفضل كسبه، وقد قال الشافعي: «يأخذ فضل كسبهم وما أفادوا» يعني: كل مال استفادوه فكالكسب، وإنما يأخذ ذلك لأنه بمله وليس بحر، فإن قيل: يجوز أن يزمن أو يمرض، ولا يكون له كسب، فيكون ضررًا على المكاتب، قلنا: الاعتبار بالحال دون ما يجوز أن يحدث في الثاني من الزمانة والعجز، وقال الصيمري: إذا أوصى له بابنه الزمن ولا كسب له، له أن يقبل في أصح الوجهين لأنه يجوز أن يحدث له اكتساب بغير عمل، وربما يصح فيعمل، وهذا ضعيف لأنه خلاف الظاهر في الحال، وهذا غريب. فرع آخر لو قبله وكان له كسب فزمن أو مرض لزمه أن ينفق عليه مما في يده لأنه عبده وملكه، فإن قيل: أليس لا يلزمه أن ينفق على أقاربه؟، قلنا: الفرق أن نف قة الأقارب مواساة بخلاف هذا [120/ ب]. فرع آخر لو جنى واحد منهم في يده، قال الشافعي: «وإن جنوا لم يكن له أن يفديهم وبيع منهم بقدر جناياتهم» وهذا لنأن المفاداة بمنزلة الشراء لأنه إخراج مال في مقابلتهم فكما لا يجوز ذلك لا يجوز هذا، فإن كان بإذن سيده يكون قولان أيضًا كما في الشراء وهكذا الحكم إذا وهب له واحد من هؤلاء، فقبل ذلك. مسألة: قال: «ولا يجوز بيع رقبة المكاتب». اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في بيع رقبة المكاتب، فقال في القديم: يجوز ولا أعرف لمن منع منه وجها، وبه قال عطاء والنخعي وأحمد، وقال في «الجديد»: لا يجوز بيعه، وهو الصحيح، وبه قال مالك والثوري وأبو حنيفة وأصحابه. وقال الزهري وربيعة: إن باع رقبته بإذنه صح البيع وإن باع من غير إذنه لم يصح، وروى الطحاوي هذا عن ابن أبي عمران عن أبي يوسف، واحتج عطاء بخبر بريرة، ولأنه بمنزلة العبد

القن في عامة أحكامه، فكذلك في جواز البيع وهذا خطأ لأن الكتابة عقد يمنع رجوع أرش الجناية عليه إليه فيمنع البيع، وإذا قلنا: يصح يكون مكاتبًا كما كان فإن أدى المال إلى المشتري عتق والولاء للمشتري بخلاف وارث المكاتب إذا قبض النجوم، وصار حرًا يكون الولاء للمورث، لأن الوارث يقوم مقامه وينبني ملكه على ملكه بخلاف المشتري، وإن عجز كان رقيقًا للمشتري، وقال أبو ثور: يجوز بيعه وولاؤه إذا عتق للبائع، وهذا غلط لما ذكرناه ومن أصحابنا من أنكر هذا القول، وذكر أن المسألة على قول واحد إنه لا يجوز وذلك القول مرجوع عنه، وذلك لأنه قد باعه [121/ أ] بالعقد الذي عقد عليه ومنع من المكاتب ومن كسبه، وقد ملك المكاتب ذلك إلى أن يعجز فيعود في الرق، فإذا باع رقبته باع ما لا يملكه، فلا يجوز ذلك ولو كان هو مالكًا لرقبته لكانت منافعه له ولكان له وطئها إذا كانت أمة. قال الشافعي: «فإن قيل: بيعت بريرة» وقصتها قد ذكرنا، ثم أجاب الشافعي، فقال: «لعلها عجزت وهي المساومة بنفسها عائشة رضي الله عنها والمخبرة بالعجز والراضية بالبيع» وشرح أبو إسحاق هذا، فقال: عائشة رضي الله عنها إنما اشترت بريرة بعد العجز لأن عقد الكتابة يلزم السيد ولا يلزم المكاتب وله أن يفسخه، أي وقت شاء، فلما كانت بريرة هي التي سفرت بينها وبين مواليها، وهي المساومة والمطالبة من عائشة أن تشتريها فقد علم أن ذلك رضى منها بفسخ الكتابة، وأنها عجزت نفسها ورغبت في عتق معجل يعينها على التصرف والتكسب للحرية فكان هذا أحظى لها وأعود عليها، ومن أصحابنا من قال: إنها عجزت عن أداء نجمها وشكت إلى عائشة ذلك، فباعها مواليها، فكان لهم تعجيزها وفسخ كتابتها فكان بيعهم فسخًا للكتابة، كما إذا باع البائع المبيع في مدة الخيار كان فسخًا للبيع الأول. فإذا تقرر هذا فعلى هذا لو باعه قبل العجز، فأعتقه المشتري، قال في «الأم»: كان عتقه باطلا، ولو دفعه النجوم إلى المشتري هل يعتق، فيه قولان على ما ذكرنا في بيع النجوم، ولو باعه قبل أن يرضى بالعجز ثم رضي، قال في «الأم»: كان البيع مفسوخًا حتى يحدث له بيعًا بعد رضاه بالعجز ولو باعه وماله من رجل نزع مال الكتابة من يد المشتري وكان على كتابته، فإن مات المشتري [121/ ب] رجع به المكاتب على لسيده في ماله إن لم يكن حلت عليه الكتابة، فإن كانت حلت عليه أو بعضها كان قصاصًا وإن لم يمت ضمن المكاتب أيهما شاء إن شاء الذي استهلك ماله، وإن شاء سيده. وقال في «الأم»: ولو باعه ولا مال للمكاتب، أو له مال قليل، فأقام في يد المشتري سنين وحل عليه نجمان من نجومه ورد البيع فسأل المكاتب أن ينظر سنين يسعى في نجميه اللذين حلا عليه، ففيها قولان: أحدهما: لا يكون له ذلك كما لو

حبسه سلطان، أو ظالم، أو مرض أو سبي وكان له أن يحسب على سيده قيمة إجارة السنين من نجومه، فإن أدى عنه كتابته وإلا رجع عليه السيد بما بقي، فإن أداه، وإلا فهو عاجز، وإن كانت في إجارته السنين فضل عن كتابته عتق ورجع بالفضل وأخذه وهكذا لو كاتبه السيد ثم عدا عليه، فحبسه سنة، أو أكثر والثاني: ينظره بقدر حبس السيد له إن حبسه بنفسه أو حبسه بالبيع، قال أصحابنا: ووجه هذا أنه دخل معه في العقد على أن يمكنه من التصرف في المدة التي شركها، فإذا حبسه في بعضها لم يف له بالشرط فلزمه بحبسه مثل ما حبسه، والأول أصح. ثم قال المزني: فإن قيل: فما معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة: «اشترطي لهم الولاء»، وهذا السؤال لكشف إشكال في الخبر لا لتوجيه القول الجديد والرفع عنه، قال المزني: قلت للشافعي جوابان عن هذا السؤال أحدهما يبطل بالشرط، ويجوز العقد وجعله خاصًا. قال أبو إسحاق: تفسير هذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن لعائشة رضي الله عنها في ذلك لأنه تقدم إليهم بأن الولاء للمعتق، فلم ينتهوا [122/ أ] عن شرط الولاء لأنفسهم فأمر عائشة بالشراء، وشرط الولاء للبائع ثم أبطل الشرط، وقال: ما بال أقوام، وقال الشافعي: رجال يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله فكان شراء عائشة صحيحًا، والشرط فاسدًا، وكان إذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك للبائع في الإنكار عليهم وردعهم عما كانوا عليه، وهذا كما أنهم كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من الكبائر، فلما أذن لهم فيها بقوله تعالى: {وأَتِمُّوا الحَجَّ والْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]، توقفوا فأذن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الإحرام بالحج، ثم فسخ عليهم إحرامهم بالحج وأمرهم أن يجعلوه عمرة ليكون تغليطًا عليهم في إثبات أوامره، وقيل: هذا هو القول المنصوص في البيع بشرط العتق، أو بشرط الولاء للبائع أن البيع جائز لا على القياس ولكن بالسنة، وهذا معنى قول المزني يجعله خاصًا. وقيل: لما نهى عن بيع الولاء وهبته ظنوا أن نهيه توجه إلى إفراه بالبيع وأنه إذا كان مشروطًا في بيع جائز صح فأحب أن يفسخه عليه بعد شرطه ليكون الفسخ، أوكد والنهي أغلط كما قلنا في باب جواز العمرة في أشهر الحج. وقيل: إنهم كانوا في الجاهلية يتبايعون الولاء ويرونه مالا فغلط الأمر فيه مع نهينه عن بيعه بأن أبطله عليهم بعد بيعه ولذلك غضب وصعد المنبر فخطب، وقال: «ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله» الخبر إلى آخره. وقيل: أذن فيه في وقت جوازه ثم نسخ فأظهر نسخه بفسخه كما أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سهلة بنت سهيل أن ترضع سالمًا وكان كبيرًا ثم نسخ رضاع الكبير، وقال: الرضاعة من المجاعة. ثم قال المزني: [122/ ب] وقال في موضع آخر، وهذا من أشد ما يغلط فيه وإنما جاء به هشام بن عروة وحده وغيره خالفه وضعفه، وهذا أولى به لأنه لا يجوز في صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - في مكانته من الله تعالى ينكر على أناسٍ شرطًا باطلًا، ويأمر أهله بإجابتهم إلى شرط باطل وهو على أهله في الله أشد وعليهم أغلط يريد بهذا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أذن

لعائشة في اشتراط الولاء للبائع وانفرد بتلك الرواية هشام، وليست بصحيحة لما ذكره من الدليل. وقيل: هذه زيادة تفرد بها هشام، وقد روى نافع عن ابن عمر عن عائشة رضي الله عنها هذا الخبر فلم يروها، وكذلك الزهري لم يروها وهو أحفظ من هشام، وكذكل عمرة والقاسم بن محمد والأسود بن يزيد وأبو هريرة كلهم رووا عن عائشة، ولم يذكروا أنه أمرها باشتراط الولاء لهم ولعل هشامًا أو عروة حين سمع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لها: «ما يمنعك ذلك» رأى أنه أمرها أن تشترط لهم الولاء، فلم يقف من حفظه على ما وقف عليه ابن عمر وجماعة. فإن قيل: الزيادة أولى في الإخبار قيل: ترك الزيادة في هذا الموضع أولى من الأخذ بها لثلاثة أمور، أحدها: إنكار الرواة لها على ما ذكرنا، والثاني: منع الشرع منها، والثالث: صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - على ما ذكرنا فلا يجوز أن يأذن في المحظور والغرور، وقال بعض أصحابنا: هكذا قال الشافعي، ولكن الخبر في «الصحيحين» من طرق شتى سوى طريق هشام، وهذا الشرط مذكور فيه، والأصح الجواب الأول، [123/ أ] وهو تجويز البيع بالسنة، ثم اشتغل المزني بالتأويل، فقال: ويحتمل لو صح الحديث أن يكون أراد: اشترطي عليهم أن لك إذا اشترطت، وأعتقت الولاء أي لا تغريهم واللغة تحتمل ذلك قال الله تعالى: {ولَهُمُ اللَّعْنَةُ} [غافر: 52] أي عليهم اللعنة، وقال تعالى: {إنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وإنْ أَسَاتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7]، يعني فعليها. وقال تعالى: {ولا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات: 2]، أي عليه، فقامت لهم مقام عليهم فتفهم رحمك الله. وأنكر أبو إسحاق هذا التأويل على المزني على عادته في الرد على المزني إذا وجد السبيل إليه، وقال الماسرجسي: سمعت أبا إسحاق ينكر ذلك، ويقول: هذا يجوز عند الضرورة، ولو جوزنا إبدال حرف بحرف لغير الحاجة والضرورة بطل التفاهم بالخطاب، وذهبت فائدة الكلام، وقال: لا يجوز أن يقصد منع عائشة من شرطها الولاء للبائع بلفظ لا يبني عنه إلا بقرينة الحال ودلالة وفي موضع لا يشكل ولا يلتبس ولأن خروجه مغضبًا، وقوله في خطبته: «ما بال أقوام يشترطون شروطًا ليست في كتاب الله». يدل على أن الشرط كان لهم فأبطله عليهم، فلا يصح ما ذكره المزني. وقال ابن أبي هريرة: قوله اشترطي لهم الولاء خارج مخرج الوعيد والتهديد، كقوله تعالى: {فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن ومَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29]، وهذا بعيد، وقال صاحب «الإفصاح»: أراد اشترطي لهم العتق، فعبر عن العتق بالولاء لحدوثه عنه، واستحقاقه به، وهذا أيضًا عدول عن الحقيقة إلى المجاز، وقال أبو حامد: اشتراط الولاء تقدم العقد لأنه كان وقت المساومة، وإنما يلزم الشرط [123/ ب] إذا اقترن بالعقد فلذلك بطل، فأعلن النبي - صلى الله عليه وسلم - إبطال حكمه، وهذا ضعيف لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبطل الشرط لفساده، ولم يبطله لأنه كان في غير محله، ولو أراد ذلك لأزال اللبس ولأبان الحكم المقصود.

باب كتابة النصراني

فرع لو كانت الكتابة فباعها للسيد، فإن كان للسيد علمًا بفسادها صح البيع وفي ذلك فسخ الكتابة الفاسدة، فلا يعتق بعد ذلك بالدفع وإن لم يعلم أو ظن أن الكتابة صحيحة، فإذا هي فاسدة ففي صحة البيع قولان مخرجان كما قال الشافعي: إذا أوصى برقبته لرجل ظنًا أن الكتابة صحيحة وأن الوصية فاسدة هل تصح الوصية، قولان سواءً كان عالمًا بفسادها أو جاهلًا، ومن أصحابنا من قال: لا يصح البيع قولًا واحدًا بخلاف الوصية لأنها تقبل الغرر والجهالة والوقف على الشرائط بخلاف البيع. باب كتابة النصراني مسألة: قال: «ويجوز كتابة النصراني». الفصل اعلم أنه إذا كاتب النصراني مملوكه جاز كما تجوز كتابة المسلم، وقال بعض الفقهاء: لا تجوز كتابته لأن الله تعالى ندب المسلمين إليها بقوله تعالى: {والَّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ} [النور: 33]، الآية. ودليلنا حكم المعاملات والإعتاق يعم الكل، أو نقول: الكتابة تشتمل على المعاوضة والإعتاق بالصفة وكلاهما يجوز منه، وأما قولهم: ندب المسلمين إليها، قلنا: إنما خص المسلمين بالخطاب إكرامًا لهم لا تخصيصًا بالحكم. ثم جوز كتابته [124/ أ] على الوجه الذي يجوز كتابة المسلم، فإذا كاتب عبده ثم ترافعا إلى حاكم المسلمين نظر بينهما وحكم بحكم الإسلام، فإذا كانت الكتابة مما تجوز بين المسلمين أمضاها وإن كانت مما لا يجوز ردها لأن الحاكم لا يحكم إلا بما يسوغ في دينه. ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه فيما كانت الكتابة فاسدة ثلاث مسائل: إحداها: أن يتعاقدا فاسدًا ويقبض السيد العوض ثم أسلما وترافعا، فالحاكم يقرهما على ذلك لا على معنى أنه يحكم بصحته ولكن على معنى أنه لا يتعرض لهما كما نقول: إذا تزوجها على مهر فاسد وتقابضا العوض ثم أسلما. والثانية: أن يسلما ثم تقابضا في حال الإسلام فالحكم يبطل ذلك، لأن قبض الفاسد لا يصح في حال الإسلام إلا أن العتق وقع بوجود الصفة ويثبت بين السيد وبين المكاتب التراجع، فإن كان مما دفعه إلى السيد لم يحتسب له بشيء وحسب عليه قيمة رقبته، وإن كان له قيمة احتسب عليه بقيمته وعلى العبد بقيمة رقبته، ويتراجعان الفضل. والثالثة: أن يسلما ثم يتراجها قبل التقابض أو بعد قبض البعض وبقاء البعض يحكم بفسخ الكتابة وإبطالها لأنه ما لم يقبض جميع مال الكتابة فالعتق لا يقع وحكم العقد

لم يتنجز، فحكم ببطلانه وارتفاعه إذا كان مما لا يصح مثله في الإسلام، فإن لم يحكم بفسخ الكتابة فأدى ذلك عتق بالصفة وثبت التراجع، وما أدى في حال الشرك من الحرام فحكمه حكم ما لم يرد شيئًا، فيكون التراجع بجميع القيمة نص عليه فيه «المختصر» لأن العتق وقع في حال الإسلام، فلم ينظر إلى ما أدى في حكم الكفر ويفارق هذا إذا تزوج في حال الشرك [124/ ب] ثم أسلم وقد أسلم إليها بعض الصداق الفاسد في الشرك احتسب عليها بقدر ذلك لما ذكرنا من الفرق في كتاب النكاح، وهو أن الاعتبار في العتق بآخر النجوم لأن العتق يتعلق به دون ما قبله، وفي النكاح لا يعتبر آخره. وقال أبو حنيفة: إذا كاتبه على خمر ثم أسلما لا يبطل ويؤدي إليه قيمة الخمر ويعتق كما قال في النكاح، وهذا لا يصح لأنه إذا عقدها ابتداءً بخمر كانت فاسدة بخلاف ما لو تزوجها على خمر لا يفسد النكاح. وقال القفال: هذا إذا أسلما، أو أسلم السيد لأن ذلك لا يبطل الكتابة، فأما إذا أسلم العبد دون السيد، فإن قلنا: إذا اشترى الكافر عبدًا مسلمًا فأجبرناه على بيعه فكاتبه يسقط الاعتراض عنه، ولا يباع عليه فههنا أولى أن لا يباع، وإن قلنا: هناك لا يسقط الاعتراض ويباع عليه، فههنا وجهان، والأصح أنه لا يباع لأنه حين عقد الكتابة لم يكن توجه عليه المنع منها في بيع وغيره، وفي إبطال الكتابة إبطال للحق الذي ثبت له الموصل إلى العتق، والثاني: يباع عليه كالمسألة الأولى وهما على القولين في أن أحد الشريكين في المكاتب إذا أعتق نصيبه متى يقوم عليه في الحال، أو بعد التعجيز، فإذا قلنا: لا يباع عليه، ههنا فإذا عجز والسيد كافر يباع عليه لا محالة. فرع إذا عقد الكتابة في الشرك بحرام وحلال ثم أسلما وتقابضا الحرام في الشرك، وبقي الحلال في الإسلام ففي الكتابة وجهان: أحدهما: يحكم بصحتها لأن الحرام بقبضه في الشرك صار عفوًا، والباقي من الحلال في الإسلام يجوز أن يكون عوضًا، فعلى هذا يؤدي المكاتب الحلال، ويعتق به، ولا تراجع فيه، والثاني: [125/ أ] يحكم بفسادها لأن الحلال بعض العوض في عقد قد فسد وللسيد إبطالها، فإن لم يبطل عتق فيها بالأداء ورجع السيد بقيمته ورجع المكاتب بما أداه، وكان قصاصًا إن تجانس ذكره في «الحاوي». مسألة: قال: «ولو أن نصرانيًا اشترى عبدًا مسلمًا فكاتبه ففيها قولان». الفصل قد ذكرنا في شراء الكافر عبدًا مسلمًا هل يصح الشراء؟ فيه قولان، فإذا قلنا: لا تصح فكاتبه، فالكتابة باطلة بلا خلاف، وإذا قلنا: يصح، وهو الذي نص عليه ههنا

باب كتابة الحربي

فكاتب هل تصح الكتابة؟ فيه قولان: أحدهما: تصح الكتابة، وبه قال أبو حنيفة، ويزول بها الاعتراض، وهو اختيار المزني لأن القصد بالبيع عليه إزالة سلطانه عنه وبالكتابة زالت السلطنة ويستفيد العتق بأداء النجوم، والثاني: لا يصح ولا يزول بها الاعتراض لأنه وإن كان ممنوعًا من استخدامه والتصرف فيه فإنه مسلط عليه في منعه من السفر وهبة ما في يديه .. والتصرف فيه على الإطلاق وفي ذلك عليه ذل وصغار، ولأنه أمر بإخراجه عن ملكه تامًا وليست الكتابة بإخراج تام، ويفارق هذا إذا كاتب الكافر عنده الكافر ثم أسلم لا يباع عليه على المذهب الصحيح المنصوص لأن هناك لم يستحق إزالة ملكه عنه في الأول على ما ذكرنا. قال المزني: تصح الكتابة لأنه ممنوع من النصراني بكتابته وعسى أن يؤدي، فيعتق يريد به أن للعبد حظًا في ذلك لأنه يؤدي إلى حريته فكان أولى من مطالبته بالبيع وسومح بما عليه من الذل لما يؤدي إليه العتق به. قال: «وفي تثبيته الكتابة إذا أسلم العبد ومولاه نصراني [125/ ب] على ما قلت دليل، وبالله التوفيق». يعني المسألة التي ذكرها في الباب قبله، والجواب أنا لا نسلم ذلك على ما ذكر القفال، وإن سلمنا فالفرق ظاهر على ما ذكرنا، فإذا قلنا: الكتابة صحيحة يقر عليها ثم ينظر فإن أدى مال الكتابة عتق، وإن عجز نفسه استرقه السيد، وأزيل ملكه عنه، وإذا قلنا: الكتابة فاسدة يباع عليه، فإن بادر العبد قبل أن يبيع عليه فأدى المال عتق عليه لوجود الصفة ويثبت التراجع بينه وبين سيده لأنه عتق بكتابة فاسدة، فيثبت بينهما التراجع. مسألة: قال في «الأم»: ولو أن نصرانيصا كاتب أمة له كتابة صحيحة ثم أسلمت واختارت المضي على الكتابة فوطئها السيد فلها مهر مثلها، فإن حملت فالولد حر مسلم لا سبيل عليه لأنه في ملكه، فإن مات النصراني وهي على الكتابة عتقت بموته، وبطل عنها ما بقي من الكتابة عليها ولها ما لها ليس لورثة النصراني منه شيء لأن النصراني كان ممنوعًا من مالها بالكتابة، ثم صارت حرة بموته، فصارت الورثة ممنوعين منه بحريتها، فإن ولدت وعجزت أخذت بنفقتها وحيل بينه وبين إصابتها، فإذا مات فهي حرة ويعمل ما يطيق وله ما اكتسب وأرش ما جنى عليها، فإنها لم تلد ولم يمت النصراني حتى اختارت العجز، قال الشافعي رضي الله عنه: أجبر على بيعها ما لم تلد، قال القاضي أبو حامد: قد قيل: هذا على القول الذي لا يتحقق الحمل ولا يجوز بيعها إذا كانت حاملًا بولدٍ حر مسلمٍ حتى تضع [126/ أ]. باب كتابة الحربي مسألة: قال: «وإذا كاتب الحربي عبده في دار الحرب ثم جاء مستأمنين».

الفصل جملة هذا أن الحربي ملكه ثابت على ماله وتصرفه كتصرف المسلم في ماله، وإذا كاتب عبده صحت كتابته كما يصح بيعه ويصح عتقه المنجز والمعلق بصفة، وقال مالك: لا ملك له، وقال أبو حنيفة: لا ملك له صحيحًا وكتابته لا تصح، وكذلك إعتاقه، ودليلنا قوله تعالى: {وأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ ودِيَارَهُمْ وأَمْوَالَهُمْ} [الأحزاب: 27]، فأضاف ذلك إليهم وحقيقة ذلك يفيد الملك. فإذا تقرر هذا وكاتبه في دار الحرب، ثم دخلا دار الإسلام مستأمنين، أو دخلا دار الإسلام بأمان ثم كاتبه، فإنهما ما لم يترافعا إلى الحاكم ويتخاصما إليه الا يتعرض لهما بل نقرهما على ما فعلاه، فإن ترافعا إليه يحكم بينهما بحكم الإسلام، فإن كانت صحيحة في الإسلام أعلمهم صحتها، وأقرهم عليها، وإن كانت فاسدة أعلهم فسادها، وأنه لا يجوز الإقرار عليها فإن قهر العبد سيده على نفسه في دار الحرب، ثم دخل دار الإسلام بأمان ومعه السيد ف قد ملك نفسه وانفسخت الكتابة فيه وملك السيد بقهره إياه ويقر على ذلك لأن دار الحرب دار قهر وغلبة ولذلك لو قال سيده: لا أرضى بالكتابة وقهره على نفسه واستعبده وحمله إلى دار الإسلام كان عبده وبطلت الكتابة، ولو دخلا دار الإسلام ثم قهر سيده على نفسه أو قهره السيد لا حكم لهذا القهر لأن دار الإسلام ليست بدار قهر [126/ ب] وغلبة، بل هي دار حق وإنصاف. مسألة: قال: «ولو كان السيد مسلمًا فالكتابة ثابتة». أراد بهذا أن المسلم لو كاتب عبده الكافر في دار الحرب فكتابته ثابتة ككتابته في دار الإسلام فلو قهره على نفسه، ثم حمله إلى دار الإسلام لم تبطل الكتابة بالقهر لأن كتابته له أمان لأن الكتابة عقد يمنع السيد عن نفسه وماله فكان بمنزلة الأمان فلم يجز له استرقاقه وقهره، ويخالف الحربي لأن أمانه للكافر لا يصح، وقد فسره الشافعي رضي الله عنه في «الأم» ونقله المزني مختصرًا. فإن أدى المال عتق وثبت للمسلم عليه الولاء، ثم يقال له: إلى الآن كنت تابعًا لسيدك وقد صرت حرًا وصار لك حكم نفسك، فإن شئت فاعقد لنفسك عقد الذمة وإن شئت فالحق بدار الحرب، فتكون حربيًا لنا. فإن لحق بدار الحرب وظهر المسلمون على الدار لم يجز استرقاقه لولاء المسلم عليه، ويفارق هذا إذا كان للمسلم ابن حربي حيث يجوز استرقاقه لأنه ليس في ذلك إبطال نسبه، وفي هذا إبطال الولاء، وقد قال الشافعي ههنا: «فإن سبي لم يكن رقيقًا» يعني إن سبي مكاتب المسلم بعد الأداء لأنه علل فقال: «لأن له أمانًا من مسلم بإعتاقه إياه» وهذا أيضًا اختصره المزني وشرحه في «الأم» هكذا، ثم قال: ولو كان

أعتقه كافرًا بكتابة، أو غير كتابة فسباه المسلمون كان رقيقًا لأن لا أمان له من مسلم نفسه يسترق إذا قدر عليه، ففرق الشافعي بين أن يعتق المسلم فلا يسترق [127/ أ] وبين أن يعتق الكافر فيسترق، وعلل في المسلم بأنه في أمان منه وفي الكافر أنه ليس بأمان من مسلم وسيده يسترق لو قدر عليه، وعلل أبو إسحاق وابن أبي هريرة وصاحب «الإفصاح» بأن لسيده عليه حق الولاء، فلا يجوز إسقاطه بالاسترقاق، وقال ابن أبي هريرة: هذا مراد الشافعي من قوله، لأن له أمانًا من مسلم بإعتاقه إياه. وقال القاضي الطبري: هذا وإن كان تعليلاً صحيحًا، فليس بمراد الشافعي، وإنما قصد الشافعي به أن نفس الكتابة والعتق عقد أمان له، لأنه يمنع نفسه بكل واحد منهما من نفسه وما له يدل على ذلك أن المسلم إذا كاتب عبده في دار الحرب، ثم قهره على نفسه وحمله إلى دار الإسلام. قال الشافعي: لا تبطل الكتابة لأنه في أمان منه فدل أن المراد بالأمان ما ذكرنا، وأما الظاهر فما لقاله الشافعي في الكافر أنه الكافر الحربي لأنه قال: ويسترق الذي أعتقه إن قدر عليه، فأما إن كان مكاتبًا لذمي فلحق بدار الحرب قدر ذكرنا وجهين في جواز استرقاقه فظاهر تعليل الشافعي يقتضي أن يجوز لأنه ليس بأمان مسلم. وأما إذا حارب مكاتب المسلم ومعتق المسلم يجوز قتاله وإن منعنا من استرقاقه لا يختلف المذهب فيه. مسألة: قال: «ولو كاتب المستأمن عندنا عبده فأراد إخراجه». الفصل جملة هذا: أن الكافر الحربي إذا كاتب عبده ثم دخلا دار الإسلام بأمان، أو دخلا دار الإسلام بأمان، ثم كاتبه فقد انقطع سلطانه عنه، فإن أراد العبد [127/ ب] الرجوع إلى دار الحرب لم يكن للسيد منعه منه لأن تصرفه قد انقطع عنه، وإنما بقي له في ذمته دين، وإذا أراد السيد الرجوع إلى دار الحرب ينظر في العبد، فإن أراد الرجوع معه لم يمنع لأن للمستأمن أن يرجع إلى دار الحرب، وإذا رجعا فالكتابة باقية بحالها. وقال أبو حنيفة: إذا رجعا بطلت الكتابة وعتق العبد وهو خطأ لأنه عقد معاوضة فلا يبطل بمثل هذا، ولو امتنع المكاتب من الرجوع مع السيد إلى دار الحرب وجاء إلى الحاحكم وقال: إنه يقهرني على الحمل معه، ولست آمن أن يغلبني على نفسي، ويبطل كتابتي فالحاكم يمنعه منه ويقول له: إن شئت أقمت حتى تقبض نجومه وإن شئت خرجت ووكلت من يقبضها لك، فإن اختار المقام نظر في النجوم، فإن كانت تحل في أقل من سنة فليس عليه الجزية، وإن لم تحل إلا في سنة، فإنه يمنع من المقام في دار الإسلام سنة إلا بجزية، فإذا خرج ورجع إلى دار الحرب فقد انتقض الأمان في نفسه وفي سائر

ماله سوى المكاتب، وما يؤخذ منه، فإن الأمان فيها باق ويجوز أن ينتقص الأمان، فإن أدى المكاتب المال إلى وكيله عتق وبعث الوكيل المال إلى الحربي، وإن عجز المكاتب نفسه رق وعاد ملكًا للحربي كما كان ورد إلى سيده فإن مات سيده قبل أن يرد قال ههنا: يرد إلى ورثته لأنه مال له أمان فوارثه بمثابته، وقال في كتاب السير: يكون مغنومًا ومعناه يكون فيئًا لأنه مال حربي، واختار المزني القول الأول لما ذكرنا من الوجه، فإذا قلنا بالقول الثاني يؤدي مال كتابته إلى بيت المال، فإذا عتق بالأداء يكون ولاؤه [128/أ] لكافة المسلمين، وإن رق كان فيئا لأن الأمان بطل على ما ذكرنا. وقال ابن أبي هريرة: إذا نقض السيد الأمان، وخرج إلينا محاربًا هل نغنم مكاتبه فيه قولان أيضًا: أحدهما: يغنم كما قلنا في الموت، والثاني: لا ينغم ويكون الأمان مستبقى في حقه لأنه يجوز أن يكون للحربي أمان على ماله دون نفسه. مسألة: قال: «فإ، خرج ف سبي فمن عليه، أو فودي به». الفصل عطف الشافعي رضي الله عنه بهذه المسألة عليه إذا مات، وهي إذا خرج السيد إلى دار الحرب وبقي مكاتبه عندنا على ما بيناه فسبى السيد فالإمام فيه بالخيار بين أربعة أشياء أن يمن عليه، أو يقاد به، أو يقتله، أو يسترقه، فإن قتله، فهو كما لو مات، وقد ذكرنا حكمه، وإن أطلقه، أو فاداه بمال أو برجال، فالملك على حالته لأن له أمانًا فيه، فإن كل مال تركه في دار الإسلام ولم يحمله مع نفسه فإن له فيه أمانًا وما يحمله مع نفسه ينتقص الأمان فيه كما ينتقص في نفسه، فإن قيل: أليس قد صار بالسبي رقيقًا وزال ملكه، فلم رددتموه إليه؟، قلنا: نصف الشافعي ههنا على أنه لا يكون رقيقًا لأنه مال فمن عليه به أو فودي، فلم يكن رقيقًا، وإنما يصير رقيقًا باسترقاق الإمام إياه، وإن استرقه الإمام زال ملكه عنه بالاسترقاق ولا ينتقل ماله إلى سيده الذي استرقه لأن السيد إنما يملك إكساب عبده بعد استرقاقه، وذلك مال قد كسبه قبل الاسترقاق، فلم يملك سيده، ولا يكون أيضًا لوارث هذا الأسير المسترق لأنه مملوك حي، ولا يورث مملوك حي، فنقول: كتابته بحالها لا تبطل ولا يجوز أن يؤديها إلى وكيل السيد لأن الاسترقاق أبطل وكالته، ويكون الحاكم هو القابض [128/ب] وحكم الاسترقاق مبني على حكم موته، فإن قلنا: لو مات لا يغنم ماله فههنا أولى أن لا يغنم ويترك حتى يعتق فيسلم إليه أو يموت رقيقًا، فيكون حينئذ مغنومًا ولا موروثًا لأن ورثته لا يرثونه إذا مات عبدًا، وإن قلنا: إذا مات يغنم ماله، فههنا قولان: أحدهما: يغنم ويكون فيئًا لأهل الفيء لأن رقه ينافي ملكه كموته ينافي ملكه، والثاني: لا يغنم لأنه يجوز أن يعتق، فيعود مالكًا بخلاف ما لو مات لاستحالة حياته بعد موته وهذا اختيار أبي إسحاق، والأول اختيار

المزني، وقال صاحب «المنهاج»: اختيار المزني أن يغنم، وهذا الاختيار ليس لنفسه وإنما هو للشافعي رضي الله عنه. فأما اختياره لنفسه في المسألة السابقة هو القول الثاني فكذلك ينبغي في هذه المسألة أن يكون ذلك اختياره ولفظه ههنا أنه قال: هذا أشبه بقوله عندي لأن الذي حكم به قبل هذه المسألة يعني مسألة موت الحربي في بلاد الحرب قبل أن يسترق، فإن الشافعي في تلك المسألة حكم بهذا القول، وهو أن يكون مغنومًا، وذكر العلة لهذا القول، فقال: «لأنه لما أبطل أن يملك يعني بالاسترقاق بطل عن ماله ملكه» ومن قال بالقول الآخر أجابه بأن حالة الملك مأمولة منه بخلاف الميت على ما ذكرناه. فإذا قلنا: يكون ماله ومكاتبيه مغنومًا كان ما يؤديه المكاتب فيئًا لبيت المال، فإن عتق بالأداء كان ولاؤه لكافة المسلمين وقد قال الشافعي: فإذا استرق فعتق مكاتبه بالأداء، ومات الحربي رقيقًا لم يكن لرقيق ولاء ولا لأحد بسببه ومعناه وليس لورثة الحربي ولاء على هذا المكاتب بسبب الحربي والحربي ليس من أهل الولاء [129/أ] على عبده. أو معناه: لا ولاء لأحد من المسلمين بعينه لأن ولاءه لجماعتهم، وإن عجز كان مملوكًا لبيت المال لكافة المسلمين وسواء على هذا القول أن يموت السيد على رقه أو يعتق قبل موته، فإن جعلناه مغنومًا لا يرد إليه، ومن أصحابنا من قال: لا ولاء لأهل الفيء عليه ولكن يبطل ولا يكون لأحد عليه ولاء، وهذا ظاهر ما قاله الشافعي رضي الله عنه ههنا، وهذا لأن الولاء لا يورث، وإنما يخلفه الأقرب فالأقرب من عصباته وأهل الفيء ليسوا بعصبات لهذا الكافر فلم يخلفوه في ولاء مكاتبيه، ولأنه لا ولاء له لأنه لا يجوز أن يكون لأحد بسببه ولاء لأنه خليفته إذا استحقه عنه وهذا اختيار القاضي الطبري، وإن قلنا: لا يغنم كان ماله موقوفًا على ما يكون من عتقه أو موته، فله، حالتان: إحداهما، أن يعتق قبل موته، والثانية أن يموت قبل رقه فإن عتق قبل موته عاد ماله الموقوف إلى ملكه، وإن كان المكاتب باقيًا على كتابته أداها إليه، وكان ولاؤه إن عتق له، وإن كان قد أداها إلى الحكام أخذ من الحاكم ما قبضه من مكاتبه وكان له ولاء مكاتبه. وإن مات على رقه كان ماله مغنومًا لا يرد على سيده ولا على وارثه ويعتبر حال مكاتبه، فإن عجز ورق كان مغنومًا وإن أدى وعتق، فإن كان قبل استرقاق سيده ففي ولاءه وجهان: أحدهما، لبيت المال كسائر أمواله، والثاني: يزول الولاء ويرتفع ويصير المكاتب بعد العتق ممن لا ولاية عليه، وهذا معنى قول الشافعي، ولا ولاء لأحد بسببه. وإن كان عتق المكاتب بعد استرقاق سيده وقبل موته فالولاء ثابت، وفي مستحقه

قولان: أحدهما، لبيت المال، [129/ب] والثاني، لسيد السيد وهما مبنيان على القولين في مكاتب المكاتب إذا عتق الثاني قبل عتق الأول كان في ولاء، الثاني، قولان: أحدهما، للسيد، ,الثاني، موقوف على المكاتب الأول. وإن كان عتق المكاتب بعد موت سيده يكون ولاءه ثابت لبيت المال قولا واحدًا، وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا قلنا في الموت لا يغنم ماله فههنا إذا استرق ومات رقيقًا فيه أقوال: أحدها، يكون مغنومًا، وهو الأصح، والثاني، مخرج أنه للسيد الذي مات هو في ملكه، والثالث، مخرج أيضًا أنه لورثته الحربيين فكأنه كان موقوفًا بينه وبين ورثته فتبين بموته أنه ورث ذلك يوم استرق وأصل القولين المخرجين ما قال الشافعي في ذمي جرح فلحق بدار الحرب، فاسترق قبل البرء فمات رقيقًا فيه قولان: أحدهما على الجاني الأكثر من أرش جراحته حرًا، أو ديته حرًا وللسيد منه قدر قيمته، والباقي لورثته ذكره القفال، وفي هذا نظر عندي. مسألة: قال: «ولو أغار المشركون على مكاتب للمسلمين استنقذه المسلمون». الفصل إذا كاتب المسلم عبدًا ثم ظهر المشركون على الدار فأسروا المكاتب وحملوه إلى دار الحرب لا يملكون لحق المسلم، فإذا انفلت المكاتب منهم أو ظهر المسلمون على الدار فأخذوه فهو على كتابته وهكذا إذا دخل الكافر دار الإسلام بأمان فكاتب عبدًا ثم ظهر المشركون على الدار فقهروا المكاتب على نفسه، وأحرزوه بدار الحرب ثم انفلت منهم، أو غلبهم المسلمون عليه يكون على كتابته لأنه كان له أمان كما لو أغاروا على نصراني فاستعبدوه، ثم [130/أ] استنقذه المسلمون كان حرًا وكذلك لو أغاروا على حربي في دار الإسلام، وقد دخل بأمان فسبوه ثم استنقذه المسلمون كان له أمانة، قال الشافعي: فإن أراد أن يصبر حتى يتخلص العبد فيؤدي إليه كتابته فعل، وإن أراد أن يعجزه إذا حل عليه نجم وعلم أنه لا مال للمكاتب يؤدي عنه عجزه لأن حقه لا يبطل في تعجزيه بأن أخذه المشركون وأٍروه، فإن عجزه ثم تخلص من أيدي المشركين وثبت أنه كان له مال في وقت تعجيزه غير أنهم لم يقفوا على موضعه، أو لم يمكنه إيصاله إلى سيده بطل التعجيز وأدى إليه، وعتق وإن لم يصح ذلك فالتعجيز صحيح وهو عبده ومن أصحابنا من قال: في هذه المدة التي هو في يد القهر هل تحتسب من أجله قولان: أحدهما، تحتسب، والثاني: لا تحتسب كما لو حبسه السيد، وهذا كالمبيع إذا تلف قبل القبض سقط الثمن سواء كان بتفريط من جهة البائع أو لا والصحيح الأول. والفرق أنه إذا حبسه السيد فقد تعذرت المنافع بتفريط من جهة السيد بخلاف ما لو حبسه الكفار، فافترقا ويمكن أن يجاب عن هذا الفرق بأن التسليم والتمكين مستحق

باب كتابة المرتد

على السيد فإذا تعذر لم يفترق الحكم بين أن يكون من جهته أو من جهة غيره، فإذا قلنا: لا تحتسب عليه مدة الحبس، فحلت النجوم فليس للسيد الفسخ لأن الحلول على الحقيقة لم يوجد والمدة ما انقضت في الحكم، وإذا قلنا: يحتسب، وله أن يفسخ عند العجز وهو المنصوص فهل لبه أن يفسخ بنفسه، أو يرفعه إلى الحاكم وجهان: أحدهما: يفسخه بنفسه كما لو كان المكاتب حاضرًا وعجز عن الأداء، والثاني: يرفعه إلى الحاكم [130/ب] ليتكشف من حال المكاتب فإن وجد له ملاً يفي بما عليه أداه، وعتق وإلا فسخ حينئذ، ويخالف حالة الحضور فإنه يعترف بالعجز فيغني عن كشف حاله. فرع قال أبو إسحق: لو كان الحربي كاتبه عندنا ثم سباه وأخرجه من بلادنا كان على كتابته، فإذا قدرنا على سيده وعليه فأخذناهما جميعًا استرق السيد وبقي العبد على كتابته وفي نجومه التي قد حلت وهو في يد سيده مغلوب على كسبه وعلى نفسه قولان على ما ذكرنا إذا حبسه السيد مدة، قال أبو إسحاق، فإذا قلنا: لا يحتسب على المكاتب بتلك المدة يحتمل أن لا يحتسب على السيد بقيمة خدمته ولا بما أخذه من كسبه، ويحتمل أن يحتسب به عليه، وإن استؤنف الأجل به. فرع آخر قال في «الأم»: ولو كان العبد لحق بدار الحرب فلم يحدث له السيد قهرًا يسترقه به حتى خرج إلينا بأمان فهو على الكتابة، ولو لحق بدار الحرب وأدى المكاتب بها، ولم يحدث له السيد قهرًا، وخرجا إلينا كان حرًا. مسألة: قال: «ولو كاتبه في بلاد الحرب ثم خرج المكاتب إلينا مسلمًا كان حرًا». أراد إذا كاتب الحربي عبده في دار الحرب ثم خرج المكاتب إلينا مسلمًا مراغمًا سيده من جهة القهر حكمناً لأن الدار دار القهر، فإذا قهر سيده على نفسه ملكها ومن ملك نفسه عتق ثم يقال له: أنت بالخيار بين أن تقيم وتعقد لنفسك ذمة أو تلحق بدار الحرب فتصير حربًا لنا، [131/أ] وإن دخل دار الإسلام بإذن سيده، إما لتجارة أو لحاجه فهو على الكتابة لأنه في يد السيد. باب كتابة المرتد مسألة: قال: «ولو كاتب المرتد عبده قبل أن يقف الحاكم ماله كان جائزًا». جملة هذا: أن المسلم إذا ارتد ثم كاتب عبده، هل تصح كتابته أم لا نص ههنا أنه

يصح كتابته ونص في المرتد إذا دبر عبده على ثلاثة أقوال، واختلف أصحابنا في هذا على طريقين فمنهم من قال: فيها ثلاثة أقوال، ومنهم من قال: في الكتابة قولان: أحدهما، أنها باطلة، والثاني، أنها صحيحة ولا يجيء القول الثالث فيها لأن العقد لا يقف عند الشافعي رضي الله عنه، ولأنه لا يجوز عقد الكتابة على غرر، ألا ترى أنه لا يجوز تعليقه بالمشيئة ولا بمدة مجهولة، فلم يجز أن يكون موقوفًا بخلاف التدبير وهذا اختيار القاضي أبي حامد، وقال: أظهر قوليه، وأولاهما جواز تصرفه كهو قبل ردته، وقال أبو إسحاق: الصحيح، الطريقة الأولى لأنه إنما لا يجوز أن يقف العقد من ملك الغير، فأما في ملك الإنسان يجوز أن يكون موقوفًا بمعنى حادث فيه كما تقول في المريض إذا وهب أكثر من ثلث ماله وسلمه إلى الموهوب له فالهبة موقوفة، فإن صح من مرضه كانت نافذة وإن مات من مرضه رد منها ما زاد على الثلث، فإذا جاز توقف تصرف المريض على ما يظهر من اتصاله بالموت، أو انفصاله عنه بالبرء فكذلك تصرف المرتد [131/ب] يجب أن يكون موقوفًا إلى اتصاله بقتله، أو انفصاله عنه بالتوبة ولا فرق بينهما، وهذا اختيار أبي حامد، ولأن في الكتابة معنى العتق بالصفة كالتدبير سواء فهما سواء في جواز الوقف، ومن قال: بالأول فرق بين المريض وبين المرتد بأن المرتد غلط عليه بما أتى به من الكفر والمريض الجشع له فيها ولا يقدر على إزالته فسومح له في جعل تصرفه موقوفًا، فأما إذا وقف الحاكم ماله على توبته أو قتله على الرده، فكاتب عبده لم تجز الكتابة قولا واحدًا لما أحاط به من الحجر فإذا تقرر هذا، فإن أدى هذا المكاتب المال نظر، فإن أدى قبل أن يحجر عليه، فإن قلنا: الكتابة صحيحة، وهو اختيار المزني ف قد عتق بالأداء ويكون الولاء والمال لسيده لأنه ملكه على هذا القول ثابت على ماله، وإن قلنا: إنها باطلة، فإن أدى لم يعتق لأنه محكوم بزوال ملكه عن ماله ولو أعتق عبده ابتداء لم ينفذ، وإن قلنا: إنها موقوفة نظر، فإن أسلم السيد تبينا أن الكتابة قد صحت ويصح الأداء ويقع العتق، ويكون الولاء للسيد وإن قتل أو مات على الردة تبينا أنها باطلة وأن الأداء لم يصح فيكون العبد فيئًا للملمين، وكذلك ما في يده من المال، وإن أدى بعدما حجر الإمام على المرتد في ماله، فإن قلنا: الكتابة باطلة فليس بلينهما عقد والعبد باق على الرق، فأداؤه كلا أداء، وإن قلنا: إنها صحيحة أو موقوفة فلا يجوز أن يدفع المال إلى السيد لأنه محجور عليه لا يصح منه القبض، فإذا دفع إليه لا يعتق وللحاكم مطالبته بالمال، ثم إن كان ما دفعه باقيًا بحاله أخذه [132/أ] ودفعه إلى الإمام وعتق، وإن كان تالفًا فقد هلك من ضمانه، وإن كان له شيء آخر يدفعه إلى الحاكم، وإلا كان له تعجيزه، فإن أسلم السيد، قال الشافعي: كان عليه أن يحتسب له بما دفع ويعتق عليه العبد، لأنا لم نصحح قبضه لحق المسلمين، فإذا أزال حقهم وصار الحق له صح قبضه ووقع العتق،

ويخالف المحجور عليه للتبذير إذا قبض دينًا له لا يبرأ الدافع، وإن أطلق عند الحجر لأنه لا حجر عليه نظرًا له بخلاف المرتد نص عليه، وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا كاتب بعد الحجر فإن قلنا: الملك باق، هل تصح كتابته؟ فيه قولان: أحدهما، باطل، والثاني، موقوف كالقولين في المحجور عليه بالفلس، وهذا ضعيف، وقال أيضًا: إذا أسلم السيد بعدما قبض المال بعد الحجر فيه قولان: أحدهما: صح ذلك الأداء على ما ذكرنا حتى إذا كان الحاكم أخذه مرة أخرى رد عليه، وإن عجزه ألغى تعجيزه، والثاني: أنه باطل لا موقوف ولا ملغى التعجيز فيه، وبناؤه على ما ذكرنا من تصرفات المحجور بالفلس، وهذا ضعيف أيضًا. فرع قال أبو إسحاق: وينبغي للحاكم أن يمنع المرتد من ماله نظرًا للمسلمين لئلا يتلفه في الأيام التي يتأنى به فإنه قد حصر السبب الذي يستحق المسلمون ماله، والظاهر من حاله أنه لا يقصر في إتلافه عليهم ما أمكنه. مسألة: قال: «ولو ارتد العبد ثم كاتبه جاز». الفصل إذا كان للمسلم عبد فارتد العبد ثم كاتبه السيد صحت الكتابة لأنها تشتمل على معاوضة وصفة، وتصح المعاوضة على المرتد ويصح عتقه بالصفة [132/ب] ولأن ردته لا تزيل ملك سيده عنه ويجوز بيعه أيضًا بعد الردة، فإن أدى الكتابة إلى السيد قبل الحجز عتق، وصار حرًا مرتدًا يستتاب فإن تاب وإلا قتل وإن عجز نفسه استرقه السيد، فإن تاب وإلا قتل ويكون ماله لسيده وإن قتل على الردة قبل أن يؤدي وقبل أن يعجز انفسخت الكتابة بقتله، ويكون ما في يده من المال للسيد لأنه قد عاد إلى ملكه بانفساخ الكتابة ولو تبرع بالأداء عن المكاتب المرتد صح وعتق، وإن اكتسب وأدى عتق أيضًا لأنه يملك كسبه فني حالة الردة، وإن صار محجورًا بالبيع والشراء على قول، ويملك بالهبة والوصية أيضًا. فرع قال في «الأم»: ولا أجيز كتابة السيد المرتد ولا العبد المرتد عن الإسلام إلا على ما أجيز كتابة العبد المسلم بخلاف النصراني ومن لم يسلم قط فيتركان على ما يستحلان في دينهما ما لم يتحاكما إلينا. فرع آخر قال: ولو لحق السيد بدار الحرب بعد أن ارتد يتأدى الحاكم كتابة مكاتبه فمتى

باب جناية المكاتب على سيده

عجز يرده الحاكم إلى الرق، وإن عتق فولاؤه للذي كاتبه وإن كان مرتدًا، وإذا عجز الحاكم المكاتب فجاء سيده تائبًا فالتعجيز ماض على المكاتب إلا أن يشاء السيد والعبد أن يجددا الكتابة. باب جناية المكاتب على سيده مسألة: قال: «وإذا جنى المكاتب على سيده عمدًا». الفصل اعلم أنه إذا جنى المكاتب على سيده نظر، ف إن كان على طرفه ف الخصم فيه السيد فإن كان عمدًا فله القصاص، وإن كان خطأ فله الدية لأن السيد مع مكاتبه [133/أ] وبكم يفديه ف على ما ذكرنا من القولين، وقال أبو إسحاق: إن كان ما في يد المكاتب لا يفي بالأرض والنجم ف قولا واحدًا لا يفدي نفسه إلا بأقل الأمرين، وإن كان ما في يده يفي بهما، ففيه قولان: أحدهما: هذا. والثاني: يفدي بجميع الأرش على ما ذكرنا، والصحيح الطريقة الأولى، وهي النص لأن الزيادة إضرار بالسيد في الجملة فلا تجوز إلا بإذن السيد قولا واحدًا. فرع آخر قال في «الأم»: لو أن مكاتبًا بين رجلين جنى على أحدهما جناية ضمن الأقل من أرش الجناية وقيمته فإذا أدى فهو على الكتابة وإن عجز عن أدائها مع الكتابة فللمجني عليه تعجيزه، فإذا عجزه بطل عنه نصف الجناية لأنه يملك نصفه وكان لشريكه أن يفديها بالأقل من نصف أرش الجناية، أو نصف قيمته، فإن لم يفعل بيع نصفه في أرش الجناية. قال: ولو جنى عليهما معًا كان لكل واحد منهما عليه في الجناية ما للآخر، فإن عجز المكاتب، أو عجزاه، أو أحدهما، فهو عاجز وسقط نصف أرش جنايته كل واحد منهما، ويصور إذا جنى كل واحد منهما موضحة وقد ذكرنا فيما تقدم حكمه. ولو جنى على أحدهما موضحة، وعلى الآخر مأمومة كان نصف أرش الموضحة للمجني عليه فيما يملكه شريكه، ونصف أرش المأمومة للمجني عليه وعلى هذا الباب. فرع آخر إذا جنى المكاتب على أجنبي خطأ فطلب مستحق الجناية الحجر عليه فقد ذكرنا أنه إن كان الأرش أكثر من قيمته أجيب إلى الحجر عليه لأنه لا يصل إلى الزيادة عليها إلا مما في يده، وإن كان الأرش بقدر قيمته يحتمل وجهين: أحدهما: يجاب أيضًا لأن أرش الجناية يتعلق بما في يده فصار كسائر الديون، والثاني: لا يجاب إليه [133/ب] لثبوت الأرش في رقبته وأنه يرجع عند إعساره إلى أخذ الأرش منها ذكره في «الحاوي».

باب جناية المكاتب ورقيقه

باب جناية المكاتب ورقيقه مسألة: قال: «وإذا جنى عبد المكاتب فعلى سيده الأقل من قيمة عبده الجاني يوم جنى». الفصل اعلم أنه إذا اشترى المكاتب عبدًا للتجارة فجنى هذا العبد على أجنبي إما حر، أو عبد ف إ، كانت الجناية عمدًا فعليه القصاص، فإن عفى عنه فالدية وإن كانت خطأ فعليه الأرش، فإن أراد السيد أن يفديه كان له ذلك لأنه سيده وبكم يفديه ينبني على القولين في الحر في العبد القن، فإن قلنا: يفديه بأقل الأمرين كان للمكاتب أن يفديه بذاك لأنها لا تزيد على ثمن المثل، وإن قلنا: يفديه بأرش الجناية بالغًا ما بلغ أو يسلمه للبيع نظر في الأرش، فإن كان أقل من قيمته فله أن يفديه به، وإن كان أكثر لم يكن له أن يفديه لأنه لا يملك ابتياع هذا العبد أكثر من ثمن مثله وتعتبر قيمة العبد يوم جنايته لا بيوم الفداء لأن تقويم جنايته زمان تعلق الأرش برقبته، وقال القفال: هكذا نص الشافعي وهو مشكل عندي ويجب أن تعتبر قيمته يوم الفداء لأن استدامة ملكه إنما يقع ذلك اليوم ولعل مراد الشافعي إذا تقدم هناك منع من البيع، ثم قال الشافعي: «فإن قوي على أدائها مع الكتابة، فهو مكاتب» يريد به أنه لا يجوز تعجيزه لأن العجز له يظهر بعد وإن أذن له سيده أن يفديه بأكثر من قيمته هل يجوز ذلك؟ فيه قولان كالقولين في هبته بإذن سيده. فإن قيل: أليس لو ملك المكاتب أباه فجنى الأب [134/أ] قلتم: لا يجوز له أن يفديه أصلاً فما الفرق؟ قلنا: الفرق أنه لا يمكن التصرف في أبيه بالبيع، فلم يجز أن يعاوض عنه بخلاف عبده الأجنبي ولهذا لا يجوز له أن يشتري أباه وله أن يشتري من لا يعتق عليه. مسألة: قال: «وله تعجيل الكتابة قبل الجناية، وقبل الدين الحال». الفصل إذا كاتب عبدًا فاجتمعت عليه حقوق كثيرة مختلفة من دين اقترضه وثمن مبيع ابتاعهه وأرش جناية، فلا يخلو إما أن يكون قد حجر عليه أو لم يكن حجر عليه، فإن لم يكن حجر عليه فلا يخلو إما أن يكون كلها حالا أو بعضها حالا وبعضها مؤجلا، فإن كان كلها حالا فله أن يقدم ما شاء منها وإن كان بعضها حالا وبعضها مؤجلا كأرش الجناية لا يكون إلا حالا ومال الكتابة قد يكون حالا، وقد يكون مؤجلا، وكذلك ثمن المبيع، فإن بدأ فقضى الدين الحال جاز ويبقى عليه المؤجل، وإن أراد تعجيل المؤجل نظر،

فإن أراد تعجيل دين الأجنبي لم يكن له ذلك لأنه يجري مجرى التبرع، فهو كالهبة وإن أراد تعجيل مال الكتابة فهو هبة من سيده، فيكون بمنزلة الهبة بإذنه فيه قولان إلا أنه لا يؤدي مال الكتابة من العبد الجاني لأن أرش الجناية يتعلق برقبته وهو مرتهن، فليس له أن يتصرف فيه حتى يفكه من الجناية. وإن كان قد حجر عليه بأن كان المال الذي في يده يضيق عن ديونه فسأل غرماءه الحاكم الحجر عليه فحجر فإن تصرفه ينقطع بذلك كما قلنا في الحر المحجور عليه ويكون الأمر إلى الحاكم. قال الشافعي: فيؤدي الحاكم إلى سيده وإلى الناس [134/ب] ديونهم شرعًا، وأراد به أن يقسم بينهم بالحصص ولا يقدم بعضهم على بعض، وهذا لأن الكتابة ما دامت باقية فدين سيده لأن لازم كدين الحر سواء وليس مراد الشافعي أن يقضي كل واحد منهم جميع دينه لأنه ربما يحجر عليه إذا لم يكن في يده ما يفي بما عليه وخيف النقصان، وظهرت أماراته، وهذا ظاهر في كلام الشافعي لأنه قال عقيبه: «فإن لم يكن عنده ما يؤدي هذا كله عجزه» فدل أن ماله لا يفي بديونهم حتى حجر عليه، هكذا ذكره أبو إسحاق، وقال ابن أبي هريرة: يبدأ بدين المعاملة على مال الكتابة وأرش الجناية إذا لم يكن في المال وفاء بالجميع لأن صاحب الدين لا حق له في الرقبة، وكذلك المجني عليه. وقال القاضي الطبري: لا يختلف أصحابنا أن مذهب الشافعي هذا وتأويل ظاهر كلام الشافعي أنه أراد إذا كان ماله يفي بقضاء ديونه، وإنما حجر عليه لأنه خيف إفلاسه فيسري حينئذ في القسمة والثاني: أنه أراد به إذا رضي أصحاب الديون بذلك وعلى هذا إذا دفع إلى صاحب الدين حقه نظر، فإن بقي معه شيء دفع إلى المجني عليه وقدم على السيد لأنه يأخذ بالجناية والسيد يأخذ بالملك، وحق الجناية مقدم على الملك، ثم إذا قضى حق الجني عليه، فإن بقي معه شيء دفعه إلى السيد وإلا عجزه السيد وإن لم يكف بقي بعد قضاء الدين شيء فلكل واحد من السيد والمجني عليه تعجيزه على ما ذكرنا ثم إذا اختار تعجيزه انفسخت الكتابة وبرئت ذمة المكاتب مما عليه من حق السيد وبقي حق المجني عليه متعلقًا برقبته وإن لم [135/أ] يختر السيد تعجيزه واختار المجني عليه ذلك، قيل: للسيد أتختار الفداء؟، فإن اختار ذلك بقي على الكتابة وإن لم يختر فللأجنبي أن يرفع الأمر إلى الحاكم حتى يفسخ الكتابة ويبيعه في الجناية، فإن كان ثمنه قدر الأرش أو أقل دفع إليه، وإن كان أكثر ف الفضل للسيد وعلى هذا لو أدى أولاً دين السيد لم يعتق إلا بإذن الغرماء وإذا قلنا: يقول أبي إسحاق فأخذ كل واحد منهم بعض حقه فللسيد والمجني عليه تعجيزه إياه لا يفيده شيئًا ويستضر به لأنه ما دام مكاتبًا يكتسب يطالبه بما بقي من حقه فإذا صار عبدًا فماله في ذمته يطالبه إذا عتق، فإن أنظره السيد والمجني عليه ترك على الكتابة، فإن رجعا ف يه وأراد تعجيزه كان لهما لأن الإنظار في الدين الحال لا يلزم

عند الشافعي خلافًا حنيفة والمستحب أن لا يرجعا عن ذلك، وإذا عجزه السيد والمجني عليه، أو أحدهما عاد ملكًا للسيد. قال الشافعي: «ثم خير الحاكم سيده بين أن يفديه بالأقل من أرش الجناية، أو يباع [فيها] فيعطى أهل الجناية حقوقهم دون من داينه» لأن ذلك في ذمته متى عتق اتبع به، فأوجب الشافعي تسليم العبد، أو أقل الأمرين من الأرش أو يسلمه للبيع، وقد ذكرنا ذلك. وفرع أبو العباس فقال: إذا مات المكاتب وفي يده مال لا يفي بالحقوق فقد انفسخت الكتابة بالموت وسقط حق السيد من المال، وعاد رقبته إلى ملكه وحق المجني عليه من الأرش يسقط أيضًا لفوات الرقبة فيبقى دين المعاملة ويدفع ذلك من المال الذي في يده، فإن فضل شيء كان للسيد لأنه كسب عبده فهذا كله إذا كان [135/ب] في يد المكاتب مال، قال: فإن لم يكن في يده شيء بحال فلا يخلو، إما أن ينظره أصحاب الحقوق، أو لا ينظروه، فالحكم على ما ذكرنا وعند أبي حنيفة إذا عجزه السيد والمجني عليه يتعلق دين المعاملة بالرقبة كما قال في المأذون إذا ركبه الديون. فرع قال بعض أصحابنا بخراسان: إذا حجر عليه بسبب الديون الحالة هل تحل الديون المؤجلة فيه طريقان: أحدهما: قولان: كما قلنا في الحر المفلس والثاني: تحل قولاً واحدًا بخلاف الحر لأن هناك اجتماع حجر ورق وللرق تأثير في إبطال الذمة بدليل أن الشافعي قال في الحربي: يسترق وعليه دين مؤجل يحل. مسألة: قال: «وسواء كانت الجنايات متفرقة أو معًا، أو بعضها قبل التعجيز، أو بعده يتحاصون في ثمنه معًا». اعلم أنه إذا جنى المكاتب جنايات على جماعة فلزم بها أرش نظر، فإن كان في يده مال يفي بالأروش كلها دفع منه وبقي الحكم بينه وبين السيد، فإن أدى النجوم عتق وإن لم يؤد كان له استرقاقه، وإن لم يكن في يده واختاروا تعجيزه والبيع في حقوقهم، فإن كان ثمنه يفي بحقوقهم دف ع إلى كل واحد منهم قدر حقه وإن كان لا يفي قسط ثمنه على أروش الجنايات ودفع إلى كل واحد منهم قدر ما يصيبه منه ولا فرق بين أن يكون جنى على جماعتهم دفعه، أو على بعض بعد البعض أو على بعضهم بعد التعجيز وعلى بعضهم قبل التعجيز، وهذا لأنها مزدحمة على رقبته ف لا ترتيب فيها، فإن أبرأه بعضهم عما وجب له من الأرش رجع حقه إلى الباقين فيسقط عنهم ويتوفر ذلك على حقوقهم لأن المزاحمة قد سقطت، [136/أ] فإن اختار السيد أن يفديه ويبقيه على الكتابة فله ذلك على ما ذكرنا.

فإن قال السيد: ضمنت فداه لزمه الأقل، وإن قال: ضمنت أرش جنايته لزمه الأرش بالغًا ما بلغ. ثم إنه بعد ما قال: اخترت الفداء، والبيع أو باعه بإذن المجني عليه بشرط اختيار الفداء ونحو ذلك، وإنما شرطنا ذلك المجني عليه في البيع لأن قوله: اخترت الفداء لا يسقط حق المجني عليه من رقبةن العبد ما لم يؤد المال. فإن جنى هذا العبد بعد اختيار الفداء جناية أخرى فإن أدى السيد الفداء الأول خلص العبد للجناية الثانية، فيباع فيها، وإن احتيج إلى بيعه في الجناية الثانية قبل أن يؤدي السيد الفداء فللأول أن يقول: بيعوه في الجنايتين فيقسمان ثمنه على قدر حقيهما يصرف كل واحد منهما في ثمنه بجميع أرش جنايته، ثم يكون للأول على السيد أن يتم له الأقل من قيمته أو أرش جنايته بحكم اختيار الفداء لأنه في القدر الذي هو النقص الداخل على المجني عليه الأول كأنه مات العبد بعد اختيار الفداء فيلزم السيد الغرم. مسألة: قال: «ولو قطع يد سيده فبرأ وعتق بالأداء اتبعه بأرش يده». هذه المسألة مبنية على مسألة في الحر وهي إذا قطع حر يد حر عمدًا فله القصاص قبل الاندمال فإن عفا فهل له الدية قبل الاندمال قولان، فإذا ثبت هذا رجعنا إلى مسألتنا، فإذا قطع المكاتب يد سيده عمدًا فقد وجب له القصاص، فإن اختار ذلك كان له استيفاءه في الحال، فإن عفى على مال، أو كانت [136/ب] الجناية خطأ، فوجب الأرش فهل له المطالبة بالأرش في الحال أم ينتظر الاندمال فيه قولان: فإن قلنا: له المطالبة في الحال نظر، فإن كان معه قدر الأرش دفعه إليه ثم إن كان معه وفاء بمال الكتابة، وإلا كان له تعجيزه، فإن لم يكن معه قدر الأرش كان له تعجيزه للأرش، ولمال الكتابة، فإذا فعل ذلك عاد إلى ملكه وسقط عنه مال الكتابة وفائدة الفسخ عود المكاتب رقيقًا قنا هكذا ذكره أصحابنا بالعراق، وقد ذكرنا قبل هذا أن السيد لا يعجزه من أجل الأرش، وهو اختيار القفال وهو القياس على ما ذكرنا، وإذا قلنا: ليس له المطالبة بالأرش قبل الاندمال وهو القول المشهور نظر فإن اندمل قبل أداء مال الكتابة والعتق، فله المطالبة بالأرش والحكم فيه كما ذكرنا إذا قلنا: له المطالبة بالأرش في الحال، وقدر الأرش معتبر بجناية المكاتب فيه قولان: أحدهما: أنه مقدر بأقل الأمرين من قيمة المكاتب، أو دية اليد، والثاني: أنه مقدر بدية اليد، وإن كان إضعاف قيمته، وإن اندمل بعد عتقه بأداء المال، فإنه يؤدي الأرش في حال الحرية، ومنصوص الشافعي: أنه يلزمه أرش اليد، وهو نصف الدية ومن أصحابنا من قال: هل يعتبر بها جناية الحرام جناية المكاتب فيه وجهان: أحدهما: يعتبر بها جناية الحر اعتبارًا بحالة استقرار الأرش بعد حرية المكاتب فيلزمه دية اليد، والثاني: يعتبر جناية المكاتب اعتبارًا بوقت الجناية لأنه جناها وهو مكاتب فيكون على قولين: على ما ذكرنا

أحدهما: أنه يقدر بأقل الأش، والثاني: أنه مقدر بدية اليد ما بلغت، [137/أ] وعرض الشافعي بهذه المسألة أن عتقه بأداء النجوم لا يسقط عنه أرش يده ولم يرد به أن السيد ممنوع من طلب أرش يده أيام كتابته. فرع لو أعتقه السيد بعد جنايته على يده، فإن كانت عمدًا لم يسقط القصاص بعتقه وإن كان خطأ، فإن لم يكن بيده مال وقت عتقه برئ من أرش الجناية بخلاف عتقه بالأداء ولأن عتقه بالأداء كان من غير اختياره، فلم يتضمن الإبراء من الجناية. قال صاحب «الإفصاح» قياسًا على ما قال الشافعي: لو جنى المكاتب على غيره، ثم أعتقه سيده ضمن السيد أقل الأمرين من قيمته أو الأرش، وإن كان بيده مال حين أعتقه السيد، فهل يتعلق أرش الجناية بما في يده من المال فيه وجهان: أحدهما: لا يتعلق لأن الأصل في محل الأرش الرقبة والمال الذي في يده تابع لها، وقد أتلف الرقبة باختياره، فسقط حقه بذلك، والثاني: يتعلق بما في يده لأنه كان له الاستيفاء منه قبل العتق فكان الاستيفاء بعده منه لأن العتقد ليس بإبراء ف على هذا لا يبرأ من أرش الجناية بالعتق ويستوفي بما في يده، وقال في «الحاوي»: فإن عجز المال عنه نظر فإن علم السيد بعجز المال برئ من الباقي، وإن لم يعلم بعجز المال لم يبرأ من الباقي ويؤخذ به بعد العتق، ثم إذا طالبه بالأرش بعد العتق لا تتحمل عاقلته، وإن كانت الجناية خطأ لنه جنى في الرق ولا عاقلة له. مسألة: قال: «وأي المكاتبين جنى وكتابتهم واحدة لزمته دون أصحابه». يعني إذا كاتب عبيدًا في عقد واحد، وقلنا: يصح فكل واحد منهم يكون مكاتبًا بما يخصه [137/ب] من العوض، ولا يتحمل بعضهم ما يلزمه البعض، وقال بعض السلف: هم كالعبد الواحد ويلزم بعضهم جناية بعض، وحكي هذا عن مالك لأن الأرش في مال الكتابة لا في الرقبة وما لم يؤد جميع النجوم لا يحصل العتق لواحد منهم عنده، وهذا غلط لأن ضمان الجناية لا يصح بدليل أنه لو تعاقد رجلان على أن يضمن كل واحد منهما ما يجنيه الآخر لا يجوز فلا يتضمنه عقد الكتابة كضمان القصاص. مسألة: قال: «ولو كان هذا الجاني ولد المكاتب وهب له أو ولد له من أمته». الفصل قد ذكرنا أنه إذا جنى ولده أو والده في ملكه لا يجوز له الفداء، بل يباع في الجناية فإن بيع في الجناية ثم أبرئ المجني عليه من الأرش قبل القبض فكذلك الثمن يبقى للمكاتب، وإن كان هذا ولد المكاتبة وهب لها فقبلته فكذلك، وإن كانت ولدته في

الكتابة، ففي ثمنه القولان، كما في قيمته لو قتل أحدهما: هو للسيد، والثاني: أنه للأم. وقوله: ههنا لأني لا أجعل له بيعهم أراد بالبيع الشراء أي: لا يجوز للمكاتب أن يشتريهم فلا يجوز له أن يفديهم، وإن كان أرش الجناية أقل من قيمته بيع منه بقدر الجناية كما لا يباع من العبد القن إلا بقدر الجناية وما بقي بحاله يعني من هؤلاء يعتقون بعتق المكاتب، او المكاتبة. مسألة: «قال: وإن جني بع عبيد المكاتب على بعض عمدًا فله القصاص». الفصل يعني: أن المكاتب إذا كان له عبيد [138/ أ] فجني بعضهم على بعض نظر في الجناية، فإن كانت موجبة للمال كانت هدرًا، وإن كانت موجبة للقصاص فله أن يقتص من الجاني لأنه يتعلق بمصلحة ملكه فإن في القصاص حياة كما قال الله سبحانه وتعالى: {ولَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179]، وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل له الاقتصاص دون إذن السيد فيه قولان، وهذا غريب ثم ينظر، فإن اقتص جاز، وإن عفا سقط القصاص ولا مال له بحال، وقال أبو حنيفة: لا يلزم القصاص كما قلنا في الحر يقتل بعض عبيد بعضًا لا قصاص عنده. ثم قال الشافعي: «إلا أن يكون والدًا يعني والد المكاتب إذا جني على عبد المكاتب، فلا يقتل والده بعبده» لأنه لا يقتل به فلأن لا يقتل بعبده أولى. ولو كان له ابن مملوك فقتل عبدًا له كان له قتله لأن الابن يقتل بالأب فجاز له أن يقتله بعبد نفسه إذا كانا مملوكين. وأما إذا كان أحد عبيده والدًا للآخر فقتله لم يقتل به وكان هدرًا. ولو عجز المكاتب قبل العفو فللسيد القصاص ممن كان يقتص المكاتب، ولا يجوز أن يقتص ممن لم يكن للمكاتب أن يقتص منه. مسألة: قال: «ولو أعتقه السيد بغير أداء ضمن الأقل من قيمته أو الجناية». أعلم أنه إذا كاتب عبده ثم جني المكاتب جناية خطأ، أو جناية عمد وعفي عن القصاص فالأرش يتعلق برقبته لأنه بمنزله العبد القن في الجناية، فإن كان في يده مال جاز أن يدفع منه الأرش، وقال أبو حنيفة: لا يدفع إلا مما يكتسب من بعد الجناية، [138/ ب] فإن أعتقه السيد نفذ ولزمه ضمان الجناية لأنه أتلف محل الأرش، ومنع بيعه فهو كما لو قتل العبد الجاني على ما ذكرنا، ولو لم يعتقه السيد ولكنه عتق بالأداء فالضمان على المكاتب فعليه الأقل من قيمة نفسه أو الأرش كما كان ذلك على سيد إذا أنشأ إعتاقه وعلل الشافعي في هذه المسألة، فقال: «لأنه لم يعجز»، معناه لم يعجز

حين بيع رقبته في جنايته، ولكنه عتق بالأداء فطالبناه في زمان حريته بجنايته في زمان كتابته وفي الحقيقة هو المانع من بيع رقبة نفسه وهو المتلف على الجاني دون السيد. فإن قيل: أليس قد قبض المال والعتق حصل بالقبض بعد الأداء فلم جعلتموه متلفًا دون السيد قيل: جنيه المكاتب أقوى لأن السيد يجبر على القبض إذا طالب المكاتب به وهو لا يجبر على أداء المال وإن عجز المكاتب عن الأداء ورق فهل يعتبر جنايته بابتدائها في حال كتابته أو تعتبر بانتهائها بعد رقه وجهان: أحدهما: يعتبر بابتدائها في الكتابة فعلي هذا يفديه السيد بأقل الأمرين من قيمته، أو أرش الجناية، والثاني: يعتبر بانتهائها في حال رقه، فعلي هذا قولان: أحدهما، يفديه بأقل الأمرين، والثاني، يفديه بكل الأرش، وإن كان أضعاف قيمته إلا أن يمكن من بيعه فلا يلزم أكثر من قيمته. فرع لو جني المكاتب على سيده خطأ، وقلنا: لا يستحق الأرش قبل الاندمال في قول وكان المكاتب أدي شيئصا من النجوم فتراضيا على أن يكون الباقي محسوبًا من أرش الجناية ففي جوازه قولان بناءً على [139/ أ] القولين في تعجيل الدين المؤجل والأصح ههنا المنع لأنه مع تأجيله مجهول القدر. مسألة: قال: «ولو كان جني جناية أخرى». الفصل اعلم أنه إذا جني المكاتب جنايات فتعلق أرشها برقبته ثم أعتقه السيد فلزمه ضمان تلك الجنايات، أو أدي المال فعتق فلزمه ضمانها كم القدر الذي لم يضمن قولان: أحدهما: يضمن أقل الأمرين من أرش كل جناية، أو القيمة لأن المنع من البيع حصل في كل جناية بالعتق فيلزم أقل الأمرين، لكل جناية كما لو جني عبده ففداه ثم جني ثانيًا يلزمه ثانيًا، والثاني: وهو الأصح يلزمه الأقل من أرش الجنايات كلها أو القيمة لأن الأروش كلها تعلقت برقبته، والمنع من الإعتاق حصل دفعة واحدة فكان عليه الأقل من الأروش كلها، أو القيمة، كما لو جني عبده جنايات كثيرة ثم أعتقه السيد يلزمه مثل ذلك. وهذا اختيار المزني، واحتج المزني بأنه لو عجز وعاد رقيقًا بيع وتحاصوا في ثمنه كذلك ههنا، فإن قيل: إذا عاد رقيقًا يمكن أن يباع في حقوقهم فاشتركوا وههنا المنع حصل من السيد، أو المكاتب بالعتق في كل واحد منهم قلنا: المنع كان مما استحقوه والذي استحقوه المشاركة في الرقبة وبقي ذلك بعد العتق في قدر قيمته وهذان القولان كالقولين في جنايات أم الولد. فرع هذه المسألة إذا جني المكاتب جنايات خطأ فعجزه السيد ورده إلى الرق فهو بمنزلة

العبد القن، فالسيد بالخيار بين التسليم للبيع وبين الفداء، فإن اختار الفداء [139/ ب] فقد ذكرنا بكم يفدي فإن جني جنايات، وهو مكاتب فاختار الفداء ظاهر ما ذكره الشافعي: أنه يفدي نفسه بأقل الأمرين من أرش كل جنايته، أو القيمة، واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: هذه المسألة كالمسألة المتقدمة فيه قولان: لأنه ما دام على الكتابة فبيعه ممنوع فهو كما لو امتنع بيعه بالعتق قال أبو إسحاق: ولا يعرف الشافعي إلا أنه قال: يفدي نفسه بأقل الأمرين وهذا النص على ما ذكرنا غير صحيح ومن أصحابنا من قال: يفديه بأقل الأمرين من أرش كل جناية، أو القيمة على ما نص عليه الشافعي، وحكاه أبو حامد، والفرق أن هناك أتلف محل الأرش بالإعتاق، وههنا الرقبة باقية يمكن بيعها في الجناية فوجب ضمان كل جناية على الانفراد كالعبد القن سواء وهذا الفرق باطل بما لو عجز المكاتب ففسخ السيد الكتابة واختار الفداء، فإنه مانع من البيع مع بقاء الرقبة، ولا يضمن لكل واحد أقل الأمرين في أحد القولين، قال المزني: قد قطع في هذا الباب بأن الجنايات متفرقة أو معًا سواءً، وهو بالحق عندي أولى، يقال له: إنما قال ذلك في حال التعجيز ومسألتنا هذه في حالة عدم العجز فكيف يتشابهان؟. فرع آخر لو أقر المكاتب بما يوجب القصاص يقبل وإن أقر بما يوجب المال يقبل أيضًا، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجه آخر لا يقبل كالعبد القن، وهو خلاف النص، فإذا قلنا: يقبل فأقر بجناية أرشها ألف، وقبلنا فعجز بعد ذلك، وعاد رقيقًا فادعي المولى أنالأرض كان خمسمائة، ففيه قولان: أحدهما: [140/ أ] لا يقبل من السيد لأنا قبلنا إقرار المكاتب، والثاني: يقبل منه كما لو أقر الآن بعد العجز لا يقبل على السيد ويقبل تكذيبه ذكره القفال. مسألة: قال: «فإن جني على المكاتب عبده». الفضل إذا جني عبد المكاتب على المكاتب جناية خطأ أو جناية عمد وعفا عن القصاص كانت هدرًا على ما ذكرنا ولا يجب على العبد الأرش لأن العبد ملكه، قال: وإن كان هذا العبد ابنه من أمته من أصحابنا من قال: يكون أيضًا هدرًا وهو اختيار أبي حامد. وقال القاضي الطبري: نص عليه في «الأم»: وهذا مملوكه كغيره، وقال صاحب «الإفصاح»: من أصحابنا من قال: يجوز له أن يبيع منه بمقدار الأرش لأنه لا يملك بيعه من غير حاجة، فيستفيد بالجناية جواز البيع وهذا لا يصح لأنه لو جاز هذا لجاز إذا جني عبده المرهون عليه أن يستفيد به بيعه وفائه من الرهن ولا يختلف المذهب فيه

باب ما جني على المكاتب

أن جنايته هناك هدر ولا يستفيد بيعه، وإخراجه من الرهن، ويمكن أن يجاب بأن الراهن لا يستفيد شيئًا ببيعه لأنه يحتاج أن يقضي الدين بثمنه أو يجعله رهنًا مكانه، وههنا يستفيد حصول أرش الجناية له، وقيل ما ذكره أبو علي صاحب «الإفصاح» نص عليه في «اكبير» وفيه نظر. فرع قال في «الأم»: فإن ملك المكاتب أباه وأمه فجني عليهما جناية فيها قصاص فلهما القصاص، فإن اختارا المال لم يكن لهما ذلك، وكذلك إن كانت الجناية خطأ لم يكن لهما شيء لأنهما غير خارجين من ملكه وقال القاضي الطبري: أوجب الشافعي القصاص على المكتب لمملوكه [140/ ب] لوجود التكافئ بينهما، ولم يجعل الملك شبهة. قلت: سألت كبار أصحابنا عن المكاتب إذا قتل عبده هل يلزمه القصاص، فلم يقطعوا بجواب حتى رأيت هذا عن القاضي الطبري فذهبت إلى وجوب القصاص لأنهما مملوكان للسيد وقد وجد التكافئ بينهما، ثم رأيت أصول الشافعي دالة على أن لا قصاص عليه وهو المذهب لشبهة الملك ونصه في هذا الموضع من أجل أنه لا يجوز له بيع أبيه ولا أمه فجري منه في الجناية مجري الأحرار دون العبيد، وثبت القصاص بينهما. قال أصحابنا: ولا نعرف للشافعي مسألة يقتص من المالك للمملوك إلا هذه المسألة الواحدة، وقال في «الحاوي»: لو جني المكاتب على ولده في ملكه فلا قصاص لأنه لا يقتل والد بولد وإن كانت على والده، ففيه وجهان: أحدهما: لا يقصاصأيضًا لأنه عبده والمولى لا يقتص بعبده، والثاني: وقد أومئ إليه الشافعي في بعض كتبه أنه يقتص منه لما ذكرنا من العلة. مسألة: قال: «وللمكاتب أن يؤدب [رقيقه] ولا يحدهم». إذا كان للمكاتب عبيد ففعل بعضهم ما يستحق التعزير فله أن يعزره لأنه مملوك له فيه مصلحته ولو فعل ما يوجب الحد لا يملك هو إقامة الحد لأن طريق إقامة الحد الولاية وليس هو من أهل الولاية، وذكر القفال وجهًا عن أصحابنا: أنه يحد لأن إقامته لاستصلاح الملك وهذا خلاف النص. باب ما جني على المكاتب مسألة: قال: «وأرش ما جني على المكاتب له [141/أ]. هذا يدل على أنه لا يملك كسبه وأرش ما يجني عليه، وإن كان لا يتصرف فيه تصرفصا مطلقًا، وقال مالك: أرش ما جني على المكاتب لسيده لأنه ليس من كسبه وهو قيمه ملك مستهلك، وهذا غلط لأن المكاتب خارج عن حكم ملكه، ولهذا مهر المكاتبة لها، فأرش الجناية أولى، فإذا تقرر هذا، نقول: إذا جني على المكاتب لا

يخلو إما أن يجني على نفسه أو على طرفه فإن كانت على نفسه فقتل انفسخت الكتابة سواء قتله أجنبي أو سيده، كما لو مات، ثم ينظر، فإن كان القاتل أجنبيًا فعليه القيمة للسيد والكفارة لله تعالى وإن كان الجاني سيده فلا قود عليه لأنه عاد إلى ملكه بانفساخ الكتابة، ولكن تجب الكفارة وقوله: «ولو قتله السيد لم يكن عليه شيء» يعني سوى الكفارة منن القيمة وغيرها ويعزره السلطان، وأما ما في يده من الكسب فإنه للسيد في الموضعين، فإن قيل: ورثتم القاتل في هذه المسألة، قيل: هذا ليس بميراث، وإنما يأخذه السيد بالملك لبطلان كتابته ونظيره أم الولد إذا قتلت سيدها عتقت لأن الحرية ليست بموروثة، وكذلك من له دين مؤجل فقتل من عليه الدين حل وسقط الأجل. وإن جني على طرفه فإن كان الجاني سيده فلا قصاص لأنه ملكه، وإن كان ضعيفًا، ولكن يلزمه الأرش، وإن كان الجانب أجنبيا، فإن كان حرًا لا قصاص، وإن كان عبدًا يلزم القصاص، وإذا وجب الأرش يكون للمكاتب لأنه من جملة الكسب، وهل له أن يطالب به قبل اندمال الجراح؟ فيه قولان: فإذا قلنا: لا يطالب نظر فإن سرت الجناية إلى نفسه انفسخت الكتابة، ويعود إلى ملك السيد وما في يده من المال، [141/ ب] ثم ينظر في الجاني فإن كان أجنبيًا لزمه قيمه العبد للسيد والكفارة لله تعالى، وإن كان السيد فلا قيمة عليه وتلزمه الكفارة، وإن اندمل الجرح فله المطالبة بإرشه. وفرض الشافعي المسألة فيه إذا كان قد قطع يده، فوجب نصف قيمته، فإن كان الجاني أجنبيًا، فالمكاتب يأخذ منه الأرش ويتصرف فيه ويؤديه في مال الكتابة، وإن كان الجاني سيده فإنه يستحق عليه أرش الطرف، والسيد يستحق عليه مال الكتابة ويجب الأرش من غالب نقد البلد لأنه بدل عن متلف، ثم ينظر فإن كان أحد الحقين من غير جنس الآخر لم يتقاصا بل يطالب كل واحد منهما صاحبه بحقه فيستوفيه، وإن كان من جنس الآخر نظر، فإن كان قد حل مال فقد تساويا في الحلول والجنس، فهل يصير قصاصًا؟ فيه أقوال، وأجاب الشافعي ههنا إن طلب العبد يكفي لهذه المقاصة، فإن قلنا: لا يصير قصاصًا استوفى كل واحد منهما ما على صاحبه من الحق، وإن قلنا: يصير قصاصًا، فإن تساوي الحقان برئت ذمة كل واحد منهما مما عليه وعتق، وإن كان الأرش أكثر من مال الكتابة برئت ذمة المكاتب من مال الكتابة، وعتق ويكون له مطالبة السيد بفاضل الأرش، وإن كان مال الكتابة أكثر برئت ذمة المكاتب من قدر الأرش ويبقي الباقي فإن أدي وإلا فللسيد تعجيزه، وإن لم يكن حل على المكاتب مال الكتابة لا يجبر على المقاصة إلا أن يختار ذلك فيصير كما لو عجل مال الكتابة، وإذا قلنا: له المطالبة بالأرش قبل الاندمال فالحكم فيه كما لو اندمل وطالبه بالأرش على ما ذكرنا في المقاصة وغيرها إلا أنه ينظر في الأرش، فإن كان مثل دية حر أو أقل منها [142/ ـ] كان له المطالبة بجميعه، وإن كان أكثر لم يكن له أن يأخذ أكثر من الدية لأنه ربما

باب الجناية على المكاتب ورقيقة عمدا

تسري الجناية إلى نفسه، فيعود الواجب إلى قدر الدية. فإذا أخذ المكاتب من السيد الأرش وأداة وعتق، أو تقاصًا وعتق لم يحل، إما أن تندمل الجناية أو تسري إلى النفس، فإن اندملت استقر حكم ما أخذه من الأرش إلا أن يكون الأرش زائدًا على قدر الدية، فيكون للمكاتب أن يرجع عليه فيطالبه بتمامه وإن سرت الجناية إلى نفسه، فقد مات حرًا وصار الواجب فيه الدية، فإن كان أخذه من السيد قدر الدية فقد استوفى حقه، وإن كان أقل وجب للسيد تمامه، ويكون الفضل موروثًا عن المكاتب لأنه مات حرًا، فإن كان له مناسب استحق ذلك، وإن لم يكن له مناسب نقل إلى بيت المال، ولا يرث السيد شيئًا لأنه قاتل، وقول الشافعي ههنا: «فإن كانت الجناية غير حالة كان له تعجيل الأرش» يعني: إذا كانت النجوم غير حالة كان للمكاتب استعجال الأرش فعبر عن الاستعجال بالتعجيل، وإن مات هذا المكاتب قبل قبض الأرش سقط الأرش عن السيد لأنه صار مالًا، وقال القفال: قال أصحابنا: له استيفاء الأرش في الحال ههنا قبل الاندمال كما نص ههنا، وأن في غيره قولان، والفرق أن المكاتب لو لم يفعل ذلك، وقلنا: اصبر فصبر ربما يموت، وهو رقيق، فبطل حكم الجناية، ويصير هدرًا ولا يؤمر أحد بتأخير حقه إلى أن يصير هدرًا، بل يستقر وجوب دية النفس، فافترقا، [142/ ب] وقال أبو حنيفة رحمه الله: إذا قتل السيد مكاتبه وكان في الأرش وفاء بالنجوم وزيادة حكم بأنه مات حرًا، وأخذ من السيد باقي قيمته، ولا تجب الدية، وفي هذا مناقضة لأنه لو مات حرًا لوجبت الدية دون القيمة. باب الجناية على المكاتب ورقيقة عمدًا مسألة: قال: «وإذا جني عبد علي المكاتب عمدًا». الفصل إذا كاتب عبده كتابة صحيحة ثم جني عبد السيد عليه، فقطع طرفًا من أطرافه يجب القصاص، فإن أراد المكاتب أن يقتص ومنعه السيد، وأراد إجباره على العفو على المال فله القصاص، وليس له الإجبار لأن السيد ممنوع من ماله وبدنه، وذكر الربيع هذه المسألة في «الأم»، كما حكاها المزني، ثم قال: وفيه قول آخر: أنه ليس له أخذ القصاص لأنه قد يعجز فيعود مقطع اليد إليه، وقال أبو إسحاق: هذا الذي قاله الربيع يشبه أن يكون شيئًا قاله على مذهب الشافعي برأيه غير محفوظ عنه، ولا نعلم قول الشافعي، اختلف في ذلك، قال: ولو منع المكاتب من أجل ذلك لمنع الورثة من أجل الغرماء والموصي له، ولمنع المحجور عليه بالفلس من أجل الغرماء، ولمنع المريض للغرماء والورثة لأنهم ممنوعون من إتلاف المال، وإن أراد العفو على مال فله

ذلك، لأنه زيادة في ماله وليس للسيد منعه منه، وإن قال: عفوت عن القاص مطلقًا، فهو على القولين، فإن قلنا: موجب العمد القصاص فحسب لم يجب المال [143/ أ] لأن وجوب المال على هذا القول يفتقر إلى اختيار الدية، ولم يوجد ذلك، وإن قلنا: موجبه أحد الأمرين يتعين الدية بالعفو، ولا يصح الإبراء عنها، ولوقال: عفوت على غير مالٍ فهو كما لو عفا مطلقًا، فإن قلنا: الواجب القصاص فقط لا تجب الدية إلا باختياره ولم يوجد الاختيار، وإن قلنا: يجب أحد الأمرين، فعلى هذا إذا قال: عفوت عن القود وجبت الدية، فإذا قال: على غير مال فهو إبراء، والمكاتب لا يملك الإبراء عن المال فتجب الدية ولا تسقط بعفوه وهكذا إذا قال: عفوت عن القصاص على نصف الأرش، فإن قلنا: الواجب القصاص فقط يجب، ويسقط الباقي، وغن قلنا: أحد الأمرين فقط وجب الأرش بقوله: عفوت، وقوله: على نصف الأرش إبراءٌ عن النصف الآخر، فلا يصح، وهذا كله مثل ما قلنا في المحجور عليه. ثم قال الشافعي رضي الله عنه: «لو عفا عن القصاص والأرش معًا ثم عتق كان له أخذ المال» لأن ذلك العفو كان في حالة الحجر، وهذا على الصحيح من المذهب ولا قود له لأنه قد عفا، ويملك العفو ولكن لا يملك إتلاف المال، ولو كان هذا العفو عن القصاص والأرش بإذن السيد جاز، وهذا على أحد القولين في التبرعات، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قول آخر: أن عفوه عن الأرش موقوف بعدما قلنا: لا يصح في الحال، فإن عتق نفذ ذلك العفو كالقولين في المحجور عليه بالفلس إذا تصرف. فرع قال في «الأم»: ولو جني عن المكاتب جانية فيها قصاص فبرأ منها، [143/ ب] وأخذ نصف أرشها ثم مات أخذ المولى النصف الباقي كما لو وضع عن إنسانٍ دينا عليه، ثم مات قبل أن يعتق كان لمولاه أخذ ذلك. فزع آخر قال في «الأم»: ولو حرق السيد للمكاتب مائة صاع حنطة مثل حنطة التي له على الكاتب كان قصاصًا، فإن كان الذي أحرقه خيرًا من حنطته لم يصر قصاصًا حتى يرضي صاحبه، فجعل الشافعي الجنس الواحد إذا كان أحدهما أجود من الآخر قصاصًا برضي صاحب الجيد، وقال في جنسين مختلفين لا يصير قصاصًا، وإن رضيا حتى يقبض أحدهما ما له ثم يرده إليه. فزع آخر قال في «الأم»: فإن كان ما على الكاتب حالًا من آخر نجومه فوجب على السيد

باب إعتاق السيد المكاتب في المرض وغيره

مثله، ثم عاد السيد فجني على المكاتب جناية كانت الجناية جناية على حر، فإن كان في مثلها القصاص اقتص من السيد، فإن قال: لم أعلم أنه عتق لما صار للمكاتب علي مثل الذي بقي له من كتابته لم يقبل منه كما لو قتل رجلًا كان عبدًا، فعتق ثم قال: لم أعلم بعتقه، قال الربيع: وفيه قول آخر أنه يؤخذ منه دية حر، ولا قود للشبهة. فرع آخر قال في «الأم»: وإن عتق المكاتب، واختلف هو والجاني، فقال المكاتب: كانت الجناية وأنا حر، وقال الجاني: بل كنت عبدًا مكاتبًا وقت الجناية، قالقول قول الجاني، وعلى الكاتب البينة سواءٌ صدقه في ذلك مولى المكاتب أو كذبه، فإن قطع مولاه الشهادة بأن الجناية كانت على حر قبلت الشهادة، لأنه لا يجر بها إلى نفسه شيئًا، [144/ أ] وكلفته شاهدًا آخر، فإذا أتي به قضيت له بجناية حر. باب إعتاق السيد المكاتب في المرض وغيره مسألة: قال: «وإذا وضع السيد عن المكاتب أو أعتقه كتابته في المرض». الفصل اعلم أنه إذا كاتب عبده في صحته كتابة صحيحة ثم مرض السيد فأعتق المكاتب أو أبرأه عن مال الكتابة، أو قال: وضعت عنك مال كتابتك، فالحكم في الجميع واحد، فإن بريء من مرضه لزمه ذلك من رأس المال، فيعتق المكاتب وتبرأ ذمته مما عليه كما لو وهب في مرضه، ثم بريء، وغن مات اعتبر ذلك في حق ورثته من الثلث لأنه وصية فاعتبر خروجها من الثلث ثم ينظر في قيمة العبد، وفي قدر المال الذي كاتبه عليه، فإن كان كل واحد منهما يخرج من الثلث إذا اعتبر على الانفراد بأن كانوت قيمته مائة والمال مائة وخمسون والثلث أكثر من مائة وخمسين يحكم بعتق العبد وتبرأ ذمته من مال الكتابة لأنه أيهما اعتبر خرج من الثلث، وإن كان أحد الأمرين يخرج من الثلث والآخر لا يخرج فإنه يعتبر أقلهما، فيعتق به ويلغي حكم الآخر، فإن كان المال الذي كوتب عليه مائة وقيمته مائة وخمسون وثلثه مائة اعتبر المال الذي كاتبه عليه فيخرج من الثلث ويعتق، ولا تعتبر قيمته لأن السيد إنما يملك في ذمة مكاتبه المال الذي عليه ولا حق له في الرقبة، فهو إنما أوصي بالمال الذي له فحسب فلم يعتبر حكم غيره، وإن كان المال الذي عليه مائة وخمسون وقيمته مائة وثلثه مائة يعتبر خروج [144/ ب] قيمته، فيعتق ويلغي حكم المال لأن المكاتب له أن يعجز نفسه متى شاء، فليس ملك السيد على المال الذي عليه مستقرًا وإنما في الرقبة مستقر فاعتبرت قيمتها، وطرح حكم المال، وإن كان كل واحدٍ من قيمة المكاتب والمال الذي عليه لا يخرج من الثلث بأن كانت قيمته مائة وخمسون والمال مائة والثلث خمسون فإنه يعتبر أقلها فتنفذ الوصية فيه

لأن في ذلك مصلحة للعبد وحظًا له، والمطلوب بالكتابة حظه فتنفذ الوصية فيما يحتمله الثلث منه، وهو قدر نصفه ويبقي النصف، فإن أدي إلى الورثة عتق، وإن كان لهم استرقاقه وإنما اعتبرنا الأقل منهما لأنه لو اعتبر كل واحد منهما بكماله كان الاعتبار بخروج أقلهما من الثلث، كذلك إذا اعتبر خروج البعض منهما وجب أن يعتبر الأقل، وإنما سوى الشافعي بين أن يقول المريض لمكاتبه: أعتقتك، أو أبرأتك مما عليك، لأن العتق إبراءٌ مما عليه، فإن قيل: أليس قلتم لو أدي بعض ما عليه لسيده لم يعتق منه شيء حتى يكمل الأداء فلم أعتقتم ههنا بعضه، وقد بقي عليه بعض مال الكتابة قيل: المكاتب إذا أدي إلى سيده بعض مال الكتابة، فلم يحصل الصفة ولا حصل الاستيفاء بحق المعاوضة، فلم يستفد بذلك عتقًا وههنا إنما حكمنا بالعتق في حقه لرأته من مال الكتابة، وإنما رددنا العتق في بعضه لحق الورثة، فافترقا. مسألة: قال: «ولو أوصي بعتقه عتق بالأقل من قيمته أو بما بقي عليه». الفضل أعلم أنه إذا كاتب عبدًا في صحته ثم أوصي بعتقه، أو أوصي بأن يبرأ من مال الكتابة، أو يوضع مال الكتابة عنه، [145/ أ] فمات نظر، فإن كان الثلث يحتمل قدر قيمته ويحتمل المال الذي عليه وجب على الورثة تنفيذ الوصية، وإن كان الثلث يحتمل أحدهمنا دون الآخر اعتبر الأقل منهما ويعتق ويلغي حكم الآخر، وإن كان الثلث لا يحتمل واحدًا منهما اعتبر الأقل منهما فتنفذ الوصية فيما يحتمله الثلث منه كما قلنا في المسألة قبلها إلا أن في تلك المسألة إذا احتمل الثلث أخذنا حكم بنفوذ الوصية بفعل الموصي، وفي هذا الموضع لابد من أن ينفذ الورثة ذلك، فإذا ثبت هذا فإنه إذا احتمل الثلث ثلث المال الذي عليه، فإن ذمته تبرأ من ذلك القدر، ويبقي ثلثا المال ثم لا يخلو. إما أن يكون قد حل عليه مال الكتابة فظاهر ما ذكره الشافعي: أن العتق يتنجز للمكاتب في ثلثه وتبقي الكتابة في ثلثيه إلى وقت حلول المال عليه، وبه قال أبو إسحاق، قال: ومثل هذا أن يكون له على رجل ألف درهم إلى سنة فأبرأه من مرضه ولم يخلف غيره يبرأ في الحال من ثلثه ولا يجوز أن يقال: لا يبرأ حتى يحل الدين عليه ولا أن يعجل الدين قبل محله واجب عليه، وإنما الموضع الذي لا يجوز أن يحصل للموصي له شيء حتى يحصل للورثة مثلاه هو أن يخلف مالًا غائبًا، أو دينًا على غير الموصي له، ومالًا حاضرًا، ولا يجوز أن يأخذ واحد إلا بالقسط لأن الغرر فيما أوصي للموصي له كالغرر فيما خلفه على الورثة، فعلى الجميع أن يصبروا وههنا لا ضرر على الورثة لأنه إن أدي، وإلا عاد الباقي إلى الورثة رقيقًا، ومن أصحابنا من قال: لا يعتق منه شيء حتى يؤدي إلى الورثة مال الكتابة، ثم يعتق عليه ثلثه لأن

الوصية [145/ ب] لا تتنجز للموصي له إلا بعد أن يحصل للورثة مثلاها، وهو اختيار ابن أبي هريرة وصاحب «الإفصاح» والمذهب الأول، ثم قال: وقال في «الإملاء» على مسائل مالك: «لو اعتقه عند الموت ولا مال له غيره عتق ثلثه لأن الثلث لا يحتمل سوى ثلثه، فإن أدي ثلثي كتابته عتق كله، وإن عجز رق ثلثاه». ثم قال: «ولو قال: ضعوا عني كتابته كانت وصية له، فيعتق بالأقل من قيمته، أو كتابته»، وهذا قد ذكرنا فيما مضي، وقلنا: لا فرق بين أن يقول: أبرؤوه مما عليه أو ضعوا عنه، كل ذلك وصية له بما عليه، ولا فرق بين أن يكون الذي عليه حالًا، أو مؤجلًا يعني صار حالًا بعدما كان مؤجلًا لأن الكتابة الحالة لا تجوز. مسألة: قال: «ولو كاتبه في مرضه، ولا يخرج من الثلث، [وقفت فإن] أفاد [السيد] مالًا قبل الموت يخرج به من الثلث جازت الكتابة على جميعه». الفضل المريض إذا كاتب عبده صحت الكتابة لأنه مالك ثم ينظر فإن برأ من مرضه لزمت الكتابة في جميعه، وإن مات من مرضه اعتبرت من ثلثه، وقال أبو حنيفة: يعتبر من رأس المال، وهذا لا يصح لأن الكتابة هبة في الحقيقة لأن الرقبة ملك السيد والكسب له، فإذا كاتبه يبيع ماله بماله، فصار كما لو وهبه، ولا فرق بين أن تكون الكتابة بأضعاف من قيمته، أو أقل، ولأن الكتابة أجريت مجرى العتق المجرد لأن الولاء له في الكتابة كما في العتق المجرد، ثم ينظر فإن احتمل ثلثه [146/ أ] قيمة جميع العبد نفذت الكتابة في جميعه، وإن لم يخلف الميت شيئًا غيره، فإن الكتابة تلزم في ثلثه، قال الشافعي رضي الله عنه: إذا كانت كتابة مثله يعني بلا محاباة، ويبقي ثلثاه موقوفًا على إجازة الورثة، فإن أجازوها نفذت الكتابة، وإن ردوا بطلت في ثلثيه وبقيت في الثلث، فإذا أدي المال عتق، فإن قيل: أصلكم أن كتابة بعض العبد لا تجوز، وقد جوزتم ههنا قيل: قال أبو إسحاق: لم يختلف قول الشافعي: أنه لا يجوز أن يكاتب بعض عبده في حياته ولا يختلف قوله أيضًا في أنه يجوز أن يوصي بكتابة بعض عبده بعد مدته لأن حال الموت مخالف لحال الحياة، ويجوز فيه من التعزير ما لا يجوز في حال الحياة، ألا ترى أنه قال في الورثة: إذا ورثوا مكاتبًا، فعجزه أحدهم دون الباقين كان على الكتابة في نصيبهم. ولأن ما يرثه الوارث فإنما يرثه مستحق الضرر في الثلثين، وليس كذلك الشريك، فإنه لم يستحق عليه الضرر، فلم تجز الكتابة في نصيبه بغير إذن شريكه، وأيضًا الكتابة ههنا وقعت على جميعه وصحت، وإنما فسخت الكتابة في بعضها لموضع الحاجة بخلاف المبتدئ بكتابة البعض، فإن قيل: إذا قلتم بفسخ الكتابة في بعضه وجب أن

يفسخ في الباقي كما قلتم: إذا كاتبا عبدًا ثم فسخ أحدهما في نصيبه تنفسخ في نصيب شريكه، قلنا: إنما فعلنا ذلك في حق الشريك لأنه لو عاد إليه نصيبه وباقيه مكاتب [146/ ب] أضررنا به لأنه يكون ناقص القيمة، فدفعنا ذلك الضرر بفسخ الباقي، وههنا انتقل العبد إليهم ناقصًا بالكتابة فلا معني لإزالة الكتابة في باقيه، وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا قلنا: لا تصح الكتابة إلا في ثلثيه، فأدي ثلث النجوم هل يحكم بصحة ثلث آخر إلى أن يتم العتق في كله وجهان ذكرهما ابن سريج: أحدهما: يفعل هكذا، فإذا أدي الثلث الثاني حكمنا بصحة الكتابة في الثلث الثالث، والثاني: وهو المنصوص لا يفعل ذلك، فإذا قلنا بالقول الأول وكاتبنا الثلث الثاني فهل يطالبه بحصته من النجوم في الحال ويجعل كأن مدة الكتابة مضت أو يضرب له مدة مثل المدة التي ضربها الميت؟ وجهان: أحدهما: أن الكتابة إن كانت على مدة سنة، فاستوفينا ثلث النجم عند آخر السنة لم يطالبه بثلث ثان من النجم إلا بعد سنة أخرى ثم بثلث بعد السنة الثالثة، والثاني: يطالب في الحال ثم إذا أدي يكاتب الثلث الثاني، ويطالب بحصته أيضًا، وإلا للورثة تعجيزه لما ذكرنا أنه إذا غصب المكاتب على نفسه حتى مضت المدة هل يستأنف له مدة، أو يطالب في الحال بالنجوم بعدما غرب له أجر المثل قولان. فرع إذا كاتبنا ثلثه عتق الثلث، ولا يسري إلى الباقي، وإن عجز ورق هذا الثلث فيه وجهان: أحدهما: يعود إلى التركة حتى يؤدي منه الوصايا لأنه إنما اعتبر في الثلث ليعتق، فإذا لم يعتق لم يعتبر فكأنه تركة، والثاني: لا يعود إلى التركة لن اعتباره في الثلث لم يكن موقوفًا على العتق، فإذا عاد بالعجز [147/ أ] إلى الرق صار مالًا مستفادًا لهم. مسألة: قال: «وما أقر بقبضه في مرضه، فهو كالدين يقر بقبضه في صحته». عندنا أن الإقرار بقبض النجوم ولا يعتبر من الثلث، بل هو من رأس المال، وإنما يتصور، في إقرار المريض بقبض نجوم كتابة كانت في الصحة، فأما إذا كانت في المرض فأصل الكتابة من الثلث، فلا يفيد الكلام في أن الإقرار كيف يقبل هل يقبل فيما صححنا فيه الكتابة، وقال أبو حنيفة: إن كان عقد الكتابة في الصحة، فالإقرار بقبض النجوم من رأس المال، وإن كانت الكتابة في المرض، فالإقرار من الثلث. هكذا ذكر بعض أصحابنا، وفيه نظر، والعلة في هذه المسألة: أن المريض يملك القبض، فيملك الإقرار به كالصحيح، وهذا لأن إقرار المرض وإقرار الصحة سواء عندنا. مسألة: قال: «وإذا وضع عنه دنانير وعليه دراهم».

الفصل يعني إذا كاتب عبدًا على دراهم ثم أبرأه من دنانير أو كاتبه على دنانير ثم أبرأه عن دراهم لا يصح الإبراء بهذا الإطلاق لأنه أبرأه عما لا يستحقه فصار كما لو كان له على عمرو حق فأبرأه زيدًا منه، ولو أبرأه من ألف درهم وله عليه دنانير، ثم قال: أردت بذلك دنانير قيمتها ألف درهم قبل ذلك وبرئت ذمته عن القدر الذي أراده لأنه إبراء عما يستحقه كما لو قال: على ألف درهم إلا قفيز حنطة، وقال: أردت إلا دراهم بقيمة قفيز حنطة يقبل ذلك، ويكون مستثنيًا القيمة بالقفيز من ألف درهم، كذلك ههنا [147/ ب] ذكره أبو إسحاق. واعلم أن الشافعي رضي الله عنه علل في مسألة الكتاب، فقال: لم يجز لأنه استيفاء، فهذه العلة مشكلة، وذلك أنه لو استوفى بدل الدنانير دراهم جاز، فكيف منع الجواز؟ فقال: لأنه استيفاء، وإزالة هذا الإشكال بأن يقال: أراد لأنه كالاستيفاء، ولو بطل الاستيفاء الذي ظننا أنه استيفاء صحيح لم يعتق كذلك إذا بطل الوضع الذي ظننا أنه أبراءٌ صحيح لم يعتق. فزع لو اختلفا، فقال السيد في اللفظ المطلق: أردت به الدراهم، وقال المكاتب: بل أردت قيمة الدراهم من الدنانير، فالقول قول السيد لأنه اختلاف في إرادته، وهو أعلم بذلك، وهكذا لو مات السيد، واختلف المكاتب وورثة السيد فيما ذكرنا، فالقول قول الورثة لأنهم يقومون مقامة، فإن لم يحلف السيد أو الورثة على العلم بإرادة الميت ترد اليمين إلى المكاتب، فإذا حلف حكم به، وهكذا لو أوصي أن يوضع عنه كذا، وهو غير ما وجب عليه، فالوصية باطلة إلا أن يريد: ضعوا بقدر هذه الدنانير من الدراهم التي عليه فيصح. فزع آخر مسألة: ولو قال: «قد استوفيت آخر كتابتك إن شاء الله أو إن شاء فلان لم يجز». قد بينا فيما مضي أن الاستثناء يبطل الأقارير والعقود كلها، وقال ههنا: إذا قال: استوفيت إن شاء الله، أو إن شاء فلان لم يجز ولم يكن بهذا إقرارًا لأنه استثناءٌ، قال أبو إسحاق: أما قوله: إن شاء الله استثناء لأنه يستوفي إن شاء الله. [148/ أ] فأما قوله: إن شاء فلان، فليس باستثناء، وإنما هو كلام محال لأن بمشيئة زيدٍ لا يصير مستوفيًا فلفظ الاستثناء في أحد المشيئتين صحيح دون الآخر، وهكذا ذكر صاحب «الإفصاح»، فقال: إن مشيئة الله تعالى فيما يستقبل، فأما ما دفع فقد سبقت المشيئة

فمعناه، استوفيه إن شاء الله، فأما مشيئة زيد فلا يتعلق بها الاستيفاء في الماضي، ولا في المستقبل، وقال القاضي أبو حامد: كل ذلك ليس باستثناء عند العرب لأن الاستثناء عند العرب لا يجوز فيما مضي من الأفعال، وفي الدائم إنما يجوز في المستقبل، ومعني قول الشافعي: لأنه استثناء أراد أن هذا التقييد يزيل إطلاق القول بالاستثناء ويقول مقام الاستثناء، وهذا صحيح لأن الشافعي قد جعله استثناء فيهما، وقول أبي إسحاق: يؤدي تخطئة الشافعي في قوله. فإن قال قائل: هو يرده إلى أحد المسألتين، وهي إذا قال: إن شاء الله قلنا: قد قال الشافعي في «الأم»: لو قال قد استوفيت آخر كتابتك إن شئت لم يكن استثناء لأنه استثناء، فدل على أن تقديره: أن هذا التقييد بمنزلة الاستثناء. فرع قال في «الأم»: ولو قال: وضعت عنك كتابتي كلها إلا دينارًا، أو عشرة دنانير كان بريئًا من الكتابة إلا ما استثني ولا يعتق إلا بالبراءة من آخر الكتابة. فرع آخر قال: ولو وضع من كتابته شيئًا ثم اختلف هو والمكاتب فقال السيد: وضعت من آخر الكتابة، وقال المكاتب بل مما حل منها، فالقول قول السيد، فإن مات السيد، فالقول قول الورثة، فإن كانوا [148/ ب] صغارًا لا يعربون عن أنفسهم ألزم الحاكم المكاتب أن الموضوع من آخر الكتابة لأنه لا يجوز أن يضع إلا ما يحيط العلم بأنه وضع عنه. فزع آخر قال: ولو شهد شاهدان للمكاتب أن سيده قال: قد استوفيت منه، أو قال السيد: أليس قد استوفيت، فقال: بلي كان القول قول السيد أنه استوفى منه ما حل من نجومه، وإن ادعي المكاتب أنه أراد آخر النجوم فعليه البينة، فإن قال لم يوفيني إلا درهمًا واحدًا كان القول قوله مع يمينه، وقول الورثة إن مات لأن المكاتب عبد حتى يشهد الشهود أنه قد أوفاه جميع كتابته. فرع آخر لو شهد الشهود أنه قال: قد استوفيت آخر كتابتك ولم يزد على ذلك فالقول قول السيد، فيما بقي من كتابته في حياته وورثته بعده لأنه يحتمل أنه أراد بقوله آخر كتابتك مما حل عليك فوجب الرجوع إلى بيانه.

باب الوصية للعبد أن يكاتب

باب الوصية للعبد أن يكاتب مسألة: قال: «ولو أوصي أن يكاتب عبدًا له». الفصل صورة المسألة: أن يوصي رجل بكتابة عبد له فالوصية تصح، ويعتبر خروج قيمة العبد الموصي بكتابته من الثلث، لأن إخراج الرقبة من ملكه بغير عوضٍ على ما بيناه، ثم ينظر فإن لم يكن أوصي إلا بالكتابة وحدها، فالثلث مصروف إليها، فإن كان أوصي بالكتابة وبأشياء آخر من هبة ووصية ومال أو محاباة، فهل تقدم الكتابة على غيرها أم يسوي بين الجميع لأن المسألة مبنية على أصل وهي أن الرجل إذا أوصي بوصايا في جملتها عتق هل يسوي الجميع أم يقدم العتق [149/ أ] قولان، فإذا أوصي بالكتابة، قال الشافعي: حاص أهل الوصايا وهذا يقتضي التسوية بين الكتابة وغيرها، واختلف أصحابنا في المسألة على طريقين، منهم من قال: فيه قولان أيضًا، كالعتق سواءً لأن الكتابة تتضمن العتق، والشافعي ذكر ههنا أحد القولين، ومنهم من قال: يسوي بين الكتابة وغيرها على ما نص عليه قولًا واحدًا لأن الكتابة معاوضة تجري مجري المعاوضات، ولو أوصي فيه ببيع فيه محاباة سوى بينه وبين غيره كذلك الكتابة، ويفارق العتق لأن له مزية، وهي السراية، فقدم بخلاف الكتابة. فإذا تقرر هذا فإذا أوصي بالكتابة وحدها، أو بها وبغيرها، وقلنا: إنها تقدم، فإن الثلث كله يتوفر على الكتابة، فإن احتمل الثلث قيمة العبد كوتب وتجبر الورثة على ذلك، ثم ينظر في العبد، فإن لم يختر الكتابة لم يجبر عليها، فإن بعد ذلك بطلت الوصية ولم يجب إليها لأن حقه قد سقط بامتناعه، وإن اختار الكتابة وطلبها فبكم يكاتب لا يخلو إما أن يكون الموصي أطلق الوصية ولم يقدر ما يكاتب عليه، أو قدر ذلك، فإن أطلق فإنه يكاتب على ما جرت العادة بكتابة مثله عليه، ولا يعتبر قيمته فيه لأن الكتابة لا تصح إلا إلى أجلين، والأجل يأخذه قسطًا من العوض فينقص منه لدخوله ويزاد فيه لسقوطه، وإن قدر ما يكاتب عليه كوتب على ذلك القدر لا يزاد عليه، فإن كوتب فأدي المال فإن ذلك المال لا يحتسب من جملة التركة بل يكون حقًا خالصًا للورثة لأن ذلك نماء الرقبة ليس بملكٍ للموصي، وإنما كان ملكه على الرقبة، فحسب فإن ذلك للورثة خالصًا كما لو أوصي بنخلٍ فأمرت. ثم ينظر فإن لم يؤد تمام المال، أو عجز نفسه، فالورثة يسترقونه، فإن أدي عتق وثبت الولاء عليه [149/ ب] لسيد المكاتب ينتقل إلى العصبات من ورثته لأنه عتق بسبب كان منه، وهي وصية بكتابته، فهذا الحكم فيه إذا كانت قيمة العبد تخرج من الثلث، فأما إذا لم تخرج قيمة العبد من الثلث يكاتب القدر الذي يحتمله الثلث كما إذا

أوصى بعتق عبده، فإن كان الثلث احتمل أعتق، وإن لم يحتمل أعتق بقدر ما يحتمله الثلث، فإن ال العبد في مطلق الوصية إذا خرجت من الثلث يلزم أن يكون الكتابة بعوض المثل إذ لو عتق ثلث ماله بلا عوض جاز، قلنا: نعم، ولكنه لم يوص بأن يعتق وإنما أوصي أن يعقد فيحتمل أنه بعوض المثل. فزع قال بعض أصحابنا بخراسان: لو أوصي لرجل بثلث ماله، وأمر أن يكاتب عبده وهو قدر ثلث ماله أيضًا يدفع نصف الثلث إلى الموصي له ويكاتب نصف العبد بخمسمائة إذا كان الثلث ألفًا نص عليه ههنا، فإذا دفع النجم فهل يزاد في الكتابة قد ذكرنا وجهين، فإذا قلنا: يزاد دفع ذلك إلى الموصي له ثلث، ويكاتب ربع العبد على مائتين وخمسين، فإذا دفع ذلك للموصي له بالثلث نصف ويكاتب ثمن العبد على مائة وخمسة وعشرين وعلى هذا يفعل أبدًا إلى أن تتم الكتابة كذا ذكره القفال، وفي هذا التفريع نظر، والثاني: أنه استقر، فلا يزاد في الكتابة، وقيل: إنه يزاد في الكتابة لكن النجوم يكون نماء ملكهم، ولا تجب الزيادة في الوصية بسبب ذلك ولابن سريج في وجه آخر أنه متى لم يخرج جميع الرقبة من الثلث فلا يكاتب أصلًا بل يبطل الوصية فيه، كما لو أراد أن يكاتب بعض عبده، والعبد كله له لا يصح. مسألة: قال: «ولو قال: كاتبوا أحد عبدي» [150/ أ]. الفصل إذا أوصي فقال: كاتبوا أحد عبيدي، فإن الورثة يكاتبون أي عبد من عبيده شاؤوا، ولا يجوز أن يكاتبوا أمة لأن اسم العبد لا يقع عليها، ولذلك إذا قال: كاتبوا أمة، فلهم أن يكاتبوا أي أمة شاؤوا ولا يجوز أن يكاتبوا عبدًا لأن الاسم لا يقع عليه، ولو قال: كاتبوا عبدًا وكان له خنثي قد حكم بأنه رجل، أو قال: كاتبوا أمة وكان له خنثي حكم بأنها امرأة، فهل تجوز كتابته؟ اختلف أصحابنا فيه على طريقين: أحدهما: يجوز قولًا واحدًا لا يختلف المذهب فيه اعتبارًا بما حكم به، والثانية: فيه وجهاز ذكره أبو حاد، أحدهما ما ذكرنا، والثاني: لا يجوز لأن إطلاق الاسم لا ينصرف إلى الخنثي وإن تبين حالة ولا شك انه في حالة الإشكال لا يدخل في اسم العبد ولا في اسم الأمة، وهذا اختيار الربيع، والأول أصح، وهو اختيار المزني، ولو قال: كاتبوا أحد رقيقي كان لهم الخيار في عبد أو أمة، قال المزني: أو خنثي. وروي الربيع في لأم أنه لا يجوز خنثي إذا كان مشكلًا فجعل الشافعي إطلاق اللفظ للعبد أو للأمة أو للخنثي الذي بان أنه امرأة، وصح أنه رجل، أو امرأة بتغليب الدلائل، وإن كان مشكلًا، فهو خارج عن العرف لا يقع عليه إطلاق اسم الرجل ولا المرأة، قال أبو

باب موت سيد المكاتب

إسحاق: وأرى الشافعي قد نص في بعض الروايات على ما اختاره المزني على مذهبه من جواز الخنثي، ففيه قولان، وقال القاضي أبو حامد فيه وجه آخر على ما اختاره المزني، فجعل القول رواية الربيع، وجعل [150/ ب] اختيار المزني وهو الأصح وجهًا آخر. باب موت سيد المكاتب مسألة: قال: «ولو أنكح ابنته مكاتبه برضاها فمات». الفضل إذا كاتب عبدًا، وكانت له ابنة فزوجها منه برضاها ولا بد من رضاها لأنه رقيق ليس بكفء لها، ولهذا قيد المسألة ثم مات لم تنفسخ الكتابة بموته لأنها عقد لازم، ثم ينظر في البنت فإن لم ترث أباها بأن كان بينهما اختلاف دين، أو كانت قاتلة، فالنكاح بحالة لأنها لم تملك من زوجها شيئًا، وإنما انتقل ملكه إلى مالكٍ آخر فلم يؤثر ذلك في النكاح، وإن ورثته، فإنه تملك جزءًا منه، وينفسخ النكاح بينهما، وبه قال أحمد وقال أبو حنيفة: لا ينفسخ النكاح بينهما، وبناه على أصله أن رقبة المكاتب لا تورث، وإنما يورث المال الذي عليه، وهذا لا يصح لأنه كان ملكًا للسيد وبموته لم يعتق فبقي ملكًا كما كان فورثه ورثته كسائر الأموال، والدليل على هذا أنه لا يبتدئ نكاحها بعد موت السيد بالإجماع. فرع إذا اشتري المكاتب زوجته الأمة من سيده أو من غيره انفسخ النكاح، وكذلك لو اشترت المكاتبة زوجها من سيده، وقال أبو حنيفة: لا ينفسح النكاح لأن المكاتب لا يملك بدليل أنه لا يجوز له وطئ أمته، وهذا لا يصح لأن المكاتب يملك لأنه يثبت له الشفعة على سيده وللسيد عليه الشفعة وإنما لا يجوز له وطيء أمته لتعلق السيد به كما يمنع الراهن من وطئ المرهونة، وإن كانت ملكه، والدليل على أنه يملكها أنه لا يجوز له أن [151/ أ] يتزوج أمته ابتداء، والملك إذا منع الابتداء منع الاستدامة. مسألة: قال: «فإن دفع ما عليه من الكتابة إلى أحد الوصيين لم يعتق». اعلم أنه إذا كاتب عبدًا ثم مات السيد قد ذكرنا أن الكتابة لا تنفسخ، ثم لا يخلو إما أن يكون المال الذي على المكاتب يصرف إلى وارث، أو موصى له، أو إلى الغرماء، فإن كان ينصرف إلى الورثة، فإن كانوا رشيدين فالمال لهم، ثم ينظر، فإن كان الوارث واحدًا دفع المكاتب إليه، وإن كانوا جماعة دفع إلى كل واحد منهم قدر حقه، فإن دفع إلى بعضهم، وأخل بالبعض لم يعتق كما لو كان العبد بين شريكين وكاتباه، ثم دفع المال إلى أحدهما لا يعتق، ولا يجوز في هذا الموضع أن يوصي

السيد بالنظر في مال ولده ولا يقبض مال الكتابة، فإن فعل لم تصح الوصية، وإن دفع المال إلى الوصي لم يعتق لأن الوصية لا تصح في حق أهل الرشد، وإن كان الورثة أطفالًا، أو مجانين، فإن لهم جد فهو الناظر في أمرهم، فلا تصح الوصية معه، فإذا دفع المال إليه عتق وذكر الداركي عن بعض أصحابنا: أن وصي الأب أولى من الجد، وهو قول أبي حنيفة، وهذا الوجه غير مشهور عند أصحابنا، وإن لم يكن لهم جد وأوصي الأب إلى من ينظر في أمرهم صحت الوصية ويجب على المكاتب الدفع إلى الوصي، فإن كان واحدًا دفع إليه، وإن كانا اثنين نظر فإن أوصى إليهما وإلى كل واحدٍ منهما، على الانفراد جاز للمكاتب أن يدفع إليهما وإلى كل واحد منهما فإن أوصى إليهما ولم يوص إلى كل واحد منهما على الانفراد [151/ ب] لم يجز أن يدفع إلى أحدهما بل يجب الدفع إليهما، فإن دفع إلى أحدهما لم يعتق لأن الوصي رضي باجتهادهما معًا، وإن لم يكن الميت أوصى بالنظر في مال الأولاد، فالنظر في أمرهم للحاكم، فيرفع المكاتب الأمر إليه لينصب أمينًا، فيدفع المال إليه ويعتق، وإن كان بعض الورثة كبارًا، وبعضهم صغارًا، فالكبار يقضبون حقوقهم والحكم في حقوق الصغار ما ذكرنا إذا كان الميت قد أوصى أو لم يوص، وإن كان مال الكتابة ينصرف إلى الموصى له، فإن كان قد أوصى به لواحد بعينه، فالحق له فإن دفعه إليه جاز لأنه مستحقه، وقال صاحب «الإفصاح»: لا يجوز وحكاه القاضي الطبرى عنه، وهذا ليس بمذهب، وإن دفعه الوصي ليدفعه إليه جاز أيضًا، وإن كان قد أوصى به لأقوام غير معينين كالفقراء والمساكين، فلا يجوز للمكاتب أن يوصل المال إليهم بنفسه، بل عليه أن يدفعه إلى الوصي فإنه موضع اجتهاد، والميت لم يرض باجتهاد المكاتب، وإنما رضي باجتهاد الوصي. وإن كان مال الكتابة ينصرف إلى الغرماء وقضاء الديون ينظر فإن كان السيد قد أوصى بأن يقضي من مال الكتابة ديونه فالحكم فيه كما لو أوصي به لرجل بعينه فيجوز للمكاتب دفعه إلى أصحاب الديون، ويجوز أن يدفعه إلى الوصي وليس للورثة ههنا حق، وإن لم يكن أوصى فالحق للورثة والوصي معًا، فلا يجوز للمكاتب أن يدفعه إلا بحضرتهما ورضاهما لأن للورثة في ذلك حقًا، وهو أن لهم أن يأخذوا المال ويقضوا من عندهم. وإن تلف المال في يد الوصي لا يضر المكاتب لأن القبض قد صح [152/ أ] إذا كانت الوصاية صحيحة، وقال القاضي الطبري: إذا كان عليه دين يحيط بتركته فدفع المكاتب إلى من له الدين، وقد ثبت دينه فقد بريء لوصوله إلى مستحقه نص عليه في «الأم»، وقال صاحب «الإفصاح»: لا يبريء وهو خلاف النص، وهذا خلاف ما ذكرنا عن أصحابنا وهذا النص غريب. ولو دفع المال إلى الوارث في هذا الموضع قال الشافع: لا يعتق حتى يصل إلى صاحب الدين لأن الوارث إنما يستحق ما فضل عن الدين.

باب عجز المكاتب

باب عجز المكاتب مسألة: قال: «وليس لسيده أن يفسخ كتابته حتى يعجز عن أداء نجم». الفصل إذا كاتب عبده على مالٍ ثم أراد فسخه نظر، فإن لم يكن حل عليه نجم لم يكن له الفسخ وكذلك إن حل عليه نجم ولكن معه ما يؤديه ولم يمتنع من الأداء لأنه لا ضرر على السيد، ولا تعذر عليه حقه، وإن كان قد حل عليه المال، وليس معه ما يؤدي أو كان معه، ولكن امتنع من الأداء، فللسيد أن يفسخ ولا فرق بين أن يتعذر عليه جميع المال، أو بعضه، وبين النجم الأول وبين النجم الثاني، ثم ينظر فإن العبد حاضرًا يفسخه بنفسه، ولا يحتاج إلى حاكم لأنه فسخ مجمع عليه كالرد بالعيب، وإن كان العبد غائبًا فليس للسيد أن يفسخ، بل يرفع الأمر إلى الحاكم ويثبت عند الحاكم أن له على المكاتب مالًا وأنه قد تعذر عليه الأداء، فإذا فعل ذلك استحلفه الحاكم مع البينة على ما تقدم بيان اليمين، وقضي له بالفسخ وهذا لأنه قضاء على الغائب، وقال في «الحاوي»: هكذا قال البغداديون من أصحابنا، [152/ ب] وهذه اليمين استظهار عند أكثر أصحابنا لأن ليمين لا تجب إلا بطلب مستحقها، ومن أصحابنا من قال: هذه اليمين واجبة في فسخ الحاكم كيلًا يفسخ إلا بحق تزول معه الشبهة، وقال البصريون من أصحابنا: ينفرد السيد عند غيبته كما عند حضوره، وقال ابن أبي ليلي: لا يكون عجزه إلا عند الحاكم، وقال أبو يوسف: لا أرده في الرق إلا أن يتوالى عليه نجمان، واحتج بما روى عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول: يرد الرجل في الرق حتى يتوالي عليه نجمان، ودليلنا ما روي أن ابن عمر رضي الله عنهما كاتب عبدًا له على ثلاثين ألفًا، فقال له: أنا عاجز، فقال له: امح كتابتك، فقال: امح أنت، ويحمل قول علي رضي الله عنه على الاستحباب، ولأنه دخل في الكتابة على أن يسلم له المال عند انقضاء كل نجم، فإذا لم يسلم ذلك كان له فسخها كما لو توالى عليه نجمان، وروي عطاء بن رباح أن ابن عمر رضي الله عنهما كاتب عبدًا له فأدي تسع مائة وبقيت مائة دينار فعجز فرده في الرق، وروي أن مكاتبًا له عجز فرده مملوكًا، وأمسك ما أخذ منه، وقال: شبيب بن عمر شهدت شريحًا رد مكاتبًا عجز في الرق، ولو كان العبد مليًا فامتنع من أداء النجم الذي حل عليه، أو أدي بعضه فللسيد فسخ الكتابة

ولا يجبر العبد على أدائه خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله، ويخالف المشتري إذا امتنع من أداء الثمن يجبر عليه، ولا يكون للبائع فسخ البيع لأن الكتابة جائزة من جهة العبد غير لازمة على ما تقدم بيانه. فرع قال في «الأم»: [153/ أ] وإذا كان حاضرًا فطالبه فقال: ليس عندي، فقال السيد: اشهدوا أني قد عجزت، أو أبطلت كتابته، أو فسختها أنفسخت وسواء كانت عند سلطان، أو غيره قال الشافعي: فإن لم يقل شيئًا من هذا فهو على الكتابة، قال أصحابنا: وافشهاد فيه استحباب، فإن قيل: قد قلتم في المشتري إذا عجز عن أداء الثمن لا يختار عين ماله إلا أن يفلسه القاضي ويحجر عليه، وههنا قلتم: إذا كان حاضرًا لا يحتاج إلى القاضي، قلنا: لأن فسخ البائع بعيب في ذمة المشتري، وذلك العيب مزاحمة الغرماء، ولا يحصل ذلك إلا بالحجر والفلس، وههنا الفسخ ليس بعيب يظهر بالعبد، ولكن لاعترافه بالعجز، فإذا حصل ذلك لا يحتاج إلى الحاكم. فزع آخر قال: ولو حل عليه فلم يطالبه مدة قصيرة أو طويلة، ثم أحضره لم يكن للسيد الامتناع عن قبضه، قال: فإن سألته أن ينظره مدة يؤدي إليها نجمة وفي نسخة يؤدي إليه نجمه، أي إلى السيد لم يكن عليه أي لم يكن واجبًا عليه أن ينظره لأن حقه حال عليه والتأجيل تبرع، فلا يلزم وليس للسلطان أن ينظره أيضًا لأن الحق للسيد، فلا يجبر على ترك حقه، قال الشافعي: إلا أن يحضره ماله ببيعه مكانه، فينظره قدر بيعه معناه أنه إذا أحضر المكاتب واستنظر السلطان لبيعها أنظره قدر بيعها وهذا واجب بالحكم لأنه عرف الأداء وعادة الإيفاء والاستيفاء كما لو قال: أنظرني حتى أصير إلى البيت وأحمل المال، أو أفتح الصندوق، [153/ ب] ونحو ذلك قال أصحابنا: ويعتبر فيه قليل الزمان، وهو لا يجاوز ثلاثة أيام. فزع آخر قال الشافعي رضي الله عنه: «وإن حل عليه نجم في غيبته فأشهد سيده أن قد عجزه، أو فسخ كتابته فهو عاجز» وزاد في «الأم» فقال: فإن جاء في غيبته وأقام بينه على سيده بقبض النجوم الذي عجزه، أو أبرأه منه أو إنظاره كان على كتابته فدل هذا النص على أن المكاتب إذا قدم ولم يدع ما ذكره أنه يكون عاجزًا وتكون الكتابة منفسخة. وقال أبوإسحاق: يحتاج إلى الحاكم على ما ذكرنا من قبل، قال القاضي الطبري: هذا خلاف ما نقله المزني وبينه الشافعي في «الأم»، ومعناه أن السيد إذا

فسخها، وهو غائب فلما قدم لم يدع خلاف ما قاله علم أنه كان عاجزًا وإن ادعي خلاف ما قاله وأٌام البينة فهو على الكتابة، ثم قال: وإن رفعها إلى الحاكم حتى يفسخها، فإن الحاكم لا يفسخها حتى يتثبت على ما ذكرنا، وإذا عجزه جعل المكاتب على حجته إن كانت له، وهذا يدل على أن المذهب المنصوص ما قاله البصريون من أصحابنا. فرع آخر لو أراد المكاتب فسخ الكتابة فيه وجهان: أحدهما: لا يملك لأنه لا ضرر عليه في بقاء الكتابة، وإنما له أن يمتنع من الأداء، والثاني: يملك لأنه عقد لحقه، فملك أن ينفرد بالفسخ كالمرتهن. فرع آخر لو استنظره لمال غائب ينقله فإن كان على مسافة لا تقصر إليه الصلاة يلزمه إنظاره لأنه في حكم الحاضر، وإن كان على مسافرة يقصر إليها الصلاة لا يلزمه إنظاره لأنه كالقادم، ذكره في «الحاوي». فرع آخر ولو قال: أنظرني لأقبض دينًا لي فإن [154/ أ] كان مؤجلًا لا يلزمه إنظاره، وإن كان حالًا فإن كان على موسر يلزمه إنظاره، وإن كان على معسر لا يلزمه إنظاره لأنه كالهالك ولهذا لا يلزم فيه الزكاة. فرع آخر إذا كان هو غائبًا وماله حاضر لا يقضي القاضي عنه النجوم وللسيد حق التعجيز بخلاف ما إذا جن المكاتب وماله حاضر فالحاكم يؤدي عنه النجم، وليس للسيد التعجيز لأن الغائب لو كان حاضرًا لم يلزمه قضاء النجم بل له أن يعجز نفسه، فالحاكم لا يقوم مقامه وهو من أهل الكتابة ويرده إلى ملكه، وإن كان معه مال، فأداه إلى السيد عتق، وإن قال: لي مال أحضره فقد ذكرنا، وإن كان العبد غائبًا فليس للسيد أن يفسخ، تولى ذلك بنفسه ولعله فسخ الكتابة في حال غيبته، والمجنون لا يصح منه النظر لنفسه، فالحاكم يقوم مقامه في ذلك ذكرها القفال. مسألة: قال: «وإن قال قائل: قد أنظرته وبدا لي والمكاتب غائب لم يجز له تعجيزه». الفصل اعلم أنه إذا كاتب عبدًا فحل عليهمال الكتابة، فأظهر أنه عاجز عن أدائه فأنظره السيد وأخره بما عليه، فإن الإنظار يصح، ولا يجبر على اختيار الفسخ، فإن رجع بعد

ذلك وطالب بالمال صح رجوعه خلافًا لأبي حنيفة، ثم لا يخلو إما أن يكون العبد حاضرًا أو غائبًا، فإن كان حاضرًا ينظر فإن أظهر العجز كان للسيد أن يفسخ الكتابة ويرده إلى ملكه، وإن كان معه مال فأداه إلى السيد عتق. وإن قال: لي مال أحضره فقد ذكرنا، وإن كان العبد غائبًا فليس للسيد أن يفسخ في الحال لأن غيبته لنظرته وتأجيله بل يرفع الأمر إلى الحاكم ويثبت عنده الكتاب وحلول المال عليه، وأنه لم يؤد شيئًا ويحلفه الحاكم على ذلك فإن هذا قضاء على الغائب فلا بد من اليمين، فإذا فعل هذا كتب إلى حاكم ذلك البلد بما يثبت عنده، فإذا وصل الكتاب إليه استدعي المكاتب وسأله عن الحال، فإن أظهر العجز كتب إلى حاكم ذلك البلد حتى يخبر السيد بعجز المكاتب [154/ ب] فيفسخ الكتابة وإن ذكر أن له مالًا، فإن لم يكن له وكيل، فإن الحاكم يكلف المكاتب أن يوصل المال إلى سيده إما ينفسه أو ينفذه مع أمين فإذا فعل ذلك وصار المال إلى السيد عتق، فإن أخر الإنفاد حتى مضت مدة لو أنفذ المال كان قد وصل كان للسيد أن يفسخ في الحال، وكذلك الوكيل إذا جعل السيد إليه الفسخ فله أن يفسخ في الحال، قال أبو إسحاق: ظاهر ما نقل المزني أنه قد أنظره مسافة الطريق سواء كان للسيد وكيل في ذلك البلد أو لا ولكن الربيع رواه مفصلًا هكذا، وهو الصحيح وعلى هذا لو كان طريقًا لا يمكن أن يسلك في السنة إلا مرة أنظره إلى ذلك الوقت الذي يمكنه سلوكه فيه، قال أبو إسحاق: فإن كتب إلى الحاكم بأن يقضيه فليس على الحاكم ذلك ولا أن يكون وكيلًا لغيره لأن الحاكم يكلف الحكم دون قبض المال بالوكالة فإن اختار القاضي القبض كان حكمه حكم الوكيل، فإن جاء وكيل ثابت الوكالة يطالب بالتسليم إليه نظر بينهما ويحكم بما يثبت. مسألة: قال: «ولو غلب على عقله». الفصل يعني إذا كاتب عبدًا فجن المكاتب لا تنفسح الكتابة بجنونه فإن قيل: هلا قلتم تنفسخ لأنها جائزة من جهته غير لأنه كما تنفسخ الشركة والمضاربة قلنا: العقد الذي ينفسخ بالجنون هو الجائز من الطرفين، فأما اللازم من أحد الطرفين لا ينفسخ به كما لا ينفسخ النكاح بجنون الزوجين لأنه جائز من جهة الزوج لازم من جهة الزوجة ولأن بالكتابة يتعلق العتق بالصفة وذلك يمنع من انفساخها بالجنون [155/ أ] ألا ترى أن مجرد العتق بالصفة لا ينفسخ بالجنون فإذا ثبت عند الحاكم ذلك، فإن وجد للمكاتب مالًا قد ذكرنا أنه يدفعه إلى السيد وحكم بعتقه، وإن لم يجد له مالًا جعل للسيد فسخ الكتابة، وليس له فسخها ما لم يأت الحاكم لأن الحاكم قيم المجانين ثم إذا فسخها لزمه نفقته لأنه عاد إلى ملكه.

فرع لو ظهر له بعد الفسخ مال، أو أفاق المكاتب وأظهر لنفسه مالًا نقض الحاكم حكمه، ودفع المال إلى السيد وحكم بعتقه ورجع السيد على المكاتب بما أنفق عليه لأنه أنفق عليه على أنه عبده، فإذا أبان أنه لم يكن عبده وكان مكاتبًا كان له الرجوع بما أنفق. فرع آخر لو فسخ الكتابة ثم أفاق العبد وأقام البينة بأنه قد أذي إلى السيد مال الكتابة لم يرجع السيد عليه بما أنفقه لأنه أنفق عليه مع علمه بحريته فكان مقطوعًا به. مسألة: قال: «ولو ادعي أنه أوصل إليه كتابته وجاء بشاهد أحلفه معه». قد ذكرنا هذه المسألة وفسرها في «الأمة»، وقال: إذا حل النجم على المكاتب فسأله سيده أدائه، فقال: قد أديت إليك، أو إلى وكيلك وأنكر السيد لم يعجل السلطان في تعجيزه وأنظره يومًا أو أكثر وأكثر ما ينظره ثلاثة أيام، فإن جاء بشاهد أحلفه معه وأبرأه مما شهد شاهده وإن لم يعدل دعاه بغير، فإن جاء به من يومه أو غده أو بعده وإلا عجزه، وإن ذكر بينة غائبة أشهد أنه ذكر بينة غائبة، وأني قد عجزته [155/ ب] إلا أن يكون معه بينة بما يدعي، فإن جاء بها أثبت كتابته وأخذت سيده بما أخذ من خراجه وبقيمة خدمته، وإن لم يأت بها تم التعجيز، قال أبو إسحاق: ولم يذكر المزني إنظاره ثلاثًا حتى يأتي بالبينة، ولا إذا جاء بالبينة فلم يعدل أنظره ثلاثًا حتى يأتي بغيره وهو أولى مما نقل المزني، قال في «الأم»: وإن عجزه على هذا الشرط ثم جاء ببينة بإبرائه من ذلك النجم وهذا آخر نجومه، ومات المكاتب جعل ماله ميراثًا لورثته الأحرار وأخذ السيد بما أخذ منه وبقيمة خدمته، وإن لم يكن آخر نجومه فقد مات عبدًا، فإن قيل: أليس العتق يثبت بهذا الأداء ولا يثبت العتق بشاهد ويمين، قيل: لا يمتنع أن يقبل، وإن جر إلى ما لا يقبل فيه ذلك كشهادة النساء تقبل في الولادة، وإن جر إلى ثبوت النسب الذي لا تقبل شهادة النساء بحال. فرع قال في «الأم»: وإذا عجزه السيد أو السلطان، فقال سيده بعد التعجيز قد أقررتك على الكتابة لم يكن عليها حتى يجدد له كتابة غيرها، ولو تأدي منه على الكتابة الأولى، وقال: قد أثبت لك العتق عتق بإثبات العتق وتراجعا بقيمة المكاتب كما يتراجعان في الكتابة الفاسدة وكذلك لو قال: أثبت لك الكتابة الأولى ولم يذكر العتق لأن قوله: أثبت لك الكتابة الأولى إثبات للعتق بها على الأداء ولو نعجزه ثم تأدى منه

كما كان يساوي ولم يقل: قد أثبت لك الكتابة لم يكن حرًا بالإداء [156/ أ] وكان تأديته إليه كالخراج يأخذه منه. فرع آخر قال في «الأم»: وإن عجز المكاتب عن نجم حل عليه، فقال السيد: أعجز بعضك وأقر بعضك لم يكن ذلك له كما لم يكن له أن يكاتب بعضه، فإن فعل وأدي على هذا عتق كله ويرجع السيد عليه بنصف قيمته. فرع آخر قال في «الأم»: ولو كاتب الرجل عبده كتابة صحيحة ثم أفلس السيد فالكتابة بحالها وكان للغرماء أخذ ما عليه من دين الكتابة عند محله. ولو عجل المكاتب ما عليه قبل محله لم يكن للسيد منعه وكان للغرماء أخذه منه. قال القاضي أبو حامد: تأويل هذه المسألة أنه أداه إلى الغرماء بإذن السيد، أو بإذن الحاكم فلذلك عتق فأما إذا لم يكن بالإذن، فلا يعتق لأنه لا يبرأ إذا عتق إلا بالبراءة مما عليه فإن كاتبه بعد الوقف وأدي إليه مال الكتابة لم يعتق وأخذ منه ما أدي إليه وبيع العبد عليه، ولو اختلف السيد والغرماء، فقالوا: كاتبته بعد الوقف، وقال السيد: بل كاتبه قبل الوقف، فالقول قول السيد وكذلك لو قال السيد: مع الغرماء كانت الكتابة بعد الوقف، وقال العبد: بل كانت قبل الوقف فالقول قول العبد وعليهم البينة، فإن كانت الكتابة صحيحة، فأقر السيد بعد التفليس أنه قبض منه شيئًا قبل الوقف، فالقول قوله: وكذلك كل ما أقر به الغريم له عليه حق. مسألة: قال: «ولو دفع الكتابة وكانت عوضًا بصفة [فقبضه] وعتق ثم استحق». الفضل [156/ ب] قال ذكرنا هذه المسألة وذكرنا أن قول السيد: أنت حر عقيب أدائه المال لا يصير بقوله حرًا إذا ظهر الاستحقاق وأنهما لو اختلفا، فقال المكاتب: أردت بقولك: أنت حر ابتداء الإعتاق، وقال السيد: بل أردت بالعوض الذي أداه، فالقول قول السيد: لأن الظاهر معه، قال أًحابنا: فإن كان ذلك قبل أن أدي إليه العوض ثبت بذلك حريته لأنه لم يكن مضافًا إلى الأداء، ولو قال بعد الاستحقاق: أنت حر عتق عليه، ولا يقبل أني أردت ما ظننته من عتقه بالأداء بخلاف الظاهر ولو قال بعد الأداء والعتق في الظاهر وقبل الاستحقاق أنت حر، ثم قال بعد الاستحقاق بالعتق ما كان من ظاهر الأداء، فهل يقبل منه وجهان محتملان أحدهما: تقبل كما يقبل منه عند الأداء لأنه في الحالتين على سواء، والثاني: لا يقبل ويكون القول قول المكاتب مع يمينه لأن العتق

باب الوصية بالمكاتب والوصية له

بالأداء انقضى زمان ظاهره، فصار لما تجدد بعده من لفظ العتق حكم مبتدأ. واعلم أن الشافعي رضي الله عنه ذكر في «الأم» مسألتين في هذا الفصل، أحدهما: إذا قال لعبده: إن أعطيتين ثوبًا من صفته كذا وكذا، فأنت حر، فدفع ثوبًا على تلك الصفة إلا أنه مستحق للغير لا يعتق لأن الظاهر إعطاء ثوب يملكه وينتفع به والمستحق لا يملك، ولا ينتفع به، والثانية: قال: وكذلك لو قال لعبده: إن أعطيتني هذا الثوب فأنت حر فغصبه وأعطاه لا يعتق فسوى بين الثوب المطلق وبين الثوب المعين، وقد فصل بينهما في الخلع، فقال: [157/ أ] في الثوب المطلق لا يقع الطلاق وفي المعين، قال: يقع الطلاق فمن أصحابنا من قال: فيهما قولان نقلًا وتخريجًا، ومنهم من حمله على ظاهرها وفرق بأن الطلاق له من التغليب ما ليس للحرية ألا ترى أنه لا يجوز أن يقف في بعض الشخص بحال والعتق قد يقف في بعض الشخص. وأيضًا الفرق أن للزوجة مدخلًا في رفع النكاح بالفسخ، فكان رفعه بالطلاق أوسع حكمًا وليس للعبد مدخل في رفع رقه فكان العتق أضيق حكمًا، وقال صاحب «الحاوي»: في هذا الفرق نظر، والذي عندي أن العتق يقع بالمستحسن إذا كان معينًا كالطلاق لأن المغلب فيهما مع التعيين حكم الصفة، وإن لم يكن الخلع أقوى لكونه عقد معاوضة لم يكن أضعف من مجرد العتق بالصفة. باب الوصية بالمكاتب والوصية له مسألة: قال: «ولو أوصى به لرجل وعجز قبل الموت، أو بعده لم يجز». أعلم أنه إذا كاتب عبده ثم أوصى برقبته فإن كانت الكتابة صحيحة لا تصح الوصية لأن للسيد وإن كان يملك المكاتب ملكًا ضعيفًا فإنه يحول بينه وبين التصرف في رقبته ومنفعته ولا فرق بين أن يعجز أو لا يعجز حين يبتديء الوصية بعد الملك بالتعجيز، فإن قال السيد: إذا عجز المكاتب وبطلت كتابته فقد أوصيت به لفلان تكون هذه وصية صحيحة إن عجز لأنه وصية بصفة ونظير هذا أنه لو أوصي لرجل بعبد لا يملكه لا يجوز وإن ملكه بعد ذلك حتى يستأنف الوصية [157/ ب] بعد الملك ولو أوصي بعبد لا يملكه إن ملكه صحت الوصية وعلى هذه إذا أوصي بثلث ماله ولا مال له ثم ملكه فالمشهور جوازه لأن تقديره بثلث مالي إن مكلته فتكون هذه الوصية مضافة إلى ملك فيصح، وإذا قال: أوصيت له بثلث ما اكتسبه أو بثلث ما أملكه إلى الموت يصح لأنها مضافة إلى ملكه. مسألة: قال: «ولو أوصي بكتابته جازت في الثلث». يعني: إذا كاتب عبده كتابة صحيحة ثم أوصي بالمال الذي في ذمته، فإن الوصية تصح لأنه مالك لذلك المال، فصار كمات لو أوصي بدين له في ذمة إنسان تصح

الوصية، فإذا ثبت هذا فمات الوصي لزمت الوصية بموته من الثلث ثم ينظر في المكاتب فإن أدي المال إلى الموصي له عتق ولا يحتاج في ذلك إلى إذن الورثة ويثبت عليه الولاء للموصي لأنه عتق بسبب منه وينتقل ذلك إلى العصبات من ورثته، فإن أظهر العجز فللورثة أن يعجزوه وتبطل الوصية، وإن قال الموصي له: أنا أنظره بالمال وأراد الورثة تعجيزه لم يكن له منعهم من حقهم، وهذا كما لو أراد السيد يقره على الكتابة وأراد المجني عليه تعجيزه ليبيع رقبته لم يكن للسيد إسقاط حقه من تعجيزه وبيع رقبته وإن عجز المكاتب نفسه بطلت الوصية، قال في «الأم»: وهكذا لو أوصي بكتابة مكاتبه لرجل وبرقبته لآخر إن عجز كان للذي أوصي له أن يعجزه. ولو أدي المال عتق ويكون ذلك المال للموصي له، بها وبطلت وصية الآخر، وإن عجز نفسه سلمت الرقبة إلى الموصي له بها وبطلت وصية الآخر بالمال [158/ أ]. فرع قال في «الأم»: ولو قال: أوصيت له بما يعجله مكاتبي من مال الكتابة صحت الوصية لأن تعليق الوصية بالصفات المجهولة تصح ثم ينظر فإن عجل شيئًا مما عليه دفع ذلك إلى الموصي له وإن لم يعجل بل أدي المال في نجومه بطلت الوصية، ولا يجبر على تعجيله ولا يعجز إذا لم يعجله. مسألة: قال: «ولو كانت الكتابة فاسدة بطلت الوصية» أراد بهذا الوصية بالنجوم والكتابة فاسدة لا تصح لأنه لا يملك بالكتابة الفاسدة المال في ذمته، وقال أبو إسحاق: إلا أن يقول: ما قبضت من نجومه الفاسدة فقد أوصيت به لفلان فتكون هذه وصية صحيحة كما قلنا في الوصية بملك غيره إذا أضافه إلى ملكه ويحكي هذا عن الشافعي رضي الله عنه، وقال الداركي: لا أعرف لهذا وجهًا، وقال بعض أصحابنا: أراد به إذا قبضته وعتق بالصفة وما أخذ مثل قيمته، أو أقل فقد ملكه فتصح الوصية به. مسألة: قال: «ولو أوصي برقبته وكتابته فاسدة ففيها قولان». إعلم أنه إذا كاتب عبده كتابة فاسدة ثم أوصي برقبته فيه قولان منصوصان في «المختصر» أحدهما: تصح لأن ملكه لم يزل عن رقبته، والثاني: لا يصح قال المزني: الأشبه بقوله أن يصح لما ذكرنا من العلة، وقال أبو إسحق: يحتمل أن يكون القولان إذا لم يعلم بفساد الكتاة فأما إذا علم بفسادها صحت الوصية قولًا واحدًا، وهكذا إذا باعه بيعًا فاسدًا ثم أوصي به فإن لم يعلم بفساد البيع هل تصح الوصية قولان، وإن علم بفساده صحت الوصية [158/ ب] قولًا واحدًا، قال: ويحتمل أن تكون المسألة على قولين سواء على السدي أن الكتابة فاسدة، أو لم يعلم لأن الكتابة الفاسدة كالصحيحة في وقوع العتق بالأداء ويخالف هذا إذا باع بيعًا فاسدًا ثم أوصي به، وهو يعلم أنه

فاسد صحت الوصية قولًا واحدًا لأن البيع الفاسد ليس كالصحيح. والصحيح الطريقة الأولى، لأن الشافعي نص في «الأم»، فقال: فيه قولان: أحدهما: الوصية باطلة إلا أن يقول: ليس بمكاتب لأن كتابته فاسدة، فأما إذا أوصي به وهو يراه مكاتبًا، فالوصية باطلة لأنه أوصي به وهو يراه لغيره. والثاني: جائزة في الوجهين جميعًا لأنه ليس بمكاتب ولا خارج عن ملكه بالبيع الفاسد فقد صرح الشافعي بأن القولين إذا لم يعلم بفساده ونص أيضًا على أنه إذا أوصي بشيء وهو لا يعلم أنه مالكه ثم علم أنه كان قد ورثه فيه قولان، وهو أيضًا نص صريح على مثل ما ذكرنا. وأما إذا باع شيئًا وعنده أنه لغيره فإذا هو قد ورثه ولم يعلم نص الشافعي على بطلان البيع، قال أصحابنا: وفيه قول آخر يصح البيع لأنه صادف ملكه، ولعلهم أخذوا هذا القول من الوصية ومن أصحابنا من قال: البيع لا يصح قولًا واحدًا بخلاف الوصية لأنها مبنية على الحظر بخلاف البيع. مسألة: قال: «ولو قال: ضعوا عن مكاتبي أكثر ما بقي عليه وبمثل نصفه». الفصل ذكر الشافعي في هذا الفصل ثلاث مسائل ترك المزني الأولى منها لسهولتها ونقل [159/ أ] الثانية والثالثة والأولى هي أصل للثانية وصورة الأولى أن يوصي رجل، فيقول: ضعوا عن مكاتبي أكثر ما بقي عليه من مال الكتابة فقد أوصي أن يوضع عنه نصف ما بقي عليه وزيادة لأن أكثر الشيء ما زاد على نصفه فيضع عنه الورثة نصف ما بقي عليه وزيادة ما شاؤوا من غير تحديد بمقدار. والثانية التي نقلها المزني وصورتها أن يقول: ضعوا عنه أكثر ما بقي عليه من مال الكتابة ومثل نصفه فقد أوصي بأن يوضع عنه ثلاثة أرباع مال الكتابة وزيادة شيء لأن أكثر ما بقي هو النصف وزيادة عليه ونصف ذلك يكون الربع وزيادة شيء، فإذا كان ألف درهم فأكثر ما عليه خمس مائة درهم وزيادة، وإن قلت: فيوضع عنه خمس مائة درهم إن شاء الورثة أن يكون الزيادة درهمًا ويوضع عنه مائتان وخمسون ونصف درهم، وهو النصف. جملة الموضوع عنه سبع مائة وخمسون ودرهم ونصف درهم، والباقي عليه. ولو زاد على ثلاثة أرباع المال درهمًا كفي ولا يلزمه مثل نصف ذلك الدرهم وصار كأن الزيادة على النصف كانت بثلثي درهم والزيادة الثانية بثلث درهم. والثالثة، أن يقول: ضعوا عنه أكثر ما بقي عليه ومثله فقد أوصي بأن يوضع عنه زيادة على مال الكتابة لأن أكثر ما بقي هو النصف وزيادة ومثل ذلك يكون نصفًا وزيادة، فيكون الجميع أكثر من مال الكتابة فتصح الوصية بمال الكتابة وتبطل في

الزيادة لأنها وصية بمال لا يملك ولا يمكن أن يوضع إلا ما عليه [159/ ب]. مسألة: قال: «ولو قال: ضعوا عنه ما شاء». الفصل نقل المزني: أنه لا يجوز أن يشاء جميع ما عليه بل يحتاج أن يبقي منه جزءًا، وإن قل، ونقل الربيع عن «الأم»: أنه إذا قال: ضعوا عنه من كتابته ما شاء فشاء كلها لم يوضع عنه حتى يبقي منها شيئًا، فقيد بقوله من كتابته، واختلف أصحابنا في هذا فمنهم من قال: الصحيح ما نقله الربيع، وإنما يوضع البعض إذا قال: ضعوا عنه من كتابته شيئًا لأن «من» تقتضي التبعيض، فأما ما نقله المزني، وهو إذا قال: ضعوا عن مكاتبي ما شاء، فإذا شاء الكل وضع عنه لأنه علق ذلك بمشيئته مطلقًا، وقال أبو إسحاق: الكلامان معًا صحيحان، أما ما نقله الربيع فصحيح على ما ذكرنا، وأما ما نقله المزني فله وجه صحيح، وذلك لأنه لو أراد وضع جميع مال الكتابة لقال: ضعوا عنه جميع مال الكتابة فلما قال: ضعوا عنه ما شاء كان معناه ما شاء من كتابته فحمل على ذلك، وقيل: معناه في التقدير: ضعوا عنه ما شاء مما عليه، أو من مال الكتابة، فإن لا يصح إلا هكذا فكأن كلمة «من» مضمرة فيه، وهكذا قال القاضي الطبري، وقال صاحب «الإفصاح» إذا قال: من مال كتابته فهو كما قال في «الأم»: وإذا لم يقل ذلك، وأطلق كما نقل المزني: فيه وجهان، وقال القفال: غلط المزني وترك كلمة «من» ولا بد من ذلك ليصح ما ذكر من الجواب. فرع قال في «الأم»: ولو قال: ضعوا عنمكاتبي بعض كتابته أو بعض ما عليه وضعوا عنه ما شؤوا من كتابته، وإن قل وإذا وضعوا قدرًا، وإن كثر [160/ أ] يكون ذلك بوصيته ولا يقال: الزيادة على الواجب تبرع من جهة الوارث لأن لفظ الموصي يحتمل ذلك ولهم أن يضعوا ذلك عنه من آخر نجومه، أو أولها كما يوصي لرجل بدين عليه من دين حال، أو بأجل وضعوا عنه إن شاء من الحال وإن شاء من المؤجل. فرع آخر ولو قال: ضعوا عنه نجمًا من نجومه، أو بعض نجومه لم يكن لهم أن يضعوا عنه نجمًا، ولهم أن يضعوا عنه أي نجم شاؤوا. فرع آخر قال: ولو قال: ضعوا عنه ما يخف من كتابته، أو ضعوا عنه ما يثقل عليه من كتابته، أو ضعوا عنه جزءًا من كتابته، أو ضعوا عنه كثيرًا من كتابته، أو قليلًا من كتابته، أو ذا بالٍ من كتابته، أو غير ذي بالٍ كان إليهم أن يضعوا عنه ما شاؤوا لأن

القليل يخفف عنه من كتابته، ويثقل عليه مع غيره في كتابته ويكون كثيرًا وقليلًا. فرع آخر قال: ولو أوصي له بنجم من كتابته وكانت نجومه مختلفة كان ذلك إلى الورثة يعطونه أي نجم شاؤوا متقدمًا، أو متأخرًا أقل النجوم مالًا أو أكثرها، ولو قال: ضعوا عنه أكبر نجومه أو أكثر نجومه وضع عنه أكثرها مقدارًا لأن الأكبر لا يعبر عنه عن طول الأجل لأنه لا يقال: أجل كبير وصغير، وإنما يقال: أجل طويل وقصير. فرع آخر قال: ولو قال: ضعوا عنه أوسط نجومه، فإن كانت ثلاثة وكانت متفقة الآجال والمقدار وضع الثاني، وإن كانت أربعة كانوا بالخيار بين أن يضعوا الثاني أو الثالث لأن له أوسطين، وإن كانت خمسة وضعوا الثالث، وإن كانت مختلفة في [160/ ب] الآجال والمقدار مثل أن يكون أحدهما مائة والآخر مائتين والآخر ثلاثمائة ويكون أحدها إلى شهر والآخر إلى شهرين والآخر إلى ثلاثة أشهر، كانوا بالخيار بين أن يضعوا الأوسط من الآجال والمقدار والعدد. فرع آخر لو قال المكاتب: أراد السيد في المقدار، وقال الورثة بل أراد في العدد، فالقول قول الورثة أنهم لا يعلمون ما أراد والخيار إليهم وعليهم اليمين، وهكذا الحكم إذا قال: ضعوا عنه نجمًا من أوسط نجومه ولا فرق بين العبارتين. فرع آخر قال: ولو قال لمكاتبه: إذا عجزت بعد موتي فأنت حر عتق بعجزه بعد الموت لأنه لا يمتنع أن يكون الموت صفة في وقوع العتق كالتدبير، قال أصحابنا: ويصح مثله في قول السيد لعبده: إذا دخلت بعد موتي الدار فأنت حر أن يعتق بموت السيد بدخولها لأن الصفة المطلقة تقتضي حال الحياة، وإذا قيدها بما بعد الموت تعلقت به، وقال صاحب «الحاوي»: وفي هذا نظر عندي، وفرق بينه وبين مسألة المكاتب لأن العبد موروث فجاز أن يعتق المكاتب بالعجز لبقائه على حكم ملك السيد، ولم يعتق العبد بدخول الدار لخروجه عن ملك السيد. فرع آخر قال: لو ادعي العجز في هذه المسألة فإن كان قبل حلول النجم لم يعتق لأن العجز وقت الاستحقاق، وإن ادعي بعد حلول النجم أنه عاجز اعتبر ما بيده فإن كان معه مال النجم لم يعتق لأنه ليس بعاجز وإن جاز أن يعجز نفسه لأنه على عتقه بالعجز لا

بالتعجيز، وإن لم يكن بيده مال، فالظاهر عجزه، [161/ أ] فيكون القول قوله مع يمينه في التعجيز إن كذبته الورثة لأنه أمر يتعلق به، فالمرجع إليه، فإذا حلف عتق ولو عجز عن آخر النجوم، وقدر على الأول، والثاني: كان عجزًا يعتق به. فرع آخر لو كاتب عبدًا غائبًا وعبدًا حاضرًا فقبل الحاضر لنفسه وعن الغائب لم يجز، وقال أبو حنيفة: يجوز وهذا لا يصح لأنه لم يأذن له الغائب بذلك فلا يصح. فرع آخر لو كاتبه على زقاق خمر فلو عجل دفعها إلى السيد قبل حلول النجم، قال بعض أصحابنا فيه وجهان، وإلا ظهر أنه لا يعتق لأن في الكتابة الفاسدة يعتق بالصفة والصفة عند حلول النجم. فرع آخر لو قال: إن شفي الله مريضي فعبدي مكاتب لا يكون شيئًا إلا أن يقول: كاتب عبدي. فرع آخر لو خلف لا يبيع عبده فكاتبه لا يحنث لأنه لا يسمي بيعًا في العرف وقيل: فيه وجه آخر يحنث لأنه بيع رقبته منه في الحقيقة. فرع آخر إذا كاتب عبده المرهون لا يجوز وكذلك إذا كاتب عبده المؤجر لا يجوز لأن الرهن يقتضي البيع والكتابة تمنع البيع والكتابة تقتضي التمكين من التصرف، والإجارة تمنع ذلك. فرع آخر قال بعض أصحابنا: يجوز كتابة أم الولد والمدبر لأنه عتق بصفة يجوز أن يتقدم الموت فجاز في المدبر وأم الولد بالعتق المعلق بدخول الدار، وقال ابن أبي أحمد في «التخليص»: أم الولد في جميع أحكامه كالأمة إلا في أربع مسائل، لا يجوز بيعها ورهناها وهبتها وكتابتها، ولا يجري فيها الوصايا [161/ ب] أو المواريث، قاله في البيع نصًا وقلته في الباقي تخريجًا، وقال القاضي الطبري: قال في «الأم»: ولا تخالف أم الولد المملوكة في شيء إلا أنه لا يجوز لسيدها بيعها ولا إخراجها من ملكه بشيء غير العتق، وهذا يدل على أنه يجوز له أن يكاتبها، قال: ومن أصحابنا من خرج في جواز كتابتها وجهًا آخر أنه يجوز ولأن الشافعي نص أن المكاتبة إذا حبلت من سيدها لم تبطل الكتابة، وقال الداركي: فيه وجهان، وهذا كله تخليط، والفرق بين استدامة الكتابة وابتدائها أن الاستدامة أقوى من الابتداء، وقد أجمع أصحابنا على أن الإحبال يمنع ابتداء الرهن ولا يمنع من استدامته في أحد القولين، ولا يجوز كتابة أم الولد على ما أِار إليه في «الأم»، وهذا أصح عندي لأن الكتابة اعتياض عن رقبتها، ولا يجوز ذلك كالبيع والمشهور عند أصحابنا بخراسان جواز

كتابتها وكذلك عند أكثر أصحابنا بالعراق والتحقيق ما ذكرنا والله أعلم. فرع آخر ذكره والدي رحمه الله إذا أدي الكاتب المعيب إلى سيده ولم يبق عليه شيء فقبل معرفة السيد بالعيب شهد المكاتب عند الحاكم هل تقبل شهادته؟ يحتمل وجهين، فإذا لم يقبلها وردها فعاد بعد الرضا بالعيب، وأعاد الشهادة هل يقبل هذا المعاد أم لا؟ يحتمل وجهين. فرع آخر إذا قال لعبده: أت حر مثل هذا العبد، وأشار إلى عبد آخر يحتمل أن لا تقع الحرية لأن حرية البدن غير الحرية في المشتبه به، فيعلم أن القصد به حرية الخلق وهذا يشبه ما يقول: إذا قال: أنت أزني من فلان لم يكن قاذفًا [162/ أ] إلا أن يقول: فلان زان، وأنت أزني منه. فرع آخر لو قال لعبده: أنت حر مثل هذا وأشار إلى عبد، ولم يقل: هذا العبد احتمل أن يعتقا والأصح أنهما لا يعتقان لأن عتق المشبه به لم يثبت حتى يعتق هذا بتمثيله به، وهو قياس ما ذكرنا في القدف سواء. فرع آخر إذا قال: فلان أخي ثم [قال:] أردت به الإخوة من الرضاع يجب أن يقبل لأن اللفظ وإن كان محتملًا فالأظهر من محتمليه هو الإخوة من جهة النسب ولا يقبل قول أحد فيما يخالف ظاهر كلامه، ولهذا لما ذكر الله تعالى المحرمات في القرآن قيد الأمهات والأخوات بالرضاع لما قصد ذكرهن ولم يقيد أمهات النسب وأخواته بذكر النسب، ولهذا نقول: لو قال أردت به الإخوة بالإسلام لم يقبل، وإن كان الله تعالى قد قال: {إنَّمَا المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، ويحتمل أن يقبل ذلك عندي لأن الناس يسمونه أخًا مطلقًا في بعض البلاد. فرع آخر إذا أوقع العتق على بعض مملوكه سرى إلى الباقي إذا كان قابلًا للعتق إلا في مسألة ذكرها بعض أصحابنا، وهي: إذا وكل آخر بأني يعتق عبده كله فأعتق الوكيل نصفه، ففي وقوع العتق على النصف وجهان: أحدهما، لا يقع، والثاني، يقع وبه، قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد. والثاني: لا يعتق إلا النصف ويبقي نصفه لإعتقا المالك، وبه قال أبو حنيفة إلا أنه قد يستسعي في الباقي، وهذا الوجه ضعيف على أصلنا لأن إعتاق الوكيل عنه كإعتاقه بنفسه فلما امتنع التبعيض هناك كذلك ههنا. فرع آخر إذا قال لآخر: [162/ ب] أنت تعلم أن العبد الذي في يدي حر حكم بحريته، ولو

باب عتق أمهات الأولاد

قال: أنت تظن أنه حر لم يحكم بحريته، والفرق أن في الأول لو لم يقل بالحرية أدي إلى أن لا يكون المقول عالم بحريته، والسيد معترف بعلمه بذلك، فأوقعنا الحرية ليتحقق هذا المعني، وفي المسألة الثانية إذا لم يوقع الحرية لم يخرج المقول له من أن يكون ظانًا لجواز أن يظن الإنسان الشيء على خلاف ما هو به ومثل هذا في العلم لا يصح. فرع آخر إذا قال لآخر: أنت ترى أن العبد الذي في يدي حر احتمل أن لا تقع الحرية ويحتمل أن تقع الحرية ويحتمل الرؤية ههنا علم العلم كما قال الشافعي رضي الله عنه إذا قال لامرأته: إن رأيت الهلال فأنت طالق حنث إذا رآه غيره وتحمل الرؤية على العلم. فرع آخر رجل ضرب عبد غيره، فقال صاحب العبد للضارب معاتبًا له على الضرب عبد غيرك حر مثلك هل تقع الحرية بهذا القول؟. قال والدي رحمه الله: عندي أنه لا تقع الحرية لأنه لم يعين عبده. واللفظ محمول على عبد واحد من عبيد الدنيا كبير عنه مع أنه اعتراف بالحرية وهو مناقض لأنه وصفه بكونه عبدًا حرًا، فهو كما لو قال: عبدي لفلان لا يكون إقرارًا لما فيه من التناقض. فرع آخر قال بعض أصحابنا بخراسان: إذا أوصي لعبده بثلث ماله فيه ثلاثة أوجه أحدها: بطلت الوصية، والثاني: تصح بثلث نفسه فقط، والثالث: تصح بجميع ثلثه ويقدم نفسه عليه [163/ أ]. باب عتق أمهات الأولاد مسألة: قال: وإذا وطئ أمته فولدت ما تبين أنه من خلق الآدميين». الفصل اعلم أنه إذا وطئ أمته فولدت ولدًا منه، فالولد حر لأنها علقت في ملكه وتسري حرمة الحرية إلى الأم، فتصير أم ولدٍ له لا يجوز بيعها ولا هبتها ولا التصرف فيها بشيء من أنواع التصرفات، ولكن يجوز التصرف في منافعها بالوطئ والاستخدام، فإذا مات السيد عتقت بموته وبه قال عمر وعثمان وعائشة رضي الله عنهم، وسعيد بن المسيب والحسن ومالك وأهل المدينة والأوزاعي وأهل الشام والليث بن سعد وأهل مصر وأحمد وإسحاق وكافة أهل العلم. وروي عن جابر وعبد الله بن الزبير، وبه قال داود والشيعة يجوز بيع أم الولد، وروي الحجازيون عن علي رضي الله عنه أنه حرم بيعها، وروي العراقيون عنه جوازه، وروي الشيعة عن ابن سيرين عن علي رضي الله عنه، أنه قال: اضوا في أمهات

الأولاد بما كنتم تقضون فإني أكره أن أخالف أصحابي يعني أبا بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم وروي عن عبيدة قال: بعث إلى علي رضي الله عنه وإلى شريح أن اقضوا ما كنتم تقضون في أمهات الأولاد فإني أكره الاختلاف. وروي عن عبيدة السلماني أنه قال: سمعت عليًا رضي الله عنه يخطب، فقال: إن عمر شاورني في أمهات الأولاد فاجتمع رأيي ورأيه أن يعتقن فقضي عمر بذلك، [163/ ب] ثم ولي عثمان فقضي بذلك حياته ثم وليت فرأيت أن أرقهن، فقال له عبيدة: رأيي عدلين في جماعة أحب إلى من رأي عدل. وفي رواية عن علي رضي الله عنه، قال: اجتمع رأيي ورأيي عمر على أن لا تباع أمهات الأولاد، وأنا أرى الآن أن يبعن، فقال له عبيدة السلماني: رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك في الفرقة فمن أصحابنا من قال: رجع عن ذلك ومنهم من قال: لم يرجع عن ذلك ولكن العصر الثاني: أجمعوا على أنها لا تباع ويرتفع الخلاف السابق في أحد القولين. وروي عبد الله بن قارب الثقفي أنه اشتري رجل جارية بأربعة آلاف كانت قد أسقطت من مولاها سقطًا، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه، فأتاه بالدرة ضربًا وقال: بعدما اختلطت لحومكن بلحومهن ودماؤكم بدمائهن بعتموهن وأكلتم أثمانهن لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم أن يأكلوها فباعوها وأكلوا أثمانها، وعن ابن عباس رضي الله عنهما روايتان: إحداهما، أنه قال: هي كشاتك أو بعيرك، والثانية، أنه قال: تجعل في سهم الولد وتعتق عليه، وروي عن سلامة بنت مغفل، فقالت: كنت للخباب بن عمرو فمات ولي منه غلام فقالت امرأته: الآن تباعين في دينه فأتيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فذكرت ذلك له، فقال - صلى الله عليه وسلم -: طمن صاحب تركة الخباب»، فقالوا: أخوه أبو اليسر كعب بن عمرو فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: «لا تبيعوها وأعتقوها، فإذا سمعتم برقيق قد جاءني فأتوني أعوضكم عنها»، ففعلوا فاختلفوا فيما بينهم بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقال بعضهم: بل هي حرة أعتقها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ففي ذا كان الاختلاف. وروي فرفع خوات إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله: «لا تباع وأمر بها فأعتقت». وروي عن قتادة أنه قال: إن عمرَ وعُمر يعني عمرَ بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز أعتقا أمهات الأولاد ومن بينهما من الخلفاء. واحتجوا بما روي عن جابر رضي الله عنه، قال: كنا نبيع أمهات أولادنا ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرنا إلى أن نهانا عنه عمر رضي الله عنه فانتهينا. وروي عن جابر وأبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أنهما قالا: كنا نبيع أمهات

الأولاد على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ودليلنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال عند موته: «ما أخلف دينارًا ولا درهمًا، ولا عبدًا ولا أمة»، قالت عائشة رضي الله عنها، فمارية، فقال: «تلك أعتقها ولدها». وقال الوليد بن عبد الرحمن عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى علي رضي الله عنه أن أم إبراهيم حرة، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم -، قال لأم إبراهيم حين ولدت: «أعتقها ولدها». وروي ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أيما أمة ولدت من سيدها فهي حرة»، وروي: «فهي معتقة من دبر منه»، وروي ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «أم الولد لا يبعن ولا يوهبن [164/ ب] ولا يورثن، ويستمتع بها سيدها ما بدا له فإذا مات فهي حرة». وقال الإمام أحمد البيهقي: هذا رواه ابن عمر عن عمر وغلط من رفعه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وروي ابن عباس رضي الله عنه، قال: أعتق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمهات الأولاد، وقال: «لا يبعن في دين، ولا يجعلن في وصية». وأما خبرهن فليس فيه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم ذلك فأقرهم عليه، ويحتمل أنه نهي عنه بعد ذلك ولم يبلغها النهي ويبلغ عمر ومن تابعه، فأجمعوا على تحريم بيعهن. وقال الإمام أحمد البيهقي أقوى شيء فيه إجماع الخلفاء، أو نحمله على الاستلاد برفع النكاح. ورفع إلى شريح رجل تزوج أمة فولدت له أولادًا ثم اشتراها فرفعهم شريح إلى عبيدة، فقال عبيدة: إنما تعتق أم الولد إذا ولدت أحرارًا، فإذا ولدتهم مملوكين، فإنها لا تعتق وبهذا أجاب الشافعي، وقال: لأن الرق جري على ولدها لغيره. فإذا تقرر هذا نقول: قال الشافعي رضي الله عنه: ولا تخالف أم الولد المملوكة في شيء إلا أنها لا تخرج من ملكه في دين ولا غيره. وهي في ثلاثة أحكام كالحرة في البيع والرهو والهبة، وفي الكتابة خلاف ما ذكرنا وهي في ستة أشياء، كالأمة في ملك أكسابها ونفقتها ووطئها وفي العدة وشهادتها والجناية عليها، وتخالف الحرة في جنايتها خطأ فإن أرشها على السيد وفي تزويجها اختلاف على ما ذكرنا في كتاب النكاح. وإذا تقرر هذا ففيه مسائل، أحدها: أن تعلق بولد حر في ملكه فتصير أم ولد بلا

خلاف [165/ أ] إلا في مسألة واحدة وهي الراهن إذا أحبل جاريته المرهونة، فإنها لا تصير أم ولده في أحد الأقوال على ما ذكرنا في كتاب الرهن. والثانية: أن تعلق بولد مملوك في غير ملك بأن يتزوج أمة فأحبلها فأتت بولد يكون مملوكًا، فلا يثبت للأم حكم الاستيلاد بحال خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله إلا في مسألة واحدة، وهي المكاتب يستولد أمته يثبت له حكم الاستيلاد في أحد القولين، وإن كان الولد مملوكًا، والفرق أنه قد ثبت لهذا الولد حكم الحرية، فإنه مكتب على ولده وإن كان مملوكًا في الحال، وفي الولد الحاصل من النكاح لم يثبت حكم الحرية أصلًا، فلا يثبت لأمه حكم الاستيلاد كما لو استولدها بالزنا. والثالثة: أن تعلق بحر في غير ملكه فهل تصير أم ولده فيه قولان ذكرناهما في مواضع. فإذا تقرر هذا ينظر فإن أتت بولدٍ تام الخلقة، إما حيًا وإما ميتًأ تعلق بولادته أربعة أحكام، وهي أن تصير أم ولده وتجب فيه الغرة بالجناية، إن كان حرًا أو عشر قيمة أم إن كان مملوكًا وتجب فيه الكفارة وتنقضي به العدة. وإن أتت بولد ظهر فيه شيء من خلقه الآدمي، إما يد أو رجل أو ظفر ونحو ذلك يتعلق به هذه الأحكام أيضًا، وإن وضعت جسدًا ليس فيه تخليط، وقال القوابل: إن فيه تخليطًا باطنًا تتعلق به هذه الأحكام أيضًا لأن المرجع فيه [165/ ب] إلى القوابل اللاتي هن أهل المعرفة بذاك وقد شهدت بأنه ولد. وإن وضعت جسدًا ليس فيه تخطيط ظاهر ولا باطن، ولكن قالت القوابل: بل هذا مبدأ خلق الآدمي ولو بقي لتخلق وتصور كانت به أم ولد أيضًا، فإن شككن فيه لم تكن به أم ولد، هذا هو الطريق الصحيح، وهو الذي نص عليه الشافعي، ونقله القاضي أبو حامد ذكره القاضي الطبري، وقال أبو إسحاق: لا تصير بهذا أم ولد قولًا واحدًا، قال أبو حامد وهو ظاهر ما نص ههنا لأنه شرط أن يتبين فيه من خلقه الآدمي، وهذا أصح عندي لأنه لا يسمي ولدًا فلا تصير به أم ولد؟، ومن أصحابنا من قال: فيه قولان، ونص الشافعي في العدة، على أن العدة تنقضي به، وقد شرحنا هذا في الكتاب العدة وذكرنا ما قيل فيه من الطرق. فرع لو نظر إليه من الرجال من له بصيرة وعلم ذلك قبلنا فيه قول رجلين وإنما نص الشافعي على النساء لأن الرجال قلما يعلمون ذلك وليس ذلك تحتم ولكن هو الأولى والعدالة شرط في النساء وفي الرجال الذين رجعنا إلى قولهم. مسألة: قال: «فإذا مات عتقت من رأس المال». إذا مات سيد أم الولد، فإنها تعتق بموته من رأس المال بدليل ما روي أن مارية القبطية

لما أتت بإبراهيم ابن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال - صلى الله عليه وسلم -: [166/ أ] «أعتقها ولدها» أي أثبت لها حرمة الحرية وحقها ولم يرد به أنها عتقت في الحقيقة، ولا فرق بين أن يحبلها في الصحة أو في المرض لأنها بمنزلة ما يستمتع به من المأكول والطيب واللباس ونحو ذلك ولا فرق بين المديون وغيره لأن الاستيلاد لما تحقق صار كالاستهلاك بخلاف التدبير، ولهذا جاز بيع المدبر دون أم الولد، وقد روي أن عكرمة سئل عن أمهات الأولاد فقال: هن أحرار، قيل له: بأي شيء تقوله، قال: بالقرآن، قالوا: بماذا قال: قال الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء: 59]، وكان عمر رضي الله عنه من أولى الأمر، قال: أعتقت وإن كان سقطًا وروي عنه أنه قال: «أعتقها ولدها وإن كان سقطًا». مسألة: قال: «وولد أم الوليد بمنزلتها». أم الولد إذا أتت بولد لا يخلو، إما أن تأتي به من سيدها أو من غيره، فإن كان من سيدها، فهو حر لأن الأول أتت به وهي مملوكة، وكان حرًا فهذا الولد الثاني وقد ثبت لها حق الحرية أولى أن يكون حرًا ولا يثبت الولاء على هذا الولد والاعتبار بالأم في رق الولد وحريته إلا في الاستيلاد فإن الولد في الحرية تبع الأب لا تبع الأم، وإن أتت به من غيره، إما من زوج أو من زنا. وقول الشافعي من حلال أراد به من زوج فإنه يثبت له الحرية مثل ما يثبت لها وتعلق عتقه بموت السيد، فلا يجوز له التصرف فيه [166/ ب] بما لا يجوز في الأم لأن الولد تبع للأم في الرق والحرية وفي سبب الحرية إذا كان مستقرًا، ثم ينظر فإن مات السيد عتقت الأم والولد بموته، وإن ماتت الأم قبل موت السيد، فقد بطل حكم الحرية فيها، وبقي ذلك الحكم في الولد، فإذا مات السيد عتق بموته من رأس المال لأن الحكم ثبت له ثبوتًا مستقرًا فلم يبطل بموت الأم. ولأن عتقه غير موقوف على عتق أمه ولكن يوقف عتقه وعتق أمه على موت السيد، فإذا مات السيد بقي من بقي من الولد كجماعة من المماليك تعلق عتقهم بوصف، فمات بعضهم ثم وجد الوصف وبهذا يخالف ولد المكاتب إذا عجزت نفسها وفسخت الكتابة، فإن ولدها يرق لأن أداء المال يسقط بفسخ الكتابة، وذلك العتق معلق بصفة أداء المال، فإذا سقطت الصفة سقط العتق في الأم والولد جميعًا، وقد روي عن ابن عمر رضي اله عنهما أنه قال: إذا ولدت الأمة من سيدها فنكحت بعد ذلك فولدت أولادًا كان ولدها بمنزلتها عبيدًا ما عاش، فإن مات فهم أحرار. مسألة: قال: «ولو اشترى امرأته وهي أمة حامل منه، ثم وضعت عنده عتق ولدها منه». الفصل إذا اشترى زوجته وهي حامل فولدت عنده، فإن الولد يكون لسيد الأمة، وقد ملك

ولده فعتق بالملك ولم يرد به الشافعي أنه يعتق يوم الوضع بل حكمنا بعتقه من بطنها يوم اشتراها حاملًا، وإنما هو توسع في العبارة ويثبت عليه الولاء. وإن ولدت ثم اشتراها وولدها فأولى أن يعتق الولد، [167/ أ] وأمان الأم، فلا تصير أم ولد له أبدًا حتى تحمل منه وهي في ملكه وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: تصير أم ولد له لأنها علقت بولد ثابت النسب منه، قوال مالك: إن اشتراها وهي حامل، فولدت عنده في ملكه تصير أم ولد له، وإن اشتراها بعد أن ولدت لا تصير أم ولد له. ودليلنا: أنها عقلت بولدٍ مملوك، فلا تصير أم ولد له كما لو علقت بالزنا، وقد بينا أنه لو ملك ولد الزنا لا يعتق عليه خلافًا لأبي حنيفة. ثم قال الشافعي رضي الله عنه: فإن أصابها بشبهة فعلقت منه ثم ملكها لم تكن به أم ولد، وقد ذكرنا أنه أحد القولين. ولو كان بين رجلين أمة فأصابها أحدهما فعلقت قد ذكرنا فيما تقدم حكمه ونشير في هذا الموضع، فنقول: إن كان معسرًا فعليه نصف قيمة ولده ونصف مهر مثلها، وإن كان موسرًا، فعليه نصف قيمتها لشريكه وكلها أم ولد له، وفي نصف قيمة الولد قولان، قال القاضي أبو حامد: لا يلزمه في أولاهما لأنه أتلف حق شريكه منها بالعلوق قبل أن يكون للجنين قيمة، وهذه العلة لا تصح لأنه يوجب أن لا تجب أيضًا إذا كان معسرًا لأنه أتلف حق شريكه منه بالعلوق، قبل أن يكون للجنين قيمة وقد نص على أنه يجب ذلك ولكن العلة صحيحة فيه أنا جعلناها أم ولده في الحال، فيكون الوضع في ملكه فلا تجب قيمة الولد بخلاف ما إذا كان معسرًا فإنها وضعت نصفه في ملكه ونصفه فيملك شريكه لأن نصيب شريكه لم يصر أم ولد له. ثم قال: «وللمكاتب أن يبيع أم ولده»، وقد ذكرنا حكمه وعند أحمد لا يبيعها، وقال ابن أبي أحمد: [167/ ب] لا تباع أم الولد إلا في ثلاث مسائل، إحداها: هذه، والثانية: أن يطأها فأولدها وهي مرهونة، والثالثة: إذا أحبلها بعد ما حنث وقد شرحناها فيما تقدم. مسألة: قال: «ولو أوصي رجل لأم ولده أو لمدبره». الفصل أما أم الولد، فالوصية لها تصح لأن الوصية تلزم بعد الموت وهي حرة في تلك الحالة فيصح أن تملك بالوصية، وأما المدبر والمدبرة، فالوصية لهما تصح أيضًا لأنهما يعتقان بموته، ولكن أم الولد تعتق بموت السيد من رأس المال ويعتبر خروج ما أوصي لها من الثلث، فإن احتمل جميعه نفذت الوصية فيه، وإن لم يحتمل نفذ في القدر الذي يحتمله الثلث، وأما المدبر والمدبرة فيعتبر قيمتهما، وفيه ما أوصي لهما به من الثلث،

فإن احتمل جميع ذلك نفذت الوصية، وإن لم يحتمل بديء باعتبار قيمة المدبر فإن خرجت من الثلث نظر حينئذ فيما أوصي به فإن بقي من الثلث شيء نفذ بقدره، وإن لم يبق شيء من الثلث بطلت الوصية، وإن لم يكن يحتمل الثلث جميع قيمة المدبر عتق منه بقدر ما يحتمله الثلث وبطلت الوصية له. مسألة قال: «ولو جنت أم الولد». الفضل إذا جنت أم الولد فالأرش يتعلق برقبتها وعلى السيد أن يفديها لأنه منع بيها بإحبالها، ولم يبلغ بها حالة يتعلق الأرض بذمتها ويفارق هذا إذا كان له عبد، أعتقه ثم جني تعلق الأرض بذمته فيها. فإذا تقرر هذا يضمن الأقل من قيمتها أو الأرش بخلاف العبد القن في احد القولين، فإنه يفديه بأرش الجناية بالغًا ما بلغ [168/ أ] لأنه يمكن بيعه بخلاف أم الولدفإن فداها السيد، ثم جنت ثانيًا، فقد ذكرنا في كتاب الجنايات قولين: أحدهما، أن الثاني يشارك الأول وعلل ههنا لهذا القول بأن إسلامه قيمتها كإسلامه بدنها لو كانت أمة، قنًا: فليس عليه سوى القيمة الواحدة. ثم قال: ويدخل على هذا أن إسلامه قيمتها لو كان كإسلامه بدنها إلى الأول لزم الأول إخراج تلك القيمة بتمامها إلى الثاني إذا بلغ أرش الجناية الثانية قيمتها كما لو سلم الجارية الجانية إلى الأول فجنت في يده جناية يستغرق قيمتها وجب تسليمها إلى الثاني، والقول الأول أن السيد يغرم جنايتها، الثانية كما غرم الأول واختار المزني هذا القول، وبه قال أبو إسحاق، وقال: هذا أشبه بالحق عندي، ثم احتج المزني بحجة أخرى للشافعي، فقال: «لو كان إسلام قيمتها كإسلام بدنها لوجب أن تكون الجناية الثانية على قيمتها ولبطلت الشركة، وفي إجماعهم على إبطال ذلك إبطال هذا القول، وفي إبطاله ثبوت القول الآخر إذ لا وجه لقول ثالث، نعلمه عند جماعة العلماء ممن لا يبيع أمهات الأولاد». ثم قال: «وإذا افتكها ربها عن الجناية الأولى صارت بمعناها المتقدم لا جناية عليها ولا على سيدها، فكيف إذا جنت لا يكون عليه مثل ذلك قياسًا؟»، فالجواب: أن السيد في الجناية الأولى قد غرم جميع قميتها لمنعه إياها عن البيع بالاستيلاد، والمنع لم يتكرر من السيد بتكرر الجناية كما يتكرر في العبد القن فكذلك لا يتكرر الغرم عليه، وإنما قلنا: لا يسترجع كل القيمة [168/ ب] من الأول لأن الجناية الثانية لم تحصل في ملك الأول حتى يلزمه الفداء، أو التسليم، وإنما حصلت في ملك السيد، ولكن الجنايات سواء في حق السيد، وهو ما ذكرنا من أن المنع واحد فيها.

واحتج أيضًا بأن قال: «وقد ملك المجني عليه الأرض بحق، فكيف يجني غيره وغير ملكه وغير من هو من عاقلته فيجب عليه غرمه أو غرم شيء منه» وأراد بهذا أن المجني عليه الأول قد ملك الأرض بكماله وهو قيمة أم الولد، فإذا جنت جناية أخرى لم يجز أن يسترجع منه بعض تلك القيمة بجناية حصلت من غيره وغير ملك، وغير من هو من عاقلته ليحترز ذلك عن عبده إذا جني وعن جميعه الذي هو من عاقلته، والجواب أن نقول: نحن إذا سلمنا قيمة أم الولد إلى الأول، نقطع القول بأنها صارت مسلمة له حيث لا يسترجع منه بعضها، ولكن حكمنا له مع جواز نقص ذلك الملك، بمعني عارض في بعض تلك القيمة ألا ترى أن الورثة إذا اقتسموا الميراث حكمنا لهم بالملك؟، ثم إذا وقعت بهيمة في بئر حفرها مورثهم نقضنا ملكهم في التركة بجناية حصلت من غيرهم وغير ملكهم وغير من هو من عاقلته. مسألة: قال: «وإذا أسلمت أم ولد النصراني». الفصل إذا كان للذمي أم ولد فأسلمت لا تعتق عليه، ولا تباع ولا تستعي، ولكن يحال بينه وبينها وتجعل في يد امرأة ثقة ينفق عليها من كسبها، فإن فضل شيء من كسبها كان لسيدها، وإن عجز عن نفقتها لزم السيد تمامها، وبه قال أحمد وإسحاق وجماعة، وقال مالك تعتق بإسلامها [169/ أ] ولا شيء عليها في إحدى الروايتين، وفي الرواية الثانية عنه أنها تباع عليه، وقال أبو حنيفة رحمه الله: تستسعي في قدر قيمتها، فإذا أدي عتقت وهو رواية عن أحمد، وقال أبو يوسف ومحمد: تعتق ثم تستسعي في قيمتها، وقال الأوزاعي: يعتق نصفها، وتستسعي في النصف الباقي، ودليلنا: أنه إسلام طرأ على ملك فلا يقتضي عتقًا كالعبد القن إذا أسلم وقد دللنا على بطلان الاستسعاء. فرع قال أبو إسحاق: إذا أرادت التزويج في هذه المسألة زوجها الحاكم، وكان للسيد مهرها، وكذلك إن اختار تزويجها وكرهته هي غير أنه لا يزوجها فإنما يزوجها الحاكم، وتكون نفقتها على زوجها، وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يجوز تزويجها؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يزوجها هو ولا الحاكم لأن ولاية التزويج لا تثبت إلا مع الموالاة في الدين، وهذا أظهر وهو اختيار القفال، والثاني: يزوجها النصراني لأنه يتصرف بالملك، فلا يمنع اختلاف الدين، وما ذكرنا أصح. فرع قال أبو إسحاق: هذه الجارية ما دامت مقيمة لا تتزوج فهي أحق بحضانة الولد، فإذا تزوجت صار الأب أحق بالولد إلا أن يخاف الفتنة على دينه فيمنع من ذلك، وإذا

كان طفلًا لا يعقل فهو أحق به، قال الشافعي رضي الله عنه: فإن أسلم خلي بينهما لأن المنع إنما تعلق بكفره، فإذا أسلم زال المانع. مسألة: قال: «وإذا توفى سيد أم الولد أو أعتقها فلا عدة». لا تجب العدة عليها، ولكن يجب الاستبراء، فإن كانت [169/ ب] من ذوات الأقراء، فإنها تستبرأ بقرء واحد، وبه قال مالك وأحمد، وقال الثوري: تعتد بقرأين، وقال أبو حنيفة: تعتد بثلاثة أقراء، وقال إسحاق: يلزمها عدة الوفاة، وقد مضت هذه المسألة بشرحها في كتاب العدة وإن كانت من ذوات الشهور، ففيه قولان: أحدهما: يلزمها شهر واحد لأن كل شهر في مقابله قرء، والثاني: يلزم ثلاثة أشهر وهو الأصح لأن براءة الرحم لا تعلم بدون ذلك لأن الولد يبقي في البطن أربعين نطفة وأربعين علقة وأربعين مضغة، فيتصور بعد ثلاثة أشهر وينتفج جوفها، فيعلم أن بها حملًا، وقيل: ذلك لا يعلم واختار المزني القول الأول. مسألة: قال المزني: «وقد قطع خمسة عشر كتابًا بعتق أمهات الأولاد، ووقف في غيرها». قال أبو إسحاق: ليس للشافعي في أم الولد إلا قول واحد أنها لا تباع، والذي حكاه المزني إنما هو قول حكاه الشافعي عن غيره وليس يتوقف منه فيه ولفظه في بعض المواضع لا يجوز بيعها في قول من لا يبعها يشير بذلك إلى خلاف كان في السلف، وذلك الخلاف اليوم مهجور، والفقهاء متفقون على منع بيعها فلا يكون هذا توقفًا فغلط المزني في هذا، وقيل: معناه توقف استيضاحًا لحكم الاجتهاد، وإفساد الدعوى للإجماع ردًا على مالك رحمه الله، فإنه ادعي بالاجماع في هذه المسألة بناءً على أصله في أن الإجماع إجماع أهل المدينة فقط لأن عليًا رضي الله عنه استجد خلافه في جواز [170/ أ] بيعها بالكوفة بعد أن وافق أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بالمدينة، فلم يعتد مالك بخلافه بعد خروجه عنها، والشافعي يخالفه فيما يعتقده من الإجماع في تحريم بيعها، وفيما يراه من إجماع أهل المدينة. مسألة: قال: «وفي كتاب النكاح القديم ليس له أن يزوجها بغير إذنها». في تزويج أم الولد ثلاثة أقوال ذكرناها في كتاب النكاح، والأصح أنه يجبرها على التزويج، وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني، فإذا قلنا: بالقول القديم لا يزوجها أصلًا، فإن أذنت، قد ذكرنا عن ابن أبي إسحاق والاصطخري أنهما قالا: لا يزوجها الحاكم على هذا القول لأن الحرية إذا منعت ولاية المولى، وهو السيد فلأن تمنع ولاية الحاكم أولى، وهذا يدل على ضعف هذا القول، وأن الصحيح ما ذكرنا وإذا جوزنا تزويجها فزوجها انقطع ملك السيد عن استمتاعها ويحرم عليه وطئها، ويحل

ذلك لزوجها ويلزمه المهر، ويكون ذلك للسيد لأنه من جملة الكسب. فرع لو أراد أن يزوج ابنة أم الولد، فهي كالأم فيها ثلاثة أقوال: وإذا جوزنا تزويجها يجوز أن يتزوجها من غير استبراء بخلاف أم الولد لأنها ليست فراشًا للسيد. فرع آخر لو كان الولد غلامًا لم يكن للسيد إجباره على النكاح لأن ليس بتكسب فيجبره عليه بخلاف الأمل، وليس لهذا الغلام أن يتزوج بغير إذن السيد وفي جواز تزويجه بإذن السيد وجهان، تخريجًا من الأقوال في أمه. فرع آخر إذا وطئ أخته من الرضاعة [170/ ب] بملك اليمين يلزمه الحد في أحد القولين والتعزير في القول الآخر، والنسب يلحقه ويكون الولد حرًا، وتصير الجارية أم ولد له بكل حال، وليس على أصلنا وطئ يجب به الحد، وتصير الجارية أم ولده غير هذا الوطئ، وهكذا الكافر إذا وطئ أمته المسلمة قبل أن تباع عليه، هل يجب الحد قولان وعلى كل حال تصير الجارية أم ولده لأنها علقت بحر في ملكه كالمسلم سواء. فرع آخر أم الولد تضمن بالغصب خلافًا لأبي حنيفة وهذا على أصله أن التضمين يوجب التمليك ولا يملك أم الولد. فرع آخر قال أحمد: إذا أحبل جارية ابنه تصير أم ولده لا يلزمه قيمتها، ولا مهرها لأنه لا يضمن قيمة ولدها، وهذا لا يصح لأنه لو لم يحبلها لزمه مهرها، فكذلك إذا أحبلها، ولأنها أتلف ملك غيره فيستحيل أن لا يلزمه الضمان. فرع آخر للسيد إجارة أم الولد على ما ذكرنا وحكي عن مالك أنه ليس له إجارتها لأنه لا يبيعها، فلا يؤجرها كالمكاتبة، وهذا لا يصح لأنه يملك استخدامها فيملك إجارتها كالأمة القن سواء ويخالف المكاتبة لأنه لا يملك استخدامها، والله تعالى أعلم. تم الجزء الثامن بتقسيم المحقق ويليه إنشاء الله الجزء التاسع وأوله: كتاب النكاح

بَحْرُ المَذْهَبِ في فُروعِ المذْهَب الشّافعي تأليف القاضيُ العلاّمة فخر الإسلَام شيَخ الشّافعيّة الإمَام أبي المحاسن عَبد الواحد بن إسماعيل الرّوُيَاني المتوفي سنة 502 هـ تحقيق طَارق فَتحي السَيِّد الجُزء التاسع المحتوى: كتاب النكاح - كتاب الصداق

كتاب النكاح

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب النكاح أباح الله تعالى النكاح نصًا صريحًا في سنة نبيه صلى الله عليه وسلم وانعقد بها سالفًا إجماع الأمة وتأكد بها العترة, قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} [النساء: 1] , قوله: {مِن نَفسٍ وَاحِدَةٍ} يعنى آدم. {وَخَلَقَ مِنهَا زَوجَهَا} يعني حواء, لأنها خلقت من حي. وقيل: لأنها من ضلع أيسر. وقال الضحاك: خلقها من ضلع الخلف وهو أسفل الأضلاع, ولذلك قيل للمرأة: ضلع أعوج فلما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلقت المرأة من الرجل فهمها في الرجل, وخلق الرجل من التراب فهمه في التراب". {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [الروم: 21] فيه تأويلان: أحدهما: أنها حواء خلقها من ضلع آدم. والثاني: أن خلق سائر الأزواج من أمثالهم من الرجال والنساء ليستأنسوا إليها؛ لأنه جعل بين الزوجين من الآنسة ما لم يجعل من غيرهما. {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] فيها تأويلان: أحدهما: أنها المودة والمحبة والرحمة والشفقة قاله السدي. والثاني: أن المودة الجماع والرحمة الولد, قاله الحسن البصري, وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا} [الفرقان: 54] يعني النطفة والبشر: الإنسان, والنسب: من تناسب بوالد وولد وكل شيء أضفته إلى شيء عرفته به فهو مناسبة وفي الظهر هاهنا تأويلان: أحدهما: أنه الرضاع, قاله طاوس. والثاني: أنه المناكح وهو قول الجمهور. وأصل الظهر الاختلاط فسميت المناكح ظهرًا لاختلاط الناس بها. وقال تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] الآية,

والأيامى جمع أيم وهي التي لا زوج لها, ومنه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الأيمة يعني العزبة, وفي هذا الخطاب قولان: أحدهما: أنه خطاب للأولياء أن ينكحوا أيامًا هن من أكفائهم إذا دعون إليه. والثاني: أنه خطاب للأزواج أن يتزوجوا الأيامى عند الحاجة. وفي قوله: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] تأويلان: أحدهما: أن يكونوا فقراء إلى النكاح يغنهم الله به عن السفاح. والثاني: أن يكونوا فقراء إلى المال يغنهم الله إما بقناعة الصالحين, وإما باجتماع الرزقين إليه. روى عبد العزيز بن داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اطلبوا الغنى في هذه الآية: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 32] , قال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]. وفي هذا الشرط أربع تأويلات: أحدها: يعني إن خفتم أن لا تعدلوا في نكاح اليتامى فهكذا خافوا أن لا تعدلوا في النساء, وهذا قول سعيد بن جبير. والثاني: يعني إن خفتم ألا تعدلوا في نكاح اليتامى فانكحوا ما حل لكم من غيرهم من النساء, وهو قول عائشة رضي الله عنها. والثالث: أنهم يتوقون أموال الأيتام ولا يتوقون الزنا, فقال: كما خفتم في أموال اليتامى فخافوا الزنا وانكحوا ما حل لكم من النساء, فهذا قول مجاهد. والرابع: أن سبب نزولها أن قريشًا كانت في الجاهلية تكثر التزويج بغير عدد محصور فإذا كثر على الواحد منهم مؤن زوجاته وقل ما بيده مد يده إلى ما عنده من الأموال للأيتام, فقرر الله تعالى بهذه الآية عدد المنكوحات حتى لا يتجاوز فيحتاج إلى التعدي في أموال الأيتام, وهذا قول عكرمة. وفي قوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} قولان: أحدهما: أنه عائد إلى النكاح وتقديره: فانكحوا النساء نكاحًا طيبًا, يعني حلالاً, وهذا قول مجاهد. والثاني: أنه عائد إلى النساء وتقديره: فانكحوا من النساء ما حل وهذا قول الفراء. فهذا من كتاب الله تعالى ودال على إباحة النكاح. أما السنة فروى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج, فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج, ومن لم يستطع فعليه بالصوم, فإنه له وجاء".

وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم: "تناكحوا تكاثروا أباهي بكم الأمم حتى بالسقط". وروي عن النبي صلى الله أنه قال: "من أحب فطرتي فليستن بسنتي ألا وهي النكاح". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم [أنه] قال لعكاف بن وداعة الهلالي: أتزوجت؟ قال: لا قال: أمن إخوان الشياطين أنت, إن كنت من رهبان النصارى فألحق بهم, وإن كنت منا فمن سنتنا النكاح". وروي أن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عزموا على جب أنفسهم والتخلي لعبادة ربهم فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنادهم وقال: "لا زمام ولا خزام ولا رهبانية ولا سياحة ولا تبتل في الإسلام". أما الزمام والخزام فهو ما كان عليه بنو إسرائيل من زم الأنوف وخزم الترابي, وأما الرهبانية: فهو اجتناب النساء وترك اللحم. وأما السياحة: فهو ترك الأمصار ولزوم الصحارى. وأما التبتل: فهو الوحدة والانقطاع عن الناس, ولأن سائر الأمم عليه مجمعة والضرورة إليه داعية لما فيه من غض الطرف وتحصين الفرج وبقاء النسل وحفظ النسب. وروي عن عائشة أنها قالت: كانت مناكح الجاهلية على أربعة أضرب: نكاح الرايات, ونكاح الرهط, ونكاح الاستنجاد, ونكاح الولادة. فأما نكاح الرايات فهو أن العاهر في الجاهلية تنصب على بابها راية ليعلم المار بها عهرها فيزني بها فقد قيل في قوله تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120] تأويلين: أحدهما: أن ظاهر الإثم أولات الرايات من الزاوني وباطنه ذوات الأخدان؛ لأنهن كثر يستحللنه سرًا, وهو قول السدي والضحاك. والثاني: أن ظاهرة حظر من نكاح ذوات المحارم. وباطنه الزنا وهو قول سعيد بن جبير. وأما نكاح الرهط: فهو أن القبيلة أو القبائل كانوا يشتركون في إصابة المرأة, فإذا جاءت بولد ألحق بأشبههم به. وأما نكاح الاستنجاد فهو أن المرأة كانت إذا أرادت ولدًا نجدًا تحسبًا, بذلت نفسها لنجيب كل قبيلة وسيدها, فلا تلد إلا تحسبًا بأيهم شاءت. وأما نكاح الولادة: فهو النكاح الصحيح المقصود للتناسل الذي قال فيه رسول الله عليه وسلم: "ولدت من نكاح لا من سفاح" فإن الله تعالى لم يزل ينقل نبيه عليه السلام من

الأصلاب الذكية إلى الأرحام الطاهرة, وقد قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)} [الشعراء: 219] قال: من نبي إلى نبي حتى جعلك نبيًا, وكان نور النبوة في أيامه ظاهرة, حتى حكي أن كاهنة بمكة يقال لها: فاطمة بنت الهرم قرأت الكتب, فمر بها عبد المطلب ومعه ابنه عبد الله يريد أن يزوجه آمنه بنت وهب, فرأت نور النبوة في وجه عبد الله فقالت: هل لك أن تغشاني وتأخذ مثل الإبل فقال عبد الله: أَما الحَرَامُ فَلمَمَاتُ دُونَه وَالحلِ لا حِل فَأَستَبِينَه فَكَيفَ بِالأَمرِ الذِي تَبغِينَه يَحمِي الكَريمُ عَرضَهُ ودِينَهُ؟! فلما تزوج آمنة وحملت منه برسول الله صلى الله عليه وسلم مر في عوده بفاطمة فقال: هل لك فيما قلت: قد كان مرة فاليوم لا. فإذا سبعت فقال: زوجي أبي بآمنة بنت وهب الزهرية فقالت: قد أخذت النور الذي كان في وجهك وأنشأت تقول: إني رأيت مخيلة نشأت فتلألأت بحناتم القطر فلمحتها نور يضيء به ما حوله كإنارة الفجر ورأيت سقياها حبا بلد وقعت به وعمارة القفر ورأيته شرفا أبوه به ما كل قادح زنده يوري لله ما زهرية سلبت منك الذي استلبت وما تدري فرع: فأما اسم النكاح فهو حقيقة في العقد فجاز في الوطء عندنا. وقال أبو حنيفة: هو حقيقة في الوطء فجاز في العقد وتأثير هذا الخلاف أن من جعل اسم النكاح حقيقة الوطء حرم بوطء الزنا ما حرم بالنكاح ومن جعله حقيقة في العقد لم يحرم بوطء الزنا ما حرم بالنكاح على ما سيأتي شرحه ودليله ولكن من الدليل على حقيقة في العقد أن كل موضع ذكر الله تعالى النكاح في كتابه فإنما أراد به العقد دون الوطء, ولأن التزويج لما كان بالإجماع اسمًا للعقد حقيقة كان النكاح بمثابة لاشتراكهما في المعنى ولأن استعمال النكاح في العقد أكثر وهو به أخص وأشهر وهو في أشعار العرب أظهر قال الشاعر: بَنُو دارم أكفَاؤُهُم آل مَسمَعِ وَتُنكَحُ فِي أَكفَائِهَا الخَطَباتِ

باب ما جاء في أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه

باب ما جاء في أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه مسألة: قَالَ الشَافِعِيُ رَحِمَهُ اللهُ: "إِن اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَما خَص بِهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مِن وَحي وَأَبَانَ بَينَهُ وَبَينَ خَلقِهِ بِمَا فَرَضَ عَلَيهِمِ مِن طَاعَتِهِ افتَرَضَ عَلَيهِ أَشيَاءَ خَففَهَا عَن خَلقِهِ لِيَزِيدَهُ بِهَا إِن شَاءَ اللهُ قُربَةً وَأَبَاحَ لَهُ أَشياءَ حَظَرَهَا عَلَى خَلقِهِ زِيَادَةً فِي كَرَامتِهِ وَتَبيِينًا لِفَضِيلَتِهِ". قال في الحاوي: وهذا فصل نقله المزني مع بقية الباب من "أحكام القرآن" للشافعي فأنكر بعض المعترضين عليه إيراد ذلك في مختصره لسقوط التكليف عنا فيما خص به الرسول من تخفيف, ولوفاة زوجاته المخصوصات بالأحكام, فلم يكن فيه إلا التشاغل بما لا يلزم, فصوب أصحابنا ما أورده المزني وردوا على هذا المعترض بما ذكروه من فرض المزني من وجهين: أحدهما: أنه قدم مناكح النبي صلى الله عليه وسلم تبركا بها والتبرك في المناكح مقصود كالتبرك فيها بالخطب. والثاني: أن سبق العلم بأن الأمة لا تساوي صلى الله عليه وسلم في مناكحته وإن ساوته في غيرها من الأحكام, حتى لا يقدم أحد على ما حظر عليه ابتداء به. فرع: فأما قول الشافعي: إن الله تعالى لما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم من وحي ففيه روايتان: إحداهما: لما خص بكسر اللام وتخفيف الميم؛ ولأخرى لما خص: بفتح اللام وتشديد الميم, فمن روى بكسر اللام وتخفيف الميم حملها على معنى الشرط وجعل "ما" بمعنى الذي واللام قبلها للإضافة, فيكون تقديره أن الله تعالى لأجل الذي خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم من وحيه, ومن روى بفتح اللام وتشديد الميم حملها على معنى الخبر وجعل "ما" بمعنى بعد فيكون تقديره: أن الله تعالى خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم من وحيه. وكلا الروايتين جائزة والأولى أظهر, وإن قيل: فكيف جعل الشافعي رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصوصًا بالوحي وقد أوحى الله تعالى إلى غيره من الأنبياء قال الله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163] فعن ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه خص بالوحي من بين أهل عصره, حتى بعث رسولاً إلى جميعهم, فكان مخصوصًا بالوحي من بينهم. والثاني: أنه خص بانتهاء الوحي وختم النبوة حتى لا ينزل بعده وحي لا يبعث بعده بني, فصار خاتمًا للنبوة مبعوثًا إلى الخلق كافة حتى بعث إلى الإنس والجن, وقال رسول

الله صلى الله عليه وسلم: "بعث إلى الأحمر والأسود" وفيه تأويلان: أحدهما: إلى العرب والعجم. والثاني: إلى الإنس والجن. والثالث: أنه خص بالوحي الذي هو القرآن المعجز الذي يبقى إعجازه إلى آخر الدهر ويعجز عن معارضة أهل كل عصره, وليس فيما أوحي إلى ما قبله من الأنبياء إعجاز يبقى, فصار بهذا الوحي مخصوصًا. فرع: وأما قول الشافعي: "وأبان بينه وبين خلقه بما فرض عليهم طاعته" وطاعة أولي الأمر واجبة لوجوب طاعته, قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] , وفي أولي الأمر ثلاثة أقاويل: أحدها: أنهم الأمراء وهو قول ابن عباس. والثاني: هم العلماء وهو قول جابر. والثالث: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قول مجاهد. فأوجب طاعة أولي الأمر كما أوجب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم, فأين موضع الإبانة بينه وبين خلقه بما فرض عليهم من طاعته؛ وعن ذلك ثلاثة أجوبة: أحدها: أن طاعة أولي الأمر من طاعة الرسول لتباينهم عنه, وقيامهم مقاومة, فصار هو المخصوص بها دونهم. والثاني: أن طاعة الرسول واجبة في أمور الدين والدنيا, وطاعة أولى الأمر مختصة بأمور الدنيا دون الدين, فتميز عنهم بوجوب الطاعة. والثالث: أن طاعة الرسول باقية في أوامره ونواهيه إلى قيام الساعة وطاعة أولي الأمر مختصة بمدة حياتهم وبقاء نظرهم. فكان هذا موضع الإبانة بينه وبينهم. فرع: وأما قول الشافعي: "افترض عليه أشياء خففها عن خلقه ليزيده بها إن شاء الله تعالى قربة, وأباح له أشياء حظرها على خلقه زيادة في كرامته وتبينًا لفضيلته". وهذا صحيح أن الله تعالى خص رسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة وفرض الطاعة, حتى يميز بهما على جميع المخلوقات, وميزة عنهم في أحكام الدين من وجهين: أحدهما: تغليظ. والآخر: تخفيف.

فأما التغليظ: فهو أن فرض عليه أشياء خففها عن خلقه وذلك لأمرين: أحدهما: لعلمه بأنه أقوم بها منهم وأصبر عليها منهم. والثاني: ليجعل أجره بها أعظم من أجورهم وقربه بها أزيد من قربهم. وأما التخفيف فهو أنه إباحة أشياء حظرها عليهم. وذلك لأمرين: أحدهما: لتظهر بها كرامته وتبين بها اختصاصه ومنزلته. والثاني: لعلمه بأن ما خصه من الإباحة لا يلهيه عن طاعته وإن ألهاهم, ولا يعجزه عن القيام بحقه وإن أعجزهم, ليعلموا أنه على طاعة الله تعالى أقدر وبحقه أقوم. فإن قيل: فقول الشافعي: "ليزيده بها إن شاء الله تعالى قربة إليه" كان على شك فيه حتى استثنى بمشيئة الله تعالى. قيل: ليست شكًا وفيها لأصحابنا وجهان: أحدهما: أنها تحقيق كقوله تعالى: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]. والوجه الثاني: أنها بمعنى إذا شاء الله وتكون بمعنى إذ, كما قال تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ} [الفتح: 27]. مسألة: "فَمِن ذَلِكَ أَن كُل مَن مَلَكَ زَوجًة فَلَيسَ عَلَيهِ الصلاَةُ والسلاَمُ أَن يُخَيرَ نِساءَهُ فَاختَرنَهُ". قال في الحاوي: وهذا صحيح ذكر الشافعي ما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم في مناكحته دون غيره لأمرين: أحدهما: أنه كتاب النكاح فأورد ما اختص بالنكاح. والثاني: أنه منقول عنه من "أحكام القرآن" فأورد منه ما نص الله تعالى عليه في القرآن, فمن ذلك وهو ما خص به تغليظًا, أن الله تعالى أوجب عليه تخيير نسائه واسم يوجب ذلك على أحد من خلقه, فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآَخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)}] الأحزاب: 28 - 29 [فاختلف أهل العلم فيما خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه على قولين: أحدهما: أنه خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن, وبين اختيار الآخرة فيمسكهن, ولم يخيرهن الطلاق. وهذا قول الحسن وقتادة. والثاني: أنه خيرهن بين الطلاق أو المقام. وهذا قول عائشة ومجاهد. وهو الأشبه

بقول الشافعي. واختلف أهل العلم في سبب التخيير على خمسة أقاويل: أحدها: أن نساءه تغايرن عليه فحلف أن لا يكلمهن شهرًا فأمر بتخييرهن, وهذا قول عائشة. والثاني: أنهن اجتمعن يومًا وقلن: نريد ما تريد النساء من الثياب والحلي وطالبنه, وكان غير مستطيع, فأمر بتخييرهن, حكاه النقاش. والثالث: أن الله تعالى أراد امتحان قلوبهن ليرتضي رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساء خلقه فخيرهن. والرابع: أن الله تعالى صان خلوة نبيه فخيرهن على أن لا يتزوجن بعده فلما أجبن إلى ذلك أمسكهن. وهذا قول مقاتل. والخامس: أن الله تعالى خير نبيه بين الغني وبين الفقر, فنزل عليه جبريل وقال: إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول: إن شئت يا محمد جعلت لك جبالاً ذهبًا, فقال: صف لي الدنيا, فقال: حلالها حساب, وحرامها عذاب, فاختار الفقر على الغني والآخرة على الدنيا, وقال: "لأن أجوع يومًا فأصبر, وأشبع يومًا فأشكر خيرًا من الدنيا وما فيها, اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا واحشرين في زمرة المساكين" فحينئذٍ أمره الله تعالى بتخيير نسائه, لما في طباع النساء من حب الدنيا, فلما نزل عليه التخيير بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعائشة, وكانت أحب نسائه إليه وأحدثهن سنًا- فتلا عليها آية التخيير- حتى تستأمري أبويك لأنه خاف مع حبة لها أن تعجل لحداثة سنها فتختار الدنيا فقالت: أفيك يا رسول الله أستأمر أبوي. قد أخذت الله ورسوله والدار الآخرة, وسألته أن يكتم عليها اختيارها عند أزواجه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما كان النبي أن يفعل" ثم دخل على أزواجه, فكان إذا دخل على واحدة منهن تلا عليها الآية تقول: ما اختارت عائشة؟ فيقول: اختارت الله ورسوله والدار الآخرة, حتى دخل على فاطمة بنت الضحاك الكلابية, وكانت من أزواجه, فلما تلا عليها الآية فقالت: قد أخذت الحياة الدنيا وزينتها فسرحها, فلما كان في زمن عمر وجد تلقط البعر وهي قول: اخترت الدنيا على الآخرة فلا دنيا ولا آخرة. فإذا تقرر ما وصفنا من تخييرهن. انتقل الكلام إلى الاختيار. فإن قيل: عليه السلام خيرهن بين اختيار الدنيا فيفارقهن, وبين اختيار الآخر: فيمسكهن لم يقع بهذا الاختيار طلاق حتى يطلقهن, وعليه أن يطلقهن إن أخذن الدنيا كما طلق فاطمة بنت الضحاك لقوله تعالى: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 28] والسراح الجميل يحتمل ثلاث تأويلات: أحدها: أنه الصريح من الطلاق دون الكناية لئلا يراعي فيه النية. والثاني: أنه أقل من ثلاث لتمكن فيه الرجعة.

والثالث: أن يوفي فيه الصداق ويدفع فيه المتعة, فإن طلق المختارة منهن أقل من ثلاث فهل يقع طلاقها بائنًا لا يملك فيه الرجعة أم لا؟ على وجهين: أحدهما: أن يكون كطلاق غيره من أمته رجعياً. والوجه الثاني: أن يكون بائنًا لا رجعة فيه؟ لأن الله تعالى غلظ عليه في التخيير، فيغلظ عليه الطلاق، وفي تحريمهن بذلك على التأييد وجهان: أحدهما: لا يحرمن على التأييد يكون سراحًا جميلًا. والوجه الثاني: قد حرمن على الأبد؟ لأنهن أخذن الدنيا على الآخرة فلم يكن من أزواجه في الآخرة، فهذا حكمهن إذا قيل إنه تخيير النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان تخييرًا بين الدنيا والآخرة. فأما إذا قيل وهو الأظهر من القولين: إنه خيرهن بين الطلاق أو المقام، فتخيير غيره من أمته يكون كناية يرجع فيه إلى نية الزوج في تخييرها، والى نية الزوجة في اختيارها. وقال مالك: وهو صريح: فإن لم تختر نفها كان صريحًا في طلقة بائنة. وقال أبو حنيفة: إن لم تختر نفسها وان اختارت نفسها كان صريحًا في طلقة بائنة لا يرجع فيه إلى نية أحد منهما. وللكلام عليهما في موضع يأتي. وأما تخيير النبي صلى الله عليه وسلم وجهان: أحدهما: أنه كناية لتخيير غيره يرجع فيه إلى نيتهما. والثاني: أنه صريح في الطلاق لا يراعى فيه النية لخروجه مخرج التغليظ على نيته، ثم هل يكون بائنًا يوجب تحريم الأبد أم لا؟ على ما ذكرنا من الوجهين. ثم تخيير غيره من أمته يراعى في اختيار الزوجة على الفور، فمتى تراخى اختيارها بطل، لأنه يبري مجرى الهبة في تعجيل قبولها على الفور، فأما تخيير النبي صلى الله عليه وسلم لهن في هذه الحال ففيه وجهان: أحدهما: يراعى فيه تعجيل الاختيار على الفور فإن تراخى بطل حكمه. لما ذكرنا من اعتباره بقبول الهبة التي هو وغيره من أمته فيها سواء. والوجه الثاني: أن اختيارهن على التراخي لما اختص به من النظر لأنفسهن بين الدنيا والآخرة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها حين خيرها: "استأ مري أبويك" فلولا أنه على التراخي لكان بالاستثمار يبطل الاختيار. فرع فأما أنه التخيير فغيها دلائل على خمسة أحكام: أحدهما: أن الزوج إذا أعسر بنفقة زوجته فلها خيار الفسخ. والثاني: أن المتعة تجب للمدخول بها إذا طلقت. والثالث: جواز تعجيلها قبل الطلاق، وكذلك تعجيل حقوق الأموال قبل الوجوب.

والرابع: أن السراح صريح في الطلاق. والخامس: أن المتعة غير مقدرة شرعًا، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: - فَقَالَ تَعَالَى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: (52)] قال في الحاوي: وذلك أن الله تعالى لما أوجب على نبيه صلى الله عليه وسلم تخيير نسائه فاخترنه، حظر الله تعالى عليه طلاقهن، وحظر عليه أن يتزوج عليهن استبدالا بهن، فخص بتحريم طلاقهن وتحريم التزويج عليهن تغليظًا عليه, ومكافأة لهن على صبرهن معه ما كان من ضيق وشدة. فقال سبحانه وتعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ ولا أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ ولَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} لا يحل لك النساء،. ومن بعد نساءك اللاتي خيرتهن فأخذن الله ورسوله والدار الآخرة، وهن التسع اللاتي مات عنهن بعد العاشرة التي فارقها، فصار مقصورا عليهن وممنوعا من غيرهن وان أعجبه حسنهن. وقيل: إن التي أعجبه حسنها أسماء بنت عميس بعد قتل جعفر بن أبي طالب عنها، فجازاهن الله تعالى في الدنيا بتحريم طلاقهن والتزوج عليهن؟ لأنه أحب الأشياء إلى النساء إذا اخترن أزواجهن بعد أن جازاهن بالجنة في الآخرة لقوله تعالى: {وإن كُنتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ ورَسُولَهُ والدَّارَ الآخِرَةَ فَإنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} [الأحزاب: 169] والمحسنات هن المختارات لرسوله صلى الله عليه وسلم, والأجر العظيم هو الجنة، وان الله تعالى أكرمهن في الدنيا وفضلهن على غيرهن من النساء بتسع خصال، نذكر تفصيلها من بعد مشروحًا إن شاء الله تعالى. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: قَالَتْ عَائِشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: "مَا مَاتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَحَلَّ لَهُ النَّسَاءَ قَالَ كَأَنَّهَا تَعْنِي اللاَّتِي حَظَرَهُنَّ عَلَيْهِ" قال في الحاوي: قد ذكرنا في حظر الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في طلاق نسائه بعد تخييرهم وتحريم نكاح النساء عليهن. فأما تحريم طلاقهن فقد كان باقيًا عليه إلى أن قبضه الله تعالى إليه، وما كان من طلاقه لحفصة واسترجاعها وازعامه طلاق سودة حتى وهبت يومها لعائشة، فإنما كان قبل التخيير، وأما تحريم النكاح فقد اختلف في ثبوت حكمه ونسخه، فزعم بعض أهل العراق: أن تحريم النكاح عليه كان ثابتا إلى أن قبضه الله تعالى إليه بدلالة أشياء: أحدهما: قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} [الأحزاب: 52] وكان هذا على الأبد. والثاني: أن الله تعالى جعله مقابلة على اختيارهن على طريق الجزاء فلم يجز أن

يتعقبه رجوع. والثالث: أنه لما كان تحريم طلاقهن باقياً وجب أن يكون تحريم النكاح عليهن باقيا لأنهما جميعا جزاء. وذهب الشافعي إلى تحريم النكاح عليهن نسخ حين اتسعت الفتوح فإن النبي صلى الله عليه وسلم ما مات حتى أحل له النساء وهذا قول عائشة وأبي بن كعب والدليل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أَجُورَهُنَّ ومَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} [الأحزاب: 50]. والإحلال يفضي إلى عدم الحظر ولم يحظر على النبي صلى الله عليه وسلم النكاح قبل التخيير، فدل على أن الإحلال والإباحة بعد حظر التخيير. فإن قيل: فهذا الإحلال إنما يوجه إلى نسائه اللاتي خيرهن وأخذنه وهذا قول مجاها قيل: لا يصح من وجهين: أحدهما: أنهن قد كن حلاله قبل نزول هذه الآية بإحلالهن. الثاني: أنه قال فيها: {وَبَنَاتِ عَمِكَ وَبَنَاتِ عَمَّتِكَ} [الأحزاب: 150] ولم يكن في نسائه المتخيرات أحد من بنات عمه ولا من بنات عماته. فإن قيل: فهذه الآية متقدمة على التلاوة على قوله تعالى: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} ولا يجوز أن يكون المتقدم ناسخًا للمتأخر؟ قيل: هي وان كانت متقدمة في التلاوة فهي متأخرة في التنزيل، فجاز النسخ بها كما في قوله تعالى: {والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْرًا} [البقرة: 234] ناسخ لقوله تعالى: {والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجًا وصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إلَى الحَوْلِ} [البقرة: 240] وهي متقدمة في التلاوة لكنها متأخرة في التنزيل. فإن قيل: فهلا قدمت تلاوة ما تأخر تنزيله؟ قيل: لأن جبريل عليه السلام كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأية من القران أمره أن يضعها في موضع كذا. فإن قيل: فلما أمره بتقديم تلاوة ما تأخر تنزيله؟ قيل: لسبق القارئ إلى معرفة حكمه، حتى إن لم يعرف حكم ما بعده من المنسوخ أجزأه، ويدل على نسخ الحظر أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم اصطفي صفية بنت حيي من سبي خيبر سنة ثمان فأعتقها وتزوجها، وذلك بعد التخيير, فقد قالت عائشة وأبي بن كعب: ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أبيح له النساء. وهما بذلك أعرف، ولأن علة الحظر الضيق والشدة، فإذا زالت زال موجبها، وقد فتح الله تعالى على رسوله حتى وسع على نسائه وأجرى لكل واحدة منهن ثمانين صاعا من تمر وأربعين صاعا من شعير سوى الهدايا والألطاف. وأما الاستدلال بالآية فقد ذكر وجه نسخها، وأما الجزاء وهو مشروط بحال الضيق والشدة, وأما الطلاق فالفرق بينه وبين التزويج عليهن أن في طلاقهن قطعا لعصمتهن ويخرجن به أن يكون في أزواجه في الآخرة وليس في التزويج عليهن قطع لعصمتهن فافترقا والله أعلم.

فإذا ثبت نسخ الحظر مما ذكرنا فقد اختلف أصحابنا في الإباحة هل هي عامة في جميع النساء، أو مقصورة على المسميات في الآية، إذا هاجرن معه على وجهين: أحدهما: أن الإباحة مقصورة على المسميات من بنات عمه وبنات عماته وبنات خاله وبنات خالاته اللاتي معه، وهذا قول أبي بن كعب لرواية أبي صالح عن أم هانئ قالت: نزلت هذه الآية فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني فنهى عني لأني لم أهاجر. والوجه الثاني: وهو أظهرهما أن الإباحة عامة في جميع النساء؟ لأنه تزوج بعدها صفية وليست من المسميات فيها، ولأن الإباحة رفعت ما تقدمها من الحظر، ولأنه في استباحة النساء أوسع حكما من جميع أمته فلم يجز أن يقصر عنهم. مسألة: قال الشافعي: - وَقَالَ الله تَعَالَى: {وامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إن وهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: (50)]. قال في الحاوي: وهذا مما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم في النكاح تخفيفا، أن ينكح بلفظ الهبة, لأن الشافعي بدأ بذكر ما خص به في النكاح تغليظا، وذلك في ثلاثة أشياء؟ وجوبا التخيير، وتحريم الطلاق، وتحريم الاستبدال بهن. ثم عقبه بذكر ما خص به تخفيفا، فمن ذلك أن إباحة الله تعالى أن يملكه نكاح الحرة بلفظ الهبة من غير بدل يذكر مع العقد، ولا يجب من بعد فيكون مخصوصا به من ين أمته من وجهين: أحدهما: أن يملك نكاح الحرة بلفظ الهبة ولا يجوز ذلك لغيره من أمته. والثاني: أن يسقط عنه المهر ابتداء مع العقا وانتهاء فيما بعده وغيره من أمته يلزمه المهر فيما بعد. وقال أبو حنيفة: إنما اختص بسقوط المهر وحده وهو وأمته سوا، في جواز العقا بلفظ الهبة. وقال سعيد بن المسيب: إنما خص بسقوط المهر وليس له ولا لغيره من أمته أن يعقا بلفظ الهبة، ويه قال من الصحابة أنس بن مالك، وذهب إليه بعض أصحاب الشافعي، والدليل على تخصيصه بالأمرين وإن كان للكلام مع أبو حنيفة موضع يأتي. وقوله تعالى: {وامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إن وهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ} [الأحزاب: (50)] والهبة تتميز بلفظها عقدا، وسقوط المهر فيها بدلا، وقد جعلها خالصة من دون المؤمنين، فلم يجز لأجد من أمته أن يشاركه في واحد من الحكمين. وفي الآية قراءتان:

إحداهما: "إن وهبت" بالفتح وهو خبر عما مضى, والقراءة الأخرى بالكسر وهو شروط في المستقبل، فاختلف العلماء هل كان عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت له نفسها بحسب اختلافهم في هاتين القراءتين، فمن قرأ بالكسر وجعله شرطا في المستقبل قال: لم يكن عنده امرأة موهوبة, ويه قال مجاهد. ومن قرأ بالفتح جعله خبرا عن ماض قال: قد كانت عنده امرأة وهبت له نفسها واختلفوا فيها على أربعة أقاويل: أحدهما: أنها أم شريك بنت جابر بن خباب, وكانت امرأة صالحة وهذا قول عروة بن الزبير. والثاني: أنها خولة بنت حكيم. وهذا قول عائشة. والثالث: أنها ميمونة بنت الحارث. وهذا قول ابن عباس. والرابع: أنها زينب بنت خزيمة أم المساكين امرأة من الأنصار. وهذا قول الشعبي. وإذا كان عند النبي صلى الله عليه وسلم من وهبت له نفسها أو شرط له في المستقبل أن تقبل من وهبت له نفسها خالصة من دون المؤمنين. كان دليلا قاطعا على من خالف. وروي عن سهل بن سعد الساعدي: أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد وهبت نفسي منك، فقالت: ما لي في النساء من حاجة" فلو لم يكن له أن يقبلها لأنكر عليها هبتها. فرع: ومما خص به النبي صلى الله عليه وسلم في مناكحه تخفيفان أن ينكح أي عدد شاء. وان لم يكن لغيره من أمته أن ينكح أكثر من أربع في عقد واحد لقوله تعالى: {إنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أَجُورَهُنَّ ومَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} الآية [الأحزاب: (50)]، وأحل له من الأزواج من أتاها أجرها من غير تقدير بعدد، ثم ذكر بنات عمه وعماته وخاله وخالاته من يزيد على الأربع. فدل على اختصاص بالإباحة من غير عدد, وقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين إحدى عشر، ومات عن تسع، وكان يقم لثمان, ولأنه لما كان الحر لفضله على العبد يستبح من نكاح النساء أكثر مما يستبحه العبد, وجب أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لفضله على جميع الأمة يستبيح من النساء أكثر مما يستبيحه جميع الأمة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "حبب إلي من دنياكم ثلاث: النساء، والطيب, وجعل قرة عيني في الصلاة" فاختلف أهل العلم في معنى تحبيب النساء إليه على قولين: أحدهما: أنه زيادة في الابتلاء والتكليف, حتى لا يلهو بما حبب إليه من النساء

عما كلف به من أداء الرسالة، ولا يعجز عن تحمل أثقال النبوة فيكون ذلك أكثر لمشاقه وأعظم لأجره. والقول الثاني: ليكون خلواته معهم يشاهدها من نسائه، فيزول عنه ما يوميه المشركون به من أنه ساحر أو شاعر، فيكون تحببهن إليه على وجه اللطف به. وعلى القول الأول على وجه الابتلاء له، وعلى أي القولين كان فهو فضيلة، وان كان في غيره نقصا وهذا مما هو به مخصوص أيضا. مسألة: قال الشافعي: - وَقَالَ الله تَعَالَى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ إنِ اتَّقَيْتُنَّ} [الأحزاب: 32] {فَأَبَانَهُنَّ بِهِ مِنْ نِسَاءِ العَالَمِينَ}. قال في الحاوي: وهذا مما خص الله تعالى به رسول من الكرامات أن فضل نساءه على نساء العالمين، فقال تعالى {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: (32)]، وذلك لأربعة أشياء: أحدهما: لما خصهن الله من خلوة رسوله ونزول الوحي بينهن. والثاني: لاصطفائهم لرسوله أزواجا في الدنيا وأزواجا في الآخرة. والثالث: لما ضاعفه لهن من ثواب الحسنات وعقاب السيئات. والرابع: لما جعلهن للمؤمنين أمهات محرمات فمرن بذلك من أفضل النساء، وفيه قولان: أحدهما: من أفضل نساء زمانهم. والثاني: أفضل النساء كلهن. وفي قوله: {إِنِ اَتَّقَيتُنَّ} تأويلان: محتملان: أحدهما: معناه إن استدمتن التقوى فلستن كأحد من النساء. والثاني: معناه لستن كأحد من النساء فكن أخصهن بالتقوى. فعلى التأويل الأول يكون معناه معنى الشرط. وعلى التأويل الثاني: معناه معنى الأمر، ثم قال تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32] وفي خضوعهن بالقول خمسة تأويلات: أحدها: فلا ترفعن بالقول وهو قول السدي. والثاني: فلا ترخص بالقول، وهو قول ابن عباس. والثالث: فلا تكلمن بالرفث، وهو قول الحسن. والرابع: هو كلام الذي فيه ما يهوى المريب، وهو قول الكلبي. والخامس: هو ما يدخل من قول النساء في قلوب الرجال، وهو قول ابن زيد. وفي

قوله: {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ} تأويلان: أحدهما: أنه الفجور، وهو قول السدي. والثاني: أنه النفاق، وهو قول قتادة. وكان أكثر ما يصيب الحدود في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم المنافقون. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: "وَخَصَّهُ بِأَنْ جَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَاُم أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ". قال في الحاوي: وهذا صحيح لما اختص الله تعالى رسوله بكرامته وفضله على جميع خلقه أولى بالمؤمنين من أنفسهم فقال تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] وقرأ عكرمة: وهو أبوهم. وقرأ مجاهدا: وهو أب لهم. وقيل: إنها قراءة أبي بن كعب، وفيه أربعة تأويلات: أحدهما: أنه أولى بهم فيما يراه لهم منهم بأنفسهم، وهذا قول عكرمة. والثاني: أنه أولى بهم فيما يأمرهم به من آبائهم وأمهاتهم. والثالث: أنه أولى بهم في دفاعهم عنه ومنعهم منه من دفاعهم عن أنفسهم, حتى لو عطش ورأى مع عطشان ما كان أحق به منه. ولو رأوا سوءًا يصل إليه لزمهم أن يقوه بأنفسهم كما وقاه طلحة بن عبيد الله بنفسه يوم أحد. والرابع: أنه أولى بهم من قضاء ديونهم وإسعافهم في نوائبهم. وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ما من مؤمن إلا أنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة، أقرؤوا إن شئتم: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} [الأحزاب: 6] فأيما مؤمن ترك مالآ فلورثته، ومن ترك دينا أو ضياعا فليأتني فأنا مولاه". فكان هذا مما خص الله تعالى رسوله من الكرامات، وكان ما يفعله من قضاء الديون تفضلا منه لا واجبا عليه, لأنه لو كان واجبا لقام به الأئمة بعده، إلا أن يكون من لهم الغارمين فيكون واجبا في سهم الصدقات إن احتمله. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ:" وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ, قَالَ: أُمَّهَاتُهُمْ فِي مَعْنًى وّذَلِكَ أّنَّهُ لاَ يَحِلُّ نِكَاحَهُنَّ بِحَالٍ وّلّمْ يُحْرَمْ نَبَاتٌ لَوْ كُنَّ لأَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَدْ زَوَّجَ بَنَاتِهِ وَهُنَّ

أَخَوَاتُ المُؤْمِنِينَ. قال في الحاوي: وهذا مما خص الله تعالى به رسوله من الكرامة وخص به أزواجه من الفضيلة، وأن جعلهن أمهات المؤمنين فقال عز وجل: {وأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: (6)] يعني اللاتي مات عنهم وهن تسع، فيجري عليهم أحكام الأمهات في شيئين، متفق عليهما وثالث نختلف فيه، أحد الشيئين تعظيم حقهن والاعتراف بفضلهن، كما يلزم تعظيم حقوق الأمهات ولقوله تعالى: {لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ} [الأحزاب: (32)]. والثاني: تحريم نكاحهن حتى لا يحللن لأحد بعده من الخلق كما يحرم نكاح الأمهات لقوله تعالى: {ومَا كَانَ لَكُمْ أَن تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ ولا أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53] وسبب نزول هذه الآية ما حكاه السدي أن رجلا من قريش قال عند نزول أية الحجاب: أيحجبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بنات عمنا ويتزوج نسائنا من بعدنا، لثن حدث به حدث لتزوجن نساءه من بعده، فنزلت هذه الآية، ولأن حكم نكاحهن لا ينقضي بموته لكونهن أزواجه في الآخرة، فوجب أن يكون تحريمهن بعد موته كتحريمهن في حياته. فأما الحكم الثالث: اختلف فيه فهو المحرم هل يصرن كالأمهات في المحرم حتى لا يحرم النظر إليهن على وجهين: أحدهما: لا يحرم النظر إليهن لتحريمهن كالأمهات نسبا ورضاعا. والوجه الثاني: يحرم النظر إليهن حفظا لحرمة رسوله فيهن. وقد كانت عائشة إذا أرادت دخول رجل عليها أقرت أختها أسماء أن ترضعه حتى ليصير ابن أختها، فيصر محرما لها ولا يجري عليهن أحكام الأمهات في النفقة بالميراث، فلهذا قال الشافعي: "أمهاتهم في معنى دون معنى" وإذا كن أمهات المؤمنين ففي كونهن أمهات المؤمنين وجهان: أحدهما: أنهن أمهات المؤمنين والمؤمنات تعظيما لحقهن على الرجال والنساء. والوجه الثاني: أن حكم التحريم مختص بالرجال دون النساء فكن أمهات المؤمنين دون المؤمنات، وقد روى الشعبي عن مسروق عن عائشة، أن امرأة قالت لها: يا أمه فقالت: لست لك بأم وإنما أنا أم رجالكم. واختلف أصحابنا في وجوب العدة عليهن بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهن على وجهين: أحدهما: ليس عليهن عدة, لأنهن حرمن كان كل زمانهن عدة. والثاني: يجب عليهن تعبدا أن يعتدون عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرا، لما في العدة من الإحداد ولزوم المنزل، ثم نفقاتهن تجب بعد وفاته في سهمه من خمس الخمس من الفيء والغنيمة لبقاء تحريمهن، وقد أنفق عليهن أبو بكر رضي الله عنه وأجرى لهم عمر رضي الله عنه عطاءً فائضا، فهذا حكم من مات عنهن رسول الله صلى الله عليه وسلم من زوجاته.

فرع: فأما اللاتي فارقهن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته فليس لهن من حرمة التعظيم ما للمتوفي عنهن، وفي تحريمهن على الأمة ثلاثة أوجه: أحدهما: لا يحرمن سواء دخل بهن أو لم يدخل لقوله تعالى {إن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} [الأحزاب: 28] وإرادة الدنيا منهن هي طلب الأزواج لهن, لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أزواجي في الدنيا هن أزواجي في الآخرة" وليس للمطلقات من أزواجه في الآخرة. والثاني: أنهن يحرمن سواء دخل بهن أو لم يدخل بهن تعظيما لحرمة الرسول فيهن، لقوله صلى الله عليه وسلم:"كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلا سببي ونسبيا" وليحفظ الله تعالى محبة رسوله في قلوب أمته, فإن العادة أن زوج المرأة يبغض من تقدمه من أزواجها، والتعرض لبعض الرسول كفر. والثالث: وهو الأصح أنه إن لم يكن دخل بهن لم يحرمن، وإن كان دخل بهن حرمن صيانة لخلوة الرسول أن تبدوا، فإن من عادة المرأة إن تزوجت ثانيا بعد الأول أن تذم عنده الأول إن حمدته، وتحمد الأول إن ذمته, ولأنه كالإجماع من جهة الصحابة. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوج في سنة عشر التي مات فيها في شهر ربيع الأول قتيلة أخت الأشعث بن قيس الكندي ولم يدخل بها, فأوصى في مرضه أن تخير إن شاءت أو يضرب عليها الحجاب، وتحرم على المؤمنين ويحرم عليها ما يجري على أمهات المؤمنين، وان شاءت أن تنكح من شاءت نكحت فاختارت النكاح فتزوجها عكرمة بن أبي جهل بحضرموت، فبلغ ذلك أبا بكر فقال: هممت أن أحرمه عليكما، فقال عمر: ما هن من أمهات المؤمنين، ما دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا ضرب عليها حجابا، فكف عنها أبو بكر. وروي أن الأشعث بن قيس تزوج امرأة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوجها وفارقها، فهم عمر برجمهما حتى بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدخل بها فكف عنهما، فصار ذلك كالإجماع. فإن قلنا: إنها لا تحرم لم تجب نفقتها، وان قلنا: إنها محرمة ففي وجوب نفقتها في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخمس وجهان: أحدهما: تجب كما تجب نفقات من مات عنهن لتحريمهن. الثاني: لا تجب لأنها لم تجب قبل الوفاة فأولى أن لا تجب بعدها، ولأنها مبتوتة العصمة بالطلاق.

فرع: فأما من وطئها من إمائه فإن كانت باقية على ملكه إلى حين وفاته مثل مارية أم ابنه إبراهيم حرم نكاحها على المسلمين وان لم تصر كالزوجات أما للمؤمنين لنقصها بالرق وان كان قد باعها وملكها مشتريها بقي تحريمها عليه وعلى جميع المسلمين وجهان كالمطلقة. فرع: فأما ما نقله المزني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوج بناته وهن أخوات المسلمين، وإنما أراد به الشافعي أنهم وان كن كالأمهات في تحريمهن فلسن كالأمهات في جميع أحكامهن، أن لو كان كذلك لما زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد من بناته منهن؟ لأنهن أخوات المؤمنين، وقد زوج وسول الله صلى الله عليه وسلم أربعا من بناته فزوج قبل النبوة: زينب بأبي العاص بن الربيع، وزوج قبل النبوة رقية بعتبة بن أبي لهب وطلقها بعد النبوة فزوجها بعده عثمان بن عفان رضي الله عنه بمكة فولدت له عبد الله, وبلغ ست سنين ثم مات هو وأمه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر، ثم زوجه بعدها بأم كلثوم فماتت عناه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "لو كان لنا ثالثة لزوجناك" وزوج عليا رضي الله عنه فاطمة بعد الهجرة، فلما زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكرنا من بناته علم اختصاص نسائه من حكم الأمهات بالتعظيم والتحريم, إلا أن المزني نقل عن الشافعي ما زوج بناته وهن أخوات المؤمنين فذهب أكثرها أصحابنا إلى غلط منه في النقل، وأن الشافعي قال في "أحكام القرآن" من الأم: "قد زوج بناته وهن غير أخوات المؤمنين" فغلط في النقل. وذهب بعض أصحابنا إلى صحة نقل المزني وأنه على معنى النقل والتقرير، ويكون تقديره قد زوج نباته أو يزوجهن وهن أخوات المؤمنين. فرع: ومما خص الله تعالى به نماء رسول الله صلى الله عليه وسلم تفضيلا لهن وإكراما لرسوله أن ضاعف عليهن عقاب السيئات، وضاعف عليهن ثواب الحسنات، فقال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَن يَاتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العَذَابُ ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: (30)]. وفي الفاحشة المبينة هاهنا تأويلان: أحدهما: الزنا وهو قول السدي. والثاني: النشوز وسوء الخلق وهو تول ابن عباس. وني مضاعف العذاب لهما معفين قولان لأهل العلم: أحدهما: أنه عذاب الدنيا وعذاب الآخرة وهو (قول) قتادة.

والثاني: أنه عذابان في الدنيا لعظم جرمهن بأذية رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال مقاتلا: حدان في الدنيا غير السرقة. وقال سعيد بن جبير: فجهل عذابهن ضعفين وعلى من قذفهن الحد ضعفين، ولم أر للشافعي نصا في أحد القولين غير أن الأشبه بظاهر كلامه إنما هو حدان في الدنيا. فإن قيل: في أمر مضاعفة الحد عليهن من تفضيلهن. قيل: لأنه لما كان حد العبد نصف حد الحر لنقصه عن كمال الحر وجب أن يكون مضاعفة الحد عليهن من تفضيلهن على غيرهن، ثم قال تعالى: {ومَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ ورَسُولِهِ} [الأحزاب: (31)] أي يطيع الله ورسوله والقنوت الطاعة ثم قال: {وتَعْمَلْ صَالِحًا نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} [الأحزاب: (31)] فضوعف لهن الأجر مرتين كما ضوعف عليهن العذاب ضعفين، فصار كلا الأمرين تفصيلا لهن وزيادة من كرامتهن, وفي {أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} قولان لأهل العلم: أحدهما: أن كلا الأجرين في الآخرة. والثاني: أن أحدهما في الدنيا والثاني في الآخرة. ويحتمل قوله: {وأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} تأويلين: أحدهما: حلالا فقد كان رزقهن من أجل الأرزاق. والثاني: واسعا فقد صار رزقهن بعد وفاته وفي أيام عمر من أوسع الأرزاق. فرع: وصار ما خص الله تعالى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في مناكحه، مما جاء فيه نص واتصل به نقل عشر خصال، تنقسم ثلاثة أقسام منها ثلاثة خصال تغليظ، وثلاث خصار تخفيف وأربع خصال كرامة. فأما الثلاث التغليظ فإحداهن: ما أوجبه عليه من تخيير نسائه. والثانية: ما حظر عليه من طلاقهن. والثالثة: ما منعه من الاستبدال بهن. وأما الثلاث التخفيف: فإحداهن: ما أباحه له من النكاح من غير تقدير محصور. والثانية: أن يملك النكاح بلفظ الهبة من غير بدل. والثالثة: أنه إذا أعتق أمة على أن يتزوجها كان عتقها نكاحا عليها وصداقا لها, لأنه أعنق صفية بنت حيي على هذا الشرط فصارت بالعتق زوجة وصار العتق لها صداقا. فأما الأربع الكرامة: فإحداهن: أنه فضل نسائه على نساء العالمين. والثانية: أنه جعلهن أمهات المؤمنين. والثالثة: حرمهن على جميع المسلمين. والرابعة: ما ضاعف من ثوابهن وعقابهن. فرع وإذا قد مضى ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مخصوصاً به في مناكحه نصا. فقد اختلف

أصحابنا في جواز الاجتهاد فيما يجوز أن يكون مخصوما به في مناكحة من طريق الاجتهاد والنص، فكان أبو علي بن خيران يمتنع من جواز الاجتهاد لنقصه، وكذلك في الإمامة, لأن الاجتهاد وإنما يجوز عند الضرورة في النوازل الحادثة. وذهب سائر أصحابنا إلى جواز الاجتهاد في ذلك ليتوصل به إلى معرفة الأحكام، وان لم تدع إليها ضرورة، كما اجتهدوا فيما لم يحدث من النوازل فاجتهدوا في سبع مسائل أفضى بهم الاجتهاد إلى الاختلاف فيها. فأحدها: أن اختلفوا هل كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينكح بغير ولي ولا شهود؟ على وجهين: أحدهما: لم يكن له ذلك. وهو وغيره سواء في أن ينكح إلا بولي وشاهدين لقوله صلى الله عليه وسلم: "كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح" فلم يجز أن يتوجه ذلك إلى مناكحه. الثاني: أن يجوز له أن ينكح بغير ولي ولا شاهدين لقول الله تعالى: {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وأَزْوَاجُهُ} [الأحزاب: 6] ولأن النبي صلى الله عليه وسلم خطب أم سلمة فقال: ما لي ولي حاضر فقال: ما يكرهني من أوليائك حاضر ولا غائب، ثم قال لابنها عمر وكان غير بالغ: قم زوج أمك. وقد أنكر أحمد بن حنبل على من قال غير بالغ وهو قول الأكثرين، ولأن الولي إنما يراد لالتماس الأكفاء والرسول صلى الله عليه وسلم أفضل الأكفاء. والشهود إنما يرادون حذر التناكر وهذا غير موهوم في الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكون منه أو له فلذلك لم يفتقر نكاحه إلى ولي ولا شهود. فرع والمسألة الثانية: أن اختلفوا هل له نكاح الكتابية أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لم يكن له ذلك لقوله تعالى: {وأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6]. وقال صلى الله عليه وسلم: "أزواجي في الدنيا هن أزواجي في الآخرة ". وهذان الأمران منتفيان عن غير المسلمات, ولأن الله تعالى شرط فيما أباحه لرسوله من بنات عمه وعماته الهجرة، فقال: {اللاَّتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} [الأحزاب: 50] فلما حظر عليه من المسلمات من لم تهاجر فكيف يستبيح من لم تسلم ولم تهاجر؟. والثاني: يحل له نكاح الكتابية، لأن حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في النكاح أوسع من حكم أمته فلم يجز أن يحرم عليه ما يحل لأمته؟ ولأنه صلى الله عليه وسلم استمتع بأمته ريحانة بنت عمرو بملك يمينه، وكانت يهودية من سبي بني قريظة، وعرض عليها الإسلام فأبت، ثم أسلمت من بعد، فلما بشر بإسلامها سر به. والكفر في الأمة أغلظ منه في الحرة؟ لأن نكاح الأمة الكتابية حرام، ونكاح الحرة الكتابية مباح، فلما لم تحرم عليه الأمة الكتابية فأولى أن لا تحرم عليه الحرة الكتابية، فعلى هذا إذا نكح الكتابية فهل عليه تخييرها أن تسلم فيمسكها أو تقيم على دينها فيفارقها؟ فيه وجهان:

أحدهما: عليه تخييرها، فإن أسلمت ثبت نكاحها، وان أقامت على دينها فارقها ليصح أن تكون من أزواجه في الآخرة. والثاني: ليس ذلك عليه؟ لأنه ما خير ريحانة وقد عرض عليها الإسلام فأبت وأقام على الاستمتاع بها. فأما الأمة فلم يختلف أصحابنا أنه لم يكن له أن يتزوجها وان جاز أن يستمتع بها لملك يمينه, لأن نكاح الأمة مشروط بخوف العنت وهذا غير مجوز عليه. فرع: والمسألة الثالثة: أن اختلفوا هل كان له أن ينكح في إحرامه؟ فذهب أبو الطيب بن سلمة إلى جوازه له خصوصا لروايته أنه تزوج ميمونة محرما، وذهب سائر أصحابنا إلى أنه ممنوع من النكاح في الإحرام كغيره من أمته, لأنه وإياهم في محظورات الإحرام سواء، وما نكح ميمونة إلا حلالا. والمسألة الرابعة: أن اختلفوا في التي خطبها هل يلزمها إجابته؟ على وجهين: أحدهما: يلزمها إجابته لقوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ ولِلرَّسُولِ إذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 2 (4)]. الثاني: لا يلزمها إجابته كما لا يلزمها إجابة غيره, لأن عقود المناكح لا تصح إلا عن مراضاة. والمسألة الخامسة: أن اختلفوا فيمن لم يمم لها في عقد نكاحها مهرا، هل يلزمه لها مهر المثل؟ على وجهين: أحدهما: يلزمه كما يلزم غيره لقوله صلى الله عليه وسلم: "فلها المهر بما استحل من فرجها". الثاني: لا يلزمه لأن المقصود منه التوصل إلى ثواب الله تعالى. والمسألة السادسة: أن اختلفوا فيما يملكه من الطلاق هل هو محصور بعدد أم مرسل بغير أمر؟ على وجهين: أحدهما: مرسل بغير أما ولا محصور بعدد، ومهما طلق كان له بعد الطلاق أن يراجع؟ لأنه لم ينحصر عاد نسائه لم ينحصر طلاقهن. الثاني: أنه محصور بالثلاث وان لم ينحصر عدد المنكوحات, لأنه المأخوذ عليه من أسباب التحريم أغلظ، فعلى هذا إذا استكمل طلاق واحدة منهن ثلاثا هل تحل له بعد زوج أم لا؟ على وجهين: أحدهما: تحل لما خص به من تحريم نسائه على غيره. والثاني: لا تحل له أبدا لما عليه من التغليظ في أسباب التحريم.

والمسألة السابعة: أن اختلفوا في وجوب القسم عليه بين أزواجه على وجهين: أحدهما: كان واجبا عليه, لأنه كان يقسم بينهن، ويقول: "اللهم هذا قسمي فيما املك فلا تؤاخذني فيما لا املك". يعني: قلبه وطيفه على نسائه محمولا في مرضه حتى حللنه في المقام عند عائشة .. وهم بطلاق سودة، فقالت: قد أحببت أن أحشر في جمل نسائك، وقد وهبت يومي منك لعائشة، فكف عن طلاقها. وكان يقسم لنسائه يوما يوما ولعائشة يومين، يومها ويوم سودة. وقيل: في ذلك نزل قوله تعالى: {وإنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا والصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] وهو قول السدي. الثاني: آن القسم بينهن لم يكن واجبا، وإنما كان يتطوع به وهو قول آبي سعيد الاصطخري وطائفة لها في وجوبه عليه من التشاغل عن لوازم الرسالة، ولقوله تعالى: {تُرْجِي مَن تَشَاءُ مِنْهُنَّ وتُؤْوِي إلَيْكَ مَن تَشَاءُ} [الأحزاب:51] وفيه تأويلان: أحدهما: معناه تعزل من شئت من أزواجك فلا تأتها وتأتي من تشاء من أزواجك فلا تعزلها، هذا قول مجاهد. والثاني: معناه تق خر من شتت من أزواجك, وهذا قول قتادة. {ومَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب:51] أي من ابتغيت فآويته إليك ممن غزلت آن تؤويه إليك {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} فيه تأويلان: أحدهما: فلا جناح عليك فيمن ابتغيت وفيمن عزلت وهو قول يحيى بن سلام. والثاني: فلا جناح عليك فيمن عزلت آن تؤويه إليك، وهو قول مجاهد: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ ولا يَحْزَنَّ ويَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} [الأحزاب:51] فيه تأويلان: أحدهما: إذا علمن آن له ودهن إلى فراشه إذا اعتزلهن قرت أعينهن فلم يحزن. وهذا قول مجاهد. والثاني: إذا علمن آن هذا من حكم الله تعالى فيهن قرت أعينهن ولم يحزن وهذا قول قتادة، فاختلفوا هل أرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية أحدًا من نسائه أم لا؟ فالذي عليه الأكثرون أنه لم يرج منهن أحدا وأنه مات عن تسع فكان يقسم منهن لثمان؟ لآن سودة وهبت يومها لعائشة، روي عن منصور عن ابن وزين قال: بلغ بعض نسوة النبي صلى الله عليه وسلم أنه يريد أن يخلي سبيلهن فأتينه فقلن: لا تخل سبيلنا، وأنت في حل فيما بيننا وبينك، فأرجأ منهن نسوة وآوى نوة، فكان ممن أرجأ ميمونة وجويرية وآم حبيبة وصفية وسودة، وكان يقم بينهن في نفسه وماله ما شاء، وكان ممن آوى عائشة وأم سلمة

وزينب وحفصة فكان قسمه من نفسه وماله فيهن سواء، والله أعلم. فرع: وإذا قد مضى ما قد خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم في مناكحه نصًا واجتهادا وما خص به أزواجه تفصيلا وحكما، فلا بد من ذكر أزواجه ليعلم من يميز من نساء الأمة بهذه الأحكام المخصوصة وهن ثلاث وعشرون امرأة منهن ست متن قبله وتسع مات قبلهن وثمان فارقهن. فأما الست اللاتي متن قبله فإحداهن خديجة بنت خويلد، وهي أول امرأة تزوجها قبل النبوة عند مرجعه من الشام، وهي أم بنين وبناته إلا إبراهيم فإنه من ماريه القبطية، كان المقوقس أهداها إليه ولم يتزوج على خديجة أحدا حتى ماتت. والثانية: زينب بنت خزيمة الهلالية أم المساكين ودخل بها وأقامت عنده شهورا ثم ماتت وكان أخت ميمونة من أمها. والثالثة: سند بنت الصلت ماتت قبل أن تصل إليه. والرابعة: شراق أخت دحية الكلبي ماتت قبل أن تصل إليه. والخامسة: خولة بنت الهذيل ماتت قبل أن تصل إليه. والسادسة: خولة بنت حكيم السلمية ماتت قبل دخوله بها، وقيل: إنها هي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم، فهؤلاء ست متن قبله دخل منهن باثنين ولم يدخل بأربع. وأما التسع اللاتي مات عنهن فإحداهن عائشة بنت أبي بكر، وهي أول امرأة تزوجها بعد موت خديجة ولم يتزوج بكرا غيرها, عقد عليها بمكة وهي ابنة سبع ودخل بها بالمدينة وهي ابنة تسع، ومات عنها وهي ابنة ثماني عشرة. والثانية: سودة بنت زمعة تزوجها بعد عائشة، وكانت أم خمسة صبية فلما عرف أخوها عبد الله بن زمعة أنها تزوجت رسول الله صلى الله عليه وسلم حثى التراب على رأسه، فلما أسلم قال: إني لسفيه لما حثوت التراب على رأسي حين تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أختي. والثالثة: حفصة بنت عمر تزوجها بعد سودة، وكان عثمان قد خطبها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلك على من هو خير لها من عثمان وأدل عثمان على من هو خير له منها" فتزوجها وزوج بنته أم كلثوم بعثمان. والرابعة: أم حبيبة بنت أبي سفيان وقيل: إنه نزل في تزويجها: {عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً} [الممتحنة: (7)] ولما تنازع أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حضانة ابنه إبراهيم قال: "ادفعوه إلى أم حبيبة فإنها أقربهن منه رحما". والخامسة: أم سلمة بنت أبي أمية. والسادسة: زينب بنت جحش نزل عنها زيد بن حارثة فتزوجها وفيها نزل قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] وكانت بنت عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمها أميمة بنت عبد المطلب.

والسابعة: ميمونة بنت الحارث وكان بالمدينة فوكل أم رافع في تزويجه بها وبقي بمكة ودخل بها عام الفتح بسرف. وقضة الله تعالى أن ماتت بعد ذلك بسرف. والثامنة: جويرية بنت الحارث من بني المصطلق من خزاعة سباها رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة المريسيع التي هدم فيها مناة ثم أعتقها وتزوجها. وقال الشعبي: وجعل عتقها صداقها، فلما فعل ذلك وسول الله صلى الله عليه وسلم ما بقي أحد من المسلمين عبدا من قومها إلا أعتقه لمكانتها. فقيل: إنها كانت أبرك امرأة على قومها. والتاسعة: صفية بنت حيي بن أخطب اصطفاها رسول الله صلى الله عليه وسلم من سبي النضير ثم أعتقها وتزوجها وجعل عتقها صداقها، وهي التي أهدت إليها زينب بنت الحارث اليهودية شاة مسمومة فأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فهؤلاء تسع مات عنهن، وكان يقسم لثمان منهن. وأما الثمان اللاتي فارقهن في حياته: فإحداهن: أسماء بنت النعمان الكندية، دخل عليها فقال لها: تعالى. فقالت: أنا من قوم نؤتى ولا نأتي، فقام إليها فأخذ بيدها فقالت: ملكة تحت سوقة، فغضب وقال: لو رضيك الله لي لأمسكتك وطلقها. والثانية: ليلى بنت الحطيم أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غافل فضربت ظهره، فقال: "من هذا؟ أكلة الأسود" فقالت: أنا ليلى قد جثتك أعرض نفسي عليك. فقال: "قد قبلتك" ثم علمت كثرة ضرائرها فاستقالته فأقلها، فدخلت حائطا بالمدينة فأكلها الذئب. والثالثة: عمرة بنت يزيد الكلابية دخل بها ثم رآها تتطلع فطلقها. والرابعة: العالية بنت ظبيان، دخل بها ومكثت عنده ما شاء الله ثم طلقها. والخامسة: فاطمة بنت الضحاك الكلابية لما خير الرسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه اختارت فراقه ففارقها بعد دخوله بها. والسادسة: قتيلة بنت قيس أخت الأشعث وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيرها في مرضه، فاختارت فراقه ففارقها قبل الدخول. والسابعة: مليكة بنت كعب الليثية كانت مذكورة بالجمال فدخلت إليها عائشة، فقالت: ألا تستحين أن تتزوجين قاتل أبيك يوم الفتح، فاستعيذي منه فإنه يعيذك، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: أعوذ بالله منك، فأعرض عنها وقال: "قد أعاذك الله مني" وطلقها. والثامنة: امرأة من عفان تزوجها ورأى بكشحها وضحا فقال: "ضمي إليك ثيابك والحقي بأهلك" فهؤلاء ثمان فارقهن في حياته دخل منهن بثلاث، والله اعلم.

فرع: وإذ قد مضى ما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم في مناكحه فالكلام فيما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير مناكحه، وهو منقسم خمسة أقسام: أحدها: ما خص به من فرض. والثاني: ما خص به من حظر. والثالث: ما خص به من إباحة. والرابع: ما خص به من معونة. والخامس: ما خص به من كرامة. فأما ما خص به من فرض فثماني خصال: منها قوله: "فرض علي الوتر ولم يفرض عليكم"، ومنها قوله: "فرض علي السواك ولم يفرض عليكم"، ومنها قوله: "فرضت علي الأضحية ولم تفرض عليكم"، ومنها: أن فرضه في الصلاة كامل لا خلل فيه", ما اختلف أصحابنا فيه من قيام الليل هل كان مخصوصا به؟ على وجهين: ومنها: أنه إذا لبس لامة سلاحه فليس له الرجوع قبل لقاء عدوه. ومنها: أنه كان إذا بارز في الحرب رجلا لم ينكف عنه حتى يقتله. ومنها: أنه لا يفر من الزحف ويقف بارزا عدوه وان كثروا. فرع: فأما ما خص به من حظر فخمسة خصال: منها: قول الشعر وروايته لقوله تعالى: {ومَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ ومَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69]. ومنها الكتابة والقراءة لقوله تعالى: {ومَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ ولا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إذًا لاَّرْتَابَ المُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] ومنها: أن ليس له خائنة الأعين ولأنه أمر عام الفتح بقتل ستة وان تعلقوا بأستار الكعبة أتاه عثمان بأحدهم وكان قريبه ليأخذ له أمانا منه فأعرض عنه ثم عاوده فأمنه. فلما ولي قال لمن حضر من أصحابه: هلا قتلتموه فقال: هلا أومأت إلينا بعينيك، فقال: ما كان لنبي أن يكون له خائنة الأعين. ومنها منعه من الصدقات. ومنها: منعه من أكل ما تؤذي رائحته من البقول لهبوط الوحي عليه. فرع: فأما ما خص به من إباحة فأربع خصال: منها: الوصال بين اليومين بالإمساك لأنه لما نهى عن الوصال وواصل قال: "إني لست مثلكم إني أظل عند ربي فيطعمني ويسقيني".

ومنها: الصفي يصطفي من المغانم ما شاء. ومنها: أنه يحيي نفسه بمال غيره ونفسه وان كان على مثل ضرورته. ومنها: أنه خص بحمى الموات في أحد القولين. فرع: فأما ما خص به من معونة فسبع خصال: منها: ما جعله الله تعالى من خمس الخمس من الفيء والغنائم. ومنها: ما ملكه الله تعالى إياه من أربعة أخماس الفيء. ومنها: أن لا يقره الله تعالى على خطأ. ومنها: ما أمده به من ملائكة. ومنها: ما تكفل به من عصمته في قوله: {واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: (67)]. ومنها: ما وعده به من نصرته. ومنها: ما ألقاه في قلوب المشركين من رهبته حتى قال: "نصرت بالرعب" فرع: فأما ما خص به من كرامة فعشر خصال: منها: أن بعثه إلى كافة الخلق. ومنها: أن جعله خاتم الأنبياء. ومنها: أن جعله أولى بالمؤمنين من أنفسهم. ومنها: أن جعل أمته خير الأمم. ومنها: أن تنام عيناه ولا ينام قلبه. ومنها: أن يرى من ورائه كما يرى من أمامه. ومنها: أن يبلغ السلام بعد الموت. ومنها: أنه من تنشق عنه الأرض. ومنها: أنه أول من يدخل الجنة. ومنها: أنه يشهد لجميع النبيين بالأداء يوم القيامة. الترغيب في النكاح وغيره قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمُه اللهُ: "وَأُحِبُّ لِلرَّجُلِ المرأة أَنْ يَتَزَوَّجَا إِذَا تَاقَتْ أَنْفُسهُمَا إلَيْهِ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَمَرَ بِهِ ورَضَيِهُ وَنَدَبَ إِلَيْهِ وَبَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "تَنَاكَحُوا تَكْثُروا

فَإِنَّي أُبَاهِي بِكُمْ الأُمَمَ حَتَّى بالسَّقَطِ" وَأَنَّهُ قَالَ: "مَنْ أَحَبَّ فِطْرَتِى فَلْيَسْتَنَّ بسُنَّتِي وَمِنْ سُنَّتِى النَّكَاحُ" وَيُقَالُ: إنَّ الرَّجُلَّ لَيُرْفَعُ بِدُعَاءِ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ". قال في الحاوي: وهذا كما قال، النكاح مباح وليس بواجب. وقال داود: النكاح واجب استدلالا بقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} [النساء: (3)] وهذا أمر وبقوله عليه السلام: "تناكحوا تكثروا" قال: ولأنه إجماع بقول صحابيين لم يظهر خلافهما: أحدهما: قول عمر لأبي الزوائد لا يمنعك من النكاح إلا عجز أو فجور. والثاني: قول معاذ في مرضه: زوجوني لا ألقى الله عزبا ولأن في النكاح تحصين النفس مثل ما في الغذاء. فلما لزم تحصينها بالغذاء لزم تحصينها بالنكاح؟ ولأنه لما لزمه إعفاف أبيه كان إعفاف نفسه أولى. ودليلنا قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: (3)] ومنه دليلان: أحدهما: أنه علق بطيب النفس. ولو كان لازما واجبا للزم بكل حال. والثاني: قوله: {فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: (3)] فخيره بين النكاح وملك اليمين والتخيير بين أمرين يقتضي تساوي حكمهما. فلما كان ملك اليمين ليس بواجب النكاح بمثابته وقال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العَنَتَ مِنكُمْ وأَن تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَّكُمْ} [النساء: 25] فأباح نكاح الأمة لمن خشي الزنا. وجعل الصبر خيرا له ولو كان واجبا لكان الصبر شرا له. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خياركم بعد المائتين كل خفيف حاذ" قيل: ومن الخفيف الحاذ قال: "الذي لا أهل له ولا ولد" وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصبر على النساء خير من الصبر عليهن، والصبر عليهن خير من الصبر على النار". وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مسكين مسكين رجل لا امرأة له، ومسكينة مسكينة امرأة لا رجل لها" فأخرج ذلك مخرج الرحمة وتارك الواجب لا يرحم. ولأنه لما لم يجب مقصود النكاح وهو الوطء، كان النكاح بأن لا يجب أولى، ولأنه ليس في النكاح أكثر من نيل شهوة وأدارك لذة وليس ذلك بواجب كسائر الشهوات؟ ولأنه لو وجب عليه قطع شهوته بالنكاح لوجب قطعها عنا العجز عنه بما قام مقمامه من دواء وعلاج؟ ولأن ما دعت إليه الشهوات خارج من جملة الواجبات؟ لأن من صفات الواجبات تكلف المشاق فيها وتحمل الأثقال لها، فأما الآية فقد جعلناها دليلا. وأما الخبر فهو أمر بالنكاح للمكاثرة بالأولاد, ولأنه قال: "تناكحوا تكثروا فإن

أباهي بكم الأمم حتى السقط". وليست المكاثرة واجبة وكذلك ما جعل طريقا إليها. أما قوله: إن فيه تحصين النفس فإنما يجب من تحصين النفس ما خيف منه التلف وليس في ترك النكاح خوف التلف. وأما قوله لما لزمه إعفاف أبيه لزمه إعفاف نفسه. فقد كان أبو علي بن خيران يقول: إنه إعفاف أمته لا يجب عليه كما لا يجب عليه إعفاف أبيه وظاهر المذهب وجوبه ولا يجب عليه في نفسه كما يلزمه في حق أبيه القيام بكفايته من القوت والكسوة ولا يلزمه ذلك في حق نفسه، فكذلك النكاح. فأما قول عمر لأبي الزوائد: "ما منعك من النكاح إلا عجز أو فجور" فهو على طريقة الترغيب د ون الوجوب ولو كان واجبا لزمه وأما قول معاذ: زوجوني لا ألقى الله عزباً فقد قيل: إنه كان ذا أولاد ويجوز أن يكون اختار ذلك ندباً. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمَنْ لَمْ تَتُقْ نَفْسُهُ إِلَى ذَلِكَ فَأَحَبًّ إلَىَّ أَنْ يَتَخَلَّى لِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى. قَالَ: وَقَدْ ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى: {والْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ} [النور: 60] وَذَكَرَ عَبْداً أَكْرَمهُ فَقَالَ: "سَيَّداً وَحَصُراً" وَالحَصُورُ الَّذِي لَا يَاتِي النَّسَاءَ وَلَمْ يَنْدُبْهُمَّ إِلَى النَّكَاحِ فَدَلَّ أَنَّ المَنْدُبَ إلَيْه مَنْ يَحْتَاجُ إلَيْه" قال في الحاوي: وهذا صحيح وجملته أنه لا يخلو حال الإنسان من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون تائق النفس إلى النكاح شديد الشهوة له تنازعه نفسه إليه وان لم يحدثها به، فهذا مناوب إلى النكاح ومأمور به, ونكاحه أفضل من تركه، لئلا تدعوه شدة الشهوة إلى مواقعة الفجور، وفي مثله وردت أخبار الندب. والثاني: أن يكون مصروف الشهوة عن غير تائق إليه. ومتى حدث نفسه به لم ترده فالأفضل لمثل هذا أن لا يتعرض له وتركه أفضل له من فعله. لئلا يدعوه الدخول فيه إلى العجز عما يلزمه من حقوق وفي مثله وردت أخبار الكراهة. وقد أثنى الله تعالى على يحيى بن زكريا في ترك النساء فقال: {وسَيِّدًا وحَصُورًا} [آل عمران: (39)] وفيه تأويلان: أحدهما: أن السيد: الخليفة، والحصور: الذي لا يأتي النسا،، وهذا قول قتادة. والثاني: أن السيد: الفقيه: والحصور الذي لا يقدر محلى إتيان النسا،، وهذا قول سعيد بن المسيب. وذكر الله تعالى: {والْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا} [النور: (60)]. والقواعد: هن اللاتي قعدن بالكبر عن الحيض والحمل فلا يردن الرجال ولا يريدهن الرجال. والثالث: أن يكون معتدل الشهوة إن صبرت نفسه عنه صبر، وان حاثها به فسدت

فلا يخلو حاله من أحد الأمرين: إما أن يكون مشتغلًا بالطاعة أو مشتغلًا بالدنيا، فإن كان مشتغلًا بطاعة من عباده أو علم فتركه للنكاح تشاغلًا بالطاعة أفضل له وأولى به، وإن كان متشاغلًا بالدنيا فالنكاح أولى من تركه لأمرين: أحدهما: للتشاغل به عن الحرص في الدنيا. والثاني: لطلب الولد، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده". وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سبع يجري على العبد أجرهن بعد موته من كري نهرًا، أو حفر بئرًا أو وقف وقفًا، أو ورق مصفحًا، أو بني مسجدًا" أو علم علمًا، أو خلف ولدًا صالحًا يدعو له، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ المَرْأَةَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيْهَا حَاسِرَةً وَيَنْظُرُ إِلى وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا وَهِيَ مُتَغَطِّيَةٌ بِإِذْنِهَا وَبِغَيْرِ إِذْنِهَا. قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31] قَالَ: "الوَجْهُ وَالكَفَّانِ". قال في الحاوي: قد مضى الكلام أن وجه المرأة وكفيها ليس بعورة في كتاب الصلاة لقوله تعالى: {ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور: 31]. قال الشافعي: الوجه والكفان وهو قول الحسن وسعد بن جبير وعطاء، وقال ابن عباس والمسور بن مخرمة: هو الكحل. والخاتم عبارة عن الوجه بالكحل وعن اليدين بالخاتم فإذا أراد الرجل أن يتزوج المرأة جاز له أن ينظر إلى وجهها وكفيها لا غير. وقال أبو حنيفة: ينظر إلى الوجه والكفين إلى ربع الساق. وقال داود: ينظر منها إلى ما ينظر من الأمة إذا أراد شرائها. ورواء الأشهب عن مالك، وروى عن الأشهب مثل قولنا. وقال المغربي: لا يجوز أن ينظر إلى شيء منها. فأما أبو حنيفة فإنه اعتبر القدمين بالكفين؛ لأنه أحد الطرفين فلم يجعلها عورة. والكلام معه في حدّ العورة قد مضى، وأما داود: فاستدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أراد أحدكم خطبة امرأة فليولج بصره فيها فإنما هو مسر". وأما المغربي فإنه استدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا علي لا تتبع النظرة

النظرة فإن الأولى لك والثانية عليك". ودليلنا على أبي حنيفة قوله تعالى: {ولا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} [النور: 31] يعني الساقين. ودليلنا على داود قوله تعالى: {ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} يعني الوجه والكفين. ويدل عليها ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن أسماء دخلت على عائشة وعليها ثوب رقيق فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أما علمت أن المرأة إذا حاضت حرم كل شيء منها إلا هذا" وأشار إلى وجهه وكفيه. ودليلنا على المغربي رواية جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أراد أحدكم خطبة امرأة فلينظر إلى وجهها وكفيها فإن في أعين الأنصار شيئًا أو قال: سواء". وروى أبو الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قذف الله في قلب أحدكم خطبة امرأة فليتأمل خلقتها". وروى أبو بكر محمد بن عمر بن حزم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما النساء لعب فإذا اتخذ أحدكم لعبة فليستحسنها". وروى بكر بن عبد الله عن المغيرة بن شعبة أنه خطب امرأة من الأنصار فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اذهب فانظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" وفي يؤدم قولان: أحدهما: وهو قول أصحاب الحديث: أنه يعني يدوم فقدم الواو على الدال كما قال في ثمر الأراكة: "كلوا منه الأسود فإنه أطيب". بمعنى أطيب فيكون مأخوذًا من الدوام. والقول الثاني: وهو قول أهل اللغة أنه المحابة وأن لا يتنافروا مأخوذًا من إذام الطعام؛ لأنه يطيب به فيكون مأخوذًا من إدام لا من الدوام. ثم من حر الدليل على جواز أن ينظر المعقود عليه أبلغ من صحة العقد من فقده فاقتصر على نظر الوجه والكفين لخروجهما عن حكم العروة، وأن في الوجه ما يستدل به على الجمال. وفي الكفين ما يستدل به على خصب البدن ونعمته فأغناه ذلك عن النظر إلى غيره. فصل: فإذا ثبت ذلك جاز نظره بإذنها وبغير إذنها. وقال مالك: لا يجوز أن ينظر إلا بإذنها، ودليله رواية جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن خطب أحدكم امرأة فإن استطاع أن ينظر إلى ما يدعوه إلى نكاحها فليفعل". قال: فخطبت جارية فكنت أتخبأ لها حتى

باب ما على الأولياء وإنكاح الأب البكر بغير إذنها

رأيت ما دعاني إلى نكاحها؛ ولأنه إن كان النظر مباحًا لم يفتقر إلى إذن، وإن كان محظورًا لا يستبح بالإذن. فصل: فإذا تقرر ما ذكرنا لم يخل نظر الرجل الأجنبي إلى المرأة الأجنبية من احد الأمرين: إما أن يكون لسبب أو لغير سبب، فإن كان من غير سبب منع لقوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ ويَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} [النور: 30] ومنعت من النظر إليه لقوله تعالى: {وقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ ويَحْفَظْنَ فَرُوجَهُنَّ} [النور: 31]؛ وأن نظر كل واحد منهما إلى صاحبه داعية إلى الافتنان به، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم صدق وجه الفضل بن العباس وكان رديفه بمنى إلى الخثعمية وكانت ذات جمال، وقال: "شاب وشابة وأخاف أن يدخل الشيطان بينهما". فإن نظر كل واحد منهما إلى عورة صاحبه كان حرامًا، وإن نظر إلى عورة غيره كان مكروهًا، فإن كان النظر لسبب فضربان: محظور ومباح؛ فالمحظور: كالنظر بمعصية وفجور فهو أغلظ تحريمًا وأشد مأثمًا من النظر بغير سبب، والمباح: على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون لضرورة كالطبيب يعالج موضعًا من جسد المرأة فيجوز أن ينظر إلى ما دعت الحجة إلى علاجه من عورة ويرها. إذا أمن الافتتان بها، ولا يتعدى بنظره إلى ما لا يحتاج إلى علاجه. والثاني: أن يكون لتحمل شهادة أو حدوث معاملة فيجوز أن يعمد للنظر إلى وجهها دون كفيها لأته إن كان شاهدًا فليعرفها في تحمل الشهادة عنها وفي أدائها عليها وإن كان مبايعًا فليعرف من يعاقده. والثالث: أن يريد خطبتها فهو الذي جوزنا له تعمّد النظر إلى وجهها وكفها بإذنها وغير إذنها. ولا يتجاوز النظر إلى ما سوى ذلك من جسدها وبالله التوفيق. باب ما على الأولياء وإنكاح الأب البكر بغير إذنها ووجه النكاح والرجل يتزوج أمته ويجعل عتقها صداقها قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: {فَدَلَّ كِتَابُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ سُنَّةُ نَبِيَّهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَنّ حَقًا عَلَى الأَوْلِيَاءِ أَنْ يُزَوِّجُوا الحَرَائِرَ البَوَالِغَ إِذَا أَرَدْتَ النِّكَاحَ وَدَعَوْنَ إِلِى رِضًا قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وإذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعُروفِ} [البقرة: 232] قَالَ: وَهَذِهِ أَبِيْنُ لآيَةٍ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى دَلَالَةً عَلَى أَنْ لَيْسَ لِلْمَرأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ وَلِيِّ. قَالَ: وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ نَزَلَتْ فِي مَعْقِل بْنِ

يَسَارٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَذَلِكَ أَنَّهُ زَوَّجَ أُخْتَهُ رَجُلًا فَطَلَّقَهَا فَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا ثُمَّ طَلَبَ نِكَاحَهَا وَطَلَبَتْهُ فَقَالَ: زَوَّجْتُكَ أُخْتِي دُونَ غَيْركَ ثُمَّ طَلَّقْتَهَا لَا أُنْكِحُهَا أَبَدًا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ". قال في الحاوي: بدأ الشافعي في هذا الفصل بها على الأولياء من نكاح الأيامى إذا دعون إلى رضي ووجوبه على الأولياء معتبر بخمش شرائط. وهو أن تكون حرة بالغة عاقلة تدعو إلى كفء عن تراضٍ فيلزمه إنكاحها. ولا يسوغ له منعها لقوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعُروفِ} [البقرة: 232]. وفي العضل قولان: أحدهما: أنه المنع ومنه قولهم: داء عضال إذا اقتنع من أن يداوي وفلان عضلة أي داهية لأنه امتنع بدهائه. والثاني: أنه الضيق ومنه قولهم: قد أعضل بالجيش القضاء إذا ضاق بهم وقول عمر: قد أعضل بي أهل العراق لا يرضون عن والٍٍ ولا يرضى عنهم والٍ وفي قوله: {إذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعُروفِ} تأويلان: أحدهما: إذا تراضا الزوجان بالمهر. والثاني: إذا رضيت المرأة بالزواج المكافئ وفيمن نزلت هذه الآية قولان: أحدهما: وهو الأشهر أنها نزلت في معقل بن يسار زوج أخته رجلًا ثم طلقها وتراضيا بعد العدة أن يتزوجها معضلها وحلف أن لا يزوجها فنهاه الله تعالى عن عضلها وأمره أن يزوجها ففعل. وهذا قول الحسن ومجاهد وقتادة والشافعي. والثاني: أنها نزلت في جابر بن عبد الله مع بنت عم له. وقد طلقها زوجها ثم خطبها فعضلها وهذا قول السدي. فصل: فإن أرادت المرأة أن تنفرد بالعقد على نفسها من غير ولي فقد اختلف الفقهاء فيها على ستة مذاهب. مذهب الشافعي منها: أن الولي شرط في نكاحها لا يصح العقد إلا به وليس لها أن تنفرد بالعقد على نفسها وإن أذن لها وليها سواء كانت صغيرة أو كبيرة شريفة أو دنية بكرًا أو ثيبًا. وبه قال من الصحابة عمر، وعلي، وابن العباس، وابن عمر، وعائشة رضي الله عنهم. ومن التابعين: الحسن، وابن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، وشريح، والنخعي، ومن الفقهاء: الأوزاعي، والثوري، وابن أبي ليلى، وأحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة: إن لم يكن عليها في مالها ولاية لبلوغها وعقلها لم يكن عليها في نكاحها ولاية جاز أن تنفرد بالعقد على نفسها وترده إلى من شاءت من رجل أو امرأة ولا اعتراض عليها من الوالي إلا أن تضع نفسها في غير كفء وإن كان عليها في مالها

ولاية لجنون أو صغر لم تنكح نفسها إلى بولي. قال مالك: إن كانت ذات شرف أو جمال أو مال صح نكاحها بغير ولي. وقال داود: إن كانت بكرًا لم يصح نكاحها إلا بولي وإن كانت ثيبًا صحّ بغير ولي. وقال أبو ثور: إن أذن لها وليها وجاز أن تعقد على نفسها وإن لم يأذن لها لم يجز. وقال أبو يوسف: تأذن لمن شاءت من الرجال في تزويجها دون النساء ويكون موقوفًا على إجازة وليها. فأما أبو حنيفة فاستدل بقوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْروفِ} [البقرة: 234] فنسب النكاح إليهن ورفع الاعتراض عنهن وبرواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأيم أحق بنفسها من وليه والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها". وبرواية نافع بن جبير وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس لولي الثيب أمرًا" وبما روي أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "إن أبي- ونعم الأب هو- زوجني بابن أخ له ليرفع بي خسيسته، فرد نكاحها. فقالت: قد أخذت ما فعل أبي وإنما أردت ليعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء، ولأن كل من جاز له التصرف في ماله جاز له التصرف في نكاحه كالرجل طردًا والصغير عكسًا ولأنه عقد يجوز أن يتصرف فيه الرجل فجاز أن تتصرف فيه المرأة كالبيع ولأنه عقد على منفعته فجاز أن تتولاه المرأة كالإجارة ولأن لما جاز تصرفها في المهر وهو بدل من العقد جاز تصرفها في العقد، وتحريره: أن من جاز تصرفه في البدل جاز تصرفه في المبدل كالبالغ في الأموال طردًا والصغير عكسًا، والدلالة على جماعتهم قوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعُروفِ} [البقرة: 232] فدلت الآية على ثبوت الولاية من وجهين: أحدهما: نهى الأولياء عن عضلهن. والعضل: المنع في أحد التأويلين والتضيق في التأويل الآخر. فلو جاز لهن التفرد بالعقد لما أثر عضل الأولياء ولما توجه إليهم نهى. والثاني: قوله في سياق الآية: {إذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُم بِالْمَعُروفِ} [البقرة: 232]. والمعروف ما تناوله العرف بالاختيار وهو الولي وشاهدان. فإن قيل: فالمنع من العضل إنما توجه إلى الأزواج لتقديم ذكرهم دون الأولياء الذين ليس لهم في الآية ذكر فعن ذلك جوابان: أحدهما: أنه لا يجوز توجيه النهي إلى الأزواج؛ لأنه إن عضل الزوج قبل العدة فحق لا يجوز أن ينهى عنه، وإن عضل بعد العدة فهو غير مؤثر. والثاني: أن ما روي من سبب نزولها في معقل بن يسار في أشهر القولين أو جابر في أعفهما يوجب حمله على الأولياء دون الأزواج، وليس ينكر أن يعود الخطاب إليهم

وإن لم يتقدم لهم ذكرًا إذًا دل الخطاب عليه كما قال: {إنَّ الإنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وإنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7)} [العاديات: 6 - 7] يعني الله تعالى: {وإنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8)} [العاديات: 8] يعني الإنسان، وقال تعالى: {بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25]، أي أوليائهن فجعل إذن الأولياء شرطًا في نكاحهن، فدل على بطلانه لعدمه. ويدل على ذلك من السنة ما رواه ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وأبو هريرة، وعائشة، وأنس، وعمران بن الحصين، وأبو موسى. وأثبتت الروايات رواية أبي موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بولي". وروى ابن عباس: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" فكان على عمومه في كل نكاح من صغيرة وكبيرة وشريفة ودنية وبكر وثيب. فإن قالوا: نحن نقول بموجبه؛ لأن المرأة ولية نفسها، فإذا زوجت نفسها كانت نكاحها بولي. فعن ذلك جوابان: أنه خطاب لا يغير، لعلمنا أنه لا نكاح إلا بمنكوحة، ولا يتميز عن سائر العقود وقد خص النكاح به. والثاني: أن قوله: "لا نكاح إلا بولي" يقتضي أن يكون الولي رجلًا، ولو كانت هي المراد لقال: لا نكاح إلا بوليه، ويدل عليه ما رواه الشافعي عن مسلم بن خالد الزنجي عن ابن جريج عن سليمان بن موسى عن الزهري عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل، وإن سها فلها المهر بما استحل من فرجها فإن اشتجروا- أو قال:- اختلفوا- فالسلطان ولي من لا ولي له" وهذا نص إبطال النكاح بغير ولي من غير تخصيص ولا تمييز واعترضوا على هذا الحديث بثلاث أسئلة: أحدها: أن قالوا: مدار هذا الحديث على رواية الزهري وقد روي عن ابن علية عن ابن جريح أنه قال: لقيت الزهري فسألته عنه قال: لأ أعرفه وعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه قد رواه عن الزهري أربعة: سليمان بن موسى، ومحمد بن إسحاق، وجعفر بن ربيعة، والحجاج بن أرطأة. ورواه عن عروة ثلاثة: الزهري، وهشام بن عروة، وأبو الغصن ثابت بن قيس، فلم يصح إضافة إنكاره إلى الزهري مع العدد الذي رووه عنه، ولو صحّ إنكاره لما أثر فيه مع رواية غير الزهري له عن عروة.

والثاني: ما قاله بعض أصحاب الحديث: أن الزهري أنكر سليمان بن موسى وقال: لا أعرفه، وإلا فالحديث أشهر من أن ينكره الزهري ولا يعرفه، وليس جهل المحدث بالراوي عنه مانعًا من قبول روايته عنه، ولا معرفته شرطًا في صحة حديثه. والثالث: أنه لا اعتبار بإنكار المحدث للحديث بعد روايته عنه، وليس استدامة. ذكر المحدث شرطًا في صحة حديثه، فإن ربيعة روى عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم "قضى باليمين مع الشاهد". ثم نسي سهيل الحديث، فحدث به ربيعة وكان سهيل إذا حدث به قال: أخبرني علي عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم: "قضى باليمين على الشاهد". السؤال الثاني: إن قالوا: هذا الحديث لا يصح عن عائشة فقد رويتموه عنها؛ لأنها زوجت بنت أخيها عبد الرحمن وكان غائبًا بالشام، فلما قدم قال: أمثلي يقتات عليه في بناته فأمضى النكاح. وقيل: ما روته من الحديث أثبت عند أصحاب الحديث مما روي عنها من نكاح ابنة أخيها، وقد ذكر الدارقطني لإبطاله وجوهًا على أن الشافعي قد أفرد للجواب عنه بابًا فنحن نذكره فيه. السؤال الثالث: إن قالوا: هو محمول على من عليها من النساء ولاية بصغر أو رق، وتلك لا يجوز نكاحها إلا بولي، وقد روي في الخبر: أن امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل، فاقتضى صريح هذه الرواية حملها على الأمة، ودليل تلك آكد وإن حمله على الصغيرة وخرجت الحرة الكبيرة في الروايتين، والجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن على جميع النساء في النكاح ولاية لجواز اعتراض الأولياء جميعهن. والثاني: أن حمله على الصغير لا يجوز من وجهين: أحدهما: لاستواء الصغير والصغيرة فيه، ولانتقاء تخصيص النساء بالذكر تأثير. والثاني: لاستواء النكاح وغيره من العقود فلا يبقى لتخصيص النكاح بالذكر تأثيره. وحمله على الأمة لا يجوز من وجهين: أحدهما: لاستواء العبد والأمة فيه لم يكن لتخصيص الأمة تأثير. والثاني: لقوله في آخر الخبر: "فإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" والسلطان لا يكون وليًا للأمة وإن عضلها مواليها. وروايتهم أنه قال: "أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل". والمولى ينطلق على الولي كما قال الله تعالى: {وإنِّي

خِفْتُ المَوَالِيَ مِن ورَائِي} [مريم: 5]، يعني الأولياء؛ لأنه لم يكن عليه رق فيكون له مولى، على أننا نستعمل الروايتين فتكون روايتنا مستعملة في الحرة، وروايتهم مستعملة في الأمة فلا يتعارضان. ويدل عليه ما رواه ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تنكح المرأة المرأة ولا تنكح نفسها" والتي تنكح هي الزانية. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل نكاح لم يحضره أربعة فهو سفاح؛ الزوج والولي وشاهدان"؛ ولأنه إجماع الصحابة؛ لأنه قول من ذكرنا من الرواة الثمانية، وهو مروي عن عمر، وعلي رضي الله عنهما- أما علي فروى عن الشعبي أنه قال: لم يكن في الصحابة أشد في النكاح بغير ولي من علي بن أبي طالب وأما عمر فروى عنه أنه قال: لا تنكح المرأة إلا بإذن وليها أو ذي الرأي من أهلها أو السلطان. وفيه تأويلان: أحدهما: إلا بإذن وليها إن كان واحدًا، أو ذي الرأي من أهلها إن كانوا جماعة، أو السلطان إن لم يكن لها ولي. والثاني: بإذن وليها إن كان لها ولي، فإن لم يكن ولي زوجها السلطان بمشورة ذي الرأي من أهلها وذوي أرحامها، فهذا قول من ذكرنا من الصحابة، وليس في التابعين مخالف فثبت أنه إجماع، ويدل على ذلك من القياس هو أن من كان من زوائد عقد النكاح كان شرطًا فيه كالشهود؛ ولأن ما اختص من بين جنسه بزيادة عدد كانت الزيادة شرطًا فيه كالشهادة في الزنا، ولأن كل عقد صارت به المرأة فراشًا لم يملكه المفترشة كالأمة، ولأن من عقد على نفسه واعترض عليه غيره في نسخه دل على فساد عقده، كالأمة أو العبد إذا زوجا أنفسهما، ولأن من منع من الوفاء معقود العقد خرج من العقد كالمحجور عليه، ولأنه أحد طرفي الاستباحة فلم تملكه المرأة كالطلاق، ولأن لولي المرأة قبل بلوغها حقين؛ حقًا في طلب الكفاءة، وحقًا في طلب العقد، فلما كان بلوغها غير مسقط لحقه في طلب الكفاءة كان غير مسقط لحقه في مباشرة العقد. ويتحرر من اعتلاله قياسان: أحدهما: أنه أحد حقي الولي فلم يسقط بلوغها كطلب الكفاءة. والثاني: أن كل من ثبت عليها حق الولي في طلب الكفاءة ثبت عليه حقه في مباشرة العقد كالصغيرة. فأما الجواب عن استدلالهم بالآية فمن وجهين: أحدهما: أن المراد برفع الجناح عنهن أن لا يمنعن من النكاح إذا أردنه، فلا يدل على تفردهن بغير ولي كما لم يدل على تفردهن بغير شهود. والثاني: أن قوله: {فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنفُسِهِنَّ بِالْمَعْروفِ} [البقرة: 234] يقتضي فعله على

ما جرى به العرف من المعروف الحسن، وليس من المعروف الحسن أن تنكح نفسها بغير ولي. وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "الأيم أحق بنفسها من وليها". فقد مرّ الجواب عنه أن لأهل اللغة في الأيم قولين: أحدهما: التي لا زوج لها بكرًا كان أو ثيبًا، وإن لم تنكح قط يقال: امرأة أيم إذا كانت خلية من زوج، ورجل أيم إذا كان خليًا من زوجة. والقول الثاني: أنها لا يقال لها أيم إلا إذا نكحت ثم خلت بموت أو طلاق بكرًا كانت أو ثيبًا، ومنه قول الشاعر: فَإِنْ تَنْكِحِي أَنْكَحَ وَإِنْ تَتَأَيَّمِي يَدَا الدَّهْرِ مَا لَمْ تَنْكحِي أَتَأَيَّمُ فأما الأيم في هذا الخبر فالمراد بها الثيب من الخاليات الأيامى دون الأبكار لأمرين: أحدهما: أنه قد روى: "الثيب أحق بنفسها من وليها". والثاني: أنه لما قابل الأيم بالبكر اقتضى أن تكون البكر غير الأيم لأن المعطوف عليه وليس غير البكاء إلا الثيب فلهذا عدل بالأيم عن حقيقة اللغة إلى موجب الخبر. فإذا تقررت هذه المقدمة فعن الخبر ثلاثة أجوبة: أحدها: أنها أحق بنفسها في أنها لا تجبر إن أبت ولا تمنع إن طلبت تدل تفردها بالعقد من غير شهود. والثاني: أنه جعل لها وليًا في الموضع الذي جعلها أحق بنفسها فوجب أن لا يسقط ولايته عن عقدها ليكون حقها في نفسها وحق الولي في عقدها فيجمع بين هذا الخبر وبين: "لا نكاح إلا بولي" في العقد. والثالث: أن لفظة "أحق" موضوعة في اللغة للاشتراك في المستحق إذا كان حق أحدها فيه أغلب كما يقال زيد أعلم من عمرو وإذا كانا عالمين. وأحدهما أفضل وأعلم ولو كان زيد عالمًا وعمرو جاهلًا لكان كلامًا مردودًا لأنه لا يصير بمثابة قول العالم أعلم من الجاهل. وهذا الفرد إذا كان ذلك موجبًا لكل واحد منهما حق وحق الثيب أغلب. فالأغلب أن يكون من جهتها الإذن والاختيار من جهة قبول الإذن في مباشرة العقد. وأما قوله: "ليس للولي مع الثيب أمرًا" فالأمر هو الإجبار والإلزام وليس للولي إجبار الثيب وإلزامها ولا يقتضي ذلك أن ينفرد بالعقد دون وليها ولا تنفرد به دون الشهود. فأما حديث المرأة التي زوجها أبوها فرواية عكرمة ابن فلان. فإن كان مولى ابن عباس فهو مرسل الحديث لأنه تابعي ولم يسنده والمرسل ليس بحجة وإن كان غيره فهو مجهول

وجهالة الراوي تمنع من قبول حديثه ثم لا حجة فيه لو صحّ؛ لأنه رد "نكاحًا انفرد به الولي وإنما يكون حجة لو أجاز نكاحًا" تفردت به المرأة. وأما قياسهم على الرجل فالمعنى في الرجل أنه لما لم يكن للولي عليه اعتراض في الكفاءة لم تكن له في العقد عليها ولاية. وكذا الجواب عن قياسه على عقد الإجارة أنه ليس للولي اعتراض فيه فلم يكن له ولاية عليه. وليس كذلك عقد نكاحها. وأما قياسه على المهر فعندهم أن للولي أن يعترض عليها فيه ويمنعها بأن تتزوج بأقل من مهرها ثم هو منتقص بقطع الأطراف في إبدالها من الدية ولا ينصرف فيها بالقطع والإباحة. فرع: وأما مالك ففرق بين الشريفة والدنية بأن الولي يراد لحفظ المرأة أن تضع نفسها في غير كفء والدنية مكافئة لكل الأدنياء فلم يبق لوليها نظر واحتياط في طلب الأكفاء فجاز عقدها بغير ولي ولم يجز عقد الشريفة إلا بولي وهذا القول غير صحيح لأنه ليس من دنية إلا وقد يجوز أن يكون في الرجال من هو أدنى منها فاحتيج إلى احتياط الولي فيها ثم لو غلب عليه فرقة فقبل الشريفة يمنعها كرم أصلها من وضع نفسها في عير كفء فلم يحتج إلى احتياط الولي. والدنية يمنعها لؤم أصلها على وضع نفسها في غير كفء لكان مساويًا لقوله فوجب إسقاط الفرق بينهما. ثم يقال له لما يكن هذا الفرق مانعًا من استوائهما في الشهادة فهلا كان غير مانع من استوائهما في الولي من كون النصوص في الولي عامة لا تخص بمثل هذا الفرق. فرع: وأما داود فخص الثيب بالولاية دون البكر لقوله صلى الله عليه وسلم: " ليس للولي مع الثيب أمر" ليطابق بين الإخبار في الاستعمال وقد قدمنا وجه استعمالها وأن الفرق بينهما واقع في الإخبار فكان جوابًا. ثم فرق داود بين البكر والثيب. بأن الثيب قد خبرت الرجال فاكتفت بخبرتها عن اختيار وليها والبكر لم تخبر فافتقرت إلى اختيار وليها وهذا فرق فاسد وعكسه عليه أولى؛ لأن خبرة الثيب بالرجال تبعثها على فرط الشهوة في وضع نفسها، فمن قويت فيه شهوتها والكبر لعدم الخبرة أقل شهوة فكانت لنفسها أحفظ على الشهوة مذكورة في طباع النساء قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خلقت المرأة من الرجل في الرجل" فغلب حكم الشهوة في جميعهن ثيبًا وأبكارًا حتى يمنعن من العقد إلا بولي يحتاط لئلا تغلبها فرط الشهوة على وضع نفسها في غير كفء، فيدخل به العار على أهلها. فرع: وأما أبو ثور: فراعى إذن الولي دون عقده لقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت بغير إذن

وليها فنكاحها باطل" فكما يراعى في نكاح السفيه إذن الولي دون عقده كذلك هذا وهذا خطأ؛ لأن صريح الخبر يقتضي بطلان النكاح لعدم إذنه ودليل خطأه نقيض صحة النكاح بوجود إذنه. وهو متروك لأمرين: أحدهما: لما رواه معاذ بن معاذ عن ابن جريج بإسناده المتقدم ذكره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهما: "أيما امرأة لم ينكحها وليها فنكاحها باطل". والثاني: أن إذن الولي الذي يصح به النكاح هو إذن لمن ينوب عنه وهو الوكيل والمرأة لا تصح أن تكون نائبًا عنه لأن الحق عليها فلم تكن هي النائبة فيه لاختلاف القرضين فجرى مجرى الوكيل في البيع الذي لا يجوز أن يبيع على نفسه لاختلاف عرضه وعرض موكله وليس لاعتبار بالإذن للسفيه وجه؛ لأن الحجر على السفيه في حق نفسه والحجر على المرأة في حقوق الأولياء فافترقا. فرع: وأما أبو يوسف فاعتبر أن يعقد رجل عن إذنها لقصورها عن مباشرة العقد بنفسها وجعله موقوفًا على إجازة وليها لما فيه من حق في طلب الأكفاء. وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: هو أنها كانت مالكة للعقد إلى الاستتابة. وإن كانت غير مالكة لم يصح منها الاستتابة. والثاني: أنه إن كانت الاستتابة شرطًا لم تحتج إلى إجازة, وإن لم تكن شرطًا لم تحتج إليها فصار مذهبه فاسد من هذين الوجهين. مسألة: قال الشافعي: "ورَوَت عَائِشَةُ رضي الله عنها أنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "أَيُمَا امرَأَةٍ نُكِحَت بِغَيرِ إِذنِ وَليَّهَا فَنِكَاحُهَا باَطِلٌ ثَلاثًا فَإِن مَسَّهَا فَلَهَا المَهرُ بِمَا استَحَلَّ مِن فَرجِهَا فَإن اشتَجَرُوا أو قَالَ اختَلَفُوا فَالسُلطَانُ وَلِيَّ مَن لا وَليَّ لَهُ. قَالَ: وفي ذَلِكَ دَلَالَاتٌ: مِنهَا أنَّ لِلوَلِيُ شِركًا في بُعضِهَا لا يَتِمُّ النِكاحُ إلَا بِهِ مَا لَم يَعضِلهَا وَلاَ نَجِدُ لِشِركِهِ في بُعضِهَا مَعنًى إلَّا فَصلَ نَظَرِهِ لِحياطَةِ المَوضِع أَن يَنَالَها مِن لَا يُكَافِئَهَا نَسَبُهُ وفي ذَلِكَ عَارٌ عَليهِ, وَأنَّ العَقدَ بِغَيرِ وَليِّ بَاطِلٌ, لا يَجُوزُ بِإجَازتِهِ وأنَّ الإصَابَةَ إذا كانَت بِشُبهَةٍ فَفِيهَا المَهرُ وَدُرِئ الحَدُّ". قال في الحاوي: ذكر الشافعي بعد استدلاله بهذا الحديث ما تضمنه ودل عليه من الفوائد والأحكام نصًا واستنباطًا منها قوله: "أيما امرأة" فذكر خمسة أحكام وذكر أصحابه ثلاثين حكمًا سواها فصارت خمسة وثلاثين حكمًا أخذت دلائلها من الخبر بنص واستنباط منها في قوله: "أيما امرأة" أربعة دلائل:

(أحدها): أن "أي" لفظة عموم له صيغة ليناوله جميع ما اشتمل عليه فخالف قول داود أنه لا صيغة للعموم. والثاني: أن "ما" المتصلة بأي صلة زائدة لأنها لو صدفت فقيل: أي امرأة صحّ مثله قوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ} [آل عمران: 159] أي فبرحمة من الله فدل على جواز الصلة الزائدة في الكلام وإن تعلقت به أحكام. والثالث: اشتماله على جميع النساء من صغيرة وكبيرة يخالف قول أبي حنيفة, وشريفة ودنية يخالف قول مالك, وبكر وثيب يخالف قول داود. والرابع: خروج الرجال عن حكم النساء في ولاية النكاح لتخصيصهم بالذكر. ومنها قوله: "نكحت بغير إذن وليها" خمسة دلائل: أحدها: أن اسم النكاح حقيقة في العقد فجاز في الوطء مخالف قول أبي حنيفة. والثاني: ثبوت الولاية على جميع النساء في نكاحهن قول من قدمنا خلافه. والثالث: أن للولي أن يوكل؛ لأن إذنه لا يصح إلا لوكيل ينوب عنه. والرابع: أن لا ولاية لوصي؛ لأنه ليس بولي ولا نائب عمن في الحال ولي. والخامس: أن العقد فاسد قد يضاف إلى عاقده وإن لم يلزمه. ومنها في قوله: "فنكاحها باطل, فنكاحها باطل, فنكاحها باطل" ستة دلائل: أحدها: بطلان النكاح بغير ولي بخلاف قول من أجازه بغير ولي. والثاني: لا يكون إذا بطل موقوفًا على إجازة الولي بخلاف قول أبي حنيفة. والثالث: أن النكاح فاسد لا يفسخ بطلقة وإن كان مختلفًا فيه بخلاف قول مالك. والرابع: أن النكاح الفاسد يسمى نكاحًا. والخامس: أن الإضافة قد تكون حقيقة ومجازًا. والسادس: جواز تكرار اللفظ وزيادة في البيان وتوكيد للحكم؛ لأنه قال: فنكاحها باطل ثلاثًا. ومنها قوله: "وإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها" خمسة عشر دليلًا: أحدها: أن الميس عبارة عن الوطء. والثاني: أن الوطء في النكاح الفاسد موجب للمهر. والثالث: أنه لا يوجب الحدّ مع العلم والجهل. والرابع: أن النكاح الفاسد إذا خلا من الإنابة لم يجب فيه المهر. والخامس: أن الخلوة لا تكمل بها المهر بخلاف قول أبي حنيفة. والسادس: أن المستكرهة على الزنا يجب لها المهر بما استحل من فرجها بخلاف قول أبي حنيفة. والسابع: أن الإصابة في كل واحد من الفرجين من قبل أو دبر يوجب المهر؛ لأنه فرج.

والثامن: أن ذات الزوج إذا أصيبت بشبهة فلها دون الزوج بخلاف قول من جعله للزوج. والتاسع: أن الموطوءة بشبهة يكون لها المهر لا بيت المال بخلاف قول من جعله لبيت المال. والعاشر: أتكرار الوطء في النكاح الفاسد لا يجب به إلا المهر مرة واحدة ما لم تغرم عما تقدم به. والحادي عشر: أن الإصابة دون الفرج لا توجب المهر. والثاني عشر: أن الغارة للزوج يسقط عنه مهره بالغرور. والثالث عشر: أن الموطوءة في العدة بشبهة أو نكاح فاسد كالموطوءة في نكاح صحيح في لحومة النسب, ووجوب العدة تحريم المصاهرة لاستوائهما في وجوب المهر, ولحوق النسب والعدة وتحريم المصاهرة. والخامس عشر: أن المهر إذا استحق بالإصابة في نكاح فاسد فهم مهر المثل دون المسمى, سواء كان أقل منه أو كثر, بخلاف قول أبي حنيفة: أنه يوجب أقل الأمرين من مهر المثل أو المسمى. وأما قوله "فإن تشاجروا فالسلطان ولي من لا ولي له" خمسة دلائل: أحدها: أن العصبة أحق بالولاية عليها من السلطان. والثانية: أنهم إذا عدموا انتقلت الولاية عليها إلى السلطان. والثالث: أن الأقرب من عصبتها أولى من الأبعد, كما أن العصبة لقربهم أولى من السلطان. والرابع: أن الأولياء إذا كانوا في درجة واحدة لم يكن أحدهم إذا اشتجروا أحق من الباقين إلا بقرعة أو تسليم. والخامس: أنهم إذا اشتركوا في نكاحها عضلاً لها لا تنازعًا فيها زوجها السلطان, والاشتجار عضلاً؛ أن يقول كل واحد منهما: زوجها أنت ليصبروا جميعًا عضلة فزوجها السلطان, والاشتجار إن تنازعا أن يقول كل واحد منهم: أنا زوجها فلا تنقل الولاية إلى السلطان؛ لأنهم غيرة عضلة بل يقرع بينهم وبزوجها من فرع منهم. مسألة: قال الشافعي: "وجمعت الطريق رفقة فيهم امرأة ثيب فولت أمرها رجلا منهم فزوجها فجلد عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناكح والمنكح ورد نكاحهما".

قال في الحاوي: وهذا الأمر المروي عن عمر وإن كان دليلاً على إبطال النكاح بغير ولي, فالمقصود به على المتناكحين بغير ولي من الأحكام, فإذا تناكح الزوجان بغير ولي فلا يخلو حالهما من أن يترافعا فيه إلى الحاكم لم يخل حال من أحد الأمرين: إما أن يكون شافعيًا يرى إبطال النكاح بغير ولي, أو يكون حنفيًا يرى جواز النكاح بغير ولي, فإن كان شافعيًا يرى إبطال النكاح بغير ولي, حكم بإبطاله وفرق بينهما, فإن اجتمعا حكم فيه بمذهبه وقضى بينهما على الإصابة بعد تفريق الحاكم بينهما كانا زانيين عليهما الحد؛ لأن شيهة العقد قد ارتفعت بحكم الحاكم بينهما بالفرقة, فلو ترافعا بعد إبطال الحاكم الشافعي إلى حاكم حنفي لم يكن له أن يحكم بجوازه لنفوذ الحكم بإبطاله, وإن كانا في الابتداء قد ترافعا إلى حاكم حنفي يرى صحة النكاح بغير ولي, فحكم بينهما بصحته, وأذن لهما بالاجتماع فيه, فلم يكن عليهما في الإصابة حدّ لنفوذ الحكم بالإباحة, فلو ترافعا بعد الحكم الحنفي بصحة إلى حاكم شافعي فهل له أن يحكم بإبطاله وينقص الحكم الحنفي بصحته وإمضائه أم لا؟ على وجهين: أحدهما: له الحكم بإبطاله ونقص حكم الحنفي بإمضائه, لما فيه من مخالفة النص في قوله: "فنكاحها باطل" ثلاثًا. الثاني: أنه ليس له أن ينقص حكمًا قد نفذ باجتهاد والنص فيه من أخبار الآحاد. فرع: وإذا لم يترافعا فيه إلى الحاكم ولا حكم فيه بأحد الأمرين من صحة أو إبطال, فإن لم يجتمعا فيه على الإصابة حتى افترقا فلا عدة عليهما؛ ولا مهر لها, وإن مات أحدهما لم يتوارثا, وإن اجتمعا فيه على الإصابة لم تخل حالهما من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يعتقد الإباحة. والثاني: أن يعتقدا تحريمه. والثالث: أن يجهلا حكمه. فإن اعتقدا الإباحة لاعتقادهما مذهب أبي حنيفة فيه فلا حدّ عليهما. لاستباحتهما له من اجتهاد مسوغ فإن قيل: أفليس لو شرب النبيذ من اعتقد مذهب أبي حنيفة في إباحته حددتموه فهلا حددتم هذا مع اعتقاده إباحته؟ قيل: الفرق بينهما في وجهين: أحدهما: أن الشبهة في النكاح بغير ولي أقوى لتردده بين أصلي حظر من زنا وإباحة من نكاح, وإباحة الشبهة في النبيذ الذي لا يرجع إلا أصل واحد في الحظر والتحريم وهو الخمر. والثاني: أن النكاح الذي عقده ولي جعل له سبيل بولي, فاقتصر في الزجر عنه مجرد النهي, وليس كالنبيذ الذي لا سبيل إلى استباحته فلم يقتصر في الزجر

عنه على مجرد النهي حتى يضم إليه حكم هو أبلغ في الزجر, ليكون أمنع من الإقدام عليه. فرع: وإذا كانا جاهلين بتحريم النكاح بغير ولي فلا حدّ عليهما؛ لأن الجهل بالتحريم أقوى شبهة, وفال النبي صلى الله عليه وسلم: "ادرأوا الحدود بالشبهات" ولأن من جهل تحريم الزنا لحدوث إسلامه لم يحد فكان هذا بدرء الحدّ أولى, ألا ترى أن قول عثمان رضي الله عنه في أمة أقرت الزنا إقرار جاهل بتحريمه: أراها تشهد به كأنها لم تعلم وإنما الحد على من علم. ثم يتعلق على هذه الإصابة من الأحكام ما يتعلق على النكاح الصحيح إلا في المقام عليه, فيوجب العدة ويلحق النسب, ويثبت به تحريم المصاهرة, ولكن في ثبوت المحرمية بها وجهان: أحدهما: تثبت بها المحرم كما تثبت بها تحريم المصاهرة فلا تحجب عن أبيه وابنه, ولا تحجب عنه أمها وبنتها. والثاني: أن يثبت المحرم وإن ثبت به تحريم المصاهرة لأننا أثبتنا تحريم المصاهرة تغليظًا, فاقتضى أن ينتفي عنه الثبوت المحرم تغليظًا. فرع: وإن كانا معتقدين لتحريمه يريان فيه مذهب الشافعي من إبطال النكاح بغير ولي محظور عليهما الإصابة, فإن اجتمعا عليها ووطئها فمذهب الشافعي وجمهور الفقهاء: أنه لا حد عليهما, وقال أبو بكر الصيرفي -من أصحاب الشافعي- وهو مذهب الزهري وأبي ثور. الحدّ عليهما واجب لرواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البغي من نكحت بغير ولي". والأثر المروي عن عمر في المرأة والرجل جمعتهما رفقة فولت أمرها رجلاً منهم فزوجها فجلد الناكح والمنكح والدليل على سقوط الحدّ قوله صلى الله عليه وسلم في الخبر الماضي: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" فأبطل النكاح وأوجب المهر دون الحد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ادرأوا الحدود بالشبهات", وأقوى الشبهات عقد اختلف الفقهاء في إباحته, فكان بإدراء الحد أولى, فأما قوله: "البغي من نكحت بغير ولي" فهي لا تكون بغيًا بالنكاح إجماعًا, وإنما بقول من يوجب الحدّ, إنها تكون بالوطء

بغيًا فلم يكن في التعلق به دليل, ثم يحمى على أنه يتعلق عليها بعض أحكام البغي وهو تحريم الوطء, ولا يمتنع أن يسمى بعض أحكام البغي بغيًا, كما قال صلى الله عليه وسلم: "من ترك الصلاة فقد كفر" فسماه ببعض أحكام الكفر كافرًا, وأما الأثر عن عنر فالجلد فيه عبارة عن التعزير, ألا تراه جلد الناكح والمنكح والحدّ لا يجب على المنكح فدل على أنه عزرهما. فرع: وإذا تناكح الزوجان بغير ولي ثم طلقها ثلاثًا ففي حكم طلاقه وحكم تحريمها عليه حتى تنكح زوجًا غيره وجهان لأصحابنا: أحدهما: يجز عليه حكم الطلاق حتى تنكح زوجًا غيره وهذا قول أبي إسحاق المروزي وأبي علي بن هريرة وأبي سعيد الإصطخري وأبي حامد المروزي اعتبارًا بأغلظ الأمرين: والثاني: وهو قول أبي حامد الإسفراييني ومن عاضده من المتأخرين. وربما كان لهم فيه سلف أن حكم الطلاق لا يجري عليه للحكم بإبطاله وإنما تحل له قبل زوج لأن الطلاق لا يقع إلا في النكاح. وقد بطل أن يكون نكاحًا. فإذا تقرر هذان الوجهان, فإن قيل بهذا الوجه إنه إذا طلقها ثلاثًا لم تحرم عليه أن ينكحها قبل زوج فإنه إذا أصابها لم تحل بإصابته لها للزوج إن كان طلقها قبله ثلاثًا. وإن قيل إنها قد حرمت عليه بطلاقه لها ثلاثًا حتى تنكح غيره فهل تحل إصابته لها الزوج إن كان قد طلقها قبله ثلاثًا أم فيه وجهان: أحدهما: تحل له لإجرائنا على طلاقه حكم الطلاق في النكاح الصحيح. الثاني: أنها لا تحل له لأننا ألزمناه حكم طلاقه تغليظًا عليهما فكان من التغليظ أن لا تحل لغيره بإصابته. فرع: وإذا عدمت المرأة وليًا مناسبًا وكانت في بلد لا حاكم فيه وأرادت نكاح زوج ففيه وجهان: أحدهما: ليس لها نكاح حتى تجد وليًا بحكم أو بنسب كما عدمت الشهود لم يجز أن تتزوج حتى تجد الشهود. والثاني: أن يجوز للضرورة أن تتزوج؛ لأن الولي يراد لنفي العار عنه بتزويج غير الكفء, فإذا عدم زال معناه وخالف الشهود المعقود بهم الاشتياق لحفظ الأنساب, فعلى

هذا إذا جوز لها الترويج ففيه وجهان: أحدهما: أنها تتولاه بنفسها؛ لأن فقد أسقط الولي قد أسقط حكمه. والثاني: أنها تولي أمرها رجلاً يكون بدلاً من وليها حتى لا يخلو العقد من عدده, ويحتمل تخريج هذين الوجهين من اختلاف قولين في الخصمين إذا حكمنا رجلاً هل يلزمهما حكمه كلزوم الحاكم, والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "وَلَا وِلايَةَ لِوَصِيِّ لأنَّ عَارَهَا لاَ يَلحَقُهُ". وهذا كما قال: إذا وصى الأب بتزويج بنته لم يكن لوصيه أن يزوجها صغيرة كانت أم كبيرة, عين له على الزوج أو لم يعين, ولا يزوجها إن كانت صغيرة إلا أن يعين له على الزوج. وقال أبو ثور: يزوجها الوصي بكل حالٍ استدلالاً على ذلك بأمرين: أحدهما: أن للأب ولاية على مالها ونكاحها فلما جاز أن يوصي للولاية على مالها جاز أن يوصي بالولاية على نكاحها. والثاني: أنه لما جاز للأب أن يستنيب في حياته وكيلاً جاز له أن يستنيب بعد موته وصيًا كالمال, وهذا غير صحيح لقوله عليه السلام: "لا نكاح إلا بولي" وليس الوصي وليًا, ولرواية عبد الله بن عمر قال: زوجني خالي قدامة بن مظغون بابنة أخيه عثمان بن مظغون, فمضى المغيرة إلى أمها وأرغبها في المال فمالت إليه وزهدت, فأتى قدامة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أنا عمها ووصي أبيها وما نقموا من ابن عمر إلا أنه لا مال له, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها يتيمة وإنها لا تنكح إلا بإذنها" فرد نكاحه مع كونه وصيًا من غبر أن يستبرئ حال صغرها وكبرها, ولا هل عين الأب على الزوج أم لا؟ فدل على أن النكاح إنما يجاز له؛ لأنه الوصي لا ولاية له, ولأن ولاية النكاح قد انتقلت بموت الأب إلى من يستحقها بنفسه من العصبيات, فصار موصيًا فيما غيره أحق به فكان مردود الوصية كما وصى بالولاية على مال أطفاله ولهم جد إلى غيره بطلت وصيته, كذلك هذا. وتحريره قياسًا: أنها ولاية قد انتقلت من غير تولية فلم يجز نقلها بالوصية كالولاية على المال مع وجود الجد, وفي هذا انفصال عما ذكره من الوصية بالمال ولأن العصبة إنما اختصوا بالولاية في نكاحها لما يلحقهم من عارها بنكاحها غير كفء فصار حق الولاية بينهم مشتركًا لرفع العار عنهم وعنها. وهذا المعنى معدوم في الوصي الذي لا

يلحقه عارها فلم نثبت ولايته لفقد معناها وليس كالوكيل الذي هو نائب غير مستحق لها وهو من ورائه مراعٍ لنفي العار عنه وعنها. مسألة: قال الشافعي: "وَفِي قَولِ النَبِيّ صلى الله عليه وسلم: "الأَيِّمُ أَحَقُ بِنَفسِهَا مِن وَلِيّهَا وَالبِكرُ تُستَأذَنُ فِي نَفسِهَا وَإذنُهَا صَمَاتُهَا" دَلَالَةٌ عَلَى الفَرق بَينَ الثَّيبِ وَالبِكرِ في أَمرَينِ أحدهما أنَ إذنِ البِكرِ الصَمتُ والَّتي تُخَالِفُهَا الكَلاَمُ وَالأخِر أنَّ أَمرَهُمَا في وِلاَيَةِ أَنفُسِهِمَا مُختَلَفٌ فَوِلايَةُ الثَّيِبِ أنَّها أحَقُّ مِنَ الوَليِّ هَهُنَا الأَبُ, واللهِ أعلَمُ دُونَ الأَولِيَاءِ". وهذا كما قال: قد ذكرنا المراد بالأيم هاهنا الثيب لما قدمنا, وإذا كان كذلك فقد استدل الشافعي بهذا الخبر على الفرق بين البكر والثيب في كلمتين: إحداهما: الفرق بينهما في صفة الإذن. والثاني: الفرق بينهما في الإجبار على العقد ونحن نقدم الكلام في الإجبار على العقد, لأنه أصل لم يعقبه بصفة الإذن في موضعه, فتقول: النساء ضربان: أبكار, وثيب, فأما الثيب فيأتي حكمهن. وأما الأبكار فلهن حالتان؛ حالة مع الآباء, وحالة مع غيرهم من الأولياء, فأما حالهن مع الآباء فهن ضربان؛ صغار وكبار, فأما صغار الأبكار فللآباء إجبارهن على النكاح, فيزوج ابنته البكر الصغيرة من غير أن يراعى في اختيارها, ويكون العقد لازمًا لها في صغرها وبعد كبرها. وكذلك الجد وإن علا يقوم في تزويج البكر الصغيرة مقام الأب إذا فقد الأب, والدليل عليه وإن كان وفاقًا قوله تعالى: {واللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ واللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] يعني الصغار, والصغيرة تجب العدة عليها من طلاق الزوج, فدل على جواز العقد عليها في الصغر. وروي عن عائشة أنها قالت: "تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابنة سبع ودخل بي وأنا ابنة تسع ومات عني وأما ابنة ثماني عشر". فرع: وأما البكر فللأب أو للجد عند فقد الأب أن يزوجها جبرًا كالصغيرة, وإنما يستأذنها على استطابة النفس من غير أن يكون شرطًا في جواز العقد, وبه قال ابن أبي ليلى, وأحمد, وإسحاق. وقال أبو حنيفة: ليس للأب إجبار البكر البالغ على العقد إلا عن إذن, وبه قال الأوزاعي, والثوري, فجعل الإجبار معتبرًا بالصغيرة دون البكارة, وجعل الشافعي الإجبار معتبرًا بالبكارة دون الصغر. واستدل من نص قول أبي حنيفة برواية عطاء عن جابر أن رجلاً زوج ابنته وهي بكر فمات, ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما.

وبرواية عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استأمروا النساء في أبضاعهن" فكان على عمومه؛ ولأنها متصرفة في مالها فلا يجوز إجبارها على النكاح كالثيب, ولأن كل من زال عنه الحجر في ماله زال عنه الحجر في نكاحه كالرجال. ودليلنا رواية الشافعي عن مالك عن عبد الله بن الفضل عن نافع بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الثيب أحق بنفسها من وليها" والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها" فلما جعل الثيب أحق بنفسه من وليها علم أن ولي البكر أحق بها من نفسها, ويكون قوله: "والبكر تستأذن في نفسه" محمولاً على الاستحباب دون الوجوب استطابة للنفس؛ لأنه لو كان محمولاً على الوجوب لصارت أحق بنفسها من وليها كالثيب. ومن القياس: أن كل من جاز له قبض صداقتها بعد رضاها جاز له عقد نكاحها بغير رضاها, كالأمة وكالبكر, والصغيرة؛ ولأن ما استحق بالولاية في نكاح الصغيرة استحق بالولاية في نكاح الكبيرة قياسًا على طلب الكفاءة, ولما ذكر الشافعي من أنه: لو لم يكن له تزويجها جبرًا في الكبر لما كان له تفويت بضعها في الصغر, كالطفل يقتل أبوه لما لم يكن لوليه تفويت خياره عليه, وفي القود والدية بعد البلوغ لم يكن له تفويته عليه قبل البلوغ, وكان القاتل محبوسًا حتى يبلغ فيختار أحد الأمرين. فإن قيل: فهذا يبطل بالصبي فإن للأب أن يجبره على النكاح قبل البلوغ وليس له أن يجبره بعد البلوغ. قلنا: ليس في تزويج الابن تفويت لما يقدر على استدراكه؛ لأنه يقدر على الطلاق إن شاء, وله أن يتزوج غيرها من النساء, والثيب لا تقدر على خلاص نفسها من عقد الأب إن لم يشاء. وأما خبر عائشة فهو محمول على الثيب دون البكر تخصيصًا بما ذكرناه, وأما قياسهم على الثيب فالمعنى فيها أنه لما لم يجز للأب قبض صداقها إلا بإذنها لم يجز له عقد نكاحها إلا بإذنها ولما جاز للأب قبض صداق البكر بغير رضاها عند أبي حنيفة وهو أحد قولي الشافعي جاز له أن يعقد نكاحها بغير رضاها؛ لأن التصرف في المبدل معتبرًا بالتصرف في البدل. وأما قياسهم على الرجل, فالمعنى فيه أنه لما لم يكن للأب أن يعترض عليه في نكاحه لم يكن له أن يجبره عليه وليس كذلك البكر. فرع: فإذا ثبت أن للأب إجبار على النكاح صغيرة أو كبيرة, وكذلك الجد وإن علا. وقال ابن أبي ليلى, وأحمد بن حنبل: ليس الإجبار إلا للأب دون الجد. وقال مالك: للجد إجبار الصغيرة كالأب وليس له إجبار الكبيرة بخلاف الأب, وفرقا بين الأب والجد بأن الجد يملك الولاية بوسيط كالإخوة وهذا خطأ لقوله تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] فسماه أبًا إجراء لحكم الأب عليه وإن خالفه في الاسم, ولأنه لما

ثبت ولاية الحد على الأب فأولى أن يثبت على من يلي عليه الأب, ولأنه لما ساوى الجد الأب في الولاية على مالها ساواه في الولاية على نكاحها, ولهذا فرق بينه وبين سائر العصبات. فرع: فأما حال البكر من غير الأب والجد من الأولياء كالإخوة والأعمام, فلا تخلو حالها معهم من أن تكون صغيرة أو كبيرة, فإن كانت كبيرة لم يكن لهم إجبارها إجماعًا, وليس لهم تزويجها إلا بإذنها. والفرق بين الآباء والعصبات, أن الآباء بعضية ليست في العصبات فقويت بها ولايتهم حتى تجاوزت ولاية النكاح إلى ولاية المال فصاروا بذلك أعجز ولأنه من العصبات وإن كانت البكر صغيرة فليس لأحد من العصبات تزويجها بحال. وقال أبو حنيفة: بجميع العصبات تزويجها صغيرة كالأب ولها الخيار إذا بلغت بخلافها مع الأب. وقال أبو يوسف: لهم تزويجها ولا خيار لها كهي مع الأب استدلالاً بقوله تعالى: {ويَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ} إلى قوله: {وتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] قال: واليتيمة من لا أب لها من الصغار والذي كتب لها صداقها فدل على جواز نكاح غير الأب لها, ولأن كل من جاز له تزويجها في الكبر جاز له أن ينفرد بتزويجها في الصغر كالأب, ولأنه لما استوي الآباء والعصبات في إنكاح الثيب وجب أن يستووا في إنكاح البكر, ودليلنا حديث قدامة بن مظعون أنه زوج ابنة أخيه بعبد الله بن عمر فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم نكاحه, فقال: إنني عمها ووصي أبيها, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنها يتيمة وإنها لا تتزوج إلا بإذنها" فلم يجعل له تزويجها إلا بعد البلوغ. ومن القياس: أن كل من لم يملك قبض صداقها لم يملك عقد نكاحها كالعم مع الثيب طردًا أو كالسيد مع أمته عكسًا؛ ولأنها ثبتت للأب في الصغيرة من غير تولية فوجب أن يختص بها من بين العصابات كولاية المال؛ ولأن النكاح إذا لم ينعقد لأن ما كان فاسدًا كالمنكوحة في العدة, ولأن النكاح لا ينعقد بخيار التحكم والاقتراع قياسًا على خيار الثيب, فأما الآية فتحمل على إنكاحها قبل اليتم, أو على إنكاح الجد, لأن اليتم يكون بموت الأب وإن كان الجد باقيًا. وأما قياسهم على الأب فالفرق بينهما في الولاية ما قدمناه في الأخبار وأما جمعهم بين البكر والثيب مردود بافتراقهما في قبض الصداق, والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "وَمِثلُ هَذَاَ حَدِيثُ خَنسَاءَ زَوَّجَهَا أبوهَا وَهِيَ ثَيِبٌ فَكَرِهَت ذَلِكَ

فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم نكاحه وفي تركه أن يقول لخنساء "إلا أن تشائين أن تحيزي ما فعل أبوك" دلالة على أنها لو أجازته ما جاز والبكر مخالفة لها لاختلافهما في لفظ النبي صلى الله عليه وسلم ولو كانا سواء كان لفظ النبي صلى الله عليه وسلم أنهما أحق بأنفسهما. وقالت عائشة رضي الله عنها: تزوجني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا ابنة سبع سنين ودخل بي وأنا ابنة تسع وهي لا أمر لها وكذلك إذا بلغت ولو كانت أحق بنفسها أشبه أن لا يجوز ذلك عليها قبل بلوغها كما قلت في المولود يقتل أبوه ويحبس قاتله حتى يبلغ فيقتل أو يعفو". قال في الحاوي: وهذا كما قال, النكاح الموقوف لا يصح ولا يقع إلا على إحدى حالتين من صحة أو فساد, سواء كان موقوفًا على إجازة الزوجة أو الزوج أو الولي, وكذلك البيع لا يصح أن يعقد موقوفًا على إجازة البائع أو المشتري, وقال أبو حنيفة: يصح النكاح الموقوف على إجازة الزوجة أو الزوج أو الولي ويصح البيع الموقوف على إجازة البائع دون المشتري, واستدل بما روي أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: إن أبي - ونعم الأب- هو زوجني بابن أخ له أراد أن يرفع بي خسيسته, فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: قد اخترت ما فعل أبي, وإنما أردت لتعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء, فلما خيرها والخيار لا يثبت في اللازم ولا في الفاسد دل على أنه كان موقوفًا على خيارها وإصابتها, قال: لأنه لما جاز أن تكون الوصية, بما زاد على الثلث موقوفة على إجازة الوارث, واللقطة إذا تصدق بها الواحد موقوفة على إجازة المالك, لكون المجيز لهما موجودًا, جاز أن يكون النكاح, موقوفًا على إجازة من يكون في حالة الوقف موجودًا, وتحريره قياسًا أن كل ما كان محيزه موجودًا جاز أن يكون على إجازته موقوفًا كاللقطة, والوصية. قال: ولأنه لما جاز أن يكون موقوفًا على الفسخ جاز أن يكون موقوفًا على الإجازة, وتحريره قياسًا: أنه أحد نوعي الاختيار فجاز أن يكون العقد موقوفًا عليه كالفسخ. قال: ولأن حال العقد بعد كماله أقوى من حاله قبل كماله, فلما جاز أن يكون قبل كماله موقوفًا بعد البذل على إجازة القبول, فأولى أن يكون بعد كماله موقوفًا على الإجازة. وتحريره: أنه أحد حالتي العقد فجاز أن يكون موقوفًا على الإجازة كالحال الأولى. ودليلنا: حديث عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما امرأة نكحت بعد إذن وليها فنكاحها باطل" فلو صح بالإجازة لوقفه على إجازة الولي, ولما حكم بإبطاله. وحديث خنساء بنت خدام أن أباها زوجها وهي ثيب فكرهت فرد رسول الله عليه الصلاة والسلام نكاحها, ولم يقل إلا أن تشاء أن تجيزي ما فعل أبوك مع حثه على طاعة الآباء, فدل على أنها لو أجازته لم يجز, ولأن عقد المنكوحة إذا لم تصر المرأة به فراشًا كان

فاسدًا كالمنكوحة في ردة أو عدة. وقال أبو حنيفة: إنها لو جاءت في النكاح الموقوف بولد لستة أشهر لم يلحق به؛ ولأن ما انتفت عنه أحكام النكاح والظهار والتوارث لم يكن نكاحًا كالمتعة. وقد قال أبو حنيفة: إنه لا يلحقها في زمان الوقف طلاق ولا ظهار ولا توارث, ولأن ما افتقر إليه النكاح كان تأخره عن العقد مبطلًا للنكاح كالشهادة, ولأن اشتراط لزوم النكاح إلى مدة أقوى من اشتراط لزومه بعد مدة؛ لأن من العقود ما ينعقد إلى مدة كالإجارة, وليس منها ما ينعقد بعد مدة, فلما بطل باشتراط لزومه بعد مدة كقوله: تزوجتها شهرًا, كان أولى أن يبطل باشتراط لزومه, كقوله تزوجتها على إجازتها؛ لأنه إذا بطل بما له في الصحة نظير فأولى أن يبطل بما ليس له في الصحة نظير؛ لأن النكاح إذا اعتبر لزومه بشرط متيقن بعد العقد كان أقوى وأوكد من اعتبار لزومه بشرط مجوز بعد العقد, وقد ثبت أنه لو قال: قد تزوجتك الآن إذا أهل شهر رمضان كان العقد فاسدًا فأولى إذا تزوجها على مدة إجازتها أن يكون فاسدًا إلا أنه بطل في أقوى الحالين كان بطلانه في أضعفهما أولى, فأما الخبر الذي استدلوا به فضعيف والمشهور من الرواية أنه رد نكاحها ولم يخيرها, لو سلمنا أنه خيرها لكان محمولًا على وقت الفسخ لا وقت الإمضاء لأن أباها قد كان زوجها بغير كفء. وأما استدلالهم بوقف الوصية والتصدق باللقطة, فالوصية يجوز وقفها لجواز بالمجهول والمعدوم وليس كالنكاح والبيع الباطلين على المجهول والمعدوم, وأما التصدق باللقطة فلا يجوز وقفه, بل إن لم يتملك اللقطة كانت في يده أمانة لا يجوز أن يتصدق بها, وإن تملكها فتصدق بها كانت عن نفسه, وإذا لم يعلم الأجل بطل القياس. وأما استدلالهم بجواز وقف النكاح على الفسخ فكذلك على الإجازة باطل؛ لأن الموقوف على الفسخ فقد تعلقه عليه أحكام النكاح فصح الموقوف على الإجازة وقد انتفت عنه أحكام النكاح فبطل, وأما استدلالهم بوقفه بعد البذل وقبل القبول فغير صحيح؛ لأنا نمنع من وقف العقد وهو قبل تمامه بالبذل والقبول ليس بعقد فلم يجز أن يستدل بوقف ما ليس يلزم على وقف عقد يلزم والله أعلم مسألة: قال الشافعي: "والاستثمار للبكر على استطابة النفس قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {وَشَاوٍرْهُم فيِ الَأمْرِ} [آل عمران:159] لا على أن لأحد رد ما رأى صلى الله عليه وسلم ولكن لاستطابة أنفسهم وليقتدي بسنته فيهم وقد أمر نعيمًا أن يؤمر أم بنته". قال في الحاوي: أما الثيب فاستئذانها واجب؛ لأنها أحق بنفسها من وليها, وإذنها يكون بالقول الصريح, وأما البكر فيلزم غير الأب والجد أن يستأذنها, سواء كانت صغيرة أو كبيرة؛ لأنه يجوز له إجبارها, وقال أبو حنيفة وداود: يلزمه استئذانها استدلالًا

بقوله صلى الله عليه وسلم: "والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتها". والدليل على استئذان الأب لها لا يجب وإنما يستحب ما قدمناه من جواز إجبارها على النكاح صغيرة وكبيرة, وما رواه صالح بن كيسان عن ابن جبير ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس للولي مع الثيب أمر" واليتيمة وصمتها إقرارها فلما خص اليتيمة بالاستثمار وهي التي لا أب لها دل على أن ذات الأب لا يلزم استثمارها. فأما قوله: "والبكر تستأمر في نفسها" فيحمل مع غير الأب على الإيجاب ومع الأب على الاستحباب كما أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بمشاورة أمته فقال تعالى: {وشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْر} [آل عمران: 159] لا على أن لأحد رد ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال الشافعي: "ولكن على استطابة أنفسهم وليقتدوا بسنته فيهم" واختلف فيما أمر بمشاورتهم فيه, فقال قوم: في الحرب ومكائد العدو خاصة, وقال آخرون: في أمور الدنيا دون الدين, وقال آخرون: في أمور الدين تنبيهًا لها على علل الأحكام وطريق الاجتهاد, وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم: "أمر نعيمًا أن يؤامر أم ابنته". وقال: "وأمروا الأمهات في بناتهن" وإنما ذلك على استطابة أنفسهن لا على وجوب استثمارهن, وكذلك استثمار الأب للبكر على استطابة النفس لا على الوجوب. فرع: فإذا ثبت أن استثمار الأب لابنته البكر استحبابًا فإذنها يكون بالصمت دون النطق, بخلاف الثيب لقوله صلى الله عليه وسلم: "وصمتها إقرارها" وروى ثابت البناني عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خطب إليه إحدى بناته دنا من الخدور وقال: "إن فلانًا خطب فلانة" فإن هي رضيت سكتت فكان سكوتها رضاها, وإن هي أنكرت طعنت في الخدر فكان ذلك منها إنكارًا فلا يزوجها, ولأن البكر أكثر خفرًا وتخدرًا من الثيب فهي تستحي مما لا تستحي منه الثيب من التصريح بالرغبة في الأزواج, فجعل سكوتها إذنًا ورضًا, ولم يجعل إذن الثيب إلا نطقًا, فأما من عدا الآباء من الأولياء مع البكر فعليهم استثمارها؛ لأنه لا يجوز لهم إجبارها وإذنها معهم الصمت كإذنها مع الأب. وقال بعض أصحابنا: إذنها معهم بالنطق الصريح كالثيب بخلافها مع الأب؛ لأنها لما كانت معهم في وجوب الاستثمار كالثيب وجب أن يكون إذنها نطقًا صريحًا كالثيب, وهذا خطأ لما قدمناه من عموم الأخبار, ولما ذكرناه من كثرة الاستحياء, ولعل حياءها من غير الأب أكثر لقلة مخالطته, فكان إذنها معهم بأن يكون صمتها أولى, وهكذا السلطان مع البكر كالعصابات إذا فقدوا لا يزوجوها إلا بعد بلوغها بإذنها وإذنها معه

الصمت, وسواء كانت البكر ممن قد تزوجت مرة وطلقت قبل الدخول, أو لم تتزوج قط إذا كانت البكارة باقية في أن حكمها ما ذكرناه مع الأب والعصبات. مسألة: قال المزني رحمه الله: وروى عن الشافعي عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" ورواه غير الشافعي عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم". قال في الحاوي: وهذا صحيح الشهادة في النكاح واجبة, وقال داود: غير واجبة, وبه قال من الصحابة عن علي بن أبي طالب, وعبد الله بن الزبير, وعمر, وعبد الله بن عباس, ومن التابعين: سعيد بن المسيب, والحسن البصري, والنخعي, ومن الفقهاء: أبو حنيفة, والثوري, وأحمد بن حنبل, ومال, وأبو ثور, غير أن مالكًا جعل الإشهاد به وترك التراخي يكتمه شرطًا في صحته, واستدلوا بقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] فكان على عمومه وكما رواه عباد بن سنان أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ألا أنكحك آمنة بنت ربيعة بن الحارث؟ قال: بلى قد أنكحتها ولم يشهد, ولما روي أن عليًا زوج بنته أم كلثوم من عمر ولم يشهد, قالوا: ولأن العقود نوعان: عقد على عين كالبيع, وعقد على منفعة كالإجارة وليست الشهادة شرطًا في واحد منهما مكان النكاح ملحقًا بأحدهما. واستدل مالك خصوصًا في وجوب الإشهار بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالدف" وبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن نكاح السر. ودليلنا ما رواه الحسن عن عمران بن الحصين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نكاح إلا بولي وشاهدين", وروي عن ابن مسعود عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بولي وشاهدين". وروى هشام بن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لابد من النكاح من أربعة: زوج وولي وشاهدي عدل" ولأن النكاح لما خالف سائر العقود في تجاوزه عن المتعاقدين إلى ثالث وهو الولد الذي يلزم حفظ نسبه خالفها في وجود الشهادة عليه حفظًا لنسب الولد الغائب لئلا يبطل نسبه فيجاهد الزوجين وفي هذا انفصال لما ذكروه من الاستدلال في إلحاقه إما بعقود الأعيان أو بعقود المنافع. فأما الجواب عن الأول: فهو أن المقصود بها من يستباح من المنكوحات ولم يرد في صفات النكاح, وأما الجواب عن تزويج النبي صلى الله عليه وسلم آمنة بنت ربيعة ولم يشهد وتزويج

علي بنته أم كلثوم بعمر بن الخطاب ولم يشهد هذا فجواب واحد وهو أنه حضر العقد شهود لم يقل لهم: اشهدوا إذ يبعد أن يخلو من مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال بروزه من حضور نفسين فصاعدًا وكذلك حال عمر مع علي عليهما السلام لا يخلو أن يحضره نفسان وإذا حضر العقد شاهدين بقصد أو اتفاق صح العقد بهما وإن لم يقل لهما اشهدا فكم يكن في الخبر دليل لأن قول الراوي: لم يشهد أي لم يقل لمن حضر اشهدوا وكيف يصح ذلك عن عمر وقد روي عنه أنا رد نكاحًا حضره رجل وامرأة فقال: هذا نكاح السر ولا أجيزه ولو تقدمت فيه لرجمت فيه تأويلان: أحدهما: يعني لو تقدمت فيه فخولفت. والثاني: يعني لو تقدمت بالواجب وتعديت إما ليس بجائز لرجمت, وأما استدلال مالك بقوله عليه السلام: "وأعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالدف" ففيه جوابان: أحدهما: أن إعلانه يكون بالشهادة وكيف يكون مكتومًا ما شهده الشهود أم كيف يكون معلنًا ما خلا من بينة وشهود. والجواب الثاني: أن يحمل إعلانه على الاستحباب كما حصل ضرب الدف على الاستحباب دون الإيجاب لمن كان في ذلك العصر, وإن كان في عصرنا غير محمول على الاستحباب ولا على الإيجاب وأما نهيه عن نكاح السر فهو النكاح الذي لم يشهده الشهود ألا ترى أن عمر رد نكاحًا حضره رجل وامرأة وقال: هذا نكاح السر ولا أجيزه. وقال الشاعر: وسرك ما كان عند أمري وسر الثلاثة غير الخفي فصل: فإذا ثبت وجوب الشهادة في النكاح وأنها شرط في صحته فلا ينعقد إلا بشاهدين ولا ينعقد بشاهد وامرأتين. وقال أبو حنيفة: ينعقد بشاهد وامرأتين استدلالًا بقول الله تعالى: {فَإن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامْرَأَتَانِ} [البقرة:282] فكان على عمومه ولأنه عقد معاوضة فصح بشاهد وامرأتين كسائر العقود. ودليلنا قوله تعالى: {وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق:2] فلما بالمرجعة بشاهدين وهي أخف حالًا من عقد النكاح كان ذلك في النكاح أولى, وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نكاح إلا بولي وشاهدين" فإن قيل: فإذا جمع بين المذكر والمؤنث غلب في اللفظ المذكر على المؤنث فلم يمنع جمع الشاهدين من أن يكون شاهدًا وامرأتين, قيل: وهذا وإن صح في الجمع؛ لأن المذكر والمؤنث بلفظ التثنية يمنع من

حمله على الجمع؛ لأن من أهل اللغة من يحمل الجمع على التثنية وليس فيهم ولا في الفقهاء من يحمل التثنية على الجمع فإن حمله على شاهد وامرأة خالف مذهبه وقول الأمة وإن حمله على شاهد وامرأتين خالف لفظ التثنية إلى الجمع, ولو أن رجلًا قال: رأيت رجلين وقد رأى رجلًا وامرأتين لم يصدق في خبره فبطل ما ناولوه, من القياس: أن الفروج يا يسوغ فيها البذل والإباحة فلم يستبح بشهادة النساء كالقصاص؛ ولأن ما خص من بين جنسه بشاهدين لم يجز أن يكون ولا أحدهما امرأة كالشهادة على الزنا ولأن من لم يكونوا من شهود النكاح بانفرادهم لم يكونوا شهوده مع غيرهم كالعبيد والكفار, فأما الآية فمحمولة على الأموال لتقدم ذكرها ولتخصيص عمومها بما ذكرناه فأما القياس على سائر العقود فمردودة بما فرق الشرع بينهما في وجوب الشهادة, والله أعلم. فصل: فإذا تقرر أن النكاح لا يصح إلا بشاهدين من الرجال دون النساء فلا يصح حتى يكونا عدلين, وقال أبو حنيفة: يصح بفاسقين استدلالًا بأن حضورهما للعقد إنما هو حال فحمل الشهادة وعدالة الشهود إنما يراعى وقت الأداء لا وقت التحمل, ألا ترى لو تحمل بشهادة صبي ثم بلغ أو عبد ثم أعتق أو كافرًا ثم أسلم قبلت شهادتهم اعتبارًا بحالهم وقت الأداء لا وقت التحمل, كذلك شهادة الفاسقين في النكاح, وتحريره: أنه تحمل شهادة على عقد فجاز أن يصح من الفاسقين قياسًا على سائر العقود؛ ولأن من كان شرطًا في عقد النكاح لم يراع فيه العدالة كالزوجين, ولأنه لم يصح النكاح بشهادة عدوين لا تقبل شهادتهما على الزوجين صح أن تنعقد بشهادة فاسقين. ودليلنا قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ} [الطلاق:2] فلما شرط العدالة على الرجعة وهي أخف كان اشتراطها في النكاح المغلط أولى, وروى الحسن عن عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" ورواه ابن عباس وعائشة؛ ولأن موضع وجبت فيه الشهادة اعتبرت فيه العدالة كالحقوق ولأن كل نقص يمنع من الشهادة في الأداء وجب أن يمنع انعقاد النكاح بها كالرق والكفر, ولأن كل ما لم يثبت بشهادة العدوين لم يثبت بشهادة الفاسقين كالأداء, فأما استدلاله بأن حضور العقد حال تحمل لا يراعى فيه العدالة فخطأ؛ لأن الشهادة في عقد النكاح إن كانت تحملًا فهي تجري بجري الأداء من وجهين: أحدهما: وجوبها في العقد كوجوبها في الأداء. والثاني: أن يراعى فيه حرية الشهود وإسلامهم وبلوغهم كما يراعى في الأداء وإن لم تراع في تحمل غيره من الشهادات, فكذلك الفسق, وأما الجواب عن قياسه على فسق الزوجين, فهو أن العدالة تراعى في الشاهدين وإن لم تراع في العاقدين؛ ولأنه لما روعي

حرية الشاهدين وإن لم يراع حرية الزوجين كذلك فسق الشاهدين, وأما قياس على شهادة العدوين فمذهبنا في انعقاد النكاح بهما ما نذكره من اعتداد حالهما, فإن كانا عدوين لأحد الزوجين دون الآخر انعقد النكاح بهما؛ لأن شهادتهما في الأداء قد تقبل على من ليس له عدوين, خالفًا الفاسقين إذ لا تقبل شهادتهما لأحد الزوجين بحال, وإن كانا عدوين للزوجين معًا ففي انعقاد النكاح بهما وجهان لأصحابنا: أحدهما: لا تنعقد كالفاسقين؛ لأن الأداء لا يصح منهما على أحد الزوجين بحال. والوجه الثاني: هو ظاهر ما تنص عليه الشافعي في "كتاب الأم" أن النكاح بهما منعقد وإن لم يصح منهما أداؤه بخلاف الفاسقين, والفرق بينهما: أن الفاسقين لا يصح منهما أداء هذه الشهادة صح منهما أداء غيرها من الشهادات وهذا لو كان الشاهدين ابني الزوجين كانا كالعدوين, لأن الولد لوالده مردودة كما أن شهادة العدو على عدوه مردودة, فإن كانا ابني أحد الزوجين انعقد النكاح بهما لإمكان أداء الشهادة لأحدهما, وإن كان أحدهما ابن الزوج والآخر ابن الزوجة ففي انعقاد النكاح بهما الوجهان الماضيان. ومن أصحابنا من منع من انعقاد النكاح بكل حال, وفرق بينهما وبين العدوين بأن فيهما بغضيه لا تزول وليست كالعداوة التي قد تزول, والله أعلم بالصواب. مسألة: واحتج الشافعي بابن عباس أنه قال: "لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل" وأن عمر رد نكاحًا لم يشهد عليه إلا رجل وامرأة فقال: "هذا نكاح السر ولا أجيزه ولو تقدمت فيه لرجمت" وقال عمر رضي الله عنه: "لا تنكح المرأة بإذن وليها أو ذي الرأي من أهلها أو السلطان قال الشافعي: والنساء محرمات الفروج فلا يحللن إلا بما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم فبين "وليا وشهودًا وإقرار المنكوحة الثيب وصمت البكر". قال في الحاوي: وهذا كما قال رشد الولي في النكاح شرط في صحة عقده فإن كان الولي فاسقًا بطل عقده على الظاهر من مذهب الشافعي والمشهور من قوله سواء كان الولي ممن يجبر على النكاح كالأب أو ممن لا يجبر كالعصبات, وقال أبو إسحاق المروزي: إن كان الولي ممن يجبر كالأب بطل عقده بالفسق وإن كان ممن لا يجبر كالعصبات لم يبطل عقده بالفسق لأنه يكون مأمورًا كالوكيل, وقال أبو حنيفة: فسق الوالي لا يبطل عقده وبه قال بعض أصحاب الشافعي وحكاه قولًا عنه استدلالًا بعموم قوله تعالى: {وأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ والصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وإمَائِكُمْ} [النور: 32]؛ ولأن من تعين في عقد النكاح لم يعتبر فيه العدالة كالزوج, ولأن كل من جاز أن يقبل النكاح لنفسه جاز

أن يلي على النكاح غيره كالعدل؛ ولأنه لما جاز للفاسق تزويج أمته جاز له تزويج وليته, ولأنه لما جاز أن يكون الكافر وليًا في نكاح ابنته فأولى أن يكون الفاسق وليًا في نكاح ابنته. ودليلنا: ما رواه سعيد بن جبير عن ابن عباس: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل, وأيما امرأة أنكحها ولي مسخوط عليه فنكاحها باطل". ورواه عن ابن عباس موقوفًا عليه, فإن قيل: فقوله "مرشد" ولم يقل رشد يقتضي أن يوجد منه فعل الرشد في غيره وإن كان غير موجود في نفسه, وهو إذا زوجها بكفء كان مرشدًا وإن لم يكن رشيدًا. قيل: هذا تأويل من يفسد من وجهين: أحدهما: أنها صفة مدح تتعدى عنه إلى غيره ومن ليس برشيد لا يتوجه إليه مذمة ولا يتعدى عنه رشد. والثاني: أن في الخبر الآخر في قوله: "وأيما امرأة ولي مسخوط عليه فنكاحها باطل" ما يبطل هذا التأويل, ولأنه نقص يمنع من الشهادة فوجب أن يمنع من الولاية, كالرق, ولأنها ولاية تمنع منها الرق فوجب أن يمنع منها الفسقة كالولاية على المال, ولأن من تولى عقد النكاح في حق غيره منع الفسق من عقده كالحاكم, فأما الجواب على الآية فهو: أنها خطاب إما للأزواج فلا يكون فيها دليل أو للأولياء وليس الفاسق بولي. وأما قياسه على الزوج فالمعنى في الزوج: أنه يتولى في حق نفسه فلم يعتبر رشده كما لم تعتبر حريته وإسلامه والولي يتولاه في حق غيره, فاعتبر رشده كما اعتبرت حريته وإسلامه, وأما قياسه على العدل فالمعنى في العدل: أنه لما صحت ولايته على المال صحت ولايته على النكاح والفاسق بما بطلت ولايته على المال بطلت ولايته على النكاح وأما استدلالهم بعقد الفاسق على أمته فالمعنى فيه أنه يعقده في حق نفسه ألا تراه يملك المهر دونها فلم تعتبر فيه العدالة كالزوجين والولي يعقده في حق غيره فاعتبرت فيه العدالة كالحاكم, وأما ولاية الكافر فلأنه عدل في دينه ولو كان فاسقًا في دينه وبين أهل ملة أبطلنا ولايته وكذا كالفاسق في ديننا. فرع: فإذا ثبت أن ولاية الفاسق في النكاح باطلة, فالولاية, تنقل عنه إلى من هو أبعد منه فإن زال فسقه عادت الولاية إليه, وانتقلت عمن هو أبعد منه فلو زوجها الأبعد بعد عدالة الأقرب, فإن كان عالمًا بعدالة الأقرب أو علمت الزوجة بها أو الزوج كان [الزوج] باطلًا,

وإن لم يعلم واحد منهم بعدالة الآخر حتى عقد العقد وجهان: أحدهما: باطل. والثاني: جائز بناء على اختلاف الوجهين في الوكيل إذا عقد بعد عزل موكله قبل علمه. فصل: فلو أن هذا الولي الفاسق وكل وكيلًا عدلًا كانت وكالته باطله؛ لأن الفسق قد زالت عنه الولاية فلم يصح منه الوكالة ولكن لو كان الولي عدلًا فوكل وكيلًا فاسقًا ففيه ثلاثة أوجه: أحدهما: لا يجوز لأنه أبطل الفسقه ولاية الولي مع قوتها كانت أولى أن يبطل ولاية الوكيل مع ضعفها. والثاني: يجوز ويصح عقده لأنه مأمور والولي من ورائه لاستدراك ذلك. والثالث: أنه إن كان وكيلًا لولي غيرها على النكاح كالأب بطلت وكالته بفسقه لأنه لا يلزمه استئذانه فصارت ولاية تفويض, وإن كان وكيلًا لمن لا يجبرها على النكاح صحت وكالته لأنه لا يعقد إلا عن استئذانها. فرع: فلو كان الولي أعمى ففي صحة ولايته وجواز عقده وجهان: أحدهما: وهو قول ابن أبي هريرة لا تصح ولايته؛ لأن العمى يمنعه من طلب الحظ لوليته. والثاني: أن ولايته ثابتة وعقده صحيح؛ لأن شعيب زوج موسى بابنته وكان ضريرًا, ولأنه قد يصل إلى معرفة الحظ بالبحث والسؤال, لأن معرفة الحظ لا توصل إليه بالمشاهدة والعيان, فإن قيل بهذا الوجه صح عقده وتوكيله, وإن قيل بالوجه الأول: إنه لا يصح عقده فهل يصح توكيله فيه أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا يصح توكيله لأنه لما لم تصح منه مباشرته كان بأن لا تصح عنه الاستنابة أولى. الثاني: يصح منه التوكيل فيه وإن لم تصح منه المباشرة له بنفسه كبيعه وشرائه لا يصح منه أن يتولاه بنفسه ويصح أن يوكل فيه. فرع: فلو كان الولي أخرسًا ففي صحة ولايته وجواز عقده وجهان: أحدهما: أن ولايته باقية وعقده صحيح لأنه قد يصل إلى معرفة الخط وقد تقوم إشارته فيه مقام النطق كما يقوم مقامه في حق نفسه فعلى هذا يصح منه أن يتولاه بنفسه وأن يوكل.

والثاني: لا يصح منه العقد لأن إشارته محتمله وإذا أقيمت في حق نفسه لضرورة مقام نطق لم تدع الضرورة إلى ذلك في حق غيره فعلى هذا لا يصح منه التوكيل وجهًا واحدًا لأن المعنى في احتمال الإشارة موجودة في توكيله لوجوده في عقده فلم يصحا منه والله أعلم. فرع: فأما إن كان الولي عدوًا للزوجة أو الزوج أو لهما فهو على ولايته وعقده صحيح بخلاف الشهود في أحد الوجهين لأن المقصود من الولي مباشرة العقد ومن الشهود الأداء, والعداوة تمنع من الأداء ولا تمنع من العقد, فإن قيل: فإذا كان عدوًا لهما وضعهما في غير كفء قيل: رشده وما يخافه من لحوق العار به يمنع هذا التوهم. فرع: فإن كان الولي محجورًا عليه بالفلس, فإن قيل: إن حجره جاري مجرى المرض كان على ولايته, وإن قيل: إنه يجري مجرى حجر السفه ففي ولايته وجهان: أحدهما: لا ولاية له كالسفيه. الثاني: وهو الأصح أنه على ولايته؛ لأن حجره وإن جرى مجرى السفه في ماله لم يجر مجراه في عدالته, والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "والشهود على العدل حتى يعلم الجرح يوم وقع النكاح". قال في الحاوي: والعدالة المعتبرة في شهود النكاح عند عقده هي عدالة الظاهر, بخلاف الشهادة في إثبات الحقوق عند الحاكم التي يراعى فيها الظاهر والباطن, والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن في إثبات الحقوق عند الحكام خصمًا جاحدًا فاستكشف لأجله عن عدالة الباطن وليس في عقد النكاح هذا المعنى فلم تعتبر إلا عدالة الظاهر. والثاني: أن الحاكم يقدر من استبرأ العدالة في الباطن ما لا يقدر عليه الزوجان فسقط اعتبار ذلك عنهما وإن لم يسقط عن الحاكم, وإذا كان ذلك فعدالة الظاهر اجتناب الكبائر والإقلال من الصغائر فإذا عقد الزوجان نكاحًا بشاهدين لم يخل حالهما من أربعة أقسام: أحدهما: أن يكونا عدلين في الظاهر والباطن معقد النكاح بهما صحيح لعدالة ظاهرهما وإثباته عند الحكام جائز لعدالة باطنهما.

والثاني: أن يكونا عدلين في الظاهر دون الباطن معقد النكاح بهما صحيح لعدالة ظاهرهما لكن إثباته عند الحكام لا يصح إلا باستبراء عدالة باطنهما فيكشف عن عدالة الباطن وقت الأداء لا وقت العقد, فإن صحت للحاكم حكم بشهادتهما في الأداء, وإن لم تصح لم يحكم بشهادتهما في الأداء. والنكاح على حاله من الصحة ما لم يظهر منهما تقدم الفسق. والثالث: أن يكونا فاسقين فالعقد باطل فلو ظهرت عدالتهما بعد العقد مع تقدم الفسق وقت العقد كان العقد على فساده. والرابع: أن يكونا مجهولي الحال لا يعرف فيهما عدالة ولا فسق فهما على ظاهر العدالة والنكاح بهما جائز, لأن الأصل العدالة والفسق طارئ وهو معنى قول الشافعي: والشهود على العدل حتى يعلم الحرج يوم وقع النكاح وإذا صح العقد بهما مع الجهالة بحالهما لم يحكم الحاكم بهما من إثبات العقد عنده إلا بعد استبراء حالهما في الظاهر والباطن, فإذا استبرأهما لم يخل حالهما بعد الاستبراء من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يتبين له عدالة ظاهرهما وباطنهما فيحكم بها في صحة العقد وفي ثبوته. والثاني: أن يتبين له عدالة ظاهرهما دون باطنهما فلا يحكم بهما في ثبوت العقد فإن شهد بعقد النكاح بهما شاهدًا عدل حكم حينئذ بثبوت العقد وصحته فيكون صحة العقد بهما بعدالة ظاهرهما وثبوته بشهادة غيرهما. والثالث: أن يتبين له فسقهما فلا يخلو حال الفسق من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يتبين له وجود الفسق وقت العقد فالنكاح باطل. والثاني: أن يتبين له حدوث الفسق بعد العقد فالعقد على الصحة ولا يفسد بحدوث فسقهما لكن لا يحكم بثبوته عنده إلا أن يشهد به عدلان أنه عقد بهما فيحكم حينئذ بثبوته, فإن قيل: فكيف يشهد بعقد النكاح بهما عدلان غيرهما؟ ولو حضره عدلان غيرهما لاستغنى بهما عن غيرهما, قيل: قد يجوز أن يقر الزوجان عند عدلين أنهما عقدا النكاح بهذين. والثالث: أن يتبين له فسقهما في الحال ولا يعلم تقدمه ولا حدوثه والنكاح على الصحة لا يحكم بفساده لجواز حدوث الفسق مع سلامة الظاهر وقت العقد وهو معنى قول الشافعي: " حتى يعلم الجرح وقت العقد" وإذا لم يحكم بفساده لم يحكم بإثباته إلا بشهادة غيرهما. فرع: فإذا أقر الزوجان عند الحاكم أنهما عقد النكاح بولي مرشد وشاهدي عدل حكم

عليهما بصحة النكاح على إقرارهما ولم يسأل عن عدالة الشاهدين ورشد الولي فلو تناكر الزوجان من بعد أو ادعى أحدهما سفه الولي وفسق الشاهدين ألزمه صحة النكاح بسابق إقراره ولم يؤثر فيه حدوث إنكاره فلو قال: أنا أقيم البينة بما ادعيت من سفه الولي وفسق الشاهدين لم يسمعهما منه, لأن إقراره على أولى من بدنه أكذبها به. فرع: وإذا تصادق الزوجان أنهما عقداه بولي وشاهدي عدل, وقال الشاهدان: بل كنا وقت العقد فاسقين حكم بصحة النكاح بإقرار الزوجين ولم يلتفت إلى قول الشاهدين فلو اختلف الزوجان فقالت الزوجة: عقدناه بشاهدين فاسقين, وقال الزوج: عقدناه بشاهدين عدلين فقد اختلف أصحابنا على وجهين: أحدهما: وهو قول البغداديين أن القول قول الزوج أنهما عدلان والنكاح صحيح, لأنه مستصحب لظاهر العدالة. والثاني: أن القول قول الزوجة إنهما فاسقان والنكاح باطل, لأنها مستصحبة أن لا نكاح بينهما, ولو قال الزوج: كان الشاهدان فاسقين وقالت الزوجة: كانا عدلين, فالنكاح قد ارتفع بينهما بإقرار الزوج ولكن في سقوط المهر وجهان: أحدهما: أن المهر لا يسقط تغليبًا لقول الزوجة لاستصحابها ظاهر العدالة. والثاني: قد ظهر المهر تغليبًا لقول الزوج لاستصحابه أن لا عقد بينهما, والله أعلم. فرع: فإذا تصادق الزوجان أنهما تناكحا بولاية الأب وأن الأب زوجها منه وأنكر الأب أن يكون زوجها فالنكاح ثابت بتصادقهما ولا يؤثر إنكار الأب أنه ما عقد بينهما, لأن الحق لهما لا للأب فلم يؤثر فيه إنكار الأب, وهكذا لو تصادقا أنهما عقداه بشاهدين هما زيد وعمرو فأنكر زيد وعمرو أن يكونا حضراه فالنكاح ثابت بتصادق الزوجين ولا يؤثر فيه إنكار الشاهدين لأن الحق فيه للزوجين دون الشاهدين. فرع: لا يصح النكاح بحضور الشاهدين حتى يسمعا لفظ الولي بالبذل ولفظ الزوج بالقبول فيصح العقد فإن سمعا مع البذل والقبول ذكر الصداق شهدا به وبالعقد وإن لم يسمعا ذكر الصدق شهدا بالعقد دون الصداق ولا يجوز أن يشهدا بالصداق بظاهر الأخيار في مجلس العقد.

مسألة: قال الشافعي: "ولو كانت صغيرةً ثيبًا أصيبت بنكاح أو غير فلا تزوج إلا بإذنها". قال في الحاوي: وهذا صحيح, والنساء ضربان: أبكار وثيب, فأما الأبكار فقد مضى حكمهن وسنذكره من بعد, وأما الثيب فضربان: عاقلة ومجنونة, فأما العاقلة فضربان: صغيرة وكبيرة فأما الكبيرة فلا يجوز إجبارها ولا تزويجها إلا باختيارها. وعن إذنها سواء كان وليها أبًا أو عصبة, وإذنها النطق الصريح, وهذا متفق عليه, وأما الثيب الصغيرة فليس لأحد من أوليائها أبًا كان أو غيره أو يزوجها إلا بعد بلوغها وإذنها, فإن زوجها قبل البلوغ بإذن أو بغير إذن كان النكاح باطلًا, وقال أبو حنيفة: يجوز أن يزوجهاٍ أوليائها قبل البلوغ فإن زوجها أبوها فلا خيار لها إذا بلغت وإن زوجها غير أبيها من العصبات كانت بالخيار إذا بلغت بين المقام والفسخ, وقال أبو يوسف: لا خيار لها في تزويج العصبات كما لم يكن لها الخيار في تزويج الأب واستدلوا على جواز تزويجها قبل البلوغ بعموم قوله تعالى: {وأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} [النور: 32] ولأن كل من ثبتت عليه الولاية في ماله جاز إجباره على النكاح كالبكر الصغيرة وكالغلام ولأن لها منفعتين استخدام واستمتاع فلما كان لولي العقد على استخدام منفعتها بالإجازة جاز له العقد على منفعة الاستمتاع بها كالنكاح. وتحريره: أنها إحدى منفعتيها فجاز العقد عليها قبل بلوغها كالإجازة, ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: الثيب أحق بنفسها من وليها, فلم يكن له إجبارها لأنه يصير أحق بها من نفسه. وقال صلى الله عليه وسلم: "ليس للولي مع الثيب أمر" فكان على عمومه في الصغيرة والكبيرة ولأن كل صفة خرج بها الولي عن كمال الولاية قبل البلوغ قياسًا على عتق الأمة لما كان حدوثه بعد البلوغ مانعًا من إجبارها على النكاح كان حدوثه قبل البلوغ مانعًا من إجبارها على النكاح كان حدوثه قبل البلوغ مانعًا من إجبارها وعليه ولأنه حرة سليمة ذهبت عدتها بجماع فلم يجز إجبارها على النكاح كالكبيرة, فأما الآية إن حملت على الأولياء فمخصوصة بما ذكرنا, وأما قياسهم على البكر والغلام اعتبارًا بالولاية على المال فلا يجوز اعتبار الولاية بالولاية على النكاح, لأن ولاية المال أوسع ثبوتها للوصي الذي لا ولاية له على النكاح ثم المعنى في البكر والغلام أنه لما لم يثبت لهما خيار جاز إجبارهم وليس كالثيب لثبوت الخيار لها عندهم وأما استدلالهم بمنفعة الاستخدام فالفرق بينهما وبين الاستمتاع أن مدة الاستخدام مقررة بأمر ينقضي يصل إلى مثل ذلك العقد بعد بلوغها ومدة الاستمتاع مؤيدة وهي لا تصل إلى مثل ذلك العقد بعد بلوغها فافترقا.

فرع: فأما الثيب المجنونة فلها حالتان: صغيرة وكبيرة فإن كانت كبيرة جاز لأبيها إجبارها على النكاح للإياس من صحة إذنها إلا أن يكون ممن تجن في زمان وتفيق في زمان فلا يجوز إجبارها لإمكان استئذانها في زمان إفاقتها وإنما يجوز إجبارها إذا طبق الجنون بها فإن لم يكن لهذه أب زوجها الحاكم ولا يكون لأحد من عصبتها تزويجها لأنها ملحقة بولاية المال الثابتة بعد الأب والجد والحاكم دون العصبة فإن كانت الثيب المجنونة صغيرة لم يجز لغير الأب والجد إجبارها من حاكم ولا عصبة, وهل للأب والجد إجبارها إذا كان ما يؤس البرء؟ على وجهين: أحدهما: له إجبارها قياسًا على ما بعد البلوغ وإنه ربما كان لها الزوج عفاف وشفاء. والثاني: ليس له إجبارها قبل البلوغ وإن جاز له إجبارها بعد البلوغ لأنه برئها قبل البلوغ إرجاء والإياس منه بعد البلوغ أقوى فمنع من إجبارها ليقع الإياس من برئها. فرع: فإذا ثبت ما ذكرنا من حكم الثيب وإنها مفارقة للبكر من وجهين: أحدهما: أن البكر تجبر والثيب لا تجبر. والثاني: أن إذن البكر الصمت وإذن الثيب النطق وجب أن تصف الثيب بما تمتاز به عن البكر. والثيب هي التي زالت عذرتها, وزوال العذرة على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يزول بوطء. والثاني: أن تزول بطفرة أو جناية. والثالث: أن تزول خلقة وهي أن تخلق لا عذرة لها, فأما القسم الأول وهو أو تزول عذرتها بوطء, فالوطء على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون حلالًا إما في عقد النكاح أو بملك يمين. والثاني: أن يكون شبهة. والثالث: أن يكون زنى حرامًا وجميع ذلك يزول به البكارة سواء كان الوطء نكاح أو سفاح ويجري عليها حكم الثيب. وقال أبو حنيفة: إذا زالت عذرتها بزنا كان في حكم البكر إلا أن يتكرر منها استدلالًا بأن الزانية إذا تذكرت ما فعلت من الزنا خجلت واستحييت من التصريح بطلب الأزواج فكان حالها أسوأ حالًا من البكر, ولأن كل وطء لا يبيح الرجعة للزوج الأول لم يزل به حكم البكارة كالوطء في غير القبل, ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: " ليس للولي مع الثيب أمر"

فكان على عمومه, ولأن بكارتها زالت بوطء أن تكون في حكم الثيب كالموطوءة في نكاح, ولأن كل وطء زالت به البكارة إذا كان حلالًا زالت به البكارة, وإن كان محظورًا كوطء الشبهة, ولأن كل وطء زالت به البكارة إذا تكرر زالت به البكارة وإن لم يتكرر كالمنكوحة, وقد قال: إنه لو تكرر منها الزنا صارت ثيبًا, وكذلك إذا لم يتكرر, ولأن صمت البكر إنما صار إذنًا لاستحيائها بدوام الخفر وقلة اختيارها للرجال فتميزت عن الثيب التي قد ظهر خفرها وخبرت الرجال فصارت أقل حياء من البكر, والزانية لم تقدم على الزنا إلا لزوال الحياء وارتفاع الخفر فصارت أجرأ على القول وأخبر بالرجال من ذات الزوج, وفي هذا الاستدلال انفصال عما أورده, فأما قياسه مع انتفاضه بتكرار الزنا فالمعنى في الوطء في غير القبل بقاء العذرة مفارق الزنا الذي زالت به العذرة في الوطء من غير القبل. فرع: وأما زوال العذرة بإصبع أو طفرة أو جناية غير الوطء فقد ذهب أبو على بن خيران من أصحابنا إلى أنه رفع حكم البكارة استدلالًا بمذهب وحجاج, فالمذهب أن الشافعي قال: "أصيبت بنكاح أو غيره" وأما الحجاج فهو: أن الحكم تابع للاسم فلما زال بذلك اسم البكارة وجب أن يزول به حكم البكارة جار عليها, لأن صمت البكر إنما كان نطقًا لما هي عليه من الحياء وعدم الخبرة بالرجال, وهذا المعنى موجود في هذه التي زالت عذرتها بغير وطء, فلما وجد معنى البكر فيها وجب أن يعلق بها حكم البكر وتعليق أحكام البكر بمعاني الأسماء أولى من تعليقها بمجرد الأسماء, وفيه انفصال وما ادعاه من المذهب فقد زال فيه, ولأن قول الشافعي: "أصيبت بنكاح أو غيره" يعني أو غير نكاح من شبهة أو زنا وقد صرح بذلك في كتاب "الأم", وأما التي زالت عنها عذرتها خلقة فلا خلاف أنها في حكم البكر وهذا مما يوضح فساد قول ابن خيران حيث اعتبر الحكم بمجرد الاسم, فإذا تقرر ما وصفنا أراد الولي نكاح المرأة فذكرت أنها بكر قبل قولها ما لم يعلم خلافه وأجرى عليها حكم البكر, فإن قالت: أنا ثيب قبل قولها, وإن لم يعلم لها زوج تقدم ولم يسأل عن الوطء الذي صارت به ثيبًا وأجرى عليها حكم الثيب, فلو زوجها الأب بغير إذن لاعتقاده أنها بكر فادعت بعد عقده أنها ثيب لم يقبل قولها في إبطال النكاح بعد وقوعه على ظاهر الصحة, لأن الأصل فيها البكارة, فإن أقامت أربع نسوة شهدن لها أنهن شاهدنها قبل النكاح ثيبًا لم يبطل العقد إمضاء لجواز أن تكون عذرتها بظفره, أو أصبع أو حلق.

مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولا يزوج البكر بغير إذنها ولا يزوج الصغيرة إلا أبوها أو جدها بعد موت أبيها". قال في الحاوي: اعلم أن نكاح البكر معتبرًا بأوليائها ونكاح الثيب معتبر بنفسها, لأن الثيب لا تزوج مع الأولياء إلا بإذنها والبكر يجبرها عليه بعض أوليائها, وإن كانت كذلك لم يخل ولي البكر من أن يكون أبًا أو عصبة فإن كان وليها أبًا وزوجها جبرًا سواء كانت صغيرة أو كبيرة عاقلة أو مجنونة وهكذا الجد بعد موت الأب يقوم في إجبارها مقام الأب لكن اختلف أصحابنا هل قام مقام الأب, لأنه مشارك له في اسم الأب, أو لأنه في معنى الأب على وجهين: أحدهما: لأنه مشارك له في الاسم لأنهما يسميان أبًا قال الله تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج:78]. والثاني: لأنه في معنى الأب وإن لم يشاركه في الاسم لما فيه من صفتي الأب التي تميز بها عن سائر الأولياء, وهما الولادة, والتعصب. فبالولادة تميز عن الإخوة وبالتعصب تميز عن الجد للأم, وإن كان ولي البكر عصبة روعي حالها حينئذ, فإن كانت صغيرة لم يكن لأحد من عصابتها تزويجها, سواء كانت عاقلة أو مجنونة, وإن كانت كبيرة زوجها أقرب عصبتها إن كانت عاقلة باختيارها وعن إذنها, وإن كانت مجنونة لم يزوجوها, لأن تزويجها في الجنون معتبر بالنظر في مصالحها ولا نظر للعصبات في مصالحها, ولذلك لم يكن لهم ولاية في حالها, وإن كان ولي البكر الحاكم, فإن كانت صغيرة لم يكن له تزويجها عاقلة كانت أو مجنونة, لأنها ليست من أهل المناكح فتزوج ولا من أهل الاختيار فتستأذن, وإن كانت كبيرة نظر, فإن كانت عاقلة لم يكن للحاكم تزويجها إلا بإذنها وإن كانت مجنونة زوجها إذا رأى ذلك صلاحًا لها, وإن لم يكن للعصبة تزويجها في حال جنونها, والفرق بينهما: أن للحاكم نظر في مصالحها شارك به الأب وفارق به العصبة, ولذلك ولي على مالها وإن لم يلي عليه العصبة. فرع: وإذا كان لرجل ابن وله بنت ابن آخر, فأراد أن يزوج ابن ابنه بنت ابنه, فإن كان أبواهما باقيين لم يكن له تزويجهما, لأنه لا ولاية للجد مع بقاء الأب, وإن كان أبواها ميتين فإن كان ابن ابنة بالغًا فليس له إجبار على النكاح, فإن كانت بنت ابنه ثيبًا فليس له إجبارها على النكاح, وإن كان ابنه صغيرًا أو بنت ابنه بكرًا فله إجبار كل

واحد منهما على الانفراد, فإن أراد تزويج أحدهما بالآخر ففي جوازه جبرًا وجهان: أحدهما: لا يجوز تزويج أحدهما حتى يبلغ الابن فيكون هو القابل لنفسه, لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل نكاح لم يحضره أربع فهو سفاح" ولأن لا يتولى العقد من طرفيه كما لا يجوز لابن العم أن يزوج موليته لأن لا يصير متوليًا للعقد من طرفيه وهذا قول أبي العباس بن القاص وطائفة. والثاني: يجوز للجد أن يفعل ذلك ويتولى العقد من طرفيه كما يجوز له فيما ينفق من مال على ابن ابنه إذا كان وليًا عليه أن يتولى العقد من طرفيه, وخالف ابن العم في تزويجه ابنة عمه إذا كان واليًا عليها من وجهين: أحدهما: أن ولاية الجد توجب الإجبار لقوتها, وولاية ابن العم, تمتع من الإجبار لضعفها. والثاني: أن الجد في الطرفين عاقد لغيره وابن العم أحد الطرفين عاقد لنفسه, وهذا قول أبي بكر بن الحداد المصري وطائفه, فعلى هذا لا بد للجد من أن يتلفظ في عقد نكاحها بالإيجاب, فيقول: قد زوجت ابن ابن ببنت ابني وهل يحتاج فيه القبول أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا بد من أن يتلفظ فيه القبول فيقول: وقبلت نكاحها له, وهذا قول أبي بكر بن الحداد, ولأنه ذلك بولايتين فقام فيه مقام وليين فلم يكن بد فيه من لفظتين: أحدهما: إيجاب والآخر قبول. والثاني: لا يحتاج أن يتلفظ فيه بالقبول, وهذا قول أبي بكر القفال, لأن الجد يقوم مقام وليين فقام لفظه مقام لفظين. مسالة: قال الشافعي رحمه الله: "ولو كان المولى عليه يحتاج إلى النكاح زوجه وليه فإن أذن له فجاور مهر رد الفضل". قال في الحاوي: المولى عليه بالسفه ممنوع من التزويج إلا بإذن وليه, لأن الحجر يمنع من التصرف في العقود, فإن لم يكن به إلى النكاح حاجة لم يجز له أن يتزوج, ولا لوليه أن يزوجه لما فيه من التزام المهر والنفقة لغير حاجه, وإن كان به إلى النكاح حاجه, إما بأن يرى يتوثب على النساء لفرط الشهوة, وأما بأن يحتاج إلى خادم وخدمة النساء له أرفق به فيجوز لوليه أن يزوجه, لأنه مندوب إلى القيام بمصالحه التي هذا منها وليصده بذلك عن واقعة الزنا الموجب للحد والمأثم, وإذا كان كذلك فوليه بالخيار بين أن يزوجه بنفسه وبين أن يأذن له في التزويج, فإن زوجه الولي جاز أن يعقد له النكاح على

من يختارها له من الأكفاء, ولا يلزمه استئذانه فيه, لأن ذلك من جملة مصالحه التي لا تقف على إذنه كما لا تقف على إذن ما عقده من بيع وشراء, ولا يزيد المنكوحة على مهر مثلها كما لا يزيد في عقود أمواله على أعواض أمثالها, فإن زوجه بأكثر من مهر المثل كانت الزيادة مردودة ولا تجب في مال السفيه ولا على وليه, وإن أذن له الولي في التزويج ليتولاه السفيه بنفسه جاز, فإن قيل: فهلا منع من مباشرة العقد بنفسه ولم يصح منه مع إذن وليه كما لم يصح منه عقد البيع وإن أذن فيه وليه؟ قيل: الفرق بين النكاح حيث صح منه أن يعقده بإذن الولي وبين البيع حيث يصح منه أن يعقده, وإن أذن فيه الولي من وجهين: أحدهما: أن المقصود بالحجر عليه حفظ المال دون النكاح فذلك لم يصح منه العقد في النكاح. والثاني: أنه لما صح منه رفع النكاح بالخلع والطلاق من غير إذن فأولى أن يصح منه عقد النكاح بإذن ولما لم يصح منه إنزاله ملكه عن الأموال بالعتق والهبة بإذن ولا غير إذن لم يصح منه عقود الأموال كلها بإذن ولا غير إذن. فرع: فإذا ثبت أنه يجوز أن يتولى عقد النكاح بنفسه بإذن وليه فقد اختلف أصحابنا, هل على وليه عند إذنه له في النكاح أن يعين له على المنكوحة أم لا؟ على ثلاثة أوجه: أحدهما: يلزمه أن يعين له غلى المنكوحة ليقطع اجتهاده في العقد حتى لا ينكح من يعظم مهرها. والثاني: عليه أن يعين له على القبيلة أو العشيرة حتى لا ينكح من ذوي الأنساب الذي يعظم مهور نسائهم, وليس عليه أن يعين على المرأة من نساء القبيلة, لأن يقف على اختيار النفوس. والثالث: أنه لا يلزمه أن يعين المنكوحة ولا على قبيلتها, لأنه ليس بأسوأ حالًا من العبد الذي يجوز إذا أذن السيد له في النكاح أن لا يعين له على المنكوحة ولا على قومها, فأولى أن يكون السفيه مثله في الإذن, فإذا نكح السفيه بمقتضى الإذن بمهر المثل فما دون لزمه المهر والنفقة في ماله أن ينكح بأكثر من مهر المثل صح النكاح بمهر المثل وكانت الزيادة مردودة لا تلزمه في وقت الحجر ولا بعد فكه عنه وخالف العبد الذي إذا نكح بإذن السيد وزاد على مهر المثل كانت الزيادة في ذمته يؤديها بعد عتقه والرفقة بينهما أن الحجر على السفيه حفظ ماله عليه فلو لزمته الزيادة بعد فك الحجر عنه لم يكن ماله محفوظًا عليه والعبد إنما حجر عليه لأجل سيده وحفظ ما يستحقه السيد من كسبه فإذا لزمته الزيادة بعد عتقه سلم حق السيد وصار ماله محفوظًا عليه.

فرع: فأما إذا نكح السفيه بغير إذن وليه فهذا على ضربين: أحدهما: أن لا يكون قد أعلمه وليه ولا استأذنه فمنعه فنكاحه باطل, لأن ثبوت الحجر يمنع من جواز التصرف في العقد, فعلى هذا إن لم يدخل بها فرق بينهما ولا شيء عليه, وإن دخل بها فرق بينهما, ثم ينظر فإن كانت عالمة بحجره فلا مهر عليه في حال الحجر ولا بعد فك الحجر, وتصير كالمبرئة منه لعلمها بحجره, وإن لم تكن عالمة بحجره فليس عليه في حال الحجر دفع المهر, لأنه تصرف منع الحجر منه وفي لزومه له بعد فك الحجر عنه وجهان: أحدهما: يلزمه دفعه بعد فك حجره لئلا يصير ممتنعًا ببعضها من غير بدل. والوجه الثاني: لا يلزمه دفعه بعد فكاك الحجر عنه كما لم يلزمه قبل فكه عنه ليكون ماله بالحجر محفوظًا عليه, كما لم تلزمه الزيادة على مهر المثل لهذا المعنى, وليس جهلها بحاله عذرًا, لأنه قد كان يمكنها أن تستعلم فتعلم. والضرب الثاني: أن يكون السفيه قد سأل وليه النكاح فمنعه واستأذنه فلم يأذن له ففي نكاحه وجهان: أحدهما: باطل لتأثير الحجر في عقوده, فعلى هذا يكون الكلام في المهر على ما مضى. والوجه الثاني: أن النكاح جائز لأنه حق على الولي, فإذا منعه منه جاز أن يستوفيه بنفسه كالدين إذا منع صاحبه منه جاز إن يستوفيه بنفسه, فعلى هذا يكون النكاح كالمأذون فيه ويدفع مهر المثل والنفقة من ماله. فرع: فأما المجنون فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون مستدام الجنون لا يفيق في شيء من زمانه, فهذا ينظر في حاله, وإن لم يكن به إلى النكاح حاجة لم يكن لوليه أن يزوجه, ولا أن يوجب في ماله عزم النفقة والمهر في غير حاجة, وإن كان به إلى النكاح حاجة وذلك في أحد الحالين: إما أن يرى يتوثب على النساء لفرك شهوة, وإما أن يحتاج إلى خدمة النساء, والزوجة أرفق به فيجوز لوليه أن يزوجه بنفسه, ولا يجوز للولي أن يرد العقد إليه ليتزوج بنفسه بخلاف السفيه, لأن السفيه مكلف يتعلق بقوله حكم, والمجنون غير مكلف لا يتعلق بكلامه حكم. والضرب الثاني: أن يكون المجنون ممن يجن في زمان ويفيق في زمان فهذا على أضرب: أحدهما: أن يكون زمان جنونه أكثر من زمان إفاقته فيجوز لوليه إذا رآه محتاجًا إلى

النكاح أن يزوجه في زمان جنونه, ولا يرد العقد إليه الذي طبق به الجنون, ويجوز له أن يزوجه في زمان إفاقته وأن يرد العقد إليه كالسفيه, لأن الحجر عليه قبل زمان إفاقته لا يرتفع لكن يكون حكمه في زمان الجنون حكم الحجر بالجنون وفي زمان الإفاقة حكم بالحجر بالسفه. والثاني: أن يكون زمان إفاقته أكثر من زمن جنونه فالحجر يرتفع في زمان الإفاقة ولا يجوز لوليه أن يزوجه في حال جنونه لما يرجى إفاقته ويجوز له أن يزوج بنفسه في زمان إفاقته من غير إذن وليه ولا يجوز لوليه أن يزوجه في إفاقته لارتفاع حجزه. والثالث: أن يتساوى زمان جنونه وزمان إفاقته, ففي أغلبها حكمًا وجهان: أحدهما: أن حكم الجنون اغلب تغليبًا لحكم ثبوت الحجر, فعلى هذا يكون حكمه كالضرب الأول: فيمن كثر زمان جنونه وقل زمان إفاقته. والثاني: أن حك الإفاقة أغلب تغليبًا لأصل السلامة, فعلى هذا يكون حكمه كالضرب الثاني فيمن كثر زمان إفاقته وقل زمان جنون. مسألة: قال الشافعي: "ولو أذن لعبده فتزوج كان لها الفضل متى عتق". قال في الحاوي: وهذا كما قال, ليس للعبد أن يتزوج بغير إذن سيده لرواية عطاء عن جابر, أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " أيما عبد نكح بغير إذن مواليه فهو عاهر", والعاهر: الزاني, فشبه بالزاني لتحريم عقده, وإن لم يكن زانيًا في الحكم, ولأن السيد مالك لمنافعه وأكسابه فلم يكن له تفويتها بتزويجه, فإن تزوج بإذن سيده كان النكاح جائزًا, لأن مستحق الحجر قد رفعه بإذنه فعاد إلى جواز تصدقه, وإن تزوج بغير إذن سيده كان نكاحه باطلًا, وقال أبو حنيفة: يكون موقوفًا على إجازة السيد. وقال مالك: نكاحه جائز وللسيد فسخه عليه, والدليل عليها رواية نافع عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " إذا نكح العبد بغير إذن سيده فنكاحه باطل ". وقد روي هذا الخبر موقوفًا على ابن عمر. ولأن الحجر المانع من جواز المناكح يمنع من صحتها كالجنون, فإذا تقرر أن نكاح العبد بغير إذن سيده باطل وبإذنه جائز, فللسيد إذا أذن لعبده في النكاح حالتان: إحداهما: أن يعين له على المنكوحة فلا يجوز له أن يتجاوزها, فإن نكح غيرها

كان نكاحًا بغير إذن. والحال الثانية: أن لا يعين على المنكوحة ويكون إذنه مطلقًا فيجوز, بخلاف السفيه الذي يلزم الوطء, أن يعين على المنكوحة, والفرق بينهما: أن العبد من أهل الاختيار والتصدق في العقود وليس السفيه من أهل الاختيار والتصرف أن العبد من أهل الاختيار والعبد بإذن سيده نظر في المهر فإن كان قدر مهر المثل كان في كسبه على ما سنذكره وإن كان أكثر من مهر المثل لزم قدر مهر المثل في كسبه ونالت الزيادة في ذمته حتى يعتق فيؤدي وفارق السفيه في إبطال الزيادة على مهر المثل بالمعنى الذي قدمناه, والله أعلم فصل: فأما إذا سأل العبد سيده أن يزوجه فعضله ومنعه نظر في العبد, فإن كان غير بالغ لم يجبر السيد على تزويجه؛ لأنه قبل البلوغ غير محتاج إلى النكاح, وإن كان بالغًا فعل يجبر السيد على تزويجه إن أقام على عضله ومنعه زوجه الحاكم أم لا؟ على قولين: أحدهما: أشار إليه في كتاب العرض بالخطبة أن السيد يجبر على تزويج العبد لما يدعو إليه من حاجته وكمال مصلحته وسكون نفسه فشابه ما يحتاج إليه من تمام قوته وكمال كسوته. والقول الثاني: نص عليه في القديم والجديد وهو الصحيح أن السيد لا يجبر على تزويج عبده لأنه يجري مجرى الملاذ والشهوات ولا يلزم السيد تمكين عبده من ملاذه وشهواته. فعلى تقدير القولين لو كان السيد مولى عليه لصغر أو سفه أو جنون, فإن قيل بالقول الأول: أن السيد يجبر على نكاح عبده لزم ولي السيد المولى عليه أن يزوج عبده إذا طلب النكاح وإن قيل بالقول الثاني أن السيد لا يجبر على تزويجه لم يكن لوليه أن يزوجه. فصل: فأما إذا أراد السيد أن يجبر عبده على التزويج فإن كان العبد صغيرًا كان لسيده إجباره على النكاح ولأنه لما كان له إجبار ولده في صغره الذي لا ولاية له عليه بعد بلوغه فإجبار عبده في صغره أولى, وإن كان العبد بالغًا فهل للسيد إجباره على النكاح أم لا؟ على قولين: أحدهما: وهو قوله في القديم له إجبار عبده على النكاح لأنه لما ملك العقد على منافعه ورقبته جبرًا كان النكاح ملحقًا بأحدهما في عقده عليه جبرًا. والقول الثاني: وهو قوله في الجديد أنه ليس للسيد إجبار عبده على النكاح لأنه يجري مجرى الملاذ والشهوات التي ليس للسيد إجبار عبده عليها, ولأن معقود الوطء الذي لا يجوز للسيد إجبار عبده عليه فكان النكاح بمثابه, وعلى القولين معًا لو كان

السيد مولى عليه لصغر أو سفه لم يكن لوليه إجبار عبده على النكاح قولًا لما في إجباره من إخراج المهر والنفقة من كسبه. فصل: فأما المدبر فهو كالعبد في إجبار السيد له على النكاح, وفي إجبار السيد على تزويجه إذا أدعى إلى النكاح, وأما المكاتب فليس لسيده إجباره على النكاح, لما فيه من إلزامه المهر والنفقة في كسبه, وأما إذا دعي سيده إلى النكاح فهل يجبر السيد عليه؟ إن قيل: إنه يجبر على تزويج عبده فأولى أن يجبر على تزويج مكاتبه, وإن قلنا: إنه لا يجبر على تزويج عبده ففي إجباره على تزويج مكاتبه وجهان: أحدهما: لا يجبر عليه كما لا يجبر على تزويج عبده. والوجه الثاني: أنه يجبر على تزويج مكاتبه وإن لم يجبر على تزويج عبده, والفرق بينهما أن اكتساب العبد لسيده فلم يجبر على تزويجه لما يلحقه من التزام المهر والنفقة واكتساب المكاتب لنفسه فأجبر السيد على تزويجه, لأنه لا يؤول إلى التزام المهر والنفقة. فصل: فأما العبد إذا كان بين شريكين وليس له أن يتزوج بإذن أحدهما حتى يأذنا له جميعًا, فإن اتفقنا على تزويجه فهل لهما إجباره عليه أم لا؟ على قولين, وإن دعاهما إلى النكاح فهل يجبران على تزويجه أم لا؟ على قولين وأما إن كان نصف العبد حرًا ونصفه مملوكًا فليس لسيده أن يجبره على النكاح؛ لأن فيه حرية ولا ولاية عليه فيها, وإن دعا سيده إلى النكاح ففي إجباره قولان. مسألة: قال الشافعي: "وفي إذنه لعبده باكتساب المهر والنفقة إذا وجبت عليه". قال في الحاوي: إذا أذن السيد لعبده في النكاح فنكح, فقد وجب المهر بالعقد والنفقة بالتمكين, ولوجوبها محل معتبر بحال العبد, وللعبد ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يكون مكتسبًا. والثاني: أن يكون مأذونًا له في التجارة. والثالث: أن يكون غير مكتسب ولا مأذونًا في التجارة, فإن كان مكتسبًا فالمهر والنفقة في كسبه؛ لأن الإذن بالنكاح إذن به وبموجبه, وأولى ما تعلق ذلك بكسبه؛ لأن منه وإليه, فإن قيل: أفليس لو أذن لعبده في التجارة فلزمه فيها دين زاد على ما بيده كان في ذمة العبد يؤديه بعد عتقه فهلا استويا؟ قيل: الفرق بينهما: أن الإذن بالتجارة معقود

بالاكتساب والدين ضد الاكتساب فصار غير مأذون فيه فلذلك تعلق بذمته بعد عتقه والإذن بالنكاح معقودة الاستمتاع الموجب للمهر والنفقة فصار المهر والنفقة من موجبات إذنه فلذلك تعلق بكسبه دون ذمته. فرع: فإذا ثبت وجوب المهر والنفقة في كسبه فالمهر يستحق في كسبه بعد عتقه, والنفقة تستحق من كسبه بعد تمكنه من الاستمتاع؛ لأنهما يستحقان في الكسب الحادث بعد وجوبها, ولا يستحقان في كسب تقدمها؛ لأن الكسب لم يتعلق به إذن فصار خالصًا لسببه فلو كان العقد بمهر مؤجل استحق ذلك في الكسب الحادث بعد حلول الأجل, وإذا كان كذلك قيل للسيد: عليك أن تخلي سبيل عبدك وترفع عنه يدك ليلًا ونهارًا, أما النهار فللاكتساب الكسب والنفقة, وأما الليل فللاستمتاع بالزوجة, ثم لا سبيل لك إلى إبطال حقه في تمكين ليلًا من نفسه, ولك السبيل إلى منعه نهارًا من نفسه بالتزام المهر والنفقة؛ لأن حقه في استمتاعه ليلًا لا بدل له له فلم يسقط, ولحقه من اكتساب النهار بدل يلتزمه السيد فقط, ثم لا يخلو حال كسبه إذا مكن منه من ثلاث أقسام: أحدهما: أن يكون بقد المهر والنفقة من غير زيادة ولا نقصان فلا حق للسيد فيه ولا عليه وقد خلص جميع كسبه له في نفقته ونفقة زوجته وكسوتها ومهرها. والقسم الثاني: أن يكون كسبه أكثر من المهر والنفقة فللسيد الفاضل منهما. والقسم الثالث: أن يكون المهر والنفقة أكثر من كسبه فعليه أن يخلي عليه جميع كسبه ليصرفه في المهر والنفقة ويكون حاله في الباقي عليه من المهر والنفقة كحال من لا كسب له ولا هو مأذون له في التجارة على ما سنذكره بعد. فرع: فلو أن سيد هذا العبد المكتسب إذا استخدمه نهارًا لزمه جميع المهر والنفقة له ولزوجته, سواء كان كسبه مساويًا لهما أو مقصورًا عنهما؛ لأنه بالاستخدام كالضامن لهما, ولو أن سيده لم يستخدمه ولكن حبسه في زمان كسبه لزم غرم المهر والنفقة, ولو حبسه غير سيده لزمه أجره مثله, والفرق بينهما أن السيد يلتزم ذلك في حق عبده فلزمه ما يستحق العبد من مهر زوجته ونفقتها, والأجنبي يضمن ذلك في حق عبده فلزمه ما يستحق العبد من مهر زوجته ونفقته, والأجنبي ذلك في حق السيد نلزمه قيمة ما استهلكه من منافعه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وإن كان مأذنًا له في التجارة أعطى مما في يديه".

قال [في] الحاوي: وهذا القسم الثاني من أحوال العبد أن يكون مأذونًا في التجارة فيكون ما لزمه من المهر والنفقة متعلقًا بمال التجارة؛ لأن هذا المال في حق المأذون في التجارة المال الكسب في حق المكتسب لكونهما ملكًا للسيد الآذن لكن اختلف أصحابنا في المال ها هنا يقول الشافعي: أعطى مما في يديه على ثلاث أوجه: أحدها: أن يعطيه من حال الربح المستفاد بعد وجوبه, فيعطي المهر من الربح المستفاد بعد العقد والنفقة من الربح المستفاد بعد التمكين, كما قلنا في المكتسب إنه يعطيها من كسب المستفاد بعد وجوبها. والثاني: أنه يعطيهما من جميع ما بيده من الربح المستفاد قبل الوجوب وبعده, ولا يعطيهما من أصل المال؛ لأن جميعها نماء المال والفرق بين الكسب والربح أن كسب العمل حادث في كل يوم وليس كسب التجارة حادثًا في كل يوم. والثالث: أنه يعطيهما من جميع ما بيده من مال التجارة من ربح وأصل؛ لأن جميع ذلك مالك للسيد وقد صار بالإذن كالمأمور يدفعهما, فتعلق الإذن لجميع ما بيده كالدين, فلو أن السيد دفع ذلك من غير مال التجارة خلص مال التجارة وربحه اليد. فصل: وأما القسم الثالث: من أحوال العبد فهو أن يكون غير مكتسب ولا مأذون له في التجارة؛ إما لأنه زمن لا يقدر على عمل وإما لأنه محارف محروم لا يقدر شيئًا وإن عمل فهما سواء وعلى السيد التزام نفقته وليس عليه التزام نفقة زوجته, ويقال لها: زوجك معتبر بنفقتك وأنت بالخيار في الصبر معه على إعساره أو فسخ نكاحه, فأما المهر ففيه قولان: أحدهما: أنه في ذمة العبد يؤديه بعد عتقه ولا يؤخذ السيد به لأنه في مقابلة البضع الذي قد صار ملكًا للعبد دون السيد ومن ملك ذا بدل ملك عليه ذلك البدل وهذا أشهر القولين وأظهرهما. والقول الثاني: أن يكون مضمونًا في ذمة سيده؛ لأن إذنه بالنكاح الذي لا ينفك من التزام المهر موجب الالتزام ذلك المهر كالديون. فرع: فأما إذا تزوج العبد بغير إذن سيده فنكاحه باطل فإن لم يدخل بها فرق بينهما ولا مهر ولا نفقة؛ لأن فساد العقد قد أسقط ما تضمنه من العوض وإن دخل بها فرق بينهما وكان لها بالدخول مهر مثلها لوطء الشبهة لقوله صلى الله عليه وسلم: "فإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها" وأن يكون المهر فيه قولان: أحدهما: نص عليه في القديم والجديد أن يكون في ذمة العبد يؤديه بعد عتقه؛ لأنه

حق وجب برضي مستحق فأشبه الديون؟ والقول الثاني: خرجه أصحابنا من كلام أشار إليه الشافعي في القديم أنه يكون في رقبة عبده يباع فيه إلا أن يفديه سيده. لأنه وجب الوطء الذي هو إتلاف فأشبه الجنابة, والله أعلم. فرع: وإذا أذن السيد لعبده في نكاح, فنكح نكاحًا فاسدًا ففي دخوله في إذن السيد قولان: أحدهما: أن يكون داخلًا في حكم إذنه لانطلاق الاسم على فاسده كانطلاقه على صحيحه, ولوجوب المهر في فاسد كوجوبه في صحيحه, فعلى هذا يكون محل المهر كمحله في النكاح الصحيح إن كان مكتسبًا ففي كسبه وإن كان مأذونًا له في التجارة كان فيها بيده, وإن كان غير مكتسب ولا مأذونًا له في التجارة كان على ما مضى من القولين: أحدهما: في ذمة العبد. والثاني: في ذمة سيده. والقول الثاني: وهو الأصح أن النكاح الفاسد لا يكون داخلًا في جملة إذنه؛ لأن إطلاق الأمر يقتضي حمله على ما ورد به الشرع, ولأن هذا المهر ما وجب بالعقد, وإنما وجب بالوطء الذي لم يكن فيه إذن, فعلى هذا في محل هذا المهر القولان الماضيان: أحدهما: في ذمة العبد. والثاني: في رقبته. فرع: وإذا زوج الرجل عبده بأمته فليس على العبد مهر ولا نفقة؛ لأنهما لو وجبا لكانا للسيد, ولا يثبت للسيد على عبده مال, لكن اختلف أصحابنا في المهر, هل وجب بالعقد ثم سقط؟ على وجين: أحدهما: أنه وجب بالعقد ثم سقط لئلا يكون بالموهبة التي جعلت خالصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم من دون المؤمنين. والوجه الثاني: أنه لم يجب أصلًا, لأنه لما كان ملك السيد مانعًا من استدامة استحقاقه كان مانعًا من ابتداء استحقاقه, ألا تراه لو أتلف مال سيده لم يلزمه غرمه لا في الابتداء ولا في الاستدامة كذلك المهر ولمن قال بالأول أن ينفصل عنه بأن الأقوال قد تجوز أن تملك بغير يدل والبضع لا يجوز أن يملك إلا ببدل, فلو أن السيد بعد تزويج عبده بأمته أعتقهما معًا لم يكن له مطالبة عبده بالمهر بعد عتقه؛ لأنه ما وجب عليه بالعقد ولا للأمة بعد عتقها مطالبة الزوج ولا السيد بمهرها؛ لأنه ما وجب لها بالعقد.

فرع: وإذا زوج السيد أمته بعبد غيره ولم تقبض مهرها منه حتى اشتراه فإذا كان بيد العبد من كسبه قبل الشراء وبعد النكاح شيء فهو للمشتري يأخذه من مهر أمته وليس للبائع فيه حق وإن لم يكن بيد العبد من كسبه قبل الشراء شيء فلا مطالبة لمشتريه بمهر أمته؛ لأنه قد صار عبده ولا حق للسيد على عبده, واختلف أصحابنا هل هذا الشراء أسقط المهر أو منع من المطالبة مع بقاء المهر؟ على وجهين: أحدهما: أنه قد أسقط المهر؛ لأنه كان الملك مانعًا من ابتداء استحقاقه كان مانعًا من بقاء استحقاقه. والوجه الثاني: أنه قد منع من المطالبة بالمهر ولم يسقطه؛ ولأن الحقوق ثابتة في الذمم لا تسقط إلا بالأداء أو الإبراء وليس الشراء واحد منهما وتأثير هذين الوجهين يكون بعتق العبد أو بيعه, فإن قيل إن الشراء قد أسقط ما عليه من المهر لم يكن للسيد مطالبة العبد بعد عتقه أو بيعه فإن قيل: إنه منع من المطالبة ولم يسقطه كان للسيد مطالبته بعد عتقه أو بيعه. فرع: وإذا زوج الرجل عبده بأمة غيره ثم اشتراها السيد كان النكاح بحاله ومهرها مستحق لبائعها لوجوبه في ملكه ولو كان السيد قد أمر عبده بشراء زوجته, فإن أمره يشتريها لسيده فالنكاح بحاله وأن أمره أن يشتريها لنفسه لتكون أمة لعبد لا للسيد ففيه قولان: أحدهما: بناء على اختلاف قوليه في العبد هل يملك إذا ملك أم لا؟ فعلى قوله في القديم أنه يملك إذا ملك فالشراء للعبد وقد بطل النكاح, لأن من ملكك زوجته بطل نكاحها وعلى القول الجديد: أن العبد لا يملك إذا ملك فيكون الشراء للسيد والنكاح بحاله, والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي: "ولو ضمن لها السيد مهرها وهو ألف عن العبد لزمه". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا أذن السيد لعبده أنه يتزوج حرة فتزوجها على صداق ألف ثم إن السيد ضمن لها ألف عن عبده صح الضمان لوجوبه كالديون ويكون الألف كسب عبده بالعقد, وفي ذمة سيده بالضمان هو بالخيار بين أن تطالب العبد بها من كسبه بحكم عقده أو تطالب السيد بها بحكم ضمانه فإن دفعها العبد من كسبه بريء السيد من ضمانها, وإن دفعها السيد من ماله بري العبد منها ولم يرجع السيد بها على عبده؛ لأن السيد لا يثبت له في ذمة عبده مال فلو طلق العبد زوجته نظر في طلاقه, فإن

كان بعد الدخول بها فقد استكملته وإن كان قبل الدخول بها ملك بالطلاق نصف الصداق. فإن لم تكن الزوجة قبضت صداقها بريء الزوج من نصفه وبريء السيد من ضمان هذا النصف؛ لأن براءة المضمون عنه توجب المرأة الضامن وبقي للزوجة نصف الصداق على العبد وعلى السيد ضمانه. وإن كانت هذه الزوجة المطلقة قبل الدخول قد قبضت صداقها رجع عليها نصفه, ثم لا يخلو حال المطلق من أحد أمرين, وإما أن يكون باقيًا على ملك سيده عند طلاقه أو قد زال ملكه عنه فإن كان باقيًا على ملكه فالسيد هو الراجع عليها بنصف الصداق؛ لأنه من كسب عبده بالطلاق واكتساب العبد لسيده وإن كان ملك السيد قد زال عنه بعتقه أو بيع ففي مستحق هذا النصف من الصداق وجهان: أحدهما: وهو قول أبي حامد الإسفراييني أنه يستحق العبد إن كان قد أعتق أو مشتريه إن كان قد بيع ولا حق فيه لسيده الدافع له, لأن نصف الصداق كسب ما ملك بالطلاق والطلاق لم يكن في ملك السيد فلم يستحق ما ملك به بعد زوال ملكه وجرى ذلك مجرى الأب يزوج ابنه الصغير على صداق يدفعه الأب من ماله ثم يطلق الابن عند البلوغ قبل الدخول بزوجته فيملك الابن نصف الصداق, ولا يعود إلى الأب وإن دفعه من ماله. والثاني: قاله أبو بكر بن الحداد في "فروعه" أنه يكون للسيد؛ لأن الصداق ماله ما رجع منه بالطلاق عاد إليه وإن زال ملكه عن العبد, وذهب إلى هذا بعض المتأخرين من أصحابنا أيضًا, وفرق بين الأب إذا دفع الصداق عن ابنه وبين السيد إذا دفعه عن عبده, بأن الابن يملك فكان دفع الأب تمليك له, ثم قضاء للصداق عنه, فإذا أطلق الابن قبل الدخول عاد نصف الصداق إليه لسابق ملكه, وليس كالعبد؛ لأنه لا يملك فلم يمكن دفع الصداق عنه تمليكًا له فإذا طلق قبل الدخول لم يملك ما لم يجبر له عليه ملك وسواء دفع السيد الصداق من ماله أو دفعه العبد من كسبه؛ لأن كسبه مال لسيده والأول أصح الوجهين وأولاهما. مسألة: قال الشافعي: "فإن باعها زوجها قبل الدخول بتلك الألف بعينها فالبيع باطل من قبل أن عقده البيع والفسخ وقعا معًا". قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا ضمن السيد عن عبده صداق زوجته وهو ألف, ثم ابتاعت زوجها من سيده بألف فهذا على ضربين: أحدهما: أن تبتاعه بألف في ذمتها. والثاني: أن تبتاعه بالألف التي هي صداقها, فإن ابتاعته بألف في ذمتها فقد ذكره

الشافعي من بعد وإن ابتاعه بالألف التي هي صداقها, كأنها قالت للسيد: بعني زوجي بالألف التي ضمنتها من صداقي, فللجواب عن هذه المسألة مقدمتان نذكرهما ثم نبني الجواب عليهما, إحدى المقدمتين: أن المرأة إذا ملكت زوجها بطل نكاحها, وإنما بطل؛ لأن أحكام النكاح وملك اليمين متضادة؛ لأنه كان مالكها لبعضها فصارت مالكة لرقبته, وصار مستحق الحجر عليها بالزوجية فصارت تستحق الحجر عليه بالرق, وكانت نفقتها عليه فصارت نفقته عليها وإذا تضادت أحكامها من هذه الوجوه ثبت أقوامها وانتفي أضعفها, وملك اليمين أقوى من عقد النكاح؛ لأن عقد النكاح يختص بملك البضع وملك اليمين يستوعب ملك الرقبة كلها, فلذلك ثبت ملك اليمين وبطل عقد النكاح. والمقدمة الثانية: أن فسخ النكاح قبل الدخول إن كان من قبل الزوجة أسقط جميع صداقها, كما لو ارتدت, وإن كان من قبل الزوج لم يسقط الصداق إلا تصفه كما لو ارتد, وهو ها هنا من قبل الزوجة؛ لأنه وقع بابتياعها له, فإن قيل: الفسخ ها هنا إنما وقع بالابتياع الذي هو منهما, والفسخ إذا وقع بسبب من جهة الزوجين غلب فيه حكم الزوج دون الزوجة كالخلع, قيل: قد قال بعض أصحابنا هذا فأخطأ فيه, مذهبًا, وحجاجًا. أما المذهب فهو أن الشافعي قد نص في هذا الموضوع على خلافه, وجعل الفسخ مضافًا إلى الزوجة في إسقاط جميع صداقها, وأما الحجاج فهو الفرق بين الواقع بين الابتياع والخلع من وجهين: أحدهما: أن الابتياع إنما كان بين السيد والزوجة من غير أن يكون للزوج فيه صنع ولا اختيار فلم يجز أن يضاف إليه الخلع, وإنما كان بين الزوجين فجاز لاختصاص الزوج بالفرقة أن يضاف الفسخ إليه. والثاني: أن الزوج في الخلع أزال ملكه عن البضع إلى غير مالك كالعتق الذي يزيل به المعتق ملكه عن رقبة العبد إلى غير مالك, فغلب فيه حكم الزوج دون الزوجة, والابتياع قد زال به ملك البائع وانتقل إلى المشتري فغلب فيه حكم الزوجة لانتقال الملك إليها دون الزوج. فرع: فإذا تقررت هاتان المقدمتان وابتاعت زوجها بالألف الذي ضمنه السيد من صداقها, لم يخل من أن يكون الزوج قد دخل بها قبل الابتياع أو لم يدخل, فإن ابتاعته بعد دخوله بها كان البيع جائزًا لابتياعها إياه من مالكه بثمن قد استحقته ذمته لاستكمالها للصداق بالدخول, فصار كابتياعها إياه بدين على سيده, وإذا صح البيع بطل النكاح؛ لما ذكرنا من أن الزوجة إذا ملكت زوجها بطل نكاحها وبرثت الزوجة من الثمن لكونه صداقًا, وبريء السيد من ضمان الصداق لكونه ثمنًا ولم يبق لها على زوجها صداق؛ لأنها قد استوفته من ضامنه, ولم يكن للسيد أن يرجع على عبده بما غرمه عنه من ضمانة؛ لأنه ضمنه في حال ملكه.

فرع: وإن ابتاعه بصداقها قبل دخوله بها في مسألة الكتاب, فالبيع يكون باطلًا وتعليل بطلانه قد أجمله الشافعي, فقال: "لأن عقد البيع والفسخ وقعا معًا". وبيانه: أنه في إثبات البيع النكاح, وذلك أن البيع إذا صح بطل النكاح, وإذا بطل النكاح من قبل الزوجة قبل الدخول سقط صداقها, وإذا سقط الصداق بطل ضمانه؛ لأن بقاء الضمان يكون لبقاء الحق المضمون, وإذا بطل الضمان بطل الثمن؛ لأن الثمن هو الصداق المضمون, وإذا بطل الثمن بطل البيع؛ لأن البيع لا يصح إلا بثمن, فلما أدى إثبات البيع إلى إبطال النكاح والبيع حكم بإبطال البيع وبقاء النكاح على ثبوته؛ لأن ما أدى ثبوته إلى إسقاطه وإسقاط غيره من حكم في أول الأمر بإسقاطه وثبوت غيره ليدفع بأقل الضررين أكبرهما, ولذلك نظائر: فمنها: أن من مات وترك أخًا لا وارث له سواه, فأقر الأخ بابن للميت ثبت نسب الابن ولم يرث؛ لأنه لو ورث لحجب الأخ فلم يرث, وإذا لم يرث الأخ بطل إقراره بالنسب؛ لأنه لا يصح أن يقر بالنسب من ليس بوارث؛ وإذا بطل إقراره بالنسب لم يثبت النسب, فلما كان توريث هذا الابن مؤديًا إلى إبطال نسبه وميراثه ثبت نسبه ويطل ميراثه. ومنها: أن من اشترى أباه في مرض موته عتق ولم يرث؛ لأن عتقه في المرض كالوصية له في اعتباره من الثلث, فلو ورث لمنع الوصية؛ لأن لا وصية لوارث وإذا منع الوصية بطل العتق, وإذا بطل العتق سقط الميراث, فلما كان توريثه مؤديًا إلى إبطال عتقه وميراثه ثبت عتقه وسقط ميراثه ومنها: أن يوصي لرجل بابن له مملوكه فمات قبل الوصية, وخلف أخًا وهو وارثه فيقبل الأخ الوصية لأخيه بابنه, فإن الابن يعتق ولا يرث؛ لأنه لو ورث لحجب الأخ, وإذا حجبه بطل قبوله للوصية, وإذا بطل قبوله عتق الابن, وإذا بطل عتقه سقط ميراثه, فلما أدى ميراثه إلى سقوط عتقه وبطلانه ثبت العتق وسقط الميراث. ومنها: أن يدعي عبدان على سيدهما العتق, وهو منكر فيشهد لهما شاهدان بالعتق فيحكم بعتقهما, ثم يشهد المعتقان بجرح الشاهدين, فإن شهادتهما بالجرح مردودة؛ لأنها لو قبلت في الجرح ردت شهادة الشاهدين بالعتق, وصار المعتقان عبدين مردودي الشهادة, فلما أدى قبول شهادتهما إلى ردها وإبطال العتق ردت شهادتهما وثبت العتق, ولذلك من النظائر ما يطول ذكره, وإنما ذكرنا أمثلة يؤدي دورها إذا ثبت إلى سقوطها فلم يثبت, وبالله التوفيق. مسألة: قال الشافعي: "ولو باعها إياه بألف لا بعينيها كان البيع جائزًا وعليها الثمن

والنكاح مفسوخ من قبلها وقبل السيد". قال في الحاوي: وهذه المسألة الثانية من ابتياعها لزوجها إن ابتاعته بألف في ذمتها, فالبيع صحيح لانعقاده بثمن معلوم, والنكاح قد بطل, لما ذكرنا من أن النكاح وملك اليمين لا يجتمعان لتنافي أحكامها, فأثبت أقواها, وإذا كان كذلك فلا يخلو حاله من أحد أمرين: إما أن يكون الزوج قد دخل بها قبل ابتياعها له أو لم يدخل بها, فإن لم يكن دخل بها فصداقها قد سقط لانفساخ النكاح من جهتها قبل الدخول, وإذا سقط الصداق بطل ضمان السيد له؛ لأن الضمان فرع الأصل قد بريء منه المضمون فبريء الضامن منه وللسيد عليها الألف الذي اشترت به زوجها ولا مطالبة لها بصداقها. فرع: وإن كان قد دخل بها قبل ابتياعها له, فقد استقر لها الصداق كاملًا بالدخول على الزوج قد ملكته, فصار عبدًا لها, قيل تبرأ الزوج منه بحدوث ملكها أم لا؟ على وجهين: أحدهما: قد بريء منه؛ لأن السيد لا يصح أن يثبت له في ذمة عبده ماله, فعلى هذا قد بريء السيد من ضمانه لبراءة المضمون عنه, وللسيد مطالبتها بالألف الذي هو ثمن. والثاني: أن الزوج لا يبرأ من صداقها وإن صار عبدًا لها, لاستقراره عليه قبل ملكها له, فلم يسقط إلا بأداء أو إبراء, وإن صار بها عبدًا, وإنما لا يثبت لها ابتداء في ذمته مال بعد أن صار لها عبدًا, فإما أن يكون الحق ثابتًا فلا يمتنع أن يكون بعد الملك باقيًا فعلى هذا لها على السيد الألف الذي هو صداقها, وللسيد عليها الألف التي هي ثمن زوجها, فإن كانت الألفان من نقدين مختلفين لم يصر قصاصًا, وكان عليها أن يؤدي إلى السيد الألف التي هي ثمن زوجها, وعلى السيد أن يؤدي إليها الألف التي هي صداقها. فإن قال كل واحد منهما: لا أدفع ما علي حتى أقبض مالي لم يكن ذلك له؛ لأنه لا تعلق لأحد المالين بالآخر, فأيهما بدأ بالمطالبة قضى له على صاحبه بالدفع, فإن تبرأ من الألفين صح الإبراء, فلو قال كل واحد منهما لصاحبه: قد أبرأتك إن أبرأتني لم يصح لما فيه من تقييد البراءة بشرط, ولو قال: قد أبرأتك فأبرئني فهو مبرئ من حق بغير شرط, فحصت براءته وطلب إلى الآخر أن يبرئه, وكان بالخيار بين أن يبرئه أو لا يبرئه, وإن كانت الألفان من نقد واحد لا يختلف فكانت الألف الثمن من جنس الألف الصداق وعلى صفتها, فهل يصير قصاصًا أم لا؟ على أربعة أقاويل: أحدهما: أن يصير قصاصًا اختارا أو لم يختارا هذا, قد بريء كل واحد منهما من حق صاحبه. والقول الثاني: أنه يصير قصاصًا إن اختارا أو أحدهما ولا تصير قصاصًا إن لم

يختر واحدا منهما. والثالث: أنه يصير قصاصاً إن اختاراه معاً، ولا يكون قصاصاً إن اختاره أحدهما. الرابع: وهو مخرج أنه لا يصير قصاصاً بحال وان اختاراه، وعلى كل واحد منهما أن يؤدي إلى صاحبه ماله ويستوفي منه ما عليه. ووجه هذه الأقاويل يذكر في موضعه من كتاب المكاتب إن شاء الله. مسألة: قال الشافعي: "وله أن يسافر بعبده , ويمنعه من الخروج من بيته إلى امرأته وفي مصره إلا في الحين الذي لا خدمه له فيه". قال في الحاوي: اعلم أن السيد إذا أذن لعبده في النكاح فعلى حالتين: أحداهما: أن يلتزم لزوجته المهر والنفقة. والحال الثانية: أن لا يلتزم، فإن لم يلتزم لها المهر والنفقة، فعليه أن يمكن عباه من اكتساب المهر والنفقة نهاراً، ويخلي بينه وبين زوجته ليلا، فيكون تخليته نهاراً للاكتساب وليلا للاستمتاع، إلا أن تكون زوجته في منزل سيل هـ فلا يلزمه تخليته ليلاً لوصوله إلى الاستمتاع مع سيده، فلو أراد السيد أن يسافر بعبده هذا لم يكن له ذلك لما فيه من منعه من الاكتساب، فإن قهره على نفه، قال أبو حامد الإسفراييني: يضمن أقل الأمرين من أجرة مثله أو نفقة زوجته؟ لأن أجرته إن زادت كان له أخذ الزيادة وان نقصت لم يلزمه إتمام النفقة، وهذا الذي قاله عندي ليس بصحيح، بل يضمنه لها نفقة ولا يضمن أقل الأمرين لأمرين: أحدهما: أنه يضمن ذلك في حق الزوجة لا في حق العبد، فلزمنه نفقة الزوجة ولم تلزمه أجرة العبد. والثاني: إن حال إجباره أعظم من حال خيارهء فلما لزمه في حال الاختيار ضمان النفقة فأولى أن يلزمه في حال الإجبار ضمان النفقة، فأما إذا قهره على نفسه ليلا وأرسله نهاراً فقد تعدى كتعدية ولو قهره نهارا غير أنه يضمن زمان نهاره ولا يضمن زمان ليله. والفرق بينهما: أن زمان ليله مستحق الاستمتاع الذي لا يقابله عوض فلم يضمن، وزمان نهاره مستحق للكسب الذي يقابله عوض ضمن. فرع: فإن التزم السيد لها المهر والنفقة فله أن يستخدمه في مصره، وله أن يسافر به لأمرين:

أحدهما: أن السيد إذا التزم له المهر والنفقة سقط عنه ما لزمه بالزوجية فعاد إلى ما كان عليه من قبل وقد كان له أن يستخدمه في الحضر والسفر فكذلك الآن. والثاني: أن منزلة السيد مع عبده كمنزلة الحر في نفسه فكل ما جاز للحر أن يفعله مع زوجته من تصرف في الحضر وتقلب في السفر جاز للسيد أن يفعله مع عبده. وإذا كان كذلك فللسيد حالتان: إحداهما: أن يستخدمه في مصره فله أن يستخدمه نهاراً وعليه أن يرسل للاستمتاع بزوجته ليلاً؟ لأن زمان الاستخدام هو النهار فيعلق حق السيد به دون الليل، وزمان الاستمتاع هو الليل فيعلق حق العبد به دون النهار. والحالة الثانية: أن يسافر به فله أن يسافر به ويقطعه عن زوجته ليلاً ونهارا. فإن قيل: أفليس الليل في الحضر مستثنى من حق السيد، فهلا كان في السفر كذلك "قيل: لأن السيد في الحضر قد يصل إلى حقه من استخدام النهار، وإذا أرسله ليلاً للاستمتاع ولا يصل في السفر إلى حق من استخدام النهار إذا أرسله ليلاً للاستمتاع، فكذلك مار زمان الليل مستثنى في حال السيد في الحضر وغير مستثنى من السفر، إلا أن تكون الزوجة مسافرة مع العبد فيستوي حكم الحضر والسفر في استثناء الليل منها. فأما إن كان السيد ممن عمله واستخدامه في الليل دون النهار كالبزارين والرياحين والحدادين، صار الليل زمان استخدامه لعبده، والنهار زمان إرساله للاستمتاع بزوجته، ولا ينبغي للسيد أن يسافر بعبده عنا استغنائه عنه قصدا للإضرار به وبزوجته، وكذلك في مصره، فأما قول الشافعي: "له أن يسافر بعبده" فقد ذكرنا جوازه وقوله: "ويمنعه من الخروج من بيته إلى امرأته وفي مصره" ففيه تأويلان: أحدهما: قاله أبو حامد أنه يمنعه من الخروج من بيته إذا كانت امرأته فيه وان كانت خارجة منه لم يكن له منعه من الخروج إليها. والثاني: وهو أشبه التأويلين عندي. أنه يمنعه من الخروج من بيته نهارا؛ لأن زمان الاستخدام وليس له أن يمنعه من الخروج ليلاً في زمان الاستمتاع ألا ترى الشافعي قال بعد ذلك: "إلا في الحين الذي لا خدمة له فيه" يعني الليل. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولو قالت له أمته أعتقني على أن أنكحك وصداقي عتقي فأعتقها على ذلك فلها الخيار في أن تنكح أو، تدع ويرجع عليها بقيمتها فان نكحته ورضي بالقيمة التي عليها فلا بأس. قال المزني: ينبغي في قياس قوله أن لا يجيز هذا المهر حتى يعرف قيمة الأمة حين اعتقها فيكون المهر معلوماً لأنه لا يجيز المهر غير

معلوم. قال المزني: سألت الشافعي رحمه الله عن حديث صفيه قفية رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها وجعل عتقها صداقها فقال: للنبي صلى الله عليه وسلم في النكاح أشياء وليست لغيره". قال في الحاوي: إذا أعتق السيد أمته على أن تتزوج به ويكون عتقها صداقها، أما إن ابتدأها بذلك أو سألته فأجابها إلى ذلك فقد عتقت، وهي بالخيار في الحالين بين أن تتزوج به أولا تتزوج. وقال أحمد بن حنبل: قد صارت له بهذا العتق زوجة من غير عقه. وقال الأوزاعي: لا تصير زوجة بالعتق ولكن تخير على أن تتزوج به بعقد مستجد. واستدل أحمد بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أعتق صفية وجعل عتقها صداقها" ولم ينقل أنه عقد بعد العتق عليها ثم دخل بها. واستدل الأوزاعي بأنه لو أعتقها على معلوم من خامته أو عمل أخذت به جبراً فكذلك على التزويج. ودليلنا: هو أن بدل العوض على نكاح في الذمة لا يصحء كما لو أعطاها ألفاً على أن تتزوج به بعد يوم لم يصح كذلك هذا. ولأن الذمة إنما ثبتت فيها الأموال والأعمال، ظ لأهوال كالقرص والسلم والأعمال كالبناء والخياطة، فأما العقود فلا يثبت في الذمة، كما لو أعطاه ثوباً على أن تبيعه داراً، أو يؤجره عبداً لم يصح، كذلك النكاح لا يثبت في الذمة بما نفذ من العتق. وفي هذا الاستدلال انفصال عما استدل به الأوزاعي: لأن قطع الخيار قبل ما يملك به استحقاق الخيار لا يصح، كما لو أسقط الشفيع خياره في أخذ الشفعة قبل البيع لم يسقط الخيار بعد البيع، وكذلك خيار المعتقة في التزويج يكون بعد العتق فلا يصح إسقاطه قبل العتق، ويدل على أحمد خصوصًا أن العتق مزيل لملك المعتق عن الرقبة والمنفعة فلم يجز أن يثبت به عقد النكاح الذي هو بعض تلك المنفعة؟ لأن ما أوجب نفي شيء استحال أن يوجب إثباته واثبات بعضه لكونهما فمدين متنافيين. فأما استدلال أحمد بحديث صفية فعنه جوابان: أحدهما: أنه قد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها وتزوجها فبطل استدلال به. والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم مخصوص في مناكحه بما ليس لغيره. قال المزني: سألت الشافعي عن حديث صفية فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أعتقها وجعل عتقها صداقها. قال الشافعي للنبي صلى الله عليه وسلم قال المزني: كأنه ذهب إلى أنه مخصوص للنبي صلى الله عليه وسلم، فاختلف أصحابنا فيما خص به في أمر صفية على أربعة أوجه: أحدهما: أنه خص بأن صار عتقها نكاحها ولا يصير عتق غيره من أمته نكاحاً. والثاني: أنه خص بأن وجب عليها أن تتزوج به ولا يجب على غيرها أن تتزوج بغيره. والثالث: أنه خص بأن لم يلزمه لها صداق وغيره يلزمه الصداق. والرابع: أنه خص بأن صارت قيمتها وان جهلت صداقاً منه ولا تكون القيمة إذا جهلت صداقاً من غيره.

فرع فإذا أثبت أنها لا تجبر على نكاحه إذا أبت فكذلك لو بذلت له نفها لم يجبر على نكاحها إذا أبى لأن الشرط إذا لم يوجب إجبارها لم يوجب إجباره. وكان كل واحدا منهما على خياره. وإذا كانا كذلك فلها حالتان: إحداهما: أن يتناكحا. والثاني: أن لا يتناكحا. فإن لم يتناكحا إما لامتناعه أو امتناعها فله عليها قيمتها وإنما وجبت له عليها قيمتها؟ لأنه أعتقها على شرط منع الشرع من لزومه. فإذا فاته الرجوع برقبتها لنفوذ العتق رجع بقيمتها كما لو أعتقها على حمى أو حرى تجب له القيمة يوم العتق لا يوم الرجوع بالقيمة لأن بالعتق ومع الاستهلاك الموجب للقيمة. وهكذا لو أعتق على هذا الشرط أم ولده أو مكاتبته أم مدبرته لم يلزمهن أن يتزوجن به وكان له على كل واحدة منهن لأنهن مواء في تفارقهن فتساوين في عتقهن. وهكذا لو أعتقهن على أن يتزوج بهن ولم يقل على أن عتقهن صداقهن كان العتق نافذاً وله عليهن قيمتهن؛ لأن الشرط الذي في مقابلة عتقهن لم يلزمهن توجب العدول عنه إلى قيمتهن. فرع فإن اتفقا على أن نكحها فعلى ثلاثة أقسام: أحدها: أن ينكحها على صداق معلوم معينا أو في الذمة فالنكاح بلا صداق جائز وله عليها قيمتها ولها عليه صداقها. فإن كان الصداق معيناً لم يجز أن يكون قصاصا وكذلك لو كان في الذمة من غير جنس القيمة لم يكن قصاصاً أيضاً، وان كان في الذمة من جنس القيمة فهل يكون قصاصا أم لا؟ على ما ذكرنا من الأقاويل الأربعة. والثاني: أن ينكحها على أن يكون عتقها صداقها والنكاح جائز والصداق باطل. وقال أبو حنيفة: الصداق جائز وهذا خطأ؛ لأن العتق ليس بمال ولا عمل يعتاض عليه بمال، فلم يجز أن يكون صداقاً وصح النكاح؟ لأن بطلان الصداق لا يوجب فساد النكاح فتكون لها عليه مهر مثلها كما لو تزوجها على صداق فاسد من محرم أو مجهول ويكون له عليها قيمتها، فإن كانت القيمة مهر المثل من جنسين مختلفين لم يكونا قصاصاً، وان كانا من جنس واحد فهل يكون قصاصاً أم لا؟ على ما ذكرنا من الأقاويل. والثالث: أن ينكحها على أن تكون قيمتها صداقًا فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكونا عالمين بقدر القيمة فيكون النكاح والصداق جائزين؟ لأنه تزوجها على معلوم في ذمتها فصار كما لو تزوجها على دين في ذمتها من ثمن أو قرض وتبرأ من قيمتها بالصداق، ويبرأ من صداقها بالقيمة. والثاني: أن يكونا جاهلين بقدر القيمة أو أحدها، فالنكاح جائز وفي بطلان الصداق قولان:

أحدهما: وهو قوله في الجديد، واختاره المزني وأبو إسحاق المروزي: أن الصداق باطل: لأن الجهالة تمنع من صحته، كما لو تزوجها على عقد غير موصوف، ولا معين. والثاني: قاله في القديم واختاره أبو علي بن خيران، وأبو علي بن أبي هريرة، أن الصالح جائز بناء على قوله في القديم: أن الصداق المعين إذا بطل وجب الرجوع بقيمة لا بمهر المثل فتصح هاهنا؛ لأن قيمة الصداق هي القيمة المستحقة. فرع: فإذا أراد سيد الأمة أن يتوصل إلى عتقها ونكاحها من غير أن يكون لها خيار في الامتناع بعد العتق، فقد قال أبو علي بن خيران: إنه يقدر على التوصل إلى ذلك بأن يقول لها: إن تزوجتك في غدٍ فأنت اليوم حرة، فهي ما لم يتزوجها في غير باقية على الرق لا خيار لها في نفسها وإذا تزوجت أوجب التزويج تقدم عتقها، وبان أن العقد وقع عليها وهي حرة قبله بيوم فصح. وقال سائر أصحابنا: هذا خطأ والنكاح فاسد؛ لأن العتق لا يقع إلا بعد تمام العقد، فصار العقد واقعاً في حال الرق، ولا يصح لأحد أن ينكح أمته فبطل العقد إذا لم يقع العتق: لأن العتق إذا علق بعقد تعلق بصحيحة دون فاسدة. فرع وإذا قالت المرأة لعبدها: قد أعتقتك على أن تتزوج بي، أو ابتدأها العبد فقال: اعتقيني أن أتزوج بك فأعتقته، عتق في الحالين، ولم يلزمه أن يتزوج بها ولا يلزمها إن رضي أن تتزوج به لما قدمناه، ولا قيمة لها على عبدها بخلاف عتق السيد لأمته على هذا الشرط، والفرق بينهما: أن ما أوجبه عقد النكاح من التمليك يستحق الزوج دون الزوجة، فإذا شرطه السيد على أمته كان شرطاً له، فإذا فاته رجع ببذل كما لو أعتقها على ط ل يأخذه استحق عليها، وإذا شرطت المرأة على عبدها كان شرطاً عليها فلم يكن سقوطه عنها موجباً لرجوعها ببدله، وصار كما لو أعتقه على مال يدفعه إليها لم يلزمها دفع المال إليه ولم يكن لها عليه شيء. فرع وإذا قال الرجل لسيد عبد: أعتق عبدك على أن أزوجك بنتي، فأعتقه على هذا الشرط بعد العتق لم يلزمه تزويج بنته بهء لما ذكرنا من أن عقا النكاح لا يصح فيه السلف ولا يثبت في الأمة، ثم ينظر فإن كان قال له: أعتق عبدي عني على أن أزوجك بنتي، كان العتق واقعاً على الباذل للنكاح دون السيد. وكان للسيد أن يرجع عليه بقيمة عبده: لأنه أعتقه عنه على بذل لم يحصل. وان قال له: أعتق من نفسك على أن أزوجك بنتي، ففي وجوب قيمة العبد عليه وجهان من اختلاف قوليه فيمن قال لعباه: أعتق عبدك على

نفسك على ألف لك علي، نفي وجوب الألف عليه قولان: أحدهما: لا يجب عليه: لأنه لم يعد عليه ني مقابله ذلك نفع، نعلى هذا لا يجب عليه ها هنا قيمة. والثاني: تجب عليه القيمة الألف كما لو قال: طلق زوجتك على ألف لك علتي لزمه الألف، كذلك في العتق، فعلى هذا يجب عليه هاهنا القيمة. فرع وإذا أعتق الرجل أمته في مرض موته وهي تخرج من ثلث ماله في حال عتقها ثم تزوجها، ففي النكاح وجهان بناء على اختلاف أصحابنا في العتق، وهل وقع بأجزاء، في الظاهر أو موقوفا؟ فأحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج أنه وقع بأجزاء في الظاهر لخروجها من الثلث في حال العتق، فإن صح من مرضه أو مات وهي خارجة من ثلثه استقر العتق من وقت التلفظ به. فإن تلف ماله ثم مات فلم يخرج من ثلثه أبطل العتق الواقع في الظاهر بما تجدد من السبب المانع. والثاني: وهو قول ابن الحداد وبعض المتأخرين أن تعتق موقوف على ما يكون من موت السيد أو صحته ولا يحكم في المال بصحة ولا فساد فإن صح أو مات وهي خارجة من ثلث بان أن العتق كان واقعاً باللفظ فإن مات وهي خارجة من الثلث أو أتلف ماله أو حدوث دين أحاط بجميعه بان أن العتق لم يقع لأن ما تردد بين أمرين لم يقطع بأحدهما ووجب أن يكون موقوفا على ما يستقر منهما. فإذا تقرر هذان الوجهان تفرع النكاح وغيره من الأحكام عليها. فإذا قيل بالوجه الأول إن العتق وقع ناجزاً في الظاهر جاز له أن يتزوجها وأن يزوجها بغيره وجاز لو وهبها ولم يعتقها أن يطأها الموهوبة له وقبلت شهادتهما وحد قاذفهما، وان قذفت أكمل حدها وترث وتورث. وإذا قيل بالوجه الثاني: إن العتق موقوف لم يجز أن يتزوجها ولا أن يزوجها وكان النكاح إن تزوجها أو زوجها باطلاً؟ لأن النكاح لا ينعقد موقوفا ولم يجز إن وهبت ولم يعتق أن يطأها الموهوب له ولا أن يتصرف فيها؛ لأنه كما يكون العتق موقوفا فكذلك الهبة تكون موقوفة ولا تقبل شهادتها ولا يحد قاذفها وان قذفت لم يكمل حاها ويقف ميراثها على ما يتبين من أمرها. فصل فإذا وضح ما وصفنا فد حكم النكاح إن صح أو فسد، فإذا قيل: إن النكاح باطل فإن لم يدخل بها السيد حتى مات فلا مهر لها ولا عدة عليها وهي حرة إن خرجت من الثلث وقت الوفاة، فإن عجز الثلث عنها عتق منها قدر ما احتمله الثلث على ما سنذكره، ورق باقيها إن لم يمض الورثة عتقها. وان قيل: إن النكاح صحيح ومات والثلث يحتمل جميع قيمتها استقر عتقها وعليها عدة الوفاة دخل بها السيد أو لم يدخل ولا ميراث لها؛

لأن ثبوت الميراث يؤدي إلى سقوطه؛ لأن عتقها في المرض وصية بها، وإذا ورثت منعت الوصية، وإذا منعت الوصية بطل العتق، وإذا بطل العتق بطل النكاح، وإذا بطل النكاح سقط الميراث، وما أدى ثبوته إلى نفسه لم يثبت. فأما المهر فإن كان يقدر مهر فما دون أخذته من رأس المال، وان كان أكثر من مهر المثل كان قدر مهر المثل هن رأس المال، وكانت الزيادة عليه وصية لها تعطاها من الثلث إن احتملها؛ لأنها غير وارثة فلو كانت قيمتها تخرج من الثلث وقت العتق ولا تخرج من الثلث وقت العتق ننر في الورثة فإن يجيزوا ما زاد على الثلث أعتق منها قدر ما احتمله الثلث ويرق الباقي وكان النكاح باطلاً على الوجهين معاً. فإن لم يدخل بها فلا مهر لها. وان دخل بها كان مهر المثل بقدر ما عتق منها وسقط منه بقدر ما رق وان أجاز الورثة العتق عتق جميعها. فأما النكاح فعلى اختلاف قولي الشافعي إجازة الورثة هل هي تنفيذ للوصية أو ابتداء ~. فإن قيل: إنما تنفيذ ما فعله كان النكاح جائزاً. إن قيل: إنها ابتداء عطية منهم كان النكاح باطلاً. فلو كانت قيمتها تخرج من الثلث وقت العتق ووقت الموت وكان المهر إن دفع نقص من الثلث عن قيمتها نظر فإن لم يكن قد دخل بها فلا مهر لها والعتق فيجمعها نافذ والنكاح على قول أبي العباس جائز؛ لأن ثبوت المهر يؤدي إلى سقوطه لعجز الثلث عن قيمتها وعجزه يؤدي إلى رق بعضها ورق بعضها يؤدي إلى بطلان نكاحها وسقوط مهرها وما أدى ثبوته إلى سقوط لم يثبت وان كان قد دخل بها فقد استحقت بالدخول مهر المثل. فإن أبرأت منه اتسع الثلث لقيمتها فنغذ عتقها وصح نكاحها. وان طالبت استحقت منه بقار ما تحرر من عتقها وكان نكاحها باطلاً وسقط منه بقدر ما رق منها ودخله الدور وسنذكر من طريق العمل ما يعلم به قدر ما تتحرر من العتق على حقيقة، والله أعلم. الفصل فنقول: إذا أعتق في فرضه أمة له قيمتها مائة درهم لا مال له غيرها وتزوجها على صداق مائة دوهم ومهر مثلها خمسون درهما فالنكاح باطل على الوجهين معا، فإن لم يدخل بها فلا مهر لها وعتق ثلثها إن لم يجز الورثة عتق جميعها وان دخل بها، فإن أبرأت من المهر عتق منها الثلث ورق الثلثان، وان طالبت بما تستحقه من مهر مثلها داخلة الدور وبان العمل فيه من طريق الخبر أن يقول: للأمة بالعتق شيء ولها بالمهر نصف شيء: لأن مهر مثلها نصف قيمتها وللورثة شيئان مثلاً مما يخرج بالعتق، ويصير الجميع ثلاثة أشياء ونصف شيء فأضر بها في مخرج الكر الذي هو النصف وذلك اثنان تكن سبعة أشياء للعتق منها سهمان سبعاها وذلك ثمانية وعشرين درهما وأربعة أسباع دوهم وللمهر سهم هو سبعها وقيمة أربعة عشر درهما وسبعان، وذلك سبعا مهر مثلها وهو قدر مهر ما أعتق منها ويرق للورثة أربعة أسباعها وذلك بسبعة وخمسين درهماً وسبع درهم، وهو مثلاً ما عتق منها ما يقال للورثة. إن دفعتم قيمة السبع المستحق في المهر صار لكم خمسة

باب اجتماع الولاة وأولادهم وتفرقهم

أسباعها، (وإن) لم تدفعوا بيع ودفع ثمنها إليها. فرع وإذا أعتق في مرضه أمته قيمتها مائة درهم وتزوجها على صادق مائة درهم ومهر مثلها خمسون درهماً ومات وخلف معها مائتي درهم فقيمتها تخرج من الثلث فيكون النكاح على وجهين: أحدهما: وهو قول ابن الحداد ومن تابعه- أن النكاح باطل- فعلى هذا إن لم يدخل بها فلا مهر وقد عتق جميعها وان دخل بها فإن أبرأت من مهر مثلها عتق جميعها أيضا موان لم تبرأ منه وطلبت رق منها بقار ما عجز به الثلث عن قيمتها بالخارج من مهرها وبابه من طريق الخبر ما قدمناه. وهو أن يقول له: بالعتق شيء وبالمهر نصف شي، وللورثة شيئان ويصير الجميع ثلاثة أشياء ونصف الشيء أخبر بها في مخرج النصف وهو اثنان تكن سبعة أشياء فيعتق منها سهمين بهمين سبعاً التركة وذلك ستة أسباع رقبتها؛ لأن التركة ثلاثماثة وقيمتها مائة فتكون قيمة ستة أسباعها خمسة وثمانين درهم وخمسة أسباع درهم ويكون لها مهر ستة أسباعها اثنين وأربعين درهماً وستة أسباع درهم ويكون للورثة أربعة أسباع التركة وهو مائة وواحد وسبعون درهما وثلاثة أسباع درهم وهو قار السبع الموقوف منها والباقي من التركة بها مهرها. لأن قيمة سبعها أربعة عشر درهما وسبعان والباقي من المائتين بعد الخارج من مهرها مائة درهم وسبعة وخمسون درهما. والثاني: وهو قول أبي العباس بن سريج - أن النكاح جائز فعلى هذا إن لم يدخل بها كان عتق جميعها نافذ بخروج جميع قيمتها من الثلث وسقط المهر؟ لأن ثبوته يؤدي إلى سقوطه لنقصان الثلث به فلم يثبت وان دخل بها فإن أبرأت من مهرها نفذ العتق في جميعها موان طلبته بطل النكاح لنقصان الثلث عن قيمتها وحكم لها بقدر ما تستحقه من مهر المثل دون المسمى؟ لأنه بفساد النكاح يبطل المسمى وكان وجه العمل فيه من طريق الخبر وما ذكرنا والقدر الذي يتحرر من عتقها ما وصفنا، وبالله التوفيق. باب اجتماع الولاة وأولادهم وتفرقهم وتزويج المغلوبين على عقولهم والصبيان مسألة: قال الشافعي: "ولا ولاية لأحد مع الأب فإن مات الجد ثم الجد ثم أبو الجد ثم أبو أبي الجد كذلك؛ لأن كلهم أب في الثيب والبكر سواء". قال في الحاوي: وهذا كما قال، أقرب أولياء المرأة إليها وأحقهم بنكاحها الأب؟ لأنها بعضه وهي منه بمثابة نفسه. روي عن النبي س أنه قال: فاطمة بضعة مني يريبني

(مايريبها) " وقد قيل في قوله تعالى:} كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ {[النساء: 135]، أن الأنفس ها هنا الأولاد، ولأب الأب أكثر العصبات شفقة وحباً وأعظمهم رفقة وحنواً وصار بها أمس، ويطلب الحظ لها أخص، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم "الولد مبخلة مجبنة مجهلة محزنة ولأن سائر العصابات به يدلون إليه ينتسبون، والمدلى به أقوى من المدلي، ولأنه يلي على المال والنكاح أقوى من بالولاية على النكاح، فصار الأب بهذه المعاني الأربعة أولى بالولاية في النكاح من سائر العصبة. فرع فإن مات الأب أو بطلت ولايته بكفر، أو رق، أو جنون، أو فق فالجد أبو الأب أحق العصبات بالولاية بعد الأب. وقال مالك: الأخ بعه الأب أحق بالولاية من الجد؛ لأن الأخ ابن الأب والجا أو أب الأب، والابن أقوى تعصيباً من الأب وهذا خطأ؟ لأن في الجد بعضية ليست في الأخ فصار بها متشابهاً للأب، ولأن للجد ولاية على المال والنكاح فكان أولى من الأخ الذي تختص ولايته بالنكاح، ولأن الجد كانت له ولاية على الأب فكان بعده أولى من الأخ الذي قد كان تحت ولاية الأب، فأما استدلاله بأن الأخ ابن الأب فكان أولى من أبيه ففاسد من وجهين بابن المرأة وأبيها. فرع فإن مات الحد أو بطلت ولايته بكفر أو رق أو جنون أو فسق، قالوا: فالولاية بعده لأبيه ثم تنتقل عنه إلى من فوقه من الآباء كلما عدم الأقرب كانت الولاية بعده لمن هو أبعد حتى ينفذ جميع الآباء، فيكون الجد الأبعد بما فيه من الولادة والبعضية أحق بالولاية من الأخ وان ترب ويكون حكم الأجداد وان بعدوا في إجبار البكر واستئمار الثيب كالأب. مسألة: قال الشافعي: "ولا ولاية بعدهم. حد مع الأخوة ثم اقرب فالأقرب من العصبة. قال المزني: واختلف قولا في الإخوة فقال في الجديد: من انفرد في درجة

بأم كان أولى وقال في القديم: هما سواء. قال المزني: قد جعل الأخ للأب والأم في الصلاة على الميت أولى من الأخ للأب وجعلا في الميراث أولى من الأخ للأب وجعلا في كتاب الوصايا الذي وضعاً بخطه لا أعلمه سمع منه إذا أوصى لأقربهم به رحمًا أنا أولى من الأخ للأب. قال المزني: وقياس قوله أنه أولى بإنكاح الأخت من الأخ للأب". قال في الحاوي: اعلم أن الولاية في النكاح تكون للأب، ثم لمن ناسب الأب، ولا يستحقها بالنسبة من لم يرجع بالنسب إلى الأب، فيكون الأب أملأ يرجع إليه كل من استحق الولاية بالنسبة، وإذا كان كذلك فالآباء من جملة العصبات عمود يستحق الولاية منهم الأقرب فالأقرب، ومن هم من العصبات درج مرتبته تخرج من كل درجة عمود، وكل درجة تتقدم بعمودها على ما بعدها وتتأخر بعمودها) على ما قبلها، فإذا انقرض عمود الآباء كانت الدرجة الأولى بني الأب وهم الإخوة وعمودها بنوهم وان سفلوا، والدرجة الثانية بنو الجد وهم الأعمام وعمودها بنوهم وان سفلوا، والدرجة الثالثة بنو أبي الجد وهم أعمام الأب وعمودها بنوهم وان سفلوا، وكذلك بنو أب بعد أب حتى ينقرض جميع الآباء فيصير أحق العصبات بالولاية بعد الآباء الإخوة وبنوهم وان سفلوا، ثم الأعمام وبنوهم وان سفلوا، ثم أعمام الأب وبنوهم وان سفلوا، ثم أعمام الجا وبنوهم وان سفلوا، ثم أعمام جد الجا وبنوهم وان سفلوا، وكذلك أبداً حتى ينقرض الآباء كلهم فلا يبقى بعدهم ولي مناسب، فينتقل حينئذ الولاية على المناسبين إلى غيرهم من الموالي المعتقين، ثم إلى عصبتهم على ما سنذكره، ثم إلى السلطان فهو ولي من لا ولي له. فصل فإذا تقررت هذه القاعدة في ترتيب العصبات لاستحقاق الولاية، فأول درجة ينتقل إليها الولاية بعد الآباء الإخوة، والإخوة ثلاثة أقام: إخوة لأب وأم، وإخوة لأب، واخوة لأم. فأما الإخوة للأم فلا ولاية لهم سواء اجتمعوا مع غيرهم من العصبات أو انف دوا؟ لأنهم لما أدلو ابالأم ولم يرجعوا بنسبهم إلى الأب خرجوا من جملة العصبات المناسبين فلم يكن لهم ولاية. وأما الإخوة للأب والأم والإخوة للأب فلهم الولاية، فأي الفريقين انفرد كان ولياً، فإن انفرد الأخ للأب والأم كانت الولاية له، وان انفرد الأخ للأب كانت الولاية له، وان اجتمعا ففيه قولان: أحدهما: وهو قوله في القديم: وهو مذهب مالك وأبي ثور أنهم سواء، ولا يقدم الأخ للأب والأم على الأخ للأب في الولاية على النكاح وان قدم عليه في الميراث لأمرين: أحدهما: أن الأم لا مدخل لها في ولاية النكاح فلم يترجع من أدلى بها؛ لأن المدلى به أقوى من المدلي وليس كالميراث الذي يقدم فيه الأخ للأب والأم على الأخ

للأب؛ (لأن) للأم في الميراث مدخل فلذلك يرجع أدلى بها. والثاني: أن ولاية النكاح تختص بها الذكور فلم يترجح فيها من أدلى بالإناث كتحمل العقل. والقول الثاني: قاله في الجديد وهو مذهب أبى حنيفة - أن الأخ للأب وإلام أحق بالولاية من الأخ لأمرين: أحدهما: أن الإدلاء بالأم كالتقدم بدرجة بدليلين: أحدهما: أن للأخ للأب واللام يحجب الأخ للأب كما يحجب ابن الأخ. والثاني: للأخت مع الأب من الأم والأم السدس كما يكون لبنت الابن مع بنت الصلب، وإذا كان الإدلاء بالأم كالتقدم بدرجة بهذين البلدين وجب أن يكون أولى بالولاية، وقد عبر المزني عن هذا الاستدلال بأن المدلى بالأبوين أقرب من أدلى بأحدهما، استشهادا بالوصايا فيمن وصى بثلث ماله لأقرب الناس به وترك أخوين أحدهم لأب أم الآخر لأب أن يكون الأخ للأب والأم اتفاقا لاختصاص بالقرب، فكذلك ولاية النكاح فهذا وجه. والثاني: أن الأخ للأب والأم أدائه بالسببين واشتراكهما في الرحمين أكثر إشفاقا وحبا ممن تفرد بأحدهما، فصار بمعنى الولاية أخص وبطلب الحظ فيها أمس، كما كان الأب لاختصاصه بهذا المعنى أحق بها من سائر العصبات، وهكذا الصلاة على الميت في أحقهما بها قولان، وهكذا في تحمل العاقلة للدية إذا كان فيها أخ لأب وأم، أخ لأب قولان فتكون هذه المسائل الثلاث على قولين. فأما في الميراث والوصية للأقرب، فالأخ للأب والأم في هذه المسائل الثلاث أحق من الأخ للأب. فصل فإذا تقرر هذان القولان في الأخوين فهكذا بنوهما فيكون ابن أخ لأب وأم وابن أخ لأب في أحقهما بالولاية قولان، وهكذا بنو أبى الأخوين وإن سفلوا وإن استووا في الدرج، فإن اختلف درجهم قدم الأقرب إن كان للأب، فيكون الأخ للأب أولى من ابن الأخ للأب والأم، وكذلك من بعدة، وهكذا الأعمام وبنوهم الأخوة وبينهم، فالعم للأم لا ولاية له لخروجه من العصبات، وإن تفرد بها عم الأب وأم كانت الولاية له، وإن اجتمعا فعلى القولين الماضيين: أحدهما: وهو القديم- أنهما سواء. والثاني: وهو الجديد: أن العم للأب والأم أولى. وهكذا بنو هذين العمين على القولين فإن اختلف الدرج قدم الأقرب وإن كان لأب فيكون العم للأب أولى من أبن العم للأب والأم وهكذا الكلام في أعمام الآباء والأجداد (وبنيهم).

فصل وإذا كانت للمرأة ابنا عم أحدهما أخ لام ففيها قولان كالأخ من الأب والأم والأخ من الأب. فإن قيل: إنهما سواء كان ابنا العم سواء. وإن كان أحدهما أخا لأم. وإن قيل: إن الأخ للأب والأم أولى كان ابن العم الذي هو أخ لأم أولى لفضل إدلائة بالأم، فأما العمان إذا كان أحدهما خالا فهما سواء؛ لأن الخال لا يرث فلم يترجح به أحدهما على الآخر، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمة الله: "ولا يزوج المرأة ابنها إلا أن يكون عصبة لها". قال في الحاوي: وهذا كما قال، لا ولاية للابن على أمة، وليس له أن يزوجها بالبنوة. وقال مالك، وأبو حنيفة وصاحبة، وأحمد، وإسحاق يجوز للابن أن يزوج أمة اختلفوا في ترتيبه مع الأب. فقال مالك، وأبو يوسف، وإسحاق: الابن أولى بنكاحها من الأب. وقال أحمد بن حنبل، ومحمد بن الحسن: الأب أولى ثم الابن. وقال أبو حنيفة: هما سواء وليس أحدهما بأولى من الأخر، فأيهما زوجها جاز واستدلوا جميعا على ثبوت ولاية الابن عليها بأن النبي صلى الله عليه وسلم لما خطب أم سلمه، قالت: يا رسول الله مالي ولى حاضر، فقال: "مالك ولى حاضر ولا غائب لا يرضاني"، ثم قال لابنها عمر بن أبى سلمه: "قم يا غلام فزوج أمك" فهذا نص. قالوا: وقد روى أن أنس بن مالك زوج أمة أم سليم من عمة أبى طلحة فلم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن ابن المرأة عصبة لها فجاز أن يكون وليا في نكاحها كالأب، ولان تعصيب الابن أقوى من تعصيب الأب، لأنهما إذا اجتمعا سقط بالابن تعصيب الأب وصار معه ذا فرض فاقتضى أن يكون أولى بتزويجها من الأب، ولان الولي إنما يراد لحفظ المنكوحة من تزوج من لا يكافئها فيدخل العار على أهلها، والابن رافع للعار عنها وعن نفسه من سائر الأولياء لكثرة أنفته وعظم حميته، فكان أحق بنكاحها. ودليلنا: هو أن كل نسب لا يملك به أو المنتسب الولاية لم يملك المنتسب بالولاية كالأخ من الأم طردا أو كالأخ من الأب عكسا، ولان كل ذي نسب أولى بمن لا يملك الإجبار على النكاح لم يكن وليا في النكاح كابن الأخت طردا، وكابن الأخ عكسا، ولان من لم يجمعهما نسب لم يثبت بينهما ولاية النسب كالابن من الرضاع فإن قيل: فالابن مناسب والمرتضع غير مناسب. قيل: الابن غير مناسب لأمة؛ لأنة يرجع بنسبة إلى أبية لا إليها، ألا ترى أن ابن العربية من النبطي نبطى، وابن النبطية من العربي عربي،

ولأن (ولي) الأختين المتناسبتين واحد وولاية الأخوين المتناسبتين واحد، فلما لم يملك الابن تزويج خالته لم يملك تزويج أمة ولما لم يملك أخوة لأبية تزويج أمة لم يملك هو تزويج أمة. ويتحرر من الاعتلال: قياسان: أحدهما: أن من لم يملك تزويج امرأة لم يملك تزويج أختها المناسبة لها قياسا على ابن البنت طردا، وعلى ابن العم عكسًا. والثاني: أنها امرأة لا تملك أخوة المناسب له تزويجها فلم يملك هو تزويجها كالخالة طردا وكالعمة عكسا، ولأن كل موضع الولاية بالنسب أن يكون على الولد فلم يجز أن يصير للولد قياسا على ولاية المال، ولأن ولايته على نكاحها لا يخلو أن يكون لإدلائه بها أو بأبية، فلم يجز أن يكون لإدلائه بأبية؛ لأن أباة أجنبي منها، ولم يجز أن تكون لإدلائه بها؛ لأنة لا ولاية لها على نفسها، فأولى أن يكون لها ولاية لمن أدلى بها. وإذا بطل الإدلاء بالسببين بطلت الولاية. فإن قيل: فغير منكر أن يكون لمن أدلى بها من ولاية النكاح ما ليس لها كالأب يزوج أمة بنته إدلاء بها وليس للبنت تزويجها. قيل: لم يزوجها الأب أداء بالبنت؛ لأن الإدلاء إنما يكون من الأسفل إلى الأعلى، ولا يكون من الأعلى بالأسفل، وإنما زوجها لأنة لما كان وليا على بنته، فأولى أن يكون وليا على بنته؛ لأن الولاية إذا أثبتت على الأقوى فأولى أن تثبت على الأضعف. فأما الجواب عن تزويج أم سلمه فمن ثلاثة أوجه: أحدها: أب ابنها زوجها. لأنه كان مع النبوة مناسبًا لها، لأن عمر بن أبى سلمه بن عبد الأسد بن هلال بن عبد الله بن عمر بن مخزوم فكان من بني عمها يجتمعان في عبد الله بن عمر بن مخزوم. قال أحمد بن حنبل: فكان أقرب عصباتها الحاضرين فزوجها بتعصيب النسب لا بالنبوة. والجواب الثاني: أن قوله صلى الله عليه وسلم "قم فزوج أمك" أي فجئني بمن يزوج أمك أمرين: أحدهما: أن أم سلمه قالت: يا رسول الله مالي ولى حاضر، فأقرها على هذا القول، فدل على أنه لم يكن وليًا. والثاني: أن كان غير بالغ، قيل: إن كان ابن ست سنين، وقيل: ابن سبع سنين، فدل بهذين الأمرين على أن أمرة بالتزويج إنما كان أمرا بإحضار من يتولى التزويج. والجواب الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم مخصوص في مناكحة بأن يتزوج بغير ولي، فأمر ابنها بذلك استطابه لنفسه لا تصحيحا للعقد، على أن راوي هذا اللفظ إنما هو ثابت عن عمر بن أبى وثابت لم يلق عمر فكان منقطعًا. وأما أنس بن مالك فكان من عصبات أمة فزوجها بتعصيب النسب لا بالبنوة. وأما الجواب عن قياسه بأن عصبة كالأب فهو أن الابن عصبة في الميراث ليس

بعصبة في ولاية النكاح؛ لأن ولاية النكاح يستحقها من علا من العصبات، والميراث يستحقه من وسفل من العصبات، ثم المعنى في الأب لما كان أبوة وهو الجد وليا لها كان الأب وليا، ولما كان أبو الابن وهو الزوج غير ولى لها لم يكن الابن وليا. وأما الجواب عن استدلالهم بأن تعصيب الابن أقوى من تعصب الأب، فهو أنه أقوى منه الميراث باستحقاق الولاية في النكاح لا في ولاية النكاح، ولا يجوز أن يعتبره قوة التعصب في الميراث؛ لأن الصغير والمجنون من الأنباء يسقط في الميراث تعصيب الآباء وإن خرج من ولاية النكاح عن حكم الأب. وأما الجواب عن استدلالهم بأنة أعظم حمية وأكثر أنفة في منعها من غير حمية وأكثر أنفة في منعها من غير الأكفاء، فهذا المعنى هو الذي أبطل ولايته به، وبه استدل الشافعي فقال: "لأنه يرى نكاحها عار" يعنى أنه يدفع عن تزويجها ويراه عارا فهو لا يطلب الحظ لها في نكاح كفئها، والولي مندوب لطلب الحظ فلذلك خرج الابن عن معنى الأولياء. فصل فإذا تقرر أن ليس للابن تزويج أمة بالبنوة فله تزويجها بأحد أربعة أسباب: أحدها: أن يكون عصبة لها من النسب، بأن يكون ابن ابن عمها وليس لها من هو أقرب منه فيزوجها؛ لأن بنوته إن لم تزده ضعفًا، فعلى هذا لو كان لها ابنا ابن عم أحدهما ابنها، فعلى قياس قوله في القديم هما سواء كالأخ للأب والأم مع الأخ للأب، وعلى قياس قوله في الجديد ابنها أولى لفضل إدلائه بها. والسبب الثاني: أن يكون موالٍ لها يزوجها بولاية الولاء، فلو كان لها ابنا مولى أحدهما ابنها فعلى قولين، كالأخوين أحدهما لأب وأم والآخر لأب: أحدهما: وهو القديم أنهما سواء. والثاني: وهو الجديد أن ابنها يفضل ادلائه بها أولى. والثالث: أن يكون ابنها قاضيا وليس لها عصبة مناسب فيجوز لابنة أن يزوجها بولاية الحكم. والرابع: أن يكون وكيلًا لوليها المناسب فيجوز له أن يزوجها نيابة عنه يزوجها المستناب من الأجانب. فصل فإذا أعتقت المرأة أمة لها وأرادت تزويجها وكان لها أب وابن فأبوها أولى بتزويج المعتق من ابنها فلو ماتت السيدة المعتقة وخلفت أباها وابنها فولاء أمتها التي أعتقها للابن دون الأب وفي أحقهما بنكاحها وجهان: أحدهما: أن الأب أولى بولاية نكاحها من الابن كما كان أولى بذلك في حياة سيدها.

والثاني: أن الابن بعد موت السيد أولى بنكاح المعتقة من الأب لأنة قد صار بعد الموت أملك بالولاء من الأب فصار أملك بولاية النكاح من الأب، والله أعلم. مسالة: قال الشافعي: "وَلَا وِلَايةَ بَعْدَ النَّسبِ إِلا لِلمُعتِقِ ثٌمَّ أَقْرَبِ النَّاسِ بِعَصَبةِ مُعتِقَها". قال في الحاوي: وهذا صحيح، قد ذكرنا أن أحق الناس بنكاح المرأة الحرة المناسبون لها من العصبات يترتبون بالقرب إليها على ما ذكرنا، فمتى وجد واحد منهم وإن بعد فهو أحق الناس بنكاحها، وإن عدموا جميعًا قام المولى المعتق في نكاحها مقام الأولياء المناسبين من عصبتها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الولاء لحمة كلحمة النسب" ولقوله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها فنكاحها باطل"، ولأن المولى المعتق قد أفادها بالعتق ما أفادها الأب الحر من زوال الرق حتى صارت مالكة ووارثة وموروثة ومعقولًا عنها، فاقتضى أن تحل محل الأب والعصبات في ولاية نكاحها. فمتى وجد المولى المعتق بعد فقد العصبات كان أحق الناس بنكاحها، فإن عدم فعصبة المولى يترتبون في ولاية نكاحها على مثل ما يترتبون عليه في استحقاق ولائها وميراثها، فيكون ابن المولى ثم بنوه أحق بولائها وولاية نكاحها من الأب، ثم الأب بعد البنين وبنيهم ثم فيمن يستحق بعد الأب من أهل الدرجة الثانية ثلاث أقاويل: أحدها: الأخوة ثم بنوهم وإن سفلوا، ثم الجلد. والثاني: الجد ثم الأخوة ثم بنوهم وإن سفلوا. والثالث: الأخوة ثم الجد ثم بنو الإخوة ثم فيمن يستحقها من الدرجة الثالثة ثلاثة أقاويل: أحدها: الأعمام ثم بنوهم وإن سفلوا ثم أبو جد. والثاني: أبو الجد ثم الأعمام ثم بنوهم وإن سفلوا. والثالث: الأعمام ثم أبو الجد، ثم بنو الأعمام وإن سفلوا ثم يترتبون في الدرجة الرابعة وما بعدها على ما ذكرنا حتى جميع عصبات المولى، فإن عدموا فمولى المولى ثم عصبته على ما ذكرنا، فإن لم يبق من الموالى المعتقين وعصباتهم أحد وكانت المرأة العادمة للعصبات حرة لا ولاء عليها فالسلطان ولى من لا ولى له وهو الناظر في الأحكام فتكون له الولاية على الأرامل والأيتام.

فرع وإذا كان للمعتق ابنًا مولى استويا في ولاية نكاحها فأيهما زوجها جاز، ولو كان لها موليان معتقان ولم يجز أن ينفرد أحدهما بنكاحها حتى يجتمعا عليه، أو يأذن أحدهما بنكاحها من غير إذن الأخر كان النكاح باطلا. وقال أبو حنيفة: أيهما انفرد بنكاحها من غير إذن صح، وأجراهما مجرى أخوي الحرة وابني مولى المعتقة، وهذا الجمع خطأ لظهور الفرق بينهما، وهو أن كلا من الأخوين وابني المولى ممن يستحق كل الولاية والولاء لانتقال الميت وابني المولى ممن يستحق كل الولاية والولاء لانتقال الميت منهما إلى الباقي ولى كل واحد من المعتقين ممن يستحق كل الولاية، والولاء؛ لأن من مات منهما انتقل حقه إلى الباقي فمنع هذا الفرق من صحة الجميع. فلو مات أحد المعتقين وترك اثنين فزوجها المعتق الباقي بأحد ابني المعتق الميت جاز ولو زوجها ابنا الميت دون المعتق الباقي لم يجز لما بينا من التعليل ولو أعتق رجلان عبدا أو أعتق العبد أمة ومات العبد لم يكن لأحد معتقيه تزويج الأمة حتى يجتمعا على نكاحها، لأن الذي يملكه كل واحد منهما نصف الولاء فإن تفرد أحدهما بنكاحها بطل وإن عضل أحد المعتقين الآمة أو غاب أو مات ولم يترك عصبة زوجها، الحاكم والمعتق الباقي لينوب الحاكم عمن مات أو عضل فإن تفرد الحاكم بتزويجها دون المعتق أو تفرد به المعتق دون الحاكم كان باطلًا؛ لأنه ليس لأحدهما إلا نصف الولاية. مسألة: قال الشافعي: "فإن استوت الولاة فزوجها بإذنها دون أسنهم وأفضلهم كفؤا جاز". قال في الحاوي: إذا كان للمرأة جماعة أولياء يساوى الأخوال في التعيب والقرب، كالأخوة وبينهم، والأعمام وبينهم فإنهم في الولاية سواء؛ لأن كل واحد منهم لو انفرد بها لاستحقها، فإذا شارك غيرة لم يخرج منها، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن اشتجروا فالسلطان ولى من لا ولى له" فجعلهم عند الاشتجار سواء ولم يعدم منهم من التكافئ أحدا، وإذا كان كذلك لم يخل حالهم من أن يتشاجروا أو لا يتشاجروا، فإن لم يتشاجروا: فالأولى أن يتولى العقد منهم أفضلهم مشيا ودينا وعلما، أما المشي فلأنة أخبر بالأمور لكثرة تحربته، وأما الدين فإنه يسارع إلى ما ندب إليه من طلب الخط لوليته، وأما العلم فلأنه يعرف شروط العقد في صحته وفساده، فإذا تولاه من تولاه من تكاملت فيه هذه الأصاف كان أولى وأفضل وإن تولاه منهم خالفهم فكان أصغرهم سنا وأقلهم علما أو دينا لكن بالغا عدلا بالنكاح جاز لأنه لم يكن سواه لصح عقدة ولم يكن لما أخل

به من زيادة الفضل تأثير فكذلك إذا كان مع غيره. فرع: فإن تشاجروا أو طلب كل واحد منهم أن يكون هو المتولي للعقد أن يتراجع منهم عند التشاجر بالسن والعلم أحد، وكانوا مع اختلافهم في ذلك سواء؛ لأن كل صفة لم تكن شرطا في الولاية مع الانفراد لم يترجح بها أحدهم عند الاجتماع، كالمخالطة والجوار طردا وكالعدالة عكسا. وإن كان كذلك وجب الأقرع بينهم ليتميز بالقرعة أحدهم؛ لأن ما اشتركت الجماعة في موجبه ولم يكن اشتراكهم في حكمة تميزا فيه بالقرعة، كما يقرع بين أولياء القصاص فيمن يتولاه منهم وبين أولياء الطفل فيمن يكلفه من بينهم فإذا قرع بينهم كان قرع منهم أولاهم بالعقد أو يتولاه أو أن يأذن لغيرة فيه. وهل يصير أولى به استحقاقا أو اختيارا؟ على وجهين: أحدهما: أنه يصبر أولى به من طريق الاستحقاق لترجحة بالقرعة على من سواه. فعلى هذا إن أذن لغيرة فيه كان نائبا عنه، وإن تولاه غيرة من الجماعة بغير إذنه كان النكاح باطلا. والثاني: أنه أولى به من طريق الاختيار ليكافئ الجماعة في الاستحقاق فعلى هذا إن أذن لغيره فيه كان تاركا لحقه والمتولي له قائم فيه بحق نفسه، وإن تولاه غيره من الجماعة بغير إذنه كالنكاح كان جائزا. مسألة: قال الشافعي: "وإن كان غير كفء لم يثبت إلا باجتماعهم قبل إنكاحه فيكون حقا لهم تركوه". قال في الحاوي: وإذا رضيت المرأة لنفسها رجلًا ودعت أوليائها إلى تزويجها به لم يخل حال الرجل من أن يكون كفؤًا لها أو غير كفء فإن كان كف لزمهم تزويجها به فإن قالوا: نريد من هو أكفأ منه لم يكن لهم ذاك لأن طلب الزيادة على الكفاءة خروج عن الشرط المعتبر إلى ما لا يتناهى فسقط وكانوا على هذا القول عضلة يزوجها الحاكم دونها -وإن كان غير كفء كان لهم أن يمتنعوا من تزويجها لئلا يدخل عليهم عار فقمن فلو رحبوا به إلا واحد كان للواحد منعها منه لما يلحقه من عار. وجرى ذلك مجرى أولياء الميت المقذوف إذا أعفوا من القاذف إلا واحد كان الواحد أن يجده لما يلحق من معرة القذف فلو بادر أحد أوليائها بغير علم الباقين ورضاهم فزوجها بهذا الذي ليس كفء لها فظاهر ما قاله الشافعي ها هنا وفي كتاب "الأم" أن النكاح باطل لأنة قال: "لم يثبت إلا باجتماعهم قبل إنكاحه فيكون حقا لهم" وقال في كتاب "الإملاء": فإن زوجها من غير

كفء كان لهم الرد" فظاهر هذا جواز النكاح، وللأولياء خيار الفسخ فاختلف أصحابنا في ذلك على مذهبين: أحدهما: أن اختلاف الجواب في الموضعين على اختلاف قولين: أحدهما: وهو ظاهر نص في الإملاء أن النكاح جائز وللأولياء خيار الفسخ، لأن عدم الكفاءة نقص يجرى مجرى العيوب في النكاح والبيع توجب خيار الفسخ من صحة العقد. والقول الثاني: وهو ظاهر ما نص عليه في هذا الموضع. وكتاب "الأم" أن النكاح باطل؛ لأن عقد النكاح لا يقع موقوفًا على الإجازة فإن لم ينعقد لأن ما كان باطلًا ولأنه غير الكفؤ غير مأذون فيه في حق من له الإذن فكان العقد فيه باطلًا كم عقد على غيره بيعًا أو نكاحًا بغير فهذا أحد مذهبي أصحابنا. وهو قول أبى إسحاق المروزى وطائفة. والثاني: أن اختلاف الجوابين على اختلاف حالين وليس على اختلاف قولين والذي يقتضيه نصفه في هذا الموضع من إطلاق النكاح هو إذا كان الولي العاق عالما بأن الزوج غير كفء قبل العقد، والذي يقتضيه نص في "الإملاء" من جواز النكاح وثبوت خيار الفسخ فيه لباقي الأولياء هو إذا لم يعلم الولي ذلك إلا بعد العقد. وهذا أصح المذهبين وأولى الطرفين لأن مع العلم مخالف ومع التدليس مغرور فجرى مجرى الوكيل وإذا اشترى لموكلة ما يعلم بعيبه لم يصح عقده. ولو اشترى ما لا يعلم بعيب صح عقده وثبت فيه الخيار. فرع وإذا كان الأقرب من أوليائها واحد فرضي ورضيت بغير كفاء فزوجها به وأنكره باقي الأولياء فلا اعتراض لهم والنكاح ماض؛ لأن الأقرب قد حجب الأباعد عن الولاية فلم يكن لهم اعتراض كما لم يكن لهم ولاية ولو كان الأقرب هو الممتع والأباعد الراضون فمنع الأقرب أولى من رضا الأباعد وإن كثروا؛ لأن حجبهم عن الولاية لا يعتبر فيهم منع ولا رضي. قال الشافعي رحمة الله: "وليس نكاح غير الكفوء بمحرم فأرده بكل حال إنما هو تقصير عن المزوجة والولاة". قال في الحاوي: وأما الكفاءة في النكاح فمعتبرة بين الزوجين في لحوق الزوجة والأولياء، لرواية عطاء عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكحوا النساء إلا الأكفاء ولا تزوجهن إلا الأولياء". وروى هشام بن عروة عن أبيه

من عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تخيروا لنطفكم وانكحوا الكفاء وانكحوا إليهم". روى محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب عن أبيه عن جده، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا تؤخرهم؛ الصلاة إذا أتت، والجنازة إذا حضرت، والأيم إذا وجدت كفؤًا"، ولأن في نكاح غير الكفء عار يدخل على الزوجة والأولياء، وعضاضة تدخل على الأولاد يتعدى إليهم نقصًا فكان لها وللأولياء دفعة عنهم وعنها. فصل فإذا ثبت اعتبار الكفاءة فهي المساواة مأخوذة من كفتى الميزان لتكافئهما وهى معتبرة بشرائط نذكرها. أصلها ما رواه سعيد بن أبى شعبة بن أبى شعبة عن أبيه عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تنكح المرأة لأربع: لمالها وحسبها ودينها وجمالها، فاظفر بذات الدين تربت يداك". يقال: ترب الرجل إذا افتقر وأترب إذا استغنى. وفي هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم له ثلاثة تأويلات: أحدها: أن تربت هاهنا بمعنى استغنت وإن كان في اللغة بمعنى افتقرت فتصير من أسماء الأضداد؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يدعو على من لم يخالف له أمرًا مع أن دعاءه مقرون بالإجابة. والثاني: أن معناه تربت يداك إن لم تظفر بذات الدين؛ لأن من لم يظفر بذات الدين سلبت البركة فافتقرت يداه. والثالث: أنها كلمة تخف على ألسنة العرب في خواتيم الكلام، ولا يريدون بها دعاء ولا دمًا، كقولهم: ما أشعره قاتله الله، وما أرماه شلت يداه. فإذا ثبت هذا فالشروط التي تعتبر بها الكفاءة سبعة وهى: الدين، والنسب، والحرية، والمكسب، والمال، والبشر، والسلامة من العيوب. وقال مالك: الكفاءة معتبرة بالدين وحدة. وقال ابن أبى ليلى: معتبرة بشرطين: الدين والنسب. وقال الثوري: هي معتبرة بثلاث شرائط ك الدين، والنسب، والمال، وهى إحدى الروايتين عن أبى حنيفة. وقال أبو يوسف: هي معتبرة بأربع شرائط: الدين، والنسب، والمال، والمكسب. الراوية الثانية: عن أبى حنيفة ونحن ندل على كل شرط منها ونبين حكمه. أما الشرط الأول: وهو الدين، فإن اختلافهما في الإسلام والكفر كان شرطاً معتبرًا

بالإجماع لقولة تعالى:} لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ {[الحشر: 20]، ولقولة صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم مشرك". وإن كان اختلافهما في الصفات والفجور مع اتفاقهما في الإسلام فعند محمد بن الحسن أنة ليس بشرط معتبر وعند الجماعة: أنه شرط معتبر لقولة تعالى:} الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ {[النور: 3] وقال تعالى:} كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ {[السجدة] 18:. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم انه قال "لا يفرك مؤمن مؤمنة إن كرة منها خلقا رضي منها خلق" فأما المسلمان إذا كان أبوا أحدهما مسلمين وأبوا الأخير كافرين فإنهما يكونا كفئين. وقال أبو حنيفة: لا تكافؤ بينهما؛ لأنة لما لم يتكافيء الأنباء لم يتكافيء الأنباء وهذا خطأ؛ لأن فضل النسب يتعدى وفضل الدين لا يتعدى لأن النسب لا يحصل للأبناء إلا من الآباء فتعدى فضلة إلى الأبناء، والدين قد يحصل للأبناء بأنفسهم من غير الآباء فلم يتعد فضلة إلى الأبناء. فصل فأما الشرط الثاني: وهو "النسب" فمعتبر بقولة صلى الله عليه وسلم: "تنكح المرأة لأربع: لمالها وحسبها" يعنى بالحسب والنسب. وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وإياكم وخضراء الدمن". قيل: وما خضراء الدمن؟ قال: ذلك مثل المرأة الحسناء من أصل خبيث" وإذا كان كذلك فالناس يترتبون في أصل الأنساب ثلاث مراتب: قريش ثم سائر العرب ثم العجم. فأما قريش فهي أشرف الأمم لما خصهم الله تعالى به من رسالة وفضلهم به من نبوته ولقولة صلى الله عليه وسلم: "قدموا قريشا ولا تقدموها وتعلموا من قريش ولا تعلموها" فلا يكافئ قريشيًا أحد من الغرب والعجم. واختلف أصحابنا هل تكون قريشا كلهم أكفاء في النكاح على وجهين: أحدهما: وهو مذهب البصريين من أصحابنا وبه قال أبو حنيفة: أن جميع قريش

أكفاء في النكاح؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال:" الأئمة من قريش" فلما كان جميع قريش في الإمامة أكفاء فأولي أن يكونوا في النكاح أكفاء. والثاني: وهو مذهب البغدادين من أصحابنا- أن قريشاً يتفاضلون بقربهم من رسول الله صلي الله عليه وسلم، ولا يتكافئون لراوية عائشة عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال:" نزل علي جبريل فقال لي: قلبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أر أفضل من محمد، وقلبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أر أفضل من بني هاشم" ولأن قريشاً لما شرفت برسول الله صلي الله عليه وسلم أشرف من سائر قريش، ولأنهم لم ترتبوا في الديوان بالقرب حتى صاروا فيه علي عشر مراتب دل علي تمييزهم بذلك في الكفاءة وإذا كان كذلك فجميع بني هائم وبني المطلب أكفاء؛ لأن النبي صلي الله عليه وسلم جمع بينهم في سهم ذوى القربى وجمع عمر رضي الله تعالي عنه بينهم في الديوان ثم يليهم سائر بني ع بد مناف وبني زهرة ولا يفضل بني عبد شمس في كفاءة النكاح علي بني نوفل ولا بني عبد العزى علي بني عبد الدار ولا بني عبد مناف علي بني زهرة وإن فلعنا ذلك في وضع الديوان لأمرين: أحدهما: أنه يشق اعتباره في كفاءة النكاح ولا تشق اعتباره في وضع الديوان. والثاني: أن الكفاءة معتبرة في البطون الجامعة لا في الأفخاذ المتفرقة لأننا إن لم نعد إلي بني أب ابعد صارت المناكح مقصورة علي بني الأب الأقرب فضاقت. ثم جمعنا بين عبد مناف وبني زهرة في كفاءة وإن لم يكنا بطناً واحدة لراوية الاوزاعي أن النبي صلي الله عليه وسلم قال:" صريح قريش ابناً كالأب" يعني قصي، وبني زهرة، ولأن النبي صلي الله عليه وسلم يرجع إلي قصي بأبيه والي زهرة بأمه فتقاربا في الكفاءة بأبويه صلي الله عليه وسلم، ثم يلي عبد مناف وبني زهرة سائر قريش، فيكونوا جميعاً أكفاء، فلو كان فيهم بنو أب له سابقة في الإسلام فهل تكافئهم الباقون من قومهم كبني أبي بكر هل يكافئهم قومهم من بني تميم؟ وكبني عمر هل يكافئهم قومهم من بني عدي؟ يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكونوا أكفاءهم بجدتهم قد كانوا قبل الكثرة والقدرة علي إنكاح بني أبيهم أكفاء لعشائرهم، فكذلك بعد الكثرة والقدرة. والثاني: لا يكونوا أكفاءهم لما قد تميزوا به من فضل الشرف والسابق، ولا يمتنع أن يكونوا قبل الكثرة أكفاء غير متميزين، وبعد الكثرة متميزين كما تميزت بنو هاشم بعد الكثرة وإن لم يتميزوا قبل الكثرة، ثم اختلف أصحابنا في موالي قريش هل يكونوا أكفاء في النكاح؟ علي وجهين من اختلاف الوجهين من موالي ذوي القربى يشاركونهم في سهمهم من الخمس؟ فهذا الكلام في قريش. فأما سائر العرب سوى قريش فهم علي اختلاف أصحابنا في قريش، (فعلى) قياس

قول البصريين أن جميعهم أكفاء من عدنان وقحطان؛ لأن في عدنان سابقة المهاجرين، وفي قحطان سابقة الأنصار، وعلي قياس قول البغداديين: إنهم يتفاضلون ولا يتكافئون فتفضل مضر في الكفاءة علي ربيعة ويفضل عدنان علي قحطان اعتباراً بالقرب من رسول الله صلي الله عليه وسلم، وقد سمع عليه السلام رجلاً ينشد: إني امرؤ حميري حين تسبني لا من ربيعه آبائي ولا مضر فقال عليه الصلاة والسلام:" ذاك أهون لقدرك وأبعد لك من الله". فلو تقدمت قبيلة من العرب علي غيرهم نظر فإن كان ذلك لمأثرة في الجاهلية، أو لكثرة عدد كانوا وغيرهم من العرب أكفاء، وإن كان لسابقة في الإسلام كان علي الوجهين المحتملين، وأما سائر العجم فعلي قياس قول البصريين إن جميعهم أكفاء للفرس منهم والنبط والترك والقبط، وعلي قياس قول البغداديين إنهم يتفاضلون في الكفاءة، فالفرس أفضل من النبط لقول النبي صلي الله عليه وسلم: ولو كان الدين معلق بالثريا لتناوله قوم من أبناء فارس" وبنو إسرائيل أفضل من القبط الذين سلفهم وكثرة الأنبياء فيهم، فعلي هذا لو كان لقوم من الفرس شرف علي غيرهم نظر، فإن كان لملك قبل الإسلام أو مأثرة تقدمت لم يتقدموا به في الكفاءة علي غيرهم، وإن كان لسابقة في الإسلام احتمل ما ذكرناه من الوجهين المحتملين. فصل وأما الشرط الثالث: وهو الحرية فلقوله تعالي: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ومَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًا وجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [النحل:75] فمنع من المساواة بين الحر والعبد؛ ولأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "المؤمنون تتكافيء دماءهم ويسعي بذمتهم أدناهم" يعني عبيدهم فجعل العبيد أدني من الأحرار، ولأن الرق يمنع من الملك وكمال التصرف ويرفع الحجر للسيد فكان النقص به أعظم من نقص النسب. وإذا كان كذلك لم يكن العبد كفء الحرة، ولا الأمة كفء الحر، وكذلك لا يكون المدبر ولا المكاتب ولا المعتق نصفه ولا من جزء من الرق وإن قل كفء الحرة، ولا تكون المدبرة والمكاتبة ولا أم الولد ولا المعتقة نصفها ولا من فيها جزء من الرق وإن قل كفء الحر. واختلف أصحابنا هل يكون العبد الكفء لمن عتق نصفها ورق بعضها، أو تكون الأمة كفؤاً لمن عتق بعضه ورق بعضه أم لا؟ علي وجهين: أحدهما: لا تكون كفؤاً؛ لأن لبعض الحرية فضلاً.

والوجه الثاني: تكون كفؤ؛ لأن من لم تكمل حريته فأحكام الرق عليه أغلب؛ ولأنه لما لم يكن من عتق بعضه كفؤاً للحر تغليباً للرق صار كفء العبد، فعلي الوجه الأول لا يكون من ثلثه حر لمن نصفه حر حتى تساوى فيهما من حرية ورق. وعلي الوجه الثاني يكونان كفؤاً وإن تفاضل بقيمها من حرية ورق، فأما المولي فإن كان قد جرى عليه رق قبل العتق لم يكن كفء فالحرة الأصل، وإن لم يكن يجرى عليه رق لكونه ابن عتق من رق فهل يكون كفء الحرة الأصل علي وجهين بناء علي اختلاف الوجهين في موالي كل قبيلة، هل يكونوا أكفائها في النكاح؟ فإن قيل: يكونوا أكفائها صار المولي كفؤاً للحرة الأصل. وإن قيل: لا يكونوا أكفاء لم يصر المولي كفؤاً للحرة الأصل. وعلي هذين الوجهين إذا كان أحدهما مولي لعربي والآخر مولي لنبطي. فإن قيل: مولى القبيلة كفء لها في النكاح لم يكن مولي النبطي كفؤاً لمولي العربي. وإن قيل: لا يكون كفئاً لها مولى النبطي كفئاً لمولى العربي. فصل: فأما الشطر الرابع وهو الكسب فإن الناس يتفاضلون به قال الله تعالي: {واللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ} [النحل: 71] فيه تأويلان: أحدهما: انه فضل بعضهم علي بعض في قدر الرزق فبعضهم موسع عليه. وبعضهم مضيق عليهم. والثاني: أنه فضل بعضهم علي بعض في أسباب الرزق فبعضهم يصل إليه لعز ودعه وبعضهم يصل إليه بذل ومشقة وفي قوله تعالي: {فَإنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه: 124] ثلاثة تأويلات: أحدها: انه الرزق الضيق. والثاني: انه الكسب الحرام. والثالث: أنه إنفاق من لا يوقن بالخلف والمكاسب تكون في العرف المألوف من أربع جهات، بالزراعات، والتجارات، والصناعات، والحمايات، ولكل واحد منها رتب متفاضلة وكل واحد منها يفضل بعضها علي غيره بحسب اختلاف البلدان والأزمان، وإن في بعض البلدان التجارات وفي بعضها الزراعات أفضل، وفي بعض الأزمان حماة الأجناد أفضل وفي بعضها اقل، فلأجل ذلك لم يمكن أن يفضل بعضها في عموم البلدان والأزمان، وإنما يراعي فيها العرف والعادة. والأفضل منها في الجملة ما انحفظت به أربعة شروط؛ أن لا تكون مترذل الصناعة كالحائك، ولا مستخبث الكسب كالحجام، ولا ساقط المروءة كالحمال، ولا مبتذلاً كالأجير، فمن انحفظت عليه في مكاسبه هذه الشروط الأربعة لم يكافئه في النكاح من اخل بها، من حجام وكناس قيم وحائك، فالعرف في اعتبار هذه الشروط الأربعة هو المحكم.

فصل: وأما الشرط الخامس: وهو المال فلقوله صلي الله عليه وسلم" تنكح المرأة لأربع: لمالها" ولما روى عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال: " إن أحساب أهل الدنيا هذا المال". وقد قيل في تأويل قوله تعالي: {وإنَّهُ لِحُبِّ الخَيْرِ لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] يعني المال، وإذا كان كذلك فإن كانوا من أهل الأمصار الذين يتفاخرون ويتكاثرون بالأموال دون الأنساب فالمال فيهم معتبر في شرط الكفاءة، وإن كانوا من البوادي وعشائر القرى يتفاخرون ويتكاثرون بالأنساب دون الأموال ففي اعتبار المال في شرط الكفاءة بينهم وجهان: أحدهما: أنه شرط معتبر كأهل الأمصار لما فيه من القدرة علي أمور الدنيا. والثاني: انه ليس بشرط معتبر؛ لأنه يزول فيفتقر الغني ويستغني الفقير، وقد روي عن النبي صلي الله عليه وسلم انه قال:" خير الناس مؤمن فقير يعطي جهده" يعني مقلاً ليس له إلا ما يزهد فيه لقلته. وروي عنه صلي الله عليه وسلم انه قال:"خير أمتي الذين لم يوسع عليهم حتى يبطروا ولم يقتر عليهم حتى يسألوا" ثم إذا جعل المال شرطاً في الكفاءة ليس التماثل في قدره معتبراً حتى لا يكافئ من ملك ألف دينار إلا من ملك مثلها، ولكن أن يكونا موصوفين بالغني فيصيرا كفئين، وإن كان أحدهما أكثر مالاً ولا يعتبر فيه أيضاً التماثل في أجناس المال، بل إذا كان مال أحدهما دنانير ومال الآخر عقاراً أو عروضاً كانا كفئين. فصل: وأما الشرط السادس: هو السن مما لم يختلفا في طرفيه فهو غير معتبر في الكفاءة فيكون الحديث كفؤاً للشاب، والشاب كفؤاً للكهل، والكهل كفؤاً للشيخ، ولكن إذا اختلفنا في طرفيه فكان أحدهما في أول سنة كالغلام والجارية، والأخرى في غاية سنة كالشيخ والعجوز، ففي اعتباره في الكفاءة وجهان: أحدهما: أنه شرط معتبر فلا يكون الشيخ كفؤاً للطفلة ولا العجوز كفؤاً للطفل لما بينهما من التنافي والتباين وإن مع غايات السن تقل الرغبة ويعدم المقصود بالزوجية. والثاني: غير معتبر لأنه قد يطول عمر الكبير ويقصر عمر الصغير وربما قدر الكبير من مقصود النكاح علي ما يعجز عنه الصغير ولأن مع نقص الكبير فضلاً لا يوجد في الصغير. فصل: فأما الشرط السابع: هو السلامة من العيوب، فهي العيوب التي رد بها عقد النكاح، وهي خمس تشترك للرجال والنساء منها في ثلاثة: وهي الجنون، الجذام،

والبرص، ويختص الرجال منها اثنتين هما: الجب والخصاء. وفي مقابلتها من النساء القرن والرتق، وإنما اعتبرت هذه العيوب الخمسة في الكفاءة؛ لأنه لما أوجبت وجودها فسخ النكاح الذي لا يوجبه نقص النسب فأولي ان تكون معتبرة في الكفاءة كالنسب. فأما العيوب التي لا توجب وتنفره منها النفس كالعمى والطقع والزمانه وتشويه الصورة، ففي اعتبارها في الكفاءة وجهان: أحدهما: يعتبر لعدم تأثيرها في عقود المناكح. والثاني: يعتبر لنفور النفس منها ولحصول المعرة بها. وقد روي أن النبي صلي الله عليه وسلم قال لزيد بن الحارثة:" أتزوجت يازيد" قال: لا. قال: "تزوج فتستعف مع عفتك ولا تتزوج من النساء خمساً"قال: وما هن يا رسول الله: قال:"لا تتزوج شهبرة، ولا لهبرة، ولا لنهبرة، ولا هندرة، ولا لفوتا". قال يا رسول الله، لا أعرف مما قلت شيئاً، فقال:"أم الشهبرة: فالزرقاء الزية، وأما اللهبرة: فالطويلة المهزولة، وأما النهبرة: فالعجوز المديرة، وأما الهندرة: فالقصيرة الدميمة، وأما اللفوت: فذات الولد من غيرك" ولو لم يكن لهذه الأحوال ونظائرها أثراً في الكفاءة لما أمر بالتحرز منها. فصل فإذا تقرر ما وصفنا من شروط الكفاءة، ونكحت المرأة غير كفء لم يخل نكاحها من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون قد رضينه الزوجة وكرهه الأولياء، فالنكاح باطل علي ما قدمناه اعتباراً بحقوق الأولياء فيه. والثاني: أن يكون قد رضيه الأولياء وكرهته الزوجة فالنكاح باطل اعتباراً لحقها فيه حتى لا يعرها من لا يكافئها. والثالث: أن يكون قد رضينه الزوجة والأولياء فالنكاح جائز. وقال مالك وعبد اله بن الماجشون: النكاح باطل. وقال الثوري: يفسخ النكاح بينهما ولا يفرق. وحكي نحوه عن أحمد بن حنبل استدلالاً بما روي عن النبي صلي الله عليه وسلم انه قال: "لا تنكحوا النساء إلا الأكفاء ولا يزوجهن إلا الأولياء". فلما منع من إنكاح غير الكفء كما منع من نكاح غير الولي دل علي بطلانه لغير الكفء كما بطل بغير الولي. بوما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله تعالي عنه أنه قال:"لا يملك الإيضاح إلا الأكفاء". ودليلنا عموم قوله تعالي: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] ولأن النبي صلي الله عليه وسلم قد زوج بناته ولا كفء لهن من قريب ولا بعيد؛ لأنهن أصل الشرف. وقد زوج فاطمة بعلي، وزوج أم كلثوم ورقيه بعثمان، وزوج زينب بأبي

العاص بن الربيع، وقد روي أن النبي صلي الله عليه وسلم قال لفاطمة بنت قيس المخزومية وهي بنت عمته وقد خطبها معاوية وأبو جهم: "انكحي أسامه بن زيد" وهي من صليبة قريش بنت عمته بأسامة بن زيد وهو مولاه، وزوج أباه زيد بن حارثه بزينب بنت جحش وهي بنت عمته أميمه بنت عبد المطلب. ثم نزل عليها بعده، وزوج المقداد بن الأسود الكندي بضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، وقال صلي الله عليه وسلم:" إنما زوجت زيد بن حارثه بزينب بنت جحش والمقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير لتعلموا ان اشرف الشرف الإسلام، وقد زوج أبو بكر الصديق بنت الأشعث بن قيس فصار سلف رسول الله صلي الله عليه وسلم، وهم عمر بن الخطاب أن يزوج بنته سلمان الفارسي فكره ابن عبد الله ذلك، ولقي عمرو بن العاص فشكا إليه، فقال: سأكفيك، ولقي سلمان فقال: هنيئاً لك إن أمير المؤمنين قد عزم أن يزوجك كريمته ليتواضع بك، فقال: أني متواضع والله لا تزوجها. ولأن الكفاءة معتبرة في الرجل والمرأة فلما صح النكاح إذا تزوج الرجل بامرأة لا تكافئه صح النكاح إذا تزوجت المرأة برجل لا يكافئها. فأما الاستدلال بالخبر والأثر فمحمولاً به علي أحد الوجهين: إما علي الاستحباب دون الإيجاب، أو يحمل علي نكاح الأب للبكر التي يجبرها، والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالي: "وليس نقص المهر نقصاً في النسب والمهر لها دونهم في أولي به منهم" قال في الحاوي: وهذا صحيح. إذا رضيت المرأة أن تنكح نفسها بأقل من مهر مثلها لم يكن للأولياء أن يعترضوا عليها فيه، ولا أن يمنعوها من النكاح لنقصه، فإذا منعوها صار المانع لها فاصلاً وزوجها الحاكم، وبه قال مالك وأبو يوسف، ومحمد، وقال أبو حنيفة: للأولياء الاعتراض عليها في نقص المهر ولا يصيروا عضلة يمنعها منه، وان نكحت فلم فسخ نكاحها إلا ان يكمل لها مهر مثلها استدلالا بقوله صلي الله عليه وسلم "أدوا العلائق" قيل: يا رسول الله وما العلائق؟ وقال: "ما ترضي به الاهلون" فلما كان قوله:" أدو العلائق" خطاباً للأزواج كان قوله" ما ترضي به الأهلون" إشارة إلي الأولياء، ولأن عقد النكاح يشتمل علي بدلين هما: البضع، والمهر. فلما كان للأولياء الاعتراض في بضعها أن تضعه في غير كفء كان لهم الاعتراض في مهرها أن ينكحها بأقل من مهر المثل، ويتحرر منه قياسان: أحدهما: انه أحد بدلي عقد النكاح فجاز للأولياء الاعتراض فيه كالبضع. والثاني: أن ما اعترض به الأولياء في نكاح الصغيرة اعترضوا به في نكاح الكبيرة

كالكفاءة؛ ولأن بعض المهر عاراً علي الأهل بجهرهم بكثيرة وإخفائهم لقليلة، فصار دخول العار عليهم في نقصانه كدخوله عليهم في نكاح غير كفؤ، فكان لهم رفع هذا العار عنهم بالمنع منه، ولأن في نقصان مهرها ضررا لاحقاً بنساء أهلها غير اعتبار مهر أمثالهن بها، وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم:" لا ضرر ولا ضرار". ودليلنا رواية عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه، أن امرأة تزوجت علي نعلين، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم:" أرضيت من نفسك ومالك بهاتين النعلين" قالت: نعم، فأجاز. ومن هذا الحديث دليلان: أحدهما: أنه اعتبر رضاها به دون الأولياء. والثاني: أنه لم يسأل هل ذلك مهر مثلها؛ فدل علي أن نفقات المهر رضا الأولياء غير معتبرين ولأن ما ملكت الإبراء منه ملكت تقديره كالأثمان. ولأن ما ثبت في الأثمان ثبت لها في المهور كالإبراء ولأن ثبوت الولاية عليها في بضع لا يوجب ثبوت الولاية عليها في بدل. أصله: مهر أمثالها، ولأن لها منعتين: منفعة استخدام ومنفعة استمتاع، فلما لم يملك الأولياء الاعتراض عليها في الاستخدام إذا أجرت نفسها بأقل من أجره مثلها لم يملكوا الاعتراض في الاستمتاع إذا زوجت نفسها بأقل من مهر مثلها. وتحريره قياساً: أنه أحد المنفعتين فلم يملك أولياؤها مع جواز أمرها الاعتراض عليها في بدله كالإجارة ولن وجوب المهر قد يكون تارة عن اختيار ومراضاة، وذلك في العقود، وتارة عن غير اختيار، ومراضاة ذلك في إصابة الشبهة وما شاكلة، فلما ملكت فحقيقة إذا وجب بغير اختيارها فأولي أن تملك بحقيقة إذا وجب باختيارها؛ لأنه مع الاختيار اخف ومع عدمه أغلظ، ولأن يلحق الأولياء من العار إذا نكحت بأخس الأموال جنساً كالنوى وقشور الرمان أكثر ما يلحقهم إذا نكحت بأقل المهور قدراً، فلما لم يكن للأولياء الاعتراض عليها في خسة الجنس لم يكن لهم الاعتراض عليها في نقصان القدر، فأما الجواب عن قوله صلي الله عليه وسلم:"أدوا العلائق" فهو أنه أمر الأزواج بأداء العلائق وقوله: "إن العلائق ما تراضي به الاهلون" يعني أهلي العلائق، وأهلوها هم الزوجات دون الأولياء؛ فكان الخبر دليلاً علي أبي حنيفة لا له. وأما قياسه علي البشع، فالجواب عنه أن الأولياء إنما ملكوا الاعتراض فيه لما فيه من نقص النسب. ودخول العار علي الأهل والولد، وليس في تخفيف المهر عار كما لم يكن في إسقاطه عار، وهو دليل الشافعي. وهو جواب عن استدلال وأما الاستدلال بدخول الضرر علي نساء العصبات فلو كان لهذا المعني بمستحق الاعتراض فيه لا تستحقه النساء اللاتي يدخل عليهن الضرر دون

الأولياء ولاشتراك فيه القريب والبعيد ولا اعتراض عليهن في الجنس كالاعتراض القدر. وكانت ممنوعة من الزيادة فيه كما منعت من النقصان منه فلما فسد الاعتراض بهذه المعاني كان بالنقصان أفسد مسالة: قال الشافعي رحمه الله تعالي: "ولا ولاية لأحد منهم وثم أولي منه" قال في الحاوي: وهذا صحيح قد ذكرنا بأن اقرب العصبات أحق بالولاية من الأبعد علي ما مضي من الترتيب. وقال مالك. إذا كان الأبعد سيد العشيرة كان أحق من الأقرب، كالتي لها عم هو سيد عشيرته، ولها إخوة فالعم أحق بنكاحها من الإخوة استدلالا بأمرين: أحدهما: ما روي عن عمر رضي الله تعالي عنه أنه قال": لا ينكح المرأة إلا بإذن وليها أو ذي الرأي من أهلها، أو السلطان" فحمل ذي الرأي مقدما. والثاني: أنه بفضل رئاسته اقدر علي تخير الأكفاء، وللرغبة فيه تعدل إليه الزعماء وهذا خطأ. واستحقاق الولاية بالقرب أولي من استحقاقها بالرئاسة مع البعد لأمور: منها: أن الرئاسة الأبعد لما لم يستحق بها الولاية مع الأب فكذلك مع كل عصبة هو الأقرب؛ ولأنه لم يتقدم بالرئاسة في الولاية علي المال لم يتقدم بالرئاسة في الولاية علي النكاح؛ ولأن ما استحق بالتسليم يؤثر فيه الرياضة كالميراث. فأما الأثر عن عمر رضي الله عنه فهو دليلنا؛ لأنه قدم المولي علي ذي الرأي من الأهل، وأما قدرته علي تخير الأكفاء وما يتوجبه إليه من تخير الأكفاء، فهذا المعني لا يزول إذا باشر عقدها من هو أقرب منه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه " فإن كان أولاهم بها مفقوداً أو غائباً بعيدة كانت أم قريبة زوجها السلطان بعد أن يرضي الخاطب ويحضر أقرب ولايتها وأهل الحزم من أهلها ويقول هل تنقمون شيئاً؟ فإن ذكروه نظر فيه". قال في الحاوي: وهذا صحيح. إذا ثبت أن الولاية يستحقها الأقرب دون الأبعد، فكان الأقرب مفقوداً، أو غائباً لم ينتقل الولاية عنه إلي من هو أبعد. وقال أبو حنيفة: إن كان الأقرب مفقوداً انتقلت الولاية إلي من هو ابعد، وإن كان غائباً معروف المكان، وإن كانت غيبته منقطعة انتقلت الولاية إلي الأبعد.

وإن كانت غير منقطعة لم تنتقل. وقال محمد بن الحسن: والغيبة المنقطعة من" الكوفة إلي" الرقة" وغير المنقطعة من " الكوفة" إلي"بغداد". واستدل علي انتقالها بالغيبة إلي الأبعد، بأنه قد يتعذر منه تزويجها بالغيبة، كما لا يتعذر منه بالجنون والرق، فلما انتقلت بجنونه ورقه انتقلت عنه بغيبته، وهذا خطأ؛ لأنها ولاية لا تنتقل بغيبة منقطعة كالولاية علي المال، لأنها غيبة لا ينقطع بها ولاء المال فوجب أن لا تنتقل بغيبة منقطعة كالولاية علي المال، لأنها غيبة لا ينقطع بها ولاء المال فوجب أن لا تنتقل بها ولاية النكاح، كالغيبة التي ليست منقطعة، ولأن الغيبة لا تزيل ولايته؛ لأنه لو زوجها في غيبته صح، ولو وكل في تزويجها جاز، وإذا لم يزل عنه لم تنتقل إلي من هو أبعد منه كالحاضر. فأما استدلالهم بتعذر النكاح منه فليس تعذره مع بقاء الولاية يوجب انتقالها عنه كالعضل. فرع: فإذا صح أن الولاية لا تنتقل عنه بالعقد والغيبة إلي من هو أبع، لم يخل أن يكون معقوداً أو غائباً، فإن كان مفقوداً لا يعرف مكانه ولا يعلم خبره زوجها الحاكم النائب عن الغيب في حقوقهم، كما زوجها عن إذا عضل. وإن كان غائباً لم تخل المسافة غيبته أن تكون قريبة أو بعيدة، فإن كانت بعيدة وهو أن يكون علي أكثر من مسافة يوم وليلة، زوجها الحاكم عنه من غير استئذان فيه؛ لأن استأذنه مع بعد الغيبة شاق، ولأن طول الزمان في بعد المسافة ففوت علي الزوجة حقها من العق، وإن كانت غيبته قريبة وهو أن يكون أقل من مسافة يوم وليلة. وقد اختلف أصحابنا في جواز تزوج الحاكم لها بغير إذنه علي وجهين: أحدهما: يزوجها الحاكم بغير إذنه للمعنيين المتقدمين، وهو ظاهر كلام الشافعي؛ لأنه قال:" بعيدة كانت غيبته أو قريبة". والثاني: أنه لا يجوز للحاكم تزويجها إلا بإذنه؛ لأنه في حكم الحاضر إذ ليس له الترخص بأحكام السفر، وتأول قائل هذا الوجه من أصحابنا كلام الشافعي:" بعيدة كانت غيبته أو قريبة" علي قرب الزمان كقرب المكان، كأنه لم يفرق بين أن يكون قد سافر من زمن قريب أو من زمان بعيد، بين أن يكون سفره إلي مكان قريب أو مكان بعيد. فرع: إذا أراد الحاكم تزويجها بفقد الولي وغيبته علي ما وصفنا، فقد اختار الشافعي له إحضار أهلها ممن له ولاية كالعصبات أو لا ولاية له كالأخوال ليشاورهم في تزويجها، وليسألهم عن كفاءة زوجها استطابه لنفوسهم"، كما أمر رسول الله صلي الله عليه ولسم نعيماً أن يشاور ابنته إن لم يكن لها في الولاية حق. ولأنهم أعرف بحالها وحال الزوج لمكان اختصاصهم وكثرة فراغهم من الحاكم فإذا أحضرهم الحاكم للمشاورة في نكاحها كان

معهم فيه بالخيار بين أمرين: أن يقول لهم اختاروا زوجاً فإذا اختاروا نظر الحاكم في كفاءته فإن كان كفء زوجها عن إذنها وإن كان غير كفء لم يزوجها به وإن أذنت فيه ورضيه أهلها؛ لأن للغائب حقاً في طلب الأكفاء لها وبين أن يختار الحاكم لها كفء ثم يسأل الأولياء عنه بعد إذن الزوجة فيه فإن لم يقدحوا في كفاءته زوجها به سواء أرادوه أو لم يريدوه فإن قدحوا فيه. نظر الحاكم فيما ذكروه من القدح فإن كان مانعاً من الكفاءة لم يزوجها به والتمس لها غيره. وإن كان غير مانع من الكفاءة زوجها به وإن كرهوه؛ لأن المعتبر رضي المنكوحة دونهم وإنما يعتبر منهم اختيار الأكفاء ويستحب للحاكم إذا تعذر تزويجها بمن يقع عليه الاختيار أن يرد العقد إلي الحاضر من أوليائها ليكون عقده متفقاً علي صحته فإن لم يفعل وتفرد بالعقد من غير مشاورتهم جاز، والله اعلم. مسألة: قال الشافعي رحمة الله تعالي: "ولو عضلها الولي زوجها السلطان والعضل إن تدعو إلي مثلها فيمتنع" قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا دعت المرأة وليها إلي تزويجها فعليه إجابتها وهو حرج أن امتنع قصداً للإضرار لقوله تعالي: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} [البقرة: 232] فإن عضلها لم يخل أن يكون في درجته من العصبات غيره أم لا، فإن كان في درجة غيره كأنه واحد من أخوتها، أو واحد من بني عمها عدلت عنه إلي من في درجته من أخواتها، أو بني عمتها، وليس للحاكم معهم مدخل إذا زوجها غير العاضل من تساووا به في النسب، وإن لم يكن في درجته من الأولياء أحد وكانوا ابعد منه تساو عدلت عن الفاضل إلي الحاكم ولم تعدل إلي البعيد في النسب؛ لأن عضله لا يزيل ولايته وعلي الحاكم أن يحضره ويسأله عن سبب عضله، فإن كان الزوج الذي دعت إليه غير كفء لم يكن عاضلاً؛ لأن له أن يمنعها من نكاح غير الكفء ولم يكن للحاكم أن يزوجها به. وقال لها: إن أرادت زوجاً فالتمس غيره من الأكفاء وإن كان الزوج الذي دعت إليه المرأة كفء وكان امتناع الولي لكراهته وبغضه لا لعدم كفائتة صار الولي حينئذٍ عاضلاً. قال الشافعي: "والعضل أن تدعو إلي مثلها فيمتنع" فحينئذ يأمره الحاكم بتزويجها ولا يتولاه الحاكم ما لم يتم الولي علي الامتناع، فإذا أجاب وزوج بعد الامتناع زالت يد الحاكم عن العقد. وإن أقام علي الامتناع الحاكم حينئذٍ عنه لقوله صلي الله عليه وسلم:" فإن اشتجروا أو قال: اختلفوا فالسلطان ولي من ولي له"؛ ولأن تزويجها حق علي وليها ومن وجب عليه حق فامتنع منه أخذه الحاكم به جبراً فقام مقامه في أدائه كقضاء الديون من ماله.

مسألة: قال الشافعي رحمه الله:"ووكيل الولي يقوم مقامه فإن زوجها غير كفؤ لم يجز" قال في الحاوي: وهذا كما قال: الوكالة في التزويج جائزة. وقال أبو ثور: لا يجوز استدلالاً بأن المولي لما لم يكن له أن يرضى بالولاية لم يكن له أن يوكل فيها؛ ولأن الولي نائب فلم يكن أن يوكل من ينوب عنه كالوكيل الذي يجوز أن يوكل غيره. وهذا خطأ لقوله صلي الله عليه وسلم" أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" وإذن الولي إنما صح في الولاية لا للمنكوحة. ولأن النبي صلي الله عليه وسلم وكل عمرو بن الضمري في تزويج أم حبيبة بنت أبي سفيان بأرض الحبشة فأصدقها النجاشي عنه أربعمائة دينار، فجعل عبد الملك بن مروان ذلك حد الصداق للشريفات من قومه ووكل رسول الله صلي الله عليه وسلم أبا رافع في تزويج ميمونة بنت الحارث الهلالية بمكة سنة سبع فردت أمرها إلي العباس بن عبد المطلب فزوجها به وكان العباس زوج أختها أم الفضل. فإن قيل: فهذا يدل علي أن للمرأة أن تعقد علي نفسها؛ لأن ردت أمرها إلي العباس ولم يكن ولياً لها فعن هذا أربعة أجوبة: أحدها: أن هذا قبل استقرار الشرع في عقود المناكح واشتراط الولي. والثاني: يجوز أن يكون تزويجه لها بأن كان سفيراً في العقد ومشيراً. والثالث: أنه يجوز أن يكون وليها رد ذلك إليه فزوجها. والرابع: قال بعض أصحابنا ان النبي صلي الله عليه وسلم مخصوص أن ينكح بغير ولي. ويدل علي جواز الوكالة أن النكاح عقد يقصد فيه المعارضة فصحت فيه الوكالة كالبيوع فأما الوصية به فإنها لم تصح لانقطاع ولا يته فصار موجباً في حق غيره وهو في الوكالة موكل مع بقاء حقه فصحت وكالته وإن لم تصح وصيته. وأما الوكيل فلم يجز أن يوكل؛ لأنه مستناب بعقد الولي يجوز أن يوكل؛ لأنه مالك بالشرع فافترقا. فرع: فإذا تقرر جواز الوكالة في النكاح جاز أن يوكل الولي والزوج ولم يجز أن يوكل الزوجة؛ لأن لا حق للزوجة في مباشرة العقد فلم يصح منها التوكيل فيه. وإذا كان كذلك فحكم الوكالة فيه يتعلق بفصلين. أحدها: في توكيل الولي

والثاني: في توكيل الزوج. فأما توكيل الولي: فلا يجوز: أن يوكل فيه إلا من يصح أن يكون وليا فيه وهو أن يكون ذكراً بالغاً عاقلاً حراً مسلماً رشيداً، فإذا اجتمعت هذه الأوصاف الستة صح توكليه كما تصح ولا يته، وإن أخل بأحد هذه الأوصاف فوكل امرأة أو صغيراً أو مجنوناً أو عبداً أو كافراً أو سفيهاً لم يجز، وكانت الوكالة باطلة. فإن عقد بها كان العقد فاسداً، فإذا تكاملت في الوكيل هذه الشروط ليست لم يخل حال الولي الموكل له من أحد أمرين: إما أن يكون ممن يجبر علي النكاح كالأب والجد مع البكر أو ممن لا يحبر عليه كسائر الأولياء مع الثيب أو كغير الأب والجد مع البكر والثيب فإن كان الولي ممن يجبر علي النكاح كالأب والجد مع البكر فإن له أن يوكل بإذنها وغير إذنها كما يجوز له تزويجها بإذن وغيره إذنها لكن هل يلزمه أن يعين لوكيله علي الزوج أو يرده إلي اختياره فيه قولان أحدهما: يجوز أن يرده إلي اختياره، لأنه قد أقامه بالتوكيل مقام نفسه فلم يلزمه التعيين كالتوكيل في الأموال فعلي هذا يلزمه أن يختار لها كفاء والأولي به إذا أراد تزويجها بمن قد اختاره لها أن يستأذنها فيه وأذنها معه الصمت كإذنها مع الأب، فإن زوجها به من غير استئذانه صح النكاح كالأب إذا زوج بغير إذن. فو أن الولي علي هذا القول عين لوكيله علي الزوج سقط اختيار الوكيل ولم يكن له تزويجها بغير من عين له عليه كالوكيل في الشراء إذا عين علي ما يشتريه. والثاني: أن علي الولي أن يعين لوكيله في عقد الوكالة علي الزوج الذي زوجها به ولا يرد ذلك إلي خياره؛ لأن معني الولي في لحوق عارها معقود في وكيله فلم يقم اختيار الوكيل مقام اختياره وفارق التوكيل في الأموال التي لا يراعي في اختيارها لحقوق العار. فعلي هذا متى زوجها الوكيل بكفء كان النكاح باطلاً لفساد الوكالة، فلو عين له أن يزوجها بأحد رجلين نظر. فإن كان الولي قد اختارهما ورد العقد علي أحدهما إلي خيار وكيله جاز وإن يكن من الولي اختيار بل رد ذلك إلي اختيار وكيله وخياره ثم الاعتبار بأن لا يكون للولي خيار. فرع: وإذا كان الولي ممن لا يجبر علي النكاح فهل يلزم استئذانها في عقد النكاح أم لا؟ اختلف أصحابنا فيه علي وجهين ومنهم من خرجه علي قولين: أحدهما: وهو اختيار أبي علي بن أبي هريرة أنه لا يصح توكيله إلا بإذنها؛ لأنه نائب عنها وأشبه الوكيل الذي لا يجوز له أن يوكل فيما هو وكل إلا عن إذن موكله فعلي هذا إن لم يستأذنها الولي في توكيله فزوجها الوكيل بأنها أو غير إذنها كان النكاح باطلاً لفساد الوكالة ولو استأذنها الولي فيه بعد عقد الوكالة لم تصح الوكالة حتى يستأذنها

الولي بعد إذنها في توكيله. فإذا وكله بعد إذنها وكان وكيلاً لهما جميعاً فإن رجعت في توكليه. بطلت الوكالة. ولم يكن له أن يزوج. والثاني: وهو اختيار أبي إسحاق المروزي الوكالة جائزة وإن لم يستأذنها الولي في عقدها؛ لأنه وكل في حق نفسه الذي ثبت به بالشرع لا بالاستنابة فأشبه الأب، وخالف الوكيل المستناب، فعلي هذا تصح الوكالة وإن لم يستأذن المرأة علي عقدها ويكون هو للولي وحده ولا يؤثر فيه منعها، لكن ليس للوكيل أن يزوجها إلا بإذنها، كما لم يكن ذلك لوليها الموكل، فإن زوجها بغير إذنها كان النكاح باطلاً سواء زوجها بكفء أو غير كفء، لو زوجها الوكيل بإذنها من غير كفء كان النكاح باطلاً سواء أجازه الولي أو لم يجيزه. فرع: وأما توكيل الزوج وإن كان في تزويج امرأة بعينها جاز أن يوكل كل من صح منه قبول النكاح في نفسه وهو من اجتمعت فيه ثلاثة شروط: أن يكون ذكراً بالغاً عاقلاً. وسواء كان حراً أو عبداً رشيداً أو سفيهاً؛ لأن البعد السفيه يجوز أن يقبلا عقد النكاح لأنفسهما فصح أن يقبلاه لغيرهما. فأما توكيل المرأة والصبي والمجنون فلا يصح؛ لأنه لم يصح منهم قبوله لأنفسهم لم يصح منهم قبولهم لغيرهم. فأما إن كان توكيل الزوج في تزويج امرأة غير معينة ليختار الوكيل فهل يلزم أن ينضم إلي الشروط الثلاثة في الوكيل أن يكون رشيداً غير مولي عليه بسفه أم لا؟ علي ثلاثة أوجه: أحدهما: يلزم أن يكون رشيداً يقبل نكاح نفسه؛ فإن كان سفيهاً لم يجز لقصوره علي التصرف في نكاح نفسه. والثاني: لا يلزم أن يكون رشيدا، لأنه يقبله عن إذن ويصح منه أن يقبل نكاح نفسه عن إذن وليه. والثالث: إن عين لوكيله علي القبيلة وإن لم يعين علي المنكوحة جاز أن يكون وكيله فيه سفيهاً وإن لم يعين علي القبيلة ولا علي المنكوحة لم يجز أن يكون الوكيل فيه إلا رشيداً. وهذه الأوجه الثلاثة بناء علي اختلاف الأوجه في إذن وليه أن يعقد لنفسه من غير تعيين، والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي:"وولي الكافرة كافر ولا يكون المسلم وليا لكافرة لقطع الله الولاية بينهما بالدين إلا علي أمته وإنما صار ذلك له لأن النكاح له، تزوج صلي الله عليه وسلم أم حبيبة وولي عقده نكاحها أبن سعيد بن العاص وهو مسلم وأبو سفيان حي وكان وكيل النبي صلي الله عليه وسلم

عمرو ابن أمية الضمري. قال المزني: ليس هذا حجة في إنكاح الأمة ويشبه أن يكون أراد أن لا معني لكافر في مسلمه فكان ابن سعيد ووكليه صلي الله عليه وسلم مسلمين ولم يكن لأبيها مغني في ولايةٍ مسلمةٍ إذا كان كافراً". قال في الحاوي: وأصل ذلك أن اتفاق الدين شرط في ثبوت الولاية علي المنكوحة، فلا يكون الكافر ولياً لمسلمة ولا المسلم ولياً لكافرة لقوله تعالي: {ولَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء:141] وقوله أيضاً {لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ} [المائدة:51] فدللت هاتان الآيتان علي أن لا ولاية لكافر علي مسلمة. وقال تعالي: {والْمُؤْمِنُونَ والْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] فدل علي أن لا ولاية لمسلم علي كافرة، ولأن النبي صلي الله عليه وسلم لما أراد ان يتزوج أم حبيبة بنت أبي سفيان وكان أبوها وإخوتها كفاراً، وهي مسلمة مهاجرة بأرض الحبشة تزوجها من أقرب عصابتها من المسلمين، وهو خالد بن سعيد بن العاص، فدل علي انتقال الولاية بالكفر عمن هو أقرب إلي من ساواها في الإسلام، وإن أبعد فلأن الله تعالي قد قطع الموالاة باختلاف الدين، فلم يثبت الولاية معه كما كان لم يثبت الميراث، وإنما الولاية شرعت لطلب الحظ لها ودفع العار عنها واختلاف الدين يصد عن هذا أو يمنح منه كما قال تعالي: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إلاًّ ولا ذِمَّةً} [التوبة: 10]. فصل: فإذا تقرر هذا فلا يثبت للكافر ولاية علي مسلمة لا نسب ولا حكم ملك ولا يزوجها من عصابتها إلا مسلم قد جمع شرطين: النسب، الدين. فأما الكافرة فالولاية عليها تنقسم ثلاثة أقسام ولاية بحكم، وولاية بملك. فإما القسم الأول: وهو الولاية بالنسب فلا يثبت عليها إلا لمن إذا شاركها في النسب سواها في الدين، ويراعى أن يكون رشيداً في دينه، كما يراعي رشد المولي مجوسي ولا ولاية عليها للمسلم، ويكون النصراني واليهودي والمجوسي في الولاية عليها سواء كما يشاركون في ميراثها ولا يختصها بها النصراني منهم؛ لأن الكفر كله ملة واحدة، فلو كان في إخوتها مرتد عن الإسلام فلا ولاية له عليها كما لا ميراث له منها؛ ولأن المرتد مولى عليه فلم يجز أن يكون ولياً، فلو كانت المرأة مرتدة وكان لها أخ مسلم وأخ مرتدة وأخ نصراني فلا ولاية عليها لواحد منهم، كما لا يرثها واحد منهم. ولا يجوز أن يتزوج بمسلم ولا كافر ولا مرتد؛ لأن الردة مانعة من استباحة نكاحها. وأما القسم الثاني: وهو الولاية بالحكم فيثبت للمسلم علي الكافرة؛ لأنها لا تستحق بالموالاة بالنسب فيتمنع اختلاف الدين منها، وإنما تستحق بالولاية التي ثبت علي الكافر كثبوتها علي المسلم، فإذا عدمت الكافرة منها شيئاً من عصبتها الكفار زوجها

حاكم المسلمين بكفء من الكفار أو المسلمين، فإن دعت إلي زوج مسلم وجب علي الحاكم تزويجها به؛ لأنه إذا تقاضي إلي حاكم المسلمين مسلم وكافر لزمه الحكم بينهما، وإن دعت إلي زوج كافر فإن كان من أهل العهد كان حاكم المسلمين بالخيار بين أن يزوجها به أو الإعراض عنها، كما يكون بالخيار في الحكم بينهما إذا تقاضيا إليه، وإن كانا من أهل الذمة فهل يلزم الحاكم تزويجها أم لا؟ علي قولين: من اختلاف قوليه في وجوب الحكم بينهما عند الترافع إليه، فإن زوجها لم يعقد نكاحها إلا شاهدين مسلمين ولا يجوز أن يعقده به أهل دينها؛ لأن الإسلام والعدالة شرط في الشهادة. وأما القسم الثالث: وهو الولاية بالملك فقد اختلف أصحابنا في ثبوتها للسيد المسلم علي أمته الكافرة علي وجهين: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي وأبي سعيد الاصطخري: أنه يجوز للسيد المسلم تزويج أمته الكافرة وهو ظاهر كلام الشافعي؛ لأنه قال:" ولا يكون المسلم ولياً لكافرة إلا علي أمته". ووجهة شيئان: أحدهما: أنه ولاية لم تستحق بموالاة النسب فلم يؤثر فيها اختلاف الدين كالولاية بالحكم. والثاني: أن السيد يتوصل إلي الكسب فلم يؤثر اختلاف الدين كما لم يؤثر الفسق. والثالث: وهو قول أبي إبراهيم المزني. وأبي القاسم الداركي وطائفة أن إسلام السيد يمنعه من تزويج أمته الكافرة كما يمنعه من تزويج ابنته وحمل غير المزني قول الشافعي"إلا علي أمته" علي أحد وجهين: إما حكاية عن مذهب غيره، وإما علي أمته في عقد الإجارة علي منافعها دون بضعها استدلالاً بأن في تزويجه لها تغليباً لولاية النكاح دون الكسب؛ لأن المرأة لا تزوج أمتها وأن ملكت عقد اكتسابها. فأما المزني: فإنه اعترض علي الشافعي رضي الله عنه فيما نقله من استدلاله له بحديث أم حبيبه، وتوهم أنه استدل به في تزويج المسلم لأمته الكافرة وهذا خطأ في التوهم؛ لأن الشافعي إنما استدل به علي أن الكافر لا يزوج بنته المسلمة وهو دليل عليه، وبالله التوفيق. مسألة: قال الشافعي:" فإن كان الولي سفيها أو ضعيفا غير عالم بموضع الحظ أو سقيما مؤلماً أو به عله تخرجه من الولاية فهو كمن مات فإذا صلح صار وليا".

قال في الحاوي: وهذا صحيح وذكر الشافعي رضي الله عنه الأسباب المانعة من ولاية النكاح، فقال:" فإن كان الولي سفيها" وفيه تأويلان: أحدهما: أنه المجنون؛ لأنه سفيه العقل. والثاني: انه المفسد لماله ودينه؛ لأنه سفيه الرأي. فأما المجنون فلا ولاية له؛ لأنه لما أزل الجنون ولايته علي نفسه، فأولى أن يزيل ولايته علي غيره. فلو كان يجن في زمان ويفيق في زمان فلا ولاية له في زمان جنونه، فأما زمان إفاقته فعلي ضربين: أحدهما: أن يكون فيه بليداً مغموراً فلا يصح فكره ولا يسلم تمييزه فلا ولاية له في زمان إفاقته كما لا ولاية له في زمان جنونه. والثاني: أن يكون فيه سليم الفكر صحيح التمييز فهذا علي ضربين: أحدهما: أن يكون زمان إفاقته من زمان جنونه فله الولاية في زمان الإفاقة. والثاني: أن يكون زمان إفاقته من زمان جنونه ففي عود الولاية إليه في زمان الإفاقة وجهان: أحدهما: يعود لعدم ما يمنع منها. والثاني: لا يعود إليه اعتباراً بحكم الأغلب من زمانيه. فأما السفيه فله حالتان: أحدهما: أن يكون محجوراً عليه بالسفه فعلي ضربين: أحدهما: أن يكون قد حجر عليه لا يعرف موضع الحظ لنفسه فهذا لا ولاية له؛ لأن من لا يعرف حظ نفسه فأولى أن لا يعرف حظ غيره. والثاني: أن يكون قد حجر عليه لتبذيره لما له مع معرفته لحظ نفسه، ففيه وجهان: الأول: وهو قول جمهور أصحابنا لا ولاية له في النكاح؛ لأنه لما زالت ولايته عن نفسه فأولى أن تزول ولايته علي غيره. والثاني: وهو قول أبي العباس بن سريج هو علي ولايته وله تزويج وليته لأن ما استحق به الحجر لحفظ المال غير مقصود في ولاية النكاح فلم يؤثر في إسقاطها فإن كان السفيه غير محجور عليه ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن هريرة انه بالمحجور عليه ولا ولاية له لوجود معني الحجر فيه. والثاني: أنه علي ولايته لأنه لما كان قبل الحجر باقي الولاية علي نفسه كان باقي الولاية علي غيره. فرع: ثم قال الشافعي رضي الله عنه: " أو ضعيفا" وفيه تأويلان: أحدهما: انه الصغير الضعيف البدن. والثاني: الضعيف الرأي إما لعته وبله وإما لكبر وهرم، فأما الصغير فلا ولاية له؛

لأنه (مولى) عليه فلم يجز أن يكون واليا. وأما المعتوه ولأبله فلا ولايه له. لأنه لا يصح تمييزه فلم يعرف حظ نفسه وحظ غيره. وأما الشيخ الهرم الذي صار يهرمه خرقاً لا يعرف موضع الحظ فلا ولاية له لفقده تمييزه. فرع: ثم قال الشافعي رضي الله عنه "أو سقيما". وفيه روايتان: أحدهما: مؤلما يعني ذا المرض المؤلم والثانية: مواليا يعني ذا المرض المولي عليه لفقد تمييزه كالبرسام وإن كان مرضه مؤلماً نظر في ألمه. فإن كان يسيراً لا يمنعه من الكفر والنظر كان علي ولايته وإن كان ألمه عظيماً قد قطعه عن الكفر وصرفه عن الحظ والصلاح فلا ولاية له لفقد المقصود بها منه وإن كان مرضه مولياً عليه كإفاء المبرسم فلا يصح منه أن يزوج منه في حال إغمائه وفي بطلان ولايته وجهان: أحدهما: قد بطلت لزوال عقله بالجنون فعلي هذا تنتقل الولاية إلي من بعده من الأولياء. والثاني: لا تبطل، لأن إعفاء المريض استراحة النوم، وبهذا المعني فرقنا بينه وبين المرض المؤلم الذي ليس باستراحة في إبطال الولاية. فعلى هذا ينوب عنه الحاكم في التزويج ولا تنتقل إلي من بعده من الأولياء، والله اعلم. فرع: ثم قال الشافعي:" أو به علة تخرجه من الولاية". وفيه تأويلان: أحدهما: أنه أراد به الأمراض المانعة من الولاية فمنها ما آلم كقطع الأعضاء ومنها ما أثره في التمييز كالمعي. وفي إضافة العمى والخرس إليهما وجهان. والثاني: أنه أراد الأسباب المانعة من الولاية كالكفر، والرق، والردة. فأما الفسق ففيه أربعة أوجه: أحدها: وهو الأظهر انه مانع من ولاية النكاح بكل حال. والوجه الثاني: وهو مذهب أبي حنيفة أنه لا يمنع منها بحالٍ. والوجه الثالث: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه إن كان ممن يجبر كالأب بطلت ولا يته بالفسق، وإن كان ممن لا يجبر كالأخ لم تبطل ولا يته بالفسق. والوجه الرابع: وهو قول بعض البصريين أنه إن كان الفسق موجباً للحجر بطلت به الولاية وإن كان غير موجب له لم تبطل به وقد تقدم توجيه هذه الأوجه فإما (الخنثى) فإن

كان باقياً علي إشكاله فعلي ضربين: أحدهما: أن يكون زواله بقوله، كإخباره عن نفسه بأن طبعه يميل إلي الرجال حتى زوج امرأة ولا ولاية له؛ لأن قوله: وإن "قيل علي نفسه" فهو غير مقبول علي غيره. والثاني: أن يكون قد زال تعيناً لإمارة لا يرتاب بها فله الولاية لاعتبار حكمه بالرجال في جميع الأحوال. فأما الإحرام بحج أو عمرة فمانع من الولاية سواء كان صحيحاً أو فاسداً لاستوائهما في المضي فيهما، ولا تبطل به الولاية؛ لأنه يصير بإحرامه كالعاضل فيزوجها الحاكم عنه، ولا تنتقل الولاية عنه إلي ما بعده من الأولياء. فرع: إذ ثبت ما وصفنا من الأسباب المشكلة لولاية النكاح انتقلت الولاية بها إلي من هو ابعد بخلاف الغيبة التي لا توجب انتقال الولاية؛ لأن الغائب يصح منه التزويج ولا يصح من هؤلاء، فلو زالت الأسباب المبطلة للولاية بأن اسلم الكافر واعتق البعد وأفاق المجنون ورشد السفيه، عادوا إلي الولاية وانتقلت عمن هو ابعد منهم، فلو كان الأبعد قد زوج في جنون القريب وسفهه صح نكاحه. ولم يكن للأقرب بعد الإفاقة والرشد اعتراض عليه، ولو كان الأبعد قد زوج بعد إفاقة الأقرب ورشده كان نكاحه باطلا سواء علم بإفاقته أو لم يعلم. فإن قيل: وكيل الولي إذا زوج بعد رجوع الولي في الوكالة قبل علمه برجوعه كان في نكاحه قولان، فهلا كان نكاح إلا بعد مثله علي قولين؟ قيل: الفرق بينهما: أن الوكيل مستناب يضاف عقده إلي موكله فكان عقده امضي من عقد الأبعد الذي ليس بنائب عن الأقرب، فعلي هذا لو زوجها إلا بعد ثم اختلف هو والأقرب فقال الأبعد: زوجها قبل إفاقتك فالنكاح ماضٍ. وقال الأقرب: بل زوجتها بعد إفاقتي، فالنكاح باطل ولا اعتبار باختلافهما ولا رجوع فيسأل قول الزوجين؛ لأن العقد حق لهما فلم ينفذ فيه قول غيرهما. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالي:" ولو قالت قد أذنت في فلانٍ فأي ولاتي زوجني فهو جائز فأيهم زوجها جاز، وإن تشاحوا أقرع بينهم السلطان". وهذا كما قال: إن كان للمرأة جماعة أولياء في درجة واحدة كالإخوة والأعمام، فينبغي لها ولهم أن يردوا عقد نكاحها إلي أسنهم وأعلمهم وأروعهم؛ لأن ذا السن قد جرب الأمور، وذا العلم اعرف بأحكام العقود، وذا الورع أسلم اختياراً وأكثر احتياطاً، فإن قيل: فهلا اشتركوا في عقد نكاحها ولم ينفرد به أحدهم كما لو اشتركوا في رق جارية اشتركوا في تزويجها لتساويهم كالشركاء في ملك إذا أرادوا بيعه أو إجارته اشتركوا في

العقد عليه ولم ينفرد به أحدهم لتساويهم فيه؟ قيل: الفرق بينهما أن المعقود في الأملاك يتبعض، ولو أراد أحدهم أن ينفرد بالعقد عي قدر حصته جاز، فلذلك جاز إذا اجتمعوا أن يشتركوا في العقد علي الجميع، وليس كذلك عقد النكاح؛ لأن يتبغض ولا يجوز العقد علي بعض امرأة فلذلك إذا اجتمع الأولياء لم يشتركوا فيه ويفرد بالعقد أحدهم. فصل: فإذا تقرر هذا فللمرأة الخطوبة حالتان: أحدهما: أن تأذن لأحدهم بعينه في العقد عليها. والثاني: أن لا تعين فإن عينت، فقالت: قد أذنت لفلان من إخوتي أو من أعمامي أن يزوجني لفلان أو بمن يختاره لي من الأكفاء، فيكون المأذون له منهم أحق بعقد نكاحها من جماعتهم، فإن زوجها غير منهم كن نكاحها باطلاً سواء كانت قد عينت علي الزوج أو لم تعين؛ لأنها لم تأذن له فصار عاقداً بغير إذن فبطل عقده. فرع وإن لم تعين علي أحد الأولياء بل قالت: يزوجني أحدكم وأيكم يزوجني فهو بإذني ورضاي، فلا يخلو حالهم حينئذ من أحد أمرين: إما أن يتنازعوا في تزويجها أولم يتنازعوا، فإن لم يتنازعوا في تزويجها وسلموه لأحدهم زوجها من سلموا إليه العقد منهم وسواء كان أفضلهم أو أنقصهم إذا لم يكن به سبب يمنعه من الولاية؛ لأنه لو تفرد لكان وليا، فكذلك إذا شارك، وإن تنازعوا فعلي ضربين: أحدهما: أن يكون نزاعهم في تولي العقد مع اتفاقهم علي الزواج كأنهم اتفقوا علي أن يزوجوها بزيد بن عبد الله، لكن قال كل واحد منهم: أنا زوجها به فهؤلاء لا حق للسلطان معهم؛ لأنه ليس فيهم عاضل لكن يقرع بينهم، فأيهم قرع كان أولي بنكاحها من جماعتهم، فإن زوجها من لم تخرج له القرعة منهم نظر، فإن كان ذلك قبل القرعة كان نكاحه جائزاً لكونه ولياً، وإن كان بعد القرعة ففي صحة نكاحه وجهان: أحدهما: يصح لكونه ولياً والثاني: باطل، لأن القرعة قد ميزت حق الولاية لغيره. والضرب الثاني: أن يكون نزاعهم في غير الزوج وقد تولى العقد فيقول أحدهم: أنا أزوجها يزيد ولا أزوجها بعمرو. ويقول الآخر: بخلاف ذلك فيرجع إلي الزوجة فإن رضيت احد الزوجين دون الآخر كان من رضينه الزوجة أحق ومن دعي إلي تزويجها به أولي، فإن قالت: هما عندي سواء فزوجوني بأحدهما فلا قرعة هاهنا؛ لأنه يصير قراعاً بين الزوجين والقرعة لا تميز العقود عليه، وإنما يتعين بالرضي والاختيار، وإذا كان كذلك صار الأولياء عضلة؛ لأن كل واحد منهم، يمتنع من رضيه الآخر، فوجب أن

يرجع في تزويجها إلي السلطان، كما لو صرحوا بالعضل حتى زوجها بمن يختاره لها من الزوجين المختلف فيهما، والله اعلم. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالي:" ولو أذنت لكل واحد أن يزوجها لا في رجل بعينه فزوجها كل واحد رجلاً فقد قال صلي الله عليه وسلم وإذا أنكح الوليان فالأول أحق، فإن لم تثبت الشهود أيهما أو فالنكاح مفسوخ ولا شيء لها، وإن دخل بها أحدهما علي هذا كان لها مهر مثلها وهما يقران أنها لا تعلم مثل أن تكون غائبة عن النكاح ولو ادعيا عليها إنها تعلم أحلفت ما تعلم وإن أقرت لأحدهما لزمها". قال في الحاوي: وصورتها: في امرأة لها وليان أذنت لكل واحد منها أن يزوجها برجل لا بعينه يختاره لها من أكفئاها، فزوجها كل واحد من الوليين برجل غير الذي زوجها به الآخر، فلا يخلو حال الزوجين من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكون معاً غير كفئين فنكاحهما باطل، فإن لم يدخل بها واحد منهما فلا شيء عليهما، فإن دخل بها أحدهما كان عليه مهر مثلها دون المسمي، ولا حدّ عليه وإن علم أنه غير كفء، لأن من الفقهاء من يوقف نكاحه علي الإجازة، فكان ذلك شبهة يدرأ بها الحد. والقسم الثاني: أن يكون احد الزوجين كفئاً والآخر غير كفء، فنكاح غير الكفء باطل ونكاح الكفء حائز سواء تقدم نكاحه أو تأخر، فإن دخل بها غير كفء فعليه مهر المثل ثم ينظر فإن كان نكاحه قد تقدم فلا احد عليه سواء علم أو لم يعلم وعليها أن تقتدي من إصابته وإن كان نكاحه قد تأخر فإن علم بالحال فعليه الحد لارتفاع الشبهة ولا عدة عليها لأنها لو جاءت بولد لم يلحق به وإن لم يعلم به مثلاً حد عليه وعليها العدة وإن جاءت بولد لحق به وهي محرمة علي الكفء في زمان عدتها من غير الكفء. والقسم الثالث: أن يكون الزوجان معاً كفئين فلا يخول حال نكاحهما من خمسة أقسام: أحدها: أن يسبق أحدهما الآخر ويعلم أيهما هو السابق. والثاني: أن يقع النكاحان معاً ولا يسبق أحدهما الآخر. والثالث: أن يشك هل وقع النكاحان معاً أو سبق أحدهما الآخر. والرابع: أن يشك أيهما هو السابق. والخامس: أن يسبق أحدهما الآخر ويدعي كل واحد من الزوجين أنه هو السابق.

فصل: فأما القسم الأول وهو: أن يسبق أحدهما الآخر ويعلم أيهما هو السابق بالنكاح لأسبق الزوجين عقدًا والنكاح الثاني المسبوق باطل سواء دخل هذا الثاني بها أو لم يدخل. وبه قال من الصحابة: علي بن أبي طالب، ومن التابعين: شريح، والحسن البصري. ومن الفقهاء: أبو حنيفة، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق. وقال مالك: النكا للأول إلا أن يدخل بها الثاني وهو يعلم بنكاح الأول فيكون النكاح الثاني دون الأول، وبه من الصحابة: عمر بن الخطاب. ومن التابعين: عطاء. ومن الفقهاء: الزهري استدلالًا بما روي أن موسى بن طلحة بن عبيد الله زوج أخته بيزيد بن معاوية بالشام، وزوجها أخوها يعقوب بن طلحة بالحسن بن علي بالمدينة فدخل بها الحسن وهو الثاني من الزوجين ولم يعلم بما تقدم من نكاح يزيد، فقضى معاوية بنكاحها للحسن بعد أن أجمع معه فقهاء المدينة، فصار من سواهم محجوبًا بإجماعهم، ولأنه قد تساوى العقدان في أن يفرد كل واحد منهما ولي مأذون له ويرجع الثاني أيما تعلق عليه من أحكام النكاح بالدخول من وجوب المر والعدة ولحوق النسب، فصار أولى وأثبت من الأول، ولأن المتنازعين في الملك إذا انفرد أحدهما بتصرف وبه كان أولى كذلك الزوجات. ودليلنا قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله: {والْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 24] يعني ذوات الأزواج فنص على تحريمها كالأم، فلم يجز أن تحل بالدخول كما لا يحل غيرا من المحرمات. وروى قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله علي وسلم قال: "أيما امرأة زوجها وليان فهي للأول منهما "ذكره أبو داود في سننه. وروى الشافعي بإسناده رفعه لعقبة بن عامر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا نكح الوليان فالأول أحق". وروى أبو موسى الأشعري: أن امرأة ذات وليين زوجها أحدهما بعبد الله بن الحسن الحنفي، وزوجها الآخر بعبيد الله بن الحسن الحنفي، فدخل بها عبيد الله وهو الثاني وتقاضيا إلى علي بن أبي طالب فقضى بالنكاح الأول منهما، وهو عبد الله، وأبطل نكاح عبيد الله مع دخوله. وقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا نكح الوليان فالأول أحق "ويدل عليه من طريق الاعتبار، أن كل نكاح لا يصح إذا عري عن الوطء لم يصح إذا اتصل بالوطء كالنكاح في العدة، ولإجماعنا أن رجلًا لو وكل وكيلين في أن يزوجه كل واحد منهما امرأة فزوجاه بأختين، أو وكل كل واحد منهما أن يزوجه بأربع نسوة فزوجه كل واحد منهما أربعًا، أن نكاح الأول منهما أصح من نكاح الثاني، وإن اقترن به دخول

فكذلك وليا المرأة يحب أن يكون نكاح الأول منهما أصحّ وإن اقترن الثاني دخول. وتحريره: أن بطلان نكاح الثاني إذا لم يقترن به دخول لا يوجب تصحيحه، فإذا اقترن به دخول لا يوجب تصحيحه كوكيلي الزوج في أختين أو أربع بعد أربع، ولأن الدخول في النكاح جار مجرى القبض في البيع، ثم ثبت أن الوكيلين في بيع عبد لو باعه كل واحد منهما أو قبضه الثاني أن البيع للأول وإن قبض الثاني كذلك الوليان في النكاح. فأما الجواب على استدلالهم بنكاح الحسن ويزيد، فهو أنه يجوز أن يكون معاوية استنزل يزيد عن نكاحها، واستأنف عقد الحسن عليها. وأما استدلالهم بأن الثاني قد ترجع بما تطلق عليه من أحكام النكاح ففاسد؛ لأن المتعلق عليه أحكام الوطء بشبهة ولم يتعلق عليه أحكام النكاح، ثم هو باطل بالزوج إذا زوج وكيلا بأختين، فإن النكاح للأولى وإن دخل بالثانية. وأما استدلالهم بأن المتنازعين تقدم صاحب اليد والتصرف منهما على صاحبه، فليس لليد في النكاح تأثير وكذلك في الأملاك إذا كانت معروفة والأسباب ثم هو فاسد بنكاح الأختين. فصل: وأما القسم الثاني: وهو أن يقع النكاح معًا ولا يسبق أحدهما الآخر فالنكاحان باطلان، لأنه لا يجوز أن تكون المرأة ذات زوجين وإن جاز أن يكون الرجل ذا زوجتين لأن اشتراك الزوجين في نكاح امرأة يفضي إلى اختلاط المياه وفساد الأنساب وليس هذا المعنى موجود في الزوج إذا جمع بين اثنتين وإذا لم يصح اجتماع النكاحين ولم يكن تصحيح أحدهما أولى من فساده، وجب أن يكونا باطلين فإذا بطل النكاح بما ذكرنا لم يخل حال الزوجين من ثلاثة أحوال: إحداها: أن لا يكون قد دخل واحد منهما في خلية ولا مهر على واحد منهما لفساد عقده وعدم إصابته ولأيهما شاء أن يستأنف العقد عليها. والحالة الثانية: أن يكون قد دخل بها أحدهما ودون الآخر فمذهب مالك: أن النكاح يصحّ للداخل بها وما قد مضى من الدليل عليه في تلك المسألة كاف في هذه، ويكون نكاح الداخل بها باطلًا كغير الداخل؛ لأن الداخل بها عليه مهر مثلها بالإصابة، وعليها منه العدة وله أن يستأنف نكاحها في زمان عدتها منه وليس على غير الداخل بها مهر ولا له العقد عليها إلا بعد انقضاء العدة. والحالة الثالثة: أن يدخل بها الزوجان معًا، فعلى كل واحد منهما مهر المثل بالإصابة، وعليها لكل واحد منهما العدة بدأ بعد أسبقهما إصابة ليس له استئناف نكاحها إلا بعد انقضاء العدتين؛ لأنه يتعقب عدتها منه عدة من غيره فحرمت عليه في العدتين معًا. فأما الثاني منهما إصابة فليس له أن يتزوجها في عدة الأول، وله أن يتزوجها في عدة الثاني.

فصل: وأما القسم الثالث: وهو أن يشك هل وقع النكاحان معًا أو سبق أحدهما الآخر، فالنكاحان باطلان؛ لأن العقد إذا تردد بين حال صحة وفساد حمل على الفساد دون الصحة اعتبارًا بالأصل أن لا عقد حتى يعلم يقين صحته، وإذا كان كذلك فالحكم فيهما كما لو وقعا معًا، فيكون على ما مضى من وجود الدخول وعدمه. فصل: وأما القسم الرابع: وهو أن يسبق أحدهما الآخر ويشك أيهما هو السابق فهو على ضربين: أحدهما: أن يصير الشك بعد تقدم اليقين فيكون النكاحان موقوفين على يرجى من زوال الشك يعود اليقين؛ لأن طروء الشك بعد تقدم اليقين يجوز أن يتعقبه يقين فعلى ذا تكون ذات زوج قد جهل عينه متمتع من الأزواج وليس لواحد منهما إصابتها إلا بعد اليقين بأنه الأسبق نكاحًا. والضرب الثاني: أن يكون الشك مقارنًا للعقد لم يتقدمه يقين فلا يكون النكاح موقوفًا؛ لأنه ليس بتوقع زوال الشك يعود اليقين. وإذا امتنع وفق النكاحين كانا باطلين وهل يفتقر بطلانهما إلى فسح الحاكم أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا يفتقر إلى فسخ الحاكم ويكون الجهل على المتقدم فسخًا لأن الجهل بعين الأسبق هو المانع من تعيين الأصح فاقتضي أن يقع به الفسخ. والوجه الثاني: أنه لا يقع الفسخ إلا بحكم الحاكم لأننا نعلم أن أحدهما زوج وإن لم يعلم أيهما الزوج فلم ينفسخ نكاحه إلا بحكم الحاكم الذي له مدخل في الفسخ المناكح فإن قيل: بوقوع الفسخ بالجهل دون الحكم على الوجه الأول كان فسخًا في الظاهر والباطن كما يمنع التوارث بين الغرقى في الظاهر والباطن على أشكال التقدم وإن قيل بوقوع الفسخ بحكم الحاكم على الوجه الثاني فهل يقع في الظاهر والباطن أم لا؟ على وجهين: أحدهما: أنه فسخ في الظاهر والزوجية بينهما وبين الأول منهما باقية في الباطن لأن حكم الحاكم لا يحيل الأمور عما هي عليه. والثاني: وهو أصح أن الفسخ يقع ظاهرًا وباطنًا؛ لأن المرأة لما يحصل لها العوض عاد إليها المعوض كالبائع إذا أفلس المشتري بثمن سلعة عادت إليه بفسخ الحاكم ملكًا في الظاهر والباطن. فصل: وأما القسم الخامس: وهو أن يسبق أحدهما الآخر ويدعي كل واحد من الزوجين أنه هو السابق فإن كان لأحدهما بنية عمل عليها وحكم بها فإن كان الولي العاقد أحد

الشاهدين لم (تقبل)؛ لأنه شهد على فعل نفسه ولو كان ولي العقد الآخر شاهدًا في هذا العقد قبل وإن لم يكن لكل واحد من الزوجين بينه فلا حالهما من أحد أمرين: إما أن يدعيا علمهما بأسبقهما عقدًا. أو لا يدعياه لغيبتهما عن العقد وجهلهما بالأسبق تحالف الزوجان دون الوليين؛ لأنهما المتداعيان ولا يراعى تصديق الوليين فإن حلف الزوجان انفسخ بنفس التحالف أو بفسخ الحاكم بينهما على وجهين مضيا في البيوع، وإن نكل الزوجان عن اليمين فسخ الحاكم نكاحهما ولم ينفسخ إلا بحكمه وجهًا واحدًا، لأن نكول الناكل لا يمنع أن يكون محقًا في دعواه فلم يمنع بنكوله فسخ حتى يحكم به الحاكم، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر قضى بالنكاح للحالف منهما دون الناكل، فإن دخل بها الناكل نظر حال دخوله، فإن كان بعد نكوله أو يمين صاحبه فو زاٍن يحد ولا يلق به الولد، ولا تجب عليها العدة. أما المرأة فإن علمت بحال الناكل عند تمكينه من نفسها فهي زانية تحد ولا مهر لها، وإن لن تعلم فلا حدّ عليها ولها مهر مثلها، وإن كان الناكل قد دخل بها قبل نكوله ويمين صاحبه فلا حدّ عليه ولا عليها لبقاء شبهته في النكاح، وعليه مهر مثلها وعليها العدة. وإن جاءت بولد لحق به وهي محرمة على الحالف حتى تقضي عدة الناكل. ولا نفقة لها في زمان العدة على واحد منهما أما الحالف فلأنها محرمة عليه، وإن كانت زوجته لاعتدادها من غيره، وأما الناكل فلأنها ليست زوجته وإن كانت معتدة منه إلا أن تكون حاملًا، فهل يلزمه نفقتها أم لا؟ على قولين: فرع: فإن ادعت علمها في الابتداء وأنها تعرف أسبقهما نكاحًا فلها حالتان: حالة تعترف بالعلم وحالة لا تعترف به فإن لم تعترف قالت: لست أعلم أيهما أسبق بالعقد فالقول قولها مع يمينها وإنما لزما اليمين ولأنها لو أقرت بعد الإنكار كان قولها في نكاح من قدمته مقبولًا فإن حلفت أنها لا تعلم أيما أسبق بالعقد. فالنكاحان باطلان وهل يبطل بمجرد يمينها أو فسخ الحاكم على وجهين إن قيل قد بطل يمينها نكاح الزوجين وهي مقترنة أن أحدهما زوج وإن لم يتعين لها قيل: لأن يمينها يسقط عنها تمكين نفسها من كل واحد منهما وإذا منعها الشرع من واحد منهما بطل نكاحها وإن نكلت عن اليمين ردت اليمين على الزوجين. فإن حلفا بطل نكاحهما. وإن نكلا فسخ نكاحهما وإن خلف أحدهما ونكل الآخر قضى بنكاحها للحالف منهما دون الناكل وإن اعترفت. قالت: اعلم السابق بالعقد منهما وهو زيد دون عمر فالقول قولها وهي زوجة للمصدق لأنها مالكة بضعها فقبل قولها تصديق من ملكه عنهما كما يقبل قولها في سائر أملاكها وهل عليها اليمين أم لا؟ على قولين. أحدهما: لا يمين عليها لأمرين. أحدهما: أنها لو رجعت عنه لم تقبل.

والثاني: أنه بينه كالشاهدين وهذا قوله في "الأم". والقول الثاني: أن يمين عليها واجبة لأمرين: أحدهما: أن المكذب مدع فلم يدفع مجرد الإنكار إلا مع اليمين. والثاني: أنه قد يتعلق برجوعها أن لو صدقته عزم فلزمت اليمين وهذا قوله في "الإملاء "ومثل هذين القولين في الراهن إذا صدق أحد المرتهنين هل يحلف للمكذب أم لا على قولين ويشبه أن يكون اختلاف توليه في يمين الزوجة مبينًا على اختلاف قولي في تصديقها للمكذب ل يوجب عليها مهر المثل أم لا؟ فإن قيل يوجب التصديق عليها مهر المثل حلفت على التكذيب. وإن قيل لم يجب لم تخلف فإذا تقرر توجيه القولين وبناؤها فإن قيل: إنه لا يمين عليها أو عليها اليمين فلفت ثبت النكاح للمصدق وكان نكاح المكذب مردودًا وإن قيل: عليها اليمين فنكلت فلا يخلو حالها في النكول من أحد آمرين: إما أن يكون الاعتراف بالثاني أو بغير اعتراف به فإن كان نكولها اعترافًا للثاني يتقدم نكاحه لم يرد اليمين على أحد وقد صارت مقرة للأول ثم عدلت عنه إلى إقرارا للثاني فثبت نكاحها للأول بإقرارها ولم يقبل رجوعها عنه إلى الثاني وجرى مجرى قولها في الابتداء بسبق هذا لأجل هذا فتكون زوجة للأول بإقرارها دون الثاني كمن بيده دار فقال: هي لزيد لا بل لعمرو وكانت لزيد المقر له أولًا دون عمرو وإذا كانت بما سبق من الإقرار زوجة للأول دون الثاني فهل يلزمها أن تغرم للثاني مهر مثلها أم لا؟ على قولين: كمن قال: هذه الدار لزيد بل لعمرو وكانت لزيد. وهل يغرم قيمتها لعمرو أم لا؟ على قولين: أحدهما: لا يلزمها غرم المهر لاعترافهما بما لزمها. والقول الثاني: يلزمها غرم مهر مثلها للثاني، لأنها قد فوتت نفسها عليه بإقرارها للأول فعلى هذا لو مات الأول صارت بعد موته زوجه الثاني بإقرارها المتقدم كمن أقر بدار لزيد ثم أقر بها لعمرو كانت لزيد المقر له أولًا فلو عادت الدار إلى المقر بابتياع أو هبة أو ميراث صارت لعمر بالإقرار السابق المتقدم فكذلك هذه في مصيرها زوجة للثاني وعليها أن تعتد من الأول وإن كان لم يصيبها بأربعة أشهر وعشر وإن كان قد أصابها بأكثر الأجلين من أربعة أشهر وعشر عدة الوفاة أو ثلاثة أقراء عدة الوطء وهي محرمة على الثاني في زمان عدتها من الأول. وإن كانت زوجته وإن كان نكولها لغير اعتراف بل كانت تكذيب الثاني وتصديق الأول رد اليمين بعد نكولها على المكذب فإن نكل المكذب عنها استقر نكاح الأول وإن خلف فقد قابل تصديق الأول يمين الكذب فيكون يمين المدعي بعد نكول المدعى عليه وقد اختلف قول الشافعي في يمين المدعي بعد نكول المدعي عليه هل يقوم مقام البينة أم مقام الإقرار على قولين: أحدهما: أنها تقوم مقام البينة فعلى هذا تكون زوجة الثانية ويزول عنها نكاح الأول

كما لو أقام الثاني بينة بعد تصديقها للأول وهذا محكي عن أبي علي بن خيران من بعد. والقول الثاني: أنها تقوم مقام الإقرار، فعلى هذا قد كان مع الأول إقرار منها وقد صار مع الثاني إقرار قد لزم عنها فصار إقرارين، وقد اختلف أصحابنا فيهما هل يكون حكمهما حكم إقرارين وقعا معًا؛ لأن يمين الثاني أوجبها نكولها عن اليمين المستحقة بالإقرار الأول فلم يتقدم حكم أحد الإقرارين على الآخر. وهذا قول أبي إسحاق المروزي فعلى هذا يبطل النكاحان معًا. كما لو أقرت لهما في حالة واحدة. والثاني: أنهما في حكم إقرارين متراتبين وقع أحدهما بعد الآخر؛ لأن يمين الثاني، جعلته في حكم المقر له وهي متأخرة فصار الإقرار له متأخر عن الإقرار الأول وهذا قول جمهور أصحابنا فعلى هذا تكون زوجة للأول دون الثاني كما لو أقرت الثاني بعد أول وهل يرجع الثاني عليها بمهر مثلها أم لا؟ على ما مضى من القولين فإنه طلب الثاني في هذه الحال إحلاف الأول ففيه وجهان: أحدهما: ليس ل إحلافه؛ لأن المدعى عليه غيره ولو مات لم تصر زوجة الثاني؛ لأنها منكرة وإن نزلت في بعض أحوالها منزلة المقرة. والثاني: له إحلافها ولو نزل عنها فحكم بها للثاني لأجرينا عليها أحكام المقرة من غير تبغيض فهذا حكم المسألة وما انتهت إليها أقسامها وأحكامها. فرع: ويتفرع على هذه المسألة أن يوكل الرجل وكيلين في أن يزوجاه، فزوجاه بامرأتين في عقدين لزمه العقدان، وصح نكاحهما له بخلاف المرأة إذا زوجها وليان؛ لأن الرجل يجوز أن يكون ذا زوجتين ولا يجوز أن تكون المرأة ذات زوجين فلو قال أحد الوكيلين: زوجتك من زينب وزوجك صاحبي من هند وقال الآخر: أما زوجتك بزينب وزوجك صاحبي من هند فلا تأثير لهذا الاختلاف والنكاحان على الصحة، فلو زوجه الوكيلان بامرأة واحدة في عقدين صحّ نكاحه عليها. والأول منهما له الحكم والمهر دون الثاني فإن وقع العقدان في حال واحدة من وليين صحّ النكاح أيضًا فإن اختلف المهران لم يحكم بواحد منهما وكان لها مهر المثل. فلو ادعت الزوجة تقدم أكثر العقدين مهرًا وادعى الزوج تقدم أقلهما مهرًا ولا بينه لواحد منهما تحالفا وحكم لها بمهر المثل ولا تقبل شهادة الوكيلين. فلو عقد الوكيل على امرأة غير الموكل عليها أو لم يعين ثم اختلفا فقال الوكيل: قبلت العقد عليها لنفسي وقال الموكل: بل قبلته لي فالقول قول الوكيل؛ لأن له أن يفعل ذلك. فرع: وإذا قال رجل لامرأة: أنت زوجتي فصدقته ثبت حكم نكاحهما بالتصادق عليه.

وقال مالك: لا يثبت نكاحهما بالتصادق حتى يرى داخلًا عليها وخارجًا من عندها، إلا أن يكونا في سفر. وحكي هذا عن الشافعي في القديم، ومذهبه في الجديد أصحّ؛ لأنه ليس ظهور الدخول والخروج شرطًا في صحة العقد فلم يكن شرطًا في صحة الاعتراف وإذا صحّ النكاح بهذا التصادق عليه فأيهما مات ورثه صاحبه ولكن لو قال الرجل: هذه زوجتي ولا يكن منها تصديق ولا تكذيب فإن مات ورثته وإن ماتت لم يرثها نص عليها الشافعي في "الأم "أنه اعترف لها بما يعترف له بمثله فورثته ولم يرثها وعلى هذا لو قالت المرأة: هذا زوجي ولم يكن منه تصديق ولا تكذيب ورثها إن ماتت ولم ترثه إن مات للمعنى الذي ذكرنا نص عليه الإملاء قال فيه: ولو تزوج رجل امرأة من وليها ثم مات عنها، فقال وارثه: زوجك وليك بغير إذنك فنكاحك باطل ولا ميراث لك، وقالت: بل زوجني بإذني فلي الميراث فالقول قولها مع يمينها؛ لأن إذنها لا يعلم إلا منها، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ زَوَّجَهَا الوَليُّ بَأَمْرِهَا مِنْ نَفْسِهِ لَمُ يَجُزْ كَمَا لاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِي مِنْ نَفْسِهِ ". قال في الحاوي: إذا كان للمرأة ولي يحل له نكاحها كابن عم أو مولى معتق لم يجز أن يتزوجها بنفسه وولايته حتى يزوجه الحاكم بها. وقال مالك وأبي حنيفة: يجوز أن يتزوجها من نفسه بعد إذنها ل. وقال أحمد بن حنبل: يأذن لأجنبي حتى يزوجه بها واستدل من أجازه بقول الله تعالى: {ويَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ ومَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ} [النساء: 127] قالت عائشة: نزلت هذه الآية في شأن يتيمة في حجر وليها رغب في مالها وجمالها لم يقسط لها في صداقها مهرًا أن تنكحوا أو تقسطوا لهن في صداقهن فدل على أن للولي أن يتزوجها ولم يقسط في صداقها وبقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلا بولي "وهذا نكاح في عقده ولي، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أعتق صفية وتزوجها ولم يكن لها ولي سواه. ولأنه نكاح بولي فجاز ثبوته كما لو زوجها من غيره، ولأن الولي إنما يراد لأن لا تضع المرأة نفسها في غير كف ووليها كفاء. ودليلنا ما روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل نكاح لم يحضر أربعة فهو سفاح خاطب وولي وشاهدا عدل "فاعتبر في صحته حضور أربعة وجعل الخاطب منهم غير الولي فلم يجز أن يصح بثلاثة بكون الولي منهم خاطبًا، كما لو لم يجز أن يكون الشاهد منهم خاطبًا.

(وروى) سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا يتزوج الرجل المرأة حتى يكون الولي غيره ولا يشتري الولي شيئًا من الغنيمة ولا الوصي شيئًا من الميراث "وهذا نص مرسل سعيد عند الشافعي حجة؛ لأنه عقد لم يملك فيه البدل إلا بإذن فلم يملك في القول كالوكيل في البيع لما ملك فيه البدل بإذن موكله لم يملك فيه القبول في شرائه لنفسه، وهي دلالة الشافعي، ولا يدخل في هذا القياس ابتياع الأب مال ابنه الصغير بنفس حيث صار فيه مالكًا للبدل والقبول؛ لأن الأب يملك البدل لنفسه لا بإذن غيره، فجاز أن يملك فيه القبول، وخالف الولي في النكاح كما خالف الوكيل في البيع؛ ولأن ذكر اعتبر في النكاح احتياطًا فلم يجز أن يكون زوجًا كالشاهد، ولأن الولي مندوب لطلب الحظ لها في التماس من هو ألفًا وأغنى فإذا صار زوجًا انصرف نظره إلى حظ نفسه دونها فعدم في عقده معنى الولاية فصار ممنوعًا منه ومن غيره، وليس الآن دليل على ما اختلفنا في من جواز أن يتزوجها بنفسه. وأما الجواب عن قوله عليه السلام: "لا نكاح إلا بولي "فهو أن هذا في حال تزويجه بها قد خرج أن يكون وليًا لها لما ذكرنا من انصرافه عما وضع له الولي من طلب الحظ لها إلى طلب الحظ لنفسه، فأما الجواب عن حديث سعيد فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم مخصوص بجواز النكاح بغير ولي عند كثير من أصحابنا، فلم يجز أن يعتبر به حال غيره. فأما على قول من اعتبر الولي في نكاحه فيقول لم يكن لصفية ولي غيره فصار في عقده عليها كالإمام إذا لم يجد لوليته وليًا سواه يزوجها منه فيكون على ما سنذكره. وأما الجواب عن قياسهم أنه نكاح بولي فلا نسلم أنه يكون وليًا لها إذا تزوجها لما ذكرنا من زوال معنى الولاية عنه، ثم المعنى في الأصل أن الباذل غير العائل. وأما الجواب عن استدلالهم بأنه كفء لها لمناسبته فلم يحتج إلى ولي يلتمس الكفاءة وهي ليست معتبرة بالنسب وحده وقد يجوز أن لا يكافئها فيما سوى النسب من مال وعفاف. فرع: فإذا ثبت ليس للولي أن يتزوجها بنفسه نظر، فإن كان في درجته من أوليائها أحد جاز له أن يتزوجها منه، وإن لم يكن لها إلا من هو أبعد منه لم تنتقل الولاية إلى البعيد، وزوجه الحاكم بها. وقال قتادة وعبيد الله بن الحسن: تنتقل الولاية إلى من هو أبعد فيزوجها منه وهذا خطأ؛ لأن ولايته لم تبطل بهذا القصد فلم ينتقل عنه إلى الأبعد، وصار بخطبتها كالعاضل فيزوجها الحاكم، فلو كان هذا الولي هو الحاكم لم يجز له أن يتزوجها بولاية النسب وعدل إلى الإمام أو إلى غيره من الحاكم حتى يزوجه بها، فلو كان هذا الولي هو الإمام الأعظم ففيه لأصحابنا وجهان: أحدهما: يجوز أن يتزوجها بنفسه لعموم ولايته وأن الحكام كلهم من قبله كما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم صفية بنفسه لهذا (المعنى).

والثاني: أن يتزوجها من حكام الوقت لولايتهم. وإن كانت منه فهم بخلاف وكلائه. ولأنه نائب عن كافة المسلمين في تقليد الحكام ونائب عن نفسه في تقليد الوكلاء، ألا تراه لو مات بطلت ولاية وكلائه وأن تبطل ولاية حكامه. ولذلك تحاكم عمر وأبي بن كعب إلى زيد وحاكم عليّ يهود إلى شريح. فرع: ولو أراد الولي أن يزوج وليته بابنه، كولي هو عم فأراد أن يزوج بنت أخيه بابنه، فإن كانت صغيرة لم يجز؛ لأن الصغيرة لا يزوجها غير أبيها أو جدها، وإن كانت كبيرة فاجتمع البذل والقبول من جهته فلم يصح أن يتزوجها لنفسه لحصول البذل والقبول منه من جهته، وإن كان ابنه كبيرًا ففي جواز تزويجه بها وجهان: أحدهما: يجوز لأنه وإن كان باذلاً فالقابل غيره وهو الابن فلم يجتمع البذل والقبول من جهة واحدة. والثاني: لا يجوز أن يزوجه بها؛ لأنه يميل بالطبع إلى طلب الحظ لأبنه دونها، كما لم يجز أن يتزوجها بنفسه لهذا المعنى. فأما الجد إذا أراد أن يزوج بنت ابنه بابن ابن له آخر، فإن كانا كبيرين جاز لاعتدال السببين في ميله إليهما وطلب الحظ لهما، وإن كانا صغيرين فعلى وجهين مضيا: أحدهما: يجوز لهذا المعنى. والثاني: لا يجوز لاجتماع البذل والقبول من جهته. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيَُ: "وَيُزَوِّجُ الأَبُ أَوْ الجَدُّ لابْنَتِهِ الَّتِي يُؤيَسُ مِنْ عَمَلِهَا؛ لأَنَّ لَهَا فِيهِ عَفَافًا وَغِنَى وَرُبَّمَا كَانَ شِفَاءُ سَوَاءَ كَانَتْ بِكْرًا أَوْ نَبْيَا". قال في الحاوي: وهذه المسألة قد مضت فيما قدمناه من التقسيم فإذا كانت مجنونة لم يخل حالها من أحد أمرين: إما أن تكون بكرًا أو ثيبًا، فإن كانت بكرًا زوجها أبوها أو جدها صغيرة كانت أو كبيرة؛ لأن للأب إجبار البكر في حال العقل، فكان أولى أن يجبرها في حال الجنون، فإن لم يكن لها أب ولا جد نظر، فإن كانت صغيرة لم يكن لأحد أوليائها ولا الحاكم أن يزوجها حتى تبلغ، فإذا بلغت زوجها الحاكم دون عصبتها المناسبين لاختصاصه بفضل النظر في الولاية على مالها، فإن كانت ثيبًا نظر، فإن كانت كبيرة زوجها أبوها أو جدها، فإن لم يكن لها أب ولا جد زوجها الحاكم دون سائر العصبات وإن كانت صغيرة ثيبًا فليس لغير الأب والجد تزويجها حتى تبلغ. وهل للأب والجد تزويجها قبل

البلوغ أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا يجوز حتى تبلغ لأنه لا حاجة بها إلى الزوج قبل البلوغ وهذا قول أبي علي بن أبي هريرة. والثاني: أنه يجوز تزويجها قبل البلوغ بخلاف العاقلة التي يرجى صحة إذنها بالبلوغ ولا يجري صحة إذن المجنونة بعد البلوغ فافترقا فأما قوله فإن لها فيه عفافًا وغنى وربما كان شفاء، فهذا تعليل بجواز تزويج البالغ المجنونة. فأما العفاف فيريد به من الزنا. وأما الغني فتغنى باكتساب المهر والنفقة وأما الشفاء فربما كان من شدة المانخوليا وقوة الشبق فتبرأ إن جومعت، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيَُ: "وَيُزَوِّجُ المَغْلُوبَ عَلَى عَقْلِهِ أَبُوهُ إِذَا كَانَتْ بِهِ إِلَى ذَلِكَ حَاجَةٌ، وابْنُهُ الصَّغِيرُ فَإِنْ كَانَ مَجْنُونًا أَوْ مَخْبُولاً كَانَ النّكَاحُ مَرْدُودًا لأًنَّهُ لاَ حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: لا يخلو حال الابن إذا أراد الأب أن يزوجه من أحد حالين: إما أن يكون عاقلًا أو مجنونًا، فإن كان عاقلاً لم يخل حاله من أن يكون بالغًا أو صغيرًا، فإن كان بالغًا فلا ولاية عليه للأب في نكاحه فإن زوجه بغير إذنه كان النكاح باطلاً، حتى يكون هو المتولي للعقد، أو الآذن فيه وإن كان صغيرًا جاز للأب تزويجه في صغره، فإن ابن عمر زوج ابنًا له وهو صغير، ولأنه محتاج إليه في الأغلب إذا بلغ فعجل الأب له بذلك ليألف صيانة الفرج، وربما رغب الناس فيه لكافلة الأب فإن زوجه واحدة لزمه نكاحها وليس له بعد البلوغ خيار، فإن أراد الفراق فبالطلاق، وإن أراد الأب تزويجه بأكثر من واحدة ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأن له في الواحدة غناء والثاني: وقد حكي عن الشافعي نصًا أنه يزوجه تمام أربع؛ لأن معنى الواحدة موجود فيهن، وإن كان الابن مجنونًا فله حالتان: صغير وكبير، فإن كان صغيرًا لم يكن للأب تزويجه لعدم حاجته باجتماع جنونه مع صغره. وإن كان للأب تزويج بنته الصغيرة المجنونة والفرق بينهما أن البنت قد تكتسب بالتزويج المهر والنفقة والابن ملتزمهما وإن كان الابن بالغًا فإن لم يكن به إلى التزويج حاجة لم يزوجه وإن كان محتاجًا وحاجته تكون من أحد وجهين: إما أن يرى متوثبًا على النساء لكثرة شهوته وقوة شبقه. وإما أن يحتاج إلى خادم وخدمه الزوجة أرفق به لفضل حنوها وكثرة شفقتها فيجوز له حينئٍذ تزويجه بواحدة لا

يزيده عليها؛ لأن له فيها غناء، فإن أفاق من جنونه كان النكاح على لزومه. فأما المعنى عليه فلا يجوز للأب تزويجه؛ لأن الإغماء مرض يرجى سرعة زواله بخلاف الجنون فأما الذي يجن في زمان ويفيق في زمان فليس للأب تزويجه لاسيما إن كان زمان إقامته أكثر. لأنه قد يقدر على العقد في زمان الإفاقة. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَيْسَ لأَبِ المَغْلُوبِ عَلَى عَقُلِهِ أَنْ يُخَالِعَ عَنْهَ ". قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا زوج الأب ابنه المجنون أو تزوج الابن وهو عاقل ثم جن فليس للأب أن يخالع عنه؛ لأن الخلع لا يتم إلا بالطلاق، والطلاق لا يقع إلا من الأزواج. روى ابن عباس أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني زوجت عبدي امرأة وأريد أن أطلقها منه، فقال: "ليس لك طلاقها، إنما الطلاق لمن أخذ بالساق؛ ولأن الطلاق إزالة ملك يقف على شهوات النفوس لا يراعى فيه الأصلح والأولى؛ لأنه قد يطلق العفيفة والجميلة ويملك الفاجرة القبيحة، فلم يجز أن يراعى فيه شهوة غير المالك؛ لأن تصرف الولي في حق غيره يعتبر فيه المصلحة دون الشهوة فلذلك لم يكن للولي أن يطلق على المولى عليه، وجاز أن يبيع ماله عليه اعتبارًا بالمصلحة فيه فافترقا. وإذا لم يكن للأب أن يطلق على ابنه الصغير أو المجنون فكذلك العبد لا يجوز أن يخالع عليه؛ لأنه معاونه على طلاق لا يصح منه، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلاَ يَضْربَ لامْرَأَتِهِ أَجَلَ العَنّينِ لأَنَّهَا إِنْ كَانَتْ ثَيْبًا فَالقَوْلُ قَوْلُهُ أَوْ بِكْرًا لَمْ يُعْقَلْ أَنْ يَدْفَعَهَا عَنْ نَفْسِهِ بِالقَوْلِ أَنَّهَا تَمْتَنِعُ مِنْهُ ". قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا ادعت امرأة المجنونة عليه العنة لم تسمع دعواها عليه؛ لأنه لا حكم لقوله ولا على وليه؛ لأن ثبوته يوجب حقًا على غيره؛ ولأن صدقها الولي على عنته جاز أن يضرب لها أجل العنة؛ لأنه لو كان عاقلاً جاز أن ينكرها، وهكذا لو كان الزوج عاقلاً فيضرب لها أجل العنة، ثم حين قبل انقضاء المدة لم يجز إذا انقضت المدة وهو على جنونه أن يخير في فسخ نكاحه، لأنه لو كان عاقلاً لجاز أن يدعي وطئها إن كان ثيبًا، ومنها إن كانت بكرًا، فيكون القول قوله في الحالين:

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلاَ يُخَالِعُ عَلَى المَعْتُوهَةِ وَلاَ يُبْرِئُ زَوْجََا مِنْ دِرْهٍَم مِنْ مَالِهَا ". قال في الحاوي: وهذا صحيح لا يجوز للأب أن يخالع عن بنته المجنونة، من مالها لأمرين: أحدهما: أنه مأمور بحفظ مالها وهذا استهلاك. والثاني: أنه مندوب إلى طلب الزيادة في كسبها لا إلى إسقاطه، وهذا يسقط نفقتها ومهرها إن لم يدخل بها، فأما إن خالع الأب عنها من مال نفسه جاز خلعه؛ لأنه لو خالع عن أجنبيه عاقلة بمال نفسه وهي غير عالمة ولا مريدة صح خلعه فعن بنته المجنونة أولى. فرع: مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلاَ يُبَرِّئُ زَوْجَهَا مِنْ دِرِهٍَم مِنْ مَالِهَا ". وهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون من غير الصداق فلا يجوز للأب أن يبرئ منه. والثاني: صداقًا. فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون قد دخل لها فلا يجوز للأب أن يبرئ منه لأنه كسائر أموالها. والثاني: أن لا يكون قد دخل بها فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون إلى الزوجين لم يطلق فلا يجوز للأب أن يبرئ منه. والثاني: أن يكون قد طلقت ففي جواز إبراء الأب منه قولان مبنيان على اختلاف قوليه في الذي بيده عقدة النكاح. أحدهما: وهو قوله في القديم- وبه قال مالك أنه الأب فعلى هذا يجوز للأب والجد دون غيرهما من الأولياء أن يبرأ من صداقها. والقول الثاني: قاله في الجديد. وبه قال أبو حنيفة: أنه الزوج فعلى هذا لا يجوز للأب والجد أن يبرئا منه كما لا يجوز لغيرهما من الأولياء أن يبرئا شيء من صداقها كما لم يجز لا أن يبرأ من غير الصداق من سائر أموالها. فأما الخلع على ظاهر قوله أنه لا يجوز وكان بعض أصحابنا يخرج من هذا القول وجهًا آخر أنه يجوز للأب أن يخالع عنها بصداقها لأنه لما جاز الإبراء منه على غير بدل كان جوازه على بدل أولى وهذا جمع فاسد والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: إن الإبراء مجوز بعد الطلاق وفي الخلع يكون مبرءًا منه قبل الطلاق.

والثاني: أن في الإبراء ترغيبًا للأزواج فيها وفي الخلع تزهيدًا فيها فاختلف المعنى فيهما فافترقا، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "فَإِنْ هَرَبَتْ وَامْتَنَعَتْ فَلاَ نَفَقَةَ لَهَا ". قال في الحاوي: وهذا صحيح. إذا هربت بالجنون من زوجها ومنعته من نفسها صارت ناشزًا وسقطت نفقتها؛ لأن النفقة عوض في مقابلة تمكين. فإذا لم يوجد التمكين الذي هو معوض بطل ما في مقابلته من النفقة التي عوض كالسلعة إذا بلغت في يد البائع بطل ما في مقابلتها من الثمن فإن قيل فالجنون عذر. وليست فيه عاصية فهلا كانت نفقتها مع تعذر الاستماع باقية كما لو مرضت أو صلت أو صامت؟ قيل: حقوق الأموال بين الآدميين تستوي في وجوبها سقوطها حكم المطيع والعاصي والمعزور وغير المعذور ألا نرى أن البائع لو تلفت السلعة في يده لجائحة سمائية فهو معذور مطيع وقد سقط ما في مقابلتها من الثمن كما لو استهلكها بنفس فصار عاصيًا غير معذور كما أن الزوجة لو سافرت في الحج سقطت نفقتها وإن كانت مطيعة كما لو هربت ناشزًا في معصية فكذلك حال المجنونة. فأما المريضة فهي غير ممتنعة منه وإنما المرض منعه منها كما يمنع الحيض. ولو منعته في المرض ما أمكن أن يستمتع به من المريضة في نظر وقبله ولمس وسقطت نفقتها فأما ما وجب من صلاة وصيام فالشرع قد استثنى زمانه من الاستمتاع كما أن زمان النوم مستثنى، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَلاَ إِيلاَءَ فِيهَا وَقِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ فِيهَا فِءْ أَوْ طَلِّقْ ". قال في الحاوي: أما قوله: "لا إيلاء عليه "فلم يرد أنه لا يصح منه الإيلاء فيهما؛ لأن الإيلاء يمين يصح من الزوج في العاقلة فصخت منه في المجنونة، وإنما أراد به أن لا يطالب بحكم إيلائه فيهما وإن صح إيلاؤه منهما، وإذا مضى على الزوج مدة الإيلاء أربعة أشهر وهي على جنونها أو آلي منها وهي عاقلة فانقضت مدة الإيلاء وقد جنت، فالحكم فيهما سواء، وليس للولي مطالبة الزوج بفيئه ولا طلاق؛ لأن المطالبة حق لها يرجع فيه إلى شهرتها في العفو عنه أو المطالبة به، ولا يصح منها مع الجنون مطالبة ولا للولي فيه مدخل فيطالب، لكن يقال للزوج: ينبغي لك وإن لم يجب عليك المطالبة بحقها إن تنقي الله تعالى فيا فتفئ أو تطلق ليكون خارجًا من حق الإيلاء أن لو كانت مطالبته حتى لا

تكون مرتهنًا بحق بقدر على الخروج منه قبل المطالبة به. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "فَإِنْ قَذَفَهَا أَوْ انْتَفي مِنْ وَلَدهَا قِيلَ لَهُ إِنْ أَرَدْتَّ أَنْ تَتْقِيِ وَلَدَهَا فَالتَعِنْ فَإِذا التَعَنَ وَقَعَتِ الفُرْقَةُ وَنُفِيَ عَنْهُ الوَلَدُ فَإِنْ أَكّذَبَ نَفْسَهُ لَحِقَ بهِ الوَلَدُ وَلَمْ يُعزَّزْ". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا قذف الرجل زوجته المجنونة بالزنا فلا حد عليه لقوله تعالى: {والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] والمحصنة الكاملة بالعقل والعفاف؛ ولأن حد القذف يجب للحوق المعرة بالمقذوفة، والمجنونة لا يلحقها بالزنا عار؛ لأنها لا تفرق بين القبيح والحسن ولا بين المباح والمحذور، ولأن حد القذف على القاذف في مقابلة حد الزنا على المقذوف والمجنونة لو ثبت زناها لم تحد فلم يجب على قاذفها حدّ فإن لم يرد الزوج أن يلاعن فلا يقال وإن أراد اللعن لم يخل حال زوجت المجنونة من أحد أمرين: إما أن تكون ذات ولد أو خلية من ولد. فإن كانت ذات ولد كان له أن يلاعن منها ليفي باللعان ولدها فإذا لاعن انتفي عنه الولد ووقعت الفرقة بينهما على التأييد وإن لم يكن لها ولد ففي جواز اللعان فيهما وجهان: أحدهما: يلاعن ليستفيد بلعانه تحريم التأييد. والثاني: وهو أصح أنه لا يجوز أن يلاعن؛ لأن معقود اللعان درأ الحد ونفي الولد الذي لا يقدر عليه بغير اللعان وقد عدم الولد وليس يجب عليه بقذفها حدّ فلم يجز أن يلاعن فلو عاد هذا الزوج بعد نفي الولد بلعانه فأكذب نفسه لحق به الولد ولم يزل التحريم المؤبد؛ لأن لحوق الولد حق عليه وزوال التحريم حق له ومن أقر بما عليه لزمه ومن أقر بمال لم يقبل منه. فأما تعزيره بعد رجوعه فقد قال الشافعي هاهنا: "لم يعزر "وقال في موضع آخر: "يعزر "وليس هذا على اختلاف قولين، وإنما التعزير على ضربين: أحدهما: تعزير قذف. والثاني: تعزير أدنى فأما تعزير القذف: فهو في قذف من لم تكمل حاله من المكلفين كالكفار والعبيد فلا يجب على المسلم الحر في قذفهم حد لكن يجب فيه التعزير بدلاً من الحدّ ويكون حقًا للمقذوف يرجع إلى خياره في استيفائه أو العفو عنه. وأما تعزير الأذى: فهو في قذف غير المكلفين من الصغار والمجانين فذا التعزير فيه لمكان الأذى يستوفيه الإمام إن رأى. ويكون الفرق بينه وبين تعزير القذف من وجهين: أحدهما: وجوب هذا وإباحة ذاك. والثاني: رد هذا إلى خيار المقذوف. ورد ذلك إلى الإمام، وإذا كان كذلك كان فول الشافعي هاهنا لم يعزر محمولاً على تعزير الأذى، والله أعلم.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَلَيْسَ لِهُ أَنْ يُزَوِّجَ ابْنَتَهُ الصَّبِيَّةَ عَبْدًا وَلاَ غَيْر كُفٍُؤ وَلاَ مَجْنُونًا وَلاَ مَخْبُوٌلا وَلاَ مَجْذُومًا وَلاَ أَبْرَصَ وَلاَ مَحْبُوبًا ". وهذا كما قال: على الأب إذا أراد أن يزوج بنته أن يطلب الحظ لها في اختيار الأزواج وإذا كان كذلك لم يكن له أن يزوج بنته الصغيرة عبدًا، ولا مدبرًا، ولا مكاتبًا ولا من فيه جزء من الرق وإن قل لنقصهم بالرق عن حال الأحرار ولا يزوجها مخبولاً والمخبول هو الزائل العقل كالمجنون إلا أن المجنون هو المجتد الذي لا يؤمن عداؤه والمخبول هو الساكن المأمون العدوى. ولا يزوجها مجذومًا، ولا أبرص؛ لأن النفس تعافهما وربما حدث منها عدوى إليها إلى الولد، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فروا من المجذوم فراركم من الأسد ". ولا يزوجها خصيًا ولا مجبويًا لنقصهما بالخصي والجب عن كمال الاستمتاع. فرع: فأما تزويج بنته الكبيرة بأحد هؤلاء؛ فإن كانت ثيبًا فيجب استئذانها، فإن استأذنها فيم وأعلمها بهم جاز، وإن كانت بكرًا لا يلزمه استئذانها، فإن لم يستأذنها فيهم لم يجز، وإن استأذنها فيهم فعلى وجهين: أحدهما: يجوز لأنه عن إذن كالثيب. والثاني: لأن استئذانها يجب وأشبهت الصغيرة. فرع: فإن زوج بنته بمن فيه أحد هذه العيوب. وكانت هي من ذوات هذه العيوب فعلى ضربين: أحدهما: أن يختلف عيبها أن يكون الزوج مجذومًا وهي برصاء، أو مجنونًا وهي رتقاء فلم يجز. والثاني: أن يتماثل عيبها فيكونا مجنونين أو أبرصين. فعلى وجهين: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة يجوز لتكافئهما. والثاني: وهو الأصح أنه لا يجوز لأن الإنسان قد يعاف من غيره مالا يعاف من نفسه. وقد يؤمن المجنون على نفسه ولا يؤمن على غيره. فإذا تقرر ما وصفنا وزوج بنته بمن لا يجوز أن يزوجها به من أصحاب هذه العيوب فهذا على ضربين:

أحدهما: أن يزوجها بهم علمًا بعيوبهم فالنكاح باطل؛ لأنه أقدم على عقد هو ممنوع منه. والثاني: أن يكون غير عابم بعيوبهم ونقصهم ففي العقد قولان: وأحدهما: باطل لما ذكرنا. والثاني: أن يكون غير عالم بعيوبهم ونقصهم ففي العقد قولان: أحدهما: باطل لما ذكرنا. والثاني: جائز ويستحق فيه خيار الفسخ؛ لأن شرار الوكيل ما يراه معيبًا بعد العقد لا يوجب فساد العقد ولكن يوجب الفسخ، فعلى ذا يجب على الأب فسخ العقد في الحال أو يكون موقوفًا على خيارها إذا بلغت. فيه وجهان: أحدهما: يجب عليه أن يفسخ ليستدرك بالفسخ ما كان ممنوعًا في وقت العقد. والثاني: أن يكون الفسخ موقوفًا على خيارها إذا بلغت فيه؛ لأن لا في العقد حقًا فلم يكن للأب تفويقته عليها بفسخه. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُكْرِهَ أَمَتَهُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤلاَءِ بِنِكَاحٍ ". قال في الحاوي: وهذا صحيح، للسيد أن يجبر أمته على النكاح ليكتسب بذلك المهر والنفقة ولا يجبر السيد على نكاحها إذا طلبت؛ لأنها فراش له، وإن كان للسيد إجبارها فليس له أن يكرهها على نكاح مجنون، ولا مجذوم، ولا أبرص، ولا مجبوب؛ لأنها تملك في حق النكاح حق الاستمتاع بدليل أن لها المطالبة بحق الإيلاء والعنة دون السيد واستمتاعها بمن ذكرنا من ذوي النقص والعيوب لا يكمل لنفور النفس عنهم، فمنع السيد من تزويجها بهم. فأما العبد فله تزويجها به وكذلك بمن لا يكافئ الحرة في حال أو نسب لكمال استمتاعها بهم مع كونهم أكفأها فإنه خالف السيد وزوجها بمن ذكرنا من ذوي النقص والعيوب ففي النكاح قولان على ما مضى: أحدهما: باطل. والثاني: جائز ويستحق فيه الفسخ. وفيه وجهان: أحدهما: على السيد أن يفسخ. والثاني: أنه مردود إلى خيارها فأما إذا أراد السيد بيعها على مجنون ومجذوم وأبرص ومجبوب فله ذاك وليس لها الامتناع. والفرق بين النكاح والبيع: أن المقصود النكاح الاستمتاع فأثر فيه ما منع منه ولذلك لم يصح نكاح من لا يحل الاستمتاع بها من

الأخوات والعمات. وليس المقصود في البيع إلا الملك دون الإستمتاع وكذلك جاز ملك من لا يحل من الخوات والعمات فجاز له بيعها على من لا يقدر على الإستمتاع بها كما يجوز ل بيعها على امرأة ولهذا المعنى قلنا في الأمة إن لها القسم في عقد النكاح على الزواج وليس لها في المال قسم على السيد. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَلاَ يُزَوِّجَ أَحَدٌ أَحَداٌ مِمَّنْ به إِحْدَى هَذِه العِلَلِ وَلاَ مَنْ لاَ يُطَاقُ جِمَاعُهَا وَلاَ أَمَةٌ لأَنَّهُ مِمَّنْ لاَ يَخَافُ العَنَتَ ". قال في الحاوي: وهذا كما قال، لما ذكر الشافعي منع الأب والسيد من تزويج بنته وأمته بما ذكرنا عيبه يمنع السيد أن يزوج ابنه وعبده بهم، فلا يجوز للأب أن يزوج ابنه الصغير بمجنونة ولا من به العيوب التي ذكرنا لتعذر استمتاعه بن وعدم الحظ له في نكاحهن وكذلك لا يزوجه بأمة يسترق ولده منها؛ لأنها لا تحل إلا لخوف العنت وهو مأمون في الصغير، فإن زوجه بواحدة من هؤلاء، ففي النكاح تولية على ما مضى: أحدهما: باطل. والثاني: جائز. وفي الفسخ وجهان: أحدهما: أن على الأب تعجيله. والثاني: أنه موقوف على اختيار الابن إذا بلغ. فصل: فأما العبد فهل للسيد إجباره على النكاح أم لا؟ على قولين: أحدهما: ليس له إجباره؛ لأنه من ملاذه وشهواته. والثاني: له إجباره كما يجبر أمته. ولمن قال بالأول: أن يفرق بين العبد والأمة بأن له في تزويج الأمة اكتساب المهر والنفقة، وعليه في تزويج العبد التزام المهر والنفقة، فافترقا. وإذا جوز له إجبار عبده على النكاح لم يكن له أن يكرهه على نكاح من بها أحد هذه العيوب لنفور النفس عنهم وتعذر استمتاعه بهن، وله أن يزوجه بالأمة لأنها تكافئه، وأنه لا يعتبر في نكاحه بها عيب ليس منه، وهل للأب والسيد إذا كان في ابنه وعبده أحد هذه العيوب أن يزوجه بمن يساويه في العيوب على ما مضى من الوجهين. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَُ اللهُ عَنْهُ: "وَيُنْكِحُ أَمَةَ المَرْأَةِ وَليُّهَا بِإِذْنِهَا ".

قال في الحاوي: وهذا كما قال، إذا كان للمرأة أمة لم يكن لها تزويج أمتها بنفسها حتى يأذن لوليها في تزويجها؛ لأنه لما لم يكن لها تزويج نفسها فأولى أن لا يكون لها تزويج أمتها، وجوزه أبو حنيفة بناء على أصله في أن لها تزويج نفسها، فجاز لها أن تزوج أمتها، وقد مضى الكلام معه. وإذا كان كذلك لم يخل حالهما من أحد أمرين: إما أن تكون بالغة، أو صغيرة فإن كانت أغنى هذه السيدة بالغة رشيدة لم يكن لأحد من أوليائها تزويج أمتها إلا بإذنها وسواء كانت السيدة بكرًا أو ثيبًا، سواء كان الولي أبًا أو عصبة ممن يجبرها على النكاح أم لا؛ لأن هذا تصرف في مالها وهي رشيدة لا يجوز التصرف في مالها بغير إذنها، فإذا أذنت لوليها الذي هو أحق الأولياء بنكاحها في تزويج أمتها جاز له تزويجها فإن لم يكن لها ولي مناسب زوجها الحاكم بإذنها ولا يراعى إذن الأمة مع إذن السيدة؛ لأن الأمة تخير على النكاح فلم يلزمه استئذانها فيه. فصل: فإن كانت السيدة صغيرة غير بالغة: لم يكن لأحد من أوليائها سواء الأب والجد تزويج أمتها، وفي جوازه للأب والجد وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي، وأبي سعيد الاصطخري يجوز لهما تزويجها كما يزوجان سيدتها مع ما فيه اكتساب المهر لها والنفقة. والثاني: أنه لا يجوز لهما عبد فأذنت له في التزويج فإن كان العبد صغيرًا لم يجز؛ لأن الصغير لم يجز؛ لأن الصغير يمنع من مباشرة العقد وفي المتولي لتزويجه وجهان: أحدهما: وليها في النكاح كالأمة. والثاني: من تأذن له من الناس؛ لأن ولي النكاح يراعي في الزوجة دون الزوج وإن كان العبد بالغًا فالصحيح أن له أن يتزوج بإذنها وحدها كالسيد. وفيه وجه آخر لبعض أصحابنا أنه لا يجوز أن يتزوج حتى بإذن له وليها فيجوز له باجتماع الإذنين أن يتزوج لأن إذن المرأة في النكاح لا يتم إلا بولي، وهذا خطأ، لأن العبد ممنوع من النكاح بحق الملك فاستوى إذن الملك والمالكة كسائر الأموال. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَُ اللهُ عَنْهُ: "وَأَمَةُ العَبْدِ المَاذُونِ لَهُ فِي التِّجَارَةِ مَمْنُوعَةٌ مِنَ السَّيِّدِ حَتَّى يَقْضِي دَيْناً إِنْ كَانَ عَلَيْهِ وَيُحْدِثَ لَهُ حَجْرًا ثُمَّ هِيَ أَمَتَهُ وَلَوْ أَرَادَ السَّيِّدُ أَنْ يُزَوِّجَهَا دُونَ العَبْد أَوْ العَبْدُ دُونَ السَّيِّدِ لَمْ يَكُنْ ذَبِكَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا ". قال في الحاوي: اعلم أن ما في يد العبد المأذون له في التجارة كالمرهون على ما في ذمته من ديون معاملاته لضعف ذمته بالرق، فصار ما في يده مستحقًا في ديونه ولو

اشترى أمه من مال التجارة لم يكن للعبد وطئها بحاٍل؛ لأن العبد لا يملكها فأما السيد إذا أراد وطئها فإن كان على دين من معاملاته، فالسيد ممنوع من وطئها لتعلق دينه بها، كما يمنع من وطء المرهونة لما يفضي إليه وطئها من الإحبال الذي ربما أدى إلى التلف، وكذلك يمنع من تزويجها لإفضائه غلى نقصان ثمنها، وسواء كان الدين الباقي من ثمنها أو من ثمن غيرها إلا أن يكون من قيمة متلف فتعلق برقبته ولا يتعلق بما في يده، فإنه قضى العبد جميع ديونه أو قضاها السيد عنه فهذا على ضربين: أحدهما: أن العبد السيد أن يعيد الحجر عليه، ويمنعه من التجارة فيجوز للسيد حينئذٍ أن يطأ الأمة التي استراها العبد، وأن يزوجها إن شاء، وليس للعبد أن يزوجها بغير إذن السيد، وهل يجوز ل تزويجها بإذنه أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا يجوز؛ لأن الرق يمنع من ولاية النكاح. والثاني: يجوز لأن الرق يمنع من استحقاق الولاية بنفسه، ولا يمنع من النيابة عن غيره كسائر العقود. والضرب الثاني: أن لا يعيد الحجر عليه بعد قضاء دينه ففي تزويج ووطء السيد لها وتزويجه إياها وجهان: أحدهما: وهو الأصح يجوز له لزوال ما تعلق بهم من حق. والثاني: لا يجوز وهو قول أبي علي بن أبي هريرة؛ لأنه لا يؤمن أن يغتر الناس بالإذن المتقدم فيعاملونه على ما في يده حتى يتعلق الحجر ويظهر الرجوع. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَُ اللهُ عَنْهُ: "وَلاَ ولاَيَةَ للْعَبَدِ بِحَاٍل وَلَو اجْتَمَعَا عَلَى تَزْويِجَهَا لَمْ يَجُزْ ". قال في الحاوي: وهذا صحيح، لا يملك العبد ولاية النكاح على أحد من مناسبين لنقصه بالرق. فإنه لا يملك ولاية نفسه فكان أولى أن لا يملك الولاية على غيره؛ وكذلك المدبر والمكاتب، ومن في جزء من الرق إن قل؛ لأن أحكام الرق عليهم جارية وتنتقل الولاية عنه إلى من هو أبعد منهم نسبًا من الأحرار، وهل يجوز أن يكون العبد من ذكرنا وكيلاً نائبًا في عقد النكاح أم لا؟ على ثلاثة أوجه: أحدها: يجوز أن يكون وكيلاً نائبًا على الولي في البذل ومن الزوج في القبول. وهذا قول أبي الطيب بن سلمة. والوجه الثاني: لا يجوز أن ينوب فيه عن الولي في البذل، ولا عن الزوج في القبول، وقد مضى تعليل هذين الوجهين.

والوجه الثالث: أنه لا يجوز ان ينوب فيه عن الولي في البذل ويجوز أن ينوب فيه عن الزوج في القبول؛ لأن النيابة من قبل الزوجة ولاية ومن قبل الزوج وكالة، والعبد لا يجوز أن يكون وليًا، ويجوز أن يكون وكيلاً فأما قول الشافعي: "ولو اجتمعا على تزوجها لم يجز "فيعني أن السيد والعبد لو اجتمعا على تزويج الأمة التي اشتراها العبد قبل قضاء دينه لم يجز وليس لاجتماع العبد مع سيده قوة ستحق بها السيد تزويج الأمة ما لا يستحقه بانفراده. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَُ اللهُ عَنْهُ: "فِي بَابِ الخيَارِ مِنْ النَّسَبِِ لَو انْتَسَبَ لَوِ انْتَسَبَ العَبْدُ لَهَا أَنَّهُ حُرُّ فَنَكَحَتْهُ وَقَدّ أَذِنَ لَهُ سَيِّدَهُ ثُمَّ عَلِمَتْ أَنَّهُ عَبْدٌ أّوْ انْتَسَبَ غِلَى نَسَبٍ وُجِدَ دُونَهُ وَهِيَ فَوْقَهُ فَفِيهَا قَولاَنِ: أحدهما: أَنَّ لَهَا الخِيَارَ لأَنَّهُ مَنْكُوحٌ بِعَيْنِهِ وّعُزِّرَ بَِشيء وُجِدَ دُونَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّ النَّكَاحَ مَفْسُوحُ كَمَا لَوْ أَذِنَتْ في رَجُلِ بِعَيْنِهِ فَزُجَتْ غَيْرُُ. قَالً المُزَنِيٌّ رَحِمَهُ اللهُ: قَدْ قَطَعَ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ دُونَ مَا انْتَسَبَ إلَيْهِ وَهُوَ كَفُوٌ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلاَ يُوَلِّيها الخِيَارُ وَفِي ذَلِكَ إِبْطَالُ أَنْ يَكُونُ فِي مَعْنَى مَنْ أذِنَتْ لَهُ فِي رَجُلٍ بِعَيْنِه فَزُوَّجِتْ غَيْرَهُ فَقَدْ بَطُلَ الفَسْخُ فِي قِيَاسِ قَوْلِهِ وَثَبَتَ لَهَا الخيَارَ ". قال في الحاوي: وصورتها في امرأة تزوجت رجلً على أنه حر فكان عبداً فإن نكح بغير إذن سيده فالنكاح باطل، وإن نكح سيدة نظر في الشرط، فإن لم يقترن بالعقد وتقدم عليه أو تأخر عنه فالنكاح جائز، وإن اقترن بالعقد ففي بطلان النكاح قولان: وهكذا لو تزوجت على أنه ذو نسب شريف كهاشمي، أو قرشي فكان غير ذي نسب أعجميًا أو نبطيًا، وكان الشرط متقاربًا للعقد ففي النكاح قولان، وهكذا لو تزوجه على أنه شاب فكان شيخًا، أو على أنه طويل فكان قصيرًا، أو على أنه جميل فكان قبيحًا، أو على أنه أبيض فكان أسود، أو على أنه غني فكان فقيرًا، ففي النكاح قولان. وهكذا لو نكحها على شرط أدنى فكان أعلى، مثل أن يتزوجها على أنه عبد فكان حرًا، أو على قبطي فكان عربيًا، أو على أنه شيخ فكان شابًا، أو على أنه قصير فكان طويلاً، أو على أنه قبيح فكان جميلاً. أو على ضد ما ذكرنا، ففي النكاح قولان، وحكم الشرط إذا وجد زائدًا عليه كحكمه إذا وجد ناقصًا عنه سواء كان اختلافهما في الحرية أو النسب أو في الصفة أو في عقد النكاح في هذه الأحوال كلها على قولين: أحدهما: أن النكاح باطل لأمرين: أحدهما: أن الصفة في عقد النكاح تجري مجرى العين في عقود المعاوضات لجواز الاقتصار عليها إن لم يشاهد العين. وإنه لا يجوز في عقود المعاوضات (الاقتصار)

على صفة العين حتى تشاهد تلك العين فاقتضى أن يكون خلاف الصفة في النكاح جار في إبطال النكاح مجرى خلاف العين في البيع في إبطال البيع. والثاني: أن إذن المرأة في نكاحه على هذه الصفة فتكون بخلافها فجرى مجرى إذنها لوليها أن يزوجها من هو على هذه الصفة فيزوجها من هو على خلافها. ولو كان هكذا لكان النكاح باطلًا، فكذلك في مسألتنا. والقول الثاني: وهو قول أبي حنيفة واختيار المزني - أن النكاح صحيح ووجهه شيئان: أحدهما: أنها صفات لا يفتقر صحة النكاح إلى ذكرها فوجب أن لا يبطل النكاح بخلافها كالصداق إذا وصف فكان بخلاف صفته. والثاني: أنه منكوح بعينه وعزر بشيء وجد دون قصار ذلك منه تدليسًا ينقص. وتدليس العيوب في العقود يوجب الخيار ولا يوجب الفسخ كالعيوب في البيع كذلك النكاح، والله أعلم. فصل: فإذا تقرر توجيه القولين، فإن قلنا بالأول، فإن النكاح باطل، فإن لم يكن الزوج قد دخل بها فرق بينهما ولا شيء عليه، وإن كان قد دخل بها فرق بينهما وعليه مهر مثلها لمكان الشبهة ولا حد عليه والولد لا حق به، وإن قلنا بالقول الثاني: إن النكاح جائز فكان قد شرطته حرًا فكان عبدًا فلها الخيار في فسخ نكاحه سواء كانت حرة أم أمة لنقصه في النكاح عن أحكام الحر، لأن استمتاعها به غير تام لخدمه سيده ونفقته نفقة معتبر لأجل رقه. فإن أقامت على نكاحه فلها المسمى. وإن نسخت ولم يدخل بها فلا مهر لها وإن دخل بها فعليه مهر المثل بالإصابة دون المسمى في العقد فهذا حكم غروره لها بالحرية. فأما إذا غرها بالنسبة فشرط لها أنه شريف النسب هاشمي، أو قرشي، فبان أنه أعجمي أو نبطي نظر في نسبهما، فإن كانت شريفة مثل النسب الذي شرطته فلها الخيار في فسخ نكاحه، ثم الكلام في المهر إن أقامت أو فسخت على ما مضى. وإن كان دون النسب الذي شرطته ومثل النسب الذي هي عليه أو دونه فهل لها الخيار في فسخ نكاحه أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لها الخيار لمكان الشرط وأن لها عوضًا في كون ولدها إذا نسب شريفًا. والثاني: لا خيار لها، لأن خيارها يثبت بدخول النقص عليها، وهذا كفء في النسب فلم يدخل عليها به نقص فلم يثبت لها فيه خيار. فأما إذا غرها بما سوى ذلك من الشروط نظر، فإن بان أنه على شرط فلا خيار لها، لأن الخيار إنما يستحق بالنقصان دون الزيادة وإن بان أنه أنقص مما شرط ففي خيارها وجهان:

أحدهما: لها الخيار لأجل الشرط. والثاني: لا خيار، لأن النقصان لا يمنع من مقصود العقد. قال الشافعي: "قد ظلم نفسه من شرط هذا" فاختلف أصحابنا في تأويله فقال: "من أسقط خيارها" معناه أنها ظلمت نفسها باشتراط ما لم يثبت لها في خيار، وقد كانت تستغني بالمشاهدة عن اشتراطه، وقال: "من أثبت خيارها" أنه محمول على الشروط الناقصة. وأنها ظلمت نفسها بما شرطته من نقصان أحواله وأوصافه. فصل: فأما إذا نكحت نكاحًا مطلقًا من غير شرط لكن اعتقدت فيه كمال الأحوال فبان بخلافها في نقصان الأحوال فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون نقصان أحواله غير كفء لها كأنها حرة وهو عبد، أو هاشمية وهو نبطي، أو غنية وهو فقير، فلها الخيار، لأن نكاح غير الكفء لا يلزم إلا بالعلم والرضا. والثاني: أن يكون مع نقصان أحواله كفؤًا لها فلا خيار لها في غير الرق، وهل الخيار في رقه إذا وحدته عبدًا أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا خيار لها، لأن كونه كفؤًا لها يمنع من دخول النقص والعار عليها. والثاني: لها لأن نقص الرق مؤتمر في حقوق النكاح بما لسيده من منعه منها بخدمته وإخراجه في سفره، وأنه لا يلزم لها إلا نفقة معسر فاقتضى أن يثبت لها الخيار في فسخ نكاحه، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو كانت هي التي غرته بنسب فوجدها دونه ففيها قولان: أحدهما إن شاء فسخ بلا مهر ولا متعة وإن كان بعد الإصابة فلها مهر مثلها ولا نفقة لها في العدة وإن كانت حاملًا. والثاني: لا خيار له إن كانت حرة لأن بيده طلاقها ولا يلزمه من العار ما يلزمها. قال المزني رحمه الله: قد جعل له الخيار إذا غرته فوجدها أمة كما جعل لها الخيار إذا غرها فوجدته عبدًا فجعل معناهما في الخيار بالغرور واحدًا ولم يلتف إلى أن الطلاق إليه ولا إلى أن لا عار فيها عليه وكما جعل لها الخيار بالغرور في نقص النسب عنها وجعله لها في العبد فقياسه أن يجعل له الخيار بالغرور في نقص النسب عنه كما جعله له في الأمة". قال في الحاوي: قد مضى غرور الزوج للمرأة، فأما غرور المرأة للزوج فهو أن يتزوجها على شرط فيكون بخلافه، فينقسم الشرط ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكون في الحرية.

والثاني: أن يكون في النسب. والثالث: أن يكون في الصفة في الحرية فهو أن يتزوجها على أنها حرة فتكون أمة، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون الزوج ممن لا يحل له نكاح الأمة بأن يكون وجد للطول أو غير خائف للعنت فالنكاح باطل، لأن نكاح الحر للأمة لا يجوز إلا بشرطين عدم الطول وخوف العنت. والضرب الثاني: أن يكون الزوج ممن لا يجوز له نكاح الأمة لوجود الشرطين فيه من عدم الطول، وخوف العنت فلها حالتان: أحدهما: أن تكون قد نكحته بغير إذن سيدها فالنكاح باطل. والثانية: أن تنكحه بإذن سيدها، فللشرط حالتان: إحداهما: أن يكون مقارنًا للعقد. والثاني: غير مقارن، فإن لم يقارن العقد بل تقدمه أو تأخر عنه فلا تأثير له والنكاح جائز. وإن اقترن بالعقد فلا يخلو الغار من أن يكون هو السيد أو غيره، فإن كان الغار هو السيد فقال الزوج عن عقده: هي حرة قد عتقت بقوله هذا وصار الزوج بهذا الغرور عاقدًا على حرة فصح نكاحها، وهي في جميع أحكامها كالحرة وإن كان الغار غير السيد فهي حينئذ مسألة الكتاب في الغرور باستكمال ما فصلنا من الشروط الأربعة: أحدهما: أن يكون الزوج ممن يجوز له نكاح الأمة. والثاني: أن تكون قد نكحت بإذن سيدها. والثالث: أن يكون الشرط مقارنًا بالعقد. والرابع: أن يكون الغار غير السيد فتكون في النكاح حينئذ قولان: أحدهما: باطل. والثاني: جائز. وتوجيههما ما قدمناه من غرور الزوج للزوجة. فصل: فإذا قلنا ببطلان النكاح، فإن لم يدخل بها الزوج فرق بينهما ولا مهر عليه ولا عدة عليها. ولا يكون للعقد تأثير في لزوم شيء من الأحكام. وإن دخل الزوج بها فرق بينهما لفساد العقد. ولها حالتان: أحداهما: أن يكون قد أحبلها. والثاني: أن تكون حائلًا لم تحبل فإن لم يكن قد أحبلها تعلق بدخوله بها حكمان: أحدهما: أن عليه للسيد مهر مثلها بالإصابة دون المسمى، لأن فساد العقد يمنع من استحقاق ما سمي فيه فصار مستهلكًا لشبهه فلزمه مهر المثل. والثاني: وجوب العدة عليها، لأنها إصابة توجب لحوق النسب فأوجبت العدة ولا

نفقة لها في زمان العدة لارتفاع العقد الذي تستحق به النفقة فإذا غرم الزوج بالإصابة مهر المثل فهل يرجع به على من غره أم لا؟ على قولين: أحدهما: وهو قوله في القديم يرجع به على الغار، لأنه ألجأه إلى غرمه فصار كالشاهدة إذا أوجب بشهادته غرامًا ثم رجع عنها لزمه غرام ما أغرم. والقول الثاني: لا يرجع به على الغار، لأنه في مقابلة استمتاعه الذي لا ينفك عن غرم إما المسمى إن صح العقد أو مهر المثل إن فسد. فإذا قلنا لا رجوع للزوج بالمهر على من غره تفرد بإلزامه للسيد. وإن قلنا: يرجع به على غره ولم يرجع به قبل غرمه لجواز أن يبرئه السيد منه. فإن أبرأه منه لم يرجع به كالضامن إذا أبرئ من الضمان لم يرجع على المضمون عنه بشيء وإن أغرمه السيد المهر رجع به للزوج حينئذ على من غره ومن يؤثر غروره اثنان: الأمة ووكيل السيد، لأن السيد لو غرّه لعتقت وإن غرّه أجنبي لم يكن لقوله في العقد تأثير فإن كانت الأمة هي الغارة كان الغرم في ذمتها إذا أعتقت وأسرت إذنه وإن كان الوكيل هو الغار أغرم في الحال إن كان موسرًا وأنظر به إلى وقت يساره إن كان معسرًا فأما إن كان قد أحبلها ففي وجوب النفقة لها مدة حملها قولان: أحدهما: لها النفقة إذا قيل: إن نفقة الحامل لحملها لا لها. والثاني: لا نفقة لها إذا قيل: إن نفقة الحامل لها لا لحملها. فإذا وضعت تعلق بمولدها ثلاثة أحكام: أحدها: لحوقه بالزوج لشبهة العقد. والثاني: كونه حرًا من حين علوقه. لأن اشتراط حريتها يتضمن حرية والدها، لأن الحرة لا تلد إلا حرًا. والثالث: أن تغرم للسيد قيمة ولدها يوم وضعته، لأن ولد الأمة مملوكًا لسيدها وقد صار الزوج مستهلكًا لرقه بما يحدث من عتقه فلزمه غرام قيمته واعتبرناها يوم وضعه. فإن كان قد عتق وقت عتوقه، لأنه لا يقوم إلا بعد الوضع فإذا غرم الزوج قيمة الولد رجع بها على من غره قولًا واحدًا. وإن كان في رجوعه بالمهر قولان: والفرق بينهما: أن المهر بالأمة على أحد القولين. وليس كذلك قيمة الولد، لأنه لا يستحق إلا في ولد الأمة دون الحرة فصار الغرور هو الموجب لغرمه فلذلك رجع به على من غرّه قولًا واحدًا فصار وطئها وإحبالها موجبًا لخمسة أحكام: أحدهما: مهر المثل. والثاني: العدة. والثالث: لحوق الولد. والرابع: حريته. والخامس: غرم قيمته. فهذا إذا قيل ببطلان النكاح.

فصل: فأما إذا قلنا بصحة النكاح على القول الثاني. فهل للزوج فيه خيار الفسخ أم لا؟ على قولين حكاهما المزني ولم يحك القولين في أصل النكاح بل اكتفي بما حكاه في غرور النكاح: أحدهما: لا خيار له بالغرور وإن ثبت للزوجة بالغرور، لأنه ليقدر على طلاقها ولا يلحق من الغار ما يلحقها. والثاني: له الخيار لأحد علتين. إحداهما: أن ما أوجب للزوجة خيار الفسخ أوجبه للزوج لعيوب الجنون والجذام والبرص وإن كان الطلاق بيده فكذلك في الغرور. والعلة الثانية: ما يدخل عليه من نقص استرقاق ولده ونقصان استمتاعه فإذا قلنا له الخيار في الفسخ فاختار الفسخ كان حكمه بعد الفسخ على ما ذكرنا وإذا قيل بفساد العقد في أنه لم يدخل بها فلا شيء عليه وإن دخل بها ولم يحبلها تعلق بدخوله حكمان: مهر المثل والعدة. وإن أحبلها تعلق بأحباله لها مع حكمي الدخول ثلاثة أحكام: لحوق الولد وحريته وغرم قيمته ويرجع بما غرمه من قيمته وفي رجوعه غرمه من المهر قولان. وإن أقام على النكاح ولم يختر الفسخ وقلنا: ليس له خيار فالحكم فيه ما سواء. ولها المهر المسمى في العقد. ويكون أولاده الذين علقت بهم قبل علمه برقها أحرارًا، وعليه قيمتهم ومن علقت بهم بعد علمه برقها مماليك للسيد إن لم يكن الزوج عربيًا وإن كان عربيًا فعلى قولين: أحدهما: وهو قوله في القديم: يكونوا أحرارًا وعليه قيمتهم. ومن علقت بهم بعد علمه برقها مماليك للسيد، لأن لا يجري على عربي صغار الرق أعظم صغار. والثاني: يكونون مماليكًا للسيد، لأن حكم الله تعالى في الجميع واحد وتميز من علقت به قبل العلم برقها معتبر بمدة الوضع فمن وضعته لأقل من ستة أشهر من وقت علمه فالعلوق به قبل العلم فيكون حرًا. ومن وضعته لستة أشهر فصاعدًا فالعلوق به في الظاهر بعد العلم اعتبارًا بأقل الحمل فيكون مملوكًا على ما ذكرنا فهذا حكم القسم الأول وهو غرور الزوج بالحرية. فصل: وأما القسم الثاني: وهو غرور الزوج بالنسب فهو أن يتزوجها على أنها هاشمية فتكون عربية. أو أنها عربية فتكون نبطية أو أعجمية. ففي النكاح قولان على ما مضي: أحدهما: باطل. والثاني: جائز فإن قيل ببطلان النكاح إن لم يدخل بها فرق بينهما ولا شيء عليه، ولا يكون للعقد تأثير. وإن كان قد دخل بها فعليه مهر المثل دون المسمى، وهل يرجع به

على من غرّه أم لا؟ على قولين: أحدهما: يرجع به لأنه في مقابلة استمتاعه. والثاني: يرجع به على من غرّه وهو أحد ثلاثة: إما الولي، أو وكيله، أو الزوجة، فإن كان الولي أو وكيله هو الغار رجع عليه بعد الغرم لجميع المهر. وإن كانت الزوجة هي الغارة ففيه وجهان: أحدهما: يرجع عليهما بجميعه أيضًا كما يرجع على الوالي والوكيل. والثاني: أن يترك عليها منه يسيرًا وأقله ما يجوز أن يكون مهرًا. ويرجع عليها بباقية لئلا يصير مستبيحًا لبضعها بغير بذل. وإذا كان كذلك فإن كان قد رجع المهر إليهما رجع عليها بجميعه على الوجه الأول وترك عليهما منه قدر أقل المهور على الوجه الثاني. وإن كان مع دفع المهر إليها فلا معنى لأن يدفع المهر إليها ثم يسترجعه فلا يدفع إليها على الوجه الأول شيئًا ويدفع إليها على الوجه الثاني قدر أقل المهور. وسواء في إصابة هذه الغارة أن يكون قد أحبلها أو لم يحبلها في أن ولدها إذا ألحق به لم يلزمه غرم، لأنه لم يجر عليه رق. فصل: وإن قيل أن النكاح صحيح نظر في نسب الزوج فإن كان مثل نسبها الذي ظهر لها فلا خيار في الفسخ، لأنه لا عار عليه ولا معرة تلحقه وإن كان كالنسب الذي شرطه وأعلا من النسب الذي ظهر لها فخياره في فسخه معتبر بخياره في غروره بالرق به وبالحرية وتعليل استحقاقه فإن قيل: لا خيار له إذا كان مغرورًا بالحرية فأولى أن لا يكون له الخيار إذا كان مغرورًا بالنسب. وإن قيل: له الخيار إذا كان مغرورًا بالحرية فهل له الخيار إذا كان مغرورًا بالنسب معتبر باختلاف العلة إذا كان مغرورًا بالنسب معتبر باختلاف العلة إذا كان مغرورًا بالحرية فإن قيل: إن العلة في خياره إذا غر بالحرية أن يثبت له خيار الفسخ مثل ما ثبت للزوجة فله في غرور النسب خيار الفسخ كما كان للزوجة. وإن قيل: إن الغلة في الغرور بالحرية دخول النقص عليه في استرقاق ولده ونقصان استمتاعه فلا خيار له في الغرور بالنسب، لأنه لا يدخل عليه نقص في الاستمتاع ولا في الولد، لأن ولده يرجع إليه في نسبه لا إليهما، لأن ولد العربي من الأعجمية عربي. وولد العجمي من العربية عجمي. وفي كشف هذا التعليل ومحل الجواب عليه في استحقاق الخيار مقنع لما أورده المزني. فأما إذا غرّته بنسب فوجده أعلى منه نظر فإن شرطت أنها عربية فكانت هاشمية فالنكاح جائز ولا خيار، لأن الهاشمية عربية وإن ازدادت شرفًا فلم تكن الصفة المشروطة مخالفة، وإن شرطت أنها نبطية أو عجمية فكانت هاشمية أو عربية فالصفة مخالفة للشرط فيكون النكاح على قولين: أحدهما: باطل. والثاني: جائز فلا خيار له.

فصل: وأما القسم الثالث: وهو غرور الزوج بالصفة فهو أن يتزوجها على أنها بكر فتكون ثيبًا أو على أنها شابة فتكون عجوزًا أو على أنها جميلة فتكون قبيحة إلى ما جرى هذا المجرى من الصفات ففي النكاح قولان: أحدهما: باطل، وإن لم يدخل بها فلا شيء عليه وإن دخل بها فعليه مهر مثلها وفي رجوعه به من غرّه قولان على ما معنى في غرور النسب من اعتبار حال من غرّه. والثاني: أن النكاح صحيح فعلى هذا يكون خياره في غرورها معتبر بخيارها في غروره وفي خيارها لو غرها الزوج في هذه الصفات وجهان: أحدهما: لا خيار لها فعلى هذا أولى أن يكون لها خيار. والثاني: لها الخيار فعلى هذا يكون معتبرًا بخياره إذا كان مغرورًا بالحرية وفيه قولان: أحدهما: لا خيار له فيه. فعلى أولى أن لا يكون له خيار إذا غرّ بهذه الصفات. والثاني: له الخيار فعلى هذا يكون معتبرًا بعلة الخيار في هذا القول. فإن قيل: إنها في مقابلة خيار الزوجة فله الخيار في نقصان هذه الصفات كما كان للزوجة على هذا الوجه. وإن قيل: إنها تدخل النقص عليه في رق الولد ونقصان الاستمتاع فلا خيار له هاهنا لعدم النقص فيهما. فأما إذا تزوجها على شرط فكانت أعلى منه مثل أن يتزوجها على أنها ثيب فتكون بكرًا. أو على أنها عجوز فتكون شابة أو على أنها قصيرة فتكون طويلة. أو أنها قبيحة جميلة. وما شاء كل هذه الصفات ففي النكاح أيضًا قولان: أحدهما: باطل. والثاني: جائز ولا خيار له. فصل: فأما إذا تزوجها بغير شرط فظنها على صفة فكانت بخلافها فالنكاح صحيح فيما سوى الرق والكفر ولا خيار فيه للزوج فيها سوى عيوب الفسخ من الجنون والجذام والبرص والرتق والقرن والكفر وهو أن يتزوجها ويظن أنها حرة فتكون أمة ويظنها مسلمة فتكون كافرة فإن كان مما لا يحل له نكاح الأمة، لأنه واجد للطول أو غير خائف للعنت أو كانت ممن لا تحل لمسلم كالوثنية. فالنكاح باطل في الأمة الكافرة لتحريمها عليه وإن كان يحل ممن له نكاح الأمة لعدم الطول وخوف العنت ويحل له نكاح هذه الكافرة ولأنها كتابية فالنكاح جائز قولًا واحدًا. لأنه لم يشترط وصفًا فوجد خلافه. فأما الخيار فقد قال الشافعي في نكاح الأمة: إنه لا خيار في فسخه. وقال في نكاح الكتابية أن له الخيار في فسخه فاختلف أصحابنا على طريقتين: أحدهما: نقل جواب كل واحد من المسألتين إلى الأخرى وتخريجهما على قولين

باب المرأة لا تلي عقدة النكاح

أحدهما: لا خيار له في فسخ الأمة والكتابية على ما نص عليه، لأن الكتابية أحسن حالًا من الأمة التي يسترق ولدها. والقول الثاني: أن له الخيار في فسخ النكاح الأمة والكتابية على ما نص عليه في الكتابية، لأن الأمة أغلظ حالًا باسترقاق ولدها. والطريقة الثانية: لأصحابنا إن حملوا جواب كل واحدة من المسألتين على ظاهره فلم يجعلوا له في نكاح الأمة خيارًا وجعلوا له في نكاح الكتابية خيارًا وفرقوا بينهما بأن لأهل الذمة غيارًا يميزون به عن المسلمين فإذا خالفوا صار غرورًا فثبت الخيار في نكاحهم وليس للمملوكين خيار يتميزون به فلزمهم غرور يثبت به الخيار في مناكحهم، والله أعلم. باب المرأة لا تلي عقدة النكاح قال الشافعي رحمه الله: "قال بعض الناس زوجت عائشة ابنة عبد الرحمن بن أبي بكر وهو غائب بالشام فقال عبد الرحمن: أمثلي يفتات عليه بناته؟ قال: فهذا يدل على أنها زوجتها بغير أمره. قيل: فكيف يكون أن عبد الرحمن وكل عائشة بفضل نظرها إن حدث حدث أو رأت في مغيبة لابنته حظًا أن تزوجها احتياطًا ولم ير أنها تأمر بتزويجها إلا بعد مؤامرته ولكن تواطئ وتكتب إليه فلما فعلت قال: هذا وإن كنت قد فوضت إليك فقد كان ينبغي أن لا تفتاتي علي وقد يجوز أن يقول زوجي أي وكلي من يزوج فوكلت. قال: فليس لها هذا في الخبر، قيل: لا ولكن لا يشبه غيره لأنها روت أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل النكاح بغير ولي باطلًا أو كان يجوز لها أن تزوج بكرًا وأبوها غائب دون أخواتها أو السلطان. قال المزني رحمه الله: معنى تأويله فيما روت عائشة عندي غلط وذلك أنه لا يجوز عنده إنكاح المرأة ووكيلها مثلها فكيف يعقل بأن توكل وهي عنده لا يجوز إنكاحها ولو قال أنه أمر من ينفذ رأي عائشة فأمرته فأنكح خرج كلامه صحيحًا لأن التوكيل للأب حينئذ والطاعة لعائشة فيصح وجه الخبر على تأويله الذي يجوز عندي لا أن الوكيل وكيل لعائشة رضي الله عنها ولكنه وكيل له فهذا تأويله". قال في الحاوي: وقد مضى الكلام في أن النكاح لا يصح إلا بولي ذكر، وأن المرأة لا يجوز أن تعقد نكاح نفسها، فكذلك لا يجوز أن تلي نكاح غيرها لا بولاية ولا بوكالة، ولا يصح فيه بذلك ولا قبول. وقال أبو حنيفة: يجوز أن يتولاه لنفسها ولغيرها نيابة ووكالة تكون فيه باذل أو قابله. فأما نكاح نفسها قد مضى الكلام معه فيه وأما نكاح غيرها نيابة. ووكالة فاستدل على جواز أن تتوكل فيه وتباشر غيره بما روي أن عائشة زوجت بنت أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر وكان غائبًا بالشام بمنذر بن الزبير فلما قدم. قال: أمثلي يفتات عليه في بناته؟

وأمضى النكاح. قال: ولأنه عقد معاوضة فجاز أن تتولاه المرأة كالبيع. ولأنه قد يستاح به البضع فصح أن تباشره المرأة قياسًا على شراء الأمة، ولأنه عقد على منفعته فجاز اشتراك الرجال والنساء فيه كالإجازة. ودليلنا رواية أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تنكح المرأة المرأة ولا تنكح المرأة نفسها". وهذا نص. وروى عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن عائشة كان إذا هوى فتى من بني أخيها فتاة من بنات أخيها أرسلت سرًا وقعدت من ورائه وتشهدت حتى إذا لم يبق إلا النكاح قالت: يا فلان انكح وليتك فلانة فإن النساء لا ينكحن، وهذا أمر منتشر في الصحابة لا يعرف فيه مخالف، ولأن تصرف المرأة في حق نفسها أقوى من تصرفها في حق غيرها، وقد دللنا على أنه لا ولاية لها في حق نفسها، فأولى أن لا يكون لها ولاية في حق غيرها، ولأن كل عقد لم يجز أن تعقده المرأة لنفسها لم يجز أن تعقده لغيرها كعقد الإمامة. فأما الجواب عن حديث عائشة فهو أنه لا يمكن استعماله على ظاهره من أربعة أوجه: أحدها: أنها لو زوجتها بولاية النسب لكان بالمنكوحة من هو أحق بالولاية منها من إخوة وأعمام، لأن عبد الرحمن قد كان له إخوة وأولادهم أحق بنكاحها من عائشة التي هي أخته وعمه المنكوحة. والثاني: أنه لو زوجتها بوكالة أبيها عبد الرحمن لما أفتات عليه في بناته. والثالث: أنها هي الراوية عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" وهي لا تخالف ما روته. والرابع: أنها كانت إذا خطبت في المناكح قالت: "يا فلان انكح وليتك فإن النساء لا ينكحن" وإذا لم يكن حمله على ظاهره من هذه الوجوه الأربع وجب حمله على ما يمكن فيحمل على أحد ثلاثة أوجه: أحدها: أن عبد الرحمن يجوز أن يكون قد وكل عن نفسه من يقوم بتزويج بنته وأمره أن يرجع إلى رأي عائشة في اختيار من يزوجها به فأشارت عليه عائشة بتزويج منذر بن الزبير. فإن قيل: فلما أنكر وقد وكل؟ قيل: لأن منذرًا قد كان خطب إليه فكرهه لعجب ذكره فيه، فأحبت عائشة مع ما عرفته من فضل منذ أنه يصل الرحم وتزوج بنت أخيها بابن أختها، لأن منذر بن الزبير أمه أسماء بنت أبي بكر. والثاني: أنه لا يجوز أن تكون عائشة حين اختارت منذرًا سألت السلطان أن

باب الكلام الذي ينعقد به النكاح والخطبة قبل العقد

يزوجها، لأن عبد الرحمن بغيبته لا تزول ولايته وينوب السلطان عنه عندنا. وعند أبي حنيفة وينوب عنه من بعده من الأولياء وعند مالك فكرة عبد الرحمن أن لم يستأذن فيه ويطالع به ويكون إضافة العقد إلى عائشة. وإن لم تكن العاقدة لمكان اختيارها وسفارتها كما يضاف العقد إلى السفير بين الزوجين فيقال فلانة الدلالة قد زوجت فلانًا لفلانة وإن لم تكن قد باشرت العقد وتولته. والثالث: أنه يجوز أن يكون عبد الرحمن وكل عائشة في أن توكل عنه من يزوج بنته فوكلت عائشة عن عبد الرحمن حين استقر رأيها على تزويج منذر من زوجها عنه فكان الوكيل المتولي للعقد وكيلًا لعبد الرحمن لا لعائشة كما توهم المزني فقال: إذا لم يكن لها أن تزوج فوكيلها بمثابتها لا يجوز له أن يزوج وهي لم توكل عن نفسها وإنما وكلت عن أخيها، وإنما يجوز أن تكون المرأة في توكيل من يزوج عن الموكل. وأما الجواب عن الأقيسة الثلاث في البيع والإجازة وشراء الأمة، فهو أنها عقود لا تفتقر إلى ولاية فجاز أن تتولاها المرأة بخلاف النكاح، والله أعلم. باب الكلام الذي ينعقد به النكاح والخطبة قبل العقد قال: الشافعي رحمه الله: "أسمى الله تبارك وتعالى النكاح في كتابه باسمين: النكاح والتزويج ودلت السنة على أن الطلاق يقع بما يشبه الطلاق ولم نجد في كتاب ولا سنة إحلال نكاح إلا بنكاح أو تزويج والهبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم مجمع أن ينعقد له بها النكاح بأن تهب نفسها له بلا مهر. وفي هذا دلالة على أنه لا يجوز النكاح إلا باسم التزويج أو النكاح". قال في الحاوي: وهذا كما قال، النكاح لا ينعقد إلا بصريح اللفظ دون كتابته، وصريحه لفظان: زوجتك وأنكحتك، فلا ينعقد النكاح إلا بهما سواء ذكر فيه مهرًا أو لم يذكر. وقال أبو حنيفة: ينعقد النكاح بالكتابة كانعقاده الصريح، فيجوز انعقاده بلفظ البيع والهبة والتمليك ولم يجزه بالإباحة. واختلف الرواة عنه في جوازه بلفظ الإجازة، وسواء ذكر المهر أو لم يذكره. وقال مالك: إن ذكر مع هذه الكتابات المهر صح، وإن لم يذكره لم يصح، فاستدلوا على انعقاد النكاح بالكتابة برواية معمر عن أبي حازم بن سهل بن سعد الساعدي: أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فوهبت له نفسها فصمت، ثم عرضت نفسها عليه وهو صامت فقال رجل أحسبه قال: من الأنصار فقال: يا رسول الله إن لم يكن لك بها حاجة فزوجينها؟ فقال: "لك شيء"؟ قال: لا والله يا رسول الله، قال: "اذهب فالتمس شيئًا ولو خاتم من حديد". فذهب ثم رجع فقال: والله ما وجدت شيئًا إلا ثوبي هذا، أشقه بيني وبينها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "عليك ما في ثوبك فضل عنك، فهل تقرأ

من القرآن شيئًا"؟ فقال: نعم. قال: ماذا: قال: سورة كذا وكذا قال: "أملكتاكها بما معك في القرآن" قال: فلقد رأيته يمضي وهي تتبعه فدل صريح هذا الحديث على أن انعقاد النكاح بلفظ التمليك وصار حكم الكناية في انعقاده كالصريح، ولأنه عقد يقصد به التمليك فجاز أن ينعقد بلفظ التمليك كالبيع، ولأنه عقد يستباح به البضع فجاز أن يستفاد بلفظ الهبة كتمليك الإماء، ولأن ما انعقد به نكاح النبي صلى الله عليه وسلم انعقد به نكاح أمته كالنكاح، ولأن أحدى طرفي النكاح فجاز أن يستفاد بالصريح والكناية كالطلاق، ولأنه ينعقد بالعجمية، لأنها في معنى العربية فدل على أن المقصود ف العقد معنى اللفظ دون اللفظ والتمليك في معنى النكاح فصح به العقد كالنكاح، ودليلنا قوله تعالى: {وامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إن وهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ} [الأحزاب:50] فجعل الله تعالى النكاح بلفظ الهبة خالصة لرسوله دون أمته. فإن قيل: فالآية تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد يجعلها الله له خالصة من دون المؤمنين، وليس في الآية أمر من الله تعالى ولا إذن فيه فلم يكن في مجرد الطلب دليل على الإباحة. قيل: قد اختلف الناس هل كان عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها منه؟ فذهب جمهورهم إلى أنه قد كان عند امرأة وهبت نفسها له واختلفوا فيه على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها أم شريك قاله عمرو بن الزبير. والثاني: أنها خولة بنت حكيم قالته عائشة. والثالث: أنها زينب بنت خزيمة أم المساكين، قاله الشعبي. فعلى هذا لو لم يكن في الآية دليل على الإباحة إلى ما شاء له من التخصيص لكان فعله دليلًا عليه. وقال آخرون: لم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وتأويل من قرأ بالكسر "إن وهبت" محمول على المستقبل، ومن قال بالأول فهو بقراءة من قرأ بالفتح: "أن وهبت" على الماضي وتأويله على هذا أن يكون سياق الآية دليلًا على التخصيص، لأن قوله: {وامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إن وهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] حكاية للحال قوله: {إنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا} إخبار عن حكم الله، ثم قال: {خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المُؤْمِنِينَ} مواجهة من الله تعالى له بالحكمة من غير أن يكون من رسوله طلب، فلم يجز أن يكون محمولًا إلا على ابتداء الحكم وبيان التخصيص. فإن قيل: إنما خص بسقوط المهر ليكون اختصاصه به مقيدًا ولم يخص أن يعقد بلفظ الهبة، لأن اختصاصه بل غير مفيد قيل: بل هو محمول على اختصاصه بالأمرين اعتبارًا بعموم الآية وليكون اختصاصه بحكم غيره بهذا اللفظ لتعدي حكمه إلى غيره فيبطل التخصيص، ويدل على ما ذكرنا من طريق السنة ما رواه أبو شيبة عن الحكم عن مقسم عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع: "إن النساء عوان عندكم

لا يملكن من أمورهن شيئًا إنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكتاب الله. ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف، ولكن عليهن أن لا يوطئهن فراشكم أحدًا وأن لا يأذن في بيوتكم لأحد تكرهونه فإن فعلن من ذلك شيئًا فقد حل لكن أن تضربوهن ضربًا غير مبرح. ألا هل بلغت قالوا: اللهم نعم قال: اللهم فاشهد". فموضع الدليل من هذا الحديث قوله: "واستحللتم فروجهن بكتاب الله". وليس في كتاب الله إلا لفظ النكاح والتزويج فدل على أنه لم يستحل الفروج إلا بهما، ويدل عليه من القياس: أنه عقد منفعة لم ينعقد بلفظ كالإجارة، ولأنه عقد معاوضة فلك ينعقد بلفظ الهبة كالبيع، ولأن لفظ الهبة موضوع لعقد لا يتم إلا بالقبض فلم ينعقد به النكاح كالرهن، ولأنه أحد طرفي العقد فلم يصح بلفظ الهبة كالطلاق، ولأن ما كان صريحًا في عقد لم يكن صريحًا في غيره كالإجارة والبيع، ولأن ما لم يكن صريحًا في النكاح لم ينعقد به النكاح كالإباحة والإحلال، ولأنه هبة المنافع إن لم يكن معها عوض فهي كالعارية، وإن كان معها عوض جرت مجرى الإجارة عندهم، والنكاح لا ينعقد بالعارية، والإجارة، فكذلك بما اقتضاهما من الهبة، ولأن الحقيقة في عقد لو صارت حقيقة في غيره لبطلت حقائق العقود، لأن لفظ الكتابة يقوم مقام التصريح بالنية وهي مما لا يعلمها الشهود ينافيان النكاح بدليل أن من تزوج أمة، ثم ابتاعها أو استوهبها بطل نكاحها وما نافي النكاح لم ينعقد به النكاح كالطلاق ولأنه لفظ يوضع لإسقاط ما في الذمم فلم ينعقد به كالإبراء. ولأنه لو انعقد النكاح بلفظ البيع لانعقد البيع بلفظ النكاح وفي امتناع هذا إجماعًا وامتناع ذلك حجاجًا. فأما الجواب عن قوله: "قد ملكتها بما معك من القرآن". فهو أن أبا بكر النيسابوري قال: وهم فيه معمر فإنه ما روي "قد ملكتها" إلا معمر عن أبي حازم. وقد روى مالك، وسفيان عن عيينة، وحماد بن زيد، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وفضيل بن سليمان، عن أبي حازم، عن سهل بن سعد، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "زوجتكها بما معك من القرآن" وهذه الرواية أثبت لكثرة عدد الرواة، وأنهم خمسة علماء، ثم تستعمل الروايتين فتحمل رواية من روى: "قد زوجتكها" في حال العقد ومن روى: "قد ملكتها" على الإخبار بعقد عما ملكه بالعقد. وأما الجواب عن قياسهم على أحكام البيع بأنه عقد يقصد به التمليك فهو أن لأصحابنا في عقد البيع بلفظ التمليك وجهان: أحدهما: لا يصح، لأن التمليك من أحكام البيع فلم ينعقد البيع، فعلى هذا يبطل الأصل. والثاني: أن البيع ينعقد به، فعلى هذا يكون المعتبر في انعقاد البيع بلفظ التمليك وجود التمليك فيه على عمومه وقصوره في النكاح على العموم، لأنه يملك كل المبيع ولا

يملك من المنكوحة إلا الاستمتاع. وهكذا الجواب عن قياسهم على شراء الإماء، وأما تعليلهم بنكاح النبي صلى الله عليه وسلم فعنه جوابان: أحدهما: أنه تعليل يدفع النص فكان مطروحًا. والثاني: أنه لما خص سقوط المهر جاز أن يكون مخصوصًا باللفظ الذي يقتضي سقوط المهر، ثم المعنى في لفظ النكاح أنه صريح فيه، والبيع والهبة صريحان في غيره. وأما قياسهم على الطلاق في وقوعه بالصريح والكناية هو أن النكاح شهادة مشروطة لا تتحقق في الكناية، فلم ينعقد بالكتابة وليس في الطلاق شهادة مشروطة فوقع بالكناية. وأما استدلالهم بعقدة بالعجمية فشرح لمذهبنا فيه بيان للانفصال عنه، وفيه لأصحابنا ثلاثة أوجه: أحدهما: حكاه أبو حامد الإسفراييني ولم يتابعه عليه أحد أنه لا ينعقد بالعجمية سواء كان عاقده يحسن العربية أو لا يحسنها، لأن لفظة بالعجمية صريح فخرج عن حكم الكناية بالعربية، لأن في كناية العربية احتمال وليس صريح العجمية احتمال. وخالف القرآن المعجز، لأن إعجازه ونظمه وهذا المعنى يزول عنه إذا عدل عن لفظه العربي إلى الكلام العجمي. والثالث: وهو قول أبي سعيد الإصطرخي: أنه إن كان عاقده يحسن العربية لم ينعقد بالعجمية، وإن كان لا يحسن العربية انعقد بالعجمية، كأذكار الصلاة تجزئ بالعجمية لمن لا يحسن العربية ولا تجزئ لم يحسنها، فعلى هذا لا يجوز أن يجمع بين حال القدرة والعجز والعادل عن صريح النكاح إلى كنايته قادر، والعادل عنه إلى العجمية عاجز فاقد. فإن قيل بالوجه الأول: أنه لا ينعقد بالعجمية مع القدرة والعجز كان عاقده إذا لم يحسن العربية بالخيار بين أن يوكل عربيًا في عقده وبين أن يتعلم العربية فيعقده بنفسه. وإذا قيل بالوجه الثاني: أنه ينعقد بالعجمية مع القدرة والعجز كان عاقده إذا لم يحسن العربية فهو بالخيار إذا كان يحسن العربية بين أن يعقده العربية وهو أدلى، لأنه لسان الشريعة وبين أن يعقده بالفارسية وبأي اللسانين عقده فلا يصح حتى يكون شاهدًا عقده بعرفانه، فإن عقده بالعربية وشاهداه عجميان أو عقده فلا يصح حتى يكون شاهدًا عقده بعرفانه، فإن عقده بالعربية وشاهداه عجميان أو عقده بالعجمية وشاهداه عربيان لم يجز، لأنهما إذا لم يعرفا لسان العقد لم يشهدا عليه إلا بالاستخبار عنه فجرى بينهما مجرى الكناية. وإذا قيل بالقول الثالث: إنه ينعقد بالعجمية مع العجز ولا ينعقد بها مع القدرة فلا يخلو حال الولي الباذل والزوج القائل من ثلاثة أحوال: إحداها: أن يكونا عربيين فلا ينعقد النكاح بينهما إلا العربية. والثانية: أن يكونا عجميين فلا ينعقد النكاح بينهما إن باشراه بأنفسهما إلا بالعجمية.

والثالثة: أن يكون أحدهما عربيًا والآخر أعجميًا فلا ينعقد النكاح بينهما بالعربية لأن العجمية لا يحسنها ولا بالعجمية لأن العربية لا يحسنها فكانا بالخيار بين أمرين أن يوكلا من يعرف أحد اللسانين، وبين أن يتعلم العجمي منهما العربية فيجتمعا على عقده بها ولا يجوز أن يتعلم العربي العربية ليجتمعا على عقده بها لأن من أحسن العربية لا يجوز له العقد بالعجمية ويجوز لمن يحسن العجمية أن يعقده بالعربية. فإن قيل: فهلا اختص العربي فيه باللفظ العربي وتفرد العجمي باللفظ العجمي؟ قيل: لا يجوز، لأن كل واحد منهما لا يعرف لفظ صاحبه فيقابله عليه، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "والفرج محرم قبل العقد فلا يحل أبدًا إلا بأن يقول الولي قد زوجتكها أو أنكحتكها ويقول الخاطب: قد قبلت تزويجها أو نكاحها أو يقول الخاطب زوجنيها ويقول الولي: قد زوجتكها فلا يحتاج في هذا إلى أن يقول الزوج: قد قبلت ولو قال قد ملكتك نكاحها أو نحو ذلك فقبل لم يكن نكاحًا وإذا كانت الهبة أو الصدفة تملاك بها الأبدان والحرة لا تملك فكيف تجوز الهبة في النكاح؟ فإن قيل: معناها زوجتك قيل: فقوله قد أحللتها لك أقرب إلى زوجتكها وهو لا يجيزه". قال في الحاوي: وهذا كما قال: أعلم أن عقد النكاح بعد حضور الولي والشاهدين لا يتميز إلا بثلاثة شروط: أحدها: تعيين المنكوحة. والثاني: تعيين اللفظ. والثالث: صفة العقد. فأما تعيين المنكوحة فيجب أن يكون بما تتميز به عن غيرها وذلك قد يكون بأحد ثلاثة أشياء: إما بالإشارة، وإما بالإسم، وأما بالصفة. فأما الإشارة فلا تكون إلا إلى حاضرة فنقول: زوجتك هذه المرأة فيصح النكاح عليها، وإن لم يذكر لها اسم ولها حالان: موافق ومخالف، فإن كان موافقًا فقد أكد بالإشارة بها قرنه بها من موافقة الاسم. والنسب والصفة. وإن كان مخالفًا بأن سماها حفصة بنت زيد وهي عمرة بنت بكر أو وصفها بالطويلة، وهي قصيرة صح العقد بالإشارة إليها ولم يؤثر فيه مخالفة الاسم والنسب والصفة، لأن الإشارة أبلغ في التعيين من كل اسم وصفة وأما الاسم فقد يتعين به الغائبة إذا لم يشاركها فيه غيرها، وهو في الأغلب إذا انفرد عن نسب لا يقع به التمني، فإن قرن به النسب نظر فإن لم يشاركها فيه غيرها من النساء تميزت به وصح العقد عليها

بما تميزت به من الاسم والنسب وإن لم ينو الزوج والولي الإشارة إلى المنكوحة وإن لم يتميز الاسم والنسب من غيرها من النساء لمشاركتها فيه لغيرها نظر فإن نوى الزوج والولي في نفوسهما فالإشارة للمنكوحة، صح العقد وعلى هذا أكثر عقود المناكح وإن لم ينو لم يصح العقد لاشتباه المنكوحة بغيرها وصار بمثابة قوله: قد زوجتك امرأة وأما الصفة فلا تكون بانفرادها مميزة للمنكوحة عن غيرها لاشتراك الناس في الصفات حتى يقترن بها مع ما يقع به التمييز من اسم أو نسب، أو نية مثل سودة بنت زيد بن خالد وله بنات فيهم المنكوحة. أما الاسم إذا لم يشتركن فيه فتقول حفصة أو عمرة. وأما بالصفة، إذا لم يشتركن فيقول الطويلة أو القصيرة أو يقول: السوداء أو البيضاء أو يقول: الصغيرة أو الكبيرة فتصير الصفة مميزة للمنكوحة ولولاها لاشتبهت وإذا كان كذلك فأراد أن يزوج بنته فإن لم يكن له إلا بنت جاز أن يقول: زوجتك بنتي ولا يذكر لها اسمًا ولا صفة، لأنها قد تعنت في العقد فصح فإن ذكر مع ذلك اسمًا ولا صفة، لأنها قد تعنت في العقد فصح فإن ذكر مع ذلك اسمًا أو صفة. فقال: بنتي حفصة أو قال: بنتي الطويلة فقد أكد إن وافق الاسم والصفة ولم يؤثر فيه إن خالف الاسم والصفة قوله: عمرة قد سماها حفصة وكانت قصيرة وقد وصفها طويلة، لأن الاسم قد ينتقل والقصيرة قد تكون طويلة بالإضافة إلى من هي أقصر منها وإن كان للأب المزوج عدة بنات لم يصح العقد بأن يقول: زوجتك بنتي حتى يميزها عن سائرهن إما بنية يتفق الأب والزوج بها على إرادة أحداهن بعينها. وإما باسم أو صفة فيقول: بنتي حفصة فيصفها بالاسم من غير أن يقول بنتي الصغيرة فتصير بالصفة متميزة فيصح العقد حينئذ عليها فإن جمع بين الاسم والصفة فذلك ضربان: أحدهما: أن يكون متفقًا فيقول: قد زوجتك بنتي حفصة الصغيرة. والصغيرة هي حفصة. والكبيرة هي عمرة: فيسم المنكوحة باسمها ويصفها بصفتها فقد أكد الاسم بالصفة فكان أبلغ في التمييز. والثاني: أن يكون مخالفًا فسمى الموصوفة بغير اسمها ووصف المسماة بغير صفتها، لأن حفصة هي الكبيرة وقد وصفها بالصغيرة وعمرة هي الصغيرة وقد وصفها بالكبيرة فيكون المعول على الصفة دون الاسم، لأن الصفة لازمة والاسم منتقل فيقع العقد على الصغيرة التي اسمها عمرة وإن سمي في العقد حفصة، فلو ميز المنكوحة من بناته بصفتهن فقال: زوجتك بنتي الصغيرة الطويلة فإن وافقت الصفتان فقد أكد إحدى الصفتين بالأخرى فكان أبلغ في التمييز وإن خالفت الصفات فالنكاح باطل، لأن كلتا الصفتين لازمتان وليس اعتبار أحدهما في تمييز المنكوحة بأولى من اعتبار الأخرى فصارت المنكوحة منهما مجهولة. فلذلك بطل النكاح، والله أعلم بالصواب. فصل: وأما الشرط الثاني: وهو تعيين اللفظ الذي ينعقد به النكاح فلفظتان لا ينعقد النكاح إلا بهما وهو النكاح والتزويج، لأن كتاب الله تعالى قد جاء بهما.

وأما النكاح فيقوله سبحانه: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] وأما التزويج بقوله سبحانه: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} [الأحزاب: 37] لأن معناهما في اللغة متشابهان. أما التزويج فهو ضم شكل إلى شكل ومنه قولهم: أحد زوجي الخف وأحد زوجي الحمام إذا أريد واحد من اثنين متشاكلين. فإن أريد معًا قيل زوج الخف وزوج الحمام وأما النكاح فيه قولان: أحدهما: إنه كالتزويج ضم شكل إلى شكل ومنه كقولهم: أنكحنا الغراء فسوق ترى أي جمعنا بين الحمار الوحش وإيتانه فسترى ما يولد منهما. قال عمر بن أبي ربيعة: أيها المنكح الثريا سهيلًا عمرك الله كيف يلتقيان هي شامية إذا ما استقلت وسهيل إذا استقل يمان أي لما لم يكن أن يجتمعا لم يجز أن يتناكحا. والثاني: إنه لزوم شيء، ومنه قول ابن الماجشون: استنكحه المدني أي لزمه فسمي النكاح نكاحًا للزوم أحد الزوجين لصاحبه وليس في معنى هاتين اللفظتين غيرهما فصار تعليلهما غير متعد للنص عليهما. وإذا كان كذلك فالولي والزوج مخيران في أن يعقداه بلفظ التزويج فيقول الولي: قد زوجتك ويقول الزوج: قبلت تزويجها أو يعقده أحدهما بلفظ النكاح والآخر بلفظ التزويج فيقول الولي: قد زوجتك ويقول الزوج: قد قبلت نكاحها فيكون العقد بأي هذه الألفاظ عقدًا صحيحًا. فصل: وأما الشرط الثالث: وهو صفة العقد وكيفيته فقد ينعقد على أحد وجهين أما بالبذل والقبول. وأما بالطلب والإيجاب ولهما فيه ثلاثة أقوال: أحدهما: أن يعقد له بلفظ الماضي. والثاني: بلفظ المستقبل. والثالث: بلفظ الأمر. فإن عقداه بلفظ الماضي فضربان: أحدهما: أن يعقداه بالبذل والقبول. والثاني: بالطلب والإيجاب. فأما عقده بالبذل والقبول فهو أن يبدأ الولي فيقول: قد زوجتك بنتي على صداق ألف درهم ويقول الزوج: قد قبلت نكاحها على هذا الصداق

فيكون قد ابتدأ به الولي بذلًا وما أجابه الزوج قبولًا. وإذا كان هكذا فللزوج في قبوله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يقول: قبلت نكاحها على هذا الصداق. والثاني: أن يقول: قبلت ولا يذكر الصداق: والثالث: أن يقول: قبلت ولا يذكر النكاح ولا الصداق. فأما الحال الأولى: وهو أن يقول: قبلت نكاحها على هذا الصداق فقد انعقد النكاح على الصداق المسمى إذا كان قبول الزوج على الفور من بذل الولي. ولو قال الزوج: قبلت نكاحها على صداق خمسمائة. وقد بذلها الولي له بصداق ألف انعقد الصداق ولم تلزمه فيه أحد الصداقين وكان لها مهر المثل لأن الألف لم يقبلها الزوج والخمسمائة لم يرض بها المولى. وقال أبو حنيفة: ينعقد على صداق خمسمائة، لأنها أقل فصارا مجتمعين عليها وإن تفرد الولي بالزيادة. وهذا خطأ لما ذكرنا. وأما الحال الثانية: وهو أن يقول قبلت نكاحها ولا يذكر قبول الصداق فيصح النكاح بقبوله ولا يلزم المسمى، لأنه لم يذكره في القبول وليكون لها مهر المثل وقال أبو حنيفة: يلزم فيه الصداق المسمى بقبول النكاح والذي يتضمنه كالبيع إذا قال: بعتك عبدي بألف فقال المشتري: قبلت البيع لزمه ذلك الثمن وإن لم يصرح به في قبوله كذلك النكاح وهذا خطأ، لأن البيع لا ينعقد إلا بثمن فكان قبوله البيع قبولًا لما تضمنه من الثمن وإن لم يصرح به في قبوله وليس كذلك النكاح، لأنه قد يصح بغير الصداق فلم يكن قبوله النكاح قبولًا لما يتضمنه من الصداق حتى يصرح به في قبوله. وأما الثالثة: وهو أن يقول: قبلت ويمسك فلا يذكر النكاح ولا الصداق في قبوله ففيه قولان وهو ظاهر كلامه هاهنا وقد نص عليه صريحًا في كتاب "الأم" ورواه البويطي وقاله جمهور أصحابنا أن النكاح باطل. والثاني: قاله في كتاب "التعريض بالخطبة في كتب الأمالي" إن النكاح صحيح وبه قال أبو حنيفة استدلالًا بأمرين: أحدهما: أن قول: قبلت إنما هو جواب للبذل الصريح وجواب الصريح يكون صريحًا كقوله تعالى: {فَهَلْ وجَدتُّم مَّا وعَدَ رَبُّكُمْ حَقًا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] أي نعم وجدناه وكقوله: {ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] أي بلى أنت ربنا وكما لو أدعى رجل على رجل ألف درهم فسأله الحاكم عنها. وقال: أله عليك ألف. فقال نعم، وكان إقرار منه بالألف، وجرى مجرى قوله: نعم عليِّ ألف، فكذلك يجب أن يكون قوله في النكاح قد قبلت بعد تقدم البذل الصريح قبولًا صريحًا فجرى مجرى قوله: قبلت نكاحها. والثاني: إن البذل والقبول معتبر في عقد النكاح كاعتباره في عقد البيع ثم ثبت أنه لو قال البائع: بعتك عبدي هذا بألف فقال المشتري: قبلت أن البيع قد انعقد وجرى ذلك مجرى قوله "قبلت" هذا البيع ويجب أن يكون النكاح بمثابه: قد زوجتكها فقال الزوج:

قبلت أن ينعقد النكاح فجرى مجرى قوله: قبلت نكاحها فعلى هذا القول إذا جعلناه قبولًا صحيحًا يكون قبولًا للنكاح والصداق جميعًا، لأن القبول مطلق فرجع إلى ما تقدم من ذكر النكاح والصداق وخالف قوله: قبلت نكاحها حيث جعلناه راجعًا إلى قبول النكاح الذي سماه دون الصداق الذي أغفله، لأن مع التسمية تصير تخصيصًا ومع الإطلاق يكون عمومًا. وإذا قيل بالقول الأول إن النكاح باطل وهو أصح القولين فدليله ما قدمناه أن عقد النكاح لا يتم إلا بصريح اللفظ دون المعنى وقوله: قبلت فيه معنى التصريح وليس بصريح فينعقد به النكاح وجاز أن ينعقد به البيع لأنه يتم بالصريح وبمعنى الصريح بخلاف النكاح وليس إطلاق جواب الصريح يكون صريحًا في جميع الأحوال ألا ترى لو قالت امرأة لزوجها: طلقني ثلاثًا. فقال: نعم لم يكن ذلك صريحًا في جميع الأحوال ألا ترى لو قالت امرأة لزوجها: طلقني ثلاثًا. فقال: نعم لم يكن ذلك صريحًا في طلاقها وإن كان جوابًا ولو قال: نعم: أنت طالق لم تكن ثلاثًا وإن سألته ثلاثًا فلم يسلم الاستدلال بالبيع لما ذكرنا من الفرق بينهما ولا كان إطلاق الجواب كالصريح لما ذكرنا. فأما إذا قرن النكاح بينهما بواسط من حاكم أو خطيب فقال للولي: زوجته فلانة، فقال: نعم، فقال الزوج: قبلت نكاحها. فقال: نعم لم ينعقد النكاح قولًا واحدًا، لأن صريح اللفظ لم يؤخذ من واحد منهما. وقال أبو حنيفة: ينعقد بناء على أصله واعتبارًا بالبيع في أن رجلًا لو قال للبائع: بعته عبدك هذا بألف. فقال: نعم، وقال المشتري: اشتريته بالألف، فقال: نعم إن البيع منعقد فكذلك النكاح. وهذا خطأ لما ذكرنا في أن معنى الصريح لا يقوم في النكاح مقام الصريح ويقوم في البيع مقام الصريح، لأن النكاح لما خالف البيع في تغليظه بالولي والشاهدين خالفه في تغليظه بصريح اللفظ دون معناه، ولأنه قوله: نعم إقرار وبضع المنكوحة لا يملك بالإقرار فهذا حكم عقد النكاح بالبذل والقبول. فصل: فأما عقده بالطلب والإيجاب فهو أن يبدأ الزوج فيقول للولي: زوجني بنتك على صداق ألف فيقول الأب: قد زوجتكما على هذا الصداق فيصح العقد ولا يحتاج الزوج إلى أن يعود فيقول: قد قبلت نكاحها ووافقه أبو حنيفة عليه. وكذلك في البيع إذا ابتدأ المشتري فقال: بعني عبدك بألف. فقال: قد بعتك هذا العبد بها صح البيع ولم يحتج المشتري أن يقول بعده قد قبلت. وخالفه أبو حنيفة في البيع فقال: لا يصح حتى يعود المشتري فيقول: قد قبلت بخلاف النكاح وهذا خطأ، لأن شروط النكاح أغلظ من شروط البيع. فكان ما يصح به النكاح أولى أن يصح به البيع فإذا صح ما ذكرنا من تمام العقد بالطلب والإيجاب كتمامه بالبذل والقبول كان البذل هو ما ابتدأ به الولي والقبول ما أجاب به الزوج فإن الطلب ما ابتدأ به الزوج والإيجاب ما أجاب به الولي فيكون النكاح منعقدًا من جهة الولي على أحد الوجهين: إما بالبذل إن كان مبتدئًا أو بالإيجاب إن كان مجيبًا من جهة الزوج منعقد على أحد وجهين: إما بالطلب إن كان مبتدأ وبالقبول إن كان مجيبًا فصار طلب الزوج في الابتداء

قبولًا في الانتهاء. وقبوله في الانتهاء طلب في الابتداء وصار بذل الولي في الابتداء إيجابًا في الانتهاء وإيجابه في الانتهاء بذلًا في الابتداء وإذا كان كذلك لم يخل إيجاب الولي بعد طلب الزوج من ثلاثة أحوال كما ذكرنا في قبول الزوج بعد بذل الولي: إحداها: أن يقول: الولي قد زوجتكها على هذا الصداق الذي بذلته فينعقد النكاح على الصداق والذي سماه الزوج وهو ألف. والثانية: أن يقول الولي قد زوجتكها ولا يقول على هذا الصداق فيصح العقد ولا يلزمه فيه ذلك المسمى من الصداق، لأن الولي ما صرح بالإجابة إليه. وعند أبي حنيفة يكون منعقد الصداق المبذول وإذا بطل المسمى عندنا كان لها مهر المثل فلو كان الأب قال: زوجتكها على صداق ألفين لم يلزم واحد من الصداقين. وكذلك عند أبي حنيفة ويكون لها مهر المثل. ولو كان الأب قال: قد زوجتكها على صداق خمسمائة لم يلزم واحد من الصداقين عندنا. وقال أبو حنيفة يلزم أقلهما ويصير الأب مبرئًا من الزيادة والثانية: أن يقول الولي بعد طلب الزوج قد فعلت. أو يقول: قد أجبتك ولا يقول: قد زوجتكها. فلا ينعقد النكاح عندنا قولًا واحدًا بخلاف ما ذكرنا من القولين في قبول الزواج. والفرق بينهما: أن الولي هو المملك لبضع المنكوحة والزوج هو المتملك فكان اعتبار الصريح في لفظ المملك أقوى من اعتباره في لفظ المتملك. وعند أبي حنيفة يكون النكاح منعقد على أصله. فرع: فأما إذا ابتدأ الوالي فقال: زوجت بنتي على صداق ألف فقال الزوج: تزوجتها على هذا الصداق لم يصح العقد حتى يعود الولي فيقول: قد زوجتكها، لأن قوله في الابتداء زوجته بنتي ليس ببذل منه ولا إجابة. وإنما هو استخبار والنكاح لا ينعقد من جهة الولي إلا بالبذل إن كان مبتدئًا أو بالإيجاب إن كان مجيبًا وإذا كان كذلك صار ما ابتدأ به الولي من الاستخبار غير مؤثر في العقد. ويكون جواب الزوج طلبًا فلذلك ما افتقر إلى إيجاب الولي بأن يعود فيقول: قد زوجتك فيصير النكاح منعقد بالطلب والإيجاب وهكذا لو ابتدأ الزوج فقال للولي: زوجني بنتاك فقال: قد زوجتكها لم يصح العقد، لأن ما ابتدأ به الزوج استخبار، والعقد لا يتم من قبل الزوج إلا بالطلب إن كان مبتدئًا أو بالقبول إن كان مجيبًا وليس استخباره طلبًا ولا قبولًا فإن عاد عاد الزوج فقال: قد قبلت تزويجها صح العقد حينئذ بالبذل والقبول فهذا حكم العقد باللفظ الماضي في البذل والقبول وفي الطلب والإيجاب. فرع: وإما عقده باللفظ المستقبل فمثاله: أن بذل الولي أن يقول: أزوجك بنتي فيقول

الزوج: أتزوجها فلا يصح العقد بقول الولي ولا بقول الزوج، لأن قول كل واحد منهما وعد بالعقد وليس بعقد ولو كان الزوج قال: قد تزوجتها صار قوله طلبًا وإن كان قول الولي وعدًا فإن عاد الولي فقال: قد زوجتكها صح العقد بالطلب والإيجاب. ولو بدأ الزوج فقال للولي: أتزوج بنتك فقال الولي: أزوجكها لم يصح العقد بقول واحد منهما، لأن قول كل واحد منهما وعد بالعقد وليس بعقد ولو كان الولي قال: قد زوجتكها صار قوله بذلًا فإن عاد الزوج. فقال: قد قبلت تزويجها صح العقد بالبذل والقبول. وهكذا إن دخل على اللفظ المستقبل حرف الاستفهام فقال الولي: أأزوجك بنتي؟ أو قال: أأتزوج بنتك؟ لم يصح العقد بواحد من اللفظين لأنه استفهام للوعد فكان أضعف من مجرد الوعد فإن تعقبه من أحدهما ما يكون بذلًا أو طلبًا روعي في مقابلة الطلب الإيجاب وفي مقابلة البذل القبول. فرع: وأما عقده بلفظ الأمر فمثاله: إن بدأ الولي أن يقول للزوج: تزوج بنتي فيقول الزوج: قد تزوجتها فلا يصح العقد حتى يعود الولي فيقول: قد زوجتكها ولو بدأ الزوج فقال للولي: زوجني بنتك فقال: قد زوجتكها صح العقد ولم يحتج الزوج أن يعيده فيه قولًا. والفرق بين ما ابتدأ به الولي من لفظ الأمر أنه لا يصح به العقد، وبين ما ابتدأ به الزوج من لفظ الأمر أنه يصح به العقد أن المراعي من جهة الولي البذل أن ابتدأ والإيجاب إن أجاب وليس في أمره بذل ولا إيجاب فلم يصح به العقد. والمراعي من جهة الزوج والطلب إن ابتدأ والقبول إن أجاب. وأمره تضمن الطلب وإن لم يتضمن القبول فصح به العقد وتم بالطلب والإيجاب. فصل: فإذا صح ما ذكرنا من صفة العقد وكيفيته لتمامه وإبرامه شروط: أحدهما: أن يكون قبول الزوج على الفور من بذل الولي فإن تراخي ما بينهما بسكوت وإن قيل لم يصح إلا أن يكون لبلع ريق أو انقطاع فيصبح العقد وإن تخللته هذه السكتة، لأنه لا يمكن الاحتراز منها. والثاني: أن لا يكون بين الولي وقبول الزوج كلام ليس بذل ولا قبول، فإن تخلل بينهما كلام ليس منهما لم يصح العقد، لأن خروجهما إلى غيره من الكلام قطع لحكم ما تقدم. ولكن لو قال الولي: قد زوجتك بنتي فاقبل النكاح مني لم يكن هذا قطعًا لحكم بذله، لأنه حث منه على القبول. وهكذا لو قال: قد زوجتك بنتي فقل لي: قد قبلت نكاحها لم يكن قطعًا لحكم بذله، لأنه تفسير لقوله: "فاقبل النكاح مني" فأما إذا قال: قد زوجتك بنتي فأحسن إليها أو قال فاستوصى بها خيرًا كان هذا قطعًا لبذله، لأنها وصية لا

تتعلق بالبذل ولا بالقبول ولكن لو قال: قد زوجتكها على أمر الله تعالى به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان صح العقد ولم يكن ذلك قطعًا، لأنه وإن تضمن صفة الوصية فهو بيان لحكم البذل والقبول. والثالث: أن يكون الولي عند قبول الزوج من أهل العقد، فإن قبل الزوج وقد مات الولي أو جن أو أغمي عليه لم يصح العقد لبطلان بذلك بخروجه من أهل العقد. فإذا تكاملت شروط العقد على ما وصفنا فقد انعقد بإجزاء لا يثبت فيه لواحد من الزوجين خيار المجلس بالعقد ولا خيار الثلاث الشروط بخلاف البيع، لأن الخيار موضوع لاستدراك المعاينة في الأعواض وليس النكاح من عقود المعاوضات لجوازه مع الإخلال بذكر العوض من الصداق، فإن شرط فيه خيار الثلاث أبطله. وقال أبو حنيفة: يبطل الخيار ولا يبطل النكاح. وهذا خطأ لأن الشروط المنافية للعقود تبطلها كالشروط في سائر العقود، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "وأحب أن يقدم بين يدي خطبته وكل أمر طلبه سوى الخطبة حمد الله تعالى والثناء عليه والصلاة على رسوله عليه الصلاة والسلام والوصية بتقوى الله ثم يخطب وأحب للولي أن يفعل مثل ذلك وأن يقول ما قال ابن عمر: أنكحتك على ما أمر الله به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان". قال في الحاوي: أعلم أن خطبة النكاح قيل الخطبة سنة مستحبة وليست بواجبة. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام، وداود بن علي: خطبة النكاح واجبة استدلالًا برواية الأعرج عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر". ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ما عقد لنفسه نكاحًا إلا بعد خطبة، فكان الخاطب في تزويجه خديجة عمة أبا طالب، وكان الخاطب بتزويجه بعائشة طلحة بن عبد الله، وزوج فاطمة بعلي فخطبا جميعًا. ولأنه عمل مقبول قد اتفق عليه أهل الأمصار في جميع الأمصار فكان إجماعًا لا يسوغ خلافًا، ولأن ما وقع به الفرق بين ما يستبشر به من الزنا ويعلن من النكاح كان واجبًا في النكاح كالولي والشهود. والدليل على صحة ما ذهبنا إليه من استحبابها دون وجوبها هو قول جمهور الفقهاء قول الله تعالى: {فَانكِحُوهُنَّ بِإذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء،25]، فجعل الإذن شرطًا دون الخطبة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم حين زوج الواهبة لنفسها من خاطبها قال: "قد زوجتكها بما معك من القرآن" فلم يخطب.

(وروي) أن رجلًا من بني سليم خطب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامة بنت عبد المطلب فأنكحه ولم يخطب. وروى أن الحسن بن علي رصي الله عنها زوج بعض بنات أخيه الحسن وهو يتعرق عظمًا أي لم يخطب تشاغلًا به. وروى أن ابن عمر زوج بنته فما زاد على أن قال: قد زوجتكها على ما أمر الله تعالى به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ولأن الخطبة لو وجبت في النكاح لبطل بتركها. وفي إجماعهم على صحة النكاح تركها دليل على استحبابها دون وجوبها، ولأن النكاح عقد فلم تجب فيه الخطبة كسائر العقود. فأما الاستدلال بالخبر فلم يخرج مخرج الأمر فيلزم، وإنما أخبر أنه أبتر وليس في هذا القول دليل على الوجوب على أن للخبر سبب هو محمول عليه قد ذكرناه في أول الكتاب. وأما استدلالهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم ما عقد نكاحًا إلا بعد خطبة فقد قيل: إنه نكح بعض نسائه بغير خطبة، وقد زوج الواهبة بغير خطبة، وليس ما استدلوا به من العمل المنقول إجماعًا لما روينا من خلافه، فلم يكن فيه دليل ولا في كونها فرقًا بين الزنا والنكاح دليل على وجوبها كالولائم. فصل: فإذا ثبت استحباب فهي مشتملة على أربعة فصول: أحدها: حمد الله والثناء عليه. والثاني: الصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم. والثالث: الوصية بتقوى الله وطاعته. والرابع: قراءة آية، والأولى أن تكون مختصة بذكر النكاح كقوله تعالى: {وأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ} [النور: 32] وكقوله: {وهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَرًا} [الفرقان: 54] الآية، فإن قرأ آية لا تتعلق بذكر النكاح جائز، لأن المقصود بها التبرك بكلام الله تعالى. وقد رويت خطبة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول فيها: "الحمد لله نحمده ونستغفره ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ومن يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله الله وأن محمدًا عبده ورسوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ ويَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الأحزاب: 70، 71] الآية إلى آخرها. وروى عن علي بن أبي طالب - رضوان الله تعالى عليه - أنه خطب فقال: المحمود

باب ما يحل من الحرائر ويحرم ولا يتسرى العبد وغير ذلك

لله (والمصطفى) رسول الله صلى الله عليه وسلم. وخير ما افتتح به كتاب الله، قال الله تعالى: {وأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ} الآية. وروي من خطب بعض السلف الحمد لله شكرًا لأنعمه وأياديه، وأشهد أن لا إله إلا الله شهادة تبلغه وترضيه، وصلى الله على محمد صلاة تزلفه وتحظيه، واجتماعنا هذا مما قضاه الله وأذن فيه، والنكاح مما أمر الله به ورضيه، قال تعالى: {وأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ} [النور: 32]، فتكون الخطبة على ما وصفنا. قال الشافعي: "وأحب أن يقول الولي مثل ما قال ابن عمر: قد أنكحتها على ما أمر الله تعالى به من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان". فصل: فإذا تقرر ما وصفنا من حال الخطبة نظر في الخاطب، فإن كان غير المتعاقدين وهو ما عليه الناس في زماننا كانت خطبته نيابة عنهما، وإن خطب أحد المتعاقدين فيختار أن يخطبا معًا، لأن كل واحد منهما مندوب إلى مثل ما ندب إليه الآخر، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لما زوج عليًا خطبا جميعًا. والأولى أن يبدأ الزوج بالخطبة ثم يعقبه الولي بخطبته ليكون الزوج طالباً ويكون الولي محبباً، فإن بدأ الولي بالخطبة ثم خطب الزوج بعده جاز فإن تقدمت خطبتهما قبل البذل والقبول أو قبل الطلب والإيجاب ثم عقده النكاح بعد الخطبتين بالبذل أو بالقبول أو بالطلب والإيجاب. فقد قال أبو حامد الإسفراييني: إن العقد صحيح، لأن ما تخللهما من الخطبة الثانية مندوب إليه في العقد فلم يفسد به العقد وهذا خطأ والصحيح وهو الظاهر من قول أصحابنا كلهم أن العقد باطل لأمرين: أحدهما: تطاول ما بين البذل والقبول. والثاني: أن أذكار الخطبة ليست من البذل ولا من القبول وما قاله من أن الخطبة الثانية مندوب إليها في العقد فلم يفسد بها العقد فصحيح إذا كانت في محلها قبل العقد فأما في خلال العقد فلم يندب إليها فجاز أن يفسد بها العقد، والله أعلم. باب ما يحل من الحرائر ويحرم ولا يتسرى العبد وغير ذلك قال الشافعي: "انتهى الله تعالى بالحرائر إلى أربع تحريماً لئلا يجمع أحد غير النبي صلى الله عليه وسلم بين أكثر من أربع". قال في الحاوي: وهذا كما قال. أكثر ما يحل للحر نكاح أربع لا يجوز له الزيادة عليهن وهو قول سائر الفقهاء

وحكي عن القاسم بن إبراهيم ومن نسب إلى مقالته من القاسمية وطائفة من الزائدية أنه يحل له نكاح تسع استدلالاً بقوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ} [النساء: 3] بواب الجمع. والمثنى مبذل من اثنين والثلاثة مبدل ثلاث والرابع مبدل من أربع فصار مجموع الاثنين والثلاث والأربع تسعاً، لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسع والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، ولأنه لما ساوى رسول الله صلى الله عليه وسلم سائر أمته فيما تستبيحه من الإماء وجب أن يساويهم في حرائر النساء. ودليلنا قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ} [النساء: 3] وفيه دليلان: أحدهما: أنه ما خرج هذا المخرج من الأعداد كان المراد بها أفرادها دون مجموعها لأمرين: أحدهما: أنه لما كان المراد بقوله في صفة الملائمة: {أُوْلِي أَجْنِحَةٍ مَّثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ} [فاطر: 1] أفراد هذه الأعداد وإن منهم من له جناح، وإن منهم من له جناحان ومنهم من له ثلاثة ومنهم من له أربعة وجب أن يكون في عدد النكاح كذلك. والثاني: أن أهل اللغة أجمعوا فيمن قال: قد جاءني الناس مثنى وثلاث ورباح أن مفهوم كلامه أنهم جاؤوا على أفراد هذه الأعداد اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة ولم يرد بمجموعها تسعة فكذلك مفهوم الآية. والدليل الثاني: من الآية أن "الواو" التي فيها ليست واو جمع وإنما هي واو تخيير بمعنى أو تقدير الكلام مثنى وثلاث أو رباع وإنما كان كذلك لأمرين: أحدهما: أن ذكر التسعة بلفظهما أبلغ في الاختصار واقرب إلى الأفهام من ذكرها بهذا العدد المشكل الذي لا يفيد تفريقه. والثاني: قوله بعد ذلك: {فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] ولو كان المراد تسعاً ولم يرد اثنين على الانفراد لقال: فإن خفتم ألا تعدلوا فثمان ليعدل على التسع إلى أقرب الأعداد إليهما لا لبعده منهما، لأنه قد لا يقدر على العدل في تسع ويقدر على العدل في ثمان. ولو كان على ما قالوه لكان من عجز عن العدل في تسع حرام عليه أن ينكح إلا واحدة ولما جاز له اثنتان ولا ثلاث ولا أربع، وهذا مدفوع بالإجماع ثم الدليل مع نص السنة أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم ومعه عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أمسك أربعاً وفارق سائرهن" وأسلم نوفل بن معاوية وأسلم معه خمسة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أمسك أربعاً وفارق واحدة". ولأنه ما جمع في الإسلام بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد تقييداً بفعله بين أكثر من أربع من رغبتهم في الاستكثار وحرصهم على طلب

الأولاد، وأنهم قد استكثرا من الإماء واقتصروا على أربع من النساء، فدل ذلك من إجماعهم على حظر ما عداه، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد خص في النكاح بما حرم على سائر أمته، لأنه قد أبيح له النساء من غير عدد محصور، وما أبيح للأمة إلا عدد محصور، وليس وإن مات عن تسع يجب أن يكون هي العدد المحصور، فقد جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين إحدى عشر، ومات من تسع وكان يقسم لثمان. وأما الإماء فلم يحضرنه بعدد ممكن على الإطلاق. فصل: فإذا ثبت أنه لا يحل للحر نكاح أكثر من أربع فنكح خمساً نظر عقد عليهن في عقد واحد بطل نكاح جميعهن، لأن المحرمة من الخمس غير متعينة فبطل نكاح الجميع وإن عقد عليهن متفردات بطل نكاح الخامسة الأخيرة، وصح نكاح من تقدمها فلو تزوج ثلاثاً في عقد واثنين في عقد صح نكاح الثلاث لتقدمهن. وبطل نكاح الاثنين لتأخرهما. فلو أشكل المتقدم من العقد بطل الخمس كلهن فلو نكح ثلاثاً في عقد اثنين في عقد وواحدة في عقد وأشكل المتقدمات منهن صح نكاح الواحدة لأنها تتنزل في أحوالها كلها على الصحة وبطل نكاح الثلاث والاثنين لتزولهن بين حالتي صحة وفساد وبيان تنزيلهم في الأحوال إنه إن كان قد تقدم نكاح الثلاث ثم الاثنين ثم الواحدة صح نكاح الثلاث والواحدة بطل نكاح الاثنين وإن قد تقدم نكاح الاثنين ثم الثلاث ثم الواحد صح نكاح الاثنين والواحدة وبطل نكاح الثلاث، وأن تقدم نكاح الواحدة ثم الثلاث ثم الاثنين صح نكاح الواحدة والثلاث وبطل نكاح الاثنين وصارت الواحدة ثانية في الأحوال كلها فصح نكاحها ولما ردد نكاح الثلاث والاثنين بين حالتي صحة وفساد بطل نكاحهن. مسألة: قال الشافعي: "والآية تدل على أنها على الأحرار بقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] وملك اليمين لا يكون إلا للأحرار الذين يملكون المال والعبد لا يملك المال". قال في الحاوي: وهذا صحيح لا يحل للعبد أن ينكح أكثر من اثنين على الشطر من استباحة الحر وبه قال من الصحابة: عمر، وعثمان، وعلي، وعبد الرحمن بن عوف، وزيد بن ثابت، وعبد الله بن عمر. ومن التابعين: الحسن البصري، وعطاء. ومن الفقهاء: أبو حنيفة وأهل العراق وأحمد وإسحاق. وقال مالك: العبد كالحر في الجمع بين أربع. وبه قال الزهري، وربيعة، والأوزاعي وأبو ثور وداود استدلالاً بعموم قوله تعالى:

{فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ} [النساء: 3]، ولأنه لما كان لعان الحرائر أربعاً مساواة بعدد من أبيح له من النساء، ثم كان لعان العبد أربعاً كالحر، وجب أن يستبيح أربعاً كالحر، ولأن نكاح العبد أوسع من نكاح الحر، لأنه قد ينكح الأمة على الحرة ويجمع بين أمتين بخلاف الحر فلم يجز وهو أوسع حكماً أن يضيق في العدد من حكم الحر ولأنه لما كان العبد مساوياً للحر في أعيان المحرمات وجب أن يساويه في أعداد المنكوحات. ودليلنا قوله تعالى: {ضَرَبَ لَكُم مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ} [الروم: 28] فدل على أن العبد غير مساو للحر، ولأنه إجماع الصحابة من وجهين: أحدهما: أن عمر قال: يطلق العبد تطليقتين وينكح اثنتين وتعتد الأمة حيضتين وصرح بمثله من الصحابة من ذكرنا. وليس فيهم مخالف. والثاني: ما رواه الليث بن أبي سليم عن الحكم بن عيينة قال: أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا ينكح العبد أكثر من اثنتين. فثبت بهذين إجماع الصحابة على ما ذكرنا، ولأن ما نقص في عدله ومعناه شاطر العبد فيه الحر كالحدود، ولأنه لما نقص الأحرار فيما استباحوه من العدد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعضهم عنه وجب أن ينقص العبد فيه عن الحر لنقصه عنه. فأما استدلالهم بالآية فسياق الكلام من أوله إلى آخره متوجه إلى الأحرار دون العبيد، لأن قوله أوله: {وإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي اليَتَامَى} [النساء: 3] متوجه إلى الأحرار لأنهم يكونون على الأيتام وقوله: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] متوجه إلى الأحرار، لأن العبد لا يملك أن ينكح ما طاب لنفسه وقوله: {فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] متوجه إلى الأحرار، لأن العبد لا يملك. وأما استدلالهم باللعان فهو غير موضوع على التفاضل ولا هو العلة في عدد المنكوحات وإن اتفقا، وإنما يجري مجرى اليمين عندنا والبينة عند غيرنا. وأما استدلالهم بأن حكم العبد في النكاح أوسع فالجواب عنه: أنه أوسع حكماً فيما طريقه النقص وأضيق حكماً فيما طريقه الكمال، واستباحته للأمة نقص فاتسع حكمه فيه والعدد كمال فضامن حكمه فيه. وأما استدلالهم بأنه لما ساواه في أعيان المحرمات مساواة في عدد المنكوحات فباطل بأن النبي صلى الله عليه وسلم يساوى الأمة في أعيان المحرمات ولا يساويه في عدد المنكوحات فدل على أن التحريم متساوي العدد متفاضل. فإذا ثبت أن العبد لا ينكح أكثر من اثنين فحكمه إن أنكح ثلاثاً كحكم الحر إذا نكح خمساً على ما بيناه وكذلك المدبر والمكاتب ومن رق بعضه، والله أعلم.

مسألة: قال الشافعي: "فإذا فارق الأربع ثلاثاً تزوج مكانهن في عدتهن لأن الله تعالى أحل لمن لا امرأة له أربعاً وقال بعض الناس لا ينكح أربعاً حتى تنقضي عدة الأربع لأني لا أجيز أن يجتمع ماؤه في خمس أو في أختين. قلت: فأنت تزعم لو خلا بهن ولم يصبهن أن عليهن العدة فلم يجتمع فيهن ماؤه فأبيح له النكاح وقد فرق الله تعالى بين حكم الرجل والمرأة فجعل إليه الطلاق وعليها العدة فجعلته يعتد معها ثم ناقضت في العدة. قال: وأين؟ قلت: إذ جعلت عليه العدة كما جعلتها عليها أفيجتنب ما تجتنب المعتدة من الطيب والخروج من المنزل؟ قال: لا. قلت: فلا جعلته في العدة بمعناها ولا فرقت بما فرق الله تعالى به بينه وبينها وقد جعلهن الله منه أبعد من الأجنبيات لأنهن لا يحللن له إلا بعد نكاح زوج وطلاقه أو مؤته وعدة تكون بعده والأجنبيات يحللن من ساعته". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا كان له أربع زوجات فطلقهن وأراد أن يعقد على أربع سواهن أو على أخت واحدة منهن لم يخل طلاقه من أن يكون قبل الدخول أو بعده فإن كان قبل الدخول جاز له عقيب طلاقهن سواء كان طلاقه ثلاثاً أو دونها وإن كان قد دخل بهن لم يخل طلاقه من أن يكون بائناً أو رجعياً، فإن كان رجعياً واحداً أو اثنين بغير عوض لمن يكن له العقد على أحد حتى ينقص عددهن، لأنهن من الزوجات ما كن في عددهن لوقوع طلاقه وظهاره عليهن. وحصول التوارث بينه وبينهن فلو انقضت عدة واحدة منهن جاز العقد على أختها أو على خامسة غيرها ولو انقضت عدة اثنتين جاز له العقد على اثنتين ولو انقضت عدة ثلاث جاز له العقد على ثلاث ولو انقضت عدة الأربع جاز له العقد على الأربع وإن كان الطلاق بائناً أما أن يكون ثلاثاً أو دونهما بعوض فقد اختلف الفقهاء هل أن يتزوج في عددهن بأربع سواهن أو بأخت كل واحدة منهن فذهب الشافعي إلى جوازه. وبه قال من الصحابة: زيد بن ثابت. ومن التابعين: سعيد بن المسيب والزهري. ومن الفقهاء: مالك. وقال أبو حنيفة: لا يجوز إلا بعد انقضاء عدتهن. وبه قال من الصحابة علي وابن عباس. ومن التابعين: سفيان الثوري استدلالاً بعموم قوله تعالى: {وأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23] وهذا نص لما به يعقد في أختين، ولأنها معتدة في حقه في من طلاقه فلم يحل له العقد على أختها كالرجعية، واحترز بقوله: "من حقه"

من أن يدعي المطلق انقضاء عدتها وينكر فيكون القول قول المطلقة في استباحة عقده على أختها، والقول قولها في بقاء عدتها وتكون معتدة في حقها لا في حقه، واحترز بقوله: "من طلاقه" من ردتها فإنه يجوز له أن يتزوج بأختها وإن كانت المرتدة في عدتها، ومن أن يطأ أمه يبيعها، فيجوز أن يتزوج بأختها وإن كانت الأمة تستبرئ نفسها من وطئه. قال: لأن كل جمع منع منه عقد النكاح منعت منه العدة كالجمع بين زوجين، لأن العقد قد حرم عليها نكاح غيره من الأزواج كما حرم عليه نكاح أختها من المساء ثم كان تحريم غيره باقياً عليها في العدة وجب أن يكون تحريم أختها باقياً عليه في العدة. ودليلنا في قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم} [النساء: 3] وقد يطيب له نكاح أختها في عدتها ولأنه جمع حرم على الزوج بالعقد فوجب أن يرتفع بالطلاق كالمطلقة قبل الدخول فإن قيل فالمطلقة قبل الدخول لما لم يحرم عليها نكاح غيره لم يحرم عليه والمطلقة بعد الدخول لما خرم عليها نكاح غيره حرم عليه. قيل: إنما حرم عليها بعد الدخول نكاح غيره لأنها معتدة ولم يحرم عليه لأنه غير معتد، ولأنها مبتوتة يحل له نكاح أختها بعد العدة فحل له نكاح أختها قبل العدة كالمخبرة بانقضاء العدة ولأنها فرقة يمنع من وقوع فوجب أن يبيح ما حرم من الجمع يعقده كالوفاة، ولأنها لا تحل له إلا بنكاح جديد فلم يحرم عليه نكاح أختها لأجلها كالأجنبية، ولأن المبتوتة من العقد أغلظ تحريماً عليه من الأجنبية لأن الأجنبية تحل بالعقد في الحال وهذه لا تحل له إلا بعقد بعد عدتين وزوج فلم يجز وهي أغلظ تحريماً من الأجانب أن يحرم بها ما لا يحرم بالأجانب، ولأن العدة تختص بالمرأة دون الزوج لقوله تعالى: {والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فلو منعت من الرجال للزم من العدة كما ألزمت ولو لزم من أحكام العدة كما لزمها لزمة سائر أحكامها من تحريم الطيب والزينة كما لزمها وفي المنع من إبراء أحكام العدة عليها فيما سوى النكاح منع من إجراء حكمها عليه في تحريم النكاح. وأما الجواب عن قوله تعالى: {وأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] فهو أن الطلاق مفرق فكيف يصير به جامعاً والجمع من الاجتماع. والفرقة ضد الاجتماع. وأما قياسهم على الرجعية فتلك زوجته يقع عليها طلاقه وظهاره وتستحق بينهما التوارث وهذه قد صارت أجنبية لأنها لا يلحقها طلاقه ولا ظهاره ولا يتوارثان فلم يجز أن يجمع بينهما في تحريم الجمع كما يجمع بينهما في النكاح والعقد. وأما قياسهم عليها فالمعنى فيها أنها معتدة والمعتدة محرم عليها نكاح غيره لئلا يختلط ماؤه بماء غيره وليس كذلك الرجل لأنه غير معتد وليس في عقده على غيرها اختلاط مائتين فافترقا. فصل: فأما الشافعي رضي الله تعالى عنه فإنه تكلم في هذا الموضع على إبطال مذهبهم

بثلاثة فصول ذكرنا منها فضلين: أحدهما: ما فيه من وجوب العدة على الزوج وقد أوجبها الله عليه دونه. والثاني: أنها بالطلاق أسوا حالاً من الأجنبية فكيف تبقى على حكم الزوجية. وأما الفصل الثالث: وهو الذي تفرد به الشافعي رضي الله عنه فتحرر كلامه من مقتضاه أنه لا يخلو تحريمهم لنكاح أختها في عدتها من أحد أمرين: أما أن يكون لعقد النكاح أو لئلا يجتمع ماؤه في اختين فإن كان لعقد النكاح فقد ارتفع بطلاق الثلاث وإن كان لئلا يجتمع ماؤه في أختين فهم يقولون: إنه لو خلا بها من طلقها حرم عليه نكاح أختها في عدتها وإن لم يجتمع ماؤه في أختين فبطل التعليل بكلى الأمرين واعترضوا على الشافعي في هذا الفصل بالفساد فقالوا: نحن حرمنا المدخول بها باجتماع المائين وتعلل غير المدخول بها من هذا الحكم بعلة أخرى ونقض العلة أن يكون بوجودها مع عدم الحكم ولا يكون النقض بوجود الحكم مع عدم العلة ألا ترى أن من قبل تعليلاً بالردة كان نقض العلة بأن لا تقبل مع وجود الرواة ولم يكن نقضها بأن تقبل مع عدة الردة بقتل أو زنا وكذلك هاهنا يحرم المدخول بها لاجتماع المائين ولا بنقض هذا التعليل تحريم غير المدخول بها لعلة أخرى والجواب عن هذا أن العلل ضربان: أحدهما: أن يكون التعليل عاماً لجنس الحكم. والثاني: أن يكون خاصاً لأعيان ما يتعلق به الحكم. فإن كانت العلة لجنس الحكم لتعليل الربا بأنه مطعوم انتقضت هذه العلة بوجوب الحكم ولا على كما تنقض بوجود العلة ولا حكم حتى إن وجد الربا فيما ليس بمطعوم كان نقضاً كما لو وجد مطعوماً ليس فيه ربا كان نقضاً وإن كانت العلة بوجودها مع عدم الحكم حتى وإن وجد مطعوم لا ربا فيه كان نقضاً وما ذكره الشافعي من إلزام النقض في تعليلهم باجتماع المائين إنما هو تعليل لجنس الحكم العام فانتقض بوجود الحكم ولا على كما ينتقض بوجود العلة ولا حكم. مسألة: قال الشافعي: "ولو قتل المولى أمته أو قتلت نفسها فلا مهر لها". قال في الحاوي: أعلم أن الزوجة إذا هلكت بعد الدخول بها فلها جميع المهر، لأنها قد استهلكته بالدخول سواء ماتت أو قتلت وسواء كانت حرة أو أمة فأما إذا هلكت قبل الدخول بها فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون هلاكها بالموت. والثاني: أن يكون هلاكها بالقتل فإن كان هلاكها بالموت فمذهب الشافعي

وجمهور أصحابه أن لها المهر سواء كانت حرة أم أمة، لأنه غاية النكاح مدة الحياة فإذا حدث الموت فقد انقضت مدة العقد فاستحقت بها جميع المهر. وقال أبو سعيد الاصطخري: إن كانت حرة فلها جميع المهر وإن كانت أمة فلا شيء لها وفرق بينهما بأن الحرة في قبض الزوج، لأنها مخيرة على المقام معه، فإذا ماتت استحقت جميع المهر، كالسلعة إذا تلفت بعض قبض المشتري لها استحق عليها، ثمنها والأمة قبل الدخول في قبض السيد دون الزوج، لأنها لا تخير على المقام معه إلا باختيار السيد، فلم تستحق بالموت قبل الدخول مهراً كالسلعة إذا بلغت في يد بائعها سقط عن المشتري ثمنها. فصل: وإن كان هلاكها بالقتل دون الموت فهو على ضربين: أحدهما: أن تكون هي القاتلة. والثاني: أن يقتلها غيرها فإن قتلها غيرها فضربان: أحدهما: أن يقتلها الزوج فعليه مهرها حرة كانت أو أمة باتفاق جميع أصحابنا، لأن الحرة كالمقبوضة والأمة وإن كانت في حكم غير المقبوضة فقد استهلكها مستحق قبضها فلزمه مهرها كما يلزم مشتري السلعة إذا استهلكها في يد بائعها جميع ثمنها ويصير الاستهلاك قبض كذلك القتل. والثاني: أن يقتلها أجنبي غير الزوج فحكم قتله لها في حق الزوجية حكم الموت فيكون لها المهر على مذهب الشافعي حرة كانت أو أمة وعلى مذهب أبي سعيد الاصطخري يكون لها المهر إن كانت حرة ولا يكون لها المهر إن كانت أمة، وإن كانت هي القاتلة لنفسها فقد قال الشافعي في الأمة: "إنه لا مهر إذا قتلت نفسها أو قتلها غيرها". وقال في الحرة: إن لها المهر إن قتلت نفسها، فاختلف أصحابنا لاختلاف النص فيهما على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج: أن اختلاف النص في الموضعين يوجب فأسقط مهرها كالرد والرضاع. وبه قال أبو حنيفة: لأنها فرقة وقعت بالموت وخالفت الرضاع والردة، لما فيهما من التهمة لاختيار الفرقة، وأنه ليس في القتل تهمة باختيار الفرقة. والثاني: هو قول أبي إسحاق المروزي وأبي سعيد الإصطخري وأبي حامد المروروزي - أن الجواب على ظاهره فتكون لها المهر إن كانت حرة، ولا يكون لها المهر

إن كانت أمة، وفرقوا بين الحرة والأمة من ثلاثة أوجه. أحدها: ما قدمناه من فرق أبي سعيد الإصطخري أن الحرة في حكم المقبوضة؛ لأن الزوج يقدر على الاستمتاع بها متى شاء فصار التسليم من جهتها موجودا، فاستحقت المهر بحدوث التلف والأمة بخلافها؛ لأن الزوج لا يقدر على الاستمتاع بها إذا شاء حتى يرضى السيد، فصار التسليم من جهتها غير موجود فسقط المهر. والثاني: أن المقصود من نكاح الحرة الألفة والمواصلة دون الوطء لجواز عقده على من لا يمكن وطئها من صفيره ورتقاء، وذلك حاصل قبل الدخول مثبت لها المهر، والمقصود من نكاح الأمة الوطء، دون المواصلة, لأنه لا يجوز له أن يتزوجها إلا من خوف العنت وذلك غير حاصل له قبل الدخول فسقط المهر. والثالث: أن الحرة قد يستنفد ميراثها فجاز أن يغرم مهرها، والأمة لم تستنفد ميراثها فلم تغرم مهرها- والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وان باعها حيث لا يقدر عليها فلا مهر له حتى يد فعها إليه ". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا زوج السيد أمته ثم باعها صح البيع ولم يبطل النكاح لأمرين: أحدهما: أن عائشة اشترت بريرة وهي ذات زوج فأثبت النبي ص الشراء ولم يبطل النكاح، وخيرها بعد العتق بين المقام أو الفسخ. والثاني: أن عقد النكاح تناول الاستمتاع وعقد البيع تناول الرقبة فتناول كل واحد من العقدين غير ما تناوله الآخر فصحا معا كما لو أجرها ثم باعها، فإن قيل: لو أجرها ثم باعها كان بيعها على قولين: أحدهما: باطل، فهلا كان بيعها بعد تزويجها على قولين قلنا: إن يا المستأجر حائلة؛ لأن السيد يجبر على تسليمها له فجاز أن يبطل بيعها في أحد القولين ويد الزوج غير طائلة لأن السيد لا يجبر على تسليمها إليه فصح بيعها قولا واحدا. فصل: فإذا ثبت جواز البيع وصحة النكاح فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون البيع بعد دخول بها فقد استحق الزوج مهرها سواء كان مسمى في العقد أو غير مسمى لاستقراره بالدخول الموجود في ملكه. والثاني: أن يكون البيع قبل دخول الزوج بها فالمشتري يكون بمنزلة البائع لا يجبر

على تسليمها إلى الزوج، كما لا يجبر عليه البائع، فإن لم يسلمها المشتري إلى الزوج فلا مهر عليه وليس للبائع مطالبته. ولو كان البائع قد قبضه منه كان للزوج استرجاعه، فإن سلمها للمشتري إلى الزوج حتى دخل بها استقر المهر عليه حينئذ، ولا يخلو حاله من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكون المهر صحيحا مسمى في العقد فيكون مستحقا للبائع دون المشتري لأن استحقاقه بالعقد الموجود في ملكه فصار كالكسب المتقدم على المبيع. والثاني: أن يكون المهر فاسدا مسمى في العقد فيحكم الحاكم لها بمهر المثل ويكون مستحقا للبائع أيضا دون المشتري لأن فساده مع التسمية في العقد يوجبه استحقاقه بالعقد. والثالث: أن يكون عوضه لم يسم لها في العقد مهرا لا صحيح ولا فاسد فيفرض الحاكم لها مهر المثل وفيه قولان: أحدهما: أنه مستحق بالعقد كالمسمى لأن عقد النكاح لا يعرى عن مهر فعلى هذا يكون للبائع دون المشتري لاستحقاقه بالعقد الموجود في ملكه. والثاني: أنه مستحق بالدخول دون العقد؛ لأنه لو استحق جميعه بالعقد بعد الدخول لاستحق نصفه قبل الدخول وهو لا يستحق قبل الدخول شيئا منه فدل على استحقاقها بالدخول فعلى هذا يكون المهر للمشتري دون البائع لوجود الدخول في ملكه وإن كان العقد موجودا في ملك البائع ومثل هذا إذا أعتق السيد أمته المزوجة قبل الدخول ولم يسم لها مهرا ودخل بها الزوج بعد العتق ثم فرض لها المهر فيكون مستحقه على هذين القولين: أحدهما: السيد المعتق إذا قبل: إنه مستحق بالعقد. والثاني: الزوجة المعتقة إذا قيل: إنه مستحق بالدخول، والله أعلم بالصواب. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَاِنْ طَلَبَ أَنْ يُبَوَّئَهَا مَعَهُ بَيْتًا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَى السَّيَّد". قال في الحاوي: وإذا قد مضى الكلام في المهر فتذكر الكلام في النفقة أما إذا كان الزوج غير ممكن من الدخول بها فلا نفقة عليه كما لم يكن عليه مهر وان كان ممكنا من الدخول بها لم يجز أن يمنع بعد التمكين من زمان الاستمتاع بها أقل من زمان الاستمتاع بالحرة لأن الحرة عليها تمكين نفسها من الزوج ليلا ونهارا والأمة يلزم تمكينها من الزوج ليلا ولا يلزم تمكينها منه نهاراً.

والفرق بينهما: أن الأمة قد استحق السيد استخدامها وللزوج الاستمتاع بها ولذلك جاز للسيد بعد تزويجها أن يؤجرها وليست الحرة مستحقة لخدمة نفسها. ولذلك لم يجز للزوجة أن تؤجر نفسها وإذا اجتمع في منفعة الأمة حقان: حق الاستخدام لليد وحق الاستمتاع للزوج وجب أن يراعى زمان كل واحد منهما فيستوفيه مستحقه فوجدنا الليل بالاستمتاع أحق من النهار فجعلنا الليل لاستمتاع الزوج ووجدنا النهار بالاستخدام أخص من الليل فجعلنا النهار لاستخدام السيد ولو كان ما يستحقه من الاستخدام بالنهار يمكن أن يستوفيه منها وهي عند الزوج كالغزل والنساجة وما جرى مجراهما من صنائع المنازل فهل يجبر السيد إذا وصل إلى حقه من المنفعة والاستخدام أن يسكنها مع الزوج نهارا أم لا؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق، يلزمه ذلك ويجبر عليه لوصوله إلى حقه. والثاني: وهو قول أبي حامد الإسفراييني، إنه لا يلزمه ذلك لأن له أن يعدل عن هذا الاستخدام إلى غيره وإذا كان كذلك لم يخل حالها مع الزوج من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يمكنه السيد منها ليلا ونهارا فعلى الزوج نفقتها كاملة كمال الاستمتاع. والثاني: أنه بمنعه منها ليلا ونهارا فليس على الزوج نفقتها ولا شيء منها لفوات استمتاعه بها. والثالث: أنه يمكنه منها ليلا في زمان الاستمتاع ويمنعه منها نهارا في زمان الاستخدام. ففي نفقتها وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي، أنه لا نفقة لها على الزوج ويلتزمها السيد؛ لأن الزمان الذي يستحق به المنفعة وهو النهار الذي يستحقه السيد. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة: أن على الزوج أن ينفق عليها بقسط ما يستحقه من الاستمتاع بها في الليل وعلى السيد أن ينفق عليها بقسط ما يستحقه من الاستمتاع في الليل وعلى السيد أن ينفق عليها بقسط ما يستحقه من الاستخدام لها في النهار؛ لأن لكل واحد من الزمانين حظا من الحاجة إلى النفقة فلم يلزم السيد قسط الليل كما لم يلزم الزوج قسط النهار. مسألة: قال الشافعي: " ولو وطء رجل جارية ابنه فأولدها كان عليه مهرها وقيمتها. قال المزني: قياس قوله أن لا تكون ملكا لأبيه ولا أم ولد بذلك وقل أجاز أن يزوجه أمته فيولدها فإذا لم يكن له بأن يولدها من خلال أم ولد بقيمة فكيف بوطء حرام وليس بشريك فيها فيكون في معنى من أعتق شركا له في أمة وهو لا يجعلها أم ولد للشريك

إذا أحبلها وهو معسر وهذا من ذلك أبعد قال: وإن لم يحبلها فعليه عقرها وحرمت على الابن ولا قيمة له بأن حرمت عليه وقد ترضع امرأة الرجل بلبنه جاريته الصغيرة فتحرم عليه ولا قيمة له قال في الحاوي: وصورتها في رجل وطء جارية ابنه فقد أثم بوطئه لقوله تعالى: {والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} [المؤمنون: 5 - 6] ولا ملك يمين فلم يحل له وطئها، فإن قيل: فلو كان هذا الأب من يستحق على ابنه أن يعف فكان له باستحقاق الإعفاف أن يطأ جاريته إذا منعه من الإعفاف كما منع من حق أن يتوصل إلى استحقاقه. قيل: لا يجوز له ذلك وان منع من الإعفاف بعد استحقاقه لأنه ليس يتعين حق إعفائه في هذه الأمة وان للابن أن يعدل إلى إعفائه بغيرها من الإماء أو النساء فلذلك صارت مع استحقاقه محرمة وان كان كذلك لم يخل وطء الأب لها من أحد أمرين إما أن يحبلها، أو لا يحبلها فالكلام في وطئها يشتمل على أربعة أحكام: أحدها: في وجوب الحد. والثاني: في وجوب المهر. والثالث: في ثبوت التحريم. والرابع: في وجوب القيمة. فأما الفصل الأول: في وجوب الحد فلا يخلو حال الأمة الموطوءة من أن يكون الابن قد وطئها قبل ذلك أو لم يطئها فإن لم يكن الابن قد وطئها فلا حد على الأب في وطئها وهو قول جمهور الفقهاء وحكي عن الزهري وأبي ثور وجوب الحد عليه استدلالا بأنه لما حد الابن بوطئه جارية الأب مع وجود الشبهة في ماله الذي يسقط بها عنه قطع السرقة وجب أن يحد الأب بوطئه جارية الابن وان كانت له شبهة في ماله يسقط بها عنه قطع السرقة وهذا خطأ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" ولقوله صلى الله عليه وسلم: "أولادكم من كسبكم فكلوا من طيب كسبكم " فلما تميز الأب في مال الابن بهذا الحكم قويت شبهته فيه عن شبهة الابن في مال الأب فوجب لقوة شبهته الابن أن يدرأ بها عنه الحد لقوله صلى الله عليه وسلم: " ادرءوا الحدود بالشبهات " ولأنه لما منع الابن من نفس أبيه قودا منع حدا؛ لأن الأب لو قتل ابنه لم يقتص منه ولو قذفه لم يجد به. ويقتل الابن بأبيه ويحد بقذفه فوجب أن يسقط الحد عن الأب بوطئه جارية الابن وان لم يسقط الحد عن الابن بوطئه جارية الأب لأن الحد إن ألحق بحد القذف لم يجب وان ألحق بالقود في النفس لم يجب وهذا دليل وانفصال ولأن على الابن إعفاف أبيه لو احتاج وليس على الأب إعفاف ابنه إذا احتاج فلما كان الوطء، جنسا يجب على الابن تمكين أبيه منه ولم ينجب على الأب تمكين ابنه

منه وجب أن يسقط الحد عن الأب؛ لأنه له حقا من جنسه ولا يسقط عن الابن؛ لأنه ليس حق من جنه وهذا أيضا دليل وانفصال. فأما السرقة فإنما سقط القطع عن كل واحد منهما في حال الآخر لتساؤلهما في شبهه كل واحد منهما في حال الآخر؛ لأن نفقة الابن قد يجب في مال الأب كما تجب نغمة الأب في مال الابن فاستويا، وليس كذلك حد الوطء لاختصاص الأب فيه بالشبهة دون الابن كما يستحقه الأب على الابن من الإعفاف ولا يستحقه الابن على الأب فافترقا، فإذا ثبت أن لا حد عليه ففي تعزيزه وجهان: أحدهما: يعزر ليرتدع هو وغيره عن مثله. والوجه الثاني: لا يعزر لأن التعزير بدل من الحد، وليس عليه حد، فكذلك ليس عليه تعزير، فهذا حكم الوطء الأب لها لم يكن الابن قد وطئها فأما إذا كان الابن قل وطئها ثم وطئها الأب بعده ففي وجوب الحد عليه وجهان: أحدهما: عليه الحد إذا علم بالتحريم إنها ممن لا تحل له أبدا بخلاف التي لم يطأها الابن فصارت من حلائل أبنائه فلزمه الحد كما يلزمه في وطء زوجة ابنه. والثاني: لا حد عليه؛ لأنها وان وطئها فهي من جملة أمواله التي يتعلق بها شبهة أبيه ويشبه أن يكون تخريج هذين الوجهين من اختلاف قوليه في وجوب الحد على من وطء أخته من نسب أو رضاع أو بملك اليمين. وأما الفصل الثاني: في وجوب المهر فهو معتبر بوجود الحدود وسقوطه فإن قلنا: إنه لا حد عليه فعليه مهر المثل لكونه وطء شبهة في حقه يوجب درء الحد فاقتضى لزوم المهر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " فلها المهر بما استحل من فرجها " ويكون المهر حقا لابنه عليه لأنه من اكتساب أمته وان قلنا: إن الحد واجب عليه فقد سقطت شبهته في حق نفسه فينظر في شبهة الأمة فإن كانت مكرهة قهرها الأب على نفسها ثبت شبهتها في سقوط الحد عنه فوجب المهر في وطئها وان لم يكن لها شبهة في حق نفسه وكانت مطاوعة، فلو كانت حرة لما وجب المهر وإذا هي أمة ففي وجوب المهر قولان: أحدهما: لا مهر لها لأنها بالمطاوعة قد صارت بغيا وقد "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مهر البغي" وهذا اختيار أبي إسحاق المروزي. والثاني: لها المهر ويملك الحد لأنه من إكسابه فلم يسقط بمطاوعتها وخالفت الحرة التي تملك ما أباحته من نفها ولا تملكه الأمة. ألا ترى أن الحرة لو بذلت قطع طرف من أطرافها لم يضمنه القاطع؛ لأن الباذل له مالك ولو بذلته الأمة ضمنه القاطع؛ لأن الباذل له غير مالك. وهذا اختيار ابن سريج. وأما الفصل الثالث: وهو ثبوت التحريم فالتحريم من وجهين: أحدهما: تحريمها على الابن. والثاني: تحريمها على الأب.

فأما تحريمها على الابن فمعتبر بوطء الأب فإن كان موجبا للحد لم يحرم به على الابن؛ لأن الزنا لا يحرم الحلال وان كان موجب للحد حرمت على الابن لأن الشبهة قد صرفته إلى حكم الوطء الحلال وأما تحريمها على الأب إن حكمها معتبر بحال الابن وان كان قد وطئها حرمت على الأب كزوجة الابن إذا وطئها الأب بشبهة حرمت عليهما معا. وان كان ~ل الابن فإن وطئها حلت للأب أن يطأها بحق ملكه فلو كان الابن قد قبلها أو وطها دون الفرج ففي تحريمها على الأب قولان. وأما الفصل الرابع: وهو وجوب قيمتها على الأب فلا يجب سواء حرمها على الابن أو لم يحرمها. وقال العراقيون: إن حرمها على الابن وجبت قيمتها عليه وهذا خطأ لأنها غير مستهلكة عليه بالتحريم لأنه قد يصل إلى ثمنها بالبيع فلم يلزمه بالتحريم غرم كما لو أرضعت زوجة الرجل أمته بلبنه حرمت عليه ولم يلزمها غرم قيمتها لوصوله إلى ثمنها لكن لو كانت بكرا فافتضها الأب لزمه أرش بكارتها؛ لأنه قد استهلك عضوا من بدنها فهذا ما يتعلق بأحكام وطئه إذا لم تحبل. فصل: فأما إذا أحبلها الأب بوطئه فالأحكام الأربعة لازمة له، ويختص بإحباله لها أربعة أحكام: أحدها: لحوق الولد به. والثاني: كونها أم ولد. والثالث: وجوب قيمتها. والرابع: وجوب قيمة الولد. فأما لحوق الولد به فإن وجب الحد عليه لم يلحق به الولد؛ لأن وجوب الحد لارتفاع الشبهة ولحوق الولد يكون مع وجود الشبهة فتنافيا وإذا كان كذلك ووجب الحد فصار زانيا وولد الزنا لا يلحق الزنى لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " الولد للفراش وللعاهر الحجر" ويكون الولد مرفوقا للابن وان لم يجب الحد على الأب لحق به الولد؛ لأن الشبهة في إدراء الحد موجبه للحوق الولد وإذا لحق به الولد صار حرا لأنه من شبهة ملك فكان حكمه كحكم الولد من ملك كما أن الولد من شبهة نكاح في نكاح الولدين نكاح. فصل: وأما كونها أم ولد فمعتبر بحال الولد فإن لم يلحق به لم تمر له أم ولد وان لحق به الولد فهل تصير أم ولد أم لا؟ على قولين: أحدهما: وهو المنصوص عليه في هذا الموضع أنها تعتبر له أم ولد وبه قال الربيع.

والثاني: وهو المنصوص عليه في الدعوى والبينات أنها لا تصير أم ولد وبه قال المزني فإذا قيل: بالأول إنها تصير أم ولد وهو اختيار الربيع وجمهور أصحابنا فوجهه هو انه لما لحق به ولاها بشبهة الملك كلحوقه به في المالك وجب أن تصير له أم ولا بشبهة الملك كما تصير له أم ولد بالملك. وإذا قيل بالثاني: إنها لا تصير أم ولد وهو اختيار المزني فوجهه أنه أولدها في غير ملك فلم تصر به أم ولد وان أعتق الولد كالغارة التي يتزوجها بشرط الحرية فتكون أمة ظ ن ولاها منه حر ولا تصير له أم ولد فأما المزني فإنه استدل بصحة هذا القول بثلاثة أشياء: أحدها: أن قال قد أجاز الشافعي للابن أن يزوج أباه بأمته ولو أولدها هذا الوطء الحلال لم تصر به أم ولد فكيف تصير أم ولد بوطء حرام؟ والثاني: أن قال: ليس للأب شريكا فيها كوطء أحد الشريكين إذا كان موسرا فتصير به إذا أولدها أم ولد؛ لأن الشريك ملكا وليس للأب ملك. والثالث: أنه قال لما تصر به أم ولد للشريك إذا كان معسرا وله ملك فلان لا عير هـ أم ولد للأب وليس له ملك أولى فانفصل أصحابنا عن استدلال المزني ترجيحا للقول الأول. فإن قالوا: أما استدلاله الأول بأن للابن أن يزوج أباه بأمته ولا تصير بالإحبال أم ولد فمرفوع عنه واختلفوا في سبب دفعه عنه فكان أبو العباس بن سريج وأبو إسحاق المروزي بنسبان المزني إلى السهو والغفل في نقله، وانه غلط في تزويجه لجارية أبيه إلى تزويجه لجارية ابنه، ومنعوا أن يتزوج الأب بجارية الابن وإن حل للابن أن يتزوج بجارية الأب، وأن الشافعي قد قال ذلك نصا في "الدعوى والبينات"؛ لأن على الابن أن يعف أباه فلم يجز أن يزوجه بأمته وليس على الأب أن يعف ابنه فجاز أن يزوجه بأمته وإنما كان وجوب إعفافه على الابن يمنعه من التزويج بأمة الابن؛ لأن الحر لا يجوز له أن ينكح الأمة إلا بشرطين: عدم الطول وخوف العنت فإن كان الأب موسرا لم يعدم الطول وان كان معسرا صار لوجوب إعفائه على الابن واجدا للطول فعلى هذا استدلاله مرفوع بغلطه، وقال آخرون: بل نقل المزنى صحيح في تزويج الأب بجارية ابنه ثم اختلفوا في صحة هذا النقل على وجهين: أحدهما: أنه عام في جواز تزويجه بها وأنه قول ثاني للشافعي أنه لا يلزم الابن إعفاف أبيه كما لا يلزم الأب إعفاف ابنه. والثاني: أنه جوز تزويجه بها في موضع مخصوص لا على العموم وان كان إعفافه على الابن واجبا ومن قال بهذا اختلفوا في موضع الخصوص الذي يجوز فيه تزويجه بها على وجهين: أحدهما: أن أباه كان مملوكا فزوجه بأمته لأن إعفافه لا يجب عليه ولو كان حرا لم يجز.

والثاني: أن الابن كان معسرا لا يملك غير الأمة وهو إليها محتاج فزوجه بأمته لأنه معسرا لا يجب عليه إعفاف أبيه ولو كان موسرا لم يجز فعلى هذا إذا كان له على هذا الوجه العام فتزويج أبيه بأمته لم تصر بإحبال الأب أم ولد فإن صارت بإحباله لها في غير نكاح أم ولد. والفرق بينهما أنه إذا وطئها بشبهة الملك من غير نكاح كان الولد حرا فانتشرت حرمته وتعدت إلى أمه فصارت به أم ولد وإذا وطئها في نكاح كان الولد مملوكا ليس له حرمة حرية تعقا إلى الأم فلم تصر به أم ولد. وأما استدلاله الثاني: في أنه ليس بمالك مخالف الشريك المالك فهو محجوج به لأنه لما صارت حصة غير الوطء أم ولد للواطئ وليت ملكا له ولا له فيها شبهة ملك فلأن تصير جارية الابن أم ولا للأب؛ لأن له فيها شبهة ملك وان لم يكن له فيها ملك أولى. وأما استدلاله الثالث: بأنه لما لم تصر حصة الشريك باعتبار الواطئ أم ولد للشريك الواطئ وله ملك فلأنه لا تصر للأب الذي ليس له ملك أولى فهو خطأ لأن إعصار الأب مخالف لإعسار الشريك لأن الأب يقوي شبهته بإعساره لوجب إعفافه والشريك تضعف شبهته بإعساره في أنه لا يتعدى عتقه إلى حصة الشريك ثم يسار الأب مخالف ليسار الشريك؛ لأن الأب عفافه ليساره والشريك يتعدى عتقه إلى حصة شريكه ليساره فمار إعسار الأب مساويا ليسار الشريك لا لإعساره وقد ثبت أن يساره موجب لكونها أم ولد فكذلك الأب. فصل: فأما وجوب قيمتها على الأب فعلى ضربين: أحدهما: أن يلحق به ولدها. والثاني: أن لا يلحق به فإن لم يلحق به ولدها لم يخل حالها من أحد أمرين: إما أن تموت بالولادة أو لا تموت فإن لم تمت بالولادة فليس عليها قيمتها؛ لأنها باقية على رق الابن. وهو قادر على بيعها وأخذ ثمنها وان ماتت بالولادة ففي وجوب قيمتها عليه لأجل استهلاكه لها لا أجل كونه أم ولد قولان ذكرناهما في كتاب "الغصب ". أحدهما: عليه غرم قيمتها لتلفها بسبب من جهته. والثاني: لا يلزمه غرم قيمتها لأن نشوء الولد الذي حدث به موتها ليس من فعله ولجواز أن يكون موتها بغيره فعلى هذا إن قيل الأول أنه غارم للقيمة لزمته قيمتها أكثر ما كانت من وقت الوطء المحبل والى وقت التلف وان نقصتها الولادة ولم تمت فمن نقص قيمتها كالمغصوبة. وعلى القول الثاني: لا يلزمه ضمانه قيمتها ولا ضمان نقصها فهذا حكم ضمانها إذا

لم يلحق به ولدها. فأما أذا لحق به ولدها فإن جعلناها له أم ولد ضمن قيمتها يوم العلوق؛ لأنها به صارت أم ولد سواء ماتت بالولادة أو لم تمت وسواء كان الأب موسرا أو معسرا ولا وجه لما فرق به بعض أصحابنا بين يساره وإعساره كوطء أحد الشريكين لأننا جعلناهم أو ولد للأب لحرمة الولد بشبهة الملك فاستوت الحال في يساره وإعساره ولو جعلناها في اعتبار الواطئ أم ولد لأدخلنا على الشريك الضرر ولم ترفعه عنه وان لم يجعلها للأب أم ولد فعلى ضربين: أحدهما: أن تموت بالولادة فيلزمه غرم قيمتها قولا واحدا بخلاف التي لم تلحق به ولدها في أحد القولين؛ لأن ولد هذه لا حق به فكان سبب موتها متصلا به وولد تلك غير لاحق فكان سبب موتها منفصلا عنه. والثاني: أن لا تموت فلا يلزمها قيمتها مدة لا في حال الحمل ولا بعد الوضع وقال أبو حامد الإسفراييني: يؤخذ بقيمتها مدة الحمل إلى أن تضع فإذا وضعت استرجع القيمة لأن الابن ممنوع من بيعها بإحبال الأب لها لكون ولدها حرا فلا يصح بيعها مع الولد لحويته ولا يجوز استثناء ولدها في البيع لأن بيع الحامل دون ولدها لا يصح فصارت ممنوعة من تصرف المالك فجرى عليها حكم المغصوبة إذا أبقت يؤخذ الغاصب بقيمتها حتى إذا عادت ردت القيمة كذلك هذه وهذا خطأ لأن القيمة إنما تستحق عنا استهلاك العين وتعذر القدرة على التصرف في الملك والعين هاهنا موجودة والتصرف فيها بغير البيع ممكن فلم يجز مع بقائها في يده وتصرفه فيها أن يجمع بينهما وبين قيمتها بخلاف المغصوبة إذا أبقت فسلم لم عليها يد ولا هو على التصرف في منافعها قادر وليس ما اقتضاه الشرع من تأخير بيعها إلى وقت الوضع موجبا لأخذ القيمة لأنه تأخير يتوصل به إلى التسليم كالمغصوبة إذا هربت إلى مكان معروف يؤخذ الغاصب يردها ولا يؤخذ بقيمتها كذلك هذه في مدة حملها فهذا وجه لم يفسر ما قاله من وجه ثان وهو أن القيمة إنما تستحق إذا ملكت ملكا مستقرأ في الظاهر لأن المقصود به إذا أبقت يحكم بقيمتها تغليبا لحكم الفوات وهذه القيمة لا تملك ملكا مستقرا وإنما تصير في يده إما كالعارية وأما كالوهن وليس واحد منهما بواجب فلماذا يحكم بها غير مملوكة ولا معارة ولا مرهونة يفسر من وجه ثالث وهو أنه يصير جامعا بين الرقبة والقيمة وأحدهما بال الآخر فلم يجز الجمع بينهما. فصل: وأما وجوب قيمة الولد فهو ضربين: أحدهما: أن يكون مملوكا لا يلحق بالأب فليس عليه قيمته لبقاء رقه ولا يعتق على الابن لأنه غير مناسب ولو ناسبه بالإخوة. والثاني: أن يكون الولد حرا قد لحق بالأب فهذا على ضربين:

أحدهما: أن لا تجعل أمه أم ولد ويستبقيها على وق الابن فيجب على الأب غرم قيمته؛ لأنه قد استهلك وقه بالحرية واعتبر قيمته وقت الولادة. وقال أبو يوسف: وقت الترافع إلى القاضي وهذا خطأ لتقدم استهلاكه بالحرية على وقت الترافع إلى القاضي؛ لأنه عتق وقت العلوق ولكن لم يتمكن الوصول إلى قيمته إلا عنا الولادة فلذلك اعتبرناها فيه ولو أمكن الوصول إلى قيمته وقت العلوق لاعتبرناه. والضرب الثاني: أن يجعل أمه أم ولد فهذا على ضربين: أحدهما: أن يضعه بعد دمع قيمتها فلا يلزم الأب قيمة ولدها: لأنها بدفع القيمة قد استقرت له أم ولد فصارت واضعة له في ملكه. والثاني: أن تضعه قبل دفع قيمتها وفي وجوب قيمته قولان مبنيان على اختلاف قوليه متى تصير أم ولد فأصح قوليه: إنها تصير أم ولد بنفس العلوق فعلى هذا لا يلزم قيمة الولد لأنها تضعه بعد كونها أم ولد. والقول الثاني: أنها تصير أم ولد بالعلوق مع دفع القيمة فعلى هذا يلزم قيمة الولد لأنها لم تكن وقت الولادة أم ولد فهذا حكم وطء الأب جارية ابنه وذلك لو وطء جارية بنته أو بنت ابنه أو ابن بنته أو من سفل من أولادهء والله أعلم. فصل: فأما إذا وطء الابن جارية أبيه فهو زان والحد عليه واجب إن لم يجهل التحريم بخلاف الأب لما قدمناه من الفرق بينهما في التسمية في الإعفاف وفي الحرمة في القصاص فيجري عليه حكم الزنا في وجوب الحد واستحقاق المهر إنه أكرهها وفيه إن طاوعته قولان: لا يلحق به ولدها ولا تصير به أم ولد وفي وجوب قيمتها قولان: وان كان جاهلا بتحريمها لإسلامه حديثا أو قدومه من بادية صار ذلك شبهة لم يسقط عنه الحد ووجب عليه المهر في الإكراه والمطاوعة ولحق به الولد مملوكا في حال العلوق؛ لأنه لم يكن له شبهة ملك كالأب ولا أعتقا حرية الموطوءة كالغارة فلذلك كان الولد في حالا العلوق مملوكا لكنه يعتق على الأب لأنه ابن ابنه ومن ملك ابن ابنه عتق عليه ولا يرجع بقيمته على الابن لأنه لما لم يملك قيمته ولا تصير الأمة أم الولد للابن في الحال ولا إن ملكها في ثاني حال؛ لأنها ما علقت منه بحر وإنما صار بعد الوضع حرا فلم يتعد إليها حكم حريته كما لو أولدها من نكاح ثم ملكها لم تصر له أم ولد! لأنها علقت منه بمملوك هكذا حكم الابن إذا وطء جارية أبيه أو جده أو جدته أو وطء الأخ جارية أخيه. فصل: وإذ قد مضى الكلام في وطء الأب جارية ابنه ووطء الابن جارية أبيه قد ذكر ما يجب على كل واحد منهما من إعفاف صاحبه. أما الابن فلا يجب على الأب إعفافه مران وجبت عليه نفقته: لأن نفقة الابن بعد الكبر مستصحبة لحال الصغر التي لا يراعى فيها

الإعفاف فاستقر فيه حكم ما بعد الكبر اعتبارا بحال الصغر. فأما الأب فوجوب إعفافه على الابن معتبر بوجوب نفقته عليه فإن كان الأب موسرا لم تجب عليه نفقته ولا إعفافه وان كان معسرا نظر فإن كان عاجزا عن الكسب بزمانه أو هرم وجبت نفقت وان كان قادرا عليه ففي وجوب نفقته قولان: أحدهما: تجب اعتبارا بفقره. والثاني: لا تجب اعتبارا بقدرته. فإن لم تجب تفقة الأب لم يجب إعفافه وان وجبت نفقته فإن لم يكن به إلى الزوجة حاجة لضعف شهوته لم يجب على الابن تزويجه وان كان محتاجا إلى النكاح لقوة شهوته فغي وجوب إعفافه على الابن قولان: أحدهما: نقله ابن خيران وتأوله غيره من كلام المزني هاهنا أنه لا يجب إعفافه وان وجبت نفقته وبه قال أبو حنيفة اعتبارا بأمرين: أحدهما: بالابن في أن وجوب نفقته لا تقتضي وجوب إعفافه لو احتاج. والثاني: بالأم في أن وجوب نفقتها لا تقتضي وجوب إعفافها لو احتاجت وان كان إعفافه معتبرا بالطرف الأدنى سقط بالابن وان كان معتبرا بالطرف الأعلى سقط بالأم. والقول الثاني: نص عليه في "الدعوى والبينات" وهو اختيار جمهور أصحابنا أن إعفافه واجب لنفقته لعموم قوله تعالى: {وصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: (15)] وانكاحه من المعروف ولأنه لما وقيت نفس الأب بنفس الابن فلم يقتص من الأب بالابن فأولى إن توقى نفسه بمال الابن في وجوب إعفافه على الابن وبهذا المعنى فوقنا بينه وبين الأب في الإعفاف للافتراق بينهما في القصاص فأما الفرق بين الأب والأم في الإعفاف هو أن إعفاف الأب إلزام فوجب على الابن واعفاف الأم اكتساب فلم يجب على الابن. فصل: فإذا تقرر وجوب الأب على أمح القولين, فالكلام فيه يشتمل على ثلاثة فصول: أحدها: فيمن يجب إعفافه من الآباء. والثاني: فيمن يجب عليه الإعفاف من الأبناء. والثالث: فيما يكون به الإعفاف. فأما الفصل الأول: فيمن يجب إعفافه من الآباء فهو كل والد فيه بعضية وان علا وسواء كان ذا عصبة من قبل الأب كأبي الأب أو كان ذا رحم كأبي الأم وهما في وجوب النفقة والإعفاف سواء وهكذا أبو الأب وأبو الأم وهكذا أبو أم الأب وأبو أم الأم هما سواء في الزوج وسواء في وجوب النفقة والإعفاف، وهكذا لو اختلف درجهما فكان أحدهما أبا أب والأخر أبا أم وجبت نفقتها واعفافها إذا أمكن تحمل الولد لهما. فأما إذا اجتمع وضاقت حال الابن عن نفقتهما واعفافهما وأمكنه القيام بأحدهما

فهذا على ضربين: أحدهما: أن يستويا في الدرج. والثاني: أن يتفاضلا. فإن استويا في الدرج فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون أحدهما عصبة والآخر ذا رحم كأبي أب الأب أبو أم الأم فالعصبة منهما أحق بتحمل نفقته وإعفائه من ذي الرحم لقوة سببه. والثاني: أن يكونا جميعا ذا رحم كأبي أم الأب وأبي أب الأم فهما سواء في الدرجة والرحم وإذا كان كذلك وجب أن يسري بينهما لاستوائهما في كيفية التسوية بينهما إذا أعجزه القيام يهما وجهان: أحدهما: ينفق على أحدهما يوما وعلى الآخر يومأ لتكمل نفقة كل واحد منهما في يومه. والثاني: وهو عندي أصح ينفق على كل واحد منهما في كل يوم نصف نفقته لتكون النفقة في كل يوم بينهما فأما الإعفاف فلا يجيء فيه هذان الوجهان, لأن المهايأة بينهما على الوجه الأول لا يمكن والقسمة بينهما فيه على الوجه الثاني لا يمكن وإذا لم يمكنا وجب مع استواء سيدهما أن يقرع بينهما فيه فأيهما قرع كان أحق بالإعتاق من الآخر وأما إن تفاضلا في الدرج فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون الأقرب عصبة والأبعد ذا وحم كأبي الأب وأبي أم الأم فيكون أبو الأب أحق بالنفقة والإعفاف من أبي أم الأم لاختصامه بسببي القربى والتعصيب. والثاني: أن يكون الأقرب ذا وحم والأبعد عصبة كأبي الأم وأبي أبي الأب فقد قال أبو حامد الإسفراييني: هما سواء لأن الأقرب منهما ناقص الرحم والأبعل منهما زائد بالتعصيب فتقابل السببان فاستويا وهذا الذي قال عندي غير صحيح بل الأقرب منهما أحق وان كان ذا وحم من الأبعد. وان كان ذا تعصيب, لأن المعنى في استحقاق النفقة والإعفاف هو الولاية دون التعصيب فلما تساوت الدرج وقوي أحدهما بالتعصيب كان أحق كأخوين أحدهم لأب وأم الآخر لأب. وإذا اختلف الدرج كان الأقرب أحق وان قوي الأخر لتعصيب كأخ لأب وابن أخ لأب وأم. وأما الفصل الثاني: فيمن يجب عليه الإعفاف من الأبناء فهم البنون ثم البنات ثم بنوهما وان بعدوا فيجب على الابن إذا كان حرا موسرا دون البنت وان كانت موسرة كما يتحمل الأب نفقة ابنه دون الأم فإن أعسر به الابن تحملته البنت كما لو أعسر الأب تحملتها الأم فلو كان للأب ابنان موسران تحملا بينهما نفقته واعفافه فيحمل كل واحد نصف الإعفاف في كيفية تحمله لنصف النفقة وجهان على ما مضى فلو كان أحدهما موسرا والآخر معسرا تحمل ذلك الموسر منهما دون المعسر فلو أيسر المعسر وأعسر

الموسر تحولت النفقة من المعسر إلى الموسر فأما الإعفاف فإن كان قد عجز من أعسر سقط عمن أيسر إلا ما يستحق بالإعفاف من نفقة الزوجة وان لم يحمل من أعسر وجب أن يلتزمه من أيسر فلو كان للأب بنت وابن ابن وهما موسران إن كان ابن الابن أحق بتحملها من البنت كما يكون الجد أحق بتحمل النفقة من الأم فلو كان له ابن بنت وبنت ابن ففي أحقهما بتحمل الإعفاف والنفقة ثلاثة أوجه: أحدهما: ابن البنت لأنه ذكر. والثاني: بنت الابن لإدلائها بذكر. والثالث: أنهما سواء لأن الذكر يدلي بأنثى والأنثى مدليه بذكر فصار في كل واحل ة من الجهتين ذكر وأنثى فلو أعف الابن أباه ثم أيسر الأب سقطت عن الابن نفقته ونفقة من أعفه بها من زوجة، أو أمة ولم يكن للابن أن يرجع على أبيه بالأمة إن كان قد أعفه بها ولا بصداق الحرة إن كان قد زوجه بها, لأنه قد يستحقه بسبب لا يعتبر استدامته كما لا يعتبر استدامة عدم الطول وخوف العنت بعد نكاح الأمة. وأما الفصل الثالث: فيما يكون به الإعفاف فهو ما خص الفرج من استمتاع بحرة يزوجه بها أو تسري بأمة يملكه إياها والخيار سيفه بين التزويج والتسري إلى الابن دون الأب فإن أراد الابن أن يزوجه بنفسه لم يجز لأن الأب وشيد لا يولى عليه ولكن يتزوج الأب ويلتزم الابن صداق الزوجة ثم نفقتها وكسوتها وليس للأب أن يغالي في صداق زوجته وفيما يستحقه من ذلك وجهان: أحدهما: أقل صداق من تكافئه من النساء اعتبارا بحاله. والثاني: من يستمتع بها من جميع النساء اعتبارا بحاجته وليس على الابن أن يحمله على تزويج من لا متعة فيها من الأطفال وعجائز النساء وذوات العيوب التي يفسخ بها النكاح ومن تشوه خلقها لنفور النفس عنها. وتعذر الاستمتاع بهن لكن لا فرق بين المسلمة والذمية. فأما الأمة فلا يجوز أن يزوجه بها, لأن الأمة لا يتزوجها إلا من عدم الطول وهو بالابن واجد للطول فهذا حكم إعفافه بالتزويج. فأما إعفافه بملك اليمين فالابن بالخيار بين أن يهب له أمة من إمائه على الوصف الذي ذكرنا ببذل وقبول واقباض لينتقل بصحة الهبة بالبذل والقبول واستقرارها بالقبض في في ملك الابن إلى ملك الأب وبين أن يأذن له في ابتياع أمة يرفع عنه ثمنها فإن ابتاعها الابن له نظر فإن كان بإذنه مع الشراء له وجاز له الاستمتاع بها لاستقرار حكمه فيها وان كان بغير إذنه فالشراء للابن دون الأب لأن الشراء للرشيد بغير إذنه لا يصح فإن استأنف الابن هبتها له على ما ذكونا صارت ملكا له بالهبة دون الثراء وجاز له الاستمتاع بها ثم على الابن التزام نفقتها وكسوتها كالحرة فلو أذن الابن لأبيه في وطء أمة له لم يهبها له لم يجز للأب وطئها لأن الأمة لا يجوز وطئها إلا بملك يمين أو عقد نكاح والأب لم يملكها بهذا الإذن ولا يصح أن يتزوجها لوجود الطول فلو زوجه الابن أو سراه فأعتق الأب أو

طلق لم يلزمه الابن أن يزوجه ويسر به ثانية بعد طلاقه, لأن الأب قد استهلك بنفسه ما استحقه من ذلك فلو ألزم الابن مثله لفعل الأب مثله فأدى إلى ما لا نهاية له ولكن لو ماتت الزوجة أو الأمة حتف أنفها ففي وجوب إعفافه على الابن ثانية وجهان: أحدهما: يجب عليه لبقاء السبب الموجب له وأنه غير منسوب إلى تفويت حقه منه. والثاني: أنه لا يجب عليه غير الأولى, لأنه عقد يوضع للتأبيد في الأغلب، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " قَالَ اللهُ تًعَالَى: {والَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: (5)] الآيَة، وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَرَادَ الأَحْرَارَ, لأَنَّ العَبِيدَ لَا يَمْلِكُونَ. وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "مَنْ بَاعَ عَبْداً وَلَهُ مَالٌ فَمَاُلُه لِلْبَائِع إِلَّا أَنْ يَشْتَرِطُه الُمبْتَاعُ" فَدَلَّ الكِتَابُ وَالسُّنَّهُ أَنَّ العَبْدَ لَا يَمْلِكُ مَالاً بِحَالٍ وَإِنمَا يُضَافُ إِليْهِ مَالُهُ كَمَا يُضَافُ إِلَى الفَرَسِ سَرْجُهُ وَاِلَى الرَّاعي غَنَمُةُ، فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ العَبْدَ يَتَسَرَّى. قِيلَ: وَقَدْ رُوِىَ خِلَافُهُ، قَالَ ابن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا لَا يَطَأُ الرَّجُلُ إِلَّا وَليدَةً إِنْ شَاءَ بَاعَهَا وَاِنْ شَاءَ وَهَبَهَا وَاِنْ شَاءَ صَنَعَ بِهَا مَا شَاء". قال في الحاوي: إنما أراد الشافعي بهذا هل للعبد أن يتسرى وهو مبني على أن العبد هل يملك إذا ملك أم لا؟ فلا يختلف الفقهاء أنه ما لم يملك السيد لم يملك، ويكون جميع ما يكتسبه من صيد أو حشائش أو بصنعة أو عمل ملكا لسيده دونه، وإن ملكه السيد فهل يملك أم لا؟ على قولين: أحدهما: وهو قوله في القديم: إنه يملك إذا ملك وبه قال مالك: داود ثم اختلفوا في حكم ملكه على هذا القول فعلى مذهب الشافعي يكون ملكا ضعيفا لا يتحكم فيه إلا بإذن السيد وللسيد استرجاعه. وقال مالك: هو ملك قوي يتحكم فيه كيف شاء اه لكن للسيد استرجاعه. والثاني: قاله الشافعي في الجديد أنه لا يملك إذا ملك. وبه قال أبو حنيفة، وقد مضى توجيه القولين في كتاب "البيوع" فإذا تقرر القولان وأراد العبد أن يتسرى بأمة فإن لم يملك السيد إياها لم يكن له أن يطأها وان أذن له السيد فيه لأنه لا يحل لأحد أن يستبيح إلا وطء زوجة أو ملك يمين وليست هذه الأمة المأذون للعبا في وطئها زوجة له ولا ملك يمين فلم يحل له وطئها لمجرد الإذن كما لا يحل لغيره من الناس أن يطأها متسريا لها ما لم يأذن له السيد في وطئها وان صار مالكا لها, لأنه ملك ضعيف فإن أذن له في وطئها جاز له حينئذ التسري بها لم يرجع السيد في ملكه أو إذنه.

وروي عن ابن عباس أنه أجاز لعكرمة أن يتسرى بجارية أعطاه إياها. وروي عن ابن عمر أن العبد يتسرى وان رجع السيد في ملكه حرم محلى السيد أن يتسرى بها لزوال السبب الذي استباح به التسري فلو كان العبد قد أولدها صارت أم ولد له وحرم عليه بيعها فإن رجع السيد عليه بها جاز للسيد بيعها, لأنها صارت أم ولد في حق العبد لا في حق السيل هذا كله حكم قوله في القديم. فأما على قوله في الجديد: فلا يملكها العبد, وان ملكه السيد ولا يجوز أن يتسرى بها وان أذن له السيد، والمروي عن ابن عباس أنه أجاز لعكرمة أن يتسرى بجارية أعطاه إياها، فالمروي خلافه وهو أنه كان قد زوجه بها ثم طلقها عكرمة بغير إذنه، وكان ابن عباس رد طلاق لا يقع بغير إذن سيده، فأمره بالمقام عليها فكره عكرمة ذلك فأباحه أن يتسرى بها تطيبا لنفسه ومعتقدا أن الإباحة لعقد النكاح. وأما ابن عمر فقد روي عنه خلاف ما ذكر قال ابن عمر: لا يطأ الرجل إلا وليدة إن شاء باعها وان شاء صنع بها ما شاء. يريد بذلك الأحرار دون العبيد لكن إن وطئها العبد على هذا القول فلا حد عليه لمكان الشبهة. فصل: فلو زوج الرجل عبده بأمته ثم باعها أو أحدهما أو وهبهما أو أحدهما كان النكاح بحاله ولو وهب العبد لزوجته وأقبضها أباه فعلى قوله في القديم: يملكه بالهبة ويبطل النكاح, لأن المرأة لا يصح أن تملك زوجها فتكون بعد الملك زوجا لها وهكذا لو وهبت الأمة لزوجها ملكها وبطل نكاحها وعلى قوله في الجديد: لا يصح الهبة ويكون النكاح بحاله. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ عنه: "وَلَا يَحِلُّ أَنْ يَتَسَرَّى العَبْدُ وَلَا مَنْ لَمْ تَكْمُلْ فِيهِ الحُرَّيَّةُ بِحَالٍ" قال في الحاوي: أما التسري فهو الاستمتاع بالأمة لأنها تسمى إذا كانت من ذوات المتع سرية وفي تسميتها بذلك تأويلان: أحدهما: أنه مأخوذ من السر وهو الجماع, لأن المقصود من الاستمتاع. والثاني: أنه مأخوذ من السرور لأنها تسر المستمتع بها. فأما تسري العبد فقد مضى الكلام فيه وكذلك حكم المدبر والمخارج والمعتق على صفة لم توجا والمكاتب. فأما من تبغضبت فيه الحرية والرق فكان نصفه حرا ونصفه مملوكا فهو يملك بعضه الحر من إكسابه مثل ما يملكه السيد بنصفه المملوك فإن هايأه

السيد على يوم ويوم كان ما كسبه في يومه ملكا له وما كسبه في يوم سيده ملكا لسيده وان لم يهايئه كان نصف ما كسبه العبد في كل يوم ملكا لنفسه ونصفه ملكا للسيد فإذا اشترى بما ملكه من كسبه أمة ملكها مستقرأ: لأنه ملك بحريته بتمليك سيده لكن ليس له وطئها بغير إذن سيده وان ملكها لأمرين: أحدهما: أن أحكام الرق عليه أغلب في جميع أحكامه فكذلك في تسريه. والثاني: أن الحرية لا تتميز في أعضائه من الرق فكل عضو منه مشترك الحرية والرق فلم يجز أن يطأ بعضو بعضه مرقوق للسيد إلا بإذنه كما لو كان جميعه مرقوقا فإذا ثبت هذا فالشرط في إباحة تسريه أذن السيد دون تمليكه وأن افتقر في العبد إلى تمليكه وإذنه لأن هذا مالك فلم يفتقر إلى تمليكه والعبد غير مالك فافتقر إلى تمليكه فإذا أذن له جاز تسريه فإن أولدها صارت له أم ولد وحرم بيعها بكل حال: لأنها ملكت بحريته فجرى عليها حكم أمهات الأولاد, وكان أولاده منها أحرارا لاختصاصهم بحريته دون رقة. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ عنه: "وَلَا يَفْسَخ نٍكَاحَ حَامِلً مِنْ زِناً وَأُحِبُّ أَنْ تُمْسَكَ حَتَّى تَضَعَ. وَقَالَ رَجُلٌ لِلْنَّبِيَ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ امْرَأَتِي لاَ مِس قَالَ: "طَلَّقْهَا" قَالَ: إِنَّي أُحِبُّهَا قَالَ: "فَأَمْسِكْهَا". وَضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رّضِي الله عَنْهُ رَجُلاً وامُرَأةً في زِناً وَحَرَصَ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَهُمَا فَأَبَى الغُلاَمُ". قال في الحاوي: اعلم أننا نكره للعفيف أن يتزوج بالزانية ونكره للعفيفة أن تتزوج بالزاني لعموم قوله تعالى: {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا} [النور: (3)] ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فعليك بذات الدين تربت يداك" وإذا كان كذلك فالكلام في نكاح الزانية يشتمل على ثلاثة فصول: أحدها: في الرجل إذا زنا بامرأة هل يحل به نكاحها أم لا؟ والثاني: في زوجة الرجل إذا زنت هل يبطل نكاحها أم لا؟ فأما الفصل الأول في الرجل إذا زنا بامرأة فيحل له أن يتزوجها وهو قول جمهور الصحابة والفقهاء. وذكر عن علي بن أبي طالب رضوان ا~ عليه والحسن البصري أنها قد حرمت عليه أبدا فلا يجوز أن يتزوجها بحال. وقال أبو عبيدة وقتادة وأحمد بن حنبل وإسحاق: إن تابا من الزنا حل أن يتزوجها وان لم يتوبا لم يحل. قالوا: والتوبة أن يخلو أحدهما بصاحبه فلا يهم به استدلالا بقوله تعالى: {الزَّانِي لا

يَنكِحُ إلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى المُؤْمِنِينَ) [النور: (3)] فكان ما تقدم من المنع ولا تعقب من الترحيم نصاً لا يجوز خلافه ودليلنا قوله تعالى بعد ذكر المحرمات من ذوات الأنساب: {وأُحِلَّ لَكُم مَّا ورَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]. فكان على عمومه في العفيفة والزانية. وروى ابن شهاب عن عروة عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لا يحرم الحرام الحلال" وهذا نص، ولأنه منتشر في الصحابة بالإجماع، روي ذلك عن أبي بكر، وعمر، وابن عمر، وابن عباس، وجابر, فروي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: "إذا زنى رجل بامرأة لم يحرم عليه نكاحه". وروي عن عمر رضي الله عنه أن رجلا تزوج امرأة وكان لها ابن عم من غيرها ولها بنت من غيره، ففجر الغلام بالجارية وظهر بها حمل فلما قدم عمر مكة رفع إليه فسألهما فاعترفا، فجلدهما عمر الحد وعرض أن يجمع بينهما فأبى الغلام. وروي عن عبد الله بن عمر أنه كان له أمة وعبد، فظهر بالأمة حمل، فاتهم بها الغلام، فسأله فأنكر، وكان للغلام أصبع زائدة، فقال له: إن أتت بولد له أصبع ذائدة جلدتك فقال: نعم، فوضعت ولدا له أصبع زائدة فجلده ثم زوجه بها. وروي عن ابن عباس: أنه سئل أيتزوج الزاني بالزانية؟ فقال: نعم ولو مرق رجل من كرم عنبا لكان يحرم عليه أن يشتريه. فهذا قول من ذكرنا ولم يصح عن غيرهم خلافه فصار إجماعا فأما استدلالهم بالآية. فقد اختلف أهل التأويل فيها على ثلاثة أقاويل: أحدهما: أنها نزلت مخصوصة في رجل من المسلمين استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأة يقال لها أم مهزول من بغايا الجاهلية من ذوات الروايات، وشرطت له أن تنفق عليه، فأنزل الله هذه الآية فيه، وهذا قول عبد الله بن عمرو ومجاهد. والثاني: أن المراد بالآية أن الزاني لا يزني إلا بزانية ولا يزني فيها إلا زان وهذا قول ابن عباس. والثالث: أن الولاية عامة في تحريم نكاح الزانية على العفيف ونكاح العفيفة على الزاني ثم نسخه قوله تعالى: {فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] وهذا قول سعيد بن المسيب. فصل: وأما الفصل الثاني في زوجة الرجل إذا زنت عل ينفسخ نكاحها أم لا؟ فمذهب

الشافعي وجمهور الفقهاء أن النكاح صحيح لا ينفسخ بزناها وهو قول الصحابة إلا حكاية عن علي بن أبي طالب ورضوان الله عليه أن نكاحها قد بطل وهو قول الحسن البصري لتحريم اجتماع المائين في فرج. ودليلنا مع ما قدمناه من حديث عائشة ما رواه أبو الزبير عن جابر قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي لا ترد يد لامس قال: "طلقها" قال: إني أحبها قال: "استمتع بها" فكنى بقوله: "لا ترد يد لامس" عن الزنا فأمره بطلاقها ولو انفخ نكاحها بالزنا لما احتاج إلى طلاق ثم لما أخبره أنه يحبها أذن له في الاستمتاع بها ولو حرمت عليه لنهاه عن الاستمتاع بها ولا أعلمه تحريمها. فإن قيل: فالمراد بقوله: "لا ترد يد لامس" أنها لا ترد متصدقا طلب منها ماله. قيل: هذا خطأ من وجهين: أحدهما: أنه لو أراد هذا لقال لا ترد يد تلتمس لأن الطالب يكون ملتمسا واللامس يكون مباشرا فلما عدل إلى يد لامس خرج عن هذا التأويل: أحدهما: أنه لو أواد هذا لقال لا ترد يد ملتمس, لأن الطالب يكون ملتمسا واللامس يكون مباشرا فلما عدل إلى يد لامس خرج عن هذا التأويل. والثاني: أنها لو كانت تتصدق بماله لما خرج قوله فيها مخرج الأم ولما أمر بطلاقها ولأمره بإحراز ماله منها. وروي أن رجلا قال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلاما أسودا فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لعل عرقا نزعه" فكان ذلك منه كناية عن زناها بأسود فلم يحرمها عليه, ولأن العجلاني أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وجد مع امرأته رجلا فلاعن بينهما ولم يجعلها بالزنا حراما. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا تزنوا فتزني نساءكم فإن بني فلان زنوا فزنت نساؤهم" فدل هذا على بقائهم مع الأزواج بعد الزنا فأما تحريم اجتماع المائين في فرج فنحن على تحريمهما وإذا اجتمعا ثبت حكم الحلال منهما وسقط حكم الحرام. الفصل: وأما الفصل الثالث: في الزنا هل يتعلق عليه شيء من أحكام النكاح أم لا؟ فالكلام في هذا يشتمل على فصلين: أحدهما: في الزنا هل ينشر عنه حرمته في تحريم المصاهرة حتى تحرم عليه أمهاتها

وبناتها ويحرم على آبائه وأبنائه أم لا؟ والكلام في باب مفرد يأتي عن ذكره فيه. والثاني: هل لما ذكرناه حرمة تجب بها العدة أم لا؟ فمذهب الشافعي: أنه لا حومة في وجوب العدة منه سواء كانت حاملا من الزنا أو حائلا وسواء كانت ذات زوج فيحل للزوج أن يطأها في الحال أو كانت خلية فيجوز للزاني وغيره أن يستأنف العقه عليها في الحال حاملا كانت أو حائلا غير أننا نكره له وطها في حال حملها حتى تضع. وقال مالك وربيعة والثوري والأوزاعي وإسحاق: عليها العدة من وطء الزنا بالإقرار إن كانت حائلا ووضع الحمل إن كان حاملا فإن كانت ذات زوج حرم عليه وطئها حتى تنقضي عدتها بالإقرار أو بالحمل. وقال ابن شبرمة وأبو يوسف: إن كانت حاملا حرم نكاحها حتى تضع وان كانت حائلا لم يحرم نكاحها ولم تعتد. وقال أبو حنيفة: لا يحرم نكاحها حاملا ولا حائلا لكن إن نكحها حاملا حرم عليه وطئها حتى تضع. فأما مالك فاستدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض". وأما أبو يوسف فاستدل بقول الله تعالى: {وأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: (4)]. وأما أبو حنيفة فاستدل بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسق بمائك زرع غيرك" والدليل على جماعتهم حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحرم الحرام الحلال " وأن عمر حين جلد الغلام حرص أن يجمع بينهما من غير اعتبار عدة فأبى الغلام ولأن وجوب العدة من الماء إنما يكون لحرمته ولحوق النسب به ولا حرمة لهذا الماء تقضي لحوق النسب فلم تجب منه العدة, ولأنه لما انتفي عن الزنا سائر أحكام الوطء الحلال من المهر والنسب والإحسان والإحلال للزوج الأول انتفي عنه حكمه في العدة. فأما استدلال مالك بقوله عليه السلام: ألا لا توطأ الحامل حتى تضع فهذا وارد في سبي أوطاس وكن منكوحات وللإماء حكم يخالف الحرائر في الاستبراء. وأما استدلال أبي يوسف بقوله تعالى: {وأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]. فالمراد به من الزوجات المطلقات بدليل ما في الآية من وجوب نفقاتهن وكسوتهن من قول: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وجْدِكُمْ ولا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وإن كُنَّ أُوْلاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6].

وأما استدلال أبي حنيفة بقوله: "لا تسق بمائك زرع غيرك" فإنما أراد فرعا بنسب إلى غيره وهو الحلال الذي يلحق بالواطء والحرام الذي يضاف إلى أحد فلم يتوجه النهي على أن هذا الحديث وارد في رجل يملك أمة وسأل هل يطأها فقال: "لا تسق بمائك زرع غيرك" إشارة إلى ماء البائع وذاك حلال بخلاف الزنا، والله أعلم. نكاح العبد وطلاقه قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "وَيَنْكَحُ العَبْدُ اثْنَتَيْنِ وَاحْتَجَّ في ذَلكَ لعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ وَعَلىَّ بْنِ أَبِى طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ". قال في الحاوي: قد مضى الكلام في العبد وأنه لا يحل له أن ينكح أكثر من اثنتين وخالف مالك فيجوز له نكاح أربع كالحر وقد مضى الكلام معه وكذلك المدبر والمكاتب ومن فيه جزء من الرق وان قل ما لم تكمل فيه الحرية وسواء جمع بين حرتين أو أمتين أو حرة وأمة تقدمت الحرة على الأمة أو تأخرت. وقال أبو حنيفة: ليس للعبد أن يتزوج الأمة على الحرة كالحر. وهذا خطأ لأن الحر أغلظ حكما في نكاح الأمة لكماله ونقصهما من العبد الذي ساوى الأمة في نقصها, لأن نكاح الحر مشروط بخوف العنت وعدم الطول فنكاح العبد غير مشروط بخوف العنت فلم يكن مشروطا بعدم الطول. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وقال عمر يطلق تطليقتين وتعتد الأمة حيضتين والتي لا تحيض شهرين أو شهراً ونصفاً. وقال ابن عمر" إذا طلق العبد امرأته اثنتين حرمت عليه حتى تنكح زوجاً غيره وعدة الحرة ثلاث حيض والأمة حيضتان وسأل نقيع عثمان وزيداً، فقال: طلقت امرأة لي حرة تطليقتين فقال: حرمت عليك. قال الشافعي: وبهذا كله أقول". قال في الحاوي: وهذا كما قال لا يملك العبد من الطلاق إلا اثنتين في الحرة والأمة ويملك الحر ثلاثا في الحرة والأمة فيكون الطلاق معتبرا بالزوج دون الزوجة. وقال أبو حنيفة: الطلاق معتبر بالزوجات دون الأزواج فيملك زوج الحرة ثلاث طلقات حرا كان أو عبدا وزوج الأمة تطليقتين حرا كان أو عبدا استدلالا سنذكره من بعد مستوفيا لقول الله تعالى: {إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] فجعل الطلاق معتبرا بالعدة ثم كانت العدة معتبرة بالنساء دون الأزواج فكذلك الطلاق. ولما روى عطية العوفي عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "طلاق الأمة

اثنتان وحيضتها اثنتان وعدتها حيضتان"، فجعل الطلاق والعدةَ معتبرا بالمطلقةَ والمعتدةَ ولأن الحر لما ملك اثنا عشر طلقةً في الحرائر الأربع وجب أن يملك العبد ست طلقات في الحرتين ليكون على النصف في عدد الطلقات كما كان على الصف في عدد الزوجات. ودليلنا قوله تعالى: {هَل لَّكُم مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} [الروم: (28)] إنكار لتساويهما في شيء من الأموال فكذلك في الطلاق لأنه نوع الملك. وروي عن أم سلمة أنها قالت: يا رسول الله كم طلاق العبد فقال: "طلقتان" قالت: وعدة الأمة. قال: "حيضتان". وروت عائشة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: يطلق العبد تطليقتين وتعتد الأمة حيضتين وكذلك قال عمر خاطبًا على المنبر. وروى يحيى بن آبي كثير عن آبي سلمةً قال: حدثني نفيع أنه كان مملوكًا وتحته حرةُ فطلقها طلقتين وسأل عثمان وزيد بن ثابت فقالا: طلاقك طلاق عبد وعدتها عدةً حرة. وروي عن أبي سلمةً وابن عباس قال: قد حرمت عليك، وليس لمن ذكرنا فخالف من الصحابةَ فكان إجماعًا ولأنه لما ملك الحر رجعتين وجب أن يملك العبد رجعةً واحدةً لأنه فيما يملك بالنكاح على النصف من الحر. فأما استدلاله بالآية فالمقصود بها وقوع الطلاق في العدةً؛ لأنه في العدةً معتبر بالعدةً وأما الخبر فمحمول على أنه كان زوجها عبدًا؛ لأن الأغلب من الأزواج الإماء العبيد وأما استدلاله بأنه لما ملك الحر اثنتي عشر طلقةً وجب أن يملك العبد ست طلقات فخطأ لأن العبد يملك زوجتين والحر يملك في الزوجتين ست طلقات فلم يجز أن يساويه العبد فيهن ووجب أن يكون مالكًا لنصفهن، وكان قياسه أن يملك ثلاث طلقات في الزوجين لكن لما لم يتبعض الطلاق فيصير مالكًا لطلقةً ونصف في كل واحدةً كما الكسر فصار مالكًا لأربع طلقات في الزوجتين، فكان هذا استدلالًا بأن يكون لنا دليل أشبه. مسألة: قال الشافعي: "وإن تزوج عبد بغير إذن سيده فالنكاح فاسد وعليه مهر مثلها إذا عتق".

باب ما يحرم وما يحل من نكاح الحرائر ومن الإماء

قال في الحاوي: قد مضى الكلام في أن ليس للعبد أن يتزوج بغير إذن سيده لقوله - صلى الله عليه وسلم - "أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فقد عاهر" فإن تزوج بغير إذنه فقد ذكرنا بطلان نكاحه، وإن أبا حنيفة جعله موقوفًا على إجازةُ سيده وملك إمضائه وجعل لسيده استئناف فسخه وذكرنا من حال المهر أن ينكح بإذنه وغير إذنه ما أقنع، فأما إذا دعا العبد سيده إلى تزويجه فقد ذكرنا في إجبار السيد على إنكاحه قولين. فلو أراد السيد إجبار عبده على التزويج فقد ذكرناه على قولين: فأما الأمةَ إذا أراد السيد إجبارها على التزوج فله ذلك قولًا واحدًا، ولو دعت الأمةَ السيد إلى تزويجها لم يجبر عليه إذا كانت تحل له، ولأنها فراش له لو استمتع بها فإن كانت ممن لا تحل له لكونها أخته أو خالته أو عمته من نسب أو رضاع فهل يجبر السيد على تزويجها إذا دعته إليه آم لا؟ على وجهين مخرجين من اختلاف قوليه في إجباره على تزويج العبد وهكذا لو كانت الأمة ملكاً لامرأة كان في إجبارها على تزويجها وجهان. مسألة: قال الشافعي: " فَإِنَّ أَذَّنَ لَهُ فَنَكُحُّ نكاحَا فَاسَدَا فِيهَا قَوْلَانِ: أحدهما أَنَّه كإذنه لَهُ بالتجَارةً فَيُعْطِي مِنْ مَالِ إِنَّ كَانَ لَهُ وَإلّا فَمَتَى عتقَ والأخر كَالْضُّمَّانِ عَنْه فَيُلْزِمُهُ أَنْ يَبِيعَهُ فِيه إلّا أَنْ يُفَدِّيَهُ ". قال في الحاوي: وهذا مما ذكرناه وأن الفاسد من مناكح العبد هل تدخل في مطلق إذن السيد أم لا؟ على قولين وذكرنا من التفريع عليهما ما أجزأ والله أعلم بالصواب. باب ما يحرم وما يحل من نكاح الحرائر ومن الإماء مسألة: قال لشافعي رحمه الله: "أصْلُ مَا يُحْرِمُ بِهِ النَّسَّاءَ ضَرَبَانَ أحدهما بأنساب والأخر بأسباب مِنْ حادِثِ نكاحِ أَوْ رَضّاعٍ". قال في الحاوي؛ المحرمات من الماء ضربان ت أحدهما: ضرب حرمت أعيانهن على التأبيد، وضرب حرم تحريم جمع فأما المحرمات الأعيان على التأييد فضربان: أحدهما: بأنساب. والثاني: بأسباب. فأما المحرمات بالأنساب فالتحريم طارئ عليهن وقد نص الله عليهما في كتابه فنص على تحريم أربع عشرةَ امرأةً: سع منهن حرمن بأنساب، سبع منهن حرمن بأسباب.

فأما السبع المحرمات بالأنساب فضربان: ضرب حرمن برضاع وضرب حرمن بنكاح وهن المذكورات في قوله تعالى: {وأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: (23)] فذكر من المحرمات بالرضاع اثنتين ثم قال: {وأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ورَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: (23)] وقال في آيةً أخرى: {ولا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: (22)] فذكر من المحرمات بالنكاح خمسا: أربع منهن تحريم تأييد وخامسةَ تحريم جمع، وهو الجمع بين الأختين فقدم الله تعالى ذكر السبع المحرمات بالأنساب لتغليظ حرمتهن وأن تحريمهن لم يتأخر عن وجودهن فأول من بدآ بذكرها الأم لأنها أغلظ حرمة فحرمها بقوله: {ُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء; (23)] واختلف أصحابنا في هذا التحريم المنصوص عليه إلى هذا الوجه على وجهين: أحدهما: وهو قول الأكثرين أنه متوجه إلى العقد والوطء معاً. والثاني: أنه متوجه إلى العقد. فأما الوطء فحرم بالعقل والأول من الوجهين أصح؛ لأن العقل لو أوجب تحريم وطئها لما منع آن يكون الشرع وارد به ومؤكدًا له وإذا حرمت الأم فكذلك أمهاتها وإن علون من قبل الأم كأم الأم وجدتها ومن قبل الأم كأم الأب وجداته لكن اختلف أصحابنا هل حرمن بالاسم أو بمعناه على وجهين: أحدهما: حرمن بالاسم قال الشافعي: لأن كلا تسمى أماً. فعلى هذا يكون اسم الأم منطلقاً على كل واحدةً منهن حقيقةً لغة وشرعا. والوجه الثاني: حرمن لمعنى الاسم وهو وجود الولادةَ والعصبةَ فيهن فحرس كالأم لاشتراكهما في المعنى دون حقيقةَ الاسم ويكون انطلاق اسم الأم عليهن مجازاً في اللغة وحكماً في الشرع. فلو أن رجلًا وطئ أنه يعقد آو غير عقد حد حدّ الزنا وقال أبو حنيفة: لا حدّ عليه وجعل العقد شبهةً في أدارئه عنه. وهذا خطأ لأن النص المتطوع به يمنع من دخول الشبهةَ عليه لا خروجه من آن يكون نصاً قاطعاً. والثاني: من المحرمات البنات فهن محرمات على الآباء وهل تناول النص فيهن تحريم العقد والوطء معاً أم لا؟ على ما ذكرنا من الوجهين ثم كذلك بنات البنات والأبناء وإن سلفن ثم على ما ذكرنا من الوجهين: أحدهما: حرمن بالاسم قال الشافعي: لأن كلا يسمى بنتاً. والثاني: بمعنى الاسم من وجود الولادةً والبغضيةً فلو أن رجلا وطئ بنته بعقد أو غير عقد حدّ، وأبرأ أبو حنيفة عنه الحد بالعقد. والثالث: من المحرمات: الأخوات فنكاحهن حرام وسواء كانت أختاً لأب وأم

وأختاً لأب أو أختاً لأن وهي باسم الأخوات محرمات فلو وطئ رجل أخته نظر فإن كان بعقد نكاح حدّ وإن كان بملك يمين ففي وجوب حده قولان: أحدهما: يحد كالنكاح. والثاني: لا يحد لوطئه بالملك فإن حد لوطئه بالنكاح لارتفاع النكاح فزالت الشبهةً والملك ثابت فيها فثبتت شبهته، والأم تحد في وطئها بنكاح وملك لأن ملكها يزول بشرائها وملك الأخت لا يزول وإن لم يثبت عليها العقد ويلحق به ولدها وأن ضر وتصير الأخت به أم ولد وليس يلحق ولد مع وجوب الحد إلا في هذا الموضع، وهو إذا وطئ أخته من نسب أو رضاع فإن وطئ الذمي مسلمةً على ملكه كان في حدةِ قولان والولد لاحق به على القولين. والرابع من المحرمات: وهو أخوات الأب وسواء كن لأب وأم أو لأب أو لأم وكلهن محرمات بالاسم ثم عمات الأب والأم وعمات الأجداد والجدات كلهن محرمات كالعمات. وهل حرمن بالاسم أو بمعناه على وجهين فإن وطئ إحداهن بعقد نكاح حد وإن كان بملك يمين فعلى القولين. والخامس من المحرمات: الخالات وهن أخوات الأم سواء كن لأب وأم أو لأب أو لأم وكلهن محرمات بالاسم خالات الأب والأم ثم خالات الأجداد والجدات كلهن محرمات كالخالات وهل حرمن بالاسم أو بمعناه؟ على الوجهين فإن وطئ إحداهن بعقد نكاح حد وإن كان بملك يمين فعلى القولين. والسادس من المحرمات: بنات الإخوةَ وسواء كان الإخوةً لأب وأم أو لأب أو لأم وكلهن محرمات بالاسم ثم بنات بني الإخوةَ وبنات بنات الإخوةَ وإن سفلن كلهن محرمات كبنات الإخوةً وهل حرمن بالاسم أو بمعناه على الوجهين فإن وطئ واحدة منهن بعقد نكاح حد، وإن كان بملك يمين فعلى القولين. والسابع من المحرمات: بنات الأخوات سواء كانت الأخوات لأب وأم أو لأب أو لأم وكلهن محرمات بالاسم وكذلك بنات بني الأخوات وإن سفلن كلهن محرمات كبنات الأخوات وهل حرمن بالاسم أو بمعناه على الوجهين والولد يلحق في هذه المواضع إذا كان الوطئ بملك يمين. مسألة: قال الشافعي: "وَمَا حَرَمَ مِنْ النِّسَبِ حَرَمَ مِنْ الرّضاعِ". قال في الحاوي: وأما المحرمات بالرضاع فذكر الله تعالى اثنين: الأمهات والأخوات بقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: (23)] فاحتمل أن

يكون التحريم بالرضاعةً مقصوراً عليها كما قال داود وقوفًا على النص واحتمل أن يكون متعديًا عنهما إلى غيرهما كذوات الأنساب ولما روت عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يحرم من الرضاعةً ما يحرم من الولادةً". وروي غيرها عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" وجب إجراء الرضاع في التحريم على حكم النسب فيحرم بالرضاع سبع كما يحرم بالنسب الأمهات والبنات والأخوات والعمات والحالات وبنات الأخ وبنات الأخت. وبيان ذلك أن المرأةً إذا أرضعت ولداً بلبن من زوج فالولد المرضع ابن لها وللزوج لأن اللبن حادث عنها بسبب ينتسب إلى الزوج فاقتضى أن يكون المرصع ابناً لها كالمولود منهما وإذا كان كذلك كانت المرضعةً أماً له وكان أمهاتها جداته من أم وآباؤها أجداده من أم وبناتها أخواتها من أم أخوتها أخواله من أم وأخواتها خالاته من أم وكان الزوج أباً له وآباؤه أجداده من أب وأمهاته جداته من أب، وبنوه إخوته من أب وإخوته من أب وأخواته أعمامه وأخواته عماته كذلك على ترتيب الأنساب فيكون على ما ذكرنا من الأحكام فتصير المحرمات بالرضاع سبعاً كما كان المحرمات بالأنساب سبعًا ويتنوع عليهن من ذكرنا من المفرعات على المناسبات فيكون أخت الأب من الرضاع عمته محرمةً سواء كانت أختًا من نسب أو رضاع وكذلك أخت الجد من الرضاع وآبائه محرمةً كالعمةً سواء كانت أختًا من نسب أو رضاع وهل يحرم باسم العمةً أو بمعناها على ما ذكرتا من الوجهين ويكون أخت الأم من الرضاع خالة محرمة سواء كانت أختا ينسب أو رضاع وكذلك أخت الجدةً وأمها كالخالةً في التحريم سواء كانت أختًا من نسب أو رضاع وهل يحرم باسم الخالةً أو بمعناها على ما مضى من الوجهين وعلى هذا يكون حكم سائر القرابات من الرضاع يحمل على حكم القرابات من النسب فلو وطئ الرجل أمه من الرضاع بعقد نكاح حن وإن كان بملك يمين فعلى قولين وفي الأم المناسبة يحذ قولًا واحدًا وإن كان ملكها؛ لأنها تعتق عليه بالملك فارتفعت شبهته بزوال الملك فحد، والأم المرضعةَ لا تعتق بالملك فكانت شبهته باقيةً مع بقاء الملك فلم يحد في أحد القولين وهكذا لو وطئ أخته من الرضاع أو خالته أو عمته من الرضاع بعقد حد وإن كان بملك يمين فعلى ضربين ما مضى من القولين والولد يلحق إذا كان وطئه لواحدةً من هؤلاء بملك يمين قولًا واحدًا. فصل: فإذا تقرر ما وصفناه من تحريم الرضاع بعدما قدمنا من التحريم بالنسب فقد مضى

(من) المنصوص على تحريمهن في الآيةً تسع: سبع عن النسب واثنتان من الرضاع وبقي من المنصوص على تحريمهن في الآية خمس حرمهن الله تعالى تحريم مصاهرةً يعقد نكاح وإحداهن: أم الزوجة بقوله: {وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ} [النساء: (23)]. والثانية: بنت الزوجةً وهي الربيبة بقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: (23)]. والثالثة: زوجةَ الابن وهى حليلته بقوله تعالى: {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} [النساء: (23)]. والرابعة: زوجة الأب بقوله تعالى في الآية الأخرى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: (22)] وفيه تأويلان: أحدهما: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء بالنكاح الصحيح إلا ما قد سلف بالزنا والسفاح فإن كان نكاحهن حلالًا لأنهن لم يكن حائل. والخامس: الجمع بين الأختين بقوله تعالى: {وَان تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: (23)] فهؤلاء الخمس حرمن بالقرآن ثم جاءت السنة بتحريم اثنتين: إحداهما: تحريم الجمع بين المرأة وعمتها. والثانية؛ تحريم الجمع بين المرأة وخالتها. وسنذكر السنةُ الواردةَ فصار المحرمات بعقد النكاح في القرآن والسنة سبعًا كما كان المحرمات بالأنساب سبعًا وكما صار المحرمات بالرضاع سبعًا، وهؤلاء السبع المحرمات بعقد النكاح ينقسم حكمهن في التحريم ثلاثةً أقسام: قسم حرمن بالعقد تحريم تأبيد. وقسم حرمن بالعقد تحريم جمع. وقسم حرس تحريم جمع وبالدخول تحريم تأبيد. فأما المحرمات بالعقد تحريم تأبيد فهن ثلاث: إحداهن: أم الزوجة هي حرام عليه بالعقد على البنت سواء دخل بالبنت أم لا أقام معها أو فارقها قد صارت أمها حرامًا عليه أبدًا وكذلك أم الأم ومن علا من جداتها حرمن عليه على التأبيد وهل يحرمن بالاسم آو بمعناه على ما مضى من الوجهين، فإن وطئ واحد منهن بعقد حد لأن كان بملك يمين فعلى ما مضى من القولين. والثانية: زوجة الأب محرمةً على الابن بعقد الأب عليها تحريم تأبيد سواء دخل الأب بها أم لا وكذلك زوجةً الجد ومن علا من الأجداد محرمةً عليه تحريم تأبيد وهل حرمن بالاسم أو بمعناه على ما ذكرنا من الوجهين فإن وطئ واحدةً منهن بعقد حد وإن كان يملك يمين فعلى قولين. روى عدي بن ثابت ص يزيد بن البراء بن عازب عن أبيه مربى خالي ومعه لواء

فقلت: يا خالي أين تذهب؟ فقال: بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى رجل تزوج امرأةً أبيه آتيه برأسه. والثالثة: زوجةَ الابن محرمةً على الأب لعقد الابن عليها تحريم تأييد سواء دخل بها الابن أم لا، وهي الحليلةَ، واختلف في تسميتها الحليلةً على ثلاثةَ أوجه: أحدها: أنها سميت حليلةً لأنها تحل للزوج. والثاني: لأنها تحل في المكان الذي يحل به الزوج. والثالث: لأن كل واحد منهما يحل إزار صاحبه. وإذا حرمت حليلةً الابن فكذلك حليلةً ابن الابن وإن سفل تحرم على الأب وإن علا وهل تحرم بالاسم أو بمعناه على ما مضى من الوجهين فإن وطئ واحدةً منهن بعقد حد وإن كان بملك يمين فعلى ما مضى من القولين. فإن كان الابن قد وطئها بملك اليمين والأب قد وطئها بالزوجيةً حد قولًا واحدًا وأما القولان إن كان الأب قد وطئها الزوجيةً والابن قد وطئها بملك اليمين فيصور الفرق بينهما في الحكم بحدّه، فلزمهما في المعنى. وأما المحرمات بالعقد تحريم جمع منهن ثلاث: إحداهن: الجمع بين الأختين فإذا عقد على امرأةً حرم عليه أختها وسواء كانت الأخت للأب والأم أو للأب أو للأم فإذا فارق التي تزوجها منهما حل له أختها. والثانية: الجمع بين المرآةً وعمتها كالجمع بين الأختين وكذلك الجمع بين المرأة وعمةَ أبيها وجدها وعمةَ أمها وجدتها ثم على ما ذكرنا ومن تحريمهما بالاسم أو بمعناهما. والثالثة: الجمع بين المرأة وخالتها وكذلك تحريم الجمع بينهما وبين خالة أمها وجداتها وخالة أبيها وأجدادها نم على ما ذكرنا من تحريمهما بالاسم أو بمعناه. وأما المحرمات بالعقد تحريم عقد وبالدخول تحريم تأبيد فجنس واحد وهن الربائب. والربيبةً بما الأخت فإذا عقد على امرأةً حرمت عليه ابنتها تحريم جمع فإذا دخل الأم حرمت عليه ابنتها تحريم تأبيد وكذلك بنت بنتها وبنت ابنها وإن سفلت تحرم بالعقد تحريم جمع وبالدخول تحريم تأبيد ثم على ما ذكرنا من تحريمها بالاسم أو بمعناه. فإن قيل: لماذا حرمتم بنت الربيبةَ كالربيبةً؟ فهلا حرمتم بتت حليلةً الابن كالحليلةً؟ قلنا: لا تحرم والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن بنت الربيبةً ينطلق عليها اسم الربيبة فحرمت كالربيبةً وبنت الحليلةً لا يطلق عليها اسم الحليلةً فلم تحرم. والثاني: هو أن الأصل في المعنى المعتبر في تحريم المصاهرةً إنما هو يصير الزوج الواحد قد جمع بين ذي نسبين كحليلة الابن مع الأب وهذا المعنى موجود في بنت الربيبةً

فحرمت كالربيبةً وهو غير موجود في بنت الحليلةً لأنه لم يجمع الواحد ذات نسبين ولا اجتمع في الواحدة ذو نسبين فلم يحرم والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: " وَحُرَمُ اللهِ تَعَالَى الْجُمْعُ بَيْنَ الأختين ". قال في الحاوي: أما الجمع بين الأختين فحرام بنص الكتاب وإجماع الأئمةُ وأما الجمع بينهما بملك اليمين وإن جمع بينهما في الملك بالشراء جاز إذا لم يجمع بينهما في الاستمتاع لأن المقصود بالملك التحول دون الاستمتاع، ولذلك جاز أن يملك من لا يحل له وطئها من أخواته وعماته وخالف عقد النكاح الذي مقصوده الاستماع ولذلك لم يجز أن يتزوج من لا تحل له من أخت وعمةُ فلذلك بطل الجمع بينهما في النكاح ولم يبطل الجمع بينهما في الملك فأما إذا أراد أن بجمع بين الأختين بملك اليمين في الاستمتاع فيطأ كل واحدة منهما لم يجز وهو قول عامة الصحابةَ والتابعين والفقهاء. وقال داود: يجوز الجمع بينهما في الاستمتاع وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس وربما أضيف إلى عثمان بن عفان واستدلالًا بعموم قوله تعالى: {أوّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: (3)] ولم يشترط في ملك اليمين تحريم الجمع بين أختين وكذلك في قوله تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: (3)] فأطلق ملك أليمين وكان على عمومه ثم قال: ولأن تحريم النكاح نوعان: تحريم عدد، وتحريم جمع. فأما العدد فهو تحريم الزيادةً على الأربع وأما تحريم الجمع فهو الجمع بين الأختين فلما لم يعتبر في ملك اليمين وتحريم العدد وجاز أن يجمع أي عدد شاء من الإماء وجب أن لا يعتبر تحريم الجمع ويجوز أن يستمتع بأختين. داود: ولأن الجمع بينهما في الاستمتاع غير ممكن لأنه لا يقدر إلا أن يطأ إحداهما بعد الأخرى والجمع بينهما في النكاح ممكن فلذلك حل الجمع بينهما في الاستمتاع بالملك لتعذره وحرم في النكاح لإمكانه وهذا خطأ. ودليلنا عموم قوله تعالى: {وَأن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: (23)] ولم يفرق بين تحريمها بنكاح أو ملك ولأن تحريم الجمع بينهما بملك اليمين مستفيض في الصحابة كالإجماع. روى مالك عن الزهري عن قبيصة بن ذؤيب: أن رجلا دخل على عثمان بن عفان فسأله عن الجمع بين الأختين بملك اليمين فقال عثمان: أحكهما آيةً وحرمتهما آيةً والتحريم أولى فخرج السائل فلقي رجلا من الصحابةً فسأله عن ذلك فقال: لو كان من الأمر شيء ثم وجدت رجلًا يفعل هذا لجعلته نكالًا.

قال مالك: قال الزهري أراه علي بن أبي طالب رضوان الله عليه. وقد روي مثل ذلك عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير وابن مسعود وعائشةً وعمار من غير أن يظهر خلاف فصار إجماعًا ولأن التحريم ضربان: تحريم تأبيد لتحريم أمهات الموطوءة وبناتها وتحريم جمع كتحريم أخوات الموطوءةً وعماتها فلما كان تحريم التأييد معتبرًا في وطء الإماء كالنكاح وجب بأن يكون تحريم الجمع معتبرًا في وطئهن كالنكاح ولأن ثبوت الفراش بالوطء أقوى من ثبوته بالعقد لأنه يثبت في فاسد الوطء إذا كان عن شبهه كما ثبت في فاسد العقد وإن ثبت في صحيحةُ فلما ثبت تحريم الجمع في العقد كان تحريمه في الوطء أولى؛ ولأن تحريم الجمع في النكاح إنما كان ليدفع به تواصل ذوي الأرحام فلا يتقاطعون لأن الضرائر من النساء متقاطعات وهذا المعنى موجود في الأختين اليمين كوجوده فيهما بعقد النكاح فوجب أن يستويا في التحريم. فأما الاستدلال بعموم الآيتين فقد حضه قوله تعالى: {وَأن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} [النساء: (23)] وأما قوله إن تحريم العدد لما حرم بالنكاح كذلك تحريم الجمع: فالجواب عنه أن تحريم العدد إنما ثبت في الزوجات خوفًا من الجور فيما يجب لهم من النفقةً والكسوةً والقسم وهذا معدوم في الإماء لأن نفقاتهن وكسوتهن في أكسابهن ولا قسم لهن فأمن الجور فافترقا في تحريم العدد وهما في المعنى الذي أوجب تحريم الجمع سواء؛ لأن خوف التقاطع والتباغض والتحاسد وهذا موجود في الإماء كوجوده في الزوجات فاستويا في تحريم الجمع لاشتراكهما في معناه وان افترقا في تحريم العدد لافتراقهما في معناه وأما قول داود: إن الجمع بينهما في الوطء غير ممكن، فعنه جوابان: أحدهما: أنه قد يمكن الجمع بينهما في الاستمتاع بأن يضاجعهما معًا ويلمسهما وهذا محرم في الأختين. والثاني: أنه قد ينطلق اسم الجمع على فعل الشيء بعد الشيء كالجمع بين الصلاتين كذلك بين الوطئين فيكون الجمع جمعين جمع متابعة وجمع مقارنةً. والثالث: أن الصحابة قد جعلته من معنى الجمع ما نهت عنه ولم تجعله مستحيلًا. فصل: فإذا تقرر تحريم الجمع بين الأختين بملك اليمين كتحريمه بعقد النكاح فملك أختين كان له أن يستمتع بأيهما شاء فإذا استمتع بواحدةً منهما حرمت عليه الأخرى ما كان على استمتاعه بالأولى حتى يحرمها عليه بأحد خمسةُ أشياء: إما أن يبيعها، وإما أن يهبها، وإما أن يعتقها، وإما أن يزوجها، وإما أن يكاتبها فتصير بأحد هذه الخمسةُ الأشياء محرمةُ عليه فيحل له حينئذ أن يستمتع بها بالثانية وتصير الأولى إن عادت إلى إباحته محرمةً عليه أن يستمتع بها حتى تحرم الثانية بأحد ذكرنا من الأشياء الخمسة، وحكي عن قتادةَ أنه عزم على أن لا يطأ التي وطئ حلت له الأخرى وهذا خطأ لأن التحريم يقع بأسبابه لا بالعزم عليه وقد يحرم عليه بسببين آخرين ليسا من فعله وهما: الرضاعةَ والردةً فأما التدبير: فلا

يحرم ثم إذا أخرج الثانيةً بأحد ما ذكر عادت الأولى إلى إباحتها وحل له الاستمتاع بها فلو أنه حين استمتع بالأولى استمتع بالثانيةً قبل تحريم الأولى عليه كان بوطء، والثانيةً عاصيًا ولم تحرم الأولى عليه بمعصية الوطء الثانية. قال الشافعي: وأحب أن يمسك عن وطء الأولى حتى يستبرأ الثانية لأن لا يجمع ماؤه في أختين فإن ووطئها قبل استبراء الثانيةً جاز وإن أساء. مسألة: قال الشافعي: وَنُهًى رَسُولِ اللهِ "صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلْمَ أَنْ تَنْكَحَ المرأةً عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتَهَا، وَنُهًى عُمَرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عَنْ اِلْأَمْ وَاِبْنَتَهَا مِنْ مِلْكِ الْيَمِينِ، وَقَالَ اِبْنِ عُمَرِ: وُدِدْتِ أَنْ عُمَرِ كَانَ فِي ذَلِكَ أَشَدِّ مِمَّا هُوَ، وَنَهَتْ عَنْ ذَلِكَ عَائِشَةٍ، وَقَالَ عثمان فِي جُمْعِ الأختين: أَمَا أَنَا فَلَا أَحُبَّ أَنْ أَصْنَعَ ذَلِكَ، فَقَالَ رَجُلِ مِنْ أَصِحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلْمَ-: لَوْ كَانَ إِلَي مِنْ الأمر شَيْءَ ثَمَّ وَجَدَتْ رَجَّلَا يُفَعِّلُ ذَلِكَ لِجَعَلَتْهُ نَكَالَا، قَالَ الزَّهْرِيِ أَرَّاهُ عَلَي بنَ أَبِي طَالِبَ." قال في الحاوي: وهذا كما قال: الجمع بين المرأةُ وعمتها وبين المرأةً وخالتها حرام بعقد النكاح وملك اليمين كالجمع بين أختين وهو قول الجمهور. وحكي عن الخوارج وعثمان البتي أنه لا يحرم الجمع بينهما في نكاح ولا ملك معه وحرم داود الجمع بينهما في النكاح دون ملك اليمين فأما داود فقد مضى الكلام معه في الجمع بعد الأختين وأما البتي والخوارج فاستدلوا بأن تحريم المناكح مأخوذ من نص الكتاب دون السنةً ولم يرد الكتاب بذلك فلم يحرم وهذا خطأ لأن كل ما جاءت به السنة يجب العمل به كما يلزم بما جاء به لكتاب. قال تعالى: {ومَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى (3) إنْ هُوَ إلاَّ وحْيٌ يُوحَى} [لنجم: (3) - (24)] وقد جاءت السنةُ بما رواه مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرةَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال:"لا يجمع بين المرأةَ وعمتها ولا بين المرأة وخالتها". وروى داود بن أبي هند عن الشعبي عن أبي هريرةَ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تنكح المرأةً على عمتها ولا العمةً على بنت أخيها، ولا تنكح المرأة على خالتها ولا الخالةَ على بنت أختها، ولا تنكح الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى". وهذان الحديثان نص والثاني أكمل وهما وإن كانا خبرًا واحدًا فقد تلقته الأمةً القبول وعمل به، الجمهور فصار بأخبار التواتر أشبه فلزم الخوارج العمل به وإن لم يلتزموا أخبار الآحاد؛ ولأن الأختين يحرم الجمع بينهما لأن إحداهما لو كان رجلًا حرم عليه نكاح أخته كذلك المرأةً وخالتها وعمتها يحرم الجمع بينها لأنه لو كان إحداهما رجلًا حرم عمته وخالته.

فأما الجمع بين المرأةً وبين بنت عمتها أو بينهما وبين بنت عمها فيجوز وكذلك الجمع بين المرأةَ وبنت خالتها أو بينهما وبين بنت خالتها فيجوز؛ لأن إحداهما لو كان رجلًا لجاز آن يتزوج بنت عمه وبنت عمته وبنت خاله وبنت خالته وهذا هو أصل في تحريم الجمع وإحلاله بين ذوات الأنساب وبهذا المعنى حرمنا عليه الجمع بين المرأةَ وعمةُ أبيهما وعمةُ أمها وبينهما وبين خالةَ أبيها وخالةَ أمها؛ لأن أحدهما لو كان رجلًا حرم عليه نكاح الأخرى، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: " فَإذاً تَزَوُّجَ امرأة ثَمَّ تَزَوُّجَ عَلَيهَا أُخَتْهَا أَوْ عَمَّتَهَا أَوْ خَالَتَهَا وَإِنَّ بَعَّدَتْ فَنِكَاحَهَا مفسوخ دَخَلَ أَوْ لَمْ يُدْخَلْ وَنِكَاحَ الأولى ثَابِتَ وَتَحِلُ كُلَّ واحدَةً مِنْهُمَا عَلَى الْاِنْفِرادِ وَإِنَّ نَكَحَهَا مَعَّا فَالنِّكَاحَ مفسوخ " قال في الحاوي: اعلم أن الجمع بين مناكح ذوات الأنساب ينقسم ثلاثة أقسام: قسم يوجب تحريم المصاهرةً على التأبيد وقسم يوجب تحريم المصاهرةً في الجمع لا على التأبيد وقسم إباحةُ لا يوجب التأبيد ولا تحريم الجمع. فأما القسم الأول: وهو تحريم التأبيد ففي أنساب البغضيةً والولادةً كالمرأةَ في تحريم أمهاتها وبناتها عليه يحرمن على الأبد. وأما القسم الثاني: وهو تحريم الجمع في حال العقد ممن غير تحريم على التأبيد ففيما تجاوز الولادةً واتصل بها من ذوات المحارم كالجمع بين الأخوات والحالات والعمات لما تزلن عن درجةُ الأمهات والبنات في التعصيب لم يحرمن على التأبيد ولما شاركتهن في المحرم حرمن تحريم الجمع. وأما القسم الثالث: وهو من لا يحرمن على التأبيد ولا على وجه الجمع فمن عدا الفرقين من بنات الأعمام والعمات، وبنات الأخوال والحالات لما نزلن عن الدرجتين ولم يكن لهن بعصبةُ الأمهات والبنات ولا محرم العمات والحالات لم يتعلق عليهن واحد من حكم التحريم لا التأبيد ولا الجمع، وجاز للرجال أن يجمع بين أرع منهن وإن تناسبن لبعد النسب وخلوه من معنى أحد التحريمين. فصل: فإذا تقررت هذه المقدمةً وأن تحريم الجمع يختص به ذوات المحارم من نسب أو رضاع كالأخوات والعمات والخالات فنكح الرجل أختين أو امرأةً وخالتها وعمتها فهذا على ضربين: أحدهما: أن يعقد عليهما معًا في عقد واحد فنكاحهما باطل؛ لأنه لما حرم الجمع

بينهما ولم يتعين المختصةَ بالصحةَ منهما وجب بطلان العقد عليهما لتساويهما وسواء دخل بأحدها أو لم يدخل وهو بالخيار بين أن يستأنف العقد على أيهما شاء فإن عقد على التي دخل بها سقط ما عليها من عدةً إصابتها وإن عقد على غير المدخول بها صح عقدهِ ويستبح أن يمسك عن إصابتها حتى تنقضي عدةَ أختها من إصابتهِ لئلا يجتمع ماؤه في أختين. والثاني: أن يعقد عليهما ثانيةً بعد أولى فنكاح الأولى ثابت ونكاح الثانيةُ باطل لاستقرار العقد على الأولى قبل الجمع فلو شك في آيتهما نكح أولًا فهذا على ضربين: أحدهما: أن يطرأ الشك بعد تقدم اليقين فنكاحهما موقوف وإحداهما زوجةً مجهولةً العين والأخرى أجنبيةً وكل واحدةً منهما ممنوعةً منه ومن غيره من الأزواج حتى يبين أمرها فإن صرح بطلاق إحداهما حلت لغيره وكان تحريمها عليه بحالةً والأخرى على التحريم فإن استأنف عليها عقدًا حلت له. والثاني: أن يكون الشك مع ابتداء العقد لم يتقدمه يقين فنكاحها باطل لا يوفق على البيان لعدمه وهل يفتقر بطلانه إلى فسخ الحاكم أم لا؟ وجهين: أحدهما: يفتقر ويكون الإشكال والاشتباه باطلًا لأن ما لم يتميز إباحته من الحظر غلب عليه حكم الحظر. والثاني: أنه لا يصح إلا بحكم حاكم؛ لأن العلم محيط بأن فيهما زوجةً فلم يكن الجهل بها موجباً لفسخ نكاحها حتى يتولاه من له في فسخ النكاح وهو الحاكم. فصل: فإذا عقد الرجل على امرأةً نكاحًا فاسدًا ثم تزوج عليها أختها فهذا على ضربين: أحدهما: أن يعلم بفساد العقد الأول فتكون نكاح الثانيةُ جائزًا سواء علم أنها أخت الأولى وقت العقد أو لم يعلم. والثاني: أن لا يعلم بفساد النكاح في حين يعقد على انتهاء فهذا على ضربين: أحدهما: أن لا يعلم وقت عقده على الثانيةُ إنها أخت الأولى فيكون نكاحها جائزًا؛ لأنه لم يفترق بعقده منع. والثاني: أن يعلم وقت عقده على الثانيةً أيهما أخت الأولى ولا يعلم بفساد نكاح الأولى حتى يعقد على الثانيةً نكاح الثانيةً باطل؛ لأنه أقدم على نكاح وهو ممنوع منه في الظاهر فجرى عليه حكم الحظر في الفساد والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "وَإِنَّ تَزَوجَ امرأةً، ثُم طَلْقَهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخَلَ بِهَا، لَمْ تَحِلْ لَهُ؛ لأنّها

مُبْهَمَةُ وَحِلَتْ لَهُ اِبْنَتَهَا لِأَنَّهَا مِنْ الرَّبَائِبِ، وَإِنَّ دَخَلَ بِهَا لَمْ تَحِلْ لَهُ أَمَهَا، وَلَا اِبْنَتَهَا أَبَدًا." قال في الحاوي: أما الربائب فقد ذكرنا أنهن بنات الزوجات إحداهن ربيبةً وفي تسميتها بذلك وجهان: إحداهما: لأنه تكون في الأغلب في تربيتهُ وكفالتهُ. والثاني: لأنها ترب الدار أي تديرها وتعنى بها فإذا تزوج الرجل امرأةً حرم عليه بالعقد عليها ثلاثةً أصناف من مناسبها: صنف أعلى وهى الأمهات، وصنف أدنى وهن البنات، وصنف مشاركان وهن الأخوات والعمات والحالات فكلهن محرمات عليه ما كان العقد عليها باقيًا فإذا ارتفع عنها بموت أو طلاق أو فسخ انقسمت أحوال هؤلاء محرمات ثلاثةَ أقسام: قسم يحللن له بعد ارتفاع العقد عن زوجته سواء دخل بها أم لا وهن الأخوات والعمات والحالات؛ لأن تحريمهن تحريم جمع لا تحريم تأييد. وقسم ثانٍ: لا يحللن له وإن ارتفع العقد عن زوجته سواء دخل بها أم لا وهن الأمهات لأنهن يحرمن بالعقد تحريم تأييد. وقسم ثالث: يحللن بعد ارتفاع العقد عن زوجته إن لم يكن قد دخل بها ويحرمن عليه إن كان قد دخل بها وهن البنات لأنهن يحرمن بالعقد تحريم جمع وبالدخول تحريم تأيد بخلاف الأمهات المحرمات بالعقد تحريم تأبيد وهو قول جمهور الصحابةً والتابعين والفقهاء. وحكي ذلك عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن الزبير ومجاهد أن الأمهات كالبنات الربائب لا يحرمن إلا بالدخول وحكي عن زيد بن ثابت أنه أن طلق الزوجةَ لم تحرم الأم إلا بالدخول كالربيبةً، وإن ماتت حرمت الأم وإن لم يدخل بها بخلاف الربيبة؛ لأن الموت في كمال المهر كالمدخول واستدلالًا في إلحاق ابنتها بالربائب في تحريمهن بالدخول بقوله تعالى: {وأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ وأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ورَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ فَإن لَّمْ تَكُونُوا دَخَلْتُم بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} [النساء: (23)] فذكر جنسين هما: الأمهات والربائب ثم عطف عليهما اشتراط الدخول في التحريم فاقتضى أن يكون راجعًا إلى المذكورين معًا ولا يختص بالرجوع إلى أحدهما وهو للشافعي ألزم لأنه يقول: إن الشرط والكتابة والاستثناء إذا تعقب جملةً رجع إلى جميعها ولم يختص بأقرب المذكورين منها كما لو قال رجل: امرأتي طالق وعبدي حر، والله لا دخلت الداران شاء الله كان الاستثناء بمشيئة الله راجعًا إلى الطلاق والعتق واليمين، ولم يختص عنده برجوعه إلى اليمين كذلك يلزمه أن لا يجعل اشتراط الدخول راجعًا إلى الربائب دون الأمهات حتى يكون راجعًا إليهما معا. والدليل على صحةَ ما ذهبنا إليه والجماعةً من اشتراط الدخول في الربائب دون الأمهات قوله تعالى: {وأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ورَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} [النساء: (23)] فكان الدليل من هذه الآيةً على أن شرط الدخول عائد إلى

الربائب دون الأمهات من خمسةً أوجه: أحدها: قوله تعالى: {وأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ ورَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} [النساء: (23)] وليست أم الزوجةً منها وإنما الربيبةً منها فدل على أن الدخول مشروط في الربيبةً لأنها من الزوجةً دون الأم التي ليست من الزوجةً. والثاني: هو ما ذكره سيبويه أن الشرط والاستثناء إنما يجوز أن يرجع إلى جميع ما تقدم ذكره، إذا حسن أن يعود إلى كل واحد منهما على الانفراد وإن لم يحسن لم يعد إلى الأقرب وهو لو قال: وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن لم يحسن فلم يعد إليه. والثالث: وهو ما قاله المبرد: أنه إذا اختلف العامل في إعراب الجملتين لم يعد الشرط إليهما وعاد إلى أقربهما وإن لم يختلف العامل في إعرابهما عاد إليهما والعامل هاهنا في إعراب الجملتين مختلف فذكر النساء مع الأمهات مجرور بالإضافة لقوله: {وأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} وذكر النساء من الربائب مجرور بحرف الجر وهو قوله: {ورَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ} فلما اختلف عامل الجر في الموضعين لم يجز أن يعود الشرط إلهما وعاد إلى أقربهما. والرابع: أن الأمر قد تقدمها مطلق وتعفيها مشروط فكان إلحاقها بالمطلق المتقدم أولى من إلحاقها بالمشروط المتأخر. والخامس: أن المطلق أعم والمشروط أخص فكان إلحاق المبهم بالمطلق الأعم أولى من إلحاقه بالمشروط الأخص ويدل عليه من طريق السنة ما رواه المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا نكح الرجل امرأةً ثم طلقها قبل أن يدخل بها حرمت عليه أمها ولم تحرم عليه ابنتها". وروى الأوزاعي عن عمرو بن شيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا تزوج الرجل امرأةً ثم ماتت قبل أن يدخل بها حرمت عليه أمها ولم تحرم عليه بنتها" وهذا نص ولأن في الأمهات من الرقةَ والمحبةً لبناتهن ما ليس في البنات لأمهاتهن. وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: يا رسول الله ما لنا نرق على أولادنا ولا يرقون علينا؟ قال: "لأننا ولدناهم ولم يلدونا" فلما كانت الأم أكم رقة وحبًا لم تنفس على بنتها بعدول الزوج إليها فجاز أن يكون الدخول بالأم مشروطًا في تحريم البنت لأنها ربما رضيت بالزوج بعد دخوله بها ما لم تضمن به قبله وليس كذلك البنت لأنها لما كانت أقل رقةً وحبًا نفست على أمها بعدول الزوج إليها فأفضى إلى القطيعة

والعقوق قبل الدخول كإفضائه بعده فلم يجعل الدخول شرطًا. فأما الآيةً فقد ذكرنا وجه دلائلنا معها وإنما الاستشهاد بعود الاستثناء إلى ما تقدم من الطلاق والعتق واليمين فلأن يصح أن يرجع الاستثناء إلى كل واحد من الجملةً المتقدمةً فجاز مع الإطلاق أن يرجع إلى جميعها وليس كذلك هاهنا لما بيناه. فصل: فإذا ثبت أن تحريم الأم على الإطلاق وتحريم الربيبةً مشروط بالدخول فقد اختلف الناس في الدخول الذي تحرم به الربيبةُ. فقال أبو حنيفة: هو النظر إلى فرج الأم بشهوةً فتحرم به الربيبةً وقال عطاء وحماد: هو التعيش والعقود بين الرجلين. وقال الشافعي: إن الدخول الذي تحرم به الربيبةً يكون بالمباشرةً وله فيه قولان: أحدهما: أن الوطء في الفرج. والثاني: أنها القبلةَ والملامسةً بشهوةً وإن لم يطأ. واستدل أبو حنيفة: بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "لا ينظر الله إلى رجل نظر في فرج امرأة وابنتها" قال: ولأنه تفرع استمتاع فجاز أن يتعلق به تحريم المصاهرة كالوطء. ودليلنا قوله تعالى: {مِّن نِّسَائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ} [النساء: (23)] ولا ينطلق اسم الدخول إلا على المباشرةً دون النظر ولأنه استمتاع لا يوجب الغسل فلم يوجب تحريم المصاهرةَ كالنظر إلى وجهها ولأن النظر إلى الوجه والبدن أبلغ في اللذةً والاستمتاع من النظر إلى الفرج فإذا كان لا يحرم فما دونه أولى فأما الخبر فروايةَ حفص بن غياث عن ليث عن حماد عن إبراهيم عن علقمةَ عن عبد الله موقوفًا وعلى أنه محمول على الوطء فكنى عنه بالنظر إلى الفرج. وأما قياسهم فمنتقض بالنظر إلى الوجه ثم المعنى في الأصل أنه يوجب الغسل. فصل: فإذا تقرر تحريم الربائب بالدخول على ما وصفنا فلا فرق بين أن يكون في تربيته وحجره أم لا وهو قول الجمهور من الصحابةً والتابعين والفقهاء. وقال داود: إنما تحرم عليه إذا كان في تربيته وحجره وحكاه مالك عن أوس عن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه استدلالًا بقوله تعالى: {ورَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَائِكُمُ} فعلق تحريم الربائب بشرطين: أحدهما: أن يكون في حجره.

والثاني: أن يكون قد دخل بأمها فوجب أن يعتبر في تحريمها. ودليلنا هو أن علةُ التحريم هو ومع التنافس المؤدي إلى التقاطع والتباغض وليس للحجر في هذا المعنى تأثير فلم يكن له اعتبار؛ ولأن الحجر غير معتبر في الشرع في إباحةُ ولا حظر ألا تراه غير مؤثر في تحريم حلائل الأبناء ولا إباحةُ بنات العم فكذلك في الربائب وليس ذكر الحجر في الربائب شرطًا وإنما ذكر لأنه الأغلب من أحوال الربائب إنهن في حجر أزواج الأمهات نمار ذكره تغليبًا للصفةً لا شرطًا في الحكم كما قال الله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرةَ: (187)] والصائم لا يجوز له وطء زوجته وإن كانت في غير مسجد وإنما ذكر المسجد على طريق الأغلب من أحواله. فصل: فأما قول الشافعي: "ولم تحل له أمها لأنها مبهمة" ففيه قولان: أحدهما: يعني مرسلةَ بغير شرط وقد روي عن ابن عباس أنه قال فيها: أبهموا ما أبهم القران. والثاني: أن المبهمةً المحرمةً في كل أحوالها فلا يكون لها إلا حكم واحد من قولهم فرس بهم إذا لم يكن فيه شيةَ تخالف شيةَ وكان بعض أهل اللغةَ يذهب إلى تأويل ثالث: هو أن المبهمةً المشكلة؛ وهذا ليس بصحيح لأن حكم الأم غير مشكل. مسالة: قال الشافعي: "وان وَطْءَ أَمْتَهُ لَمْ يَحِلْ لَهُ أَمَهَا وَلَا اِبْنَتَهَا أَبَدًا وَلَا يَطَأُ أُخَتْهَا وَلَا عَمَّتَهَا وَلَا خَالَتَهَا حَتَّى يَحْرِمَهَا " قال في الحاوي: أعلم أن كل ما حرم عليه بالعقد على الزوجة حرم بوطء الأمةً لا بملكها لأن الأمةَ لا تصير فراشًا إلا بالوطء دون الملك فإذا ملك أمةً لم يتعلق بملكها تحريم أحد من ذوي أنسابها فلم يحرم على أحد من ذوي أنساب سيدها فإذا وطئها تعلق بوطئها تحريم المصاهرةً كما تعلق بالعقد على الزوجةً فيحرم عليه أمها وأمهات أمها من آبائها وإن علون ويحرم عليه بناتها وبنات أولادها وإن سفلن. ويحرم على ابنه وحده وإن علا وعلى ابنه وابن ابنه وإن سفل وهذا التحريم في هذه الوجوه الأربعةً مؤبد ويحرم عليه أختها وخالتها وعمتها وبنت أخيها وبنت أختها وهذا التحريم في هؤلاء الخمس تحريم الجمع لا تحريم تأبيد ما كان على استمتاعه بأمته حرمها على نفسه بأحد ما قدمناه ذكره من الأشياء الخمسةً من بيع أو هبةً، أو تزويج، أو عتق، أو كتابة حل له حينئذٍ من شاء من هؤلاء الخمس اللاتي حرمن عليه تحريم جمع أن يستبيحها بعقد نكاح أو ملك يمين وإن استباحها قبل تحريم الأولى، فإن كان بعقد نكاح كان باطلًا وحدّ إن وطئها عالمًا وإن

كان بملك يمين لم يحد وإن علم. والفرق بينهما أن الزوجةً يستباح وطئها بالعقد وقد بطل توجب فيه الحد والأمةً يستباح وطئها بالملك والملك لم يبطل فلم يجب بالوطء فيه حد وخالف وطئ أخته بالملك في وجوب الحد على أحد القولين مع ثبوت الملك، لأن تحريم وطء أخته مؤبد وتحريم وطء أمتهِ لعارض يزول ولا تأبد فافترق حكم تحريمها فلذلك افترق وجوب الحد فيهما هذا كله إذا كان وطء أمته في الفرج فأما إن كان وطئها دون الفرج أو قبلها أو لمسها فهل يتعلق به ما ذكرنا من تحريم المصاهرةً أم لا؟ على قولين كما ذكرنا في تحريم الربيبةً: أحدهما: لا يتعلق به تحريم المصاهرةً فعلى هذا يحل له أمهاتها وبناتها وتحل لآبائه وأبنائه. والثاني: قد تعلق به تحريم المصاهرةً كما لو وطء في الفرج فعلى هذا يحرم عليه أمهاتها وبناتها ويحرم على آبائه وأبنائه. فأما إن نظر إليها بشهوةً أو لمسها من وراء ثوب بشهوةً أو غير شهوةً أو ضاجعها غير مباشر بشيء من جسده إلى شيء من جدها مريدًا لوطئها أو غير مريد لم يتعلق بذلك تحريم ما لم يكن أفضى بمباشرةُ الجسدين، وحكي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن من جرد أمته ولم يطأها حرمت عليه أمها وبنتها وهذا ليس بصحيح: لأنه عزم والعزم ليس يفعل فلا يتعلق به حكم الفعل. فصل: وإن وطئ الرجل امرأةً بشبهةَ نكاح أو ملك ثبت به تحريم المصاهرةً فحرمت عليه أمهاتها وبناتها وحرمت عليه آبائه ولا يحرم عليه أخواتها وعماتها وخالاتها؛ لأن تحريم أولئك تحريم تأبيد وتحريم أولئك تحريم الجمع والموطوءة بشبهةً محرمةً فلم يحصل الجمع ثم هل يصير هذا الوطء محرمًا لأمهات هذه الموطوءة لبناتها وهل يصير آباؤه وأبناؤها محرمًا لها أم لا؟ على قولين: أحدهما: قاله في القديم أن يثبت بالمحرم كما يثبت به التحريم. والثاني: نص عليه في "الإملاء" أنه لا يثبت به المحرم وإن ثبت به التحريم لأنه تعلق به التحريم تغليظًا فاقتضى أن ينفي عنه المحرم تغليظًا. مسالة: قال الشافعي: "فَإِنَّ وَطْءَ أُخَتْهَا قَبْلَ ذَلِكَ اِجْتَنَبَ الَّتِي وَطْءَ أَخَّرَاً وَأَحْبَبْتُ أَنْ يَجْتَنِبَ الْوَلِيُّ حَتَّى يَسْتَبْرِئ الآخِرةَ" قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا وطئ أمته ثم وطئ أختها بالملك قبل تحريم

تلك فلا حد عليه وإن جاءت بولد لحق به وتكون الأولى على إباحتها. والثانيةً على تحريمها لأنه وطئها حراما فلم تحل به الثانية ولم تحرم به الأولى وعليه أن يجتنب الثانية لتحريمها وتستحب أن يجتنب الأولى حتى تستبراء الثانية نفسها كلا يجتمع ماؤه في أختين، وبالله التوفيق. مسألة: قال الشافعي:" فإذا اجتمع النكاح وملك اليمين في أختين، أو أمة وعمتها أو خالتها، فالنكاح ثابت لا يفسخه ملك اليمين، كان قبل أو بعد، وحرم بملك اليمين: لأن النكاح يثبت حقوقا له وعليه، ولو نكحهما معا انفسخ نكاحهما، ولو اشتراهما معا ثبت ملكهما، ولا ينكح أخت امرأته ويشتريها على امرأته، ولا يملك امرأته غيره، ويملك أمته غيره، فهذا من الفرق بينهما". قال في الحاوي: قد مضى الكلام في الجمع بين أختين بعد نكاح في الجمع بينهما بملك اليمين فأما إن جمع بينهما في أن عقد على أحدهما نكاحا واستمع بالأخرى بملك اليمين فهو حرام؛ لأنه جمع بين أختين وإن اختلف سبب الجمع بينهما؛ وإذا كان كذلك لم نجد من أن يتقدم عقد النكاح على الاستمتاع بملك اليمين أو يتأخر عنه فإن عقد النكاح ثم استمع بها بعده فالحكم في الحالتين سواء إذا كان الاستمتاع بعد عقد النكاح سواء تقدم الملك قبل العقد أو تجدد بعده فالنكاح ثابت ووطوءه للأخت محرم. ولا تأثير له في العقد المتقدم لاستقراره قبل الوطء المحرم وإن تقدم الاستمتاع على النكاح كأن ملك أمةً استمتع بها ثم تزوج عليها أختها قبل تحريمها. فمذهب الشافعي: أن النكاح ثابت وإن تأخر كثبوته لو تقدم ويحرم به الموطوءة بملك اليمين وقال مالك؛ النكاح باطل والموطوءة بملك اليمين حلالًا استدلالًا بأن الأمة قد صارت بالوطء فراشًا كما تصير بعد النكاح فراشًا وحرم دخول أختها عليها في الحالين فلما كان ولو صارت فراشاً بالعقد بطل نكاح أختها عليها ووجب إذا جاءت فراشًا بالملك أن يبطل نكاح أختها عليها لكونها في الحالين فراشًا. ودليلنا هو أن الفراش بعقد النكاح أقوى منه بملك اليمين لأربعةً معانٍ: أحدهما: أن فراش المنكوحةً ثبت بثبوت العقد ولا يثبت فراش الأمةً بثبوت الملك والملك قد يرتفع فراش الأمةً باستبرائها مع بقاء المالك ولا يرتفع فراش المنكوحةً مع بقاء العدةً. الثاني: ...... والثالث: أن فراش المنكوحة ثبت حقًا لها وعليها من طلاق وظهار وإيلاء ولعان

ولا يثبتها فراش الملك. والرابع: أنه قد يصح أن يملك أمته غيره ولا يصح أن يملك زوجته غيره وإذا كان فراش النكاح أقوى من فراش الملك بما ذكرنا من هذه المعاني الأربعةً وجب إذا اجتمع الأقوى الأضعف أن يكون حكم الأقوى أثبت سواء تقدم أو تأخر كما لو اجتمع عقد نكاح وعقد ملك بأن تزوج ثم اشتراها بطل عقد النكاح بعد الملك؛ لأن عقد الملك أقوى من عقد النكاح وإن فراش النكاح أقوى من فراش الملك، ولأن عقد الملك على المنفعةً والرقبةً وعقد النكاح على المنفعةً دون الرقبةً فلما غلب في العقدين أقواهما وهو الملك وجب أن يغلب في الفرشين أقواهما وهو النكاح وإنما يراعى الأسبق فيما استوت قوته وضعفه كعقدي نكاح أو فراش ملك فبطل ما استدل به مالك. فصل: فإذا ثبت جواز النكاح حرمت الموطوءةً بملك اليمين وجاز له وطء هذه المنكوحةً وقال أبو حنيفة: لا يحل له المنكوحةً حتى تحرم الموطوءةً بملك اليمين بحدوث العقد على من لا يجوز أن يجمع معها كما لو تزوجها وتزوج أختها وهذا خطأ لأن الجمع إذا لم يمنع من صحةَ العقد لم يمنع من جواز الاستمتاع قياسًا في الطرد على من نكح حرةً بعد نكاح أمةً وفي العكس على من نكح أمةً بعد نكاح حرةً وفي هذا الدليل انفصال. مسألة: قال الشافعي: "وَلَا بأس أَنْ يَجْمَعَ الرَّجُلُ بَيْنَ المرأة وَزَوْجَةَ أَبِيهَا وَبَيْنَ امْرَأَة الرَّجُلِ وَاِبْنَةَ امرأته إذاً كَانَتْ مِنْ غَيْرَهَا لِأَنَّه نَسَبَ بَيْنَهُنَّ" قال في الحاوي: وهذا صحيح يجوز أن يجمع الرجل بين المرأةً وزوجةَ أبيها وزوجةَ ابنها وهذا قول جمهور أهل العلم إلا ابن أبي ليلى فإنه منع منه استدلالًا بأنهما امرأتان لو كان إحداهما رجلًا حرم عليه نكاح الأخرى لأنها تكون امرأةً أبيه أو حليلةً ابنه فحرم الجمع بينهما كما حرم الجمع بين المرأةً وعمتها أو خالتها للمعنى المذكور؛ وهذا خطأ لما روي أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن صفوان بن أمية جمع كل واحد منهما بين امرأةً رجل وبنته من غيره فلم ينكر ذاك أحد من علماء عصره فكان إجماعًا ولأن تحريم الجمع إنما يثبت نسب ولا رضاع يجري عليه حكم النسب فلم يحرم الجمع بينهما كسائر الأجانب وخالف ذوي الأنساب. فصل: قال الشافعي: "وبين امرأة الرجل ويثبت امرأته إذا كانت من غيرها" فاختلف

باب ما جاء في الزنا لا يحرم الحلال

أصحابنا في ذلك. فقال بعضهم: هذا سهو المزني في نقله لأنه كرر المسألة وأعادها بعبارةً أخرى؛ لأن زوجةُ الرجل وبنت امرأته من غيرها هي المرأةً وزوجةً ابنها وقال آخرون: بل قال المزني صحيح وهذه المسألةُ غير الأولى لأن الأولى أن يجمع بين بنت زيد وامرأة زيد، وهذه المسألةً أن يجمع بين امرأةً زيد وبنت امرأةً له أخرى من غيره وهذا لدينا يجوز لعدم التناسب بينهما. فصل: لا بأس أن يتزوج الرجل المرأةً ويتزوج ابنه بابنتها، أو يتزوج الأب امرأةَ ويتزوج الابن بأمها وهو قول الجماعةَ ومنه طاوس إذا تزوج الأب بامرأةَ أن يتزوج الابن بابنتها إذا ولدت بعد وطء الأب لأمها فإن كانت قد ولدت قبل وطئه لم يمنع وحكي نحوه عن مجاهد وهذا خطأ؛ لأن تحريم الربيبةً على الأب يساوي حكمه في ولادتها قبل وطئه وبعده فاقتضى أن يتساوى حكم إباحتها للابن في ولادتها قبل وطء الأب وبعده وقد حرص عمر رضي الله عنه في الغلام الذي زنا ببنت امرأةَ أبيه فجلده، وأن يجمع بينهما، فأبى الغلام فدل على جوازه من غير أن يعتبر فيه حال الولادةً، والله أعلم. باب ما جاء في الزنا لا يحرم الحلال مسالة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رحمه الله: "لِأَنَّ الْحَرَامَ ضِدُّ الْحَلَالِ فَلَا يُقَاسُ شَيْءٌ عَلَى ضِدِّهِ، قَالَ لِي قَائِلٌ يَقُولُ: لَوْ قَبَّلَتِ امْرَأَتُهُ ابْنَهُ بِشَهْوَةٍ حَرُمَتْ عَلَى زَوْجِهَا أَبَدًا، لِمَ قُلْتَ: لَا يُحَرِّمُ الْحَرَامُ الْحَلَالَ؟ قُلْتُ: مِنْ قِبَلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا حَرَّمَ أُمَّهَاتِ نِسَائِكُمْ وَنَحْوَهَا بِالنِّكَاحِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَاسَ الْحَرَامُ بِالْحَلَالِ، فَقَالَ: أَجِدُ جِمَاعًا وَجِمَاعًا، قُلْتُ: جِمَاعًا حُمِدْتَ بِهِ، وَجِمَاعًا رُجِمْتَ بِهِ، وَأحدهما نِعْمَةٌ، وَجَعَلَهُ اللَّهُ نَسَبًا وَصِهْرًا، وَأَوْجَبَ حُقُوقًا وَجَعَلَكَ مَحْرَمًا بِهِ لِأُمِّ امْرَأَتِكَ وَلِابْنَتِهَا تُسَافِرُ بِهِمَا، وَجُعِلَ الزِّنَا نِقْمَةً فِي الدُّنْيَا بِالْحَدِّ وَفِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ إِلَّا أَنْ يَعْفُوَ، أَفَتَقِيسُ الْحَرَامَ الَّذِي هُوَ نِقْمَةٌ عَلَى الْحَلَالِ الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ؟ وَقُلْتُ لَهُ: فَلَوْ قَالَ لَكَ قَائِلٌ: وَجَدْتُ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا تَحِلُّ بِجِمَاعِ زَوْجٍ فَأَحَلَّهَا بِالزِّنَا؛ لِأَنَّهُ جِمَاعٌ كَجِمَاعٍ، كَمَا حَرَّمْتَ بِهِ الْحَلَالَ؛ لِأَنَّهُ جِمَاعٌ وَجِمَاعٌ، قَالَ: إِذًا نُخْطِئُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَحَلَّهَا بِإِصَابَةِ زَوْجٍ، قِيلَ: وَكَذَلِكَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ بِنِكَاحِ زَوْجٍ وَإِصَابَةِ زَوْجٍ، قَالَ: أَفَيَكُونُ شَيْءٌ يُحَرِّمُهُ الْحَلَالُ، وَلَا يُحَرِّمُهُ الْحَرَامُ فَأَقُولُ بِهِ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، يَنْكِحُ أَرْبَعًا، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْكِحَ مِنَ النِّسَاءِ خَامِسَةً، أَفَيَحْرُمُ عَلَيْهِ إِذَا زَنَى بِأَرْبَعٍ شَيْءٌ مِنَ النِّسَاءِ؟ قَالَ: لَا يَمْنَعُهُ الْحَرَامُ مِمَّا يَمْنَعُهُ الْحَلَالُ. قَالَ: وَقَدْ تَرْتَدُّ فَتَحْرُمُ عَلَى زَوْجِهَا؟ قُلْتُ: نَعَمْ، وَعَلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ

وَأَقْتُلُهَا وَأَجْعَلُ مَالَهَا فَيْئًا. قَالَ: فَقَدْ أَوْجَدْتُكَ الحَرَامُ يُحَرِّمُ الحَلَالَ. قُلْتُ: أَمَّا فِي مِثْلِ مَا اخْتَلَفْنَا فِيهِ مِنْ أِمْرِ النِّسَاءِ فَلَا. قَالَ المُزَنيُّ رَحِمَهُ اللهُ: تَرَكْتُ ذَلِكَ لِكَثْرَتِهِ وَأَنَّهُ لَيْسَ لِشَيْءٍ". قال في الحاوي: قد مضى الكلام في تحريم المصاهرة بعقد النكاح وفي تحريمها بوطء الإناء، كذلك الوطء بالشبهة يوجب من تحريم المصاهرة مثل ما يوجبه الوطء الحلال في عقد نكاح أو ملك يمين؛ لأنه لما ساواه في سقوط الحد ولحوق النسب ساواه في تحريم المصاهرة. فأما وطء الزنا فلا يتعلق به تحريم المصاهرة بحال فإذا زنا الرجل بامرأة لم تحرم عليه مها ولا بنتها ولم يحرم على أبيه ولا على ابنه. وبه قال من الصحابة علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس. ومن التابعين: سعيد بن المسيب وعروة بن الزبير والزهري. ومن الفقهاء: مالك وربيعة وأبو ثور. وقال أبو حنيفة: الزنا كالحلال في تحريم المصاهرة، فإذا زنا بامرأة حرمت عليها أمها وبنتها حرمت على أبيه وابنه. ولو زنا بامرأة أبيه أو ابنه بطل نكاحها. وكذلك لو قبلها أو لمسها أو تعمد النظر إلى فرجها بشهوة بطل نكاحها على أبيه وابنه وحرم عليه أمها وبنتها وهو قول الثوري وأحمد وإسحاق وحكى نحوه عن عمران بن الحصين وزاد الأوزاعي. فقال: إذ تلوط الرجل بغلام حرمت عليه أمه وبنته وحرم على الغلام مه وبنته. واستدلوا جميعًا بعموم قوله تعالى: {ولا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] والنكاح حقيقة في الوطء فاقتضى عموم الوطء وتحريم التي وطئها الأب. قالوا: وقد روى عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وبنتها" فاقتضى إذا نظر إلى فرج امرأة في الزنا أن لا ينظر إلى فرج ابنتها في النكاح. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كشف خمار امرأة حرم عليه أمها وبنتها" فكان على عمومه في كشف الخمار لنكاح أو زنا قالوا: ولأنه وطء مقصود فوجب أن يتعلق به تحريم المصاهرة كالنكاح ولأنه تحريم يتعلق بالوطء المباح فوجب أن يتعلق بالوطء المحظور قياسًا على وطء الشبهة. ولأنه فعل يتعلق به التحريم فوجب أن يستوي حكم محظور ومباحة كالرضاع. ودليلنا قوله تعالى: {وهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ المَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وصِهْرًا} [الفرقان: 54]. فجمع بين المائين الصهر، والنسب فلما انتفي عن الزنا حكم النسب انتفي عنه حكم

المصاهرة وروى نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحرام لا يحرم الحلال". وروى عن الزهري عن عائشة قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل ينكح المرأة حرامًا، أينكح ابنتها أو ينكح البنت حرامًا أينكح أمها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم الحرام الحلال إما يحرم ما كان بنكاح حلال" وهذا نص لا يجوز خلافه. ومن طريق القياس أنه وطء تمحض تحريمه فلم يتعلق به تحرم المصاهرة كوطء الصغيرة التي لا تشتهي ولأنه وطء لا يوجب العدة فلم يوجب تحريم المصاهرة كوطء الصغيرة والميتة؛ ولأنه تحريم نكاح يتعلق به التحريم المؤقت فوجب أن ينتفي عن الزنا الصريح قياسًا على تحريم العدة ولأنه وطء لا يتعلق به التحريم المؤقت فوجب أن يتعلق به التحريم المؤبد كاللواط ولأن ما أوجب تحريم المصاهرة افترق حكم حلاله وحرامه كالعقد؛ ولأن المواصلة التي ثبت في الوطء بالنكاح تنتفي عن الوطء بالزنا قياسًا على مواصلة النسب؛ ولأنه لما انتفي عن وطء الزنا ما يتعلق بوطء النكاح من الإحصان والإحلال والعدة والنسب انتفي عنه ما يتعلق به من تحريم المصاهرة؛ ولأنه لو ثبت تحريم المصاهرة بما حرم من الوطء والقبلة والملامسة بشهوة لما شاء المرأة أن تفارق زوجها إذا كرهته إذا قدرت على فراقه بتقبيل ابنه فيصير الفراق بيدها وقد جعله الله بيد الزوج دونها ولا يبطل هذا بالردة لأن ما يلزمها من القتل بالردة أعظم مما تستفيده من الفرقة فلم تخلص لها الفرقة بالردة وخلصت لها بالقبلة. فأما الجواب عن قوله تعالى: {ولا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم} [النساء: 22] فهو أن النكاح حقيقة في العقد فجاز الوطء ألا ترى إلى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [الأحزاب: 49] وقوله تعالى: {وأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ والصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُم} [النور: 32] يريد به العقد دون الوطء، ثم لو تناول الوطء مجازًا عندنا وحقيقة عندهم فجاز أن يكون محمولًا على حلاله مخصوصًا في حرامه بدليل ما ذكرناه. وأما احتجاجهم بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا ينظر الله إلى رجل نظر إلى فرج امرأة وبنتها" فعنه جوابان: أحدهما: أنه مروي عن وهب بن منبه أنه مكتوب في التوراة فلم يلزمنا لنسخها بالقرآن. والثاني: أن ما تضمنه من الوعيد متوجه إليه في الحرام دون الحلال لأن أحدهما لا محالة حرام. وأما احتجاجهم بقوله صلى الله عليه وسلم: "من كشف خمار امرأة حرمت عليه أمها وبنتها" فلا دليل في ظاهره فعمل بموجبه؛ لأن كشف الخمار لا يحرم عليه أمها ولا بنتها؛ فإن عدلوا

به عن ظاهره إلى الوطء عدلنا به إلى حلال الوطء أو شبهته. وأما قياسهم بأن وطء مقصود كالنكاح فليس لقولهم وطء مقصود تأثير في الحكم؛ لأن وطء العجوز الشوهاء غير مقصود وهو في تحريم المصاهرة كوطء الشابة الحسناء وإذا سقط اعتباره لعدم تأثيره انتقض بوطء الميتة ثم المعنى في النكاح أنه أوجب لحوق النسب فلذلك أوجب تحريم المصاهرة وليس كذلك الزنا، وكذلك الجواب عن قياسهم على وطء الشبهة. وأما قياسهم على الرضاع بعلة أنه فعل يتعلق به التحريم فمنتقض بالعقد يفترق حكم محظوره الفاسد ومباحه الصحيح. وإن قيل: فالعقد قول وليس بفعل قبل القول فعل. ثم المعنى في الرضاع أنه لما تعلق لمحظورة شابه أحكام المباح لما يتعلق به تحريم المصاهرة. فصل: فأما الشافعي: فإنه حكي مناظرة بينه وبين العراقيين في هذه المسألة اختلف أصحابنا فيه. فقال بعضهم: هو محمد بن الحسن وقال آخرون: هو بشر المريس فقال الشافعي: قال لي قائل يقول: لو قبلت امرأة ابنه لشهوة حرمت على زوجها أبدًا لم قلت هذا. فهذا سؤال أورده عليه المخالف فمن أصحابنا من قال: قد أخطأ المزني في نقله وإنما هو لم لا قلت هذا فحذف لا وقال: لمن قلت هذا سهوًا منه وقال آخرون: بل نقل المزني صحيح؛ لأن الشافعي ذكر مذهبه في أن الحرام لا يحرم الحلال وطأً كان أو لمسًا فقال له المخالف: أنا أقول: لو قبلت امرأة ابنه بشهوة، حرمت عليه أبدًا، لم قلت هذا الذي تقدم منك في الحرام لا يحرم الحلال؟ فأجاب الشافعي عن ذلك فقال: من قبل أن الله تعالى حرم أمهات نسائكم وهذا بالنكاح فلم يجز أن يقاس الحرام بالحلال يعني أنه لما كان النص واردًا في النكاح كان الحكم مقصورًا عليه ولم يكن ملحقًا به لأن حكم الحرام مخالف لحكم الحلال ثم قال الشافعي: وقوله تعالى حاكيًا عن هذا القائل فقال لي أحدهما جماعًا وجماعًا يعني أن وطء الزنا جماع ووطء النكاح جماع فاقتضى لتساويها أن يستوي حكمهما فأجابه الشافعي عن هذا أبان فرق بين الجماعين في الحكم فقال: جماعًا حمدت به وجماعًا رحمت به وأحدهما نعمة وجعلته نسبًا وصهرًا وأوجب به حقوقًا وجعلك محرمًا لأم امرأتك وابنتها تسافر بهما وجعل الزنا نقمة في الدنيا بالحدود وفي الآخرة بالنار إلا أن يعفو الله أفتقيس الحرام الذي هو نقمة على الحلال الذي هو نعمة. فبين الشافعي بأن الجماعين لما افترقا في هذه الأحكام التي أجمعنا عليها وجب أن يفترقا في تحريم المصاهرة التي اختلفنا فيها ثم إن الشافعي استأنف سؤالًا على هذه المناظرة له فقال: إن قال لك قائل: وجدت المطلقة ثلاثًا تحل بجماع الزوج فأحلها بالزنا؛ لأنه جماع كجماعكما حرمت به الحلال؛ ولأنه جماع وجماع فأجابه هذا المناظر

بأن قال: إذا نخطئ لأن الله تعالى أحلها بإصابة زوج فقال الشافعي: وكذلك ما حرم في كتابه بنكاح زوج وإصابة زوج فأورد أول السؤال نقصًا ثم يبين أنهم قد جعلوا بين الجماعين فرقًا؛ لأن الحق الجماع الحرام بالجماع الحلال من حيث جمعهما بالاسم فعارضه بتحليلها للزوج بالجماع الحرامك قياسًا على الجماع الحلال لاجتماعهما في الاسم فأقر بتخطئة قائله فصار نقضًا واعترافًا بأن اجتماعهما في الاسم ليس بعلة في الحكم ثم حكي الشافعي سؤالًا استأنف مناظره. فقال: قال لي: أفيكون شيء يحرمه الحلال لا يحرمه الحلال أقول به فأجابه الشافعي عن هذا بأن قال: نعم ينكح أربعًا فيحرم عليه أن ينكح من النساء خامسة فيحرم عليه إذا زنا بأربع شيء من النساء. قال المناظر: لا يمنعه الحرام ما منعه الحلال فكان هذا منه زيادة اعتراف تفرق ما بين الحلال والحرام ثم إن الشافعي حكي عنه استئناف سؤال يدل على أن الحرام قد يحرم الحلال وهو أن ترتد المرأة فتحرم بالردة على زوجها فلو يمتنع أن يكون الحرام محرمًا للحلال. فأجابه الشافعي رضي الله عنه بأن قال: نعم تحرم عليه وعلى جميع الناس واقتلها واجعل مالها فيئًا يريد بذلك أن تحرم الردة عام ولا تختص بتحريم النكاح وإنما دخل فيه تحريم النكاح تبعًا فجاز أن يكون مخالفًا لحكم ما يختص بتحريم النكاح، والله أعلم. فصل: فإذا تقرر ما وصفناهن الزنا لا يحرم النكاح فجاءت الزانية بولد من زنا كان ولد الزانية دون الزاني لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش والعاهر الحجر" وإنما لحق بها دونه لأنه مخلوق متهمًا عيانًا ومن الأب ظنًا فلحق بها ولد الزنا والنكاح لمعاينة وضعها لهما ولحق بالأب ولد النكاح دون الزنا لغلبة الظن بالفراش في النكاح دون الزنا وإذا لم يلحق ولد الزنا بالزاني وكانت ثيبًا جاز للزاني أن يتزوجها عن الشافعي وإن كره له أن يتزوجها واختلف أصحابنا في معنى الكراهية. فقال بعضهم: لاختلاف الفقهاء في إباحتها وكره استباحته مختلف فيها. وقال آخرون: بل كره نكاحها لجواز أن يكون مخلوقة من مائه. وقال أبو حنيفة: قد حرم على الزاني نكاحها واختلف أصحابه في معنى تحريمها فقالوا متقدموهم: لأنها بنت امرأة قد زنى بها فتعدى تحريم المصاهرة إليها فعلى هذا يكون فرعًا على الخلاف الماضي. وقال متأخروهم: بل حرمت لأنها بنته مخلوقة من مائه فعلى هذا يكون خلافًا مستأنفًا واستدلوا فيه بقول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] وهذه بنته؛ لأن العرب تسميها بنتًا ولا يعتبر عقد نكاح. قالوا: ولأنها مخلوقة من مائه في الظاهر فوجب أن تحرم عليه كالمولودة من زوجة أو أمة ولأن ولد الزنا مخلوق من ماء الرجل الزاني والزانية فلما حرم ولد الزنا على

باب نكاح حرائر أهل الكتاب وإمائهم وإماء المسلمين

الزانية وجب أن يحرم على الزاني قياسًا على ولد الشبهة. ولأنها مخلوقة من مائه فلم يكن نفيها عنه يمانع من تحريمها عليه قياسًا على ولد الملاعنة. ودليلنا: هو أن تحريم الولد حكم من أحكام النسب فوجب أن ينتفي عن ماء الزاني كالميراث ولأنه لما كان لحوق النسب بالزانية يوجب أن يتبعه التحريم كما تبعه الميراث وقد يتحرر هذا الاعتلال قياسان: أحدهما: أن تحريم نسب فوجب أن يكون تابعًا للسب كاتباعه في حق الأم. والثاني: أنه تابع للنسب والثبوت فوجب أن يكون تابعًا له في النفي كالميراث ولا مدخل على هذا ولد الملاعنة لما سنذكره ولأن ولد الزنا لو حرمت على الزاني بالنبوة لحرمت على أبيه وابنه بحكم النبوة والإخوة وفي إباحتها لهما دليل على إباحتها للزاني. فأما استدلالهم بالآية فليست هذه من بناته فتدخل في آية التحريم كما لم تكن من بناته في آية المواريث بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ} [النساء: 11] الآية. وأما قياسهم أنها مخلوقة من مائه فهذا غير معلوم فلم يسلم ثم لما لم يمنع خلقها من مائه أن لا يتعلق به نسب ولا ميراث لم يمنع أن يتعلق به تحريم. فأما قياسهم على ولد الشبهة فالمعنى فيه: أنه لما ثبت نسبه وميراثه ثبت تحريمه وولد الزنا بخلافه. فأما قياسهم على ولد الملاعنة فالحكم في ولد الملاعنة أنه إن كان قد دخل بأمها حرمت عليه أبدًا لأنها بنت امرأة قد دخل بها وإن كان قد دخل بها ففي تحريمها عليه وجهان حكاهما أبو حامد الإسفراييني: أحدهما: لا يحرم عليه كولد الزنا فعلى هذا بطل القياس. والثاني: أنها تحرم عليه لأنه لو اعترف بها بعد الزنا لحقت وولد الزنا لو اعترف به لم يلحق فصار ولد الزنا مؤبدًا ونفي ولد الملاعنة غير مؤبد فافترقا في النفي فكذلك ما افترقا في الحكم. باب نكاح حرائر أهل الكتاب وإمائهم وإماء المسلمين مسألة: قَالَ الشَّافِعَيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَأَهْلُ الكِتَابِ الَّذِينَ يَحِلُّ نِكَاحُ حَرَائِرِهِمُ اليَهُودُ وَالنَّصَارَى دُونَ المَجُوسِ وَالصَّابِئُونَ وَالسَّاحِرَة ُمِنَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى إلَّا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمْ يُخلِفُونَهُمْ فِي أَصْلِ مَا يُحِلٌّونَ مِنَ الكِتَابِ وَيُحَرِّمُونَ فَيُحَرَّمُونَ كَالمَجُوسِ وَإِنْ كَانُوا يُخَالِفُونَهُمْ عَلَيْهِ ويَتَأَوَّلُونَ فَيَخْتَلِفُونَ فَلَا يُحَرِّمُونَ".

قال في الحاوي: اعلم أن المشركين على ثلاثة أقسام: قسم هم أهل الكتاب، وقسم ليس لهم كتاب، وقسم لهم شبهة كتاب. فأما القسم الأول: وهم أهل الكتاب فهم اليهود والنصارى، فكتاب اليهود التوراة ونبيهم موسى، وكتاب النصارى الإنجيل، ونبيهم عيسى، وكلا الكتابين كلام الله ومنزل من عنده، قال الله تعالى: {وأَنزَلَ التَّوْرَاةَ والإنجِيلَ مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ} [آل عمران: 3 - 4] قد نسخ الكتابان والشريعتان، أما الإنجيل فمنسوخ بالقرآن والنصرانية منسوخة بشريعة الإسلام، وأما التوراة ودين اليهودية فقد اختلف أصحابنا بماذا نسخ على وجهين: أحدهما: أن التوراة منسوخة بالإنجيل، واليهودية منسوخة بالنصرانية، ثم نسخ القرآن الإنجيل ونسخ الإسلام النصرانية، وهذا أظهر الوجهين؛ لأن عيسى عليه السلام قد دعا اليهود إلى دينه واحتج عليهم بإنجيله، فلو لم ينسخ دينهم بدينه وكاتبهم بكتابة لأقرهم وادعى غيرهم. والثاني: أن التوراة منسوخة بالقرآن واليهودية منسوخة بالإسلام، وأن ما لم يغير من التوراة قبل القرآن حق، وما تغير من اليهودية قبل الإسلام حق، وأن عيسى دعا اليهود لأنهم غيروا كتابهم وبدلوا دينهم فنسخ بالإنجيل، وما غيروه من توراتهم وبالنصرانية ما بدعوه من يهوديتهم، ثم نسخ القرآن حينئذٍ جميع توراتهم ونسخ الإسلام جميع يهوديتهم؛ لأن الأنبياء قد كانوا يحفظون من الشرائع التبديل وينسخون منها ما تقتضيه المصلحة. كما نسخ الإسلام في آخر الوحي خاصًا من أوله، فأما نسخ الشرائع المتقدمة على العموم فلم يكن إلا بالإسلام الذي خاتمة الشرائع بالقرآن الذي هو خاتمة الكتب فعلى الوجه الأول يكون الداخل في اليهودية بعد عيسى على باطل وعلى الوجه الثاني على حق ما لم يكن ممن غير وبدل فأما بعد الإسلام فالداخل في اليهودية والنصرانية على باطل. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا من أن اليهود والنصارى من أهل الكتاب قد كانوا على دين حق ثم نسخ فيجوز لحرمة كتابهم أن يقروا على دينهم بالجزية أي يزكوا وتؤكل ذبائحهم وتنكح نساؤهم فأما إقرارهم بالجزية وأكل ذبائحهم فمجمع عليه بالنص الوارد في كتاب الله تعالى وأما الجزية فلقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ} [التوبة: 29] فأما أكل الذبائح فقوله تعالى: {وطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حِلٌّ لَّكُمْ} [المائدة: 5] أما نكاح حرائرهم فالذي عليه جمهور الصحابة والتابعين غير الإمامية من الشيعة أنهم منعوا من نكاح حرائرهم مع القدرة على نكاح المسلمات استدلالًا بقوله تعالى: {ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] وقوله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة: 51] الآية، قالوا: ولأن بعضهم يمنع من نكاح نسائهم كعبدة الأوثان. قالوا: ولأنهم وإن كانوا أهل كتاب منزل فكتابهم مغير منسوخ، وما نسخه الله

تعالى ارتفع حكمه فلم يفرق بينه وبين ما لم يكن فكذلك صاروا بعد نسخه في حكم من لا كتاب له، هذا خطأ لقوله تعالى: {والْمُحْصَنَاتُ مِنَ المُؤْمِنَاتِ والْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة: 5] فجمع بين نكاحهن ونكاح المؤمنات فدل على إباحته. فإذا قيل: فهذا منسوخ بقوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] متقدمة لأنها من سورة البقرة، وقوله: {والْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] متأخرة لأنها من سورة المائدة، وهي من آخر ما نزل من القرآن، والمتأخر هو الناسخ للتقدم وليس يكون أن يكون المتقدم ناسخًا للمتأخر فعلى هذا الجواب يكون قوله: {وَلا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} منسوخًا بقوله: {والْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] وهذا قول ابن عباس. والجواب الثاني: أن قوله: {وَلا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] عام وقوله {والْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} خاص والخاص من حكمه أن يكون قاضيًا على العام ومخصصًا له سواء تقدم عليه أو تأخر عنه فعلى هذا يكون قوله: {وَلا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] مخصوصًا بقوله: {والْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] وهذا هو الظاهر من مذهب الشافعي وأن اسم الشرك ينطلق على أهل الكتاب وغيرهم من عبدة الأوثان وذهب غيره من الفقهاء: إلى أن أهل الكتاب ينطلق على اسم الكفر ولا ينطلق على اسم الشرك وأن اسم الشرك ينطلق على من لم يوحد الله تعالى وأشرك به غيره من عبدة الأوثان فعلى هذا القول يكون قوله: {وَلا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} مخصوصًا ولا منسوخًا ثم حكمه ثابت على عمومه. ثم يدل على جواز نكاحهم ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم: "ملك ريحانة وكانت يهودية واستمتع بها بملك اليمين" ثم أسلمت فبشر بإسلامها فسر به ولو منع الدين منها لما استمتع بها كما لم يستمتع بوثنيه ولأنه إجماع الصحابة، روى عن عمر جوازه. وعن عثمان أنه نكح نصرانية وعن طلحة أنه تزوج نصرانية. وعن حذيفة أنه تزوج يهودية. وعن جابر أنه سئل عن ذلك فقال: "نكحناهن بالكوفة عام الفتح مع يعد بن أبي وقاص، ونحن لا نكاد نجد المسلمات كثيرًا فلما انصرفنا من العراق طلقناهن تحل لنا نساؤهم ولا تحل لهم نساؤنا. فكان هذا القول من جابر إخبارًا عن أحوال جماعة المسلمين الذين معه من الصحابة وغيرهم فصار اجتماعًا منتشرًا فإن قيل: فقد خالف ابن

عمر. قيل: ابن عمر كره ولم يحرم فلم يصير مخالفًا ولأن الله تعالى قد أنزل كتابًا من كلامه وبعث إليهم رسولًا من أنبيائه كانوا في التمسك به على حق فلم يجز أن يساووا في الشرك لم يكن من عبدة الأوثان على حق معه وأنه لما جاز لحرمة كتابهم وما تقدم من صحة دينهم أن يفرق بينهم وبين عبدة الأوثان في حق دمائهم بالجزية وأكل ذبائحهم جاز أن تفرق بينهم في نكاح نسائهم فأما الأية فقد مضى الجواب عنها. وأما قوله: {ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] فمخصوص بعبدة الأوثان. وأما قياسهم على عبدة الأوثان، فممنوع بما ذكرنا من الفرق بينهما في قبول الجزية وأكل الذبائحُ. وأما قولهم: إن كتابهم منسوخ فهو كما لو لم يكن الجواب عنه أن ما نسخ حكمه لا يوجب أن لا ينسخ حرمته، ألا ترى أن ما نسخ من القرآن ثابت الحرمة، وإن كان منسوخ الحكم كذلك نسخ التوراة والإنجيل. فصل: فإذا تقرر أن اليهود والنصارى أهل كتاب يحل نكاح حرائرهم فهم ضربان: بنو إسرائيل وغير بني إسرائيل. فأما بنو إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام فجميع بنيه الذين دخلوا فيه قبل تبديله فيجوز إقرارهم بالجزية وأكل ذبائحهم ونكاح حرائرهم. وأما غير بني إسرائيل ممن دخل في اليهودية من النصرانية من العرب والعجم والترك منهم ثلاثة أصناف: صنف دخلوا فيه قبل التبديل كالروم حين دخلوا النصرانية فهؤلاء كبني إسرائيل في إقرارهم وأكل ذبائحهم ونكاح حرائرهم لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر الروم كتابًا قال فيه: {قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إلاَّ اللَّهَ} [آل عمران: 64] الآية، فجعلهم أهل الكتاب ولأن الحرمة للدين والكتاب ولا للنسب فلذلك ما استوى حكم بني إسرائيل وغيرهم فيه. والثاني: أن يكون قد دخلوا فيه بعد التبديل فهؤلاء لم يكونوا على حق ولا تمسكوا بكتاب صحيح. فصاروا إن لم يكن لهم حرمة كعبدة الأوثان في أن لا تقبل لهم الجزية ولا يوكل لهم ذبيحة ولا تنكح منهم امرأة. والثالث: أن يشك فيهم هل دخلوا فيه قبل التبديل أو بعده كالنصارى العرب كوج وفهر وتغلب فهؤلاء شك فيهم عمر فتشاور فيهم الصحابة فاتفقوا على إقرارهم بالجزية حقنًا لدمائهم وأن لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم لأن الدماء محقونة فلا تباح بالشك والفوج محظورة لا تستباح بالشك فهذا حكم أهل الكتاب من اليهود والنصارى.

فصل: وأما القسم الثاني: هم غير أهل الكتاب كعبدة الأوثان وعبدة الشمس والنيران وعبدة ما استحسن من حمار أو حيوان أو قال: بتدبير الطبائع وبقاء العالم أو قال: بتدبير الكواكب في الأكوان والأدوار فلم يصدق نبيًا ولا آمن بكتاب فهؤلاء كلهم مشركون لا يقبل لهم جزية ولا تؤكل لهم ذبيحة ولا تنكح منهم امرأة ولا يحكم فيهم إذا امتنعوا من الإسلام إلا بالسيف إذا قدر عليهم إلا أن يؤمنوا مدة أكثرها أربعة أشهر يراعى انقضاؤها فيهم ثم هم بعد انقضاء مدة أمانهم حرب وسواء أقروا بأن لا إله إلا الله أو أشركوا به غيره أو جحدوه ولم يقروا به إله ولا خالق في أن حكم جميعهم سواء لا يقبل لهم جزية ولا تؤكل لهم ذبيحة ولا تنكح لهم امرأة. فصل: وأما القسم الثالث: وهم من له شبهة كتاب فهم ثلاثة أصناف: الصابئون، والسامرية، والمجوس. فأما السامرة: فهم صنف اليهود والذين عبدوا العجل حين غاب عنهم موسى مدة عشرة أيام بعد الثلاثين واتبعوا السامري فرجع موسى إلى قومه فأنكر عليهم عبادة العجل وأمرهم بالتوبة وقتل أنفسهم فمنهم من قتل. وأما الصابئون: فهم صنف من النصارى وافقوهم على بعض دينهم وخالفوهم في بعضه وقد يسمى باسمهم ويضاف إليهم قوم يعبدون الكواكب ويعتقدون أنها صانعة مدبرة فنظر الشافعي في دين الصابئين والسامرة، فوجده مشتبهًا فعلق القول فيهم لاشتباه أمرهم فقال هاهنا: أنهم من اليهود والنصارى إلا أن يعلم أنهم يخالفوهم في أصل ما يحللون ويحرمون فيحرمون وقطع في موضع آخر أنهم منهم، وتوقف في موقف آخر فيهم وليس ذلك لاختلاف قوله ولكن لا يخلو حالهم من ثلاثة أقسام: فقال: إن وافقوا اليهود والنصارى في أصل معتقدهم ويخالفوهم في فروعه فيقر السامرة بموسى والتوراة ويقر الصابئون بعيسى والإنجيل فهؤلاء كاليهود والنصارى في قول جزيتهم وأكل ذبائحهم ونكاح نسائهم لأنهم إذا جمعهم أصل المعتقد لم يكن خلافهم في فروعه مؤثر كما يختلف المسلمون مع اتفاقهم على أصل الدين في فروع لا توجب تباينهم ولا خروجهم عن الملة. والقسم الثاني: أن يخالفوا اليهود والنصارى في أصول معتقدهم وأن يوافقوهم في فروعه ويكذب السامرة بموسى والتوراة ويكذب الصابئون بعيسى والإنجيل فهؤلاء كعبدة الأوثان لا يقبل لهم جزية ولا يؤكل لهم ذبيحة ولا تنكح منهم امرأة لأنهم لم يكونوا على حق فيراعى فيهم ولا تمسكوا بكتاب فيحفظ عليهم حرمته فيؤخذوا بالإسلام أو بالسيف، وحكى أن القاهر استفتى أبا سعيد الإصطرخي فيهم فأفتاه أن يقتلهم لأنهم يقولون: إن الفلك هو حي ناطق وأن الكواكب السبعة آلهة مدبرة فهمّ بقتلهم فبذلوا له مالًا فكفّ عنهم.

والقسم الثالث: أن يشك فيهم فلا يعلم هل وافقوا اليهود والنصارى في الأصول دون الفروع أو في الفروع دون الأصول فهؤلاء كمن شدّ في دخوله في اليهودية والنصرانية هل كان قبل التبديل أو بعده فيقرون الجزية حقنًا لدمائهم ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم. فصل: وأما المجوس فقد اختلف الناس فيهم هل هم أهل كتاب أم لا؟ وعلق الشافعي القول فيهم وقال في موضع: هل أهل كتاب وقال في موضع: ليسوا أهل كتاب فاختلف أصحابنا لاختلاف قول الشافعي فكان بعضهم يخرجه على اختلاف قولين: أحدهما: أنه لا كتاب لهم لقوله تعالى: {إنَّمَا أُنزِلَ الكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ} [الأنعام: 156] يعني اليهود والنصارى فدل على أنه لا كتاب لغيرهما ولأن عمر لما أشكل عليه أمرهم سأل الصحابة عنهم فروى عبد الرحمن بن عون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" فلما أمر بإجرائهم مجرى أهل الكتاب دل على أنهم ليس لهم كتاب فعلى هذا القول يجوز قبول جزيتهم له 1 ذا الحديث وأن عمر أخذ الجزية منهم بالعراق وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم: "أخذ الجزية من مجوس هجر" فأما أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم فلا يجوز لعدم الكتاب فيهم. والقول الثاني فيهم: أنهم أهل كتاب لأن الله تعالى يقول: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ} [التوبة: 29] وقد ثبت أخذ الجزية منهم فدل على أنهم من أهل الكتاب. وروي عن علي بن أبي طالب أنه قال: وكانوا أهل كتاب، وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته، فلما صحا جاؤوا يقيمون عليه الحد فامتنع منهم، فدعا آل مملكته فقال: "تعلمون دينًا خيرًا من دين آدم فقد كان آدم ينكح بنيه من بناته، فأما على دين آدم من يرغب بكم عن دينه فبايعوه وخالفوا الدين وقاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم فأصبحوا وقد أسرى على كتابهم فرفع من بين أظهرهم وذهب العلم الذي في صدورهم، وهم أهل كتاب وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما منهم الجزية". فنكح الملك أخته وأمسكوا عليه الإنكار عليه إما متابعة لرأيه وإما خوفًا من سطوته، فأصبحوا وقد أسرى بكتابهم. فعلى هذا القول يجوز إقرارهم بالجزية وهل يجوز أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يجوز لإجراء حكم الكتاب عليهم. والثاني: لا يجوز لأن طريق كتابهم الاجتهاد دون النص فقصر حكمه عن حكم

النص. وقال آخرون من أصحابنا: ليس ما اختلف نص الشافعي عليه اختلاف قولين فيه إنما هو على اختلاف حالين فالموضع الذي قال إنهم أهل كتاب يعني في قبول الجزية وحدها حقنًا لدمائهم أن لا يستباح بالشك والموضع الذي قال: إنهم غير أهل كتاب يعني في أن لا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم وهذا قول سائر الصحابة والتابعين والفقهاء وخالف أبو ثور فجوز أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم وروى إبراهيم الحربي: تحريم ذلك عن سبعة عشر صحابيًا وقال: ما كنا نعرف خلافًا فيه حتى جاءنا خلافاً من الكرخ يعني خلاف أبي ثور لأنه كان يسكن كرخ بغداد واستدل أبو ثور على أكل ذبائحهم وجواز مناكحتهم بحديث عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" قال: وقد تزوج حذيفة بن اليمان مجوسية بالعراق فاستنزله عنها عمر فطلقها فلو لم يجز لأنكر عليه ولفرق بينهما من غير طلاق ولأن كل صنف جاز قبول جزيتهم. جاز أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم كاليهود والنصارى قالوا: ولأن كتاب اليهود والنصارى نسخ وكتاب المجوس رفع ولا فرق بين حكم المنسوخ والمرفوع فلما لم يمنع نسخ كتابي اليهود والنصارى من أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم لم يمنع رفع المجوس من ذلك وهذا خطأ لأن إبراهيم الحربي ورواه عن سبعة عشر صحابيًا ولا يعرف لهم مخالفًا فصار إجماعًا؛ لأن من لم يتمسك بكتاب لم تحل ذبائحهم ونسائهم كعبدة الأوثان وليس للمجوس كتاب يتمسكون به كما يتمسك اليهود والنصارى بالتوراة والإنجيل فوجب أن يكون حكمهم مخالفُا لحكمهم ولأن نكاح المشركات محظور بعموم النص فلم يجز أن يستباح باحتمال ولأن عمر مع الصحابة توافقوا في قبول جزيتهم للشك فيهم فكيف يجوز مع هذا الشك أن يستبيح أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم. وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري يسأله كيف أخذ الناس الجزية من المجوس وأقروهم على عبادة النار وهم معبدة الأوثان، فكتب إليه الحس: إنما أخذوا منهم الجزية؛ لأن العلاء بن الحضرمي - وكان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين- أخذها منهم وأقرهم. فدل على أنهم أفردوا من أهل الكتاب بأخذ الجزية وحدها فلذلك خصهما عمر بن عبد العزيز بالسؤال والإنكار فأما استدلاله بقوله: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" فيعني به في أخذ الجزية لأمرين: أحدهما: أنه روى ذلك عند الشك في قبول جزيتهم. والثاني: أن الصحابة أثبتوا هذا الحديث في قبول جزيتهم ولم يجوزوا به أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم. وأما تزويج حذيفة بمجوسية فالمروي أنها كانت يهودية، ولو كانت مجوسية فقد استنزله عنها عمر فنزل، ولو كانت نحل له لم استنزله عنها عمر، ولما نزل عنها حذيفة، وأما قياسه على اليهود والنصارى فالمعنى فيهم تمسكهم بكتابهم فثبت حرمته فيهم وليس كذلك المجوس.

فأما قوله: إن حكم المرفوع والمنسوخ سواء فليس بصحيح؛ لأن المنسوخ باقي التلاوة فنفيت حرمته فيهم وليس كذلك المجوس وأما المرفوع مرفوع التلاوة فارتفعت حرمته هذا الكلام فيمن له شبهة بكتاب من الصابئين، والسامرة والمجوس. فأما من تمسك بصحف شيث أو زبور داود أو شيء من الصحف الأولى أو من زبر الأولين فلا يجري عليه حكم أهل الكتاب ويكونوا كمن لا كتاب له فلا تقبل لهم جزية ولا تؤكل لهم ذبيحة ولا تنكح فيهم امرأة لأمرين: أحدهما: أن هذه الكتب مواعظ ووصايا وليس فيها أحكام وفروض فخالفت التوراة والإنجيل. والثاني: ليس كلام الله وإنما هي وحي منه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي أو من تبعني أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية. فكان ذلك وحيًا من الله ولم يكن من كلامه فخرج عن حكم القرآن الذي تكلم به كذلك هذه الكتب والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَإِذَا نَكَحَهَا فَهِيَ كَالمُسْلِمَةَ فِيمَا لَهَا وَعَلَيْهَا إِلاَّ أَنَهُمَا لاَ يَتَوَارَثَانِ وَالحَدَّ فِي قَذْفِهًا التَّعْزِيزُ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا أنكح المسلم كتابية مما لها وعليها من حقوق العقد كالمسلمة لعموم قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] ولأنه عقد معاوضة فاستوى فيه المسلم وأهل الذمة كالإجارات والبيوع وإذا كان كذلك فالذي لها عليه من الحقوق المهر والنفقة والكسوة والسكنى والقسم والذي له عليها من الحقوق تمكينه من الاستمتاع وأن لا تخرج من منزله إلا بإذنه وهذه هي حقوق الزوجين بين المسلمين وكذلك المسلم والذمية. فأما أحكام العقد فهي الطلاق والظهار والإيلاء واللعان والتوارث وكل هذه الأحكام في العقد على الذمية كما في العقد على المسلمة إلا في شيئين: أحدهما: أنهما لا يتوارثان لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم". والثاني: أن الحد في قذفها التعزير؛ لأن الإسلام شرط في حصانة القذف برواية

نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أشرك بالله فليس بمحصن". فإن أراد أن يلاعن ليسقط به هذا التعزير جاز لأن التعزير ضربان: الأول: تعزير أذى لا يجب. والثاني: وتعزير قذف يجب. فتعزير الأذى يكون في قذف من لا يصح منها الزنا كالصغيرة والمجنونة فلا يجب ولا يجوز فيه اللعان وتعزير القذف يكون في قذف من يصح منها الزنا ولم تكمل حصانتها كالأمة والكافرة فيجب ويجوز فيه اللعان فأما ما سوى هذين الحكمين من الطلاق والظهار والإيلاء والرجة فهي جمعيه كالمسلمة. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيَّ: "وَيَجْبِرُهَا عَلَى الغُسْلِ مِنَ الحَيُضِ وَالجَنَابَةِ". قال في الحاوي: وأما إجبار الذمية على الغسل من الحيض فهو من حقوق الزوج؛ لأن الله تعالى حرم وطء الحائض حتى تغتسل بقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة:222] وكان للزوج إذا منعه الحيض من وطئها أن يجبرها عليه ليصل إلى حقه منه. فإن قيل: الغسل عندكم لا يصح إلا منه ولا فرق عندكم بين من لم ينو ومن لم يغتسل مع الكفر والإجبار لا تصح منها نية. قيل: في غسلها من الحيض حقان: أحدهما: لله تعالى لا يصح إلا بنية. والآخر: للزوج يصح بغير نية فكان له إجبارها في حق نفسه لا في حق الله تعالى فلذلك أجزى بغير نية ألا ترى أنه يجبر زوجته المجنونة على الغسل في حق نفسه وإن لم يكن عليها في حق لله تعالى غسل وغير ذات الزوج تغتسل في حق الله تعالى، وإن لم يكن للزوج عليها حق كذلك تجبر الذمية على الغسل من النفاس لأنه يمنع الوطء كالحائض فأما إجبار الذمية على الغسل من الجنابة ففيه قولان: أحدهما: لا يجبرها عليه بخلاف الحيض، لأنه قد يستبيح وطء الجنب ولا يستبيح وطء الحائض فافترقا في الإجبار. والقول الثاني: أنه يجبرها عليه وإن جاز وطئها مع بقائه لأن نفس المسلم قد تعاف وطئ من لا تغتسل من جنابة. فكان له إجبارها عليه ليستكمل به الاستمتاع وإن كان الاستمتاع ممكناً فأما الوضوء من الحدث فليس له إجبارها عليه قولاً واحداً لكثرته وأن النفوس لا تعافه وإنه ليس يصل إلى وطئها إلا بعد الحدث فلم يكن لإجبارها عليه تأثير.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "وَالتَّنظِيفِ بِالاسْتِحْدَادِ وَأَخْذِ الأَظْفَارِ". قال في الحاوي: وأصل ما يؤثر في الاستمتاع بالزوجة ضربان: أحدهما: ما منع من أصل الاستمتاع. والثاني: ما منع من كمال الاستمتاع فأما المانع من أصل الاستمتاع فهو ما لا يمكن بعد الاستمتاع كالغسل من الحيض والنفاس فللزوج إجبار زوجته الذمية عليه وأما المانع من كمال الاستمتاع فهو ما تعافه النفوس مع القدرة على الاستمتاع كالغسل من الجنابة ففي إجبارها عليه قولان وإذا استقر هذا الأصل فقد قال الشافعي: "والتنظيف بالاستحداد" وهو أخذ شعر العانة مأخوذ من الحدية التي يحلق بها فإن كان شعر العانة قد طال وفحش وخرج عن العادة حتى لم يمكن معه الاستمتاع أجبر زوجته على أخذه سواء كانت مسلم أو ذمية، وإن لم يفحش وأمكن معه الاستمتاع ولكن تعافه النفس ففي إجبارها على أخذه قولان. وإن لم تعافه النفس لم يجبرها على أخذه قوًلا واحدًا. قال أحمد بن حنبل: والسنة أنه يستحد الأعزب كل أربعين يومًا والمتأهل كل عشرين يومًا إن قاله نقًلا مأثورًا عمل به وإن قال اجتهادًا فليس لهذا التقدير في الاجتهاد أصل مع اختلاف الحلق في سرعة نبات الشعر في قوم وإبطائه في آخرين واعتباره بالعرف أولى وأما الأظفار إذا لم تصل إلى حد تعافها النفوس لم يجبرها على أخذها وإن عافت النفوس طولها ففي إجبارها على أخذها قولان. وهكذا غسل رأسها إذا سهك- أو قمل وغسل جسدها إذا راح وأنتن ففي إجبارها عليه قولان: لأن النفوس تعافه. مسألة: قَالَ الشّاَفِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "وَيَمْنَعُهَا مِنَ الكَنِسَةِ وَالخُرُوجِ إِلَى الأَعْيَادَ كَمَا يَمْنَعَ المُسْلِمَةَ مِنْ إِتْيَانِ المَسَاجِدِ". قال في الحاوي: للزوج أن يمنع اليهودية من البيعة والنصرانية من الكنيسة والمسلمة من المسجد وإن كانت بيوتًا تقصر للعبادة التي لا يجوز أن يمنع من واجباتها لأنها قد توافي في منازل أهلها. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تحل المرأة بيتاً ولا تخرج من بيت زوجها كاره ولا منها قد تفوت عليه الاستمتاع في زمان الخروج فكان له منعها لاستيفاء حقه من الاستمتاع بها. فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يمنعن إماء الله مساجد الله، وليخرجن تفلات". فعنه جوابان:

أحدهما: أنه لا يمنعها منع تحريم خوفًا من أن يظن أن منعهن من إتيان المساجد واجب. والثاني: أن الرواية: "لا تمنعوا إماء الله مسجد الله" يريد به المسجد الحرام في حجة الإسلام ثم هكذا يمنعها من الخروج إلى الأعياد ثم إذا كان له منعها من الخروج إلى هذه العبادات كان بأن يمنعها من الخروج بغير العبادات أولى. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَيَمْنَعُهَا مِنْ شُرْبِ الخَمْرِ وَأَكِلِ الخَنْزِيرِ إِذَا كَانَ يَتَقَدَّرُ بِهِ مِنْ أَكْلِ مَا يَحِلُّ إِذَا تَأَذَّى بِرِيحِهِ". قال في الحاوي: أما الذمية فللزوج أن يمنعها أن تشرب الخمر والنبيذ وما يسكرها لأمرين: أحدهما: ربما أنه خاف على نفسه من سكرها. والثاني: أنه قدر ربما منعته من الاستمتاع بها فصار بكل واحد من الأمرين غير ممكن من الاستمتاع فلذلك جاز أن يمنعها منه قوًلا واحدًا فإما إن أردت أن تشرب من الخمر والنبيذ ما لا يسكرها فقد اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة إن له منعها من يسيره الذي لا يسكر كما يمنعها من كثيره الذي يسكر؛ لأن حدّ المسكر منه غير معلوم، وربما أسكرها اليسير ولم يسكرها الكثير؛ لأن السكر يختلف باختلاف الأمزجة والأهوية، فالمحرور يسكره القليل والمرطوب لا يسكره إلا الكثير، وإذا برد الهواء واشتد أسكر القليل، وإذا حمي الهواء لم يسكر إلا الكثير، فلم يجز مع اختلافه أن يغترف حال قليله وكثيره. والثاني: وهو قول أبي حامد الإسفراييني لما لم يذكر أمارة تدل على أن الزيادة بعدها مسكرة وهذا القدر لا يمنع من الاستمتاع ولكن ربنا عافته نفوس المسلمين لاسيما من قوي دينه وكثر تحرجه فيصير مانعًا له من كمال الاستمتاع فيحرم جواز منعها على قولين. والثالث: ليس له منعها من شرب القليل الذي يردن شربه في أعيادهم عبادة وله أن يمنعها من الزيادة عليه سواء أسكر أو لم يسكر مراعاة فيه العابدة ولم يراعى فيه السكر وهذا الوجه أشبه. فأما المسلمة فللزوج منعها من شرب الخمر قليله وكثيره وكذلك من سائر المحرمات فأما النبيذ فإن كان الزوجان شافعيين يعتقدان تحريم النبيذ كالخمر فله منعها من قليله وكثيره وإن كانا حنيفيين يعتقدان إباحة النبيذ كان كالخمر في حق الذمية فله منعها أن تشرب منه قدر ما يسكرها، وهل يمنعها من قليله الذي لا يسكرها فعلى قول أبي

علي بن أبي هريرة يمنعها منه قوًلا واحدًا وعلى قول أبي حامد يكون على قولين. فصل: فأما الخنزير فله منع المسلمة من أكله بلا خوف فأما الذمية فإن كانت يهودية ترى تحريم أكله ثم أكلته منعها منه كما يمنع منه المسلمة، وإن كانت نصرانية ترى إباحة أكله فقد اختلف أصحابنا فالذي عليه أكثرهم أن له منعها قوًلا واحدًا لأن نفور نفس المسلم منه أكثر من نفورها من الخمر فصار مانعهًا من الاستمتاع ولأن حكم نجاسته أغلظ فهي لا تكاد تطهر منه ويتعدى النجاسة منها إليه. وكان أبو حامد الإسفراييني يقول: هذا يمنع من كمال الاستمتاع مع إمكانية وتحريم منعها منه على قولين فإن أكلت منه كان له إجبارها على غسل فمها ويدها منه لئلا يتعدى نجاسته إليه قبل أو باشر وفي قدر ما يجبرها عليه من غسله وجهان: أحدهما: سبع مرات إحداهن بالتراب مثل ولوغه. والثاني: يجبرها على غسله مرة واحدة بغير تراب لأنه يجبرها على غسله في حق نفسه لا في حق الله تعالى فأجزأ فيه المرة الواحدة كما يجزاء في غسل الحيض بغير نية. فصل: فأما أكل ما يتأذى بريحه من الثوم والبصل وأنتن من البقول والمأكل فالمسلمة والذميمة فيه سواء وينظر فإن كانت لدواء اضطرت إليه لم يمنعها منه. وإن كان لشهوة وغذاء فهذا يمنع من كمال الاستمتاع مع إمكانه فهل يمنعها منه أم لا؟ على قولين. فصل: فأما البخور بما تؤذي رائحته فأن كان لدواء لم تمنع وإن كان لغير دواء فعلى قولين ولا فرق فيما منعه من هذا كله بين أن يكون في زمان الطهر أو في زمان الحيض لأن زمان الحيض وإن حرم فيه وطئها فإن يحل فيه الاستمتاع بما سواه من القبلة والمباشرة فصار المانع منه حكم المانع من الوطء. فصل: فأما الثياب فله أن يمنعها من ليس ما كان نجساً لأنه قد ينجسها وينجس بها وهو أدوم من نجاسة الخنزير والتحرز منه أشق فلذلك منعت منه قوًلا واحدًا، وهل يمنع من لبس ما كان منتن الرائحة بصبغ أو بخور أو سهوكة طعام أم لا؟ على قولين فأما ليس الحرير والديباج واستعمال الطيب والبخور فلا يمنع منه لأنه أدعى إلى الشهوة وأكمل للاستمتاع وهكذا ليس له أن يمنعها من الخضاب والزينة ولا على أن يجبرها على دواء في مرض أو سمنة في صحة.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "وَإِنْ ارْقَدَّتْ إِلَى مَجُوسِيَّةٍ أَوْ إِلَى غَيْرِ دِينِ أَهْلِ الكِتَابِ فَلإِنْ رَجَعَتْ إِلى الإِسْلامِ أَوْ إِلَى دِينِ أَهْلِ الكِتَابِ قَبْلَ انْقِضَاءِ العِدَّةِ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ وَإِنْ انْقَضَتْ قَبْلَ أَنْ تَرْجِعَ فَقَدِ انْقَطَعَتِ العِصْمَةُ لأَنَّهُ يَصْلُحُ أَنْ يَبْتَدِئَ". قال في الحاوي: وصورتها في مسلم تزوج ذمية فانتقلت من دينها إلى غيره فهذا على أربعة أقسام: أحدهما: أن تنتقل عنه إلى الإسلام فقد زادته خيراً والنكاح بحاله وما زاده الإسلام إلا صحة وسواء قبل الدخول بها أو بعده. والثاني: أن تنتقل على دينها إلى دين يقرها أهله عليه كأنها كانت نصرانية فتزندقت أو توثنت فلا يجوز أن تقر عليه؛ لأنه لما لم تقر عليه من كان متقدم الدخول فيه فأولى أن لا يقر عليه من تأخر دخوله فيه وإذا كانت كذلك نظر في ردتها فإن كانت قبل دخوله بها بطل نكاحها كما يبطل نكاح المسلمة إذا ارتدت قبل الدخول وإن كانت ردتها عن دينها بعد الدخول بها كان النكاح موقوفًا على انقضاء العدة فإن رجعت قبل انقضائها إلى الدين الذي تؤمن به ويجوز نكاح أهله كانا على النكاح وإن لم ترجع حتى انقضت العدة بطل النكاح وفي الدين الذي تؤمن بالدخول إليه ثلاثة أقوال: أحدهما: الإسلام لا غي لأنها كانت مقرة على دينها لإقرارها بصحته وقد صارت بانتقالها عنه مقرة ببطلانه فلم يقبل منها إلا دين الحق وهو الإسلام. والثاني: أنها تؤخذ بالرجوع إلى الإسلام أو دينها الذي كانت عليه ولا يقبل منها الرجوع إلى غيره من الأديان فإن أقر أهلها عليه لأنه الذي تناوله عقد ذمتها فكان أحصن أديان الكفر بها وليس لإقرارها بصحته تأثير في صحته فلذلك جاز أن تقر عليه بعد رجوعها إليه. والثالث: أنها تؤخذ برجوعها إلى الإسلام، فإن أبت فإلى دينها الذي كانت عليه، أو إلى دين يقر أهله عليه فيستوي حكم دينها وغيره من الأديان التي تقر أهلها عليه في رجوعها إلى ما شاءت منها؛ لأن الكفر كله عندنا ملة واحدة وإن تنوع فإذا تقرر توجيه هذه الأقاويل فلها حالتان: إحداهما: أن ترجع إلى الدين الذي أمرت بالرجوع إليه. والثاني: أن لا ترجع إليه فإن لم ترجع إليه وأقامت على دينها فنكاحها قد بطل ولا مهر لها إن كان قبل الدخول ولها المهر وإن كان بعد الدخول وما الذي يوجب حكم هذه الردة [فيه قولان] قولان:

أحدهما: القتل كالمسلمة إذا ارتدت. والثاني: أن تبلغ مأمنها من دار الحرب ثم تصير حرباً إلى الدين الذي أمرت به فهي على حقن دمها وفي أمان ذمتها، ثم ينظر في الدين الذي رجعت إليه، فإن كان دينًا يجوز نكاح أهله كالإسلام أو اليهودية أو النصرانية فالنكاح معتبرًا بما قدمناه، وإن لم يكن قد دخل بها فقد بطل، وإن كان قد دخل بها فإن كان الرجوع إلى الدين المأمور به بعد انقضاء العدة فقد بطل أيضًا، وإن كان قبل انقضاء العدة فهما على النكاح، وإن كانت قد رجعت إلى دين يقر أهله عليه ولا يجوز نكاح أهله كالمجوسية والصابئة والسامرة فالنكاح باطل، وإن كانت مقرة على هذا الدين ما لم تنتقل عنه قبل انقضاء العدة إلى دين يجوز نكاح أهله فتكون ممن قد ارتفع عنها حكم الردة ولم يرتفع عنها وقوف النكاح. فصل: والقسم الثالث: أن ترتد عن دينها الذي كانت عليه إلى دين يقر أهله عليه ولا يجوز نكاحهم كأنها ارتدت من يهودية إلى مجوسية ففي إقرارها عليه قولان: أحدهما: تقر عليه لأن الكفر كله ملة واحدة. والثاني: لا تقر عليه وفيما تؤمر بالرجوع إليه قولان: أحدهما: الإسلام لا غير. والثاني: الإسلام فإن أبت فإلى دينها الذي كانت عليه فأما النكاح فإن كانت ردتها قبل الدخول بطل وإن كانت بعدة فسواء أقرت عليه أو لم تقر هو موقوف على انقضاء العدة لأنه لما يجز أن يستأنف نكاح من لم تزل مجوسية لم يجز استدامة نكاح من أقرت على الانتقال إلى المجوسية، وإذا كان كذلك روعي حالها فإن انتقلت قبل انقضاء عدتها إلى دين يحل نكاح أهله صح إلا بطل. فصل: والقسم الرابع: أن ترتد عن دينها الذي كانت عليه إلى دين يجوز نكاح أهله كأنها كانت يهودية فتنصرت أو نصرانية فتهودت ففي إقرارها على الدين الذي انتقلت إليه قولان: أحدهما: تقر، فعلى هذا يكون النكاح بحالة سواء كان قبل الدخول أو بعده. والثاني: لا تقر عليه وفيما تؤمر بالرجوع إليه قولان: أحدهما: الإسلام لا غير. والثاني: الإسلام فإن أبت فإلى دينها الذي كانت عليه فعلى هذا إن لم يكن قد دخل بها فالنكاح قد بطل وإن كان قد دخل بها فهو موقوف على انقضاء العدة فإن رجعت

باب الاستطاعة للحرائر وغير الاستطاعة

عنه إلى ما أمرت به قبل انقضائها صح النكاح وإلا بطل والله أعلم. باب الاستطاعة للحرائر وغير الاستطاعة قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء:25] وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ أَنَّهُ أَرَادَ الأَحْرَارَ لأَنَّ المِلْكَ لَهُمْ وَلاَ يَحِلُّ مِنَ الإِمَاءِ إِلاَّ مُسْلِمَةٌ وَلاَ تَحِلُّ حَتَّى يَجْتَمِعَ شَرْطَانِ أَنْ لاَ يَجِدَ طَوْلَ حُرَّةٍ وَيَخَافُ العَنَتَ إِنُ لَمْ يَنْكِحَهَا وَالعَنَتُ الزَّنَا، احْتَجَّ جَابِر بن عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: مَنْ وَجَدَ صَدَاقَ امْرَأٍَة فَلاَ يَتَزَوَّجْ أَمَةٍ. قَالَ طَاوُسُ: لاَ يَحِلُّ نِكَاحَ الحُرِّ الأَمَةَ وَهُوَ، يَجِدُ صَدَاقَ الحُرَّةِ. قَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارِ: لاَ يَحِلُّ نِكَاحُ الإِمَاءِ اليَوْمً لأَنَّهُ يَجِدُ طَوْلًا إلى الحُرَّةِ". قال في الحاوي: قد مضى الكلام في نكاح الحرائر من المسلمات والكتابيات إذا نكحن الأحرار والعبيد فأما نكاح الإماء فله حالان: أحدهما: مع العبد. والثاني: مع الحر. فأما العبد في نكاح الإماء فله أن ينكحهن كما ينكح الحرائر من غير شرط زائد، والكلام فيه يأتي مع ذكر ما فيه من خلاف. وأما الحر فحكمه في نكاح الأمة مخالف لحكمه في نكاح الحرة، فلا يجوز أن ينكحها إلا بثلاث شرائط تعتبر فيه، وشرط رابع يعتبر في الأمة فأما الشرط المعتبر في الأمة الإسلام ويأتي الكلام فيه. وأما الثلاث شرائط المعتبرة في الحر: أحدها: أن لا يكون تحته حر. والثاني: أن لا يجد طوًلا لحرة. والثالث: أن يخاف العنت إن لم ينكح أمة والعنت الزنا فإذا استكمل هذه الشروط الثلاثة حل له نكاح أمة وإن أخل بشرط منها لم يحل له نكاحها. وقال أبو حنيفة: يعتبر في نكاح الأمة شرط واحد وهو أن لا يكون تحته حرة ولا يعتبر عدم الطول وخوف العنت. وقال مالك: يعتبر فيه عدم الطول وخوف العنت ولا يعتبر فيه ألا تكون تحته حرة. وقال سفيان الثوري: يعتبر فيه خوف العنت وحده. وقال آخرون: لا يعتبر فيه شيء من هذه الشرائط، ويكون نكاحها كنكاح الحرة، فأما أبو حنيفة فاستدل على عدم الطول وخوف العنت غير معتبرين بعموم قوله تعالى:

{فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:2] فكان على عمومه في نكاح ما طاب من الحرائر والإماء ثم قال في آخر الآية: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3] يعني نكاح واحدة من الحرائر أو نكاح واحدة مما ملكت أيمانكم فكان هذا نصًا فصار أول الآية دليًلا من طريق العموم وآخرها دليًلا من طريق النص. واستدل أيضًا بقوله تعالى: {وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة:221] وقد ثبت أن له أن يتزوج الكتابية الحرة من غير شرط فالأمة المؤمنة التي خير منها أولى أن يجوز نكاحها ومن القياس: أنه ليس تحته حرة فجاز له نكاح الأمة كالعادم للطول والخائف للعنت ولأن كل من حل له نكاح الأمة إذا خشي العنت حل له نكاحها. وإن أمن العنت كالعبد ولأن كل من حل له نكاحها إذا لم يجد طوًلا حلّ نكحها، وإن وجد طوًلا كالحرة، ولأن كل نقص لم يمنع من النكاح إذا لم يقدر على سليم منه لم يمنع من النكاح وإن قدر على سليم منه قياسًا على نكاح الكافرة مع القدرة على مسلمة ولا وجود نكاح الأخت يمنع من نكاح أختها ووجود مهرها لا يمنع كذلك وجود الحرة يمنع من نكاح الأمة ووجود مهرها لا يمنع. ودليلنا قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [النساء:25] فأباح نكاح الأمة بشرطين: أحدهما: عدم الطول. والثاني: خوف العنت. فأما الطول: فهو المال والقدرة مأخوذة من الطول ولأنه ينال به معالي الأمور، كما ينال الطول معالي الأشياء. وأما العنت ففيه تأويلان: أحدهما: أنه الزنا. والثاني: أنه الحد الذي يصيبه من الزنا. فلما جعل الإباحة مقيدة بهذين الشرطين لم يصح نكاحها إلا بهما فإن قالوا هذا الاحتجاج بدليل الخطاب وهو عندنا غير حجة فعنه جوابان: أحدهما: أنه دليل خطاب عندنا حجة فجاز أن هي دلائلنا على أصولها. والثاني: أنه شرط علق به الحكم لأن لفظة "من" موضعه للشرط ويكون تقديره من لم يجد طوًلا وخاف العنت نكح الأمة والحكم إذا علق بشرطين انتفي بعدم ذلك الشرطين وكعذر أحدهما فإن قالوا فقوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} محموًلا على الوطء؛ لأن حقيقة النكاح هو الوطء، ويكون تقديره: ومن لم

(يستطع) منكم طولًا وطء حرة لعدمها تحته حل له نكاح أمة وكذا يقول، فعن هذا ثلاثة أجوبة: أحدها: أن النكاح عندنا حقيقة في العقد دون الوطء وهكذا كل موضع ذكر الله تعالى النكاح في كتابه فالمراد به العقد دون الوطء وكذلك هنا هنا. والثاني: أن الطول بالمال معتبر في العقد دون الوطء فكان حمل النكاح على العقد الذي يعتبر فيه الطول أولى من حمله على الوطء الذي لا يعتبر فيه الطول أولى. والثالث: أن حمله على الوطء يسقط اشتراط العنت وحمله على العقد لا يسقطه فكان حمله على العقد الذي يجمع فيه بين شرطيه أولى من حمله على الوطء الذي يسقط أحد شرطيه. فإن قالوا: فيحمل قوله: {فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:25] على وطئها بملك اليمين لا بعقد النكاح فالجواب عن هذا أن في سياق الآية ما يدل على بطلان هذا التأويل من ثلاثة أوجه: أحدهما: قوله: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} [النساء:25] وليس عد الطول شرطًا في وطء الأمة بملك اليمين. والثاني: قوله: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء:25 [وليس يراعى في وطئه بملك يمينه إذن أحد. والثالث: وليس خوف العنت شرطًا في وطئها بملك اليمين فبطل هذا التأويل وصح الاستدلال بالآية. ومن طريق الإجماع أنه مروى عن ابن عباس وجابر أما ابن عباس فروى عنه البراء وطاوس أنه قال: من ملك ثلاثمائة درهم وجب عليه الحج وحرم عليه الإماء. وأما جابر فروي عنه أبو الزبير أنه قال: "من وجد صداق حرة فلا ينكح أمة" وليس يعرف لقول هذين الصحابيين مع انتشاره في الصحابة مخالف فكان إجماعًا لا يجوز خلافه. ومن طريق القياس: أنه مستغن عن نكاح أمة فلم يجز له نكاحها قياسًا على من تحته حرة وإن ثبت أن تقول منعن عن استرقاق ولده قياسًا على هذا الأصل. وتقول حرة من العنت قادر على وطء حرة قياسًا على هذا الأصل. أو تقول حرًا من العنت قياسًا على هذا الأصل فتعلله بما شئت من أحد هذه الأوصاف الأربعة والوصف الأخير أشدها ولأن من قدر على قيمة المبدل الكامل كان كمن قدر عليه في تحريم الانتقال إلى المبدل الناقص كالانتقال في الطهارة ومن الماء إلى التراب وفي الكفارة من الرقية إلى الصيام ولأنه لو جمع في العقد الواحد بين حرة وأمة. بطل نكاح الأمة فكذلك إذا أفردها بالعقد مع قدرته على الحرة. وتحريره: أن كل امرأتين لو جمع بينهما في العقد بطل نكاح إحداهما ووجب إذا أفردت بالعقد أن تبطل نكاحها كالأخت مع الأجنبية وكالمعتدة مع الخلية ولأن من تحته حرة هو ممنوع عن نكاح أمة. وليس يخلو حال منعه من أربعة.

أقسام: إما أن يكون لأن تحته امرأة وإما أن يكون لأنه جامع بين حرة وأمة وإما أن يكون لأنه قادر على نكاح حرة وإما أن يكون لأنه جامع بين حرة وأمة وإما أن يكون لأنه قادر على نكاح حرة وإما أن يكون لأنه قد أمن العنت فبطل أن يكون المنع لأنه تحته حرة لأنه لو عقد على حرة وأمة بطل نكاح الأمة وإن لم يكن تحته حرة وبطل أن يكون المنع لأنه جامع بين حرة وأمة لأنه لم ينكح بعدها حرة فيصير جامعًا بين أمة وحرة وإذا بطل هذان القسمان صار عليه المنع هو القسمان الآخران وهو القدرة على نكاح حرة وأنه أمن من العنت فصار وجود هذين علة في التحريم وعدمها علة في التحليل. فأما الجواب عن استدلالهم بقوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء:3] فهو أن استدلالهم فيها بالعموم متروك بما ذكرناه من النص في التخصيص واستدلالهم منه بالنص باطل. لأنه قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3 [فكان هذا تخييرًا بين العقد على حرة وبين وطء الإماء بملك اليمين ولم يكن تخييرًا بين العقد على حرة والعقد على أمة لأن الله تعالى لم يشرط في ملك اليمين عددًا فوجب أن يكون محمولًا على ما شرط فيه العدد من التسري بهن دون ما يشترط فيه العدد من عقد النكاح عليهن. وأما استدلالهم بقوله تعالى: {وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ} [البقرة: 221] فالمراد بالمشركة ها هنا الوثنية دون الكتابية لأن الله تعالى قد فصل بينهما وإن جاز أن يعمهما اسم الشرك فقال: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَاتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [البينة: 1 [وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} [البينة: 6] وإذا كان المراد بهما الوثنية فنكاح الأمة المؤمنة خير من نكاحها، لأنها قد تحل إذا وجد شرط الإباحة والوثنية لا تحل بحال. وأما قياسهم على العادم للطول والخائف للعنت بعلة أنه ليس تحته حرة فمنتقص بمن تحته أربع: وإما لا يجوز له عنده أن ينكح أمة وإن لم يكن تحته حرة، ثم المعنى في الأصل أن العادم للطول عاجز عن الحرة والواجد قادر فلا يجوز أن يقاس القادر على البذل على العاجر عنه كالواجد لثمن الرقبة في الكفارة لا يجوز أن يقاس على العادم لثمنها. وأما قياسهم على العبد فالمعنى فيه: أنه لا عار على العبد في استرقاق ولده فجاز أن لا يعتبر فيه خوف العنت وعلى الحر عار في استرقاق ولده فاعتبرت ضرورته لخوف العنت. وأما قياسهم على نكاح الحرة فالمعنى في الحرة: أنه لما جاز نكاحها على حرة جاز نكاحها على وجود الطول ولما لم يجز نكاح الأمة على الحرة لم يجز نكاحها مع وجود الطول وكذلك الجواب عن قياسهم على نكاح الكتابية والكافرة أن يجوز نكاحها وإن كانت تحته سلمة ولا يجوز نكاح الأمة إذا كان تحته حرة. وأما استدلالهم بان القدرة على مهر الأخت لا يمنع من نكاح أختها فكذلك القدرة على مهر الحرة لا يمنع من نكاح

الأمة فخطأ؛ لأن المحرم في الأختين هو الجمع بينهما في العقد وهذا الجمع غير موجود في القدرة على المهر كما لم يمنع القدرة على مهور أربع من العقد على خامسة ويمنع وجود الأربع تحته أن يعقد على خامسة وليس كذلك الأمة لأنها حرمت للقدرة على حرة ولأنه يحرم الجمع بينهما وبين الحرة ألا ترى أنه لو نكح حرة بعد أمة جاز وقد جمع بين حرة وأمة وإذا كان تحرمها للقدرة على حرة كان بوجود مهر الحرة قادر على حرة فافترقا. فصل: وأما مالك فاستدل على أنه يجوز أن ينكح الأمة وإن كانت تحته حرة بأنه ربما لم تنفعه الحرة لشدة شهوته وقوة شبقه فخاف العنت مع وجودها لاسيما وقد يمضى للحرة زمان حيض يمنع فيه من إصابتها فدعته الضرورة مع وجوده بحرة تحته إذا عدم طول حرة أخرى أن ينكح أمة وليأمن بها العنت كما يأمن إذا لم يكن تحته حرة وهذا خطأ لقوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 25] فلما كان طول الحرة يمنعه من نكاح الأمة كان وجود الحرة أولى أن يمنعه من نكاح الأمة لأن القدرة على الشيء أقوى حكمًا من القدرة على بدله. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تنكح الأمة على الحرة وتنكح الحرة على الأمة" حكاه أبو سعيد المكي عن الرازي، ولأن من منعه عوض المبدل من الانتقال إلى البدل كان وجود المبدل أولى أن يمنعه، من الانتقال إلى البدل كالمكفر. وأما استدلاله ففاسد بمن لم تقنعه أربع زوجات بقوة شبقه وإنه ربما اجتمع حيضهن معًا. ولا يدل ذلك على جواز نكاح الخامسة على أن الحرة الواحدة قد تقنع ذا الشبق الشديد بأن يستمتع في أيام حيضتها بما دون الفرج منها. فصل: فإذا ثبت وتقرر أن نكاح الحر للأمة معتبر بثلاث شرائط فكذلك نكاحه للمدبرة والمكاتبة وأم الولد ومن رق بعضها وإن قل لا يجوز إلا بوجود هذه الشرائط لأن أحكام الرق على جميعهن جارية فجرت أحكام الرق على أولادهن وإذا بت اعتبار الشروط الثلاثة في نكاح كل من يجرى عليه حكم الرق من أمة ومدبرة ومكاتبة وأم ولد وجب أن يوضع حكم كل شرط منها. أما الشرط الأول: هو أن لا يكون تحته حرة فوجود الحرة تحته لا يخلو من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون استمتاعه بها لأنها كبيرة وهي حلال له؛ لأنه لم يطرأ عليها سبب

من أسباب التحريم فلا يجوز مع وجودها أن ينكح أمة. والثاني: أنه يمكنه استمتاع بها لكبرها، لكن قد طرأ عليها ما صار ممنوعًا من إصابتها كالإحرام والطلاق الرجعى، الظهار، والعدة من إصابة غيره لها لشبهة، فلا يجوز له مع كونها تحته على هذه الصفة أن ينكح أمة؛ لأن التحريم مقرون بسبب يزول بزوال سببه فصار كتحريمها في أيام الحيض. والثالث: أن لا يمكنه الاستمتاع بها وإن كانت حلالًا له وذلك لأحد أمرين: إما لصغر وإما لرق. وإما لضر من مرض ففي جواز نكاحه للأمة قولان مع وجود هذه الحرة فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأن تحته حرة. والثاني: يجوز لأنه يخاف من العنت وعلى هذين الوجهين لو كان يملك أمة وليس تحته حرة ففي جواز نكاحه للأمة وجهان: أحدهما: ينكحها تعليلًا بأن ليس تحته حرة. والثاني: لا ينكحها تعليلًا لأنه لا يخاف العنت. وأما الشرط الثاني: وهو أن يكون عادمًا لصداق حرة ففيه ثلاثة أوجه: أحدهما: أن يعتبر أقل صداق يكون لأقل حرة يؤخذ في مسلمة أو كتابية فعلى هذا يتعذر أن يستبيح الحر نكاح الأمة لأن أقل الصداق عندنا قد يجوز أن يكون واثقًا من فضة أو رغيفًا من خبز وقل ما يعوز هذا أحد فإذا وجده ووجد منكوحة به حرم عليه نكاح الأمة وإن لم يجد أو وجده ولم يجد منكوحة به حل له من نكاح الأمة. والثاني: أننا نعتبر أقل صداق المثل لأي حرة كانت من مسلمة أو كتابية ولا يعتبر أقل ما يجوز أن يكون صداقًا فعلى هذا لو وجد حرة بأقل من مهر مثلها مما يجوز أن يكون صداقًا وهو واجد لذلك القدر حل له نكاح الأمة ولو وجد صداق المثل لحرة أو كتابية لم يحل له نكاح الأمة. والثالث: أننا نعتبر أقل صداق المثل لحرة مسلمة فعلى هذا إن وجد صداق المثل لكتابية ولم يجد صداق المثل لمسلمة حل له نكاح الأمة لقول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} [النساء: 25] فشرط إيمان الحرائر وعلى هذا الوجه لو كان تحته حرة كتابية حل له نكاح الأمة وعلى هذا الوجه لو وجد حرة يتزوجها بأقل من صداق المثل وهو واجده حل له نكاح الأمة ولو وجد ثمن أمة وهو أقل من صداق حرة ففي جواز تزويجه للأمة وجهان: أحدهما: يجوز لقوله تعال: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 25]. والثاني: لا يجوز لأنه مستغن عن استرقاق ولده. وأما الشرط الثالث: وهو أن يخاف العنت وهو الزنا فسواء خافه وهو ممن يقدم

عليه لقلة عفافه أو كان ممن لا يقدم عليه لتحرجه وعفافه في أن خوف العنت فيهما شرط في إباحة نكاح الأمة لهما. فأما إذا خاف العنت من أمة بعينها أن يزنى بها إن لم يتزوجها لقوة ميله إليه وحبه لها فليس له أن يتزوجها إذا كان واجدًا للطول لأننا نراعى عموم العنت لا خصوصه، والله أعلم. فصل: فإذا ثبت أن نكاح الحر للأمة معتبر بما أوضحناه من الشروط الثلاثة فليس إذا استكملت فيه أن ينكح أكثر من أمة واحدة. وقال أبو حنيفة ومالك: يجوز أن ينكح منهن أربعًا كالحرائر استدلالًا بقول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 25] فأطلق ملك اليمين إطلاق جمع فحمل على عمومه في استكمال أربع كالحرائر ولأن كل جنس حل نكاح الواحدة منه حل نكاح الأربع من كالحرائر طردًا والثنيات عكسًا ولأن كل من جاز أن يتزوج بأكثر من حرة واحدة جاز له أن يتزوج بأكثر من أمة واحدة كالعبد. ودليلنا قول الله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} [النساء: 25] وهذا إذا تزوج أمة واحدة منذ أمن العنت فلم يجز أن يتزوج بأمة قياسًا على ما تحته من الحرائر أخرى ولك تحر هذا قياسًا فنقول: إنه حر أمن العنت فلم يجز أن يتزوج بأمة قياسًا على من تحته حرة وإن شئت قلت حر قادر على وطء بنكاح قياسًا على هذا الأصل، ولأنه محظور إلا عند الضرورة فلم يستبح منه إلا ما دعت إليه الضرورة كأكل الميتة. فأما الاستدلال بالآية فلا يقتضى إلا أمة واحدة لأنه قال: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 25] فلما كان المراد بالحرائر المحصنات واحدة وجب أن يكون المارد بما في مقابلتهم من الإماء واحدة وعلى أن الأمة يدل من الحرة، ولا يجوز أن يكون البدل أوسع حكمًا من المبدل. وأما قياسهم على الحرائر فالمعنى فيهن: جواز العقد عليهن بغير ضرورة، ولأنه لا يسترق ولده فيدخل عليه باسترقاق ضرر فخالف نكاح الإماء على هذين الوجهين. وأما الجواب عن قياسهم على العبد فهو أنه يجوز أن ينكح الأمة لغير ضرورة وليس عليه استرقاق ولده ضرر فخالف من هذين الوجهين فعلى هذا لو تزوج أمتين ثبت نكاح الأولى وبطل نكاح الثانية، فإن تزوجها في عقد واحد بطل نكاحهما؛ لأن إحداهما إن حلت فهي غير معنية، فصار كمن تزوج أختين بطل نكاح الثانية إن زوجها في عقدين وبطل نكاحهما إن تزوجهما في عقد واحد. فصل: وإذا قد مضى الكلام في نكاح الأحرار للإماء انتقل الكلام إلى نكاح العبيد لهن

فيجوز للعبد أن ينكح الإماء مطلقًا من غير شرط، فينكحا وغن أمن العنت أو كان تحته حرة. وقال أبو حنيفة: هو كالحر لا يجوز أن ينكح الأمة إذا كان تحته حرة استدلالًا بأن من تحته حرة فهو ممنوع من نكاح الأمة كالحر. ودليلنا قول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا} فخص الأحرار بتوجيه الخطاب إليهم ثم قال: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ} فخصهم به أيضًا فاقتضى أن يكونوا مخصوصين بهذا المنع ويكون العبد على إطلاقه من غير منع، ولأن من جاز له أن ينكح امرأة من غير جنسه جاز له أن ينكح عليها امرأة من جنسه، كالحر إذا نكح أمة يجوز له أن ينكح عليه حرة. فأما قياسه على الحر فمنع منه النص، ثم المعنى في الحر أنه يلحقه في نكاح الأمة عار لا يلحق العبد. فإذا تقرر هذا كان للعبد أن ينكح أمة على حرة وأن يجمع في العقد الواحد بين أمة وحرة وأن يجمع بين أمتين كما يجمع بين حرتين والله أعلم. مسألة: قَال الشّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "فَإِن عَقَدَ نِكَاَح حُرّةٍ وَأَمَةٍ مَعًا، قيلَ: يَثبُتُ نِكَاحُ الحُرُّةِ وَيَنْفَسِخُ نِكَاحُ الأمَةِ. وَقِيلَ: يَنْفَسِخَانِ معًا. وَقَالَ في القَدِيم نِكَاحُ الحُرّة جَائِزٌ وَكَذَلِكَ لَوْ تَزَوّجَ مَعَهَا أُخْتَهُ مِنَ الرّضَاعِ كَأَنّهَا لَمْ تَكُنْ. قَالَ الُمزَنَيُّ رَحِمَهُ اللهُ: هَذَا أَقْيَسُ وَأَصَحّ في أَصْل قَوْلِهِ؛ لأَنّ النّكَاَحَ يَقُومُ بِنَفْسِهِ وَلاَ يَفْسِد بِغَيْرِهِ فَهي في مَعْنَى مَنْ تَزَوّجَهَا قِسْطًا مَعَهَا مِنْ خَمْرٍ بِدِينَارٍ فَالنكَاح ُوَحدْهُ ثَابِت وَالقِسطُ الخَمْرِ والَمهْرِ فَاسِدَانِ" قال في الحاوي: وصورة هذه المسألة فيمن يحل به نكاح الأمة يزوج بحرة وأمة فهذا على ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يتزوج الأمة ثم يتزوج بعدها حرة فنكاحهما صحيح؛ لأنه نكح الأمة على الشرط المبيح، ونكح الحرة بعد الأمة صحيح. وقال أحمد بن حنبل: يصح نكاح الحرة ويبطل به ما تقدم من نكاح الأمة، كما لو تقدم نكاح الحرة، وهذا لما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال"لا تنكح الأمة على الحرة وتنكح الحرة على الأمة" وهذا نص ولأنه عقد نكاح فلم يبطل ما تقدمه من النكاح كما لو نكح حرة على حرة. والثاني: أن يتزوج بالحرة ثم يتزوج بعدها بالأمة فنكاح الحرة صحيح ونكاح الأمة بعدها باطل لأن الأمة لا يجوز أن يتزوجها وتحته حرة وعند مالك يجوز نكاح الأمة بعد

الحرة ثانيًا إذا كان عادمًا للطول خائفًا للعنت وقد مضى الكلام معه. والثالث: أن يتزوجهما معًا في عقد واحد فنكاح الأمة باطل؛ لأنه قد صار بعقده عليها مع الحرة قادر على نكاح حرة، وهل يبطل نكاح الحرة أم لا؟ مبنى على تفريق الصفقة في البيع إذا جمع العقد الواحد حلالًا وحرامًا، كبيع خل وخمر في عقد واحد، أو بيع حر وعبد في عقد واحد فيبطل البيع في الحرام وفي بطلانه في الحلال قولان: أحدهما: وهو قول في القديم، واحد قوليه في الجديد أنه لا يبطل في الحلال تعليلًا بأن لكل واحد منهما في الجمع بينهما حكم في انفرادها فعلى هذا يكون نكاح الحرة جائزًا وإن كان نكاح الأمة باطلًا. والثاني: وهو أحد قوليه في الجديد أن البيع يبطل في الحلال لبطلانه في الحرام، فاختلف أصحابنا في تعليل هذا القول على وجهين: أحدهما: أن العلة فيه أن اللفظة الواحدة جمعت حلالًا وحرامًا، فإذا بطل بعضها انتقضت فعلى هذا يبطل نكاح الحرة، كما بطل نكاح الأمة؛ لأن لفظ العقد عليهما واحد. والثاني: أن العلة فيهما الجهالة بثمن الحلال؛ لان ما قبل الحرام من الثمن مجهول، فصار ثمن الحلال به مجهولًا، فعلى هذا يبطل به من العقد ما كان موقوف لصحة على الأعواض، كالبيع والإجارة الذي لا يصح إلا بذكر ما كان معلومًا من ثمن أو أجرة، فأما العقود التي لا تقف صحتها على العوض كالنكاح والهبة والرهن فيصح الحلال منها، وإن بطل الحرام المقترن بها فيكون نكاح الحرة صحيحًا وإن بطل نكاح الأمة، وفيما يستحقه من المهر قولان: أحدهما: مهر المثل وإبطال المسمى. والثاني: قسط مهر مثلها من المهر المسمى بناء على اختلاف قولين فيمن نكح أربعًا في عقد على صداق واحد فأما الزنى فإنه اختار أصح القولين وهو تصحيح نكاح الحرة مع فساد نكاح الأمة إلا أنه استدل لصحته بمثال صحيح وحجاج فاسد. أما المثال الصحيح فهو قوله: "وكذلك لو تزوج معها أختها من الرضاعة"؛ لأنه إذا جمع في العقد الواحد بين أختها وأجنبية كان لجمعه بين حرة وأمة في عقد واحد فيبطل نكاح أخته وفي نكاح الأجنبية قولان. وأما الحجاج الفاسد فهو قوله: "فهي في معنى من تزوجها وقسطًا معها من خمر بدينار فالنكاح وحده ثابت والقسط من الخمر فاسد" واختلف أصحابنا في وجه فساد هذا الاعتلال والاحتجاج على وجهين: أحدهما: وهو قول البغداديين أن وجه فساده أنه إذا زوجه رزقًا من خمر بدينار فهما عقدان بيع ونكاح كأن يقول: بعتك هذا الخمر وزوجتك هذه المرأة بدينار فلم يجز أن يحتج بالعقدين في صحة أحدهما وفساد الآخر على العقد الواحد في أن فساد بعضه لا

يوجب فساد باقيه لأن العقد الواحد حكم واحد وللعقدين حكمان. والثاني: وهو قول البصريين أنه وجه فساده أنه في النكاح والخمر بدينار قد جمع في العقد الواحد بين نكاح وبيع يختلف حكمهما والشافعي قد اختلف قوله في العقد الواحد إذا جمع شيئين مختلفي الحكم، كبيع وإجارة، أو رهن وهبة فله قولان: أحدهما: أنهما باطلان: يجمع العقد الواحد بين مختلفي الحكم. والثاني: أنهما جائزان لجواز كل واحد منهما على الانفراد، فلم يجز أن يحتج بما يصح العقد فيهما على صحة ما يبطل العقد في أحدهما، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ تَزَوّجَهَا ثُمّ أَيْسَرَ لَمْ يُفْسِدَهُ مَا بَعْدَهُ". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا تزوج الحر أمة على الشرائط المبيحة ثم ارتفعت الشرائط بعد العقد بأن أمن العنت بعد خوفه أو وجده الطول بعد عدمه أو نكح حرة إن لم يكن فنكاح الأمة على صحة ثبوته. وقال المزني: إن أمن العنت لم يبطل نكاح الأمة، وإن وجد الطول أو نكح حرة بطل نكاح الأمة استدلالًا بقول الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 25] فجعل عدم الطول شرطًا في إباحة الأمة ابتداء فوجب أن يكون شرطًا في أباحتها بانتهاء. قال: ولأن زوال علة الحكم موجب لزواله والعلة في نكاح الأمة عدم الطول فوجب أن يكون وجوده موجبًا لبطلان نكاحها وهذا خطأ لقول الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ} [النور: 32] فندب إلى النكاح لأنه قد يفضى إلى الغنى بعد الفقر فلم يجز أن يكون الغنى الموعود به في النكاح موجبًا لبطلان النكاح ولا عدم الطول شرطًا في نكاح الأمة كما أن خوف العنت شرطًا في نكاحها فلما لم يبطل نكاحها إذا زال العنت لم يبطل إذا وجد الطول. ولأن الطول بالمال غير مراد للبقاء والاستدامة لأنه يراد للاتفاق لا للبقاء وما يراد للبقاء إذا كان شرطًا في ابتداء العقد لم يكن شرطًا في استدامته كالإحرام والعدة بالعقد لم يبطل ولما كانت الردة والرضاع يردان للاستدامة لأن الردة دين يعتق المرتد للدوام وكان ذلك شرطًا في الابتداء والاستدامة كذلك المال لما لم يرد للاستدامة وجب أن يكون شرطًا في الابتداء دون الاستدامة كالإحرام والعدة. فأما استدلال المزني بالآية فيقتضى كون ما تضمنها من الشرط في ابتداء العقد دون استدامته وما ذكره من الاستدلال بأن زوال العلة موجب لزوال حكمها فاسد بخوف العنت.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَحَاجّنِي مَنْ لا يُفْسِخُ نِكَاحَ إِمَاء غَيْرِ المُسلِمَاتِ فَقَاَلَ: لَمّا أَحَلّ اللهُ بَيْنَهُمَا وَلَا نَفَقَةَ لَهَا لأَنّها مَانِعَة لَهُ نَفْسَهَا بِالرّدّةِ وَإِن ارْتَدّت مِنْ نَصْرَانيّة إلَى يَهُودِيّةٍ أَوْ مِنْ يَهُودِيّةٍ إِلَى نَصْرَانِيّةٍ لَمْ تَحْرُمْ تَعَالَى نِكَاُح الحُرّةِ الُمْسِلَمِة دَلّ عَلَى نِكَاح الأمَةِ. قُلْتُ: قَدْ حَرّمَ اللهُ تَعَالَى الَميّتَةَ، وَاسْتَثْنَى إِحْلالَهَا لِلْمُضَطرّ فَهَلْ تَحِل لِغَيْرِ مُضْطَرّ، واَسْتَثْنَى مِنْ تَحْريم المُشْرِكَاتِ إِحْلالَ حَرَائِرِ أَهْلِ الِكتَاب فَهَلْ يَجُوزَ حَرَائرُ غَيْر أَهْل الكِتَاب فَلَا يَحلّ إمَاؤُهُمْ غَيْرُ حَرَائِرِهِمْ وَاشْتَرَطَ في إِمَاءِ المُسْلِمِين فَلَا يَجُوزَ لَهُ إلّا بالشّرْطِ وَقُلْتُ لَهُ: لِم لَا أَحْلَلتَ الأُمّ كَالرّبيبَة وَحَرّمْتَهَا بِالدُّخُول كَالرّبِيبَةِ؟ قَالَ لأنًّ الأُمّ مُبْهَمَة وَالشّرطُ في الرّبِيبَةِ، قُلْتُ: فَهَكَذَا قُلْنَا في التّحْرِيِم في الُمشْركِاَتِ وَالشّرْطِ في التّحْلِيلِ في الحَرَائِرِ وَإِمَاءِ الُمؤِمنَاتِ". قال في الحاوي: وإذ قد مضى الكلام في الشروط المعتبرة في نكاح الأمة من جهة الزوج بقى الكلام في الشروط المعتبرة من جهتها وهو إسلامها فلا يجوز للمسلم نكاح امة كافرة بمال. وقال أبو حنيفة: يجوز له نكاح الأمة الكافرة كما يجوز له نكاح الحرة الكافرة استدلالًا بقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] فكانت على عمومها ولان كل من جاز له وطئها بملك اليمين جاز له وطئها بملك نكاح كالمسلمة ولأنه في الأمة الكافرة نقصان: نقص الرق ونقص الكفر وليس لكل واحد من النقصين تأثير في المنع من النكاح إذا انفرد وجب أن لا يكون لهما تأثير فيه إذا اجتمعا. ودليلنا قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 25] فجعل نكاح الأمة مشروطًا بالإيمان فلم يستبح مع عدمه قال تعالى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} إلى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] والمحصنات ها هنا الحرائر فاقتضى أن لا يحل نكاح إماء أهل الكتاب ولأن ذلك إجماع لأنه مروى عن عمر وابن مسعود وليس لهما مخالف ولأنها امرأة اجتمع فيها نقصان لكل واحد منهما تأثير في المنع من النكاح فوجب أن يكون اجتماعهما موجب لتحريمهما على المسلم كالحرة المجوسية أحد نقصيها الكفر والآخر عدم الكتاب. والأمة الكتابية أحد نقصيها الرق والآخر الكفر ولان نكاح المسلم للأمة الكافرة يفضى إلى أمرين يمنع الشرع من كل واحد منهما. أحد الأمرين: أن يصير ولدها المسلم مرقوقًا لكافر والشرع يمنع استرقاق كافر لمسلم. والثاني: أن يسبى المسلم لأن ولدها المسلم ملك لكافر وأموال الكافر يجب أن

تسبى والشرع يمنع من سبى المسلم وإذا كان الشرع مانعًا بما يفضى إليه نكاح الأمة الكافر وجب أن يكون مانعًا من نكاح الأمة الكافرة. فأما الاستدلال بقوله تعالى: {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} فالمراد به الاستمتاع بهن بملك اليمين لا بعقد النكاح فجاز أن يستولى فيه استباحة المسلمة والكتابية لأنه قد استقر عليها ملك مسلم فلم يفضي إلى سبى ولدها وكذلك الحكم في نكاح الأمة المسلمة فلم يجز الجمع بين نكاحها ونكاح الأمة الكافرة وأما قوله: أن كل واحد من النقصين لا يمنع فكذلك اجتماعهما. قلنا: لكل واحدة منهما تأثير في المنع فصار اجتماعهما مؤثر في التحريم. فصل: فإذا استقر ما ذكرنا من الشروط المعتبرة في نكاح الحر للأمة فنكحها وأولدها لم يخل حال الزوج من أن يكون عربيًا أو أعجميًا فإن كان عجميًا كان ولده منها مرقوقًا لسيدها وإن كان عربيًا ففيه قولان: أحدهما: يكون مرقوقًا لسيدها. والثاني: يكون حرًا وعلى الأب قيمته لقول النبي صلى الله عليه وسلم "ولا يجرى على عربي صغار بعد هذا اليوم" والاسترقاق من أعظم الصغار فوجب أن ينتفي عن العرب ولأن ذلك مفض إلى استرقاق من ناسب النبي صلى الله عليه وسلم في أقرب آبائه مع وصية الله تعالى بذوي القربى فلو نكح الحر مكاتبة كان في ولدها إن لم يكن عربيًا قولان: أحدهما: مملوك لسيدها. والثاني: تبع لها وإن كان عربيًا ففيه ثلاثة أقاويل: أحدهما: حر يعتق على أبيه بقيمته. والثاني: تبع لأمه يعتق بعتقها ويرق برقها. والثالث: أنه ملك لسيدها، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَالعَبْدُ كَالُحرّ في أَنّ لَا يَحِلّ لَهُ نِكَاحُ أَمَةٍ كِتَابِيّةٍ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: لا يجوز للعبد المسلم أن يتزوج بالأمة الكتابية كما لا يجوز أن يتزوج بها الحر المسلم وجوزه أبو حنيفة كما جوزه للحر وفرق بعض العراقيين بين الحر والعبد فجوز للعبد أن ينكح الأمة الكتابية ولم يجوزه للحر لأن العبد قد ساواها في نقص الرق واختصت معه بنقص الكفر فلم يمنعه أحد النقصين كما لم يمنع المسلم الحر أن ينكح الكتابية الحرة لاختصاصها معه بأحد النقصين وخالف نكاح الحر.

المسلم للأمة الكتابية لاختصاصها معه بنقصين وهذا خطأ لأنه اجتماع النقصين فيها يمنع من جواز نكاحها كالوثنية الحرة لا ينكحها حر ولا عبد لاجتماع النقصين فاستوي في تحريمها بهما من ساواهما في أحدها أو خالفها فيهما فإذا أراد كتابي أن ينكح هذه الأمة الكتابية ودعي حاكمها إلى نكاحها ففي جوازه وجهان: أحدهما: يجوز أن يزوجه بها لأنها صارت باجتماع النقصين محرمة عندنا. والثاني: يجوز لاستوائهما في النقص كما يجوز أن يزوج وثنيًا بوثنية. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَأَيُّ صِنْفٍ حَلَّ نِكَاحَ حَرَائِرِهُمْ حَرَّمَ وَطْءَ إِمَائِهُمْ بِالمِلْكِ وَمَا حَرَّمَ نِكَاحَ حَرَائِرِهُمْ حَرَّمَ وَطْءَ إِمَائِهُمْ بِالمِلْكِ". قال في الحاوي: وهذا صحيح لأن الأمة قد تصير فراشًا بالوطء, كما تصير الحرة فراشًا بالعقد فأي صنف حل نكاح حرائرهم فهم المسلمون وأهل الكتاب من اليهود والنصارى حل وطء إمائهم بملك اليمين وهن الإماء المسلمات واليهوديات والنصرانيات وقد استمتع رسول الله صَلَى الله عليه وسلم بأمتين بملك يمينه: إحداهما: مسلمة وهي مارية وأولدها ابنه إبراهيم, والأخرى يهودية وهي ريحانة, ثم بشر بإسلامها فسر به وأعتق أمتين وتزوجهما وجعل عتقهما صداقهما: إحداهما: جويرية والأخرى: صفية. فأما من لا يحل نكاح حرائرهم من المجوس وعبدة الأوثان فلا يحل وطء إمائهم بملك اليمين. وقال أبو ثور: كل وطء جمع الإماء بملك اليمين على أي كفر كانت من مجوسية أو وثنية أو دهرية استدلالًا بأن النبي صَلَى الله عليه وسلم قال في ذات سبي هوازن وهن وثنيات: "ألا لا توطأ حامل حتى تضع ولا غير ذات حمل حتى تحيض" فأباح وطئهن بالملك بعد استبرائهن ولأن الوطء بملك اليمين أوسع حكمًا منه بعقد النكاح لأنه لا يستمتع من الإماء بمن شاء من غير عدد محصور ولا يحل بعقد النكاح أكثر من أربع فجاز لاتساع حكم الإماء أن يستمتع منهن بمن لا يجوز أن ينكحها من الوثنيات وهذا خطأ لقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] فكان على عمومه في الحرائر والإماء, ولأن المحرمات بعقد النكاح محرمات بملك اليمين كذوات الأنساب ولأن ما حرم به وطء ذوات الأنساب حرم به وطء الوثنيات كالنكاح. فأما سبي هوازن فعنه جوابان: أحدهما: يجوز أن يكون قبل تحريم المشركات في سورة البقرة.

باب التعريض بالخطبة

والثاني: يجوز أن يكن قد أسلمن لأنه في النساء رقة لا يثبتن معها بعد السبي على دين وأما الاستدلال باتساع حكمهن في العدد فليس للعدد تأثير في أوصاف التحريم كا لم يكن له تأثير في ذوات الأنساب, والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "وَلَا أَكْرَهُ نِكَاحَ نِسَاءِ أَهْلِ الحَرْبِ إِلَّا لِئَلَّا يُفْتَنَ عَنْ دِيِنِه أَوْ يُسْتَرَقَّ وَلَدُهُ". قال في الحاوي: وهو كما قال: لا يجوز للمسلم أن يتزوج الكتابية الحربية في دار الإسلام ودار الحرب, وأبطل العراقيون نكاحها في دار الحرب بناء على أصولها في أن عقود دار الحرب باطلة وهي عندنا صحيحة, ولأن صحة العقد ونساؤه معتبر بالعاقد والمعقود عليه دون الولد. ولأن الله تعالى قال: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] ولم يغرم, ولأن الحرية في إباحتهن الكتاب دون الدار, ولأنه لما جاز وطئهن بالسبي فأولى أن يجوز وطئهن بالنكاح, ولأن من حل نكاحها في دار الإسلام حل نكاحها في دار الحرب كالمسلمة, فإن صلح نكاح الحربية فهو عندنا مكروه لثلاثة أمور: أحدها: لئلا يفتن عن دينه بها أو بقومها فإن الرجل يصبو إلى زوجته بشدة ميله. والثاني: لئلا يكثر سوادهم بنزوله بينهم وقد قال النبي صَلَى الله عليه وسلم: "من كثر سواد قوم فهو منهم". والثالث: لئلا يسترق ولده وتسبي زوجته لأن دار الحرب ثغر وتنغم فإن سبي ولده لم يسترق لأنه حر مسلم وإن سبيت زوجته ففيه قولان: أحدهما: يجوز استرقاقها لأن ما بينهما من عقد النكاح هو حق له عليها بالدين ولو كان له عليها دين لم يمنع من استرقاقها كذلك النكاح. والثاني: أنه قد ملك بعضها بالنكاح فلم يجز أن يستهلك عليه بالاسترقاق كما لو ملك منافعها بالإجارة ورقبتها بالشراء. باب التعريض بالخطبة مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "كِتَابُ اللَّهِ تَعَالَى يَدُّلُّ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ فِي العِدَّةِ جَائِزٌ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ التَّعْرِيضِ وَقَدْ ذَكَرَ القَسَم بَعْضَهُ وَالتَّعْرِيضُ كَثِيرٌ, وَهُوَ خِلَافُ

التَّصْرِيح وَهُوَ تَعْرِيضُ الرَّجلِ لِلمَرْأَةِ بِمَا يَدُلُّهَا بِهِ عَلَى إِرَادَةِ خِطْبَتِهَا بِغَيْرِ تَصْرِيحٍ وَتُجِيبُهُ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَالقُرْآن كَالدَّلِيل إِذَا أَبَاحَ التَّعْرِيضَ وَالتَّعْريضُ عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ جَائِزٌ سِرًّا وَعَلَانِيَةً عَلَى أَنَّ السِّرَّ الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ هُوَ الجِمَاعُ قَالَ امْرُؤُ القَيْسِ: أَلَا زَعَمَتْ بِسْبَاسَةُ القَوْمِ أَنَّنِي كَبِرتْ وَأَنْ لَا يُحْسِنَ السِّرَّ أَمْثَالِي كذَبَتِ لَقَدْ أُصْبِي عَنْ المَرْءِ عِرْسَهُ وَأَمْنَعُ عِرْسِي أَنْ يُزَنَّ بِهَا الخَالِي قال في الحاوي: اعلم أن النساء ثلاث: خلية وذات زوج ومعتدة فإن الخلية التي لا زوج لها وهي في عدة فيجوز خطبتها بالتعريض والتصريح وأما ذات الزوج فلا يحل خطبتها بتعريض ولا تصريح وأما المعتدة فعلى ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون رجعية. والثاني: أن تكون بائنًا لا تحل للزوج. والثالث: أن تكون بائنًا تحل للزوج. فأما الرجعية فلا يجوز لغير الزوج أن يخطبها تصريحًا ولا تعرضًا لأن أحكام الزوجية عليها جارية من وجوب النفقة ووقوع الطلاق والظهار منها, وإنما يتوارثان إن مات أحدهما, ويعتد عدة الوفاة إن مات الزوج ومتى أراد الزوج رجعتها في العدة كانت زوجته. فصل وأما البائن لا تحل للزوج فالمطلقة ثلاثًا أو المتوفي عنها زوجها وإن لم يتوجه إلى الزوج بعد موته تحليل ولا تحريم, فإذا كان في عدة من وفاة زوج فحرام أن يصرح أحد بخطبتها لقوله تعالى: {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَه} [البقرة: 235] يريد بالعزم على عقدة النكاح التصريح بالخطبة وبقوله: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَه} يريد انقضاء العدة ولأن في المرأة من غلبة الشهوة والرغبة في الأزواج ما ربما يبعثها على الإخبار بانقضاء العدة قبل أوانها. وقولها في انقضاء العدة مقبول فتصير منكوحة في العدة فحظر الله تعالى التصريح بخطبتها حسمًا لهذا التوهم, فأما التعريض بخطبتها في العدة بما يخالف التصريح من القول المحتمل فجائز, قال الله تعالى: {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235] يعني بما عرضتم من جميل القول أو كنتم في أنفسكم من عقد النكاح. وروى عن أم سلمة أن النبي صَلَى الله عليه وسلم جاءها بعد موت أبي سلمة وهي تبكي وقد وضعت خدها على التراب حزنًا على أبي سلمة فقال النبي صَلَى الله عليه وسلم: "قولي إنا لله وإنا إليه راجعون, اللهم اغفر لي وله واعقبني منه وعوضني خيرًا منه" قالت أم سلمة: فقلت في نفسي من خير من أبي سلمة أول المهاجرين هجرة, وابن عم رسول الله صَلَى الله عليه وسلم , وابن عمي, فلما

تزوجني رسول الله صَلَى الله عليه وسلم علمت أنه خير منه. فدَّلت الآية, والخبر على جواز التعريض بخطبة المعتدة من الوفاة, وأما المعتدة من الطلاق فثلاث فلا يجوز للزوج المطلق أن يخطبها بصريح ولا تعريض؛ لأنها لا تحل له بعد العدة فحرمت عليه الخطبة. وأما غير المطلق فلا يجوز له أن يصرح بخطبتها, ويجوز أن يعرض لها لما روي أن فاطمة بنت قيس طلقها زوجها أبو عمرو بن حفص ثلاثًا فقال لها النبي صَلَى الله عليه وسلم وهي في العدة: "إذا أحللت فآذنيني" وروت أنه قال لها: "إذا حلت فلا تسبقيني بنفسك" فكان ذلك تعريضًا لها. وفي معنى المطلقة ثلاثًا: الملاعنة, والمحرمة بمصاهرة أو رضاع, فإذا حل التعريض بخطبتها ففي كراهيته قولان: أحدهما: قال في كتاب "الأم": إنه مكروه؛ لأن الآية واردة في المتوفي عنها زوجها. والثاني: أنه غير مكروه قاله في القديم "والإملاء". قال الشافعي: لو قال قائل: أمرها في ذلك أخف من المتوفي عنها زوجها جاز ذلك لان هناك مطلق به يمنع من تزويجها قبل العدة. فصل: وأما البائن التي تحل للزوج فهي المختلفة إذا كانت في عدتها يجوز للزوج أن يصرح بخطبتها لأنه يحل أن يتزوجها في عدتها فأما غير الزوج فلا يجوز أن يصرح بخطبتها وفي جواز تعريضه لها بالخطبة قولان: أحدهما: لا يجوز لإباحتها للمطلقة كالرجعية قال في كتاب البويطي. والثاني: لا يجوز لأن الزوج لا يملك رجعتها كالمطلقة ثلاثًا قال في أكثر كتبه وفي معنى المختلعة الموطوءة بشبهة يجوز للوطء أن يصرح بخطبتها في العدة لأنها منه ويحل له نكاحها في العدة ولا يجوز لغيره أن يصرح بخطبتها وفي جواز تعريضه قولان: فصل: فإذا ثبت فرق ما بين التصريح والتعريض فالتصريح ما زال عنه الاحتمال وتحقق منه المقصود مثل قوله: أنا راغب في نكاحك وأريد أن أتزوجك أو يقول إذا قضيت عدتك فزوجيني بنفسك. وأما التعريض: فهو الإشارة بالكلام المحتمل إلى ما ليس فيه ذكر مثل قوله: رب

رجل يرغب فيك أو أنني أرغب أو ما عليك إثم أو لعل الله أن يسوق إليك خيرًا أو لعل الله أن يحدث لك أمرًا فإذا أحللت فآذنيني إلى ما جرى مجرى ذلك وسواء أضاف ذلك إلى نفسه أو أطلق إذا لم يصرح باسم النكاح وكان محتمل أن يريده بكلامه أو يريد غيره وإذا حل للرجل أن يخطبها بالتصريح حل لها ان تجيبه على الخطبة بالتصريح وإذا حرم عليه أن يخطبها إلا بالتعريض دون التصريح حرم عليها أن تجيبه إلا بالتعريض دون التصريح ليكون جوابها مثل خطبته. فصل: وإذا حل التعريض لها بالخطبة جاز سرًا أو جهرًا وقال داود وطائفة من أهل الظاهر: لا يجوز أن يعرض لها بالخطبة سرًا حتى يجهر استدلالًا بقوله تعالى: {وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} [البقرة: 235] وهذا خطأ لأن التعريض لما حل اقتضى أن يستوي فيه السر والجهر. فأما قوله: {لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا} ففيه لأهل التأويل أربعة أقاويل: أحدها: أنه الزنا قاله الحسن, والضحاك, وقتادة والسدي. والثاني: ألا تنكحوهن في عددهن سراً, قاله عبد الرحمن بن يزيد. والثالث: ألا تأخذوا ميثاقهن ووعودهن في عددهن أن لا ينكحن غيركم قال ابن عباس وسعيد بن جبير والشعبي. والرابع: أنه الجماع قال الشافعي وسمى سرًا لأنه يسر ولا يظهر واستشهد الشافعي بقول أمرئ القيس: أَلَا زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ القَوْمِ أَنَّنِي كَبِرتْ وَأَنْ لَا يُحْسِنَ السِّرَّ أَمْثَالِي كَذَبَتِ لَقَدْ أُصْبِي عَنْ المَرْءِ عِرْسَهُ وَأَمنَعُ عِرْسِي أَنْ يُزَنَّ بِهَا الخَالِي وقال آخر: وَيحْرٌمٌ سِرُّ جَارَتهُمُ عَلَيْهِمْ وَيَاكُلُ جَارُهُمْ أُنُفَ القِصَاعِ مواعدته لها بالسر الذي هو الجماع أن يقول لها: أنا كثير الجماع قوي الإتعاظ فحرم الله تعالى ذلك لفحشه وأنه ربما أثار الشهوة فلم يؤمن معه مواقعة الحرام وقد روى ابن لهيعة عن دراج عن أبي الهيثم عن أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَى الله عليه وسلم: "إنه نهى عن الشياع" يعني المفاخرة بالجماع.

باب النهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه

فصل: فلو أن رجلًا صرح بخطبة معتدة وتزوجها بعد انقضاء العدة كان النكاح جائزًا وإن لم يصرح بالخطبة. وقال مالك: يفرق بينهما بطلق ثم يستأنف العقد عليها وهذا خطأ؛ لأن ما قدمناه قبل العقد من قول محظور كالقذف أو فعل محظور كإظهار سوأته أو تجرده عن ثيابه لا يمنع من صحة العقد وإن أثم به كذلك التصريح بالخطبة والله اعلم بالصواب. باب النهي أن يخطب الرجل على خطبة أخيه قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: "أَخْبَرَنَا مَالِك بْنِ أَنَسٍ عَنْ نَافِع عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا يَخْطُبُ أَحَدَكُمُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ" وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلامُ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: "إِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي" قَالَتْ: فَلَمَّا حَلَلْتُ أَخْبَرْتُهُ أَنَّ مُعَاوِيَة وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي فَقَالَ: "أَمَّا مُعَاوِيَةَ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ انكِحِي أُسَامَةَ" فَدَلَّتْ خِطْبَتُهُ عَلَى خِطْبَتِهِمَا أَنَّهَا خِلَافُ الَّذِي نَهَى عَنْهُ أَنْ يَخْطُبَ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ إِذَا كانَتْ قَدْ أَذِنَتْ فِيهِ فَكَانَ هَذَا فَسَادًا عَلَيْهِ وَفِي الفَسَادِ مَا يُشْبِهُ الِإضْرَارَ وَاللهُ أَعْلَمُ. وَفَاطِمَةُ لَمْ تَكُنْ أَخْبَرَتْهُ أَنَّهَا أَذِنَتْ فِي أحدهما". قال في الحاوي: وهذا صحيح. وقد روى ابن عمر أن النبي صَلَى الله عليه وسلم قال: "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه" وروى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَى الله عليه وسلم: "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك" وهذان الحديثان صحيحان وليس النهي فيهما محمولًا على الظاهر من تغيير حال المخطوبة فإذا خطب الرجل نكاح امرأة لم يخل حالها من أربعة أقسام: القسم الأول: إما أن يأذن له في نكاحها فتحرم بعد إذنها على غيره من الرجال أن يخطبها لنهيه صَلَى الله عليه وسلم عنه حفظًا للألفة ومنعًا من الفساد وحسمًا للتقاطع وسواء كان الأول كفؤًا أو غير كفء. وقال ابن الماجشون: إن كان الأول غير كفء لم تحرم على غيره من الأكفاء خطبتها بناء على صله في أن نكاح غير الكفؤ باطل وأن تراضى به الأهلون وقد تقدم الدليل على صحة نكاحه فإن رجع الأول عن خطبته أو رجع المرأة عن إجابته ارتفع حكم الإذن وعادت إلى الحال الأولى في إباحة خطبتها لحديث أبي هريرة أن رسول الله صَلَى الله عليه وسلم قال: "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه حتى ينكح أو يترك".

والقسم الثاني: أن ترد خاطبها وتمنع من نكاحه فيجوز لغيره من الرجال أن يخطبها لأن المقصود بالنهي عن الخطبة رفع الضرر والمنع من التقاطع فلو حمل النهي على ظاهره فيمن لم تأذن له حل الضرر عليها. والقسم الثالث: أن تمسك عن خطبتها فلا يكون منها إذن ولا رضا ولا يكون منها رد ولا كراهية فيجوز خطبتها وإن تقدم الأول بها لحديث فاطمة بنت قيس المخزومية أن زوجها أبا عمرو بن حفص بت طلاقها. فقال النبي صَلَى الله عليه وسلم: إذا حللت فأذنيني فلما حلت جاءت إلى النبي صَلَى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد خطبني معاوية وأبو جهم فقال النبي صَلَى الله عليه وسلم: "أما معاوية فصعلوك لا مال له وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه". وروى عطاء عن عبد الرحمن بن عاصم عن فاطمة بنت قيس أن النبي صَلَى الله عليه وسلم قال لها: "أما أبو الجهم فأخاف عليك فسفاسته, وأما معاوية فرجل أخلق من المال" أما الفسفاسة: فهي العصا وأما الأخلق من المال فهو الخلو منه, انكحي أسامه بن زيد قالت: فكرهته ثم أطعت رسول الله صَلَى الله عليه وسلم فنكحته فرزقت منه خيرًا واغتبطت به فكان الدليل من الحديث من وجهين: أحدهما: أن أحد الرجلين قد خطبها بعد صاحبه فلم يذكر النبي صَلَى الله عليه وسلم تحريمه. والثاني: أن النبي صَلَى الله عليه وسلم قد خطبها لأسامة بعد خطبتها فدل على أن الإمساك عن الإجابة لا يقتضي الخطبة. والقسم الرابع: أن يظهر منها الرضا بالخاطب ولا تأذن في العقد وذلك بأن تقرر صداقها أو بشرط ما تريد من الشروط لنفسها ففي تحريم خطبتها قولان: أحدهما: وبه قال في القديم وهو مذهب مالك أنها تحرم خطبتها بالرضا استدلالًا بعموم النهي. والثاني: وبه قال في الجديد انه لا تحرم خطبتها بالرضا حتى يصرح بالإذن لأن الأصل إباحة الخطبة ما لم تتحقق شروط الحظر فعلى هذا وإن اقترن برضاها أذن الولي فيه نظر فإن كانت ثيبًا لا تزوج إلا بصريح الإذن لم تحرم خطبتها وإن كانت بكرًا فيكون الرضا والسكوت منها إذنًا حرمت خطبتها برضاها وإذن وليها وهاهنا قسم خامس وهو أن يأذن وليها من غير أن يكون منها إذن أو رضي فإن كان هذا الولي ممن يزوج بغير إذن كالأب والجد مع البكر حرمت خطبتها بإذن الولي وإن كان ممن لا يزوج إلا بإذن لم تحرم خطبتها بإذن الولي حتى تكون هي الآذنة فيه. فصل: فإن ثبت تحريم خطبتها على ما وصفنا من أحكام هذه الأقسام فأقدم رجل على

خطبتها مع تحريمه عليها وتزوجه فكان آثمًا بالخطبة والنكاح جائز وقال داود: النكاح باطل. وقال مالك: يصح بطلقة استلالًا بأن النهي يقتضي فساد النهي عنه ولقول النبي صَلَى الله عليه وسلم: "من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد" وبقوله صَلَى الله عليه وسلم: "من عمل ما ليس عليه أمرنا فهو رد". والدليل على صحة النكاح هو أن ما تقدم من العقد غير معتبر فيه فلم يؤثر في فساده لأن النهي إذا كان لمعنى في غير المعقود عليه لم يمنع من الصحة كالنهي عن أن يسوم الرجل على سوم أخيه أو أن يبيع حاضر لبادٍ فأما الاستدلال بالخبرين فيقتضي روما توجه النهي إليه وهو الخطبة دون العقد. فصل: فأما حديث فاطمة بنت قيس ففيه دلائل على أحكام منها ما ذكرناه من أن السكوت لا يقتضي تحريم الحظر. ومنها جواز ذكر ما في الإنسان عند السؤال عنه لأن النبي صَلَى الله عليه وسلم قال في معاوية: "إنه صعلوك لا مال له" والتصعلك التحمل والاضطراب في الفقر. قال الشاعر: غَنَيْنَا زَمَانًا بِالتَّصَعْلُكِ وَالغِنَى وَكُلًّا سَقَانَاهُ بِكَاسَيْهِمَا الدَّهْرُ فَمَا زَادَ بَغْيًا على ذِي قَرَابَةٍ غِنَا وَلَا أَزْرَى بِأَحْسَابنَا الفَقْرُ وقال في أبي جهم: "لا يضع عصاه عن عاتقه" وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه أراد به كثرة ضربه لأهله. والثاني: أنه أراد به كثرة أسفاره يقال لمن سافر: قد أخذ عصاه ولمن أقام قد التقى عصاه, قال الشاعر: فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى كَمَا قَرَّ عَيْنًا بِالِإيَابِ المسَافِرُ والثالث: أنه أراد به كثرة تزويجه لتنقله من زوجة إلى أخي كتنقل المسافر بالعصي من مدينة إلى أخرى ومن دلائل الخبر أيضًا جواز الابتداء بالمشورة من غير استشارة فإن النبي صَلَى الله عليه وسلم أشار بأسامة من غير أن تسأله عنه. ومنها أن طلاق الثلاث مباح لأن النبي صَلَى الله عليه وسلم ما أنكره في فاطمة حين أخبرته ومنها جواز خروج المعتدة في زمان عدتها لحاجة لأنها خرجت إليه فأخبرته بطلاقها فقال لها: "إذا حللت فآذنيني" ومنها جواز كلام المرأة وإن اعتدت وإن كلامها ليس بعورة.

باب نكاح المشرك ومن أسلم وعنده أكثر من أربع

ومنها جواز نكاح غير كفء لأنها في صميم قريش من بني مخزوم وأمرها أن تتزوج أسامه وهو مولى إلى غير ذلك من سقوط نفقة المبتوتة ووجوب نفقة الرجعية على ما سنذكره والله ولي التوفيق. باب نكاح المشرك ومن أسلم وعنده أكثر من أربع قَالَ الشَّافِعيُّ: "أَخْبَرَنا الثِّقَةُ أَحْسَبُهُ إِسْمَاعِيل بْنِ إِبْراهِيمَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِم بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَسْلَمُ غَيْلانُ بْن سَلَمَةَ وَعِنْدَهُ عَشْرُ نِسْوَةٍ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَى الله عليه وسلم: "أَمْسِكْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ" وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَى الله عليه وسلم قَالَ لِرَجُل يُقَالُ لَهُ الدَّيْلَمِي أَوْ ابْنُ الدَّيْلَمِي: أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ أُخْتَانِ: "اخْتَرْ أَيَّتُهُمَا شِئْتَ وَفَارِق الأُخْرَى" وَقَالَ لِنُوْفَلِ بْن مُعَاوِيَةَ وَعِنْدَهُ خَمْسٌ: "فَارِقْ وَاحِدَةً وَأَمْسِكْ أَرْبَعًا" قَالَ: فَعَمِدتُ إِلَى أَقْدَمِهِنَّ فَفَارَقْتُهَا, قَالَ الشَّافِعِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَبِهَذَا أَقُولُ وَلَا أُبَالِي أَكُنَّ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَة أَوْ فِي عُقَدٍ مُتَفَرِّقَةٍ إِذَا كَانَ مَنْ يُمْسِكُ مِنْهُنّ يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئ نِكَاحَهَا فِيِ الإِسْلَام مَا لَمْ تَنْقَضِ العِدَّةُ قَبْلَ اجْتِمَاعِ إِسْلَامِهِمَا لَأنَّ أَبَا سُفْيَانَ وَحَكِيمَ بْنَ حِزَام أَسْلَمَا قَبْلُ ثُمَّ أَسْلَمَتِ امْرَأَتَاهُمَا فَاسْتَقَرَّتْ كُلُ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عِنْدَ زَوَجِهَا بِالِّنكَاحِ الأَوَّلِ وَأَسْلَمَتِ امْرَأَةُ صَفْوَانَ وَامْرَأَةُ عِكْرِمَةَ ثُّم أَسْلَمَا فَاسْتَقَرَّتَا بِالنِكَاحِ الأَوَّلِ وَذَلِكَ قَبْلَ انْقِضَاءِ العِدَّةِ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: الأصل تحريم التناكح بين المسلمين والمشركين قول الله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} [البقرة: 221] وقال تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] وقال النبي صَلَى الله عليه وسلم: "أنا برئ من كل مسلم مع مشرك" وإذا كان كذلك المسلمة لا تحل لكافر بحال سواء كان الكافر كتابيًا أو وثَنِيًا فأما المسلم فيحل له من الكفار الكتابيات من اليهود والنصارى على ما ذكرنا ويحرم عليه ما عداهن من المشركات. فأما إذا تناكح المشركون في الشرك فلا اعتراض عليهم فيها فإن أسلموا عليها فمنصوص الشافعي في أكثر كتبه جواز مناكحهم وإقرارهم عليها بعد إسلامهم لأن النبي صَلَى الله عليه وسلم أقر من أسلم على نكاح زوجته. وروى داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس: قال: رد رسول الله صَلَى الله عليه وسلم بنته زينب على أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول ولم يحدث شيء. وقال الشافعي في كتبه: إن مناكحهم باطلة. وقال في موضع آخر: إنها معفو عنها, فغلظ بعض أصحابنا فخرج اختلاف هذه النصوص الثلاثة على ثلاثة أقاويل الذي عليه جمهورهم أنه ليس ذلك لاختلاف أقاويله فيها ولكنه لاختلاف أحوال مناكحهم وهي على ثلاثة أقسام: صحيحة, وباطلة, ومعفو عنها.

فأما الصحيح منها فهو أن يتزوج الكافر الكافرة بولي وشاهدين بلفظ النكاح وليس بينهما نسب يوجب التحريم فهذا النكاح صحيح فإذا أسلموا عليه أقروا وهو الذي أراده الشافعي بالصحة. فأما الباطل منها فهو أن يتزوج في الشرك بمن تحرم عليه بنسب أو رضاع أو مصاهرة فهذا النكاح باطل فإذا أسلموا عليه لم يقروا وكذلك لو نكحها بخيار مؤبد وهذا الذي أراده الشافعي بأنه باطل. وأما المعفو عنه: فهو أن يتزوج من لا تحرم عليه بنسب ولا رضاع ولا مصاهرة بما يرونه نكاحًا من غير ولي ولا شهود ولا بلفظ نكاح ولا تزويج فهذا معفو عنه. فإذا أسلموا قروا عليه لأن رسول الله صَلَى الله عليه وسلم لم يكشف عن مناكح من أسلم من المشركين وهو الذي أراده الشافعي بأنه معفو عنه والله أعلم. فصل: فإذا تقرر جواز مناكحهم فلهم إذا حدث بينهم إسلام حالتان: أحدهما: أن يسلم الزوجان معًا. والثانية: أن يسلم أحدهما فإن أسلم الزوجان معًا فإن يكن للزوج أكثر من أربع زوجات بأن كان له أربع فما دون وأسلمن كلهن معه في حالة واحدة ثبت نكاحهن كلهن سواء كان إسلامه وإسلامهن قبل الدخول أو بعده وإن كان له خمس زوجات فما زاد وقد أسلم جميعهن بإسلامه كان له أن يختار من جملتهن أربعًا سواء نكحهن جميعهن في الشرك في عقد واحد أو في عقود وسواء أمسك الأوائل والأواخر وينفسخ نكاح البواقي بغير طلاق وبمثل قولنا قال مالك ومحمد بن الحسن وأبو ثور إلا أن مالكًا قال: لا ينفسخ نكاح البواقي بعد الأربع إلا بطلاق وهكذا لو نكح في الشرك أختين ثم أسلمتا معًا أمسك أيتهما شاء وانفسخ نكاح الأخرى بغير طلاق عندنا وبطلاق عند مالك. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا اعتبار بخياره وإنما الاعتبار بعقده فإنه تزوج في الشرك عشرًا في عقد واحد ثم أسلمن معه بطل نكاح جميعهن فإن تزوجهن في عقود ثبت نكاح الأربع الأوائل وبطل نكاح من بعدهن من الأواخر اعتبارًا بنكاح المسلم وهكذا لو أنكح أختين أسلمتا معه نظر فإن كان من نكحهما في عقد واحد بطل نكاحهما وإن كان في عقدين ثبت نكاح الأولى منهما وبطل نكاح الثانية. وقال الأوزاعي: إن نكحهن في عقود ثبت نكاح الأربع الأوائل وإن نكحهن في عقد واحد لم يبطل نكاحهن واختار منهن أربعًا واستدل أبي حنيفة بما روي أن النبي صَلَى الله عليه وسلم بعث معاذًا إلى اليمين فقال له: "أدعهم إلى الشهادة أن لا إلاه إلا الله فإن أجابوك أعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين" ثم ثبت أن المسلم لو نكح خمسًا في عقد بطل نكاحهن ولو نكحهن في عقود ثبت نكاح الأربع الأوائل وبطل نكاح من بعدهن من الأواخر كذلك نكاح المشرك إذا أسلم.

قال: ولأنه تحريم جميع فوجب أن لا يثبت فيه خيار قياسًا على إسلام المرأة مع زوجين قال: ولأنه تحريم يستوي فيه الابتداء والاستدامة منه فوجب أن يستوي فيه المسلم والكافر قياسًا على تحريم ذوات المحارم. قال: ولأنه عقد اشتمل على أكثر من أربع فوجب أن يكون باطلًا قياسًا على عقد المسلم. ودليلنا ما رواه الشافعي في صدر الباب أن غيلان بن سلمة أسلم وأسلم معه عشر نسوة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمسك أربع منهن" ولم يسأله عن عقودهن فدل على أنه قد رد ذلك إلى اختياره فيهن، بل قد روي أن غيلان بن سلمة قال: فكنت من أريدها أقول لها: اقبلي. ومن لا أريدها أقول لها: أدبري وهي تقول: بالرحم بالرحم. وهذا نص صريح في تمسكه بمن اختار لا بمن تقدم. وروي عن نوفل بن معاوية أنه قال: أسلمت وعندي خمس نسوة فذكرت ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أمسك أربعاً وفارق واحدة" قال: فعمدت إلى أقدمهن صحبة ففارقتها فدل على جواز إمساك الأواخر دون الأوائل. وروى الضحاك ابن فيروز الديلمي عن أبيه قال: أسلمت وتحتي أختان فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أمسك أيتهما شئت وفارق الأخرى". وهذا نص في التخيير. وروي أن رجلًا من بني أسد أسلم وتحته ثمانية نسوة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اختر منهن أربعًا" قال: فاخترت منهن أربعًا. وكل هذه الأخبار نصوص في التخيير. ومن طريق القياس: أن كل امرأة حل له ابتداء العقد عليها في الإسلام حل له المقام عليها في الإسلام بالعقد الناجز في الشرك قياسًا على النكاح بعد الشهود. وقولنا بعقد ناجز: احترازًا من نكاحها في الشرك بخيار مؤبد ولأنه عدد يجوز له ابتداء العقد عليهن فجاز له إمساكهن كالأوائل. ومن الاستدلال أنه لو تزوج في الشرك أختين واحدة بعد الأخرى ثم ماتت الأولى وأسلمت معه الثانية جاز له استبدالها فكذلك إذا كانت الأولى باقية ولأنه لما جاز أن يستديم المقام في الإسلام على عقد نكاح في الشرك لا يجوز أن يبتدئ مثله في الإسلام وهو أن يكون قد نكحها بغير شهود جاز مثله في جمع العدد وفي الأواخر. فأما الجواب عن استدلالهم بالخبر فمن يقول بموجبه إننا نحرم عليه الزيادة على أربع كالذي لم يزل مسلمًا.

فأما قياسهم على المرأة إذا أسلمت مع زوجين تعليلًا بأن تحريم جمع فالتعليل غير مسلم لأنه لم يحرم على المرأة الزوج الثاني بعد الأول لأجل الجمع ولكن لأن الأول قد ملك بضعها فصارت عاقدة مع الثاني على ما قد ملكه الأول عليها فجرى مجرى من باع ملكًا ثم باعه من آخر بطل البيع الثاني لأجل الجمع ولكن يعقده على ما قد خرج عن ملكه كذلك نكاح الزواج الثاني وخالف نكاح الخامسة لأنها غير مملوكة البضع كالرابعة. وأما قياسهم على ذوات المحارم فالمعنى فيهن: أنه لما حرام ابتداء العقد عليهن حرم استدامة نكاحهن وليس الأواخر. وأما قياسهم على المسلم فالمعنى فيه أن عقود المسلم أضيق حكمًا وأغلظ شرطًا من عقود المشرك ألا تراه لو نكح في عدة أو بغير شهود بطل ولو أسلم المشرك عليه أقر كذلك الأواخر. فصل فأما الحال الثانية: وهو أن يسلم أحد الزوجين فينظر فإن أسلم الزوج وزوجته كتابية فالنكاح بحاله لأنه يجوز أن يبتدئ نكاحها في الإسلام فجاز أن يستديم نكاحها في الشرك وإن كانت زوجته أو أسلمت وكان زوجها كتابيًا أو وثنيًا فكل ذلك سواء لأن الجمع بينهما بعد إسلام أحدهما محرم وإذا كان كذلك نظر في إسلام أحدهما فإن كان قبل الدخول بطل النكاح وإن كان بعده كان موقوفًا على انقضاء العدة فإن أسلمتا المتأخر في الشرك منهما قبل انقضائها كانا على النكاح وإن لم يسلم حتى انقضت بطل النكاح وسواء تقدم بالإسلام الزوج أو الزوجة وسواء كان الإسلام في دار الحرب أو دار الإسلام. وقال مالك: إن تقدمت الزوجة بالإسلام كان الحكم على ما ذكرناه إن كان قبل الدخول بطل النكاح وإن كان بعده على انقضاء العدة وإن تقدم الزوج بالإسلام كان النكاح باطلًا إلا أن تسلم الزوجة بعده بزمان يسير كيوم أو يومين. وقال أبو حنيفة: إن أسلم أحدهما فلهما ثلاثة أحوال: حال يكونان في دار الحرب وحال يكونان في دار الإسلام وحال يكون أحدهما في دار الحرب والآخر في دار الإسلام. فإن كانا في دار الحرب فأسلم أحدهما فالنكاح موقوف على انقضاء العدة سواء كانت قبل الدخول أو بعده. وإن كانا في دار الإسلام فأسلم أحدهما كان النكاح موقوفًا على الأبد قبل الدخول وبعده إلا أن يعرض الإسلام على المتأخر في الشرك فيمتنع فيوقع الحاكم الفرقة بطلقة وإن كان أحدهما في دار الحرب والآخر في دار الإسلام فإسلام من حصل في ذلك الإسلام يوجب لفسخ النكاح في الحال قبل الدخول وبعده من غير وقف وسواء كان المسلم هو الزوج أو الزوجة. وقال داود وأبو ثور: إسلام أحدهما دوم الآخر موجب لفسخ النكاح في الحال من

غير وقف على أي حال كان إسلامه وفي أي مكان كان. فأما مالك فاستدل لمذهبه بقول الله تعالى: {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] فوجب أن يحرم على المسلم التمسك بعصمة كافر ولأن إسلام أحد الزوجين إذا كان مؤثرًا في الفرقة كان معتبرًا بإسلام الزوج دون الزوجة لأن الفرقة إلى الرجل دون النساء. والدليل عليه ما روي أن أبا سفيان وحكيم بن حزام أسلما على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمرّ الظهران وزوجناهما في الشرك بمكة فأنقذ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا هريرة إلى هند زوجة أبي سفيان فقرأ عليهما القرآن وعرض عليها الإسلام فأبت ثم أسلمت وزوجة حكيم أسلمت على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرهما على النكاح مع تقدم إسلام الزوجين ولأن حظر المسلمة على الكافر أغلظ من حظر الكافرة على المسلم لأن المسلمة لا تحل للكتابي والمسلم تحل له الكتابية فلما لم يتعجل فسخ نكاح المسلمة مع الكافر فأولى أن لا يتعجل فسخ نكاح الكافر مع المسلمة. فأما الآية فلا دليل فيها لأنه ممنوع أن يتمسك بعصمتها في الكفر وإنما تمسك بعصمتها بعد الإسلام. وأما استدلاله بأن الفرقة إلى الزوج دون الزوجة فذاك في فرقة الاختيار التي يوقعها المالك والطلاق فأما فرقة الفسوخ فيستوي فيها الزوجان. فصل: فأما أبو حنيفة فاستدل على وقوع الفرقة باختلاف الدارين من غير توقف بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] فاقتضى أن تحرم عليه بالإسلام سواء أسلم بعدها أو لم يسلم وبرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجرت إليه وتخلف زوجها أبو العاص بن ربيع كافرًا بمكة، ثم أسلم فردها عليه بنكاح جديد، فدل على وقوع الفرقة. قال: ولأن اختلاف الدار بهما حكمًا وفعلًا يوجب الفرقة بينهما قياسًا على سبي أحدهما واسترقاقه. قال: ولأن دار الحرب غلبة وقهر، لأن من غلب فيها على شيء ملكه ألا ترى لو غلب العبد سيده على نفسه صار العبد حرًا وصار السيد عبدًا ولو غلبت المرأة زوجها على نفسه بطل نكاحها وصار الزوج لها عبدًا فاقتضى أن تصير الزوجة بإسلامها إذا هاجرت من دار الحرب متغلبة على نفسها فوجب أن يبطل نكاحها. والدليل على أن اختلاف الدارين لا يوجب وقوع الفرقة بإسلام أحد الزوجين ما روي أن أبا سفيان بن حرب وحكيم بن حزام أسلما بمرّ الظهران وهي بحلول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها واستيلائه عليها دار إسلام وزوجناهما على الشرك بمكة وهي إذ ذاك دار

الحرب ثم أسلمتا بعد الفتح فأقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم على النكاح. فإن قيل: مرّ الظهران من سواد مكة وتابعة لها في الحكم فلم يكن إسلامها إلا في دار واحدة، ففيه جوابان: أحدهما: أن مرّ الظهران دار الخزاعة محازة عن حكم مكة لأن خزاعة كانت في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت بنو بكر في حلف قريش ولنصرة النبي صلى الله عليه وسلم لخزاعة صار إلى قريش بمكة. والثاني: أن مرّ الظهران لو كان من سواء مكة لجاز أن ينفرد عن حكمها باستيلاء الإسلام عليها كما لو فتح المسلمون سواد بلد من دار الحرب صار ذلك السواد دار إسلام. وإن كان البلد دار الحرب ويدل على ذلك ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة عام الفتح هرب صفوان بن أمية إلى الطائف وهرب عكرمة بن أبي جهل إلى ساحل البحر مشركين فأسلمت زوجاتهما بمكة وكانت زوجة صفوان برزة بنت مسعود بن عمرو الثقفي وزوجة عكرمة أم عكيم بنت الحارث بن هشام بن المغيرة وأخذتا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أمانًا لهما فدخل صفوان من الطائف بالأمان وأقام على شركة حتى شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حنينًا وأعار سلاحًا ثم أسلم وعاد عكرمة من ساحل البحر وقد عزم على ركوبه هربًا فأسلم فأقرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زوجتيهما مع اختلاف الدارين بهما؛ لأن مكة كانت قد صارت بالفتح دار إسلام وكانت الطائف والساحل دار الحرب. فإن قيل: هما من سواء مكة وفي حكمها. فالجواب عنه بما مضى، ومن القياس: أنه إسلام بعد الإصابة فوجب إذا اجتمعا عليه في العدة أن لا تقع به الفرقة قياسًا على اجتماع إسلامها في دار الحرب ولأن ما كانت البينونة بعد منتظرة لم يؤثر فيه اختلاف الدارين كالطلاق الرجعي وما كانت البينونة معجلة لم يؤثر فيه اتفاق الدارين كالطلاق الثلاث فوجب أن يكون الفرقة بالإسلام ملحقة بأحدهما. فأما الجواب عن استدلالهم بالآية فنحن نقول بموجبها لأنها لا ترد المسلمة إلى كافر ولا تحلها له ولا تمسك بعصمة كافرة. وإنما يردها إلى مسلم ويمسك بعصمة مسلمة وأما الجواب عن حديث زينب فمن وجهين: أحدهما: ما رواه عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ردها عليه بالنكاح الأول. والثاني: أنه يجوز أن استأنف لها نكاحًا لأنه أسلم بعد انقضاء العدة حين أسره أبو بصير الثقفي بسيف البحر من نحو الجار. وأما قياسهم على السبي والاسترقاق فليس المعنى فيه افتراق الدارين إنما حدوث الاسترقاق ألا ترى أنه لو استرق أحدهما وهما في دار الحرب بطل النكاح ولو استرقا معًا بطل النكاح فصار السبي مخالفًا للإسلام على أن الفرقة بالاسترقاق غير منتظرة بحال والفرقة بالإسلام منتظرة في حال فافترقا. وأما الاستدلال بأنها متغلبة على بعضها فلا يصح لأن الأعيان تملك بالتغلب دون الأبضاع. ألا ترى أن مسلمًا لو غلب على بضع مشركة لم تصر زوجة ولم يصر زوجًا ولو تغلب

على رقبتها صارت ملكًا. فصل: واستدل أبو حنيفة على أن إسلام أحدهما قبل الدخول لا يوجب تعجيل الفرقة بأنه إسلام طرأ على نكاح فوجب أن لا يبطله قياسًا على إسلامهما معًا ولأن الإسلام سبب يستباح به النكاح لأن الكافر لا يستبيح المسلمة إلا يسلم وما كان سببًا في إباحة المحظور لم يكن سببًا في حظر المباح. ودليلنا عليه هو اختلاف الدارين إذا منع تأييد المقام على النكاح تعجلت به الفرقة إذا كان قبل الدخول كالردة ولأن كل سبب إذا وجد بعد الدخول لم تقع به الفرقة إلا بانقضاء العدة وجب إذا وجد قبل الدخول أن تعجل به الفرقة كالطلاق الرجعي. فأما قياسه على إسلامهما معًا فلأنه يجوز بإسلامهما تأبيد المقام على النكاح فكان على صحته وإسلام أحدهما يمنع تأبيد المقام فتعجل به فسخ العقد على أن القياس منتقض بالردة قبل الدخول فإنه يقول: لو ارتدا معًا قبل الدخول كانا على النكاح ثم لم أسلم أحدهما بطل النكاح. وأما استدلاله بأن ما كان سببًا في الإباحة لم يكن سببًا في الحظر ففاسد بالطلاق وهو سبب لتحريم المطلقة وإباحة أختها وسبب لإباحتها لغير مطلقها وإن كان سبب لتحريمها على مطلقها ثم لما لم يمنع أن يكون الإسلام الذي هو سبب الإباحة سببًا للتحريم بعد انقضاء العدة وكذلك قبلها. واستدل أبو حنيفة على إن إسلام أحدهما في دار الإسلام فوجب بقاء النكاح على الأبد ما لم يعرض الإسلام عن المتأخر منهما في الشرك فإذا عرض عليه فامتنع أوقع الحاكم الفرقة بطلقة تعلقًا بأن الفرقة لا تكون إلا بالحادث وليس يخلو الحادث من ثلاثة أمور: إما أن يكون لإسلام من أسلم أو للكفر منه تأخر أو لحكم حاكم فلم يجز أن يكون للإسلام لأنه مأمور به فلم يكن سببًا ملكه ولم يجز أن يكون للكفر لأنه قد كان والنكاح بحالة فلم يبق إلا أن يكون بحكم فاقتضى أن تتعلق الفرقة به تقدم الحكم أو تأخر قال: ولأن إسلام أحد الزوجين لا يوقع الفرقة بينهما كما لو أسلم زوج الكتابية. ودليلنا: هو أن اختلاف الدين إذا منع ابتداء النكاح أوجب وقوع الفرقة من غير حكم قياسًا على إسلام أحدهما في دار الحرب ولأن دار الإسلام أغلظ في أحكام النكاح من دار الشرك ثم كانت دار الشرك لا تراعي في وقوع الفرقة بإسلام أحدهما حكم الحاكم فدار الإسلام بذلك أولى. فأما الاستدلال الأول فالجواب عنه أن الفرقة إنما وقعت باختلاف الدين المانع من ابتداء النكاح وليس من الأقسام المذكورة فلم يصح الاستدلال بها. وأما قياسه على إسلام أحد الزوجين فالمعنى فيه: أنه لما لم يمنع ذلك من ابتداء النكاح لأنه يجوز أن

يتزوج المسلم كتابية لم تقع الفرقة بإسلام الزوج الكتابي وليس كذلك في ملتنا لأنه لا يجوز أ، يتزوج المسلم وثنية ولا الوثني مسلمة فجاز أن تقع الفرقة بإسلام أحد الوثنيين. فصل: فإذا ثبت وتقرر أن النكاح بإسلام أحد الزوجين قبل الدخول باطل وأنه بعد الدخول موقوف على انقضاء العدة وأنه لا فرق بين إسلام الزوج أو الزوجة ما قاله مالك وأنه لا فرق بين اختلاف الدارين أو اتفاقهما بخلاف ما قاله أبو حنيفة فإن الزوجة المدخول بها قبل اجتماع إسلامهما جارية في عدة الفرقة فإن لم يسلم المتأخر منهما في الشرك حتى انقضت العدة بأن الفرقة وقعت بتقدم الإسلام وصلت بعد انقضاء هذه العدة للأزواج. وقال أبو حنيفة: ليست تلك العدة عدة فرقة وإنما هي عدة يعتبر بها صحة النكاح باجتماع الإسلاميين فيهما فإذا لم يجتمع إسلامهما وقعت الفرقة بانقضائها وهذا خطأ لأنه لا يخلو من أن يوجب عليها بعد الفرقة إلا عدة واحدة وإن لم يوجب عليها عدة أخرى بطل قوله من وجهين: أحدهما: أنه أوجب العدة قبل الفرقة وأسقطها بعد الفرقة. والثاني: أن العدة تجب إما لاستبراء أو فرقة وقد أوجبها لغير استبراء ولا فرقة وإذا صح ما ذكرنا من وقوع الفرقة تقدم الإسلام فطلقها في حال العدة أولى أو إلى منها أو ظاهر كان ذلك موقوفًا على ما يكون من اجتماع الإسلاميين فإن اجتمعا عليه في العدة صح الإيلاء والظهار لصحة النكاح ووقوعه فيه وإن لم يجتمعا على إسلام في العدة حتى انقضت لم يصح الطلاق ولا الإيلاء ولا الظهار لتقدم الفرقة عليها بالإسلام المتقدم والله أعلم بالصواب. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَإِنْ أَسْلَمَ وَقَدْ نَكَحَ أُمًّا وَابْنَتَهَا مَعًا فَدَخَلَ بِهِمَا لَمْ تَحِلَّ لَهُ وَاحِدَةٌ مِنْهُمَا أَبدًا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهِمَا قُلْنَا. أَمْسِكْ أَيَّتَهُمَا شِئْتَ وَفَارِقِ الأُخْرَى. وَقَالَ فِي مَوْضِع آخَرَ: يُمْسِكُ الابْنَةَ وَيُفَارِقُ الأُمَّ. قَالَ المُزَنِيُّ: هَذَا أَوْلَى بِقوْلِهِ عِنْدِي وَكَذَا قَالَ فِي مَوْضِع آخَرَ: يُمْسِكُ الابْنَةَ وَيُفَارِقُ الأُمَّ. قَالَ المُزَنِيُّ: هَذَا أَوْلَى بِقَوْلِهِ عِنْدِي وَكَذَا قَالَ فِي كِتَابِ التَّعْرِيضِ بِالخُطْبَةِ. وَقَالَ أَوَّلًا: كَانَتْ الأُمُّ أَوْ آخِرًا". قال في الحاوي: وصورة هذه المسألة في مشرك تزوج في الشرك أمَّا وبنتها ثم أسلم وأسلمتا معه فلا يخلو حاله معها من أربعة أقسام: أحدهما: أن يكون قد دخل بهما. والثاني: أن لا يكون قد دخل بهما.

والثالث: أن يكون قد دخل بالأم دون البنت. والرابع: أن يكون قد دخل بالبنت دون الأم. فأما القسم الأول: هو أن يكون قد دخل بهما فقد حرمتا عليه جميعًا لأن دخوله بالأم يحرم البنت لو كان بشبهة فكيف بنكاح؟ ودخوله بالبنت يحرم الأم لو كان بشبهة فكيف بنكاح؟ فإن قيل: فإذا كان نكاح الشرك معفو عنه فهلا كان الوطء في الشرك معفو عنه. قيل: لأن الوطء يحدث من تحريم المصاهرة وما يجري مجرى تحريم النسب لثبوت التحريم فيهما على الأبد وليس يعفي عن تحريم النسب فكذلك لا يعفي عن تحريم المصاهرة وخالف العقد الذي تخلف أحواله وينقطع زمانه. فصل: وأما القسم الثاني: وهو أن لا يكون قد دخل بواحدة منهما فلا يجوز له أن يتمسك بهما ولو أن يتمسك بإحداهما سواء كان قد عقد عليها في عقد واحد أو في عقدين وسواء تقدمت الأم بالعقد أو تأخرت كمن نكح خمسًا في الشرك بخلاف ما قال أبو حنيفة في تقديم الأوائل على الأواخر وإذا كان كذلك ففي التي يتمسك بها قولان: أحدهما: أنه يتمسك بنكاح البنت ويقيم عليها ويحرم الأم نص في كتاب "أحكام القرآن" وفيما نقله المزني عنه لأنه العفو عن مناكح الشرك يمنع من التزام أحكامها وتصير بالإسلام بمثابة المبتدئ لما شاء منهما وإذا كان مخبرًا بين الأوائل والأواخر فكذلك يكون مخيرًا بين الأم والبنت فعلى هذا إن اختار البنت حرمت عليه الأم حينئذٍ تحريم تأبيد وإن اختار الأم حرمت البنت باختيار الأم تحريم جمع فإذا دخل بالأم حرمت البنت تحريم تأبيد. فصل: وأما القسم الثالث: وهو أن يكون قد دخل بالأم دون البنت فالبنت قد حرمت عليه بالدخول بالأم وفي تحريم الأم عليه قولان: أحدهما: أنها محرمة ونكاحها باطل وهو اختيار المزني من قوليه إذا لم يدخل بهما أنه يثبت نكاح البنت ويبطل نكاح الأم هاهنا نكاح البنت بالدخول بالأم ويبطل نكاح الأم بالعقد على البنت. والثاني: أ، الأم لا تحرم ويكون نكاحها ثابتًا وهذا على قول الآخر أنه لو لم يدخل بها لكان مخيرًا في التمسك بمن شاء فيبطل خياره هاهنا لتحريم البنت بالدخول بالبنت ويصير ملتزمًا لنكاح الأم. فصل: فأما القسم الرابع: وهو أن يكون قد دخل بالبنت دون الأم فنكاح البنت ثابت

ونكاح الأم باطل، وبماذا أبطل يكون على القولين: أحدهما: بالعقد على البنت على القول الذي اختاره المزني. والثاني: بالدخول بالبنت على القول الآخر. فصل: فإذا شك بالدخول فهذا على ضربين: أحدهما: أن يشك هل دخل بواحدة منهما أو لم يدخل فالورع أن يحرمها احتياطًا فأما في الحكم فالشك مطروح لأن حكم اليقين في عدم الدخول أغلب وإذا كان كذلك صار في حكم من لم يدخل بواحدة منهما فيكون على ما مضى من القولين: أحدهما: وهو اختيار المزني أن يقيم على نكاح البنت. والثاني: يكون مخيرًا في إمساك أيتهما شاء. والضرب الثاني: أن يتيقن الدخول بواحدة منهما ويشك في التي دخل بها منهما فلا يعلم أهي الأم أم البنت فيكون نكاحهما باطلًا لأن تحريم أحدهما متيقن وإذا تيقن تحريم واحدة من اثنين حرمت عليه اثنتان كما لو تيقن أن إحدى امرأتين أخت حرمتا عليه. فصل: فأما إذا كانت المسلمة بحالها في أن نكح في الشرك أمًا وبنتًا واختلف إسلامهم فحكم النكاح معتبر بما ذكرنا من الأقسام الأربعة في الدخول. الأول: أن يكون قد دخل بهما فلا يوقف نكاح واحدة منهما بالإسلام لتحريم كل واحدة منهما بدخوله بالأخرى ويكون نكاحهما باطلًا. والقسم الثاني: أن لا يكون قد دخل بواحدة منهما فلا يخلو حال من تقدم بالإسلام من أربعة أحوال: إحداهما: أن يتقدم الزوج وحده بالإسلام فيبطل نكاحهما في الشرك. والثانية: أ، يتقدم إسلام الأم والبنت على الزوج فيبطل نكاحهما في الإسلام. والثالثة: أن يتقدم إسلام الزوج والبنت ويتأخر إسلام الأم فيثبت نكاح البنت ويبطل نكاح الأم. والرابعة: أن يتقدم إسلام الزوج والأم ويتأخر إسلام البنت فيبطل نكاح البنت لتأخرها وفي بطلان نكاح الأم قولان فهذا حكم القسم الثاني. والقسم الثالث: أن يكون قد دخل بالأم دون البنت فنكاح البنت باطل بكل حال وهل يوقف نكاح الأم على اجتماع إسلامهما على القولين. والقسم الرابع: أن يكون قد دخل دون الأم فنكاح الأم باطل لدخوله بالبنت ونكاح البنت موقوف على اجتماع إسلامهما.

فصل: وإذا نكح في الشرك أمًا وبنتها وبنت بنتها ثم أسلم وأسلمن معه فله معهن خمسة أقسام: أحدهما: أن يكون قد دخل بجميعهن فيكون نكاحهن باطلًا. والثاني: أن لا يكون قد دخل بواحدة منهن ففيه قولان: أحدهما: يقسم على السفلي وهي بنت البنت ويبطل نكاح العليا التي هي الجدة ونكاح الوسطى التي هي الأم. والقول الثاني: أنه بالخيار بالتمسك بأيتهن شاء. والثالث: أن يدخل بالعليا دون الوسطى والسفلى فيكون نكاح الوسطى والسفلى باطلًا وفي بطلان نكاح العليا قولان. والرابع: أن يدخل بالوسطى دون العليا والسفلى فيبطل نكاحهما وفي بطلان نكاح الوسطى لأجل السفلى قولان. والخامس: أن يدخل بالسفلى دون العليا والوسطى فيثبت نكاح السفلى ويبطل نكاح العليا والوسطى فإذا اعتبرت ذلك بما قدمناه من التعليل وجدت الجواب فيه صحيحًا، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ إِمَاءٍ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْسِراً يَخَافُ العَنَتَ أَو فِيهِنَّ حُرَّةٌ انْفَسَخَ نِكَاحُ الإِماءِ وَإِنْ كَانَ لَا يَجِدُ مَا يَتَزَوَّجَ بِهِ حُرَّةً وَيَخَافُ العَنَتَ وَلَا حُرَّةَ فِيهِنَّ اخْتَارَ وَاحِدَةً وَانْفَسَخَ نِكَاحُ البَوَاقِي". قال في الحاوي: وصورة هذه المسألة في مشرك تزوج في الشرك بإماء مشركات ثم أسلم وأسلمن معه فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون معهن حرة. والثاني: أن لا يكون فإن لم يكن معهن حرة وكن إما لا حرة فيهن فلا يخلو حاله عند إسلامه وإسلامهن من أمرين: أحدهما: أن يكون ممن يجوز له نكاح الإماء لعقد الحرة وعدم الطول وخوف العنت فيجوز له أن يختار واحدة منهن ويفارق من سواها. لأنه في حال يجوز له أن يبتدئ فيها نكاح الأمة فجاز أن يستديم فيهما نكاح الأمة. والثانية: أن يكون عند إسلامه وإسلامهن ممن لا يجوز أن يبتدئ نكاح الأمة لوجود الطول أو أمن العنت فنكاح الإماء قد بطل اعتبارًا بحال إسلامه معهن وأنه ممن لا

يجوز له أن يبتدئ نكاح أمة فلم يكن له أن يستديم بالاختيار نكاح أمة. وقال أبو ثور: يجوز له أن يستديم نكاح أمة منهن باختياره وإن كان ممن لا يجوز له أن يبتدئ نكاح أمة استدلالًا بأن الشرط في نكاح الأمة معتبر في ابتداء العقد عليها وليس بمعتبر في استدامة نكاحها ألا تراه لو تزوجها لخوف العنت ثم أمن العنت جاز أن يستديم نكاحها وإن لم يجز أن يبتدئه كذلك المشرك إذا أسلم مستديم لنكاحها وليس بمبتدئ فجاز أن يقيم على نكاحها مع عدم الشرك وإن لم يجز أن يبتدئه. قال: ولأنه لو وجب أن يعتبر شروط الابتداء في وقت استدامته عند الإسلام لوجب اعتبار الولي والشاهدين فلما لم يعتبر هذا لم يعتبر ما سواه. ودليلنا: هو أن نكاح الأمة لا يحل إل باعتبار شروطه فلما لم تعتبر وقت عقده في الشرك وجب أن تعتبر وقت اختياره في الإسلام لئلا يكون العقد عليها خاليًا من شروط الإباحة في الحالين وفي هذا انفصال عن استدلاله الأول لأننا قد اعتبرنا شروط الإباحة في الابتداء فلم تعتبرها في الاستدامة ويكون الفرق بين هذا وبين استدلاله الثاني بأن الولي والشاهدين وإن كان شرطًا في العقد فهو غير معتبر في الحالين لأن الولي والشاهدين من شروط العقد وعقد الشرك معفو عنه فعفي عن شروطه وليس كذلك شروط نكاح الأمة لأنها من شروط الإباحة وشروط الإباحة معتبرة وقت الاختيار ألا تراه أو نكح في الشرك معتدة ثم أسلما وهي في العدة كان النكاح باطلًا لأنها وقت الاختيار غير مباحة كذلك الأمة. ويتفرع على هذا التفريغ ثلاثة فروع: أحدهما: أن تسلم المشركة مع زوجها وهي في عدة من وطء وشبهة فقد اختلف أصحابنا في إباحتها على وجهين: أحدهما: وهو قول ابن سريج: أن نكاحها باطل اعتبارًا بما قررناه بأنه لا يستبيح العقد عليها وقت الإسلام كما لو نكحها في العدة ثم أسلما وهي في العدة. والوجه الثاني: وهو أظهر أن النكاح جائز لأن حدوث العدة في النكاح بعد صحة عقدها لم يؤثر في نكاح المسلم فأولى أن لا يؤثر في نكاح المشرك. والفرع الثاني: أن يسلم أحد الزوجين المشركين ويحرم بالحج ثم يسلم الثاني في العدة فالأول على إحرامه وفي النكاح وجهان: أحدهما: وهو قول أبي بشار الأنماطي: أن النكاح باطل اعتبارًا بما قررناه منه أنه لا يستبيح العقد عليها عند اجتماع الإسلاميين فصار كما لو ابتدأ نكاحهما في وقت الإحرام. والثاني: وهو أظهر وقد نص عليه الشافعي: أن النكاح جائز لأن حدوث الإحرام في النكاح بعد صحة عقده لا يؤثر في فسخه. والفرع الثالث: أن من تزوج أمة على الشرط المبيح ثم طلقها وقد ارتفع الشرط

طلاقًا رجعيًا فله أن يراجعها وإن كان من لا يجوز له أي يبتدئ نكاحها وهذا متفق عليه بين جميع أصحابنا لأن الرجعية زوجة ولذلك ورثت ووارثت وإنما يزال بالرجعية تحريم الطلاق فلم يعتبر في هذه الحال شروط الإباحة في ابتداء ألا تراه لو رجع وهو محرم جاز وإن لم يجز أن يبتدئ نكاحها محرمًا, والله أعلم. فصل: أما الضرب الثاني: وهو أن يكون مع الإماء حرة فقد تزوجها المشرك مع الإماء في الشرك ثم أسلم فهذا على ثلاثة أقسام: أحدهما: أن تسلم الحرة دون الإماء فنكاح الحرة ثابت ونكاح الإماء باطل بإسلام الزوج مع الحرة وبآخرهن. والثاني: أن يسلم الإماء دون الحرة فنكاح الحرة قد بطل بتأخرها ونكاح الإماء معتبر باجتماع إسلامهن مع الزوج فإن كان موسرًا بطل نكاحهن لأنه لمل لم يجز في هذه الحال أن يبتدئ نكاح أمة لم يجز أن يختار نكاح أمة وإن كان معسرًا يخاف العنت كان له أن يختار نكاح واحدة منهن لأن يجوز أن يبتدئه فجاز أن يختاره لأنه ما لم تنقص عدة الحرة في الشرك اختار حينئذٍ من الإماء واحدة وانفسخ نكاح من سواها من وقت اختياره فاستأنفن عدد الفسخ فلو صار وقت اختيار موسرًا وقد كان وقت اجتماع إسلامه وإسلامهن معسرًا صح اختياره اعتبارًا بحاله عند اجتماع الإسلاميين لأنه الوقت الذي استحق فيه الاختيار. والثالث: أن تسلم الحرة والإماء جميعًا فهذا على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يجتمع إسلام الحرة والإماء في حالة واحدة فيثبت نكاح الحرة وينفسخ نكاح الإماء من وقت إسلامهن مع الحرة لأنه لا يجوز أن يختار نكاح أمة مع وجود حرة كما لا يجوز أن يبتدئه. والثاني: أن تسلم الحرة قبل الإماء فنكاح الحرة ثابت ونكاح الإماء باطل ثم ينظر في إسلامهن فإن كان بعد انقضاء عددهن وقع الفسخ بتقدم إسلام الزوج وتأخرهن. وإن أسلمن قبل انقضاء عددهن وقع الفسخ بتقدم إسلام الحرة فعلى هذا لو كانت الزوجة الحرة حين أسلمت ماتت ثم أسلم الإماء في عددهن. قال أبو أحمد الإسفرايبني: نكاحهن باطل لأن نكاحهن قد انسخ بإسلام الحرة فلم يعد إلى الصحة بموتها وهذا عندي غير صحيح بل يجب أن يكون موقوفًا يختار واحدة منهن لأن إسلام الحرة معه قبل إسلام الإماء يجري مجرى يساره في تحريم الإماء فلما لم يعتبر يساره إلا عند إسلام الإماء وجب أن لا يعتبر وجود الحرة إلا عند إسلام الإماء. والثالث: أن يسلم الإماء قبل الحرة فيعتبر حال الزوج عند إسلامهن واستأنفن عدد الفسخ وإن كان معسرًا يخاف العنت كان

نكاح الإماء معتبرًا بإسلام الحرة وهو فيهن مخير بين أمرين: إما أن يتركهن على حالهن ترقبًا لإسلام الحرة فإن أسلمت بعد انقضاء عدتها اختر من الإماء واحدة وانفسخ نكاح البواقي في وقت اختياره وإن أسلمت الحرة في عدتها انسخ نكاح الإماء من وقت إسلامها فهذا أحد خياريه. والثاني: أن يمسك الزوج من الإماء واحدة يترقت إسلام الحرة ويفسخ نكاح سواها من الإماء ليتعجلن الفسخ إذ ليس له أن يقيم على أكثر من واحدة فإذا فعل ذلك انفسخ نكاح من عدا الواحدة من وقت فسخه وكان نكاح الواحدة معتبر بإسلام الحرة فإذا أسلمت في عدتها ثبت نكاحها وانفسخ نكاح الأمة وإن أسلمت بعد انقضاء عدتها بطل نكاحها وثبت نكاح الأمة ولا يكون ثبوته باختيار متقدم ولكن لأنه ليس معه غيرها فعلى هذا لو طلق الحرة في الشرك قبل إسلامها ثم أسلمت نظر فإن كان إسلامها بعد العدة لم يقع طلاقها وانفسخ نكاحها بإسلام الزوج وثبت نكاح الأمة وإن كان إسلامها في العدة وقع الطلاق عليها لأنها زوجة وانفسخ بإسلامها نكاح الأمة فيصير إسلامها وإن كانت مطلقة موجبًا لفسخ نكاح الأمة لأن الطلاق لا يقع إلا على زوجة والأمة لا يثبت اختيار نكاحها مع حرة هذا جواب أصحابنا على الإطلاق وعندي أنه يجب أن يكون معتبر بزمان الطلاق. فإن كان قد طلقها قبل إسلام الإماء جاز له أن يقيم على وحدة منهن لأن الحرة وإن أسلمت في عدتها فقد وقع الطلاق عليها قبل إسلام الإماء فصرن عند إسلامهن لا حرة معهن وإن كان طلاق الحرة بعد إسلام الإماء فعلى ما قاله أصحابنا من اعتبار إسلام الحرة قبل العدة وبعدها والله أعلم بالصواب. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ أَسْلَمَ بَعْضُهُنَّ بَعْدَهُ فَسَوَاءٌ وَيَنْتَظرُ إِسْلَامَ البَوَاقِي فَمَنْ اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُ الزَّوْجِ قَبْلَ مُضِيِّ العِدَّةِ كَانَ لَهُ الخِيَارُ فِيهنَّ". قال في الحاوي: وصورة هذه المسألة في حر تزوج في الشرك بأربع زوجات إماء لا حرة فيهن ثم أسلم وأسلمن وذلك بعد دخوله بهن فهذا على أربعة أسام: أحدها: أن يسلمن معه. والثاني: أن يسلمن قبله. والثالث: أن يسلمن بعده. والرابع: أن يسلم بعضهن قبله وبعضهن بعده وقد يجيء فيه قسمان آخران: أحدهما: أن يسلم بعضهن معه وبعضهن بعده ولكن يدخل جوابهما في جملة الأقسام الأربعة فلم نذكرها اكتفاء بما ذكرنا.

فأما القسم الأول: وهو أن يسلم معه الإماء الأربع فيعتبر حاله وقت الإسلام فإن كان موسرًا بوجود الطول انفسخ لنكاحهن بالإسلام واستأنف عدد الفسخ وإن كان معسرًا لا يجد الطول كان له أن يختار منهن واحدة لا يزيد عليها لأن الحر لما لم يجز له أن ينكح أكثر من أمة واحدة لم يكن له أن يختار أكثر من أمة واحدة وانفسخ نكاح الثلاث الباقيات من وقت اختياره للواحدة لا من وقت إسلامه. فصل: وأما القسم الثاني: وهو أن يسلمن قبله ثم يسلم بعدهن في عددهن فيراعي حال وقت إسلامه لا وقت إسلامهن لأن الاعتبار باجتماع الإسلاميين وذلك إسلامه بعدهن فإن كان واجدًا للطول انفسخ نكاحهن بإسلامه واستأنفن عدد الفسخ وإن كان عادمًا للطول كان له أن يختار منهن واحدة وينفسخ نكاح الثلاث البواقي باختياره فيستأنفن عدد الفسخ. فصل: وأما القسم الثالث: وهو أن يسلمن بعده فهذا على ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكون الزوج عند إسلام جميعهن موسرًا واجدًا للطول. والثاني: أن يكون عند إسلام جميعهن معسرًا عادمًا للطول. والثالث: أن يكون عند إسلام بعضهن موسرًا وعند إسلام بعضهن معسرًا. فإن كان موسرًا عند إسلامك جميعهن بطل نكاحهن كلهن وانفسخ نكاح كل واحدة منهن من وقت إسلامها لأنه وقت اجتماع الإسلاميين. فتستأنف منه عدة الفسخ وإن كان معسرًا عند إسلام جميعهن فله أن يختار منهن واحدة سواء تقدم إسلامها عليهن أو تأخر إسلامها عنهن فإذا اختار منهن واحدة انفسخ نكاح الثلاث البواقي من وقت اختياره للواحدة فاستأنفن منه عدد الفسخ وإن كان عند إسلام بعضهن موسرًا وعند إسلام بعضهن معسرًا بكل نكاح التي أسلمت في يساره ولم يبطل نكاح التي أسلمت في إعساره لأن التي أسلمت في يساره لا يجوز أن يستأنف نكاحها فلم يكن له أن يختارها فبطل نكاحها بإسلامها والتي أسلمت في إعساره يجوز أن تستأنف نكاحها فجاز أن يختارها فعلى هذا لو أسلمت الأولى والثانية وهو موسر وأسلمت الثالثة والرابعة وهو معسر بطل نكاح الأولى والثانية ولم يبل نكاح الثالثة والرابعة وكان له أن يختار أحداهما فإذا اختارها بطل نكاح الأخرى باختياره ولو أسلمت الأولى والثانية وهو معسر وأسلمت الثالثة والرابعة وهو موسر بطل نكاح الثالثة والرابعة بإسلامها وكان نكاح الأولى والثانية موقوفًا على اختياره فإذا اختار أحداهما انفسخ حينئذٍ نكاح الأخرى فلو أسلمت الأولى وهو موسر ثم أسلمت الثانية وهو معسر ثم أسلمت الثالثة وهو موسر ثم أسلمت الرابعة وهو معسر بكل نكاح الأولى والثالثة بإسلامهما وكان نكاح الثانية والرابعة موقوفًا على أحداهما فإذا اختارها انفسخ نكاح الأخرى من وقته.

فصل: أما القسم الرابع: وهو أن يسلم بعضهن قبله وبعضهن بعده. مثاله: أن يسلم قبله اثنتان وبعده اثنتان فهذا على أربعة أقسام: أحدها: أن يكون موسرًا عند إسلام الأوائل والأواخر فنكاح الجميع باطل لكن ينفسخ نكاح الأوائل بإسلام الزوج لا بإسلامهن قبله وينفسخ نكاح الأواخر بإسلامهن لا بإسلام الزوج قبلهن لأن كل واحد من الناكحين ينفسخ باجتماع الإسلاميين واجتماعهما في الأوائل فيكون إسلام الزوج واجتماعهما في الأواخر يكون بإسلام الأواخر. والثاني: أن يكون معسرًا عند إسلام الأوائل والأواخر فله أن يختار نكاح واحدة إن شاء من الأوائل وإن شاء من الأواخر لأن كل واحدة من الفريقين يجوز عند اجتماع الإسلاميين أن يستأنف نكاحها فجاز أن يختارها فإذا اختار واحدة من أحد الفريقين انفسخ باختياره نكاح الباقيات واستأنفن عدد الفسخ. والثالث: أن يكون عند إسلام الأوائل معسرًا وعند إسلام الأواخر موسرًا فيبطل نكاح الأواخر بإسلامهن وله أن يختار من الأوائل واحدة وينفسخ باختياره نكاح الأخرى. والرابع: أن يكون موسرًا وعند إسلام الأواخر فنكاح الأوائل باطل بإسلام الزوج وله أن يختار من الأواخر واحدة فإن أسلمتا معًا اختار آيتهما شاء وانفسخ باختياره نكاح الأخرى. وإن أسلمت أحداهما شاء وانفسخ باختياره نكاح الأخرى. وإن أسلمت أحداهما بعد الأخرى فهو مخير بين تعجيل اختيار الأولى وبين تأخيره إلى إسلام الثانية فإذا كان كذلك فلها أربعة أحوال: أحدها: أن يمسك عن الاختيار إلى أن تسلم الثانية فله إذا أسلمت أن يختار أيتهما شاء فإذا اختار إحداهما ثبت نكاحها وانفسخ به نكاح الأخرى. والثاني: أن يعجل اختيار الأولى فإذا اختارها ثبت نكاحها باختيار تلك فإن كانت هذه قد أسلمت فأولى أن يبطل به نكاحها وإن لم تسلم فإذا أسلمت ثبت على ما مضى من عدتها من وقت الاختيار في الشرك. والثالثة: أن يطلق الأولى قبل إسلام الثانية فيقع الطلاق عليها ويكون ذلك اختيارًا لنكاحها لأن الطلاق لا يقع إلا على زوجة فيصير الطلاق موجبًا لاختيار موقعًا للفرقة يبطل نكاح المتأخرة لأنه قد صار مختارًا لغيرها. والرابعة: أن يفسخ نكاح الأولى قبل إسلام الثانية فلا تأثير لفسخه في الحال لأنه يفسخ نكاح من لا يجوز له إمساكها وقد يجوز أن لا تسلم الثانية فيلزمه إمساك الأولى فلذلك لم يؤثر فسخه في نكاحها فإن لم تسلم الثانية ثبت نكاح الأولى وبأن نفسخ نكاحها كان مردودًا وإن أسلمت الثانية فإن اختارها وفسخ نكاح الأولى جاز وثبت نكاح الثانية وانفسخ نكاح الأولى وإن اختار الأولى وفسخ نكاح الثانية ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأن فسخ نكاحها في الأول لمل لم يؤثر في الحال فبطل أن يقع حكمه.

والثاني: قد لزمه نسخها ولا يجوز له اختيارها لأنه لم يؤثر في الحال لعدم غيرها فلما وجد غيرها صار مؤثرًا, والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَلَوْ أَسلَمَ الإِمَاءُ مَعَهُ وِعُتِقْنَ وَتَخَلَّفَتْ حُرَّةٌ وَقَفَ نِكَاحُ الِإمَاءِ فَإِنْ أَسْلَمَتِ الحُرَّةُ انْفَسَخَ نِكَاحُ الِإمَاءِ وَلَوْ اخْتَارَ مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ وَلَمْ تُسْلِمُ الحُرَّةُ ثَبَتَتْ". قال في الحاوي: وصورتها في حر تزوج في الشرك أربع زوجات إماء وحرة وخامسة ثم أسلم وأسلم معه الإماء وحاله حال من ينكح الإماء ويقف نكاح الإماء على إسلام الحرة فإن عتق الإماء قبل إسلام الحرة فحكم نكاحهن نكاح الحرائر وإن اعتقن بعد اجتماع إسلامهن مع الزوج فإن حكمهن نكاح الإماء وإن صرن حرائر اعتبارًا بحالهن عند اجتماع الإسلاميين ولا اعتبار بما حدث بعدها ممن عتقهن كما يعتبر حال يساره وإعساره عند اجتماع الإسلاميين دون ما حدث بعدها وإذا كان كذلك قيل: ليس لك أن تختار من الإماء وإن عتقن أحدًا ما كانت الحرة باقية في عدتها فإن اختار منهن واحدة لم يصح اختيارها في الحال وروعي إسلام الحرة فإن أسلمت قبل مضي عدتها وملك نكاح الإماء المعتقات كلهن المختارة منهن وغرها وإن لم تسلم الحرة حتى انقضت عدتها انفسخ نكاحها بإسلام الزوج وكان له أن يختار واحدة من المعتقات ولا يزيد عليها وهل يثبت نكاح المختارة منهن باختيار الأول. قال الشافعي: "فإن اختار منهن واحدة ولم تسلم الحرة ثبت" فاختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: ثبت إن استأنف اختيارها فأما بالاختيار الأول فلا يثبت لأنه لمل لم يثبت الاختيار في الحال لم يصح أن يكون موقوفًا على ثاني حال فبطل فعلى هذا الوجه يكون مخيرًا بين اختيار تلك الأولى واختيار غيرها. والثاني: أنها تثبت بالاختيار الأول على الظاهر من قول الشافعي ويكون حكم الاختيار موقوفًا وإن لم يجز أن يكون أصله موقوفًا لأنه لما جاز أن يكون ملك الخيار موقوفًا على إسلام الحرة فإن أسلمت علم أنه لم يكن مالكًا له جاز أن يكون حكم الخيار موقوفًا على إسلام الحرة. فإن أسلمت علم أنه لم يثبت وإن لم تسلم على أنه يثبت فلو قال في الاختيار الأول إن تسلم الحرة فقد اخترتكن لم يصح هذا الاختيار وجهًا واحدًا لأن هذا خيار موقوف الأصل لا موقوف الأصل لا موقوف الأصل لا موقوف الحكم ونحن إنما نجوز في أحد الوجهين وقف حكمه لا وقف أصله فتصور فرق بينهما.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ عُتِقْنَ قَّبْلَ أَنْ يَسْلِمْنَ كُنَّ كَمَن ابْتُدِئَ نِكَاحُهُ وَهُنَّ حَرَائَرُ". قال في الحاوي: وصورتها أن يتزوج الحر في الشرك بأربع إماء وحرة خامسة ثم يسلم الزوج ويعتق الإماء في الشرك ثم يسلمن في عددهن فيكون نكاحهن نكاح حرائر وله أن يقيم على الأربع كلهن لأن الاعتبار بحالهن عند إسلامه وإسلامهن وما اجتمعا إلا وهي حرائر فلذلك صار نكاحهن نكاح الحرائر وإذا كان كذلك كان بالخيار عند إسلام المعتقات بين ثلاثة أمور: أحداهما: أن يختار الأربع فيصح اختيارهن وينفسخ به نكاح الحرة الخامسة إن أسلمت في العدة وإن لم تسلم انفسخ نكاحها بإسلام الزوج. والثاني: أن يوقف نكاح الأربع انتظارًا لإسلام الحرة الخامسة فإن أسلمت في العدة اختار من الخمس أربعًا وفسخ نكاح الخامسة من أيتهن شاء وإن شاء وإن لم تسلم الحرة ثبت نكاح الأربع المعتقات. والثالث: أن يختار من الأربع ثلاثًا ويوقف الرابعة على إسلام الحرة فإن لم تسلم ثبت نكاح الرابعة وإن أسلمت كان مخيرًا في اختيار آيتهما شاء وفارق الأخرى. فصل: وهكذا لو أسلم الإماء قبل الزوج وأعتقن ثم أسلم الزوج كان نكاحهن نكاح حرائر ولأنه لما جمع إسلامه وإسلامهن إلا وهن حرائر وإذا كان كذلك واقبله أمتان لحرة متأخرة فهو بالخيار بين ما ذكرنا من الأمور الثلاثة ولكن لو أسلم وأعتقنا ثم أسلم الزوج وأعتق الأمتين المشركتين في الشرك ثم أسلمتا فنكاح هاتين المعتقتين في الشرك على قياس قول أبي حامد الإسفرايني يحل لرقهما عند معتق المسلمين فبطل نكاحهما بالرق لعتق المسلمين فعلى هذا المذهب يكون نجاح المسلمين بائنًا فإن أسلمت الحرة بعدها في العدة ثبت نكاحها وحدت ثلاثًا وإن لم يسلم بطل نكاحها وثبت نكاح المعتقتين. فأما على الوجه الذي أراه صحيحًا فنكاح المعتقتين في الشرك لا يبطل بعتق المسلمتين من قبل فإذا أسلمت المشركتان بعد عتقهما في عدتهما صدق أربعًا وفي الشرك حرة وخامسة فيكون حينئذٍ مخيرًا بين الأمور الثلاثة. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ كَانَ عَبْدٌ عِنْدَهُ إِمَاءٌ وَحَرَائِرُ مُسْلِمَاتٌ أَوْ كِتَابِيَّاتٌ ولَمْ يَخْتَرْنَ فِرَاقَهُ أَمْسَكَ اثْنَتَيْنِ".

قال [في] الحاوي: وصورتها في عبد تزوج في الشرك ست زوجات منهن أمتان وثنيتان وبقى الكتابيتان على دينهما فله أن يختار من الست اثنتين لأن العبد لا يستبيح أكثر منهما وهو في الزيادة عليهما كالحر في الزيادة على الأربع, إلا أن الشافعي قال: لم يختزن فراقه أمسك اثنتين أما الأمتان فإن اعتقهما فلهما الخيار لأن الأمة إذا أعتقت تحت عبد فلها الخيار مسلمًا كان العبد أو كافرًا وأن يعتقا فلا خيار لهما لأنهما قد ساويا في نقصه بالرق. وأما الحرائر ففي ثبوت الخيار لهن بإسلامه وجهان: أحدهما: لأنه لا خيار لهن لعلمهن برقه ورضاهن مع كمالهن بنقصه فلم يحدث لهن بالإسلام خيار لأن الإسلام يؤكد النكاح ولا يضعفه وهذا اختيار أبي حامد المروزي. والثاني: لهن الخيار في فسخ نكاحه لأن الرق في الإسلام نقص وفي الكفر ليس بنقص لإطلاق تصرفه في الكفر وثبوت الحجر عليه في الإسلام ونقص أحكامه في طلاقه ونكاحه وحدوده وعدم ملكه وقهر السيد له على نفسه فيكون الرق في الإسلام نقصًا للحرائر من زوجاته الخيار في إسلامه وإن لم يثبت لهن في شركه وهذا اختيار أبي القاسم الداركي فعلى هذا إن قيل: لهن الخيار فاخترن المقام على نكاحه كان له أن يختار منهن هن الست, اثنين من أيهن شاء إما أن يختار الحرتين المسلمتين أو الحرتين الكتابيتين أو الأمتين المسلمتين أو واحدة من الأمتين وواحدة من الحرائر لأنه عبد يجوز أن يجمع بين أمتين وبين أمة وحرة. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ عُتِقْنَ قَبْلَ إِسْلَامِهِ فَاخْتَرْنَ فِرَاقَهُ كَانَ ذَلِكَ لَهُنَّ لأَنَّهُ لَهُنَّ بَعْدَ إِسْلامِهِ وَعِدَدُهُنَّ عَدَدُ الحَرَائِرِ فَيُحْصَيْنَ مِنْ حِينِ اخْتَرْنَ فِرَاقَهُ فَإنْ اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامَّهُنَّ فِي العِدَّةِ فَعِدَدُهُنَّ عِدَدُ حَرَائِرِ مِنْ يَوْمِ اخْتَرْنَ فِراقَهُ وإِلَّا فعددُهُنَّ عدَدُ حَرائِرِ من يَوْمِ أَسْلَمَ مُتَقَدِّمُ الإِسْلَامِ مِنْهُمَا لأَنَّ الفَسْخَ مِنْ يَوْمَئِذٍ وِإِنْ لَمْ يِخْتِرْنَ فِرِاقَهُ وَلَا المُقَامَ مَعَهُ خُيَّرْنَ إِذَا اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُهُنَّ مَعًا". قال في الحاوي: وصورتها في عبد تزوج في الشرك بأربع زوجات إماء ودخل بهن ثم أسلمن وعتقن قبل إسلامه فلهن أن يخترق فسخ نكاحه بالعتق وإن كن جاريات في الفسخ يتقدم الإسلام أمرين: أحدهما: أنهن جاريات في فسخ فلم يمتنع أن يستحق معه حدوث فسخ لأن الفسخ لا ينافي الفسخ لاجتماعهما وإنما ينافي في المقام لتعادهما. والثاني: أنهن يستفدن بتعجيل الفسخ قصور أحد العدتين لأنهن لو انتظرن إسلام

الزوج لاستأنف العدة بعد إسلامه وإذا قدمن الفسخ تقدمت العدة قبل إسلامه. فإن قيل: فهلا أعني جريانهن في الفسخ بتقدم الإسلام عن أن يحدثن فسخًا بحدوث العتق. قيل: لا يعني لأن الفسخ بالإسلام متردد بين إفضائه إلى الفرقة إن تأخر إسلام الزوج وبين إفضائه إلى ثبوت النكاح إن تعجل والفسخ بالعتق مفض إلى الفرقة في الحالتين فإذا تقرر هذا فلهن ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يخترن الفسخ فذلك معتبر بإسلام الزوج فإن لم يسلم حتى انقضت عددهن فقد وقعت الفرقة باختلاف الدين بأن أنهن غير زوجاته من يوم اسلمن فلم يقع فسخن بالعتق لأنهن قدمن قبله فأول عددهن من وقت إسلامهن وقد بدأت بالعدة هن إماء وأنهينها وهن حرائر فهل يعتددن عدد إماء أو عدد حرائر؟ على قولين: أحدهما: وهو قوله في القديم يعتددن عدد إماء اعتبار بالابتداء. والثاني: وهو قول في الجديد يعتددن عدد حرائر اعتبارًا بالانتهاء وإن أسلم الزوج في عددهن وبأن اختلاف الدين لم يؤثر في فسخ نكاحهن وإنهن اخترن الفسخ بالعتق وهن زوجات فينفسخ نكاحهن باختيار الفسخ ويعتددن من وقت الفسخ عدد حرائر قولًا واحدًا لأنه بدأن وهو حرائر. فصل: وأما الحالة الثانية: وهو أن يخترن المقام على نكاحه فهو معتبر أيضًا بإسلام الزوج فإن لم يسلم حتى انقضت عددهن وقعت الفرقة باختلاف الدين من وقت إسلامهن ولم يكن لاختيارهن المقام تأثير وفي عددهن قولان: أحدهما: عدد إماء اعتبارًا بالابتداء. والثاني: عدد حرائر اعتبارًا بالانتهاء. وإن أسلم الزوج في عددهن بأن أنهن زوجات وأن اختلاف الدين لم يؤثر في نكاحهن وقد اخترن المقام في وقت لم يؤثر فيه اختيار المقام فهل يؤثر حكمه بعد إسلام الزوج ويسقط به خيار الفسخ أم لا؟ فيه وجهان مبنيان على اختلاف الوجهين في الزوج إذا اختار واحدة من الإماء المسلمات معه وفي الشرك حرة منتظرة فلم تسلم حتى انقضت عدتها هل يثبت حكم اختياره أم لا؟ على ما ذكرنا من الوجهين كذلك هاهنا يثبت حكم اختيارهن المقام أم لا على وجهين: أحدهما: قد يثبت ويبطل به خيار الفسخ. والثاني: وهو الأصح أنه لا يثبت لعدم تأثيره في وقته فبطل ولهن خيار الفسخ بعد إسلام الزوج فإن اخترن الفسخ استأنف عدد حرائر من وقت الفسخ وإن لم يخترته من زوجات وهن أربع وليس للعبد إلا اثنتين فيصير له بالخيار في إمساك اثنتين وفسخ نكاح

اثنتين يستأنفان من وقت الفسخ عدد حرائر فصل: أما الحالة الثالثة: وهو أن يمسكه عن اختيار فسخ أو مقام فهن إذا أسلم الزوج على حقهن من خيار الفسخ لا يبطل بإمساكهن لأمرين: أحدهما: أنهن كن يتوقعن الفسخ بغير اختيار فلم يناف وقوع الفسخ باختيار. والثاني: أن خيارهن قبل إسلام الزوج مظنون وبعد إسلامه متحقق فجاز أن يؤخر به من وقت الظن إلى وقت اليقين وإذا كان كذلك وجب بغير إسلام الزوج فإن لم يسلم حتى انقضت عددهن بأن باختلاف الدين وبطل خيار الفسخ بالعتق وفي عددهن من وقت إسلامهن قولان: أحدهما: عدد إماء اعتبارًا بالابتداء. والثاني: عدد حرائر اعتبارًا بالانتهاء وإن أسلم الزوج في عددهن منهن زوجات ولا تأثير لاختلاف الدين في نكاحهن ولسن بالخيار في فسخ النكاح بالعتق فإن اخترن الفسخ استأنفن في وقت الفسخ عدد حرائر وإن اخترن المقام كان للزوج أن يختار منهن اثنتين ويفسخ نكاح اثنتين يستأنفان من وقت الفسخ عدد حرائر. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمَ إِسْلامَهُنَّ قَبْلَ إِسْلَامِهِ فَاخْتَرْنَ فِرَاقَهُ أَوْ المُقَامَ مَعَهُ ثُمَّ أَسْلَمْنَ خُيِّرْنَ حِينَ يُسْلِمْنَ لأَنَّهُنَّ اخْتَرْنَ وَلَا خَيَارَ لَهُنَّ". قال الحاوي: وصورتها في عبد تزوج في الشرك بأربع زوجات إماء ودخل بهن ثم أسلم قبلهن وأعتقن في شركهن فهذا على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يخترن فسخ النكاح. والثاني: أن يخترن المقام على النكاح. والثالث: أن يمسكن فلا يخترن فسخًا ولا مقامًا. فأما الأول: وهو أن يجعلن في الشرك فسخ النكاح فقد نقل المزني عن الشافعي أنه قال: "فاخترن فراقه أو المقام معه ثم أسلمن خيرن حين يسلمن" فجمع بين اختيار الفرقة واختيار المقام في إبطال حكمهما قبل الإسلام فدل الظاهر على أن ليس لهن أن يخترن فسخ النكاح قبل إسلامهن فاختلف أصحابنا فيه على وجهين وهو قول أبي الطيب بن سلمة: أن الجواب على ظاهره وأنهن إذا أعتقن في الشرك لم يكن لهن اختيار الفسخ قبل أن يجتمع إسلامهن مع إسلام الزوج وفرق بينهما بأنه إذا تقدم إسلامهن لم

(يقدرن) على تعجيل اجتماع الإسلاميين فكان لهن تعجيل الفسخ ليستفدن قصور إحدى العدتين وإذا تقدم إسلام الزوج قدرن بتعجيل إسلامهن على اجتماع الإسلاميين فلم يستفدن بتعجيل الفسخ قبل الإسلام ما لم يقدرن عليه بعد الإسلام فعلى هذا يكون اختيارهن الفسخ قبل إسلامهن بإطلاه ولهن إذا أسلمن في عددهن يخترن الفسخ أو المقام. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي وجمهور أصحابنا أنهن يملكن في الشرك اختيار الفسخ كما ملكته في الإسلام لأنهن قد ملكن بالعتق اختيار الفسخ فكان تقديمه وهن جاريات في الفسخ أولى وتأخيره إلى خروجهن من الفسخ لأن الفسخ لا ينافي الفسخ ولمن قال بهذا الوجه فيما نقله المزني تأويلان: أحدهما: أنه غلط من المزني في روايته أو الكاتب في نقله لأن الشافعي قد ذكر هذه المسألة فيما نقله الربيع في كتاب "الأم" فقال: ولو أعتقن قبل إسلامهن فاخترن المقام معه ثم أسلمن خيرن حين يسلمن ولم يذكر إذا اخترن فراقه فيها وإنما غلط المزني أو الكاتب في النقل فقال: فاخترن فراقه أو المقام معه وهذا تأويل أبي إسحاق المروزي. والثاني: أن النقل الصحيح وأن الشافعي ذكر اختيار الفرقة واختيار المقام ثم عطف بالجواب على اختيار المقام دون الفرقة لأنه قد قدم حكم اختيارهن للفرقة وأفرد هاهنا حكم اختيارهن للمقام ومن عدة الشافعي أن يجمع بين مسألتين ويعطف بالجواب المرسل على أحدهما ويجعل جواب الأخرى محمولًا على ما عرف من مذهبه أو تقدم من جوابه وهذا تأويل أشار إليه أبو علي الطبري في كتاب "الإيضاح" فعلى هذا الوجه يكون اختيارهن الفسخ معتبرًا بإسلامهن فإن أسلمن في عددهن وقعت الفرقة بفسخهن ويستأنفن عدد حرائر من وقت فسخهن وإن لم يسلمن حتى انقضت عددهن وقعت الفرقة باختلاف الدين وبطل حكم الفسخ بالعتق لوقوع الفرقة قبله وفي عددهن قولان: أحدهما: عدد إماء اعتبارًا بالابتداء. الثاني: عدد حرائر اعتبارًا بالانتهاء. فصل: وأما القسم الثاني: وهو أن يخترن المقام معه قبل إسلامهن ففي هذا الاختيار وجهان ذكرناهما: أحدهما: أنه لغو لا حكم له لأنهن جاريات في فسخ ينافي اختيار المقام فبطل حكمه تغليبًا لحكم الفسخ وهذا هو المنصوص عليه هاهنا فعلى هذا إن أسلمن بعد عددهن وقعت الفرقة باختلاف الدين وإن أسلمن في عددهن كان لهن الخيار في المقام أو الفسخ. والوجه الثاني: أن اختيار المقام قد أبطل حقهن في الفسخ بعد الإسلام ويكون موقوف الحكم على إمضائه زمانه فعلى هذا إن لم يسلمن حتى انقضت عددهن (بان)

باختلاف الدين وإن أسلمن في عددهن سقط حقهن في اختيار الفسخ لما تقدم من اختيار المقام. فصل: وأما القسم الثالث: وهو أن يمسكن في الشرك فلا يخترن بعد العتق مقامًا ولا فسخًا فمذهب الشافعي أن لهن إذا أسلمن أن يخترن الفسخ ولا يكون إمساكهن عنه إسقاطًا لحقهن منه لأن اختيارهن قبل الإسلام موقوف وبعد الإسلام نافذ فجاز تأخير منه قال لأن ما تقدم من الشرك هدر والإسلام يجبّ ما قبله وهذا خطأ لأنه لو أوجب أن يكون الخيار هدر لأوجب أن يكون النكاح والطلاق هدر ولما لزم في الإسلام حكم عقد تقدم في الشرك وفي فساد هذا دليل على فساد ما أفضى إليه وإذا ثبت أن لهن الخيار بعد الإسلام فالجواب فيه إن اختزن الفسخ أو المقام على ما مضى. مسألة؛ قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ اجْتَمَعَ إِسْلامُهُنَّ وَإِسْلَامُهُ وَهُنَّ إِمَاءٌ ثُمَّ أُعْتِقْنَ مِنْ سَاعَتِهِنَّ ثُمَّ اخْتَرْنَ فِرَاقَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَهُنَّ إِذَا أَتَى عَلَيْهُنَّ أَقَلَ أَوْقَاتَ الدُّنْيَا وَإِسْلَامُهُنَّ وَإِسْلَامُهُ مُجْتَمِعٌ". قال في الحاوي: وصورتها في عبد تزوج في الشرك بأربع زوجات إماء وأسلم وأسلمن معه ثم أعتق الإماء فلهن الخيار بالعتق وبين المقام أو الفسخ وفي مدة خيارهن ثلاثة أقاويل: أحدها: وهو أصح أنه على الفور معتبر بالإمكان فمتى أمكنهن تعجيل الفسخ فأخرنه بعد المكنة زمانًا وإن قل بطل خيارهن لأنه خيار استحقته لنقص الزوج بالرق عما حدث من كمالهن بالحرية فجرى خيار الرد بالعيوب واستحقاقه على الفور. والثاني: أنه ممتد الزمان إلى ثلاثة أيام كالخيار في المصراة. والثالث: أنه باق لهن وإن تطاول بهن الزمان ما لم تمكن من أنفسهن أو يصرحن بالرضي اعتبارًا بأن ما لا يخالف حالهن في الفسخ فهن باقيات على حكمه. فأما المزني فإنه اعترض على الشافعي فيما ذكره من استحقاق الخيار على الفور بثلاثة فصول: أحدها: أن حكي عنه بخلاف فقال: قطع في كتابين بأن لها الخيار وهذا الاعتراض ليس بشيء لأن قول الشافعي في مدة الخيار مختلف وإنما ذكر في هذا الموضع أصح أقاويله عنده. والثاني: احتج فيه على أن الخيار على التراخي دون الفور بأن الشافعي قال: وإن أصابها فادعت أنها كانت على حقها وهذا على ضربين:

أحدهما: أن يدعي الجهالة بالعتق. والثاني: أن يدعي الجهالة بالحكم. فأما إذا ادعت الجهالة بالعتق أو قالت مكنته من نفسي ولم أعلم بعتقي فإن علم صدقها قبل قولها وإن علم كذبها رد قولها. وإن جوز الأمران فالقول قولها من يمينها إن كذبت وهي على حقها من الخيار وأما إذا ادعت الجهالة بالحكم بأن قالت: مكنته من نفسي مع العلم بعتقي ولكن لم أعلم أن لي الخيار إذا أعتقت وأمكن ما قالت ففيه قولان: أحدهما: أنه لا خيار لها وأن لم تعلم لأنه قد كان يمكنها أن تتعلم كما لا خيار في رد العيب إذا أمسكت عنه جهلًا باستحقاق ردة. والثاني: لها الخيار ولأنه قد يخفي إلا عن خواص الناس وليس كالرد بالعيب الذي يعرفه الخاصة والعامة وفي هذا التفصيل جواب على احتجاج المزني به. والثالث: إن عارض الشافعي في عبارته وهي قوله: «لم يكن لها الخيار إذا أثنى عليهن أقل أوقات الدنيا» فأفسد هذه العبارة وأحالها من وجهين: أحدهما: قوله إن على السلطان أن لا يؤجلها أكثر من مقامها. فكم يمر بها من أوقات الدنيا من حين أعتقت إلى أن جاءت إلى السلطان وقد يبعد ذلك ويقرب. والثاني: أنها لا تقدر على اختيار الفسخ إلا بكلام يجمع حروفًا كل حرف منها في وقت الآخر وفي هذا إبطال الخيار وهذا اعتراض من الوجهين فاسد من وجهين: أحدهما: أن للكلام عرفًا وإذا تقدر استعمال حقيقته كان محمولًا عليه وصار مخرجه مخرج المبالغة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في أبي جهم: «لا يضع عصاه عن عاتقه» ومعلوم أنه ما أحد يمكنه إلا أن يضع عصاه عن عاتقه في أوقات نومه واستراحته لكنه قال ذلك على طريقة المبالغة لأنه الأغلب من أحواله. والثاني: أنه أراد أوقات الدنيا بقدر زمان المكنة وشروط الطلب ويكون مراده بأقلها بعد الوقت الذي يمكنها فيه الاختيار فيمسك فيه عن الاختيار. فأما مراد المزني بكلامه هذا فقد اختلف أصحابنا على وجهين: أحدهما: أنه أراد به إثبات الخيار على التراخي فعلى هذا يكون منه اختيار الآخر من قول الشافعي. والثاني: أنه أراد به أن اختيار الفسخ لا يكون إلا على حكم فعلى يكون ذلك منه مذهبًا اختياره لنفسه وليس بمذهب الشافعي وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن الموقوف على حكم الحاكم يكون فيما ثبت باجتهاد وهذا ثابت النص. والثاني: أنه خيار نقص فجرى خيار الرد بالعيب.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَكَذَلِكَ لَوْ كَانَ عِتْقُهُ وَهُنَّ مَعًا. قَالَ المُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لَيْسَ هَذَا عِنْدِي بِشَيءٍ قَدْ قَطَعَ فِي كِتَابَيْن بَأَنَّ لَهَا الخِيَارَ لَوْ أَصَابَهَا فَادَّعَتِ الجَهَالَةَ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: إِنَّ عَلَى السُّلْطَانِ أَنْ يُؤَجِّلَهَا أَكْثَرَ مَقَامِهَا فَكَمْ يَمُرُّ بِهَا مِنْ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا مِنْ حِينَ أُعْتِقَتْ إِلَى أَنْ جَاءَتْ إِلَى السُّلْطَانِ وَقَدْ يَبْعُدُ ذَلِكَ وَيَقْرُبُ إِلَى أَنْ يُفْهَمَ عَنْهَا مَا تَقُولُ ثُمَّ إِلَى انْقِضَاءِ أَجَلِ مُقَامِهَا ذَلِكَ عَلَى قَدْرِ مَا يَرَى فَكَيْفَ يَبْطُلُ خِيَارُ إِمَاءٍ يُعْتَقْنَ إِذَا أَتَى عَلَيْهُنَّ أَقَلَّ أَوْقَاتِ الدُّنْيَا وَإِسْلَامُهُنَّ وَإِسْلَامُ الزَّوْجِ مُجْتَمِعٌ. وَقَالَ المُزَنِيُّ: وَلَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا قَدَرْنَ إِذَا أُعْتِقْنَ تَحْتَ عَبْدٍ أَنْ يَخْتَرْنَ بِحَالٍ لأَنَّهُنَّ لَا يَقْدِرْنَ يَخْتَرْنَ إِلَّا بِحُرُفٍ وَكُلُّ حَرْفٍ مِنْهَا فِي وَقْتٍ غَيْرِ وَقْتِ الآخَر وَفِي ذَلِكَ إِبْطَالُ الخِيَار". قال في الحاوي: وصورتها في عبد تزوج في الشرك بأربع زوجات إماء وأسلم وأسلمن معه ثم أعتقن والزوج معًا في وقت واحد وذلك قد يكون من أحد ثلاثة أوجه: إما أن يكون الجميع لسيد واحد فيعتقهم جميعًا بلفظة واحدة وإما أن يكونوا لجماعة فيوكلوا جميعًا واحد فيعتقهم الوكيل بلفظة واحدة وإما أن يعلق كل واحد من ساداتهم عتق من يملكه بصفة واحدة كأن كل واحد منهم قال: إذا أهل المحرمات فأنت حر فيكون إهلال المحرم موجبًا لعتق جميعهم في حالة واحدة وإذا كان كذا وأعتق الزوج وهن معًا فلا خيار لهن لاستوائهن مع الزوج في حال الرق بالنقص وفي حال الكمال بالعتق فلم يفضلن عليه في حال يثبت لهن فيها خيار وقول الشافعي: «وكذلك لو كان عتق وهن معًا» يعني في سقوط الخيار على ما علمك في المسألة الأولى فيمن أمسكت عن الخيار حتى مضى أقل أوقات الدنيا إلا أن في ذلك سقط بعد أن وجب وفي هذا لم يجب. فصل: فأما إذا أعتق الإماء قبل الزوج ولم يخترن الفسخ حتى أعتق الزواج إما لأنهن لم يعلمن بعتقهن حتى أعتق الزوج ثم علمن وإما لأنهن علمن. وقيل: إن خيارهن على التراخي دون الفور فلم يعجبه الخيار حتى أعتق الزوج وفي خيارهن قولان: أحدهما: قد سقط السقوط موجبه من النقص وحصول التكافؤ بالعتق. والثاني: أنه باق بحاله ولهن الخيار بعد عتقه لأن ما استقر وجوبه استحق استيفاؤه. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُ وَإِسْلَامُ حُرَّتَيْنِ فِي الْعِدَّةِ ثُمَّ عَتَقَ ثنَّ أَسْلَمَتِ

اثْنَتَانِ فِي العِدَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُمْسِكَ إِلَّا اثْنَتَيْنِ مِنْ أَيِّ الأَرْبَعِ شَاءَ لَا يَثْبُتُ لَهُ بِعَقْدِ العُبُودِيَّةِ إِلَّا اثْنَتَانِ وَيَنْكِحُ تَمَامُ أَرْبَعٍ إِنْ شَاءَ". قال في الحاوي: وصورتها في عبد تزوج في الشرك بأربع زوجات حرائر ثم أسلم وأعتقن فلهن إذا أسلمن بعده في عددهن ثلاثة أحوال: إحداهما: أن يسلمن قبل عتقه. والثاني: أن يسلمن بعد عتقه. والثالث: أن يسلم بعضهن قبل عتقه وبعضهن بعد عتقه. فإن أسلمن قبل عتقه وهو عبد ثم أعتق له أن يمسك منهن إلا اثنتين لأنهن أسلمن وهو عبد لا يستبيح منهن إلا اثنتين فاستقر الحكم باجتماع الإسلاميين فلم يغيره ما حدث بعده كمن اجتمع إسلامه وإسلامه أمة وهو موسر ثم أعسر أو كان معسر ثم أيسر فإن حكمه معتبرًا باجتماع الإسلاميين في يساره وإعساره ولا تغيره ما حدث بعده من يسار بعد إعسار أو إعسار بعد يسار كذلك هذا وإن أعتق الزوج ثم أسلمن بعد عتقه فله إمساك الأربع كلهن لأنه عند اجتماع الإسلاميين حر تحل له أربع فجاز له إمساك الأربع وإن أسلم بعضهن قبل عتقه وأسلم بعضهن بعد عتقه فهذا على ضربين: أحدهما: أن لا يستكمل إسلام من يحل له في الرق. والثاني: أن لا يستكمل فإن استكمل وذلك بأن يسلم قبل عتقه اثنتان وبعد عتقه اثنتان فليس له أن يمسك منهن إلا اثنتين كما لو أسلم جميعهن قبل عتقه لأنه لما اجتمع إسلامه وإسلام اثنتين في العبودية فقد استوفي حقه من عدد المنكوحات في العبودية صار حرًا من الزيادة ممنوعًا فاستقر حكم المنع وإن لم يستكمل العدد قبل عتقه بل أسلمت واحدة قبل العتق وثلاث بعده فالذي يقتضيه حكم التعليل أن يجوز له إمساك الأربع لأنه لم يستوف حقه في العبودية حتى بحدوث الحرية فصار كما لو أسلمن بعدها وإن كان فيه احتمال ضعيف أنه قد وصل منهن إلى بعض حقه فلم يكن له منهن إلا باقية وهو واحدة فلا يمسك منهن إلا اثنتين ثم هكذا لو تقدم إسلامهن عليه ثم أعتق اعتبر حال عتقه فإن أعتق قبل إسلامه أمسك الأربع وإن أعتق بعد إسلامه أمسك اثنتين. فصل: فإذا تقرر ما ذكرنا فإن جوزنا له إمساك الأربع فلا خيار له كما لا خيار للحر إذا أسلم مع أربع وإن معناه إلا من اثنتين كان له أن يختارهما من الأربع وسواء اختار من أسلم قبل عتقه أو بعده وينفسخ باختيارهما نكاح الباقين وهكذا لو فسخ نكاح اثنتين ثبت نكاحهما اختيار الباقين فإذا اختار اثنتين وفسخ نكاح اثنتين فله أن يستأنف العقد عليهما لأنه حر يستبيح أربع أو يجوز له أن يعقد عليهما في العدة لأنهما منه.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: «وَلَوْ أَسْلَمَ وَأَسْلَمَ مَعَهُ أَرْبَع فَقَال قَدْ فَسَخْتُ نِكَاحَهُنَّ سُئِلَ فَإِنْ أَرَادَ طَلَاقًا فَهُوَ مَا أَرَادَ وَإِنْ أَرَادَ حِلَّهُ بِلَا طَلَاقٍ لَمْ يَكُنْ طَلَاقًا وَأُحْلِفَ». قال في الحاوي: وهذا كما قال لأربع زوجات أسلمن معه قد فسخت نكاحهن سئل: فإن أراد بالفسخ لا حسمًا له فإن قال: أردت به الطلاق قبل منه لأنه الفسخ كتابه فيه وهن زوجات يقع عليهن الطلاق ويكون إيقاعه للطلاق عليهن تحقيقًا لثبوت نكاحهن فإن أكذبنه في إرادة الطلاق فلا يمين عليه لأنه لو رجع عنه لم يقبل منه وإن قال: أردت بالفسخ حل النكاح ورفع العقد بغير طلاق كما يفسخ نكاح من زاد على الأربع لم يكن له ذلك وهو على الزوجية لأن الفسخ يقع على من لا يجوز له إمساكها ويجوز له إمساك الأربع فلم يجز أن يفسخ نكاحهن فإن أكذبنه وقلن: أراد بالفسخ الطلاق أحلف بالله تعالى ما أراد به الطلاق فإن نكل حلفن وطلقن وإن قال: أردت بالفسخ طلاق اثنتين وحل نكاح اثنتين وقع الطلاق على من أرادهما بالفسخ ولهما إطلاقه ولا يمتنع أن يكون اللفظ واحدًا ويختلف حكمه فيهن باختلاف النية، والله أعلم بالصواب. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: «وَلَوْ كُنَّ خَمْسًا فَأَسْلَمَتْ وَاحِدَةً فِي العِدَّةِ فَقَالَ: قَدْ اخْتَرْتُ حَبْسَهَا حَتَّى قَالَ ذَلِكَ لأَرْبَعِ ثَبَتَ نِكَاحُهُنَّ بِاخْتِيَارِهِ وَانَفَسَخَ نِكَاحُ البَوَاقِي». قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا تزوج المشترك بأكثر من أربع كأنه تزوج ثماني زوجات ثم أسلم وأسلم معه منهن أربع فهو بالخيار بين ثلاثة أمور ذكرناها: أحدها: أن الخيار للأربع المسلمات فينفسخ باختياره لهن نكاح الأربع المشركات سواء أسلمن في عددهن أم لا؟ وهذا لو فسخ نكاح الأربع المتأخرات كان اختيار النكاح الأربع المسلمات لأن الاختيار والفسخ يتقابلا فكان في كل واحد منهما دليل على الآخر. والثاني: أن يمسك عن اختيار الأربع المسلمات انتظار الأربع المشركات فيكون له ذلك فإن لم يسلمن حتى مضت عددهن ثبت نكاح الأربع المتقدمات وإن أسلمن في عددهن كان له أن يقيم على أربع من أيتهن شاء. إما الأربع المتقدمات. وإما الأربع المتأخرات وإما على بعض المتقدمات ويستكمل أربعًا من المتأخرات فلو مات الأربع المتقدمات. ثم أسلم الأربع المتأخرات كان خياره باق في الموتى كبقائه في الأحياء؛ لأن اختياره لهن إبانة على تقدم نكاحهن فإن اختار الأربع الموتى انفسخ نكاح الأحياء وكان له الميراث في الموتى ومن في زوجتيه وإن اختار الأربع الأحياء وبعض الموتى

وإنهن متن أجنبيات فله يرثهن وإن اختار بعض الأحياء وبعض الموتى فعلى ما مضى. والثالث: أن يختار الزوج عند إسلام الأربع معه بعضهن وانتظر إسلام الباقيات كأنه اختار من الأربع اثنتين وتوقف عن الاثنتين انتظارًا لإسلام الأربع المتأخرات فثبت نكاح الاثنتين المختارتين فإذا أسلم الأربع المتأخرات كان له يختار الجميع وهن ست اثنتين تمام أربع من أيتهن شاء وينفسخ نكاح الأربع الباقيات. فإذا تقررت هذه الجملة فمسألة الكتاب أن يقول وقد أسلم معه من الثماني واحدة قد اخترتها ثم تسلم ثانية فيقول: قد اخترتها ثم تسلم ثالثة فيختارها ثم تسلم رابعة فيختارها فقد ثبت نكاح الأربع المسلمات لاختيار كل واحدة بعد إسلامها وانفسخ به نكاح الأربع المتأخرات ثم تراعى أحوالهن وإن يسلمن حتى انقضت عددهن وقعت الفرقة باختلاف الدينين من وقت إسلام الزوج وإن أسلمن في عددهن وقعت الفرقى بالاختيار واستأنفن العدة من اختياره الرابعة لأن باختيارها ممن سواها فلا يكون الفسخ طلاقًا سواء وقع باختلاف الدينين أو بالاختيار. وقال أبو حنيفة: إن وقع الفسخ بإسلام الزوجة وتأخر الزوج كان طلاقًا وإن وقع الفسخ بإسلام الزوجة لم يكن طلاقًا وكلا المذهبين خطأ لأن ما وقعت الفرقة فيه بغير طلاق لم يكن طلاقًا كسائر الفسوخ والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: «وَلَوْ قَالَ كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ فَقَدِ اخْتَرْتُ فَسْخَ نِكَاحِهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ طَلَاقًا فَإِنْ اخْتَارَ إِمْسَاكَ أَرْبَع فَقَدْ انْفَسَخَ نِكَاحُ مَنْ زَادَ عَلَيْهِنَّ. قَالَ المُزَنِيُّ القِيَاسُ عِنْدِي عَلَى قَوْلِهِ أَنَّهُ إِذَا أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ وَأَسْلَمْنَ مَعَهُ فَقَذَفَ وَاحِدَةً مِنْهُنَّ أَوْ ظَاهَرَ أَوْ آلَى كَانَ ذَلِكَ مَوْقُوفًا فَإِنْ اخْتَارَهَا كَانَ عَلَيْهِ فِيهَا مَا عَلَيْهِ فِي الزَّوْجَاتِ وَإِنْ فَسَخَ نِكَاحَهَا سَقَطَ عَنْهُ الظِّهارُ وَالإِيلَاءُ وَجُلِدَ بِقَذْفِهَا». قال في الحاوي: وصورتها في مشرك تزوج بثماني زوجات ثم أسلم قبلهن فيتعلق بها ثلاثة فصول: أحدها: أن يقول لنسائه كلما أسلمت منكن فقد اخترت إمساكها فهذا لا يصح لمعنيين: أحدهما: أنه اختيار معلق بصفة والاختيار للنكاح لا يجوز أن يعلق بصفة. والثاني: أنه اختيار لمبهمة غير معينة والاختيار لا يصح إلا لمعينة كالنكاح. والفصل الثاني: أن يقول لهن: كلما أسلمت واحدة فقد فسخت نكاحها فهذا لا يصح لمعنيين:

أحدهما: أنه فسخ معلق بصفة لا يجوز تعلق الفسخ بالصفات. والثاني: أنه فسخ قبل وقت الفسخ لأنه يستحق فسخ من زاد على الأربع وقد يجوز أن لا يسلم أكثر من أربع فلا يستحق فيه فسخ نكاحهن. والفصل الثالث: أن يقول لهن: كلما أسلمت واحدة فقد طلقتها ففيه وجهان: أحدهما: أنه يصح لأنه الطلاق يجوز تعليقه بصفة فإذا أسلم منهن أربع طلقهن وكان ذلك اختيارًا لهن لأن الطلاق لا يقع على زوجة وينفسخ الأربع الباقيات لأن الطلاق في المتقدمات قد يتضمن اختيارهن فصار فسخًا لنكاح من سواهن وهذا هو الظاهر من كلام الشافعي؛ لأنه قال: «وَلَوْ قَالَ كُلَّمَا أَسْلَمَتْ وَاحِدَةٌ مِنْكُنَّ فَقَدِ اخْتَرْتُ فَسْخَ نِكَاحِهَا لَمْ يَكُنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا أَنْ يُرِيدَ طَلَاقًا» فدل على أنه لو قال: كلما أسلمت واحدة فقد طلقتها صح طلاقها. والفرق بين الفسخ في أن لا يجوز تعليق بصفة وبين الطلاق في أن جواز تعليق بالصفة أن الفسخ موضوع لتمييز الزوجة عن الزوجة فلم يجز تعليقه لعدم التمييز المقصود فيه والطلاق حل لنكاح الزوجة فجاز تعلقه بالصفة لوجود حل النكاح به. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة وطائفة معه: أن قوله للمثاني المشركات كلما أسلمت واحدة فهي طالق لا يصح لأن الطلاق وإن جاز تعلقه بالصفة فهذا الطلاق هاهنا لا يجوز تعليقه بالصفة لأنه يتضمن اختيارًا أو فراقًا ولا يجوز تعليق الاختيار بالصفة كذلك لا يجوز تعليق الطلاق الذي قد تضمنه اختيار الصفة ويتأول قائل هذا الوجه كلام الشافعي هاهنا بتأويلين: أحدهما: أن قول الشافعي: «كلما أسلمت واحدة فقد اخترت فسخ نكاحها لم يكن هذا شيئًا إلا أن يريد طلاقها» فيصح ويقع الطلاق إذا كان زوجاته في الشرك أربعًا لا يزدن عليها فيقع طلاق كل واحدة منهن إذا أسلمت لأنه طلاق محض لا يتضمن اختيار فجاز تعليق بالصفة. والثاني: أن كلام الشافعي حكاية عن حال الزواج وليس من لفظ الزوج ويكون معنى قوله: «كلما أسلمت واحدة» أن الزوج قال عند إسلام كل واحدة قد فسخت نكاحها يريد الطلاق طلقت لأنه لو اختارها في هذه الحال صح فصح أن يطلقها فعلى هذا لو أسلم معه الثماني كلهن فقال لهن: أيتكن دخلت الدار فقد فسخت نكاحها لأنه فسخ بصفة ولو قال: أيتكن دخلت الدار فهي طالق كان على ما ذكرنا من الوجهين: أحدهما: لا يصح لأنه يتضمن اختيارًا بصفة. والثاني: يصح تغليبًا لحكم الطلاق فإذا دخلها أربع طلقن وانفسخ نكاح الباقيات فيصير الطلاق معلقًا به ثلاثة أحكام: أحدها: اختيار المطلقات. والثاني: فراقهن.

والثالث: نسخ نكاح من عداهن فعلى هذا لو دخل الثماني الدار كلهن في حالة واحدة لم يتقدم بعضهن بعضًا ووقع الطلاق على الزوجات الأربع منهن وجهًا واحدًا لأنه طلاق لا يتضمن الاختيار. وقيل له: اختر أربعًا منهن فإذا اختارهن تعين وقوع الطلاق فيهن وانفسخ نكاح الباقيات بغير طلاق والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ «وَلَوْ أَسْلَمْنَ مَعَهُ فَقَلَ لَا أَخْتَارُ حُبِسَ حَتَّى يَخْتَارَ وَأَنْفَقَ علَيهنَّ مِنْ مَالِهِ لَأَنَّهُ مَانِعٌ لَهُنَّ بِعَقْدٍ مُتَقَدِّمٍ ولَا يُطَلِّقُ عَلَيْهِ السُّلْطَانُ كَمَا يطَلِّقُ عَلَى المَوْلَى فَإِنْ امْتَنَعَ مَعَ الحَبْس عُزِّرَ وَحُبِسَ حتَّى يَخْتَارَ وَإِنْ مَاتَ أَمَرْنَاهُنَّ أَنْ يَعْتَدِدْنَ الآخَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرِ وَعَشَرٍ أَوْ ثَلَاثِ حَيْضةٍ وَيُوقَفُ لَهُنَّ المِيراثُ حَتَّى يَصْطَلِحْنَ فِيهِ». قال في الحاوي: وصورتها في مشرك أسلم وأسلم معه ثماني زوجات فعليه أن يختار منهن أربعًا لئلا يصير جامعًا بين ثمان فإن توقف عن الاختيار سأله الحاكم عن توقفه وأمره بتعجيل اختياره لأن لا يستديم ما حظره الشرع في الجمع فإن سأل إنظاره ليفكر في اختياره ويرتئي في أحظهن له أنظره ما قل من الزمان الذي يصح فيه فكره وهل يجوز أن يبلغ بأنظاره ثلاثة أيام أم لا؟ على قولين كالإنظار للمولى والمرتد فإذا اختار بعد الأنظار فهو مخير بين أن يختار أربعًا فيكون اختياره لهن فسخًا لمن عداهن وبين أن يفسخ نكاح أربع فيكون فسخه اختيارًا لنكاح من عداهن إلا أن يكون الباقيات بعد فسخ نكاح الأربع أكثر من أربع كأنهن عشر فيحتاج بعد فسخ الأربع أن يختار من الست أربعًا أو يفسخ منهن نكاح اثنتين فيثبت نكاح الأربع واختياره وفسخه بالقول فاختياره قولًا أن يقول: قد اخترت نكاحها أو قد اخترت إمساكها أو قد اخترت جنسها فإن قال: قد أخرتها صح فكذلك لو قال: قد أمسكتها لأن الله تعالى يقول: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البَقَرَة: 229] وقال النبي صلى الله عليه وسلم لغيلان: «أمسك أربعًا» وإن قال: قد حبستها لم يصح اختياره لاحتماله ولأن الشرع لم يأت به وإن قال: قد ردتها لم يصح اختيارها لاحتمال أن يكون ردها إلى أهلها أو ردها إلى نفسه فلو أراد به الاختيار لم يصح الاختيار يجري مجرى عقد النكاح الذي لا يصح إلا بالتصريح دون الكناية. وفسخه قولان: أن يقول قد فسخت نكاحها أو قد رفعت نكاحها أو قد أنزلت نكاحها فكل ذلك فسخ صريح لأنها ألفاظ مشتركة المعاني. ولو قال: قد صرفتها أو أبعدتها كان كناية يرجع إلى إرادته فيه فإن أراد به الفسخ صح لأن الفسخ يجري مجرى الطلاق الذي صح بالتصريح وبالكناية فلو قال قد حرمتها كان كناية يحتمل الفسخ ويحتمل الطلاق فإن أراد به الطلاق كان اختيارًا وإن أراد به الفسخ كان فسخًا وإن لم يكن له إرادة

لم يكن طلاقًا وهل يكون فسخًا أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يكون فسخًا لأن المفسوخ نكاحها محرمة. والثاني: لا يكون فسخًا لأمرين: أحدهما: أن الكناية إذا تجردت عن نية لم يتعلق بها حكم. والثاني: أنه حكم ثبت بعد الفسخ فاقتضى أن يتقدمه ما يقع به الفسخ فلو قال: قد فارقتها كان فسخًا ولو قال: قد طلقتها كان اختيارًا. والفرق بينهما وإن كانا صريحين في طلاق الزوجات أن الطلاق لا يقع إلا على زوجة فلذلك جعلنه اختيارًا والفراق قد يقع على زوجته فيكون طلاقًا وعلى غير زوجته: فيكون إبعادًا فلذلك جعل فسخًا فلو قال: أردت بالفراق الطلاق قبل منه وصار اختيارًا وطلاقًا ولو قال: أردت بالطلاق الفسخ لم يقبل منه لأنه الطلاق لا يصح إلا على زوجته والفسخ لا يكون هاهنا إلا بغير زوجته فأما إذا قال: قد سرحتها كان كالفراق فسخًا لأنه أشبه بمعناه فإن أراد به الطلاق صار اختيار كالفراق فأما إذا ظاهر منها أو آلى لم تكن اختيارًا ولا فسخًا لأن الظهار والإيلاء قد تخاطب به الزوجة وغير الزوجة وإن لم يستقر حكمها إلا في زوجته وإذا لم يكن الظهار في الحال اختيارًا ولا فسخًا نظر في التي ظاهر منها وإلى فإن اختار فسخ نكاحها سقط حكم ظهاره وإيلائه وإن اختار جنس نكاحها ثبت ظهاره وإيلاؤه منها لأنها كانت زوجته وقت ظهاره وإيلائه. فصل: فأما إذا وطئ من الثماني الموقوفات على اختياره وفسخه أربعًا فهل يكون وطؤه اختيارًا لهن كما يكون وطء البائع للجارية المبيعة في خيار الثلاثة اختيارًا لفسخ البيع؟ فعلى هذا قد ثبت بوطئهن اختيار نكاحهن وانفسخ به نكاح من عداهن. والثاني: أن لا يكون اختيارًا لأن الاختيار يجري مجرى عقد النكاح والنكاح لا يعقد إلا بالقول دون الفعل كذلك الاختيار وخالف الفسخ في البيع لأنه استفادة ملك والأملاك قد تستفاد بالملك كالسبي وبالقول كالبيع فجاز أن يستفاد ملكه بالقول والفعل فعلى هذا يكون على خياره من شاء من الموطوءات وغيرهن فإن اختار إمساك الموطوءات ثبت نكاحهن وكانت إصابته لهن إصابة في زوجته فلا يجب لهن مهر ولا يجب عليهن عدة وإن اختار إمساك غير الموطوءات ثبت نكاحهن بالاختيار وانفسخ نكاح الموطوءات وكانت إصابته لهن إصابة شبهة لأجنبيات فلا حد عليه لأجل الشبهة وعليه لهن مهور أمثالهن وعليهن العدة وتكون عدة الفسخ والإصابة معًا يتربص بأنفسهن أبعد الأجلين وهو الفسخ لأنه بعد الوطء. فصل: فإذا تقرر ما وصفناه من حكم اختياره وفسخه فأقام عن الامتناع منهما فلم يختر ولو

يفسخ حبسه السلطان تأديبًا لمقامه على معصية ولامتناعه من حق ولإضراره بموقوفات على اختياره فإن أقام على الامتناع بعد حبسه عزره ضربا بعد أن عزره حبسًا ولم يجز أن يختار السلطان عليه أو يفسخ وإن جاز في أحد قوليه أن يطلق على المولى إذا امتنع من الفيئة أو الطلاق والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن الاختيار كالعقد الذي لا يجوز أن يعد عليه جبرًا فلم يجز أن يختار عليه جبرًا والطلاق كالفسخ الذي يجوز أن يفسخ عليه جبرًا فجاز أن يطلق عليه جبرًا. والثاني: أن الطلاق في الإيلاء معين لا يقف على الشهود فجاز إيقاعه عليه جبرًا وإذا كان هكذا أطيل حبسه وتعزيره حتى يجيب إلى الاختيار والفسخ بنفسه. فصل: ثم لهن في زمان حبسه ووقفهن على اختياره وفسخه النفقة والسكنى لأنهن موقوفات عليه بنكاح سابق فكان أسوأ أحوالهن أن يجرين مجرى المطلقة الرجعية في زمان عدتها في وجوب النفقة والسكنى لها فإن مات الزوج سقطت نفقاتهن لزوال ما أوجب النفقة من وقت نكاحهن فلم يجز أن يختار الوارث بعد موته لأن الاختيار لا يصح فيه النيابة ولا يجوز أن يوقعه الحاكم جبرًا وتعلق بموته فصلان: أحدهما: في العدة. والثاني: في الميراث. فأما العدة ففيها أربع زوجات يلزمهن الوفاة وفيهن أربع مفارقات يلزمهن عدة الاستبراء من وطء ليس يتميز الزوجات عن غيرهن ولا يخلو حالهن فيها من ثلاثة أقسام: وإما أن يكن من ذوات الحمل أو ذوات الأقراء أو من ذوات الشهور فإن كن حوامل اعتددن بوضعه وقد استوت فيه عدة الوفاة وعدة الاستبراء وإن كن من ذوات الشهور لصغر أو إياس فعدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا وعدة الآيسة ثلاثة أشهر فتعتد كل واحدة بأطول العدتين وهي أربعة أشهر وعشرًا وإن كن من ذوات الأقراء فعدة الوفاة فيهن أربعة أشهر وعشرًا وعدة الاستبراء ثلاثة أقراء فتعتد كل واحدة منهما بأبعد الأجلين من أربعة أشهر وعشرًا أو ثلاثة أقراء لتكون مستبرئة لنفسها بيقين فإن مضت ثلاثة أقراء قبل أربعة أشهر وعشرًا استكملت تمام أربعة أشهر وعشرًا لجواز أن تكون زوجة أو مضت أربعة أشهر وعشرًا قبل أقراء استكملت ثلاثة أقراء لجواز أن تكون مستبرأة من غير زوجية. فصل: فأما الميراث فيوقف لهن إن لم يحجبن الربع وإن حجبن الثمن لأن فيهن أربع زوجات وارثات وإن لم يتعين فيكون موقوفًا على محلهن فإن اصطلحن عليه متساويات أو متفاضلات أو على تعيين أربع منهن يقتسمنه وتحرم الباقيات جاز أن لا يكون فيهن

محجور عليها لصغر أو جفون قال الشافعي في كتاب "الأم" فليس لوليها أن يصالح عنها بأقل من نصف ميراث زوجته وهو ثمن الموقوف لهن من ربع أو ثمن لأنه لما كان ثمانيًا متساويات الأحوال كان الظاهر من وقف ذلك عليهن يساويهن فيه وأن الموقوف على كل واحد منهن ثمن الوقف فلم يجز أن يصالح الولي على أقل من مقتضى الوقف فلو كان وقف ميراثهن على حاله فجاءت واحدة تطلب من الموقوف شيئا لم تعط لجواز أن تكون أجنبية وكذلك لو جاء منهن اثنتان أو ثلاث أو أربع لجواز أن يكن الأربع كلهن أجابت والباقيات زوجات فإن جاء منهن خمس تحققنا حينئذٍ أن منهن زوجته فدفعنا إليهن إذا طلبن بعين مالهن وهو ربع الموقوف من ربع أو ثمن يدفع ذلك إليهن بشرط الرضي به عن حقهن فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه لا يدفع ذلك إليهن إلا على شرط الرضى به عن حقهن وإلا منعه منه حتى يتراضى جميعهن فعلى هذا إذا دفع ذلك إليهن على هذا الشرط وجب دفع الباقي من الميراث وهو ثلاثة أرباعه إلا الثلاث الباقيات. والثاني: أنه لا يلزمه اشتراط ذلك عليهن في الدفع هذا يكون الباقي من ثلاثة أرباع ميراثهن موقوفًا لا يجوز أنه ينفرد بعضهن بشيء من الموقوف جميعهن إلا عن تراض واصطلاح فلو كان المطالبات منهن ستًا دفع إليهن نصف الموقوف من ميراثهن لأن فيهن زوجتين وكان النصف الباقي على الوجهين ولو كان فيهن سبع دفع إليهن ثلاثة أرباع الموقوف لأن فيهن ثلاث زوجات وكان الربع الباقي على الوجهين ولو كان الثمان كلهن يطلبن دفع إليهن جميع ميراثهن لأنه موقوف عليهن وليس فيه حق لهن. فصل: وإذا أسلم المشرك عن ثمان زوجات مشركات: أربع منهن وثنيات أسلمن معه وأدرج كتابيات بقين على دينهن كان بالخيار بين أن يختار إمساك الأربع الكتابيات فإن مات عنهن لم ترثنه وبين أن يختار بعض المسلمات وبعض الكتابيات فإن مات ورثه المسلمات دون الكتابيات فلو مات قبل اختيار أربع منهن فقد اختلف أصحابنا هل يوقف ميراثهن من تركته أم لا على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي القاسم الداركي لا يوقف لهن شيئا لأننا نوقف ما تحققنا استحقاقه وجهلنا مستحقه وقد يجوز أن يكون الزوجات منهن الذميات فلا يرثن فلذلك لم توقف ميراث الزوجات. والثاني: يوقف ميراث الزوجات لأن لباقي الورثة لا يجوز أن ندفع إليهم إلا ما تحققنا استحقاقهم له فلا يدفع إليهم مشكوكًا فيه وقد يجوز أن يكون زوجاته منهن المسلمات فلا يكون لباقي الورثة في ميراثهن حق فلذلك كان موقوفًا والله أعلم.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ أَسْلَمَ وَعِنْدَهُ وَثَنِيَّةٌ ثُمَّ تَزَوَّجَ أُخْتَهَا أَوْ أَرْبَعًا سِوَاهَا فِي عِدَّتِهَا فَالنِّكَاحُ مَفْسُوخٌ. وقَالَ الْمُزَنِيّ: أَشْبَهَ بِقَوْلِهِ أنَّ النِّكَاحَ مَوْقُوفٌ كَمَا جَعَلَ نِكَاحَ مَنْ لَمْ تُسْلِمْ مَوْقُوفًا فَإِنْ أَسْلَمَتْ فِي الْعِدَّةِ عَلِمَ أَنَّهَا لَمْ تَزَلْ امْرَأَتَهُ وَإنْ انْقَضَتَ قَبْلَ أَنْ تُسْلِمَ عُلِمَ أَنَّهُ لَا امْرَأَةً لَهُ فَيَصِحَّ نِكَاحُ الأَرْبَعِ لأنَّهُ عَقَدَهُنَّ وَلَا امْرأَةَ لَهُ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا أسلم المشرك عن زوجة وثنية هي جارية في عدتها في الشرك فنكح أختها أو خالتها أو عمتها أو أربعًا كان نكاحه باطلًا. وقال المزني: يكون موقوفًا على إسلام الوثنية فإن أسلمت بطل عقده على أختها وعلى أربع سواها لعلمنا أنها كانت زوجة وإن لم تسلم حتى انقضت عدتها صح على أختها وعلى أربع سواها لعلمنا أنها لم تكن زوجة. قال: لأنه لما كان نكاح الوثنية موقوفًا جاز أن يكون نكاح أختها موقوفًا وهذا خطأ لأن عقد النجاح إذا لم يقع ناجزًا لم يقع موقوفُا وكان باطلًا والعقد على أخت زوجته الوثنية ليس بنكاح فبطل ولو يكن موقوفًا ألا تراه لو نكح مرتدة ليكون العقد عليها موقوفٌا على إسلامها لم يجز وكان باطلًا لأنه لم ينعقد ناجزًا ولأنه لو نكح أخت زوجته المرتدة كان باطلًا ولم يكن موقوفًا على إسلامها كذلك إذا نكح أخت زوجته الوثنية ولأنه نكح من لا يقدر على الاستمتاع بها فكان ناكحها باطلًا كنكاح المرتدة والوثنية فأما استدلاله يوقف على نكاح المشرك ففاسد لأن حل النكاح يجوز أن يكون موقوفًا وعنده لا يجوز أن يكون موقوفًا لوقوع الفرق بين ابتداء العقد واستدامته ألا تراه لو نكح محرمة أو معتدة بطل نكاحها لوجود المنع في ابتدائه ولو طرأت العدة أو الإحرام عليها بعد نكاحها لم يمنع من استدامته. فصل: فأما إذا أسلمت الزوجة قيل الزوج فنكح الزوج في الشرك أختها أو خالتها صح النكاح وإن كانت الأخت المسلمة في العدة لأن مناكح الشريك معفو عنها فإن أسلم وأسلمت معه المنكوحة في الشرك وأختها باقية في العدة صار كالمشرك وإذا أسلم مع أختين فيكون بالخيار ويبطل نكاح المتأخرة لأن نكاحها ثبت بالإسلام من نكاح المتأخرة وهذا غير صحيح لأن نكاح الزوج لهما معًا في الشرك فصار حكم نكاحه للثانية بعد إسلام الأولى كحكم نكاحه لها مع شرك الأولى اعتبارًا بالمتعاقدين دون غيرها والله أعلم.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيً: "وَلَوْ أَسْلَمَتْ قَبْلَهُ ثُمَّ أسْلَمَ فِي العدَّةِ أَوْ لَمْ يُسْلِمْ حَتَّى انْقَضَتْ فَلَهَا نَفَقَةُ العِدَّةِ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا لَأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ عَلَيْهِ مَتَى شَاءَ أَنْ يُسْلِمَ كَانَا عَلَى النٌكَاح" قال في الحاوي: وصورتها في زوجين مشركين أسلمت الزوجة منهما بعد الدخول فلها النفقة في زمان عدتها أسلم الزوج أو تأخر المعنيين: أحدهما: أن الإسلام فرض تضييق الوقت فلم يسقط به نفقتها وإن منع من الاستمتاع كالصلاة والصيام المفروضين. والثاني: أن إسلامها المانع من الاستمتاع بها يقدر الزوج على تلافيه بإسلامه في عدتها فلم تسقط به نفقتها كالطلاق الرجعي وحكى أبو علي بن خيران قولًا آخر أنه لا نفقة لها لأنها منعته نفسها بسبب من جهتها فاقتضى أن تسقط بها نفقتها وإن كانت فيه طائعة كالحج وهذا القول إن حكاه نقلًا فهو ضعيف وإن كان تحريجًا فهو خطأ من وجهين: أحدهما: أن الحج موسم الوقت لأنه على التراخي والإسلام مضيق الوقت لأنه على الفور فصارت بالإسلام فاعلة ما لا يجوز تأخيره وبالحج فاعلة ما يجوز تأخيره. والثاني: أن تحريمها بالحج لا يمكن تلافيه وتحريمها بالإسلام يمكنه تلافيه. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيً: "وَلَوْ كَانَ هُوَ المُسْلِمُ لَمْ يَكُنْ لَهَا نَفَقَةٌ فِي أَيَّامِ كُفْرِهَا لأنَّها المَانِعَةُ لِنَفْسِهَا مِنْهُ". قال في الحاوي: وصورتها أن يسلم الزوج قبلها فإن تأخر إسلامها حتى انقضت عدتها فلا نفقة لها لأنها بالتأخير عن الإسلام كالمرتدة والناشز فإن قيل: فالمنع من جهته لا من جهتها فلا كانت لها النفقة كما لو رجع. قيل: قد كان أبو علي بن خيران أن يلتزم لهذا التعليل قولُا آخر إن لها النفقة إما نقلًا وإما تخريجًا وليس بصحيح لأن الإسلام فرض مضيق الوقت بخلاف الحج ثم هو منع لا يقدر على تلافيه فلم يمنع كونه من جهته أن يسقط به النفقه كالطلاق الثلاث ولو أسلمت الزوجة قبل انقضاء عدتها وجبت نفقتها بعد إسلامها لاستقرار الزوجية وعود الإباحة وهل لها نفقة المدة الباقية في شركها أم لا؟ على قولين: أحدهما: وقو قوله في القديم: لها نفقة لأنها كانت زوجة فيما لم يزل وبناء على قوله القديم أن النفقة يجب بالعقد وتستحق بالتمكين. والثاني: وهو قوله في الجديد: لا نفقة لها لأن مدة التأخير كالنشوز وإن كانت

زوجة بناء على قوله الجديد أن النفقة تجب العقد والتمكين منه. مسألة: قَالَ الشًافِعِيُّ: "وَلَوْ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ". قال في الحاوي: وهذا صحيح وهو اختلاف في وجوب النفقة ولا إطلاقه تفصيل وهو على ضربين: أحدهما: أن يختلفا بعد وقوع الفرقة في أيهما تقدم بالإسلام فيقول الزوج: أسلمت قبلك وأسلمت بعدي وقد انقضت عدتك فلا نفقة لك وتقول الزوجة: بل أسلمت أنا قبلك وأسلمت بعدي وقد انقضت عدتي فلي النفقة فالقول قول الزوج مع يمينه ولا نفقة لها لأمرين: أحدهما: أنها مدعية وهو منكر. والثاني: أن العقد ارتفع باختلاف الدينين فاقتضى الظاهر سقوط النفقة بارتفاعه. والضرب الثاني: أن يختلفا مع بقاء النكاح واجتماعهما في الإسلام فيه قبل انقضاء العدة ففي المراد باختلافهما في هذا الموضع ثلاث تأويلات: أحدها: أن تقول الزوجة: أسلمت قبلك وأسلمت بعدي في العدة فعلى النفقة ويقول الزوج. بل أسلمت أنا قبلك وأنت بعدي فلا نفقة لك فالقول قول الزوج مع يمينه ولا نفقة لها لما ذكرنا منه لأمرين. والثاني: أن يختلفا فتقول: أسلمت قبلك يشهد فلي عليك نفقة شهر ويقول الزوج: بل أسلمت قبل بيوم فلك نفقة يوم فالقول قول الزوج مع يمينه لما ذكرنا. والثالث: أن يختلفا فتقول الزوجة قد أسلمت بعدك بشهر فلي نفقة شهر ويقول الزوج: لك قد أسلمت بعدي بيوم فلك نفقة يوم فالقول قول الزوج مع يمينه وليس لها إلا نفقة يوم واحد لما ذكرنا والله أعلم. مسألة: قَالَ الشافِعِي?: "وَلَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَهَا نِصْفُ المَهرِ إِنْ كَانَ حَلَالًا ونِصْفُ مَهْرِ مِثْلِهَا إِنْ كَانَ حَرَامًا وَمُتْعَةً إِنْ لَمْ يَكُنْ فَرَضَ لَهَا لأَن فَشْخَ النًّكاحِ مِنْ قَبْلِهِ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ أَسَلَمَتْ قَبْلَهُ فَلَا شَيْءَ لَهَا مِنْ صِدَاقٍ وَلَا غَيْرِهِ لأَنَّ الفَسْخَ مِنْ قَبْبِهَا. وقَالَ: وَلَوْ أَسْلَمَا مَعًا فَهُمَا عَلَى النِّكاحِ". قال في الحاوي: وهذا كما قال؛ لأنه قدم حكم الإسلام قبل الدخول ثم ذكرها هنا حكم الإسلام قبل الدخول وهو على ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يتقدم إسلام الزوج. والثاني: أن يتقدم إسلام الزوجة. والثالث: أن يسلما معًا فإن تقدم إسلام الزوج فقد بطل النكاح لأن ما أفضى إلى الفرقة أو كان قبل الدخول وقعت به البينونة كالردة والطلاق الرجعي ولا عدة عليه لعدم الدخول بها ولا نفقة لها لسقوط العدة عنها فأما الصداق فلها نصفه لأن الفسخ من قبله بسبب لا تقدر الزوجة على تلافيه فأشبه الطلاق. فإن قيل: فقد كان يمكنها تلافيه بأن تسلم معه قبل هذا يشق فلم يعتبر وربما تقدم إسلامه وهي لا تعلم وإذا كان لها الصداق لم تخل حاله في العقد من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون قد سمي فيه مهر حلال لها نصفه. والثاني: أن يكون قد سمي فيه مهر حرام فلها نصف مهر المثل. والثالث: أن لا يسمي فيه مهر فلها منعه كالطلاق في هذه الأحوال. وإن تقدم إسلام الزوجة فقد بطل النكاح لما ذكرنا ولا مهر لها لأن الفسخ جاء من قبلها ولم يقدر الزوج على تلافيه فسقط مهرها. فإن قيل: يقدر على تلافيه بإسلامه معها كالجواب ما مضى وخالف وجوب النفقة لها إذا تقدم إسلامها بعد دخول لأنه منع يقدر الزوج على تلافيه وإن أسلما معًا لأنهما كانا في الشرك على دين واحد في الإسلام على دين واحد فلذلك كان النكاح بينهما ثابتًا. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيً: "وَإِنْ قالَ أَسْلَمَ أَحَدُنَا قَبْلَ صَاحِبِهِ فَالنِّكاحُ مَفْسُوخٌ وَلَا نِصْفَ مَهْرٍ حَتَّى يُعْلَمَ". قال في الحاوي: وصورتها أن يسلم أحد الزوجين المشركين قبل الدخول ويسلم الآخر بعده ويشكل عليهما أيهما تقدم بالإسلام فالنكاح قد بطل لاستواء بطلانه إن تقدم إسلام الزوج أو تقدم إسلام الزوجة ولم يكن للإشكال تأثير فأما المهر فله حالتان: أحدهما: أن تكون الزوجة قد قبضته في الشرك. والثاني: لم تقبضه فإن لم تكن قبضته فلا مطالبة لها بشيء منه لأنها تشك في استحقاقه لأنه إن أسلم قبلها استحقت نصفه وإن أسلمت قبله لم تستحق شيئًا منه ومن شك في استحقاق ما لم يكن له المطالبة به كمن كان له دين فشك في قبضه وإن كانت الزوجة قد قبضت منه جميع المهر فله الرجوع عليها بنصفه لأنه بوقوع الفرقة قبل الدخول يستحقه بيقين فأما الآخر فلا رجوع له به لأنه شاك في استحقاقه لجواز أن يكون قد أسلم

قبلها فلا يستحقه أو أسلمت قبله فيستحقه والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيً: "فَإِنْ تَدَاعَيَا فَالقَوْلُ قَوْلَهَا مَعَ يَمِينِها لأَنَّ العَقْدَ ثَابِتٌ فَلَا يُبْطَلٌ نِصْفُ المَهْرِ إلَّا بِأَنْ تُسْلِمَ قَبْلَهُ". قال في الحاوي: وصورتها أن يسلم أحد الزوجين قبل صاحبه ولا دخول بينهما ثم يختلفان أيهما تقدم إسلامه فيقول الزوج: أنت قد تقدمت بالإسلام فلا مهر لك وتقول الزوجة: بل أنت تقدمت بالإسلام فلها نصف المهر فالقول قول الزوجة مع يمينها أن الزوج تقدم بالإسلام عليها ولها نصف المهر وإنما كان كذلك لأن الأصل في المهر استحقاقه بالعقد فلم يقبل دعوى الزوج في إسقاطه كمن عليه دين فادعى دفعه لم يقبل منه اعتبارًا بالأصل في ثبوته وعدولًا عن دعوى إسقاطه. مسألة: قَالَ الشافِعِي: "وَإِنْ قَالَتْ: أَسْلَمَ أَحَدُنَا قَبْلَ الْآخَرِ وَقَالَ: هُوَ مَعًا فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَا تُصْدًقُ عَلَى فَسْخِ النِّكَاحِ وَفِيهَا قَوْلٌ آخَرُ أَنَّ النَّكَاحَ مَفْسُوخٌ حَتَّى يَتَصَادَقَا. قَالَ المُزنِيُّ: أَشْبَهُ بِقَوْلَهَ أَنْ لَا يَنْفِسِخَ النِّكَاحَ بِقَوْلِهَا كَمَا لَمْ يَنْفَسِخ نِصْفُ المَهْرِ بِقْولِهِ. قَالَ المُزنِيُّ: وَقَدْ قَالَ: لَوْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فَقَالَتْ: انْقَضَتْ عِدَّتِي قَبْلَ إِسلَامِكَ وَقَالَ: بَلْ بَعَدَ فَلَا تُصْدقُ عَلَى فَسْخِ مَا ثَبَتَ لَهُ مِن النِّكَاحِ". قال في الحاوي: وصورتها: في زوجين أسلما قبل الدخول ثم اختلفا فقال الزوج: أسلمنا معًا فنحن على النكاح وقالت الزوجة: لا بل أحدنا قبل صاحبه فلا نكاح بيننا ففيه قولان: أحدهما: وهو اختيار المزني: أن القول قول الزوج في بقاء النكاح مع يمينه لأمرين: أحدهما: أن الأصل ثبوته فلم تقبل دعوى إسقاطه. والثاني: أن الزوجين لو اختلفا بعد الدخول فقال الزوج: اجتمع إسلامنا في العدة فنحن على النكاح وقالت الزوجة: اجتمع إسلامنا بعد العدة لكان القول قول الزوج مع يمينه في بقاء النكاح اعتبارًا بثبوت أصله كذلك إذا كان اختلافهما قبل الدخول. والقول الثاني: أن القول قول الزوجة مع يمينها لأن الدعوى إذا تعارضت وكان الظاهر مع أحدهما غلب دعوى من ساعده الظاهر كالمتداعيين دارًا وهي في يد أحدهما لما كان الظاهر مساعدًا لصاحب اليد منهما غلبت دعواه كذلك هاهنا تساوى دعواهما والظاهر مساعد للزوجة منهما ولأن اجتماع إسلامها حتى لا يسبق لفظ أحدهما للآخر

بحرف متعذر في الغالب واختلافهما فيه هو الأظهر الأغلب فوجب أن يغلب فيه قول من ساعدة هذت الظاهر وهي الزوجة فكان القول قولها مع يمينها في وقوع الفرقة وعدولًا عن الأصل بظاهر هو أخص وهذا بخلاف تنازعهما في المهر لأنه لم يكن مع اختلافهما فيه ظاهر بعدل به عن الأصل فاعتبر فيه حكم الأصل. فصل: فأما إذا اختلفا بعد الدخول فقالت الزوجة: أسلمت أيها الزوج بعد انقضاء عدتي فلا نكاح بيننا وقال الزوج: بل أسلمت قبل انقضاء عدتك فنحن على النكاح فالذي نص عليه الشافعي: أن القول قول الزوج مع يمينه اعتبارًا بالأصل في ثبوت النكاح ونص في مسألتين على أن القول قول الزوجة في بطلان النكاح بخلاف هذا: إحداهما: المطلقة الرجعية إذا قال الزوج: راجعتك قبل انقضاء عدتها فنحن على النكاح وقالت الزوجة: بل انقضت عدتي قبل رجعتك فلا نكاح بيننا قال الشافعي: القول قول الزوجة مع يمينها ولا رجعة. والثانية: إذا ارتد الزوج المسلم بعد الدخول ثم عاد إلى الإسلام واختلفا فقال الزوج: أسلمت قبل انقضاء عدتك فنحن على النكاح وقالت الزوجة: بل انقضت عدتي قبل إسلامك فلا نكاح بيننا. قال الشافعي: "القول قول الزوجة مع يمينها" فجعل في مسألة الرجعة والردة القول قول الزوجة في رفع النكاح وجعل في إسلام المشركين القول قول الزوج مع بقاء النكاح فاختلف أصحابنا في هذه المسائل الثلاث على ثلاثة طرق: أحدها: أن نقلوا جوابه في الرجعة والردة إلى الإسلام في حق الزوجين وجوابه في إسلام الزوجين إلى الرجعة والردة وخرجوا المسائل الثلاثة على قولين: أحدهما: أن القول قول الزوج مع بقاء النكاح على ما نص عليه في إسلام الزوجين. والثاني: أن القول قول الزوجة في رفع النكاح على ما نص عليه في الرجعة والردة ولعل هذه الطريقة أبي حفص بن الوكيل وأبي الطيب بن سلمة. والثانية: أنه ليس ذلك على اختلاف قولين وإنما هو على اختلاف حالين فالموضع الذي يحصل فيه القول قول الزوجة في رفع النكاح إذا بدأت فأخبرت بانقضاء عدتها قبل رجعة الزوج وإسلامه فادعى الزوج تقدم رجعته وإسلامه فالقول قولها والموضع الذي جعل القول قول الزوج في بقاء النكاح إذا بدا فأخبر أنه راجع وأسلم في العدة فادعت الزوجة انقضاء عدتها قبل الإسلام والرجعة لأن قول من سبق منهما مقبول فلم يبطل بما حدث بعده من دعوى وهذه طريقة أبي علي بن خيران. والثالثة: بل هو على اختلاف حالين على غير هذا الوجه أن القول قول من اتفقا

على صدقه في زمان ما ادعاه لنفسه. مثاله: أن تقول الزوجة انقضت عدتي في رمضان وأسلمت أنت أو راجعت في شوال. فقال: بل أسلمت وراجعت في شعبان فالقول قول الزوجة لاتفاقهما على زمان انقضاء عدتها واختلافهما في رجعة الزوج وإسلامه ولو قال الزوج: لعمري أنت أسلمت وراجعت في شوال لكن انقضت عدتك في ذي القعدة كان القول قول الزوجة لاتفاقهما على زمان إسلامه ورجعته في زمان انقضاء عدتها. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا من اختلاف أصحابنا في هذه المسائل فإن جعل القول فيهن قول الزوجة في رفع النكاح لم يكن لها احتج به المزني في نصرة قوله وصحة اختياره وجه، وإن جعل القول فيهن قول الزوج في بقاء النكاح توجه له الاحتجاج بهن، وكان الفرق بينهن في القول قول الزوج في بقاء النكاح وبين مسألتنا في أن القول في أحد القولين قول الزوجة في رفع النكاح وأن الدعوى في المسائل الثلاث متقابلة وليس مع أحدهما ظاهر فاعتبر حكم الأصل وفي مسألتنا مع أحدهما ظاهر فاعتبر حكم الظاهر دون الأصل. فصل: فأما إذا قالت الزوجة أسلمنا معًا فنحن على النكاح وقال الزوج: بل أسلم أحدنا قبل صاحبه فلا نكاح بيننا فالقول قول الزوج في رفع النكاح بلا يمين لأنه مقر بالفرقة وإقراراه بها يلزمه ولو رجع عنها لم يقبل منه ولم يقبل قوله في سقوط نصف المهر، لأن الأصل ثبوته. فصل: وإذا أسلم الزوج بعد الدخول ثم أسلمت الزوجة في عدتها وقد ارتد الزوج عن الإسلام فإنه يجري عليها حكم اجتماع الإسلاميين في العدة لأنه لا يخرج بالردة في أحكام المسلمين فيكون نكاح الشرك بينهما ثابتًا بإسلامهما في العدة ويستأنف حكم الفرقة بالردة من وقت ردته فإن عاد منها إلى الإسلام قبل أن يمضي بعد الردة زمان العدة كانا على النكاح وإن لم يعد بطل النكاح بردته فلو أسلم الزوج المشرك وأسلم بعده خمس وقد ارتد الزوج عن الإسلام لم يكن له أن يختار منهن في حال ردته أحدًا لأن الاختيار يجري مجرى ابتداء العقد وهو لا يجوز أن يعقد فلم يجز أن يختار والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ كَانَتْ عِنْدَهُ امْرَأَةٌ نَكَحَهَا فِي الِشِّرْكِ بِمُتْعَةٍ أَوْ عَلَى خَيَارٍ انْفَسَخَ

باب الخلاف في إمساك الأواخر

نِكَاحُهَا لأنَّهُ لًمْ يَنْكِحهَا عَلَى الأبَدِ". قال في الحاوي: أما إذا نكح في الشرك نكاح متعة وهو أن يقول: أمتعيني نفسك سنة فإذا أسلما عليه فلا نكاح بينهما لأنهما إن أسلما بعد انقضاء المدة فلا نكاح وإن أسلما قبل انقضائها فلم يعتقد تأييده والنكاح ما تأبد وأما إذا نكحها بخيار فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون الخيار مؤبدًا فالنكاح إذا أسلما عليه باطل لأنهما لم يعتقدوا لزومه والنكاح ما لزم. والثاني: أن يكون الخيار مؤقتًا فهو على ضربين: أحدهما: أن يسلما ومدة بالخيار باقية فالنكاح باطل لما ذكرنا. والثاني: أن يسلما بعد انقضاء مدة الخيار فالنكاح جائز لأن ما انقضى مدة خياره صار معتقد اللزوم وأما إن نكحها في العدة ثم أسلما فإن كانت العدة وقت إسلامها باقية فالنكاح باطل لأنه لا يجوز أن يبتدئ العقد عليها فلم يجز أن يقيم على نكاحها وإن كانت العدة قد انقضت وقت إسلامهما ففيه وجهان: أحدهما: أن النكاح باطل لأن العدة لا تنقضي إذا كانت تحت زوج فصارت مسلمة مع بقاء العدة. والثاني: أن النكاح صحيح لأن مناكح الشرك معفو عنها وإذا أسلمت بعد انقضاء مدة العدة فقد استهلكتها على الزوج الأول في الشرك فسقط حكمها وإن كانت المدة باقية لم تستهلك ما بقي منها فافترقا. فأما إذا قهر المشرك في دار الحرب مشركة على نفسها فزنى بها ثم أسلما فإن كانوا يعتقدون في دينهم أن القهر على النفس نكاح مستدام صار ذلك من عقود مناكحهم المعفو عنها فيحكم بصحة النكاح بعد الإسلام وإن كانوا لا يعتقدونه في دينهم نكاحًا فلا نكاح بينهما إذا أسلما. باب الخلاف في إمساك الأواخر قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمْهُ اللهُ: "وَاحْتَجَجْتُ عَلَى مَنْ يُبْطِلُ الأَوَاخِرِ بِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لابْنِ الدَيْلَمِيِّ وَعِنْدَهُ أَخْتَانِ: "اخْتَرْ أَيَّتُهُمَا شِئْتَ وَفَارِقِ الأُخْرَى" وَبِمَا قَالَ لِنَوْفَلَ بنُ مُعَاوِيَةَ وَتَخيِيرهِ غَيْلَانَ فَلَوْ كَانَ الأَوَاخِرُ حَرَامًا مَا خَيَّرَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وَقُلْتُ لَهُ: أَحْسًنُ حَالَةٍ أَنْ يَعْقدُوهُ بِشهَادَةِ أَهْلَ الأَوْثَانِ. قُلْتُ: وَيُرْوَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُنْكَحُونَ فِي العِدَّةِ وَبِغَيْرِ شُهُودٍ. وَقَالَ: أَجَلْ قَلْتُ: وَهَذا كُلُّهُ فَاسِدٌ فِي الإِسْلاَمِ. قَالَ: أَجَلْ، قُلْتُ: فَلَمَّا لَمْ يَسْألِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ العَقْدِ كَانَ عَفْوًا لِفَوتِهِ كَمَا حَكَمَ اللهُ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم؟ بِعَفْوِ الرِّبَا إِذَا

باب ارتداد أحد الزوجين أو هما ومن شرك إلى شرك.

فَاتَ بِقَبْضِهِ وَرَدَّ مَا بَقِيَ لأَنَّ الإِسْلاَمَ أَدْرَكَهُ، كَمَا رَدَّ مَا جّاوَزَ أرْبَعًا لأَنَّ الإِسْلَامَ أَدْرَكَهُنَّ مَعَه وَالعُقُدٌ كُلُّهَا لَوء ابْتَدَأَتْ فِي الإِسلَام فَاسِدةً فَكَيْفَ نَظرْتَ إِلَى فَسَادِهَا مَرةً وَلَمْ تَنْظُرْ أُخْرَى فَرَجَعَ بَعْضُ أَصْحَابِهِمْ. وَقَالَ مُحَمَّد بْنِ الحَسَنِ: مَا علِمْتُ أَحَدًا احْتجَّ بِأحْسَنَ مِمَّا احْتجَجْتُ بِهِ وَلَقَدْ خَالَفْتُ أَصْحَابِي فِيهِ مُنْذُ زَمَانٍ وَمَا يَنْبَغِي أَن يَدخُلَ عَلَى حَدِيثِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم القِيَاسُ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: قد مضى وذكرنا أن المشرك إذا أسلم مع أكثر من أربع زوجات فهو مخير بين إمساك الأوائل والأواخر بخلاف ما قاله أبو حنيفة من إمساك الأوائل دون الأواخر، احتجاجًا بما مضى فحكى الشافعي مناظرته لمحمد بن الحسن على ذلك، فرجع إلى قول الشافعي وعدل عن قول صاحبيه أبي حنيفة وأبي يوسف واحتجاجه في ذلك ما قدمناه فلم تحتج إلى إعادته، وبالله التوفيق. باب ارتداد أحد الزوجين أو هما ومن شرك إلى شرك. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمْهُ اللهُ: "وَإِذَا ارْتَدَّ أَوْ أحدهما مُنِعَا الوَطْء فَإنْ انْقَضَتِ العُدَّةُ قَبْلَ اجْتِمَاعِ إِسلَامِهِمَا انْفَسَخَ النِّكاحُ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا إِنْ أَصَابَهَا فِي الرِّدةِ فَإِنْ اجْتَمَعَ إِسْلَامُهُمَا قَبْلَ انْقِضَاءِ العِدةِ فَهُمَا عَلَى النِّكَاحِ". قال في الحاوي: وهذا الفصل يشتمل على مسألتين: إحداهما: أن يرتد أحد الزوجين المسلمين. والثانية: أن يرتدا معًا. فإذا ارتد أحدهما فعلى ضربين: إحداهما: أن يكون الدخول فالنكاح قد بطل يرده أحدهما وهو إجماع؛ لأن ما أثر في الفرقة قبل الدخول أيتها كالطلاق الرجعي ولذلك أبطلنا نكاح الزوجين المشركين إذا أسلم أحدهما قبل الدخول وإذا بطل النكاح بردة أحدهما قبل الدخول نظر المرتد في المرتد منهما فإن كان هو الزوج فعليه نصف المهر؛ لأن الفسخ من قبله وإن كان المرتد هي الزوجة فلا مهر لها؛ لأن الفسخ من قبلها. والثاني: أن يكون ردة أحدهما بعد الدخول فقد اختلف الفقهاء في النكاح، فمذهب الشافعي أن يكون موقوفًا على انقضاء العدة فإن أسلم المرتد منهما قبل انقضائها كانا على النكاح وإن لم يسلم حتى أنقصت بطل النكاح. وقال مالك: يعرض الإسلام على المرتد منهما فإن عاد إليه كانا على النكاح وإن لم يعد إليه بطل النكاح. وقال أبو حنيفة: قد بطل النكاح بنفس الردة من غير وقف استدلالًا بأن ارتداد أحد

الزوجين موجب لوقوع الفرقة في الحال قياسًا على ما قبل الدخول ولأن كل سبب يتعلق به فسخ النكاح يستوي فيه ما قبل الدخول وبعده كالرضاع واستبراء الزوجة ووطء أمها بشبهة. ودليلنا: هو أن اختلاف الدين بعد الإصابة لا يوجب تعجيل الفرقة قياسًا على إسلام أحد الزوجين المشركين ولأنها ردّة طارئة على نكاح مدخول بها فوجب أن لا تبيين قياسًا على ارتدادهما معًا. فأما الجواب على قياسه على ما قبل الدخول فهو أن غير المدخول بها لا عدة عليها فلذلك تعجل فراقها والمدخول بها عليها العدة فلذلك تعلق بانقضائها وقوع فراقها كالطلاق الرجعي يتعجل به في غير المدخول بها ويتأجل بانقضاء العدة في المدخول بها. وأما الجواب على قياسه على الرضاع مع فساده بإسلام أحد الزوجين المشركين فهو أن تحريم الرضاع والمصاهرة يتأبد وتحريم الردة قد يرتفع فلذلك ما افترقا. فصل: وأما المسألة الثانية: وهو أن يرتد الزوجان معًا فهو كارتداد أحدهما إن كان قبل الدخول بطل وإن كان بعده وقف على انقضاء العدة. وقال أبو حنيفة: إذا ارتدا معًا كان على النكاح قبل الدخول وبعده استدلالًا بأن أهل الردة حين أسلموا أقرهم أبو بكر- رضي الله تعالى عنه- على مناكحهم ولم يعتبر فيهم انقضاء العدة ولا حال الدخول لاجتماع الزوجين منهم على الإسلام والردة. قال: ولأنه انتقال إلى دين فوجب أن لا يوقع الفرقة بينهما قياسًا على إسلام المشركين. قال: ولأن أكثر ما في ارتدادهما أن لا يقرأ على دينهما وهذا لا يمنع من صحة نكاحهما كالوثنيين. ودليلنا: هو أنها ردة طارئة على نكاح فوجب أن يتعلق بها وقوع الفرقة أساسًا على ردة أحدهما ولأن كل حكم تعلق بردة أحدهما لم يزل بردتها قياسًا على استباحة المال والدم وإحباط العمل ولأن كل معنى وقعت به الفرقة إذا وجد من أحدهما وقعت به الفرقة إذا وجد منهما كالموت. فأما الجواب عن إقرار أبي بكر- رضي الله عنه- لأهل الردة على مناكحهم فلأنهم أسلموا قبل انقضاء العدة. فإن قيل: فلم يفرق بين المدخول بها وغير المدخول بها. قيل: قد يجوز أن يكون جميعهن مدخولًا بهن أو لم يتميزن فأجرى عليهن حكم الأغلب كما أنه لم يفرق بين من اجتمعا في الردة أو لم يجتمعا وإن كان أبو حنيفة يفرق بينهما فيكون جوابه عن هذا السؤال جوابًا عن سؤاله.

وأما الجواب عن قياسهم على المشركين إذا أسلما بعلة انتقالهما إلى دين واحد فهو انتقاضه بالمسلم إذا تزوج يهودية ثم تنصّر قد اجتمعا على دين واحد والفرقة واقعة بينهما على أن أبا حنيفة قد وافقتا أنه إذا اجتمعا على الردة من الإصابة كما لو ارتد أحدهما حتى يجتمعا على الإسلام. وأما الجواب عن استدلالهم باجتماع الوثنيين فالفرق بينهما أن الوثنيين لا يمنعان من الإصابة فجاز إقرارهما على النكاح والمرتدان يمنعان من الإصابة فلم يجز إقرارهما على النكاح. فصل: فإذا ثبت أن اجتماعهما على الردة في وقوع الفرقة بينهما كارتداد أحدهما لم يخل حالهما إذا ارتدا من أن يكون ذلك قبل الدخول أو بعده فإن كان قبل الدخول وقعت الفرقة بينهما في الحال وفي المهر وجهان: أحدهما: يغلب فيه ردة الزوج لأنه أقوى المتناكحين حالًا فعلى هذا يكون عليه نصف المهر كما لو تفرد بالردة. والثاني: أن يغلب فيه ردة الزوجة لأن المهر لها فكان أولى الأمرين أن يغلب فيه ردتها فعلى هذا لا مهر لها كما لو تفردت بالردة وخرج بعض أصحابنا فيه وجهًا. والثالث: أن لها ربع المهر لاشتراكهما في الفسخ فسقط من النصف نصفه لأنه في مقابلة ردة الزوج وإن كان ارتدادها بعد الدخول فالمهر قد استقر بالإصابة ولها أربعة أحوال: أحدها: أن يعودوا جميعًا إلى الإسلام قبل انقضاء العدة فيكونا على النكاح. والثاني: أن لا يعودوا معًا حتى تنقضي العدة فالنكاح باطل. والثالث: أن يعود الزوج إلى الإسلام دونها فلا نكاح. والرابع: أن تعود الزوجة دونه فلا نكاح. فصل: ولا يجوز للزوج الإصابة في الردة سواء كان الزوج المرتد أو الزوجة فإن أصابها في الردة فلا حد عليه لأن بقاء أحكام النكاح شبهة في إدراء الحد عليه لها مهر المثل فإن لم يعد إلى الإسلام حتى انقضت عدتها فاستقر المهر عليها أن تعتد من إصابته للاستبراء ويكون الباقي من عدة الردة محسوبًا من العدتين. مثاله: أن يكون قد أصابها بعد قرء من ردتها فعليها أن تعتد من وقت الإصابة ثلاثة أقراء منها قرءان من عدتي الردة والإصابة وقرء مختص بعد الإصابة وإسلامها الذي يجتمعان به على النكاح أن يكون في عدة الردة دون الإصابة فإن عاد المرتد منهما إلى الإسلام في الباقي من عدة الردة كانا على النكاح فأما المهر فالذي وجب الإصابة فقد

قال الشافعي ما يدل على سقوطه بالإسلام وقال في المعتدة من طلاق رجعي إذا أصابها الزوج في العدة فوجب عليه المهر ثم راجعها بعد الإصابة أن المهر لا يسقط بالرجعة ورجعة المطلقة كإسلام المرتدة فاختلف أصحابنا لاختلاف جوابه على طريقين: أحدهما: نقل جواب كل واحد من المسألتين إلى الأخرى وتخريجها على قولين: أحدهما: سقوط مهرها يعود المرتدة إلى الإسلام ورجعة المطلقة على ما نص عليه في المرتدة. والقول الثاني: أن مهرها ثابت لا يسقط بإسلام المرتدة ولا برجعة المطلقة على ما نص عليه في المطلقة. والثانية: حمل الجواب على ظاهره في الموضعين فيسقط مهر المرتدة بالإسلام ولا يسقط مهر المطلقة بالرجعة. والفرق أن ثلم الردة قد ارتفع بالإسلام حتى لم يبق للردة تأثير بعودها إلى ما كانت عليه من نكاح وإباحة وثلم المطلقة لم يرتفع جميعه بالرجعة وإنما ارتفع بها التحريم دون الطلاق فكأن تأثيره باقيًا فبقي ما وجب فيه من المهر والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ "وَلَوْ هَرَبَ مُرْتَدًا ثُمَّ رَجَعَ بَعْدَ انْقِضَاءِ العِدَّةِ مُسْلِمًا وَادَّعَى أَنَّهُ أَسْلَمَ قَبْلَهَا فَأَنْكَرَتْ فَالقَوْلُ قَوْلُهَا مَعَ يَمِينِهَا". قال في الحاوي: عن هذه المسألة قد مضت في الانفصال عما أورده المزني في اختلاف الزوجين المشركين في إسلامهما وذكرنا اختلاف أصحابنا في المرتد إذا عاد إلى الإسلام وقال: أسلمت قبل انقضاء عدتك وقالت: بعدها وفي الرجعية إذ قال الزوج: راجعتك قبل انقضاء عدتك وقالت: بعدها على ثلاثة طرق: أحدهما: أنهما على قولين: أحد القولين: أن القول قول الزوجة في المسألتين لأن قولها في عدتها مقبول. والثاني: أن القول قول الزوج في المسألنين لأن قوله فيما نقله من إسلام ورجعة مقبول. والثانية: أن القول قول من اتفق على صدقه فيهما في المسألتين على المثال الذي بيناه. والثالثة: أن القول قول من سبق منهما بالدعوى. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فَارْتَدَّتْ فَلَا مَهْرَ لَهَا لأنَّ الفَسْخَ مِنْ قِبَلِهَا وَإِنْ

ارْتَدَّ فَلَهَا نِصْفُ المَهْرِ لأَنَّ الفَسْخَ مِنْهُ قِبَلِهِ". قال في الحاوي: قد مضت هذه المسألة وذكرنا أن ارتداد أحدهما قبل الدخول موجب لفسخ النكاح وأن المرتد إن كان هو الزوج فلها نصف المهر وإن كانت الزوجة فلا مهر لها فرقًَا بين أن تكون الفرقة من قبله أو قبلها وأنهما إن ارتدا معًا كان المهر ثلاثة أوجه: أحدها: لها نصفه تغليبًا لردة الزوج. والثاني: لا شيء لها تغليبًا لردتها. والثالث: لها بعد لاشتراكهما فيها. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "وَلَوْ كَانَتْ تَحْتَهُ نَصْرَانِيَّةٌ فَتَمَجَّسَتْ أَوْ تَزَنْدَقَتْ فَكَالمُسْلِمَةُ تُرِيدُ. وَقَالَ فِي كِتَابِ المُرْتَدَّ: حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى الَّذِي حَلَّتْ بِهِ مِنَ يَهُودِيَّةٍ أَوْ نَصْرَانِيَّةٍ". قال في الحاوي: وقد مضت هذه المسألة وما فيها من الأقسام والأحكام وأن الزوجة النصرانية إذا تزندقت لم تقر وفيها تؤخذ بالرجوع إليه ثلاثة أقاويل: أحدها: الإسلام لا غير. والثاني: الإسلام فإن أبت فدينها الذي كانت عليه من النصرانية. والثالث: الإسلام فإن أبت فدين يقر عليه أهله من أديان أهل الكتاب ولو كانت نصرانية فتهودت كان على قولين: أحدهما: تقر. والثاني: لا تقر. وفيما تؤخذ بالرجوع إلى قولان: أحدهما: الإسلام لا غير. والثاني: الإسلام. فإن أبت فدينها الذي كانت عليه وذكرنا ما تعلق بذلك من أحكام النكاح قبل الدخول وبعده. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَمَنْ دَانَ دِينَ اليَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنَ العَرَبِ أَوْ العَجَمِ غَيْرَ بَني إسْرَائِيلَ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ وَمَا يَحْرُمُ مِنْهُ أَوْ يَحِلَّ كَأَهْلِ الأَوْثَانِ. وَقَالَ فِي كِتَابِ مَا يَحْرمُ الجَمْعُ بَيْنَهُ مَنِ اَرْتَدَّ مِنْ يَهُودِيَّةٍ إِلَى نَصْرَانِيَّةٍ أَوْ نَصْرانِيَّةٍ إِلَى يَهُودِيَّةٍ حَلَّ نِكَاحُهَا؛ لأنَّهَا لَوْ

باب طلاق الشرك

كَانَتْ مِنْ أَهْل الدِّينِ الَّذِي خَرَجَتْ إِلَيهِ حَلَّ نِكَاحُهَا. وَقَالَ فِي كِتَابِ الجِزْيَةِ: لَا يُنْكَحُ مَنِ ارْتَدَّ عَنْ أَصْلِ دِينِ آبَائِهِ لأَنَّهُمُ بَدَّلُوا بِغَيْرِهِ الإِسْلَامَ فَخَالَفُوا حَالَهُمْ عَمَّا أُذِنَ بَأَخْذِ الجِزْيَةِ مِنْهُمْ عَلَيْهِ وَأُبِيحَ مِنْ طَعَاِمِهِمْ ونِسَائِهِمْ". قال في الحاوي: وقد مضت هذه المسألة وذكرنا أن بني إسرائيل من اليهود والنصارى مقرون على دينهم ويحل نكاح نسائهم ومن دخل في دينهما من العرب والعجم وسائر الأمم على ضربين: قبل التبديل وبعده ممن دخل فيه قبل تبديل أهله كالروم كان على حكمين فيه تقبل جزيتهم وتنكح نساؤهم وتؤكل ذبائحهم. ومن دخل فيه بعد تبديل أهله كان حكم عبدة الأوثان لا تقبل جزيتهم ولا تنكح نساؤهم ولا تؤكل ذبائحهم فإن بدل بعضهم دون بعض ممن دخل في دين من بدل لم تقر ومن دخل في دين لم يبدل أقر وحل أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم وإن دخل في دينهم قوم أشكلت علينا أحوالهم هل دخلوا فيه قبل التبديل أو بعده أو هل دخلوا فيه من بدل أو مع من لم يبدل كانوا في حكم المجوس يقرون بالجزية حقنًا لدمائهم ولا تؤكل ذبائحهم ولا تنكح نساؤهم. فصل: وليس للمرتد أن يستأنف عقد نكاح في الردة على مسلمة ولا مرتدة فإن عقد فيه نكاحًا كان فاسدًا سواء تعجل إسلامه فيه أو تأخر لأن ردته تبطل نكاحًا ثابتًا فلم يجز أن يثبت نكاحًا مستأنفًا إلا أن الشافعي قال في موضع تطلق عليه وقال في موضع آخر. لا تطلق عليه وليس ذلك منه على اختلاف قولين فيه ويحتمل وجهين: أحدهما: أن قوله لا تطلق يعني واجبًا وقوله: تطلق استحبابًا. والثاني: أن قوله: لا تطلق إن أنكح مسلمة وتطلق إذا نكح مرتدة والله أعلم. باب طلاق الشرك قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "وَإِذَا أَثْبَتَ رَسُولُ اللهِ صَلَى الله عليه وسلم نِكَاحَ الشِّرْكِ وَأَقَرَّ أَهْلَهُ عَلَيْهِ فِي الإِسَلَامِ لَمْ يَجُزْ واللهُ أَعْلَمْ إِلَّا أَنْ يَثْبُتَ طَلَاقُ الشِّرْكِ لَأنَّ الطَّلاقَ يَثْبُتُ بِثُبُوتِ النِّكَاحِ ويَسْقُطُ بِسُقُوطِهِ فَإِنْ أَسْلَمَا وَقَدْ طَلَّقَهَا فِي الشِّركِ ثَلَاثًا لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وَلَوْ تَزَوَّجَهَا غَيْرُهُ فِي الشِّرْكِ حَلَّتْ لَهُ وِيُسْلِم لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا". قال في الحاوي: وهذا كما قال: نكاح الشرك صحيح والإقرار عليه جائز وطلاق الشرك واقع وحكم الفرقة ثابت. وقال مالك: مناكحهم باطلة وإن أقروا عليها وطلاقهم غير واقع واستدل على بطلان مناكحهم بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله في النساء فإنما ملكتم فروجهن بكلمة الله

تعالى" يعني بكتاب الله ودين الإسلام فلم يجز أن يملكها بغير ذلك ولأنهم قد كانوا يعتقدون إلقاء الثوب على المرأة نكاحًا وقهرها على نفسها نكاحًا والمبادلة بالنساء نكاحًا وكل ذلك مردود بالشرع فلم يجز أن يصح في الإسلام واستدل على أن طلاقهم لا يقع ولا يلزم بقول الله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] فاقتضى أن يكون الطلاق مغفورًا قال: ولأنهم كانوا يرون الظهار طلاقًا مؤيدًا وقد أبطله الله تعالى وغير حكمه ودليلنا: أن الله تعالى أضاف إليهم مناكح نسائهم فقال في امرأة أبي لهب: {وامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الحَطَبِ (4)} [المسد: 4] والإضافة محمولة على الحقيقة مقتضية للتمليك وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولدت من نكاح لا من سفاح، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا، ولا يرجم إلا محصنًا بنكاح. ولأنها مناكح يقر عليها أهلها فوجب أن يحكم بصحتها قياسًا على مناكح المسلمين. فأما الجواب عن استدلالهم بالخير فمعنى قوله: "استحللتم فروجهن بكلمة الله" أي بإباحة الله وقد أباح الله تعالى مناكحهم بإقرارهم عليها. وأما قولهم إنهم يرون من المناكح بينهم ما لا نراه فهو معفو عنه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يعرف اختلاف آبائهم فيه فلم يكشف عنه. وأما استدلاله بقوله تعالى: {يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] فيعني من الآثام دون الأحكام وأما الظهار فبالفسخ أبطل حكمه وحكمه بالطلاق مقر. فصل: فإذا ثبت الحكم بصحة عقودهم ومناكحهم والعفو عما اختل من شروطها وأنهم مأخوذون بما أوقعوه فيها من طلاق وظهار وإيلاء اعتبر حال طلاقه فإن كان صريحًا عندهم أجريت عليهم حكم الصريح سواء كان صريحًا أو كتابة لأننا نعتبر عقودهم في شركهم بمعتقدهم كذلك حكم طلاقهم وإذا كان كذلك نظرت فإن كان رجعيًا فراجع في العدة صحت رجعته كما صح نكاحه وكانت معه بعد إسلامه على ما بقي من الطلاق فإن كان واحدة بقيت معه على اثنتين وإن كانت اثنتين بقيت معه على واحدة وإن لم يراجعها في العدة حتى أسلما فإن كانت عدة الطلاق قد انعقدت في الشرك أو بعد الإسلام وقيل الرجعة بانت منه وجاز أن يستأنف العقد عليها فيكون على ما بقي من الطلاق وإن كانت العدة باقية فله أن يراجعها بعد الإسلام تكون معه على ما بقي من الطلاق، وإن كان طلاقها لها في الشرك ثلاثًا فقد حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره، فلو كانت قد نكحت في الشرك زوجًا غيره حلت له إذا أسلم، فلو عاد منكحها في الشرك قبل زوج وقد طلقها ثلاثًا كان نكاحها إذا أسلم باطلًا ولم يجز أن يقر عليه.

باب عقد نكاح أهل الذمة ومهورهم

فإن قيل: أفليس لو نكحها في العدة ثم أسلما بعدها أقر؟ فهلا إذا نكح المطلقة ثلاثًا قبل زوج أقر؟ قيل: لأن تحريم المعتدة قد زال بمضي الزمان فجاز أن يستأنف العقد عليها فجاز أن تقر على ما تقدم من نكاحها، وتحريم المطلقة ثلاثًا لم يزل، ولا يجوز أن يستأنف العقد عليها فلم يجز أن تقر على ما تقدم من نكاحها وتحريم المطلقة ثلاثًا، وكذلك الكلام فيما يؤخذ به حكم ظهارة وإيلائه، والله أعلم. باب عقد نكاح أهل الذمة ومهورهم قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "وَعُقْدَةُ نِكَاحِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَمُهُورُهُمْ كَأَهْلِ الحَرْبِ". قال في الحاوي: وهذا كما قال، لا اعتراض على أهل الذمة في مناكحهم وإن كانوا في دار الإسلام وهي عقود إذا أسلموا لما في تتبع مناكحهم بعد الإسلام من التنفير عنه فلو نكح أحدهم في دار الإسلام خمسًا أو جمع بين أختين أو نكح مجوسي أمه وبنته ولم يعارضوا، وهم كأهل الحرب إذا أسلموا فما جاز إن لم يستأنفوه بعد الإسلام أقروا عليه وما لم يجز أن يستأنفوه بعد الإسلام لم يقروا عليه ولا فرق بينهم في شيء منه وإن كانوا لهم ذمة وأحكامنا عليه جارية إلا في شيئين: أحدهما: القهر والغلبة فإن الحربي إذا قهر حربية على نفسها ورآه نكاحًا أقر عليه إذا أسلما ولا يقر ذمي على قهر ذمية إذا أسلما لأن دار الإسلام تمنع من القهر والغلبة ودار الحرب نبيحه فافترقا لافتراق حكم الدارين. والثاني: أن يعتقدا نكاحًا لا يجوز في دينهم كيهودي نكح أمه أو بنته فلا يقروا عليه لأنهم ممنوعون منه في دين الإسلام ودينهم ولو فعله المجوسي أقر لأنهم غير ممنوعين منه في دينهم فأما مهورهم فلا اعتراض عليهم فيها حلالًا كانت أم حرامًا فإن تقابضوها وهي حرام برئ منها الأزواج وإن بقيت في ذمتهم حتى أسلموا ألزمهم بدلًا منها مهر المثل وإن تقابضوا بعضها قبل الإسلام وبقي بعضها بعده لزم من مهر المثل بقسط ما بقي منها. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "فَإِنْ نَكَحَ نَصْرَانِيُّ وَثَنِيَّة أَوْ مَجُوسِيَّة أَوْ نَكَحَ وَثَنِيٌّ نَصْرَانِيَّةً أَوْ مَجُوسِيَّةً لَمْ أَفْسِخْ مِنْهُ شَيْئًا إِذَا أَسْلَمُوا". قال في الحاوي: أما إذا نكح كتابي كتابية وتحاكما إلينا أقرا على النكاح وكذلك لو أسلما أو أسلم الزوج منهما كانا على النكاح لأن للمسلم أن يبتدئ نكاح كتابية فجاز أن يقيم على نكاح كتابية ولو أسلمت الزوجة دونه لم يقر على نكاحها وكان موقوفًا على تقضي العدة.

وأما الوثني إذا نكح وثنية فأيهما أسلم لم يقر على النكاح، وكان موقوفًا على تقضي العدة، وإن تحاكموا إلينا في الأحكام أقررناهم عليها، فأما إذا نكح وثني كتابية، فإن أسلما أقر على النكاح وإن أسلم الزوج أقر على النكاح وإن أسلمت الزوجة كان النكاح موقوفًا على انقضاء العدة. ولو نكح كتابي وثنية فأيهما أسلم كان النكاح موقوفًا على انقضاء العدة وإن تحاكما إلينا قبل الإسلام، فمذهب الشافعي أننا نمضي نكاحهما ولا يفسخ عليهما. وقال أبو سعيد الاصطرخي: يفسخ النكاح بينهما لأن الله تعالى قد أقر أن يحكم في أهل الكتاب بما أنزل الله في أهل الإسلام بقوله: {وأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] والوثنية لا تحل لمسلم فكذلك لا تحل لكتابي وهذا خطأ لأن الكفر كله ملة واحدة وإن تنوع واختلف ألا ترى أننا نحكم بالتوارث بين أهل الكتاب وعبدة الأوثان ولأنه لما جاز إقرارهما على هذا النكاح بعد الإسلام فأولى أن يقرا عليه في حال الكفر. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَا تَحِلُّ ذَبِيحَةٌ مِنْ وَلَدَ مِنْ وَثَنِيٍّ وَنَصْرَانِيَّةٍ وَلَا مِنْ نَصْرَانِيٍّ وَوَثَنِيَّةٍ وَلَا يَحِلُّ نِكَاحُ ابْنَتَهمَا لأَنَّها لَيْسَتْ كِتَابِيَّةً خَالِصَةً. وَقَالَ فِي كِتَابٍ آخَرَ: إِنْ كَانَ أَبُوهَا نَصْرَانِيًّا حَلَّتْ وِإِنْ كَانَ وَثَنِيًّا لَمْ تَحِلَّ لَأَنَّهَا تَرْجِعُ إِلَى النَّسَبِ وَلَيْسَتْ كَالصَّغِيرَةِ يُسْلِم أَحَدُ أَبَوَيْهَا؛ لأنَّ الإِسْلَامَ لَا يَشْركُهُ الشِّرْكُ وَالشِّرْكُ يَشركُهُ الشِّرْكُ". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى يحل أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم وأن المجوس وعبدة الأوثان لا يحل أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم فأما المولود من أهل الكتاب وعبدة الأوثان إذا كان أحد أبويه كتابيًا والآخر وثنيًا فضربان: أحدهما: أن يكون الأب وثنيًا والأم كتابية يهودية أو نصرانية فلا يختلف مذهب الشافعي أنه لا يحل أكل ذبيحة هذا الولد ولا ينكح إن كان امرأة تغليبًا لحكم أبيه. وقال أبو حنيفة: يحل نكاحه وأكل ذبيحته تغليبًا لحق أبويه حكمًا استدلالًا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج الإبل من بهيمة جمعاء هل تجس فيها من جدعاء" فلم ينقله عن الفطرة وتحقيق الحكم إلى أغلظهما إلا باجتماع أبويه على تغليظ الحكم ولأن أحد أبويه مستباح الذبيحة والنكاح فوجب أن يكون فيه على حكمه قياسًا على من أحد أبويه مسلم. ودليلنا: عموم قوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا المُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وهذا

الولد ينطلق عليه اسم المشرك ولأنها كافرة فتنسب إلى كافرة لا تحل ذبيحة ولا نكاحه، فوجب أن لا تحل ذبيحتها ولا نكاحها. أصلها: إذا كان أبواها وثنيين ولأنه قد اجتمع في هذا الولد موجب حظر وإباحة فوجب أن يغلب حكم الحظر على حكم الإباحة قياسًا على المولد من بين مأكول وغير مأكول ولا ينتقص بالولد إذا كان أحد أبويه مسلمًا والآخر كافرًا لأنه لا يجتمع في الولد حكم الكفر والإسلام لقوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام لا يعلو ولا يعلى" فثبت حكم الإسلام وسقط حكم الشرك وهذا هو الذي أراده الشافعي بقوله: "لأنَّ الإِسْلَامَ لَا يَشْركُهُ الشِّرْكُ وَالشِّرْكُ يَشركُهُ الشِّرْكُ" يعني أنه قد يجتمع شركان ولا يجتمع شرك وإسلام واختلف أصحابنا في هذا التعليل هل أراد الشافعي أبا حنيفة من هذه المسألة وأراد به مالكًا في أن إسلام الأم لا يكون إسلامًا للولد على وجهين. فأما الجواب عن الخبر فهو أن المراد به اجتماع الوالدين على الكفر يقتضي تكفير الولد وانفراد أحدهما لا يقتضيه فلم يكن دليلًا في هذا الوضع، لأن أبويه قد اجتمعا على الكفر. وأما قياسه على من أحد أبويه مسلم فالجواب عنه ما ذكرنا من أن اجتماع الشرك والإسلام يوجب فيه حكم تغليب الإسلام، لأنهما يتنافيان، فغلب أقواهما، والشركان لا يتنافيان فغلب أغلظهما. فصل: والضرب الثاني: أن يكون أب هذا الولد كتابيًا يهوديًا أو ونصرانية وأمه وثنية أو مجوسية نفي إباحة نكاحه وأكل ذبيحته قولان: أحدهما: يحرم نكاحه وذبيحته لاجتماع الحظر والإباحة فوجب أن يغلب حكم الحظر على الإباحة كالمتولدين مأكول وغير مأكول. والثاني: وهو أصح أن يحل نكاحه وذبيحته لاجتماع الحظر والإباحة فيه لأن الدينين إذا اختلفا جاز اجتماعهما فأغلبهما ما كان تابعًا للنسب المضاف إلى الأب دون الأم كالحرية كذلك النكاح والذبيحة. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا فحكم الولد الحادث من بين أبوين مخلفي الحكم على أربعة أقسام: أحدها: أن يكون ملحقًا بحكم أبيه دون أمه وذلك في أربعة أشياء:

أحدها: النسب يكون ملحقًا بأبيه دون أمه. والثاني: في الحرية فإن ولد الحر من أمه كأبيه دون أمه. والثالث: في الولاء فإنه إذا كان على الأبوين ولاء من جهتين كان الولد داخلًا في ولاء الأب دون الأم. والرابع: في الحرية فإنه إذا كان الأب من قوم لهم حرية والأم من آخرين لهم حرية أخرى فإن حرية الولد حرية أبيه دون أمه. والثاني: أن يكون ملحقًا بحكم أمه دون أبيه وذلك في شيئين: أحدهما: ولد المنكوحة تابع لأمه في الحرية والرق أبيه فإنه كانت أمه حرة كان حرًا وإن كان أبوه عبدًا وإن كانت أمه مملوكة كان عبدًا وإن كان أبوه حرًا. والثاني: في الملك فإن ولد المملوكين تبع لأمه ومملوك لسيدها. والثالث: أن يكون ملحقًا بأفضل أبويه حالًا وأغلظهما حكمًا وذلك في شيء واحد وهو في الإسلام يلحق بالمسلم منهما أبًا كان أو أمًا. والرابع: ما اختلف قوله فيه وهو في إباحته الذبيحة والنكاح فأحد قوليه أنه ملحق بالأب. والثاني: ملحق بأغلظهما حكمًا. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا وَجَبَ أَنْ نَحْكُمَ بَيْنَهُمْ كَانَ الزَّوْجُ الجَانِي أَوْ الزَّوْجَةُ". قال في الحاوي: أما المقيمون في دار السلام من الكفار فضربان: أهل الذمة، وأهل عهد. فأما أهل الذمة: فهم باذلوا الحرية لهم ذمة مؤبدة يلزمنا في حق الذمة أن نمنع عنهم من أرادهم فمن جرت عليه أحكامنا من المسلمين وممن لم تجر عليه أحكامنا من أهل الحرب. وأما أهل العهد: فهم المستأمنون الذين لهم أمان إلى مدة يلزمنا أن نمنع من أرادهم ممن جرت عليه أحكامنا من المسلمين، فلا يلزمنا أن نمنع من أرادهم من لم تجر عليه أحكامنا من أهل الحرب، وقد عبر الشافعي في مواضع عند أهل الذمة بالمعاهدين؛ لأن ذمتهم عهد وإن كانوا باسم الذمة أخص، فأما إن لم يترافع الفريقان في أحكامهم إلينا لم ندعهم إليها ولم نعترض عليهم فيها، وإن ترافعوا إلينا نظر فيهم، فإن كانوا معاهدين لهم أمان إلى مدة لم يلزمنا أن نحكم بينهم ولم يلزمهم التزام حكمنا وكان حاكمنا بالخيار

بين أن يحكم بينهم وبين أن لا يحكم وهم إذا حكم عليهم بالخيار بين أن يلتزموا حكمه وبين أن لا يلتزموه وإن جاء أحدهم مستعديًا لم يلزم المتعدى عليه أن يحضر ولا يلزم الحاكم أن يعديه عليه وإنما كان كذلك لقول الله تعالى: الحاكم أن يعديه عليه وإنما كان كذلك لقول الله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42] الآية فخير الله تعالى في الحكم بينهم ولأن علينا أن نمنع عنهم أنفسنا وليس علينا أن نمنع عنهم غيرنا سواء كان التحاكم في حق الله تعالى أو في حق الآدميين؛ لأن حق الله تعالى في شركهم أعظم وقد أقروا عليه وسواء كانوا أهل كتاب أو غير أهل كتاب. فصل: وأما أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا فليست الذمة المؤبدة إلا لأهل الكتاب، فإن لم يترافعوا إلينا في أحكامهم تركوا، وإن ترافعوا فيها إلينا فعلى ضربين: أحدهما: أن يكونوا من أهل دين واحد ففي وجوب الحكم عليهم قولان: أحدهما: وهو قوله في القديم أنه لا يجب والحاكم مخير في الحكم بينهم وهو إذا حكم عليهم مخيرون في التزام حكمه اعتبارًا بأهل العهد لعموم قوله تعالى: {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42]. والقول الثاني: وهو قوله في الجديد واختاره المزني أن الحكم بينهم واجب، فيلزم الحاكم إذا ترافعوا إليه أن يحكم بينهم وعليهم إذا حكم أن يلتزموا حكمه، وإذا استعدى أحدهم على الآخر وجب أن يعديه الحاكم، وأن يخص المستعدى عليه فإن امتنع من الحضور أجبره وعزره. وإنما كان كذلك بقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ} [المائدة: 49] وهذا أمر ولقوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] قال أصحابنا: والصغار أن تجري عليهم أحكام الإسلام، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا، فلو لم يلزمهم حكمه لامتنعوا من إقامة الحد عليهم، ولأننا نجزيهم بالدفع عنهم منا ومن غيرنا مجرى المسلمين فوجب أن ندفع عنهم بالحكم بينهم في استيفاء الحقوق لهم كما نحكم بين المسلمين وبهذا نفرق بينهم وبين المعادين لا يلزمنا أن ندفع عنهم غيرنا فلم يلزمنا أن نحكم بينهم، ولا أن ندفع بعضهم عن بعض. فأما أبو حنيفة فلم يعمل بواحد من القولين على إطلاقه وقال: لا يحكم بينهم إلا أن يجتمعوا على الرضي بحكم الإمام، فحينئذٍ يلزم الحاكم أن يحكم بين المترافعين إليه ويلزمهم أن يلتزموا حكمه. والثاني: أن يكون الحكم بين ذميين من دينين كيهودي ونصراني تحاكما إلينا، فقد اختلف أصحابنا فيهم، فكان أبو إسحاق المروزي يخرج وجوب الحكم بينهما على قولين لو كانا عن دين واحد؛ لأن الكفر كله ملة واحدة. وقال غيره من أصحابنا: أن يحكم بينهما قولًا واحدًا. والفرق بين أن يكون من دين واحد أو دينين أنهما إذا كانا من دين واحد فلم يحكم

كان لهم حاكم واحد لا يختلفون فيه، فأمكن وصولهم إلى الحق منه. وإذا كانا على دينين اختلفا في الحكم، وإن لم يحكم بينهما حاكمنا، فدعي النصراني إلى حاكم النصارى، ودعي اليهودي إلى حاكم اليهودي فتعذر وصول الحق إلا بحاكمنا فلذلك لزمه الحكم بينهما. فصل: فإذا تقرر ما ذكرنا من القولين فهي من حقوق الآدميين فأما حقوق الله تعالى فقد اختلف أصحابنا فيها على ثلاثة مذاهب: أحدها: أنها على قولين كحقوق الآدميين. والثاني: أنها تجب قولًا لأنه لا يطالب بها غير الحاكم وليست لحقوق الآدميين التي لها خصم يطلب. والثالث: أنها لا تجب قولًا واحدًا لأن حق الله تعالى في شركهم أعظم وقد أقروا عليه فكذلك ما سواه من حقوقه، وليس كذلك حقوق الآدميين لأنهم فيها متشاجرون متظالمون ودار الإسلام تمنع من التظالم، والله أعلم. فصل: فأما إذا كان التحاكم بين مسلم وذمي ومعاهد وجب على الحاكم أن يحكم بينهم قولًا واحدًا سواء كان المسلم طالبًا أو مطلوبًا لأنهما يتجاذبان إلى الإسلام والكفر فوجب أن يكون حكم الإسلام أغلب لرواية عائذ بن عمر المزني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الإسلام يعلو ولا يعلى» ولو كان التحاكم بين ذمي ومعاهد كان على قولين تغليبًا لأوكدهما حرمه كما لو كانت بين مسلم ومعاهد حكم بينهما قولًا واحدًا تغليبًا لحرمة الإسلام التي هي أوكد. فصل: ثم إذا حكم حاكمنا بين ذميين أو معاهدين لم يحكم بينهم بالتوراة إن كانا يهوديين ولا بالإنجيل إن كان نصرانيين ولم يحكم إلا بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ} [المائدة: 49] أي يفتنونك بتوراتهم وإنجيلهم عما أنزل عليك من القرآن قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]. فإن قيل: فكيف لا يحكم بينهم بكتابهم وقد قال الله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44] وقد أحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم التوراة حين رجم اليهوديين حتى رجمهما لما فيه من الرجم. قيل: أما الآية فتضمنت صفة التوراة على ما كانت من الهدى والنور، وأنه كان

يحكم بها النبيون، وكذا كان حالها ثم غيرت حين بدل أهلها كما قال تعالى: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام: 91] ومع تغيرهم لها وتبديلهم فيها لا يتميز الحق من الباطل فوجب العدول عنها وأما إحضاره التوراة عند رجم اليهوديين، فلأنه حين حكم عليها بالرجم أخبر اليهود أن في التوراة فأنكروه فأمره بإحضارها لتكذيبهم، فلما حضرت ترك ابن صوريا وهو أحد أحبارهم يده على ذكر الرجم، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم برفع يد، فإذا آية الرجم تلوح فكان إحضارها رد لإنكارهم وإظهار لتكذيبهم، لا لأن يحكم بها عليهم لأنه قد حكم بالرجم قبل حضورها، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "َإِنْ لَمْ يَكُنْ حُكْمٌ مَضَى لَمْ يُزَوِّجْهُمْ إِلَّا بِوَلِيٍّ وَشُهُودٍ مُسْلِمِينَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا قَرِيبٌ زَوَّجَهَا الحَاكِمُ لأَنَّ تَزْوِيجَهُ حُكْمٌ عَلَيْهَا فَإِذَا تَحَاكَمُوا إِلَيْنَا بَعْدَ النِّكَاحِ فَإِنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ ابْتِداؤُهُ فِي الإِسْلَامِ أَجَزْنَاهُ؛ لأَنَّ عَقْدَهُ قَدْ مَضَى فِي الشِّرْكِ». قال في الحاوي: قد مضى ما قررناه من وجوب الحكم بين أهل الذمة أو جوازه فإذا ترافع زوجان في عقد نكاح فهو كترافعهما في غيره من عقود البيع والإجازات، وإنما خص الشافعي ترافعهما في عقد النكاح لأنه في كتاب النكاح ولأن فروعه أكثر فإذا ترافعا فيه فعلى ضربين: أحدهما: أن يترافعا في استدامة عقد قد مضى فليس للحاكم أن يكشف عن حال العقد ولا يعتبر فيه شروط الإسلام وينظر فإن كانت الزوجة ممن تجوز له عند التحاكم أن يستأنف العقد عليها جاز أن يقرهما على ما تقدم من عقدها. سواء كان بولي أو شهود أم لا إذا رأوا ما عقدوه نكاحًا في دينهم وإن كانت ممن لا يجوز أن يستأنف العقد عليها عند الترافع إلينا لكونها في ذوات المحارم والمحرمات أو بقية عدة من زوج آخر حكم بإبطال النكاح ويكون حالها عند الترافع إلى الحاكم كحالهما لو أسلما فما جاز إقرارها عليه من النكاح بعد إسلامها جاز إقرارهما عليه عند ترافعهما إلى حاكمنا وما لم يجز الإقرار عليه بعد الإسلام لم يجز الإقرار عليه عند الترافع إلى الحاكم. فصل: والضرب الثاني: أن يترافعا إلى حاكمنا في ابتداء عقد يسأنفه بينهما فعلى الحاكم أن يعقده بينهما على الشرو المعتبرة في الإسلام بولي وشهود لقول الله تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وإنما جاز أن يمضي في مناكحهم في الشرك وإن لم تكن على شروط الإسلام ولا يجوز أن يستأنفها في الإسلام إلا على شروطه لقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ولأن في اعتبار

مناكحهم في الشرك على شروط الإسلام وردها إذا خالفته تنفيرًا لهم من الدخول في الإسلام وليس فيما استأنفوه لرضاهم به تنفيرًا لهم منه. فإذا تقرر ما وصفناه قوليها في النكاح أقرب عصبتها من الكفار ولأن ولي الكافرة كافر ويراعى أن يكون عدلًا في دينه فإن كان فاسقًا فيه كان كفسق الولي المسلم بعدل إلى غيره من الأولياء العدول فإن عدم أوليائها من العصبة والمعتقين زوجها الحاكم ولا يمنعه الإسلام من تزويجها وإن منع منها إسلام عصبتها لأن تزويجها حكم فيه عليها. فأما الشهود في نكاحها فلا يصح إلا أن يكونوا مسلمين وجوز أبو حنيفة عقد نكاحها بشهود كفار كما جاز بولي كافر وهذا خطأ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل» والفرق بين الولي والشهود أن الولي يراد لطلب الحظ لها للموالاة التي بينها والكافر المشارك لها في الكفر أقوى موالاة من المسلمين فكان الكافر أحق بولاية نكاحها من المسلم وليس كذلك الشهود لأنهم يرادون لإثبات الفراش وإلحاق النسب لا يثبت ذلك إلا بالمسلمين فكانوا أخص بالشهادة فيه من غيرهم وهذا حكم إذنها إذا كانت ثيبًا بالنطق وإن كان بكرًا بالصمت ولا يعقده إلا بصداق حلال وإن كانوا يرون في دينهم عقده بالمحرمات من الخمور والخنازير وهل يجوز أن يعقده كتابي على وثنية أو وثني على كتابية أولًا؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري- لا يجوز لمسلم أن يعقد على وثنية ولا لوثني أن يعقد على مسلمة. والثاني: وهو مذهب الشافعي يجوز لأن الكفر كله ملة واحدة. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «وَكَذَلِكَ مَا قَبَضَتْ مِنْ مَهْرِ حَرَامٌ وَلَوْ قَبَضَتْ نِصْفَهُ فِي الشِّرْكِ حَرَامًا ثُمَّ أَسْلَمَا فَعَلَيْهِ مَهْرِ مِثْلِهَا». قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا ترافع الزوجان في صداق نكاح عقد له في الشرك فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون حلالًا معلومًا فيحكم على الزوج، وكذلك لو أسلما عليه، ولا يلزم الزوج غيره فإن أقبضها في الشرك برئ منه وإن لم يقبضها أخذته بعد الإسلام أو عند الترافع إلى الحاكم بعد بقائها على الشرك. والثاني: أن يكون حرامًا لا يجوز أن يكون صداقًا في الإسلام فهذا على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يتقابضاه في الشرك قبل الترافع على الحاكم فقد برئ الزوج منه لأن ما

فعلاه في الشرك عفو لا يتعقب بنقض كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} [البقرة: 278] فجعل ما مضى عفوًا وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الإسلام يجبّ ما كان قبله». والثاني: أن يكون الصداق باقيًا لم يتقايضاه فلا يجوز أن يحكم بإقباضه سواء ترافعا وهما على الشرك أو قد أسلما ويحكم لها بمهر المثل دون القيمة لأن الخمر لا قيمة له وكذلك الخنزير وسائر المحرمات. وقال أبو حنيفة: كان الصداق معينًا حكم لها به سواء أسلما لم لا وإن كان في الذمة فإن كانا على الشرك حكم لها بمثل الخمر وإن كانا قد أسلما حكم لها بقيمة الخمر بناء على أصله في غاصب الدار وفيها خمر إذا استهلكها وقد مضى الكلام معه. والثالث: أن يتقابضا بعضه في الشرك ويبقى بعضه بعد الإسلام أو بعد الترافع إلى الحاكم فيبرأ الزوج من قدر ما أقبض في الشرك ويحكم لها من مهر المثل بقسط ما بقي منه وعند أبي حنيفة يحكم لها بقيمة ما بقي منه بناء على ما ذكرنا من أصله وما ذكرناه أولى لما قدمناه وإن كان كذلك لم يخل حال الصداق الحرام المقبوض بعضه من أحد أمرين: إما أن يكون جنسًا أو أجناسًا فإن كان جنسًا واحدًا كأنه أصدقها عشرة أزقاق من خمر ثم ترافعا أو أسلما وقد أقبضها خمسة أزقاق وبقيت خمسة ففيها وجهان لأصحابنا: أحدهما: أنه يراعى عدد الأزقاق دون كيلها فتكون الخمسة من العشرة نصفها وإن اختلف كيلها فيسقط عنه من المهر نصفه ويبقى عليه نصفه فيلزمه نصف مهر المثل وهذا قول أبي إسحاق المروزي. والثاني: أنه يراعى كيلها دون عددها فينظر كيل الخمسة المقبوض من جملة كيل العشرة فإن كان ثلثها في الكيل ونصفها في العدد برئ من ثلث المهر ولزم ثلثا مهر المثل وهذا قول أبي علي بن أبي هريرة ولو كان قد أصدقها عشرة خنازير وأقبضها من العشرة ستة خنازير فعلى ما ذكرنا من الوجهين: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق- إنك تراعي العدد فتكون الستة من العشرة ثلاثة أخماسها، سواء اختلفت في الصغر أو الكبر، أو لم تختلف، فيبرأ من ثلاثة أخماس الصداق ويطالب بخمس مهر المثل. والثاني: وهو قول أبي علي بن خيران أنك تراعيها في الصغر والكبر، وكان الكبير منها يعدل صغيرين، وقد قبضه في السنة كبيرين وأربعة صغارًا، فكانت الأربعة تعادل كبيرين فصارت الستة أربعة كبارًا، والأربعة من العشرة خمساها فيبرأ من خمس الصداق، وترجع عليه بثلاثة أخماس مهر المثل، وإن كان الصداق أجناسًا مختلفة كأنه أصدقها

باب إتيان الحائض ووطء اثنتين قبل الغسل

خمسة أزقاق خمرًا وعشرة خنازير وخمسة عشر كلبًا، ثم ترافعا أو أسلما وقد أقبضها خمسة أزقاق خمرًا وبقيت الخنازير كلها، والكلاب بأسرها فعنه ثلاثة أوجه: أحدها: أنك تعتبر عدد الجميع فيكون المقبوض خمسة من ثلاثين وهو سدسها فيسقط عند سدس الصداق ويؤخذ بخمسة أسداس مهر المثل. والثاني: أنك تعتبر عدد أجناس وهي ثلاثة والمقبوض أحدها فتسقط عنه ثلث الصداق ويؤخذ بثلثي مهر المثل. والثالث: وهو قول أبي العباس بن سريج أنك تعتبر قيمة الأجناس الثلاثة وتنظر قيمة المقبوض فتسقطه منه فيبرأ بقسطه من الصداق ويؤخذ بقسط الباقي من مهر المثل. قال أبو العباس: وقد يجوز في الشرع أن يعتبر قيمة ما لا يحل بيعه ولا قيمة له كما يعتبر في حكومة ما لا يتقدر من جراح الحر قيمته لو كان عبدًا وإن لم يكن للحر ثمنًا ولا قيمة كذلك الخمور والخنازير والكلاب ولو كان المقبوض من الثلاثة جنسًا آخر غير الخمر كان على ما ذكرنا من الأوجه الثلاثة فاعتبر به، وبالله التوفيق. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: «وَالنَّصْرَانِيُّ فِي إِنْكَاحش ابْنَتِهِ وَابْنِهِ الصَّغِيرَيْنِ كَالمُسْلِمِ». قال في الحاوي: وهذا صحيح، لأننا قد ذكرنا أن ولي الكافرة كافر فله أن يزوج بنته الصغيرة إذا كانت بكرًا، ولا يزوجها إن كانت ثيبًا كالمسلم، ويزوج بنته الكبرى بكرًا بغير إذن وثيًا بإذن وله أن يزوج ابنته الصغيرة وليس له تزويج الكبيرة، كما نقوله في الأب المسلم في بنته وابنه المسلمين، فأما ولاية الكافر على أموال الصغار من أولاده، فما لم يرفع إلينا أقروا عليها، فإذا رفع إلينا لم يجز أن يؤتمن على أموالهم وترد الولاية عليهم فيها إلى المسلمين، بخلاف الولاية في النكاح؛ لأن المقصود بولاية الأموال الأمانة وهي في المسلمين أقوى والمقصود بولاية النكاح الموالاة وهي في الكافر للكافر أقوى، والله أعلم. باب إتيان الحائض ووطء اثنتين قبل الغسل قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «أَمَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِاعْتِزَالِ الحُيَّضِ فَاسْتَدْلَلْنَا بِالسُّنَّةِ عَلَى مَا أَرَادَ فَقُلْنَا تَشَدُّ إِزَارُهَا عَلَى أَسْفَلِهَا وَيُبَاشِرُهَا فَوْقَ إِزَارَهَا حَتَّى يَطْهُرْنَ حَتَّى يَنْقَطِعَ الدَّمُ وَتَرَى الطُّهْر». قال في الحاوي: أما وطء الحائض في الفرج فحرام بالنص والإجماع. قال الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] وفي هذا المحيض ثلاثة تأويلات: أحدها: أنه أراد به دم الحيض.

والثاني: زمان الحيض. والثالث: مكان الحيض. ثم قال: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] أي ينقطع دمهن فإذا تطهرن فيه تأويلان: أحدهما: فإذا انقطع دمهن، وهذا تأويل أبي حنيفة. والثاني: فإذا تطهرن بالماء، وهذا تأويل الشافعي وأكثر الفقهاء والمفسرين. {فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] فيه تأويلان: أحدهما: في القبل الذي نهى عنه في حال الحيض، وهذا تأويل ابن عباس. والثاني: من قبل طهرنّ لا من قبل حيضهنّ، وهذا تأويل عكرمة وقتادة. فصار تحريم وطء الحائض من القبل نصًا وإجماعًا؛ لأنه لم يعرف فيه خلاف أحد، فلو استحل رجل وطء حائض مع علمه بالنص والإجماع كان كافرًا، ولو فعله مع العلم بتحريمه كان فاسقًا. فصل: فأما الاستمتاع بما دون الفرج منها فيجوز أن يستمتع بما فوق الصرة ودون الركبة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يستمتع من الحائض بما فوق الإزار». وأما الاستمتاع بما بين الصرة والركبة إذا عدل عن الفرجين ففيه وجهان: أحدهما: أنه حرام وهو قول أبي حنيفة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أباح الاستمتاع منها بما فوق الإزار، وما ين السرة والركبة هو مما تحت الإزار، وليس مما فوقه فدل على تحريمه. والثاني: أنه مباح. وبه قال مالك، ومن أصحابنا: أبو علي بن خيران، وأبو إسحاق المروزي؛ لأن تحريم وطء الحائض لأجل الأذى فوجب أن يكون مقصورًا على ما كان الأذى وهو الفرج دون غيره. وروي أن عمر- رضي الله عنه- سئل عن ذلك فقال: إذا توقى الجحرين فلا بأس ويكون قوله صلى الله عليه وسلم: «يستمتع من الحائض بما فوق الإزار» محمولًا على ما دون الفرج ويكون الإزار كناية عن الفرج لأنه محل الإزار كما قال الشاعر: قَوْمٌ إِذَا حَارَبُوا شَدُّوا مآزِرَهُمْ دُونَ النِّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ بِأَطْهَارِ

أي شدوا فروجهم وخرج أبو الفياض من أصحابنا وجهًا ثالثًا: أنه إن كان قاهر لنفسه يأمن أن تغلبه الشهوة فيطأ في الفرج جاز له أن يستمتع بما دونه وإن لم يأمن نفسه أن تغلبه الشهوة فيطأ في الفرج حرام عليه أن يستمتع بما دونه إلا من رواء الإزار. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: «فإذَا تَطَهَّرْنَ يَعْنِي وَاللَّهُ أَعْلَمُ الطَّهَارَةُ الَّتِي تَحِلُّ بِهَا الصَّلَاةُ الغُسْلَ أَوْ التَّيَمّمَ. وَقَالَ فِي تَحْرِيمَها لأَذَى المَحِيضِ كَالدَّلالَةِ عَلَى تَحْرِيمِ الدُّبُرِ لأَنَّ أَذَاهُ لَا يَنْقَطِعُ». قال في الحاوي: أما ما دام الحيض باقيًا فوطئها في الفرج على تحريمها فإذا انقطع دم حيضها فمذهب الشافعي أن وطأها بعد انقطاع الدم على تحريمه حتى تغتسل أو تتيمم إن كانت عادمة للماء. قال طاوس، ومجاهد: وطؤها حرام حتى تتوضأ فتحل. وقال أبو حنيفة: قد حل وطئها إن لم تغتسل ولم تتوضأ وقد دللنا عليه في كتاب الحيض بما أغنى. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: «وَإِنْ وَطِئَ فِي الدَّمِ اسْتَغْفَرَ اللَّهَ تَعَالَى وَلَا يَعُودُ». قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا وطئ الحائض في قبلها فقد أثم وعليه أن يستغفر الله تعالى ولا كفارة عليه وهو قول أبي حنيفة وأكثر الفقهاء. وقالا الحسن البصري: عليه ما على المظاهر. وقال سعيد بن جبير: عليه عتق نسمة، وقال الأوزاعي: عليه أن يتصدق بدينار إن وطئ في الدم ونصف دينار إن وطئ قبل الغسل وبه قال ابن جرير الطبري استدلالًا برواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن وطئ في الدم فعليه دينار، وإن وطئ قبل الغسل فنصف دينار» وروي هذا الحديث للشافعي وكان إسناده ضعيفًا. قال: إن صح قلت به فإن لم يصح فلا شيء عليه وإن صح فقد اختلف أصحابنا فيه مع الصحة هل يكون محمولًا على الإيجاب أو على الاستحباب على وجهين: أحدهما: وهو قول كثير منهم- أن يكون محمولًا على الإيجاب أو على الاستحباب على وجهين: أحدهما: اعتبارًا بظاهره وقد حكي الربيع عن الشافعي: أنه قال: ما ورد من سنة

الرسول بخلاف مذهبي فاتركوا مذهبي فإن ذلك مذهبي وقد فعل أصحابنا مثل ذلك في التصويت في الصلاة الوسطى. والثاني: وهو قول أبي العباس بن سريج- أنه يكون محمولًا على الاستحباب دون الوجوب لأن الزنا والوطء في الدبر أغلظ تحريمًا ولا كفارة فيه؛ فلأن لا يكون في وطء الحائض كفارة أولى، ولأن كفارة الوطء، إنما تجب بما تعلق به من إفساده عبادة كالحج والصيام وليس فيه كفارة إذا لم يتعلق به إفساد عبادة، وقد روي أن رجلًا قال لأبي بكر رضي الله عنه: رأيت في منامي كأنني أبول الدم فقال: لعلك تطأ امرأتك حائضًا، قال: نعم، قال: استغفر الله ولا تعد، ولم يلزمه كفارة، فأما المستحاضة فلا يحرم وطئها لأنها كالطاهرة فيما يحل ويحرم، ولأن دم الاستحاضة رقيق وهو دم عرق قليل الأذى وليس كدم الحيض في ثخنه ونتنه وأذاه، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: «وَإِنْ كَانَ لَهُ إِمَاءٌ فَلَا بَاسَ أَنْ يَاتِيهُنَّ مَعًا قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ وَلَوْ تَوَضَّأَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ وَأُحِبُّ لَوْ غَسَلَ فَرْجَهُ قَبْلَ إِتْيَانِ الَّتِي بَعْدَهَا وَلَوْ كُنَّ حَرَائِرَ فَحَلَلْنَهُ فَكَذَلِكَ». قال في الحاوي: فأما الإماء فلا قسم لهن على السيد، فإذا أراد وطئهن في يوم واحد جاز، ويستحب أن يغتسل بعد وطء كل واحدة منهن لما فيه من تعجيل فرض وتكرار وطاعة ونشاط نفس، فإن لم يغتسل توضأ عند وطء كل واحدة منهن، وأنكر أبو داود ما أمر به الشافعي من الوضوء؛ لأنه مع بقاء الجنابة غير مؤثر في الطهارة وما لا تأثير له كان فعله عبثًا، وهذا إنكار مستقبح وقول مسترذل واعتراض على السنة. روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أتى أحدكم أهله ثم أراد أن يعود فليتوضأ» وقال لعمر بن الخطاب: «وإذا جامعت ثم أردت المعاودة فتوضأ». وقال عمر: يا رسول الله: أيرقد أحدنا وهو جنب قال: «نعم إذا توضأ» فأمر بالوضوء وإن لم يرفع حدثًا، فإن لم يتوضأ عند وطء كل واحدة فيستحب أن يغسل ذكره بعد وطئها؛ لأنه مأثور ومسنون، ولأن فيه نشاط النفس ونهوضًا للشهوة، فإن لم يغتسل ولا توضأ ولا غسل ذكره ووطء جميعهن واحدة بعد الأخرى حتى أتى جميعهن جاز، واغتسل لهن غسلًا واحدًا.

باب إتيان النساء في أدبارهن

وروى حميد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طاف على نسائه ذات ليلة بغسل واحد. وروى: وكن يومئذٍ تسعًا. ولأن الغسل تداخل كالحدث ويكره أن ينتقل من وطء واحدة إلى وطء واحدة ويصبر حتى تسكن نفسه وتقوى شهوته فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الفهر. والفهر: هو إذا وطء المرأة انتقل منها إلى أخرى ويكره أن يطأ بحيث يرى أو يحبس به فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الوجسِ. وهو: أن يطأ بحيث يسمع حسه. فصل: فأما الحرائر فالقسم بينهن واجب إذا طلبنه فإذا أراد أن يطأهن في يوم واحد لم يجز لأن لإحداهن فلم يجز أن يطأ غيرها في يومها إلا أن يحللنه فإذا أحللنه سقط قسمهن وجاز أن يطأهن في يوم واحد بغسل واحد كالإماء، والله أعلم. باب إتيان النساء في أدبارهن قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «ذَهَبَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا فِي إِتْيَانِ النِّسَاءِ فِي أَدْبَارِهِنَّ إِلَى إِحْلَالَهِ وَآخَرُونَ إِلَى تَحْرِيمِهِ وَرُوِيَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِنْ حَدِيثِ ثَابِتٍ أَنَّ اليَهُودَ كَانَتْ تَقُولُ مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي قُبُلِها مِنْ دُبُرِهَا جَاءَ وَلَدُهُ أَحْوَلَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223] وَرُوِيَ عَن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّ رَجُلًا سَأَلَهُ عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «فِي أَيِّ الخَرِبَتَيْنِ أَوْ فِي أَيِّ الخَرَزَتَيْنِ أَوْ فِي أَيِّ الخَصْفَتَيْنِ أَمِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا فَنَعَمْ أَمْ مِنْ دُبُرِهَا فَلَا إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحِي مِنَ الحَقِّ لَا يَاتُوا النِّسَاءَ فِي أَدْبَارِهِنَّ». قَالَ الشَّافِعِيُّ فَلَسْتُ أُرَخِّصُ فِيهِ بَلْ أَنْهَى عَنْهُ». قال في الحاوي: أعلم أن مذهب الشافعي وما عليه الصحابة وجمهور التابعين والفقهاء أن وطء النساء في أدبارهن حرام. وحكي عن نافع وابن أبي مليكة وزيد بن أسلم أنه مباح ورواه نافع عن ابن عمر واختلفت الرواية فيه عن مالك فروى عن أهل المغرب أنه أباحه في كتاب السيرة. وقال أبو مصعب: سألته عنه فأباحه. وقال ابن القاسم قال مالك: أدركت أحدًا افتدى به في ديني يشك في أنه حلال وأنكر أهل العراق ذلك عنه ورووا عنه تحريمه لما انتقل ابن عبد الحكم عن مذهب الشافعي إلى مذهب مالك حكي عن الشافعي أنه قال: ليس في إتيان النساء في أدبارهن حديث ثابت والقياس يقتضي جوازه يريد ابن عبد الحكم بذلك نصرة مالك فبلغ ذلك

الربيع فقال: كذب والله الذي لا إله إلا هو لقد نص الشافعي على تحريمه في ستة كتب. واستدل من ذهب إلى إباحته بما رواه مالك عن نافع عن ابن عمر: أن رجلاً أتى امرأة في دبرها فوجد في ذلك وجدًا شديدًا، فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]. وقال تعالى: {أَتَاتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الشعراء:165 - 166] فدل على أنه أباح من الأزواج مثل ما حظر من الذكران وقال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] فدل على أن جميعهن باس يستمتع به على عمومه ولأنه لو استثناه من عقد النكاح فسد ولو أوقع عليه الطلاق سرى إلى الباقي، فدل على أنه مقصود الاستمتاع ولأنه أحد الفرجين فجاز إتيانه كالقبل، ولأنه ما ساوى القبل في كمال المهر وتحريم المصاهرة ووجوب الحد ساواه في الإباحة. ودليلنا: قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] فحرم الوطء في الحيض لأجل الأذى فكان الدبر أولى بالتحريم لأنه أعظم أذى ثم قال: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] يعني في القبل فدل على تحريم إتيانها في الدبر. وروى مسلم بن سلام عن علي بن طلق أن أعرابيًا سأل النبي صلى الله عليه وسلم: "وإذا فسا أحدكم فليتوضأ" وخطب الناس فقال: "لا تأتوا النساء في أعجازهن فإن الله لا يستحي من الحق". وروى سهل بن بي صالح عن محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "استحيوا من الله فإن الله لا يستحي من الحق، ولا تأتوا النساء في حشوشهن". وروى حجاج بن أرطأة عن عمرو بن شعيب عن عبد الله بن هرمي عن خزيمة بن ثابت قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن". قال: ملعون من أتى امرأة في دبرها. وروى قتادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: عن إتيان النساء في أدبارهن فقال: "إنها اللوطية الصغرى". وروى يوسف بن ماهك عن أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قال: أنت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم

فقالت إن زوجها يأتيها وهي مدبرة فقال صلى الله عليه وسلم: "لا بأس إذا كان في حمام واحد". وروى الشافعي عن جابر بن عبد الله أن اليهود كانت تقول: من أتى امرأة في قبلها من دبرها جاء ولده أحول فأنزل الله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَاتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} [البقرة: 223]. وأن رجًلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "في أي الحرزتين أو في الخرزتين أو في أي الحصفتين أمن دبرها في قبلها فنعم أم من دبرها في دبرها؟ فلا إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن" ولأن إجماع الصحابة روى ذلك عن على بن أبي طالب. وعبدالله بن عباس وابن مسعود وأبي الدرداء أما علي سئل عنه فقال: {أَتَاتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80] وأما ابن عباس فسأله رجل عنه فقال: هذا يسألني عن الكفر. وأما ابن مسعود وأبو الدرداء فغلظا فيه وحرماه وليس لمن ذكرنا من الصحابة وخالف فصار إجماعًا. فإن قيل: فقد خالفهم ابن عمر قيل: قد روى عنه ابنه سالم خلافه وأنكر على نافع ما رواه عنه. وقال الحسن بن عثمان لنافع أنت رجل أعجمي إنما قال ابن عمر من دبرها في قبلها فصحفت وقلت: في دبرها فأهلكت النساء. ومن طريق القياس أنه إتيان فوجب أن يكون محرمًا كاللواط ولأنه أذى معتاد فوجب أن يحرم الإصابة فيه كالحيض ولا يدخل عليه وطء المستحاضة لأنه نادر. فأما الاستدلال بقوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ} فقد روى جابر أن سبب نزولها ما ذكرته اليهود: أن من أتى امرأة من دبرها في قبلها جاء ولده أحول. وقال ابن عباس: وهم ابن عمر في ذلك إنما نزلت بمن وطء في الفرج من خلفها وحكي عن النبي صلى الله عليه وسلم على أنه سبب نزولها أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسوا يومًا مع قوم من اليهود فجعل بعضهم يقول: إني لآتي امرأتي وهي مضطجعة ويقول الآخر إني لآتيها وهي قائمة ويقول الآخر إني لآتيها وهي على جنبها ويقول الآخر: إني لآتيها وهي باركة فقال اليهودي: ما أنتم إلا أمثال البهائم، فأنزل الله تعالى هذه الآية على أن قوله {حَرْثٌ لَكُمْ} والحرث هو من مزرع الأولاد في القبل دليل على أن الإباحة توجهت إليه دون الدبر الذي ليس بموضع حرث ولا من مزدرع لذلك وأما قوله تعالى: {أَتَاتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ (166)} [الشعراء: 165 - 166] فمعناه أتأتون المحظور من الذكران وتذرون المباح من فروج النساء وقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} [البقرة: 187] فيه تأويلان:

أحدهما: أن اللباس السكن مقوله {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان: 47] أي سكنًا. والثاني: أن بعضهم يستر بعضًا كاللباس وليس في ذلك على التأويلين دليل لهم. وأما فساد العقد باستثنائه وسرائه الطلاق به فقد يفسد العقد باستثناء كل عضو ولا يصح الاستمتاع به من فؤادها وكبدها ويسيري من الطلاق إلى جميع بدنها ولا يدل على إباحة الاستمتاع به فكذلك الدبر. وأما قياسهم على القبل فالمعنى فيه: أنه لا أذى فيه. وأما استدلالهم بما يتعلق به من كمال المهر وتحريم المصاهرة فغير صحيح لأن ذلك يختص بمباح الوطء دون محظور لألا تراه يتعلق بالوطء في الحيض والإحرام والصيام وإن كان محظورًا فكذلك في هذا. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَأَمَّا التَّلَذَذِ بِغَيْرِ إِيلَاجٍ بَيْنَ الإِلْيَتَيْنِ فَلاَ بَاسَ". قال في الحاوي: وهذا صحيح لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)} [المؤمنون:5، 6] ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمن دبرها في قبلها فنعم إن الله لا يستحي من الحق" فدل على إباحة التلذذ بما بين الإليتين. فصل: فأما عزل المني عن الفرج عند الوطء فيه فإن كان في الإماء جاز من غير استئذانهن فيه لرواية أبي سعيد الخدري أنه قال: يا رسول الله إنا نصيب السبايا ونحب الأثمان أفنعزل عنهن؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله تعالى إذا قضى خلق نسمة خلقها، فإن شئتم فاعزلوا" ولأن في العزل عنها استبقاء لرقها وامتناع من الإفضاء إلى عتقها فجاز كما يجوز أن يمتنع من تدبيرها وإن كانت حرة لم يكن له أن يعزل عنها إلا بإذنها. والفرق بينهما أن الحق في ولد الحرة مشترك بينهما وفي ولد الأمة يختص السيد دونها. فصل: فأما الاستمناء باليد وهو استدعاء المني باليد محظور وقد حكي الشافعي عن بعض الفقهاء إباحته وأباحه قوم في السفر دون الحظر. وهو خطأ لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6)} [المؤمنون: 5، 6] فحظر ما سواء الزوجات وملك اليمين وجعل مبتغى ما عداه عاديًا متعديًا لقوله {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ

الْعَادُونَ (7)} [المؤمنون: 7] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لعن الله الناكح بيده" ولأن ذريعة إلى ترك النكاح وانقطاع النسل فاقتضى أن يكون محرمًا كاللواط. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَإِنْ أَصَابَهَا فِي الُّبُر لَمْ يُحْصِنْهًا". قال في الحاوي: وهذا صحيح. لأن الإحصاء كمال فلم يثبت إلا بوطء كامل وهو القبل ولأنه لما لم يتحصن بوطء الإماء وإن كان مباحًا اعتبارًا بأكمله في الحرائر كان بأن لا يتحصن بالوطء المحرم في الدبر أولى وجملة أحكام التي تتعلق بالوطء ثلاث أضرب: أحدها: ما يختص بالوطء في القبل إلا يثبت بالوطء في الدبر. والثاني: إحلالها دون الدبر وهي ثلاثة أحكم: أحدهما: الإحصان للزوج المطلق ثلاثاً لا يكون إلا بالوطء من القبل دون الدبر لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها" في القبل. والرابع: وجوب العدة منه كوجوبها بالوطء في القبل. والخامس: تحريم المصاهرة وثبت به كثبوته بالوطء في القبل. والسادس: فساد العبادات من الحج والصيام والاعتكاف يتعلق به كتعلقها بالوطء في القبل. والسابع: وجوب الكفارة بإفساد الحج والصيام يتعلق به لتعلقها بالوطء في القبل. والضرب الثالث: ما اختلف أصحابنا فيه وهي ثلاثة أحكام: أحدها: الفيئة في إيلاء فيها وجهان. أحدهما: أن لا تكون إلا بالوطء في القبل دون الدبر لأنها من حقوق الزوجية فتعلقت بالوطء المستباح بالعقد وهو القبل. والوجه الثاني: أنها تكون بالوطء في الدبر لأنه قد صار به حانثًا ولزمته الكفارة فصار به فائيًا. والثاني: العدة من الوطء في الدبر فإن كان في عقد نكاح وجبت به العدة كوجوبها بالوطء في القبل لأن العدة في النكاح قد تجب بغير وطء فكان أولى أن تجب بالوطء في الدبر وإن كان بسببه ففي وجوب العدة فيه وجهان:

باب الشغار وما دخل فيه

أحدهما: تجب كوجوبها في النكاح. والثاني: هو قول أبي علي بن خيران - لا تجب لأنها في الشبهة تكون استبراء محضًا حفظًا للنسب واستبراء للرحم وهذا المعنى مختص بالقبل دون الدبر. والثالث: لحقوق النسب من الوطء في الدبر وإن كان غي عقد نكاح لحق وإن كان سبهة ففي لحوق النسب به وجهان وإن كان قيل بوجوب العدة منه كان النسب لاحقًا وإن قيل: لا تجب العدة فيه لم يلحق به النسب، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَيَنْهَاهُ الإِمَامُ فَإِنْ عَادَ عَزَّرَهُ فإِنْ كَانَ فِي زِنًا حَدَّهُ وَإِنْ كَانَ غَاصِبًا أَغْرَمَهُ وَأَفْسَدَ حَجَّهُ". قال في الحاوي: أما فاعل ذلك في زوجته أو أمته فإنه ينهى ويكف لإقدامه على حرام وارتكابه لمحظور ولا يعاجل في أول فعله بأكثر من النهي فينهى الزوج من الفعل وتنهى الزوجة من التمكين فإن عاودوا ذلك بعد النهي عذِّرا تأديبًا وزجرًا ولا أحد فيه لأجل الزوجية فأما فاعله زنى فعليه الحد وهو حد اللواط وفيه قولان: أحداهما: كحد الزنا جلد مائة وتغريب عام وإن كان بكرًا أو الرجم إن كان ثيبًا. والثاني: القتل بكرًا كان أو ثيبًا وأما المفعول بها فإن كانت مطاوعة فعليها حد اللواط على القولين. وإن كانت مكرهه فلا حدّ عليها ولها مهر مثلها فإن قيل: فليس في اللواط مهر فكيف وجب لهذه مهر والفعل معها كاللواط. قيل: لأن النماء جنس يجب في التلذذ بهن مهر فوجب لهن المهر والذكران جنس يخالفون النساء فيه فلم يجب لهم مهر، والله أعلم. باب الشغار وما دخل فيه قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ الله: "وإذا أنكح الرجل ابنته أو المرأة تلي أمرها الرجل على أن ينكحه ابنته أو المرأة تلي أمرها على أن صداق كل واحدة منهما بضع الأخرى ولم يسم بكل واحدة منهما صداقًا فهذا الشغار الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مفسوخ". قال في الحاوي: وأما الشغار في اللغة فهو الخلو، ويقال بلد شاغر إذا خلا من سلطان، وأمر شاغر إذا خلا من مدبر. أصله: مأخوذ من شغور الكلب، يقال: شغر الكلب إذا رفع إحدى رجليه للبول لخلو الأرض منها.

(وحكى) الجاحظ أن شغور الكلب علامة بلوغه وأنه يبلغ بعد سنة أشهر من عمره واستشهد بقول الشاعر حَتَّى تُوَفَا الستَّة الشُّهُورَا مِنْ عُمْرِهِ وَبَلَغَ الشَّغُورَا وهذا قول أبي عمر وابن العلاء والأصمعي وأكثر أهل اللغة. وقال ابن الأعرابي: سمي الشغار شغارًا لقبحه ومنه شغور الكلب لقبح منظره إذا بال مع رفع رجليه. وقال ثعلب: الشغار الرفع ومنه شغور الكلب. والأصل في الشغار ما رواه ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار. وروى حميد عن الحسن عن عمران بن الحصين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا جلب ولا جنب ولا شغار في الإسلام". والشغار ما وصفه الشافعي بقول الرجل: قد زوجتك بنتي أو وليتي على أن تزوجني بنتك أو وليتك على أن تضع كل واحد منهما صداق الأخرى أو يقول على أن صداق كل واحدة منهما بضع الأخرى فهذا هو الشغار المنهي عنه والدليل عليه حديثان: أحدهما: ما رواه الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن الشغار والشغار: أن يزوج الرجل ابنته الرجل على أن يزوجه الرجل الآخر ابنته ليس بينهما صداق. والحديث الثاني: رواه معمر عن ثابت عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا شغار في الإسلام" والشغار أن يبذل الرجل أخته بأخته. وهذا التفسير من الراوي إما أن يكون سماعًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو نص وإما أن يكون عن نفسه فهو لعلمه بمخرج الخطاب ومشاهدة الحال أعرف به من غيره. فإذا تقرر أن نكاح الشغار ما وصفنا فعقد النكاح فيه باطل. وبه قال مالك وأحمد وإسحاق إلا أن مالكًا جعل النهي فيه متوجهًا إلى الصداق وعنده أن فساد الصداق موجب لفساد النكاح وعندنا أن النهي متوجه إلى النكاح دون الصداق وأن فساد الصداق لا يوجب فساد النكاح فصار مالك موافقًا في الحكم مخالفًا في معنى النهي. وقال أبو حنيفة: نكاح الشغار جائز والنهي فيه متوجه إلى الصداق دون النكاح

وفساد الصداق لا يوجب فساد النكاح فصار مخالفًا لمالك في الحكم موافقًا له في معنى النهي. وبه قال الزهري والثوري استدلاًلا بأن النهي متوجه إلى الصداق لأنه لو قال كل واحد منهما: قد زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك كان النكاح جائزًا وإنما أبطله إذا قال: على أن صداق كل واحدة منهما بضع الأخرى فدل على أن النهي توجه إلى الصداق وفساده لا يوجب فساد النكاح كما لو تزوجها على صداق من خمر أو خنزير ولأنه لو قال: قد زوجتك بنتي على أن صداقها طلاق امرأتك صح النكاح وإن جعل الصداق بضِع زوجته فكذلك في مسألتنا قالوا: ولأنكم جوزتم النكاح إذا سمي لهما أو لأحدهما صداقًا فكذلك وإن لم يسميه لأن ترك الصداق في العقد الصحيح لا يوجب فساده كما أن ذكره في العقد الفاسد لا يوجب صحته. ودليلنا ما قدمناه من نهي النبي صلى الله عليه وسلم والنهي عندنا يقتضي فساد المنهي عنه ما لم يصرف عن دليل. فإن قالوا: قد فسد بالنهي ما توجه إليه وهو الصداق دون النكاح فعنه جوابان: أحدهما: أن النهي إلى النكاح ما رواه نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن نكاح الشغار". والثاني: أنه يجمل على عموم الأمرين. فإن قالوا: إنما سمي شغارًا لخلوه من صداق ونحن لا نخليه لأننا نوجب فيه صداق المثل فامتنع أن يكون شغارًا. قيل: هذا فاسد لأنه ليس يمنع ما أوجبتموه من الصداق بعد العقد من أن يكون نكاح الشغار ووقت العقد قد توجه النهي إليه فاقتضى فساده. ومن طريق القياس ما ذكره الشافعي في التقديم أنه عقد فيه مثنوية ومعناه: أنه ملك الزوج بضع بنته بالنكاح أو ارتجعه منه بأن جعله ملكًا لبنت الزوج بالصداق وهذا موجب لفساد النكاح كما لو قال: زوجتك بنتي على أن يكون بضعها ملكًا لفلان كن النكاح فاسدًا بإجماع كذلك هذا بالحجاج وتحريره: أنه جعل المقصود لغير المعقود له فوجب أن يبطل قياسًا على ما ذكرناه من قوله: زوجتك بنتي على أن يكون بضعها لفلان ولأن جعل المعقود عليه معقودًا به فوجب أن يكون باطًلا كما لو زوج بنته بعبد على أن تكون رقبته صداقها ولأن العين الواحدة إذا جعلت عوضًا ومعوضًا فإذا بطل أن تكون عوضًا بطل أن تكون معوضًا كالثمن والمثمن في البيع وهو أن يقول: قد بعتك عبدي بألف على أن يكون ثمنًا لبيع دارك علي. فأما الجواب عن استدلالهم بأن الفساد في الصداق لأنه لو قال: قد زوجتك بنتي

على أن تزوجني بنتك كان النكاح جائزًا فهو أن الفساد إنما كان الشغار للاشتراك في البضع وفي هذا الموضع لا يكون في البضع اشتراك فصح ألا تراه لو قال: زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك على ان بضع بنتي صداق لبنتك بطل نكاح بنته لأنه حصل في بعضها اشتراكًا ولم يبطل نكاح الأخرى لأنه لم يحصل في بعضها اشتراكًا. وأما استدلاله بأن لو جعل صداق بنته طلاق زوجته صح فكذلك هاهنا فالجواب عنه أن فساد اختص بالمهر ولم يحصل في البضع تشريك فلذلك صح وليس كذلك في مسألتنا. وأما استدلاله الآخر فسنذكر من اختلاف أصحابنا في حكمه ما يكون جوابًا، وبالله التوفيق. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ سَمَّى لَهُمَا أَوْ لأحدهما صَدَاقًا فَلَيْسَ بِالشِّغَارِ المَنْهِيِّ عَنْهُ وَالنِّكَاحُ ثَابِتٌ وَالمَهْرُ فَاسِدٌ وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا مَهْرُ مِثْلِهَا وَنِصْفُ مَهْرٍ إِنْ طُلِّقَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ. فَإِنْ قِيلَ فَقَدْ ثَبَتَ النِّكَاحُ بِلاَ مَهْرٍ قِيلَ: لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجَازَهُ فِي كِتَابِهِ فَأَجَزْنَاهُ وَالنِّسَاءُ مُحَرَّمَاتُ الفُرُوج إلَّا بِمَا أَحَلَّهُنَّ اللهُ بِهِ فَلَمَّا نَهَى عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ عَنْ نِكَاحِ الشِّغَارِ لَمْ أُحِلَّ مُحَرَّمًا بمُحَرَّم وَبِهَذَا قُلْنَا فِي نِكَاحَ المُتْعَةِ وَالمُحَرَّم قَالَ: وَقُلْتُ لِبَعْضِ النَّاسِ أَجَزْتُ نِكَاحَ الشِّغَارِ وَلَمْ يُخْتَلَفْ فِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَرَدَدْتُ نِكَاحَ المُتْعَةِ وَقَدْ اخْتُلِفَ فِيهَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وّهّذَا تَحَكُّمٌ أَرَأَيْتَ إِنْ عُورِضْتَ فَقِيلَ لَكَ نَهَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ تُنْكَحَ المَرْأَةُ عَلَى خَالَتِهَا أَوْ عَلَى عَمَّتِهَا وَهَذَا اخْتِيَارٌ، فَأَجِزْهُ فَقَالَ: لاَ يَجُوزُ لأَنَّ عَقْدَهُ مَنْهِيٌ عَنْهُ. قَيلَ: وَكَذَلِكَ عَقْدُ الشِّغَارِ مُنْهِيٌ عَنْهُ، قَالَ المُزَنِيُّ لاَ عَنْ الصَّدَاقِ وَلَوْ كَانَ الشَّافِعِيُّ نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عّنْ الشِّغَارِ نَهَى عَنْ النِّكَاحِ نَفْسِهِ لاَ عَنْ الصَّدَاقِ وَلَوْ كَانَ عَنْ الصَّدَاقِ لَكَانَ النِّكَاحُ ثَابِتًا وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا". قال في الحاوي: وهذا كما قال: اختلف أصحابنا في صورة هذا المسألة على وجهين: أحدهما: صورتها أن تقول: قد زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك على أن صداق كل واحدة منهما بضع الأخرى ومائة درهم فيصح النكاح اعتبارًا بالاسم وأنه لا يسمى مع المهر مذكورًا شغارًا خاليًا ويكون لكل واحد منهما مهر مثلها لفساد الصداق. والثاني: أن هذه المسألة شغار يفسد فيه النكاحان اعتبارًا بالمعنى وهو التشريك في البضع وهو أن صورة الشافعي رضي الله تعالى عنه التي لم يجعلها شغارًا أن يقول: قد زوجتك بنتي على صداق مائة على أن تزوجني بنتك على صداق مائة فالنكاحان

باب نكاح المتعة والمحلل

جائزان لأنه لم يشرك في البضع ولا جعل المعقود عليه معقودًا به ويبطل الصداقان لأن فساد الشرط راجع إليه فسقط فيه ما قابله وهو مجهول فصار باقية مجهوًلا والصداق المجهول يبطل ولا يبطل به النكاح بخلاف البيع الذي يبطل ببطلان الثمن فلو قال: قد زوجتك بنتي بصداق ألف على أن تزوجني بنتك بصداق ألف على أن بضع كل واحدة منهما بضع الأخرى صح النكاحان على الوجه الأول ولم يكن شغارًا لما تضمنه من تسمية الصداق وبطل النكاحان على الوجه الثاني وكان شغارًا لما فيه من التشريك في البضع ولو قال: زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك صح النكاحان على الوجهين معًا وكان لكل واحدة منهما مهر مثلها لما ذكرنا من أن شرط يعود فساده إلى المهر المستحق ولو قال: زوجتك بنتي على أن تزوجني بنتك على أن بضع بنتي صداق لبنتك بطل نكاح بنته لأنه جعل بضعها مشتركًا وصح نكاحه على بنت صاحبه لأنه لم يجعل بضعها مشتركًا ولو قال: على أن صداق بنتي بضع بنتك صح نكاح بنته وبطل نكاحه لبنت صاحبه لأن الاشتراك في بضعها لا في بضع بنته فتأمله تجده مستمر التعليل، وبالله التوفيق. فصل: وإذا قال الرجل لرجل: إن جئتني بكذا أو كذا إلى أجل يسميه فقد زوجتك بنتي فجاءه به في أجله لم يصح النكاح وأجازه مالك مع الكراهة إذا أشهد على نفسه بذلك استدلاًلا بقوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34] وهذا خطأ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدخل في ديننا ما ليس منه فهو رد" ولأنه نكاح مسلم علق بمجيء صفة فوجب أن لا يصح كقوله: قد زوجتكما إذا جاء المطر، ولأن عقود المعاوضات لا تتعلق بمجيء الصفات كالبيوع فأما قوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] فليس هذا عقد فيلزم الوفاء به، والله أعلم. باب نكاح المتعة والمحلل قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَاٍب عَنْ عَبْدِ اللهِ وَالحَسَنِ ابْنَي محَمَّدِ بْنِ عَليِّ عَنْ أَبِيهِمَا عَنْ عَلِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نّهّى يَوْمَ خَيْبَرَ عَنْ نِكَححِ المُتْعَةِ وَأَكْلِ لُحُومِ الحُمُرِ الأَهْلِيَّةِ، قَالَ: وَإِنْ كِانِ حَدِيثُ عَبْدِ العَزِيزِ بْنِ عُمَرَ عَنْ الَّبِيعِ بْنِ سَبْرَةَ ثَابِتًا فَهُوَ مُبَيِّنٌ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَحَلَّ نِكَاحَ ثُمَّ قَالَ: "هِيَ حَرَامٌ إِلَى يَوْم اَلقِيَامَةِ" قَالَ: وَفِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ دَلِيلٌ عَلَى تَحْرِيمِ المُتْعَةِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} [الأحزاب:49] فَلَمْ يُحَرِّمْهُنَّ اللهُ عَلَى الأَزْوَاجِ إِلاَّ بِالطَّلاقِ وقَالَ تَعَالَى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ} [النساء:20] فَجَعَلَ إِلَى الأَزْوَاجِ فُرْقَةَ مَنْ عَقَدُوا عَلَيْهِ النِّكَاحَ مَعَ أَحْكَامِ مَا بَيْنَ الأَزْوَاجِ فَكَانَ بَيِّنًا، وَاللهِ أَعَلَمُ، أَنَّ نِكَاحَ المُتْعَةِ مَنْسَوخٌ

بَالقُرآنِ وَالسُّنَّةِ لأَنَّهُ إِلَى مُدَّةٍ نَجِدُهُ يَنْفَسِخُ بِلاَ إِحْدَاثِ طَلاَقٍ فِيهِ وَلاَ فِيهِ أَحْكَامُ الأَزْوَاجِ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: نكاح المتعة حرام وهو أن يقول للمرأة: أمتعيني نفسك شهرًا أو موسم الحاج أو ما أقمت في البلد أو يذكر ذلك بلفظ النكاح أو التزويج لها أو وليها بعد أن يقدره بمدة إما معلومة أو مجهولة فهو نكاح المتعة الحرام وهو قول العلماء من الصحابة والتابعين والفقهاء. وحكي عن ابن عباس وابن مليكة وابن جريج والإمامية. رأيهم فيه جوازًا استدلاًلا بقوله تعالى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] فكان على عمومه في المتعة والمقدرة والنكاح المؤبد وقال تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] وهذا أبلغ في النص. وروى سلمة بن الأكوع أنه منادى رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يقول: "إن الله قد آذن لكم فاستمتعوا" وهذا نص. وروي عن عمر بن الخطاب أنه قال: "متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما متعة النساء ومتعة الحج فأخبر بإباحتها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وما ثبت إباحته بالشرع لم يكن له تحريمه بالاجتهاد وقالوا: ولأنه عقد منفعة فصح تقديره بمدة كالإجازة ولأنه قد ثبت إباحتها بالإجماع فلم ينتقل عنه إلى التحريم إلا بالإجماع. ودليلنا: قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30)} [المعارج: 29 - 30] وليست هذه زوجته ولا ملك يمين فوجب أن يكون فيها ملومًا ثم قال: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)} [المؤمنون: 7] فوجب أن يكون عاديًا. ويدل عليه من السنة مع الحديث الذي رواه الشافعي في صدر الباب ما رواه أبو ضمرة عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز عن الربيع بن سبرة عن أبيه قال: قدمت مكة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال: "استمتعوا من هؤلاء النساء" والاستمتاع يومئٍذ عندنا النكاح فكلم النساء من كلمهن فقلن لا ينكح الأنبياء ونبيكم أجل فذكرنا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اضربوا بينكم وبينهن أصًلا فخرجت أنا وابن عم لي عليه برد وعيّ برد، وبرده أجود من بردي وأما أشب منه فأتينا امرأة فأعجبها برده وأعجبها شبابي فقالت: برد كبرد فكان الأجل بيني وبينها عشرًا فبت عندها تلك الليلة ثم عدت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المقام والركن يخطب الناس فقال: "يا أيها الناس قد كنت أذنت لكم في الاستمتاع من هؤلاء النساء وإن الله د حرم ذلك وهو حرام إلى يوم القيامة فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيلها ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا".

وروى ابن أبي لهيعة عن موسى بن أيوب عن إياس بن عامر عن علي بن أبي طالب قال: نهى رسول الله صَلَى الله عليه وسلم عن المتعة وقال: إنما كانت لمن لم يجد فلما أنزل النكاح والطلاق والعدة والميراث بين الزوج والمرأة نسخت. وروى عمر بن الخطاب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أباح المتعة ثلاثًا ثم حرمهما. وروى نافع عن ابن عمر قال: نهى رسول الله صَلَى الله عليه وسلم يوم خيبر عن لحوم الحمر الأهلية وعن متعة النساء وما كنا مسافحين. وروى عكرمة بن عمار عن سعيد عن أبي هريرة قال: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في غزوة تبوك فنزلنا عند ثنية الوداع فرأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مصابيح ونساء يبكين فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حرم المتعة, النكاح, والطلاق, والعدة والميراث". وحكي أن يحيى بن أكثم دخل على المأمون فقال: يا أمير المؤمنين أحللن المتعة وقد حرمها رسول الله صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فقال المأمون: يا يحيى إن تحريم المتعة حديث رواه الربيع بن سبرة أعرابي يبول على عقبيه ولا أقول به. فقال يحيى بن أكثم: يا أمير المؤمنين هاهنا حديث آخر فقال: هاته يا يحيى فقال: حدثنا القنبعي فقال المأمون: لا بأس به عن من؟ فلما قال يحيى: عن مالك فقال المأمون: كان أبي يبجله هيا فقال يحيى: عن الزهري عن المأمون: كان ثقة في حديثه ولكن كان يعمل لبني أمية هيا فقال يحيى: عن عبد الله والحسن ابني محمد بن علي ابن الحنفية قال: ففكر المأمون ساعة ثم قال: كان أحدهما يقول بالوعيد والآخر بالإرجاء "هيا" قال يحيى: عن أبيهما محمد بن علي قال: هيا. قال يحيى عن علي بن أبي طالب قال: هيا قال يحيى: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عام خيبر عن المتعة وعن أكل لحوم الحمر الأهلية فقال المأمون: يا غلام اركب فناد أن المتعة حرام. فإن قيل: فهذه الأحاديث مضطربة يخالف بعضها بعضًا, لأنه روى في بعضها أنه حرمها عام خيبر وروى في بعضها أنه حرمها عام الفتح بمكة. وروي في بعضها أنه حرمها في غزوة تبوك وروى في بعضها أنه حرمها في حجة الوداع وبين كل وقت ووقف زمان ممتد ففيه جوابان: أحدهما: أنه تحريم في مواضع ليكون أظهر وأنشر حتى يعلمه من لم يكن قد علمه لأنه قد يحضر في بعض المواضع من لم يحضر معه في غيره فكان ذلك أبلغ في التحريم وأوكد. والثاني: أنها كانت حلالًا فحرمت عام خيبر ثم أباحها بعد ذلك لمصلحة علمها ثم

حرمها في حجة الوداع ولذلك قال فيها: "وهي حرام إلى يوم القيامة" تنبيهًا على أن ما كان من التحريم المتقدم موقف تعقبته إباحة وهذا تحريم مؤبد لا تتعقبه إباحة ولأنه إجماع الصحابة روي ذلك عن أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود وابن عمر وابن الزبير وأبي هريرة. قال ابن عمر: لا أعلمه إلا السفاح نفسه. وقال ابن الزبير: المتعة هي الزنا الصريح. فإن قيل: فقد خالفهم ابن عباس ومع خلافه لا يكون الإجماع قيل: قد رجع ابن عباس عن إباحتها وأظهر تحريمها وناظره عبد الله بن الزبير عليها مناظرة مشهورة وقال له عروة بن الزبير: أهلكت نفسك قال: وما هو يا عروة قال: تفتي بإباحة المتعة وكان أبو بكر وعمر ينهيان عنها, فقال: عجيب منك أخبرك عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتخبرني عن أبي بكر وعمر فقال له عروة: إنهما أعلم بالسنة منك فسكت. وروى المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير: أن رجلًا أتى ابن عباس فقال: هل لك فيما صنعت نفسك في المتعة حتي صارت به الركاب وقال الشاعر: أقول للشيخ لما طال مجلسه يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس يا صاح هل لك في بيضاء بهكنة تكون مثواك حتى يصدر الناس فقال ابن عباس: ما إلى هذا ذهبت وقام يوم عرفة فقال: يا أيها الناس إنها والله لا تحل لكم إلا ما تحل لكم الميتة والدم ولحم الخنزير. يعني إذا اضطررتم إليها ثم رجع عنها فصار الإجماع برجوعه منعقدًا والخلاف به مرتفعًا وانعقاد الإجماع بعد ظهور الخلاف أوكد لأنه يدل على حجة قاطعة ودليل قاهر. ومن القياس: أنه حل عقد جاز مطلقًا فبطل مؤقتًا كالبيع طردًا والإجارة عكسًا ولأنه للنكاح أحكامًا تتعلق بصحتها وتبقى عن فاسدها وهي الطلاق والطهار والعدة والميراث. فلما انتفت عن المتعة هذه الأحكام دل على فساده كسائر المناكح الفاسدة. فأما الجواب على قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 3] فهو أن المتعة غير داخلة في النكاح لأن اسم النكاح ينطلق على ما اختص بالدوام لذلك قيل: قد استنكحه المدى لمن دام به فلم يدخل فيه المتعة المؤقتة ولو جاز أن يكون عامًا لخص بما ذكرنا. وأما الجواب عن قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] فمن وجهين: أحدهما: أن عليًا وابن مسعود رؤيا أنها نسخت بالطلاق والعدة والميراث.

والثاني: أنها محمولة على الاستمتاع بهن في النكاح وقول ابن مسعود إلى أجل مسمى يعني به المهر دون العقد. وأما حديث سلمة بن الأكوع فالإباحة فيه منسوخة بما رويناه من التحريم الوارد بعده. وأما تفرد عمر بالنهي عنها فما تفرد به وقد وافقه عليه الصحابة وإنما كان إمامًا فاختص بالإعلان والتأديب ولم يكن بالذي يقدم على تحريم بغير دليل ولكانوا قد أقدموا عليه يمسكون عنه ألا تراه يقول على المنبر: لا تغالوا في صدقات النساء فلو كانت تكرمة لكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أولاكم بها فقالت امرأة: أعطانا الله ويمنعنا ابن الخطاب فقال عمر: وأين أعطاكن فقالت: بقوله: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَاخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر حتى امرأة. وروي أن عمر قال يومًا على المنبر: أيها الناس استمتعوا فقال سلمان: لا نسمع فقال عمر: ولم ذاك فقال سليمان: لأن الثياب لما قدمت من العراق وفرقتها علينا ثوبًا وأخذت ثوبين لنفسك فقال عمر: أما هذا فثوبي وأما الآخر فاستعرته من ابني ثم دعي ابنه عبد الله وقال: أين ثوبك؟ فقال: هو عليك, فقال سلمان: قل الآن ما شئت يا أمير المؤمنين فكيف يجوز مع اعتراضهم عليه في مثل هذه الأمور أن يمسكوا عنه في تحريم ما قد أحله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلا ينكرونه لولا اعترافهم بصحته وبقائهم على تحريمه فإن قيل: فقد روي عن جابر بن عبد الله وسلمة بن الأكوع أنهما قالا: سمعنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحل المتعة وسمعنا عمر ينهى عنها فتبعنا عمر قيل معناه: تبعنا عمر فيما رواه من التحريم لأنه روى لهم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أباح ثلاثًا ثم حرمها. فكيف يجوز لولا ما ذكرنا أن يضاف إلى جابر وأبي سلمة أنهما خالفا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتبعا عمر ولو تبعاه لما تبعه غيرهما من الصحابة. وأما قياسهم على الإجازة فالمعنى فيهما: أنها لا تصح مؤبدة فصمت مؤقتة والنكاح لما صح مؤبدًا لم يصح مؤقتًا. وأما الجواب عن استدلالهما بأنه قد ثبت إباحتها بالإجماع فلم يعدل إلى تحريمها إلا بالإجماع فمن وجهين: أحدهما: أنه ما ثبت به إباحتها هو الذي ثبت به تحريمها فإنه كان دليلًا على الإباحة وجب أن يكون دليلًا في التحريم. والثاني: أن الإباحة الثابتة بالإجماع هو إباحة مؤقتة تعقبها نسخ وهم يدعون إباحة مؤبدة لم يتعقبها نسخ فلم يكن فيما قالوه إجماع.

فصل: فإذا تقرر ما وصفنا من تحريم المتعة فلا حد فيها لمكان الشبهة ويعززان أدبًا إن علما بالتحريم ولها مهر مثلها بالإصابة دون المس وعليها العدة وإن جاءت بولد لحق بالوطء لأنها صارت بإصابة الشبهة فرشًا ويفرق بينهما بغير طلاق لأنه ليس بينهما نكاح يلزم ويثبت بهذا الإصابة تحريم المصاهرة والله أعلم. مسألة: "وَنِكَاحُ المُحَلِلَ باطِل". قال في الحاوي: وصورتها في امرأة طلقها زوجها ثلاثًا حرمت عليه إلا بعد زوج فنكحت بعده زوجًا ليحلها للأول فيرجع إلى نكاحها فهذا على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يشترطا في عقد النكاح أن يتزوجها على أنه إذا أحلها بإصابة للزوج الأول فلا نكاح بينهما فهذا نكاح باطل. وقال أبو حنيفة: النكاح صحيح والشرط باطل. والدليل على بطلانه ما رواه الحارث الأعور عن علي ورواه عكرمة عن ابن عباس ورواه أبو هريرة كلهم بروايته عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لعن الله المحلل والمحلل له". وروى عقبة بن عامر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "ألا أخبركم بالتيس المستعار"؟ قالوا: بلى يا رسول الله قال: "هو المحلل والمحلل له". ولأنه نكاح على شرط إلى مدة فكان أغلظ فساد من نكاح المتعة على وجهين: أحدهما: جهالة مدته. والثاني: أن الإصابة فيه مشروطة لغيره فكاد بالفساد أخص ولأنه نكاح شرط فيه انقطاعه قبل غايته فوجب أن يكون باطلًا. أصله: إذا تزوجها شهرًا أو حتى يطأ أو يباشر. والقسم الثاني: أن يتزوجها ويشترط في العقد أنه إذا أحلها للزوج الأول طقها ففي النكاح قولان: أحدهما: وهو قوله في القديم "والإملاء" أن النكاح صحيح لأنه لو تزوجها على أن لا يطلقها كان النكاح جائزًا وله أن يطلقها كذلك إذا تزوجها على أن يطلقها وجب أن يصح النكاح ولا يلزمه أن يطلقها.

والثاني: نص عليه في الجديد من "الأم" وهو الأصح - أن النكاح باطل لأنه باشتراط الطلاق مؤقت والنكاح ما تأبد ولم يتوقف وبهذا المعنى فرقنا بين أن يشترط فيه أن لا يطلقها فيصح لأنه مؤبد وإذا شرط أن يطلقها لم يصح لأنه مؤقت. والقسم الثالث: أنه يشترط ذلك عليه قبل العقد ويتزوجها مطلقًا من غير شرط لكنه ينوي ويعتقده. فالنكاح صحيح لخلو عقده من شرط يفسده وهو مكروه لأنه نوى فيه ما لو أظهره أفسده ولا يفسد بالنية لأنه قد ينوي ما لا يفعل ويفعل ما لا ينوي وأبطله مالك وقال: هو نكاح محلل وحكى أبو إسحاق المروزي عن أبي حنيفه أنه استحبه لأنه قد تصير الأول بإحلالها له وكلا المذهبين خطأ بل هو صحيح بخلاف قول مالك ومكروه بخلاف استحباب أبي حنيفة لما رواه الشافعي عن سعيد بن سالم عن ابن جريج عن ابن سيرين: أن امرأة طلقها زوجها ثلاثًا وكان يقعد على باب المسجد أعرابي مسكين فجاءته امرأة فقالت له: هل لك في امرأة تنكحها فتبيت معها الليلة فإذا أصبحت فارقتها قال: نعم ومضى فتزوجها وبات معها ليلة فقالت له: سيقولون لك إذا أصبحت فارقها لا تفعل فإني مقيمة لك ما ترى واذهب إلى عمر فلما أصبح أتوه وأتوها فقالت لهم: كلموه, فأنتم أتيتم به, فقالوا له: فارقها فقال: لا أفعل امض إلى عمر فأخبره. فقال له: الزم زوجتك فإن رابوك بريبة فأتني وبعث عمر إلى المرأة التي مشت لذلك فنكل بها. وكان الأعرابي يغدو ويروح إلى عمر في حلة فيقول له عمر: الحمد لله الذي كساك يا ذا الرقعتين حلة تغدو فيها وتروح. فقد أمضى عمر النكاح: فبطل به قول مالك في فساده وكل عمر بالمرأة التي شت فيه فدل على كراهته وفساد ما حكي عن أبي حنيفة من استحبابه. فصل: فإذا تقرر ما ذكرنا من أقسام نكاح المحلل فإن قلنا بصحته تعلق به أحكام النكاح الصحيح من ثبوت الحصانة ووجوب النفقة وأن يكون مخيرًا فيه بين المقام أو الطلاق فإن طلق بعد الإصابة التامة فقد أحلها للزوج الأول فأما المهر فإن لم يتضمن العقد شرط يؤثر فيه فالمسمى هو المستحق, وإن تضمن شرطًا يؤثر فيه كان المستحق مهر المثل دون المسمى وإن قلنا بفساد العقد وإنه باطل فلا حدّ عليه فيه لأجل الشبهة لكن يعزز لإقدامه على منهي عنه ولا يثبت بالإصابة فيه حصانة ولا يستحق فيه نفقة ويجب فيه بالإصابة مهر المثل وهل يحلها للزوج إذا ذاقت عسيلته وذاق عسيلتها أم لا؟ على قولين: أحدهما: وهو قوله في القديم: أنه يحلها للأول واختلف أصحابنا في تعليله فقال بعضهم: ذوق العسيلة في شبهة النكاح تجري عليه حكم الصحيح من النكاح. وقال آخرون: اختصاصه باسم المحلل موجب لاختصاصه بحكم التعليل فعلى التعليل الأول تحل الإصابة في كل نكاح فاسد من شعار ومتعة وبغير ولي ولا شهود.

باب نكاح المحرم

وعلى التعليل الثاني: وهو الجديد الصحيح أنه لا يحلها للزوج الأول لا في نكاح المحلل ولا غيره في الأنكحة الفاسدة حتى يكون نكاحًا صحيحًا. لقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وهذا ليس بزوج ولأن كل إصابة لم يتعلق بها إحصان لم يتعلق فيها إحلال الزوج كالإصابة بملك اليمين. باب نكاح المحرم قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: "أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ نَافِعٌ عَنْ نَبِيه بْنِ وَهْبٍ عَنْ أَبَان بْنِ عُثْمَانَ عَنْ عُثْمَانَ بِنْ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَنْكِحُ المُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ" وَقَالَ بَعْضُ النَّاس: رَوَيْنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَكَحَ مَيْمُونَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهُوَ مُحْرِمٌ. قُلْتُ: رِوَايَةُ عُثْمَانَ ثَابِتَةٌ وَيَزِيدُ بْنُ الأَصَمِّ ابْنُ أُخْتِهَا وَسُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارِ عَتِيقُهَا أَوِ ابْنِ عَتِيقِهَا يَقُولَانِ نَكَحَهَا وَهُوَ حَلَالٌ وَثَالِثٌ وَهُوَ سَعِيدُ بْنُ المُسِيبِ وَيَنْفَرِدُ وَعَلَيْكَ حَدِيثُ عُثْمَانَ الثَّابِتُ وَقُلْتُ: أَلَيْسَ أَعْطَيتَنِي أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَتِ الرِّوَايَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَظَرْتُ فِيمَا فَعَلَ أَصْحَابُهُ مِنْ بَعْدِه فَأَخَذْتُ بِهِ وَتَرَكْتُ الَّذِي يُخَالِفَهُ؟ قَالَ: بَلَى قُلْتُ فَعُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ وَيَزِيدُ بْنُ ثَابِتٍ يَرُدَّانِ نِكَاحِ الُمْحرِمِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَا يَنْكِحُ المُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ وَلَا أَعْلَمُ لَهُمَا مٌخَالِفًا فَلِمَ لَا قُلْتَ بِهِ؟ قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ كَانَ المُحْرِمِ حَاجًّا فَحَتَّى يَرْمِي وَيَحْلِقَ وَيَطُوفَ بِالبَيْتِ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ بَعْدَهُ وَإِنْ كَانَ مُعْتَمِرًا فَحَتَّى يَطُوفَ بِالبَيْتِ وَيَسْعَى وَيَحْلِقَ فَإِنْ نَكَحَ قَبْلَ ذَلِكَ فَمَفْسُوخٌ وَالرَّجْعَةُ وَالشَّهَادَةُ عَلَى النِّكَاحِ لَيْسَا بِنِكَاحٍ". قال في الحاوي: وقد مضى في كتاب الحج أن نكاح المحرم لا يجوز ودللنا عليه وذكرنا من خالفنا فيه ونحن الآن نشير إليه متى عقد النكاح والزوج أو الزوجة أو الولي محرم فالنكاح باطل. وقال مالك: صحيح ويفسخ يطلق. وقال أبو حنيفة: نكاحه جائز ولا يلزم فسخه استدلالًا برواية عكرمة عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نكح ميمونة وهو محرم. وبرواية ابن أبي مليكة عن عائشة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوج وهو محرم. ولأنه عقد يستباح به البضع فلم يمنع الإحرام منه كالرجعة وشراء الإماء. ودليلنا: رواية عثمان أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا ينكح المحرم ولا ينكح" وروى

أنس بن مالك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "لا يخطب المحرم ولا يتزوج". وروى مطر عن الحسن أن عليًا رضي الله تعالى عنه قال: من تزوج وهو محرم نزعنا منه امرأته ولم يجز نكاحه. وروى أبو غطفان عن أبيه أن عمر رضي الله تعالى عنه فرق بين محرمين تزوجا. وروى قدامة بن موسى عن شوذب مولى زيد بن ثابت أنه تزوج وهو محرم ففرق زيد بن ثابت بينهما. فلما روي عنهم التفرقة بين الزوجين ولا يسوغ ذلك في عقد يسوغ فيه الاجتهاد دل على أن النص فيه ثابت لا يجوز خلافه ولأنه معنى ثابت به تحريم المصاهرة فوجب أن يمنع منه الإحرام كالوطء. فأما الجواب عن حديث ميمونة فقد روى ميمون بن مهران عن يزيد بن الأصم عن ميمونة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوجها وهما حلالان. وروى ربيعة عن سليمان بن يسار عن أبي رافع أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوج ميمونة حلالًا وبني بها حلالًا وكنت أنا الرسول بينهما. وأما حديث ابن أبي مليكة عن عائشة فضعيف لا أصل له عند أصحاب الحديث وإن صح فيجوز أن يكون فعل ذلك في أول الإسلام قبل تحريم نكاح المحرم على أن أبا الطيب بن سلمة جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مخصوصًا بالنكاح في الإحرام. وأما القياس على شراء الإماء فليس المقصود منه الاستمتاع لجواز شراء المعتدة وذات المحرم وكذلك المحرمة والمقصود من عقد النكاح الاستمتاع إذ لا يجوز أن ينكح معتدة ولا ذات محرم وكذلك المحرمة فأما الرجعة فتحل للمحرم لأنها سد ثم في العقد ورفع تحريم طرأ عليه وليست عقداً مبتدأ فجازت في الإحرام ألا ترى أن العبد يراجع بغير إذن سيده وإن لم يجز أن ينكح بغير إذنه اعتبارًا بهذا المعنى. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا أن نكاح المحرمات باطل فمتى كان الزوج محرمًا فوكل حلالًا في العقد كان النكاح باطلًا لأنه نكاح المحرم ولو كان الزوج حلالًا فوكل محرمًا كان النكاح باطلًا لأنه نكاح عقده محرم وهكذا لو كان الولي محرمًا فوكل حلالًا أو كان حلالًا فوكل محرمًا كان النكاح باطلًا. فأما الحاكم إذا كان محرمًا لم يجز له أن يزوج مسلمة وهل يجوز له أن يزوج كافرة أم لا على وجهين: أحدهما: لا يجوز كالمسلمة.

والثاني: لا يجوز لأنه لا يزوجها بولاية وإنما يزوجها لحكم يجري مجرى سائر أحكامه في إحرامه. فأما إذا كان الإمام محرمًا لم يجز له أن يتزوج ولا يزوج وهل يجوز لخلفائه من القضاء المحللين أن يزوجوا أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا يجوز أن يزوجوا كوكلاء المحرم. والثاني: يجوز أن يزوجوا لعموم ولاياتهم ونفوذ أحكامه فخالفوا الوكلاء فأما إن كان الخطيب في عقد النكاح جائز لأنه قد يجوز أن يعقد بغير خطبة ولو كان الشهود محرمين ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أن النكاح باطل لأن الشهود شرط في العقد كالولي. والثاني: وهو مذهب الشافعي إن النكاح جائز لأن الشهود غير معنيين في النكاح فلم يعتبر فيهم شروط من معنيين في النكاح ألا ترى أن نكاح الكافرة إذا عقدناه لم يصح إلا بولي كافر وشهود مسلمين, والله اعلم. العيب في المنكوحة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: "أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ سَعِيدٍ بْنِ الُمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بِنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأةً وَبِهَا جُنُونٌ أَوْ جُذَامُ, أَوْ بَرَصٌ فَمَسَّهَا فَلَهَا صَدَاقَهَا وَذَلِكَ لِزَوْجِهَا غُرْمٌ عَلَى وَلِيِهَا. وَقَالَ أَبُو الشَّعْثَاءِ: أَرْبَعٌ لَا يَجُزْنَ فِي النِّكَاحِ إلَّا أَنْ تُسَمَّى: الْجُنُونُ, وَالجُذَامُ وَالبَرَصُ, وَالقَرَنُ". قال في الحاوي: أعلم أن النكاح بالعيوب والعيوب التي يفسخ بها النكاح تستحق من الجهتين فيستحقها الزوج إذا وجدت بالزوجة وهي خمسة عيوب: الجنون والجذام والبرص والقرن والرتق وتستحقها الزوجة إذا وجدتها بالزوج وهي خمسة: الجنون والجذام والبرص والجب والعنة فيشتركان في الجنون والجذام والبرص وتختص الزوجة بالقرن والرتق ويختص الزوج بالجب والعنة ولا يفسخ نكاحها بغير هذه العيوب من عمى أو زمانة أو قبح أو غيره. وبه قال من الصحابة عمر وابن عباس وعبد الله بن عمر. ومن التابعين: أبو الشعثاء جابر بن زيد. ومن الفقهاء: الأوزاعي ومالك وقال أبو حنيفة: ليس للزوج أن يفسخ النكاح بشيء من العيوب ولا للمرأة أن تفسخ إلا بالجب والعنة دون الجنون والجذام والبرص وبأن لا يفسخ النكاح بعيب.

قال علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود وقال أبو الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح: للزوجة أن تفسخ بهذه العيوب في الزوج وليس للزوج أن يفسخ بها؛ لأن الطلاق بيده واستدل من نص قول أبي حنيفة بأن المعقود عليه في النكاح هو الاستباحة وليس في الاستباحة عيب وإنما العيب في المستبيحة فلم يشتبه خيار إسلامه المعقود عليه قال: ولأنه عيب في المنكوحه فلم يفسخ نكاحها قياسًا على ما سوى العيوب الخمسة قال: ولأن كل عقد لم يفسخ بنقصان الأجزاء لم يفسخ بتغير الصفات كالهبة طردًا والبيوع عكسًا. قال: ولأن عقد النكاح إن جرى مجرى عقود المعاوضات كالبيوع وجب أن يفسخ بكل عيب وإن جرى مجرى غيرها من عقود الهبات والصلات وجب أن لا يفسخ بعيب وفي إجماع على أن لا يفسخ لكل العيوب دليل على أنه لا يفسخ بشيء من العيوب. ودليلنا: ما رواه عبد الله بن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوج امرأة من بني بياضة فوجد بكشحها بياضًا فردها وقال: ولستم عليَّ. ووجه الدليل منه هو أنه لما نقل العيب والرد وجب أن يكون الرد لأجل العيب فإن قيل: فيحمل على أنه طلقها لأجل العيب كالتي قالت له حين تزوجها أعوذ بالله منك فقال: "لقد استعذتي بمعاذ حق بأهلك" فكان ذلك طلاقًا منه لأجل استعاذتها منه قيل لا يصح هذا التأويل من وجهين: أحدهما: لأنه خالف الظاهر لأن نقل الحكم مع السبب يقتضي تعلقه به كتعلق الحكم بالعلة والطلاق لا يتعلق بالعيب كتعلق بالعلة وإن كان داعيًا إليه فلم يصح حمله عليه وخالف حال طلاقه للمستعيذة لأن الاستعاذة ليست عيباً يوجب الرد فعدل به إلى الطلاق. والثاني: أن الرد صريح في الفسخ وكناية في الطلاق وحمل اللفظ على ما هو صريح فيه. وروى أبو جعفر المنصور عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اجتنبوا من النكاح أربعة: الجنون والجذام والبرص والقرن" فدل تخصيصه لهذه الأربعة من عيوب النكاح على اختصاصها بالفسخ. ومن طريق القياس: هو أنه عيب يمنع غالب المقصود بالعقد فجاز أن يثبت به خيار الفسخ كالجب ولا يدخل عليه الصغر والمرض لأنهما ليسا بعيب ولأن العقد الذي يلزم من الجهتين إذا احتمل الفسخ وجب أن يجري الفسخ في جنس العقد ولأنه عيب مقصود بعقد النكاح فوجب أن يستحق الفسخ كالعيب في الصداق ولأن كل من ملك رد عوض ملك عليه رد المعوض كالثمن والمثمن في البيع.

فأما الجواب عن الاستدلال بأن المعقود عليه هو الاستباحة وليس فيها عيب فهو أن هذا فاسد لأن المعقود عليه هو الاستمتاع المستباح وهذه عيوب فيه كما أن زمانة العبد المستأجر عيب في منافعه فاستحق بها الفسخ. وأما قياسهم على ما سوى الخمسة من العيوب فالمعنى فيه أن تلك العيوب لا تمنع مقصود العقد ولا تنفر النفوس منها وليس كذلك هذه الخمسة لأنها إما مانعة من المقصود أو منفرة للنفوس فافترقا. وأما قياسهم على الهبة بعلة أنها لا تفسخ بنقصان الأجزاء فهذا الوصف غير مسلم لأنه يستحق بالجب وهو نقصان جزء ثم المعنى في الهبة أن لا عوض فيها فيلحقه ضرر بالعيب والنكاح بخلافه وعلى أن فسخه بالعنت وهو يعتبر صفة تمنع من اطراد هذا التعليل. فأما استدلالهم بأنه إما أن يفسخ بكل العيوب كالبيوع أو لا يفسخ بشيء منها كالهبات. فالجواب عنه: أنه بالبيوع أخص لأنهما عقدا معاوضة غير أن جميع العيوب تؤثر في نقصان الثمن فاستحق بجميعها الفسخ وليس كل العيوب تؤثر في نقصان الاستمتاع فلم يستحق بجميعها الفسخ. مسالة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "القَرَنُ المَانِعُ لِلْجَمَاعِ لأَنَّهَا فِي غَيْرِ مَعْنَى النِّسَاءِ". قال في الحاوي: قد مضى الكلام في العيوب التي يفسخ بها عقد النكاح وأجناسها سبعة: اثنان يختص بهما الرجل وهما: الجب والعنة. واثنان تختص بهما النساء وهما: الرتق والقرن وثلاثة يشترك فيها الرجال والنساء وهي: الجنون والجذام والبرص. فأما ما يختص به الرجال من العنة فله باب يأتي. وأما الجبّ: فهو قطع الذكر فإن كان جميعه مقطوعًا فلها الخيار لأنه أدوم ضررًا من العنة التي يرجى زوالها. وإن كان بعض الذكر مقطوعًا نظر في باقيه فإن كان لا يقدر على إيلاجه إما لضعفه أو لضغره فلها الخيار وإن كان يقدر على إيلاجه ففي خيارها وجهان: أحدهما: وهو الصحيح أنه لا خيار لها لأنه يجري مجرى صغر الذكر الذي لا خيار فيه. والثاني: لها الخيار لأنه نقص لا تكمل به الإصابة. وأما الخصاء وهي قطع الأنثيين مع بقاء الذكر ففي كونه عيبًا يوجب خيارها قولان:

أحدهما: ليس بعيب ولا خيار لها فيه لقدرته على الإيلاج وأنه ربما كان أمتع إصابة. والثاني: انه عيب ولها الخيار لأنه نقص يعدم معه النسل ولو كان خنثى له فرج زائدًا وكانت خنثى لها ذكر زائد ففي كونه عيبًا يوجب الخيار قولان: أحدهما: ليس بعيب لأنها زيادة عضو فأشبه الأصبع الزائدة. والثاني: أنه عيب لأنه نقص يعاف. فأما ما تختص هـ المرأة من القرن والرتق. فالقرن: هو عظم يعترض الرحم يمنع من الإصابة والرتق لحم يسد مدخل الذكر فلا تمكن معه الإصابة وله الخيار فيهما ولا يمكنها شق القرن ويمكنها شق الرتق إلا أنها لا تخير بشقه لأنه جناية عليها فإن شقته بعد فسخ الزوج لم يؤثر بعد وقوع الفسخ وإن شقته قبل فسخه ففي خيار الزوج وجهان: أحدهما: له الخيار اعتبارًا بالابتداء. والثاني: لا خيار له اعتبارًا بالانتهاء فأما الإفضاء وهو أن ينخرق الحاجز الذي بين مدخل الذكر ومخرج البول فتصير مغطاة فلا خيار فيه لإمكان الإصابة التامة معه فلو كانت عاقرًا لا تلد أو كان الزوج عقيمًا لا يولد له فلا خيار فيه لواحد منهما لأنه مظنون وربما زال بتنقل الأمنان. فأما العفلاء ففي العفلة ثلاثة تأويلات: أحدها: أن لحم مستدير ينبت في الرحم بعد ذهاب العذرة ولا ينبت مع البكارة وهذا قول أبى عمر الشيبانى. والثاني: أنه ورم يكون في اللحمة التي قبل المرأة يضيق به فرجها حتى لا ينفذ فيه الذكر. والثالث: أنه مبادئ الرتق وهو لحم يزيد في الفرج حتى يصير رتقًا فيسد به الفرج فلا ينفذ فيه الذكر، فإن كان العقل يكمل معه الاستمتاع التام، فلا خيار فيه وإن لم يكمل معه الاستمتاع لضيق الفرج أو انسداده حتى لا يمكن إيلاج الذكر ففيه الخيار. فصل: وأما العيوب التي يشترك فيها الرجل والمرأة وهي ثلاثة: أحدها: الجنون وهو زوال العقل الذي يكون معه تأدية حق سواء خيف منه أم لا وهو ذربان: مطبق لا يتخلله إفاقة وغير مطبق يتخلله إفاقة فيجن تارة ويفيق تارة أخرى وكلاهما سواء وفيهما الخيار سواء قل زمان الجنون أو كثر لأن قليله يمنع من تأدية الحق في زمانه ولأن قليله كثير سواء كان ذلك بالزوج أو بالزوجة. فأما الإغماء فهو زوال العقل فلا خيار فيه كالمرض وأنه عرض يرجى زواله وأنه قد

يجوز حدوث مثله بالأنبياء الذي لا يحدث بهم جنون فإن زال المرض فلم يزل معه الإغماء صار حينئٍذ جنونًا يثبت فيه الخيار. وأما البله فهو غلبة السلامة فيكون الإبله سليم الصدر ضعيف العزم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها بلهًا" يعنى الذين غلبت السلامة على صدورهم ومنه قول الشاعر: وَلَقَدْ لَهَوْتُ بِطِفْلَةٍ ميّالَةِ بَلهَاءَ تُطْلِعُنِى عَلَى أَسْرَارِهَا فلا خيار في البله لأن الاستمتاع كامل ولذلك لا خيار في الحمق وقلة الضبط كمال الاستمتاع معهما وإنما يؤثر فيما سواه من تدبير المنزل وتربية الولد ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يسترضعوا الحمقى فإن صحبتها بلاء وولدها ضياع". فصل: والثاني من عيوبهما: الجذام وهو: عفن يكون في الأطراف والأنف يسرى فيهما حتى يسقط فتبطل وربما سرى إلى النسل وتعدى إلى الخليط والنفس تعافه وتنفر منه فلا يسمح بالمخالطة ولا تحبب إلى الاستمتاع وقد روى سعيد عن أبى هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فروا من المجذوم فراركم من الأسد" وجاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليبايعه فمد يدًا جذماء فلما نظر إليها النبي صلى الله عليه وسلم قبض يده ولم يصافحه وقال: "اذهب فقد بايعناك" ففي الجذام الخيار قليلًا كان أو كثيرًا لأن قليله يصير كثيرًا وسواء كان في الزوج أو الزوجة. فأما الزعر فهو من مبادئ الجذام وربما برئ ولم يصر جذامًا ويقع في الحاجبين فيناثر به الشعر وفي الأنف فيتغير به الجلد ولا خيار فيه لأنه ليس بجذام عادى ولا النفوس منه نافرة فلو اختلفا فيه فادعى الزوج أن بها جذامًا وقالت: بل هو زعر وقف عليه عدلان من علماء الطب فإن قالا: هو جذام ثبت فيه الخيار، وإن قالا: زعر فلا خيار فيه وإن أشكل فالقول قولها مع يمينها أنه زعر ولا خيار فيه لأن الأصل عدم الخيار إلا أن يثبت ما يوجبه. فصل: والثالث من عيوبهما: البرص: وهو حدوث بياض في الجلد يذهب معه دم الجلد وما تحته من اللحم وفيه عددي إلى النسل والمخالطين وتعافه النفوس وتنفر منه فلا يكمل مع الاستمتاع ولذلك رد النبي صلى الله عليه وسلم نكاح امرأة وجد بكشحها بياضًا وفي قليله وكثيره الخيار لان قليله يصير كثيرًا وسواء كان بالزوج أو الزوجة.

فأما البهق فتغير لون الجلد ولا يذهب بدمه، ويزول ولا تنفر فيه نفوس فلا خيار فيه فلو اختلفا فقال الزوج: هذا البياض برص ولي الخيار وقالت الزوجة: بل هو بهق فلا خيار، دقق فيه عدلان من علماء الطب وعمل على قولهما فيه فإن أشكل كان القول قولها مع يمينها أنه بهق ولا خيار فيه. فإن قيل: فكيف جعل الشافعي في الجذام والبرص عدوى وهذا قول أصحاب الطبائع وقد كذبه الشرع ومنع منه وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة" فقيل له: أما ترى النكتة من الجرب في شفر البعير فتعدوا إلى سائره إلى غيره فقال صلى الله عليه وسلم: "فمن أعدى الأول" أي إذا كان الأول بغير عدوى كان ما بعده وفي غيره بغير عدوى. قيل: إنما منع الشرع من أن الطبيعة هي التي تحدث العدوى كما يزعم الطب ولا يمنع أن الله تعالى قد جعل فيها العدوى كما جعل في النار الإحراق وفي الطعام الشبع وفي الماء الري وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يوردن ممرض ذو عاهة على مصح" وامتنع من مبايعة الأجذام. وروى عبد الله بن عباس أن عمر بن الخطاب توجه إلى الشام فلما انتهي إلى سرغ تلقاه أمراء الأجناد وأخبروه بحدوث الطاعون بالشام فتوقف عن المسير وشاور المهاجرين في المسير أو الرجوع فاختلفوا وشاور الأنصار فاختلفوا وكان عبد الرحمن بن عوف غائبًا عنهم فحضر فشاوره عمر فقال عبد الرحمن: إن عندي في هذا علمًا قال عمر: ما هو؟ قال عبد الرحمن: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا سمعتم به في واد فلا تقدموا عليه وإذا وقع وأنتم فيه فلا تخرجوا منه" فحمد عمر الله تعالى ورجع الناس معه. وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: "لبن الحمقى يعدي". فأما قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن أعدى الأول" فالمقصود منه رد قولهم إنه لم يكن إلا من عدوى الأول ولولاه ما جربت وقال: "من أعدى الأول" أي إذا كان الأول من الله تعالى يعنى عدوى كان ما بعده منه. فإن قيل: فلم أضاف الشافعي العدوى إلى الجذام والبرص ولم يضفه إلى الله تعالى. قيل: على طريقة الاستعارة والتوسع في العبارة كما يقال: طالت النخلة وقصر الليل وأثمرت الشجرة وإن كان الله تعالى هو الفاعل لذلك. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا من أحكام العيوب فوجد الزوج بالزوجة قليلًا من برص أو

جذام عرض به فانتشر وزاد حتى صار كثيرًا لم يكن له خيار؛ لأن الراضي بقليله راضٍ بكثيرة ولأن قليله في الغالب يصير كثيرًا ولو ظهر بها برص في غير المكان الأول فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون الثاني أقبح منظرًا من الأول كأنه كان الأول في فخذها وحدث الثاني في وجهها، فله الخيار نص عليه في "الإملاء" لأن النفس من الثاني أشد نفورًا من الأول. والثاني: أن يكون مثل الأول في القبح وكأنه كان الأول في يدها اليمنى والثاني في يدها اليسرى ففيه وجهان: أحدهما: له الخيار لأنه إذا كان في غير مكان الأول كان عيبًا غير الأول. والثاني: لا خيار لأنه من جنس الأول كالمتصل فلو رضي برصها فظهر بها جذام كان له الخيار بالجذام دون البرص ولأنه قد تأنف نفسه الجذام ولا تعاف البرص ولا كان بها جذام أو برص فلم يختر فسخ نكاحها حتى زال وبرئ فهذا على ضربين: أحدهما: أن يزول قبل علمه به فلا خيار يعدم ما يوجبه. والثاني: أن يزول بعد علمه وقبل فسخه بعذر آخر عنه ففي خياره وجهان: أحدهما: له الخيار اعتبارًا بالابتداء. والثاني: لا خيار له اعتبارًا بالانتهاء. فلو وجد الزوج بها عيبًا ووجد تب الزوج عيبًا فهذا على ضربين: أحدهما: أن يختلف العيبان فيكون عيب أحدهما جذامًا وعيب الآخر برصًا فلكل واحد الخيار بعيب صاحبه لأن المجذوم قد يعاف الأبرص والأبرص قد يعاف المجذوم. والثاني: أن يتساوى العيبان فيكون بكل واحد منهما برص أو جذام ففي ثبوت الخيار وجهان: أحدهما: أن لا خيار لتكافئهما وأنه ليس بنقص أحدهما عن حالة صاحبه. والثاني: أن لكل واحد منهما الخيار لأنه قد يعاف من غيره ما لا يعافه من نفسه من بصاق ومخاط وأذى، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشافعي:"فَإِنْ اخْتَارَ فِرَاقَهَا قَبْلَ المَسِيسِ فَلَا نِصْفَ مَهْرٍ وَلَا مُتْعَةٍ وَإنْ اخْتَارَ فِراقَهَا بَعْدَ المَسِيسِ فَصَدَاقْتُهُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ فَلَهُ ذَلِكَ وَلهَا مَهْرُ مُثْلِهَا بِالمَسِيسِ وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ في عِدَّتِهَا وَلَا سُكْنَىَ وَلَا يَرْجِعُ بِالمَهْرِ عَلَيٍهَا وَلَا عَلَى وَليّهَا لَأنّ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ في التي نُكِحَتْ بِغَيْرَ إِذْنِ وَلِيّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِل فَإِنْ مَسّهَا فَلَهَا المَهْرُ بِمَا اسْتَحَلّ مِنْ فَرْجِهَا وَلَمْ

يَرُدّهُ بِهِ عَلَيْهَا وَهي التي عَزَّتْهُ فَهُوَ في النِّكَاح الصّحِيح الذي لِلزَّوْج فِيهِ الخِيَارُ أَولي أَنْ يَكُونَ لِلمَرْأَةِ وَإِذَا كَانَ لَهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَغْرَمَهُ وليُّهَا، وَقَضَى عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضي اللهُ عَنْهُ في التي نَكَحَتْ في عُدَّتِهَا أَنَّ لَهَا الَمهْرَ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا فسخ النكاح بأحد العيوب من أحد الزوجين فلا يخلو أن يكون قبل الدخول أو بعده فإن كان قبل الدخول فلا مهر لها ولا متعة سواء كان الفسخ من قبلها أو من قبله لأنه إن كان منها سقط به مهرها كما لو ارتدت وإن كان من الزوج فهو لعيب فيها فصار مضافًا إليها ويكون هذا فائدة الفسخ التي تخالف حكم الطلاق أن يسقط عنه نصف المهر الذي كان يلزمه بالطلاق فعلى هذا لو طلقها الزوج قبل الدخول وهو لا يعلم بعيبها ثم علم كان عليه نصف المهر ولم تسقط عنه بظهوره على العيب لأن النكاح انقطع بالطلاق ولم يرفع بالفسخ نص عليه الشافعي في "الإملاء" ثم لا عدة عليها ولا نفقة لها ولا سكنى، لأنه لما لم يجب ذلك بالطلاق قبل الدخول فأولي أن لا يجب بالفسخ قبله. فصل: وإن كان الفسخ بعد الدخول وذلك بأن لا يعلم بعيبها حتى يصيبها فيكون له الفسخ بعد الإصابة كما كان لها قبلها فإن ادعت بالعيب قبل الإصابة وأنكرها وأمكن الأمران فالقول قوله مع يمينه لأن الأصل فيه عدم علمه وثبوت خياره فإذا فسخ النكاح بعد الإصابة فلها مهر مثلها بالإصابة وسواء كان الفسخ من جهتها أو من جهته لقوله صلى الله عليه وسلم:"فلما المهر بما استحل من فرجها" فإن قيل: أفليس له وطء أمه قد اشتراها ثم ردها بعيب لم يلزمه بالوطء مهر فلا كانت المنكوحة إذا ردت بعيب لم يلزمه بوطئها مهر. قيل: الفرق بينهما: أن الوطء في الملك غير مضمون بالمهر وفي النكاح مضمون بالمهر لأن المعقود عليه في البيع الرقبة وفي النكاح المنفعة ثم أوجبنا بالإصابة مهر المثل دون المسمى وإن كان الفسخ بعد الإصابة لأنه بعيب تقدم على النكاح فصارت أفعاله من أصله فسقط ما تضمنه من صداق مسمى. فصل: فإذا ثبت أن عليه مهر المثل دون المسمى فهل يرجع بعد غرمه على من غره أولًا؟ على قولين: أحدهما: وبه قال في القديم: يرجع به لقول عمر رضي الله تعالى عنه وذلك لزوجها غرم على وليها ولأن الغار قد ألجأه إلى التزام المهر بهذه الإصابة ولولاه لما لزمه المهر إلا بإصابة مستدامة في نكاح ثابت فجرى مجرى الشاهدين إذا ألزماه بشهادتهما غرمًا ثم لزمهما غرم ما استهلك بشهادتهما. والثاني: قاله في الجديد: لا يرجع على الغار لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة نكحت

بغير إذن فنكاحها باطل فإن مسها فلها المهر بما استحل من فرجها" ولم يجعل للزوج الرجوع به على غره في إذن الولي أو على من ادعى في نكاحها أنه ولي فدل على أن لا رجوع بالغرور ولأن غرم المهر بدل من استهلاكه للبضع واستمتاعه به فلم يجز أن يرجع بغرم ما أوجبه استهلاكه وإن كان مغرورًا كالمغرور في مبيع قد استهلكه ولأن لا يجمع بين تملك البدل والمبدل وقد يملك الاستمتاع الذي هو معوض مبدل ولم يجز أن يتملك المهر الذي هو عوض بدل فإذا قلنا: إنه لا رجوع على من غره فلا مسألة وإذا قلنا بالرجوع فلا يخول من غيره من أن يكون الزوجة أو وليها أو أجنبي فإن غره الولي أو أجنبي رجع الزوج عليه بعد غرمه من مهر المثل فلو كانت الزوجة قد أرأته منه لم يرجع به على الزوج على الغار ولو ردته عليه بعد قبضه ففي رجوعه وجهان: أحدهما: لا يرجع كالابن. والثاني: يرجع لأن ردها له ابتداء هبة منها وإن كانت هي التي غرته لم يغرم لها من المهر ما يرجع به عليها لأنه غير مقيد وفيه وجهان: أحدهما: قد سقط جميع مهرها بالغرور كما يرجع بجميعه على غيرها لو غره. والثاني: وهو منصوص الشافعي في القديم أنه يسقط مهر المثل إلا أقل ما يجوز أن يكون مهرًا فيلتزمه لها لئلا يصير مستبيحًا لبضعها بغير بذل. فصل: فأما العدة فواجبة عليها بالإصابة لأنه فراش يلحق بها ولدها وأما النفقة فلا نفقة لها في العدة إن كانت حائلًا لارتفاع العقد الموجب لها ولا سكنى لها وإن وجبت للمبتوتة وفي وجوب النفقة لها إن كانت حاملًا قولان بناء على اختلاف قوليه في نفقة الحامل هل وجبت لها أو لحملها؟ على قولين: أحدهما: أنها وجبت لها بالزوجية فعلى هذا لا نفقة لهذه لارتفاع عقد الزوجية. والثاني: أن النفقة وجبت لحملها فعلى هذا لها النفقة لأن حملها في اللحوق كحمل الزوجة. مسألة: قَالَ الشافعي: "وَمَا جَعَلْتِ لَهُ فِيه الْخِيَارَ في عُقِدَ النِّكَاحُ ثَمَّ حَدَثٍ بِهَا فَلَهُ الْخِيَارُ لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُعَنّى قَائِمٌ فِيهَا، لَحِقَهُ في ذَلِكً وَحَقُّ الْوَلَدِ. قَالَ المزني رُحِمَهُ اللهَ: وَكَذَلِكَ مَا فَسَخَ عَقْدُ نِكَاحِ الْأمَةِ مِنَ الطُّولِ إِذَا حَدَثً بَعْدُ النِّكَاحُ فَسِخُهُ لِأَنَّه الْمُعَنّى الذي يَفْسَخُ بِهِ النِّكَاحُ. قَالَ الشافعي: وَكَذَلِكَ هي فِيه فَإِنَّ اِخْتَارَتْ فِرَاقَهُ قَبْلَ الْمَسِيسِ فَلَا مَهْرً وَلَا مُتْعَةً فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ، حَتَّى أُصَابَهَا فَاِخْتَارَتْ فِرَاقَهُ فَلَهَا الْمَهْرُ مَعَ الْفِرَاقِ الذي يَكُونُ بِهِ مِثْلُ

الرَّتْقُ بِهَا أَنْ يَكُونُ مجبوبًا فَأَخِيرُهَا مَكَانِهَا وَأَيُّهُمَا تَرْكَهُ أَوْ وُطِئَ بَعْدَ الْعِلْمِ فَلَا خِيَارٌ لَهُ. وَقَالَ في الْقَدِيمَ إِنَّ حَدَثً بِهِ فَلَهَا الْفَسْخُ وَلَيْسَ لَهُ. قَالَ المزني: أَولي بُقولُهُ إِنَّهُمَا سَواءً في الْحَديثَ كَمَا كَانَا فِيه سَواءٌ، قَبُّ الْحَديثِ. قَالٌ: وَالْجُذَامُ وَالْبرصُ فِيمَا زَعَمَ أهْلُ الْعِلْمِ بِالطِّبِّ يُعْدَي وَلَا تَكَادُ نَفْسُ أَحَدُّ تُطَيِّبُ أن يُجَامِعَ مِنْ هُوَ بِهِ وَلَا نَفْسُ اِمْرَأَةٌ بِذَلِكً مِنْه وَأَمَّا الْوَلَدُ فَقَلَّمَا يُسَلِّمُ فَإِنَّ سُلَّمَ أُدْرِكُ ذَلِكً نَسْلُهُ نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى الْعَافِيَةَ. وَالْجُنُونُ وَالْخَبَلَ لَا يُكَوِّنْ مَعَهُمَا تأدية لَحِقَ زَوْجٌ وَلَا زَوْجَةٌ بِعَقْلٍ وَلَا اِمْتِناعٌ مِنْ مُحَرَّمٍ وَقَدْ يَكُونُ مِنْ مِثْلُه الْقَتْلَ". قال في الحاوي: قد مضى الكلام في العيب إذا كان بأحد الوجهين قبل العفو فأما العيب الحادث بعد العقد فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون حادثًا بالزوج فللزوجة الخيار فيما حدث به من العيوب كما ثبت لها الخيار فيما تقدم منها ولا اعتبار النفقة وكما أن لها أن تفسخ برض الزوج إذا حدث عتقها بعد العقد كما كان لها أن تفسخ إذا تقدمت حريتها قبل العقد. والثاني: أن يكون العيب حادثًا للزوجة بعد العقد ففي خيار الزوج قولان: أحدهما: قاله في القديم: لا خيار لأمرين: أحدهما: أنه لم يكن معزورًا به لحدوثه فإنه يقدر على دفع الغرور عن نفسه بطلاقه فخالف ما تقدم لأنه كان فيه مغرورًا وخالف الزوجة فيما حدث لأنها لا تقدر على الطلاق. والثاني: أنه لما كان له الخيار في نكاح الأمة بعتقه المتقدم دون الحادث وكان لها الخيار في نكاح العبد بعتقها المتقدم والحادث كذلك العيوب يكون له الخيار بالمتقدم منها دون الحادث ويكون لها الخيار بالمتقدم منها والحادث. والثاني: قاله في الجديد، واختاره المزني- له الخيار بالعيوب الحادثة والمتقدمة لأمرين: أحدهما: ان ما يستحقه من الخيار في مقابلة ما تستحق عليه من الخيار لقوله تعالى: {َلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] فلما استحقت الزوجة عليه الخيار بالعيوب الحادثة استحق الخيار عليها بالعيوب الحادثة. والثاني: أنه لما كان العقد فيه على منافعه استوى فيه ما تقدم من العيوب وما حدث كالإجارة فلما كان للزوج الخيار بما تقدم كان له الخيار بما حدث. فصل: فإذا تقرر ما ذكرنا من ثبوت الخيار بما حدث من العيوب ففسخ به النكاح فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون قبل الدخول فلا مهر فيه لارتفاع العقد وسواء كان الفسخ من

قبل الزوج أو من قبل الزوجة لما ذكرنا وإن كان بعد الدخول فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون العيب حادثًا بعد الدخول فلها المهر المسمى لاستقراره بالدخول وحدوث ما أوجب الفسخ بعد استقراره. والثاني: أن يكون حادثًا بعد العقد وقبل الدخول ولا يعلم به إلا بعد الدخول فلها مهر المثل دون المسمى لأنه لما ارتفع العقد بعيب تقد على الدخول صار الدخول في حكم الحادث بعد ارتفاع العقد فسقط به المسمى واستحق بما بعده مهر المثل. فصل: فإذا ثبت ما وصفنا فالخيار فيما تقدم من هذه العيوب. وحدث على الفور بعد العلم بها لأنها عيوب قد عرف الحظر في الفسخ بها من غير فكر ولا ارتياء فجرى مجرى العيوب في البيع التي يثبت فيها الخيار على الفور وخالف خيار الأمة إن أعتقت تحت عبد في أن خيارها في أحد القولين على التراخي لأنها تحتاج في معرفة الحظ لها إلى زمان فكر وارتياء وإذا كان هكذا فلا يجوز أن ينفرد بالفسخ حتى يأتي الحاكم فيحكم له بالفسخ لأنه مختلف فيه فلم يثبت إلا بحكم وخالف عتق الأمة تحت عبد في جواز تفردها بالفسخ لأنه معتق عليه فإن تصادق الزوجان على العيب فسخ الحاكم بينهما وإن تناكرا فادعاه الزوج وأنكرته الزوجة كلف المدعى بينة فإن أقامها وإلا أحلف المنكر ولا فسخ لأن الأصل السلامة من العيوب فلو تصادق الزوجان على العيب واتفقا على الفسخ عن تراضى ففي جوازه وجهان: أحدهما: يجوز لأن الحكم عند التنازع. والثاني: لا يجوز لأن ما اشتبه حكمه لم يتعين إلا بالحكم، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشافعي: "وَلَوُلِيَهَا مَنْعَهَا مِنْ نِكَاحِ الْمَجْنُونِ كَمَا يَمْنَعَهَا مِنْ غَيْرَ كَفْءٍ. فَإِنَّ قَيَّلَ: فَهَلْ مِنْ حَكَمَ بَيْنَهُمَا فِيه الْخِيَارَ أَوْ الْفِرْقَةَ؟ قَيَّلَ: نَعَمْ الْمَولي يَمْتَنِعُ مِنَ الْجِمَاعِ بِيَمِينٍ لَوْ كَانَتْ عَلَى غَيْرَ مأثم كَانَتْ طَاعَةٌ اللَّهِ أَنَّ لَا يَحْنَثُ فَأَرْخُصُ لَهُ في الْحِنْثَ بِكَفَّارَةِ الْيَمِينِ فَإِنْ لَمْ يُفْعَلْ وَجَبٌ عَلَيه الطَّلاَقُ وَالْعِلْمَ مُحِيطً بِأَنَّ الضَّرَرَ بِمُبَاشِرَةِ الْأَجْذَمِ وَالْأبْرَصِ وَالْمَجْنُونِ وَالْمَخْبُولِ أَكْثَرُ فِيهَا بِتَرْكِ مُبَاشِرَةِ الْمَولي مَا لَمْ يَحْنَثْ". قال في الحاوي: أما إذا أوصى الولي أن يزوجها بمن فيه أحد هذه العيوب فامتنعت فالقول قولها وليس للولي إجبارها عليه وإن كان أبًا لما فيه من تفويت حقها من الاستمتاع ولأنه لو زوجها به لكان لها الفسخ فكان أولي أن يكون لها الامتناع قبل العقد فأما إذا رضيت بمن فيه أحد هذه العيوب وامتنع الولي فالعيوب على ثلاثة أقسام:

أحدهما: ما للولي أن يمنعها من نكاح من هي وذلك الجنون والخبل لما فيه من عار على الأولياء فكان لهم دفعه عنهم بالامتناع. والثاني: ما ليس للولي منعها من نكاح من هي فيه وذلك العنت والجب والخصاء لأنه عارف فيه على الأولياء وإنما يختص بعدم الاستمتاع الذي هو حق لها دون الأولياء. والثالث: ما اختلف فيه أصحابنا هو الجذام والبرص وفيه وجهان: أحدهما: ليس للولي منعها من مجذوم ولا أبرص لاختصاصها بالاستمتاع وهذا قول أبى إسحاق المروزى. والثاني: له منعها منهما لنفور النفوس منهما ولتعدى ذلك إلى نسلها فأما إن حدثت هذه العيوب في الزوج بعد العقد فالخيار لها دون الأولياء فإن رضيت وكره الأولياء كان رضاها أولي ولا اعتراض للأولياء لأن حقهم مختص بطلب الكفاءة في ابتداء العقد دون استدامته. قَالَ الشافعي رُحِمَهُ اللهَ: "وَلَوْ تَزَوُّجَهَا عَلَى أَنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَإِذَا هي كِتابِيَّةً كَانَ لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ بَلَا نِصْفُ مَهْرٍ وَلَوْ تَزَوُّجَهَا عَلَى أَنَّهَا كِتابِيَّةٌ فَإِذَا هي مُسْلِمَةً لَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُ النِّكَاحِ لِأَنَّهَا خَيْرً مِنْ كِتابِيَّةٍ. قَالَ المزني رُحِمَهُ اللهَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنَ اِشْتَرَى أُمَّةٌ عَلَى أَنَّهَا نَصْرَانِيَّةٌ، فَأَصَابَهَا مُسْلِمَةً فَلَيْسَ لِلْمُشْتَرَى أَنْ يَرُدَّهَا وَإِذَا اِشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا مُسْلِمَةٌ فَوُجِدَهَا نَصْرَانِيَّةً فَلَهُ أَنْ يَرُدَّهَا". قال في الحاوي: قد مضى الكلام في أن خلاف الصفة المشروطة في عقد النكاح هل تجرى مجرى خلاف العين أم لا؟ على قولين فإذا تزوجها على أنها مسلمة فوجدها نصرانية ففي النكاح قولان: أحدهما: باطل. والثاني: جائز نص عليه ها هنا وهل له الخيار في فسخ النكاح أم لا؟ على قولين: أحدهما: لا خيار له. والثاني: له الخيار نص علي ها هنا. وهكذا لو تزوجها على أنها نصرانية فكانت مسلمة كان على قولين: أحدهما: باطل. والثاني: جائز ولا خيار له قولًا واحدًا لأن المسلمة أعلى حالًا من النصرانية. فأما المزنى فإنه استدل بذلك على أن من اشترى أمة على أنها مسلمة فكانت نصرانية أن له الهيار ولو اشتراها على أنها نصرانية فكانت مسلمة فليس له خيار كالنكاح فرد أصحابنا ذلك عليه وقالوا له: في البيع الخيار في الموضعين بخلاف النكاح لأن المقصود بالبيع

باب الأمة تغر من نفسها

فور الثمن. والثمن يتوفر بكثرة الطالب وطالب النصرانية أكثر من طالب المسلمة لأن النصرانية يشتريها المسلمون والنصارى والمسلمة لا يشتريها إلا المسلمون دون النصارى فإذا اشتراها على أنها نصرانية فكانت مسلمة كان له الخيار لأنه أقل طلبًا فصارت أقل ثمنًا ولو اشتراها على أنها مسلمة فكانت نصرانيه فله الخيار لنقصها بالدين وأن المسلمة أحسن منها عشرة وأكثر نظافة وطهارة وليس كذلك النكاح لأن المقصود منه العشرة وحسن الصحبة وكمال المتعة وهذا كله في المسلمة أوجد منه في النصرانية فافترق حكم البيع والنكاح بما ذكرناه. فصل: وإذا تزوجت مسلمة رجلًا على أنه مسلم فكان نصرانيًا فالنكاح باطل وكذلك لو تزوجت بغير شرط لأن المسلمة لا تحل لكافر ولو تزوجت مصرانية رجلًا على أنه مسلم فكان نصرانيًا ففي النكاح قولان على ما مضى: أحدهما: باطل. والثاني: جائز ولا الخيار قولًا واحدًا لنقصان دينه وأنها لا تملك فراقه إلى بالفسخ ولو تزوجته على أنه نصراني فكان مسلمًا ففي النكاح قولان: أحدهما: باطل. والثاني: جائز ولها الخيار وإن كان المسلم أفضل دينًا لأنها إلى من وافقها في الدين أرغب وهي ممن خالفها فيه أنفر. فصل: وإذا تزوج المسلم امرأة بغير شرط يظنها مسلمة فكانت نصرانية فالنكاح جائز لا خيار له ولو تزوجها يظنها حرة فكانت أمة بالنكاح جائز إذا كان ممن يحل له نكاح الإماء، وفي خياره وجهان: أحدهما: وهو قول أبى إسحاق المروزي لا خيار له كالنصرانية. والثاني: وهو قول أبى على بن أبى هريرة، له الخيار. والفرق بينهما: أن ولي النصرانية متميز الهبة على ولي المسلمة وولي الأمة لا يتميز عن ولي الحرة، ولأن ولده من الأمة مرقوق ومن النصرانية مسلم، والله أعلم. باب الأمة تغر من نفسها قَالَ الشافعي رُحِمَهُ اللهَ تُعَالَى: "وَإِذَا وَكَّلَ تَزْوِيجُ أُمَّتِهِ فَذَكَرْتِ وَالْوَكِيلَ أَوْ

أحدهما أَنَّهَا حُرَّةٌ فَتَزَوَّجَهَا ثُمَّ عَلِمَ فَلَهُ الخَيَارُ فَإِنْ اخْتَارَ فِرَاقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فَلا نِصْفَ مَهْرِ وَلَا مُتْعَةً وَإِنْ أَصَابَهَا فَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا كَانَ أَكْثَرَ مِمَّا سَمَّى أَوْ أَقَلَّ لأَنَّ فِرَاقَهَا نُسِخَ وَلَا يُرْجَعُ بِهِ فَإِنْ كَانَتْ وَلَدَتْ فَهُمْ أَحْرَارٌ وَعَلَيْهِ قِيمَتُهُمْ يَوْمَ سَقَطُوا وَذَلِكَ أَوَّلُ مَا كَانَ حُكْمُهُمْ حُكْمُ أَنْفُسِهِمْ لِسَيِّدِ الأمَةِ". قال في الحاوي: وهذه المسألة قد مضت وهو أن يتزوج امرأة على أنها حرة فتكون أمه فإن كان الزوج ممن لا ينكح الأمة فالنكاح باطل، وإن كان ممن ينكح الأمة إلا أنها منكوحة بغير إذن السيد فالنكاح باطل، وإن كانت منكوحة بإذن السيد فإن كان هو الذي شرط حريتها فقد عتقت والنكاح جائز وإن كان غيره هو الذي شرط حريتها إما هي أو وكيله أو هما فهي حينئذ مسألة الكتاب وفي النكاح قولان حرًا كان الزوج أو عبدًا. أحدهما: باطل فإن لم يدخل بها فرق بينهما ولا شيء عليه وإن دخل بها فعليه مهر مثلها فإن أولدها كان ولده حرًا لأنه على شرط الحرية أو ولده سواء كان الزوج حرًا أو عبدًا فإن كان الزوج حرًا غرم مهر المثل وقيمة الولد وقت الولادة ورجع بقيمة الولد على من غره لأنه ألجأه إلى غرمه وهل يرجع بمهر مثلها عليه أم لا؟ على قولين، وإن كان الزوج عبدًا ففي ما قد لزمه من مهر المثل وقيمة الولد على ثلاثة أقاويل: أحدها: في كسبه. والثاني: في ذمته وإذا أيسر بعد عتقه. والثالث: في رقبته يباع فيه إلا أن يفديه سيده وهذه الأقاويل الثلاثة من أصلين في كل أصل منهما قولان: أحدهما: أن العبد إذا نكح بغير إذن سيده هل يكون المهر إن وطئها في ذمته أو في رقبته على قولين: والثاني: أن العبد إذا أذن له سيده في النكاح فنكح نكاحًا فاسدًا هل يدخل في جملة إذن ويكون المهر والنفقة في كسبه أم لا؟ على قولين ثم لا رجوع للعبد قبل غرم المخر وقيمة الولد على الغار له فإذا غرمها رجع عليه بقيمة الولد في رجوعه بمهر المثل قولان فهذا إذا قيل: إن النكاح باطل. والثاني: في الأصل أن النكاح جائز فعلى هذا إن كان الزوج حرًا فهل له الخيار في الفسخ أم لا؟ على قولين وإن كان عبدًا فقد اختلف أصحابنا فكان أبو علي بن أبي هريرة يقول: خياره على قولين كالحر لمكان شروطه وكان أبو إسحاق المروزي يقول: لا خيار له بخلاف الحر لمساواته لها في الرق فإذا قيل: لهما الخيار فاختار الفسخ فالحكم في المهر وقيمة الولد على ما مضى. وإذا قيل: بأن النكاح باطل وإن اختار المقام أو قيل: أنه ليس له خيار فالحكم في الحالين واحد وهو أن يختلف عليه المهر المسمى بالعقد وأولاده منها قبل علمه فهم أحرار لأنهم علقوا قبل علمه ومن وضعته بعد علمه بستة أشهر فصاعدًا فهم

مماليك ولا يرجع بالمهر قولًا واحدًا لأنه المسمى بعقد صحيح ويرجع بقيمة من عتقه عليه من الأولاد لأنه التزامها بالغرور دون العقد فإن كان الزوج عبدًا كان المهر في كسبه قولًا واحدًا لأنه نكاح قد صح بإذن سيده ولا يكون قيمة الولد في كسبه؟ لأن إذن سيده بالنكاح لا يقتضيها وأين تكون؟ على قولين: أحدهما: في رقبته. والثاني: في ذمته إذا أعتق ويكون ما استحق من المهر في صحة النكاح وفساده ملكًا للسيد لأنه من كسب أمته ويكون من رق من الأولاد ملكًا للسيد وقيمة من عتق منهم للسيد. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَا يَرْجِع بِهَا عَلَى الَّذِي غَرَّهُ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يُعَرِّفَهَا فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْداً فَوَلَدُهُ احْرَارٌ لأَنَّهُ تَزَوَّجَ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرَارٌ، وَلَا مَهْرَ لَهَا عَلَيْهِ حَتَّى بِعِتْقٍ. قَال المُزَنِيُّ: وَقِيمَةُ الوَلَدِ فِي مَعْنَاهُ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ لا غُرْمَ عَلَى مَنْ شَهِدَ عَلَى رَجُلٍ بِقَتْلٍ خَطَأ أَوْ بِعِتْقٍ حَتَّى يَغْرَمَ لِلْمَشْهُودِ لَهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: وَإِنْ كَانَتْ هِيَ الغَارَّةَ رَجَعَ عَلَيْهَا بِهِ إِذَا أُعْتِقَتْ". قال في الحاوي: فذكرنا أن الزوج يرجع بما غرمه من قيمته الولد قولَا واحدًا في رجوعه بما غرمه من مهر المثل دون المسمى قولان. ورجوعه بذلك إنما يكون على من غره بعد غرمه فأما قبله فلا رجوع له لأنه يغرم ما يرجع به. وقد يجوز أن يبرأ منه فلا يرجع به. قال المزني: هذا يدل على أن من شهد على رجل يقتل خطأ ثم رجع الشهود لم يلزمهم غرم الدية إلا بعد أن يغرمها العاقلة فيرجع بها حينئذ على الشهود وهذا صحيح لأنه قبل الغرم قد يجوز أن يبرأ العاقلة فلا يستحق الرجوع فإذا غرم الزوج ذلك لم يصح أن ينسب الغرور إلى السيد لأنها تعتق عليه بقوله: هي حرة فلا يكون غارًا وإنما يصح أن يكون مغرورًا إما منها أو من وكيله في نكاحها أو منهما معًا فإن تفرد الوكيل بغرور الزوج رجع عليه بقيمة الولد ومهر المثل في الحال إذا كان موسرًا. وانظر إلى ميسرته إن كان معسرًا وإن تفردت الأمة بالغرور يرجع الزوج عليها بقيمة الولد وبجميع مهر المثل ولا يترك عليها شيئًا منه لأنه قد غرم جميعه للسيد فلم يصر بضعها مستهلكًا بغير مهر وكان ذلك في ذمتها لأنها أمة تؤديه إذا أيسرت بعد العتق. فإن قيل: فهلا كان ذلك في رقبتها تباع فيه كالعبد إذا نكح بغير إذن سيده ولزمه المهر بإصابته كان في رقبته على أحد القولين.

قيل: الفرق بينهما إن الرقبة لا يتعلق بها إلا جناية ووطء العبد جناية توجب الغرم فجاز أن يتعلق برقبته. وليس غرور الأمة جناية ولا الغرم بها يتعلق إنما تعلق بوطء الزوج فلم يجز أن يتعلق برقبتها وإن اشتراك الوكيل والأمة في الغرور كان غرم المهر وقيمة الأولاد بينهما نصفين لاستوائهما في الغرور ولكن ما وجب على الوكيل من نصف الغرم يؤخذ به معجلًا لأنه حر وما وجب على الأمة من نصف الغرم تؤخذ به إذا أيسرت بعد العتق. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "إِلَّا أَنْ تَكُونَ مُكَاتِبَةً فَيَرْجِعَ عَلَيْهَا فِي كِتَابَتِهَا؛ لأَنَّهَا كَالجِنَايَةِ فَإِنْ عَجَزَتْ فَحَتَّى تُعْتَقَ فَإِنْ ضَرَبَهَا أَحَدٌ فَألْقَتْ جَنِيناً فَفِيهِ مَا فِي جَنِينِ الحُرَّةِ. وَقَالَ المُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: قَدْ جَعَلَ الشَّافِعِيُّ جَنِينَ المُكَاتِبَةِ كَجَنِينِ الحُرَّةِ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا تزوجت على أنها حرة فكانت مكاتبة كان في نكاحها قولان كالأمة: أحدهما: باطل. والثاني: جائز. وهل له الخيار أم لا؟ على قولين والأمة. فإذا قيل بصحة النكاح وأن لا خيار فيه أو فيه الخيار فاختار المقام عليه فالمهر المسمى بالعقد واجب وهو للمكاتبة دون سيدها لأنه كسبها واكتساب المكاتبة لها بخلاف الأمة فأما أولادها الذين علقت بهم بعد علم الزوج بكتابتها ففيهم قولان: أحدهما: مماليك لسيدها. والثاني: تبع لها يعتقون بعتقها إن أدت ويرقون برقها إن عجزت. وإذا قيل ببطلان النكاح أو قيل بصحته وفيه فاختار الفسخ فالحكم في الحالين سواء وينظر فإن لم يدخل بها الزوج فلا مهر عليه وإن دخل بها فعليه مهر المثل دون المسمى يكون ذلك للمكاتبة دون سيدها وعليه قيمة أولادها وفيمن تكون له قيمتهم قولان: أحدهما: للسيد إذا قيل: إنهم عبيده لو رقوا. والثاني: للمكاتبة إذا قيل: إنهم تبع لها فيما يأخذه من قيمتهم وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي- تستعين به في كتابتها. والثاني: وهو قول أبي علي بن خيران أن يكون موقوفًا كما يوقف الأولاد لو رقوا فإن عتقت بالأداء ملكت قيمتهم وإن رقت بالعجز كانت قيمتهم للسيد ويرجع الزوج بقيمة الأولاد على من غره فإن كان الوكيل هو الذي غره رجع عليه بعد غرمها سواء غرمها

باب الأمة تعتق وزوجها عبد

للمكاتبة أو لسيدها. وإن كانت المكاتبة هي التي غرته فإن قيل: يجب للسيد غرمها للسيد ثم رجع بها على المكاتبة في مال كتابتها فإن عجزت ورقت فبعد عتقها. وإن قيل: تجب قيمة الأولاد لها دون السيد سقطت عنه ولم يغرمها لأنه لو غرمها لرجع بها وأما المهر ففي رجوع الزوج به قولان هلى ما مضى. فإن قيل: لا يرجع به دفع جميعها إليها. وإن قيل: يرجع به نظر في الغار به فإن كان الوكيل غرم لها مهرها ورجع بجميعه على الوكيل وإن كانت هي الغارة سقط لأنه لها وهل يسقط جميعه أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: يسقط جميعه لأنه يستحق الرجوع على غيرها بجميعه. والثاني: لا يسقط إلا أقل ما يجوز أن يكون مهرًا فيلزمه دفعه إليها ولا يرجع به عليها لأن لا يصير مستمتعًا ببعضها من غير بذل. فصل: فلو كانت بحالها حاملًا من هذا الزوج المغرور فضرب بطنها فألقت حملها جنينًا ميتًا فعلى الضارب في جنينها غرة عبد أو أمة لأنه حر في حقه ويكون ذلك للزوج لأنه أبوه ووارثه إلا أن يكون هو الضارب فلا يرثه لأنه صار قاتلًا ولا ترثه الأم لأنها مكاتبة ويكون على الزوج فيه عشر قيمة أمة كالذي يكون في جنين مملوك لأنه فيما يستحق على الأب من الغرم في حكم الجنين المملوك وفيما يستحقه الأب على الضارب من الدية في حكم الجنين الحر وفيمن يستحق ما غرمه الأب من عشر قيمة أمة قولان: أحدهما: يكون للسيد إذا قيل: إن الولد ملك له لو رق. والثاني: يكون للأم المكاتبة إذا قيل: إنه يكون تبعًا لها لو رق وهل تستعين به في مال كتابتها أو يكون موقوفًا بيدها على ما ذكرنا من الوجهين ثم يكون رجوع الزوج به على غرة مستحق على ما مضى، والله أعلم. باب الأمة تعتق وزوجها عبد قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ رَبِيعَةَ عَنْ القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: أَنَّ بُرِيرَةَ أُعْتِقَتْ فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنْ لَيْسَ بَيْعُهَا طَلَاقَهَا إِذَا خَيَّرَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ بَيْعِهَا فِي زَوْجِهَا". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا كانت الأمة ذات زوج فبيعت أو أعتقت كان النكاح بحاله ولم يكن ذلك طلاقًا لها. وبه قال عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وأكثر الصحابة وجمهور الفقهاء ابن عباس وابن مسعود وأبي بن كعب وأنس بن مالك

إلى أن بيعها طلاق لها وكذلك عتقها ولا نعرف قائلًا به من التابعين إلا مجاهد استدلالًا بقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] فحرم من ذوات الأزواج إلا أن يملكه فيحلله للمالك وهذه قد ملكت بالابتياع فوجب أن تحل لمالكها ولأنه لما حلت ذات الزوج بالسبي لحدوث ملك السابي وجب أن تحل بالشراء لحدوث ملك المشتري. والدليل على ثبوت النكاح أن بريرة أعتقت تحت زوج فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في نكاحه فلو كان نكاحها قد بطل بعتقها لأخبرها ولم يخيرها فيه ولأن عقد النكاح أثبت من عقد الإجارة لدوامه فلما لم يبطل عقد الإجارة بالعتق والبيع فأولى أن لا يبطل بهما عقد النكاح ولأنه لما كان بيع الزوج وعتقه لا يوجب بطلان نكاحه كذلك بيع الزوجة وعتقها لا يوجب بطلان نكاحها ولأن المشتري ملك عن البائع على الصفة التي كان البائع مالكها فلما كان النكاح مقرًا على ملك البائع كان مقرًا على ملك المشتري فأما الآية فواردة في السبايا. وأما الاستدلال بالسبايا فالفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن السبي لما أبطل الحرية التي هي أقوى كان بأن يبطل النكاح أولى وليس كذلك البيع والعتق. والثاني: أن السبي قد أحدث حجرًا فجاز أن يبطل به ما تقدم من نكاحها وليس كذلك البيع والعتق. فصل: فإذا ثبت أن النكاح بحاله فعلى المشتري إقرار الزوج على نكاحه وله الخيار في فسخ البيع إن لم يكن عالمًا بنكاحه لتفويت بضعها عليه. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ عَبْداً. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ كَانَ عَبْداً يُقَالُ لَهُ: مُغِيثٌ، كَأَنِّي أَنْظُرُ إلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِي وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِلْعَبَّاسِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "يَا عَبَّاسُ أَلَا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيث بُرَيْرَةَ وَمِنْ بُغْضِ بُرِيرَةَ مُغِيثاً؟ " فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "لَوْ رَاجَعْتِهِ فَإِنَّمَا هُوَ أَبُو وَلَدِكِ" فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله بَأَمْرِكَ؟ قَال: "إِنَّمَا أَنَا شَفِيعٌ" قَالَتْ: فَلَا حَاجَةَ لِي فِيهِ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عَبْداً. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: وَلَا يُشْبِهُ العَبْدُ الحُرَّ؛ لأَنَّ العَبْدَ لَا يَمْلِكَ نَفْسَهُ، وَلأَنَّ لِلسَّيِّد إِخْرَاجَهُ عَنْهَا وَمَنْعَهُ مِنْهَا وَلَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ لِوَلَدِهَا وَلَا وِلَايَةَ وَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا". قال في الحاوي: أما إذا أعتقت الأمة تحت زوج وكان عبدًا فلها الخيار في فسخ نكاحه لكماله ونقصه وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة: "ملكت نفسك فاختاري".

فأما إذا أعتقت الأمة وزوجها حر فقد اختلف الفقهاء في خيارها فذهب الشافعي إلى أنه لا خيار لها. وبه قال من الصحابة: ابن عمر وابن عمر وابن عباس وعائشة. ومن التابعين: سعيد بن المسيب والحسن البصري وسليمان بن يسار. ومن الفقهاء: ربيعة ومالك والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لها الخيار. وبه قال النخعي والشعبي والثوري وطاوس استدلالًا برواية إبراهيم بن الأسود عن عائشة قالت: خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة وكان زوجها حرًا وهذا نص قالوا: ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة: "قد ملكت بضعك فاختاري" فجعل على اختيارها أنها ملكت بضعها وهذه العلة موجودة إذا أعتقت تحت حر لوجودها إذا أعتقت تحت عبد فوجب أن يكون لها الخيار في الحالين. قال: ولأنها أعتقت تحت زوج فوجب أن يكون لها الخيار في الحالين. قال: ولأنها أعتقت تحت زوج فوجب أن يكون لها الخيار. أصله: إذا كان الزوج عبدًا ولأنه قد ملك عليها بضعها بعد العتق بمهر ملكه غيرها في الرق فوجب أن يكون لها فسخه فيصح ان تملك بالحرية ما كان ممنوعًا عليها في العبودية. ودليلناك ما رواه عروة بن الزبير والقاسم بن محمد وعمرة بنت عبد الرحمن عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم خَيَّر بريرة وكان زوجها عبدًا فوجه الدليل فيه أن الحكم إذا انتقل مع السبب تعلق الحكم بذلك السبب كما إذا نقل الحكم مع علة تعلقى الحكم بتلك العلة وقد نقل التخيير بعتقها تحت عبد فوجب أن يكون متعلقًا به. فإن قيل: فقد روى الأسود عن عائشة أنه كان حرًا، فتعارضت الروايتان في النقل وكانت رواية الحرية أثبت في الحكم، ألا ترى لو شهد شاهدان بحرية رجل وشهد آخران بعبوديته كان شهادة الحرية أولى من شهادة العبودية، وكذلك في النقلين المتعارضين. قيل: روايتنا أنه كان عبدًا أولى من روايتهم أنه كان حرًا من أربعة أوجه: أحدهما: أن راوي العبودية عن عائشة ثلاثة عروة والقاسم وعمرة وراوي الحرية عنها واحد وهو الأسود ورواية الثلاثة أولى من رواية الواحد لأنهم من السهو أبعد وإلى التواتر والاستفاضة أقرب وقد قال الله تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى} [البقرة: 282] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد".

والثاني: أن من ذكرنا أخص بعائشة من الأسود، ولأن عروة بن الزبير هو ابن أختها أسماء بنت أبي بكر والقاسم بن محمد هو ابن أخيها محمد هو ابن أخيها محمد بن أبي بكر، وعمرة بنت عبد الرحمن بنت أخيها عبد الرحمن بن أبي بكر، فهم من أهلها يستمعون كلاهما مشاهدة من غير حجاب والأسود أجنبي لا يسمع كلاهما إلا من وراء حجاب فكانت روايتهم أولى من روايته. والثالث: أن نقل العبودية يفيد على الحكم ونقل الحرية لا يفيدها لأن أحدًا لا يجعل حرية الزوج علة في ثبوت الخيار والعبودية يجعله علة في ثبوت الخيار فكانت رواية العبودية أولى. والرابع: أن قد وافق عائشة في رواية العبودية صحابيان: ابن عمر وابن عباس وما رافقهما في رواية الحرية أحد أما ابن عمر فروى أنه كان عبدًا وأما ابن عباس فروى عنه خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان زوج بريرة عبدًا أسود يقال له مغيث كأني أراه يطوف خلفها بالمدينة ودموعه تسيل على لحيته، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمه العباس: ألا تعجب من شدة حب مغيث بريرة، ومن شدة بغض بريرة مغيث، قال: فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو راجعته فإنما هو أبو ولدك" فقالت: أتأمرني فقال: "إنما أنا شافع" قالت: فلا حاجة لي فيه". فأما ترجيحه بأن شهود الحرية أولى من شهود العبودية كذلك راوي الحرية أولى من راوي العبودية. فالجواب عنه أنه يقال: إن علم شهود الحرية بالعبودية فشهادتهم أولى لأنهم أزيد علمًا ممن علم العبودية زلم يعلم ما يجدد بعدها من الحرية وإن لم يعود شهود الحرية بالعبودية وكان مجهول فقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: أن الشهادتين قد تعارضتا فسقطتا. والثاني: أن شهادة العبودية أولى لأنها تخالف الظاهر من حكم الدار فكانت أزيد ممن شهد بالحرية التي هي الغالب من حكم الدار ألا ترى أن اللقيط يجري عليه حكم الحرية في الظاهر لأنه الغالب من حكم الدار في الظاهر لأنه الغالب من حكم الدار ولأن أهلها أحرارًا فلم يكن في هذا الاستشهاد ترجيح. فإن قالوا: تستعمل الروايتين فتحمل رواية من نقل العبودية على أنه كان عبدًا وقت العقد ورواية من نقل الحرية على أنه كان حرًا وقت العتق؛ لأن الحرية تطرأ على الرق ولا يطرأ الرق على الحرية، فكان ذلك أولى ممن استعمل إحدى الراويتين دون الأخرى.

والجواب عن هذا الاستعمال من وجهين: أحدهما: أنه تأويل يبطل بخبرين: أحد الخبرين: أن أسامة روى عن القاسم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لبريرة: "إن شئت أن تستقري تحت هذا العبد وإن شئت فارقتيه" فيقال: إنه كان في وقت التخيير عبدًا. والخبر الثاني: ما رواه هشام بن عروة عن ابيه عن عائشة أنه كان عبدًا فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فاختارت نفسها، ولو كان حرًا لم يخيرها. والثاني: أننا نقابل هذا الاستعمال بمثله من وجهين: أحدهما: أنه كان حرًا قبل السبي وعبدًا بعد السبي عند العقد والتخيير. والثاني: أنه كان عبدًا وقت العتق وحرًا وقت التخيير فتكون لها الخيار في أحد المذهبين ويدل على صحة ما ذهبنا إليه أيضًا ما رواه ابن موهب عن القاسم عن عائشة أنه كان غلام وجارية، فأرادت عتقهما فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ابدأي بالغلام" فلم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتقديم عتق الزوج إلا لفائدة ولا فائدة إلا سقوط خيار الزوجة على أنه قد روى أنه قال لها: "ابدأي بالغلام لأن لا يكون للزوجة خيار فكان هذا نصًا صريحًا. ويدل عليه عن طريق القياس: أنها كافأت زوجها في الفضيلة فوجب أن لا يثبت لها بذلك خيار كما لو أسلمت تحت مسلم أو أفاقت من جنون تحت عاقل، ولأن ما لم يثبت به الخيار في ابتداء النكاح لم يثبت به الخيار في أثناء النكاح كالعمى طردًا وكالجب عكسًا ولأن ما لزم من عقود المعاوضات لم يثبت فيه من غير عيب خيار كالبيع. فأما الجواب عن استدلالهم بقوله: قد ملكت بضعك فاختاري فهو أن هذا اللفظ ما نقله غيرهم ولا وجد إلا في كتبهم ثم يكون معناه قد ملكت نفسك تحت العبد فاختاري فلم يكن لها أن تختار نفسها تحت الحر. وأما قياسهم على الزوج إذا كان عبدًا فالمعنى فيه نقصه بالرق عم كمالها بالحرية فذلك كان عيبًا يوجب الخيار وليس كذلك عتقها مع الحر. وأما استدلالهم بأنه قد ملك عليها بضعها. بمهر ملكه غيرها فلا تأثير لهذا المعنى واستحقاق الخيار لأنها لو كانت مكاتبة وقت العقد فملكت مهرها ثم أعتقت كان لها الخيار فبطل أن يكون استحقاقه لهذه العلة وبطل أن يكون العلة لأنها قد ملكت بالعتق ما ملك عليها في الرق لأنها لو أوجرت ثم عتقت لم يكن لها في فسخ الإجارة خيار فلم يصح التعليل بواحد من الأمرين فبطل الاستدلال. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "فَلِهَذَا، وَاللهُ أَعْلَمُ- كَانَ لَهَا الخِيَارُ إِذَا أُعْتِقَتْ

مَا لَمْ يُصِبْهَا زَوْجَهَا بَعْدَ العِتْقِ وَلَا أَعْلَمُ فِي تَاقِيتَ الخِيَارِ شَيْئاً يُتَّبَعُ إِلَّا قَوْلَ حَفْصَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مَا لَمْ يَمَسَّهَا". قال في الحاوي: وإذا ثبت أن لا خيار لها إذا أعتقت إلا أن يكون زوجها عبدًا فلها أن تختار الفسخ بحكم حاكم وغير حكمه بخلاف الفسخ بالعيوب لأن خيارها بالعتق غير متفق عليه فلم يفتقر إلى حاكم وخيارها بالعيب مختلف فيه فافتقر إلى حاكم وإذا كان كذلك فهل يكون خيارها على الفور أو التراخي فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه على الفور معتبرًا بالمكنة لأن خيار عيب ثبت لرفع ضرر فاقتضى أن يكون على الفور كالخيار بالعتق في البيوع. والثاني: أنه ممتد بعد العتق إلى ثلاثة أيام وهي آخر حدّ القليل وأول حد الكثير واعتبارًا بالخيار في المصراة ثلاثًا بأنه جعل الخيار خيار ثلاث. والثالث: أنه على التراخي ما لم يصرح بالرضي أو التمكين في نفسها لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة: لما رأى مغيثًا باكيًا "لو راجعتيه فإنه أبو ولدك" ولعل ذلك كان بعد زمان من عتقها فلولا امتداد خيارها على التراخي لأبطله، وقد روى محمد بن خزيمة عن ابن إسحاق بإسناد رفعه أ، النبي صلى الله عليه وسلم قال لبريرة: "لك الخيار ما لم يصبك". وهذا نص إن صح، ولأنه قول ابن عمر وحفصة وليس يعرف لهما فيه خلاف ولأن طلب الأحظ في هذا الخيار مثبته يحتاج إلى فكر وارتياء فتراخى زمانه ليعرف بامتداد أحظ الأمرين لها وخالف العيوب التي لا يشتبه منها. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَإِنْ أَصَابَهَا فَادَّعَت الجَهَالَةَ فَفِيهَا قَوْلَان: أحدهما أَنْ لَا خَيَارَ لَهَا وَالآخَرُ لَهَا الخِيَارُ وَهَذَا أَحَبُّ إِلَيْنَا، وَقُلْتُ: أَنَا وَقَدْ قَطَعَ بِأَنَّ لَهَا الخِيَارَ فِي كِتَابَيْنِ وَلَا مَعْنَى فِيهَا لِقَوْلَيْنِ". قال في الحاوي: وصورتها: في أمة عتقت تحت عبد مكنته من نفسها ثم ادعت الجهالة وأرادت فسخ نكاحه فدعوى الجهالة على ضربين: أحدهما: أن تدعي الجهالة بالعتق وأنها لم تعلم به حتى مكنت من نفسها فهذا على ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يعلم صدقها لبعدها عن البلد الذي فيه سيدها وقرب الزمان عن أن يصل إليها عتقها فقولها مقبول ولها الخيار لأن خيار العيوب لا يبطل بالتأخير إذا جهلت. والثاني: أن تعلم كذلك بها لأنها وجهت بالعتق أو بشرت به فعلمت أحكامها

فقولها مردود ولا خيار لها بعد التمكين. والثالث: أن يحتمل الأمرين فالقول قولها مع يمينها لأن الأصل عدم علمها وثبوت الخيار لها فلم يصدق الزوج في إبطاله عليها ومن أصحابنا من خرج فيه وجهًا آخر أن القول فيه قول الزوج لأن الأصل فيه ثبوت النكاح فلا يقبل قولها في فسخه مع احتمال تخريجها من أحد القولين في الجهالة بالحكم. فصل: والضرب الثاني: أن تدعي الجهالة بالحكم مع علمها بالعتق فتقول: لم أعلم بأن لي الخيار إذا أعتقت مكنته من نفسي وإن كانت عالمة بالعتق فهو أيضًا على الأقسام الثلاثة: أحدهما: أن يعلم أن مثلها لا يعلم لأنها جلبية أعجمية فقولها مقبول ولها الخيار. والثاني: أن يعلم أن مثلها يعلم لأنها مخالطة للفقهاء مسائلة العلماء فقولها غير مقبول ولا خيار لها بعد التمكين. والثالث: أن يحتمل الأمران أن يعلم وأن لا يعلم فإن صدقها الزوج على أن لم تعلم فلها الخيار وإن أكذبها ففيه قولان: أحدهما: أن القول قولها مع يمينها اعتبارًا بثبوت الخيار لها وأنه حكم قد يخفي على العامة ولا يكاد يعرفه إلا الخاصة فلم يقبل الزوج في إبطاله. والثاني: أن القول قول الزوج مع يمينه ولا خيار لها اعتبارًا بلزوم النكاح فلم يقبل قولها في فسخه. فأما المزني فاختار الأول وهو أصح لكنه جعل نص الشافعي عليه في موضعين إبطالًا للثاني وليس بصحيح لأنه لما يبطل الثاني بذكر الأول لم يبطل بإعادة الأول، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَإِنْ اخْتَارَتْ فِراقَهُ وَلَمْ يَمَسَّهَا فَلَا صَدَاقَ لَهَا فَإِنْ أَقَامَتْ مَعَهُ فَالصَّدَاقُ لِلسَّيِّد لأَنَّهُ وَجَبَ بَالعَقْدِ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا خيّرت المعتقة تحت عبد فلها حالتان: إحداهما: أن تختار الفسخ فهذا على ضربين: أحدهما: أن يفسخ قبل الدخول فيسقط مهرها لأن الفسخ إذا جاء من قبلها قبل الدخول أسقط مهرها كالردة وكما لو قال لها وهي غير مدخول بها أنت طالق إن شئت

فشاءت طلقتين لا مهر لها لوقوع الطلاق بمشيئتها. والثاني: أن يفسخ بعد الدخول فالمهر مستتر بالدخول ثم ينظر فإن كان الدخول قبل العتق وجب المهر المسمى لأن فسخ النكاح كان بحادث بعد الدخول وإن كان الدخول بعد العتق وهو أن لا تعلم بالعتق حتى يدخل بها فيكون لها مهر المثل دون المسمى لأنه فسخ بسبب قبل الدخول وإن كان موجودًا بعده فصار العقد مرفوعًا بسببه المتقدم فلذلك وجب بالعدة في الإصابة مهر المثل كما قلنا في العيب ثم يكون هذا المهر للسيد سواء كانت الإصابة قبل العتق أو بعده. فصل: والحالة الثانية: أن يختار المقام والنكاح ثابت والصداق على ضربين: أحدهما: أن يكون مسمى في العقد فهو للسيد دونهما. وقال مالك: يكون الصداق لها وهذا خطأ من وجهين: أحدهما: أن المهر مستحق بالعقد وإن صار مستقرًا بالدخول والعقد في ملك السيد فوجب أن يكون الصداق له كما لو عقدته في حريتها كان الصداق لها. والثاني: أنه قد يعقد على منافعها بالإجارة تارة وبالنكاح أخرى فلما لو أجرها ثم أعتقها كانت الأجرة له دونها كذلك إذا زوجها ثم أعتقها كان الصداق له دونها. والثاني: أن تكون مفوضة لم يسم لها في العقد صداقًا حتى أعتقت ففيه قولان مبنيان على اختلاف قولي الشافعي فيما فرض من صداق المفوضة هل يكون مستحقًا بالعقد أو بالفرض. فأحد القولين: أنه مستحق بالعقد وإن فرض بعده لأنه بدل من المسمى فيه فعلى هذا يكون للسيد استحقاقه في ملكه كالمسمى. والثاني: أنه مستحق بالفرض لخلو العقد منه فعلى هذا يكون للمعتقة لاستحقاقه بعد عتقها. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ كَانَتْ فِي عِدَّةِ طَلْقَةٍ فَلَهَا الفَسْخُ". قال في الحاوي: وصورتها في عبد طلق زوجته الأمة واحدة بعد الدخول فله عليها الرجعة وقد بقيت معه على طلقة وصارت كزوجة الحر بعد الطلقتين لأن الحر يملك ثلاثًا والعبد طلقتين فإن أعتقت هذه الأمة المطلقة في عدتها فلها الفسخ؛ لأنها في عدة الطلاق الرجعي في حكم الزوجات لوقوع طلاقه عليها وصحة ظهارة وإبلائه منها فكان لها الفسخ، وإن كانت جارية في الفسخ؛ لأن الفسخ لا ينافي وليستعيد بالفسخ قصور

إحدى العدتين وإذا كان كذلك فلها بعد عتقها ثلاثة أحوال: أحدها: أن يختار الفسخ. والثاني: أن يختار المقام. والثالث: أن تمسك فلا تختار الفسخ ولا المقام فإن اختارت الفسخ كان ذلك لها وهل للزوج أن يرجع بعد الفسخ أم لا؟ على وجهين: أحدهما: له الرجعة لأنه قد ملك الرجعة بطلاقة. والثاني: لا رجعة له لأن الرجعة تراد للاستباحة والفسخ قد منع منها فلم يكن للرجعة تأثير فعلي هذا إن قلنا: إنه لا رجعة له كان تأثير الفسخ إسقاط الرجعة لا وقوع الفرقة لأن الفرقة وقعت بالطلاق دون الفسخ وأول عدتها من يوم الطلاق في الرق وقد صارت في تضاعيفها حرة فتكون عدتها على ما مضى من القولين: أحدهما: عدة أمة اعتبارًا بالابتداء. والثاني: عدة حرة اعتبارًا بالانتهاء. وإن قيل: له الرجعة فعلى هذا لا يخلو من أحد أمرين. إما أن يراجع أو لا يراجع فإن لم يراجع وقعت الفرقة بالطلاق دون الفسخ وفي عدتها قولان على ما مضى وإن راجع وقعت الفرقة بالفسخ دون الطلاق وأول عدتها من وقت الفسخ وهي عدة حرة لأنها بدأت بها وهي حرة وإن اختارت المقام فلا تأثير لهذا الاختيار لأن جريانها في الفسخ يمنع من استقرار حكم الرضى. وقال أبو حنيفة: قد بطل خيارها بالرضى وليس لها بعد الرجعة أن تفسخ لأن أحكام الزوجية جارية عليها في حق نفسها إن رضيت وهذا خطأ؛ لأن الجارية في عدة الفرقة لا يلزمها حكم الرضى إذا أعتقت كما لو ارتد وقال: أنت بائن فإن أبا حنيفة يوافق فيهما أن الرضى غير مؤثر فعلى هذا الزوج أن يراجع لا يخلف فإن لم يراجع وقعت الفرقة بالطلاق وكان في عدتها قولان: وإن راجع عادت بالرجعة إلى الزوجية فتكون حينئذٍ بالخيار بين الفسخ والمقام لأن ذلك الرضى لما كان في غير محله سقط حكمه فإن اختارت المقام كان على الزوجية وإن اختارت الفسخ استأنفت عدة حرة من وقت الفسخ وإن لم يكن لها وقت العتق اختيار المقام ولا الفسخ فهو على ما ذكرنا من أن الزوج أن يراجع فإن لم يفعل حتى مضت العدة وقعت الفرقة وفي عدتها قولان وإن راجع كانت حينئذٍ بالخيار فإن فسخت استأنفت من وقت الفسخ عدة حرة. فصل: فأما إذا كان العبد قد طلقها اثنتين فقد استوفي ما ملكه من طلاقها فإن أعتقت في العدة لم يكن لها الفسخ لأنها مبتوتة بالطلاق فصارت بائنًا وهكذا لو خالعها على طلقة واحدة لم يكن لها الفسخ إذا أعتقت لأنها بالخلع مبتوتة وإن بقي لها من الطلاق واحدة.

فصل: وإذا أعتقت الأمة تحت عبد فبادر الزوج فطلقها قبل الفسخ ففي وقوع طلاقها قولان: أحدهما: رواه الربيع -أن الطلاق لا يقع لأن استحقاقها للفسخ يمنع من تصرف الزوج فيها بغير الطلاق فمنعه من التصرف فيها بالطلاق. والثاني: نص عليه في الإملاء أن طلاقه واقع لأنها قبل الفسخ زوجة وإن استحقت الفسخ والطلاق وإن كان تصرفًا فهو موافق للفسخ وإنما يمنع من تصرف بضاده كالاستمتاع وهذا اختيار ابن سريج. وقال أبو حامد الإسفراييني: الطلاق موقوف فإن فسخت بان أنه لم يكن واقفًا وإن لم يفسخ بان أنه كان واقعًا كطلاق المرتدة، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَإِنْ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذّلِكَ فَهِيَ عَلَى وَاحِدَةٍ". قال في الحاوي: وصورتها في أمة أعتقت تحت عبد فإن فسخت نكاحه من غير أن يطلقها جاز بعد الفسخ أن يتزوجها سواء كانت في العدة أو بعدها؛ لأن العدة إذا كانت منه منعت من نكاح غيره ولم يمنع من نكاحه فإذا نكحها كانت معه على ما يملك من الطلاق الكامل وهو طلقتان لأن العبد لا يملك أكثر منهما وليس الفسخ طلاقًا وإن كان الزوج قد طلقها قبل فسخها طلقتين قد حرمت عليه إلا بعد زوج كما تحرم على الحر بما بعد ثلاث لاستيفائه ما ملك من الطلاق وإن كان الزوج قد طلقها واحدة، فله أن يستأنف نكاحها في العدة وبعدها سواء فسخت بعد طلاقه أو لم تفسخ وتكون معه على طلقة واحدة وهي الباقية له من الطلقتين فلو كان العبد قد أعتق قبل أن تستأنف نكاحها ففيما يملكه من طلاقها قولان بناء على اختلاف قولين إذا عتقت في تضاعيف عدتها. أحدهما: تكون معه على طلقة واحدة اعتبارًا بما هي من نكاحه الأول الذي كان فيه عبدًا. والثاني: تكون معه على اثنتين اعتبارًا بما يملكه في نكاحه الثاني الذي قد صار به حرًا. مسألة: قَالَ الشَافِعِيُّ: "وَعَلَى السُّلْطَانِ أَنْ لَا يُؤَجِّلَهَا أَكْثَرَ مِنْ مَقَامِهَا". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن للمعتق تحت عبد أن تختار الفسخ في نكامه من غير حكم فإن ترافع الزوجان فيه على الحاكم أو السلطان. قال الشافعي: "فعلى السلطان أن

لا يؤجلها أكثر من مقامها". فاختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: أنه جواب منه على القول الذي يجعل خيارها فيه على الفور دون التراخي فلا يؤجلها أكثر من مقامها للتحاكم فيه لأنه المعتبر من مكنة الفوز. فأما على القول الذي يجعل خيارها إلى ثلاث أو على التراخي فليس له قطع خيارها ولا إبطال ما استحقه من مدته أم من تراخيه. والثاني: أنه جواب منه على الأقاويل كلها لأن الحاكم منصوب للفصل بين الخصوم فإذا قضاها للزوج إليه وقال الزوج: إما أن تمكنيني أو تفسخي لم يجز للحاكم أن يمهلها ويذرها معه مطلقة ليست بزوجة ولا مفارقة فيقول لها: أتت وإن كان خيارك ممتدًا على التراخي بالتحاكم ثلاث والقضاء يفصل فاختياري تعجيل الفسخ أو الرضى فإن فسخت في مجلسه وإلا سقط حقها منه، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَإنْ كَانَتْ صَبِيَّةً فَحَتَّى تّبْلُغَ". قال في الحاوي: وصورتها في أمة صغيرة أعتقت تحت عبد فقد وجب لها الخيار مع الصغر؛ لأن ما وجب في العقود من الحقوق استوى استحقاقه في الصغير والكبير كالشفعة لكن ليس لها قبل البلوغ أن تختار الفسخ بخلاف التخيير بين الأبوين والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أنه تخيير يستحق في الصغر فلم يجز أن يفوت بانتظار البلوغ فخالف خيار العتق. والثاني: أنه تخيير لا يلزم به حكم فجاز أن يكون ممن ليس لقوله حكم وإذا كان هكذا فليس لوليها من أب ولا معتق أن يختار عليها بخلاف الشفعة التي يكون للولي أخذها. والفرق بينهما: أن في هذا الخيار استهلاكًا ليس في الشفعة فجرى مجرى استحقاق القود الذي ليس للولي فيه خيار لما تضمنه من الاستهلاك. فصل: فإذا تقرر أن لا خيار لها ولا لوليها حتى تبلغ فإذا بلغت كان البلوغ أول زمان الخيار فيكون فيه حينئذٍ ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه على الفور في الحال. والثاني: أنه ممتد إلى ثلاثة أيام.

والثالث: أنه على التراخي ما لم ترض أو تمكن فلو أراد الزوج أن يطأها ما بين عتقها وبلوغها فالصحيح أنه تمكن منه ولا يمنع من إصابتها لأن استحقاقها للفسخ مغير لحكم تقدمه من الإباحة وهذا الوجه مخرج القول الذي رواه الربيع أن طلاق الزوج قبل الفسخ وبعد استحقاقه لا يقع. مسألة: قَالَ الشًّافِعِيُّ: "لَا خَيَارَ لأَمَةٍ حَتَّى تكْمُلَ فِيهَا الحُرَّيَةُ". قال في الحاوي: وهذا صحيح؛ لأن أحكام الرق جارية عليها قبل استكمال الحرية فإذا أعتق بعضها ورق باقيها فإن قل فلا خيار لها، وكذلك لو دبرت أو كوتبت وفي مقابلة ذلك أن يعتق جميعها وقد أعتق من الزوج بعضه وإن كثر ورق باقية وإن قل فلها الخيار في فسخ نكاحه لأن أحكام الرق جارية عليه ما لم تكمل حريته. فصل: ويتفرع على هذا الأصل إذا زوجها سيدها بعبد على صداق مائة درهم ثم أعتقها في مرضه وقيمتها مائة درهم وخلف معها مائة درهم ولم يدخل الزوج بها فلا خيار لها بالعتق وإن كان زوجها عبدًا لأن اختيارها الفسخ مفضٍ إلى إبطال والعتق والفسخ لأنها إذا فسخت قبل الدخول بطل صداقها فصارت التركة مائتا درهم قيمتها نصفها فيعتق ثلثاها ويرق ثلثها وإذا رق ثلثها بطل خيارها لأن ما أدى ثبوته إلى إبطاله وإبطال غيره أبطل ثبوت غيره فكذلك بطل الخيار ومضى العتق ولهذا نظائر قد ذكرناها. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وّلّوْ أَعْتَقَ قَبْلَ الخِيَارِ فَلَا خِيَارَ لَهَا". قال في الحاوي: وصورتها: في أمة أعتقت تحت عبد فلم تختر فسخ نكاحه حتى أعتق إما بأن لم تعلم بعتقها فيكون خيارها باقيًا على الأقاويل كلها وإما بأن علمت وقيل خيارها على التراخي دون الفور ففي بقاء خيارها قولان: أحدهما: أن خيارها ثابت اعتبارًا بوجوبه في الابتداء فلم يسقط مع زوال سببه إلا بالاستبقاء. والثاني: نص عليه في هذا الموضع أنه لا خيار لها لأن مقصود خيارها إزالة النقص الداخل عليها برقة وقد زال النقص بعتق فلم يبق لاستحقاق الخيار معنى يقتضيه فلو أعتق الزوجان في حالة واحدة فلا خيار لهما لاستوائهما في التكافئ بالرق والعتق ولو أعتق الزوج دونها ففي استحقاقه لفسخ نكاحها بعتقه ورقها وجهان:

باب أجل العنين والخصي غير المجبوب والخنثى

أحدهما: له الفسخ ليستحق عليها من الخيار مثل ما تستحقه عليه فيستويان فيه. والثاني: لا خيار له وإن كان لها الخيار لأن الزوج يقدر على إزالة الضرر بالطلاق وهي لا تقدر عليه إلا بالفسخ فافترقا فيه والله أعلم بالصواب. باب أجل العنين والخصي غير المجبوب والخنثى مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيَنْةَ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ ابْنِ المُسَيَّبِ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَجَّلَ العِنِّينَ سَنَةَّ وَقَالَ: وَلَا أَحْفَظَ عَمَّنْ لَقيتُهُ خِلَافًا فِي ذَلِكَ فَإِنْ جَامَعَ وَإِلَّا فًرِّقَ بَيْنَهُمَا". قال في الحاوي: وهذا كما قال: أما العنة فهي العجز عن الوطء وللين الذكر وعدم انتشاره فلا يقدر على إيلاجه فسمى من به العنة عنينًا وفي تسميته بذلك قولان: أحدهما: أنه سمي عنينًا للين ذكره يعني عن إرادة الوطء وانعطافه مأخوذ من عنان الفرس للينه. والثاني: أنه سمي عنينًا لأن ذكره يعن عن إرادة الوطء أن يعترض يمين الفرج ويساره فلا يلج مأخوذ من العنن وهو الاعتراض يقال عزلك الرجل إذا اعترضتك عن يمينك أو يسارك. والعنة عيب يثبت به للزوجة خيار الفسخ وهو إجماع الصحابة وقول جميع الفقهاء إلا شاذًا عن الحكم بن عيينة وداود: أنه ليس بعيب ولا خيار فيه استدلالًا بأن امرأة رفاعة لما تزوجت بعده بعبد الرحمن أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: أن زوجي أبت طلاقي وقد تزوجني عبد الرحمن بن الزبير وإنما له مثل هدبة الثوب فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" فلم يجعل العنة فيه عيبًا ولا جعل لها خيارًا. وروى هانئ بن هانئ أن امرأة شكت إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن زوجها لا ينتشر فقال: "ولا عند السحر؟ قالت: لا، قال: ما عند است هذا خير، ثم قال: اذهبي فجيئيني به، فلما جاءه رآه شيخًا ضعيفًا فقال لها: اصبري فلو شاء الله أن يبتليك بأكثر من هذا فعل" ولم يجعل لها خيارًا. ودليلنا قول الله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:229] فلما كان الوطء حقًا عليها وجب أن يكون حقًا لها عليه وقال تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة:229] وهي الفرقة ولأنه إجماع الصحابة حكي ذلك عن عمر وعلي وابن

مسعود والمغيرة وابن عمر وجابر أنه يؤجل فإن أصاب وإلا فرق بينهما وليس يعرف لهم في الصحابة مخالف. فإن قيل: فقد تقدمت الرواية عن علي بخلاف هذا. قيل: تلك الرواية ليست ثابتة لأن هانئ بن هانئ ضعيف عند أصحاب الحديث ولأن تلك لم يكن زوجها عنينًا لأنه عجز بعد القدرة لضعف الكبر. وقيل: إنها كانت قد عنت عنده والعنين هو الذي لم يصبها قط وقد قال الشافعي في إثبات الإجماع: لا أحفظ عمن لقيته خلافًا ولأنه لما وجب لها بالجب خيار الفسخ لفقد الإصابة المقصورة فكذلك العنة ولأن العنين أسوأ حالًا من المولى لأن المولى تارك للإصابة مع القدرة والعنين تارك لها مع العجز فلما كان لها الفسخ في الإيلاء فلأن يكون لها في العنة أولى ولأنه لما وجب له الخيار في فسخ نكاحها بالرتق لتعذر الجماع عليه مع قدرته على فراقها بالطلاق كان أولى أنه يجب بها بعنة الزوج لأنها لا تقدر على فراقه بالطلاق. فأما الجواب عن حديث امرأة رفاعة فمن وجهين: أحدهما: أنها شكت ضعف جماعه ولم تشك عجزه عنه ألا تراه قال لها: "حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" ولو كان عاجزًا لما ذاق واحد منهما عسيلة صاحبه على أنه قد روى هشام بن عروة عن أبيه، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها: "لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك" فقالت: يا رسول الله قد جاءني هبة، وفيه معنيان: أحدهما: أن الهبة مرة واحدة. قال ابن وهب. والثاني: أنها حقبة من الدهر قال أبو زيد وهذا نص في الجواب. والثالث: أنها ادعت ذلك على زوجها ولم يكن من الزوج اعتراف بدعواها بل أنكر عليها قولها فقال: كذبت يا رسول الله، فإني أعركها عرك الأديم العكاظي". فصل: فإذا ثبت أن العنة عيب يثبت به خيار الفسخ فهو معتبر بشرطين: أحدهما: أن لا يكون قد أصابها قط فإن أصابها مرة زال عنه حكم العنة لما سنذكره. والثاني: أن لا يقدر على إيلاج حشفة الذكر فإن على إيلاج الحشفة وإن استعان بيده زال عنه حكم العنة فإذا تكامل الشرطان وتصادم عليهما الزوجان لم يتعجل الفسخ بها وأجل الزوج لها سنة كاملة بالأهلة. وحكي عن مالك: أنه يؤجل نصف سنة. وحكي عن الحارث بن أبي ربيعة أنه يؤجل عشرة أشهر وحكي عن سعيد بن

المسيب (أنها) إن كانت حديثة العهد معه أجل لها سنة، وإن كانت قديمة العهد معه أجل لها خمسة أشهر، وكل هذه الأقاويل فاسدة لا يرجع التقدير فيها إلى أصل من جهة، وتقدير أصله بالسنة أولى من وجهين: أحدهما: أنه مروي عن عمر، لأنه أجل العنين سنة. وعمر لا يفعل هذا إلا عن توقيف يكون نصًا أو عن اجتهاد شاور فيه الصحابة؛ لأن كان كثير المشورة في الأحكام فيكون مع عدم الخلاف فيه إجماعًا وإذا تردد بين حالين نص أو إجماع لم يجز بخلافه. والثاني: إن التأجيل إنما وضع ليعلم حاله هل هو من مرض طارئ فيرجى زواله أو من نقص في أصل الخلقة فلا يرجى زواله فكانت السنة الجامعة للفصول الأربعة الأولى أن تكون أجلًا معتبرًا لأن فصل الشتاء بارد رطب وفصل الصيف حار يابس وفصل الربيع حار رطب وفصل الخريف بارد يابس فإذا مر بالمرض ما يقابله من فصول السنة ظهر وكان سببًا لبرئه فإن كان من برد ففصل الحر يقابله فإن كان من حر ففصل البرد يقابله وإن كان من رطوبة ففصل اليبوسة يقابله وإن كان من يبوسة ففصل الرطوبة يقابله وإن كان مركبًا من نوعين فيما خالفه من النوعين هو المقابل له فإذا مضت عليه الفصول الأربعة وهو بحالة لم يكن مرضًا لما قيل عن علماء الطب أنه لا يسحر الداء في الجسم أكثر من سنة وعلم حينئذٍ أنه نقص لازم لأصل الخلقة فصار عيبًا يوجب بالخيار. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا من حكم العنة وأجلها فقد اختلف أصحابنا بماذا يثبت العنة إن ادعتها الزوجة على ثلاثة أوجه: أحدها: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنها لا تثبت إلا بإقراره أو بينة على إقراره فيكون الإقرار وحده معتبرًا في ثبوتها. والثاني: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنها تثبت بإقراره أو بنكوله لعدم إنكاره ولا يراعى فيه يمين الزوجة لأنها لا تعرف باطن حاله فتخلف. والثالث: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة وأكثر أصحابنا وحكاه أبو حامد الإسفراييني ولم يحك ما سواه أنها ثبتت بإقراره على الزوجة بعد نكوله وإنكاره لا يثبت إن لم يحلف بعد النكول ولا يمتنع أن يحلف على مغيب بالإمارات الدالة على حاله كما يحلف على كناياته القذف والطلاق وأنه أراد به القذف والطلاق إذا أنكر ونكل، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَإِنْ قُطِعَ مِنْ ذِكْرِهِ فَيبْقَى مِنْهُ مَا يَقَعُ مَوْقِعَ الجِمَاعِ".

قال في الحاوي: أما إن كان مقطوع الذكر بأسره فهو المجبوب ولها الخيار في فرقتها من غير تأجيل لأن جماعه ما يؤس منه فلم يكن للتأجيل معنى ينتظره فإن رضيت لجبه ثم سألت أن يؤجل للعنة لم يجر لاستحالة الوطء مع الجب الذي يقع به الرضى وإن كان بعض ذكره مقطوعًا فعلى ثلاثة أضرب: أحدهما: أن يكون الباقي دون قدر الحشفة لا يقدر على إيلاجه فهذا كالمجبوب ولها الخيار في الحال من غير تأجيل. والثاني: أن يبقى منه قدر الحشفة ويقدر على إيلاجه فعنه قولان: أحدهما: أنه ليس بعيب في الحال لأنه يقدر على إيلاجه فجرى مجرى الذكر إلا أن يقترن به عنة فيؤجل لها أجل العنة. والقول الثاني: أنه عيب في الحال وإن يكن معه عنة لنقص الاستمتاع عن حال الذكر السليم فإن رضيت بقطعه وأرادت تأجيل العنة أجل. والثالث: ألا يعلم قدر باقية هل يكون قدر الحشفة إن انتشر فيقدر على إيلاجه أو يكون أقل فلا يقدر على إيلاجه فقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه يجري عليه أكثر الأمرين فالباقي منه قدر الحشفة استصحابًا بالحالة الأولى ولا يكون لها الخيار في أصح القولين عاجلًا إلا أن يؤجل لها أجل العنة كالضرب الثاني. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه يجري عليه حكم أقل الأمرين وأن الباقي منه أقل من قدر الحشفة فيكون لها الخيار في الحال تغليبًا لحكم القطع دون العنة كالضرب الأول. فصل: وأما الخصي فهو الذي قطعت انثياه مع الوعاء وأما المسلول: فهو الذي أسلت انثتاه من الوعاء. وأما الموجور: فهو الذي رضت انثتاه في الوعاء وحكم جميعهم سواء وهل يكون عيبًا يتعجل به فسخ النكاح فيه قولان مضيا فإن جعل عيبًا يجعل به الفسخ من وقته فإن رضيت به الزوجة وأرادت تأجيله للعنة أجل لها بخلاف المجبوب لإمكان الوطء منه واستحالته من المجبوب. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: أَوْ كَانَ خُنْثَى يَبُولُ مِنْ حَيْثُ الرِّجَالُ". قال في الحاوي: للخنثى حالتان: مشكل وغير مشكل فأما المشكل فيأتي وأما غير

المشكل فهو أن يبول من ذكره دون فرجه فيكون رجلًا يصح أن يتزوج امرأة وهل يكون زيادة فرجه عيبًا فيه يوجب الفسخ وفي الخيار فيه قولان مضيا، فإن لم يجعل عيبًا أجل للعنة إن ظهرت به. وإن جعل كان لها أن تتعجل به الفسخ فإن رضيت به وظهرت عنته أجل لها لأن نقصه بالعنة غير نقصه بالخنوثة والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "أَوْ كَانَ يُصِيبُ غَيْرَهَا وَلَا يُصيبُهَا". قال في الحاوي: أعلم أنه لا يخلو حال من له أربع زوجات من ثلاثة أقسام: إما أن تعدمن جميعهن وكان يطأهن كلهن انتفت عنه العنة عمومًا. وما لم تعدمن جميعهن وكان يطأهن كلهن ولا خيار وإن عدمن جميعهن فلا يطأ واحدة منهن فإذا سألوا تأجيله أجل لهم حولًا لأنها مدة يعتبر بها حاله فاستوى حكمها في حقوقهن كلهن فإذا مضت السنة كان لهبة الخيار فإن اجتمعن على الفسخ كان ذلك لهن وإن افترقن أجرى على كل واحدة حكم اختيارها وإن عزم بعضهن دون بعض فوطأ اثنتين ولم يطأ اثنين ثبتت عنته فمن امتنع من وطئها وإن سقطت عنته في جميعهن ولا خيار لمن لم يطأها منهن لأنه لا يجوز أن يكون عنينًا وغير عنين وهذا خطأ لأنه ليس يمنع أن يلحقه العنة من بعضهن لما في طبعه في الميل إليهن وقوة الشهوة لهن مختص كل واحدة منهن بحكمها معه. فصل: وإذا أخبرنا الزوج قبل النكاح أنه عنين فنكحت على ذلك ثم أرادت بعد العقد تأجيله للعنة وفسخ النكاح بها ففيه قولان: أحدهما: أنه في القديم ليس لها ذلك ولا خيار لها كما لو نكحته عالمة بعين ذلك من عيوبه. والثاني: قاله في الجديد: لها الخيار بخلاف سائر العيوب لأن العنة قد تكون في وقت دون وقت ومن امرأة دون امرأة وغيرها من العيوب تكون في الأوقات كلها ومن النساء كلهن. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَسَأَلَتْ فُرْقَتَهُ أَجَّلْتُهُ سَنَةً مِنْ يَوْمِ تَرَافَعَا إِلَيْنَا. قَالَ: فَإِنْ أَصَابَهَا مَرَّةً وَاحِدَةً فَهِيَ امْرأَتُهُ". أعلم أن استحقاق الخيار بالعنة وتأجيل الزواج فيه لا يسار إلا بحكم حاكم لأن

الخيار مستحق باجتهاد وتأجيل السنة عن اجتهاد وما أخر ثبوته من طريق الاجتهاد دون النص والإجماع لم يستقر إلا بحكم حاكم فإن علمت المرأة بعنة الزوج كان حقها في مرافعته إلى الحاكم على التراخي دون الفور, لأنه قبل التأجيل عيب مظنون وليس بمحقق فإن أجزت محاكمته سنة رافعته إلى الحاكم استأنف بها الحول من وقت الترافع إليه ولم يحتسب بما مضى منه وخالف مدة الإبلاء لأن تلك نص وهذه عن اجتهاد فلو أقر لها عند الحاكم بالعنة أجله لها ولم يعجل الفسخ بإقراره لأمرين: أحدهما: أن الفسخ يؤجل لسنة فلم يجز أن يعجل قبلها. والثاني: أنه ربما زالت العنة فلم يجز فسخ النكاح, والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ الله عَنْهُ: "إِذَا تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةُ وَلَمْ يُصِبْهَا فِي نِكَاحِهِ". قال في الحاوي فهذا لضربين: أحدهما: أن يكون عنة. والثاني: بغير عنة فإن كان لعنة كان على ما مضى من تأجيله لها سنة إذا حاكمته فإن أصابتها في السنة أو بعدها أو قبل الفسخ مرة واحدة سقط حقها من الفسخ لارتفاع عنته بالإصابة فلو تركها بعد تلك الإصابة سنين كثيرة لا يمسها فلا مطالبة لها. وحكي عن أبي ثور أنه يؤجل لها ثانية إذا عادت العنة ثانية وهذا خطأ لأنها قد وصلت بإصابة المرأة الواحدة إلى مقصود النكاح من تكميل المهر وثبوت الحصانة ولا يبق إلا تلذذ الزوج بها وتلك شهوة لا يجبر عليها, والله أعلم. إذا ترك الزوج إصابتها لغير عنة فقد اختلف أصحابنا هل يجوز عليه إصابتها مرة أم لا؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق: أنه قد يجوز أن يتزوج المجنون الذي لا يقدر على الوطء والقرناء التي لا يمكن وطئها ولو وجب الوطء لما جاز إلا نكاح من تمكنه الوطء لم يكن وطأها. والثاني: أنه مقصود النكاح من تكميل المهر والحصانة وطلب الولد لا يحصل إلا بالوطء فاقتضى أنه يجب فيه الوطء.

فإذا قيل بالوجه الأول أنه يجب فلا خيار لها ولا تأجيل وإذا قيل بالوجه الثاني أنه يجب فإن كان معذورًا بمرض أو سفر أنذر بالوطء إلى وقت مكنته كما ينظر بالدين من إعساره إلى وقت يساره إن كان غير معذور أخذه الحاكم إذا رافعته الزوجة إليه بالوطء أو الطلاق كما يأخذه المولى بهما ولم يؤجله لأنه ليس بعنين ولا يطلق عليه الحاكم بخلاف المولى في أحد القولين بل يحبسه حتى يفعل أحد الأمرين من الوطء أو الطلاق فإذا وطئها مرة سقط لها مطالبته بالفرقة لقول الله تعال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228] ودليلها قول الله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة:228] فمن درجة الرجل على المرأة أن يلزمها إجابته إذا دعاها إلى الفراش ولا يلزمه إجابتها ولأنه لما كان رفع العقد بالطلاق إليه دونها كان الوطء فيه حقًا له دونها ولأنه لما كان الوطء في ملك اليمين حقًا للمالك دون المملوكة كان الوطء في النكاح حقًا للناكح دون المنكوحة والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ الله عَنْهُ: "وَلَا تَكُونُ إِصَابَتُهَا إِلَا بِأَنْ يٌغَيٌبَ الحَشَفَةَ أَوْ مَا بَقيَ مِنَ الذَّكَرِ فِي الفَرْجِ". قال في الحاوي: الإصابة التي تسقط بها حكم العنة هي تغييب الحفشة في القبل حتى يلتقي الختانان فيجب الغسل سواء أنزل أو لم ينزل لأنها الإصابة التي يكمل بها المهر المسمى في النكاح ويجب لها مهر المثل في الشبهة والحد في الزنا هذا إذا كان سليم الذكر باقي الحفشة ولا اعتبار بمغيب ما بعد الحفشة فأما إذا كان مقطوع الحفشة ففيما يعتبر بغيبة من بقية الذكر وجهان: أحدهما: يعتبر أن تغييب باقية قدر الحفشة ليكون بدلًا منها فسقط به حكم العنة كما سقط بها. والثاني: أنه يعتبر تغييب باقية كلها وهو ظاهر قوله هاهنا لأن الحفشة حد ليس في الباقي فصار جميع الباقي حدًا. فصل: فأما الوطء في الدبر فلا يسقط به حكم العنة لأنه محل محظور لا يستباح العقد فلم يسقط به حكم الوطء المستحق بالعقد ولو وطئها في الحيض والإحرام سقط به حكم العنة وإن كان محظورًا لأنه في المحل المستباح بالعقد. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ الله عَنْهُ: "فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا خَبَّرّهَا السُّلْطَانُ فَإِنْ شَاءَتْ فِرَاقَّهُ

فَسَخَ نِكَاحَهَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ لَأنَّهُ إِلَيْهَا دُونَهُ". وقال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا مضت للعنين سنة من حين اجل فهي على حقها ما لم ترافعه إلى الحاكم وليس يلزم تعجيل محاكمته بعد السنة على الفور بخلاف الفسخ في العيوب لأن تمكينها للزوج في عنته إلى الحاكم لم يكن له ذلك لأنه حق عليه هو مأخوذ به وليس بحق له فيطالب فإذا رافعته إلى الحاكم بعد السنة تغير حينئذٍ زمان خيارها فيعرض الحاكم عليها الفسخ وليس لها أن تنفرد بفسخه عنده لأنه فسخ بحكم ويحكم إليه دونها لكن يكون الحاكم مخيرًا بين أن يتولاه بنفسه وبين أن يترك ذلك إليها لتتولاه بنفسها فيكون هو الحاكم به وهي المستوفية له فإذا وقعت الفرقة بينهما كانت الفرقة ترفع العقد من أصله ولم تكن طلاقًا فإن عاد فتزوجها كانت معه على ثلاث. وقال أبو مالك وأبو حنيفة: تكون الفرقة طلاقًا ولا تكون فسخًا وهذا خطأ لأنها فرقة من جهتها والطلاق لا يكون إلا من جهة الزوج فأشبهت الفرقة بالإسلام والفسخ بالجنون. فصل: فإذا تقرر أنه فسخ وليس بطلاق فلا مهر لها ولا عدة عليها. وقال أبو حنيفة ومالك: لها المهر وعليها العدة هذا عندنا ليس بصحيح لا يكمل المهر ويوجب العدة بالإصابة ولم يكن العنين الإصابة ولا يستحق نصف المسمى ولأن المتعة لم تكن مسمى لأنه فسخ من جهتها فأسقط مهرها ومتعتها والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ الله عَنْهُ: "فَإِنْ أَقَامَتْ مَعَهْ فَهُوَ تَرْكٌ لِحَقِّهَا". قال في الحاوي: قد مضي الكلام في الفسخ لأنه لا يصح إلا بشرطين: أحدهما: انقضاء السنة. والثاني: حكم الحاكم. فأما الرضي فهو اختيار المقام فلا يتفتقر إلى حكم لأنه يقيم بعقد سابق, ولا يفتقر إلى حكم فلم يكن المقام عليه مفتقرًا إلى حكم وهل يفتقر الرضي في لزومه إلى انقضاء الأجل أم لا؟ هذا وجهان: أحدهما: يفتقر الرضي إلى انقضاء الأجل فإن رضيت قبل انقضائه لم يلزم لأن الرضي إنما يكون بعد استحقاق الفسخ وهي قبل انقضاء الأجل لم يستحق الفسخ فلم يلزمها بالرضي كالأمة إذا رضيت من زوجها قبل عتقها لم يلزمها الرضي بوجوده قبل استحقاق الفسخ.

والثاني: أنه لا يفتقر إلى انقضاء لأجل ويصح الرضا قبله وبعده لأن الأجل مضروب لظهور العنة فكانت الرضى بها مبطلًا للأجل المضروب لها وإذا بطل الأجل لزم العقد. والرضى إن كان في غير مجلس الحاكم لأنه لا يكون إلا بصريح القول وكان أيضًا بأن يعرض الحاكم عليها الفسخ ولا تختار فيكون تركها للاختيار للفسخ رضا منها بالمقام والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ الله عَنْهُ: "فَإِنْ فَارَقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ ثُمَّ رَاجَعَهَا فِي العِدَّةِ ثُمَّ سَأَلَتَ أَنْ يُؤَجٌلَ لَمْ يَكُنْ ذَلِك لَهَا, قَالَ المُزَنِيُّ: وَكَيْفَ تَكُونِ عَلَيْهَا عِدَّةٌ وَلَمْ تَكُنْ إصَابَةٌ وَأَصْلُ قَوْلِهِ لَوِ اسْتَمْتَعَ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ وَقَالَتْ: لَمْ يُصِبْنِي وَطَلَّقَ فَلَهَا نِصْفُ المَهْرِ وَلاَ عِدَّةَ عَلَيْهَا". قال في الحاوي: وصورتها في عنين أجل لزوجته ثم رضيت بعد الأجل بعنته فطلقها ثم راجعها في العدة فسألت بعد رجعته أن يؤجل لها ثانية لم يجز لأن المرتجعة زوجة بالنكاح الأول وقد أجُل فيه مدة فرضيت فلم يجز أن يؤجل ثانية لأنه عنت إذا رضيت به في نكاح لزم كما يلزمها إذا رضيت بجبه وجنونه وهو بخلاف الإعسار بالنفقة إذا رضيت به في نكاح ثم عادت فيه تطلب الفسخ كان لها لأن الإعسار ليس يلزم وقد ينتقل منه إلى يسار كما ينتقل من يسار إلى إعسار وخالف العنة التي ظاهر حالها الدوام. فأما المزني فإن اعترض على الشافعي في هذه المسألة اعتراضًا موجهًا فقال: قد تجتمع الرجعة والعنة في نكاح واحد وهو إن وطئها يثبت الرجعة في نكاح واحد وسقطت العنة وإن لم يطأ ثبتت العنة وبطلب الرجعة والعنة فاختلف أصحابنا في الجواب فيه على ثلاث طرق: أحدها: وهو قول أبي حامد المروروزي: أن المسألة خطأ من الناقل لها عن الشافعي رحمه الله فنقل ما ليس من قوله أو سها عن شرط زيادة جل من نقله فأوردها المزني كما وجدها في النقل لها عن الشافعي واعترض عليها هو بما هو صحيح متوجه. والثاني: أن الشافعي فرع هذه المسألة في الجديد على مذهبه في القديم أن الخلوة يكمل بها المهر ويجب بها العدة. فصحت معها الرجعة ولم يسقط بها حكم العنة وهذا الجواب غير سديد من وجهين: أحدهما: أن تفرعه في كل زمان إنما هو على موجب مذهبه فيه فلا يصح أن يفرع في الجديد على مذهب قد تركه وإن كان قائلًا به في الجديد.

والثاني: أن أبا حامد المروروزي قال: وحدث الشافعي في القديم: أن الخلوة يكمل بها المهر ولا يجب بها العدة فبطل أن يصح معها الرجعة. والثالث: وهو جواب الأكثرين من أصحابنا أنه قد يمكن على مذهب الشافعي رضي الله عنه في الجديد أن تجب العدة وتصح الرجعة ولا يسقط حكم العنة وذلك من وجوه: أحدها: أن يطأ في الدبر فيكمل به المهر ويجب به العدة وتصح فيه ولا يسقط حكم العنة. والثاني: أن يطأ في القبل فيغيب بعض الحشفة ويترك ماءه فيه فتجب به العدة ويكمل به المهر ولا يسقط حكم العنة لأنه إنما سقط بتغيب جميع الحشفة. والثالث: إن استدخل ماءه من غير وطء, فيجب به العدة ويستحق معه الرجعة ولا يسقط به العنة وفي هذا عندي نظر لكن قد قاله أصحابنا وفرعوا عليه فقالوا: لو أنزل قبل نكاحها واستدخله بعد نكاحها لم تعتد منه, لأنها في حال الإنزال لم تكن زوجة وإن صارت وقت الإدخال زوجة فإنما أوجبوه فيه العدة وألحقوا منه الولد إذا كانت في حالتي إنزاله واستدخاله زوجة. فصل: فأما إذا طلقها بعد لأجل والرضا طلاقًا أبانت منه ثم استأنف نكاحها بعقد جديد فسألت: أن تؤجل فيه العنة ففيه قولان: أحدهما: قاله في القديم لا يجوز أن يؤجل لها ثانية وإن كان في عقد ثانِ كما لا يجوز في نكاح واحد وهكذا لو أنها فسخت نكاحه الأول بالعنة من غير طلاق ثم تزوجته لم يؤجل لها في النكاح الثاني لأن علمها بعنته كعلمها بجذامه وبرصه وهي لا تجوز إذا نكحته بعد العلم به أن تفسخ فكذلك في العنة. والثاني: قاله في الجديد: أنه يؤجل لها في النكاح الثاني لأن لكل عقد حكم بنفسه وليست العنة من العيوب اللازمة وقد يجوز زوالها فجرى مجرى الإعسار بالنفقة التي يرجى زوالها ويعود استحقاق الفسخ بها ولكن لو أصابها في النكاح الأول فسقط بإصابته حكم العنة ثم طلقها فتزوجها ثم حدثت به العنة في النكاح أجل لها قولًا واحدًا لأن حكم عنته الأولى قد ارتفع بإصابته فصارت مستأنفة لنكاح من ليس بعنين فإذا ظهرت به العنة أجل, والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ قَالَتْ لَمْ يُصِبْنِي وَقَالَ: قَدْ أَصَبُتُهَا فَالقَوْلُ قَوْلُهُ لأَنَّهَا تُرِيدُ

فَسْخَ نِكَاحِهَا وَعَلَيْهِ اليَمِينٌ فَإِنْ تَكَلَ وَحَلَفَتْ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا أُرِيهَا أُرْبَعًا مِنَ النِّسَاءِ عُدُولًا وَذَلكَ دَلِيلٌ عَلَى صِدْقِهَا فَإِنْ شَاءَ أَحْلَفَهَا ثُمَّ فَرَّقَ بَيْنَهُمَا فَإِنْ نَكَلَتْ وَحَلَفَ أَقَامَ مَعَهَا وَذَلِكَ أَنَّ العَذْرَةَ قَدْ تَعُودُ فِيمَا يَزْعُمُ أَهْلُ الخِبْرَةِ بِهَا إِذَا لَمْ يُبَالِغْ فِي الإِصَابَةِ". قال في الحاوي: وصورتها أن يختلف الزوجان في الإصابة بعد أجل العنة فتقول الزوجة: لم يصيبني فلي الفسخ ويقول الزوج: قد أصبتها فلا فسخ لها فلا يخلو حالها من أحد الأمرين: إما أن تكون بكرًا أو ثيبًا فإن كانت ثيبًا فالقول قول الزوج في الإصابة مع يمينه ولا خيار لها لأنه ثبوت النكاح يمنع من تصديق قولها في فسخه فإن حلف سقط خيارها وإن نكل ردت اليمين عليها فإن حلفت كان لها الخيار وفرق بينهما وإن نكلت فلا خيار لها والنكاح بحاله وهذا قول الفقهاء: وقال مالك والأوزاعي: يؤمر الزوج بمعاودة خلوتها ويقربهما وقت الجماع امرأة ثقة. وقال الأوزاعي: امرأتان فإذا خرج من خلوتهما نظر فرجها وإن كان ماء الرجل كان القول قوله وإن لم يكن كان القول قولها وهذا خطأ من وجهين: أحدهما: أن اختلافها في إصابة تقدمت فلم يدل عليها ما حدث بعدها. والثاني: أن وجود الماء وعدمه لا يدل على وجود الإصابة وعدمها لأنه قد ينزل ولا يولج وقد يولج ولا ينزل وحقها متعلق بالإيلاج دون الإنزال. وحكي أن امرأة ادعت عنه رجل عند سمرة بن جندب واختلف في الإصابة فكتب بها إلى معاوية يسأله عنها فكتب إليه معاوية. زوجة امرأة ذات جمال وحسن توصف بدين وستر وسبق إليها مهرها من بيت المال لتختبر حاله. ففعل سمرة ذلك. فقالت المرأة: لا خبر عنده قال سمرة: ما دنى قالت: بلى ولكن إذا دنى شره أي أنزل قبل الإيلاج وهذا مذهب لمعاوية وليس عليه دليل ولا له في الأصول نظير وقد يجوز أن يكون الرجل عنينًا في وقت وغير عنين في وقت. فإن قيل: فإذا بطل هذان المذهبان كان مذهبهم أبطل من وجهين: أحدهما: أنكم قبلتم به قول المدعي دون المنكر والشرع أراد بقبول المنكر. والثاني: أنه لو ادعى إصابة المطلقة ليرجعها وأنكرته كان القول قولها دونه فهلا كان في العنة كذلك لأن الأصل الإصابة. قيل: الجواب عن هذا أن ما ذكرناه من العلة في قبول قوله يدفع هذا الاعتراض وهو أن الأصل ثبوت النكاح وهي تدعي بإنكار الإصابة استحقاق فسخه فصارت هي مدعية وهو منكر فكان مصير هذا الأصل يوجب قبوله قوله دونهما على أن ما تعذر إقامة البينة فيه جاز أن يقبل فيه قول مدعيه إذا كان معه ظاهر بقتضيه كاللوث في دعوى القتل. فأما دعواه الإصابة في الرجعة فالفرق بينهما وبين دعوى الإصابة في العنة من وجهين:

أحدهما: أن دعوى الإصابة في الرجعة تنفي ما أوجبه الطلاق من التحريم ودعوى الإصابة في العنة تثبت ما أوجبه النكاح في اللزوم فافترقا. والثاني: أنه ادعى الإصابة في العنة مع بقاء نكاحه فصار كالمدعي لما في يده ودعواه الإصابة في الرجعة بعد زوال نكاحه صار كالمدعي لما في يده غيرها فافترقا. فصل: وإن كان بكرًا إما أن يعترف بها بالبكارة وإما أن ينكرها ويشهد بها أربع نسوة عدول فيكون القول قولها في إنكار الإصابة لأن البكارة ظاهرة تدل على صدقها فزالت عن حكم الثيب التي لا ظاهر معها. فإن قيل: أفله أحلافها؟ قيل: إن لم يدع عود بكارتها فلا يمين عليها إن ادعى عود البكارة بعد زوال العذرة فإذا لم يبالغ الإصابة فتصير هذه الدعوى محتملة وإن خالفت الظاهر فيكون القول قولها مع يمينها فإن حلفت حكم لها بالفرقة وإن نكلت ردت اليمين عليه فإن حلف سقط حقها من الفرقة بالفرقة وإن نكلت ردت اليمين عليه فإن حلف سقط حقها من الفرقة بالفرقة وإن نكل عنها ففيه وجهان: أحدهما: يقبل قولها إذا نكل وإن لم يحلف ويحكم لها بالفرقة كما لو ادعى وطئها وهي ثيب ونكل عن اليمين عليها فنكلت حكم بقوله في سقوط العنة وإن لم يختلف. والثاني: وهو الأظهر أنه لا يقبل قولها بغير يمين مع نكول الزوجة. والفرق بينهما: أن الزوج يستصحب لزوم متقدم جاز أن يقبل قوله فيه والزوجة تستحل حدوث فسخ طارئ فلم يقبل قولها فيه, والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلِلْمَرْأَةِ الخِيَارُ فِي المَجْبُوبِ وَغَيِرْ المَجْبُوبَ مِنْ سَاعَتِهَا؛ لَأنَّ المَجْبُوبِ لَا يُجَامِعُ أَبَداٌ وَالخَصِيَّ نَاقِصٌ عَنْ الرِّجَالِ وَإِنْ كَانَ لَهُ ذَكَرٌ إِلَّا أَنْ تَكُونَ عَلِمَتْ فَلَا خَيَارَ لَهَا". قال في الحاوي: قد ذكرنا أنه إذا كان الزوج مجبوب فلها الخيار وإن كان خصيًا فعلى قولين, فإذا كان كذلك فلها الخيار في المجبوب من ساعته ولا يؤجل لها لأنه مأيوس من جماعه فلم يكن للتأجيل تأثير وخالف المرجو جماعه والمؤثر تأجيله فلو رضيت بجبه ثم سألت أن يؤجل للعنة لم يجز لتقدم الرضي بعنته, وأما الخصي فإن قبل بأن الخصاء يوجب الخيار في أحد القولين فلها أن تتعجله من غير تأجيل كالمجبوب. وإن قيل: لا خيار لها في القول الثاني أو قيل: لها الخيار فاختارت المقام ثم سألت تأجيله للعنة أجل بخلاف المجبوب لأن الإصابة من الخصي ممكنة ومن المجبوب

غير ممكنة فافترقا في تأجيل العنة. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَإِنْ لَمْ يُجَامِعُهَا الصَّبِيُّ أُجِّلَ. قَالَ المُزَنِيُّ مَعْنَاهُ عِنْدِي صَبِيُّ قَدْ بَلَغَ أَنْ يُجَامِعَ مِثُلُهُ". قال في الحاوي: وهذه مسألة وهم المزني في نقلها فقال: ولو لم يجامعها أجل وهذا هم منه لأن الشافعي قال: ولو لم يجامعها الخصي أجل. وقد نقله الربيع في كتاب "الأم" على هذا الوجه فعدل بالمسألة عن الخصي إلى الصبي إما لتصحيف أو لسهو الكاتب. وإما زلة في التأويل فإنه قال معناه عندي: "صبي قد بلغ أن يجامع مثله". والصبي لا يصح عنته سواء راهن فأمكن أن يجامع أو كان غير مراهق لا يمكنه أن يجامع لأمرين: أحدهما: أن غير البالغ عاجز بالصغر دون العنة فلا يدل عجزه على عنته. والثاني: أنه لا يعرف عنته إلا بإقراره وإقراره غير مقبول ما لم يبلغ وانتفي عنه من هذين الوجهين أن يجري عليه حكم العنة وإذا كان كذلك بأن المراد هو الخصي وقد ذكرناه. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَإِنْ كَانَ خُنْثَى يَبُولُ مِنْ حَيْثُ يَبُولِ الرَّجُلُ فَهُوَ رَجُلٌ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةْ وَإِنْ كَانَتْ هِيَ تَبُولُ مِنْ حَيْثُ تَبُولُ المَرْأَةُ فَهِيَ امْرَأَةٌ تَتَزَوَّجُ رِجُلًا وَإِنْ كَانَ مُشْكِلًا لَمْ يُزَوَّجْ, وَقِيلَ لَهُ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِنَفْسِكَ فَأَيَّهُمَا شِئْتَ أَنْكَحْنَاكَ عَلَيْهِ ثُمَّ لَا يَكُونُ لَكَ غَيْرُهُ أَبَدًا. قَالَ المُزَنِيُّ: فَبِأَيَّهِمَا تَزَوَّجَ وَهُوَ مُشْكِلٌ كَانَ لِصَاحِبِهِ الخِيَارُ لِنَقْصِهِ قِيَاسًا عَلَى قَوْلِهِ فِي الخَصِيِّ لَهُ الذِّكَرُ أَنَّ لَهَا فِيهِ الخِيَارُ لِنَقْصِهِ". وقال في الحاوي: أما الخنثى فهو الذي له ذكر رجل وفرج امرأة, فالذكر مختص بالرجل والفرج مختص بالمرأة وليس يخلو مشتبه الحال أن يكون رجلًا أو امرأة, قال الله تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8)} [النبأ:8] يعني ذكورًا وإناثًا فإذا جمع الخنثى بين آلة الذكر والأنثى وجب أن يعتبر ما هو مختص بالعضوين وهو البول؛ لأن الذكر مخرج بول الرجل والفرج مخرج بول المرأة فإن كان يبول من ذكره وحده فهو رجل والفرج عضو زائد وإن كان يبول من فرجه فهي امرأة والذكر عضو زائد. وروى الكلبي عن صالح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الذي له ماء الرجل وماء النساء: إنه يورث من حيث يبول. وقضى علي بن أبي طالب في العراق بمثل ذلك

في خنثى رفع إليه. فإن كان يبول منهما جميعًا فعلى أربعة أقسام: أحدها: أن يسبق أحدهما وينقطعا معًا فالحكم للسابق لقوته والثاني: أن يخرجا معًا وينقطع أحدهما قبل الآخر فالحكم للمتأخر لقوته. والثالث: أن يسبق خروج أحدهما ويتأخر انقطاع الآخر فالحكم لأسبقهما خروجًا وانقطاعًا لأن البول يسبق إلى أقوى مخرجيه. والرابع: أن يخرجا معًا وينقطعا معًا ولا يسبق أحدهما الآخر فهو أربعة أقسام: أحدهما: أن يستويا في القدر والصفة. والثاني: أن يختلفا في القدر ويستويا في الصفة. والثالث: أن يختلفا في الصفا ويستويا في القدر. والرابع: أن يختلفا في القدر والصفة. فأما الأول: وهو أن يستويا في القدر والصفة فلا بيان فيه. وأما الثاني: وهو أن يختلفا في القدر دون الصفة فيكون أحدهما أكثر من الآخر ففيه قولان: أحدهما: أن يكون الحكم لأكثرهما وهو قول أبي حنيفة تغليبًا لقوته بالكثرة, وقد حكماه المزني في جامعه الكبير. والثاني: أنهما سواء وهو قول أبي يوسف؛ لأن اعتبار كثرته شاق وقد قال أبو يوسف ردًا على أبي حنيفة حيث اعتبر كثرته: أفيكال أذن. وأما الثالث: وهو أن يختلفا في التزريق والشرشرة فقد اختلف أصحابنا في اعتباره على وجهين: أحدهما: أن يعتبر فإن تزريق البول للرجل والشرشرة للنساء. وقد روي عن جابر أنه سئل عن خنثى فقال: أدنوه من الحائط فإن زرق فذكر, وإن شرشر فأنثى. والثاني: أن لا اعتبار به لأن هذا قد يكون من قوة المثانة وضعفها. وأما الرابع: فهو أن يختلفا في القدر والصفة فينظر فيهما فإن اجتمعا في أحد العضوين فكان التزريق مع الكثرة في الذكر أو كانت الشرشرة مع الكثرة في الفرج كان ذلك بيانًا يزول به الإشكال وإذا اختلفا كانت الشرشرة في الفرج والكثرة في الذكر أو بالعكس فلا بيان فيه لتكافؤ الإمارتين.

فصل: فأما إذا لم يكن في المبال بيان إما عند تساوي أحوالهما وإما عند إسقاط فاختلف فيه من القدر والصفة فقد اختلف أصحابنا هل يعدل إلى اعتبار عدد الأضلاع أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يعتبر عدد الأضلاع فإن أضلاع المرأة تتساوى من الجانب الأيمن والجانب الأيسر, وأضلاع الرجل تنقص من الجانب الأيسر ضلع لما حكي أن الله تعالى خلق حواء من ضلع آدم الأيسر فلذلك نقص من أضلاع الرجل اليسرى ضلع ومن أجل ذلك قيل للمرأة ضلع أعوج وقد قال الشاعر: هِيَ الضُلَعُ العَوْجَاءُ لَسْتُ تُقِيمُهَا أَلَا إَنَّ تَقْوِيمَ الضُّلُوعِ انْكِسَارُهَا أَيجْمَعُهُنَّ ضَعْفًا وَاقْتِدارًا عَلَى الهَوَى أَلَيْسَ عَجِيبٌ ضَعْفَهَا وَاقْتِدِارِهَا وتوجيه هذا الوجه في اعتبار الأضلاع الأثر المروي عن علي رضي الله عنه أن أمر قنبرًا وبرقاء وهو مولياه أن يعدا أضلاع خنثى مشكل, فإن استوت أضلاعه من جانبيه فهي امرأة, إن نقصت اليسرى ضلع فهو رجل. والثاني: هو قول الأكثرين من أصحابنا أنه لا اعتبار بالأضلاع, لأن النبي صلى الله عليه وسلم عدل عنها إلى الاعتبار بالميال وهو ألزم حالًا من المبال, وأقوى لو كان بها اعتبار لما جاز العدول عنها إلى المبال الذي هو أضعف منها وليس الأثر المروي فيه عن علي ثابتًا. وقد قال أصحاب التشريح من علماء الطب: إن أضلاع الرجل والمرأة متساوية من الجانبين أنها أربعة وعشرون ضلعًا من كل جانب منها اثنا عشر ضلعًا وقد أضيف إلى هذا الأثر مع ما يرفعه ويرده إلى المشاهدة خرافة مصنوعة تمنع منها العقول وهو أن رجلًا تزوج خنثى على صداق أمة وأنه وطأ الخنثى فأولدها ووطأ الخنثى الأمة فأولدها فصار خنثى أمً وأبًا فرفع إلى علي كرم الله وجهه فأمر بعد أضلاعه فوجدت مختلفة ففرق بينهما وهذا مدفوع ببداهة العقول. فصل: فأما مماثلة الرجال في طباعهم وكلامهم ومماثلة النساء في طباعهن وكلامهن فلا اعتبار به لأن في الرجال مؤنث وفي النساء مذكر وكذلك اللحية لا اعتبار بها لأن في الرجال من ليس له لحية وفي النساء من ربما هرج لها لحية على أنه قد قل من يبقى بعد البلوغ إشكال. فصل: فأما المني والحيض فإن اجتمع له إنزال المني ودم الحيض فهو على أربعة أقسام: أحدها: أن يخرجها من فرجه فتكون امرأة ويكون كل واحد منهما إمارة تدل على

زوال إشكاله والثاني: أن يخرجا من ذكره فيزول إشكاله بالإنزال وحده ويكون رجلًا ولا يكون الدم حيضًا. والثالث: أن يكون الدم من ذكره وخروج المني من فرجه فتكون امرأة لأن إنزال المني من الفرج دليل وخروج الدم من الذكر ليس بدليل. والرابع: أن يكون خروج المني من ذكره وخروج الحيض من فرجه ففيه لأصحابنا ثلاثة أوجه: أحدها: يغلب حكم الحيض ويحكم بأنه امرأة لأن الحيض لا يكون إلا من النساء, والمني يكون من الرجال والنساء. والثاني: يغلب حكم المني ويحكم بأنه رجل لأن الدم ربما كان من مرض ولم يكن حيض. والثالث: أنه على إشكاله ليس في واحد منهما بيان لتقابلهما والله أعلم. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا فلا يخلو حال الخنثى من أحد أمرين: إما أن يزول إشكاله أو لا يزول فإن زال إشكاله بما ذكرنا من أحد الأسباب المعتبرة فيه أجرى عليه حكم ما بان عليه فإن كان رجلًا أجرى عليه حكم الرجال في جميع أحواله من النكاح والولاية والشهادة والدية والميراث وزوج امرأة وهل لها الخيار لزيادة فرجه أم لا؟ على قولين ذكرناهما. وقال بعض أصحابنا مذهبًا ثالثًا أنه إن زال إشكال لأنه يبول من ذكره دون فرجه فلا خيار لها للقطع بأنه رجل وإن زال إشكاله لسبق بوله من ذكره ولكثرته منه فلها الخيار لأنه اجتهاد غير مقطوع به وأنه ربما نقضه بعض الحكام وأعاده إلى حال الإشكال. وإن بان امرأة أجري عليه أحكام النساء في النكاح والشهادة والولاية والدية والميراث وزوجت رجلًا وهل له الخيار لزيادة ذكرها أم لا؟ على قولين ذكرناهما: أحدهما: لا خيار له. والثاني: له الخيار. ومن أصحابنا من خرج مذهبًا ثالثًا أنه إن زال إشكالها لبولها من فرجها وحده فلا خيار له وإن زال لسبوقه منه أو كثرته فله الخيار كما ذكرناه في الرجل. فصل: وإذا كان على إشكاله لم يجز أن يزوج قبل سؤاله واختياره فإن تزوج رجلًا كان النكاح باطلًا لجواز أن يكون امرأة فإن بان رجلًا لم يصح لتقدم فساده, وإذا كان كذلك

باب الإحصان الذي به يرجم من زنى

ولم يبق ما يعتبر من أحواله غير سؤاله عن طباعه الجاذبة له إلى أحد الجنسين سئل عنها للضرورة الداعية إليها كما تسأل المرأة عن حيضها فيرجع فيه إلى قولها فإن قال: أرى طبعي يحدثني إلى طبع النساء وينفر من طبع الرجال عمل على ما أخبر به من طبعه في أصل الخلقة لا على ما يظهر من تأنيث كلامه أو تذكيره لأن في الرجال وقد يكون مؤنثًا يتكلم بكلام النساء والمرأة قد تكون مذكرة تتكلم بكلام الرجال. قال: ولا يعمل على ما يشتهيه فإن الرجل قد يشتهي الرجل والمرأة قد تشتهي المرأة وإنما الطباع المذكورة في أصل الخلقة والقائمة في نفس الجبلة النافرة مما اعتادتها بغير تصنّع هي المعتبرة ويكون قوله هو المقبول إذ قد عدم الاستدلال بغير قوله كالمرأة التي تقبل قولها في حيضها وطهرها. وإذا كان كذلك قيل له: أخبرنا عن طبعك فإذا قال: يجذبني إلى طباع النساء قبل قوله بغير يمين لأنه ليس فيه حق لغيره فيحلف عليه لأنه لو رجع لم تقبل منه وحكم بأنه امرأة وزوج رجلًا فإن عاد بعد ذلك فقال: قد استمال طبعي إلى طباع الرجال لم يقبل منه وكان على الحكم بما تقدم من كونه امرأة وعقد النكاح على صحته وإذا علم الزوج بأنه خنثى فله الخيار هاهنا قولًا واحدًا لأن الإشكال لم يزل إلا بقوله الذي يجوز أن تكون فيه كما ذكرنا وكان أسوأ حالًا ممن زال إشكاله بأسباب غير كاذبة ولو كان قد قال هذا الخنثى حين سئل عما يجذبه طبعه إليه أرى طبعي يجذبني إلى طباع الرجال حكم بأنه رجل وقبل قوله في نكاحه وفيما أخبر به من جميع أحكامه وهل يقبل قوله فيما اتهم فيه من ولايته وميراثه أم لا؟ على قولين: أحدهما: لا يقبل منه لتهمته فيه وحكاه الربيع عنه. والثاني: وهو المشهور في أكثر كتبه أنه يقبل منه لأن أحكامه لا تتبعض فيجري عليه في بعضها أحكام الرجال وفي بعضها أحكام النساء وإذا جرى عليه حكم النساء في شيء أجرى عليه أحكام النساء في كل شيء وإذا جرى عليه حكم الرجال في شيء أجرى عليه حكم الرجال في كل شيء وإذا حكم بأنه رجل زوج امرأة ولم يقبل منه الرجوع إذا علمت المرأة بحاله فلها الخيار في فسخ نكاحه قولًا واحدًا, والله أعلم بالصواب. باب الإحصان الذي به يرجم من زنى قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: "فَإِذَا أَصَابَ الحُرُّ البَالِغُ أَوْ أُصِيبَتْ الحُرَّةُ البَالِغَةُ فَهُوَ إِحْصَانٌ فِي الشِّرْكِ وَغَيْرِهِ؛ لأَنَّ النَبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجَمَ يَهُودِيَّيْنِ زَنَيَا فَلَوْ كَانَ المُشْرِكُ لَا يَكُونُ مُحْصَنًا لمَا قَالَ بَعْضُ النَّاسِ لمَّا رَجَمَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرَ مُحْصَنٍ". قال في الحاوي: أما الإحصان في اللغة فهو المنع يقال: قد أحصنت المرأة فرجها إذا امتنعت من الفجور قال الله تعالى: {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء: 91] أي منعته ويقال: مدينة حصينة أي منيعة قال الله تعالى: {فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} [الحشر: 14] أي ممنوعة.

ويقال: امرأة حصان, إذا امتنعت من الفجور, وفرس حصان إذا امتنع به راكبه, ودرع حصن إذا امتنع بها لابسها, فسميت ذات الزوج محصنة؛ لأن زوجها قد حصنها ومنعها, وإذا كان هكذا فالحصانة في النكاح اسم جامع لشروط مانعة إذا تكاملت كان حد الزنا فيها الرجم دون الجلد لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم". والشروط المعتبرة في الحصانة أربعة: أحدها: البلوغ الذي يصير به ممنوعًا مكلفًا. والثاني: العقل لأنه مانع من القبائح موجب لتكليف العبادات. والثالث: الحرية التي تمنع من البغاء والاسترقاق, وأن كمال الحد فعل يمنع منه نقص الرق. والرابع: الوطء في عقد نكاح صحيح لأنه يمنع من السفاح وقد قال الله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] أي متناكحين غير مسافحين. فأما الإسلام فليس بشرط في الحصانة. فإذا تكاملت هذه الشروط الأربعة في مسلم وكافر رجم إذا زنا. وقال مالك وأبو حنيفة: الإسلام شرط معتبر في الحصانة ولا يرجم الكافر إذا زنا استدلالًا بما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "لا إحصان في الشرك". وروي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "من أشرك بالله فليس بمحصن". وروي أن حذيفة بن اليمان تزوج يهودية فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنها لا تحصنك", ولأن الإحصان منزلة كمال وتشريف يعتبر فيها نقص نقص الرق فكان بأن يعتبر فيها نقص الكفر أولى ولأنه لما كان الإسلام معتبرًا في حصانة القذف حتى لم يحد من قذف كافرًا وجب أن يعتبر في حصانة الحد حتى لا يرجم الكافر إذا زنا ودليلنا ما روى الشافعي عن مالك بن نافع عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجم يهوديين زنيا والرجم لا يجب إلا على محصن فدل على أنهما محصنان. فإن قيل: فإنما رجمهما بالتوراة ولم يرجمهما بشريعته لأنه أحضر التوراة عند رجمهما فلما ظهرت فيها آية الرجم تلوح رجمهما حينئذٍ. قيل: لا يجوز أن يحكم بغير ما أنزل الله تعالى وقد قال تعالى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا

أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49] وإنما أحضر التوراة لأنه أخبرهم بأن فيها آية الرجم فأنكروا فأحضرها لإكذابهم. فإن قيل: فيجوز أن يكون هذا قبل أن صار الإحصان شرطًا في الرجم فعنه جوابان: أحدهما: أنه ليس يعرف في الشرع وجوب الرجم قبل اعتبار الحصانة فلم يجز حمله عليه. والثاني: أنه قد روى عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجم يهوديين أحصنا, فأبطلت هذه الرواية هذا التأويل. ومن طريق القياس: أن كل من وجب عليه بالزنا حد كامل فوجب أن يكون بالوطء في النكاح محصنًا كالمسلم ولأن كل قتل وجب على المسلم بسبب وجب على الكافر إذا لم يقر على ذلك السبب كالقود. وقولنا: إذا لم يقر على ذلك السبب احترازًا من تارك الصلاة فإنه يقتل إذا كان مسلمًا لأنه لا يقر ولا يقتل إذا كان كافرًا لأنه يقر ولأن الرجم أحد حدّي الزنا فوجب أن يستوي فيه المسلم والكافر كالجلد ولأنه لما استوى في حد الزنا حكم العبد المسلم والكافر وجب أن يستوي فيه حد الحر المسلم والكافر. فأما الجواب عن الخبرين الأولين فمن وجهين: أحدهما: حمله على حصانة القذف دون الرجم. والثاني: لا حصانة تمنع من استباحة قتلهم وأموالهم لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إلاه إلا الله, فإذا قالوا عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" وإما الجواب عن حديث حذيفة فهو أن لا يجوز حمله على حصانة الزنا لأنه لا يصح من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يقول لمن وثق بدينه من أصحابه وحذيفة قد كان موثوقًا بديته أنك متى زنيت تحت هذه اليهودية لم ترجم وإنما معنى قوله: "لا تحصنك" أي لا تتعفف بك عما تتعفف المسلمة. وأما اعتبارهم ذلك بحصانة القذف. فالفرق بينهما: أن حد الزنا حقّ الله تعالى فجاز أن يستوي فيه المسلم والكافر وحدّ القذف من حقوق الآدميين فجاز أن يفرق فيه المسلم والكافر كالدية. وأما استدلالهم بأنه لما اعتبر في سقوط الرجم نقص الرق اعتبر فيه نقص الكفر فالجواب عنه أنه لما كان نقص الرق معتبرًا في الحد الأصغر كان معتبرًا في الحد الأكبر

ولما كان نقص الكفر غير معتبر في الحد الأصغر كان غير معتبر في الحد الأكبر وافترقا والله أعلم. فصل: فإذا تقرر أن الإسلام غير معتبر في شروط الحصانة فالكلام فيها مشتمل على ثلاثة فصول: أحدهما: في نكاح الحصانة. الثاني: في وطء الحصانة. والثالث: في زمان الحصانة. فأما نكاح الحصانة النكاح الصحيح الذي يجوز أن يقيم عليه الزوجان بولي وشاهدين فأما المتعة والمناكح الفاسدة فلا توجب الحصانة لأن الحصانة لاعتبار الحرية فيها أغلظ مشروطًا من إحلال المطلق للأول لأن الحرية لا يعتبر فيها ثم ثبت أن المناكح الفاسدة لا تحل فكان أولى لأن لا تحصن والأوجه لما قال أبو ثور: من أنها تحصن وكذلك التسري بملك اليمين لا يحصن كما لا تحل المطلقة للمطلق وأما وطء الحصانة فهو تغييب الحشفة في الفرج سواء كان معه إنزال أو لم يكن فإنه تلذذ بما دون الفرج أو وطء في السبل المكروه لم يتحصنا كما لا يسقط به حكم العنة لأنه وطء مقصود في الشرع فلم يتعلق إلا بالفرج كالإحلال للمطلق. فصل: وأما زمان الحصانة فهو الوقت الذي يكون فيه الوطء مثبتًا للحصانة ولا يخلو حالهما وقت الوطء من أربعة أقسام: أحدها: أن يكونا كاملين. والثاني: أن يكونا ناقصين. والثالث: أن يكون الزوج كاملًا والزوجة ناقصة. والرابع: أن يكون الزوج ناقصًا والزوجة كاملة. فأما القسم الأول: وهو أن يكون كاملين فكمالهما يكون بالبلوغ والعقل والحرية, فإذا كانت في وقت الوطء بالغين عاقلين حرين صارا جميعًا به محصنين سواء عقد النكاح بينهما في حال الكمال أو قبله وسواء بقي العقد بينهما أو ارتفع قد ثبت الحصانة بوطْ المرأة الواحدة فأيهما زنا رجم. أما القسم الثاني: وهو أن يكونا ناقصين ونقصانهما أن يكونا صغيرين أو مجنونين أو مملوكين فلا يكونا بالوطء ومحصنين ما كانا على الصغر والجنون والرق فإن بلغ الصغيران وأفاق المجنونان وعتق المملوكان فهل يصير بالوطء المتقدم أم لا على وجهين:

أحدهما: أنهما قد صارا محصنين لأنه قد ثبت به أحكام الوطء وفي النكاح من كمال المهر ووجوب العدة وتحريم المصاهرة والإحلال للمطلق فكذلك الحصانة فإذا زنيا رجما لتقدم الشرائط على الزنا. والثاني: وهو مذهب الشافعي أنهما لا يصيرا به محصنين حتى يستأنفا الوطء بعد كمال البلوغ والعقل والحرية لأن هذا الوطء يوجب الكمال فوجب أن يراعى وجوده في أكمل الأحوال ولأنه لما لم يثبت الحصانة في وقت لم يثبتها بعد وقته وبهذا خالف ما سواها من الإحلال وتحريم المصاهرة وكمال المهر ووجوب العدة لثبوتها به في وقته وبعد وقته ثم هكذا لو كان نقص الزوجين مختلفين فكان أحدهما صغيرًا والآخر مجنونًا أو كان أحدهما مملوكًا والآخر صغيرًا أو مجنونًا فوطئا لم يصيرا في الحال محصنين وهل يصيران بعد الكمال محصنين أم لا على وجهين: وأما القسم الثالث: وهو أن يكون الزوج كاملًا والزوجة ناقصة فكمال الزوج أن يكون بالغًا عاقلًا حرًا ونقصان الزوجة أن تكون صغيرة أو مجنونة أو مملوكة أو تجمع نقص الصغر والجنون والرق فقد صار الزوج بذلك محصنًا إذا كانت الصغيرة التي وطئها ممن يجوز أن توطأ مثلها فإن كانت ممن لا يجوز أن توطأ مثلها لم يتحصن بوطئها فأما الزوجة فلا تكون محصنة بهذا الوطء في النقصان بالصغر والجنون والرق فإذا كملت بالبلوغ والعقل والحرية فهل تصير محصنة أم لا؟ على ما ذكرنا من الوجهين: وقال أبو حنيفة: إذا كان أحدهما: ناقصًا لم يحصنا معًا في الحال ولا في أي حال حتى يكون الكمال موجودًا فيهما حال الوطء وهذا خطأ؛ لأن موجب الحصانة أن يختلف بها حدّ الزنا فيجب الرجم على المحصن والجلد على غير المحصن ولو اختلف حالهما وقت الزنا فكان أحدهما محصنًا والآخر غير محصن رجم المحصن وجلد غير المحصن ولم يكن لاختلافهما تأثير في حصانة أحدهما دون الآخر كذلك اختلافهما في وقت الوطء في النكاح لا يمنع من أن يصير به أحدهما محصنًا دون الآخر. وأما القسم الرابع: وهو أن يكون ناقصًا والزوجة كاملة ونقصان الزوج أن يكون صغيرًا أو مجنونًا أو مملوكًا أو يجمع نقص الصغر والجنون والرق فيطأ زوجة كاملة بالبلوغ والعقل والحرية فقد صارت بوطئه محصنة إذا كان الصغر ممن يوطء مثله فإن كان مثله لا يطأ لم تتحصن بوطئه فأما الزوج فلا يكون به محصنًا في حال نقصه وهل يصير به محصنًا بعد كماله أم لا؟ على ما ذكرنا من الوجهين وعلى قول أبي حنيفة: لا يتحصن به واحد منهما والله أعلم بالصواب. فأما الخنثى: إذا جعلناه رجلًا يتحصن بوطء امرأة ولا يتحصن لو وطئه رجل ولو جعلنا امرأة تحصن بوطء رجل ولا يتحصن لو وطأ امرأة ولو كان على حال إشكاله لم يتحصن بوطء رجل. ولا بوطء امرأة ولا بوطء رجل وامرأة لأن نكاحه في حال إشكاله باطل بالحصانة لا تثبت بالوطء في نكاح باطل والله أعلم بالصواب.

كتاب الصداق

كتاب الصداق قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: "ذَكَرَ اللَّهُ الصَّدَاقَ وَالأَجْرَ فِي كِتَابِهِ وَهُوَ المَهْرُ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] فَدَلَّ أَنَّ عُقْدَةَ النِّكَاحِ بِالكَلَامِ وَأَنَّ تَرْكَ الصَّدَاقِ لَا يُفْسِدُهَا". الدليل على وجوب الصداق قال في الحاوي: والأصل وجوب الصداق في النكاح: الكتاب والسنة والإجماع. فأما الكتاب: فقوله تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] وفيمن توجه إليه هذا الخطاب قولان: أحدهما: أنه متوجه إلى الأزواج وهو قول الأكثرين. والثاني: أنه متوجه إلى الأولياء لأنهم كانوا يتملكون في الجاهلية صداق المرأة فأمرهم الله تعالى بدفع صدقاتهن إليهن وهذا قول أبي صالح وفي نحلة ثلاث تأويلات: أحدها: يعني تدينًا من قولهم: فلان ينتحل كذا أي يتدين به. والثاني: يطيب نفس كما تطيب النفس بالنحل الموهوب. والثالث: أنه نحل من الله تعالى لهن بعد ان كان ملكًا لأوليائهن والنحل الهبة وقال الله تعالى فيما حكاه عن شعيب في تزويج موسى بابنته قال: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَاجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] ولم يقل على أن تأجرها فجعل الصداق ملكًا لنفسه دونها ثم قال: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4] يعني الزوجات إن طبن نفسًا عن شيء من صدقاتهن لأزواجهن في قول من جعله خطابًا للأزواج ولأولياهن في قول من جعله خطابًا للاولياء {فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] يعني لذيذًا نافعًا وقال تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَاخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] أي قد ملكن الصداق وإن استبدلتم بهن غيرهن {قِنْطَارًا فَلَا تَاخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء:20] وإن كان الصداق قنطارًا وفي القنطار سبعة أقاويل: أحدها: أنه ألف ومائتا أوقية وهو قول معاذ بن جبل وأبي هريرة.

والثاني: أنه ألف ومائتنا دينار وهو قول الحسن والضحاك. والثالث: أنه اثنا عشر ألف درهم أو ألف دينار وهو قول ابن عباس. والرابع: أنه ثمانون ألف درهم أو مائة رطل وهو قول سعيد بن المسيب وقتادة. والخامس: أنه سبعون ألفًا وهو قول ابن عمر ومجاهد. والسادس: أنه ملئ مسك ثور ذهبًا وهو قول أبي نضرة. والسابع: أنه المال الكثير وهو قول الربيع. فذكر القنطار على طريق المبالغة لأنه لا يسترجع إذا كان صداقًا وإن كان كثيرًا إذ استبدل بها فكان أولى أن لا يسترجعه إذا لم يستبدل, ثم قال تعالى وعيدًا على تحريم الاسترجاع: {أَتَاخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [النساء:20] ثم قال تعليلًا لتحريم الاسترجاع: {وَكَيْفَ تَاخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 21] وفي الإفضاء هنا تأويلان: أحدهما: أنه الجماع قاله ابن عباس ومجاهد والسدي وبه قال الشافعي. والثاني: أنه إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان وهو قول الحسن وابن سيرين والضحاك وقتادة. والثالث: ما رواه موسى بن عبيدة عن صدقة بن يسار عن ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أيها الناس إن النساء عندكم عوان أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فلكم عليهن حق ولهن عليكم حق ومن حقكم عليهن ألا يوطئن فراشكم أحد ولا يعصينكم في معروف فإذا فعلن ذلك فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف". وقال تعالى: {اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} [النساء: 24] يريد الصداق فعبر عنه بالأجر لأنه في مقابلة منفعة. وفي قوله فريضة تأويلان: أحدهما: يعني فريضة من الله واجبة وهو قول الأكثرين. والثاني: أي مقدرة معلومة وهو قول الحسن ومجاهد. وأما السنة: فما روى عبد الرحمن بن البيلماني عن عبد الله بن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أدوا العلائق" قالوا: يا رسول الله, وما العلائق؟ قال: "ما تراضى به الأهلون"

وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "من استحل بدرهمين فقد استحل" وروي عن عائشة رضي الله عنهما: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما تزوج أحد من نسائه ولا زوج واحدة من بناته على أكثر من اثني عشر أوقية ونشا. قالت عائشة رضي الله عنه أتدرون ما النش؟ النش: نصف أوقية عشرون درهمًا يعني خمسمائة درهم لأن الأوقية أربعون درهمًا. وروى المنذر بن فرقد قال: كنا عند سفيان الثوري فقال: كان صداق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اثنتي عشر أوقية وشن فقال له القاسم بن معين: صحفت يا أبا عبد الله إنما هو نش أما سمعت قول الشاعر: تلك التي جاورها المحتش من نسوة صداقهن النش فأما أم حبيبة فقد كانت أكثر نساء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صداقًا لأن النجاشي أصدقها عنه أربعة ألف درهم من عنده وبعث بها إليه مع شرحبيل ابن حسنة. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "أول ما يسأل عنه العبد من ذنوبه صداق زوجته" وروي عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "من ظلم زوجته صداقها لقي الله وهو زان" قاله على طريقة التغليظ والزجر. واجتمعت الأمم على أن صداق الزوجات مستحق. فصل: والصداق: هو العوض المستحق في عقد النكاح. وله في الشرع ستة أسماء جاء كتاب الله تعالى منها بثلاثة أسماء: وهي الصداق والأجر والفريضة وجاءت السنة منها باسمين: المهر والعلائق وجاء الأثر عن عمر رضي الله عنه باسم واحد: وهو العقود وقد مضت شواهد ذلك. فصل: فإذا تقرر أن الصداق في عقد النكاح واجب فإن تزوجها على غير صداق سمياه في العقد صح العقد وإن كرهنا التسمية فيه. وإنما صح العقد لقول الله تعالى {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ

تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] وفي معنى الآية قولان: أحدهما: معناها لا جناح عليكم إن طلقتم النساء وما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة فتكون أو بمعنى لم. والثاني: أن في الكلام محذوفًا وتقديره: فرضتم لهن فريضة أو لم تفرضوا لهن فريضة والمراد بالفريضة هنا الصداق وسماه فريضة لأنه أوجبه لها وأصل الفرض الوجوب كما يقال: فرض السلطان لفلان الفيء أي أوجب ذلك وكما قال الشاعر: كَانَتْ فَرِيضَة مَا أَتَيْتُ كَمَا كانَ الزِّنَا فَرِيضَةُ الرَّجْمِ فموضع الدليل من هذه الآية: أن الله تعالى قد أثبت النكاح مع ترك الصداق وجوز فيه الكلام وحكم لها بالمتعة إن طلقت قبل الدخول وبين أن الأولى لمن كره امرأة أن يطلقها قبل الدخول لقوله: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ} [البقرة: 236] فكان ذلك أولى طلاقي الكاره. وروى سعيد عن قتادة عن شهر بن حوشب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: "إن الله عز وجل لا يجب الذواقات" يعني الفراق بعد الذوق. ويدل على ذلك أيضًا أن بروع بنت واشق تزوجت بغير مهر فحكم لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمهر نسائها والميراث. وروي أن أبا طلحة الأنصاري تزوج من أم سليم على مهر فأمضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نكاحه. ولأن المقصود من عقد النكاح التواصل والألفة والصداق فيه تبع المقصودة فخالف عقود المعاوضات وجهين: أحدهما: أن رؤية المنكوحة ليست شرطًا فيه. والثاني: أن ترك العوض فيه لا يفسده. فأما كراهتنا لترك الصداق في العقد وإن كان جائزًا فلثلاثة أمور:

أحدها: لئلا يتشبه بالموهوبة التي تختص برسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره من أمته. والثاني: لما فيه من قطع المشاجرة والتنازع إلى الحكام. والثالث: ليكون ملحقًا بسائر العقود التي تستحق فيها المعاوضات والله أعلم. القول في النكاح إذا كان بمهر مجهول حرام. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَلَوْ عَقَدَ بِمَجْهُولِ أَوْ بِحَرَامٍ ثَبَتَ النِّكَاحُ وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا عقد النكاح بمهر مجهول أو حرام كان النكاح جائزًا ولها مهر مثلها وهو قول جمهور العلماء. وقال مالك في أشهر الروايتين عنه: إن النكاح باطل بالمهر الفاسد وإن صح بغير مهر مسمى. استدلالًا بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن النكاح الشغار لفساد المهر فيه، قال: ولأن عقد نكاح بمهر فاسد فوجب أن يكون باطلًا كالشغار ولأنه عقد معاوضة ببدل فاسد فوجب أن يكون باطلًا كالبيع. قال: ولئن صح النكاح بغير مهر فلا يمتنع أن يبطل بفساد المهر كما يصح البيع بغير أجل وغير خيار ويبطل بفساد الأجل وفساد الخيار. ودليلنا رواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا نكاح إلا بولي مرشد وشاهدي عدل" فتضمن هذا الخبر نفي النكاح بعدم الولي والشاهدين وإثبات النكاح بوجود الولي والشاهدين وهذا نكاح بولي وشاهدين توجب أن يكون صحيحًا. ولأن فساد المهر لا يوجب فساد العقد كالمهر المغصوب ولأن كل نكاح صح بالمهر الصحيح صح بالمهر الفاسد كما لو أصدقها عبدًا فبان حرًا. قال الشافعي: ولأنه ليس في فساد المهر أكثر من سقوطه وليس في سقوطه أكثر من فقد ذكره ولو فقد ذكره لم يبطل النكاح فكذلك إذا ذكر فاسدًا. وتحريره قياسًا: أن كل ما تعلق بالمهر لم يؤثر في صحة النكاح قياسًا على تركه. فأما الجواب عن نكاح الشغار: فهو أنه لم يبطل بفساد المهر وإنما بطل بالتشريك على ما بيننا. وأما قياسه على البيع: فالمعنى فيه أنه يبطل يترك الثمن فبطل بفساده والنكاح لا يبطل بترك المهر فلم يبطل بفساده. وأما استدلاله بأن البيع يبطل بفساد الخيار والأجل ولا يبطل بتركهما.

فالجواب عنه: أن الخيار والأجل قد فرق بلا جزء من الثمن بدليل أن الثمن في العرف يزيد بدخول الخيار والأجل فإذا بطل أوجب الطلاق ما قابلهما من الثمن فصار الباقي مجهولًا وجهًا له الثمن تبطل البيع وليس فيما أفضى إلى فساد المهر أكثر من سقوطه وسقوطه لا يبطل النكاح. فصل: فإذا ثبت صحة النكاح بجهالة المهر وتحريمه فالمهر باطل بالجهالة وكل جهالة منعت من صحة البيع منعت من صحة المهر. وقال أبو حنيفة: إذا أصدقها عبدًا غير معين ولا موصوف: جاز وكان لها عبد سندي لأن الروحي أعلى والزنجي أدنى والسندي وسط فيحكم لها به لأنه أوسط العبيد. احتجاجًا بأن المهر أحد عوض النكاح فجاز أن يكون مجهولًا كالبضع قال: ولأن جهالة مهر المثل أكثر من جهالة العبد لأن مهل المثل مجهول الجنس مجهول القدر مجهول الصفة والعبد معلوم الجنس معلوم القدر مجهول الصفة فإذا جاز أن يجب فيه عندكم مهر المثل فلأن يجب العبد المسمى أولى. ودليلنا أنها جهالة تمنع صحة البيع فوجب أن تمنع صحة الصداق أصله: إذا أصدقها ثوبًا واقفنا أبو حنيفة على فساد الصداق بإطلاقه ولأنه عوض في عقد يبطل بجهالة الثوب فوجب أن يبطل بجهالة العبد كالبيع. فأما الجوانب عن قياسه على جهالة البضع فهو أن جهالة البضع تمنع من الصحة ألا ترى أنه لو كان له ثلاث بنات: كبرى وصغرى ووسطي، وقال: زوجتك بنتي وأطلق كان باطلًا، ولم يحز أن يحمل على الوسطى، كما لا يجوز أن يحمل على الكبرى والصغرى، وكذلك إذا أصدقها عبدًا وأطلق لم يجز أن يحمل على عبد وسط كما لا يجوز أن يحمل على أعلى وأدنى. وأما ما استشهد به من جهالة مهر المثل فيفسد بجهالة الثوب ومهر المثل إنما أوجبناه لأن قيمة متلف يجوز مثله في البيع إذا وجيت فيه قيمة متلف وإن جهلت. فصل: فإذا تقرر أن النكاح صحيح وإن سقط المهر بالفساد فلها مهر المثل لأن البضع مفوت بالعقد فلم تقدر على استرجاعه فوجب أن تعدل إلى قيمته وهي مهر المثل كمن اشترى عبدًا ثبوت فمات في يده ورده بائعه الثوب بعيب رجع بقيمة العبد حين فات الرجوع بعينه.

مسألة: قال الشافعي: وفي قوله تعالى: {وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20] دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ لَا وَقْتَ لِلْصَّدَاقِ يَحْرُمُ بِهِ لِتَرْكِهِ النَّهْيَ عَنْ التَّكْثِيرِ وَتَرْكِهِ حَدَّ القَلِيلَ. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: "أَدُّوا العَلَائِقِ" قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا العَلَائِقُ؟ قَالَ: "مَا تَرَاضَى بِهِ الأَهْلُونَ" قَالَ: وَلَا يَقَعُ اسْمُ عُلِّقَ إلَّا عَلَى مَالَهُ قِيمَةٌ، وَإِنْ قُلْتَ مِثْلُ الفَلْسِ وَمَا أَشْبَهَهُ. وَقَالَ صلى الله عليه وسلم: الرَّجُلِ: "الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتِمًا مِنْ حَدِيدٍ" فَالْتَمَسَ فَلَمْ يَجِدْ شَيْئًا فَقَالَ: "هَلْ مَعَكَ شَيْءٌ مِنَ القُرْآنِ؟ ". قَالَ: نَعَمْ سُورَةُ كَذَا وَسُورةُ كَذَا فقال: "قَدْ زَوَّجْتُهَا بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ" وَبَلَغَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَن اسْتَحَلَّ بِدِرْهَمٍ فَقَد اسَتَحَلَّ" وَأَنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: فِي ثَلَاثِ قَبْضَاتِ زَبِيبٍ مَهْرٌ. وَقَالَ ابْنُ المُسَيَّبِ لَوْ أَصْدَقَهَا سَوْطًا جَازَ. وَقَالَ رَبِيعَةُ قَالَ دِرْهَمٌ قُلْتُ وَأَقَلُّ؟ قَالَ: وَنِصْفُ دِرْهَم قَالَ: قُلْتُ لَهُ فَأَقَلُّ؟ قَالَ: نَعَمْ وَحَبَّةُ حِنْطَةٍ أَوْ قَبُضَةُ حِنطَةٍ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَمَا جَازَ أَن يَكُونَ ثَمَنًا لِشَيءٍ أَوْ مَبِيعًا بِشَيْءٍ أَوْ أُجْرَةً لِشَيْءٍ جَازَ إِذَا كَانَتْ المَرْأَةُ مَالِكَةً لأَمْرِهَا". قال في الحاوي: الكلام في هذه المسألة يشتمل على فصلين: أحدهما: في أكثر المهر، والثاني: في أقله. فأما أكثره فلا خلاف بين الفقهاء أنه لا حد له لقوله تعالى: {وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا} [النساء: 20]، وقد ذكرنا في القنطار سبعة أقاويل. وحكي الشعبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قام خطيبًا فقال: لا تغالوا في صدقات النساء فما بلغني أن أحدًا ساق أكثر مما ساقه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جعلت الفضل في بيت المال فاعترضته امرأة من نساء قريش فقالت: يعطينا الله وتمنعنا كتاب الله أحق أن يتبع قال الله تعالى: {وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَاخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]، فرجع عمر وقال: كل أحد يصنع بماله ما شاء فكل الناس أفق من عمر حتى امرأة. وقد تزوج عمر بن الخطاب أم كلثوم بنت علي رضي الله عنهم وأصدقها أربعين ألف درهم. وتزوج طلحة بن عبيد الله أم كلثوم بنت أبي بكر رضي الله عنهم وأصدقها مائة ألف. وتزود مصعب بن الزبير عائشة بنت طلحة وأصدقها ألف درهم. وتزوجها بعده عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي وأصدقها مائة دينار وحكي عن عمر بن شبة عن محمد بن يحيى أن مصعب بن الزبير تزوج بالبصرة سكينة بنت الحسين رضي الله عنهما وأصدقها ألف ألف درهم فقال عبد الله بن همام السلولي: أبلغ أمير المؤمنين رسالة من

ناصح لك لا يريد وداعًا. بِضْع الفَنَاةِ بَأَلفِ أَلفِ كَامِلٍ وَتَبِيت سَادَاتُ الجُنُود جِياعَا تَوْلَا أَبُو حَفْص أَقُولُ مَقَالَتِي وَأَبِث مَا حَدَّثْتُه لارْتَاعَا فصل فأما أقل الصداق فقد اختلف فيه الفقهاء فمذهب الشافعي رحمه الله أنه غير مقدر أن كل ما جاز أن يكون ثمنًا أو مبيعًا أو أجره أو مستأجرًا فجاز أن يكون صدقًا قل أو كثر. وبه قال من الصحابة: عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس حتى قال: عمر في ثلاث قبضات من زبيب مهرًا. وبه قال من التابعين: الحسن البصري وسعيد بن المسيب حتى حكي أن سعيدًا زوج بنته على صداق درهمين. وبه قال مالك أقل الصداق ما تقطع فيه اليد ربع درهم أو ثلاثة دراهم. وقال ابن شبرمة أقله خمسة دراهم أو نصف دينار. وقال أبو حنيفة وأصحابه: أقله دينار أو عشرة دراهم فإن عقده بأقل من عشرة صحت التسمية وكملت عشرة ومنعت من مهر المثل إلا زفر وحده فإنه أبطل التسمية وأوجبت مهر المثل. وقال إبراهيم النخعي: أقله أربعون درهمًا. وقال سعيد بن جبير: أقله خمسون درهمًا. واستدل أبو حنيفة بقول الله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] ولا يطلق اسم الأموال على ما قل من الدانق والقيراط فلم يصح أن يكون ذلك ابتغاء بمال. وروى بشر بن عبيد عن الحجاج بن أرطأة عن عطاء عن عمرو بن دينار عن جابر بن عبد الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنكحوا النساء إلا الأكفاء، ولا يزوج إلا الأولياء، ولا مهر أقل من عشرة دراهم" وهذا نص. ولأنه مال يستباح به عضو فوجب أن يكون مقدرًا كالنصاب في قطع السرقة. ولأن أحد يدلي النكاح فوجب أن يكون مقدرا كالبضع ولأن ما كان من حقوق العقد يقدر أقله كالشهود. ودليلنا قول الله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]. ومن الآية دليلان:

أحدهما: عام وهو قوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] فكان على عمومه من قليل أو كثير. والثاني: خاص وهو أنه إذا فرض لها خمسة دراهم وطلقها قبل الدخول اقتضى أن يجب لها درهمان ونصف وعند أبي حنيفة يجب لها الخمسة كلها وهذا خلاف النص. وروى عبد الرحمن بن البيلماني عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أدوا العلائق قالوا: يا رسول الله وما العلائق قال: "ما ترضى به الأهلون" فكان على عمومه فيما تراضوا به من قليل وكثير. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من استحل بدرهمين فقد استحل" يعنى فقد استحل بالدرهمين. وروى أبو هارون العبدي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا جناح على امرئ أنه يصدق امرأة قليلًا أو كثيرًا إذا شهد وتراضوا". وروى عاصم بن عبيد الله عن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أبيه، أن امرأة تزوجت على نعلين فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أرضيت من نفسك ومالك بهاتين النعلين؟ " فقالت: نعم فأجازه. وروى أبو حازم عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل خطب منه المرأة التي بذلت نفسها له "التمس لو خاتمًا من حديد". والخاتم من الحديد أقل الجواهر قيمة فدل على جواز القليل من المهر فإن قيل: فقد يجوز أن يكون من حديد صيني يساوي عشرة دراهم ويكون ثمن النعلين عشرة دراهم. قليل: لو كان ذلك مخالفًا للعرف المعهود لنقل وليس في العرف أن يساوي نعلان في المدينة وخاتم من حديد عشرة دراهم. على أن قوله: التمس ولو خاتمًا من حديد: على طريق التقليل ولو أراد ما ذكروه من الصفة المتقدرة لكان عدوله إلى العشرة المقدرة أسهل وأفهم فبطل هذا التأويل. وروى يونس بن بكير عن صالح بن مسلم بن رومان عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن رجلًا أعطى امرأة صداقًا ملء يديه طعام كانت به حلالًا".

وروى قتادة عن عبد الله بن المؤمل عن جابر قال: إنا كنا لننكح المرأة على الحفنة أو الحفنتين من دقيق! وروى قتادة عن أنس بن مالك قال: تزوج عبد الرحمن بن عوف امرأة من الأنصار على وزن نواة من ذهب قومت ثلاثة دراهم وهذه كلها نصوص لا يجوز خلافها. ويدل عليه من طريق القياس: هو أن كل ما صلح أن يكون ثمنًا صلح أن يكون مهرًا كالعشرة ولأنه عند ثبت فيه العشرة عوضًا فصح أن يصبت دونها عوضًا كالبيع ولأنه عوض على على إحدى منفعتيها فلم يتقدر قياسًا على أجرة منافعها ولأن ما يقابل البضع من البدل لا يتقدر في الشرع كالخلع ولأن كل عوض لا يتقدر أكثر لا يتقدر أقله قياسًا على جميع الأعواض ولا يدخل عليه الجزية لأنها ليست عوضًا. فأما الجواب عن الآية فمن وجهين: أحدها: أن ظاهرها متروك بالإجماع لأنه لو نكحها بغير مهر حلت. والثاني: أن ما دون العشرة مال ألا تراه لو قال: له عليّ مال ثم بيّن درهمًا أو دانقًا قبل منه فدلت الآية على جوازه في المهر. وأما الجواب عن حديث جابر فمن وجهين: أحدهما: أنه ضعيف لأنه رواية مبشر بن عبيد وهو ضعيف عن الحجاج بن أرطأة وهو مدلس. وقد روينا عن جابر من طريق ثابتة قولًا مسندًا وفعلًا منتشرًا ما ينافيه فدل على بطلانه. والثاني: أنه يستعمل إن صح في امرأة بعينها كان مهر مثلها عشرة فحكم لها فيه بالعشرة. وأما قياسهم على القطع في السرقة فقولهم: مال يستباح به البضع فاسد من أربعة أوجه: أحدها: أنه لا يستباح القطع في السرقة بالمال وإنما يستباح بإخراجه. والثاني: أنه لو استبيح بالمال لما لزم رد المال ورد المال لازم. والثالث: أنه ليس يستباح به العضو وإنما يقطع به. والرابع: أن عقد النكاح لا يختص باستباحة عضو بل يستباح به جميع البدن فبطل التعليل بما قالوه. ثم المعنى في قطع السرقة أنه عن فعل كالجنايات فجاز أن يكون مقدرًا كسائر الجنايات والمهر عوض في عقد مراضاة فلم يتقدر كسائر المعاوضات وأما قياسهم على ما في مقابلته من البضع المقدر: ففاسد بالبدل في الخلع هو غير مقدر وإن كان في مقابلة بضع مقدر ثم المعنى في البضع أنه صار مقدرًا لأنه لا يتجزأ، فصار مقدرًا لا يزيد ولا ينقص والمهر يتجزأ فصح أن يزيد وصح أن ينقص.

باب الجعل والإجارة

وأما قياسهم على الشهادة فالمعنى فيها أنها من شروط العقد فتقدرت كما تقدرت بالزوج والولي وليس كالمهر الذي هو من أعواض المراضاة ولو تقدر لخرج أن يكون عن مراضاة. فصل: فإذا ثبت أن أقل المهر وأكثره غير مقدر فهو معتبر بما تراضى عليه الزوجات من قليل وكثير وسواء كان أكثر من مهر المثل أو أقل إذا كانت الزوجة جائزة الأمر. فإن كانت صغيرة زوجها أبوها لم يجز أن يزوجها بأقل من مهر مثلها لأنه معاوص في غيره فروعي فيه عوض المثل كما يراعى في بيعه لما لها ثمن المثل وإن لم يراع ذلك في بيعها لنفسها. والأولى أن يعدل الزوجان عن التناهي في الزيادة التي يقصر العمر عنها وعن التناهي في النقصان الذي لا يكون له في النفوس موقع وخير الأمور أوساطها. وأن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في مهور نسائه طلبًا للبركة في موافقته وهو خمسمائة درهم على ما روته السيدة عائشة رضي الله عنها. وقد جعل عبد الملك بن مروان مهور الشريفات من نساء قومه أربعة آلاف درهم اقتداء بصداق أم حبيبة. وقد روى مجاهد عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خيرهن أيسرهن صداقًا". وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعظم النساء بركة أحسنهن وجهًا وأقلّهن مهرًا". وروى ابن جريج عن ابن حسين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تياسروا في الصداق فإن الرجل ليعطي المرأة يبقى ذلك في نفسك عليها حسكة" وفي الحسيكة وجهان: أحدهما: العداوة، والثاني: الحقد. فصل: ويجوز الصداق عينًا حاضرة ودينًا في الذمة: حالًا ومؤجلًا ومنجمًا وأن يشترط فيه رهن وضامن كالأثمان والأجور والله أعلم. باب الجعل والإجارة مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَإِذَا أَنْكَحَ صلى الله عليه وسلم بِالقُرْآنِ فَلَوْ نَكَحَهَا عَلَى أَنْ يُعَلِّمَهَا قُرْآنًا".

قال في الحاوي: وهذا كما قال يجوز أن يتزوجها على تعليم القرآن فيكون تعليم القرآن مهرًا لها. وقال أبو حنيفة ومالك: لا يجوز. واستدلالًا بقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [النساء: 24] وليس تعليم القرآن حالًا فلم يصح ابتغاء النكاح به. وما روي عن أبي بن كعب أنه قال: لقنت رجلًا من أهل الصفة قرآنًا فأعطاني قوسًا فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: "أتحب أن يقوسك الله بقوس من نار؟ قلت: لا، قال: فاردده" فلو جاز أخذ العوض عليه لما توعده عليه فدل تحريمه أن يأخذ عليه عوضًا على تحريم أن يكون في نفسه عوضًا. ولأن كل ما لم يكن مالًا ولا في مقابلته قال لم يجز أن يكون مهرًا قياسًا على طلاق ضرتها، وعتق أمته. قالوا: ولأن تعليم القرآن فرض يجز أخذ العوض عليه كسائر الفروق ودليلنا ما رواه الشافعي عن مالك عن أبي حازم عن سهل بن سعد الساعدي أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله قد وهبت نفسي لك وقامت قيامًا طويلًا فقال رجل فقال يا رسول الله إن لم يكن بك إليها حاجة فزوجنيها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل عندك شيء تصدقها؟ فقال: ما عندي إلا إزاري هذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن أخذته منك عريت وإن تشقه عريت فالتمس شيئًا ولو خاتمًا من حديد فالتمس فلم يجد شيئًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم هل معك من القرآن شيء؟ قال: نعم سورة كذا وسورة كذا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد زوجتكما بما معك من القرآن" وهذا نص. وروى عطاء عن أبي هريرة أن امرأة جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعرضت نفسها عليه فقال: اجلسي بارك الله فيك ثم دعا رجلًا فقال: إني أريد أزوجكها إن رضيت فقال: ما رضيت لي يا رسول فقد رضيت فقال: هل عندك من شيء؟ فقال: لا والله فقال: ما تحفظ من القرآن؟ فقال: سورة البقرة والتي تليها فقال: قم فعلمها عشرين آية وهي امرأتك". فإن قيل: وهو تأويل أبو جعفر الطحاوي معنى قوله: "قد زوجتكها بما معك من القرآن" أي لأجل فضيلتك بما معك من القرآن قيل عن هذا جوابان: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التمس ولو خاتمًا من حديد" ليكون صداقًا فلما لم يجد جعل القرآن بدلًا منه فاقتضى أن يكون صداقًا.

والثاني: إن هذا التأويل يدفعه حديث أبو هريرة لأنه قال: قم فعلمها عشرين آية وهي امرأتك. فإن قالوا: وهذا تأويل مكحول أن هذا خاص لرسول الله صلى الله عليه وسلم قيل عنه جوابان: أحدهما: أنه لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المتزوج بها فيصير مخصوصًا بذلك وإنما كان مزوجًا لها فلم يكن مخصوصًا. والثاني: أن ما خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى دليل يدل على تخصيصه وإلا كان فيه مشاركًا لأمته. فإن قيل: فقوله: "قد زوجتكها بما معك من القرآن" مجهول وكذلك قوله في حديث أبي هريرة: "قم فعلمها عشرية آية" هي مجهولة ولا يجوز لها رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقًا مجهولًا قيل عنه جوابان: أحدهما: أنه كان معلومًا لأنه سأل الرجل عما معه من القرآن فذكر سورًا سماها فقال: زوجتكها بما معك من القرآن يعني السور المسماة وقوله في حديث أبي هريرة "عشرين آية" يعني السورة التي ذكرها وذلك يقتضي في الظاهر أن يكون من أولها فصار الصداق معلومًا. والثاني: أن المقصود بهذا النقل جواز أن يكون تعليم القرآن صداقًا فاقتصر من الرواية على ما دل عليه وأمسك عن نقل ما عرف دليله من غيره. ويدل عليه من طريق القياس أن كل منفعة صح أن يبذلها الغير عن الغير تبرعًا جاز أن يبذلها مهرًا قياسًا على سائر الأعمال المباحة ولا يدخل عليه عسيب الفحل لأن المقصود منه الماء وهو عين وليست بمنفعة. فأما الاستدلال بالآية: فنحن نقول بنطقها وهم لا يقولون بدليلها ونحن وإن قلنا بدليل الخطاب فقد نقلنا عنه نطق دليل آخر وأما الخبر فقد روي عن أبي بن كعب تارة وعن عبادة بن الصامت أخرى وحديث عبادة أثبت وأيهما صح ففيه جوابان: أحدهما: أنه يجوز أن يكون تعليمه للقرآن قد تعين عليه فرضه فلم يجز أن يعتاض عنه. والثاني: أنه أخذه من غير شرط فلم يستحقه. وأما قياسهم على طلاق امرأته وعتق أمته فالمعنى فيه أنه لا ينتفع بتعليم القرآن فجاز أن يكون صداقًا. فإن قيل: فهي تنفتع بطلاق زوجته أو عتق أمته لأنه ينفرد بها. قيل ما تستحق من النفقة والكسوة مع الضرة والأمة مثل ما يستحقه منفردة فلم يعد عليها منه نفع. وأما قياسهم على الصلاة والصيام بعلة أنه قربه فمنتقص بكتب المصاحف وبناء المساجد يجوز أن يكون مهرًا وإن كان قربة. ثم المعنى في الصلاة والصيام أن النيابة فيهما لا تصح وأن نفعهما لا يعود على

غير ما وعليهما وليس كتعليم القرآن الذي يصح فيه النيابة ويعود نفعه على غيرنا علة. وأما قولهم أنه فرض فلم يجز أخذ العوض عنه: فهو أنه إن كان فرضًا فهو من فروض الكفايات ويجوز أن تؤخذ الأجرة فيما كان من فروض الكفايات كغسل الموتى وحمل الجنائز وحفر القبور. فصل: فإذا تقرر تعليم القرآن يجوز أن يكون صداقًا فلا بد أن يكون ما أصدقها منه معلومًا تنتفي عنه الجهالة لأن الصداق المجهول لا يصح. وإن كان كذلك فله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يصدقها تعليم جميع القرآن. والثاني: تعليم سورة منه. والثالث: تعليم آيات منه. الحالة الأولى: أن يصدقها تعليم جميع القرآن فإن أصدقها تعليم جميع القرآن فجميعه معلوم وعليه أن يذكر بأي قراءة يلقنها فإن حروف القراء مختلفة في الألفاظ والمعاني والسهولة والصعوبة. فإن ذكر قراءة معينة لم يعدل بها إلى غيرها وإن أطلق ولم يعين ففي الصداق وجهان: أحدهما: أنه صداق باطل لاختلاف القراءات من الوجوه التي ذكرناها فصار مجهولًا كما لو أصدقها ثوبًا فعلى هذا يكون لها مهر مثلها. والثاني: أنه صداق جائز لأن كل قراءة تقوم مقام غيرها. ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "نزل القرآن على سبعة أحرف كلها شاف كاف" وكما لو أصدقها قفيزًا من صبرة جاز وإن لم يعين مكان من الصبرة لتماثلها فعلى هذا يكون فيما يلقنها به من الحروف وجهان: أحدهما: وهو قول أصحابنا البصريين: أنه يلقنها بالأغلب من قراءة البلد كما لو أصدقها دراهم كانت من غالب دراهم البلد. والثاني: وهو قول بعض أصحابنا البغداديين: أنه يلقنها بما شاء من القراءة المفردة أو بالجائز وأن كل قراءة تقوم مقام غيرها. والحالة الثانية: أن يصدقها تعليم سورة من القرآن وإن أصدقها تعليم سورة من القرآن فلا يصح حتى تكون السورة معلومة لاختلاف السور بالطول والقصر وأن فيها المشتبه وغير المشتبه فإن عين السورة كان الكلام في حروف القراءة على ما مضى.

الحالة الثالثة: أن يصدقها تعليم آيات من القرآن. وان أصدقها تعليم آيات من القرآن. فصحة ذلك معتبرًا بأربعة شروط: أحدهما: أن تكون السورة معلومة فإن كانت مجهولة لم يجز وكان الصداق باطلاً. والثاني: أن تكون الآيات من السورة معلومة مثل أن يقول: عشر آيات من أول سورة البقرة أو من رأس المائدة أو عشر الطلاق فإن أطلق عشر آيات من سورة البقرة ففيه وجهان: أحدهما: باطل للجهل بتعيينها. والثاني: جائز ويتوجه ذلك إلى عشر آيات من أولها اعتبارا بعرف الإطلاق وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال للرجل: "قم فعلمها عشرين آية" ولم يعين. والثالث: أن يكون باذلاً أقصر سورة في القرآن وهي الكوثر ثلاث فصاعدًا ليكون قدرًا يختص بالإعجاز فإن كان أقل من ذلك لم يجز لأنه لا يختص بالإعجاز وتعيين القرآن يقتضي وجود الإعجاز. والرابع: وهو حرف القراءة وذلك يختلف بحب اختلاف الآيات المشروطة فإن كانت حروف القراءة فيها لا تختلف أو كان اختلافها يسيرًا لا يؤثر في زيادة الحروف ونقصانها لم يلزم شرطه وإن كان بخلاف ذلك فهو على ما مضي من الوجهين: فأما إن أصدقها أن يعلمها القرآن شهرًا جاز وإن لم يعين السور والآيات لأن التعليم قد صار بتقدير المدة معلومًا وان عينه مجهولاً فصار بمنزلة قوله على أن أخدمك شهرًا فيجوز وإن لم يعين الخدمة كما يجوز إذا أطلق المدة وعين الخدمة ثم لها أن تأخذه بتعليم ما شاءت من القرآن لا بما شاء الزوج كمن استؤجر لخدمة شهر كان للمستأجر أن يستخدمه فيما شاء دون المؤجر. فصل: فأما صفة التعليم فعليه أن يعلمها السورة آية بعد أية حتى إذا حفظت الآية بها إلى ما بعدها حتى تختم السورة. وليس عليه إذا حفظت السورة أن يدرسها إياها لأن التدريس من شروط الحفظ لا من شروط التعليم فلو شرطت عليه حفظ القرآن لم يجز لأن حفظه إلى الله تعالى لا إليه. وإذا كان كذلك فلها أربعة أحوال: أحدها: أن يعلمها فتحفظ ما علمها بأيسر تعليم وأسهله فهو المقصود وقد وفي ما عليه. والثاني: أن يعلمها فتتعلم في الحال ثم تنسى ما تعلمته فهذا على ثلاثة أقسام: أحدها: أن تتعلم جميع السورة ثم تنساها فقد استقر التسليم ووفي ما عليه من التعليم فلا يلزمه أن يعلمها ثانية.

والثاني: أن يلقنها منه يسيرًا لا يختص بالإعجاز كبعض آية فالتسليم لم يستقر وعليه أو يعلمها. والثالث: أن يعلمها قدر ما يتعلق به الإعجاز ففيه وجهان: أحدهما: أنه تسليم مستقر لجواز أن يكون هذا القدر بانفراده مهرًا فعلى هذا لا يلزمه تعليمها ثانية. والثاني: أنه تسليم غير مستقر لأنه بعض جملة غير متميزة فعلى هذا يلزمه تعليمها ثانية. والحال الثالث: أن يعلمها فتكون بليدة قليلة الذهن لا تتعلم إلا بمشقة وعناء فهذا عيب يكون الزوج فيه مخيرًا بين المقام عليه وبين أن يفسخ فيعدل إلى بدله وفي بدله قولان: أحدهما: وهو القديم: أجرة مثل التعليم. والثاني: وهو الجديد: عليه مهر المثل وسنذكر توجيه القولين من بعد. والحال الرابعة: أن تكون ممن لا تقدر على تعليم القرآن بحال ففي الصداق وجهان: أحدهما: باطل لتعذره وإعوازه وفيما تستحقه قولان على ما مضى. والثاني: جائز وتأتي بغيرها حتى يعلمه لأن من له حق إذا عجز عن استيفائه بنفسه استوفاه بغيره ولا خيار لها لأن العيب من جهتها وهل للزوج الخيار أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا خيار له لأنه تعليم قد استحقته لنفسها فجاز أن تستوفيه بغيرها كسائر الحقوق. والثاني: له الخيار في المقام أو الفسخ لأنه يستلذ من تعليمها ما لا يجوز أن يستلذ من تعليم غيرها فإن فسخ ففيما يلزمه قولان: أحدهما: أجرة مثل التعليم. والثاني: مهر المثل. فلو أرادت وهي قادرة على تعليم القرآن أن تأتيه بغيرها ليعلمه بدلاً منها فإن راضاها الزوج على ذلك جاز وإن امتنع ففي إجباره على ذلك وجهان وتعليلهما ما ذكرنا. ولو لم يعلمها القرآن حتى تعلمته من غيره فقد فات أن تستوفيه بنفسها فيكون على ما ذكرنا من الوجهين: أحدهما: تأتيه بغيرها حتى يغيرها حتى يعلمها القرآن. والثاني: قد بطل الصداق وفيما تستحقه قولان: أحدهما: أجرة مثل التعليم.

والثاني: مهر المثل. فصل: وإذا أصدقها تعليم القرآن وهو لا يحفظ القرآن فهذا على ضربين: أحدهما: أن يجعل ذلك في ذمته مثل أن يقول: على أن أحصل لك تعليم القرآن فذا صداق جائز وإن كان لا يحسن القرآن وعليه أن يستأجر لها من يعلمها القرآن إما من النسا، أو من ذوي محارمها من الرجال وعلى هذا لو كان يحفظ القرآن كان مخيرًا بين أن يعلمها بنفسه أو يستأجر من يعلمها. والثاني: أن يكون تعليم القرآن معقودًا عليه في عينه مثل أن يقول: على أن أعلمك القرآن نظر. فإن كان يحسن الكتابة جاز فإنه يقدر على تعليمها من المصحف وان كان لا يحسن الكتابة ففي جوازه وجهان: أحدهما: يجوز كما لو أصدقها ألفا درهم لا يملكها جاز لأنه قد يجوز أن يملكها كذلك القرآن وإن كان لا يحفظه فقد يجوز أن يحفظه فيعلمها. والثاني: لا يجوز ويكون الصداق باطلاً لأنه منفعة من معين ليست في ملكه فلم يجز أن يكون صداقًا كما لو أصدقها صدقة عبد لا يملكه كان باطلاً وإن جاز أن يملك العبد أو يستأجره. وخالف أن يصدقها ألف درهم لا يملكها لأن الألف غير معينة. والمنفعة ههنا معينة ألا تراه لو باع سلمًا ثوبًا موصوفًا في ذمته وهو لا يملك جاز لو باع ثوبًا معيبًا لا يملكه لم يجز. فإذا تقرر: ما ذكرنا من الوجهين: فإن قيل بالوجه الأول أن الصداق جائز كانت الجنازتين أن تصبر عليه حتى يتعلم القرآن فيعلمها وبين أن تتعجل الفسخ وترجع عليه بأجرة مثل التعليم في أحد القولين وبمهر المثل في القول الثاني فلو قال لها: أنا أستأجر لك من يعلمك لم يلزمها ذلك لأن المنفعة مستحقة منه في عينه كما لو أجره عبدًا فزمن بطلت الإجارة ولم يكن له أن يقيم عبدًا غيره وخالف أن تريد إبطال نفسها بغيرها فيكون لها ذلك في أحد الوجهين. والفرق بينهما: أنه لا حق لها فجاز أن تكون مخيرة في استيفائه وهو مستحق على الزوج فلم يكن مخيرًا في أدائه. وإن قيل بالوجه الثاني أن الصداق باطل فلا فرق في بطلانه بين أن يتعلم القرآن من بعد أو لا يتعلمه وفيما ترجع به عليه قولان على ما مضى. أحدهما: أجرة المثل. والثاني: مهر المثل.

فصل: وإذا تزوج مسلم ذمية على تعليمها القرآن نظر: فإن كان قصاها الاهتداء به واعتبار إعجازه ودلائله جاز وعليه تعليمها إياه كالمسلمة. وإن كان قصاها الاعتراض عليه والقدح فيه لم يجز وكان صداقًا باطلاً لما يلزم هن صيانة القرآن عن القدح والاعتراض. وإن لم يعرف قصدها فهو جائز في ظاهر الحال لأن القرآن هداية وإرشاد ثم يسير بحث حالها في وقت التعليم فإن عرف منها مبادئ الهداية: أقام على تعليمها وان عرف منها مبادئ الاعتراض والقدح فسخ الصداق وعدل إلى بدله من القولين: أحدهما: أجرة المثل. والثاني: مهر المثل. فصل: إذا تزوج الذمي على أن يعلمها التوراة والإنجيل كان صداقًا فاسدًا لأنهما قد غيرا وبدلا فإن تحاكما إلينا قبل التعليم أبطلناه وإن تحاكما بعد التعليم أمضيناه كما لو أصدقها خمرًا أو خنزيرًا فتقابضا. ولو تزوج مسلم ذمية على تعليم التوراة والإنجيل أبطلناه قبل التعليم وبعده. والفرق بين المسلم والذمي: أن أهل الأمة يرونه جائزًا فأمضى منه ما تقابضاه ونحن نراه باطلاً فأبطلناه وإن تقابضاه. فصل: وإذا تزوجها على تعليم الشعر: فإن كان الشعر غير معين لم يجز وكان صداقًا فاسدًا للجهالة به وان كان معينًا نظر: فإن كان هجاء وفحشًا لم يجز وكان لها مهر المثل لم يجز وكان مهر المثل وإن كان زهدًا وحكمًا وأمثالاً وأدبًا جاز أن يكون صداقًا. حكي أن المزني سئل عن تعليم الشعر أيجوز أن يكون صداقًا فقال: إن كان كقول الشاعر: يود المرء أن يعطي مناه ويأبى الله إلا ما أراد يقول المر، فائدتي ومالي وتقوى الله أفضل من استفادا وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن من الشعر لحكمة وإن من البيان سحرًا" جاز أن يكون صداقًا والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "أَوْ يَاتِيَهَا بِعَبْدِهَا الآبِقِ فَعَلَّمَهَا أَوْ جَاءَهَا بِالآبِقِ".

قال في الحاوي: يجوز أن تكون منافع العبد والحر صداقًا لزوجته مثل أن يتزوجها على أن يخدمها شهرًا أو يبني لها دارًا أو يخيط لها ثوبًا أو يرعى لها غنمًا. وقال مالك: لا يجوز أن تكون منافع الحر والعبد صداقًا. وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكون منافع العبد صداقًا ولا يجوز أن تكون منافع الحر صداقًا. استدلالاً بقوله تعالى: {وأُحِلَّ لَكُم مَّا ورَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم مُّحْصِنِينَ} [النساء:24] وليس هذا مال فيصح ابتذال النكاح به ولأن تسليم المنفعة لا يصح إلا بتسليم الرقبة وليست رقبة الحر مالاً فلم يجب بتسليم منفعته تسليم حال فلذلك لم يجز أن يكون صداقًا ورقبة العبد حال موجب بتسليم منفعته تسليم مال فجاز أن لحون صداقًا. ودليلنا: قول الله تعالى في قصة شعيب حين تزوج موسى بابنته {إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَاجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص:27] يعني عمل ثماني حجج فأسقط ذكر العمل واقتصر على المدة لأنه مفهوم بينهما والعمل رعي الغنم فجعل رعي موسى ثماني سنين صداقًا لبنته وهذا نص. فإن قيل: فهذا في غير شريعتنا فلم يلزمنا. قيل: شرائع من تقدم من الأنبياء لازمة لنا على قول كثير من أصحابنا فلم يرد فسخ. فإن قيل: فهذا مفسوخ لأن شرط صداقها لنفسه وقد فسخ الله تعالى ذلك في شريعتنا بقوله سبحانه: {وآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَة} [النساء: 4] قيل عنه جوابان: أحدهما: أنه أضاف ذلك إلى نغمه مجازًا لقيامه فيه بنفسه وإلا فهو ملك لها دونه. والثاني: أنه ليس نسخ حكم من أحكامه دليلاً على نسخ جميع أحكامه كما لم يكن نسخ استقبال بيت المقدس دليلاً على نسخ الصلاة التي كانت إلى بيت المقدس. فإن قيل: فشعيب جعل المنفعة مقدرة بمدتين ومثل هذا لا يجوز في شريعتنا. قيل: المنفعة مقدرة بمدة واحدة وهى ثمان سنين قال ابن عباس: كانت على نبي الله موسى ثماني حجج واجبة وكانت سنتان عدة منه فقضى الله عنه عدته فأتمها عشرًا. ومن طريق القياس أنها منفعة تستحق بعقد الإجارة فصح أن تثبت صداقًا كمنافع العبد، ولأنه عقد يصح على منفعة العبد فصح على منفعة الحر كالإجازة ولأن كل ما صح أن يثبت في مقابلة منافع العبد صح أن يثبت في مقابلة منافع الحر كالدراهم. أما الآية فقد تقدم الجواب عنها. وأما قولهم إنها منفعة لا تجب بتسليمها تسليم مال فخطأ لأن الرقبة ليست في مقابلة العوض فيراعى أن يكون مالاً وإنما العوض في مقابلة المنفعة فلم يؤثر فيها أن تكون الرقبة مالاً أو غير مال فالإجارة على منافع الحر كالإجارة على منافع العبد وإن لم

تكن رقبة الحر مالاً وكانت رقبة العبد مالاً فكذلك الصداق وعلى أنه لو أصدقها منافع أم ولده أو منافع وقفه جاز وإن لم تكن الرقبة مالأً. فصل: فإذا تقرر ما وصغنا فصورة مسألتنا في رجل تزوج امرأة وجعل صداقها أن يأتيها بعبدها الآبق فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون العبد معروف المكان تصح الإجارة على المجيء به فهذا صداق جائز لأن ما جازت عليه الإجارة جاز أن يكون صداقًا كسائر الأعمال. والثاني: أن يكون غير معروف المكان فهذا لا تصح عليها الإجارة وتصح عليه الجعالة فلا يصح أن يكون صداقًا لأمرين: أحدهما: أنه مجهول المكان فيصير الصداق به مجهولاً والصداق المجهول باطل. والثاني: أن المعاوضة عليه جعالة غير لازمة والصداق لازم فتنافيا فبطل. فصل: فأما المزني فإنه قال: إذا أصدقها أن يجيئها بعبدها الآبق ما يدل على أنه صداق جائز؛ لأنه قال: فإن طلقها قبل الدخول فلها نصف أجرة المجيء بالآبق. فاختلف أصحابنا هل أشار بذلك إلى الضرب الأول إذا كان معروف المكان أو إلى الضرب الثاني إذا كان مجهول المكان؟ فقال بعضهم: أراد به ضرب الأول مع العلم بمكان الآبق فعلى هذا يكون موافقًا للشافعي ولسائر أصحابه. وقال آخرون: بل أراد به الضرب الثاني إذا كان مجهول المكان وكانت المعاوضة عليه جعالة فعلى هذا يكون مخالفًا للشافعي لأنه قد نص على بطلان الصداق في كتاب الأم ومخالفًا لسائر أصحابنا لما ذكرنا من المعنيين في تعليل بطلانه والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ رَجَعَ عَلَيْهَا بِنِصْفِ أَجْرِ التَّعْلِيم. قَالَ المُزَنِيُّ: وَبِنِصْفِ أَجْرِ المَجِيءِ بِالآبِقِ فَإِنْ لَمْ يُعَلَّمْهَا أَوْ لَمْ يَاتِيهَا بِالآبِقِ رَجَعَتْ عَلَيْهِ بِنِصْفِ مَهْرٍ مِثْلِهَا؟ لأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَخْلُو بِهَا يُعَلِّمُهَا". قال في الحاوي:- والكلام في هذه المسألة يشتمل على فصلين: أحدهما: إذا أصدقها تعليم القرآن ثم طلق. والثاني: إذا أصدقها أن يجيئها بعبدها الآبق ثم طلق.

فأما الفصل الأول وهو أن يصدقها تعليم القرآن ثم طلق فهو على ثلاثة أقسام: الأول: أن يطلقها بعد تعليمها: أحدها: أن يطلق بعد أن علمها جميع القرآن فلا يخلو حال طلاقه من أحد أمرين: أما أن يكون قبل الدخول أو بعده. فإن كان بعد الدخول: فقد استقر لها بالدخول جميع الصداق وقد وفاها إياه بتعليم جميع القرآن فلا تراجع بينهما بشيء. وءن كان طلاقه قبل الدخول: فقد استحق أن يرجع عليها بنصف الصداق لقول الله تعالى: {وإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة:237] فإن كان عينًا حاضرة رجع بنصفها وإن كانت تالفة ولها مثل رجع بنصف مثلها وان لم يكن لها مثل: رجع بقيمة نصفها وليس تعليم القرآن عينًا حاضرة فيرجع بنصفها ولا هو مما له مثل فيرجع بمثل نصفه فلم يبق إلا أن يرجع بقيمة نصف وذلك نصف أجرة مثل التعليم. فصل: القسم الثاني: أن يطلقها قبل أن يعلمها شيئًا من القرآن فينظر: فإن كان التعليم مشروطًا في ذمته استأجر لها من النساء ومن ذوي محارمها من الرجال من يعلمها على ما تستحقه من القرآن على ما سنذكره وإن كان التعليم مستحقًا عليه في عينه فقد اختلف أصحابنا هل يجوز له تعليمها بعد الطلاق أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يجوز من وراء حجاب، كما يحوز سماع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من النساء الأجانب وقد كانت نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثن من وراء حجاب. والثاني: وهو الأصح لا يجوز لأمرين: أحدهما: ما في مطاولة كلامها من الافتتان بها. والثاني: أنهما ربما هلو وهي محرمة عليه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولا يخلون أحدكم بامرأة فإن الشيطان ثالثهما". فإذا قلنا: إن تعليمها لا يجوز نظر حال الطلاق فإن كان بعد الدخول رجعت عليه في قوله القديم بأجرة المثل وفي قوله الجديد بمهر المثل وإن كان قبل الدخول: رجعت عليه في قوله القديم بنصف أجرة المثل وفي قوله الجديد بنصف مهر المثل. وإن قلنا إنها تعلم القرآن لم يخل الطلاق من أن يكون قبل الدخول أو بعده فإن كان بعد الدخول فقد استقر لها جميع الصداق فعلى هذا يعلمها جميع القرآن. فلو اختلف فقال قد علمتك القرآن وقالت: لم تعلمني فلا يخلو حالها من أن تكون حافظة للقرآن في الحال أو غير حافظة فإن كانت غير حافظة فالقول قولها مع يمينها وعليه تعليمها وإن

كانت حافظة وقالت حفظت منم غيرك ففيه وجهان: أحدهما: أن القول قولها أيضًا مع يمينها. والثاني: أن القول قوله مع يمينه لأنه حفظها شاهد على صدقه وإن طلاقها قبل الدخول فلها نصف الصداق فعلى هذا اختلف أصحابنا في القرآن هل يتجزأ أم لا؟ على وجهين: أحدهما: أن يتجزي في كلماته وحروفه التي جزأها السلف عليها فعلى هذا يلزمه أن يعلمها نصف القرآن. والثاني: أنه وإن تجزأ في كلماته وحروفه فليس يتماثل لما فيه من المتشابه وإن بعضه أصعب من بعض وسورة أصعب من صورة وعشر أصعب من عشر وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "شيبتني هود وأخواتها" فعلى هذا لا يلزمه إذا استحقت النصف أن يعلمها شيئًا منه لتعذر تماثله، وتراجع عليه بنصف أجرة التعليم على قوله في القديم وبمثل نصف مهر المثل على قوله في الجديد. فصل: والقسم الثالث: أن يطلقها بعد أن علمها بعض القرآن وبقي بعضه فلا يخلو حال طلاقه من أحد أمرين: أما أن يكون قبل الدخول أو بعده. فإن كان بعد الدخول: فقد استقر لها جميعه. فإن قلنا يعلمها بعد الطلاق فعليه تعليمها ما بقي من القرآن حتى تستوفي به جميع الصداق. وان قلنا: لا يجوز أن يعلمها بعد الطلاق ترتب ذلك على اختلاف أصحابنا في تجزئة القرآن. فإن قلنا: إن متساوي الأجزاء سقط عنه من الصداق بقدر ما علم كأنه علمها النصف فيسقط عنه نصف المهر وترجع ببدل نصف الباقي على القولين: أحدهما: وهو في القديم: بنصف أجرة التعليم. والثاني: وهو الجديد: بنصف مهر المثل. وإن قلنا إنه غير متساوي الأجزاء: ترتب ذلك على اختلاف قوليه فيما ترجع به عليه من بقية صداقها فإن قيل بالقديم: أنها ترجع عليه بالباقي من أجرة مثل التعليم سقط ههنا عنه الصداق بقدر أجرة ما علم وبني لها عليه بقدر أجرة مثل ما بقي على ما سنذكره من

تقسيط ذلك على الأجرة لا على الأجزاء. وان قيل بالجديد: إنها ترجع عليه بالباقي من مهر مثلها سقط عنه من النصف نصفه وهو الرابع لأن أجزاء النصف الذي علمها قد لا تماثل أجزاء النصف الباقي لها فلذلك سقط عنه نصف ما علمها وهو الربح لأنه مماثلة لحقها ورجع عليها بأجرة نصف ما عليها وهو الربح ورجعت هي عليه بالباقي لها وهو ثلاثة أرباع مهر المثل. وإن كان الطلاق قبل الدخول فلها نصف الصداق ولا يخلو ما علمها من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون قد علمها منه النصف. والثاني: أقل من النصف. فإن علمها منه النصف: ترتب ذلك على اختلاف أصحابنا في تساوي الأجزاء فإن قيل إنها متساوية فقد استوفت بالنصف حقها ولا تراجع بينهما وإن قيل إنها مختلفة ترتيب ذلك على اختلاف قوليه فيما رجح به عند فوات الصداق: فإن قيل في القديم: إنها ترجع بأجرة التعليم تقسط ذلك على الأجرة لا على الأجزاء. مثاله: أن يقول كم تساوي أجرة مثل تعليم القرآن؟ فإن قيل: عشرة دنانير. قيل: فكم تساوي أجرة مثل النصف الذي علمها؟ فإن قيل: ستة دنانير لأنه أصعب النصفين صارت مستوفية لأكثر من حقها فيرجع عليها بالفاضل وهو دينار وإن قيل أجرة النصف الذي علمها أربعة دنانير لأنه أخف النصفين صارت آخذة أقل من حقها فترجع عليه بالباقي وهو دينار. فأما إذا قيل بالجديد: أنها ترجع بمهر المثل سقط من النصف الذي علمها نصفه وهو الربع ورجع عليها بأجرة تعليم الربع. ورجعت عليه بربع مهر مثلها. فإن كان قد علمها أكثر من النصف كأنه علمها الثلثين من القرآن فإن قلنا: أنه متساوي الأجزاء: فقد استوفت بالنصف منه حقها وكان له أن يرجع عليها بأجرة مثل الباقي وهو السدس وإن قلنا أنه غير متساوي الأجزاء ترتب على ما ذكرناه من القولين: فإن قيل بالقديم: إن الرجوع يكون بأجرة المثل نظر أجرة مثل التعليم فإذا قيل عشرة دنانير: نظر أجرة مثل الثلثين الذي علمها فإن كانت خمسة دنانير فقد استوفت حقها ولا تراجع بينهما، وإن كانت سبعة رجح عليها بدينارين وإن كانت أربعة ورجعت عليه بدينار وإن قيل بالجديد: إن الرجوع يكون بمهر المثل سقط عنه من الصداق الثلث وهو نصف ما علم ورجع عليها بأجرة مثل الثلث الباقي ورجعت عليه بتمام النصف من صداقها وهو سدس مهر المثل. وإن كان قد علمها أقل من النصف كأنه علمها الثلث. فإن قلنا: إن القرآن متساوي الأجزاء وأنه يجوز أن يعلمها بعد الطلاق فعليه أن يعلمها تمام النصف وقد استوفت. وإن قلنا: إنه متساوي الأجزاء وأنه لا يجوز أن يعلمها سقط عنه من الصداق بقسط

ما علم وهو الثلث وبقي لها تمام النصف وهو الدس فترجع عليه في قوله القديم بالسدس من أجرة المثل وعلى قوله في الجديد بالسدس من مهر المثل. وإن قلنا: إن القرآن غير متساوي الأجزاء ترتب على ما ذكرنا من القولين. فإن قيل: إن الرجوع يكون بأجرة المثل قومت أجرة الجميع على ما وصفنا فإذا قيل: عشرة نظرت أجرة الثلث فإن قيل: خمسة فقد استوفت وإن قيل: ثلاثة رد عليها دينارين وإن قيل: ستة ردت عليه دينارًا. وإذا قيل: إن الرجوع يكون بمهر المثل سقط عنه من الصداق نصف الثلث وهو السدس ورجع عليها بأجرة مثل السدس الباقي ورجعت عليه ببقية النصف من الصداق وهو ثلث مهر المثل. فصل: وأما الفصل الثاني منهما وهو: أن يصدقها المجيء بعبدها الأبق ثم يطلقها فيترتب ذلك على ما ذكرنا من الضربين في صحة الصداق وفساده. فإن كان على الضرب الذي يكون فيه الصداق صحيحًا بأن يكون مكان العبد معلومًا فلا يخلو حاله من أحد أمرين: إما أن يكون قد جاءها بالعبد الآبق أو لم يجيئها به. فإن كان قد جاءها بعبدها فلا يخلو حال طلاقه من أحد أمرين: إما أن يكون قبل الدخول أو بعده. فإن كان بعد الدخول: فقد استكملته واستوفته فلا تراجع بينهما. وان كان قبل الدخول فلها نصفه وقد استوفت جميعه فله أن يرجع عليها بنصف أجرة مثل المجيء بالآبق. وإن لم يكن قد جاءها بالآبق ف يخلو طلاقه من أن يكون قبل الدخول أو بعده. فإن كان بعد الدخول فقد استكملته وعليه أن يأتيها بالأبق ليوفيها الصداق. وإن كان الطلاق قبل الدخول لم يلزمه أن يجيئها بالآبق لأنها لا تستحق جميع الصداق ويتبعض فيؤخذ بنصفه وإذا كان كذلك ففيما ترجع به عليه قولان: أحدهما: هو القديم بنصف أجرة المثل. والثاني: وهو الجديد نصف مهر المثل. وإن كان على الضرب الذي يكون الصداق فيه فاسدًا بأن يكون مكان العبد مجهولاً فلا يخلو أن يكون قد جاءها بالعبد أو لم يجيئها به. فإن كان قد جاءها به فلا يخلو طلاقه من أن يكون قبل الدخول أو بعده. فإن كان بعد الدخول كان لها أن ترجع عليه بمهر المثل قولاً واحدًا لفساد الصداق

ويرجع عليها بأجرةً مثل المجيء بالآبق فإن كان من جنس واحد تقاضاه على الصحيح من المذهب وترادًا الفضل إن كان. وإن كان الطلاق قبل الدخول رجعت عليه بنصف مهر المثل ورجع بأجرة مثل المجيء بالآبق. وإن لم يكن قد جاءها بالعبد الآبق حتى طلقها لم يخل أن يكون طلاقه بعد الدخول فترجع عليه بمهر المثل ولا يؤخذ بالمجيء بالعبد لفساد الصداق فيه أو يكون طلاقه قبل الدخول فترجع عليه بنصف مهر المثل. قال المزني ههنا: أن بنصف أجرةً المجيء بالآبق من هذا التخريج قيل بتجويزه هذا الصداق وهو خطأ لما ذكرناه والله أعلم. مسألة: قال المزني:" وَكَذَا لَوْ قَالَ نَكَحَتْ عَلَى خِيَاطَةِ ثَوْبِ بِعَيْنَه فَهَلَكَ الثَّوْبِ، فَلَهَا مَهْرَ مِثْلُهَا، وَهَذَا أَصَحَّ مِنْ قَوْلِهُ: لَوْ مَاتَ رَجَّعَتْ فِي مَالِهُ بأجر مِثْلُه فِي تَعْلِيمِهُ". قال في الحاوي: وصورتها في رجل تزوج امرأةً وأصدقها خياطةً ثوب بعينه فهذا يجوز إذا وصفت الخياطةً كما يجوز أن يعقد عليه إجارةً فإن تجدد ما يمنع عن خياطته فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون بتلف الثوب. والثاني: أن يكون بعطلةً الزوج بزمانه أو عمى. فإن تلف الثوب ففي بطلان الصداق وجهان: أحدهما: وهو الذي نصف عليه المزني ههنا: أن الصداق باطل لأنه معين في تالف فصار كما لو أصدقها حصاد زرع فهلك. والثاني: أن الصداق جائز لأن الثوب مستوفي به الصداق ليس هو الصداق فصار كمن استأجر دارًا ليسكنها أو دابةً ليركبها فهلك قبل السكنى والركوب لم تبطل الإجارةً لهلاك من تستوفي به المنفعةً كذلك تلف الثوب قبل الخياطةً. وهذان الوجهان مخرجان من اختلاف قوليه فيمن خالع زوجته على رضاع ولده فمات هل يبطل بموته أم لا؟ على قولين لأن الولد يستوفي به الرضاع المستحق. وإن تعطل الزوج عن الخياطةَ بعمى أو بزمانه مع بقاء الثوب فإن كان الصداق في ذمته لزمه أن يستأجر من يقوم بخياطته ولا يبطل الصداق بزمانته. وإن كان الصداق معقودًا عليه في به بطل بزمانته وعطلته لأن الصداق (مستوفى) منه

فبطل بتلفه كموت العبد المستأجر وانهدام الدار المكراةً فصار استيفاء الصداق متعلقًا بثلاثةً أشخاص: مستوفي له ومستوفي به ومستوفي منه. فالمستوفي له: هي الزوجةً وموتها لا يؤثر في فساده. والمستوفي منه: هو الزوج وموته في فساده. والمستوفي به: هو الثوب وفي فساد الصداق بتلفه وجهان: فصل: فإذا تقررت هذه الجملة فإن قلنا: إن الصداق لا يبطل الثوب فلها أن تأتيه بثوب مثله حتى يخيطه. وإن قلنا: إن الصداق قد بطل بتلف الثوب ففيما ترجع عليه قولان: أحدهما: وهو القديم أجرةَ المثل. والثاني: وهو الجديد مهر المثل. فلو كان الزوج على سلامته والثوب باقيا فطلقها كان كما لو طلقها وقد أصدقها تعليم القرآن فيكون على ثلاثةَ أقسام: أحدها: أن يكون قد خاط لها جميع الثوب فلا يخلو حال الطلاق من أن يكون قبل الدخول أو بعده. فإن كان بعد الدخول فقد استكملته واستوفته فلا تراجع بينهما. فإن كان قبل الدخول فقد ملك الزوج نصف الصداق وقد استوفت جميعه فيرجع عليها بنصف أجرةَ الخياطةً. والثاني: ألا يكون قد خاطه ولا شيئًا منه. فإن كان الطلاق بعد الدخول أخذ الزوج بخياطة الثوب. وإن كان قبل الدخول فإن كانت خياطةً الثوب تتجزأ أو تتبعض أخذ الزوج بخياطةً نصفه وإن كانت لا تتجزأ لم يؤخذ بخياطته وكان فيما يلزمه لها قولان: أحدهما: نصف أجرةَ المثل. والثاني: نصف مهر المثل. والثالث: أن يكون قد خاط بعضه وبقى بعضه. فإن كان الطلاق بعد الدخول أخذ بإتمام خياطته. وإن كان الطلاق قبل الدخول فلها نصفه فيراعى قدر ما خاطه وحال تجزئته وتبعيضه ويراعي فيه ما روعي في تعليم القرآن من اعتبار أقامةُ الثلاثةَ في أن خياطةَ البعض إما أن يكون النصف أو أقل من الصف أو أكثر من الصف فيحمل على ما تقدم جوابه وبالله التوفيق.

صداق ما يزيد ببدنه وينقص مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "وَكُلَّ مَا أَصُدُقُهَا فَمَلَكَتَهُ بِالْعُقَدَةِ ضَمَنَتَهُ بِالدُّفَعِ فَلَهَا زِيادَتَهُ وَعَلَيهَا نُقْصَانَهُ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: الزوجةَ مالكةً لجميع الصداق بنفس العقد. وهو قول أبي حنيفة. وقال مالك: قد ملكت بالعقد نصف وبالدخول باقيةً. استدلالًا بأنه لو طلقها قبل الدخول لم يكن لها إلا نصفه ولو كانت مالكةُ لجمعه ما زال ملكها عن نصفه إلا بعقد فدل على أنها لم تملك منه إلا النصف أو لأنه لو كان ملك الصداق مقابلًا لملك البضع لتساويا في التأجيل والتنجيم حتى يجوز تأجيل البضع وتنجيمه كما يجوز في الصداق. أو لا يجوز في الصداق كما لا يجوز في البضع فلما اختص الصداق بجواز التأجيل والتنجيم دون البضع اختص بتمليك البعض وإن ملك جميع البضع. ودليلنا قول الله تعالى: {وَآَتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: (4)] في ذك دليلان: أحدهما: إضافةَ جميع الصداق إليهن فاقتضى أن يكون ملك جميعه لهن. والثاني: أمره بدفع جميعه إليهن فاقتضى أن يكون جميعه حقًا لهن. ولأن الزوج قد ملك بالعقد جميع البضع فوجب أن تملك عليه بالعقد جميع المهر كما أن المشتري لما ملك بالعقد جميع المبيع ملك عليه جميع الثمن، ويتحرر منه قياسان: أحدهما: أنه عقد تضمن بدلًا ومبدلًا فوجب أن يكون ملك البدل في مقابلًا ملك المبدل كالبيع. والثاني: أنه أحد بدلي العقد فوجب أن يكون مملوكا بالعقد كالبضع ولأنه لما كان لها المطالبةَ بجميعه قبل الدخول وحبس نفسها به إن امتنع وأن تضرب بجميعه مع غرمائه إن أفلس دل على أنها مالكةً لجميعه لأنه لا يجوز أن يثبت لها حقوق الملك مع عدم الملك. فأما استرجاع الزوج نصفه بالطلاق قبل الدخول فلا يمنع أن تكون مالكةً لما استرجعه كما لو ارتدت قبل الدخول أو فسخت نكاحه بعيب استرجع جميعه ولم يمنع أن تكون مالكةً لما استرجعه وكما يسترجع المشتري الثمن إذا رد بعيب ولا يمنع أن يكون البائع مالكا له. وأما اختلاف الصداق والبضع في التأجيل والتنجيم فلا يقتضي اختلالها في التمليك كما أن بيوع الأعيان يجوز التأجيل والتنجيم في أثمانها ولا يجوز فيها ولا يمنع

من تساويهما في أنهما قد ملكا بنفس العقد. فصل: القول في ضمان الزوج للصداق وقت الضمان ووقوعه. فإذا ثبت أنها مالكةً لجميع الصداق بنفس العقد فهو مضمون على الزوج حتى تقبضه منه لأنه مملوك عليه بعقد معاوضةً فوجب أن يكون مضمونًا عليه كالمبيع. وإن كان مضمونًا على الزوج فهو مضمون الأصل ومضمون النقص. فأما ضمان الأصل: فقد اختلف قول الشافعي فيه؛ هل يضمن بما في مقابلته أو به في نفسه على قولين: أحدهما: وهو في قوله في الجديد: أنه يضمن بما في مقابلته وهو البضع وليس للبضع مثل فضمن بقيمته وقيمته مهر المثل فيكون الصداق على هذا القول مضمونًا على الزوج إن تلف بمهر المثل، والثاني: وهو قوله في القديم أنه يكون مضمونًا في نفسه لا بما في مقابلته كسائر الأعيان المضمونةَ فعلى هذا إن كان الصداق مما له مثل كالدراهم والدنانير والبر والشعير ضمنه بمثله في جنسه ونوعه وصفته وقدره وإن كان مما لا مثل له كالثياب والعبيد والمواشي ضمنه بقيمته وفي كيفيةَ ضمان قولان: أحدهما: ضمان عقد فعلى هذا يلزمه قيمته يوم أصدق. والثاني: ضمان غصب فعلى هذا يلزمه قيمته أكثر ما كانت من حين أصدق إلى أن تلف. وأما ضمان القص فهو معتبر باختلاف حاليةُ في تمييزه واتصاله. فإن كان النقصان متميزًا كتلف أحد الثوبين، وموت أحد العبدين ضمنه ضمان الأصل على ما ذكرنا من القولين. وإن كان غير متميز: كمرض العبد وإطلاق الثوب ففيه وجهان: أحدهما: أنه يضمن بأرش النقص وهذا على القديم الذي جعل تلف الأصل موجبًا لضمان قيمته. والثاني: أنه ضمانه له موجب لخيار الزوجةً بين أن تقيم عليه بنقص أو تفسخ وترجع إلى مهر المثل؛ وهذا على القول الجديد الذي يجعل تلف الأصل موجبًا لمهر المثل. فصل: فإذا استقر أن الأصل مضمون على الزوج بما ذكرنا فليس للزوجة أن تعاوض عليه قبل قبضه كما لا تعاوض على ما ابتاعته قبل القبض وإن حدث من الصداق في يد الزوج

نماء كالنتاج والثمرةً كان جميعه ملكًا للزوجةً لأنها مالكةً لجميع الأصل. وعند مالك: أنها مالكةً لنصفه لأنها عنده مالكةً لنصف الأصل وإذا كانت الزوجةَ مالكةً لجميع النماء الحادث في يد الزوج فهل يكون مضمونًا على الزوج أم لا؟ على قولين: أحدهما: يكون مضمونًا عليه تبعًا لأصله. والثاني: لا يكون مضمونًا عليه ويكون أمانةً في يده لأن العقد تناول الأصل دون النماء فأوجب فان الأصل دون النماء. وإذا قبضت الزوجةَ الصداق صار جميعه من ضمانها وكان لها جميع ما حدث فيه من نماء. وقال مالك: تضمن نصف الذي ملكته والنصف الآخر يكون في يدها أمانةً للزوج ولا يلزمها ضمانه وله نصفا النماء. وبناء ذلك على أصله الذي قدمناه وقد مضى الكلام فيه. فصل: فإذا تقررت هذه الجملةَ جئنا إلى شرح كلام الشافعي. قال: "وكل ما أصدقها مملكته بالعقد وضمنته بالدفع فلها زيادةً وعليها نقصانه" وهذه جملةً اختصرها المزني من كلام الشافعي في كتاب "الأم" فإن الشافعي بسطه فأحسن المزني اختصاره. فقوله: وكل ما أصدقها فملكته بالعقد أبان عن مذهبه أن الزوجةَ مالكةً لجميع الصداق بالعقد ورد به قول مالك أنها تملك نصفه بالعقد. وأما قوله: وضمنته بالدفع فصحيح لأنه قبل دفعه إليها مضمون على الزوج دونها فإذا دفع إليها سقط ضمانه عن الزوج وصار مضمونًا عليها. وأما قوله: فلها زيادته وعليها نقصانه: فنقصانه لا يكون عليها إلا إذا دفع إليها. وإلا فهو على الزوج دونها وأما زيادته فهي لها قبل الدفع وبعده. فإن قيل: فكيف جمع بين زيادته ونقصانه في أن جعل ضمانها بالدفع موجبًا وهذا الشرط يصح في النقصان؛ لأنه لا يكون عليها إلا إذا ضمنته الدفع أما الزيادة فلا يصح هذا الشرط فيها لأنها لها قبل دفعه إليها وبعده فعن هذا ثلاثة أجوبةً: أحدها: أن جعل ذلك لها بعد الدفع لا يمنع أن يكون لها قبل الدفع. والثاني: أن في الكلام تقديمًا وتأخيرًا وتقديره: وكل ما أصدقها مملكته بالعقد فلها زيادته فإذا ضمنته بالدفع فعليها نقصانه ومثل هذا يجوز إذا دل عليه وضع الخطاب أو شواهد الأصول. والثالث: أن الكلام على نسقه صحيح والشرط في حكمه معتبر لأن الزيادةَ الحادثةً بعد الدفع تملكها ملكا مستقرًا وقبل الدفع تملكها غير مستقر لأنه قد يجوز أن يتلف

الصداق في يد الزوج فيزول ملكها عن الزيادةً إن قيل: إنها ترجع بمهر المثل على ما سنذكره فصار الدفع شرطا في استقرار الملك فصح، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: فإن أصدقها أمة أو عبدا صغيرين فكبرا، أو أعميين فأبصرا ثم طلقها قبل الدخول، فعليها نصف قيمتهما يوم قبضهما إلا أن تشاء دفعهما زائدين، فلا يكون له إلا ذلك، إلا أن تكون الزيادةً غيرتهما بأن يكونا كبرًا كبرًا بعيدًا، فالصغير يصلح لما لا يصلح له الكبير، فيكون له نصف قيمتهما وإن كانا ناقصين فله نصف قيمتهما إلا أن يشاء أن يأخذهما ناقصين، فليس لها منعه إلا أن يكونا يصلحان لما لا يصلح له الصغير في نحو ذلك " قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا سمى لزوجته صداقا ثم طلقها فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون قد سلم الصداق إليها. والثاني: أن لا يكون قد سلمه إليها. فإن لم يكن قد سلمه إليها حين طلقها فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون موصوفا في الذمة كمسمى من دراهم أو دنانير أو موصوفًا من بر أو شعير فلا يخلو طلاقه من أن يكون قل الدخول أو بعده. فإن كان بعد الدخول فقد استحقت جميعه واستقر ملكها عليه وليس له أن يرجع بشيء منه. قال الله تعالى: {وَكَيْفَ تَاخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ} [النساء: (21)]. وإن كان الطلاق قبل الدخول أبراء من نصف الصداق لقول اله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرةً: 237] وفيه تأويلان: أحدهما: معناه فنصف ما فرضتم لكن يرجع إليكم بالطلاق وهذا تأويل من قاله: إنها قد ملكت جميع الصداق بالعقد. والثاني: معناه فنصف ما فرضتم للزوجات لا يملكن أكثر منه هذا تأويل من قال إنها لا تملك بالعقد إلا نصفه وإذا كان كذلك لم يخل حال الصداق من أن يكون حالًا أو مؤجلًا أو منجمًا فإن كان حالًا ساق إليها نصفه وقد بريء من جميعه. وإن كان مؤجلًا: فعليه إذا حل الأجل أن يسوق إليها النصف وقد بريء من الكل ولا يحل قبل أجله إلا بموته. وإن كان منجما: بريء من نصفه على التنجيم وكان النصف باقيًا لها إلى نجومه.

فلو كان إلى نجمين فحل أحدهما وقت الطلاق لم يكن لها أن تتعجل النصف في الحال فيتسضر ولا أن يؤخر به إلى النصف المؤجل فتستضر الزوجة ويبرأ الزوج من نصف الحال والنصف المؤجل وتأخذ الزوجةَ نصف الحال وتصبر بنصف المؤجل حتى يحل. فصل: والضرب الثاني: أن يكون الصداق عينًا معلومةً كالإماء والعبيد والمواشي والشجر فلا يخلو حاله وقت الطلاق من أحد خمسةً أقسام: أحدها: أن يكون باقيًا بحاله. والثاني: آن يكون قد تلف. والثالث: أن يكون قد زاد. والرابع: أن يكون قد نقص. والخامس: أن يكون قد زاد من وجه ونقص محن وجه. فأما القسم الأول وهو أن يكون باقيًا بحاله لم يزد ولم ينقص فلا يخلو حال الطلاق من أن يكون قبل الدخول أو بعده. فإن كان بعد الدخول فقد استقر لها جميعه وعليه تسليمه إليها كاملا، وإن كان قبل الدخول ملك الزوج نصفه، وبماذا يصير مالكًا؟ فيه قولان: أحدهما: وهو الأظهر أنه ملك بالطلاق نصف الصداق سواء اختار تملك ذلك أو لم يختره كما أن المشتري إذا رد بالعيب ملك بالرد جميع الثمن. والثاني: إليه ذهب أبو إسحاق المروزي: أنه ملك بالطلاق أن يتملك نصف الصداق كالشفيع الذي ملك بالشفعةَ أن يتملك فإذا اختار الزوج أن يتملك نصف الصداق صار بالاختيار لا بالطلاق. فإذا صار الزوج ملكاً للنصف إما بالطلاق على القول الأول أو بالاختيار على القول الثاني صارا شريكين فيه فإذا كان مما لا يقسم كانا فيه على الخلطةً وإن كان مما يقسم جبرًا فأيهما طلبها أجيب إليها وإن كان مما لا يقسم إلا صلحًا فأيهما امتنع منها أقر عليها. فصل: وأما القسم الثاني: وهو أن يكون الصداق قد تلف فهذا على ضربين: أحدهما: أن يتلف قبل أن يحدث منه نماء كعبد مات آو دابةً نفقت فيما تستحق الزوجة قولان: أحدهما: وهو الجديد: مهر المثل فعلى هذا يكون الصداق تالفًا على ملك الزوج سواء تلف بحادث سماء أو جنايةً آدمي ثم ينظر في الطلاق فإن كان قبل الدخول فلها نصف مهر المثل.

وإن كان بعد الدخول فلها جميعه ويعتبر به مهر مثلها وقت العقد لا وقت الطلاق ولا وقت تلف الصداق لأن تلف الصداق يدل على وجوب مهر المثل بالعقد دون الطلاق. والثاني: وهو في القديم: أنها ترجع عليه بقيمةَ الصداق فعلى هذا يكون الصداق تالفا ملكها. ولا يخلو حال تلف من ثلاثةً أقسام: إما أن يكون بحادث سماء أو بجنايةً منه أو بجنايةً من أجنبي. فإن كان بحادث سماء: ففي كيفيةُ ضمانه قولان: أحدهما: يضمنه ضمان عقد فعلى هذا عليه قيمته يوم أصدق. والثاني: ضمان غصب هذا عليه قيمته أكثر ما كان قيمته من وقت العقد أو وقت التلف. وإن كان تلفه بجناية منه: فإن قيل إن ضمانه غصب ضمنه بأكثر قيمته في الأحوال كلها وإن قيل ضمانه ضمان عقد فعليه أكثر القيمتين من وقت العقد أو وقت التلف واحدًا إن كانت قيمته وقت العقد أكثر فهي مضمونةً عليه بالعقد وإن كانت وقت التلف أكثر فهي مضمونةً عليه بالجنايةً ولا يضمن زيادتهُ فيما بين العقد والجنايةً. وإن كان تلفه بجناية أجنبي؛ فلا تخلو قيمته وقت العقد ووقت الجنايةَ من ثلاثةَ أقسام: أحدها: أن يكونا سواء. والثاني: أن يكون وقت العقد أكثر. والثالث: أن يكون وقت الجناية أكثر. فإن استوت قيمته في الحالين كعبد كانت قيمته ألف درهم وقت العقد ووقت الجنايةً فالزوج ضامن لها في حق الزوجيةَ بالعقد والجاني ضامن لها في حق الزوج والزوجةً بالجنايةً وللزوجةً الخيار في طالبةً الزوج بها أو الجاني. فإن طلبت الزوج بها وكان الطلاق بعد الدخول دفع إليها جميع القيمةَ ورجع على الجاني بجميع القيمةً. وإذا أرادت الزوجةَ في الابتداء أن تطالب بها الجاني دون الزوج كان لها ذلك. فإن كان طلاقها بعد الدخول رجعت عليه بجميع القيمةَ وبرئا من حقها وبريء الجاني من حقهما. وإن كان الطلاق قبل الدخول رجعت عليه بنصف القيمة وبريء الزوج والجاني من حقها ورجع الزوج على الجاني بباقي القيمة وص النصف الذي ملكه الزوج بطلاقه. وإن كانت قيمةُ الصداق وقت العقد أكثر منها وقت الجنايةً كأنه عبد قيمته وقت العقد ألف ووقت الجناية خمسمائةَ فالجاني ضامن بخمسمائةَ لأنها قيمته وقت جنايته

والزوج ضامن لجميع الألف لأنها قيمته وقت عقده، فإن كان طلاقها بعد الدخول كانت بالخيار بين أن ترجع على الزوج فترجع عليه بجمع الألف وقد استحقته ويرجع الزوج على الجاني بخمسمائةً وبين أن ترجع على الجاني بخمسمائةً وعلى الزوج بخمسمائةً وليس للزوج أن يرجه بها على الجاني بشيء. وإن كان طلاقها قبل الدخول: كانت بالخيار بين أن ترجع على الزوج الألف وهي خمسمائةً ويرجع الزوج على الجاني بخمسمائةَ وتكون الخمسمائةً التي هي فاضل القيمةَ المضمونةً على الزوج في مقابلةً ما استحق من نصف الصداق وبين أن ترجع على الجاني بالخمسمائةَ كلها وقد استحقت بها نصف قيمةَ صداقها وقت العقد ويكون ما ضمنه من فانحل القيمةُ في مقابلةَ ما استحقه بطلاقه. وإن كانت قيمة الصداق وقت الجناية أكثر كأنه عبد قيمته وقت العقد خمسمائةَ ووقت الجنايةً ألف فالجاني ضامن لك ألف وفيما يضمنه الزوج قولان: أحدهما: خمسمائة إذا قيل إنه يضمنه ضمان عقد. والثاني: ألف إذا قيل: إنه يضمنه ضمان غصب. فإذا قيل: إن الزوج يضمن جميع الألف ضمان الغصب كانت مخيرةً إن كان طلاقها بعد الدخول في رجوعها بالألف على من شاءت من الزوج أو الجاني تم الكلام في التراجع على ما مضى. وإن كان طلاقها قبل الدخول رجعت بنصف الألف على من شاءت منهما فإن رجعت بها على الزوج رجع الزوج على الجاني بالألف كلها وإن رجعت بها على الجابي رجع الزوج على الجاني بخمسمائة بقية الألف. فإن قيل: إن الزوج يضمن خمسمائةً ضمان العقد نظر. فإن كان طلاقها بعد الدخول فإن شاءت الرجوع على الجاني رجعت عليه بجميع الآلف وقد بريء وإن شاءت الرجوع على الزوج لم ترجع عليه إلا بخمسمائةً لأنه لم يضمن أكثر منها ورجعت على الجاني بخمسمائةً بقيمةً الآلف ورجع الزوج على الجاني بالخمسمائةً الباقيةً من الألف. وإن كان طلاقها قبل الدخول فإن شاءت الرجوع على الجاني رجعت عليه الألف ورجع الزوج عليه بخمسمائةً بقيمةُ الألف وان شاءت الرجوع على الزوج لم ترجع عليه إلا بنصف الخمسمائةً ورجعت على الجاني بمائتين وخمسين بقيةً نصف الألف ورجع الزوج على الجاني بسبعمائةً وخمسين بقيةَ الألف. والضرب الثاني: في الأصل: أن يكون قد حدث من الصداق قبل تلفه نماء كولد أمة ونتاج ماشيةً فهو معتبر بما ترجع به الزوجةً من بدل الصداق. فإن قيل: إنها ترجع على الزوج بقيمته فالنماء لها لحدوثه في ملكها، وإن (قيل): إنها

ترجع على الزوج بمهر مثلها ففي النماء وجهان: أحدهما: أنه للزوج لأن الرجوع عند تلفه إلى بدل ما في مقابلته فوجب لرفعه من أصله فكأنها لا تملكه فلم تملك نماءه. والثاني: أنه للزوجةً لأنه حدث عن أصل كان في ملكها إلى وقت التلف ولا يصح أن يستحدث الزوج ملكه بعد التلف. فصل: وأما القسم الثالث: وهو أن يكون الصداق قد زاد فهذا على ضربين: أن تكون الزيادةً منفصلةً لولد الأمةً ونتاج الماشيةً فلها إن طلقت بعد الدخول أن تأخذ جميع الصداق وجميع الماء وإن طلقت قبل الدخول أن تأخذ نصف الصداق وجميع النماء لحدوثه عن أصل كانت مالكة لجميعه. وعند مالك تأخذ نصف الأصل ونصف النماء. والثاني: أن تكون الزيادةً متصلة كمن المهزول وبرء المريض وتعلم القرآن فإن كان الطلاق بعد الدخول فلها أن تأخذ جميع الصداق زائدا. وإن كان قبل الدخول فهي بالخيار بين أن تعطي الزوج نصفه زائدًا أو تأخذ نصفه بين أن تعدل به إلى نصف القيمةَ يوم أصدق فيكون جميع الصداق لها لأن فيه زيادةً تختص بملكها دون الزوج لا تتميز عن الأمل. وقال مالك: للزوج أن يأخذ نصفه بزيادته لأنه الزيادةً التي لا تتميز تكون تبعًا للأصل كالمفلس إذا زاد المبيع في يده غير متميزة كان للبائع أن يرجع مع زيادته. قيل: قد اخلف أصحابنا في التسويةً بينهما والجمع ين حكميهما على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي العباس وأبي إسحاق: أنه لا فرق بينهما في الحكم إذا استويا في معناه. وذلك أن المفلس إنما رجع البائع معه بعين ماله زائدًا لأنه تعذر عليه أن يرجع ببدله وهو الثمن لأجل الفلس فجاز أن يرجع بالعين زائدة. ولو لم يتعذر عليه البدل لما رجع بالعين وفي الصداق ليس يتعذر على الزوج الرجوع بالبدل فلم يرجع بالعين زائدةً ولو تعذر عليه الرجوع بالبدل لفلس الزوجة لرجع بالعين زائدةً. والثاني: وهو قول جمهور أصحابنا: أنهما يفترقان في الحكم فيكون للبائع إذا أفلس المشترى أن يرجع بمن ماله زائدًا ولا يكون للزوج إذا طلق قبل الدخول أن يرجع بنصف الصداق زائدا سواء كانت الزوجةً مفلسةً آو موسرةً. والفرق محنهما من وجهين: أحدهما: أن البائع في الفلس يرجع بفسخ قد رفع العقد من أصله فجاز أن يرجع

بالزيادةً لحدوثها بعد العقد المرفوع والزوج إنما يرجع بطلاق حدث بعد الزيادةً لم يرفع الصداق من أصله فلم يرجع بالزيادةً لتقدمها قبل الطلاق الحادث. والثاني: أن الزوج متهوم لو جعلت له الزيادةً أن يكون قد طلقها رغبةً فيما حدث من زيادةً صداقها فمنع منها وليس البائع متهومًا في فلس المشتري فلم يمنع من الزيادةً، والله أعلم. فصل: وأما القسم الرابع: وهو أن يكون الصداق قد نقص فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون النقصان متميزًا كعبدين مات أحدهما أو صبرةً طعام تلف بعضها فلا يخلو حال الطلاق من أن يكون بعد الدخول أو قبله. فإن كان بعد الدخول فقد استكلمت به جميع الصداق وقد تلف بعضه فينبني جوابه على ما نقوله في الرجوع ببدل التالف وفيه قولان: أحدهما: وهو القديم: أنها ترجع بقيمةً ما تلف فعلى هذا لا يبطل الصداق في التالف ولا في الباقي وترجع بعين ما بقي وبقيمةً التالف إن لم يكن له مثل وبمثلهِ إن كان له مثل ولا خيار لها في مقام ولا فسخ. والثاني: وهو الجديد: أن الرجوع عند التلف يكون بمهر المثل فعلى هذا قد بطل الصداق فيما تلف وصح على الصحيح من مذهب الشافعي فيما سلم فلا وجه لمن خرج فيه من أصحابنا قولًا ثانيًا من تفريق الصفقةً أنه باطل في السلم لبطلانه في التالف لأن الصفقةً لم تفرق في الحال العقد وإنما تفرقت بعد صحةَ العقد. وإذا كان كذلك فالزوجةً بالخيار لأجل ما تلف بين أن تقيم على الباقي أو تفسخ فإن فسخت رجعت على الزوج بمهر المثل وعاد الباقي من الصداق إلى ملك الزوج. وإن أقامت فمذهب الشافعي أنها تقيم عليه بحسابه من الصداق وقد وترجع بقط ما بقي من مهر المثل. فإن كان التالف النصف رجعت بنصف مهر المثل وإن كان الثلث رجعت بثلثيهِ ولا وجه لمن خرج فيه أصحابنا قولًا ثانيًا أنها تقيم على الباقي بجميع الصداق اعتبارًا بتفريق الصفقةً في حال العقد لما ذكرنا من الفرق بين ما اقترن بالعقد وبين ما حدث بعد صحة العقد. وإن كان الطلاق قبل الدخول فلها نصف الصداق وهو على ضربين: أحدهما: أن يكون متماثل الأجزاء كالحنطةً فلها أن تأخذ من الباقي نصف الجميع ولا خيار لها. والثاني: أن يكون مختلف الأجزاء كعبدين مات أحدهما ففيه قولان:

أحدهما: أنها تأخذ نصف جميع العبد الباقي إذا تساوت قيمتها فعلى هذا لا خيار لها والثاني: أنها تأخذ نصف الباقي وفيما ترجع ببدله من نصف التالف قولان: أحدهما: ترجع بقيمةَ نصف التالف وهو القديم فعلى ها لا خيار لها. والثاني: ترجع بقسط ذلك من مهر المثل فعلى ذا يكون لها الخيارين هذا وبين أن تفسخ وترجع بنصف مهر المثل وقد ذكرنا هذا في كتاب الزكاةً فهذا حكم النقصان إذا كان متميزًا. والضرب الثاني: أن يكون المقصان غير متميز كالعبد إذا كان سمينًا فهزل وصحيحًا فمرض أو بصيرًا فعمي فلها الخيار سواء قل العيب أو كثر. وقال أبو حنيفة: لا خيار لها إلا أن يتفاحش العيب. احتجاجًا: بأنها إذا ردت الصداق بالعيب اليسير رجعت بقيمته سليمًا وقد يخطئ المقومان فيقومانه صحيحًا بقيمته مع يسير العيب لأن بسير العيب لا يأخذ من القيمة إلا يسيرًا فعفي عن يسير العيب لأنه لا يتحقق استدراكه ولم يعف عن كثيرةُ لأنه يتحقق استدراكه ولم يعف في البيع عن يسيره ولا كثيرةُ ولأنه قد تحقق استدراكه في الرجوع بالثمن دون القيمةً. ودليلنا هو أن ما جاز رده بكثير العيب جاز رده بيسيرةُ كالثمن ولأنه عيب يجوز به الرد في البيع فجاز به الرد في الصداق كالكثير. فأما الجواب عما ذكره فهو أننا نوجب مع الرد مهر المثل في أصح القولين دون القيمةً. ثم لو وجب الرجوع بالقيمةً لاقتضى أن يحمل التقويم على الصواب دون الخطأ وعلى فرق المقوم بين السليم والمعيب. فإذا تقرر ما ذكرنا فلا يخلو ذلك عن ثلاثةَ أقسام: أحدهما: أن يكون ذلك بحادث سماء. والثاني: أن يكون بجناية الزوج. والثالث: أن يكون بجناية أجنبي. فإن كان بحادث سماء كهزال السمين وحرض الصحيح فإن سمحت بنقصه أخذته ناقصًا إن طلقت بعد الدخول ونصفه إن طلقت قبله ولا خيار للزوج فيما حصل له من نصف الناقص لأنه مضمون عليه، وإن لم تسمح بنقصه كان خيارها في الفسخ معتبرًا بما ترجع به لو فسخت؛ فإن قيل: إنها ترجع بقيمته فلا خيار لها في الفسخ وتأخذه ناقصًا مع أرش نقصه إن طلقت بعد الدخول ونصفه ونصف أرشه إن طلقت قبله وإنما سقط خيارها في الفسخ لأن أخذه ناقصًا مع الآرش أخص بحقها من العدول عنه إلى قيمته. وإن قيل: لو فسخت رجعت بمهر المثل فلها الخيار في الفسخ أو المقام فإن

فسخت رجعت بمهر المثل إن طلقت بعد الدخول وبنصفه إن طلقت بعد الدخول وبنصفه إن طلقت قبله وإن أقامت أخذته ناقصًا ولا أرش لها كالبائع إذا رضي أن يتمسك بالمعيب وإن طلقت قبل الدخول رجعت بنصفه ناقصًا من غير أرش ويكون نصفه معيبًا للزوج ولا خيار له فيه لأنه مضمون عليه. وإن كان النقصان بجنايةً الزوج: كأنه قطع إحدى يديه أو قلع إحدى عينيه فهو يضمنه الجاني بنصف القيمةً ويضمنه غير الجاني بما نقص فيكون الزوج ها هنا ضامنًا له بأكثر الأمرين من نقصه أو نصف قيمته وإن كان نصف القيمة أكثر لؤمه ذلك لأنه قد يلتزمه بالجناية من غير يد ضامنة فلأن يلزمه مع اليد الضامنةً أولى وإن كان نقصه أكثر من نصف القيمةً لزمه ذلك لأنه قد يلتزمه باليد الضامنةَ من غير جناية فلان يلتزمه مع الجنايةً أولى وإذا لزمه ضمان أكثر الأمرين ترتب جوابه على ما يوجبه في الرجوع مع التلف. فإن قيل: إن تلف الصداق موجب للرجوع بقيمته على قوله في القديم فلها أن تأخذ العبد ناقصًا وما أوجبناه من ضمان نقصه أو يقدر بجنايته إن طلقت بعد الدخول أو نصف ذلك إن طلقت قبله ولا خيار بها. وإن قيل: إن تلف الصداق موجب للرجوع بمهر المثل فهي ها هنا بالخيار بين المقام أو الفسخ فإن فسخت رجعت بمهر المثل إن طلقت بعد الدخول أو بنصفه إن طلقت قبله وإن أقامت أخذت العبد ناقصًا وما أوجبه ضمان الجنايةً وهو نصف القيمةً ولا اعتبار بما زاد عليه من ضمان النقص باليد الضامنةً على هذا القول. ألا تراه لو نقصت قيمتهُ من غير جنايةً لم يضمنها على هذا القول إذا أقامت ولم يفسخ هذا إن كان الطلاق بعد الدخول فإن كان قبله أخذت نصفه وربع القيمة بالجنايةً. وإن كان النقصان بجناية أجنبي؛ كأنه قطع إحدى يديه أو فقأ إحدى عينيه فعلى الجاني نصف القيمةً أرش الجنايةً ويضمن الزوج نقصان القيمةً قل أو كثر ضمان اليد ثم يترتب حقها فيما ترجع به على ما مضى من القولين. إن قلنا: أنها ترجع مع التلف بالقيمة رجعت عليه إن طلقت بعد الدخول بالعبد الناقص ورجعت معه بأكثر الأمرين من ضمان الجنايةً وهو نصف القيمةً أو ضمان اليد وهو نقصان القيمةً وهي بالخيار في الرجوع على من شاءت منهما فإن رجعت على الجاني رجعت عليه بنصف القيمةً فإن كان هو الأكثر فقد استوفت ولم يرجع على الزوج بشيء ولا يرجع الزوج على الجاني بشيء وإن كان هو الأقل رجعت بالباقي من نقصان القيمة على الزوج ولم يرجع به الزوج على الجاني وإن رجعت على الزوج رجعت عليه بنقصان القيمةً فإن كان هو الأكثر فقد استوفت ورجع على الجاني بنصف القيمةَ وإن كان هو الأقل رجعت على الجاني بالباقي من نصف القيمةً ورجع الزوج عليه بما غرم من نقصان بالقيمةَ. فإن طلقت قبل الدخول رجعت بنصف ذلك. وإن قلنا: إنها ترجع مع التلف بمهر المثل على قوله في الجديد فهي بالخيار بين

المقام أو الفسخ فإن فسخت رجعت على الزوج بمهر المثل إن طلقت بعد الدخول وبنصفه إن طلقت قبله ورجع الزوج على الجاني بنصف القيمةً أرش الجنايةً وإن أقامت كان لها إن طلقت بعد الدخول أخذ العبد ونصف القيمةً التي هي أرش الجنايةً سواء كانت أقل الأمرين أو أكثرهما فإن كان هو الأقل كان لها الخيار في الرجوع به على من شاءت منهما فإن رجعت به على الزوج رجع به الزوج على الجاني لأن رجعت به على الجاني لم يرجع به الجاني على أحد وإن كان نصف القيمةً هو الأكثر لم يكن لها أن ترجع على الزوج إلا بنقصان القيمةً وترجع بالباقي من النصف على الجاني ويرجع عليه الزوج بما غرم من نقصان القيمةَ وإن رجعت على الجاني رجعت عليه ينصف القيمةَ وقد استوفت وإن كان الطلاق قبل الدخول رجعت بالنصف من ذلك ورجع الزوج بالنصف الآخر. فصل: وأما القسم الخامس وهو أن يكون الصداق قد زاد من وجه ونقص من وجه فلا تخلو حال الزيادةً والنقصان من أربعةَ أقسام: أحدهما: أن يكونا متميزين. والثاني: أن يكونا غير متميزين. والثالث: أن تكون الزيادةً متميزةً والنقصان غير متميز. والرابع: أن تكون الزيادةً غير متميزةً والنقصان متميزًا. فأما القسم الأول: وهو أن تكون الزيادةً متميزةً والنقصان متميزًا: فمثاله: أن يكون قد أصدقها أمتين فماتت واحدةً وولدت لأخرى فموت إحداهما نقصان متميز وولادةً أخرى زيادةً متميزةً فيكون الكلام في موت إحداهما كالكلام في النقصان المتميز إذا انفرد عن الزيادةً. فأما الولد فإن قيل: ترجع في التالف بقيمته فالولد لها وإن قيل: ترجع في التالف بمهر المثل نظر فإن لم تفسخ ولم ترجع بمهر المثل فالولد لها سواء كان الولد من الباقيةً أو من الميتةُ وإن فسخت ورجعت بمهر المثل نظر في الولد؛ فإن كان من الباقيةً دون الميتةً فهو لها لأن الباقيةً خرجت من الصداق بالفسخ الذي هو قطع إلا بالموت الذي هو رفع وإن كان الولد من الميتةَ ففيه وجهان: أحدهما: أنه للزوجة أيضًا لحدوثه على ملكها. والثاني: أنه يكون للزوج لأن موت أمه قد رفح العقد من أصله. وأما القسم الثاني: وهو أن تكون الزيادةً غير متميزةً والنقصان غير متميز. فمثاله: أن يصدقها أمتين إحداهما مريضةً والأخرى صحيحةً فتبرأ المريضة وتمرض الصحيحةً. فإن كان الطلاق بعد الدخول وقلنا بقوله في القديم: أنها ترجع مع التلف بالقيمةً أخذت الأمتين ورجعت بنقصان قيمةً الصحيحة التي مرضت ولا يجبر ذلك بالزيادةً

الحادثةُ في برء المريضةً لأنها زيادةً لا يملكها، وإن قلنا بقوله في الجديد: أنها ترجع مع التلف بمهر المثل نهى ها هنا بالخيار بين أن تأخذ الأمتين بالزيادةَ والنقصان من غير أرش وبين أن تفسخ وترجع بمهر المثل. وإن كان الطلاق قبل الدخول ترتب على القولين إذا تلفت إحداهما وبقيت الأخرى هل لها إذا تساوت قيمتها أن تأخذ الباقيةً منهما بالنصف أم لا؟ فإن قيل بأحد القولين أنها تأخذ الباقية بالنصف فلا خيار لها ها هنا وتأخذ بالصف الذي لها الأمةً التي زادت وترد للزوج الأمةُ التي نقصت. وإن قيل بالقول الثاني: أنها تأخذ النصف من كل واحدةً من الأمتين: ترتب على إليه مع التلف. فإن قيل بالقديم آن الرجوع يكون بالقيمةً رجعت بنصف الأمتين وينصف الأرش ومن نقصان التي نقصت ولا يجبر ذلك بزيادةَ التي زادت. وإن قيل بالجديد: أن الرجوع مع التلف يكون بمهر المثل كان بالخيار بين أن ترجع بنصف الأمتين من غير أرش وبين أن تفسخ وترجع بنصف مهر المثل. وأما القسم الثالث: وهو أن تكون الزيادةً متميزة والنقصان غير متميز، فمثاله: أن يصدقها أمتين فتلد إحداهما وتمرض الأخرى فالكلام في مرض إحداهما كالكلام في النقصان الذي لا يتميز إذا لم يكن معه زيادةً متميزةً على ما مضى. فأما الولد فيكون للزوجةً بكل حال سواء، أقامت على الصداق أو فسخت ورجعت بمهر المثل مواء كان الولد من الناقصةً أو من الأخرى لأن بقاء أمه إن فسخ الصداق فيها موجب لقطعه لا لرفعه. فأما القسم الرابع: وهو أن تكون الزيادةَ غير متميزةً والنقصان متميزا فمثاله: أن يصدقها أمتين مريضتين فتموت إحداهما وتبرأ الأخرى فيكون الكلام فيه كالكلام في النقصان المتميز إذا لم يكن معه زيادةً فيكون على ما مضى وليس للزيادةً هاهنا تأثير يتغير به الحكم. فصل: فأما القسم الثاني من أصل المسألة وهو أن يكون الزوج قد ساق الصداق بكماله إليها ثم طلقها فلا يخلو طلاقه من أن يكون قبل الدخول أو بعده فإن كان بعد الدخول فلا حق له في الصداق وقد استوفته. وإن كان قبل الدخول فله نصفه، وإذا كان كذلك: لم يخل الصداق من أحد أمرين: إما أن يكون موصوفًا في الذمةَ أو يكون عينًا معلومةً. فإن كان موصوفًا في الذمةَ كالدراهم والدنانير فلا يخلو أن يخون ذلك باقيًا في يدها أو مستهلكاً.

فإن كان مستهلكًا رجع عليها بالنصف من مثل ذلك الصداق، وإن كان باقيًا في يدها ففيه وجهان: أحدهما: أنه للزوج أن يرجع بالنصف من الصداق الذي أقبضها لأنه عين ماله وليس لها أن تعدل به إلى مثله. والثاني: أنها بالخيار بين أن تعطيه النصف من ذلك الصداق وبين أن تعدل به إلى نصف مثله لأنه لم يكن متعينًا بالعقد بل كان مضمونًا في الذمةَ فاستقر فيه حكم الخيار في مثله. والأول أظهر لأنه قد تعين بالقبض فصار كالمتعين بالعقد، فلو كانت قد اشترت بالصداق جهازًا أو غيره ورجع عليها بمثل نصف الصداق ولم يلزمه أن يأخذ نصف الجهاز. وقال مالك: إذا تجهزت بالصداق لزمه أن يأخذ نصف الجهاز وبني ذلك على أصله في أن على المرأةً أن تجهز لزوجها. وعندنا: لا يجب على المرأةَ أن تتجهز للزوج لأن المهر في مقابلةَ البضع دون الجهاز فلم يلزمها إلا تسليم البضع وحده. ولأن ما اشترته من الجهاز كالذي اشترته بغير الصداق ولأن ما اشترته بالصداق من الجهاز كالذي اشترته من غير الصداق، وأما إن كان الصداق في الأصل معينًا بالعقد فلا تخلو حاله مما ذكرناه من الأقسام الخمسة: أحدهما: أن يكون باقيًا بحاله لم يزد ولم ينقص فله أن يرجع بنصفه فيكون شريكًا فيه وهل يكون شريكًا فيه بنفس الطلاق أو باختياره أن يتملك بالطلاق نصف الصداق؟ على ما ذكرنا من القولين. والقسم الثاني: أن يكون الصداق قد تلف في يدها فهذا على ضربين: أحدهما: أن يتلف في يدها قبل طلاق الزوج. والثاني: أن يتلف بعد طلاقه. فإن تلف قبل طلاق الزوج فللزوج أن يرجع عليها بنصف قيمته قولًا واحدًا أقل ما كان قيمته من وقت العقد إلى وقت التسليم لأن قيمته إن نقصت فهي مضمونةً عليها فلا يرجع بها لأن زادت فالزيادةَ لغيره فلم يجز أن بملكها. وقال مالك: لا يرجع عليها بشيء لأن عنده الصداق أمانة في يدها وقد مضى الكلام عليه. وأما إن تلف الصداق في يدها بعد آن ملك الزوج نصفه بطلاقه فلم يتسلمه حتى تلف فهذا على ضربين: أحدهما: أن يتلف في يدها قيل بذله له وتمكين منه فله أن يرجع عليها بنصف قيمته على ما مضى.

والثاني: أن يتلف في يدها بعد بذله له وتمكينه منه فلم يتسلمه حتى تلف ففي ضمانه وجهان مبنيان على اختلاف أصحابنا فيما يستحقه الزوج من الصداق. فأحدهما: أن الذي يستحقه عليها التمكين من الصداق فعلى هذا لا ضمان علها لوجود التمكين. والثاني: أن الذي يستحقه عليها تسليم الصداق فعلى هذا عليها ضمانه لعدم التسليم. ثم يتفرع على هذين الوجهين إذا تلف في يدها بجنايةُ آدمي فعلى الوجه الأول أن المستحق هو التمكين يرجع الزوج إلى الجاني. وعلى الوجه الثاني: أن المستحق هو التسليم بكون الزوج بالخيار بين أن يرجع على الزوجةَ أو على الجاني. ويتفرع على هذين الوجهين أيضًا إذا حدث بالصداق بعد أن تملك الزوج نصفه نقصان لا يتميز فلا خيار له في فسخ الصداق به والرجوع إلى قيمتهُ لاستقرار ملكه عليه وهل يكون نقصه به مضمونًا عليها أم لا؟ على وجهين: معتبر بحالها في التسليم والتمكين ولها فيه ثلاثة أحوال: أحدهما: أن لا تسلم ولا تمكن الزوج منه فا لقصان مضمون عليها لأنه مقبوض في يدها عن معاوضةً فلزمها ضمانه كالمقبوض سومًا. والثانية: آن تسلمه إليه فيرد عليها فهو أمانةً كالوديعةً لا يلزمها ضمانه. والثالثة: أن تمكنه منه فلم يتسلمه حتى نقص نفي ضمانها لنقصانه وجهان: والقسم الثالث: أن يكون الصداق قد زاد فهذا على ضربين: أحدهما: أن تكون الزيادةً متميزةً كالولد فالزيادةً لها ويرجع الزوج بنصف الأصل من غير زيادة. وعند مالك: يرجع بنصف الأصل ونصف الزيادةً. وعند أبو حنيفة: لا يرجع بنصف الأصل ولا بنصف الزيادة، ويرجع بنصف القيمةً بناء على أصله في أن زيادة المبيع تمنع من الرد بالعيب. والضرب الثاني: أن تكون غير متميزةً كالبرء والسمن فهي بالخيار بين أو تعطيه نصف القيمةَ أو نصف العين. وعند مالك: تجبر على دفع نصف العين زائدةً. وليس كذلك لما بيناه من أن الزيادةً ملك لها وهي متصلةً بالأصل فلم تجبر على بذلها فإن بذلت له نصف القيمةَ أجبرها على قبولها وإن بذلت له نصف الصداق زائدا ففي إجبارها على قبولها وجهان: أصحهما: يجبر عليه وليس له نصف القيمةَ لأن منعه العين إنما كان لحق الزوجةً من الزيادةً.

والوجه الثاني: وهو أضعفهما أنه لا يجبر وله أن يعدل إلى نصف القيمةً لأن حدوث الزيادةً قد يقل حق إلى القيمةً. ولأنه لما لم يجبر على قبول الزيادةَ إذا انفصلت لم يجبر على قبولها إذا اتصلت فلو حدثت زيادةً الصداق بعد الطلاق وقبل رجوع الزوج به فهذا على ضربين: أحدهما: أن يحدث بعد الطلاق وبعد اختيار التمليك فيكون الزوج شريكًا في الزيادةً فإن كانت متميزةً كالولد رجع بنصفه مع نصف الأم وإن كانت متصلةً كالسمن يملك نصفه زائدًا ولم يكن للزوجةً بهذه الزيادةً المتميزةً أن تمنعه من نصف الأصل. والثاني: أن تكون الزيادةً حادثةً بعد الطلاق وقبل اختيار الملك؛ ففيها قولان: أحدهما: أنها للزوجةً إذا قيل: إن الزوج لا يملك الصداق إلا باختيار التمليك بعد الطلاق فعلى هذا إن كانت الزيادةً متميزةً فجميعها للزوجةَ وله نصف الأصل لا غير، وإن كانت متصلةً كان لها الزيادةً أن تمنع الزوج من نصف الأصل وتعدل به إلى نصف القيمةَ. والثاني: أن الزيادةَ للزوج إذا قيل إنه قد ملك بنفس الطلاق نصف الصداق فإن كانت متميزةً كالولد فله نصفه ونصف الأصل وهل تكون حصته من الولد مضمونةً على الزوجةَ أم لا؟ على وجهين مخرجين من اختلاف قوليه في الولد إذا حدث في يد الزوج هل يكون مضمونًا عليه في حق الزوجة أم لا؟ على قولين: وإن كانت الزيادةَ غير متميزةً كالسمن فهل تكون مضمونةً على الزوجةَ أم لا؟ على هذين الوجهين: أحدهما: أنها مضمونةً عليها فإن تلف الصداق ضمنت نصف قيمته بزيادةً، وإن تلفت الزيادةَ بأن ذهب السمن ضمنت قدر نقصه. والثاني: أنها غير مضمونةً على الزوجةَ فإن تلف الصداق ضمنت نصف قيمته قبل الزيادة، وإن زال السمن لم تضمنه قدر نقصه. والقسم الرابع: أن يكون الصداق قد نقص فهذا على ضرين: أحدهما: له ذلك وقد استوي بها جميعه حقه. والثاني: له أن يأخذ نصفها ويرجع بنصف قيمتهُ التالفة. ولو كانتا متفاضلتي القيمة: لم يتملك من الباقيةً إلا نصفها وكان له نصف قيمةُ التالفةً. وهل يتعين في نصف الباقيةَ حتى يأخذه بالتقويم أم لا؟ على وجهين: أحدهما: قد تعين فيه إذا قيل: إنه لو تساوى أخذ الجمع. والثاني: وهو الأصح لا يتمن فيه وهو ملكها ولها أن تعطيه قيمةً نصف التالفةً من آي أموالها شاءت إذا قيل لو تساوى لم يأخذ من الباقيةً إلا النصف. والثاني: أن يكون النقصان غير متميز كالعمى والهزال فيكون حقه في نصف القيمةَ

ولا يلزمه أن يأخذ نصف الصداق ناقصا كما لو يلزمها أن تعطيه نصفه زائدًا. فإن رضي أن يأخذ نصفه ناقصًا فهل يجبر على ذلك أم لا؟ على وجهين كما مضى في الزيادةً المتصلةً إذا بذلتها الزوجةً. فإن قيل: فهلا أسقطتم خيار الزوج إذا وجد الصداق ناقصًا وجعلتم له أن يأخذ الصداق بنقصه ويأخذ معه أرش نقصه، كما جعلتم للزوجة إذا وجدته ناقصا في يده أن تأخذه ناقصًا وأرش نقصه. قلنا: الفرق بينهما هو أن الصداق في يد الزوج ملك للزوجةً فضمن نقصانه لها فلذلك غرم أرش نقصه وليس كذلك الزوجةً لأن الصداق في يدها ملك لنفسها فلم تضمن نقصانه للزوج فلذلك لم تغرم له أرش نقصه واستحق به مجرد الخيار بي الرضا النقص أو الفسخ. والقسم الخامس: أن يكون الصداق قد زاد من وجه ونقص من وجه فهذا على أربعةَ أضرب: أحدها: أن تكون الزيادةً متميزةً والنقصان متميزًا كأمتين ماتت أحدهما وولدت الأخرى فالولد لها لا حق فيه للزوج ويكون الحكم فيه كما لو نقص نقصانًا متميزًا. والثاني: أن تكون الزيادةُ غير متميزةُ والنقصان غير متميز كأمة بصيرةً مريضةً فبرأت وعميت فبرؤها زيادةً لا تتميز وعماها نقصان لا يتميز فلا يلزم الزوج أن يأخذ نصفها لأجل النقصان ولا يلزم الزوجةً أن تبذل نصفها لأجل الزيادةً وأيهما دعا إلى نصف القيمةَ كان القول قوله وجهًا واحداً فإن تراضيا على أخذ النصف بالزيادة والنقص جاز. والثالث: أن تكون الزيادةً متميزةً والنقصان غير متميز: كأمةً ولدت ومرضت فلا حق له في الولد ويكون كالكلام في النقصان المنفرد إذا لم يتميز فيكون حق الزوج في نصف القيمة. فإن رضي بنصفها ناقصةً ففي إجبار الزوج عليه وجهان. والضرب الرابع: أن تكون الزيادةَ غير متميزةً والنقصان متميزًا كأمتين مريضتين برأت إحداهما وماتت الأخرى فحقه في نصف القيمةً فإن بذلت له الباقيةً بزيادتها لم يجبر على قبول نصفها لأنه عوض من قيمةُ التالفةً ولا يلزمه المعاوضةً إلا عن مراضاة وهل يجبر على قبول النصف الآخر في حقه منه أم على الوجهين. فهذا جميع ما اشتملت عليه أقسام المسألةً. فصل: فأما قول الشافعي: لو أصدقها أمةً وعبدًا أعميين فأبصرا فهذا زيادةً لا تتميز فيكون على ما تقدم من حكمهما. وأما قوله: ولو كانا صغيرين فكبرا فإن الكبر معتبر فإن كان مقارنًا بحال الصغر ومنافع الصغر فيه موجودةً فهذه زيادةً لا تتميز فيكون على ما مضى وإن كان كبرا بعيدًا

يزول عنه منافع الصغير في الحركةَ والسرعةً وقلةُ الحسن ففيه زياد ونقص لا يتميزان فيكون على ما مضى. وجميع المسائل الواردةً فليس يخرج عما ذكرناه من الأقسام، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "وَهَذَا كُلَّه مَا لَمْ يُقَضْ لَهُ الْقَاضِي بِنُصْفِهُ فَتَكَوُّنَ هِي حينئذ ضَامِنَةً لَمَّا أَصَابَهُ فِي يَدِيِهَا". قال في الحاوي: اختلف أصحابنا فيما أراده الشافعي بقوله: "هذا كله ما لم يقض القاضي له بنصفه" على وجهين: أحدهما: وهو قول آبي العباس بن سريج: أن مراد الشافعي بذلك ما تقدم من نماء الصداق قبل الطلاق أنه للزوجةً بأسره ما لم يترافعا إلى قاضي مالكي فيقضي للزوج بنصف النماء فيصير الزوج مالكًا لنصفه بقضاء القاضي المالكي لأنه حكم نفذ باجتهاد سائغ. ويكون معنى قوله: "فتكون حينئذٍ ضامنةً لنصفه" يعنى لنصف النماء إذا طلبه منها فمنعته فتصير بالمنع ضامنةً فأما أصل الصداق فلا يفتقر تملك الزوج لنصفه بالطلاق إلى قضاء قاض لا عند الشافعي ولا عند مالك سواء قيل إنه يملك بنفس الطلاق أو باختيار التملك بعد الطلاق. والثاني: قول أبي إسحاق المروري وجمهور أصحابنا: أن كلام الشافعي راجع إلى أصل الصداق إذا حدث فيه زيادةً أو نقصان فاختلفا في نصف القيمةً أو في نصف العين فإن اختلافهما فيه على ما مضى بيانه إلا أن يقضي القاضي له بنصف العين فينقطع الخلاف بينهما يحكمه ويصير له نصف الصداق لأن الصداق إذا كان باقيًا بحاله لم يزد ولم ينقص فليس بينهما اختلاف مؤثر ولا لحكم الحاكم في تملك الزوج لنصفه تأثير. فإذا حدث فيه زيادةً أو نقصان صار الخلاف بينهما في نصف العين آو نصف القيمة مؤثرًا وصار لحكم الحاكم تأثير في تملك الزوج لنقصه يكون معنى قول الشافعي: تكون حينئذ ضامنة كما أصابه في يدها يعنى: لنقصان الصداق بعد أن نقضى له القاضي بنصفه. لأنه قبل القضاء لم يملكه الزوج فلم تضمن الزوجةً نقصه وبعد القضاء قد ملكه ضمنت نقصه ما لم يكن منها تسليم ولا تمكين لأنه في يدها عن معاوضةً كالمقبوض سومًا فإن سلمته وعاد إليها أمانةً لم تضمنه وإن لم تسلمه ولكن مكنته منه ففي وجوب ضمانها لنقصه وجهان مضيا. فلو اختلفا في النقص فقال الزوج: هو حادث في يدك فعليك ضمانه وقالت

الزوجة: بل هو متقدم فليس على ضمانه فالقول قولها مع يمينها لأنها منكرة والأصل براءة ذمتها مع احتمال الأمرين: فأما الزيادة فما تقدمت ملك الزوج لنصف الصداق فجميعها للزوجة وما حدث بعده فهو بينهما وهل تكون الزوجة ضامنة له أم لا؟ على ما ذكرنا من الوجهين. فلو اختلفنا فيها فقال الزوج: هي حادثة بعد أن ملكت نصف الصداق فنصفها لي وقالت الزوجة بل هي متقدمة قبل ذلك فجميعها لي فالقول قول الزوجة بل هي متقدمة قبل ذلك فجميعها لي فالقول قول الزوجة مع يمينها لأن الزيادة في يدها. والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيّ: "فَإِنْ طَلَّقَهَا وَالنَّخْلُ مُطَلِعَةٌ فَأَرَادَ أَخْذَ نِصْفِهَا بِالطَّلْعِ لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ وَكَانَتْ كَالْجَارِيَةِ الحُبْلَى والشَّاة المَاخِضِ وَمُخَالِفَةٌ لَهُمَا فِي أَنَّ الاطِّلاَعِ لاَ يَكُونُ مُغَيِّرَا للِنَّخْلِ عَنْ حَالهَا فَإِنْ شَاءَتْ أَنْ تَدْفَعَ إِلَيْهِ نِصْفَهَا فَلَيْسَ لَهُ إِلاَّ ذَلِكَ ". قال في الحاوي: وصورتها: في رجل أصدق امرأة نخلاً وطلقها قبل الدخول وقد أثمرت فالثمرة زيادة اختلف أصحابنا فيها هل تجري في الصداق مجرى الزيادة المتميزة أم لا؟ على ثلاثة أوجه: أحدها: أنها زيادة متميزة كالود سواء كانت مؤبرة أو غير مؤبرة لإمكان قطعها عن الأصل وجواز إقرارها بالعقد. والثاني: أنها زيادة غير متميزة في حكم الصداق سواء كانت مؤبرة أو غير مؤبرة لاتصالها بالأصل فجرت مجرى الحمل. والثالث: أنها إن كانت مؤبرة فهي متميزة كالولد لأنها لا تتبع الأصل في البيع وإن كانت في طلعها غير مؤبرة فهي غير متميزة كالحمل لأنها تتبع الأصل في البيع. فإذا تقررت هذه الوجوه الثلاثة فالثمرة للزوجة على جميع أحوالها بحدوثها في ملكها ولها استيفاء النخل على ملكها لاستطلاع ثمرتها وتكاملها ويصير حق الزوج في قيمة النخل فيدفع إليه نصف قيمتها أقل ما كانت النخل فيمة من حين أصدق إلى أن أسلم. أحوال بذل المرأة نصف النخل المثمر لزوجها فإذا كان كذلك فلها أربعة أحوال: الأولى: أن تبذل له نصف النخل مع نصف الثمرة. فإن قبلها جاز ثم ينظر فإن جعلنا الثمرة زائدة غير متميزة كان بذل الزوجة لها عفوًا عنها فلا يراعي فيه لفظ الهبة ولا القبض. وإن جعلناها زيادة متميزة فهل يجري عليها حكم العفو أو حكم الهبة على وجهين:

أحدهما: حكم الهبة ولا تتم إلا بالقبض لأنها بالتمييز كالولد الذي لو بذلت نصفه للزوج مع نصف أمه كانت هبة لا تتم إلا بالقبض. والثاني: أنه يجري عليها حكم العفو وتتم بغير قبض بخلاف الولد لأن المقصود ببذلها إيصال الزوج إلى قه من النخل الذي لا يقدر عليه إلا بها وخالف الولد لأنه يقدر على الرجوع بالأم دونه. وإن امتنع الزوج من قبول الثمرة ففي إجباره على القبول ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه يجبر على القبول سواء قيل إن الثمرة متميزة أو غير متميزة لأنه منع من النخل من حق الزوجية لدفع الضرر عنها في الثمرة فإذا صارت إليه فلا ضرر عليها. والثاني: أنه لا يجبر على القبول سواء قيل إن الثمرة زائدة متميزة أو غير متميزة لأن حقه صار في القيمة فلم يكن لها أن تعدل به إلى العين. والثالث: وهو الأصح أن إجباره معتبر بحكم الثمرة. فإن قيل: إنها زيادة متميزة لم يجبر على القول كالولد وله أن يعدل إلى نصف قيمة النخل. وإن قيل: إنها زيادة غير متميزة كالسمن أجبر على القبول ولم يكن له أن يعدل إلى نصف القيمة. فصل: والحالة الثانية: أن تبذل له نصف النخل دون الثمرة فإن قيل ذلك منها جاز وعليه ترك الثمرة على النخل إلى تكامل صلاحها وإن امتنع من القبول: لم يجبر عليه تعليلاً لأمرين: أحدهما: دخول الضرر عليه باستيفاء الثمرة على نخله. والثاني: أن حقه قد صار في القيمة فلم يعدل به إلى غيره. وقال المزني: حق في نصف النخل يرجع بها وعليه ترك الثمرة إلى أوان جذاذها كالمشتري. وهذا الجمع غير صحيح لوضوح الفرق بينهما وهو أن الشراء عقد مراضاة فلذلك أقر على ما تراضيا ب من استيفاء الثمرة على نخل المشتري لرضاه بدخول الضرر عليه وملك الصداق عن طلاق لا مرضاة فيه فاقتضى المنع من دخول الضرر على كل واحد منهما. وجمع بينهما في نفي الضرر عنهما فلو طلب الزوج أن يرجع بنصف النخل في الحال على أن يترك الثمرة عليها إلى تكامل الصلاح ففي إجبارها على ذلك وجهان: أحدهما: لا تجبر عليه تعليلاً بأن حقه قد صار في القيمة. والثاني: تجبر عليه تعليلاَ بزوال الضرر عنها ولحوقه بالزوج الراضي به.

فصل: والحالة الثالثة: أن تبذل له قطع الثمرة وتسليم نصف النخل: فإن كان تعجيل قطعها مضرًا بالنحل: لم يجبر على القبول. وإن كان غير مضر: فما لم تبادر إلى القطع لم يجبر على القبول وإن بادرت إلى القطع ففي إجباره وجهان: أحدهما: لا يجبر تعليلاً بأن حقه قد صار في القيمة. والثاني: يجبر تعليلاً بزوال الضرر عنه في الأصل. ولو طلب الزوج منها أن تقطع الثمرة وتعطيه نصف النخل لم تجبر الزوجة عليها وجهًا واحدًا لما فيه من دخول الضرر عليها. فصل: والحالة الرابعة: أن تدعوه إلى الصبر عليها إلى أن تتكامل صلاح الثمرة ثم تعطيه بعد جذاذها نصف النخل فلا يلزمه ذلك ولا يجبر عليه تعليلاً بأمرين: أحدهما: أن حقه في القيمة فلم يلزمه العدول عنها. والثاني: دخول الضرر عليه في تأخير ما استحق تعجيله. ولو كان هو الداعي لها إلى الإنظار بالنخل إلى أوان الجذاذ ثم الرجوع بها لم يلزمها ذلك ولا تجبر عليه تعليلاً بأمرين: أحدهما: أن حقه قد صار في القيمة فلم يلزمها العدول عنها. والثاني: دخول الضرر عليها ببقاء الحق في ذمتها وأيهما دعا إلى القيمة أجيب غليها. فصل: فأما ما جعله الشافعي رحمه الله مثالاً للنخل إذا أثمرت من الجارية الحاصل والشاة الماخص وجمعه بينهما من وجه وتفريق بينهما من آخر فتوضح من حكمها ما بين به موضع الجمع وموضع الفرق. أما الجارية إذا كانت صداقًا فحملت في يد الزوج فالحمل فيها زيادة من وج ونقصان من وجه. أما زيادتها فالولد وأما نقصانها فبالخوف عليها عند الولادة فإن بذلتها الزوجة لم يلزم الزوج قبولها لأجل النقص وإن طلبها الزوج لم يلزم الزوجة بذلها لأجل الزيادة وأيهما دعا إلى القيمة أجيب فتكون موافقة للثمرة في الزيادة ومخالفة لها في النقصان. وأما الشاة إذا كانت صداقًا فحملت بالحمل فيها زيادة من وجه واختلف أصحابنا هل يكون نقصُا فيها من وجه آخر أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا يكون نقصًا في البهائم ويكون زيادة محضة وإن كانت في الآدميات

نقصًا وزيادة لأن حال الولادة مخوف في الآدميات وغير مخوف في البهائم. فذلك كان نقصاف في الآدميات ولم يكن نقصًا في البهائم. فعلى هذا: إذا بذلتها الزوجة أجبر الزوج على قبولها في أصح الوجهين فتكون موافقة للثمرة في الزيادة وغير مخالفة لها في النقصان. والثاني: أن الحمل في البهائم نقص أيضًا وإن أمن عليها عند الولادة لأن الحمل قد أحدث نقصًا في اللحم فصار نقص اللحم نقصًا فيها وإن لم يخف عليها في ولادتها. فعلى هذا إن بذلتها الزوجة لم يجبر الزوج على قبولها لأجل النقص فإن طلبها الزوج لم تجبر الزوجة على قبولها لأجل الزيادة وأيهما دعا إلى القيمة أجيب. فتكون على هذا موافقة للثمرة في الزيادة ومخالفة لها في النقصان. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيّ: "وَكَذَلِكَ كُلَّ شَجَر إِلاَّ أَنْ يَرْقُلَ الشَّجَرُ فَيَصسرُ قَحَامَا فَلاَ يَلْزَمَهُ وَلَيْسَ بَهَا تَرْكُ الثَّمَرَةِ عَلَى أَنْ تَسْتَجْنِيهَا ثُمَّ تَدْفَعَ إِلَيْهِ نِصْفَ الشَّجَرِ لاَ يَكُونُ حَقُّهُ مُعَجَّلاً فَتُؤَخّرَهُ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ وَلَوْ أَرَادَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا إِلَى أَنْ تَجِدَ الثَّمَرَةَ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عَلَيْهَا وَذَبِكَ أَنْ النَّخْلَ وَالشَّجَرَ يَزيدَانِ إِلَى الجدَادِ وَأَنَّهُ لَمَّا طَلَّقَهَا وَفيهَا الزِّيَادَةُ كَانَ مُحَوَّلاً دُونَهَا وَكَانَتْ هِيَ المَالِكَةَ دُونَهُ وَحَقُّهُ فِي قِمَتِهِ. قَالَ المُزَنِيُّ: لَيْسَ هَذَا عِنْدِيِ بِشْئٍ؛ لأّنَّهُ يُجِيزُ بَيْعَ النَّخْلِ قَدْ أبَّرَتْ فَيَكُونُ ثَمَرُهَا للِبَائِع حَتَّى يَسْتَجْنِيهَا مُعَجَّلةٌ وَلَوْ كَانَتْ مُؤَجَّرَةٌ مَا جَازَ بَيْعُ عَيْنُ مُؤَخَّرَةٌ فَلَمَّا جَازَتْ مُعَجَّلةَّ وَالثَّمَرُ فِيهَا جَازَ رَدُّ نِصْفِهَا لِلزَّوْج مُعَجِّلاً وَالثَّمَرُ فِيهَا وَكَانَ رَدُّ النِّصْفِ فِي ذَلِكَ أَحَقَّ بِالجَوَازِ مِنَ الشِّرَاءِ فَإِذَا جَازَ فِي الشِّرَاءِ جَازَ فِي الرَّدِّ ". قال في الحاوي: إذا أصدقها شجرًا غير مثمر فطلقها وقد أثمر فالكلام في ثمر الشجر كالكلام في ثمر النخل في كونه مؤبرًا أو غير مؤبر على ما مضى. أما الشجر فهو على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يكون غراسًا مثمر فيصير شجرًا مثمرًا فهذه زيادة محضة فيكون حكمها حكم الزيادة التي لا تتميز فلا تجبر على بذلها وإن بذلتها ففي إجباره على قبولها وجهان: والثاني: أن يكون شجرًا مثمرًا متكاملاً فيرقل حتى يصير قحامًا. والإرقال: التناهي في الطول. والقحام: التناهي في العمر حتى قد ييأس سعفه ويخر جذعه فهذا نقصان محض لا يتميز ولا يجبر الزوج على قبوله وإن رضي به ففي إجباره الزوجة على بدل وجهان. والثالث: أن يكون غراسًا غير مثمر فيصير قحامًا غير مثمر فهذه زيادة من وجه

ونقصان من وجه فأيهما دعا إلى نصف القيمة أجيب. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيّ: "وَكَذَلِكَ الأَرْضُ تَزْرَعُهَا أَوْ تَغْرِسُهَا أو تَحْرِثُهَا. قَالَ المُزَنِيُّ: الزَّرْعُ مُضِرِّ بالأَرْضِ مُنْقِصٌ لَهَا وَإِنْ كَانَ لِحَصَادِهِ غَابَةٌ فَلٌهُ الخِيَارُ في قَبُولِ نِصْفِ الأرْضِ مُنْتَقِصَةً أَوْ القِيمَةِ وَالزَّرْعُ لَهَا وَلَيْسَ ثَمْرُ النَّخُلِ مَضِرًا بِهَا فَلَهُ نِصْفُ النَّخْلِ وَالثَّمَرُ لَهَا وَأَمَّا الغِرَاسُ فَلَيْسَ بِشَبِيهٍ لَهُمَا؛ لأنَّ لَهُمَا غَايَةُ يُفَارِقَانِ فيهَا مَكَانَهُمَا مِنْ جِدَادٍ وَحَصَادٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ الغِرَاسُ؛ لأَنُّهُ ثَابِتٌ فِي الأَرْضِ فَلَهُ نِصْفُ قِيمَتِهَا، وَأَمَّا الحَرْثُ فَزيَادَةٌ لَهَا فَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تُعِطيَهُ نِصْفض مَا زَادَ فِي مِلْكِهَا إِلاَّ أَنْ تَشَاءَ وَهَذَا عِنْدِيِ أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ وَبِاللهِ التَّوْفِيقُ ". قال في الحاوي: عطف الشافعي بزرع الأرض وغرسها وحرثها على ما قدمه من عقد الباب وبيان أحكام الزيادة والنقصان فتوهم المزني أنه عطف به على أطلاع النخل. ففرق بين الزرع والغرس وبين أطلاع النخل فأخطأ في توهمه وقارب الصحة في فرق. وحكم الأرض تختلف في زرعها وغرسها ورثها. أما حرثها: فهو فيها زيادة محضة غير متميزة فلا يلزم الزوجة بذلها فإن بذلتها أجبر الزوج على قبولها في أصح الوجهين. وأما الغرس في الأرض فهو زيادة من وج ونقصان من وج لأن عين الغرس زيادة وضرر في الأرض نقصان. فأما النقصان: فغير متميز وأما الزيادة: ففيها وجهان: أحدهما: أنها متميزة لأنها مستودعة في الأرض. والثاني: أنها كالمتصلة لأنها صارت تبعًا فإن بذلتها الزوجة بغرسها لم يجبر الزوج على القبول لأجل النقص وإن رضي الزوج بها لم تجبر الزوجة على بذلها لأجل الزيادة وأيهما دعا إلى نصف القيمة أجسي. وأما الزرع في الأرض فهو زيادة متميزة واختلف أصحابنا هل يكون نقصًا في الأرض أم لا؟ على وجهين: أحدهما: أنه يكون نقصًا فيها الغراس ومخالف لأطلاع النخل لأن أطلاع النخل من ذاته ولا يمكن أن ينتفع بالنخل قبل وقت أطلاعه وزرع الأرض من فعل الآدميين وقد كان يمكن أن ينتفع بها من غير الزرع وفي غير ذلك من الزرع فافترقا. والثاني: وهو قول المزني أنه ليس بنقص في الأرض لأن وقت الزرع إذا انقضى

فليس يمكن أن يستأنف زرعها والأغلب من أرض الزرع أن لا منفعة فيا إلا بزرعها فصارت بأطلاعها أشبه فإذا تقرر هذان الوجهان. فإن جعلنا الزرع زيادة ولم نجعله نقصًا فحكم الأرض إذا زرعت مثل حكم النخل إذ أطلعت وقلنا: إن الثمرة زيادة متميزة لأن الزرع زيادة متميزة فيكون على ما مضى من الأقسام والأحكام. وإن جعلنا الزرع زيادة ونقصًا كان في حكم الغرس لا يجبر واحد منهما على الأرض وأيهما دعا إلى القيمة أجيب. وإن جعلنا الزرع زيادة ونقصًا كان في حكم الغرس لا يجبر واحد منهما على الأرض وأيهما دعا إلى القيمة أجيب. فإن بادرت الزوجة إلى قلع الزرع ففي إجبار الزوج على قبول الأرض إذا لم يضر بها قلع الزرع وجهان كما لو بادرت إلى قطع الثمرة عن النخل ولكن لو طلقها بعد حصاد الزرع أجبر على القبول وأجبرت على الدفع وأيهما دعا إلى نصف الأرض أجيب لتعين الحق فيها وقت الطلاق، وهكذا لو كان الزرع وقت الطلاق وقد استحصد ولم يحصد فليس له إلا نصف الأرض ما لم تنقص الأرض بالزرع وقت الطلاق وقد استحصد ولم يحصد فليس له إلا نصف الأرض ما لم تنقص الأرض بالزرع وتجبر الزوجة على الحصاد وهكذا الثمرة إذا استجدت على رؤوس نخلا أخذت الزوجة بجذاذها ورجع الزوج بنصفها. والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيّ: "وَلَوْ وَلَدَتِ الأَمَةُ فِي يَدَيْهِ أَوْ نَتَجَتِ المَاشيَةُ فَنَقَصَتْ عَنْ حَالِهَا كَانَ الْوَلَدُ لَهَا دُونَهُ؛ لأَنَّهُ حَدَثَ في ملْكِهَا فَإِنْ شَاءَتْ أّخذَتْ أَنْصَافِهَا نَاقِصَةً، وَإنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ أَنْصَافَ قيِمَتهَا يَوْمَ أَصْدَقَهَا. قَالَ المُزَنِيُّ: هَذَا قيَاسَ فِي قَوْلِهِ فِي أَوَّلِ بَابِ مَا جَاءَ فِي الضَّدَاقِ فِي كِتَابِ الأُمّ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَهَذَا خَطَأً عَلَى أصْلِهِ ". قال في الحاوي: وصورتها: في رجل أصدق امرأته جارية أو ماشية فزادت في يده بحمل أو ولد ثم طلق قبل الدخول فقد دخل جكمه في أقسام ما قدمناه ونحن نشير إليه ونذكر ما تعلق ب من زيادة ونقتصر على ذكر الجارية فإن فيها بيان الماشية. وأحوال الجارية ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون وقت الصداق حابلاً فتحمل في يده بمملوك وتلد ثم تطلق. والثاني: أن تكون حاملاً فتحبل ثم تطلق قبل أن تضع. والثالث: أن تكون حاملاً ثم تلد ثم تطلق. فأما القسم الأول: وهو أن تكون حاملاً فتحبل وتلد ثم تطلق فلا يخلو حالها وحال ولدها من أربعة أقسام:

أحدها: أن يكونا باقيين: والثاني: تالفين. والثالث: أن تكون الأم باقية والولد تالفًا. والرابع: أن تكون الأم تالفة والولد باقيًا. فأما الأول: إذا كانا باقيين فالولد للزوجة لحدوثه في ملكها وتكون ولادته قبل القبض كولادته بعد القبض في أن لا حق فيه للزوج وكذلك الكسب. وقال مالك: يكون للزوج نصف الولد ونصف الكسب قبل القبض وبعده. وقال أبو حنيفة: لا حق للزوج فيما حدث بعد القبض ومن ولد وله فيما حدث في يده قبل القبض نصف الولد دون الكسب. استدلالاً بأنه قبل القبض مستحق التسليم بالعقد كالأم فوجب أن يرجع بنصفه كرجوعه بنصف الأم. ودليلنا قول الله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] فلم يوجب الرجوع إلا بنصف المفروض وليس الولد مفروضًا. ولأنه نماء حدث في ملكها فلم يستحق الزوج بطلاقه شيئًا من كالحادث بعد القبض ولأن ما لم يملكه بالطلاق إذا حدث بعد القبض لم يملكه بالطلاق إذا حدث قبل القبض كالكسب. وبالكسب ينتقص قياسهم مع أننا لا نقول إنه تسليم يستحق بالعقد ولكن بالملك فإذا ثبت أن لا حق له في الولد فللأم ثلاثة أحوال: أحدهما: أن تكون بحالها لم تزد ولم تنقص فيكون للزوج نصفها بالطلاق قبل الدخول ولها النصف ولا خيار لواحد منهما. والثانية: أن تكون قد زادت فلها منع الزوج منها لحدوث الزيادة على ملكها وتعدل به إلى نصف القيمة فإن بذلت ل نصفها زائدة أجبر على القبول في أصح الوجهين: والثالثة: أن تكون ناقصة فلها الخيار بين المقام والفسخ فإن أقامت أخذت النصف ناقصًا وأخذ الزوج نصفها ناقصًا ولم يكن له خيار لحدوث النقصان في يده ودخوله في ضمانه. وإن فسخت فالولد لها لأن الفسخ في الأصل مع بقائه قطع للعقد فيه وليس يرفع له من أصله. وبماذا ترجع عليه على قولين: أحدهما: بالجارية وأرش النقص فيكون الفسخ مفيدًا استحقاق الأرش وهذا على القول الذي يوجب قيمة الصداق عند تلفه. والثاني: أنها ترجع بمهر المثل وهذا على القول الذي يوجب مهر المثل عند تلف الصداق.

وأما القسم الثاني: وهو أن تتلف الأم والولد معًا في يد الزوج. فالأم مضمونة علي وبماذا يضمنها فيه قولان: أحدهما: وهو قوله في الجديد أن يضمنها بمهر المثل فعلى هذا يكون جميعه عليه إن طلق بعد الدخول ونصفه إن طلق قبله. والثاني: وهو قوله في القديم يضمنها بقيمتها وفي اعتبار القيمة قولان: أحدهما: يوم أصدق تغليبًا لضمان العقد. والثاني: يلزمه قيمتها أكثر ما كانت قيمة من وقت الصداق إلى وقت التلف اعتبارًا بضمان الغضب. فأما الولد: فحكمه بعد التلف معتبر بحكمه لو كان حيًا على ما سنذكره فإن لم نجعله لها لو كان حيًا لم يلزم الزوج له عزم بتلفه. وإن جعلناه لها لو كان حيًا ففي ضمانه على الزوج قولان: أحدهما: أنه مضمون عليه لأنه ولد أم مضمونة فصار مضمونًا كولد المغصوبة. والثاني: لا يضمنه لأن العقد لم يتضمنه وخالف ولد المغصوبة لأنه غير معقد فيه. وأما القسم الثالث: وهو أن تكون الأم باقية والولد تالفًا فلها جميع الأم إن طلقت بعد الدخول ونصفها إن طلقت قبله. والكلام فيما حدث فيها من زيادة أو نقصان على ما مضى. وأما الولد فجميعه لها: وهل يضمنه الزوج بالتلف أم لا؟ على قولين: أحدهما: يضمنه فيلزمه قيمته أكثر ما كان قيمة من وقت ولادته إلى وقت تلفه. والثاني لا ضمان عليه لأنه كالأمانة في يده إلا أن تطلبه منه فيمنعها فيضمنه كالودائع. وأما القسم الرابع: وهو أن تكون الأم تالفة والود باقيًا ففيما ترجع عليه في بدل الأم قولان: أحدهما: قيمتها وفي اعتبار قيمتها قولان: أحدهما: قيمته وقت العقد. والثاني: أكثر ما كان قيمة من وقت العقد إلى وقت التلف فعلى هذا يكون الولد لها. والقول الثاني: ترجع عليه بمهر مثلها فعلى هذا في الولد وجهان: أحدهما: أنه يكون للزوجة أيضًا لحدوثه في ملكها. والثاني: يكون للزوج لأنه رفع للعقد من أصل فصارت غير مالكة لأمه. فصل: وأما القسم الثاني من أقسام الأصل وهو أن تكون الجارية حاملاً وقت الطلاق فالحمل فيها زيادة من وجه ونقصان من وجه.

فإن كان الطلاق بعد الدخول كانت مخيرة بين أمرين: إما أن تسمح فتأخذها بزيادتها ونقصها. وإما أن تفسخ وبماذا ترجع؟ على قولين: أحدهما: بالجارية حاملاً وأرش ما نقصتها الولادة ولا تجبر نقصان الولادة بزيادة الحمل وهذا على قوله في القديم. والثاني: ترجع بمهر المثل. وإن كان الطلاق قيل الدخول: كانت مخيرة بين ثلاثة أمور: إما أن تأخذ الكل وتعطي نصف القيمة أقل ما كانت من وقت العقد إلى وقت القبض لأن لها زيادة تستحق بملكها. وإما أن تأخذ نصفها وتعطيه نصفها زائدة ناقصة فيلزمه قبولها. وإن النقصان مضمون عليه والزيادة مبذولة له. وإما أن تفسخ في الكل وبماذا ترجع على قولين: أحدهما: وهو القديم ترجع بنصفها ونصف أرش النقصان. والثاني: وهو الجديد بنصف مهر المثل. فصل: وأما القسم الثالث: من أقسام الأصل وهو أن تكون حاملاً وقت الصداق وقد وضعت حملها وقت الطلاق فحكمه مبني على اختلاف قول الشافعي في الحمل هل له حكم يتميز به أن يكون تبعًا؟ فيه فولان: أحدهما: أن يكون تبعًا لا يتميز بحكم فعلى هذا إذا طلقها قبل الدخول كان لها جميع الولد وهل يصير مستهلكًا في حق الزوج أم لا؟ على وجهين: أحدهما: أنه يصير مستهلكًا في حقه وإن كانت الأم زائدة به وقت حمله ويكون كالسمن إذا زال بالهزال ويصير الولد كاالنماء الحادث على ملكها ابتداء وانتهاء. والثاني: أنه لا يستهلك على الزوج حق من الزيادة بحملها بخلاف ذهاب السمن بالهزال لأن السمن هلك في يده فصار مستهلكًا عليه وليس الولد كذلك لأن زيادته حملاً قد تمت وتكاملت فلم يجز أن يستهلك على الزوج وقد صارت متكاملة للزوجة. وإذا كان هذا وجب أن يعتبر ما بين قيمتها وقت العقد حاملاً وحابلاً فما كان بينهما من فصل رجع الزوج بنصفه على الزوجة مع نصف الأم وصار جميع الولد مع نصف الأم للزوجة فإن بذلت له نصف الولد عما استحقه من نصف ما بين القيمتين فرض جاز وضارت الأم بينهما والولد بينهما وإن لم يرض به لم يجبر عليه وجهًا واحدًا لأنه عدول عن حقه إلى معاوضة لا يلزم إلا عن مراضاة.

وإن كان كذلك نظر: فإن أخذ الزوج نصف الولد مع نصف الأم أقرّ على ملكه الإجماع ملك الولد مع ملك الأم. وإن أخذ الزوج نصف الأم ولم يأخذ نصف الولد لم يجز أن يقر على ملك نصف الأم لأن فيه تفريقًا بين الأم وولدها في الملك. وهل تجبر الزوجة على إعطائه نصف قيمة الأم أم لا؟ على وجهين: أحدهما: تجبر على ذلك لما يلزمها من القيام بحضانة الولد. والثاني: أنها لا تجبر على ذلك ويقال لها: إن دفعت إلى الزوج نصف قيمة الأم أقر الولد والأم على ملكك وإن امتنعت: لم تجبري وبيعًا جميعًا عليك ودفع غلى الزوج من الثمن النصف فما قابل ثمن الأم وكان الباقي لك فهذا إذا قيل: إن الحمل تبع لا يتميز بحكم. والقول الثاني: في الحمل أن له حكمًا يتميز فعلى هذا تكون الأم والحمل صداقًا لكن الحمل قد زاد بالولادة على ملك الزوجة فلم يلزمها بدل الولد لدوث الزيادة فيه. فإن بذلك له نصف الولد مع نصف الأم أجبر على القبول في أصح الوجهين وإن امتنعت من بذل نصفه رجع بنصف الأم وفي كيفية ما يرجع به من قيمة نصف الحمل وجهان: أحدهما: يرجع بنصف ما بين قيمة أمه حاملاً وحابلاً ولا يقوم وقت الولادة لأنه قد زاد إلى وقت الولادة زيادة لا يملكها الزوج فدعت الضرورة إلى اعتبار ما بين القيمتين: والثاني: أنه يقوم الولد وقت الولادة ويرجع الزوج بنصف قيمته لأنه في وقت كونه حملاً لا يوصل إلى معرفة قيمته. فدعت الضرورة إلى اعتبار قيمته بعد الولادة وإن حدثت فيه زيادة لا يملكها كما يقوم على من تزوج أمه على أنها حرة فأولدها ولقد صار بالعلوق حرًا فيقوم بعد الولادة وإن كان قد صار بالعلوق حرًا وعند الولادة زائدًا لتعذر تقويمه حال العلوق كذلك هاهنا. فعلى هذا يمنع من الولد إلى نصف قيمته لأجل زيادت فإن بذلت له نصف الولد ففي إجباره وعلى قبوله وجهان: أحدهما: يجبر على قبوله ويقر الزوج على ملكه لاجتماعه مع الأم في الملك. والثاني: لا يجبر عليه ويطالب بتنصيف القيمة فإذا أخذ نصف قيمة الولد فله نصف الأم ما لم تزد ولم تنقص ولا يجوز التفرقة بين الولد وبين أمه في الملك. وهل تجبر الزوجة على دفع نصف قيمة الأم أو يباعان معًا؟ على ما مضى من الوجهين- والله أعلم.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَإِنْ أَصْدَقَهَا عَرَضًا بِعَيُنِهِ أَوْ عَبْدَا فَهَلِكَ قَبْلَ أَنْ يَدْفَعَهُ فَلَهَا قِمَتُهُ يَوْمَ وَقَعَ النّكَاحُ فَإِنْ طَلَبَتْهُ فَمَنَعَهَا فَهُوَ غَاضِبٌ وَعَلَيْه أَكْثَرُ مَا كَانَ قَيمَةٌ. قَالَ المُزَنِيُّ: قَدْ قَالَ فِي كِتَابِ الخُلْع: لَوْ أًصْدَقَهَا دَارًا فَاحْتَرقَتْ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَهَا كَانَ لَهَا الخِيَارُ فِي أَنْ تَرْجِعَ بِمَهْرِ مِثْلِهَا أَوْ تَكُونَ لَهَا العَرَصَةُ بِحِضَّنِهَا مِنَ المَهْرِ. وَقَالَ فِيهِ أَيْضًا: لّوْ خَلَعَهَا عضلَي عَبْدٍ بِعَيْنِهِ فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ تَقْبِضَهُ رَجَعَ عَلَيْهَا بِمَهْرِ مِثْلِهَا كَمَا يَرْجِعُ لَوْ اشْتَرَاهُ فِيهَا فَمَاتَ رَجَعَ بِالثَّمَنِ الَّذِي قَبْضَتْ. قَالَ المُزَنِيُّ: هَذَا أَشْبَهُ بَأَصْلِهِ؛ لأَنَُّ يَجْعَلُ بَدَلَ النّكَاح وَبَدَلَ الخُلْعِ فِي مَعْنَى بَدَلَ البَيْع المُسْتَهْلكِ، فَإِذَا بَطُلَ البَيْعُ قَبْلَ أَنْ يَقْيضَ وَقَدْ قَبَضَ البَدَلَ وَاسْتَهَلَكَ رَجَعَ بِقِيِمَةِ المُسْتَّهْلَكِ وَكَذَلِكَ النْكَاحُ وَالخُلْعِ إِذَا بَطُلَ بَدَلُهَا رَجَعَ بِقِيِمََتْهَا وَهُوَ مَهْرُ المَثْلِ كَالبَيْعِ المُسْتَّهْلَكِ ". قال في الحاوي: إذا كان الصداق معينًا من عروض أو حبوب كعبد أو بعير أو حنطة أو شعير فتلف في يد الزوج قبل قبضه ففي بطلان الصداق بتلفه وفيما يستحق الرجوع ب قولان: أحدهما: وهو قوله في القديم وبه قال أبو حنيفة: أن الصداق لا يبطل من العقد بتلفه في يد الزوج وأن لها أن ترجع علي بقيمت. ودليله شيئان: أحدهما: أن كل ما وجب تسليمه مع بقائه إذا هلك مضمونًا مع بقاء سبب استحقاقه يوجب ضمان قيمته كالمعصوب والعوادي. والثاني: أنه لما كان الصداق في مقابلة البضع وكان ملك الزوج على البضع مستقرًا قبل القبض ولا يفسد العقد عليه لو تلف وجب أن يكون ملك الزوجة للصداق مستقرًا قبل القبض ولا يفسد العقد عليه إن تلف. والقول الثاني: قاله في الجديد واختاره المزني: أن الصداق قد بطل من العقد بتلف قبل القبض ولها مهر المثل دون قيمته. ودليله شيئان: أحدهما: أن الصداق عوض تعين في عقد معاوضة فوجب أن يبطل بتلفه قبل القبض ويستحق الرجوع بالمعوض دون العوض كالبيع وهو أن يبيع الرجل عبدًا بثوب يسلمه ويتلف الثوب قبل أن يتسلمه فيكون له الرجوع بعبده لا بقيمة الثوب الذي في مقابلته كذلك تلك الصداق كان يقتضي تلفه الرجوع بالضبع الذي في مقابلته لكن لما تعذر الرجوع به للزوم العقد من وجب الرجوع ببدل وليس له مثل فوجب الرجوع بقيمته وقيمته مهر المثل.

والثاني: أنه لما كان بطلان الصداق بجهالته أو تحريمه يوجب الرجوع بمهر المثل دون القيمة وجب أن يكون بطلانه بالتلف بمثابته في الرجوع المثل دون قيمته. فصل: فإذا تقرر توجيه القولين: انتقل الكلام إلى التفريغ عليهما. فإذا قلنا بالقديم: إن الرجوع بالقيمة دون المهر: فله حالان: أحدهما: أن يمنعها منه بغير عذر حتى يتلف في يده فيكون علي قيمته أكثر ما كان قيمة من وقت المنع إلى وقت التلف إن لم يكن قيمته قبل ذلك أكثر لأنه بالمنع قد صار غاضبًا فوجب أن يضمنه ضمان الغضب. والثانية: أن لا يكون منه منع ولا منها طلب ففي كيفية ضمانه قولان: أحدهما: أنه يضمنه ضمان عقد. والثاني: ضمان غصب. فإذا قيل ضمان عقد: فعليه قيمته يوم أصدق. وقال أبو حامد الإسفراييني: عليه قيمته يوم تلف. وهذا خطأ؛ لأن نقصانه بعد العقد مضمون عليه فوجب أن تلزمه قيمته وقت العقد وإذا قيل: يضمنه ضمان العيب فعليه قيمته أكثر ما كانت من وقت العقد إلى وقت التلف في يديه. وهل يلزمه أكثر ما كانت قيمته في سوقه أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يضمنها كالمغصوب فعلى هذا يضمن زيادة البدن وزيادة السوق. والثاني: لا يضمنها لأنه غير متعد بالإمساك فكانت حالة أخف من الغاصب المتعدي فعلى هذا يضمن زيادة البدن ولا يضمن زيادة السوق. وإذا قلنا بقوله في الجديد: أن الرجوع يكون بمهر المثل فلتلفه أربعة أحوال: أحدها: أن يكون بحادث سماء فيبطل فيه الصداق ويستحق فيه مهر المثل. والثانية: أن تستهلكه الزوجة في يد الزوج فيكون ذلك قبضًا منها ولا نهرك كمن اشترى سلعة واستهلكها في يد بائعها كان استهلاك قبضًا. والثانية: أن يستهلكه أجنبي ففي بطلان الصداق فيه قولان مبنيان على اختلاف قوليه فيمن ابتاه عبدًا فقتله أجنبي في يد بائعه ففي بطلان البيع قولان: أحدهما: قد بطل. والثاني: أنه صحيح ومشتريه بالخيار. كذلك هاهنا لأنه مضمون على متلفه فيكون في بطلانه قولان: أحدهما: قد بطل ولها على الزوج مهر مثلا ويرجع الزوج على متلفه بالقيمة.

والقول الثاني: أنه لا يبطل وتكون الزوجة بحدوث النقص بتلفه مخيرة بين المقام والفسخ. فإن أقامت كانت لها قيمة الصداق ترجع به على من شاءت من الزوج أو المستهلك وإن فسخت رجعت على الزوج بمهر المثل ورجع الزوج على المستهلك بالقيمة. والحال الرابعة: أن يستهلكه الزوج فقد اختلف أصحابنا في استهلاكه هل يجري مجرى حادث سماء أو مجرى استهلاك أجنبي على وجهين: أحدهما: أنه يجري مجرى تلفه بحادث سماء فعلى هذا يبطل فيه الصداق ويلزمه مهر المثل. والثاني: أنه يجري مجرى استهلاك أجنبي فعلى هذا يبطل فيه الصداق أم لا؟ على ما ذكرنا من القولين: فصل: فأما المزني فإنه اختار قوله في الجديد أن تلف الصداق يوجب الرجوع بمهر المثل وهو اختيار أكثر أصحابنا. غير أنه استدل من مذهب الشافعي بما لا دليل فيه وهو أنه حكي عن الشافعي في كتاب الخلع أنه أصدقها دارًا فاحترقت قبل قبضها كان لها الخيار في أن ترجع بمهر مثلها أو تكون لا العرصة بحصتها من المهر. وهذا لا دليل فيه لن أحد قوليه وهو في القول الثاني ترجع بالقيمة. قال المزني: وقال فيه لو خالعها على عبد بعينه فمات قبل قبضه رجع عليها بمهر مثلها كما يرجع لو اشتراه منها فمات بالثمن الذي قبضت. وهذا أيضًا لا دليل في لأنه أحد قوليه ويرجع في القول الثاني بقيمته وليس تفريعه على أحد القولين إبطال للآخر. والشافعي غير جميع كتبه القديمة في الجديد وصنفها ثانية إلا الصداق فإنه لم يغيره في الجديد ولا أعاد تصنيفه وإنما ضرب على مواضع منه وزاد في مواضع والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ جَعَلَ ثَمَرَ النَّخْلِ فِي قَوَاريرَ وَجَعَلَ عَلَيْهَا صَفْرًا مِنْ صَقْرِ نَخْلِهَا كَانَ لَهَا أَخْذُهُ وَنَزْعُهُ مِنَ القَوَارِيرِ فَإِنْ كَانَ إِذَا نَزَعَ فَسَدَ وَلَمْ يَبْقَ فِيِهِ مِنْهُ شَيء يُنْتَفَعُ يِهِ كَانَ لَهَا الخِيَارُ فِي أَنْ تَأَخُذَهُ أَوْ تأَخُذَ مِنْهُ مِثْلَهُ صَفْرِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مِثْلٌ أَوْ قَيمَةٌ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ وَلَوْ رَبَّهُ بِرَبَّ مِنْ عِنْدِهِ كَانَ لَهَا الخِيَارُ فِي أَنْ تَأَخُذَهُ وَتَنْزَعَ مَا عَلَيْهِ مِنَ الرَّبُّ أَوْ تَأَخُذَ مِثْلَ إِذَا كَانَ خَرَجَ مِنَ الرَّبِّ لاَ يَبْقَى يَابِسًا بَقَاءَ الثَّمْرِ الَّذِي لَمْ (يُصبه)

الرَّبُّ أَوْ تَغَيَّرْ طَعْمُهُ ". قال في الحاوي: وصورتها في رجل أصدق امرأة نخلاً فأخذ ثمرة النخل فجذها وجعلها في قوارير وطرح عليها صقرًا. والصقر: وهو ما سال من دبس الرطب ما لم تمسه النار. والرطب هو: الدبس المطبوخ بالنار. فلا يخلو حال الثمرة من أحد أمرين: وإما أن تكون حادثة من النخل بعد الصداق أو متقدمة. فإن كانت حادثة بعد الصداق. فقد ملكتها لأنها نماء ملكها لأن عقد الصداق تضمنها فيكون تصرف الزوج فيها تصرقًا في غير الصداق من أموالها. وإذا كان كذلك فالصقر على ضربين: أحدهما: أن يكون من جملة الثمرة. والثاني: أن يكون للزوج. فإن كان الصقر من جملة الثمرة فلا يخلو الصقر والثمرة من أربعة: إحداهن: أن لا ينقص الصقر ولا الثمرة بالإختلاط. الثانية: أن ينقصا معًا بالإختلاط. الثالثة: أن ينقص الصقر دون الثمرة. الرابعة: أن تنقص الثمرة دون الصقر. فإن لم ينقص الصقر بطرحه على الثمرة ولا نقصت الثمرة بطرحها في الصقر فلا ضمان على الزوج فيهما، لأنه وإن تعدى فليس لعدوانه أرش يضمن كما لو كان غاصبًا وليس بزوج. فإن زادت قيمتها بالعمل فالزيادة للزوجة دون الزوج ولا أجرة للزوج في عمله لأنه تبرع به وتعدى فيه. وإن نقص الصقر بطرحه على الثمرة ونقصت الثمرة بطرحها في الصقر فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون قد تناي نقصهما واستقر فللزوجة أن تأخذهما وترجع على الزوج بأرش نقصانهما ولا خيار لها في الصقر والثمرة لأنه نقص في مغصوب قد جبر بالأرش. والثاني: أن يكون نقصهما لم يثناه ولم يستقر كلما مر عليهما وقت بعد وقت حدث فيهما نقص بعد نقص ففيه قولان كالغاصب للطعام إذا بله وكان نقصه لا يتناهى فهو على قولين كذلك هذا.

أحدهما: وهو الظاهر من منصوص الشافعي: أنه يصير كالمستهلك فيكون للزوجة أن تطالبه بمثل الثمرة إن كانت ثمرًا له مثل وبمثل الصقر إن كان سيلانًا لم تمسه النار ولا خالطه الماء وإن لم يكن لهما مثل لأن الثمرة كانت رطبًا والصقر قد مسته النار أو خالطه الماء فلها الرجوع بقيمة الصقر وقيمة الثمر. وإن كان لأحدهما مثل وليس للآخر مثل رجعت بمثل ذي المثل وقيمة غير ذي المثل فلو رضيت الزوجة بنقصان ثمرتها وصقرها أقرت عليها ولم ترجع ببدلهما. والثاني: وهو تخريج الربيع وهو أصح القولين عندي: إنهما لا يصيران مع بقاء العين مستهلكين وما يحدث من النقصان فيما بعد فمظنون يجوز وربما أرادت الزوجة أكل ذلك واستهلاكه قبل نقصانه. وإذا كان كذلك رجعت بأرش نقصها في الحال ثم كلما حدث فيهما نقص رجعت بأرشه وقتًا بعد وقت. فإن أخذت منه أرش نقصهما في الحال وأبرأته في أرش نقصهما في ثاني حال ففي صحة براءته منه وجهان: أحدهما: لا يصح لأنه أبرأ مما لم يجب. والثاني: يصح ويكون الإبراء كالإذن. وهذان الوجهان من اختلاف وجهي أصحابنا فيمن حفر بئرًا في أرض لا يملكها فأبرأه المالك من ضمان ما يقع فيها. فهذا حكم نقص الثمرة والصقر. فأما إن نقص الصقر دون الثمرة: فلا أخذ الثمرة ويضمن نقص الصقر على ما مضى. وأما إن نقصت الثمرة دون الصقر فلا ضمان عليه في الصقر ويضمن نقص الثمرة على ما مضى. فصل: فأما الصرب الثاني: وهو أن يكون الصقر للزوج فيطرحه على ثمرة الزوجة فلا اعتبار بنقص الصقر لأنه ماله ويفعله نقص. فأما الثمرة فلها أربعة أحوال: أحدها: أن يكون تركها في الصقر غير مضر وإخراجها منه غير مضر: فلا ضمان عليه في الثمرة وعليه إخراج صقره منها ومؤونه إخراجه عليه دونها. والثانية: أن يكون قد تركها فيه مضرًا وإخراجها منه مضرًا فهو ضامن ويعتبر حال النقصان: فإن كان قد تناهى واستقر رد الثمرة وضمن أرش النقص وإن لم يتناه ولم يستقر، فعلى ما ذكرنا من القولين:

أحدهما: يصير كالمستهلك فيضمنها بالمثل إن كان لها مثل وبالقيمة إن لم يكن لها مثل. والقول الثاني: يضمن أرش كل نقص يحدث في وقت بعد وقت. والثالثة: أن يكون تركها فيه مضرًا وإخراجها من غير مضر فيؤخذ جبرًا بإخراجها منه ولا أرش عليه. والرابعة: أن يكون تركها فيه غير مضر وإخراجها منه مضرًا فهذا على ضربين: أحدهما: أن تكون الثمرة إذا أخرجت من الصقر صلحت لما لا تصلح له الثمرة إذا كانت في الصقر فأيهما دعا إلى إخراجها منه أجيب فإن أراد الزوج أخذ صقره كان عليه نقص الثمرة على ما ذكرنا من اعتبار النقصان في التناهي وإن أرادت الزوجة إخراج ثمرتها من الصقر أخذ الزوج بإخراجها وضمن نقصانها على ما مضى. والثاني: أن تكون الثمرة في الصقر تصلح لما لا تصلح له الثمرة إذا كانت خارجة من الصقر. فإن أراد الزوج صقره لم يجبر على تركه وعليه إخراجه وعلي نقص الثمرة على ما مضى وإن ترك صقره عليها ففي إجبار الزوجة على قبول وجهان: أحدهما: لا تجبر على القبول لأنها هبة غير متميزة ولها أن تأخذ الزوج بإخراج الثمرة وضمان نقصها. والثاني: تجبر على القبول لأنه جبران نقص ودفع ضرر وليس بهبة محضة فهذا أحد شطري المسألة. فصل: وأما الشطر الثاني من المسألة: وهو أن تكون الثمرة موجودة على رؤوس نخلها وقت الصداق ويجعلها جميعًا صداقًا ثم يجذ الثمرة ويجعلها في الصقر على ما ذكرنا. فهذا على ضربين أيضًا. أحدهما: أن يكون الصقر من الثمرة. والثاني: أن يكون للزوج. فإن كان من الثمرة نظر فإن لم ينقص الصقر ولا الثمرة فلا غرم على الزوج ولا خيار للزوجة وإن نقص أو أحدهما: ترتب الحكم على اختلاف قولي في تلف الصداق هل يوجب غرم القيمة أو مهر المثل؟ فإن قيل بالقديم: إنه موجب للقيمة فلا خيار للزوجة لأنه نقص مضمون بجنابة وإنما يجب الخيار لهما فيما لا يضمن بالجنابة ليكون مضمونًا بالفسخ فتأخذ الصقر والثمرة وترجع بأرش نقصها إن تناهي. وإن لم يكن قد تناهى فعلى ما مضى من القولين. وإن قيل في الجديد: إن تلف الصداق موجب لمهر المثل فهي بالنقص الحادث في

الثمرة بالخيار بين المقام والفسخ. وهل يكون لها الخيار بالنقص الحادث في الصقر أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لها فيه الخيار أيضًا لأنه نقص فيما هو من جملة الصداق. والثاني: لا خيار لها لأنه وقت الصداق لم يكن صقرًا فينفسخ بنقصانه وإنما كان ثمرة صارت صقرًا زائدًا فإذا نقصت الزيادة التي لم يتضمنها الصداق لم يثبت لها خيار في الصداق اعتبارًا بنقصان الولد الحادث فإذا ثبت لها الخيار بما ذكرنا في بالخيار بين أمرين: إما أن تقيم على الكل، وأما أن تفسخ في الكل. فإن أقامت على الكل أخذت النخل والثمرة والصقر ولا أرش لها سواء كان النقص متناهيًا أم لا. وإن فسخت في الكل ردت النخل والثمرة والصقر ورجعت بمهر المثل زائدًا كان أو ناقصًا. فأما إن أرادت الفسخ في الثمرة والصقر لنقصهما والمقام على النخل فإن راضاها الزوج على ذلك جاز وإن أبي ففيه قولان من تفريق الصفقة: أحدهما: ليس لها ذلك إذا قيل إن تفريق الصفقة لا يجوز ويقال لها: إما أن تقيمي على الكل أو تفسخي في الكل. والثاني: يجوز لها ذلك إذا قيل إن تفريق الصفقة يجوز فتقيم على النخيل بحسابه من الصداق وقسطه وترجع بقسط ما بقي في مقابلة الثمرة من مهر المثل. فصل: وأما الضرب الثاني: وهو أن يكون الصقر للزوج فإن لم تنقص الثمرة بتركها فيه ولا بإخراجها منه فلا خيار لها ولا غرم عليه. فإن نقصت كان على القديم ضامنًا لأرش نقصها ولا خيار لها وعلى الجديد لا أرش لها. وتكون بالخيار بين الفسخ في جميع الصداق والرجوع بمهر المثل أو المقام عليه من غير أرش. فإن أرادت الفسخ في الثمرة لنقصها والمقام على النخل فعلى ما ذكرنا من القولين في تفريق الصفقة. فإن طالبت بمثل الثمرة الناقصة لم يكن لها ذلك سواء قبل إن تلف الصداق موجب لقيمته أو قيل إنه موجب لمهر المثل لأنه إن قيل بوجوب مهر المثل فلا وجه للمثل ولا للقيمة وإن قيل بوجوب القيمة أو مثل ذي المثل فذاك إنما يكون مع التلف كالمستهلك بالغصب. فأما في نقصانه مع بقائه فلا حق في الرجوع بمثله كالمغصوب إذا نقص في يد غاصبه.

فإن قيل: فقد نقل المزني عند الشافعي في سواد هذه المسألة كان لها الخيار في أن تأخذه أو تأخذ مثل صقرة. قيل: قد كان أبو حامد الإسفراييني ينسب المزني إلى السهو في نقله. وأنه خطأ منه في الحكم لأن أصول الشافعي تدفعه على ما ذكرنا. والذي أراه: أن نقل المزني صحيح ولم يكن منه سهو فيه ولكنه محمول على النقص الذي لا يتناهي على أحد قولي الشافعي إذا كان في الثمرة الحادثة بعد العقد أو في المتقدمة إذا قيل بالقديم إن تلفه موجب بمثل ذي المثل وقيمة غير ذي المثل فيكون عدم التناهي في نقصانه موجبًا للرجوع بمثله في أحد قولي الشافعي لأنه يجعله بعد تناهي نقصانه كالمستهلك، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَكُلُّ مَا أُصِيبَ فِي يَدَيْهِ بِفِعْلِهِ أَوْ غَيْرِه فَهّوَ كَالغَاصِبِ فِيهِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ أَمَةً فَيَطَأَهَا فَتَلدُ مِنْهُ قَبْلَ الدُّخَولِ وَيَقُولُ كُنْتُ أَرَاهَا لاَ تُمْلَكُ إلاَّ نِصْفَهَا حِتَّى أَدْخَلَ فَيَقُومُ الوَلَدُ عَلَيْهِ يَوْمَ سَقَطَ وَيُلُحَقُ بِهِ وَلَهَا مَهْرُهَا وَإِنْ شَاءَتْ أَنْ تَسْتَرقَّهَا فَهِيَ لَهَا، وَإِنْ شَاءَتْ أَخَذَتْ قِمَتَهَا مِنْهُ أَكْثَرَ مَا كَانَتْ قِيمَةٌ وَلاَ تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ لَهُ وَإِنَّمَا جَعَلْتُ لَهَا الخِيَارَ؛ لأَنَّ الوِلاَدَةَ تُغَيِّرُهَا عَنْ حَالِهَا يَوْمَ أَصْدَقَهَا. قَالَ المُزَنِيٌّ: وَقَدْ قَالَ: وَلَوْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا فَأَصَابَتْ بهِ عَيْبًا فَرَدَّتْهُ أَنَّ لَهَا مَهْرِ مِثْلِهَا وَهَذَا بِقَوْلِهِ أَوْلَى. قَالَ المُزَنِيُّ: وَإِذّا لَمْ يَخْتَلِفُ أَنَّ لَهَا الرَّدَّ في البَيْعِ فَلاَ يَجُوزُ أَخْذَ قِيمَةَ مَا رَدَّتُ فِي البّيْعِ، وَإِنَّمَا تَرْجِعُ إِلَى مَا دَفَعَتْ فَإِنْ كَانَ فَائِنًا فَقيمَتُهُ. وَكَذَلِكَ البُضْعُ عِنْدَهُ كَالمَبِيعِ الفَائِتِ وَمَمَّا يُؤَكِّدُ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي الخُلْع: لَوْ خَلَعَهَا بِعَبْدٍ فَأَصَابَ بِهِ عَيْبًا أَنَّهُ يَرُدُّهُ. وَيَرْجِعُ بِمَهْرِ مِثْلِهَا فَسًوَّى في َّلِكَ بَيْنُهُ وَبَيْنَهَا، وَهَذَا بِقَوْلِهِ أَوْلَى ". قال في الحاوي: أما الصداق فقد ذكرنا أنه مضمون على الزوج فإن طلبته فمنعها فضمانه عليه ضمان غصب أكثر ما كان قيمة وإن لم تطلبه ففي كيفية ضمانه قولان: أحدهما: ضمان عقد. والثاني: ضمان غصب. وأما النماء فإن منعها منه فهو مضمون عليه وإن لم يمنعها منه ففي ضمانه عليه قولان إلا أن يكون هو المتلف له فيلزمه ضمانه قولاً واحدًا. فأما إذا أصدقها أمة ولم يدخل بها حتى وطئ الأمة فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون عالمًا بالتحريم فالحد عليه واجب فإن أكرهها فعليه مهر مثلها وإن طاوعته ففي وجوب المهر قولان:

أصحهما: أنه لا مهر عليه لأنها قد صارت بالمطاوعة بغيًا وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مهر البغي. والثاني: وهو اختيار ابن سريج: أن المهر واجب عليه لأنه ملك لسيدها فلا يسقط ببذلها لها ومطاوعتها كما لو بذلت قطع يدها لم يسقط غرم ديتها فإن أولدها فالولد مملوك لا يلحق به لأنه ولد زنى. فإن نقصتها الولادة والأمة في يده فنقصها مضمون عليه وفي ضمانه قولان: أحدهما: أنه مضمون عليه بأرشه وليس له الفسخ مع بقاء العين وهذا قوله في القديم: إن تلف الصداق موجب لقيمته. والقول الثاني: أنه مضمون عليه بخيارها في المقام أو الفسخ. فإن أقامت أخذتها ناقصة ولا أرش لها. وإن فسخت رجعت بمهر المثل. وهذا على قوله في الجديد إن تلفه موجب لمهر المثل. فإن ملك الولد لم يعتق عليه لأن نسبه غير لاحق به وإن ملك الأم لم تصر له أم ولد لأنه لم يلحق به ولدها. والثاني: أن يكون جاهلاً بالتحريم لإسلامه حديثًا أو قدمه من بادية نائية أو يدعى شبهة أنه مالكي يعتقد أنها لم تنملك بالعقد إلا نصفها وإن نصفا باق على ملكه فهذا والجهل بالتحريم سواء في كونها شبه يدرأ بها الحد وتجب بها المهر في المطاوعة والإكراه ويلحق به الولد ويكون حرًا لأنه وطئ في شبهة ملك وعليه قيمته يوم وضعته لأنه أول أحوال تقويمه وإن كان بالعلوق قد صار حرًاز فأما الأم: فهي على ملك الزوجة والكلام في خيارها إن حدث بها نقص على ما مضى ولا تصير له أم ولد قبل أن يملكها فإن ملكها ففي كونها أم ولد بذلك الإيلاد قولان ذكرناهما في مواضع كثيرة. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ أَصْدَقَهَا شِقْصًا مِنْ دَاٍر فَفِيهِ الشُّفْعَةُ بِمَهْرِ مِثْلِهَا؛ لأَنَّ التَّزْوِيجَ فِي عَامَّةِ حُكْمِهِ كَالبَيْعِ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا أصدقها شقصًا من دار ففيه الشفعة للشريك وكذلك لو خالعها على شقط من دار وجبت في الشفعة للشريك. وقال أبو حنيفة: لا شفعة في الصداق ولا في الخلع ولا في الإجارة ولا في الصلح

وقد مضت هذه المسألة معه في كتاب الشفعة مستوفاة فأغنى ما تقدم عن الإعادة وإذا كانت الشفعة فيه واجبه فهي مستحقة للشريك بمهر المثل. وقال مالك: بقيمة الشقص وبه قال ابن أبي ليلى وحكي نحوه عن ابي يوسف ومحمد. والدليل على أنه مستحق بمهر المثل: أن الشقص في مقابلة البضع وليس له مثل وإذا كان الشقص مملوكًا ببدل ليس له مثل كان مأخوذًا بقيمة البدل لا بقيمة الشقص كما لو اشترى شقصًا بعبد كان مأخوذًا بقيمة العبد لا بقيمة الشقص وإذا كان كذلك فقيمة البضع هو مهر المثل فلذلك أخذه الشفيع بمهر المثل زائدًا كان أو ناقصًا، فلو أصدقها شقصًا من دار ودينارًا أخذه الشفيع بمهر المثل إلا دينارًا لأن بضعها في مقابلة شقص ودينار ولو أصدقها شقصًا وأخذ منها دينارًا أخذه بمهر المثل وبدينار لأن الشقص في مقابلة بضع ودينار. فصل: فلو طلقها الزوج قبل الدخول واستحق أن يرجع بنصف الصداق لم يخل حال الشقص من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكون الشفيع قد أخذ بالشفعة فللزوج أن يرجع عليها بنصف قيمة الشقص كما لو باعته فعلى هذا لو كانت الزوجة قد اشترته من الشفيع أو ورثته عنه ثم طلقا الزوج كان له الرجوع بنصفه. فإن قيل: أفليس لو وهب الأب لابنه دارًا فباعها الابن ثم اشتراها لم يكن للأب أن يرجع بها في أحد الوجهين فهلا كان الزوج هكذا؟ قلنا: الفرق بينهما أن خروج الهبة عن ملك الابن قد أسقط حق الأب في الرجوع بها لأنه لا يرجع في الهبة ولا ببدلها فلم يكن له بعد سقوط حقه من الرجوع أن يرجع با وليس كذلك الصداق لأن زوال ملك الزوجة عنه ما أسقط حق الزوج من لأنه إن لم يرجع به رجع ببلده فلذلك إذا عاد إلى ملكها رجع بنصفه. والقسم الثاني: أن يكون الشفيع قد عفا عن الشفعة فللزوج أن يرجع بنصفه لأنه عين ما أصدق وهكذا لو كان الشفيع قد أخذه بالشفعة ثم رده عليها بعيب كان للزوج أن يرجع بنصفه. والقسم الثالث: أن يكون الشفيع غائبًا لم يعلم بالشفعة ولا عفا عنها حتى طلق الزوج ففي أحقهما بالتقديم وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي: أن الزوج أحق لحضوره بالمطالبة وأن استحقاقه بنص الكتاب والإجماع فعلى هذا ترجع في نصفه ويكون للشفيع إذا قدم أن يأخذ نصفه بنصف مر المثل وليس له أن يأخذ من الزوج نصف الذي ملكه بالطلاق الذي

ملكه بالطلاق لأنه ملكه بغير عوض. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة: أن الشفيع أحق لأنه حقه أسبق فعلى هذا يرجع الزوج عليها بنصف قيمة الشقص. فإن قال الزوج: أنا أصبر حتى يحضر الشفيع فإن عفا أخذت نصف الشقص لم يكن ذلك لأمرين: أحدهما: لأن حقه قد صار في القيمة. والثاني: لأن لا تبقى ذمة الزوجة مرتهنة به. فلو لم يأخذ القيمة حتى حضور الشفيع فعفا عن الشفعة ففي استحقاق الزوج لنصفه وجهان: أحدهما: لا حق له فيه لأن حقه قد صار في القيمة. والثاني: له أخذ نصفه تعليلًا بأن ذمتها تبرأ به ولكن لو أخذ الزوج القيمة ثم عفا الشفيع لم يكن للزوج فيه حق لاستيفائه لحقه والله أعلم. مسألة: قَالَ المُزَنِيُّ: "وَاخْتَلَفَ قَولُهُ فِي الرَّجُلِ يَتَزَوَّجُهَا بِعَبْدٍ يُسَاوِي أَلِفًا عَلَى أنْ زَادَتْهُ أَلْفًا وَمَهْر مِثْلِهَا يَبْلُغُ أَلْفًا فَأَبْطَلَهُ فِي أَحَدِ القَوْلَيْنِ وَأَجَازَهُ فِي الآخِرِ وَجَعَلَ مَا أَصَابَ قَدْرَ الأَلْفِ مِنَ العَبْدِ مَبيعًا. قَالَ المُزَنِيُّ: أَشْبَهُ عِنْدِي بِقَوْلِهِ أَنْ لَا يُجِيزَهُ؛ لأَنَّهُ لَا يُجِيزُ البَيْعَ إِذَا كَانَ فِي عَقْدِهِ كِرَاءٌ وَلَا الكِتَابَةَ إِذَا كَانَ فِي عَقْدِهَا بَيْعٌ". قال في الحاوي: وأصل هذه المسألة أن العقد الواحد إذا جمع عقدين يختلف حكم كل واحد منهما على انفراده كعقد جمع بيعًا وإجارة أو بيعًا وصرفًا أو بيعًا وكتابة أو بيعًا ونكاحًا ففيه للشافعي قولان ذكرناهما في كتاب البيوع: أحدهما: أنه صحيح فيهما لأمرين: أحدهما: أنه لما صح إفرادهما صح الجمع بينهما كالبيعتين والإجارتين. والثاني: أنه اختلاف حكمهما لا يمنع من الجمع بينهما في عقد واحد كما لو ابتاع في عقد شقصًا يجب فيه الشفعة وعرضًا لا تجب فيه الشفعة وكما لو ابتاع عبدين أحدهما أبوه يعتق عليه الشراء والآخر أجنبي لا يعتق عليه بالشراء. والقول الثاني: أن العقد باطل فيهما لأمرين: أحدهما: أن العقد الواحد له حكم واحد فإذا جمع ما يختلف حكمه تنافي فيبطل كما لو قال: بعتك عبدي واشتريته منك. والثاني: أن مقابلة العوض لهما مفض إلى جهالة العوض فيما يقابل كل واحد

منهما وإذا كان عوض العقد مجهولًا بطل. فصل: فإذا تقرر هذان القولان جئنا إلى تفصيل ما جمعه العقد الواحد من العقدين المختلفين فنقول: أما إذا جمع بيعًا وإجارة فهو أن يقول بعتك عبدي هذا أو أجرتك داري هذه سنة بألف فالبيع يثبت فيه خيار المجلس بالعقد وخيار الثلاث بالشرط والإجارة لا يثبت فيها خيار الشرط واختلف أصحابنا في ثبوت خيار العقد. والثاني: أنهما جائزان فعلى هذا ينظر قيمة العبد فإذا قيل خمسمائة نظر أجرة مثل الدار سنة فإن قيل مائة علم أن أجرة الدار من الألف سدسها وثمن العبد من الألف خمسة أسداسها. وأما إذا جمع العقد بيعًا وصرفًا فهو أن يبيعه ثوبًا ودينارًا بمائة درهم فما قابل الثوب بيع وما قابل الدينار منها صرف والبيع لا يلزم إلا بالتفريق والصرف يبطل إن لم يتقابضا قبل التفريق. فأحد القولين: أنه باطل فيهما ويتراجعان. والثاني: أنه جائز فيهما ويسقط المائة على قيمتها. وأما إذا جمع بيعًا وكتابة فهو أن يقول: بعتك عبدي هذا وكاتبتك على نجمين بألف. فإن قيل بأن اختلاف الحكمين يبطل العقد في البيع والكتابة باطل. وإذا قيل بأن اختلاف الحكمين لا يبطل العقد فالعقد في البيع باطل لأنه باع عبده على عبده. وهل تبطل الكتابة أو لا؟ على قولين من تفريق الصفقة. وأما إذا جمع بيعًا ونكاحًا فهو أن يقول قد تزوجتك واشتريت عبدك بألف فما قابل العقد بيع وما قابل البضع صداق. فأحد القولين: أنه باطل فيهما فعلى هذا يبطل البيع من العقد ويبطل الصداق في النكاح ولا يبطل النكاح لأن فساد الصداق لا يوجب فساد النكاح ويكون لها مهر مثلها. والثاني: أنه جائز فيهما فعلى هذا يقوم العبد. فإذا قيل ألف: نظر مهر مثلها فإذا قيل خمسمائة على أن ثلثي الألف ثمن للعبد وثلثها صداق للزوجة فلو وجد الزوج بالعبد عيبًا فرده استرجع ثلثي الألف ولو طلقها قبل الدخول استرجع ثلثي الألف ولو طلقها قبل الدخول استرجع سدس الألف. ولو تزوجها وأصدقها عبدًا على أن أخذ منها ألفًا فما قابل الألف من العبد مبيع وما قابل البضع منها صداق. فأحد القولين أنهما باطلان فترد العبد وتسترجع الألف ويحكم لها بمهر المثل.

والثاني: أنهما جائزان فعلى هذا ينظر مهر المثل فإن كان ألفًا صار العبد في مقابلة ألفين: أحدهما: صداق والأخرى ثمن فيكون نصف العبد صداقًا ونصفه مبيعًا. فإن طلقها قبل الدخول استرجع ربعه ولو كان مهر مثلها ألفين صار العبد في مقابلة ثلاثة ألف درهم فيكون ثلثه صداقًا إن طلقها قبل الدخول استرجع ثلثه ويكون ثلث العبد مبيعًا ولم كان مهر مثلها خمسمائة صار ثلث العبد صداقًا وثلثاه مبيعًا. فلو وجدت بالعبد عيبًا فإن رضت بعيبه في البيع والصداق أمسكته وإن أرادت الفسخ فيهما كان لها ورجعت بالثمن وهو ألف وفيما ترجع به من بدل الصداق قولان: أحدهما: مثل المثل على قوله الجديد. والثاني: قيمة صداقها منه من نصف أو ثلثين أو ثلث ولا يلزمها أن تأخذ ذلك القدر وأرشه في الصداق لما فيه من تفريق صفقة في معيب. ولو أرادت حين ظهرت على عيب العبد أن ترد منه المبيع دون الصداق أو ترد منه الصداق دون المبيع ففيه قولان من تفريق الصفة الأول: يجوز. والثاني: لا يجوز إذ تفريق الصفقة لا يجوز. فلو تلف العبد في يدها قبل علمها بعيبه رجعت بأرش المبيع من ثمنه ومن ماذا ترجع بأرش الصداق؟ على قولين: أحدهما: من قيمته. والثاني: من مهر المثل. فأما المزني فإن جعل الأولى بقولي الشافعي أن يكون العقد باطلًا فيهما واستشهد بالبيع والإجارة وبالبيع والكتابة ولا شاهد فيهما لأن كل ذلك على قولين. وحكي عن المزني أنه ذهب إلى جواز العقد فيهما وأن جعل الأولى على قول الشافعي أن يكون باطلًا فيهما ولكلا القولين وجه قد مضى والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافعيُّ: "وَلَوْ أَصْدَقَهَا عَبْدًا فَدَبَّرَتْهُ ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَمْ يَرْجِعْ فِي نِصْفِهِ؛ لأَنَّ الرُّجُوعَ لَا يَكُونُ إِلَّا بإخْرَاجِهَا إِيَّاهُ مِنْ مِلْكِهَا. قَالَ المُزَنِيُّ: قَدْ أَجَازَ الرُّجُوعَ فِي كِتَابِ التَّدبِيرِ بِغّيْرِ إِخْرَاجٍ لَهُ مِنْ مِلْكِهِ وَهُوَ بِقَوْلِهِ وَهُوَ بِقَوْلِهِ أَوْلَى. قَالَ المُزَنِيُّ: إِذَا كَانَ التَّدبِيرُ وَصِيَّةً لَهُ بِرقَبَتِهِ فَهُوَ كَمَا لَوْ أوْصَى لِغَيْرِهِ بِرَقَبَتِهِ مَعَ أَنَّ رَدَّ نِصْفِهِ إِلَيْهِ إِخْرَاجٌ مِنَ المِلْكِ". قال في الحاوي: وصورتها أن يصدقها عبدًا فتدبره بأن تقول له: إذا مت فأنت حر

وتقول: أنت مدبر تريد به أنها إذا ماتت فهو حر فقد صار مدبرًا وللرجوع فيه قولان: أحدهما: وبه قال في القديم وأحد قوليه في الجديد: إن التدبير كالوصايا. ولها الرجوع فيه بالقول مع بقائه على ملكها بأن تقول: قد رجعت في تدبيرك أو أبطلته فيبطل التدبير مع بقائه على الملك كما تبطل الوصايا بالرجوع. والثاني: وهو قوله الثاني في الجديد: إن التدبير يجري مجرى العتق بالصفات وليس لها الرجوع فيه بالقول ولها إبطاله بالفعل وهو أن تخرجه عن ملكها ببيع أو هبة فيبطل. فإذا تقرر هذان القولان وطلقها الزوج بعد تدبيره فهذا على ضربين: أحدهما: أن تكون قد أبطلت تدبيره إما بالقول على القول الأول أو بالفعل على القول الثاني فللزوج أن يرجع بنصفه وهل له فيه الخيار أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا خيار له لأنه قد صار بإبطال التدبير عبدًا قنًا. والثاني: له الخيار لأن المدبر ربما حاكم مولاته بعد إبطالها لتدبيره إلى حنفي لا يرى إبطال التدبير فيحكم عليها بالتزامه فعلى هذا يكون الزوج لأجل ذلك مخيرًا بين أخذ نصفه وبين أن تفسخ ويرجع عليها بنصف قيمته. والثاني: أن يكون على تدبيره عند طلاق الزوج لم تبطله الزوجة بالقول ولا بالفعل ففي رجوع الزوج بنصفه ثلاثة أقاويل: أحدها: له الرجوع بنصفه سواء قيل إن التدبير كالوصايا يجوز الرجوع فيه بالقول أو قيل إنه كالعتق بالصفات التي لا يجوز الرجوع فيه إلا بالفعل لبقاء المدبر على ملكها وإن لها وإزالة ملكها عنه مختارة بالبيع فلأن يجوز إزالة ملكها عنه جبرًا برجوع الزوج أولى. والثاني: ليس له الرجوع بنصفه ويعدل عنه إلى بدله سواء قيل إن التدبير كالوصايا يجوز الرجوع فيها بالقول أو قيل إنه كالعتق بالصفات لا يجوز الرجوع فيه إلا بالفعل لأن الرجوع في التدبير إنما يصح إذا كان من جهة السيد المدبر لا من غيره ورجوع الزوج فيه يكون إبطالًا للتدبير من غير السيد فلم يجز. والثالث: أنه يجوز للزوج أن يرجع بنصفه إذا قيل: إن التدبير وصية يجوز الرجوع فيها بالقول ولا يجوز له الرجوع بنصفه إذا قيل: إن التدبير عتق بصفة لا يجوز الرجوع فيه إلا بالفعل فيكون حكم الزوج في إبطاله معتبرًا بالزوجة. فإذا تقررت هذه الأقاويل الثلاثة فإن قلنا: ليس لها الرجوع بنصفه كان له الرجوع عليها بنصف قيمته وإذا قلنا: له الرجوع بنصفه فله الخيار دونها بين المقام والفسخ لعلتين: إحداهما: أن بقاء نصفه على التدبير نقص في قيمته. والثاني: أنه ربما حاكم مولاته إلى حنفي يرى لزوم تدبيره. فإن أقام فهو حقه وإن فسخ رجع عليها بنصف قيمته.

فصل: فإما إذا كاتبته فليس للزوج الرجوع بنصفه وله الرجوع بنصف قيمته لأن الكتابة لازمة للسيد لا يجوز له إبطالها إلا بالعجز. فعلى هذا لو لم يرجع الزوج بنصف قيمته حتى عجز المكاتب وعاد عبدًا فهل يرجع الزوج بنصفه أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يرجع به لوجوده في ملكها. والثاني: لا يرجع لأن حقه وقت الطلاق قد كان في قيمته. ولكن لو لم يطلقها إلا بعد عجزه وعوده إلى الرق كان له الرجوع بنصفه وجهًا واحدًا. ولو كانت الزوجة قد وهبته ورهنته ثم طلقها فإن لم تكن قد أقبضته في الرهن والهبة فالعقد فيه لم يلزم في الرهن ولا في الهبة فللزوج أن يرجع بنصفه ولها إقباض النصف الآخر في الرهن والهبة وإن كانت قد أقبضته في الرهن والهبة فقد خرج بالقبض في الهبة من ملكها فيرجع الزوج بنصف قيمته وقد صار وثيقة في حق المرتهن فلم يجز إبطال وثيقته فيرجع الزوج بنصف قيمته. فلو لم يرجع بها حتى أفكته من رهنه ففي رجوعه بنصفه وجهان. وهكذا لو باعته ثم ابتاعته أو وهبته ثم استوهبته كان في رجوع الزوج بنصفه وجهان. ولو كان قد أجرته لم تمنع إجارته من رجوع الزوج بنصفه لأن عقد الإجارة على منفعته ورقبته باقية على ملكها فيكون الزوج لنقص الإجارة بالخيار بين الرجوع بنصفه والتزام الإجارة إلى انقضاء مدتها. وبين العدول عنه إلى الرجوع بنصف قيمته. ولو باعته بخيار ثلاثة أيام لهما أولها دونه ثم طلقها الزوج ففي رجوعه بنصفه وجهان: أحدهما: يرجع به لأن بيعه لم يلزم فصار كالهبة إذا لم تقبض. والثاني: لا رجوع له به لأن فسخه في مدة الخيار لا يستحقه غير المالك المختار، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ تَزَوَّجَهَا عَلَى عَبْدٍ فَوَجَدَه حُرًّا فَعَلَيْهِ قَيمَتُهُ. قَالَ المُزَنِيُّ: هَذَا غَلَطٌ وَهُوَ يَقُولُ لَوْ تَزَوَّجَهَا بِشَيءٍ فَاسْتَحَقَّ رَجَعَتْ إِلَى إِلَى مَهْرِ مِثْلِهَا وَلَمْ تَكُنْ لَهَا قِيمَتُهُ لأَنَّهَا لَمْ تَمْلِكُهُ فَهِيَ مِنْ مِلْكِ قِيمَةِ الحُرَّ أَبْعَدُ". قال في الحاوي: وصورتها: أن يصدقها عبدًا فيبين العبد حرًا أو مستحقًا فهو

صداق باطل لا يتعلق لها برقبة الحر ولا بذمته حق. وحكي عن الشعبي والنخعي أن الحر رهن في يدها على صداقها حتى يفك نفسه أو يفكه الزوج. وهذا خطأ قبيح لأن ما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه. وإذا كان كذلك ففيما ترجع به الزوجة قولان: أحدهما: بقيمته لو كان عبدًا مملوكًا. والثاني: بمهر مثلها واختار المزني واستشهد له بالمستحق ولا دليل فيه لأن كلاهما على قولين: ولكن لو قالت لها وقت العقد قد أصدقتك هذا الحر كان لها مهر مثلها قولًا واحدًا لأن علمها بحريته يمنع من استحقاقه أو الرجوع إلى قيمته أن لو كان عبدًا. ولو أصدقها خلًا فبان خمرًا، قال أصحابنا: ترجع عليه بمهر المثل قولًا واحدًا لأن الخمر ليس في الخل مثل فيرجع إلى قيمته أن لو كان خلًا وليس كالحر لأن له في العبيد مثل فجاز أن يرجع إلى قيمته أنه لو كان عبدًا. ولو أصدقها عبدًا موصوفًا في الذمة جاز كالسلم ولزمه تسليم عبد على تلك الصفة. ولو أصدقها عبدًا غير موصوف كان صداقًا باطلًا لجهالته ورجعت بمهر مثلها قولًا واحدًا لأنه لم يتعين لها عبد ترجع بقيمته. وحكي في القديم جوازه عن مالك وأن لها عبدًا وسطًا فمن أصحابنا من خرجه قولًا ثانيًا وأنكره سائرهم وقالوا: قد تكلم الشافعي على إبطاله بالجهالة. ولو تزوجها على صداق مؤجل صح إن ذكر مدة الأجل وإن لم يذكرها كان باطلًا وقال أبو عبيد: يصح ويكون حالًا. وقال الشعبي: يصح ويكون أجله إلى وقت الطلاق. وقال الأوزاعي: يصح ويكون أجله إلى سنة وهذا فاسد لأن جهالة الأجل كجهالة المقدار فيكون لها مهر مثلها قولًا واحدًا كما يكون لها مهر المثل في جهالة المقدار. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وّإِذَا شَاهَدَ الزَّوْجُ الوَليَّ وَالمَرْأَةَ أَنَّ المَهْرَ كّذَا وَتُعْلِنُ أَكُثَرَ مِنْهُ فَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي ذَلِكَ. فَقَالَ فِي مَوْضَعِ السِّرِّ. وَقَالَ فِي غَيْرِهِ: العَلَانِيَةُ: وَهَذَا أَوْلَى عِنْدِي لأَنَّهُ إِنَّمَا يَنْظُرُ إِلَى العُقُودِ وَمَا قَبْلَهَا وَعْد". قال في الحاوي: وصورتها: أن ينكح امرأة في السر على صداق قليل ثم ينكحها في العلانية على صداق كثير.

فقد (حكى) المزني عن الشافعي أنه قال في موضع: "إن الصداق صداق السر". وقال في موضع آخر: "إن الصداق صداق العلانية" فكان المزني وطائفة من أصحابنا يخرجون اختلاف نصه في الموضعين على اختلاف قولين: أحدهما: أن الصداق صداق السر لتقدمه. والثاني: وهو اختيار المزني أن الصداق صداق العلانية لتعلق الحكم بظاهره. وامتنع سائر أصحابنا من تخريج ذلك على قولين وجعلوه محمولًا على اختلاف حالين. فالموضع الذي جعل الصداق فيه صداق السر دون العلانية إذا عقداه سرًا بولي وشاهدين ثم أعلناه تجملًا بالزيادة وإشاعة للعقد لأن النكاح هو الأول المعقود سرًا والثاني لا حكم له. والموضوع الذي جعل الصداق فيه صداق العلانية إذا تواعدا سرًا وأتماه سرًا بغير ولي وشاهدين ثم عقداه علانية بولي وشاهدين لأن الأول موعد والثاني هو العقد فلزم ما تضمنه العقد دون الوعد. وهذا أصح من تخريج ذلك على قولين: مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَإِنْ عٌقِدَ عَلَيْهِ النِّكَاحُ بِعِشْرِينَ يَوْم الخَمِيسِ ثُمَّ عُقِدَ عَلَيْهِ يَوْمَ الجُمُعَةِ بِثَلَاثِينَ وَطَلَبَهُمَا مَعًا فَهُمَا لَهَا؛ لأَنَّهُمَا نِكَاحَان. قَالَ المُزَنًِّي رَحِمَهُ اللهُ: لِزَّوْجِ أَنْ يَقُولَ: كَانَ الفِرَاقُ فِي النَّكَاحِ الثَّانِي قَبْلَ الدُّخُول فَلَا يَلْزَمُهُ إِلَّا مَهْرٌ وَنِصْفٌ فِي قِيَاشِ قَوْلِهِ". قال في الحاوي: إذا ادعت المرأة على زوجها أنه نكحها يوم الخميس على صداق عشرين، وشهد لها شاهدان، وادعت عليه أنه نكحها يوم الجمعة على صداق ثلاثين، وشهد لها شاهدان، فلا فرق بين أن يكون شاهدا الأول هما شاهدا الثاني، أو يكون غيرهما ولا فرق بين أن يختلف الصداقان أو يتساويا فإننا نحكم بالشهادتين ويثبت بهما النكاحين ويلزم بهما الصداقين لأن لهما في الصحة وجهًا ممكنًا وهو أن يتزوجها في يوم الخميس ثم يخالعها بعد الدخول أو يطلقها قبله ثم يتزوجها يوم الجمعة. فلو طالبته بالصداقين فادعى الزوج أنهما نكاح واحد أسراه في يوم الخميس بالشاهدين الأولين وأعلناه في يوم الجمعة بالشاهدين الآخرين فهذا محتمل. فإن كان عند الشاهدين من ذلك علم شهدا به عمل عليه وجعل ذلك نكاحًا واحدًا وحكم فيه بصداق واحد. وإن لم يكن عند الشهود من ذلك علم وأنكرته الزوجة فالقول قولها مع يمينها لأن الظاهر معها ودفعنا ما احتمله قول الزوج بيمينها.

فأما المزني فإنه قال: للزوج أن يقول طلقتها في النكاح الأول قبل الدخول فلا يلزمه إلا مهر ونصف. وهذا صحيح غير أنه لا ينبغي للحاكم أن ينبه عليه. فإن ابتدأ به وقاله قيل قوله مع يمينه لأن قول الزوج في إنكار الدخول مقبول وسواء ادعى عدم الدخول في النكاح الأول أو في النكاح الثاني. وهكذا لو ادعى أنه لم يدخل بها في النكاحين معًا كان قوله مقبولًا مع يمنيه ولا يلزمه من كل واحد من المهر إلا نصفه. ولو ادعى الزوج أنها ارتدت في النكاح الأول قبل الدخول فسقط جميع مهرها وأنكرته فالقول قولها مع يمينها ولها المهر لأن الأصل أنها على دينها لم ترتد عنه. وعلى قياس ما ذكرنا في النكاح من البيوع أن يقول الرجل: بعتك عبدي يوم الخميس بمائة ويشهد له شاهدان ثم يقول: وبعتكه في يوم الجمعة بمائتين ويشهد له شاهدان فيحكم له بالثمنين ثلاثمائة درهم فإن ادعى المشتري أنهما بيع واحد أحلفنا له البائع. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ أَصْدقَ أَرْبَعَ نِسْوَةٍ أَلْفًا قُسِّمَتْ عَلَى قَدْرِ مُهُورِهِنَّ كَمَا لَوِ اشْتَرَى أَرْبَعَةَ أَرْبَعَةَ أَعْبُدٍ فِي صَفْقَةٍ فَيَكُونُ الثَّمَنُ مَقْسُومًا عَلَى قَدْرِ قِيمَتِهِمْ. قَالَ المُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: نَظِيرُهُنَّ أَنْ يَشْتَرِي مِنْ أَرْبَع نِسْوَةٍ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ عَبْدًا بِثَمَنٍ وَاحِدٍ فَتَجْهَلُ كُلُّ وَاحِدةٍ مِنْهُنَّ عَبْدِهَا كَمَا جَهِلَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ مَهْرَ نَفْسِهَا وَفَسَادُ المَهْرِ بِقَوْلِهِ أَوْلَى". قال في الحاوي: وصورتها: في رجل تزوج أربع زوجات في عقد وأصدقهن ألفًا فإن بين منها مهر كل واحدة منهن صح النكاح والمهر وإن لم يبين فالنكاح صحيح وفي المهر قولان. وهكذا لو خالع أربع زوجات في عقد بألف صح الخلع وفي صحة البدل قولان. ولو كاتب أربعة عبيد له في عقد بألف إلى نجمين ففي أصل الكتابة قولان. فيكون القولان في بدل النكاح والخلع مع صحة النكاح والخلع والقولان في الكتابة في أصلها لأن فساد البدل في الكتابة مبطل لها وليس فساد البدل في النكاح والخلع مبطلًا لهما. أحد القولين في ذلك صحيح ووجهه شيئان: أحدهما: أن تزويجه بأربع في عقد على صداق ألف كابتياعه أربعة أعبد في عقد بألف وذلك يجوز إجماعًا فكذلك يجوز هذا حجاجًا.

والثاني: أنه معقود بما يعلم به مهر كل واحدة منهن في ثاني حال بأن يقسط الألف على مهور أمثالهن وإن كان مجهولًا في الحال قلم يمنع ذلك من الصحة كما لو اشترى صبرة طعام كل قفيز بدرهم صح البيع وإن جهل الثمن في الحال لأنه معقود بما يصير معلومًا في ثاني حال. والقول الثاني: وهو الأصح اختاره المزني كل ذلك باطل ووجهه شيئان: أحدهما: ذكره أصحابنا وهو مهر كل واحدة منهن من الألف مجهول في حال العقد فلم يصح وإن أمكن العلم به من بعد العقد كما لو تزوج كل واحدة منهن على انفرادها بقسط مهر مثلها من الألف لم يجز على الانفراد فكذلك مع الاجتماع. والثاني: ذكره المزني أن تزوجه لهن بالألف كابتياعه أربعة أعبد منهن بألف وهو في البيع باطل. فكذلك في الصداق باطل لأن ما بطل به أحدهما من الجهالة بطل به الآخر فاختلف أصحابنا فيما ذكره المزني. فكان أبو العباس بن سريج يخرج هذا البيع على قولين كالصداق والخلع والكتابة ويسوي بين الجميع فعلى هذا لا يكون فيه دليل. وقال أبو إسحاق المروزي وأبو سعيد الإصطخري وهو قول الأكثرين من أصحابنا أنه باطل قولًا واحدًا وإن كان الصداق على قولين ومزقوا بينهما من وجهين: أحدهما: أنه لما لم يبطل النكاح بفساد الصداق لم يبطل الصداق بالجهالة به وقت العقد. والثاني: أن المقصود من البيع الثمن فجاز أن يبطل بالجهالة به وقت العقد وليس المقصود من النكاح الصداق فجاز أن يصح وإن كان مجهولًا وقت العقد إذا انتفت عنه الجهالة من بعد. فأما توجيه القول الأول بأن تزويجهن على صداق ألف كابتياع أربعة أعبد من رجل بألف فغير صحيح لأن العقد إذا كان في كل واحد من جهتيه عاقدًا واحدًا كان عقدًا واحدًا وإذا كان في أحد جهتيه عاقدان كان عقدين. ألا ترى لو اشترى رجل من رجلين عبدًا ووجد بالعبد عيبًا كان له رد نصف العبد على أحدهما دون الآخر ولو اشتراه من واحد لم يكن له لأن شراءه من اثنين يكون عقدين ومن الواحد يكون عقدًا واحدًا كذلك إذا تزوج أربعًا بألف كانت أربعة عقود فبطل البدل للجهالة ببدل كل عقد ولو اشترى أربعة أعبد من رجل بألف كان عقدًا واحدًا فلم يبطل لأن الثمن فيه واحد معلوم. وأما اعتبار ذلك بالصبرة من الطعام فالفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن ثمن أجزاء الصبرة معلوم فصار جميع الثمن به معلومًا وليس كذلك مهور الأربع. والثاني: أن ما ينتهي إليه العلم بثمن الصبرة تحقق فصار الثمن به معلومًا وما ينتهي

إليه العلم بمهر مثل كل واحدة منهن تقريب لأنه عن اجتهاد يختلف فيه المجتهدون فصار المهر مجهولًا. فصل: فإذا تقرر ما ذكرنا من توجيه القولين: فإذا قلنا ببطلان الصداق كان لكل واحدة منهن مهر مثلها. وإذا قلنا بصحته قسمت الألف على مهور أمثالهن وكان لكل واحدة منهن قسطًا من الألف. مثاله: أن يكون مهر مثل واحدة ألفًا ومهر الثانية ألفين ومهر الثالثة ثلاثة آلاف ومهر الرابعة أربعة آلاف: فنجعل الألف المسماة مقسطة على عشرة آلاف لأنها في مقابلتها فتكون التي مهر مثلها ألف عشر الألف وذلك مائة درهم وللتي مهر مثلها ألفان خمس الألف وذلك مائتا درهم وللتي مهر مثلها ثلاثة آلاف ثلاثة أعشار الألف وذلك ثلاثمائة درهم وللتي مهر مثلها أربعة آلاف خمسا الألف وذلك أربعمائة درهم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "وَلَوْ أَصْدَقَ عَنِ ابْنِهِ وَدَفَعَ الصَّدَاقَ مِنْ مَالِهِ ثُمَّ طَلَّقَ فَلِلابْنِ النَّصْفُ كَمَا لَوْ وَهَبَهُ لَهُ فَقَبَضَهُ". قال في الحاوي: وأصل هذه المسألة أن الأب إذا زوج ابنه الصغير لم يحل ما أصدق زوجته عنه من أن يكون معينًا أو في الذمة. فإن كان معينًا كعبد جعله صداقًا لزوجته فهو صداق جائز سواء كان العبد للابن أو للأب إلا أنه إن كان للأب كان ذلك هبة للابن وإن كان في الذمة: فلا يخلو الابن من أن يكون موسرًا أو معسرًا فإن كان موسرًا وجب الصداق في ذمته ولا يتعلق بذمة الأب إلا أن يصرح بضمانه وإن كان الأب معسرًا ففي الصداق قولان: أحدهما: وهو قوله في القديم: أنه لازم للأب لأن قبوله النكاح ولده مع علمه بإعساره التزام منه لموجبه. والثاني: وهو قوله في الجديد: أنه لازم للابن دون الأب لأن الابن هو المالك للبضع فوجب أن يكون هو الملتزم بما في مقابلته من الصداق. فعلى هذا إذا قلنا بقوله في الجديد: إن الصداق لازم للابن فهو المأخوذ به في الصغر والكبر دون الأب. وإذا قلنا في القديم: إنه لازم للأب فقد اختلف أصحابنا هل يلتزمه الأب التزام

تحمل أو التزام ضمان؟ على وجهين: أحدهما: التزام تحمل فعلي هذا يكون الابن بريئًا منه ولو أبراء الابن منه لم يبرأ الأب. والثاني: التزام ضمان فعلي هذا يكون ثابتًا في ذمة الابن وإن أبراء منه برئ الأب. فصل: فإذا تقرر ما ذكرنا وطلق الابن زوجته قبل الدخول فقد ملك بالطلاق نصف الصداق وإذا كان كذلك فلا يخلو الصداق من أحد أمرين: إما أن يكون من مال الابن أو مال الأب. فإذا كان من مال الابن فحكمه فيه كحكمه لو تزوج بالغًا ثم طلق قبل الدخول على ما مضى. وإن كان من مال الأب: فلا يخلو ماله من أحد أمرين: وإما أن يكون قد سلمه إلى الزوجة قبل طلاقها أو لم يسلمه إليها فإن كان قد سلمه إليها: فقد ملك الابن نصفه دون الأب, لأنه مملوك بالطلاق فأقتضى أن يكون ملك المطلق دون غيره. فعلى هذا: إذا استرجع الابن نصف الصداق فلا يخلو حاله من أحد أمرين إما أن يسترجعه بعينه أو يسترجع بدله. فإن استرجع بدله لتلفه في يدها فليس للأب أن يرجع به على الابن لأنه غير العين التي وهبها. وإن استرجع الابن ما دفعه الأب بعينه فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون الصداق معينًا وقت العقد كعبد أو ثوب جعله صداقًا عن الابن ففي رجوع الأب به على الابن وجهان مبنيان على اختلاف وجهي أصحابنا في الأب إذا وهب لابنه مالاً فخرج عن ملكه ثم عاد إليه هل للأب أن يرجع به أم لا؟ على وجهين: كذلك هاهنا لأنها هبة للأب صارت إلى الزوجة ثم عادت إلى الابن. والثاني: أن يكون الصداق في الذمة فدفعه الأب إلى الزوجة فرجع الأب به على الابن إذا عاد إليه بطلانه مبني على اختلاف قوليه هل كان لازمًا للأب أم لا؟ فإن قلنا: كان لازمًا للأب لم يكن له الرجوع به سواء قبل: إنه يلزمه تحملاً أو ضامنًا لأنه دفع واجبًا عليه فخرج عن حكم الهبات. وإن قلنا: إنه كان لازمًا للابن صار كالصداق المعين فيكون للأب به وجهان: وإن كان الأب سلم الصداق إلى الزوجة حتى طلقت فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون الصداق معينًا فللزوجة نصفه والنصف الآخر يعود إلى الأب دون الابن لأنها هبة من الأب لم يقبضها فلذلك لم يملكها الابن عليه.

والثاني: أن يكون في الذمة. فإن قيل: إنه لازم للأب لزوم ضمان فقد برئ الأب من نصف لأن الابن قد برئ منه بطلاقه وبراءة المضمون عنه توجب براءة الضامن. وإن قيل: إنه لازم للأب لزوم تحمل ففي براءته منه وجهان من اختلاف الوجهين في المعين هل للأب أن يرجع به على الابن أم لا؟ فإن ثيل: إنه لو كان معينًا رجع به على الابن برئ الأب منه إذا كان في الذمة. وإن قيل: لو كان معينًا لم يرجع به لم يبرأ منه إذا كان في الذمة وكان للأب مطالبته به. فصل: وإذا تزوج الابن بعد كبره وقضي الأب عنه صداق زوجته وطلق الابن قبل الدخول رجع بنصف الصداق الذي قضاه الأب عنه من ماله ثم ينظر في قضاء الأب للصداق. فإن كان بإذن ابنه فهو في الحكم الهبة وهل للأب أن يرجع به على الابن إذا وجده بعينه أم لا؟ على ما ذكرنا من الوجهين: وإن كان الأب دفع ذلك دفع بغير إذن الابن فهو خارج عن حكم الهبة إلى حكم الإبراء والإسقاط لأن الابن بالغ لا يصح أن ينوب الأب عنه في قبول هبة ولا قبضها. فعلى هذا ليس للأب أن يرجع بها وجدها بعينها وجهًا واحدًا. مسألة: قَاَلَ الشَّافعِيُّ: "وَإِذَا تَزَوُّجَ المُوَلَّى عَلَيْهِ بِغِيْرِ أَمْرِ وَلِيِّهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُجِيزَ النَّكَاحَ وإِنْ أَصَاَبَهَا فَلَا صَدَاقَ لَهَا ولَا شَيْء تَسْتَحِلِّ بِهِ إِذَا كُنْتُ لَا أَجْعَلُ عَلَيْهِ فِي سِلْعةٍ يَشْتَرِيهَا فَيُتْلِفُهَا شَيْئًا لَمْ أَجْعَلْ عَلَيْهِ بَالإِصَابَةِ شَيْئًا". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن المولى بالسفه لا يجوز أن يتزوج بغير إذن وليه لأن وقوع الحجر عليه قد منعه من التصرف في العقود فإن تزوج فالنكاح باطل فإن لم يدخل بها فرق بينهما ولا أرش عليه وإن دخل بها فلا حدّ علية لمكان الشبهة فإن جاءت بولد لحق به. فأما المهر فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون قد أكرهها على نفسها فعليه مهر مثلها لأن إكراهه لها كالجناية منه يضمن بها. والثاني: أن تطاوعه من غير إكراه ففي وجوب المهر عليه قولان: أحدهما: وهو المنصوص عليه في هذا الموضوع أنه لا مهر عليه لأن الحجر قد أبطل ذمته في الحقوق كما لو اشترى سلعة واستهلكها لم يضمن قيمتها.

باب التفويض

والثاني: قاله في القديم: أن عليه مهر مثلها لأن البضع لا ينتهك إلا بمهر في الشبهة أو حد في الزنا فلما سقط الحد وجب المهر وخالف السلع في البيوع لأنها تملك بالإباحة ولا يملك البضع بالإباحة فإذا تقرر هذان القولان: فقد اختلف أصحابنا في موضوع القولين: فذهب البصريون منهم إلى أنهما مع جهلهما بسفهه وثبوت حجره فإن وجوب مهرها عليه يكون علي قولين فأما إذا كانت عالمة بسفهه وحجره فلا مهر لها عليه قولاً واحدًا لأن في تمكينها مع العلم بحاله إبراء له. وقال البغداديون منهم بل القولان مع العلم بحاله مع الجهل بها في أن مهرها على قولين لأنه غرم يعتبر بفعله فعلى هذا إن أوجبنا عليه المهر أخذ من ماله في الحال ولم ينظر به فكاك الحجر إلا أن يكون معسرًا فينظر به إلى وقت يساره وإن أسقطنا عليه المهر فلا شيء عليه في الحال ولا بعد فكاك حجره في الحكم. وهل عليه فيما بينه وبين الله تعالى بعد فكاك حجره أن يدفع إليها ما يصير البضع مستباحًا به أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا شيء عليه لأنه فعل ظاهر فإذا لم يلزمه به حق في الظاهر ولم يلزمه في الباطن. والثاني: عليه فيما بينه وبين الله تعالى ما يستحل به البضع لأن لا يكون مستبيحًا لبضعها بغير بذل فعلى هذا فيما يلزمه وجهان: أحدهما: مهر مثلها لأنه قيمة مستهلك عليها. والثاني: أن يستطيب نفسها بما يصير البضع مستباحًا به من غير تقدير مهر المثل ما لم يزد على مهر المثل لقوله صَلًّى الله عليه وسلم: "فلها المهر بما استحل من فرجها" ولأن لا يشارك رسول الله صَلًّى الله عليه وسلم فيما خص به من استباحة الموهوبة بغير مهر, والله أعلم. باب التفويض قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى: "التَّفْوِيضُ الَّذِي مَنْ تَزَوَّجَ بِهِ عُرٍفَ أَنَّهُ تَفْوِيضُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ المَرْأَةَ الثَّيِّبَ المَالكَةَ لأَمْرِهَا بِرِضَاهَا وَيَقُولَ أَتَزَوَّجُكِ بِغَيْرِ مَهْرٍ فَالنَّكَاحُ فِي هّذَا ثَابِتُ". قال في الحاوي: أما التفويض في اللغة: فهو التسليم يقال: فوضت أمري إلى فلان أي سلمت أمري إليه ووكلته إلى تدبيره ومنه قوله تعالي: {وأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ} [غَافر:44] أي أستسلم إليه.

وقال الشاعر: لَاَ يَصْلُحُ النَّاسُ فَوْضَى لَا سَرَاةَ لَهُمْ ولَا سَرَاةَ إِذَا جُهَّالُهُمْ سَادُوا أي: لا يصلحون إذا كان أمرهم مقوضًا لا مدبر لهم. والتفويض في النكاح: أن تنكح المرأة نفسها بغير مهر فمن منع النكاح بغير ولي قال: امرأة مفوضة بفتح الواو ومن أجازه بغير ولي قال: مفوضة بكسر الواو. والتفويض ضربان: أحدهما: تفويض البضع. والثاني: تفويض المهر. فالتفويض البضع: فهو أن يتزوج الرجل المرأة الثيب من وليها بإذنها ورضاها على أن لا مهر لها فهذا نكاح التفويض لأنها سلمت نفسها بغير مهر وهو نكاح صحيح ثابت لما دللنا عليه من قول الله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً ومَتِّعُوهُنَّ} [البَقَرَة: 236] ومعناه ولم تفرضوا لهن فريضة فأقام "أو" مقام "لم" على وجه البدل مجازًا. وقال بعض أهل العربية: في هذا الكلام حذف وتقديره: فرضتم أو لم تفرضوا لهن فريضة. والفريضة: المهر المسمى سمي فريضة لأنه فرضه لها بمعنى أوجبه لها كما يقال: فرض الحاكم النفقة إذا أوجبها فلما رفع عنه الجناح وأثبت فيه الطلاق دل على صحته. ولأن المقصود من النكاح التواصل بين المتناكحين والمهر تبع بخلاف البيع الذي مقصوده ملك الثمن والمثمن فبطل النكاح بالجهل بالمتناكحين لأنه مقصود ولم يبطل بالجهل بالمتابعين لأنه غير مقصود وإذا صح نكاح التفويض بما ذكرنا لم يجب للمفوضة بالعقد مهر لاشتراط سقوطه دلالها أن تطالب بمهر لأنه لم يجب لها بالعقد مهر ولكن لها أن تطالب بأن يفرض لها مهرًا إما بمراضاة الزوجين أو بحكم الحاكم فيصير المهر بعد الفرض كالمسمى في العقد أو أن يدخل الزوج بها فيجب لها بالدخول مهر. فإن مات عنها قبل الدخول ففي وجوب المهر قولان على ما سنذكره فيصير المهر مستحقًا بأحد أربعة أمور: إما بأن يفرضاه عن مراضاة وإما بأن يفرضه الحاكم بينهما وإما بالدخول بها وإما بالموت على أحد القولين: فإن قيل: فلم فرضتم لها مهرًا وقد شرط أن ليس لها مهر؟

قيل: لتخرج عن حكم الموهوبة بغير مهر, التي خص بها رسول الله صلَّى الله عليه وسلم, ويكون الشرط محمولًا على أن لا مهر لها بالعقد. فإن قيل: فلو نكحها على أن لا مهر لها بحال؟ قيل: في النكاح حينئذٍ وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة: إن النكاح باطل لأن التزام هذا الشرط يجعلها كالموهوبة التي جعل النبي صلى الله عليه وسلم بها مخصوصًا. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي: إن النكاح صحيح والشرط باطل لأن شروط المهر لا تؤثر في عقود المناكح. فصل: فأما إذا فوض مهرها فتزوجها ولم يسم لها في العقد مهرًا ولا شرط فيه أن ليس لها مهر فقد اختلف أصحابنا هل يكون نكاح تفويض أم لا؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول إسحاق المروزي: إنه ليس بنكاح تفويض لعدم الشرط في سقوط المهر ويكون مهر المثل مستحقًا بالعقد. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة: إنه نكاح تفويض لأن إسقاط ذكره في العقد كاشتراط سقوطه في العقد فعلى هذا لا مهر لها بالعقد إلا أن تتعقبه أحد ما ذكرناه من الأمور الأربعة. فهذا حكم التفويض إذا كان عن إذنها. فصل: فأما إذا فوض الولي بغير إذنها, فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون الولي ممن لا ينكح إلا بإذن كسائر الأولياء مع الثيب وغير الأب مع البكر فإن لم يستأذنها في النكاح ولا في التفويض كان النكاح باطلا فإن استأذنها في النكاح ولم يستأذنها في التفويض صح النكاح وبطل التفويض وكان لها بالعقد مهر المثل. والثاني: أن يكون الولي ممن يصح أن ينكح بغير إذن كالأب مع البكر فالنكاح صحيح بغير إذنها فأما صحة التفويض بغير إذنها فمعتبر باختلاف قوليه في الذي بيده عقدة النكاح. فإن قيل: إنه الزوج دون الأب بطل تفويض الأب. وإن قيل: إنه الأب ففي صحة تفويضه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي: إنه باطل ولها بالعقد مهر المثل. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة إنه صحيح كالعقود وليس لها بالعقد مهر.

فصل: فأما السيد إذا فوض نكاح أمته صح وإن لم يأذن في التفويض لأن المهر له دونها فلو فرض لها المهر قبل الدخول وبعد أن باعها أو أعتقها ففي مستحق المهر وجهان: أحدهما: هي إن أعتقت ومشتريها إن بيعت لأن مهرها لم يجب بالعقد وإنما وجب بالفرض بعد زوال الملك. والثاني: أنه للسيد المنكح لأن سبب استحقاقه كان في ملكه. فأما تفويض المهر فسيأتي والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَإِنْ أَصَابَهَا فَلَهَا مَهْر مِثْلِهَا". قال في الحاوي: وهذا صحيح المفوضة لنكاحها إذا وطئها الزوج فلها مهر المثل لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" فلها المهر بما استحل من فرجها" ولتخرج بالتزام المهر مما خص به نبي الله من نكاح الموهوبة بغير مهر ومن حكم الزنا الذي لا يستحق فيه مهر فإن قيل: فهلا كان التفويض إبراء من المهر فلا يجب لها بالدخول مهر؟ قيل: الإبراء إنما يصح مما وجب وهذا مهر وجب بالدخول فلم يصح الإبراء منه بالعقد. فإن قيل: أفليس لو بذلت له يدها فقطعها لم يلزمه ديتها وهو إبراء قبل الوجوب فهلا إذا بذلت له بضعها صح أن يكون إبراء قبل الوجوب؟ قيل: الفرق بينهما أن إذنها يقطع اليد نيابة عنها لأنه يصح منها أن تتولى قطع يدها بنفسها فصارت كالقاطعة ليدها بنفسها فلذلك سقط عنه الغرم وليس البضع كذلك لأنه لا يصح منها الاستمتاع ببضع نفسها فصار الزوج مستمتعًا به في حق نفسه لا في حقها فلذلك لم يبرأ بالإذن من مهرها. فإن قيل: فهلا وجب بهذا التعليل مهر الزانية على الزاني؟ قيل: لأن الزنا مغلظ بالحد ليكون زاجرًا عنه فغلظ بسقوط المهر ولو وجب لها المهر بالزنا لدعاها ذلك لفعل الزنا فحسمت هذه الذريعة بسقوط المهر كما حسمت بوجوب الحد. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ:" وَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا حَتَّى طَلَّقَهَا فَلَهَا المُتْعَةُ. وَقَالَ فِي القَدِيمِ: بَدَلًا مِنَ العُقْدَةِ".

قال في الحاوي: وهذا كما قال: المفوضة لبضعها إذا طلقها الزوج قبل الدخول فلا مهر لك لسقوطه بالعقد وهو اتفاق ولها المتعة عندنا. وبه قال الاوزاعي وحماد بن أبي سليمان وأبو حنيفة وصاحباه. وقال مالك: لا متعة لها وبه قال شريح والليث بن سعد وابن أبي ليلى والحكم استدلالًا بقول الله تعالى: {ولِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًا عَلَى المُتَّقِينَ} [البقرة: 241] فلما جعله بالمعروف على المتقين وقال في موضع آخر: {عَلَى المُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] دل على استحبابه دون وجوبه. ولأن ما وقعت به الفرقة لم يجب به المتعة كالموت ولأن الطلاق مؤثر في سقوط المال دون إلزامه كالمسمى لها إذا طلقت قبل الدخول بها ودليلنا قول الله تعالى: {ومَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى المُحْسِنِينَ} [البقرة: 236]. إحداهن: قوله:"ومتعهن" وهذا أمر يقتضي الوجوب. والثانية: قوله: {عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ}. [البقرة: 236] وذلك في الواجبات دون التطوع. والثالثة: قوله: "حقًا" والحقوق ما وجبت. والرابعة: قوله: "على المحسنين" وعلى من حروف الإلزام وقال تعالى: {ولِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة:241] فجعل ذلك لهن بلام التمليك فدل على استحقاقهن له ثم قال: "بالمعروف" فقدره. وما لا يجب فليس بمقدر ثم جعله "حقًا على المتقين" فدل على أن من منع فليس بمتقٍ. فإن قيل: فلم خص المتقين بالذكر وهو على المتقين وعلى غيرهم. قيل: عنه جوابان: أحدهما: أنه خصهم بالذكر تشريفًا وإن كان عام الوجوب كما قال: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة:2]. والثاني: ما حكاه ابن زيد أن لنزول هذه الآية سببًا وهو أنه لما قال:" حقًا على المحسنين" قال رجل فإن أحسنت فعلت وإن لم أرد أن أحسن لم أفعل فأنزل الله تعالى: {ولِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًا عَلَى المُتَّقِينَ} [البقرة: 241] ولأن بوجوب المتعة قال عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما وليس يعرف لهما في الصحابة مخالف فصار إجماعًا، ولأن وقوع الفرقة بالطلاق يمنع خلو النكاح من بدل كذات المهر فأما قياسهم على الموت: فالمعنى في الميتة إنه لم يخل نكاحها من بدل فلذلك خلا من متعة وليس كذلك المطلقة. وأما قولهم إن تأثير الطلاق سقوط المال فذاك في ذات المهر فأما في غيرها فتأثيره ثبوت المال.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلَا وَقْتَ فِيهَا وَاسْتَحْسَنَ بِقَدْرِ ثَلَاثِينَ دِرْهَماً أَوْ ما رَأى الوَالِي بِقَدْرِ الزَّوْجَيْن". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا ثبت وجوب المتعة للمفوضة فالكلام فيها يشتمل على فصلين: أحدهما: في مفوضة لم يفرض لها مهر. والثاني: في مفوضة قد فرض لها مهر. فأما التي لم يفرض لها مهر فهي مستحقة المتعة والكلام في استحقاقها يشتمل على ثلاثة فصول: أحدهما: فيما تجب به المتعة. والثاني: في قدر المتعة. والثالث: فيمن تعتبر به المتعة. فأما الفصل الأول: وهو ما تجب به المتعة ففيه قولان: أحدهما: وهو قوله في القديم: إنها تجب بالعقد لأن متعة المفوضة بدل من مهر غير المفوضة والمهر يجب بالعقد فكذلك المتعة. والثاني: وهو قوله في الجديد: إنها تجب بالطلاق لا بالعقد وهذا أصح لأن حالها قبل الطلاق مترددة بين وجوب المهر أو المتعة فدل على أن بالطلاق وجبت المتعة ولأن الله تعالى قرن المتعة بالطلاق فدل على وجوبها بالطلاق. قال الله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} [الأحزاب:28] ويكون على هذا القول في الكلام تقديم وتأخير وتقديره: فتعالين أسرحكن وأمتعكن. على القول الأول الكلام على نسقه ليس فيه تقديم ولا تأخير. فصل: وما قدر المتعة فهي إلى رأى الحاكم واجتهاده غير أن الشافعي استحسن في موضع من القديم أن يكون بقدر خادم وحكاه عن ابن عباس واستحسن فيما نقله المزني في هذا الموضع أن يكون بقدر ثلاثين درهماً. وحكاه عن ابن عمر وليس فيما ذكره تقدير لا تجوز الزيادة عليه ولا النقصان منه لاختلافه باختلاف العادات في أجناس وبلدانهم كالمهر الذي لا ينحصر بقدر ما وجب ولم ينحصر بمقدار شرعي كان تقديره معتبراً باجتهاد الحاكم. وقال أبو حنيفة: هي مقدرة بنصف مهر المثل ولا يجوز أن يكون أقل من خمسة

دراهم لأنه نصف أقل ما يكون مهرًا عنده وهذا فاسد لأنه التحديد بنصف المهر إن لم يوجد شرعًا فليس في الاجتهاد ما يقتضيه ولا نجعله بالنصف أخص منه بالثلث أو الربع فإن قيل: لأن غير المدخول بها تستحق نصف الصداق. قلنا: فقد أوجبت الصداق أو أسقط المتعة. وفي إجماعنا على إيجاب المتعة وإسقاط الصداق دليل على الفرق بين المتعة والصداق وليس ما استحسنه الشافعي من قدر ثلاثين درهمًا قولًا بالاستحسان الذي ذهب إليه أبو حنيفة ومنع منه الشافعي لأنه قرنه بدليل وهو يمنع من استحسان بغير دليل. فصل: وأما من تعتبر به المتعة ففيه لأصحابنا وجهان: أحدهما: تعتبر بحال الزوج وحده في يساره وإعساره كالنفقة لقوله تعالى: {عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236] كما قال في النفقة {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7]. فعلى هذا يكون تأويل قول الشافعي:" وما رأى الولي بقدر الزوجين" يعني: الزوج الموسر والزوج المعسر. والثاني: تعتبر بها حال الزوجين على ظاهر كلامه فتعتبر حال الزوج في يساره وإعساره وتعتبر بها حال الزوجة واختلف أصحابنا فيما نعتبره من حال الزوجة على وجهين: أحدهما: أنه يعتبر سنها ونسبها وجمالها كما يعتبر في مهر المثل. والثاني: أنه يعتبرها حال قماشها وجهازها في قلته وكثرته لأنها عوض من أخلاقه ومؤنة نقله. وهذا وجه مردود لأنه ليس الجهاز مقصودًا فيعتبر ولو اعتبر في المتعة لكان اعتبره في المهر أحق ولوجب أن لا يكون متعة لمن لا جهاز لها. فصل: وأما المفوضة التي فرض لها مهر وذلك قد يكون بأحد وجهين: إما بأن يتراضى الزوجان بفرضه وتقديره على ما سنذكره وإما بأن يفرضه الحاكم فيصير بالفرض بعد التفويض كالمسمى في العقد فإن طلقها قبل الدخول فلها نصف المفروض دون المتعة. وقال أبو حنيفة: يبطل المفروض قبل الدخول ويثبت حكم في وجوب المتعة التي لم يفرض لها مهر بناء على أصله في أن المفوضة وجب لها بالعقد مهر وسقط بالطلاق واستدلالًا: بأنه نكاح خلا عن ذكر مهر فوجب أن يستحق فيه بالطلاق.

قبل الدخول المتعة قياسًا على غير المفروض لها مهر. ودليلنا قول الله تعالى: {وإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة:237]. فكان قوله: {وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237] على عموم الحالين فيما فرض في العقد أو بعد العقد وإن كان بالمفروض بعد العقد أشبه فجعل الله تعالى له استرجاع نصفه. وأبو حنيفة يوجب استرجاع جميعه فكان قوله مدفوعًا بالنصف. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "أدوا العلائق" قيل: وما العلائق؟ قال:" ما ترادي به الأهلون" فكان على عموم التراضي في حال العقد وبعده. ومن طريق القياس: أنه فرض يستقر بالدخول فوجب أن لا يسقط بالطلاق قبل الدخول كالمسمى في العقد ولأن هذا المفروض بمنزلة المسمى في استقراره بالموت فوجب أن يكون بمنزلته في الطلاق قبل الدخول. فأما بناء أبي حنيفة ذلك على أصله فمخالف فيه. وأما قياسه: فالمعنى في المفوضة أنه لا يجب بالموت مفروض وتستحق المطالبة بفرض المهر وهذه يجب لها المفروض بالموت ولا تستحق المطالبة بالفرض فصار كالمسمى، والله أعلم مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يُسَمَّى مَهْرًا أَوْ مَاتَتْ فَسَواءٌ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلم: بَأَبِي هُوَ وَأُمَّي أَنَّهُ قَضَى فِي بُرُوع بِنْتِ وَأشِقٍ وَنُكِحَتْ بِغَيْر مَهْرٍ فَمَاتَ زَوْجُهَا فَقَضَى لَهَا بِمَهْرِ نِسَائِهَا وَبِالمِيراثِ، فَإِنْ كَانَ يَثْبُتُ فَلَا حُجَّةَ فِي قَوْلِ أَحَدٍ دُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَالُ مَرَّة عَنْ مِعْقَلِ بْنِ يَسَارِ وَمَرَّةً عَنْ مِعْقَلِ بْنِ سَنَانَ وَمَرَّةً عَنْ بَعْضِ بَنِي أَشْجَعَ وَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ فَلَا مَهْرَ وَلَهَا المِيرَاثُ وَهُوَ قَوْلُ عَليًّ وَزَيْدٍ وَابْنِ عُمَرَ". قال في الحاوي: أما المفوضة إذا مات عنها زوجها قبل الدخول أو ماتت فإنهما يتوارثان بالإجماع لقول الله تعالى: {ولَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} [النساء:12] وهما زوجان لصحة النكاح بينهما. فأما مهر مثلها: فقد اختلف قول الشافعي في استحقاقه بالموت قبل الدخول على قولين: أحدهما: وهو مذهب أبي حنيفة أن لها مهر المثل وهو في الصحابة قول عبد الله بن مسعود وفي التابعين: قول علقمة والشعبي وفي الفقهاء: قول ابن أبي ليلى وسفيان الثوري وابن شبرمة وأحمد وإسحاق.

والثاني: وهو مذهب مالك لا مهر لها. وهو في الصحابة قول علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وزيد بن ثابت رضي الله عنهم. وفي التابعين: قول جابر بن زيد والزهري وعطاء ومن الفقهاء: قول ربيعة والاوزاعي. ودليل القول الأول: وهو مذهب أبي حنيفة: حديث بروع بنت واشق: روى قتادة عن خلاس وأبي حسان عن عبد الله بن عتبة بن مسعود، أن رجلًا تزوج امرأة فلم يسم لها صداقًا ولم يدخل بها حتى مات فأتى عبد الله بن مسعود وكان قاضيًا فاختلفوا إليه مراوًا، وقال شهرًا. فقال: إن كان ولابد فإني أفرض لها مهر نسائها لا وكس ولا شطط ولها الميراث وعليها العدة إن يكن صوابًا فمن الله وان يكن خطأ فمني ومن الشيطان والله ورسوله بريئان منه، فقال ناس من أشجع: فيهم الجراح أبو سنان نشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاها فينا في بروع بنت واشق وكان زوجها هلال بن مرة الأشجعي بما قضيت. وهذا حديث إن صح في بروع لم يجز خلافه. ومن طريق القياس: أنه ما استقر به كمال المسمى استحق به مهر المثل في المفوضة كالدخول ولأن ما أوجبه عقد النكاح بالدخول أوجبه بالوفاة كالمسمى ولأنه أحد موجبي الدخول فوجب أن يستحق بالوفاة كالعدة. ودليل القول الثاني: وهو الأصح. إن لم يثبت حديث بروع ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أدوا العلائق "قيل: وما العلائق؟ قال: "ما تراضى به الأهلون" فدل على أن المستحق بالعقد ما تراضى به الأهلون دون غيره. ومن طريق القياس: أنه فراق مفوضة قبل فرض وإصابة فلم يستحق به مهر كالطلاق ولأن الموت سبب يقع به الفرقة فلم يجب به المهر كالرضاع والردة ولأن من لم ينتصف صداقها بالطلاق لم يستفد بالموت جميع الصداق كالمبرئة لزوجها من صداقها ولأن كل ما لم ينتصف بالطلاق لم يتكمل بالموت كالزيادة على مهر المثل. فأما حديث بروع فقد اختلف في ثبوته فذهب قوله إلى ضعفه وأنه مضطرب غير ثابت من ثلاثة أوجه: أحدهما: اضطراب طرقه؛ لأنه روى تارة عن ناس من أشجع وهم مجاهيل، وتارة عن معقل بن يسار، وتارة عن معقل بن سنان، وتارة عن الجراح بن سنان. فدل اضطراب طرقه على وهائه.

والثاني: أن عليًا بن أبي طالب رضي الله عنه: أنكره وقال: حديث أعرابي يبول على عقبيه ولا أقبل شهادة الأعراب على رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثالث: أن الواقدي طعن فيه وقال: هذا الحديث ورد إلى المدينة من أهل الكوفة فما عرفه أحد من علماء المدينة. وذهب آخرون إلى صحة الحديث لاشتهاره، وقبول ابن مسعود له ووروده عن ثلاثة طرق صحيحة: أحدها: منصور بن إبراهيم عن علقمة عن ابن مسعود. والثاني: داود بن أبي هند عن الشعبي عن علقمة. والثالث: عن خلاس وأبي حسان عن عبد الله بن عتبة. وليس اختلاف أسماء الراوي قدحا لأن معمل بن يسار بن سنان مشهور في الصحابة وهو المنسوب إليه نهر معقل بالبصرة تبركا باسمه حين اختفره زياد لأنه كان من بقايا الصحابة. ومن كان بهذه المنزلة في بقايا الصحابة وجمهور التابعين لم يدفع حديثه. وأما الجراح أبو سنان فقد شهد بذلك مع قومه عند عبد الله بن مسعود في قصة مشهورة فما رد ولا ردوا. وأما إنكار علي رضوان الله عليه فقد كان له في قبول الحديث رأي أن يستحلف المحدث ولا يقبل حديثه إلا بعد يمينه وقال: ما حدثني أحد عن رسول الله لا استحلفته إلا أبو بكر وصدق أبو بكر. وهذا مذهب لا يقول به الفقهاء. وأما الواقدي فلم يقدح فيه إلا بأنه ورد من الكوفة فلم يعرفه علماء المدينة وهذا ليس بقدح لأنها من قضايا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القبائل التي انتشر أهلها فصاروا إلى الكوفة فرووه بها ثم نقل إلى المدينة ومثل هذا كثير في الحديث فإن كان هذا الحديث غير صحيح فالمهر على قولين. وان صح فقد اختلف أصحابنا. فذهب أبو حامد المروزي وجمهور البصريين إلى وجوب المهر قولا واحدا وهو الظاهر من كلام الشافعي. وذهب أبو علي بن أبي هريرة وجمهور البغداديين إلى أن وجوب المهر مع صحته على قولين لأنه قضية في عين يجوز أن يكون وليها فوض نكاحها فلم يصح التفويض أو تكون مفوضة المهر دون البضع فإن فرض لها مهر مجهول فلاحتماله مع الصحة كان على قولين: وأما اعتبار الموت بالدخول: ففي الدخول إتلاف يجب به الغرم بخلاف الموت. وأما اعتبار التفويض المسمى: فالمسمى يجب بالطلاق نصفه فكمل بالموت والمفوضة لم يجب لها بالطلاق نصفه فلم يكمل لها بالموت جميعه.

وأما اعتبار المهر بالعدة: فقد تجب العدة بإصابة السفيه وان لم يجب عليه مهر فكذلك الموت في المفوضة. فصل فإذا تقرر ما وصفنا فلا فرت بين أن تكون الزوجة مسلمة أو ذمية في أن المهر إن وجب للمسلمة وجب للذمية وإن سقط للمسلمة سقط للذمية. وقال أبو حنيفة: أوجب المهر للمسلمة وأسقطه للذمية وجعل ذلك مبنيًا على أصله في أن ثبوت المهر في النكاح حق الله تعالى وأهل الذمة لا يؤاخذون بحقوق الله ويؤخذ بها المسلمون فلذلك سقط مهر الذمية لسقوطه من العقد ووجب مهر المسلمة لوجوبه في العقد. وهذا فاسد بل المهر من حقوق الآدميين المحضة كالثمن في البيع والأجرة في الإجارة لاستحقاقه بالطلب وسقوطه بالعفو. ولأنه لما كان استدامة ثبوته من حقوق الآدميين وجب أن يكون ابتداء ثبوته من حقوق الآدميين كسائر حقوق الآدميين طردًا وكسائر حقوق الله عكسًا ولأنه لو كان المهر من حقوق الله تعالى في النكاح كالولي والشاهدين لبطل النكاح بترك المهر كما بطل بترك الولي والشاهدين، والله أعلم. مسألة قال الشافعي: "ومتى طلبت المهر فلا يلزمه إلا أن يفرضه السلطان لها أو يفرضه هو لها بعد علمها بصداق مثلها". قال في الحاوي: هذا كما قال المفوضة لبضعها لا تملك المهر بعقد النكاح. وقال أبو حنيفة: تملكه بالعقد استدلالًا بأمرين: أحدهما: أن الزوج قد ملك بضعها بالعقد فوجب أن تملك بدله من المهر بالعقد كالثمن والمثمن لا يملك عليها مبدلًا لم تملك في مقابلته بدلا. والثاني: أن للمفوضة المطالبة بالمهر والامتناع من تسليم نفسها إلا بعد قبضه ولا يجوز أن تطالبه بما لم يجب ولا أن تمتنع من تسليم ما وجب على تسليم ما لم يجب. والدليل على أن المهر لم يجد بالعقد أن ما وجب بالعقد تنصف بالطلاق كالمسمى وما لم يتنصف بالطلاق لم يجب بالعقد كالزيادة على مهر المثل وكالمهر الفاسد. فأما ملك البضع بالعقد فلأنه مقصود لا يجوز الإخلال بذكره في العقد فلذلك ملك بالعقد والمهر ليس بمقصود لأنه يجوز الإخلال به في العقد فلم يملك بالعقد مع ترك ذكره فيه فافترق حكم البضع والمهر وأوجب ذلك افتراض حكم المسمى والتفويض وأما المطالبة فليس لها المطالبة عندنا بالمهر وإنما لها المطالبة بأن يفرض لها المهر فتكون قد ملكت بالتفويض أن تملك بالفوض مهرًا كالشفيع ملك بالبيع أو يتملك بالشفعة.

فصل: فإذا ثبت ما وصفنا ففي قار ما ملكت أن تتملك من المهر قولان: أحدهما: وهو قوله في الجديد أنه مهر المثل لأنه في مقابلة مستهلك بالعقد فتقدر بمهر المثل كالمستهلك بالوطء. والثاني: وهو قوله في القديم أنه مهر مطلق لا يتقدر بمهر المثل لأنه بدله من المسمى في العقد وذلك غير مقدر بمهر المثل فكذلك ما استحق بالفرض. وإذا كذلك فالمفوضة تملك المهر بأحد أربعة أشياء ذكرناها مجملة ونحن نشرحها: أحدها: أن يترافعا إلى الحاكم فيفرض لها الحاكم مهر المثل فلا يصح حكمه به إلا بعد علمه بقدره كما لا يصح أن يحكم بقيمة متلف إلا بعد علمه بقدر القيمة ولا يجوز له أن يزيد على مهر المثل فيظلم الزوج إلا أن يبذل الزوج الزيادة ولا أن ينتقص من مهر المثل فيظلم الزوجة إلا أن ترضى الزوجة بالنقصان وهل يعتبر مهر المثل وقت العقد أو وقت الفرض؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج أنه يعتبر مهر مثلها وقت العقد لأن البضع مستهلك بالعقد. والثاني: وهو قول ابن علي بن خيران أنه يعتبر مهر مثلها وقت الفرض لأنها ملكته بالفرض دون العقد. فإذا فرضه الحاكم صار كالمسمى بالعقد إن طلقت قبل الدخول وجب لها نصفه وهذا مما وافق عليه أبو حنيفة لأن الحكم إذا نفذ بجائز لم ينقص. الفصل وأما الثاني: يجب به مهر المفوضة فهو أن يجتمع الزوجان بعد العقد على فرض مهر عن تراضٍ فيصير ما فرضاه لازمًا كالمسمى إن طلقها قبل الدخول وجب لها نصفه. وقال أبو حنيفة: لا يلزم المهر إلا بعقد أو حكم ولا يصير لازمًا باجتماعهما على فرضه فإن طلقها قبل الدخول فلها المتعة احتجاجا بعموم قول الله تعالى:} وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ {[البقرة: 241] ولأنهما ملكا التسمية في العقد لأنها تصير واجبة بوجوب العقد ولم يملكاها بعد العقد لأنه لا يصير لها موجبًا إلا الحاكم. ودليلنا قول الله تعالى:} وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ {[البقرة: 237] ولم يفرق بين ما فرض لها في العقد وبعده فوجب حمله على الأمرين وان كان بما بعد العقد أشبه ولأن المهر من أعواض العقود فكان ثبوته بالمراضاة أولى من ثبوته بالحكم كالأثمان والأجور ولأن كل مهر كمل بالدخول ينصف بالطلاق قبل الدخول كالمسمى في العقد. فأما الآية فمحمولة على التي لم يفرض لها مهر بدليل قوله:} لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ

طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ {[البقرة: 236] وأما الاستدلال بالحكم فاجتماعهما على الفرض أبلغ في الالتزام من الحكم كما لو اجتمعا على قيمة متلف أو أرش معيب. فإذا تقرر أن المهر يلزم بفرضهما كما يلزم بفرض الحاكم فإن فرضاه مع علمهما بقدر المثل صح وجاز أن يفرضا مهر المثل وأكثر منه وأقل وأن يعدلا إلى عوض من ثوب أو عبد بخلاف الحاكم الذي لا يجوز أن يعدل عن جنس المهر ومقداره لأن فرض الزوجين كالتسمية في العقد وان فرضاه مع جهلهما بمهر المثل ففي جوازه قولان: أحدهما: وهو قوله في الجديد: أنه لا يجوز الفرض ويكون باطلا كالتي لم يفرض لها كما لو فرضه الحاكم وهو غير عالم ولأنه يتضمن معنى الإبراء من مجهول. والثاني: وهو قوله في القديم: أنه يجوز ويصح الفرض لأنه معتبر بالمسمى في العقد وان جهلا مهر المثل كذلك ما فرضاه بعد العقد. وهذان القولان يترتبان على اختلاف قوليه في الذي يجب لها هل هو مهر المثل أو مهر مطلق؟ فإن قيل: مهر المثل لم يصح فرضهما إلا بعد علمهما به. وان كان مهر مطلق صح فرضهما مع الجهل به. الفصل: وأما الثالث: مما يجب به مهر المفوضة فهو الدخول لأن المهر لما وجب بوطء الشبهة فأولى أن يجب بالوطء في نكاح صحيح والواجب بهذا الدخول هو مهر المثل قولًا واحدًا سواء تعقبه موت أو طلاق. وإذا وجب بالدخول فتقايره يكون لحكم الحاكم وان تقام وجوبه على حكمه فيكون حكمه مقصورًا على تقديره دون إيجابه وحكمه فيما تقام مشتمل على التقدير والإيجاب. فإن قدره الزوجان لم يصح تقديرهما إلا مع علمهما به قولًا واحدًا؛ لأن المهر ها هنا قيمة مستهلك فإن جهلاه أو أحدهما لم يصح تقديره وكان على إرساله بعد وجوبه. قال الشافعي: واستحب أن لا يدخل بها إلا بعد فرض المهر ليكون مستمتعًا بمهر معلوم وليخالف حال الموهوبة التي خص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصل: وأما الرابع: فهو الموت وفي وجوب مهر المفوضة به قولان مضيا ثم إن وأجبناه فهو مهر المثل ولا يقدره إلا الحاكم وحده فإن قدره مع الباقي من الزوجين أجنبي علم قدره فإن فعل ذلك ليؤديه من ماله جاز، كما لو قضى دينًا عن ميت أو قضاه عن حي لورثه ميت وان فعل ذلك ليؤخذ من مال الزوج ففي جوازه إذا تراضى به الباقي وورثه الميت قولان من اختلاف قوليه في حكم غير الحاكم وهو يلزم بالتراضي أم لا؟ على قولين، والله أعلم.

مسألة: قال الشافعي: "فإن فرضه فلم ترضه حتى فارقها لم يكن إلا ما اجتمعا عليه فيكون كما لو كان في العقدة". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا شرع الزوجان في فرض المهر في نكاح التفويض فلم يتفقا على قدره حتى يطلقها كأنه بذل لها ألفًا فلم ترض إلا بألفين فحكم التفويض باق وبذل الألف من الزوج كعدمها ولها المتعة إذا طلقها قبل الدخول لأن الفرض لا يتم من الزوجين إلا بالرضا. فإن قيل: فهلا كان هذا كالصداق المختلف في تسميته وقت العقد فلا يلزم ويجب لها بالطلاق قبل الدخول نصف مهر المثل. قلنا: ما اختلف في تسميته وقت العقد قد زال عنه حكم التفويض فلذلك وجب لها نصف مهر المثل وهذا لم يزل عنه حكم التفويض فلذلك وجبت لها المتعة. وقول الشافعي: لم يكن لها إلا ما اجتمعا عليه يعني أنه لم يكن لها مهر مفرد إلا ما اجتمعا على فرضه ولم يود به الألف الذي بذله الزوج لاجتماعهما عليه حتى طلبت الزوجة زيادة عليها لأن هذا افتراق وليس باجتماع. مسألة: قال الشافعي: "وقد يدخل في التفويض وليس بالتفويض المعروف وهو مخالف لما قبله وهو أن تقول لا أتزوجك على أن تفرض لي ما شئت أنت أو شئت أنا فهذا كالصداق الفاسد فلها مهر مثلها. قال المزني رحمه الله: هذا بالتفويض أشبه". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن التفويض في النكاح ضربان: تفويض البضع وتفويض المهر. فأما تفويض البضع فهو أن يتزوجها على غير مهر لها وقد مضى الكلام فيه وأما تفويض المهر فضربان: أحدهما: ترك ذكره في العقا وقد ذكرنا اختلاف أصحابنا فيه. والثاني: أن يتزوجها على مهر لا يصح إما لجهالته وأما لتحريمه فالمجهول كقوله: قد تزوجتك على ما شئنا أو شاء أحدنا أو شاء فلان. والحرام أن يتزوجها على خمر أو خنزير فيكون هذا تفويضًا للمهر لبطلانه وليس بتفويض للبضع لذكره فيخرج عن حكم نكاح التفويض وان كان مشابهًا له في سقوط المهر فيجب لها بالعقد مهر المثل وان طلقت قبل الدخول وجب نصفه دون المتعة وان مات عنها زوجها وجب لها المهر قولًا واحدًا فيكون مخالفًا لنكاح التفويض من أربعة أوجه:

(أحدها): أن مهر هذه وجب بالعقد ومهر المفوضة وجب بالفرض بعد العقد. الثاني: أنه موجب المهر بالمثل قولا واحدا وفيما وجب للمفوضة قولان: أحدهما: مهر المثل. والثاني: مهر مطلق. والثالث: أنها إن طلقت قبل الدخول وجب لها نصف مهر المثل وللمفوضة متعة. والرابع: أنه يجب لها المهر بالموت قبل الدخول وفي المفوضة قولان. وقال أبو حنيفة: تفويض المهر كتفويض البضع وليس لها إذا طلقت قبل الدخول إلا المتعة احتجاجًا بأن العقد خلا عن مهر لازم فكان تفويضًا كما لو خلا من ذكر مهر. ودليلنا: هو أنه عقد تضمن مهرًا فخرج عن حكم التفويض كالمهر الصحيح ولأن التفويض تسليم بضع بغير بدل وهذا تسليمه ببدل وان فسد. وفرق في الأصول بين التسليم بغير بدل وبين التسليم ببدل فاسد في وجوب الغرم ألا ترى أنه لو قال ملكتك عبدي هذا ولم يذكر بدلًا جعلنا ذلك هبة لا توجب البدل. ولو قال: قد ملكتك عبدي بثمن فاسد صار بيعًا فاسدًا يوجب البدل فال على افتراض الأمرين. فإذا ثبت ما ذكرنا: فأحوال من لا يستقر لها بعقد النكاح مهر ينقسم ثلاثة أقسام. قسم تكون مفوضة وقسم لا تكون مفوضة وقسم اختلف أصحابنا في كونها مفوضة. فأما التي تكون مفوضة فهي التي يشترط في عقد نكاحها مع إذنها وجواز أمرها أن لا مهر لها. وأما التي لا تكون مفوضة: فهي المنكوحة على مهر مجهول أو حرام أو فوضها وليها بغير إذنها. وأما التي اختلف أصحابنا في كونها مفوضة: فهي التي ترك ذكر الصداق في نكاحها من غير شرط. فعلى قول أبي إسحاق المروزي: ليست مفوضة. وعلى قول أبي علي بن أبي هريرة: إنها مفوضة، والله أعلم. تفسير مهر مثلها قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وحتى قلت لها مهر نسائها فإنما أعني نساء عصبتها وليس أمها من نسائها وأعني (نساء) بلدها".

قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا استحقت المرأة مهر مثلها في الموضع الذي يجب لها مهر المثل وقد مضى في مواضعه وجب أن يعتبر مهر مثلها في حالتين: إحداهما: في منصبها. والثانية: في صفات ذاتها. فأما المنصب فمعتبر بنظيرها في النسب. وقال مالك: فمعتبر بنظيرها في البلد فغلب اعتبار البلد على اعتبار النسب وهذا فساد لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق بمهر نسائها والميراث. ولأن الأنساب معقودة في المناكح دون البلدان ولأنها من صفات الذات اللازمة ولأن أهل البلد قد تختلف مهورهم باختلاف الأنساب وإذا وجب اعتبار النظير في النسب وجب اعتبار نظيرها من النساء العصبات من قبل الأب ولا اعتبار بنساء الأم ولا بنساء ذوي الأرحام. وقال أبو حنيفة وابن أبي ليلى هما سواء فيعتبر بناء أهلها من قبل الأب والأم من العصبات وذوي الأرحام. وهذا فاسل لأن النسب معتبر بالأب دون الأم وكذلك كان ولد العربي من النبطية عربيا وولد النبطي من العربية نبطيا فاقتضى إذا كان منصب النسب معتبرا أن يكون من قبل الأب الذي ثبت به النسب دون الأم التي لا يلحق بها نسب. الفصل: فإذا ثبت اعتبارها بناء عصبتها فأقربهن الأخوات فيعتبر الأخوات من الأب والأم والأخوات من الأب ولا اعتبار بالأخوات من الأم لأنهن مشاركات في الرحم دون النسب. فلو اجتمع أخوات لأب وأم وأخوات لأب ففيهن وجهان: أحدهما: أنهن سواء. والثاني: أن اعتبار الأخوات من الأب والأم لاجتماع السببين فهن مقدمات على الأخوات من الأب. ولا اعتبار ببنات الأخوات ثم بنات الإخوة وبنيهم ثم العمات دون بناتهن ثم بنات الأعمام وبنيهم ثم عمات الأب دون بناتهن ثم أعمام الأب وبنيهم ثم كذلك أبدًا في نساء العصبات فإذا عدم العصبات ففي اعتبار ناء المولى المعتق وجهان: أحدهما: يعتبرون لأن المولى عصبة. والثاني: لا يعتبرون لأنه لا يلحق بالمولى نسب وان جرى في التعصيب مجرى النسب.

الفصل: فإذا ثبت أن الاعتبار بالصعبات دون الأمهات فقد قال الشافعي: "أعني نساء بلدها" فيكون الاعتبار من كان من عصباتها في بلدها دون من كان في غيره لأن للبلدان في المهور عادات مختلفة فتكون عادلت بعض البلدان تخفيف المهور وعادلت بعضها تثقيل المهور فاقتضى أن يكون ذلك معتبرًا كما تعتبر قيمة المتلف في موضع إتلافه لأن القيم تختلف باختلاف الأمكنة فلذلك وجب اعتبار البلد مع نساء العصبات، فهذا حكم المنصب. مسألة: قال الشافعي: "ومهر من في مثل سنها وعقلها وحمقها وجمالها وقبحها ويسرها وعسرها وأدبها وصراحتها وبكرا كانت أو ثيبًا؛ لأن المهور بذلك تختلف". قال في الحاوي: وهذا صحيح. وصفات الذات المعتبرة في المهور شرط في الحكم بمهر المثل كما تعتبر صفات ما يقوم والصفات المعتبرة في مهر المثل عشرة: أحدهما: السن لاختلاف المهر باختلافه، لأن الصغيرة أرجى للولد وألذ في الاستمتاع من الكبيرة. والثاني: عقلها وحمقها فإن للعاقلة مهرًا وللرعناء والحمقاء دونه لكثرة الرغبة في العاقلة وقلة الرغبة في الحمقاء، وحكي عن قتادة في قول الله تعالى:} لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا {[هود:7] أي أيكم أتم عقلا. وروى كليب بن وائل عن عبد الله بن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا:} لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا {[هود:7] ثم قال: "أيكم أحسن عقلا وأردع عن محارم الله وأسرع في طاعة الله تعالى. والثالث: جمالها وقبحها فإن مهر الجميلة أكثر من مهر القبيحة وقد روى سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ينكح النساء لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها فعليك بذات الدين تربت يداك". والرابع: يسارها وإعسارها أن ذا المال مطلوب ومخطوب فيكثر مهر الموسرة بكثرة طالبها ويقل مهر الموسرة لقلة خاطبها. وقد قال ابن عباس وقتادة في قول الله تعالى:} وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ {[العاديات: 8] يعني المال.

وروى مجالد عن الشعبي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من تزوج ذات جمال ومال فقد أصاب سدادا من عوز". والخامس: إسلامها وكفرها لقوله تعالى:} وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ {[البقرة: 221] والسادس: عفتها وفجورها؛ لأن الرغبة في العفة أكثر ومهرها لكثرة الراغب فيها أكثر. وقد قال الله تعالى:} الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ {[النور: 3]. والسابع: حريتها ورقها لنقصان الأمة عن أحكام الحرة وان كان نكاحها لا يحل لكل حر. والثامن: بكارتها وثيوبتها لأن الرغبة في البكر أكثر منها في الثيب وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواها، وأنتق أرحاما، وأعز غرة، وأرضى باليسير". ومعنى قوله: "أنتق أرحامًا" أي أكثر أولادًا، وفي قوله: "وأعز غرة" روايتان: أحداهما: غرة بكر الغين يريد أنهن أبعد من معرفة الشر وأقل فطنة له. والرواية الثانية: وأغر غرة: بضم الغين وفيه تأويلان: أحداهما: أنه أراد غرة البياض لأن الأغير وطول التعبيس يحيلان اللون ويبليان الجسد. والثاني: أنه أراد حسن الخلق وحسن العشرة. وقال معاذ بن جبل: "عليكم بالأبكار فإنهن أكثر حبًا وأقل خبًا". والتاسع: أدبها وبذاؤها، لأن الأديبة مرغوب فيها والبذيئة مهروب منها وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "البذاء لؤم ومحبة الأحمق شؤم". والعاشر: قول الشافعي: وصراحتها فاختلف أصحابنا في معناه فقال بعضهم: يريد فصاحتها لأن لفصاحة المنطقة حظًا من الاستمتاع. وقال الأكثرون: بل أواد به صراحة النسب المقصود في المناكح والصريح النسب الذي أبواه عربيان.

والهجين: الذي أبوه عربي وأمه أمة. والمزرع: فيه تأويلان: أحدهما: الذي أمه عربية وأبوه عبد. والثاني: أنه الذي أمه أشرف نسبًا من أبيه. قال الشاعر: إِنَّ المذَرَّع لَا تُغْنِي خُؤولَتُه كَالبَغْل يَعْجَز عَنْ شَوْطِ المَحَاضِرِ والفلنقس فيه تأويلان: أحدهما: أنه الذي أبوه مولى وأمه عربية. والثاني: أنه الذي أبواه عربيان وجدناه من قبل أبويه أمتان. فهذه عشرة أوصاف تعتبر في مهر مثلها لاختلاف المهر بها وقد ذكر الشافعي منها سبعة وأعقل ثلاثة وهي: الدين والعفة والحرية اكتفاء بما ذكره منها في اعتبار الكفاءة. وقد نص النبي صلى الله عليه وسلم على بعضها ونبه على باقيها بقوله عليه السلام: "تنكح المرأة لدينها وجمالها ومالها ومبسمها" وروي: وسامتها، فعليك بذات للدين تربت يداك". وفيها ثلاثة تأويلات: أحدها: معناه افتقرت يداك إن لم تظفر بذات الدين يقال: ترب الرجل إذا افتقر وأترب إذا استغنى. والثاني: أن معناه استغنت يداك إن ظفرت بذات الدين ويكون تربت من أسماء الأضداد بمعنى الغنى والفقر رأيه في قدر تلك الصفة وقسطها من تلك المهور فزادها إن كانت الصفة زائدة أو نقصها إن كانت الصفة ناقصة لأنه قل ما يتساوى صفاتها وصفات جميع نساء عصبتها فلم يجد بدًا من اعتبار ما اختلفن فيه بما ذكرنا، والله أعلم. والثالث: أنها كلمة فقال على ألسنة العرب لا يراد بها حمد ولا ذم كما يقال ما أشجعه قاتله الله وكالذي حكاه الله تعالى عن سارة زوجة إبراهيم حين بشرت بالولد: {قَالَتْ يَا ويْلَتَى أَأَلِدُ وأَنَا عَجُوزٌ وهَذَا بَعْلِي شَيْخًا} [هود: 72] وهي لا تدعو بالويل عند البشرى ولكن كلمة مألوفة للنساء عند سماع ما يعجل من فرح أو حزن، فإذا وجدت أوصافها التي يختلف بها المهر من يسار عصبتها وكانت مهورهن مقدرة صار مهر مثلها ذلك القدر فإن خالفتهن في إحدى الصفات أشهد الحاكم.

مسألة: قال الشافعي: "واجعله نقدًا كله لأن الحكم بالقيمة لا يكون بدين". قال في الحاوي: وهذا كما قال في الحكم بمهر المثل مع اعتبار تلك الأوصاف شرطان: أحدهما: أن يكون من نقود الأثمان والقيم وهي الدراهم والدنانير لأن قيم المتلفات لا تكون إلا منها ومهر المثل قيمة متلف فعلى هذا لو كان مهر نساء عصينها إبلًا أو عبيدًا أو ثيابًا قومها بالدراهم أو الدنانير وحكم لها بقيمة الإبل أو العبيد أو الثياب من أغلب النقدين من الدراهم أو الدنانير في أثمان الإبل والعبيد دون المهور. والثاني: أن لا يحكم به إلا حالًا وإن كان نساء عصبتها ينكحن بمهور مؤجلة لأن قيمة المتلف لا تتأجل. فإن قيل: أفليس دية الخطأ مؤجلة وهي قيمة متلف؟ قيل: ليست الدية قيمة لكونها مقدرة والقيمة لا تتقدر ولو كانت قيمة لجاز أن تخالف أحكام القيمة في التأجيل كما خالفتها ني وجوبها على غير المتلف من العاقلة. وإن كانت قيم المتلفات لا تجب إلا على المتلف. وإذا وجب أن يحكم بها نقدًا حالًا وكانت مهورهن مؤجلة نظر: فإن كان وقت حكمه بمهر المثل هو وقت المؤجل ساوى بين القدرين ولم ينقص منه بالتعجيل شيئًا. وإن كان وقت حكمه بمهر المثل قبل حلول آجال تلك المهور نقص من مهر المثل بالتعجيل بقدر ما يكون بين الحال والمؤجل في العرف والعادة. مسألة: قال الشافعي: "فإن لم يكن لها نسب فمهر أقرب الناس منها شبهًا فيما وصفت". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن مهر مثلها معتبر بنساء عصبتها فإذا وجدن ولم يجز العدول عنهن إلى نساء الأم. فإن عدم نساء العصبات اعتبر بعدهن للضرورة نساء الأم لأنهن أقرب إليها بعد العصبات من الأجانب. فنبدأ باعتبار الأم ثم بناتها وهن الأخوات من الأم ثم بأمها وهي الجدة من الأم. فإن اجتمع جدتان أم أب وأم أم ففيها ثلاثة أوجه: أحدها: أن اعتبارها بأم الأب أولى به لأنها من جهة التعصيب.

باب الاختلاف في المهور

والثاني: أن أم الأم أولى لأن العصبة فيها محققة. والثالث: أنهما سواء. ثم بعد الجدات الخالات ثم بنات الأخوات ثم بنات الأخوال ثم على هذا فإذا عدم جمع القرابات فنساء بلدها لاشتراكهن في العادة فإذا عدمن فأقرب البلاد ببلدها. مسألة: قال الشافعي: "وإن كان نساؤها إذا نكحن في عشائرهن خففن خففت في عشيرتها". قال في الحاوي: اعلم أن العادات في مهر المثل معتبرة فربما جرت عادة قبيلتها إذا نكحن في عشائرهن خففن المهور وإذا نكحن في غير عشائرهن ثقلن المهور وهذا يكون من عادات القبيلة التي تشرف على غيرها. فإن كانت من هؤلاء وكان الزوج من عشيرتها خفف مهر مثلها وإن كان من غير عشيرتها ثقل مهر مثلها. وربما كانت عادة قبيلتها إذا نكحن في عشائرهن ثقلن المهور وإذا أنكحن في غير عشائرهن خففن المهور وهذا يكون من عادات القبيلة الدنيئة التي غيرها أشرف منها فإن كانت من هؤلاء وكان الزوج من عشيرتها ثقل مهرها. فإن قيل: فإذا كنتم تعتبرون مهر المثل بقيم المتلفات فالمعتبر في القيم حال التالف لا حال المتلف فكيف اعتبرتم هاهنا حال المتلف وحال التالف؟ قيل: لأن كل واحد من الزوجين مقصود بالعقد في النكاح فجاز أن يعتبر بالتالف والمتلف وليس كسائر المتلفات التي لا يعتبر فيها إلا أثمانها بالعقود وقيمها بالاستهلاك. وعلى هذا: إذا كان عادة قبيلتها أن يخففن المهور في نكاح الشباب ويثقلن المهور في نكاح الشيوخ. روعي ذلك، والله أعلم. باب الاختلاف في المهور مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وإذا اختلف الزوجان في المهر قبل الدخول أو بعده تحالفا ولها مهر مثلها وبدأت بالرجل". قال في الحاوي: وهذا كما قال. إذا اختلف الزوجان في قدر المهر أو جنسه أو في صفته فقال الزوج: تزوجتك على

صداق ألف وقالت الزوجة: بل على صداق ألفين أو قال: تزوجتك على دراهم وقالت: بل على دنانير أو قال على صداق مؤجل فقالت: بل حال فكل ذلك سواء ويتحالف الزوجان عليه عند عدم البينة وقال النخعي وابن أبي ليلى وابن شبرمة وأبو يوسف: القول فيه قول الزوج. وقال أبو حنيفة ومحمد: إن كان الاختلاف بعد الطلاق فالقول قول الزوج وإن كان قبل الطلاق فالقول قول الزوجة إلا أن تدعي أكثر من مهر المثل. فيكون القول في الزيادة على مهر المثل قول الزوج. وقال مالك: إن كان الاختلاف بعد الدخول فالقول قول الزوج لأنه غارم وإن كان قبل الدخول تحالفًا. وأصل هذه المسألة: اختلاف المتبايعين في قدر الثمن أو المثمن فيبني كل واحد من الفقهاء اختلاف الزوجين في الصداق على مذهبه في اختلاف المتبايعين في البيع وقد مضى الكلام معه في كتاب البيوع. ثم من الدليل على صحة ما ذهبنا إليه من تحالفهما قول النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر". وكل واحد من للزوجين مدعِ ومدعى عليه. فإن الزوج يقول: تزوجتك بألف وما تزوجتك بألفين. والزوجة تقول: تزوجتني بألفين وما تزوجتني بألف. فلم يتراجح أحدهما على صاحبه وتساويا في الدعوى والإنكار فتحالفا ولأنهما لو تداعيا دارًا هي في أيديهما وتساويا فيها ولم يترجح أحدهما على صاحبه بشيء تحالفا كذلك اختلاف للزوجين عند تساويهما يوجب تحالفهما. فصل: فإذا ثبت تحالف للزوجين فإنهما يتحالفان عند الحاكم لآن الأيمان في الحقوق لا يستوفيها إلا الحاكم فإذا حضراه قال الشافعي هاهنا: بدأ بإحلاف الزوج. وقال في اختلاف المتيايعين: إنه يبدأ بإحلاف البائع وهو يتنزل منزلة الزوجة في النكاح والزوج يتنزل منزلة المشتري في البيع. وقال في كتاب "الدعوى والبينات" في اختلاف المتبايعين ما يدل على أن الحاكم بالخيار في البداية بإحلاف أيهما شاء. فاختلف أصحابنا في ذلك على ثلاثة طرق: أحدها: أن المسألتين في اختلاف الزوجين والمتبايعين على ثلاثة أقاويل: أحدها: أنه يبدأ بإحلاف البائع والزوجة على ما يقتضيه في البيوع.

والقول الثاني: أنه يبدأ بإحلاف الزوج والمشتري على ما يقتضيه نصه في الصداق. والقول الثالث: أن الحاكم بالخيار في البداية بإحلاف أي الزوجين شاء على ما يقتضيه كلامه في الدعوى والبينات. والثانية: وهي طريقة أبي حامد المروزي: أن المسألتين على قول واحد وأن الحاكم فيهما بالخيار في البداية يإحلاف أي الزوجين شاء وأي المتبايعين شاء. والثالثة: وهي طريقة أبي إسحاق المروزي: أن حكم المسألتين مختلف وأنه يبدأ في اختلاف للزوجين بإحلاف الزوج قبل الزوجة. وفي اختلاف المتبايعين بإحلاف البائع قبل المشتري. والفرق بينهما: أن جنبة البائع أقوى لعود السلعة إليه بعد التحالف فبدأ بإحلافه وجنبة الزوج أقوى لأنه قد ملك البضع ولا يزول ملكه عنه بعد التحالف فبدأ بإحلافه، والله أعلم. فصل: فإذا ثبت تحالفهما ومن بدأ الحاكم بإحلافه متهما فقد اختلف أصحابنا: هل يحلف كل واحد منهما يمينًا واحدة أو يمينين؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول كثير من أصحابنا ن أنه يحلف كل واحد عنهما يمينًا واحدة تجمع النفي والإثبات لأنه أسرع إلى فصل القضاء فعلى هذا في كيفية يمينه وجهان: أحدهما: يصرح فيها بالابتداء بالنفي ثم بالإثبات فيقول الزوج: والله ما تزوجتك على صداق ألفين ولقد تزوجتك على صداق ألف. ثم تحلف الزوجة فتقول: والله ما تزوجتني على صداق ألف ولقد تزوجتني على صداق ألفين. والثاني: أنه لا يصرح بالنفي ويصرح بالإثبات الدال على النفي فيقول والله ما تزوجتك إلا على صداق ألف. وتقول الزوجة: والله ما تزوجتني إلا على صداق ألفين لأن اليمين على هذا الوجه أوجز واللفظ فيه أخص. فهذا إذا قيل يحلفهما يمينًا واحدة. والوجه الثاني: أنه يحلف كل واحد منهما يمينين. يمينًا للنفي ثم يمينًا للإثبات. وهذا قول أبي العباس بن سريج فيبدأ بيمين النفي. فيقول الزوج: والله ما تزوجتك على صداق ألفين وتقول الزوجة: والله ما تزوجتني على صداق ألف. ثم يحلفهما بعد ذلك يمين الإثبات فيقول الزوج ن والله لقد تزوجتك على صداق ألف. ونقول الزوجة: والله لقد تزوجتني على صداق ألفين. فصل: فإذا تحالف الزوجان على ما وصفنا بطل الصداق لأنه تردد بين أن يكون ألفًا بيمين

الزوج وبين أن يكون ألفين بيمين الزوجة فصار كما لو تزوجها على صداق ألف أو ألفين فيكون باطلًا للجهل به كذلك إذا تحالفا. وهل يبطل الصداق بنفس التحالف أو بفسخ الحاكم؟ على رجلين مضيا في البيوع ثم إذا بطل الصداق لم يبطل النكاح. وقال مالك: إذا تحالفا بطل النكاح بناء على أصله في أن فساد الصداق موجب فإن فساد الصداق إذا سقط من النكاح صار نكاحًا بغير صداق ولو نكحها على غير صداق صح النكاح فكذلك إذا نكحها على صداق فاسد وكان هذا بخلاف تحالف المتبايعين في بطلان البيع بعد التحالف لأن البيع لا يصح إلا بثمن فبطل ببطلان والنكاح يصح بغير صداق فلم يبطل ببطلان الصداق. فصل: فإذا ثبت أن النكاح لا يبطل بتحالفها حكم لها بمهر المثل لأنه قد صار بالعقد مستهلكًا لبضعها فلزمه غرم قيمته وهو مهر المثل كما يلزم البائع بعد التحالف إذا تلفت السلعة غرم قيمتها ويحكم لها بمهر المثل سواء كان أقل مما دعته أو أكثر. وقال أبو علي بن خيران: يحكم لها بمهر المثل وإن كان مثل ما ادعته أو أقل ولا يحكم لها إذا كان أكثر مما ادعت إلا يقدر ما ادعت لأنها غير مدعية للزيادة فلم يحكم لها بما لا تدعيه وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن دعواها كانت لمسمي في عقد وقد بطل بالتحالف وهذا قيمة متلف فلم يؤثر فيه حكم الدعوى في غيره. والثاني: أنه لما كان لو نقص مهر المثل عما أقر به الزوج لم يلزمه إلا مهر المثل وإن كان مقرًا بالزيادة وجب إذا كان مهر المثل أكثر مما ادعت أن يحكم لها به وإن كانت غير مدعية للزيادة والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "وهكذا الزوج وأبو الصبية البكر وورثه الزوجين أو حدهما". قال في الحاوي: ذكر الشافعي هاهنا مسألتين: إحداهما: اختلاف الزوج والولي. والثانية: في اختلاف ورثة الزوجين أو أحدهما وورثة الآخر. فأما المسألة الأولى: وهي اختلاف الزوج والولي فهذا على ضربين:

أحدهما: أن تكون الزوجة وقت العقد جائزة الأمر بالبلد والعقل فلا اعتبار يقول الولي في تصديق أو تكذيب سواء كان الولي أبًا أو عصبة وسواء كانت الزوجة بكرًا أو ثيبًا. فإن كانت الزوجة مصدقة لزوجها على قدر الصداق لم يؤثر فيه مخالفة الولي وإن كانت الزوجة مخالفة لزوجها في قدر الصداق لم يؤثر فيه تصديق الولي وكان للزوجين أن يتحالفا على ما مضى ولم يجز أن يكون الولي شاهدًا للزوج قيما ادعاه من الصداق لأنه يشهد على فعل نفسه. والثاني: أن تكون الزوجة وقت العقد صغيرة فليس يصبح أن يزوجها إلا أبوها أو جدها. فإذا اختلف الأب والزوج في قدر صداقها فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون ما ادعاه الأب هو قدر مهر المثل وما يقر به الزوج أقل فلا تحالف بينهما والقول فيه قول الأب بغير يمين لأنه لا يجوز للأب أن يزوج الصغيرة بأقل من مهر المثل ولو زوجها به لكان لها مهر المثل. والثاني: أن يكون ما ادعاه الأب أكثر من مهر المثل وما أقر به الزوج قدر مهر المثل فهاهنا يكون التحالف وإذا وجب التحالف فلا يخلو حال الزوجة وقت الاختلاف والتحالف من أحد أمرين: إما أن نكون على حال الصخر أو قد بلغت. فإن كانت صغيرة حلف الزوج وهل يحالفه الأب أو تكون اليمين موقوفة على بلوغ الزوجة؟ على وجهين: أحدهما: أن الزوج إذا حلف لم يجز للأب أن يحلف معه ووقفت اليمين بلوغ الزوجة لأمرين: أحدهما: أن النيابة في الإيمان لا تصح. والثاني: أن اليمين إنما وضعت لإثبات حق الحالين أو رفع مطالبه عنه وليس الأب بهذه المنزلة فلم يجز أن يحلف وتأول قائل هذا الوجه قول الشافعي: "وكذلك الزوج وأبو الصبية" يعني في أنهما إذا اختلفا قدم الحاكم الزوج في إحلافه. والثاني: وهو قول أبي العباس بن سريج وأبي إسحاق المروزي. والظاهر من نص الشافعي: أنه يجوز للأب أن يحلف مع الزوج لأمرين: أحدهما: أنه مباشر للعقد فجاز أن يحلف على فعل نفسه وإن كان في حق غيره كالوكيل. والثاني: وأشار إليه ابن سريج: أنه لما قبل إقراره فيه وإن كان في حق غيره جاز إحلافه فيه عند إنكاره. فعلى هذا إن حالف الأب الزوج حكم للزوجة بمهر المثل وإن نكل الأب عن اليمين ففيه وجهان:

أحدهما: يحكم بنكوله ويقضى بالمهر الذي اعترف به الزوج إذا كان بقدر مهر المثل لأن من حكم يمينه إذا حلف حكم بنكوله إذا نكل. والثاني: أنه لا يحكم بنكوله لما فيه من إسقاط حق الزوجة وتوقف اليمين على بلوغها لجواز أن يثبت بيمينها ما لا يثبته الولي فيحكم لها به. وإن كانت الزوجة وقت التحالف بالغة؟ فإن قيل: إن الأب لا يجوز أن يحالف الزوج في حال صغرها فأولى أن لا يحالفها في حال كبرها. وإذا قيل: له مخالفة الزوج في حال صغرها فأيهما أحق بمخالفة الزوج؟ فيه وجهان: من اختلاف المعنيين في تعليل هذا الوجه: أحدهما: أن الأب المباشر للعقد هو المحالف للزوج لفضل مباشرته وتعليلًا بقبول اعترافه. والثاني: أن الزوجة المالكة هي المحالفة للزوج دون الأب لاختصاصها بالملك وتعليلًا بأن الأب نائب. وعلى الوجهين معًا: لو امتنع الأب من اليمين جاز لها مخالفة الزوج وإنما الوجهان: هل يجوز مع بلوغها أن يحلف الأب؟ فصل: وأما المسالة الثانية: وهي اختلاف ورثة الزوجين أو أحدهما وورثة الآخر فقد حكي عن أبي حنيفة أنه إذا طالت صحبة الزوجين وحسنت عشرتهما وذهبت عشيرتهما ثم ماتت الزوجة لم يكن لوارثها مطالبة الزوج بصداقها وحكاه عند أبي الحسن الكرخي من أصحابه وعلى مذهب الشافعي وجمهور الفقهاء لوارثها مطالبة الزوج بصداقها وإن طالت صحبتهما لأمرين: أحدهما: أنه لما جازت مطالبته مع قرب المدة جازت مع بعدها كالدين. والثاني: أنه لما جاز للزوجة مطالبته جاز لوارثها مطالبته كالمدة القصيرة فلذا ثبت أن الصداق باق وأن للوارث مطالبة الزوج به فاختلفا في قدره جاز أن يتحالفا عليه لأن الوارث يقوم مقام موروثه في الاستحقاق فقام مقامه في لتحالف فعلى هذا إن تحالف وارثا الزوجين حلفا كتحالف الزوجين إلا في شيء واحد وهو أن يمين الزوجين على البت والقطع في النفي والإثبات جميعًا ويمين الوارثين على نفي العلم في النفي وعلى القطع في الإثبات لأن من حلف على فعل نفسه كانت يمينه على القطع في نفيه وإثباته، ومن حلف على فعل غيره كانت يمينه على العلم في نفيه وعلى القطع في إثباته. فعلى هذا يحلف وارث الزوج فيقول: والله ما أعلمه تزوجها على صداق ألفين ولقد تزوجها على صداق ألف.

ويقول وارث الزوجة: والله ما أعلمه تزوجها على صداق ألف ولقد تزوجها على صداق ألفين. فإن كان الورثة جماعة حلف كل واحد منهم يمينًا على ما وصفنا ولم ينب أحدهم عن غيره فيها فإن حلف بعضهم ونكل بعضهم أجرى على الحان حكمه وعلى الناكل حكمه. ولو مات أحد الزوجين وكان الآخر باقيًا تحالف الباقي منهما ووارث الميت وكانت يمين الباقي على القطع في نفيه وإثباته ويمين الوارث على للعلم في نفيه وعلى القطع في إثباته. فصل: فأما إذا كان الاختلاف في المهر بين أبوي الزوجين الصغيرين فان حكم بالصداق في مال الزوج إما ليساره وإما على أحد القولين في إعساره فلا تحالف بينهما لأن الأب لا يجوز أن يزوج ابنه الصغير بأكثر من مهر المثل ولا يجوز لأب الزوجة الصغيرة أن يزوجها بأقل من مهر المثل فبطل التحالف ووجب مهر المثل لأن أبا الزوج لا يجوز أن يزيد عليه وأبا الزوجة لا يجوز أن ينقص منه. وإن حكم بالصداق على أبي الزوج جاز التحالف لأنه يجوز أن يبذل الأب من ماله عن ابنه أكثر من مهر المثل. فعلى هذا لأبي الزوج أن يحلف مع صغر ابنه ومع كبره وهل يجوز لأبي الزوجة أن يحلف مع صغرها أم لا؟ على ما ذكرنا من الوجهين. فصل: وإذا اختلف زوج الأمة وسيدها في قدر صداقها تحالف عليه الزوج والسيد دون الزوجة لأنه حق للسيد دونها وكذلك لو كانت الزوجة مدبرة أم أم ولد ولو كانت مكاتبة كانت هي المحالفة دون السيد لأن مهر المكاتبة لها ومهر المدبرة وأم الولد لسيدها. مسألة: قال الشافعي: "والقول قول المرأة ما قبضت مهرها؛ لأنه حق من الحقوق لا يزول إلا بإقرار الذي له الحق ومن إليه الحق". قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا اختلف الزوجان في قبض المهر مع اتفاقهما على قدره فقال الزوج: قد أقبضتك مهرك وقالت الزوجة لم أقبضه. فالقول قول الزوجة مع يمينها أنها لم تقبضه وسواء كان قبل للدخول أو بعده أو قبل الزفاف أو بعده.

وحكي عن بعض الفقهاء السبعة بالمدينة أنه إذا كان قبل الزفاف فالقول قولها وإن كان بعد الزفاف فالقول قوله. وقال مالك: إن كان قبل للدخول فالقول قولها وإن كان بعد الدخول فالقول قوله استدلالًا بالفرق أنها لا تسلم نفسها غالبًا إلا بعد قبض المهر فكان الظاهر بعد الدخول والزفاف مع الزوج فقبل قوله وقبل الدخول والزفاف مع الزوجة فلم يقبل قوله. وهذا فاسد لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"البينة على المدعي واليمين على من أنكر" والزوج مدع فكلف البينة والزوجة منكره فكلفت اليمين ولأن من ثبت في ذمته حق لغيره لم يقبل قوله في دفعه والديون فأما الاعتبار بالعادة فغير صحيح لأن عادات الناس فيه مختلفة ثم لو اتفقت لما تعلق بها حكم ألا ترى أن مشتري السلعة إذا ادعى دفع ثمنها بعد قبضها لم يقبل قوله. وإن جرت العادة بأن السلعة لا تسلم إليه إلا بعد قبض الثمن منه. ولو ادعى للراهن قضاء الدين رد الرهن عليه لم يقيل قوله وإن جرت العادة أن الراهن لا يرد إلا بعد قبض الدين كذلك الزوجة. مسألة: قال الشافعي: "فإن قالت المرأة: الذي قبضت هدية وقال: بل هو مهر فقد أقرت بمال وادعت ملكه فالقول قوله". قال في الحاوي: وهذا كما قال. إذا دفع الزوج إليها مالًا ثم اختلفا فيه فقالت الزوجة: أخذته هبة وصداقي باقٍ وقال الزوج: بل دفعته صداقًا. فالقول قول الزوج سواء كانت من جنس الصداق أو من غيره وسواء كان مما جرت العادة بمهاداة الزوج بمثله أم لا. وقال مالك: إن كان مما جرت العادة أن يهديه الزوج للزوجة كالثوب والمقنعة والطيب والحلي فالقول قولها مع يمينها اعتبارًا بالعرف ولها المطالبة بمهرها. وهذا خطأ؛ لأن الأموال لا تتملك على أربابها بالدعاوى ولأنها لو ادعت هبة ذلك وقد قبضت مهرها لم يقبل قولها فكذلك قبل قبضه. وقد مضي الجواب عما استدل به من الصرف. فصل: فإذا ثبت أن القول قول الزوج دونها فإن ادعت أنه صرح لها بالهبة كان لها إحلافه فيكون القول قوله مع يمينه فإن نكل عن اليمين ردت عليها وحكم لها إن خلفت.

وإن لم تدع أنه صرح لها بالهبة بل قالت: نواها وأرادها ولم يتلفظ بها فلا يمين عليه لأن الهبة لا تصح فلم يلزمه يمين في دعوى هبة فاسدة. فإذا جعلنا القول قوله: لم يخل حال ما أقبضها من حالين: إما أن يكون من جنس صداقها لأنه دراهم وقد دفع إليها دنانير له والصداق عليه لا يقبل قوله في أنها أخذت الدنانير بدلًا من صداقها فإن ادعى ذلك عليها أحلفها. مسألة: قال الشافعي: "ويبرأ بدفع المهر إلى أبي البكر صغيرة كانت أو كبيرة التي على أبوها بضعها ومالها". قال في الحاوي: اعلم أن الأب إذا قبض مهر ابنته لم بخل حالها من أحد أمرين: إما أن يكون المولي عليها أو رشيدة. فإن كان مولي عليها لصغر أو جنون أو سفه: جاز له قبض مهرها لاستحقاقه الولاية على مالها ولو قبضته من زوجها لم يصح ولم يبرأ الزوج منه إلا أن يبادر الأب إلى أخذه منها فيبرأ الزوج حينئذٍ منه وإن كانت بالغة عاقلة رشيدة فعلى ضربين: أحدهما: أن تكون ثيبًا لا تجبر على النكاح فليس للأب قبض مهرها إلا بإذنها فإن قبضه بغير إذنها لم يبر الزوج منه كما لو قبض لها دينًا أو ثمنًا. والثاني: أن تكون بكرًا يجبرها أبوها على النكاح فالصحيح أنه لا يملك قبض مهرها إلا بإذنها فإن قبضه بغير إذن لم يبرأ الزوج منه وجعل له بعض أصحابنا قبض مهرها لأنه يملك إجبارها على النكاح كالصغيرة. وقال أبو حنيفة: له قبض مهرها بكرًا كانت أو ثيبًا ما لم تنهه عنه وكلا المذهبين عنه غير صحيح لأن صداقها دين فلم يجز أن ينفرد الأب يقبضه مع رشدها كسائر الديون ولأن ما لم يملك قبض دينها لم يكن له قبض مهرها كغير الأب من الأولياء ولأنه لو ملك القبض بخير إذن لما أثر فيه النهي كحاله مع الصغيرة وإذا أثر فيه النهي لم يملكه بغير إذن كالوكيل، والله أعلم. الشرط في المهر مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالي: "وإذا عقد النكاح بألف على أن لأبيها ألفا المهر فاسد لأن الألف ليس بمهر لها بحق له باشتراطه إياه".

قال في الحاوي: وهذا صحيح. إذا تزوجها على صداق ألف على أن لأبيها ألذ لم يصح الشرط ولم يلزمه دفع الألف إلى الأب ويبطل به الصداق. وقال قتادة: الصداق صحيح على ألف والشرط لازم للأب وعلى الزوج له ألف بالشرط. وقال مالك: الشرط باطل في حق الأب ويصير الألفان معًا صداقًا للزوجة والدليل على مالك في بطلان الشرط أن شروط العقود ما كانت في حق المعقود أو المعقود عليه وليس الأب واحدًا منهما فلم يصح الشرط له كما لو شرطه أجنبي. والدليل على قتادة في أن ما شرطه الأب لا يصير صداقًا للزوجة: هو أن ما لم يجعل صداقًا مسمى لم يجز أن يصير صداقًا مسمى كالمشروط لغير الأب ولأنه لو جاز أن يكون ما شرطه للأب زيادة في الصداق لكان ما شرط على الأب نقصانا من الصداق وهذا باطل في الشرط عليه فبطل في الشرط له. فصل: فإذا ثبت أن الشرط باطل في حق الأب بخلاف ما قاله قتادة وباطل في حق الزوجة بخلاف ما قاله مالك كان الصداق باطلًا لأن للشرط تأثرًا في النقصان منه وقدره مجهول فأفضى إلى جهالة جميع الصداق وإذا صار الصداق مجهولًا بطل ولم يبطل النكاح وكان لها مهر المثل فإن طلقت قبل الدخول كان لها نصف مهر المثل لأنه قد سمى لها صداقًا فاسدًا. مسألة: قال الشافعي: "ولو نكح امرأة على ألف وعلى أن يعطى أباها ألفًا كان جائزًا ولها منعه وأخذها منه لأنها هبة لم تقبض أو وكالة". قال في الحاوي: ذكر المزني هذه المسألة على صورة التي قبلها وخالف بينهما في الجواب فقال: لو نكحها على ألف وعلى أن يعطى أباها ألفا كان جائزًا. وقال في الأولى: ولو عقد نكاحها بألف على أن لأبيها ألفًا فالمهر فاسد وهما في الصورة سواء وفي الجواب مختلفان. فذهب أكثر أصحابنا إلى المزني أخطأ في نقل هذه المسألة وأن هذا الجواب مسطور للشافعي في الأم في غير هذه المسألة وهو أن يزوجها على ألفين على أن يعطي

أباها ألفًا منها أو تعطى أباها ألفًا منها فإن كانت هي المعطية للألف فهي هبة للأب وإن كان هو المعطى للألف احتمل أن تكون هبة للأب واحتمل أن نكون وكالة يتولى قبضها الأب فيكون الصداق جائزًا لأن جميع الألفين صداق ولم يؤثر فيه هذا الشرط لأنه لم يشترط لنفسه عليها ولا اشتراط لها على نفسه. وإذا لم يكن الشرط على أحد هذين الوجهين لم يؤثر قي زيادة الصداق ولا نقصانه فسلم من الجهالة فلذلك صح. فأما ما نقله المزنى فخطأ وجوابه كجواب المسألة الأولى لنماثلهما في الصورة والذي عندي أن نقل المزني صحيح وأنه متأول على ما ذكروه ومحمول الجواب علي ما صوروه لأن في لفظ المسألة دليل على هذا التأويل وهو المفرق بينها وبين المسألة الأولى لأنه قال في هذه ولو تزوجها على ألف وعلى أن يعطي أباها ألفًا وقال في الأولى: ولو عقد نكاحها بألف على أن لأبيها ألفًا فجعل لأبيها في هذه المسألة قبض الألف وجعل لأبيها في المسألة الأولى ملك الألف فدل عل أن الألفين في هذه المسألة صداق للزوجة فلذلك صح وفي الأولى إحداهما صداق لها والأخرى للأب فلذلك بطل. ثم يوضح أن نقل المزني صحيح وأنه محمول على هذا التأويل ما ذكره في الحكم وبينه من التعليل لأنه قال: ولها منعه وأخذها منه وليس لها أن تمتع الزوج من دفع ماله ولا لها أن تأخذ غير صداقها فدل على أن الألفين كانت صداقًا لها ثم لين في التعليل فقال: لأنها هبة لم تقبض أو كالة لم تتم فدل على أن الشرط كان معقودًا على أن تهب هي من الألفين ألفًا لأبيها أو توكله في قبضها فكانت على خيارها في أن تتمم الهبة بالقبض أو ترجع فيها أو تتمم الوكالة أو تبطلها. وقد ذكر الشافعي مثل هذه المسالة في كتاب الأم يريد بها ما ذكرنا من التأويل فقال: ولو أصدقها ألفين على أن يعطي أباها ألفًا وأمها ألفًا كان الكل للزوجة وإنما يكون الكل لها إذا كان الكل صداقًا تكون لها بالتسمية لا بالشرط بخلاف ما قاله مالك. فصل: في الشروط التي تدخل النكاح. مسألة: قال الشافعي: "ولو أصدقها ألفًا على أن لها أن تخرج أو على أن لا يخرجها من بلدا أو على أن لا ينكح عليها أو يتسرى أو شرطت عليه منع ماله أن يفعله فلها مهر مثلها في ذلك كله فإن كان قد زادها على مهر مثلها وزادها الشرط أبطلت الشرط ولم أجعل لها الزيادة لفساد عقد المهر بالشرط ألا ترى لو اشترى عبدًا بمائة دينار (ورق)

خمر فمات العبد في يد المشترى ورضي البائع أن يأخذ المائة ويبطل الرق الخمر لم يكن ذلك لأن الثمن انعقد بما لا يجوز فطل وكانت له قيمة العبد". قال في الحاوي: اعلم أن الشرط في النكاح ضربان: جائز ومحظور فأما الجائز: فما وافق حكم الشرع في مطلق العقد مثل أن يشترط عليها أن له أن يتسرى عليها أو يتزوج عليها أو يسافر بها أو أن يطلقها إذا شاء أو أن تشترط هي عليه أو يوليها صداقها أو أن ينفق عليها نفقة مثلها أو يقسم لها مع نسائه بالسوية. فكل هذه الشروط جائزة والنكاح معها صحيح والمسمى فيه من الصداق لازم لأن ما شرطة الزوج منها لنفسه يجوز له فعله بغير شرط فكان أولي بأن يجوز مع الشرط. وما شرطته الزوجة عليه يلزمه بغير شرط فكان أولى أن يلزمه الشرط وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن أحق ما وفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج". وأما المحظور منها: فمردود لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ولو كان مائة شرط شرط الله أحق وعقده أوثق". روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المؤمنون على شروطهم إلا شرطًا أحل حرامًا أو حرم حلالًا". والشروط المحظورة تنقسم أربعة أقسام: أحدها: ما يبطل به النكاح. والثاني: ما يبطل به الصداق. والثالث: ما يختلف حكمه لاختلاف مشترطه. والرابع: ما اختلف أصحابنا فيه. فصل: فأما القسم الأول: وهو ما يبطل النكاح فهو كل شرط رفع مقصود العقد مثل أن يتزوجها على أنها طالق رأس الشهر إذا قدم زيد أو على أن الطلاق بيدها تطلق نفسها متى شاءت. فالنكاح بهذه للشروط باطل سواء كانت هذه الشروط من جهته أو من جهتها لأنها رافعة لمقصود العقد من البقاء والاستدامة قصار النكاح بها مقدر المدة فجرى مجرى

نكاح المتعة لكان باطلًا. فصل: وأما القسم الثاني: وهو ما يبطل الصداق دون النكاح: فهو كل شرط خالف حكم العقد وهو على ضربين: أحدهما: ما كان من جهة الزوج. والثاني: ما كان من جهة الزوجة. فأما ما كان من جهة الزوج: فمثل أن يتزوجها على أن لا يقسم لها مع نسائه أو على أن تخفف عنه نفقتها وكسوتها أو تنظره بهما. وفي حكم ذلك: أن يشترط عليها أن لا تكلم أباها ولا أخاها فهذه كلها شروط باطلة لأنها من للشروط التي تحلل حرامًا أو تحرم حلالًا واختصت بالصداق دون النكاح لأن مقصود النكاح موجود معها فوجب أن يبطل الصداق بها لأنها قابلت منه جزءًا إذ كأنه زادها فيه لأجلها وإذا أوجب بطلانها يطل ما قابلها منه وهو مجهول صار الباقي بها مجهولًا فبطل وكان لها مهر المثل سواء كان أكثر مما سمى أو أقل. وقال أبو حنيفة: إن كان مهر المثل أكثر من المسمى لم أوجب لها إلا المسمى وهو قول أبي علي بن خيران من أصحابنا لأنها رضيت به مع اشتراطه عليها فلأن ترضى به مع عدم الشروط أولى. وهذا فاسد لأن سقوط المسمى بالفساد إذا أوجب الرجوع إلى القيمة استحقت وإن كانت أكثر من المسمى كمن قبض عبدًا اشتراه بألف على شروط فاسدة شرطها على بائعه ثم تلف العبد في يده وقيمته أكثر من ثمنه استحقت عليه القيمة دون المسمى وإن كانت القيمة أكثر كذلك هاهنا. وأما ما كان من جهة الزوجة. فمثل أن تشترط عليه أن لا يتزوج عليها أو أن لا يتسرى بالإماء وأن لا يسافر بها فهذه شروط فاسدة لأنها منعته مما له فعله وتوجهت إلى الصداق دون وجود مقصود النكاح معها. وإذا كان كذلك فللصداق المسمى حالان: أحدهما: أن يكون أقل من مهر المثل فيبطل المسمى لبطلان الشروط التي قابلها جزء منه فصار به مجهولًا ويجب لها مهر المثل. والثانية: أن يكون المسمى من الصداق أكثر من مهر المثل ففيما تستحقه وجهان: أحدهما: وهو الأصح أنها تستحق مهر المثل تعليلًا بما ذكرنا من بطلان المسمى بما قابله من الشروط التي صار بها مجهولًا. والثاني: وهو قول المزني إنها تستحق المسمى لأن لا يجتمع عليها بخسان: بخس بإسقاط الشروط، وبخس بنقصان المهر.

ولأنها لم ترض مع ما شرطت إلا بزيادة ما سمت فإذا منعت الشروط لم تمنع المسمى. فصل: وأما القسم الثالث: وهو ما يختلف حكمه باختلاف مشترطه فهو ما منع مقصود العقد في إحدى الجهتين دون الأخرى فمثل أن يتزوجها على أن لا يطأها فان كان الشرط من جهتها فتزوجته على أن لا يطأها فالنكاح باطل لأنها منعته ما استحقه عليها من مقصود العقد. وإن كان الشرط من جهته فتزوجها على أن لا يطأها فالنكاح على مذهب الشافعي صحيح لأن له الامتناع من وطئها بغير شرط فلم يكن في الشرط مع من موجب العقد. وقال أبو علي بن أبي هريرة: على الزوج أن يطأها في النكاح مرة واحدة على قوله إذا شرط عليها أن لا يطأها يبطل النكاح كما لو شرطت عليه أن لا يطأها. وليس هذا بصحيح لما ذكره في باب العنين. فأما إذا كان الشرط أن يطأها ليلًا دون النهار، فقد حكي أبو الطيب بن سلمة عن أبى القاسم الأنماطى أنه إذا شرط الزوج عليها ذلك صح الشرط لأنه له أن يفعل ذلك من غير شرط وإن شرطت الزوجة ذلك بطل النكاح لأنه يمنع مقصود العقد وهنا صحيح ولا يخالف فيه أبو علي بن أبي هريرة. فأما إن كان الشرط أن لا يقسم لها: فإن كان من جهتها صح النكاح لأن لها العفو عن القسم. وإن كان من جهته بطل النكاح إن كان معها غيرها وصح إن انفرد بنفسها لأنها تستحق القسم مع غيرها ولا تستحقه بانفرادها. وأما إن كان الشرط أن لا يدخل عليها سفه: فقد قال الربيع: إن كان الشرط من جهته صح النكاح لأن له أن يمنع من الدخول بغير شرط وإن كان من جهتها بطل النكاح لأنه ليس لها أن تمنعه من غير شرط فصار الشرط مانعًا من مقصود العقد. وعلى هذا التقدير لو تزوجها على أن يطلقها بعد شهر فإن كان الشرط من جهة الزوج صح العقد لأن له أن يطلقها من غير شرط وإن كان من جهة الزوجة بطل العقد لأنه منع من استدامة العقد. ولو تزوجها على أن يخالعها بعد شهر. فإن كان الشرط من جهتها يطل العقد وإن كان من جهته ففي بطلانه وجهان: أحدهما: أن العقد باطل لأنه قد أوجب عليها بالخلع بذل ما لا يلزمها. والثاني: أن العقد صحيح لأنه شرط لم يمنع من مقصود العقد فصار عائدًا إلى الصداق فبطل به الصداق وكان لها مهر المثل.

فصل: وأما القسم الرابع: وهو ما اختلف أصحابنا فيه فهو ما رفع يدل المقصود بالعقد وذلك شأن الصداق والنفقة. فإذا تزوجها على أن لا نفقة لها أبدًا. فإن كان الشرط من جهتها توجه إلى الصداق دون النكاح لأنه حق لها إن تركته جاز فلذلك توجه إلى الصداق دون النكاح فيبطل الصداق ببطلان الشرط في النفقة وهو باطل باشتراط سقوطه والنكاح جائز ولها مهر المثل والنفقة. وإن كان الشرط من جهة الزوج فهل يقدح في صحة النكاح أم لا؟ على وجهين: أحدهما: أنه قادح في صحة النكاح فيكون باطلًا لأن ذلك مقصود العقد من جهة الزوجة فصار كالولي الذي هو مقصود العقد من جهة الزوج. والثاني: أنه غير قادح في صحة النكاح لجواز خلو النكاح من صداق ونفقة فعلى هذا يختص هذا للشرط بفساد الصداق دون النكاح ويحكم لها بمهر المثل والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "ولو أصدقها دارًا واشترط له أو لهما الخيار فيها كان المهر فاسدًا". قال في الحاوي: اعلم أن عقد النكاح لا يدخله خيار المجلس ولا خيار الثلاث لأنه ينعقد ناجزًا لا تقصد فيه المغابنة والخيار موضوع الاستدراك المغابنة. فإن شرط فيه أحد الخيارين فهذا على ضربين: أحدهما: أن يشترطاه أو أحدهما في عقد النكاح فالنكاح بعطل باشتراطه فيه لمنافاته له في اللزوم. والثاني: أن يكون مشروطًا في الصداق دون النكاح فقد قال الشافعي في الأم ونقله المزني هاهنا: أن الصداق باطل والنكاح جائز. وقال في الإملاء: النكاح باطل. فاختلف أصحابنا في اختلاف نصه في هذين الموضعين: فخرجه أبو علي بن أبي هريرة على قولين: أحدهما: أن الصداق باطل والنكاح جائز، لأن بطلان الصداق لا يقدح في صحة النكاح. والثاني: أن النكاح باطل لبطلان الصداق ولم يحك عن الشافعي أنه أبطل النكاح لبطلان الصداق إلا في هذا الموقع لأن دخول الخيار في البدل كدخوله في المبدل.

وقال سائر أصحابنا: ليس ذلك على اختلاف قولين وإنما هو على اختلاف حالين. فالموضع الذي أبطل فيه النكاح إذا كان الخيار مشروطًا في النكاح. والموضع الذي أبطل فيه الصداق وأجاز النكاح إذا كان للخيار مشروطًا في الصداق دون النكاح لأن الصداق عقد يصح إفراده عن النكاح كما يصح إفراد النكاح عنه فلم يوجب بطلان الصداق بطلان النكاح. فإذا قيل ببطلان النكاح فلا مهر فإن أصابها فعليه مهر مثلها وإذا قيل بصحة النكاح، فقد حكي أبو حامد الإسفراييني في الصداق والخيار لأصحابنا ثلاثة أوجه: ولم أر غيره يحكيه لأن نص الشافعي لا يقتضيه: أحدهما: وهو أن الخيار باطل والصداق باطل ولها مهر مثلها لأنه لما امتنع دخول الخيار في النكاح امتنع دخوله في بدله والخيار إذا دخل فيما ينافيه أبطله. والثاني: وهو خلاف نصه: أن الصداق جائز والخيار ثابت لأن الصداق عقد معاوضة يصح إفراده فجرى حكمه حكم الخيار فيه مجراه في عقود المعارضات. والثالث: أن الخيار باطل والصداق جائز لأن الصداق تبع للنكاح فيثبت ثبوته ولم يقدح فيه بطلان الشرط. فصل: فأما إذا تزوجها على صداق ألف على أنه إن جاءها بالألف في يوم كذا وإلا فلا نكاح بينهما فهذا نكاح باطل وصداق باطل وشرط باطل. وحكي عن طاوس وسفيان الثوري: أن الشرط باطل والنكاح جائز. وحكي عن ابن عباس والاوزاعي: أن النكاح جائز والشرط ثابت وهذا قول فاسد بما قدمناه في كتاب البيوع. مسألة: قال الشافعي: "ولو ضمن نفقتها أبو الزوج عشر سنين في كل سنة كذا لم يجز ضمان ما لم وأنه مرة أقل ومرة أكثر". قال في الحاوي: وهذا صحيح. إذا كان الزوج ملكًا بنفقة زوجته وضمنها عنه أبوه أو غير أبيه من جميع الناس فسواء. وهو على ضربين: أحدهما: أن يضمن نفقة ما مضى من الزمان فهذا ضمان مال قد وجب واستقر فيصح ضمانه إذا كان معلوم القدر ومن جنس يستقر ثبوته في الذمة. والثاني: أن يضمن نفقة المستقبل فهذا على ضربين:

أحدهما: أن يكون مجهول المدة مثل أن يضمن لها نفقتها أبدًا فهذا ضمان باطل لأن ضمان المجهول باطل. والثاني: أن يكون معلوم المدة مثل أن يضمن لها نفقتها عشر سنين ففي الضمان قولان بناء على اختلاف قولي الشافعي في نفقة الزوجة بماذا وجبت. فأحد قوليه وهو في القديم وهو قول مالك: أنها وجبت بالعقد وحده وتستحق قبضها بالتمكين الحادث بعده كالصداق الواجب بالعقد والمستحق بالتمكين. والثاني: وهو قوله في الجديد: أنها تجب بالتمكين الحادث بعد العقد وبه قال أبو حنيفة بخلاف الصداق لأن الصداق في مقابلة العقد فصار واجبًا بالعقد والنفقة في مقابلة الاستمتاع فصارت واجبة الاستمتاع. فإذا تقرر هذان القولان في وجوب النفقة كان ضمانها مبنيًا عليهما. فإن قلنا: إنها لا تجب إلا بالتمكين يومًا بيوم فضمانها باطل لأنه ضمان ما لم يجب وقد يجب بالتمكين وقد لا يجب بعده. وإذا قلنا: إنها قد وجبت بالعقد جملة وتستحق قبضها بالتمكين يومًا بيوم صح ضمانها بشرطين: أحدهما: أن يكون ضمانه للقوت الذي هو الحب والحنطة أو الشعير بحسب قوت بلدهم دون الأدم والكسوة لأنهما لا يضبطانه بصفة ولا يتقدران بقيمة فإن قدرهما الحاكم بقيمة جعلهما دراهم معلومة لم يصح ضمانها أيضًا لأنه وإن قومها فهي مقومة لوقتها دون المستقبل وقد تزيد القيمة في المستقبل فيكون للزوجة المطالبة بفضل القيمة وقد ينقص فيكون للزوج أن ينقصها من القيمة. والثاني: أن يكون ضمانه لنفقة المعسر التي لا تسقط عن الزوج باختلاف أحواله وهي مدّ واحد من كل يوم فإن ضمن لها نفقة موسر وهي مدان أو نفقة متوسط وهي مد ونصف فالزيادة على نفقة المعسر قد تجب إن أيسر وقد لا تجب إن أعسر فصار ضمانها ضمان ما لم يجب فعلى هذا يكون الضمان فيما زاد عن المدّ في نفقة المعسر باطلًا وهل يبطل في المدّ الذي هو نفقة المعمر أم لا؟ على قولين من تفريق الصفة، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "وكذلك لو قال ضمنت لك ما داينت به فلانًا أو ما وجب لك عليه لأنه ضمن ما لم يكن وما يجهل". قال في الحاوي: وهذه مسألة من الضمان أوردها المزني هاهنا لأنه أصل يبني عليه ضمان النفقة.

باب عفو المهر وغير ذلك

وضمان الأموال على ضربين: أحدهما: ضمان ما وجب. والثاني: ضمان ما لم يجب. فأما ضمان ما وجب فضربان: معلوم ومجهول. فإن كان معلومًا صح وإن كان مجهولًا بطل. وأما ضمان ما لم يجب كقوله: من عامل فلانًا وادينه فعلى ضمان دينه. فمذهب الشافعي: أنه ضمان باطل سواء عين المداين أو لم يعينه وسواء ذكر للدين قدرًا أو لم يذكره لأن الضمان لازم إن صح وما لم يجب فليس بلازم فلم يصح ضمانه. فإن قيل: أفليس ضمان الدرك صحيح وهو ضمان ما لم يجب؟ قيل: الدرك إذا استحق فوجوبه قبل الضمان وهو معلوم القدر فصار ضمانه ضمانًا واجبًا معلومًا. فهذا مذهب الشافعي في ضمان ما لم يجب وليس بواجب في الحال أنه باطل. وقال أبو إسحاق المروزي: يصح ضمان ما لم يجب بشرطين: أحدهما: أن يكون لإنسان معين فإن كان لغير معين لم يصح. والثاني: أن يكون في معلوم مقدر فإن كان في مقدر لم يصح اعتبارًا بضمان الدرك. وليس لهذا الجمع وجه والفرق بينهما: أن استحقاق الدرك يقتضي وجوبه قبل الضمان فصح وما تعامل به مستحق بعد الضمان فلم يصح، والله أعلم. باب عفو المهر وغير ذلك قال الشافعي رحمه الله تعالي: قال الله تعالى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] قال: والذي بيده عقدة النكاح الزوج وذلك أنه إنما يعفو من ملك فجعل لها مما وجب لها من نصف المهر أن تعفو وجعل له أن يعفو بأن يتم لهم الصداق وبلغنا عن على بن أبي طالب رضي الله عنه أن الذي بيده عقده النكاح الزوج وهو قول شريح وسعيد بن جبير وروى عن ابن المسيب وهو قول مجاهد. قال الشافعي رحمه الله تعالي: فأما أبو البكر وأبو المحجور عليه فلا يجوز عقدهما كما لا تجوز لهما هبة أموالها". قال في الحاوي: وأصل هذا قوله تعالى: {وإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237] وهذا خطاب للأزواج في طلاق النساء قبل الدخول وهو أولى الطلاقين لمن كان قبل للدخول كارهًا.

ثم قال: {وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 237] يعني: سميتم لهن صديقًا: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] فيه تأويلان: أحدهما: فنصف ما فرضتم لكم تسترجعون منهن. والثاني: فنصف ما فرضتم لهن ليس عليكم غيره لهن. ثم قال: {إلاَّ أَن يَعْفُونَ} [البقرة: 237] وهذا خطاب للزوجات عدل به بعد ذكر الأزواج إليهن وندبهن فيه إلى العفو عن حقهن من نصف الصداق ليكون عفو الزوجة أدعى إلى خطبتها وترغيب الأزواج فيها. ثم قال: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] وفيه قولان للشافعي: أحدهما: وهو قوله في القديم: أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي أبو البكر الصغيرة أو جدها لأنه لما ندب الكبيرة إلى للعفو ندب ولي الصغيرة إلى مثله ليتساويا في ترغيب الأزواج فيهما. وهو في الصحابة قول ابن عباس وفي التابعين قول الحسن ومجاهد وعكرمة وطاوس وفي الفقهاء قول ربيعة ومالك وأحمد بن حنبل. والثاني: وهو قول في الجديد: أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج ندبه الله تعالى إلى العفو كما ندبها ليكون عفوه ترغيبًا للنساء فيه كما كان عفوها ترغيبًا للرجال فيها. وبه قال من الصحابة علي بن أبي طالب وجبير بن مطعم. ومن التابعين: شريح وسعيد بن جبير وسعيد بن المسبب والشعبي. ومن الفقهاء: قول سفيان الثوري وابن أبي ليلى وأبي حنيفة. ثم قال: {وأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] وفي المقصود بهذا الخطاب قولان لأهل التأويل: أحدهما: أنه خطاب للزوج والزوجة وهو قول ابن عباس. فيكون العفو الأول خطابًا للزوجة والعفو الثاني خطابًا للزوج والعفو الثالث خطابًا لهما. والثاني: أنه خطاب للزوج وحده وهذا قول الشعبي فيكون العفو الأول خطابًا للكبيرة والعفو الثاني خطابًا الولي الصغيرة والعفو الثالث خطابًا للزوج وحده. وفي قوله: {أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] تأويلان: أحدهما: أقرب لاتقاء كل واحد منهما ظلم صاحبه. والثاني: أقرب إلى اتقاء أوامر الله تعالى في ندبه. ثم قال: {ولا تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ} [البقرة: 237] أي تفضل كل واحد من الزوجين على صاحبه، بما ندب إليه من العفو ونبه على استعمال مثله في كل حق بين متخاصمين. فهذا تأويل الآية.

فصل: فأما توجيه القولين في الذي بيده عقدة النكاح: فاستدل من نص قوله في للقديم أنه ولي الصغيرة وهو ذهب مالك من الآية بأربعة دلائل: أحدها: أنه افتتحها بخطاب الأزواج مواجهة ثم عدل بقوله: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] خطابًا المكنى عنه غير مواجه والخطاب إذا عدل به عن المواجهة إلى الكناية اقتضى ظاهرة أن يتوجه إلى غير المواجه والزوج مواجه فلم تعد إليه الكناية والزوجة قد تقدم حكمها ولفظ الكناية مذكر فلم يجز أن نعود إليها فلم يبق من يتوجه الخطاب إليه غير الولي. والدليل الثاني: من الآية قوله: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] وليس أحد بعد الطلاق بيده عقدة النكاح إلا الولي لأنه يملك أن يزوجها فاقتضى أن يتوجه الخطاب إليه ولا يتوجه إلى الزوج الذي ليس العقد إليه ليكون للخطاب محمولًا على الحقيقة من غير إضمار ولا يحمل على مجاز وإضمار. والدليل الثالث من الآية: أن الذي يختص به الولي من النكاح أن يملك عقده والذي يختص به الزوج أن يملك الاستمتاع بعده فكان حمل الذي بيده عقدة النكاح على الولي الذي يملك عقده أولى من حمله على الزوج الذي يملك الاستمتاع بعده. والدليل الرابع من الآية: أن الزوج غارم للباقي من نصف الصداق في حق الزوجة تقبضه الكبيرة وولي الصغيرة فكان توجه العفو إلى مستحق الغرم أولى من توجهه إلى ملتزم الغرم ولأن الله تعالى إنما ندب الزوجة إلى العفو لما تحظى به رغبة الأزواج فيها فاقتضى أن يكون ولي الصغيرة مندوبة إلى مثل ما ندبت إليه الكبيرة ليتساويا في عود الحظ إليهما بترغيب الأزواج فيهما. فصل: والدليل على صحة قوله في الجديد: أن الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج دون الولي الآية ومنها خمسة أدلة: أحدهما: قوله تعالى {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] والعقدة عبارة عن الأمر المنعقد ومنه حبل معقود وعهد معقود لما قد استقر عقده ونجز والنكاح بعد العقد يكون بيد الزوج دون الولي. والثاني: أنه أمر بالعفو قال الشافعي: وإنما يعفو من ملك والزوج هو المالك دون الولي فاقتضى أن يتوجه الخطاب بالعفو إليه لا إلى الولي. والثالث: أن حقيقة العفو هو الترك وذلك لا يصح إلا من الزوج لأنه ملك بالطلاق أن يتملك نصف الصداق فإذا ترك أن يتملك لم يملك فأما الولي فعفوه إما أن يكون هبة إن كان عينًا أو إبراءًا إن كان في الذمة فصار حقيقة العفو أخمر بالزوج من حمله على المجاز في الولي.

والرابع: أنه إذا توجه بالعفو إلى الزوج كان محمولًا على عمومه في كل زوج مطلق وإذا توجه إلى الولي كان محمولًا على بعض الأولياء في بعض الزوجات هو الأب والجد من بين سائر الأولياء مع الصغيرة البكر التي لم يدخل بها دون سائر الزوجات فكان حمل الخطاب على ما يوجب العموم أولى من حمله على ما يوجب الخصوص. والخامس: قوله: {وأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [البقرة: 237] وهذا الخطاب غير متوجه إلى الولي لأن قربه من التقوى أن يحفظ مال من يلي عليه لا أن يعفو عنه ويبرأ منه فدل على أنه الزوج دون الولي وهو راجع على ما تقدمه فاقتضى أن يكون المتقدم قبله الذي بيده عقده النكاح هو الزوج ويدل عليه من طريق السنة: ما رواه ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولي عقد النكاح الزوج". وهذا نص. ولأنه إجماع الصحابة روى شريح عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن الذي بيده عقدة النكاح الزوج. وروى أبو سلمة عن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة من بني فهر فطلقها قبل الدخول بها وأرسل إليها صداقها كاملًا وقال: أنا أحق بالعفو منها؛ لأن الله تعالى يقول: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] وهذا قول صحابيين فإن قيل: خالفهما ابن عباس. قيل: قد اختلفت عنه الرواية فتعارضتا وثبت خلافه فصار الإجماع بغيره منعقدًا. ومن طريق الاستدلال أن الزوجين متكافئان فيما أمرا به وندبا إليه فلما ندبت الزوجة إلى العفو ترغيبًا للرجال فيها اقتضى أن يكون الزوج مندوبًا إلى مثله ترغيبًا للنساء فيه ولأنه لو ملك الأب العفو لملكه غيره من الأولياء ولو ملكه في البكر لملكه في الثيب ولو ملكه قبل الدخول لملكه يعد الطلاق لملكه قبله ولو ملكه في المهر لملكه في الدين. وتحريره قياسًا: أن من لم يملك العفو عن مهرها إذا كانت ثيبًا لم يملكه إذا كانت بكرًا كالإخوة والأعمام طردًا وكالسيد في أمته عكسًا فإن قيل: فإنما اختص به الأب في البكر لاختصاصه بإجبارها على النكاح قيل: قد يملك إجبار المجنونة والبكر ولا يملك العفو عن صداقها ولأن من لم يملك العفو عن المهر بعد الدخول لم يملكه قبله كالصغيرة طردًا والكبيرة عكسًا. فإن قيل: إنما لم يملكه بعد للدخول لاستهلاك بعضها بالدخول. قيل: لا فرق في رد عفوه بين ما كان في مقابلة رد بدل كالثمن وبين ما كان بغير بدل كالميراث.

ولأنه مال للمولى عليه فلم يكن لوليه العفو عنه كالثمن. فإن قيل: إنما عفا عن المهر لأنه أفادها إياه. فصل: فإذا تقرر توجيه القولين. فإن قلنا بالقديم: إن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي صح عفوه باجتماع خمسة شرائط: أحدها: أن يكون الولي أبا أو جدًا ممن يلي على بضعها ومالها فإن عفا غيرهما من العصبات لم يصح. والثاني: أن تكون المرأة بكرًا يصح إجبار الأب لها على النكاح فإن كانت ثيبًا لم يصح. والثالث: أن تكون صغيرة ثبتت الولاية على مالها فإن كانت كبيرة تملك النظر في مالها لم يصح. والرابع: أن يكون عفوه بعد الطلاق الذي تملك به نفسها فإن عفا قبله لم يصح. والخامس: أن يكون الطلاق قبل الدخول لأن لا يستهلك عليها بضعها فإن كان بعد الدخول لم يصح. فإذا اجتمعت هذه الشروط الخمسة صح حينئٍذ عفوه. وإذا قلنا: إن الزوج إن صح عفوه لجواز أمره بالبلد والعقل والحرية والرشد. فأما الصغير: فلا تبين زوجته منه بالطلاق ولأن طلاقه لا يقع وتبين منه بالردة أو بالرضاع فإن كان ذلك قبل الدخول عاد جميع صداقها إليه لوقوع الفرقة من جهتها قبل الدخول. وإن كان مجنونًا وقعت الفرقة بردتها لا غير فإن كان ذلك قبل الدخول فلا صداق لها. وإن كان عبدًا وقعت الفرقة بطلاقه فيكون في وقوعه كالحر وتقع الفرقة بردتها. وإن كان محجورًا عليه بسفه وقعت الفرقة بطلاقه وبردتها فلا يصح عفو واحد من هؤلاء. ويصح عفو سيد العبد فأما عفو ولي الصغير والمجنون والسفيه فلا يصح قولًا واحدًا وإن كان عفو ولي الزوجة على قولين: والفرق بينهما من وجهين: أحدها: أن ولي الزوجة هو الذي أكسبها الصداق يعقده فصح منه إسقاطه بعقده وولي الزوج ما أكسبه ما عاد من الصداق إليه فلم يصح عفوه عنه. والثاني: أن ما عاد من الزوج قد كان ماله فلم يجز أن يعفو عنه بعد عوده وصداق الزوجة ملك مستفاد فصح عفوه بعد استحقاقه والله أعلم.

مسألة: قال الشافعي: "وأي الزوجين عفا عما في يدبه قلة الرجوع قبل الدفع أو الرد والتمام أفضل". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا طلق الرجل الرشيد زوجته الرشيدة قبل الدخول تنصف الصداق بينهما فكان لها نصفه بالعقد وصار للزوج نصفه وفيما يصير به مالكًا لنصفه قولان مضيا: أحدهما: أنه يصير مالكًا لنصفه بنفس الطلاق. والثاني: أنه ملك بالطلاق أن يتملك نصف الصداق. فإن لم يعف واحد منهما عن حقه تقاسماه عينًا كان أو في الذمة وإن عفا واحد منهما فلا يخلو حال الصداق من أن يكون عينًا أو في الذمة. فإن كان الصداق في الذمة فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون في ذمة الزوج وذلك من أحد وجهين: - إما أن يكون قد أصدقها مالًا في الذمة. - أو أصدقها عينًا تلفت في يده فصار غرمها في الذمة. فلا يخلو العاني من أن يكون هو الزوج أو الزوجة. - فإن كان العافي هي الزوجة فعفوها يكون إيراءًا محضًا ويصح بأحد ستة ألفاظ: إما أن تقول: قد عفوت، أو قد أبرأت، أو قد تركت، أو قد سقطت، أو قد ملكت أو قد وهبت. فبأي هذه الألفاظ الستة أبرأته صح ولم تفتقر إلى قبوله على مذهب الشافعي وأكثر أصحابنا. وقال بعض أصحابه منهم أبو العباس بن رجاء البصري: الإبراء لا يتم إلا بالقبول كالهبة وهذا قول أبي حنيفة. وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه إسقاط ملك فأشبه العنق. والثاني: أنه عفو فأشبه العفو عن القصاص والشفعة. وإن كان العافي هو الزوج: فعفوه هبة محضة لا يصح من الألفاظ الستة إلا بإحدى لفظين: إما الهبة وإما التمليك ولا يتم إلا بثلاثة أشياء: ببذل الزوج وقبول الزوجة وقبض من الزوج أو وكيله فيه إلى الزوجة أو وكيلها فيه. فإن لم تقبض فله الرجوع وهو معنى قول الشافعي: فله الرجوع قبل الدفع.

فصل: والضرب الثاني: أن يكون الصداق في ذمة الزوجة وذلك بأن تستهلكه بعد قبضه فيصير نصفه المستحق: بالطلاق في أحد الوجهين أو باختيار تملكه بعد الطلاق في الوجه الثاني ملكًا للزوج فلا يخلو أن يكون العاني منهما هو الزوج أو الزوجة: فإن كان العافي هو الزوج ترتب عفوه على اختلاف القولين فيما ملك بالطلاق. فإن قيل: إنه ملك بالطلاق نصف الصداق كان عفوه إبراء محضًا يصح بأحد الألفاظ الستة: إما بالعفو أو بالإبراء أو بالترك أو الإسقاط أو التمليك أو الهبة وفي اعتبار قبولها وجهان على ما مضى. وإن قيل: إنه ملك بالطلاق أن يتملك نصف الصداق كان عفوه إبطالًا لتملك الصداق فيصح بالألفاظ الستة التي يصح بها الإبراء أو يصح بزيادة لفظتين وهما: الإحلال والإباحة فيصير عفوه بأحد ثمانية ألفاظ ولا يفتقر إلى القبول وجها واحدًا لا يختلف أصحابنا فيه كما لا يفتقر العفو عن الشفعة والقصاص إلى قبول. وإن كان العافي منهما هي الزوجة فعفوها هبة محضة تصح بإحدى لفظتين: إما الهبة أو التمليك ولا تنم إلا بثلاثة أشياء: بالبذل والقبول والقبض فإن عفا الزوجان جميعًا نظر. - فإن كان في ذمة الزوج غلب عفو الزوجة على عفو الزوج لأن عفو الزوجة إبراء وعفو الزوج هبة. - وإن كان في ذمة الزوجة غلب عفو الزوج على عفو الزوجة لأن عضو الزوج إبراء وعفو الزوجة هبة. فصل: وإن كان الصداق عينًا قائمة فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون في يد الزوج فلا يخلو العاني من أن يكون هو الزوج أو الزوجة. - فإن كان العافي هي الزوجة فعفوها هبة محضة لنصف عين مشتركة في يد الموهوب له فلا تصح إلا بإحدى لفظتين: الهبة أو التمليك ولا تتم إلا بثلاثة أشياء ورابع مختلف فيه: وهو البذل والقبول والقبض وأن يمضي عليهما بعده زمان القبض وهل يفتقر إلى إذن الزوجة له بالقبض أم لا؟ على قولين: أحدهما: لا يفتقر إلى إذن بالقبض لأنه في قبضه. والثاني: لا بد من إذن بالقبض لأنه كان في يده مالكًا لها فلم يزل حكم يده إلا بإذنها. - وإن كان العافي هو الزوج: ترتب عفوه على اختلاف قوليه فيما ملكه بطلاقه فإن قلنا: إنه ملك به نصف الصداق كان عفوه هبة محضة لمشاع في يده فيصح بإحدى لفظتين

إما بالهبة أو بالتمليك ولا يتم إلا بثلاثة أشياء: بالبذل والقبول والقبض. وإن قلنا: إنه ملك بالطلاق أن يتملك نصف الصداق وكان عفوه إسقاطًا لحقه فيه فيصبح بإحدى ثمانية ألفاظ مضت ولا يفتقر إلى القبول وجهًا واحدًا. فصل: والضرب الثاني: أن يكون الصداق في يد الزوجة فلا يخلو حال العافي من أن يكون هو الزوج أو الزوجة. فإن كان العافي هي الزوجة: فعفوها هبة محضة لمشاع في يدها فلا يتم إلا بالبذل والقبول والقبض ولها قبل القبض الرجوع. وإن كان العافي هو الزوج ترتب عفوه على اختلاف توليه فيما ملكه بطلاقه على ما ذكرنا. فإن قلنا: إنه ملك نصف الصداق كان عفوه هبة محضة لمشاع في يد الموهوبة له فلا تتم إلا بالبذل والقبول وأن يمضي زمان القبض وهل يفتقر إلى إذن بالقبض أم لا؟ على ما ذكرنا من القولين وله الرجوع قبل أن يمضي زمان القبض وهل يرجع بعده وقبل الإذن؟ على القولين. وإن قلنا: إنه ملك بالطلاق أن يتملك نصف الصداق كان عفوه إسقاطًا يصح بأحد الألفاظ الثمانية ولا يفتقر إلى القبول وجهًا واحدًا. - فإن عفا الزوجان معًا لم يصح عفو الزوجة بحال لأن عفوها هبة لا تتم إلا بالقبول ولا يصح عفو الزوج إن جعلناه واهبًا لافتقاره إلى القبول ويصح عفوه إن جعلناه مسقطًا لأن عفوه لا يفتقر إلى قبول. مسألة: قال الشافعي: "قال ولو وهبت له صداقها ثم طلقها قبل أن يمسها ففيها قولان أحدهما يرجع عليها بنصفه والآخر لا يرجع عليها بشيء ملكه. قال المزني رحمه الله: وقال في كتاب القديم لا يرجع إذا قبضته فوهبته له أو لم تقبضه؛ لأن هبتها له إبراء ليس كاستهلاكها إياه لو وهبته لغيره فبأي شيء يرجع عليها فيما صار إليه؟ " قال في الحاوي: اعلم أن المرأة إذا وهبت لزوجها صداقها ثم طلقها قبل الدخول طلاقًا يملك به نصف الصداق لم يخل الصداق الموهوب من أحد أمرين إما أن يكون عينًا أودينًا. فإن كان عينًا: فسواء وهبته قبل قبضه أو بعد قبضه هل له الرجوع عليها بنصف

بدله؟ فيه قولان: أحدهما: وهو قوله في القديم وأحد قوليه ني الجديد واختاره المزني أنه لا يرجع عليها بشيء. والثاني: وهو قوله في الجديد أنه يرجع عليها بنصفه وقال أبو حنيفة: إن وهبته قبل قبضه لم يرجع عليها وإن وهبته بعده رجع وكلا الأمرين في الأعيان سواء لأن التصرف فيهما قبض. - فإذا قلنا بالقول الأول أنه لا ير. عليها بشيء فوجهه شيئان: أحدهما: أنه قد تعجل الصداق قبل استحقاقه فلم يكن له الرجوع بعد استحقاقه كما لو تعجل دينًا مؤجلًا. والثاني: أن هبتها للصداق يجعلها كالمنكوحة بغير صداق فلم يستحق عليها رجوعًا بالطلاق. - إذا قلنا بالقول الثاني: إنه يرجع عليها بنصفه فوجهه شيئان: أحدهما: أنه عاد الصداق إليه بغير السبب الذي استحق الرجوع به فلم يمنعه ذلك من الرجوع بنصفه كما لو ابتاعه. والثاني: أنها لو وهبت له غير الصداق لم يمنعه ذلك من الرجوع بنصفه كذلك إذا وهبت له الصداق لأن جمع ذلك مال لها. فصل: فإذا تقرر توجيه القولين فإن قيل: له الرجوع فسواء كافأها على الهبة أم لا فلا يرجع عليها بنصف قيمة الصداق إن لم يكن له مثل وبنصف مثله إن كان له مثل. وإن قيل: لا رجوع وكان قد كافأها على هبته ففي رجوعه وجهان مخرجان من اختلاف قوليه في وجوب المكافأة: أحدهما: لا يرجع إذا قيل. إن المكافأة لا تجب. والثاني: يرجع إذا قيل: إن المكافأة تجب. فصل: وإن كان الصداق دينًا فعلى ضربين: أحدهما: أن تهبه للزوج بعد قبضه منه فيكون في حكم الصداق إذا كان عينًا فوهبتها له في أن رجوعه يكون على قولين. والثاني: أن تبرئه منه قبل قبضه فإذا قيل: لا يرجع في الهبة فأولى أن لا يرجع مع الإبراء وإذا قيل: يرجع مع الهبة ففي رجوعه مع الإبراء قولان. ومن أصحابنا من خرج في رجوعه عليها مع الهبة والإبراء ثلاثة أقاويل:

أحدهما: يرجع عليها سواء وهبت أو أبرأت. والثاني: لا يرجع عليها سواء وهبت أو أبرأت. والثالث: يرجع عليها إن وهبت ولا يرجع عليها إن أبرأت. والفرق بين الهبة والإبراء: أن الهبة تصرف الإثراء إسقاط وهذه للطريقة أولى. فعلى هذا لو كان بعض صداقها عينًا وبعضه دينًا فوهبت له العين وأبرأته من الدين أجرى على العين حكم الهبة في جواز الرجوع وعلى الدين حكم الإبراء في عدم الرجوع. وعلى هذا: لو وهبت له الصداق إن كان عينًا أو أبرأته منه إن كان دينًا ثم ارتدت قبل الدخول فملك الرجوع عليها بجمع صداقها. كان في رجوعه عليها بجميعه ثلاثة أقاويل كما يرجع عليها في الطلاق بنصفه: أحدها: لا يرجع بشيء في الهبة والإبراء. والثاني: يرجع عليها بجميعه في الهبة والإبراء. والثالث: يرجع عليها بجميعه في الهبة ولا يرجع بشيء في الإبراء. فصل: ويتفرع على ما ذكرنا: أن يبتاع الرجلان سلعة ويهب البائع للمشتري ثمنها ثم تستحق السلعة من مشتريها ففي رجوعه على البائع بثمنها وجهان مخرجان من القولين في رجوع الزوج. وهكذا لو وجد المشتري بالسلعة عيبًا ففي رجوعه بأرشه وجهان: أحدهما: لا رد ولا أرش. والثاني: له الرد والرجوع بالثمن فإن تعذر الرد رجع بالأرش. ولكن لو أن مشتري السلعة وهبها لبائعها ثم فلس هذا المشتري فللبائع أن يضرب بالثمن مع غرماء المشتري قولًا واحدًا بخلاف ما تقدم لأنه استحق غير ما وهب له. ويتفرع على ما ذكرنا: أن يكاتب السيد عبده على مال ثم يبرئه فقد عتقه بالإبراء كما يعتق بالأداء فهل يلزم السيد أن يؤتيه بعد الإبراء ما كان يلزمه أن يرده عليه بعد الأداء؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه لأنه ما استأدى منه شيئًا. والثاني: يلزمه لأن الإبراء يقوم مقام الأداء، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "وكذلك إن أعطاها نصفه ثم وهبت له النصف الآخر ثم طلقها لم

يرجع بشيء ولا أعلم قولا غير هذا إلا أن يقول قائل هبتها له كهبتها لغيره والأول عندنا أحسن والله أعلم ولكل وجه قال المزني: والأحسن أولى به من الذي ليس بأحسن. والقياس عندي على قوله ما قال في كتاب الإملاء إذا وهبت له النصف أن يرجع عليها بنصف ما بقي". قال في الحاوي: وصورتها: أن تهب له نصف صداقها ثم يطلقها قبل للدخول ففي رجوعه عليها أربعة أقاويل: أحدهما: لا يرجع عليها بشيء ويكون ما وهبته من نصفه هو المستحق بطلاقه. والثاني: أنه يرجع عليها بجميع النصف الباقي ويكون النصف المملوك بالهبة كالمملوك بالابتياع. والثالث: أن يرجع عليها ينصف الموجود وهو الربع وبنصف قيمة الموهوب وهو الربع. الرابع: أنه يرجع عليها بنصف الباقي وهو الربع ولا شيء له سواه وكأن الموهوب لم يكن صداقًا بعوده إليه. مسألة: قال الشافعي: "وإن خالفته بشيء مما عليه من المهر فما بقي فعليه نصفه. قال المزني: هذا أشبه بقوله لأن النصف مشاع فيما قبضت وبقي". قال في الحاوي: وهذه المسألة من الخلع أوردها المزني في هذا الموضع من الصداق لأمرين: أحدهما: أنه خلع على الصداق فأوردها فيه. والثاني: ليفرق بها بين ما عاد من الصداق إلى الزوج بالهبة وبين ما عاد إليه بالخلع. والخلع: عقد تملك به الزوجة نفسها ويملك به الزوج مال خلعها كالنكاح الذي يملك به الزوج يضعها وتملك الزوجة به صداقها إلا أن الزوجة في الخلع تقوم مقام الزوج في النكاح لأنها تملك بالخلع بضع نفسها كما ملك الزوج بالنكاح يضعها والزوج في الخلع يقوم مقام الزوجة في النكاح لأنه يملك بالخلع البدل كما ملكت الزوجة بالنكاح المهر. فإذا خالع الرجل زوجته على صداقها فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون بعد الدخول فالخلع جائز سواء خالعها بجميع الصداق أو

ببعضه لأنه استقر لها جميعه بالدخول فخالعته على ما قد استقر ملكها عليها. والثاني: أن يخالعها فإن الزوج يملك من الصداق بطلاقه في غير الخلع نصفه ويبقى عليه نصفه لأن الفرقة إذا وقعت قبل الدخول من جهة الزوج سقط عنه نصف الصداق ولو وقعت من جهة الزوجة سقط عنه جميع الصداق. والفرقة في الخلع وإن تمت بهما فالمغلب فيها الزوج دونها لأنه قد يجوز أن يخالعها مع غيرها ولا يجوز أن تخالعه مع غيره وإن كان كذلك فهذا على ضربين: أحدهما: أن يخالعها على جميع الصداق وهذا يأتي في كتاب الخلع. والثاني: أن يخالعها على بعضه وهو المسطور هاهنا فإن أصدقها ألفًا وخالعها قبل الدخول على نصفها وهو خمسمائة. قال الشافعي: فما بقي فعليه نصفه وهو مئتان وخمسون ونصفها يملكه بطلاقه والنصف الباقي من الصداق وهو خمسمائة يملك نصفه بطلاقه وهو مئتان وخمسون ويبقى عليه نصفه وهو مئتان وخمسون يسوقه إليها. وقد كان الظاهر يقتضي أن يملك جميع النصف بالخلع ويملك النصف الآخر بالطلاق قبل الدخول فلا يبقى عليه من الصداق شيء. فاختلف أصحابنا في ذلك على ثلاثة أوجه: أحدها: وهو قول أبي علي بن خيران أن المسألة مصورة أنه خالعها على نصف الألف وهو خمسمائة وهما يعلمان أن يسقط بالطلاق نصفها ويبقى الخلع نصفها فصار كأنه خالعها من الخمسمائة على ما يملكه ممنها بعد الطلاق وهو مئتان وخمسون مملك تلك الخمسمائة بخلعه أو طلاقه ويبقى لها عليه خمسماءة ملك الزوج نصفها بطلاقه وذلك مئتان وخمسون وهو معنى قول الشافعي: ما بقي فعليه نصفه فصار ثلاثة أرباع الصداق وهو سبعماءة وخمسون ساقطًا عن الزوج النصف بالطلاق والربع بالخلع وبقي عليه: الربع للزوجة وهو مئتان وخمسون فقيل لابن خيران: فعلى هذا ما تقول فيمن باع عبده وعبد غيره بألف وهما يعلمان أن أحد العبدين مغصوب؟ قال: يصح البيع في العبد المملوك بجميع الألف ويكون ذكر المغصوب في العقد لغوًا كما قال في الخلع. والثاني: أن المسألة مصورة على أنها خالعته على ما يسلم لها بعد الطلاق من خمسمائة وصرحت به لفظًا في العقد ولو لم تصرح به لم يكن عليهما به مقنع فيسقط عنه جميع الخمسمائة بالخلع والطلاق ويسقط عنه نصف الخمسمائة الأخرى بالطلاق ويبقى عليه نصفها وهو مئتان وخمسون وهو معنى قول الشافعي: ما بقي فعليه نصفه فيكون الجواب موافقًا لجواب ابن خيران إذا صرحا بما علماه ومخالفًا له إن لم يصرحا به وإن علماه. والثالث: وهو قول أبي إسحاق المروزي وأبي حامد المروروزي:

أن المسألة مصورة على إطلاقها لذلك في خالعها هي نصف الألف وقد كانت وقعت العقد مالكة لجميع فصح الخلع في نصفها ثم سقط نصف الخمسمائة التي خالعها بها بالطلاق فصار كم خالعها على مال تلف نصفه بعد العقد وقبل القبض فيأخذ النصف الباقي. وفيما يرجع به بدل النصف التالف قولان: أحدهما: وهو قول القديم يرجع بمثل التالف إذا كان ذا مثل أو بقيمته إن لم يكن له مثل. وعلى قوله في الجديد: يرجع عليها بنصف مهر المثل فعلى هذا يكون الخلع قد صح على نصف الخمسمائة وهو مائتان وخمسون وبطل في نصفها وهو مائتان وخمسون واستحق بدله على قوله في القديم مثله وهو مائتان وخمسون, وعلى قوله في الجديد نصف مهر المثل. ثم بقي عليه الصداق وهو خمسمائة وقد سقط عنه نصفه بالطلاق وهو مائتان وخمسون وبقي عليه نصفه مئتان وخمسون وهو معنى قول الشافعي: وما بقي فعليه نصفه فيصير الباقي عليه مئتان وخمسون وفي الباقي قولان: أحدهما: وهو القديم مئتان وخمسون. والثاني: وهو الجديد: نصف مهر المثل. فيكون الشافعي قد ذكر الباقي عليه ولم يذكر الباقي له. وهل يكون الباقي عليه قصاصًا من الباقي له أم لا؟ على اختلاف أقاويله فيمن له حال وعليه مثله فإن جعل ذلك قصاصًا: برئا وإن لم يجعله قصاصًا تقابضا. فإن قيل: هلا قلتم إذا خالعها على نصف الألف أنه يصح الخلع في جميع الصنف لأنه يسلم لها بعد الطلاق النصف كما لو خالعته على نصف ألف بينهما وبين شريك لها أنه يصح في جميع الألف. قيل: الفرق بينهما: أنها في الصداق قد خالعت على نصفه وهي مالكة بجميعه فإذا سقط بعد الخلع نصفه بالطلاق ولم يتعين حقها من النصف الذي خالعت به دون الباقي فلذلك صار مشتركًا فيها وليس كذلك حالها في الألف المشتركة لأنها لم تملك منها وقت الخلع إلا النصف فانصرف العقد إلى النصف الذي لها ولم يتوجه إلى النصف الذي يشاركها فافترقا. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا فقد ذكر أصحابنا في صحة الخلع على النصف الصداق وسقوط باقيه بالطلاق ثلاثة طرق يصح بكل واحد منها: أحدها: أن يخالعها بمثل نصفه في ذمتها فإذا كان صداقها ألفًا في ذمته خالعها على

خمسمائة في ذمتها فإذا طلقها في خلعه بريء من نصف صداقها بطلاقه وبقي عليه نصفه وهو خمسمائة ووجب له عليها ما خالعها به وهو خمسمائة فصار له مثل ما بقي لها فيتقضان أو يتقابضان أو يتباريان. والثانية: أن يخالعها على ما يسلم لها من صداقها والذي يسلم لها بالطلاق قبل الدخول نصف الصداق ويكون هو المعقود عليه الخلع فيبرأ من جميع نصفه بما يملكه من الطلاق ونصفه بما ملكه من الخلع. الثالثة: ذكرها أبو العباس بن سريج: أنا يخالعها على أن لا تبعة لها عليه في مهرها فيبرأ من جميعه بما ملكه بطلاقه وبخلعه ويضير كأنه قد خالعها على ما يسلم لها من صداقها, والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَأمَّا في الصَّدَاقِ غَيرَ المُسَمَّى أوِ الفَاسِدِ فَالبَراءَةِ فِي ذَلِكَ بَاطِلَةٌ لأنَهَا أَبرَأتهُ مِمَّا لا تَعلَمُ. قَالَ: وَلَو قَبَضَتِ الفَاسِدَ ثُمَ رَدَّتهُ عَلَيهِ كَانَت كَالبرَاءَةُ بَاطِلَةٌ ولَهَا مَهرُ مِثلَهَا إلا أن يَكُونَ بَعدَ مَعرِفَةِ المَرأَةِ أو يُعطِيهَا مَا تَستَيقِنُ أنَهُ أقَلُّ وَتحَلِّلَهُ مِمَّا بَينَ كَذَا إلى كَذَا أو يُعطِيهَا أكثَرَ وَيُحَلِّلُهَا مِمَّا بَينَ كَذَا إلى كَذَا". قال في الحاوي: اهلم أن إبراء المرأة لزوجها من الصداق معتبر بشرطي الإبراء. أحدهما: أن يكون بعد وجوب الحق فإن كان قبل وجوبه لم يصح كمن عفي عن الشفعة قبل الشراء لم يصح العفو. والثاني: أن يكون من معلوم القدر فإن كان الإبراء من مجهول لم يصح وكذلك الضمان لا يصح إلا بهذين الشرطين: أن يكون بعد وجوب الحق وأن يكون معلوم القدر. وأسقط أبو حنيفة اعتبار هذين الشرطين في الضمان وجوز الإبراء من المجهول. وللكلام عليه موضع غير هذا وإذا كان كذلك فالنكاح ضربان: أحدهما: أن يكون بعد أن فرض لها فيه مهر فالإبراء صحيح لأنها أبرأته من واجب معلوم. والثاني: أن يكون قبل أن فرض لها فيه مهر فهذا على ضربين:

أحدهما: أن تبرئة قبل الدخول بها فالإبراء باطل لأنها أبرأته مما لم يجب لأن مهر المفوضة لا يجب بالعقد وإنما يجب بالفرض أو الدخول. والثاني: أن يكون بعد الدخول بها فقد وجب لها مهر المثل فإن علمت قدره صح الإبراء ولم تفتقر إلى القبول على مذهب الشافعي وجمهور أصحابه. وقال بعضهم: لا يتم إلا بقبول الزوج وهو مذهب أبي حنيفة وإن لم تعلم قدره فالإبراء باطل لأن البراءة من المجهول باطلة. فصل: وأما نكاح غير التفويض: وهو أن يسمى فيه مهر فهو على ضربين صحيح وفاسد. - فأما الصحيح: فالإبراء منه صحيح لأنه إبراء من واجب معلوم. - وأما الفاسد: فالإبراء منه فاسد لأنه الفاسد لا يجب فصار إبراء من غير واجب والواجب لها في الفاسد مهر المثل فلو سلم الصداق الفاسد إليها فردته عليه هبة له لم تصح الهبة لأنه مال ردته عليه وهي على حقها من مهر المثل فلو أبرأته من مهر المثل روعي علمها بقدره فإن جهلت قدره فالإبراء باطل سواء علم الزوج قدره أو لم يعلم وإن علمت قدره صح الإبراء سواء علم الزوج قدره أو لم يعلم لأن قبوله غير معتبر فكان علمه بقدره غير معتبر. وعلى قول من زعم من أصحابنا أن قبول الزوج معتبر فعلمه بقدره معتبر. فصل: فلو علما أن مهر مثلها لا ينقص عن عشرة دنانير وجهلت الزيادة عليها فأبرأته من جميعه لم يبرأ من الزيادة على العشرة لأنها مجهولة وفي براءته من العشرة المعلومة وجهان: أحدهما: أنه يبرأ منها لكونها معلومة القدر. والثاني: لا يبرأ منها لأنها بعض جملة مجهولة فجرى على جميعها حكم الجهالة كما لو ضمن ما يعلم بعضه ويجهل جميعه كان ضمان الجميع باطلًا. فإن كان مهر مثلها مجهول القدر معلوم الطرفين مثل أن تعلم أنه لا ينقص عن عشرة دنانير ولا يزيد عن عشرين دينارًا فللبراءة منه حالان: حال بالإبراء, وحال بالأداء. فأما الإبراء: فالطريق إلى صحته أن تقول: قد أبرأتك من دينار إلى عشرين دينارًا فيبرأ لأن العلم بالطرفين يجعل الوسط ماحقًا بهما فلو أبرأته من الزيادة على العشرة إلى العشرين صح وصار ما تستحقه عليه من المهر عشرة دنانير. فلو قالت: قد أبرأتك من عشرة إلى عشرين برئ من الجميع لأن الحدين يدخلان من المحدود إذا جانساه فالحد الأول: هو المبتدأ منه والحد الثاني: هو المنتهى إليه. وقال أبو حنيفة: يدخل فيه الحد الأول المبتدأ منه ولا يدخل فيه الحد الثاني

باب الحكم في الدخول وإغلاق الباب وإرخاء الستر

المنتهى إليه فيبرأ من تسعة عشر دينارًا. وقال زفر بن الهذيل: لا يدخل فيه واحد من الحدين لا المبتدأ منه ولا المنتهى إليه فيبرأ من تسعة دنانير. والدليل على دخول الحدين فيه وهو قول أبي يوسف: أن "من" حرف لابتداء غاية الشيء و "إلى" حرف الانتهاء غاية الشيء وابتداء الشيء وانتهاؤه طرفاه وطرفا الشيء من جملته فلذلك وجب دخول الحد في المحدود. وأما الإبراء بالأداء فضربان: أحدهما: أن يدفع إليها عشرين دينارًا فقد دخل فيها جميع مهرها فبرئ منه عشرة منها متحققة والعشرة الأخرى مشكوكة فتحتاج أن يبرئها من دينار إلى عشرة فيبرئان جميعًا. والثاني: أن يدفع إليها عشرة فيحتاج أن تكون هي المبرئة له من دينا إلى عشرة فيبرأ حيتئذٍ من جميع مهرها بالأداء والإبراء, وإذا كان مهرها معلومًا في الذمة فقالت: قد أبرأتك منه إن شئت فقال: قد شئت لم يصح الإبراء. ولو كانت عينًا قائمة فقالت: قد وهبته لك إن شئت فقال: قد قبلت وشئت, صحت الهبة. والفرق بينهما: أن الإبراء إسقاط لا يراعى فيه المشتبه كما لا يراعى فيه القبول والهبة تمليك يراعى فيه المشيئة كما يراعى فيه القبول فافترقا. فصل: وإذا اعتقدت قبض مهرها منه فقالت: قد أبرأتك من مهري ثم بان أن مهرها كان باقيًا عليه ففي برأته من وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري يبرأ منه لأنهل صادفت حقًا معلومًا. والثاني: وهو قول الأكثرين: أن لا يبرأ لأنها لم تقصد تصحيح الإبراء بل أوردته لغوًا. وأصل هذين الوجهين: من باع عبد أبيه ثم بان لأنه كلن وارثًا له وقت بيعه ففي صحة بيعه وجهان. باب الحكم في الدخول وإغلاق الباب وإرخاء الستر قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى: "وَلَيسَ لَهُ الدُّخُولُ بِهَا حَتَّى تُعطِيهَا المَالَ فَإن كَانَ كُلُّهُ دَينًا فَلَهُ الدُّخُولُ بِهَا".

قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا امتنعت المرأة من تسليم نفسها لقبض صداقها لم يخل حاله من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون جميعه حالاً. والثاني: أن يكون جميعه مؤجلاً. والثالث: أن يكون بعضه حالاً وبعضه مؤجلاً. فأما الأول: وهو أن يكون جميعه حالاً إما بإطلاق العقد أو بالشرط فيكون حالاً بالعقد والشرط تأكيد فلها أن تمتنع من تسليم نفسها على القبض صداقها كما كان لبائع السلعة أن يمتنع من تسليمها على قبض ثمنها فإن تطوعت بتسليم نفسها قبل قبض الصداق ثم أرادت بعد التسليم أن تمتنع عليه لقبض الصداق فهذا على ضربين: الأول: أن لا يكون قد وطئها فلها أن تمتنع عليه وإن سلمت نفسها إليه إذا لم يكن قد وطئها لأن القبض في النكاح يكون بالوطء الذي يستقر به كمال المهر دون التسليم وهذا متفق عليه. والثاني: أن يكون قد وطئها بعد التسليم فليس لها عندنا أن تمتنع عليه. وقال أبو حنيفة: لها الامتناع بعد الوطء كما كان لها الامتناع قبله احتجاجًا بأن الصداق في مقابلة كل وطء في النكاح لأمرين: أحدهما: أنه لو كان في مقابلة الأول لوجب للثاني مهر آخر. والثاني: أنه لو كان في مقابلة الأول لجاز لها أن تمنعه نفسها بعد الول لاستيفاء حقه به. وإذا ثبت بهذين أنه في مقابلة كل وطء لم يكن لتسليمها لبعض الحق مسقطًا لحقها في منع ما بقي كمن باع عشرة أثواب فسلم أحدها قبل قبض الثمن كان له حبس باقيها كذلك هاهنا. قال: ولأنها لم تستوف مهرها مع استحقاق المطالبة فجاز لها أن تمتنع من تسليم نفسها قياسًا على ما قبل الوطء. ودليلنا هو أنه تسليم رضا استقر به العوض فوجب أن يسقط به حق الإمساك قياسًا على تسليم المبيع ولأن أحكام العقد بالوطء اختصت بالوطء الأول وكان ما بعده تبعًا وقد رفع الوطء الأول حكم الإمساك في حقه فوجب أن يرفعه في حق تبعه كالإحلال. فأما استدلالهم بأن المهر في مقابلة كل وطء: فتقول: قد استبيح به كل وطء لكنه قد استقر بالوطء الأول فقام فيه مقام كل وطء ألا تراها لو ارتدت بعد الوطء الأول لم يؤثر في سقوط المهر وإن لم يستوف كل وطء في النكاح ولو عادت إلى الإسلام حل له وطؤها بالمهر المتقدم. وأما قياسهم على ما قبل الوطء الأول: فالمعنى في الأصل أنها لم تسلم ما استقر

به المهر فجرى البيع قبل التسليم وليس كذلك بعد الوطء لأنها قد سلمت ما استقر به المهر فجرى مجرى المبيع بعد التسليم. فصل: وأما القسم الثاني: وهو أن يكون صداقها مؤجلاً فيجوز إذا كان الأجل معلومًا لأن كل عقد صح بعين وبدين صح أن] كون معجلاً أو مؤجلاً كالبيع وإذا كان الصداق مؤجلاً فعليها تسليم نفسها وليس لها الامتناع القبض الصداق بعد حلول الأجل لأنها قد رضيت بتأخير حقها وتعجيل حقه فصار كالبيع بالثمن المؤجل يجب على البائع تسليم المبيع قبل قبض الثمن فعلى هذا لو تأخر تسليمها لنفسها حتى حل الأجل فأرادت الامتناع من تسليم نفسها حتى تقبض الصداق لم يكن لها وإن حلّ لأنها لم تستحق الامتناع عليه بالعقد. فصل: وأما القسم الثالث: وهو أن يكون بعض صداقها خالاً وبعضه مؤجلاً فيصح إذا كان قدر الحال منه معلومًا وأجل المؤجل معلومًا ولها أن تمتنع من تسليم نفسها لقبض الحال وليس لها أن تمتنع من تسليم نفسها لقبض المؤجل فيكون حكم الحال منه كلمة لو كان جميعه حالاَ وحكم المؤجل منه كحكمه لو كان جميعه مؤجلاً فلو تراخى التسليم حتى حلّ المؤجل كان لها منع نفسها على قبض المعجل دون ما حلّ من المؤجل. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَتُؤَخَّرُ يَومًا وَنَحوَهُ لِتُصلِحَ أمرَهَا وَلَا يُجَاوزُ بِهَا ثَلاثًا إلَّا أَن تَكُونَ صَغِيرَةٌ لا تحَتَمِلُ الجِمَاعَ فَيَمنَعَهُ أهلَهَا حَتَّى تَحتَمِلَ". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا دفع الزوج صداق زوجته وسألها تسليم نفسها لم يخل حالها من أحد أمرين: إما أن تكون صغيرة أو كبيرة. فإن كانت كبيرة لزمها تسليم نفسها كما يلزم البائع تسليم المبيع بعد قبض ثمنه والمؤجر ما أجر بعد قبض أجرته. فإن استنظرته لبناء دار أو استكمال جهاز لم يلزمه إنظارها وإن استنظرته لمراعاة نفسها وتعاهد جسدها لزمه انتظارها يومًا ويومين وأكثر ثلاثة أيام, لأن المرأة لا تستفتى مع بعد عهدها بالزوج عن التأهب له بمراعاة جسدها وتفقد بدنها, لو أنها ربما كانت على صفة تنفر نفس الزوج منها.

وقد روى الشعبي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى إذا أطال الرجل الغيبة أن يطرق أهله ليلاً. فلما نهى الزوج الذي قد ألفها وألفته على أن يطرقها ليلاً ولم تتأهب له, لأن لا يصادفها على حال تنفر منها نفسه فالزوج الذي لم يألفها ولم تألفه ولم يعرفها ولم تعرفه أولى بالنهي. وأكثر مدة إنظارها ثلاثة أيام؛ لن لها في الشرع أصلاً وأنها أكثر القليل وأقل الكثير وهذا منصوص الشافعي هاهنا وفي كتاب "الأم" وقال في "الإملاء": "لا تمهل" وليس هذا مخالفًا لما قاله هاهنا, وفي الأم, وإما أراد أنها لا تمهل أكثر من ثلاثة أيام ردًا على مالك في جواز إمهالها السنة. فصل: وإن كانت صغيرة فعلى ضربين: أحدهما: أن يمكن الاستمتاع بمثلها لأنها ابنة تسع أو عشر قد قاربت البلوغ وأمكن استمتاع الزوج بها فهي كالكبيرة لها أن يطالبه وليها بمهرها وعليها تسليم نفسها. والثاني: أن لا يمكن الاستمتاع بمثلها لأنها ابنة ست أو سبع بحسب حالها فرب صغيرة السن يمكن الاستمتاع بها ورب كبيرة السن لا يمكن الاستمتاع بها فلذلك لم يجده سن مقدرة وإذا كان الاستمتاع بها غير ممكن لم يلزم تسليمها إليه ولم يلزمه تسليم الصداق إليها. فإن طلب تسليمها إليه ليقوم بحضانتها لم يلزم إليه أيضًا لأنه لا حق له في حضنتها وإنما حقه في الاستمتاع الذي لم يخلق فيها فيستحقه الزوج منها ولأن لا يؤمن أن تغلبه الشهوة على مواقعتها فربما أفضى إلى تلفها ونكايتها. فلو سأله وليخا وهي صغيرة أن يتسلمها لم يلزمه لأن ما استحقه من الاستمتاع بها لم يخلق فيها ولأنها تحتاج إلى تربية وحضانة لا يلزمه القيام بها ولأنه يلتزم لها نفقة لا يقابلها الاستمتاع والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافَعَيُّ: "وَالصَّدَاقُ كَالدَّينِ سَوَاءٌ". قال في الحاوي: وهذا صحيح لأنه مال ثبت في الذمة بعقد فكان دينًا كالأثمان ومراد الشافعي بأنه كالدين في لزوم الدين وأنه قد يكون حالاً تارة

ومؤجلاً تارة ومنجمًا أخرى وأنه قد يجوز أن يستوثق فيه بالرهن والضمان والشهادة وأن الحوالة به جائزة وأن أخذ العوض عنه سائغ وأنه قد يجوز أن يبتاع فيه العقار وأن الزوج يحبس به إذا امتنع من أدائه وأن الزوجة تضرب به مع الغرماء عند فلسه وتتقدم به على الورثو بعد موته إلى غير ذلك من أحكام الديون المستحقة. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَيسَ عَلَيهِ دَفعُ صَدَاقِهَا وَلَا نَفَقَتِهَا حَتَّى تَكُونَ في الحَالِ الَّتي يُجَامِعُ مِثلهَا ويُخَلَّى بَينَهَا وَبَينَهُ". قال في الحاوي: وهذه مسألة من النفقات ذكرها لاتصالها بالصداق وليس يخلو حال الزوجين في استحقاق النفقة والصداق من أربعة أقسام: أحدهما: أن يكونا كبيرين. والثاني: أن يكونا صغيرين. والثالث: أن يكون الزوج كبيرًا والزوجة صغيرة. والرابع: أن يكون الزوج صغيرًا والزوجة كبيرة. فأما القسم الأول وهو: أن يكونا كبيرين: فلها أن تمتنع من تسليم نفسها على قبض الصداق وله أن يمتنع من تسليم نفسها على قبض الصداق وله أن يمتنع من تسليم الصداق لتسليم نفسها فأيهما سلم ما في ذمته حكمه أجبر الآخر على التسليم ما في مقابلته وإن أقاما على التمانع فسنذكر حكمه من بعد. وأما النفقة فلها ثلاثة أحوال: أحدها: أن تمكنه من نفسها فلا يستمتع بها فلها النفقة. والثاني: أن يدعوها إلى نفسه فتمتنع بغير حق فلا نفقة لها لأنها ناشز. والثالث: أن لا يكون منها تسليم ولا منه طلب ففي وجوب النفقة قولان: أحدهما: لها النفقة. والثاني: لا نفقة لها. بناء على اختلاف قوليه في نفقة الزوجة بم تجب؟ قاله في القديم: تجب العقد وتستحق قبضها بالتمكين فعل هذا تجب لها النفقة ما لم يكن منها نشوز. وقال في الجديد: تجب بالعقد والتمكين معًا فعلى هذا لا نفقة لها لعدم التمكين. فصل: وأما القسم الثاني: وهو أن يكونا صغيرين: فالتسليم لا يجب على وليها ولو

سلمت لم يجب على ولي الزوج أن يقبلها. وإن كان التسليم لا يجب فالصحيح أن دفع الصداق لا يجب ومن أصحابنا من أجراه مجرى الثقة في الاستحقاق وفي استحقاق النفقة بين هذين الصغيرين قولان: أحدهما: وهو القديم: تجب لوجوبها بالعقد. والثاني: وهو الجديد: لا تجب لوجوبها بالعقد والتمكين فكذلك وجوب تسليم الصداق يكون على هذين القولين: وهذا الجمع غير صحيح والفرق بينهما أن وجوب الصداق لا يقتضي وجوب دفعه ووجوب النفقة يقتضي وجوب دفعها لأن الصداق في مقابلة عين باقية والنفقة في مقابلة زمان ماض. فكان له حبس الصداق لبقاء موجبه حتى يصل إليه ولم يكن له حبس النفقة لذهاب موجبها. فصل: وأما القسم الثالث: وهو أن يكون الزوج كبيرًا وهي صغيرة فليس عليه تسليم صداقها لما ذكرنا من أن تسليمها لا يجب ولو طلبها ولا يستحق عليه لو بذلت له. فأما النفقة فعلى قوله في الجديد: لا نفقة لهنا لأنها تجب في الجديد بالعقد والتمكين وأما على قوله في القديم: ففيه وجهان لأصحابنا: أحدهما: أنها تجب عليه لوجوبها على القديم بالعقد وحده. والثاني: لا تجب عليه وإن وجبت بالعقد لأن الاستمتاع متعذر منها بصغرها فجرى مجرى نشوزها. فصل: وأما القسم الرابع: وهو أن يكون الزوج صغيرًا وهي كبيرة فهاهنا إن سلمت نفسها وجب على ولي الزوج أن يتسلمها له لتكون معه وإن كان صغيرًا بخلاف الصغيرة التي لا يجب على وليها أن يسلمها إلى الزوج إذا كان كبيرًا لأمور: أحدهما: أن الاستمتاع المعقود عليه موجود في الكبيرة مفقود في الصغيرة. والثاني: أن الصغيرة لا يؤمن عليها إذا كان كبيرًا والكبيرة تؤمن على الزوج إذا كان صغيرًا. والثالث: أن الكبيرة إذا سلمت إلى الصغير أقامت بتربيته فكان عونًا والصغيرة إذا سلمت إلى الكبير احتاج إلى تربيتها فكانت كلا فصار الفرق بينهما من هذه الأوجه الثلاثة. وإذا لزم بها تسليم الكبيرة إلى الصغير وإن لم يلزم تسليم الصغيرة إلى الكبير فلها المطالبة بصداقها كالكبيرة مع الكبير.

فأما النفقة فعلى قوله في القديم وأنها تجب بالعقد وحده فلها النفقة لوجود العقد وارتفاع النشوز. وعلى قوله في الجديد: أن النفقة تجب بالعقد والتمكين ففي وجوب النفقة لها وجهان: أحدهما: لا نفقة لها لعدم التمكين. والثاني: لها النفقة لأن التمكين منها موجود من الزوج مفقود فصار المنع من جهته لا من جهتها. مسألة: قَالَ الشَافِعِيُّ: "وَإن كَانَت بَالِغَةً فَقَالَ لا أدفَعُ حَتَّى تَدخُلُوهَا وقَالُوا لا تُدخِلُهَا حَتَّى تَدفَعَ فَأيُّهُمَا تَطَوَّعَ أَجبَرتُ الآخَرَ فَإن امتَنَعُوا مَعًا مِما أٌجبَرتُ أَهلَهَا عَلَى وَقتِ يُدخِلونَهَا فِيهِ وَأخَذَت الصَّدَاقِ مِن زَوجِهَا فَإذَا دَفَعتُهُ إليهَا وَجَعلَت لَهَا النَفَقَةَ إذا قَالوا نَدفعَهَا إلَيهِ إذا دَفَعَ الصَّدَاقَ إليَنَا". قال في الحاوي: اعلم أن للزوجين ثلاثة أحوال: إحداهن: أن تبدأ المرأة بتسليم نفسها وتمكين الزوج منها فيجوز للزوج إصابتها قبل قبض شيء من صداقها وعلى الزوج تسليم صداقها إليها. وقال مالك: لا يجوز له إصابتها إلا أن يدفع إليها صداقها أو شيء منه. وبه قال ابن عباس وقتادة. قال مالك: وأقل ما يدفعه إليها ليستبيح به إصابتها أقل ما يجوز أن يكون صداقًا وهو ربع دينار. وهذا فاسد لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة من الله" وكما لو كان صداقًا مؤجلاً. والثانية: أن يبدأ الزوج بتسليم الصداق إليها فعليها تسليم نفسها إليه فإن امتنعت صارت ناشزًا ولا نفقة لها. والثالثة: أن يتمانعا فتقول الزوجة: لا أسلم نفسي حتى أقبض صداقي ويقول الزوج: لا أدفع الصداق حتى تسلمي نفسك ففيه قولان: أحدهما: أنه لا يجبر واحد منهما على التسليم بل تقطع الخصومة بينهما ويتركان فأيهما تطوع بتسليم ما عليه أجر الآخر على تسليم ما في مقابلته وإنما لم يبدأ بإجبار واحد منهما لأن لكل واحد منهما حقًا وعليه حق فلم يكن الحق الذي عليه في البداية باستيفائه منه أولى من الحق الذي له في البداية باستيفائه له فتاوى الأمران فوجب تركهما وقطع التخاصم بينهما.

والثاني: أن الحاكم ينصب لهما أمينًا ويأمر الزوج بتسليم الصداق إليه فإذا تسلمه أمر الزوجة بتسليم نفسها إلى الزوج فإذا سلمت نفسها سلم الأمين الصداق إليها لأن الحاكم موضوع لقطع التنازع وفعل الأحوط في استيفاء الحقوق وهذا أحوط الأمور فيها وأقطع للتنازع بينهما. وهذان القولان في تنازع المتبايعين في التسليم وفي البيع قول ثالث: أنه يجبر البائع على تسليم السلعة ويجبر المشتري على تسليم الثمن. ولا يجيء تخريج هذا القول الثالث في تنازع الزوجين لأن المشتري يمكن أن يحجر عليه في السلعة حتى يسترجع منه إن امتنع من التسليم الثمن ولا يمكن إذا سلمت الزوجة نفسها أن يمنع منها وربما استهلك بضعها بالدخول قبل تسليم صداقها. فصل: فإذا تقرر القولان في تنازع الزوجين فإذا قيل بالقول الأول أنه لا يجبر واحد منهما فلا نفقة للزوجة في مدة امتناعها من تمكين الزوج لأن الزوج على هذا القول لا يلزمه تعجيل الصداق. فصارت ممتنعة بما لا يستحق تعجيله فجرى عليها حكم النشوز في سقوط النفقة. وإذا قيل بالقول الثاني: أن الحاكم يجبر الزوج على تسليم الصداق إلى أمين ينصبه لهما فلها النفقة في مدة امتناعها من تمكينه إلى أن يدفع الصداق إلى الأمين لأنها ممتنعة بحق يجب لها تعجيله فإذا صار الصداق مع الأمين كان امتناعها بعد ذلك سقطًا لنفقتها لأنها ممتنعة بغير حق. مسألة: قَالَ الشَّافعيُّ: "وَإن كَانَت نِضوًا أُجبِرَت عَلَى الدُّخُولِ إلَّا أن يَكونَ مِن مَرَضٍ لا يُجَامِعُ فِيهِ مِثلُهَا فَتُمهَلُ". قال في الحاوي: أما النضوة الخلق فهي الدقيقة العظم القليلة اللحم فإذا كانت المرأة نضوة الخلق فلها حالتان: إحداهما: أن يكون ذلك خلقة لا يرجى زواله فعليها تسليم نفسها كغيرها من النساء وللزوج أن يستمتع بها بحسب طاقتها ولا ينكأها في نفسها ويؤذيها في بدنها. وقد كانت عائشة رضي الله عنها خفيفة اللحم ولخفة لحمها رفع هودجها في غزوة المريسيع وقد خرجت منه للحاجة فلم يعلم خروجها منه حتى أدركها صفوان بن المعطل فحملها. وكان من شلن الإفك أن أنزل الله تعالى فيه من القرآن ما أنزل فلم تمنع ضؤولتها

وخفة لحمها من شأن الإفك أن أنزل الله تعالى فيه القرآن ما أنزل فلم تمنع ضؤولتها وخفة لحمها من دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم بها فلو كانت النضوة على حد إن وطئها الزوج أتلفها منع من وطئها ولا خيار له قي فسخ نكاحها بخلاف الرتقاء التي يستحق الزوج فيها خيار الفسخ لتعذر وطئها. والفرق بينهما: أن الرتقاء لا يقدر كل زوج على وطئها فصار المنع مختصًا بها فكان له الخيار والنضوة الخلق يمكن غير هذا الزوج إذا كان مثلها نضوًا أن يطأها فصار المنع منها فلم يكن له الخيار. والثانية: أن يكون ذلك بحادث من مرض يرجى زواله فلا يلزمها تسليم نفسها زتمهل حتى تصح من مرضها. والفرق بين أن يكون بحادث مرض وبين أن يكون خلقة وجهين: أحدهما: أن ما يرجى زواله فالاستمتاع مستحق فيه بعد الصحة فلم يلزمها تسليم نفسها قبل الصحة وما لا يرجى زواله فالاستمتاع فيه مستحق في الحال لأنها حال الصحة فلزمها تسليم نفسها. والثاني: أن العادة الجارية بتأخير زفاف المريضة إلى حال الصحة فلم يلزمها التسليم قبل الصحة والعادة جارية بتسليم النضوة الخلقة عاجلاً فلزمها التسليم في الحال اعتبارًا بالعادة فيهما. فعلى هذا إذا منعته من نفسها بالمرض فلا نفقة لها لفوات الاستمتاع بها ولو سلمت نفسها لزمته النفقة كما لو مرضت بعد التسليم وكان لها النفقة لأن المرض الحادث بعد التسليم لا يسقط النفقة وإن منع من الوطء كالحيض. مسألة: قَالَ الشَافِعِيُّ: "وَإن أفضَاهَا فَلَم تَلتَئِم فَعَليهِ دِيتُهَا وَلهَا المَهرُ كَامِلاً وَلَها مَنعُهُ أَن يُصِيبَهَا حَتَّى تَبرأَ البرءَ الذَّي إنِ عَادَ لَم يَنكأَهَا وَلَم يُزِد في جُرحِهَا والقَولُ في ذَلِكَ قَولُها". قال في الحاوي: وصورتها: في رجل وطأ زوجنه فأفضاها بشدة المبالغة في الإيلاج والإفضاء: وهو أن يتخرق الحاجز الذي بين مدخل الذكر ومخرج البول لأن مدخل الذكر في مخرج الحيض والمني فأما البول فخرجه من غيره وبينهما حاجز فإذا بالغ الواطئ في إيلاجه خرق الحاجز بين المخرجين فهذا هو الإفضاء. ووهم بعض أصحابنا فجعل الإفضاء خرق الحاجز بين السبيلين القبل والدبر حتى يصير السبيلان واحدًا وهذا وهم من قائله.

فإذا أفضى زوجته بوطئه فعليه المهر بالوطء والدية بالإضاء سواء كان البول مستمسكًا أو مسترسلاً وكذلك لو وطأ أجنبية بشبهة أو استكرهها على نفسها فأفضاها كان عليه الدية ومهر المثل ولو طاوعته على الزنا كان دية الإفضاء دون المهر. وقال أبو حنيفة: إن أفضى زوجته فلا شيء عليه في الإفضاء وعليه المهر بالعقد وإن أفضى أجنبية بوطء شبهة فإن كان البول مسترسلاً فعليه الدية في الإفضاء ولا مهر في الوطء وإن كان البول مستمسكًا فعليه المهر بالوطء وثلث الدية بالإفضاء كالجائفة وإن أفضى أجنبية بوطء إكراه فعليه الدية دون المهر. وقال مالك: في الإفضاء حكومة. والكلام مع أبي حنيفة على أن إفضاء الزوجة هدر لا يضمن بأن السراية عن مستحق غير مضمونة كالقطع في السرقة إذا سرى إلى النفس لم يضمن لحدوثه عن مستحق كذلك الإفضاء سرى عن وطء مستحق فوجب أن لا يضمن. ودليلنا هو أنها جناية تفتك عن الوطء فوجب أن لا يسقط أرشها باستحقاق الوطء كما لو وطئها وقطع يدها وذلك أن المهر يجب بغير ما تجب به الدية لأن النهر عندهم بالخلوة وعندنا بتغيب الحشفة والإفضاء يكون بما زاد على ذلك من المبالغة في الإيلاج فصار الوطء الذي تجب به دية الإفضاء زائدًا على الوطء الذي يجب به المهر فوجب أن يكون لكل واحد منهما حكمه. وأما استدلالهم: بأنه حادث عن وطء مستحق فوطء الإفضاء غير مستحق لأن الوطء المستحق ما لم يفض إلى التلف فإذا أفضى إلى التلف صار غير مباح فضمن كذلك وطء الإفضاء غير مباح فضمن. فصل: وأما مالك فاستدل على أن في الإفضاء حكومة بأن الحاجز بين المخرجين كالحاجز في الأنف بين المنخرين وقد ثبت في الحاجز بين المنخرين إذا قطع حكومة كذلك في خرق الحاجز بين المخرجين حكومة. ودليلنا: هو أن الحاجز بين المخرجين أعظم منفعة من الشفرين لأن خرق الحاجز يفضي إلى استرسال البول وقطع الشفرين لا يقتضيه ثم ثبت أن في الشفرين الدية فكان في خرق الحاجز أولى أن تجب فيه الدية. فأما الحاجز بين المنخرين فمخالف للحاجز بين المخرجين لأن هذا عضو بكماله فجاز أن تكمل فيه الدية وذاك بعض عضو فلم تكمل فيه الدية.

فصل: فإذا تقرر أن في الإفضاء الدية مع المهر فإنما يجب فيه الدية إذا لم يلتحم الحاجز على حاله منخرقًا فأما إن التحم وعاد إلى حاله حاجزًا بين المخرجين فلا دية فيه وفيه حكومة لأنه جانٍ عليه وليس بمستهلك له ولهذا قال الشافعي: ولو أفضاها فلم تلتئم فعليه ديتها فدل على أن التئامه يمنع وجوب ديتها وإذا كان كذلك فالدية إذا وجبت فيه فهي إن عمد ففي حالة وإن أخطأ فعلى عاقلته ثم هو ممنوع من وطئها حتى يندمل جرحها ويبرأ الفرج الذي لا يضرها جماعة فيمكن حينئذٍ جماعها فلو ادعى برأها واندمالها ليطأها وقالت: بل أنا على مرضي لم أبرأ منه ولم يندمل وأنكر ما قالت فالقول قولها مع يمينها ويمنع من وطئها لأمرين: أحدهما: أن مرضها متيقن وبرئها مظنون. والثاني: أنه مغيب يمكن صدقها فيه فجرى مجرى الحيض ثم لها النفقة وإن كان ممنوعًا منها كالمريضة, والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَافِعِيُّ: "فَإن دَخَلَت عَلَيهِ فَلم يَمسَّهَا حَتَّى طَلَقَهَا فَلَهَا نِصفُ المَهرِ لِقَول الله تَعَالى: {وإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] فَإنِ احتَجَ مُحتَجٍ بِالأثَرُ عَن عُمَر رضي الله عنه في إغلَاقُ البَابِ وَإرخَاءِ السَّترِ أَنَهُ يُوجِبُ المَهرَ فَمِن قَولِ عُمَرَ مَا ذَنبُهُنَ لو جَاءَ بِالعَجزِ مِن قِبَلُكم؟ فَأخبَرَ أنَّهُ يَجِبُ إذا حَلَّت بَينَهُ وبَينَ نَفسِهَا كَوُجُوبِ الثَّمَنِ بِالقَبضِ وَإن لم يُغلِق بَابًا ولم يرُخِ سِترًا". قال في الحاوي: وصورتها أن يطلق الرجل زوجته المسمى لها صدقًا معلومًا فلا يخلو حال طلاقه من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون قبل الدخول بها وقبل الخلوة وليس لها من المهر إلا نصفه وملك الزوج نصفه لقوله تعالى: {وإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237]. والثاني: أن يطلقها بعد الدخول يوطء تام تغيب به الحشفة فقد استقر لها جميع المهر الذي كانت مالكة له بالعقد لقوله تعالى: {وكَيْفَ تَاخُذُونَهُ وقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ} [النساء: 21]. وهذا القسمان متفق عليهما. والثالث: أن يطلقها بعد الخلوة بها وقبل الإصابة لها فقد اختلف الفقهاء فيه على ثلاثة مذاهب:

أحدها: وهو قول الشافعي في الجديد والمعمول عليه من مذهبه: أنه ليس لها من المهر إلا نصفه ولا تأثيرة للخلوة في كمال المهر ولا إيجاب عدة. وبه قال الصحابة: ابن عباس وابن مسعود. ومن التابعين: الشعبي وابن سيرين ومن الفقهاء: أبو ثور. والثاني: أن الخلوة كالدخول في كمال المهر ووجوب العدة وبه قال من الصحابة: عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم. ومن التابعين: الزهري ومن الفقهاء الثوري وأبو حنيفة وبه قال الشافعي في القديم. إلا أن أبي حنيفة يعتبر الخلوة القاممة في الكمال المهر ووجوب العدة بأن لا يكونا محرمين ولا صائمين. والثالث: أن الخلوة يد لمدعي الإصابة منهما في كمال المهر أو وجوب العدة فإن لم يدعياها لم يكمل بالخلوة مهر ولا يجب بها عدة وهذا مذهب مالك وبه قال الشافعي في الإملاء. واستدل من نصر قول أبي حنيفة في أن الخلوة تقتضي كمال المهر ووجوب العدة بقوله تعالى: {وإنْ أَرَدْتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَاخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أتَاخُذُونَهُ بُهْتَانًا وإثْمًا مُّبِينًا (20) وكَيْفَ تَاخُذُونَهُ وقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ وأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 20 - 21] ولهم من الآية دليلان: أحدهما: عموم قوله: {فَلا تَاخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] إلا ما خصه دليل. والثاني: قوله: {وقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إلَى بَعْضٍ} [النساء: 21] قال الفراء: معناه وقد خلا بعضكم ببعض لأن الفضاء هو الموضع الواسع الخالي وقول الفراء فيما تعلق باللغة حجة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كشف قناع امرأة فقد وجب لها هذا المهر كاملاً" وهذا نص. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: "ماذا بهن إن جاء العجز من قبلكم". وروي عن زرارة بن أوفي أنه قال: قضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه من أغلق بابًا وأرخى سترًا فقد دخل بها أو لم يدخل وقد قال النبي: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضو عليها بالنواجذ".

ومن القياس: أن النكاح عقد على منفعة فوجب أن بكون التمكين من الن=منفعة بمنزلة استيفائها في استقرار بدلها كالإجازة ولأن التسليم المستحق بالعقد قد وجد من جهتها فوجب أن يستقر العوض لها أصله: إذا وطئها. ولأن المهر في مقابلة الإصابة كما أن النفقة في مقابلة الاستمتاع ثم ثبت أن التمكين من الاستمتاع في استقرار النفقة فوجب أن يكون التمكين من الإصابة بمنزلة الإصابة في استقرار المهر. والدليل على أن الخلوة لا تتعلق بها حكم في كمال المهر ولا وجوب عدة ولا بدء في دعوى قوله تعالى: {وإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] والمسيس عبارة عن الوطء الثلاثة معانٍ: أحدها: أنه المروي في التفسير عن ابن عباس وابن مسعود. والثاني: أن المسيس كتابة لما يستقبح صريحه وليست الخلوة مستقبحة التصريح فينكى عنها والوطء مستقبح فكني بالمسيس عنه. والثالث: أن المسيس لا يتعلق به عن المذهبين كمال المهر لأنه خلا بها من غير مسيس كمل عندهم المهر ولو وطئها من غير خلوة كمل عليه المهر ولو مسها من غير خلوة ولا وطء يكمل المهر فكان حمل المسيس على الوطء الذي يتعلق به. الحكم أولى من حمله على غيره وإذا كان كذلك فقد جعل الطلاق قبل المسيس الذي هو الوطء موجبًا لاستحقاق نصف المهر. ومن طريق القياس: أنه طلاق قبل الإصابة فوجب أن لا يكمل به المهر كالطلاق قبل الخلوة ولأنها خلوة خلت عن الإصابة فوجب أن لا يكمل بها المهر كالخلوة إذا كان أحدهما محرمًا أو صائمًا فرضًا ولأن ما يوجب الغسل لا يوجب كمال المهر كالقبلة من غير خلوة ولأن الخلوة لما لم يقم في حقها مقام الإصابة لم يقم في حقه مقام الإصابة كالنظر وبيان ذلك أنه لو خلا بها لم يسقط بها حق الإيلاء والعنة ولأن ما لا يثبت به حق التسليم في أحد جنبي العقد لم يثبت به حق التسليم في الجنبة الأخرى قياسًا على تسليم المبيع والمجر إذا كان دون قبضهما حائل ولأن للوطء أحكامًا تختص به من وجوب الحد والغسل وثبوت الإحصان والإحلال للزوج الأول وسقوط العنة وحكم الإيلاء وإفساد العبادة ووجوب الكفارة واستحقاق المهر في النكاح الفاسد وكماله في الصحيح ووجوب العدة فيهما. فلما انتفي عن الخلوة جميع هذه الأحكام سوى تكميل المهر والعدة انتفي عنها هذان اعتبارًا بسائر الأحكام. وتحريره قياسًا: أنه حكم من أحكام الوطء فوجب أن ينتفي عن الخلوة قياسًا على ما ذكرنا.

فأما الجواب عن الآية فمن وجهين: أحدهما: أن الفراء قد خولف في تفسير الفضاء فقال الزجاج في "معانيه": أنه الغشيان وقال ابن قتيبة في "غريب القرآن" هو الجماع فكان قول الفراء محجوجًا بغيره. والثاني: أن الآية التي استدللنا بها مفسرة تقضي على هذا المجمل. وأما الجواب عن الخبر: فهو أن كشف القناع لا يتعلق به كمال المهر عندنا ولا عندهم فإن جعلوه كناية في الخلوة كان جعله كناية في الوطء أولى. وأما الجواب عن الأثر عن عمر رضي الله عنه في قوله "ما ذنبهن إن جاء العجز من قبلكم" فهو أن يقتضي أن يكون لها المهر مع العجز سواء كانت خلوة أو لم تكن فيكون معناه استحقاق دفعه قبل الطلاق وكذلك الجواب عن حديث زرارة بن أوفي. وأما الجواب عن قياسهم على الإجازة فمنتقض ممن سلمت نفسها في صوم أو إحرام أو حيض. فإن قيل: الصوم والإحرام مانع فلم يتم التسليم. قبل الجب والعنة أبلغ في المنع ولا يمنع من التسليم الموجب لكمال المهر عندهم بالخلوة على أنه وطء في الصيام أو الإحرام لكمل المهر واستقر فجاز أن تكون الخلوة لو أوجبت كمال المهر في غير الإحرام موجبة لكمال الإحرام كالوطء. على أن صوم التطوع يصير عندهم واجبًا بالدخول فيه ولا يمنع الخلوة فيه من كمال المهر عندهم فكذلك غيره من صوم الفرض. على أن الإجازة مقدرة بالزمان فجاز أن تستقر الأجرة بالتمكين فيه لتقضيه وليس النكاح مقدرًا بالزمان فلم يستقر المهر فيه بالتمكين إلا بانقضاء زمانه بالموت أو بالوطء في حال الحياة لأنه مقصود بالعقد, وأما قياسهم على الوطء فالمعنى في الأصل استيفاء حقه بالوطء وليس كذلك الخلوة. وأما استدلالهم بالنفقة: فالجواب عنه أن النفقة مقابلة بالتمكين دزن الوطء ولذلك وجب لها النفقة مع التمكين في الصيام والإحرام وليس كذلك المهر لأنه في مقابلة الوطء لأنهم لا يكملون المهر بالخلوة في حال الإحرام والصيام. فصل: واستدل من نصر قول مالك: أن الخلوة يد لمدعي الإصبة من الزوجين بأن الحخلوة في دعوى الإصابة تجري مجرى اللوث في القسامة وذلك موجب لتصديق المدعي فكذلك الخلوة ولأن الإصابة مما يستره الناس ولا يفعلونه فتعذرت إقامة البينة عليها فجاز أن يعمل فيها على ظاهر الخلوة الدالة عليها في قبول قول مدعيها كما يقبل قول المولى في دعوى الإصابة والدليل عليه: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي واليمين على المدعى

عليه" فكان على عمومه. ولأن اختلاف الزوجين في الإصابة لا يوجب ترجح من يدعيها بالخلوة كما لو خلا بها ليلة في بيتها. فأما استدلاله في ذلك باللوث فغير معتبر في ترجيح الدعوى في الأموال وإن كان معتبرًا في ترجيح الدعوى في الدماء. وأما قبول المولى في دعوى الإصابة فلأن الأصل فيه ثبوت النكاح فلم تصدق الزوجة في استحقاق فسخه والأصل هاهنا براءة الذمة وعدم العدة فلم يصدق مدعي استحقاقهما. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَسَوَاءَ طَالَ مَقَامُهُ أو قَصُرَ لَا يَجِبُ المَهرُ والعِدَّةُ إلَّا بِالمَسيسِ. قَالَ المُزنِيُّ رَحِمَهُ الله: قَد جَاءَ عَن ابنِ مَسعُودٍ وابنَ عَبَاسٍ مَعنَى مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَهوَ ظَاهِرُ القُرآن". قال في الحاوي: وهذا إنما قال الشافعي ردًا على مالك فإنه زعم أن الخلوة إن كانت في بيت الزوج فالقول معها قول المدعي الإصابة. وإن كانت في بيت الزوجة فإن طالت حتى زالت الشمة بينهما فالقول قول مدعي الإصابة منهما. وإن قصرت ولم تزل الحشمة بينهما فالقول قول منكرها استدلالاً بأنه عرف الحكام بالمدينة. وهذا فاسد لأن الخلوة إن أوجبت كمال المهر استوي حكم طويلها وقصيرها إن تكون في بيته أو بيتها كالإصابة. وإن لم توجب كمال المهر كانت في جميع أحوالها كذلك وقد تكون الإصابة في قليل الخلوة ولا تكون في كبيرها وقد تكون الإصابة في خلوة بيتها ولا تكون في خلوة بيته. فلم يكن لهذا التفصيل معنى يوجبه ولا تعليل يقتضيه ولا أصل يرجع إليه وفعل حكام المدينة ليس بحجة إذا لم يقترن بدليل. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا فلا يخلو حال الزوجين إذا خلوة من أربعة أحوال: إحداهن: أن يتفقا على الإصابة فيكمل المهر وتجب العدة وتستحق الرجعة إجماعًا على الأقاويل كلها. والثانية: أن يتفقا على عدم الإصابة.

فعلى قول الشافعي في الجديد والإملاء لا يكمل المهر ولا تجب العدة ولا تستحق الرجعة. فعلى هذا: لو جاءت بولد لستة أشهر فصاعدًا من وقت العقد وقد اتفقا على أن الإصابة بينهما لحق به الولد لأنها فراس. وفي استكمال المهر على الجديد والإملاء وجهان: أحدهما: يستكمل المهر لأن حدوث الولد دليل على تقدم الإصابة. والثاني: أنه لا يستكمل المهر ولا يكون لها إلا نصفه لجواز أن يكون قد استدخلت فيه فعلقت منه غير إصابة. فأما على قوله في القديم ففيه وجهان لأصحابنا: أحدهما: أن المهر كامل والعدة واجبة والرجعة مستحقة اعتبارًا بحكم الخلوة. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه لا يكمل المهر ولا تجب العدة ولا تستحق الرجعة اعتبارًا بعدم الإصابة. والثالثة: أن تدعي الزوجة الإصابة وينكرها الزوج فقد وجبت عليها العدة بإقرارها على الأقاويل كلها إلا على أحد وجهي قوله في القديم فإما استكمال المهر فعلى قوله في القديم قد استكملته بيمين وعلى قول في الإملاء لا تستكمله إلا بيمين لأنه يجعل الخلوة بدًا. وعلى قوله في الجديد: القول قول الزوج مع يمينه وليس لها من المهر إلا نصفه فإن أقامت الزوجة البينة على إقرار الزوج بالإصابة سمعت البينة بشاهد وامرأتين وشاهد يمين لأنها بينة لإثبات مال. والرابعة: أن يدعي الزوج الإصابة وتنكرها الزوجة فهذه الدعوى منه إنما هي لوجوب العدة واستحقاق الرجعة. فعلى قوله في القديم: القول قول الزوج بلا يمين. وعلى قوله في الإملاء: القول قوله مع يمينه ويحكم بوجوب العدة عليها وباستحقاق الرجعة له. وعلى قوله في الجديد: القول قول الزوجة مع يمينها ولا عدة عليها ولا رجعة له فأما المهر فقد استكمله على قوله في القديم. فأما في الجديد والإملاء فليس لها إلا نصفه لكن إن كان في المهر في يدها فليس للزوج استرجاع نصفه لأنه لا يدعيه وإن كان في يد الزوج فليس لها أن تطالبه إلا بنصفه لأنها تنكر استحقاق جميعه. فلو أقام الزوج البينة على إقرارها بالإصابة لتثبت له الرجعة والعدة سمعت بشاهدين عدلين ولم تسمع بشاهد وامرأتين لأنها على غير مال.

باب المتعة

فصل: وإذا خالع الرجل زوجته المدخول بها على طلقة واحدة بعوض ثم تزوجها في عدتها وطلقها في النكاح الثاني قبل دخوله بها كان لها نصف المهر المسمى في النكاح الثاني: وقال أبو حنيفة: لها فيه جميع المهر وإن لم يدخل بها استدلالًا بأمرين: أحدهما: أنه نكاح قد وجب عليها فيه العدة فوجب أن يكمل لها فيه جميع المهر كالمدخول بها. والثاني: أن حكم الوطء موجود فيه للحوق ولدها فوجب أن يثبت حكمه في كمال المهر. ودليلنا في قول الله تعالى: {وإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] وهذا نكاح لم يمسها فيه فوجب أن لا يستحق من المفروض لها إلا نصفه وأنها مطلقة من نكاح لم يصبها فيه فوجب أن ينتصف صداقها كما لو طلقها بعد انقضاء عدتها. فأما استدلاله بأنها تعتد منه فليس بصحيح لأنها تعتد من الأول دون الثاني لأنها تأتي بباقي العدة دون جميعها. وأما استدلاله بأن حكم الوطء يلحق ولدها به موجود فيه ففاسد لأن لحوقه بالنكاح الأول دون الثاني لأمرين: أحدهما: أنها لو وضعته لأقل من ستة أشهر من النكاح الثاني لحق به. والثاني: أنه إن لم يتزوجها بالعقد الثاني وجاءت بولد لأقل من أربع سنين من فراق النكاح الأولى لحق به. والله اعلم. باب المتعة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "جَعَلَ اللهُ المُتْعَةَ لِلْمُطَلَّقَاتِ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مُتْعَةٌ إِلَّا الَّتِي فُرِضَ لَهَا وَلَمْ يُدْخَلْ بِهَا فَحَسْبُهَا نِصْفُ المَهْرِ". قال في الحاوي: أما النفقة فما قدمناه من المال المستحق بالفرقة في النكاح مأخوذ من المتاع وهو كل ما استمتع به من المنافع ومنه قول الشاعر: وَكُلُّ عِمَارَةٍ مِنْ حَبِيبٍ لَهَا بِكَ لَوْ لَهَوْتَ بِهِ مَتَاعُ والكلام في هذه المسألة يشتمل على الطلاق الذي يستحق به المتعة والطلاق ينقسم ثلاثة أقسام: قسم يوجب المتعة.

وقسم لا يوجبها. وقسم مختلف فيه. فأما القسم الذي يوجب المتعة فهو طلاق المفوضة التي لم يسلم لها صداق ولا فرض بها بعد العقد صداق إذا طلقت قبل الدخول فلا ينصف لها صداق وليس لها إلا متعة على ما قدمنا بيانها قول الله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] فجعل لها المتعة إذا لم يكن لها مهر ولم يدخل بها وهذه المتعة واجبة واستحبها مالك ولم يوجبها لقول الله تعالى: {حَقًّا عَلَى المُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] وقد مضى عليه من الكلام ما أقنع مع ظاهر ما تضمنته الآية من الأمر لها المتعة لخلا بضعها من بدل فصارت كالموهوبة التي خص بها رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره من أمته ولأنها قد ابتذلت بالعقد الذي لم تملك له بدلًا فاقتضى أن تكون المتعة فيه بدلًا لأنه لا تصير مبتذلة بغير بدل. وأما القسم الذي لا يوجب المتعة فهو الطلاق قبل الدخول لمن سمى لها مهر بالعقد أو فرض لها مهر قبل الطلاق وبعد العقد فلها نصف المهر المسمى أو المفروض ولا متعة لها لقول الله تعالى: {وإن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] فلم يجعل لها إلا نصف المهر ولأنها قد ملكت نصف المهر بما ابتذلت به من العقد فلم يجعل بها غيره لئلا يجمع بين بدلين ولأن طلاقها قبل الدخول قد أسقط شعر مهرها فلا معنى لأن تستحق به متعة فوق مهرها. والقسم المختلف فيه هو الطلاق بعد الدخول لمن سمي لها مهرًا أو لم يسم فلها المهر المسمى أو مهر المثل إن لم يكن مسمى وفي وجوب المتعة قولان: أحدهما: وهو قوله في القديم وبه قال أبو حنيفة: لا متعة لها لأن الله تعالى أوجب المتعة بشرطين هما: عدم المهر وعدم الدخول فلم يجزأن يجب لفقدهما ولأنه نكاح لم يخل من عوض فلم يجب فيه متعة كالمطلقة قبل الدخول إذا كان لها مهر سمي ولأنه لما لم يجب لها متعة إذا استحقت نصف المهر فأولى أن لا يجب لها متعة إذا استحقت جميع المهر ولأن استحقاق المتعة لأن لا تصير مبتذلة بغير عوض وقد صارت إلى عوض فلم يجمع لها بين عوضين. والثاني: وهو قوله في الجديد: لها المتعة لقوله تعالى: {ولِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] فكان على عمومه إلا ما خصه الدليل في المطلقة قبل الدخول وليس لها مهر مسمى. فإن قيل: فهذه الآية مجملة فسرها قوله تعالى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إن طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]. قيل: حمل الآيتين على عموم وخصوص أولى من حملها على مجمل ومفسر لأن العموم يمكن استعماله بنفسه والمجمل لا يمكن استعماله بنفسه ولقوله تعالى في أزواج

النبي صلى الله عليه وسلم: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} [الأحزاب: 28] وفيه تقديم وتأخير وتقديره: فتعالين أسرحكن وأمتعكن وقد كن كلهن مدخولًا بهن فدل على وجوب المتعة للمدخول بها ولأنه إجماع الصحابة أن المتعة لكل مطلقة إلا التي طلقت قبل الدخول ولم يفرض لها مهر. وروي ذلك عن عمر وابن عمر وليس يعرف لهما في الصحابة مخالف ولأنه طلاق لم يسقط به شيء من المهر فجاز أن تجب لها المتعة كالمطلقة قبل الفرض وقبل الدخول. ولأن استكمال المهر في مقابلة الدخول بدليل استحقاقه بوطئ الشبهة فاقتضى أن يستحق في مقابلة العقد الذي ابتذلت به بدل وهو المتعة. ولأن النكاح الصحيح أغلظ من النكاح الفاسد في استحقاق العوض بدليل أنها في النكاح الصحيح تستحق بالطلاق فيه قبل الدخول من العوض ما لا يستحقه في النكاح الفاسد فوجب أن تستحق بالطلاق فيه بعد الدخول من المتعة مع مهر ما لا يستحقه في النكاح الفاسد. ولو سقطت المتعة وقد استويا في المهر لم يتغلظ في العوض فإذا تقرر توجيه القولين فعلى القديم منهما لا متعة إلا لمطلقة واحدة وهي المطلقة قبل الدخول وليس لها مهر مسمى. وعلى الجديد المتعة واجبة لكل مطلقة إلا لمطلقة واحدة وهي المطلقة قبل الدخول ولها مهر مسمى. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَالمُتْعَةُ عَلىَ كُلِّ زَوْجٍ طَلَّقَ وَلِكُلِّ زَوْجَةٍ إِذَا كَانَ الفِرَاقُ مِنْ قِبَلِهِ أَوْ يَتِمُّ بِهِ مِثْلُ أَنْ يُطَلِّقَ أَوْ يُخَالِعَ أَوْ يَمْلِكَ أَوْ يُفَارِقَ وَإِذَا كَانَ الفِرَاقُ مِنْ قِبَلِهِ فَلَا مُتْعَةَ لَهَا وَلا مَهْرَ أَيْضًا لأَنَّها لَيْسَتْ بِمُطَلَّقَةٍ وَكَذَلِكَ إِذَا كَانَتْ أَمَةً فَبَاعَهَا سِيِّدُهَا مِنْ زَوْجِهَا فَهُوَ أَفْسَدَ النِّكَاحَ بِبَيْعِهِ إِيَّاهَا مِنْهُ فَأَمَّا المُلَاعَنَةُ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْهُ وَمِنْهَا وَلأَنَّهُ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا فَهِيَ كَالمُطَلَّقَةِ وَأَمَّا امْرَأَةُ العِنِّينِ فَلَوْ شَاءَتْ أَقَامَتْ مَعْهُ وَلَهَا عِنْدِي مُتْعَةٌ وَاللهُ أَعْلَمُ. قَالَ المُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: عِنْدِي غَلَظٌ عَلَيْهِ وَقِيَاسُ قَوْلِهِ لَا حَقَّ لَهَا لأَنَّ الفِرَاقَ مِنْ قِبَلِهَا دُونَهُ". قال في الحاوي: أعلم أن المتعة لا يختلف وجوبها باختلاف الأزواج والزوجات فهي على كل زوج من حر وعبد مسلم وكافر ولكل زوجة من حرة أو أمة مسلمة أو كافرة. وقال الأوزاعي: إذا كان الزوجان مملوكين أو أحدهما فلا متعة بينهما: وهذا فاسد لعموم قوله تعالى: {ولِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 241] ولأن المتعة وجبت لتكون المطلقة مفارقة للموهوبة فاقتضى أن يستوي فيها الأحرار والعبيد كما يستوي في حظر الموهوبة

حال الأحرار والعبيد فإذا ثبت أنه يستوي فيها كل زوج مع كل زوجة انتقل الكلام إلى تفصيل الفرقة التي تستحق به المتعة والفرقة الواقعة بين الزوجين تنقسم إلى خمسة أقسام: أحدها: أن تكون بالموت. والثاني: أن تكون من الزوج. والثالث: أن تكون من الزوجة. والرابع: أن تكون منهما. والخامس: أن تكون من أجنبي غيرهما. فأما القسم الأول: وهو أن تكون الفرقة بالموت فلا متعة فيها سواء كانت بموت الزوج أو بموت الزوجة سواء توارثا أم لا؟ لأن الله تعالى أوجبهما للمطلقة لأن قطع عصمتها وهذا المعنى معدوم في الوفاة وهكذا لو وقعت الفرقة بميراث عن وفاة بأن تكون الزوجة أمة فيرثها الزوج أو يكون الزوج عبدًا فترثه الزوجة فقد وقعت الفرقة بينهما لأن أحد الزوجين لا يصح أن يملك صاحبه وإذا وقعت الفرقة بينهما بالتوارث فلا متعة لأنها عن الموت حدثت ولأنه إن كان الزوج هو الوارث لها فهي أمته والأمة لا تملك في ذمة سيدها مالًا فلم يجب لها عليه متعة وإن كانت الزوجة هي الوارثة له فقد صار عبدًا لها والسيد لا يثبت له في ذمة عبده مال فلم يجب لها عليه متعة. وأما القسم الثاني: وهو أن تكون الفرقة من الزوج دونها فخمس فرق: أحدها: الطلاق وهو موجب للمتعة على ما مضى. والثاني: باللعان لأنه وإن تم بهما فالفرقة واقعة بلعان الزوج وحده فهو كالطلاق في استحقاق المتعة به، ولأن الفرقة به أغلظ من الفرقة بالطلاق لتأييدها فكانت بوجوب المتعة أحق. والثالث: الردة وهو أن يرتد عن الإسلام فتقع الفرقة بردته فتكون كالفرقة بالطلاق في استحقاق المتعة لأنها لما وجبت بالطلاق المباح كان وجوبها بالردة المحرمة الأولى. والرابع: الإسلام هو أن يسلم الزوج دونها فتبين بإسلامه فلها المتعة كالطلاق لأنها لما وجبت عليه بفرقة كفره كان وجوبها بفرقة إسلامه أولى. والخامس: الفسخ بالعيوب فإن كان ذلك رفعًا للعقد لتقدمه عليه فلا متعة فيه لأنه لما أسقط المهر كان بإسقاطه المتعة أولى وإن كان ذلك قطعًا للعقد بحدوثه بعدة فهو وجوب المتعة كالطلاق لأنه لما لم يسقط به المهر لم تسقط به المتعة. وأما القسم الثالث أن تكون الفرقة من جهتها دونه فلا متعة فيها وإن تنوعت لأنه لما كان فسخها مسقطًا لصداقها فأولى أن يسقط متعتها وهذه الفرقة قد تكون من ستة أوجه: أحدها: بردتها. الثاني: بإسلامها.

والثالث: بأن تجد فيه عيبًا فتفسخ نكاحه. والرابع: أن تعتق زوجها عبد فتختار فسخ نكاحه. والخامس: بأن يعسر الزوج بنفقتها فتختار فسخ نكاحه. والسادس: بأن تظهر فيه عنة فيؤجل لها ثم تختار فسخ نكاحه بها ألا أن المزني حكي عن الشافعي في هذا الموضع أنه قال: وأما امرأة العنين فلو شاءت أقامت معه ولها عندي متعة قال المزني: وهذا عندي غلط عليه وقياس قوله لا حق لها أن الفرقة من قبلها دونه. وهذا وهم من المزني في النقل واستدراك منه في الحكم لأن الشافعي قد قال في كتاب الأم وأما امرأة العنين فلو شاءت أقامت معه فليس لها عندي متعة فسها الكاتب في نقله فأسقط قوله: "فليس" ونقل ما بعده فقال: فلها عندي متعة وتعليل الشافعي يدل على السهو في النقل لأنه قال: فلو شاءت أقامت معه فقد بين أن الفرقة من جهتها والفرقة إذا كانت منها أسقطت متعتها. وأما القسم الرابع: وهو أن تكون الفرقة من جهتها فهو على ضربين: أحدهما: أن يغلب فيه جهة الزوج. والثاني: أن يغلب فيه جهة الزوجة. فأما ما يغلب فيه جهة الزوج فشيئان: أحدهما: الخلع لأنه تم بهما إلا أن المغلب فيه الزوج لأن الفرقة من جهته وقعت ولأنه قد يصل إلى الخلع عنها مع غيرها. والثاني: أن يملكها طلاق نفسها أو يجعل ذلك إلى مشيئتها فتطلق نفسها وتشاء طلاق نفسها فتقع الفرقة بهما إلا أن جهة الزوج أغلب للأمرين المتقدمين وهو أن الفرقة من جهته وقعت ولأنه قد كان يقدر أن يجعل طلاقها إلى غيرها أو أن تعلقه بمشيئة غيرها فيكون في حكم الطلاق إذا انفرد الزوج بإيقاعه في وجوب المتعة به على ما فصلنا. وأما ما يغلب فيه جهة الزوجة فهو أن تكون أمة فيبتاعها الزوج من سيدها فقد وقعت الفرقة من جهتها لأنها تمت ببيع السيد وابتياع الزوج والسيد من جهتها فظاهر نص هذا الموضع أنه لا متعة لها وقد نص عليه في القديم وقال في الإملاء: لها المتعة فاختلف أصحابنا فذهب أكثرهم إلى تخريج ذلك على قولين: أحدهما: وهو المنصوص عليه في القديم والمشار إليه في هذا الموضع أنه لا متعة لها لأن السيد في هذا الموضع بمنزلة الزوج في الخلع فاقتضى أن يغلب جهة السيد هاهنا في سقوط المتعة كما يغلب في الخلع جهة الزوج في وجوب المتعة ولأن السيد قد كان يصل إلى بيعها من غيره فصار اختياره للزوج اختيار للفرقة. والثاني: وهو المنصوص عليه في الإملاء لها المتعة لأن البائع والمشتري يتساويان في وقوع العقد بهما وقد اختص الزوج بمبائرة العقد دونها فاقتضى أن يترجح حاله في

وجوب المتعة عليها وقال أبو إسحاق المروزي: ليس ذلك على اختلاف قولين وإنما هو على اختلاف حالين فنصه في القديم وفي هذا الموضع على أنه لا متعة لها محمول على أن المستدعى للبيع هو السيد فغلبت جهته في سقوط المتعة ونصه في الإملاء أن لها المتعة محمول على أن المستدعى للبيع هو الزوج فغلبت جهته في وجوب المتعة. وأما القسم الخامس: وهو أن تكون الفرقة من غيرهما وهو أن تكون زوجته صغيرة فترضعها أمه أو بنته فتحرم عليه فتكون هذه الفرقة كالطلاق لأنها تملك بها نصف مسمى فوجب أن تستحق المتعة عند عدم المسمى وترجع بالمتعة على التي حرمتها كما ترجع عليها بصداقها والله أعلم. فرع وإذا تزوج امرأة وأصدقها أن تعتق عبده سالمًا عنها صح الصداق وعليه عتقه عنها لأن المعاوضة على هذا العق جائزة فلو أعتقه ثم طلقها قبل الدخول رجع عليها بنصف قيمته ولو طلقها قبل الدخول وقبل عتقه عنها فقد اختلف أصحابنا في ذلك على وجهين: أحدهما: أنه يعتق عنها نصفه ويقوم عليها نصفه الباقي إن كانت موسرة لأن عتق نصفه كان باختيارها فلذلك وجب تقديم باقيه عليها. والثاني: أنه لا يعتق عنها شيء منه لما فيه من إدخال الضرر عليها في التقويم وإدخاله على العبد وعلى السيد في التبعيض وترجع الزوجة عليه ببدله وفيه قولان: أحدهما: قيمة نصف العبد. والثاني: نصف مهر مثلها ليرفع ذلك الضرر عن الجميع. فرع وإذا أصدق الذمي الذمية الخمر في يد الزوج خلًا بغير علاج وأسلم الزوجين فهذا على ضربين: أحدهما: أن يصير الخمر خلًا قبل إسلامهما فعليه أن يدفعه إليها بعد مصيره خلًا. والثاني: أن يصير خلًا بعد إسلامها فلا يلزمه دفعه خلًا إليها ويدفع إليها مهر مثلها. والفرق بينهما أنه قبل الإسلام يجوز دفعه خمرًا فلذلك وجب دفعه بعد مصيره خلًا لبقاء حكم الصداق عليه وبعد الإسلام لا يجوز دفعه خمرًا فلم يجب دفعه بعد مصيره خلًا لانتفاء حكم الصداق عنه فلو دفع الخمر إليها في الشرك ثم أسلما وطلقها الزوج قبل الدخول لم يرجع عليها بنصف الخمر لأن الخمر لا يستحقه ولا بقيمته لأننا لا نحكم له بقيمته ولا ببدله لأن ما لا قيمة له لا بدل له فلو كان الخمر قد صار خلًا قبل طلاقه ففي رجوع الزوج بنصفه وجهان:

باب الوليمة والنثر

أحدهما: يرجع بنصف الخل لأن عين الصداق موجودة على صفة يجوز أن يملك معها. والثاني: أنه لا يجوز أن يرجع بنصفه لزيادته على حال ما أصدق ولا يرجع بقيمة الخمر لأنها لا تجوز فلا يرجع بشيء في هذا الطلاق ولا فرق هاهنا بين أن يصير خلًا قبل إسلامها أو بعده لاستقرار ملكها عليه بالقبض ولكن لو صار خلًا بعد الطلاق لم يرجع عليه بنصفه وجهًا واحدًا لكونه وقت طلاقها غير مستحق ولو صار قبل طلاقها فاستهلكه ثم طلقها قبل الدخول لم يرجع عليها بنصف قيمة الخل وجهًا واحدًا ولا يكون له عليها شيء لأن ما يرجع الزوج به من قيمة الصداق معتبر بأقل أحواله من وقت العقد إلى وقت القبض ولو كان في هذه الأحوال مما لا قيمة له. فرع وإذا زوج الرجل عبده بامرأة وجعل رقبته صداقها فإن كانت الزوجة حرة فالنكاح باطل لأن تصحيح النكاح يجعلها مالكة لزوجها وإذا ملكت المرأة زوجها بطل النكاح. فإذا قيل: فهلا صح النكاح وبطل الصداق. قيل: لأن هذا العقد أوجب أن يكون الزوج مالكًا لبضعها بالنكاح وأن تكون الزوجة مالكة لرقبته بالصداق وليس إثبات أحدهما بأولى من النكاح الآخر فبطلا جميعًا وإن كانت الزوجة أمة صح النكاح والصداق جميعًا لأنه يصير بهذا العقد ملكًا لسيد زوجته وليس يمتنع أن يكون الزوجان في ملك سيد واحد فلو أن العبد والمسألة بحالها طلق زوجته الأمة قبل الدخول ففيه وجهان: أحدهما: يرجع سيده المزوج له بنصفه. والثاني: لا يرجع بشيء وهذان الوجهان بناء على اختلاف أصحابنا فيمن أصدق عن عبده مالًا ثم طلق العبد قبل الدخول وقد باعه سيده فهل يكون نصف الصداق ملكًا لسيده الأول الذي بذله عنه أو لسيده الثاني الذي طلق وهو في ملكه على وجهين ذكرناهما في كتاب النكاح وبالله التوفيق. باب الوليمة والنثر قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: "الوَلِيمَةُ الَّتِي تُعْرَفُ وَلِيمَةُ العُرْسِ وَكُلُّ دَعْوَةٍ عَلَى إِمْلَاكٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ خِتَانٍ أَوْ حَادِثِ سُرُورٍ فَدُعِيَ إِلَيْهَا رَجُلٌ فَاسْمُ الوَلِيمَةِ يَقَعُ عَلَيْهَا وَلَا أُرَخِّصُ فِي تَرْكِهَا وَمَنْ تَرَكها لَمْ يَبِنْ لِي أَنَّهُ عَاصٍ كَمَا يَبِينُ لِي فِي وَلِيمَةِ العُرْسِ لأَنِّي لَا أَعْلَمُ أَنْ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم تَرَكَ الوَلِيمَةَ عَلَى عُرْسٍ وَلَا أَعْلَمُهُ، أَوْلمَ عَلَى غَيْرِهِ وَأَوْلَمَ عَلَى صَفِيِّةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا فِي سَفَرٍ بِسَويقٍ وَتَمْرٍ. وَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمنِ: "أَوْلِمْ وَلَوْ بِشَاةٍ".

قال في الحاوي: وأما الوليمة فهي إصلاح الطعام واستدعاء الناس لأجله والولائم ست: وليمة العرس: وهي الوليمة على اجتماع الزوجين. ووليمة الخرس: وهي الوليمة على ولادة الولد. ووليمة الإعذار: وهي الوليمة على الختان. ووليمة الوكيرة: وهي الوليمة على بناء الدار قال الشاعر: كُلُّ الطَّعَامِ تَشْتَهِي رَبِيعَه الخُرْسُ وَالإِعْذَارُ وَالوَكِيرَه ووليمة النقيعة: وهي وليمة القادم من سفره وربما سموا الناقة التي تنحر للقادم نقيعة، قال الشاعر: إِنَّا لًَنَضْرِب بِالسُّيُوفِ رُؤُوسَهُمْ ضَرْبَ القُدَارِ نَقِيعَةَ القُدَّامِ ووليمة المأدبة: هي الوليمة لغير سبب. فإن خص بالوليمة جميع الناس سميت جفلى وإن خص بها بعض الناس سميت نقلى قال الشاعر: نَحْنُ فِي المَشْنَاةِ نَدْعُو الجَفْلَى لَا تَرَى الأدب فِينَا يَنْتَقِر فهذه الستة ينطلق اسم الولائم عليها، وإطلاق اسم الوليمة يختص بوليمة العرس ويتناول غيرها من الولائم بقرينه؛ لأن اسم الوليمة مشتق من الولم وهو الاجتماع، ولذلك سمي القيد الولم، لأنه يجمع الرجلين فتناولت وليمة العرس لاجتماع الزوجين فيها، ثم أطلقت على غيرها من الولائم تشبيهًا بها، فإذا أطلقت الوليمة تناولت وليمة العرس، فإن أريد غيرها قيل: وليمة الخرس أو وليمة الإعذار، وقد أفصح الشافعي بهذا ثم لا اختلاف بين الفقهاء أو وليمة غير العرس لا تجب. فأما وليمة العرس فقد علق الشافعي الكلام في وجوبها لأنه قال: "ومن تركها لم يبن لي أنه عاص كما يبين لي في وليمة العرس".

فاختلف أصحابنا في وجوبها على وجهين ومنهم من خرجه على قولين: أحدهما: أنها واجبة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى على عبد الرحمن بن عوف أثر الخلوق فقال له: "مهيم" أي ما الخبر- فقال: أعرست، فقال له: "أولمت" قال: لا قال: "أولم بشاة". وهذا أمر يدل على الوجوب ولأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أنكح قط إلا أولم في ضيق أو سعة وأولم على صفية في سفره بسويق وتمر، ولأن في الوليمة إعلان للنكاح فرقًا بينه وبين السفاح، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أعلنوا النكاح واضربوا عليه بالدف" ولأنه لما كانت إجابة الداعي إليها واجبة دل على أن فعل الوليمة واجب لأن وجو المسبب دليل على وجوب السبب ألا ترى أن وجوب قبول الإنذار دليل على وجوب الإنذار. والثاني: وهو الأصح أنها غير واجبة لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس في المال حق سوى الزكاة" ولأنه طعام لحادث سرور فأشبه سائر الولائم، ولأن سبب هذه الوليمة عقد النكاح وهذا غير واجب ففرعه أولى أن يكون غير واجب. ولأنها وجبت لتقدرت كالزكاة والكفارات ولكان لها بدل عند الإعسار كما يعدل المكفر في إعساره إلى الصيام فدل على عدم تقديرها وبدلها على سقوط وجوبها. ولأنها لو وجبت لكان مأخوذًا بفعلها حيًا ومأخوذة من تركته ميتًا كسائر الحقوق، وكأن بعض أصحابنا يتوسط في وجوبها مذهبًا معلولًا ويقول: هي من فروض الكفايات إذا أظهرها الواحد في عشيرته أو قبيلته ظهورًا منتشرًا سقط فرضها عمن سواه وإلا خرجوا بتركها أجمعين وهذا فاسد من ثلاثة أوجه: أحدها: أن ما وجب من حقوق النكاح تعين كالولي والشاهدين. والثاني: أن ما تعلق بحقوق الأموال الخاصة عم وجوبه كالزكوات أو عم استحبابه كالصدقات. والثالث: أن فروض الكفاية مختص بما عم سنته كالجهاد أو ما تساوى فيه الناس كغسل الموتى وهذا خاص معين فلم يكن له في فروض الكفاية مدخل. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا من وجوبها أو استحبابها انتقل الكلام إلى ما يلزم المدعو إليها من الإجابة فالظاهر من مذهب الشافعي أن الإجابة إليها واجبة قال بعض أصحابنا: إن الإجابة إليها مستحبة وليست بواجبة لأنها تقتضي أكل الطعام وتملك مال ولا يلزم أحد أن يتملك مالًا بغير اختياره ولأن الزكوات مع وجوبها على الأعيان لا يلزم المدفوعة إليه أن يتملكها فكان غيرها أولى.

والدليل على ما ذهب إليه الشافعي من وجوب الإجابة ما روى نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من دعي إلى وليمة فلم يجب فلقد عصى الله ورسوله ومن جاءها بغير دعوة دخل سارقًا وخرج مغيرًا". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أجيبوا الداع فإنه ملهوف". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو أهدي إليَّ ذراع لقبلت ولو دعيت إلى كراع لأجبت". وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "شر الطعام الولائم يدعى إليه الأغنياء ويحرمه الفقراء والمساكين". ومن لم يجب الدعوة فقد عصى الله ورسوله. ولأن في الإجابة تآلفًا وفي تركها ضررًا وتقاطعًا. فصل: فإذا ثبت أنها واجبة فسواء قيل إن فعلها واجب أو مستحب في وجوب الإجابة إليها لأن رد السلام واجب وإن كان ابتداء السلام غير واجب وهل يكون وجوبها من فروض الأعيان أو من فروض الكفاية على وجهين: أحدهما: أنها فرض على كل من دعي إليها أنه يجيب ما لم يكن معذورًا بالتأخير لما قدمناه من الدليل. والثاني: أنها فروض الكفاية فإن أجاب من دعي من تقع به الكفاية سقط وجوبها عن الباقين وإلا خرجوا أجمعين لأن المقصود من الوليمة ظهورها وانتشارها ليقع الفرق فيها بين النكاح والسفاح فإن وجد مقصودها بمن خص سقط وجوبها عمن تأخر. فصل: وإذا كانت الإجابة واجبة على ما وصفنا فلوجوبها شروط تعبير من الداعي والمدعو فأما الشروط المعتبرة في الداعي فستة شروط: أحدها: أن يكون بالغًا يصح منه الإذن والتصرف في ماله فإن كان غير بالغ لم تلزم إجابته ولم يجز أيضًا لبطلان إذنه ورد تصرفه. والثاني: أن يكون عاقلًا لأن المجنون لفقد تمييزه أسوأ حالًا من الصغير في فساد إذنه ورد تصرفه.

والثالث: أن يكون رشيدا يجوز تصرفه في ماله فإن كان محجوراً عليه لم تلزم إجابته فلو أذن له وليه لم تلزم إجابته أيضًا لأن وليه مندوب لحفظ ماله لا لإتلافه. والرابع: أن يكون حوا لأن العبد لا يجوز تصرفه فلم تلزم إجابته لفساد إذنه فلو أذن له سيده صار كالحر في لزوم إجابته. والخامس: أن يكون مسلما تلزم موالاته في الدين فإن كان الداعي ذمياً لمسلم ففي لزوم إجابته وجهان: أحدهما: يجب لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أحيبوا الداعي فإنه ملهوف". والثاني: لا تلزم إجابته لأنه ربما كان مستخبث الطعام محرماً. ولأن نفس المسلم تعاف كل طعامه وأن مقصود الطعام التواصل به واختلاف الدين يمنع من تواصلهما فإن دعا مسلم ذميا لم تلزمه الإجابة وجهاً واحداً لأنه لا يلتزم أحكام شرعناً إلا عن تراض. والسادس: أن يصرح بالدعاء إما بقول أو مكاتبة أو مراسلة لأن العرف بجميع ذلك جار وصريح الدعاء أن يقول: أسألك الحضور أو يقول: أحب أن تحضر أو إن رأيت أن تجملني بالحضور فتلزمه إجابته بهذا القول كله. فأما إن قال إن شئت أن تحضر فافعل لم تلزمه إجابته قال الشافعي: "وما أحب أن يجيب". فإن كاتبه رفعة يسأله الحضور بأحد ما ذكرنا من الألفاظ لزمه الإجابة فإن نقصه في الخطاب لم يكن ذلك عذراً في التأخير وكذلك لو كان بينهما عداوة أو كان في الوليمة عدو لم يكن معذورا في التأخير وأن وأسله برسول وقع في نفسه وصدقه لزمته الإجابة سواء كان حراً أو عبداً فإن كان غير بالغ نظر فيه فإن كان مميزاً لزمته الإجابة بوروده في الرسالة وإن كان غير مميز لم يلزم لأنه لا يحصل ما يقول ولا العادة جاوية أن يكون مثله رسولاً فإن قال الداعي لرسوله: ادع من رأيت من غير أن يعين له على أحد لم يلزم من دعاه الرسول أن يجيب لأنه قد يرى أن يدعو من غيره أحب إلى صاحب الطعام. فصل: وأما الشروط التي في المدعو فخمسة شروط: أحدهما: البلوغ. والثاني: العقل ليكون بالبلوغ والعقل ممن يتوجه عليه حكم الالتزام. والثالث: الحرية لأن العبد ممنوع من التصرف بحق السيد فإن أذن له سيده لزمته الإجابة حينئذ وان كان مكاتباً نظر فإن لم يكن حضوره مضراً بكسبه لزمته الإجابة وان كان مضرا لم تلزمه الإجابة إن لم يأذن له السيد وفي لزومها بإذنه وجهان فأما المحجور عليه بالسفه فتلزمه الإجابة كالرشيد. والرابع: أن يكون مسلما فإن كان ذميا والداعي مسلم فقد ذكرنا أن الإجابة لا تلزمه

وإن كانا ذميين ورضيا بحكمنا أخبرناهم بلزوم الإجابة في ديننا وهل يجبر عليه المدعو أم لا؟ على قولين. والخامس: أن لا يكون له عذر مانع من مرض أو تشاغل بمرض أو إقامة على حفظ مال أو خوف من عدو على نفس أو مال فإن كل هذه وما شاكلها أعذار تسقط لزوم الإجابة فإن إعتذر بشاة حر أو برد نظر فإن كان ذلك مانعاً من تصرف غيره كان عذراً في التأخير وإن لم يمتنع من تصرف غيره لم يكن عذراً. وإن إعتذر، بمطر يبل الثوب كان عذراً ولأنه عذر في التأخير عن فرض الجمعة وإن إعتذر بزحام الناس في الوليمة لم يكن ذلك عذراً في التأخير عن الإجابة وقيل: احضر فإن وجدت سعة وإلا عذرت في الرجوح. فصل: فإن كانت الوليمة ثلاثة أيام فدعي في الأيام الثلاثة لزمت الإجابة في اليوم الأول واستحبت في اليوم الثاني ولم تجب وكرهت في اليوم الثالث لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الوليمة في اليوم الأول حق وفي اليوم الثاني معروف وفي اليوم الثالث رياء وسمعه". وإذا دعاه اثنان في يوم فإن قدر على الحضور إليهما لزمته إجابتهما وان لم يقدر على الجمع بينهما لزمته إجابة أسبقهما فإن استويا أجاب أقربهما جوارا فإن استويا في الجوار أجاب أقربهما وحما، فإن استويا في القرابة أقرع بينهما وأجاب من قرع منهما. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا دعاك اثنان فأجب أقربهما باباً فإن أقربهما باباً أقربهما جوارا فإن جاءا معا فأجب اسبقهما". مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَإِنْ كَانَ المَدْعُوُّ صَاِئماً أَجَابَ الدَّعْوَةَ وَبَرَّكَ وَانْصَرَفَ وَلَيْسَ بِحَتْم أَنْ يَاكُلَ وَأُحِبُّ لَوْ فَعَلَ وَقَدْ دُعِيَ ابْنْ عُمَرَ رَضِيَ الله عَنْهُمَا فَجَلَسَ وَوَضَعَ الطَّعَامَ فَمَدُّ يَدَهُ وَقَالَ: "خُذُوا بِسْمِ اللهِ ثُمَّ قَبَضَ يَدَهُ وَقَالَ: إِنَّي صَائِمٌ". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا كان المدعو صائما لزمه الحضور ولم يكن صومه عذرا في التأخير, لرواية عبد الله بن عمر عن نافح عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"إذا دعي (أحدكم) إلى وليمة فليجب فإن كان فطرا فليأكل وان كان صائما فليدع وليقل: إني صائم". ولأن المقصود بحضوره التجمل أو التكثر أو التواصل والصوم لا يمنع من ذلك فإذا حضر الصائم لم يخل صومه من أن يكون فرضًا أو تطوعا وان كان صومه فرضا أو تطوعا وإن كان صومه فرضاً لم يفطر ودعا للقوم بالبركة. وقال: إني صائم وكان بالخيار بين المقام أو الانصراف لما قدمناه من رواية ابن عمر وفعله وان كان صومه تطوعاً فالمستحب له أن يأكل ويفطر لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا دعي أحدكم إلى طعام وهو صائم فإن كان تطوعا فليفطر ولا فليصل" أي فليدع ولا يجب عليه الفطر لأنه في عبادة فلم تلزمه مفارقتها ولأن من الفقهاء من يحظر عليه الخروج من صوم التطوع ويوجب عليه القضاء. فصل: فأما المفطر إذا حضر ففي وجوب الأكل عليه ثلاثة أوجه: أحدهما: يجب عليه الأكل لأنه مقصود بالحضور ولرواية ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعي أحدكم إلى وليمة فليجب فإن كان فطرا فليأكل وان كان صائما فليدع وليقل: إني صائم". والثاني: أنه لا يجب عليه الأكل وهو فيه مخير لرواية سفيان عن أبي الزبير عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا دعي أحاكم إلى طعام فإن شاء طعم وان شاء ترك ولأن في الأكل تملك قال: فلم يلزمه كالهبة. والثالث: أن الأكل في الوليمة من فروض الكفايات فإن أكل غيره سقط عنه فرض الأكل وإلا خرج جميع الحاضرين لما في امتناع جميعهم من عدم مقصود وانكسار نفسه وإفساد طعامه. فصل: وينبغي لمن حضر الطعام أن يأكل إلى حد شبعه وله أن يقصر عن الشبع ويحرم عليه الزيادة على الشبع لما فيه من المضرة ومخالفة العادة فإن أكل أكثر من شبعه لم يضمن الزيادة وليس له أن يأخذ ما يأكل ليحمله إلى منزله ولا أن يعطيه لغيره ولا أن يبيعه لأن الأكل هو المأذون فيه دون غيره وليس كل من أبيح له الأكل جاز له البيع كالمضحي ولا يجوز إذا جلس على الطعام أن يطعم غيره منه فإن فعل وكان الذي أطعمه من المدعوين لم يضمن وان كان غير مدعو ضمن. وهكذا ليس له أن يستصحب إلى الطعام من لم يدعه صاحب الوليمة فإن أحضر معه

أحداً فقد أساء والضمان على الآكل دون المحضر والعرب تسمي المدعو ضيفا والتابع ضيفين قال الشاعر: إِذَا جَاءَ ضَيْفٌ جَاءَ لِلضَّيْفِيْن فأوْدَي بمَا نُقْرِي الضُّيُوفِ الضَّيَافِنُ فصل: ويختار له إذا أكل أن يستعمل آداب أكله المسنونة. فمنها غسل يديه قبل الطعام وبعده ولو توضأ في الحالين كان أفضل. وروى أبو هاشم عن زاذان عن سلمان قال: قرأت في التوراة: الوضوء قبل الطعام بركة الطعام فذكرته للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: "الوضوء قبل الطعام وبعد الطعام بركة الطعام. ومنها التسمية على الطعام قبل مد يده والحمد لله بعد رفعها فقد فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك وأمر به. ومنها: أن يأكل مما يليه ولا يمد يده إلى ما بعد عنه ولا يأكل من ذروة الطعام فقد روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البركة في ذروة الطعام فكلوا من حواليها" وإذا وضع استباح الحاضرون أكله وان لم يؤذن لهم قولا بالعرف وأن ما تقام من الدعاء إذن فيما تأخر من الطعام واختلف أصحابنا متى يستحق الحاضر ما يأكله حتى يصير أملك به من ربه، على ثلاثة أوجه: أحدهما: إذا أخذ اللقمة من الطعام بيده مار بها أحق وأملك لها لأن حصولها في اليد قبض فلا يجوز أن تسترجع منه. والثاني: أنه لا يصير أحق بها وأملك لها إلا إذا وضعها في فمه فأما وهي بيده فمالك الطعام أحق بها لأن الإذن في الأكل لا يكون ذلك إلا بعد الحصول في الفم. والثالث: أن لا يصير أحق بها وأملك إلا بعد مضغها وبلعها لأن الإذن يضمن استهلاكه بالأكل ولا يجلس بعد فراغه من الأكل إلا عن إذن لقول الله تعالى: {فَإذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا} [الأحزاب: (53)]. وروى واصل بن السائب عن أبي سورة وعن عطاء بن أبي رباح قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا حبذا المتخللون من أمتي، قالوا: وما المتخللون؟ قال: المتخللون من الطعام والمتخللون بالماء في الوضوء". مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَإِنْ كَانَ فِيهَا المَعْصِيَةُ مِنَ المُسْكِر أَوْ الخَمْرِ أَوْ مَا أَشْبَهَهُ مِنَ

المَعَاصِي الظَّاهِرَةِ نَهَاهُمْ فَإِنْ نَحَّوا ذلِكَ عَنْهُ وَإِلَّا أُحِبَّ لَهُ أَنْ يَجْلِسَ فَإِنْ عَلِمَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ لَمْ أُحِبَّ لَهُ أَنْ يُجِيبَ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا دعي إلى وليمة وفيها خمور أو ملاهي أو ما أشبه ذلك من المعاصي فلا يخلو أن يكون عالما به قبل حضوره أو غير عالم فإن علم به قبل حضوره فله حالتان: أحدهما: أن يقدر على إنكاره وإزالته فواجب عليه أن يحضر لأمرين: أحدهما: لإجابة الداعي. والثاني: لإزالة المنكر. والحالة الثانية: أن لا يقدر على إزالته ففرض الإجابة قد سقط وأولى أن لا يحضر وفي جواز حضوره وجهان: أحدهما: وهو الأظهر أنه لا يجوز لما في حضوره من مشاهدة المنكر والريبة الداخلة عليه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك". والثاني: يجب له الحضور وان كره له لأنه ربما أحشمهم حضوره فكفوا واقصروا وقد حكي أن الحسن البصري ومحمد بن كعب القرظي دعيا إلى وليمة فسمعا منكراً فقام محمد لينصرف فجذبه الحسن وقال: اجلس ولا يمنعك معصيتهم من طاعتك. وإن لم يعلم بما في الوليمة من المعاصي فعليه الإجابة ولا يكون خوفه منها غدرًا في التأخير عنها لجواز أن لا يكون فإذا حضر وكانت بحيث لا يشاهدها ولا يسمعها أقام على حضوره ولم ينصرف وان سمعها ولم يشاهدها لم يتعمد السماع وأقام على الحضور لأن الإنسان لو سمع في منزله معاص من دار غيره لم يلزمه الانتقال عن منزله كذلك هذا وان شاهد ها جاز له الانصراف ولم يلزمه الحضور إن لم ترفع وفي جواز إقامته مع حضورها إذا صرف طرفه عنها مما ذكرنا من الوجهين. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فإن رأى صوراً ذات أَرْوَاح لم يدْخل إِن كَانَت مَنْصُوبَة وَإِن كَانَت تُوطأ فَلَا بَاس وَإِن كَانَ صور الشّجر فَلَا بَاس أحب أن يجيب أخاه وبلغنا أ، النبي صلى الله عليه وسلم قال: لو أهدى إلى ذراع لقبلت ولو دعيت إلى كراع لأجبت" قال في الحاوي: وهذا صحيح وإذا كان في الوليمة صور فهي ضربان: أحدهما: أن يكون صور شجر ونبات وما ليس بذي روح فلا تحرم لأنها كالنقوش التي تراد للزينة سواء كانت على مسدل من بط ووسائل أو كانت على مصان من ستر أو جرار ولا يعتذر بها المدعو في التأخير.

والثاني: أن تكون صور ذات أرواح من آدمي أو بهيمة، فهي محرمة وصانعها عاص لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن المصور وقال: يؤتى به يوم القيامة فيقال له: انفخ فيه الروح وليس بنافخ فيه أبدا". وقد حكي عن عكرمة في تأويل قول الله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ} [الأحزاب: (57)] أنهم أصحاب التصاوير وإذا عملها محرم على صانعها فالكلام في تحريم استعمالها وإباحته معتبر بحال الاستعمال فإن كانت مستعملة في منصوب مصان عن الاستبدال كالحيطان فهي محرمة يسقط معها فرض الإجابة لما روي عن علي بن أبي طالب رضوان الله تعالى أنه قال: منعت طعاما ودعوت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما دخل البيت وجع فقلت: يا رسول الله ما رجعك؟ قال: "رأيت صورة وان الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة أو كلب". وروى جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة عام الفتح أمر عمر أن يمحو كل صورة في الكعبة فلما محيت دخلها, ولأن الصور كانت السبب في عبادات الأصنام حكي أن آدم لما مات افترق أولاده فريقين: فريق تمسكوا بالدين والصلاح. وفريق مالوا إلى المعاصي والفساد ثم اعتزل أهل الصلاح فصعدوا جبلا وأخذوا معهم تابوت آدم ومكث أهل المعاصي والفساد في الأرض فكانوا يستغوون من نزل إليهم من أهل الجبل فاستولوا على تابوت آدم فصور لهم إبليس صورة آدم ليتخذوها بالا من التابوت فعظموها ثم حدث بعدهم من رأى تعظيمها فعبدها فصارت أصناما معبودة فلذلك حرم استعمال الصور فيما كان مصانا معظما وقال أبو سعيد الإصطخري: إنما كان التحريم على عها النبي صلى الله عليه وسلم لقرب عهدهم بالأصنام ومشاهدتهم بعبادتها ليستقر في نفوسهم بطلان عبادتها وزوال تعظيمها وهذا المعنى قد زال في وقتنا لما استقر في النفوس من العدول عن تعظيمها فزال حكم تحريمها وحظر استعمالها وقد كان في الجاهلية من يعبد كل ما استحسن من حجر أو شجر فلو كان الحظر باقيا لكان استعمال كل ما استحسن حراماً وهذا الذي قاله خطأ لأن النص يدفعه وان ما جانس المحرمات تعلق به حكمهما ولو ساغ هذا في صور غير مجسمة لساغ في الصور المجسمة وما أحد يقول هذا ففسد به التعليل. فصل: فأما إن استعملت الصور في مكان مهان مستبذل كالبسط والمخال جاز ولم يسقط به فرض الإجابة. روي أن عائشة علقت سترا عليه صورة فلما دخل النبي صلى الله عليه وسلم فرآه رجع وقال: يا عائشة اقطعيه وسادتين فقطعته مخدتين".

ولأنها إذا كانت في مستبذل مهان زال تعظيمها من النفوس فلم تحرم قد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإلقاء صنمين على الصفا والمروة فكانت تداس على باب المسجد وهو يقرها ولا يمنع من استبقائها لأنه عدل بتعظيمها إلى الاستهانة بها والإذلال بها. فصل: فأما الدستور المعلقة على الأبواب والجدران فضربان: أحدهما: أن تكون صور ذات أرواح فاستعمالها محرم سوا، استعملت لزينة أو منفعة وقال أبو حامد الإسفراييني: إن كانت مستعملة للزينة حرمت وان كانت مستعملة للمنفعة لتستر بابا أو تقي من حر أو برد جاز ولم يحرم لأن العدول بها عن الزينة إلى المنفعة يخرجها عن حكم الصيانة إلى البذلة وهذا ليس بصحيح لأن الانتفاع بالشيء لا يخرجه من أن يكون مصانا عظيما فحرم استعمالها في الحالين وسقط بها فوض الإجابة إلى الوليمة. والثاني: أن تكون الستور بغير صور ذات أرواح فهذا على ضرين: أحدهما: أن يستعمل لحاجة أو منفعة لأنها تستر باباً أو تقي من حر أو برد فلا بأس باستعمالها. والثاني: أن تكون زينة للجدران من غير حاجة إليها ولا منفعة بها فهي سرف مكروه. ووت عائشة رضي انه عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن انه لم يأمرنا فيما رزقنا أن نكسو الجدران والطين" لكن لا يسقط بهذه الستور فرض الإجابة للوليمة لأن حظرها للمسرف في الاستعمال لا للمعصية في المشاهدة. فصل: ولا فرق في تحريم صور ذوات الأزواج من صور الآدميين والبهائم ولا فرق بين ما كان مستحسنا منها أو مستحسنا أو ما كان منها عظيما أو مستصغرا إذا كانت صور حيوان مشاهد. فأما صورة حيوان لم يشاهد مثله محل صورة طائر له وجه إنسان أو صورة إنسان له جناح طير ففي تحريمه وجهان: أحدهما: يحرم بل يكون أشد تحريما لأنه قد أباع في خلق الله تعالى ولتول النبي صلى الله عليه وسلم: "يؤمر بالنضح فيه وليس بنافخ فيه أبداً". والثاني: وهو قول أبي حامد المروزي: لا تحرم لأنه يكون بالتزاويق الكاذبة أشبه منه بالصور الحيوانية فعلى الوجه الأول يحرم عليه أن يصور وجه إنسان بلا بدن وعلى الوجه الثاني لا يحرم.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " فِي نَثْرِ الْجَوْزِ وَاللَّوْزِ وَالسُّكَّرِ فِي الْعُرْسِ: لَوْ تُرِكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ لِأَنَّهُ يُؤْخَذُ بِخِلْسَةٍ وَنُهْبَةٍ، وَلَا يَبِينُ أَنَّهُ حَرَامٌ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ يَغْلِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَيَاخُذُ مِنْ غَيْرِهِ أَحَبَّ إِلَى صَاحِبِهِ". قال في الحاوي: أما نثر السكر واللوز في العرس أو غير ذلك من طيب أو دراهم فمباح إجماعاً اعتباراً بالعرف الجاري فيه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حين زوج عليا بفاطمة رضي الله عنها نثر عليهما لكن اختلف الفقهاء في استحبابه وكراهيته فمذهب أبي حنيفة إلى أنه مستحب وفعله أولى من تركه لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم عن النثر فقال: هبة مباركة. وقال بعض أصحابنا هو مباح ليس بمستحب ولا مكروه وفعله وتركه سواء وقال سائر أصحابنا وهو الظاهر من مذهب الشافعي أنه مكروه وتركه أفضل من فعله لأمور: أحدها: أنه قد يوقع بين الناس تناهبا وتنافرا وما أدى إلى ذلك فهو مكروه. والثاني: أنه قد لا يتساوى الناس فيه وربما حاز بعضهم أكثره ولم يصل إلى آخرين شيء منه فتنافسوا. والثالث: أنه قد يلجأ الناس فيه إلى إسقاط المروءات إن أخذوا أو يتسلط محليهم السفهاء إن أمسكوا وقد كانت الصحابة ومن عاصر الرسول صلى الله عليه وسلم أحفظ للمروءات وأبعد للتنازع والتنافي فلذلك كره النثار بعدهم وان لم يكره في زمانهم وعادة أهل المروءات في وقتنا أن يقتسموا ذلك بين من أرادوا أو يحملوا إلى منازلهم فيخرج عن حكم النثر إلى الهدايا. فصل: فإن تقرر ما وصفنا في النثر فمن أخذ منه شيئا وقع على الأرض فقد ملكه وكان مخيرا بين أكله أو حمله إلى منزله أو بيعه بخلاف طعام الوليمة الذي لا يملك إلا أكله في موضعه اعتبارا بالعرف في الحالين والقصد المفرق بين الأمرين فأما ما وقع من النثر في حجر بعض الحاضرين فإنه لا يملكه حتى يأخذه بيده لكنه يكون أولى به من غيره فإن أخذه غيره ملكه الأخذ وان أساء كما يقول في الصيد إذا دخل دار رجل كان أولى به من غيره فإن أخذه غيره ملكه أخذه فأما زوال ملك ربه عنه فغيه وجهان: أحدهما: أن يكون نثره بين الناس ويصير ذلك ملكاً لجماعتهم ولا يتعين ملكه لواحد منهم إلا بالأخذ. والثاني: أنه باق على ملك صاحبه حتى يلتقطه الناس فيملك كل واحد منهم ما

التقطه فيزول عنه ملك صاحبه. فصل: فأما التقاط النثر فقد اختلف أصحابنا في كراهيته مع إجماعهم على جوازه فلهم فيه وجهان: أحدهما: أنه مكروه، قال الشافعي: لأنه قد يأخذ من غيره أحب إلى صاحبه فعلى هذا لا يلزمهم التقاط لأن فعل المكروه لا يلزم. والثاني: أنه ليس بمكروه إذا كان الملتقط مدعوا كما لا يكره أكل طعام الوليمة للمدعو وان جاز أن يأكل من غيره أحب إلى صاحبه فعلى هذا لا يجب الالتقاط على أعيان الحاضرين لأنه تملك محض يجري مجرى الهبة في وجوبه على الكافة وجهان: أحدهما: لا يجب تعليلا بالهبة فإن تركوه جميعا جاز. الثاني: أنه من فروض الكفاية لما في ترك جميعهم له من ظهور المقاطعة وانكسار نفس المالك فعلى إذا التقطه بعضهم سقط فرضه عن الباقين وكذلك ولو التقط بعض الحاضرين بعض المنثور وبقي بعض الحاضرين وبعض المنثور سقط عنهم فرض التقاطه وان كان جميعه باقيا خرجوا بتركه أجمعين ثم النثر مختص في العرف بالنكاح وان كان مستعملا في غيره كالوليمة في اختصامها بعرس النكاح وإن استعملت في غيره كما أن الأغلب فيه نثو اللوز والسكر وان نثر قوم غير ذلك. حكي أن أعرابيا تزوج فنثر على نفسه الزبيب لإعواز السكر وأنشأ يقول: وَلَمَّا رَأَيْتُ السُّكَّر العَامَ قَدْ غَلَا وَأَيْقَنْتُ أَنَّى لَا مَحَالَة نَاكِح صَبَبْتُ عَلَى رَاسِي الزَّبِيب لِصُحْبتَي وَقُلتُ كُلُوا أَكْل الحَلَاوَةِ صَالِح مختصر القسم ونشوز الرجل على المرأة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ الله تَعَالَى: "قَالَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 228]. قَالَ الشَّافِعِيُّ:" وَجِمَاعُ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ: كَفُّ الْمَكْرُوهِ، وَإِعْفَاءُ صَاحِبِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْنَةِ فِي طَلَبِهِ، لَا بِإِظْهَارِ الْكَرَاهِيَةِ فِي تَادِيَتِهِ، فَأَيُّهُمَا مَطَلَ بِتَاخِيرِهِ، فَمَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ " قال في الحاوي: أعلم أن الله تعالى أوجب للزوجة على زوجها حقا حظر عليه النشوز عنه كما أوجب له عليها من ذلك حقا حظر عليها النشوز عنه قال الله تعالى: {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} [الأحزاب: (50)] إشارة إلى ما أوجبه لها من كسوة ونفقة وقسم قال تعالى: {وعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء:19] فكان من عشرتها بالمعروف

تأدية حقها والتعديل بينهما وبين غيرها في قسمها قال تعالى: {ولَن تَسْتَطِيعُوا أَن تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ ولَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ المَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَة} [النساء: (129)] وقال تعالى: {ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ} [البقرة: (228)] فبين الله تعالى أن لهن حقا وأن عليهن حقا ولم يرد بقوله: {ولَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: (228)] في تجانس الحقين وتماثلهما وإنما أراد في وجوبهما ولزومهما فكان من حقها عليه وجوب السكنى والنفقة والكوة ثم فسر الشافعي قوله بالمعروف فقال: "وَجِمَاعُ الْمَعْرُوفِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ: كَفُّ الْمَكْرُوهِ، وَإِعْفَاءُ صَاحِبِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْنَةِ فِي طَلَبِهِ" وهذا صحيح لأنه ليس نعل المكروه من المعروف المأمور به ين الزوجين ولا إلزام المؤنة ني اسيفاء الحق معروف. ثم قال: "لَا بِإِظْهَارِ الْكَرَاهِيَةِ فِي تَادِيَتِهِ" وهذا صحيح لأن تأدية الحق بالكراهية وعبوس الوجه وغليظ الكلام ليس من المعروف. ثم قال: "فَأَيُّهُمَا مَطَلَ بِتَاخِيرِهِ، فَمَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْم" وهذا صحيح لأن القادر على أداء الحق ظالم بتأخيره قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مطل الغني ظلم" ثم يدل على ما ذكرناه من طريق السنة ما روى موسى بن عقبة عن صدقة بن يسار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أيها الناس إذ النساء عندكم عوان أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله فلكم عليهن حق ولهن عليكم حق ومن حقكم عليهن أن لا يوطئن بكلمة الله فراشكم أحدا ولا يعميكم في معروف فإذا فعلن ذلك فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف" فكان القسم من جملة المعروف الذي لهن. وروي أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته" فالرجل راعٍ لأهله وهو مسؤول عنهم.

وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقسم بين نسائه ويقول: "اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك" يعني قلبه. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما مرض طيف به على نسائه محمولاً فلما ثقل أشفقن عليه فحللنه من القسم ليقم عند عائشة رضي الله عنها لميله إليها فتوفي عندها صلى الله عليه وسلم فلذلك قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سحري ونحري وفي يومي ولم أظلم فيه أحداً فدل هذا على وجوب القسم وتغليظ حكمه. فصل: فإذا ثبت وجوب القسم فلوجوبه شرطان: أحدهما: أن يكون له زوجتان فأكثر ليصح وجوب التسوية بينهما بالقسم فإن كان له زوجة واحدة فلا قسم عليه وهو بالخيار بين أن يقيم معها فهو أولى به لأنه أحصن لها وأغض لطرفها وبين أن يعتزلها فلا مطالبة لها. والثاني: أن يريا المقام عند إحداهما فيلزمه بذلك أن يقيم عند الأخرى مثل ما أقام عندها تسوية بينهما فيلزمه حينئذٍ القسم بينهما فأما إن اعتزلهما سقط القسم بينهما لأنه قد سوى بينهما في الاعتزال كما سوى بينهما في القسم لهما فلم يجز الميل إلى إحداهما (0) والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ تِسْعِ نِسْوَةٍ، وَكَانَ يَقْسِمُ لِثَمَانٍ، وَهَبَتْ سَوْدَةَ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ رضي الله عنهن. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وبهذا نقول". قال في الحاوي: اعلم أن القسم من حقوق الآدميين يجب بالمطالبة ويسقط بالعفو ولا يجوز المعارضة على تركه كالشفعة ويجوز هبته لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات عن تسع زوجات وكان يقسم لثمان منهن لأن سودة بنت زمعة أراد طلاقها لعلو منها واستثقال القسم لها فلما علمت ذلك أتته فقالت: يا وسول الله قد أحببت أن أحشر في جملة نسائك فامسكني فقد وهبت يومي منك لعائشة. رضي الله عنها تريد بذلك التقرب إليه لعلمها بشدة ميله إلى عائشة رضي الله عنها- فصار يقسم لعائشة رضي الله عنها يومين ويوم سودة ويقسم لغيرها من نسائه يوماً يوماً. قال ابن عباس فنزل عليه في ذلك قوله تعالى: "فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ" [النساء: 128] فدل هذا الخبر على وجوب القسم ودل على جواز هبته.

واختلف أصحابنا في وجوب القسم على رسول الله صلى الله عليه وسلم مع إجماعهم على وجوب القسم على أمته على وجهين: أحدهما: كان واجباً عليه لهذا الخبر ولما رويناه أنه كان يقم بينهن ويقول اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك يعني قلبه، وطيف به في مرضه على نسائه محمولاً حتى حللته من القسم فدل على وجوب القسم عليه وعلى جميع أمته. والثاني: أنه غير واجب عليه وان كان واجباً على أمته وهذا قول أبي سعيد الإصطخري لقول الله تعالي" {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} [الأحزاب: 51] ولأن وجوب القسم عليه يقطعه عن التشاغل بتبليغ الرسالة وتوقع الوحي وبهذا المعنى فارق جميع أمته. فصل: فإذا استقر بما ذكرنا أن هبة القسم جائزة فإنما تجوز برضا الزوج لأن له حق الاستمتاع بها فلم يكن لها أن تنفرد بإسقاط حقه منها إلا برضاه فإذا رضي بهبتها صار مسقطاً لحقه في الاستمتاع بها فتعتبر حينئذٍ حال هبتها فإنها لا تخلو من ثلاثة أقسام: أحدها: أن تهب ذلك لامرأة بعينها من نسائه. والثاني: أن تهب ذلك لجميعهن. والثالث: أن تهب ذلك للزوج فإن وهبت قسمها لامرأة بعينها كما وهبت سودة يومها لعائشة رضي الله عنها جاز ولم يعتبر فيه رضي الموهوب لها في تمكين الزوج من الاستمتاع بها كما لا يراعى ذلك في زمان نفسها فيصير لها يوم نفسها ويوم الواهبة وهل يجمع الزوج لها بين اليومين أو تكون على ما كان عليه من الافتراق على وجهين: أحدهما: يجمع لها بينهما ولا يفرقهما كما لا يفرق عليها يومها. والثاني: أن يكون اليومان على تفريقهما يختص بيوم نفسها فإذا جاء يوم الواهبة على ترتيبه جعله لها ولم يجمع بينهما إذا كان في الترتيب مفترقين لأنها قد أقيمت فيه مقام الواهبة فلم يعدل به عن زمانه كما لا يعدل به عن مقداره وهذا أشبه وأما إن وهبت يومها لجميع نسائه من غير أن تخص به واحدة منهن بعينها فيسقط حقها من القسم ولا يتعين به قسم غيرها ويكون في حال القسم بعد هبتها كحاله لو عدمت فيصير مؤثراً في إسقاط حقها ولا يؤثر في زيادة حق غيرها وإنما يختص تأثيره إذا كن مع الواهبة أربعاً إن كان يعود يوم كل واحدة بعد ثلاثة أيام فصار يعود بعد يومين وأما إن وهبت يومها لزوجها فله أن يجعل يومها لمن أراد من نسائه فإذا جعله لواحدة منهن بعينها اختصت باليومين دون غيرها وفي جمعه وتفرقته ما ذكرنا من الوجهين فلو أواد الزوج أن ينقل يوم الهبة في كل نوبة إلى أخرى جاز فيجعل يوم الهبة في هذه النوبة لعمرة وفي النوبة الأخرى لحفصة وفي النوبة الثالثة لهند فيكون ذلك محمولاً على خياره لأنها هبة فجاز أن يختص بها من شاء.

فصل: فإذا رجعت الواهبة في هبتها وطالبت الزوج بالقسم لها سقط حقها فيما مضى لأنه مقبوض وقسم. لها في المستقبل لأنها رجعت في هبة لم تقص فلو رجعت في تضاعيف يومها وقد مضى بعضه كانت أحق بباقية من التي صار لها وعلى الزوج أن ينتقل فيه إليها فلو رجعت الواهبة في يومها ولم يعلم الزوج برجوعها حتى مضى عليه زمان ثم علم قَالَ الشَّافِعِيُّ: "م يقضيها ما فات قبل علمه واستحقت عليه القسم من وقت علمه" وهذا صحيح لأنه لم يقصد الممايلة لغيرها. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "ويجبر على القسم". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن وجوب القسم معتبر بشرطين: أحدهما: أن يكون له زوجتان فصاعداً. والثاني: أن يريد المقام عند بعضهن فإذا وجب القسم لهن أجبر عليه إن امتنع منه ظ ذا أراد أن يقسم وله زوجتان أقرع بينهما في التي يبدأ بالقسم لها فيزول عنه الميل. فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يسافر بواحدة من نسائه أقرع بينهن فأيتهن خرج سهمها سافر بها فلذلك أمرناه بالقرعة لتزول عنه التهمة بالممايلة. فإذا خرجت قرعة إحداهما بدأ بالقسم لها ثم قسم بعدها للثانية من غير قرعة ولا كن ثلاثا اقرع بعد الأولى بين الثانية والثالثة فإذا خرجت قرعة الثانية قسم بعدها للثالثة من غير قرعة ولو كن أربعا اقرع بعد الثانية بين الثالثة والرابعة فإذا خرجت قرعة الثالثة قسم بعدها للرابعة من غير قرعة فإذا استقر القسم لهن بالقرعة في النوبة الأولى سقطت القرعة فيما بعدها من النوب وترتبن في القسم في كن نوبة تأتي على مرتين بالقرعة في النوبة الأولى. فلو رتبهن في النوبة الأولى على خياره من غير قرعة لم يستقر حكم ذلك الترتيب فيما بعدها من النوب إلا بقرعة يستأنفها نزول التهمة بما في الممايلة ولو أراد أن يستأنف القرعة بينهن في كل نوبة جاز وان لم يجب لما فيه من انتفاء التهمة. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَأَمَّا الْجِمَاعُ فَمَوْضِعُ تَلَذُّذٍ وَلَا يُجْبَرُ أَحَدٌ عَلَيْه قال الله تعالى: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا

كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129] قال بعض أهل التفسير لن تستطيعوا أن تعدلوا بما في القلوب لأن الله تعالى يجاوزه " فَلَا تَمِيلُوا" [النساء:129] لا تتبعوا أهواءكم أفعالكم فإذا كان الفعل والقول مع الهواء فذلك كل الميل. وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم فيقول: اللهم هذا قسمي فيما أملك وأنت أعلم فيما لا أملك" يعني والله أعلم فيما لا أملك: قلبه. قال: وبلغنا أنأ كان يطاف به محمولاً في مرضه على نسائه حتى حللنه". قال في الحاوي: وهذا صحيح يلزمه القسم لهن للتسوية بينهن ولا يلزمه جماعهن إذا استقر دخوله بهن وله أن يجامع من شاء منهن ولا يلزمه جماع غيرها لأن الجماع إنما هو من دواعي الشهوة وخلوص المحبة التي لا يقدر على تكلفها بالتصنع لها قال الله تعالى {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} [النساء:129] قَالَ الشَّافِعِيُّ: معناه: ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء بما في القلوب من المحبة فلا تميلوا كل الميل في أن تتبعوا أهواءكم وأفعالكم فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ [النساء:129] وهي التي ليست بزوجة ولا مفارقة قالت هذه الآية على أن عليه التسوية بينهن فيما يقدر عليه من أفعاله في القسم والإيواء وليس عليه التسوية بينهن فيما لا يقدر عليه من المحبة والشهوة فكذلك الجماع. وقال مالك: يؤخذ الزوج بجماع امرأته في كل مدة ليحصنها ويقطع شهوتها فإن أطال ترك جماعها وحاكمته إلى القافي فخ النكاح بينهما إن لم يجامع وأوجب عليه قوم أن يجامعها في كل أربح ليال مرة لأنه قد أبيح له نكاح أربع فصارت تستحق كل أربعة أيام يوماً وبهذا حكم كعب ب سور بحضرة عمر رضي الله تعالى عنه فاستحسن ذلك منه وولاه قضاء البصرة فكان أول قافي قضى بها. وكلا المذهبين عندنا غير صحيح لما ذكرناه ويجوز أن يكون كعب توسط فيما حكم به بين الزوجين عن صلح ومراضاة وكما لا يجبر على جماعها فكذلك لا يجبر على مضاجعتها ولا على تقبيلها ومحادثتها ولا على النوم معها في فراش واحد؛ لأن كله من دواعي الشهوة والمحبة التي لا يقدر على تكلفها، وإنما يختص زمان القسم بالاجتماع والألفة. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُ"عِمَادُ الْقَسْمِ اللَّيْلُ؛ لِأَنَّهُ سَكَن فقال: {أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم:21]. قال في الحاوي: وهذا كما قال على الزوج في زمان القسم أن يأوي إليها ليلاً وينصرف لنفسه نهاراً؛ لأن الليل زمان الدعة والإيواء والنهار زمان المعاش والتصرف قال

الله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (12)} [النبأ: 10 - 11] وفي اللباس تأويلان: أحدهما: الإيواء في المساكن وإلى سكنه فصار كاللابس لمسكنه ولزوجته. والثاني: أنه يتغطى بظلمة الليل كما يتغطى باللباس. وقال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} [الروم: (21)] والسكن يكون في الليل ولأن الليل زمان الدعة والإيواء فوجب أن يكون عمدة القسم ولأن السيد لو زوج أمته لزمه تمكين الزوج منها ليلاً وكان له استخدامها نهاراً فعلم أن الليل عماد القسم فلا يجوز له في الليل أن يخرج فيه من عند التي قسم لها إلا من ضرورة فأما النهار فله أن يتصرف فيه بما شاء ويدخل فيه إلى غيرها من نسائه من غير أن يتعرض فيه لوطئها. روى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: قل يوم إلا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على نسائه فيدنو من كل امرأة منهن فيقبل ويلمس من غير مسيس ولا مباشرة ثم يبيت عند التي هو يومها. فإن كان في الناس من ينصرف في معاشه ليلاً ويأوي إلى مسكنه نهاراً كالحراس وصناع البزر ومن جرى مجراهم فعماد هؤلاء في قسمهم النهار دون الليل لأنه زمان سكنهم والليل زمان معاشهم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُ:" إِنْ كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ حَرَائِرُ مُسْلِمَاتٌ وَذِمِّيَّاتٌ فَهُنَّ فِي الْقَسْمِ سَوَاءٌ ". قال في الحاوي: وهذا صحيح تستوي المسلمة والذمية في القسم لها لعموم قوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] ولأن حقوق الزوجية تستوي فيها المسلمة والذمية كالسكنى والنفقة ويترع بينهما في القسم ولا تقدم المسلمة بغير قرعة تعديلاً بينهما كما يعدل في قدر الزمان. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: {يُقْسَمُ لِلْحُرَّةِ لَيْلَتَانِ وَلِلْأَمَةِ لَيْلَةٌ إِذَا خَلى المَوْلَى بَيْنُه وَبَيْنَهَا فِي لَيْلَتِهَا وَيَوْمِهَا}. قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا كان تحته حرة وأمة زوجتان وذلك من أحد وجهين إما أن يكون الزوج عبداً فنكح أمة وحرة ويكون حراً تزوج الأمة عند عدم الطول

ثم نكح بعدها حرة وذلك أن يقسم لهما ويكون قسم الأمة على النصف من قسم الحرة وذلك بأن يقسم للحرة ليلتين وللأمة ليلة أو للحرة أربع ليال وللأمة ليلتين. وقال مالك: عليه التسوية بينهما في القسم استدلالاً برواية أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل". ولأنهما يستويان في قسم الابتداء إذا نكحها حضها بسبع إن كانت بكراً وبثلاث إن كانت ثيباً وجب أن يستويا في قسم الانتهاء. ودليلنا رواية الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تنكح أمة على حرة وللحرة الثلثان وللأمة الثلث ". فإن قيل: فهذا مرسل وليست المراسيل عندكم حجة. قيل: قد عضد هذا المرسل قول صحابي وهو ما روى المنهال عن زر بن حبيش عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: إذا تزوجت الحرة على الأمة قسم لها يومين وللأمة يوماً. وإذا عضد المرسل قول صحابي صار المرسل حجة. وعلى أنه ليس لعلي رضي الله تعالى عنه في هذا القول مخالف فكان إجماعاً، ولأن ما كان ذا عدد تبعضت الأمة فيه من الحرة كالحدود والعدة والطلاق. ولأن وجوب القسم لها في مقابلة وجوب الاستمتاع بها فلما تبعض الاستمتاع بها من الحرة لاستحقاق الاستمتاع بها في الليل ووجوب الاستمتاع بالحرة في الليل والنهار وجب أن يتبعض ما في مقابلته من القسم. فأما الخبر فلا دليل فيه لأن العمل بما أوجبه الشرع لا يكون ميلاً محظوراً وأما استدلالهم بقسم الابتداء فقد اختلف أصحابنا هل يستويان فيه أم لا؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنهما لا يتساويان فيه بل يتفاضلان كقسم الانتهاء فسقط الدليل. الثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنهما متساويان في قسم الابتداء وإن تفاضلا في قسم الانتهاء. والفرق بينهما أن قسم الابتداء مرفوع للأنسية فاستوى فيه الحرة والأمة وقسم الانتهاء موضوع للاستمتاع بالأمة ناقص عن الاستمتاع بالحرة. فصل: فإذا ثبت أن قسم الأمة على النصف من قسم الحرة فكذلك المدبرة والمكاتبة وأم الولد ومن فيها جزء من الرق وان قل فإن أعتقت الأمة في وقت قسمها كمل لها قسم حرة ولو أعتقت بعد زمان قسمها استأنف لها فيما يستقبله من النوب قسم حرة لكنه يقسم

للحرة مثل ما كان للأمة من القسم كأنه كان يقم للأمة ليلة وللحرة ليلتين فاستكملت الأمة ليلتها وهي على الرق وأقام مع الحرة ليلة واحدة ثم أعتقت الأمة فليس له أن يزيد الحرة على تلك الليلة الواحدة لأن الأمة قد صارت مثلها فلم يجز أن يفصل بينهما قَالَ الشَّافِعِيُّ نصاً في القديم. وفيه عندي نظر لأن عتق الأمة يوجب تكميل حقها ولا يوجب نقصان حق غيرها فوجب أن تكون الحرة على حقها ويستقبل زيادة الأمة بعد عتقها فلو أعتقت الأمة ولم يعلم بعتقها حتى مضى لها نوب في القسم ثم علم لم يقض ما مضى وكمل قسمها في المستقبل بعد العلم بالعتق، والله أعلم مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: " وَلِلأَمَةِ أَنْ تُحَللَهُ مِنْ قَسْمِهَا دوُنَ المَوْلَى ". قال في الحاوي: وهذا صحيح لأن القسم حق لها دون سيدها لأنه إلف لها وسكن فإن حللت زوجها من القسم صح. وإن لم يرض اليد ولو حلله اليد منه لم يصح وخالف ذلك المهر الذي إن عفا عنه السيد صح وان عفت عنه الأمة لم يصح لأن المهر للسيل دونها والقسم لها دون السيد فصح عفوها عنه دون السيد. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَا يُجَامِعُ الْمَرْأَةَ فِي غَيْرِ يَوْمِهَا وَلَا يَدْخُلُ بِاللَّيْلِ عَلَى الَّتِي لَا قَسْمَ لَهَا وَلَا بَاسَ أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهَا بِالنَّهَارِ لِحَاجَةٍ وَيَعُودَهَا فِي مَرَضِهَا فِي لَيْلَةِ غَيْرِهَا فَإِنْ ثَقُلَ مَرَضُهَا فَلَا بَاسَ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا حَتَّى تُشْفي أَوْ تَمُوتَ ثُمَّ يُوفِيَ مَنْ بَقِيَ مِنْ نِسَائِهِ مِثْلَ مَا أَقَامَ عِنْدَهَا ". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن عماد القسم الليل دون النهار لكن النهار داخل في القسم تبعاً لليل والأولى أن يكون أول زمان القسم الليل لسعة اليوم الذي بعده لأن اليوم تبع لما تقدمه من الليل دون ما تأخر ولذلك كان أول الشهر دخول الليل فإن جعل أول زمان القسم النهار مع الليلة التي بعده جاز ويصير مقدماً للتابع على المتبوع فإن قسم لها يوماً وليلة فعليه أن يقسم عندها ليلاً لا يخرج فيه إلا من ضرورة ويجوز له الخروج نهاراً للتصوف في أشغاله فإذا أراد أن يدخل على غيرها من نسائه فإن كان في النهار جاز أن يدخل على من شاء من نسائه دخول غير مستوطن عندها ولا مقيم بل ليسأل عنها ويتعرف خبرها وينظر في مصالحها أو مصالح نفسه عندها ويجوز له في دخوله عليها أن يقبلها ويمسها من غير وطئ لما روينا عن حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: "قل يوم إلا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل على نسائه فيدنو من كل امرأة منهن فيقبل ويلمس من

غير مسيس ولا مباشرة ثم يبيت عند التي هو يومها ولأن المقصود من القسم الليل دون النهار فإذا دخل النهار على واحدة لم يفوت على صاحبة القسم حقها منه وكان دخوله على غيرها من نسائه كدخوله على غير نسائه فأما وطؤه لغيرها من النهار فلا يجوز لأن الوطء مقصود القسم فلم يجز أن يفعله في زمان غيرها. وقد روى الحسن وقتادة أن النبي شر دخل على زوجته حفصة في يومها فوجدها قد خرجت لزيارة أبيها فاستدعى مارية فخلا بها فلما علمت حفصة عتبت على النبي صلى الله عليه وسلم وقالت في بيتي وفي يومي يا رسول الله فأرضاها بتحريم مارية على نفسه وأمرها أن لا تحبر بذلك أحداً من نسائه فأخبرت به عائشة رضي الله تعالى عنها لمصافاة كانت بينهما فتظاهرتا عليه وفي ذلك أنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: (1)] فإن أطال المقام عند غيرها في نهار قسمها أو وطئ فيه غيرها لم يقض مدة مقامه وان شاء لأنه أحق بالنهار منها لأنه زمان التصرف دون الإيواء فلم يقضه. فأما الليل فليس له أن يخرج من عندها فيه إلا من ضرورة سواء أراد الخروج إلى زوجته أو غير زوجته لأنه مقصود القسم فلم يجز أن يفوته عليها فإن دعته ضرورة إلى الخروج من عندها ليلاً فخرج لم يأثم ونظر في مدة الخروج فإن كان يسيراً لا يقضي مثله كان عفواً وان كان كثيراً يقضي مثله كأن خروج نصف الليل أو ثلثه قضاها زمان خروجه ليوفيها حقها من القسم ثم ينظر في مدة الخروج الذي يلزمه قضاؤه فإن كان لضرورة عرضت له عند غير زوجة قضاها ذلك الزمان لا من زمان واحدة من نسائه وان كان قد خرج فيه إلى غيرها من نسائه لمرض خاف عليها منه فإن ماتت سقط قسمها وقضى صاحبة القسم ما فوته عليها من ليلتها وان لم تمت قضى صاحبة القسم من ليلة المريضة ما فوته عليها من ليلتها فأما ما نقله المزني عن الشافعي يعودها في مرضها ليلة غيرها فقد كان أبو حامد الإسفراييني ينسب المزني إلى الخطأ في هذا النقل ويقول: إن الشافعي إنما قال: يعودها في مرضها في نهار غيرها. وهذا الاعتراض فاسد ونقل المزني صحيح ويجوز له أن يعودها في مرضها في نهار غيرها وهذا الاعتراض فاسدا ونقل المزني صحيح ويجوز له أن يعودها في ليلة غيرها إن كان مرضها مخوفاً لأنه وبما تعجل موتها قبل النهار ففاته حضورها وهو المراد بما نقله المزني فأما إن كان مرضها مأموناً لم يكن له عيادتها في الليل حتى يصبح فيعودها نهاراً وإنما قضاء زمان الخروج وان كان فيه معذوراً لأن حقوق الآدميين لا تسقط بالإعذار فلو خرج في ليلتها إلى غيرها فوطئها ثم عاد إليها في الحال فقد اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه: أحدها: لا يلزمه قضاؤه لقصوره عن زمان القضاء. والثاني: يلزمه قضاء ليلة بكمالها لأن مقصود القسم في الليل هو الوطئ فإن وطئ فيه غيرها فكأنه فوت عليها جميع الليلة فلذلك لزمه قضاء جميعها من ليلة الموطوءة. والثالث: أن عليه في ليلة الموطوءة أن يخرج من عندها إلى هذه فيطأها ثم يعود

إلى تلك ليسوى بينهما في فعله وهذا في القضاء صحيح وفي الوطء فاسد لاستحقاق الزمان دون الوطء والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَقْسِمَ لَيْلَتَيْنِ لَيْلَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثاً ثَلَاثاً كَانَ ذَلِكَ لَهُ وَأَكْرَهُ مُجَاوَزَةَ الثلَاثِ ". قال في الحاوي: وهذا صحيح الأولى بالزوج في القسم بين نسائه أن يقسم لكل واحدة منهن ليلة ليلة أتباعاً لرسول صلى الله عليه وسلم في القسم بين نسائه ولأنه أقرب إلى استيفاء حقوقهن فإن جعل القسم ليلتين لكل واحدة جاز وكذلك لو جعله ثلاث ليال لأن أخر حل القلة وأول حد الكثرة ولا اعتراض لهن عليه في ذلك بل هو إلى خياره دونهن فأما إن أراد الزيادة على ثلاث بأن يقسم لكل واحدة أسبوعا أو شهراً فقد قَالَ الشَّافِعِيُّ في الإملاء يقسم مياومة ومشاهرة ومسانهة. وهذا إنما يجوز له مع رضاهن بذلك فإذ لم يرضين فليس له أن يجاوز بهن ثلاثاً ولأن ما زاد على الثلاث دخل في الكثرة التي لا يؤمن تفويت حقوقهن فيها بالموت فإن قسم لواحدة منهن شهراً فقد أساء وعليه أن يقم للباقيات شهراً شهراً فإذا استوفين الشهر فلهن أن يلزمنه تقليل القسم إلى ثلاث. فصل: فإن طلق واحدة من نسائه في مدة قسمها وقد بقيت منها بقية فإن كان الطلاق ثلاثاً سقط باقية سواء نكحها بعد زوج أم لا، وان كان الطلاق رجعياً فإن لم يراجعها حتى انقضت عدتها ثم نكحها لم يقضها بقية قسمها ولا ما مضى من نوب القسم بعد طلاقها وقبل نكاحها موان راجعها في العدة لم يلزمه أن يقضيها ما تجدد من نوب القسم بعد طلاقه وأما بقية النوبة التي كان الطلاق فيها فإنك تنظر فإن كانت آخر النساء قسماً في النوبة قضاها بقية أيامها في تلك النوبة لأنها قد استحقتها بالقسم لمن تقدمها موان كانت أول النساء قسماً في النوبة لم يقضيها بقية أيامها لأنه ابتداء قم لم يستحق استكماله وعليه أن يقسم لمن سواها مثله ألا ترى أنه لو أراد أن يقتصر بها على هذا القدر ليقسم للباقيات مثله جاز إذا جاز إذا كانت أوله ولم يجز إذا كانت آخره. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَيَقْسِمُ لِلْمَرِيضَةِ وَالرَّتْقَاءِ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَلِلَّتِي آلَى أَوْ ظَاهَرَ مِنْهَا وَلَا يَقْرَبُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ؛ لِأَنَّ فِي مَبِيتِهِ سُكْنَى وَإِلْفًا".

قال في الحاوي: وهذا كما قال والقسم للإلف والسكنى ولا للجماع فلذلك لزمه أن يقسم لمن قدر على جماعها أو لم يقدر من المريضة والرتقاء والحائض والنفساء والتي آلى منها أو ظاهر. قَالَ الشَّافِعِيُّ في الأم: ويقسم للمحرمة فأما المجنونة فإن أمنها على نفسه قسم لها وإن لم يأمنها لم يقسم ويقم لذوات العيوب من الجذام والبرص فإن عافته نفسه فسخ. وإذا وجب عليه القسم لمن ذكرناه فله أن يستمتع بالمريضة فيما سوى الوطء إذا كان يضرها. وأما الرتقاء فيستمتع بما أمكن منها. وأما الحائض والنفساء فيستمع بها د ون الفرج. وأما التي آلي منها فله وطها ويكفر عن يمينه. وأما التي ظاهر منها فليس له وطئها. وفي إباحة التلذذ فيما سوى الوطء وجهان وأما المحرمة فلا يجوز له الاستمتاع بشيء منها وعلى المحبوب والعنين أن يقسم لنسائه وان لم يقدر على جماعهن لما ذكرنا من مقصود القسم وكذلك لو كان الزوج مريضاً لزمه القسم لهن كالصحيح ولو كان عبداً لزمه القسم كالحر. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ " وَإِنْ أَحَب أَنْ يَلْزَمَ مَنْزِلاً يَاتِيَنهُ فِيهِ كَانَ ذَلِكَ لَهُ عَلَيْهِن فَأَيتُهُن امْتَنَعَتْ سَقَطَ حَقُهَا ". قال في الحاوي: اعلم أن للزوج الخيار في القسم بين أن يطوف محليهن في مساكنهن فيقيم عند كل واحدة منهن في زمان قسمها كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نسائه وبين أن يقيم في منزل ويأمرهن بإتيانه فيه كل واحدة منهن إلى منزله فتقيم عناه مدة قسمها والأول أولاهما به اقتداء برسول صلى الله عليه وسلم في قسمه ولأن ذلك أصون لهن وأجمل في عشرتهن فلو أمرهن بإتيانه فامتنعت واحدة منهن أن تأتيه فإن كان لمرض عذرت وكانت على حقها من القسم والنفقة وان كان بغير مرض ولا محذر صارت بامتناعها ناشزاً وسقط حقها من القسم والنفقة لأن عليها قصده وليس عليه قصدها ألا ترى أنه لو أراد أن يسافر بها لزمها أتباعه ولو أرادت أن تسافر به لم يلزمه أتباعها فإن كانت هذه المرأة من ذوات الأقدار والخفر واللاتي لم تجز عادتهن بالبروز صينت عن الخروج إليه ولم يلزمها أتباعه ووجب عليه أن يقسم لها في منزلها.

فصل: وإذا حبس الزوج أمكن نساؤه أن يأوين معه في حبسه فهن على حقوقهن من القسم لأن حاله في الحبس كحاله في منزله ولو لم يمكنهن ذلك من معه في الحبس من الرجال أو لأنه ممنوع من الناس سقط القسم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: «وَكَذَلِكَ المُمْتَنِعَةُ بِالجُنُونِ». قال في الحاوي: قد ذكرنا بأن المجنونة إذا خاف على نفسه منها سقط قسمها فأما الذي لا يخاف على نفسه من جنونها فالقسم لها واجب لأن فيه إلفًا لها وسكنًا فإن امتنعت عليه بالجنون جرى عليها حكم النشوز وإن لم تأثم وسقط بذلك قسمها ونفقتها لأنها في مقابلة استمتاع قد فات عليه بامتناعها وإن عذرت لأن حقوق الآدميين تستوي في الوجوب مع العذر والاختيار ألا ترى أن المؤجر إذا امتنع من تسليم ما أجر لعذر أو غير عذر سقط حقه من الأجرة ثم إذا سقط قسمها بالامتناع قسم بين الباقيات من نسائه وكذلك لو نشزت عليه وهي عاقلة سقط حقها وكان القسم لمن سواها فلو أقلعت عن النشوز عاد قسمها معهن كالذي كان. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: «وَإِنْ سَافَرَتْ بِإذْنِهِ فَلَا قَسَمٌ لَهَا وَلَا نَفَقَةٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ أَشْخَصَهَا فَيَلْزَمُهُ كُلُّ ذَلِكَ لَهَا». قال في الحاوي: اعلم أنه لا يخلو حال سفرها من أحد أمرين: إما أن تكون مع الزوج أو منفردة عنه فإن سافرت مع الزوج كانت على حقها من النفقة والقسم ثم ينظر فإن سافر بها بالقرعة لم يقض باقي نسائه ما أقام معها وإن كان بغير قرعة قضاهن مدة سفرها معه وإن سافرت منفردة فعلى ضربين: أحدهما: بإذنه. والثاني: بغير إذنه. فإن سافرت بغير إذنه فلا قسم لها ولا نفقة وهي في سفرها آثمة وصارت أسوأ حالًا من المقيمة الناشزة وإن سافرت بإذنه فقد قال الشافعي ها هنا: لها القسم والنفقة. وقال في كتاب النفقات: لا نفقة لها ولا قسم. فاختلف أصحابنا في ذلك على طريقتين: أحدهما: وهي طريق أبي حامد الإسفراييني أن ذلك على اختلاف قولين: أحدهما: وهو المنصوص عليه في هذا الموضع لها القسم والنفقة لأنها لما خرجت بإذنه من المأثم خرجت من حكم النشوز.

والقول الثاني: وهو المنصوص عليه في النفقات لا قسم لها ولا نفقة لأنهما في مقابلة الاستمتاع قد فات عليه وإن عذرت. والطريقة الثانية: وهي طريق أبي حامد المروزي أنه ليس على اختلاف قولين وإنما على اختلاف حالين فالذي قاله ها هنا في وجوب القسم لها محمول على أنها سافرت بإذنه فيما يخصه من أشغاله لأن له أن يستوفي حقه منها بالاستمتاع وغيره والذي قاله في كتاب النفقات أنه لا قسم لها إذا سافرت بإذنه فيما يخصها من أشغالها لأنه تصرف قد انصرف إليها دونه وإن عذرت ويكون تأثير إذنه في رفع المأثم لا في وجوب القسم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: «وَعَلَى وَلِيِّ المَجْنُون أَنْ يَطُوفَ بِهِ عَلَى نِساَئِهِ أَوْ أَنْ يَاتِيهِ بِهِنَّ وَإِنْ عَمَدَ أَنْ يَجُوزَ بِهِ أَثِمَ». قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا كان للمجنون أربع نسوة وذلك بأن يتزوجهن في حال صحته ثم يطرأ عليه الجنون لأنه لو كان وقت العقد مجنونًا لم يجز أن يزوج بأكثر من واحدة وإن احتاج إليها فالقسم لنسائه واجب وإن كان غير مكلف لأنه من حقوق الآدميين فأشبه النفقة وإذا كان كذلك فعلى وليه أن يستوفي منه حقوق نسائه من القسم لأن فيه سكنًا له ولهن ويفعل الولي أصح الأمرين من إفراده بمسكن يأمرهن بإتيانه فيه وبين أن يطيف عليهن في مساكنهن فإن كان الزوج قد رتبهن في القسم وقدر زمان كل واحدة منهن أجراه الولي على ما تقدم من قسمه في الترتيب والتقدير وإن لم يتقدم الزوج لهن استأنف الولي بالقرعة من يقدمها منهن وقدر لها من مدة القسم ما يراه أصح له ولهن ولا يزيد على ثلاث فإن عمد الولي أن يجوز في القسم أثم في حقه وحقوقهن ولا عوض لهن على ما فوت من قسمهن لأن المعارضة عليه لا تجوز فإن أفاق الزوج وقد جار به الولي نظر في جوره فإن كان يمنع الزوج من جميعهن فلا قضاء على الزوج بعد إفاقته لتساويهن في سقوط القسم ويستأنف الزوج لهن القسم وإن كان جور الولي به أن أقامه عند بعضهن ومنعه من باقيهن فعلى الزوج بعد إفاقته قضاء الباقيات بما فوته الولي عليهن من القسم. فصل: وإذا خفن على أنفسهن من جنون الزوج سقط بذلك حقه من القسم ولم تسقط حقوقهن فإن طلبن القسم من الخوف وجب على الولي أن يقسم لهن من الزوج إلا أن يرى من الأصلح له أن لا يقيم عند واحدة منهن فسقط قسمهن. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: «فَإِنْ خَرَجَ مِنْ عِنْدِ وَاحِدَةٍ فِي اللَّيْلِ أَوْ أَخْرَجَهُ سُلْطَانٌ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ

يُوفِّيَهَا مَا بَقِيَ مِنْ لَيْلَتِهَا». قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا كان الزوج عند إحدى نسائه في زمان قسمها فخرج من عندها أو أخرجه السلطان. فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون ذلك نهارًا فلا قضاء لها عليه لأن النهار زمان التصرف وإنما يدخل في القسم تبعًا لليل وأنه لا حق فيه لغيرها من نسائه. والثاني: أن يكون ذلك ليلًا فإن خرج لغير ضرورة أثم وقضى وإن خرج لضرورة لم يأثم وعليه القضاء إن لم يظلم بالخروج وإن كان مظلومًا بإخراجه لأن السلطان أكرهه على الخروج ظلمًا ففي وجوب القضاء وجهان: أحدهما: عليه القضاء؛ لأن إكراه السلطان عذر والأعذار لا تسقط قضاء القسم. والثاني: لا قضاء عليه ويكون السلطان قد استهلك عليهما حقهما في زمان الإكراه فلا يصير الزوج مختصًا بذلك دونها. فصل: فإذا أراد قضاء ما وجب من زمان خرجه في الليل نظر فإن كان قد خرج النصف الثاني من الليل لم يجز أن يقضيها في النصف الأول وإن كان قد خرج في النصف الأول لم يجز أن يقضيها في النصف الثاني وقضى كل واحد من النصفين في مثله فإذا أراد قضاء النصف الأول أقام عندها النصف الأول من الليل ثم خرج من عندها فأقام لا عند واحدة من نسائه حتى يستأنف لهن ليال كوامل وإذا أراد قضاء النصف الثاني أقام في النصف الأول لا عند واحدة من نسائه فإذا دخل النصف الثاني أقام فيه عند صاحبه القصاء ولا يأوي في تلك الليلة عند زوجة إلا نصف القضاء وحده حتى يتبعض الليل في قسمهن فذلك ممنوع منه لأنه لا يكمل به إلف ولا سكنى. وأقل زمان القسم ليلة بكاملها ويكون اليوم تبعًا لها فلو أراد أن يقسم لإحدى نسائه ليلة بلا يوم والأخرى يومًا بلا ليلة لم يجز لأن ليل القسم مقصود ونهاره تبع. والله أعلم. مسألة: قَاَلَ الشَّافِعِيُّ: «وَلَيْسَ لِلإِمَاءِ قَسْمٌ وَلَا يُعْطَلْن». قال في الحاوي: وهذا كما قال: لا قسم للإماء في بعضهن مع بعض ولا مع الحرائر لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يقسم لمارية ولا لرياحانة مع نسائه ولأن القسم من أحكام الزوجية فاختص بالزوجات دون الإماء كالظهار والإيلاء ولأن مقصود القسم الاستمتاع ولا حق للإماء في الاستمتاع بدليل أنه لو كان السيد مجنونًا أو غنيًا لم يكن لهن خيار فلذلك لم يكن لهن قسم.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يُعْطِلْن فيه تأويلان: أحدهما: أنه لا يعطلن من القسم يعني في السراري. والثاني: لا يعطلن من الجماع لأنه أحصن لهن وأغض لطرفهن وأبعد للريبة منهن فعلى هذا لو كان إماء سراري وزوجات فأقام عند الإماء واعتزل الحرائر أو أقام عند واحدة من إمائه واعتزل باقيهن وجميع الحرائر جاز ولا قضاء عليه للحرائر لأن القضاء إنما يجب في القسم المستحق وليس مقامه عند الأمة قسمًا مستحقًا فلم يقضه وجرى مجرى مقامه معتزلًا عن إمائه ونسائه. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِذَا ظَهَرَ الإِضْرَارُ مِنْهُ بِامْرَأَتِهِ أَسْكَنَّاهَا إِلَى جَنْبِ مَنْ نَثِقُ بِهِ. قال في الحاوي: وأما إذا ظهر منه إضرار لم يشتبه فيه حاله كف عنه وأمر بإزالته لقول الله تعالى: {وعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النِّسَاء: 19] فأما إذا أشبهت حاله فيه فإن ادعت إسقاط حقها من القسم والنفقة أو تعديه عليها بالضرب وسوء العشرة وهو منكر ذاك وغير معترف به فعلى الحاكم إذا شكت ذلك إليه أن يسكنها إلى جنب من يثق به من أمنائه ليراعي حالها ويأخذه بحقها ويكف أذاه عنها فإن الحاكم لتشاغله بعموم الخصوم لا يقدر على مراعاتها بنفسه. فإن قيل: فليس للزوج أن يسكن زوجته حيث يشاء فلم يجب عليه ها هنا أن يسكنها حيث لا تشاء. قيل: إنما جاز له ذلك مع زوال الاشتباه وارتفاع الضرر ولا يجوز له ذلك مع خوف الضرر وهكذا لو شكي الزوج منها الإضرار وأنها لا تؤدي حقه ولا تلزم منزله ولا تطيعه إلى الفراش وأنكرت ذلك أسكنها الحاكم إلى جنب من يراعيها من أمنائه ليستوفي منها حق الزوج كما استوفي لها حقها من الزوج. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُسْكِنَ امْرَأَتَيْنِ فِي بَيْتٍ إِلَّا أَنْ تَشَاآ. قال في الحاوي: وهذا كما قال. قال: على الزوج أن يفرد لكل واحدة من نسائه مسكنًا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في نسائه وكما لا يشتركن في النفقة فكذلك لا يشتركن في المسكن ولأن بين الضرائر تنافسًا وتباغضًا إن اجتمعن خرجن إلى الافتراء والقبح ولأنهن إذا اجتمعن شاهدت كل واحدة منهن خلوة الزوج بضرتها وذلك مكروه. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الوجس وهو أن يطأ بحيث يسمع حسه فلذلك لزمه أن يفرد لكل واحدة منهن مسكنًا فإن أسكنهن في دار واحدة وأفرد لكل واحدة منهن بيتًا منها وكانت

إذا دخلت توارت عن ضرائرها جاز إذا كان مثلهن يسكن مثل ذلك ولم يكن لواحدة منهن أن تطالبه بإفراد مسكن وإن كان مثلهن مثل ذلك فأسكنهن في دار واحدة وأفرد كل واحدة منهن بحجرة منها تواريها جاز إذا كان مثلهن يسكن مثل ذلك. وإن كان مثلهن لا يسكن مثل ذلك لجلالة قدرهن ويسار زوجهن أفرد كل واحدة منهن بدار فسيحة ذات بيوت ومنازل اعتبارًا بالعرف كما يعتبر العرف في كسوتهن ونفقاتهن فلو تراضى جميع نسائه بسكنى منزل واحد يجتمعن فيه جاز كما لو تراضين بالاشتراك في النفقة ولم يكن له أن يخلو بواحدة منهن حذاء ضرائرها فإن غاب أبصارهن جاز وإن علمن بخلوته ولو أراد أن يجمع بين واحدة منهن وبين أمه له سرية لم يجز لأن حفصة رضي الله تعالى عنها أنكرت من رسول الله صلى الله عليه وسلم خلوته بمارية في بيتها فاعتذر إليها. فإذا جمع بين إمائه في مسكن واحد جاز ولم يلزمه أن يفرد لكل واحدة منهن مسكنًا لأنه لا قسم لهن ولا يلزمه الخلوة بهن ولأن ما يجب لهن من النفقة والكسوة والسكنى مواساة بخلاف الزوجات المستحقات لذلك معارضة ألا تراه يملك فاضل نفقات إملائه ولا يملك فاضل نفقات نسائه. فصل: ولو كان له زوجتان في بلدين فأقام في بلد إحداهما فإن اعتزلها في بلدها ولم يقم معها في منزلها لم يلزمه المقام في بلد الأخرى لأنه ليس مقامه في بلد الزوجة قسمًا يقضي ولو كان قد أقام معها في منزلها لزمه أن يقضي الأخرى فيقيم ببلدها في منزلها مثل تلك المدة؛ لأن القسم لا يسقط باختلاف البلدان كما لا يسقط باختلاف المحال. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: «وَلَهُ مَنْعُهَا مِنْ شُهُودِ جَنَازَةِ أُمِّهَا وَأَبِيهَا وَوَلَدِها وَمَا أُحِبُّ ذَلِكَ لَهُ». قال في الحاوي: وهذا صحيح وللزوج منع امرأته من الخروج من منزله؛ لأن دوام استحقاقه للاستمتاع به يمنعها من تفويت ذلك عليه بخروجها ولأن له تحصين مائة بالمنع من الخروج فلو مرض أبوها أو أمها كان له منعها من عيادتهما ولو ماتا كان له منعها من حضور جنازتهما للمعنى الذي ذكرناه وكمن استأجر أجيرًا ليعمل مقدارًا بمدة كان له منعه من الخروج لذلك وقد روى ثابت عن أنس أن رجلًا سافر عن زوجته ونهاها عن الخروج فمرض أبوها فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادته فقال: «اتق الله ولا تخالفي زوجك» ثم مات أبوها فاستأذنته في حضور جنازته فقال: «اتق الله ولا تخالفي زوجك» فأوحى الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن الله قد غفر لأبيها بطاعتها لزوجها ولأن في إتباع النساء للجنائز هتكة ينهين عنها. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج مع جنازة إلى البقيع فرأى فاطمة فقال من أين؟ قالت:

باب الحال التي يختلف فيها حال النساء

عدت مريضًا لبني فلان. قال: إني ظننتك مع الجنازة ولو كان ذلك ما كلمتك أبدًا. قال الشافعي: إلا أنني لا أحب له أن يمنعها من عيادة أبيها ثقل ومن حضور مواراته إذا مات لما فيه من نفورها عنه وإغرائها بالعقوق. فصل: وله أن يمنعها من حضور المساجد لصلاة وغير صلاة. فإن قيل: فلم يمنعها وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن تافلات» فعن ذلك أربعة أجوبة: أحدها: أنه أراد الخليات من الأزواج اللاتي يملكن تصرف أنفسهن. والثاني: أنه محمول على المساجد الحج الذي ليس للزوج منعها من فرضه في أحد القولين. والثالث: أنه مخصوص في زمانه لما وجب من تبليغ الرسالة إليهن ثم زال المعنى فزال التمكين. والرابع: أنه منسوخ بما وكد من لزوم الحجاب. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال لنسائه حين حج بهن: «هذه ثم ظهور الحصر» وقالت عائشة: لو علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء بعده لمنعهن أشد المنع، والله أعلم. باب الحال التي يختلف فيها حال النساء قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى في قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم لأُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: «إِنْ شِئْتِ سَبَّعْتُ عِنْدِكِ وَسَبَّعْتُ عِنْدَهُنَّ وَإِنْ شِئْتِ ثَلَّثْتُ عِنْدَكِ وَدُرْتُ» دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الرَّجُلَ إِذَا تَزَوَّجَ البِكْرَ أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يُقِيمَ عَنْدَهَا سَبْعًا وَالثَّيِّب ثَلَاثًا وَلَا يَحْتَسِبُ عَلَيْهِ بِهَا نِسَاؤُهُ اللَّاتِي عَنْدَهُ قَبْلَهَا. وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ لِلْبِكْرِ سَبْعٌ وَلِلثَّيَّبِ ثَلَاثٌ». قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا استجد الرجل نكاح امرأة وكان له زوجات يقسم بينهن وجب عليه أن يخص المستجدة إن كانت بكرًا بسبع ليال وإن كانت ثيبًا بثلاث ليال يقيم فيهن عندها لا يقضي باقي نسائه ولا تحسب به من قسمها فإذا انقضت شاركتهن حينئذٍ في القسم. وقال أبو حنيفة: يقيم مع البكر سبعًا ومع الثيب ثلاثًا ويقضي نساءه مدة مقامه معها استدلالًا برواية أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كانت له امرأتان فمال إلى إحداهما جاء يوم القيامة وشقه مائل. قال: وهذا منه ميل إن لم يقض.

وقال: لأن القسم حق من حقوق النكاح فوجب أن تساوي المستجدة فيه من تقدمها كالنفقة. قال: ولأنه خص بعض نسائه بمدة فوجب أن يلزمه قضاء مثلها للبواقي قياسًا عليه إذا قام معها بعد مدة الزفاف. ودليلنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج أم سلمة دخل بها قال: يا رسول الله أقم عندي سبعًا. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «ما بك من هوان على أهلك إن شئت سبعت عندك وسبعت عندهن وإن شئت ثلثت عندك ودرت». روى أيوب عن أبي قلابة عن أنس قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «للبكر سبعة أيام وللثيب ثلاثة» ثم يعود إلى نسائه. فدل على استحقاق هذه المدة من غير قضاء من وجهين: أحدهما: فرقه فيه بين البكر والثيب. والثاني: حصره بعدد وما يقضي لا يفترقان فيه ولا ينحصر جريان العادة فيما تختص به المستجدة عرفًا وشرعًا تجعله حكمًا مستحقًا ولأنه لما خصت المستجدة بوليمة العرس إكرامًا وإيناسًا ولم يكن ذلك ميلًا خصت بهذه المدة لهذا المعنى ولأن للمستجدة حشمة لا ترتفع إلا بمكاثرة الاجتماع ومطاولة الإيناس ولذلك وقع الفرق في أن خصت البكر بسبع والثيب بثلاث لأن الثيب لاختيار الرجال أسرع أنسة من البكر التي هي أكثر انقباضًا وأقل اختبارًا. فأما الجواب عن الخبر فهو أن ذلك ليس بميل لأنه يفعله مع كل زوجة. وأما قياسًا على النفقة فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه قياس يرفع النصف فكان مطروحًا. والثاني: أن التساوي في النفقة لا يوجب التساوي في القسم لأن الحرة والأمة يستويان في النفقة ويختلفان في القسم. والثالث: أن النفقة لما لم تختلف بالحرية والرق لم تختلف في الابتداء والانتهاء ولما اختلف القسم بالحرية والرق اختلف في الابتداء والانتهاء. وأما قياسه على قسم الانتهاء فمنتقض بالتي سافر بها على أنه لما جاز قطع النوبة في قسم الابتداء ولم يجز في قسم الانتهاء دل على الفصل في الاستحقاق بين قسم الابتداء والانتهاء. فصل: فإذا ثبت أن البكر مخصوصة بسبع والثيب بثلاث فليس له النقصان منها إلا (برضى)

المستجدة ولا له الزيادة عليها إلا برضي المتقدمات فإن أقام عند الثيب سبعًا كالبكر ففيه وجهان: أحدهما: أنه يقضي ما زاد على الثلاث ولا يقضي الثلاث لأنها مستحقة لها. والثاني: ذكره أبو حامد الإسفراييني أنه تقضي السبع كلها لقوله صلى الله عليه وسلم لأم سلمة: «إن شئت سبعت عندك وعندهن وإن شئت ثلثت عندك ودرت». فصل: وإذا استجد نكاح امرأتين لم يجمع بينهما في الدخول كما لا يجمع بين زوجتين في قسم ويبدأ بأسبقهما زفافًا إليه. فإن زف إليه في وقت واحد بدأ بأسبقهما نكاحًا فإن نكحهما في وقت واحد قرع بينهما وبدأ بالقارعة منهما فإن قدم إحداهما من غير قرعة كرهنا ذلك له وأجزأه ثم يدخل بالثانية ويوالي بين الزفافين وليس للمتقدمات من نسائه أن تمنعه من الموالاة بينهما فلو أقام عند هذه يومًا وعند هذه يومًا حتى وفاهما وهما بكران أربعة عشر يومًا فقد أساء وأجزأ لأن الموالاة مستحقة وإن سقطت بالتفرقة كقضاء الديون. فصل: وإذا كان له زوجتان وقسم لكل واحدة منهما ليلتين فأقام عند إحداهما بعض زمانها استجد نكاح ثالثة زفت إليه فإن كان ذلك بعد أن انقضت الليلة بكمالها كأنه أقام عند المتقدمة إحدى الليلتين بكمالها وبقيت لها الليلة الأخرى فاستجد نكاح الثالثة قدم قسم المستجدة وقطع قسم المتقدمة لمعنيين: أحدهما: أن قسم المستجدة مستحق بالعقد وقسم المتقدمة مستحق بالفعل والمستحق بالعقد أوكد. والثاني: أن قسم المستجدة لا يقضي وقسم المتقدمة يقضي وما لا يلزم قضاؤه أوكد فإذا وفي المستجدة قسمها وفي المتقدمة باقي قسمها وهي ليلة ثم استأنف القسم بين الثلاث وإن كان قد استجدها في تضاعيف الليلة الأولى من قسم المتقدمة ففيه وجهان: أحدهما: يقطع الليلة عليها ويقسم للمستجدة لما ذكرنا مع المعنيين ثم يقضي للمتقدمة بقية ليلتها الأولى وجميع الليلة الثانية. الثاني: يكمل تلك الليلة لأنه قد تعين استحقاق المتقدمة بها بالدخول فيها وإن في تبعيض الليلة عليها مباينة لها وانكسارًا لنفسها والفرق بين الليل والنهار أنه لما جاز في النهار أن يخرج من عندها جاز أن يقسم لمن استجد نكاحها ولم لم يجز في الليل أن يخرج من عندها لم يجز أن يقسم فيه لغيرها. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: «وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَتَخَلَّفَ عِنْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ وَلَا شُهُودِ جَنَازَةٍ وَلَا بَرٍّ

باب القسم للنساء إذا حضر سفر

كَانَ يَفْعَلُهُ وَلَا إِجَابَةِ دَعْوَةٍ». قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا كان مع المستجدة في قسم الابتداء لم يجز أن يخرج من عندها لئلا يقسم في المتقدمات في الانتهاء وجاز أن يخرج من عندها نهارًا في أشغاله ومتصرفاته لأن حكم القسمين سواء لكن العادة جارية بأن تكون ملازمته للمستجدة في نهار قسمتها أكثر من المتقدمة ليتعجل بذلك أنسها ويقوى به ميلها لكننا لا نحب له أن يتخلف بها عن حضور صلاة الجمعة وعيادة المرضى وتشييع الجنائز ولا عن بر كان يفعله وإن دعي إلى وليمة أجاب ويختار له في هذا القسم إن كان معتادًا الصيام والتطوع أن يفطر فيه لأنها أيام بعال وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في أيام التشريق: «ألا إنها أيام أكل وشرب وبعال فلا تصوموا»، والله أعلم. باب القسم للنساء إذا حضر سفر قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «أَخْبَرَنَا عَمِّي مُحَمَّدُ بْنُ عَلَيِّ بْنِ شَافِعٍ أَحْسَبُهُ عَنْ الزُّهْرِي شّكَّ المُزَنِيُّ عَنْ عُبَيْدِ اللهِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا». قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا كان للرجل أربع زوجات وأراد سفرًا فهو بالخيار بين ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يسافر بجميعهن فله ذاك إذا كان سفره مأمونًا؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سافر بجميع نسائه في حجة الوداع، ولأنه يستحق الاستمتاع بهن في السفر كما يستحق في الحضر، فإذا سافر بهن كن على قسمهن في السفر كما كن عليه في الحضر فإذا امتنعت واحدة منهن أن تسافر معه صارت ناشزًا وسقط قسمها ونفقتها؛ إلا أن تكون معذورة بمرض لعجزها عن السفر فلا تعصى، ولها النفقة ولا يلزمه قضاء قسمها؛ لأنه قد بذل ذلك لها فكان الامتناع من جهتها، وإن عذرت فيه بأن كان سفره في معصية وامتنعن من السفر لأجل المعصية لم يكن ذلك عذرًا لهن عن التأخير إذا أمن؛ لأنه ليس يدعوهن إلى معصية وإنما يدعوهن إلى استيفاء حق لا يسقط بالمعصية، فإن أقمن بذلك على امتناعهن نشزن وسقط قسمهن ونفقتهن. فصل: والثانية: أن يتركهن في أوطانهن ولا يريد السفر بواحدة منهن فله ذلك؛ لأنه لو اعتزلهن وهو مقيم جاز فإذا اعتزلهن بالسفر كان أولى بالجواز إذا قام بما يجب لهن من الكسوة والنفقة والسكنى فإذا خفن على أنفسهن إذا سافر عنهن لزمه أن يسكنهن في موضع يأمن فيه فإن وجد ذلك في وطنه وإلا نقلهن إلى غيره من المواطن المأمونة فإن أمرهن بعد سفره عنهن أن يخرجن إليه لزمهن الخروج إذا كان السفر مأمونًا ووجدن ذا محرم فإن

امتنعن نشزن وسقطت نفقاتهن. فصل: والثالثة: أنه يريد السفر ببعضهن دون بعض فله ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد فعل ذاك في أكثر أسفاره ولأنه لما جاز أن يسافر بجميعهن فأولى أن يسافر ببعضهن. ولما جاز أن يترك جميعهن فأولى أن يترك بعضهن وإذا كان كذلك فليس له أن يتخذ بعضهن للسفر إلا بالقرعة التي تزول بها عنه التهمة لما روته عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرج بها ولأنهن قد تساوين في استحقاق القسم فلم يجز أن يميزهن فيه من غير قرعة كابتداء القسم فإذا أقرع بينهن ليسافر بواحدة منهن فأيتهن قرعت سافر بها على ما سنذكر من صفة القرعة في بابها ولو راضاهن على السفر بواحدة منهن بغير قرعة جاز فإن امتنعن بعد الرضا من تسليم الخروج لتلك إلا بالقرعة كان ذلك لهن إذا لم يشرع في الخروج فإن شرع فيه وسافر حتى جاز له القصر لم يكن لهن ذلك واستقر حتى المتراضي سفرها وتعين ذلك لها ولو أراد الزوج بعض خروجها على المراضاة أن يردها بعد شروعه في السفر جاز لأن له أن يعتزلها في السفر فجاز له ردها من السفر وكذلك الخارجة معه بالقرعة ولو أقرع بينهن فقرعت واحدة منهن فقال الزوج لست أريدها فإن قال ذلك لأنه لا يريد السفر بواحدة منهن جاز وإن قاله مريدًا للسفر بغيرها لم يجز لأنه قسم قد تعين حقها بالقرعة. فصل: وإذا سافر بواحدة منهن عن قرعة أو تراضٍ لم يقض للمقيمات مدة سفره مع الخارجة سواء كان في السفر مخالطًا لها أو معتزلًا عنها، لأن عائشة رضي الله عنها لما حكت قرعة رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن يسافر بها لم تحك بأنه قضى باقي نسائه مثل مدتها ولو فعل لحكته. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرع بين نسائه لبعض أسفاره فخرجت القرعة لعائشة وحفصة رضي الله تعالى عنهما فسافر بهما ولم يقض للباقيات. ولأن المسافرة معه وإن حظيت به فقد عانت من لأواء السفر ومشاقه ما صار في مقابلته كما أن المقيمات وإن أوحشهن فراقه فقد حصل لهن من رفاهة المقام ما في مقابلته فلا يجمع لهن بين القسم والرفاهة التي حرمتها المسافرة. قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «وَكَذَلِكَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ باثْنَتَيْن أَوْ أَكْثَرَ أَقْرَعَ». قال في الحاوي: وهذا صحيح يجوز للزوج أن يسافر بواحدة من أربع وباثنين منهن وبثلاث ويخلف واحدة كما جاز له أن يسافر بواحدة ويخلف ثلاثًا لكنه يستعمل القرعة في إخراج الواحدة فإذا قرع اثنان منهن وسافر بهما قسم بينهما في سفره كما كان يقسم بينهما في حضره إلا أن يعتزلهما فيسقط القسم لهما ولا يقضي المقيمين مده سفره بالخارجتين وإن قسم لهما كما لا يقضي مدة سفره بالوحدة فلو سافر بواحدة منهن بالقرعة ثم أراد في

سفره إخراج واحدة من المقيمات أقرع بينهن ولم يكن لهن أن ينفردن بالقرع لأن فيها حقًا للزوج فلا يبطل حقه من القرعة بانفرادهن بها وأقرع الحاكم بينهن وأخرج من قرعت منهن فإذا وصلت إليه استأنف القسم بينهما وبين المتقدمة معه ولم يقضها مدة سفرها إليه. فلو تراضى المقيمات بإخراج واحدة منهن بغير قرعة لم يجز لحق الزوج في القرعة فلو حصل معه في السفر اثنتان بالقرعة فأراد رد إحداهنَّ لم يكن له ردها إلا بالقرعة. والله أعلم. فصل: وإذا كان له زوجتان فاستجد نكاح زوجتين فصرنا أربعًا وأراد أن يسافر بواحدة منهن وجب عليه أن يقرع بين الأربع فأيتهن قرعت سافر بها ولا يجوز أن تختص بإخراج إحدى الجديدتين وإن كان قسم العقد لها معجلاً فإن خرجت قرعة السفر على إحدى المتقدمين فسافر بها بالقرعة ثم الثانية بعدها، فإذا أوفاها حق العقد استأنف قسم المماثلة بين جماعتين ولو خرجت قرعة السفر على إحدى المستجدتين فسافر بها سقط حقها من قسم العقد؛ لأن مقصود التفرد بها للألفة والاستمتاع وقد حصل لها ذلك بالسفر معه من غير تقدير مدة. فعلى هذا لو قدم قبل سبع وهي بكر لم يلزمه لها تمام السبع لأنه لو لزمه إتمام سبع إذا عاد قبلها لمنعت الزيادة إذا طال سفرها ثم إذا قدم فهل يسقط حق المستجدة المقيمة من قسم العقد أم لا على وجهين: أحدهما: قد سقط حقها من ذلك ويقسم لها مع الجماعة قسم المماثلة لأن المنكوحة معها قد سقط حقها من قسم العقد بالسفر فلم يجز أن يخصها بقسم العقد لما فيه من التفضيل. والثاني: وهو أصح لها عليه قسمه العقد فتقدمها به قبل قسم المماثلة لأنه حق لها توفاه وقد صار إلى المسافرة من قسم السفر ما يقوم مقام قسم العقد، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: «وَإِنْ خَرَجَ بِوَاحِدَةٍ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَقْسِمَ لِمَنْ بَقِيَ بِقَدْرِ وَاحِدَةٍ إِلَّا أَوْفي البَوَاقِي مِثْلَ مُقَامِهِ مَعَهَا مَغِيبِهِ مَعَ الَّتِي خَرَجَ بِهَا وَلَوْ أَرَادَ السَّفَرَ لِنَقْلِهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْقِلَ». قال في الحاوي: قد ذكرنا أنه إذا أراد السفر بواحدة منهن أن عليه أن يقرع بينهن فمن قرعت سافر بها لم يقض المقيمات مدة سفره معها فأما إن سافر بواحدة من غير قرعة فعليه أن يقضي المقيمات مدة غيبته معها وقال أبو حنيفة: لا يقضي استدلالاً بأن القسم

يسقط عن المسافر ولو وجب عليه القضاء إذا لم يقرع لوجب عليه إذا أقرع كالحضر. ودليلنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرع بين نسائه فلو سقط القضاء في الحالين لم يكن للقرعة معنى ولنه افترق وجود القرعة وعدمها في الإباحة افتراقا في القضاء ولأنه خص إحدى نسائه بمدة يلحقه فيها التهمة فوجب به القضاء كالمقيمة وليس لما ادعاه من سقوط القسم عن المسافر ولأنه لو سافر باثنتين لزمه القسم لهما ولو سقط عنه بالسفر لم يلزمه فإذا ثبت وجوب القضاء عليه فوجوبه يكون بمخالطته للمسافرة وحلولها معه في سفره حيث يحل. فأما إذا اعتزلها في سفره وأفردها بخيمة غير خيمته وفي مسكن إذا دخل بلدًا غير سكنه فلا قضاء عليه ولا يكون قربه منها في السفر قسمًا يقضي كما لا يكون قربها في الحضر قسمًا مؤدى فلو خالطها شهرًا قضى مخالطتها ولم يقض شهر اعتزالها فإن اختلفوا في المقام والاعتزال فالقول قول الزوج مع يمينه. فصل: ولو سافر بإحدى نسائه بالقرعة إلى بلد قريب ثم سافر منه إلى بلد هو أبعد منه أو على أن مدة سفره شهر فصار أكثر منه جاز ولا قضاء عليه لأنه سفر واحد قد أقرع فيه وليس ينحصر السفر بمدة ومسافة لأنه عوارض السفر. فصل: ولو تزوج على التي سافر بها زوجة أخرى في سفره خصها بقسم العقد لأن معها غيرها ثم استأنف لها قسم المماثلة بينها وبين المسافرة ولا يقضي الباقيات كان سفره بالواحدة بقرعة، ويقضيهن إن سافر بها بغير قرعة. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: «وَلَوْ خَرَجَ بِهَا مُسَافِرًا بِقُرْعَةٍ ثُمَّ أَزْمَعَ المُقَامَ لِنَقْلَةٍ احْتُسِبَ عَلَيْهَا مُقَامُهُ بَعْدَ الإِزْمَاعِ». قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا سافر بواحدة منهن بالقرعة سفر حاجة ثم صار إلى بلد فنوى المقام فيه فهذا على ضربين: أحدهما: أن ينوي المقام فيه مستوطنًا له فعليه أن يقضي الباقيات مدة مقامه معها بعد نيته إلا أن يعتزلها لأنه بالاستيطان قد خرج من حكم السفر. والثاني: أن ينوي المقام مدة مقدرة يلزمه لها إتمام الصلاة ثم يعود من غير استيطان كأنه نوى مقام أربعة أيام فما زاد إلى مدة قدرها ثم يعود إلى وطنه ففي وجوب قضائه لتلك المدة وجهان: أحدهما: لا يلزمه القضاء لأنه وإن كان مقيمًا فهو غير مستوطن.

باب نشوز المرأة على الرجل

والثاني: يلزمه القضاء لأنه مقيم فأشبه المستوطن وهذان الوجهان من اختلاف أصحابنا هل ينعقد به الجمعة أم لا؟ فأحد الوجهين: أن الجمعة لا تنعقد به وإن وجبت عليه فعلى هذا لا يلزمه قضاء القسم لأنه بالمسافر أخص. والثاني: أن الجمعة تنعقد به كما تجب عليه، فعلى هذا يلزمه قضاء القسم لأنه بالمقيم أخص فإذا قيل: لا قضاء عليه، فلا مقال. وإذا قيل: عليه القضاء فعليه أن يقضي مدة المقام وفي قضاء مدة المقام وفي قضاء مدة العود وجهان: أحدهما: يقضيه إلحاقًا بما تقدمه. والثاني: لا يقضيه لمعاناة السفر فيه كالسفر في التوجه، والله أعلم. باب نشوز المرأة على الرجل قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قَالَ الله تَبَارَكً وَتَعالَى {واللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34] قّالَ فِي ذَلكَ دَلاَلَةٌ عَلَى اخْتِلَافِ حَالِ المَرْأَةِ فِيمَا تُعَاتَب فِيهِ وَتُعَاقَب عَلَيْهِ فَإِذَا رَأَى مِنْهَا دَلَالَةً عَلَى الخَوْفِ مِنْ فِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ وَعَظَهَا فَإِنْ أَبْدَتْ نُشُزًا هَجَرَهَا فَإِنْ أَقَامَتْ عَلَيْهِ ضَرَبَهَا وَقَدْ يُحْتَمَلُ {تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} [النساء: 34] إِذَا نَشَزْنَ فَخِفْتُمْ لَجَاجَتَهُنَّ فِي النُّشُوزِ يَكُونُ لَكُمْ جَمْعُ العِظَةِ وَالهَجْرِ وَالضَّربِ. وَقَالَ عَلَيهِ السَّلَامُ: «لَا تَضْرِبُوا إمَاءَ اللهِ» قَالَ: فَأَتَاهُ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَقَالَ: يَا رَسُلَ اللهِ ذَئِرَ النِّسَاءُ عَلَىِ أَزْوَاجِهِنَّ فَأَذَنَ فِي ضَرْبِهِنَّ فَأَطَاف بآلِ مُحَمدٍ نِسَاءٌ كَثِرٌ، كُلُّهُنَّ يَشْتَكِينَ أَزْوَجَهُنَّ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقَدْ أَطَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ سَبْعُونَ امْرَأَة كُلُّهُنَّ يَشْتَكِينَ أَزْوَجَهُنَّ فَلَا تَجِدُونَ أُولَئِكَ خِيَارُكُمْ» وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَبْلَ نُزُولُ الآيةِ بِضَرْبِهِنَّ ثُمَّ أَذِنَ فَجَعَلَ لَهُمُ الضَّرْبَ فَأَخْبَرَ أَنَّ الاخْتِيَارَ تَرْكُ الضَّرْبِ». قال الحاوي: أما نشوز المرأة على زوجها فهو امتناعها عليه إذا دعاها إلى فراشه مأخوذ من الارتفاع ولذلك قيل للمكان المرتفع نشز فسميت الممتنعة على زوجها ناشزًا لارتفاعها عنه وامتناعها منه ولا يخلو حال النشوز بين الزوجين من أربعة أقسام: أحدها: أن يكون النشوز من الزوج على الزوجة والأصل فيه قول الله تعالى: {وإنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا والصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128]. وقد مضى الكلام فيما يلزمه بنشوزه عنه وما لا يلزمه فإن الذي يؤخذ به جبرًا في نشوزه النفقة والكسوة والسكنى والقسم الذي يندب إليه استحبابًا أن لا يهجر مباشرتها ولا يظهر كراهيتها ولا يسيء عشرتها. والثاني: أن يكون النشوز من الزوجة على الزوج والأصل في بيان حكمه قول الله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وبِمَا أَنفَقُوا مِنْ

أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] يعني أن الرجال أهل قيام على نسائهم في تأديبهن والأخذ على أيديهن فما يجب لله تعالى وللرجال عليهن وقوله: {بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [النساء: 34] يعني بما فضل الله تعالى له الرجال على النساء من العقل والرأي وبما أنفقوا من أموالهم من المهور والقيام بالكفاية ثم قال: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34] يعني فالصالحات المستقيمات الدين العاملات بالخير ويعني بالقانتات المطيعات لله تعالى ولأزواجهن وحافظات للغيب أي لأنفسهن عند غيبة أزواجهن ولما أوجبه من حقوقهم عليهن وفي قوله: {بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34] تأويلان: أحدهما: يعني بحفظ الله تعالى لهن حتى صرن كذلك وهو قول عطاء. والثاني: بما أوجبه الله تعالى على أزواجهن من مهورهن ونفقاتهن حتى صرن بها محفوظات وهو قول الزجاج. وقد روى ابن المبارك عن سعيد بن أبي سعيد عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:» خير النساء امرأة نظرت إليها سرتك وإذا أمرتها أطاعتك وإذا غبت عنها حفظتك في مالها ونفسها ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ} [النساء: 34] إلى آخر الآية. ثم قال تعالى: {واللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ واهْجُرُوهُنَّ فِي المَضَاجِعِ واضْرِبُوهُنَّ فَإنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء: 34] فأباح الله تعالى معاقبتها على النشوز بثلاث أشياء بالعظة والضرب والهجر ثم قال: {فَإنْ أَطَعْنَكُمْ} [النساء: 34] يعني في الإقلاع عن النشوز {فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء: 34] فيه تأويلان: أحدهما: فلا تقابلوهن بالنشوز عنهن. والثاني: أن لا تكلفها مع الطاعة أن تحبك. وأما القسم الثالث: من النشوز فهو أن يشكل حال الزوجين فيه فلا يعلم أيهما هو الناشز على صاحبه فهو الذي ذكرنا فيه أن الحاكم يسكنها في جوار أمينه ليراعيهما ويعلم الناشز منهما فيستوفي منه حق صاحبه أو ينهيه إلى الحاكم حتى يستوفيه. والقسم الرابع: أن يكون النشوز في كل واحد من الزوجين على الآخر فهو الذي أنزل الله تعالى فيه: {وإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء: 35] وسيأتي في الباب الآتي. فإذا تقررت هذه الجملة فهذا الباب مقصور على نشوز الزوجة ولا يخلو حالها من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يخاف نشوزها بأمارات دالة عليه من غير إظهار له مثل أن يكون عادتها أن تلبي دعوته وتسرع إجابته وتظهر كرامته فتعدل عن ذلك فلا تلبي له دعوة ولا تسرع له إجابة ولا تظهر له كرامة ولا تلقاه إلا محبة ولا تجيبه إلا متبرمة لكنها مطيعة له في

الفراش فهذا من أسباب النشوز وإن لم يكن نشوزًا. والثاني: أن يظهر منها ابتداء النشوز الصريح من غير إضرار عليه ولا مداومة له. والثالث: أن تصر على النشوز الصريح وتداومه وإذا كان لها في النشوز ثلاثة أحوال فقد جعل الله تعالى عقوبتها عليه بثلاثة أحكام: وقد اختلف قول الشافعي في العقوبات الثلاث هل ترتب على الأحوال الثلاثة أم لا؟ على قولين: أحدهما: وهو المنصوص عليه في الجديد أن العقوبات مترتبات على أحوالها الثلاث ويكون الترتيب مضمنًا في الآية ويكون معناها إن خاف نشوزها وعظها فإن أبدت النشوز هجرها فإن أقامت على النشوز ضربها ويكون هذا الإضمار في ترتيبها كالمضمر في قوله تعالى: {إنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ ورَسُولَهُ ويَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ} [المَائدة: 33] وإن معناها المضمر فيها: أن يقتلوا إن قتلوا أو يصلبوا إن قتلوا وأخذوا المال أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلال إن أخذوا المال ولم يقتلوا كذلك آية النشوز، لأن العقوبات المختلفة يجب أن تكون في ذنوب مختلفة ولا تكون كبائر العقوبات لصغائر الذنوب ولا صغائر العقوبات لكبائر الذنوب فأوجب اختلاف العقوبات أن تكون على اختلاف الذنوب. والثاني: قاله في القديم وذكر احتماله في هذا الموضع أن العقوبات الثلاث مستحقة في حالين اختلف أصحابنا في كيفيتها على وجهين: أحدهما: وهو قول البصريين أنه إذا خاف نشوزها وعظها وهجرها فإذا أبدت النشوز ضربها وكذلك إذا أقامت عليه. والثاني: وهو قول البغداديين أنه إذا خاف نشوزها وعظها فإذا أبدت النشوز هجرها وضربها وكذلك إذا أقامت عليه ووجه هذا القول أن العقوبة هي الضرب وما تقدمه من العظة والهجر إنذار والعقوبة تكون بالإقدام على الذنوب لا بمداومته ألا ترى أن سائر الحدود تجب بالإقدام على الذنوب لا بمداومتها فكذلك ضرب النشوز مستحق على إبدائه دون ملازمته فصار تحريم المذهب في ذلك أن له عند خوف النشوز أن يعظها وهل له أن يهجرها أم لا؟ على وجهين وله عند إبداء النشوز أن يعظها ويهجرها وهل له أن يضربها أم لا؟ على قولين: وله عند مقامها على النشوز أن يعظها ويهجرها ويضربها. فصل فإذا تقرر ما وصفنا انتقل الكلام إلى صفة العظة والهجر والضرب أما العظة فهو أن يخوفها بالله تعالى وبنفسه فتخويفها بالله أن يقول لها: اتق الله وخافيه وأخشي سخطه واحذري عقابه فإن التخويف بالله تعالى من أبلغ الزواجر في ذوي الدين وتخويفها من نفسه أن يقول لها: إن الله تعالى قد أوجب لي عليك حقًا إن منعتيه أباحني ضربك وأسقط عني حقك فلا تضري نفسك بما أقابلك على نشوزك إن نشزت بالضرب المؤلم وقطع النفقة الدارة فإن تعجيل الوعيد أزجر لمن قلت مراقبته. وهذه العظة وإن كانت على خوف

نشوز لم يتحقق فليس يضاره لأنه إن كانت الأمارات التي ظهرت منها لنشوز تبديه كفها عنه ومنعها منه وإن كان لغيره من هم طرأ عليها أو لفترة حدثت منها لسهو لحقها لم يضرها أن تعلم ما حكم الله تعالى به في النشوز وأما الهجر نوعان: أحدهما: في الفعل. والثاني: في الكلام. فأما الهجر في الفعل فهو المراد بالآية وهو الإعراض عنها وأن لا يضاجعها في فراش أو يوليها ظهره فيه أو يعتزلها في بيت غيره. أما هجر الكلام فهو الامتناع من كلامها. قال الشافعي: لا أرى به أساسًا فكأنه يرى أن الآية وإن لم يضمنه فهو من إحدى الزواجر إلا هجر الفعل يجوز أن يستدعيه الزوج بحسب ما يراه صلاحًا. فأما هجر الكلام فلا يجوز أن يستديمه أكثر من ثلاثة ايام لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث والسابق أسبقهما إلى الجنة». وأما الضرب فهو ضرب التأديب والاستصلاح وهو كضرب التعزير لا يجوز أن يبلغ به أدنى الحدود ويتوقى بالضرب أربعة أشياء: أن يقتل أو يزمن أو يدمي أو يشين. قال الشافعي: «ولا يضربها ضربًا مبرحًا ولا مدميًا ولا مزمنًا ويقي الوجه» فالمبرح القاتل، والمدمي إنهار الدم، والمزمن تعطيل إحدى أعضائها وضرب الوجه يشينها ويقبح صورها. وقد روى ابن المبارك عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: قلت: يا رسول الله نساؤنا ما تأتي منهن وما نذر قال: حرثك، فأت حرثك أن شئت غير أن تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت وأطعم إذا أطعمت واكس إذا اكتسيت كيف وقد أفضى بعضكم إلى بعض. وروى بشر عن عكرمة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اضربوهن إذا عصينكم في المعروف ضربًا غير مبرح وإذا كان كذلك توقى شدة الضرب وتوقى ضرب الوجه وتوقى المواضع القاتلة من البدن كالفؤاد والخاصرة وتوقى أن توالي الضرب موضعًا فينهمر الدم فإن ضربها فماتت من الضرب نظر فإن كان مثله قاتلًا فهو قاتل عمد وعليه القود وإن كان مثله يقتل فهو خطأ شبه العمد فعليه الدية مغلظة يتحملها عند العاقلة وعليه الكفارة في الحالين وبان بإفضاء الضرب إلى القتل أنه كان غير مباح كما تقوله في التعزيز وضرب المعلم الصبيان. فصل: فأما ما ورد من السنة في إباحة الضرب وحظره فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا

باب الحكم في الشقاق بين الزوجين

تضربوا إماء الله» فنهى عن ضربهن وهذا مخالف للآية في إباحة الضرب. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «كنا معاشر قريش يغلب رجالنا نساءنا وكان الرجل منا بمكة معه هراوة إذا ترمرمت عليه امرأته هراها بها فقدمنا هذين الحيين: الأوس والخزرج فوجدنا رجالًا مغانم لنسائهم يغلب نساؤها رجالهم فاختلط نساؤنا بنسائهم فذئرن فقلت: يا رسول الله ذئر النساء على أزواجهن فأذن في ضربهن، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «فاضربوهن» قال: فضرب الناس نساءهم تلك الليلة قال: فأتى نساء كثير يشتكين الضرب فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد أطاف بآل محمد الليلة سبعون امرأة كلهن يشتكين أزواجهن ولا تجدون أولئك خياركم» وفي قول عمر ذئر النساء على أزواجهن تأويلان: أحدهما: أنه البطر والأشرة. والثاني: أنه البذاء والاستطابة. قال الشاعر: ولمَّا أَتانِي عَنْ تَمِيمٍ أَنَّهُمْ ذَئِروا لِقَتْلَى عَامِرٍ وَتَغَضَّبوا وهذا الخبر مخالف للخبر المتقدم وإن كان موافقًا للآية. فإن قيل: فكيف يترتب هذان الخبران مع الآية وليس بصحيح على مذهب الشافعي أن يفسخ القرآن السنة فلأصحابنا في ذلك ثلاثة أوجه: أحدها: أن ما جاءت به الآية والخبر من إباحة الضرب فوارد في النشوز وما ورد به الخبر الآخر من النهي عن الضرب ففي غير النشوز فأباح الضرب مع وجود سببه ونهى عنه مع ارتفاع سببه وهذا متفق لا يعارض بعضه بعضًا. والثاني: أنه أباح الضرب جوازًا ونهى عنه اختيارًا فيكون الضرب وإن كان مباحًا بالإذن فيه فتركه أولى للنهي عنه ولا يكون ذلك متنافيًا ولا ناسخًا ومنسوخًا. والثالث: أن خبر النهي عن الضرب منسوخ بخبر عمر الوارد بإباحته ثم جاءت الآية مبينة لسبب الإباحة فكانت السنة فكانت السنة ناسخة للسنة والكتاب مبينًا ولم ينسخ الكتاب السنة، والله أعلم. باب الحكم في الشقاق بين الزوجين قَال الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «فَلَمَّا أَمَرَ اللهُ تَعَالَى فِيمَا خِفْنَا الشِّقَاقَ بَيْنَهْمَا

بِالحَكَمَينِ دلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُكْمَهُمَا غَيْرُ الأّزْوَاج فَإِذَا اشْتَبَهَ حَالَاهُمَا فَلَمْ يَفْعَلِ الرَّجُلُ الصُّلْحَ وَلا الفُرْقَةَ وَلَا المَرْأَةُ تَادِيَةَ الحَقِّ وَلَا الفِدْيَةَ وَصَارَا مِنَ القَوْلِ وَالفِعْلِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُمَا وَلَا يَحْسُنُ وَتَمَادَيَا بَعَثَ الإِمَامُ حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا مَامُونَيْنِ بِرِضَا الرَّوْجَيْنِ وَتَوْكِيلِهِمَا إِيَّاهُمَا بِأَنْ يَجْمَعَا أَوْ يُفَرِّقَا إَذَا رَأَيَا ذَلِكَ. وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا، ثُمَّ قَالَ لِلْحَكَمَيْنِ: هَلْ تَدْرِيَانِ مَا عَلَيْكُمَا؟ عَلَيْكُمَا أَنْ تَجْمَعَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تَجْمَعَا وَأَنْ تُفَرِّقَا إِنْ رَأَيْتُمَا أَنْ تُفَرِّقَا. فَقَالَتِ المَرْأَةُ: رَضِيتُ بِكِتَابِ اللهِ بِمَا عَلَيَّ فِيهِ ولِي، فَقَالَ الرَّجُلُ أَمَّا الفُرْقَةُ فَلَا، فَقَالَ عَليٌّ: كَذَبْتَ وَاللهِ حَتَّى يُقِرَّ بِمِثْلِ الَّذِي أَقَرَّتْ بِهِ. فَدَلَّ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِلْحَاكِمِ إِلَّا بِرِضَا الزَّوْجَيْنِ وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ لَبَعَثَ بِغَيْرِ رِضَاهِمَا». قال في الحاوي: وهذا الباب يشتمل على الحكم في نشوز الزوجين وهو الشقاق وفي تسميته شقاقًا تأويلات: أحدهما: لأن كل واحد منهما قد فعل ما شق على صاحبه. والثاني: لأن كل واحد منهما قد صار في شق بالعداوة والمباينة. والأصل في ذلك قول الله تعالى: {وإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إن يُرِيدَا إصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النّسَاء: 35] فإذا شاق الزوجان وشقاقهما يكون من جهة الزوجة بنشوزها عنه وترك لزومها لحقه ويكون من جهة الزوج بعدوله عن إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان فهذا على ضربين: أحدهما: أن لا يكونا قد خرجا في المشاقة إلى قبح من فعل كالضرب ولا إلى قبيح من قول كالنسب فإن الحاكم ينصب لهما أمينًا بأجرة بالإصلاح بينهما وأن يستطيب نفس كل واحد منهما لصاحبه من عفو أو هبة فإن سودة لما همّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بطلاقها استعطفته بأن وهبت يومها لعائشة رضي الله عنها لعلمها بشدة ميله إليها فعطف لها وأمسكها فنزل فيه قول الله تعالى: {وإنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا والصُّلْحُ خَيْرٌ} [النِّسَاء: 128]. والثاني: أن يكون الشقاق قد أخرجهما إلى قبيح الفعل فتضاربا وإلى قبيح القول فتشاتما، وهو معنى قول الشافعي وصارا من القول والفعل إلى ما لا يحل لهما ولا يحسن فهي الحال التي قال الله تعالى فيها: {وإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إن يُرِيدَا إصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النّسِاء: 35] فيجب على الحاكم إذا ترافعا إليه فيها أن يختار من أهل الزوج حكمًا مرضيًا ومن أهلها حكمًا مرضيًا فإن جعل الحاكم إلى الحكمين الإصلاح بين الزوجين دون الفرقة جاز بل لو فعله الحاكم مبتدئًا قبل ترافع الزوجين إليه أو فعله الحكماء من قبل أنفسهما من غير إذن الحاكم لهما جاز قال الله تعالى {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النِّساء: 114] وإن أراد الحاكم أن يرد إلى الحكمين الإصلاح إن رأياه أولى والفرقة إن رأياها أصلح أو الخلع إن رأياه أنجح فهل يصح ذلك من الحكمين بإذن

الحاكم من غير توكيل الزوجين أم لا يصح إلا بتوكيلهما على قولين: أحدهما: يصح ذلك من الحكمين بإذن الحاكم من غير توكيل الزوجين نص عليه الشافعي في كتاب الطلاق من أحكام القرآن وبه قال مالك ودليله قوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إن يُرِيدَا إصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النِّسَاء: 35] فكان الدليل من ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه خطاب توجه إلى الحاكم فاقتضى أن يكون ما يضمنه من إنفاذ الحكمين من جهة الحاكم دون الزوجين. والثاني: قوله: {إن يُرِيدَا إصْلاحًا} [النّسَاء: 35] راجع إلى الحكمين فدل على أن الإدارة لهما دون الزوجين. والثالث: أن إطلاق اسم الحكمين عليهما لنفوذ الحكم جبرًا منهما كالحاكم فلم يفتقر ذلك إلى توكيل الزوجين. وروي أنه شجر بين عقيل بن أبي طالب وبين زوجته فاطمة بنت عتبة بن ربيعة خصومة تنافرا فيها وكان سببها أن فاطمة كانت ذات مال تدل بمالها على عقيل وتكثر إذكاره بمن قتل يوم بدر من أهلها فتقول له: ما فعل عتبة ما فعل الوليد وما فعل شيبة وعقيل يعرض عنها إلى أن دخل ذات يوم ضجرًا فقالت له: ما فعل عتبة والوليد وشيبة؟ فقال لها: إن دخلت النار فعلى يسارك فجمعت رحلها وبلغ ذلك عثمان فقرأ قوله تعالى: {وإنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} [النِّسَاء: 35] فاختار من أهل عقيل: عبد الله بن عباس ومن أهل فاطمة: معاوية بن أبي سفيان وقال: عليكما أن تجمعا إن رأيتما أو تفرقا إن رأيتما. فقال عبد الله بن عباس والله لأحرص على الفرقة بينهما. فقال معاوية: والله لا فرقت بين شيخين من قريش فمضيا إليهما وقد اصطلحا. فدل هذا القول منهما على أن الحكمين يملكان الفرقة إن رأياها وذلك بمشهد من عثمان رضي الله تعالى عنه وقد حضره من الصحابة من حضر فلم ينكره ولأن للحاكم مدخلًا في إيقاع الفرقة بين الزوجين بالعيون والعنة وفي الإيلاء فجاز أن يملك بها تفويض ذلك إلى الحكمين. والثاني: أنه لا يصح من الحكمين إيقاع الفرقة والخلع إلا بتوكيل الزوجين ولا يملك الحاكم الإذن لهما فيه نص عليه الشافعي في كتاب الأم والإملاء وبه قال أبو حنيفة لقول الله تعالى: {إن يُرِيدَا إصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النِّسَاء: 35] فدل على أن المردود إلى الحكمين الإصلاح دون الفرقة. ولما روى ابن عون عن ابن سيرين عن عبيد الله السلماني قال: جاء رجل وامرأة إلى علي رضي الله عنه مع كل واحد منهما قيام من الناس يعني جمعًا فتلا الآية. وبعث إلى الحكمين وقال: رويدكما حتى أعلمكما ماذا عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتكما وإن رأيتما

أن تفرقا فرقتكما ثم أقبل على المرأة وقال: أقد رضيت بما حكما؟ قالت: نعم رضيت بكتاب الله عليَّ، ثم أقبل على الرجل فقال: قد رضيت بما حكما فقال: لا، ولكن أرضى أن تجمعا ولا أرضى أن تفرقا، فقال له علي: كذبت والله لا تبرح حتى ترضى بمثل الذي رضيت. فموضع الدليل من هذا الخبر أنه لو ملك الحكمان ذلك بغير توكيل الزوجين لم يكن لرجوع علي عنه إلى رضي الزوج وجه ولكان بإذن الحكمين فيه وإن امتنع. فإن قيل: فما معنى قوله كذبت والله حتى ترضى بمثل الذي رضيت وكيف يكون امتناعه من الرضى كذبًا فعنه جوابان: أحدهما: يجوز أن يكون تقدم من الرضى ثم أنكره فصار كذبًا وزال بالإنكار ما تقدم من التوكيل. والثاني: أن قوله كذبت بمعنى أخطأت وقد يعبر عن الخطأ بالكذب لأنه بخلاف الحق ومنه قول الشاعر: كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ غَلَسَ الظَّلَامِ مِنَ الرَّبَابِ خَيَالَا يعني أخطأتك عينك ويدل على ما ذكرنا أن الله تعالى لم يجعل الطلاق إلا إلى الأزواج فلم يجز أن يملكه غيرهم ولأن الحاكم لا يملك إيقاع الطلاق والخلع بين الزوجين إلا عن رضاهما فلأن لا يملكه الحكمان من قبله أولى. فصل: فإذا تقرر توجيه القولين كان الحكمان على القول الأول حاكمين وعلى القول الثاني وكيلين ولا بد من اعتبار شروط صحته تحكيمهما وهي تنقسم ثلاثة أقسام: قسم يجب اعتباره فيهما. وقسم يستحب اعتباره فيهما. وقسم يختلف باختلاف القول فيهما. فأما ما يجب اعتباره فيهما من الشروط فثلاثة: أحدهما: أن يكونا رجلين فإن كانا أو أحدهما امرأة لم يجز. والثاني: أن يكونا حرين فإن كانا أو أحدهما عبدًا لم يجز. والثالث: أن يكون عدلين فإن كانا أو أحدهما غير عدل لم يجز.

وإنما اعتبرنا هذه الشروط الثلاثة على القولين معًا لأنهما إن كانا حاكمين فلا بد من اعتبار هذه الشروط في الحاكم وإن كانا وكيلين فقد اقترن بوكلتهما ولاية اختيار الحاكم لهما ولا يصح فيمن رد الحكم إليه نظر إلا أن يكون بهذه الصفات ألا ترى أن الحاكم لو أراد أن يرد النظر في مال يتيم إلى عبد أو فاسق لم يجز وإن جاز أن يكون وكيلًا. وأما ما يستحب اعتباره فهو أن يكون الحكمان من أهل الزوجين لقوله تعالى: {فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} [النِّساء: 35] ولأن الأول أخص بطلب الحظ من الأجانب ولأن الأنس بالأهل والاستجابة لهم وشرح الحال معهم أكثر من الأجانب فلهذه الأمور اخترنا أن يكون الحكمان من أهل الزوجين فإن كانا أجنبيين جاز لأنه إن جرى التحكيم مجرى الحاكم فحكم الأجنبي نافذ وإن جرى مجرى الوكالة فوكالة الأجنبي جائزة ولأنه قد لا يكون لواحد من الزوجين أهل ولا أنه كانوا حضروا ولا إن حضروا كانوا عدولاً فدعت الضرورة إلى جواز تحكيم غير الأهل. وأما ما يختلف باختلاف القول فيهما فهو أن يكونا فقيهين من أهل الاجتهاد في الأحكام. فإن قلنا: إنهما يجريان مجرى الحاكمين فلا بد أن يكونا من أهل الاجتهاد فإن لم يكونا من أهله لم يجز؛ لأنه حكم فلم ينفذ إلا من مجتهد. وإن قلنا: إنهما يجريان مجرى الوكيلين جاز أن يكونا من أهل الاجتهاد؛ لأن وكالة العامة جائزة فإن عدل الحاكم عن أهلها إلى أجنبيين اختار لكل واحد منهما حكمًا يثق به ويأنس إليه ولا يجوز أن يحكم عليهما عدويين للتهمة اللاحقة بهما. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: «وَلَوْ فَوَّضَا مَعَ الخُلْعِ وَالفُرْقَةِ إِلَى الحَكَمَيْنِ الأَخْذَ لِكُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ كَانَ عَلى الحَكَمَيْنِ الاجْتِهَادُ فِيمَا يَرَيَانِهِ أَنَّهُ صَلَاحٌ لَهُمَا بَعْدَ مَعْرِفَةِ اخْتِلَافِهِمَا». قال في الحاوي: والكلام في هذه المسألة يشتمل على فصلين: أحدهما: على ما يتم به ولاية الحكمين. والثاني: ما يجوز أن يفعله الحكمان وما لا يجوز لهما فعله. فأما الأول فيما يتم به ولاية الحكمين فهو معتبر باختلاف القولين فيهما. فإن قلنا: إنهما حكمان تمت ولايتهما بتقليد الحاكم لهما ولا يعتبر فيهما إذن الزوجين ولا رضاهما لكان لا بد للحاكم أن يعين كل واحد من الحكمين أن يكون مختصًا بأحد الزوجين فإن لم يعينه لم يجز لأن كل واحد منهما ينوب عن أحد الزوجين في استيفاء حقه من الآخر والنظر في مصلحته، ثم يرد إليهما ما رأياه صلاحًا من إصلاح أو طلاق أو خلع، فإن

أراد بعد تحكيمها أن يستبدل بهما غيرها، فإن كان لتغير حالهما أو لوجود من هو أولى منهما جاز، وإن لم يكن لتغير حال ولا لوجود من هو أولى لم يجز ولو اعتزل الحكمان جاز وما يستحب ذلك لهما إلا أن يكون لعجز منهما أو لاشتباه الأصلح عليهما، وليس لهما بعد عزل أو اعتزلا أن يحكما عليهما بشيء، فإن حكما لم ينفذ حكمهما وإن قلت إن الحكمين وكيلان لم يتم ولايتهما إلا بتوكيل الزوجين إلى إذن الحاكم، وإنما افتقرا مع توكيل الزوجين إلى إذن الحاكم لهما، لأن له مع الوكالة ولاية لا تصح إلا بالحاكم وإذا كان كذلك احتاج كل واحد من الزوجين أن ينفرد بتوكيل الحكم الذي ينوب عنه فيأذن الزوج لحكمه في الطلاق وعدده وفي الخلع ومقداره ولا يكتفي في الإذن بالطلاق عن الإذن في الخلع لأن الخلع يسقط الرجعة فلا يفعل ذلك إلا بإذن مستحقيها وتأذن الزوجة لحكمها أن يخالع عنها من مالها بما تقدره له أو تعينه ثم يأذن الحاكم للحكمين بعد توكيل الزوجين في فعل ما وكلا فيه وإمضائه فيكون التوكيل من الزوجين والولاية من الحاكم. فصل: وأما ما يستحق على الحكمين فعله فهو الاجتماع على فعل الأصلح للزوجين فإن كان الأصلح لهما الإصلاح بينهما فليس لهما أن يعدلا عن الإصلاح إلى طلاق أو خلع فإن طلقا أو خالعا لم يجز وكان مردودًا وإن كان الأصلح لهما الطلاق من غير خلع اتفقا عليه تفرد حكم الزوج بإيقاعه ولم يجز أن يخالعا وإن كان الأصلح لهما الخلع اجتمعا على عقد الخلع بعد اتفاقهما على عدد الطلاق وقدر العوض وتفرد حكم الزوجة بالبذل وحكم الزوج بالقبول وإيقاع الطلاق. فلو أراد الحكمان فسخ النكاح بغير طلاق لم يجز لأنه غير مأذون فيه فإن أذن لهما الحاكم في الفسخ جاز إن قيل: إن التحكيم حكم لأن الحاكم بالفسخ أخص منه بالطلاق وإن قيل: إن التحكيم وكالة لم يجز؛ لأن الموكل لم يرد الفسخ إليهما فلو رد الزوجان إليهما لم يجز. وإن قيل: إن التحكيم وكالة لأن الزوجين لا يملكان الفسخ إلا بالعيب. فأما إن ظهر لأحد الزوجين على صاحبه مال لم يكن للحكمين أن يستوفياه إلا عن إذن مستحقه من الزوجين دون الحاكم لأنه رشيد لا يولى عليه فإن أخذه الحاكم لم يبرأ منه الدافع فإن جعل كل واحد من الزوجين إلى حكمه أن يستوفي ما وجب له من حق على صاحبه لم يحتج إلى إذن الحاكم فيه وجاز له استيفاؤه ولو جعل الحاكم ذلك إليه لم يجز على القولين معًا سواء قيل: إن الحاكم أو وكيل لأن الحاكم لا مدخل له في استيفاء حقوق أهل الرشد وإن كان له مدخل في إيقاع الفرق بينهم وهكذا لا يجوز للحكمين الإبراء من حق وجب لأحد الزوجين من نفقة أو دين لأن الإبراء لا يصح إلا من مالك أو بإذن مالك.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: «وَلَوْ غَابَ أَحَدُ الزُّوْجَيْنِ وَلَمْ يَفْسَخِ الوَكَالَة أَمْضَى الحَكَمَانِ رَايَهُمَا». قال في الحاوي: وهذا كما قال. إذا استقرت ولاية الحكمين في شقاق الزوجين فعاف الزوجان أو أحدهما وأراد الحكمان تنفيذ ما إليهما فهو مبني على اختلاف القولين فيهما فإن قلنا: إن التحكيم وكالة جاز لهما مع غيبة الزوجين أن يفعلا ما رأياه صلاحًا لأن للوكيل أن يستوفي حق موكله ويوفي ما عليه من حق وإن كان غائبًا هذا إذا كان مفترقين في الغيبة فأما إذا كان في غيبتهما مجتمعين، لم يكن للحكمين إيقاع طلاق ولا خلع لجواز أن يصطلحا في الغيبة وإن قيل: إن التحكيم حكم لم يجز للحكمين أن يحكما مع غيبتهما سواء كانا فيهما مجتمعين أو مفترقين لأنه وإن جاز الحكم عندنا على الغائب فالحكم له لا يجوز حتى يحضر فإن رجع الزوجان عن التحكيم فإن كان مع اصطلاحهما بطلت ولاية الحكمين سواء قيل: إن التحكيم حكم أو وكالة لأن الشقاق قد زال وإن كان مع مقامها على الشقاق بطل التحكيم إن قيل: إنه وكالة ولم يبطل إن قيل: إنه حكم. ولو رجع أحد الزوجين دون الأخر كان كرجوعهما معًا يبطل به التحكيم إن قيل إنه وكالة ولم يبطل به إن قيل: إنه حكم لأن التحكيم لا يصح إلا بحكمين. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: «وَأَيُّهُمَا غَلَبَ عَلَى عَقْلِهِ لَمْ يَمْضِ الحَكَمَانِ بَيْنَهُمَا شَيْئًا حَتَّى يَفِيقَ ثُمَّ يُحْدِثَ الوَكَالَةَ». قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا جن أحد الزوجين بعد تحكيم الحكمين أو أغمي عليه لم يجز للحكمين أن ينفذا حكم الشقاق بين الزوجين على القولين معًا، لأنه إن قيل: إن التحكيم وكالة فقد بطلت بجنون الموكل. وإن قيل: إنه وكالة حتى يستأنفها المفيق منهما دون الآخر ولا يحتاج إلى استئناف إذن من الحاكم ولم يبطل التحكيم إن قيل: إنه حكم وجاز للمحكمين بالإذن الأول إمضاء حكمهما على الزوجين ولم يؤثر الجنون في إبطال تحكيمهما وإنما أثر التوقف إلى إفاقتهما ليعلم حالهما بعد الإفاقة في مقامها على الشقاق أو إقلاعهما عنه. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: «وَعَلَى السُّلْطَانِ إِنْ لَمْ يَرْضَيَا حَكَمَيْنِ أَنْ يَاخُذَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ صَاحِبِهِ مَا يَلْزَمُ وَيُؤَدِّبَ أَيُّهُمَا رَأَى أَدَبَهُ إِن امْتَنَعَ بِقَدْرِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَقَالَ فِي كِتَابِ الطَّلَاقِ مِنْ أَحْكَام القُرْآنِ وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: نَجْبُرُهُمَا عَلَى الحَكَمَيْن كَانَ مَذْهَبًا. قَالَ المُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللهُ هَذَاّ ظَاهِرُ الآيَةِ وَالقِيَاسُ مَا عَلَيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ الطَّلَاقَ

لِلأَزْوَاجِ فَلاَ يَكُونُ إِلَّا لَهُمْ». قال في الحاوي: وصورتهم أن يمتنع الزوجان من الرضى بالحكمين مع مقامهما على الشقاق. فإن قيل: إن التحكيم حكم لم يؤثر فيه امتناع الزوجين وأمضى الحاكم رأيه عن اختيار الحكمين. وإن قيل: إنه وكالة لم يصح مع امتناع الزوجين ولا يجوز إجبارهما عليه لأن الوكالة لا تصح مع الإجبار وكذلك لو امتنع أحدهما كان كامتناعهما وإذا لم يصح التحكيم على هذا القول إلا عن رضى الزوجين فعلى الحاكم أن ينظر بينهما ويستوفي الحق لمن وجب له على من وجب عليه غير أنه لا يوقع بينهما طلاقًا ولا خلعًا؛ لأن الحاكم مندوب إلى استيفاء الحقوق وإنصاف المظلوم، فإن علم من أحدهم عدونًا على صاحبه منعه منه، فإن لم يمتنع أدبه عليه. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: «وَلوَ اسْتَكْرَهَهَا عَلَى شَيْءٍ أَخَذَهُ مِنْهَا عَلَى أَنْ طَلَّقّهّا وَأَقَامَتْ عَلَى ذَلِكَ بَيَّنَةً رَدَّ مَا أَخَذَهُ وَلَزِمَهُ مَا طَلَّقَ وَكَانَتْ لَهُ الرَّجْعَةُ». قال في الحاوي: وهذه مسألة من الخلع وكثيرًا ما يختم المزني بمسألة من الكتاب الذي يليه. وصورتها في رجل أكره زوجته على الخلع بضرب أو حبس أو أحد أنواع الإكراه حتى بذلت له مالًا على طلاقها فالخلع باطل؛ لأن عقود المعارضات لا تصح مع الإكراه، وعليه رد المال عليها وطلاقه واقع لأنه أوقعه باختياره، وله الرجعة إن كان الطلاق دون ثلاث؛ لأن البذل لم يحصل له، فإن ادعت عليه أنه خالعها مكرهًا فذكر أنه خالعها مختارة فالقول قولها مع يمينها؛ لأنها تنكر استحقاق البذل وهو يدعيه وطلاقه قد وقع بائنًا ولا رجعة له مقر بطلاق لا يستحق فيه الرجعة والفرق بين هذه المسألة والتي تقدمها في الرجعة أنه في المسألة الأولى مقر بفساد الخلع فثبت له الرجعة وفي هذه المسألة مقر بصحة الخلع فللم يثبت له الرجعة فلو ادعت عليه أنه خالعها مكرهًا لها فأنكرها الخلع كان القول قول يمينه ولا طلاق عليه لأن في هذه المسألة منكر للطلاق فلم يلزمه وفي التي تقدمها مقر بالطلاق فلزمه، وبالله التوفيق. تم الجزء التاسع ويليه إن شاء الله الجزء العاشر وأوله: كتاب الطلاق

بحر المذهب في فروع المذهب الشافعي تأليف القاضي العلامة فخر الإسلام شيخ الشافية الإمام أبي المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني المتوفي 502 هـ تحقيق طارق فتحي السيد الجزء العاشر يحتوي على الكتب التالية: الطلاق - الرجعة - الإيلاء - الظهار - اللعان - الأيمان

كتاب الطلاق

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب الطلاق باب إباحة الطلاق ووجهه وتفريعه من الجامع من كتاب أحكام القرآن ومن إباحة الطلاق ومن جماع عشرة النساء وغير ذلك مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "قال الله تعالى: {إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وقد قرئت لقبل عدتهن (قال) والمعنى واحد". قال في الحاوي: الأصل في إباحة الطلاق الكتاب والسنة وإجماع الأمة. أما الكتاب فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وهذا وإن كان خطابًا للنبي صلى الله عليه وسلم فهو عام الحكم فيه وفي جميع أمته. فهو من الخاص الذي أريد به العموم. فروى قتادة عن أنس قال طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة فأتت أهلها فأنزل الله تعالى: {أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} فقيل له: "راجعها فإنها صوامة قوامة وهي من أزواجك في الجنة". وقوله تعالى: {لِعِدَّتِهِنّ} أي في طهرهن إذا لم يجامعن فيه. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فطلقوهن لقبل عدتهن. قال الشافعي والمعنى واحد وقال تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ} [البقرة: 229] وفي قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} تأويلان: أحدهما: إنه بيان لعدد الطلاق وتقديره بالثلاث وأنه يملك الرجعة في الاثنتين ولا يملكها في الثالثة, وهو قول عروة وقتادة. روى هشام بن عروة عن أبيه, كان الرجل يطلق ما شاء, ثم إن راجع امرأته قبل أن تنقضي عدتها كانت زوجته, فغضب رجل من الأنصال على امرأته فقال لها: لا أقربك ولا تخلصين مني, قالت له: كيف؟ قال أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك, قم أطلقك فإذا دنا أجلك راجعتك, قال: فشكت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى:

{الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} الآية فقدرة بالثلاث, ولذلك قال عروة نزل الطلاق موافقًا لطلاق الأعشى في تقديره بالثلاث حين يقول: أجارتنا بيني فإنك طالقة وموموقة ما أنت فينا ووامقة أجارتنا بيني فإنك طالقة كذلك أمور الناس تغدو وطارقة وبيني فإن البين خير من العصا وإلا تزال فوق رأسك بارقة والتأويل الثاني: أنه بيان لسنة الطلاق أن يوقع في كل قرء واحدة وأن لا يجمع بينهم في قرء واحد, وهو قول ابن مسعود وابن عباس ومجاهد وأبي حنيفة. وفي قوله: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ} [البقرة: 229] تأويلان: أحدهما: إن الإمساك بالمعروف الرجعة بعد الثانية والتسريح بالإحسان الطلقة الثالثة. روى سفيان عن إسماعيل بن سميع عن أبي رزين قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الطلاق مرتان فأين الثالثة؟ قال: إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. وهو قول عطاء ومجاهد. والتأويل الثاني: فإمساك بمعروف الرجعة بعد الثانية أو تسريح بإحسان هو الإمساك عن رجعتها حتى تنقضي عدتها. وهذا قول السدي والضحاك. وقال تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} وقال تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ} [البقرة: 236] الآية. فأما السنة: فروى حميد بن عبد الرحمن عن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أحدكم لامرأته قد طلقتك قد راجعتك ليس هذا طلاق المسلمين, تطلق المرأة قبل عدتها". وروى محارب بن دثار عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبغض الحلال إلى الله الطلاق". وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ثلاث جدهن جد وهزلهم جد: " النكاح والطلاق والعتاق".

وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم طلق حفصة واحدة ثم راجعها. وروى عنه صلى الله عليه وسلم أنه تزوج العالية بنت ظبيان فمكثت عنده ما شاء الله ثم طلقها. فإذا ثبت إباحة الطلاق بالكتاب والسنة وما تعقبها من إجماع الأمة فالطلاق في اللغة هو التخلية, مأخوذ من قولهم نعجة طالق إذا خليت مهملة بغير راع. ومن قول النابغة: تناذرها الراقون من سوء سمها تُطلق طورًا وطورًا تراجع فصل والطلاق لا يصح إلا من زوج ولا يقع إلا على زوجة, فيختص الزوج بالطلاق وإن اشتركا الزوجان في عقد النكاح, وهو أحد التأويلات في قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] إن الرجل يملك الطلاق ولا تملكه الزوجة, فإن قيل فلم اشترك الزوجان في النكاح وتفرد الزوج بالطلاق, قيل لأمرين: أحدهما: أنه لما اشترك الزوجان في الاستمتاع جاز أن يشتركا في عقد النكاح, ولما اختص الزوج بالتزام المؤونة جاز أن يختص الزوج بإيقاع الفرقة. والثاني: أن المرأة لم يجعل الطلاق إليها, لأن شهوتها تغلبها فلم تؤمن منها معاجلة الطلاق عند التنافر والرجل أغلب لشهوته منها, وأنه يؤمن منه معالجة الطلاق عند التنافر. مسألة: قال الشافعي: "وطلق ابن عمر رضي الله عنهما امرأته وهي حائض في زمان النبي صلى الله عليه وسلم قال عمر فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: "مرة فليراجعها ثم ليمسكها حتى تظهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسكها بعد وإن شاء طلق فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء" (قال) وقد روى هذا الحديث سالم بن عبد الله ويونس بن جبير عن ابن عمر يخالفون نافعًا في شيء منه قالوا كلهم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مرة فليراجعها ثم ليمسكها حتى تحيض ثم تظهر ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق" ولم يقولوا ثم تحيض ثم تظهر (قال): " وفي ذلك دليل على أن الطلاق يقع على الحائض لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر بالمراجعة إلا من لزمه الطلاق". قال في الحاوي: الطلاق ينقسم ثلاثة أقسام: طلاق سنة, وطلاق بدعة, وطلاق لا سنة فيه ولا بدعة.

فأما طلاق السنة فهو: طلاق المدخول بها في طهر لم تجامع فيه. وأما طلاق البدعة فطلاق اثنتين الحائض والطاهر التي قد جومعت في طهرها أما الحائض فكان طلاقها بدعة؛ لأنها طلقت في زمان لا يحتسب به من عدتها وأما المجامعة في طهرها, فلإشكال أمرها هل علقت منه فلا يعتبر بالطهر وتعتد بوضع الحمل, أو لم تعلق منه فتعتد بالطهر. وأما التي لا سنة في طلاقها ولا بدعة فخمس: الصغيرة والمويسة والحامل وغير المدخول بها والمختلعة. أما الصغيرة والمويسة فلا عتدادهما بالشهور التي لا تختلف بحيض ولا طهر. وأما الحامل فلا عتدادها بوضع الحمل الذي لا يؤثر فيه حيض ولا طهر. وأما المختلعة فلأن خوفهما من أن لا يقيما حدود الله يقتضي تعجيل الطلاق من غير اعتبار سنة ولا بدعة. وإذا انقسم الطلاق على هذه الأقسام الثلاثة فقسمان منهما يجمع على وقوع الطلاق فيهما: أحدهما: طلاق السنة, مجمع على وقوعه. والثاني: ما لا سنة فيه ولا بدعة مجمع على وقوعه. والثالث: مختلف فيه وهو طلاق البدعة في حيض أو في طهر مجامع فيه, فهو محظور محرم بوفاق, واختلف في وقوعه مع تحريمه, فمذهبنا أنه واقع وإن كان محرمًا وهو قول الصحابة والتابعين وجمهور الفقهاء. وحكي عن ابن عليه والسبعة وبعض أهل الظاهر أنه غير واقع استدلالًا بقول الله تعالى: {إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنّ} [الطلاق: 1] فاقتضى ذلك الفرق بين المأمور به والمنهي عنه في الوقوع كما اقتضى الفرق بينهما في التحريم. وبما روى ابن جريح عن أبي الزبير: قال: سأل عبد الرحمن بن أيمن بن عبد الله بن عمر وأبو الزبير يسمع عن رجل طلق زوجته وهي حائض فقال ابن عمر طلقت زوجتي وهي حائض فسأل عمر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فردها علي ولم يره شيئًا, وهذا نص في أنه لا يقع ولو وقع لرآه شيئًا. ولأن النكاح قد يحرم في وقت وهو في العدة والإحرام كما يحرم الطلاق في وقت وهو الحيض والطهر المجامع فيه.

ثم كان عقد النكاح في وقت تحريمه باطلًا, وجب أن يكون الطلاق بمثابة إذا وقع في وقت تحريمه. ولأنه لو كل وكيلًا في طلاق زوجته في الطهر وطلقها في الحيض لم تطلق؛ لأجل مخالفته وإيقاع الطلاق في غير وقته مخالفة الله تعالى في وقت الطلاق أولى أن لا تقع بها طلاق, وهذا خطأ. ودليلنا ما رواه الشافعي عن مالك عن نافع ابن عمر, أنه طلق امرأته وهي حائض في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: مره فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس, فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء. فموضع الدليل منه أنه أمره بالرجعة موجب لوقوع الطلاق, لأن الرجعة لا تكون إلا بعد الطلاق. فإن قيل: أمره بالرجعة إنما هو أمر بردها إليه, قلنا: هذا تأويل فاسد من وجوه: أحدهما: أن الرجعة بعد ذكر الطلاق تنصرف إلى رجعة الطلاق. والثاني: أنه ما ذكر إخراجها فيؤمر بردها, وإنما ذكر الطلاق وكان منصرفًا إلى رجعتها. والثالث: أن المسلمين جعلوا طلاق ابن عمر هذا أصلًا في طلاق الرجعة وحكم العدة ووقوع الطلاق في الحيض ولم يتأولوا هذا التأويل فبطل بالإجماع. وروى الحسن عن عبد الله بن عمر قال: طلقت امرأتي وهي حائض طلقة وأردت أن أتبعها طلقتين فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: راجعها, قلت أرأيت لو طلقتها ثلاثًا قال: كنت قد أبنت زوجتك وعصيت ربك. وهذا نص في وقوع الطلاق في الحيض لا يتوجه عليه ذلك التأويل المعلول ومن القياس أنه طلاق مكلف صادف ملكًا فوجب أن ينعقد كالطاهر. ولأن رفع الطلاق تخفيف وقوعه تغليظ, لأن طلاق المجنون لا يقع تخفيفًا وطلاق السكران يقع تغليظًا؛ لأن المجنون ليس بعاص والسكران عاص. فكان المطلق في الحيض أولى بوقوع تغليظًا من رفعه عنه تخفيفًا, ولأن النهي إذا كان لمعنى ولا يعود إلى المنهي عنه لم يكن النهي موجبًا لفساد ما نهى عنه, كالنهي عن البيع عند نداء الجمعة لا يوجب فساد البيع. كذلك النهي عن الطلاق في الحيض, إنما هو لأجل تطويل العدة لا لأجل الحيض, فلم يمنع النهي عنه من وقوع الطلاق فيه. فأما استدلاله بالآية فنصها يوجب وقوع الطلاق في العدة, ودليلها يقتضي أن لا يقع

في العدة, لكن إذا عارض دليل الخطاب بعد صرفه عن موجبه, وقد عارضه من حديث ابن عمر ما يوجب صرفه عن موجبه. وأما استدلالهم بقول ابن عمر فردها علي ولم يره شيئًا فضعيف لتفرد أبي الزبير به ومخالفة جميع الرواة فيه مع أن قوله لم يره شيئًا يحتمل أنه لم يره إثمًا, ولم يره شيئًا لا يقدر على استدراكه, لأنه قد بين أنه يستدرك بالرجعة. وأما استدلالهم بالنكاح, فالفرق بين النكاح حيث بطل بعقده في حال التحريم وبين الطلاق حيث أمره بإيقاعه في حال التحريم, أن الطلاق أوسع حكمًا وأقوى نفوذًا من النكاح لوقوع الطلاق مباشرة وسراية, ومعجلًا ومؤجلًا. وعلى غرر لا يصح النكاح على مثله, فجاز أن يقع في وقت تحريمه وإن لم يصح عقد النكاح في وقت تحريمه. وأما استدلالهم بالوكيل فالجواب عنه أن الوكيل إذا خالف الإذن زالت وكالته وليس يرجع بعد زوالها إلى ملك فرد تصرفه. والزوج إذا خالف رجع بعد المخالفة إلى ملك فجاز تصرفه. مسألة: قال الشافعي: "وأحب أن يطلق واحدة لتكون له الرجعة للمدخول بها وخاطبًا لغير المدخول بها ولا يحرم عليه أن يطلقها ثلاثًا لأن الله تعالى أباح الطلاق فليس بمحظور وعلم النبي صلى الله عليه وسلم ابن عمر موضع الطلاق فلو كان في عدده محظور ومباح لعلمه إياه صلى الله عليه وسلم إن شاء الله, وطلق العجلاني بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثًا فلم ينكره عليه وسأل النبي صلى الله عليه وسلم ركانة لما طلق امرأته البتة ما أردت؟ ولم ينهه أن يزيد أكثر من واحدة". قال في الحاوي: وهذا كما قال لا يملك من عدد الطلاق أكثر من ثلاث, لما قدمناه من قول الله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229]. فإذا أراد أن يطلق ثلاثًا فالأولى والمستحب أن يفرقها في ثلاثة أطهار, فيطلق في كل طهر واحدة, ولا يجمعهن في طهر ليخرج بذلك من الخلاف وليأمن به ما يخافه من ندمه فإن طلقها ثلاثًا في وقت واحد وقعت الثلاث ولم تكن محرمة ولا بدعة والسنة والبدعة في زمان الطلاق لا في عدده. وبه قال من الصحابة الحسن بن علي وعبد الرحمن بن عوف. ومن التابعين ابن سيرين ومن الفقهاء أحمد بن حنبل. وحكي عن السبعة وعن داود بن علي وطائفة من أهل الظاهر أن طلاق الثلاث لا يقع, فاختلف القائلون بهذا هل يكون واحدة أم لا؟ فقال المغربي: تكون واحدة وقال آخرون: لا يقع منهن شيء. وقال أبو حنيفة: طلاق الثلاث واقع لكنه حرام مبتدع.

وبه قال من الصحابة عمر بن الخطاب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن مسعود, ومن الفقهاء مالك والعراقيون. واستدل من منع وقوع الطلاق الثلاث بأن الله تعالى فرق طلاق الثلاث بقوله: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فلم يجز أن يجمع ما أمر بتفريقه؛ لأنه ارتكاب ما نهى عنه, وما حرم من الطلاق لا يقع كالمراجعة. وبما رواه عبد الله بن عباس قال: كان الطلاق الثلاث على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام أبي بكر, وصدر من أيام عمر واحدة: فقال عمر: قد استعجلتم في أمر كان لكم فيه أناة, وجعله ثلاثًا. فلا يجوز لعمر أن يخالف شرعًا ثبت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتفع النسخ بموته. وبما رووه عن معاوية بن عمار عن أبي الزبير عن ابن عمر أنه طلق امرأته ثلاثًا في الحيض فاستفتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمره أن يراجعها, فإذا طهرت فليستقبل بها العدة إن شاء طلق وإن شاء أمسك, وهذا نص. فصل واستدل أبو حنيفة على أن طلاق الثلاث محرم وإن كان واقعًا بقول الله تعالى: {إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1]. فتضمنت هذه الآية تفريق الطلاق في الأطهار من الوجهين: أحدهما: قوله تعالى: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} وإحصاؤها إنما يكون انتظارًا لوقوع الطلاق فيها. والثاني: قوله تعالى فيها {لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} يريد به الرجعة والرجعة لا تكون في الثلاث, وإنما تكون فيما دون الثلاث. وبقوله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] فدل على أنه لا يجوز فيه أن يكون مرة. وبما روي عن عبد الله بن عمر أنه قال: طلقت امرأتي وهي حائض فقال النبي صلى الله عليه وسلم هكذا أمرك ربك إنما السنة أن تستقبل بها الطهر ثم تطلقها في كل قرء طلقة. وبما رواه الحسن عن ابن عمر أنه قال: طلقت امرأتي وهي حائض طلقة وأردت أن أتبعها طلقتين فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: راجعها فقلت أرأيت لو طلقتها ثلاثًا فقال: كنت قد أبنت زوجتك وعصيت ربك, فلولا أن جمع الثلاث محرم ما كان به عاصيًا. وبما رواه إبراهيم عن عبد الله بن عبادة الصامت عن أبيه عن جده أنه قال طلق بعض آبائي ألفًا, فانطلق بنوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا إن أبانا طلق أمنا ألفًا

فهل له من مخرج؟ فقال: إن أباكم لم يتق الله فيما فعل؛ فيجعل له من أمره مخرجًا بانت منه بثلاث على غير السنة وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقه. قال: ولأنه إجماع الصحابة, روي أن عمر بن الخطاب كان إذا برجل طلق امرأته ثلاثًا أوجع ظهره. وأن رجلًا أتى عبد الله بن عباس فقال: إن عمي طلق امرأته ثلاثًا فقال ابن عباس إن عمك عصي الله فأندمه, وأطاع الشيطان فلم يجعل له مخرجًا وأن عليًا وابن عباس أنكراه فكان إجماعًا, لعدم المخالف فيه. ولأنه عدد يتعلق به البينونة فوجب أن يتكرر كاللعان. ودليلنا على الفريقين قول الله تعالى: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236]. فكان رفع الجناح عنه من غير تمييز لعدد يوجب التسوية بين الأعداد. وروى سهل بن سعد الساعدي, أن النبي صلى الله عليه وسلم لما لا عن بين عويمر العجلاني وامرأته قال: كذبت عليها إن أمسكتها, هي طالق ثلاثًا. فلو كان الجمع بين الطلاق والثلاث محرمًا لأبانه صلى الله عليه وسلم وأنكره, لأنه لا يقر على منكر. وروي أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته ألبته, فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: "ما أردت بالبتة قال واحدة فأحلفه أنه ما أراد أكثر منها" فدل على وقوع الثلاث لو أرادها من غير تحريم. وروى سلمة بن أبي سلمة عن أبيه أن حفص بن عمرو بن المغيرة طلق فاطمة بنت قيس ثلاثًا بكلمة واحدة, فلم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأن عبد الرحمن بن عوف طلق تماضر بنت الأصبغ الكلبية ثلاثًا في مرضه فلم ينكره الصحابة عليه, وتماضر هي أم أبي سلمة بن عبد الرحمن, فدل ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن الصحابة بعده على إباحة بين الثلاث, وروي عن الحسن بن علي أن امرأته عائشة الخثعمية قالت له بعد قتل أبيه: لتهنك الخلافة يا أمير المؤمنين فقال لها: أو يقتل أمير المؤمنين وتشتمين اذهبي فأنت طالق ثلاثًا, فلم ينكر ذاك أحد من الصحابة فدل على إباحته عندهم.

وروي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عمن طلق امرأته مائة طلقة فقال: ثلاثة لها وأقسم الباقي على نسائها. ومن القياس أنه طلاق وقع في طعم لم يجامعها فيه فوجب أن يكون مباحًا كالطلقة الأولى, ولأن كل طلاق جاز تفريقه جاز جمعه, أصله طلاق الزوجات يجوز أن يجمعهن في الطلاق وأن يفرقهن. ولأن كل طلاق جاز تفريقه في الأطهار جاز إيقاعه في طهر, أصله إذا طلق في طهر ثم راجع فيه ثم طلقها فيه ثم راجع وثم طلقها فيه ثم راجع. ولأن الثلاث لفظ يقطع الرجعة فجاز إيقاعه في طهر لا جماع فيه كالواحدة بعد اثنتين أو كالخلع. فأما الجواب عن قوله تعالى: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} فمن وجهين: أحدهما: أن المقصود به عدد الطلاق, وأنه ثلاث وأنه يملك الرجعة بعد اثنتين ولا يملكها بعد الثالثة حتى تنكح زوجًا غيره ولم يرد به تفريق الطلاق أو جمعه. والثاني: أن قوله: {الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ} يقتضي في وقت واحد لا في وقتين كما قال تعالى: {نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] يعني أجرين في وقت واحد, لا في وقتين. وهم يحرمون وقوع الطلقتين في وقت كما يحرمون وقوع الثلاث. وأما الجواب عن الاستدلال بحديث ابن عمر, فهو أنه لم يطلق إلا واحدة في الحيض وقول النبي صلى الله عليه وسلم لو طلقتها ثلاثًا كنت قد أبنت امرأتك وعصيت ربك, يعني بإيقاعهن في الحيض لا بالجمع بينهن. وأما أمره له في الخبر الثاني أن يطلق في كل طهر واحدة فعلى طريق الاستحباب والندب. وأما الجواب عن حديثه البراء بن عازب فمن وجهين: أحدهما: أن الدارقطني رواه وذكر أنه ضعيف مجهول الراوي. والثاني: أن قوله: طلقها على غير السنة؛ لأنه طلقها ألفًا وهو لا يملك إلا ثلاثًا. وأما الجواب عن استدلالهم بالإجماع فهو غير منعقد بمن ذكرنا خلافه من الصحابة وقد اختلفت الرواية عن ابن عباس, روى سعيد بن جبير أن رجلًا أتى ابن عباس فقال: إني طلقت امرأتي ألفًا فقال: أما ثلاث فتحرم عليك امرأتك, وبقيتهن وزرًا اتخذت آيات الله هزوًا. وأما الجواب عن قياسهن عن اللعان فمن ثلاثة أوجه: أحدهما: أن الفرقة لا تقع على قولهم باللعان حتى يوقها الحاكم فلم يجز أن يكون أصلًا لما يوقع الفرقة. والثاني: أن عدد اللعان لا يصح مجموعة فوجب تفريقه, والطلاق يصح مجموعة فلم يجب تفريقه.

والثالث: أنه لما جاز عدد اللعان في وقت واحد اقتضى أن يجوز عدد الطلاق في وقت واحد. وأما استدلال من أنكر وقوع الثلاث بحديث ابن عباس عن عمر: فهو ضعيف لا يعرفه أصحاب الحديث, ولو سلمناه لاحتمل قوله كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأيام أبي بكر وصدر من خلافة عمر واحدة فقال عمر: قد استعجلتم في أمر كان لكم فيه أناء وجعله ثلاثًا. فمن قال لامرأته أنت طالق أنت طالق أنت طالق فإنه إن أراد بالثانية والثالثة طلقت واحدة وإن أراد الاستئناف طلقت ثلاثًا. وإن لم يكن له إرادة فعلى قولين: أحدهما: قاله في الإملاء تطلق واحدة. والثاني: قاله في "الأم" تطلق ثلاثًا. فعلم عمر أنهم كانوا يريدون به التأكيد فتكون واحدة, ثم صاروا يريدون به التأكيد فجعلها ثلاثًا, وإنما حملناه على هذا الاحتمال مع بعده؛ لأن عمر لا يجوز أن يخالف رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء عمله من دينه, ولو خالفه لما أقرته الصحابة على خلافة. ألا تراه يقول: لا تغالوا في صدقات النساء فلو كانت مكرمة لكان أولاكم بها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقامت إليه امرأة فقالت: يعطينا الله وتمنعنا يا ابن الخطاب قال الله تعالى: {وآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنطَارًا فَلا تَاخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20] فقال عمر: كل الناس أفقه من عمر حتى امرأة ليفعل الرجل بماله ما شاء, وهم أن يخالف بين ديات الأصابع حتى ذكر له عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: في اليدين الدية وفي أحدهما نصف الدية وفي كل أصبع مما هنالك عشر من الإبل, فرجع عما هم به وسوى بين دياتها. وأما استدلالهم بما رووه عن ابن عمر أنه طلق امرأته ثلاثًا, فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بمراجعتها فلا يعرفه أهل الحديث, وإنما الخبر أنه قال أرأيت لو طلقتها ثلاثًا فقال كنت قد أبنت امرأتك وعصيت ربك. ولو صح لكان محمولًا على أنه طلقها ثلاثًا في ثلاثة أوقات, فأمره بالرجعة في إحداهن بل قد روي أنه طلقها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم طلقها ثانية على عهد أبي بكر, ثم طلقها ثالثة في زمن عمر, فضبط الرواة طلاقه على ما ذكرنا, فاقتضى أن يكون رواية من أطلق محموله على هذا البيان والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: " ولو طلقتها طاهرًا بعد جماع أحببت أن يرجعها ثم يمهل ليطلق كما أمر وإن كانت في طهر بعد جماع فإنها تعتد به". قال في الحاوي: فقد ذكرنا أن طلاق البدعة طلاقان: أحدهما: الطلاق في الحيض.

والثاني: الطلاق في طهر قد جومعت عليه. أما طلاق الحيض فلتحريمه علة واحدة, وهو أن بقية حيضها غير محتسب به من عدتها عند من جعل الأقراء الأطهار, وعند من جعلها الحيض, فصارت بالطلاق فيه غير زوجة ولا معتدة, وأما المطلقة في الطهر المجامع فيه فلتحريمه علتان: أحدهما: أنها ربما علقت من وطئه فصارت له أم ولد فلحقه ندم من طلاق أم ولده. والثانية: أنها تصير مرتابة في عدتها هل علقت من وطئة فتكون عدتها بوضع الحمل؟ أو لم تعلق فتكون بالإقراء؟ لكنها تعتد ببقية طهرها قرءًا فإذا طلق إحدى هاتين إما في حال الحيض أو في طهر جامعها فيه فقد طلقها طلاقًا بدعيًا محرمًا, واستحببنا له أن يراجعها؛ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عمر حين طلق في الحيض أن يراجع, واستدراكًا لمواقعة المحظور بالإقلاع عنه ولا تجب عليه الرجعة. وأوجبها مالك في طلاق الحائض استدلالًا بهذين. والدليل على أن الرجعة غير واجبة وإن استحبت قول الله تعالى: {فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإحْسَانٍ} فخيره بين الرجعة والترك وقال تعالى: {بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إنْ أَرَادُوا إصْلاحًا} [البقرة: 228] فدلت على أن الرجعة غير واجبة من وجهين: أحدهما: أنه جعلها حقًا للأزواج لا عليهم. والثاني: أنه قرنها بإرادة الإصلاح. ولأن الرجعة إما أن تراد لاستدامة العقد أو إعادته, فإن أريدت لإعادته لم تجب, لأن ابتداء النكاح لا يجب, فإن أريدت لاستدامته لم تجب؛ لأن له رفعة بالطلاق ولأن تحريم الطلاق في الحيض كتحريمه في طهر مجامع فيه, ثم لم تجب الرجعة في طهر الجماع كذلك في الحيض. فأما حديث ابن عمر وقول النبي صلى الله عليه وسلم مره فليراجعها حتى تُطهر ثم تحيض ثم تُطهر ثم فإن شاء طلق بعد وإن شاء أمسك. فعنه جوابان: أحدهما: أنه لم يأمره بنفسه وجعل عمر هو الآمر له بقوله: مره فليراجعها دل على أن الأمر معدول به عن الوجوب إلى الاستحباب, لأنه عدل به عمن تجب أوامره إلى من لا تجب أوامره. والثاني أن قوله: ثم إن شاء طلق وإن شاء أمسك ارجع المشيئة إلى جمع المذكور من الرجعة والطلاق, وما رد إلى مشيئة فاعله لم يجب. وأما استدلاله بأن فيه استدراكًا لمواقعة المحظور, فالمحظور هو وقوع الطلاق والطلاق الواقع لا يستدرك بالرجعة وإنما يقطع تحريمه. فصل فإن ثبت أن الرجعة مستحبة غير واجبة فهي في المدخول بها إذا طلقت أقل من

ثلاث, لأن غير المدخول بها لا رجعة لها والثلاث لا رجعة معها فتكون الرجعة مع هذين الشرطين. ثم الزمان الذي يستحق فيه الرجعة مقدر, وإن كان الشافعي قد أطلقه, فإن طلقت في الحيض كان الأمر بارتجاعها ما كان حيضها باقيًا, فإن طهرت من تلك الحيضة التي طلقت فيها سقط استحباب الرجعة وكانت إلى خياره, لأنها قد صارت في طهر لا يحرم عليه طلاقها فيه فلم يؤمر بارتجاعها فيه. وإن طلقت في طهر قد جومعت فيه كان مأمورًا بارتجاعها في بقية طهرها وفي الحيضة التي بعد طهرها, فإن راجعها في هذا الحال فقد أتى بما أمر به وندب إليه, وإن لم يراجعها حتى دخلت في الطهر الثاني الذي لا يحرم عليه طلاقها فيه سقط ما كان مندوبًا إليه من الرجعة وكانت إلى خيارة. فصل فأما حديث ابن عمر فقد رواه نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مُره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم فإن شاء طلق بعد وإن شاء أمسك فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء. ورواه سالم ويونس بن جبير عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مُره فليراجعها حتى تحيض ثم إن شاء طلقها بعد وإن شاء أمسك فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها الله النساء, فخالف نافع لسالم وليونس في زيادة الطهر؛ لأن رواية سالم حتى تحيض ثم إن شاء طلق فأذن له أن يطلق في الطهر الأول بعد الحيضة التي طلق فيها وهذا صحيح. وفي رواية نافع, حتى تُطهر ثم تحيض ثم تطهر ثم إن شاء طلق, فأذن له أن يطلق في الطهر الثاني دون الأول, والطلاق في الطهر الأول كالطلاق في الطهر الثاني فاختلف أصحابنا في أي الروايتين أثبت وأصح. فقال بعضهم: الأصح رواية سالم ويونس, فأما نافع فوهم في زيادة الطهر الثاني؛ لأن حكم الطلاق في الطهر الأول كحكم الطلاق في الطهر الثاني. وقال آخرون من أصحابنا: إن رواية نافع أصح وأثبت, وإنما حذف سالم ويونس ذكر الطهر الثاني اختصارًا. فإن قيل: فإذا كانت رواية نافع أصح فلم أذن له أن يطلق في الطهر الثاني ولم يأذن له أن يطلق في الطهر الأول وهما في الحكم سواء. قيل: قد أجاب أصحابنا عن هذه بأربعة أجوبة: الأول: أنه لما كان طلاق ابن عمر في الحيض موجبًا لتطويل العدة عليها قابله رسول الله صلى الله عليه وسلم على طريق العقوبة له بتطويل الرجعة إلى الطهر الثاني وإن جازت في الطهر الأول.

والجواب الثاني: أنه لما أوقع ابن عمر الطلاق في غير زمانه قابله رسول الله صلى الله عليه وسلم باستدامة الرجعة بعد زمانها. والجواب الثالث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن تتحقق رجعته ويقوي حكمها بالوطء فيها, وزمان الوطء بعدها هو الطهر الأول, فإذا وطء فيه خرج إيقاع الطلاق فيه. وكان طلاق بدعة فلذلك لم يأذن له أن يطلق فيه, وأذن له أن يطلق في الطهر الثاني. والجواب الرابع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب أن يكمل الاستبراء بعد الرجعة وكماله يكون بطهر بعد حيضة كاملة. والطهر الأول لم يكن بعد حيضة كاملة؛ لأن الطلاق كان في بضاعتها وإنما الطهر الثاني بعد حيضة كاملة فلذلك جعل له أن يطلق فيه, والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: " ولو لم يدخل بها أو دخل بها وكانت حاملًا أو لا تحيض من صغر أو كبر فقال أنت طالق ثلاثًا للسنة أو للبدعة طلقت مكانها لأنها لا سنة في طلاقها ولا بدعة". قال الماوردي: اعلم أن النساء ضربان: ضرب لا سنة في طلاقهن ولا بدعة وضرب يتعلق بطلاقهن حكم السنة والبدعة. فأما اللاتي لا سنة في طلاقهن ولا بدعة فأربع. إحداهن: الصغير التي لم تحض, والثانية: التي قد يئست من الحيض, والثالثة: الحامل, والرابعة: غير المدخول بها, وقد ذكرنا المعنى في أن لا سنة في طلاقهن ولا بدعة مع المختلعة التي وإن كانت بالحيض والطهر من أهل السنة والبدعة, فقد صرف الخلع طلاقها عن أن تكون لسنة أو بدعة. وأما التي يتعلق بحكمها بطلاقها حكم السنة والبدعة فهي المدخول بها إذا كانت حاملًا من ذوات الحيض والطهر, فتصير من أهل السنة والبدعة في الطلاق باجتماع ثلاثة شروط. أن تكون مدخولًا بها, وأن تكون حاملًا, وأن تكون من ذوات الأقراء بالحيض والطهر. فرع فإذا تقرر ما وصفناه فهذه المسألة مصورة على طلاق من لا سنة في طلاقها ولا بدعة من النساء الأربع, الصغيرة, والمؤيسة, والحامل, وغير المدخول بها فإذا قال لواحدة منهن أنت طالق للسنة طلقت في الحال ولم يكن طلاق سنة؛ لأنها ليست من أهل السنة فيراعى ذلك فيها وهكذا لو قال لواحدة منهن أنت طالق للبدعة طلقت في الحال ولم يكن طلاق بدعة؛ لأنها ليست من أهل البدعة حتى يراعى ذلك فيها, فإن قيل: فهلا

انتظر بها حتى تصير من أهل السنة والبدعة فتطلق للسنة أو البدعة, كما انتظر بالحائض إذا قيل لها: أنت طالق للسنة أن تطهر فتصير من أهل السنة قيل: لأن ذات الحيض في الطهر من أهل السنة والبدعة, فانتظر بطلاقها أن تكون للسنة أو البدعة, وهؤلاء الأربع لسن من أهل السنة والبدعة فلم ينتظر بطلاقهن ما لا يتصفن به من سنة ولا بدعة كما أن الأجنبية لما لم تكن من أهل الطلاق لم ينتظر بها عقد النكاح لوقوع الطلاق. فرع فلو قال لإحدى هؤلاء الأربع أنت طالق للسنة إذا صرت في الطلاق من أهل السنة روعي ذلك فيمن أمكن مراعاته فيها, وانتظر بها أن تصير من أهل السنة؛ لأنه طلاق مقيد بشرط فلم يقع قبل وجود الشرط, والفرق بين الأمرين أن هذا شرط للطلاق فانتظر. وذلك صفة للطلاق فلم ينتظر, وإذا كان كذلك فإن كانت صغيرة انتظر بها أن تحيض ثم تٌطهر فتُطلق, وإن كانت حاملًا انتظر بها أن تضع حملها وينقضي نفاسها وتُطهر فتطلق وإن كانت غير مدخول بها انتُظر بها أن يجامعها, وينقضي طهر المجامعة والحيض الذي بعده ثم تطهر فتُطلق. فأما المؤيسة فلا ينتظر بها ذلك, لأنه غير ممكن فيها, فلا يقع الطلاق عليها وعلى هذا لو قال لإحدى هؤلاء الأربع أنت طالق للبدعة, إذا صرت في الطلاق من أهل البدعة روعي ذلك. فإن كانت صغيرة انتظر بها أن تحيض فتُطلق وإن كانت غير مدخول بها انتظر بها أن يجامعها فتطلق سواء جامعها في طهر أو حيض, لأنها تصير بعد جماعة من أهل البدعة في الحالتين. وإن كانت حاملًا انتظر بها أن تضع حملها ثم تطلق في أول نفاسها, فإن الغسل في أحد الوجهتين أو بسقوطه عنها في الوجه الثاني؛ لأن الغسل إن وجب فلوضع الحمل الجاري مجرى الإنزال لا إنه لأجل النفاس. فرع فلو قال لإحدى هؤلاء الأربع أنت طالق للسنة, وقال: أردت بنيتي أنها تطلق إذا صارت من أهل السنة لم يقبل ذلك منه في ظاهر الحكم, ولزمه الطلاق معجلًا لغير السنة, ودين فيما بينه وبين الله تعالى فيما نوى, فلم يلزمه الطلاق أن تصير فيه من أهل السنة وجرى ذلك في مجرى قوله أنت طالق وقال: أردت بذلك إن دخلت الدار لم يقبل منه في ظاهر الحكم, ودين فيما بنيه وبين الله تعالى في الباطن, فلم تطلق إلا بدخول الدار, وهكذا لو قال لإحداهن أنت طالق للبدعة وقال: أردت بنيتي أنها تطلق إذا صارت من أهل البدعة لم يقبل منه في ظاهر الحكم وألزم تعجيل الطلاق, ودين في الباطن ولم يلزمه الطلاق إلا أن تصير إلى تلك الحال.

ولو قال لإحدى هؤلاء الأربع أنت طالق للسنة إن كان يقع طلاق السنة, فهذا على ضربين: أحدهما: أن يقول ذلك مع الشك في حالها؛ لأنه شك في الصغيرة هل حاضت أو لم تحض؟ أو شك في الحمل هل هو حمل أو غلط أو شك في المؤيسة هل انقطع حيضها أو تأخر أو شك في غير المدخول بها هل كان قد دخل بها أو لم يدخل؟ فلا طلاق عليه في الحال ولا إذا صارت من أهل السنة في ثاني حال؛ لأنه علق ذلك بوجود الشرط في الحال. والضرب الثاني: أن يقول ذلك وهو على يقين أنها ليست في الطلاق من أهل السنة ففيه وجهان: أحدهما: أنه شرط ملغي لاستحالته ويقع الطلاق في الحال. والوجه الثاني: أنه معتبر مع استحالته فلا يقع الطلاق في الحال ولا أن صارت من أهل السنة في ثاني حال كما لو قال: أنت طالق إن صعدت السماء لم تطلق وإن علق بشرط مستحيل وهكذا لو قال لإحداهن: أنت طالق للبدعة إن كان يقع عليك طلاق فإن كان مع الشك فيهن لم يقع الطلاق, وإن كان مع اليقين فعلى وجهين. فرع ولو قال لإحدى هؤلاء الأربع أنت طالق للسنة في الحال؛ لأنه قد جمع بين صفتين متضادين يستحيل اجتماعهما في النساء عمومًا وانفرادهما في هؤلاء خصوصًا فألغيت الصفتان وعجل وقوع الطلاق, ولو قال لإحداهن: أنت طالق للسنة ولا للبدعة طلقت في الحال وهي منصفة بهذا الحكم لأنه لا سنة في طلاقها ولا بدعة. فرع وإذا رأت الحامل دمًا يضارع الحيض صفة وقدرًا, فقال لها: أنت طالق للسنة أو قال: للبدعة, فهو على اختلاف قول الشافعي في الدم على الحمل, هل يكون حيضًا أم لا؟ فعلى قوله في القديم, لا يكون حيضًا ويكون دم فاسد. فعلى هذا يكون كطلاق الحامل ذات النقاء, إن قال لها: أنت طالق للسنة, طلقت في الحال, سواء كانت في حال الدم أو في وقت انقطاعه, ولم يكن طلاق سنة, وإن كان قال أنت طالق للبدعة طلقت في الحال ولم يكن طلاق بدعة. والقول الثاني: وهو قوله في الجديد: أن دم الحامل إذا ضارع الحيض في الصفة والقدر كان حيضًا, فعلى هذا إن قال لها أنت طالق للسنة نظر, فإن كان بعد انقطاع حيضها طلقت, وإن كان في وقت حيضها ففي وقوع طلاقها وجهان. أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي: أنها لا تطلق فيه لكونه حيضًا فصار كحيض الحائض. والوجه الثاني: وهو قول أكثر أصحابنا: أنها تطلق فيه بخلاف حيض الحائل؛ لأن

الحائل تعتد بالطهر دون الحيض فلذلك صار طلاقها في الحيض بدعة. والحامل تعتد بوضع الحمل دون الطهر والحيض فلم يكن طلاقها في بدعة, وعلى هذا لو قال لها وهي تحيض على الحمل أنت طالق للبدعة, فإن كان ذلك في حال حيضها طلقت في الحال وإن كان في حال طهرها فعلى ما ذكرنا من الوجهين: أحدهما: أنها تطلق في الحال إذا قيل: إن طلاقها في الحيض ليس ببدعة. والوجه الثاني: أنها لا تطلق إلا في الحيض, إذا قيل: إن طلاقها في الحيض بدعة فعلى هذا لو لم تر بعد طلاقه حيضًا حتى ولدت, طلقت في نفاسها بعد الولادة, لأننا قد أثبتنا على هذا الوجه حكم هذه الصفة فلذلك وجب انتظارها, ولكن لا يختلف أصحابنا إن وطئها في طهرها على الحمل لا يكون الطلاق فيه طلاق بدعة وهذا يقتضي أن يكون طلاقها في الحيض لا يكون طلاق بدعة. فرع وإذا تزوج حاملًا من زنا صح نكاحها عندنا, وجاز له وطؤها في حملها وإن خالفنا فيه مالك فإن طلاقها للسنة, فإن لم يكن قد دخل بها تعجل طلاقها؛ لأن غير المدخول بها لا سنة في طلاقها ولا بدعة, فإن دخل بها لم يتعجل طلاقها وانتظر بها أن تضع حملها وينقضي نفاسها, فتطلق في أول طهرها بعد النفاس, بخلاف الحامل منه. والفرق بين الحامل منه وبين الحامل من زنا حيث لم يكن في طلاق الحامل سنة ولا بدعة وكان في طلاق الحامل من زنا سنة وبدعة لأنه إذا طلق الحامل منه اعتدت بوضعه فارتفعت السنة والبدعة في طلاقها. وإذا طلق الحامل من زنا لم تعتد من بوضعه واعتد بالأقراء فتثبت السنة والبدعة في طلاقها, فعلى هذا لو كانت تحيض على الحمل, فإن لم نجعله على قوله في القديم حيضًا لم نعتبره, وإن جعلناه حيضًا على قوله في الجديد اعتبرناه, فإذا طهرت منه على الحمل طلقت للسنة. وعلى هذا لو قال لها: أنت طالق للبدعة, وقد جامعها على حملها, وقع عليها في الحال طلاق البدعة, لأن حكم هذا الحمل ملغي, وهو طهر قد جومعت فيه, فكان الطلاق فيه طلاق بدعة, ولو حاضت عليه بعد جماعه, وجعلناه حيضًا, وطهرت منه ثم طلقها للبدعة لم تطلق إلا أن تحيض على الحمل فتطلق أو يطأها في هذا الطهر فتطلق, أو تضع حملها وتصير في نفاسها فتطلق, لأن الطلاق في الحيض بدعة, وفي طهر الجماع بدعة, وفي النفاس بدعة, والله أعلم بالصواب. فرع ولو قال لزوجته وهي حامل منه إذا ولدت ولدًا فأنت طالق للسنة فلا طلاق عليه قبل الولادة, فإذا ولدت لم تطلق حتى ينقضي نفاسها, لأنه جعله بالولادة واقعًا للسنة فلذلك روعي انقضاء نفاسها, فلو كانت المسألة بحالها فولدت ولدين طلقت بعد الأول

وقبل وضع الثاني, لأنها بوضع الأول قد وجد شرط طلاقها, وصارت مع بقاء الثاني حاملًا, والحامل إذا طلقت للسنة وقع طلاقها في الحال, لأنه لا سنة في طلاقها ولا بدعة. مسألة: قال الشافعي: "وإن كانت تحيض فقال لها أنت طالق ثلاثًا للسنة فإن كانت طاهرًا من غير جماع طلقت ثلاثًا معًا وإن كانت مجامعة أو حائضًا أو نفساء وقع عليها الطلاق حين تظهر من الحيض أو النفاس وحين تظهر المجامعة من أول حيض بعد قوله وقبل الغسل وإن قال نويت أن تقع في كل طهر طلقة وقعن معًا في الحكم وعلى ما نوى فيما بينه وبين الله". قال الماوردي: وإذا قد مضى طلاق من لا سنة في طلاقها ولا بدعة, فهذه المسألة مقصورة على طلاق ذات السنة والبدعة من ذوات الحيض والطهر, وهو الضرب الثاني من النساء وهو أن يجتمع فيها ما قدمنا من الشروط الثلاثة. أن تكون مدخولًا بها, وأن تكون حائلًا, وأن تكون من ذوات الحيض والطهر. فإذا قال لهذه التي قد تكامل فيها شروط السنة والبدعة أنت طالق للسنة لم يخل حالها من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن تكون في طهر لم تجامع فيه, فيقع طلاقها في الحال؛ لأنه طلاق للسنة. والقسم الثاني: أن تكون حائضًا فلا طلاق عليها في حال الحيض فإذا انقضى بقية حيضها طلقت بدخولها في أول الطهر قبل الغسل, سوء انقطع الحيض لأقله أو لأكثره. وقال أبو حنيفة إن انقطع حيضها لأكثره طلقت قبل الغسل, وإن انقطع حيضها لأقله لم تطلق إلا بعد الغسل, وهذا خطأ, لأن ما وقع فيه طلاق السنة بعد الغسل وقع فيه طلاق السنة قبل الغسل قياسًا على أكثر الحيض, وكذلك لو كانت نفساء لم تطلق في نفاسها, لأن النفاس في حكم الحيض. فإذا طهرت منه طلقت قبل الغسل مثل الحيض. والقسم الثالث: أن تكون في طهر قد جامعها فيه فلا طلاق عليها في الحال؛ لأنها من غير أهل السنة في الطلاق, فإذا انقضى بقية طهرها الذي جامعها فيه وحاضت بعده حيضه كاملة ودخلت في أول الطهر الثاني طلقت, لأنه حينئذ طلاق السنة إلا أن يجامعها في آخر الحيض وأول الطهر فلا تطلق فيه؛ لأنه بدأها وهي مجامعة وصار طهرًا جامعها فيه لا يقع فيه طلاق السنة, وهكذا لو فعل ذلك مع أول كل طهر لم تطلق.

فصل وإذا قال لها: أنت طالق للبدعة لم يخل حالها من الأقسام الثلاثة: أحدهما: أن تكون حائضًا فتطلق في الحال, لأن الحيض زمان البدعة وكذلك لو كانت نفساء طلقت؛ لأن النفاس كالحيض. والقسم الثاني: أن تكون في طهر جامعها فيه فتطلق, لأن طهر المجامعة زمان البدعة وسواء أنزل من جماعة أو لم ينزل إذا التقى ختاناهما, لأنه حكم يستقر به الدخول ويكمل به المهر وتجب به العدة. والقسم الثالث: أن يكون في طهر لم يجامعها فيه فلا طلاق حتى تحيض فتطلق, لأن الحيض زمان البدعة, أو يجامعها في ذلك الطهر فتطلق؛ لأن طهر المجامعة زمان لطلاق البدعة ثم يعتبر حال جماعة فيه, فإنه لا يخلو من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون حين أولج ذكره نزع وأقلع فقد طلقت بالإيلاج ولم يلزمه بعد وقوع الطلاق مهرًا بالإخراج؛ لأنه ترك. والقسم الثاني: أن يكون قد نزع بعد إيلاجه ثم استأنف الإيلاج بعده,, فعليه مهر مثلها بالإيلاج الثاني؛ لأنها طلقت بالإيلاج الأول فصار مستأنفًا للإيلاج الثاني بعد طلاق رجعي فلزمه فيه مهر المثل. والقسم الثالث: أن يكون حين أولج استدام الإيلاج ولم ينزع حتى انتهى جماعه ففي وجوب مهر المثل عليه وجهان. أحدهما: لا مهر عليه اعتبارًا بأوله فإنه كان وهي زوجة, والوجه الثاني: عليه مهر المثل اعتبارًا بآخره؛ لأنه كان وهي مطلقة. فرع وإذا قد مضى ما يقع به الطلاق السنة في زمانه, وما يقع به طلاق البدعة في زمانه, فقد استقر زمان الطلاقين فاعتبرهما فيما تفرع منهما. فإن قال: أنت طالق لا للسنة كانت طالقًا للبدعة, لأنه إذا لم يخل هذا الطلاق من هاتين الصفتين كان نفي إحداهما إثباتًا للأخرى. وهكذا لو قال: أنت طالق لا للبدعة, كانت طالقًا للسنة, لأن نفي البدعة إثباتًا لضدها ولو قال: أنت طالق للسنة أو البدعة, رجع إلى خياره ليوقع ما شاء من طلاق السنة أو البدعة؛ لأن لفظه أو موضوعه للتخيير. ولو قال: أنت طالق للسنة والبدعة طلقت في الحال لتعارض الصفتين وتنافي اجتماعهما فألغيتا: ثم ينظر في الحال: فإن كان زمان البدعة كان طلاق بدعة, وإن كان زمان السنة كان طلاق السنة, وهذا لو قال: أنت طالق لا للسنة ولا للبدعة طلقت في الحال, لأنه قد جمع في النفي بين صفتين لابد من وجود إحداهما فسقط حكم نفيه

وتعجل وقوع الطلاق فإن كان زمان السنة كان طلاق سنة, وإن كان زمان البدعة كان طلاق بدعة. ولو قال: أنت طالق في السنة وأنت طالق بالسنة كان كقوله أنت طالق للسنة, فيقع عليها طلاق السنة, ولو قال: أنت طالق بالبدعة أو أنت طالق في البدعة كان كقوله: أنت طالق للبدعة فيقع عليها طلاق البدعة, ولو قال: أنت طالق طلاق الحرج فقد حكي ابن المنذر عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه طلاق الثلاث, وليس للشافعي فيه نص, لكن قياس مذهبه أن يكون طلاق بدعة, فيقع عليها طلاق البدعة, ولو قال: أنت طالق للساعة وقع عليها طلاق السنة. فرع ولو قال لها: أنت طالق طلقتين إحداهما للسنة والأخرى للبدعة, وقعت إحدى الطلقتين في الحال, لأنه لا يخلو أن تكون حال سنة أو بدعة, فإن كانت حال سنية كانت الأولى سنية فوقعت الثانية في زمان البدعة, وإن كانت حال بدعة كانت الأولى بدعية فوقعت الثانية في زمان السنة. ولو قال: أنت طالق طلقتان للسنة والبدعة احتمل وجهين: أحدهما: أن يجعل إحداهما للسنة والأخرى للبدعة إثباتًا لحكم الصفتين, لأنه إذا أمكن اجتماعهما لم يسقطا. والوجه الثاني: أن تلغي الصفتان ويعجل إيقاع الطلقتين, لأن الظاهر من الصفتين عودهما إلى جميع الطلقتين, فلم يجز أن يفيد المطلق كما لم يجز أن يطلق المقيد. فرع ولو قال: أنت طالق ثلاثًا للسنة فهي مسطور المسألة فتقع الثلاث معًا في زمان السنة ولا يتفرقن في ثلاثة أطهار؛ لأن السنة والبدعة عندنا في زمان الطلاق لا في عدده. وقال أبو حنيفة ومالك: يتفرق الثلاث في ثلاثة أطهار, ولا يقع في طهر واحد, لأن السنة والبدعة عندهما في الطلاق وفي عدده وقد مضى الكلام معهما. فعلى هذا لو قال: أردت أن يتفرقن في ثلاثة أطهار فيقع في كل طهر واحدة لقول أبي حنيفة ومالك, فهذا محتمل وهو مخالف للظاهر, فلا يقبل منه في ظاهر الحكم ويقبل منه فيما بينه وبين الله تعالى, فيدين فيه فلا يقع في باطن الحكم إلا على ما نوى, وإن وقع في ظاهر الحكم معجلًا, وهكذا لو قال لها: أنت طالق ثلاثًا ثم قال: أردت للسنة, فإن كانت الحال وقتًا لطلاق السنة طلقت في الحال ثلاثًا للسنة في ظاهر الحكم وباطنه, وإن كانت الحال وقتًا لطلاق البدعة, فقد ذكر محتملًا يخالف ظاهر الإطلاق, فيقع الطلاق معجلًا في ظاهر الحكم اعتبارًا بظاهر الطلاق, ولا يقع في باطن الحكم وفيما بينه وبين الله تعالى إلا على ما نوى من طلاق السنة إذا جاء

زمان السنة, ولو قال: أنت طالق ثلاثًا للسنة ثم قال سبق لساني بقول السنة وإنما أردت طلاق الثلاث على الإطلاق قبل منه وقع الطلاق الثلاث سواء كان للسنة أو للبدعة, لأنه وإن خالف ظاهر لفظه فهو أغلظ عليه وأضر به, ومن يبين الأخف بالأغلظ قبل منه ظاهرًا وباطنًا, ومن بين الأغلظ بالأخف لم يقبل منه في الظاهر, وإن قبل منه في الباطن إذا كان محتملًا. مسألة: قال الشافعي: "ولو كان قال في كل قرء واحدة فإن كانت طاهرًا حبلى وقعت الأولى ولم تقع الثانية إن كانت تحيض على الحبل أو لا تحيض حتى تلد ثم تظهر فإن لم يحدث لها رجعة حتى تلد بانت بانقضاء العدة ولم يقع عليها غير الأولى". قال الماوردي: وصورتها في رجل قال لامرأته: أنت طالق ثلاثًا في كل قرء واحدة فقد صرح بتفريق الثلاث في ثلاثة أقراء, فلا يقعن إلا هكذا, فإذا كان كذلك فلا يخلو حال المرأة من أحد أمرين, إما أن تكون من أهل السنة والبدعة, أو لا تكون منهن. فإن كانت من أهل السنة والبدعة فلا يخلو حالها من أن تكون حائضًا أو طاهرًا, فإن كانت حائضًا لم تطلق في حال حيضها حتى إذا طهرت طلقت في أول طهرها؛ لأنه أو زمان السنة, فإذا حاضت الحيضة الثانية ودخلت في أول الطهر الثاني طلقت طلقة ثانية, سواء راجع بعد الأولى أو لم يراجع, فإذا حاضت الحيضة الثالثة ودخلت في أول الطهر الثالث, طلقت طلقة ثالثة, سواء راجع بعد الثانية أو لم يراجع. فأما العدة فإن لم يكن قد راجعها بنت على عدة الطلقة الأولى, فإذا انقضى الطهر الثالث بدخول الحيضة الرابعة فقد انقضت عدتها وحلت للأزواج, وإن راجعها لم يخل حاله بعد الرجعة من أن يطأها فإن وطئها استأنفت العدة بعد الطلقة الثالثة التي بعد رجعته, ووطئه ويكون ذلك الطهر الذي وقعت فيه الطلقة الثالثة قرءًا واحدًا فتأتي بعده بقرأين, وإن لم يطأها بعد رجعته فهل تبني على العدة أو تستأنها على قولين: أحدهما: أنها تبنى على عدة الطلقة الأولى, لأن الرجعة قد بطلت بما تعقبها من الطلاق. والقول الثاني: أنها تستأنف العدة من الطلقة الثالثة؛ لأن الرجعة قد أبطلت ما تقدمها من الطلاق. فإما إذا كانت عند الطلاق طاهرًا طلقت في الحال واحدة, لأن بقية هذا الطهر قرء وسواء كان قد وطئها في هذا الطهر أم لا, لأن طهر الجماع قرء يقع به الاعتداد كما تعتد بطهر ليس فيه جماع, إلا أم الطلقة في طهر الجماع تكون بدعية. وفي طهر غير الجماع تكون سنية, وهو إنما علق بالطلاق بالقرء لا بالسنة فلذلك روعي ما يكون قرءًا وإن لم يكن الطلاق فيه للسنة, فإذا وقعت الطلقة الأولى في الطهر الأول لم يحل له جماعها إن لم يراجعها وإن راجعها فيه حل له جماعها فهي بقية

طهرها فإذا حاضت حرم عليه جماعها في الحيض, فإذا دخلت في أول الطهر الثاني طلقة ثانية وحرم عليه جماعها فيه إن لم يراجعها, وإن راجعها فيه حل له جماعها في بقيته فإذا حاضت الحيضة الثانية, حرم عليه جماعها في حيضها, فإذا دخلت في الطهر الثاني طلقت ثالثة وحرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره. فأما العدة فعلى ما ذكرنا, فإن لم تراجع بنت على عدة الطلقة الأولى وانقضت عدتها بانقضاء الطهر الثالث, وإن راجعها فإن جامعها بعد الرجعة استأنف العدة من وقت الطلقة الثالثة, وإن لم يجامعها فعلى ما مضى من القولين. أحدهما: يبني على عدة الطلقة الأولى, والقول الثاني: يستأنف العدة من وقت الطلقة الثالثة, فلو قال لها في آخر طهرها: أنت طالق في قرء واحدة ثم حاضت قبل تمام كلامه أو مع تمامه من غير أن يتصور فيهما طهر منفصل. قال أبو العباس بن سريج: تطلق فيه وتعتد به قرءًا لوجود الطلاق فيه, وهذا خطأ, بل لا يقع فيه الطلاق ولا يقع به اعتداد؛ لأن وقوع الطلاق بالكلام إنما يكون بعد تمام الكلام لا بأوله ألا تراه لو قيده بقيمة كلامه بشرط كان الطلاق محمولًا على ذلك الشرط ولو وقع بأوله ما حمل على شرط آخر, ولم يجد بعد تمام كلامه طهرًا يكون قرءًا, فيكون شرطًا لوقوع الطلاق ولذلك لم تطلق. فرع وأما الحال الثانية وهو أن تكون من غير أهل السنة والبدعة وذلك بأن تكون واحدة من أربع: إحداهن: أن تكو غير مدخول بها فتطلق واحدة في الحال طاهرًا كانت أو حائضًا, وقد بانت بها لأنه لا عدة عليها ومن لا عدة عليها فلا قرء لها فتجري مجرى طلاقها للسنة فيقع الطلاق عليها في الحال, وإن لم تكون للسنة, فإن لم يتزوجها حتى مضى لها بعد الطلقة الأولى طهران انحل طلاقه فيما بقى من الطلقتين, وإن تزوجها قبل مضي الطهرين فعود طلاقه فيما بقي من الطلقتين, وإن تزوجها قبل مضي الطهرين فعود طلاقه على قولين؛ لأنه عقد طلاق في نكاح وجد شرطه في غيره. والثانية: أن تكون حاملًا فتقع عليها في الحال طلقة واحدة, لأن الحمل قرء معتد به وتكون طلقة لا سنة فيها ولا بدعة, فلو كانت تحيض على حملها لم تطلق في الأطهار التي بين حيضها سوى الطلقة التي وقعت بحملها, سواء حكم له بحكم الحيض أم لا؛ لأنه وإن كان حيضًا فليست أطهاره أقراء يعتد بها, وإذا لم تطلق إلا واحدة بالحمل فإن لم يراجعها حتى وضعت فقد انقضت عدتها وبانت, فإن استأنف نكاحها بعد مضي طهرين من حملها لم يعد عليها طلاق, وإن استأنفه قبل مضي الطهرين ففي عود طلاقه قولان على ما ذكرناه. وإن راجعها قبل وضعها فإذا طهرت بعد نفاسها طلقت ثانية, فإذا حاضت ودخلت في الطهر الثاني طلقت ثالثة, فإن لم يراجع اعتدت من الطلقة الثانية, وإن راجع

ووطء اعتدت من الطلقة الثالثة, وإن راجع ولم يطأ فعلى ما مضى من القولين. والثالثة: أن تكون صغيرة قد دخل بها فتطلق في الحال واحدة, فإن لم يراجعها حتى مضت أربعة أشهر فقد بانت بها, وإن راجع قبل مضي ثلاثة أشهر ولم تطلق بعد رجعته ما لم تحض؛ لأنه قد وقع طلاقها فيه, فإذا حاضت ثم طهرت طلقت ثانية, فإذا حاضت ودخلت في الطهر الثاني طلقة ثالثة وحرمت عليه إلا بعد زوج والكلام في العدة عليها مضى. والرابعة: أن تكو مؤيسة فتطلق في الحال واحدة كالصغيرة, فإن لم يراجعها حتى مضت ثلاثة أشهر فقد انقضت عدتها وبانت, ولو تزوجها لم يعد الطلاق قولًا واحدًا؛ لأنها في طهر قد وقع طلاقها فيه, وإن راجعها كانا على النكاح ولا تطلق بالطهر بعد الرجعة؛ لأنه هو الطهر الذي وقع فيه الطلاق الأول ولا يتصور مع الإياس أن تحيض, فإن حاضت فهي غير مؤيسة فتطلق إذا طهرت من حيضها طلقة ثانية, ثم تطلق ثالثة في طهر إن كان لها بعد حيضة أخرى. فرع: في تعليق الطلاق بالطهر وإذا قال لها وهي حائض: إذا طهرت فأنت طالق طلقت بعد انقطاع دمها بدخولها في أول الطهر, سواء انقطع دمها لأقل الحيض أو لأكثره, وسواء اغتسلت أو لم تغتسل, ويكون طلاق سنة, ولو قال لها وهي طاهر إذا طهرت فأنت طالق, لم تطلق في هذا الطهر حتى تدخل في طهر مستقبل, وذلك بأن تحيض بعد الطهر ثم تطهر فتطلق بدخولها في أول الطهر الثاني؛ لأن لفظة إذا موضوعة للمستقبل, ألا تراه لو قال يا زيد إذا جئتني فلك دينا وهو عنده لم يستحق الدينار حتى يستأنف المجيء إليه بعد هذا القول, ولكن لو قال لها إن كانت طاهرًا فأنت طالق, فإن كانت في الحال طاهرًا طلقت, وإن كانت حائضًا لم تطلق في الحال إلا إذا طهرت؛ لأنه جعل وجود طهرها في الحال شرطًا في وقوع الطلاق ألا تراه لو قال لها: إن كنت في الدار فأنت طالق فكانت في غير الدار لم تطلق بدخول الدار, ولو قال لها: إذا طهرت طهرًا فأنت طالق فإن كانت في الحال حائضًا, فإذا مشى عليها بعد هذا الحيض طهر كامل ودخلت في أول الحيضة الثانية طلقت وكان طلاق بدعة لوقوعه في الحيض, وإن كانت في الحال طاهرًا فإذا مضى بقية طهرها وحيضة بعدها ثم طهر كامل ودخلت في أول الحيضة الثانية طلقت وكان طلاق بدعة, وإنما كان كذلك, لأن قوله إذا طهرت طهرًا يقتضي كمال طهر مستقبل, ولو قال لها أنت طالق في طهرك, فإن كانت في تلك الحال طاهرًا طلقت, وإن كانت حائضًا طلقت إذا طهرت فيقع الطلاق في هذا بالطهر في الحال وبالطهر المستقبل وإذا وقع الطلاق بالطهر في الحال لم يقع بالطهر المستقبل؛ لأن وجود الشرط قد (استوفى) حكمه.

فرع: في تعليق الطلاق بالحيض وإذا قال لها وإذ هي طاهر إذا حضت فأنت طالق طلقت بدخولها في أول الحيض ويكون طلاق بدعة, فإذا رأت الدم في زمان العادة فالظاهر أنه أول الحيض فيحكم بوقوع الطلاق, فإن استدام يومًا وليلة تحقق وقوعه, وإن انقطع لأقل من يوم وليلة بان أنه لم يكن حيضًا وأن الطلاق لم يقع, وإن رأت الدم قبل وقت العادة فالظاهر أنه ليس بحيض, وأن الطلاق لم يقع, وإن استدام يومًا وليلة بان أنه كان حيضًا وأن الطلاق وقع بأول الدم, ولو قال لها وهي حائض: إذا حضت فأنت طالق, لم تطلق في بقية حيضها حتى تطهر منها ثم تحيض بعد طهرها فتطلق كما ذكرنا في الطهر, ويكون طلاق بدعة, ولو قال لها: إذا حضت حيضة فأنت طالق, فإن كانت طاهرًا: فإذا مضى بقية طهرها ثم حيضة كاملة بعدها ثم دخلت في أول الطهر الثاني طلقة وكان طلاق سنة. ولو كانت حائضًا فإذا مضى بقية حيضها ثم طهر كامل ثم حيضة كاملة ثم دخلت في أول الطهر الثاني طلقت, وكان طلاق سنة, ولو قال لها: إن كنت حائضًا فأنت طالق, فكانت طاهرًا لم تطلق في الحال ولا إذا حاضت في ثاني حال, ولو قال لها أنت طالق في حيضك طلقت بالحيض في الحال. فإن لم تكن فبالحيض المستقبل كما قلنا في الطهر, فلو قال: كلما حضت فأنت طالق طلقت بدخولها في الحيضة الأولى طلقة واحدة, وبدخولها في الحيضة الثانية طلقة ثانية, وبدخولها في الحيضة الثالثة طلقة ثالثة, لأن لفظ كلما موضع للتكرار, ويكون الثلاث كلهن طلاق بدعة وتنقضي عدتها بدخولها في الحيضة الرابعة, لأن لها في الثلاث حيض طهرين فتأتي بالطهر الثالث وانقضاؤه يكون بدخولها في الحيضة الرابعة, ولو كان قال لها كلما حضت حيضة فأنت طالق, طلقت ثلاثًا بدخولها في الطهر الثالث وانقضت عدتها بدخولها في الحيضة الرابعة, ويكون هذا طلاق سنة, لأنه يقع في أول كل طهر. فرع آخر منه: وإذا قال لها: إذا حضت فأنت طالق فقالت: قد حضت فإن صدقها فيه طلقت, وإن أكذبها فقولها فيه مقبول على نفسها, وله إحلافها, وقد طلقت, ولو قال لها: قد حضت؟ فقالت: لم أحض طلقت بإقراره ولو قال لها: إذا حضت فضرتك عمرة طالق, فقالت: قد حضت, فإن صدقها طلقت ضربتها, وإن أكذبها لم تطلق ضرتها, لأن قولها في حيضها وإن كان مقبولاً على نفسها، مع تكذيب الزوج فهو غير مقبول على غيرها إلا بتصديق الزوج. كالمودع يقبل قوله في الوديعة هلة ما ذكرنا ولا يقبل قوله في ردها على غيره. فلو قال لها: إذا حضت فأنت وضرتك طالقتان فقالت قد حضت فإن صدقها طلقت هي وضرتها، وإن أكذبها طلقت هي. ولم تطلق ضرتها لأن قولها على نفسها مقبولًا وعلى ضرتها غير مقبول, فإن صدقتها الضرة على الحيض لم يؤثر تصديقها, لكن لها إحلاف الزوج على تكذيبها, وهو مخير في يمينه بين أن يحلف أن تلك لم تحض أو يحلف أن الضرة لم تطلق؛ لأن المقصود بالحيض

وقوع الطلاق في أن تكون اليمين معقودة عليه. فرع آخر منه: ولو قال وله زوجتان: إذا حضتما فأنتما طالقتان, فإن حاضت إحداهما لم تطلق واحدة منهما, وإن حاضتا طلقتا, فلو قالتا قد حضنا, فإن صدقهما طلقتا, وإن أكذبهما لم يطلقا, لأن طلاق كل واحدة منهما بحيضها فحيض ضرتها, وقولها وإن كان مقبولًا ف على نفسها فقول ضرتها غير مقبول عليها, فلو صدق إحداهما وكذب الأخرى, طلقت المكذبة دون المصدقة؛ لأن المكذبة قولها مقبول على نفسها, وقد صدق عليها ضرتها فطلقت, فضرة المصدقة مكذبة عليها فلم تطلق. فلو قال وهن ثلاث إذا حضتن فأنتن طوالق, فإذا حاضت واحدة منهن أو اثنتان لم تطلق واحدة منهن, فإذا حضن معًا طلقت كلهن, فلو قلن: قد حضن فإن صدقتهن طلقن وإن كذبهن لم يطلق, وإن صدق واحدة وكذب اثنتين لم تطلق واحدة منهن؛ لأن في طلاق كل واحدة منهن مكذبة عليها, ولو صدق اثنتين وكذب واحدة طلقت المكذبة وحدها؛ لأنه قد صدق ضريتها عليها, ولا تطلق كل واحدة من المصدقتين؛ لأن في إحدى ضرتيها مكذبة. ولو كن أربعًا فقال: إذا حضتن فأنتن طوالق فقلن: قد حضنا فإن صدقهن طلقن وإن كذبهن لم يطلقن, وإن صدق واحدة وكذب ثلاثًا لم يطلقن, وكذلك لو صدق اثنتين وكذب اثنتين لم تطلق واحدة منهن؛ لأن طلاق كل واحدة يكون بحيضها وحيض ضرائرها قد كذب عليها ضرة, فلو صدق ثلاثًا وكذب واحدة طلقت المكذبة وحدها دون المصدقات؛ لأن قول المكذبة مقبول على نفسها وقد صدق ضرائرها عليها فطلقت. وكل واحدة من المصدقات قد كذب عليها واحدة من ضرائرها فلم تطلق. فرع آخر منه: وإذا كان له أربع زوجات فقال: أيتكن حاضت فضرائرها طوالق فإن حاضت واحدة منهن لم تطلق, وطلق كل واحدة من ضرائرها واحدة؛ لأن حيض كل واحدة شرط في طلاق غيرها, فإن حاضت ثانية لم تطلق هي, وطلقت الحائض الأولى واحدة, وطلقت كل واحدة في الحيضة الثانية ثانية, فإن حاضت ثالثة طلقت بها الأولى طلقة ثانية وطلقت الثانية طلقة ثانية وطلقت بها والرابعة طلقة ثالثة, فإن حاضت الرابعة طلقت بها الأولى طلقة ثالثة, وطلقت بها الثانية طلقة ثانية, وطلقت بها الثالثة طلقة ثالثة, فيطلقن ثلاثًا ثلاثًا, فلو قلن: قد حضنا فإن كذبن لم تطلق واحدة منهن, لأن طلاقها بحيض ضرائرها لا بحيضها, وإن صدق واحدة منهن وكذبت الباقيات طلقت كل واحدة من المكذبات الثلاث واحدة واحدة, لأنه قد صدق عليها واحدة, ولا تطلق المصدقة؛ لأن كل واحدة من ضرائرها مكذبة. ولو صدق اثنتين وكذب اثنتين طلقت كل واحدة من المكذبتين طلقتين؛ لأنه صدقها عليها ضرتين وطلقت كل واحدة من المصدقتين طلقة واحدة, لأنه قد صدق

عليها ضرة واحدة, ولو صدق ثلاثًا وكذب واحدة طلقت المكذبة ثلاثًا؛ لأنه قد صدق عليها ثلاث ضرائر وطلقت كل واحدة من المصدقات طلقتين؛ لأنه قد صدق عليها ضرتين, ولو صدق الأربع كلهن طلقت واحدة منهن ثلاثًا؛ لأنه قد صدق عليها ثلاث ضرائر. فرع وإذا قال لها: إذا حضت حيضة فأنت طالق واحدة, فإذا حضت حيضتين فأنت طالق اثنتين, فحاضت حيضتين طلقت ثلاثًا, بالأولى منهما طلقة؛ لأنها قد حاضت حيضة؛ وبالثانية طلقتين: لأنها قد حاضت حيضتين. ومثاله أن يقول: إن كلمت رجلًا فأنت طالق واحدة, وإن كلمت شيخًا فأنت طالق واحدة وإن كلمت زيدًا فأنت طالق واحدة فكلمت زيدًا وكان شيخًا طلقت ثلاثًا, واحدة بأنه رجل وثانية بأنه شيخ وثالثة بأنه زيد, ولو كلمت عمرًا وإن كان شابًا لم تطلق إلا واحدة بأنه رجل, ولو كان شيخًا لم تطلق الاثنتين واحدة بأنه رجل وثانية بأنه شيخ, ولكن لو قال لها: إذا حضت فأنت طالق واحدة, ثم إذا حضت حيضتين فأنت طالق اثنتين لم تطلق ثلاثًا إلا بثلاث حيض لأجل قوله, فيقع منهما بالحيضة الأولى طلقة ولا تطلق بالحيضة الثانية شيئًا, فإذا حاضت الحيضة الثالثة صارت مع الحيضة الثانية صفة لوقوع الطلقتين فتطلق حينئٍذ ثلاثًا, وإنما كذلك, لأن ثم توجب التراجي والفضل, والواو توجب الاشتراك والجمع, فلذلك فافترقا في هذين الموضعين. فرع آخر: إذا قال وله امرأتان: إذا حضتما حيضة فأنتما طالقتان ففيه لأصحابنا وجهان: أحدهما: أنه علق طلاقهما بحيضة منهما ومستحيل أن يشتركا في حيضة واحدة ولا بحيض إحداهما؛ لأنها لا تكون الحيضة منها فصار تعليق الطلاق بها لغوًا فلم تقع. والوجه الثاني: أن الشرط صحيح وتعليق الطلاق به جائز, ومعنى قوله: إذا حضتما حيضة أي إذا حاضت كل واحدة منكما حيضة فأنتما طالقتان, والكلام إذا كان مفهوم المعنى وأمكن حمله على الصحة, وإن كان على وجه المجاز لم يجز حمله على الإلغاء والفساد, فإذا حاضت كل واحدة حيضة كاملة طلقت طلاق السنة لوقوعه في أول الطهر وإن حاضت إحداهما دون الأخرى لم تطلق واحدة منهما, وأصل هذه المسألة: اختلاف المتقدمين من أصحابنا وأصحاب أبي حنيفة فيمن قال لامرأتيه إذا ولدتما ولدًا فأنتما طالقتان, فذهب الربيع بن سليمان من أصحابنا وأبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة إلى أنهما لا يلحقهما بالولاد طلاق, لأنه إن ولدت إحداهما لم يكن ذلك منهما وإن ولدتا معًا لم يكن ذلك ولدًا, فلذلك لم تطلق واحدة منهما بولادتها ولا بولادتهما, وذهب أبو إبراهيم المزني ومحمد بن الحسن إلى أن تعليق الطلاق بهما صحيح والمراد به ولادة كل واحدة منهما, فإذا ولد إحداهما لم تطلق واحدة منهما, وإن ولدتا معًا طلقتا.

مسألة: قال الشافعي: "ولو قال لامرأته أنت طالق ثلاثًا بعضهن للسنة وبعضهن للبدعة وقعت اثنتان في أي الحالين كانت والأخرى إذا صارت في الحال الأخرى قلت أنا أشبه بمذهبه عندي أن قوله بعضهن يحتمل واحدة فلا يقع غيرها أو اثنتين فلا يقع غيرهما أو من كل واحدة فيقع بذلك ثلاث فلما كان الشك القول قوله مع يمينه ما أراد ببعضهن في الحال الأولى إلا واحدة وبعضهن الباقي في الحال الثانية فالأقل يقين وما زاد شك وهو لا يستعمل الحكم بالشك في الطلاق". قال الماوردي: وصورتها في رجل قال لامرأته؛ أنت طالق ثلاثًا بعضهن للسنة وبعضهن للبدعة, فالبعض اسم مبهم يجوز أن يطلق على أقل الثلاث وعلى أكثرها, وعلى العدد الصحيح منها والمكسور, فإذا جهل بعض الثلاث للسنة وبعضها للبدعة لم يخل حاله من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يقدر بلفظه. والثالث: أن يقدر بنيته, فإن أطلق ولم يقدر بلفظه ولا بنيته اقتضى إطلاق التسوية بين البعض وإن لا يفضل أحدهما على الآخر, كما لو أقر بدار لرجلين كانت بينهما من غير تفضيل, لأنه ليس تفضيل أحدهما بالزيادة بأولى من تفضيل الآخر, فلذلك وجب التسوية بينهما, وأن يكون كل واحد من البعضين طلقة ونصفًا, فيجعل البعض الواقع في الحال طلقة ونصفًا, والطلاق لا يتبعض بل يكمل فوجب أن يقع في الحال طلقتان, فإن كانت الحال الأولى حال السنة, كانت الطلقتان للسنة, ووقعت الثالثة للبدعة, وإن كانت الحال الأولى حال البدعة كانت الطلقتان للبدعة, والطلقة الثالثة للسنة. وقال المزني: إطلاق التبعيض يقتضي تعجيل أقلهما, فلا يقع في الحال الأولى إلا واحدة؛ لأن ذلك يقين والزيادة شك, وإذا اقترن بيقين الطلاق شك لم يعمل إلا على اليقين دون الشك وهذا خطأ؛ لأن التسوية بين البعضين في الإطلاق أولى من التفضيل لما ذكرنا, وإن قدر كل واحد من البعضين بلفظ, حمل على ما قدره بلفظه سواء عجل الأكثر فأوقع في الحال الأولى طلقتين, وفي الحال الأخرى طلقة أو عجل الأقل فأوقع في الحال الأولى طلقة وفي الحال الأخرى طلقتين أو سوى بين الحالين فأوقع في الأولى طلقتين وفي الأخرى طلقة؛ لأن التقدير ملفوظ به كالطلاق فوجب أن يعمل عليه, وإن قدر كل واحد من البعضين بنيته نظر فإن نوى بأعجل البعضين أكثرهما أو التسوية بينهما عمل على نيته فوقع في الحال الأولى طلقتان, وفي الحال الثانية طلقة. وإن نوى بأعجل البعضين أقلهما, وهو أن يقع في الحال الأولى واحدة وفي الحال الثانية طلقتان ففيه وجهان: أحدهما: وهو الظاهر من مذهب الشافعي أنه يقبل منه في الظاهر والباطن, ولا يقع في الحال الأولى إلا واحدة ويقع الحال الأخرى طلقتان كما لو قدره بلفظه.

والوجه الثاني: وهو قول بعض أصحابنا: أنه لا يقبل منه في الظاهر ويلزمه في الحال طلقتان في ظاهر الحكم ويدين فيما بينه وبين الله تعالى كما لو قال: أنت طالق ثم قال بوقت إلى شهر وهذا خطأ والفرق بينهما أن البعض حقيقة وليس كذلك إطلاق الطلاق, إذا نوى أن يكون إلى شهر؛ لأن حقيقته تعجيل الطلاق فجاز أن لا يحمل في الظاهر على نيته, والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "ولو قال أنت طالق أعدل أو أحسن أو أكمل أو ما أشبهه سألته عن نيته فإن لم ينو شيئًا وقع الطلاق للسنة". قال الماوردي: إذا قال: أنت طالق أعدل الطلاق أو أكمل الطلاق أو أفضل الطلاق أو أحسن الطلاق أو أهنأه أو أسراء أو أسوأه أو أنهاه أو قال: شبه ذلك من صفات الحمد لم يخل حاله من أحد أمرين: إما أن يكون له فيه نيه أو لا نية فيه, فإن لم يكن فيه نية وجب حمله على طلاق السنة, لأنه الأعدل الأفضل الأجمل الأكمل سواء تغلظ ذلك عليه بالتعجيل أو تخفف بالتأجيل, وإن كانت طاهرًا طلقت في الحال طلاق السنة, وإن كانت حائضًا لم تطلق حتى إذا طهرت طلقت حينئذ للسنة وإن كانت له نية فعلى ضربين: أحدهما: أن تكون نيته موافقة لظاهر لفظه وهو أن ينوي طلاق السنة فيحمل على ما نوى من طلاق السنة وتكون النية تأكيدًا للظاهر؛ لأنه إذا حمل على طلاق السنة في غير نية كان أولى أن يحمل عليه مع النية. والضرب الثاني: أن تكون نيته مخالفة لظاهر لفظه, وهو أن يريد به طلاق البدعة لأنه اعتقد أن الأعدل مع قبح طريقها, والأجمل بسوء خلقها, أن يطلق للبدعة فهذا على ضربين. أحدهما: أن يكون ذلك أغلظ حاليه بأن تكون حائضًا أو مجامعة فيحمل على طلاق البدعة, ويقع الطلاق في الحال؛ لأنه أغلظ. والضرب الثاني: أن يكون ذلك أخف حاليه بأن تكون في الحال طاهرًا غير مجامعة, دين فيما بينه وبين الله تعالى. وهل تقبل منه في ظاهر الحكم أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا يقبل منه في ظاهر الحكم, ولا يلزمه وقوع الطلاق إلا إذا صارت إلى حال البدعة, لأن ما ذكره من التأويل قد يحتمل أن يعدل بظاهر اللفظ إليه ثم لا يلزمه في ذلك إلا طلقة واحدة ما لم يرد أكثر منها. فإن قيل فيه إذا قال: أنت طالق أكمل الطلاق يلزمه الثلاث لأنها أكمل الطلاق قيل: الثلاث هي أكمل الطلاق عددًا وقد يجوز أن يريد أكمل الطلاق صفة وحكمًا, فلم يجز أن يحمل على كمال العدد دون الصفة إلا بنية؛ لأن الثلاث زيادة فلم تقع إلا

باليمين ولكن لو قال أنت طالق أكثر الطلاق وقع ثلاثًا؛ لأن الكثرة لا تكون إلا في العدد, دون الصفة, ولو قال: أنت طالق أكثر الطلاق كان واحدة ولم يكن ثلاثًا إلا بالنية, لأنه الأكثر قد يعود إلى الصفة كما يعود إلى العدد, والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي: "ولو قال أقبح أو أسمج أو أفحش أو ما أشبهه سألته عن نيته فإن لم ينو شيئًا وقع للبدعة". قال الماوردي: وهذا نصه ما تقدم من صفة الطلاق بصفات الحمد فإذا قال لها: أنت طالق أقبح الطلاق أو أسمج الطلاق أو أفحش الطلاق أو أردأه أو أنداه أو أضره أو أنكره أو أمره, أو ما أشبه ذلك من صفات الذم, فإن لم تكن له نية حمل على طلاق البدعة, لأنه الأسمج, الأقبح, الأضر الأمر. وإن كانت نية نظر فيها فإن وافقت ظاهر لفظه, أن يريد به طلاق البدعة حمل عليها, وكان عشرتها هو الأسمج الأقبح, فإن كان ذلك أغلظ حاليه وأعجلهما عمل عليه وقل قوله فيه, وإن كان أخف حاليه وأبعدهما دين فيه, وفي قبوله منه في الحكم وجهان: أحدهما: لا يقبل منه اعتبارًا بظاهر اللفظ. والثاني: يقبل منه لاحتمال ما ذكرنا من التأويل. فرع ولو قال: أنت طالق أشد الطلاق ولم يكن له نية طلقت في الحال من غير مراعاة سنة ولا بدعة, لأن أشد الطلاق تعجيله وتكون رجعية, وكذلك لو قال أنت طالق أطول الطلاق أو أعرض الطلاق أو أقصر الطلاق كانت واحدة رجعية؛ لأن الطلاق لا طول له ولا عرض. وقال أبو حنيفة: إذا قال: أنت طالق أكبر الطلاق أو أطول الطلاق أو أعرض الطلاق أو أشد الطلاق طلقت طلقة واحدة بائنة, ووافق في الأقصر والأصغر أنها تكون رجعية, وعندنا لا تكون الواحدة بائنة بحال إلا في غير المدخول بها, والكلام معه يأتي. مسألة: قال الشافعي: "ولو قال أنت طالق واحدة حسنة قبيحة أو جميلة فاحشة طُلقت حين تكلم". قال الماوردي: وهذا كما قال: إذا قصد الطلاق بصفتين مختلفتين فقال: أنا طالق واحدة حسنة قبيحة, أو جميلة فاحشة, أو ضارة نافعة, أو سنية بدعية وقع طلاقها في الحال, سواء كانت في حال السنة أو في حال البدعة, واختلف أصحابنا في تعليل ذلك فقال بعضهم: وهو الظاهر من تعليل الشافعي أنه وصفها بصفتين أحدهما صفة طلاق السنة والأخرى صفة طلاق البدعة, وهي في أحد الحالتين, ووقع الطلاق

عليهما بوجود إحدى الصفتين. وقال آخرون: بل العلة فيه أن تقابل الصفتين أوجب سقوطهما، لأجل المضادة فيهما فصارت الطلقة بسقوط الصفتين مطلقة، فوقع الطلاق بها في الحال، ولو قال: أنت طالق طلاق الحرج والسر، وقع الطلاق عليها في الحال، لأن طلاق الحرج هو طلاق البدعة فصار واصفاً لها بصفتين متضادتين فيقع بها الطلاق معجلاً على ما ذكرنا من اختلاف العلتين فلو قال: أردت بالحرج طلاق ثلاث وبالسنة أن يكون في كل طهر واحدة، فهذا يحتمل ظاهر كلامه أيضاَ. وهو أغلط عليه من الواحدة المعجلة فتقع ظاهراً وباطناً على ما نوى. ولو قال: أنت طالق ملئ مكة أو ملئ الدنيا، طلقت واحدة لم يرد أكثر منها. لأن الطلاق لا يشمل محلاً، فيقع في مكان دون مكان. ويكون معنى قوله: ملئ الدنيا أي يظهر ذكرها في الدنيا، وقد ظهر فيها ذكر الواحدة كظهور الثلاث. مسألة: قال الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إِذَا قَدُمَ فُلاَنٌ لِلسٌنَّةِ فَقَدُمَ فُلاَنٌ فَهِيَ طَالِقٌ لِلسٌنَّةِ". قال الماوردي: لأنه علق بطلاقها بشرط وصفة، فالشرط قدوم زيد والصفة أن يكون طلاق السنة فوجب أن تعتبر الصفة بعد وجود الشرط فلا طلاق قبل زيد، فإذا قدم فقد وجد الشرط فوجب مراعاة الصفة فإن كانت عند قدوم زيد في طهر لم تجامع فيه، طلقت حال قدومه لوجود الشرط والصفة معاً، وإن كانت حائضاً أو في طهر قد جومعت فيه، لم تطلق بوجود الشرط لعدم الصفة حتى إذا صارت في طهر لا جماع فيه، طلقت بحدوث الصفة بعد وجود الشرط ولا يعتبر اجتماع الصفة والشرط. ولكن لو قال: إذا قدم فلان وأنت من ذوات السنة فأنت طالق، لم تطلق إلا بقدوم فلان وهي في ظهر لا جماع فيه، لأنه قد جعل الصفة شرطاً، وجعل طلاقها معلقاً باجتماع شرطين، فلم تطلق بوجود أحدهما ولا بانفرادهما. ولو قال: إذا قدم زيد فأنت طالق، ولم يعلقه بسنة ولا بدعة، طلقت بقدومه طاهراً كانت أو حائضاً. لكن إن كانت طاهراً فهو طلاق سنة، وإن كانت حائضاً فهو طلاق بدعة، غير أنه يأثم به، لأنه لم يقصده. ألا ترى أن متعمد وطئ الشبهة آثم، ومن لم يتعمده غير آثم، وإذا لم يأثم لم يندب إلى الرجعة كالإثم، لأن المقصود بالرجعة قطع الإثم، ولا فرق بين قوله: أنت طالق إذا قدم زيد وبين قوله إن قدم زيد، أنها لا تطلق إلا بقدوم زيد، لأنهما جميعاً حرفا شرط. ولكن لو قال: أنت طالق إذا قدم زيد، وأنت طالق أن قدم بفتح الألف طلقت مكانها، لأنهما حرفا جزاء عن ماض سواء كان زيد قد قدم أم لا؟ لأنه إن لم يقدم بطل الجزاء وثبت الحكم.

فرع ولو قال: أنت طالق للسنة إذ جاء يوم الجمعة، فيوم الجمعة شرط وطلاق السنة صفة فإن جاء يوم الجمعة وهي في طهر لا جماع فيه طلقت، وإن كانت في يوم الجمعة حائضاً فإذا طهرت طلقت، ولو كان قال لها: أنت طالق للسنة في يوم الجمعة فإن كانت فيه طاهراً طلقت، وإن كانت حائضاً فيه لم تطلق إذا طهرت، لأنه جعل وقوع طلاقها على هذه الصفة في يوم الجمعة شرطاً، فلم يقع في غيره. ولم يجعله في المسألة الأولى شرطاً فجاز أن يقع في غيره فلذلك افترقا. فرع ولو قال لصغيرة أو حامل أو غير مدخول بها: إذا قدم زيد فأنت طالق للسنة. فإن قدم زيد قبل بلوغ لصغيرة ووضع الحامل، ووطء غير المدخول بها طلقت في الحال، لأنه لا سنة في طلاقهن ولا بدعة. وإن قدم زيد بعد حيض الصغيرة، ووضع الحامل، ووطئ غير المدخول بها، روعي فيهن طلاق السنة اعتباراً بحال الشرط لا وقت العقد، فإن كن في طهر طلقن، وإن كن في حيض لم يطلقن فيه حتى إذا طهرن طلقن والله أعلم. مسألة: قال الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ لِفُلاَنٍ طَلَّقَتْ مَكَانَهُ". قال الماوردي: أما إذا قال: أنت طالق لفلان فهي طالق في الحال، لأن معناه لأجل فلان، وأما إذا قال: أنت طالق لرضي فلان، فقد ذهب قوم إلى أن رضي فلان شرط في وقوع الطلاق، وهذا خطأ بل الطلاق واقع في الحال، لأن معناه أنك طالق لرضي فلان كقوله لعبده: أنت حر لرضي الله، أو لوجه الله، فإنه يعتق ولا يكون شرطاً، لأن معناه لرضي الله، فإن قال: أردت بقولي لرضي فلان الشرط وأن معناه إن رضي فلان فلا تطلق إن لم يرض فلان دين فيما بينه وبين الله تعالى، فلم يقع إلا أن يرضي فلان. فأما الظاهر ففيه وجهان: أحدهما: يقع الطلاق في الظاهر معجلاً اعتباراً بحكم الظاهر في الجزاء. والوجه الثاني: لا يقع في الظاهر إلا على ما نوى، إذ رضي فلان اعتباراً باحتمال الكلام في كونه شرطاً. فرع ولو قال: أنت طالق إن رضي زيد وإذا رضي زيد، صار الرضي شرطاً في وقوع الطلاق، لأن إذا وإن من حروف الشرط المستقبلية، فإن رضي زيد وقع الطلاق، وإن لم يرض لم يقع، لكن الرضي في قوله: إن رضي على الفور فإن تراخى الرضي لم يصح، وفي قوله إذا رضي على التراخي، فلو رضي ولو رضي ولو بعد طول زمان صح، لما ذكرنا قبل

من الفرق بين إن وإذا. وأما رضي زيد فلا يعرف إلا بقوله قد رضيت من غير أن يعتبر أمارات فعله كالمشيئة، لكن إن كان زيد صادقاً في رضاه وقع الطلاق في ظاهر الحكم. وهل يدين فيما بينه وبين الله تعالى وجهين: أحدهما: يدين اعتباراً بحقيقة الرضي به بالقلب. الثاني: لا يدين اعتباراً بالقول الذي لا يتحقق ما سواه. وكذلك لو قال: أنت طالق إن شاء زيد فقال زيد: شِئت كاذباً كان الطلاق واقعاً في الحكم. وهل يدين فيه أم لا؟ على وجهين، فأما إذا قال: أنت طالق إذا رضي زيداً وأن رضي زيد بفتح الألف طلقت من غير اعتبار الرضي لأنهما حرفا جزاء عن ماض. فرع ولو قال لها: أنت طالق رضي زيد وكان زيد صغيراً فرضي في صغره ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا حكم لرضاه، لأنه بالصغر خارج من أن يكون من أهل الرضا، فعلى هذا لا تطلق برضاه في صغره، من غير أهل الرضي، ولا تطلق برضاه في كبره لتراخي الرضي. والوجه الثاني: وهو ضعيف أنها تطلق بقوله في صغره: قد رضيت تغليباً لحكم الطلاق بالصفة، وهكذا لو قال لها: أنت طالق إن شاء زيد وكان زيد صغيراً فقال: قد شئت كان وقوع طلاقها على هذين الوجهين، وهكذا لو قال لها وهي صغيرة أنت طالق إن شئت فقالت: قد شئت. كان وقوع طلاقها على هذين الوجهين. ولكن لو قال للبالغ وهي سكري من شراب محرم، أنت طالق إن شئت فشاءت في سكرها طلقت لأن السكران في حكم الصاحي، ولو قال لها وهي صغيرة: أنت طالق إن دخلت الدار، فطلقت وجهاً واحداً كما لو علق ذلك بدخول من لا قصد له من حمار أو بهيمة طلقت. فرع ولو قال لها: أنت طالق إن شئت، فقالت: قد شئت إن شئت. فقال الزوج: قد شئت ففيه وجهان: أحدهما: أن الطلاق واقع لحصول مشيئتها بمشيئة الزوج. والوجه الثاني: وهو أولاهما- أن الطلاق لا يقع لأمرين: أحدهما: أن تعليق الطلاق بمشيئتها يقتضي وجود مشيئة مطلقة، وهي علقت مشيئتها بمشيئة الزوج فكانت منه غير مطلقة. والثاني: أن تعليق المشيئة بالصفة لا يجوز، لأنه لو قال لها: أنت طالق إن شئت إن قام زيد لم يصح، كذلك إذا علقت مشيئتها بمشيئة الزوج.

فصل ولو قال: أنت طالق واحدة إلا أن تشائي ثلاثاً، فقالت: قد شئت ثلاثاً لم تطلق واحدة ولا ثلاثاً، لأنه جعل وقوع الواحدة مشروطاً بأن لا تشاء ثلاثاً، فإذا شاءت ثلاثاً عدم الشرط في الواحدة فلم تقع. فأما الثلاث فالمشيئة فيها شرط في رفع الواحدة، وليس بشرط في وقوع الثلاث والله أعلم. مسألة: قال الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ قَالَ أَنْ لَمْ تَكُونِي حَامِلاً فَأَنْتِ طَالِقٌ وَقَفَ عَنْهَا حَتَّى نَمُرَّ لّهّا دَلاَلَةٌ عَلَى الْبَرَاَءَةِ مِنَ الْحَمْلِ". قال الماوردي: أما قوله: إن لم تكوني حاملاً فأنت طالق، فمعناه إن كنت حائلاً فأنت طالق، فلا يخلو إما أن تكون حاملاً أو حائلاً، فإذا نفاه عن أحدهما تعلق بالآخر. وإذا كان كذلك فالظاهر عند اشتراه حالها أنها حائل، فيحرم عليه وطئها، لأن الظاهر وقوع الطلاق عليها، وعليه أن يستبرئها بعدة حرة، ثلاثة أقراء هي أطهار. وسواء كان قد استبرأها قبل عقد طلاقة أم لا، لأن هذا استبراء طلاق في الظاهر، فلم يجز أن يعتد به قبل زمان وقوعه. وإذا كان كذلك لم يخل حالها عند انقضاء الأقراء من أن تكون مستبرئة أو غير مستبرئة. فإن كانت غير مستبرئة بانت بالظاهر، وهل تحل للأزواج قبل أن تمضي قبل أن تمضي مدة أكثر الحمل أم لا؟ على وجهين: أحدهما: أنها قد حلت في الظاهر للأزواج وإن جاز في الممكن أن يكون بها حمل، كما تحل التي نجز طلاقها إذا اعتدت بثلاثة أقراء وإن أمكن أن يكون بها حمل. والوجه الثاني: أنها محرمة على الأزواج حتى تمضي مدة أكثر الحمل وهي أربع سنين فتبين وقوع الطلاق عليها بيقين، كونها حائلاً وقت عقد طلاقها، والفرق بين هذه وبين التي نجز طلاقها فأمكن بعد الأقراء الثلاثة أن تكون حاملاً فلا تحرم على الأزواج بهذا التوهم الممكن، وتحرم في مسألتنا بهذا التوهم الممكن، أن التوهم في هذه المسألة يوقع شكاً في وقوع الطلاق، فجاز أن تحرم على الأزواج، والتوهم في الطلاق الناجز لا يوقع شكاً في وقوع الطلاق، وإنما يوقعه في العدة مع انقضائها بحكم الشرع في الظاهر، فجاز أن لا تحرم على الأزواج. فرع وإن كانت عند انقضاء الثلاثة أقراء مستبرئة بأن طهر منها أمارات الحمل وشواهده، ففي استباحة وطئها بهذه الأمارات وجهان يخرجان من اختلاف قوليه، في نفقة الحامل المعتدة: أحدهما: يستبيح وطئها بأمارات الحمل اعتباراً بالظاهر وتغليباً لحكمه.

والوجه الثاني: أنه لا يستبيح وطئها وهو على تحريمه لجواز أن يكون غلطاً وريحاً ولا يكون حملاً صحيحاً. والوطء المحظور لا يجوز أن يستباح بالشك، فعلى هذا لها حالتان: إحداهما: أن لا تضع حملاً، فالطلاق قد وقع من وقت العقد، والعدة قد انقضت بالأقراء الثلاثة من بعد العقد، فإن كان وطئها فهو وطء شبيهة، تعتد منه ثلاثة أقراء لا يملك فيها رجعة. والحال الثانية: أن تضع ولداً فلا يخلو من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن تضعه لأقل من ستة أشهر من عقد الطلاق فلا طلاق عليه لعلمنا بكونها حاملاً عند عقده، لأن الحمل لا يكون أقل من سنة. والقسم الثاني: أن تضعه لأكثر من أربع سنين، فالطلاق واقع والعدة منقضية بالأقراء الثلاثة، لأن الحمل لا يجوز أن يستديم أكثر من أربع سنين فيتعين بذلك أنها كانت عند وعقد الطلاق حاملاً فإن كان وطئها قبل الحمل، اعتدت بثلاثة أقراء، لأنه وطء شبهة. والقسم الثالث: أن تضعه ما بين ستة أشهر وأربع سنين، فللزوج حالتان إحداهما أن لا يكون قد وطئها في هذه المدة فيحكم لحملها بالتقدم، ووجوده عند عقد الطلاق فلا يقع الطلاق. والحال الثانية: أن يكون الزوج قد وطئها، فينظر في وضع الحمل، فإن وضعته لأقل من ستة أشهر من وقت الوطء لأكثر من ستة أشهر من وقت العقد فهو حمل متقدم وقت العقد فلا يقع الطلاق، وإن وضعته لأكثر من ستة أشهر من الوطء والعقد جميعاً ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنها تطلق تغليباً لحكم حدوته لا بناءً على يقين منه، وفي شك في تقدمه. والوجه الثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنها لا تطلق لجواز تقدمه، وتغليباً لحكم اليقين في بقاء نكاحه وإسقاطاً للشك في وقوع الطلاق والله أعلم. فصل فأما إذا عكس مسألة الكتاب فقال: إن كنت حائلاً فأنت طالق فهو ممنوع من وطئها حتى يستبرئها لجواز أن تكون حاملاً فتطلق، وفي هذا المنع وجهان: أحدهما: أنه منع تحريم كالمنع في قوله: إن كنت حائلاً فأنت طالق. والوجه الثاني: أنه كراهة لا تحريم وقد أشار إليه الشافعي في "الإملاء"، والفرق بين أن يعلق طلاقها بوجود الحمل فيكون المنع لكراهة لا لتحريم وبين أن يعلقه بعدم الحمل فيكون المنع منع تحريم هو أن الأصل أن لا حمل فحرم وطئها، إذا علقه بعدمه، ولم يحرم إذا علقه بوجوده. وإذا لزم استبراؤها لوطئه لم يخل حاله من أن يكون قد استبرأها قبل عقد طلاقها، أو لم يستبرأها، فإن لم يكن قد استبرأها فعليه أن

يستبريء، وفي قدر ما يستبراء به وجهان: أحدهما: بثلاثة أقراء هي ثلاثة أطهار لأن استبراء الحرة لا يكون بأقل منها كالعدة. والوجه الثاني: أنه يستبرئها بقرى واحد لأنه استبراء لاستباحة الوطء وليس باستبراء من فرقة، فجرى مجرى استبراء الأمة المشتراة والمسيبة وخالف الاستبراء في المسألة المتقدمة، لأنه استبراء الفرقة، فعلى هذا هل يكون القرء طهراً أو حيضاً؟ فيه وجهان من اختلاف الوجهين في استبراء الأمة: أحدهما: أنه الطهر. والثاني: أنه الحيض، وإن كان قد استبرأها قبل عقد طلاقه، ففي إجزائه عن استبرائه بعد عقده وجهان: أحدهما: يجزئ، لأنه قد يعلم به براءة الرحم. والوجه الثاني: أنه لا يجزئ، لتقدمه على سببه، كما لا يجزئ استبراء أمة قبل الشراء عن أن يستبرئها بعد الشراء، وإذا كان كذلك لم بخل حالها بعد الاستبراء من أن تظهر بها أمارات الحمل أو لا تظهر، فإن لم تظهر بها أمارات الحمل ولا استبرأت بنفسها بعد زمان الاستبراء فهي على الزوجية وله وطئها، وإن ظهر أمارات الحمل انتظر به حال الوضع، ولا يخلو حاله إذا وضعته من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن تضعه لأقل من ستة أشهر من وقت عقده فالطلاق به واقع لعلمنا بوجوده وقت العقد وقد انقضت العدة بانفصاله، وسواء كان قد وطئها ما بين عقد طلاقه ووضعه أم لا. والقسم الثاني: أن تضعه لأكثر من أربع سنين من وقت عقده، فلا طلاق عليه لعلمنا أنه كان معدوماً عند عقده، والولد لا حق به، سواء كان يطأ أم لا، لأنها فراش له. والقسم الثالث: أن تضعه لأكثر من ستة أشهر ولأقل من أربع سنين، فلا يخلو حال الزوج من أن يكون قد وطئ في هذه المدة أو لم يطأ، فإن لم يطأ طلقت، لعلمنا بوجود حكماً وقت العقد، وإن وطاء فلا يخلو أن تضعه قبل ستة أشهر من وطئه، أو بعدها، فإن وضعته قبل ستة أشهر من وطئه أو بعدهما، فإن وضعته قبل ستة أشهر من وقته فهو حمل متقدم عند العقد، فالطلاق واقع بوضعه منقضية، وإن وضعته بعد ستة أشهر من وطئة فقد يجوز أن يكون متقدماً، ويجوز أن يكون حادثاً، والطلاق لا يقع بالشك فلا يلزمة الطلاق وجهاً واحداً والله أعلم. مسألة: قال الشَّافِعِيُّ: " وَلَوْ قَالَتْ لَهُ طَلِقْنِي فَقَالَ كُلَّ امْرَأَةٍ لِي طَالِقٌ طُلَّقَتْ امْرَأتُةُ الَّتِي سَأَلَتْهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ عَزَلَهَا بِنِيِتَّهِ". قال الماوردي: وهذا كما قال: إذا قالت له واحدة من نسائه طلقني إما لخصومة وتغاير بين الضرائر أو لغير ذلك فقال: نسائي طوالق. فهذا على ضربين:

باب ما يقع به الطلاق من الكلام وما لا يقع إلا بالنية والطلاق من

أحدهما: أن يرسل هذا القول من غير نية في عزل واحدة منهن، فيطلقن جميعاً، السائلة وغيرها، وقال مالك: لا تطلق السائلة وتطلق من سواها، استدلالاً بأنها توجهه بالخطاب، ولو أرادها لقابلها بالمواجهة فلما عدل إلى خطاب غائب خرجت من جملتهن. وهذا خطأ من وجهين: أحدهما: أنه لما كان لو قال مبتدئاً: كل نسائي طوالق، طلقت هذه الحاضرة، وإن لم تكن سائلة في الطلاق لعمومها، لدخولها في عموم اللفظ دون سببه، فلذلك قلنا: إنهن يطلقن جميعاً فقد صار مالك في هذا الموضع تاركاً لمذهبه ومذهبنا. فأما استدلاله، بأن عدوله عن المواجهة يخرجها من الخطاب، فتفسد به إذا قال مبتدئاً، لأنها تدخل في الطلاق ولو لم يتناولها الخطاب لم تطلق. فصل والضرب الثاني: أن تكون له نية في عزل واحدة منهن فلا تطلق المعزولة منهن سواء كانت السائلة أو غيرها، ويطلق من سواها. وقال أبو حنيفة: تطلق المعزولة منهن سواء في العموم كدخولها في التعيين وهذا فاسد، لأن اللفظ يصلح لجماعتهن من غير استثناء واحدة منهن كما يصح استثناء واحدة منهن، وإذا صلح لكلا الأمرين جاز أن يصرفه إلى أيهما شاء كالعموم، وفي هذا الوجه خالف التعيين، فإذا ثبت أن طلاق المعزولة لا يقع فالظاهر من كلام الشافعي أنه لا يقع ظاهراً ولا باطناً، فإن اتهمته المعزولة أحلفته وقال أصحابنا: لا تطلق في الباطن، وفيما بينه وبين الله تعالى، ويطلق في ظاهر الحكم، لأن إطلاق القول يخالف تقييد النية، فدين فيه ولم يقبل في الحكم، والله أعلم بالصواب. بَابَ مَا يَقَعُ بِهِ الطَّلاَقُ مِنَ الْكَلاَم وَمَا لاَ يَقَعُ إِلاَّ بِالنَّيَّةِ والطَّلاَقِ مِنَ الْجَامِعِ مِنْ كِتَابِ الرَّجْعَةِ وِمِنْ كِتَابِ النٌكَاحِ مَنْ إِمْلاَءِ مَسَائِلِ مَالِكِ وَغَيْرِ ذَلِك قَالَ الشَّافِعِيُّ: رحمه اللهُ " ذَكَرَ اللهُ تعالى الطَّلاَقَ فِي كِتَابِهِ بِثَلاَثَةِ أَسْمَاءَ الطَّلاَقِ وَالْفِرِاقِ وَالسَّرَاحِ". قال الماوردي: أما الطلاق فلا يقع إلا بالكلام وما قام مقامه عند العجز عن الكلام. ولا يقع بمجرد النية من غير كلام، فلو نوى طلاق امرأته لم تطلق. وقال ابن سيرين ومالك في إحدى رواياته تطلق بمجرد النية حتى لو نوى طلاق امرأته طلقت، استدلالاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وَإِنَّمَا لِكُلَّ امْرِئ مَا نَوَى" قال: ولأنه لما وقعت الفرقة بينة الردة، جاز أن تقع الطلاق ودليلنا ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إِنَّ اللهَ تعالى وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتُ بِه بنية أَنْفُسهَا".

والنية من حديث النفس. فاقتضى أن تكون موضوعة عنه، ولأن الطلاق إزالة ملك والملك لا يزول بمجرد النية كالعتق والهبة، ولأن الطلاق أحد طرفي النكاح فلم يصح بمجرد النية كالعقد. وأما قوله عليه السلام: "إِنَمَا لِكُلَّ امْرِئ مَا نَوَى" فالمواد به ثواب قربه إلى فعلها، فلم يدخل فيه نية الطلاق، لم يفعل. فأما الردة فلأن ثبوت الردة توقع الفرقة والردة فتكون بمجرد الاعتقاد كالإيمان وليس كالطلاق. فصل فإذا صح أن الطلاق لا يقع إلا بالقول. فالألفاظ فيه تنقسم ثلاثة أسام: قسم يكون صريحاً فيه، والصريح ما وقعت به الفرقة من غير نية، وقيم يكون كناية فيه. والكناية ما وقعت به الفرقة مع النية ولم تقع به من غير نية، وقيم لا يكون صريحاً فيه ولا كناية: وهو ما لا يقع به الفرقة سواء كانت معه نية أو لم تكن. فأما صريح الطلاق فهو على مذهب الشافعي ثلاثة ألفاظ الطلاق والفراق والسراح وقال أبو حنيفة: صريج الطلاق لفظة واحدة وهي الطلاق دون الفراق والسراح استدلالاً بأن كل لفظ تعارف الناس استعماله في الطلاق وغير الطلاق، لم يكن صريحاً في الطلاق، قياساً على قوله أنت علىَّ حرام، وقد تعارف الناس استعمال الفراق والسراح في غير الطلاق، فلم يكن صريحاً في الطلاق. ودليلنا هو: أن كل لفظ ورد به القرآن قصد الفرقة بين الأزواج كان صريحاً فيها كالطلاق، وقد ورد القرآن بهذه الألفاظ الثلاثة. أما الطلاق فبقوله: {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229]. وبقولة: {ِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1]. وغير ذلك. وأما السراح فبقوله تعالى: {فَإمْسَاكُ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِحُ بِإِحُسَنٍ} وقال {فَتعالانَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} [الأحزاب: 28]. وأما الفراق فبقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2]. اعترضوا على هذه الدلالة، وهي دلالة الشافعي بخمسة أسئلة: أحدهما: أن قالوا: هذا منتقض بالفدية، قد ورد بها القرآن في الفرقة بقولة: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]. وليس بصريح في الطلاق فعنه جوابان: أحدهما: أن الفدية لفظ صريح في حكمه أنه فسخ أو طلاق على أحد القولين. والثاني: أن مقصود الفدية استباحة مالها به، بعد أن كان محظوراً قبله بقوله: {وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَاخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} [النساء: 20]. فنسخ بقوله: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229]. والسؤال الثاني: أن قالوا: الكناية قد ورد بها القرآن في العتق بقوله: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33]. والفك قد ورد به القرآن في العتق بقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13)} [البلد: 12،13]. وليس الكناية والفك من صريح العتق

وكذلك السراح والفراق جاز وإن ورد بهما القرآن أو لا يكون من صريح الطلاق، فعنه جوابان: أحدهما: ليس يلزم إذا كان ما ورد به القرآن في الطلاق صريحاً، أن يكون ما ورد به القرآن في الطلاق صريحاً ولا يكون افتراقهما فيه مانعاً من أن يختص كل واحد منهما بحكمه. والثاني: أن الكناية المراد بها العقد المكتوب بين السيد وعبده دون العتق وهي صريح فيه، وأما فك الرقبة، فلنزول ذلك سبب، وهو أن أبا الأشد بن المحيي كان ذا قوة يُدِلّ بها فأنزل الله تعالى فيه: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَد (5)} إلى قوله: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11)} [البلد: 11]. أي أنه وإن ذل بقوته فليس يقدر على اقتحام العقبة، إلا بفك رقبة، فخرج الخبر عن صفة مقتحمها، ولم يخرج مخرج الأمر فيصير بذلك معتقاً لها. السؤال الثالث: أن السراح لو كان صريحاً كالطلاق، لما سُئِلَ رَسُولُ اللهُ صلى الله عليه وسلم نُزُلِ قَوْلِهِ تعالى: {اُلطَّلَقُ مَرَتَاَنِ} عن الثَّالِثَةِ حَتَّى بَيَّنَ فَقَالَ: {أَوْ تَسْرِحُ بِإحَسَنٍ} ولكان السائل يعلم أنه صريح فيستغني عن السؤال. فالجواب عنه: أن صريح الطلاق وكنايته من الأحكام الشرعية التي تخفي عن أهل اللغة فسأله ليعلم صريح الشرع دون اللغة، وذلك مما لا يستغني عنه أحد. والسؤال الرابع: أن الطلاق إنما كان صريحاً، لأن القرآن ورد به، ولكن لأنه لا يستعمل في غير الفرقة، لذلك صار صريحاً، والفراق والسراح قد يستعملان في غير الفرقة فكانا كناية. قيل: قد يستعمل الطلاق في غير الفرقة، فيقال: فلان قد طلق الدنيا، إذا زهد فيها وطلقت فلاناً من وثاقه، وقد داعب الشافعي بعض إخوانه فقال: أذْهَب حُصَيْن فَإِن ودكَ طَالِق منَّي ولَيْسَ طَلاَق ذَاتِ البَيْنِ فما أنكر ذلك حد من أهل اللغة، فلما لم يمنع من استعمال الطلاق في غيره أن يكون صريحاً فيه، كذلك الفراق والسراح. والسؤال الخامس: أن الطلاق كان صريحاً لكثرة استعماله، والفراق والسراح يقل استعمالهما فكانا كناية، قيل: الصريح حكم شرعي فاقتضى أن يراعى فيه عرف الشرع لا عرف الاستعمال، وهما في عرف الشرع كالطلاق، وإن خالفاه في عرف الاستعمال. وقياس ثان: وهو أن إزالة الملك إذا سرى لم يقف صريحه على لفظ واحد كالعتق. وقياس ثالث: وهو أن الطلاق أحد طرفي النكاح، فوجب أن يزيد صريحه على لفظه واحدة كالعقد، وقياس رابع: وهو أن كل لفظ لا يفتقر في الطلاق عند الغضب والطلب إلى نية الطلاق كان صريحاً فيه كالطلاق، وقياس خامس: أنه أحد نوعي الطلاق فلم يقف على لفظة واحدة، كالكناية لأن الطلاق صريح وكناية.

فأما الجواب عن قياسهم فقد مضى في أجوبة الأسئلة ثم المعنى في الأصل أنه لم يرد به القرآن والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَإِنْ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ أَوْ قَدُ طَلَّقْتُكِ أَوْ فَارَقْتُكِ أَوْ شَرَّحْتُكِ لَزِمَهُ" قال الماوردي: إذا ثبت ما دللنا عليه، أن صريح الطلاق ثلاثة ألفاظ، الطلاق والفراق والسراح، فإذا قال لها: أنت طالق أو قد طلقتك، أو أنت مطلقة، أو يا مطلقة، كان كل هذا صريحاً في وقوع الطلاق. وقال أبو حنيفة: إذا قال لها: أنت مطلقة، لم يكن صريحاً، لأنه إخبار، وإذا قال لها يا نطلقة لم يكن صريحاً، لأنه نداء، وهذا خطأ، لأن إخبارها وندائها إنما يكون بحكم قد استقر عليها، ولو لم يستقر لما صح أن يكون نداء ولا خبراً، ولأن قوله أنت طالق إخبار، وهو صريح، فكذلك قوله: "أنت مطلقة"، فإذا صح أن يكون النداء صريحاً وهكذا لو قال لها: أنت مفارقة أو فارقتك، كان صريحاً في وقوع الطلاق عليها، وهكذا لو قال: أنت مسرحة أو قد سرحتك، أو يا مسرحة، كان كل هذا صريحاً في وقوع الطلاق عليها. فصل لو قال لها: أنت طالق يا مطلقة صار هذا النداء بعد تقديم الطلاق محتملاً فيرجع فيه إلى إرادته، لزيادته طلاق، أو لنداء من وقع عليها الطلاق، وكذلك نظائر هذا فصل وإذا قال لها: أنت الطلاق ففيه وجهان: أحدهما: أنه صريح يقع بغير نية اعتباراً باللفظ. والوجه الثاني: يكون كناية، لأنها تكون مطلقة، ولا يكون طلاقاً. فصل إذا قال لها رجل طلقت امرأتك هذه فقال: نعم، فقد اخنلف أصحابنا هل يكون صريحاً في وقوع الطلاق أم لا؟ على وجهين: أحدهما: وهو الأظهر: أنه يكون صريحاً لا يرجع فيه إلى إرادته كما يكون الإقرار عند سؤال الحاكم صريحاً. والوجه الثاني: أن يكون كناية يرجع فيه إلى إرادته، لأن ظاهره إخبار عن سؤال. مسألة: قال الشافِعِيُّ: "وَلَمْ يَنْوِ فِي الْحُكْمِ وَيَنْوِي فِيمِا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الله تعالى لأَنَّهُ قَدْ يُرِيدُ طَلاَقاً مِنْ وَثَاقٍ كَمَا لَوْ قَالَ لِعَبْدهِ أَنْتَ حُرَّ النَّفْسِ وَلاَ يَسَعُ امْرَأَتَهُ وَعَبْدَهُ أَنْ يَقْبَلاَ مِنْهُ".

قال الماوردي: اعلم أنه لا يخلو حال من تلفظ بصريح الطلاق من أربعة أقسام: أحدها: أن يقصد اللفظ وينوي الفرقة، فيقع به الطلاق إجماعًا، إذا كان المتلفظ من أهل الطلاق. والقسم الثاني: أن يقصد اللفظ ولا ينوي الفرقة، فيقع به الطلاق، لأن الصريح لا يفتقر إلى نية وهو قول جمهور الفقهاء، وقال داود: لا يقع به الطلاق إلا مع النية استدلالًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وإنما لكل امرئ" وهذا خطأ. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " ثلاث جدهن وهزلهم جد. النكاح والطلاق والعتاق". ولأن الفرقة تقع بالفسخ تارة وبالطلاق أخرى. فلما لم يفتقر الفسخ إلى النية، لم يفتقر الطلاق إليها، ولأنه لما لم يفتقر صريح العتق إلى النية، لم يفتقر صريح الطلاق إلى النية ولأنه قد افترق في الطلاق حكم الصريح والكناية، فلو افتقر الصريح إلى النية، لصار جميعه كناية، وإذا كان كذلك فقد وقع الطلاق مع عدم النية ظاهرًا وباطنًا. والقسم الثالث: أن يبعد اللفظ ويريد به طلاقة من وثاق، أو فراقًا إلى سفر، أو تسريحًا إلى أهل، فيلزمه الطلاق في ظاهر الحكم، ويدين فيما بينه وبين اله تعالى في الباطن. وقال أبو حنيفة: يلزمه الطلاق في الظاهر والباطن، ولا يدين كما لا يدين إذا تلفظ بالطلاق، ويريد به غير الطلاق. ودليلنا: قول النبيّ صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسبوا العبد حساب الرب"أي لا تحاسبوه إلا على الظاهر دون الباطن، وإن كان الله تعالى يحاسب على الظاهر والباطن. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "إنما أحكم بالظاهر ويتولي الله سرائر"، ولأن اللفظ يحتمل ما نوى، لأنه لو صرح به لكان محمولًا عليه فاقتضى إذا نواه أن يكون مدينة فيه، لأنه أحد احتماليه وليس كذلك إذا وقع الطلاق مريدًا به غير الطلاق، لأنه يسلب اللفظ حكمه الذي لا يحتمل غيره. والقسم الرابع: أي لا يقصد اللفظ ولا يريد به للفرقة وإنما يسبق لسانه غلطًا أو دهشًا أو كان أعجميًا [لا يعرف لفظ الطلاق ولا حكمه] فالطلاق لازم له في ظاهر الحكم وهو مدين فيما بينه وبين الله تعالى، فلا يلزمه في الباطن. فصل وأما زوجة المدين في طلاقه، إذا ألزم الطلاق في الظاهر دون الباطن، فلا يخلو حالها من ثلاثة أقسام: إما أن تعلم صدقه فيما دين فيه فيسعها فيما بينها وبين الله تعالى أن تقيم معه وتمكنه من نفسها، ولا يكره لها، ويجب على الزوج نفقتها، ويحرم عليها النشوز عنه، فإن نشزت لم يجيرها الحاكم، وإن أثمت لوقوع طلاقه في الظاهر،

واختلف أصحابنا في الحاكم إذا رآهما على الاجتماع. هل يلزمه التفرقة بينهما أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يلزمه بحكم الظاهر الفرقة. والوجه الثاني: لا يلزمه لأن ما هما عليه من الاجتماع. يجوز إباحته في الشرع، فلو فرق الحاكم بينهما ففي تحريمها عليه في الباطن وجهان من اختلاف الوجهين في وجوب حكمه بالفرقة. والقسم الثاني: أن تعلم الزوجة كذبه فيما دين فيه، فعليها الهرب منه، ولا يسعها في حكم الظاهر والباطن أن تمكنه من نفسها، وإن جوزنا للزوج أن يستمتع بها، وإن سألت الحاكم أن يحكم بينهما بالفرقة لزمه الحكم بها، ويجوز لها بعد انقضاء العدة أن تتزوج بغيره ويجوز لمن خطبته أن يتزوجها إن لم يصدق الزوج فيما دين فيه، فإن علم صدقة لم يجز أن يتزوجها إن لم يحكم الحاكم بينهما بالفرقة. وفي جواز ترويجه بها بعد الحكم بالفرقة وجهان. والقسم الثالث: أن لا تعلم الزوجة صدقة فيما دين فيه ولا كذبه فيكره لها تمكينه من نفسها لجواز كذبه، وفي تحريمه فيما بيتها وبين الله تعالى وجهان: أحدهما: لا تحرم عليها في الباطن تغليبًا لبقاء النكاح، فعلى هذا تكون في حكم القسم الأول. والقسم الثاني: يحرم عليها في الباطن تغليبًا لوقوع الطلاق في الظاهر فعلى هذا يكون في حكم القسم الثاني. فلو ادعى عليه تصديقه فيما دين فيه وأنكرته، ففي وجوب إحلافها عليه وجهان بناء على ما مضى والله أعلم. مسألة: قال: الشافعي: "وسواء كان ذلك غضب أو مسألة طلاق أو رضا وقد يكون السبب ويحدث كلام على غير السبب". قال الماوردي: أما صريح الطلاق، فيستوي حكمه في الغاضب والرضي، وعند مسألة الطلاق، وفي الابتداء وهذا متفق عليه. وأما كنايات الطلاق فحكمها عندنا في الغضب والرضي سواء. وعند مسألة الطلاق وفي الابتداء أنه لا يقع إلا بنيته وإرادته. وقال أبو حنيفة ومالك: إن لم يقترن بالكنايات سبب، من غضب أو طلب علم يقع بها الطلاق إلا مع النية، وإن قارنها سبب من طلب أو غضب فعند مالك يقع الطلاق بجميعها من غير نية، وعند أبي حنيفة: يقع الطلاق بستة ألفاظ منها بغير نية، وهي قوله: أنت خلية أو برية أو بتة، أو بائن أو حرام أو أمرك بيدك، ولا يقع بغيرها من الكنايات إلا مع النية، على ما سنذكره في موضعه، استدلالًا بأن دلالة الحال تصرف الكلام عن حقيقته وموضوعه إلى غيره، وتخصه دون حكم، استشهادًا بأن الخلع لو

اقترن به العوض كان صحيحًا، ولو تجرد عن العوض كان كناية، فاختلف حكمه بالقرينة، كذلك سائر الكنايات، ولأنه لما كان جزاء الشرط مقصورًا عليه، وجب أنيكون الحكم عن سبب محمولاً عليه. قال: ولأنه لفظ من ألفاظ الطلاق، ورد على طلب الطلاق، فوجب أن يكون طلاقًا كالفراق والسراح. ودليلنا ما روي: "أن ركانه بن عبد يزيد طلق امرأته سهميه ألبنة، وجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: طلقت امرأتي البتة، فقال له: ما أردت بها، فقال والله ما أردت إلا واحدة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: الله إنك ما أردت إلا واحدة؟ فقال: والله ما أردت إلا واحدة". فرجع فيه إلى إرادته، ولو اختلف حكمه بالسبب، أو عند الغضب والطلب، لسأله عنه ولبينه له. ولأن الأحكام لا تختلف بالغضب والرضي كسائر الأحكام، ولأن الكناية أحد نوعي الطلاق فلم تختلف الرضي والغضب كالصريح، ولأنها كناية لم تقترن بنية الطلاق، فلم يكن طلاقًا كالرضي وعدم الطلب. فأما الاستدلال: بأن دلالة الحالي تصرف الكلام عن حقيقته وموضوعه، فقد قال الشافعي: إن الأسباب متقدمة والإيمان بعدها محدثة، وقد يخرج على مالها وعلى خلافها، فأخذته لمخرج يمينه، فإذا كان لفظه عامًا، لم اعتبر بخصوص السبب. وإذا كان لفظه خاصًا لم اعتبر بعموم السبب ويرجع عن نية الطلاق في حال الغضب وفي استشهاده كلام مضى، ني موضعه يمنع به من صحة الاستشهاد. وأما قياسهم على الفراق والسريع فلأنها صريحان في الرضي والغضب ك"الطلاق". وأما الشرط والجزاء مخالف للحكم والسبب لأمرين: أحدهما: اتصال للشرط وانفصال السبب. والثاني: أن الشرط منطوق به فلم يدخله احتمال، والسبب غير منطوق به، فدخله الاحتمال والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: " فإن قال قد فارقتك سائرًا إلى المسجد أو سرحتك إلى أهلك أو قد طلقتك من وثاقك أو ما أشبة هذا لم يكن طلاقًا فإن قيل قد يكون هذا طلاقًا تقدم فأتبعه كلامًا يخرج به من قبل قد يقول: لا إله إلا الله فيكون مؤمنًا يبين آخر الكلام عن أوله ولو أفرد "لا إله" كان كفرًا". قال الماوردي: وهذا صحيح، إذا قيد بصريح الطلاق بما يغلب حكم الصريح، مثل أن يقول: قد طلقتك من وثاقك وفارقتك إلى المسجد، وسرحتك إلى أهلك، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يقول ذلك فاصلًا بين قوله: طلقتك، وبين قوله من وثاقك، فقد استقر

حكم الطلاق في الوقوع بإمساكه على قوله قد طلقتك ولا يؤثر فيه، ما استأنفه بعد الإمساك من قوله من وثاقك ولظهر أول الكلام مربوطًا بآخره كما لا يؤثر الاستثناء بمشيئة الله ويبين العدد بعد انقطاع الكلام. والضرب الثاني: أن يقول ذلك متصلًا، لا يفصل بين قوله: طلقتك وبين قوله: من وثاقك فيصير أول الكلام مربوطًا بآخره، فيخرج أوله من الصريح، بما اتصل فيه وفي آخره. كما لو اتصل بالكلام استثناء، صار حكم أوله محمولًا على الاستثناء بآخره. فإن قيل: فقد قدح صريح الطلاق بقوله: قد طلقتك، وقد يجوز أن يتعقبه ندم، فيصله بقوله من وثاقك، قيل: لا معنى لهذا التوهم لأن الكلام المتصل يتعلق الحكم بجميعه لا ببعضه، ألا ترى لو قال: لا إله إلا الله، كان موحدًا بالإيمان، وإن كان أوله نفيًا وآخره إثباتًا، وليس لقاتل أن يقول: قد كفر بقوله لا إله ثم خاف فاستدرك بقوله لا إله، فينبغي أن يحكم بكفره، ولا يحكم بإيمانه، وإذا كان كذلك، صار اللفظ الصريح بما اتصل به من القرينة، كناية يقع به الطلاق إن نواه، ولا يقع به إن لم ينوه. فصل وإذا قال الرجل لامرأته: أنا طالق منك، كان كناية يقع به الطلاق إن نواه، ولا يقع إن لم ينوه، وكذلك لو جعل إليها طلاق نفسها، فقالت: أنت طالق مني كان كناية، يقع بها الطلاق، إن نوته، ولا يقع إن لم تنوه، وقال أبو حنيفة: لا يقع بهما الطلاق إلا إذا قال الزوج: أنا طالق منك، ولا إذا قالت الزوجة: أنت طالق مني، ولو قال الزوج: أنا بائن منك، أو أنا حرام عليك، قال أبو حنيفة: يقع به الطلاق إن نواه، واستدل أبو حنيفة على ما خالفنا فيه بأن رجلًا جعل أمر امرأته بيدها، فطلقت زوجها، فسأل عبد الله بن عباس عن ذلك، فقال: خطأ الله نؤها، هلا طلقت نفسها، إنما الطلاق لك عليها، وليس لها عليك: ولأنه لما اختصر اسم الطلاق بالزوجة دون الزوج، فقيل لها: إنها طالق، ولم يقل للزوج: إنه طالق، وجب أن يختص حكم الطلاق بالزوجة دون الزوج، فتقع الفرقة بالطلاق عليها ولا تقع بالطلاق عليه، لأن ثبوت الحكم يقتضي ثبوت الاسم، وانتفاء الاسم يقتضي انتفاء الحكم كما أن انتفاء اسم الزوجية يوجب انتفاء حكمها وثبوت اسمها يوجب ثبوت حكمها، قال: ولأن الزوج لو كان محلًا لوقوع الطلاق عليه، لكان صريح الطلاق فيه صريحًا، ولكان حكمه به متعلقًا فلما انتفي عنه صريح الطلاق، ولم تجب عليه العدة من الطلاق، دل على أنه ليس بمحل للطلاق كالأجنبي، ولأن قوله لزوجته: أنا طالق منك، كقوله لعبده: أنا حر منك، فلما لم يكن هذا عتقًا، لم يكن هذا طلاقًا، قال: ولأن الطلاق هو الإطلاق من الحبس، والزوجة محبوسة عن الأزواج. فجاز أن يقع عليها الطلاق والزوج غير محبوس بها عن الزوجات، لم يجز أن يقع عليه الطلاق. ودليلنا ما روي عن عبد الله بن مسعود، سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن وقوع الطلاق على الزوج فقال عمر: "كيف ترى أنت، فقال: أرى أنها واحدة، وزوجها

أحق بها، فقال عمر- رضي الله عنه- نعم ما رأيت، فدل ذلك على إجماعها على أن وقوع الطلاق على الزوج كناية فيه، ولأنه أحد الزوجين فجاز أن تقع الفرقة، بوقوع الطلاق عليه كالزوجة، ولأن ما صلح أن تقع به الفرقة إذا وقع على الزوجة، جاز أن تقع به الفرقة إذا وقع على الزوج. كالتحريم والبينونة، ولأن من صح إضافة كناية الطلاق إليه صح إضافة صريحة إليه، كالزوجة طردًا وكالأجنبية عكسًا. والاستدلال من هذا الأصل هو: أن صريح الطلاق أقوى من كنايته، فلما وقعت الفرقة بكناية الطلاق في الزوج كان وقوعها بصريحه به أولى. فأما استدلاله بحديث ابن عباس، فقد خالف عمر وابن مسعود، وقول الاثنين أقوى من قول الواحد. وأما استدلاله بانتفاء الاسم عن الزوج أوجب انتفاء حكمه فباطل بقوله: أنا بائن منك، وحرام عليك، على أن حكم الطلاق متعلق بكل واحد منة الزوجين وإن اختص أحدهما بالاسم. وأما استدلاله بأنه لما لم يكن صريح الطلاق فيه صريحًا ولا وجب عليه العدة لم يكن محالًا له. فالجواب عنه أنه لما لم يكن في حقيقته صريحًا، لأن الصريح ما اقترن به عرف الاستعمال عندهم وعرف القرآن عندنا ولم يتناول جهة الزوج عرف الاستعمال وعرف القرآن، فكان صريحًا، وقد تناوله في جهة الزوجة عرف الاستعمال وعرف القرآن فكان صريحًا. وأما العدة فهي الامتناع من الأزواج والزوجة ممنوعة من ذلك، في حال الزوجية فمنعت منه بعد الزوجية والزوج غير ممنوع منه في حال الزوجية، فلم يكن ممنوعًا منه بعد الزوجية. وأما الاستدلال بقوله لعبده: أنا حر منك، فقد اختلفا أصحابنا هل يكون كناية عن عتقه أم لا؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة: يكون كناية في عتقه، يعتق به إذا نواه، فعلى هذا يسقط الاستدلال به. والوجه الثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه لا يكون كناية، ولا يعتق به، فعلى هذا الفرق بينهما، أن العتق إنما هو إزالة الرق، والرق يختص بالعبد دون السيد فلم يصح العتق إلا أن يتوجه اللفظ إلى العبد دون السيد، وليس كذلك الطلاق، لأنه رفع الزوجية التي قد اشترك فيها الزوجان، فجاز أن تقع الفرقة بوقوعها على الزوجين. وأما استدلاله بأن الطلاق هو إطلاق من الحبس، وهذا مختص بالزوجة دون الزوج ففيه جوابان: أحدهما: أن الطلاق هو الإطلاق من عقد النكاح والعقد متعلق بهما فجاز أن يكون الطلاق واقعًا عليها. والثاني: أنه وإن كان إطلاقًا من حبس، فهو محبوس بها عن نكاح أختها، وخالتها وعمتها وعن نكاح أربع سواها، كما كانت محبوسة عن غيره فجاز أن يقع الطلاق

عليه، لينطلق من حبس هذا التحريم كما وقع عليها، فانطلقت من حبس التحريم والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "ولو قال أنت خلية أو بائن أو بريئة أو بتة أو حرام أو ما أشبهة فإن قال قلته ولم أنو طلاقًا وأنوى به الساعة طلاقًا لم يكن طلاقًا حتى يبتدئه ونيته الطلاق وما أراد من عدد". قال الماوردي: قد ذكرنا أن الألفاظ التي يخاطب بها الرجل زوجته في الطلاق تنقسم إلى ثلاثة أقسام صريح وكناية وما ليس بصريح ولا كناية، مما الصريح فقد ذكرنا انه ثلاثة ألفاظ: الطلاق، والفراق، والسراح، ومعنى الصريح انه لا يفتقر في وقوعه إلى نية، وأما الكناية فهو الذي لا يقع الطلاق به إلا مع النية، وهو كل لفظ دل على المباعدة. وقال الشافعي في كتاب "الرجعة": كل ما يشبه الطلاق فهو كناية، والكنايات ضربان: ظاهرة وباطنة، فالظاهرة ستة ألفاظ، بتة وخلية وبرية وبائن وبتلة وحرام. والباطنة اعتدي واذهبي والحقي بأهلك، وحبلك على غاربك ولا حاجة لي فيك وانكحي من شئت واستبرئي وتقنعي وقومي واخرجي وتجرعي، وذوقي وكلي واشربي واختاري وما أشبه ذلك على ما سنشرحه، وكلا الأمرين الضربين عندنا سواء، وحكم الظاهرة والباطنة عندنا واحد. فإن اقترن بالنية وقع به الطلاق وإن تمرد عنها لم يقع. وقال مالك: الكنايات الظاهرة يقع بها الطلاق الثلاث من غير نية، فإن نوى بها واحدة كانت في غير المدخول بها ما نوى، وفي المدخول بها ثلاثًا. وقال أبو حنيفة: جمع الكنايات الظاهرة والباطنة يقع بها الطلاق، إذا قارنها أحد ثلاثة أشياء: النية أو الغضب أو طلب الطلاق، ولكن ما كان ظاهرًا وقع بائنًا، وما كان منها باطنًا وفي رجعيًا، إلا أن يريد بهم ثلاثًا فتكون ثلاثًا، ولو أراد اثنتين لم تكن إلا واحدة، ولو أراد بصريح الطلاق ثلاثًا أو اثنتين، لم تكن إلا واحدة، وله في كل لفظة مذهب يطول شرحه، لكن تقريب جملته ما ذكرناه فصار الخلاف معه في أربعة فصول: أحدهما: أن الغضب والطلب هل يقومان في الكناية مقام النية أم لا؟ والثاني: أن وقوع الطلاق بالكنايات الظاهرة هل يكون بائنًا أم لا؟ والثالث: إذا أراد بالكنايات اثنتين هل تكون اثنتين أم لا؟ والرابع: أنه أراد بصريح الطلاق الثلاث هل تكون ثلاثًا أم لا؟ فأما الفصل الأول: في الطلب والغضب فقد مضى الكلام فيهما، وذكرنا أنه لا تأثير لهما في صريح ولا كناية. فصل وأما الفصل الثاني: وهو أن وقوع الطلاق بالكنايات الظاهرة، هل يكون رجعيًا إذا

لم يرد به ثلاثًا، فعندنا يكون رجعيًا إن أراد به واحدة أو اثنتين، أو لم تكن له نية في عدده. وقال أبو حنيفة: يكون بائنًا، لا يملك فيه الرجعة استدلالًا بأن قوله: أنت بائن لفظ يقتضي البينونة فوجب أن يقمع الطلاق به بائنًا كالثلاث، ولأنه لا يخلو أن يعمل هذا اللفظ في وقوع الطلاق، فيجب أن يقع على مقتضاه، وإن لم يعمل تجردت النية عن لفظ عامل، فيجب أن لا يقع به طلاق. ودليلنا حديثركانة بن عبد يزيد حين طلق امرأته سهمية البتة، فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عما أراد بألبتة فقال: واحدة، فأحلفة عليها، وردها عليه، فدل على أنها لا تكون ثلاثًا. فخالف قول مالك وتكون رجعية بخلاف قول أبي حنيفة، وروي أن المطلب بن حنطب طلق امرأته ألبتة، فقال له عمر أمسك عليك زوجك، فإن الواحدة لا تبت، وهذا دليل عليهما، وروي أنه قال: فإن الواحدة بتت، يعني بانقضاء العدة إن لم يمسك. وروي أن التوأمة طلق امرأته ألبتة فقال عمر: ما أردت قال: واحدة فاستحلفه، فقال: أتراني أقيم على فرج حرام، فأحلفه وأقره على نكاحه، وليس يعرف لعمر في هذا مخالف، فكان إجماعًا على مالك وأبي حنيفة، لأن وقوع الطلاق إذا تجرد عن عدد وعوض، كان رجعيًا في المدخول به، قياسًا على قوله: أنت طالق، أو اعتدي أو استبرئي رحمك، أو أنت واحدة، فإن أبا حنيفة وافق على هذه الأربع أنه يملك بها الرجعة، ولأنها معتدة يلحقها الطلاق فوجب أن يملك رجعتها كالمطلقة بالصريح، وبما ذكرنا من الكناية، ولأن ما لا يتعلق بصريح الطلاق لم يتعلق بكنايته، لتحريم الثلاث، ولأن م لم يمنع صريحه من الرجعة لم تمنع كنايته من الرجعة لقوله: أنت واحدة، هو كناية أنت طالق. ولأن صريح الطلاق من كنايته فلما لم يرفع الصريح الرجعة، فأولى أن لا ترفعها الكناية، ولأنه لو نوى بالطلاق صريح أنه بائن لم يرفع الرجعة، فإذا تجرد لفظ البائن عن الصريح، فأولى أن لا يرفع الرجعة، فأما استدلاله بأنه لفظ يقتضي البينونة، فمنتقض بقوله: أنت طالق بلا رجعة لي عليك، تكون طالقًا وله الرجعة، فلم يرتفع بهذا اللفظ، وإن كان مقتضيًا للبينونة ثم المعنى في الأصل الذي هو الثلاث، استيفاء العدد، وأما استدلاله بأنه إذا وقع به الطلاق وقع مقتضاه، فمنتقض بلفظ الطلاق، لأنه يقتضي طلاقًا من جنسه، وقد يكون رجعيًا لا يخرج به من جنسه. فصل وأما الفصل الثالث: وهو إذا نوى بالكنايات اثنتين وقع اثنتان عندنا. وقال أبو حنيفة: لا تقع إلا واحدة، استدلالًا بأن قوله: أنت بائن يتضمن البينونة وهي نوعان: صغرى وهي التي تثبت الرجعة وتحل قبل زوج، وكبرى وهي التي تقطع

عصمة الرجعة ولا تحل إلا بعد زوج، فإذا أراد الكبرى وكانت الثلاث نبعًا وإن لم يرد الكبرى وقعت الصغرى، لأنها لا تنفك عنها وهي واحدة، فأما الثنتان فخارج منهما، ولأن لفظ البينونة لا يتضمن عددًا، لأن البائن مثل الحائض والطاهر، ولا يحسن أن تقول: أنت بائتنان كما لا يحسن أن تقول: أنت حائضتان وطاهرتان، فإذا لم يتضمن العدد لم يجز أن يعلق عليه العدد. ودليلنا هو: أن كل عدد ملك إيقاعه بالصريح، ملك إيقاعه بالكناية كالثلاث، ولأن وقوع الثلاث أغلظ من وقوع الثنتين، لأن الثالثة لا تقع إلا بعد الثانية. فإذا وقعت الثنتان مع الثالثة فأولى أن تقع الثنتان دون الثالثة، فأما استدلاله بأن البينونة بالصريح لا تكون بواحدة فهو أنه ليس وقوعها بالواحدة، وأن يصح ضم ثانية إليها، كالمختلفة، وإن كانت تبين بالواحدة يجوز أن يخالفها على اثنتين. وأما استدلاله بأن لفظ البائن لا يتضمن عددًا، لأنه لا يحسن أن يقال أنت بائنتان ففاسد بالثلاث، لأنه لم لم يتضمن العدد لم تقمع الثلاث، وإذا جاز أن تقع ثلاثًا، جاز أن تقع ثنتين ولا يمتنع أن يقال: أنت بائن ثنتين، كما لا يمتنع أن يقال: أنت بائن ثلاث. فصل وأما الفصل الرابع: وهو إذا نوى بصريح الطلاق ثلاثًا، فقال: أنت طالق، ونوى الثلاث كانت ثلاثًا، ولو نوى اثنتين كانت اثنتين، فيحمل صريح الطلاق على ما نوى من عدده، وقال أبو حنيفة: لا يقع بصريح الطلاق إلا واحدة، ولو قال: أنت طالق ينوي طلقتين أو ثلاثًا لم تقع إلا واحدة، إلا أن يتلفظ بالعدد نطقًا، أو يقول أنت طالق ناويًا الثلاث فتطلق ثلاثًا وفرق بين قوله: أنت طالق ينوي ثلاثًا فيطلق واحدة، وبين قوله: أنت الطلاق وينوي الثلاث، فيطلق ثلاثًا، بأن الطلاق مصدر يحتمل العدد، قال الله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}. وقوله: أنت طالق إخبار عن صفة، لا تحتمل العدد كما لا تحتمل دخول العدد في قولهم أنت قائم وقاعد وركع وساجد وجعل هذا للفرق بينهما دليلًا. قال: ولأن الطلاق صريح في الواحد فلم يجز أن يجعل كناية في الثلاث، لأنه يؤخر إلى أن يكون اللفظ الواحد في الجنس الواحد صريحًا وكناية في حال واحدة وهذا فاسد ودليلنا أن قوله: أنت طالق، عند أهل العربية اسم فاعل، لأنهم يقولون طلقت فهي طالق كما قالوا حاضت فهي حائض، وضربت فهي ضارب، واسم الفاعل يحتمل العدد، لأنه يجب أن يفسر بأعداد المصادر فيقال: أنت طالق طلقتين، وأنت طالق ثلاث تطليقات ومائة طلقة وضارب مائة ضربة، ولو كان الاسم لا يتضمن أعداد مصادره، فأحسن أن يعتبر به كما لا يحسن أن يقال: أنت ضارب طلقة، وقائم قعدة. ولذا تضمن العدد بدليل ما ذكرنا، جاز أن يقع به الثلاث، كما يقع بقوله: (أنت) الطلاق.

وتحريره قياسًا: أن كل لفظ جاز أن يكون العدد فيه مظهرًا، جاز أن يكون العدد فيه مضمرًا، والمصدر إذا قال: أنت الطلاق. ودليل ثان: وهو أنه لو قال: أنت طالق ثلاثًا وقعت الثلاث، بقوله أنت طالق وكان قوله ثلاثًا تفسير للعدد المضمر فيه، ألا تراه لو وقال لغير مدخول بها، أنت طالق ثلاثًا طلقت ثلاثًا ولو كانت الثلاث لا تقع إلا باللفظ الأول، لما وقع عليها إلا واحدة، لأن غير المدخول بها لا تطلق بلفظ بعد لفظ، لأنه لو قال: أنت طالق وطالق وقعت الأولى ولم تقع الثانية. وإذا جاز أن يكون العدد فيه مضمرًا فيه، إذا أظهره، جاز أن يكون مضمرًا فيه إذا نواه. وتحريره قياسًا: أن كل عدد جاز أن يتضمنه مصدر الطلاق، جاز أن يتضمنه اسم الطلاق كالمظهر. ودليل ثالث: وهو أنه لو قال: أنت طالق، وأشار بأصابعه الثلاث، طلقت ثلاثًا ونية الثلاث أقوى من إشارته بالثلاث، لأن الكناية تعمل فيها النية، ولا تعمل فيها الإشارة فلما وقعت الثلاث بالإشارة، فأولى أن تقع بالنية، وأما استدلاله بأن قوله: أنت طالق إخبار عن صفة، لا تتضمن عددًا فهو خطأ، لما ذكرنا أنه اسم يحتمل العدد بما بيناه من جواز قوله: أنت طالق ثلاثًا، وقوله: أنت حائض وطاهر وقائم وقاعد، فهو مما لا يجوز أن يجتمع منه عدد في حال واحدة، فلم يتضمن العدد، وليس كذلك الطلاق؛ لأنه لا يصح أن يجتمع منه العدد في حالة واحدة، فجاز أن يتضمن العدد، كما يجوز أن يقول: أنت عالم عِلْمِينِ، وجائر جورين فيجوز أن يتضمنه العدد. وأما استدلاله بأنه صريح في الواحدة، فلم يجز أن يكون كناية في الثلاث، فغير مسلم، لأنه إذا نوى الثلاث، كان صريحًا فيها، ولم يكن صريحًا في واحدة، كناية في اثنتين فلم يسلم لهم الاستدلال. فصل وإذا تمهد حكم الكناية وأن الطلاق لا يقع بها إلا مع النية، فإن تجردت عن النية لم يقع بها طلاق، لأن قوله: أنت خلية يحتمل خلية من خير، وخلية من شر وخلية من زوج فلم يحمل على إحدى احتمالاته يغير نية، وكذلك قوله: أنت بائن يحتمل من الخير والشر والزوج وكذلك سائر الكنايات، يتقابل فيها الاحتمال، فلم يقع بها طلاق من غير نية، فلما إذا وجدت الكناية ونية الطلاق، فلا يخلو حال النية من أربعة أقسام: أحدها: أن تكون النية متقدمة على جميع اللفظ، فلا يقع الطلاق، ولأن النية تجردت عن لفظ فلم يقع بها طلاق، واللفظ تجرد عن نية، فلم يقع به طلاق. والقسم الثاني: أن تكون النية متأخرة عن جميع اللفظ فلا يقع الطلاق أيضا، لما ذكرنا أن اللفظ لما تجرد عن النية لم يقع به طلاق، والنية لما تجردت عن اللفظ لم يقع بها طلاق.

مثال هذين: نية الصلاة، إن تقدمت على الإحرام لم تصح، وإن تأخرت عنه لم تصح. والقسم الثالث: أن تكون النية مقارنة لجمع اللفظ، فتوجد من أول اللفظ إلى آخره فالطلاق واقع، والنية معًا، ولا يكون وقوعه بأحدهما، وإن كان اللفظ هو المغلب لظهوره. والقسم الرابع: أن توجد النية في بعضي اللفظ وتعدم في بعضه، إما أن توجد في أوله وتعدم في آخره، أو توجد في آخره، وتعدم في أوله، مثل أن يقول لها: أنت بائن، فينوي عند قوله: أنت با، بترك النية عند قوله ئن، أو يترك النية عند قوله: أنت با وينوي عند قوله ئن، ففي وقوع الطلاق به وجهان لأصحابنا: أحدهما: لا يقع اللفظ إذا اعتبرت فيه النية، كان وجودها عند بعضها، كعدمها في جميعه كالنية في تكبيرة الإحرام. والوجه الثاني: أن الطلاق واقعه لأن استصحاب النية في جميع ما يعتبره فيه النية ليس بلازم كالصلاة لا يلزم استصحاب النية في جميعها. والأصح عندي، أن ينظر في النية فإن وجدت في أول اللفظي وقع به الطلاق، وإن عدمت في آخره كالصلاة، إذا وجدت النية في أولها، جاز أن تعدم في أخرها، وإن وجدت النية في آخر اللفظ وعدمت في أوله، لم يقع له الطلاق، كالنية في أخر الصلاة، ولأن النية إذا انعقدت مع أول اللفظ، كان باقيه راجعًا إليها، وإذا خلت من أوله صار لغوًا وكان ما بقي منه مع النية ناقصًا، فخرج من كنايات الطلاق، وهذا التفصيل أشبه بنص الشافعي. لأنه قال: لم يكن طلاقًا حتى يبتدأ ونيته الطلاق، فاعتبرها ني ابتداء اللفظ والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: " (قال) ولو قال لها أنت حرة يريد بها الطلاق ولأمته أنت طالق يريد العتق لزمه ذلك". قال الماوردي: وهذا صحيح، أما صريح العتق فهو كناية في الطلاق إجماعًا فإذا قال الرجل لامرأته، أنت حرة أو أنت معتقة، بريد طلاقها، طلقت، لأن عتق الأمة إطلاق من حبس الرق كما أن طلاق الزوجة إطلاق من حبس النكاح، فتقارب معناهما، وأما صريح الطلاق فهو كناية عندنا في العتق، فإذا قال لأمته أنت طالق، أو مسرحة أو مفارقة، بريد عتقها عتقت، وقال أبو حنيفة: لا تعتق ولا يكون صريح الطلاق كناية في العتق، وإن كان صريح العتق كناية في الطلاق، استدلالًا بأن الطلاق يوجب التحريم وتحريم الأمة لا يوجب عتقها، لأنه يملك من تحرم عليه بنسب أو رضاع، ولا تعتق عليه، ولا يشبه قوله لزوجته، أنت حرة فتطلق، لآن عتق الأمة تحريم، وتحريم الزوجة موجب لزوال الملك عنها، فجاز أن يكون طلاقًا لها، قال:

ولأن كل لفظ كان صريحًا في تحريم الحرائر لم يكن كناية في عتق الإماء كالظهار، ولأن لفظ الطلاق أضعف حكمًا من لفظ الحرية، لأنه مختص بإزالة الملك عن الاستمتاع، والحرية تزيل الملك عن الرق والاستمتاع، فجاز أن تكون الحربة كناية في الطلاق لقوتها، ولم يجز أن يكون الطلاق كناية في العتق لضعفه، كالبيع لما كان أقوى من الإجازة، جاز أن تنعقد الإجارة بلفظ البيع، ولم يجز أن ينعقد البيع بلفظ الإجارة. ودليلنا قول البنيّ صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى" فكان على عمومه، ولأن صريح ما يجري فيه النية أنه كناية، في مثله كالعتق في الطلاق، ولأن كل لفظ صح استعماله في الطلاق، صح استعماله في العتق، كقوله: لا سلطان لي عليك، ولأن ما صح وقوع الطلاق به، صح وقوع الحرية به، كقوله أنت حرة، ولأن صريح الطلاق أقوى من كنايته فلما وقعت الحرية بكناية الطلاق، فأولى أن تقع بصريحه، ولأنه لما كانت الحرية كناية في طلاق الحرة، وهي صفتها في حال الزوجية، فأولى أن يكون الطلاق كناية في عتق الأمة وليس من صفتها في حال الرق. فأما استدلاله بان تحريم الطلاق لا ينافي بقاء الرق، فالجواب عنه أن صريح الطلاق إنما كان كناية في العتق، لأنه يتضمن الإطلاق من حبس العتق، لا بما يتعلق به من التحريم، وأما قياسهم على الظهار، فالظهار عندنا كناية ني العتق كالطلاق فسقط الاستدلال به ثم لو سلم لهم هذا الأصل - وليس بمسلم - لكان الفرق بينهما، لأن الطلاق مزيل للملك مع التحريم فجاز أن تقع به الحرية، والظهار مختص بالتحريم من غير أن يزول به الملك، فلم تقع به الحرية. وأما استدلالهم بأن لفظ الطلاق أضعف من لفظ العتاق لاختصاصه بإزالة الاستمتاع عن المنفعة دون الرقبة، فالجواب: أنه وإن ضعف عنه في الإماء فهو أقوى منه في الحرائر، ثم لا ينكر أن يساويه في القوة إذا انضمت إليه النية كما تساويه كناية الطلاق التي هي أضعف من صريح الطلاق، إذا انضمت إليه النية، واستشهادهم بالبيع والإجارة، فهم لا يجوزون عقد الإجارة بلفظ البيع، كما لا يجوز عقد البيع بلفظ الإجارة وإن جاز عندنا، والفرق بينهما أن لفظ البيع أهم من لفظ الإجارة، فجاز أن يعقد الأخص باللفظ الأعم، ولم يجز أن يعقد الأهم باللفظ الأخص والله أعلم. مسألة: قال: الشافعي: "ولو ثقال لها أنت طالق واحدة بائنًا كانت واحدة يملك الرجعة لأن الله تعالى حكم في الواحد والثنتين بالرجعة كما لو قال لعبده أنت حر ولا ولاء ليعيليك حرًا والولاء له جعل عليه الصلاة والسلام الولاء لمن أعتق كما جعل الله الرجعة لمن طلق واحدة أو اثنتين وطلق ركانة امرأته ألبتة فأحلفة النبي صلى الله عليه وسلم ما أراد إلا واحدة وردها عليه وطلق المطلب بن حنطب امرأته ألبتة فقال عمر رضي الله عنه أمسك عليك امرأتك فإن الواحدة بتت وقال على بن أبي طالب رضي الله عنه لرجل

قال لامرأته حبلك على غاربك ما أردت؟ وقال شريح أما الطلاق فسنة فأمضوه وأما ألبتة فبدعه فدينوه (قال) ويحتمل طلاق ألبتة يقينًا ويحتمل الإبتات الذي ليس بعده شيء ويحتمل واحدة مبينة منه حتى يرتجعها فلما احتملت معانى جعلت إلء قائلها". قال الماوردي: وهذا الكلام يشتمل على فصلين: أحدهما: أنه إذا طلق امرأته واحدة بائنة كانت رجعية، ولا تبين بالواحدة، وإن جعلها بائنة، كما لا يسقط ولاء العتق، وإذا شرط سقوطه في العتق. وقال أبو حنيفة: تكون الواحدة بائنة إذا جعلها بائنة، وتسقط الرجعة فيها بإسقاطه لها، وبني على أصله، إذا قال لها: أنت بائن يريد به الطلاق، أنها تطلق واحدة بائنة، لا يملك فيها الرجعة، وقد مضى معه فيه، ثم تفسد مذهبه ها هنا من وجهين أيضًا: أحدهما: أنه لو قال لها: أنت طالق واحدة بائنة، كانت طالقًا واحدة غير بائنة. والثاني: أنه لو قال لها: أنت طالق واحدة، لا رجعة لي فيها، كانت طالقًا واحدة له الرجعة، كذلك في الواحدة والثانية. والفصل الثاني: في الكناية يشتمل على فصلين: أحدهما: أن الكناية لا يقع الطلاق بها إلا مع النية، وإن وقع بالصلاريح ردَّا على مالك حيث أوقع الطلاق بالكناية من غير نية، وعلى من ذهب إلى قول داود: أن الطلاق لا يقع بالصريح من غير نية، وقد مضى الكلام معهما والفرق بين الصريح والكناية، في اعتبار النية في الكناية، دون الصريح من وجهين: أحدهما: أن الصريح لا يحتمل إلا معنى واحد، فحمل على موجبة من غير نية، والكناية تحمل معاني، فلم تنصرف إلى أحدهما إلا بنية، ألا ترى أن ما كان من العبادات لا تعقد إلا على وجه واحد، كأداء الأمانة، وإزالة النجاسة لم تفتقر إلى نية، وما كان محتملًا كالصوم لم يصح أن يكون عبادة إلا بالنية. والثاني: أن الصريح حقيقة والثاني مجاز، والحقائق يفهم مقصودها بغير قرينة والمجاز لا يقوم مقصوده إلا بقرينة، فلذلك افتقرت الكناية إلى نية، ولم يفتقر الصريح إلى نية. والفصل الثاني: أن الكناية إذا وقع بها الطلاق مع النية كالبائن والبتة والخلية والبرية كان رجعيًا، إلا أن ينوي ثلاثًا، وقال أبو حنيفة: يكون بائنًا، لا يملك فيه الرجعة وقد مضى الكلام معه فيه. مسألة: قال الشافعي: "ولو كتب بطلاقها فلا يكون طلاقًا إلا بأن ينويه كما لا يكون ما خالفه الصريح طلاقًا إلا بأن ينويه". قال الماوردي: أما وقوع الطلاق بخير الكلام فينقسم ثلاثة أقسام: فعل وكناية وإشارة، فأما الفعل: مثل الضرب والإخراج من المنزل، وما جرى مجراه من الإبعاد

والطرد، فلا يقع به الطلاق وإن نواه وعند مالك يكون طلاقًا، لأنه يوقع الطلاق بمجرد النية، فأولى أن يوقعه بالفعل مع النية وفيما مضى من الدليل، على أن الطلاق لا يقع بالنية، دليل على أنه لا يقع بالفعل، وإن اقترنت به النية. والدليل عليه أيضًا: أن الطلاق أعظم حكمًا من الإيلاء والظهار، لأنه يساويهما في قصد التحريم، ويزيد عليهما في رفع العقد، فلما لم يصح الإيلاء والظهار إلا بقوله دون النية والفعل، كان الطلاق بذلك أولى. فصل وأما الكناية وهو أن يكتب بخط يده، أنت طالق، أو قد طلقتك، أو أنت مطلقة فقد اختلف الناس فيما حكي عن الشافعي وأحمد بن حنبل: أنها صريح في وقوع الطلاق بها لا يفتقر إلى نية كالكلام، لأن الله تعالى قد أنذر بكتبه فقال تعالى: {لأُنذِرَكُم بِهِ ومَن بَلَغَ} [الأنعام: 91]. وقد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم الرسالة بمكاتبة من كاتبه، ولأنها تقوم في الإفهام مقام الكلام، ثم هي أعم من إفهام الحاضر والغالب مسن الكلام المختص بإفهام الحاضر دون الغائب، ولأن العادة جارية باستعمالها في موضع الكلام، فاقتضى أن يكون جارية في الحكم مجرى الكلام، ولأن الصحابة - رضي الله عنهم - قد جمعوا القرآن في المصحف خطأ، وأقاموه مقام تلفظهم به نطقًا، حتى صار ما تضمنه إجماعًا لا يجوز خلافه، وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الكتابة ليست صريحًا في الكلام ولا يجري عليها حكم الصريح من الكلام، لأن الله تعالى قد أرسل رسوله نذيرًا لأمته ومبلغًا لرسالته فقال تعالى: {إنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا ونَذِيرًا} [البقرة: 199] فلو كانت الكتابة كالكلام الصريح، لمكن الله تعالى رسوله منها، ولعلمه إياها لنكون مع تكليف الإنذار ممكنًا من آلائه، وكاملًا لصفاته، ومعانًا عليه من سائر جهاته، حتى لا يناله نقص فيقصر، ولا ضعف فيعجز، ولكان لا يبعث رسولًا، إلا أميًا لا يكتب، وإن تكلم، كما لا يبعث رسولًا أخرس، لا يتكلم وإن كتب، وفي فحوى هذا دليل على خروج الكتابة من صريح الكلام، ولأنها لو قامت مقام صريح الكلام لأجزأ من كتب القرآن في الصلاة عن أن يتكلم به في الصلاة، ولاقتضى من المرتد إذا كتب الشهادتين عن أن يتكلم بالشهادتين، وفي امتناعنا من ذلك خروج الكتابة من حكم الكلام، ولأنه لو كانت الكتابة صريحًا كالكلام لصح بها عقد النكاح، كما يقع بها فيه الطلاق، وفي إجماعنا على أن عقد النكاح بها لا يصلي دليل على خروجهما من صريح الكلام في الطلاق، فإذا تقرر أن ليست الكتابة صريحًا في الطلاق، فقد اختلف قول الشافعي، هل يكون كناية فيه أم لا؟ على قولين: أحدهما: وأشار إليه في كتاب الرجعة. وقال به أبو إسحاق المروزي من أصحابنا: أنها لا تكون كناية، ولا يقع بها طلاق وإن نواه، لأنها فعل فأشبهت سائر الأفعال، ولأن كتابة اليد ترجمان اللسان ومعبر عنه كما أن كناية الكلام ترجمان القلب ومعبر عنه فلما لم تقم الكتابة مقام الصريح إلا بنية

القلب لم تقم الكناية مع الكلام إلا بنطق اللسان. والقول الثاني: وهو الصحيح نص عليه ها هنا وفي الإملاء، وقال أبو حنيفة ومالك: إن الكتابة كناية في وقوع الطلاق بها مع النية، ولا يقع بها الطلاق إن تجردت عن النية، لأنها نقص عن الكلام لاحتمالها وتخالف الأفعال المخاطب بها، ولأن العرف في استعمالها أنها بدل من الكلام، تقتضي أن يتعلق عليها بعض أحكام الكلام، فصارت كالمحتمل فيه من اعتبار النية فيه: فصل فإذا قلنا بالأول أن الكتابة ليست صريحًا ولا كناية، فلا يقع بها الطلاق وإن نواه من حاضر ولا غائب، وكذلك العتق، فإن قلنا بالثاني في أن الكتابة كناية يقع بها الطلاق إذا اقترنت بالنية، ولا يقع بها الطلاق إذا تجردت عن النية، فكذلك العتق، ويصح بها الطلاق والعتاق من الغائب، وهل يصح من الحاضر أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: يصح من الحاضر كما يصح من الغائب، لأن كنايات الطلاق والعتاق من الحاضر والغائب سواء، فكذلك الكتابة. والوجه الثاني: أنه لا يصح بها الطلاق والعتاق، من الحاضر والنائب لأمرين: أحدهما: أنها من الغائب ضرورة كإشارة الأخرس، ومن الحاضر غير ضرورة كإشارة الناطق. والثاني: أنها مستعملة في عرف الغائب، وغير مستعملة في عرف الحاضر فأما الظهار بالكتابة فهو كالطلاق على قولين، وأما الإيفاء بالكتابة فلا يصح قولًا واحدًا، لأن الإيلاء يمين بالله تعالى لا ينعقد بالكناية، وأما عقد البيع والإجابة بالكتابة. فإن قيل: إن الطلاق لا يقع بهما ولا يكون كناية فيه فأولى أن لا ينعقد بها بقع ولا إجارة، وإن قيل: إن الطلاق يقع بها، وإنها كناية فيه، ففي عقد البيع والإجارة بهما وجهان، من اختلاف أصحابنا ني عقد البيع والإجارة بصريح العقد وكنايته على وجهين: أحدهما: لا تصح بالكتابة. إذا قيل: إنه لا تصح بالكنايات والوجه الثاني: أنه تصح بالكتابة إذا قيل: إنه تصح بالكنايات وقد حكي أبو حامد المروزي: أنه وجد نصَّا عن الشافعي، أنه إذا كتب إلى رجل في بلد أني قد بعتك داري، فيه بكذا صح البيع، إذا قبله المكاتب إليه، وكان له الخيار ما لم يفارق مجلسه، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: " فإذا كتب إذا جاءك كتابي فحتى يأتيها". قال الماوردي: وإذا قد مضى الكلام، حكم الكتابة بالطلاق إنها ليست صريحة فيه، وفي كونها كناية قولان، فلا يخلو حال من كتب بطلاق زوجته من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يقترن بكتابته لفظ.

والثاني: أن يقترن بها نية. والثالث: أن عام تتجرد عن لفظ ونية، فإن قارنها لفظ، وقع الطلاق، لأن اللفظ لو تجرد عن الكتابة وقع به الطلاق، فإذا انضم إلى الكتابة فأولى أن يقع به، وإن قارنها نية الطلاق، ففي وقوع الطلاق بها قولان، إن قيل: كناية وقع الطلاق، وإن قيل: ليست كناية لم يقع، وإن تجردت الكتابة عن قول ونية لم يقع بها الطلاق، لأنه يحتمل أن يكون كتب حاكيًا عن غيره، أو مجربًا لخطه، أو مرهبًا لزوجنه، فإذا تقرر ما وصفنا، فصورة هذه المسألة أن يكتب إلى زوجته إذا جاءك كتابي هذا فأنت طالق، إما مع لفظ اقترن به فكان طلاقًا قولًا واحدًا وإما مع نية اقترنت بخطه، فكان طلاقًا في أصح القولين، وعليه تفرع جميع هذه المسائل. فهو طلاق معلق بصفة، وهو مجيء الكتاب إليها، فإن لم يجئها الكتاب لم تطلق فإن تأخر لهلاكه فقد بطلت صفة طلاقها، فهو غير منتظر سواء كان هلاكه بسبب منها أو من غيره، وإن تأخر مع بقائه فالصفة باقية، وتعليق الطرق بها منتظر لمجيء الكتاب إليها، لم يخل حاله من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون سليمًا، فالطلاق واقع سواء قرأته أو لم تقرأه، لأنه علق طلاقها بمجيئه لا بقراءته، ولو كان كتب إذا جاءك كتاب وقرأتيه لم تطلق لمجيئه حتى تقرأه، فإن قرأ عليها لم تطلق، إن كانت تحسن القراءة، وطلقت إن كانت لا تحسنها اعتبارًا بالعرف. والقسم الثاني: أن يصل الكتاب ممحو الكتابة، فلا طلاق، لأن الكتاب هو المكتوب وما لا كتابة فيه فهو كأخذ وليس بكتاب، سواء كان هو الماحي له أو غيره، ولكن لو تطلست كتابته ولم يمح نظر فإن كان مفهوم القراءة طلقت، وإن كان غير مفهوم لم تطلق. والقسم الثالث: أن يصل الكتاب وقد ذهب بعضه، فإن كان الذاهب منه موضع طلاقها لم تطلق، لأن مقصوده لم يصل، وإن كان موضع طلاقها باقيًا والذاهب من غيره، فقد اختلف أصحابنا في وقوع طلاقها بها على أربعة أوجه: أحدها: لا تطلق سواء كان الذاهب منه مكتوبة أو غير مكتوب، لأن الواصل منه بعضه. والوجه الثاني: أنها تطلق، سواء كان الذاهب مكتوبة أو غير مكتوب، لأن المقصود منه هو لفظ الطلاق واصل. والثالث: إن كان الذاهب من المكتوب لم تطلق، لأن بعض الكتاب وإن كان الذاهب من غير المكتوب طلقت، لأن المكتوب هو جمع الكتاب. والوجه الرابع: إن وصل أكثره طلقت، وإن وصل أقله لم تطلق اعتبارًا بالأغلب. مسألة: قال الشافعي " فإن كتب أما بعد فأنت طالق من حين كتب". قال الماوردي: وهذا صحيح إذا اقترن بكتابته نية الطلاق فيقع الطلاق بالأصح من قوليه، الذي تفرع عليه، لأنه كتب طلاقًا ناجزًا، ولم يعلقه بوصول الكتاب إليها،

فيعمل وقوعه في الحال، كما لو تلفظ بطلاقها ناجزًا وخالف أن يكتب، إذا وصل إليك كتابي فأنت طالق، فلا يطلق إة بوصوله، لأن هذا مقيد بصفة، وذلك ناجز، فلو كان قال لها: إذا أتاك طلاقي فأنت طالق، ثم كتب إليها إذا جاءك كتابي فأنت طالق، فجاءها الكتاب طلقت طلقتين، إحداهما بوصول الكتاب والثانية بمجيء الطلاق، لأن الصفتين موجودتين في وصوله، وعلى مثاله أن يقول لها: إن أكلت ننف رمانة فأنت طالق وإن أكلت رمانة، فأنت طالق، فأكلت رمانة فتطلق طلقتين لأنها قد أكلت نصف رمانة وأكلت رمانة ولو قال لها: كلما أكلن نصف رمانة فأنت طالق وكلما أكلت رمانة فأنت طالق، فأكلت رمانة طلقت طلقتين، لأن فيها نصفين، فطلقت طلقتين وهى رمانة، فطلقت ثالثة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن شهد عليه أن هذا خطة لم يلزمه حتى يقر به". قال الماوردي: وصورتها أن تدعي المرأة على زوجها، أنه كتب إليها بطلاقها، وتحضر كتابًا بالطلاق تدعي أنه كتابه وينكر أن يكون كتابه، فإن لم تصل المرأة الدعوى بأنه كتابه، ناويًا للطلاق، لم يحلف الزوج، وإن وصلت دعواها، بأنه كتب ناويًا أحلف الزوج حينئٍذ على إنكاره، فإن كان منكرًا للكتاب، أحلف أنه ما كتبه وإن كان منكرًا للنية، أحلف أنه ما نوى، وإن أحلف أنها لم تطلق منه لم يجز، لأنه قد يكون ممن لا يعقد وقوع الطلاق بالكتاب، ويعتقده الحاكم فإن شهد عليه عند إنكار الكتاب شاهدان، أنه خطه وكتابه لم تطلق، لأن الكتابة لا يقع بها الطلاق إلا مع النية، والشهادة وإن صحت على الكتابة فلا تصح على النية، لأن النية تخفي والكتابة لا نخفي، ولذلك قال الشافعي -رضي الله عنه- لم يلزمه حتى يقرّ به، يعني يقر بالكتاب والنية مع كتابته، فإن قيل فكيف تصح الشهادة على خطه؟ قيل: بأن رأياه يكتبه، ولا تغيب الكتاب عن أعينهما حتى يشهدا به، فإن لم يكونا رأياه، يكتبه ولكنهما عرفا خطه لم يجز أن يشهدا به، لأن الخط (يشبه الخط)، وإن رأياه قد كتبه وغاب الكتاب عنهما لم يجز أن يشهدا به، لجواز أن يكون مزورًا عليه فيتشبه به وهذه الشهادة لا تلزم الشاهدين، أن يشهدا بها، ولا الحاكم أن يستدعيهما، لأنه لا يتعلق بها حكم. فصل فأما الإشارة بالطلاق، فإن كانت من الأخرس، قامت مقام نطقه، ووقع الطلاق بإشارته كما يقع طلاق الناطق بلفظه، إذا كانت إشارته مفهومة، وتكون الإشارة منه طلاقًا صريحًا وإن كانت الإشارة من ناطق، لم يقع بها الطلاق لا صريحًا ولا كناية،

لأنه قادر على الكلام الذي هو بالطلاق أخص. فلو قال: أنت وأشار بأصابعه الثلاث مريدًا بها الطلاق لم تطلق، لأن يقوله أنت بدء وليس بصريح في الطلاق ولا كناية، فالإشارة بعد البدء، لا يقع بها الطلاق، ونية الطلاق قد تجردت عن لفظ فلم يقع بها الطلاق، ولكن لو قال: أنت طالق كذا وأشار بإصبع واحدة طلقت واحدة، ولو أشار بإصبعين، طلقت طلقتين، ولو أشار بثلاثة أصابع، طلقت ثلاثًا، وقامت إشارته مقام الثلاث، مع قوله هكذا مقام نيته بالثلاث نص عليه ابن سريج، فلو أشار بثلاث أصابع قائمة وبإصبعين معقودتين فإن أراد الثلاث القائمة طلقت ثلاثًا، وإن أراد الإصبعين المعقودتين طلقت ثنتين، وإن لم تكن نية، طلقت بالثلاث أصابع ثلاثً، لأن فيها زيادة إشارة. قال أبو العباس بن سريج: ولو قال: أنت طالق، ولم يقل هكذا، وأشار بأصابعه الثلاث لم يلزمه بالإشارة عدد. مسألة: قال الشافعي:" ولو قال لامرأته اختاري أو بيدك فطلقت نفسها فقال ما أردت طلاقًا لم يكن طلاقًا إلا بأن يريده ولو أراد طلاقًا فقالت قد اخترت نفسي سئلت فإن أرادت طلاقًا فهو طلاق وإن لم ترده فليس بطلاق". قال الماوردي: اعلم أن للزوج في الطلاق ثلاثة أحوال: أحدها: أن يتولاه لنفسه مباشرًا فيقع الطلاق بمباشرته. والحال الثانية: أن يستنيب فيه وكيلًا، فيقوم الوكيل في الطلاق الذي استنابه فيه مقام نفسه على ما سنذكره. والحال الثالثة: أن يفوضه إلى زوجته وهي مسألتنا فيكون ذلك تمليكًا لها ولا يكون توكيلًا واستنابة، وهو جائز يصح به وقوع الفرقة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم خير نساءه، فاخترنه فلولا أن لتخييرهن تأثير في الفرقة إن اخترتها، ما كان لتخييرهن معنى، وإذا كان كذلك لم يخل حال تفويضه الطلاق إلى زوجته من أربعة أقسام: أحدها: أن يكون بصريح منهما. والثاني: بكناية منهما، والثالث: بصريح منه وكناية منها، والرابع: بكناية منه وصريح منها. فأما القسم الأول: وهو أن يكون بصريح منهما جميعًا فصورته: أن يقول لها طلّقي نفسك فتقول: قد طلّقت نفسي، فقد وقع الطلاق بطلاقها لنفسها، ولا يراعى من أصل الطلاق ووقوعه نية واحد منهما، فأما عدد الطلاق فلهما فيه ثلاثة أحوال: أحدها: أن يذكراه. والثانية: أن ينوياه. والثالثة: أن يطلقاه، فإن ذكراه فلهما فيه حالتان: أحدهما: أن يتفقا عليه.

والثانية: أن يختلفا فيه، فإن اتفقا عليه وقع العدد الذي اتفقا عليه كأنه قال لها: طلّقي نفسك واحدة، فطلّقت نفسك واحدة، أو قال لها: طلقي نفسك طلقتين، فطلقت نفسها طلقتين، أو قال لها: طلّقي نفسك ثلاثًا فقالت: قد طلقت نفسي ثلاثًا وقع الثلاث أو ما اتفقا عليه من العددي وإن اختلفا فيه وقع أل العددين. مثاله: أن يقول لها: طلّقي نفسك ثلاثًا فتطلق نفسها واحدة فلا تطلق إلا واحدة، ولو قال لها: طلّقي نفسك واحدة فطلّقت نفسها ثلاثًا لم تطلق إلا واحدة. وقال أبو حنيفة: إن قال لها: طلّقي نفسك ثلاثًا فطلقت نفسها واحدة لم تطلق. وقال مالك: مثل هذا وأما إن نويا العدد ولم يذكراه حملا فيه على نيتهما، فإن اتفقا في نية العدد فنويا طلقتين أو ثلاثًا كان على ما نويا من العدد. وقال أبو حنيفة: لا تأثير للنية في العدد، وقد مضى الكلام معه، فءن اختلفا في النية كان العدد محمولًا على أقل الثنتين كما لو أظهراه قولًا، فإن نوى الزوج ثلاثًا ونوت الزوجة واحدة كانت واحدة وإن لم يذكرا عددًا ولا نوياه طلقت واحدة. فصل وأما القسم الثاني: وهو أن يكون بذله كناية وقولها كناية كقوله: اختاري نفسك فتقول: قد اخترت نفسي، فلا يقع الطلاق حتى ينوياه جميعًا فإن نواه دون الزوجة أو الزوجة دون الزوج لم يقع. وقال مالك: يقع وإن لم ينويه ولا واحد منهما بناء على أصله في أن الكناية الظاهرة لا تفتقر إلى نية. وقال أبو حنيفة: إذا نواه الزوج وحده وقع الطلاق وإن لم تنوه الزوجة، استدلالًا بما روي أن الصحابة سئلوا عمَّن خير زوجته فقال عمر: إن اختارت نفسها فواحدة ولها الرجعة، وإن اختارت زوجها فلا طلاق، وتابعه ابن مسعود، وابن عباس، وقال علي بن أبي طالب - عليه السلام - إن اختارت نفسها فهي واحدة بائنة، وإن اختارت زوجها فواحدة وهو أحق بها. وقال زيد بن ثابت: إن اختارت نفسها طلقت ثلاثًا وإن اختارت زوجها فواحدة بائنة فأوقع جميعهم الطلاق عليها باختيارها نفسها، ولم يعتبروا النية، فصاروا مجمعين على أن النية غير معتبرة من جهتها، قال: ولأن تعليق الطلاق عليها لا يوجب اعتبار نيتها فيه كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق، طلقت بدخول الدار، وإن لم ينوه كذلك في الاختيار ودليلنا هو: أنه لما كان تخيير الزوج لها كناية، يرجع فيه إلى نية، لاحتماله أن يكون أراد اختاري نفسك للنكاح أو الطلاق، فوجب أن يكون اختيارها لنفسها كناية، ترجع فيه إلى نيتها لاحتماله أن يكون اخترت نضب لنكاحك أو طلاقك، ألا تراها لو قالت: قد اخترت نفسي لنكاحك لم تطلق، كلك إذا أطلقت، فأما استدلاله بإجماع الصحابة، فلا دليل فيه لأنهم لم يعتبروا نية الزوج، وهي معتبرة عندنا

وعنده، فكذلك إذا لم يعتبروا نية الزوجة، ويكون ذلك منهم لعلمهم بوجود النية منهما. وأما استدلاله بدخول الدار، فحسبنا به دليلًا، لأنه لما كان إذا علق طلاقها صح، بدخول الدار لم تطلق لا بوجود للدخول منها، كذلك إذا خيرها في طلاق نفسها، لم تطلق حتى تختار طلاق نفسها، فإذا تقرر أن النية معتبرة منهما، وأن الطلاق لا يقع إلا بنيّتهما فلها ثلاثة أحوال: أحدها: أن تختار نفسها. والثانية: أن نختار زوجها. والثالثة: أن لا يكون لها اختيار. فإن اختارت نفسها، طلقت واحدة رجعية، وإن اختارت زوجها أو لم يكن لها اختيار لم تطلق، وبه قال من الصحابة: عمر وابن مسعود وابن عباس، وقال أبو حنيفة: إن اختارت نفسها طلقت واحدة بائنة، وإن اختارت زوجها لم تطلق، وقال ربيعة: إن اختارت نفسها طلقت واحدة بائنة، وإن اختارت زوجها، طلقت واحدة رجعية، وبه قال من الصحابة: علي بن أبي طالب، وقال زيد بن ثابت: إن اختارت نفسها طلقت ثلاثًا، وإن اختارت زوجها طلقت واحدة بائنة. والدليل على أن اختيارها لزوجها لا يكون طلاقًا، منا رواه الزهري عن أبي سلمة بن عبد الرحمن عن عائشة - رضي الله عنها - قالت: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير نسائه بدأ بي، فقال: إني ذاكر لك أمرًا فلا تعجلى حتى تستأمري أبويك، ثم تلا هذه الآية: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ إن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا وزِينَتَهَا فَتعالانَ أُمَتِّعْكُنَّ وأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلاً} [الأحزاب: 28] الآية: فقلت في أيّ هذين أستأمر أبوي، فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة، قالت: ثم فعل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم مثل ما فعلت، ولم يكن قال لهن رسول الله، فاخترته طلاقًا من أجل أنهن اخترنه. ومن الدليل عليه أيضًا: أن اختيارها لزوجها ضد اختيارها لنفسها، فلما طلقت باختيارها نفسها، وجب أن لا تطلق باختيار زوجها، لأن اختلاف الضدين يوجب اختلاف الحكمين. والدليل على أنها تكون واحدة رجعية، ولا تكون ثلاثًا ولا واحدة بائنة، ما قدمنا في حكم الطلاق إذا وقع بالكناية، وهكذا لو قال لها أمرك بيدك، فقالت: قد اخترت نفسي أو قال لها: أبيني نفسك، فقالت: قد أبنت نفسي، وهكذا لو اختلفت الكناية منهما، فقال لها: حرّمي نفسك فقالت: قد حرمت نفسي لم يقع الطلاق حتى ينوياه جميعًا.

فصل فإن قال لها: اختاري نفسك، فقالت: قد اخترت أبي وأمي، لم يقع به الطلاق، وإن نوته، لأنه ليس بصريح ولا كناية، إذ ليس اختيارها لأبيها موجبة لفراق زوجها. ولو قالت: قد اخترت الأزواج ففي وقوع الطلاق به إذا نوته وجهان: أحدهما: يقع به الطلاق، لأنها لا تحل للأزواج مع بقائها على نكاحه. والوجه الثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي لا يقع به الطلاق لعلتين. إحداهما: أنه من الأزواج. والثانية: أن اختيارها لنفسها لا تكون ذات زوج، فعلى هذا لو قالت: قد اخترت زيدًا ناويًا للطلاق طلقت على التعليل الأول، ولم تطلق على التعليل الثاني. فصل وأما القسم الثالث: وهو أن يكون بذله صريحًا وقبولها كناية. فصورته أن يقول لها: طلّقي نفسك، أو قد جعلت بيدك طلاق نفسك، فتقول: قد اخترت نفسي أو قد أبنت نفسي، فتعتبر نية الزوجة ولا تعتبر نية الزوج، لأن صريح الزوج لا يفتقر إلى نية وكناية الزوجة تفتقر إلى النية، فإذا قالت ذلك ناوية للطلاق طلّقت، على قول جمهور أصحابنا، وقال منهم أبو عبيد بن حربويه، وأبو علي بن خيران: لا تطلق لأن قبول الصريح يكون صريحًا للنكاح، وهذا فاسد، لأن الكناية مع النية تقوم مقام الصريح بغير نية، وجرى اختلاف الصريح والكناية مجرى اختلاف الصريحين، واختلاف الكنايتين وإذا كان كذلك وسئلت الزوجة عن نيتها، فقالت: ما أردت الطلاق، لم تطلق، فإن أكذبها الزوج طلقت بإقراره أنها قد نوت، وإن قالت: أردت الطلاق، طلقت فإن أكذبها كان القول قولها مع يمينها، لأن النية باطنة لا تعرف إلا من جهتها. وقال أبو سعيد الإصطخري: القول قول الزوج مع يمينه، ولا يصدق قولها في وقوع الطلاق عليه كما لو ادعته، وكما لو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، فقالت: قد دخلت، وهذا خطأ، لأن تعليق الطلاق بما يعتبر فيه نيتها، أخفي من تعليقه بحيضها، فلما كان لو قال لها إذا حضت فأنت طالق، فقالت: قد حضت، قبل فيه قولها، وإن أكذبها، فأولى أن يقبل قولها فيما تعلق من نيتها، لأن إقامة البينة على نيّتها، أشد تعذرًا من إقامتها على حيضها، لاستحالة تلك وإمكان هذه، وخالف قوله لها: إن دخلت الدار فأنت طالق فتدعي دخولها، فلا يقبل قولها، لأنه يمكنه إقامة البينة على دخولها. فصل وأما القسم الرابع: وهو أن يكون بذله كناية وقبولها صريحًا فصورته: أن يقول لها اختاري نفسك أو أمرك بيدك، فتقول قد طلّقت نفسي، فتعتبر نية الزوج ولا تعتبر نية

الزوجة، لأن كناية الزوج تفتقر إلى النية، وصريح الزوجة لا يفتقر إلى النية، فإن قالت أردت الطلاق طلقت، وإن قال لم أرده، لم تطلق، وإن جن أو مات قبل أن تعلم إرادته، لا تطلق وكان لها ميراثها منه، لأن إرادته مجوزة والطلاق لا يقع بالشك، فلو قال لها: أمرك بيدك فأراد به طلاقها في الحال، ولم يجعله بذلا يقف على قبولها. قال الشافعي في كتاب "الإملاء": لم تطلق، لأن هذا القول منه إذا اقترن بالإضافة إليها صار صريحًا، في جعل الطلاق إليها، وتعليقه بقبولها، فلم يقع إلا به، ويحتمل أن يقع به الطلاق، لأنه من كناياته الجاري مجرى قوله .. قد ملكتك نفسك، وتزوجي من شئت فيقع به الطلاق إذا نواه، ولكن لو قال لها: طلّقي نفسك وأراد به وقوع الطلاق عليها من غير أن يقفه على قبولها وتطليقها لنفسها لم تطلق إلا أن تطلق نفسها، لأنه لا يحتمل غيره. فصل ولو قال لها: إن أحببت فراقي، فأمرك بيدك، لم تطلق إذا طلقت نفسها، حتى تقول قبل الطلاق قد أحببت فراقك، ثم تطلق نفسها فتطلق حينئٍذ، لأنه مقيد بهذا الشرط ولو قال لها: إذا مضت سنة فأمرك بيدك، أو قال لها: إذا قدم زيد فأمرك بيدك لم يجز، لأنه تمليك مؤجل، وبذل منتظر، فإن طلقت نفسها بعد مضي السنة، أو بعد قدوم زيد، لم تطلق لبطلان التمليك، وفساد البذل، ولكن لو قال: أمرك بيدك تطلقين نفسك بعد سنة أو إذا قدم زيد، ففيه قولان: أحدهما: نص عليه في "الإملاء" وهو قول أبى حنيفة واختيار المزني أنه جاز، تغليبًا لحكم الطلاق بالصفة، ولها إذا مضت السنة أو قدم زيد أن تعجل طلاقها، فإن أخرته لم تطلق. والقول الثاني: نص عليه في الجديد، وهو الأصح لا يجوز تغليبًا لحكم التمليك، الذي لا يجوز أن يعلق لأجل منتظر ولا بصفة متوقعة، فان طلقت نفسها عند مضي السنة، وقدوم زيد لم تطلق، لبطلان التمليك، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: " لا أعلم خلافًا أنها إن طلقت نفسها قبل أن يتفرقا من المجلس وتحدث قطعًا لذاك أن الطلاق يقع عليها فيجوز أن يقال لهذا الموضع إجماع". قال الماوردي: إذا جعل إليها طلاق نفسها فهو تمليك، يراعى فيه تعجيل القبول، والقبول أن تطلق نفسها فتملك بتعجيل الطلاق ما ملكها، وإذا كان كذلك فقد قال الشافعي ها اهنا: إن طلقت نفسها قبل أن يتفرقا من المجلس أو يحدث قطعًا لذلك، وقع الطلاق عليها، فجعل وقوع الطلاق عليها مقيدًا بشرطين:

أحدهما: أن يكون قبل افتراقهما عن مجلسها. والثاني: أن يكون قبل أن يحدثا ما يقطع ذلك من قول أو فعل، فلم يختلف أصحابنا أنها متى طلقت نفسها بعد افتراقهما عن المجلس، لم تطلق، ومتى طلقت نفسها في المجلس بعد أن حدث تشاغل بغيره من كلام أو فعال لم تطلق. واختلف أصحابنا هل يكون خيارها ممتدًا في جميع المجلس أو يكون على الفور؟ على وجهين: أحدهما: وهو ظاهر كلامه ها هنا، وفي "الإملاء" أنه ممتد في جميع المجلس، فمتى طلقت نفسها فيه طلقت، وإن تراخى الزمان. والوجه الثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي والمحققين من أصحابنا: أنه على الفور في المجلس، لأنه قبول تمليك، فأشبه القبول قي تمليك البيع والهبة، وإطلاق الشافعي من محمول على هذا الشرط، لأن أصوله مقررة عليه، ولأنه ذكر الإجماع فيه، أنها إذا طلقت نفسها على هذه الصفة، كان إجماعًا ولا يكون إلا أن يتعجل على الفور من غير مهلة. وقال مالك في إحدى روايتيه: لها أن تطلق إلى شهر، وفي الرواية الثانية: ما لم تمكنه من وطئها، وكلا القولين مردود ومدفوع بما ذكرنا من التعليل. فصل وإذا ملكها طلاق نقسها، ثم رجع في التمليك، قبل أن تطلق نفسها صح رجوعه وبطل تمليكه، فإن طلقت نفسها لم تطلق، وقال أبو حنيفة ومالك وأبو علي بن خيران من أصحابنا: ليس له الرجوع، وإذا طلقت نفسها بعد رجوعه طلقت، استدلالًا بأنه طلاق معلق بصفة، فلم يملك الزوج الرجوع فيه، كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق، فإنه لا يملك إبطال هذه الصفة وتطلق متى دخلت الدار. ودليلنا هو أنه تمليك للطلاق لوقوفه على قبولها، وللمالك وبعد بذله أن يرجع فيه قبل قبوله منه، كما يرجع في بذل الهبة والبيع، قبل قبولهما منه، وخالف تعليق طلاقها بدخول الدار، لأنه لا يقف على قبولها، وليس لها إبطال ذلك على نفسها، فلم يكن له إبطال ذلك عليها، وليس كالتمليك الذي لها أن تبث على نفسها، فكان له إبطاله عليها، وإذا صح رجوعه كما ذكرنا، فمتى طلقت نفسها بعد علمها برجوعه، كان في وقوع طلاقها وجهان، من الوكيل في القصاص إذا لم يعلم بالرجوع حتى اقتص والله أعلم. مسألة: قال المزني: "وقال في الإملاء على مسائل مالك: وإن ملك أمرها غيرها فهذه وكالة متى أوقع الطلاق وقع ومتى شاء الزوج رجع".

قال الماوردي: وهذا كما قال والوكالة في الطلاق جائزة، لأن فاطمة بنت قيس طلقها وكيل زوجها، بمشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمضاه، ولأنه لما جازت الوكالة في النكاح مع تغليظ حكمه كان جوازها في الطلاق أولى، فإذا وكل رجلًا عاقلًا جاز، سواء كان حرًا أو عبدًا، مسلمًا أو كافرًا، ولا يجوز أن يوكل مجنونًا ولا صغيرًا، لأنه لا حكم لقولهما، وفي جواز لامرأة وجهان مضيا في الخلع، ثم الوكالة على ضربين: أحدهما: أن تكون مطلقة وهو أن يقول: قد وكلتك في طلاق زوجتي فلانة، فله أن يطلقها على الفور والتراخي بخلاف ما لو ملكها الطلاق لنفسها، لأن هذه نيابة وذاك تمليك، فإن ذكر له من الطلاق عددًا لم يتجاوزه، فلو قال له: طلقها ثلاثًا فقال لها: أنت طالق ثلاثًا، طلقت ثلاثًا، ولو قال لها: أنت طالق ونرى أن يكون ثلاثًا فيه وجهان: أحدهما: تطلق ثلاثًا، لأن نية الثلاث تقوم مقام التلفظ بالثلاث. والوجه الثاني: لا تطلق ثلاثًا ولا تقوم نيته مقام نية الزوج، لأن الزوج مدين في الطلاق معمول على نيته فيه، والوكيل غير مدين في الطلاق فلم يعمل على نيته فيه، وهكذا لو طلقها الوكيل بالكناية مع النية، كان على هذين الوجهين، فلو وكله أن يطلقها ثلاثًا فطلقها واحدة، ففي وقوعها وجهان: أحدهما: يقع، لأنه بعض ما وكل فيه. والوجه الثاني: لا يقع لأنه وكل في طلاق بائن، وهذا الطلاق غير بائن فصار غير ما وكل فيه، فلو وكله أن يطلقها واحدة، لم تقع الثلاث، وفي وقوع الواحدة وجهان: لو وكله في طلاق واحدة من نسائه ولم يعينها له ففيه وجهان: أحدهما: أن أيتهن طلقها صح، لأن وقوع الطلاق المبهم جائز، فكان التوكيل فيخ جائزًا. والوجه الثاني: أنه يجوز أن يطلق واحدة قبل أن يعينها الزوج، فءن طلق واحدة منهن قبل تعيينها لم تطلق، لأن إبهام الطلاق من جهة الزوج يجوز، لأنه موقوف على خياره في التعيين، ومن جهة الوكيل لا يجوز لأنه غير موقوف على خياره في التعيين. فصل والضرب الثاني: أن تكون الوكالة مقيدة، وهو أن يوكله في طلاقها على صفة، وهو أن يأمره أن يطلقها في يوم الخميس، فلا يجوز أن يطلقها إلا فيه، فإن طلقها في غيره لم تطلق، أو يأمره أن يطلقها للسنَّة، فإن طلقها للبدعة لم تطلق، أو يأمره أن يطلقها للبدعة، فإن طلقها للسنة لم تطلق، فلو قال له: طلقها إن شئت لم يقع طلاقه حتى يقول قد شئت ولا يكون إيقاعه للطلاق مشيئة منه، لأنه قد يوقع الطلاق بمشيئة وغير مشيئة، والمشيئة لا تعلم إلا بالقول. وليس من شرط مشيئته الفور بخلاف ما لو علق الطلاق بمشيئتها، لأن تعليقه للطلاق بمشيئتها، تمليك فروعي فيه الفور وتعليقه للطلاق بمشيئته صفة، فلم يراع فيها الفور، ولأنه جعل إليها طلاقها إذا شاء، فلما جاز

أن يطلقها على الفور والتراخي جاز أن تكون مشيئته مع الطلاق المتراخي، لكن من صحة مشيئته أن يخبر بها الزوج قبل طلاقه فإن أخبر بها غيره ثم طلق لم يقع، لأنه إذا كان إخباره بها شرطًا، كان إخبار الزوج بها أحق، وأولى أن يكون شرطًا، فلو قال له: طلقها إن شاءت، روعيت مشيئتها عند عرض الوكيل الطلاق عليها، فانه لا يجوز أن يطلقها إلا بعد عرض الطلاق عليها وسؤالها عن مشيئتها، فتصير حينئٍذ مشيئتها معتبرة على الفور، فإن عجلها وقع الطلاق، وإذا أوقعه الوكيل بعدها، سواء أوقعه على الفور أو على التراخي، فإن تراخت مشيئتها، لم يقع الطلاق بعدها، لفساد المشيئة. فصل وليس للوكيل في الطلاق أن يوكل غيره فيه، فان وكل وكيلين في طلاق زوجة واحدة وجعل إلى كل واحد منهما أن يطلقها، فأيهما سبق بطلاقها ثلثًا، بطلت وكالة الآخر ولو جعل إلى كل واحد منهما أن يطلقها واحدة فإذا سبق أحدهما طلقها واحدة لم تبطل وكالة الآخر وجاز له أن يطلقها أخرى، والفرق بينهما ما صح. وهكذا لو وكل واحدًا في طلاقها ثلاثًا ثم بادر الزوج طلقها ثلاثة بطلت الوكالة. ولو طلقها الزوج واحدة، كانت الوكالة بحالها في الطلقتين الباقيتين، وإن طلقها الوكيل ثلاثًا وقع منهما طلقتان، لأنهما الباقيتان من طلاق الزوج، بعد الواحدة التي أوقعها ولو وكله في طلاقها واحدة ثم طلقها الزوج واحدة، لم تبطل الوكالة ما لم تنقض العدة، فإن طلقها الوكيل واحدة في العدة، طلقت سواء راجعها الزوج من طلقته، أو لم يراجع، فلو انقضت عدتها من طلقة الزوج ثم استأنف نكاحها ففي بقاء الوكالة وجواز طلاق الوكيل لها وجهان: أحدهما: الوكالة باقية وطلاق الوكيل لها واقع. والوجه الثاني: أن الوكالة قد بطلت وطلاقه غير واقع، وهذان الوجهان من اختلاف قوليه في عقد الطلاق في نكاح، هل يجوز أن يقع في غيره أم لا. فصل فإذا رجع الزوج عن الوكالة أو جن أو مات، لم يكن له أن يطلق، فإن طلق لم يقع، فلو لم يعلم الوكيل بجنون موكله أو موته فطلق، لم يقع طلاقه، لأن الطلاق لا يصح أن يقع عن زوج ميت، أو مجنون، ولو لم يعلم الوكيل برجوع الزوج حتى طلق، كان في وقوع طلاقه قولان من اختلاف توليه في الموكل في القصاص، إذا اقتص قبل العلم بالعفو. مسألة: قال الشافعي: "ولو جعل لها أن تطلق نفسها ثلاثًا فطلقت واحدة فإن لها ذلك".

قال الماوردي: وهذا صحيح، إذا قال لها: طلّقي نفسك ثلاثًا، فطلقت نفسها واحدة، طلقت واحدة، وقال مالك إذا قال طلّقي نفسك ثلاثًا، فطلقت واحدة لا يقع شيء وإذا قال: طلّقي واحدة فطلقت ثلاثًا، وقعت الثلاث، وعنه لا تطلق استدلالًا بأن قبولها بعض ما ملكها موجب لفساد القبول، وبطلان التمليك كما لو باعها عبدين بمائة فقبلت أحدهما لم يصح. ودليلنا هو: أن من ملك إيقاع الطلاق الثلاث ملك إيقاع الطلقة الواحدة كالزوج. وأما استدلاله بتبعيض القبول في البيع فإنما لم يصح، لأن البذل إنما كان في مقابلة ثمن لم يحصل له بالتبعيض، فلذلك لم يصح قبول البعض، ولولا الثمن لصح، ألا ترى لو وهب لها عبدين، فقبلت إحداهما صح، فكذلك الطلاق. فصل فإذا جعل إليها أن تطلق نفسها واحدة، فطلقت نفسها ثلاثًا، طلقت واحدة. وقال أبو حنيفة: لا تطلق، لأن ما عدلت إليه غير مأذون به، فلم يجز. ودليلنا هو: أنه إذا اجتمع في طلاقها مأذون فيه وغير مأذون فيه، لم يمنع غير المأذون فيه من وقوع المأذون فيه، ما لو جعل إليها طلاق نفسها، فطلقت نفسها وضرائرها، وادعى فيه أن الواحدة لا تتميز عن الثلاث، غير صحيح لأن المأذون فيه متميز عن غير المأذون فيه وربما حكي هذا للقول عن أبي حنيفة ولأول عن مالك. مسألة: قال الشافعي: "وقال فيه وسواء قالت طلقتك أو طلقت نفسي إذا أرادت طلاقًا قال الماوردي: وهذا كما قال إذا جعل إليها طلاق نفسها، فإن قالت قد طلقت نفسي، طلقت وكان هذا صريحًا لا يفتقر إلى نيتها. وإن قالت: قد طلقتك كانت كناية يقع به الطلاق إذا نوته، وقال أبو حنيفة: لا يقع به الطلاق وإن نوته، وقد مضى الكلام في هذه المسألة. مسألة: قال الشافعي: "ولو طلق بلسانه واستثني بقلبه لزمه الطلاق ولم يكن الاستثناء إلا بلسانه". قال الماوردي: اعلم أن الاستثناء في الطلاق على ثلاثة أضرب: أحدها: ما يصح مضمرًا ومظهرًا. والثاني: ما لا يصح مضمرًا، ولا مظهرًا. والثالث: ما يصح مظهرًا ولا يصح مضمرًا. فأما ما يصح إظهاره وإضماره فهو ما جاز أن يكون صفة للطلاق، أو أمكن أن يكون حالًا للمطلقة، فالذي يجوز أن يكون صفة للطلاق مثل قوله: أنت طالق [من]

وثاق، أو مسرحة إلى أهلك، أو مفارقة إلى المسجد فإن أظهره بلفظه صح وحمل عليه في الظاهر والباطن، ولم يلزمه الطلاق، لأنه وصفه بما يجوز أن يكون من صفاته، فيغير الطلاق فلذلك لم يقع به الطلاق، وإن لم يظهره قي لفظه وأضمره في نيته صح إضماره، ودين فيه ولم يلزمه الطلاق قي الباطن، اعتبارًا بالمضي ولزمه الطلاق في الظاهر اعتبارًا بالمظهر وأما الذي يمكن أن يكون حالًا للمطلقة فمثل قوله أنت طالق إلى رأس الشهر، ولو دخلت الدار، أو إن كلمت زيدا، فإن أظهر ذلك بلفظه عمل عليه في الظاهر، ولم يقع عليها الطلاق إلا على الحال التي شرطها، وإن أضمره بقلبه، ولم يظهره بلفظه دين فيه، وفي الباطن فلم يلزمه الطلاق إلا بذلك الشرط، اعتبارًا بإضماره ولزمه الطلاق في ظاهر الحكم اعتبارًا بإظهاره، فهذا ضرب. فصل وأما ما لا يصح إضماره ولا إظهاره، فهو ما كان فيه إبطال ما أوقع ونفي ما أثبت، كقوله: أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا، أو أنت طالق إلا أنت، فالطلاق واقع والاستثناء باطل في إطهاره باللفظ وإضماره بالقلب، لأن وقوع الطلاق يمنع ممن رفعه، لاسيما مع قول النبي صلى الله عليه وسلم: " ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والعتاق". والفرق بين هذا حيث بطل وبين الضرب الأول حيث صح: أن ذلك صفة محتملة وحال ممكنة، يبقى معها اللفظ على احتمال مجوز، وهذا رجوع لا يحتمل ولا يجوز، وإذا بطل هذا الاستثناء بما عللنا، وقع الطلاق ظاهرًا وباطنًا. فصل وأما الضرب الثالث: وهو ما يصح إظهاره ولا يصح إضماره، فهو الاستثناء من العدد، أو الشرط الواقع بحكم الطلاق، فالاستثناء من العدد، أن يقول: أنت طالق ثلاثًا إلا اثنتين والشرط الرافع لحكم الطلاق، أن يقول: أنت طالق إن شاء الله، فإن أظهره في لفظه متصلًا بكلامه صح، وكان محمولًا عليه في الظاهر والباطن فلا يلزمه الطلاق إذا قال: إن شاء الله ويقع عليها طلقة واحدة، إذا قال: أنت طالق ثلاثًا إلا اثنتين، لأن بعض الكلام مرتبط ببعض، فأوله موقوف على آخره، وهو كلام لا ينقض بعضه بعضًا، فصح ولو لم يتلفظ بهذا الاستثناء بلسانه وأضمره بقلبه ونوى بقوله: أنت طالق أن يكون معلقًا بمشيئة الله، أو قال: أنت طالق ثلاثًا ونوى إلا اثنتين، لم يصح ما أضمره من الاستثناء بمشيئة الله، ومن العدد، ووقع الطلاق ثلاثًا في الظاهر والباطن، وإنما كان صحيحًا مع الإظهار مع الإضمار، لأن حكم اللفظ أقوى من النية، لأن الطلاق يقع بمجرد اللفظ من غير نية، ولا يقع لمجرد النية من غير لفظ، فإذا

تعارضت النية واللفظ، يغلب حكم اللفظ لقوته على حكم النية لضعفه، فوقع الطلاق وبطل الاستثناء. فلو قال: وله أربع نسوة: أنتن طوالق، واستثنى واحدة منهن فعزلها من الطلاق صح استثناؤه من طلاقهن، مظهرًا ومضمرًا، فلا يقع طلاقها إن استثناها ظاهرًا بلفظه لا في الظاهر ولا في الباطن، ولا يقع طلاقها إن استثناها، باطنًا بنيته في الباطن، وإن كان واقعًا، وإن كان واقعًا في الظاهر ولكن لو قال للأربع: أنتن يا أربع طوالق، وأراد إلا واحدة فإن استثناها بلفظه صح، وإن عزلها بنيته لم يصح، كالاستثناء من العدد لأنه قد صرح بذكر الأربع، ولم يصرح بذكرهن فيما تقدم، فلو قال لزوجته: أنت طالق وأراد بقلبه الإشارة بالطلاق إلى إصبعه دون زوجته لم يقبل منه في ظاهر الحكم، واختلف أصحابنا هل يدين في باطن الحكم فيما بينه وبين الله تعالى أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يدين فيه لاحتمله. والثاني: وهو أصح: لا يدين فيه، ويلزمه الطلاق في الظاهر والباطن جميعًا لأمرين: أحدهما: أن الإصبع لا يتوجه إليها طلاق انفصاله ولا طلاق تحريم. والثاني: أنه أوقع طلاقًا على أن لا يكون طلاقًا فصار كقوله: أنت طالق إلا أنت، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: " ولو قال أنت على حرام يريد تحريمها بلا طلاق فعليه كفارة يمين لأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم جاريته فأمر بكفارة يمين (قال الشافعي) رحمه الله لأن تحريم فرجين حلين بما لم يحرما به". قال الماوردي: وهذا كما قال: إذا قال الرجل لزوجته: أنت علي حرام، فإن أراد به الطلاق، كان طلاقًا يقع من عدده ما نوه من واحدة أو اثنتين أو ثلاث، وإن لم ينو عددًا، كانت واحدة رجعية، وإن أراد به الظهار كان ظهارًا، وإن أراد به الإيلاء لم يكن إيلاًء، لأن الإيلاء يمين، لا ينعقد بالكناية وأن أراد يه تحريم وطئها لم يحرم، ولزمه كفارة يمين، وإن لم يكن له إرادة لم يتعلق به طلاق ولا ظهار ولا تحريم، وهل تجب به كفارة يمين أم لا؟ على قولين ذكرهما في "الإملاء": ولو قال لأمته: أنت علي حرام، فإن أراد به عتقها، عتقت وإن أياد تحريم وطئها لم تحرم وكفر كفارة يمين، وإن لم يكن أراد، لزمته كفارة يمين قولًا واحدًا. ومن أصحابنا من قال على قولين كالحرة، ومنهم من خرج الحرة والأمة في وجوب الكفارة عند فقد الإرادة على ثلاثة أقاويل:

أحدهما: تجب في الحرة والأمة. والثاني: لا تجب في الحرة ولا في الأمة. والثالث: تجب في الأمة، ولا تجب في الحرة، لأن التحريم في الأمة أصل، وفي الحرة فرع ولا ينعقد به الأحوال كلها يمين، هذا مذهبنا. وقد اختلف الصحابة ثم التابعون - رضي الله عنه - في لفظ التحريم الذي يوجب إذا فقدت فيه الإرادة على ثمانية أقاويل: أحدها: ما حكي عن أبي بكر -رضي الله عنه- أنها يمين يجب بها إذا حنث كفارة يمين، وبه قالت عائشة والأوزاعي. والثاني: ما حكي عن عمر - رضي الله عنه- أنها طلقة رجعية، وبه قال الزهري. والثالث: ما حكي عن عثمان - رضي الله عنه - أنه يكون ظهارًا تجب به كفارة الظهار وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس، وبه قال: سعيد بن جبير وأحمد بن حنبل. والرابع: ما روي عن علي -رضي الله عنه- أنه يكون طلاقة لا تحل منه إلا بعد زوج، وبه قال: زيد بن ثابت وأبو هريرة، وابن أبي ليلى ومالك. والسابع: ما حكي عن النخعي أنها طلقة بائن، وبه قال: الحكم بن عيينة، وحماد بن أبي سليمان وسفيان الثوري. والثامن: ما حكي عن أبي حنيفة: أنه يكون إيلاء، يؤجل فيه أربعة أشهر فإن وطاء فعليه كفارة يمين، وإن لم يطأ حتى مضت أربعة أشهر طلقت طلقة بائنة، فيصير قوله موافقًا لقول أبي بكر - رضي الله عنه - أنها يمين، ثم يزيد عليه بما يعلق عليها من حكم الإيلاء، ويقول إنه لو حرم طعامه أو ماله على نفسه كان يمينًا يلزمه بها كفارة يمين ولا يلزمه عند الشافعي، بتحريم طعامه وماله كفارة. واستدل أبو حنيفة على أن التحريم يمين يوجب ما ذكره من الإيلاء والكفارة بقوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ واللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 1، 2] فكان استدلالًا بذلك من وجهين: أحدهما: أن الذي حركه على نفسه مختلف فيه، فحكي عروة وابن أبي مليكة، أنه حرم العسل على نفسه لأنه كان يشربه عند بعض نسائه، فقالت الباقيات: نجد منك ريح المعافير، والمعافير صمغ العرفط، لأن من النحل ما يكون يرعاه، فيظهر فيه ريحه، وكان يكره ريحه، فحرمه على نفسه ثم كفَّر. وحكي الحسن وقتادة، أنة حرم مارية على نفسه، لأنه كان خلا بها في منزل حفصة، فغارت فحرّمها ثم كفَّر، فدل على وجوب الكفارة في الإماء والطعام، وكفارة اليمين تجب في الإماء. والثاني: أن الله تعالى قال: (قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ) فدل بهذا النص على أن التحريم على يمين، وبما روى ابن عباس عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنهما، أنَّ

النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الحرام يمين تكفر" وهذا نص. ولأن ما أوجب كفارة اليمين في الزوجة والآمة، كانتر يمينًا توجب الكفارة في الطعام والمال كالحلف بالله تعالى. ودليلنا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} فأنكر الله تعالى على نبيّه صلى الله عليه وسلم ما أحله له، فدل على أن التحريم لم يقع فبطل به قول من جعله طلاقًا وظهارًا، وقوله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} دليل على أنه حرم ما أحل الله له، بيمين حلف بها، فعوتب في التحريم، وأمر بالكفارة في اليمين، ولم يكن التحريم بيينًا، لأن اليمين إنما يكون خبرًا عن ماض ووعدًا بمستقبل، فلم يجز أن يكون يمينًا، ويدل على ما قلناه ما روي عن عائشة رضي الله عنها - قالت: آلي رسول الله صلى الله عليه وسلم من نسائه شهرًا، وحرم جاريته يومًا بيمين، وكفّر عن تحريمه. فبطل بهذا أن يكون التحريم يمينًا، أو يصير مؤليًا، وأخبرت أنه كفر عن تحريم العارية دون العسل، ويدل عليه مبرم طريق الاعتبار. أن كل لفظ عربي عن اسم لله تعالى وصفته لم تنعقد به اليمين، قياسًا على كنايات الطلاق والعتاق وسائر الكلام. فأما الجواب عن الآية فهو ما قدمناه من الاستدلال بها، وقد روى الحسن وقتادة والشعبي أنه حرم مارية عن نفسه بيمين حلف بها. وأما حديث ابن عباس عن عمر، فقد رواه عبد الله بن محرز عن قتادة عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، وقد ذكر الدارقطني أن ابن محرز ضعيف، ولم يروه عن قتادة على أنه يحمل قوله: "الحرام يمين يكفر"، أي في الحرام كفارة يمين، وأما القياس بالمعنى في الأصل أنه خالف الله تعالى فانعقدت به اليمين. مسألة: قال الشافعي: " ولو قال كل ما أملك على حرام يعنى امراأته وجواريه وماله كفر عن المرأة والجواري كفارة يمين واحدة ولم يكفر عن ماله". قال الماوردي: وهذا صحيح، إذا حرم على نفسه ما يملك من نسائه وجواريه وأمواله، فلا كفارة عليه في الأموال لما ذكرنا، وأنه لا حرمة له ولا تغليظ ولا حد في تناول محظوره، وأما نساؤه وجواريه، فإن أراد تحريم وطئهن لزمته الكفارة، وفيها قولان: أحدهما: وهو قوله في القديم، وظاهره نصه ها هنا، عليه كفارة واحدة، لأن لفظة التحريم واحدة. والقول الثاني: عليه لكل واحدة من نسائه وجواريه كفارة، اعتبارًا بأعدادهن، لأن كل واحدة منهن محرمة، ومثله من ظاهر من أربع نسوة له بكلمة واحدة كان فيما يلزمه من الكفارة قولان: أحدهما: كفارة واحدة، لأن اللفظة واحدة.

والثاني: أربع كفارات، باعتبار أعدادهن لأن كل واحدة منهن محرمة أنه مظاهر من كل واحدة منهن. وهكذا من قذف جماعة بكلمة واحدة، كان فيما يلزمه من الحد قولان: أحدهما: حد واحد، لأن اللفظة واحدة. والثاني: يحد لكل واحد حد، لأنه مقذوف في عيشه. وأما إذا حرمهن غير مريد لتحريم وطئهن، ففي وجوب الكفارة قولان: على ما مضى: أحدهما: لا كفارة فيه، ويكون لفظ التحريم كناية في وجوب الكفارة، لا يتعلق به مع فقد الإرادة حكم. والقول الثاني: أنه صريح في وجوب الكفارة مع فقد الإرادة، فيجب عليه به الكفارة. واختلف أصحابنا فيما يلزمه منها، فذهب جمهورهم آلي أنها على قولين كما لو أراد به تحريم وطئهن: أحدهما: كفارة واحدة. والثاني: بأعدادهن وقال أبو علي بن أبي هريرة: لا تجب عليه كفارة واحدة، قولًا واحدًا، وفرق بينهما بأنه في إرادة التحريم، يحرم لكل واحدة منهن، فجاز اعتبار الكفارة بأعدادهن، ومع فقد الإرادة، فالحكم في الكفارة متعلق باللفظ دونهن، فلم يكن لاعتبار عددهن وجه، فلزمه كفارة واحدة، والله أعلم. مسألة: قال المزني: "وقال في الإملاء وإن نوى إصابة قلنا أصب وكفر". قال الماوردي: إنما أراد الشافعي بهذا، وأن جوز تقديم الكفارة في تحريم الوطاء. الفرق بينه وبين الظهار لأنه في الظهار تنجب عليه تقديم الكفارة على الوطء، ويعضي الله تعالى إن أخرها، لقول الله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] ويجوز له في تحريم الوطء أن يقدم الإصابة ويؤخر الكفارة، وإن تقدم وجوبها على الإصابة، وجاز تعجيلها لأنها غير مقيدة بشرط. فصل فلو قال لنسائه: أنتن علي حرام يريد تحريم وطئهن، إن أصابهن فلا كفارة عليه في الحال حتى يصيبهن، لأنه جعل التحريم مشروطة في نيته بإصابتهن، فإذا أصابهن وجبت الكفارة عليه حينئٍذ ويقبل ذلك منه في الظاهر والباطن، بخلاف ما ينويه من شروط الطلاق، الذي يقبل منه في الباطن دون الظاهر لأن هذا مما يختص بوجوب الكفارة

التي هي من حقوق الله تعالى التي يدين فيها، فاستوى فيها حكم الظاهر والباطن، وليس كالكلام الذي يتعلق به حق لآدمي، فجاز أن يختلف فيه حكم الظاهر والباطن، والله أعلم بالصواب. مسألة: قَالَ الشَّافِعِي: "وَلَوْ قَالَ كَالْمَيْتَهِ وَالدَّمِ فَهُوَ كَالْحَرَامِ". قال الماوردي: إذا قال لزوجته أو لأمته: أنت عليه كالميتة والدم، أو كلحم الخنزير، فهذا قد يستعمل في كنايات الطلاق والظهار والعتق، فإن أراد بها طلاقًا أو ظهارًا أو عتقًا صح، وإن لم يرد به ذلك فلا يخلو حاله من ثلاثة أقسام. أحدها: أنه يريد به تحريم الوطئ، فيكون كناية فيه فتجب به الكفارة، لأنه إذا كان كناية في الطلاق فأولى أو يكون كناية في تحريم الوطء تجب به الكفارة، وإن لم يقع به التحريم، كقوله أنت عليّ حرام، يريد تحريم الوطء. والقسم الثاني: أن يريد به لفظ التحريم، فيجعله قائمًا مقام أنت علي حرام، فإن قلنا إن الحرام صريح في وجوب الكفارة، كان هذا كناية عنه، لأن الصريح يكنى عنه، فيصير بالنية جاريًا مجرى قوله: أنت علي حرام، فتكون الكفارة به واجبة، وإن قلنا إن الحرام كناية في الكفارة لا يتعلق به مع فقد الإرادة حكم، فلا شيء عليه في هذا، لأن الكناية ليس لها كناية. والقسم الثالث: أن لا يريد شيئًا فلا شيء عليه، لأن الكناية مع فقد الإرادة لا يتعلق بها حكم، والله أعلم بالصواب. فصل وإذا قال لزوجته وهي محرمة، أو حائض أو في عدة عن طلاق رجعي، أو في ظهار لم يكفر عنه: أنت عليّ حرام، يريد تحريم وطئها لم تجب عليه كفارة، لأن وطأها محرم عليه، وهكذا لو قال لأمته، وقد زوجها أو كتبها. أنت عليّ حرام، يريد تحريم وطئها، لم تلزمه الكفارة، لأن وطئها محرم عليه، وإن قال ذلك لهما: وهما على الحال التي ذكرنا، لا يريد تحريم وطئها، فإن جعلنا اللفظ صريحًا في وجوب الكفارة وجبت عليه، لأن الحكم يصير معلقًا باللفظ وأن جعلناه كناية فيهما، لم تجب عليه. فصل وإذا قال لزوجته: فرجك عليّ حرام أو قال: رأسك عليّ حرام فهما سواء وليس لذكر الفرج زيادة حكم، لأنه بعضها كرأسها، فدخلا في قوله: أنت عليّ حرام، فجرى عليه حكمه وإن كان لفظ التحريم أعم، فإن أراد بتحريم الفرج والرأس تحريم الوطء، لزمته الكفارة وإن لم تكن له إرادة فعلى قولين، ولو قال بطنك عليّ حرام، كان صريحًا في وجوب الكفارة لانتفاء الاحتمال عنه.

فصل ولو قال: أنت عليّ حرام طالق، ولا نية له طلقت، ولم تلزمه الكفارة، وصار ما تعقب التحريم من الطلاق تفسيرًا له، ولو قال: أنت عليّ حرام وأنت طالق، لم يصر الطلاق تفسيرًا لاستئنافه بلفظ مبتدأ، ولزمته الكفارة في التحريم، على أحد القولين. ولو قال: أنت عليّ حرام كظهر أمي، ولا نية له، كان مظاهرًا ولم تلزمه بالتحريم كفارة، لأنه قد نفسر إطلاقه، بقوله: كظهر أمي، فيكون ظهارًا، ولا يكون طلاقًا. والثاني: أن يريد، الطلاق بقوله: أنت عليّ حرام، فيكون مطلقًا مظاهرًا. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَأَمَّا مَا لَا يُشْبِهُ الطَّلَاقَ مِثْلُ قَوْلِهِ بَارَكَ اللهُ فِيكِ أَو اسْقِينِي أَوْ أَطْعمِينِي أَوْ ارْوِينِي أَوْ زَوِّدِينِي وَمَا أَشبهَ ذَلِكَ فَلَيْسَ بِطَلَاقٍ وَإِنْ نَوَاهُ وَلَوْ أَجَزْتُ النِّيَّةَ بِمَا لَا يُشْبِهُ الطَّلَاقَ أَجَزْتُ أَنْ يُطَلِّقُ فِي نَفْسِهِ". قال الماوردي: قد ذكرنا أن الألفاظ في الطلاق تنقسم ثلاثة أقسام: صريح وقد مضى، وكناية وقد تقدم، وما ليس بصريح ولا كناية، وهو هذا، كقوله: أطعميني أو اسقيني أو زوديني وما أحسن عشرتك وما أظهر أخلاقك، وما جرى مجرى هذه الألفاظ التي توضع للفرقة ولا تتضمن معنى البعد، فلا يقع بها الطلاق، سواء نواه أو لم ينوه، لأن الطلاق لوقوع بما لا يتضمن معنى الفرقة، لوقع بمجرد النية، وقد رددنا على مالك في إيقاعه الطلاق بمجرد النية، في إحدى الروايتين عنه، وهو قول محمد بن سيرين. فأما إذا قال لها: اطعمي أو اشربي، كان كناية يقع به الطلاق، إذا نواه. وقال أبو إسحاق المروزي: لا يكون كناية، كما قال اطعميني واسقيني، وهذا فاسد لأن قوله اطعمي واشربي، يتضمن معنى البعد، لأن معناه اطعمي مالَكِ واشْرَبي شرابك وهي تفعل ذلك في الأغلب، إذا خلت من زوج، وقوله: اطعميني واسقيني، إذنًا لها وتقريب، فجرى هذا مجرى قوله اقري، وليس بكناية وجرى ذلك مجرى قوله اذهبي، وهي كناية، ولو قال: تجرعي وتفصصي، كان كناية، وافق عليه أبو إسحاق، ولو قال: جرعيني وغصصيني كان فيه لأصحابنا وجهان: أحدهما: لا يكون كناية، كما لو قال: اطعميني واسقيني. والثاني: يكون كناية، لأن معناه جرعني فرقاك، وغصصتيني لبعادك، ولو قال لها: بارك الله فيك، لا يكون كناية، ولو قال: بارك الله لك، كان كناية، والفرق بينهما ما ذكرناه. فصل وأما إذا قال لها: أنت الطلاق، فقد اختلف أصحابنا، هل يكون صريحًا، لأن

الطلاق صريح، فعلى هذا يطلق واحدة، إلا أن يريد أكثر منها. والوجه الثاني: تكون كناية، لأنها في نفسها لا تكون طلاقًا، وإنما يقع الطلاق عليها إذا أوقعه، فلذلك صار كناية فيرجع فيه إلى إرادته، فإن لم يرد به الطلاق لم يقع. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ قَالَ لِلَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا للِسُّنَّةِ وَقعَنَ مَعًا". قال الماوردي: أما إذا طلق غير المدخول بها ثلاثًا، طلقت ثلاثًا وهو قول الجمهور، وقال عطاء بن يسار: والمغربي تطلق واحدة، لأنها قد بانت بقوله: أنت طالق، فلم يقع عليها بعد البينونة بقوله ثلاثًا شيء، وهذا فاسد، لأن وقوع الثلاث هو بقوله: أنت طالق، لاحتماله العدد، وقوله ثلاثًا تفسيرًا منه للعدد المراد بقوله: أنت طالق، ولذلك جاء به منصوبًا، لكونه تفسيرًا، كما لو قال له: علي عشرون درهمًا، صار الدرهم لكونه منصوبًا، تفسيرًا للعدد كذلك الثلاث تفسيرًا للعدد. وقد حكي عن عبد الله بن عمر أنه سئل عن غير المدخول بها، إذا طلقت ثلاثًا، قال عطاء بن يسار: فقلت ولاثنتين، فقال عبد الله بن عمر: وأما هي الواحدة بينتها، والثلاث تحرمها حتى تنكح زوجًا غيره. فصل فإذا تقرر أن طلاق الثلاث: يقع على غير المدخول بها، كوقوعه على المدخول بها فقال لها وهي غير مدخول بها: أنت طالق ثلاثًا للسنة، وقعن معًا في الحال، على أي حال كانت من حيض أو طهر، لأننا قد ذكرنا أن غير المدخول بها، لا سنة في طلاقها ولا بدعة، وليس عندنا في عدد الطلاق سنة ولا بدعة، وعند أبي حنيفة، أنها تطلق واحدة تبين بها ولا يقع عليها غيرها بناء على أصله، في أن طلاق الثلاث بدعة، وأن السنة فيه، أن تقع في كل قرء طلقة، وهي بالطلقة الأولى قد بانت، فلم يقع عليها غيرها، وقد مضى الكلام معه. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، وَقَعَتِ، الأُولَى وَبَانَتْ بِلَا عِدَّةٍ. واللهُ سُبْحَانَهُ وَتعالى أَعْلَمُ". قال الماوردي: وهذا في غير المدخول بها، إذا قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، مريدًا بالثانية والثالثة الاستئناف، طلقت واحدة باللفظ الأول، ولم تقع الثانية والثالثة لأنها بالأولى بانت. وقال مالك: تطلق ثلاثًا إذا قال لها: متصلًا لأن بعض الكلام مرتبط ببعض، وحكم أوله موقوف على آخره، فجرى مجرى قوله: أنت طالق ثلاثًا، وهذا فاسد، لأنه طلاق مرتب قدم بعضه على بعض فإذا وقع ما تقدم منه منع من وقوع ما تأخر عنه، وخالف

قوله: أنت طالق ثلاثًا، لأنهن وقعن معًا باللفظ الأول من غير ترتيب، وحكي عن الشافعي في القديم: إنها تطلق ثلاثًا كقول مالك فخرجه ابن أبي هريرة قولًا ثانيًا، وأباه سائر أصحابنا وجعلوه جوابه عن مالك. فصل فإذا قال لغير مدخول بها: أنت طالق طلقتين ونصفًا، طلقت طلقتين ولم تقع عليها الثالثة لانفرادها عن ما قبلها بواو العطف، ولو قال لها: أنت طالق ثلاثًا إلا نصف واحدة، طلقت ثلاثًا لأن الباقي بعد الاستثناء، طلقتان ونصف بكلمة واحدة فكملت ثلاثًا. فصل فإذا قال لغير مدخول بها: أنت طالق واحدة بعدها واحدة، فهي طالق واحدة ليس بعدها شيء، لأنها قد بانت بالواحدة. ولو قال لها: أنت طالق واحدة قبلها واحدة ففيه وجهان: أحدهما: لا طلاق عليه، لأن وقوع الطلاق عليها يوجب وقوع طلقة قبلها ووقوع ما قبلها يمنع من وقوعها، فاقتضى تنافي الدور وإسقاط الجميع. والوجه الثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة، أنها تطلق واحدة ليس قبلها شيء، لأن وقوع ما قبلها موجب لإسقاطها، وإسقاط ما قبلها يوجب إثباتها، وإسقاط ما قبلها، ولو قال أنت طالق واحدة معها واحدة، ففيه وجهام: أحدهما: تطلق طلقتين، لأنهما يقعان معًا لا تتقدم إحداهما على الأخرى، فصار كقوله: أنت طالق طلقتين. والوجه الثاني: وهو قول المزني أنها تطلق واحدة، ليس معها شيء، لأنه قد أفردها، فصار كقوله: أنت طالق واحدة بعدها واحدة. فصل ولو قال لها وهي غير مدخول بها: إذا دخلت الدار فأنت طالق واحدة، ثم قال لها: إذا دخلت فأنت طالق ثنتين، فدخلت الدار، طلقت ثلاثًا لوقوعهن معًا في حالة واحدة. فصل ولو قال: إذا دخلت الدار، فأنت طالق واحدة، معها واحدة، فدخلت الدار، طلقت ثنتين لوقوعهما معًا، ولو قال: إذا دخلت الدار فأنت طالق واحدة، بعدها واحدة طلقت بدخول الدار واحدة، ليس بعدها شيء، لأنها رتبهما. ولو قال: إذا دخلت الدار فأنت طالق واحدة قبلها واحدة، كان على ما مضى من الوجهين: أحدهما: أنها لا تطلق بدخول الدار أصلًا.

باب طلاق الوقت وطلاق المكره

والثاني: تطلق واحدة ليس قبلها شيء. ولو قال: إذا دخلت الدار فأنت طالق طالق، فدخلت الدار ففيه وجهان: أحدهما: أن يقع عليها بدخول الدار طلقتان، لأن كل واحدة منهما تقع بدخول الدار من غير ترتيب. والوجه الثاني: لا يقع عليها إلا طلقة واحدة، كما لو قال لها مواجهة: أنت طالق وطالق، لم يقع عليها إلا واحدة، وهذا فاسد لأنه في المواجهة يترتب وفي تعليقه بدخول الدار غير مرتب ولعل قائل هذا الوجه، أوقع الوحدة، لأن المواجهة عنده، توجب الترتيب والله أعلم. باب طلاق الوقت وطلاق المكره مسألة: قال: "وأيُّ أجلٍ طلّقَ إليهِ لم يلزمْهُ قبل وقتِهِ". إذا علق طلاقها بصفة تعلق بها سواء، كانت الصفة قد توجد وقد لا توجد كقوله: إذا كلمتِ زيدًا فأنت طالق ونحوه. أو كانت الصفة توجد لا محالة، مثل قوله: إذا طلع الفجر أو الشمس أو أهل الهلال فأنت طالق ولا يسبق الطلاق الصفة بحال. وبه قال جمهور العلماء، وقال مالك: إذا علقه بصفة توجد لا محالة يقع الطلاق في الحال، وبه قال الزهري وسعيد بن المسيب والحسن، واحتجوا بأن النكاح لا يكون مؤقتًا بالزمان لأنه لا يجوز أن يتزوجها شهرًا للنهي عن نكاح المتعة ولأنه عزم على إيقاع الطلاق لا محالة فوقع وهذا غلط لأنه علق إطلاق بصفة صحيحة. فلم يقع قبل وجودها، كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق. وكما لو علق بموت زيد لا يقع قبله، وإن كان الموت كائنًا لا محالة ولأنه إذا ثبت فيه الأجل المجهول فالأجل المعلوم أولى ولأن في تعليق العتق لا فرق بين الصفتين كذلك هاهنا، وأما العزم على الطلاق لا يوقع الطلاق على ما تقدم بيانه. فرع لو قال: أنت طالق بعد شهر أو آلي شهر لا يقع قبل شهر. وسئل ابن عباس: عن الرجل يقول: أنت طالق آلي سنة قال: هي امرأته آلي سنة. وقال أبو حنيفة: إن قال آلي شهر وقع في الحال لأنه جعل ذلك أجلًا لمدة الطلاق لا شرطًا في وقوعه [1/ ب] وهذا غلط بل كلاهما شرط لأنه لا فرق بين قول القائل أنا خارج بعد شهر، أو أنا خارج آلي شهر في أن الشهر أجل لخروجه، ولأن كلمة (إلى)

تستعمل في انتهاء الفعل كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فلا يقع مع الاحتمال. فرع آخر لو قال لها: إذا جاء رأس الشهر فأنتِ طالق، ثم قال لها: عجلت لكِ الطلقة التي طلقتكها مما ذكره الشافعي في الإملاء كان ما يدل على أنه إن أراد تعجيل تلك الطلقة لم تتعجل ولا يقع الطلاق في الحال بل تطلق عند مجيء الشهر، وإن لم يرد تعجيل ذلك بل أوقع الطلاق في الحال وقع في الحال وفي رأس الشهر طلقة أخرى. مسألة: قال: "ولو قالَ في شهرِ كذا، أو في غرةِ هِلالِ كذا طلقتْ في المَغيبِ من الليلةِ التي يرى فيها هلالُ ذلكَ الشهرِ". إذا قال: أنت طالق في شهر رمضان طلقت في أول جزء من الشهر وهو إذا غربت الشمس من آخر يوم شعبان لأنه لم يخص وقتًا من وقت فوجب أن يقع في أوله حتى يكون في جميع الشهر طالق وقال أبو ثور: طلقت عند انقضائه واحتج بأنه يحتمل وقوعه في أوله وآخره فلا نوقعه بالشك. وهذا غلط لما ذكرنا ولأن الطلاق المعلق بالصفة يقع بأول وجود الصفة كما لو قال: إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخل يقع في أول دخول الدار، وإن لم يتوسطها، ولو قال: أردت ما قال أبو ثور أو وقوعه في أول يوم منه لم يقبل في الحكم لأنه خلاف الظاهر ودُيّن فيما بينه وبين الله تعالى لأنه يحتمل لأن الشهر كله ظرف للوقوع، وبه قال أبو يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: يقبل في الحكم وقال أنت طالق في غرة هلال رمضان أو في غُرة رمضان. [2/ أ] الهلال أو في دخول شهر رمضان أو في استقباله وقع الطلاق أيضًا مع أول جزء من أول ليلة منه، فإن قال: أردت به في اليوم الأول منه أو في آخر يوم منه لم يقبل هاهنا فيما بينه وبين الله تعالى لأنه لا يحتمل ما نواه إلا في الغرة فإنه يقال ثلاث ليالٍ من أوله غرة يقبل فيما بينه وبين الله تعالى إلى ثلاثة أيام في الغرة ولا يقبل فيما بعدها بحال، ولو قال في أول شهر رمضان. وقال: أردت أن تكون طالقًا في آخره لم يدين أصلًا لأن آخره لا يطلق عليه اسم أوله، ولو قال: في آخر يوم من أوله دين لاحتماله فإنه من أوله ولو قال: أردت في آخر النصف الأول منه هل يدين فيه أم لا؟ فيه وجهان. فرع لو قال: أنت طالق في مستهل شهر رمضان طلقت بغروب الشمس في أول ليلة منه، ولو أراد به ما بعد اليوم الأول منه لم يدين، وإن أراد اليوم الأول إلى آخره دين فيه، لأنه مستهل أيامه.

فرع آخر قال في "البويطي" لو قال: أنت طالق إلى الهلال فليس عليه شيء حتى يهل الهلال إلا أن يكون نوى أنتِ طالق من الساعة إلى الهلال فتطلق من ساعته وظاهره أنه لا يمنع من وطئها قبله، وقال مالك: يمنع من الوطء وكذلك في كل يمين على فعل يفعله يمنع من الوطء حتى يفعله لأن الظاهر أنه على حنث ما لم يفعل وهذا غلط لأنه لم يقع الطلاق فلا يمنع من الوطء لليمين كما لو حلف لا يفعل كذا. فرع آخر لو قال: أنت طالق في غدٍ كانت طالقًا إذا دخل أول ذلك وهذا خلاف قوله: امرأته طالق إن لم أقصد في شعبان كان له شعبان كله لأن ما بقي من شعبان شيءٍ فهو من الوقت الذي وقت. وكذلك لو قال: أنت طالق يوم كذا كانت طالقًا في أوله حين يطلع الفجر، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: لا يقع إلا في آخر أجزاء ذلك اليوم وهذا غلط لأنه لو قال: أنت [2/ ب] طالق في غدِ اليوم يقع الطلاق، وإن لم يمض اليوم كذلك هاهنا. فرع آخر لو قال: أنت طالق في انسلاخ شهر رمضان أو مضي شهر رمضان أو نفاذ شهر رمضان طلقت لغروب الشمس من آخر يوم من الشهر لأن انسلاخه وانقضائه به، وقيل: إذا قال في سلخ شهر كذا ففيه أوجه: أحدها: هذا، والثاني: يقع قبل انقضائه بثلاثة أيام لأنها للسلخ كالغرة ثلاثة أيام من أوله والثالث إذا مضى جزء من الشهر يقع فإنه إلى الانسلاخ ذكره صاحب "التقريب" وليس بشيء. فرع آخر لو قال: أنت طالق في أول آخر شهر كذا طلقت في اليوم الآخر من الشهر إذا طلع الفجر فإن كان الشهر تامًا طلقت في أول يوم الثلاثين، وإن كان ناقصًا طلقت في أول اليوم التاسع والعشرين لأن للشهر أولًا وآخرًا، فأوله أول يوم منه وآخره آخر يوم منه، وقال ابن سريج: طلقت في أول الجزء من ليلة السادس عشر منه لأنه آخر الشهر هو النصف الثاني منه فأوله أول جزء منه، ولو كان بالضد من هذا فقال: أنت طالق في آخر أول شهر كذا فعلى الوجهين أيضًا عند ابن سريج يقع عند انسلاخ الخامس عشر من الشهر لأنه آخر أوله وعند سائر أصحابنا وهو الصحيح يقع عند انقضاء أول يوم من الشهر لأنه آخر أوله، وقيل: عند انقضاء الليلة الأولى من الشهر في آخر الليلة. ولو قال: أنت طالق في أول آخر الشهر فعلى قول ابن سيرج: تطلق عند طلوع الفجر من اليوم السادس عشر لأن عنده إن أول آخر الشهر أول الليلة السادس عشر فكان آخرها طلوع الفجر من يومها والثاني: وتطلق بغروب الشمس في آخر يوم منه لأن أول آخره على هذا الوجه طلوع الفجر من آخر أيامه وكان آخره غروب شمسه [3/ أ].

فرع آخر لو قال: أنت طالق في أول آخر أول الشهر فيه وجهان: فعلى قول ابن سريج تطلق بطلوع الفجر من اليوم الخامس عشر؛ لأن آخر أوله عند غروب الشمس من اليوم الخامس عشر فكان أوله طلوع فجره، والثاني: تطلق بطلوع الفجر من أول يوم من الشهر لأن آخر أول الشهر غروب الشمس من أول أيامه فكان أوله طلوع الفجر. فرع آخر لو قال: أنت طالق في شهر قبل ما بعد قبله رمضان، قال بعض أصحابنا: يقع في رجب، وقال بعضهم: يقع في شوال وهو الأظهر، وقال بعضهم: يقع في شعبان واختاره القاضي الطبري. فرع آخر لو قال: أنت طالق اليوم أو غدًا طلقت في غد لأنه يقين ولو قال: أنت طالق اليوم وغدًا طلقت واحدة في الحال ورجعنا إلى بيانه في غدٍ، فإن أراد وقوع أخرى فيه طلقت أخرى، وإن أراد وقوع طلقة في هذين اليومين لم تطلق إلا واحدة، وإن أراد به تأخير الطلاق من اليوم إلى غدٍ لم يقبل في الحكم ودين فيما بينه وبين الله تعالى، وإن لم يكن له إرادة فيه وجهان أصحهما وهو قول العراقيين: لا تطلق إلا واحدة في اليوم، والثاني: تطلق في اليوم واحدة وفي غدٍ أخرى لأنه معطوف على اليوم فجرى مجرى حكمة تسوية بين المعطوف والمعطوف عليه. فرع آخر لو قالَ: أَنتِ طالقٌ في اليومِ بعضَ تطليقةٍ في غدٍ بعضَ تطليقةٍ طُلقتْ في اليومِ واحدة ثم إن أراد الباقي من التطليقة الأولى في غدٍ لم تطلق في غدٍ لأنه تعجل باقيها بالتكميل في اليوم، وإن أراد بعض تطليقة أخرى طلقت في غدٍ تطليقة ثانية تكميلًا للبعضين، وإن لم يكن له إرادة فيه وجهان: [3/ ب] أحدهما: لا تطلق إلا واحدة لأنها تعين. والثاني: تطلق تطليقتين واحدة واحدة في اليوم وأخرى في غدٍ. مسألة: قال: "ولو قالَ: إِذَا رَأَيْتُ هِلَالَ شَهْرِ كَذَا أحنث إذَا رَأَىه غيْره". إذا قال: إذا رأيت هلال رمضان فأنت طالق، فإن رآه بنفسه طلقت، وإن رآه غيره طلقت أيضًا. وقال أبو حنيفة: لا تطلق ما لم يره بنفسه، وهذا غلط لأن رؤية الهلال في الشرع عبارة عن العلم به ومطلق الإيمان يحمل على ما يعود في الشرع بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته". وأجمعوا أن المراد به العلم،

وكذلك عرف الناس في ذلك أنهم يريدون به الهلال نفسه لا رؤيته ببصره وهذا كما يقول القائل: ما رأيت أعجب من هذا ولا يريد رؤيته ببصر بل يريد علمه بوقوعه. فرع آخر لو رأى الهلال في آخر يوم شعبان قبل غروب شمسه أشار الشافعي في "الأم" إلى أنه لا يقع الطلاق قبل غروب الشمس لأن هلال الشهر في أول ليلة منه وما قبل الغروب ليس بهلال الشهر ولهذا لا يفطرون لرؤيته، وقال في "الحاوي": فيه وجهان أحدهما: منها، والثاني: يحنث لأنه هلال شهر رمضان وإن تقدمه. فرع آخر لو لم ير الهلال وعلم دخول الشهر بالعدد مثل أن غمَّ عليهم وقع الطلاق لأنه رؤية الهلال في الشرع أعني بأنه العلم بدخول الشهر ذكره ابن إسحاق. فرع آخر لو لم ير الهلال في أوله حتى صار قمرًا وأراد به نفسه فلم ير حتى صار قمرًا فيه وجهان: أحدهما: أن يحنث تغلبيًا للإشارة إلا أن يريد حقيقة الاسم، والثاني لا يحنث اعتبارًا بحقيقة الاسم إلا أن يريد الإشارة [4/ أ] وهذا اختيار القفال، وإن أراد هلالًا ما يحتمل أن يطلق وإن رأى بعدما صار قمرًا. فرع آخر لو رأى صورة الهلال في الماء لا تطلق. فرع آخر اختلف أصحابنا في أنه متى يصير الهلال قمرًا؟ فمنهم من قال: يصير قمرًا بعد ثلاثة أيام وهو الذي ذكره القفال. والثاني: يصير قمرًا إذا استدار. فرع آخر لو قال: أردت رؤيته بنفسي لا يقع الطلاق ما لم يره هو بنفسه ويقبل قوله في الحكم والباطن لأن الشافعي قال: إلا أن يريد رؤية نفسه، وقال القفال: فيه وجهان أحدهما: هذا، والثاني لا يقبلها الحكم وهذا ضعيف. فرع آخر قال القفال: لو قال بالفارسية: كرماه سينم لا يقع الطلاق إلا أن برؤية نفسه إذا كان بصيرًا لأنه لا ينطلق إلا على الرؤية بنفسه نفسها وفيه وجه ظاهر أنه لا فرق بين لغة الفارسية والعربية باكتفاء الناس برؤية الناس.

مسألة: قالَ: "ولو قالَ: إذا مضتِ سنةٌ وقدْ مضى مِنَ الهلالِ خَمْسٌ لم تَطلقْ حتّى تمضيَ خمسٌ وعشرون ليلةٌ". الفصل إذا قال: إذا مضت سنة فأنت طالق تعلق ذلك بالسنة الشرعية وهي اثنا عشر شهرًا كل ما بين الهلالين شهر سواء كان ناقصًا أو تامًا ثم ينظر في يمينه، فإن وافق غيره هلال شهر من السنة عددت اثنا عشر شهرًا، فإذا انقضت وقع الطلاق، وإن وافق وقت يمينه في أثناء الشهر كان حلف وقد مضى منه خمس ليالٍ فهذا الشهر محسوب بالعدد لتعذر اعتبار الهلال فيه فيعد ما بقي منه فيضبطه حتى يضيف إليه [4/ ب] تمام ثلاثين يومًا بعد مضي أحد عشر شهرًا بالأهلة، فإن كان الباقي من شهر الطلاق خمسة وعشرون يومًا أضاف بعد أحد عشر شهرًا خمسة أيام، وإن كان الباقي منه أربعة وعشرين يومًا أضاف بعد أحد عشر شهرًا ستة أيام، وقال أبو حنيفة: يتقدر ثلاثمائة وستين يومًا لأنها أيام السنة عرفًا وهنا غلط لأن ما يقدر بالشهور لا يراعى فيه كمال الأيام فيما يتعلق بالسنين لا يراعي فيه كمال الشهور. فرع آخر لو قال: إذا مضت السنة بالألف واللام فأنت طالق يحل على السنة العربية حتى لو قال هذا في ذي الحجة ثم أهل هلال المحرم طلقت وهو كقوله: إذا مضى اليوم فأنت طالق يحمل على باقي اليوم، ولو قال: أردت سنة كاملة يدين ولا يقبل في الحكم، ولو قال في الليل: إذا مضى يوم فأنت طالق، فإذا أمسى من غدٍ تلك الليلة طلقت، وإن قال: ذلك بالنهار لا تطلق حتى يمضي باقي النهار، ثم تمضي الليلة ثم يمضي من الغد قدرًا يصل آلي تلك الساعة التي قال فيها فحينئذٍ تطلق. فرع آخر لو شك في وقت عقده لهذا الطلاق هل كان أول الشهر أو بعد عشر مضت منه؟ لم يلزمه الطلاق إلا بعد مضي عشر من الشهر الثالث عشر لأن الطلاق لا يقع بالشك، وهل يحرم عليه في هذا الشهر وطئها؟ وإن لم يقع طلاقها فيه وجهان أحدهما: وهو الأظهر لا يحرم. والثاني: يحرم للشك في إباحتها كما لو اشتبهت زوجته أجنبية ذكره في الحاوي. فرع آخر لو قال في المسألة الأولى: أردت السنة العددية لم يقبل في الحكم عندنا ذكره في الحاوي، ويحتمل عندي أن يقبل في الحكم لأنه مشهور العرف. [5/ أ] كما قال أبو حنيفة رحمه الله.

فرع آخر ذكر الشافعي - رحمة الله - عليه في المسألة الأولى: وقد مضى من الهلال خمس ولا فرق بين أن يمضي منه أقل من ذلك وأكثر إلا ان يكون قد مضى جزء يسير مما لا يمنع وقوع اسم الشهر عليه فلا يمنع ذلك احتسابه شهرًا ويكمل ذلك القدر والاعتبار بالهلال ذكره بعض أصحابنا وهو حسن. مسألة: قالَ: "ولو قالَ لها: أنتِ طالقٌ الشَّهْرَ المَاضِي طلقتْ مكانَها". الفصل إذا قال أنت طالق تمام أول الشهر الماضي أو في الشهر الماضي أو أنت طالق أمس فيه خمس مسائل إحداها: أن يقول: أردت أن أوقع الطلاق الآن ويكون الوقوع أمس قال الشافعي: طلقت في الحال لأنه وصف الطلاق بما لا يتصف به فلغت الصفة. وقال الربيع في قول آخر: أنه لا يقع الطلاق لأنه أوقع الطلاق على وجه محال واختلف أصحابنا فيها على طريقتين فقال ابن خيران: المسألة على قولين كما قال الربيع لأن الشافعي قال: إذا قال لها: إن صعدت السماء فأنت طالق لم يقع الطلاق، وقال هاهنا: يقع فنقل جوابه من صعود السماء إلى هاهنا فقال: هذه على قولين وقال في صعود السماء المسألة على وجهين: المنصوص: لا تطلق وفيه وجه منقول من هاهنا أنها تطلق وقيل: الوجهان في الصعود فإن قال: إن أحييت ميتًا يقع لأن الإحياء لا يدخل تحت قدرتها بخلاف الصعود والطيران. وقال عامة أصحابنا هاهنا يقع الطلاق قولًا واحدًا، وما ذكره الربيع مذهبه وفي صعود السماء لا تطلق قولًا واحدًا لأن استحالة صعوده بخلاف العادة لا لأنه غير داخل في القدرة ولذلك صارت صفة معتبرة لا يقع الطلاق بإلغائها وإيقاع الطلاق الحادث في الزمان [5/ ب] الماضي يستحيل لخروجه عن القدرة فصارت الصفة ملغاة والطلاق فيه واقعًا ويمكن أن يقال: إيقاعه الطلاق في الزمان الماضي يتضمن وقوعه في المستقبل وذلك غير محال. والثانية: أن نقول: لم يكن له فيه نص في الأم ونقلُه المزني يقع الطلاق وذكر الربيع ما ذكرنا، وقال ابن هريرة: لو قال: أنت طالق للشهر الماضي وقع في الحال قولًا واحدًا كما لو قال: أنت طالق لفلان أو لرضا فلانٍ والقولان إذا قال في الشهر الماضي وليس لغيره هذا التفصيل وهو حسن. والثالثة: أن يفوت بيانه إما بالغيبة أو الموت أو الجنون فيقع في الحال أيضًا. والرابعة: أن يقول: أردت به طلاقًا كنت طلقتها فيه ثم تزوجتها من بعد أو أردت طلاقًا طلقها زيدٌ وكانت زوجته ثم تزوجتها من بعد، نُظِرَ فإن صدقته كان كما اتفقا عليه

لأنه يحتمل ما قال: وإن صدقته أن الطلاق قد كان وقع عليها في الشهر لكنها ادعت أنه ما أراد ذاك الطلاق، وإنما أراد إيقاع الطلاق في الحال فالقول قوله لأنها قد اعترفت بوقوع الطلاق عليها في الشهر الماضي فكان أعرف بما نوى، وإن أنكرت فقالت: ما طلقتني ولا أحد طلقني في الشهر الماضي فهو مدّعٍ أن لا طلاق فإن كانت له بينة بما ادعاه فالحكم كما لو أقرت بأن الطلاق قد كان وقع عليها، وإن لم يكن بيّنة لم يقبل منه لأنه يخالفه الظاهر، فإن ادعى عليها فالقول قولها مع يمينها فإذا حلفت وقع الطلاق في الحال. وقيل: يقبل منه في الحكم لأنه محتمل كلامه. والخامسة: أن يقول: أردت بقولي أنت طالق في الشهر الماضي إخبار عن طلاق طلقتها في ذلك الوقت وهي زوجتي فهاهنا يقبل منه لأنه أقر أنه طلق زوجته فقبلنا قوله فيه [6/ أ] لأنه ما رفع ما اعترف به ويفارق هذه المسألة التي قبلها لأنه أخبر عن طلاق ثم رفع حكمه بكل حال فلهذا لم يقبل منه فإذا أثبت أن القول قوله فإذا حلف حكمنا بأن الطلاق وقع من ذلك الوقت. فقال القفال: ولا نفقة لها إن كان مفارقًا لها من يومئذٍ أو غائبًا وهذا لا يصح بل لا يقبل قوله في اسقاط حقها من النفقة والسكنى أيضًا في ظاهر المذهب، وأما العدة تكون من هذا الوقت لأنها أنكرت ذلك فاعترفت بوقوعه الآن فقبلنا قولها فيما يضرها، وإن صدقته على ذلك فالعدة من ذلك الوقت. قال القفال: هذا إذا كان مفارقًا لها لا يتعاشران معاشرة الأزواج والزوجات، فأما إن كان يعاشرها فالعدة من هذا الوقت، وإن لم يكن منه إصابة بعد ذلك التاريخ إذ لا يجوز أن يرى زوجين يختلطان اختلاط الزوجين ثم يفارقها وتنكح في الحال غيره بعدما عرفنا نه مدخول بها. وقال أبو حنيفة: إذا قال: أنت طالق في الشهر الماضي ولا نية له فإن كان في الشهر الماضي زوجة لم تطلق في الحال وإلا فلا تطلق وهذا غلط لما ذكرناه. فرع لو قال: إذا قدم زيد فأنت طالق قبله بشهر فإن قدم زيد بعد شهر طلقت قبل قدومه بشهر لأنه إيقاع طلاق بعد عقده، وإن قدم قبل شهر فيه طريقان أحدهما: فيه قولان أيضًا كما ذكرنا عن الشافعي والربيع في مسألة إذا قال: أنت طالق في الشهر الماضي لأن في التقدير كليهما طلاق في الزمان الماضي وفي كلا الموضعين أوقع الطلاق قبل عقده والثاني: وعليه أكثر أصحابنا لا يقع منهما قولًا واحدًا والفرق [6/ ب] أن هناك لا يستحيل أن يمضي شهر فأكثر ثم يقدم فيكون مطلقًا في الحال أو أمر في المستقبل، فإذا لم يوجد ذلك سقط حكم كلامه وهاهنا لا يتصور له حكم غير مستحيل فتسقط الاستحالة ويبقى الطلاق. فرع آخر لو قال: أنت طالق قبل موتي بشهر فمات قبل شهر لم تطلق، ولو ماتت في هذه المسألة ثم مات بعدها لا يقع عليها إلا أن تموت بعد شهر ويكون موتها قبله لأقلّ من

شهر ليكون الشرط بعد موتها والطلاق لا يقع بعد الموت، وهكذا لو ماتت قبله بشهر سواء لم يقع الطلاق عليها مع الموت كما لا يقع الطلاق عليها بعد الموت، وقال القاضي الطبري: إذا ماتت وعاش الرجل شهرًا من حين ماتت عندي انها مطلقة لأنها طلقت قبل موتها. فرع آخر لو قال: أنت طالق في اليوم الذي يقدم فيه زيد ثم ماتت في أول يوم قدم زيد في آخره هل يقع الطلاق؟ فيه وجهان: أحدهما: قاله ابن الحداد في فروعه يقع لأنه إذا قال لها: أنت طالق في يوم السبت طلقت بعد طلوع فجره، فكذلك إذا قال: أنت طالق في اليوم الذي يقدم فيه زيد كان قدومه في اليوم الذي يقتضي وقوع الطلاق فيه فوجب أن يقع الطلاق عليها. والثاني: قال ابن سريج لا يقع لأن قدوم زيد يوجب وقوع الطلاق بعده حتى لا يقع قبل وجود شرطه ويخالف تعليق الطلاق باليوم وحده لأنه في تعليقه باليوم معلق بشرطٍ واحد وقد وجد بطلوع الفجر فوقع فوي تعليقه بقدوم زيد تعليق لطلاقها بشرطين فلم يقع الطلاق [7/ أ] إلا بهما وعلى هذا لو قال لعبده: إذا قدم زيد فأنت حر ثم باعه في أول يوم قدم زيد في آخره عتق على قول ابن الحداد وبطل البيع ولم يقس على قول ابن سريج لوجود الشرط بعد صحة البيع. فرع آخر إذا قال: أنت طالق ثلاثًا قبل قدوم زيد بشهر ثم خالعها وقدم زيد فإن قدم قبل شهر لم تطلق بقدومه وصح الخلع، وإن قدم بعد شهر فإن كان الخلع قبل قدومه بأكثر من شهر صح الخلع ولم تطلق بقدوم زيد لأنها بانت بالخلع قبل قدوم زيد بأكثر من شهر، وإن كان الخلع قبل قدومه بأقل من شهر وقدم زيد بعد عقد الطلاق بقدومه بأكثر من شهر طلقت بقدوم زيد وبطل الخلع لتقدم الطلاق بقدوم زيد على الخلع فصار الخلع واقعًا بقد وقوع الطلاق عليها بقدوم زيد. فرع آخر لو قال: أنت طالق في شهر قبل رمضان تطلق في شعبان، ولو قال: في شهر قبله رمضان طلقت في شوال، ولو قال في شهر بعد رمضان طلقت في شوال، ولو قال: بعده رمضان طلقت في شعبان لأن دخول الهاء على قبل وبعد مخالف لحذفها منهما تعليلًا بما يظهر من الفرق بينهما فعلى هذا لو قال: أنت طالق في شهر قبل ما قبل رمضان طلقت في رجب لأن ما قبل رمضان شعبان وما قبل شعبان رجب، ولو قال: في شهر قبل ما قبله رمضان طلقت في رمضان لأن ما قبله رمضان شوال وما قبل شوال رمضان على هذا لو قال: أنا طالق في شهر بعدما بعد رمضان طلقت في ذي القعدة، ولو قال: في شهر بعد ما بعده رمضان طلقت في رمضان، ولو قال: أنت طالق في

شهر ما بعد رمضان [7/ أ] طلقت في رمضان، ولو قال: في شهر قبل ما بعده رمضان طلقت في رجب لأن ما بعده رمضان شعبان وقبل شعبان رجب، ولو قال: أنت طالق في شهر بعد ما قبله رمضان طلقت في رمضان لأنه قبل ما بعده، ولو قال: في شهر بعدما قبله رمضان طلقت في ذي القعدة، ولو قال: أنت طالق في شهر قبل ما قبل ما بعد رمضان طلقت في شعبان، ولو قال: في شهر قبل ما بعده رمضان طلقت في جمادي الآخرة، ولو قال: أنت طالق في شهر بعد ما قبل رمضان طلقت في شوال، ولو قال: في شهر بعد ما بعد ما قبله رمضان طلقت في ذي الحجة. فرع آخر لو قال: إن ضربتكِ فأنت طالق قبل ضربي إياكِ بشهر فإن ضربها قبل مضي شهر لم تطلق وانحلت اليمين ولو أمله شهرًا فأكثر ثم ضرب حنث واستند ذلك الطلاق آلي ما قبله بشهر، وقال أبو حنيفة: يقع الطلاق عقيب الضرب ولا يستند ووافقنا أنه إذا قال: قبل موتي أو موتك بشهر فمات بعد مضي أكثر من شهر يقع الطلاق ويستند فنقيس عليه. فرع آخر لو قال: أنت طالق غدًا أمس أو أمس غدًا فإنما تطلق غدًا في المسألتين جميعًا لأنه جعله ظرفًا لإيقاع الطلاق فلا يقع قبله، ولو قال أنت طالق غد أمس أو أمس غد ففي المسألتين يقع الطلاق اليوم لأنهما عبارتان في الحال إذ كل يوم منه غد أمسه أو أمس غده. فرع آخر قال: ولو قال لها: أنت طالق إذا طلقتك فإذا طلقها وقعت عليها واحدة بابتدائه الطلاق والأخرى بالحنث، إذا قال لها أنت طالق إذا طلقتك فمعناه إذ أحدثت طلاقك وفي عبارة عن الذي يباشرها وعن طلاق يقع بصفة يحدثها عليها، فإن طلقها طلقت واحدة بالمباشرة وأخرى بالصفة، فإن قال: [8/ أ] لم أرد به الصفة وإنما أردت إذا طلقتك فأنت طالق بطلاقي الذي وقع عليك. قال في "الأم": لم يقبل في الحكم ودين فيما بينه وبين الله تعالى لأن ظاهر قوله غير ما قال ولا يسعها أن تقيم معه لأنها لا تعرف من صدقه ما يعرف هو من صدق نفسه، فإن كانت المسألة بحالها فقال لها بعد ذلك، إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت وقع عليها طلقة بدخول الدار وأخرى بالصفة لأن الطلاق الواقع بدخول الدار أحدثه عليها، ولا يقع الطلاق قبل دخول الدار لأنه تعليق طلاق لا إيقاع طلاق، ولو قال لها: إذا دخلت الدار فأنت طالق ثم قال: إذا طلقتك فأنت طالق فدخلت الدار وقعت واحدة بالشرط دون الحنث لأنه لم تطلق

بعد ما حلف بالطلاق فلم يقع الحنث وعلى هذا لو قال لها: كلما طلقتك فأنت طالق معناه كلما استأنفت إحداث طلاق عليك فأنت طالق وهذا الكلام موضوع على التكرار، فإذا قال لها بعد ذلك: أنت طالق وقع بها طلقة بالمباشرة وأخرى بالصفة لأنه أحدث طلاقًا عليها ولا يقع لوقوع الثانية عليها طلقة ثانية لأن وقوع الثانية ليس بطلاق أحدثه عليها بعد عقد الصفة فلا يقع بوقوعها غيرهما فإن طلقها أخرى فهو إحداث طلاق عليها فيقع ويقتضي أن يقع لوقوعه أخرى ولكن لم يقع لأن الطلاق قد فني، فول تصور أن يكون له أربع طلقات لوقعت الرابعة وهذا إذا كان مدخولًا بها فإن كانت غير مدخول بها طلقت واحدة بالإيقاع ولا يقع أخوى بالحنث لأنها قد بانت وهكذا المدخول بها إذا قال لها هذا ثم طلقها طلقة ثانية مثل أن يطلقها بعوض لم تطلق أخرى وقد انحلت يمينه، وإن خالعها من غير ذكر [8/ ب] الطلاق، فإن قلنا الخلع طلاق انحلت يمينة، وإن قلنا الخلع فسخ لا تنحل يمينه. فرع آخر قال ابن سريج: لو كان لو زوجتان عمرةُ وحفصة فقال: يا عمرةُ إذا طلقت حفصة فأنت طالق ثم قال لعمرة: أنت طالق طلقت عمرة واحدة بالمباشرة ولا تطلق حفصة، ولو قال لحفصة: أنت طالق وقع الطلاق عليها بالمباشرة ووقع الطلاق على عمرة لأن طلاق حفصة طلاقٌ أحدثه عليها فطلقت به عمرة. فرع آخر قال: لو قال لعمرة: كلما طلقت حفصة فأنت طالق ثم قال لحفصة: كلما طلقت عمرة فأنت طالق فقد علق أولًا طلاق عمرة بطلاق حفصة ثم علق طلاق حفصة بطلاق عمرة فإذا طلق إحداهما بعد ذلك نظر فإن طلق عمرة طلقت طلقة بالمباشرة، وطلقت حفصة طلقة بالصفة لأنه قد أحدث الطلاق على عمرة فإذا طلقت حفصة عاد على عمرة طلقة أخرى لأن الذي طلقت به حفصة طلاق أحدثه عليها فطلقت عمرة طلقتين وطلقت حفصة طلقة، وإن طلق حفصة أولًا طلقت طلقة بالمباشرة وطلقت عمرة طلقة بالصفة ولا يعود على حفصة طلاق بالطلاق الذي وقع على عمرة لأنه ليس هو الطلاق الذي علق به طلاق حفصة فإنه ما أحدثه على عمرة فإن كانت بالعكس من هذا فقال لعمرة: إذا طلقتك فحفصة طالق فقد علق أولًا طلاق حفصة بصفة هي طلاق عمرة، ثم قال لحفصة: إذا طلقتك فعمرة طالق فإذا طلق واحدة منهما نظر فإن طلق حفصة طلقت طلقتين وعمرة طلقة، وإن وقع طلق عمرة طلقت طلقة وحفصة طلقة واحدة والتعليل ما مضى.

فرع آخر قال: لو قال لعمرة: كلما طلقت حفصة فأنت طالق، ثم قال لحفصة: كلما طلقت عمرة فأنت طالق [9/ أ] ثم عاد إلى عمرة فقال لها بعد هذا كلما طلقت حفصة فأنت طالق فإن طلق عمرة طلقت بالمباشرة وطلقت حفصة بالصفة ثم عاد إلى عمرة طلقة أخرى بوقوع الطلاق على حفصة وإن طلق حفصة طلقت بالمباشرة وطلقت عمرة طلقة بالصفة ثم عاد إلى عمرة فطلقت أخرى لأنه لما كرر الصفات كان كل طلاق يقع على واحدة بالصفة يكون صفة به يعود الطلاق على صاحبتها. مسألة: قالَ: "لو قالَ لَها: أنتِ طَالِقٌ كُلَّما وَقَعَ علَيْكِ طَلاقِي". الفصل إذا قال: كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق فمعناه على أي حال وقع عليك الطلاق فأنت طالق فأن قال لها: أنت طالق وقعت بها طلقة بالمباشرة وثانية بوقوع الأولى وثالثة بوقوع الثانية حتى لو كان يملك ألف طلقة في المثل وقعت كلها، وكذلك لو قال لها بعد هذا القول: إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت وقع بها ثلاث طلقات. فرع لو قال أولًا: إذا دخلت الدار فأنت طالق ثم قال: كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق فدخلت الدار وقع ثلاث طلقات. فرع آخر لو كانت له زوجتان حفصة وعمرة فقال لعمرة: كلما وقع على حفصة طلاقي فأنت طالق ثم قال لحفصة: كلما وقع على عمرة طلاقي فأنت طالق، ثم قال لإحديهما أنت طالق طلقت كل واحدة منهما ثلاثًا. فرع آخر لو قال: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق فلا يتكرر الطلاق هاهنا لأن كلمة إذا لا توجب التكرار بخلاف كلمة كلما فإذا قال لها بعد ذلك أنت طالق وقعت طلقة بالمباشرة وأخرى بالصفة ولا تقع الثالثة. فرع آخر لو قال: إذا وقع عليكِ طلاقي فأنت طالق ثم قال: إذا دخلت الدار فأنت طالق [9/ ب] فدخلت طلقت واحدة بالدخول والأخرى بالصفة، ولو قدم فقال: إذا دخلتِ الدار فأنت طالق ثم قال: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق فدخلت طلقت طلقتين طلقة بالدخول وأخرى بالصفة لأن الصفة وقوع الطلاق بها على أي وجه كان.

فرع آخر لو قال لها: إذا طلقتك فأنت طالق وإذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق، ثم قال لها: أنت طالق طلقت ثلاثًا طلقتان، بقوله: أنت طالق والثالثة وقوع الطلاق عليها. فرع آخر لو قال: كلما أوقعت عليك فأنت طالق فهذا معناه كلما باشرت أنا ذلك وحدي لا غيري فإذا قال: أنت طالق طلقت طلقتين طلقة بالمباشرة وطلقة بالصفة، ولو قال بعد هذا القول: إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت طلقت واحدة لا غير لأن الطلاق بدخول الدار ما أوقعه هو هكذا ذكر أصحابنا ويحتمل خلاف هذا لأنه أوقع الطلاق عليها بشرط وإذا وجد الشرط فهو الوقع للطلاق عليها فلا فرق بين هذا وبين أن يقول: إن طلقتك فأنت طالق ووجدته عن بعض أصحابنا. فرع آخر لو قال أولًا: إذا دخلت الدار فأنت طالق ثم قال: إذا أوقعت عليك طلاقي فأنت طالق ثم دخلت الدار طلقت بدخول الدار ولم تطلق غيرها ما أوقع الطلاق عليها. فرع آخر قال أصحابنا على قياس ما ذكرنا لو قال لعبده: إذا طلقت امرأتي فأنت حر ثم قال لهاك إذا دخلت الدار فأنت طالق فدخلت طلقت وعتق العبد، ولو قدم التعليق بدخول الدار ثم دخلت الدار طلقت ولم يعتق العبد [10/ أ] ولو قال: إذا وقع طلاقي عليها فأنت حر فدخلت الدار يعتق العبد وطلقت قدم التعليق أو أخرَ. فرع آخر لو قال لها: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم أعاد هذا اللفظ ثانيًا وقعت طلقة لأن الثاني حلف بالطلاق فحنث به، ولو أعاد هذا اللفظ ثالثًا طلقت، ولو أعاد هذا اللفظ رابعًا طلقت تمام الثلاث وهذا في المدخول بها فإن كان غير مدخول بها لا يقع إلا واحدة، ولو قال: إن طلقتك فأنت طالق ثم أعاد هذا اللفظ مرارًا لم يقع شيء لأن الثاني وما بعده ليس بإيقاع الطلاق عليها. فرع آخر لو قال لغير المدخول بها: إن طلقتك فأنت طالق ثم قال: كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق فإذا وطئها بنصف الحشفة طلقت ثلاثًا واحدة بالوطيء وثانية بالأولى لأنها صارت بالوطيء مدخولًا بها تجب العدة عليها وبالثانية بالثانية، وأما الحدُ فإن نزع ثم عاود يلزمه وإن استدام الإيلاجة الأولى ففي الحد وجهان.

فرع آخر لو قال: كلما طلقتك فأنت طالق، ثم وكل في طلاقها فطلقها الوكيل لم تطلق غيرها لأن طلاق الوكيل ليس من فعله، ولو قال: كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق ثم طلقها وكيله واحدة فيه وجهان أحدهما: لا تطلق غيرها. والثاني: تطلق ثلاثًا لأنه واقع من جهته وإن لم يكن من فعله. فرع آخر قال لأربع نسوة: كلما طلقت واحدة منكن فصواحباتها طوالق وكن مدخولًا بهن فإذا طلق واحدة طلقت بالتنجيز والأخرتان بالحنث فلما طلق الثانية طلقت بالتنجيز الأولى والأخرتان بالحنث فلما طلق الثالثة طلقت الطلقة الثانية بالتنجيز وطلقت الأولتان والأخيرة بالحنث فلم يبق له على واحدة منهن ملك فلا معنى لتطليق الرابعة [10/ ب]. فرع آخر لو قال: كلما وقع طلاقي على واحدة منكن فصواحباتها طوالق فطلق واحدة منهن طلقن ثلاثًا ثلاثًا. ولو قال: كلما طلقت واحدة منكن فأنتن طوالق فلما طلق الأولى حصلت لها طلقة بالتنجيز وطلقة بالحنث ولصواحبها لكل واحدة طلقة فلما طلق الثانية لحقها طلقة بالتنجيز وطلقة بالحنث فتم لها الثلاث وتم للأولى الثلاث وحصلت لكل واحدة من الأخرتين طلقة أخرى فلما طلق الثالثة بانت منه الثالثة والرابعة بالثلاث. فرع آخر لو قال: إن حلفت بطلاقك فأنت طالق، ثم قال: إذا طلعت الشمس فأنت طالق أو إذا انسلخ الشهر فأنت طالق أو إذا قدم الحجيج فأنت طالق لم يحنث لأنه ما حلف بطلاقها ولكنه علق طلاقها بصفة تلك الصفة لا يمنعها بيمينه فإن طلوع الشمس لا يمنع بيمين والحلف أن يمنع نفسه بها عن فعل شيء أو يوجب عليها فعل شيء كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق ونحو ذلك وقال بعض أصحابنا بخراسان: يحنث بكل هذا لأنه يمين قالوا وعلى هذا لو قال: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق ثم قال: عجلت تلك الطلقة عند ابن سريج تنحل تلك اليمين ويقع ذلك الطلاق الآن وعند غيره يقع طلقة في الحال بقوله عجلت ثم إذا جاء رأس الشهر تقع أخرى وهذا غير مشهور، وقال أبو حنيفة وأحمد رحمهما الله تعالى: كله يمين إلا في ثلاثة أشياء أن يقول: إذا حضت أو إذا طهرت أو إن شئت فأنت طالق لأن المقصود بقوله حضت أو طهرت السنة أو البدعة والمقصود بقوله إن شئت التمليك الذي يراعى فيه الرد والقبول وهذا خطأ لأن اليمين ما قصد بها المنع من شيء أو الحث على شيء أو التصديق على شيء مثل أن يقول: إن لم أكن دخلت الدار فأنت طالق وهذا لا يوجد إذا قال: إذا جاء

رأس الشهر أو طلعت الشمسُ [11/ أ] فأنت طالق فلا يقع إلا بما ذكرنا فرع آخر لو كانت المسألة بحالها فقال: إن دخل زيد الدار فأنت طالق فإن كان زيد ممن قد يطيعه ويمتنع من الدخول بقوله فهي يمين بالطلاق فتطلق، وإن كان زيد سلطانًا أو ذا قدرة لا يطيعه فهو طلاق بصفة وليس بيمين فلا يقع خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله. فرع آخر لو قال: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق، وإذا لم أحلف بطلاقك فأنت طالق وإذا لم أحلف بطلاقك فأنت طالق ثم سكت طلقت طلقتين قاله أبو علي الزجاجي رحمه الله تخريجًا. فرع آخر لو قال لهما: إن حلفت بطلاقكما فأنتما طالقان ثم ذكر ذلك مرة أخرى وقع عليها طلقة لأنه حلف بطلاقهما بعد اليمين الأولى، وكذلك إن عاد ذلك ثالثًا وقعت طلقة ثانية، وإن أعاده رابعًا طلقت طلقة ثالثة، ولو قال: إن حلفت بطلاقكما فعمرة طالق ثم كرر ذلك لم يقع على واحدة منهما طلاق لأنه حلف بطلاق عمرة أن لا يحلف بطلاقهما وأعاد الحلف بطلاق عمرة فلم يحنث؛ لأنه لم يحلف بطلاقهما. فإن قال بعد هذا: إن حلفت بطلاقكما فحفصة طالق طلقت عمرة لأنه قد حلف بطلاقهما، فإن قال بعد هذا: إن حلفت بطلاقكما فعمرة طالق لم تطلق حفصة لأنه لم يحلف بطلاقهما بعد يمينه على ذلك بطلاقهما فإن قال بعده: إن حلفت بطلاقهما فحفصة طالق طلقت حفصة، وإن قال: إن حلفت بطلاقكما فعمرة طالق طلقت عمرة. فرع آخر لو كانت له زوجتان مدخول بها وغير مدخول بها فقال: إن حلفت بطلاقكما فأنتما طالقان ثم أعاده ثانيًا طلقت كل واحدةٍ واحدةً فإن أعادة ثالثًا لم تطلق واحدة منهما، أما غير المدخول بها فلأنها بانت، وأما المدخول بها فلأن وقوع الطلاق عليها بأن يكون حالفًا بطلاقهما وهو غير حالف بطلاق غير المدخول بها لأن بعد بينونتها لا يكون حالفًا بطلاقها. فرع آخر لو قال لها: إذا لم أحلف [11/ ب] بطلاقك فأنت طالق وكرر ذلك ثلاث مرات نُظر فإن كان فرق هذه الألفاظ فسكت بين كل يمينين يحنث يمكنه أن يحلف فلم يفعل فقد وقع ثلاث تطليقات لأن إذا في النفي تقتضي الفور، وإن كان لم يفرق أيمانه لم يحنث في الأولى لأنه حلف عقيبها وكذلك الثانية وإنما حنث في الثالثة لأنه لم يحلف عقيبها، ولو قال: كلما لم أحلف بطلاقك فأنت طالق فإن هذا يقتضي التكرار فإذا

مضى من الزمان ما يمكنه أن يحلف فيه ثلاثة أيمان فلم يحلف طلقت ثلاثًا وكذلك إذا قال: كلما لم أطلقك فأنت طالق. فرع آخر لو كان له أربع نسوة وعبيد فقال: كلما طلقت واحدة منكن فعبد من عبيدي حر وكلما طلقا اثنتين فعبدان حران وكلما طلقت ثلاثة فثلاثة أعبد أحرار وكلما طلقت أربعًا فأربعة أعبد أحرار ثم قال: لهن أنتن طوالق أو طلق واحدة واحدة طلقت الأربع قال في "الإفصاح": ويعتق خمسة عشرة عبدًا وعلى هذا عامة أصحابنا ووجهه أن الأربعة أربعة آحاد ومرتين اثنان وواحد ثلاثة وواحد أربعة فيكون أربعة أعبد بالآحاد وأربعة أعبد بالاثنين وثلاثة أعبد بالثلاثة وأربعة أعبد بالأربعة فيكون الجميع خمسة عشر، قال في "الإفصاح": ويحتمل أن يقال: تعتق سبعة عشر لأن في الثالثة ثلاث صفات صفة الواحدة والاثنتين والثلاث فإن الثالثة مع الثانية اثنان فنزيد عبدان آخران ويصير الجميع سبعة عشر وهذا لا يصح لأنه يلزمه أن يقول في الرابعة يحتمل أربع صفات هي واحد واثنان وثلاثة وأربعة فتعتق بالرابعة عشرة أعبد فيبلغ عدد العبيد عشرون وقد قال به بعض أصحابنا وهو قول أبو حنيفة رحمه الله ويلزم هذا القائل أن يقول [12/ أ] فق الرجل إذا قال: كلما أكلت نصف رمانة فعبد من عبيدي حر فأكل رمانة إنه يعتق ثلاثة أعبد لأنه إذا أكل نصفها يعتق عبد وإذا أكل ربع النصف الثاني يعتق عبد آخر فلما أجمعنا على أنه يعتق عبدان لأن الرمانة ليس لها إلا نصفان فكذلك الأربعة فيها اثنان مرتين وثلاثة مرة واحدة، وقال أبو الحسن القطان: يعتق عشرة أعبد بالواحدة واحدة، وبالاثنتين اثنان، وبالثلاث ثلاثة وبالأربع أربعة وهذا لا بأس به ولكن الخمسة عشر أقول لأن كل يقضي التكرار وفي الأربع أربعة آحاد واثنتين مرتين، ومن أصحابنا من قال: يعتق ثلاثة عشرة، بالواحدة واحدة وبالثانية ثلاثة وبالثلاثة أربعة وبالأربعة خمسة فحصل خمسة أوجه، ولو لم يقل كلما وذكر هذه الأيمان بلفظ إن وإذا يعتق عشرة من العبيد بلا إشكال واحد واثنان وثلاثة وأربعة. فرع آخر لو قال: إن كلمت رجلًا فأنت طالق، وإن كلمت زيدًا فأنت طالق، وإن كلمت فقيهًا فأنت طالق فكلمت زيدًا وكان فقيهًا يقع ثلاث تطليقات لوجود جميع الصفات فيه، وإن كان واحدًا. مسألة: قالَ: "ولَوْ قَالَ: أنتِ طَالِقٌ إذا لَمْ أُطَلِّقْكِ". الفصل الحروف المستعملة في الطلاق سبعة: "إن وإذا ومتى ومتى ما وأي وقت وأي حين

وأي زمان". فإذا استعملت في الطلاق لا يخلو، إما إن علق بها عطية أو لم يعلق بها عطية فغن علق بها عطية فقد ذكرنا حكمة في كتاب الخلع، وإن لم يعلق عطية لا يخلو أمام إن ذكر ذلك في الإثبات أو في النفي فإن ذكر في الإثبات فكلها على التراخي مثل قوله: إن دخلت الدار فأنت طالق، أو إذا دخلت أو متى دخلت، وكذلك إذا قال: متى طلقتك فأنت طالق [12/ ب] أو إذا طلقتك أو إن طلقتك الكل واحد، فأما في النفي فلا خلاف أن خمسة ألفاظ منها على الفور وهو قوله: متى ومتى وما وأي وقت وأي حين وأي زمان إن لم أفعل كذا، أو إن لم أطلقك فأنت طالق، فإذا مضى وقت يمكنها فيه أو يمكنه أن يطلقها فلم يوجد ذلك وقع الطلاق، والفرق بين هذا وبين الإثبات أن تقديره في الإثبات أي وقت طلقتك فأنت طالق وتقديره في النفي أي وقت لم أطلقك فأنت طالق، فافترقا، ولو قال: أردت متى فاتني طلاقك فأنت طالق هل يقبل في الحكم وجهان، ولا خلاف انه إذا قال: إن لم أطلقك فأنت طالق أنه على التراخي، فلا يقع عليها الطلاق حتى يموت أحد الزوجين، فإذا مات أحد الزوجين وقع عليها الطلاق في آخر جزء من أجزاء حياة الميت، وهو الزمان الذي لا يتسع لإيقاع حروف الطلاق فيه، فإنه الوقت الذي فاته فيه الطلاق، وقال القفال: أما في موتها فقبيل الموت، وأما في موته فقبيل العجز عن الطلاق المتصل بالموت حتى لو جن واتصل الجنون تبينا أن الطلاق واقع قبيل الجنون، وكذلك لو انفسخ النكاح بسبب ومات قبل البينونة تبينا وقوع الطلاق قبل الفسخ وهذا أحسن ولكنه خلاف ظاهر المذهب، وأما كلمة إذا فالمنصوص أنه على الفورية. قال أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة وأحمد رحمهم الله على التراخي كقوله إن: لأن كليهما يستعمل شرطًا وهذا قول بعض أصحابنا فقال يتعذر الفرق بين كلمة إن وكلمة إذا فينقل جوابه في كل واحد منهما إلى الآخر وتخريجهما على قولين، ومن أصحابنا من قال: النصان على ظاهرهما وهو الصحيح والفرق ظاهر وذلك أن كلمة إذا عند أهل اللغة وأهل النحو موضوع للوقت فإذا قال لها: [13/ أ] إذا لم أطلقك فأنت طالق معناه عندهم أي وقت لم أطلقك فأنت طالق فإذا مضى عليه وقت يمكنه أن يطلقها فيه فلم يطلق وقع الطلاق لوجود الصفة التي علق الطلاق عليها يدل عليه أن إذا يصلح أن يكون جوابًا عن السؤال عن الوقت كما يصلح متى ومتى ما وأي وقت وأي حين، ألا ترى أنه إذا قال الرجل لآخر أي: وقت تلقاني وأي وقت تقضي حقي فقال: إذا شئت أو إذا زالت الشمس، أو إذا دخل الليل أو إذا قدم الحاج صح هذا الجواب كما إذا قال: متى شئت ومتى زالت الشمس ومتى دخل الليل ومتى قدم الحاج فدل على أن إذا ومتى واحد، وأما كلمة إن فإنه يفيد الشرط دون الوقت والزمان، ألا ترى انه لا يصلح أن يكون جوابًا عن سؤال الوقت على ما بيناه فافترقا، قال المزني: فرق الشافعي - رحمه الله عليه - بين إذا وإن فألزم في إذا لم يفعله من ساعته ولا يلزمه في أن إلا بموته فحكي كيف فعل الشافعي ولم يبين أنه راضٍ بما قاله أو يخالفه

وتعرض عليه فإن كان معترضًا فمن حقه أن يأتي بالدليل لينظر فيه. فرع أخر لو قال: أنت طالق إن دخلت الدار أو إذا دخلت الدار فهاتان اللفظتان توجب وقوع الطلاق في الحال لأنهما كلمتا تعليل كأنه يقول: أنت طالق لأنك دخلت الدار، ذكره القفال، وقال أبو حامد وجماعة: إن لم يكن الرجل من أهل الإعراب يقع في الحال على ما ذكرنا، وقال القاضي الطبري: يقع في الحال إلا أن لا يكون من أهل الإعراب، فيقول: أردت به الشرط فيقبل قوله لأن الظاهر منه أنه لا يفرق بين المفتوحة والمكسورة وهذا أولى لأن قبل أن يتبين لنا مراده يجب حمل لفظه على مقتضاه في اللغة، فأما [13/ ب] أن يكون لعدم معرفته بالكلام يصرف اللفظ عما يقتضيه بغير قصده فلا. وحكي أن أبا يوسف قال: قال للأصمعي: بين يدي الخليفة أيها الأصمعي ضيعت أيامك يعني في الأدب فقال: أيها القاضي ما تقول في رجل قال لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار فقال: إذا دخلت الدار يقع فقال: أيها القاضي ضيعت أيامك حتى لم تفصل بين كلمة التفصيل وكلمة التعليق، وقال في "الحاوي": إن لم يكون عالمًا بالإعراب فيه وجهان. فرع آخر لو قال: كلما لم أطلقك فأنت طالق: فسكت مدة يمكنه طلاقها وقعت ثلاثًا متواليات لأن كلما للتكرار فإذا مضى الزمان الأول طلقت، ثم إذا مضى ثاني طلقت اخرى ثم إذا مضى زمان ثالث طلقت الثالثة. فرع آخر قال ابن سريج في كتاب "الفنية": لو قال لها: إن لم أطلقك اليوم فأنت طالق اليوم فخرج اليوم قبل أن يطلقها لم تطلق لأن الصيغة فاتت بخروج اليوم ولا يقع الطلاق بعد خروج اليوم لامتناع صفته ووافقه جماعة على هذا، وقال القاضي الطبري وأبو حامد: هذا منه بعيد وليس على ما قاله بل الطلاق يقع عليها قبل خروج اليوم لأن معناه إن فاتني طلاقك اليوم فأنت طالق والطلاق يفوته إذا بقي من النهار زمانٌ لا يتسع لإيقاع حروف الطلاق فيه فوقع الطلاق قبل الليل كقوله: إن لم أطلقك فأنت طالق وقع الطلاق به قبيل موته كذلك هاهنا، وقال في "الحاوي": هذا فاسد؛ لأن وقوع الطلاق إذا لم يكن إلا بلفظ الطلاق فزمان لفظه زمان وقوعه مثلان، فإذا ضاق عن أحدهما ضاق عن أحدهما ضاق عن الآخر، ولكن لو قال: إن لم أبع عبدي اليوم فأنت طالق [14/ أ] الدار وهي مطلقة، فإن دخلتها غير مطلقة لم تطلق كما لو قال: إن

دخلت الدار راكبة وإن طلق وكان الطلاق رجعيًا، ثم دخلت الدار طلقت طلقتين آخرتين بدخول الدار. فرع آخر لو كرر حرف الشرط ويسميه أهل العلم اعتراض الشرط على الشرط فقال: أنت طالق إذا ركبت إن لبست لا يقع باللبس والركوب، فإن ركبت ولبست على ما قاله في لفظه بان بدأت بالركوب ثم عقيبه باللبس لم تطلق، وإن خالفت ترتيب اللفظ فبدأت باللبس وعقيبه بالركوب طلقت لأن قوله إذا ركبت إن لبست فقد جعل اللبس شرطًا في الركوب فوجب أن يتقدم عليه لأن الشرط يتقدم على المشروط، وهكذا لو قال: أنت طالق إذا قمت إذا قعدت لم تطلق حتى يتقدم القعود على القيام لأنه جعل القعود شرطًا في القيام، وإن كان حرف الشرط فيهما واحدًا، وهكذا لو قال: أنت طالق إن أكلت إن تكلمت لم تطلق حتى يتقدم الكلام على الأكل، وكذلك لو قال: إن أكلت الخبز إن شربت الماء فأنت طالق لا تطلق حتى تشرب الماء قبل أكل الخبز فإن أكلت أولاً ثم شربت ثم أكلت طلقت حينئذٍ، وعلى هذا لو قال: أنت طالق إذا دخلت الدار إن كلمت زيدًا إن ضربت عمرًا لم تطلق حتى يفعل الثلاث بعكس لفظه فبدأ بضرب عمر وثم بكلام زيد ثم بدخول الدار، لأن كل واحد منهما شرط ففيهما تقدمه فوجب أن يتقدمه. فرع آخر لو قال: أنت طالق مريضةً بالنصب كان المرض شرطًا فما لم تمرض لم تطلق لأن نصبه على الحال يخرجه مخرج الشرط، ولو قال: مريضة بالرفع طلقت في الحال لأنه بالرفع يصير صفة لها هذا فيمن كان من أهل العربية، فأما من لا يفرق بين الرفع والنصب فيه وجهان، أحدهما: أن حكمه حكم أهل العربية [14/ ب]، لأن الحكم يتعلق باللفظ سواء عرف حكمه أو جهله مثل صريح الطلاق وكنايته، والثاني: يستوي فيه حكم الرفع والنصب في وقوع الطلاق لأن الأعراب دليل على المقاصد والأغراض، فإذا جهلت عدمت، ومن أصحابنا من قال: إذا قال بالرفع لا يقع إلا في حال المرض أيضًا، وإن كان من أهل العربية لأن قوله: مريضة نكرة تكون صفة لمعرفة وقد عرفها بالإشارة إليها فلا تكون إلا حالاً وإنما لحن في إعرابها وهذا لحن لا يغير المعنى فمعناه بالرفع تطلقين وأنت مريضة، وهكذا لو قال: أنت طالق وَجِعَة فنصب أو وجِعة أو رفع. فرع آخر لو قال لأربعة نسوة: أيتكن لم أطأها اليوم فصواحباتها طوالق فإن خرج اليوم قبل

أن يطأ واحدة منهن طلقت كل واحدة منهن ثلاثًا، لأن لكل واحدة ثلاث صواحبات لم تطأ، وإن وطئ واحدة طلقت الموطوءة ثلاثًا لأن لها ثلاث صواحب لم توطأ وطلقت كل واحدة من الباقيات تطليقتين لأن كل واحدة صاحبتين لم توطأ، فإن وطئ اثنتان طلقت كل واحدة من الأخرتين طلقة فإن وطئ ثلاثًا منهن طلقت كل واحدة منهن طلقة ولم تطلق الرابعة لأن ما بقي لها صاحبة لم يطأ فإن كانت المسألة بحالها فأطلق ولم يقيده باليوم فماتا أو إحداهما كان الموت بمنزلة خروج اليوم على ما فصلناه. فرع آخر قال المزني في "المنثور": إذا قال لامرأته: إذا طلقتك طلقة أملك عليك فيها الرجعة فأنت طالق قبلها ثلاثًا، ثم قال لها: أنت طالق لم يقع عليها شيء لأن هذه الطلقة لو وقعت لوجب أن تكون رجعية واقتضى ذلك وقوع الثلاث، فإذا وقعت الثلاث لم يملك فيها الرجعة، وإذا لم يملك الرجعة [15/ أ] لم يقع الثلاث، ولو لم يكن مدخولاً بها أو طلقها بعوض وقع ما باشر لأنه شرط طلاقًا على صفة يملك فيها الرجعة وهذا على صفة لا يملك فيها الرجعة وفرع أصحابنا على هذا فقالوا: لو قال لها متى وقع عليكِ طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثًا، أو إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثًا ثم قال: أنت طالق لا يقع أيضًا للدور الذي ذكرنا. قالوا: وهذا مذهب ابن سريج وهو الحيلة في أن لا يقع طلاق على زوجنه وهذا أسهل من الخلع فإذا قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثًا ثم قال: كلما وقع عليك طلاقي فأنت قبلة ثلاثًا وهكذا لو حلف بالطلاق الثلاث لا يطأها فالحيلة أن يقول لها هذا ويطأ فلا يقع. وعلى هذا إذا قال: كلما وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثًا وكلما فسخت نكاحك فأنت طالق قبله ثلاثًا لا ينفذ الفسخ ولا الطلاق بحال ومن هذا اللحن لو قال لها: إن وطئك وطئًا مباحَا فأنت طالق قبله فإذا وطئها لم يقع لأنه لو وقع لما كان الوطء مباحًا وقيل إن ابن سريج وافق في هذا لأنه لا يؤدي إلى سد باب الطلاق، وعلى هذا لو قال: إن ظاهرت منك فأنت طالق قبله ثلاثًا فظاهر لا يصح خلافًا لابن سريج، ولو كان له عبد وزوجة فقال لها: مهما دخلت الدار وأنت زوجتي فعبدي حر قبل دخولك وقال لعبده: مهما دخلت الدار وأنت عبدي فزوجتي طالق قبل دخولك ثم دخلا معًا لم تطلق ولم يعتق ووافقنا ابن سريج لأنه لا يؤدي إلى سد باب الطلاق واختلف أصحابنا في ذلك فذهبت طائفة إلى ما ذكرنا، منهم أبو بكر بن الحداد والقفال الشاشي [15/ ب] وأبو حامد والقاضي الطبري وجمهور مشايخ خراسان واحتجوا بأنه إن أوقع عليها ما أوقعه وجب أن يقع الطلاق المعلق به لأن الشرط إذا حصل وجب حصول المشروط، وإذا وقع قبله ثلاثًا لم يقع ما أوقعه لأنه لا يملك أكثر من ثلاث، وإذا لم يقع ما أوقعة لم يقع الثلاث فإثبات هذا الطلاق الموقع يؤدي نفيه فلا يجز إثبات وإيقاعه ومثل هذا قاله الشافعي رحمة الله عليه إذا زوج الرجل عبده حرّة بصداق قيمته لها ثم باعها العبد بالصداق قبل الدخول لم يصح البيع لأنه لو صح ملكت

زوجها وإذا ملكها انفسخ النكاح، وإذا انفسخ النكاح سقط مهرها لأن الفسخ كان من جهتها قبل الدخول وإذا سقط المهر بطل البيع لأنه هو عوضه فأفسد البيع لأن ثبوته يؤدي إلى بيعه كذلك هاهنا، وقال بعضهم: يقع الطلاق المباشر دون المعلق بالصفة وبه قال ابن أبي أحمد فغنه قال في "التلخيص": وكل من طلق امرأته بصفة وقع الطلاق بمجيء الصفة إلا واحد وهو إذا قال لامرأته: أنت طالق اليوم ثلاثًا إن طلقتك غدًا واحدة فطلقها غدًا واحدة وقعت الواحدة دون الثلاث، وحكي القاضي الطبري هذا عن ابن سريج فإنه قال في زيادات الطلاق، إذا قال لغير المدخول بها: إذا طلقتك فأنت طالق أخرى قبل التي أوقعتها عليك فطلقها وقعت التي أوقعها ولم تقع الأخرى لأنها لو وقعت لم تقع عن التي أوقعها، وقال صاحب "الحاوي": من حكي عن ابن سريج خلاف هذا فقد وهم وهو الصحيح وبه قال أبو حنيفة وابن أبي هريرة لن الناجز أصل هو أقوى والمعلق بالصفة نوع هو أضعف [16/ أ] فلم يجز أن يكون أضعفهما رافعًا لأقواهما ولأن طلاق الصفة لا يقع إلا بعد وقوع الناجز والناجز لا يرتفع إلا بعد وقوعه لأنه يؤدي إلى سد باب الطلاق. وقال بعضهم: يقع طلاق المباشر وتمام الثلاث من الطلاق المعلق بالصفة، وقال أبو عبد الله الحسن في "شرح التلخيص" وجماعة من أصحابنا وبه قال أصحاب أبي حنيفة رحمه الله، واحتجوا بأن الذي يؤدي إثباته إلى نفيه ما زاد على تمام الثلاث فوجب أن يقع تمام الثلاث، وقال في مسألة "التلخيص" يطلق غدًا طلقةً واحدة بالمخاطبة وهي في الحقيقة الثالثة وتطلق اليوم طلقتين بالصفة لأنه علق وقوع ثلاث تطليقات بالصفة ووقوع اثنتين منها جائز ووقوع الثلاثة بمجموعه ممتنع. وقال القاضي الطبري: هذا خلاف ما نص عليه في المنثور وهو الصحيح وما عداه باطل ولو صح هذا القول لبطل مسائل الدور أجمع والفتوى عندي على هذا واعلم أن الشيخ ابن الصباغ - رحمه الله - ذكر هذه المسألة في "الشامل" وطول الكلام فيها وقال من قال: لا يقع الطلاق ها هنا فقد اخطأ خطأً ظاهرًا وليس ذلك بمذهب الشافعي وذلك أنه علق الثلاث بوقوع الواحدة فصار وقوع الواحدة شرطًا في وقوع الثلاث ولا يجوز تقدم المشروط على الشرط، ولو جاز ذلك لبطل كونه شرطًا فيه، قال ولا يشبه هذا مسألة بيع الزوج صداقها لأن البيع يرد عليه الفسخ بتعذر ما أوجبه وهاهنا يتعذر ذلك، ولهذا لو باع مغصوبًا لا يجوز لتعذر التسليم في ثاني الحال وليس كذلك الطلاق لأنه متى وقع لا يطرأ عليه ما يرفعه [16/ ب] فما يترتب على وقوعه لا يؤثر فيه وإلا لزم إذا قال لامرأته: إذا انفسخ نكاحك فأنت طالق قبله ثلاثًا ثم ارتدت أو ملكها فإن الفسخ يحصل، وإن كان إثباته يؤدي إلى نفيه لأنه إذا وقع الطلاق قبله بانت ولم ينفسخ النكاح لعدمه، وكذلك إذا قال لأمته إذا صليت مكشوفة الرأس فأنت حرة قبل الصلاة فيقضي

أن لا تصح صلاتها مكشوفة الرأس ومع هذا صححوا الصلاة. والجواب على هذا: أنَّا لا نقدم المشروط على الشرط ولكن نقول لا يحصل الشرط لأن تحصيله يؤدي إلى نفيه على ما قررنا ولا يصح العذر والذي ذكر في مسألة البيع لأن تعذر تسليم العوض للمعنى الذي ذكرنا وعين ذلك المعنى يوجب سقوط حكم اللفظ في مسألتنا لنا نرفع الطلاق بعد وقوعه، وأما مسألة الصلاة فلا يلزم لأنه لا يمكن إبطال الفسخ ولا إبطال الصلاة لأنه ليس مالك لها، وأما الطلاق فهو مالك لإيقاعه وترك إيقاعه وتعليقه فتقدر على التصرف فيه بما يمنع ثبوت حكمه والله أعلم. ويترتب على هذه المسألة مسألة وقعت ببلدة عمان وهي: رجل حلف بالطلاق الثلاث غنه لا يحج السنة فأفتى له بعض الأصحاب أن يقول لامرأته: إن حنثت في يميني فأنت طالق قبل ذلك ثلاثًا فإذا قال ذلك ومضت السنة ولم يحج لم تطلق وبه قال القاضي الطبري، وقال بعض أصحابنا: فرق بين هذه المسألة والتي قبلها لأنه انقدت يمينه على الحج فلا يملك حلها وهذا ضعيف لأنه يجوز أن يعلق الطلاق على صفة ثم يسقط كلمة بصفة أخرى بدليل أنه قال: [17/ أ] إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق ثلاثًا صحت هذه الصفة ثم يملك، إسقاطها بان يقول: أنت طالق قبل انقضاء الشهر وهكذا لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثًا ثم قال: إذا وقع عليك طلاقي فأنت طالق قبله ثلاثًا على هذين الوجهين. مسألة: قال: "ولو قالَ: أنتِ طالقٌ إذا قدِمَ فلانُ فقدِمَ ميتًا أو مُكرهًا لم تْطلُقْ". إذا قال: إذا قدم زيدٌ فأنت طالق فأتى به ميتًا لم يقع الطلاق لأنه لم يقدم وإنما قُدم به وإن قدم مكرهًا فإن حمل على المركوب من غير اختيار لا يقع الطلاق أيضًا لما ذكرنا، وإن كان باختياره وقع فإن ضرب حتى ركب المركوب باختياره أو مشى برجليه فقدم ففيه قولان، وهذا أصل في مسائل كثيرة فمتى أكره على فعل شيء ففعل بنفسه مثل إن أكره على القتل فقتل أو أكره الصائم على الكل فأكل هل يكون عليه القود في القتل وهل يفطر في الأكل؟ قولان، وإن كان مسلوب الفعل بكل حال بأن أخذ ورمى به على إنسان فمات به ذلك الإنسان أو أوجر في حلقه شيءٌ فلا شيء على المرمى ولا يفطر، وأما إذا قدم باختياره نظر، فغن كان قصد بقوله إذا قدم فلان فأنت طالق تعليق الطلاق بالصفة ولم يقصد فيه منعه من القدوم مثل أن يقول: إذا قدم الحاج أو قدم الصديق بالصفة ولم يقصد فيه منعه من القدوم مثل أن يقول: إذا قدم الحاج أو قدم الصديق أو قدم الأمير فأنت طالق فمتى قدم باختياره عالمًا بيمينه أو جاهلًا وقع الطلاق. كما إذا قال: إذا دخلت هذه البهيمة الاصطبل فأنت طالق فدخلت وقع الطلاق، وإن قصد به منعه من القدوم لعلمه بأنه يشق عليه طلاقها، قال ابن أبي هريرة: إذا حلف على فعل غيره وهو لا يعلمه ففعله من غير علمه يحنث قولًا واحدًا ولا يجيء فيه

القولان [17/ ب] كما لو قال: إن دخل هذا الحمار فأنت طالق فدخل حنث قولًا وحدًا، وإذا حلف على فعل غيره مع علمه به ففعله ناسيًا أو مكرهًا فيه قولان، والفرق إن الحلف على فعل غيره مع علمه إنما يكون لمنعه من فعله فيكون بمنزلة قوله: إن كلمت زيدًا فأنت طالق فيقصد منعها من الكلام فإذا كلمته ناسية فغنها لم تقصد مخالفته وإحناثه فهل يقع الطلاق؟ قولان، وإذا لم تعلم بقصده تعليق الطلاق بصفة خصته على ما بيناهُ، ومن أصحابنا من قال: فيه قولان بكل حال سواء علم بيمينه ثم نسي أو لم يعلم ذكره أبو حامدٍ والأول أصح، ومنهم من قال: يحنث قولًا واحدًا وهو الأشبه بقول الشافعي وهو اختيار مشايخ البصرة، لأن القصد إنما يراعى في قصد دون المحلوف عليه لأن الحالف لا بدّ أن يكون ذا قصدٍ فجاز أن يراعى القصد في فعله ويجوز أن يكون المحلوف عليه غير ذي قصد فلم يراع القصد في فعله. فرع آخر قال في "الأم": لو قال: كلما قدم فلان فأنت طالق فقدم ثم خرج ثم قدم ثانيًا ثم خرج ثم قدم طلقت ثلاثًا لأن الشرط على التكرار. فرع آخر لو كان المحلوف على قدومهِ قرابة لأحدهما يرجع إلى قصد الحالف على قصد أن يمنعه من القدوم بيمينه او أراد أن يجعله صفة له دون اليمين مثل يقصد إلى أن يطلقها إذا حصل معها محرمٌ لها ولا يطلقها وحده. فرع آخر لو قال: إذا حصل زيد بأمكَ فامرأتي طالق فحصل بها ميتًا طلقت. مسألة: قالَ: "ولَوْ قال: إِذَا رَأَيتِهِ فَرأَتهُ فَي الحالِ حَنِثَ". قصد به الفرق بين هذه المسألة والتي قبلها فإن هاهنا إذا رأته في تلك الحال حيًا وميتًا حنث لأنه رأته ميتًا [18/ أ] كما يقال رأته حيًا، وإن رأته ناسيًا فعلى ما ذكرنا من الخلاف وكذلك إذا أكرهت على النظر. فرع آخر لو قال: إذا رأيت فلانًا فاطلعت في المرآة فرأت صورة زيدٍ فيها أو اطلعت في الماء وزيدٌ في مقابلة الماء لم تطلق لم تره وإنما رأت مثاله كما لو رأت في المنام. فرع آخر لو رأته من وراء زجاج لا يمنع مشاهدة ما وراءه وقع لأنها رأت هاهنا جسم زيد ورأت في المرآة مثال زيد ولا يكون الزجاج الحائل مع وجود الرؤية مانعًا منها.

فرع آخر لو قال: إن ضربت زيدًا فأنت طالق فضربته ميتًا لا يحنث لأن معنى الضرب وهو الإيجاع لم يحصل، ذكره القفال، وقال القاضي الطبري يحنث لأن الضرب اقتضى صفةً من المضروب بخلاف ما لو قال: إن كلمته فأنت طالق فكلمته ميتًا لا يحنث لأن الكلام يقتضي صفة من المتكلم ولأن يراعي ظاهر اللفظ في اليمين ولهذا لو ضربهُ وهو سكران فلم يتألم به بُر في يمينه والأول أصح عندي. فرع آخر لو قال: إن مسسته فأنت طالق فمسته حيًا أو ميتًا حنث. فرع آخر لو قال: إن قذفتيه فأنت طالقٌ فقذفته ميتًا يحنث لأن قذف الميت كقذف الحي. فرع آخر لو قال: إن قذفت فلانًا في المسجد فأنت طالق يشترط أن يكون قاذفًا في المسجد وبمثله لو قال: إن قتلت فلانًا في المسجد فأنت طالق يشترط أن يكون المقتول في المسجد، وإن كان القاتل خارجًا بأن رمى إليه حنث. فرع آخر لو قال: من أخبرني منكن بقدوم زيدٍ فهي طالق فأخبرنهُّ معًا طلقن جميعًا لأن كل واحدة مخبرة، ولو قال من بشرني منكن بقدوم زيد فهي طالق فبشرنه دفعة واحدةً طلقن جميعًا، [18/ ب] وإن بشرت واحدة طلقت دون الباقيات لأن البشارة تحصل في الأول وما بعد ذلك فهو خير ليس ببشارة وهذا إذا كانت المبشرة صادقة، فإن كانت كاذبة لا يقع الطلاق لأنه مع الكذب ليس ببشارة لأن البشرى ما سرت وهي لا تسر إلا بالصدق، وكذلك في الخبر عن الكذب لا يقع الطلاق كذا ذكره القفال، واختاره صاحب "الحاوي"، وقال أبو حامد: يقع وإن كانت كاذبة لأن الخبر يدخله الصدق والكذب والخبر ذكر الشيء وقد ذكرت وجماعة من أصحابنا على هذا. فرع آخر لو قال: أيتكنَّ أخبرتني إن زيدًا قد قدم فهي طالق فإذا أخبرته واحدة بقدومه طلقت وإن كانت كاذبة لأنه علق بالإخبار وقد وجد ذكره القفال. مسألة: وإِنْ قَالَ: "ولو حَلَفَ لَا تَأخُذ مالَكَ علىّ فأجْبَرَهُ السُّلْطانُ فَأخَذَ مِنهُ المَالَ حنِثَ، وإِنْ قَالَ: لا أُعْطِكَ لمْ يحنَثْ". أراد به إذا أجبر السلطان الذي عليه الحق فأعطاه مكرهًا وأخذ صاحب الدين مختارًا حنث قولًا واحدًا لنه إنما حلف على الأخذ لا على الإعطاء والإكراهُ إنما يؤثر في

الفعل المحلوف عليه دون غيره فأما إذا أجبر السلطان الآخذ فأخذه فيكون على قولين، وإن قبض الحاكم ذلك ثم هو أخذه من الحاكم لم يحنث الحالف لأنه لم يأخذ ماله عليه بل قبض مال نفسه من الحاكم فإن ذمته برئت بقبض الحاكم، ولو وضعه في حجره أو بين يديه لم يحنث لأنه لم يأخذ كذلك، ولو قال: لا تأخذ مني فأخذ منه حنث سواءً كان الأخذ مكرهًا أو طائعًا إن جعله في جيبه أو كمه أو حجره والقياس انه يحنث لأنه قد أعطاه وإن أخذه [19/ أ] السلطان منه ثم أخذه من له الحق لم يحنث لأنه ما أعطاه وإنما أعطاه السلطان، ولو أجبره السلطان فأعطى بنفسه فيه قولان، ما ذكرنا. فرع لو قال: إن أخذت حقك فأنت طالق فجاء رجل وقضى دينه عنه قال الدرامي: لا يحنث لأنه بدل حقه وعندي يحتمل وجهًا آخر. فرع آخر لو قال لغريمه: امرأتي طالق إن لم أجرّك على الشوك ولا نيه له، قال بعض أصحابنا إذا ماطله مطالاً بعد مطال بَر في كلامه وعلى هذا لو حلف انه يضربها حتى تموت ولا نية له فضربها ضربًا مؤلمًا بُرَّ. مسألة: قال: "ولَوْ قَالَ: إِن كَلَّمتِهِ فَأَنتِ طالقٌ فكلمَتْهُ حيثُ يَسْمعُ حنِثَ، وَإِنْ لمْ يَسْمَعْ". إذا قال إن كلمت فلانًا فأنت طالقٌ فكلمته حيث يسمع حنث، وإن لم يسمعه لعارض ضجة أو لغط أو شغل لأنه يقال: كلمته فلم يسمع وإن كلمته لحنث لا يجوز أن يسمعه لانخفاض صوتها وبعد ما بينها وبينه من المسافة لم يحنث لأن التكلم عبارة عن خطاب يفهمه المخاطب، وقال القفال هاهنا: وإن سمع أيضًا لا يحنث وهذا غريب. فرع لو كان أصم قال أبو إسحاق: ينظر فإن كلمته ورفعت صوتها بحيث يجوز أن يسمعه مثله وقع الطلاق، وإن لم يسمع لأن الاعتبار بإمكان السماع وإن كلمته بحيث لا يجوز أن يسمعه الأصم لم يحنث، وإن كان السميع يسمع مثله، وقال أبو حامد وجماعة: فيه وجهان، أحدهما: يحنث لأن عارض الصمم كعارض اللغط وهو اختيار القفال. والثاني: لا يحنث لأنها لم تكلمه بشيء يسمع مثله وهذا أظهر لأن مثله غير مكلّم قال الله تعالى: {ولا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إذَا ولَّوْا مُدْبِرِينَ} [النمل: 80].

فرع آخر قال في "الحاوي": لو أشارت بالكلام إليه حتى علم فيه وجهان [19/ ب] أحدهما: لا يحنث لأن الإشارة ليست كلامًا. والثاني: يحنث لأن هكذا يكلم الأصم. فرع آخر لو كلمت الحائط كلامًا لم يسمعه إلا زيد فيه وجهان، أحدهما: لا يحنث كما لو كلمت غيره، والثاني: يحنث لأن الحائط لا يكلم فصار الكلام متوجهًا إلى من يجوز أن يكلم. فرع آخر لو كلمته ميتًا أو نائمًا لم يحنث لأن الموتى لا يكلمون وإنما يكلم من يسمع ويجيب، فإن قيل فقد كلم النبي صلى الله عليه وسلم قتلى بدرٍ فقال: "يا شيبة يا عتبة" فقيل له: أتكلم الموتى؟ فقال: "لستم بأسمع منهم". قيل تلك معجزة النبي صلى الله عليه وسلم والميت لا يسمع، قال الله تعالى: {ومَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القُبُورِ} [فاطر: 22]. فرع آخر لو كلمته وهو مجنون مغلوب عليه لم يحنث لأن مثله لا يكلم، وقال القفال في المجنون: يحنث وهذا حسنٌ عندي. فرع آخر لو كلمته وهي سكرانة حنث لأن فعل السكرانة بمنزلة فعل الصاحية، وقال القفال: فيه قولٌ مخرج لا يحنث من طلاق السكران فإنه لا يقع في أحد القولين، وإن كان المكلم سكرانًا فإن كان مختلط العقل بحيث لا يميز ولا يسمع مثله لا وإلا فيحنث. فرع آخر لو كلمته ناسيةً حنث قولاً واحدًا وهو اختيار البصريين، وقال بعض أصحابنا فيه قولان وهكذا لو كلمته مكرهةً، وقال جماعة من البصريين هاهنا على قولين وفي غير هذا الموضوع إذا علقه على فعل الغير فوجد مع النسيان قول واحد أنه يحنث، والفراق أن ما لا يقصد من الكلام ليس بكلام يجري ذلك مجرى هذيان النائم ولو كلمت وهي مجنونة لم يحنث. فرع آخر لو سلمت على جماعة وفيهم ذلك الرجل فإن لم تعن لهُ حنث وإن عزلته بنيتها ففي حنثه وجهان.

فرع آخر لو مزح فقال إن كلمت حمارًا أو ميتًا أو جدارًا فأنت طالق فكلمت به حنث في يمينه. فرع آخر لو كلمتهُ [20/ أ] مكرهةً فعلى قولين كما ذكرنا. فرع آخر لو قال: إن أمرتك بأمر فخالفتيني فأنت طالقٌ ثم قال: إن لم تصعدي السماء فأنت طالق فيه وجهان، أحدهما: طلقت لأنه لم تفعل ما أمرها، والثاني: لا تطلق لأن الأمر في العرف ما أمكن إجابة المأمور إليه وهذا غير ممكن. مسألة: "قالَ: ولو قالَ لمدخولٍ بها: أنتِ طالقٌ أنتِ طالقٌ أنتِ طالقٌ". الفصل إذا قال لامرأته: أنت طالق أنت طالق أنت طالق فإن لم يكن دخل بها بانت بواحدة على ما ذكرنا، وإن كانت مدخولًا بها وقعت الأولى وسُئل عن الثانية والثالثة، فإن قال: أردت الاستئناف بكل واحدة منها طلقت ثلاثًا، وإن قال: أردتُ التأكيد وإفهام الطلاق امرأته فالقول قوله ولم يقع غير الأولى فإن خالفته الزوجة يحلف الزوج وهكذا لو قال: أردت بالثانية الاستئناف وبالثالثة التأكيد فهو على ما نوى، وإن لم يكن له نية فيه قولان: إحداهما: نص عليه في "الأم" طلقت ثلاثًا وهو الأصح واختيار المزني وبه قال مالك وأبو حنيفة لأن الكلام الثاني مستقل بنفسه غير متعلق بالأول ولا ينبني عليه فيلزمه به ما يلزم بالأول ولأن لفظ الإيقاع يقتضي وقوع الطلاق وإنما يحتمل التأكيد إذا أريد به كما يحتمل لفظ العموم التخصيص ولكن لا يحمل على التخصيص إلا عند الإرادة، والثاني قاله في "الإملاء": طلقت واحدة لأنه يحتمل الاستئناف فلا يجوز إيقاع الطلاق بالشك. فرع غاير بين الألفاظ بحروف العطف وقال: أنت طالق وطالق فطالق أو بل طالق أو ثم طالق يقع ثلاث تطليقاتٍ، قال في الأم: فإن قال أردت به [20/ ب] الإفهامَ والتأكيد لم يدين في الحكم وهذا يدل على أنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى، ولو قال: أنت طالق بطالق طلقت اثنتين بخلاف ما لو قال: عليَّ درهم فدرهم وقد ذكرناه في الإقرار.

فرع آخر قال في "الإملاء": لو قال: أنت طالق وطالق لا بل طالق إن أراد بالثلاث الاستئناف أو أطلق كان ثلاثًا، ولو قال: إنما شككت في الثانية هل أوقعتها ثم استدركت إيقاعها ظنًا مني أني ما أوقعتها فالقول قوله ولا تقع الثالثة لأن الاستدراك في هذا صحيح، وقال في "الحاوي": إن أراد في الباطن فالأمر على ما قاله، وإن أراد أنها لا تقع ظاهرًا وباطنًا ففيه نظر لأن تغاير الألفاظ يجعل لكل طلقةٍ حكم نفسها فلا يقبل منه في ظاهر الحكم ما أدى إلى وقعها. فرع آخر لو غاير من ألفاظ الطلاق مع اتفاق الحروف بأن يقول: أنت طالق، أنت مفارقة، أنت مسرّحة فيه وجهان، أحدهما: يكون لمغايرة الحروف فتطلق ثلاثًا من غير سؤال لأن الحكم بلفظ الطلاق أخص منه بحروف الطلاق، والثاني: يغلب حكم الحروف المشاكلة وإن كانت ألفاظ الطلاق متغايرة لأن الحروف هي العاملة في وقوع الحكم باللفظ فعلى هذا يرجع إلى ما أراد بالثانية والثالثة، فإن أراد التأكيد أو الاستئناف يقبل وإن أطلق فيه قولان. فرع آخر لو قال: أنت طالق وطالق وطالق وقع الأول والثاني ويرجع في الثالثة إليه لأن الثالث على صفة اللفظ الثاني ولذلك لو قال أنت طالق فطالق فطالق أو طالق بل طالق بل طالق أو طالق ثم طالق ثم طالق، وكذلك لو قال أنت طالق وأنت طالق وأنت طالق، وقال ابن البياض تطلق هاهنا ثلاثًا بلا إشكال. فرع آخر لو قال: هاهنا أردت بالثانية التكرار وبالثالثة الاستئناف [21/ أ] قبل قوله في الثالثة ولم يقبل قوله في الثانية لأنها خلاف الظاهر وقد قلنا في اللفظتين المختلفتين يحمل الثاني على الاستئناف في الحكم. فرع آخر لو اتفقت الألفاظ ولكن قال: أردت بالثانية الإيقاع والاستئناف وبالثالثة تأكيد الأولى فيه وجهان لأصحابنا أحدهما: لا يجوز ذلك ويقع الثلاث كما لو فصل اللفظ من اللفظ لأنه لا يجوز أن يتخلل بين المؤكد والمؤكد به كلامٌ، والثاني: يجوز ذلك ويقع الاثنان على ما أراد. فرع آخر لو قال: أنت طا طا طالق طلقت واحدة.

فرع آخر لو قال: أنت طالق ثم بعد مضي زمان قال: أنت طالق يقع ثنتان وإن أراد به التأكيد لا يقبل في الحكم بخلاف ما لو أقر بدرهم ثم أقر بدرهم يقبل وقد ذكرناه في كتاب الإقرار. فرع آخر لو قال: أنت طالق واحدة بل ثنتين طلقت ثلاثًا ذكره ان سريج لأنه قد استدرك بالثنتين الإضراب عن واحدة ولا يصح الإضراب عن الأولى، وقال بعض أصحابنا: هذا غير صحيح بل لا يلزمه إلا طلقتان لأنه إذا استدرك زيادةً على الأولى بطل حكم الإضراب لدخوله في المستدرك كما لو قال: علي درهم لا بل درهمان لم يلزمه إلا درهمان. فرع آخر قال لإحدى زوجتيه: أنت طالق واحدة لا بل هذه ثلاثًا طلقت الأول واحدة وطلقت الثانية ثلاثًا لأنه استدرك بالثانية الإضراب عن طلاق الأولى ولا يمكن الإضراب عن الأولى. فرع آخر لو قال لزوجة واحدة: أنت طالق واحدة لا بل ثلاثًا إن دخلت الدار قال ابن الحداد: طلقت في الحال واحدة وطلقت بدخول الدار وتمام الثلاث إن كانت مدخولًا بها وهذا قياس قول ابن سريج في قوله: أنت طالق واحدة لا بل ثنتين يقع ثلاث وقال [21/ ب] بعض أصحابنا: هذا غير صحيح لدخول الواحدة في الثلاث فاقتضى أن يكون الشرط راجعًا إلى الجميع ولا تطلق قبل دخول الدار شيئًا، فإذا دخلتها طلقت ثلاثًا وهذا اختيار صاحب الحاوي. مسألة: قالَ: "ولو قالَ: أنتِ طالقٌ طلاقًا فهيَ واحدةٌ". هذا تأكيد الكلام بالمصدر فإن نوى به التأكيد أو أطلق حمل على التأكيد، وإن نوى به طلقة مستأنفة وقعت لأنه يحتمل، وإن نوى به الثلاث وقع الثلاث بلا خلاف وهكذا لو قال أنت طالق الطلاق. مسألة: قالَ: "وكلُّ مُكْرهٍ ومغلوبٍ على عقلِهِ فلا يلحقُهُ الطلاقُ". في اللفظ إشكال لأن الإكراه إذا كان بحق في المولى يقع الطلاق فيحتمل أنه قصد به الرد على أبي حنيفة رحمه الله فلم يستعمل تمام البيان ويحتمل أنه قصد الإكراهين.

بالبيان ولكن أجاب عن أحد القولين في المولى أنه لا يجبر على الطلاق بل يطلق القاضي وهو اختيار المزني وعامة أصحابنا طلاق المكره غير واقع في الجملة لذلك عتقه وعقوده إذا قصد باللفظ دفع الإكراه عن نفسه والأصل فيه أن القصد إلى اللفظ في الطلاق معتبر عندنا فإذا لم يقصد لم يقع ولهذا لو سبق لسانه الطلاق لا يقع فيما بينه وبين الله تعالى وبه قال مالك والأوزاعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد وروي ذلك عن عمر وعلي وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عباس وشريح والحسن وعطاءٍ والقاسم وجابر بن زيد وسالم وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم، وقال أبو حنيفة والثوري: طلاق المكره وعتقه نافذ وبه قال النخعي والزهري وقتادة والشعبي وقال أبو حنيفة: نكاحه ينفذُ أيضًا وسائر العقود لا تنفذ ولكن تنعقد وله فسخه وهذا غلط [22/ أ] لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طلاق في إغلاق"، قال أبو عبيد والعتنبي: الإغلاق الإكراه. وروت عائشة رضي الله عنها مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا طلاق ولا عتاق في إغلاق". وروي "في غلاق" وروى قدامة بن إبراهيم أن رجلًا تدلى بحبل يشتار عسلًا في زمان عمر بن الخطاب رضي الله عنه فجاءته امرأته فوقفت على الحبل فحلف لتقطعنه أو لتطلقني ثلاثًا فذكرها الله والإسلام فأبت إلا ذلك فطلقها ثلاثًا فلما ظهر إلى عمر ابن الخطاب فذكر له ما كان منها إليه ومنه إليها فقال: "ارجع إلى أهلك فليس هذا بطلاق"، وروي أنه قال: لا طلاق في إغلاق. وروى أبو أمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس على مقهور يمين". وقال ثابت الأعرج تزوجت أم ولد لوالد عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب وله منها ولد فوثب عبد الرحمن فجعل الرهن في رجلي يقول: تزوجت أم ولد أبينّا بغير علم منا فو الله ما ننزع منك حتى تطلقها ثلاثًا فطلقتها ثم لحقت بعبد الله بن الزبير فقال: لا طلاق لمستكرهٍ أنت أحق بامرأتك ثم سألت ابن عمر فقال ما قال ابن الزبير فولد له رجلان قال عمرو بن دينار وقد رأيتهما فإن قيل: روى أبو عبيد عن يزيد بن عبد الملك عن أبيه قدامه بن إبراهيم أنه قال: فرفع الأمر إلى عمر فأبانها منه قيل قال أبو عبيد روي عن عمر خلافه، قال الشيخ أحمد البيهقي رحمه الله: المحفوظ عن عمر ما ذكرنا، وهذا أشبه أن يكون غلطًا من أبي عبيد أو من يزيد، واحتجوا بما روي أن رجلًا كان نائمًا مع امرأته فجلست على صدره ووضعت السكين على حلقه وقالت له: طلقني ثلاثًا أو لأذبحنك فطلقها ثلاثًا ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم [22/ ب] فأخبره بذلك فقال: "لا قيلولة في الطلاق" قُلنا: لم يقبل

قوله في الإكراه، وهو ظاهر من حالة أن المرأة لا تقدر على ذلك فطلقها طوعًا، فإذا تقرر هذا فلا خلاف أنه إذا طلق مكرهًا، وروي بغيره بأن قال: أردتُ من وثاق أو أردت أنها كانت طالق من زوج غيري يقبل في الحكم ولا يقع شيء بخلاف حالة الطوع، لأنه لو أراد ذلك لا يقبل في الحكم لأن الظاهر من الإكراه أنه أراد ما قال ولا خلاف أنه لو اختار اللفظ وأقر به أو أكره على طلقة واحدة فطلقها ثلاثًا أو أكره على تعليق الطلاق بصفة فنجزه أو أكره على التنجيز، فعلق أنه يقع الطلاق وحكي شيخنا ناصر - رحمه الله - عن أبي الوليد النيسابوري من أصحابنا أنه قال: لا يقع وإن نوى الطلاق لأن اللفظ من غير اختياره فبقي مجرد النية وهذا ضعيف، وإن أطلق ولم ينو ولم يور بغيره لا يقع الطلاق أيضًا عن أكثر أصحابنا، وقال بعضهم: فيه وجهان، أحدهما: هذا لأنه لفظ حمل عليه من غير حق فلا حكم له كالإقرار بالطلاق. والثاني: أنه يقع الطلاق لأنه كان قادرًا على التورية فتركها فصار مختارًا للطلاق ولهذا تلزمه التورية إذا أكره على كلمة الكفر وهذا اختيار القفال. فرع المولى إذا أكره على الطلاق عند امتناعه من الفيء فطلق يقع الطلاق لأنه إكراه بحق، ولو نذر عتق عبد بعينه فامتنع من إعتاقه فأكره حتى أعتق نفذ لما ذكرنا، وعلى هذا لو أكره الذمي على الإسلام فأسلم لا يصح إسلامه لأنه لا يحل إكراهه عليه، ولو أكره الحربي على الإسلام فأسلم صح إسلامه [23/ أ] لأنه إكراه بحق، ولو أكره الذمي أو الحربي على الإقرار بالإسلام فأقر لا يصح لأنه إكراه بحق. ولو أكره الذمي أو الحربي على الإقرار بالإسلام فأقرّ لا يصح لأنه لا يجب على المسلم إكراه واحد منهما على الإقرار بالإسلام إنما يجب في الحربي الإكراه على إنشاء الإسلام. ولو قال: طلق امرأتك وإلّا اقتصصت منك لا يكون إكراهًا لأنه أوعده بالحق. فرع آخر لو قال: طلق وإلا قتلتُ نفسي لا يكون إكراهًا. فرع آخر حد الإكراه ماذا؟ قال أصحابنا: أصل الإكراه يفتقر إلى ثلاث شرائط: أن يكون المكره قاهرًا غالبًا وهو على ضربين: أحدهما: أن يكون عام القدرة كالسلطان والمتغلب، والثاني: أن يكون خاص القدرة كاللص والسيد مع عبده. والثاني: أن يغلب على ظن المكره إن الذي يطلب منه متى لم يفعله وقع به الوعيد الذي يهدده. والثالث: أن يكون الذي يهدده به مما يلحقه به ضرر فيما يخصه في نفسه. فرع آخر اختلف أصحابنا في الضرر الذي يتواعد به، منهم من قال: أن يخاف قتلًا أو جرحًا وقد قال أبو إسحاق قريبًا من هذا وذلك أنه قال: الإكراه فعل مبرح أو فعل مؤثر تأثيرًا يؤدي إلى الموت، فأما إذا هدده بأخذ ماله أو حبسه من غير منع الطعام والشراب فلا

يكون إكراهًا حتى لو هدد بأخذ ماله لا يكون إكراهًا، وقال أيضًا لا إكراه إلا أن ينال بالضرب. وقال ابن أبي هريرة: هذا كله إكراه، والتهدد بأخذ المال وإتلافه إكراه لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل له أن يدافع عن ماله كما جعل له أن يدافع عن نفسه وإن هدده بالضرب اليسير والصفع والشتم والحبس فإنه يختلف باختلاف أحوال الناس، لأن في كل هذا ضررًا [23/ ب] وقد قال الشافعي رحمة الله عليه في "كتاب المكره" من يخاف مخوفًا عليه دلالة أن امتنع من قبول لما أمر به يبلغ به الضرب المؤلم والاختلاف باختلاف أحوال الناس، أما إن كان الرجل من ذوي المروءات والأشراف الذي يستضر بالضرب اليسير والشتم والحبس القليل كان إكراهًا، وإن كان من الشطار والسقاط الذين عادتهم الضرب والشتم والحبس لا يكون إكراهًا، وبه قال صاحب الإفصاح وهو الصحيح والمذهب، وقال القفال في شرح عيون المسائل: حدُ الإكراه في كل موضع أن يخوف الرجل بما لا يطيقه ويشق عليه تحمله في بدنه مثل القتل أو الضرب المبرح أو الحبس الطويل، فأما اللطمة واللطمتان أو حبس يوم أو يومين أو كان شريفًا فخوف بأن يجرد من ثيابه في الملأ أو ينكل به في البلد، أو يركب حمارًا ويطاف به، ونحو ذلك فليس بإكراهٍ وكذلك الإكراه بإتلاف المال، لأن الإكراه في البدن لا في المال، وعلى هذا لو قال لرجل: إن أتلفت مال فلانٍ وإلا قتلك فأتلف فهو مكره ولا يغرم المال الذي أتلفه، وبمثله لو قيل: له إن أتلفت مال فلان وإلا أتلفنا مالك فأتلف فعليه الضمان ولا نجعله مكرهًا. قال: وقد غلط أهل هراة في صورة المكره وكنت بها وقد انجلى عنها الرئيس القديم وأقيم مقامه سواء كان هذا الرئيس الثاني يأتي بأقوام من أهل هراة يتهمهم بأن عندهم ودائع ذلك الرئيس القديم فينكرون ويحلفون بالطلاق ويطلقهم فسئلت عن وقع الطلاق في هذه الحالة فأفتيت بأن الطلاق يقع فنازعني أهل هراة فيها، وقالوا: يجب أن لا يقع لأنها يمين مكرهٍ [24/ أ] فقلت: ليس هذا يمين مكره لأن الإكراه أن يخوف في بدنه بشيء فأما في مال غيره فلا إكراه، فإذا حلف أن لا وديعة عندي بالطلاق وعنده وديعةٌ فكأنه افتدى المال بالطلاق فوقع الطلاق إذ الإكراه هاهنا ليس على الطلاق وعلى هذا لو حبس السلطان رجلًا ليصادر فباع أمواله في تلكم الحال فالبيع نافذ لأنه لم يكره به على البيع وإنما أكرهه على بدل ماله والفتوى عندي هاهنا أن يحلف ويوري ولا يقع الحنث حتى لا يتلف مال الغير والله أعلم. وروي عن أحمد في رواية أنه قال: الوعيد لا يكون كرهًا لأنه لم يحلقه ما يستضر به، وقال: المكره إذا كان القتل أو الضرب الشديد وهذا غلط لأن الإكراه لا يكون إلا بالوعيد، لأنه لا يمكن إزالة ما يقع به وإنما يخاف ما يوعد به وقد قال شريح: القيد كره والوعيد كره وفي قصة المشتار عسلًا لم يكن إلا الوعيد، وذكر صاحب "الحاوي" هذا الفصل شرحًا حسنًا فأوردته على وجهه وذلك أنه يعتبر في المكره ثلاثة شروط،

أحدها: أن يكون قاهرًا على ما ذكرنا. والثاني: أن يغلب في النفس بالأمارات الظاهرة أن سيفعل ما يتوعد به إن لم يجب. والثالث: أن يكون بظلم ويعتبر في المكره ثلاثة شروط أحدها: أن لا يقدر على دفع الإكراه عن نفسه لا بالذبّ من المكره، والثاني: أن يعلم إن خوّف المكره بالله تعالى لم يخف لبغيه. والثالث: أن لا يكون له ناصر يمنع منه ولا يمتنع بكفه عنه، فإن عدم أحدها لا يكون مكرهًا، قال: والإكراه ادخال الضرر البين على المكره، وذلك يكون من أحد سبعة أوجه، أحدها: القتل وهو الأعظم، والثاني: الجرح إما بقع طرفٍ أو إنهار دم فهو إكراه [24/ ب] للألم وربما يسري إلى النفس، والثالث: الضرب يكون إكراهًا لألمه وضرره إلا أن يكون في قوم أهل الشطارة والصعلكة الذين يتفاخرون بالصبر على الضرب فلا يكون إكراهًا في أمثالهم. والرابع: الحبس. والخامس: أخذ المال. والسادس: النفي عن بلده، والسابع: السب والاستخفاف. فرع آخر قال: لو هدد بقتل غيره فإن كان بينهما بعضية كالوالدين وإن علوا والمولودين وإن سفلوا، كان إكراهًا لأن البعضية تقتضي التمازج في الأحكام. وقال القاضي الطبري: لو هدده بإدخال الضرر على ولده فهو كنفسه، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان، وليس شيء، وإن كان من غير ذي رحم محرم كبني الأعمام والجار والصديق لا يكون إكراهًا لأن بين جميع الناس تناسبًا بعيدًا، وإن كان ذا رحم محرمٍ كالإخوة والأعمام والعمات فهل يكون التهديد بقتلهم إكراهًا؟ وجهان، أحدهما: لا يكون إكراهًا لعدم البعضية. والثاني: يكون إكراهًا لوجود المحرمية كالوالدين. فرع آخر قال: لو هدده بطول الحبس كان إكراهًا، وإن كان قصير الزمان كاليوم ونحوه لا يكون إكراهًا لقربه وقلة ضرره، وإن كان لا يعلم طوله ولا قصره كان إكراهًا لأن الظاهر من المحبوس على شيء أنه لا يطلق إلا بعد فعله وحكم القيد إذا هدد به حكم الحبس لأنه أحد المانعين من التصرف. فرع آخر قال: إذا خوف بأخذ المال ينظر فإن كان كثيرًا يؤثر أخذه في حاله كان إكراهًا وإن كان قليلًا لا يؤثر في حاله لا يكون إكراهًا، وإن كان كثيرًا إلا أنه لا يؤثر في حاله لسعة ماله فيه وجهان، أحدهما: يكون إكراهًا لقدر المال للنفوس به، والثاني: لا يكون إكراهًا اعتبارًا [25/ أ] بحاله التي لا يؤثر المأخوذ فيها، وقال الماسرجسي: لو قيل لغني: افعل كذا وإلا أخذت منك خمسة دراهم لا يكون إكراهًا. فرع آخر لو أكرهه بالنفي عن بلده فإن كان ذا ولد وأهل ومالٍ لا يقدر على نقله معه كان

إكراهاً، وإن قدر على نقلها ومكن منها فيه وجهان، أحدهما: لا يكون إكراهًا لتساوي البلاد كلها في مقامه فيما شاء منها، والثاني: يكون إكراهًا لأن النفي يكون عقوبةً كالحد وفيه مشقة شديدة. فرع آخر قال: السبّ والاستخفاف إن كان من عامة الناس وسفلتهم الذين لا يتناكرون ذلك فيما بينهم ولا ينقص جاههم لا يكون إكراهًا فيهم، وإن كان من ذوي الصيانات وذوي المروءات فيه وجهان، أحدهما: يكون إكراهًا لما يلحقهم من وهن الجاه وألم القلب. والثاني: لا يكون إكراهًا لأن الناس علموا أنه مظلوم به، قال: والأصح عندي أنه ينظر في حال الإنسان فإن كان من أهل الدنيا وطالبي الرتبة فيها كان ذلك إكراهًا في مثله لأنه ينقص ذلك من جاهه بين نظرائه، وإن كان من أهل الآخرة وذوي الزهادة في الدنيا لم يك ذلك إكراهًا في مثله، لأنه لا ينقص ذلك من جاهه بين نظرائه، بل ربما كان أعلا لذكره مع كثرة ثوابه، هذا مالك بن أنس رحمه الله جرد السياط فيما كان يفتي به من سقوط يمين المكره فكأنما كان خليًا خُلّيَ به في الناس. فرع آخر ينظر في المكره فإن تلفظ به غير قاصد للفظه ولا مريد لإيقاعه لم يقع، وإن قصد لفظه وأراد إيقاعه يقع، وإن قصد لفظه ولا يريد إيقاعه فيه وجهان، أحدهما: لا يقع لفقد الإرادة في الوقوع. والثاني: يقع لقصده لفظه والمختار إذا تلفظ به ولم يرد [25/ ب] وقوعه وقع. فرع آخر طلاق الهازل وعتقه نافذ بلا خلاف لأنه اختار لفظ، وإن لم يختر حكمه وصورته أن يقول لزوجته: طلقتك ظنها أجنبية ونحو ذلك وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد الطلاق والعتاق والنكاح" وروى أبو هريرة "النكاح والطلاق والرجعة". فرع آخر لا يقع طلاق المغلوب على عقله من المجنون والنائم والمغمى عليه، ولا يقع طلاق الصبيّ لقوله صلى الله عليه وسلم: رفع القلم عن ثلاث عن الصبي حتى يبلغ وعن المجنون حتى يفيق وعن النائم حتى ينتبه، وقال علي رضي الله عنه: كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه

والصبي. وقال أحمد في رواية: إذا عقل الصبي الطلاق يقع طلاقه وهذا غلط لما ذكرنا ولا غير مكلفٍ كالمجنون. مسألة: قالَ: "طلاقُ السكرانِ مِنْ خمرٍ أو نبيذٍ". الفصل نصَّ الشافعي رضي الله عنه في عامة كتبه: أن طلاق السكران واقع ونصّ على أنه إذا أسلم في حال سكره ثم ارتد استتيب فإن تاب وإلا قتل. قال: المزني وقال الشافعي في التنبيه: في ظهار السكران قولان، وهذا لا يعرف للشافعي ولكن نقله المزني عن أمالية القديمة ولعله سمعه منه لفظًا فيكون طلاقه على قولين أيضًا. أحدهما: يقع وبه قال ابن مسعود وعمر بن عبد العزيز والنخعي وسعيد بن المسيب ومجاهد وعطاء والحسن ومحمد بن سيرين والأوزاعي ومالك وأبو حنيفة والثوري وأحمد في رواية. والثاني: لا يقع، وبه قال عثمان بن عفان وربيعة والليث وطاوس ويحيى بن سعيد وهو اختيار المزني وابن سريج وأبي سهل الصعلوكي وسهل وأبي ظاهر الزيادي والكرخي [26/ أ] وإسحاق وأبي ثورٍ وداود وابن القاسم الصفار من أصحابهم وهو رواية عن علي وابن عباس رضي الله عنهم وهو الصحيح عندي، وبه أفتي، ورواه بعض أصحابنا عن عمر بن عبد العزيز وأبي يوسف، وقيل: قولٌ واحدٌ للشافعي أنه يقع ولم يوجد في القديم ما نقل المزني، وإن ظهر به المزني فلعله حكاية مذهب الغير وعلى هذا أكثر أصحابنا، وروي أن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار سئلا عن طلاق السكران فقال: إذا طلق السكران جاز طلاقة وإن قتلَ قُتل، وقال الحسن: السكران يجوز طلاقه وعتقه ولا يجوز شراؤه ولا بيعه، وقال الزهري: أُتي عمر بن عبد العزيز برجل سكران فقال: إني طلقت امرأتي وأنا سكران فكان رأي عمر معناه أن نجلده وأن يفرق بينهما فحدثه أبان بن عثمان عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: ليس للمجنون والسكران طلاق، فقال عمر: كيف تأمروني وهذا يحدثني عن عثمان؟ فجلده ورد إليه امرأته. قال الزهري: فذكر ذلك له لرجاء بن حيوة فقال: قرأ علينا عبد الملك بن مروان كتاب معاوية بن أبي سفيان فيه السنن إن كل أحدٍ طلق امرأته جائز إلا المجنون والدليل على أنه لا يقع طلاقه أنه لا يعلم ما يقول فأشبه النائم فإن قيل: النائم النائم غير عاصٍ وهذا عاصٍ يغلظ عليه قلنا: باطل بالنائم وقت الصلاة حتى تخرج وقتها عمدًا فإنه عاصٍ ولا يقع طلاقه فإن قيل: هو عاصٍ بترك الصلاة لا بالنوم قلنا: هذا عاصٍ بالشرب لا بالسكر فإنه من الله تعالى، وكما أن السكر تولد من السبب فكذلك [26/ ب] تولد من النوم فلا فرق، وأيضًا لو ضرب على

رأسه بشيء حتى زال عقله ثم طلق لا يقع طلاقه بالإجماع، وهذا عاصٍ واحتج الشافعي رحمه الله تعالى على من خالفه في وقوع الطلاق بأن المعصية بشرب الخمر لا تسقط عنه فرضًا ويعاقب، فلا يقاس على المثال بزوال عقله وهو المجنون وهذا ظاهر ولكن يدخل عليه ما ذكرنا والله أعلم. فإذا تقرر هذا قال أصحابنا: حد السكر أن يختلط كلامه ويتمايل في مشيه، وقال أبو ظاهر الزيادي: هو أن يصير إلى حالة يبدر من لسانه كلامه من غير قصده، وقال العامري: عند أبي حنيفة هو أن يذهب عقله كله بحيث لا يعرف الأرض من السماء ولا المرأة من الرجل، وقال أبو يوسف: حده أن يذهب عقله كله بحيث لا يعرف الأرض من السماء ولا المرأة من الرجل، وقال أبو يوسف: حده أن يذهب عقله بحيث لا يقيم منطقًا ولا جوابًا، فقال القفال: سمعتُ هذا عن أصحاب أبي حنيفة رحمه الله وكنت أنكر أن هذا كيف يتصور حتى سمعتُ المحمودي من أصحابنا قال: كنت أجتاز ببعض الطريق فإذا أنا بسكران وقع في وحلٍ وكان البرد شديدًا وهو يقول: يا ستي سلي اللحاف ظنًا منه أنهُ نايم في بيته فعلمتُ أنه لا يعرف الليل من النهار والسماء من الأرض والوحل من اللحاف. فرع إذا أكره السكران وأوجر في حلقه لا طلاق لارتفاع المأثم وأصحاب أبي حنيفة يختلفون فيه. فرع آخر لو قال: أكرهت على السكر ولم أعلم أنه مسكر وقد طلق فالقول قوله مع يمينه. فرع آخر اختلف أصحابُنا في علة وقوع الطلاق، فقال ابن سريج: العلة فيه أنه متهم فيه لفسقه [27/ أ] ولا يعلم سكره إلا من جهته فعلى هذا يلزمه الطلاق وجميع الأحكام المغلظة والمخففة في الظاهر دون الباطل ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، ومن أصحابنا من قال: العلة أنه يغلظ عليه بالمعصية فعلى هذا يلزمه التغليظات وما كان يحفظ كالنكاح والرجعة وقبول الهبات والبياعات لا تصح، وقال جمهور أصحابنا: العلة إسقاط حكم سكره بتكليفه وإنه كالصاحي فعلى هذا يصح الجميع التغليظ والتخفيف ظاهرًا وباطنًا، قال القاضي أبو حامد: وكنت أذهب إلى الوجه الثاني حتى وجدت نصًا للشافعي أنه يصح رجعته وإسلامه من الردة فرجعت إلى هذا الوجه الآخر. فرع آخر قال القفال: الصحيح أن في جميع أقواله وأفعاله قولين حتى في وجوب القصاص عليه بالقتل والحد بالقذف ففي أحد القولين حكمه حكم الصاحي وفي القول الثاني

باب الطلاق والحساب والاستثناء

حكمه حكم المجنون, ومن أصحابنا من قال: القولان في الأقوال دون الأفعال ومن أصحابنا من قال: فيما عليه قول واحدٌ أنه كالصاحي وفيما له قولان. فرع آخر لو شرب دواءً أو بنجًا فزال عقله فإن كان للدواء فهو معذور كالمجنون لا يقع طلاقه, وإن قصد به زوال العقل للهو والجنون فلا نص فيه ولكن قياس ما قال في الصلاة أنه يلزمه قضاء الصلوات وهو كالسكران, وقال في"الحاوي" فيه وجهان, أصحهما: إنه كالسكران لأنه عاص. والثاني: وبه قال أبو حنيفة لا يقع طلاقه وأن كان عاصيًا لأن الشراب مطرب تدعو النفوس إلى تناوله فغلظ حكمه زجرًا عنه كما بالحد بخلاف هذا, وحكي العامري عنه [27/ ب] أنه لو أغمي عليه من سكره لا يقع طلاقه أيضًا. فرع آخر لو سكر ثم جن فإن لم يتولد الجنون من سكره لا يقع طلاقه, وإن تولد من سكره فحكمه حكم السكران وإن جن ثم سكر لا يقع طلاقه وهو كغير السكران. فرع آخر إذا قلنا لا يقع طلاقه ينبغي أن لا يفعل الطلاق حين قاله يتيقن زوال عقله حتى يقبل قوله فأما إذا اتهمناه أو قال بعد الصحو: عقلت الطلاق حين تكلمت يقع طلاقه بلا إشكال. باب الطلاق والحساب والاستثناء مسألة: قالَ: "ولوْ قالَ: أنت طالقٌ واحدةٌ في اثنتين". الفصل إذا قال لها: أنت طالق واحدة في اثنتين لا يخلو إما أن يكون عارفًا بالحساب أو جاهلاً فإن نوى مقرونه ثلاثًا ويكون معنى قوله في اثنتين أي مع اثنتين وقد يذكر ويراد به كما قال تعالى: {أولئك الذين حق عليهم القول أمم} [الأحقاف:18] أي مع أمم وإذا أطلق وقال: لا نية لي وقعت واحدة لأنه إذا لم يفهم ما قال لم يقصد إلى لفظ الإيقاع فهو كقول الأعجمي: أنت طالق وهو لا يعرف معناه لا يقع شيء, وإن قال: أردت موجبه عند أهل الحساب قال عامة أصحابنا: يقع طلقةٌ لأنه إذا لم يفهم معناه في نفسه لم يكن طلاقًا بأن يفهمه غيره, كما لو قال الأعجمي: أنت طالق ثم قال: ما فهمت ذلك لكني أردت موجبه عند أهل اللسان لا يقع شيء, وقال أبو بكر الصيرفي: يكون على ما أراد فيقع طلقتان لأن ذلك مقتضي الحساب [28/ أ] وإن كان عارفًا بالحساب فإن قال: أردت مقرونةً طلقت ثلاثًا, وإن

قال: أردت أن يكون الثنتان ظرفًا كما يقال ثوبٌ في صندوقٍ وسيفٌ في غمدٍ يقع واحدة ويقبل قوله, وإن قال: أردت به الحساب يقع اثنتان, وإن أطلق وقال له نية لي نقل المزني وحكاه عنه لفظًا في"جامعه الكبير" إنه يقع واحدة لأنه يحتمل في اثنتين واقعتين ويحتمل في اثنتين باقيتين عليك فلا يلزمه إلا اليقين. وقال أبو إسحاق: يحتمل أن يقال يقع اثنتان, لأنه صريح في اثنتين, لأن عبارة أهل اللسان بها على الاثنتين, وبه قال أحمد. وقال القفال: فيه قولان مبنيان على ما لو قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق هل يحمل على التكرار أو الاستئناف عند الإطلاق؟ فيه قولان فإن أخذنا بظاهر اللفظ هناك وهو الاستئناف يقع اثنتان هاهنا, وإن أخذنا باليقين هناك هاهنا يقع واحدة, وإن ادعت المرأة أنه أراد مقرونة فالقول قوله مع يمينه. وقال أبو حنيفة: يقع طلقة واحدة بكل حال سواء قصد به الحساب أو لم يقصد إذا لم يقصد مع اثنتين, واحتج بأن الضرب إنما يصح فيما له مساحة فتكون واحدة في اثنين اثنين, فأما ما لا مساحة له فلا حقيقة له في الحساب, وإنما حصل منه لفظ الإيقاع في واحدة فوقعت دون غيرها وهذا غلط لأن هذا اللفظ موضوع في العدد لاثنين, فإذا أراده وقع به من الطلاق ما وضع له, وأما ما ذكر فلا يصح لأنه للحساب في الأصل فصار مستعملاً في كل ما له عدد. فرع لو قال: أنت طالق اثنتين اثنتين يقع ثلاث تطليقاتٍ إذا كان يعلم الحساب وقصده لأن ذلك عبارة [28/ ب] عن أربعة, وعند أبي حنيفة يقع طلقتان وإن لم يقصد الحساب, فعلى المنصوص يقع طلقتان وعلى قول أبي إسحاق يقع ثلاثة. فرع آخر لو قال: أنت طالق واحد مقرونة باثنتين ونوى واحدة ففي قوله وجهان, وإن أطلق فوجهان, أحدهما: يقع ثلاث, والثاني: يقع طلقتان ذكره جدي الإمام رحمه الله. مسألة: قال: "ولو قال: أنتِ طالقٌ واحدةٌ لا يقعْ عليكِ فهي واحدةٌ". إذا قال: أنت طالق واحدة لا يقع عليك تقع طلقة لأن قوله: أنت طالق واحدة إيقاع في الشرع, وقوله لا يقع عليك كذب لأن الله تعالى أوقعها فالخبر عنها بأنها لا تقع كذب وأيضًا, فإن قوله لا تقع رفع لجميع ما أوقعه عليها وذلك لا يصح فهو كقوله أنت ثلاثًا إلا ثالثًا. فرع قال ابن سريج في كتاب "الغنية": لو قال: أنت طالق لا وقعت طلقة وسقط قوله:

لا, ولو قال: أنت طالق أو لا؟ يقع الطلاق لأنه استفهامٌ تقديره أو لست بطالق فلم يقع. فرع آخر لو قال: أنت طالق واحدة أو لا شيء فالذي يقتضيه قياس قول ابن سريج أن لا يقع شيء وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف وأحمد, وقال محمد يقع واحدة لأن قوله أو لا شيء يرجع إلى ما يليه من اللفظ, وهو قوله واحدة دون لفظ الإيقاع, وهذا لا يصح لأن الواحدة صفة للطلقة الموقعة فصار كقوله أنت طالق أو لا شيء, ولو قال: أنت طالق بل لا طلقت ذكره ابن أبي أحمد. فرع آخر لو قال: أنت لا طالق لم يقع شيءٌ لأنه قدم حرف النفي. فرع آخر لو قال: أنت طالق اثنتين لا يقعان عليك طلقت اثنتين, وكذلك لو قال ثلاثًا لا يقعن عليك طلقت ثلاثًا, ولو قال: أنت طالق واحدةً وثانيةً لا تقع عليك أو قال: وثانيةٌ لا [29/ أ] طلقت واحدةً. فرع آخر لو قال: أنت طالق طلقتين لا يقع واحدة منهما صار استثناء وطلقت واحدة كما لو قال: أنت طالق اثنتين إلا واحدة, وذكر جدي وجهًا أنه يقع اثنتان ولا يكون استثناء وهو ضعيف. فرع آخر لو قال: أنت طالق من واحدةٍ إلى ثلاث وقعت ثلاث تطليقات, وبه قال أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة: يقع اثنتان, وقال زفر: يقع واحدة وكلاهما يحتمل على مذهب الشافعي, ففي المسألة ثلاثة أوجه: وجه القول الأول: أن الثلاث اسم لثلاثة آحاد مجموعةٍ فقد دخل آحاد الثلاث في قوله إلى ثلاث فيقع الكل, كما لو قال إلى تمام الثلاث. ووجه القول الثاني: أنه أوقع ما بين الواحدة وبين الثلاث وما بينهما هي الثانية, غير أن ضرورة الثانية أن يكون له أو ل فأوقعنا الأولى بضرورة ويجوز أن يكون ثانية لا ثالثة فلم توقع وهذا أقرب إلى المذهب. ووجه القول الثالث: أن لفظه للطلقة الثانية فلا يقع غيرها, كما لو قال: أنت طالق آخر الثلاث تقع الثالثة دون الثانية والأولى وهذا أقيس، قال شيخنا ناصر: وهكذا الحكم إذا قال: أنت طالق ما بين الواحد إلى الثلاث. مسألة: قال: "ولو قال: واحدةً قبلها واحدةٌ كانت تطليقتين".

إذا قال: أنت طالق واحدة قبلها نص الشافعي رضي الله عنه على أنه يقع طلقتين ولا خلاف فيه واختلف أصحابنا في كيفية وقوعها, فقال أبو إسحاق: قوله: أنت طالق طلقة إيقاع في الحال لطلقة وقوله: قبلها طلقة إخبارٌ عن طلقة قبلها وليس بإيقاع لأن الطلاق في الحال في وقت مضى بحال, وقال ابن أبي هريرة: كل واحدة منهما إيقاع فيقع طلقة عقيب طلقة وهذا لا يصح [29/ ب] لأن الشافعي فرّع على هذا في "الأم" فقال: إن قال: أردت بقولي قبلها طلقة طلاقًا كنت طلقتها قبل هذا فإن علم ذلك قبل منه وإلا لا يقبل منه في الحكم, ويدين فيما بينه وبين الله تعالى فدل على بطلان ما قاله ابن أبي هريرة, ومن أصحابنا من حكي خلاف هذا عن أبي إسحاق وابن أبي هريرة, فقال: قال أبو إسحاق تقع هذه الواحدة التي تجعلها قبل التي أوقعها على موجب لفظه اعتبارًا بموجب اللفظ ويكون وقوعها بعد لفظه وقبل التي أوقعها بلفظه فيجعل تأخر الطلاق مؤخرًا ليتقدمه طلاق الصفة حتى لا يكون وقوعه سابقًا للفظه, وقال ابن أبي هريرة يقع مع التي أوقع ولا يقع قبلها لئلا يكون وقوع الطلاق سابقًا للفظ الطلاق, كما لو قال: أنت طالق أمس, وقع في اليوم لهذا المعنى وهذا أصح ولا يصح ما قاله أبو إسحاق لأن ناجز الطلاق يقع بنفس اللفظ لا بتعقبه, لأنه لو قال لها: أنت طالق ومات مع آخر كلامه من غير فصل طلقت, ولو كان يقع بعده لم تطلق فعلى قول أبي إسحاق تقع الطلقتان عليها بعد لفظه بزمانين ليقع كل واحدة من الطلقتين في كل واحد من الزمانين وعلى قول ابن أبي هريرة تقع الطلقتان بنفس اللفظ من غير زمان يعتبر بعده واختار القاضي الطبري: أنه يترتب في فيقع طلقةً بعد طلقة ويصير كأنه قال: قال: أنت طالق طلقة بعد ساعة فكأنه أوقعها متأخرة وطلقة قبلها في الحال وهذا أظهر. فرع لو قال: أنت طالق طلقةً بعدها طلقة يقع طلقتان وتكون واحدةً بعد واحدةٍ على موجب لفظه بلا خلاف إلا على قول أبي إسحاق تقع الأولى بعد قوله أنت طالق طلقة, وتقع الثانية بعد قوله: بعدها طلقة وعلى قول ابن أبي هريرة: تقع الأولى مع قوله: أنت طالق [30/ أ] وتقع الثانية بعد قوله: بعدها طلقة. فرع آخر قال في "الأم": فإن قال في هذه المسألة: أردت بقولي: بعدها طلقة سأوقعها عليك بلفظ جديد قبل فيما بينه وبين الله تعالى دون الحكم لأنه خلاف الظاهر, وقال في"الحاوي": إن صدقته قبل منه ظاهرًا وباطنًا, وإن كذبه لم يقبل ظاهرًا على ما ذكرنا, وكذلك لو قال: أنت طالق قبل طلقة أو بعد طلقة وقعت طلقتان أيضًا.

فرع آخر لو قال: أنت طالق طلقةً قبلها طلقة وبعدها طلقة طلقت ثلاثًا, ولو قال: أنت طالق طلقة قبلها وبعدها طلقة طلقت ثلاثًا أيضًا, لأنه أوقع نصف واحدة قبلها والنصف الثاني بعدها والنصف يكمل بطلقة وفيه وجه آخر: تقع طلقتان وليس بشيء. فرع آخر لو كان له زوجتان حفصة وعمرة فقال لعمرة: كلما حلفت بطلاق فأنت طالق فقد حلف بطلاق عمرة لأنه علق طلاقها بالصفة فإن قال بعد ذلك لحفصة: كلما حلفت بطلاق عمرة فأنت طالقٌ فقد حلف بطلاق حفصة فتطلق عمرة, فإن أعاد القول لحفصة طلقت عمرة طلقة ثانية فإن أعاد القول لحفصة طلقت عمرة ثانية فإن أعاد القول لحفصة طلقت عمرة ثالثة, فإن أعاد القول لعمرة لم تطلق حفصة لأن عمرة قد بانت فلا يمكن أن يحلف بطلاقها فطلقت عمرة ثلاثًا وطلقت حفصة طلقتين. فرع آخر لو قال لها: إذا حلفت بطلاقك فأنت طالق قد ذكرنا هذه المسألة, وكذلك لو قال: كلما حلفت بطلاقك فأنت طالق ولا فرق بين كلما وإذا في هذا إلا في موضع واحد وهو أنه لو قال: كلما حلفت بطلاقك فأنت طالق ثم قال بعد هذا: إن دخلت الدار فأنت طالق, وإن خرجت منها فأنت طالق, وإن لبست فأنت طالق طلقت ثلاثًا, ولو كان عقد الصفة بكلمة إذا لم تطلق إلا واحدة لأن إذا لفعل مرة وكلما للتكرار [30/ ب] فأن لم يكن مدخوًلا بها لا يقع إلا واحدة. فرع آخر لو قال: كلما حلفت بطلاقك فأنت طالق وعبد من عبيدي حر فأعادها بعد العقد ثلاثًا وعتق ثلاثة أعبد, فإن أعاد رابعًا فلا طلاق ولا عتق لأنه لا طلاق بعد ثلاث فإن كان غير مدخولٍ بها لا يقع إلا واحدة ولا يعتق إلا عبد واحد. مسألة: قال: "ولو قال: رأسك أو شعرك أو يدك أو رجلك أو جزء من أجزائك طالقٌ". الفصل إذا طلق جزءًا من أجزائها مشاعًا طلقت بلا خلاف سواءٌ كان ذلك الجزء مجهولاً أو معلومًا فإن طلق جزءًا معينًا أي جزءٍ كان طلاقًا عندنا والأصل فيه أن يتصل بها اتصال الخلقة مثل اليد والرجل والظفر والشعر وغير ذلك. وقال أبو حنيفة: لا يقع الطلاق إلا أن يضيفه إلى الرأس أو الوجه أو الرقبة أو الظهر أو الفرج لأنه يعبر بهذه الأشياء عن جميع البدن, وهكذا الخلاف في العتق إلا أنه قال: لو قال لعبده: فرجك حر لم

يعتق, ولو قال لأمته ذلك تعتق. وقال أحمد: إذا أضافه إلى عضو ى ينفصل في حال الحياة يقع, فأما إذا أضاف إلى الشعر والسن والظفر لا يقع وهذا غلط لأنه أضاف الطلاق إلى جزءٍ استباحه بعقد النكاح فيقع على الجملة كالأعضاء الخمسة. فرع إذا قال: شعرك طالق ظاهر المذهب أنه يقع الطلاق على الجملة بهذا اللفظ لأنه لما علم الطلاق لا يتبعض قصد بتطليق بعضها تطليق جميعها. ومن أصحابنا من قال: يقع ذلك على الجزء ثم يسري إلى الباقي لأن الطلاق على السراية وهذا أصح عندي, وفائدة هذا تتبين فيما لو لم يكن لها يد في الكتف فقال: يدك طالق هل يقع؟ فأن قلنا بالأول [31/ أ] يقع, وإن قلنا بالثاني لا يقع, وقيل: في الشعر وجهان بناءً على أن فيه روحًا أولاً وفي السن وجه واحدٌ. فرع آخر لو كان لها إذن مقطوعة ملصقة فإذا أضاف الطلاق إليه قال أهل العراق من أصحابنا: لا تطلق, وقال القفال: طلقت وسمعت مشايخنا بخراسان يذكرون فيه وجهين والصحيح عندي ما ذكره القفال والأقرب إلى المذهب غيره. فرع آخر لو قال: ريقك أو دمعك أو لبنك أو منيك أو دمك طالق لا يقع الطلاق لأنه لا يتصل بها اتصال الحلقة وإنما البدن وعاء له, وقال القفال: فيه وجهان قال: والصحيح عندي أنه لا يقع إلا في دمك فإنه يقع قال: وكذلك إذا قال: روحك طالق يقع على قياس قول غيره لا يقع وقيل: إن اللبن والمني كالدم يقع الطلاق بالإضافة إليه وجهًا واحدًا والوجهان في الدمع والريق وهذا ليس بشيء. وقال ابن أبي ليلى: يقع الطلاق بالإضافة إلى الريق وإلى كل ما في بدنها. فرع آخر لو أضاف إلى الجنبين لا يقع الطلاق وذكر الإمام أبو على السنجي فيه وجهًا آخر أنه يقع وليس بشيء. فرع آخر لو أضاف إلى فعلها فقال: أكلك أو شربك أو قيامك طالق أو أضاف إلى حواسها فقال: نظرك أو سمعك أو زوقك أو لمسك طالق لا تطلق إلا أن يرقعه على جوارح هذه الحواس فيقول عينك أو إذنك طالق فيقع. فرع آخر لو قال: عقلك طالق لم يقع لما ذكرنا من العلة.

فرع آخر لو قال: بياضك أو سوادك أو لونك طالق فيه وجهان, أحدهما: يقع لأنه من ذاتها الذي لا ينفصل عنها, والثاني: لا يقع لأن الألوان أعراضُ تحل الأجسام وليست كالذات. فرع آخر لو قال: غمك أو فرحك أو عمرك طالق [31/ ب] قال جدي الإمام رحمه الله: فيه وجهان والمذهب أنه كناية فإن أراد طلاقًا وقع وذكر مثله إذا قال: حركتك أو سكونك أو سمعك طالق. فرع آخر لو قال: أوقعت الطلاق في قميصك أو ثوبك فهو كناية ذكره جدي الإمام رحمه الله وكذلك لو قال: أوقعت عندك أو في دارك أو دار أبيك طلاقًا كان كناية أيضًا. فرع آخر لو قال لها: أقبلي نفسك فقالت: قبلت أو قال لأبيها أو لأخيها: اقبلها, فقالت: قبلت أو قال أبوها: قبلت, فإن نويا طلاقًا وقع وإلا فلا يقع. فرع آخر لو استحق فسخ النكاح بالعيب فقال: فسخ النكاح في يدها لا نص فيه, وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان, وقال أهل العراق من أصحابنا: لا يصح ذلك وجهًا لأنه لا يسري كسراية الطلاق. فرع آخر لو قال: أنت طالق إلا فرجك طلقت لأنها لا تتبعض والاستثناء لا يسري. فرع آخر لو قال: أنت طالق إلا أنت طلقت لأنه يرفع جميع ما قبله. فرع آخر لو قال: يا حفصة أنت طالق ورأس عمرة بالرفع طلقا وقيل: إذا لم ينو هل تطلق عمرة؟ وجهان وولو قال: رأس عمرة بالكسر لم تطلق عمرة لأنه صار خراجًا مخرج القسم برأس عمرة على طلاق حفصة. مسألة: قال: "ولو قال: أنت طالق بعض تطليقة كانت تطليقة". إذا قال لها: أنت طالق نصف طلقةٍ وقعت طلقة, وقال داود: لا يقع شيء لأن الشرع لم يرد بإيقاع نصف الطلاق وهذا غلط لأن الله تعالى قال: {فإن طلقها فلا تحل له

من بعد} [البقرة:230] فلا تحل له من بعد ولم يفصل ولأن التحريم والتحليل إذا اجتمعا غلب التحريم كما لو طلق نصفها [32/ أ] ولأن التحريم بتبعض فغلب ويكمل. فرع لو قال: أنت طالق بعض طلقةٍ طلقت طلقة كما لو قال: نصفك طالق. فرع آخر لو قال: أنت طالق نصفي طلقة طلقت طلقة كقوله أنت طالق طلقةً. فرع آخر لو قال: نصف طلقتين فيه وجهان, أحدهما: يقع طلقةً واحدة وهو الصحيح لأن نصفهما واحدة. والثاني: تقع طلقتان, لأن معناهُ النصف من كل واحدة منهما. فرع آخر لو قال: أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقتين كانت ثلاثًا ذكره القفال وجماعة, وقال صاحب"الإفصاح": يحتمل وجهين, أحدهما: تطلق اثنتين والنصف الثالث لغو. والثاني: تطلق ثلاثًا ويكون تقديره أنت طالق ثلاث مرات نصف طلقتين فيكون ثلاث طلقات والأول أبين. فرع آخر لو قال: أنت طالق ثلاثة أنصاف طلقةِ فيه وجهان: يقع طلقة والنصف الثالث لغو, والثاني: يقع طلقتان وهو اختيار القفال لأن ثلاثة أنصاف تطليقةٍ هو طلقة ونصف فيملك طلقتان وكذلك في الإقرار: إذا قال: علي ثلاثة أنصاف درهم فيه وجهان, أحدهما: يلزمه درهمان, والثاني: يلزمه درهم ونصف لأن الإقرار لا يكمل ولذلك إذا قال: علي ثلاثة أنصاف درهمين فيه وجهان, أحدهما: يلزمه درهمان لأن الدرهمين نصفان كل نصف منهما درهم والفاضل لغو, والثاني يلزمه ثلاثة دراهم. فرع آخر لو قال: أنت طالق نصفي تطليقتين يقع طلقتان لأن نصف تطليقتين واحدة فنصفهما طلقتان بالتكميل. فرع آخر لو قال: أنت طالق نصف تطليقة ومثله فيه وجهان, أحدهما: تطلق واحدة لأن [32/ ب] مثل النصف نصف فصار كأنه قال: أنت طالق نصفي تطليقةٍ والثاني: يقع طلقتان لأنه أدخل واو العطف هاهنا ولم يضعها هاهنا إلى طلقة واحدة, وعلى هذا لو قال: أنت طالق نصف طلقة ومثله يقع على الوجه الأول تطليقتان, وعلى الوجه الثاني ثلاث تطليقات.

فرع آخر لو قال: أنت طالق نصفه وضعفها طلقت اثنتين وجهًا واحدًا, والفرق أن المثل نظير والنصف يكرر. فرع آخر لو قال: أن نصف طالق طلقت كما لو قال: نصفك طالقٌ, ولو قال: أنت نصف طلقة فيه وجهان, أحدهما: تطلق واحدةً إذا قلنا أنت طالق صريح, وإذا قلنا: كناية لا يقع هاهنا إلا أن ينوي. فرع آخر قال الشافعي: رحمة الله عليه في إباحة الطلاق: إذا قال: أنت طالق نصف وثلث وسدس طلقةٍ وقعت ثلاثًا لأنه عطف جزءًا من طلقةٍ على جزءٍ من طلقةٍ وظاهره أنها طلقات متغايرة, قالوا: ولو قال: أنت طالق نصف طلقة ثلث طلقةٍ سدس وقعت طلقة واحدة لأنه ليس في قوله ثلث طلقةٍ لفظ الإيقاع ولا عطف على ما فيه لفظ الإيقاع, فهو كما لو قال: أنت طالق طلقة لم يقع إلا واحدة, قال أصحابنا: والتدين في الحكم إذا عطف بالواو لأنها متغايرة. فرع آخر لو قال: أنت طالق ثنتين إلا نصف كل واحدة فهما لا يقعان عليك طلقت ثنتين. فرع آخر لو قال: أنت طالق ثلاثًا إلا أقلهن ولا نية له طلقت ثلاثًا, ولو قال: إلا أكثرهن طلقت اثنتين. فرع آخر لو قال: أنتما طالقان إلا أنت يا زينب طلقتا. فرع آخر لو قال لأربع زوجات له: طوالق إلا زينب لم تطلق زينب. فرع آخر لو قال: أنت نصف طلقةٍ وثلث طلقة وسدس طلقة فهو كما لو قال: أنت طلقة [33/ أ] وقد ذكرنا فيه وجهين, أحدهما: أنه صريح فيقع هاهنا ثلاث, والثاني: كناية فيقع ما نوى. فرع آخر لو قال: أنت طالق نصف ثلث سدس, ولم يقل طلقة وقعت طلقة بقوله أنت

طالق, وكذلك لو قال نصفًا وثلثًا وسدسًا ولم يزد على هذا. فرع آخر لو قال: أنت طالق نصف وثلثي طلقة فيه وجهان, أحدهما: تطليقتان لأنه زاد على الواحد سدس تطليقة فحمل ذلك السدس. والثاني: لا يقع إلا واحدة لأنه أضاف النصف والثلثين إلى طلقة واحدة والطلقة نصفًا وثلثين فلغت الزيادة. فرع آخر لو قال: أنت طالق نصف ثلاث تطليقات وقعت اثنتان إلا أن يريد نصف كل واحدة تقع ثلاث. فرع آخر لو قال: ثلثي تطليقتين أو ثلثي ثلاث تطليقات طلقت ثنتين إذا لم يرد بقوله ثلاث تطليقات تقسم كل طلقة فإن أراد ذلك يقع ثلاث. فرع آخر لو قال: أنت طالق خمسة أنصاف تطليقة وقعت ثلاث, ولو قال: خمسة أرباع تطليقة طلقت ثنتين, وكذلك ستة أخماس تطليقة طلقت ثنتين, ولو قال: نصف طالق نصف تطليقة لزمته تطليقة واحدة. فرع آخر لو قال: أنت طالق واحدة في نصف واحدة فإن نوى الزيادة على الواحدة قبل قوله، وإن لم ينو شيئًا أو واحدة فهي واحدة. فرع آخر لو نظر إلى امرأتين زوجة وأجنبية فقال: إحداكما طالق فالقول قوله فإن قال أردت زوجتي طلقت, وإن قال: أردت الأجنبية لم تطلق قال في "الإملاء" لأن الطلاق على امرأته لا يقع إلا بأحد أمرين: إما بالإشارة إليها وهو أن يقول: أنت طالق أو بالصفة وهو أن يذكر اسمها وقد عدم [33/ ب] الأمران جميعًا, وقال أبو حنيفة رحمه الله: يقع على امرأته لأن الإنسان لا يقصد في العادة إلى طلاق الأجنبية, وقيل: هو وجه لبعض أصحابنا ولكنه خلاف المنصوص. فرع آخر قال ابن سريج: لو كان اسم زوجته زينب فقال: زينب طالق ثم قال: أردت زينب جارة لها لم يقبل منه في الحكم والفرق بين هذه المسألة وبين المسألة قبلها أن في هذه المسألة ما طلق إلا واحدة وجارتها ما شاركتها في هذا الاسم لفظًا, وإنما شاركتها في أن الاسم موجود فيها والظاهر في العادة أن المراد به الزوجة فلا يقبل منه غير ذلك وليس كذلك إذا قال إحداها طالق لأن كل واحدة منهما شاركت الأخرى لفظًا فيقبل

منه ما نواه. وقال القاضي الطبري: قال الداركي عن أبي جعفر الترمذي أنه قال: إذا قال: فلانة طالق فسمى امرأته باسمها ثم أردت امرأة أجنبية اسمها اسم امرأته وهي مطلقة من زوجها يقبل ذلك منه في الحكم إلا أن يكون في لفظه ما يدل عليه بأن يقول: فلانة امرأتي أو يقول طلقت فلانة وهذا اختيار القاضي الطبري وهو الصحيح عندي. فرع آخر لو قال: لأم امرأته بنتك طالق ثم قال: أردت بيتك التي ليست بزوجةٍ لي, قال القاضي الطبري: الذي عندي على قياس ما قاله في"الإملاء": أن يقبل منه, وقال صاحب "الحاوي": هذا وإن كان تفريعًا ولم يذكر اسمًا فهو بالاسم أشبه فيخص الاسم لقوته بالزوجية فيلزمه الطلاق في الحكم ويدين في الباطن. مسألة: قال: "ولو قال لأربع نسوةٍ: فقد أوقعت بينكن تطليقةً كانتْ كلُ واحدةٍ منهن طالقًا". إذ قال [34/ أ] واعلم أن الاستثناء ضد المستثني منه فهو من الإثبات نفي, ومن النفي إثبات تقول جاءني القوم إلا زيدًا معناه جاؤوا وما جاء زيد وما أحد إلا زيدًا معناه ما جاء أحد وجاء زيد فيكون ابدأ من الذي يليه ولا يجوز استثناء الكل بحالٍ, فإذا تقرر هذا فقال: أنت طالق ثلاثًا إلا واحدةً أثبت ثلاثًا ونفي طلقه فيقع طلقتان ولو قال ثلاثًا إلا طلقتين أثبت ثلاث ونفي طلقتين فيقع طلقة, ولو قال: أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا تقع ثلاثًا لأنه استثناء الكل فلا يصح. فرع أخر لو قال: أنت طالق ثلاثًا إلا نصف طلقة ثلاثًا لأنه أنفي طلقتين ونصف طلقة فكأنه قال: أنت طالق طلقتين ونصف طلقة تقع ثلاث نص عليه وفيه وجه آخر تقع طلقتان لأن هذا استثناء صحيح فلا باغي وهذا أصح لأنا لا نلغه بل نكمل الباقي. فرع آخر لو قال: أنت طالق طلقتين ونصف طلقة إلا نصف طلقة قال أصحابنا: طلقت ثلاثًا لأن قوله طلقتين ومصف كقوله ثلاثًا, وقال القاضي الطبري: العلة فيه إن استثناء النصف لا يجوز ولا يجوز أن يكون راجعًا إلى الكل لأن النصف صار جملة واحدة بحرف العطف. فرع آخر لو قال: أنت طالق طلقتين ونصف إلا واحدة, قال ابن الحداد: طلقت ثلاثًا لأن نصف الثالثة يسوى فيصير واحدة كاملة وقد دمها إلى اثنتين بواو العطف فصار كقوله: أنت طالق اثنتين وواحدة إلا فتطلق ثلاثًا ويسقط استثناء الواحدة لرجوعه إلى الواحدة ومن أصحابه من قال: تطلق تطليقتين [34/ ب] لأن واو العطف هاهنا دخلت

فيما لا يستغنى عنه وسراية الطلاق تستقر بعد الاستثناء, فإذا استثنى واحدة من اثنتين ونصف بقيت واحدة ونصف فتحمل اثنتين, ومن أصحابنا من قال في قوله: أنت طالق فطالق إلا طلقة يصح الاستثناء ويقع طلقة. فرع آخر لو قال: أنت طالق وطالق ثم طالق إلا طلقة وقعت ثلاثًا نص عليه في "الأم" لأنه عاد الاستثناء إلى الذي يليه فيرفع كله فكأنه قال: أنت طالق طلقة إلا طلقة, ومن أصحابنا من قال: طلقت طلقتين ويصح الاستثناء لأنه أوقع ثلاثًا وبقي واحدة وهذا ليس بشيء. فرع آخر لو قال: أنت طالق طلقتين ونصفًا فيه ثلاثًا أوجه, أحدها: تطلق ثلاثًا لأن الطلقة ونصفًا لا تجوز أن تستثني من نصف طلقة فسقط الاستثناء ويكمل الواقع ثلاثًا. والثاني: تطلق طلقتين لأن النصف طلقته الواقعة مع طلقتين صارت ثلاثًا وقد استثنى منها طلقة ونصفًا فبقيت طلقة ونصف قابلت طلقتين. والثالث: تطلق واحدة لأن كمال الواقع يكون بعد الاستثناء منه وقد استثنى طلقه ونصف من طلقتين ونصف فبقيت واحدة. فرع آخر لو قال: أنت طالق ثلاثًا إلا طلقة وطلقة طلقت طلقة لأن قوله وطلقة عطف على ما نفاه بالاستثناء فلا يبقى إلا طلقة. فرع آخر لو قال: أنت طالق ثلاثًا إلا واحدة واثنتين فيه وجهان, أحدهما: تطلق ثلاثًا إسقاطًا لجميع الاستثناء كما لو استثنى الثلاث من الثلاث دفعة واحدة. والثاني: تطلق اثنتين إسقاطًا لآخر العددين وإثباتًا للأول لأن الأول صح فيطرح الثاني لاستحالته [35/ أ] , قال القفال: وكذلك الوجهان إذا قال: أنت طالق ثلاثًا إلا اثنتين وواحدة أو قال: إلا اثنتين وإلا واحدة. فرع آخر لو قال: أردت بقولي إلا اثنتين وواحدة إثبات الواحدة لا استثناءها تقع اثنتان وجهًا واحدًا, إلا أنه استثنى من الثلاث اثنتين فبقيت واحدة ثم أوقع واحدةً فتقع اثنتان. فرع آخر لو قال: أنت طالق ثلاثًا إلا واحدة وواحدة يقع ثلاثًا وبه قال أبو حنيفة, وقال أبو يوسف ومحمد: يقع طلقة وهو وجه لأصحابها لأن استثناء اثنتين جائز وإنما لا يصح استثناء الثالثة وهذا لا يصح لأن العطف يوجب اشتراك العطف مع المعطوف عليه فيصير كأنه استثنى ثلاثًا من ثلاث وقد ذكرنا نظيره.

فرع آخر لو قال: أنت طالق خمس طبقات إلا ثلاث طلقات وقعت طبقتان, وقال ابن أبي هريرة وصاحب "الإفصاح": يقع ثلاث لأن الاستثناء يرجع إلى ما يملك من الطلقات, فأما ما لم يملكه فلا حكم له فما زاد على الثلاث وجوده وعدمه سواء, فكأنه استثنى الثلاث من الثلاث وذلك لا يصح فوقع الثلاث, وعلى هذا لو قال: أنت طالق خمسًا إلا اثنتين وقعت واحدة في قولهما وفي قول عامة أصحابنا يقع ثلاث والأول أصح وهو المنصوص لأن البويطي ذكر هذه المسألة في آخر كتاب الطلاق, فقال وإذا قال: أنت طالق ستًا إلا أربعًا وقعت اثنتان, وذكر ابن الحداد في مسائله وقال: يقع طلقتان كما حكاه البويطي ووجهه إن عن الثلاث عبارتين, إحداهما: إلا لثنتين, والثانية: الثلاث فإذا قال: خمس إلا اثنتين فكأنه قال: ثلاث وكان الاستثناء منه بمنزلة الاسم الواحد. [35/ ب]. فرع آخر لو قال: أنت طالق ثلاثًا وثلاثًا إلا أربعًا, قال ابن حداد: يقع الثلاث وبه قال زفر لأنه استثنى أربعًا لأنه استثنى أربعًا من الثلاث الأخر دون الذي قبله وذكر في البويطي: يقع ثلاثًا وذكر الكرخي عن أبي يوسف ومحمد: أنهما قالا: إذا قال: أنت طالق اثنتين واثنتين إلا اثنتين يقع طلقتان لأن الاستثناء من كل الجملة وإذا أمكن تصحيح الاستثناء لا يسقط. فرع آخر قال القاضي أبو على الزجاجي: على قياس ما ذكرنا لو قال: أنت طالق ثلاثًا إلا أربعًا إلا واحدة طلقت ثلاثًا, ولو قال أربعًا إلا ثلاثًا إلا واحدة طلقت طلقتان, ولو قال: ثلاثًا إلا أربعًا إلا ثلاثًا طلقت طلقتين, ولو قال: أربعًا إلا واحدة وإلا اثنتين طلقت واحدة. فرع آخر لو قال: أنت طالق ثلاثًا إلا اثنتين إلا واحدة وقعت طلقتان لأن طلقتان لأن قوله ثلاثًا إثبات وقوله إلا اثنتين نفي وقوله إلا واحدة إثبات وجملته أن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات. فرع آخر لو قال: أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا إلا اثنتين فيه ثلاثة أوجه, أحدهما: يقع ثلاث تطليقات ويبطل الاستثناء الأول والثاني لأن يرفع الكل فيسقط وإذا سقط الأول سقط الثاني لأنه متعلق به وهذا اختيار ابن أبي هريرة, والثاني: إن الاستثناء الأول يسقط ويصح الثاني فكأنه قال: أنت طالق ثلاثًا إلا اثنتين يقع طلقة واحدة, والثالث: يصح الاستثناء الأول والثاني لأن الاستثناء الأول إنما يسقط إذا وقع السكت عليه, فإذا

قال إلا ثلاثًا إلا اثنتين فكأنه استثنى واحدة لأن الثلاث إلا اثنتين عبارة [36/ أ] على الواحد فيكون قد استثنى من الثلاثة الأولى واحدًا فيقع طلقتان أو يقول يستعمل الحطاب كله فأثبت ثلاثًا ونفي ثلاثًا ثم أثبت من الثلاث المنفي طلقتين فيكون طلقتان. فرع آخر لو قدم الاستثناء فقال: أنت إلا واحدة طالق ثلاثًا طلقت ثلاثًا وسقط الاستثناء أنه يعود إلى ما تقدمه ولا يصح أن يعود إلى ما تقدمه ولا يصح أن يعود إلى ما تعقبه, وقال بعض المتأخرين من أصحابنا: يصح هذا الاستثناء لأن التقديم فيه لغة العرب, قال الفرزدق يمدح هشام بن إبراهيم خالد هشام بن عبد الملك: وما مثله في الناس إلا مملكًا أبو أمه حيٌ يقاربه وتقديره وما مثله في الناس حيٌ يقاربه إلا ملكًا أبو أمه أبو الممدوح. فرع آخر الاستثناء يصح بجميع الحروف المستعملة فيه وهي إلا وغير وسوى وعدا وحاشى وخلا فإن قال ثلاثًا خلاً واحدة أو حاشى واحدة طلقت اثنتين وفي غير يستعمل الإعراب بضم الراء منها تارة ويفتح أخرى فإن قال: ثلاثًا غير واحدة بالفتح كان استثناء, ولو قال غير واحدة بضم الراء قال أهل العلم بالعربية: تطلق ثلاثًا لأنه بالضم يصير نعتًا ولا يكون استثناء, ولا يكون استثناءً أنت طالق ثلاثًا ليست واحدة زلا نص عن أصحابنا فإن كان المطلق من أهل العربية الذي يستعمل الإعراب في كلامه فالجواب ما قالوه, وإن كان من غيرهم كان على وجهين: على ما قدمنا من أمثاله. مسألة: قال: "ولو قال: كلما ولدت ولدًا فأنت طالقٌ واحدةٌ فولدتْ ثلاثةٌ في ببطنٍ طلقتْ بالأولِ واحدةٌ". الفصل [36/ ب] إذا قال لها: كلما ولدت ولدًا فأنت طالق واحدة فولدت ثلاثًا في بطن طلقت بالأول واحدة, بالثاني أخرى وإن انقضت عدتها بالثالث ولا يقع الطلاق بالولد الذي تنقضي به العدة لأنها تبين يه, ألا ترى أنه إذا قال: إن متُ فأنت طالق فماتت لا يقع الطلاق لأنها تبين بالموت, فإن راجعها حين وضعت ولدين فولدت الثالثة وهي زوجته وقعت الثالثة, وحكي عن ابن خيران عن الشافعي أنه قال في "الإملاء": إذا ولدت الثالث طلقت ثالثة واستقبلت العدة وهكذا حمى ابن الحداد في مسائله عن الإملاء وقال: فيه قولان وهكذا ذكر القفال قال: ويخرج على هذا أنه إذا قال للرجعية: أنت طالق مع انقضاء عدتك هل يقع؟ فيه قولان وقال أيضًا: هذان القولان

مبنيان على أن الرجعية إذا طلقت في حال العدة هل تستأنف العدة أو تبني؟ قولان فإن قلنا: تبني وافق ولادتها للولد الثالث انقضاء العدة فلا تقع الثالثة, وإن قلنا: تستأنف حصل ولادتها للولد الثالث بين عدة بمضي وعده تستأنف فلم يقع في غير عدةٍ فلا يلغى. وقال بعض أصحابنا ليست المسألة على قولين ولا يصح ما ذكروا عن الإملاء فإن صح فتأويله: أنه راجعها بعد الطلقتين ثم ولدت والمسألة على قول واحد إذا لم يراجعها على ما ذكرنا, ولو ولدت أربعًا طلقت ثلاثًا وانقضت عدتها بالرابع بلا خلاف, ولو ولدت ولدين وقعت طلقة بالأول وتقضي عدتها بالثاني ولا يقع عليها بالثاني طلاق على القول الصحيح, وإن ولدت ولدًا واحدًا وقعت طلقة ويلزمها أن تعتد بثلاثة أقراءٍ بعده وهذا إذا كان بين الولد الثاني والثالث أقل من ستة أشهرٍ فإن كان بينهما ستة أشهر [37/ أ] فأكثر كان الثالث حملاً حادثًا لا يلحقه نسبه وتكون العدة قد انقضت بالولد الثاني ولا يقع عليها إلا طلقة واحدة ولا يقع عليها بالثاني والثالث شيءٌ وعلى هذا لو كان بين الأول والثاني أكثر من ستة أشهرٍ طلقت بالأول وحده طلقة وتنقضي عدتها قبل وضع الثاني والثالث لأنهما من حمل مستأنف ولحوقهما به كمن وضعت بعد انقضاء عدتها, وقال في "الحاوي" هكذا ذكره أبو حامد ولا يصح هذا عندي لأنه لا يمتنع أن يطأها في العدة قبل انقضاء الفرء الثالث فتعلق وتكون باقية في عدتها إلى وضعه فتقضي به العدة فلا وجه لما قاله بل نقول: ينظر في الثاني والثالث فإن كان بينهما أكثر من ستة أشهرٍ انقضت عدتها بالثاني ولم تطلق به وكان لاحقًا بالزوج وصار الثالث مولودًا بعد انقضاء العدة فيكون لحوقه على ما يذكر في المولود بعد انقضاء العدة, وإن كان بين الثاني والثالث أقل من ستة أشهرٍ فهما من حمل واحد, فعلى هذا تطلق بالثاني ثانية ولا تنقضي به العدة لبقاء الحمل وتنقضي عدتها بالثالث ولا تطلق به ويلحقان بالزوج كالأول, ولو ولدت ولدين وقعت طلقة سواء كان بينهما ستة أشهر أو أقل. فرع لو ولدت ولدين معًا من غير سبق لكونهما في مشيمةٍ تطلق بينهما طلقتين وعليها الاعتداء بثلاثة أقراء, ولو ولدت ثلاثة أولاد معًا طلقت بهم ثلاثًا ويلزمها الاعتداد بالأقراء لأنه وجدت الصفات كما لو قال: إن كلمت زيدًا فأنت طالقٌ, وإن كلمت عمرًا فأنت طالق, وإن كلمت خالدًا فأنت طالق فكلمتهم دفعة واحدة طلقت ثلاثًا. فرع آخر لو ولدت أربعة واحدًا منفردًا والثلاثة مجتمعين معًا طلقت بالأول واحدة وانقضت

عدتها بالثلاث ولم تطلق بواحدٍ [37/ ب] منهم لاجتماعهم في انقضاء العدة فيجري عليهم إذا اجتمعوا في الطلاق حكم الافتراق وفي العدة حكم الواحد فإنها لو وضعت أربعة لمرة طلقت ثلاثًا والفرق أنه يجوز أن يقترن عدد الطلاق ولا يجوز أن تقترن العدة والطلاق. فرع آخر لو قال: إذا ولدتِ مني فأنت طالقٌ فولدت وقالت: هو من زنا وصدقها الزوج طلقت ولا يقبل ذلك ما لم ينفه باللعان. فرع آخر لو قال لها: إذا ولدت ولدًا فأنت طالق فولدت ثلاثة أولاد وقعت طلقة بالواد الأول ولا يتكرر لأن إذا لا تقتضي التكرار. فرع آخر لو قال لها: إذا ولدت ذكرًا فأنت طالق طلقةٍ, وإذا ولدت أنثى فأنت طالق طلقتين نظر فإن ولدت أولاً ذكرًا ثم أنثى وقعت طلقة وبانت بالأنثى, وإن ولدت أولاً أنثى وقعت طلقتان وبانت بالذكر, وإن ولدتهما معًا وقعت ثلاث تطليقات, وإن أشكل وقعت طلقة والورع أن يدعها لئلا يكون الطلاق ثلاثًا. فرع آخر لو ولدت خنثى واحدةً في الحال, ثم إن بان أنثى تبين أنه وقعت أخرى. فرع آخر لو ولدت ذكرًا وانثيين في هذه الصورة نظر فإن كان الأول هو الذكر ثم ولدت الأنثيين طلقت بالأول طلقة وبالأنثى طلقتين وتنقضي العدة بالثالث, وإن ولدت انثيين ثم الذكر وقعت طلقتان بالأولى ولا يقع بالثانية شيء وتنقضي العدة بالذكر لأنه لا تقتضي التكرار, وإن ولدت أنثى ثم ولدت ذكرًا ثم ولدت أنثى وقعت ثلاث تطليقات وهكذا إذا ولدت أنثى وذكريين, وإن أشكل طلقت طلقتين والاحتياط ثلاثًا. فرع آخر لو قل لها: إن كان في بطنك ذكر فأنت طالق طلقةً وإن كان في بطنك أنثى [38/ أ] فأنت طالق طلقتين فولدت ذكرًا وأنثى طلقت ثلاثًا, ولو قال: وإن كان ما في بطنك ذكرًا فأنت طالق طلقة فولدت ذكرًا وأنثى لم تطلق لأن الصفة لم توجد. فرع آخر لو قال: إن كان حملك ذكرًا فأنت طالق واحدة, وإن كان حملك أنثى فأنت طالق طلقتين فولدت ذكرًا وأنثى لم تطلق لأن حملها لم يكن ذكرًا ولا أنثى بل كان ذكرًا وأنثى.

فرع آخر إذا ولدت ما في فأنت طالق فولدت ثلاثة أولاد لم تطلق إلا بهم جميعًا ثم تعتد بثلاثة أقراء. فرع آخر لو قال: إن ولدت ولدًا فأنت طالق, وإن ولدت غلامًا فأنت طالق فولدت غلامًا طلقت طلقتين لأنه قد وجدت الصفتان صفة الغلام وصفة الولد. فرع آخر لو قال لمملوكته: إذا ولدت ولدًا فهو حرٌ وامرأتي طالق فولدته نظر, فإن كان حيًا عتق وطلقت, وإن كان ميتًا طلقت ولم يعتق لأن الميت لا يعتق. فرع آخر قال ابن الحداد: لو قال لها: إن كنت حاملاً بغلام فأنت طالق طلقة, وإن ولدت جارية فأنت طالق طلقة, فإن ولدت غلامًا تبينًا أنه وقع عليها طلقة من القول وانقضت عدتها بوضعه, وإن ولدت جارية وقع عليها تطلقةً بولادتها واعتدت بالأقراء, وإن ولدت غلامًا وجاريةً فإن كان الغلام أولاً تبينًا أنها طلقت طلقةً, وإذا ولدت الجارية انقضت عدتها بوضعها ولم يقع بولادتها شيء لأنها تبين بولادتها, وإن ولدت الجارية أولاً تقع طليقتان لأن بولادة الجارية يقع عليها طلقة وبولادة الغلام نتبين إنها طلقة من حين الإيقاع وتنقضي بولادته العدة. فرع آخر [38/ ب] قال ابن الحداد: لو قال: إن كان أول ولدٍ تلدينه غلامًا فأنت طالق واحدة, وإن كان جارية فأنت طالق ثلاثًا فولدت غلامًا وجارية, فإن كان الغلام أولاً وقعت واحدة وانقضت العدة بوضع الجارية ولم يقع بها شيء, وإن ولدت الجارية أولاً وقعت ثلاث وانقضت العدة بوضع الغلام, وإن أشكل الأول منهما وقع اليقين, ولو قال: إن كان أول ولد تلدينه غلامًا فأنت طالق ثلاثًا يعنى من هذا الحمل فإن ولدت غلامًا وجارية وقعت طلقة وانقضت العدة بولادة الجارية ولم يقع بولادها شيء, وإن ولدت واحدًا فإن كان غلامًا وقعت طلقة لأن اسم الأول يقع عليه, وإن كانت جارية لم يقع شيء لأن اسم الآخر لا يقع عليها ذكره ابن الحداد, وقال القاضي الطبري: ينبغي أن يقال في الغلام مثله لأنه إذا لم يقع عليه اسم الآخر إلا بعد الأول لا يقع أيضًا اسم الأول إلا لما بعده آخر. فرع آخر ذكره في "الحاوي" لو قال: يا حفصة إن كان أول ما تلدين ذكرًا فعمرة طالق,

وإن (كان) أنثى فأنت طالق فولدت ذكرًا وأنثى فإن كان الذكر أولاً تطلق هي بعدها, وإن ولدتهما معًا لا تطلق واحدة منهما لأنه ليس في الولدين أول, ولو ولدت واحدًا بعد آخر وأشكل هل تقدم الذكر أو الأنثى طلقت إحداهما لا بعينها, ويكون كالطلاق الواقع على إحدى زوجتيه وقد أشكلت. فرع آخر لو كان له أربع نسوةٍ فقال: كل ما ولدت واحدةٌ منكن فصواحباتها طوالق فولدت جميعًا فإن ولدن في حالةٍ واحدة تطلق كل واحدة ثلاثًا بولادة كل واحدة منهن وتعتد كل واحدة بالأقراء, وإن ولدن واحدة بعد واحدة قال ابن الحداد [39/ أ] والقفال وجماعة: تطلق الأولى ثلاثًا وتنقضي عدتها بالأقراء, والثانية تطلق واحدة وتنقضي عدتها بالولادة, والثالثة تطلق طلقتين وتنقضي عدتها بالولادة, والرابعة تطلق ثلاثًا وتنقضي عدتها بالولادة لأن الأولى لما ولدت طلقت كل واحدة من الثلاث طلقة واحدة ولم تطلق هي لأن ولادة كل واحدة صفة في وقوع الطلاق على غيرها لا عليها فلما ولدت الثانية بانت بولادتها لوقوع الأولى عليها وطلقت بها الأولى واحدة وطلقت بها الثالثة طلقة ثانية وطلقت بها الرابعة طلقة ثانية, فإذا ولدت الثالثة طلقت بها الأولى ثانية ولم تطلق الثانية لانقضاء عدتها بالولادة وطلقت بها الرابعة طلقة, وهذه الثالثة تنقضي عدتها بالولادة بعد وقوع طلقتين عليها, فإذا ولدت الرابعة طلقت بها الأولى طلقة ثالثة ولم تطلق الثانية والثالثة لانقضاء عدتها وانقضت عدتها بالولادة. وقال ابن القاضي في "التخليص": واختاره القاضي الطبري وجماعة من المتأخرين: لا يقع على الأولى طلاق وتطلق كل واحدة من الثلاث تطليقة لأن الأولى لما ولدت لم يقع عليها ووقع على كل واحدة من الثلاث تطليقة نطليقة فإذا ولدت الثانية انقضت عدتها ولم تطلق غيرها لأنه بالبينونة خرجت من أنت تكون صاحبة لهن, والشرط أن تكون صاحبة حالة الوقوع وهي بعد الولادة إلا أن تكون صاحبةً حالة الولادة وخرجن ببقائهن في العدة أن يكون صواحب لها فلم يوجد شرط الطلاق فيهن فم يطلقن, وكذلك الثالثة والرابعة تنقضي عدتهما ولم يطلق بهما غيرهما, وقال صاحب "الحاوي": لا يصح عندي من إطلاق هذين الوجهين أن يرجع إلى إرادة الزوج بقوله هذا [39/] فإن أراد به الشرط فالجواب على ما قاله ابن القاضي, وإن أراد به التعريف فالجواب على ما قاله ابن الحداد, وإن لم يكن له إرادة أوقات الرجوع إلى إرادته بالموت كان محمولاً على التعريف دون الشرط لأن الشروط عقود ولا تثبت بالاحتمال. فرع آخر لو ولدت اثنين معًا ثم اثنين معًا في هذه الصورة التي ذكرناها فعلى قول ابن الحداد

كل واحدة من الأولتين ثلاثًا ثلاثًا وتنقضي عدتهما بالأقراء وتطلق كل واحدة من الآخرين تطليقتين وتنقضي عدتهما بالولادة لأن الأولتين إذا ولدتا طلقت كل واحدة منهما تطليقة بولادة صاحبتها وطلقت كل واحدة من الأخريين تطليقثين بولادة كل واحدة من الأوليتين, فإذا ولدت كل واحدة من الأخرتين لم تطلق واحدة بولادة صاحبتها لانقضاء عدتها بولادتها وطلقت كل واحدة من الأولتين تطليقتين بولادة الأخريين فاستكمل طلاق الأولتين ثلاثًا ووقع على الأخريين طلقتان وعلى قول ابن القاضي تطلق كل واحدة من الأولتين واحدة واحدة بولادة صاحبتها وكل واحدة من الأخريين تطلق تطليقتين بولادة الأوليتين, ولا تطلق الأولتان بولادة الأخريين لأنهما قد خرجتا بانقضاء العدة والولادة من أن تكونا صاحبتين للأوليتين. فرع آخر لو قال: كلما ولدت واحدة منكن فسائركن طوالق فالجواب بإجماع أصحابنا على ما قال ابن الحداد في قوله: فصواحباتها طوالق لأن قوله فسائركن منصرف إلى غير التي ولدت لأن ذلك مشتق من السؤر وهو ما بقي بعد الشرب فكأنه قال: فالباقيات طوالق. فرع آخر لو قال: كلما ولدت واحدة منكن فأنتن طوالق يدخل [40/ أ] الوالدة فإذا ولدت كلهن واحدةً بعد واحدةٍ الأولى ثلاثًا طلقة بولادة نفسها وطلقتان بولادة الأخريين وعليها العدة لأن الطلاق الثلاث لحقتها بعد ولادتها وتطلق الثانية طلقة بولادة الأولى وتنقضي عدتها بولادة نفسها, وتطلق الثالثة طلقة بولادة الأولى وطلقة بولادة الثانية وتنقضي عدتها بولادة نفسها وتطلق الرابعة ثلاث تطليقات وتنقضي عدتها بولادتها وفي هذه الصورة لا خلاف بين ابن الحداد وابن القاضي. فرع آخر لو ولدن كلهن في واحد في هذه الصورة طلقت كل واحدة ثلاثًا بولادة نفسها وبولادة اثنتين من الباقيات لا بأعيانهما وعلى جميعهن العدة لأن الطلاق وقعٍ عليهن بعد الولادة ولو ولدت اثنتان منهن معًا ثم ولدت الآخرتان في وقت واحد معًا طلقت كل واحدة من الأولتين ثلاثًا طلقة بولادة نفسها وطلقة بولادة صاحبتها وطلقة بولادة واحدة من الآخريين لا بعينها وعليها العدة وتطلق الآخرتان تطليقتين وتنقضي عدتهما بولادتهما. فرع آخر قال ابن الحداد: لو قال كلما ولدت واحدة منكن فصواحباتها طوالق ثم طلقهن طلقة طلقة ثم ولدن, فإن ولدن دفعة واحدة لم تطلق واحدة منهن بولادة الأخرى لأن عددهن تنقضي بولادتهن فلا يقع الطلاق مع البينونة, وإن ولدت واحدة بعد واحدة بانت الأولى بولادتها ووقع على الباقيات طلقة ثانية, وإذا ولدت الثانية بانت ووقع على

الثالثة وثالثة وعلى الرابعة ثالثة وبانتا فإذا ولدتا انقضت عدتهما ولم يقع بولادتهما شيء, وعلى قول ابن القاضي تبين كل واحدة بولادتهما ولا يقع على الباقيات شيء [40/ ب] لأنهن بالبينونة خرجن من أن يكن صواحباتها. فرع آخر إذا قال: إذا دخلت بك فأنت طالق ولا نية له فقبلها أو لمسها بشهوة أو وطئها دون الفرج طلقت وفيه وجه آخر لا تطلق إلا بالجماع في الفرج. مسألة: قال: "ولو قال: أنت طالقٌ إن شاء الله لم يقع". إذا قال: أنت طالق إن شاء الله لم يقع الطلاق, وكذلك لو قال: لعبده أنت حر إن شاء الله لا يعتق وجملته إن الاستثناء يدخل في الطلاق والعتاق والإيمان والنذور والأقارير فيحل ذلك ويرفعه, وفي الطلاق لا فرق بين أن يكون مباشرة كقوله: أنت طالق ومعلقًا بصفة كقوله أنت طالق إذا طلعت الشمس إن شاء الله أو يكون يمينًا كقوله: أنت طالق إن دخلت الدار إن شاء الله فكل هذا واحد لا يقع الطلاق, ونص في الأقارير أنه لو قال: علي ألف إن شاء الله لا يكون إقرارًا, وقال: لا فصل بين أن تعلق بمشيئة الله تعالى بما يحبه الله ولا يكرهه أو بالضد من هذا لأن الأشياء كلها بمشيئة الله تعالى فلا يعلم أنه قد شاءه حتى يكون, وبه قال طاوس والحكم بن عتبية وجاهد والثوري وأبو حنيفة وأصحابه, وقال الزهري ومالك والليث: لا يدخل الاستثناء في الطلاق والعتاق والإقرار وإنما يدخل في الإيمان بالله خاصة. وقال الأوزاعي وابن أبي ليلى: ترتفع بمشيئة الله حكم جميع الإيمان بالله وبالطلاق وبالعتق ولا يرتفع به وقوع الناجز من الطلاق والعتق والنذر والإقرار, وقال أحمد: لا يرتفع به حكم النذر والعتق والإقرار ويرتفع به حكم غيرها, وحكي عن أحمد [41/ أ] أنه قال: لا يرتفع الطلاق خاصةٌ لأنه وصل إيقاعه بما يرفعه في الحال وفي ثاني الحال فلم يصح كما لو قال: أنت طالق ثلاثًا إلا ثلاثًا وهذا غلط لأنه وقع جميع ما أوقع من حيث أثبته فلا يجوز وهاهنا علق بالمشيئة ولا يعلم حصولها على ما بينا والصحيح عن أحمد ما ذكرنا أولاً, وحكاه القفال عن مالك وهو غلط عليه وحجته أن الله تعالى شاء العتق والنذر وندب إليه وكره الطلاق فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أبغض الحلال إلى الله تعالى الطلاق". والدليل على بطلان هذا المذهب ما ذكرنا, وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين ثم قال في أثرها إن شاء الله لم يحنث فيما حلف عليه". وقد روى عطاءٌ عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قال لامرأته أنت طالق إن شاء الله أو لغلامه أنت حر إن شاء الله أو عليه المشي إلى بيت الله إن شاء الله فلا شيء

عليه". وروى المقدام بن معدي كرب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الاستثناء في الطلاق والعتاق جائز" ولأن الطلاق وإن كان مكروهًا فإذا وقع وقع بمشيئة الله تعالى ولا يصير الشيء موجودًا إلا بمشيئة الله تعالى. وقد روي أن يهوديًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المشيئة فقال: "المشيئة لله" فقال: إني إن أشاء أقعد فقال: "شاء الله أن تقعد" فقال: إني إن أشاء أن أقوم فقال: شاء الله أن تقوم فقال: إني إن شاء أقطع هذه النخلة فقال: شاء الله أن تقطعها", فنزل جبريل وقال: [41/ ب] لقنت الحجة. وفي ذلك نزل قوله تعالى {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإذْنِ اللَّهِ} [الحشر:5] الآية". فرع اختلف أصحابنا في قوله: إن شاء الله هاهنا هل يكون ذلك استثناء يمنع من انعقاد ذلك كله؟ أو يكون شرطًا تعلق به فلم يثبت حكمه لعدمه على وجهين: أحدهما: وهو ظاهر المذهب أنه استثناء يمنع من انعقاده فلا يثبت له حكم ولا عقد. وقال أبو إسحاق المروزي هو شرط فلم يلزم لعدمه, وإن كانت منعقدة ذكره في"الحاوي". فرع آخر لو قال: أنت طالق إن شاء الله, أو إن شاء الله أنت طالق لا طلاق عندنا, وهكذا لو قال: أنت طالق بمشيئة فلان, أو إذا شاء الله أو متى شاء الله. فرع آخر لو قال: أنت طالق إن لم يشأ الله لم يقع الطلاق لأنه لا فرق بين أن يعلق على وجود مشيئته وبين أن يعلق على عدم مشيئته. فرع آخر لو قال: أنت طالق ما لم يشأ الله لا يقع أيضًا. فرع آخر لو قال: أنت طالق أن شاء الله بفتح الألف وقع الطلاق, وكذلك لو قال: إذ شاء الله لأن تقديره أنت طالق لأن الله شاء. فرع آخر لو قال: أنت طالق إلا أن يشاء الله فالمذهب أنه يقع الطلاق لأنه جعل المشيئة مخلصًا له من الحنث, وإذا جهل المخلص من الحنث وقع الحنث كما لو قال: أنت

طالق إلا أن يشاء زيد فلم تعلم مشيئته وقع الطلاق وفيه وجه آخر أنه لا يقع الطلاق لأنه علق الطلاق بعدم المشيئة أن لا تطلق فإذا لم يعلم ذلك لم يقع الطلاق. فرع آخر لو قال: أنت طالق ما شاء الله قال بعض أصحابنا: يقع الطلاق لأن حقيقة ما شاء الله لما مضى من المشيئة وتقع واحدة لأنا لا نعلم مشيئته لأكثر من ذلك. فرع آخر لو قال: [42/ أ] أنت طالق ثلاثًا وثلاثًا إن شاء الله, أو قال: أنت طالق ثلاثًا وواحدة إن شاء الله فالذي يقتضيه المذهب أنه لا يقع طلاقه ويرجع الاستثناء إلى الكلام كله, وكذلك لو قال: أنت طالق وطالق إن شاء الله وبه قال أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة: يرجع إلى الثاني ويقع الأول وهذا غلط لأن الاستثناء اتصل بالكلام من غير قطع فأشبه إذا قال: أنت طالق واحدة وثلاثًا إن شاء الله. فرع آخر لو قال: أنتما طالقان إن شاء الله كان الاستثناء راجعًا إليهما, ولو قال: حفصة طالق وعمرة طالق وإن شاء الله فإن أراد بالاستثناء عمرة الأخيرة طلقت حفصة, وإن لم تطلق عمرة وإن أرادها لم يطلقا, وإن أطلق كان الاستثناء راجعًا إليهما لأن المجموع بالواو كالجملة الواحدة. وقال أبو حنيفة: يرجع إلى أقرب المذكور فتطلق حفصة دون عمرة, وقال بعض أصحابنا ولو قال: أردت بالاستثناء حفصة الأولى دون الثانية حمل على إرادته وطلقت عمرة الأخيرة دون حفصة الأولى وعند أبي حنيفة يرجع إلى الثانية ويقع الأول. فرع آخر قال الشافع: في "الأم" في الإيمان: إذ قال: إن شاء الله لا يقع الطلاق إذا أراد الاستثناء, فأما إن كان قصده إن شاء الله كقوله تعالى: {ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف:23 - 24]. أو كان مشتهرًا بقوله إن شاء الله فسبق على لسانه لم يكن الاستثناء. وقال أصحابنا: لو لم يعرف تفسير قوله إن شاء الله يقع الطلاق أيضًا لأنه لم يرد به الاستثناء. فرع آخر قال أبو بكر الفارسي من أصحابنا: إن لم يكن من عزمه هذا الاستثناء ولكنه لما فرغ من [42/ ب] أنت طالق ندم فتدارك بقوله: إن شاء الله حكمه في الظاهر بأنه استثنى إذ لا يعرف باطن الحال ولكن فيما بينه وبين الله تعالى واقع والاستثناء غير عاملٍ قال: وكذلك لو لم ينو في الابتداء الاستثناء بقوله: إلا اثنتين ثم بدا له من بعد فاستثنى عقيبه يقع الطلاق وادعى في هذا إجماع الأمة واختاره القفال وغيره ولم يذكره أصحابنا بالعراق وقياس المذهب أنه يصح الاستثناء, وإن لم يكن على هذا الوجه لأن

الكلام واحدٌ وآخره منوط بأوله ليظهر بأجره حكم أوله وقيل وجهان, أحدهما: تعتبر نيته في أوله, والثاني: يكفي أن ينوي قبل الفراغ منه فإن حتى لم ينوه حتى فرغ من الكلام ثم بدا له يقع وجهًا واحدًا وعليه عامة أصحابنا. فرع آخر لو قال: أنت طالق إن شاء الله وشئت فقالت: شئت لم تطلق لأنه لا يعلم مشيئة الله تعالى. فرع آخر لو قال: أنت طالق إلا أن يشاء فلان فما فلان قادرًا على المشيئة لم تطلق فلو مات حكمنا بأنها طلقت قبيل عجز فلان عن المشيئة وقيل: فيه وجهان. فرع آخر لو قال: أنت طالق إن شاء زيد فشاء وهو عاقل يقع وإن كان زائل العقل فإن كان يجنون أو إغماء فقال: شئت لم يقع, وإن كان بسكر يقع لثبوت الأحكام بأقواله ويحتمل وجهًا آخر أنها لا تطلق لأن سكره يوجب تغليظ الحكم على نفسه لا على غيره. فرع آخر لو مات زيد أو غاب أو خرس لم يقع لأنه لا تعلم مشيئته لأن المشيئة إنما تعلم من جهة النطق لا من جهة الإشارة هكذا نص الشافعي رحمه الله عليه, قال أصحابنا: إذا خرس فيه وجهان, أحدهما: هذا لأن تعليق الطلاق بمشيئته تعلق بقوله: شئت لأنه إذا قال ذلك وقع الطلاق شاء أو لم يشأ فإذا خرس فقد تعذر ذلك [43/ أ] ولأن المشيئة وقت الطلاق كانت نطقًا فلم تثبت بالإشارة وعلى هذا لو كان أخرس وقت التعليق فشاء بالإشارة طلقت, والثاني: يقع الطلاق بإشارته وأراد الشافعي رحمة الله تعالى عليه الأخرس الذي لا يحسن الإشارة وهذا لأن إشارة الأخرس تقوم نطقه مع العجز في وقت البيان فلا اعتبار بما تقدمه ألا ترى أنه لو كان أخرس وقت الطلاق ناطقًا عند البيان لم تصح مشيئته إلا بالنطق, وإن صحت منه وقت الطلاق بالإشارة. فرع آخر لو اختلفا فقالت: قد شاء وأنكر الزوج فالقول قوله. فرع آخر لو قال: أنت طالق إن شاء الحمار فهذا من الشروط المستحيلة لأنه لا مشيئة للحمار فجرى مجرى قوله أنت طالق إن صعدت السماء وفيه وجهان. فرع آخر لو اختلفا فقال الزوج: كنت مغلوم العقل بالنوم أو الإغماء وعرف ذلك وقالت

باب طلاق المريض

المرأة تجاننت أو تناومت أو تغاشيت فالقول قوله لأنه أعرف بنفسه. فرع آخر لو قال: طلقتك في حال الجنون وقالت: بل طلقتني بعد الإفاقة فإن أنكرت أن يكون قد جن فالقول قولها مع يمينها لأنه على أصل الصحة, وإن أقرت بأنه كان مجنونًا في وقت فيه وجهان, أحدهما: القول قوله ولا طلاق لأن الأصل بقاء النكاح. والثاني: القول قولها ويقع الطلاق لأن الأصل الإفاقة. باب طلاق المريض مسألة: قال: "وطلاق المريض والصحيح سواء". المريض إذا طلق امرأته نفذ طلاقه لأن المرض لا يزيل التكليف ثم ينظر فإن كان رجعيًا لم يؤثر في المهر ولأن الرجعية في معنى الزوجة فأيهما مات ورثه الآخر سواء كان المرض مخوفًا أو لم يكن, فإن انقضت عدتها [43/ ب] انقطع الميراث ولا يجعل فارًا من ميراثها إذلو أراد الفرار لأبانها, وإن كان باينًا مثل أن طلقها ثلاثًا أو طلقها الطلقة التي بقيت له عليها فإن بانت لم يرثها قولاً واحدًا, وإن ماتت نص في الرجعة والعدد والإملاء على مسائل مالك على قولين, أحدهما: ترثه وهو قول مالك وأبي حنيفة وعامة أهل العلم, وروي ذلك عن عمر وعثمان وعلي وربيعة والليث والأوزاعي والثوري وأحمد. والثاني: لا ترثه وهو الأقيس والصحيح وبه قال ابن الزبير وعبد الرحمن بن عوف وهو اختيار المزني وأبي ثور رواه ابن اللبان عن علي رضي الله عنهم, واحتجوا بما روي أن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه طلق امرأته تماضر بنت الأصبغ الكلبية في مرض موته فورثها عثمان رضي الله عنه ولأن التهمة لحقته في قطع إرثها فغلظ عليه توريثها كالقائل حرم المراث للتهمة وهذا غلط لأن سبب الإرث هنا النكاح فالإرث بالنكاح ولا نكاح بحال كالإرث بالنسب ولا نسب بحال. وأما ما ذكره من الإرث لا حجة فيه لأن عبد الرحمن خالفه حين قصد قطع حقها بالطلاق, وقال: ما فررت من كتاب الله تعالى أنه أباح الطلاق. وقال ابن أبي الزبير: ورث عثمان تماضر ولو كنت أنا ما ورثتها, وقال ابن أبي مليكة سألت عبد الله بن الزبير عن رجل يطلق امرأته في مرضه فيبتها فقال: أما عثمان فورثها وأما أنا فلا أرى أن أورثها ببينونة إياها ولأنه روي أنها سألت الطلاق وعندهم لا ترث وأما التهمة فلا تصح لأنها موجودة إذا طلقها قبل الدخول ولا ترث.

فرع إذا قلنا: ترثه فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: ترثه ما دامت في العدة فإذا انقضت لم ترث, وبه قال أبو حنيفة [44/ أ] والاوزاعي والليث وأحمد في رواية وهذا لأنه إذا لم تكن في عدة لم يبق النكاح ولا علقه من علقه فلا معنى للميراث, وقال عمر رضي الله عنه: ترثه في العدة ولا يرثها. وروي في حديث تماضر أن عبد الرحمن بن عوف مات وهي في عدتها, وروي أبو سلمة بن عبد الرحمن أنه ورثها عثمان بعد انقضاء عدتها. والثاني: أنها ترث ما لم تتزوج وبه قال أحمد في الرواية وابن أبي ليلى وقد روي عن أبي بن كعب أنه قال: والذي يطلق وهو مريض لا يزال مورثها حتى يبرأ أو تتزوج ولأنها لم تتزوج فالتهمة لاحقه بالزوج, فإذا تزوجت تبينًا أنها رضيت بذلك وخرج هو عن التهمة. والثالث: أنها ترث أبدًا وبه قال مالك وربيعة لأن الفرقة هي السبب القاطع للميراث فإذا لم ينقطع بها الإرث لم ينقطع فيما بعد فعلى هذا القول والذي قبله لو كان الطلاق قبل الدخول بها ورثت وعلى القول الثالث يتصور أن ترث المرأة من زوجين وثلاثة وعلى القولين الأولين لا ترث إلا من زوج واحد. فرع آخر لو طلق في مرضه أربع زوجات له وتزوج بأربع سواهن صح النكاح, فإن قلنا: إن المطلقات يرثن قال الماسرجسي: فيه وجهان, أحدهما: يكون الربع أو الثمن بين جميع المطلقات والزوجات يشتركن فيه وهو الصحيح لأن كل واحدة منهن ترث بالإنفراد, فإذا اجتمعن ورثن كالأربع, والثاني: أنه للأربع الأوائل المطلقات دون المتزوجات لأن حقهن أسبق, وقال أبو حامد: فيه ثلاثة أوجه وقيل ثلاثة أقاويل. والثالث: أنه للمتزوجات دون المبتوتات لأن ميراثهن بالنص والشرع منع توريث الزيادة على الأربع وهذا اختيار القفال وهذا ضعيف [44/ 4] لأن الشرع منع نكاح الزيادة على الأربع فأما إرث المطلقات فقد ثبت بإجماع الصحابة فلا يسقط نكاح غيرهن ولو يرد الشرع بمنع الزيادة على الأربع من الميراث. فرع آخر لو أقر في مرضه أنه طلقها ثلاثًا في صحته ومات من ذلك المرض لم ترثه على القولين لأن المريض إذا أقر بما فعله في حال الصحة كان بمنزلة ما فعله في حال صحته. ألا ترى أنه لو أقر في مرضه أنه وهبه في صحته وأقبضه كان من رأس المال؟ ومن أصحابنا من قال: فيه قولان أيضًا كما لو طلقها في مرضه لأن التهمة موجودة والأول أصح نص عليه في "الأم" وبه قال أبو إسحاق وهو قول أبو حنيفة وهو كما

لو أقر أنه أعتق في الصحة كان من رأس المال. فرع آخر قال أبو حنيفة رحمه الله: لو أقر في مرضه أنه كان طلقها في الصحة ثم أوصى لها ومات فإن لها أقل الأمرين من الوصية أو الميراث لأنه متهم إذا كانت الوصية أكثر وكان أخرجها من الميراث لتصح الوصية لها, وإذا كان الميراث أكثر فلا تهمة وهي وصية لغير وارث. قال القفال: وينبغي أن يكون مذهبنا هكذا, وقال بعض أصحابنا بخراسان: والأقيس أن لها الوصية بالغةً ما بلغت إذا خرجت من الثلث وهو اختيار شيخنا ناصر وبه قال أبو يوسف ومحمد. فرع آخر لو قال: أنت طالق إن شئت فشاءت وقع الطلاق ولا ترثه قولاً واحدًا وبه قال أبو حنيفة رحمه الله: لأنه غير متهم في طلاقها لقطع ميراثها, وقال ابن أبي هريرة من أصحابنا: ترث وبه قال مالك وأحمد في رواية. وهكذا الخلاف لو سألته الطلاق فأجابها إليه أو خالعها واحتجوا بأن ميراثها ثبت بقصة [45/ أ] عبد الرحمن وامرأته سألته الطلاق وهذا غلط لأنه لم يطلقها عبد الرحمن بن عوف عقيب سؤالها. وقد روي أنها سألته الطلاق فقال: إذا حصنت ثم طهرت طلقها, وإذا تأخر لم يكن جوابًا بل كان طلاقًا مبتدأ ولأن تماضر أخذت المال صلحًا لا إرثًا ولو سألته أن يطلقها طلقةً فطلقها ثلاثًا لأنها لم تسأله طلاقًا يقطع ميراثها في الحال. فرع آخر لو علق طلاقها بصفة نظر فإن كانت صفة لها منها يد كقوله إن مشيت أو خرجت من الدار أو إن صليت التطوع أو إن صمت التطوع ونحو هذا لم ترث قولاً واحدًا. وإن كانت صفة لابد لها منه مثل قوله إن قمت أو قعدت أو أكلت أو شربت أو كانت صفة تحرم عليها تركها كقوله: إن صليت الفرص, أو إن صمت الفرض فهو على القولين لأن عليها ضررًا في ترك هذه الأشياء شرعًا وطبعًا. فرع آخر قال في "الحاوي": لو علق طلاقها بما لابد لها من الأكل والشرب على ما ذكرنا ففعلته قبل وقت الحاجة فيه وجهان, أحدهما: يجري عليها حكم الاختيار اعتبارًا

بوقت الفعل لأنها تجد بدًا من تقديمه قبل الحاجة. والثاني: يجري عليها حكم عدم الاختيار اعتبارًا بحال الفعل لأنها لا تجد بدًا من فعله. فرع آخر لو قال: إن كلمت أبويك فأنت طالق ثلاثًا فكلمتهما ترث لأن ترك كلامهما معصية ذكره أصحابنا, لو قال: إن خرجت إلى منزل أبيك أو إلى منزل ابنك فأنت طالق فخرجت إلى منزل واحد منهما طلقت ولا ترث لأنه لا حاجة بها إلى ذلك ولا يجوز لها أن تخرج إلى منزلهما من غير إذن الزوج, ولو علق طلاقها بكلام غيرهما من الأقارب [45/ ب] فكلمت طلقت ولم ترث, وقال الحسن بن زياد: وإن كلمت ذا محرمٍ ورثت كالأبوين. فرع آخر لو قال قي صحته: إن كلمت زيدًا فأنت طالق, أو إن دخلت الدار فأنت طالق ثم مرض فدخل الدار وكلم زيدًا ترث لأنه متهم بإيقاع الفعل في مرض موته. فرع آخر لو قال في صحته: إذا مرضت فأنت طالق ثلاثًا فمرض ومات ترثه على هذا القول, وكذلك لو قال: إن لم أطلقك فأنت طالق ثلاثًا فلم يطلقها حتى مات طلقت قبل وفاته بلحظة ورثت لأنه كان يمكنه أن يختار في أن لا يقع عليها الطلاق الثلاث فلما ترك ذلك كان متهمًا. فرع آخر لو قال: أنت طالق في آخر أجزاء صحتي المتصل بأول أسباب موتي طلقت فيه ولم ترث وإن كان متهمًا لأنه طلاق في الصحة فلم يجز أن ترث ذكره في"الحاوي". فرع آخر لو قال في صحته: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق, أو إذا قدم زيدٌ فأنت طالق ثلاثًا فحصلت الصفة وهو مريض وقع الطلاق ولم ترثه قولاً واحدًا. وقال القفال: فيه قولان, أحدهما: أنها كالمبتوتة في المرض. والثاني: أنها كالمبتوتة في الصحة اعتبارًا بحالة التعليق وهي حالة الصحة. وفي القول الأول اعتبارًا بحالة الوقوع وهما كالقولين فيمن علق عتق عبده بمثل هذه الصفة فوجدت في المرض هل يعتبر العتق من الثلث أو من رأس المال قولان. وأبو حنيفة ناقض هاهنا فجعل العتق من الثلث اعتبارًا بحالة الوقوع ولم يورث هذه المبتوتة اعتبارًا بوقت التعليق. وقال مالك وزفر: ترث لأن الطلاق وقع عليها في مرضه وهذا غلط لأنه لا يتهم به في قطع ميراثها (فلم) ترث. [46/ أ].

فرع آخر لو قال: في صحته أنت طالق قبل موتي بشهر وغاب بعد شهر من قوله طلقت قبل موته بشهر فإن كان وقوع الطلاق عليها لم ترثه لأنه طلاق في الصحة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: ترث لأن التهمة موجودة وكلام القفال يدل عليه وهو غريب, وإن كان مريضًا فالصحيح أنها لا ترثه لأنه عقد طلاق يجوز أن يكون وقوعه في الصحة. ومن أصحابنا من قال: ترثه لأنه لما قيده بزمان الموت ضار منهما بالتعرض له وهو الأقيس. فرع آخر لو طلقها في مرضه ثلاثًا ثم برأ من برضه ثم مات لم ترثه قولاً واحدًا خلافًا لزفر, ولو طلق امرأته الأمة أو الذمية ثلاثًا في مرضه ثم عتقت أو أسلمت ثم مات لم ترثه قولاً واحدًا لأنها طلقها في حالة ليس بينهما توارث, وكذلك لو كان هو عبدًا ثم عتق. فرع آخر لو اختلفت هي وورثة الزوج فقالت: طلق بعد عتقي وإسلامي وقالوا: طلق قبل العتق والإسلام فالقول قول الورثة لأن الأصل أن لا ميراث. فرع آخر لو اختلفت الحرة وورثة الزوج فقالت: طلقني في مرضه فلي الميراث وقال: الورث طلقك في الصحة فلا ميراث فالقول قولها ولها الميراث لأن الأصل فيها استحقاق الميراث وشككنا في تقدم الطلاق. فرع آخر لو قال: للذمية في مرضه إن أسلمت فأنت طالق فأسلمت ورثت لتهمته. فرع آخر لو قال: لها السيد إن طلقك الزوج غدًا فأنت اليوم حرة فطلقها الزوج غدًا ثلاثًا في مرضه لم ترث قولاً واحدًا سواء علم الزوج بذلك أم لا لأن العتق لا يقع إلا بالطلاق. فرع آخر لو قال سيد الأمة [46/ ب] أنت حرة غدًا وقال زوجها وهو مريض: أنت طالق ثلاثًا بعد غدٍ ثلاثًا, وهل ترث؟ ينظر فإن كان الزوج جاهلاً بعتق السيد لم ترثه قولاً واحدًا, وإن كان عالمًا فعلى القولين. فرع آخر لو طلقها طلقة رجعية ثم أعتقها سيدها ومات زوجها نظر فإن كان قبل انقضاء العدة

ورثته لأن الرجعية في معنى الزوجات, وإن مات بعد انقضاء العدة لم ترثه لأنه غير متهم في ذلك الطلاق. فرع آخر لو قال: في مرضه إذا عتقت فأنت طالق ثلاثًا فعتقت ترث على هذا القول. ولو قال ذلك وهو صحيح لم ترث بلا خلاف. فرع آخر لو طلقها في مرضه ثم ارتدت ثم استلمت ثم مات لم ترثه قولاً واحدًا نص عليه لأنه أخرجت نفسها عن الميراث بالردة. فرع آخر لو طلقها في مرضه ثم ارتد هو ثم عاد إلى الإسلام لم ترثه لأنه حدث حالة لو مات فيها لم ترثه ولفظ الشافعي عندي أنها لا ترث في هذه المسألة. فرع آخر لو كان مريضًا فارتد ومات لم ترثه لأنه لا يقصد بالردة الفرقة. فرع آخر لو انفسخ نكاحها في مرضه بأحد العيوب الخمسة فيه وجهان, أحدهما: أنها في حكم الطلاق. والثاني: لا ترثه قولاً واحدًا لأنه بسبب من جهتها. فرع آخر لو قذفها في حال صحته ثم لاعنها في مرضه لا ترثه نص عليه الشافعي رضي الله عنه. وقال القفال: بمفهومه أن القذف واللعان لو كانا في المرض ترثه في أحد القولين, وقال غيره من أصحابنا: لا فرق بين أن يكون القذف في المرض أو الصحة لأنه [47/ أ] مضطر إلى ذلك لإسقاط الحد عن نفسه ونفي النسب, وقيل فيه ثلاثة أوجه, أحدهما: ترثه كالطلاق وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف. والثاني: لا ترثه لأنه لا يتهم به للحوق العار في لعانه. والثالث: ينظر فإن لاعنها في المرض عن قذف في صحته لم ترثه, وإن كان في قذف في المرض ورثته لأن تقدم القذف في الصحة يزيل التهمة وبه قال محمد. فرع آخر إذا قلنا: ترث لا تنتقل من عدة الطلاق إلى عدة الوفاة, وقال أبو حنيفة: تنتقل لأنها ترث من زوجها كالرجعية وهذا غلط لأن باينة بالطلاق فعدتها عدة الطلاق,

باب الشك في الطلاق

وتخالف الرجعية لأنها لو لم ترث منه بإن كانت أمة رجعية تنتقل إلى عدة الوفاة بموته بخلاف هذه. فرع آخر لو كان مريضًا فقال: إن بريت من مرضي فأنت طالق فبرأ ثم مات طلقت ولا ترث قولاً واحدًا. فرع آخر إذا طلقها في مرضه المخوف ثم قتل قبل أن يصح منه ورثته في أصح القولين لأن المرض اتصل بالموت فهو كما لو مات منه. فرع آخر لو قال: أنت طالق قبل موتي قال ابن الحداد: وقع الطلاق في الحال لأن ذلك قبل موته كما لو قال: أنت طالق في كل سنةٍ وقع فب الحال طلقة لأنه في السنة. ولو قال: أنت طالق قبيل موتي لم يقع في الحال بل يقع في الجزء الذي قبيل الموت لأن ذلك تصغير يقتضي الجزء اليسير الذي يبقى, وهو كما لو قال: أنت طالق قبل رمضان وقع عقيب اليمين. وإذا قال قبيل رمضان وقع في آخر جزء من شعبان. فرع آخر لو قال: أنت طالق مع موتي لم يقع الطلاق لأن تلك الحالة حالة البينونة. ولو قال: لعبده أنت حر [47/ ب] مع موتي عتق لأنه يصح أن يقول: أنت حر بعد موتي, ولا يجوز أن يقول: أنت طالق بعد موتي. ثم أعلم أن المزني احتج بقول الشافعي: الناس إنما يرثون من حيث يورثون وهو في احتجاجه على أبي حنيفة حيث قال: في ولدٍ تداعاه رجالٌ يلحق بهم ثم يرث هذا المولود من كل واحدٍ منهم كمال ميراثه ولا يرث منه كل واحدٍ منهم إلا بعض الميراث, فقال: يجب أن يستووا في الميراث لأن الناس إنما يرثون من حيث يورثون. فقال المزني: لما اجتمعنا هاهنا أنه لا يرثها فكذلك هي وجب أن لا ترثه لهذا الذي ذكره الشافعي وأصحابنا أجابوا عن هذا بأنه قد يوجد الإرث مع أحد الجانبين دون الآخر, ألا ترى ابن العم يرث ابنة العم ولا ترث منه والجد مع ابنة ابنته, وإن الأخ مع عمته كذلك فيبطل الدليل. باب الشك في الطلاق مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى عليه: لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الشيطان يأتي أحدكم فينفخ بين إليتيه فلا ينصرف حتى يسمع صوتًا أو يجد ريحًا" علمنا أنه لم يزل تيقن طهارته إلا بتيقن حدثه, كذلك من استيقن نكاحها ثم شك في الطلاق لم يزل اليقين إلا بيقين".

إذا شك هل طلق امرأته أم لا؟ فهما على الزوجية لأن الأصل الزوجية فهو شك طرأ على يقين فيسقط الشك وهما على الزوجية والورع أن يحنث نفسه, فإن كان في اعتقاده أنه متى طلق طلق واحدة جعلها رجعية وراجعها واعتقد أنها على اثنتين فلا يضره ما فعل, وإن كان في اعتقاده أنه متى [48/ أ] طلق طلق ثلاثًا الزم نفسه بأن يوقع الطلاق عليها لتحل لغيره بلا شبهةٍ ولا يقول: ألزمت نفسي لأنه ربما لا يكون قد طلق فيبيح زوجته للغير بل يبتدي ويوقع الطلاق احتياطًا, وقال شريك بن عبد الله: إذا شك في الطلاق طلق واحدة ثم راجعها حتى تصح الرجعة يقينًا وهذا غلط لأن لفظ الرجعة ممكن مع الشك في الطلاق فلا يحتاج يقين الطلاق, وإذا وقع الطلاق ثم شك في عدده بني علي اليقين فإن تيقن الواحدة وشك في الثانية جعلها واحدة, وإن تيقن طلقتين وشك في الثالثة فهما طلقتان والورع أن يجعل الطلاق في الزيادة وبه قال أبو حنيفة وأحمد وجماعته, وقال مالك وأبو يوسف: يلزمه الأكثر احتياطًا وهذا غلط لأن كل ما لو وقع الشك في أصله بني على اليقين فإذا أوقع في عدده بني على اليقين كما في الصلاة. وحكي عن مالك أنه قال: إذا ألزمه الأكثر لا تحل له إلا بعد زوج فإذا تزوجها ثانية بعد زوج ثان وطلقها واحدة طلقت ثلاثًا لجواز أن يكون طلقها في النكاح الأول اثنتين فبقيت معه على واحدة, فإذا تزوجها ثالثة بعد زوج ثان وطلقها واحدة طلقت ثلاثًا لجواز أن يكون طلقها في النكاح الأول واحدة ويسمى طلاق الدولابي. مسألة: قال: ولو قال: حنثت بالطلاق أو بالعتق وقف عن نسائه. الفصل إذا حنث بالعتق أو بالطلاق ولا يبدي ذلك بأن قال: إن كان هذا الطير غرابًا فنسائي طوالق وإن لم يكن غراًبا فعبيدي أحرار فطار الطير قبل أن يعلم ما هو. أو قال: إن كان هذا المقبل زيدًا فنسائي طوالق [48/ ب] وإن لم يكن زيدٌ فعبيدي أحرار فغاب الشخص قبل أن يعرف وقع الحنث في أحد الملكين قطعًا ولكنا نجهل عينه فنأمره بالتوقف عن وطء النساء وعن التصرف في العبيد كما لو طلق واحدة منهن ثلاثًا وأشكال يوقف عن وطء الكل لأنه قد تحقق الحنث كذلك هاهنا فإذا توقف كلفناه البيان عن الطائر لأنه قد شاهده ونأخذه بنفقتهم جميعًا فإن الامتناع من قبله حتى يتبين ولا يقرع بينهما في حياته فإن بيانه أقوى من القرعة, فإن تبين فقال: كان غرابًا طلق النساء ونظر في العبيد, فإن ادعوا أنه حنث فيهم دون النساء فالقول قوله فإن حلف رقوا, وإن نكل عن اليمين حلفوا, وعتقوا فتطلق النساء بإقرار ويعتق العبيد بنكوله ورد اليمين, وإن صدقوه على الرق, وإن قال: كان في غرابٍ عتق العبيد وينظر في النساء فإن صدقنه فهن على

الزوجية, وإن أنكرن وقلن كان غرابًا فالقول قوله فإن حلف سقط دعواهن ويكون اليمين على البت وإن نكل وحلفن وطلقن وعتق العبيد بإقراره وطلقت الزوجات بيمينهن ونكوله فإن قيل: أليس قلتم: إذا أنكح الوليان امرأةً فأقرت لأحدهما بأنه السابق وادعى الأخر عليها هل تحلف قولان فما الفرق؟ قيل لأن السيد هاهنا لو أقر للعبيد عتقوا وأقر للنساء فكان لغرض اليمين فأيده وهو أن تقبل رجوعه عن إقراره الأول وهناك لو أقرت للثاني ثانيًا لا يقبل إقرارها فلم يكن لغرض اليمين عليها فائدة. وإن لم يتبين لا يخلو إما أن يقول: لا أبين أو يقول: لست أعلم نظر, فإن قال: لا أتبين حبساه حتى يبين وإن قال: لست أعلم نظر فإن صدقه النساء والعبيد توقف حتى ينكشف الأمر وإن ادعوا [49/ أ] علمه فادعى عليه أحد الفريقين فالقول قوله فيحلف أنه لا يعلم أيش كان الطائر ولا يحبس ويوقف عن الملكين حتى يتبين أمره أو يموت, فإن نكل عن اليمين ردت عليهم وحبس لهم ورجع إلى بيانهم إن كان عندهم علم كما يجوز رد اليمين إذا نكل اليمين لهم ثم إن اتفق الفريقان على أن الحنث كان بعتق العبيد حلفوا دون النساء وعتقوا بإيمانهم ولم تحل النساء للشك في طلاقهن, وإن اختلف الفريقان فأدعى النساء الحنث بطلاقهن وادعى العبيد الحنث بالعتق حلف كل واحدٍ من الفريقين على ما ادعاه وطلق النساء بإيمانهم وعتق العبيد بإيمانهم, وإن كان مع بعضهم بينة بما كان الطائر أقامها وحكمنا بها, وقال القفال: إذا قال: لا أعلم يجعل امتناعه من الإقرار للعبيد إذا كان الدعوى منهم مثلاً إنكارًا ثم تعرض اليمين فيجعل سكوته وإعادته قول لا أدري نكولاً فيحلفون ويعتقون ثم النساء يدعين حكم عليه هكذا بإنكارٍ ثم بنكول فيحلفن ويطلقن وهذا حسنٌ ولكن ظاهر المذنب ما تقدم. فرع لو قال: كنت أعلم ولكني نسيت فانتظروني حتى أتذكر نظر. فرع آخر لو ادعى علبه أحد الفريقين فأنكر يكون ذلك إقرارًا منه للآخرين وهذا لا إشكال فيه. فرع آخر لو عين في النساء وأكذبه العبيد حلف لهم, فإن نكل عن اليمين قد بينا أنه يرد اليمين عليهم فلو لم يسألوا أحلافه هل يحلفه الحاكم عنهم أم لا؟ وجهان, أحدهما: يحلفه لأن في عتقهم حقًا لله تعالى. والثاني: لا يحلفه لأن قولهم في تصديقه مقبول بغير يمين, ولو روعي حق الله تعالى لحلف وإن صدقوه. فرع آخر إذا أراد السيد في زمانه الوقف أن يستخدم العبيد وينفق عليهم وأراد العبيد أن يكتسبوا لأنفسهم وينفقوا من كسبهم [49/ ب] فيه وجهان: أحدهما: القول قول السيد

تغليبًا لسابق الملك. والثاني: القول قولهم تغليبًا لحكم التحريم وهكذا لو كان بدل العبيد إماءً. فرع آخر لو مات قبل أن يتبين فهل يرجع إلى بيان الورثة؟ ظاهر المذهب لأنه لا يرجع لأن الشافعي قضى هاهنا بالقرعة فلو كان البيان مرجوًا من الورثة لما قضي به كما في حياته, ولأن ذلك يتضمن إسقاط الورثة بأن بينوا الطلاق في النساء وبعض الورثة لا يسقطون البعض, ولهذا لا يجوز للورثة أن يلاعنوا على نفي النسب الذي أنكره المورث, وقيل: فيه وجهان وقيل قولان, وقال القفال: فيه طريقان أحدهما: قول واحدٌ وهو الصحيح لما ذكرنا. والثاني: فيه قولان كما لو طلق إحدى امرأتيه لا بعينها فمات قبل البيان هل يرجع إلى الوارث؟ قولان: أحدهما: ما ذكرنا. والثاني: يرجع إليهم لأنهم قائمون مقامه في حقوقه وجميع أموره, فإذا قلنا: لا يرجع إليهم أو لم يكن له وارث أو كان ولو يعلم أقرعنا بينهم فإن خرجت القرعة على الطلاق لم يعمل في الطلاق لأن القرعة لا مدخل لها في الطلاق وإنما أقرعنا بينهما للعتاق, فإذا كان كذلك تعين الزوجات على الزوجية بالشك ويرثن لأنه لم يحكم بطلاقهن. قال الشافعي: والأولى أن يدعن ميراثهن, قال القفال: وهل تعاد القرعة؟ وجهان والمذهب أنه لا يعاد, وإن خرجت أولاً القرعة على العبيد عتقوا والنساء على أصل الزوجية لا بالقرعة, وهل يرثنه أم لا؟ ينظر فإن كن ادعين علمه بأن الطير كان غرابًا لم يرثن لأنهن اعترفن بأنهن [50/ أ] طلقن ثلاثًا ثلاثًا, وإن لم يكن منهم دعوى ورثن والورع أن لا يرثن كيلا يكون الحنث فيهن فإن كان بعضهن ادعين ذلك دون البعض ورث من لم يدع ذلك من ادعاه, وقال أبو ثور: إذا وقعت القرعة على النساء يطلقن كما يعتق العبيد بها وهذا غلط لأنه لو طلق واحدةً من نسائه لا بعينها لم يقرع بينهن بخلاف ما لو أعتق واحدًا من عبيده لا بعينه وهذا لأن العتق محله الملك, وفي الملك تدخل القرعة في النكاح فكذلك في الطلاق الذي محله فإن قيل: كيف تصح القرعة؟ في شيئين, أحدهما: لا مدخل لها فيه قلنا: لا يمتنع مثل ذلك كما يقبل شاهد وامرأتان في السرقة التي يجب فيها القطع فيغرم بها, وإن كان لا يقطع بها كذلك هاهنا تدخل القرعة فتعمل في الرق والحرية, وإن كان لا مدخل لها في الطلاق. فرع آخر إذا خرجت القرعة على النساء فلم يطلقن هل يزول بهذه القرعة الشك عن رق العبيد أم لا؟ ظاهر المذهب أنه زال ذلك عنهم لأن القرعة إن لم تعمل في الطلاق الزوجات عملت في نفي الحرية عن العبيد, ومن أصحابنا من قال: الشك بحاله في رق العبيد لأن القرعة إذا لم تعمل فيها خرجت عليه لم يعمل في غيره فيكون العبيد على أصل

الملك بالشك ويجوز بيعهم ويكون مع ذلك مشكوك في لعانه وهو اختيار القاضي الطبري, وقال ابن أبي هريرة: هل يتصرف في العبيد على أصل الملك أو يتصرف فيهم وهو شاك في ملكهم وجهان, وفائدة الوجهين, أنا إذا قلنا: يتعين على أصل الملك فله بيعهم ولا يكره له ذلك [50/ ب] وإذا قلنا: يبقى على الإشكال يكره له بيعهم ونقول لهم: الورع أن لا تبيعوهم فإن باعوهم صح البيع وكذلك يكره لهم الاستمتاع إن كنّ إماءً ولا نحرمه لأن الرق مشكوك فيع فإن قيل: أليس منعتم الموروث من التصرف لأجل الشك؟ فهلا منعتم الوارث من التصرف آنفًا؟ قلنا: الفرق في حق المورث تيقنا الحنث في أحد ملكيه, إما النساء, وإما العبيد فأوقفنا عنهما, وأما الورثة إنما يملكون العبيد دون النساء فلم نتيقن الحنث في حقهم وهذا كما لو قال رجل: إن كان هذا الطائر غرابًا فنساؤه طوالق وقال آخر: إن لم يكن غرابًا فعبيدي أحرار ولم يعلم لا يوقف على واحدٍ منهما ملكه لأنه لا يتيقن الحنث في حقه. فرع آخر لو قال: إن كان هذا الطائر غرابًا فنسائي طوالق, وإن كان حمامًا فعبيدي أحرار ولم يعلم ذلك لم يحنث هاهنا لجواز أن يكون غير غراب وغير حمام وهو من جملة الشك في الطلاق والعتاق. فرع آخر لو رأى رجلان طائرًا فقال أحدهما: إن كان هذا غرابًا فامرأتي طالق وقال الآخر: إن لم يكن غرابًا فامرأتي طالق فطار ولم يعلم قد ذكرنا أنه لا يحكم على واحد منهما بالطلاق لأن الأصل لكل واحد منهما بقاء النكاح وهذا كما أنه يجوز أن يجتهد في إناءين أحدهما نجس ويتوضأ كل واحدٍ منهما ويصلي يجوز, ولا يجوز أن يتوضأ بهما رجل واحد. فرع آخر لو قال: هذا في اليمين بحرية عبدين بأن قال أحدهما: إن كان غرابًا فعبدي حر, وقال الآخر: إن لم يكن غرابًا فعبدي حر, وطار الطائر لم يعتق عبد واحد منهما لأن كل واحدٍ منهما شاك في وقوع الحرية على عبده, فإن بادل كل واحدٍ منهما عبده بعبد صاحبه صح الملك ونظر [51/ أ] فإن لم يكن أحدهما كذب صاحبه لم يعتق عليه, وإن قال: كل واحدٍ منهما لصاحبه بل كلن ما قلت وخالفه عتق على كل واحدٍ منهما ما يملكه بإقراره السابق, وإن لم يتبادلا ولكن اشترى أحدهما عبد صاحبه, قال صاحب "الإفصاح": يحتمل أن يقال: يقف عنهما لأن فيهما حرًا لا محالة ولم يذكر القفال غيره ويحتمل أن يقال: له بيعهما لأن بيع كل واحد منهما كان جائزًا فلا يحرم بالشك.

وقال أبو حامد: عتق ما اشتراه لأنه لما أمسك عبد نفسه كان ذلك إقرارًا بأن عبد صاحبه هو الذي عتق فإذا صار الحق له بعد ذلك عتق, كما لو قال: عبد فلان حر ثم ملك وفي هذا نظر لأنه يحتمل أنه في إمساك عبده على الرق خاطئًا وإنه هو الحر. فرع آخر لو كان له امرأتان فقال: إن كان هذا حمامًا فزينب طالق, وإن لم يكن حمامًا فعمرة طالق وخفي الأمر فإنه يحال بينه وبينهما حتى يتبين. ولو قال: إن كان حمامًا فزينب طالق, وإن كان غرابًا فعمرة طالق وخفي الأمر لا يلزمه شيء لأنه يحتمل أنه كان غير الحمام والغراب. مسألة: قال: ولو قال: إحداكما طالقٌ ثلاثًا منع منهما. الفصل إذا طلق إحدى امرأتيه بعينها ثم أشكلت مثل 0 أن يرى إحدى امرأتيه منطلقة فقال لها أنت طالق وأشكلت وأنكرت كل واحدة منهما أن تكون هي المنطلقة أو عينها ثم نسي, أو قال: إحداكما طالق وهو يريد إحداهما بعينها ثم نسي أو لم ينس يكون إقرارًا وإخبارًا عن التي طلقها وليس بتعين طلاق بالاختيار والشهوة ثم إذا بين لا يخلو إما أن يبين قولاً أو فعلاً فإن بين قولاً فقال: هذه التي طلقتها طلقت هذه والثانية زوجته, وإن بين بالفعل بأن وطئ إحداهما لم يكن ذلك دليلاً [51/ ب] على أنها الزوجة والأخرى المطلقة والفرق بين البيان بالفعل لا يقبل هو أن الناس أجمعوا على أنه لو وطئهما جميعًا لم تطلق كل واحدة منهما, ولو قال بلسانه: طلقت هذه لا بل هذه طلقتا جميعًا فدل الفرق. فرع آخر لو بين بالقول وقال: هذه التي لم أطلقها فهذه زوجته والأخرى مطلقة. فرع آخر لو قال: هذه التي طلقتها لا بل هذه طلقتا معًا لأنه أقر بطلاق واحدة ورجع عنها فأقر بطلاق الأخرى وقبل ما أقربه ثانيًا ولم يقبل رجوعه عن طلاق الأولى. فرع آخر لو كانت الزوجات ثلاثًا فقال: طلقت هذه لا بل هذه طلقن جميعًا. فرع آخر لو قال: طلقت هذه بل هذه طلقت الأولى وأبهم الطلاق في الثانية والثالثة فنكلفه البيان.

فرع آخر قال ابن سريج: ولو قال: طلقت هذه أو هذه فقد أبهم الطلاق في الأولى والثانية وطلق الثالثة لأن معنى قوله: وهذه أي: وطلقت هذه. وقال أبو حامد: ظاهر هذا الكلام غير ما قال أبهم الطلاق بين الأولى وبين الثانية والثالثة لأن قوله: وهذا معناه طلقت هذه أو هاتين فكأنه شك في تطليق الأولى أو تطليق الثانية والثالثة وهذا أولى لأن على قول ابن سريج يحتاج أن يحتاج أن يضمر وهذه طلقتها وعلى هذا التقدير لا يحتاج إلى إضمار شيء. فرع آخر لو كن أربعًا فقال: طلقت هذه أو هذه فقد أبهم الطلاق في الأولى وفي الثانية وفي الثالثة وفي الرابعة فنكلفه البيان. فرع آخر لو قال: هذه وهذه أو هذه وهذه ولم يقل: لا بل قلنا: حصل الطلاق في الأوليين أو الأخريين فإن بين بعده إحدى الأولتين طلقتا دون الأخرتين, وإن بين إحدى الأخرتين طلقتا [52/ أ] دون الأولتين. فرع آخر لو قال: هذه أو هذه وهذه أو هذه قلنا: يحتمل أنه تبين إحدى الأخرتين فعليه أن يبين واحدة منن الأولتين وواحدة من الأخرتين ويحتمل أنه جعلهن أقسامًا الأولى قسم والثانية مع الثالثة قسم والرابعة قسم فإن بين الأولى أو الرابعة لم تطلق غير التي بين وأن بين إحدى الوسطتين طلقتا معًا ذكره القفال. فرع آخر قال القفال: لو قال: هذه أو هذه وهذه فكن ثلاثًا وأشار إلى ثلاث من جملة الأربع احتمل أنه أراد الأولى وحدها أو الأخرتين وحدهما فيقال: له بين ماذا أردت ويحتمل أنه أراد الأخيرة بكل حال مع إحدى الأولتين فيقال له: بين إحدى الأولتين. فرع آخر إذا وطئ إحداهما لا يكون دليلاً على أنها الزوجة على ما ذكرنا ثم نقول له: عليك البيان قولاً فإن بين في التي وطئها فلا كلام وطئ زوجته, وإن تبين في الأخرى فالزوجية في الأخرى والمطلقة موطوءة بشبهةٍ فلها مهر مثلها, وقال القفال: فإن كان الطلاق ثلاثًا جددناه إن لم يدع الشبهة ويوجب المهر بكونها معذورة بالجهل. فرع آخر إذا بين كان الطلاق من وقت الإيقاع دون البيان, والعدة من وقت الإيقاع بلا خلاف بين أصحابنا بالعراق لأن البيان هاهنا إخبار عن طلاق وقع ويعين ولهذا لا نقول له:

في الأول بين المطلقة بل نقول عين المطلقة. وقال القفال: فيه قولان, أحدهما: وهو الأظهر هذا. والثاني: إنه من يوم البيان ثم قال: وهذا لا يصح وإنما يخرج من قول الشافعي في النكاح الفاسد إذا فرق فيه بين الزوجين هل تكون العدة من آخر الوطء أو من يوم التفريق؟ قولان والفرق ظاهر وهو أن هناك كان يستفرشها على حكم الزوجية, وإن لم يطأها زمانًا وهاهنا قد خلينا بينهما فلم يكن مستفرشًا لها. [52/ ب]. فرع آخر إذا بين الطلاق في إحداهما فللأخرى عليه اليمين إن ادعت أن الطلاق كان لها, فإن نكل حلفت وطلقت أيضًا. فرع آخر لو أرسل ولم يعين واحدةً منهما مثل أن يقول: إحداكما طالق ولم يقصد بقلبه إحداهما بعينها فإنا نكلفه البيان ونطالبه ونشدد عليه هاهنا لأنه موكول إلى اختياره وشهوته ونعذره إن امتنع حتى لا تكون غير امرأته محبوسةً بسببه ويلزمه نفقتها فإن قال: عينت في هذه طلقت وكانت الأخرى زوجةً ولا يسمع دعوى الأخرى عليه لأنه اختيار شهوةٍ. وقال مالك: يقع الطلاق عليهما لأن إرسال الطلاق عليهما يجعل لكل واحدة منهما فيه خطأ. قال: ولو قال: إحداكما طالق ثلاثًا ثلاثًا وهذا غلط لأنه أضاف الطلاق إلى واحدة فلا يقع على اثنتين كما لو عين واحدةً. وقال داود: لا طلاق على واحدة منهما كما لو قال: لأحد هذين الرجلين علي درهم لا يلزم شيء ٌ وهذا غلط لأنه اجتمع الحظر والإباحة وأمكن تميزها فوجب التمييز. فرع آخر لو قال: في هذه المسألة عينت في هذه لا بل هذه لم تطلق الأخرى لأنه الحق الطلاق بواحدة منهما فإذا عينه في إحداهما فقد اختار وقوعه عليها ولا يصح الرجوع فيه فلم يكن لقوله: لا بل هذه معنى وليس كذلك إذا كانت معينة وأشكلت فإن قوله: هذه إخبار عن المطلقة, فإذا قال: لا بل هذه كان رجوعًا عن الإقرار الأول إلى الثاني فيلزمهما كما لو قال: لفلان علي درهم لا بل دينار يلزمه الدرهم والدينار. وقال في "الحاوي": فيه وجهان: أحدهما: هذا. والثاني: تطلقان معًا كما في المسألة قبلها وهذا على القول الذي يقول: البيان في المبهم يوجب وقوع الطلاق باللفظ دون [53/ أ] التعيين والوجه الأول على القول الذي يقول: لا يقع باللفظ بل بالتعيين وهذا غريب.

فرع آخر لو قال عند التعيين: هذه وهذه أو هذه وهذه وهن أربع فالطلاق يحصل في الأول لما ذكرنا ولو قال: هذه أو هذه قلنا: ما زدتنا بيانًا, وإذا قال: هذه أو هذه وكن ثلاثًا قلنا: تعين في إحدى الأولتين وخرجت الثالثة عن أن تعين فيها فيقال له: عين في إحدى الأولتين. فرع آخر قال الشافعي: لو قال هاهنا: هذه ثم قال: أخطأت بل هذه طلقتا معًا ومعناه أنه إذا قال: بل هذه يكون منه استئناف طلاقها فيطلقان معًا. فرع آخر لو وطئ واحدة منهما هل يكون اختيارًا لها وطلاقًا للأخرى؟ قال المزني وأبو إسحاق وعامة أصحابنا وبه قال أبو حنيفة: يكون طلاقًا للأخرى واختيارًا لهذه لهذه كما لو وطئ البائع الجارية المبيعة في مدة الخيار كان اختيارًا لفسخ البيع وهذا لأنه اختار شهوته والظن بالمسلم أنه لا يترك زوجته ويطأ أجنبية مطلقة محرمة, وقال بعض أصحابنا: لا يكون اختيارًا لها لأن الطلاق لا يقع إلا بالقول كما في القسم الأول, وحكاه أبو حامد عن ابن أبي هريرة ولا يصح عنه وإنما الصحيح عنه القول الأول. وقال القفال: فيه قولان وهو غريب وظاهر مذهب الشافعي الثاني لأن الشافعي قال: منع من وطئها, فلو كان الوطء اختيارًا لم يمنع. وقال أحمد: الوطء لا يكون تعيينًا ولا القول وإنما يعين بالقرعة, وروي ذلك عن علي وابن عباس رضي الله عنهم ولأن الطلاق وقع على إحداهما فليس له تعيينه باختياره كما لو على واحدة منهما بعينها ثم نسي. وحكي عن أحمد القرعة في هذا الأصل أيضًا وهذا غلط لأن الزوج يملك إيقاع الطلاق وتعيينه [53/ ب] ابتداءً فإذا أوقعه ولم يعينه كان له تعينه لأنه استيفاء ما يملكه. ويخالف الأصل الذي قاسوا عليه لأنه استوفي هناك في ملكه من الطلاق والتعيين فليس له الرفع من واحدة إلى غيرها. فرع آخر إذا قلنا: الوطء يكون بيانًا قال أبو إسحاق: كان الوطء مباحًا لأنه لا يحرم ما يحصل به البيان وعلى قول غيره يحرم الوطء قبل البيان وهو ظاهر كلام الشافعي على ما ذكرنا وهذا لأن إحداهما مطلقة فيلزمه التوقف عنها حتى يعين الطلاق فيمن شاء منهما.

فرع آخر إذا لم يجعل الوطء بيانًا أخذ بتعيينه قولاً وهل يلزمه تعيينه في غير الموطوءة أو يكون على خياره في تعيينه في أيهما شاء؟ وجهان, أحدهما: يلزمه تعيينه بالقول في غير الموطوءة ليكون الوطء لزوجته. والثاني: يكون خياره في تعيينه في أيتهما شاء كما كان مخيرًا لو لم يطأ. فرع آخر إذا قلنا: يكون على خياره فعينه في الموطوءة تعين فيها وهل يكون الطلاق واقعًا بهذا التعيين أو يكون واقعًا باللفظ المتقدم؟ وجهان قال أبو إسحاق: يقع في وقت التعيين وبه قال أبو حنيفة لأنه يظهر حكمه عنده, وقال ابن أبي هريرة: باللفظ المتقدم والوطء صادفها وهي غير زوجةٍ غير أنه لا حد عليه بحال وهذا لأن الطلاق قد وقع بدليل أن نأمره بالتوقف عنهما وحرمت عليه إحداهما لا بعينها فكيف يكون الطلاق من حين التعيين ويكون التحريم سابقًا؟ ومن أصحابنا من حكي عن ابن أبي هريرة ما ذكرنا عن أبي إسحاق, وعن أبي إسحاق ما ذكرنا عن ابن أبي هريرة والصحيح ما ذكرنا. فرع آخر إذا قلنا: الطلاق يقع بالتعيين فالعدة من وقت التعيين, وبه قال أبو حنيفة. وإذا قلنا: الطلاق يقع باللفظ المتقدم ففي العدة وجهان, أحدهما: من وقت التعيين اعتبارًا بالتغليظ [54/ أ] في الأمرين. والثاني: من وقت الفظ المتقدم, وقال القفال: فيه قولان ولعله أراد تخريجًا لأن النص غير ظاهر على القولين, وقيل: المذهب أن الطلاق باللفظ والعدة من وقت التعيين إلى اختياره وشهوته كانت كل واحدة منهما على حكم الزوجية حتى يتبين وهو كما يقول في المنكوحة نكاحًا فاسدًا إذا فرق القاضي بينهما وجبت العدة من حين التفريق بينهما, وإن كان التحريم سابقًا كذلك هاهنا. فرع آخر قال القفال: إذا عين الطلاق في الموطوءة هل يلزمه المهر لها؟ وجهان بناءً على أن الطلاق من وقت الإيقاع أو من حين التعيين وظاهر المذهب أنه يلزمه المهر. فرع آخر لو كان نكاح إحداها فاسدًا فإن كان الطلاق مرسلاً غير معين وقع على زوجته ولا يرفع إلى خياره لأنه لا يقع الطلاق إلا عليها, وإن كان معينًا وقال: أردت المنكوحة نكاحًا فاسدًا قبل منه. وكذلك لو اتفقت الزوجتان في الاسم والنسب ونكاح إحداهما فاسد فذكرهما باسمهما ونسبها اللذين يشتركان فيه وقال: أردت به المنكوحة نكاحًا فاسدًا قبل منه. وقال أبو حنيفة: إن قال: إحداكما طالق فيلزمه, وإن اشتركا في الاسم والنسب لم

يقبل منه, ووافقنا في العبدين إذا اشتركا في الاسم وشراء أحدهما فاسد وشراء الآخر صحيح, وقال: يا فلان أنت حر وأراد المشترى فاسدًا قبل منه فنقيس عليه. فرع آخر لو شك في طلاق زوجته فأقام معها وأصابهما فماتت وأخذ ميراثها ثم تيقن ذلك الطلاق فيها أخذ منه مهر مثلها للإصابة ورد جميع ما أخذه من ميراثها, ولو مات هو وأخذت ميراثها من تركته ثم أقرت بأنها علمت أنه قد طلقها ثلاثًا ولا تصدق على أن لها مهرًا بالإصابة سواءً ادعت الجهالة [54/ ب] بتحريم الأصل أو لم تدع ذلك, إذا ادعت انه غصبها على نفسها أو لا اللهم إلا أن تقر لها الورثة بما ذكرت فترد الميراث ولها مهر مثلها بالإصابة, ولو قال: لا أدري أطلقت نسائي أو واحدة منهن أم لا ثم مات ورثنه معًا ولا يمنعن من ميراثه بالشك في طلاقهن. فرع آخر لو قال: إذا جاء غد فأنت طالق أو عبدي حرٌ بعد غدٍ لم تطلق إذا جاء غدٍ لأنه أوقع الطلاق أو العتق بعد غدٍ ولم يعين, فإذا جاء بعد كان الخيار إليه في تعين الطلاق أو العتق. مسألة: قال: "فإن ماتتا أو إحداهما قبل أن يقر وقفنا له من كل واحدةٍ منهما ميراث زوج". الفصل إذا ماتت إحداهما فيما ذكرنا من الصورة لم يتعين الطلاق في الأخرى, وقال أبو حنيفة: يتعين الطلاق في الأخرى لأنه لا يجوز أن يطلق بعد موتها وهذا غلط لأنه يملك تعيين الطلاق قبل موتها فكذلك بعد موتها كما لو طلقها بعينها ثم أشكلت, فإذا تقرر هذا ذكر الشافعي رحمة الله تعالى عليه في الميراث إذا حصل الموت قبل البيان ثلاث مسائل إحداها: إذا ماتتا فلا فرق بين أن تموتا معًا أو تموت واحدة بعد واحدة فيوقف من تركة كل واحدةٍ منهما ميراث زوج, وقلنا له: بين ثن ينظر فإن كان الطلاق معينًا فالبيان أخبارٌ فإن قال: هذه المطلقة دون هذه نظر فإن صدقه الوارث في هذا ورثها وبانت الثانية, وإن كذبه الوارث وقال: بل طلقت الأخرى فالقول قوله مع يمينه, وإن كان الطلاق مبهمًا فمتى عينه في واحدة طلقت وورث الأخرى ولا اعتراض للوارث هاهنا لأن بيانه اختيار شهوةٍ فلا اعتراض لهم عليه لما صح إيقاعه بعد الموت ولا إشكال أنه لا يرث التي عين الطلاق فيها سواء قلنا: الطلاق من وقت الإيقاع أو من [55/ أ] وقت البيان لأن من قال: إنه من وقت البيان قال: تستند الفرقة إلى وقت الإيقاع, وإن لم يوجد حقيقته إلا بعد الموت وهذا هو الدليل على ضعف هذا القول

فإن الصحيح أنه قولٌ واحدٌ من وقت الإيقاع، وقال أبو حنيفة: رحمه الله: إذا ماتتا بطل التعيين وله نصف ميراث زوج من تركة كل واحدة منهما، وإن ماتت إحداهما تعين الطلاق في الحية على ما ذكرنا. المسألة الثانية: إذا مات أولاً وبقيتا وقفنا من تركته ميراث زوجة ولكنا لا نقسمه بينهما لأن المستحق واحدة منهما، وإن لم يكن له وارث وقف حتى يصطلحا، وإن كان له وارث، وقال: لا أبين فكذلك نفقه حتى يصطلحا، وإن قال وارثه: أنا أبين الزوجة من غيرها هل يرجع في البيان إليه؟ الظاهر أنها على قولين وقيل: وجهان، فإذا قلنا: يرجع إليه قام مقام مورثه وإذا قلنا: لا يرجع إليه وقف حتى يصطلحا واختلف أصحابنا في موضع القولين فقال أبو إسحاق: سواء كان الطلاق معينًا أو مبهمًا فالكل على قولين. وقال بعض أصحابنا: القولان إذا كان الطلاق معينًا فإن كان مبهمًا فلا بيان للوارث لأنه بيان اختيار وشهوٍة وهذا أصح، وقال القفال: إذا مات هو وهما حيان فالوارث لا يقوم مقامه قولًا واحدًا لأنه لا غرض له في ذلك وإنما القولان إذا ماتتا أو ماتت إحداهما قبله فيكون له في البيان غرض صحيح. ولو قال لعبديه: أحدكما حرٌ ومات قبل التعيين والبيان فهل يقوم الوارث مقامه؟ قولان وإن كانا حيين لأن له غرضًا صحيحًا في تعيين أحد العبدين ما ليس في تعيين إحدى الزوجتين لتفاوت العبدين في القيمة والأغراض. المسألة الثالثة: إذا ماتت واحدٌ ثم مات هو ثم ماتت الثانية والمسألة إذا كان الطلاق معينًا ثلاثًا فيرجع إلى الوارث [55/ ب] فإن قال: طلق التي ماتت أولًا دون التي بقيت ثم ماتت بعد موته فقد آثر على نفسه لأنه يقول: ما ورثها والدي بل ورثته الثانية، وإن قال: طلق التي ماتت آخرًا دون التي ماتت أولًا فقد أقر بأن والده ورث الأولى ولم ترثه الأخرى فإن صدقه الوارث فيما يقول فهو على ما ذكر، وإن لم يصدقه الوارث هل يقبل فيما أخبر؟ قولان منصوصان: أحدهما: يقبل قوله كما في القسم الأول والثاني: لا يقبل وهو الأصح لأنه يريد إحراز المال من الميته الأولى وحرمان الثانية من الميراث فهو متهم فيه. فإذا قلنا: إنه يقبل قوله يحلف على العلم أنه ما طلق الأولى ويحلف على البت أنه طلق الأخرى ويحتاج إلى يمينين إذا كانت على فعل نفسه كانت على القطع نفيًا كانت أو إثباتًا، وإذا كانت على فعل غيره فإن كانت نفيًا فهي على العلم، وإن كانت إثباتًا فهي على البت والقطع، فإذا خلف كان لوالده الميراث من الأولى ولا ميراث للثانية من تركته، وإذا قلنا: لا يقبل قوله وقف له من الأولى ميراث زوج ووقف من تركته للثانية ميراث زوجة حتى يصطلحوا وهذا الحكم لو ماتت إحداهما ثم مات الزوج وبقيت الأخرى حيًة ولم تمت على ما ذكرنا حرفًا بحرفٍ. فرع لو كان له أربع زوجات فقال: زوجتي طالق وقع على واحدٍة منهن وكان عليه

باب ما يهدم الزوج من الطلاق

البيان، وحكي عن أحمد رحمه الله أنه قال: تطلق الأربعة وحكاه أصحابنا عن ابن عباس رضي الله عنه واحتجوا بأن لفظ الواحد في الإثبات قد يعبر به عن الجنس قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ} [البقرة: 187]. وأراد ليالي الصيام وتقول العرب: درهمي لك وعبدي لك ويريدون [56/ أ] كل الدراهم والعبيد وهذا غلطٌ لأنه أوقع الطلاق على واحدة فلا يقع على الجماعة كما لو قال: إحدى نسائي طوالق، وأما ما ذكروه لا يصح لا يستعمل ذلك مجازًا والكلام يحمل على الحقيقة مهما أمكن. باب ما يهدم الزوج من الطلاق مسألة: قالَ الشافعيُّ رحمةُ اللهِ تعالى عليهِ: "لمّا كانتْ الطلقةُ الثالثةُ توجبُ التحريمَ كانتْ إصابةُ زوجةِ غيرهِ توجبُ التحليلَ". الفصل إذا طلق امرأته طلقًة أو طلقتين وانقضت عدتها ثم تزوجت بزوج آخر وأصابها ثم طلقها ثم رجعت إلى الزوج الأول بنكاح جديد كانت عنده على ما بقى من الطلاق وبه قال عمر وعلي وأبو هريرة ومالك والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد وزفر ومحمد، وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: تعود إلى الزوج الأول بالطلاق الثلاث وقد هدم الزوج الثاني تلك الطلقة أو الطلقتين كما يهدم الطلاق الثلاث، واحتج الشافعي بأن هذه الإصابة لا تفتقر إليها الإباحية فلا تؤثر في الطلاق كإصابة المولي والوطء بالشبهة وبهذا فرق إذا كان قد طلقها ثلاثًا لأنها تفتقر إلى الإصابة فأثرت تلك الإصابة في الطلاق، وقد روي أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من تزوج امرأًة ثم طلقها فتزوجت فطلقها زوجها ثم نكحت الآخر رجعت على ما بقى من الطلاق". فرع قال ابن سريج: لو قال: لها متى أمرتك بأمر فخالفتيني فأنت طالق ثم قال: لا تكلمي أباك وأمك فخالفت وكلمتهما لم تطلق لأنها خالفت النهي لا الأمر وقال والدي رحمه الله: يحتمل أن يقال: تطلق لأن النهي عن الخروج من ذلك الموضع أمرٌ [56/ ب] بضده وهذا أقيس عندي لجريان العادة تسميته أمرًا. فرع آخر قال في "الإملاء" لو قال لها: متى نهيتني عن منفعة أمي فأنت طالق فقالت له: لا تعطِ من مالي شيئًا لم يحنث لأنه لا يجوز أن يعطي أمه مالها، وإذا أعطاها لا يجوز أن تنتفع به. فرع آخر لو قال لها: أنت طالق إن كلمت زيدًا وعمرًا وبكرًا مع خالدٍ، فإن أراد في بكر مع

خالد استئناف كلام كان شرط الطلاق كلام زيدٍ وعمرو دون بكر وخالد، فإذا كلمت زيدًا وعمرًا معًا أو على الانفراد طلقت، وإن كلمت أحدهما لم تطلق، وإن أراد بقوله: وبكرًا مع خالدٍ الشرط صار شرط الطلاق كلامهم كلهم فإن كلمتهم إلا واحدًا منهم لم تطلق لأنه جعل شرط الطلاق اجتماعهما في الكلام، وإن جمعت بين بكر وخالد في الكلام وفرقت بين زيد وعمرو في الكلام طلقت لأنه لم يجعل الجمع في زيد وعمرو شرطًا. وإن قال ذلك من غير إرادة حمل ذكر بكر وخالد على الاستئناف دون الشرط لأن اختلافه في حكم الإعراب وخالف بينهما في حكم الشرط وهو نصب الأول ورفع الثاني. وقال بعض أصحابنا: قوله: وفلان مع فلان يقتضي أن يكون كلاهما لفلان وفلان في الحال كون فلان مع فلان وهذا مثل قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} [آل عمران: 154]. وكانت هذه الجملة حالًا في الأولى كذلك هاهنا وهذا ليس بمشهور. فرع آخر لو صرح وقال: إن كلمت هذين في حال كون فلان مع فلان أو أراد هذا بما تقدم من اللفظ نظر فإن كلمتهما وفلان لم يكن مع فلان لم تطلق، وإن كلمتهما وكان حين الكلام [57/ أ] فلان مع فلان وقع الطلاق. فرع آخر لو قال: إن كلمت زيدًا وعمرًا فأنت طالق فقد علق الطلاق بكلامهما، فإن كلمتهما وقع الطلاق، وإن كلمت أحدهما لم يقع. ولو قال: إن كلمت زيدًا أو عمرًا فأنت طالق فكلمت واحدًا منهما طلقت لأنه علق الطلاق بكلام كل واحد منهما. فرع آخر لو قال: إن كلمت زيدًا أو عمرًا أو بكرًا فأنت طالق فكلمت أحدهم طلقت واحدةً على ما ذكرنا، وإن كلمتهم قال ابن سريج: تطلق ثلاثًا لأن كلام كل واحد منهم شرط يتعلق به الجزاء إذا انفرد فوجب أن يتعلق به الجزاء إذا اجتمع. وقال صاحب "الحاوي": عندي أنها لا تطلق إلا واحدًة لأن الجزاء واحد علق بأحد ثلاثة شروط فوجب أن لا يتعلق بها إذا اجتمعت بها الأجزاء واحدة. ولكن لو قال: إن كلمت زيدًا فأنت طالق، وإن كلمت عمرًا فأنت طالق، وإن كلمت بكرًا فأنت طالق ثلاثًا لأنها ثلاثة شروط علق بكل شرط منهما جزاءً منفردًا.

فرع آخر لو قال: أنت طالق لا كلمت زيدًا أو عمرًا وخالدًا فكلمتهم طلقت، وإن كلمت بعضهم لم تطلق. ولو قال: أنت طالق لا كلمت زيدًا ولا كلمت عمرًا ولا خالدًا، فإن كلمت واحدًا منهم طلقت. فرع آخر لو قال: لامرأتيه إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما طالقان فدخلت كل واحدة منهما كل واحدة من الدارين طلقتا وإن دخلت إحداهما إحدى الدارين ودخلت الأخرى الدار الأخرى فيه وجهان، أحدهما: طلقتا لأن دخول الدارين موجود منهما. والثاني: وهو الأصح لا تطلقان حتى تدخل كل واحدة منهما كل واحدة من الدارين لأنه لو أفرد طلاق كل واحدة منهما الدخول بدخول الدارين لم تطلق إلا بدخولهما معًا. [57/ ب] وكذلك لو قال: إن ركبتما هاتين الدابتين فأنتما طالقان فركبت كل واحدة منهما كل واحدة من الدابتين، أو قال: إن أكلتما هذين الرغيفين فأنتما طالقان فأكلت كل واحدة أحد الرغيفين. فرع آخر لو قال: إن دخلت هذه الدار ودخلت هذه الأخرى فأنت طالق لم تطلق إلا بدخولهما جميعًا لأنه علق الطلاق بدخولهما. ولو قال: أنت طالق إن دخلت هذه الدار، وإن دخلت الأخرى فأيهما دخل وقع الطلاق. وكذلك لو قال: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق، وإن دخلت الأخرى طلقت بدخول كل واحدة منهما ويفارق الأولى لأنه جعل الطلاق جوابًا لدخولهما. فرع آخر قال ابن سريج: لو قال لعبده: إن لم أبعك اليوم فامرأتي طالق ثم أعتقه في الحال طلقت لأن معناه إن فاتني بيعه اليوم وبالعتق فاته البيع، ولو دبره لم تطلق لأن التدبير لا يمنعه من البيع ثم ينظر فإن باعه لم تطلق وإن لم يبعه طلقت. فرع آخر لو كاتبه في الحال لم تطلق أيضًا في الحال لأنه يجوز أن ينفسخ فيجوز بيعه. وإذا قلنا: إذا أعتقه طلقت في الحال في زمان طلاقها وجهان، أحدهما: طلقت عقيب عتقه. والثاني: طلقت في آخر اليوم إذا ضاق عن وقت البيع لو كان بيعه ممكنًا. فرع آخر لو قال: إن كنت أملك أكثر من مائة فأنت طالق وكان معه خمسون درهمًا فإن قال معناه لا أملك زيادًة على مائة لم يحنث لأنه صدق لأن الذي معه خمسون لا يملك

أكثر من هذه ولا أكثر من ألف، وإن قال: أردت أملك مائة ولا أملك زيادة عليها حنث، وإن طلق ولم يكن له نيةٌ فيه وجهان، أحدهما: يحنث [58/ أ] لأن معناه إثبات مائٍة معه ونفي ما زاد عليها، وعلى هذا لو ملك أكثر ولو قيراطًا طلقت. فرع آخر لو قال: إن كنت أملك إلا مائة فأنت طالق، وكان يملك أقل من مائة يقع طلاقه، ومن أصحابنا من حكي فيه وجهين والأول أصح لأن إلا هاهنا مستثناة من نفيٍ فوجب أن يكون إثباتًا. فرع آخر لو قال: أنت طالق اليوم إذا جاء غدٍ فإن جعل غدًا شرطًا في وقوع الطلاق عليها اليوم لم تطلق اليوم لأن الشرط لم يوجد. وإذا جاء غدٍ لم تطلق أيضًا لأن الطلاق يقع عقيب وجود الشرط فلا تطلق بوجود الشرط قبل زمان وجوده ويخالف هذا إذا قال: أنت طالقٌ قبل وفاتي بشهر لأنه ما جعل موته شرطًا به يقع الطلاق، وإنما رتب الطلاق على هذا فمثاله هاهنا أن لو قال: أنت طالق اليوم إذا جاء غدٍ وأنا صحيحٌ أو أنت من أهلي فإذا جاء غدٍ طلقت على ما رتب لأنه ما جعل غدًا شرطًا، وإنما رتب وقوعه على هذا الوجه. فرع آخر. لو قال: أنت طالق اليوم غدًا فإن قال: معناه تطلقين اليوم فإن من طلق اليوم فهي طالقٌ غدًا طلقت اليوم طلقة ولم تطلق غدًا شيئًا. وإن قال: معناه تطلقين اليوم وتطلقين غدًا طلقت اليوم طلقًة وغدًا طلقًة. وإن قال: معناه تطلقين اليوم أو غدًا طلقت مكانهما لأنه جعل كل واحد من اليومين محلًا لوقوع الطلاق مطلقة. وإن قال: معناه اليوم تطلقين نصف طلقٍة وغدًا نصف طلقة أخرى طلقت اليوم طلقٍة وغدًا طلقة أخرى. وإن قال: معناه نصف طلقٍة اليوم والنصف الباقي منها غدًا يقع في اليوم طلقة تكميلًا للطلقة الواقعة فيه وهل تطلق من غدٍ؟ وجهان [58/ ب] ذكرهما ابن سريج، أحدهما: لا تطلق لأن البعض الذي أوقعه في غده قد تكمل في يومه. والثاني: تطلق لأن البعض الذي في يومه يكمل في الشرع لا بتقديم ما أخره فوجب أن يكون الذي في غده واقعًا بالإرادة لأن الأصل لا طلاق. فرع آخر لو قال: طلقت هذه أو هذه وهذه، قال ابن سريج: تطلق الثانية وإحدى الأولتين فيلومه تعيينها لأنه شك فيهما وعطف الثالثة على المطلقة.

وقال أبو حامد: ينبغي أن تكون الثالثة أيضًا مشكوكًا في طلاقها لأنه عطفها على الشك ومن اختار قول ابن سريج أجاب عن هذا بأنه عدل عن لفظ الشك إلى واو العطف فينبغي أن ر يشاركهما في الشك ويكون معطوفًا على الجملة. فرع آخر قال ابن الحداد: لو تزوج رجل بجارية والده عند عدم الطول وخوف العنت وصح النكاح ثم قال لها: إذا مات أبي فأنت طالقٌ ثم مات أبوه فيه وجهان، قال ابن سريج وجماعة لا يقع الطلاق وينفسج النكاح بالملك لأنه التقى الفسخ والطلاق فلم يقع الطلاق. وقال المزني: في "المنثور": لو قال لامرأته الأمة: إذا ملكتك فأنت طالقٌ في حال ملكي فملكها انفسخ النكاح ولا يقع الطلاق وهو اختيار القاضي الطبري. وقال أبو حامد: عندي يقع الطلاق لأن صفة الطلاق موته والطلاق يقع عقيب الصفة، وأما الفسخ فلا يقع عقيب الملك فلا يلتقي زمان الطلاق مع زمان الفسخ فيقع الطلاق، ومن قال بالأول أجاب عن هذا بأن النكاح لا يجتمع مع الملك لأن الملك ينافيه فيحصل الملك والبينونة في حالٍة واحدٍة وذلك عقيب الموت [59/ أ] من غير فصلٍ. فرع آخر لو كانت المسألة بحالها ومات الأب وعليه دين يستغرق قيمتها فمذهب الشافعي أن الدين لا يمنع انتقال الملك إلى الورثة فيكون حكمه كما لو لم يكن عليه ففي الطلاق وجهان. وقال الإصطخري: الدين يمنع انتقال الملك إلى الورثة فعلى هذا يقع الطلاق لأنه لم يملكها. فرع آخر لو كان الدين لا يستغرق جميعها فقد انتقل الملك في الكل على مذهب الشافعي وفي البعض على قول الإصطخري فيكون الحكم كما لو لم يكن عليه دين لأن ملك البضع ينافي النكاح كملك الكل. فرع آخر لو كانت المسألة بحالها فقال زوجها: إذا مات أبي فأنت طالق وقال أبوه: إذا مت أنا فأنت حرة فقد تعلق بموت والده طلاقها وعتقها، فإذا مات أبوه نظر فإن لم يكن عليه دين وخرجت من الثلث عتقت بموت أبيه ويقع الطلاق لأنه ما ملكها، وإن لم تخرج من الثلث عتق منها بقدر الثلث وملك الزوج ما بقى منها، وهل يقع الطلاق على ما مضى؟ قال عامة أصحابنا: لا يقع وهو ظاهر المذهب. وقال أبو حامد: يقع، وإن أجاز الورثة فإن قلنا: الإجازة ابتداء عطية من جهة الورثة لم يقع الطلاق. وإن قلنا إنها تنفيذ لما فعله الموروث وقع الطلاق، وإن كان عليه دين يحيط بالتركة لم تعتق لأنها لا

تخرج من الثلث ثم هو على قول الشافعي ملكها وهل يقع الطلاق على ما مضى؟ وعلى الإصطخري لم يملكها فيقع الطلاق، وإن كان الدين لا يحيط بالتركة فالحكم كما لو لم يكن دين، ولو كاتبها المولى ثم مات لم يقع الطلاق على قول ابن الحداد لأنه ينتقل ملكها إلى الورثة وينفسخ نكاحها. فرع آخر لو قال: لامرأته [59/ ب] الأمة إذا أعتقك سيدك فأعتقها طلقت وكانت عدتها عدة الحراير وإن قال لها سيدها: إذا طلقك زوجك فأنت حرة فطلقها عتقت وفي عدتها قولان، أحدهما: عدة حرة. والثاني: عدة أمٍة. فرع آخر لو قال: أنت طالق إن كلمت فلانًا إلى أن يقدم زيدٌ أو حتى يقدم زيد أو حتى يأذن زيد، قال ابن سريج: إن كلمته قبل قدوم زيد أو قبل إذنه وقع الطلاق لأن هذا التحديد يرجع إلى شرط دون الطلاق فيكون تقديره إن كلمته من الساعة إلى أن يقدم إن كلمته من الساعة إلى أن يقدم فلان فأنت طالق، وإن كلمته بعد قدومه أو إذنه لم تطلق لأن التحديد يصح دخوله في الشرط ولا يصح دخوله في الطلاق ألا ترى أنه يصح أن يقول: إن كلمت فلانًا على أن يقدم فلان فأنت طالق، لا يصح أن يقول: أنت طالق إلى أن يقدم فلان فإذا كان كذلك عاد إلى ما يصلح عوده إليه دون ما لا يصلح وعلى هذا لو قال: جعلت الغاية في قدوم عمرو حدًا للطلاق لا يصح لأن وقوع الطلاق يمنع تحديده إلى غاية. فرع آخر لو قال: يا زانية أنت طالق ثلاثًا إن شاء الله يرجع الاستثناء إلى الطلاق ويكون قاذفًا لأن يازانية اسم مشتق من فعل لا يصح دخول الاستثناء فيه لأنه يصح أن يقول: أنت طالق ثلاثًا إن شاء الله ولا يصح أن يقول: يا زانية إن شاء الله وهكذا لو قلب الكلام فقال: أنت طالق ثلاثًا يا زانية إن شاء الله رجع إلى الطلاق دون القذف. وقال محمد: يرجع إليهما لأنه لا يصح رجوعه إلى الأبعد دون الأقرب وهذا فاسدٌ بما ذكرنا أن الأسماء المشتقة من الأفعال والصفات لا يصح دخول الاستثناء فيها [60/ أ]. فرع آخر لو قال: يا طالق أنت طالق ثلاثًا بقوله يا طالق وعاد الاستثناء إلى قوله أنت طالق ثلاثًا لأن الاستثناء يعود إلى ما أوقع لا إلى الأسماء المشتقة. ولو قال: أنت طالق ثلاثًا يا طالق إن شاء الله فكذلك أيضًا. وقال محمد: يعود الاستثناء إليهما معًا فلا تطلق. فرع آخر قال ابن سريج: لو كانت له زوجتان حفصة وعمرة فقال: يا حفظة فأجابته عمرة فقال: أنت طالق فإن قال: قدرتها حفصة ولم أعلم أن عمرة أجابتني طلقت عمرة في

الحكم لأنه خاطبها بالطلاق فقال: أنت طالق ولا تطلق فيما بينه وبين الله تعالى، وأما حفصة فإنها تطلق بإقراره في الحكم وفيما بينه وبين الله تعالى، ومن أصحابنا من ذكر وجهًا آخر أنه يقع الطلاق على حفصة خاصة لأنه يحتمل أن يكون أوقع الطلاق التي ناداها دون التي أجابته، وكذلك إن قال: أنا أردت بقولي أنت طالق حفصة وعلمت أن التي أجابتني عمرة طلقت عمرة بظاهر الخطاب في الحكم وفيما بينه وبين الله تعالى على ما أراد وتطلق حفصة بإقراره في الظاهر والباطن، وإن أشار إلى عمرة وقال لها: أنت طالق يا حفصة ولم يشر إلى حفصة فإن عمرة تطلق بالإشارة إليها ولا تطلق حفصة، وإن قال: أنا قدرت أن المشار إليها هي حفصة وإن قال: أنا قصدت أن أطلق حفصة ظاهرًا وباطنًا وطلقت عمرة في الحكم وهذا لأن التسمية تسقط مع الإشارة إلى العين، ولهذا لو أشار إلى امرأةٍ أجنبية فقال لها: أنت طالق يا حفصة ظنها زوجته حفصة لم يقع الطلاق على حفصة لأنه ما أشار الطلاق إليها ولا أرسله نحوها. فرع آخر لو أرى أجنبية في الطريق [60/ ب] فقال: حفصة طالق ولم يشر إليها تطلق زوجته لأنه قد سماها وأوقع الطلاق عليها، ولو قال: إنما أردت هذه الأجنبية بالطلاق دون زوجتي لا يقبل قوله، وقال في "الحاوي": لو رأى أجنبية فظنها زوجته عمرة فقال لها: أنت طالق وأشار إليها لم يقع على زوجته، ولو سمى فقال: يا عمرة وأشار إلى الأجنبية أنت طالق ولم يعلم أنها أجنبية طلقت زوجته عمرة في الظاهر للتسمية وكان في الباطن مدينًا لأجل الإشارة. فرع آخر لو قال لها: إن تظاهرت منك فأنت طالق مني ثلاثًا قبل ظهاري منك فظاهر منها وقع الظاهر ولزمته الكفارة بالعود ولم يقع الطلاق لأن الطلاق معلق بشرط لا يمكن تصحيحه بحال لأنا متى ألزمناه الطلاق بطل الظهار وفي بطلان الطهار بطلان الطلاق ويقع المسألة في دورٍ. فرع آخر قال ابن الحداد: إذا قال لامرأته: إن اشتريتك فأنت طالق ثلاثًا وقال لها سيدها: إن بعتك فأنت حرة فاشتراها منه عتقت وطلقت ثلاثًا، لوجود الصفتين، قال أصحابنا: أما العتق فيقع على جميع الأحوال في انتقال الملك في مدة الخيار لأنه يتعقب العقد خيار المجلس فله إيقاع العتق فيه لأنه يملك فيه لأنه يملك فيه فسخ البيع، وأما الطلاق فإنما يقع إذا قلنا: الخيار يمنع انتقال الملك أو قلنا: إنه مراعى، فأما إذا قلنا: الخيار

لا يمنع انتقال يجب أن ينفسخ بالملك ولا يقع الطلاق ويجيء هاهنا ما ذكره أبو حامدٍ إذا علق طلاقها بموت أبيه وكان أبوه مالكها أن الطلاق يقع لأن الملك يحصل عقيب الشراء والفسخ يترتب عليه والطلاق يقع عقيب الشراء قال ابن الحداد: وقد نصَّ الشافعي على أن الحرَّ إذا اشترى امرأته الأمة فلن يتفرق والبائع حتى طلقها ثلاثًا فإن تم الشراء [61/ أ] فلا طلاق لأنه يستدل على أن طلاقه صادف أمته لا امرأته، وإن لم يتم الشراء عمل طلاقه وحرمت عليه وهذا على القول الذي يقول: الملك موقوف مراعى. فرع آخر قال ابن سريج: لو طلق امرأته ثلاثًا فتزوجت صبيًا مرضعًا فأرضعته خمس رضعاتٍ في الحولين حرمت عليه وانفسخ نكاحها، ثم أنها تزوجت بزوج آخر ودخل بها وطلقها أو مات عنها فإنها لا تحل للزوج الأول لأنها أرضعت زوجها الصغير فصارت من حلائل أبنائه فحرمت على الآباء. فرع آخر قال: كان رجلٌ ببلخ فقالت له امرأته: اصبغ ثيابي يكن لك فيه أجرٌ، فقال الرجل: إن كان لي فيه أجر فأنت طالق ثلاثًا فقالت المرأة: هذه المسألة وقعت ببلخ فاستُفتي فيها إبراهيم بن يوسف العالم فقال: إن كان إبراهيم بن يوسف عالمًا فأنت طالق فاستفتي إبراهيم فقال: لا يحنث في اليمين الأولى لأنه مباح ولا أجر في المباح، ويحنث في اليمين الثانية لأن الناس يُسمونني عالمًا واليمين تقع على عرف الناس. وقال بعض أصحابنا: يحنث في اليمين الأولى إن قصد بذلك برًا لأن الرجل قد يؤجر في المباح واللعب مع امرأته وجاريته وفي جماعهما إذا قصد به تعففهما وتطيب قلبهما، وإن كان مباحًا وهذا صحيح ظاهر. فرع آخر لو أن رجلين كانا على سلم أحدهما على أول الدرج من السلم والآخر على الدرجة العليا منه فقال الذي هو على الدرجة العليا منها للذي على الدرجة السفلى: إن نزلت منها قبل أن تصعد فامرأتي طالق، وقال الآخر: وأنا وإن صعدت إليك قبل أن تنزل إليَّ فامرأتي طالق فرفع السلم كما هو وهما عليه فوضع على الأرض أو حول فجعل أعلاه أسفله فقد خرجا جميعًا من اليمين [61/ ب] بانتقالهما عن الحال علقا الطلاق عليها. فرع آخر قال: لو قال لها وهي حامل: إن ألقيت ما في بطنك فأنت طالق فألفته نظر فإن كان ذلك مخلوق الولد وقد مضى عليه أكثر من أربعين يومًا لم يقع الطلاق، وإن أسقطت

في أربعين يومًا من أول العلوق طلقت، وإنما فرقنا بين الحالتين لما ورد في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزعم أهل الخبرة إن الولد إنما يكون في الرحم أربعين يومًا ثم يخرج بعد ذلك إلى البطن. فرع آخر قال: لو قال لها: إن لم تصومي يوم الجمعة فأنت طالق، أو إم لم تصلي غدًا ركعتين فأنت طالق فحاضت قبل أن يمكنها الصلاة أو وافق يوم طهرها يوم النحر أو يوم الحيض فتركت الصوم والصلاة طلقت إن شاء الله لأنه لا صلاة لها مع الحيض ولا صوم أيضًا في يوم النحر ويوم الحيض، ولو قال لها إن لم تصومي يوم النحر، أو إن لم تصلي في وقت الحيض فأنت طالق فصامت يوم النحر أو صلت في حيضها لم تطلق، والفرق أن الكلام إذا أطلق وأرسل إرسالًا يحمل على الصحة والسلامة، وإذا عين واستقصى في الوصف والشرط كان على ما شرط ووصف صحيحًا كان أو فاسدًا ونظيره ما ذكرنا لو قال لها: إن لم تبيعي هذا الحر فأنت طالق فباعته لم تطلق، وإن كان البيع فاسدًا، ولو قال: إن بعت مالك فأنت طالق فباعت حرًا لم تطلق. وقال بعض أصحابنا في المسألة الأولى: إذا قلنا: لا يقع الطلاق عند عدم الاختيار لا يقع هاهنا أيضًا وهو الصحيح عندي. فرع آخر قال لو قال لها: أنت طالق إن سألتيني الخلع إن لم اختلغك فقالت: وأمتي حرة إن لم أسألك ذلك قبل الليل، فإن سألته الخلع فقال الزوج: خالعتك على ألفُ تعطينها فقالت [62/ أ] لا أقبل بَرَّ كلٌّ منهما ولم يحنث. فرع آخر قال لو قالت له امرأته: يا أحمق فقال لها إن كنتُ أحمق فأنت طالق فإن لم يرد بطلاقه إياها نظر في أموره وأحواله في مثل سنه وصناعته، فإن وجد في ذلك ناقصًا في مراتب أمثاله نقصًا بلا مرض ولا سبب من سُكر أو غيره علم أنه أحمق فيقع الطلاق وإلا فلا يقع. فرع آخر قال لو قالت له امرأته: ما أنت إلا غوغا فقال الرجل: إن كنت غوغا فأنت طالق فإن أراد الشرط دون المجازاة لقولها فإن كان الرجل يجتمع مع المفسدين والذين يمخرقون على العامة في الأسواق ويجنباهم الناس ولا بغية له من يقع أو دفع ضره طلقت، وإن كان بخلاف ذلك (لم) تطلق.

فرع آخر لو قال لها: أنت طالق إن أحببت دخول النار فقالت: أحببتُ دخولها فيه وجهان، أحدهما: لا يقع ولا يقبل قولها لأنه يكذبها العادة الظاهرة فإن أحدًا من العقلاء لا يرضي بها ويحب ذلك. والثاني: يقع ويقبل قولها لأن المحبة معني يوجد في قلبها وهى أعلم بالحال فقد تحب ذلك، إما لضعف رأيها أو بلوغها الطريقة التي يسلكها بعض الصوفية فإن أحوالهم على ما يقال: تبلغ إلى حد يحبون دخول النار بدلًا من المعاتبة والمحاسبة وفي الكفرة من يرضي ذلك جزعًا على نفسه وفي الناس من يلقى نفسه في النار لدفع مضرة هي أعظم من ذلك وقد يلقى نفسه فيها لئلا ينتقم منه عدوه. فرع آخر لو قال لها: إن لم تُعرّفيني عدد الجوز الذي في هذا البيت فأنت طالق فإن المخلص من ذلك أن تذكر عددًا يتيقن [62/ ب] أنه أكثر من عدد ذلك الجوز ولم تطلق لأنه حينئذٍ قد عرفته عدده وما زاد عليه من العدد لغو، وكذلك، لو قال: إن لم تعرفيني عدد حب هذه الرمانة قبل كسرها فأنت طالق فإنها تخبره بعدد حتى يتيقن الزيادة على ما يحتمل من العدد. فرع آخر قال المزني في المنثور: لو قال لها: أنت طالق ثلاثًا ثم قال لامرأة أخرى: أنت شريكتها في هذا الطلاق ثم قال لامرأةٍ له أخرى وأنت شريكتها في هذا الطلاق فقال الشافعي: تطلق الأولى منهن ثلاثًا والثانية اثنتين والثالثة واحدة. قال المزني: وعندي تطلق كل واحدة منهن ثلاثًا وذلك أنه جعلهن كلهن مشتركات فيما أوقع من الطلقات بينهن لكل واحدة ثلثها فنجزأها فتكون واحدة. فرع آخر قال المزني في (المنثور): لو قال لها: إذا قدم أبوك فأنت طالق فقالت له: لم تؤخرها عجلها لي الساعة فقال: عجلتها لك يريد بذلك الطلقة التي عقدها بقدوم أبيها القياسُ عندي وبالله التوفيق إن الطلقة قد انعقدت مؤخرة فلا يجوز أن يكون أبدًا في عينها عجلة وقد شرحنا نظير هذه المسألة قبل هذا. فرع آخر لو قال: أنت طالق في مجيء ثلاثة أيام وقع الطلاق عليها إذا طلع الفجر من اليوم الثالث، ولو قال في مضى ثلاثة أيام فإنها تطلق إذا مضت ثلاثة أيام فإن كان قال: بالليل طلقت إذا غربت الشمس من اليوم الثالث: وإن كان قال ذلك بالنهار طلقت حتى يصير إلى مثل ذلك الوقت من اليوم الرابع.

فرع آخر قال في (البويطي) لو قال: أنت طالق في مكة أو بكة أو في الدار أو في البحر فهي طالق [63/ أ] ساعة تكلم به إلا أن يكون نوى إذا كنت بمكة أو في الدار وهذا يدل على أنه إذا نوى ذلك يقبل منه في الحكم أيضًا لأنه محتمل وهذا لأن المطلقة بغير مكة يكون مطلقة بمكة وكذلك إذا قال: أنت طالق في الظل وهما في الشمس، وقال في (الحاوي): إن أراد كونها بمكة دونه أو كونه بمكة دونها روعي ذلك، وإن لم يكن له إرادة روعي حُصولها بمكة دونه لأنه هو الأظهر من الكلام فإذا حصلت بمكة طلقت سواء كان الزوج بها أم لا، فإن لم يكن في مكة لا يقع الطلاق وما قاله (البويطي) لا يصح لأنه يسقط فائدة التخصيص ويبطل بقوله: أنت طالق في غد فإنها لا تطلق في مجيء غدٍ، وإن كانت المطلقة في اليوم مطلقة في غدٍ. فرع آخر قال ابن سريج بعد ما حكي عن البويطي ما ذكرنا لو قال لها: أنت طالق في الشتاء وهما في الصيف لا يقع الطلاق إلا إذا دخل الشتاء لأن هذا يذكر للشرط. فرع آخر لو قال: إن كلمتني فأنت طالق وقالت: إن كلمتني فعبدي حر طلقت ولم يعتق عبدها لأنها كلمته. فرع آخر لو قال لهما: إن ضربت زيدًا فأنت طالق فضربته على ثوبه فأن أحس بالضرب من تحت الثوب طلقت سواًء آلمه أو لم يؤلمه، وإن لم يحس بالضرب لم تطلق. فرع آخر لو قال لها: إن ضربتك فأنت طالق فعضها أو قطع شعرها قال ابن سريج: لا يحنث لأن هذا ليس بضرب، وحكي عن المزني أنه قال: أنا واقف في هذا لأني إن قلنا: لا يقع على البعض اسم الضرب احتملته اللغة، وإنما أتوقف لأنه لا بد من ضربٍ بالأسنان وأنه يحصل به بالإيلام. فرع آخر لو قال لها: أنت طالق قبل قدوم فلان بشهر [63/ ب] فقد ذكرنا أنه إذا قدم بعد شهر ولحظة تسنا أن الطلاق وقع عقيب عقد الصفة، فإن عقد هذه الصفة ثم خالفها ثم قدم زيد بعد شهر ولحظة تبينا أن الطلاق وقع قبل عقد الخلع، فإن كان الطلاق ثلاثًا

فقد ذكرنا أن عقد الخلع باطل لأنها خالع بعد الصفات الثلاث، وإن كان الطلاق رجعيًا يصح الخلع لأن خلع الرجعية جائز، فإن كانت المسألة بحالها فمات أحدهما بعد عقد الصفة بيوم فورثه الآخر ثم قدم زيد بعد شهر ولحظة فالميراث باطل لأن الوفاة بعد الطلاق الثلاث، فإن كانت المسألة بحالها فخالفها بعد يوم ثم قدم زيدٌ بعد عقد الخلع بشهر ولحظة فالطلاق يقع قبل قدومه بشهر ولحظة والخلع قد سبق الطلاق لأنه وقع قبل قدومه بشهر ويوم فالخلع صحيح والصفة قد ارتفع حكمها، فغن كانت المسألة بحالها فطلق ثلاثًا ثم قدم زيد بعد الطلاق بشهر ولحظة فالطلاق الذي باشرها به واقع لأنه قبل وقوع الطلاق، فإن مات أحدهما بعد عقد الصفة بيوم ثم قدم زيد بعد الوفاة بشهر ولحظة فالميراث صحيح لأن صفة الطلاق وجدت بعد الوفاة فلا يقع الطلاق على من بانت بالوفاة، ولو قال لأمةٍ: أنت حرة قبل قدوم زيد بشهر فباعها ثم قدم زيد بعد البيع بشهر ولحظة فالبيع جائز لأنه قبل العتق والعتق لا يقع لأن الصفة وجدت بعد خروجها عن ملكه. فرع آخر قال القفال: لو قال: إذا قدم زيدٌ غدًا فأنت طالق غدًا فماتت من الغد بكرةٌ، ثم قدم زيد وقت الظهر هل يتبين أنها كانت مطلقة، وجهان بناًء على ما لو نذر وقال: لله علَّ أن أصوم يوم يقدم زيدُ [64/ أ] في نصف النهار هل يلزمه قضاء يوم؟ قولان واختلف أصحابنا في أصل القولين فمنهم من قال: أصله أنه إذا قدم هل يتبين أن صوم ذلك كان واجبًا؟ فيه قولان فإن قلنا: يتبين أنه كان واجبًا ها هنا يتبين أن الطلاق ها هنا وقع في ابتداء النهار، ومنه من قال: أصله أن صوم بعض النهار هل يصح؟ قولان فمن قال به قال: لا تطلق هذه ولا يتبين أنها مطلقة وهذا حسن لكن المذهب ما ذكرنا فيما تقدم قبل هذا ذكره الجمهور من أصحابنا. فرع آخر ابن سريج لو قال لغير المدخول بها: أنت طالق ثلاثًا قبل أن تكلمي فلانًا بشهر ثم طلقها واحدةٌ وتزوجت زوجًا غيره ثم كلمته بعد شهر من يوم قال لها أنت طالق ثلاثًا قبل أن تكلمي فلانًا بشهر فإن الواحدة تقع عليها ولا تقع عليها الثلاث، ولو كانت المسألة بحالها وكان قد دخل بها طلقت واحدةُ، فإن لم تنقض عدتها حتى تكلم فلانًا فإنها تبين بثلاث ولا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره ويقع عليها من الثلاث ما بقى وهو اثنتان. فرع آخر لو قال لها: متى لم أطلقك واحدةُ فأنت طالق ثلاثًا ثم قال: أنت طالق بُرُ في يمينه ولا حنث عليه، وإن سكت في أثر كلامه ساعة طلقت ثلاثًا ووقت ذلك أن يتبع الطلاق اليمين في نحو ما يتبع الاستثناء اليمين.

فرع آخر قال ابن الحداد: لو قال مملوك لامرأته: أنت طالق غدًا اثنتين فأُعتق قبل الغد فلم يأت وقت الطلاق حتى كان حُرًا فله الرجعة إذا جاء ذلك الوقت ووقع الطلاق، ألا ترى أن الذي لم يدخل بامرأته لو قال لها: أنت طالق غدًا واحدة فدخل بها قبل الغد فإن أتى بالغد وهما حيان وقعت واحدة وله الرجعة لان الطلاق لم يقع حتى صارت مدخولًا بها. [64/ ب] فرع آخر قال ابن سريج: لو قال: أنت طالق يوم لا أطلقكٍ فمضى يوم لم يطلقها فيه طلقت بالحنث، ولو قال: أنت طالق يوم لا أدخل دار زيدٍ طلقت إذا مضى عليه وقت يمكنه أن يدخل فيه دار زيد من ليل أو نهار ولا يراعى فيه مضى يوم. قال: لأن الناس يريدون بمثل هذا الوقت دون اليوم المقدر لقوله تعالى: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ} [الأنفال:] 16 أراد به الوقت ولم يرد به نهار اليوم، قال صاحب (الحاوي): هذا التعليل إن صح في قوله لا أدخل دار زيد صح في قوله يوم لا أطلقكِ، وليس الفرق بينهما معنى يصح فإن حمل ذكر اليوم في دخول الدار عبارة عن الوقت جعل ها هنا أيضًا، وغن لم يجعل في أحدهما لم يجعل في الآخر. قال: ولو قال: ليلة لا أدخل فيها دار زيدٌ فأنت طالق لم تطلق إلا بمضي ليلةٍ لا يدخل فيها دار زيد، والفرق بين الليلة واليوم أن العرف مستعمل بأن الوقت قد يُعبّر عنه باليوم ولا يُعبّر عنه بالليلة، وإن أراد فيما ذكرنا النهار دون الليل والوقت دين في القضاء لأنه متحمل، وعلى هذا لو قال: يوم أدخل الدار فأنت طالق ولا نية له لم يحمل على الوقت على ما ذكرنا، وقال ابن الحداد: وهو اختيار القاضي الطبري يحمل على اليوم الذي هو بياض النهار، وإن لم يدخل ذلك اليوم تبينا أنها طلقت في أوله ويعتبر فيه مضى اليوم لان اليوم حقيقته في جميعه واستعمال في هذا الوقت مجاز فيحمل على الحقيقة. فرع آخر لو قال: أنت طالق إلى حين أو إلى زمان طلقت إذا سكت لأنه حين وزمان. فرع آخر قال ابن الحداد: لو قال الرجل لإحدى امرأتيه: أنت طالق إن دخلت الدار لا بل هذه يريد الأخرى فإن دخلت الأول [65/ أ] طلقتا جميعًا، وإن دخلت الثانية لم تطلق واحدة منهما وإنما كان كذلك لأنه علق طلاق الأولى بدخول الدار ثم رجع عن ذلك وعلق بدخولهما طلاق الأخرى فتعلق به، ولم يصح رجوعه عن طلاق الأولى فتعلق طلاقهما بدخولهما الدار، ومن أصحابنا من قال: إذا دخلت الثانية وقع عليها الطلاق، وكذلك الأولى يقع عليها بدخولها لأنه علق طلاق الأولى بدخولها ثم رجع عن هذه

الصفة جملة إلى أن علق طلاق الثانية بدخولها فلزمه الصفة الأولى والثانية ومن نصر ابن الحداد قال: لا تنعقد يمينه في الثانية بالكناية لأن الشافعي قال: لو قال رجل: يميني في يمينك لم تنعقد يمينه، وقال المزني: سألت الشافعي عن ذلك في الطلاق فقال: لا يمين إلا على الحالف دون صاحبه، قال أصحابنا: هذا خطأ لأن اليمين في الطلاق تتعقد بالكناية، وإنما اليمين بالله عز وجل لا تنعقد ويحتمل ما رواه المزني أنه أراد به إذا لم ينو بقوله الطلاق، وذكر صاحب (الحاوي) هذه المسألة وقال: لو كان له زوجتان حفصة وعمرة فقال: يا حفصة، إن دخلت حفصة طلقت حفصة وعمرة كما لو قال: حفصة طالق لا بل عمرة طلقتا معًا، وإن أراد لا بل إن دخلت عمرة الدار فهي طالق فتطلق حفصة وحدها بدخول الدار وتطلق عمرة أيضًا بدخول الدار، وإن أطلق فيه وجهان، أحدهما: يحمل على الحالة الأولى، والثاني: يحمل على الحالة الثانية بدخول كل واحدة منهما موضع لطلاقها ولا تطلق عمرة بدخول حفصة. فرع آخر قال أصحابنا: إذا قال رجل لرجل: يميني في يمينك نص الشافعي رحمة الله عليه على ما ذكرنا وينظر فإن أراد أنك إذا صرت حالفًا [65/ ب] بطلاق امرأتك فقد صرت حالفًا لا يصح ذلك وإن أراد به الحنث نظر، فإن كان ذلك الرجل قد طلق امرأته وأراد به أن امرأتي كذلك طلقت أيضًا وأنه أراد به أنه متى طلقت امرأتك وقع الطلاق على امرأتي، فإذا وقع عليها الطلاق طلقت امرأته أيضًا، وقال ابن أبى أحمد: لا تطلق في هاتين المسألتين أيضًا، وإن أراد به أنك إذا صرت حانثًا بطلاق امرأتك فقد صرت حانثًا لا يصح وفيه وجد آخر يصح. فرع آخر قال ابن سريج: قال الشافعي: لو قال رجل لها: أنت طالق أين كنت فطلقها تطليقه لم يقع عليها إلا هي لأنها إذا طلقت واحدةٌ فهي طالقٌ أين كانت، وكذلك قوله حيث كنت وأين كنت ومن أين كنت قال ابن سريج: قوله لا يقع عليها إلا هي يعنى أنه حين قال: أنت طالق أين كنت طلقت بهذا القول واحدة ولم يتكرر عليها الطلاق بعد ذلك وقوله يطلقها أي بهذا القول لأنه طلقها بعد طلاقها آخر والله أعلم. فرع آخر لو قال لامرأتين له، أطولكما حياةً طالق ثلاثًا الساعة، فإذا ماتت إحداهما قبل صاحبتها علمنا أن الطلاق كان قد وقع على الباقية يومئذٍ فاعتد بها من يومئذٍ، فإن كانت قد حاضت ثلاث حيض قبل موت صاحبتها فقد انقضت عدتها لمضى ثلاثة قروء

بعد وقوع الطلاق، وإن كان وطئها في عدتها هذه وهى لا تشعر فعليه مهر مثلها وعليها العدة من وطئ وهى ثلاثة أقراءٍ ولا يملك الرجعة إذا كان الطلاق مما يملك الرجعة فيه ولا بقية العدة من يوم وقوع الطلاق ولا تحل لغيره إلا بانقضاء العدة من يوم كان الوطء ذكره ابن سريج. فرع آخر لو قال لها: إن خرجت إلا بإذني فأنت طالق [66/ أ] فأذن لها فلم تعلم بالإذن فخرجت على ظن أنها تطلق فالظاهر من المذهب أنها لا تطلق، وفيه قولٌ آخر أنها تطلق وبه قال أبو حنيفة رحمه الله، وهذان القولان مبنيان على الوكيل إذا عزل فتصرف قبل العلم بالعزل هل يصح؟ قولان، وقد قال الشافعي: ها هنا الورع أن يحنث نفسه ولم يرد به أنه وقع الطلاق لخروجها بل أراد به يحسبها طلقة رجعية ثم يراجعها وإن كان ثلاثًا سرحها بثلاث ثم يتزوجها حتى تنكح زوجًا غيره. فرع آخر لو قال: إن تزوجت فأنت طالق فأبانها ثم تزوجها هل تعود اليمين؟ قد ذكرنا فيه قولين، فإن قلنا: نعود فلو تزوج أخرى في حال ما بانت هي منه هل تنحل ذلك اليمين حتى لو نكحها ثانيًا وتزوج أخرى لا تطلق ينظر، فإن قال: إن تزوجت انحلت اليمين، وإن كان قال: إن تزوجت عليك فيه قولان، وقال مالك: إن تزوج عليها وضيعة يجعل كأنه لم يتزوج عليها. فرع آخر لو قال: إن لم أتزوج عليك فأنت طالق لا تطلق ما لم ييئس منه فإن ماتت هي نظر فإن كان قال: إن لم أتزوج عليك طلقت قبيل الموت وإلا فلا، ثم إذا ماتت هي لا يرثها، ولو مات هو هل ترثه؟ قولان، على ما تقدم بيانه، ولو قتل وأجهز قتله قال القفال: في كرّة لا ترثه لأنه لم يوجد من جهته عجز، وقال في كرّةٍ ترثه لأنه وجد العجز في حالةٍ لطيفةٍ قبل خروج الروح. فرع آخر لو قال: أنت طالق كيف شئت فما لم تشأ لم يقع الطلاق وبه قال أبو يوسف ومحمد، وقال أبو حنيفة: يقع طلقة في الحال وإليها المشيئة في الكيفية إن شاءت كانت رجعية، وإن شاءت كانت بائنة، وإن لم تنشأ شيئًا [66/ ب] تقع رجعية، واحتج بأنه أوقع أصل الطلاق وجعل صفته مشيئتها لأن ما لا حصول له لا يتكيف ولا كيفية للمعدم بدليل قول الشاعر: خليلي كيف صبرك بعدنا فقلت وهل صبر فتسأل عن كيف؟ وهذا غلط لأنه بالمعدوم إذا كان للشيء جهات يقال: كيف أخيط هذا القميص وكيف ابني هذه الدار وللطلاق جهات فيحسن أن يقول: كيف وقوعه نوضحه أنه لو

صرّح فقال: أنت طالق إن شئت كيف سبب تعلق بمشيئتها وصح ذلك. فرع آخر لو قال: أنت طالق ما لم تحبلي أو قال: ما لم تحيضي طلقت إذا لم تحبل في الحال أو تحيض فإن كانت حائضًا أو حبلى طلقت لأنه على حبل وحيض مستقبل ولم يعلم حبلها ووضعت لأقل من ستة أشهر طلقت لأنه لم يكن لحبل مبتدأ وإن وضعت لستة أشهر فصاعدًا نظر فإن كان حين خاطبها به غير مباشرٍ بعد اللفظ، وإن كان حين خاطبها بذلك مباشرًا لها ففي وقوع الطلاق وجهان، أحدهما: يقع لأن وقوع الطلاق عموم إلا بشرط مشكوك فيه، والثاني: لا يقع لأنه معلق بشرط مشكوك فيه، قال صاحب (الحاوي) فقد يحمل الأيمان بالطلاق على العرف كالأيمان فإذا حلف على غيره بالطلاق ليجرُ به على الشوك فإذا مطله مطلًا بعد مطل بَرّ في يمينه اعتبارًا بالعرف، ولو قال: ليضربنها حتى تموت فضربها ضربًا مؤلمًا وجعًا لا يقع الطلاق اعتبارًا بالعرف وهذا إذا أطلق ولم يرد به حقيقة اللفظ، فإن أراد حُمل عليه وهكذا نظائر ذلك وأشباههُ. فرع آخر لو قال: أنت طالقٌ إن كلمتك، وأنت طالق إن دخلت الدار طلقت باليمين الأولى لأنه صار مكلمًا باليمين الثانية سواء جاء باليمين الثانية متصلًا [67/ أ] باليمين الأولى أو منفصلٌ عنها. فرع آخر لو قال: أنت طالق إن كلمتكِ ثم أعاد فقال: أنت طالق إن كلمتك طلقت لأنه صار مكلمًا بإعادتها. فرع آخر لو قال: أنت طالق إن كلمتك فأعلمي ذلك فإن قال هذا منفصلًا حنث، وإن قاله متصلًا فيه وجهان، أحدهما: يحنث، والثاني: لا يحنث لأنه من كلمات يمينه قاله في "الحاوي". فرع آخر لو اتهم زوجته بسرقة فقال: أنت طالق إن لم تصدقيني هل سرقت؟ فخروجه يقينًا من يمينه أن تقول له: سرقت وتقول له: ما سرقت فيتيقن صدقها في أحدهما ولا يحنث.

فرع آخر لو حلف بالله تعالى أو بالطلاق على شيء يحمل أمرين يعنى أحدهما بالنية، فإن لم يحلف في حظره وإباحته فالنية فيه نية الحالف دون المستحلف، وإن اختلف في حظره وإباحته، فإن كان الحالف مظلومًا والمستحلف ظالمًا كالحالف الشفوي أن لا شفعةٌ عليه للجار أو كان حنفيًا فحلف لا شيء عليه للمدبر فالنية في اليمين نية الحالف دون الحاكم المستحلف، وإن كان الحلف ظالمًا كالشفوي، إذا حلف أن لا يمين عليه للمدبر والحنفي إذا حلف أن لا شفعة عليه للجار كانت النية نية الحاكم المستحلف دون الحالف فكأنها لا تكون عليه نية المستحلف إلا في هذا الموضع وحده هكذا ذكره في (الحاوي)، وقال بعض أصحابنا: فيه وجهان، أحدهما: ما ذكرنا لأنه لا يعتقد ثبوت الشفعة للجار، فإذا حلف أنه لا يستحق عليه الشفعة كان صادقًا ولو حكم الحاكم عليه يلزمه طلقة فيما حكم، وإن كان يخالف اعتقاده لأن ترك ذلك يؤدى إلى إبطال الأحكام، فأما إذا لم يحكم عليه وحلفه يلزمه في الباطن على ما يعتقده دون اعتقاد الحاكم. والثاني: أنه تقع يمينه على ما يعتقده الحاكم بكل حال لأن الحاكم [67/ ب] إذا حكم عليه بالشفعة بالجواز لزمه الانقياد له ولا يكون له الامتناع، فإذا استحلفه كان على ذلك، وقيل: هذا مبنى على أن حكم الحاكم في المجتهد هل ينفذ ظاهرًا وباطنًا؟ فإن قلنا: ينفذ ظاهرًا وباطلًا يلزمه في الباطن على ما يعتقده، وإن قلنا: ينفذ في الظاهر دون الباطن فالحكم على ما سبق وقيل: اليمين يتعلق بظاهر اللفظ عند الحاكم ولا يقول يكون علق به الحاكم لأن الحاكم لو يرى غير ظاهرها لم يتعلق الحكم بنيته إلا أن أصحابنا عبروا بأن الحاكم إذا حلفه فالنية نية الحاكم لأن الحاكم لا يحلفه وينوى خلافه وحكم المسائل المختلفة ما ذكرنا. فرع آخر لو حلف حالف في غير مجلس الحاكم ونوى ما يجوز أن يراد باللفظ في مجاز اللغة تعلقت يمينه بذلك في الباطن، وأما الظاهر فإن كان في طلاق لم يقبل منه لتعلق حق غيره به، وإن كان في غير طلاق كيمين بالله تعالى أو نذر فالقول قوله لأنه لا يتعلق به حق لطالب به، وعلى هذا لو حلف على شيء ماضٍ أنه ما فعله وقد فعله ونوى في يمينه ما فعله بالصين أو على ظهر الكعبة، أو حلف على شيء مستقبل لا يفعله ونوى لا يفعله في الصين حمل على نيته ولا يحنث. وعلى هذا لو قال: نسائي طوالق ونوى نساء قرابته لم تطلق نساؤه فيما بينه وبين الله تعالى، ولو قيل هل: أطلقت زوجاتك فقال: نعم وأراد نعم بني فلانٍ يدين في الباطن، ولو حلف ما كاتبت فلانًا ولا كلمته وأراد بالمكاتبة عقد الكتابة وبالكلمة ما

جرحته حمل على ما نوى، وكذلك لو حلف وقال: ما أخذت لا جملًا ولا بقرةً ولا ثورًا ولا عنزٌ [68/ أ] ونوى بالجمل السحاب وبالبقرة العيال وبالثور والقطعة من الأقط الأكمة السوداء حمل على ما نوى ولم يحنث، ولو قال: ما شربت لك ماءٌ وأراد المني حمل على ما نوى وعلى هذا يجوز له أن يورى عن الظاهر ولا يحرم ذلك عله إذا لم يقصد به التوصل إلى محظور، قال الله تعالى في قصة إبراهيم عليه السلام: {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا}] الأنبياء: 62 - 63 [الآية، وقيل: إنه كان نوى إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم، وروى أن سويد بن حنظلة أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حلف بالله أن وائل بن حجر أخوه لنخلصه من العدو، فقال له النبيصلى الله عليه وسلم: (صدقت المسلم أخو المسلم) وعلى هذا لو قال: ما عرفت فلانًا ولا أعلمته ولا سألته حاجةٌ، وأراد ما جعلته عريفًا وبالأعلام ما شققت شفته وبالحاجة شجرة صغيرة بالبر تسمى الحاجة تعلقت يمينه دون ظاهر لفظه، وكذلك لو قال: والله ما في بيتي فرش ولا حصير ولا بارية ونوى بالفرش صغار الإبل، قال الله تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا} [الأنعام:142]، وقال عز وجل {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء:8] أي: حبسًا ويسمى الملك أيضًا حصيرًا لأنه يحجب عن الناس والبارية المدى التي تقطع، وكذلك لو قال: جواري أحرارٌ ونوى به سُفنه لم تعتق إماؤه. فرع آخر لا يقع الطلاق في النكاح الفاسد وبه قال أبو حنيفة، وقال مالك وأحمد: يقع في النكاح المختلف فيه وهذا غلط، لأنه نكاحٌ فاسدٌ فلا يقع فيه الطلاق كالمجمع على فساده [68/ ب]. فرع آخر لو قال: أنت وأشار بثلاثة أصابع ونوى الطلاق لا يقع لأنه قوله أنت ليس من ألفاظ الطلاق، ولو قال: أنت الثلاث ونوى الطلاق لا يكون شيئًا أيضًا وهذا اختيار القاضي الطبري لما ذكرنا، وسمعت بعض أصحابنا يثول: يقع الطلاق ثم اختلفوا، فمنهم من قال: يقع الثلاث، وإن لم ينوٍ لأنه صرح بالثلاث، والثاني يقع واحدة والأول أظهر أنه لا يقع شيء. فرع آخر لو قال لها: إن سرقت منى شيئًا فأنت طالق ثم دفع إليها كيسًا فأخذت منه شيئًا لم يقع الطلاق لأنه خيانة وليس بسرقة. فرع آخر لو قال: أنت طالق لإرادة الله يقع لأن معناه لأجل إرادته، ولو قال: أنت طالق

بإرادة الله لا يقع لأن ظاهره التعليق. فرع آخر لو كان له ثلاث نسوةٍ فقال: أيتكن لم تخبرني اليوم بعدد ركعات فرائض الصلوات في اليوم والليلة فهي طالق. فقالت واحدة: سبعة عشر ركعة، وقالت الأخرى: خمسة عشر ركعة، وقالت: إحدى عشر ركعةٌ، من أصحابنا من قال: لا تطلق واحدة منهن لأن خمسة عشر ركعة عدد صلوات الحصر يوم الجمعة وإحدى عشر عدد ركعات صلاة السفر، ومن أصحابنا من قال: تطلق من عدت خمسة عشر وإحدى عشر للعادة. فرع آخر لو قال لها: توزن من قال أصحابنا هذا كذب محض لا يقع شيء إلا بالنية، وقال القاضي الإمام الحسين: عندي إن كان هذا بين يدي القاضي يكون إقرارًا بالبينونة ففرق بينهما. فرع آخر لو قال لامرأته: قد خرجت اليوم [69/ أ] من هذه الدار فقالت هي: لم أخرج فقال لها: إن كنت خرجت اليوم من هذه الدار فأنت طالق هل يقع بهذا اللفظ؟ قال القاضي الحسين: يقع لأنه أقر بخروجها من الدار أولاً ثم علق الطلاق به، ولو قال لها: إن كنت خرجت اليوم من الدار فأنت طالق ثم قال لها: قد خرجت وقالت: لم أخرج تطلق بإقراره. فرع آخر لو قال لها: حلال نورمن حرامست أكذبه امرور إن جاء به يردن برده وحلفت المرأة أنى ما خرجت قال: إنه لا يقع لأنه يعلق الطلاق، ولو قال: توارزى من نسبه طلاق مشيئته ما توازخانه يردن بوده نوا يكون وحلفت بأن ما خرجت يقع الثلاث لأنه في ضمن كلامه هذا إقرار بأنها كانت خرجت، وأنا أكافيها بالطلاق الثلاث فجعل خروجها عن الدار تعليلًا للطلاق لا تعليقًا، قال: ولو قال لها: إن لم تصل في الحال فأنت طالق فقامت لتصل فحاضت يقع وعندي لا يقع هاهنا على ما سبق بيانه. فرع آخر لو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق وكرر ذلك فإن كان في مجالس مختلفة فدخلت الدار طلقت ثلاثًا ولا يقبل قوله أنه أراد التكرار وفيه وجهٌ آخر أنه يقبل منه ذلك، وإن كان في مجلس واحدٍ، فإن قال: أردت به التكرار يقبل، وإن أطلق فقولان. فرع آخر لو كان عبده يعبد صنمًا فقال له: إن لم أَسؤْكَ في معبودك فأنت حرٌ فكسر صنمه لم يحنث ذكره المزني في (منثوره).

فرع آخر لو رأى طائرًا فقال: إن لم آخذ هذا الطائر فامرأتي طالق [69/ ب] فطار الطير ثم اصطاد طائرًا وزعم أن هذا ذلك أيضًا واحتمل كل واحدٍ من الأمرين، قال والدي رحمه الله: يحمل أن يقع الطلاق، لأن الأصل أنه لم يأخذ ذلك الطائر وأنه لم يبر يمينه ويحمل أن لا يقع لأن الأصل بقاء النكاح، وهكذا لو قال: فعبدي حرٌ هل تقع الحرية على هذا الاحتمال. فرع آخر اختلف أصحابنا في الطلاق الواقع بالقول، هل هو واقع معه أو عقيبه؟ فقال بعضهم: يقع مع القول، وقال بعضهم: يقع عقيبه وعلى هذا لو قال: أنت طالق في حال تلفظي بهذه اللفظة هل يقع الطلاق؟ على الوجه الأول يقع ولا تأثير لهذا التقييد لثبوت مقتضاه دونه وعلى الوجه الثاني: لا يقع حال اللفظ وهل يقع عقيبه؟ يحتمل وجهين: اعتبارًا بقوله لامرأته: أنت طالق في الشهر الماضي وفيه خلاف. فرع آخر لو قال: أنت طالق في آخر جزء من أجزاء حياتي، قال والدي الإمام رحمه الله: يجب أن يقع لأن الزوجية باقية في تلك الحالة فإن قيل: أن لا يقع لأن الوقوع يكون عقيب الجزء وذلك وقت الموت فلا يجوز وقوع الطلاق فيه، ألا ترى أنه إذا قال: أنت طالق وقع الطلاق عقيب القول لا معه؟ قيل: فيما نحن فيه لا يجيء هذا لأن الوقوع باللفظ الذي هو التعليق وحالة الوقوع هو الجزء الأخير لأن الوقوع بعد ذلك الجزء وبه خالف ما ذكره من المثال لأن القول هناك وجد في الجزء الأول فجعلنا حالة الوقوع بعده وهاهنا القول سبق الجزء الأخير فلا ضرورة بنا إلى تأخير الطلاق عن الجزء الأخير وهذا واضح. فرع آخر لو قال لامرأته: أنت طالق اليوم أو غدًا فإن اختار الثلاث وقع الثلاث، وإن اختار واحدةً [70/ أ] وقعت واحدة، وإن لم يختر ومات وقعت واحدة وهل يقوم وارثه مقامهُ في هذا الاختيار؟ يحتمل قولين قياسًا على ما لو طلق إحدى امرأتيه، ومات قبل التعيين هل يقوم الوارث مقامهُ في التعيين؟ قولان، ولو قال الزوج: اخترت طلقتين لم يقع إلا واحدة لأنه ذكر لفظ الطلاق على وجهِ يقتضي إثبات الخيار بين شيئين فلا يجوز إثبات خيار ثالث لمخالفة اللفظ ويحتمل أن يقال: يقع طلقتان لأنه إذا صح منه اختيار الواحدة فلأن يصح اختيار اثنتين وفيه صورته أولى. فرع آخر لو قال: هذه المرأة محرّمة عليَّ تحريمًا مؤبدًا قال والدي رحمه الله: الأصح أنها تحرم عليه بهذا القول لأنه يؤاخذ بموجب إقراره، ولا يقال: قد يعتقد التحريم مؤبدًا

خطأ، لأن الإنسان مأخوذ بموجب إقراره، وإن احتمل ما ذكرتم كما لو أقر بالبيع أو النكاح حُمل على الصحيح، وإن احتمل اعتقاده للصحة فيما هو باطل فإن قيل: لو أخبره رجلٌ بنجاسة الماء قال الشافعي: لا يقبل قوله حتى يتبين فكذلك هاهنا، قيل: لأن الأصل طهارة الماء فلا يزول بقول الغير مع الإجمال وهاهنا يزيل الإباحة بقول صاحب الحق وقول الإنسان يقبل على نفسه فإن قيل: في حق هذا المخبر لا يحكم بنجاسة الماء أيضًا لأنه لو توضأ صح قيل: لأن في الماء يقبل الرجوع لأنه لو أقر بنجاسته، ثم قال: أخطأت ولم يكن نجسًا قبل قوله وهاهنا الرجوع غير مقبول. فرع آخر إذا قال: امرأةُ زيد طالق واسمه زيد لم يقع الطلاق على امرأته إلا أن يريدها، ولو قال: نساء الزيدين طوالق وقع الطلاق [70/ ب] على امرأته، والفرق أن في الأول إنما دخل تحت لفظ زوج زيد واحد لا يعينه فوجب الرجوع في بيانه إليه، وفي الثاني: الداخل تحت اللفظ نساء جميع الزيدين فلهذا وجب إدخال هذا القائل تحت هذه اللفظة. فرع آخر لو ناداه رجل فقال: يا زيد فقال مجيبًا له: امرأة الزيد طالق وقع الطلاق، وإن أجابه بأنه قال: امرأة زيد طالق لم يقع إلا أن يريد نفسه، والفرق أن في الأول أشار إلى ما تقدم ذكره ألا ترى أنه عرّف زيدًا بالألف واللام فوقع الطلاق على امرأته لأجل الإيقاع أو الإقرار، وفي الثاني: لم يحصل منه ما يقتضي لونه جوابًا لأن هذا الكلام الصادر منه مستقل بنفسه، ولم يوجد منه تعريفه بالألف واللام فلم يقع الطلاق لأن هذا اللفظ يقتضي زيدًا واحدًا فكان الرجوع إليه واحدًا في عينه ويتبين هذا أن لو قال لعبده: اضرب زيدًا فلم يضربه فقال له: اضرب الزيد انصرف إلى المأمور بضربه أولًا ولا يحسن الاستفهام، ولو قال: عند إعادة القول اضرب زيدًا لحسن الاستفهام فدل على الفرق. فرع آخر لو قالت لزوجها: طلقني فقال: هبه إني طلقتك أو قال العبد لسيده: اعتقني فقال: هب إني أعتقتك لا يعتقان لأن اعتقاده لا يوقع الحرمة ولا اعتقاده يوقع الطلاق، وأمره بذلك ليس له تأثير في الإيقاع. فرع آخر إذا قال لها: أنا مستبرئ رحمي منك ونوى طلاقها لا يقع الطلاق لأن معناها لا يصح فيه محال فتتجرد النية ومجرّد النية لا يوقع الطلاق، ويخالف إذا قال: أنا منك طالق لأن معنى هذا اللفظ صحيح في حق الزوج، وقيل: فيه وجه آخر أنه يقع الطلاق لأن الحق ثابت له في رحمها وصاحب الحق في الشيء يضاف إليه ذلك الشيء.

فرع آخر إذا قال [71/ أ] مناديًا لآخر: يا رق سته أي تي زي فقال: ذلك لبيك لم يكن هذا إقرارًا بالطلاق لأنه دعاه بصفة فقوله: لبيك إجابة للدعوة لا أنه اعتراف بالصفة، وهكذا إذا قال: يا زاني فقال: لبيك لم يكن هذا اعترافًا بالزنا، وكان المنادي قاذفًا يلزمه موجب القذف. فرع آخر لو قال لها: إن خرجت إلا بإذني فأنت طالق فأذن لها بالخروج ثم رجع عن الإذن ثم خرجت لم يحنث، وفيه وجه آخر يحنث لأن الإذن بطل بالرجوع، وذكر والدي الإمام أن الشافعي نص على أن الإذن لم يبطل بالرجوع والفرق بينه وبين الوكالة تبطل بالرجوع إذ الخروج منها وقع مأذونًا ولم يكن وجد منه في يمينه شرط يقال: الإذن والمقام عليه فلم يعتد إلا ما تناوله شرط وخلفه يخالف الوكالة لأن الفعل وإن كان مأذونًا فيه ووقع مأذونًا فقد كان الشرط هناك من جهة الشارع المقام على ذلك الإذن والبقاء عليه إلى وقت الفعل فاعتبرناه على ما اقتضاه الشرع ولا يجب اعتقاد هذا الشرع هناك لأن الاعتبار فيه بوجود الصفة فقط. فرع آخر إذا من فعل الناسي لا يوجب الحنث بل تصير اليمين منحلةً بفعل الناسي لا نص فيه ويحتمل أن يقال: لا تصير منحلة والأظهر أنها منحلة ولا يمتنع أن تصير منحلة ولا يوجب حكمها كما لو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق فأبانها فدخلت الدار ثم رجعت ودخلت ثانيًا لا يقع الطلاق فالدخول في غير النكاح يوجب انحلال اليمين ولا يوجب الطلاق. فرع آخر إذا كان لمسلم زوجة نصرانية فقال لها: إن أسلمت وأنكرتِ فإن كان قبل الدخول حرمت عليه ويلزمه نصف المسمى، وإن قال واحدة في زمان لا يتسع لانقضاء العدة بين قوله وإنكارها فهما على النكاح، وإن كان يتسع حرمت ولها كمال المسمى فمضى أصل المسألة ووجه آخر [71/ ب] إنهما على النكاح لإنكارها. فرع آخر لو قال العبد لزوجته: إن مات مولاي فأنت طالق طلقتين ثم دبره السيد ومات وخرج المدبر من ثلاثة طلقت زوجته طلقتين وله أن يراجعها كما لو قال لها: أنت طالق غدًا طلقتين فاعتق قبل غد يملك الرجعة بعد وقوع الطلاق. فرع آخر لو قال لها: طلقي نفسك فقالت: الطلاق لي لازم فيه وجهان، أحدهما: يقع الطلاق وهو الأصح، والثاني: لا يقع إلا أن ينوي، ذكره جدي الإمام رحمه الله.

فرع آخر قال جدي رحمه الله: لو قال ما لي طالق فإن لم ينوِ به الصدقة فلا يلزمه شيء، وإن نوى صدقة ماله فيه وجهان، أحدهما: يلزمه أن يتصدق به وهو الأصح، والثاني: لا يلزمه شيءٌ فإن قلنا بالأول فيه وجهان، أحدهما: يلزمه التصدق بجميع ماله، والثاني: أنه مخير بين أن يتصدق به أو يكفر كفارة يمين واحد. فرع آخر لو قال عليَّ الطلاق الثلاث فإن نوى كان طلاقًا وإلا فلا شيء، وقال المزني في منثوره: هكذا أو قال: لا نص فيه للشافعي، ثم قال: وكثير من الناس لا يعرفون هذا إلا طلاقًا. فرع آخر لو قيل له: أطلقت امرأتك فكتب نعم ولا يتلفظ به هل يقع الطلاق؟ وجهان، ذكره جدي رحمه الله، وقال أيضًا: لو كتب الأخرس ولم يشر وجهان. فرع آخر لو قال لها: إن تزوجت عليك فأمرك بيدك فتزوج فيه قولان، ذكرهما في الإملاء أحدهما: لا يكون أمرها بيدها، والثاني: يكون أمرها بيدها إذا قبلت في المجلس ذكره جدي رحمه الله. فرع آخر لو قال لها عظم الله أجرك فيك أو عظم الله أجرك أو أبعدك الله ونوى طلاقًا يقع الطلاق، ولو قال: راجعتك أو أحسن الله جزاك ونوى الطلاق فيه وجهان. فرع آخر لو قال: أنت طالق أربعة أنصاف تطليقة فيه وجهان، أحدهما: يقع طلقتان، والثاني: يقع طلقة واحدة. فرع آخر قال في "الإملاء": [72/ أ] لو قيل لرجل أطلقت: امرأتك فقال قد كان بعض ذلك يرجع إليه فإن قال أردت أي: علقت طلاقها بصفة قبل منه لأن هذا بعض الطلاق وإن قال: أردت إني كنت طلقتها طلاقًا منجّزًا قبل منه أيضًا، وإن قال: لم أكن طلقتها قبل منه أيضًا لأن قوله قد كان بعض ذلك لبس بإخبار عن الطلاق فلم يلزمه طلاق بذلك. فرع آخر قال في "الإملاء": لو قال: كل امرأةٍ لي طالق وكان ناسيًا أن له زوجة يلزمه الطلاق لأن الزوجية موجودة والقصد إلى الطلاق موجود، وقيل: لا يقع الطلاق في الباطن في أحد الوجهين، وقيل: لو لم يعلم أصلًا لا يقع ولو علم ثم نسي يقع.

كتاب الرجعة

كتاب الرجعة قال: قال الله تعالى في المطلقات: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]. الفصل الأصل في ثبوت الرجعة الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب: فقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231]، والإمساك الرجعة والتسريح أن يدعها ولا يراجعها حتى تسرح بانقضاء العدة. وقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 822] يعني برجعتهن، وقوله تعالى: {إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا} [البقرة: 822]، قال الشافعي رحمه الله تعالى: عليه إصلاح الطلاق بالرجعة وقيل: أراد إن أراد البعل إصلاح ما تشعث من النكاح بالطلاق، وقال عطاء ابن أبي رباح في هذه الآية: أراد الصلاح في الدين والتقوى، ولا تصح الرجعة إلا لمن أراد بها إصلاح دينه وتقوى ربه وهذا مذهب نفرد به. وأما السنة فما روي في خبر ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم [72/ ب] قال لعمر رضي الله عنه: "مر ابنك فليراجعها" حين طلق امرأته وهي حائض، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أتاني جبريل صلى الله عليه وسلم فقال لي: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة وإنها زوجتك في الجنة". وروي الهيثم بن عدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسودة: "اعتدي فجعلها تطليقة، فجلست في طريقه فقالت: إني أسألك بالله لما راجعتني واجعل نصيبي منك لك تجعله لأي أزواجك شئت إنما أريد أن أحشر مع أزواجك يوم القيامة فراجعها". وأما الإجماع: فلا خلاف بين المسلمين في ثبوتها، فإذا تقرر هذا ذكر الشافعي رحمه الله تعالى عليه قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 213] وقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ} [البقرة: 232] الآية، ثم قال: "فدل سياق الكلامين على افتراق البلوغين". ومعناه أن المراد بلوغ الأجل في الآية الأولى معاونة البلوغ لأنه إذا بلغ أجلها وانقضت عدتها فلا سبيل للزوج إلى إمساكها بالرجعة، وفي الآية الثانية: أراد به حقيقة البلوغ لأنه خاطب الأولياء بترك العضل إذا أردن النكاح وهذا يكون بعد انقضاء العدة، فأما قبل ذلك فلا

يحل للأزواج، والعرب تقول: بلغت المدينة يعني قاربت بلوغها وبمعنى حقيقة البلوغ أيضًا، فإن قال قائل: فإذا كان له أن يراجعها بعد الطلاق قبل انقضاء العدة أي: وقت شاء فكيف خص الأمر بالرجعة والقرب من انقضاء العدة؟ قلنا: فائدته أنه هو الوقت الذي إذا راجعها فيه ثم طلقها بعد الرجعة طالت العدة عليها فخص هذا المكان بالذكر لأنه [73/ أ] هو الوقت الذي يصر بها متى راجعها ثم طلقها بعدها لتطول عدتها فإنها تستأنف العدة بعد أن أشرفت على الانقضاء ألا تراه قال: {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا} [البقرة: 132]. مسألة: قال: "وللعبدِ منَ الرجعةِ بعدَ الواحدةِ ما للحرِ بعدَ الاثنتين". الفصل إذا تزوج الحر بامرأة فقد ملك عليها ثلاث طلقات إن شاء أوقعهن متفرقات أو مجتمعات فإذا أوقع الطلاق على مدخول بها فإنه يملك الرجعة بعد الواحدة والاثنتين مادامت في العدة، فإذا انقضت العدة أو استوفي العدد انقطعت الرجعة، وإذا تزوج العبد بامرأةٍ فله الرجعة بعد الطلقة الواحدة فقط، لأنه لا يملك أكثر من التطليقتين بحال ولا يفترق الحكم فيهما بين أن تكون المرأة حرةً أو أمةً لأن الاعتبار في الطلاق بالرجال دون النساء عندنا وبه قال ابن عمر وابن عباس وزيد بن ثابت وعطاء ومالك وأحمد وإسحاق رضي الله عنهم. وقال أبو حنيفة: الاعتبار بالنساء فيطلق ثلاث تطليقات وتثبت الرجعة بعد الواحدة والاثنتين وإن كان الزوج عبدًا والأمة تطلق طلقتين وتثبت الرجعة فيها بعد الواحدة فقط، وإن كان الزوج حرًا وبه قال الثوري، وروي ذلك عن علي رضي الله عنه، واحتجوا بما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان". وهذ غلط لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الطلاق بالرجال والعدة بالنساء". وقيل: لا يصح هذا مرفوعًا وإنما هو مرقوف على ابن عباس وزيد بن ثابت رضي الله عنهما، وروى أيضًا مثله عن علي رضي الله عنه [73/ ب] وروي أيضًا أن نفيع كان مملوكًا وعنده حرةٌ فطلقها بطلقتين، ثم سأل عثمان وزيد بن ثابت رضي الله عنهما فقالا: طلاقك طلاق عبدٍ وعدتها عدة حرةٍ.

وقال عمر رضي الله عنه: ينكح العبد امرأتين ويطلق تطليقتين ولأنه حق خالص للزوج يختلف بالرق والحرية فيعتبر برق وحريته بعدد المنكوحات، وأما الخبر الذي ذكروا قلنا: رواه طاهر ابن سماعيل قال أبو داود وهو منكر الحديث، ثم أراد إذا كان زوجها عبدًا، وأما خص الأمة لأن الغالب أن زوجها لا يكون إلا عبدًا فإن قال قائل: ما فوائد قول الشافعي وللعبد من الرجعة بعد الواحدة ما للحر بعد الاثنين وهلا قال ما للحر بعد الواحدة لأن الحر والعبد سواء بعد الواحدة في استحقاق الرجعة والحر بعد الاثنين كالحر بعد الواحدة، قلنا: فائدته أن الحر بعد الاثنتين ما بقي له إلا طلقة واحدةً، فإذا أوقعها فلا رجعة له، وإن كان ثلاث ما يملكه الأحرار من الطلاق، ولو قال للعبد بعد الواحدة ما للحر بعد الواحدة لا وهم بظاهر لفظه أن العبد والحر سواءٌ في العدد. مسألة: قال: "والقولُ فيما يمكنُ فيهِ انقضاءَ العدة قولها". إذا طلقها رجعيًا فادعت انقضاء عدتها لا يخلو إما: أن تكون من ذوات الإقراء أو الحمل أو الشهر، فإن كانت من ذوات الإقراء وهي التي تطهر وتحيض فذكرت أنها اعتدت ثلاثة أقراء لا يخلو، إما أن يمكن ما تقول أو لا يمكن، فإن كان ممكنًا فالقول قولها، وأقل ما يمكن أن تنقضي عدتها إن كان الطلاق في حال الطهر في اثنتين وثلاثين يومًا [74/ أ] ولحظتين وهو أن يقع الطلاق بها وقد بقي من الطهر لحضة ثم ترى الدم فهذا قرء لأنه انتقال من طهر إلى حيض ثم لحيض أقل الحيض يومًا وليلة ثم تطهر أقل الطهر خمسة عشر يومًا ثم تحيض يومًا وليلةً ثم تطهر خمسة عشر يومًا تصير اثنين وثلاثين يومًا ولحظة ثم تحيض فتلك اللحظة التي من الطهر والحيض هي اللحظة الثانية وليست هذه اللحظة في الحقيقة من العدة وتكن اثنتين به الطهر الذي هو القرء الثالث فالقرء الأول لحظة، والقرء الثاني خمسة عشرة يومًا والقرء الثالث خمسة عشر يومًا وحصل بينهما حيضان يومان وليلتان، وقال القفال: إذا قلنا: في أحد الوجهين إن الانتقال من الطهر إلى الحيض بحسب قرء أن لا يحتاج إلى اللحظة الأولى ويحمل على أنها طلقت في آخر جزءٍ من أجزاء طهرها فحاضت عقيبه فيكفيها ذلك، وإذا قلنا: لا يحسب ذلك قرءًا فصادف طلاقها آخر أجزاء الطهر لا تنقضي عدتها إلا بثمانية وأربعين يومًا وساعة. وإذا كانت أمةً فأقل ما يمكن أن يحصل لها قرآن ستة عشر يومًا ولحظتان على ما ذكرنا، وإن أقرت أن الطلاق وقع عليها في حال حيضها فأقل ما تنقضي عدتها فيه سبعة وأربعون يومًا ولحظة واحدة وهي أن يقع الطلاق في آخر جزءٍ من أجزاء حيضها فتدخل في الطهر عقيبه يكون أقل الطهر خمس عشر ثم تحيض أقل الحيض يومًا وليلةً

ثم تطهر خمسة عشر يومًا يصير سبعة وأربعين يومًا ثلاثة أطهار وخمسة وأربعين يومًا وحيضان في يومين، فإذا رأت من الحيضة الثالثة لحظة حكما بانقضاء عدتها [74/ ب] وليست هذه اللحظة من العدة على ما بينا، وإن كانت أمةً فأقل ما ينقضي عدتها فيه أحد وثلاثون يومًا ولحظة على التقدير الذي ذكرنا. فإذا تقرر هذا ينظر فإن صدقها زوجها فلا كلام، وإن كذبها فالقول قولها، فإن حلفت برئت، وإن نكلت عن اليمين حلفت وحكمنا بأن العدة ما انقضت فإن كانت رجعية فله الرجعة وهذا لأنها، وإن كانت أمينة في العدة لا بد من اليمين عند دعوى الجناية كالمدع إذا ادعى تلف الوديعة وأنكره المودع لا بد من اليمين، لو ذكرت ما لا يمكن وهو أنها ادعت انقضاء عدتها في أقل من هذه العدة بالأقراء لم يقبل قولها لأن العادة تشهد بكذبها فيما تدعيه، فإن انصرفت ثم عادت فأقرت بانقضاء عدتها فيما يمكن من وقت الطلاق يقبل منها مع اليمين والأصل في قبول قولها قوله تعالى: {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 822]، فلولا أن يقبل لم تحرج بكتمانه وهو قوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 382]، فإذا أداها يجب قبولها. وقال القفال: هذا إذا لم يعرف عادتها أو عرفنا أن عادتها أقل الطهر وأقل الحيض، فإن عرفنا لها عادةً في الطهر والحيض أكثر من ذلك فيه وجهان، أحدهما: لا يقبل قولها في أقل من ذلك لأن الظاهر بخلاف ما قالت، قال الشيخ أبو محمد الجويني: هذا هو المذهب وهو قول علي بن أبي طالب وهو الصحيح عندي، وروي أن امرأةً رفعت إلى شريح القاضي كان زوجها طلقها وقالت: حضتُ ثلاث حيض في خمس وثلاثين يومًا فلم يدر ما يقول فيها فرفع إلى علي رضي الله عنه [75/ أ] فقال: اسألوا جارتها أو جارها فإن كان حيضها كذا انقضت عدتها، والثاني: يقبل لأن ما قالته ممكن والحيض والطهر يتغيران إلى زيادةً ونقصان وعليه أصحابنا بالعراق، وقال أبو حنيفة رحمه الله: إن طلقها في الطهر فأقل ما تمضي عدتها فيه ستون يومًا وساعة فيأخذ أقل الطهر وأكثر الحيض ويقدر الطلاق في آخر أجزاء الطهر فيحسب الحيض عشرة والطهر خمسة عشر والحيض عشرةً والطهر خمسة عشر، والحيض عشرة وذلك ستون يومًا ويحتاج إلى ساعةٍ يعرف فيه الطهر، وإن كان الطلاق في حال الحيض يزد فيه طهرًا وهو خمسة عشر على تقدير أن الطلاق كان في آخر الحيض فيكون خمسة وسبعين يومًا وساعةً. وقال أبو يوسف ومحمد: يعتبر أقل الحيض وأقل الطهر كما تقول غير أنه يجعل الإقراء الحيض، وأقل الحيض عنده ثلاثة أيام فأحسب على ذلك فيعتبر تسعة وأربعين يومًا، وقال زفر: أقل ما يقبل قولها في العدة أربعة وسبعون يومًا لأنه اعتبر في أوله طهرًا كاملًا، وإن كانت من ذوات الحمل فذكرت أنها وضعت ما تنقضي به العدة، فإن كان ممكنًا فالقول قولها وأقل ما يمكن ذلك أن يكون بعد عقد النكاح وإمكان الوطئ ثمانون يومًا لأن الإنسان يكون في بطن أمه أربعين يومًا نطفةً ثم أربعين علقةً، فإذا

انقضت الثمانون فصور وتخلق فصار مضغةً مخلقةً يتبين فيه العين والأنف، فإذا قالت هذا في هذه المدة فالقول قولها، فإن صدقها فلا كلام، وإن كذبها فالقول قولها مع يمينها حرةً كانت أو أمةً لأن الإسقاط [75/ ب] أمرٌ يخفي وربما يخرج في موضع لا يحضرها شاهد وهذا هو الغالب فيقبل قولها فيه لهذا المعنى ولا يختلف فيه أصحابنا وإنما يقبل قولها فيما يتعلق بانقضاء عدتها فيه فقط، وأما في سائر الأحكام من مصيرها أم ولدٍ له أو وقوع طلاق لو كان الزوج علق الطلاق ونحو ذلك لا يقبل قولها فيه لأنها حق على غيرها. وقال القفال: إذا قلنا: التخطيط التام شرطٌ في الولد ولا تنقضي العدة إلا بالمضغة بل يحتاج إلى مضي أربعة أشهرٍ من يوم النكاح فإنه يكون أربعين أخرى مضغة ثم ينفخ فيه الروح والأول أصح، وهذا إذا ادعت سقطًا فإن قالت: ولدت ولدًا حيًا فلا بد من أن يكون من يوم النكاح ستة أشهر، وقال أبو إسحاق في هذا: لا يقبل قولها لأنه يمكنها إقامة البينة على ولادتها الولد بخلاف السقط والحيض، وعامة أصحابنا على أنه يقبل قولها فيه وهو الأصح، فإن ذكرت هذا فيما لا يمكن فلم يقبل فرجعت ثم أقرت بعد ذلك فيما يمكن يقبل قولها الآن كما قلنا: في الإقراء فلا اعتبار بكذبها السابق، وإن لم تكذب نفسها فيما قالت وأصوب هل يقبل قولها فيما يمكن؟ وجهان: وإن كانت من ذوات الشهود فإذا ذكرت انقضاء عدتها لم يرجع إليها ولا إليه بل ينظر إلى وقت الفرقة فإن انقضى زمان العدة فقد انقضت العدة، وإن اختلفا فقالت: طلقتني في أول رمضان، وقال في أول شوالٍ فالقول قوله لأن الأصل بقاءُ النكاح، وإن كان بالضد من هذا فقالت: في أول شوال وقال: بل في أول رمضان [76/ أ] قبلنا قولها على نفسها في تطويل عدتها لأنها تدعي ما يضرها وإن وقع الطلاق عليها في حالة النفاس فحمه عندنا كما لو وقع في خلال الحيض ووافقنا في هذا أبو يوسف ومحمد وقال أبو حنيفة: لا يقبل قولها في أقل من مائة يوم لأنه عنده إذا عاودها الدم في مدة الأربعين يكون دم نفاس فلا يتصور الحيض فيها ويتصور الطهر فيحتمل أنها قد رأت طهرًا في مدة الأربعين فيحتاج بعدها إلى ثلاث حيض وطهرين. مسألة: قال: "وهي محرمةٌ عليهِ تحريمَ المبتوتةِ". إذا طلقها طلقةً أو طلقتين بعد الدخول حرمت عليه تحريم المبتوتةِ فلا يحل له وطئها ولا النظر إليها بشهوة ولا بغير شهوةٍ وبه قال مالك وقال عطاء بن أبي رباح وعمرو بن دينار: لا يحل لها منها شيء أراد أن يحلفها أو لم يرد، وروي عن ابن عمر أنه طلق امرأته وكان طريقه إلى المسجد في مسكنها فكان يسلك الطريق الأخرى كراهية أن يستأذن عليها حتى يراجعها. وقيل: كان له منها ابن وكان يرى حقًا أن لا يدخل

على ابنه حتى لا يخلو بها، وقال أبو حنيفة، الرجعية مناخهُ الوطئ ووافقنا في تحريم الخلوة ولكنه أول الدليل على تحريم الوطئ ويفصلون في الخلوة بين أن يريد مراجعتها ولا يريد ذلك، ولا يفصلون في الوطئ لأنه يحصل به الرجعة دون الخلوة، وعن أحمد في تحريم الوطئ روايتان والدليل على تحريم وطئها أنها حار به إلى بينونة فكانت محرمة الوطئ كما لو أسلمت والزوج كافرٌ. مسألة: [76/ ب] قال: "ولمّا لمْ يكنْ نكاحٌ ولا طلاقٌ إلا بكلامٍ فلا تكونُ الرجعةُ إلا بكلامٍ". عندنا لا تصح الرجعة إلا بالقول مع القدرة كالنكاح سواءً، فأما الأخرس يراجع بالإشارة كما يعقد النكاح، فأما الفعل من الوطئ ومثله ولمس لا تصح الرجعة بحال وبه قال أبو قلابة من التابعين وأبو ثور وقال الأوزاعي وابن أبي ليلى والثوري وأبو حنيفة وأصحابه وأحمد: تصح الرجعة بالوطئ وزاد أبو حنيفة فقال: ويحصل أيضًا بالقبلة واللمس بشهوة والنظر إلى الفرج بشهوة، فإن لم يكن بشهوة فلا يحصل الرجعة، وقال مالك: إن نوى الرجعة بالوطئ كانت رجعةً وإلا فلا، وهذا غلط لأنه فعل ممن يصح منه القول فلا تقع به الرجعة كالقبلة بغير شهوة وأيضًا ما احتج به الشافعي رضي الله عنه وهو أنه لما لم يصح النكاح والطلاق إلا بالكلام فكذلك الرجعة، وحرره أصحابنا فقالوا: ما يقطع به الزوج عدتها ويردها إلى صلب النكاح فكذلك بالكلام كالنكاح الجديد. فإذ تقرر هذا فالقول الذي تصح به الرجعة هو أن يقول: راجعتها أو ارتجعتها أو رددتها إليَّ وهذه الألفاظ صريحة في الرجعة، وزاد القفال لفظة رابعةً فقال: وهو أن يقول: رجعت قال: وهل يحتاج إلى أن يقول رددتها إليَّ؟ وجهان: أصحهما: أنه شرط لنص الشافعي إليَّ، والثاني: يكفي أن يقول: رددتها وهو الأقيس وقيل: الصريح لفظتان راجعتك وارتجعتك وهما واحد والثانية: رددتك أو ارددتك وذكر الربيع قولًا مخرجًا في رددتك أنه لا يكون صريحًا لأن الشافعي [77/ أ] لم يذكره في القديم والإملاء وقد أنكره أصحابنا والدليل على أنه صريح أن الشرع ورد بما ذكرنا، قال الله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 822] وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر: "مُره فليراجعها"، قال أصحابنا والأولى أن يقول: راجعتك من الطلاق أو النكاح أو رددتك إليَّ زوجتي فإن لم يقل ذلك جاز. فرع لو قال: أمسكتك فالذي نصل عليه في كتبه أنه لا يكون صريحًا وفيه قول آخر: أنه صريح في الرجعة لأن الشرع ورد به قال الله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 132]،

وقال أبو حامد: فيه وجهان قال الاصطخري: يكون صريحًا، وقال غيره: لا يكون صريحًا لأنه استباحة بضع مقصود في عينه فيقف على كلمتين كالنكاح، والأول أصح وبه قال ابن أبي أحمد وهو الأقيس عندي وإذا قلنا: لا يكون صريحًا لا شك أنه كناية، فإذا نوى الرجعة يصير مراجعًا لأنه اسم يصلح للاستبقاء على النكاح قال الله تعالى: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 73]، هكذا ذكر أصحابنا، وقيل: لا تصح الرجعة بالكناية كالنكاح والأصح الأول عندي إذا قلنا: لا يعتبر فيه الإشهاد بخلاف النكاح فيعتبر فيه الشهود ولا يطلعون عليه وقيل: أمسكتك لا يكون صريحًا ولا كناية. فرع آخر لو قال: نكحتك أو تزوجتك فيه وجهان، أحدهما: يكون رجعة وهو اختيار بعض أصحابنا بخراسان، والثاني: لا يكون رجعةً وهو ظاهر المذهب لأنه لفظ يعقد به ما يقتضي عوضًا فلا يعقد به ما لا يقتضي به عوضًا كالهبة بلفظ النكاح وقيل فيه أوجه، أحدها: لا تصح به الرجعة أصلًا، والثاني: صريح فيها، والثالث: كناية فيه. [77/ ب] فرع آخر لو عقد عليها نكاحًا جديدًا قال الماسرجسي وجماعة: يحل له لأن العقد آكد في الإباحة، ألا ترى أن الشفيع لو اشترى الشقص بيت بشفعته لأن الشراء آكد في الطلب من الأخذ بغير عقد ومن أصحابنا من قال: لا تصح به الرجعة وهو اختيار ابن أبي أحمد لأن الشرع لم يرد به. فرع آخر قال في "الأم": لو قال لها وهي في العدة من طلاقٍ: إذا كان غدا فقد راجعتك، أو إذا كان يوم كذا فقد راجعتك، أو إذا قدم فلان فقد راجعتك، أو إذا فعلت كذا فقد راجعتك وكان كل ما قال: لم يكن رجعةً، فإن قال قائل: لم لا تكون رجعة كما إذا قال: إذا كان غدًا فأنت طالقٌ كان طلاقًا قيل: لأن الرجعة ليست من جنس الطلاق وإنما هي من جنس النكاح لأنها تحل له بالمراجعة كما تحل له بالنكاح في ابتداء الأمر. فرع آخر قال في "الأم": لو قال قد جعلت مراجعة امرأتي في يدك يا فلان لم يجز، ولو قال: قد وكلتك أن تزوجني فلانة جاز فالمراجعة في حال أصعب من النكاح وهذا يدل على أن التوكيل في الرجعة لا يجوز عنده. فرع آخر قال: لو قال لها: إن شئت فقد راجعتك فقالت: قد شئت لم تكن رجعةً حتى

يحدث بها رجعةً بخلاف ما لو قال: إن شئت فأنت طالق وهذا لأنه عقد فلا يتعلق بالصفات. فرع آخر لو قال لها في العدة: قد راجعتك أمس أو يوم كذا يوم ماضٍ بعد الطلاق كانت رجعية يريد به أن الرجعة يحكم بها لإقراره بها، ولو قال: رفعت الحرمة بيننا، قال الشيخ سنحي: يكون رجعة ولا ينحصر لفظ الرجعة وهذا لا يصح لأنه تختص باللفظ الشرعي تعبدًا وهو قول عامة أصحابنا. [78/ أ] فرع آخر قال: لو قال: كلما طلقتك فقد راجعتك فمتى طلقها لا تكون مراجعة لما ذكرنا. فرع آخر قال: لو قال لها: راجعتك بالمحبة أو راجعتك بالأذى أو راجعتك بالكراهية أو راجعتك بالهوان سئل فإن أراد الرجعة وقال: راجعتك بالمحبة مني لك أو راجعتك بالأذى في طلاقك كان رجعة، وإن قال: أردت قد رجعتُ إلى محبتك بعد بغضك أو إلى أذاك كما كنت أو ما أشبة ذلك لم يكن رجعةً، قال أصحابنا: وإن قيل: أن يبين كانت رجعة لأن قوله راجعتك صريح فيها وقوله بالمحبة علة للمراجعة في الظاهر وهو قوله أنت طالق لرضاء زيدٍ ولم يبين، يحمل على التعليل ووقع الطلاق في الحال. فرع آخر لو قال: قد اخترت رجعتك أو قد شئت رجعتك، فإن أراد به قد اختار أن يراجعها من بعد لم تكن رجعة، وإن أراد الرجعة في الحال وأنه قد اختار بذلك عقدها فيه وجهان، أحدهما: يصح لأن اختيار الرجعة أوكد في صحتها، والثاني: لا يصح لأنه لما صار محتملًا يسئل عنه خرج عن حكم الصريح إلى الكناية والرجعة لا تصح بالكناية. فرع آخر لو لم يذكر اسمها وكانت غائبة وقال: راجعتها صحت الرجعة إذا قلنا: لا يجب الأشهاد وإذا قلنا: لا بد من الإشهاد لا تصح الرجع. مسألة: قال: "فإنْ جامعها نوى الرجعةَ أو لا ينو بهَا فَهوْ جماعٌ شبههٍ". الفصل قد بينا أن الرجعة محرمة الوطئ وأنه إذا وطئها لا تحصل به الرجعة، فلو وطئ فالكلام فيه في أربعة أشياء، في الحد والتعزير والمهر والعدة، فأما الحد: لا يجب

على واحدٍ منهما عالمين كانا بالتحريم [78/ ب] أو جاهلين به معتقدين إباحته أو تحريمه لأنه وطئ مختلف في إباحته فأشبه الوطئ في نكاح الشغار والمتعة، وأما التعزير: فإن كانا يعتقدان تحريمه عالمين به عزرا، وإن كانا يعتقدان إباحته أو جهلا الإباحة عزرا، وإن كان أحدهما عالمًا بالتحريم والآخر جاهلًا عزر العالم والجاهل، وأما المهر: فلا يخلو إما أن يراجعها أو لا يراجعها فإن لم يراجعها في العدة يلزمه المهر قولًا واحدًا، وإن راجعها قال الشافعي رحمة الله عليه: هاهنا لها صداق مثلها وأطلق من غير تفصيل فظاهره أنه لا يسقط ذلك بالرجعة، وقال في المرأة إذا ارتدت فوطئها زوجها ثم رجعت إلى الإسلام في العدة لا مهر لها فقيل: فيهما قولان، وقيل: هما على ظاهرهما وقد بينا هذا في كتاب النكاح. فإن قيل: إيجاب المهر هاهنا يؤدي إلى إيجاب مهرين في نكاح واحدٍ قلنا: هذا المهر الثاني وجب بوطئ الشبهة دون العقد كما إذا أبانها ثم وطئها بشبهةٍ يجب المهر، فإن قيل: الرجعية عندكم بمنزلة الزوجة في صحة الطهار والإيلاء ولحوق الطلاق فلم يلزم المهر وطئها قلنا: لأن حكمها حكم الأجنبيات في تحريم الوطئ وهذا يحتاج إلى المراجعة، وإذا راجعها ملك وطئها من حين الرجعة فأوجبنا المهر لها لهذا، فإن قيل: أليس المحرمة والمظاهر عنها يحرم وطئها ولا يجب المهر وطئها؟ قيل: التحريم هاهنا بالطلاق المزيل للملك في موضوعه، فإذا لم يزل أصل الملك هاهنا وحرم الوطئ بشبهة كان ذلك لزوال الملك عن الوطئ بخلاف الإحرام والطهار. فإن قيل: إذا زال ملكه عن الوطئ ينبغي أن يزول النكاح لأن النكاح لا يصح على ما لا يملك وطئها قيل: هذا في الابتداء دون [79/ أ] الاستدامة ولهذا لا يزول النكاح ينظر بأن الردة والعدة، وإن كان لا تصح عند مقارنة الردة والعدة وقيل: هل يزول الملك بالطلاق الرجعي؟ أقوال الثالث موقوف، فإن لم يراجع بينا زوال الملك بالطلاق وهذا يزول واعتذر عن الميراث فأنه يثبت بعد زوال الزوجية فيكفي لثبوته أن يكون في قهره، وقال: لو قال: زوجاتي طوالق لا يقع على الرجعية في وجهٍ وهذ كله خلاف النص، وأما العدة: فإن كان قد مضى لهذا قرءان ثم وطئها وجب بهذا الوطئ ثلاثة أقراءٍ أولها: هذا القرء الثالث فتعتد بخمسة أقراءٍ قرآن قبل الوطئ والقرء الثالث تعتد عن الوطئ والطلاق معًا، وإنما تداخلا لأنهما لرجل واحد فإذا مضى هذا الثالث بقي قرءان من عدة الوطئ، فأما الرجعة فله أن يراجعها ما لم تنقضِ عدة الطلاق وهو إلى انقضاء القرء والثالث فإذا انقضى القرء الثالث سقطت الرجعة لأنها تبين بانقضاء الثالث ويبقى بعد الثالث قرءان عن الوطئ لا يجوز أن يراجعها فيهما لأنها بائن ولا يحل لغيره نكاحها قبل انقضاء العدتين معًا لأنها معتدة فلا ينكحها غير زوجها في العدة، ولو حبلت من هذا الوطئ تكون عدة الوطئ بالشبهة بالحمل، وهل يدخل عدة الطلاق فيها.

قال القفال: فيه وجهان، أحدهما: تدخل فإذا وضعت الحمل انقضت العدتان ويصح رجعته فيها، والثاني: لا تدخل ولكن تعدم العدة بالحمل ثم إذا وضعت تتم باقي عدة الطلاق، وهل يصح رجعته في العدة بالحمل؟ وجهان، أحدهما: له ذلك لأن له عليها عدة الطلاق وهو الأصح، والثاني: لا رجعة له فيها لأنها عدة الوطئ [79/ ب] بالشبهة وتصح رجعته في القرء الثالث بعد وضع الحمل. مسألة: قال: "ولو أشهدَ على رجعتِهَا ولا يعلمُ بذلكَ وانقضتْ عدتْهَا". الفصل إذا طلقها طلقة رجعية كان له أن يراجعها سواء كانت حاضرةً أو غائبة عالمةً أو جاهلةً بها راضيةً أو غير راضية بها، فإن كانت غائبة فراجعها صحت الرجعة، فإن لم تعلم قضت العدة على ما عرفته من الطلاق ثم تزوجت بعد العدة بغير الأول ثم جاء الأول وادعى أنه قد راجعها، وأن الثاني تزوج بها بعد الرجعة لا يخلو، إما أن يكون معه بينة أو لا بينة معه، فإن كان معه بينة بما يدعيه صحت الرجعة وحكمنا ببطلان النكاح ورددنا إلى الأول سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل كما لو أنكحها وليان فالأول أحق وأورد الشافعي على هذا الخبر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أنكح الوليان فالأول أحق" وقصد به الرد على مالكٍ فإنه قال: إذا دخل بها الثاني هاهنا فالنكاح له كما قال في الوليين: إذا أنكحاها من رجلين ودخل الثاني بها فالنكاح له، وروي هذا عن عمر رضي الله عنه. وإن لم يكن دخل بها فعن مالكٍ روايتان أحدهما: الثاني أحق والثانية الأول أحق، لأن الرجعة قد صحت فإذا تزوجت وهي زوجة الأول لم يصح نكاحها بحال كما لو لم يطلقها، وأما أثر عمر رضي الله عنه مقابل بما روي عن علي رضي الله عنه أنه سئل عن امرأة نكحت بعد انقضاء عدتها فأقام الزوج الأول بينةً أنه راجعها في العدة فقال هي امرأة الأول دخل بها الآخر أو لم يدخل فإذا ثبت هذا فإن كان الثاني ما دخل بها حلت للأول في الحال ولا شيء على الثاني، وإن كان قد دخل بها [80/ أ] فهي حرام على الأول حتى تنقضي عدتها من الثاني لأنها ليست منه كما لو وطئت بشبهة وهي تحته وجبت عليه العدة وحرمت عليه في زمان العدة حتى تنقضي. قال أصحابنا: ويحرم عليه قبلتها ولمسها بشهوة أيضًا ويلزم لها مهر مثلها، وإن لم يكن معه بينة فالخصومة مع اثنين مع الزوج الثاني ومعها أيضًا فالأولى أن يبتدي بخصومة الثاني ثم بخصومتها، فإذا بدأ الخصومة للثاني فادعى عليه أنه راجعها وأنه

نكحها بعد المراجعة لم يخل الثاني من أحد أمرين، إما أن يقر أو ينكر، فإن أقرَّ: زال النكاح في حقه كما لو اعترف أنها أخته من الرضاعة ومن اعترف بانفساخ النكاح في حقه لم يسقط المسمى من المهر فإن كان قبل الدخول فلها نصف المسمى وإن كان بعده فلها كمال المسمى، وإن أنكر فالقول قوله مع يمينه على العلم لأن الظاهر معه والأول يدعي إحداث رجعة لا يعلم بها الثاني، فإن حلف سقط دعوى الأول، وإن نكل حلف الأول فإن حلف فسخنا النكاح الثاني ثم نظر في المرأة فإن كانت مصدقة للزوج الأول سلمت إليه وكان لها على الثاني مهر المثل إن كان قد دخل بها كما ذكرنا إذا قامت البينة، وإن كانت منكرةً لم يقبل قول الزوج الثاني عليها ولزمه مهرها المسمى إن كان قد دخل بها أو نصف المسمى إن لم يكن دخل بها، وإن نكل الثاني عن اليمين وحلف الأول هل تحل يمين المدعي مع نكول المدعى عليه بحل البينة على المدعى عليه أو يحل إقرار المدعى عليه؟ قولان: فإذا قلنا: أنها كالبينة فإنما هي كالبينة في حق الثاني وحده لأنه هو الذي نكل دونها فلا يؤثر في مهرها، وإن قلنا: إنها كالإقرار فالثاني كأنه أقر بانفساخ النكاح فيقبل على نفسه [80/ ب] ولا يقبل قوله في المهر عليها وهذا كله خصومة مع الزوج الثاني فبعد ذلك بينه وبينها وكانت كالمطلقة التي لم تتزوج بعد، وقال ابن الجويني الإمام: المذهب أنه لا تدعي على الزوج الثاني لأنه لا يد له عليها وهو خلاف النص، فإذا ادعى عليها الرجعة لا يخلو، إما أن تقر أو تنكر فإن أقرت فهي زوجته، وإن أنكرت فالقول قولها مع يمينها لأن الأصل أنه لا رجعة ثم لا يخلو، إما أن يحلف أو تنكل، فإن حلفت سقطت دعوى الأول، وإن نكلت حلف الأول وكانت زوجته فإن كان الثاني ما دخل بها حلت في الحال له وإن كان قد دخل بها لم تحل له حتى تنقضي العدة من الثاني وهكذا إذا صدقة الزوج الثاني لما قدمه إلى الحاكم وادعى عليه هذا إذا بدأ بخصومته. فأما إن بدأ بخصومتها وادعى عليها الرجعة لا يخلو إما أن تقر أو تنكر فإن أقرت لم يقبل قولها على الثاني ولا يفسخ نكاحه لأنه قد تعلق به حق الزوج الثاني وتكون الخصومة بينهما على ما بيناه، وهل يجب عليها مهرها للزوج الأول؟ قال ابن أبي هريرة: يحتمل وجهين، أحدهما: يجب لأنها قرنت بضعها عليه، والثاني: لا يجب والأصح الأول، وإن أنكرت فالقول قولها وهل يختلف فيه قولان وقيل: وجهان، أحدهما: أنها لا تحلف لأنها لو أقرت خوفًا من اليمين لم يقبل إقرارها، والثاني أنها تحلف وهو الأصح لأن فيها فائدة وهو أن تقر خوفًا من اليمين فيكون عليها للأول مهر مثلها، فإذا قلنا: القول قولها بغير يمين فلا كلام. وقال القاضي الطبري: إذا قلنا: لا يمين عليها إذا أنكرت ولا مهر عليها إذا صدقت لا تسمع الدعوى عليها لأنه لا يفيد شيئًا، وإذا قلنا: القول قولها [81/ أ] مع يمينها فإن حلفت سقطت دعوى الأول، وإن نكلت حلف الأول وعليها له مهر مثلها على ما ذكرنا، فإذا فرغ من خصومتها عاد إلى الثاني فيخاصمه والخصومة بينهما على ما ذكرنا

إذا بدأ بخصومته لأن خصومته لا يختلف سواء بدأ به أو بها وإنما حكم خصومتها يختلف بالبداية بها قبله أو بعده وكل موضوع قلنا لا يقبل قولها على الثاني لتعلق حقه فمتى بانت من الثاني بطلاق أو فسخ أو موت حلت للأول بغير نكاح لأن هناك نكاحًا قائمًا ورجعة مدعاة تحل له بذلك فإذا زال المانع عادت إلى ذلك الأصل. مسألة: قال: "وإنْ ارتجعَ بغيرِ بينةِ وأقرتْ بذلكَ فهِي رجعةٌ وقالَ: ينبغيْ أنْ يشهَد". هذه مسألة مستأنفة لا تعلق لها بالأول لأنا قد بينا أن إقرارها لا يقبل في حق الثاني إذا تزوجت والقصد به أن الإشهاد على الرجعة مستحب ولا تجب وهو قوله في القديم والأم، وهو الأصح وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد في رواية، وقول الشافعي المسألة قبلها، ولو أشهد على رجعتها لأجل إثبات ما يدعيه عند نكاحها لا لأنه شرط فلا تناقض بين التعيين، وقال في "الإملاء" هو واجب، ويحكى هذا عن مالك واحتج بأنه استباحُه بضع مقصود في عينه فكان من شرطه الشهادة كالنكاح، وهذا غلط لأنه عقد ليس من شرطه الولي فلم يكن من شرطه الشهادة كالبيع وعليه النكاح، فإذا قلنا: أنه شرط واجب يحتاج أن يشهد على نفس الرجعة فإن راجعٍ بغير شهود ثم قال بعد ذلك بحضرة شاهدين: كنت راجعت لا يصح لأنه يكون إشهادًا على الإقرار بالرجعة إلا أن يقول [81/ ب] اشهدا أني راجعتها لا يضيف ذلك إلى زمان مضى فيكون ذلك ابتداء رجعةٍ وقال عمران بن الحصين في رجلٍ طلق ولم يشهد وراجع ولم يشهد: طلق في غير سنةٍ وراجع في غير سنةٍ فليشهد الآن، وإذا قلنا: لا يجب فإن راجع بشاهدين فقد أحسن، وإن راجع من غير شهادةٍ ثم أشهد على إقراره بها شاهدين كان محسنًا أيضا لئلا يجحد المراجعة بعد وجودها. فرع لو شك في طلاق امرأة قد ذكرنا فيما تقدم حكمه، وقال سفيان: يلزمه الرجعة وهذا غلط لأن الطلاق عند الشك ملغى فلا يلزمه حكمه، وحكي بشر بن الوليد عن أبي يوسف قال: جاء رجلٌ إلى أبي حنيفة وقال: لا أدري أطلقت امرأتي أم لا، فقال: هي امرأتك فذهب إلى سفيان الثوري فقال: راجعها لا تضرك الرجعة فذهب إلى شريك بن عبد الله فقال: طلقها ثم راجعها فجاء إلى زفر بن الهذيل فأخبره بمقالتهم فقال زفر: أما أبو حنيفة فأفتاك بالفقه، وأما سفيان فأفتاك بالورع والاحتياط، وأما شريك فاستضرب لك مثلًا فيه مثله مثل رجلٍ مرّ بمثقبٍ فسأل عليه منه، فأما أبو حنيفة قال: ليس عليك شيء حتى تستيقن أنه بخسٌ، وأما سفيان أمره بغسله، فإن كان طاهرًا لم يضره الغسل، وإن كان نجسًا فقد غسله، وأما شريك قال بُلْ عليه ثم اغسله.

مسألة: قال: "لو قالَ قَدْ راجعتكِ قبلَ انقضاءِ عدتكِ وقالتْ: بعدُ فالقولُ قولها". إذا طلقها طلاقًا رجعيًا ومضت مدة يمكن انقضاء عدتها فيه فقال لها: ارتجعتك اليوم وقالت هي: قد انقضت عدتي أمس قال الشافعي: فمتى الرجعة؟ في "الأم" ونقله المزني [82/ أ] القول قولها، وقال المزني: إذا لم يقرا معًا بانقضاء العدة حتى ارتجع فقد صارت امرأته فلا أقبل قولها عليه، واختلف أصحابنا في هذا، فقال ابن سريج وأبو إسحاق: وهو اختيار أبي حامدٍ في هذا ثلاث مسائل، أحدها: أن تسبق هي الإخبار فتقول: قد انقضت عدتي اليوم فقال وأنا راجعتك أمس فالقول قولها لأنها مؤمنة فيما أخبرت فإذا أخبرت، حكمنا بانقضائها وأنها بانت، وقوله قد كنت راجعتك أمس خلاف الظاهر فلا يقبل قوله عليها ويحلف لأن ما يدعيه الزوج ممكن، والثانية: أن يسبق هو فقال: راجعتك اليوم فقالت: انقضت عدتي أمس فالقول قوله كما قاله المزني لأنه لما راجعها حصلت زوجته في الظاهر وقولها قد كانت انقضت عدتي أمس خلاف الظاهر فلا يقبل قولها، قال الماسرجسي: هذا هو المذهب الصحيح، فإن رأيتم للشافعي قولًا يخالف هذا فهو مطلق متاؤلٌ على ما ذكرناه وهذا كما لو بدأ الوكيل فقال: بعت السلعة بوكالتك وقال الموكل: فسخت وكالتك قبل بيعك فالقول قول الوكيل، وإن سبق الموكل فقال: فسخت وكالتك وقال الوكيل: بعت قبل فسخك فالقول قول الموكل. والثالثة: أن يقول: قد راجعتك وقالت في زمان هذا القول منه قد انقضت عدتي فوقع إخبارها ومراجعته في وقت معًا أو قالت: انقضت عدتي فقال الزوج جوابًا لها: قد راجعتك قبل انقضاء عدتك أو قال: راجعتك في عدتك فقالت مجيبة له: قد انقضت عدتي قبل رجعتك فيكون في حكم الدعوى سواء ولا يقوى قول من سبق منهما بالدعوى إذا أجيبت بالإنكار لأن حكم قوله لم يستقر، وإذا كانا كذلك فصار فيه مستويين فالقول حينئذٍ [82/ ب] على هذا قول الزوجة دون الزوج لأنها جاز به في فسخ وقولها في حيضتها مقبول، وذكر القفال مثل هذا وقال: إذا قال: راجعتك قبل انقضاء عدتك فقالت ارتجالًا من غير فصل انقضت عدتي قبل مراجعتك يجعل كأنهما وقعا معًا ويجعل كأن عدتها انقضت قبيل إخبارها والحكم ما ذكرنا. ومن أصحابنا من قال: إذا كانا معًا يقرع بينهما فإن خرجت القرعة له فالقول قوله مع يمينه، وإن خرجت القرعة لها فالقول قولها مع يمينها لأنهما استويا في الدعوى فلا تمييز إلا بالقرعة وهذا ليس بشيء، وقال ابن أبي هريرة: ما قاله أبو إسحاق لا يصح لأن ظاهر كلام الشافعي في المختصر بخلافه لأن الزوج سبق بالرجعة وجعل القول قولها ثم قال مرةً أخرى: فيه ثلاثة أوجه، أحدها: القول قولها بكل حالٍ، والثاني:

القول قوله بكل حالٍ، والثالث: يجمع من قوليهما فيقبل قوله في الرجعة وقولها في انقضاء العدة ولا يعتبر السبق بالدعوى، وقال بعض أصحابنا: فيه ثلاثة طرق، أحدها: وهو اختيار القاضي الطبري والقاضي أبي حامد فيه قولان، والأصح أن القول قولها لأن إقامة البينة على انقضاء العدة متعددة وعلى الرجعة ممكنة، والثاني: ما قاله ابن سريج وأبو إسحاق، والثالث: أشار إليه المزني واختاره الداركي أنهما إن اتفقا في وقت انقضاء العدة واختلفا في وقت الرجعة كأن قال: راجعتك في شعبان وانقضت عدتك في رمضان وقالت: انقضت عدتي في رمضان وراجعتني في شوال فالقول قول الزوج لأن اختلافهما في الرجعة دون العدة والرجعة من فعله فيقول والله لقد راجعتك قبل انقضاء عدتك وتكون يمينه على القطع لأنها يمين إثباتٍ [83/ أ] وإن اتفقا على وقت الرجعة واختلفا في انقضاء العدة كأنها قالت: انقضت عدتي في شعبان وراجعتني في رمضان فقال الزوج: راجعتك في رمضان وانقضت عدتك في شوال فالقول قول الزوجة مع يمينها لأنه خلاف في انقضاء العدة لا في وقت الرجعة. فرع آخر إذا قلنا: القول قولها فأقرت بعد ذلك بالرجعة قبل إقرارها وكانت زوجة له كمن أقر بعدما جحد يقبل إقراره فإن قيل: ما الفرق بين هذا وبين ما لو أقرت برضاع بينها وبين رجل ثم نكحته لا يجوز، وإن رجعت عن إقرارها وكذلك نص الشافعي في "الإملاء" على أنه لو زوجها أخوها فادعت أنها ما أذنت فيه فالقول قولها وبطل النكاح، فلو رجعت وأقرت بأنها كانت قد أذنت لم يحل له إلا بنكاح جديدٍ، قلنا: الفرق أنها لا تقر برضاع إلا عن علم وأصل فلا يقبل تكذبها نفسها وهاهنا ينكر رجعته على ظاهر بحال وتنفي فعل الغير فيجوز أن يثبت عندها فعله فتقر به ولأن ذلك تحريم مؤبد وهاهنا قد له بعقدٍ فجاز إن تقدم بثبوت الرجعة فنصدقها وهذا ضعيف والفرق الأول أولى، وأما المسألة الثانية: فالفرق أنه ليس هناك نكاح يستند إليه إقرارها بعد إنكارها وهاهنا نكاح ثابت تستند إليه الرجعة والأصل بقاء ذلك النكاح فبان الفرق بينهما، ولو ادعت أنه طلقها فنكل عن اليمين فردت اليمين إليها فحلفت ثم كذبت نفسها لا يقبل وإن احتمل لأنه استند قولها أي ثبت باليمين. فرع آخر لو قالا: نعلم وجود الرجعة وإقرارها بانقضاء العدة ولا نعلم أيهما أسبق قال القفال: الأصل بناء العدة وثبوت الرجعة وهذا عندي صحيح على قياس [83/ ب] قول أبي إسحاق، فأما على ظاهر المذهب ينبغي أن يكون القول قولها لأن الأصل بناء التحريم وأن لا رجعة.

فرع آخر قال في "الأم": لو قال بعد انقضاء العدة: كنت راجعتك في العدة وصدقته فالرجعة ثابتة فإن كذبته بعد التصديق أو كذبته قبل التصديق ثم صدقته كانت الرجعة ثابتة، وكذلك لو ادعت أنه طلقها ثلاثًا ثم كذبت نفسها حل لها الاجتماع معه. فرع آخر قال: لو قال: قد أعلمتني بأن عدتها قد انقضت ثم راجعتها لم يكن هذا الإقرار بأن عدتها قد انقضت فإن قالت بعد هذا: ما انقضت عدتي كانت الرجعة ثابتةً لأنها قد تكذب فيما أعلمت به. فرع آخر قال: لو كانت زوجته أمة فصدقته كانت كالحرة في هذا فلو كذبه مولاها لم أقبل قوله لأن التحليل بالرجعة والتحريم حق لها وذكر في الشامل: أن الذي يجيء على المذهب في الموضع الذي قلنا: القول قول الحرة القول قول السيد والزوج وبه قال أبو يوسف ومحمد: إن النكاح حق للسيد ولهذا يثبت بإقراره فكذلك الرجعة ويخالف انقضاء العدة لأنه لا طريق إلى معرفتها إلا من جهتها، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد: القول قولها أيضًا وهذا غلط على المذهب والنص الذي ذكرنا حكاه أصحابنا. فرع آخر قال: ولو كانت امرأته صبية لم تحض أو معتومة فقال زوجها بعد انقضاء عدتها قد راجعتها في العدة لم أصدقه إلا ببينة تقوم له سواء صدقه وليها أو لا وسواء كان وليها أبًا أو غير أب. فرع آخر لو كانت صحيحةٌ فعرض بها مرضٌ أذهب عقلها ثم قال بعد انقضاء عدتها: قد كنت راجعتها [84/ أ] في العدة لم تكن زوجته، وإن أفاقت فصدقته كانت زوجته بالإقرار وكانت الرجعة عليها ثابتة. مسألة: قال: "ولو دخلَ بها ثمَ قالَ: أصبتكِ وقالتْ: لم تصبني". الفصل قال: إذا طلقها طلاقًا رجعيًا بعد أن خلا بها ثم اختلفا في الإصابة فقالت: طلقتني قبل الإصابة فلا عدة عليَّ ولا رجعة لك، وقال: بل طلقتك بعد الإصابة فعليك العدة ولي الرجعة فالقول قولها ولا رجعة لأن الظاهر أنها بانت بالطلاق والأصل أن لا

إصابة، فإذا حلفت لا عدة ولا رجعة ولا نفقة ولا سكنى لها، وأما المهر إن كان مقبوضًا فلا شيء له فيه لأنه لا يدعيه، وإن لم يكن مقبوضًا فلها نصفه، وإن كان مقرًا أن كله لها لأنها لا تدعي أكثر من نصفه ومعنى قوله هاهنا دخل بها إلى خلا بها، فإن قيل: أليس إذا ادعى العنين أنه أصابها وأنكرت فالقول قوله إذا كانت ثيبًا فما الفرق قلنا: لأن الأصل بقاء النكاح وثبوته والمرأة تدعي معنى يزيله فكان القول قوله بخلاف هاهنا. قال بعض أصحابنا: هذا على قوله الجديد، فأما على قوله القديم أن الخلوة موجبة لأحكام الوطئ من العدة وتقرير المهر أو دلالة على الإصابة فالقول قول من يثبت الإصابة فتثبت العدة والرجعة، وقال في "الحاوي" في الخلوة: ثلاثة أحوال، أحدها: قوله القديم أنها كالإصابة في المهر والعدة واستحقاق النفقة والسكنى: وهل تكون كالإصابة في ثبوت الرجعة؟ وجهان: والأظهر ثبوتها، والثاني: وجودها لعدمها فلا حكم لها. والثالث: قاله في "الإملاء" وبه قال مالك هي كاليد لمدعي الإصابة منهما. [84/ ب] مسألة: قال: "ولو قالتْ: أصابني وأنكرَ فعلِهَا العدةُ". الفصل إذا ادعت هي الإصابة وأنكرها الزوج فالقول قوله ولا رجعة له ولا نفقة لها ولا سكنى وعليها العدة لاعترافها، وأما المهر فلها نصفه فإن كان في يده أعطاها ذلك، وإن كان مقبوضًا ردت النصف لأنه يدعيه وقد حلف عليه هذا على قوله الجديد على ما ذكرنا. مسألة: قال: "ولو ارتدت بعدَ طلاقِهَا فارتجعَها مرتدةً فِي العدةِ لمْ تكنْ رجعةٌ". الفصل إذا طلقها طلاقًا رجعيًا فارتدت في العدة فراجعها وهي مرتدةً فالرجعة باطلة لأن الرجعة يمنعها عن أن يجري إلى بينونة والردة يجريها إليها فتنافيا فلم تصح، وقال المزني: الرجعة موقوفة فإن عادت إلى الإسلام قبل انقضاء العدة تبين أن الرجعة صحيحة، وإن أقامت على الردة حتى انقضت العدة تبينا أن الرجعة باطلة وهذا غلط لأن استباحة بضع مقصود في عينه فلا يصح في حال الردة كالنكاح، واحتج المزني على هذا بالطلاق أنه إذا طلقها في الردة كان موقوفًا فكذلك الرجعة قلنا: الطلاق رفع النكاح فيلائم معنى الردة لأنها موجبة للفسخ والرجعة ضد ذلك ولأن الطلاق يعلق على الصفات فجاز أن يقع موقوفًا بخلاف الرجعة.

باب المطلقة ثلاثا

باب المطلقة ثلاثا مسألة: قال: قال الله تعالى في المطلقة الطلقة الثالثة: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230]. الفصل إذا طلق امرأته ثلاثا لم يحل له إلا بخمس شرائط تعتد منه، وتعقد الثاني ويدخل بها ويطلقها [85/ أ] أو ينفسخ نكاحها أو يموت عنها وتعتد منه، فإذا وجدت هذه الشرائط الخمسة حل له العقد عليها لأن التحريم الثابت بالطلقات الثلاث يرتفع بشرطين عقد الثاني وإصابته لها وهما شرطا الإباحة وبه قال على وابن عباس وابن عمر وعائشة رضي الله عنهم وجمهور العلماء، وقال سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب تحل المطلقة الثلاث بمجرد النكاح دون الإصابة واحتج فظاهر قوله تعالى: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ولم يشترط الإصابة وهذا غلط لما روى الشافعي بإسناده عن عائشة رضي الله عنها إنها قالت: جاءت امرأة رفاعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إني كنت عند رفاعة فطلقني فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير وإنما معه مثل هدبه الثوب فقال: كذبت يا رسول الله إني لأعركها عرك الأديم العكآلي وهذان ابناي من غيرها فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " تريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ". قال في "الأم": ولا تكون العسيلة إلا بالذكر في القبل، وقال أبو عبيد: العسيلة لذة الجماع وقيل: سماها بها تشبيها بالعسل وهى تصغير العسل وقيل: الهاء أثبتت فيها على نية اللذة وقيل: العسل يؤنث ويذكر ولأن ابن المنذر يقول: في هذا دلالة على إن واقعها وهى مغمى عليها لا تحس باللذة لا تحل للزوج الأول لأنها لم تذوق العسيلة لعدم الحس، وقيل: إنها الإنزال وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " العسيلة الجماع " وأما الآية قلنا: شرطنا الوطء بالجزء الذي ذكرنا كما شرطنا طلاق الزوج الثاني وانقضاء عدتها منه بالإجماع. مسألة: قال: [85/ ب] فإذا أصابها بنكاح صحيح فغيب الحشفة في فرجها فقد ذاق العسلية. ظاهرة يقتضى أن الإصابة بنكاح صحيح شرط في الإباحة وهو قوله الجديد، وإذا

أوطئها في نكاح فاسد لا تحصل الإباحة، وقال في "القديم ": تقع به الإباحة لأنه في حكم النكاح الصحيح في المهر والعدة والنسب واسم النكاح، وأما إذا وطئها بسببه لا في النكاح ثم أن يجد على فراشه فوطئها ظنا أنها امرأته لا تحل للزوج الأول قولا واحدا، لأنه ليس يوطئ في نكاح، وقال القفال: قال بعض أصحابنا: فيه قولان أيضا وهذا غلط، وأما إذا وطئها في ملك اليمين بأن ظن أنها أمته لا يحل للزوج الأول بلا إشكال، وإن كان أحدهما غالبا بفساد النكاح ويعتقد انه زاني لا يبيح قولا واحدا ذكره ابن الجوينى، قال عبيدة السلماني وفقهاء المدينة: لا تحل له إلا من الباب الذي حرمت عليه، وأما القدر الذي يتعلق به الإباحة أن يغيب الحشفة في الفرج ولا يعتبر الزيادة لأن جميع أحكام الوطئ يتعلق بهذا القدر. مسألة: قال: " وسواء قوى الجماع أو ضعيفة ". الفصل الإباحة للزوج الأول يتعلق بالتقاء الختانين، قال في "الأم": والتقاؤه بذهاب العذرة، فإن أفضاها فقد التقيا وزيادة ومعنى قوله ضعيف الجماع من هو أهل الجماع لأن في جماعه ضعفا فأما من لا يقوم علية ولا ينتشر ذكره وإنما هو كالحزقة فأدخلته بإصبعها لم تقع به الإباحة لأنه ليس من أهل الجماع فهو كالطفل وبمنزلة إدخال الأصبع في الفرج، وقيل: إذا كان ممن ينتشر ذكره يبيح وإن لم ينتشر وأدخلت هي، وقيل في وطئ الصبي وإن كان ابن سنة يبيح لأنه يوجب الغسل [86/ أ] ولا يتبعض أحكام الوطئ وهذا لخلاف النص عندي، وقال في (الحاوي): قال أبو حامد: إذا ادخله غير منتشر بيده أو يدها لا يبيح ولا يتعلق به أحكام الطئ ولا غسل لأن عرف الوطئ لا يتناوله ولأن العسيلة بالشهوة وهى مع الانتشار وهذا لا يصح بل تغييب الحشفة في الفرج يوجب أحكام الوطئ، وإن كان الذكر غير منتشر لأن لين الذكر ضعفه وانتشاره قوته وضعف الجماع وقوته سواء إذا أمكن دخول الحشفة مع لينا ولأن اللذة غير معتبرة كما لو كان نومها أو نومه. مسألة: قال: " أو كان ذلك من صبى مراهق أو محبوب بقى له ما يغيبه تغييب غير الخصي وسواء كل زوج وزوجة ". قوله: تغييب غير الخصي يوهم أن تغييب الخصي يباين العجل وليس كذلك، فإن الخصي الذي بقى ذكره وقطعت انثياه إذا غيب الحشفة في الفرج كان كالفحل في تحليلها للزوج الأول لأنه لا يشترط الإنزال، ولعل الشافعي أراد بالخصي هاهنا الممسوح وهو الذي لم يبق من ذكره شيء أو الذي بقي من ذكره ما نقص عن قدر الحشفة فمتى كان بهذه الصفة لم يتصور منه الإصابة أو التحليل للزوج الأول، وإذا كان

مجبوبًا بقي من ذكره ما يبلغ مقدار الحشفة عند التغييب كان حكمه خلاف حكم الخصي الذي صورناه وحصل به التحليل للأول وقيل: يعتبر في المجبوب إذا بقى زيادة على قدر الحشفة منه أو يعتبر تغييب جميعه وجهان، واعلم أن الوطئ من أي زوج بالغ كان يوجب الإباحة للزوج الأول سواء عبدا أو حرا مسلما أو كافرا، فأما إذا كان صبيا قال في "الأم": فإن كان جماعه يقع موقع جماع الكبير ولا لذة فيه فلا يتعلق به إخلال، وقال مالك: لا يحصل الإباحة إلا بوطئ البالغ [86 / ب] وهذا غلط لأنه وطئ ممن يجامع مثله في نكاح صحيح كوطئ البالغ، قال أصحابنا: والمخرج لمن أراد الاستحلال ويحترز من فساد العقد ومن امتناع الثاني من الطلاق ومن إحبالها أن تتزوج من عبد مراهق لم يبلغ، فإذا أصابها وهب لها فيبطل النكاح بالهبة لأنها ملكت زوجها وحلت الأول وأمنت الإجبال لعدم البلوغ، وقال القاضي أبو علي البندنيجي في جامعه: إن كان ممن يجامع مثله بأن يكون ابن تسع سنين أباح، وإن كان أصغر من هذا لا يبح. مسألة: قال: " ولو أصابهَا صائمة أو محرمةً أساء وقَدْ أحلهَا". إذا أصاب الزوج الثاني المرأة المطلقة ثلاثا وهو محرم أو صائم أو هي محرمة أو صائمة يأثم بذلك ولكنها تحل للأول لأنه وطئ في نكاح صحيح، وكذلك إذا وطئها في حال حيضها تحل للأول، وقال مالك وأحمد: لا تحل بالوطئ في هذه الأحوال لأنها معصية محرمة فلا ترفع التحريم وهذا غلط لما ذكرنا، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا حتى تذوقي عسيلته " ولم يفصل. مسألة: قال: ولو أصاب الذمية زوج ذمي في نكاح صحيح أحلها للمسلم. الفصل إذا كانت الذمية عند المسلم فطلقها ثلاثًا ثم نحكها ذمي آخر ووطئها حلت للأول ولا فرق بين أن يكونا مسلمين أو كتابيين أو أحدهما مسلما والآخر كتابيا، وهذا لأن أنكحه المشركين عندنا صحيحة، وأكده الشافعي بأن الإحصان يحصل بوطئه لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زينا وكانا قد أحصنا فالتحليل أولى أن يحصل به وقال مالك: وطئ الذمي لا يبيح للأول بناء على أصله أن نكاح المشرك باطل وقد ذكرناه في باب النكاح، وقيل قوله بنكاح صحيح [87/ أ] يحتمل معان أحدها أن يريد به نكاحا عقدوه بشاهدين مسلمين على شرائط الإسلام ويحتمل أن يريد به نكاحا لا في غير محرم ويحتمل أنه أراد نكاحا يعقدون فيه التأييد، والأصح أنه أراد نكاحا عقدوه للتأييد على غير محرم سواء كان فيه شهود أو لا إذا لم يكن في عدة أو شرط خيار أو كان في

العدة أو شرط الخيار ولكنها انقضت في الشرك فيعطى أحكام الصحة لهذا النكاح، ولو وطئها الزوج على ظن أنها أجنبية وأنه يفجر بها فبانت زوجه أباحها للأول. مسألة: قال: " ولو كانتْ الإصابةُ بعد ردة أحدهما". الفصل إذا طلق امرأته ثلاثا ثم تزوجت بزوج آخر ثم ارتد أحد الزوجين أو هما فوطئها الزوج في حال الردة ثم طلقها بعد ذلك فأنه لا يبيحها ذلك الوطئ للأول لأن الوطئ تتعلق به الإباحة هو الوطئ في ملك تام وهاهنا الملك غير تام لأنها يجرى إلى بينونة، وإذا لم يسلم المرتد منهما حكمنا بالفرقة مستندا إلى حالة الردة، وقال المزني: هذه المسألة مستحيلة لأنه إن كانت الردة بعد الإصابة فقد أباحتها الإصابة فلا معنى للوطئ في الردة، وإن كانت الردة قبل الإصابة فقد بانت بنفس الردة لأنها ردة قبل الدخول، قلنا: هذه المسألة صحيحة ويجوز أن يرتدا قبل الإصابة ولا يقع الفسخ من وجوه: أحدها: إذا قلنا بقوله القديم إن الخلوة كالإصابة، والثاني: على القولين إذا وطئها في الموضع المكروه تجب العدة، والثالث: إذا وطئها دون الفرج فسبق الماء إلى فرجها تجب العدة ولا يحصل به الحل، وقال القفال للشافعي، لم يقل: ثم رجع المرتد منهما قبل انقضاء العدة حتى يلزمه ما قاله المزني بل قال: ثم رجع المرتد منهما في الجملة وإن كانت البينونة (87/ ب) واقعة بالردة لم يكن بد من ذكر الرجوع إذ المرتدة لا تحل لأحد فكيف يقال لا تحل للزوج الأول؟ والمقصود من الكلام أن الزنا ووطئ الشبهة لا يبيحا، ولو أصابها في عدة طلاق رجعى لا تحل للزوج الأول أيضا، لأنها محرمة عليه من جميع الوجوه بخلاف ما لو كانت صائمة أو محرمة. مسألة: قال " ولو ذكرتْ أنهَا نكحتْ نكاحًا صحيحًا وأصيبتْ ولا تعلمُ حلتْ له". الفصل إذا طلقها ثلاثا وغابت عنه ثم عادت فذكرت أنها قضت عدتها ثم زوجا غيره فطلقها واعتدت منه وكان الزمان ممكنا لما ذكر نظر، فإن وقع في قلبه صدقها ابتداء نكاحها، وإن وقع في قلبه الكذب منها فالورع أن لا يبتدئ نكاحها، فإن خالف وفعل جاز لأنها مؤتمنة فيما تخبر به وكذلك إن لم يترجح الكذب على الصدق فالورع تركه ولكنها تحل، وقال أبو إسحاق: يستحب للزوج البحث عن ذلك حتى يعلم فإن لم يفعل فلا شيء عليه وقيل: إذا وقع في قلبه كذبها لا يجوز نكاحها وليس بشيء. فرع لو رجعت عن ذلك وقالت: كذبت نظر فإن كان ذلك قبل أن يتزوج بها لم يكن له

أن يتزوج وإن كان ذلك بعد ما تزوج بها لم يقبل قولها في بطلان النكاح. فرع آخر لو قالت: حللت لك فإني نكحت فلانا وأصابني وطلقني وأنكر ذلك الرجل فالقول قولها لأن ذلك أجنبي لا يلتفت إلى قوله كما لو قال: الزوجان تزوجنا بشهادة فلان وفلان فأنكر الشاهدان ذلك فالقول قولهما دون الشاهدين. فرع آخر لو قال الزوج الأول لها: كذبت ما أصابك الزوج الثاني لم يكن له نكاحها فإن رجع عن هذا وقال: صدقت قد أصابك قبلنا ذلك منه لأنه قد ينسى فينكر ثم يتذكر فنجزيه نص عليه. [88 / أ] فرع آخر لو قال رجل: تزوجتها وأصبتها فحلت لك وأنكرت فالقول قولها بلا إشكال. فرع آخر لو طلقها طلقة رجعية ثم غاب عنها فقضت العدة فقال لها رجل: لا تنكحي كيلا يكون راجعك وهو غائب لم يقبل عنه وكان لها النكاح لأن الأصل أن لا رجعة. فرع آخر لو كانت أمة وطلقها زوجها طلاقا لا يحل له إلا بعد زوج مثل إن كان عبدا فطلقها طلقتين أو حرا فطلقها ثلاثا فاعتدت منه فوطئها سيدها لم يبحها لزوجها، فإن اشتراها زوجها من سيدها فهل تحل له الوطئ بملك اليمين؟ المنصوص أنها لا تحل له إلا بعد زوج نص عليه في كتاب "الظهار" والدليل عليه أنه لو لاعنها ثم اشتراها لا تحل له كذلك هاهنا، ولأن الله تعالى قال: {فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] والتحريم عام، ومن أصحابنا من قال: تحل له لأن الطلاق حرمها من حيث الزوجية لا بملك اليمين، وقيل: فيه وجهان، والأصح ما ذكرنا. فرع آخر قال في "الأم": لو أصابها في الوضع المكروه لم يحلها للأول لا ما فارقت عسيلته وهذا لا خلاف فيه. فرع آخر لو غاب مع زوجته ثم عاد فذكر موت زوجته حل لأختها أن تتزوج به ويكون قوله في الموت مقبولا، ولو غابت زوجته مع أختها ثم قدمت الأخرى فذكرت له موت زوجته لم يحل له أن يتزوج هذه القادمة إلا بعد يقين موتها الفرق أن الزوج مالك لبضع

زوجته فلم يحل له العقد على أختها إلا بعد أن يتيقن زوال ملكه، ولا ملك للأخت فجاز أن يرجع أن قول الزوج في موت أختها. فرع آخر لو تزوجت بشرط أنه إذا أحلها للزوج الأول لم يكن بينهما نكاح قد ذكرنا أنه أفسد من نكاح المتعة، ولو أصابها قال في القديم [88 / ب] يحلها لأنها موطوءة باسم النكاح فعلى هذا الوطئ في كل نكاح فاسد مثله، وقيل: لعله إطلاق النبي صلى الله عليه وسلم اسم الإحلال عليه في نهيه عنه فعلى هذا لا يقاس عليه الوطئ في سائر الأنكحة الفاسدة على ما ذكرنا من قبل. فرع آخر إذا طلق إحدى امرأتيه فقبل أن يعين المطلقة راجعها وقال: راجعت المطلقة منكما، فإن كان الطلاق معينا في الأصل ففي صحة الرجعة بعد حصول الاشتباه وجهان، أحدهما: لا تصح الرجعة لأنه معنى يفقد استباحة البضع فلا يصح في غير المعينة كالنكاح. والثاني: يصح لأن الرجعة تقتضي رفع حكم الطلاق فلما صح الطلاق مع فقد التعيين صحت الرجعة أيضا. فرع آخر إذا قال لها بعد الدخول: أنت طالق إن قدم فلان فلم يعلم هل قدم أم لا؟ فراجع ثم علم أنه كان قدم هل تصح الرجعة؟ فيه وجهان، والأصح أنه لا يصح وأصل هذا إذا باع مال مورثه ولم يعلم أنه كان صار له أرثا فظهر أنه كان له عند البيع ففي صحة البيع قولان، ولو استبرأ زوجته الأمة المطلقة الرجعية فإن كانت بقية العدة لا تزيد على الاستبراء أو تزيد فالاستبراء كان وهي حيضه تامة، وإن كانت بقيته أقل من الاستبراء فيه وجهان ويخالف إذا استبرأ زوجته حل له وطئها في الحال في أصح الوجهين ولا يحتاج إلى الاستبراء لأنها كانت محللة والرجعية كانت محرمة فلم يرتفع التحريم بمجرد الملك والله أعلم.

كتاب الإيلاء

كتاب الإيلاء قال: قال الله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:266] الآية [89/ أ]. الإيلاء في اللغة اليمين على كل شيء على كل شيء يقال: إلى يولى إبلاء فهو مولى آلي حلف والآلية اليمين وجمعها الأياء ويقال: آلي يتآلي فهو متآلي أي حلف، وقال تعالى: {وَلَا يَاتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ} [النور: 22] أي: لا يحلف، وقال صلى الله عليه وسلم: " تألي أن لا يفعل خيرا"، وقال أيضا: " من يتآلي على الله يكذبه". وقال الشاعر: وأكذب ما يكون أبو المعلى إذا آلي يمينا بالطلاق وأما الإيلاء في الشرع: فهو اليمين على فعل مخصوص وهو أن يحلف على ترك الوطئ مدة واختلف العلماء في تلك المدة فقال ابن عباس: لا يكون موليا حتى يحلف لا يطأها أبدا أو يطلق ذلك فإن الإطلاق يقتضى التأييد، وقال الحسن وابن أبى ليلى والنخعي وقتادة وحماد وإسحاق: أي مدة حلف عليها يكون موليا، وإن كانت يوما واحتجوا بظاهر الآية، وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: لا يكون موليًا حتى يحلف أنه لا يطأها أربعة أشهر فما زاد، وقال الشافعي ومالك وأحمد وأبو ثور: لا يكون موليا حتى تزيد المدة على أربعة أشهر ولا حد للزيادة ويكفي أقل القليل ويظهر حكم الإيلاء في الماثم بقصد الأضرار فإن ذلك القليل لا يكفي الموقف والمطالبة ويخرج عن حكم الإيلاء بمضيه، وفي أربعة أشهر وما دونها لا يكون موليا ولكن يكون خالعًا إن وطئها ووجبت الكفارة، وإن ترك وطئها لم يتوجه عليها المطالبة بالفئة ولا بالطلاق وفائدة الخلاف مع أبى حنيفة أنة عندنا إذا آلي منها أكثر من أربعة أشهر أجل أربعة أشهر وهذه المدة تكون حقا له كالأجل لمن عليه الدين فإذا مضت المدة [89/ ب] لم يقع بها الطلاق ولكنه يطالب بالفئة لا بالطلاق، وإن وطئ قبل انقضاء المدة فقد عجل الحق قبل محله، وإذا آلي أربعة أشهر لا يكون له حكم الإيلاء لأنه لا ينبغي زمان الوقف بعد انقضاء الأربعة الأشهر وعند أبى حنيفة إذا آلي أكثر من أربعة أشهر فمضت أربعة أشهر ولم يطأها وقعت تطليقه ثانية ولا معنى للوقف عنده، وإذا آلي أربعة أشهر فانقضت يقع الطلاق أيضًا وبه قال ابن مسعود وابن عباس وزيد بن ثابت والأوزاعي رضي الله عنهم، وكان ابن مسعود رضي الله عنه يقرأ الآية فإن فاؤوا فيهن، وبقولنا

قال عمر وعثمان وعلى وابن عمر وعائشة ومجاهد وعطاء وسليمان بن يسار ومالك وأحمد وإسحاق وأبو عبيد رضي الله عنهم، وقال سليمان بن يسار: أدركت بضعة عشر نفسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يوقفون المولى، وقال سعيد بن المسيب وسعيد بن حبير والزهري وأبو بكر بن عبد الرحمن وابن شبرمة يقع بانقضاء المدة طلقة رجعية والدليل على بطلان قول ابن عباس قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة:266] ولم يفرق بين أن يكون على التأييد أو آلي مدة لأن الضرر يلحقها بترك وطئها أكثر من أربعة أشهر فكان موليا كما لو أطلق، والدليل على بطلان قول الحسن أن الله تعالى أمر بوقف المولي لها بلحقها بالضرر وترك وطئها باليمين وهذا الضرر لا يكون في يوم ونحوه فلا معنى لإثبات حكمه، والدليل على بطلان قول أبى حنيفة أنه يمين الله تعالى على منع حق من حقها فلا يقع بها الطلاق كاليمين على ترك نفقتها. فرع لو حلف على خير الوطئ لا يكون لها حكم الإيلاء [90/ أ] وقال أبو قلابة والنخعي: الإيلاء الحلف على مسأة زوجته سواء كانت على الوطئ أو على غيره إذا قصد الإضرار بها وهذا غلط لأنه لا يعظم قصد الإضرار إلا باليمين على ترك الوطئ وبه قال جماعة الصحابة والعلماء. فرع آخر اختلف أصحابنا في الإيلاء هل عمل به في صدر الإسلام قبل نسخه؟ فقال بعضهم: عمل به قبل النسخ ثم نسخ آلي ما استقر عليه حكمه، وقال جمهور أصحابنا: لم يعمل به قبل نسخه وإنما روى أبو هريرة وجابر رضي الله عنهما آلي من نسائه شهرا ثم نزل إليهن ليلة تسع وعشرين وقال عمر رضي الله عنه يا رسول الله أطلقت نساءك؟ فقال: " لا ولكنى اليت شهرًا"، وقال الشافعي في الأم: كانت الفرقة في الجاهلية ثلاثة بالطلاق والظهار والإيلاء فنقل الله تعالى الإيلاء والظهار عما كانا عليه في الجاهلية وبقي حكم الطلاق على ما كان عليه. مسألة: قال: "والمولي مَنْ حلفَ يمين يلزمُه بهَا كفارةٌ". الفصل إذا آلي من امرأته نظر فإن كانت يمينه بالله تعالى كان موليًا قولًا واحدًا وإن كانت بغير الله تعالى مثل الطلاق والعتاق أو صدقة المال أو الصوم أو الحج أو نحو ذلك

فهل يكون موليًا قولان، قال في القديم: لا يكون موليا وبه قال أحمد في أظهر الروايتين لأن الله تعالى قال للذين يولون من نسائهم والإيلاء المطلق إنما هو بالله تعالى وقد قالوا: فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم، وإنما يدخل الغفران في اليمين بالله تعالى والحنث فيها، وقال في الجديد: يكون موليا وبه قال مالك وأبو حنيفة وجماعة العلماء [90/ ب] ووجهه أن الإيلاء هو الحلف ويسمى هذا حالفا ولهذا لو قال: إن حلفت فامرأتي طالق ثم حلف هكذا يقع الطلاق ولأنها يمين لا يمكنه الوطئ معها بعد التربص إلا بضرر فأشبه اليمين بالله تعالى. فرع لو قال: إن وطئتك فلله على أن أقف دارى كان موليا ولو قال: فداري وقف لا يكون موليا لأنها لا تصير وفقا بخلاف ما لو قال فعبدي حر. فرع آخر لو قال: إن وطئتك فأنت على حرامٌ فإن أراد طلاقًا كان موليًا وإن أطلق فوجهان بناء على أنه هل يجب الكفارة بإطلاق أم لا. فرع آخر لو قال: إن وطئتك فلله على أن أصلى ركعتين يكون موليا في قوله الجديد، وقال أبو حنيفة: لا يكون موليا لأنه لا يتعلق بها مال وهذا غلط لأنها تجب بالنذر وما وجب بالنذر كان موليا بالحلف به كالصوم والحج وأما ما ذكره لا يصح لأن الصلاة يحتاج إلى الستر والماء وهو مال. فرع آخر إذا خالف ووطئ قال في "القديم": لا كفارة عليه لأن الله تعالى قال: {أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة 226] وهذا يقتضي العفو عن الكفارة ولأنه كان طلاق الجاهلية ولكنه آخر في شرعنا إلى مدة ولا كفارة في الطلاق، وقال في "الجديد": عليه الكفارة وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والجماعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه"، وأما الغفران لا يدل على سقوط الكفارة كما لو ناب وكان الحنث طاعة. مسألة: قال: ولا يلزمَهُ الإيلاءُ حتى يصرحَ بأحد أسماءِ الجماعِ [91/ أ] الفصل ألفاظ الإيلاء على أربعة أضربٍ، ضرب هو صريح في الحكم ولا يدين فيما بينه

وبين الله تعالى مثل أن يقول: لا أنيكك أولا أدخل ذكري في فرجك أولا أغيب ذكري في فرجك هذا في البكر والثيب، أو يقول في البكر خاصة لا افتضك بذكري، فإذا حلف بواحد من هذه الألفاظ كان موليا، وإن قال: لم أرد به الإيلاء لم يقبل قوله وهذا أبلغ من تصريح الطلاق لأن قوله لا أنيكك لا يحتمل غير هذا الفعل والطلاق يحتمل غير الطلاق من الوثاق، وكذلك لو قال: لا أجامعك بذكري في فرجك ولم يقل بذكري في قوله لا افتضك، قال أبو حامد: يكون صريحا أيضا. وقال القاضي أبو حامد، والقاضي الطبري: لا يكون صريحا في الباطن، فإن قال: أردت به الافتضاض بالأصبع يقبل لأنه يحمل وهذا أصح. والضرب الثاني: ظاهره يكون موليا به في الحكم ويدين فيما بينه وبين الله تعالى، وهو قوله: لا أجامعك أو أطأك أو لا أصيبك فإن قال: لم أرد به الإيلاء بل أردت لا أطأها برجلي أو لا أجامعها بيدي أو لا أصيبها بيدي لا يقبل منه في الحكم ويقبل منه فيما بين وبين الله تعالى لأنه بين لها عرف العادة في الوطئ فكان إيلاء في الحكم ويحتمل ما نواه فيقبل فيما بينه وبين الله تعالى كما يقول في قوله: أنت طالق ثم قال: أردت من وثاق. والضرب الثالث: كناية في الحكم وفيما بينه وبين الله تعالى لقوله لا يجمع رأسي ورأسك شيء أو لا جمعتهما مخدة أو ليطولن تركى جماعك أو لأسؤنك أولاغيظنك ونحو هذا وكل ذلك كناية أن نوى به الإيلاء يكون إيلاء، وإن لم ينو (91/ ب) لا يكون شيئا وهذا لأن هذه الأشياء كلها يحتمل الوطئ وغيره وليس مع أحد الاحتمالين ما يرجح به من عرف شرع ولا عادة، وكان كناية بكل حال. والرابع: مختلف فيه مثل قوله لا باشرتك لا لامستك لا بضاعتك لا غشيتك لا لمستك لا قربتك لا اقضي إليك لا افترشتك ففي هذه الألفاظ قولان، قال في "القديم ": ظاهره الجماع إلا أن يريد عين الجماع بقوله لا أجامعك وبه قال أحمد: وهذا لأنه ثبت فيه عرف الاستعمال، قال الله تعالى: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة:187] وقال: {وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وأراد به الجماع. وقال في "الحديد": هو كناية في الحكم وفيما بينه وبين الله تعالى، كقوله لأسونك فلا يكون إيلاء في الحكم إلا أن يريد الإيلاء، وهذا لأنه حقيقة في غير الجماع لأن المباشرة من التقاء البشرتين وذلك أكثره فيما دون الفرج والقرب من المقاربة واللمس قد يكون بالبدن واليد ويخالف لفظ الجماع، لأنه اقترن به القربى الظاهر. وقال القاضي الطبري: لفظ الإصابة من هذه الجملة والأصح أنه كناية في الحكم أيضا لأن عرف الاستعمال لم يوجد في الإصابة أيضا فلا يكون صريحا، وهذا ذكره القاضي الماوردي، وقيل: هاهنا ضرب خامس: وهو مالا يكون صريحا ولا كناية

كقوله لا وحشتك أو أخرتك أو ضربتك لا يكون شيئا، وقال بعض أصحابنا بخراسان: لفظ الجماع صريح وهو من الضرب الأول قال وفي سبعة ألفاظ [92/ أ] قولان: المباعلة والمباضع والوطئ والدخول واللمس والمس والإصابة أحدهما: أنها صريحة. والثاني: أنها كناية، وفي لفظ القربان طريقان وقيل: قول واحد أنها كناية، والصحيح ما ذكرنا، وقال صاحب "الحاوي": لو قال: لا وطئتك بذكرى أو لا جامعتك بفرجي فيه وجهان، أحدهما: أنه صريح في الظاهر والباطن، والثاني: أنه صريح في الظاهر دون الباطن، لأنه يحتمل لا أطاك بفرجي دون الفرج لا أجامعك بذكري دون الفرج وفي ثلاثة ألفاظ: لا باضعتك لا باشرتك لا لمستك قولان، أحدهما: قاله في "القديم" هي صريحة في الظاهر كناية في الباطن يكون موليا في حالين إذا أراد أو أطلق لا يكون موليا في حال إذا لم يرد، والثاني: قاله في الجديد هي كناية في الظاهر والباطن وفي ثلاثة ألفاظ: لا أصبيتك ولأغشيتك ولا لمستك طريقان، أحدهما: قولان، والثاني: قول واحد أنها كناية في الظاهر والباطن، وحكي عن أبى حنيفة أنة قال: قوله لا باضعتك صريح في الجماع لأنه مشتق من البضع وهو الفرج فلا يحتمل غيره وهذا غلط لأنه يحتمل غيره لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فاطمة بضعة مني" وأراد قطعة من بدني. فرع النية في ألفاظ الكتابات على ثلاثة أقسام، أحدها: أن ينوي الجماع دون المدة وهو في قوله لا يجمع رأسي ورأسك شيء وقوله لا دخلت عليَّ ولا دخلت عليك ونحو هذا، فإذا نوى به الجماع كان موليا، وإن لم ينو مدة لأن إطلاق هذا يقتضي التأييد، والثاني: إن ينوي المدة دون الحمل وهو قوله [92/ ب]: ليطولن تركي جماعك فإن نوي بالطول أكثر من أربعة أشهر كان موليا، غلا فلا، ولا يحتاج إلى أن ينوي الجماع لأنه صرح به. والثالث: أن ينوي الجمع والمدة جميعاً فلا يكون موليا ما لم ينويهما وهو قوله لتطولن غيبتي ونحوهن. فصل قال في "الأم":لو قال: والله لأجامنعك إلا جماع سوء قلنا: فسر فإن قال: أردت الوطئ في الدبر فهو مولي لأنه حلف لا يطأها في القبل، وإن قال: أردت بالسوء القدر الذي لا يبلغ التقاء الختانين كان موليا أيضا، وإن قال: أردت بالسوء وطئا ضعيفا لكنه يجاوز التقاء الختانين لم يكن مولياً.

فرع لو قال: والله لا جامعتك جماع سوء لم يكن موليا بحال سواء فسره بالوطئ في الدبر أو بالوطئ الذي لا يبلغ التقاء الختانين، أو بالوطئ الضعيف لأن كل هذا ما منع نفسه به عن الوطئ الذي تخرج به عن حكم الإيلاء. فرع آخر لو قال: والله لا أغتسل منك أو لا أجنب منك سئل فإن قال: أردت بة أني لا أنزل منك وأنا أرى أن لا يجب الغسل من التقاء الختانين لم يكن موليا في الحكم لأنه لم يحلف على تركه الوطئ، وإنما حلف على ترك الإنزال، وإن قال: أردت أن أصيبها فلا أغتسل منها حتى أصيب غريها فاغتسل منه قال الشافعي: دين أيضا يريد به أنة لا يكون موليا في الحكم، وإن قال: أردت أن أصيبها لا اغتسل منها، وإن وجب علي الغسل، قال الشافعي: لم يدين في القضاء ودين فيما بينه وبين الله تعالى، وإنما لم يقبل في القضاء لأنه تأول فاسد. [93/ أ] مسألة: قال: لو قال: والله لا أجامعك في دبرك فهو محسن. إذا قال والله لا أجامعك في دبرك لا يكون موليا ويكون ومحسنا بهذه اليمين لأن عليه أن يمتنع منه، وهكذا لو قال: والله لا أجامعك في الموضع المكروه، وحكي عن مالك أنه مولي وهو غلط عليه لأن الصحيح أنه رجع عن أباحه إتيان النساء في أدبارهن. مسألة: قال: ولو قال: والله لا أقربك خمسة أشهر ثم إذا مضت خمسة أشهر فو الله لا أقربك سنة. فصل الأصل فيه أنه إذا أطلق الإيلاء بتربص أربعة أشهر وتوقف للفي أو الطلاق، فإن فاء فقد وفاها حقها، وإن أطلق نظر فإن كان الطلاق بائنا فلا كلام، وإن كان رجعيا نظر فإن لم يراجع حتى بانت فلا كلام، وإن راجع لم تحتسب عليه هذه المدة وتضرب المدة من حق راجع، فإذا مضت أربعة أشهر وقف ليفي أو يطلق وعلى هذا أبدا حتى يفنى طلاقه، فإذا أثبت هذا رجعنا إلى مسألة الكتاب وهى: إذا قال: فو الله لا أقربك خمسة أشهر فإذا انقضت فو الله لا أقربك سنة فهما يمينان مطلقان الأولى مطلقة معجلة والثانية: يمين نصفه فهي لقوله: إذا جاء رأس الشهر فو الله لا أقربك سنة يكون صحيحا والحكم فيهما انه مريض، فإذا مضيت أربعة أشهر طولب بالنية أو الطلاق، فإن فاء وهو أن يطأها فقد وفاها حقها من هذه اليمين وسقطت اليمين وسقطت اليمين الحنث، وإن دافع

حتى انقضت خمسة أشهر فقد عصى يمنع الحق ولكنه قد بطل حكم الإيلاء الأول، وإن طلق فقد وفاها حقها أيضا من هذه اليمين، فإن لم يراجع بانت وإن راجع لم يلزمه فيما بقى [93/ ب] من مدة اليمين شيء فيزول حكمها أعنى حكم الإيلاء لأن حكم اليمين من حيث الكفارة باق في مدة الشهر الخامس حتى إذا وطئ فيه تلزمه الكفارة. فإذا انقضت المدة الأولى وهي خمسة أشهر فقد دخل وقت اليمين الثانية فيوقف أربعة أشهر، ثم إن وفاها فقد وفاها حقها، وإن دافع حتى إذا مضت السنة خرج من حكم الإيلاء، وإن طلق نظر فإن تركها حتى انقضت العدة بانت، وإن راجع لم تحتسب عليه المدة إلى حين المراجعة لأنها جارية إلى بينونة ثم ينظر إلى ما بقي من السنة، فإن بقي مدة التربص وهو أكثر من أربعة أشهر تربص ووقف بعد انقضائها، وإن كان قد بقي أربعة أشهر أو أقل زال حكم الإيلاء وبقي حكم يمينه فمتى وطئها قبل انقضاء السنة فقد حنث، وإن بانت منه بانقضاء العدة ثم نحكها وقد بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر فإن قلنا: تعود اليمين في النكاح الجديد وقفناه إذا مضت أربعة أشهر من يوم نكاحه وإن قلنا لا تعود اليمين بطل حكمه ولا كلام. فرع لو قال: والله لا أقربك خمسة أشهر، ثم قال عقبيه: والله لا أقربك سنة فهو مولي بيمينين مدة أحدهما أطول من الأخرى فتتربص أربعة أشهر ثم يوقف فإن فاء خرج منهما وحنث فيهما وهل يلزمه كفارة واحدة أو كفارتان؟ قولان أحدهما: يلزمه كفارتان لأنهما يمينان. والثاني: يلزمه كفارة واحدة لأن الحنث فيهما وقع بفعل واحد، وكذلك لو قال: والله لا أطعم اليوم شيئا ثم قال والله لا أكل الخبز ثم أكل بل يلزمه كفارة أو كفارتان على هذين القولين فإن طعم أولا شيئا غير الخبز ثم أكل [94/ أ] الخبز فعليه كفارتان قولا واحدا، وإن أكل الخبز أولا ثم شيئا أخر لم يلزمه بالشيء الأخر كفارة، وفي الخبز القولان كما ذكرنا، وهذا إذا فاء في الأشهر الخمسة، فإن فاء في بقية السنة فعليه كفارة واحدة قولا واحدا، وإن كان قد دافع حتى انقضت المدة بأن خرج من اليمينين، وإن كان قد طلق فإن لم يراجع فلا كلام، وإن راجع فإن بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر وقف مرة أخرى كما ذكرنا، وإلا زال حكم الإيلاء وبقي حكم اليمين في أنه إذا وطئ قبل انقضاء السنة يحنث ويلزمه الكفارة، ومن أصحابنا من قال في هذه المسألة: يكون بعد السنة بعد مضى خمسة أشهر كالسنة الأولى لأن الخمسة الأشهر قد تعلقت بها اليمين الأولة فلا تحمل الثانية على التكرار وهذا غلط لأن كل واحدة من اليمين لو انفردت كانت كعدتها عقيب الحلف، فكذلك إذا اجتمعت، وأما ما ذكره لا يصح لأن اليمين الثانية أفادت زيادة في المدة وتعلق بها كفارة أخرى ويخالف المسألة الأولى لأنه علق يمينه بزمان بعد مدة فلم يتعلق بالحال.

فرع آخر إذا قال: والله لا وطئتك سنة ثم قال: والله لا وطئتك خمسة أشهر فهل تدخل الخمسة الأشهر في السنة وجهان أحدهما: تدخل فيها إذا تأخرت كما تدخل فيها إذا تقدمت فقال: والله لا وطئتك خمسة أشهر ثم قال: والله لا وطئتك سنة فعلي هذا يكون إيلاء واحدا على سنة واحدة بعضها يمين واحدة وهي سبعة أشهر من أولها إن حنت فيها لزمته كفارة خمسة أشهر بعدها بيمينين إن حنت فيها فيه قولان أحدهما: كفارة. والثاني: كفارتان. [94/ ب] والثاني: إن الخمسة الأشهر لم تدخل في السنة بخلاف ما تقدمت لأن له الزيادة على المدة وليس له النقصان من المدة، فإذا كان الثاني ناقصا وليس له النقصان حمل على الاستئناف، وإذا كان الباقي زائلا وله الزيادة حمل على التداخل فعلى هذا يكون مؤلا سنة وخمسة أشهر بيمينين وهل يكون ذلك إيلاء واحدا أو إيلاءين وجهان أحدهما: يكون إيلاء واحدا يوقف فيه وقفا واحدا ولا يجب عليه إذا وطئ في أحد الزمانين إلا كفارة واحدة لأن أحد الزمانين لم يدخل في الأخر، والثاني: وهو الأظهر إنهما إيلاءان مدة الأول منهما سنة ومدة الثاني خمسة أشهر ويوقف في كل واحد منهما ويضرب له مدة التربص ولا يفي دفعة في أحدهما عن دفعة في الأخر، فإن وطئ فيهما لزمه كفارتان. فرع آخر لو قال: والله لا أطال ثلاثة أشهر، فإذا مضت فو الله لا أطاك ثلاثة أشهر لم يكن موليا، وإن قال ذلك عشرين مرة لأن كل يمين لم تزد مدتها على أربعة أشهر، ولذلك لو قال: والله لا أطاك أربعة أشهر فإذا انقضت فوالله لا أطأك أربعة أشهر فإذا انقضت فو الله لا أطأك أربعة أشهر لم يكن موليا، وهل يأثم به إثم المولى؟ يحتمل وجهين، ومن أصحابنا من قال: يكون موليا لأنه منع نفسه من الوطئ أكثر من أربعة أشهر بأيمان ولا فرق بين أن يمنع بيمين واحدة أو بأيمان ولأنه لا يمكنه الوطئ بعد أربع أشهر ألا يحنث من الوطئ أيد الحكم اليمين ولا يكون موليا وهذا حسن ولكن الأول ظاهر المذهب [95/ أ] لأن اليمين الأولى لو انفردت لم يكن موليا والحكم يتعلق بها دون غيرها فلا يصير موليا بضم مثله إليه. فرع آخر لو قال: والله لا أطاك أربعة أشهر فإذا مضت فو الله لا أطاك سنة يكون موليا وفي ابتداء مدة الوقف وجهان أحدهما: بعد مضي أربعة أشهر إذا قلنا في المسألة السابقة بالوجه الأول والثاني يوقف من الأربعة الأشهر إذا قلنا هناك بالوجه الثاني. فرع آخر لو قال: والله لا أطأك أربعة أشهر فإذا انقضت فو الله لا أطأك خمسة أشهر فإذا انقضت فو الله لا أطأك أربعة أشهر بقية وجهان أحدهما: يكون موليا في الحال ويتربص

به أربعة أشهر والثاني: لا يكون موليا حتى تمضي أربعة أشهر ثم يصير موليا ثم إذا مضت خمسة أشهر زال حكم الإيلاء. فرع آخر لو قال: والله لا أطأك أربعة أشهر والله لا أطأك أربعة أشهر، ففي تداخل الزمانين وجهان أحدهما: يتداخلان حملا على تكرار التأكيد فعلى هذا لا يكون موليا لقصوره عن مدة الإيلاء. والثاني: لا يتداخلان ويكون مدة المنع ثمانية أشهر لكنها بيمينين فعلى هذا هل يجرى عليه حكم الإيلاء؟ وجهان بناء على الوجهين فيما لو قال: والله لا أطأك سنة والله لا أطاك خمسة أشهر ولم يجعل أخذ الزمانين داخلا في الأخر هل يكون إيلاء واحدا أو إيلاءين؟ على وجهين، فإذا جعلنا ذاك إيلاء واحدا جعلنا هذا موليا، وإن جعلنا ذلك إيلاءين لم يجعل هذا موليا لأن كل واحد من الزمانين يقصر عن مدة الإيلاء. مسألة: قال: " إن قرتبك فعلى صوم هذا الشهر كله لم يكن موليا" [95/ ب]. الفصل إذا قال: إن قربتك فلله علي صوم هذا الشهر كله لم يكن موليا قولا واحدا، أما على قوله القديم فلأنها ليست يمينا بالله، وأما على قوله الجديد فلأن المولي من لا يمكنه الفيئة بعد التربص إلا بضرر وهذا يمكنه النية بعد التربص يعتبر ضرر لأنه إذا وطئ لم يجب عليه شيء بهذا النذر فإن الشهر قد فات فهو كما لو قال: إن وطئتك فلله على صوم أمس لا يكون موليا فإن قيل: أليس إذا قال: لله علي أن أصوم اليوم الذي تقدم فيه فلان انعقد نذره، وإذا قدم بالنهار لم يمكنه صوم ما مضى من النهار ثم يصح النذر بعد ذلك قلنا: لأنه يمكنه أن يصوم جميع اليوم وهو إذا عرف انه يدخل غدا أصبح صائما فإذا قدم أتمه فيكون الصوم من وقت القدوم واجبا، فأما الصوم في الشهر الماضي محال ولا سبيل إليه فافترقا، فإذا ثبت هذا الحكم نذره مراعى فإن لم يطأ حتى مضى الشهر انحل النذر، وإن وطئ قبل انقضاء الشهر وجد شرط نذره وهو نذر لجاج وغضب فيه قولان أحدهما: أنه يخير بين الوفاء بما قاله من الصيام، ومن أن يكفر كفارة اليمين وهذا قد بقي عليه بعض الشهر فأما أو بصومه أو يكفر كفارة يمين وهو الذي نص عليه هاهنا، والثاني: يلزمه الوفاء بما قاله وبه قال أبو حنيفة، وقيل: فيه قول ثالث: يلزمه كفارة يمين فقط وهو اختيار القفال. فرع لو نكر الشهر فقال: إن قربتك فلله على صوم شهرا وسمى شهرا يأتي بعد أربعة

أشهر مثل إن قال في أول رمضان: إن قربتك فلله علي أن أصوم محرم أو صفر كان موليا على قوله الجديد لأنه لا يمنه الوطئ بعد أربعة أشهرا لا بلزوم شيء لأن الوفاء به ممكن إذا حنث فالحكم فيما يلزمه على ما ذكرنا (96/ أ) من الأقوال وعلى هذا لو قال: إن قربتك فعلي صوم هذه السنة فإن كان قد بقي من السنة أكثر من أربعة أشهر فهو مولي وإلا فلا، ولو قال: صوم سنة كان موليا. فرع آخر لو قال: والله لا أقربك إن شئت قال في "الأم":لا يكون موليا إلا أن تشاء فإن شاءت فهو مولي ولو قال: والله لا أقربك كلما شئت، فإن قال: أردت به كلما شئت أن لا أقربك فإني لا أقربك كان موليا إذا شاءت، ولو قال أردت به أني إنما أقربك إذا شئت أنا فأما كلما شئت أنت فلا أقربك قال الشافعي لا يكون موليا. فرع آخر لو قال: إن قربتك فعلي صوم الشهر الذي أطأك فيه موليا على ما ذكرناه، فإن وطئها في شهر لزمه بقية ذلك الشهر على قول، وهل يلزمه صوم اليوم الذي وطئها؟ فيه وجهان بناء على أنه إذا قال لله علي أن أصوم هذا اليوم هل يلزمه؟ وجهان أحدهما: يلزمه إلا أن لا يمكنه أن يصوم ذلك اليوم لأن الصوم لا يتبعض فيقضي يوما، والثاني: لا يلزمه شيء ذكره القفال وهو صحيح ظاهر. مسألة: قال: ولو قال: إن قربتك فأنت طالق ثلاثا وقف، فإن فاء فإذا غابت الحشفة طلقت ثلاثا، فإن أخرجه ثم أدخله بعد فعليه مهر مثلها الفصل لفظ القربان كناية وفي جميع المواضع التي ذكرها الشافعي وغيره لا على قصد أنه صريح أو كناية ولكنه أحسن في عبارة الجماع، فإذا ثبت هذا نقول: إذا حلفت بالطلاق الثلاث لا تقربها كان موليا على قوله الجديد فيوقف أربعة أشهر، فإذا مضت يقا له: إما أن نختار الطلاق [96/ ب] أو اختار الفيء، فإن اختار الطلاق فطلقها طلقة رجعية فقد وفاها حقها لهذا التربص ثم ينظر فإن تركها حتى انقضت عدتها بانت وسقط الإيلاء، وإن راجعها استأنف التربص ثانيا لأنه لا يمكنه الفعل بعد التربص إلا بضرر أيضا وعلى هذا حتى يستوفي عدد الطلاق ثم إذا نكحت زوجا أخر ثم عادت إلى الأول هل يعود الإيلاء في القديم؟ قولان، وفي "الجديد" لا يعود قولا واحدا، وإن اختار الفيئة فالمذهب المنصوص إن له ذلك. وقال ابن خير: إن وحده ليس له ذلك ويكلف الطلاق لأنه إذا أولج في فرجها

حرمت عليه فلم يجز الإقدام عليه كالصائم إذا تحقق بخبر صادق أنه لم يبق إلى طلع الفجر إلا قدر إيلاج الذكر دون إخراجه حرم عليه الإيلاج، وإن كان في زمان الإباحة بتحريم ما بعد الإيلاج في زمان الحظر وهذا غلط لأن الإيلاج يصادف الزوجية ثم تبين بعد حصول الإيلاج، ولو قال له رجل: ادخل دارى ولا تقم فيه استباح الدخول بالإذن، وإن وجب عليه الخروج لمنعه ويكون الخروج، وإن كان في زمان الحظر مباحا لأنه نزل لذلك هاهنا ولا يدخل تحت القدرة عن زيادة الحشفة. وأما الصائم إذا أخبرة بني فيه وجهان أحدهما: لا يحرم عليه الإيلاج لوجوده في زمان الإباحة، وإن كان النزول في زمان الحظر وعليه جماعة من أصحابنا، والثاني: يحرم عليه، والفرق أن التحريم قد يطرأ على الصائم بغير الإيلاج فجاز أن يحرم عليه الإيلاج والمولى لا يطرأ عليه التحريم بغير الإيلاج فلم يحرم عليه الإيلاج، فإذا تقرر هذا فإذا أولج قدر الحشفة وقع الطلاق وخرج من حكم الإيلاء فإن أخرج [97/ أ] في الحال لم يلزمه بالإخراج شيء لأنه لم يتجاوز إلى محظور فهو كما لو أحرم لابسا للمخيط ثم نزع عقيب الإحرام لا فدية عليه، ثم إن أولج ثانيا قال أصحابنا: إن كانا عالمين بوقوع الطلاق بالإيلاجة الأولى وتحريمها عليه كانا زانيين ويلزمهما الحد، وإن كانا جاهلين كان وطء شبهة فيجب مهر المثل ولا حد ووجه الشبهة فيه أنه يجوزان بجهلا ويعتقدا أن الإيلاجة الثانية مع الأولى وطئ واحد لأن الوطئ هو الإدخال والإخراج وهذا اختيار القفال والقاضي الطبري وجماعة وهو القياس والصحيح، وقال أبو حامد: ظاهر المذهب أنه لا يلزمهما الحد، وإن كانا عالميين لأنه نص فقال: إن أخرجه ثم أدخله بعد فعليه مهر مثلها ووجه أن هذا الفعل في العادة كالجماع الواحد وكان تحليل أوله شبهة في تحريم اخرة، وهذا لا يصح لأنه إيلاج مستأنف بعد العلم بالتحريم فلا يتعلق حكمه بالأول وتأويل نص الشافعي في الجاهل: وقيل: إن قضى وطرة بالأول يلزم المهر بالثاني وإلا فلا، فإذا قلنا: لأحد فلها المهر ويعزر، وإذا قلنا: يلزم الحد وكانا عالمين لا يلزم المهر لها، وإن كانا جاهلين عزرا ويلزم المهر لها، وإن كانت الإيلاجة الثانية مع الإيلاجة الأولى منسوبتين إلى وطئ واحد لأنه لما تميزت الأولى عن الثانية في التحريم حتى حلت الأولى وحرمت الثانية تميزت في المهر، وإن كانتا من وطئ واحد ولهذا لو تكرر الوطئ في نكاح مائة مرة لم يجب إلا مهر واحد، ولو اختلف حكمه بأن وطئ مرة بنكاح ومرة بشبهة تميز حكمهما ووجب مهران ثم الإيلاجة الثالثة والرابعة في حكم الثانية لاستواء الكل (97/ ب) في الحكم، وإن كان الرجل عالما والمرأة جاهلة أو عالمة ولكنهما لا تقدر على دفعه يلزم المهر لها وفي حده وجهان، وإذا كان الرجل جاهلا والمرأة عالمة به ففي وجوب الحد عليها وجهان، والمهر على هذين الوجهين، وقد ذكرنا من قبل أن حكمه الحد معتبر بكل واحد منهما وحكم المهر معتبر بهما وحكم النسب والعدة معتبر به وفي تحريم المصاهرة وجهان.

قال القفال: عندي أنه معتبر به فأن كان عالما فماءه فاسد لا يثبت به تحريم المصاهرة في الجانبين ولا تحرم عليه أمها وابنتها ولا تحرم على أبيه وابنه، والوجه الثاني: يعتبر بكل واحد منهما ويثبت عند الشفعة في إحداهما، وان مكث على ذلك أو أكمل الإيلاج فقد أساء ولا حد عليه سواء كان عالما أو جاهلا وسواء استدام حركة الوطئ حتى أنزل أو لم يستدمها حتى أخرج لأنها إيلاجه واحدة أولها مباح وأخرها فلا حد لاجتماع التحليل والتحريم في الفعل الواحد شبهة يدرأ بها الحد. وقال بعض أصحابنا بخراسان: يلزمه الحد كما يلزمه كفارة رمضان إذا مكث مجامعا وهذا غلط وهل يلزمه المهر، ظاهر قوله هاهنا أنه لا مهر عليه لأنه قال: فأن أخرجه ثم أدخله بعد فعليه مهر مثلها فدل على أنه إذا لم يفعل هكذا ومكث لا يلزمه شيء، ومن أصحابنا من قال: يلزمه المهر لأنه قال في كتاب الصيام إذا طلع الفجر وهو مجامع فمكث أفسد صومه وقضى وكفر فجعل المكث كالابتداء في وجوب الكفارة وهذا هو القياس، ومن اختار القول الأول فرق بأنها إيلاجه واحدة لا يتميز حكمها فإذا لم يجب بابتدائها مهر لم يجب باستدامتها مهر والكفارة في الصوم تتعلق بشيئين الزمان والاستدامة فلما كان [98 / أ] الزمان معتبرا جاز أن تميز به حكم الابتداء وحكم الابتداء وحكم الاستدامة ولأن إيجاب المهر هاهنا بالاستدامة يقضى إلى إيجاب مهرين بوطء واحد وهو أن تكون مفوضة غير مدخول بها فيجب لها بالتقاء الختانين مهر وباستدامة الإيلاج مهر أخر وهذا لا يجوز، والكفارة لا توجب إلا واحدة فافترقا وقيل في الكفارة والمهر قولان على سبيل النقل والتحريج وليس بشيء مسألة: قال: وان أبى أن يفئ طلق عليه واحدة. الفصل كل من إلى ايلاء شرعيا كان له التربص أربعة أشهر لا يتوجه عليه فيهن مطالبة بنية ولا طلاق، فان فعل ذلك فقد قدم حقا لم يجب عليه قبل محله وان لم يف لم يطلق حتى تنقضي المدة، فإذا انقضت وقفناه وطالبنا بالنية أو بالطلاق، فان فاء انحلت الايلاء أو زالت اليمين لأنه قد حنث فيها، وأن طلق طلقة واحدة فقد وفاها حقها لهذا التربص، فان لم يف ولم يطلق فالسلطان لا مدخل له في النية ولكنه هل يطلق عليه، قال في "الجديد": يطلق عليه وبه قال مالك وأحمد في رواية، وقال في "القديم": فيه قولان، أحدهما: هذا، والثاني: لا يطلق عليه بل يضيق عليه حتى يكون هو الذي يطلق وهو ضعيف والدليل على بطلانه أنه حق لمعين تدخله النيابة، فإذا امتنع من إيفائه يستوفيه الحاكم كسائر الحقوق، وإذا قلنا: أنه لا يطلق الحاكم يحبس ويعزر حتى يطلق، فإذا طلقها طلقة فقد وفاها حقها لهذا التربص، فان زاد على طلقة واحدة فقد

تطوع بالفضل، وإذا قلنا: يطلق عليه السلطان فلا يزيد على واحدة لأنه لا ينوب عنه في أكثر مما يجب عليه [98 / ب] سواء طلق هو أو السلطان فإنها طلقة رجعية إذا كان بعد الدخول ثم ينظر، فان لم يراجع فلا كلام وان راجع ضربت له مدة أخرى من حين الرجعة، فإذا انقضت وقفناه فأن فاء أو طلق وإلا طلق على ما ذكرناه، ويفعل كذلك حتى ينقضي طلاق ذلك الملك ثلاثا، وقال أبو ثور يطلق القاضي تطليقه ثانية لأنها فرقة لدفع الضرر فساءه فرقة العنة وهذا غلط لأن ذلك فسخ وليس بطلان وهذا طلاق مجرد صادق اعتداد لم يستوف عدده فلا يخلو عن الرجعة، فان قيل: خالفتهم نص القرآن لأن الله تعالى ضرب المدة للمولى أربعة أشهر وأنتم تضربون له ثلاث مدد إذا كان إطلاق رجعيا، قلنا: أمر الله تعالى ضرب المدة في الابتداء أربعة أشهر ونحن نقول به فأما بعد الرجعة والطلاق فلم يذكر الله تعالى ولكنا قسنا على الابتداء. مسألة: قال: ولو قال: أنت على حرام يريد تحريمها بلا طلاق أو اليمين بتحريمها فليس بمول. إذا قال لها: أنت علي حرام ونوى تحريمها بلا طلاق أو اليمين بتحريمها لا يكون موليا لأنه يتعلق فيه الكفارة باللفظ، وإذا وطئها لم يلزمه شيء والمولى من يخشى بالوطء لزوم شيء، ولو قال: إن وطئتك فأنت على حرام يصير موليا لأنه أي وقت وطئها يلزمه الكفارة سواء قلنا: أنه صريح في إيجاب الكفارة أو قلنا: أنه كناية وهو لوي التحريم وهذا على قوله الجديد، فأما قوله القديم لا يكون موليا لأنه حلف بغير الله. فرع ولو قال: أن وطئتك فأمتي على حرام ونوى العتاق أو نوى تحريم عينها يكون موليا أيضا على هذا القول [99 / أ]. فرع أخر لو قال لها: أنت على حرام وقال: نويت أنها حرام على أن أصبتها فنيته قد خالفت ظاهر لفظه لأن ظاهر قوله أنت على حرام يوجب تعجيل الكفارة في الحال، ونيته أنها حرام عليه أن أصابها يوجب تأخير الكفارة إلى الإصابة وهذا يحتمل يدين فيه لأن الكفارة حق الله تعالى وقد اعترف بالايلاء وفيه حق للزوجة فوجب أن يصير بذلك موليا، ومن أصحابنا من قال: لا يكون موليا ولا يقبل قوله في الحكم وهذا غلط لما ذكرنا. مسألة: قال "ولو قال: إذا قربتك فغلامي حر عن ظهاري حر عن ظهاري إن تظاهرت لم يكن موليا حتى يظاهر".

الأصل فيه أنه علق عتق عبده بشرطين إصابته وظاهره فان وجد أعتق العبد، وأن وجد أحدهما لم يعتق، كما لو قال: إن دخلت الدار وأكلت الخبز فأنت حر لا يعتق ما لم يدخل الدار ويأكل الخبز جميعا، وإذا وجد الشرطان عتق العبد بعدم الظاهر على الإصابة أو الإصابة على الظهار وعلى كل حال فبهذا القدر من القول لا يكون موليا لأنه يمكنه النية من غير ضرر، فان العتق لا يقع بوجود أحد الشرطين ثم ينظر، فان لم يصبها ولم يظاهر فلا كلام، وان فعل ذلك لا يخلو أما أن يقدم الإصابة أو الظهار فان قدم الإصابة خرج من الايلاء وله الإصابة بعد هذا متى شاء من غير ضرر عليه فيه لأن عتق عبده بعد الإصابة يكون شيء أخر وهو الظهار، فان تظاهرت بعد ذلك عتق العبد لوجود الصفتين ولا خلاف بين أصحابنا أنه لا يجزيه عن الظهار، واختلفوا في تعليله فقال ابن أبى هريرة: إنما لم يجز لأنه يقع العتق بالحنث فلا يجوز عن شيئين حنث وظهار، وقال أبو إسحاق [99 / ب] وغيره: إنما لم يجز لأن إيقاع العتق تقدم الظهار وإنما يجوز العتق عن الظهار إذا كان الإيقاع متأخرا عن الظهار وهذا أصح. وقد نص الشافعي في نظير هذه المسألة على مثل هذا التعليل فقال: ولو قال لعبده: أنت حر الساعة عن طهارى أن تظاهرت كان حرا في الحال ولم يجزه أن تظهر لأنه لم يكن بظهار ولم يكن سبب منه ولم يقل أن العتق وقع بالحنث هذا إذا قدم الإصابة فان قدم الظهار أولا لم يعتق العبد ولكنه صار الآن على صفة قد منع نفسه من جماعه بعد التربص إلا بضرر وهو عتق العبد فهل يكون موليا أم لا؟ على القولين لأنها يمين بغير الله تعالى، فإذا قلنا: صار موليا تربص أربعة أشهر، فإذا مضت طولب بالنية، فان فاء عتق العبد بوجود الصفة ولم يجزه عن الظهار قولا واحدا لما ذكرنا من التعليلين، فأما إذا تظاهر منها أولا لذمته الكفارة، ثم قال: أن قربتك فغلامي هذا حر عن طهارى صار موليا في الحال، فإذا انقضت أربعة أشهر طولب فان طلق فلا تفريع عليه، وان وطئ فقد عتق العبد ويجزيه عن الظهار على قول أبي إسحاق لأنه إعتاق متأخر عن الظهار، ولا يجزيه على قول ابن أبي هريرة لأنه عتق وقع بالحنث، فان قيل: فعلى قول أبي إسحاق ينبغي إن لا يكون موليا لأنه لا ضرر عليه بعتق هذا العبد فأنه متى عتق وقع عن كفارته قيل: يكون موليا على قوله أيضا، لأنه وان عتق عن ظهاره فقد لحقه الضرر لأن العبد تعين فيه وقد يكون أعلى ثمنا من عبد يجزئه في الكفارة وقد يكون فيه معاني يستضر بعتقه لها لثقته وأمانته وطاعته له فلا يترك ينفك عن الضرر وكان موليا. [100 / أ] مسألة: قال: " ولو قال: إن قربتك فلله على أن أعتق فلانا عن ظهارى وهو مظاهر لم يكن موليا ".

الفصل إذا تظاهر منها ثم قال: إن قربتك فعليَّ أن أعتق هذا العبد عن ظهاري نقل المزني: أنه لا يكون موليًا وليس عليه أن يعتق عبده وعليه كفارة يمين وغلط في النقل لأن الشافعي ذكر هذه المسألة في "الأم" و"الإملاء" وقال فيهما: يكون موليًا لأنه إذا وطئها إما أن يلزمه عتقه أو ينتقل إلى كفارة يمين، وإذا خشي في الوطي لزوم الغرم كان موليًا فإذا ثبت هذا ووطئها فهو بالخيار إن شاء أعتقه، وإن شاء كفر كفارة اليمين، لأنه نذر اللجاج فإن أعتقه عند أبي إسحاق يجزئه عن ظهاره وعند ابن أبي هريرة لا يجزئه عن ظهاره على ما ذكرنا، وإن كفر أولاً كفارة اليمين بقي العيد خالصًا يجوز عقه عن الظهار قولاً واحدًا. واعلم أن المزني نقل وعليه كفارة يمين وهذا مشكل لأنه أوهم تعيين الكفارة، ولو حملناه على هذا كان جوابًا على القول المنصوص في كتاب الأيمان لا على قول التنجيز بين الوفاء والكفارة المنصوص في كتاب الإيلاء قبل هذه المسألة في قوله إن قربتك فعليَّ صوم هذا الشهر ويبعد أن يجب في الباب الواحد بمثل هذين القولين المختلفين، وإزالة هذا الإشكال بأن يقال معنى قوله وعليه فيه كفارة اليمين إن شاء، وإذا اعتق العبد سقطت عنه الكفارة، ألا تراه قال: وليس عليه أن يعتق فلانًا ولو كان جوابًا عليَّ بعين الكفارة لكان يقول ولا يجزئه أن يعتق فلاناً عن كفارة اليمين. ومن أصحابنا من تعصب للمزني، وقال هذا النقل صحيح وإنما نقله عن القديم إنه لا يكون موليًا [100/ب] بغير اليمين بالله تعالى وهذا ليس بشيء لأن الشافعي لم يذكر هذه المسألة في "القديم" أصلاً، فإذا تقرر هذا اختار المزني أنه لا يكون موليًا ولا يلزمه عتقه ولا يلزمه كفارة اليمين أيضًا، وبه قال أبو حنييفة واحتج بأن تعيين العتق الواجب في عبدٍ بعينه لا يلزم، وإذا لم يلزم لا يجب كفارة اليمين كما لو قال: لله عليَّ أن أصوم يوم الخميس عن الصوم الذي عليَّ لم يكن عليه صوم يوم الخميس وأي يوم صامه جاز ولا معنى لهذا النذر حتى يلزمه كفارة كذلك هاهنا، وكذلك لو عين للصلاة الواجبة عليه وقتًا أو عين دراهم الصدقة الواجبة عليه من الدراهم لا يلزم ذلك بعينه، والجواب: أن الصوم إذا كان في الذمة لا يمكن تعليقه بالعين لأنه لا حق لعين اليوم فيه وللعبد حق في العتق فجاز أن يتعين فيه بتعيينه، وأيضًا تعلق العتق بعين العبد أكد من تعلق الصوم بعين اليوم، ألا ترى أنه إذا قال: لله عليَّ أن أصوم يوم كذا، وفات ذلك اليوم صام في غيره، ولو عين العتق في عبدٍ بعينه فمات العبد لا يلزمه أن يعتق غيره ومن هذا قيل: إذا قال: لله عليَّ أن أعتق هذا عن الواجب عليَّ يتعين، ولو قال: لله عليَّ أن أفرق ذكاتي على هؤلاء الفقراء يتعين، ذكره القاضي الحسين. مسألة: قال: "ولو آلي ثم قال لأخرى: قد أِشركتك معها في الإيلاء لم تكن شريكتها".

في هذا الفصل ثلاث مسائل: أحدها: أن يولي منها بالله تعالى ثم قال للثانية أشركتك معها في الإيلاء ونوى أنه آلي منها كما آلي من الأولى لم يكن موليًا من الثانية لأن [101/أ] الإيمان بالله تعالى لا تنعقد بالغاية كما لو قال: والله لا دخلت الدار ثم قال: هذه اليمين لازمة لي في أكل الخبز لم يكن حالفًا على أكل الخبز. والثانية: أن يولي منها بالطلاق فقال: إن أصبتك فأنت طالق ثم قال للأخرى: قد أشركتك معها، وقال أردت أن لا تطلق الأولي بالإصابة حتى ينضاف إلى إصابتها أصابتك أيضًا، فلا يصح ذلك ولا يكون موليًا من الثانية لأنه علق طلاق الأولى بصفةٍ فلا يجوز أن يضم إليها صفة أخرى كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق ثم قال: وإن أكلت الخبز أيضًا فالطلاق يتعلق بالدخول وحده كذلك هاهنا وقول الشافعي لم تكن شريكتها عاد إلى هاتين المسألتين. والثالثة: أن يولي منها بالطلاق ثم قال للأخرى: قد أشركتك معها، وقال: أردت أني إذا أصبتك أيضًا طلقت الأولى أو طلقتِ أنت فيكون موليًا عن الثانية لا علق طلاقها بصفة وتعليق الطلاق بالصفة يصح بالصريح والكناية بخلاف اليمين بالله تعالى فإنها لا تصح إلا بالصريح وعلى هذا لو قال: أليت منك بما آلي فلان من زوجته وكان فلان إلي من زوجته بالطلاق صح وكان موليًا. وقال القفال: إذا قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق ثم قال لامرأةٍ له أخرى: أنت شريكتها لا يجوز سواء أراد أنك إن دخلت الدار طلقت أيضًا، أو أراد إذا دخلت الأولى الدار وطلقت طلقتِ معها لأنه تشريك في اليمين وما ذكرنا الأصح لما بينا أنه تعليق الطلاق يصح بالكناية. مسألة: قال: ولو قال: إن قربتك فأنتِ زانية فليس بمولٍ. الفصل إذا قال هذا لا يكون قاذفًا [101/ أ] إذا قربها ولا يكون موليًا قبل أن يقربها لأن القذف معلقًا بالصفات لا يجوز لأن القذف ما تردد بين الصدق والكذب، وإذا كان محكومًا بكذبه لا يصح القذف وهذا محكوم بكذبه لأن من لم تكن زانية قبل وجود صفةٍ منه لا تصير زانية بوجودها وإنما يلزمه حكم الإيلاء إذا التزم بالقربان حقًا لله تعالى وهاهنا لم يلتزم ذلك. مسألة: قال: ولو قال: والله لا أصبتك سنة إلا مرة لم يكن موليًا. الفصل إذا قال: والله لا أصبتك سنة إلا مرة لم يكن موليًا في الحال لأنه لو قربها لم يلزمه شيء هذا هو المنصوص في الجديد، وقال في "القديم": فيه قولان، أحدهما: هذا، والثاني: يكون موليًا لأنه لا يمكنه الوطئ إلا بضرر وهو انعقاد يمينه بالامتناع من

الوطئ وأصل القولين هو أنه إذا قال لأربع نسوة له: والله لا أقربكن كلكن، ففي الجديد ليس بمولي حتى يطأ ثلاثًا فيكون موليًا من الرابعة وفي "القديم" فيه قولان، أحدهما: هذا، والثاني: يكون موليًا في الحال منهم، وإن كان لا يحنث إلا يوطئ الأربع لأن وطء الأولى يقربه إلى الحنث، فإذا قلنا بالقول الجديد وهو الصحيح فيطئ يصير كأنه حلف الآن فيظر فيما بقي من السنة، فإن كان أكثر من أربعة أشهر فهو مولي، وإن كان أقل فليس بمولي ولكن حكم اليمين قائم متى وطئها حنث. فرع لو قال: والله لا وطئتك سنة إلا يومًا لا يكون موليًا أيضًا كما لو قال إلا مرة، وبه قال أبو حنيفة: وقال زفر: يكون موليًا لأن اليوم المستثنى يكون من آخر السنة، كما لو قال: أحلتك بالثمن شهرًا إلا يومًا كان اليوم من آخر الشهر وهذا غلط لأن اليوم [102/أ] المستثنى منكر فلم تحيض بيوم دون يوم كما لو قال: لا أكلمك سنةً إلا يومًا كان له أن يكلمه إلى يوم شاء ويخالف مسألة الأجل، لأنه لو جاز له مطالبته في يوم قبل أخره بطل حكم التأجيل لأنه يسقط بقضاء الدين والوطئ هاهنا في يوم لا يمنع تعلق اليمين بما تقدمه. مسألة: قال: ولو قال: إن أصبتك فوالله لا أصبتك لم يكن موليًا حتى يصيبها. الفصل إذا قال: إن أصبتك فوالله لا أصبتك لا يكون موليًا ما لم يصيبها لأنه إيلاء بصفةٍ وهي إصابتها فلا يصير موليًا قبلها، فإذا أصابها يصير موليًا كما لو قال: إن دخلت الدار فوالله لا أصبتك يصير موليًأ إذا دخلت الدار، وقال القفال: في هذه المسألة طريقان، أحدهما: أنها والمسألة الأولى على سواءٍ في الجديد قول واحد، وفي "القديم" قولان لأن الوطئ الأول يقربه إلى الحنث هاهنا أيضًا، والثاني: لا يصير هاهنا موليًا قولاً واحدًا لأنه علق كونه موليًا بصفة فلا يصير موليًا قبل وجودها، قال: وهذا مبني على أنه إذا قال: إن دخلت الدار فأنت عليَّ كظهر أمي هل يعد اليمين بدخول الدار من اسباب كفارة الظهار حتى لو كفرنا عتق عن الطهار يعد اليمين، وقبل دخول الدار وانعقاد الظهار أجزأه عن كفارته أم لا؟ في المسألة وجهان، قال ابن الحداد: يجزيه ذلك فعلى هذا يصير موليًا هاهنا على أحد القولين، وبعد الوطئ الأول: من أسباب إيجاب الكفارة فيصير موليًا قبله، والثاني: لا يجزيه، والسببان للكفارة الظهار والعود، فأما اليمين فلا فعلى هذا السبب هاهنا الوطئ الثاني دون الأول [102/ب] فقبل الأول لا يكون موليًا قولاً واحدًا. مسألة: قال: والله لا أقربك إلى يوم القيامة.

الفصل إذا حلف لا يقربها لا يخلو إما أن يطلق أو تعلقه مدة أو يعلقه بفعل، فإن أطلق فقال: والله لا أطأك كان موليًا لأنه يقتضي التأبيد، وكذلك لو قال: أبدًا أو قال ما عشت أو عشتِ أو عشنا لأنه هو الأبد في حقها، وإن علقه بمدة محدودة نظر فإن زادت على أربعة أشهر كان موليًا، وإن كانت أربعة أشهر فما دونها لا يكون موليًا على ما ذكرنا وإن علقه بمدة محدودة نظر، فإن زادت على أربعة أشهر كان موليًا، وإن كانت أربعة أشهر فما دونها لا يكون موليًا على ما ذكرنا، وإن علقه بفعل فهو على خمسة أضرب ضربان منها يكون موليًا فيهما، أحدهما: أن يعلقه بما يقطع أنه لا يكون إلى أربعة أشهر كقوله: إلى يوم القيامة لأن صاحب الشرع أخبر أن بين يدي الساعة إمارات وأشراطًا تزيد مدتها على أربعة أشهر، وهكذا لو قال: لا أطأكِ حتى أخرج إلى اليمين وهو بالعراف. والثاني: أن يعلقه بما لا يقطع به أنه لا يكون إلى أربعة أشهر ولكنه يغلب على الظن أنه لا يكون إلى ذلك الوقت كنزول عيسى ابن مريم صلى الله على نبينا وعليه وسلم وخروج الدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها فيكون موليًا هاهنا أيضًا أحدًا بغالب الظن، ومن أصحابنا من جعل أشراط الساعة كلها كالقيامة في أنه يكون موليًا قطعًا لأن لها إمارات منذورة كالقيامة تتأخر قبل وجودها عن مدة التربص. وقال القاضي الماوردي الصحيح من إطلاق الوجهين فيه أن يقال: ما صحت به أخبار الأنبياء أنه يترتب فيكون بعضها بعد بعض كنزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم يكون بعد ظهور الدجال كان إيلائه إلى نزول عيسى صلى الله عليه وسلم قطعًا وإيلاؤه إلى ظهور الدجال [103/أ]. فغلبه الظن لجواز حدوثه قبل أربعة أشهر، وما لم يترقب منها فهو مولٍ بغلبة الظن دون القطع، وهذا من الإخلاف الذي لا يفيد؛ لأن موجب الإيلاء فيما لا يختلف. ومن أصحابنا من قال: قوله: "حتى أموت، أو تموتي، أو يموت زيد" من هذه الجملة؛ لأن الناس يستبعدون بعضهم موت بعض، ويقصدون بمثل هذا التأبيد والتبعيد وهو ظاهر المختصر، ذكره القفال، والقاضي الطبري وجماعة. ومن أصحابنا من قال: هذا صحيح في قوله: "حتى تموتي أو أموت، لأنه عبارة عن التأبيدـ، إذ لا يتصور الوطئ بعد موت أحدهما، ولو أطلق التقت بمدة حياتهما، فأما إذا قال: حتى يموت فلان فلا يكون موليًا، كقوله: حتى يقدم زيد لتردد حاله بين الموت والبقاء، ولو كان إيلاء الزوجين مطلقًا لم يتقدم بموته. وقيل: إن كان زيد في مرض مخوف لم يكن موليًا قولاً واحدًا؛ لأن الظاهر من حاله موته قبل مدة التربص لإمارات الموت، وإن كان زيد صحيحًا أو في مرض غير مخوف، فيه وجهان على ما ذكرنا أن الظاهر بقاؤه إلى مدة التربص، وهذه الصلة موجودة هاهنا، والدليل على

صحة هذه الصلة أنه لو قال: إن أصبتك فعبدي حر كان موليًا، وإن جاز أن يموت عنده أو يبيعه قبل مدة التربص فلا يكون موليًا، ولكن علينا حكم الظاهر مع جواز خلافه كذلك هاهنا. وثلاثة أضرب منها لا يكون موليًا فيها: أحدها: أن يعلقه بما يقطع أنه يكون قبل أربعة اشهر ويجوز أن يزيد عليها مثل أن يقول: حتى تقدم القافلة، والغالب أنها تدخل إلى أيام، فإنها قد قربت من البلد. والثالث: أن يعلقه على ما يجوز وجوده من أربعة أشهر، ويجوز أن يتأخر، وليس أحدهما بأولى من الآخر، مثل أن يقول: حتى يقدم زيد ولا يعرف موضعه [103/ب] أو يقول: حتى أمرض، أو تمرض، أو يمرض زيد، أو يشاء فلان فلا يكون موليًا، وإن امتد ولم يحصل ذلك إلى أربعة أشهر؛ لأنه لم يقصد الإضرار بها بيمينه، وإنما يكون موليًا إذ كان الغالب الإضرار بها في حال اليمين. ومن أصحابنا من قال: الأمر في هذا موقوف، فإن مضت أربعة أشهر ولم يحصل ذلك بأن أنه كان موليًا، ذكره القفال. ثم اعلم أن المزني ذكر فطام الولد مع نزول عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم ويوم القيامة، وموته أو موتها وسوى بين الجميع، وقال: يكون موليًا. وقال في موضع آخر: حتى تفطمي ولدك لا يكون موليًا. قال أبو إسحاق: لا نعرف للشافعي في الفطام ما نقله المزني، والذي نص عليه من كتبه أنه لا يكون موليًا، ومن أصحابنا من تأوله وقال: إذا كان المولود ضعيفًا على صفة الغالب أنه لا يبقى ولا يعيش حتى يرضع أكثر من أربعة أشهر يكون موليًا، وإن كان المولود قويًا يكفيه أقل من ذلك لا يكون موليًا، فالقولان على هذين الحالين. ومنهم من قال: إنه علق اليمين على مدة الفطام وقد بقي إلى مدة الحولين أكثر من أربعة أشهر كان موليًا، وإن علق بفصل الفطام نفسه لا يكون موليًا؛ لأنها قد تفطمه قبل أربعة أشهر إذا أمكن ذلك، فالقولان على هذين الحالين. ثم اختار المزني أنه لا يكون موليًا في قوله: "حتى يموت فلان" كما لا يكون موليًا في قوله: "حتى يقدم فلان" لاحتمال كونه قبل أربعة أشهر، وقد بينا الفرق بينهما، هو أن الموت مستبعد عند الناس بخلاف القدوم من مسافة قريبة. ومن أصحابنا من قال: في قوله: "حتى يقدم فلان" إن كانت عادته أنه يقدم من سنة إلى سنة مع الحجاج كان موليًا اعتبارًا بغالب العادة كالموت سواء. قال: وقد قال الشافعي: [104/أ] "حتى تحبلي فليس بمول" قلنا: فيه ثلاث مسائل: أحدهما: أن تكون شابة تحيض وتطهر ولا يكون موليًا؛ لأنه يحتمل أن تحبل قبل أربعة أشهر في الغالب، والحبل قد يكون من دون الوطئ باستدخال. والثانية: أن يكون لها تسع سنين، فهذه يحتمل أنها تحبل على أربعة أشهر، ويحتمل غيره، والغالب أنها لا تحبل في العادة فيكون موليًا. والثالثة: أن تكون صغيرة لم تحض، أو كبيرة قد يئست من الحيض، فهذه قد يقطع أنها لا تحبل إلى أربعة أشهر فيكون موليًا.

وقال في "الحاوي": قال أبو حامد في المراهقة: يكون موليًا، لأن الظاهر تأخر البلوغ، وتأخره مانع من الحبل. والصحيح عندي لا يكون موليًا؛ لأن بلوغ المراهقة يمكن كحبل البالغة ممكن وليس أحد الأمرين بأغلب من الآخر، وإذا أمكن بلوغها أمكن حبلها. وقال بعض أصحابنا: ذكر المزني مسألة القدوم والفطام مع يوم القيامة ونزول عيسى وهذا مشكل؛ لأن مسألة القدوم والفطام على ما ذكرنا من التفصيل، وإزالة هذا الإشكال أن قال: هذا الجواب الذي أطلقه الشافعي جواب مستقيم في جميع هذه المسائل، وهو إذا مضت أربعة أشهر قبل يكون شيء مما حلف عليه يكون موليًا، غير أنه أراد بمطلق كلامه في بعض هذه المسائل يكون مطالبها لحكم الإيلاء بعد أربعة أشهر مع العلم بأنه عقيب اليمين كان موليًا لا على معنى التوقف والتبيين، وهي مسألة القيامة وخروج الرجال، وفي بعضها يكون مطالبًا بعد أربعة أشهر بحكم الإيلاء، وحين تتوجه المطالبة يعلم أنه مول من وقت اليمين على جهة التوقف والتبيين، وفي بعضها على غير جهة التبيين، وهذا على الوجه الذي ذكره القفال [104/ب] على ما تقدم بيانه. ثم ذكر الفطام، وقال: قال في موضع آخر: لا يكون موليًا، وأوهم أن المسألة على قولين، ثم اختار أحد القولين فقال: هذا أولى بقوله؛ لأن أصله أن كل يمين منعت الجماع بكل حال أكثر من أربعة أشهر إلا بأن يحنث فهو مولٍ. وقوله هذا أولى يوهم أنه اختار من النصين في الفطام النص الثاني، وليس كذلك، بل اختيار النص الأول وهو أنه مولٍ فكأنه أشار بقوله هذا إلى المنصوص هاهنا، لا إلى المنقول عن الموضع الآخر فتأمل. وقد بينا أن المسألة ليست على قولين، بل هي على اختلاف حالين. وقال في "الحاوي": إذا علق الإيلاء بشوط فهو ثمانية أقسام: منها ما كان موليًا به في الظاهر والباطن لاستحالته، كقوله: والله لا أصيبك حتى تصعدي السماء أو حتى تعدي رمل عالج، أو تشربي ماء البحر، وهو كالإيلاء المطلق هاهنا. والثاني: حكمه هكذا للقطع انه سيكون بعد أكثر من أربعة أشهر، كقوله: حتى تقوم القيامة. والثالث: ما كان موليًا به في الظاهر، وإن جاز أن لا يكون موليًا في الباطن، كقوله: "حتى ينزل عيسى عليه السلام، أو حتى يظهر الدجال" على ما ذكرنا. والرابع: ما اختلف حكمه اختلاف حال الشرط، كقوله: "حتى يقدم زيد" على ما ذكرنا أنه يكون في مسافة كالصين أو قريبة. والخامس: ما يختلف باختلاف إرادته، كقوله: "حتى تفطمي ولدك" إن أراد الرضاع أو مدة الرضاع. ومن أصحابنا من جعل هذا من القسم الرابع الذي يختلف باختلاف حالة لا باختلاف إرادته من كون الولد طفلاً لا يجوز قطع رضاعه [105/أ] قيل: أربعة أشهر،

أو يكون مشتدًا قويًا يمكن قطع رضاعته قبل أربعة أشهر، والأول أصح، وبه قال الجمهور؛ لأن قطعها لرضاعه ممكن وإن منع منه الشرع، والإيلاء متعلق بإمكان الفعل لا بجوازه في الشرع. وحكي عن مالك: لا يكون موليًا بكل حال؛ لأنه قصد منفعة الولد وهذا غلط؛ لأن الإضرار حاصل قبل اليمين فلا يعتبر غرضه، وعلى هذا لو علقه بما يمكنه فعله ولكن يمنع الشرع منه، كقوله: "حتى تقتل أخاك" لم يكن موليًا على معنى قول ابن سريج؛ لأنها تقدر على قتله في الحال، وكان موليًا على قول غيره؛ لأن الشرع يمنع من قتله. ومن هذا القسم: "حتى تخرج إلى الحج". فإن أراد زمان الخروج المعهود كان موليًا إذا بقي إليه أكثر من أربعة أشهر، وإن أراد به فعلها للخروج لم يكن موليًا. والسادس: ما يختلف باختلاف زمانه، كقوله: "حتى يسقط الثلج أو يجمد الهواء". فإن كان في الشتاء لم يكن موليًا، وإن كان في الصيف، فإن كان في آخره والباقي آلي الشتاء أقل من أربعة أشهر لم يكن موليًا، وإن كان من أوله كان موليًا. ولو قال: "حتى يجيء المطر" فمن أصحابنا من جعله في أول الصيف كالثلج يكون به موليًا لتعذره في الأغلب. ومن أصحابنا من قال: لا يكون به موليًا؛ لأن المطر قد يجيء في الضيف والثلج لا يكون في الصيف. وأما في البلاد التي يعهد فيها المطر صيفًا وشتاءً كبلاد طبرستان لا يكون موليًا فيها بلا خلاف. والسابع: فلا يكون به موليًا لتكافؤ أحواله، كقول: "حتى يبرأ هذا المريض أو يمرض هذا الصحيح أو تتعلمي الكتابة، أو يطلق فلان زوجته" لا يكون موليًا. والثامن: ما لا يكون به موليًا لكونه قبل أربعة أشهر، [105/ب] كقوله: "حتى تذبل هذه البقلة، أو يحمص هذا العجين، أو تنضج هذه القدر" ونحو ذلك. مسألة: قال: "ولو قال: والله لا أقربك إن شئت فشاءت في المجلس فهو مولٍ". إذا قال لها: والله لا أقربك إن شئت فقد علق "الإملاء" بصفة وهي مشيئتها أن لا يقربها، وانعقادها بأن يشاء بأن لا يقربها، فإذا ثبت هذا نظر، فإن لم تشأ أصلاً أو شاءت في غير زمان المشيئة لم ينعقد الإيلاء، وإن شاءت في وقت المشيئة انعقدت يمين ووقت المشيئة. قال الشافعي في "المجلس" واختلف أصحابنا فيه على وجهين. وقال أبو إسحاق: زمان المشيئة أن يكون كلامها جوابًا لكلامه، كالقبول في البيت. وقول الشافعي معناه في مجلس المشيئة. ومن أصحابنا من تمسك بظاهره فقال: زمان المشيئة ما لم يتفرقا عن مجلسهما، وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم. وقال مالك: لا يكون موليًا، وهذا غلط، لأنها غير مختارة لبقائه عليه والتمسك به، فكان موليًا لهذا، ويقول باختيارنا لا يسقط حقها، كما لو وقف بعد أربعة أشهر فقالت: رضيت بترك حقي لم

يكن ذلك إسقاطًا لحقها حتى لها الرجوع إلى المطالة بعد ذلك. فرع لو قال: والله لا أقربك إلا أن تشائي، فإن شاءت في المجلس بحيث يكون جوابًا لكلامه لم يكن موليًا، وإن شاءت بحيث لا يكون جوابًا لكلامه يكون موليًا، لأن تقدير هذا الكلام: لا أقربك إلا أن تشائي بأن أقربك فأقربك، فإذا شاءت قربانها لم يكن عليه يمين في قربانها، وإذا لم تشأ في الحال كان عليه يمين في قربانها، فإذا قربها [106/ أ] لزمته كفارة يمين، وعلى هذا لو قال: لا أقربك إلا برضاك لا يكون موليًا؛ لأنها متى طالبت بعد المدة والت الإيلاء؛ لأنه علقه برضاها وقد رضيت فزال الامتناع منه ووقت الرضا في هذه على التراضي. فرع آخر لو قال: والله لا أقربك إن شئت أن أقربك فقد علق عقد اليمين بشرط أن تشاء أن يقربها، وتقديره: إذا شئت أن أقربك فوالله لا أقربك، فإن وجدت هذه الصفة في زمان الخيار أو انعقد الإيلاء وإلا فلا ينعقد كما ذكرنا في المسألة الأولى. فرع آخر لو قال: والله لا أطأك متى شئت، فهذه المشيئة على التراضي فمتى شاءت صار موليًا. فرع آخر لو قال: والله لا أطأك حتى تشائي نقل المزني عن الشافعي أن لا يكون موليًا؛ بخلاف ما لو قال: إلا أن تشائي على ما ذكرنا، والفرق أنه يجعل في هذه غاية اليمين مشيئتها، وقد تشاء في الحال وقد لا تشاء، وإن كانت العين معلقة بفعل قد يوجد قبل مضي مدة الإيلاء وقد لا يوجد لم يكن موليًا بها، وإذا قال: إلا أن تشائي فإن يمينه مطلقة، وإنما استثنى فيها مشيئتها فإن لم توجد المشيئة كان اليمين على إطلاقها. فرع آخر ولو قال: والله لا أقربك إن شاء زيد لا يعتبر الفوز في مشيئة زيد بخلاف مشيئتها؛ لأنه إذا علق مشيئتها كان فيه تمليكها فروعي فيه الفور. وإذا علقه لمشيئة غيرها لم يكن فيه تمليكها فلم يراع فيه الفور، فمتى شاء زيد انعقد الإيلاء، وإن مات لم ينعق الإيلاء؛ لأن الأصل عدم المشيئة. فرع آخر لو قال: [106/ب] والله لا أقربك حتى أخرجك إلى بلد كذا، فإن كان على مسافة أكثر من أربعة أشهر كان موليًا وإلا فلا. فرع آخر لو قال: لا أقربك حتى أهب عبدي كان موليًا؛ لأن في هبته إدخال ضرر عليه، كما

لو قال: حتى أعتق عبدي. فرع آخر لو قال: لا أقربك حتى أبيع عبدي، فيه وجهان؛ أحدهما: أن يكون موليًا لتعليقه بزوال ملكه عنه فيستضر. والثاني: لا يكون موليًا؛ لأن الثمن الذي في مقابلته يمنع من دخول الضرر عليه، وربما يجد من يشتريه بأكثر من قيمته. وقال بعض أصحابنا: يحتمل أن يقال: إن كان هذا العبد للتجارة لم يكن موليًا، وإن كان للقينة كان المطالبة بعد ذلك. فرع لو قال: والله لا أقربك إلا أن تشائي، فإن شاءت في المجلس بحيث يكون جوابًا لكلامه لم يكن موليًا، وإن شاءت بحيث لا يكون جوابًا لكلامه يكون موليًا؛ لأن تقدير هذا الكلام: لا أقربك إلا أن تشائي بأن أقربك فأقربك، فإذا شاءت قربانها لم يكن عليه يمين من قربانها، وإذا لم تشأ في الحال كان عليه يمين في قربانها، فإذا قربها [107/أ] لزمته كفارة يمين، وعلى هذا لو قال: لا أقربك إلا برضاك لا يكون موليًا، لأنها متى طالبت بعد المدة والت الإيلاء، لأنه علقه برضاها وقد رضيت فزال الامتناع منه، ووقت الرضا في هذه على التراضي. فرع آخر لو قال: والله لا أقربك إن شئت أن أقربك فقد علق عقد اليمين بشرط أن تشاء أن يقربها، وتقديره: إذا شئت أن أقربك فوالله لا أقربك، فإن وجدت هذه الصفة في زمان الخيار وانعقد الإيلاء وإلا فلا ينعقد كما ذكرنا في المسألة الأولى. فرع آخر لو قال: والله لا أطأك متى شئت، فهذه المشيئة على التراخي، فمتى شاءت صار موليًا. فرع آخر لو قال: والله لا أطأك حتى تشائي. نقل المزني عن الشافعي أنه لا يكون موليًا، بخلاف ما لو قال: إلا أن تشائي على ما ذكرنا، والفرق أنه يجعل في هذه غاية اليمين مشيئتها، وقد تشاء في الحال وقد لا تشاء، وإن كانت اليمين معلقة بفعل قد يوجد قبل مضي مدة الإيلاء وقد لا يوجد لم يكن موليًا بها، وإذا قال: إلا أن تشائي فإن يمينه مطلقة، وغنما استثنى فيها مشيئتها فإن لم توجد المشيئة كان اليمين على إطلاقها. فرع آخر ولو قال: والله لا أقربك إن شاء زيد لا يعتبر الفوز في مشيئة زيد بخلاف مشيئتها، لأنه إذا علق مشيئتها كان فيه تمليكها فروعي فيه الفوز. وإذا علقه لمشيئة غيرها لم يكن فيه تمليكها فلم يراع فيه الفوز، فمتى شاء زيد انعقد الإيلاء، وإن مات لم ينعقد الإيلاء؛ لأن الأصل عدم المشيئة.

فرع آخر لو قال: [106/ب] والله لا أقربك حتى أخرجك إلى بلد كذا، فإن كان على مسافة أكثر من أربعة أشهر كان موليًا وإلا فلا. فرع آخر لو قال: لا أقربك حتى أهب عبدي كان موليًا؛ لأن في هبته إدخال ضرر عليه، كما لو قال: حتى أعتق عبدي. فرع آخر لو قال: لا أقربك حتى أبيع عبدي، فيه وجهان؛ أحدهما: أن يكون موليًا لتعليقه بزوال ملكه عنه فيستضر. والثاني: لا يكون موليًا؛ لأن الثمن الذي في مقابلته يمنع من دخول الضرر عليه، وربما يجد من يشتريه بأكثر من قيمته. وقال بعض أصحابنا: يحتمل أن يقال: إن كان هذا العبد للتجارة لم يكن موليًا، وإن كان للقينة كان موليًا؛ لأن ما للتجارة بيعه مفيد، وما للقينة بيعه مضر. فرع آخر لو قال: إن وطئتك فلله عليَّ أن أطلق زوجتي لم يكن شيئًا، كما لو قال: داري وقف. مسألة: قال: والإيلاء في الغضب والرضا سواء. حكم الإيلاء في الغضب والرضا سواء، وهو في حال الرضا أشد عليها؛ لأنه امتنع من غير جرم. وقال مالك: لا إيلاء إلا في الغضب، لأنه لا يضاره في حال الرضا، وروي ذلك عن على، وابن عباس رضي الله عنهما، وهذا غلط لظاهر الآية ولم يفصل، لأنه يمين بالله تعالى فيستوي حكمها في الرضا والغضب كسائر الأيمان، وذكرنا عن ما لله أنه إذا حلف للصلاح لأجل ولده لا يكون موليًا. مسألة: قال: "ولو قال: والله لا أقربك حتى أخرجك من هذا البلد لم يكن موليًا". الفصل إنما لا يصير موليًا هاهنا؛ لأنه يقدر [107/أ] أن يخرجها قبل انقضاء أربعة أشهر ويفارق البنيان والمنازل فيزول الإيلاء ويرجع، ويفارق هذا إذا قال: إن قربتك فعبدي حر يكون موليًا، ويمكنه أن يبيعه ويطأها ولا يلزمه شيء؛ لأن في البيع ضررًا يلحقه؛ لأنه ربما يطلب بأقل من ثمنه، وإن اشتراه بعد البيع ربما لا يقدر عليه بذلك الثمن ولا ضرر عليه بإخراجها من البلد ولا يكون موليًا. وذكر أصحابنا بخراسان أن الأمر في مثل هذا موقوف، وأراد الشافعي أن لا يكون موليًا في الحال

باب الإيلاء من نسوة

حتى يمضي أربعة أشهر، وقول الشافعي رحمه الله تعالى لا يجبر على إخراجها، وأراد في أثناء المدة فأما بعد انقضائها فقال: إن أردت أن لا تلزمك الكفارة فأخرجها وإلا فأقربها وكفر. باب الإيلاء من نسوة مسألة: قال: "وإذا قال لأربع نسوة عنده: والله لا أقربكن فهو مولٍ منهن كلهن". الفصل إذا قال لأربع نسوة: والله لا أقربكن فقد حلف أن لا يطأ الأربعة فلا يحنث إلا بوطئهن كلهن، كقوله: والله لا كلمت زيدًا وعمرًا وخالدًا وبكرًا لم يحنث حتى يكلم الكل، فإذا لم يحنث إلا بوطئ الكل فهو في الحال غير مولٍ؛ لأن المولى من لا يمكنه الفيئة بعد التربص إلا بضرر، وكل واحدة منهن لو طالبته بعد التربص فوطئها لم يحنث بوطئها، فإذا وطئ ثلاثًا صار الآن موليًا من الرابعة؛ لأنها هي التي يحنث بوطئها، فيضرب لها المدة، فإذا انقضت، فإما أن يفي أو يطلق. وقد قال الشافعي هنا: أنه لو قال: والله لا أقربكن فهو مولٍ منهن كلهن، يوقف لكل واحدة منهن. [107/ب] وليس هذا الكلام على ظاهره، بل الحكم ما ذكرناه. وقوله: "فهو مولٍ منهن كلهن" معناه: فهو حالف منهن كلهن. وقوله: "يوقف لكل واحدة منهن" أي: في الحالة التي يحنث بوطئها فيها أو معناه: إذا وطئ صاحباتها الثلاث. فإذا تقرر هذا تكلم المزني على ظاهر كلام الشافعي، وقال: "لا يكون موليًا في الحال ما لم يطأ ثلاثة". قلنا: هو كما قلت، إلا أنك لم تنصف حتى ظننت به غير ما تأولناه، وقد قال: لو وطئ اثنتين منهن خرجتا عن حكم الإيلاء، ولم يحنث به. وقال في "الأم": لو حلف لا أقرب امرأة له وامرأة أجنبية لم يكن موليًا من امرأته حتى يطأ الأجنيبة"، فدل على أن الأصل الشافعي ما ذكرناه. وبطل اعتراض المزني، وقال القفال وجماعة: هذا صحيح على أحد القولين في القديم ثم إن القرب إلى الحنث يوجب حكم الإيلاء؛ لأن وطئ كل واحدة. هاهنا يقربه إلى الحنث، فيوقف لكل واحدة منهن بعد أربعة أشهر. وقيل: هذا مذهبه في الجديد أيضًا وبه قال أبو حنيفة ومحمد وأحمد وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة على قولنا، ووجهه أنه منع نفسه من وطئهن بيمين الله تعالى فكان موليًا، كما لو قال: لا وطئت كل واحدة منكن، وهذا لا يصح؛ لأن الشافعي نص على هذه المسألة في كتاب "الإيلاء" من

"الأم" ومذهبه في إنما قربه من الحنث لا يصير به موليًا. وقيل: في المسألة قولان، والصحيح ما ذكرناه. فإذا تقرر هذا فرع الشافعي رضي الله عنه على أصل المسألة. مسائل: أحدها: قال: "لو أصاب اثنتين منهن خرجتا عن حكم الإيلاء". وهذا لأنهما أمنتا من تأخير الوطئ [108/أ] وتعلقت اليمين بالباقي، قال: فهو مولٍ منهما يوقف لهما، ومعناه: يوقف لمن يتعين الحنث بوطئها على ما ذكرنا، وعلى ما قال القفال معناه يوقف لكل واحدة منهما. والثانية: قال: "لو طلق منهن ثلاثًا كان موليًا في الباقية" ومعناه: أن المطلقات خرجن عن حكم الإيلاء بالطلاق، والرابعة يجوز أن يكون موليًا منها إذا تعين الحنث في وطئها، بأن يتزوج بالمطلقات ويطأهن، أو يطأهن بشبةٍ أو زنا، فلا يبقى إلا وطئ الرابعة التى يحنث فيها. وعلى ما ذكره القفال يجري على ظاهره. والثالثة قال: "إذا ماتت واحدة منهن سقط عنه حكم "الإيلاء"، وأراد به: أنه تنحل اليمين وتسقط؛ لأن وطئ الميتة لا يتناوله اليمين ولا يتعلق به المهر والحنث، فإنه لو حلف لا يطأ زوجته فوطئها بعد موتها لم يحنث عند أصحابنا، بخلاف وطئ المطلقة الأجنبية فإنه مقصود تتناوله اليمين فافترقا. ومن أصحابنا من قال: هذا إذا دفنت فلا سبيل إلى وطئها بحالٍ، لأنها تبلى وتتقطع أوصالها، وقبل الدفن لا يبطل حكم الإيلاء؛ لأن اسم الوطئ يقع عليه ويجب الغسل به، فكذلك الكفارة وهذا ليس بمشهور، وعلى المذهب المشهور قال أصحابنا تفريقًا: لو قال: إن قربتك فعبدي حر، فمات العبد أو باعه خرج من حكم الإيلاء. ولو قال: فعبدي حر قبل مجامعتي إياكِ بشهر، فإن مضى شهر حكم حينئذٍ بأنه مولٍ، فإن مضت أربعة أشهر أخرى وتكون من يوم اليمين خمسة أشهر يوقف؛ لأن حكم الإيلاء أن يلزمه أمر بالإصابة، ويكون ذلك اللزوم بعد أربعة أشهر، وما لم يتم خمسة أشهر لو وطئ بان أن العبد عتق قبل تمام أربعة أشهر من يوم اليمين [108/ب] فلهذا لا يوقف في هذه الحالة. ولو باع العبد في الشهر الخامس في نصف الشهر مثلاً، ففي النصف الثاني يوقف، لكنه لو وطئ بان أن عبده كان عتق عليه قبل ذلك بشهر، وإذا دخل الشهر السادس وقفناه ما لم يمضِ من الشهر نصفه؛ لأنه لوفاء بان أن عبده عتق في النصف الأول من الشهر الخامس، وذلك حكم يلزمه بعدما تمت مدة الإيلاء من يوم اليمين، فأما في النصف الأخير في هذا الشهر وفيما بعد فلا يوقف وقد سقط حكم الإيلاء؛ لأنا إذا نظرنا إلى ما قبل ذلك بشهر كان ذلك بعد البيع أو الموت فلا يلزمه شيء، هكذا ذكره القفال.

وقال غيره: لا يعتبر مضي خمسة أشهر من يوم اليمين، بل يكفي مضي أربعة أشهر وفيه نظر. ثم أعلم أن المزني تكلم على المسألة الأولى فقال: إذا وطئ منهن اثنتين كيف يكون موليًا من الباقيتين على معنى أنه متى وطئ إحديهما كان موليًا من الثانية. ثم تكلم على المسألة الثانية فقال: إذا طلق ثلاثًا لا يكون موليًا من الباقيه إلا أن يطأ الثلاث سواها، قلنا له: صدقت وقد ذكرنا ذلك. مسألة: قال: "ولو قال: والله لا أقرب واحدة منكن وهو يريدهن كلهن فهو مولٍ يوقف لهن". الفصل إذا قال: والله لا أقرب واحدة منكن وهو يريد عن كلهن، أو طلق ولم ينو واحدة بعينها فهول مولٍ منهن كلهن لأن اليمين تعلقت بواحدة من الجماعة لا بعينها، فأي واحدة وطئها حنث وسقطت اليمين؛ لأنها لم تتناول إلا واحدة، ولو طلق واحدة أو اثنتين لم يبطل حكم الإيلاء من الباقيتين ولهما المطالبة؛ لأن اليمين باقية فيها. ولو أنه قال: والله لا أقرب كل واحدة منكن كان موليًا من كل واحدة منهن [109/أ] بإيلاء منفرد كما لو أفرد كل واحد منهن بيمين منفردة؛ لأنه يحنث بوطئ كل واحدة منهن حنثًا يوجب الكفارة فنضرب له المدة للكل ويوقف فكل من طلقها فقد وفاها حقها من تلك المدة، وكل من وطئها إن حلت الإيلاء من حقها دون الباقيات، كما لو قال لأربعة أنفس: والله لا كلمت واحدة منكن يعلق الحنث بكلام كل واحد ولا تنحل اليمين في حق بعضهم بانحلالها في حق بعض كذلك هاهنا. وقال القاضي الطبري: هذا ذكره صاحب "الإفصاح"، ولم أر لغيره، فأما غيره من أصحابنا أطلقوا الجواب وقالوا: يكون موليًا منهن، ولكن إذا وقع الحنث مسقط الإيلاء في البواقي؛ لأنه حنث بإصابة الواحدة فلا يعود الحنث بعد ذاك. وهذا الكلام يقتضي أن الحنث لا يقع في بعض اليمن دون بعض. وعلى هذا كما لو قال: والله لا أدخل هذه الدار وهذه الدار، ولو قال: والله لا أدخل كل واحدة من هذه الدارين فدخل واحدة منهما حنث وسقط اليمين، وهذا مذهب الشافعي دون ما قاله صاحب الإفصاح وهذا هو الصحيح، وذكره أصحابنا بخراسان. وأما ما ذكر إذا قال لأربعة أنفس: والله لا كلمت واحدة منكن، لا نسلم بل ينحل اليمين في حق بعضهم بانحلالها في البعض. فرع قال في "الأم": لو قال: "والله لا أقرب واحدة منكن وعين بقلبه واحدة منهن

دون غيرها فهو مولٍ من التي حلف عليها دون غيرها"، وظاهره يقتضي أن يقبل قوله في ذلك ظاهرًا وباطنًا، وبه قال أكثر أصحابنا. وقال أبو حامد: يقبل في الباطن فيما بينه وبين الله تعالى ولا يقبل في الظاهر، لأن الإطلاق يخالفه وهذا لا يصح، لأن قوله واحدة يحتمل المعينة ويحتمل غيرها ولا ظاهر في واحدة منهن فيقبل قوله في ذلك. [109/ب]. فرع آخر لو قال: والله لا وطئت واحدة منكن وعين واحدة منهن وقد ذكرنا أنه تعيين الإيلاء فيها دون من سواها، ويرجع في التعيين إلى بيانه، فإن عين في واحدة وصدقه الباقيات تعتبر فيها، وإن كذبه الباقيات حلف لهن، فإن نكل حلفن وثبت فيهن حكم الإيلاء بنكوله وإيمانهن، ولو قال: لم أرد من هذه وهذه تعينت الثالثة للإيلاء إذا كنَّ ثلاثة. فرع آخر لو لم يكن تعيين واحدة منهن ذكرنا أن له أن يعين في واحدة منهن، وفي ابتداء المدة للوقف وجهان؛ أحدهما: من وقت اليمين، والثاني: من وقت التعيين كما قلنا في العدة في الطلاق إذا أوقعه في إحداهن لا بعينها، ثم يمينه في واحدة منهن هل تكون من وقت الطلاق أو من وقت التعيين؟ فيه وجهان. فرع آخر لو حلف بطلاق إحدى امرأتيه أن لا يطأ الأخرى وقد عين بقلبه من التي حلف بطلاقها فهاهنا امرأتان إحداهما محلوف بطلاقها، والأخرى مولٍ منها ولا يعرف ذلك، فإذا مضت المدة قال له الحاكم: بين، فإن لم يبين ولم يطلق ولم يفِ قال الحاكم طلقت عليك التي آليت منها، فإن قال: راجعتها ومضت مدة أخرى فكذا يفعل، ثم إن قال راجعتها ومضت مدة أخرى فهكذا يفصل، ثم نقول: بانت إحداهما منك بطلقات ثلاث فبينها، وحال بينه وبينهما حين يبين، ذكره ابن الحداد. قال أصحابنا: هذا غلط بل يوقف ولا يطالب بشيء ما لم يبين؛ لأن المدعية غير معينة فلا تقبل دعوى الرجل لأن لأحدنا على هذا الرجل عشرة دراهم، ولا دعوة المرأة بأن الزوج مولٍ مني أو من صاحبتي، ولكن إن ادعت [110/أ] واحدة أنه آلي منها، فإن أقر وقف، وإن أنكر حلف، فإن لم يحلف حلفت هي ووقف لها على ما ذكرنا. فرع آخر قال ابن الحداد: لو كان له امرأتان فقال: إن وطئت إحداكما فالأخرى طالق ولم يعين فهو مولٍ عن إحديهما بغير عينها، وحالف بطلاق الأخرى فإذا انقضت أربعة أشهر قال له الحاكم: أنت مولٍ عن إحديهما فبينها والحكم على ما ذكرنا. ومن أصحابنا من

باب التوقيت في الإيلاء

قال: يكون موليًا منهما؛ لأن الشافعي قال: "لو قال لأربع نسوة: والله لا أقرب واحدة منكن موليًا من الجميع"؛ لأنه لا يمكنه أن يطأ واحدة منهن إلا بحنث كذلك هاهنا لا يمكنه أن يطأ واحدة منهن إلا بحنث من الأخرى وهذا أصح. باب التوقيت في الإيلاء مسألة: قال: "ولا تعرض للمولي ولا لامرأته حتى يطلب الوقف بعد أربعة أشهر". الفصل إذا آلي من زوجته وضربنا له المدة وقف انقضائها، فإما أن يفي أو يطلق على ما ذكرنا، فإن قالت: قد رضيت وتركت المطالبة لم تسقط مطالبتها به؛ لأن اليمين باقية والإضرار من قبل الزوج موجود لإمكان رفعه وقدرته عليه، ولأنه يتجدد لها الحق في كل يوم، فكان بمنزلة امرأة المصند إذا عفت عن نفقتها كان لها المطالبة. فإن قيل: أليس امرأة العنين إذا رضيت بذلك لم يكن لها أن تعود إلى المطالبة فما الفرق؟ قيل: الفرق أن العنة عيب في الزوج، فإذا رضيت بالعيب سقط حقها بخلاف هذا، فهو كما لو كان له على رجل دين فقال: تركت المطالبة، [110/ب] كان له أن يرجع ويطالب لبقاء الحق. فإن تقرر هذا فإذا رجعت وطالبت لم تستأنف المدة؛ لأنها لم يوفها حقها من المدة الأولى. فإن قيل: ألا قلتم تستأنف له ضرب المدة كما قلتم فيه إذا راجعها بعدما طلقها أنه يستأنف له المدة؟ قيل: الفرق أنه إذا طلقها فقد أوفاها حقها من هذه المدة، فإذا عاد الحق استؤنفت المدة، وأما إذا عفت لم تستوفِ حقها، بل تركت المطالبة فكان لها أن تطالب في الحال. مسألة: قال: "وليس ذلك لسيد الأمة ولا يوليِّ معتوهةٍ". هذا يحتمل أنه أراد العفو، والأصح من الاحتمالين أنه أراد الطلب بدليل بين المعتوهة والأمة، وإذا كانت معتوهة لم يتوهم منها الطلب ولا العفو، وجملته أنه إذا زوج أمته ممن رجل فآلي منها وانقضت المدة فالمطالبة للمرأة دون السيد، فإن تركت المطالبة فليس لسيدها المطالبة، لأن ذلك يتعلق بشهوتها ولذتها، فلم يكن لمولاها فيه حق، ألا ترى أنها لو عتقت عن القسم أو رضيت بالعيوب لم يكن له المطالبة به، ولو كانت معتوهة لم يملك المولى المطالبة ولكن يقال للزوج: قد وجب لها حق المطالبة وتعذر ذلك من جهتها، فاتق الله تعالى في الفيئة أو استيلادها، وإنما يجب عليه الوطئ دون الإنزال، ولو أراد أن يعزل الماء كان له فلا حق للسيل فيه.

مسألة: قال: "ومن حلف على أربعة أشهر فلا إيلاء عليه". وقد ذكرنا شرح هذه المسألة فيما تقدم، لأن الضرر لا يتحقق بترك الوطئ فيما دون أربعة أشهر، والدليل عليه ما روي أن عمر بن الخطاب [111/أ] رضي الله عنه كان يطوف ليلة في المدينة فسمع امرأة تقول: ألا طال هذا الليل وازور جانبه وليس آلي جنبي خليل ألاعبه فوالله لولا الله لا شيء غيره لزعزع من هذا السرير جوانبه مخافة ربي والحياء يكفني وأكرم بعلي أن تنال مراكبه فسأل عمر. رضي الله عنه. كم تصبر المرأة؟ قلن: شهرين وفي الثالث يقل الصبر، وفي الرابع ينفذ الصبر. فكتب إلي أمراء الأجناد: لا تحبسوا رجلاً عن امرأته أكثر من أربعة أشهر، وروي أنه قال لابنته حفصة. رضي الله عنها. كم تصبر المرأة عن زجها؟ أتصبر شهرًا؟ قالت: نعم، قال: شهرين؟ قالت: نعم، قال: ثلاثة؟ قالت: نعم، قال: أربعة أشهر؟ فسكتت، فكتب إلى أمراء الأجناد بذلك. مسألة: قال: "ولو حلف بطلاق امرأته لا يقرب امرأة له أخرى ثم بانت". الفصل إذا كانت له زوجتان زينب وعمرة، فقال لزينب: إن قربتك فعمرة طالق، لم يكن موليًا من عمرة؛ لأنه يمكنه وطئها متى شاءت بغير ضرر، فأما زينب فلا يمكنه وطئها إلا بضرر وهو طلاق عمرة، فيكون موليًا منها على قوله الجديد، فيضرب له المدة ويوقف، فإما أن يفي أو يطلق، فإن طلق نظر، فإن كان رجعيًا فراجعها فالإيلاء بحاله، وإن أبانها بالطلاق ثم نكحها هل يعود الإيلاء؟ قولان على ما بيناه من كتاب الطلاق، فإذا قلنا يعود، استأنف أربعة أشهر من حين نكحها، ولا يختلف المذهب أنه إذا وطئ هذه المولى منها في المدة أو بعدها وقع الطلاق على المرأة الأخرى؛ لأن صفة الطلاق باقية لا تزول بالبينة، ألا ترى أنه لو طلقها، ثم زنى بها [111/ب] وقع الطلاق لوجود الشرط وليس كذلك الإيلاء؛ لأنه يسقط بالإبانة، ألا ترى أنه لو آلي من الأجنبية لا يصح فدل على الفرق بينهما، هذه مسألة الكتاب. فأما إذا طلق المحلوف بطلاقها ثم تزوج بها، ثم وطئ التي آلي منها. وهي التي حلف بترك وطئها. فهل يعود حكم الطلاق؟ قولان على ما بيناه. فإذا قلنا: يعود فحكم الإيلاء من التي (آلى) منها

قائم. وإذا قلنا: لا يعود فقد بطل الإيلاء؛ لأنه لا يخشى من وطئها وجوب شيء. ثم قال الشافعي: "وهكذا الظهار مثل الإيلاء". يريد أنه يصح تعليقه بصفةٍ، فعلق ظهار إحدى امرأتيه بطلاق الأخرى، فإذا أبانها ثم عادت إليه كان الحكم في ذلك كالحكم في الإيلاء. مسألة: قال: "ولو آلي من امرأته الأمة ثم اشتراها فخرجت من ملكه ثم تزوجها، أو العبد من حرة ثم اشترته فعتق فتزوجته لم يعد الإيلاء". إذا آلي من امرأته الأمة ثم اشتراها وانفسخ النكاح ثم باعها ثم تزوج بها، أو آلي العبد من امرأته الحرة ثم اشترته وانفسخ النكاح ثم أعتقته وتزوجت به، ففي عود الإيلاء قولان، إلا أن هذا هل يجري مجرى الطلاق الثلاث أو يجري مجرى البيونة بدون الثلاث؟ اختلف أصحابنا فيه، وقد بيناه فيما مضى، وعامة أصحابنا على أنه يجري مجرى البينونة بدون الثلاث، لأنها تحل قبل زوج، وهكذا القول لو آلي من امرأته ثم انفسخ نكاحها بعيب، أو إعسار بالنفقة، أو ردة ثم عادت إليه ثانيًا، هل يعود الإيلاء على هذا الخلاف؟ وإذا قلنا: جرى مجرى البينونة بالثلاث لم يعد الإيلاء من قوله الجديد، ومن قوله القديم قولان، وإذا قلنا: يجري مجرى البينونة [112/أ] بدون الثلاث عاد في قوله القديم، وفي قوله الجديد قولان. فرع إذا حلف على أجنبية أنه لا يطأها انعقدت يمينه حتى لو تزوجها ووطئها حنث وتلزمه الكفارة ولا يكون موليًا؛ لأن الإيلاء حكم يتعلق بالزوجية، فإن تزوج بها فهل يصير موليًا؟ قال القاضي الطبري: في الأول يصير موليًا. ثم قال: ينبغي أن لا يكون موليًا في أحد القولين، كما لو أبانها ثم تزوجها هل يعود الإيلاء؟ قولان. قال أصحابنا: الذي يجئ على مذهب الشافعي أنه يصير موليًا هاهنا قولاً واحدًا، ويفارق هذا مسألة القولين لأن حكم النكاح يعود في النكاح الثاني في أحد القولين، وفي القول الثاني لا يعود، وهاهنا حين اليمين لم يكن نكاح ولا كان بها موليًا، وهذه كما لو علق الطلاق في غير نكاح ثم تزوجها لم يثبت حكمه قولاً واحدًا، ولو علقه في النكاح ثم أبانها ثم تزوجها هل يعود؟ قولان وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد. وقال مالك: إذا تزوجها وقد بقيت من مدة اليمين أكثر من اربعة أشهر يصير موليًا؛ لأنه لا يمكنه الوطئ بعد أربعة أشهر إلا بحنث وكان موليًا كما لو حلف في الزوجية وهذا غلط؛ لأن الإيلاء حكم من أحكام النكاح، وإذا حلف على الزوجة ضربت المدة؛ لأنه قصد الإضرار بها بيمينه واليمين قبل الزوجية لا على وجه الإضرار؛ لأنه لا يحل وطئها فلا يكون موليًا،

كما لو امتنع بغير يمين. فرع آخر لو امتنع من وطئها بغير يمين لا تضرب له المدة، وبه قال جماعة العلماء. وقال أحمد: إن قصد الإضرار بها لزوال الأعذار ضربت له المدة، كما لو امتنع باليمين، وهذا غلط؛ لأنه لم يحلف على ترك وطئها فلا يكون موليًا، كما لو لم يقصد الإضرار بها، ولأنه لا يتحقق الإضرار ما لم يؤكد اليمين. [112/ب]. مسألة: قال: "والإيلاء يمين لوقت فالحر والعبد فيها سواء". مدة الإيلاء أربعة أشهر للحر والعبيد حرة كانت المرأة أو أمة. وبه قال أحمد في رواية. وقال مالك وأبو حنيفة: تختلف مدة الإيلاء بالرق والحرية إلا أن مالكًا يقول: الاعتبار برق الزوج وحريته، فمدة الإيلاء في حق الحر أربعة أشهر وفي حق العبد شهران، وأبو حنيفة يقول: الاعتبار برق المرأة وحريتها، فيكون للأمة شهران وللحرة أربعة أشهر، وهو الرواية الثانية عن أحمد، واحتج مالك رحمه الله أنه معنى يتعلق به حكم البينونة فاختلف برق الزوج وحريته كالطلاق. واحتج أبو حنيفة بأنها مدة يثبت ابتدائها بقول الزوج فيختلف برقها وحريتها كمدة العدة، وهذا غلط؛ لأنها مدة تضرب للوطئ فلا يختلف بالرق والحرية كمدة العدة، ويؤكد أن هذا الأمر بني على طبع النساء، وقد يضير النساء عن الأزواج على ما ذكرنا عن عمر رضي الله عنه، وما بني على الطبع لا يختلف بالرق والحرية كمدة العنة ويخالف مدة العدة؛ لأنها مبنية على الكمال؛ لأن الاستبراء يحصل بقرء واحد فيختلف نقصانها وكمالها. وأما ما ذكر مالك لا يصح؛ لأنه لا يتعلق بها بينونة عندنا، ويلزم عليه مدة العنة. مسألة: قال: "ولو قالت: قد انقضت الأربعة أشهرٍ وقال: لم تنقض فالقول قوله". إذا اختلفا في انقضاء المدة فالقول قوله مع يمينه وعليها البينة؛ لأن الأصل بثبوت النكاح والمرأة تدعى أمرًا حادثًا تستحق به رفعه، وهو كما قلنا: إذا اختلفا في الإصابة، فقال الزوج: أصبتها، وقالت المرأة: لم يصبني فالقول قوله؛ لأن الأصل [113/أ] بقاء النكاح ولزومه ولأن القول قوله في أصل الإيلاء إذا أنكرته فكذلك في مدته. مسألة: قال: "ولو آلي من مطلقةٍ لملك رجعتها كان موليًا من حين ترجيعها".

باب الوقف من كتاب الإيلاء

الإيلاء من الرجعية صحيحة ولكنه لا يحتسب مدة العدة من التربص فيستأنف له المدة إذا راجعها دائمًا صح الإيلاء منها؛ لأنها في معنى الزوجات، وإنما لا تحتسب مدة العدة من التربص؛ لأنها محرمة الوطئ آلي أن يراجعها. وقال أبو حنيفة وأحمد: تحتسب مدة العدة من التربص، وبني أبو حنيفة على أصله أنها مباحة الوطئ، واحتج أحمد بأنه صح الإيلاء منها فتحتسب المدة من وقت الإيلاء وهذا غلط؛ لأنها معتدة منه فلا تحتسب عليه مدة العدة من زمان الإيلاء، كما لو كانت معتدة بائنة. فرع لو آلي من معتدة عن طلاق بائن ثم نكحها لا يكون موليًا. وقال مالك: يكون موليًا إذا نكحها، وهذا غلط، لأنها أجنبية منه فلا يصح الإيلاء منها أصلاً وهو لا يسم الأجنبية على ما ذكرنا عنه من قبل، وقد دللنا على بطلان مذهبه في الأجنبية. مسألة: قال: "والإيلاء من كل زوجة حرة وأمة، مسلمة وذمية سواء". وهذا صحيح؛ لأن لكلهن حقًا من الاستمتاع، ولا فرق في هذا بين الذمي والمسلم أيضًا. وقال أبو حنيفة: ينعقد إيلاء الذمي في حكم الطلاق ولأنه لا كفارة عليه لو وطئها بخلاف المسلم وهذا غلط؛ لأن من صح طلاقه صح حكم الإيلاد على الكمال كالمسلم. باب الوقف من كتاب الإيلاء مسألة: قال: "إذا مضت الأربعة الأشهر للمولى وقف [113/ب] وقيل له: إن فئت وإلا فطلق، والفيئة الجماع إلا من عذر". قد بينا أنه إذا مضت أربعة أشهر يوقف، وقبله لا يوقف. وإذا وقف طولب بالفيئة أو الطلاق، والفيئة تكون بالطلاق؛ لأنه الذي منع نفسه منه بعقد اليمين، إلا أن يكون له عذر منمرض يخاف منه الزيادة في العلة والتباطؤ في البرء أو حبس أو غيره، فيقول له: فيء بلسانك وهو أن يقول بلسانه: قد ندمت على ما قلت، وإذا قدرت على الوطئ وطئت، ولو كنت قادرًا لفعلت. ذكره أبو حامد. وقال القاضي الطبري: جميع أصحابنا بين هذه الألفاظ ولم أجد ذلك للشافعي، ولا يجب عندي أن يأتي بجميع هذه الألفاظ، وإنما المأخوذ عليه أن يظهر من نفسه أنه غير قاصد الإضرار بها. فلو قال: إذا قدرت فئت إليك، أو وطئتك كفاه، وقد قال ابن أبي هريرة في التعليق هذه المسألة، وقال: إن لم يكن قادرًا على الجماع طولب بما يقدر عليه في الحال، فيقال له: أظهر من نفسك الرجوع عن الإضرار بلسانك لتطيب نفسها وتسكن إلى ذلك، كما تقول في الشفبع إن كان قادرًا على أخذ الشفعة أخذ، وإن لم يكن قادرًا أظهر من نفسه ما يصلح أنه مقيم على أخذها. وقال أبو ثور: لا يلزمه الفيئة باللسان عند العجز حتى

يقدر عليها بالوطئ ويؤخر المطالبة إلى زوال العذر؛ لأن الضرر بترك الوطئ لا يزول بالفيئة باللسان، وهذا غلط، لأن القصد بالفيئة ترك ما قصد إليه من الإضرار، وقد ترك القصد إلى الإضرار بما أتى به من الأعذار، ولأن القول مع العذر يقوم مقام الفعل مع القدرة، ولهذا نقول: إشهاد الشفيع على طلب الشفعة في حال العيبة يقوم مقام الطلب في حال الحضور في إثبات الشفعة. فإذا تقرر هذا، وفاء باللسان [114/أ] ثم قدر بعد ذلك على الوطئ طولب به ولا يستأنف به المدة. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: يستأنف له المدة؛ لأنه وفاها حقها بما أمكنه من الفيئة، فلا يطالب بعد إلا باستئناف المدة، كما لو طلقها ثم أرجعها، وهذا غلط؛ لأنه أخر حقها لعجزه عنه، فإذا قدر عليه يلزمه إيفاؤه، كما لو قدر المعسر على قضاء الدين. وأما ما ذكره لا يصح؛ لأنه ما وفاها حقها، بل وعدها إيفاء الحق. مسألة: قال: "ولو جامع في الأربعة الأشهر خرج من حكم الإيلاء وكفر عن يمينه". إذا وطئ المولي نظر، فإن كان وطئه بعد انقضاء المدة فقد وفاها حقها، وهل تلزمه الكفارة؟ قد ذكرنا قولين. وإن كان وطئه قبل انقضاء المدة فقد خرج من حكم الإيلاء وحنث في يمينه، وهل تلزمه الكفارة؟ فيه طريقان: أحدهما: تلزمه قولاً واحدًا، ويفارق بعد المدة لأن الوطء قبل المدة غير واجبة عليه فوجبت الكفارة به، وبعد انقضاء المدة واجبة، فجاز أن لا تحب به الكفارة. والثاني: فيه قولان أيضًا؛ لأن بهذا الوطئ خرج عن حكم الإيلاء أيضًا، والآية عامة من الكل، وهذه الطريقة الأصح؛ لأن الكفارة تجب من حنث الطاعة والواجب لوجوبها من حيث المعصية. فرع لو إلى أقل من أربعة أشهر ثم وطئ هل تلزمه الكفارة؟ قال القفال: فيه طريقان؛ أحدهما: يلزمه قولاً واحدًا. والثانية: فيه قولان. مسألة: قال: "ولو قال: أجلني في الجماع لم يؤجله أكثر من يوم". إذا طولب المولى فقال: أجلوني، لا يختلف المذهب أنه لا يؤجل؛ لأنه لا يكلف الوطئ في مجلس الحكم فلا بد من التأجيل، ثم فيه قولان: أحدهما: يؤجل ثلاثة أيام؛ لأنه أكثر حد القليل وأول حد الكثير، فيحتاج أن يراجع نفسه وينظر غبطته في أحد الأمرين، ولا يأتي ذلك إلا من هذه المرة. والثاني وهو الصحيح: [114/ب] أنه يؤجل بمقدار الحاجة، فإن كان صائمًا فحتى يفطر، وإن كان جائعًا فحتى يشبع، وإن يؤجل بمقدار الحاجة، فإن كان صائمًا فحتى يفطر، وإن كان جائعًا فحتى يشبع، وإن كان شبعانًا فحتى يهضم الطعام لئلا يلحقه ضرر الجماع ولا تقدير فيه، وهو اختيار المزني وقول الشافعي "أجله يومًا" لم يرد به التقدير باليوم، بل ذكر ذلك على قدر

الحاجة من العادة، وذلك قريب من يوم أو نحو ذلك. واحتج المزني بأن المرتد لا يؤجل ثلاثًأ، ولأن الثلاث حد والحد لا يؤخذ قياسًا. ويمكن أن يجاب بأن له في المرتد هل يؤجل ثلاثًا؟ قولان أيضًا، وعندنا يؤخذ الحد والتقدير قياسًا فلا نسلم. فرع إذا قلنا يؤجل ثلاثة أيام بعد المدة هل هو واجب أو استحباب؟ فيه وجهان، أحدهما: واجب كإنظار المرتد ثلاثًا، فعلى هذا ينظر استنظرها أم لا. والثاني: وهو الأظهر، واختاره الداركي أنه استحباب ينظر بها إن استنظرها وإلا فلا. والفرق بين هذا وبين المرتد أن إنظار المرتد حق لله تعالى فلم يعف على استنظاره، وإنظار هذا من حقه يوقف على استنظاره. فرع آخر لو طلق الحاكم عند الامتناع قبل ثلاثة أيام، فإن قلنا لا ينظر فيها وقع الطلاق، وإن قلنا: ينظر هل يقع طلاقه قبلها فيه وجهان بناء على أنها تجب شرعًا، أو استنظار، فإن قلنا وجب شرعًا لم يقع، وإن قلنا بالوجه الآخر وقع وإن كان الحاكم لا يراها وقع الطلاق وجهًا واحدًا؛ لأنه عن اجتهاد شائع. فرع آخر إذا قلنا: يطلق الحاكم عند الامتناع في أحد القولين وطلق الحاكم ثم طلق الزوج بعده ولم يعلم الزوج وقع طلاق الحاكم، وهل يقع طلاقه؟ فيه وجهان؛ أحدهما: لا يقع لأنه واجب قد سبق الحاكم باستيفائه منه. والثاني: يقع لأنه يملك ما يجب وما لم يجب، فإذا استوفي الحاكم الواجب ولم يستكشف الزوج عنه وقع طلاقه غير واجب. [115/أ]. فرع آخر لو طلق الحاكم والزوج معًا في حالة واحدة فطلاق الزوج واقع، وفي طلاق الحاكم وجهان؛ أحدهما: قاله ابن أبي هريرة: يقع أيضًا؛ لأنه لم يسبقه الزوج بالطلاق، والثاني: لا يقع؛ لأنه لم يسبق الزوج بالطلاق. مسألة: قال: "ولو كانت حائضًا أو أحرمت مكانها بإذنه أو بغير إذنه فلم يأمرها بإحلال لم يكن عليه سبيل". الفصل إذا مضت مدة الإيلاء وهناك عذر يمنع الجماع كالحج والصوم والحيض والنفاس في الحبس؛ لم يكن لها مطالبته حتى يزول المانع، ولا فرق بين العذر الحسي كالحبس والمرض، أو الشرعي كالإحرام ونحوه، ويخالف هذا إذا آلي منها ثم تظاهر منها قبل

مضي مدة التربص، فإذا مضت المدة كان لها المطالبة مع وجود المنع من الوطئ؛ لأنه معنى من جهته لا من جهتها أيضا، وهو يمكنه إزالة المانع بالتفكير إن كان قادرًا على الكفارة فلم تسقط عنه المطالبة. فإذا تقرر هذا فالوجه أن يصبر حتى يزول العذر ثم طالبه في الحال، ولا يلزمه قبل زوال المانع فيه المعذور باللسان إن كان المانع من جهتها. وقيل: وجه أنه يستأنف المدة بعد زوال العذر وليس بشيء، وإن كانت هذه الأعذار موجودة عند عقد اليمين، فإن كانت موجودة فيها مثل حبسها بحق أو غير حق، أو مرض أو صغر أو نشوز أو جنون بحنث لا يصل إليها منعت أنشأ ضرب المدة؛ لأن مدة الإيلاء هي المدة التي يكون الزوج فيها ممتنعًا من ووطئها فيها باليمين، هاهنا مع هذه الأعذار فيها لا يوصف بأنه يمتنع، وهذا نظر دالاً في الحيض وحده، فإنه يحتسب عليه زمان الحيض من المد؛ لأن الحيض يكثر ويوجد كل شهر، فلو لم يحتسب بزمانه من المدة لم يكن يحصل المدة بوجه. فإن قيل: أليس [115/ب] الحيض يسقط مطالبتها فلا تسقط المدة؟ قلنا: لأنا لو أسقطنا المدة لم تكن تحصل مدة الإيلاء، وليس كذلك المطالبة، فإنا إذا أسقطناها في الحال طالبت به إذا زال الحيض، ولا يؤدي إلى إسقاط الحق رأسًا، فدل على الفرق بينهما وأما النفاس: قال القفال وجماعة: هي كالحيض؛ لأنها عادة في المرأة كالحيض، ولهذا سوّى بينهما في أنهما لا يقطعان التتابع في صوم شهرين متتابعين. وقال بعض أصحابنا وهذا صحيح: مدة النفاس قاطعة لمدة التربص بخلاف الحيض؛ لأن الحيض غالب والنفاس نادر. وأما إحرامها: يمنع الاحتساب على ما نص عليه. وقوله: "إذا لم يأمرها بإحلال" يدل على أنها إذا أحرمت بغير إذن الزوج له تحليلها وهو أحد القولين، والأمر بالإحلال لا يجب عليه؛ يترك بذلك حق نفسه. وقال بعض أصحابنا: إحرامها كالحيض والنفاس؛ لأن هذه العوارض تعرض في العادة، وقلما تخلو المرأة عن شيء منها في بعض أوقاتها، وهذا غلط لما ذكرنا وليس بشيء. وقيل: إذا أمكن في الابتداء ثم عرض لا يؤثر. فإذا تقرر هذا فكل هذه الأعذار التي تمنع بضرب المدة إذا طرأت في أثناء المدة قطعت استدامتها، وإذا زالت استؤنفت المدة أربعة أشهر ولا شيء على ما مضى منها؛ لأن من شأنها أن تكون متتابعة في المدة، ذكره صاحب "التقريب" كصوم شهرين في كفارة الجماع في رمضان والظهار. هكذا ذكره جميع أهل العراق. وقال القفال: فيه وجهان: أصحهما: أنه ينبغي على ما مضت من المدة؛ لأن المانع عدم التمكين من غير خلل في الملك وقد زال، وكما لو انقطعت المدة بوطئ شبهة ثم فرق بينهما وبين الوطئ بشبهة بنت على المدة الأولى. [116/أ] والثاني: تستأنف وهذا غريب. هذا كله في المانع من جهتها. وأما إذا كان المانع من جهته مثل الحبس بحق أو بغير حق، أو المرض، أو الإحرام أو الصوم، أو العنة احتسب بزمانه عليه من مدة التربص.

والفرق أنها حادثة في الفرقة في هاتين الحالتين غير ممسك لها إمساك الزوجات فلم تحتسب عليه بتلك المدة بخلاف مسألتنا. ثم اعلم أن المزني نقل عن الشافعي أنه إذا آلي منها فحبس استؤنفت أربعة أشهر، ثم اعترض عليه فقال: الحبس والمرض عندي سواء؛ لأنه ممنوع بهما، وإذا حسب عليه في المرض وهو يعجز عن الجماع بكل حال فلأن يحتسب زمان الحبس ويمكنه أن تأتيه في حسبه فيصيها أولي. قلنا له: حكم الحبس كما ذكرت، والغلط وقع في النقل، لأن الشافعي قال في "الأم": وإذا آلي فحسبت استؤنفت أربعة أشهر" فسقط التاء عن الناقل فبطل اعتراض المزني، وهذا يدل على بطلان ما ذكره القفال من الوجه أنه إذا زال العذر يبني على المدة فإنه نص ها هنا على أنه يستأنف المدة، ونص هذا الوجه قال: يمكن تأويل بأنها حبست عقيب الإيلاء لا بعده بزمان وهذا يفيد. ثم إذا مضت المدة والحبس والمرض باقٍ قلنا له: فيء بلسانك فيء معذور، إلا أن يكون محبوسًا بحق فنقول له: لا نقبل منك فيء المعذور وأنت تقدر على الخروج منه، فإن لم يفعل طلق الحاكم عليه في أصح القولين. مسألة: قال: "وقال في موضعين: لو كان بينه وبينها مسيرة أشهر فطلبه وكيلها بما يلزمه لها أمرناه أن يفيء بلسانه". إذا آلي منها وهو غائب عنها صح الإيلاء في نكاح تام وتضرب له المدة؛ لأن المانع من جهته، ولو آلي منها ثم غاب عنها فمضت أربعة أشهر فوكلت المرأة [116/ب] وكيل في مطالبته صح التوكيل، فإذا فاء بلسانه وأخذ في المسير مع الإمكان أو في نقلها إليه قبل منه، وإن امتنع من ذلك طلق عليه الحاكم في أصح القولين، وإذا قال: أنا أريد أن أقعد في هذا البلد كان عليها المسير إليه ولا يجوز مطالبته بالمسير إليها، وإن كان الطريق مخوفًا كان معذورًا، فإن تمكن فعل ذلك. ولو لم يحملها ولم يسر إليها مع الإمكان ومضت مدة لو سار فيها لوصل إليها يطلق عليه، ولا يلتفت إلى قوله بعد ذلك: الآن أسير إليها هكذا ذكر القفال. وكلام أصحابنا يدل على أنه لا يشترط مدة الشهر، وعليه بعد مضي المدة أن يفيء باللسان في الحال ثم يأخذ في القدوم أو نقلها، فإن لم يفيء بلسانه فيء معذور ولم يأخذ في الجماع إما بالقدوم أو بالاستدامة لم تتم الفيئة، وطلق عليها ذلك الحاكم أيضًا وهذا أصح، وإنما يلزم المسير حسب الإمكان في العرف والعادة وانتظار الرفقة، والسير مرحلة مرحلة لئلا يؤدي إلى الإضرار به ولا بها. مسألة: قال: "ولو غلب على عقله لم يوقف". إذا مضت المدة وهو مغلوب على عقله سقطت المطالبة؛ لأن المجنون لا تصح مطالبته، فإن عقل طولب في الحال؛ لأن المنع في المدة كان بسبب منه. قال المزني:

هذا يؤكد أن يحسب عليه مدة حبسه ومنع تأخيره يومًا أو ثلاثة، ومنع من أن يقرأ أو منع على الفعل الماضي بتأخيره نصب موقوع الفعل عليه، أي منع الشافعي في مسألة الجنون تأخيره ثلاثة أيام، فدل على إبطال التأقيت، والقراءة الأولى أصح وهي أن يقرأ: ومنع على المصدر تأخيره بالإضافة [117/أ] يعني أن كلام الشافعي في المجنون يؤكد ما أخبره في مسألتين أحديهما: احتساب مدة جنسه عليه، والثانية: إبطال التأقيت عند الوقف. يقال له: أما مسألة الحبس فأنت غلطت في النقل. وأما التأقيت فالصحيح ما أخبرت، ولا يحسن منك أن تحتج بكلام الشافعي في هذه المسألة، وما قصد بها مسألة التأقيت، وإنما قصد حكم الجنون العارض أنه يمنع المطالبة في حال الجنون ولا يمنع احتساب المدة. وقيل: قوله: "ويمنع تأخيره" عطف الاسم على الفعل، وفي هذا يؤكد منع تأخيره، ومثل هذا جائز في الكلام. مسألة: قال: "ولو أحرم قيل له: إن وطئت فسد إحرامك". الفصل إذا كان محرمًا فمضت المدة، قلنا له: لا نقبل منك فيء معذور؛ لأنك أدخلته على نفسك ولا نطالبك بالجماع فإنه معصية، ونقول لك: إن وطئتها فقد أوفيتها حقها وفسد إحرامك، وإن لم تطأها طلق الحاكم عليك، ويفارق هذا إذا مرض لأنه معذور إلى أن يتحلل؛ لأنه غير قادر على الوطئ كالمريض، وهذا غير صحيح لما ذكرنا. وقال مالك: لو وطئها في هذه الحالة لا يخرج عن حقها ولها أن تطالبه بالوطئ بعد الإحلال. وهذا غلط، لأنه حنث بوطئها وزالت اليمين فلا يبقى حكم اليمين. مسألة: قال: ولو آلي ثم تظاهر، أو تظاهر ثم آلي وهو يجد الكفارة، قيل له: أدخلت المنع على نفسك". الفصل إذا آلي ثم تظاهر منها، أو تظاهر ثم آلي وهو مصر كفارته الصيام وقد انقضت مدة الإيلاء تقول له: [117/ب] لا نطالبك للوطئ فإنه معصية؛ لأنه الوطئ في الظهار قبل التفكير معصية؛ ولكن نطالبك بالطلاق، فإن وطئت عصيت ووفيتها حقها، وإن طلقتها وفيتها حقها، وإن امتنعت من الأمرين طلقها الحاكم عليك ولا يقبل عذرك بتحريمها عليك؛ لأن تحريمها بالظهار شيء أدخلته على نفسك فلا يتأخر بذلك حقها، ولا يلزمها أن تصير حتى تصوم شهرين؛ لأن ذلك تأخير لحقها به ضرر. قال القفال: ونظير هذا ما لو غصب دجاجة ولؤلؤة، فابتلعت الدجاجة اللؤلؤة: قلنا له: إن ذبحت الدجاجة عصيت لأنها لغيرك، وإن لم تذبح غرمت قيمة اللؤلؤة، ولا نأمرك بالمعصية لكن نغرمك إن لم تذبح.

فرع إذا أراد وطئها هل لها أن تمنع؟ وجهان: أحدهما: ليس لها ذلك بخلاف الوطئ في الحيض؛ لأن تحريم ذلك من حقها وتحريمه بالظهار في حقه وحده، ويسقط حقها من المطالبة بهذا الامتناع؛ لأن الممتنع ممنوع من المطالبة كالديون المبذولة ليس لصاحب الدين الامتناع من أحدها لعلمه أنها مغصوبة، وهذا اختيار أبي حامد وجماعة، ولم يذكر صاحب "الحاوي" سوى هذا. وحكي عن أبي حامد أنه إذا كان صائمًا أو محرمًا فدعاها ليس لها الامتناع وجهًا واحدًا: وهذا غريب. فإن قيل: أليس لو جاءها بنفقة مغصوبة لها أن تمتنع من غصبها فكذلك هذا؛ لأن كل واحد منهما حرام؟ قيل: الفرق أن النفقة المغصوبة لا تسلم لها بل تنزع من يدها، وليس كذلك لو وطئ، فإن الحرام والحلال سواء في توفية الحق. والوجه الثاني: لها أن تمتنع منه، وهو اختيار القاضي الطبري وجماعة، وهو صحيح عندي؛ لأنه وطئ محرم فكان لها الامتناع منه كوطئ الرجعية، ويخالف الدين فإنه يدعى أنه مغصوب [118/أ] ومن عليه الدين يدعى أنه ماله، والظاهر معه فإن اليد تدل على الملك، وهذا الوطئ متفقان على تحريمه، والسبب الذي يحرمها عليه يحرمه عليها ونظره من المال أن يتفقا على أنه مغصوب ولا يجبر صاحب الدين على أخذه، فإن قلنا بهذا أجبر الزوج على الطلاق لأنه مخير بين الفيئة والطلاق، فإذا تعذرت الفيئة تعيق الطلاق. ومن أصحابنا من ذكر وجهًا آخر أنه لا يتعين عليه الطلاق ويفيئ فيئ معذور حتى يقدر على الكفارة والأول أصح وهو المذهب. وهكذا الخلاف إذا أحرم ثم أراد وطئها هل لها أن تمتنع أم لا؟ فرع آخر لو كان المظاهر مالكًا للرقبة لم ينظر في عتقها؛ لأنه يقدر على تعجيله، فإن لم يكن مالكًا للرقبة أنظر لابتياعها، وهل يبلغ بإنظاره ثلاثًا؟ قولان. وذكر أبو إسحاق هاهنا: أنظر به يومين وثلاثة؛ لأنه يسير. وكذلك في الإطعام إذا أراد أن يكفر بها بمثل قدر الحاجة. مسألة: قال: "ولو قالت: لم يصبني وقال: قد أصبتها، فإن كانت ثيبًأ فالقول قوله مع يمينه". الفصل إذا اختلفنا في الإصابة، فإن كانت ثيبًا فالقول قوله مع يمينه، ولكن يقبل ببينة أيضًا لو أقامها؛ لأنه يتصور بصورة المدعي، فهو كالمودع إذا ادعى رد الوديعة أو تلقها يقبل قوله مع يمينه وتقبل بينة أيضًا. وإن ادعت أنها بكر أرى أربع نسوة، فإن قلن: إنها يثب

فإن القول قوله مع يمينه، وإن قلن: إنها بكر فالقول قولها مع يمينها. مظاهر كلام الشافعي أنها تحلف سواء ادعى الزوج عليها عود البكارة أو لم يدع. قال المزني: إنما أحلفها لأنه لا يمكن أن يكون لم يبالغ في الوطئ فرجعت العذرة بحالها. فمن أصحابنا من أخذ بظاهره، ومنهم من قالك إذا لم يدع الزوج عود العذرة لا يحلف؛ لأنا قد علمنا كذبه [118/ب] وإنما يحلفها إذا أدعي عودها فتكون دعوى مستأنفة ويكون قولها مع يمينها. فإن قيل: الأصل عدم الوطئ فلم قلتم القول قوله في الوطئ إذا كانت ثيبًأ؟ قيل: هذا الأصل غير محقق ويجوز غيره، والنكاح محقق فكان المحقق أولى من غيره، والمحقق مع قوله. قال ابن الحداد: لو كانت هذه المرأة غير مدخول بها وادعي الوطئ وحلفناه، ثم طلقها وأراد أن يراجعها فامتنعت وأنكرت الوطئ كان القول قولها مع يمينها، فإذا حلفت لم يثبت له الرجعة عليها؛ لأنا أثبتنا الوطئ بيمينه في حكم الإيلاء، فأما إثبات الرجعة لا يمكن بيمينه ويسقط عنها بيمينها. مسألة: قال: "ولو ارتدا أو أحدهما في الأربعة الأشهر أو خالعها ثم راجعها، أو راجع من ارتد منهما في العدة استأنف في هذه الحالات كلها أربعة أشهر من يوم حل له الفرج". قدمنا إن هذه الردة لا تحسب عليه، فإن رجع إلى الإسلام يستأنف المدة كما لو راجع الرجعية، فإن لم يرجع إلى الإسلام حتى انقضت العدة انفسخ النكاح، فإن تزوجها بعدة هل يعود الإيلاء فهذا فسخ وقع فيه هل يكون كالبينونة بالثلاث أو دون الثلاث؟ قد ذكرنا فيما تقدم. وهكذا لو آلي منها ثم خالفها وقلنا: الخلع فسخ ثم تزوجها فهو كالفسخ بالرد سواء. قال الشافعي: "ولا يشبه هذا الباب الأول؛ لأنها في هذا الباب كانت محرمة كالأجنبية الشعر والنظر والحيض في تلك الأحوال لم تكن محرمة بشيء غير الجماع". وأراد أن بالحيض والإحرام لا تنقطع المدة كما تنقطع بالارتداد لهذا الفرق، والتحقت في حالة الارتداد والخلع بالأجنبيات شعرًا نظرًا وحسًا فاستأنفنا [118/ب] المدة. ثم أن المزني اختار لنفسه الفرق بين الارتداد والخلع فأوجب إسقاط المدة في الخلع دون الارتداد وقال: القياس عندي أن ما حل له بالقعد الأول فحكم حكم امرأته والإيلاء يلزمه لمعناه فأما من لم يحل له بعقده الأول حتى يحدث نكاحًا يعني الخلع فحكم حكم من آلي ثم تزوج فلا حكم للإيلاء في معناه وهذا إشارة إلى اختيار من القولين في عود اليمين وقد اختاروا أن لا تعود فلذلك أسقط الإيلاء بالخلع كل الإسقاط ولم يقطع المدة بعارض الارتداد يقال له إذا اعترض الارتداد ثم جمعها الإسلام فتحريمها عليه في حالة الارتداد كان كتحريم الأجنبية ولم يحل له منها في تلك الحالة شيء مما يستباح بالنكاح فكيف لا تنقطع المدة والحالة وبهذه الصفة.

مسألة: قال: وأقل ما يكون المولي به فائتًا في الثيب أن يغيب الحشفة، وفي البكر ذهاب العذرة". الفيئة في الإيلاء عند القدرة التقاء الختانين بكرًا كانت أو ثيبًا والالتقاء أن يغيب الحشفة في الفرج وقول الشافعي في الثيب: أن يغيب الحشفة في البكر إذهاب العذرة لم يرد به أن الاقتضاض شرط، أو هما يفترقان بل أراد أن الالتقاء في حق البكر لا يقع إلا بالافتضاض، ثم قال الشافعي: فإن قال لا أقدر على افتضاضها أجل أجل العنين وينظر في هذا، فإن كذبته المرأة كان القول قوله مع يمينه؛ لأنه أعلم بنفسه، وحلفناه لأنه متهم في ترك الفيئة، فإذا حلفت فاء فيئة معذور بالمرض بلسانه، ثم إذا سألت المرأة الحاكم أن يضرب له مدة العنة ضرب له المدة، ثم إذا مضت المدة، ولم يطأ كان لها المطالبة بالفسخ، وهذا هو المذهب المنصوص. وقال ابن أبي هريرة: [119/ب] يتعين عليه الطلاق إذا أقر بالعجز؛ لأنه من خير بين شيئين ثم تعذر عليه أحدهما تعين الآخر، كالمخير في أنواع كفارة اليمين. قال: وتأويل قول الشافعي أنه طولب بالفيئة بعد انقضاء المدة فاختار الطلاق ثم راجعها، ثم قال: لا أقدر على وطئها أُجل أَجل العنين، وهذا لأن حقها بعد انقضاء المدة ثبت معجلاً فلا يؤجل؛ لأنه يؤدي إلى الإضرار بها، وكذا ذكره صاحب "الإفصاح" وقال: إذا رجع خيرناها بين حكم الإيلاء وحكم العنة؛ لأنه قد اجتمع لها الأمران، وهذا لا يصح؛ لأنه إنما يكون مخيرًا بين الوطئ والطلاق إذا كان قادرًا على الوطئ، فأما إذا تعذر عليه بسبب فعليه يكون الفيئة بلسانه كما لو كان مريضًا، وها هنا قد ثبت عجزه في الحال بيمينه هذا كله من الكبر. فأما إذا كانت ثيبًا فقال: لا أقدر على وطئها نظر، فإن لم يكن وطئها قبل ذلك فالحكم على ما ذكرنا من قبل، وزن كان قد وطئها لم يقبل منه أنه عنين ونطالبه بالفيئة أو الطلاق؛ لأن من وطئ في أول النكاح لا يكون في الحكم عنينًا من ذلك النكاح. مسألة: قال: "لو جاء معها محرمة أو حائضًا خرج من حكم الإيلاء". من فاء فيئة القادر خرج بها من حكم الإيلاء، سواء كان وطئه مباحًا أو حرامًا، مثل أن تكون حائضًا أو نفساء أو صائمة، لأن كل حكم يتعلق بالوطئ في النكاح لا يفترق بين المباح منه والحرام كتحريم الربيبة واستقرار المهر. مسألة: قال: "لو آلي ثم جن فأصابها في جنونه أو جنونها خرج من الإيلاء وكفر إن أصابها وهو صحيح، ولم يكفر إذا أصابها وهو مجنون". إذا آلي منها ثم جن قد ذكرنا أن المدة تحسب عليها في حال الجنون، وأنها لا تطالب ما دام مجنونًا، فإن وطئها لا يختلف أصحابنا أنه لا يحنث [120/أ] بهذا

الوطئ فلا تلزمه الكفارة؛ لأن قصد المجنون إلى الوطئ كعدم القصد، لاسيما فيما يتعلق بحق الله تعالى. ولهذا لو قال: والله لا أدخل الدار فدخلها وهو مجنون لا يحنث في يمينه ويفارق الناس على أحد القولين؛ لأنه من أهل القصد في الجملة بخلاف المجنون. قال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قول مخرج من حنث الناس أنه يحنث به، وتلزمه الكفارة. وهذا غلط والفرق ظاهر. فإذا تقرر هذا فالمنصوص أنه يخرج به من حكم الإيلاء؛ لأن وجود الجماع بدفع الإضرار والقصد غير معتبر. بدليل أنه لو آلي عن أحد امرأتيه ثم وجدها على فراشه فوطئها ظنًا منه أنها امرأته الأخرى خرج به عن حكم الإيلاء وإن لم يقصد، ويفارص الحنث ووجوب الكفارة؛ لأن ذلك حق الله تعالى فيحتاج فيه إلى القصد. ومن أصحابنا من قال: لا يخرج به عن حكم الإيلاء فيجب أن يستأنف لها أربعة أشهر بعد الوطئ كما لو طلقها في الإيلاء ثم راجع استؤنفت أربعة أشهر من يوم رحل الفرج. وتأويل قول الشافعي خرج من حكم الإيلاء، أي فيما مضى من المدة دون المستقبل، وإذا أفاق طولب بالفيئة والطلاق وهذا غير صحيح لما ذكرنا. ومن أصحابنا من قال: إذا قلنا: لا يخرج به من حكم الإيلاء ثم أفاق هل نستأنف له المدة من وقت الوطئ، أو يوقف في الحال؟ وجهان؛ أحدهما: ما ذكرنا أنه يستأنف. والثاني: يوقف في الحال؛ لأنا قد ضربنا له المدة والوطئ الذي وجد منه كالمعدوم فإنه لم يتعلق به حنث، ولا خروج من حكم الإيلاء فصار كما لو لم يوجد، والصحيح ما ذكرنا. وإذا قلنا: خرج من حكم الإيلاء فالمذهب أنه لا تنحل اليمين، فإن أصابها بعد ذلك [120/ب] وهو عاقل تلزمه الكفارة وتكون منزلته في هذا الوقت منزلة من حلف قبل النكاح، ثم نكح يكون حالفًا لا يحكم عليه بحكم الإيلاء. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان؛ أحدهما: هذا والثاني: انحلت اليمين بالوطئ الأول، وهذا ليس بشء. قال المزني: إذا خرج من حكم الإيلاء كيف لا يلزمه الكفارة؟ ولو لم تلزمه الكفارة ما كان حانثًا، وإذا لم يكن حانثًا لم يخرج به من حكم الإيلاء. ومراد المزني من هذا الكلام غير مفهوم لأنه يشبه أن يكون معناه أنه إذا خرج من حكم الإيلاء وجب أن تلزمه الكفارة ويشبه أن يكون معناه أنه إذا لم تلزمه الكفارة وجب أن لا يخرج به من حكم الإيلاء وهذا أظهر الاحتمالين من كلامه قلنا: له الخروج من حكم الإيلاء بزوال المضارة وقد زالت وجوب الكفارة بحرمان العلم والقلم مرفوع عن المجنون فالأولى أن يفصل في الحكمين كما فصل الشافعي بينهما ولأن هذا الوطئ إبقاء حق لأدمي فلا يعتبر فيه القصد، وأما قول الشافعي رحمه الله "وكفر إذا أصابها وهو صحيح" يحتمل أنه أراد به إذا كانت مجنونة وهو عاقل تلزمه الكفارة إذا أصابها وهو صحيح، وله قصد بخلاف ما لو أصابها وهو مجنون لا كفارة عليه؛ لأنه جمع بين المسألتين فبين حكم الكفارة فيهما. ويحتمل أنه أراد: إذا أفاق من جنونه بعدما وطئ فيه، ثم وطئ مرة أخرى يلزمه الكفارة وإن لم يكن موليًا.

فرع لو استدخلت ذكره وهو نائم يخرج به من حكم الإيلاء ولا تلزمه الكفارة؛ لأنها وصلت إلى الإصابة وهو مرفوع العلم كما ذكرنا في وطئ الجنون، ولا تنحل اليمين به حتى لو وطئها بعد ذلك عمدًا تلزمه الكفارة. وقال بعض أصحابنا: فيه وجهان؛ أحدهما: هذا، والثاني: لا يخرج به [121/أ] من حكم الإيلاء لأن حقها في فعله لا في فعلها، ولم يحنث بذلك ولا يسقط به الإيلاء. مسألة: قال: "والذمي كالمسلم فيما يلزمه من الإيلاء". الفصل قد ذكرنا أن إيلاء الذمي صحيح وتلزمه الكفارة كما تلزم المسلم خلافًا لأبي حنيفة - رحمه الله -. حيث قال: لا تلزمه الكفارة. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يصح إيلاءه بالله تعالى ويصح بالطلاق والعتاق. وهذا غلط لأنه يصح إيلاءه بالطلاق فيصح باليمين بالله تعالى كالمسلم. وقال مالك: لا يصح على معنى أنه إذا أسلم لا يوقف ولا يطالب بشيء، واحتج بقوله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُوا إن يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38]، وهذا لا يصح؛ لأن الغفران من حقوق الله تعالى والفيئة من حقوق الزوجة فلا يسقط بالإسلام. ثم اعلم أن الحكم بصحة إيلائه ولزوم الكفارة إنما يكون حين يتحاكم إلينا، فأما قبل تحاكمه فلا نتعرض له، وإذا تحاكموا إلينا هل يلزم الحاكم أن يحكم بينهما؟ فيه قولان؛ أحدهما: يلزمه. والثاني: لا يلزمه. وإذا حكم يحكم بحكم الإسلام لكل حال؛ لأن حكم الله تعالى على العباد واحد. واختار المزني قول الوجوب فقال: هذا أشبه القولين؛ لأن تأويل قول الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، عند الشافعي أن تجري عليهم أحكام الإسلام، واحتج بأن الشافعي - رحمه الله - قال في كتاب "الجزية": لو جاءت امرأة رجل منهم تستعدي بأن زوجها طلقها أو آلي منها أو ظهر منها، حكمت في ذلك حكمي على المسلمين". وقال أيضًا في كتاب "الجزية": وإن جاء رجل منهم يطلب حقًا كان على الإمام أن يحكم على المطلوب، وإن لم يرض بحكمه، وقد مضت هذه المسألة في كتاب النكاح بالشرح. مسألة: قال: "إذا كان العربي يتكلم بألسنة العجم [121/ب] فآلي بأي لسان منهما فهو مولٍ في الحكم". الفصل إذا كان العربي يحسن العجمية فآلي بالعجمية صح الإيلاء كما يصح الطلاق، وإذا آلي العربي بالعجمية وقال: لم أعرف معناه ولم يعرف أنه يعرف باللسانين فالقول قوله مع يمينه؛ لأن الأصل جهله به وهذا من حق المرأة، فأما في حق الله تعالى لوجوب

الكفارة لا يحلف، بل هو أمر بينه وبين الله تعالى، وعلى هذا لو قال العربي لأمته بالفارسية: شهره حري تو وقال: لم أعرف معناه حلف ولم يعتق. ولو آلي العربي بالعربية ثم قال: جرى ذلك على لساني من غير قصد، أو قال العجمي هذا في إيلائه بالعجمية لم يقبل في الحكم؛ لأنه خلاف الظاهر ويدين ما بينه وبين الله تعالى. وأعلم أن فيما نقله المزني إشكالا، وذلك أنه قال: فهو مولٍ في الحكم، وإذا كان يحسن العربي العجمية فآلي بالعجمية فهو مول في الحكم وغيره، فما معنى تقيده بالحكم؟ وإزالة هذه الأشكال بأن يقال: لعل الشافعي تصور المسألة في عربي علمًا أنه يتكلم بكلمات كثيرة من ألسنة العجم، فالظاهر أنه كان عالماً بمعنى الإيلاء في اللغة العجمية لما آلي بلسان العجم، فإذا ادعى إني لا أعقل ما ذكرت جعلناه في الحكم موليًا، لأنا لما عرفناه ناطقًا بلغة العجم في كلمات كثيرة فالظاهر منه أنه علم بالإيلاء، فأما بينه وبين ربه عز وجل فهو أعلم، ويحتمل أنه لم يعقل هذه الكلمة الواحدة، وإن عقل الكلمات الكثيرة. والذي يدل على مراد الشافعي ما عطف على هذه المسألة "أنه لو كان لا يتكلم بالعجمية فقال: ما عرفت ما قلت وما أردت الإيلاء فالقول قوله مع يمينه" يعني في الحكم أن الظاهر هاهنا أنه لم يعقل معنى لفظه، والظاهر في المسألة الأولى أنه يعقل معناه. مسألة: قال: "ولو آلي ثم آلي". الفصل إذا آلي ثم آلي، مثل أن يقول: والله لا وطئتك خمسة أشهر [122/أ] ثم قال: والله لا وطئتك خمسة أشهر، أو حلف على مدتين، فقال: والله لا وطئتك خمسة أشهر ثم قال: والله لا وطئتك سنة، فإذا مضت أربعة أشهر طولب، فإن وطئ حنث فيما قال الشافعي. رحمه الله. في "الأم": لا ينظر فإن أراد باليمين الثانية الأولى فكفارة واحدة، وإن أراد غيرها فأحب آلي "كفارتان"، ويجزيه كفارة واحدة لأنهما يمينان في شيء واحد"، وهو المشهور من مذهبه. وقال أصحابنا: فيه قول آخر أن عليه لكل يمين كفارة. قال أبو إسحاق: وليس وجوب الكفارتين بشيء، وإنما ذلك استحباب كما إذا نذر ثم نذر عليَّ شيء واحد لم يلزمه الثاني ما لم يكن لزمه بالأول استحباب كما إذا نذر ثم نذر عليَّ شيء واحد لم يلزمه الثاني ما لم يكن لزمه بالأول من الوفاء، فكذلك اليمين في الكفارة، وإن أطلق ولايته له، فإذا قلنا: إذا أراد غيرها يلزمه كفارة واحدة فهاهنا أولى، وإن قلنا هناك: يلزم كفارتان فها هنا قولان. وقال صاحب "الإفصاح": إذا حلف على مدتين مختلفتين يجب كفارتان قولاً واحدًا؛ لأنهما يمينان مختلفان، وهذا لا يصح؛ لأن الحنث واحد فلا تتكرر الكفارة، كما لو كانتا على مدة واحدة. قال القفال: بين الوصل وبين الفصل في هذه المسألة؛ لأنه لو قال

باب إيلاء الخصي

لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، وقال: أردت به التأكيد كان تأكيدًا والإيلاء كالتعليق؛ لأنه لا يوقع أمرًا بل يوجب أمرًا بخلاف ما لو قال: أنت طالق ثم قال: أردت به التأكيد لا يصح لأنه إيقاع. مسألة: قال: "وقَدْ زعمَ من خالفنَا في الوقفِ أنَّ الفيئةِ فعلٌ يحدثُه اليمين فِي الأربعةِ الأشهرِ إما بجماع، وإمّا فِيء معذورِ باللسانِ، وزعمَ أنَّ عزيمةِ الطلاقِ انقضاءُ أربعةِ أشهر بغير فعل يحدثُه". الفصل رجع الشافعي. رحمه الله. عليه آلي أول كتاب الإيلاء يناظر أبا حنيفة في الوقف وزمان الفيئة وقد تقدم بيان ذلك، ثم احتج عليه بأنه لما كان الفيء فعلًا منه يخرج به عن [122/ ب] حكم الإيلاء، فكذلك وجب أن تتوقف على فعله، ولا يحصل ذلك بانقضاء المدة. وحرره أصحابنا فقالوا: الطلاق أحد ما يخرج به المولي عن حكم الإيلاء، فوجب أن يتعلق بفعله كالفيئة. واحتج أيضًا بأن ظاهر الآية أنه خيِّر بينهما في زمان واحد فيختار أحدهما في الزمان الذي يختار فيه الآخر، وأنت جعلت الفيء بالمدة لم يكن شيئًا فكيف يحصل الفراق بقدم الفيئة عند انقضاء المدة من غير عزم، ولا إحداث أمر عند انقضاء المدة، ثم إذا بطل مذهبه ثبت أن قوله تعالى: {وإنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} [البقرة: 227]، أراد: وإن أنشأوا الطلاق بعد انقضاء المدة، وقيل: مقصود من هذا الفصل أن عزم الطلاق عند الشافعي ظاهر اللفظ قال تعالى في آية التعريض بالخطبة: {ولا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235]، أي: ولا تتلفظوا ولم يرد النهي عن الفيئة، وكيف ينهي عن الفيئة والتعريض بالخطبة مباح، وزعم أبو حنيفة، رحمه الله بالامتناع قصد وقوع الطلاق عند انقضاء المدة، فقال الشافعي: لو جاز أن يحمل هذا العزم على الفيئة لوجب أن يقال: إذا عزم طلاقًا في المدة قبل انقضائها، فإذا أجمعنا على أنها لا تطلق بالعزم حين يعزم فكيف تطلق بنفس انقضاء المدة من غير عزيمة ولا فعل أنشأه. باب إيلاء الخصي مسألة: قال: "إذا آلي الخصيَّ مِنَ امرأتهِ فهوَ كغيرِ الخصي". الخصي إذا آلي من امرأته، وهو الذي سلت بيضتاه وبقي ذكره. حكمه حكم الفحل؛ لأنه يجامع كما يجامع الفحل، وإنما عدم الإنزال وذلك لا يؤثر. وقيل: جماع الخصي [123/ أ] أقوى وأشد لعدم الإنزال، وقيل: قد ينزل ماءً رقيقًا أصفر ولهذا ألحق به

الولد. وأما المجبوب فعلى ثلاثة أضرب؛ مجبوب قد بقي منه ما يمكن أن يولجه ويجامع به، فحكمه حكم غير المجبوب. ومجبوب لم يبقّ منه شيء أو بقي شيء إلا أنه لا يمكن إيلاجه فيه قولان؛ أحدهما: لا ينعقد إيلاؤه وهو الصحيح، وقد نص عليه في "الإملاء" وبه قال أبو حنيفة واختاره المزني؛ لأن الحنث غير متصور منه والمضارة غير متحققة. والثاني: ينعقد إيلاؤه نص عليه في "الأم" ونقله المزني إلى المختصر؛ لأن قصد المضارة باليمين قد ظهر منه. فإن قلنا بهذا قلنا له: فء بلسانك ولا شيء عليك غيره، والفيء باللسان من المجبوب أن يقول لها: لو قدرت لفعلت، ولا يقول: إذا قدرت فعلت؛ لأنه ميئوس من ذلك. ومن أصحابنا من قال: النصان على حالين، فالذي قال ينعقد إيلاؤه إذا بقي له بعد الجب شيء يمكن منه الجماع، والذي قال لا ينعقد إذا لم يبقَ ذلك. ومن أصحابنا من قال: كما على حالين على وجه آخر: فحيث صحح الإيلاء صور فيمن آلي وهو غير مجبوب ثم اعترض الجب، وحيث لا يصح الإيلاء صور فيمن آلي وهو مسموح عند الإيلاء، وهو جماعة من أصحابنا. ومجبوب بقي من ذكره قدر ما يمكن الجماع به إلا أنه يدعي أنه عاجز لا يمكنه الجماع به، فالقول قوله في ذلك وحكمه حكم العنين، وقد ذكرنا حكم من آلي ثم ثبتت عنته. مسألة: قال: "ولو آلي صحيحًا ثمَّ وجبَ ذكرهُ كانَ له الخيارُ مكانهَا". وقد بينا هذا المسألة في " كتاب النكاح" فإذا اختارت المقام فمضت أربعة أشهر، فإن قلنا بقوله في "الإملاء" لا ينعقد إيلاؤه، بطل إيلاؤه بالجب، وإن قلنا بقوله في "الأم" فلها المطالبة بعد انقضاء المدة وإيلاؤه باقٍ [123/ ب] ورضاها بالمقام معه في خيار الجب لا يسقط خيار الإيلاء فيكفيه في معذور. وأما قوله "كان لها الخيار مكانها": أي بسبب الجب العارض، ويكون على الفور قولًا واحدًا، لأنه خيار عيب فلا مهلة فيها. فرع لو آلي من الرتقاء أو القرناء. قال أصحابنا: فيها قولان كالمجبوب، إلا أنا إذا قلنا يصح الإيلاء لا تضرب الإيلاء؛ لأن المنح بسبب من جهتها كالمريضة يصح الإيلاء منها ولا تحتسب عليه المدة، ولذلك يصح الإيلاء من الصغيرة ولا تضرب له المدة حتى تبلغن فتضرب له المدة، وكذلك من الناشرة ولا تضرب المدة حتى ترجع إلى الطاعة. وقال أبو حنيفة: تضرب للمرأة الرتقاء المدة عقيب الإيلاء، فإن فاء إليها بلسانه وإلا بانت بانقضائها، وكذلك عقده إذا نشزت المرأة أو غابت المرأة في المدة وهذا غلط؛ لأن حقه من الوطاء سقط بذلك فوج أن تسقط المدة المضروبة له.

كتاب الظهار

كتاب الظهار الأصل في الظهار الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم مِّن نِّسَائِهِم مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إنْ أُمَّهَاتُهُمْ إلاَّ اللاَّئِي ولَدْنَهُمْ} [المجادلة:2]، إلى آخر الآيتين. وأما السنة فما روى أبو داود بإسناده عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة قالت: ظاهر مني زوجي أوس بن الصامت، فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يجادلني فيه ويقول: "اتقى الله فإنه ابن عمك"، فما برحت حتى نزل القرآن {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة:1] الآيات: فقال: "يعتق رقبة" فقلت لا يجد. فقال: "يصوم شهرين متتابعين" [124/ أ] فقلت: يا رسول الله، إنه شيخ كبير ما به من صيام قال: "فليطعم ستين مسكينًا"، قلت: ما عنده من شيء يتصدق به، قالت: فأتى من ساعته بعرق من تمر، فقلت: يا رسول الله إني أعنيه بعرق آخر، قال: "قد أحسنت اذهبي فاطعمي عنه ستين مسكينًا، وارجعي إلى ابن عمك". وقال ابن سيرين: أول من ظاهر في الإسلام أوس بن الصامت. قال الأصمعي: العرق بفتح العين والراء السفينة التي تنسخ من الخوص كالزنبيل الكبير، وقد جاء تفسيره في هذا الخبر أنه ستون صاعًا. وروي أبو داود، عن محمد بن إسحاق، أن العرق للكيل يسع ثلاثين صاعًا، وقال أبو سلمة بن عبد الرحمن: إن العرق زنبيل يسع خمسة عشر صاعًا، وهذا يدل على أن العرق قد تختلف في السعة والضيق، فيكون بعض الأعراق أكبر وبعضها أصغر، وروي هشام بن عروة أن جميلة كانت تحت أوس بن الصامت، وكان رجلًا به لمم، فإذا اشتد لممه ظاهر من امرأته، فأنزل الله تعالى فيها كفارة الظهار. واللمم هاهنا الإلمام بالنساء وشدة الخحرص، والتوقان إليهن. وأيضًا روي سليمان بن يسار، عن سلمة بن صخر قال: كنت امرءًا أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئًا يتتابع عليَّ حتى أصبح، فظاهرت منها حتى ينسلخ رمضان، فبينما هي تحدثني ذات ليلة إذ تكشف له منها شيء، فلم ألبث أن وقعت عليها، فلما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر وقلت: امشوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: لا والله، فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: "أنت بذاك يا سلمة؟ "، قلت: أنا بذاك يا رسول الله مرتين، وأنا صابر لأمر الله [124/ ب] عز وجل، فاحكم فيما أراك الله سبحانه وتعالى، قال: "حرر رقبة" قلت: والذي بعثك بالحق ما أملك رقبة غيرها وضربت صفحة رقبتي، قال:

"فصم شهرين متتابعين"، فقلت: وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام؟ قال: "فاطعم وسقًا من تمر بين ستين مسكينًا"، قلت: والذي بعثك بالحق لقد بتنا وحشين ما أملك لنا طعامًا، قال: "فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعهما إليك، فاطعم ستين مسكينًا وسقًا من تمر، وكل أنت وعيالك بقيتها" فرجعت إلى قومي وقلت وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عن النبي صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي، وقد أمرني أو أمر لي بصدقتكم. وقوله: "أنت بذاك يا سلمة" معناه: أنت المسلم بذلك والمرتكب له. وقوله: "بتنا وحشين"، معناه: بتنا مقفرين لا طعام لنا. وروي ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا أتى النبي صلى الله عليه وسلم وقد ظاهر من امرأته فوقع عليها، فقال: يا رسول الله، إني قد ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر، فقال: "ما حملك على ذلك رحمك الله""، قال رأيت خلخالها في ضوء القمر، قال: "فلا تقربها حتى تعمل ما أمرك الله تعالى". وروي عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، أن سلمة بن صخر الأنصاري. أحد بني بياضة. جعل امرأته عليه كظهر أمه حتى يمضي رمضان، فلما مضى نصف رمضان وقع عليها ليلًا، فأتي النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: "أعتق رقبة". فقال: لا أجدها، قال: "فصم شهرين متتابعين". قال: لا أستطيع، فقال: "أطعم ستين مسكينًا". قال: لا أجد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعروة بن عمرو: "أعطه ذلك العرق، وهو مكتل [125/ أ] يأخذ خمسة عشر صاعًا أو ستة عشر صاعًا، إطعام ستين مسكينًا". قال أبو عيسى الترمذي: هذا حديث حسن. يقال: سليمان، ويقال: سلمى. وروي بكير بن الأشج عن سليمان بن يسار خبر سلمى بن صخر وذكر فيه: فأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بتمر فأعطاه إياه، وهو قريب خمسة عشر صاعًا، فقال: "تصدق بهذا"، فقال: يا رسول الله، على أفقر مني ومن أهلي. فقال: "كله أنت وعيالك". وقيل: سليمان بن يسار لم يدرك سلمة بن صخر فإخباره عن مرسل. وأما الإجماع: لا خلاف بين المسلمين فيه، ثم أعلم أن الظهار مشتق من الظهر، كأنه يقول: ظهرك محرم علي كتحريم ظهر أمن. وإنما خص الظهر من بين أعضاء الأم؛ لأن كل مركوب سمي ظهرًا لحصول الركوب على ظهره، والمرأة تركب الزوج، والظهار محرم لقوله تعالى: {وإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ القَوْلِ وزُورًا} [المجادلة:2]، ومعنى ذلك أن الزوجة لا تكون محرمة كالأم. فإن قيل: أليس قوله: أنت علي حرام في معناه وليس بمحرم؟ قلنا: هو مكروه ولا يحرم؛ لأن الله تعالى عاتب فيه فقال: {لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم:1]، ولم يعقبه بما عقب به لفظ الظهار من الإنكار،

وعلق بالظهار الكفارة العظمى ومنع الوطاء قبل التكفير، وفي لفظة التحريم تتعلق كفارة اليمين، وليست اليمين والحنث محرمين، فلهذا لا يحرم. ويمكن أن يقال: التحريم يجتمع مع الزوجية، فأما تحريم الأم لا يجتمع معها فافترقا. مسألة: قال: "فكلُّ زوجِ جازَ طلاقُهُ وجرى عليهِ الحكمُ منْ بالغِ جرى عليهِ الظهارُ". الفصل فإن تظاهرت امرأة من زوجها كان قولها لغوًا. وقال الحسن، والنخعي، وابن أبي ليلي" يلزمها كفارة الظهار. وقال الأوزاعي: [125/ ب] لو قالت لزوجها لا يكون شيئًا، ولو قالت لأجنبي: أنت عليَّ كظهر أمي، لزمتها الكفارة إذا تزوجته. وقال أبو يوسف: يلزمها كفارة اليمين، وهذا غلط لظاهر الآية، ولأنه لا يصح طلاقها فلا يصح ظهارها. وأما الرجال: فكل زوج صح طلاقه صح ظهاره حرًا كان أو عبدًا، مسلمًا كان أو كافرًا، ذميًا كان أو حربيًا. وقول الشافعي: "جرى عليه الحكم" أراد طريق التأكيد، وهو توسع في عبارة العلة، وهذا عبارة المحققين عند التحرير يستكثرون معاني الفقه في أوصاف العلة، وإن كان الوصف الواحد فيها مستقلًا بنفسه، ولا فرق بين أن تكون المرأة مدخولًا بها أو غير مدخول بها، أو صغيرة أو كبيرة، أو حائضًا أو طاهرًا، أو رتقاء أو صحيحة، أو عاقلة أو مجنونة، أو محلة أو محرمة. وقال بعض العلماء لا يصح ظهار العبد، ونسبه صاحب "الحاوي" إلى مالك رحمه الله. واحتج بأن الله تعالى قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة:3] والعبد لا يملك الرقبة، وهذا غلط لعموم الآية، ولأنه يصح طلاقة فصح ظهاره كالحر. وأما ما ذكر لا يصح؛ لأنه أوجب تحرير الرقبة على من يجدها، وأوجب على من لا يصح من الكفارة، وهذا غلط لما ذكرنا من الآية والقياس، ولا نسلم أن موجبة الكفارة بل موجبة التحريم، ولا نسلم أنه لا يصح منه الكفارة. ثم اعلم أن الكفارة تجب الظهار والعود لقوله تعالى: {والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة:3] والعود عند الشافعي أن يمسكها عقيب الظهار زوجة زمانًا يمكنه فيه إرسالها فلا يفعل، فإذا ظاهر الكافر عن زوجته نظر، فإن عاد لزمته الكفارة، وإن أتبع الظهار طلاقًا فلا كفارة؛ لأنه لم يحصل العود، وإن لم يطلق ولكن أسلم أحدهما [126/ أ] فلا يخلو إما أن تسلم هي أو يسلم هو؛ فإن أسلمت فلا فصل بين أن يكون كتابيًا أو وثنيًا؛ لأنه لا يجوز لها أن تقيم تحت كافر. ثم ينظر فإن كان إسلامها قبل الدخول عقيب الظهار لا يكون عابدًا؛ لأنه لا يمكنه طلاقها عقيب الظهار، فإنها تبين بإسلامها عقيب الظهار كما

تبين بالطلاق عقيب الظهار. ولو طلق عقيب الظهار وأسلمت عقيبه وافق إسلامها زمان الطلاق، فمنع ذاك نفوذ الطلاق؛ لأنه صادف زمان البينونة، كما لو قال: إن شئت فأنت طالق فمات لا يقع الطلاق، وإن كان إسلامها بعد الدخول وقف الفسخ على انقضاء العدة، ولا يكون عائدًا؛ لأنهما جارية إلى بينونة، فإن أسلم بعد انقضاء العدة فلا كلام، وإن أسلم قبل انقضائها اجتمعا على النكاح، وهل يكون عائدًا بالإسلام أو بالإمساك بعده مع قدرته على الطلاق؟ اختلف أصحابنا فيه. فقال ابن أبي هريرة: لا يصير عائدًا إلا بالإمساك بعده. قال: ونص الشافعي على أن الرجعة عود دون الإسلام، فقال: "إذا ظاهر من امرأته وارتد، ثم عاد إلى الإسلام قبل انقضاء العدة فحسبما قدر ما يمكنه الطلاق لزمته الكفارة، فشرط ذلك الإمساك بعد الإسلام، وفرق بينهما بأن القصد من الإسلام الدين دون استباحة الفرج، فلم يكن عائدًا، وليس كذلك الرجعة، فإن المقصود منها استباحة الفرج، فكان عائدًا بها. ومن أصحابنا من قال: يصير عائدًا بنفس الإسلام كما بالرجعة والأول أصح. وقال القاضي الطبري: رأيت في البويطي يقول: فإن رجع في العدة فالكفار لازمة فجعل الرجوع عود، وإن أسلم الزوج عقيب الظهار لم تخل المرأة من أحد أمرين؛ إما أن تكون كتابية أو لا تكون، فإن كانت كتابية فهما على الزوجية، ولكنه قد عاد لأنه أمكنه الطلاق [126/ ب] عقيب الظهار فلم يفعل، وإن لم تكن كتابية نظر، فإن كان قبل الدخول بها بانت في الحال ولم يكن عائدًا، وإن كان بعد الدخول لم يكن عائدًا؛ لأنه أجراها إلى البينونة كما لو طلقها، فإن أسلمت لم يكن إسلامها عودًا منه؛ لأن إسلامها اجتماع على الزوجية لا من جهته، ولكن متى أمسكها عقيب إسلامها مدة يمكنه طلاقها فهو عود، وهكذا إذا ظاهر مسلم من امرأته المسلمة فارتد الزوج عقيبه أو ارتدت المرأة لا فرق بينهما. مسألة: قال: "أوفي مدةٍ يمكنهُ رجعتَها". يصح الظهار من الرجعية؛ لأنه يصح طلاقها ولا يكون عائدًا؛ لأنها جارية إلى بينونة، ثم إذا راجعها يصير عائدًا وتلزمه الكفارة، ونفس الرجعة عود، وقد قال الشافعي رحمه الله تعالى: "مراجعته إياها بعد الطلاق أكثر من حبسها بعد الظهار". وقال بعض أصحابنا: فيه قولان؛ أحدهما قاله في "الأم"، وهو ما ذكرناه. والثاني: قاله في "الإملاء" لا يكون نفسها عودًا؛ لأن العود إمساكها بعد ردها، فأما الرجعة نفسها رد الإمساك ما كان بعد الرد، فإذا قلنا بالأول فإن طلقها عقيب الرجعة لم تسقط الكفارة، وإذا قلنا بالثاني تسقط الكفارة، وإن لم يراجعها حتى انقضت العدة ثم تزوج بها هل يعود الظهار؟ فيه ثلاثة أقوال ذكرناها في كتاب النكاح. فإذا قلنا: يعود فنفس النكاح هل يكون عودًا على هذين القولين يخرجا. قال

المزني: ينبغي أن يكون معنى قوله في التي يملك زوجها رجعتها أن ذلك يلزمه إذا راجعها؛ لأنه يقول: لو تطهر منها ثم أتبع الظهار طلاقًا يمكن فيه الرجعة لم يكن فيه كفارة، وكذا قال: إذا طلقها ثلاثًا، وقد جمع الشافعي بينهما حيث يلزمان وحيث يسقطان. واختلف أصحابنا في مراده، فقال البغداديون: أراد به الظهار في عدة الرجعية لا يكون ظهارًا إلا بعد المراجعة؛ لأنه لم يكن عائدًا إلا بعد [127/ أ] الرجعة لا يكون مظاهرًا إلا بعد أن يمسكها غير محرمة وهي محرمة. وقال البصريون: بل توهم المزني أن الشافعي حين جعله عائدًا فيها فتكلم عليه، وهذا وقف على الشافعي وليس بمخالفة له، والحكم على ما ذكره على ما بينا. مسألة: قال: "ولو تظاهرَ مِنْ امرأتهِ وهي أمةٌ ثمَّ اشتراهَا". الفصل إذا تظاهر من زوجته الأمة صح ظهاره؛ لأنه يصح طلاقها على ما ذكرنا، فلو اشتراها بعد ذلك نظر، فإن اشتراها بعد العود لزمته الكفارة وإن انفسخ النكاح، ولا يحل له وطئها بملك اليمين حتى يكفر؛ لأن الفرج قد حرم عليه بالظهار فلا ترتفع إلا بالتكفير، وهذا يدل على أن المطلقة ثلاثًا إذا اشتراها لا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره، وقد ذكرنا فيه وجهًا عن أصحابنا، وهو غير صحيح. ولو أعتقها عن هذه الكفارة أجزأه، وإذا تزوج بها بعد ذلك حلت له، ولا يمنع أن تجزأ عن الكفارة، وإن كانت الكفارة وجبت بسببها، كما لو قال: إن ملكت أمة فلله علىّ أن أعتق رقبه، فمسك أمة ثم أعتقها عن نذره أجزأه. ولو كان اشتراها عقيب الظهار من غير فصل بأن كان سيدها حاضرًا فقال عيب الظهار له: بعنيها بكذا، فقال: بعتكها انفسخ النكاح، وهل صار عائدًا؟ فيه وجهان: أحدهما: قاله أبو إسحاق وابن أبي هريرة: لم يصير عائدًا؛ لأنه قد أبطل النكاح عقيبه فلم تلزمه الكفارة، وكان له وطئها بملك اليمين، قالا: وقول الشافعي: "لا يقربها حتى يكفر أراد إذا اشتراها بعد زمان، ألا ترى أنه قال: "لأنها لزمته وهي زوجته". قال القفال: وكذا لو اشتغل بأسباب الشراء من المساومة والمماسكة إلى أن تم الشراء بينهما. والثاني: لا يصير عائدًا به؛ لأنه كان يمكنه تحريمها بالطلاق، فاشتغل بقوله: "بعنيها" وذلك غير محرم لها، وإنما هو طلب النقل من إباحة إلى إباحة وإمساك بالشراء، فصار عائدًا. [127/ ب] والأول أصح. وفيه وجه ثالث ذكره صاحب "الحاوي" أنه ينطر، فإن ابتدأ الزوج بالطلب فقال لمالكها: يعني لم يكن عائدًا؛ لأنه شرع عقيب ظهاره فيما يرقع الزوجية كما لو شرع في الطلاق. وإن ابتدأ المالك عقيب ظهاره بالبذل فقال: بعتك، فقال الزوج: قبلت صار عائدًا؛ لأن بذل المالك غير منسوب إلى فعل الزوج، فصار الزوج في زمان البذل

ممسكًا عن رفع الزوجية وما يعقب البذل من قبول الدافع للزوجية كان بعد مضي زمان العود، فلذلك صار عائدًا ووجبت الكفارة، فإذا قلنا بقول أبي إسحاق لو أعتقها وتزوج هل يعود حكم الإظهار؟ ينبني ذلك على ما ذكرناه من الطريقين لأصحابنا في عود النكاح بعد الفسخ هل يجري مجرى عوده بع البيونة بالثلاث أو بما دون الثلاث؟ ومتى قلنا يعود حكم الظهار هل يصير عائدًا بنفس العقد أو بمضي زمان يمكن فيه الطلاق على ما مضى من الوجهين. مسألة: قال: "ولا يلزمُ المغلوبَ على فعِله الَّا مِنْ سكرٍ. وقالَ فِي "القديم": في ظهارِ السكرانِ قولانِ أحدهما: يلزمُه والآخر لا يلزمهُ. قال المزنَي: يلزمُه وأشبه بأقاويله ولا يلزمهُ أشبهِ بالحقِ". منصوص الشافعي رحمه الله تعالى في كتبه الجديدة والقديمة أن طلاق السكران وظهاره صحيحان، والمزني نقله فيما نقله عن بعض كتبه الجديدة في الظهار، ولا فرق بين الظهار والطلاق، وقد ذكرنا فيها قولين وشرحنا ما قيل فيه، فإذا قلنا: يصحان فإن كان له تمييز فهما يصحان في الظاهر والباطن، وإن لم يكن له تمييز بحالٍ، قال ابن سريج، وأبو إسحاق: يصحان في الباطن والظاهر أيضًا؛ لأنّا نغلط عليه بسكره فيوقعها. ومن أصحابنا من قال: لا يصح في الباطن؛ لأنّا لا نقبل قوله أنه لم يكن له تمييز، ولو أخبرنا بذلك الصادق [128/ أ] نحكم أنه لا يصح ثم اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: أحكامه أحكام الصاحي في جميع الحوادث سواء كان عليه أوله أو بعضه له وبعضه عليه، فطلاقه، وظهاره، ورجعته، ونكاحه، وإقراره، وعقوده كلها صحيحة لازمة، وكذلك إسلامه وردته، ونص الشافعي في البويطي على أن إسلامه صحيح فقال فيه: "فإن أسلم السكران جاز إسلامه، وأقبله إن لم يسلم إذا أفاق" قال هذا القائل: وقول الشافعي: "إذا ارتد السكران لم أستتبه في حال سكره" أخر استتابته؛ لأنه في حال الصحو أقرب إلى زوال الشبه عنه، وإفهام الدلائل إياه، والسكران تعارضه الشبه وتخفي عليه الدلائل ووضح الحق، ولم يقل ذلك؛ لأن إسلامه في حال السكر لا يصح، وهذا مذهب أبي إسحاق. وقال أبو عبد الله الختن في "شرح التلخيص": يصح من قول السكران كل ما كان عليه، ولا يصح ماله والبيع بجميع ماله وعليه، ولا ينفرد أحد طرفيه عن الآخر، فوجب إبطال الطرفين، وكذلك حكم عقوده كلها، ثم إقراره فيما يلزمه في بدنه على ضربين؛ أحدهما: لحق الآدمي فيلزمه، والثاني: لحق الله تعالى من قبل الردة، وحد الزنا، وما في معنى ذلك فلا يقام عليه حتى يفيق؛ لأن توبته من ردته لا تصح في سكره، إذ هي له وما لزمه من حد الله تعالى، فرجوعه أن يرجع عنه يقول: ولا يصح في حال سكره أيضًا؛ لأنه له فوجب التأني به إلى أن يصح منه الرجوع بعد الإفاقة.

قال: رأيت ابن أبي هريرة يقول: لا تصح توبته في حال سكره من الردة. ومن قال بهذا قال: قول الشافعي: "إسلامه صحيح". أراد به من الكفر الأصلي فإن ذلك الإسلام عليه، فأما إسلامه من الردة فهم له فلم يصح، وهذه الطريقة حسنة ولكنها مخالفة لنص الشافعي [128/ ب] لأنه صحح إسلام الوثني في حال سكره، ونحن نعلم أن إسلامه يدرأ القتل عنه ويخفف عنه أحكام كثيرة. ثم إن المزني اختار أنه لا يصح طلاقه ولا ظهاره. واحتج بأن الطلاق عند الشافعي لا يجوز إلا من أهل القصد والإرادة، ولا طلاق عنده على مكره لارتفاع إرادته، فالسكران الذي يعقل كالنائم. ثم ألزم نفسه سؤالًا فقال: فإن قيل: لأنه أدخل ذلك على نفسه. قلنا: وإن أدخله على نفسه فهو في معنى ما أدخله عليه غيره من ذهاب عقله وارتفاع إرادته، ولو افترق حكمهما باختلاف السبب لاختلاف حكم من يجب بسبب نفسه أو بسبب غيره، فيجوز بذلك طلاق بعض المجانين. وهذا الفصل غير مسلم للمزني؛ لأن أصحابنا قالوا: إذا قصد إزالة عقله بدواء فحكمه حكم السكران، فإن تداوي من مرض بدواء لا يعلم أن العقل يزول فحكمه حكم المجنون. ومن أصحابنا من مسلم هذا، وعلل بأنه لا تميل النفس إلى مثله فلا يحتاج إلى رادع. وذكر المزني في "المنثور" عن الشافعي أن رجلًا لو نطح رجلًا فانقلب دماغ الناطح والمنطوح، ثم طلقا امرأتيها لا يقع طلاقهما، فسوى بين الناطح والمنطوح، وإن كان الناطح عاصيًا دون المنطوح لما ذكرنا أنه لا تميل النفس إلى مثله وليس كالمكره؛ لأنه أكره على اللفظ بغير حق بخلاف هذا وليس كالنائم؛ لأنه غير عاصٍ بما أزال عقله بخلاف هذا. ثم ألزم نفسه سؤالًا آخر فقال: فإن قيل: ففرض الصلاة يلزم السكران دون المجنون قيل: وكذلك فرض الصلاة يلزم النائم، فهل يجيز طلاق النوم لوجوب فرض الصلاة عليه وقد بينا الفرق بينه وبين النائم، واحتج بأن الله تعالى قال: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وأَنتُمْ سُكَارَى [129/ أ] حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء:43]، فلم يكن له صلاة حتى يعلمها ويريدها، وكذلك لا طلاق حتى يعلمه ويريده: فقال له: أليس أجمعت الصحابة رضي الله عنهم على أن قذفه قذف في قصة المشهورة حين قال علي رضي الله عنه: إذا شرب سكر، وإذ سكر هذى، وإذا هذى افترى، أرى أن يبلغ به حد المفترين، فلم يقل أحد منهم أنه لو افترى لم يلزم بالغربة حدًا كما لا يلزم المجنون بها حدًا، وإذا ثبت إجماعهم في لفظ واحد من ألفاظه فكذلك في غيره، وإنما لا تصح الصلاة منه في حال سكره؛ لأنه لا يتمكن من فعلها ومباشرة أركانها. ثم احتج بأن قول عثمان، وابن عمر، وعمر بن عبد العزيز، ويحي بن سعيد، والليث بن سعد وغيرهم، فقال له: أما التابعون فلا حجة لك في قولهم، وأما عثمان، وابن عمر فأغلب الظنون أنهما كانا في تلك المشورة، فرأيهما في الجماعة أولى من رأيهما في الفرقة، وإن كانا غائبين عن المشورة فقول الأكثرين أولى. واحتج بفصل الردة، فقال: قال الشافعي: "وإذا ارتد سكران لا يستتاب في حال

سكره"، وفي هذا دليل على أنه لا حكم لقوله: "لا أتوب"؛ لأنه لا يعقل ما يقول، فكذلك هو في الطلاق والظهار لا يعقل ما يقول. قيل له: ألست وافقتنا على صحته ردته في حال سكره كان دمه هدرًا، وهذا مما لا يختلف فيه نص الشافعي رضي الله عنه، وكذلك قذفه. وإذا قتل في السكر قبلًا يوجب القصاص لزمه العود ولم يختلف النص فيه، وقد ذكرنا ما قيل في الاستتابة أنه أراد استحبابًا. وأما حد السكران قد ذكرنا فيما تقدم، وقيل: إن الشافعي قال: "هو من غرب عنه بعض عقله، فكان مرة يعقل ومرة لا يعقل". وقال الأوزاعي: هو من لا يميز ردائه من أردية الحر. [129/ ب]. مسألة: قال: "ولو تظاهرَ منها ثم تركها أكثر من أربعة أشهر فهو متظاهر ولا إيلاء عليه". وإذا تظاهر من امرأته ولم يفارقها، قد ذكرنا أنه صار عائدًا وهي حرام عليه حتى يكفر، فإن تركها ولم يفكر حتى مضت أربعة أشهر لم يكن موليًا ولا يطالب بالفيئة أو الطلاق، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله، وقال مالك رحمه الله: يصير موليًا؛ لأنه منع نفسه من وطئها بقوله: "فكان موليًا"، وها غلط؛ لأن الظهار لفظ يتعلق به التحريم فلا يصير به موليًا كالطلاق، ولأنه لا يلزمه بوطئها شيء فلم يكن موليًا، كما لو أحرم أو اعتكف. واحتج الشافعي رحمه الله عليه بأن الظهار والإيلاء أصلان متباينان لأن المظاهر بعد الظهار مطيع لله بترك الجماع عاص له لو جامع قبل أن يكفر، والمولى عاص بالامتناع من الجماع، فكيف يصير المتظهر موليًا بالظهار، ولو جاز ذلك لجاز أن يصير المولى متظاهرًا بالإيلاء، ولكن هذه أصول لا يدخل بعضها في بعض، وفي هذا اللفظ الذي نقله المزني إشكال؛ لأنه قال: وعاصٍ بالإيلاء، وليس مراده أنه غير عاص بالظهار، وكيف لا يكون عاصيًا وقد قال تعالى: {وإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ القَوْلِ وزُورًا} [المجادلة: 21]، ولكن مراد الشافعي ما ذكرنا أنه عاصٍ بالامتناع عن الجماع في الإيلاء بخلاف الظهار. ثم قال الشافعي رحمة الله عليه: "وسواء كان مضارًا بترك الكفارة أو غير مضار، إلا أنه يأثم بالضرار كما يأثم إذا آلي منها أقل من أربعة أشهر يريد ضرارًا ولا يحكم عليه بحكم الإيلاء". وقيل: مذهب مالك أنه يكون إيلاء إذ قصد به الضرار، وإن لم يقصد ذلك لا يكون موليًا. مسألة: قال: "ولو تظاهرَ يريدُ طلاقًا [130/ أ] كانَ ظهارً". إذا قال لها: أنت عليَّ كظهر أمي ونوى به الطلاق كان ظهارًا، ولو قال: أنت طالق يريد به الظهار كان طلاقًا؛ لأن كل واحدة منهما صريحي في بابه في جنس واحد، فلا ينصرف بالنية إلى غيره. وقوله: "وهذه أصول": أي كل واحد منها يخالف الأصول الأخر لفظًا ومعنى، فلا يكون الظهار إيلاء، ولا الإيلاء ظهارًا، ولا الطلاق ظهارًا ولا

باب ما يكون ظهارا وما لا يكون

إيلاء. وحكي عن مالك أنه قال: يصح الظهار بلفظ الإيلاء والإيلاء بلفظ الظهار، وهو غير مشهور. فإن قيل: أليس قوله: أنت عليّ حرام صريح في إيجاب الكفارة، ثم لو نوي به الطلاق أو الظهار صح. قلنا: هل تجب الكفارة بإطلاقه؟ ذكرنا قولين ولئن سلما فلا نقول إنه صريح في شيء، والكفارة تلزمه لما ذكرنا من قبل. مسألة: قال: "ولا ظهارَ مِن أمَةٍ ولا أمِّ ولدٍ". لا يصح الظهار إلا من الزوجات، فأما من الإماء وأمهات الأولاد لا يصح، وبه قال ابن عمر، وعبد الله بن عمرو، والأوزاعي، وأبو حنيفة، وأحمد، وإسحاق رحمهم الله. وقال مالك والثوري يصح الظهار من كل أمة مباحة له، وروي ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واحتجوا بأنه فرج محلل له فصح منه ظهارة كالزوجة، وهذا الظاهر الآية "والَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ" [المجادلة:3] ونساؤنا أزواجنا، كما في قوله سبحانه وتعالى: "لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ" [البقرة: 226]، قال الشافعي رحمة الله عليه: ولو لزمها واحد من هذه الأحكام لزمها كلها، ولأنه لفظ يتعلق به تحريم الزوجية فلا يعمل من الأمة كالطلاق، ويؤكده أن الظهار كان طلاق الجاهلية، ونسخ حكمه دون محله. [130/ ب]. باب ما يكون ظهارًا وما لا يكون مسألة: قال: "والظهارُ أنْ يقولَ الرجلُ لامرأتهِ: أنتِ عليَّ كظهرِ أميِّ". الفصل الظهار الذي ورد به الشرع أن يشبه جملتها بظهر أمه فيقول: أنت عليَّ كظهر أمي ولا فصل بين قوله: عليَّ ومعي، وعندي، ومني؛ لأن هذه الحروف أدوات يقوم بعضها مقام بعض. وكذلك لو قال بدل قوله: أنت، بدنك أو جسمك، وذاتك، أو كلك، أو جملتك عليَّ كظهر أمي. ولو قال: أنت كظهر أمي، قال القفال: كان ظاهرًا كما لو قال: أنت طالق كان طلاقًا وإن لم يقل مني. وقال الداركي: لا يكون ظهارًا لأنه ليس فيه ما يدل على أن ذلك في حقه بخلاف قوله: أنت طالق؛ لأن الطلاق من جنس الزوجية والجنس له دون غيره. مسألة: قال: "ولو قالَ: فرجكِ، أو رأسكِ، أو ظهركِ، أو جلدكِ، أو يديكِ، أو رجليكِ عليَّ كظهرِ أميِّ كانَ ظهارًا، ولو قال: كبدن أميِّ أو كرأسِ أميِّ كانَ ظهارًا". نص الشافعي رضي الله عنه على أنه إذا شبه عضوًا منها بظهر أمه كان ظهارًا، وإذا شبهها بعضوٍ من أعضاء أمه كان ظهارًا. قال أصحابنا: وكذلك إذا أشبه عضوًا منها

بعضو من أمه، كأنه قال: رأسك عليَّ كرأس أمي أو كفرج أمي أو كيد أمي. وبه قال مالك وأحمد، ومن أصحابنا من قال فيه قول آخر في "القديم" أنه لا ظهار إلا أن يقول: أنت عليَّ كظهر أمي؛ لأن هذا اللفظ هو المعهود في الجاهلية، وكان طلاقًا فغير الله حكمه، فعلى هذا حصول قولين، وقيل: لم يقل [131/ أ] الشافعي في القديم أكثر من أن الظهار الذي ورده القرآن: أنت عليَّ كظهر أمي، فإن قال: أنت عليَّ كظهر امرأة محرمة سوى الأم فيه قولان؛ فقال أصحابنا: فهذا يدل على أن في مسألتنا أيضًا قولين، ونص في القديم على أنه لو قال لها: رأسك أو بطنك أو فرجك أو رجلك عليَّ كظهر أمي كان ظهارًا، وليس كما لو شبهها بغير الأم في قول؛ لأن الأم أغلظ المحرمات والأعضاء كلها في الحرمة سواء، فعلى هذا المسألة على قول واحد. وقال أبو إسحاق: فيه وجه ثالث: ما كان من أعضاء الأم مخصوصًا بالكرامة والتعظيم كالرأس والثدي لم يكن مظاهرًا في التشبيه به، وفي غير ذلك يكون مظاهرًا، فإذا قلنا بهذا هل يكون كناية في الظهار حتى يصير مظاهرًا بالنية؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو ظاهر قول أبي إسحاق يكون كناية؛ لأن النية كالعرف. والثاني: وهو ظاهر قول أبي هريرة، لا يكون كناية ولا يكون ظهارًا، وإن نواه كما لا يكون التشبيه بغير أمه كناية ولا يكون ظهارًا، وإن نواه تعليلًا بالعرف. وقال أبو حنيفة: إن شبهها بعضو يحرم النظر إليه من الأم كالفرج والفخذ ونحو ذلك كان متظاهرًا، وإن كان لا يحرم النظر إليه من الأم كالرأس والوجه لم يكن متظاهرًا، وقال: لو شبه يدها بيدها أو يدها بجملتها لا يكون ظهارًا، كما قال في الطلاق، وهذا غلط؛ لأنه شبه زوجته بعضو من أمه فكان مظاهرًا كما لو شبهها بظهرها. فرع لو قال: إنت علي كنفس أمي فيه وجهان؛ أحدهما: يكون صريحًا في الظهار؛ لنه يعبر به عن الذات كالبدن. والثاني: يكون كناية ولا يصير ظهارًا إلا بالنية؛ [131/ ب] لأنه يحتمل أن يريد به الكرامة والتعظيم. فرع آخر لو قال: أنت عليَّ كزوج أمي فيه ثلاث أوجه: أحدهما: يكون صريحًا في الظهار كالبدن؛ لأن البدن لا يقوم إلا بالروح ولا يستمتع بالبدن إلا مع الروح لجري ذلك مجرى تشبيهها بالبدن، وهو اختيار الداركي. والثاني: أنه كناية لما فيه من الاحتمال. والثالث: لا يكون صريحًا ولا كناية؛ لأن الروح ليست من الأعيان المرئية التي يتعلق بها حظرًا وإباحة، وهو اختيار ابن أبي هريرة. فرع آخر لو قال: ما فِي بطنكِ عليَّ كظهرِ أميِّ كانَ مظاهرًا. ولو قال: حملكِ هكذا لم يكن مظاهرًا.

مسألة: قال: "ولو قال: أنْتِ عليّ كَأُمي أو مِثل أُمِّي". الفصل إذا قال: أنت علي كأمي أو مثل أمي أو أنت أمي، فإن أراد في الكرامة والتوقير الشفعة فلا ظهار، وإن أراد في التحريم كان ظهارًا، وإن أطلق لا يكون شيئًا، لأنه كلام يحتمل، وبه قال أبو حنيفة. وقال القفال: وعلى هذا لو قال: أنت علي كعين أبي أو روح أمي أو كرأس أمي، وقال: أردت به الكرامة قُبل، لأن تقديره أنت أعز علي من عين أمي. وقال مالك، وأحمد، ومحمد بن الحسين: يكون مظاهرًا بما ذكرنا ولا يقبل منه أنه أراد به الكرامة، واحتجوا بأنه شبه امرأته بأمه فأشبه إذا شبهها بعضو من أعضائها وهذا غلط، لأن هذا اللفظ يستعمل في الكرامة أكثر مما يستعمل في التحريم ولا يحمل على التحريم إلا بالنية ويخالف الأصل، لأنه لا يستعمل من الكرامة، ولا يقبل منه إذا قال: أردت الكرامة. مسألة: قال: "ولو قال: أنتِ عليَّ كظهرِ امرأةِ محرمةِ من نسبِ أو رضاعِ". لم يرد به أن لفظ الظهار هكذا ولكن أراد [132/ أ] أن يشبهها بامرأة محرمة عليه من نسب أو رضاع كان كالتشبيه بالأم، وجملته أن النساء المحرمات على ثلاثة أضرب: ضرب يصير به مظاهرًا كالأم، وكذا الجدة من قبل الأب أو من قبل الأم؛ لأنها في معنى الأم اسمًا وحالًا وتحريمًا. وإذا شبهها بالجدة هل يكون مظاهرًا بالنص أو بالقياس على النص؟ وجهان؛ أحدهما: النص لأن الجدة تسمى أمًا. والثاني: بالقياس على النص لما فيها من الولادة. وضرب لا يصير به مظاهرًا، وهو كل امرأة كانت حلالًا له ثم حرمت عليه، ثم حليلة ابنه، وامرأة أبيه التي تزوج بها بعد ولادته، والصبية التي كانت حلالًا ثم أرضعت فحرمت عليه، والمطلقة ثلاثًا، وأخت زوجته أو عمتها أو خالتها، وهؤلاء غير محرمة على التأبيد، ولو شبهها بالملاعنة لم يكن مظاهرًا وإن كانت محرمة على التأبيد لأنها لم تحرم بوصله بينه وبينها، بل حرمت بفرقة موصوفة، ولأنها كانت حلالًا له في وقت. وقال مالك وأحمد: يكون به مظاهرًا؛ لأنه شبه امرأته بمن لا تحل له على التأبيد، كما لو شبهها بالمحرمة وهذا غلط؛ لأن هذه المرأة كانت حلالًا، فإذا شبه زوجته بها احتمل أنه أراد الحالة التي كانت حلالًا له فيها فلم يكن مظاهرًا، كما لو شبهها بالأجنبية. وقال بعض أصحاب مالك: إذا شبهها بظهر الأجنبية كان مظاهرًا أيضًا، وإن شبهها بغير الظهر، فمنهم من يقول هو ظهار، ومنهم من يقول هو طلاق، وهذا غلط لأنها غير محرمة على التأبيد، فأشبه إذا شبهها بالمحرمة من زوجاته. وأما الطلاق فلا وجه له إلا أن ينويه فإنه كفاية، واحتج بأنه شبه فرجًا محللًا له بفرج محرم عليه، كما

لو شبهها المحرمة، والجواب عنه الفرق بعلتنا. وضرب فيه قولان، وهو كل امرأة لم تزل محرمة عليه على التأبيد بالوصلة كذوات المحارم غير الأم من امرأة أبيه التي تزوج بها [132/ ب] قبل الولادة، أو أخيه من الرضاعة التي أرضعت قبل ولادته، والعمة، والخالة، والابنة وغيرها. قال الشافعي في "الجديد": يصير مظاهرًا به وهو الصحيح، واختاره المزني؛ لأنه شبه زوجته بامرأة لم تحل له بحال الوصلة، فأشبه إذا شبهها بالأم. وقال في "القديم": لا يصير به مظاهرًا؛ لأن لله تعالى نص على الأمهات، وهن الأصل في التحريم، وغيرهن فرع لهن ودونهن، فلا يحق بهن في حكم الظهار، وهذا لا يصح؛ لأن الله تعالى لما ذكر الظهار بين أنه قول منكر وزور، وهذا موجود في مسألتنا، فتعلق به الحكم، كما لو شبهها بالأم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب"، فألحق الرضاع بالنسب. ومن أصحابنا من قال: في الأخت من الرضاعة التي كانت حلالًا له قول آخر؛ أنه يصير بالتشبيه بها مظاهرًا؛ لأن المزني ذكر الأخت من الرضاعة وأطلق، ثم حكي قولًا آخر، فقال: وحفظي وحفظ غيري عنه أنه قال: لا يكون مظاهرًا ممن كان حلالًا له في حال ثم حرمت، فحصل قولين، وهذا غير صحيح، وكان من حق المزني أن لا يطلق الجواب في الأول، بل كان ينبغي له أن يقسم حال الأخت من الرضاعة؛ لأنها ربما تكون حلالًا ثم تصير حرامًا، وربما تكون حرامًا ابتداءً وانتهاءً على ما ذكرنا، والمسألة على قولٍ واحدٍ في التي كانت حلالًا مرة أنه لا يصير مظاهرًا. ومن أصحابنا من قال في الجدة قول آخر لا يصير مظاهرًا؛ لأنها ليست بأم حقيقية وهذا ليس بشيء. وذكر الإمام الجويني صاحب "المنهاج" عن بعض أصحابنا أنه لو شبهها بظهر امرأة أبيه لا يكون مظاهرًا بحالٍ، وإن لم تزل محرمة عليه بأن سبق عقدها ميلاده؛ لأنها محرمة عليه بالمصاهرة، والثاني اقتصر على ذكر النسب والرضاع دون المصاهرة، وهذا غريب. [133/ أ]. فرع لو قال: أنت عليَّ كظهر أبي، أو منك أبي، أو كأبي لا يكون مظاهرًا. وقال أبو القاسم: إذا شبهها بظهر أبيه أو غلامه كان مظاهرًا. وقال أحمد في رواية: إذا شبهها بالمحرمين من الرجال كان مظاهرًا؛ لأنه شبهها بظهر ذي محرم منه كالأم، وهذا غلط؛ لأنه لا مدخل له في الاستمتاع، فأشبه إذا شبهها بالبهيمة. فرع آخر لو قال: أنت كظهر أبي وأمي كان مظاهرًا. ولو قال: كظهر أبي أو كظهر أمي وعاد باللسان، ومنع من الوطئ حتى يكفر.

فرع آخر لو قال: أنا عليك كظهر أمك كان كناية، فإن أراد ظهارًا كان ظهارًا، وإن لم يرد ظهارًا لا يكون ظهارًا، ويجري مجرى قوله: أنا منك طالق، فإنه كناية من الطلاق خلافًا لأبي حنيفة فيهما. فرع آخر ذكر الشافعي رحمه الله أنه لو قال بعد ظهاره: إن شاء الله فيه قولان، واختلف فيه أصحابنا فقال بعضهم: هو محمول على الحكاية من غيره من الفقهاء كما في الطلاق. وقال بعضهم: تخريجه من الظهار صحيح، والفرق بينه وبين الطلاق أن جنس الطلاق مباح، فجاز أن يرتفع بالاستثناء، ومن قال بهذا قال: لو علق الظهار بشرط أو بصفة أو بأجل لا يتعلق ويقع ناجزًا، وهذا غريب. فرع آخر لو قال: أنت عليّ كظهر أمي إلا أن يشاء زيد ولم يعلم حاله كان مظاهرًا. فرع آخر لو قال: أنا مظاهر منك كان مقرًا بالظهار. مسألة: قال: "ويلزمُ الحنثَ بالظهارِ كما يلزمُ بالطلاقِ". أراد به أن الظهار يصح تعليقه بصفة، مثل أن يقول لها: إن دخلت الدار فأنت عليّ كظهر أمي، أو إذا قدم زيد، أو إذا جاء رأس الشهر ونحو ذلك، فإذا وجد الشرط صار مظاهرًا؛ [133/ أ] لأنه تحريم من الزوجية للزوج رفعه، فجاز أن يتعلق بالصفات كالطلاق، وهذا لأن الظهار في معنى الطلاق، فكان طلاقًا في الجاهلية فورد الإسلام فيه بالكفارة، كما كان الإيلاء طلاقًا في الجاهلية فورد الإسلام فيه بضرب المدة. فرع لو قال لامرأتيه: إن دخلتما هاتين الدارين فأنتما عليّ كظهر أمي، فدخلتا معًا كلا الدارين كان مظاهرًا منهما. وإن دخلت كل واحدة منهما إحدى الدارين فيه وجهان. مسألة: قال: "ولو قالَ: إذا نكحتكِ فأنتِ عليَّ كظهرِ أميِّ فنكحها لم يكنْ متظاهرًا". إذا قال لها: إذا نكحتك فأنت عليّ كظهر أمي لم ينعقد الظهار في الحال، وإذا نكحها لم يكن مظاهرًا. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يصير مظاهرًا كما قال في الطلاق، وهذا لا يصح؛ لأن التحريم إنما يقع على من حلت له وهذه محرمة فلا معنى لتحريمها. قال الشافعي رحمة الله عليه: ويروي مثل ما قلت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم علي

وابن عباس رضي الله عنهما وهو القياس، ولم يرد به في الظهار خاصة؛ لأنه لا يحفظ في ذلك خبر، بل هو مروي في الطلاق قبل النكاح، حيث قال صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق قبل النكاح، ولا عتاق قبل الملك"، والكلام في الطلاق والظهار واحد، والقياس الذي ادعى ولم يذكره هو إن شاء اله ما لا خلاف فيه أنه لو قال لأجنبية: إذا جاء رأس الشهر فأنت عليّ كظهر أمي، ثم تزوجها قبل رأس الشهر لا يصر مظاهرًا؛ لأنه ظهار قبل النكاح، فكذلك إذا أضاف إلى النكاح لا يصير مظاهرًا. فرع لو تزوجها على أنها عليه كظهر أمه بطل النكاح، وكذلك لو اشتري أمة بهذا الشرط بطل الشراء، ولو اشتري أخته [134/ أ] بهذا الشرط صح الشراء. مسألة: قال: "ولو قالَ: أنتِ طالقٌ كظهرِ أميِّ يريدُ الظهارَ فهو طلاقٌ". الفصل من هذا أربع مسائل: إحداها: أن يقول ذلك ولا نية له فيقع الطلاق ولا ظهار؛ لأن الصريح فيه أن يقول: أنت علي أو مني أو معي، وهاهنا قال: أنت طالق كظهر أمي، فكأنه قال ابتداء كأمي. والثانية: أن يقول: أردت الطلاق وتأكيده بمعنى أنها تحرم به كظهر أمي، فقبل قوله؛ لأن مثل هذا يجعل صفة له على سبيل التأكيد. لو قال: أردت الظهار مع لفظ الطلاق يكون طلاقًا فقط. والثالثة أن يقول: نويت بالطلاق الطلاق وبالظهار الظهار. قلنا: وقع الطلاق، وأما الظهار نظر فيه، فإن كانت غير مدخول بها بانت ولم يلحقها الظهار، وإن كانت مدخولًا بها فهذه رجعية ظاهر منها زوجها فيصح، فمتى راجعها فقد عاد الظهار. وقال صاحب "المنهاج": من قال هذا يلزمه أن يسوي بين أن يفهم إرادة الظهار إلى لفظ الطلاق وبين أن يضعها إلى لفظ الظهار، فيجعله مظاهرًا في الحالين؛ لأنه إذا قال: أنت طالق ونوى ظهارًا وقع الطلاق لا محالة، فإذا عقبه بقوله كظهر أمي وهذا صريح في الظهار مستقل بنفسه من غير إرادة، وجب أن يصير مظاهرًا وهذا غريب. والرابعة: وهي مسألة الكتاب، أن يقول: نويت الظهار بكل كلامي، كأنه قال: عبرت عن الطلاق بالظهار. قلنا: سقط بما نويت وكان طلاقًا؛ لأن الطلاق صريح في التحريم في جنس فلا يكون كتابة فيهن على ما ذكرنا من قبل. فرع لو قال: أنت عليَّ كظهر أمي طالق يكون مظاهرًا بقوله الأول. وأما قوله: طالق إذا

نوى أنها تصير [124/ ب] بما قدمه من الظهار كالمطلقة فلا تصير؛ لأن حكم الظهار مخالف لحكم الطلاق. وإن نوى أن يصير الظهار الذي قدمه طلاقًا يكون ظهارًا ولا يكون طلاقًا. وإن نوى به إيقاع الطلاق بعد الظهار يكون مظاهرًا ومطلقًا ويمنع الطلاق من العود. وإن لم ينو به شيئًا ففي وقوع الطلاق به وجهان؛ أحدهما: لا يقع؛ لأنه مبتور اللفظ. والثاني: يقع؛ لأنه من صريح ألفاظه وقد تقدم من المواجهة ما إذا تلفظ بعده بالطلاق صار مضمرًا فيه، فكأنه قال: أنت عليَّ كظهر أمي وأنت طالق. والفرق بين أن يؤخر الظهار فلا يكون مظاهرًا مع عدم النية، وبين أن يؤخر الطلاق فيصير مطلقًا مع عدم النية، أن ما تركه بتأخر الطلاق حرفان؛ أحدهما: حرف المواجهة، وهو قوله: أنت. والثاني: حرف الالتزام، فجاز أن يكون حرف الالتزام مضمرًا لعدم ذكره في الطلاق المتقدم. فرع آخر لو قال: أنتِ عليَّ كظهرِ أميَّ بلْ طالقٌ ثلاثًا كانَ مطلقًا. مسألة: قال: "ولو قال أنتِ عليَّ حرامٌ كظهرِ أمَّي يريدُ الطلاقَ فهو ظهارٌ". جملته أن قوله: أنت عليَّ حرام كظهر أمي، يريد الطلاق، فإن أراد به الظهار كان ظهارًا، فإذا ثبت هذا فمتى قال: أنت عليَّ حرام كظهر أمي فيه خمس مسائل: أحديها: أن يقول ذلك ولا نية له، فهو ظهار نص في "الأم" و"البويطي" لمعنيين؛ أحدهما: أن قوله عليَّ حرام كان أقوى من النية فكان ظهارًا؛ لأنه إذا كان إطلاقه ظهارًا كانت النية تأكيدًا. والثانية: أن يقول: نويت الطلاق بقول: أنت عليَّ حرام، قال في "الأم": ونقله المزني [135/ أ] في عامة نسخه: إنه طلاق، وبه قال عامة أصحابنا. وفي بعض نسخ كتاب المزني أنه ظهار، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن مطلق هذه الجملة صريح في الظهار، فإذا نوى بها الطلاق لم يكن طلاقًا، فقال بعض أصحابنا: فيه قولان؛ أحدهما: أنه طلاق، وبه قال أبو يوسف ومحمد، إلا أن أبا يوسف يقول: لا يقبل قوله في نفس الظهار، ووجه أن قوله: أنت عليَّ حرام مع نية الطلاق بمنزلة صريح الطلاق. ولو قال: أنت طالق كظهر أمي كان طلاقًا، فكذلك الكناية مع النية. والثاني: أنه ظهار لما ذكرنا من العلة، والأول أصح، وما ذكره القائل الآخر لا يصح؛ لأن النية قارنت لفظ التحريم وسبقت لفظ الظهار، فكانت باللفظ أحق. ومن أصحابنا من قال قولًا واحدًا أنه طلاق وغيره تصحيف من الناقل أو غلط. وقال القفال: نقل المزني من المختصر أنه ظهار، ونقل في "الجامع الكبير" أنه طلاق، وهما على حالين لا على

قولين، فإن أراد الطلاق بقوله: أنت عليَّ حرام صح. ثم الكلام في قوله: كظهر أمي على ما مضى في المسألة قبلها. وإن أراد الطلاق بقوله: كظهر أمي فهو ظهار لا غير؛ لأن بلفظ الظهار لا يقع الطلاق، وليس هو من كنايات الطلاق. والرابعة: أن يقول: نويت الطلاق بقوله: أنت عليَّ حرام، والظهار بقوله: كظهر أمي، يقع الطلاق بقوله: أنت عليَّ حرام، ويكون مظاهرًا بقوله: كظهر أمي؛ لأنه أرادها معًا كما لو قال: أنت طالق كظهر أمي ونوى به كليهما، نص عليه في "البويطي" وقال فيه: لو قال: أنت عليَّ كظهر أمي حرام ونوى به الطلاق لزمه الظهار، لأنه صريح به، وأضاف إليه كلمة صفة له، والفرق بينهما ظهار، ومن أصحابنا من قال: يكون مظاهرًا اعتبارًا بقوله: كظهر أمي، ويسقط قوله: أنت عليَّ حرام، وهذا متولد من الخلاف قبل هذه المسألة، فإن [135/ ب] من أصحابنا من اعتبر هناك ما نواه دون ما نطق، وهو المذهب المنصوص. ومنهم من راعى النطق وألغى ما نواه، وهذا إذا كانت مدخولًا بها، فإن لم تكن مدخولًا بها بانت بالطلاق. ولا يصح الظهار إذا قلنا يقع الطلاق بقوله: أنت عليَّ حرام مع النية في هذه المسألة. والخامسة: أن يقول: نويت بقولي أنت عليَّ حرام تحريم العين الذي يوجب كفارة يمين، فهو على هذا الخلاق، فإن اعتبرنا النية وجب كفارة يمين وسقط قوله: كظهر أمي. قال أبو حامد: وهو المذهب، وإن اعتبرنا النطق سقط ما نواه ويلزم الظهار، ولأنه قصد التحريم ووصفه بما يوجب الكفارة العظمى، فلا يقبل قوله في إسقاطها إلى الكفارة الصغرى. فرع قال ابن الحداد: لو قال لها: أنت عليَّ حرام، ثم قال: أردت به الطلاق والظهار، قيل له: اِختر أيهما شئت، فإن اللفظة الواحدة لا تكون طلاقًا وظهارًا. وقال بعض أصحابنا: يكون طلاقًا؛ لأنه بدأ بذكره، فكأنه يلزمه من ذلك ما يبدأ به ومن نصر القول الأول، قال: الاعتبار بجميع لفظه، ألا ترى أنه لو قال: طلقت هذه أو هذه لم يلزمه طلاق الأولى، وله أن يعين فيمن شاءن كما لو طلق إحدى امرأتيه. فرع آخر قال في "البويطي": قد قيل: من صرح بالطلاق والظهار والعتق ولم يكن له نية في ذلك لا يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى طلاق ولا ظهار ولا عتق ويلزم في الحكم. قال: وحجته في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنية" و " يرفع القلم عن ثلاثة"، وإجماع العلماء أن المجنون والنائم إذا تلفظ بصريح لفظ الطلاق لا يلزمه، [136/ أ] ثم قال: وقال مالك: من طلق أو أعتق أو ظاهر بلا نية يلزم ذلك في الحكم وفيما بينه وبين الله تعالى. قال: والحجة في ذلك لمن ذهب إليه ما ذكر الله تعالى من إتلاف المؤمن خطأ، وما أجمع عليه العلماء أن مال آدمي خطأ فذلك عليه وإن لم ينو، وذلك من حقوق الآدميين، وللمرأة حق في منعها نفسها، وللعبد حق في حريته، وللمالكين حق

في الظهار، ولم يعترض على أحدهما، فالظاهر أنه قصد تخريجه على قولين، وهذا غريب، حكاه القاضي الطبري. مسألة: قال: "ولو قالَ لأخرى: قَدْ أشركتكَ معهَا". الفصل إذا ظاهر من امرأته ثم قال لامرأة أخرى: أنت شريكتها أو أشركتك معها، أو أنت كهي، فإن ذلك كناية، فإن نوى الظهار به كان ظهارًا، وإن لم ينو شيئًا بل أطلق لم يكن شيئًا لأنه يحتمل أن يكون معناه أنت شريكتها في الزوجية أو سوء الخلق. وقال مالك وأحمد: يكون ظهارًا وإن لم ينوِ؛ لأن حكم العطف حكم المعطوف عليه، وذلك يقتضي التشريك، فأشبه إذا جمعهما في لفظ الظهار، وهذا غلط لما ذكرنا، ويفارق إذا جمعهما؛ لأنه وجد فيهما صريح اللفظ بخلاف مسألتنا. وقال في "الحاوي" قال في "القديم": يكون مظاهرًا من الثانية، فقيل: هذا قول ثان، وقيل: هذا حكاية مذهب الغير، ومن أصحابنا من ذكر قولًا آخر أنه لا يصح التشريك في الظهار أصلًا، ذكره ابن أبي أحمد وصاحب "الإفصاح"، وهذا على قوله القديم الذي يعتبر فيه الصريح كاليمين. فرع لو قال: أنت عليَّ كظهر أمي إن شاء زيد، وإن شاء زيد فأنت عليَّ كظهر أمي، فشاء زيد انعقد ظهاره قولًا واحدًا؛ لأنه علق الصفة وقد وجدت، ولو قال: إن شاء، قد ذكرنا حكمه. مسألة: [136/ ب] قال: "ولو تظاهرَ من أربع نسوةٍ له بكلمةِ واحدةٍ، فقالَ في كتاب "الظهارِ الجديد" وفِي "الإملاءِ" على مسائلِ مالكِ: إنَّ عليهِ في كلِ واحدةِ كفارةِ". الفصل إذا تظاهر من أربع نسوة له نظر، فإن أفرد كل واحدة بالظهار فعليه في حق كل واحدة كفارة بلا إشكال، وإن ظاهر منهن بكلمة واحدة فقال لهن: أنتنَّ علىَّ كظهر أمي، قال في "الأم" و "الإملاء" عليه في كل واحدة كفارة. وبه قال أبو حنيفة وهو الصحيح، لأن وحد الظهار والعود في حق كل واحدة منهن، فوجب عليه لكل واحدة كفارة، ولأنه لو خاطبهن بالطلاق أوجبت الحرمة في كل واحدة، فكذلك إذا خاطبهن بالظهار أوجبت الحرمة. وإذا أوجبت الحرمة يتعدد تعدد الرافع، وهو الكفارة. وقال في "القديم": يجزيه عن الكل كفارة واحدة. وبه قال مالك وأحمد، وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه؛ لأن لفظ الظهار متحد والكفارة تمحو اللفظ، وادعى المزني أن

الشافعي رجع عن القول القديم إلى القول الجديد، والمسألة على قول واحد. وقال القفال: يمكن بناء القولين على أنه كالإملاء، أو كالطلاق، فإن جعلناه كالإملاء فكفارة واحدة، كما لو قال: والله لا أقربكن يكفي لهن كفارة واحدة إذا حنث. وإن قلنا: كالطلاق يلزمه أربع كفارات، ويمكن بناءهما أيضًا على أنه إذا تعددت اليمين واتحد الحنث هل يلزمه كفارة أو كفارات؟ وهو أن يقول: والله لا أكلم زيدًا، ثم يقول: والله لا أكلم رجلًا ثم كلم زيدًا؛ لأن هناك تعددت الأعيان واتحد الحنث، وهاهنا اتحد اللفظ ويتصور تعدد الصور المقرر للكفارة، وهذا البناء أبعد من الوجهين الأولين. مسألة: قال: "ولو تظاهرَ منها مرارًا يريدُ بكلِ واحدةٍ ظهارًا غيرَ الآخر [137/ أ] قبلَ أن يكفرَّ فعليه بكلِّ ظهارٍ كفارةً". إذ كرر لفظ الظهار في امرأة واحدة لا يخلو إما أن يكون متواليًا أو متفرقًا، فإن كان تواليًا نظر، فإن أراد بكل مرة الاستئناف كان عليه في كل مرة كفارة، كما عليه في لفظ تطليقه إذا كرر لفظ الطلاق وأراد الاستئناف، وإذا أراد التكرار على سبيل التأكيد يلزمه كفارة واحدة كما يكون في الطلاق تطليقة واحدة، ذكره في "الجديد". وعلى هذا إذا أطلق فيه قولان كما في الطلاق. قال أبو إسحاق: الظهار كان طلاقًا في الجاهلية فجعل فيه كفارة، فكل لفظ كان حكمه أن يكون طلاقًا فالساعة حكمه الكفارة؛ لأن الكفارة أقيمت مقامه. وقال أبو حامد وصاحب "الحاوي": المذهب في الظهار أنه إذا كرره وأطلق ولم ينوِ شيئًا يكفيه كفارة واحدة، والفرق بينه وبين الطلاق أن الطلاق يزيل الملك فهو أقوى من لفظ الظهار، لأنه يشعب الملك ولا يزيله، وهذا ضعيف، والصحيح ما تقدم، وبهذا قال أبو حنيفة ومالك، أنه لو قال لها: أنت عليَّ كظهر أمي مائة مرة يلزمه مائة كفارة. وقال في "القديم": تجب كفارة واحدة ويتداخل وإن أراد الاستئناف؛ لأنه لم يفد الثاني إلا ما أفاد الأول، والظهار يوجب تحريم فرجها حتى يكفر، فإذا لم يكفر ولم يحل الفرج لم يكن لإعادة اللفظ معنى، وإن لم يوال بين الألفاظ لفرقها في الأيام. فإن أراد التأكيد كان تأكيدًا كالمتوالي بخلاف الطلاق؛ لأن الطلاق مزيل للملك فروعي الولاء من تأكيده بخلاف الظهار. ومن أصحابنا من قال: لا يجعل تأكيدًا عند الفصل؛ لأنه أنشأ التحريم بخلاف الإيلاء لأنه تعليق قبل التأكيد وإن فصل. وقال القفال: فيه وجهان مبنيان [137/ ب] على أنه يسلك مسلك الإيلاء أو الطلاق، وإن أراد الاستئناف كان استئنافًا، ثم غن كان الظهار الثاني بعد التكفير عن الأول يلزمه في الثاني كفارة، وإن كان قبل تكفيره فيه قولان. وإن أطلق، فإن كان بعد التكفير عن الأول حمل على الاستئناف وإن كان قبل التكفير من الأول فيه وجهان، أحدهما: يحمل على الاستئناف وفيما يلزمه من الكفارة قولان. والثاني: يحمل على التأكيد. فإن تقرر هذا فحيث جعلناه تأكيدًا لو طلق عقيب

الألفاظ المتوالية لم يصر عائدًا في شيء ولم يلزمه كفارة، لأنه استعمل بما يؤكد الكلام الأول فلا يجعله مخالفًا فيه ولا راجعًا فيه، وإذا جعلناه استئنافًا فهل يكون استقالة بالكلمة الثانية عودًا في الكلمة الأولى عند الموالاة؟ وجهان ذكرهما القفال؛ أحدهما عود كما قلنا فيما لو ظاهر من أربع نسوة بأربع كلمات، فلما استقل عن الظهار بالثانية صار عائدًا في الأول، فعلى هذا لو أطلق عقيب الكلمات الأربعة مثلًا لزمته ثلاث كفارات في المرات الثلاث الأول ولا يلزمه في الرابعة شيء. والثاني: أنه مادام مشتغلًا بجنس الظهار، فهو غير عائد، فإذا طلق عقيب الكلمات الأربعة لم يلزمه كفارة، وإن لم يطلق لزمته الكفارات حينئذٍ. ومن أصحابنا من قال: الظهار الثاني في زمان عوده من الظهار الأول فلا يكون مظاهرًا في وقت العود كما لا يكون عائدًا في وقت الظهار، فإذا كرر الظهار خمس مرات يصير الثاني عودًا، ويصير الثالث ظهارًا ثانيًا، ويصير الرابع عودًا في الثاني الذي كان ثالثًا، ويصير الخامس ظهارًا ثالثًا وهذا خطأ؛ لأن العود بالزمان والظهار بالقول فلم يقع الفرق في معنى زمان العود بين أن يكون فيه ممسكًا أو متكلمًا، ولم يقع الفرق [138/ أ] ولم يقع الفرق في كلامه بين أن يكون ظهارًا أو خطابًا وعلى هذا يلزمه خمس كفارات إذا كرر خمس مرات، وعلى هذا الوجه الذي ذكرنا يلزمه ثلاث كفارات. واعلم أن الشافعي. رحمة الله عليه. قيد المسألة التي ذكرها بقوله: "قيل يكفر"، وهذا ليس بشرط في وجوب الكفارات ولكنه نص على أخص الحالتين تنبيهًا على الأظهر حتى إذا علمت وجوب الكفارات بهذه الألفاظ قيل يكفر لا يكاد يخفي عليك حكم المسألة إذا كرر بعد أن كفر. مسألة: قال: "ولو قالَ: إذا تظاهرتُ من فلانةِ الأجنبية فإنتِ علىَّ كظهرِ أميَّ فتظاهرَ من الأجنبيةِ لمْ يكنْ عليهِ ظهارٌ". الفصل أما إذا قال: إن تظاهرت من امرأتي الأخرى فأنت عليَّ كظهر أمي، ثم تظاهر من تلك يصير متظهرًا من الأولى بالصفة ومن الثانية بالمباشرة، فإن عاد فيهما فعليه عن كل واحدة كفارة قولًا واحدًا؛ لأنه ظاهر من إحديهما بغير ما ظاهر من الأخرى وأقل أحواله أن يكون تظاهر من كل واحدة منهما بلفظ مفرد. ولو قال: إن تظهرت من إحدى امرأتي فالأخرى عليَّ كظهر أمي ولم يعين بالقلب إحديهما فمن أيتهما تظاهر متظاهرًا من الأخرى. وإن قال لزوجتيه: إن تظاهرت من فلانة الأجنبية فأنت عليَّ كظهر أمي، ثم قال للأجنبية: أنت عليَّ كظهر أمي لم يكن عليه ظهار في واحدة منهما؛ لأن الظهار من الأجنبية لا يصح، ومتى علق الظهار بالظهار اقتضى الظهار الشرعي كما

باب ما يوجب على المتظهر كفارة

إذا علق الطلاق بالبيع المطلق ليتقضي البيع الشرعي، فإن تزوج بها وظاهر منها صح الظهار من التي تزوج بها، وهل يكون مظاهرًا من امرأته؟ اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: لا يكون مظاهرًا؛ لأن الصفة لم توجد [138/ ب] وهو الظهار من الأجنبية، فإنه إذا تزوج بها لم تكن أجنبية. ومنهم من قال: يصير مظاهرًا؛ لأن الصفة مع التعيين إذا اجتمعا بتعلق الحكم بالتعيين دون الصفة، ومثل هذا إذا قال: والله لا آكل هذه الرطبة فصارت تمرة، أو قال: لا آكل لحم هذه السخلة فصارت كبشًا، هل يحنث؟ وجهان. ولو قال: إن تظاهرت من فلانة أجنبية فأنت عليَّ كظهر أمي فتزوج بها وظاهر منها كان مظاهرًا منها ولا يكون مظاهرًا من امرأته؛ لأن الصفة لم توجد، فإن قوله أجنبيةً بالنصب يقتضي أن تكون هذه الصفة حالًا لها في حال الظهار، فإنه نصب على الحال. وإن تظاهر منها وهي أجنبية لا يصير مظاهرًا من امرأته؛ لأنه لا يصح منها الظهار. وقال المزني: يصير مظاهرًا لأنه لا يراد بذلك إلا اللفظ، وهذا غلط لما ذكرنا. ولو قال: أردت به من فلانة الأجنبية إن ظاهرت منها بعد الزوجية قبل منه ذلك، فإذا تزوج ها وظاهر كان مظاهرًا منهما جميعًا. ولو قال: أردت به إن خاطبتها بلفظ الظهار فخاطبها كان أيضًا مظاهرًا منهما جميعًا إن كان قد تزوج بها. وإن كانت أجنبية صار مظاهرًا من امرأته. ولو قال: إن تظاهرت من فلانة فأنت عليَّ كظهر أمي، وفلانة أجنبية ولكنه لم يقل أجنبية فإن تظاهر منها وهي أجنبية لم يصح منها ولا من زوجته، وإن تزوج فظاهر منها كان متظاهرًا منهما قولًا واحدًا، مثل أن قال: والله لا أدخل هذه الدار وهي في التقدير لزيد، فباعها زيد فدخلها حنث؛ لأنه علق اليمين بعينها فكذلك هاهنا. باب ما يوجب على المتظهر كفارة مسألة: قال: "قال الله تعالى: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة:3] [139/ أ] قالَ: فالذِي علقتُ ما سمعتُ في "ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا" أنه إذا أتت على المتظاهرِ مدةً بعد القول بالظهار لم يحرمها بالطلاق الذِي تحرمُ بهِ وجبتْ عليهِ الكفارة". الفصل عندنا كفارة الظهار لا تلزم بنفس الظهار، بل تجب بشرطين؛ الظهار والعود، فالظهار معلوم والعود أن يمسكها عليه عقيب الظهار مدة يمكنه طلاقها فلا يفعل، فإذا تظاهر وعاد استقرت عليه الكفارة. وقال سفيان الثوري: كفارة الظهار تجب بنفس الظهار، ومعنى الآية: والذين يظاهرون من نسائهم في الجاهلية ثم يعودون إلى ما قالوا في الإسلام. وروي هذا عن مجاهد، وحكي ابن سماعة هذا عن أبي حنيفة رحمه الله،

واحتجوا بأن الله تعالى قال: {وإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ القَوْلِ وزُورًا} [المجادلة:2]، فيجب أن ينطق به بالكفارة دون الإمساك فإنه مباح. وقال داود وأهل الظاهر تجب بالظهار والعود، ولكن العود إعادة لفظ الظهار، فإذا كرر لفظ الظهار يصير بالثاني عائدًا إلى ما قال، وهذا لأن العود مشتق من الإعادة. وقال مالك وأحمد: العود هو العزم على الوطئ، وهو رواية أخرى عن أبي حنيفة. وقيل: إنه قول للشافعي في القديم، وذكره ابن أبي أحمد، وهذا لأنه قصد باللفظ تحريمها، فإذا عزم على الوطئ فقد عاد فيما قصد. وقال الحسن وطاوس والزهري: العود الوطئ، ويروي هذا عن مالك، لأنه حرم على نفسه الوطئ فالعود أن يطأ. وقال أبو حنيفة في الصحيح من الروايات عنه: كفارة الظهار لا تستقر في الذمة، بل هي شرط للاستباحة كالرجعة، فيقال له: إن أردت استباحة الوطئ تكفر، وإن لم ترد ذلك فلا تكفر، فإن وطئ قبل التكفير قلنا له: بئس ما فعلت ولا تعد إلى الوطئ حتى تكفر. واحتج بأن العود إنما يكون في مقوله دون قوله، ومقوله التحريم [139/ ب] فالعود استباحتها، فمتى يريد الاستباحة يكفر، وهذا غلط؛ لأن قوله يقتضي تحريمها وإبانتها وزوال النكاح بينهما، فإذا أمسكها زوجة، خالف ما قاله وأحل ما حرمه، وهذا يسبق العزم على الوطئ، وكان هو الموجب للكفارة. فإن قيل: أليس قال الله تعالى: "ثُمَّ يَعُودُونَ"، وثم للمهلة والتراخي والإمساك يعقبه لفظ الظهار؟ قيل: لا يعقبه، بل يكون العود بمضي زمان يمكن فيه الطلاق فلا يطلق وهو متراخٍ. فإن قيل: ليس في خبر المستفتية عن ظهار زوجها أنها أخبرت بوجود العود. قيل: لما أخبرت بالظهار ولم تخبر بالطلاق دل ظهاره على عدم الطلاق وقد مضى ما بين لفظ الظهار إلى زمان الاستفتاء ساعات محتملة للتطليق، فاستغنى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل هل وجود هذا العود أم لا. وأما ما ذكر سفيان الثوري لا يصح؛ لأن الله تعالى علق الكفارة بشرطين في الإسلام فلا يتعلق بأحدهما وهو الظاهر والعود بعده. وأما ما ذكره داود لا يصح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المظاهر بالتكفير ولم يسأل هل أعاد اللفظ أم لا، ولأنها كفارة تجب باللفظ والشرط فلا يكون ذلك الشرط إعادة اللفظ ككفارة الإيلاء، ولأنه لم يقل: ثم يعودون إلى ما قالوا، بل قال: "لما قالوا"، وهذا يقتضي العود فيه لا العود إليه. وأما ما ذكر مالك لا يصح؛ لأنها كفارة فلا تتعلق بالعزم على المخالفة ككفارة اليمين، ولأنه إذا احتمل اللفظ ما ذكرتم وما ذكرنا فما قلنا أولى؛ لأن الإمساك يضيق العزم. وأما ما ذكره الزهري لا يصح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الكفارة على أوس بن الصامت ولم يسأل عن وجود الوطئ، ولأنه أمسكها على الزوجية بعد التحريم الظهار فأشبه إذا وطئ، ولأن الله تعالى قال: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} [المجادلة:3] فأوجها قبل الوطاء. [140/ أ] وأما ما ذكر أبو حنيفة لا يصح؛ لأنه أوجبها بالعود والظهار، وعنده يحصل العود بالكفارة وهو الاستباحة، ثم الاستباحة ليست من فعله فلا معنى

لشرطها في الكفارة، ولأنها كفارة تستقر في الذمة كسائر الكفارات. مسألة: قال: "ولو أمكنهُ أن يطلقَها فلم يفعلْ لزمتهُ الكفارةُ، وكذلكَ لو ماتَ أو ماتتْ". قال الشافعي في "الأم": "فإن تظاهر منها أو أمسكها مدة يمكنه طلاقها فلم يفعل فقد وجبت الكفارة، فإن طلقها لم تسقط الكفارة، وكذلك إن مات أو ماتت". والمزني نقل بعضه فقال: "ولو أمكنه أن يطلقها فلم يفعل لزمته الكفارة، وكذلك إن مات أو ماتت" وحذف قوله: "فإن طلقها لم تسقط الكفارة" من وسط الكلام وأبطل معناه؛ لن معنى ما نقل أنه إذا أمسكها عقيب الظهار مدة مكنه طلاقها لزمته الكفارة، وكذلك لو لم يطلق ولكن مات أو ماتت، ولا خلاف بين أصحابنا أنه لو مات أو ماتت عقيب الظهار لم يكن عائدًا ولا كفارة. نقل المزني العطف وترك العطوف، فخرج منه هذا السهو. ومن أصحابنا من اعتقد له فقال: أراد المزني إن طلقها عقيب الظهار فلا كفارة، وكذلك إن مات أو ماتت، وهذا فقه واضح ولكنه غير ما قاله الشافعي وغير ما نقله المزني. ثم اعلم أن مقصوده أنه لا تسقط الكفارة الواجبة بموته ولا بموتها خلافًا لأبي حنيفة فإنه قال: تسقط جميع الكفارات بالموت وهذا غلط، لأنها لزمته قبل موته فلا تسقط بموته. وقال مالك: إذا مات بعد العزم على الوطئ الذي هو العود عنده سقطت الكفارة بعد وجوبها، ولو ظاهر ثم عجز في الحال عن الطلاق واتصل عجزه بالموت لا يلزم الكفارة؛ لأنه لم يحصل العود. مسألة: قال: " ومعنى قولُ الله تعالى: [140/ ب] {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا" وقت لأن يؤدَى فيهِ مَا وجبتْ عليهِ قبلَ المماسةِ حتى يكفرَّ}. الفصل بين الشافعي أن وقت الكفارة قبل الوطئ، وأنها موسع الوقت، وأن تحريم الوطئ إلى أن يكفر عقوبة فيه مضمومة إلى الكفارة، ومن الحدود ما ضم إليه تغليط آخر كضم النفي إلى الجلد في الزنا وضم التفسيق إلى الحد في القذف كذلك ها هنا. مسألة: قال: "فإذا منعَ الجماعُ أحببتُ أن يمنعَ من القبلِ والتلذذِ احتياطًا". الفصل إذا عاد المظاهر يحرم عليه الوطئ حتى يكفر لقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا}، وأما غير الوطئ من القُبلة واللمس بالشهوة والوطئ دون الفرج، قال في "الجديد" ونقله المزني: "أحببت أن يمتنع احتياطًا". وقال في "القديم": رأيت أن يمنع ذلك. فقيل: فيه وجهان، وقيل: قول واحد أنه لا يحرم. وقوله في "القديم": رأيت

أن يمنع" أراد احتياطًا واستحبابًا، ووجه قوله القديم وهو قول أبي حنيفة ومالك وأحمد في رواية، وهو اختيار جماعة من أصحابنا، أن الله تعالى قال: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا}، واسم المسيس يقع على الوطئ وما دونه، ولأنه لفظ يقع على التحريم في الزوجية فتحرم الدواعي كالطلاق، ووجه قوله الجديد وهو الأظهر أنه عارض في النكاح لا يزيل الملك بحال فلا تحرم الدواعي كالحيض والنفاس، أو وطئ محرم لا يتعلق به وجوب مال فأشبه ما ذكرنا. مسألة: قال: "فإنْ مسَ لمْ تبطلْ الكفارةُ". المظاهر إذا وجبت عليه الكفارة يحرم عليه وطئها ما لم يكفر، ووقت أداء الكفارة ما لم يطأ، فإن وطأ خرج وقت أدائها وكان تحريم وطئها قائمًا، ولا كفارة عليه بهذا الوطئ ولا يقربها مرة أخرى حتى يكفر، ومتى كفر بعد الوطئ كان قضاء، كما تقول في الصلاة إذا صلاها في الوقت كان أداء، وإن صلاها بعد خروج الوقت [141/ أ] كانت قضاء. وقال سعيد بن جبير والزهري: تسقط عنه الكفارة؛ لأنها وجبت قبل المسيس وقد فات وقتها، وهذا غلط؛ لأن الثابت يقضي كصوم رمضان والصلاة. وقال عمرو بن العاص ومجاهد وعبد الرحمن بن مهدي: يلزمه بالوطئ كفارة أخرى، وهذا أيضًا غلط لما ذكرنا من خبر ابن عباس - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمظاهر بعد الوطئ: "اعتزلها" حتى يكفر ولم يوجب كفارة أخرى. وروي سلمة بن صخر البياضي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المظاهر يواقع قبل أن يكفر: "يكفيه كفارة واحدة". مسألة: قال: "ولو أصابَها وكفرَّ بالصومِ لم ينتقضْ صومَه". من وجبت عليه الكفارة كانت علي الترتيب، فيلزمه عتق رقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكينًا، فإن كان من أهل الصيام فدخل في الصوم ثم أكل أو جامع عمدًا نهارًا بطل صومه وعليه أن يستأنف شهرين، وإن لم يبطل صومه بأن أكل أو جامع ناسيًا أو مكرهًا لم يبطل صومه ولا شيء عليه، وكذلك إن وطئ ليلًا لم يقدم ذلك في الصوم ومضى على الكفارة، ولكنه يمضي بذلك. وبه قال أبو يوسف وأحمد في رواية. وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في الرواية الثانية: إذا وطئ المظاهر عنها كيفما كان في أثناء الصوم بطل صومه ناسيًا كان أو عامدًا، ليلًا كان أو نهارًا، ويلزم استئناف شهرين متتابعين. واحتجوا بأن الله تعالى قال: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} [المجادلة:4]، فأوجب شيئين؛ إخلاهما عن المسيس، وتقدمها عن المسيس، وقد عجز الآن عن تقدمها على المسيس ولم يعجز عن إخلاهما عن المسيس، فوجب عليه ما قدر وسقط ما عجز [141/ ب] وهذا غلط؛ لأنه وطئ لم يلق الصوم فلا يلق الصوم، كما لو وطئ غير المظاهر عنها ليلًا. وأما الآية فهي دليلنا؛ لأن المأمور بتقديم الشهرين على المسيس مأمور بتقديم كل واحد من الشهرين على

المسيس، فإذا وطئ ليلًا بعد صوم شهر فقد قدم شهرًا على المسيس فيصوم شهرًا آخر بعده، وهو أحسن من أن يصوم شهرين بعد المسيس، وهذا لصلاة العصر مأمور بأدائها قبل الغروب، فأداء ركعتين منها قبل الغروب وركعتين بعدها أحسن من أدائها بعد الغروب. مسألة: قال: "ولو تظاهرَ فاتبعَ الظهارِ طلاقًا تحلُ فيهِ قبلَ زوجِ". الفصل متى اتبع الظهار طلاقًا لم يكن عائدًا بائنًا كان أو رجعيًا على ما ذكرنا. ولو طلقها عقيب الظهار ثم كفر بالمال قبل مراجعتها فيه وجهان. مسألة: قال: "ولو تظاهرَ منها ثمَّ لاعنَها مكانهُ بلَا فصلِ سقطَ الظهارُ". اختلف أصحابنا في صورة المسألة، فمنهم من قال: صورتها أنه قذفها وحملها إلى الحاكم وأتى بألفاظ اللعان الأربعة وبقيت عليه الخامسة التي يقع بها الفرقة، فظاهر منها ثم أتى بكلمة اللعنة التي هي الخامسة وهو اختيار ابن الحداد، فأما إذا اشتغل بألفاظ اللعان الأربعة فقد مضى زمان يمكنه فيه الطلاق ولم يطلق فيه، فيصير عائدًا ويستقر حكم الظهار، والكلمة الخامسة تعذر زمان الطلاق. وقال أبو إسحاق وابن أبي هريرة: هذا خطأ، وصورة المسألة أنه ظاهر وابتدأ باللعان عقيبه فلا يكون عائدًا ولا كفارة عليه؛ لأنه أخذ في تحقيق التحريم والفسخ يحصل بجميع ألفاظه، وكونه أفضل من لفظة الطلاق لا يوجب حصول العود، كما لو ظاهر من نسائه ثم مال عقيبه: أنت يا زينب، ويا عمرة، ويا فلانة طوالق، وعلى هذا لو قذف عقيب الظهار ثم لاعن كان عائدًا؛ لأن القذف [142/ أ] ليس من الألفاظ التي تقع بها الفرقة، وقال في "الإفصاح": وقد قيل: إنه وإن قذف عقيب الظهار وأخذ في اللعان فلا كفارة عليه، لأن القذف من أسباب الفرقة، وذكره المزني في "الجامع الكبير". قال ابن سريج: لا يفرق هذا للشافعي ولا وجه له، لأن القذف يوجب عليه الحد، ولكن له إسقاطه بالبينة أو اللعان إذا طالبه به، ولا يحصل اللعان بالقذف، وباللعان مع الفرقة لا بالقذف. وقال القفال: ما ذكره في "الجامع الكبير" أصبح حتى لو قذف بعد الظهار في بينة ثم اشتغل بأسباب اللعان من المرافعة إلى الحاكم والدعوة إلى أن تم اللعان بينهما فلا كفارة، وإن لم يظفر بالحاكم إلا بعد مدة، وهذا كما أنه يبيع عبدًا غائبًا ويشتغل بأسباب تسليمه فيجوز ولا يجعل ذلك بيعًا تراخي فيه التسليم عن حالة العقد، وهذا غير صحيح عند أكثر أصحابنا لما ذكرنا. فرع قال ابن الحداد: لو قال لها: أنت عليّ كظهر أمي يا زانية، أنت طالق، يلزمه

اللعان. وهذا على المذهب المشهور أن بالقذف عقيب الظهار يصير عائدًا، وعلى ما ذكرنا في "الجامع الكبير" لا يكون عائدًا ولا كفارة لأنه ينسب إلى اللعان الموجبة للفرقة. مسألة: قال: "وقالَ في كتاب "اختلاف أبي حنيفة وابنُ أبِي ليلى": لو تظاهرَ منهمَا يومًا فلمْ يصبهَا حتى انقضى لمْ تكنْ عليهِ كفارةٌ". قد بينا حكم الظهار المطلق، فأما الظهار الموقت كقوله: أنت عليّ كظهر أمي يومًا أو سنة فيه قولان: أحدهما وهو الذي نقله المزني: يكون ظهارًا، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، واختاره المزني؛ لأنه حكم ثبت لكونه منكرًا وزورًا، وهو موجود في الوقت، وقد روي في خبر مسلمة بن صخر أنه قال: تظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان، وحكم النبي صلى الله عليه وسلم فيه بحكم الظهار المطلق، واحتج المزني بهذا القول [142/ ب] فقال: أصل قوله أن المتظاهر إذا حبس امرأته مدة يمكنه الطلاق فلم يطلقها فيها فقد عاد وجبت الكفارة عليه، وقد حبسها بعد التظهر يومًا يمكنه الطلاق فيه فتركه فعاد إلى استحلال ما حرم، فالكفارة لازمة له في معني قوله. والثاني: ذكره في اختلاف العراقيين: لا تكون ظهارًا، وبه قال مالك والليث وابن أبي ليلى؛ لأن الظهار إذا أطلق تحريمها كإطلاق تحريم الأم، فإذا علق تحريمها في وقت دون وقت لم يصح، كما لو شبهها بامرأة محرمة عليه وكانت حلالًا له لم يصح الظهار، ويؤكده أن الظهار المعهود في الجاهلية والإسلام هو الظهار المطلق، والترتيب خارج عن موضوعه. فإذا قلنا بهذا القول فإن لم يطأها حتى انقضت المدة فلا كفارة، وإن وطئها في المدة فيه وجهان؛ أحدهما: يلزمه كفارة يمين على ظاهر ما قاله في هذا الموضع، ويصير بخروجه من الظهار محرمًا لها بغير ظهار فتلزمه الكفارة، كما لو إلى منها ثم وطئ. والثاني وهو الأصح: لا كفارة عليه؛ لأن لفظ التحريم موجب للكفارة في الحال من غير أن يتعلق بالوطئ والإيلاء يمين، وهذا غير حالف فيكون قول الشافعي في كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى عليه الكفارة محمولًا علي أنه جمع بين الإيلاء وهذا ظهار، فعاد جوابه إلى الإيلاء دون الظهار، وهذا قول أبي الطيب بن سلمة. وقال الإمام أبو محمد الجويني: إلحاق الشافعي هذه المسألة باليمين وكفارتها يوهم أنه لو جامعها في الظهار الموقت قبل انقضاء ذلك الوقت كانت كفارته كفارة اليمين وليس كذلك، بل كفارته كفارة الظهار، نص عليه الشافعي في غير هذا الموضع، وإنما ألزمناه كفارة الظهار كالمظاهر، لأنها وجبت بسبب لفظ الظهار والمنكر من القول والزور وإن لم نجعله في جميع أحكامه كالمظاهر. وإذا قلنا: يكون ظهارًا فانقضى زمانه زال الظهار، [143/ أ] إلا أنه إذا لم يطلقها عقيب الظهار وأمسكها في اليوم هل يكون عائدًا؟ ظاهر نصه أنه لا يكون عائدًا، وإنما العود منه بالوطئ في المدة؛ لأن

باب عتق المؤمنة في الظهار

إمساكه إياها لا يدل على العود لجواز أن يمسكها؛ لأنها تحل له بعد اليوم فجعل العود فيه الوطئ فإن لم يطئ حتى ذهب الوقت سقط حكمه؛ لأن العود لم يحصل، وإن وطئ يلزمه كفارة الظهار ولا يحل الوطئ أيضًا بعده في ذلك اليوم حتى يكفر. ومن أصحابنا من قال: يكون عائدًا بالإمساك؛ لأنه أمسكها على النكاح زمانًا يمكنه فيه الطلاق، وهذا اختيار المزني. وقال القفال: إذا قلنا إنه يكون ظهارًا هل يكون مؤبدًا أو مؤقتًا؟ وجهان؛ أحدهما: مؤبد، فالطلاق المؤقت يتأبد، وعلى هذا يكون العود فيه كالعود في المطلق. والثاني وهو المنصوص: أنه مؤقت، وهذا خلاف النص الصريح، ويحكي عن مالك هذا القول أنه يصير مطلقًا ويسقط التأقيت، وهو غلط لما ذكرنا. وقيل: أصل هذا الخلاف أن الظهار هل يسلك مسلك الإيلاء أو مسلك الطلاق؟ وفيه قولان. وقال القفال: العود نفس الجماع في قوله القديم، وأصل هذين القولين ها هنا أن العود ماذا؟ فإن قلنا بأنه الجماع فها هنا يصير عائدًا بالجماع ويلزمه الكفارة به، وإن قلنا إنه بالإمساك فها هنا كذلك أيضًا، وهذا غريب والاعتياد على ما سبق. مسألة: قال: "ولو تظاهرَ وآلي، قيل له: إن وطئتْ قبلَ الكفارةِ خرجتَ من الإيلاءِ". الفصل قد مضت هذه المسألة بشرحها في كتاب الإيلاء، والمقصود أن الوطئ بعد الظهار لا يصير حلالًا بسبب الإيلاء وقد ذكرنا أنه هل يتحتم بتحريم الوطئ طلاقًا ويتعين؟ فيه وجهان؛ أحدهما: يتعين. ن والثاني: لا يتعين؛ لأن عجزه عن الوطئ بالتحريم كعجزه عنه بالمرض فيفيء بلسانه فيء معذور، ثم يوحد التفكير [143/ ب] عن ظهاره ولا يمهل فيه مع المكنة منه، فإذا كفر زال عذره ولزمه أن يفيء بالإصابة كالمريض إذا صح من مرضه. باب عتق المؤمنة في الظهار مسألة: قال الله تعالى في المظاهر: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} قال "فإذا كانَ واحدًا لها أو لثمنَها لم يجزْئهِ غيرها". قدمنا أن كفارة الظهار على الترتيب ككفارة الفطر على الترتيب، فإن كان في ملكه رقبة لزمه إعتاقها، وكذلك إن لم يكن في ملكه ولكنه قادر على ثمنها فتمكن من شرائها بثمن مثلها يلزمه ذلك، ولا يجوز له العدول إلى الصوم، ويفارق هذا إن لم يكن في ملكه ابنة مخاض وقدر على شرائها يلزمه شراؤها، ويجوز له العدول إلى ابن لبون وقد ذكرنا الفرق بينهما فيما تقدم.

فرع لو لم يجد الرقبة فنوى في الليل صوم شهرين من الغد فقبل طلوع الفجر وجد الرقبة يلزمه الانتقال إليها؛ لأن الرقبة موجودة قبل الشروع في المقصود من أي البدل، ولو لم يطلب الرقبة فنوى في الليل الصوم ثم طلب الرقبة في الليل مع تحمل المشقة ولم يجدها، فطلع الفجر ولم يعد النية بعد الطلب لا تصح النية؛ لأنه تقدم وقت الجواز فصار كما لو تيمم قبل الطلب ثم طلب الماء ولم يجد لا يصح تيممه، ولو طلب الوقت قبل وجوبها ولم يجدها فلما وجبت نوي وكن ليلًا ولم بطل الفصل من وقت الطلب لم تصح النية أيضًا كما لو طلب الماء قبل وجوب التيمم، فلما وجب تيمم لم يجز، هكذا ذكره والدي رحمه الله. ويحتمل وجهًا آخر أنه لا يصح؛ لأن العدم متحقق. مسألة: قال: "وشرطَ اللهُ عزَ وجلَ في رقبةِ القتلِ مؤمنةً كما شرطَ العدلُُ في الشهادةِ [144/ أ] وأطلقَ الشهودَ في مواضعَ". الفصل لا يجزئ من كفارة الظهار وغيرها إلا رقبة مؤمنة، وبه قال مالك، وأحمد، وإسحاق، والأوزاعي. وقال أبو حنيفة، وعطاء، والثوري، والنخعي: لا يشترط إلا في كفارة القتل. ويحكي هذا عن الأوزاعي أيضًا، وهذا غلط؛ لأنه عتق في كفارة يشترط فيه الإيمان كما في كفارة القتل. واحتج الشافعي بأن الله تعالى لما شرط العدالة في موضع في الشهود وأطلق في سائر المواضع حمل المطلق على المقيد. واحتج أيضًا بأن الصدقات لما لم تصرف إلى المؤمنين كذلك العتق وتحريره، فإنه حق مال يجب على سبيل الطهر كالزكاة. واحتج أصحابنا فيه بما روي عن الشريد بن سويد الثقفي قال: قلت: يا رسول الله، إن أمي أوصت إلى أن أعتق عنها رقبة، وإن عندي جارية سوداء نوبية، فقال: "ادع بها" فقال: "من ربك؟ قالت: الله. قال: "فمن أنا؟ " قالت: رسول الله. قال: "اعتقها فإنها مؤمنة". فدل أنه يشترط الإيمان في كل عتق واجب. فرع لو نذر أن يعتق رقبة وأطلق، هل يشترط الإيمان؟ لا نص فيه، واختلف أصحابنا فيه على وجهين؛ أحدهما: يشترط قياسًا على الرقبة الشرعية. والثاني: لا يشترط للإطلاق. مسألة: قال: "فإن كانتْ أعجميةُ وصفتْ بالإسلامِ". أراد بالعجمية من لا يحسن العربية لا يختص هذا بالفرس والروم والنبط في ذلك

واحد. ومعنى قوله: "وصفت بالإسلام" أي علقت ووصفت، فأما إذا لقنت وتلقنت ولم تعرف ذلك لا يجوز، وهذا لأن الشرط حصول الإسلام. فإذا تقرر هذا إن كان المعتق يحسن العجمية يسمعها تصف الإسلام بالعجمية أجزاه ذلك، وإن لم يحسن [144/ ب] العجمية لابد من شاهد وعدلين يشهدان بأنها وصفت الإسلام جاز إعتاقها عن الكفارة أعجمية كانت أو عربية، فما فائدة قوله: فإن كانت أعجمية؟ قلنا: مقصود الشافعي إنها متى وصفت أصل الإسلام أجزأت، وإن كانت لا تهتدي إلى فروع الإسلام ومشاعره وتوابعه وكانت العرب سابقين إلى الإسلام فربما كان العربي في ذلك الزمان يعرف ويحسن من الإسلام وأحكامه ما لا يعرف العجمي غير أن العجمي إذا شارك العربي في أصل الإسلام مشاركه في اسم الإسلام وحكمه، وكأن قال: إذا وصفت الإسلام أجزأته ورن كانت أعجمية. مسألة: قال: "فغنْ أعتقَ صبيةً أحدَ أبويَها مؤمنٌ، أو خرساءَ جليبةَ تعقلُ الإشارةَ بالإيمانِ أجزأهُ". الصبي إذا كان أبواه مسلمين، أو أبوه يحكم بإسلامه بلا خلاف، وإن كانت أمه مسلمة وأبوه كافر يحكم بإسلامه عندنا خلاف لمالك، وهذا لأن من تبعه الحمل تبعه الولد المنفصل كالأب. وقال عطاء: لا يصير الولد مسلم حتى يسلم أبواه معًا، فإذا تقرر هذا يجوز إعتاقه عن الكفارة، وإن كان لهن يوم مثلًا؛ لأن القصد تكميل الشخص لا القيمة ولا المنفعة في الحال. وحكي عن أبي إسحاق أنه قال: إذا أعتق وصيفًا لا يجوز، ثم رجع وقال: يجوز؛ لأن الله تعالى أطلق الرقبة ولم يفصل. وقال أحمد: لا يجوز عتقه إلا بعد البلوغ؛ لأنه لا يقدر على علم وإيمانه ناقص أيضًا. وهذا غلط؛ لأنه إيمانه كامل ولهذا يقتل به المؤمن البالغ وهو سليم الخلق وترجي منفعته وقال مالك: لا يجوز إلا عد أن يصلي ويصوم بعد البلوغ. وحكي عن مالك أنه قال: أحب أن لا يعتق إلا بالغًا. وعندنا يستحب هذا أيضًا فلا خلاف على هذا. وحكي عن أحمد [145/ أ] أنه قال: يعجبني أن لا يعتق إلا من يعبر عن نفسه لقوله صلى الله عليه وسلم "الإيمان قول وعمل"، وهذا إشارة إلى الاستحباب فيرتفع الخلاف معه أيضًا. فإن قال قائل: أي فائدة في نصوص الشافعي رحمه الله تعالى مسألة الإيمان في الأنثى حيث قال: "وإن أعتقَ صبية أحد أبويها مؤمن"، وعلى هذا أجري أكثر المسائل؟ قلنا: يحتمل أنه قصد متابعة لفظ الكتاب حيث قال تعالى:" فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ" واسم الرقبة تأنيث، ثم ينطلق ذلك على الذكر والأنثى، ويحتمل أنه قصد جزالة اللفظ، فإن اللفظ في كنايات الأنثى أجزل وأفصح، وهذا نظير ما قال في كتاب الزكاة: "ولو تسلف الرجلين بعيرًا فأتلفاه".

الفصل ولو تسلف الرجل واحد كان حكمه كما لو تسلف لرجلين، ولكن اللفظ في الاثنين وكناياتها أجزل وأفصح. وأما الرقبة الخرساء قال الشافعي رحمه الله في "الجديد": يجوز إعاقته إذا كانت تعقل الإشارة" وقال في "القديم": لا يجوز الأخرس في الكفارة وبه قال مالك وأبو حنيفة رحمهما الله؛ لأنه ينقص قيمتها به كالعمى، فقيل: في المسلمين قولان وهو ضعيف، وقيل: هما على حالين، فإن كانت أصم لا يجوز وإن كانت تعقل الإشارة وإن لم يكن مع الخرس صمم يجوز، والدليل على جوازه أن الخرس نقص لا يضر بالعمل فلا يمنع الأجزاء كالطرش، وبه فارق الأعمى. فإذا تقرر هذا، فإن كانت مسلمة تبعا أجرأت، وإن كانت بالغة مجلوبة أو كانت من أبوين كافرين فأشارت بالإسلام إشارة مفهومة، قال: ها هنا تجزأ. وروى الربيع في كتاب "الأم" إذا أشارت الخرساء بالإسلام وصلت جاز عتقها". فقيل: ذكر الصلاة تأكيدًا لا شرطًا ولهذا ترك المزني نقل الصلاة لأنه علم أن الشافعي ذكره احتياطًا لا شرطا. وقال بعض أصحابنا: صلاة الأخرس شرط في صحة إسلامه بالإشارة، وحملوا إطلاق المزني [145/ ب] على تفسير الربيع؛ لأن الإشارة استدلال يختص بالأخرس والصلاة فصل يشترط فيه الناطق والأخرس فإذا أمكن اختيار إسلامه بما يشتركان فيه لم يجز الاقتصار على ما يختص به ولأن الإشارة لا تصرح وهي ضعيفة، فأكدت بفصل الصلاة. فإن قيل: ما فائدة قوله: "جليبة" ولا فرق بين المجلوبة والولد في بلاد الإسلام؟ قلنا: الجواب عنه ما مضى في تقييده بالأعجمية، فإن المجلوبة تكون هي العجمية. واعلم أن المستحب أن تكون ناطقة بكلمة الإيمان فلذلك أنفي للريبة وأبعد من الاختلاف. مسألة: قال: "ولو سُبيتْ صبيةٌ معَ ابويهَا كافرين فعَقَلَتْ ووصَفَتْ الإسلامَ وصلَّتْ إلا أنها لمْ تبلغَ لمْ تجزئهُ". فصل إذا سبي الصغير مع أبويه أو أحدهما لم يصر مسلمًا بإسلام السابي، وإنما يصير مسلمًا بإسلامه إذا لم يكن معه أحد أبويه. وفيه وجه لا يصير تبعًا للسابي أصلًا في الإسلام لعدم البعضية، وهو خلاف مفهوم كلام الشافعي ها هنا، فإن أسلم هذا الصغير بنفسه فقد ذكرنا فيما تقدم أنه لا يجوز إسلامه على ظاهر المذهب، وفيه وجهان آخران؛ أحدهما يجوز إسلامه دون ردته، وهو اختيار الاصطخري. والثاني: يراعي على ما يكون منه حال بلوغه، فإذا قلنا: لا يصح إسلامه لا يجوز إعاقته عن الكفارة. وإذا قلنا: يجوز إسلامه يجوز إعتاقه عن الكفارة. وإذا قلنا: يراعى فأعتقه عن

الكفارة ثم بلغ، فإن وصف الكفر لم يجز، وإن وصف الإسلام هل يجوز؟ فه وجهان؛ أحدهما: يجوز لأنه محكوم بإسلامه، وهو اختيار القفال. والثاني: لا يجوز؛ لأنه ناقص الدين بدليل أنه يقر على الكفر ولم يحكم بإسلامه حال إعتاقه. وقال في "الحاوي": قال الداركي وجماعة من أصحابنا: يحكم بإسلامه ظاهرًا، وفي الباطن موقوف على بلوغه، فإن أقام عليه ثبت في الباطن أيضًا، وإن أظهر الكفر لم يقبل منه [146/ أ] في الظاهر وكان مقبولًا في الباطن، فعلى هذا لو اعتقه عن الكفارة ومات قبل أن يصف الكفر أو الإسلام أجزأه في الظاهر دون الباطن، وإن أظهر الإسلام أجزأه في الظاهر والباطن وجهًا واحدًا. مسألة: قال: "ووصفهَا بالإسلامِ أن تشهَد أَنْ لَا إلهَ إلَّا اللهُ وأَنْ محمدٌ رسولُ اللهِ وتبرأَ منْ كلِّ دينٍ خالفَ الإسلامَ". هذا الذي ذكره الشافعي - رحمه الله - في "الجديد" أكمل ما يكون في وصف الإيمان. وقال في "القديم": إذا أتى بكلمة الشهادتين كان مسلمًا ولم يعتبر البراءة من كل دين خالف الإسلام. قال أصحابنا: إنما اعتبر الشافعي البراءة من كل دين خالف الإسلام؛ لأن اليهود ومن يعتقد أن محمدًا، مبعوث إلى العرب الآدميين دون أهل الكتاب وهذا قول الجبرية من اليهود. فأما من لا يعتقد نبوته أصلًا أو كان من عبدة الأوثان يكفي أن يقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وإن لم يتعرض للبراءة يجوز. وهو اختيار أبي إسحاق، وهو المذهب، وليست المسألة على قولين. وأما الإقرار بالبعث بعد الموت والجنة والنار لا يعتبر ولكنه يستحب امتحانها بذلك وبسائر شرائط الاعتقاد، فإن أعتقه عن الكفارة ثم رأيناه ينكر البعث جعلناه مرتدًا من الآن والعتق مجزئ. فرع الكافر الذي يقول مع الله إلهًا آخر من عبدة الأصنام والوثنية والنصارى الذين يقولون ثالث ثلاثة إذا قال: لا إله إلا الله اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: يحكم بإسلامه ويجز على أن يقول محمد رسول الله، فإن لم يقل ذلك فهو مرتد. وأما من يقول في دينه: لا إله إلا الله كاليهودي والنصراني لا بد له أن يقول: محمد رسول الله ويصير مسلمًا بهذا القدر وحده، والذي يقول: [146/ ب] محمد رسول الله إلى بعض الناس دون بعض يحتاج أن يقول محمد رسوله الله بعث إلى الناس كافة، ففي الجملة يجب أن يقر بشيء مما يخالف أصل دينه من أصول دين الإسلام، أو يقول: تبرأت من كل دين خالف الإسلام حتى يصير به مؤمنًا، وهذا اختيار القفال. ومنهم من قال: لا يحكم بإسلامه حتى يأتي بالشهادتين، وهو ظاهر كلام الشافعي ها هنا، وهو المذهب،

باب ما يجزئ من الرقاب وما لا يجزئ

وقال في "الحاوي": إذا أتى بالشهادتين والبراءة من كل دين خالف الإسلام، هل هو شرط في صحة الإسلام؟ ثلاثة أوجه؛ أحدها ما ذكرناه. والثاني: أنه شرط ليزول الاحتمال عن شهادته لما روي أن رجلًا من اليهود أتى في جماعة من أصحابه إلى رسول الله، فسأله عن معالم الدين، فأخبره بها فقال: أشهد انك نبي حق. فقال له ولمن معه: "ما منعكم أن تتبعوني؟ " فقالوا: نخاف أن تقتلنا اليهود؛ لأن داود، دعا أن يجعل الله النبوة في ولده، فلم يجر عليه حكم الإسلام مع الاعتراف بنبوته؛ لأنه لم يتبرأ من دينه. والثالث: أنه شرط في الإسلام من زعم أن محمدًا، نبي مبعوث إلى ولد إسماعيل دون إسحاق، أو هو مبعوث في آخر الزمان، وهو قول بعض النصارى، ولا يشترط في غيرهم، وهذا اختيار القاضي أبي حامد وجماعة، وهذه الطريقة غريبة. باب ما يجزئ من الرقاب وما لا يجزئ مسألة: قال: "ولا يجزئُ في رقبةِ واجبةِ رقبة تشترى بشرطِ أَنْ تعتقَ". ظاهر المذهب انه يصح الشراء بشرط العتاق كما نص ها هنا، والقياس أن البيع باطل؛ لأنه شرط ما يضاد موضوع العقد، ثم إذا صححنا [147/ أ] البيع يجب إعتاقه، وهل يجبر المشتري على العتق أو لا يجبر، ويكون للبائع الخيار؟ وجهان: فإن قلنا: يجبر حقًا لله تعالى لا بد من الإعتاق، ثم لا يجزئ عن الكفارة؛ لأنه مستحق بسبب آخر، وعلل الشافعي هاهنا فقال: "لأنه بضع من ثمنها"، ومعناه أنه إذا اشترى بهذا الشرط فقد حوبي في ثمنه، وإنما حوبي على أن يكون للذي حابى فيه نصيب فلا يجزيه ذلك؛ لأنه يعتق رقبة كاملة. وإن قلنا: إنه لا يجبر ويكون للبائع الخيار فما دام يطالب الإعتاق فأعتقه عن الكفارة لا يجوز؛ لأنه يسقط به حقًا وهو خيار البائع وإن عفي البائع ثم أعتق المشتري بعد ذلك عن الكفارة فيه وجهان؛ أحدهما: يجوز لأنه لم يجب عتقه بسبب آخر واعتقه مختارًا. والثاني: لا يجوز لما ذكر الشافعي من العلة؛ لأن ذلك يضع من ثمنها ولم يفصل، ذكره القفال واختار أبو حامد هذا الوجه الثاني، وعلل بأنه لم يقع العتق خالصًا عن الكفارة، بل وقع مشتركًا بينها وبين المعتق بالشرط، ولا فرق فيما ذكرنا بين كفارة القتل وكفارة الظهار وكفارة اليمين والرقبة التي وجب إعتاقها بالنذر. مسألة: قال: "ولا يجزئُ فيهَا مكاتبٌ أدى مِنْ نجومهِ شيئًا أو لمْ يؤدهِ". لا يجوز عتق المكاتب عن الكفارة بحالٍ، وبه قال مالك، والثوري، والأوزاعي، وأبو عبيد، وزفر، وأحمد في رواية. وقال أبو حنيفة: "إن لم يؤد شيئًا من نجومه يجوز

إعتاقه عن الكفارة، وإن أدى شيئًا من نجومه لا يجوز في اظهر الروايتين"، وبه قال الليث، وأحمد في الرواية الثانية. وقال أبو ثور: يجوز إعتاقه عن الكفارة سواء ادى بعض النجوم أو لا، واحتجوا بأنها رقبة تامة الرق سليمة الخلق لم يؤخذ عن شيء منها عرضًا فجاز إعتاقها كالقن، وهذا غلط [147/ ب] لأن عتقه مستحب سابق فلا يجوز صرفه إلى الكفارة كعتق أم الولد، وبهذا فارق القن. واحتج الشافعي ها هنا بأن قال: "إنه ممنوع من بيعه"، وهذه العلة لا تستغني من الاحتراز؛ لأن الراهن ممنوع من بيع المرهون، ولو اعتقه عن الكفارة أجزأه على القول الذي يقول بنفوذ عتقه، غير أن الشافعي أراد لأنه ممنوع من بيعه بسعيه الحرية وهي الكتابة فنزلت منزلة أم الولد. مسألة: قال: "ولا تجزئُ أمَّ الولدِ منْ قولِ منْ لا يبيعهَا". لا يجوز إعتاق ام الولد عن الكفارة بحال؛ لأن فيها شعبة الحرية بالاستيلاد، وقوله: "في قول من لا يبيعها" ليس بتعليق القول في جواز بيع أم الولد؛ لأن الصحابة - رضي الله عنهم - اختلفوا في بيعها في العصر الأول ثم العصر الثاني والثالث أجمعوا على أنه لا يجوز بيعها، واختلف أصحابنا في إجماع العصر الثاني، هل يرفع خلاف أهل العصر الأول على وجهين. وفي هذا إشارة إلى انه لا يرفع خلافهم، والمزني أوهم أن الشافعي علق القول في جواز بيعها ثم اختار أنها لا تباع. قال: وقد قطع بهذا الجواب في خمسة عشر كتابًا، والحق ما اختاره، والمسألة على قول واحد. وقيل: قوله: "في قول من لا يبعها" تنبيه على الخلاف؛ لأن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - اختلف رأيه واجتهاده في بيعها، فكأنه قال: من جوز بيعها أجزأت عنده الكفارة، وهو قول جميع الفقهاء اليوم، ولم يقصد تعليق القول. وقال القفال: في بيعها قولان: وفي عتقها عن الكفارة قولان أيضًا، وفي المكاتب قول بعيد انه يجوز بيعه ولكن لا يجوز عتقه عن الكفارة بكل حالٍ، والفرق أن أمية الولد تزول بالبيع حتى لا تعتق بموت المشتري، والكتابة لا تزول بالبيع، فإنه لو أدى النجوم عتق، وهذا غريب. وقال طاوس، [148/ أ] وعثمان البتي، وداود: يجوز عتقها عن الكفارة، وجوز داود بيعها وأبطل عثمان البتي بيعها، ولا نص عن طاوس في البيع، وهذا غلط لما ذكرناه. فرع قال في "الأم": ويجوز عتق المدبر والمدبرة عن الكفارة سواء قلنا إنه يمكن الرجوع عن التدبير قولًا أو لا يمكن إلا بالإخراج من ملكه، سواء قلنا التدبير وصية، او قلنا إنه عتق بصفةٍ؛ لأن إعتاق المعلق عتقه بصفةٍ. وقال مالك وأبو حنيفة،

(والأوزاعي): لا يجوز عتق المدبر عن الكفارة؛ لأنه لا يباع عنده، وهذا غلط؛ لأنه يعتبر عتقه من الثلث فأشبه الموصى بعتقه. مسألة: قال: "ولو أعتقَ مرهونًا أو جانيًا جنايةَ فأدى الرهنَ والجنايةَ أجزأهُ". قد ذكرنا في عتق الراهن المرهون ثلاثة أقوال، والأظهر انه إن كان موسرًا نفذ عتقه وتوضع قيمته رهنًا مكانه، وإن كان معسرًا لا ينفذ، فإذا قلنا: ينفذ يجوز عتقه عن الكفارة، وقول الشافعي هاهنا: "فادى الرهن أو الجناية أجزأه". اختلف أصحابنا فيه، فقال أبو إسحاق يكون العتق موقوفًا على أداء الدين أو وضع قيمته رهنَا مكانه، ولا يحكم بجواز عتقه في الحال لظاهر هذا اللفظ، وقد ذكرنا في كتاب الرهن أنَّا إذا لم نجوز عتق الراهن فأخرجه من الرهن هل ينفذ ذلك العتق؟ وجهان أو قولان، وهذا جواب على أحد القولين، وهو اختيار جماعة مشايخ خراسان والقاضي الطبري. قال القاضي: هذا نص الشافعي وأجراه مجرى الشريكين إذا أعتق تصيبه، فإن شراية العتق تكون موقوفة على الداء في أصح الأقوال، فإذا أدى المال تبينا انه شراء. وقال أبو حامد: هذه من زلات أبي إسحاق؛ لأن الناجز لا يتوقف، بل نقول: ينفذ ويطالب بقضاء الدين أو دفع رهنًا غن لم يكن جل الدين، [148/ ب] أو نقول: لا ينفذ. وتأويل كلام الشافعي أجزأه الأداء عن حق الرهن دون العتق وهذا بعيد؛ لن الشافعي يتكلم في حكم الكفارة دون حكم الرهن، والأولى أن نقول: ينفذ ويجوز عن الكفارة. وقوله: "فأدى الرهن" لم يذكر على وجه الشرط. وأما العبد الجاني فهل يجوز عتقه؟ قد ذكرنا أنه كالمرهون، وحكم الجواز عن الكفارة وحكم أداء حق الجناية على ما ذكرنا في الرهن، ثم يلزمه أن يفديه. قال أبو إسحاق فيه قولان؛ أحدهما: يفديه بأرش الجناية بالغًا ما بلغ. والثاني: يفديه بأقل المرين من قيمته، أو أرش الجناية. وقال أبو حامد: هذا خطأ، ويجب أن يفديه بأقل الأمرين قولًا واحدًا؛ لأن بيعه تعذر بإعتاقه كما قلنا في أم الولد. وذكره أبو إسحاق يصح؛ لأن حال الجناية كان يمكنه تسليمه للبيع ولكنه منعه بإعتاقه بخلاف أم الولد، ويمكن أن يجاب عن هذا بأنه يراعي وقت المطالبة، فيقال: إما أن تفديه بأرش الجناية، أو تسلمه للبيع، فإذا تعذر تسليمه لا معنى لإيجاب أكثر من القيمة؛ لأنها هي الثمن في العادة. فرع إذا أعتق عبدًا مغصوبًا عن كفارته نفذ عتقه. وقال أبو حامد وجماعة: لا يجوز عن كفارته؛ لأنه مسلوب المنفعة فصار بمنزلة الزمن. وقال القفال: يجوز لأنه يملكه ملكًا تامًا والغصب يعرض الزوال كالصغير، وهذا قريب من المذهب. وقال صاحب "الحاوي": عندي أنه ينظر في حال العبد، فإن قدر على الخلاص من غاصبه الهرب

منه، وإن لم يقدر على العود إلى سيده أجزأه عن كفارته؛ لأنه قادر عن منافع نفسه، وإن لم يقدر على الخلاص والهرب فالإجزاء موقف، فإن قدر بعد ذلك على الخلاص بموت الغاصب أو عجزه أجزه عن الكفارة حينئذٍ، وإن لم يقدر لا يجوز ولا يمنع ان يكون إجزاؤه [149/ أ] موقوفًا، وإن لم يكن عتقه موقوفًا كالغائب إذا علم بحياته بعد عتقه. فرع آخر لو اعتق الحمل عن الكفارة لم يجز، وإن ولدته بعد العتق حيًا؛ لأنه حين أعتق لم يكن له أحكام الدنيا، نص عليه. ولو أعتق الم وهي حبلى عن كفارته أجزأه، ويعتق الولد تبعًا ولا يكون عن الكفارة. قال الشافعي: "فإن استثنى حملها من العتق لم يصح وتبعها، ولا يصير العتق عن الكفارة. فرع آخر إذا تزوج بأمة ثم اشتراها وأعتقها عن كفارته نظر، فإن لم تأت بولد منه فقد صح إعتاقها وقد انفسخ نكاحها بملكه إياها. وإن أتت بولد نظر، فإن لم يكن وطئها بعد الشراء وأتت به لدون أربع سنين من حيث الشراء فالولد يلحق به لأنها كانت فراشًا له بعقد النكاح ولم تصر أم ولد له؛ لأنها حملت منه من غير ملكه وعتقها مجزئ عن الكفارة، وقد عتق عليه الولد بالملك. وإن أتت به لأربع سنين، فما زاد من حين الشراء لا يلحق به الولد، ويجزيه عتقها عن الكفارة. وإن كان وطئها بعد الشراء. فإن أتت به لدون ستة أشهر من حين الوطئ، فالحكم فيه كما لو لم يطأها. وإن أتت به لستة أشهر من حين الوطئ يلحق به، ولم يمسسه رق، والأمة أم ولده، ولا يجزيه عن الكفارة؛ لأن الظاهر أن الحمل من هذا الوطئ الموجود في الملك، وهي صارت أم ولد له به. مسألة: قال: "وإنْ أعتقَ عبدًا له غائبًا فهوْ على يقينِ أَنهُ أعتقَ". في بعض النسخ: فهو على غير يقين أنه أعتق. وجملته أنه إذا أعتق عبدًا غائبًا يعرف مكانه ويسمع بخبره جاز عن كفارته؛ لأنه محكوم بملكه ملكًا تامًا، وهو المراد به على القراءة الأولى، وإن أعتق عبدًا غائبًا مفقودًا لا يعرف خبره لا يجوز عن الكفارة [149/ ب] وهو المراد به في القراءة الثانية. وقال في "زكاة الفطر": يلزمه أن يذكر عنه زكاة الفطر وقد ذكرنا في كتاب أن من أصحابنا من قال فيهما قولان على سبيل النقل والتخريج، ومن أصحابنا من حملها على الظاهر، والمعنى مراعاة الاحتياط فيهما وهو اختيار القفال، فإن قيل: إذا شك في الحدث وجب أن يأمروه بالضوء احتياطًا للصلاة. قيل: الغيبة ليس لها ظاهر ينبني عليه الحكم، وشكه في حدث نفسه

له ظاهر، وهو أن كل أحد يعلم فعل نفسه، فإذا لم يعلم كان الظاهر بقاء أصله. مسألة: قال: "ولو اشترى مَنْ يعتقُ عليهِ لمْ يجزهُ". الفصل إذا اشترى من يعتق عليه أو أتهب ونوى أن يكون عتقه عن كفارته لم يجز عن كفارته، وبه قال مالك، وأحمد، وقال أبو حنيفة: يجزئه، وهذا غلط؛ لأن عتقه مستحق بسبب سابق فلا يجوز صرفه إلى الكفارة كأم الولد. فرع لو اشترى من يعتق عليه بشرط الخيار، ثم أعتقه في مدة الخيار عن كفارته. قال أبو بكر الأودي من أصحابنا: إنه يجوز؛ لأنه باشر إعتاقه، والمذهب أنه لا يجوز، وذلك الوجه لم يقله غيره. مسألة: قال: "ولو أعتقَ عبدًا بينهُ وبينَ آخرِ عنْ ظهارهِ وهو موسرٌ أجزأهُ". إذا كان بينه وبين آخر عبد مشترك فأعتق نصيبه، فإن كان موسرًا عتق نصيبه وقوم عليه نصيب شريكه ومتى يسري العتق إلى نصيب شريكه فيه أقوال أحدها: عند اللفظ، والثاني: عند أداء القيمة، والثالث: مراعى. فإن أدى القيمة تبينا انه عتق عند اللفظ، وإذا قلنا: يعتق عند اللفظ فهل يقع العتق في جميعه بنفس اللفظ، أو في نصيبه باللفظ ومن [150/ أ] نصيب شريكه؛ بالشراية؟ وجهان: فإذا ثبت هذا فإن كان موسرًا فأعتق كله عن كفارته جاز بلا إشكال؛ لأن عتقه نافذ في جميعه كما ينفذ من مملوكه الخالص. وأما وقت النية: فإن قلنا: يعتق جميعه بنفس اللفظ، أو قلنا: يراعى فيحتاج أن ينوي عتق نصيبه ونصيب شريكه عن الكفارة حال تلفظه؛ أو قلنا يراعي فيحتاج أن ينوي عتق نصيبه ونصيب شريكه عن الكفارة حال تلفظه؛ لأنه وقت عتقه. فغن نوى عتق النصف عند العتق والنصف عند أداء القيمة لم يجز؛ لأنه أخر فيه الكفارة عن وقت العتق. قال القفال: ولا فرق بين أن يقول: أعتقتك أو يقول: أعتقت نصيبي، كما لو كان الكل له وقال: أعتقت نصفك عن ظهاري جاز؛ لأنه عبارة عن عتق الكل. قال: وفيه وجه آخر أنه إذا قال: أعتقت نصيبي منك لا يجوز عن الكفارة؛ لأنه ما نوى في النصف الثاني والشرع أعتق ذلك عليه. وقال بعض أصحابنا: إن قال: أعتقت ونوى عتق الكل عن كفارته جاز، وإن نوى عتق حصته عن كفارته ولم ينو أصلاً في حصة شريكه اجزأه عتق نصيبه عن كفارته، وهل ما عتق عليه من حصة شريكه عن كفارته؟ وجهان بناء على الوجهين أنه يعتق الباقي بالمباشرة أو بالشراية؟ فإن قلنا بالمباشرة أجزأته نيته في حصته عن النية في حصة شريكه. وإن قلنا: يعتق بالشراية لم يجزه. وهكذا لو كان مالكًا لجميع العبد فأعتق نصفه ينوي بنصفه عن كفارته عتق عليه

جميعه وأجزأه منه النصف الذي نواه، وفي أجزاء نصفه الثاني وجهان؛ أحدهما: يجوز ويكون عتق مباشرة. والثاني: لا يجوز ويكون عتق شراية. وإن قلنا يعتق نصيب شريكه باللفظ وأداء القيمة، فغن نوى في الحال عتق النصف عن كفارته ونوى عتق النصف الآخر عند أداء القيمة، فإن نوى في الحال عتق النصف عن كفارته ونوى عتق النصف الآخر عند أداء القيمة أجزأه؛ لأنه إذا نوى عند أداء القيمة فقد نوى عند وقوع العتق. [150/ ب] وإن نوى عتق الجميع عن الكفارة في حال العتق ولم ينو عند الأداء اجزأه أيضًا؛ لأنه وقت وجوب عتق نصيب الشريك. قال أبو حامد: وعندي انه يلزمه فيه عتق الكل حال العتق؛ لأن تلك الحالة سبب العتق، وهو اختيار القاضي الطبري. وقال في "الحاوي": فيه أربعة أوجه: أحدها: تلزمه النية مع دفع القيمة. والثاني: تلزمه وقت اللفظ. والثالث: يتخير بين أن ينوي مع اللفظ؛ لأنه سبب العتق وبين أن ينوي مع دفع القيمة؛ لأنه وقت نفوذ العتق. والرابع: وهو الأصح عندي، ان يجمع بين النية مع لفظ العتق والنية مع دفع القيمة؛ لأن العتق إذا وقع بأمرين لم يجز أن تختص النية بأحدهما، فإن نوى عند أحدهما لم يجزه". فحصل من هذا أنه إذا نوى في الحال عتق النصف عن كفارته، ونوى عند أداء القيمة عتق النصف الآخر عن كفارته هل يجوز؟ وجهان؛ أحدهما: لا يجوز، وهو اختيار أبي حامد. والثاني: يجوز وهو الأظهر. وحصل أيضًا انه لو اعتق جميعه بنية الكفارة ولم ينو عند أداء القيمة أصلاً هل يجوز؟ وجهان؛ أحدهما: يجوز وهو ظاهر المذهب. والثاني: لا يجوز. وأما إذا كان معسرًا فنوى عند العتق أن يكون نصيبه عن كفارة ثم وجد مالاً فاشترى النصف الآخر وأعتقه، ونوي أن يكون عن كفارته اجزائه أيضًا. وإن نوى الجميع عند العتق لم يجز؛ لأنه قدم نية الكفارة على عتق النصف. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا أعتق الباقي مطلقًا ولم ينوِ عن كفارته هل يجوز عن كفارته؟ وجهان بناء على تفريق الوضوء إذا جوزناه هل يلزمه تجديد النية؟ وجهان. قال القفال: والأصح انه لا يجزئه. والفرق أن في الطهارة نيته الأولى مشتملة على جميع أفعالها، وها هنا نيته الأولى مشتملة على نصيبه فقط فافترقا. ولو اعتق هذا المعسر [151/ أ] نصيبه عن كفارته وأراد أن يتمم بالتفكير في الحال لم يجز إلا أن يكمل بصيام شهرين أو بإطعام ستين مسكينًا. ثم قال بعض أصحابنا في نصف العتق الذي قدمه وجهان؛ أحدهما: أنه عتق نافذ في التفكير وكمله بصوم شهرين. والثاني: ما تقدم صار طوعًا؛ لأن الصوم كفارة كاملة لا تلزمه الزيادة عليها، ذكره في "الحاوي" ما إذا أيسر قبل أن يصوم هل يلزمه أن يكفر بالعتق؟ قولان؛ أحدهما: لا يلزم إذا قلنا: المراعى في الكفارة حال الوجوب. والثاني: يلزمه إذا قلنا المراعى فيه حال الداء، فإن اشترى الباقي وأعتقه عن كفارته أجزأه ولا يضر التفريق؛

لأن المقصود تكميل العتق في الرقبة وقد تكامل وإن كان زمانين. وقال أبو حنيفة: لا يجوز عتق المشترك عن كفارته موسرًا كان أم معسرًا؛ لأنه إذا أعتق نصبه صار عتق الباقي مستحقا على مالكه فلا يجزئ عن الكفارة كأم الولد، وهذا غلط؛ لأنه معتق لجميعه لأنه يسري إلى الباقي قد صادف رقًا تمامًا فجاز بلا خلاف أم الولد. فإن قيل: عندكم إذا استحق العتق عن جهة لا يجوز عن الكفارة، فكيف جوز تم ها هنا؟ قلنا: إنما لا تجوز إذا لم تقارن النية سبب الاستحقاق وها هنا قارنته فجاز، كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت حر عن كفارتي جاز. فإن قيل: فيجب إذا نوى المعتق عن الكفارة عند عتق الكتابة عليه يجوز. قلنا: المانع ها هنا عن الجواز كون المعتق واقعًا بعوض ولا يجوز ذلك بالإجماع. مسألة: قال: "ولو أعتقهُ على أَنْ جعلَ لهُ رجلٌ عشرةَ دنانيرِ لمْ يجزئهُ". إذ قال رجل: اعتق عبدك عن ظهارك ولك عليّ عشرة دنانير فأعتقه على عشرة دنانير لم يجزه عن ظهاره؛ لأنه اعتقه على جعل، ويقع العتق [151/ ب] عن الباذل للعشرة وللمعتق العشرة والولاء للباذل، ولا فرق بين أن يقدم ذكر العشرة على الظهار أو يقدم ذكر الظهار على العشرة، مثل أن يقول: أعتقت عبدي عن ظهاري على أن يكون عليك عشرة، أو يقول: أعتقت عبدي على أن عليك عشرة عن ظهاري. ومن أصحابنا من فرق بينهما فقال: إذا قدم ذكر الظهار أجزأه عنه ولم يستحق العشرة، وإن قدم ذكر العشرة استحقها ولم يجزئه عن الظهار، وهذا ضعيف؛ لأن الشرط في الإيجاب لا يثبت ما لم يتم الكلام ويقطع عليه وأتم الكلام ها هنا على العشرة. وقال القفال: هل يستحق عليه العشرة؟ وجهان؛ أحدهما: يستحق كما في الطلاق إذا قال: طلق امرأتك على عشرة. والثاني: لا يستحق كما لو قال: بعه من فلان ولك علي عشرة. ومن قال بالأول فرق بأن له غرضًا في عتق العبد ولا غرض له في بيع ذلك من فلان، فصار كما لو قال: ألق متاعك في البحر على أني ضامن صح إذا كان خوف غرق؛ لأن له فيه غرضًا، ولا يصح ذلك إذا لم يكن ذلك الخوف ولا سبب صحيح، وعلى كلا الوجهين لا يجوز عن الكفارة؛ لأنه لم تتمخض بينة عن الكفارة، فعلى احد الوجهين استحقاق المخض يمنع الأجزاء، وعلى الوجه الثاني فساد النية. يمنع الأجزاء وهذا حسن، ولكن المشهور ما تقدم وقال بعض أصحابنا بالعراق: كيف تلزمه العشرة وهو لم يرض بإعتاقه عنه، وينبغي أن تكون التسمية فاسدة لبطلان الشرط الذي شرطه؟ ذكره صاحب "الشامل". مسألة: لو قالَ المعتقُ فِي هذهِ المسألة: لا أريد العوضَ أعتقته عنْ ظهارى جازَ بلا إشكالٍ؛ لأنه تمخضَ العتقُ عنَ الكفارةُ. ولو قال في جوابه: أعتقته عن كفارتك فالحكم على ما ذكرنا؛ لأن الإيجاب مبني

[152/ أ] على الاستدعاء، فكأنه قال: أعتقته على عشرة، هذا ذكره عامة أصحابنا. وقال في "الحاوي": فيه وجهان؛ أحدهما هذا. والثاني: يجزئه عن ظهاره لإمساكه عن ذكر العوض ولا شيء على الباذل، ولو أعتقه بعد تطاول الزمان وأمسك عن ذكر العوض ولم يذكره بنفي ولا إثبات جاز عتقه عن ظهاره. مسألة: قال: "ولو أعتقَ عنهُ رجلٌ عبدًا بغيرِ أمرِ لمْ يجزنُه". الفصل إذا كان لرجل عبد فأعتقه عن غيره بغير أمره وهو حي وقع عن المعتق، وكان الولاء له دون المعتق عنه، ولا فرق بين أن يكون أعتقه عن واجب عليه أو غير واجب. وقال مالك: إن أعتقه عنه عن واجب عتق عنه وإلا فلا، وهذا غلط؛ لأنه لو أوقع العتق عن نفسه ولم ينوه لم يجزه وقد باشر العتق، فإذا اعتق عنه أولى أن لا يجوز؛ لأنه فقد النية والمباشرة جميعًا. فإن قيل: أليس لو قضى عنه الدين بغير أمره يجوز؟ قلنا: الفرق انه لا يحتاج إلى النية بخلاف هذا، وإن كان المعتق عنه ميتًا نُظر، فإن اعتقه عنه تطوعًا ولم يكن أمر به الميت كان العتق عن المعتق ولم يجز عن الميت سواء كان وارثًا أو أجنبيًا؛ لأن في العتق إلحاق الولاية وهو بمنزلة النسب فلا يلحق به بغير أمره، ويخالف هذا إذا تصدق عن الميت بصدقة فتجزئه ويلحقه ثوابها؛ لأن ليس من الصدقة ما ذكرناه من المعنى، وإذا كان ذلك بأمر الميت ووصيته اجزأه، وإن كان العتق واجبًا عليه لا يخلوا إما أن يكون مرتبًا، أو غير مرتب، فإن كان مرتبًا وكان قد خلف مالاً فالعتق واجب من رأس المال، وإن لم يكن خلف مالاً لا يجب العتق عنه، فغن تبرع به الولي فأعتق عنه اجزأه، وكذلك إن خلف مالاً وهو أعتقه عنه من مال نفسه جاز؛ لأن نيته تقوم مقام نيته، [152/ ب] وللوارث أن يقضي دينه من حيث شاء ويمسك التركة، وإن كان العتق غير مرتب كفارة اليمين، وإن لم يكن أوصي العتق عنه فيه وجهان؛ أحدهما: يجوز وهو الأصح؛ لأنه وإن كان مخيرًا فيه فإن كل نوع يتعين عن الواجب بالفصل. والثاني: لا يجوز؛ لأنه غير متعين عليه فيصير في معنى التطوع، وإن كان قد أوصى العتق عنه في هذه الكفارة جاز بلا إشكال. مسألة: قال: "ولو أعتقَ فيهَ بجعلِ أو غيرهِ جازَ والولاءُ لهُ". إذا كانت عليه كفارة فقال لآخر له عبد: أعتق عبدك عن كفارتي، فأعتقه عنه أجزأه سواء كان بعوض أو بغير عوض. وقال أبو حنيفة: يجوز إن كان بعوض؛ لأنه يكون عتق المشتري قبل القبض، ولا يجوز من غير عوض ويقع العتق عن المعتق لا عن السائل؛ لأنه موهوب فلا يمسك قبل القبض، وهو اختيار المزني غير انه عبر عن اختياره بان قال: معناه عندي أن يعتقه عنه بجعل، أي قياس مذهبه يوجب عندي أنه

إنما يجوز بعوض؛ لأن مذهبه أن الهبة لا تملك قبل القبض، خلاف قول مالك أنها تملك بالعقد، وهذا غلط؛ لأنها رقبة تجزئ عن كفارة المعتق عنه، فإذا أعتقها غيره عنه بأمره أجزأه عنه كما لو شرط العوض. وأما ما ذكره لا يصح؛ لأن العتق بعوض جعل بمنزلة البيع المقبوض، ولهذا يستقر عوضه، فينبغي مع عدم العوض أن يجعل بمنزلة الهبة المقبوضة. فإذا تقرر هذا نقول: إذا أعتقه عنه يكون استدعاؤه إذا انضم إليه الإعتاق بمنزلة التمليك والقبول فيعتق من ملك الأمر. فإن قيل: متى يملك المعتق عنه، ومتى يزول ملك صاحبه؟ قلنا: فيه أربعة أوجه؛ أحدها: قاله أبو إسحاق: يقع الملك والعتق في حالة واحدة [153/ أ] عقيب الإيجاب بالإعتاق ولا يمتنع ذلك، وإن كانا ضدين تمانع الضدين مما طريقة بالمشاهدة دون الحكم، وها هنا طريقة الحكم. وعلى هذا قال: إذا اشترى أباه يعتقه ويملك عليه بالشراء وهذا ضعيف؛ لأن ما يمتنع في العقل من اجتماع الضدين لا يجوز إثباته في الأحكام؛ لأنه يكون حكمًا بالمحال. والثاني: يتبين بالعتق أنه كان مالكًا له باستدعاء العتق ثم عتق عليه بعد الملك بلفظ العتق، وهذا أيضًا ضعيف؛ لأن الإيجاب شرط فيه فلا يتقدم الملك على شرطه. والثالث: يقع الملك والعتق معًا في حالة واحدة، وهذا أيضًا ضعيف لما ذكرنا. والرابع: يملكه بلفظ العتق ويعتق بعد استقرار الملك، وهذا هو الصحيح، واختاره أبو حامد والقاضي والطبري. وعلى هذا إذا اشترى أباه يملكه بالشراء ويعتق عليه بعد استقرار الملك، وهذا لأن وقوع عتقه عنه يقتضي إثبات ولاية له، وذلك لا يكون إلا بتقدم الملك، ثم يقع العتق بحكم اللفظ واقع .... اللفظ، ولا يمتنع أن يوجد لفظ العتق ولا يتعقبه العتق لعدم شرطه. ألا ترى أنه لو قال: أعتقه عنك بألف فقال: قبلت، وقع العتق عيب القبول متأخرًا عن لفظه. وفيه وجه خامس: يملكه بأول لفظ العتق ويعتق بآخر لفظ العتق، وهذا قريب من الوجه الثالث. وهناك ما ذكرنا ما قال أصحابنا فيمن دعي إلى طعام فتناوله متى يملك الطعام؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يملكه بالتناول كالموهوب، فعلى هذا إذا تناوله لم يكن لصاحبه الرجوع فيه. والثاني: يملكه إذا وضعه في فيه؛ لأنه يختلط بريقه وهو سبب تعرضه لتلفه فتعلق به الملك. والثالث: يملكه بالابتلاع والإزدراد. فإذا قلنا: يملكه بالتناول هل يجوز أن يطعمها غيره؟ فيه وجهان؛ [153/ ب] أحدهما: له ذلك؛ لأنه ملكه. والثاني: ليس له ذلك؛ لأنه مأذون في تملكها على وجه مخصوص كالعارية لا يعيرها. والأول اختيار أبي حامد والقاضي الطبري. وقال في "الشامل": الأشبه أنه يقال: هذا إذن بالإتلاف لا تملك فيه، لأن من شرط الهبة لفظها، والأذن في القبض إلا أن يتضمنها العتق خاصة لقوة العتق ولم يوجد ها هنا، ولأن الإذن بالتناول يتضمن إباحة الأكل فلا يجوز أن يحصل به الملك وليس بتمليكه بمطلق، ولو كان ذلك صحيحًا لجاز أن يتناول جميع الذي قدمه إليك ويرده إلى بيته ولا يصح أن يقال: يملك بالوضع في فيه؛ لأنه لم يحصل الأكل المأذون فيه، ولا

يصح أن يقال يملكه بالابتلاع؛ لأنه يبطل به معنى الملك فيه ويصير كالتالف فكيف يملكه وهذا حسن؟ فإن قيل: ما تقولون إذا وهب لغيره عبدًا ثم أذن الواهب للموهوب له بالإعتاق فأعتقه قبل القبض هل يجوز أم لا؟ يجوز ويصير كأنه أعتقه بإذنه بعد قبضه. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز هاهنا؛ لأن البيع باللفظ الصريح يخالف البيع لفظ استدعاء العتق بعوض والإيجاب فكذلك الهبة بلفظها الصريح بخلاف الهبة بلفظ استدعاء العتق والإيجاب. فرع لو أعتق عبدًا عن عامة المسلمين يعتق عنهم دونهم والولاء له. وحكي عن مالك أنه قال: يعتق عنهم والولاء لهم، وهذا غلط؛ لأن فيه إلحاق الولاء بهم من غير رضاهم. فرع آخر إذا قال: أعتق عبدك عني غدًا ولك عليَّ ألف فأعتق عنه غدًا يعتق عنه. قال القفال: وهل يستحق عليه المسعى أو قيمة العبد؟ وجهان؛ والظاهر أنه يستحق المسمى. مسألة: قال: "ولو أعتقَ عبدينِ عنْ ظهارينِ أو ظهارٍ وقتلٍ كلُّ واحدٍ منهمَا [154/ أ] عن الكفارتين أجزأه". الفصل إذا كان عليه كفارتان عن ظهار أو جماع في رمضان، أو ظهار وقتل فأعتق عنهما عبدين فيه أربع مسائل؛ أحديها: أن يعتق أحدهما عن كفارة القتل فيجزئه إجماعًا. والثانية: أن يعتق عبدًا عن إحدى الكفارتين لا بعينها، وأعتق الآخر عن الكفارة الأخرى لا بعينها، فيجوز أيضًا؛ لأنه قد أتى بنية التكفير، وإنما فقدت منه نية التعيين، ولا اعتبار بنية التعيين في الكفارة عندنا، سواء اتفقت الكفارتان أو اختلفنا. وقال أبو حنيفة وأحمد: لا يفتقر إلى تعيين النية عند الاتفاق، وتعتبر عند الاختلاف، مثل أن تكون إحديهما عن ظهار والأخرى عن قتل، وهذا غلط؛ لأنها كفارة واجبة فلم يفتقر صحة أدائها إلى تعيين سببها، كما لو كانت عليه كفارة واحدة. والثالثة: أن ينوي عتق كل واحد منهما عن الكفارتين، بأن يقول: أعتقت هذا عن كفارتي، ثم قال: أعتقت هذا الآخر عن كفارتي. نص الشافعي - رحمة الله عليه - أنه لا يجوز، ولا يختلف فيه أصحابنا، ولكن اختلفوا في كيفية وقوع العتق عن الكفارتين. فقال ابن سريج وابن خيران: يعتق كل واحد عن كل واحدة من الكفارتين على التمام؛ لأنه لما أعتق نصفه عن إحدى الكفارتين سرى ذلك إلى الباقي فعتق عنها، وكذلك الآخر، وهذا بيَّن في كلام الشافعي هاهنا؛ لأنه قال: "أجزأه؛ لأنه أعتق عن

كل واحدة عبدًا نصفًا عن واحدة ونصفًا عن واحدة يكمل في العتق" فأخبر أنه كمل فيها العتق، وقوله: "أعتق عن كل واحدة عبدًا تامًا عن واحدة ونصفًا عن واحدة" إخبار عن فعل المعتق أنه هكذا فعل، ولكن انقلب ذلك وسرى على ما ذكرنا، وهذا اختيار أبي حامد، وذكر أنه نص عليه في الأم هكذا. ومن أصحابنا [154/ ب] من قال: يعتق كل واحد منهما عن الكفارتين؛ لأنه هكذا نوي، فلا يجوز أن يقلب عما نوى، كما لو جب عليه كفارتان فأعتق عبدًا عن إحديهما لا ينقلب إلى الأخرى، وهذا أظهر من كلام الشافعي ها هنا. وقوله: "فكمل العتق فيهما" أي: كمل من طريق الحكم فجاز، لا أنه كمل من طريق السراية. وفائدة هذا الخلاف لا يتبين في هذه المسألة، وإنما يتبين في مسألة أخرى، وهو إذا كان له نصف عبدين فأعتقهما عن كفارته وهو معسر. فعلى قول ابن سريج لا يجوز بحالٍ؛ لأن الله تعالى أمر بعتق رقبة كاملة وهذا لم يعتق رقبة كاملة، ولأن ما أمر بصرفه إلى شخص واحد في الكفارة لم صرفه إلى اثنين كالمد من الطعام، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة. وعلى قول القائل الثاني يجوز بكل حالٍ، وبه قال أحمد؛ لأنه ينظم أحد النصفين إلى الآخر فتكون رقبة كاملة، ولأن الأشقاص بمنزلة الأشخاص فيما لا يمتنع منه العيب اليسير كما في الزكاة فإن من ملك ثمانين شاه مشتركًا كان بمنزلة إن تملك أربعين، ولا يلزم على هذا إذا ضحى بنصف شاتين لا يجوز لأنه يمتنع منها العيب اليسير. ومن أصحابنا من ذكر وجهًا ثالثًا إنه إن كان باقيهما حرًا يجوز، وإن كان رقيقًا لا يجوز؛ لأنه إذا كان الباقي حرًا فقد كمل الأحكام فيه ووجد مقصود الحرية، بخلاف ما لو كان الباقي رقيقًا، والأول أظهر؛ لأن تكميل الأحكام لم تحصل بما أعتقه عن الكفارة، وإنما حصل بانضمام عتق النصف الآخر فلا يجوز. فرع لو أخرج في الزكاة نصفي شاتين بدل شاة، هل يجوز؟ وجهان؛ أحدهما: لا يجوز، وهو قول عامة أصحابنا. والثاني: يجوز، وهو اختيار الأصطخري [155/ أ] وكان يقول: لا أعلم خلافًا بين أصحابنا في الممتنع إذا ذبح نصفي شاتين يجوز، وأن نصفي رقبتين في وجوب زكاة الفطر بمنزلة رقبة واحدة، وعندي أن في الممتنع إذا ذبح نصفي شاتين يجوز على قياس قول أصحابنا؛ لأنه يمتنع بالعيب اليسير كالأضحية. مسألة: قال: "ولو كانَ ممَن عليهِ الصومُ فصيامَ شهرينِ متتابعينِ عِنْ أحديهمَا كانَ له أنْ يجعلَه عنْ أيهمَا شاءَ".

الفصل قد بينا أن الكفارة لا تحتاج إلى نية التعيين، ولكن تحتاج إلى النية. قال الشافعي في "الأم": ولا تجزئة الكفارة حتى ينوي مع التفكير أو قبله واختلف أصحابنا في جواز تقديم نية الكفارة عليها الظاهر هذا الكلام، فمنهم من قال: يجوز، ومنهم من قال: لا يجوز إلا مع الفصل كما لا يجوز في الصلاة وهو الأظهر. وأراد الشافعي بما ذكر أنه ينوي قبله واستصحب النية، وهو كالوجهين في نية الزكاة؛ أحدهما: عند عزلها، والثاني: عند دفعها. ولا إشكال أنه لا تجوز النية قبل أن يتعين له العبد الذي يعتقه والطعام الذي يطعمه، والوجهان بعد تعيين العبد والطعام. فإذا تقرر هذا لو كان عليه كفارتان فصيام عن إحديهما شهرين متتابعين هو معسر جاز، وهو بالخيار إن شاء عين الأن عن أحدى الكفارتين ثم يصوم شهرين آخرين عن الكفارة الثانية، وإن شاء تركها كما هي ويصوم شهرين آخرين عن كفارة أخرى لا يعينها، فإن عينها عن إحدى الكفارتين ثم أراد أن يصدقها إلى الآخر فليس له ذلك، كما لو أحرم إحرامًا موقوفًا له أن يصرفه إلى أي النسكين شاء من الحج والعمرة، فلو صرفه إلى أحدهما ليس له أن يصرفه إلى الآخر بعد ذلك. ولو صام أربعة أشهر عن كفارتين ونوى أن كل يوم عنهما أو يوم عن هذا ويوم عن ذاك، [155/ ب] أو شهر عن هذا وشهر عن ذاك لم يجز؛ لأن التتابع شرط. ولو كان عليه ثلاث كفارات وكان له رقبة فأعتقها عن إحديهما صام عن الأخرى، ثم مرض فأطعم عن الثالثة ونوى بالجميع الكفارة جاز؛ لأنه قد أتى بكل واحد من هذه الأجناس وهو من أهله فجاز، ولو عين الكفارة فأخطأ، مثل أن كانت عليه كفارة القتل لا غير فنوى عن كفارة الظهار لم يجز؛ لأن أصل النية واجب، وإن لم يكن التعين واجبًا، فإذا أخطأ في التعين لم يجز، وهذا كما لو أخرج خمسة دراهم زكاة ونوى عن أحد ماليه جاز بعد ما كان تالفًا لم يجز عن الآخر وعند الإطلاق لو بان تلف أحدهما تعين ما أدى عن الآخر، وكذا إذا صلى على جنازة فلا حاجة إلى أن يعرف أنه رجل أو امرأة، فلو عين وأخطأ لم يجزه. فرع لو قال لعبديه: أحدكما حر عن ظهاري أجزأه وتعين العتق. فرع آخر لو قال: إن كان ذا المقبل عبدي سالمًا فهو حر عن ظهاري، فكان ظاهر المذهب أنه لا يجزيه، كما لو قال لمكاتبه: إن عجزت فأنت حر عن ظهاري لم يجز. مسألة: قال: "ولو وجبتَ عليهِ كفارةٌ فشكَ أَنْ يكونَ مِن ظهارِ أو قتلٍ أو نذرٍ،

فأعتقَ رقبةَ عن أيهمَا كانَ أجزأَه". إذا كان عليه كفارة ولم يعلم سببها فأعتق عنها رقبة أجزأه؛ لأن المأخوذ عليه أصل النية وقد وجد، فإن نوى عن الكفارة التي عليه جاز بلا إشكال. وقول الشافعي: "أو نذر" أراد به النذر الذي يجري مجرى اليمين وهو نذر اللجاج، فأما نذر البرر لا يكفي فيه نية التفكير. بل يحتاج إلى أن يأتي فيه إلى نية النذر، ولو أعتق في مسألتنا عبدًا ينوي به [156/ أ] العتق مطلقًا لا يجوز؛ لأن الظاهر من العتق المطلق، المطلق المتطوع به. وكذلك لو نوي عتقًا واجبًا لا يجوز؛ لأن الواجب قد يكون عن كفارة وقد يكون غيرها، ولو لم يكن عليه إلا المنذور فأعتق رقبة عن الحواجب الذي عليه جاز في ظاهر نص الشافعي. مسألة: قال: "ولو أعتقهَا لا ينويَ واحدةً منهَا لمْ يجزئْهُ". قد بينا أن النية شرط في صحة الكفارة، وصفتها أن ينوي عتقها عن الكفارة، فإذا زاد الواجبة كان تأكيدًا واعلم أن ها هنا إشكالًا وذلك أنه عطف بهذا على المسألة قبلها، وظاهر أن التعين واجب بلا خلاف ما قبلها، وإزالة هذا الإشكال بأن يقال: يحتمل أن يكون مراد الشافعي بقوله: "لا ينوي واحدًا منها" راجعًا إلى الصفة، أي لا ينوي الواجب عند العتق؛ لأن كل واحدة منهما واجبة فلا بد من أن ينوي واجبًا واحدًا من الواجبات التي شك فيه حتى يجزيه، ويحتمل معنى آخر، وهو أن ينوي بالعتق ما يتعين أنه غير واجب عليه، ثم يستبين أن الواجب غيره على ما ذكرنا. مسألة: قال: "ولو ارتدَ قبلَ أن يكفرَّ فأعتقَ عبدًا عَنْ ظهارهِ فإنَ رجعَ أجزأهُ". إذا وجب عليه عتق رقبة فارتد ثم أعتق، ومن أصحابنا من قال: هذا مبني على تصرفه وملكه وفيهما ثلاثة أقول: أحدها: تصرفه باطل وملكه زائل. والثاني: تصرفه نافذ وملكه باق. والثالث كلاهما مراعى الوقوف. فإن قلنا: ملكه باق وتصرفه نافذ يجوز أن يعتق عن الظهار من ماله، ولو كفر بالإطعام فيه وجهان؛ أحدهما: يجوز كالعتق. والثاني: لا يجوز؛ لأنه بدل عن الصيام الذي لا صلح منه، فأجرى على البدل حكم المبدل، هكذا ذكره صاحب "الحاوي" وسائر أصحابنا [156/ ب] لم يفصلوا بين العتق والإطعام بوجه، ولو صام في ردته لا يجوز، والفرق لأن الصوم عبادة بدنية محضة لا منفعة فيه للآدمي بحال، فالكفر يمنع جواز أدائه، وفي هذا نفع للآدمي، والأغلب فيه معنى الغرامة فجاز مع الكفر، ولأن الصوم عمل البدن لا يدخل في النيابة حتى لو أناب فيه كافرًا، فجاز إذا كان المؤدي كافرًا. فإن قيل: أليست الأعمال بالنيات والكافر ليس من أهل النية في حال كفره وجود نيته وعدمها بمنزلةٍ والكفارة عبادة تفتقر إلى النية، فكيف صحت من المرتد في

باب ما يجزئ من العيوب في الرقاب الواجبة

حال ارتداده؟ قيل: في الكفر بالمال معنيان؛ أحدهما: التطهير عن الذنب. والثاني: الإرفاق بأهل الحاجة، فلئن لم يحصل بتفكيره في الردة معني التطهير فقد حصل معنى الإرفاق، ونظيرها الحد يتضمن التنكيل والتطهير ويوجب الحد على الكافر على وجه التنكيل لا على وجه التطهير، ولا نعتبر فيه نية القربة بل يكفر نية الكفارة فقط، كما ينوي في كنايات الطلاق والعتاق، أو نقول: النية تابعة في الكفارة والفعل مقصود إرفاقًا بالغير، فإذا حصل الفعل في حال تعذر النيية سقط الفرض، ولهذا قلنا في الزكاة: إذا امتنع من أدائها فأخذها الإمام من غير نية منهما جاز. وإن قلنا: تصرفه باطل وملكه زائل لا يجوز عتقه عن الكفارة أيضًا. وإن قلنا: تصرفه وملكه موقوفان فعتقه أيضًا موقوف، فإن أسلم تبينا جوازه عن الكفارة، وإن قتل تبينا أنه لا يجوز، ومن أصحابنا من قال: يجوز أن يكفر عن الظهار من ماله. وإن قلنا ملكه زائل وتصرفه مردود أو مراعى؛ لأنه استحق عليه قبل الردة فهو كالدين والزكاة والقصاص وحد القذف [157/ أ] كما صح أداءه الدين أو القود أو الحد، فكذلك الكفارة. باب ما يجزئ من العيوب في الرقاب الواجبة مسألة: قال "لمَا لمْ اعلمْ أحدًا ممَن مضى مِنْ أهلِ العلمِ ولا ذكرَ لي عنهُ ولا بقيَ من خالفٍ فِي أَنْ من ذواتِ النقصِ مِنْ الرقابِ مَا لا يجزئ". الفصل قال الشافعي: "لا خلاف بين أهل العلم" وأراد أهل العلم المتقدمين. وقوله: ولا بقي أراد ممن بقي أن بعض العيوب يمنع الجواز في الكفارة وبعضها لا يمنع. وحكي عن داود أنه قال: يجوز مع كل عيب وهو كان بعض الشافعي، واحتج بأن اسم الرقبة يقع عليه وهذا غلط؛ لأن المقصود بالعتق في الكفارة تكميل الأحكام وتمليك المنفعة، وهو أن يصير بالحرية مالكًا لمنافع نفسه، فيجب أن يكون كامل المنافع، ولأن العتق أحد لا ما يكفر به فلا يجوز ما يقع عليه الاسم أصله الإطعام، فإنه لا يجوز فيه المسوس، وإن كان اسم الطعام يقع عليه. فإذا تقرر هذا نقول: كل عيب في الرقبة يضر بالعمل ضررًا لا يمنع جوازها في الكفارة وكل عيب لا يضر بالعمل ضررًا بينًا لا يمنع جوازها في الكفارة، وهو كالبيع ما يؤثر في مقصوده يعد عيبًا، وما لا يؤثر في مقصوده لا يعد عيبًا، فعلى هذا نقول الأعمى لا يجوز؛ لأنه عاجز عن الاكتساب فلا يمكن العمل مع العمى في أكثر الصنايع والأعوز لا يجوز؛ لأن ما يعمل ذو العينين يعمل الأعور ويخالف الأضحية،

ولا يجوز فيها الأعور؛ لأن العين مقصودة بالأكل وهو المقصود فيه [157/ ب] وها هنا المقصود ما ذكرنا. فرع لا يجوز الزمن سواء كان أقطع اليدين أو إحديهما، أو أقطع الرجل من خلال يجوز، وإن كان من وفاق كلاهما من جانب واحد لا يجوز، واحتج بأن منفعة الجنس باقية مع قطع إحدى اليدين وإحدى الرجلين وهذا غلط؛ لأن هذا النقص يؤثر في العمل ويضر به ضررًا بينًا كما لو كانا من وفاق. فرع آخر إذا كان مقطوع الإصبع نظر، فإن كان مقطوع الإبهام أو السبابة أو الوسطى يجوز، وإن كان مقطوع البنصر والخنصر من يد واحدة لا يجوز، وإن كان مقطوع الخنصر والبنصر من اليدين أجزأه، وإن كان مقطوع الخنصر أو البنصر من يد واحدة يجوز أيضًا؛ لأنه لا يضر بالعمل ضررًا بينًا. فرع آخر لو كان هذا الرجل، قال ابن أبي هريرة: لا فرق بين أن يكون ذلك من اليد أو الرجل؛ لأنه يزول به معظم القوة من المشي كما يزول معظم القوة من البطش، هو اختيار القاضي الطبري. وقال في "الحاوي": قطع إبهام الرجل يمنع الجواز؛ لأنه يضر بالمشي. وأما غير الإبهام إذا قطع أحدهما من سبابة أو وسطى أو بنصر أو خنصر لا يمنع الجواز بخلاف اليد؛ لأن منافعها في الرجل متقاربة، وفي اليد متفاصلة فإن قطع إصبعين منها في رجل واحدة لا يجوز؛ لأن اجتماعهما مضر بالمشي. وقال القفال: مفقود أصابع الرجل يجوز؛ لأنه لا يذهب به أكثر المشي ولم يذكر غير هذا وهو غريب، والصحيح ما ذكره صاحب "الحاوي". فرع آخر شلل الأصبع فيما ذكرنا يقوم مقام قطعها، فإذا منع القطع منع الشلل. [158/ أ]. فرع آخر لو كان مقطوع الأنملة، فإن كان من الإبهام لا يجوز، وإن كان من سائر الأصابع جاز، حتى لو كانت السبابة والوسطى والبنصر والخنصر مقطوعة الأنامل كلها جاز؛ لأنه لا يضر بالعمل ضررًا بينًا، وإن كان مقطوع الأنملين لم يجز إذا كان من الإصبع التي يمنع تقدمها الجوار وهي الأصابع الثلاثة من الإبهام والمسبحة والوسطى، فأما الخنصر أو البنصر ففقدها لا يمنع جوازها عن الكفارة، ففقد أنملتين أولى بأن لا يمنع.

فرع آخر مقطوع الأذنين يجوز في الكفارة، وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك وزفر: لا يجوز؛ لأنه يجب فيهما الدية كاليدين، وهذا غلط؛ لأن قطعهما لا يضر بالعمل ضررًا بينًا، وإنما يورث نقصان السمع. فرع آخر يجوز الأجدع وغيره أولى منه بالخروج من الخلاف، وإنما جاز لأنه لا يؤثر في العمل. فرع آخر يجوز مفقود الأسنان، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: لا يجوز لأن منفعة المضغ ذاهبة وهذا غلط؛ لأنه لا يضر بالعمل ضررًا بينًا. فرع آخر الأصم يجوز؛ لأنه لا يضر بالعمل بل يزيد العمل لأنه لا يسمع بالسفلة عنه، وقد قال الشافعي: "فإن كان أبكم وأصم يعقل أو أحمق أو ضعيف البطش أجزأه". وقال بعض أصحابنا بخراسان: الصمم كالخرس، وهذا ليس بشيء. فرع آخر الأبكم الذي ولد أخرس، والأخرس هو الذي خرس بعد الولادة وقد ذكرنا حكمه. قال المزني: أولى قوليه أنه يجوز، وهو كما قال، وليست المسألة على قولين لما روي أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جارية خرساء، فقال: يا رسول الله، علي رقبة [158/ ب] فهل تجزئ عني هذه؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أين الله؟ " فأشارت إلى السماء. فقال لها: "من أنا؟ " فأشارت إلى أنه رسول الله، فقال: "أعتقها فإنها مؤمنة". فرع آخر الأحمق هو الذي يقارف الفعل أو القول وهو يعلم قبحه فيجوز عتقه عن الكفارة، وقيل: الأحمق الأخرق العاقل، فأما من لا يعلم قبح ما يأتيه من القول والفعل فإنه مجنون، وحكمه أنه إن كان مطلقًا لا يجوز. فرع آخر قد ذكرنا أن إعتاق المجنون عنها لا يجوز إذا كان الجنون مطبقًا؛ لأن الجوارح وإن كانت باطنية فملاك منافعها العقل، وإن كان يجن ويفيق قال الشافعي: يجوز. قال أصحابنا: الاعتبار فيه بالغالب، فإن كان الغالب الإفاقة جاز، وإن كان الغالب الجنون

لا يجوز، وإن كان يجن ويفيق قال الداركي: لا يجوز، وينبغي أن يكون زمان إفاقته أكثر، وظاهر ما قال أصحابنا أنه يجوز. فرع آخر لو كان زمان إفاقته أكثر ولكنه يبقى في زمان إفاقته سدرًا مصعوقًا لا يقدر على العمل إلا بعد حين لا يجوز، وإن كان يزول عنه السدر ويقدر على العمل يجوز. فرع آخر في الأبله ينظر فإن كان بله بلادة ودهش لم يجزءه؛ لأنه يؤثر في العمل، وإن كان بله سلامة وقلة فطنة أجزأه. فرع آخر يجوز الأقرع، والأبرص، والرتقاء، والمجنون؛ لأنه لا يمنع العمل والاكتساب. فرع آخر يجوز ولد الزنا وغيره أولى لرفع الخلاف. وقال الزهري والأوزاعي: لا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم: "ولد الزنا شر الثلاثة" وهذا غلط؛ لأنها رقبة سليمة الخلق كاملة الرق، فأشبه صحيح النسب. وأما الخبر له أربع تأويلات [159/ أ] أحدها: أنه نشر الثلاثة ذكرًا؛ لأنه يذكر أبدًا أنه ولد الزنا إذا سئل عن أبيه. والثاني: أنه شر الثلاثة نسبًا؛ لأنه لا ينسب إلى أب. والثالث: أنه شر الثلاثة إن كان زانيًا؛ لأنه قد جمع بين الزنا وفساد النسب. والرابع: أنه ذكر ذلك عن طريق التعريف؛ لأنه كان واحدًا من ثلاثة وقد عرفوا بالشر، فقال: ولد الزني فيهم شرهم، كما يقال: المشتمل بثوبه هو شر الجماعة للتعريف لا لاشتماله الثوب. وقيل: أراد نسبه ضائع لا يستدرك وهما يستدركان حال أنفسهما بالتوبة. فرع آخر يجوز قصير الخلق إذا كانت خلقته صحيحة ولم يعجز عن العمل، فإن عجز عن العمل لا يجوز، وإن كان موجود في العمل من بعيد يجوز. فرع آخر لو كان مريضًا، قال الشافعي رحمة الله عليه: إن كان يرجى برؤه أجزأه، وإن كان لا يرجى لا يجوز، وهو مثل السل ونحوه. قال أصحابنا: والشيخ الكبير مثله إن كان يرجى عمله يجوز، فإن كان عاجزًا عن الكسب والعمل لا يجوز. فرع آخر لو كان به شجاج لم يندمل منها، فإن كانت دون مأمومة الرأس وجائفة البدن يجوز؛

باب من له الكفارة بالصيام

لأنها غير مخوفة، وإن كانت مأمومة الرأس أو جائفة لم يجز؛ لأنهما قبل الاندمال مخوفان. فرع آخر الأعرج إذا كان خفيف العرج لا يضر العمل بنقصان مشية يجوز، وإن كان عرجًا شديدًا لا يجوز. وقيل: يعتبر في الرقبة التي تجزئ عن الكفارة خمس شرائط؛ أحدها: الإسلام. والثاني: السلامة من العيوب. والثالث: كمال العقل. والرابع أن لا يكون معتاطًا فيها. والخامس: النية، وهذا حسن، وتفصيله ما ذكرنا [159/ ب]. باب من له الكفارة بالصيام مسألة: [قال]: "من كانَ لهُ مسكنٌ وخادمٌ لا يملكُ غيرهُ وَلَا مَا يشتريَ بهِ مملوكًا كانَ لهُ أَنْ يصومُ". الفصل إذا وجبت عليه كفارة وله خادم لا يملك غيره، وبه حاجة إلى خدمته إما لضعفه أو لمروته فإنه ممكن لا يخدم نفسه؛ لا يجب عليه إعتاقه وقد يجوز له أن يصوم وبه قال أحمد. وقال مالك وأبو حنيفة والأوزاعي: لا يجوز أن يصوم ويجب عليه إعتاقه، ووافقنا أبو حنيفة أنه لو كان معه ثمن الرقبة وهو يحتاج إليه لا يلزمه شراء الرقبة، وعند مالك والأوزاعي يلزمه شراءها وهذا غلط لأن حاجته تستغرقه فصار كالعادم كما لو وجد الماء وهو يحتاج إليه للعطش؛ يجوز له الانتقال إلى التيمم، ولا يلزمه التوضؤ به. فرع آخر له رقبة تخدمه ولكنه غير محتاج إليها، لم تجر عادة مثله الخدمة؛ فيه وجهان: أحدهما: وهو الأصح لا تضاف تلك إلى كفايته وتكون فاضلة عن يلزمه التكفير بها وبه قال أكثر أصحابنا، والثاني: أنها من كفايته لكونها من كفاية غيره، وإن من يخدم نفسه فلعدم القدرة على من يخدمه، وكان الداركي يحكي عن أبي إسحاق أنه قال: يحتمل أنه يقال: لا يلزمه إعتاقها لأن على الإنسان مشقة في خدمة نفسه ولهذا لا يلزمه أن يبيع مسكنه، وإن كان مثله يبيت في المدرسة أو المسجد لأن عليه في البيتوتة في المسجد مشقة عظيمة؛ فسومح فيه كذلك هاهنا. فرع آخر لو كان الخادم ثمينًا يمكنه بيعه وشراء من يخدمه ببعض ثمنه وسوى رقبة الكفارة بالفاضل عنه لزمه ذلك ولا يجزيه الصوم، وهذا لأنه لا ضرر عليه فيه. وكذلك لو كانت له ثياب فاخرة تزيد على ملابس مثله [160/ أ] يمكنه أن يبيعها ويشتري بثمنها ما يكفيه من لباسه ورقبة يعتقها عن الكفارة، وكذلك لو كان له مسكن واسع كثير الثمن.

يمكنه أن يبيعه ويشتري مسكنًا آخر يقدر حاجته ويفضل ما يشتري به رقبة يمكنه إعتاقها يلزمه ذلك. فرع آخر لو أمكن بيع المسكن في محلته وشري مسكن آخر في محلة أخرى ببعض وشري فيه للكفارة بالفاضل عنه، ظاهر ما قال أصحابنا أنه يلزمه ذلك. وقال القفال: فيه وجهات؛ أحدهما: هذا، والثاني: لا يكلف ذلك لأنه يشق عليه الجلاء عن وطنه. فرع آخر لو كانت معه بضاعة لا تكفيه قال ابن أبي هريرة: تكون كفارته كفارة المعسر فيجوز له الصوم ولهذا جاز له أخذ الزكاة معها. ومن أصحابنا من قال: كفارته كفارة الموسر ولا يجزيه الصوم لأن حاجته إلى البضاعة أخف من حاجته إلى المسكن والخادم والأول أصح. فرع آخر إذا كان غائبًا عن بلده لا يقدر على العتق وهو في بلده موسر واحد المعتق، فإن كان في كفارة القتل أو الفطر لم يجز له الانتقال إلى البلد، بل يكون في ذمته إلى أن يصل إلى ماله، وإن كان في كفارة الظهار فيه وجهان، أحدهما: لا يجوز له الانتقال إلى الصوم لوجود الأصل في ماله، ولا يخاف بتأخيره فوات عباده وهو أصر بنفسه حيث ظاهر، والثاني: يجوز الانتقال إلى الصوم لأن الضرر يلحقه ولحق امرأته بالصبر في ذلك لأن لا يجوز له وطأها حتى يكفر. فرع آخر لو وجد ثمن الرقبة ولا يجد رقبة يشتريها؛ قال بعض أصحابنا بخراسان: يلزمه الصبر إلى أن يجد الرقبة، ولا ينتقل على الصوم بخلاف المحصر، إذا وجد الثمن ولم يجد الهدي يصوم ولا يلزمه الصبر لأن عليه ضررًا [160/ ب] في ذلك والإحضار سبب هو معذور فيه، وعلى قياس ما تقدم يحتمل وجهًا آخر أنه لا يلزمه الصبر للضرر. فرع آخر لو وجد رقبة باع منه نسيئة ولد مال ببلد آخر، قال بعض أصحابنا: يجب الشراء، وعندي أنه لا يجب ذلك لأنه إنما يملك ماله قبل توفر ثمنها منه فيلحقه الضرر. فرع آخر لو وهب منه رقبة، أو عرض عليه إعتاقها عنه لا يلزمه قبولها لأن ذلك منه عظيم. فرع آخر قال بعض أصحابنا: من المادة من كفايته ولا يلزمه الإعتاق حتى يفصل منها ما يمكنه أن يشتري به رقبة وهي من إحدى جهات ثلاث؛ إما من استغلال عقار، أو ربح

تجارة، أو كسب صناعة. فأما استغلال العقار فقد يكون تارة أرضًا تزرع، وتارة شجرة تستثمر، وتارة أبنية تؤجر، ومثله أن يكون ماشية تحتلب فإن ملك منها ما يكون غلته وفق كفايته من غير زيادة كانت هذه الأصول من جملة كفايته فيجزيه الصوم ولا يلزمه العتق، وإن كانت تزيد على كفاييته يلزمه صرف الزيادة إلى العتق، فإن نقصت عن قيمة رقبة يجزيه الصوم، وأما ربح التجارة إن كان يملك من رأس المال ما يكون ربحه وفق كفايته كان رأس المال من جملة الكفاية، ويكفر بالصوم، وإن زاد تلزمه الرقبة من الزيادة، وأما كسب الصناعة فإن كان وفق الكفاية يجوز الصوم، وإن كان لكثر ينظر فإن كان لا يجتمع قيمة الرقبة إلا في زمان طويل ينسب فيه إلى تأخير التكفير عن وقته لم يلزمه جمعها للعتق، وله أن يكفر بالصوم، وإن كان يبلغ قيمة الرقبة في ثلاثة أيام فما قاربها، ففي وجوب جمعها للتكفير بالعتق وجهان أحدهما يلزمه جمعها والتكفير بالعتق لأن قادر عليه، والثاني وهو الأشبه لا يلزمه [161/ أ] ذلك ويجوز أن يكفر بالصوم لأنه في وقت وجوب العتق غير قادر فعلى هذا إن لم يدخل في الصوم حتى جمع فاضل الكسب فبلغ قيمة الرقبة فيه قولان بناءً على أن الاعتبار بوقت الوجوب أو بوقت الأداء. مسألة: قال: "فإنْ أفطرَ مِنْ عذرٍ أو غيرهِ، أو صامَ فيهَا تطوعًا". الفصل إذا أراد أن يصوم شهرين عن الظهار أو الجماع في رمضان أو القتل يلزمه أن يتابع بين أيامها ولا يفطر ولا يصوم من غيرها فإن أفطر لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون بعذر، أو بغير عذر، فإن كان بغير عذر لزمه الاستئناف، وإن كان لعذر؛ فالعذر على ثلاثة أضرب: حيض، ومرض، وسفر. فأما الحيض فلا يقطع التتابع قولًا واحدًا لأنه ينافي الصوم من غير أن يكون لها فيه صنع بوجه، ولا يمكن الاحتراز منع في شهرين، وأما المرض ففيه قولان؛ أحدهما قاله في "القديم" أنه مثل الحيض لا يقطع التتابع، وبه قال أحمد ومال، واختاره المزني، وروي ذلك عن ابن عباس، ووجه هذا أنه أفطر بسبب لا يتعلق باختياره فأشبه إذا أفطرت بالحيض ولهذا سوي بين حكم المرض والحيض في الفطر في صوم رمضان، والثاني: قاله في "الجديد" وهو قول أبي حنيفة أنه يقطع التتابع لأن المريض يفطر بفعله واختياره بخلاف الحائض. وأما السفر فإن قلنا المرض يقطع التتابع فالسفر أولى لأن الفطر وسبب الفطر كانا باختياره. وإن قلنا: المرض لا يقطعه ففي السفر قولان؛ أحدهما: لا يقطع لأن الله تعالى سوى بينه وبين المرض في إباحة الفطر في رمضان وجعلهما عذرين فيه كذلك هاهنا، والثاني: يقطع لأن السفر كان باختياره بخلاف المرض. وقال القاضي الطبري: الصحيح أنه

يقطع التتابع قولًا واحدً ولا أعرف فيه القول الآخر للشافعي، وإنما نص في "القديم" على المرض وحده. [161/ ب] فرع لو أفطرت بالنفاس هل يبطل التتابع أم لا؟ فقال جماعة أصحابنا: هو كالمرض، ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان؛ أحدهما هذا، والثاني: يبطل التتابع لأنه ليس بغالب ويقدر على صوم شهرين لا نفاس فيهما. فرع آخر لو أفطر بالجنون أو الإغماء قال جماعة أصحابنا هو كالمريض، ومن أصحابنا من قال: إن قلنا: بالمرض لا ينقطع التتابع فهذا أولى، وإن قلنا بأنه ينقطع به التتابع فيه قولان؛ أحدهما: يقطعه لإمكان خلوه في الأغلب من هذا والثاني: لا يقطعه لأنه ينافي الصوم كالحيض خلاف المرض. فرع آخر الحامل والمرض إذا خافتا على أنفسهما فأفطرتا فهو كالفطر بالمرض، وإن كان الخوف على الولد فأفطرتا له فإن قلنا في المرض يبطل التتابع فهاهنا أولى، وإن قلنا المرض لا يقطع التتابع فيه وجهان؛ أحدهما: لا يبطل، والثاني: يبطل لأن العذر في غيرهما والفطر باختيارهما، ولهذا يلزمهما الفدية دون المريض، ومن أصحابنا من قال: يبطل في حق المرضع دون الحامل كما لا يلزم الفدية في أحد الأقوال على المرضع دون الحامل. فرع آخر لو أكره على الفطر في أثناء الشهرين، فإن كان أوجر الطعام في حلقه لم يفطر قولًا واحدًا، وإن أكره حتى أكل بنفسه هل يفطر؟ قولان؛ فإذا قلنا يفطر هل يبطل تتابعه قولا؛ أحدهما: يبطل تتابعه ولا ينافي الصوم، والثاني: يبطل لأنه معذور فيه كالمرض، وقيل قول واحد؛ يطل. وهو اختيار الداركي، والطريقة الأولى اختارها صاحب "الحاوي". فرع آخر إذا أوجبنا التتابع في صوم كفارة اليمين في أحد القولين، وكانت لها إبانة معلومة للحيض فابتدأت الصوم في وقته يتخلله الحيض يبطل التتابع، وإن لم يكن لها معلومة قال أصحابنا: يحتمل وجهين، وظاهر [162/ أ] المذهب أنه يبطل التتابع لإمكان الاحتراز من تخللها.

فرع آخر إذا تخللها رمضان أو يوم العيد يستأنف ويبطل التتابع قولًا واحدًا لأنه إن كان عالمًا فهو متعد، وإن كان جاهلًا فهو مفرط لأنه يمكنه الاحتراز منه عن غير مشقة. واعلم أنه لا يتصور أن يتخلل الشهرين عند الفطر لأن زمان شهر رمضان يسبقه في قطع التتابع ويتخللها يوم النحر، ولا يتصور تخلل أيام التشريق أيضًا لأن يوم النحر يسبقها وانقطاع التتابع به لا بما بعده، وقال أحمد: لا ينقطع التتابع به لأن فطره مستحق كما في زمان الحيق، وهذا غلط لما ذكرنا، ويفارق الحيض لأنه لا يمكن الاحتراز منها، ولو ابتدأ بصوم شهرين من يوم الفطر لا يصح صومه فيه ويصح صيامه بقية الشهر وصوم ذي القعدة يجب له ولا فرق في شهر ذي القعدة بأن يكون ناقصًا أو كاملًا، وأما شوال فلم يصح جميعه لأنه لا يصح الصوم في يوم الفطر فإن كان شوال تامًا صام أو يوم من يوم ذي الحجة ويكفيه، وإن كان ناقصًا صام من أول ذي الحجة يومين ليكمل ثلاثين يومًا وإن ابتدأ بصيام التشريق فهو مبني على ما قال أصحابنا، وهو أن في أيام التشريق هل يجوز صوم المتمنع قولان؛ فقيل: خص المتمتع به لرخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: على هذا القول يجوز أن يصوم فيها كل صوم له سبب، فإن قلنا بهذا كان ابتداء الصوم في الكفارة من أولها، وإن قلنا لا يصح صومها وهو المذهب الذي كان ابتداء الكفارة من الرابع عشر من ذي الحجة ويكون صوم المحرم معتبرًا بالهلال تامًا كان أو ناقصًا ويكمل تمام الثلاثين من شهر صفر وأما قول الشافعي: أو من الأيام التي نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيامها أراد هذه الأيام الخمسة ولم يرد به [162/ ب] يوم الشك، فإذا ختم به الشهرين ولم يتبين أنه كان من رمضان أجزأه. فرع آخر إذا قلنا: يشترط التتابع في صوم كفارة اليمين في قول: فمرض أو سافر في أثناء الصوم فأفطر فإن قلنا ينقطع التتابع به في صوم الشهرين فهاهنا أولى وإن قلنا: لا ينقطع التتابع به هناك، فهاهنا وجهان؛ وقيل: هذا الاختلاف لا يتصور في كفارة اليمين لأن في "الجديد": لا يشترط التتابع فيه وفي "القديم": يشترط التتابع والمرض في قوله القديم: لا يبطل التتابع فلا يتصور ذلك لا على قوله الجديد ولا على قوله القديم. فرع آخر إذا أفطر على أن الشمس غربت فأخطأ أو على أن الفجر لم يطلع وكان قد طلع ينقطع التتابع لأنه مفرط فيه، وكان يمكنه التوقف حتى يتبين الحال. وذكر والدي وجهًا آخر: أنه لا ينقطع لأنه معذور. فرع آخر قال القفال: قال الشافعي: لو غير النية في غير أيام التشريق إلى صوم القطوع بطل التتابع قال: وهذا دليل على صحة أحد وجهي أصحابنا، فمن نوى بالخروج من الصوم

بطل صومه لأنه أبطل تتابعه بنفس تغير النية والكلام في تغير النية إلى الفطر؛ وإلى التطوع هاهنا واحد، ويمكن أن يتناول كلام الشافعي فيقال: أراد غير النية في انعقاد اليوم فبطل قبل انعقاد الصوم أو غير في الليل بصوم الغد. فرع آخر إذا شرع في صوم شهرين متتابعين فصام يومًا بل يلزمه الشروع في اليوم الثاني حتمًا. أو له تركه ليستأنف في اليوم الثالث، قال والدي رحمه الله: يلزمه الشروع في صوم اليوم الثاني لأن صوم الشهرين كصوم يوم واحد لأن فساد بعضهما يؤدي إلى الباقي، ولو شرع في صوم للفرض لم يترك الصوم في أثناء اليوم فلذلك هاهنا. [163/ أ]. مسألة: قال: "إذا صامَ بالأهِلَّةِ صامَ شهرينِ". الفصل إذا ابتدأ التكفير بالصوم من أول الشهر يصوم شهرين ما بين الهلالين تامًا كان أو ناقصًا، وإن كان تسعة أو ثمانية وخمسين وقد ذكرنا هذا فيما تقدم، وإن مضي بعض الهلال سقط فيه اعتبار الهلال ويعتبر بالعدد ثلاثين يومًأ. مسألة: قال: "ولا يجزيهِ حتى يقدَّم نيةَ الصومُ قبلَ الدخولِ فيهِ". كل صوم واجب لا بد فيه من النية في الليل وصوم الكفارة من جميلة الواجبات، هل يشترط فيه التتابع فيه؟ اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه؛ أحدها: لا بد أن يأتي بها كل ليلة لأن التتابع فيه واجب كوجوب الصوم، فيلزمه نية التتابع كل ليلة كما يلزمه فيه نية الصوم كل ليلة ولأنها كنية الجمع تجب في أول الصلاتين، والثاني: تكفيه نية التتابع مرة واحدة ليتميز التتابع من غيره، والتميز يحصل بمرة واحدة، والثالث: وهو الأصح لا يفتقر إلى نية التتابع بحال لأن الواجب نية العبادة لا شرائطها، ويفارق الجمع من الصلاتين لأنه رخصة فافتقر إلى نية الترخص، قال أصحابنا: وفائدة الخلاف أنه لو صام رمضان عن الكفارة وشوال هل يجزى صوم شوال غير يوم العيد حتى يكمله؟ فإن قلنا: نية التتابع لا تشترط يجوز، وإن قلنا: إنها تشترط لا يجوز. مسألة: قال: "ولو نوى صومَ يومٍ فأغميَ عليهِ فيهِ ثم أفاقَ قبلَ الليلِ أوْ بعدهُ، ولمْ يطعمْ؛ أجزأهُ إذا دخلَ فيه بعدَ الفجرِ وهوَ يعقلُ". هذه المسألة نصت في كتاب الصوم والصحيح أن المسألة على قول واحد أنه متى كان في بعض منامه مفيقًا حتى ينظم فعل الصوم إلى النية جاز صومه، وإن لم يكن مفيقًأ في جزء من النهار لا يجوز. واعلم أن الشافعي قيد الإفاقة المشروطة بأول النهار

فقال: إذا دخل فيه بعد الفجر [163/ ب] وهو يعقل فظن بعض أصحابنا أن الإفاقة يجب وجودها حين يدخل في الصوم، وإنما أراد الشافعي اشتراط الإفاقة في شيء من النهار وأوله وأخره سواء، واختار الزني أنه يصح صومه وإن استغرق الإغماء جميع النهار كاليوم، وهذا لا يصح لأن النائم يقضي ما فات من الصلوات بخلاف المغمي عليه. ثم قال الشافعي: ولو أغمي عليه فيه وفي يوم بعده ولم يطعم استأنف، ولا شك أنه لا يصح صومه في اليوم الثاني لعدم النية، وينقطع التتابع في قوله الجديد كما نص هاهنا، وقد ذكرنا ما قيل فيه. مسألة: قال: "ولو صامَ شهرَ رمضانَ في شهرينِ أعادَ شهرَ رمضانَ واستأنفَ شهرينِ". المكفر إذا صام شهرين فيهما شهر رمضان؛ فإن صام شعبان، ثم رمضان بنية الكفارة لم يجزه أحدهما، أما رمضان فلانه مستحق الغير، فلا يجوز صومه عن غيره ولا يجوز عن رمضان أيضًا لأنه لم يعين له النية، وأما شعبان لا يجوز لأنه ينقطع التتابع بدخول رمضان، فعليه أن يقضي صوم شهر رمضان، ويصوم شهرين متتابعين بعده، وإن صام أولًا رمضان ثم ما بعده لا يجوز صوم رمضان لما ذكرنا. ولا يجوز صوم أول يوم من شوال، وأما ما بعده فقد ذكرنا حكمه. وحكي عن الأوزاعي، وأبي عبيدة بن حربويه أنهما قالا: يجزيه صوم شهر رمضان عنهما جميعًا، وهذا غلط فاحش له لو كان عليه قضاء رمضان، فصام ينوي إذا الحاضر في قضاء الفائت لا يجوز بالإجماع، فكيف يجوز هذا؟ مسألة: قال: "وأقلُ ما يلزمُ منَ قالَ إنْ الجماعَ بينَ ظهرانيِ الصومِ يفسدُ الصومِ؛ لقولهِ تعالى: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] أي: يزعمُ أن الكفارةَ بالصومِ والعتقِ لا يجزيانِ بعدَ أن يتماسَا قالَ: "والذِي صامَ شهرًا قبلَ التماسِ [164/ أ] وشهرًا بعدهُ أطاعَ اللَّهَ في شهرِ وعصاهُ بالجماعِ قبلَ شهرِ بصومه". الفصل وقصد به الرد على أبي حنيفة حيث قال ينقطع التتابع بالوطئ في ليالي الصوم. واحتج عليه بهذا الفصل وهو أنه إذا صام شهرًا قبل المسيس وشهرًا عده كما يقول؛ يكون أولى من قول من يقول يستأنف ويصوم شهرين بعد المسيس لأن هاهنا كلا الشهرين بعد العصيان وعلى ما ذكرنا أحد الشهرين بعد العصيان وعلى ما ذكرنا أحد الشهرين قبل العصيان والآخر بعده. مسألة: قال: "وإنما حكمهُ في الكفاراتِ حينَ يكفرُّ كمَا حكمهُ في الصلاةِ حينَ يصليَ".

اختلف قول الشافعي -رحمة الله عليه. في الكفارة هل تعتبر لحال الوجوب أو لحال الأداء؟ فنص هاهنا أنه يعتبر لحال الأداء وبه قال مالك وأبو حنيفة، ووجهه أن الكفارة معنى له بدل من غير جنسه فكان الاعتبار فيها حال الأداء كالطهار، ولأن الصلاة تعتبر بحال الأداء في القيام والقعود عند القدرة والعجز كذلك الكفارة. وقال في "كتاب الأيمان": الاعتبار فيها لحال الوجوب وبه قال أحمد؛ لأنها عقوبة للتكفير والتطهير فيعتبر لحال الوجوب كالحد وهذا لا يصح لأنه لا تجوز الزيادة في الحد، وهاهنا لو أخرج العتق مع جواز الصوم يجوز فجاز أن يزيد تغير الحال بخلاف الحد وفيه قول ثالث فخرج الاعتبار فيها بأغلط الأحوال لأنه حق يجب في الذمة بوجود مال فاعتبر فيه أغلط الأحوال كالح وهذا لا يصح أيضًا لأنه يعتبر في الحج حال الأداء لأنه أوجب عليه وهو صحيح، ثم ومن يجوز له الاستنابة والأول أصح، وهو اختيار المزني. فإن قلنا: الاعتبار بحالة الأداء، فإن كان في حال التكفير معسرًا لم يلزمه العتق وفرصة الصوم، وإن كان في حال الوجوب موسرًا إلا أنه يختار العتق ويحمله فيكون أفضل [164/ ب] وإن كان عند التكفير موسرًا يلزمه العتق، وإن كان وقت الوجوب قويًا قدرًا على الصوم ولو لم ويسر بالعتق فكفارته الصيام. وإن قلنا: الاعتبار بحالة الوجوب؛ فإن كان وقت الوجوب موسرًا ثم أعسر ففرضه العتق قال الشافعي: وأحب أن يصوم حتى إن مات قبل أن يحد الرقبة يكون قد أتى بشيء، فإن صام ثم وجد الرقبة يلزمها إعتاقها، وإن كان وقت الوجوب معسرًا يجوز له الصوم، وإن كان موسرًا عند الأداء، فإن أعتق المذهب أنه يجوز وقيل: فيه وجه آخر أنه لا يجوز لأنه لا يخرج عن الصوم بالمال كما لا يخرج عن المال بالصوم. وإن قلنا: الاعتبار بأغلط الأحوال ففي أي حال كان موسرًا لم يجز إلا العتق. وأما قول الشافعي: كما حكمه في الصلاة حين يصلي: أو أذنه في القعود والقيام وستر العورة واستقبال القبلة، والطهارة بالماء والتراب، والقدرة على القراءة والعجز عنها كما يعتبر بحال أداء الصلاة كذلك هاهنا. فإن قيل: أليس العبد إذا وجبت عليه كفارة الظهار ثم عتق قبل أن يؤدي وأيس لم تجب عليه الكفارة بالعتق اعتبارًا بحال الوجوب دون حال الأداء؟ قلنا: الفرق أن حالة الوجوب لم تكن ممن تجب عليه العتق ولا يجزيه فلم يلزمه بتغير الحال كخلاف مسألتنا. فرع إذا كان معسرًا في حال الوجوب وقلنا: الاعتبار لحال الوجوب فآخر الأداء شهرًا ثم شرع في الصوم فصام شهرًا ثم مات وهو واحد للرقبة هل يلزم الإطعام لصوم شهر أو يلزم الإعتاق أو إطعام ستين مسكينًا أما الإعتاق لا يلزم لأنه لم يكن واجبًا في حال الحياة وأما الإطعام [165/ أ] فواجب وما هو فيه وجهان؛ أحدهما: يلزمه الإطعام لصوم شهر لأنه لما دخل في الصوم تعين فوجب الإطعام لما لم يقضه إذا كان متمكنًا

من الجميع في حال الحياة، والثاني: يلزم إطعام ستين مسكينًا لأن صومه شهرين لعبادة واحدة فلا يجوز أن يؤدي بعضه ويطعم عن بعضه، كما لا يجوز في اليوم الواحد فإذا بطل هذا وقد تعذر اليوم وجب الانتقال إلى ما جعل بدلًا عنه في بعض الأحوال وهو إطعام ستين مسكينًأ دون الرقبة، وإن قلنا: الاعتبار بحال الأداء أو بأغلظ الأحوال وجب إعتاق الرقبة لأن الرقبة في مال الورثة موجودة عند أداء الكفارة من الوارث، هكذا ذكره والدي رحمه الله تعالى. وعندي أنه بشروعه في الصوم ينتقل الحكم إليه ولا يعتبر ما بعده من القدرة على العتق أو الإطعام كما في حال حياته لا يعتبر ذلك. مسألة: قال: "ولو دخلَ في الصومِ ثمَّ أيسرَ كانَ لهُ أن يمضيَ على الصيامِ". إذا كان معسرًا عند وجوب الكفارة فشرع في الصوم ثم أيسر لا يلزمه الانتقال إلى العتق قولًا واحدًا ويستحب له ذلك وبه قال مالك، وأحمد، وقال أبو حنيفة والمزني: يلزمه الانتقال إليه وهذا غلط لأنه قدر على المبدل بعد شروعه في صوم البدل فلا يلزمه العود إليه كما لو وجد الهدي في صوم السبعة، وأعلم أن الكلام في هذا بعد التسليم أن الاعتبار في الكفارة بوقت الأداء، فإن قلنا: يعتبر بوقت الوجوب قبل وجد الرقبة وقبل الشروعه في الصوم لا يلزمه الإعتاق أيضًا إذا كان عند الوجوب معسرًا فلا يعيد الكلام هاهنا، واحتج المزني لمذهبه الذي مذهب أبي حنيفة [165/ ب] فقال: لو كان فرضه الصوم ما جاز له اختيار أبطال الفرض والرقبة فرض وحدها لا غيرها كما أن الوضوء بالماء فرض وحده لا غيره ولا خيار في ذلك بين أمرين. وقصده بهذا الكلام تقسيم كأنه قال: إما أن يكون فرضه الصوم أو العتق فإن كان الصوم فرضه فكيف لحرية العتق؟ وإن كان العتق فرضه فكيف لحرية الصيام، والكفارة مرتبة والجواب أن يقال: لا يستبعد مثل هذا التخيير في العبادة المرتبة، ألا ترى أن المسافر إذا كان معه من الماء ما يحتاج إليه فشرب ويمكنه صرفها إلى الوضوء بنوع من التحامل على التنفس من غير خوف التلف كان مخيرًا؛ إن شاء توضأ، وإن شاء تيمم. واحتج أيضًا بالمعتادة بالشهور، إذا رأت الحيض بطلب الشهور، وقد أجبنا عنه في كتاب الطهارة. واحتج أيضًا بقول الشافعي في الأمة تعتق وقد دخلت في العدة إنها لا تكون في عدتها حرة وتعتد عدة أمة. وفي المسافر يدخل في الصلاة ثم يقيم لا يكون في بعض صلاته مقيمًا، ويقصر. قلنا: الأمة إذا أعتقت فانتقلت إلى عدة الحرة لم يبطل عليها ما مضى من عدتها ولكنها تبني عليه، وكذلك المسافر إذا نوى المقام، وهذا الصائم لو كلفناه العود إلى الإعتاق أبطلنا عليه ما مضى من الصيام في حكم الإجزاء عن الكفارة فافترقا. مسألة: قال: "ولو قالَ لعبدِ: أنتَ حرّ الساعةَ عنْ ظهاري إنْ تظهَّرُتَهُ".

الفصل إذا قال لعبده: أنت حر الساعة عن ظهاري إن تظهرت كان حرًا الساعة، ولا تتعلق بالشرط لأنه نجز في الحال فلا يملك تعليقه بالشرط الذي يتأخر. وهكذا قال: أنت حر الساعة [166/ أ] إن دخلت الدار عتق في الحال. قال الشافعي: ولم يجزه عن ظهاره إن تظهر لأنه لم يكن ظهار ولا سبب منه يريد أنه قدم على السببين جميعًا، وحق المال لا يجوز تقدمه على جميع أسباب الوجوب. ولو قال له: أنت حر عن ظهاري إن تظهرت، ولم يقل الساعة لم يعتق في الحال، وتعلق بالشرط فإن تظهر منها وقع العتق ولا يجزيه عن ظهاره لأن التحرير سابق الظهار وذلك يمنع جوازه عن الظهار على ما ذكرنا في كتاب "الإيلاء". ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان؛ أحدهما: هذا، والثاني: يجزيه عن الظهار لأنه لو أوقعه بنية الكفارة وعتق بعد وجود الظهار. فرع آخر لو ظاهر منها ثم طلقها عقيبه ثم أعتق عن الظهار ثم راجعها كانت الرجعة عودًا وكان التحرير بعد الظهار وقبل العود فهل يجزيه عن الظهار؟ المذهب أنه يجوز لأنه وجد أحد سببي الكفارة وقدمها على أحد السببين كما تجوز كفارة اليمين بالمال بعد اليمين الحنث، وقال بعض أصحابنا: فيه وجهان؛ أحدهما: ما ذكرنا، والثاني لا يجوز ذلك لأنه استباحة محظور فلا يجوز فيه تقديم الكفارة، كما لو كان الحنث في اليمين معصية لا يجوز تقديم الكفارة في اليمين وهذا لا يصح، لأن التكفير هاهنا يستبيح الوطئ المحظور وفي اليمين إذا كفر لا يستبيح حنث المعصية فافترقا. فرع آخر قال ابن الحداد: لو قال: إذا دخلت الدار فأنت عليَّ كظهر أمي، ثم أعتق عبدًا عن ظهاره قبل دخول الدار أجزأه العتق لأن لفظ الظهار وإيقاعه قد وجد منه وهو السبب في الظهار، فقد حصلت الكفارة بعد وجود سببها، وقال سائر أصحابنا لا يجوز لأنه ليس بمظاهر فلم يوجد أحد سببي الكفارة فلا يصح [166/ ب] التكفير ولا اعتبار بما ذكره من لفظ الظهار وإنما الاعتبار بكونه مظاهرًأ ولم تحصل. وقال صاحب "المنهاج": لفظ الشافعي دليل على الوجه الأول لأنه قال: ولم يجزه أن تظهر لأنه لم يكن ظهار ولا سبب منه ممن هو منه أنه لو كان منه سبب يجوز وتعلق ظهارها بدخول الدار سبب من أسباب الظهار وهذا ضعيف لما ذكرنا. فرع آخر لو ظاهر وأعتق عقبيه عن الظهار بأن قال: أنت عليَّ كظهر أمي، وعبدي هذا حر عن ظهاري فيه وجهان؛ لأن حروف العتق وهو قوله غلامي هذا حر، أقل من حروف قوله: أنت طالق فيكون العتق بين الظهار والعود والصحيح جوازه على ما ذكرنا.

باب الكفارة بالإطعام

فرع آخر إذا صام عن كفارته ثم بان أن موروثًا له مات؛ وورث منه رقبة ولم يعلم؛ اعتد بصومه ولم يلزمه العتق، ولو نسى الرقبة في ملكه فصام لا يجوز صومه للفرق بين الجاهل والناسي، هكذا ذكره بعض أصحابنا، ويحتمل أن يقال: لا يجوز فيهما. باب الكفارة بالإطعام مسألة: قال: فيمَن تظاهرَ ولمْ يجدْ رقبةً ولمْ يستطعَ حينَ يريدُ على الكفارةِ صومَ شهرينِ بمرضِ أو علةٍ ما كانتْ، أجزأهُ أن يطعمَ". الفصل إذا لم يجد الرقبة ولم يستطع الصوم لمرض أو علة أجزأه أن يطعم، قال أصحابنا: عدم الاستطاعة هاهنا أن يلحقه من الصوم مشقة غليظة أو زيادة في مرضه، وقال الداركي: سئل أبو إسحاق عن من كان به شبق مفرط لا يقدر على الصوم، هل يجوز له أن يطعم ويترك الصوم؟ فقال: نعم؛ لأن المشقة تلحقه بذلك، ولأن الأعرابي لما قال للنبي صلى الله عليه وسلم وهل أتيت إلا من الصوم [167/ أ] أي: لا أصبر عن النساء حيث قال له صم شهرين متتابعين عن الكفارة جوز له الإطعام فدل على ذلك. مسألة: قال: "ولا يجزيهِ أقلَّ منْ ستينَ مسكينًا". يلزمه أن يطعم ستين مسكينًا كل مسكين مدًا، فإن صرف مدين إلى مسكين واحد؛ لا يجوز بحال، وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: إن صرفه إليه في يوم واحد لم يجز، وإن صرفه إليه في يومين جاز، وعلى هذا لو صرف طعام ستين مسكينًا إلى مسكين واحد في ستين يومًا جاز، وربما يقولون: لو صرف كلها إلى مسكين واحد في يوم واحد في ستين مرة يجوز، وهذا غلط لقوله تعالى: {فَإطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4]. فنص على العدد والصفة وهي المسكنة. ثم لا يجوز الإخلال بالصفة فلا يجوز الإخلال بالعدد ولأن تقديره فعليه أن يطعم ستين مسكينًا وهذا يمنع الاقتصار على دون الستين ولأنه مسكين استوفي حقه من هذه الكفارة فلا يجوز أن يدفع إليه ثانيًا منها كما في اليوم الأول. وأما قوله: كل مسكين مدًا من طعام بلده الذي يقتات به قصد به الرد على أبي حنيفة فإنه عندما يلزم في جميع الكفارات صرف مد إلى كل مسكين بمد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو رطل وثلاث، وهذا على التقريب لأنه لا اعتبار فيه الوزن بل بالاعتبار به بالكيل، ولا يختلف ذلك باختلاف الأقوات برًا كان أو شعيرًا، أو زبيبًا، أو تمرًا، أو ذرة، وغير ذلك. ولا يختلف باختلاف الكفارات إلا في فدية الأذى، يلزمه لكل مسكين مدين، وبه قال الأوزاعي. وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وزيد بن ثابت، وأبي

هريرة -رضي الله عنه -وعنده البر نصف صاع ومن غيره صاع. وقال مالك: لكل مسكين مد، ولكنه بمد هشام وهو مدان بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل إنه دون المدين [167/ ب] وإنه مد وثلث بمد الرسول صلى الله عليه وسلم. وروي عن مالك نحو قولنا في جميع الكفارات إلا في كفارة الظهار فإنها بمد هشام؛ وهو ابن عبد الملك بن مروان وهذا بعيد. وقال أحمد: هو من البر مدٌّ، ومن التمر والشعير مدين. واحتج بما روى يزيد المدني قال: جاءت امرأة من بني بياضة بنصف وسق من شعير؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمظاهر: "أطعم هذا ستين مسكينًا". وفي الزبيب روايتان؛ واحتج بخبر سلمة بن صخر أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطاه وسقًا للتفريق على ستين مسكينًا، والوسق ستون صاعًا وهذا غلط لما ذكرنا من خبر الأعرابي المجامع في رمضان. وأما ما ذكروه من الخبر فمحمول على الجواز والاستحباب. وروى سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "اذهب إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفع إليك وسقًا من تمر فأطعم ستين مسكينًا، وكل بقيته أنت وعيالك" فدل علي أنه يعطي من الوسق ستين مسكينًا ثم يأكل بقية الوسق وهو على مذهبنا أورده الشيخ الحافظ أحمد البيهقي. فإن قيل: فالفرق بين فدية الأذى وبين سائر الكفارات حيث قلتم: لا يجوز أقل من مدين لكل مسكين، قلنا: السنة فرقت بينهما وقد قال صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة: احلق رأسك وأطعم ستة مساكين ثلاثة آصع من تمر وأبو حنيفة خالف السنة في جميع الكفارات فإنه قال في فدية الأذى: لا يجوز ثلاثة أصع من تمر بل يجب ستة أصع وهذا الخبر الذي ذكرنا صحيح أورده أبو داود وخبر الأعرابي المجامع لا شك في صحته وفيه خمسة عشرة صاعًا من تمر لستين مسكينًا، فإذا تقرر هذا فالواجب غالب قوت بلده كما قلنا [168/ أ] في زكاة الفطر، فإن أخرج أعلى منه كان أفضل، وإن أخرج أدون منه فالمذهب أنه لا يجوز، وإن أخرج قوتًا لا يلزم فيه الزكاة فإن كان غير لاقط لا يجوز، وإن كان لاقطًا نص هاهنا يجوز، وفيه قولان. وقد شرحنا في زكاة الفطر. مسألة: قال: "ولا يجزيهِ أَنْ يعطيهُمْ جملةً ستينَ مدًا أَوْ أكثرَ لأَنْ أخذهمْ الطعامَ يختلفْ". اختلف أصحابنا في تأويل هذه المسألة. فقال ابن سلمى وابن خيزران: تأويلها أن يحضر ستين مسكينًا وأحضر ستين مدًا من تمر واطعمهم ذلك. وقال: خذو هذا وكلوا فقد أعطيتكم ذلك فلا يجوز؛ لأنه ما ملكهم ولأن أكلهم يزيد وينقص، فأما إذا قال: هذه ستون مدًا لكل واحد منكم مد فملكتهم كلها يجوز؛ لأنه قد ملكهم وسوى بينهم وإنما بقيت القسمة وليس في ذلك مؤنة كبيرة وبه قال أحمد، وقال الأصطخري: لا

يجوز؛ لأن عليه تسليم حقهم إليهم من غير مؤنة ألا ترى أنه لا يجوز أن يدفع الحب إليهم إلى مصفي، والتمر إلا جافًا منقى وهاهنا قد بقيت مؤنة القسمة فلا يجوز. والأول أصح، فإذا ثبت جوازه ينظر فيما حصل مع كل واحد فإن كان قدر مد فقد استوفي كل واحد حقه، وإن كان أقل تمم له تمام المد، وإن كان أكثر لم يسترجع الفضل لأن الظاهر أنه تطوع به وهذا إذا لم يقل لكل واحد منكم مد فإن قال ذلك له إن يسترجع الزيادة. وقال القفال: صورة المسألة أنه أحضر ستين فقيرًا وأباح لهم ستين مدًا ليأخذوا نهية ولا يجوز إلا واحد منهم لأنهم إن أخذوا بالسوية فذاك، وإن تفاوتوا فقد حصل الواحد منهم فصاعدًا أكثر من مد فإن يتقن أن عشرةً منهم مثلًا أخذوا أكثر من مد فعليه أن يتمم للباقين مدًا قال: ولو ملكهم مشاعًا فقال: هذا لكم يجوز؛ لأنه ملكهم ثم يقتسمونه كما شاء [168/ ب] ولا يضر أن يدع بعضهم بعض حقه إلى صاحبه وكذلك لو وكل المساكين رجلًا يقبض الكل جاز ثم هم أعلم. وقال أبو حنيفة: لو غداهم أو عشاهم أجزأه لقوله تعالى: "فإطعام ستين مسكينًا" وهذا قد أطعمهم وهذا غلط؛ لأنه حق مال يصرف إلى المساكين شرعًا فيحب تمليكه كالزكاة، وأما الأية أراد به التمليك بالإجماع فدل أنه المراد بالآية. مسألة: قال: "ولا يجزيهِ أن يعطيهمْ دقيقًا ولا سويقًا". الفصل لا يجوز عند الشافعي في الإطعام إلا الحب نفسه كما قلنا في زكاة الفطر. وقال الأنماطي: يجزيه الدقيق وهو مذهب أحمد وهو اختيار ابن أبي هريرة، وعن أحمد في الخبز روايتان، وقال الأنماطي وابن أبي هريرة: يجوز الخبر لأنه مهيأ للاقتيات وبه نفتي. فأعطى إلى كل مسكين رطلين بالبغدادي، ومن نصر المذهب الاقتيات أحد منافعه وقد عدم أكثر منافع الجب، وقال أبو حنيفة: يجزئه الدقيق لا على طريق القيمة، ويجزئه الخبز وغيره على طريق القيمة. مسألة: قال: "وسواءُ الصغيرُ منهمْ والكبيرُ". قوله منهم يعني من المساكين، وجملته أنه يجوز صرف الطعام إلى الصغير لأن الله تعالى قال: {فَإطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا}. ولم يفرق، ولأنه أحد ما يكفر به فجاز وضعه في الصغير كالعتق. ثم اعلم أن الصغير ليس من أهل القبض، فلا يدفع إليه بل يدفع إلى وليه، فإن دفعه إليه لم يجز، وإن كان الصغير رضيعًا قال أبو إسحق مرة لا يجوز حكاه الداركي لأن طعامه اللبن دون الحب، ثم رجع عنه وقال: يجوز؛ وهو الصحيح لأن الاعتبار ليس الأكل وإنما الاعتبار بالانتفاع، وهذا تصرف في منافعه. ألا ترى أن

المريض المبرسم [169/ أ] يجوز أن يعطى من التمر وإن كان لا يأكله. مسألة: قال: "ولا تجزيهِ أن تعطيهِ مَنْ تلزمهُ نفقتهُ". قد ذكرنا أنه لا يعطي من سهم الفقراء والمساكين من تلزمه نفقته والكفارة بجملتها كسهم الفقراء والمساكين في الزكاة فلا يجوز صرفها إلى ولده ووالده والزوجة ولا إلى العبد لأنه لا يملك إلا أن يكون السيد فقيرًا فيعطيه بإذن سيده فيكون قد أعطى السيد ولا يعطي المكاتب بحال كيفما كان السيد لأن كسبه لا يكون للسيد، وهذا لأنه إذا كان له كسب ومال فهو غني، وإن لم يكن فإنه يمكنه أن يعجر نفسه فيلزم السيد نفقته، فإذا كان كذلك لم يجز أن يصرف إليه، وأما الزكاة يصرف سهمًا منها إلى المكاتب لأن في أهل سهمان الزكاة الأغنياء بخلاف الكفارة فإنها للفقراء ولا حق فيها للأغنياء فهي بمنزلة سهم الفقراء من الصدقات لا يجوز صرف شيء منه إلى المكاتب لغنائه بماله أو سيده. وقال أبو حنيفة: يجوز صرف الإطعام إلى المكاتب كالزكاة وهذا غلط لما ذكرنا. ولو كان والده فقيرًا عبر زمن فالصحيح أنه لا يجب نفقته فيجوز دفع الكفارة والزكاة إليه. مسألة: قال: "ولا أحدًا على غيرِ دينِ الإسلام". لا يجوز دفع الكفارة إلى الكافر خلافًا لأبي حنيفة كما قال في زكاة الفطر: ووافقنا أنه لا يجوز دفعها إلى المرتد. مسألة: قال: "وقالَ في "القديم": لو علمَ بعدُ أَنْ أعطاهُ أنهُ غنيٌّ أجزأه ثم رجع إلى أَنَه لا يجزيهِ". ظاهر المذهب أنه إذا علم غناه بعد أن أعطاه لا يجوز وهو اختيار المزني؛ لأنه أعطى من لم يفرضه الله تعالى له بل حرمه عليه وقد ذكرنا هذا في كتاب الزكاة بالشرح ولو بان كافرًا [169/ ب] أو عبدًا قيل قول واحدًا لا يجوز؛ لأنه يعرف يقينًا والغنى يعرف اجتهادًا وقال القفال: الصحيح أن الكل على قولين وقد تقدم شرح الكلام فيه أيضًا. مسألة: قال: "ويكفرُ بالطعامِ قبلَ المسيسِ". لا يجوز المسيس قبل الإطعام كما لا يجوز قبل العتق والصوم وقوله: لأنها في معنى الكفارة قبلها أي .... في معنى العتق والصوم المذكور قبل الإطعام، وبه قال أبو حنيفة وكافة العلماء، وقال مالك: يجوز أن يطأها قبل التكفير حكاه بعض أصحابنا، وأومى إليه أحمد وبه قاال داوود واحتج بأن الله تعالى لم يقل في الإطعام قبل أن يتماسا وهذا غلط؛ لأن الله تعالى ذكر بعض الأحكام وبعضها نفسها فلما قيد العتق بقوله: {مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا}. نبهنا به على الإطعام فإن قيل: فلم كرر هذا التقيد في

الصيام قلنا: التنبيه لا يحصل في بالشيء إلا على ما يماثله ويشاكله والإطعام نظير الإعتاق لأن الكل واحد يحصل في زمان قصير فأما الصوم فلا يحصل إلا في شهرين ولا يقع التنبيه عليه بالعتق كما يقع على الإطعام فإذا ثبت هذا يجوز أن يكفر بالإطعام متواليًا ومتفرقًا لظاهر الآية، فإن فرق ثم قدر على الصوم في أثنائه لم يلزمه العود إلى الصوم كما ذكرنا في الصوم إذا قدر في أثنائه على العتق نص عليه في "الأم". فرع إذا وطئ في خلال الإطعام لم يلزمه الاستئنافن وبه قال أبو حنيفة. وقال مالك: يلزمه الاستئناف لأنه وطئ في أثناء الكفارة فيلزمه الاستئناف، كما لو طئ في خلال الصيام وهذا غلط لأن وجود الوطئ لا يبطل ما فعله من الإطعام ويبطل الصوم حتى لو كان في الليل لا يبطل عندنا. مسألة: قال: "ولو أعطى مسكينًا مدًا عنْ ظهارهِ، ومَدًا عن يمينهِ [170/ أ] أجزأهُ". إذا وجبت عليه كفارتان فدفع مدين إلى مسكين واحد؛ مدًا عن هذا ومدًا عن هذا أجزأه لأنه قد وجد العدد والطعام المقدور في كل واحدة من الكفارتين، وإن أعطي من كفارة واحدة لم يجز، وعليه أن يعيد أحد المدين، وهل يرجع به عليه نظر، وإن كان مطلقًا لم يرجع، وإن شرط من كفارة واحدة يرجع. فرع لو دفع ستين مدًا إلى مائة وعشرين مسكينًا إلى كل مسكين نصف مد يجزيه ذلك النصف المد، وعليه أن يتمم ذلك مدًا، مدًا لستين مسكينًا منهم أيهم اختار، ولا يسترجع الباقي لأنه قد وقع موقعه بدليل أنه لو أراد الأمام لهم أجزأه، فلم يجز له الاسترجاع هكذا ذكر أصحابنا. وقال بعض أصحابنا: إذا شرط عليهم أنها كفارته؛ له أن يسترجع من الباقين الذين لم يتمم لهم، وهذا لأن الإجزاء تعلق بمن يغنيه منهم، فإذا عين ستين منهم لم يتعلق الإجزاء بالباقين ذكره في "الشامل" وهو الصحيح عندي. واعلم أن فيما نقله المزني إشكالًا وذلك أنه قال: لأنهما كفارتان مختلفتان؛ يعني كفارة الظهار، وكفارة اليمين. وهذا يوهم أنه لو أعطاه مدين عن يمينين لا يجوز، وبالإجماع يجوز، وإزالة هذا الإشكال أن يقال معنى قوله كفارتان مختلفتان؛ أنهما يسلم كفارة واحدة، ولم يرد أن يشترط تبايين صفة الكفارتين. مسألة: قال: "ولا يجوزُ أَنْ يكفرَ إلَا كفارةً كاملةً مِنْ أيِّ الكفاراتِ كفّرَ". معناه أنه لا يجوز أن ينقض الكفارة فيصوم ثلاثين يومًا ويطعم ثلاثين مسكينًا لأن الله تعالى رتب هذه الكفارة، وفي هذا إثبات التجير، وفي اليمين لا يجوز أن يطعم

خمسة، ويكسو خمسةً لأن الله تعالى أثبت التحير على وجهٍ وهذا إثبات تجير زائد، وهكذا لا يجوز [170/ ب] أن يعتق نصف عبد ويصوم شهرًا، ووافقنا أبو حنيفة في كل هذا إلا في كفارة اليمين فإنه قال: يجوز كسوة خمسة وإطعام خمسة. فرع لو بعض في جزاء الصيد فأدى ثلث شاه، وأطعم قدر ثلث شاه وصام بالباقي منها هل يجوز؟ قال القفال: فيه وجهان؛ أحدهما: لا يجوز، والثاني: يجوز لأنه قد يجب الثلث منه ابتداءً دون الكل خلاف الكفارة، وهذا أقيس عندي وأشبه بالمذهب. فرع آخر لو دفع الكفارة بالإطعام إلى الأمام فتلف في يد الإمام قبل تفريقها على المساكين، هل يسقط الفرض قال والدي -رحمه الله -: عندي أنه لا يسقط الفرض بخلاف الزكاة الواجبة لأنها إلى الأمام دون الكفارة، ويحتمل سقوط الفرض، وإن لم يكن إلى الأمام كزكاة الأموال الباطنة وهو الأظهر عندي. مسألة: قال: "وكلُّ الكفاراتِ مدٌّ بمدِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم". الفصل قصد به الرد على أبي حنيفة وقد ذكرنا مذهبه أن اعتبر الصاع الحجاجي ومدّه ونحن اعتبرنا صاع الرسول صلى الله عليه وسلم ومده. واحتج الشافعي عليه هاهنا فقال: سنة نبيه صلى الله عليه وسلم يدل على أنه بمده فكيف يكون بمدين لم يوفِ عهده أو مدًا أحدث من بعد ثم قال: وإنما قلت: مدًا لكل مسكين لحديث النبي صلى الله عليه وسلم في المكفر في رمضان، وقصد به الرد على أبي حنيفة، وقد ذكرنا مذهبه، وفي خبر الأعرابي: المجامع في رمضان أنه أعطاه عرمًا فيه تمر قال سفيان بن عيينة وهو ستون مدًا وكان قد أعلمه أن عليه إطعام ستين مسكينًا فيكون لكل واحد مد. فإن قيل: أليس أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرق من طعام لستة مساكين في فدية الأذى فيحصل لكل مسكين مدان، قيل: قال الشافعي: الكفارة بالكفارة أشبه في القياس [171/ أ] وهذا منه قياس مختلف فيه على مختلف فيه. أما الفرع فالظهار، وأما الأصل فكفارة الجماع في رمضان، ولكنه وجد في كفارة الجماع نصًا ورد في المقدار فقاس فرعًا لا أصل فيه على أصل منصوص عليه، وإن كان في ذلك الأصل خلاف ثم رجع الشافعي إلى مسألة الصاع فقال: وقال بعض الناس: يعني أبا حنيفة المد رطلان بالحجاجي وقد احتججنا فيه مع أن الأثار على ما قلنا، وأمر الناس بدار الهجرة وما ينبغي لأحد أن يكون أعلم بها من أهل المدينة ثم ذكر مذهبه أنه قال: لو أعطى الكل إلى مسكين واحد أجزأه.

واحتج الشافعي عليه فقال: لئن أجزأه في كل يوم وهو واحد يجزه في مقام واحد وبعضهم لا يسلم هذا الأصل وهو غير مشهور. واحتج أيضًا بأن الله تعالى شرط في الشهادة العدد والعدالة، ولا يجوز الإقلال بالعدد هناك حتى لو شهد اليوم ثم أعاد شهادته غدًا لا تكون شهادة عدلين فكذلك هاهنا؛ وجب أن لا يجوز الإقلال بالعدد ثم ذكر مذهبه أنه قال: لا يجوز أن يصرف الإطعام إلى الحربي ويجوز إلى الذمي، واحتج عليه بالحربي وقال: فإن أجزأه غير المسلمين، وقد أوصى الله تعالى الأسير فلم يجزء أسير المسلمين الحربي، وأراد بأسير المسلمين أسير كافر يكون في يد المسملمة والمستأمنون إليهم وهذا ما ارتكبه المتأخرون منهم. وقالوا: يجوز دفع الكفارة إلى المستأمن والأسير وفي هذا إشارة إلى الترجح وهو أنه إذا لم يجز صرفها إلى الأسير مع وصية الله تعالى بالإحسان إليه فلأن لا تجوز صرفه إلى الذمي أولى. ثم ذكر مذهبه في النقدية والمعيشة واحتج عليه بأنه يخلف ذلك بالصبيان والمرضي والأقرباء، ثم ذكر مذهبه أنه جوز فيه الطعام، واحتج عليه بأنه لو تصدق بقيمة الرقبة طعامًا لا يقوم مقام العتق ثم قال: فإن أجازه فقد أجاز الإطعام [171/ ب] مع القدرة على العتق وهم لا يمنعون هذا الإلزام ويعتدون بأن القصد من العتق تكميل الشخص لا تمليك المال ولا يوجد ذلك في قيمة الرقبة، وإن كانت طعامًا فلهذا لا يجوز. وهاهنا المقصود سد الحلة ويحصل ذلك بالقيمة ثم ألزمهم على أصلهم إحالة الصوم مع الطاقة إلى الصدقة لأن التبديل والتقويم إذا جاز في البعض يجب أن يجوز في الجميع فلما لم يجز ذلك بالإجماع كذلك هاهنا.

كتاب اللعان

كتاب اللعان مسألة: قال: "قال الله تعالى: {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ولَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إلاَّ أَنفُسُهُمْ} [النور:6]. ثم قالَ: فكانَ بينًا في كتاب الله تعالى أنهُ أخرجَ الزوجُ من قذف المرأةِ باللعانِ، كما أخرجَ قاذفُ المحصنةِ غيرُ الزوجةِ بأربعةِ شهود". الفصل اللعان في اللغة مأخوذ من اللعن وهو الإبعاد والطرد فقال: لعن الله فلانًا أي أبعده وطرده والتعن الرجل إذا لعن نفسه ولاعن إذا لاعن زوجته، ورجل لعنته بفتح العين إذا كان يلعن الناس ولعنه بسكون العين إذا لعنه الناس واللعان والملاعنة لا تكون من اثنين، وإنما سمي هذا الحكم لعانًا لأنه لا ينفك عند العمل به من طرد وإبعاد لأن أحدهما كاذب، وإن لم يتعين منهما والكاذب يستحق البعد من الله تعالى وقد قال صلى الله عليه وسلم: "اتقوا الملاعن" أي اتقوا الطرفات والعقود عليها للمحدث سميت ملاعن للعن المارة من قعد عليها واحدث فيها، وقيل: سمي فيه لعانًا لما فيه من لعن الزوج نفسه في الكلمة الخامسة. والأصل في اللعان الكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب. فقوله تعالى: {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور:6] إلى أخر الآيتين. [172/ أ] فذكر الله تعالى اللعان ووصفه بأحسن بيان وأتم فائدة. وأما السنة فما روى سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن عويمر بن أشقر العجلاني جاء إلى عاصم بن عدي الأنصاري فقال له: يا عاصم أرأيت رجلًا مع امرأته رجلًا أيقتله فتقبلونه أم كيف يفعل سل لي يا عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها حتى كبر على عاصم ما سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رجع عاصم إلى أهله جاءه عويمر فقال يا عاصم ماذا قال لك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عاصم: لم تأتِ بخبر قدر كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسألة التي سألته عنها فقال عويمر: والله لا أنتهي حتى أسأله عنها فأقبل عويمر حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو وسط الناس فقال: يا رسول الله أرأيت رجلًا وجد مع امرأته رجلًا أيقتله فتقبلونه أم كيف يصنع؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد انزل فيك وفي صاحبتك فاذهب فأت بها قال سهل: فتلاعنا وأنا مع الناس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما فرغا قال عويمر: كذبت عليها يا رسول الله أن أمسكتها فهي طالق ثلاثًا فطلقها عويمر

ثلاثًا قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال ابن شهاب: فكانت تلك سنة المتلاعنين وقوله كره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها يريد المسألة عما لا حاجة بالسائل إليه دون ما به إليه به حاجة ولكن عاصم يسأل لغيره لا لنفسه فأظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكراهة وفي ذلك إيثار لستر العورات، وأيضًا روي عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما [172/ ب] إن هلال بن أمية قذف امرأته شريك بن سحماء فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: البينة أو حد في ظهرك فقال: يا رسول الله إذا رأى أحدنا رجلًا على امرأته يلتمس البينة فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول البينة وإلا حد في ظهرك فقال هلال: والذي بعثك بالحق أني لصادق وليقولن الله عز وجل في أمري ما يبرأ ظهري من الحد فنزلت {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ولَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إلاَّ أَنفُسُهُمْ} فقرأ حتى بلغ {مِنَ الصَّادِقِينَ}. فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما فجاء فقام هلال بن أمية فشهد والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما من تائب ثم قامت المرأة فشهدت فلما كان عند الخامسة {أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] قالوا: إنها موجبة فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها سترجع ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابع الإلتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء، فجاءت به كذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن وروي ولولا الإيمان لكان لي ولها شأن وروي أن ابن أبي عباس رضي الله عنهما قال فيه: ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقضى أن لا يدعي الأب ولا يرمي ولدها ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد وقضي أن لا بيت لها عليه ولا قوت من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفي عنها. وقال عكرمة: فكان هذا الولد بعد ذلك أميرًا على مصر وهو لا يدعي لأب وروي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قفوه عند الخامسة فإنها موجبة فحلف ثم ذكر لعانها وقفها عند الخامسة وروى أبو الزناد [173/ أ] عن القاسم بن محمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لا عن بين العجلاني وامرأته وكانت حاملًا وكان الذي رميت به ابن السحماء وكذلك رواه الواقدي وغيرهما. روي أن هلال قذف امرأته بشريك بن سحماء قال الإمام البيهقي: ما رواه أبو الزناد والواقدي احفظ والله اعلم. وقال أبو حامد: نقل المزني رمي العجلاني امرأته بشريك وهو غلط من الناقل أو من المزني بل هلال بن أمية قذف بشريك دون العجلاني وحكاه الشافعي هكذا في أحكام القرآن وهكذا رواه البخاري في "الصحيح" ولم يسم والعجلاني والمزني به وروي في خبر هلال أن جاءت به أصيهب أريضح أثتيج حمش الساقين سابغ الإليتين

(فهو) لهلال، وإن جات به أورق جعدًا جماليًا خدلج الساقين سابغ الإليتين فهو الذي رميت به. وروى سهل بن سعد فإن جاءت به أدعج العينين عظيم الإليتين فلا أراه إلا قد صدق وقد جاز به أحيمر كأنه وجزه فلا أراه إلا كاذبًا. وفي هذه الأخبار التي ذكرناها فوائد منها؛ أن الزوج إذا قذف امرأته برجل بعينه ثم تلاعنا سقط عنه حق المزني به لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهلال: البينة أوحد في ظهرك فلما تلاعنا لم يعرض لهلال بالحد، ولم يرد أن شريكًا عفا عنه ومنها أنه إذا قذف زوجته ولم يأت بالبينة ولم يلاعن يلزمه الحد لأنه قال: البينة والحد في ظهرك ومنها أن اللعان لا يتم إلا باستيفاء عدد الخمس خلافًا لأبي حنيفة لأنه قال: عند الخامسة إنها موجبة ومنها أن البينتين إذا تعارضتا سقطتا لأنه قال: الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل من تائب؟ ومنها أن الإمام يحكم بالظاهر، وإن كانت شبهة تعترض وأمور تدل على خلافة ألا ترى أنه لو قال: لولا مضي من كتاب الله لكان لي ولها شأن [173/ ب] ومنها أن اللعان فسخ لا طلاق خلافًا لأبي حنيفة ومنها أن لا سكني لها ولا نفقة في عدتها ومنها أنه من رمي الملاعنة أو ولدها يلزمه الحد خلافًا لأبي حنيفة إذا كان هناك ولد نفاه. ومنهه أنه لا يجوز الاستدلال بالشبه وهو في القيافه ولم يعمل به هاهنا لتقديم النص وهو اللعان على الاستدلال ومنها أن مع جواز الاستدلال به لا يحكم به إذا كان هناك ما هو أقوى منه في الدلالة على صد موجبه ومنها أن المتحلية بالنعوت المغيبة إذا أريد بها التعريف لم تكن غيبة يأثم به قائلها ومنها أن إيقاع الطلقات الثلاث مباح لأن عويمر طلقها ثلاثًا ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم. والأصيهب تصغير الأصهب وهو الذي تعلوه صهبة وهي كالشقرة. والأريضح تصغير الأرضح وهو الخفيف الإليتين أبدلت السين منه صادًا، وقد يكون أيضًا تصغير الأرضع أبدلت عينه حاءً قال الأصمعي: الأرضع الأرسح، والأثيبح تصغير الأثبج، وهو الناتئ الثبج والثبيج ما بين الكاهل وبسط الظهر، وقيل: هو الذي في ظهره كتلة، وقيل: لحمة نائتة بين الكتفين والحمش الدقيق الساقين. والأورق الذي لونه بين السواد والغبرة، وقال ابن الأعرابي: الأورق من كل شيء الذي يضرب لونه إل السواد؛ إلا الإنسان فإن الأورق الأسمر من بني آدم. وقوله: جعدًا من جعودة الشعر، والجمالي العظيم الخلق شبه خلقه بخلق الجمل قال: ناقة جمالية إذا شبه بالفحل من الإبل في عظم الخلق، وقيل: الجمالي بفتح الجيم وهو من الجمال، والأول أشهر وسابغ الإليتين بأنهما، والخدلج العظيم الساقين غليظهما، وأما الأديعج قال الأزهري: شدة سود العين واللون [174/ أ] والوحرة دويبة وجمعها وحر، ومنه قيل: فلان وحر الصدر إذا دبت العداوة في قلبه كدبيب الوحر، وقيل الوحرة من حشرات الأرض تشبه الحرباء حمراء كالعصابة. وقيل الوحرة الوزغة. وروي في الخبر: إن جاءت به أسحم، أدعج، والأسحم الأسمر. وأما الإجماع فلا خلاف بين المسلمين فيه فإذا تقرر هذا ذهب أكثر أصحابنا إلى أن

قصة العجلاني أسبق. ومن أصحابنا من قال: قصة هلال أسبق وهو الأظهر في الإخبار، وما روي في قصة العجلاني أن الله تعالى قد أنزل فيك وفي صاحبك يعني فأنزل في قصة هلال لأن ذلك حكم في جميع الناس، ثم اعلم أن الرجل الأجنبي إذا قذف أجنبيًا أو أجنبية فقد فسق بالقذف، ووجب الحد عليه وله أن يسقط ذلك عن نفسه بالبينة بأن يجرح شهوده. وإن كان المقذوف امرأة يمكن أن تقيم البينة على عذرتها، فإذا فعلت ذلك سقط الحد عنها. فإن قذف امرأته فقد فسق ووجب عليه الحد، وله أن يسقط ذلك عن نفسه بأحد طريقين. إما بالبينة أو باللعان فأيهما اختار كان له، وليس من شرط صحة اللعان عجزه عن إقامة البينة، فإذا فعله وجب الحد عليها وكان لها أن تسقطه بإقامة البينة على جرح الشهود أو عذرتها إن كان الزوج أقام عليها البينة، وإن كان الزوج لاعن كان لها أن تلاعن وتدرأ الحد عن نفسها. والفرق بين الأجنبي إذا قذف لم يكن له الخروج من قذفه إلا بالبينة، وبين الزوج إذا قذف زوجته له الخروج بالبينة أو اللعان جميعًا، وإن الأجنبي لا يحتاج إلى القذف واللعان فإنه لا ضرر عله في زنا الأجنبي وهو مندوب إلى الستر عليه، [174/ ب] فإذا أظهر ذلك وقذف غلط عليه ولم يحصل له الخروج إلا بالبينة، وأما الزوج فعليه ضرر في زنا زوجته لما يلحقه من النسب الفاسد والمعرة فهو محتاج إلى قذفها وإظهار زناها، فإذا فعل ذلك خفف عليه بأن جعل له الخروج بالبينة أو اللعان، فإذا تقرر هذا رجعنا إلى ما قال الشافعي ومقصده بيان أن الواجب بقذف الزوجة الحد ولكن المخلص منه اللعان كما أن الواجب بقذف الأجنبية الحد والمخلص منه بالشهود، وإذا نكل الزوج عن اللعان يلزمه حد القذف، وإذا لاعن ونكلت عن اللعان يلزمها حد الزنا وهذا لأن الله تعالى في أول سورة: {والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ} [النور: 4] يعني غير الزوجات، ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة، ثم عطف عليه حكم الأزواج فقال: {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ ولَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إلاَّ أَنفُسُهُمْ} [النور: 6]، فأخرج الزوج باللعان عما أخرج عنه الأجنبي الشهودن وبه قال مالك، وقال أبو حنيفة: إذا قذف زوجته يجب عليه اللعان دون الحد، فإن لاعن وإلا حبس حتى يلاعن، فإن لاعن وجب على المرأة اللعان دون الحد، فإن لاعنت وإلا حبست حتى تلاعن. وقال أحمد: إذا لم يلاعن الزوج حد، وإذا لاعن؛ لا يجب الحد على المرأة وهل تحبس المرأة؟ روايتان؛ واحتج بأن لعان الزوج لعان أحد الزوجين فلا يجب به الحد على الآخر أصله لعان الزوجة؛ وهذا غلط لأن الله تعالى قال: {والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ}. ولم يفرق بين الزوج وغيره، وإنما حض الأزواج بعد ذلك أن أقام لعانه مقام الشهادة على ما ذكرنا ثم قال: ويدرأ عنها العذاب، أي الحد أن تشهد أربع شهادات فدل على أنه وجب الحد عليها بلعانه [175/ أ] وإنما تسقطه بلعانها للضرورة. وأما ما ذكره لا يصح لأن لعانها على سبيل المعارضة وقد تقدم لعان الزوج فلا يوجب الحد على الزوجة بخلاف لعانه.

فرع لو لاعن الزوج ولاعنت هل يرتفع فسقه؟ قال في "الحاوي": يحتمل وجهين؛ أحدهما: يرتفع لأن اللعان كالبينة في حقه لسقوط حده، والثاني: لا يرتفع لأن لعانها معارض للعانه ومانع من وجوب حدها به. مسألة: قال: "وفي ذلكَ دلالةٌ على أنْ ليسَ للزوجِ أَنْ يلتعنَ حتى تطلبَ المقذوفةُ حدَها". الفصل جملته أنه إذا قذف زوجته ولم يكن له بينة تشهد بالزنا فله أن يلتعن عن الطلب بلا خلاف وفيه نزلت الآية. وإن كان له بينة تشهد بالزنا فله اللعان أيضًا وبه قال كافة العلماء، وقال بعض التابعين: لا يجوز أن يلاعن مع وجود البينة، وهذا غلط؛ لأن اللعان يفيد ما لا تفيد البينة من رفع الفراش ونفي النسب وهو محتاج إلى هذا. فإذا تقرر هذا فإن طالبت بالحد وهي حرة محصنة، أو طالبت بالتعزير وهي أمة أو كتابية فله أن يلاعن لإسقاطه. وإن لم تطالب هي وهناك بنسب الولد له أن يلاعن لنفيه، وإن لم يكن ينسب فالمذهب أنه لا يلاعن حتى تطالبه. وقال أبو إسحاق: له أن يلاعن لتبرئة ذمته وهذا غلط؛ لأن اللعان يراد لإسقاط الحد المطلوب، أو لنفي النسب، وليس هاهنا واحد منهما. والفراش يمكنه رفعه بالطلاق فلا حاجة إلى اللعان لأجله. فصل عندنا حد القذف الآدمي يورث عنه ويدخل فيه العفو، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: هو حق الله تعالى لا يورث ولا يدخله العفو. ووافقنا أنه لا بد من المطالبة باستيفائه، وإن الحاكم يحكم فيه بعلمه بخلاف حد الله تعالى. وقال مالك: [175/ ب] هو مشترك بين حق الله تعالى وحق الآدمي، فإن سمعه الإمام وشاهدان؛ يجب حد القذف من غير مطالبة. وإن سمعه الإمام وحده لم يجب إلا بالمطالبة ويجوز العفو عنه قبل الترافع إلى الإمام ولا يجوز بعد المرافعة. وروي عن أبي يوسف أنه مشترك لا يجب إلا بالمطالبة ويسقط العفو وهذا غلط لأنه عقوبة لا تستوفي إلا بالمطالبة بها فكانت عقوبة الآدمي كالقصاص، فإن قيل: أليس لو قال: اقذفني فقذفه لا يقسط حد القذف، ولو قال: اقتلني فقتله يسقط القصاص؛ قلنا: المذهب أنه يسقط حد القذف أيضًا ولا نص فيه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا يسقط والفرق بينهما أن القتل يستباح بسبب فيحتمل أن يكون الأمر بقتل نفسه لإباحة الدم بالزنا ونحوه فلم يجب به القصاص على المأمور، وأما القذف لا يستباح بحال وأنه إن كان زانيًا لا يباح قذفه فلا يتأثر الأمر به.

مسألة: قال: "ولمَا لَمْ يخصَ اللهُ تعالى أحدًا من الأزواجِ دونَ غيرهِ ولمْ يدلَ على ذلكَ سنةٌ ولا إجماعٌ كانَ على كلِّ زوجٍ يصحُ طلاقهُ". يصحُ اللعانُ مِنَ كل زوجين مكلفين سواء كانا مسلمين أو كافرين أو الزوج مسلمًا والمرأة كافرة أو الزوج كافرًا والمرأة مسلمة أو محدودين في القذف أو غير محدودين أو حرين أو رقيقين أو أحدهما رقيقًا والأخر حرًا. وبه قال سعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والحسن، وربيعة، ومالك، والليث، والنوري، وأحمد، وإسحق، وقال أبو حنيفة: لا يصح اللعان إلا بين زوجين هما من أهل الشهادة ولا يجوز بين الكافرين ولا بين الكافرة والمسلم، ولا بين العبدين، ولا بين العبد والحرة، ولا بين المحدودين في القذف أو أحدهما وبه قال الزهري، وحماد، والأوزاعي وروي هذا عن أحمد أيضًا [176/ أ] واحتجوا بأن اللعان شهادة لأن الله تعالى استثناه من الشهادة بقوله سبحانه: {ولَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6]، وأنه يفتقر إلى لفظ الشهادة فلا يصح إلا ممن هو من أهل الشهادة وأيضًا روي عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أربع من النساء لا ملاعنة بينهم النصرانية تحت المسلم واليهودية تحت المسلم والمملوكة التي تحت الحر والحرة تحت المملوك وروي "لا لعان بين أهل الإسلام وأهل الكفر ولا لعان بين العبد وامرأته"، ولا لعان بين المحدود في القذف وامرأته وهذا غلط؛ لعموم الآية ولأن من صح طلاقه صح لعانه كالحر المسلم ويؤكده أن اللعان خص بالأزواج للضرورة والضرورة قائمة في حق جميعهم، وأما ما ذكروه لا يصح لأن اللعان يمين لا شهادة أو المغلب فيه اليمين لأنه يشترط فيه ذكر اسم الله تعالى ويستوفي فيه الذكر والأنثى ويصح من الفاسق المعلن بفسقه والأعمى واليمين سمي شهادة قال الله تعالى: {قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1]، أي: نحلف، وأما الافتقار إلى لفظ الشهادة اختلف أصحابنا فيه على وجهين؛ أحدهما: لا يفتقر إليه. ولو قال: احلف بالله أو اقسم جاز. والثاني: أنه يفتقر إليه ولا يمنع هذا كونه يمينًا لأن اليمين تغلط بلفظ الشهادة كما تغلط بسائر الألفاظ، وأما الخبر لا أصل له. قال الشافعي والساجي: لم يذكره أحد من أهل الحديث، وقال الإمام أحمد البيهقي: مداده على عطاء الخراساني، وعثمان الوقاصي، وعمر بن هارون، ويحي بن أبي أنيسة وكلهم ضعفاء. واعلم أن الشافعي علل هاهنا فقال: كل زوج جاز طلاقه ولزمه الفرض جاز لعانه، ولم يرد تركيب الغلة منهما جميعًا بل أراد التنبيه على أن كل [176/ ب] وصف من هذين الوصفين علة مستقلة بنفسها، ألا ترى أنه قال في جانب الزوجة وكذلك كل زوجة يلزمها الفرض ثم قال: ويختلف الحدود لمن وقعت له يعني المقذوفة وعليه يعني القاذف وأراد به أنه تختلف الحدود في

جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين. وحاله لا يجوز له قذفها ولا نفي ولدها وهي أن تأتي بولد يشك فيه أو لا يشك فيه ولكنه شبيهًا بمن يتهمها به أو تأتي بولد لا يشبه الأبوين مثل أن تأتي بولد أسود وهما أبيضان، أو تأتي بولد أبيض وهما أسودان ولم يعرف لها زنًا [177/ ب] ولا فجورًا فيها وجهان؛ أحدهما: لا يجوز له القذف واللعان وهو اختيار القاضي الطبري لأنه لا يجوز أن يكون في أبائه وأمهاته هذه الصورة فأشبه لأن العرق ينزع والدليل على هذا ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن إعرابيًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله؛ إن امرأتي ولدت غلامًا أسود فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: هل لك من إبل؟ قال: نعم، قال: ما ألوانها؟ قال: حمر، قال: هل فيها من أورق؟ قال: نعم إن فيها أورقًا قال: فأنى ترى ذلك قال: لعل عرقًا نزعه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فلعل هذا نزعه عرق. والثاني: لا يجوز له القذف واللعان لأن الظاهر أنه ليس منه، والشبه يحكم به في الإنسان في الشريعة فجاز له نفيه لأجله وهذا أقرب في المذهب، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في خبر هلال أن جاءت به على نعت كذا فهو لشريك بن سحماء. ولو قال: بلغني أنها زنت، أو أخبرت بذلك ولم يقطع بأنها زانية، لم يكن قذفًا حتى يقطع، ذكره أبو إسحاق وقال في "الحاوي": الحامل خمسة؛ أحدها يجب أن يلتعن فيها بغير قذف، وهو أن تأتي بولد ولم يدخل بها يجب أن يلاعن لينفي ولدًا يعلم قطعًا أنه ليس منه يكون محرمًا لبناته، ولا يجوز أن يقذف لأنه يجوز أن يكون من زوج قبله أو أكرهت على نفسها، والثاني: يجب عليه ملاعنتها ولكن بعد القذف؛ بأن يكون أصابها واستبرأها ووجد معها رجلًا يزني بها ثم أتت تخمل لا يجوز أن يلاعن إلا أن يقذف فيصير القذف لوجوب اللعان الذي لا يصح إلا به واجبًا عليه. ولولا الحمل ما وجب عليه. والثالث: يكون مخيرًا بين أن يلاعنها أو يمسك وهو أن يطأها ولا يستبرئها، ويرى رجلًا يزني بها فيكون مخيرًا بين اللعان بعد القذف وبين الإمساك فأما نفي الولد [178/ أ]، فإن غلب على ظنه أنه ليس منه جاز نفيه، وإن غلب على ظنه أنه منه لم يجز نفيه، وإن لم يغلب على ظنه أحد المرين جاز أن يغلب في نفيه حكم الشبه لأجل ما شاهد من الزنا. والرابع: لا يجوز له قذفها ولا نفي ولدها وهو أن يكون على إصابتها ولا يراها

تزني ولا يخبر عنها الزنا، ولا يرى في ولدها شبهًا منكرًا، والخامس: أن تأتي ولد أسود من بين أبيضين ولا يراها تزني، ولا يخبر بزناها فيه وجهان؛ على ما ذكرنا. واختار ما اختار القاضي الطبري. فرع لو كانت امرأته تولد وكان يعزل عنها إذا وطئها لم يجز له نفيه لما روى عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله إنا نصيب السبايا ونحب الأثمان انعزل عنهن، فقال: إن الله تعالى إذا قضى بسن خلقها ولأنه قد يسبق من الماء ما لا يحس به، وإن أت بولد وكان يجامعها دون الفرج فيه وجهان؛ أحدهما: لا يجوز له النفي لأنه قد يسبق الماء فيعلق به. والثاني: له أن ينفيه هو الأصح، لأن الولد من أحكام الوطئ فلا يتعلق بدونه كسائر الأحكام. فرع آخر لو أتت بولد وكان يطأها من الدبر فيه وجهان: أحدهما لا يجوز له نفيه، لأن قد يسبق الماء إلى الفرج فتعلق به، والثاني: له نفيه لأنه موضع لا ينبغي منه الولد. مسألة: قال: "ولو جاءتْ بحملِ وزوجها صبي دون العشر لم يلزمه". ظاهر هذا النص أن المرأة إذا أتت بولد وزوجها صبي دونَ عشرِ سنينَ؛ لا يلزمَه الولدُ". قال الشافعي: لأن العلم يحيط أنه لا يولد لمثله، يريد به أن العادة جارية بأن مثله لا يكون منه نزول الماء فإذا كان كذلك كان منفيًا عنه بلا لعان، وإن كان له عشر سنين فأكثر يلحق به حتى يبلغ فينفيه باللعان [178/ أ] لأنه يمكن أن يولد منه والنسب يلحق الإمكان، وإن كان بخلاف الظاهر. ألا ترى أنه لو تزوج فأتت امرأته بولد لوقت يمكن أن يكون منه ألحقناه به، وإن كان الظاهر أن عدتها قد انقضت وأن الولد من غيره. وحكي أن عمرو بن العاص ولد له ابنه عبد الله وهو ابن عشر سنين، وحكي أن لعبد الله بن عمرو كان له نافلة وهو ابن اثنين وعشرين سنة، وعند أبي حنيفة أقل للزمان الذي يحتلم فيه الغلمان اثنا عشرة سنة، وعندنا عشر سنين. فإن قيل: إذا ألحقتم به النسب وجب أن يحكموا ببلوغه لأن إلحاق الولد به يقتضي الإنزال، والإنزال بلوغ، قيل: نحن نلحق النسب بالإمكان ولا نجعله بالغًا الإمكان فلهذا ألحقناه ومنعنا من نفيه حتى يقر بالاحتلام أو يستكمل خمسة عشرة سنة، وإن أدعى بلوغًا بالاحتلام واتهم الحاكم بأنه كاذب؛ يريد أن يحلف قبل بلوغه حتى لا يأثم باليمين الكاذبة بعدما بلغ فإنه يحتاط من بابه بالتأخير ولا نحلفه أنه بالغ إذ لا معنى لتحليف من يظن أنه صبي، فإن يمين الصبي لا حكم له، وعلى هذا إن مات قبل أن

ينفيه؛ استقر نسبه ولا يجوز للورثة نفيه وورثه حقه من الميراث. وقول الشافعي: فإن مات فهو ولده فقبل الموت وهو ولده إذ عليه نفقته غير أنه على معنى الموقف حتى يبلغ ولاعن نفيناه عنه، ولا نقول هو ولده على الإطلاق. وقال أبو حامد وجماعة: يحتلم الغلام لتسع؛ كما تحيض المرأة لتسع. ويحمل كلام الشافعي على أنها حد للحوق الولد تقريبًا، حتى لو جاءت امرأة الغلام بولد لتسع سنين وستة أشهر بعد التسع هي مدة أقل الحمل؛ يلحق به الولد، وهذا لأن المرأة والرجل لا يختلفان فيما به البلوغ كما لا يختلفان في البلوغ بالسن. وقال جماعة من أصحابنا: أقل زمان الاحتلام [179/ أ] عشر سنين، وإن كان أقل زمان الحيض تسعًا لأن أقلها معتبر بالوجود ولم يوجد الاحتلام لأقل من عشر سنين، ووجد الحيض لتسع سنين. وهذا لأن دم الحيض يرخيه الرحم بعد اجتماعه لضعف الجسد عن إمساكه، ومني الاحتلام يخرج لقوة الجسد على دفعه فصار بينًا سنة لزيادة القوة بها، وعلى هذا لو ولدت امرأته لأكثر من عشر سنين وأقل من ستة أشهر؛ لم يلحق به وهذا وإن لم يصرح به الشافعي فهو معلوم من أصل مذهبه فلذلك أطلقه. وهكذا ذكره القفال عن بعض أصحابنا. وذكر بعض أصحابنا نصًا عن الشافعي أنه قال: إذا أتت به لعشر سنين؛ يلحق به ويحكم ببلوغه قبل ذلك بتسعة أشهر من وقت ما علقت به المرأة، ذكره الماحملي من أصحابنا، وهذا غلط لما ذكرنا من الفرق بين الحكم بالبلوغ، وإلحاق النسب. وذكر بعض أصحابنا أنه لا يعتبر ستة أشهر بعد العشر فإذا أتت بولد وهو ابن عشر من غير زيادة؛ يلحق به، ويقدر نزول الماء قبل ذلك بمدة الإمكان، وهذا ظاهر النص وبه قال أكثر علماء خراسان. فإن قيل: هلا سمعتم لعانه في الحال لأنه إن لم يكن بالغًا فالولد منفي عنه، وإن كان بالغًا فقد انتفي عنه باللعان كما قلتم: أنه لا يحلف الصبي على دعواه البلوغ لأنه إن كان بالغًا لا حاجة بنا إلى يمينه، وإن لم يكن بالغًا لا يصح يمينه فسقطت؛ قيل: لا يجوز أن يبدي باليمين مع الشك في صحتها، فلهذا لا نحلفه ولا نأمره باللعان عند الشك في الصحة. مسألة: قال: "ولو كانَ بالغًا مجبوبًا كانَ لهُ إلَّا أَنْ ينفيهُ بلعانِ لأنْ العلمَ لا يحيطُ أنهُ لا يحملُ لهُ". هكذا نقل المزني؛ وقال في "الأم": إذا كان بالعًا مجبوبًا كان له نفيه باللعان لا العلم يحيط أنه لا يولد لمثله. واختلف أصحابنا [179/ ب] فيه فقال أبو إسحاق: وهو اختيار أبي حامد: ما نقله المزني أراد إذا كان مجبوب الذكر دون الخصيتين، أو الخصيتين دون الذكر لأنه يحتمل إذا بقى أحدهما أن ينزل، وهذا لأن إيلاج الذكر يجتذب المني من الظهر، وإن لم يكن له الأنثيين. وإذا لم يكن له ذكر فساحق فرج

المرأة يجتذب الفرج الماء إذا نزل كما تحبل البكر هكذا. ولا يقبل فيه قول الأطباء أنه ترق مادته فلا يكون منه الولد. والذي قاله في "الأم" أراد به إذا كان ممسوحًا أيضًا على ما نقله المزني؛ لأنه يمكن مع ذلك نزول الماء وتبقى بقية ولا يقبل قول أهل الظن في ذلك أنه لا يولد له؛ وهذا اختيار مشايخ خراسان، وجماعة من أهل العراق. ولا يصح ما نقل عن "الأم". وعندي ما تقدم أصح للعادة الجارية في ذلك، وقال القاضي أبو حامد في أصل الذكر: إذا قطع ثقبتين إحديهما مخرج البول، والأخرى مخرج المني فإن كان مخرج المني انسد والتحم لم يلحق به الولد لاستحالة إنزاله، وإن كان مخرج المني باقيًا كبقاء مخرج البول يلحق به الولد لجواز إنزاله؛ والنصان على هاتين الحالتين. ومن أصحابنا من قال: ما نقله المزني هو المجنون تصحف من الناقل فيلحق به الولد لأنه كالعاقل في النسب، فلا يقال: لأن العلم لا يحيط أنه لا يحمل له أو يحمل له؛ وإنما يقال ذلك في المجبوب، ولأنه قال: إلا أن ينفيه بلعان، ولا يصح لعان المجنون. مسألة: قال: "ولو قالَ: قذفتكِ وعقليَ ذاهبٌ، فهو قاذفٌ إلَّا أَنْ يعلمُ أَنْ ذلكَ يصيبهُ فيصدقُ". صورة هذه المسألة: أنها ادعت أنه قذفها، وأقامت البينة فقال في جوابه: كان هذا مني وعقلي ذاهب، ولم يقل: قذفتها وعقلي ذاهب، فلا يخلو من أحد أمرين؛ [180/ أ] إما أن يعترف له حال جنون أو لا يعترف، فإن لم يعترف له ذلك فالقول قول المقذوفة لأن الظاهر من أمر الناس الصحة والسلامة وثبات العقل وإن عرف أنه قذفها في حال إفاقته يلزمه الحد، وإن أشكل فالقول قوله لأنه إذا أمكن أن يكون واحد منهما وتساوي الحالان في الاحتمال كان المرجع آلي قوله لأن الأصل براءة الذمة والحد يسقط بالشبهة وهذا هو المنصوص في كتبه وهو الأصح. ومن أصحابنا من قال: فيه قول مخرج لا يقبل قوله في ذلك والقول قولها لأن الأصل الصحة والسلامة ووجوب الحد وهذا التجريح مما قال الشافعي: إذا كان قدّ ملفوفًا بنصفين ثم اختلف هو ووليه في حياته فيه قولان؛ أحدهما: القول قول القادّ لأن الأصل براءة الذمة. والثاني: القول قول الولي لأن الأصل الحياة وقيل في المسألة قولان: على الإطلاق وهو غير صحيح، فإن قيل: إذا قطع لسان كبير أو يده وادعى الشلل فيه قلتم: القول قوله الجاني قولًا واحدًا ولم نعتبر الصحة والسلامة في الأصل، قيل في القذف: الصحة والسلامة في الحال موجودة وفي العضو لا تعرف السلامة ويحتمل أنه كان سليمًا ويحتمل أنه كان أشل فكان القول قول الجاني لأن الأصل براءة الذمة.

فرع لو قال: قذفته وأنا صبي وقال المقذوف: بل بالغ، قال أصحابنا: يجب أن يكون على قولين لأن الصبي معلوم فهو بمنزلة من علم أنه كان يصيبه الجنون. فرع آخر لو ادعى أنه قذفها في النوم لا يقبل قوله إلا بينة عادلة قولًا واحدًا. والفرق أن القذف من النائم بعيد والمجنون يقذف ويسب هو الغالب من حاله. [180/ ب]. مسألة: قال: "ويلاعنُ الأخرسُ إذا كانَ يعقلُ بالإشارةِ"ز الأخرس على ضربين؛ أحدهما: أن لا تكون له إشارة معقولة ولا كناية مفهومة فلا يصح قذفه ولا لعانه ولا عقوده. والثاني: أن يكون له إشارة معقولة أو كناية مفهومة فإشارته تقوم مقام عبارته فيصح قذفه ولعانه كما تصح عقوده بها وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: لا يصح قذفه إلا بالصريح وإشارته كفاية ولا يصح لعانه لأنه كالشهادة ولا تصح شهادته وزاد على هذا وقال: لو كانت المرأة خرساء لا يصح لعان الناطق منها، ولو خرست بعد قذفه قبل اللعان لا يلاعن هو لأن الحكم لا يتم إلا بلعانها، فإذا تعذر لعانها سقط لعانه وهذا غلط لظاهر الآية، ولأن إقراره بالزنا والقصاص يصح فيصح قذفع ولعانه كالناطق. وأما قوله: إن إشارته كفاية لا نسلم لأنه يعلم الصريح منه بالإشارة كصريح الطلاق والعتق. ثم إذا لاعن الأخرس سقط عنه الحد ووجب الحد على امرأته، فإن كانت خرساء لاعنت أيضًا إذا كانت تعقل الإشارة. فإن كانت لا تعقل؛ لا تحد حتى ينطلق لسانها أو تتعلم الإشارة، وأما شهادته؛ قال بعض أصحابنا: تقبل شهادته وهو اختيار ابن سريج. وقال الجمهور وهو ظاهر المذهب: لا تقبل شهادته لأنه يقوم غيره مقامه فيها فلا حاجة آلي تجويزها منه. واللعان لا يجوز إلا من الزوج وبه ضرورة آلي نفي الولد كالناطق واللعان وضع للضرورة فافترقا. فرع لو نطق عد خرسه سئل عن إشارته بالقذف واللعان في خرسه، وفي هذا السؤال وجهان محتملان أحدهما أنه استظهار لا واج لنفوذ الحكم بإشارته على ظاهر الصحة، والثاني أنه واجب لأن في الإشارة احتمالًا يلزم الكشف عن حقيقته. [181/ أ] ز فرع آخر إذا سئل فاعترف بالقذف واللعان استقر على ما كان، وإن أنكر القذف واللعان فهو كالناطق إذا رجع يقبل ما عليه دون ماله فلا يقبل في الفرقة وإباحة المرأة ونفي القذف ويقبل في وجوب الحد ولحوق النسب أنه لم يلاعن فيهما، فإن قال: أنا ألاعن الآن لهما يقبل، وينتفي الولد ويسقط الحد.

فرع آخر لو أقر بالقذف وأنكر اللعان فقد جرى عليه حكم القذف وإن كان مقرًا به. وأما اللعان فقد جرى عليه أحكامه ولكنه إذا أنكر وقال: ما لا عنت يعرض عليه اللعان، فإن أجاب كان لعانًا ثانيًا بعد أول يتأكد به إحكام اللعان الأول، وإن لم يجب إليه صار كالمنكر للقذف واللعان، فيعود عليه من أحكامه ما له من الحد، ولحوق الولد تغليظًا بعد التخفيف ولا يعود ما عليه من الفرقة، وتحريم التأبيد لأنه تخفيف. وأما قول الشافعي: قال بعض الناس: لا يلاعن الأخرس، أراد أبا حنيفة ثم ألزمه الطلاق والبيع، وقال: ناقض في هذا؛ ووجه المناقضة ظاهر، وذلك أنه ألحقه بالناطق في الطلاق والبيع، ولم يلحقه بالناطق في القذف واللعان. مسألة: قال: "وأصمتتْ أمامهُ بنتُ أبي العاصِ فقيلَ لها: لفلانِ كذَا أو لفلانِ كذَا فأشارتْ أي نعمْ فرفعَ ذلك فرأيتْ أنها وصيةٌ". إذا أصاب الرجل سكتة أو ثقل لسانه لعارض مرض، نقل المزني أن إشارته تقول مقام عبارته. وقال في "الأم": تربصنا به حتى يفيق أو يطول ذلك به فيشير إشارة تعقل أو تكتب كتابه يعقل فيصير كالأخرس واختلف أصحابنا في هذا فمنهم من قال: يرى رجلين طبيعيين من المسلمين، فإن قالا: إن ذلك يزول انتظر به، وإن قالا: لا يزول ذلك، لاعن بالإشارة كالأخرس. [181/ ب] وهو كما قلنا في العضوية إن كانت تزول لم يجز له الاستنابة في الحج، وإن كانت لا تزول جاز له الاستنابة، وأراد الشافعي بقوله: أو يطول، إنه لا يوحي زواله. وممن أصحابنا من قال: كلام الشافعي على ظاهره، وإن كان يطولن وإن قيل: يرجي زواله يلاعن أيضًا وهذا أصح، واختاره القاضي الطبري. ومن أصحابنا من قال: يلاعن في الحال للعجز عند المطالبة والاعتبار الحال لأنه ربما يموت قبل السلامة فيبطل حقه، والدليل عليه خبر أمامة بنت أبي العاص حفيدة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقوله: أصمتت أي: أصابتها سكتة اعتقل منها لسانها وذلك الداء يقال له: السكتات والصمتات فنفذت الصحابة إشارتها، وقوله في "الأم": أو يطول أراد ليتعود الإشارة فتأتي بها وجه الدليل أنه إذا قامت الإشارة مقام العبادة في الوصية فكذلك في اللعان والقذف. مسألة: قال: "ولو كانتْ مغلوبًا على عقلها فالتعن وقعتْ الفرقةُ ونفيَ الولدُ". إذا قذف زوجته وهي عاقلة ثم جنت أو قذفها بعدما جنت بقذف مضاف آلي حال إفاقتها كان عليه الحد عنها، وإن قذفها بقذف في حال جنونها كان عليه التعزير، فإن أفاقت وطالبت بالحد أو التعزير كان له إسقاطه باللعان، وإن لم تقف هل له أن يلاعن

من غير مطالبة ينظر فإن كان هناك نسب نفي حملًا كان أو ولدًا كان له اللعان، وإن لم يكن هناك نسب بل له أن يلاعن لإسقاط الحد من غير مطالبة الحد المذهب أنه ليس له ذلك لأنه لا يخلو إما أن يلاعن لدرء الحد عن نفسه فليس هاهنا مطالب، أو يلاعن لقطع الفراش فيمكنه دفعه بالطلاق [182/ أ] أو لاعن لا يجاب الحد عليها، ولا يمكن ذلك فلا وجه له. وقد ذكرنا عن أبي إسحاق أنه قال: يلاعن، وإن لم يطالب لأن الشافعي قال: ونفي الولد أن انتفي منه فدل على أنه يصح لعانه من دون انتفاء النسب، فقيل لأبي إسحاق في الدرس هذا ما قاله الشافعي في أول الباب، وفي ذلك دلالة على أن ليس للزوج أن يلتعن حتى تطلب المقذوفة حدها فقال: إنما قال الشافعي: ليس عليه، ولم يقل ليس له. واللعان إنما يجب عليه إذا طالبه بالحد، فأما قبل المطالبة فله ذلك ليسقط عن نفسه ما قد لزمه. وقال جماعة من أصحابنا: ما ذكره أبو إسحق ظاهر المذهب، وذكر هذا القائل أنه يجوز أن يلاعن لقطع الفراش المجرد. والشافعي أجاز هاهنا لقطع الفراش، وهذا لأن اللعان عند القذف حق الزوج احتاج إليه أو استغنى عنه. ومن قال بالأول أجاب عما قال أبو إسحاق بأن قواله: ونفي الولد انتفي منه؛ أراد به أنه إن لم يعقل عن ذكره في اللعان نفي عنه، وإن نسى ذكر أو أعقله لم ينف عنه حتى يستأنف اللعان ويذكره. فإذا تقرر هذا ولاعن الزوج انتفي الولد، وقت الفرقة، وانتفي النسب وسقط عنه الحد، ولكن لا يجب عليها الحد في الحال لأنها غير مكلفة فلا يقدر على دفعه عن نفسها، فإذا أقامت أقيم عليها الحد إلا أن تلتعن، ولو كان قذف مجنونة فأفاقت بعد لعانه؛ لا لعان عليها لأنها لا تخشى حدًا يقام عليها. مسألة: قال: "ولو طلبهُ وليهَا، أو كانتْ أمةٌ فطلبهُ سيدهَا لمْ يكنْ لواحدِ منهمَا". أراد به: إذا قذف امرأته وهي عاقلة فجنت، أو قذفها وهي مجنونة بزنا نسبه آلي صحالة الصحة وجب عليه الحد، [182/ ب] ولكن لا تطالب به حتى تعتق المرأة فتطالبه به فإن طالبه وليها؛ لم يكن له لأن ذلك لها يتعلق باختيارها، فليس للولي أن يفتأ به عليها. كما نقول في المطالبة بفرقة الإيلاء. وإن قذفها وهي مجنونة بزنا إضافة آلي حال الجنون؛ لم يلزمه الحد، ويلزمه التعزير حق لها كالحد، فليس للولي طلبه حتى يفيق. وإن أراد الزوج أن يلاعن لإسقاطه؛ قد ذكرنا الخلاف فيه وهذا لأنه لا فرق بين الحد والتعزير، وإن كانت امرأته أمة مجنونة لم يجب عليه الحد بقذفها، ويجب التعزيز، وليس للسيد طلبه حتى تفيق فتطالبه به لأنه حق لها دونه تجب بهتك عرضها وعرضها لها بخلاف القصاص يتعلق بالبدن، وبدنها له وقد بينه الشافعي فقال: بعده أو بحد للحرة البالغة ويعزر لغيرها، وذكر في "المهذب" أنه لو جني على عبد رجل يوجب

القصاص ثبت القصاص للعبد وله المطالبة به والعفو عنه كما قلنا في حد القذف ومن نظر والفرق ظاهر وذكر في التلخيص ليس للعبد الاختيار فيما جني عليه دون سيده. مسألة: قال: "فإن ماتت قبل أن يعفو عنه فطلبه وليه كان عليه أن يلتعن أو يحد للحرة البالغة ويعزز لغيرها". قد بينا أن حد القذف موروث خلافاً لأبى حنيفة ووافقنا أنه لو قذفها بعد موتها كان لورثتها المطالبة وعلل بأن هذا الحد يثبت للورثة ابتداء لأن العار يلحقهم وهذا لا يصح لأنه قد قذف الميت دون الورثة ويعتبر فيه إحصان للميت دون الورثة. فرع اختلف أصحابنا فيمن يرثه على ثلاثة أوجه؛ أحدها: يرثه جميع الورثة من أهل الانتساب والأسباب بالزوجية والولاء [183/ أ] لأنه حق موروث لأدمى فيرثه جميع الورثة كسائر الحقوق. والثاني: يرثه عصباته دون النساء لأنه موضوع لدفع العار لولاية النكاح وهو اختيار القفال. والثالث: يرثه جميع ورثته المناسبين ولا يرثه الزوج أو الزوجة لأن الزوجية تنقطع بالموت فلا يلحقه العار وهذا الوجه لم يذكره كثير من أصحابنا بالعراق، وليس للشافعى أصل يدل عليه. فرع آخر قال القفال: إذا قذف الزوجة بعد موتها؛ هل يثبت للزوج المطالبة بحد القذف بحق الإرث، فإن قلنا: إذا ماتت الزوجة بعد القذف لم تثبت المطالبة فهاهنا أولى، وإن قلنا: تثبت المطالة فهاهنا وجهان؛ والفرق أن قبل الموت كانت الزوجة قائمة عند القذف، وهاهنا ارتفعت الزوجية عند القذف فلا ثبت له الحق ابتداءً، وهذا حسن. وهكذا الحكم في قذف الزوجة هل للزوجة المطالبة بحد القذف أم لا؟ فرع آخر إذا لم يكن للمقذوفة وارث؛ قال الداركى: قام الإمام مقام الوارث في طلبه، وعلى هذا لو كان القاذف زوجاً يلاعن لإسقاطه، وقال القفال: يسقط موتها ولا يطالبه الإمام ولا يلاعن له؛ والأصح الأول لأن الإمام نائب المسلمين وهم يورثونه. فرع آخر إذا جعلناه ميراثًا بينهم فإنه يجرى مجرى الولاية في النكاح، فيكون لجماعتهم ولكل واحد منهم كله، فإذا ترك بعضهم حقه فللباقين الاستيفاء كاملاً لأن حد القذف إنما شرع لدفع معرة الميت وكل واحد منهم يقوم مقام صاحبه فيه ولا يندفع العار إلا بتمام الحد، وقيل: جملته أن الحقوق على أربعة أضرب حق يثبت لجماعة الورثة، ولكل واحد منهم بتمامه وكماله وهو ما ذكرناه، [183/ ب] وحق يثبت لجماعة الورثة على

الاشتراك ولكل واحد منهم حصته سواء ترك شركاءهم حقوقهم أو لم يتركوا وهو حق المال، وحق يرثه جماعة على الاشتراك، ولا يملك أحدهم على الانفراد شيئًا منه وهو القصاص إذا عفي أحدهم يسقط الكل، وحق يثبت لهم على الاشتراك، وإذا عفي بعضهم توفر الحق على الباقين وهو حق الشفعة، ونحو ذلك الغنمة أيضًا. ومن أصحابنا من قال في حد القذف: له أوجه؛ أحدها: ما ذكرنا، والثاني: يسقط بعفو أحدهم كالقصاص، والثالث: أنه كما قال: يسقط بالحصة عند عدم أحدهم وهذا يحكى عن أبى الحسن القطان، وهذا والذي قبله ضعيف غير مشهور. فرع آخر لو قال: عفوت عن بعض الحد هل يسقط؟ وجهان؛ فإذا قلنا: يصح عفوه؛ هل يصح في ذلك القدر، أو يسرى آلي جميعه وجهان. فرع آخر لو قذف أمة ثم ماتت اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: يسقط التعزير بموتها لأن أقاربها ليسوا ورثة ولا يلحق العار بسيدها وهذا اختيار القفال. وأراد الشافعى بالولي الوارث، وقال الشافعي: فطلبه وليها كان عليه أن يلتعن، ولم يقل: فطلبه وليها أو سيدها، فلما صور ابتداءً المسألة في الحرة والأمة، واقتصر انتهائها على الحرة، عرفنا أنه فصل بعد الموت من ولي الحرة وسيد الأمة، ومن أصحابنا من قال: لا يسقط لأنه حد وجب بالقذف، فل يسقط بموت المستحق كحد الحرة، فإذا قلنا بهذا فالسيد يطالبه لأنه أولى به من غيره، لا على وجه الإرث ولكن لحق الملك وهذا ظاهر كلام الشافعي هاهنا لأنه قال: فإن ماتت قبل أن يعفو عنه فطلبه وليها كان عليه أن يلتعن أو يحد للحرة البالغة [184/ أ] ويعزر لغيرها يعنى لأمة وأما ذكر القائل الأول: لا يصح لأن لفظ الولي صالح للسيد ولعل لفظ الشافعي لم يقل أو سيدها لهذا المعنى أو لأنه ذكرهما في الابتداء فاستغنى عن التطويل في الانتهاء ألا ترى كيف جمع في آخر كلامه بين الحرة والأمة فقال: أو يحد للحرة البالغة ويعزر لغيرها وهذا أقيس، وقال ابن أبى هريرة: من أصحابنا من قال: يكون ذلك لقراباتها المناسبين لأنه يثبت لمعنى يرجع آلي النسب فكانوا أحق به من الولي وإن كانوا لا يرثونه وحكاه القاضي الطبري أيضًا قال: هذا القائل ويفارق القصاص لأنه يثبت على وجه البدل عن البدن وبدنها له والحد لهتك العرض وليس للسيد العرض. مسألة: قال: "ولَو التعنَ وأبتْ اللعانَ فعلى الحرةِ البالغةِ الحدُ". الفصل إذا امتنع الرجل من اللعان قد ذكرنا أنه يجد حد القذف، وإن امتنعت بعد لعانه من اللعان يلزمها حد الزنا ونبين كيفية الحد في كتاب "الحدود" إن شاء الله وقد ذكرنا

مذهب (أبي) حنيفة، وحكي الشافعي أنه إذا امتنع من اللعان حد والمرأة إذا امتنعت حبست وليس هذا بمذهب أبى حنيفة فلعله مذهب بعض أهل العراق، فإذا تقرر هذا لو كانت له أربع نسوة حرة مسلمة وحرة كتابية وأمة مسلمة وصبية فقذفهن فالكلام في ثلاثة فصول فيما يجب عليه بقذفهن وفي اللعان وفيما يجب عليهن باللعان، أما ما يجب عليه بقذفهن فعليه الحد بقذف الحرة المسلمة البالغة العاقلة العفيفة وعليه بقذف الذمية والأمة. التعزير يكون تعزير قذف، وأما الصبية فعلى ضربين صبية بجامع مثلها [184/ ب] وصبي لا يجامع مثلها، فإن كانت ممن يجامع مثلها كالمراهقة ونحوها فعليه التعزير بقذفها ويكون تعزير قذف وإن كانت ممكن لا بجامع مثلها كالمراهقة ونحوها فعليه التعزير بقذفها، ويكون تعزير قذف وإن كانت ممن لا يجامع مثلها كالمراهقة ونحوها فعليه التعزير بقذفها، ويكون تعزير قذف وإن كانت ممن لا يجامع مثلها للصغير فعليه التعزيز ولكنه تعزيز سب وشتم لا تعزير قذف، وأما اللعان فله أن يلاعن في حق الكل إلا في الصغيرة في الموضع الذي يجب التعزير للسب فلا يلاعن لأجله وأما ما يجب بلعانه فتى لاعن فإن كانت حرة مسلمة بالغة عاقلة فكأنه أقام البينة عليها بالزنا فرجم عند الإحصان ويجلد ويغرب عامًا عند البكارة وإن كانت حرة كتابية فكذلك أيضًا وإن كانت أمة فعليها نصف الحد خمسون جلدة وهل تغرب قولان إذا قلنا: تغرب بل تكون نصف سنة أو سنة قولان، وإن كانت صبية فلا شيء عليها لأن القلم مرفوع عنها واعلم أن كل من وجب عليه بلعانه حد أو تعزير لها إسقاطه بلعانها فإن لم يلاعن استوفي ذلك منها. وقد قال الشافعي هاهنا: ولا لعان على الصبية لأنه لا حد عليها. قال القفال: أراد به أنه إذا لاعن هو عن الصبية فهي لا تلاعن ولا يتصور لعانه وهي صبية إذا جوزناه لمجرد رفع الفراش، كما قال أبو إسحق: لأن الولد لا يتصور للصغيرة ويمكن أن يقال: هذا ابتداء كلام ولا يدل على أنه أراد بعد لعانه عنها. فرع: إذا قلنا: يعزر في قذف الصغيرة للسب هل يعزر قبل بلوغها وجهان؛ أحدهما: لا يعزر حتى تبلغ. والثاني: يعزر قبل بلوغها لأنه تعزير أدب فلا نقفه على بلوغها. فرع آخر إذا قلنا بالوجه الثاني فيه وجهان؛ أحدهما: أنه موقوف الاستيفاء على مطالبة الولي لقيامه بحقوقها. والثاني: أنه موكول آلي الإمام في استيفائه لقيامه بالمصالح. فرع آخر إذا كانت [185/ أ] الصغيرة ممن يجامع مثلها تقف تعزير القذف على بلوغها لتكون هي المطالبة، وهل له أن يلاعن منها قبل بلوغها لإسقاطه على ما ذكرنا من الوجهين. فرع آخر إذا قلنا تغرب الأمة ففي نفقتها مدة تغريبها وجهان؛ أحدها: في بيت المال كمنع السيد منها. والثاني: على سيدنا لأنه لا يملك استخدامها بعد تغريبها.

فرع آخر إذا بلغت الصغيرة هل لها أن تلاعن بعد لعانه؟ وجهان؛ أحدهما: لا تلاعن لأنه لم يجب عليها بلعانه حد. والثاني: لها ذلك لسفي بلعانها المعرة عن نفسها. مسألة: قال: "ولا أجبرُ الذميةِ على اللعانِ إلَّا أنْ ترغبَ فِي حكمنَا". الفصل قد بينا في كتاب "النكاح" أنه هل يلزم على الحاكم أن يحكم بين الذميين إذا جاءا أو أحدهما وأجاب هاهنا على القول الذي يقول: إن الحاكم بالخيار في الحكم بينهم ولا يلزمه أن يحكم بينهم لأنه قال: فإن لم يفعل حددناها أن يثبت على الرضا بحكمنا، وأما إذا تحاكم مسلم وذمية يلزمه الحكم بينهما قولاً واحدًا ولا يعتبر رضا الذمية، ولكنه إذا قذفها ولا عن فأبت عن اللعان تركت على هذا القول ولا تجبر عليه لأنه ليس في لعانها إلا درء الحد عن نفسها وهو حق الله تعالى فلا يلزمها ذلك إلا أن ترضي. قال القفال: وعلى القول الذي يقول: يلزم الحاكم الحكم بينهما في مسألة القذف واللعان بالحكم هكذا وهو أنها لا تجبر على اللعان لأن القولين في حق الآدمي وفي حق الله تعالى يحتاج إلى الرضي قولاً واحدًا. قال أصحابنا: وفيما ذكر الشافعي هاهنا دليل على أن الرجل المسلم إذا لاعن وقال: لا أطلب لعان زوجتي وهي مسلمة فالحاكم يطالبها باللعان، فإن لم تفعل حدها لأنه حق الله تعالى فلا يسقط بعدم مطالبة الزوج. وقال المزني: لا يعتبر رضاها [185/ ب] بعد لعانه فإن لم يلاعن حدت لأنها لما رضيت في الأول لزمها حكمنا ولا يعتبر المقام على الرضا واختار أيضًا أن لعن الذمية يجبرون على أحكامنا على أحد. واحتج بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا ولو قدروا على أن يدفعا ذلك بترك الرضا لفعلا قلنا: أجمعنا على أنهما قدرا على إسقاط الرجم لأنه ثبت عليهما الزنا باعترافهما وعرف أن يرجع في حقوق الله تعالى إلى متى شاء وأيضًا فلا يكون مما فائدة في أن لا يرضيا بحكم الإسلام. ثم قال: "وقال في الإملاء: إن أَبتْ أن تُلاعِنَ حددناها" وهذا أحد قوله إنهم يجبرون على أحكامنا فلا يعني بذلك الاحتجاج به، واعلم أن المزني قال في أول كلامه: أولى به أن يحدها لأنها رضيت وقوله لأنها رضيت لغو من الكلام من هذا القول الذي اختاره ولا فائدة فيه؛ لأنا إذا قلنا بهذا القول فتلكأت عن اللعان أقمنا عليها الحد رضيت في الابتداء أو لم ترض وظاهر كلام المزني يوهم كون الرضا في الابتداء شرطا على قوله الذي اختاره.

مسألة: قال: "لو كانتْ امرأتهُ محدودةً في زنَا فقذفهَا بذلكَ الزنَا، أو بزنَا كانَ فِي غيرِ ملكهِ عزرَ أَنْ طلبتْ ذلكَ ولَم تلتعنْ". إذا ثبت الزنا عليها بالبينة سقط إحصانها، فإذا قذفها قاذف لم يحد سوى قذفها بالزنا الذي قامت بالبينة أو بغيره وسواء كان زوجًا أو أجنبيًا لأن هذا القذف لا يدخل المعرة عليها بقيام البينة به ولأنه قد ثبت صدقه في قذفه فلا يحد ولكنه يعزر للأذى والسب وهل للزوج أن يلاعن لأجله؟ نقل المزني أنه لا يلاعن، وقال في "الأم": عزر أن طلبت ذلك [186/ أ] إن لم تلتعن ونقله الربيع، واختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: وهو اختيار أبي إسحاق الصحيح ما نقله المزني وغلط الربيع في نقله لأنها إذا كانت محدودة في الزنا فقذفها بذلك الزنا فقد تبين صدقه فاستغنى عن تصديق نفسه باللعان، واللعان لا يراد إلا لتصديق قوله والتعزير، وإن وجب به فهو للأذى ولا مدخل للعان فيه. قال أبو إسحاق: ولذلك لو قذف امرأة فحد لها ثم عاد فقذفها بذلك الزنا لم تعد عليه اللعان ثانيًا، وعزر للأذى لأن اللعان إنما يدخل في قذف لم يعلم حقيقته وهذا اختيار ابن أبي هريرة أيضًا ويفارق هذا شروع اللعان في قذف الذمية والأمة لإسقاط التعزير لأنه يفيد التصديق هناك، فإن قيل: أليس يفتقر هذا التعزير إلى مطالبتها كقذف الذمية يفتقر في تعزيره إلى مطالبتها، فلو كان هذا التعزير للأذى لما افتقر إلى المطالبة كما لو قال: الناس كلهم زناه قلنا: تعزير السب والأذى على ضربين. أحدهما: لا يفتقر إلى المطالبة كما ذكرتم لأنه لم يتعين مستحقه. والثاني: يفتقر إلى المطالبة وهو إذا تعين مستحقه وهاهنا هذا التعزير حقها بعينها فيفتقر إلى مطالبتها لهذا المعنى، ومن أصحابنا من قال: الصحيح ما نقله الربيع أن له أن يلاعن لأنه قذف في زنا حصل في ملكه فله التخلص منه باللعان. وتأويل ما نقله المزني أنه قال: عزر أن طلبت ذلك ولم يلتعن أي عزر إذا حصل طلبها وامتناعه من اللعان ولا يجعل قوله ولم تلتعن كلامًا مفردًا أو جوابه هذا راجع إليه إذا قذفها بزنا كان قبل الزوجية فلا تلاعن له [186/ ب] لأن القذف بذلك الزنا لا يوجب اللعان فتكرار القذف به لا يوجبه، وإذا ثبت عليها الزنا في النكاح بالبينة وأقيم عليها الحد كان له اللعان في أصل الزنا فكذلك له اللعان إذا كرر القذف والأول أقيس وأصح، وأما إذا ثبت الزنا عليها بلعانه وامتنعت من اللعان فحدت كأن قذفها الزوج بعد ذلك فلا حد عليه ويعزر للأذى وليس له إسقاط هذا التعزير باللعان. وإن قذفها أجنبي فيه وجهان؛ أحدهما: يحد وهو اختيار ابن سريج لأن إحصانها لم يرتفع في حق الأجنبي لأن اللعان حجة خاصة في حق الزوج فلا يبطل إحصانها إلا في حقه. والثاني: لا يحد وهو اختيار أبي إسحق لأنها محدودة في الزنا فلم يحد قاذفها

كما لو حدت بالإقرار والبينة. ولو لاعنها الزوج ولم تلاعن هي ولم تعد بعد سقط إحصانها في حق الزوج دون غيره أيضًا لأنه وجب عليها الحد بلعانه، وإن لم تحد وذكر الداركي وجهًا آخر هاهنا أيضًا أنه يسقط إحصانها في حق الكل لأنه ثبت زناها بلعانه كما لو حدت وهذا بعيد. وقال أبو حنيفة: إن كان لها ولد نفاه باللعان سقط إحصانها في حق الكل وإن لم يكن لها ولد نفاه سقط إحصانها في حق الزوج خاصته. وقد قال: لو قدمت إياه ومعها ولد لا يعرف نسبه فقذفها قاذف لا حد عليه لأن نسب ولدها غير ثابت وهذا غلط؛ لما روي أن النبي قال في خبر هلال فمن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد، ولو لاعنت ولاعن الزوج ثم قذفها ثانيًا بذلك الزنا لم يجب عليه الحد ويعزر لأن اللعان لحجة في حقه كالبينة، ولو أعاد القذف بعد إقامة البينة لا يلزمه الحد لكن ذكر جماعة أصحابنا. وذكر صاحب "الحاوي" و"الشامل" أنه يلزمه الحد [187/ أ] وجهًا واحدًا لأنه عارض لعانه لعانها ولم يثبت عليها الزنا ولا وجب الحد علها فلم يزل إحصانها وهذا أقيس عندي لوقذفها بعد التلاعن بزنا آخر فيه وجهان لأصحابنا؛ أحدهما: لا حد لقيام الحجة على زناها، وإن عارضها بلعانها، والثاني: يحد لزنه لم يقم الحجة على هذا الزنا، واللعان حجة خاصة فيما تقدم، ولم يقدم الحد عليها وهذا اختيار القفال. وذكر مرة أن في المسألة قولين؛ ونص في "القديم" أنه يحد، ولو قذف زوجته ولم يقم البينة ولم يلاعن، فحد لها ثم رماها بذلك الزنا، عزر ولا يحد أيضًا، ولو رماها بزنا آخر فيه وجهان؛ أحدهما: وهو اختيار ابن الحداد لا يحد لأنه حد لها فلا يحد. والثاني: يحد، وهما مبنيان على القولين الأجنبي يحد في قذف الأجنبي ثم قذفه ثانيًا بزنًا آخر، هل يحد أم لا؟ ومن العلماء من قال: يجب الحد ثانيًا إذا أعاد القذف بكل حال كما لو تكرر الزنا بعد إقامة الحد وهذا غلط لأن أبا بكرة كرر قذف المغيرة بعد إقامة عمر بن الخطاب رضي الله عنه الحد عليه، ولم يحده عمر، ولأن حد القذف يراد بالتكذيب، وقد ذكرناه حين حددناه فلا حاجة إلى الحد ثانيًا. وأما إذا قذف زوجته بزنا؛ وكان قبل الزوجية ولم يقم عليه بينة، فإن لم يكن هناك ولد حد لها؛ ولا يكتفي لأنه لا ضرورة به إلى رميها بالزنا قبل الزوجية؛ وبه قال مالك وأحمد في رواية، وقال أبو حنيفة: له أن يلاعن لأن الزوجية كانت قائمة وقت القذف والاعتبار بحالة القذف وهذا غلط لما ذكرنا، وإن كان هناك ولد يريد نفيه فيه وجهان؛ أحدهما وهو اختيار أبي إسحاق: لا يلاعن لأنه لا حاجة به إلى إلحاق الزنا إلى ما قبل الزوجية، فإذا فعل ذلك لا يلاعن وبه قال مالك وأحمد في رواية والنسائي، وهو اختيار ابن أبي هريرة [187/ ب] وصاحب الإفصاح والقاضي الطبري؛ يلاعن لأنه به حاجة إلى قذفها لنفي الولد فأشبه إذا قذفها بالزنا في الزوجية وهذا أصح، ولو قذف

الزانية بزنا آخر في ملكه يلاعن لنفي التعزير وبه قال أبو حنيفة لأنه لم يصدقه بهذا القذف فصدق نفسه. ثم اعلم أن الشافعي في جمع هذا الفصل بين مسألتين مختلفتي الحكم وأجاب بجواب واحد فقال: ولو كانت امرأته محدودة في زنا فقذفها بذلك الزنا أو بزنا كان في غير ملكه عزر ومعلوم أنه إذا قذفها بزنا قد حدث فيه فحكمه التعزير، وإذا قذفها بزنا كان في غير ملكه وليست محدودة فيه فحكمه الحد لا التعزير؛ فكيف أجاب في المسألتين جميعًا وجوب التعزير، وهذا مشكل وإزالة هذا الإشكال أن يقال: الشافعي كثير الجمع بين مسألتين، ثم يجيب عن إحديهما فكأنه أجاب بالتعزير في المسألة الأولى وهي: إذا كانت محدودة في ذلك الزنا؛ ولم يجب عن المسألة الثانية وهي إذا كانت غير محدودة، ولو أجاب عن الثانية لكان يجب بوجوب الحد. أو يقول: يحتمل أن يريد بقوله: بزنا كان في غير ملكه وهي محدودة في ذلك الزنا، والمسألة الأولى مصورة في زنا في ملكه؛ وهى محدودة فيه أيضًا، وإذا كانت المسألتان جميعًا مصورتين في الزنا الذي حدث فيه فجوابهما التعزير، وإن كانت في إحديهما زنت في ملكه، وفي الأخرى زنت في غير ملكه. مسألة: قال: "وإن أنكرَ أنْ يكونَ قذفهَا فجاءتْ بشاهدينِ لاعنْ وليسَ جحودهُ القذفَ إكذابًا لنفسَه". صورة المسألة: أن تدعي امرأة على زوجها أنه قذفها فجاءت بشاهدين فشهدا عليه بالقذف قال الشافعي: له أن يلاعن وليس جحوده القذف [188/ أ] إكذابًا لنفسه ولا خلاف على المذهب أنَّ له أن يلاعن ولكن اختلف أصحابنا في أن جحوده القذف إكذابًا منه لنفسه، أم لا فمنهم من قال: ليس بإكذاب وهو ظاهر ما قاله هاهنا؛ ووجهه أنه يقول: أنا ما قذفتها لأن القذف هو القول الكذب الزور، وإذا قلت: حقًا؛ والبينة إنما شهدت على أني قلت لها: يا زانية وأنا صادق في ذلك ولست بقاذف؛ فلا يكون فيه تكذيب لنفسه. ومن أصحابنا من قال: هذا تكذيب منه لنفسه لأنه نفي أن يكون قذف وقد قامت البينة عليه بالقذف وحكمنا عليه بالقذف. ألا ترى أنَّا نحده بالقذف إلا أنَّا مع كونه مكذبًا له أن يلاعن وثبت الزنا عليه، وإن كان قد جحد الكذب وصار مكذبًا فيه وهو اختيار أبي إسحاق. ومنهم من قال: هذا تكذيب منه لنفسه؛ ولكنه يلاعن لأنه يقول: ما قذفت ولكن هي زانية فيكون بهذا القول قاذفًا، ومتى قال لها: ألا إن هي زانية فقد أحدث قذفها فيلتعن لأجل هذا القذف الحادث ويحققه باللعان، ولو قال: كذبت فيما قلت هي ما زنت ولم أقذفها، لم يكن له اللعان وكذلك إذا ادعت عليه أن قال لها: يا زانية فقال: ما قلت ذلك، وأقامت البينة بذلك فقد كذب نفسه فعليه الحد ولا يلاعن لأنه تقدم منه إقرار بأنها ليست بزانية فليس له أن يرجع ذلك؛ وكيف يقول في لعانه: إني لمن الصادقين فيما رميتها به، ولم يوجد منه القذف على

قوله، فالقائل الأول والثاني يقولان: يلاعن للقذف الأول، والقائل الثالث يقول: يلاعن للقذف المجدود. ومن قال بالأول قال: حصل قذفها في لفظ لعانه حيث يقول: إني لمن الصادقين فيما رميتها به فلا يحتاج إلى تجديد هذه اللفظة [188/ ب] متى أراد اللعان وقال ابن أبي ليلى: لا يلاعن لأنه جحد القذف وقاعدة اللعان القذف وقصد الشافعي بما ذكر من العلة هو. مسألة: قال: "ولو قذفَها ثم بلغَ لم يكنْ عليهِ حدٌ ولا لعانٌ". الصبي إذا قال لزوجته: يا زانية لم يكن قذفًا ولا حد عليه ولا تعزير أيضًا لأنه لا حكم لكلامه، فإن بلغ وأراد اللعان لم يكن له لأن اللعان إنما يكون على القذف وليس هذا بقذف، وقال القفال: ولكن يؤدب الصبي على ما قال: إن كان يعقل عقل مثله، فإن لم يؤدب حتى بلغ لم يؤدب بعده لأنه زال المعنى الذي ونبه. مسألة: قال: "ولو قذفَها فِي عدةِ يملكُ فيهَا رجعةَ فعليهِ اللعانُ". الرجعية في حكم الأزواج فيلاعنها زوجها ولا يؤخر إلى أن يراجع كما يؤخر أمر الظهار والإيلاء لأن الظهار تحريم وهي محرمة والإيلاء مضارة ولا تبين المضارة في حال التحريم واللعان يراد لأمور تتحصل الآن وفي تأخيره ضرر بما يموت فيبقى النسب غير منتفي في الحال فيلاعن. مسألة: قال: "ولو بانتْ فقذفَها بزنًا نسبهِ إلى أنه كانَ وهيَ زوجتُه حدَ ولا لعانَ". إذا أبان زوجته بالطلاق الثلاث أو الخلع أو الفسخ ثم قذفها بزنا كان بينها في حال الزوجة نظر، فإن لم يكن هناك ولد ينفيه لم يجز له أن يلاعن، وحد إن لم يأت بالبينة لأنه لا ضرر فيه إلى قذفها بعد البينونة، وقال عثمان البتي: له أن يلاعن، وبه قال الأوزاعي وأحمد؛ وقيل عن أحمد مثل قولنا وهو الصحيح. وإن كان هناك ولد يريد نفيه له أن يلاعن وقال أبو حنيفة: لا يلاعن لأنه قذفها في غير الزوجية فأشبه إذا لم يكن هناك ولد وهذا غلط لأنه لا حاجة به إلى قذفها [189/ أ] واللعان عند عدم الولد وبه حاجة إلى ذلك عند وجود الولد لئلا يلحقه نسب ولد ليس منه فافترقا، واعلم أن الشافعي ألزم نفسه سؤالاً فقال: فإن قيل: فلم لاعنت بينهما وهي بائن إذا ظهر بها حمل قيل: كما ألحقت الولد لأنها كانت زوجة فلاعنت أيضًا عند الاحتياج لأنها كانت زوجة، ثم قال الشافعي: نفي رسول الله صلى الله عليه وسلم الولد وهي زوجة فزال الفراش كأن الولد بعدما يتبين أولى ينتفي، ومعناه أن اللعان إذا لاقى الفراش تعلق به قطع الفراش وقطع النسب ودرء الحد، فإذا انقطع الفراش بالطلاق كيف لا يقوى اللعان على دفع النسب ودرء الحد وهو بعض ما كان يقوي عليه قبل ذلك.

فرع إذا لاعن منها عند وجود الولد ونفي نسب الولد؛ هل تحرم هي على التأبيد عليه؟ لا نص فيه؛ واختلف أصحابنا فيه على وجهين؛ أحدهما: تحرم على التأبيد وهو الأشبه، والأصح أن اللعان إذا صح تعلق به التحريم على التأبيد كما لو لاعن زوجته، ولأن كل نسب يوجب التحريم المؤبد إذا صادف الزوجية أوجب التحريم المؤبد، وإن صادف غير الزوجية كالرضاع، والثاني: لا تحرم على التأبيد لأن التأبيد تابع لوقوع الفرقة بهذا اللعان، ولأنه تحريم يختص به الأزواج، فإذا صادف البينونة لا حكم له في الطلاق. فرع آخر إذا قلنا بالوجه الثاني، هل يجرى عليه حكم الطلاق الثلاث حتى لا تحل إلا بعد زوج لأن أضعف أحواله أن يكون الطلاق، والثاني: تحل قبل زوج إذا لم يستكمل عدد الثلاث بالطلاق المقدم لأن هذا اللعان لم يؤثر في الفرقة فلم يؤثر في التحريم أصلاً، ولو أثر في التحريم لكان تأثيره في تحريم التأبيد أولى. [189/ ب] فرع آخر قال القفال: إذا لاعن فنفي الولد وحده فهل تلاعن المرأة؟ فيه وجهان؛ أحدهما: تلاعن كما في النكاح، والثاني: لا تلاعن؛ لأن نفي الولد ضد مقتضى لعانها فلا معنى للعانها فيه. قال: وهذان الوجهان مبنيان على أنها هل تذكر أمر الولد في لعانها أم لا، والوجه الثاني أظهر لأن الشافعي قال: لو نسي الحاكم نفي الولد في اللعان قال الزوج: إذا شئت نفيه فلاعن، فإذا أعاد لم تعد المرأة لعانها كذلك هاهنا لا يلاعن ولا يحد فإنه لم يلاعن لإثبات الزنا عليها وإسقاط الحد عن نفسه وإنما لاعن لنفي الولد وحده. فرع آخر لو كان بها حمل يريد نفيه في المسألة التي ذكرناها نقل المزني بأن له أن ينفيه باللعان فقال: إلا أن ينفي به ولدًا أو حلاً فيلتعن، وذكر المزني في "الجامع الكبير" هذه المسألة؛ وقد قال الشافعي: لا لعان بينهما إلا أن ينفي ولدًا أو حملاً فيلا عن للولد ويوقف للحمل، فإذا ولدت التعن فإن لم يلاعن حدَّ، ثم قال المزني: أولى بقوله أن يلتعن، وإن لم تلد إذا أن الحمل. واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق: التلاعن على نفيه قولاً واحدًا كما نقل المزني لأن المقصود باللعان هاهنا النفي. ألا ترى أنه لو لم يكن هناك ولد لا يلاعن فلا يجوز ذلك، حتى يتيقن الولد الذي هو سبب صحة اللعان وحمل أبو إسحاق ما نقله المزني على ما قرره في "الجامع الكبير" وهو أنه يلاعن إذا وضعت، ويخالف هذا إذا كانت زوجته حاملاً له أن يلاعن وينفي الحمل قولاً واحدًا لأن المقصود هاهنا درء الحد عن نفسه، وينفي النسب تبعًا لأنه، وإن لم

يكن ولد يلاعن أيضًا، ومن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: ما ذكرنا وهو الأصح. والثاني: له أن يلاعن لنفيه كما في الزوجة يصح اللعان لنفي حملها كما يجوز لنفي ولدها المنفصل [190/ أ] وقيل: هذان القولان مبنيان على أن الحمل هل يعلم أم لا حتى يلزم الاتفاق عليها للحمل، وفيه قولان؛ وهذا ضعيف لأنه لا يشبه النفقة فإنه إذا اتفق فلم يكن حمل يمكن الرجوع عليها ولا يمكن الرجوع في حكم اللعان. فرع آخر لو قذف زوجته وهي حامل له أن يلاعن لنفي نسب الحمل على ما ذكرنا، وإن لم يكن صرح بقذف الزنا، وبه قال مالك: ولو اختار تأخيره إلى ما بعد الانفصال كان له. وقال أبو حنيفة منع الفرقة إذا لاعنت أيضًا وفرق الحاكم بينهما ثم تلحق نسب الولد ولا يقدر على نفسه بحال لأن اللعان لا يصح بعد زوال النكاح وهذا غلط؛ لأنه ولد يلحقه نسبه فله نفيه باللعان كالولد المنفصل ولأن هلال بن أمية لاعن على الحمل وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا جاءت به على نعت كذا وكذا أفلا أراه إلا وقد صدق عليها، وهذا نص صريح. فرع آخر لو استلحق الحمل لحقه، ولم يكن له نفيه بعده وقال أحمد: لا يصح استلحاقه ولا نفيه وهذا غلط؛ لأنه محكوم بوجوده لأنه يوقف له الميراث وتجب له النفقة فصح الإقرار به واحتج بأن إقراره به معلق بشرط إن كان بها حمل فلا يصح عليها لو علق الإقرار بدخول الدار قلنا: لا نقول إنه معلق بشرط ولكن نقول حكمه يظهر به في الحال. فرع آخر لو قذفها ثم أبانها له اللعان سواء أكان هناك ولد أو لا وقال أبو حنيفة: سقط اللعان بالإبانة وهذا غلط؛ لأنه ثبت حق اللعان بالقذف فلا يسقط بحادث الإبانة بعده. فرع آخر لو كان هناك ولد فلاعنها ووقعت الفرقة بينهما ثم قذفها بزنا آخر نسبه إلى حال الزوجية لا يلاعن لأنه لا نسبه هناك ينفيه وهل يلزمه الحد؟ فيه وجهان؛ [190/ ب] أحدهما: لا يحد ويعزر لأن اللعان أسقط إحصانها على ما ذكرنا. والثاني: يحد لأن حكم اللعان لا يتعدى إلى غير حال الزوجية. مسألة: قال: "ولو قالَ: أصابكَ رجلٌ في دبركِ حدَّ ولاعنَ". القذف في الدبر والقبل سواء لأن الدبر فرج ينبغي باليلاج فيه لذة كاملة، فكان

القذف به موجبًا للحد كالقبل، ثم إن قذف به امرأته لاعن لأن به ضرورة إلى قذفها به، وإن قذف به أجنبية أو رجلاً أو غلامًا يحد إلا أن يأتي بأربعة شهداء، وقال أبو حنيفة: لا يصح القذف ولا يلاعن أصلاً ويعزر بناءً على أصله أنه لو تحقق ذلك لا يحد بل يعزر، وذكر المزنى هذه المسألة في "الجامع الكبير" وقال: لا أدري على ماذا أقسه كأنه أنكر هذا المذهب، فنقول له: قسه على القبل كما ذكرنا. وحكي صاحب "الحاوي" عن المزني" إذا قذف بالإتيان في الدبر يجب الحد ولا يجوز اللعان لأنه لا يختلط بمائه، ولا يقدح في نسبه. وعلى ما ذكرنا إذا لاعن في هذه المسألة سقط الحد عنه وثبت التحريم به وفي جواز نفي الولد به وجهان؛ أحدهما: لا يجوز لاستحالة العلوق منه، ويلحق الولد بالزوج إلى أن يقذف بما يكون منه الولد ويلاعن لنفيه وهو اختيار العمري. والثاني: يجوز لأنه يحتمل أن يسبق الإنزال فيستدخله الفرج فتعلق به. فرع لو قال: أنت سحاقة، أو أصابك رجل فيما دون الفرج، أو قبلك، أو عانقك، لا يلزمه الحد ولا لعان أيضًا وعزر للأذى لأن هذا الفعل لو تحقق لا يوجب الحد. فرع آخر لو قال: وطئك رجلان في حالة واحدة عزر ولم يحد لاستحالته، وهذا التعزير للأذى. فرع آخر لو قال: علوت علي رجل ودخل منه في ذلك منك؛ يلزمه الحد، وله اللعان لأنه لو تحقق عليها ذلك وجب الحد نص عليه في "الأم" [191/ أ]. مسألة: قال: "ولو قالَ لها: يا زانيةُ بنتُ الزانيةِ وأمهَا حرةٌ مسلمةٌ". الفصل إذا قال لامرأة: يا زانية بنت الزانية فقد قذف كل واحدة منهما وعليه لكل واحدة منهما حد قولاً واحدًا ولا يتعلق حكم إحديهما بالأخرى لأنه أفراد كل واحدة منهما بالقذف بخلاف ما لو قذف اثنتين بكلمة واحدة يلزم حد واحد في أحد القولين لأنه جمعهما في القذف بكلمة واحدة، ولا فرق بين أن يقول: يا زانية بنت الزانية وبين أن يقول: زنيت وأمك زنت، ولو قال: أنت وأمك زانيتان قال القفال: فإن قلنا: في الأجنبيتين يلزم حدان فهاهنا أولى وإن قلنا: هناك يلزم حد واحد فهاهنا وجهان؛ لأن الموجب مختلف يلاعن في إحديهما ولا يلاعن في الأخرى والأصح أنه يجب حد

واحد هاهنا أيضًا لأن الحجة مختلفة لا الموجب، فإذا تقرر هذا لا يجوز لامرأته أن تطلب حد أمها وإنما المطالبة إلى الأم أو وكيلها، فإن كانت الأم ميتة فهي تطلب حد أمها وإنما المطالبة إلى الأم أو وكيلها، فإن كانت الأم ميتة فهي تطلب حد أمها مع باقي الورثة على قولنا إنه يثبت حد القذف لجميع الورثة الرجال والنساء، ولو جاءت البنت تطلب حدها والأم غائبة كان له إسقاطه بالبينة أو اللعان، فإن عجز عنها حدّ لها، وإن جاءت الأم قبل البنت كان له إسقاط حدها بالبينة خاصة فإن لم يكن بينة حد لها ولو جاءتا معًا فالمنصوص أنه يقدم حد الأم وهو المذهب. ومن أصحابنا من قال: يقدم حد البنت وهو اختيار أبي إسحاق لأن الحد لها سبق حد الأم بقوله: يا زانية ثم قال: بنت الزانية وهو كما لو قتل رجلاً ثم رجلاً قدم القصاص الأول ولأنه إذا قذف أجنبيتين بكلمتين يبدأ الحد من قدم أولاً كذلك هاهنا والأول أصبح لمعنيين؛ أحدهما: أن حد الأم مجمع عليه [191/ ب] وحد البنت مختلف فيه، فإن عند أبي حنيفة لا يجب الحد لها بل يجب اللعان فقط والثاني: أن حد الأم أقوى لأنه لا يمكن إسقاطه إلا بالبينة وحد البنت يسقط باللعان فإذا قلنا: تقدم الأم فحددناه لها ثم جاءت البنت وطالبته فلم يلاعن ولا يأتي ببينة يلزم الحد لها ولكن لا يقيم عليه الحد حتى يبرأ من الحد الأول لأنه لا يجوز الموالاة بين الحدين مخافة التلف ويحبس حتى يبرأ للحد الثاني. فإن قيل: أليس لو اجتمع عليه قطعان قطع في يمينه بسرقة، وقطع في يساره بجناية يوالي بين القطعين فما الفرق؟ قلنا: الفرق أن القصد من الحد الزجر فأمر بحد الظاهر منه البقاء دون التلف ونخاف التلف بين الموالاة بين الحدين ولا يمكن أن يقال في القطع أمر بقطع لا يؤدي إلى التلف لأن ظاهر القطع التلف فوالينا بين القطعين وفي هذا نظر؛ لأنه يلزم على هذا أن يقطع في شدة الحر والبرد ولا يقطع عند وجود ذلك وأيضاً الحد مقدر بالشرع فلا يراد عليه، ولهذا لو تكرر سببه لم يتكرر الحد، فلو والينا بين الحدين أضر به وأدى إلى خلاف موضوعه والقصاص يجوز أن يجب في الأطراف كلها لواحد ويستوفي له في حالة واحدة أن يجب لاثنين ويستوفي لهما في حالة واحدة، وإذا قدمنا البنت ولم تلاعن ولم تقم البينة نحده لها ثم يخاصم الأم ونحده لها بعد برئه من الحد الأول على ما ذكر القفال عن بعض أصحابنا أنهما إذا اجتمعا على المطالبة يقرع بينهما لأن الكلام فصل واحد. وقال أبو حنيفة: إن لاعن الابنة يحد للأم، وإن حد للأم أولاً بطل حق البنت لأنه يصير محدوداً في القذف فلا يصح لعانه. قال: وإن اجتمعا يقدم حد الأم أولاً ثم يلاعن [192/ أ] واعلم أن الشافعي ربما يستقصي شرائط مسألة في موضع ثم إذا استقبلته تلك المسألة يذكر بعض شرائطها اعتمادًا منه على ما قد استقصى وهاهنا فعل على هذه العادة فقالك "وأمها حرة مسلمة" فاقتصر من ذكر شرائط الإحصان على الحرية والإسلام ولم يذكر العقل والعفة.

فرع آخر لو قذف عبد رجلين فوجب عليه حدان هل يوالي بين الحدين؟ يحتمل وجهين ذكرهما أبو إسحاق؛ أحدهما: يوالي لأن الذي يقام عليه الحد ثمانون جلدة وقد يجوز أن يوالي عن الحر ثمانون جلدة والثاني: لا يوالي لأنهما حدان في حقه، والأول أقرب عندي. فرع آخر لو ثبت على رجل حدان لله تعالى أحدهما بالإقرار، والآخر بالبينة قال القفال: قدم ما ثبت بالبينة فإنه ربما يرجع عن الإقرار، فهاهنا أيضاً ينبغي أن يقدم حد الأم لأنه ربما يسقط حد الابنة باللعان. مسألة: قال: "ومتى أبى اللعانُ فحددته إلاَّ سوطًا ثمَ قالَ: أنا ألتعنُ، قبلتُ رجوعَه ولا شيءَ لهُ فيمَا مضى". اللعان في هذا كالشهادة عندنا لا كاليمين فإذا حددناه إلا سوطاً ثم قال: أنا أعود إلى اللعان أعدناه كما لو قال: أنا أقيم البينة قبلناها وتركناه، وكذلك المرأة إذا وجب الحد عليها بلعان فحده إلا سوطاً فقالت: أنا أعود إلى اللعان قبلنا وعادت إلى اللعان، فيسقط بلعانها ما بقي من الحد ولا شيء عليه فيما مضى من الضرب لأنه كان ضربًا ليمين ويخالف هذا إذا نكل المدعى عليه عن اليمين وردت اليمين إلى المدعي فقال المدعى عليه: أنا أحلف؛ لا يرد عليه اليمين لأن اليمين صارت حجة للمدعي، فلم يجز أن يأتي بها المدعى عليه وليس كذلك اللعان لأنه لا يصير بنكوله حجة لغيره. قال القفال: لو أقيم عليه الحد في التمام؛ ثم قال: ألاعن؛ لأصدق نفسي لم يقبل منه وهذا صحيح. [192/ ب]. مسألة: قال: "فإنَ قالَ قائلٌ: كيفَ لاعنتَ بينهُ وبينَ منكوحةِ نكاحًا فاسدًا بولدٍ، والله تعالى يقول: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6]، وهذهِ لستْ بزوجة". الفصل نقل المزني سؤالاً قبل بيان المذهب؛ فنحن أولاً نبين المذهب وهو أنه: إذا قذف المنكوحة نكاحًا فاسدًا لم يكن له اللعان إلا أن يكون هناك ولد يريد نفيه فيكون حكمه حكم المطلقة البائن في جميع ما ذكرناه. وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: لا يلاعن عنها بحال لأنها أجنبية منه وهذا غلط، وذكر الشافعي هاهنا وهو أنه لو جعل الوطئ في النكاح الفاسد كالوطئ في النكاح الصحيح في الأحكام من وجوب المهر والعدة ولحوق النسب فكذلك بالنفي باللعان، وقيل: هذا في النفي باللعان أولى لأن النسب أقوى في النكاح الصحيح، فإذا جاز نفي الأقوى فلأن يجوز نفي الأضعف أولى،

وهكذا الخلاف في الموطوءة بالشبهة إذا قذفها، فإن كان هناك ولد لاعن وإلا فلا يلاعن، وعند أبي حنيفة لا يلاعن؛ وهذا غلط لأنه يحتاج إليه لنفي ولد ليس منه، واللعان للنفي عند الاحتياج. وذكر القفال عن بعض أصحابنا أنه لم يكن هناك ولد، وكان عالمًا بفساد النكاح لا يلاعن، وإن لم يكن عالمًا بفساد النكاح هل يلاعن؟ وجهان؛ وهذا غريب ضعيف. وقيل: جملة الأحكام المتعلقة باللعان أربعة؛ درء الحد عن نفسه، ونفي الولد، وقطع الفراش، وإلحاق الحد عليها. وهاهنا حكمان مقصودان بجوز إفراد كل واحد منهما باللعان وهما درء الحد عن نفسه إذا طالبه به، والثاني: نفي النسب وفيها حكمان تابعان لا يجوز إفرادهما باللعان؛ وهو قطع الفراش وإيجاب الحد عليها، والفرق أن به حاجة إلى نفي النسب، ودرء الحد عن نفسه باللعان، [193/ أ] فإن غيره لا يقوم مقامه في ذلك، ولا حاجة به إلى إيجاب الحد عليها ولا إلى قطع الفراش فإنه يمكنه ذلك بالطلاق وهذا هو المذهب الصحيح. فرع إذا لاعنها في النكاح الفاسد على ما ذكرنا؛ قال القاضي الطبري: لها أن تلاعن لدرء الحد عن نفسها وقد ذكرنا عن القفال خلاف هذا؛ وهو القياس، والمشهور ما ذكره عن القاضي. فرع آخر إذا قذفها ولاعن لإسقاط الحد عن نفسه ثم بان أن النكاح كان فاسدًا لا تحرم عليه المرأة باللعان؛ لأن اللعان لا يصح في النكاح الفاسد، فلا يتعلق به التحريم. فرع آخر قال أحمد بن حنبل: لا تعجبون من أبي عبد الله يقول للسيد أن يلاعن في أم ولده حكاه ابن أبي هريرة، فمن أصحابنا من قال: هذا قول في المسألة للشافعي. وإذا لاعن حرمت على التأبيد كالزوجة، والمشهور أنه لا يلاعن عنها لأنه يمكنه نفي نسب ولدها بدعوى الاستبراء واليمين عليه فلا حاجة إلى اللعان. قيل: أراد بأبي عبد الله؛ سفيان الثوري، وهذا غلط لأنه روي أنه قال من الشافعي، وقيل: أراد إذا كانت زوجته أمة فإن أحمد قال: لا يجوز نفي ولدها باللعان؛ وهذا غلط أيضًا. وقال صاحب "التقريب": إن صح أن أراد به الشافعي فالمراد باللعان اليمين إذا ادعى الاستبراء. فرع آخر إذا اشترى امرأته فجاءت بولد ولم يقر بوطئها لدون أربع سنين له النفي باللعان، وإن جاءت به لأكثر من أربع سنين من يوم الشراء فهو منفي بلا لعان، وإن أقرَّ بالوطئ، فإن جاءت به لأقل ممن ستة أشهر فله اللعان، وإن جاءت به لستة أشهر فصاعدًا لحفه إلا أن يدعي استبراءً بعد الوطئ، وتأتى به لستة أشهر فصاعدًا بعد الاستبراء فلا يلحقه [193/ ب].

باب أين يكون اللعان؟

مسألة: قالَ: "وقالَ بعضُ الناسِ: لا يلاعنُ إلا حرَّانِ مسلمانِ". الفصل قصد به الرد على أبي حنيفة وقد ذكرنا هذا فيما تقدم، وذكر الشافعي أن أبا حنيفة ترك ظاهر الآية لمعنى قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6]. ولم يفصل بين الحر والعبد، وذكر أنه قال: اللعان شهادة وليس كذلك بل هو يمين لأنه لا يجوز أن يشهد بنفسه ولكانت المرأة تأتي بثماني شهادات، لأنها على النصف من الرجل في الشهادة، وإنه يصح من الأعمى والفاسق، ولا تجوز شهادتهما، ثم ألزم نفسه سؤالاً فقال: فإن قيل: الفاسق والفاسقة قد يتوبان، قلنا: وكذلك العبد قد يعتق فتجوز شهادته ثم أكد هذا بأن العبد إذا أعتق تقبل شهادته في الحال، والفاسق إذا تاب لا تقبل شهادته في الحال، ثم الذمة أن الذمي من أهل الشهادة على الذمي والذمية، وتقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض عنده فينبغي أن يجوز اللعان بين الذمي والذمية أيضًا. واعلم أن الفاسق إذا تاب لا تقبل شهادته إلا بعد مدة الاستبراء، وهذه المدة قدرها بعض أصحابنا بسنة وكلام الشافعي هاهنا يدل على أنها لا تتعذر، بل الرجوع بها إلى العرف والعادة لأنه قال: لو تابا لم يقبلا إلا بعد طول مدة يختبران فيها ولم يقدر. باب أين يكون اللعان؟ مسألة: قال: "قالَ: وروي عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أنهُ لاعنَ بينَ الزوجينِ على المنبرِ". الفصل جملته أن اللعان لا يصح إلا بحضرة الحاكم لأنه يمين ولا يصح يمين المتداعيين إلا بحضرة الحاكم. وأيضًا اللعان الذي كان في الشرع إتيان هلال بن أمية [194/ أ] ولعان العجلاني وكلاهما كان بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم فإذا تقرر هذا فاللعان يغلط أربعة أشياء؛ باللفظ، والمكان، والزمان، والجمع أما باللفظ وهو أن يأتي كل واحد منهما بأربع شهادات؛ بالله وحكمه اللعن أو الغضب على ما نطق به الكاتب وهذا شرط بلا خلاف. وأما المكان فهو أن يلاعن فهو أن لاعن في أشرق البقاع، فإن كان بمكة ففي المسجد الحرام بين البيت والمقام، وقيل بين الركن والمقام وكلاهما واحد، قال القفال: أحلف في الحجر وهذا لا بأس به ولكنه غير مشهور، وإن كان في المدينة قال الشافعي: هاهنا على المنبر، وقال في موضع آخر: عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم. واختلف أصحابنا فيه فقال أبو إسحاق: هذا على اختلاف حالين فالذي قال على

المنبر أراد إذا كثر الناس ليراه الناس، والذي قال: عند المنبر إذا قل الناس، وقال ابن أبي هريرة، يلاعن عند المنبر لا على المنبر بكل حال لأن في صعودهما على المنبر إعظام لهما ولا يجوز ذلك؛ لأنهما فاسقان أو أحدهما والذي قال على المنبر معناه عند المنبر كما يقال: حلف على المصحف يعني بالمصحف وهذا لأن حروف الصفات يقوم بعضها مقام بعض، وأما ما رواه الشافعي بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لاعن بين زوجين على المنبر قيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على المنبر قاعدًا والمتلاعنان بين يدي المنبر ويؤمر الحاكم لأن بهذا وقيل: معناه أمر الملاعن بأن يصعد المنبر والرسول صلى الله عليه وسلم كان جالسًا عند المنبر فصعد العجلاني المنبر ولاعن ثم نزل وصعدت المرأة المنبر ولاعنت ويؤمر الحاكم الآن بهذا. قال القفال: وهذا أصح [194/ ب] لأنه رثي على عثمان رضي الله عنه أن يحلف على المنبر فأبى أن يحلف وقال: أخاف أن يوافق قدر بلاء فيقال بيمينه. وإن كان في بيت المقدس ففي موضع الاختيار من مسجدها وجهان؛ أحدهما: عند الصخرة وهو المشهور لأنها أشرف بقاعه، وقال أبو حامد وجماعة: يكون على المنبر أو عنده لأنه أخص بالشهرة، وإن كان في سائر البلاد ففي جوامعها عند المنبر لأنها أشرف البقاع، ومن أصحابنا من قال: لا يختص بالمنبر في سائر البلاد لأنه لا مزية لبعض المسجد على بعض في سائر البلاد ويخالف المدينة لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة" ذكره في "الشامل" ولم يذكره خلافًا وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف عند منبري هذا يمين إن وجبت له النار". وروى جابر رضي الله عنه يتبوأ مقعده من النار فخص منبر لنفسه، وأما التغليظ بالزمان فهو أن يحلف بعد العصر، قال الله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106]. وقيل في التفسير: أراد بالصلاة هاهنا صلاة العصر. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولهم عذاب أليم رجل حلف يمين على مال مسلم فأقطعه، ورجل حلف على يمين بعد صلاة العصر لقد أعطى بسلعته أكثر مما أعطي وهو كاذب، ورجل منع فضل ماء. فإن الله تعالى يقول: "اليوم أمنعك فضلي كما منعت فضل ما لم تعمله. قال القفال: ويؤكد يوم الجمعة إن لم يكن في تأخيره إلى يوم الجمعة ضرر فيحلف بعد صلاة العصر من يوم الجمعة لأن أبا هريرة رضي الله عنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم [195/ أ] أنه قال: "إن في الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مسلم يصلي فيسأل الله شيئًا إلا

أعطاه"، فقال كعب الأحبار: إنها الساعة بعد العصر فقال أبو هريرة: كيف تكون بعد العصر وقد قال: "لا يوافقها عبد مسلم يصلي"، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس فقال كعب: أليس قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن العبد في الصلاة ما انتظر الصلاة". وأما التغليظ بالجمع أن يجمع لها طائفة من الرجال العدول أقلهم أربعة ليثبت بشهادتهم وهذا لقوله تعالى: (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ) [النور: 2]، فلما كان الحد يستحب أن يكون بحضرة طائفة تستحب أن تكون بحضرتهم. وقيل في التفسير: أراد بالطائفة هاهنا أربعة، ولأن ابن عباس وابن عمر وسهل بن سعد الساعدي رضي الله عنهم حضروا اللعان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم على حداثة منهم والصبيان لا يحضرون المجالس إلا تابعين للرجال فدل أنه حضر جماعة من الرجال وتبعهم الصبيان ولأن اللعان مبني على التغليط المردع والزجر وفعله عند الجمع أبلغ في الردع، وأما التخصص بالأربعة فلأن شهود الزنا أربعة فلذلك هذا يخص بالأربعة. فإذا تقرر هذا فلا يختلف المذهب أن التغليظ في اللفظ بالتكرار واجب هاهنا على ما ورد في سائر الدعاوى توكيد الإيمان باللفظ فيؤمر أن يقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ونحو ذلك وهو إذا كانت الدعوى في غير المال أو في المال الذي بلغ نصابًا ولا يكون هذا واجبًا قولاً واحدًا، وأما التغليظ بالزمان والجمع لا يجب قولاً واحدًا بل يستحب ذلك، وأما التغليظ بالمكان فيه قولان؛ أحدهما: أنه مستحب كالزمان والجمع [195/ ب] والثاني: أنه واجب حتى لو أخل به يعاد اللعان لأن النبي صلى الله عليه وسلم غلظ بالمكان وعدد الإيمان فكما وجب أحدهما كذلك الآخر، وقال أبو حنيفة: لا يغلظ بالمكان والزمان والجمع وهذا غلط؛ لما ذكرنا. وقال القفال في التغليظ بالزمان: هل يجب أم لا؟ قولان أيضًا وهذا غير مشهور، وقيل في التغليظ بالجمع: بل يجب قولان أيضًا وليس بشيء وعلى ما ذكرنا لو امتنع الرجل أو المرأة من اللعان في الموضع المغلظ هل يجعل ناكلاً؟ قولان بناء على القولين في الوجوب. مسألة: قال: "ويبدأ الإمام فيقيمُ الرجلُ قائمًا والمرأة جالسةً". الفصل السنة أن يتلاعنا قائمًا وهو نوع تغليظ فيقوم الرجل والمرأة جالسة فتلاعن، وإن لاعن قاعدًا مع القدرة أساء ويجزيه، فإذا فرغ الرجل وأرادت المرأة اللعان قامت والتعنت والرجل جالس هكذا روي في قصة هلال وهذا لأن القصد به الردع والزجر، رجاله القيام أبلغ من الردع والزجر ولأنه عند القيام إلي سماع الناس أقرب فكان أولى.

واعلم أنه يشترط فيه الترتيب فيلاعن الرجل أولاً ثم تلاعن المرأة فإن لاعنت قبل لعانه لم يعتد به وتؤمر أن تلاعن بعده، قال الشافعي: فإن حكم الحاكم بصحة لعانها قبل لعانه نقضت حكمه وهذا لأن الله تعالى بدأ بالرجل في اللعان. وقال أبو حنيفة ومالك: إن بدأت باللعان جاز ويعتد به وهذا غلط؛ لأن الله تعالى قال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 8]، فجعل لعانها إدراء العذاب عنها. وقبل لعانه لم يجب عليها شيء بالإجماع ولأن اللعان يمين أو شهادة ويجوز تقديم واحد منهما على وقته. واختلف أصحابنا فيما ذكر الشافعي نقضت حكمه أنه لأي سبب (196/ أ] ينقض، فقال بعضهم: ينقص لمخالفة النص، وقال أبو حامد، لمخالفة قياس لا تحتمل غيره وهو ما ذكرنا. واختلف من قال: بالنص على وجهين، أحدهما: نص التنزيل الذي ذكرنا من التعليل في درء العذاب عنها بعد وجوبه عليها. والثاني: نص السنة في قوله صلى الله عليه وسلم: حين ابتدأ في السعي بالصفا ثم بالمروة: "ابدؤوا بما بدأ الله به". وقال القفال: ومن جملة التأكيد في اللعان أن يأمر رجلاً ليضع يده على فم الزوج إذا أراد أن يذكر كلمة اللعنة، ويأمر امرأة أن تضع يدها على فم الزوجة إذا أرادت أن تذكر كلمة الغضب ويقول لكل واحد منهما: إنها موجبة أي تجب عليك اللعنة إن كنت كاذبًا ويجب عليك الغضب إن كنت كاذبة، وقد روي أنه صلى الله عليه وسلم أمر بذلك في امرأة العجلاني فتعتعت وقالت شيئًا فسمعه من قرب منها فحكي أنها قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم ثم مضت على يمينها، قال القفال: وفي هذا دليل على أنها تحد إذا امتنعت لأنه لا فضيحة في أن تحبس لتلاعن ويستحب أن يعظهما في ابتداء الأمر إذا حضر لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرهما وقال: "إن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا" فقال هلال: والله لقد صدقت عليها وقالت: كذب ثم تلاعنا. مسألة: قال: "إلا أن تكونَ حائضًا فعلى بابِ المسجدِ". قد بينا أنه يغلظ اللعان بالمكان فإن كانت طاهرًا ودخلت المسجد ولاعنت معه، وإن كانت حائضًا لاعن الزوج في المسجد فإذا فرغ منه لاعنت المرأة على باب المسجد لأن ذلك اللعان أشرف من الحوانيت والمازل ويحضر لعانها على باب المسجد الحاكم أو خليفته مع الجماعة أقلهم أربعة على ما ذكرنا وهذا لأنه لا يجوز [196/ ب] للحائض دخول المسجد والمكث فيه لا بقدر الخصومة ولا غيرها. مسألة: قال: "أو كانت مشركة التعنت في الكنيسة وحيث تعظم".

إذا كان الزوجان مشركين يلاعنان في الموضع الذي يعظمانه، فإن كانا يهوديين ففي الكنيسة، وإن كانا نصرانيين ففي البيعة، وإن كانا مجوسين ففي بيت النار وهذا لأنهم يعظمون هذه المواضع وليس فيها معصية فخلا الإمام أن يحلفهم فيها لينزجروا عن الكذب ولا نقول لهذه المواضع حرمة والمعنى في التغليظ بها ما ذكرنا ويخالف اليمين بالوثن والصم لأن ذلك معصية فلا يجوز التحليف به، وإن كانوا يعظمونه، فإن قيل: إذا حضر الحاكم معهما في هذه المواضع فقد شاركهما في المعصية بتعظيم هذه المواضع قيل: دخولها لا يكون معصية، وإنما المعصية في تعظيمها والحاكم لا يعظمها، وقال القفال: لا يؤكد يمين المجوسي ببيت النار لأنه لم يكن لها حرمة قبل الفسخ وإن كان الزوج مسلمًا والمرأة مشركة، فإن الرجل يلاعن في المسجد وتلاعن المرأة في البيعة والكنيسة. مسألة: قال: "وإن شاءت المشركة أن تحضره في المساجد كلها حضرته إلا أنها لا تدخل المسجد الحرام". قال أبو حامد: أراد الشافعي في الذمية تحت المسلم طلبت أن تلاعن زوجها في المسجد يجوز ذلك في جميع المساجد إلا المسجد الحرام وإنما كان لها ذلك إذا رضي الزوج به فإن لاعن الزوج في المسجد وطلبت أن تلاعن هي في الموضع الذي تعظمه كان عليها ذلك، وقال بعض أصحابنا: صورة المسألة في كافرين فأرادت المرأة أن تلاعنه في المسجد كان لها ذلك لأن التغليظ [197/ أ] عليه بالمكان الذي يعظمه حق لها، فإذا رضيت إسقاطه كان لها ولا وبد هاهنا من رضاه في لعانها في المسجد وهذا أقرب إلى المظاهر كلامه قال المزني: إذا جعل المشركة أن يحضره في المسجد وعسى بها مع شركها أن تكون حائضًا كانت المسلمة بذلك أولى وهذا مذهبه أن الحائض لا تمنع من المسجد كالمشركة والجواب، قال بعض أصحابنا: أن عرفنا حيضها وحياتها هل يجوز لها حضور المسجد؟ وجهان؛ أحدهما: لا يجوز. والثاني: يجوز لها ذلك. وهذا لا يصح لأن النص للشافعي فرق بينهما والمعنى ما ذكرنا في كتاب الصلاة أن المشركة لم تعتقد تعظيم المساجد حتى نطالبها بقضية الاعتقاد بخلاف المسألة فحيل بينها وبين المسجد ما دامت حائضًا. مسألة: قال: "وإن كانا مشركين لا دين لهما تحاكما إلينا لاعن بينهما في مجلس الحكم". إذا لم يكن لها دين من الزنادقة والدهر به وعبدة الأوثان وكانا عندنا بموادعة هدنة لا يعتقدان تعظيم المكان المخصوص لا يعتقدان صانعًا وربما يقولان بقدم الدهر فأي فائدة في يمينهما وكيف يتصور لعانهما ولا يمين لهما، قلنا: إنما يتصور ذلك لأنه ما

باب سنة اللعان ونفي الولد

من مشرك وإن خلا في شركه إلا وهو عند رجوعه إلى نفسه يعترف بخالق خلقه وإن كان معاندًا بلسانه. قال الله تعالى: في قصة إبراهيم عليه الصلاة والسلام حيث كسر الأصنام {فَرَجَعُوا إلى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} [الأنبياء: 64 - 65]. وقال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف: 87] [197/ أ] في آيات كثيرة، وأيضًا نأمرهم بذلك، وإن لم يعتقد تعظيمه لما يتعلق به من الأحكام في شريعتنا مثل نفي النسب والفرقة الحد وترجو أن تلحقهما سوء الكذب في اليمين الكاذبة. قال صلى الله عليه وسلم: اليمين الغموس تدع الديار من أهلها بلاقع، واللعن إلى مثلها أقرب منه إلى المسلم الكاذب. وصورة يمينه في سائر الدعاوى أن يقول: بالله الذي خلقني ورزقني ذكره أبو حامد وهو حسن، وقول اليهودي: في لعانه أشهد بالله الذي أنزل التوراة على موسى. ويقول النصراني: أشهد بالله الذي أنزل الإنجيل على عيسى. وفي غير اللعان من الأيمان يقولان مثله. باب سنة اللعان ونفي الولد مسألة: قال: "أخبرنا مالك عن نافع عن ابن عمر أن رجلاً لاعن من امرأته في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وانتفي من وردها ففرق رسول الله بينهما وألحق الولد بالمرأة، قال سهل بن سعد وابن شهاب: فكانت سنة المتلاعنين". قال أصحابنا: يتعلق باللعان خمسة أحكام: درء الحد، ونفي الولد، والفرقة، والتحريم المؤيد، ووجوب الحد عليها. وكل ذلك يثبت بمجرد لعانه ولا يفتقر فيها إلى لعانه ولا إلى حكم الحاكم، فإن حكم به الحاكم كان تنفيذًا منه لا إيقاعًا للفرقة، وأما لعان المرأة لا يؤثر إلا في إسقاط الحد عن نفسها فقط، وحكي عن عثمان البتي أنه قال: لا يتعلق باللعان الفرقة أصلاً، وروي عنه أنه يؤمر بالطلاق بعد اللعان، واحتج بأن العجلاني طلق امرأته بعد اللعان فأنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم طلاقه وهذا غلط؛ لقوله صلى الله عليه وسلم [198/ أ] "المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا" وأما ما ذكره لا يصح لأنه لما طلق قال له: "لا سبيل لك عليها" أي بما سبق من اللعان. وقال أبو حنيفة: تتعلق الفرقة ونفي الولد بلعانهما وحكم الحاكم وهو رواية عن أحمد، وعند أبي حنيفة أحكام اللعان إثبات نفي النسب وزوال الفراش والحد لا يجب حتى يسقط به، والتحريم على التأبيد لا يثبت أيضًا حتى لو أكذب نفسه وحد تحل له بعقد جديد وعند أبي حنيفة قبل حكم الحاكم الزوجية قائمة بينهما حتى لو طلقها نفذ طلاقه ولكن لا يجوز للحاكم أن يقرهما عليه بل يلزمه أن يفرق بينهما، وقال ربيعة ومالك، وداود، وزفر: تتعلق الفرقة بلعانها معًا ولا يحتاج إلى حكم الحاكم وهو الرواية الثانية عن أحمد، واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المتلاعنان لا يجتمعان أبدًأ بشرط لعانهما، واحتج أبو حنيفة بما روي

أن النبي فرق بين المتلاعنين، فأضاف التفريق إليه وهذا غلط؛ لأن قوله: يمنع الزوجين من البقاء على النكاح فالفرقة به لا تفتقر إلى حكم الحاكم كالطلاق. وأما الخبر الذي ذكره مالك يقول به: وليس فيه دليل على أنهما يجتمعان قبل لعانهما، وأما الخبر الذي ذكره أبو حنيفة قلنا: لفظ التفريق يستعمل لإيقاع الفرقة ويستعمل لإظهار الفرقة والمراد هاهنا الإظهار لا الإيقاع أي بين رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين مفترقان بدليل أنه رؤى والحق الولد بالأم والمعلوم أن الولد يلحق بالأم من غير حاجة إلى حكم الحاكم في الإلحاق ومعناه إظهار ذلك الحكم. وفسر الشافعي هذا اللفظ فقال: معنى قولهما: [198/ ب] أي قول سهل وابن شهاب: كانت تلك سنة المتلاعنين فرقة بلا طلاق الزوج وتفريق النبي صلى الله عليه وسلم غير فرقة الزوج إنما هو تفريق حكم. ثم اعلم أن الفرقة الواقعة به فسخ كالفسخ بالرضاع وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: هي طلقة ثانية وهذا غلط؛ لأنها فرقة لا ترتفع بعقد النكاح بحال فكانت فسخًا كفرقة الرضاع، وحكي عن الأصم أنه قال: لا ينتفي النسب باللعان وهذا خطأ فاحش لما روينا من الأخبار، ثم اعلم أن الشافعي استغل بعد هذا بتأويل ثلاثة أحاديث؛ أحدها أنه قال: وإذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يعلم أن أحدكما كاذب فهل ونكما تائب؟ فحكم على الصادق والكاذب حكمًا وحدًا وأخرجهما من الحد وقصد بهذا أنه صلى الله عليه وسلم لم يستعمل غلبة الظن وقضى على الصادق والكاذب قضاء واحدًا وأخرجهما من الحد بلعانهما فدل على أنه لا يجوز للحاكم الأخذ بباطن المكذب وعليه إجراء الحكم بظاهره وأن تيقن أن أحد الخصمين كاذب في خصومته لا محالة، وهذا لأنه لما لم يتيقن الصادق من الكاذب استوي حكمهما كما لو صلى باجتهاده أربع صلوات إلى أربع جهات بالاجتهاد لا يلزمه إعادة واحدة منهما، لأنه لم يتعين الخطأ في واحدة منها. والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فإن جاءت به أديعج فلا أراه إلا قد صدق عليها فجاءت به على النعت المكروه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن أمره أن يبين لولا ما حكم الله وأخبر أنه لم يستعمل دلالة صدقه عليها، وحكم بالظاهر بينه وبينها فمن بعده من الولاة أولى بأن لا يستعمل دلالة في مثل هذا المعنى، ولا يقضي إلا بالظاهر أبدًا لأنه صلى الله عليه وسلم يعلم ما لا يعلم غيره، [199/ أ] وقصد بهذا أنه وجد إمارة دالة على كذبها ولم يعمل عليها، وأخبر أن الله تعالى أمر بإجراء الحكم فيها بظاهر الأيمان، وإن كان كذبهما بينا بالدلالة وقيل: قصد رسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر صفة الولد لزيادة الردع والزجر حتى تنزجر عن مثل صنيعها. وقيل: قصد به الرد على مالك فإنه يستعمل في بعض المسائل دلالة الصدق على غير ما ورد به الشرع، فقد قال في الخلوة: إذا طالت أو قصرت يختلف الحكم، فإن كانت الخلوة في داره فالقول قولها في وجود الإصابة طالت أو قصرت، وإن كانت الخلوة في دارها فالقول قوله في عدم الإصابة إذا قصرت المدة، والثالث:

باب كيف اللعان

أنه قال: لما نزلت آية الملاعنة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أيما امرأة دخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء"، وقد ذكرنا هذا الخبر، قيل: "وروي أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم تأكل حرامهم، وينظر إلى عوراتهم فليست من الله في شيء"، وأراد بالحراب المواريث والنفقات، ورؤي في خبر المعراج أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "رأيت نسوة معلقات بثديهن يعذبن، فسألت جبريل عليه الصلاة والسلام عنهن فقال: هنَّ اللاتي ألحقن بأزواجهن من ليس منهم"، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "اشتد غضب الله على امرأة ألحقت بقوم من ليس منهم تنظر إلى عوراتهم، وتأكل حرامهم". وأما قوله في الخبر: وايما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه، لأن الرقة والرحمة عند النظر أكثر ما وعد للرجل والمرأة على حسب دينهما؛ والله أعلم [199/ ب]. باب كيف اللعان مسألة: قال: "ولما حكي سهل شهود المتلاعنين مع حداثته، وحكاهُ ابن عمرَ استدللنا على أنْ اللعانَ لا يكونُ إِلا بمحضر. من طائفةِ مِنْ المؤمنين". الفصل قصد الشافعي بهذا أنه يغلظ اللعان بجمع الناس، وقد ذكرنا ذلك، واحتج الشافعي رحمة الله عليه بأن ابن عمر وسهلاً رضي الله عنهما رويا خبر اللعان مع حداثة بينهما ولا يحضران في أمر يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يحضره الصغار إلا وقد حضره الكبار وقد بينا هذا. وهذا دليل على أن الصغار المميزين إذا حضروا مثل هذا المحضر لم يمنعوا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمنعهما، والفائدة في حضورهم تعلمهم وتبليغهم، فإن كانت المرأة مخدرة لا تبرز في حوائجها بعث الحاكم مع خليفته إلى منزلها أربعة عدول لتلاعن بحضرتهم فإن لم يفعل، وبعث خليفته وحده جاز لما ذكرنا أن الجمع لا يجب، وأما حد السرقة قال صاحب الإفصاح: يحتمل فيه وجهين: أحدهما أنه يستحب في إقامته إحضار طائفة أيضًا للزجر والردع. والثاني: لا يستحب لأن القطع يظهر فلا يحتاج إلى حضور طائفة للعلم به بخلاف اللعان وإقامة الحد فإنهما لا يظهران، فندب إلى حضور الطائفة فيهما. ثم قال الشافعي: "وفي حكاية من حكي اللعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة بلا تفسير دليل على أن الله تعالى لما نصب اللعان حكاه في كتابه فإنما لاعن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المتلاعنين بما حكاه الله تعالى في القرآن". وأراد به أنه لما أعرض الراوي عن كيفية اللعان عرفنا أنه صلى الله عليه وسلم [200/ أ] لاعن بينهما كما ورد به القرآن مفسرًا وهو بأربع شهادات وكلمة اللعن، ولو زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم في

لفظ اللعان زيادة في القرى، لنقل ذلك وهذا كما أنه قال رسول الله للأعرابي صلى الله عليه وسلم الذي أساء صلاته: توضأ كما أمرك الله لأن القرآن ورد بالوضوء مفسرًا، وجملته أن ما ذكره الله تعالى مجملاً لا بد للرسول صلى الله عليه وسلم من بيانه، إما بفعله أو بقوله، وما فسره الله تعالى لا يحتاج الرسول صلى الله عليه وسلم إلى بيانه، ولا يجب على الراوي نقله مفسرًا أيضًا. واللعان من هذه الجملة. فإن قيل: أليس ابن عباس وسهل رضي الله عنهما؛ بيَّنا كيفية اللعان فكيف ذكر الشافعي هذا؟ قيل: إنما قال الشافعي ذلك من رواية ابن عمر رضي الله عنه وحده، فإن قيل: قال الشافعي: يشهدها طائفة من المؤمنين أقلهم أربعة لأنه لا يجوز في شهادة الزنا أقل منهم أي: أقل من أربعة، وألا تنقص الطائفة عن أربعة لأجل أنه لا تقبل في شهادة الزنا أقل من أربعة، ولعل الزنا يثبت بالإقرار مرة كما يثبت بالشهادة قلنا: الوجه فيه أنه لما كان الزنا لا يثبت إلا بأربعة، وقد أمر الله تعالى طائفة بالحضور فالأولى لحضور هذا المحضر من يشهد على ذلك الزاني بالزنا لعلهم شهدوا ... فإذا شاهدوا فيه أليم العقاب رجعوا عن كذبهم فلا يكمل العذاب إذا رجعوا، ويقام عليهم حد القذف إذا كان المقذوف محصنًا فهاهنا كان أقل الشهود أولى من غيره بالحضور، وأقل عددهم أربعة جعلنا أقل الطائفة أربعة؛ ثم قسم فيه منزلة الإقرار على منزلة الشهادة فيما ذكرنا من الحد [200/ ب]. مسألة: قال: "واللعانُ أن يقول: الإمامُ للزوجِ: قلْ: أشهدُ باللهِ إني لمنْ الصادقينَ فيمَا رميتُ بهِ زوجتي فلانَة بنتُ فلانِ منْ الزنَا". الفصل اللعان أن يقول الإمام للزوج: قل أشهد بالله إني من الصادقين فيما رميت به زوجتي فلانة بنت فلان، ولو ابتدأ لعانه قبل تلقين الإمام لا تحتسب له ولا يحتاج إلى ذكر السبب إن لم يكن ولد ينفيه وينبغي أن يكون بعد حضور الزوجين وكل واحد منهما؛ بحيث يسمع كلام صاحبه، والأولى أن يراه مع سماع كلامه لتقع الإشارة إليه، وإن لم ير أحدهما ولا يسمع كلامه ينبغي أن يجمع أربعة من الشهود من روايتهما، وسماع كلامهما، فإن تباعا وتلاعنا يجوز لأن لعان كل واحد منهما بعد موت صاحبه يجوز، والموت قاطع للاجتماع ولكن إن بعد كل واحد منهما عن صاحبه بغير عذر يكره، وإن كان بعذر بأن تكوون حائضًأ فتقف عند أقرب إلى الغير لا يكره ثم إن كانت المرأة غائبة عن المجلس لا بد أن يرفعها في النسب حتى لا تشاركها امرأة أخرى فيه، وإن كانت حاضرة فهل تكفي الإشارة إلى عينها؟ وجهان؛ أحدهما: لا يكفي لأن اللعان أمر بني على المبالغة والتأكيد وأكد بالجمع بين الإضارة وذكر النسب، ولأنه يجوز أن يحضر

معها من يجوز أن تنصرف الإشارة إليه فيلزم التحقيق بذكر النسب مع الإشارة، وهذا ظاهر ما نص هاهنا. والثاني: يجوز الاقتصار على الإشارة مع ذكر الزوجية فيقول: إني لمن الصادقين فيما رميت به زوجتي هذه من الزنا وهو اختيار ابن سريج لأن الإشارة تغنى عن ذكر نسبها كما في الشهادات وسائر الأحكام، وقيل: فيه ثلاثة أوجه؛ أحدها: يحتاج إلى أربعة أشياء؛ [201/ أ] الإشارة وذكر الزوجية واسمها والنسب وهو اختيار القاضي أبي حامد وهذا بيان الوجه الأول الذي ذكرنا، والثاني يكفي شيئان: الإشارة مع ذكر الزوجية وهو الوجه الثاني الذي قاله أن سريج، والثالث يحتاج إلى الاسم أيضًا ولا يلزم ذكر النسب. وإن كان هناك نسب ولد يريد نفيه يقول في كل مرة: وإن هذا الولد ولد زنا ليس مني، ولو اقتصر وقال: إن هذا الولد من زنًا ولم يقل: وليس مني؛ هل يكفي بالانتفاء؟ قال القاضي أبو حامد: يكفي في الانتفاء لأن الولد الزنا لا يلحق به، وكان قوله: ليس مني تأكيدًا، وقال أبو حامد: لا ينتفي حتى يقول ما هو مني لأنه قد يعتقد أنه من زنا ويكون منه بأن تكون قد زنت قبل تزويجه بها وجاءت بولد لستة أشهر من وقت عقده فيكون لاحقًا به، وربما يعتقد أن الوطيء في النكاح بغير ولي زنا كما قال الصيرفي من أصحابنا: ويكون الولد من ثم إذا أتى ذلك أربع مرات وعظه الإمام أو الحاكم وقال له: اتقِ الله فإني أخاف إن لم تكن صدقت أن تبؤ لعنة الله؛ فإن رآه يريد أن يمضي أمر من يضع يده على فيه على ما تقدم بيانه فإن أبى تركه وقال: قل وعلي لعنة الله إن كنت من الكاذبين فيما رميت به فلانة من الزنا على ما بيناه، فإذا أتى به تم اللعان من جهته؛ ثم يأمر المرأة بالقيام وأن تقول: أشهد بالله أن زوجي فلان ابن فلان هذا لمن الكاذبين فيما رما نى به من الزنا، فإن كان غائبًا وقعت في نسبه حتى يتميز، وإن كان حاضرًا فعلى وجهين كما ذكرنا في المرأة؛ ولا يحتاج في لعانها إلى ذكر الولد لأنه لا مدخل لها في إثبات النسب وإنما تلاعن لدرء الحد عن نفسها. وكذا ذكر أصحابنا بالعراق، وقال القفال فيه وجه آخر؛ أنها تذكر الولد فتقول: [201/ ب] وهذا الولد ولد ليستوي اللعانان في المقابلة ويكرر ذكر أربع مرات ثم يعظهما الإمام ويذكرها ويقول لها: احذري أن تبوئي بغضب الله إن لم تكوني صادقة في إيمانك، فإن رآها تمضي أمر امرأة أن تضع يدها على فيها، فإن رآها تمضي قال لها: قول: وعلي غضب الله إن كان من الصادقين فيما رماني به من الزنا، فإذا قالت ذلك فقد فرغت ودرأت الحد عن نفسها. ولو تلاعنا ولم تنفِ الولد، فإن أحب أن تنفيه استأنف لعانًا خاصًا لنفي الولد ولا تلاعن بعد الزوجة نص عليه الشافعي هاهنا، وقال في موضع من "الأم" تعيد الزوجة لعانها بعد لعانه وليس هذا على الوجوب على الاختيار حتى لا ينفرد الزوج بلعانٍ لا تساويه الزوجة. فرع لا يتعرض لهما بعد التلاعن وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: يعزران بعد التلاعن،

لتحقق الكذب واجتماعهما عليه وهذا غلط لأن الكذب لم يتصف في واحد منهما كما لو تحالف المتبايعان لا يعزر واحد. فرع آخر ألفاظ اللعان ثابتة بالكتاب نصًا والعظة ووضع اليد على الفم ثابت بالسنة المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلو أتت المرأة بدل الغضب بلفظ اللعنة ولم يعتد به، ولو أتى الرجل بدل اللعن بلفظ الغضب فيه وجهان أحدهما: لا يعتد به لأنه عدل عن المنصوص عليه فأشبه إبدال الغضب باللعن، والثاني: يعتد به لأن الغضب يتضمن معنى اللعن ويزيد عليه فإن اللعن هو الطرد والإبعاد وكل مغضوب عليه مطرود. فرع آخر لو جاء بكلمة اللعن قبل الخامسة أو جاء بكلمة الغضب قبل الخامسة بل يعتد بها وجهان: أحدهما: يعتد بها لأن القصد التغليظ والتأكيد فلا فرق [202/ أ] بين أن تكون أولاً أو آخرًا، والثاني: لا يعتد بها وهو الصحيح لأنه خلاف النص ولأن كلمة اللعن والغضب إن كان من الكاذبين فيما يشهد، وينبغي أن يتأخر عن كلمة الشهادة وهذا اختيار القفال. فرع آخر لو أتى بأكثر ألفاظ اللعان لا تتعلق بها الأحكام وينبغي أن يستوفي جميع الألفاظ بالتمام، وإن حكم الحاكم في الأكثر بالكفاية لا يجوز وينقض حكمه، وقال أبو حنيفة: إذا أتى كل واحد منهما بثلاث ألفاظ من الخمسة لا يجوز للحاكم أن يحكم بالفرقة، فإن الحكم كان مخطئًا، ونفذ حكمه وهذا غلط لأن الله تعالى ذكر الألفاظ الخمسة، والرسول صلى الله عليه وسلم لاعن بين الزوجين ولم ينقص عن الخمسة، ولأنه لو جاز الاقتصار على بعض الكلمات في اللعان وقد جعله الله تعالى بدلاً عن الشهود لجاز أن يقتصر في الزنا على ثلاثة من الشهود وأجمعنا على خلافه، وإذا قذف زوجته برجل سماه بعينه وأراد اللعان يحتاج إلى أن يذكر المرمي في لعانه كل مرة فيقول: إني لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا بفلان، ثم إذا سماه في لعانه هكذا سقط عنه حدها وحده جميعًا كما لو أقام البينة على زناها به. وقال أبو حنيفة: لا يذكر في لعانه ويلزمه الحد للأجنبي المرمي به ولا يسقط لعانه حال، وبه قال مالك وهذا غلط لأن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن السحماء اليهودي ولم يعذره له، ولأن اللعان بينه في أحد طرفي القذف فكان بينه في الطرف الآخر كالبينة. فإن قيل: لو سقط حد المري به بلعانه لوجب الحد لعانه أيضًا كما قلت: يجب الحد عليها بلعانه قبل اللعان إنما يوجب حدًا يمكن إسقاطه بمثله، والمرأة لا تقدر على اللعان فجاز أن يجب الحد عليها بلعانه [202/ ب] والمرمي به لا يقدر على إسقاطه باللعان فلا يجب الحد عليه باللعان ولم يذكره في لعانه عنها، روى المزني عن

الشافعي أنه يحد للمرمي به إلا أن يعيد اللعان ويذكره فيه كما لو لم يذكر الولد في اللعان وأراد نفيه يحتاج إلى إعادة اللعان وهذا أصح لأنه وجب له الحد بالقذف فلا يسقط إذا لم يذكره في اللعان كالزوجة وقال في "الإملاء" و"أحكام القرآن": يسقط حده لأن ما كان تصديقًا فيها كان تصديقًا فيه، لأنه وطئ واحد وبه قال أحمد ولأن اللعان يثبت في حقه تعًا لسقوط حدها باللعان. فإذا قلنا: الأول وأعاد اللعان بذكر المرمي؛ لا تحتاج المرأة إلى أن يعيد لعانها لأنه لا يتعلق درء الحد عنه بلعانها، وإنما يتعلق بلعانه وحده، وإن كان المرمى به اثنان أو أكثر فهل يجب حد واحد أو لكل واحد منهم حد؟ مبني على القولين في الواحد إذا قذف جماعة، فإن قلنا: يحد لهم حدًا واحدًا فهاهنا أولى، وإن قلنا يحد لكل واحد منهم حدًا واحدًا لأنه ضرورة إلى ذكرهم، ولأن حقهم يسقط بحد واحد، فلذلك يسقط حد واحد، وقال أبو إسحاق: يكفي هاهنا حد واحد، ولا ينبني على قذف الجماعة للعلة التي ذكرناها. وإن لم يلاعن أصلاً لها وللمرمى به الحد وهل يكفي حد واحد؟ فيه طريقان؛ أحدهما فيه قولان كما لو قذف رجلين بكلمة واحدة والثاني يكفيه حد واحد هاهنا، والفرق هناك بزنانين ولعانين رجلين وهاهنا القذف بزنا واحد وفعل واحد فيكفي حد واحد، فإذا قلنا: لا يكفيه حد واحد هل يجوز له أن يحد للمرمي؟ به وجهان؛ أحدهما: يجوز لأنه [203/ أ] قذف كان اللعان فيه مجوزًا في حق كل واحد منهما، والثاني: لا يجوز لأنه تابع لحد الزوجة في اللعان فلم يجز أن يفرد باللعان. فرع آخر لو طلبت المرأة حدها عند امتناعه من اللعان فحد ثم حضر المرمى به، فإن قلنا: الواجب حد واحد لا يجب له شيء، وإن قلنا: يجب حدان فقد استوفت المرأة حدها، وبقي حد المرمى به، فإما أن يلتغى في حده أو يحد له، وإن عفت هي عن حقها يصح عفوها، وسقط حدها وبقي حده، فإما أن يلتعن لإسقاطه أو يحد له، وإن اعترفت بالزنا فقد سقط عنه حدها وعليه حده ويلزمها حد الزنا باعترافها وحد القذف أيضًا للمرمي به، وإن أقام الزوج البينة بما ذكر لا شك أنهما يحدان. مسألة: قال: "وإنْ كانَ معهَا ولدٌ فنفاهُ أو بهَا حملٌ فانتفي منهُ قالَ: معَ كلِّ شهادةٍ اشهدُ باللهِ إنِي لمنْ الصادقينَ فيما رميتهَا بهِ من الزنَا وإنَّ هذَا الولدَ لولدُ زنَا ما هو منيّ وإنْ كانَ حملاَ قالَ: وإنْ هذَا الحملَ إنْ كانَ بهَا لحملٌ مِنْ زنَا مَا هو منّي". إذا أراد نفي الولد أو الحمل باللعان لا بد من أن يذكره في لعانه على ما ذكرنا مع كل شهادة بالله ومع كلمة اللعنة. فإن قيل: لم قال الشافعي، يقول: وإن هذا الحمل

وإن كان بها حمل لحمل من زنا وهذا تعليق اللعان ولا يجوز ذلك. قيل: قوله إن كان بها حمل ليس في بعض نسخ المزني وإنما فيه وإن هذا الحمل لحمل من زنا أو يقول: إن صح هذا النقل فمثل هذا التعليق لا يضر اليمين شيئًا لأن الحمل لا يعلم قطعًا ويقينًا وإن قطع وجزم لعانه رجع قطعه وإطلاقه إلى مثل هذا التعليق وإن لم يصرح به وفي الحقيقة هو تحقيق للأمر لا تعليق. ثم قال: "فإن أخطأ الإمام [203/ ب] فلم يدر نفي الولد أو الحمل في اللعان قال الزوج: إذا أردت نفيه أعدت اللعان". وقد ذكرنا هذا فيما سبق ويكفي في اللعان المعاد أن يقول في كلمة: إني لمن الصادقين في أن هذا الولد من زنا وليس مني ولا تعيد المرأة اللعان. مسألة: قال: "ولو قذفَها برجلِ فلمْ يلتعنْ بقذفهِ فإذَا أرادَ الرجلُ حدهُ أعادَ عليهِ اللعانُ وإلَّا حدَّ لهُ إِنْ لمْ يلتعنْ". وقال في كتاب "الطلاق من أحكام القرآن"، وفي "الإملاء" على مسائل مالك ولما حكم الله على الزوج به في المرأة بالقذف ولم يستثن أن يسمي من يرميها به أو لم يسمه ورمى العجلاني امرأته بابن عمه أو ابن عمها شريك ابن السحماء، وذكر للنبي صلى الله عليه وسلم أنه رآه عليها، وقال: في الطلاق من أحكام القرآن فالتعن ولم يحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم المرمي بالمرأة فاستدللنا على أن الزوج إذا التعن لم يكن على الزوج الذي رماه بامرأته حد". قال الإمام الجويني: وهذه الرواية هي المسموعة ومعناها معنى الرواية الأولى، يقال: قفا فلان فلانًا وأقفاه إذا ابتعد بريبة يتحسسها عليه وقد ذكرنا أنه يعتبر ذكر المرمي به في لعانه إذا أراد إسقاط حده، وإن لم يذكر فيه قولان منصوصان على ما ذكر هاهنا، فإن قيل: هذا الذي ذكره في "المختصر" متناقض لأنه قال: في أحكام القرآن فالتعن ولم يحضر المرمى به ولو كان له حد لأخذه له رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث إلى المرمى به فسأله وهذا يدل على أنه لم يبعث إليه. ثم قال: "وقال في "الإملاء" وسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم شريكًا فأنكر فلم يحلفه ولم يجده بالتعان غيره وهذا الحالف الأول، قلنا: هذا ليس بمتناقض لأنه لم يكن ثبت [204/ أ] عنده في كتاب الطلاق من أحكام القرآن أن يسأله عن ذلك ثم ثبت عنده فرجع عنه في الإيلاء". وأيضًا نقول: لم يسأله لما قذفه وعند اللعان لأن حقه يسقط باللعان وسأله لما ولدت امرأة العجلاني بعد ذلك وراى في الولد شبهًا من شريك فلما أنكر لم يحلفه وقيل: لم يسأله عند القذف وسأله عند اللعان حتى أن طلب الحد ذكره الزوج في اللعان لأن الحق إذا ثبت له وهو لا يعلم فللإمام أن يسأله ويخبره بما ثبت له من الحق

ولم يسأله بعد اللعان لأن حقه سقط به فلا تتجسس بعد ذلك. مسألة: قال: "وقالَ في اللعانِ: وليسَ للإمام إذَا رمى رجلٌ أن يبعثَ إليهِ فيسألهُ عنْ ذلكَ لأن اللهَ تعالى يقول: {وَلا تَجَسَّسُوا}. فإن شبه على أحدٍ بأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعثَ أنيسًا إلى امرأةٍ رجلٍ فقالَ: إنْ اعترفتْ فارجمها". الفصل مقصود الشافعي من هذا الفصل أن يبين الفرق بين حديث العسيف وبين حديث شريك بن السحماء، والموضع الذي يحتاج فيه إلى الفرق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبعث إلى شريك في المشهور من الرواية وبعث إلى المرأة في حديث العسيف أنيسًا وقال: واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها. ووجه الفرق ما أشار إليه الشافعي وهو أن تلك المرأة صارت مقذوفة في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم به فأوجب لها حد إن لم يعترف بالزنا لأن والد العسيف قال: يا رسول الله إن ابني كان عسيفًا لهذا فزنا بامرأته فهذا قذف صريح وجب لها به حد وهي غير عالمة فكان على رسول الله صلى الله عليه وسلم تعريفها لتطلب حدها، وإن لم يعترف الزنا لم يتمحض بعث أنيس إليها تجسسًا. فأما شريك ابن السحماء [204/ ب] لو بعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من يستخبره أو يستحضره كان ذلك محض التجسس لأنه يسأل ليقام عليه حد الزنا إن اعترف، ولا يسأل ليقام على قاذفه حد القذف إن جحد، وكيف جحد قافذه وقد التعن، وفي اللعان إذا سمي المرمى به يسقط حد قذفه، وإن لم يسمه يسقط أيضًا في أحد القولين وبه أجاب في "الإملاء" حيث ذكر هذا الفصل وهذا الفرق. ثم اعلم أن بعد هذا الفرق في سواد الكتاب نوعان من الإشكال وراء الفرق أحدهما: أن الشافعي أطلق لفظه فقال: وليس للإمام إذا رمي رجل بزنا أن يبعث إليه فيسأله؛ وهذا كيف يستقيم مع روايته أن امرأة رميت بالزنا فبعث إليها. وإزالة هذا الإشكال بأن يقال: إنما أراد الشافعي بهذا الإطلاق صورة مخصوصة وهي إذا رمى رجل رجلاً بامرأته وتلاعنا، أو أراد أن يلاعن؛ فليس للإمام في مثل هذا الموضع أن يبعث إلى المرمي، لأن المرمي لا يستحق حد القذف على الزوج الملاعن فالبعث إليه محض التجسس. وقد قال الله: (وَلا تَجَسَّسُوا). وإن كانت الصورة في غير الزوج الرامي فليبعث كما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنيسًا ولم يرد الشافعي بمطلق لفظة هذه الصورة. والإشكال الثاني: في السواد أن الشافعي قد روى هاهنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل شريكًا فأنكر فلم يحلفه وهذا يرفع ما ادعى الشافعي أن مقذوف الزوج الملاعن لا سأل لأنه تجسس. وإزالة هذا الإشكال بأن نقل كأن الرواية قد اختلف في حديث شريك ففي رواية لم يستحضر، وفي رواية أنه استحضر. فقصد الشافعي الكلام على

إحدى الروايتين [205/ أ] أنه لم يستحضر ولم يبعث إليه ليسأله وفصل بالمعنى بين شريك وبين المرأة في حديث العسيف، فاستقام كلامه، وقوله فأما الرواية الثانية التي رويت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل شريكًا فأنكر لا يمكن استعمالها إلا على القول الذي يقول: يجب الحد على الملاعن إذا سمى الزاني ولم يذكره في اللعان. ولعل العجلاني لم يذكره في اللعان فخرج من هذا الزوج إذا قذف زوجته برجل بعينه ثم لاعن ولم يسمعه في اللعان هل يبعث إليه ويستحضر؟ قولان مبنيان على أنه هل يستحق حدًا على الزوج ترك ذكره في اللعان؟ وفيه قولان؛ فإذا قلنا: لا يستحق حدًا لا يبعث إليه لأن البعث إليه محض التجسس. وإذا قلنا: يستحق الحد يبعث إليه لما وجب له من الحد لا للتجسس على ما ذكرنا في امرأة العسيف. وقيل: إذا تعين القاذف والمقذوف؛ لا يجوز للإمام أن يسأل المقذوف: هل زنا أم لا؟ ولكن هل يلزمه إعلام قاذفه لمطالبته بحده فيه ثلاثة أوجه؛ أحدها: يلزمه كما يلزمه إعلام ما ثبت عنده من أقواله وعلى هذا بعث أنيسًا إلى امرأة العسيف وهو الأظهر، والثاني: ليس عليه إعلامه لأن الحدود تدرأ بالشبهات وهذا اختيار أبي حامد. والثالث: وهو اختيار ابن سريج إذا تعدى قذف الغائب إلى قذف خصم حاضر فطالب الرجل قذف زوجته رجل سواه فلاعن بينهما لا يلزم الإمام إعلامه، وإن كان خلاف ذلك يلزم، وعلى هذا لو كان القذف من أجنبي لرجل وامرأة بزنا واحد فحضر أحدهما مطالبًا بالحد لم يلزم الإمام إعلام الآخر لأن الحاضر إذا استوفي الحد فهو في حقه وحق الغائب لأن الزنا واحد وإن لم يتصل بحاضر [205/ ب] بطالب وجب على الإمام إعلامه ليستوفي حقه إن شاء. وقيل: أراد الشافعي لا يسأله ولا ينفذ أحدًا إذا كان الرامي معينًا كان رجلاً قال عند الحاكم: الناس يقولون إن فلانًا زانٍ فلا ينفذ إليه أحد يخبره بذلك، وإن كان معينًا أنفذ إليه، وعلى هذا لو قال في هذه القرية أو في هذه المسكن زانٍ لا يتفحص الإمام، ولو رمي بحجر فقال: من رماني بهذا فهو زانٍ وهو لا يدري من رماه لا يكون قاذفًا، فإذا ظهر الرامي لا يبعث إليه الإمام من يخبره بهذا لأن الحد لا يجب على القاذف بهذا ولا يصح؛ لأن شريكًا كان معينًا ولم يبعث إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما سأل شريكًا بعد ولادة المرأة على ما ذكرنا، قال القفال: وقد قيل: إنما بعث أنيسًا إلى امرأة العسيف لأن الزنا ثبت عليه بشهادة أبي الزاني، ورجل آخر على إقرارها بالزنا، فبعث إليها حتى إن رجعت عن إقرارها بالزنا فبعث إليها حتى إن رجعت عن إقرارها تركها، وإن لم ترجع حدها وهذا ضعيف. مسألة: قال: "وأيُّ الزوجينِ كانَ أعجميًا التعنْ بلسانِه بشهادةِ عدلينِ يعرفانِ بلسانهِ". إذا عرف الملاعنان بلسان العرب لم يجز أن يتلاعنا بغير العربية مع القدرة لأنها لغة

باب ما يكون بعد التعان الزوجين من الفرقة

رسول الله صلى الله عليه وسلم ولغة القرآن. والنص في اللعان ورد بذلك. وإن لم يعرفا العربية تلاعنا بلسانهما لأن اللعان يمين، واليمين العجمية تجوز. وقال بعض أصحابنا: يجوز بالعجمية مع القدرة على العربية كما قلنا في عقد النكاح وهذا أقيس. ثم إن عرف الحاكم لسانهما حكم بعلمه، وإن لم يعرف قال الشافعي: يحكم بشهادة ترجمانين عدلين؛ واجب لو كانوا أربعة. فمن أصحابنا من قال: المسألة على قول واحد كما نص عليه، وإنما استحب أربعة لأن شهود / أ] الزنا أربعة، ومنهم من قال فيه قولان مبنيان على الإقرار بالزنا فإن قلنا: يثبت الإقرار بعدلين يكفي في الترجمة عدلان، وإن قلنا: لا بد هناك من أربعة فلا بد من الترجمة من أربعة، والأصح ما تقدم لأن اللعان لا يتضمن إقرارًا بالزنا بحال ولا يخلو إما أن يكون يمينًا أو شهادة، وأيهما كان يثبت بعدلين فلا معنى للبناء على الخلاف في الإقرار بالزنا، وقال أبو حنيفة: الترجمة خبر فيقبل فيها قول الواحد العدل إذا تلاعنا بالعجمة، وهذا غلط لأنه يثبت به حد الزنا عليها فلا بد من العدد فيه. مسألة: قال: "فإن كانَ أخرسَ يفهمُ الإشارةَ التعنْ بالإشارةِ ثم قال: ثم تقام المرأة فتقول: أشهد بالله أن زوجي فلانًا وتشير إليه". الفصل وقد ذكرنا ما قيل في لعان الأخرس، والفصل الآخر عطف على أول الباب فذكر الزوج وقال: يبدأ به وساق الكلام واعترض في سياق الكلام ما ذكر من الفروع إلى نظم أوله بعطف عليه فقال: ثم تقام المرأة، ثم ذكر أنه يقفها عند الخامسة ويعظها، واحتج على ذلك يخبر ابن عباس الذي تقدم ذكره، وقال في موضع آخر: ويتلو عليها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: 77]، قال أصحابنا: وروي أن امرأة ادعى عليها قتل وأنكرت فكتب عمر رضي الله عنه؛ أن احبسوها بعد العصر واتلو عليها هذه الآية ففعل فاعترفت. وروي أن رجلاً ادعى على رجل حقًا عند شريك بن عبد الله القاضي فأتي بشيخ يشهد له فقال المدعى عليه لشريك: إن ذا الرجل لو سألت عنه لعدل ولا بأس بحاله ولكن الأنفة أخذته فشهد عليّ كاذبًا فأقبل شريك على الشيخ فقال: أيها الشيخ [206/ ب] روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن الطيور لتضرب أجنحتها من هول يوم القيامة وإن شاهد الزور لا يرفع قدمه حتى تجب له النار فارتعد الرجل وتغير لونه وقال: رجعت عن هذه الشهادة. باب ما يكون بعد التعان الزوجين من الفرقة مسألة: قال: "وإذا أكملَ الزوجُ الشهادةَ والالتعانَ فقدْ زالَ فراشُ امرأتهِ".

الفصل إذا أكمل الزوج اللعان تعلقت الفرقة ونفي الولد بلعانه على ما ذكرنا ولا يجتمعان أبدًا سواء أكذب نفسه وحد أو لم يكذب نفسه ولا حد، وبه قال عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهم، والنخعي، والحسن، وعطاء بن أبي رباح، والزهري، والحكم، ومالك، والثوري، والأوزاعي، وأبو يوسف، وإسحاق، ومحمد في رواية رحمهم الله، وقال أبو حنيفة، ومحمد: إذا أكذب نفسه وحد زال تحريم العقد وحدت له بنكاح جديد، وقال سعيد بن جبير: إذا أكذب نفسه عادت زوجته كانت، وقال سعيد بن المسيب: إن كذب نفسه وهي في العدة حلت له وإلا فلا تحل له أبدًا، وقال الحسن: إذا أكذب نفسه لا يعود النسب كما لا يرتفع التحريم وهذا غلط؛ لما روى ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا، وقال سهل بن سعد رضي الله عنه: مضت السنة أن يفرق بين المتلاعنين ثم لا يجتمعان أبدًأ، وقال علي وعبد الله بن مسعود [207/ أ] رضي الله عنهما هكذا، وقال عمر رضي الله عنه: "يفرق بينهما ولا يجتمعان أبدًا"، وروي أنه سئل ابن عمر عن المتلاعنين إذا كذب نفسها هل ينكحها؟ فقال: لا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: المتلاعنان لا يجتمعان أبدًا، واحتج الشافعي فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للملاعن بعد اللعان لا سبيل لك عليها، ولم يقل حتى تكذب نفسك فلو كان الإكذاب غاية لهذه الحرمة لردها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هذه الغاية كما قال تعالى في المطلقة الثلاث {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230]. ثم عاد الشافعي إلى كلامه الأول أن الفرقة تقع بلعان الزوج وحده فقال: ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الولد للفراش، وكانت فراشًا لم يجز أن ينفي الولد عن الفراش إلا بأن يزول الفراش ومقصوده بهذا الكلام الاحتجاج على أن قطع الفراش يحصل بلعان الزوج قبل لعانها وقبل قضاء القاضي بالطلاق. ووجه الاحتجاج أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الولد للفراش ومعقول أن الزوج إذا لاعن انتفي عنه الولد قبل لعانها وصار ملحقًا بالأم كما ألحقه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلولا أن الفراش زائل قبل لعانها لما صار الولد منتفيًا عنه فإن ارتكب الخصم فقال: لا يصير الولد منتفيًا إلا بعد لعانها قيل له: إن نفي الولد عن الزوج بيمينه والتعانه لا بيمينها ولعانها لأن الاعتبار بقوله في الإلحاق لا بقولها، ألا ترى أنها في لعانها تلحق الولد به ونحن ننفيه عنه فيعتبر، نفي الزوج لا إلحاق المرأة وهذا إذا أكذب الزوج نفسه ألحق

الولد به وما دام نقرا على اللعان [207/ ب] فالولد منفي عنه، ولهذا لو قالت الأم: ليس هو منك إنما استعرته لم يكن قولها شيئًا وهو يستلحقه والولادة على فراشه فعرفنا أن نفي الولد بلعانه لا بلعانها والولد لا ينفي عنه إلا والفراش منقطع لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الولد للفراش، وللعاهر الحجر" فخرج من هذا إن ما لم يكن للعانها تأثيره في النفي لم يعتبر فيه أصلاً إذا انتفي بلعانه وحده بالدليل انقطع الفراش بلعانه وحده أيضًا ثم اعلم إذا بانت باللعان إن كان قبل الدخول لا سكنى لها ولا نفقة ولا عدة لها نصف المهر، وإن كان بعد الدخول فإن كانت حائلاً لا نفقة لها في العدة فإن كانت حاملاً، فإن لم يكن نفي الحمل هل يلزمه النفقة لها؟ قولان، وإن كان نفي الحمل لا نفقة أصلاً والسكنى قولاً واحدًا حتى تنقضي العدة والمهر بتمامه لازم، وقد روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين: حسابكما على الله أحدكما كاذب لا سبيل لك عليها، قال: يا رسول الله مالي قال: لا مال لك إن كنت صدقت عليها فهو بما استحللت من فرجها وإن كنت كذبت عليها فذلك أبعد لك، وقال الحكم وحماد: إذا لاعن قبل الدخول بها لها الصداق كاملاً، وقال الزهري: إذا تلاعنا لا صداق لها وهذا غلط لما ذكرنا. مسألة: قالَ: "وقالَ بعضُ الناسِ، إذا التعنْ ثم قالتْ: صدفتْ إنِي زنيتُ فالولدُ لاحقُ ولاَ حدَّ عليهَا ولا لعانَ". الفصل إذا قذف زوجته فصدقته فيما ذكر لا يخلو إما أن تكون بعد فراغه من اللعان أو قبل ذلك فإن كان بعد فراغه منه تعلق باعترافها حكم واحد وهو أنها لا تلاعن على نفي الحد عنها ويكون الحد واحدًا عنها بلعانه واعترافها به فإن أكذبت نفسها فقالت: كذبت وما زنيت [208/ أ] سقط ما وجب عليها باعترافها وكان لها الآن أن تلاعن على إسقاط الحد عن نفسها وإن صدقته قبل فراغه من اللعان فلا فصل بين أن يكون التصديق قبل شروعه في اللعان أو بعد شروعه فيه وقبل إكماله فقد وجب الحد عليها باعترافه وسقط عنه حد القذف، وأما اللعان فإن كان هناك ول نفاه ولاعن، وإن لم يكن ولد هل يلاعن لقطع الفراش؟ قد ذكرنا، وقال أبو حنيفة: إذا صدقته واعترفت بالزنا لا حد عليها بإقرارها مرة واحدة ولا لعان وبقي الولد ثابت النسب فيتعذر اللعان منه عند أبي حنيفة بتعذره من جهة المرأة ولا ينتفي النسب من دون اللعان، واحتج الشافعي عليه فقال: دخل عليه أنه لو قذف فاسق عفيفة مسلمة والتعن كاذبًا وبقي الولد وهي عند المسلمين اصدق منه كان الولد منفيًا عنه، وإن كانت فاسقة فصدقته وقالت: زنيت كان الولد ملحقًا به فجعل أبو حنيفة ولد العفيفة لا أب له وألزمها عادة وجعل

ولد الفاسقة ولدًا له أب لا ينفي عنه بحال وهذا بحال. مسألة: قال: "وأيهما ماتَ قبلَ أن يكملَ الزوجُ اللعانَ ورثَ صاحبهُ". الفصل إذا مات أحد الزوجين بعد الشروع في اللعان لا يخلو إما أن يموت الزوج أو الزوجة. فإن مات الزوج فلا سبيل إلى إكمال اللعان لأن الورثة لا يقومون مقامه، وإن ماتت الزوجة نظر فإن جاء ورثتها تطالبه بالحد كان له أن يكمل اللعان لدرء الحد عن نفسه، وإن لم تطالبه بحدها، فإن كان هناك نسب يريد نفيه كان له أن يكمل اللعان، وإن لم يكن نسب لم يكن له إكماله، فإذا قلنا له: إكماله فأكمله لم ينقطع إرثه منها لأن النكاح زال بالموت لا باللعان فإن قيل أليس لو مات الولد ثم لاعن على نفيه [208/ ب] بعد موته لا يؤثر قلنا: الفرق هناك بيننا باللعان إن لم يكن ابنًا له قط ولا يتبين إنها لم تكن زوجة له بل تنقطع الزوجية عقيب الفراغ من اللعان في الحال فافترقا، فإن قيل: فالزوج بعض الورثة فكيف تطالبه باقي الورثة؟ قلنا: لأن حد القذف لكل الورثة ولكل واحد منهم لما ذكرنا أنه لو عفي بعضهم كان للباقين الاستيفاء بخلاف القصاص، وإن ماتت المرأة ولا وارث لها هل يطالب الإمام بالحد، ويلاعن على ما ذكرنا فيما تقدم والأظهر أنه يسقط حكمه بموتها هاهنا ولو مات بعد فراغه من اللعان لا توارث خلافًا لمالك وأبي حنيفة بناءً على أصلهما حيث قالا لا ينقطع النكاح بلعانه وحده على ما ذكرنا من مذهبهم فيما تقدم. مسألة: قال: "فإن امتنعَ أن يكملَ اللعانَ حدَّ لهَا، فإنْ طلبَ الحدَّ الذِي قذفَها بهِ لمْ يحدْ". إذا شرع الزوج في اللعان ثم أكذب نفسه قبل إكماله حددناه لها حد القذف لأن الحد إنما يسقط بكمال اللعان، فإذا لم يكمل لا يسقط كما لو لم يكمل البينة ثم إذا حددناه لها ثم جاء المرمى به وطالبه بالحد هل يحد له؟ ذكرنا فيما تقدم والمنصوص هاهنا أنه لا يحد له وهو اختيار أبي إسحاق. فإن قيل: أليس لو عفت المرأة حددتموه لها حداً كاملاً فدل على أن عليه حدين، قلنا: هذا يدل على أن لكل واحد منهما حقًأ في الحد ولا يدل على انفراد كل واحد منهما بحد كامل ألا ترى أن رجلاً لو سرق من رجلين فأيهما جاء يطالبه قطعنا ييده لهما جميعًا وإن عفا أحدهما ولم يطالب وجاء الآخر وطالبه قطعنا يده له [209/ أ] فإن قيل: إذا لاعنهما ولم ييسمه في لعانه أوجبتم إعادة اللعان له ولم يسقط حقه بسقوط حقها في أحد القولين فقولوا مثله هاهنا، قلنا: البينة إذا قامت أنه سرق من اثنين فلا بد من أن يسمى البينة كل واحد من المسروق منهما والقطع لهما واحد فلذلك هاهنا لا بد من تسميتها والحق لهما واحد.

قال صاحب المنهاج: وعلى ما ذكرنا لو أقر رجل بالزنا وسمي المزني بها ثم رجع عن إقراره ليس عليه حد القذف لأن الإقرار إقرار واحد وقد أسقطنا حكمه في نفسه قياسًا على ما لو حد لها سقط حد المرمى به لأن الفعل واحد، قال: وقد قيل غير ذلك وعندي هذا سهو منه، والمنصوص أنه إذا رجع عن إقراره لا يسقط حد قذفها ثم قال الشافعي: والولد للفراش ولا ينفي إلا على ما نفي به رسول الله صلى الله عليه وسلم وأراد به أن الولد يلحقه ولا ينفي عنه إلا باللعان ولا ينفي بالشبه والاستدلال وأراد لا ينتفي إلا بكمال اللعان خلافًا لأبي حنيفة حيث قال: أكثر اللعان يكفي إذا حكم به الحاكم وهذا التأويل أظهر، ولو قال: هو ولد زنا وما هو مني أو انتفيت منه أو أنا برئ منه لا يؤثر في نفيه وهذا لمراعاة الاحتياط في النسب. مسألة: قال: "ولو أكملَ اللعانَ وامتنعتْ من اللعانِ وهي مريضةٌ أوْ في بردٍ أو حرٍ وكانتْ ثيبًا رجمتْ". الفصل عبّر الشافعي عن المحصنة بالثييب وعن غير المحصنة بالبكر كما عبر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة والرجم، وجملته أنه لا يخلو إما [209/ ب] أن تكون بكرًا أو ثيبًا، فإن كانت بكرًا يجب عليها عند الامتناع من اللعان بعد لعانه حد الإبكار وهو الجلد والتغريب فإن كانت صحيحة والهواء معتدل لا شدة حر ولا شدة برد يقام عليها الحد، وإن كان الهواء غير معتدل لا يقام حتى يعتدل الهواء لأن القصد منه الزجر والردع لا الإتلاف ولا يؤمن منه السراية والتلف، وإن كانت مريضة فإن كان مرضها يرجى زواله آخر إلى أن تبرأ، وإن كان لا يرجى زواله كالزمانة والسل أقيم عليها الحد عاجلاً بأطراف الثياب وأشكال لا نخل ولا فرق بين أن يكون ثبت عليها هذا الحد بالبينة أو بامتناعها من اللعان أو بالإقرار وإن كانت ثيبًا، قال أبو إسحاق: ترجم في جميع الأحوال لأن القصد إتلافها وهو ظاهر كلام الشافعي ومن أصحابنا من قال: هذا إذا ثبت الرجم بالبينة، فإن ثبت بإقرارها أو بامتناعها من اللعان أخر لشدة الحر والبرد لأن لها مخلصًا منه بالرجوع عن الإقرار والإقدام على اللعان فلا نأمن من أن نرجمها بعض الرجم ثم ترجع فنكون قد أعنا على تلفها وليس كذلك إذا قامت عليها البينة لأن لا مخلص لها منه وهذا لا يصح لأنه يحتمل رجوع الشهود عن الشهادة كما يحتمل رجوعها، وقال بعض أصحابنا: على عكس هذا، وهو أنه أن ثبت بالبينة لا يقام الحد إلا في هواء معتدل بخلاف الإقرار والفرق أن المقر هتك حرمة نفسه وأظهر الزنا الذي كان مندوبًا إلى ستره فغلط عليه وإقامة الحد في جميع الأوقات بخلاف ما لو أقيم عليه البينة وهذا ليس بشيء، وقال

القفال: نص الشافعي بالإقرار أنه يؤخر وقاس بعض أصحابنا: عليه امتناعها من اللعان [110/ أ] وفرق بعض أصحابنا بينهما وهو أنه يستحب له الرجوع عن الإقرار، وإن كانت صادقة في إقرارها فنحن وإن حملنا الأمر على الصدق فالتوهم باق وهاهنا وإن كانت محقة في امتناعها من اللعان فلا يندب ولا يباح لها أن تلاعن لأنها مبطلة في اللعان فلهذا لا يؤخر عن الحر والبرد وأسباب التلف وهذا كما أن رجوع الشهود عن الشهادة موهوم غير أن الظاهر أنهم صادقون ومع الصدق لا يرجعون فلا يؤخر هناك وهذا أيضًا ضعيف بخلاف ظاهر نص الشافعي وأما قطع الطرف في القصاص من أصحابنا من قال: نص الشافعي على أنه لا يقطع في شدة الحر والبرد ويؤخر القطع في السرقة بحيث أن تكون مثله، وقال الداركي: يقطع في الحال لأن قطع الطرف يقضي إلى التلف في الغالب فإذا أذن فيه مع الخوف من التلف استوفي الأحوال كلها في استيفائه. مسألة: قال: "وقالَ بعضُ لا يلاعنُ بحملِ لعله ربحِ". أراد به أبا حنيفة حيث قال: لا يجوز نفي تحمل بحال على ما ذكرنا من مذهبه ودليلنا على فساده، واحتج عليه الشافعي هاهنا فقال له: أرأيت لو أحاط العلم بأن ليس حمل أم يلاعن بالقذف قال: بلى، قيل: فلم لا تلاعن مكانه وهذا إلزام مختصر ومعناه أنه لو كانت حاملاً بحيث نعلم يقينًا أن لا حمل بها وقذفها جاز له ملاعنتها وقطع فراشها فإذا بان لها حمل فلم لا تلاعنها مكانه فإن قلت: لا يلاعنها حتى تصنع فهذا محال لأنه متى جاز له اللعان ولا حمل بها لأن القذف موجود وجب أن يجوز اللعان وبه حمل لأن القذف موجود، وإن قلت له أن يلاعنها في الحال ويقطع فراشها لكان له نفي الولد [210/ ب] لأن الولد للفراش والوقت الصالح لنفي الفراش صالح لنفي الولد. مسألة: قال: "وزعمَ يعني أبا حنيفَة لو جامعهَا وهوَ يعلمُ بحملهَا فلمَا وضعتْ تركهَا تسعًا وثلاثينَ ليلةٌ وهي في الدم معهُ في مقرِّ لهُ ثمَّ نفي الولد كان ذلكَ له". الفصل قد ذكرنا أنه يصح نفي الحمل باللعان خلافًا لأبي حنيفة فإن لم ينفه وتركه لم يلزمه لأن تركه محتمل أن يكون لأنه تحقق وجوده، وذكر الإمام الجوينى في "المنهاج" أنه لو أحاط عنه بالحمل فسكت ولم ينف ليس له النفي بعده خلافًا لأبي حنيفة لأن يكون سكوته دليل على رضاه به، وهذا محتمل إذا قال: اعلم أن بها حملاً وإذا أنفي الآن أو سكت، وإذا وضعت وعلم وأمكنه نفيه فلم ينف لزمه نسبه عندنا وليس له فيه بعدها لأنه على النور وفيه قول آخر للشافعي: أنه تمهل ثلاثة أيام وقال أبو حنيفة: له أن

يؤخر النفي يومًا أو يومين استحبابًا، وروي عنه ثلاثة أيام كما قلنا في أحد القولين وقال أبو يوسف ومحمد: له نفيه في مدة النفاس إلى أربعين يومًا؛ لأن أيام دم إبقائه لحالة الولادة. وقال عطاء ومجاهد: له نفيه أبدًا ما لم يغربه وهذا كله غلط؛ لأنه خيار بالاحتجاج في مسألة الحمل واللعان عليه، فقال: قد ترك أبو حنيفة ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم بين العجلاني وامرأته وهي حامل من اللعان فخالف السنة بمنع اللعان على الحمل ثم ألزمه فساد مذهبه في المسألة الأخرى فقال: ولو لم يكن كما قلنا سنة كان قد جعل السكات [211/ أ] في معرفة الشيء في معنى الإقرار، فزعم في الشفعة إذا علم فسكت فهو إقرارٌ بالتسليم، وفي العبد يشتريه إذا استخدمه رضا بالعيب ولم يكلم فحيث شاء جعله رضا، ثم جاء إلى الأشبه بالرضا والإقرار وهو نسب هذا الولد فجعله رضا، ثم ذهب في ذلك إلى تقدير الأصل له، فجعل ممته إلى أربعين ليلة إقرارًا بنسبه وأباه في تسع وثلاثين ليلةً، فما الفرق بين الصمتين؟ ومقصود مناقضة قوله حيث جعل السكوت رضا في الشفعة والرد بالعيب ولم يجعله رضا فيما الأولى بالاحتياط فيه وهو النسب، ولم يقدر في الشفعة والرد بالعيب بثلاثة أيام وقدر هنا بأربعين يومًا، وهذه مناقضة ظاهرة. واعلم أن مذهب أبى حنيفة خلاف ما ظنه الشافعي على ما ذكرنا. وقيل: علم هو مذهب أبي حنيفة وهذه المناظرة مع أبي يوسف. مسألة: قال: "وزعم بأنهن استدل بأن الله عز وجل لما أوجب على الزوج الشهادة ليخرج بها من الحد، فإذا لم يخرج من معنى القذف لزمه الحد قيل له، وكذلك كل من أحلفته ليخرج من شيء فلم يحلف حكمت عليه بذلك الشيء إما في مال أو غضب أو جرح عمد، قال: نعم، فقلت: فلم لم تقل ذلك في المرأة أنك تحلفا لتخرج من الحذ". الفصل اعلم أن الشافعي رجع إلى المناظرة في مسألة سبقت في هذا الباب، وهي أن الزوج إذا لاعن ونكلت عن اللعان فعليها حد ذكرها خلافًا لأبي حنيفة، واختلفوا في الزوج إذا نكل عن اللعان، فمنهم من قال: لا يلزمه الحد [211/ ب] بل يحبس ليلاعن، وهذا هو المشهور من مذهبه. ومنهم من سلم أن الزوج يحدن والشافعي حكي له هذا المذهب، واستدل عليه بما ذكر ورجح أحد المذهبين لهم، فقال: وليس في التنزيل أن الزوج يدرأ باللعان حدًا كما في التنزيل أن المرأة تدرأ باللعان حدًا، ثم حددت الزوج إذا نكل فأولى أن تحدها إذا نكلت، واحتج على بطلان الحبس فقال: "لها أن تقول:

إن كان الزوج صادقًا فحدوني، وإن كان كاذبًا فخلوني فما بالي والحبس، وليس حبسي في كتاب الله تعالى ولا سنة ولا إجماع ولا قياس على أحدها"، ثم زاد الشافعي إلزامًا فقال: "فإن قلت العذاب المذكور في القرآن هو الحبس لا الحد فهذا خطأ - لأنه يكون مجهول المقدار حينئذ - فكم ذاك الحبس مائة يوم أو حتى يموت، قد قال تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]، أفتراه عنى الحد أو الحبس؟ قال: بل الحد وما الحبس بحد، والعذاب في الزنا الحدود، ولكن السجن قد يلزمه اسم عذاب، قلت: والسفر، والدهر، والتعليق، وكل ذلك يلزمه اسم عذاب". فإذا جاز لك أن تعذبها بالحبس تحكيمًا من جهتك وليس حبسها من الكتاب، فجوز لنفسك أن تقول بحكم آخر يعذب بالتغريب والدهن والتعليق؛ لأن كل ذلك يسمى عذابًا. ثم رجع الشافعي إلى أول هذا الباب فتكلم في تأييد الحرمة باللعان، واحتج بما روي عن عمر، وعلي، وعبد الله بن مسعود، رضي الله عنهم أنهم قالوا: "لا يجتمع المتلاعنان أبدًا" وهم رووا عنه وخالفوهم.

كتاب الأيمان

كتاب الأيمان قال في الحاوي: أما اليمين فهي القسم، سمي يمينًا، لأنهم كانوا إذا تحالفوا ضرب كل واحد منهم يمينه على يمين صاحبه. والأصل في الأيمان قول الله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة 224]. أما العرضة في كلام العرب، ففيها وجهان: أحدهما: أنها القوة، والشدة. والثاني: أن يكثر ذكر الشيء حتى يصير عرضة له، ومنه قول الشاعر: فلا تجعلني عرضة للوائم وأما العرضة في الأيمان، ففيها تأويلان: أحدهما: أن يحلف بها في كل حق وباطل، فيبتذل اسمه، ويجعله عرضة. والثاني: أن يجعل يمينه علة يتعلل بها في بره، وفيها وجهان: أحدهما: أن يحلف: لا يفعل الخير، فيمتنع منه لأجل يمينه, والثاني: أن يحلف: ليفعلن الخير، فيفعله لبره في يمينه لا للرغبة في ثوابه. وفي قوله تعالى: {أَنْ تَبَرُّوا} [البقرة: 224] تأويلان: أحدهما: أن تبروا في أيمانكم. والثاني: أن تتقوا الخبث {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} [آل عمران: 121] لأيمانكم {عَلِيمٌ} [الأعراف: 109] بافتقاركم. وقال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} [البقرة: 225]. واللغو في كلام العرب هو ما كان قبيحًا مذمومًا، وخطًا مذمومًا مهجورًا، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: 55]. وفي لغو الأيمان سبعة تأويلات، وقد أفرد الشافعي لذلك بابًا يذكر فيه، وفي ترك المؤاخذة به وجهان:

أحدهما: لا يؤاخذ فيه بالكفارة. والثاني: لا يؤاخذ فيه بالإثم. وفي قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] تأويلان: أحدهما: ما قصدتم من الأيمان. والثاني: ما اعتمدتم من الكذب {وَاللَّهُ غَفُورٌ} [آل عمران: 31] لعباده فيما لغوا من أيمانهم {حَلِيمٌ} [البقرة: 263] في ترك معاجلتهم بالعقوبة على معاصيهم. وقال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمْ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89]. وعقدها هو لفظ باللسان، وقصد بالقلب، لأن ما لم يقصده من أيمانه هو لغو لا يؤاخذ له. وفي تشديد قوله: {عَقَّدْتُمْ} [المائدة: 89] تأويلان: أحدهما: تغليظ المأثم بتكرارها. والثاني: أن تكرارها في المحلوف عليه إذا كان واحدًا لم يلزم فيه إلا كفارة واحدة. ثم قال تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ) [المائدة: 89]. فيه وجهان: أحدهما: أنها كفارة ما عقدوه من الأيمان، قاله الحسن، وقتادة. والثاني: أنها كفارة الحنث بعد عقد الأيمان، ولعله قوله ابن عباس، وسعيد بن جبير، والأصح عندي من إطلاق هذين الوجهين أن يعتبر حال اليمين في عقدها وحلها، فإنها لا تخلو من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون عقدها طاعة، وحلها معصية. كقوله: والله لا صليت ولا صمت. فإذا حنث بالصلاة والصيام كانت الكفارة لتكفير مأثم اليمين دون الحنث. والثالثة: أن يكون عقدها مباحًا، وحلها مباحًا. كقوله: والله لا لبست هذا الثوب، ولا دخلت هذه الدار. فالكفارة تتعلق بهما، وهي بالحنث أحق، لاستقرار وجوبها به. وقال تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] وفيه ثلاثة تأويلات: أحدهما: أحفظوها أن يحلفوا. والثاني: أحفظوها أن تحنثوا.

والثالث: (احفظوها) لتكفروا. والسنة ما رواه أبو أمامة الحارثي، وهو إياس بن ثعلبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من اقتطع بيمينه مال امرئ مسلم حرم الله عليه الجنة، وأوجب له النار". قيل: "وإن كان شيئًا يسيرًا، قال وإن كان سواكًا من أراك" وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير، ويكفر عن يمينه". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اليمين حنث أو مندمة". وقد حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح، فقال: "والله لأغزون قريشًا، والله لأغزون قريشًا، والله لأغزون قريشًا". وروي أنه قال: "إن شاء الله". وروى أنه كان إذا أراد أن يحلف قال: "لا والذي نفس محمد بيده" وروي أنه كان يقول: "لا ومقلب القلوب". فإذا تقرر هذا، فعقد اليمين موضوعة لتحقيق المحلوف عليه إن كان ماضيًان أو لالتزامه إن كان مستقبلاً. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "من حلف بالله أو باسم من أسماء الله فحنث فعليه الكفارة". قال في الحاوي: اعلم أن الأيمان معقودة بمن عظمت حرمته، ولزمت طاعته وإطلاق هذا مختص بالله تعالى، فاقتضى أن يكون اليمين مختصة بالله جلت عظمته، وله أسماء وصفات. فأما أسماؤه فأخصها به قولنا: الله، لأن أحدًا لم يتسم به، وقد قيل: إنه اسمه

الأعظم، وهذا أحد التأويلين في قوله تعالى: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) [مريم: 65]. أي: من يتسمى باسمه الذي هو: الله؟ والثاني: فيه هل تعلم له شبيهًا؟ واختلفوا في هذا الاسم، هل هو علم لذاته، أو اسم مشتق من صفاته على قولين: أحدهما: أنه اسم علم لذاته غير مشتق من صفاته، لأن أسماء الصفات تكون تابعة لأسماء الذات، فلم يجد بدًا من اختصاصه باسم ذات يكون علمًا، لتكون أسماء الصفات تبعًا، وهذا قول الخليل والفضل. والثاني: أنه اسم مشتق من "أله" صار بناء اشتقاقه عند حذف همزة، وتفخيم لفظة: الله، فالحالف بهذا الاسم حالف بيمين منعقدة لا يرجع فيها إلى إرادة الحالف به، وسواء قيل: إنه اسم علم لذاته، أو مشتق من صفاته، لأنه لا ينطلق على غيره. وفي معنى الحلف بهذا الاسم أن تقول: والذي خلقني، أو والذي صورني، فتنعقد به يمينه، لأن الذي خلقه وصوره هو الله، فصار كقوله: والله، لا يكون هذه يمينًا باسم مكني، لأنه صريح لا يحتمل غيره. وهكذا لو قال: والذي أصلي له، أو أصوم له، أو أزكي له، أو أحج له، انعقدت يمينه كقوله: والله، لأن صلاته وصيامه وزكاته وحجه لله لا لغيره. فصل: فأما غير هذا الاسم العلم من أسمائه تعالى، فينقسم ثمانية أقسام: أحدهما: ما يجري في اختصاصه به مجرى العلم من أسمائه، وهو: الرحمن، فيكون المحالف به كالحالف بالله لأمرين: أحدهما: أنه ليس يتسمى به غيره من خلفه، ولئن طغى مسيلمة الكذاب، فتسمى: رحمان اليمامة، فهي تسمية إضافة لم يطلقها لنفسه، فصار كمن لم يتسم به. والثاني: أنه تعالى أضاف إلى هذا الاسم ما اختص به من قدرته، وتفرد به من خلقه، فقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]، فأجراه مجرى العلم من أسمائه الذي هو الله. واختلف فيه أهل اللغة هل هو اسم علم أو صفة؟ على وجهين: أحدهما: أنه اسم عربي مشتق من صفته بالرحمة. واختلفوا في هذه الرحمة المشتق منها الرحمن هل هي رحمة تفرد بها، أو توجد في العباد مثلها على وجهين: أحدهما: أنها رحمة توجد في العباد مثلها، واختصاصه مثلها باشتقاق لفظ المبالغة

في الرحمة، ومشاركته لخلقه في الرحيم، فلذلك كان الرحمن مختصًا به، والرحيم مشتركًا. والثاني: أنه مشتق من رحمة تفرد الله بها دون خلقه، وفي هذه الرحمة التي تفرد بها وجهان: أحدهما: أنها رحمته لأهل السماء والأرض، فيكون مشتقًا من رحمة هي صفة لذاته، لأنه مستحق لهذه الصفة قبل خلقهم. والثاني: أنها صفة للرحمة: فيكون مشتقًا من رحمة هي صفة لفعله، لأنه مستحق لهذه الصفة بعد خلق الرحمة. وعلى كلا الوجهين تكون اليمين بهذا الاسم منعقدة في أهل الملل وغيرهم، كانعقادها بالله سواء قيل اشتقاقه من صفة ذاته، أو صفة فعله، لأنها يمين بالاسم دون الصفة. فصل: والقسم الثاني: من أسمائه ما اختص باسم المعبود دون العبد، وهو الإله، أجمعوا على أنه اسم اشتقاق، واختلفوا فيما اشتق منه على وجهين: أحدهما: أنه مشتق من الوله، لأن العباد يألهون إليه أي: يدعون إليه في أمورهم. والثاني: أنه مشتق من الألوهية وهي العبادة من قوله: فلان يتأله أي: يتعبد. واختلف على هذين الوجهين هل اشتق اسم الإله من فعل الوله والعبادة أو من استحقاقها على وجهين: أحدهما: أنه اشتق من فعلها، فعلى هذا يكون مشتقًا من صفات أفعاله. والثاني: أنه مشتق من استحقاقها، فعلى هذا يكون مشتقًا من صفات ذاته، وعلى كلا الوجهين يكون الحالف بالإله منعقد اليمين في الظاهر والباطن إن كان من أهل الملل، لأن جميع أهل الملل ليس لهم إله غير الله، وإن كان من غير أهل الملل من عبدة الأصنام، انعقد به اليمين في الظاهر، وكان في الباطن موقوفًا على إرادته، لأنهم يجعلون هذا الاسم مشتركًا بين الله تعالى وبين أصنامهم التي يعبدونها. فصل: والقسم الثالث: من أسمائه ما اختص إطلاقه بالله تعالى، وكان في الإضافة مشتركًا، وهو الرب، اسم مأخوذ من صفة، اختلف فيها على أربعة أوجه. أحدها: أنه مأخوذ من المالك، كما يقال: رب الدار أي مالكها. والثاني: أنه مأخوذ من السيد، لأن السيد يسمى ربًا قال الله تعالى: {أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً} [يوسف: 41]. يعني سيده.

والثالث: أنه الرب المدبر، ومنه قول الله تعالى: {وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ} [المائدة: 44]. وهم العلماء سموا ربانيين، لقيامهم بتدبير الناس بعلمهم وقيل: ربة البيت، لأنها تدبره. والرابع: أن الرب مشتق من التربية، ومنه قول الله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23]. فسمى ولد الزوجة ربيبة، لتربية الزوج لها، فعلى هذا إن قيل: إن صفة الله تعالى بأنه رب، لأنه مالك أو سيد، فذلك صفة من صفات ذاته. وإن قيل: لأنه مدبر لخلقه أو مربيهم، فذلك صفة من صفات فعله، وصفات ذاته قديمة، وصفات فعله محدثة، وهما في اشتقاق الاسم منه على السواء، لأنه يكون حالفًأ بالاسم دون الصفة، وإن كانت اليمين بالصفتين مختلفة، تنعقد بصفة الذات لقدمها، ولا تنعقد بصفة الفعل، لحدوثها. فإذا تقرر اشتقاقه انقسمت اليمين به أربعة أقسام: أحدها: ما يكون به حالفًا في الظاهر والباطن، وهو أن يصفه بما لا يستحقه إلا الله تعالى، وهو أن يقول: رب العالمين، أو رب السموات والأرضين، فهذا حالف به في الظاهر والباطن، لأنه وصفه بما اختص الله تعالى به دون غيره، فإن قال: أردت غير الله لم يقبل منه. والقسم الثاني: ما يكون به حالفًا في الظاهر، ويجوز أن يكون غير حالف به في الباطن، وهو أن يقول: والرب، فيدخل عليه الألف واللام، ولا يعرفه بصفة، فيكون حالفًا به في الظاهر، فإن قال: أردت به رب الدار، دين في الباطن، ولم يكن به حالفًا لاحتماله، وكان حالفًأ به في الظاهر لإطلاقه. والقسم الثالث: ما لا يكون به حالفًا في الظاهر، ويجوز أن يكون حالفًا به في الباطن، وهو أن يقول: ورب هذه الدار، فلا يكون حالفًا في الظاهر، لأنه في العرف إشارة إلى مالكها، فإن قال: أردت به خالقها، وهو الله تعالى، كان حالفًا. والقسم الرابع: ما اعتبر به عرف الحالف، وهو أن يقول: وربي، فإن كان من قوم يسمون السيد في عرفهم ربًا، لم يكن حالفًا في الظاهر إلا أن يريد به الله تعالى، فيصير به حالفًا، وإن كان من قوم لا يسمون الرب في عرفهم إلا الله تعالى كان حالفًا في الظاهر إلا أن يريد به الله تعالى، فلا يكون حالفًا في الباطن اعتبارًا بالعرف في الحالين، قال الله تعالى: (أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً) [يوسف: 41]. يعني سيده. وحكي عن إبراهيم: {إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99]. يعني الله تعالى: فكان الرب في إبراهيم ويوسف مختلفًا في المراد به لاختلافهم في العرف. فصل: والقسم الرابع من أسمائه تعالى: ما كان إطلاقه مختصًا بالله تعالى في الظاهر،

واختلف في جواز العدول به عن الباطن على وجهين، وهو ثلاثة أسماء: القدوس، والخالق، والبارئ. فأما القدوس: فهو اسم من أسماء الله تعالى مختص به في العرف، واختلف في معناه على أربعة أوجه: أحدها: أنه المبارك، قاله قتادة. والثاني: أنه الظاهر، قاله وهب بن منبه. والثالث: أنه المنزه من القبائح. والرابع: أنه اسم مشتق من تقديس الملائكة، فإذا حلف بالقدوس كان كالحالف بالله تعالى في الظاهر، فإن عدل به عن الباطن إلى غيره، ففيه وجهان: أحدهما: يجوز، ولا يصير به حالفًا في الظاهر والباطن، إذا قيل: إن معناه المبارك أو الطاهر. والثاني: لا يجوز، ويكون حالفًا، ويكون ظاهرًا في الظاهر والباطن إذا قيل: إنه مشتق من تقديس الملائكة، وإنه المنزه من جميع القبائح. وأما الخالق: فمن أسمائه، وفي معناه وجهان: أحدهما: أنه المحدث للأشياء على إرادته. والثاني: أنه المقدر لها بحكمته، فإذا حلف بالخالق كان حالفًا في الظاهر، فإن عدل به في الباطن إلى غيره من المخلوقين، ففيه وجهان: أحدهما: يجوز، ولا يصير به حالفًا في الباطن، إذا قيل: إن معناه المقدر للأشياء بحكمته. والثاني: لا يجوز، ويصير به حالفًا إذا قيل: إن معناه المحدث للأشياء على إرادته. وأما البارئ: فمن أسمائه تعالى، وفي معناه وجهان: أحدهما: أنه المنشئ للخلق. والثاني: أنه المميز للخلق، فإذا حلف بالبارئ كان حالفًا في الظاهر، فإن عدل به في الباطن إلى غيره، فعلى الوجهين: أحدهما: يجوز، ولا يصير به حالفًا إذا قيل: إن معناه المميز للخلق. والثاني: لا يجوز، ويصير به حالفًا إذا قيل: إن معناه المنشئ للخلق. فصل: والقسم الخامس من أسمائه: ما كان إطلاقه مختصًا بالله تعالى في الظاهر، وجاز أن يعدل به إلى غيره في الباطن وجهًا واحدًا. أحدهما: المهيمن.

والثاني: القيوم. فأما المهيمن فهو من أسمائه في العرف، واختلف في معناه على أربعة أوجه: أحدها: أنه الشاهد: قاله قتادة. والثاني: أنه الأمين، قاله الضحاك. والثالث: أنه المصدق، قاله عبد الرحمن بن زيد. والرابع: أنه الحافظ. فإذا حلف بالمهيمن كان حالفًا بالله تعالى في الظاهر، فإن عدل به إلى غيره من الباطن جاز، ولم يكن حالفًا. روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: إني داع فهيمنوا، أي قولوا آمين حفظًا للدعاء، فسمى القائل أمين مهيمنًا، وقد قال الشاعر في أبي بكر رضي الله عنه: ألا إن خير الناس بعد نبيه مهيمنه التاليه في العرف والنكر يعنى: الحافظ للناس بعده. وأما القيوم: فمن أسمائه، واختلف في معناه على أربعة أوجه: أحدها: أنه القائم بتدبير خلقه. والثاني: أنه القائم بالوجود. والثالث: أنه القائم بالأمور. والرابع: أنه اسم مشتق من الاستقامة. فإذا حلف بالقيوم كان حالفًا بالله في الظاهر، فإن عدل به إلى غيره في الباطن جاز، ولم يكن حالفًا، لأن معانيه يجوز أن تكون مستعملة في غيره. فصل: والقسم السادس: من أسمائه ما كان إطلاقه مختصًا بغيره في الظاهر، وإن كان من أسمائه في الباطن، وهو: المؤمن، والعالم، والكريم، والسميع، والبصير. فهذه، وإن كانت من أسماء الله تعالى، فقد صارت في العرف مستعملة في غيره من المخلوقين. فإذا حلف بأحدها لم يكن حالفًا بالله تعالى في الظاهر، إلا أن يريد بها الله تعالى في الباطن، فيصير بها حالفًا، ولو كثر استعمالها في الله تعالى، وقل استعمالها في المخلوقين، صار حالفًا بها في الظاهر دون الباطن. فصل: والقسم السابع: من أسمائه ما كان إطلاقه في الظاهر مشتركًا بين الله تعالى وبين خلقه على سواء كالرحيم، والعظيم، والعزيز، والقادر، والناصر، والملك، فيرجع فيها

إلى إرادة الحالف بها، فإن أراد بها أسماء الله تعالى كان حالفًا بها، وإن أراد بها أسماء المخلوقين لم يكن حالفًا بها، وإن لم تكن له إرادة، ففيها وجهان: أحدهما: يكونه حالفًا بها تغليبًا لأسماء لله تعالى، لأن المقصود به الأيمان في الغالب. والثاني: أنه لا يكون حالفًا، لأنها مع تساوي الاحتمال فيه تصير كناية لا يتعلق بها مع فقد الإرادة حكم، فلو كثر استعمالها في أسماء الله، وقلت في المخلوقين صار حالفًا بها في الظاهر دون الباطن كالقسم الخامس، ولو كثر استعمالها في المخلوقين، وقل استعمالها في الله تعالى لم يكن حالفًا بها في الظاهر، وإن جاز أن يكون حالفًا بها في الباطن كالقسم السادس. فصل: والقسم الثامن من أسمائه: الجبار، والمتكبر، فإن خرج مخرج المدح والتعظيم، كان مختصًا بالله تعالى، وإن خرج مخرج الذم، كان مختصًا بالمخلوقين، وهو اسمان: الجبار والمتكبر، لأنهما في صفات الله تعالى مدح، وفي صفات المخلوقين ذم، فيصير بهما حالفًا إن خرجا مخرج المدح، لاختصاص الله تعالى بالمدح بها، ولا يصير بهما حالفًا إن خرجا مخرج الذم لانتفائه في صفاته. فهذه ثمانية أقسام تعتبر بها أسماء الله تعالى، إذا حلف بها فيحمل جميع ما جاء به الأثر من أسمائه عليها، فإنه لا يخرج من أحدها. فصل: فأما صفات الله تعالى فضربان: أحدهما: صفات ذاته. والثاني: صفات أفعاله. فأما صفات ذاته فقديمة لقدم ذاته، وذلك مثل قوله: وقدرة الله، وعظمة الله، وجلال الله، وعزة الله، وكبرياء الله، وعلم الله، لأنه نزل على هذه الصفات ذا قدوة، وعظمة، وجلال، وعزة، وكبرياء، وعلم فجرت هذه الصفات اللازمة لذاته مجرى الموصوف، فجرى عليها حكم أسمائه في انعقاد اليمين بها في وجوب الكفارة فيها. وقال أبو حنيفة: إذا حلف بعلم الله لم يكن يمينًا، وأجراها مجرى معلومه، ولو حلف بمعلوم الله لم يكن يمينًا، كذلك إذا حلف بعلمه. وهذا فاسد، لأن العلم من صفات ذاته، فانعقدت به اليمين كالقدرة والعظمة، والفرق بين العلم والمعلوم أن المعلوم منفصل عن ذاته، والعلم متصل بها وأما صفات أفعاله فهي محدثة غير لازمة كقوله: "وخلق الله، ورزق الله، فلا يكون حالفًا بها لخلوها منه قبل حدوثها، واليمين بالمحدثات غير منعقدة كذلك ما كان محدثًا من صفات أفعاله.

فأما أمانة الله فهي كصفات أفعاله لا ينعقد بها يمين إلا أن يريد اليمين، وأجراها أبو حنيفة مجرى صفات ذاته، فعقد بها اليمين، وأوجب فيها الكفارة. ودليلنا هو أن أمانة الله فروضه التى أمر بها عبيده، وأوجب عليهم فعلها قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً} [الأحزاب: 72]. وقد كان علي بن أبي طالب - عليه السلام - إذا دخل عيله وقت الصلاة اصفر مرة، واحمر مرة، وقال: أتتنى الأمانة التي عرضت على السموات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها، وأشفقن منها، وحملتها أنا، فلا أدري أسيء فيها أو أحس. وإذا كان كذلك دل على أن الأمانة الله محدثة، فلم يلزم بها الكفارة. فإن قيل: معنى أمانة الله أنه ذو أمانة، وذلك من صفات ذاته. قيل: يحتمل أنه يريد بأمانة الله أنه ذو أمانة، فيكون من صفات ذاته، ويحتمل أن يريد بها فروض الله، فتكون من صفات أفعاله، فلم تنعقد به اليمين مع احتمال الأمرين إلا أن يريد بها اليمين، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "ومن حلف بغير الله فهى يمين مكروهة وأخشى أن تكون معصية لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر يحلف بأبيه فقال عليه السلام ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فقال عمر: والله ما حلفت بها بعد ذاكرًا ولا آثرًا". قال في الحاوي: وهو كما قال: اليمين بغير الله من المخلوقات كلها مكروهة، سواء حلف بمعظم كالملائكة، والأنبياء، أو بغير معظم، لرواية الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أدرك عمر بن الخطاب وهو يسري في ركب، وحلف بأبيه، فقال: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت". وروى الشافعي عن سفيان عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، قال: نبي الله عمر يحلف بأبيه، فقال: "إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم" قال عمر: فوالله ما حلفت بها ذاكرًا ولا آثرًا، وفيه تأويلان: أحدهما: يعني: عامدًا ولا ناسيًا. والثاني: معتقدًا لنفس، ولا حاكيًا عن غيري. وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد أشرك"، وفيه تأويلان:

أحدهما: فقد أشرك بين الله وبين غيره في التعظيم، وإن لم يصر من المشركين الكافرين. والثاني: فقد أشرك بالله، فصار كافرًا به إن اعتقد لزوم يمينه بغير الله كاعتقاد لزومها بالله. فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حلف بغير الله، فقال للأعرابي: " ... وأبيه إن صدق دخل الجنة"، وقال لأبي العشراء الدارمي: "وأبيك لو طعنت في فخذها لأجزاك"، فعنه جوابان: أحدهما: أنه لم يخرج مخرج اليمين، وإنما كانت كلمة تخف على ألسنتهم في مبادئ الكلام. والثاني: أنه يجوز أن يكون ذلك في صدر الإسلام قبل النهي. وقول الشافعي: "وأخشى أن يكون معصية". هي في استحقاق الوعيد، لأنه ليس كل مكروه يستحق عليه الوعيد. فصل: فإذا ثبت أن اليمين بغير الله مكروهة، فهي غير منعقدة، ولا يلزم الوفاء بها، ولا كفارة عليه إن حنث فيها، وهو كالمتفق عليه، وهكذا إذا حلف بما يحظره الشرع كقوله: إن فعلت كذا وكذا فأنا بريء من الله، أو كافر به، أو خارج من دين الإسلام، أو فأنا يهودي، أو وثني لم تنعقد يمينه، ولم يزم بالحنث فيها كفارة، وبه قال مالك والأوزاعي، وجمهور الفقهاء. وقال أبو حنيفة: وصاحباه، وسفيان الثوري، وأحمد، وإسحاق تنعقد يمينه وتلزم الكفارة إن حنث استدلالاً بقول الله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، فكان على عمومه. وربما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حلف على يمين، ورأى غيرها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه" ولم يفرق. وبما روى ثابت بن الضحاك، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف بملة غير ملة الإسلام كاذبًا، فهو كما قال، فإن كان صادقًا لم يرجع إلى الإسلام سالما" فجعلها يمينًا، وقد قال الله تعالى: {وَلا تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [النحل: 91]. فدل على لزومها، ولأن لزوم اليمين بالله لتوكيد حرمتها وحظر مخالفتها، وهذا المعنى موجود فيما عقده من

الكفر بالله تعالى، والبراءة منه، ومن الإسلام، فوجب أن يستويا في اللزوم وفي الكفارة، ولأن البراءة من الله أغلظ مأثمًا، وأشد حظرًا من الحلف بالله، فلما انعقدت اليمين، ولزم التكفير في أحق المآثمين كان لزومها في أغلظهما أولى. ودليلنا قول الله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [النور: 53]. فجعلها غاية الأيمان وأغلظهما، فلم تتغلظ اليمين بغير الله. وروى محمد بن سيرين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحلفوا بآبائكم ولا بأمهاتكم ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا بالله، إلا وأنتم صادقون". وهذا نص. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حلف بغير الله فكفارته أن يقول: لا إله إلا الله". وروي أنه قال: "فقد أشرك" فدل على سقوط الكفارة في اليمين بغير الله؟ ولأنه حلف بغير الله؟ فوجب أن لا تلزمه كفارة؟ كما لو قال: إن فعلت كذا فأنا زان أو شارب خمر أو قاتل نفس، ولأنه حلف بمخلوق يحدث لأن اعتقاد الكفر وبراءته من الإسلام محدث، فوجب أن لا تلزمه كفارة، كما لو حلف بالسماء والأرض والملائكة والأنبياء، ولأنه منع نفسه من فعل بأمر محظور، فوجب أن لا تكون يمينًا توجب التكفير، كما لو قال: إن كلمت زيدًا فأنا فاسق، أو فعلي قتل نفس أو ولدي. فأما الجواب عن عموم الآية والخبر فهو أن إطلاقها محمول على اليمين بالله، لأنها اليمين المعهودة، في عرف الشرع والاستعمال. وأما الجواب عن حديث ثابت بن الضحاك مع حفصة فهو أن يكون دليلاً لنا أشبه من أن يكون دليلاً علينا؟ لأنه لما لم يصر بالحنث خارجًا من الإسلام دل على أنه خرج مخرج الزجر كما قال: "من قتل عبدًا قتلناه". جعل الوعيد يوجب يمينه دون الكفارة ولو وجبت لأبانها. وأما الجواب على استدلالهم توكيد حرمتها، وحظر مخالفتها، فهو أنه لا حرمة لهذه اليمين لحظرها وتحريمها، ولأن الحظر إنما توجه إلى التلفظ بها، فلم يبق للحظر، والتحريم حرمة من الالتزام والتكفير. وأما الجواب عن استدلالهم بتغليظ البراءة من الله، فهو أن البراءة من الله كفر، ولا يجب بالكفر تكفير كالمرتد، والله أعلم.

مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "وأكره الأيمان على كل حال إلا فيما كان لله عز وجل طاعة ومن حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فالاختيار أن يأتي الذي هو خير ويكفر لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك". قال في الحاوي: اعلم أن الأيمان بالله ضربان: أحدهما: ما كان على ماض والكلام فيه يأتي. والثاني: ما كان على فعل مستقبل، وهو على خمسة أقسام. أحدها: ما كان عقدها، والمقام عليها طاعة، وحلها والحنث فيها معصية، وهو أن يحلف على فعل الواجبات كقوله: والله لأصلين فرضي؟ ولأزكين مالي، ولأصومن شهر رمضان، ولأحجن البيت الحرام، فقعدها والمقام عليها طاعة، لأنها تأكيد لفعل ما فرضه الله تعالى عليه، وحلها والحنث فيها بأن لا يصلي ولا يزكي، ولا يصوم، ولا يحج معصية، لأنه ترك لمفروض، وهكذا لو حلف أن لا يفعل محظورًا محرمًا كقوله. والله لا زنيت ولا سرقت ولا قتلت ولا شربت خمرًا ولا قذفت محصنًا، كان عقدها باجتناب هذه المعاصي طاعة، وحلها بارتكاب هذه المعاصي معصية. والثاني: ما كان عقدها والمقام عليها معصية، وحلها والحنث فيها طاعة، وهو قوله: والله لا صليت ولا زكيت ولا صمت ولا حججت، فعقدها، والمقام عليها بأن لا يصلي ولا يزكي معصية، لأنه ترك فيها مفروضًا عليه، وجلها والحنث فيها بأن يصلي ويزكي طاعة؛ لأنه فعل مفروضًا عليه. وهكذا لو حلف على فعل المحظورات فقال: والله لأزنين ولأشربن خمرًا ولأسرفن ولأقتلن كان عقدها والمقام عليها بالزنا والسرقة وغير ذلك معصية، وحلها والحنث فيها طاعة بأن لا يزني ولا يشرب. والثالث: ما كان عقدها والمقام عليها مستحبًا، وحلها والحنث فيها مكروهًا وهو قوله: والله لأصلين النوافل، ولأتطوعن بالصدقة، ولأصومن الأيام البيض، ولأنفقن على الأقارب، وما أشبه ذلك من الخيرات فعقدها والمقام عليها بفعل ذلك مستحب، وحلها والحنث فيها بترك ذلك مكروه. والرابع: ما كان عقدها والمقام عليها مكروهًا وحلها والحنث فيها مستحبًا، وهو عكس ما قدمناه فيقول: والله لا صليت نافلة، ولا تطوعت بصدقة ولا صيام، ولا أنفقت على ذي قرابة، ولا عدت مريضًا، ولا شيعت جنازة فعقدها والمقام عليها مكروه، وحلها والحنث فيها بفعل ذلك مستحب، قد خلف أبو بكر أن لا يبرأ مسطح، وكان ابن خالته

لأنه تكلم في الإفك، فأنزل الله تعالى فيه: {ولا يَاتَلِ أُوْلُوا الفَضْلِ مِنكُمْ والسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي القُرْبَى} [النور:22] إلى قوله: {أَلا تُحِبونَ أَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} [النور:22] فقال أبو بكر: بلى يا رب، فبره وكفر. والخامس: أن يحلف على فعله مباح وتركه مباح، كقوله: ولله لا دخلت هذه الدار ولا لبست هذا الثوب، وأكلت هذا الطعام فعقدها ليس بمستحب واختلف أصحابنا هل هو مباح او مكروه؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن عقدها مباح، وحلها مباح، لانعقادها على ما فعله مباح، وتركه مباح. والثاني: وهو ظاهر كلامه هاهنا، أن عقدها مكروه، وحلها مكروه؛ لأنه قال: وأكره الأيمان على كل حال، فيكون عقدها مكروهًا؛ لأنه ربما عجز عن الوفاء بها، وحلها مكروه؛ لأنه جعل الله عرضة بيمينه وقد نهاه عنه. فصل: فإذا تقرر هذا، وحلف على أحد هذه الأقسام الخمسة، فلا يخلو حالة فيها أن يبرأ أو يحنث فإن بر فلا كفارة عليه سواء كان يره فيها طاعة أو معصية، ذهب بعض إلى وجوب الكفارة عليه بعقد اليمين وغن لم يحنث فيها وهو قول عائشة والحسن وقتادة تعلقا بقول الله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] فعلق الكفارة باليمين دون الحنث. والدليل على الفساد هذا القول ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والله لأغزون قريشًا" فغزاهم ولم يكفر، وقوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]. يعني: وحنثتم، كما قال: {ومَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184]. أي: فأفطرتم، فعدة من أيام أخر، فحدف ذلك لدلالة الكلام عليه، وإن حنث في يمينه وجبت الكفارة عليه، سواء كان حنثه طاعة أو معصية. وذهب الشعبي وسعيد بن جبير إلى انه لا كفارة في حنث الطاعة، وإنما تجب في حنث المعصية، لأن فعل الطاعة مأمور به، وغير آثم فيه، فلم يحتج إلى تكفير كالقتل، إن أثم به كفر، وإن لم يأثم به لم يكفر، وهذا خطأ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" وليس يمتنع أن يكفر في فعل الطاعة كالمحرم إذا اضطر إلى أكل الصيد كان مطيعًا في قتله، وعليه أن يكفر بالجزاء، وكالقاتل الخطأ ليس يأثم، وعليه الكفارة.

فصل: فإذا ثبت وجوب الكفارة في حنث الطاعة والمعصية، فالظاهر من مذهب الشافعي، وهو قول أبي حنيفة أن الكفارة وجبت في الحنث وحده لتعلقها بحل ما عقده، كما قال الله تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] وقال بعض أصحابنا أنها تجب باليمين والحنث كالزكاة تجب بالنصاب والحول؛ لأن الحنث لا يكون إلا بعقد اليمين. والأصح عندي من إطلاق هذين المذهبين أن يعتبر حال اليمين، فإن كان عقدها طاعة وحلها معصية وجبت باليمين والحنث؛ لأن التفكير بالمعصية أخص، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَمَنْ قَالَ: وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ كَذَا وَلَمْ يَكُنْ أَثِمَ وَكَفَّرَ وَاحْتَجَّ بِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {ولا يَاتَلِ أُوْلُوا الفَضْلِ مِنكُمْ والسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُوْلِي القُرْبَى} [النور: 22] نَزَلَتْ فِي رَجُلٍ حَلَفَ لاَ يَنْفَعُ رَجُلاً فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَنْفَعَهُ وَبِقَولِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي الظَّهَارِ {وإنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَرًا مِّنَ القَوْلِ وزُورًا} [المجادلة: 2] ثُمَّ جَعَلَ فِيهِ الكَفَارَة وَبِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم "فَلْيَاتِ الَّذي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفَّرْ عَنْ يَمِينِهِ" فَقَدْ أَمَرَهُ بِالحِنْثِ عَامِداً وَبِالتَّكْفِيرِ وَدَلَّ إِجْمَاعُهُمْ أَنَّ مَنْ حَلَفَ فِي الإحْرَامِ عَمْداً أَوْ خَطَأ أَوْ قَتَلَ صَيْداً عَمْداً أَوْ أَخْطَأَ فِي الكَفَّارَة سَوَاءٌ عَلَى أَنَّ الحَلِفِ بَاللَّهِ وَقَتْلِ المُؤْمِنِ عَمْداً أَوْ خَطَأ في الكَفَّارَةِ سَوَاءٌ". قال في الحاوي: قد مضى اليمين على الفعل المستقبل، فأما اليمين على الفعل الماضي فضربان: أحدهما: أن يكون على إثبات كقوله: والله لقد فعلت كذا. والثاني: أن يكون على نفي كقوله: والله ما فعلت كذا، فلا يخلو أن يكون فيها صادقاً أو كاذباً، فإن كان صادقاً قد فعل ما أثبت وترك ما نفي فلا كفارة عليه؛ لأنها يمين بره، وغن كان كاذباً؛ لأنه لم يفعل ما أثبته وفعل ما نفاه، فقال: والله لقد أكلت، ولم يأكل، أو قال: والله ما أكلت وقد أكل، فهو في هذه اليمين عاص آثم، وتسمى اليمين الغموس؛ لأنها تغمس الحالف بها في المعاصي، وقيل: في النار. واختلف الفقهاء هل يجب بها الكفارة أم لا؟ فمذهب الشافعي، أن الكفارة فيها واجبة، ووجوبها مقترن بعقدها، وهو قول عطاء، والحكم والأوزاعي. وقال أبو حنيفة: لا تجب به الكفارة وبه قال مالك، وسفيان الثوري، والليث بن سعد وأحمد وإسحاق استدلالاً بقول الله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ولَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89]. ومنه دليلان: أحدهما: أن اليمين الغموس هي اللغو، والعفو عنها متوجه إلى الكفارة.

والثاني: أن قوله: {ولَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ} [المائدة: 89]. وعقد اليمين ما التزم فعلاً مستقبلاً يتردد بين حنث وبر، فخرجت اليمين الغموس من الأيمان المعقودة، فلم يلزم بها كفارة، ثم ختم الآية بقوله: {واحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] يعني في المستقبل، من الحنث. واستدلوا بما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف يمينًا فاجرة ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله تعالى وهو عليه غضبان". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اليمين الغموس تدع الديار بلاقع من أهلها" فأخبر بحكمها ولم يوجب الكفارة فيها. والقياس أنها يمين على ماض فلم تجب بها كفارة كاللغو. ولأنها يمين محظورة، فلم تجب بها كفارة كاليمين بالمخلوقات. قالوا: ولأن اقتران اليمين بالحنث يمنع من انعقادها؛ لأن حدوثه فيها يدفع عقدها كالرضاع لما رفع النكاح إذا طرأ منها انعقاده إذا تقدم. ودليلنا: قول الله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89] بعد صفة الكفارة، فاقتضى الظاهر لزومها في كل يمين، وقال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ولَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225] ولغو اليمين ما سبق به لسان الحالف من غير قصد ولا نية، واليمين الغموس مقصودة، فكان بها مؤاخذًا ومؤاخذته بها توجب تكفيرها، فإن منعوا من تسمية الغموس يمينًا بطل منعهم بقول الله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا ولَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الكُفْرِ} [التوبة: 74] وقال تعالى: {ويَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهُمْ لَمِنكُمْ ومَا هُم مِّنكُمْ} [التوبة:56]. ومن القياس: أنها يمين بالله تعالى قصدها مختارًا، فوجب إذا خالفها بفعله أن تلزمه الكفارة كالمستقبل ولانه أحد نوعي اليمين، فوجب أن ينقسم إلى بر وحنث كالمستقبل؛ ولأن كل ما كان في غير اليمين كذبًا كان في اليمين حنثًا كالمستقبل؛ ولأنها يمين تتعلق بالحنث المستقبل، فوجب أن تتعلق بالحنث الماضي كاليمين بالطلاق والعتاق؛ لأنه لو حلف بالطلاق والعتاق لقد دخل الدار، ولم يدخلها لزمه الطلاق والعتاق. وكما لو حلف ليدخلها في المستقبل، فلم يدخلها وهذا وفاقًا كذلك في اليمين بالله؛ ولأن وجوب الكفارة في الأيمان أعم في المأثم، لأنها قد تجب فيما يأثم به ولا يأثم، فلما لحقه المأثم في الغموس كان بوجوب الكفارة أولى. فأما الجواب عن قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة:225] فهو أن لغو اليمين ما لم يقصد منها على ما سنذكره، فأما المقصود بالعقد فخارج عن حكم اللغو

وهو المعقود عليه من أيمانه وهو من كسب قلب المأخوذ بإثمه كما قال تعالى: {ولَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225] ولئن كانت اليمين المستقبلة تتردد بين بر وحنث، فالغموس مترددة بين صدق وكذب، فصارت ذات حالين كالمستقبلة، وغن اختلفت الحالتان. ألا تراه لو حلف ليصعدن السماء وليشربن ماء البحر حنث لوقته. وإن لم يتردد يمينه بين حنث وبر، وكذلك لو حلف ليقتلن زيدًا، وكان زيد قد مات حنث، ولزمته الكفارة، وإن لم يتردد يمينه بين بر وحنث وكذب، لأنها مقصودة كذلك يمين الغموس في الماضي. فأما قوله تعالى: {واحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] فحفظها قبل اليمين أن لا يحلف وبعد اليمين أن لا يحنث، كما قال الشاعر: قليل الألا يا حافظ لعهده وإن بدرت منه الألية برت وأما الجواب عن الخبرين فمن وجهين: أحدهما: أن الإمساك عن الكفارة فيها اكتفاء بما ورد به القرآن من وجوبها. والثاني: أن المقصود بها حكم الآخرة، والكفارة من أحكام الدنيا. وأما الجواب عن قياسهم على لغو اليمين فهو أن لغو اليمين غير مقصودة فخرج عن اليمين المقصودة. وأما الجواب عن قياسهم على اليمين بالمخلوقات فهو أنه لا يلزم في جنسها كفارة فخالفت الأيمان بالله. وما الجواب عن قياسهم على النكاح، فهو أنه منتقض بيمينه أن يصعد السماء ثم المعنى في النكاح أن مقصوده الاستمتاع والاستباحة، فإذا امتنع في النكاح بطل ومقصود اليمين وجوب الكفارة في الحنث وسقوطها في البر، وهذا موجود في المستقبل والماضي. فصل: فإذا ثبت وجوب الكفارة في اليمين الغموس على الماضي في إثبات ما لم يكن، أو نفي ما قد كان، فهي يمين محلولة غير منعقدة، لأن عقدها إنما يكون فيما ينتظر بعدها من بر أو حنث، وهذه اليمين قد اقترن بها الحنث بعد استيفاء لفظها، فلذلك لم تنعقد، ووجبت الكفارة باستيفاء اليمين. فصل: يمين الكافر منعقدة يتعلق بها الحنث، وتجب بها الكفارة كالمسلم سواء حنث في حال كفره أو بعد إسلامه، لكنه إن كفر في حال كفره كفر بالمال من إطعام أو كسوة أو عتق، ولم يكفر بالصيام فإن أسلم قبل التكفير جاز أن يكفر بالصيام كالمسلم.

وقال أبو حنيفة: يمين الكافر غير منعقدة، ولا كفارة عليه إذا حنث، استلالاً بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الإسلام يجبّ ما قبله:" فكان على عمومه؛ ولأن الكفارة لا تصح منه؛ لافتقارها إلى النية ما بدليل أنها عبادة تفتقر إلى النية، فلم تصح من الكافر كالصيام والقيام. ولأن الإطعام والكسوة موجبة التكفير، فوجب أن لا يصح من الكافر كالصيام. ولأن من لم يصح منه التكفير بالصيام لم يصح منه التكفير بالمال كالصبي والمجنون. وإذا ثبت بهذه المعاني الثلاثة أن التكفير لا يصح منه وجب أن لا تنعقد يمينه ولا تجب عليه فيها كفارة لأمرين: أحدهما: أن موجب اليمين الكفارة، فإذا لم تصح منه لم تجب عليه الزكاة. والثاني: أن من لم يصح تكفيره لم تنعقد يمينه كالصبي والمجنون. ودليلنا عموم قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ولَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] الآية فاقتضى ظاهر العموم استواء المسلم والكافر في وجوبه. ومن القياس: أن كل من صحت يمينه في الدعاوى انعقدت من غير الدعاوى كالمسلم؛ ولأن كل يمين صحت يمينه بالطلاق والعتاق صحت يمينه بالله كالمسلم؛ ولأن كل من صحت يمينه بالله في الإيلاء صحت يمينه بالله في غير الإيلاء كالمسلم. فإن قيل: إنما صحت يمينه في الإيلاء وبالطلاق والعتاق؛ لأنه يصح منه موجبه من الطلاق والعتق، ولم يصح منه موجب اليمين بالله تعالى في التكفير، فلم تصح منه اليمين بالله تعالى. قيل: موجب اليمين هو الوفاء بها، والكفارة حكم تعلق بالحنث، فلم يمنع من انعقاد اليمين، وإن أفضت إلى التكفير الذي لا يصح منه، ألا ترى أن الكافر لو دخل الحرم فقتل فيه صيداً ضمنه بالجزاء، وإن افتقر إخراج الجزاء إلى نية لم يصح من الكافر، ولم يسقط عنه الجزاء. فاما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجبّ ما قبله" فمن وجهين: أحدهما: ان الخبر يقتضي إسقاط ما وجب، وعندهم أنه لم يجب ما يسقط والثاني: أنه محمول على سقوط المأثم دون المغرم. وأما الجواب عن استدلالهم بأن التكفير بالمال لا يصح منه كالصيام، فهو أن

الصيام عبادة محضة، فلم تصح من الكافر كالصلاة والمال حق يتصرف إلى الآدميين، فصح من الكافر، وإن استحقت فيه النية كجزاء الصيد في الحرم، ولا يمنع إذا لم يصح منه أحد أنواع التكفير أن تجب عليه الكفارة، ألا ترى أن الحائض لا يصح منها التكفير بالصيام، وتصح منها التكفير بالمال، والعبد لا يصح منه التكفير بالمال، ويصح منه التكفير بالصيام، والمجنون إنما لا يصح منه التكفير بالمال والصيام؛ لأنه غير مكلف، والكافر مكلف، فلذلك انعقدت يمين الكافر، وإن لم تنعقد يمين المجنون. وأما الزكاة: فلأنها فرضت على المسلم طهرة، فخرج منها الكافر، ولزمته الكفارة عقوبة. مسألة: قَالَ الشّافِعِيُّ: "وَإِنْ قَالَ أَقْسَمْتُ بِاللَّهِ فَإِنْ كَانَ يَعْنِي حَلَفْتُ قَدِيماً فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ حَادِثَةٍ وَإِنْ أَرَادَ بِهَا يَمِيناً فَهِيَ يَمِينٌ". قال في الحاوي: قوله: "أقسمت بالله"، يحتمل أمرين أن يكون يميناً في الحال أو يكون إخباراً عن يمين ماضية، وإذا احتمل هذين الأمرين لم يخل حاله من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يريد يميناً في الحال فتكون يميناً منعقدة، كما قال تعالى: {أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة: 53]. والثانية: أن يقوله مطلقاً لم تقترن به إرادة، فتكون يميناً؛ لأنه قد اقترن بإطلاقها عرفان، عرف شرع وعرف استعمال. فعرف الشرع ما قدمناه من الآية وعرف الاستعمال قولهم في أيمانهم: أقسمت بالله لأفعلن كذا، فوجب أن يكون إطلاقه محمولاً على العرفين من انعقاد اليمين ولزوم الكفارة. والثالثة: أن يريد به يميناً حلف بها منعقدة، فإن علم تقدم يمينه كان العلم بها موافقاً لإرادته، فلا تنعقد يمينه في الحال، وإن لم تعلم له يمين متقدمة، فقد قال في كتاب الأيمان "لا تكون يميناً" لاحتمال ما قال في كتاب الإيلاء: تكون يميناً منعقدة اعتباراً بعرف الشرع والاستعمال، فاختلف أصحابنا على وجهين: أحدهما: الجمع بين الجوابين وتخريجه في اليمين والإيلاء على قولين: أحدهما: تنعقد في الأيمان والإيلاء. والثاني: لا تنعقد في الأيمان والإيلاء. والثاني: حمل الجواب على ظاهره في الموضعين فيلزم في الإيلاء ولا يلزم في الأيمان لأن في الإيلاء حقاً لآدميين، فلم يسقط بإرادته، وهو في الأيمان من حقوق الله تعالى المحضة، فجاز أن يدين فيه على إرادته.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَإِنْ قَالَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ فَلَيْسَ بِيَمِينٍ". قال في الحاوي: وهذا صحيح. إذا لم يذكر اسم الله تعالى، واقتصر على قوله: أقسم لا فعلت كذا، فقد اختلف الفقهاء في انعقاده يميناً على ثلاثة مذاهب: أحدها: وهو مذهب الشافعي أنها لا تكون يميناً سواء أراد اليمين أو لم يردها. والثاني: ما قاله أبو حنيفة: تكون يميناً أراد اليمين أو لم يردها. والثالث: ما قاله مالك: إن أراد اليمين كانت يميناً، وإن لم يرد اليمين لم تكن يميناً، وهكذا. لو قال: أحلف لأفعلن كذا، فهو على هذا الخلاف، وكذلك لو قال: أشهد لأفعلن كذا كان على هذا الخلاف، فمذهب الشافعي في جميعه أنها لا تكون يميناً حتى يقرنه باسم الله تعالى، فيقول: اقسم بالله أو أشهد بالله، واستدل من جعله يميناً يقول الله تعالى: {إذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17]. فدل على أن أقسمت يمين منعقدة، وقال تعالى: {إذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1]. ثم قال: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2]. فدل على أن "أشهد" يمين لازمة. وروى راشد بن ربيعة عن عائشة رضي الله عنها قال: أهدت لنا امرأة طبقاً فيه تمر، فأكلت منه عائشة، وأبقت فيه تميرات، فقالت المرأة: أقسمت عليك إلا أكلتيه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بريها، فإن الإثم على المحنث" فجعلها يميناً ذات بر وحنث. وروى عن عبد الله بن صفوان أنه أتى بأبيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليبايعه فامتنع عليه، وقال: "لا هجرة بعد الفتح". فقال له العباس: الآن بررت قسمي، فسماه قسماً، ولأن عرف القسم في الشرع والاستعمال يكون بالله تعالى دون غيره، فوجب أن يكون إطلاقه محمولاً على العرفين فيه. ودليلنا قول الله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 6] واللعان يمين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لولا الأيمان لكان ليث ولها شأن" فدل على أن مطلق الشهادة لا يكونه يمينًا حتى تقترن بذكر الله. ومن القياس أنه لفظ عري عن اسم وصفته فوجب أن لا تنعقد به يمين توجب الكفارة. أصله إذا قال: أولى لأفعلن هذا، لأن الألية، والقسم واحد، وقياسًا عليه إذا حلف بغير الله من المخلوقات، ولأن اليمين المكفرة إذا كانت بلفظ معظم له حرمة فإذا

تجرد القسم عن ذكر الله سقطت حرمته، فسقطت كفارته. وأما الجواب عن قوله تعالى: {إذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17]. فهو أنه إخبار عن القسم، وليس فيه دليل على صفة القسم، كما لو قيل: حلف فلان لم يكن فيه دليل على ما حلف به. وأما الجواب عن الخبرين فمن وجهين: أحدهما: ما ذكرناه. والثاني: يجوز أن يكون قد حذف ذكر الله منه اقتصارًا على العرف فيه. وأما الجواب عن استدلالهم بأن إطلاقه محمول على العرفين فيه، فهو أن العرف من القسم أنه يمين لكن قد يكون بالله تارة وبغير الله أخرى، كما لو قال: حلفت، يجوز أن يريد بالله، ويجوز أن يريد الطلاق والعتاق، وبما لا تنعقد من المخلوقات، فلم يجز أن يضاف القسم إلى الله تعالى دون غيره والله أعلم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَإِنْ قَالَ أُقْسِمُ بِاللَّهِ فَإِنْ أَرَادَ بِهَا يَمِينًا فَهِيَ يَمِينٌ وَإِنْ أَرَادَ بِهَا مَوْعِدًا فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ كَقَوْلِهِ سَأَحْلِفُ. قَالَ المُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَفِي الإِمْلَاءِ هِيَ يَمِينٌ". قال في الحاوي: أما قوله: "أقسم بالله" فيحتمل أمرين: أحدهما: أن يريد بها يمينًا في الحال. والثاني: أن يريد أنه سيقسم يمينًا في المستقبل فصار احتمالهما لهذين الأمرين كاحتمال قوله: أقسمت بالله، لأمرين، وإن اختلفا في صفة الاحتمال، لأن الاحتمال في أقسمت ليمين ماضية وفي قوله: "أقسم" ليمين مستقبلة، فيكون الحكم معتبرًا بأحواله الثلاثة. أحدهما: أن يريد بها عقد يمين في الحال، فتنعقد يمينه. والثاني: أن تكون مطلقة، فيعقد يمينه اعتبارًا في الإطلاق يعرف الشرع والاستعمال. قال الله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا} [المائدة: 107]. والثالثة: أن يريد بها موعدًا في يمين مستقبلة، فالمنصوص عليه من الأيمان أنها لا تكون يمينا حملاً على إرادته في الموعد، والمنصوص عليه في الإيلاء أنها تكون يمينًا في الحال، فخرجه أصحابنا على وجهين: أحدهما: حمل ذلك في اليمين والإيلاء على قولين: والثاني: حمل الجواب على ظاهره في الموضعين للفرق بينهما بما قدمناه، والله أعلم.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَإِنْ قَالَ لَعَمْرُ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهَا يَمِينًا فَلَيْسَتْ بِيَمينٍ". قال في الحاوي: لا يخلو حاله إذا قال: لعمر الله لأفعلن كذا من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يريد به اليمين، فتكون يمينًا مكفرة؛ لأن للناس في معناه ثلاثة أوجه: أحدها: معناه علم الله. والثاني: بقاء الله ويشبه أن يكونه قول ابن عباس. والثالث: وحق الله وأي هذه المعاني كان فهو من صفات ذاته. والثانية: أن لا يريد يمينًا فلا تكون يمينًا. وقال أبو حنيفة: تكون يمينًا وإن لم يردها لأنه من صفات ذاته. ودليلنا هو أن لفظة قد صار في العرف مستعملاً في غير الأيمان مثل قولهم: لعمري لقد كان كذا ومن قول الشاعر: لعمرك ما يدري امرؤ كيف يتقي نوائب هذا الدهر أم كيف يحذر فجاز أن يكون محمولاً على العرف بالإرادة، فلا تكون يمينا لخروجه عن حكم الصفات المحضة. والثالثة: أن يطلقه، ولا تكون له فيه إرادة، ففيه وجهان: أحدهما: تكون يمينًا لما اقترن به من عرف الشرع في قوله تعالى: {لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)} [الحجر: 72]. والثاني: أن لا تكون يمينًا لأن عرف الاستعمال فيه مشترك، وعرف الشرع فيه محتمل، لأن قوله: {لَعَمْرُكَ إنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)} [الحجر: 72]. قسم من الله تعالى برسوله، وأقسام الله تعالى مخالفة لأقسام عبادة، لجواز قسمه بالمخلوقات التي لا يجوز أن يقسمه بها المخلوقون. فصل: فأما قوله: وأيم الله، وأيمن الله، فإن أراد به يمينًا كان يمينًا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال في أسامة بن زيد: "وأيم الله إنه لخليق بالإمارة" وإن لم يرد يمينًا، أو لم تكن له إرادة لم تكن يمينًا، لأن العرف في قولهم: لعمر الله، أكثر استعمالاً من قولهم، وأيم الله. وقال أبو حنيفة: هما سواء في الأحوال كلها يمين مع وجود الإرادة وعدمها. وأما قوله: لاها الله. فإن أراد به يمينًا، فهو يمين لما روي عن أبي بكر رضي الله

عنه أنه قال بمشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتيل أبي قتادة حين أخذ سلبه غيره: لاها الله إذن تعمد إلى أسد من أسد الله يعطيك سلبه، فكانت يمينًا وإن لم يرد اليمين، أو لم تكن له إرادة، فليس بيمين لعدم عرف الشرع والاستعمال فيه. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ قَالَ حَقِّ اللَّهِ أَوْ وَعَظَمَتِهِ أَوْ وَجَلاَلِ اللَّهِ أَوْ وَقُدْرَةِ اللَّهِ فَذَلِكَ كُلُّهُ يَمِينٌ نَوَى بِهَا يَمِينًا أَوْ لاَ نِيَّة لَهُ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ يَمِينًا فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ لأَنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَقُولَ: وَحَقِّ اللَّهِ وَاجِبٌ وَقُدْرَةُ اللَّهِ مَاضِيَةٌ لاَ أنَّهُ يَمِينٌ". قال في الحاوي: ذكر الشافعي ها هنا إذا حلف بأربعة أشياء ب "حق الله" و"عظمة الله"، و"جلال الله"، و"قدرة الله". فأما عظمة الله وجلال الله فهو يمين في الأحوال الثلاثة، سواء أراد به اليمين أو لم يرد لأنها من صفات ذاته المحضة، فلم يعتبر فيها عرف شرع ولا استعمال وإن كان عرف الاستعمال فيها موجودًا، وإنما يعتبر العرفان فيما كان من الصفات محتملاً، ولا يعتبر فيما زال عنه الاحتمال. وأما قوله: وحق الله، وقدرة الله، فتكون يمينًا في حالتين من ثلاث إذا أراد اليمين وإذا أطلق. وقال أبو حنيفة إذا قال: وحق الله لا تكون يمينًا في الأحوال كلها سواء أراد به اليمين أو لم يرد، لأن حقوق الله تعالى فروضه وعباداته، لرواية عبادة ابن الصامت قال: قلت يا رسول الله؟ وما حق الله على عباده؟ فقال: "أن لا تشركوا به شيئًا وتعبدوه وتقيموا الصلاة وتؤتوا الزكاة". ودليلنا شيئان: أحدهما: أنها يمين معتادة بصفة عامة أضيفت آلي الله تعالى، فوجب أن تكون يمينًا كصفات ذاته من العظمة والعزة. والثاني: أنها يمين مستحقة من صفات ذاته، فجرى عليها حكم صفات الذوات. وأما الخبر فلا دليل فيه، لأنه بين بعض حقوقه، وقد تحتمل العبادات، وتحتمل صفات الذات، فجاز أن تعتبر فيه الإرادة بحمله على أحدهما. وأما إذا أراد غير اليمين، فقد قال الشافعي: "يعمل على إرادته" فلا تكون يمينًا لما علل به من جواز أن يريد. وحق اله واجب وقدرة الله ماضية، فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه: أحدها: أن لا تكون يمينًا على ما أجاب به الشافعي، وعلل به. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي، أنه لا تكون يمينًا في حقوق الله تعالى، وتكون يمينًا في حقوق الآدميين.

والثالث: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه لا تكون يمينًا بالإرادة إذا عزاه إلى أمر محتمل، وتكون يمينًا إذا لم يعزه إلى أمر محتمل. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ قَالَ بِاللَّهِ أَوْ تَاللَّهِ فَهِيَ يَمِينٌ نَوى أَوْ لَمْ يَنْوِ. وَقَالَ فِي الإِمْلاِءِ: تَاللَّهِ يَمِينٌ وَقَالَ فِي القَسَامَةِ لَيْسَتْ بِيَمِينٍ قَالَ المزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ حَكَي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَمِينَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ {وتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57)} [الأنبياء: 57]. قال في الحاوي: أعلم أن حروف القسم ثلاثة: الواو وهي أصلها، ثم الياء، ثم التاء، فأما الواو فقوله: والله، وهو الحرف الصريح في القسم، فإذا قال: والله كان حالفًا، لا يرجع إلى إرادته في ظاهر ولا باطن، ولا يلزمه حكم اليمين في حقوق الله وحقوق الآدميين، وأما التاء المعجمة من تحت. فقوله: بالله، وفيها بعض الاحتمال، لأنه مع غالب الأحوال في القسم يحتمل أن يريد: بالله استعين وبالله أتق، وبالله أومن، فإذا أراد به القسم، أو قال مطلقًا كان يمينًا في الظاهر والباطن في حقوق الله وحقوق الآدميين، وإن لم يرد به القسم، وأراد ما ذكرنا من احتماله دين في الباطن حملاً على ما نواه ولم تلزمه الكفارة، وكان حالفًا في الظاهر، اعتبارًا بالغالب من حال الظاهر، ولزمه حكم اليمين كما لو لزوجته أنت طالق، وأراد من وثاق دين في الباطن وكان طلاقًا في الظاهر. وأما التاء المعجمة من فوق، تالله، فمنصوص الشافعي في الأيمان والإيلاء أنها يمين، لأن الشرع قد ورد بها، قال الله تعالى: {وتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم} [الأنبياء: 57]. {قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا} [يوسف: 91]. ونقل المزني عن الشافعي في القسامة: وتالله ليست بيمين فاختلف أصحابنا في تخريج ما نقله في القسامة على وجهين: أحدهما: أنه ليس بصحيح، وقد وهم فيه، وإنما قال الشافعي: "بالله ليست بيمين" بالباء معجمة من تحت، وقد ذكر الشافعي في تعليله ما يدل على هذا، فقال: لأنه دعاء، فعلى هذا تكون تالله يمينًا قولاً واحدًا. والثاني: أن نقل المزني صحيح، لضبطه في نقله، فعلى هذا اختلف أصحابنا مع صحة النقل في كيفية تخريجه على ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه تخريج قول ثان، فيكون على قولين لاختلاف النقل فيه. أحدهما: وهو مذهب أبي حنيفة أن تكون يمينًا في المواضع كلها من غير أن تعتبر فيه إرادة؛ لأن عرف الشرع بها وارد؛ ولأن التاء في القسم بدل من الواو، فقامت مقامها في الحكم.

والثاني: أنها ليست بيمين في المواضع كلها إلا أن يريد بها يمينًا، فتصير بالإرادة يمينًا لخروجها عن عرف الاستعمال والتباسها على أكثر الناس، والأيمان مختصة بما كان في العرف مستعملاً، وعند عامة الناس مشتهرًا، فهذا وجه: والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي: أنها تكون يمينًا في خواص الناس الذين يعرفون أن التاء من حروف القسم ولا تكون في العامة الذين لا يعرفون ذلك إلا بالإرادة والنية، كما أن العربي إذا حلف بالأعجمية تكون يمينًا إذا عرفها، ولا تكون يمينًا إ&ن لم يعرفها، وكذا الأعجمي إذا حلف بالعربية. والثالث: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنها تكون يمينًا في التغليظ عليه، ولا تكون يمينًا في التخفيف عنه، فلا يجعلها يمينًا في القسامة؛ لأنه يثبت بها لنفسه حقًا، ويجعلها يمينًا في الإيلاء؛ لأنه يثبت بها على نفسه حقًا. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيًُّ - قَالَ المُزَنِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ: "فَإِنْ قَالَ لأَفْعَلَنّ فَهَذَا ابْتِدَاءُ كَلاَمٍ لاَ يَمِينٌ إِلاَّ أَنْ يَنْوِيَ بِهَا". قال في الحاوي: إذا حذف من اسم الله حرف القسم، فقال: الله لأفعلن كذا، لم يكن يمينًا؛ لأنه يحذف حروف القسم الموضوعة لليمين يصير ابتداء كلام، واستفتاح خطاب يخرج عن عرف الأيمان في الاستعمال والشرع. فإن قيل: فقد ورد به عرف الشرع، فقد اختلف رسول الله صلى الله عليه وسلم ركانة بن عبد يزيد حين طلق امرأته البتة، وذكر أنه أراد واحدة فقال: "الله إنك أردت واحدة"؟ فقال: الله إني أردت واحدة، وأحلف ابن مسعود حين أخبره أنه قتل أبا جهل، فقال" "الله إنك قتلته"، فقال: الله إني قتلته. فالجواب عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قصد اليمين بإحلافهما والنية عندنا في الأيمان نية المستحلف دون الحالف، ولو كان الحالف نوى اليمين، وأرادها مع حذف حرف القسم كان يمينًا لما ذكرناه من إحلاف ركانة وابن مسعود، فتصير غير يمين في حالتين إذا لم يرد وإذا أطلق، ويمينًا في حالة واحدة إذا أراد. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيًُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "فَإِنْ قَالَ أَشْهَدُ بِاللَّهِ فَإِنْ نَوَى اليمِينَ فَهَيَ يَمِينٌ وَإِنْ لَمْ يَنْو يَمِينًا فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ لأَنَّهَا تَحْتَمِلُ أَشْهَدُ بِأَمْرِ اللَّهِ وَلَوْ قَالَ أَشْهَدُ يَنْوِيهِ يَمِينًا لَمْ يَكُنْ يَمِينًا". قال في الحاوي: وهو كما قال: وحكي عن أبي حنيفة أنه إذا قال: أشهد بالله، أو قال: أشهد أنها يمين لما اقترن بها من عرف الشرع في قوله تعالى: {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ

أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور: 6]. وقال: {إذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: 1]. وإذا اقترن بها أحد العرفين صارت يمينًا، ولا تكون الشهادة بالله عند الشافعي يمينًا قاطعة، لعلتين: إحداهما: ما علل به الشافعي أنها تحتمل أشهد بأمر الله على وجه الشهادة بالأيمان بالله، فخرجت عن حكم ما لا يحتمل. والثانية: ما علل به أبو إسحاق المروزي أنها ما كانت جارية في عرف الخاصة والعامة، والشهادة بما لا تعرفها العامة في الأيمان فزال عنها حكم اليمين. فأما استدلال أبي حنيفة بعرف الشرع، فقد قابله في حمله على شهادة الأيمان بالله عرف شرعي، فلم يكن أحد العرفين أولى من الآخر، فتعارضا، ورجع إلى إرادته، ولا يخلو حاله في قوله: أشهد بالله من ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يريد بها غير يمين، فلا تكون يمينًا، وهو الذي خالف فيه أبو حنيفة. والثانية: أن يريد بها اليمين، فتكون يمينًا بوفاق أبي حنيفة، لما وافقها من أحد الفريقين. والثالثة: أن يطلق ولا تكون له فيها نية، فقد اختلف أصحابنا في هذا الإطلاق على وجهين: أحدهما: أن إطلاقهما أن تكون يمينًا لموافقة العرف الشرعي، ويكون جواب الشافعي في أنها ليست بيمين محمولاً على أنه لم يرد بها اليمين. والثاني: أن إطلاقها يمنع من أن تكون يمينًا لمخالفة عرف الاستعمال، ويكون جواب الشافعي في أنها ليست بيمين محمولاً على هذا الإطلاق. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيًُّ: "وَلَوْ قَالَ أَعْزِمُ بِاللَّهِ وَلاَ نِيَّةَ لَهُ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا لأَنَّ مَعْنَاهَا أَعْزِم بِقُدْرَةِ اللَّهِ أَوْ بِعَوْنِ اللَّهِ عَلَى كَذَا وَإِنْ أَرَادَ يَمينًا فَهِيَ يَمِينٌ". قال في الحاوي: وهذا كما قال، لأن قوله: أعزم بالله يحتمل الاستعانة بقوله، ومعونته على مقاصده تسليمًا لأمره، وهو الأظهر، وإن احتمل أن يريد عزمًا على اليمين بإضمار القسم، ولترددها بين احتمالين، أظهرهما أن تكون غير يمين، وأضعفهما أن تكون يمينًا، لم يجعلها يمينًا إذا نوى غير اليمين، ولا إذا أطلقها، لأنه لم يقترن بإطلاقها عرف الشرع ولا عرف الاستعمال، وجعلناها يمينًا إذا نواها لما يحتملها من حكم اليمين فتصير يمينًا في حالة واحدة وغير يمين في حالتين وجهًا واحدًا، بخلاف الشهادة حيث احتملت في الإطلاق، ولما اقترن بها من عرف الشرع.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ قَالَ أَسْأَلُكَ بَاللَّهِ أَوْ أَعْزِمُ عَلَيْكَ بَاللَّهِ لَتَفْعَلَنَّ فَإِنْ أرَادَ المُسْتَخْلِفُ بِهَا يَمِينًا فَهِيَ يَمِينٌ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ بِهَا شَيْئًا فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ". قال في الحاوي: أما قوله لغيره: أسألك بالله، أو أقسم عليك بالله لتفعلن كذا. فله فيه أربعة أحوال: أحدهما: أن يريد يمينًا لنفسه على فعل صاحبه، فتكون يمينًا له معلقة بفعل غيره، فإن فعل ما قال بر الحالف، وإن لم يفعل حنث الحالف، ووجبت الكفارة على الحالف دون المحلوف عليه، وأوجبها أحمد بن حنبل على المحلوف عليه دون الحالف احتجاجًا برواية عكرمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حلف على أحد بيمين وهو يرى أنه سيبره فلم يفعل فإنما إثمه على الذي لم يبره". ودليلنا قول الله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89]، فجعل الكفارة على الحالف دون المحنث، وقد جاءت السنة بما يوافق هذا. روى راشد بن سعد عن عائشة رضي الله عنها قالت: أهدت لنا امرأة طبقًا فيه تمر فأكلت منه عائشة، وأبقت تميرات، فقالت لها المرأة: أقسمت عليك إلا أكلتيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بريها؟ فإن الإثم على المحنث"، فجعل البر والحنث على الحالف والإثم على المنحث، وعلى هذا يحمل حديث أبي هريرة فيما احتج به أحمد. فصل: والثانية: أن يريد الحالف بيمينه يمينًا يعقدها على المستحلف يلزمه برها وحنثها، فلا يكون يمينًا للحالف؛ لأنه لم يردها، ولا تكون يمينًا للمستحلف، لأنه لم يحلف بها؛ ولأنه لم تنعقد يمين المكره مع حلفه كانت يمين من لم يحلف أولى أن لا تنعقد. والثالثة: أن يريد بها السؤال والطلب، ولا يقصد بها يمينًا لنفسه ولا لصاحبه، فلا تكون يمينًا بحال. والرابعة: أن يطلقها، ولا تكون له نية فيها بيمين ولا غيره، فلا تكون يمينًا، لا يختلف فيها مذهب الشافعي؛ لأنه لم يقترن بها عرف شرع ولا عرف استعمال، فخرجت عن حكم الأيمان. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ قَالَ عَلَيَّ عَهْدِ اللَّهِ وَمِيثَاقِهِ فَلَيْسَتْ بِيَمِينٍ إِلاَّ أَنْ يَنْوِي يَمِينًا لأَنَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ عَهْدًا أَنْ يُؤَدِّي فَرَائِضَهُ وَكَذَلِكَ مِيثَاقُ اللَّهِ بِذَلِكَ وَأَمَانَتُهُ".

باب الاستثناء في الأيمان

قال في الحاوي: وهذا كما قال، وقال أبو حنيفة ومالك: إذا قال: على عهد الله أو قال: على ميثاق الله أو جمع بينهما، فقال: على عهد الله وميثاقه، كان من صريح الأيمان، فيكون يمينًا في الأحوال الثلاث لما فيها من زيادة التغليظ على الأيمان بالعهد والميثاق، وعلى مذهب الشافعي لا تكون يمينًا إذا لم ينوها، لأن عهد الله وميثاقه. يحتمل أن يكون ما أوجبه من فروض أو تؤدي إليه ويحتمل أن يريد به ما أخذه الله من الذرية في ظهور الآباء من الاعتراف به في قوله تعالى: {وإذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ ألَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] ويحتمل أن يريد بها اليمين؟ فلما كان هنا يحتمل وجوهًا وجب أن يرجع فيه إلى نيته وإرادته، فإن أراد يمينًا كان يمينًا، وإن أراد غير اليمين لم تكن يمينًا، وإن لم تكن إرادة وأطلق، في إطلاقه وجهان: أحدهما: أن إطلاقه يخرجه عن اليمين لأنه لم يقترن بع عرف شرع، وتكون غير يمين في حالتين، ويمينًا في حالة واحدة. والثاني: أن إطلاقه يوجب أن تكون يمينًا؛ لأنه عرف الاستعمال في الخاصة والعامة قد صار جاريًا ومحمولاً بينهم على زيادة التغليظ كما يزيد في تغليظ الأيمان بالله الطالب الغالب وهذا قول أبي إسحاق المروزي، فتكون يمينًا في حالتين، غير يمين في حالة واحدة، وإذا صار عهد الله وميثاقه يمينًا، وقد جمع بينهما وحنث لزمته كفارة واحدة. وقال مالك: تلزمه كفارتان لوجوبها بكل واحد منهما، فتضاعفت باجتماعهما، وهذا ليس بصحيح، لانه يمين واحدة زادها تغليظًا، فلم تجب بها إلا كفارة واحدة كقوله: والله الطالب الغالب، والله أعلم بالصواب. باب الاستثناء في الأيمان مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُُّّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: "وَمَنْ حَلَفَ بِأَيِّ يَمِينٍ كَانَتْ ثُمَّ قَالَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ مَوْصُولاً بكَلاَمه فَقَد اسْتَثْنَى". قال في الحاوي: وهذا كما قال، الاستث 3 ناء بمشيئة الله في الأيمان والنذور يمنع من انعقادها وتسقط حكمها في الإثبات والنفي، سواء كانت اليمين بالله تعالى أو بالطلاق والعتق. وقال مالك: يصح الاستثناء في اليمين بالله، ولا يصح في الطلاق والعتق والنذور، وقد مضى الكلام معه في كتاب الطلاق، ومن الدليل عليه رواية أيوب، عن نافع، عن

ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من حلف على يمين فقال: إن شاء الله فقد استثنى" وروى طاوس عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من حلف على يمين فقال: إن شاء الله لم يحنث" فكان على عمومه في كل يمين، ولأنه لما جاز تعليق جميع الأيمان من عتق، وطلاق، وغيره بالشروط والصفات، كان تعليقها بمشيئة الله تعالى أولى، ومشيئة الله غير معلومة فيها، فلم تنعقد، كما لو قال: والله لا دخلت الدار إن شاء زيد، أو قال لزوجته أنت طالق إن شاء عمرو، أو قال لعبده: أنت حر إن شاء بكر، ولم تعلم مشيئتهم حتى ماتوا سقطت أحكام هذه كلها لعدم العلم بها. فإن قيل: فإن الله تعالى يشاء العتق؟ قيل: قد يجوز إن يشاءه في الحال، ويجوز أن لا يشاءه وقد يجوز أن يشاء الطلاق؟ لأنه قد أباحه، والمباح داخل في مشيئته. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَالوَصْلُ أَنْ يَكْونَ الكَلًامُ نَسَقًا وَإِنْ كَانَتْ بَيْنَةُ سَكْتَةٌ كَسَكْتَةِ الرَّجُلِ لِلَّذَكُّرِ أَوْ العِيَّ أَوْ التَّنَفُّسِ أَوِ انْقِطَاعِ الصَّوْتِ فَهُوَ اسْتِثْنَاءٌ وَالقَطْعُ أَنْ يَاخُذَ فِي كَلَامٍ لَيْسَ مِنَ اليَمِينِ مِنْ أَمْرٍ أَوْ نَهْيٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ يَسْكُتَ السُّكُوتَ الَّذِي يُبَيَّنُ أَنَّهُ قَطَعَ". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن الاستثناء في الأيمان كلها مانع من انعقادها، وهو جائز وليس بواجب، وذهب بعض أهل الظاهر على وجوب الاستثناء بمشيئة الله تعالى، احتجاجًا بقول الله تعالى {ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24]. والدليل على أنه مخير في الاستثناء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استثنى في يمينه تارة، ولم يستثن فيها أخرى، فقال: "والله لأغزون قريشًا إن شاء الله"، وإلى من نسائه شهرًا، ولم يستثن. وروى عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم: "كان يحلف بهذه اليمين لا ومقلب القلوب". روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اجتهد في اليمين قال: "والذي نفس أبي القاسم بيده". ولأن الاستثناء سبب يتوصل به إلى حل اليمين فلم يجب كالحنث. فأما الآية فواردة على طريق الإرشاد والتأديب، أن لا يعزم على أمر إلا أن يقرنه

بمشيئة الله تعالى في الأيمان، وغيرها ليكون بالله مستعينًا وإليه مفوضًا. فصل: فإذا ثبت جواز الاستثناء دون وجوبه، فلا تأثير لاستثنائه إلا أن يقوله موصولاً بكلامه، فإن انقطع عنه لم يكن لحكم، وحكي عن الحسن البصري، وعطاء أنه إن استثنى في مجلس يمينه صح، وإن استثنى بعد فراغه لم يصح. وعن ابن عباس روايتان: إحداهما: أن الاستثناء يصح أبدًا في طويل الزمان وقصيره. والثانية: أن يصح إلى حين، والحين عنده سنة ولا يصح بعدها احتجاجًا بقول الله عز وجل: {واذْكُر رَّبَّكَ إذَا نَسِيتَ} [الكهف:24]. أي اذكر الاستثناء إذا نسيته فعم الأمر من غير تحديد. وروى عكرمة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " والله لأغزون قريشًا، والله لأغزون قريشًا، والله لأغزون قريشًا، وسكت ثم قال: إن شاء الله" فدل على جواز الاستثناء متصلاً أو منفصلاً. والدليل على بطلان الاستثناء بعد انقطاعه قول الله تعالى" {ولا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24]. فجعل الاستثناء على الفور دون التراخي، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حلف فقال: إن شاء الله فقد استثنى"، فذكر الاستثناء بحرف الفاء الموجبة للتعقيب والفور. ولأن عرف الناس في الكلام المنفصل أن يكون مخالفًا للكلام المتصل؟ ألا تراه لو قال لعبده: أنت حر وسكت، ثم قال بعد زمان: إن دخلت الدار، عتق بالكلام الأول، ولم يكن ما ذكره من دخول الدار شرطًا، ولو قال على عشرة دراهم وسكت ثم قال بعد وقت: إلا خمسة لم يكن ذلك استثناء ولزمته العشرة، لاستقرار حكم الكلام بالسكوت عليه، كذلك الاستثناء بمشيئة الله تعالى. وأما قوله تعالى: {واذْكُر رَّبَّكَ إذَا نَسِيتَ} [الكهف:24] فقد قال عكرمة معناه: واذكر ربك إذا غضبت ليزول عنك الغضب عند ذكره وأما الخبر فقد ذكر الساجي أنه مرسل ورواه عكرمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو صح جاز أن يكون محمولاً على سكوته لانقطاع النفس، أو قاله بعد تطاول الزمان استعانة بمشيئة الله على مقاصده وإن لم يجعله استثناء في يمينه؟ لأنه قد وفي بها في غزو قريش.

فصل: فإذا ثبت اعتبار الاستثناء بالاتصال دون الانفصال، فالمتصل ما وصفه الشافعي أن يصله بيمينه على نسق، فإن سكت لنحنحة وانقطاع نفس أو عجز أو تذكر كلام لم يكن قطعًا، وكان كالمتصل لأن الكلام لا يمتد، ولابد أن يتخلله سكتات الاستراحة، فأما إن سكت بغير هذا، أو تكلم بين اليمين والاستثناء بما خرج عنه من أمر ونهي وكلام لا تعلق له باليمين والاستثناء بطل حكم الاستثناء، لأن استقرار اليمين بالخروج عنها إلى غيرها. فصل: ثم لا يصح الاستثناء فيها مع الاتصال إلا بالكلام، فإن نواه بقلبه ولم يتكلم به لم يصح، لأن اليمين لما ينعقد بالنية لم يصح الاستثناء فيها بالنية، ولزم أن يكون الاستثناء نطقًا كما لزم أن يكون اليمين نطقًا. فإن قيل: أفليس لو قال لعبده: أنت حر ونوى بقلبه إن دخل الدار كان شرطًا في عتقه فيما بينه وبين الله تعالى، وكلا يعتق عليه إلا بدخول الدار، وإن لم يذكره نطقًا فهذا كان الاستثناء هكذا. قيل: الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: لأن الاستثناء رافع كالنسخ، ولا يكون النسخ إلا بالكلام كذلك الاستثناء، والشرط تخصيص بعضه وتخصيص العموم يجوز بالقياس من غير كلام. والثاني: أنه مبطل لظاهر الكلام، فلم يبطل إلا بمثله من كلام ظاهر، والشرط مثبت فحمل الكلام المحتمل على مقتضى الشرط، فلم يفتقر إلى الكلام فافترقا، ثم لا حكم لتلفظه في الاستثناء بمشيئة الله تعالى حين يقوله ناويًا به الاستثناء فلم لم ينوه وسيق في لسانه من غير قصد أو جرى به عادته أن يذكر مشيئة الله تعالى في سائر أحواله لم يكن استثناء. ألا ترى أن عقد اليمين لا يصح إلا بالنية والقصد، ويكون اللغو فيها عفوا، كذلك استثناؤها، وإذا ثبت اعتبار النية في الاستثناء نظر، فغن قصد الاستثناء عند التلفظ بيمينه صح إذا تكلم به بعد يمينه، وإن لم يقصد مع ابتداء اليمين وقصده مع التلفظ بالاستثناء ففي صحته وجهان: أحدهما: يصح لوجود القصد فيه عند ذكره. والثاني: لا يصح لإطلاق اليمين عند ذكرها، ويجوز أن يتقدم الاستثناء على اليمين فيقول: إن شاء الله والله لا كلمت زيدًا، ويجوز أن يكون الاستثناء وسطًا، فيقول: والله إن شاء الله، لأنه يكون في الأحوال كلها متصلاً بكلامه الذي يعتبر حكم أوله بآخره، وحكم آخره بأوله، وسواء قال في استثنائه: إن شاء الله، أو أراد الله، أو إن أحب الله، وإن اختار الله، كل ذلك استثناء.

وكذلك لو قال: بمشيئة الله أو بإرادة الله أو باختيار الله، فكلمه استثناء والله أعلم بالصواب. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ قَالَ في يَمِينِهِ لأََفْعَلَنَّ كَذَا لِوقْتٍ إِلَّا أّنْ يَشَاءَ فُلَانٌ فَإِنْ شَاءَ فُلانٌ لَمْ يَحْنَثْ وَإِنْ مَاتَ أَوْ غَبِي عَنَّا حَتَّى مَضَى الوَقْتُ حَنَثَ قَالَ المُزَنِيُّ قَالَ بِخِلَافِهِ فِي بَابِ جَامِعِ الأَيْمَانِ". قال في الحاوي: قال المزني: وصورة هذه المسألة أن يقول الحالف: والله لأدخلن هذه الدار اليوم إلا أن يشاء زيد فعين وقت دخوله في يومه فلا يبر بالدخول في غيره، وجعل مشيئة زيد استثناء فتعلق بمشيئة زيد أمران: أحدهما: صفة مشيئته المشروطة. والثاني: حكمها في الشرط، فأما صفة مشيئته فهو أن يشاء أن لا يدخل الحالف الدار، لأن الاستثناء ضد المستثني منه؛ لأن من حكم الاستثناء إذا عاد إلى إثبات أن يكون نفياً، وإذا عاد إلى نفي أن يكون إثباتاً، فإن قال الحالف: أردت ألا أن يشاء زيد دخولي، فلا التزام الدخول حملت المشيئة على إرادته، لاحتمالها، وإن خالفت حكم الاستثناء، وأما حكم مشيئة زيد فهو مع اليمين بعد انعقادها، فتكون مشيئة زيد رافعة لعقد يمين الحالف؛ لأنه جعلها استثناء، ولم يجعلها شرطاً، والاستثناء ينفي الإثبات ويثبت النفي، واليمين ثابتة، فكان استثنائها نفياً، فلو قال: أردت أن تكون مشيئة زيد شرطاً في إثبات اليمين لم يعمل على إرادته، لأنها تحيل حقيقة لفظه بما لا يحتمله؛ لأن قوله: إلا أن يشاء زيد ضد قوله: إن شاء زيد، فلا يجوز أن يعلق على اللفظ حكم هذه، وخالف صفة المشيئة إذا أراد خلاف إطلاقها لاحتماله، فإذا تقررت صورة المسألة، وحكم الاستثناء فيها بمشيئة زيد الرافع لعقد اليمين فلا يخلو حال الحالف من أن يوجد فيه البر أو لا يوجد، فإن كان البر منه موجوداً بدخول الدار في يومه فلا حنث عليه سواء وجدت مشيئة زيد أو لم توجد، لكن يكون دخوله بعد مشيئة زيد دخولاً بعد ارتفاع اليمين، فلا يتعلق به بر ولا حنث، ودخوله مع عدم المشيئة دخولاً يوجب البر في يمينه وإن لم يدخل الحالف الدار في يومه فقد عدم الفعل الذي يتعلق به البر، فتراعى حينئذ مشيئة زيد، هل ارتفعت اليمين بمشيئة، أو كانت على انعقادها لعدم مشيئته، ولا يخلو حال زيد فيها من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يعلم أنه قد شاء، فاليمين، قد ارتفعت بمشيئته، فلم يحنث الحالف بترك الدخول، لارتفاع اليمين.

والثاني: أن يعلم أن زيداً لم يشأ فاليمين منعقدة لعدم الشرط في رفعها، والدخول شرط في البر فيكون الحالف حانثاً، بترك الدخول لإخلاله بشرط البر. والثالث: أن تخفي مشيئة زيد، فلم يعلم هل شاء أو لم يشأ، فقد نص الشافعي في هذه المسألة على أن الحالف يحنث بشرط الدخول، فجعل الشك في المشيئة موجباً لسقوطها، وجعل اليمين على انعقادها فأوقع الحنث فيها، ونقل الربيع في كتاب الأم عن الشافعي في مسألة أخرى ضد هذا الجواب مع وجوب اشتراكهما فيه، وهو إذا قال الحالف: والله لا دخلت هذه الدار في يومي هذا إلا أن يشاء زيد فدخلها في يومه، ولم يعلم مشيئة زيد لم يحنث وهماً في حكم المشيئة سواء، وإن اختلفا في الصورة، لأن اليمين في المسألة الأولى معقودة على دخول الدار، وفي المسألة الثانية معقودة على ترك دخولها، ومشيئة زيد في المسألتين جميعاً رافعة لعقد اليمين، وقد جعل الشك في مشيئة زيد رافعاً لليمين في المسألة الثانية، ولم يجعل الشك فيها رافعاً لليمين في المسألة الأولى، ولولا أن الربيع علل جواب المسألة الثانية أنه لا يحنث لجواز أن يكون زيد قد شاء فلا يحنث بالشك، فجاز أن ينسب الربيع إلى الوهم، أو ينسب الكاتب إلى الغلط، فاختلف أصحابنا في اختلاف هذين الجوابين مع اتفاقهم على استواء البر والحنث في المسألتين على وجهين: أحدهما: أن خرجوا جواب كل واحدة من المسألتين إلى الأخرى وحملوهما على قولين: أحدهما: يحنث بالشك في مشيئة زيد إثباتاً لعقد اليمين في المسألتين لأن الشك في صحة الاستثناء يوجب سقوط حكمه. والثاني: لا يحنث بالشك في مشيئة زيد إثباتاً لصحة الاستثناء في المسألتين؛ لأن الشك في كفارة الحنث توجب سقوطها استصحاباً بالبراءة الذمة فهذا أحد وجهي أصحابنا. والثاني: وقد حكاه أبو إسحاق المروزي، وأبو علي بن أبي هريرة ليس اختلاف الجوابين على اختلاف قولين، وإنما هو على اختلاف حالين، فحنثه الشافعي في المسألة الأولى إذا فات أن يستدرك مشيئة زيد بموته ولم يحنث في المسألة الثانية إذا أمكن استدراكها بغيبته حياً، والتوصل إلى العلم بها، والله أعلم. فصل: فأما المزني فإنه لما نقل في مسألة الكتاب أنه يحنث بالشك بالمشيئة قال: قد قال: خلافه في باب جامع الأيمان، والذي أشار إليه المزني في باب جامع الأيمان ليست المسألة التي حكاها الربيع في كتاب الأم، وإنما أراد ما قاله الشافعي إذا حلف ليضرب عبده مائة، فضربه بضغث يجمع شمراخ كما قال الله تعالى لأيوب حين حلف ليضرب

باب لغو اليمين من هدا ومن اختلاف مالك والشافعي

امرأته مائةً، {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: (44)] فإذا ضرب عبده بمائةَ شمراخ مجموعةً، فإن أحاط علمه بوصول جميعها إلى بدنه بر، وإن أحاط عليه بأنه لم يصل إلى بدنه حنث، وإن شك في وصول جميعها إلى بدنه لم يحنث ولم نجعله بالشك في وصول الضرب حانثا، فبعث إلى المزني الجواب في مسألة الضرب على ما حكيت، وفي مسألة المشيئةَ على ما ذكرنا وقد يقع الفرق بين الشك فيها، فلا يحنث بالشك في وصول الضرب ويحنث بالشك في وجود المشيئةَ، وإن كان الفرق ضعيفًا، هو أن الفعل في وصول الضرب قد وجد فغلب حكم الظاهر في وصوله: وليس لوجود المشيئةَ فعل يعمل على ظاهره، فغلب حكم سقوطها، والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ولو قال في يمينه لا افعل كذا إن شاء فلان فعلل ولم يعرف أو لم يشأ لم يحنث". قال في الحاوي: وصورتها آن يقول الحالف: والله لأدخلن الدار في يومي هذا إن شاء زيد، فمشيئةُ زيد هنا شرط في انعقاد اليمين وليس بشرط في استثنائها ورفعها، فوجب أن تكون المشيئةَ موافقةً لعقد اليمين فيشاء أن لا يدخلها، بخلاف المشيئةُ، وفي الاستثناء الذي يتضمن ضد ما انعقدت عليه اليمين، فإن كان كذلك لم يخل أن يعلم مشيئةَ زيد أو لا يعلم، فإن علمنا حال مشيئةً لم يخل حالها أن تكون موافقةً لعقد اليمين أو مخالفةً، فإن كانت موافقةً لعقد اليمين وهو أن يشاء زيد أن لا يدخل الحالف الدار، واليمين منعقدةً لوجود الشرط في انعقادها فلا يبر في يمينه إلا بترك دخولها في يومه، فإن دخلها فيه حنث، وإن كانت مشيئةُ زيد مخالفةً لعقد اليمين؛ لأن زيدًا قد شاء دخول الحالف إليها، وقد حلف أن لا يدخلها، فاليمين غير منعقدةً؛ لأن شرط انعقادها في المشيئةُ مفقود، فإن قال الحالف: أردت بمشيئةُ زيد أن يشاء دخولي فلا أدخلها بيمين، حمل على إرادته في انعقادها لاحتماله، وإن خالف الظاهر، فأما إذا لم يعلم هل يشاء زيد أو لم يشأ لم تنعقد اليمين ولم يقع فيها حنث، لأن الشك في وجود شرطها يمنع من صحةُ انعقادها والله أعلم. باب لغو اليمين من هدا ومن اختلاف مالك والشافعي مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "أَخَبَرُنَا مَالِكَ عَنْ هشامِ بُنِّ عُرْوَةِ عَنْ أَبِيه عَنْ عَائِشَةٍ أَنَّهَا قَالَتْ " لَغْوَ الْيَمِينِ قولَ الإنسان لَا وَاللهَ وبلى وَاللهَ " قَالَ الشَّافِعِيِ رحمَهُ اللَّهُ: وَاللَّغْوَ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ الْكَلاَمِ غَيْرَ الْمَعْقُودِ وَعَلَيه جِمَاعَ اللَّغْوِ وَهُوَ الخطأ وَاللَّغْوَ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ

وَاللهُ أَعلمَ. وَذَلِكَ إذاً كَانَ عَلَى اللُّجَاجِ وَالْغَضَبِ وَالْعِجْلَةِ وَعَقْدَ الْيَمِّينَ أَنْ يُثَبِّتَهَا عَلَى الشَّيْءِ بِعَيْنَه". قال في الحاوي: وأصل هذا قول الله تعالى: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: (225)] يريد بترك المؤاخذةَ باللغو في الأيمان ارتفاع المأثم وسقوط الكفارة. واختلف الفقهاء في لغو اليمين الذي يسقط به المأثم والتكفير على مذاهب شتى أحدها: ما قاله مالك: إن لغو اليمين هو اليمين الغموس أن يحلف على الماضي كاذبًا فلا يؤاخذ بالكفارةً وإن كان آثمًا وهي اليمين الغموس. والثاني: ما قاله أبو حنيفة: بأن لغو اليمين بأن يحلف على ماض يعتقد أنه صادق، فيبين كاذبًا فلا يؤاخذ بمأثم ولا كفارةً. والثالث: ما قال إبراهيم النخعي: أن لغو اليمين أن يحلف ناسيًا على ماض أو مستقبل، فلا يؤاخذ بمأثم ولا كفارةً. والرابع: ما قال الشعبي ومسروق: هو أن يحلف على معصيةً فيتركها فيصير لاغيًا يمينه، لا يؤاخذ بمأثم ولا كفارةً. والخامس: ما قاله سيد بن جبير آن لغو اليمين هو أن يحرم على نفسه ما أحله الله تعالى له من قول أو عمل لا يؤاخذ فيه بمأثم ولا كفارةً. والسادس: ما قاله الشافعي: أن لغو اليمين ما يسبق به لسانه من غير قصد ولا عقد كقوله: لا والله، بلى والله، فلا يؤاخذ فيه بمأثم ولا كفارةً، وهو قول ابن عباس وعائشةً وعطاء، وأكثر التابعين استدلالًا بقول الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: (225)] فدل على آن ما لم يقصده بقلبه لم يؤاخذ به وقال: {لَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: (89)] فدل على أن ما لم يعقده بغرمه لم يؤاخذ به، ولما رواه الشافعي عن عائشة في صدر الباب، وقد رواه حسان بن إبراهيم عن عطاء عن عائشةَ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال في لغو اليمين: "هو كلام العرب، لا والله، وبلى والله". وروى طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله "لا يمين في غضب" فأسقط اليمين في الغضب لسبق اللسان بها وعدم القصد لها؛ ولأن لغو الكلام عند العرب ما تجرد عن غرض، وعري عن قصد وكان من البوادر والملغاةً كما قال الله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} [القصص: (55)] فكان ما ذهب إليه الشافعي تقتضيه اللغةَ فيه مع ما قارنه من محايل الشرع. فصل: فإذا ثبت ما ذكرنا من لغو اليمين لم تخل اليمين من أن تكون بالله تعالى أو (بغيره)،

باب الكفارة قيل الحنث وبعده.

فإن كانت بالله تعالى سبق بها لسانه وجرت بها عادته، فقال; لا والله، أو قال: بلى والله غير قاصد لعقد يمين فلا مأثم عليه ولا حنث، ولو نزه لسانه منها كان أولى، لئلا يجعل اسم الله تعالى عرضة ليمينه، وفد قال الله تعالى {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} [البقرة: (224)] فأما إن قال: لا والله، بلى والله، فجمع بينهما، كان الأول لغوًا، لأنها غير مقصودةً وكانت الثانيةَ منعقدةً، لأنها استدراك فصارت مقصودةً؛ فإن كانت اليمين بغير الله من طلاق وعتاق سبق بها لسانه لغوًا من غير قصد، ولا عقد دين فيها فلم يؤاخذ بها في الباطن، وكان مؤاخذًا بها في الظاهر، بخلاف اليمين بالله في أنه لا يؤاخذ بلغوها في الظاهر ولا في الباطن؟ لأن كفارةً الحنث بالله من حقوقه المشتركة بين حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين، فلم يؤاخذ بها في الباطن لاختصاصه بحقوق الله، وكان مؤاخذًا بها في الظاهر لاختصاصه بحقوق الآدميين والله أعلم. باب الكفارة قيل الحنث وبعده. مسألة: قَالُ الشَّافِعِيِ رحمَهُ اللَّهُ: "وَمِنْ حِلْفَ عَلَى شَيْءِ وَأَرَادَ أَنْ يَحْنَثَ فَأُحِبُّ إلي لَوْ لَمْ يُكْفَرْ حَتَّى يَحْنَثَ فَإِنَّ كفرَ قَبْلَ الْحِنْثِ بِغَيْرَ الصِّيَامَ أَجْزَأُهُ وَإِنَّ صَامَ لَمْ يَجِزْهُ لَأَنَا نَزْعَمُ أَنْ لله عَلَى الْعُبَّادِ حَقَّا فِي أَمَوَّالِهُمْ وَتَسَلُّفَ -النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وَسَلْمَ- مِنْ الْعباسِ صَدُقَةَ عَامِّ قَبْلَ أَنْ يدخل وَأَنْ الْمُسَلَّمَيْنِ قَدَّمُوا صَدَقَةَ الْفِطْرِ قَبْلَ أَنْ يُكَوِّنَ الْفِطَرُ فَجُعَلَنَا الْحُقُوقَ فِي الأموال قِيَاسَا عَلَى هَذَا فَأَمَا الأعمال الَّتِي عَلَى الأبدان فَلَا تَجْزِيءَ إلا بَعْدَ مَوَاقِيتِهَا كَالْصَّلاَةِ". قال في الحاوي: قد ذكرنا آن كفارةً اليمين تجب على ماض ومستقبل، فأما اليمين على ماض فالكفارةَ فيه واجبةً بعقد اليمين وحده إذا كانت كذبًا، ولا يجوز تقديم الكفارةَ فيها قبل وجوبها؟ سواء كفر بإطعام أو صيام؛ لأنها لا تجب إلا بسبب واحد، وهو عقد اليمين، وآما اليمين على مستقبل فالكفارةَ فيها واجبةً بعقد اليمين، والحنث، فتعلق وجوبها بسببين عقد وحنث، وله في التفكير بها ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكفر قبل اليمين والحنث فلا تجزئه سواء كفر بمال أو صيام لفقد كل واحدٍ من السببين كما لا يجزئه إذا عجل زكاةَ ماله قبل ملك النصاب والحول. والثانية: أن يكفر بعد اليمين فلا يحنث فيجزئه، سواء كفر بمال أو صيام، وقد أخرجها بعد وجوبها فصار كإخراج الزكاةً بعد حولها والثالثة: أن يكفر بعد اليمين، وقبل الحنث فيكون كتعجيل الزكاةً بعد ملك النصاب وقبل الحول، فقد اخلف الفقهاء في تعجيلها على ثلاثة مذاهب:

أحدها: وهو مذهب أبي حنيفةَ يجوز تعجيل الزكاة قبل الحول، ولا يجوز تعجيل الكفارةَ قبل الحنث. والثاني: وهو مذهب مالك، لا يجوز تعجيل الزكاةَ قبل الحول ويجوز تعجيل الكفارةَ قبل الحنث. والثالث: وهو مذهب الشافعي أنه يجوز تعجيل الزكاةَ قبل الحول، ويجوز تعجيل الكفارةَ قبل الحنث إذا كانت بمال من كسوةً أو إطعام أو عتق، فلا يجوز تعجيلها إذا كانت بصيام. وقال أحمد بن حنبل: يجوز تعجيلها قبل الحنث بمال أو صيام. فأما مالك فهو موافق في تعجيل الكفارةَ مخالف في تعجيل الزكاةَ، وقد مضى الكلام في موضعه. وأما أبو حنيفةً فقد مضى الكلام معه في تعجيل الزكاةً، ويتعين الكلام معه هاهنا في تعجيل الكفارةً قبل الحنث. وله في الاستدلال طريقان: أحدهما: المنع عن تعجيل الكفارةَ قبل الحنث. والثاني: أن الكفارةَ تجب بالحنث وحده دون اليمين، واستدل على المنع من تعجيلها بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -أنه قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه" فكان له من الخير دليلان: أحدهما: قوله: "فليأت الذي هو خير منها" فقدم فعل الحنث على الكفارةً عرق الفاء الموجب للتعقب. والثاني: قوله: (ثم ليكفر عن يمينه" وثم موضع للتعقيب والتراخي. ومن القياس أن يكفر قبل الحنث فلم يحرم كالصيام. ولأن كل حال لا يجوز التكفير فيها بالصيام لم يجز التكفير فيها بالمال قياسًا على ما قبل اليمين، واستدل على وجوب الكفارةَ بالحث وحده دون اليمين بأمرين: أحدهما: أن الحنث ضد اليمين، لأن اليمين تمنع من الحنث، والضدان لا يشتركان في معنى الوجوب لتنافيهما. والثاني: أن الحنث لو كان أحد السببين في الوجوب لما روعي بعد عقد اليمين إحداث فعل من جهةً، كما لا يراعى في الحول بعد النصاب إحداث فعل من جهتهِ، ولما روعي في الكفارةَ حدوث فعل الحنث من جهتهِ دل على أن فعل الحنث هو الموجب للكفارةً كما نقول: إن الظهار وإن لم يكن إلا بعد عقد النكاح لما كان بفعل حادث منه، كان الظهار هو الموجب للكفارةً، دون النكاح.

والدليل على جواز تعجيل الكفارةَ قبل الحنث ما رواه مالك عن سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرةَ أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليكفر عن يمينه، وليأت الذي هو خير". وروى قتادةَ عن الحسن عن عبد الرحمن بن سمرةً قال؛: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "يا عبد الرحمن إذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فكفر ثم ائت الذي هو خير" فجوز في هذين الحديثين تعجيل الكفارةً قبل الحنث؛ فإن قيل: فقد روى فيها وفي الخبر المتقدم تأخير الكفارةً عن الحنث فعنه جوابان: أحدهما: أن تقديم الكفارةً أشهر من تقديم الحنث. والثاني: أننا نستعمل الروايتين معًا، فحمل تقديم الكفارةَ على الجواز تأخيرها على الوجوب، وتستعملها على وجهٍ ثان أن يحمل تقديمها على التكفير بالمال، وتأخيرها على التكفير بالصيام. فتكون باستعمال الخيرين أسعد ممن استعمل أحدهما وأسقط الآخر. ومن القياس ما يوافق عليه أبو حنيفة أنه لو خرج إنسانًا وعجل كفارةَ قتله بعد جرحه وقبل موته أجزأه، وكذلك لو جرح المحرم صيدًا لو قدم جزاءه بعد جرحه وقبل موته أجزأه، فجعل هذا معه أصلًا للقياس فيقول: يكفر لتعلق وجوبه سببين فجاز تقديمه بعد وجود أحدهما قياسًا على كفارةً وجزاء الصيد، ولأنه يكفر بمال بعد عقد اليمين فوجب أن يجزئه قياسًا على ما بعد الحنث. ولأنه حق مال يجب سببين يختصان به فجاز تقديمه على أحدهما قياسًا على تعجيل الزكاةَ، فإن منعوا من وجوبها سببين دللنا على وجوبها بالحنث واليمين لقول الله تعالى: {وَلاكِن يُؤاخِذُكُم بِما عَقَّدتُمُ الأَيمانَ} [المائدة: (89)] وبقوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} [المائدة: (89)] فجعلها تكفيرًا لليمين فلم يجز أن يخرج من شرط الوجوب ولأن الكفارةَ حكم متعلق بالحنث فوجب أن يتعلق باليمين كما لو قال: إن دخلت الدار فعبدي حرّ كان عتقه متعلقًا بيمينه بدخول الدار، وإن منع أصحاب أبي حنيفةَ من تعليق عتقه بيمينه وبدخول الدار، وارتكبوا أن عتقه مختص بدخول الدار وحده منعوا من ارتكاب هذه الدعوى بما لا يدفعونه من أصل أبي حنيفةَ في هذا العبد إذا ادعى الحق باليمين والحنث، فأنكره السيد فأقام العبد عليه شاهدين باليمين وشاهدين بالحنث وحكم الحاكم بعتقه، ثم رجع شاهد اليمين وشاهد الحنث، قال أبو حنيفة: تجب قيمته على شاهدي اليمين خاصةً نصفين وعندنا تجب على شاهدي اليمين وشاهدي الحث أرباعًا، فقد جعل عتقه باليمين أخص من الحنث، فكانت الأيمان بالله أولى. وأما الجواب عن الخبر فقد مضى. وأما الجواب عن القياس على تعجيل الصيام فهو أن الصيام من حقوق الأبدان فلم

يجز تقديمه قبل وجوبه كما لا يجوز تقديم الصلاة وصيام شهر رمضان على وجوبهما، والمال مما يجوز تقديمه قبل وجوبه لتعجيل الزكاةَ، ومثله ما يقوله في حقوق الآدميين أن تقديم ما تعلق بالمال من الديون المؤجلةً قبل محلها جائز، وتقديم ما تعلق بالأبدان من القصاص وحدُ القذف قبل وجوبها غير جائز، وفي هذا دليل على أحمد بن حنبل في جمعه بين الأمرين في الجواز، وعبر آخر، وهو أن الصيام في الكفارةً يجوز بعد العجز عن المال في وقت الاستحقاق فلا اعتبار عند الحنث لم يجز تقديمه قبل الحنث فخالف المال في هذا المعنى. وأما الجواب عن قياسهم على تعجيلها قبل اليمين فهو أنه لم يوجد أحد سببي الوجوب فامتنع التقديم كما امتنع تعجيل الزكاةً قبل ملك النصاب وجاز بعد اليمين لوجود أحد السببين كما جاز تعجيل الزكاةً بعد ملك النصاب. وأما الجواب عن استدلالهم بأن الحنث ضد اليمين فلم يجز أن يشتركا في الوجوب فهو أن اليمين عقد والحنث حل، والحل لا يكون إلا بعد عقد فلم يتضادا، وإن اختلفا كما أن قوله: لا إله كفر، وقوله: إلا اله إيمان، فإذا اجتمعا كان الإيمان بهما منعقدًا أو لم يتنافيا بالمضادةَ. وأما الجواب عن استدلالهم بأن تعلق الكفارةً بإحداث فعل يمنع من تعلقها بما تقدمه من اليمين كالظهار يمنع من وجود الكفارةَ فيه بالنكاح وهو من وجهين: أحدهما: أن الحنث في الأيمان ما لا يتعلق له بإحداث فعل وهو أن يقول: والله لأدخلن الدار في يومي هذا فينقضي اليوم قبل دخولها حنث بغير فعله، وقد منع أبو حنيفةً من تعجيل الكفارةَ فيه، فبطل أن يكون إحداث الفعل عليه في اختصاصه بالوجوب، فكان يلزم أبا حنيفةً إن أراد صحةَ تعليله أن يجيز تقديم الكفارةً في اختصاصه بالوجوب فيما لم يكن الحنث بفعله، ويمتنع منهما فيما كان الحنث بفعله. والثاني: أن المقصود بعقد النكاح غير الظهار فلم يكن سببًا في وجوب التكفير فيه، وإنما تجب كفارةَ الظهار بالظهار والعود، ويجوز تعجيلها قبل الظهار وقبل العود وعقد اليمين متردد بين أمرين من بر وحنث فصار لوقوفه بينهما نسبًا في وجوب التكفير على أن أبا علي بن أبي هريرةً يقول: إن كفارةَ الظهار تجب بثلاثةَ أسباب بعقد النكاح، وبلفظ الظهار، وبالعود، فلم يجز تقديمها بعد النكاح وقبل الظهار لوجوب سبب واحد وبقاء سببين. وعلل بعض أصحابنا بأن الظهار محرم، فلم يجز تعجيل الكفارة فيه لأنه يؤدي آلي استباحة محظور عليه والحنث غير محرم فجاء من هذا التعليل أن يعتبر حال الحنث في الأيمان فإن كان واجبًا كمن حلف؛ لا صليت فرضًا أو مستحبًا كمن حلف؛ لا صليت نفلًا أو مباحًا كمن حلف؛ لا أكلت لحمًا جاز تعجيل الكفارةَ فيها قبل الحنث، وإن كان الحنث محظورًا كمن حلف بالله لا شربت خمرًا، ولا قتلت نفسًا لم يجز تعجيل الكفارةَ فيها قبل الحنث فصار تعجيلها فيما لم يكن محظورًا جائز وجهًا واحدًا، وجواز

باب من حلف بطلاق امرأته أن يتزوج عليها

تعجيلها فيما كان حنثه محظورًا على وجهين. فأما تعجيل جزاء الصيد قبل إحرامه وقبل قتله وجرحه فلا يجوز وجهًا واحدًا وإن اختلفوا في تعليله، فعند أبي علي بن أبي هريرةً أن علةَ المنع أن الجزاء متعلق بثلاثةَ أشياء بالإحرام والجراح والموت، فلم يجز تعجيله بمد أحدها وبقاء أكثرها، وعند من راعى الحظر والإباحةَ علل بأن تقديم الجزاء موجب لاستباحةُ محظور، فلم يجز فإن حل له قتل الصيد لضرورةً إليه، قال صاحب هذا التعليل وحكاه عنه أبو إسحاق المروري: يجوز له تعجيل جزائه بعد إحرامه وقبل قتله، وعند جمهور أصحابنا علة المنع آن الإحرام غير مقصود لقتل الصيد فلم يكن سببًا لوجوب الجزاء، فأما تعجيل الجزاء بعد الجراح وقبل الموت فجائز باتفاقهم وإن وهم فيه أبو حامد الإسفراييني فخرجه على وجهين؟ لأنه ليس يستبيح بالجزاء بعد الجزاء محظورًا، لأن موت الصيد حادث عن الجرح المتقدم قبل تكفيره، والله أعلم. باب من حلف بطلاق امرأته أن يتزوج عليها مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وَمِنْ قَالَ لامرأته أَنْتِ طَالِقَ إِنَّ تَزَوَّجَتْ عَلَيكِ فَطِلْقَهَا واحدَةً تَمَلُّكَ الرُّجُعَةِ ثَمَّ تَزَوُّجَ عَلَيهَا فِي الْعُدَّةِ طَلَّقَتْ بِالْحِنْثِ وان كَانَتْ بَائِنَا لَمْ يُحْنَثْ". قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا قال: إن تزوجت عليك فأنت طالق ثم تزوج عليها لم يخل تزويجه من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يتزوج عليها وهي باقيةً على نكاحه، فقد طلقت سواء قرب زمان تزويجه أو بعد؟ لأنه قد جعله شرطًا في وقوع الحنث فاستوي حكمه في القرب والبعد، ولا فرق بين أن يتزوج عليها من يكافئها في نسبها وجمالها، أو تقدم عنها في النسب والجمال، ووافقنا مالك على هذا، وإن خالفنا إذا حلف، ليتزوجن عليها، على ما نذكر وان تزوج عليها بعقد فاسد لم يحنث، لأن فساد العقد يمنع من صحةَ الشرط، وسواء دخل بها أو لم يدخل ويجيء على قول مالك أنه يحنث إن دخل بها، ولا يحنث إن لم يدخل بها، على معنى قوله: إذا نكح الوليان ودخل الثاني صح عقده. والثانية: أن يتزوج عليها وقد طلقها طلاقًا رجعيًا، فلا يخلو حالها فيه من آن تكون باقيةً في العدةً أو خارجةً عنها، فإن كانت باقيةً في عدتها طلقت بالحنث أخرى لأنها لما طلقت في العدةً إذا باشرها بالطلاق بالحنث في الطلاق ألا ترى أنه لو حلف بعتق عبده، إن باعه فباعه عتق عليه بعد بيعه، لأنه لو باشر عتقه في خيار المجلس عتق، كذلك إذا

حلف بعتقه عتق، وإن تزوج عليها بعد انقضاء عدتها لم يلحقها بالحنث طلاق، لأنه لا يلحقها بالمباشرة طلاق، فلو تزوجها بعد انقضاء العدة نم تزوج عليها نظرت، فإن كان قد تزوج عليها بعد انقضاء عدتها وقبل استئناف نكاحها لم تطلق إذا تزوج عليها بعد استئناف نكاحها لسقوط الشرط بالتزوج الأول وإن لم يتزوج عليها إلا بعد استئناف العقد الباقي عليها، ففي حنثه بوقوع الطلاق عليها قولان: أحدهما: يطلق لوجود عقد اليمين وشرط الحنث في نكاحها. والثاني: لا يطلق بالحنث لاختصاص يمينه بنكاح مضى فلم يجز أن يقع الحنث بها، في نكاح مستقبل، لأنه لا طلاق قبل نكاح. والثالثة: أن يتزوج عليها في النكاح وهي في عدةً من طلاق بائن، فلا يحنث بطلاقها، لأنه لما لم يقع عليها الطلاق لو باشرها بالطلاق، كذلك لم تطلق إذا حنث بالطلاق، فإن تزوجها من بعد نكاح مستجد، وتزوج عليها بعد أن كان قد تزوج لم يحنث، ولو تزوج عليها وإن لم يكن قد تزوج، فإن قيل في الطلاق الرجعي: لا يحنث، ففي هذا أولى أن لا يحنث وإن قيل في الطلاق الرجعي: إنه يحنث ففي هذا الطلاق البائن قولان: أحدهما: يحنث. والثاني: لا يحنث وقد مضى مثل هذا في كتاب الطلاق مشروحًا معللًا. مسألة: قال الشافعي: " فإن قال: أنت طالق ثلاثا إن لم أتزوج عليك ولم يوقت، فهو على الأبد لا يحنث حتى يموت أو تموت هي قبل أن يتزوج عليها، وإن تزوج عليها من يشبهها أو لا يشبهها خرج من الحنث دخل بها أو لم يدخل بها، وإن ماتت لم يرثها، وإن مات ورثته في قول من يورث المبتوتة إذا وقع الطلاق في المرض. قال المزني: قد قطع في غير هذا الكتاب أنها لا ترث قال المزني: وهو بالحق أولى: لأن الله تبارك وتعالى ورثها منه بالمعنى الذي ورثه به منها، فلما ارتفع ذلك المعنى، فلم يرثها لم يجز أن ترثه. " قال في الحاوي: وهو كما قال: والحنث في هذه المسألة يخالف الحنث في التي تقدمها، لأنه جعل تزويجه عليها في الصالة الأولى شرطًا في وقوع الحنث، وجعله في هذه المسألة شرطًا في البر، وإذا قال في هذه المسألة إن لم أتزوج عليك فأنت طالق، فإنه على التراخي لا يحنث إلا أن يفوته التزوج عليها بموته أو موتها، فلو قال: إذا لم أتزوج عليك فأنت طالق كان على الفور يحنث إن أخر التزوج عليها، والفرق بين إن وإذا في هذا الموضع، حيث جعلنا إن على التراخي وإذا على الفور من وجهين:

أحدهما: بأن "إن" موضوعةً للفعل، فاعتبر فيه فوات الفعل بموت أحدهما، فصار كقوله: إن فاتني التزويج عليك فأنت طالق، "وإذا" موضوعة للزمان، فاعتبر فيها إمكان الزمان، فصار كقوله: إذا مضى زمان التزويج عليك، فأنت طالق، وهو فرق أكثر أصحابنا. والثاني: ذكره أبو علي بن أبي هريرةً أن "إن" موضوعةً للشك فيما قد يكون فلم يثبت حكمها إلا بعد زوال الشك بالفوات فصارت على التراض، وإذا موضوعةً لليقين فاعتبر فيها التعجيل فصارت على الفور. فهذان الفرقان بين "إن" و"إذا" كانا على نفي فعل فقال: إن لم أتزوج، وإذا لم أتزوج، وأما إذا كانا شرطًا في إثبات فعل، فقال؛ إن تزوجت عليك، وإذا تزوجت عليك، مهما سواء، في آن الفعل متى وجد على الفور أو على التراخي، تعلق به حكم واستوي فيه "إن" و"إذا"؛ لأن ما تعلق بالفعل كان وجوده هو الشرط المعتبر فاستوي فيه الفور والتراخي فأما إذا جعلا شرطًا في معاوضةَ الخلع، فقال: إن أعطيتني ألفًا فأنت طالق، أو قال: إذا أعطيتني ألفًا فأنت طالق فهما سواء في اعتبار العطية على الفور، ويستوي حكم: "إن" و"إذا"؛ لأنه يغلب فيه حكم المعاوضةَ التي يعتبر الفور فيها، وذلك على ما يقضيه افتراق الحرفين. ولو قال: متى أعطيتني ألفًا فأنت طالق كان على التراض بخلاف "إن" و"إذا"؛ لأن لفظةً متى صريحةً في اعتبار الفعل فاستوي فيه حكم الفور والتراخي. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا فلا يخلو حاله في يمينه هذه ومن بر أو حنث؟ فإن بر في يمينه بأن تزوج عليها على الفور في قوله: إذا لم أتزوج عليك فأنت طالق، أو على التراخي في قوله: إن لم أتزوج عليك فأنت طالق؛ كان بره معتبرًا بوجود عقد نكاح صحيح على مكافئة لها في النسب والجمال؟ أو غير مكافئةً، وقال مالك: لا يبر حتى يتزوج عليها من يكافئها في نسبها وجمالها، فإن تزوج دونها في النسب والجمال لم يبر؟ لأن قصده بيمينه إدخال الغيظ عليها، وغيظها يخص بمن يكافئها، فأما من لا يكافئها فهو نقص يدخل عليه دونها، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن حكم الأيمان معتبر بصريح الألفاظ دون المقاصد والأغراض، والاسم موجود في الحالين فاستوي حكمهما في البر، لأنه لما استوي حكمهما في الحنث، إذا قال إن تزوجت عليك فأنت طالق، أنه متى تزوج عليها مكافئةٍ أو غير مكافئةٍ حنث كذلك وجب أن يستوي حكمهما في البر إذا قال: إن لم أتزوج عليك فأنت طالق، أنه منى تزوج عليها مكافئةٍ أو غير مكافئةٍ أن يبر، وما اعتبر من إدخال الغيظ عليها، ولو قلب عليه بأن إدخال الغيظ عليها بنكاح غير المكافئةً أكثر لكان أشبه، وإن لم يكن إدخال الغيظ عليها معتبرًا ومتى وجد العقد استمر البر، ولم يكن الدخول فيه شرطا في البر،

باب الإطعام في الكفارة في البلدان كلها ومن له أن يطعم وغيره

وقال مالك: لا يبر بالعقد حتى يقترن به الدخول؛ لأن مقصود العقد في إدخال الغيظ عليها وهذا خطأ من وجهين: أحدهما: أنه لما لم يعتبر الدخول فيه إذا علق بالحنث كذلك لا يعتبر إذا علق بالبر. والثاني: أنه زيادةً لم تذكر فكان ملغى كالحبل. فصل: وإن حنث في يمينه لم يخل حنثه أن يكون بالثلاث أو دونها، فإن كان بما دون الثلاث توارثًا في العدةً، ولم يتوارثا فيما بعدها، وإن كان حنثه بالثلاث لم يخل أن يكون معتبرًا بالفوز أو التراخي، فإن كان معتبرًا بالفوز، لأنه قال: إذا لم أتزوج فأنت طالق ثلاثًا، لم يتوارثها فيه إذا كان عقد اليمين في الصحةَ، وإن كان معتبرًا بالتراخي، لأنه قال: إن لم أتزوج عليك فأنت طالق ثلاثًا، فلا حنث ما لم يمت واحد منهما، فإن مات أحدهما وسر الحنث قبل الموت بزمان يضيق عن عقد النكاح، فيحنث بفوات العقد لقصور زمانه قبل الموت، وتصير كالمبتوتةً في مرض الموت، وإن كانت هي الميتةً لم يرثها لوقوع الفرقةَ باختياره، وإن كان هو الميت ففي ميراثها منه قولان من ميراث المبتوتةً في المرض؛ لأنه بالامتناع من التزويج عليها كالموقع إطلاقها في مرض موته، والله أعلم. باب الإطعام في الكفارة في البلدان كلها ومن له أن يطعم وغيره مسألة: قال الشافعي رحمه الله: " ويجزئ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ حِنْطَةٍ وَإِنْ كَانَ أَهْلُ بَلَدٍ يَقْتَاتُونَ الذُّرَةَ أَوِ الْأُرْزَ أَوِ التَّمْرَ أَوِ الزَّبِيبَ أَجْزَأَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ ذَا مُدٌّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا يَجْزِي لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَتَى بِعِرْقِ تَمْرٍ فَدَفَعَهُ آلي رَجُلٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُطْعِمَهُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، وَالْعرقُ فِيمَا يُقَدَّرُ خَمْسَةَ عَشَرَ صَاعًا وَذَلِكَ سِتُّونَ مُدَّا لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ في كل بلادٍ سواءٌ" قال في الحاوي: اعلم آن الكفارةَ تنقسم ثلاثةَ أقسام: قسم وجب على الترتيب في جميعه. وقسم وجب على التخيير في بعضه والترتيب في بعضه، فأما ما كان بوجوبه على الترتيب في جميعه فكفارة الظهار والقتل والوطء في شهر رمضان، يبدأ بالعتق فإن لم يجده فالصيام، فإن عجز عنه فالإطعام، وأما ما كان وجوبه على التخير فكفارةُ الأذى، وهو مخير بين دم شاةً أو إطعام ستةَ مساكين أو صيام ثلاثةُ أيام، وجزاء الصيد هو مخير بين مثله من النعم أو قيمةَ المثل طعامًا أو عدل ذلك صيامًا، وأما ما كان وجوبه على

التخيير في بعضه، والترتيب في بعضه فكفارةُ اليمين، قال الله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: (89)] الآية، فجعله مخيرًا بين هذه الثلاثة، ثم قال: فمن لم يجد فصيام ثلاثةَ أيام، فجعل الصيام مرتبًا على العجز بعد المال، فبدأ الشافعي بالإطعام، لأن الله تعالى بدأ به لقوله: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: (89)] فنص على عدد المساكين أنهم عشرةً فلا يجوز الاقتصار على أقل منهم لمخالفةَ النص وقال في طعام كل مسكين احتمالًا يقدره بحد فقال: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: (89)] فاختلف العلماء في قدر ما يطعم كل مسكين منهم على مذاهب شتى: أحدها: ما حكاه الحارث عن علي بن أبي طالب وقاله محمد بن كعب القرظي، والحسن البصري: إنه غداء وعشاء لكل مسكين. والثاني: ما قاله ابن عباس وسعيد بن جبير أن يعتبر المكفر في عياله فإن كان يشبعهم أشبع المساكين، وإن كان لا يشبعهم فيقدر ذلك في طعام المساكين. والثالث: ما قاله بعض فقهاء البصرةَ أنه أحد الأمرين من غداء وعشاء. والرابع: ما قاله أبو حنيفةَ: أنه إن كفر بالحنطةً أعطى كل مسكين نصف صاع، وإن كفر بالتمر أو الشعير أعطى كل مسكين صاعًا، وعنه في الزبيب روايتان: أحداهما: صاع كالتمر. والثانيةُ: نصف صاع كالبر. والخامس: ما قاله الشافعي أنه يعطي كل مسلم مدًا واحدًا من أي صنف أخرج من الحبوب وبه قال من الصحابة عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت وأبو هريرةً رضي الله عنهم ومن التابعين عطاء وقتادةَ، وهكذا كل كفارةً أمسك عن تقدير الإطعام فيها مثل كفارةَ الظهار والقتل إذا قيل: إن في كفارة القتل إطعامًا على أحد القولين يقدر إطعام كل مسكين بمد واحد في أي يد كفر، ومن أي جنس أخرج، وقد تقدم الكلام فيه مع أبي حنيفةً في كتاب الطهارةَ، ومن الدليل عليه الكتاب والسنةَ والدليل. فأما الكتاب، فقوله تعالى: "مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ " [المائدة: (89)] فكان الأوسط محمولًا على الجنس والقدر، فأوسط القدر فيما يأكله كل إنسان رطلان من خبز، والمد رطل وثلث من حب إذا أخبز كان رطلين من خبز هو أوسط الكفارةً. وأما السنة فما أمر به النبي - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الواطئ في شهر رمضان أن يطعم ستين مسكينًا فقال: لا أجد، فأتي بفرق من تمر فقال: أطعمه ستين مسكينًا، والفرق: خمسةَ عشر صاعًا يكون ستين مدًا، فجعل لكل مسكين مدًا، وآما الاستدلال فهو أن إطلاق الإطعام لو لم يقدر بالنص لكان معتبرًا بالعرق، وعرف من اعتدل أكله من الناس ولم يكن من المسرقين ولا من المقترين أن يكتفي بالمد في أكله، وليس ينتهي إلى صاع، هو عند

أبي حنيفة ثمانيةَ أرطال، وما خرج عن الفرق لم يعمر إلا بنص. فإن قيل: فقد قدر النبي - صلى الله عليه وسلم - الإطعام في فديةَ الأذى بمدين لكل مكين فلما لا جعلتموه أملًا في كفارةً اليمين وقدرتموه بمدين لكل مسكين قيل: لأمرين: أحدهما: أنه لما قدر في كفارة الواطئ بمد وفي كفارةَ الأذى بمدين، وترددت كفارةُ اليمين بين أصلتن وجب أن يعبر الأقل لأنه تعين. والثاني: أنه لما خففت فديةَ الأذى بالتخيير بين الصيام والإطعام تغلظت بمقدار الطعام، ولما غلظت كفارةَ الأيمان بترتيب الإطعام، على الصيام تخففت بمقدار الإطعام تعديلا بينهما في أن تتغلظ كل واحدةً من وجه وتتخفف من وجه. مسألة: قال الشافعي: "ولا أرى أن يجزئ دراهم وان كانت أكثر من قيمة الإمداد". قال في الحاوي: لا يجوز أن يخرج في الكفارةَ قيمةُ الطعام، كما لا يحق أن يخرج في الزكاةَ قيمتها، وجوز أبو حنيفةَ إخراج القيمةَ في الزكاةً والكفارةَ وقد مضى الكلام معه. فأما ما نقله المزني ها هنا: " ولا يجزئ طعام" فلم يرد به طعام البر في إطعام المساكين، لأنه هو الأصل الأغلب فيما يستحق، وله أحد تأويلين، إما أن يكون محمولًا على أن لا يخرج الطعام في قيمةَ الكسوةً، كما لا يخرج الكسوةً في قيمةَ الطعام، وإما أن يكون محمولًا على الطعام المطبوخ من الخبز لآن المستحق عند الشافعي إخراج الحب من البر جميع الحبوب دون الخبز وإن كنت أفتي بإخراج الخبز في الكفارة اعتبارًا بالأرفق الأنفع في الغالب، وأن يعطى كل مسكين رطلين من الخبز، وحكي ابن أبي هريرةَ عن أبي القاسم احسبه أراد الأنماطي، أنه جوز إخراج الدقيق في الكفارةَ وزكاةَ الفطر اعتبارًا بالأرفق. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وما اقتات أهل البلدان من شيء أجزأهم من مد". قال في الحاوي: وهذا صحيح وهو مقصور على الحبوب المقتاةَ، فكما جاز إخراجه في زكاةَ الفطر جاز إخراجه في الكفارات، ثم فيه قولان: أحدهما: أنه مخير بين جميع الأقوات، فمن أيهما شاء أطعم. والثاني: أته يخرج من الغالب من الأقوات وفي اعتبار الغالب وجهان: أحدهما: من غالب قوت بلده.

والثاني: من غالب قوته في نفسه، لقول الله تعالى: "مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ " [المائدة: (89)] وإن عدل عن غالب القوت إلى غيره لم يخل ما عدل إليه عن الأغلب من أن يكون أدون منه أو أعلى، فإن كان دون منه لم نجزه، وإن كان أرفع منه كإخراج البر إذا كان أغلب قوته شعيرًا ففي جوازه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروري يجوز لفضله. والثاني: لا يجوز لأنه يصير بالعدول إليه كالقيمة. مسألة: قال الشافعي: "ويجزئ أهل البادية مد أقط قال المزني رحمه الله أجاز الأقط هَهُنا ولم يجزه في الفطرة". قال في الحاوي: أما إذا اقتات أهل البادية غير الأقط لم يكن لهم إخراج الأقط في الكفارةً ولا في زكاةَ الفطر، وإن لم يكن لهم قوت غير الأقط فقد روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال: كنا نخرج إذ فينا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صاعًا من أقط، فإن صح هذا أنه كان بأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو بعلمه وإقراره عليه جاز إخراج الأقط في زكاةً الفطر والكفارات، وإن لم يمح أنه كان بأمره أو بعلمه، ففي جواز إخراجه في زكاةَ الفطرةً والكفارات قولان: أحدهما: يجوز على ما نص عليه ها هنا في الكفارةً لأنه قوت مدخر تحت الزكاةً في أصله. والثاني: لا يجوز على ما نص عليه في زكاةَ الفطر، لأنه مما لا تجب فيه الزكاةً فلم يجز إخراجه قي الكفارةً الزكاةً، وقد جعل أبو علي بن أبي هريرةً هذين القولين بناء على اختلاف قول الشافعي في قول الصحابي إذا لم يعضده قياس، هل يؤخذ بقول الصحابي أو يعدل إلى القياس، فعلى قوله في القديم يؤخذ بقول الصحابي فعلى هذا يجوز إخراج الأقط في الكفارةً، وزكاة الفطر، أخذًا بقول أبي سعيد الخدري، وعلى قوله في الجديد يعدل عنه إلى القياس فعلى هذا لا يجوز إخراج الأقط. مسألة: قال الشافعي: "وَإذاً لَمْ يَكِنْ لِأَهِلُ بِلادَ قُوتِ مِنْ طعامِ سِوَى اللُّحَمِ أَدَّوْا مَدَّا مِمَّا يَقْتَاتُ أَقُرْبَ الْبُلْدانِ إِلَيهُمْ ". قال في الحاوي: إذا اقتات قوم ما لا يزكى من الأقوات، مثل أن يقتاتوا اللحم كالترك، أو اللبن كالأعراب، أو المسك كسكان البحار، فإن قيل: إن إخراج الأقط لا

يجزئ لم يجز إخراج غيره من اللحم أو اللبن أو المسك، وإن قيل: إنه يجزئ ففيهما وجهان: أحدهما: يجزئ، لأنها أقوات كالأقط. والثاني: أنها لا تجزئ، بخلاف الأقط، للفرق بينهما من وجهين: أحدهما: وجود الأثر في الأقط، وعدمه في سواه. والثاني: أن الأقط يبقى ويدخر، وليس يبقى ما سواه ويدخر ولا يكال، وهذا قول أبي علي بن أبي هريرةً، وإذا لم يجزهم إخراج ذلك عدلوا في كفارتهم، وزكاةً فطرهم إلى أقوات غيرهم من أهل البلاد، وفيها قولان: أحدهما: يكونون مخيرين بين جميعها. والثاني: يعدلون إلى الأغلب من قوت أقرب البلاد بهم فيخرجونه، فإن عدلوا عنه إلى ما عنه أدنى لم يجزهم وإن عدلوا عنه إلى ما هو أعلى كان على ما ذكرنا من الوجهين والله أعلم. مسألة: قال الشافعي:" وَيُعْطِي الرَّجُلُ الْكَفَّارَةُ وَالزَّكاَةُ مِنْ لَا تَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ عَلَيه مِنْ قَرَابَتِهُ، وَهُمْ مِنْ عَدَا الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ وَالزَّوْجَةِ إذاً كَانُوا أَقَلُّ حاجَةَ، فَهُمْ أَحَقَّ بِهَا مِنْ غَيْرَهُمْ، وَإِنَّ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيهُمْ تَطَوَّعًا " قال في الحاوي: وهو كما قال: كل من يلزمه الإنفاق عليه بنسب كالوالدين والمولودين، أو بسبب كالزوجات لا يجوز أن يدفع إليهم من كفارته ولا من زكاةً ماله ومن لا يلزمه الإنفاق عليهم جاز أن يعطيهم من كفارته وزكاته إذا كانوا فقراء فهذا أصل معتبر، هما لم يجز أن يدفعها إلى من تلزمه نفقته لأمرين: أحدهما: أنهم قد صاروا كالأغنياء. والثاني: أنها تصير كالعائدةً إليه لما سقط من نفقتهم عنه، وإذا كان كذلك فمتى كان الولد صغيرًا فقيرًا لم يجز دفع كفارته إليه لوجوب نفقته عليه، وإن كان كبيرًا ناقصًا بزمانه أو جنون لم يجز دفعها إليه، لوجوب نفقته عليه كالصغير، وإن كان كامل الصحةً والعقل لم تجب نفقته عليه فجاز دفع كفارته إليه، وفيه من الخلاف ما نذكره وكذلك أولاد أولادهم وإن سفلوا، وأما الوالد فإن تعطل عن الاكتساب بزمانه أو جنون وجبت نفقته عليه، فلم يجز دف كفارته إليه وإن كان من أهل الاكتساب بالصحةً والعقل لكنه فقير ففي وجوب نفقته عليه قولان:

أحدهما: وهو القديم يجب اعتبارًا بوجود الفقر، فعلى هذا لا يجوز دع كفارته إليه. والثاني: وهو الجديد لا تجب اعتبارًا بالقدرةً على الكسب، فعلى هذا يجوز دفع كفارته إليه. فإن قيل: بأن الوالد لا تجب نفقته إلا بالفقر والزمانةً على قوله في الجديد فالولد أولى، وإن قيل: إنها تجب بالفقر وحد، على قوله في القديم ففي الولد وجهان: أحدهما: أنه كالوالد تجب نفقته بالفقر وحده. والثاني: أنها تجب بالفقر وعدم الاكتساب، بخلاف الوالد، لتأكيد نفقة الوالد كما تتأكد بوجوب إعقاب الولد دون الولد، وهكذا الأم كالأب والأجداد كالأب، والجدات كالأم، وأما من عداهم من المناسبين كالإخوةَ والأخوات والأعمام والعمات، فلا تجب نفقاتهم بحال، ويجوز دفع كفارته وزكاته إليهم، وهم أحق بها من غيرهم لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "خير الصدفةَ على ذي رحم محتاج" وروي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا يقبل الله صدقة امرئ" وذو رحم محتاج"، وسواء كأن يتطوع بالإنفاق عليهم أم لا. وقال بعض الفقهاء: إن تطوع بالإنفاق عليهم لم يجزه، وإن لم يتطوع أجزأه وهذا خطأ، لأن للمتطوع أن يمتنع، وفي دفع ذلك إليهم امتناع بها من الإنفاق عليهم وأما الزوجات فلا يجوز للزوج أن يدفع كفارته إلى زوجته لوجوب نفقتها عليه؟ فصارت غنيةً به، وأما الزوجة فيجوز أن تدفع كفارتها إلى زوجها وكذلك زكاتها ومنع أبو حنيفةً من دفعها إليه، لأن نفقته عليها فصار عائدًا إليها، وهذا غير صحيح؛ لأنه لا تجب عليها نفقته فصار باقيًا على فقره فجرى على حكم الإيجاب، وإنفاقه عليها لا يمنع من دفعها إليه كما لو دفعها آلي أجنبي وأطعمه إياها أو وهبها له وقد مضت هذه المسألة مستوفاةً من قبل. مسألة: قال الشافعي: "ولا يجزئه إلا أن يعطي حرا مسلمًا محتاجًا" قال في الحاوي: اعلم أن مصرف الكفارةً فيمن يجوز أن يصرف إليه سهم الفقراء والمساكين من الزكاةً، وهو من جميع من الفقر والمسكنةً ثلاثة أوصاف: الحرية، والإسلام، وأن لا يكون من ذوي القربى، فأما العبد فلا يجوز دفعها إليه، لأنه لا يملكها ولأنه غني بسيده، وكذلك المدبر وأم الولد، والمعتق بعضه؛ لأن سيد رقه يأخذ منها قدر حقه وهو غنى، وكذلك المكاتب ولا يجوز صرف الكفارةَ إليه، وجوز أبو حنيفة رضي الله عنه صرفها إليه كالزكاةَ، وهذا فاسد، لأن حكم الزكاةً أوسع لما يجوز من صرفها إلى

الأغنياء من المجاهدين، وأحد صنفي الغارمين والكفارةً أضيق، لأنه لا يجوز صرفها إلى غني بحال؛ ولأن المكاتب تجري عليه أحكام الرق. وأما الكافر فلا يجوز دفع الكفارة إليه، وكذلك الزكاة سواء كان ذميًا أو حربيًا. وقال أبو حنيفة: لا يجوز آن تصرف إليه زكاةَ المال ويجوز أن تصرف إليه الكفارةَ وزكاةَ الفطر، إن كان ذميًا أو معاهدًا؛ لأنه يجوز دفعها إليه إن كان حربيًا. ودليلنا هو أنه لا يجوز دفع زكاة المال إليه لم يجز آن يدفع إليه الكفارة، وزكاة الفطر كالحربي ولأنه حق يخرج للطهرةً فلم يجز صرفه لأهل الذمةَ كزكاةُ المال وأما ذوو قربى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا يجوز آن تصرف إليهم الزكوات ولا الكفارات، وإن جوزه أبو حنيفة فيما قدمناه، واستوفيناه والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: " ولو علم انه أعطى غيرهم فعليه عندي أن يعيد". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا أخطأ في دفع الزكاةً والكفارةً اعتبر حال المدفوع إليه، فإن كان عبدًا ظنه حرًا أو كافرًا ظنه مسلمًا آو من ذوي القربى ظنه من غير ذوي القربى لم يجزه ما دفع، وعليه الإعادةً لأمرين: أحدهما: أن حقوق الأموال إذا لم تقع موقع الإجراء مع العهد لم تقع موقع الأجزاء الخطأ، كرد الودائع إلى غير أهلها. والثاني: آن لأسباب المنع من الرق والكفر والنسب علامات يستدل بها وأمارات لا تخفي معها، فكان الخطأ من تقصير في الاجتهاد، وإن بان أنه دفعها إلى غني يظنه فقيرًا ففي وجوب الإعادةَ قولان: أحدهما: يعيد ولا يجزئه للتعليل الأول بأن الخطأ في حقوق الأموال كالعهد والقود. والثاني: يجزئه ولا يعيد لعدم التعليل الثاني في فقد الأمارةً الدالةً على غناه، لأن المال يمكن إخفاؤه والرق والكفر لا يمكن إخفاؤهما، فكان بخطئه في الغنى معذورًا وفي العبد والكافر مقصرًا. وإن دفع كفارته وزكاته إلى السلطان وأخطأ السلطان في دفعها إلى غير مستحقها نظر، فان بان أنه دفعها إلى غني أجزأ لخفاء حاله عليه، وإن بان أنه دفعها إلى عبد أو كافر أو ذوي قربى ففي وجوب ضمانها عليه قولان: أحدهما: يضمنها ويمدها، كما يلزم رب المال أن يعيدها. والثاني: لا يضمنها وتقع موقع الإجزاء بخلاف رب المال لوقوع الفرق بينهما بأن

مباشرة السلطان لعموم الأمور يقطع عن التفرد بالاجتهاد فيها، ولا يقطع رب المال عن التوفر في الاجتهاد. مسألة: قال الشافعي: "وَلَا يُطْعِمُ أَقَلَّ مِنْ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ وَاحْتَجَّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنْ أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَاحِدًا مِائَةً وَعِشْرِينَ مُدًّا فِي سِتِّينَ يَوْمًا أَجْزَأَهُ وَإِنْ كَانَ فِي أَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ لَمْ يُجْزِهِ فَقَالَ أَرَاكَ جَعَلْتَ وَاحِدًا سِتِّينَ مِسْكِينًا فَقَدْ قَالَ اللَّهُ {وَأَشْهِدُوا ذَوي عَدْلٍ مِنْكُمْ} فَإِنْ شَهِدَ الْيَوْمَ شاهدٌ بحقٍّ ثُمَّ عَادَ مِنَ الْغَدِ فَشَهِدَ بِهِ فَقَدْ شَهِدَ بِهَا مَرَّتَيْنِ فَهُوَ كَشَاهِدَيْنِ فَإِنْ قَالَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ ذَكَرَ الْعَدَدَ قِيلَ وَكَذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ لِلْمَسَاكِينِ الْعَدَد" قال في الحاوي: وهو كما قال: لأن الله تعالى قد نص على عددهم في الكفارةً فوجب آن يستحقها عشرة مساكين، وإن دفع إلى مسكين واحد مدين أجزأه أحدهما، ولم يجزم الآخر سواء دفعه إليه في يوم واحد أو في يومين. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه "إذا دفع له حق مسكين في يوم واحد لم يجز، وإن دفع إليه في يومين أجزأه حتى قال لو دفع إلى مسكين حق عشرةَ مساكين في عشرةَ أيام أجزأه وقام مقام عشرةَ مساكين فاعتبر عدد الإطعام ولم يعتبر عدد المساكين، والشافعي يعتبرهما معًا، ويمنع أن يأخذ مسكين واحد من كفارةً واحد مرتين ليستوفي العدد الذي أمره الله تعالى به كما يستوفيه في الوصايا لو أوصى بإطعام عشرة مساكين؟ فكان في حقوق الله تعالى من الكفارات أولى، وقد مضت هذه المسألة مع أبي حنيفة في كتاب الظهار. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: " ولو أطعم تسعة وكسا واحدا لم يجزه حتى يطعم عشرة كما قال الله عز وجل {أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] قال في الحاوي: قد جعل الله تعالى للمكفر عن يمينه الخيار في التكفير بأحد ثلاثة أشياء: الطعام أو الكوة أو العتق، فبأيها كفر أجزأه، إذا استوفاه ولم يفرق، فإن أطعم خمسةً وكسا خمسةً لم يجزه، وكان مخيرًا إن شاء تمم إطعام عشرةَ مساكين وكان متطوعا بالكسوةً، وإن شاء تتم كسوة عشرةَ مساكين، وكان متطوعًا بالإطعام، وقال مالك: يجزئه أن يطعم خمسةَ ويكو خمسةً، لأنه لما أجزأه إطعامهم أجزأته كسوتهم أجزأه أن يجمع بين إطعامهم وكسوتهم. وقال أبو حنيفة: إن أطعم خمسةً وكسا خمسةً، وجعل كسوةَ الخمسةً بقيمةَ إطعام

الخمسةً لم يجز، وإن جعل إطعام الخمسةً بقيمةُ كوة الخمسةً أجزأه فأجاز إخراج قيمةَ الكسوةً طعامًا ولم يجز إخراج قيمةَ الطعام كسوةُ فلم يستمر في جواز القيمةً على أصله، ولا في المنع منها على أصلنا، والدليل على أن الله تعالى خير المكفر بين ثلاثةً، من طعام أو كسوةً أو عتق، فلم يجز أن يجعل له خيارًا رابعًا في التبعيض، ولأنه لما امتنع في الكفارةً تبعيض العتق والصيام امتنع فيها تبعيض الكسوةً والإطعام. مسألة: قال الشافعي:" وَلَوْ كَانَتْ عَلَيه كَفَّارَةً ثَلاثَةً أَيمانَ مُخْتَلِفَةٍ فَأَعْتَقَ وَأَطْعَمَ وَكُسًا يَنْوِي الْكَفَّارَةُ، وَلَا يَنْوِي عَنْ أَيُّهَا الْعتقَ وَلَا الإطعام وَلَا الْكُسْوَةَ أَجْزَأُهُ، وَأَيُّهَا شَاءَ أَنْ يُكَوِّنَ عَتَّقَاً أَوْ طعامَاً أَوْ كُسْوَةَ كَانَ، وَإِنَّ لَمْ يُشَا، فَالنِّيَّةَ الأولى تُجَزِّئُهُ. " قال في الحاوي: وهو كما قال إذا كانت عليه ثلاث كفارات عن ثلاث أيمان مختلفةً كنا في التكفير عنها بالخيار بين أن يكفر عنها من جنس واحد فيطعم عن جميعها ويكسو عن جميعها، أو يعتق عن جميعها، وبين أن يكفر عنها من أجناس مختلفةً فيطعم عن أحدها، ويكسو عن أحدها ويعتق عن أحدها، لأن لكل كفارةً حكم نفسها، وسواء عينها أو أطلقها؛ لأن عليه النيةَ في الكفارةً وليس عليه أن يعين عن أي كفارةً كالوضوء يلزمه أن ينوي أنه عن الحدث، ولا يلزمه عن أي حدث. وقال أبو حنيفة: يلزمه تعيين النيةَ عن أي كفارةً كما يلزمه تعيين النيةَ للصلاةً من ظهر أو عصر، فيقال له: لما لم يلزمه في قضاء الصلوات, الفوائت أن يعين عن أي يوم لم يلزمه في الكفارات أن يعين عن أي حنث، فلا يكون في إثباته التعيين في الأداء بأولى من نفيه للتعيين في القضاء، فاستويا ثم ترجح ما ذكرنا باتفاقنا على أنه لو نسي صلاةً لم يعرفها بعينها لم يجزه في قضائها أن ينوي قضاء ما وجب عليه، لعدم التعيين، ولو كانت عليه كفارةً لا يعرف موجبها أجزأه أن ينوي بالتكفير ما وجب عليه فعلم أن تعين النيةً في الصلاةً واجب، وتعيينها في الكفارةً غير واجب فأما الفرق بين الطهارةً والصلاةَ في تعيين النيةً في الصلاةَ دون الطهارةً مع اشتراكهما في وجوب النيةَ فمن وجهين: أحدهما: ما حكاه أبو القاصم الأنماطي عن المزني قال: قلت للمزني: لم افتقرت الصلاة إلى تعين النيةَ ولم تفتقر الطهارةً إلى تعيين النية؟ فقال: لأن الصلاةً تراد لغيرها، والطاهرةً تراد لغيرها وهذا صحيح؛ وهكذا الكفارةً تراد لغيرها، وهو تكفير الحنث، فلذلك لم يلزم فيها تعين النيةَ. والثاني: قاله أبو علي بن أبي هريرةً أن الطهارةَ بسبب متقدم، وهو ما سبق من الحدث فلم يلزم تعيين النيةً له، والصلاةً لأمر مستقبل فجاز آن يلزم تعيين النية فيها،

وهذا صحيح وهكذا الكفارةً بسبب متقدم، وهو ما سبق من اليمين؟ فلم يعتبر تعيين النيةَ فيها. فإن قيل: النيةَ في الكفارةً أغلظ منها في الطهارةً لأنه لو نوى بطهارته أنها عن نوم فكانت عن بول أجزأه، ولو نوى بعتقه في الكفارةَ أنه عن ظهار فكان عن قتل لم يجزه فجاز أن تتغلظ الكفارة بتعين النيةَ، وإن لم تغلظ بها الطهارة. قيل: إنما أجزأته الطهارةً ولم تجزه الكفارةَ بمعنى آخر، وهو أن الطهارةَ ترفع جميع الأحداث لأنها تتداخل؛ فكذلك أجزأت في مخالفةَ التعيين، والعتق لا يسقط جميع الكفارات، لأنها لا تتداخل، فلذلك لم تجز في مخالفةَ التعيين. مسألة: قال الشافعي: "ولا يجزئ كفارةً حتى يقدم النيةً قبلها أو معها". قال في الحاوي: أما النية في دفع الزكاةَ والكفارةَ فواجبةً على ما قدمناه في الزكاةً؛ لأن دفع المال يتنوع فرضًا وتطوعًا، فافتقر الفرض إلى تمييزه بالنيةً، وله في النيةَ ثلاثةَ أحوال، تجزئةُ في إحداها ولا تجزئه في الآخر، ومختلف في إجزائه في الثالث، فأما ما تجزئه فهو أن ينوي عند دفعها فيجزئ؛ لأن أغلظ أحوال النيةً أن يكون مع الفعل، وأما ما لا يجزئ فهو أن ينوي قبل عزلها من ماله، لأنها تجردت عن الفعل، فكانت قصدًا ولم تكن نيةً، وأما المختلف فيه فهو أن ينوي عند عزلها من ماله وقبل دفعها ففي إجرائها وجهان: أحدهما: تجزئ وإن لم تجزئ مثله في الصلاةً، وهو الظاهر من كلام الشافعي حتى يقدم النيةَ قبلها، لأن الاستنابة في دفعها يصح، ولا يمكن المستنيب أن ينوي مع الدفع، فأجزأته النيةَ مع العزل، وخالفت الصلاةَ التي لا يجوز الاستنابة فيها، فلزم أن تكون النيةً مقارنةً لأولها وجرت الضرورة مجرى الصيام الذي تجزئ النيةً فيه قبل دخوله للضرورةً عند تعذرها مع دخوله. والثاني: لا يجزئه لبقائها مع القود على ملكه فأشبه النية قبل عزله، وتأول من قال بهذا الوجه قول الشافعي حتى يقدم النيةَ قبلها، أو معها بتأويلين: أحدهما: أن ينوي قبلها إذا استصحب النيةَ إلى دفعها. والثاني: قبلها في الصيام ومعها في الكسوةَ. مسألة: قال الشافعي: "وَلَوْ كفرَ عَنْه رَجِلَ بأمره أَجْزَأُهُ وَهَذِهِ كَهِبَّتِهُ إِيَّاهَا مِنْ مَالِهُ وَدفعَهُ

إِيَّاهَا كَقَبْضِ وَكِيلِهُ لَهَبَتَهُ لَو وَهَبَّهَا لَهُ وَكَذَلِكَ إِنَّ قَالَ أَعتقَ عَنْي فولاؤه لِلْمُعْتَقِ عَنْه لِأَنَّه قَدْ مَلَّكَهُ قَبْلَ الْعُتَّقُ وَكَانَ عتقَهُ مِثْلُ الْقَبْضَ كَمَا لَو اشتراه فَلَمْ يُقَبِّضُهُ حَتَّى أَعْتُقَهُ كَانَ الْعُتَّقُ كَالْقَبْضِ". قال في الحاوي: وهو كما قال: إذا وجب عليه الكفارةَ فكفر عنه رجل بأمره فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون مال التكفير للآمر، فيكون المأمور هاهنا وكيلًا للآمر في إخراج الكفارةً، وهذا متفق على جوازه لجواز النيابةً في التكفير، لأن مقصودها المال والعمل تبع، فأجريت مجرى حقوق الأموال، وتكون النيةً في إخراجها مستحقةً، لما تضمنها من العبادةً، وللآمر والمأمور فيها أربعة أحوال: أحدها: أن ينوي الآمر عند أمره وينوي المأمور عند دفعه، فهذا أكمل أموال الجواز. والثاني: أن لا ينوي واحد منها فلا يجزئ المخرج عتقًا كان أو إطعامًا لعدم الشرط المستحق في الإجراء ولا يضمنه المأمور، ويكون متطوعًا في الأمر. والثالث: أن ينوي المأمور عند دفعه، ولا ينوي الآمر عند أمره، فهنا أجزيء لأن اقتران النية بالدفع أصح. والرابع: آن ينوي الآمر عند آمره، ولا ينوي المأمور عند دفعه، ففي إجرائه وجهان على ما مضى من وجوب اعتباره النيةَ عند العزل والدفع، فإن آمره أن يكفر عنه بنوع فعدل إلى غيره كان المأمور ضامنًا لما كفر به سواء عدل عن الأدنى إلى الأعلى كعدوله عن الإطعام إلى العتق، أو عدل عن الأعلى إلى الأدنى، كعدوله عن العتق إلى الإطعام، لأن المأمور مقصور التصرف على ما تضمنه الأمر، وإن أطلق الآمر الإذن للمأمور في التكفير ولم يعين له على جنس ما يكفر به لم تخل الكفارةً من أن تكون كفارةً تربب كالقتل والظهار، فإطلاق إذن الآمر يوجب حمله على اعتبار حاله، فإن كان من أهل العتق أوجب إطلاق إذنه أن يعتق عنه، وإن أطعم ضمن ولم يجزه، وإن كان من أهل الإطعام أوجب إطلاق إذنه آن يطعم، عنه، وإن أعتق لم ينفذ عتقه، ولم يضمن بخلاف المال الذي قد ملكه المعطى، فضمنه المعطى وإن كانت كفارةً لحنث مثل كفارةَ الأيمان، فإن كفر المأمور بأقل الأجناس ثمنًا، فكفر بالإطعام دون العتق أجزأه سواء كان موجودًا في ماله أو غير موجود، وإن كفر بأكثر الأجناس ثمنًا فكفر بالعتق دون الإطعام، فلا يخلو مال الآمر من أربعة أحوال: أحدها: أن يوجد في ملكه للأدنى من الإطعام، ولا يوجد فيه الأعلى من العتق فيصير المأمور بعد عدوله إلى العتق من غير ملكه خارجًا من حكم الأذى، فلا يجزئ العتق، ويكون عن المأمور دون الآمر، والكفارةَ باقيةً في ذمةُ الآمر. والثانية: أن يوجد في ملكهِ الأعلى على العتق، ولا يوجد في الأدنى من الطعام

فهذا العتق يجزئ عن الآمر، وله ولاؤه؛ لأن إطلاق إذنه متوجه إلى ملكه. والثالثة: أن لا يوجد في ملكه الأدنى من الإطعام، ولا الأعلى من العتق، فليس له التكفير عنه بالأعلى من العتق، لأمرين: أحدهما: أن فضل القيمة غبر مستحق. والثاني: أنه يدخل ولاء المعتق في ملك الآمر بغير إذن. والرابعة: أن يوجد في ملكه الأدنى من الطعام والأعلى من العتق، فهل يكون إطلاق الإذن يوجب تخيير المأمور، كما كان موجبًا لخيار الأمر على وجهين: أحدهما: أنه موجب لخياره لأنه قد أقامه بالإذن فيه مقام نفسه، فعلى هذا لا يبطل العتق ويجزئ عن المكفر. والثاني: أن التخيير يسقط في حق المأمور، وإن كان ثابتًا في حق الآمر، لأنه مخير في ملكه دون المأمور، فعلى هذا يكون عتقه باطلاً؟ والعبد على رقه والكفارة باقية في ذمة الآمر. فصل: والثاني: أن يكون مال التكفير ملكًا للمأمور، فقد اختلف الفقهاء في إجزائه على ثلاثة مذاهب: أحدها: وهو مذهب الشافعي، أنه يجزئ سواء كان بجعل أو بغير جعل. والثاني: وهو مذهب مالك، لا يجزئ سواء كان بجعل أو بغير جعل. والثالث: وهو مذهب أبي حنيفة أنه يجزئ إن كان بجعل، ولا يجزئ إن كان بغير جعل. ودليلنا وإن كان قد مضى في كتاب الظهار مستوفي أنه إن كان بجعل جرى مجرى البياعات، وإن كان بغير جعل جرى مجرى الهبات، والإخراج فيها قبض يلزم به الهبة، ويستقر به البيع، فإن قيل: فكيف يصح ملك الآمر له، ححتي يجزئه في كفارته، قيل: قد حكي فيه أبو علي بن أبي هريرة وجهين خرجهما من اختلاف قولي الشافعي في دية النفس، هل يملكها المقتول في آخر أجزاء حياته، أو يملكها الورثة في أول أجزاء موته، ويجري عليها في قضاء ديونه، وإنفاذ وصاياه، حكم ملكه على قولين كذلك ها هنا على وجهين: أحدهما: أنه يصير بإحراجها مالكًا لها قبل إخراجها، فإن كان عتقًا بأن بالعتق أنه كان ملكًا له قبل العتق، وهو الظاهر من مذهب الشافعي فيما نص عليه في هذا الموضع قال الشافعي لأنه ملكه قبل العتق. والثاني: أنه ليس بملك، وإنما يجري عليه حكم الملك، لأنه قبل العتق لا يملك، وبعد العتق لا يصح أن يملك، فصار حكم الملك جاريًا عليه، وإن لم يملك كما نقول

في حافر البئر إذا تلف فيها حيوان بعد موته كان في حكم الجاني عليه، وإن لم يكن جانيًا، لأنه قبل موته لم يجن، وبعد موته لا يصح منه الفعل، فجرى عليه حكمه وإن لم يفعل، ويكون ولاء المعتق للآمر على الوجهين معًا، ومثل هذين الوجهين في التكفير إذا قال: ألق متاعك في البحر وعلي قيمته، هل يصير مالكًا له قبل إلقائه أم لا على هذين الوجهين: أحدهما: أننا نعلم قبل إلقائه أنه قد كان مالكًا له قبل إلقائه. والثاني: أنه لايصير مالكًا له، وإنما يجري عليه حكم الملك، لأنه قبل الإلقاء لم يملك، وبعد الإلقاء لا يصح أن يملك. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ أَنَّ رَجُلاً كَفَّرَ عَنْ رَجُلٍ بِغَيْرِ أَمْرِهِ فَأَطْعَمَ أَوْ أَعْتَقَ لَمْ يُجْزِهِ وَكَانَ هُوَ المُعْتِقَ لِعَبْدِهِ فَوَلاَؤُهُ لَهُ ". قال في الحاوي: أعلم أنه لا يخلو حال من كفر عن غيره بغير إذنه من أن يكون مكفرًا عن حي أو ميت، فإن كفر عن حي لم يجز الكفارة عن الحي، لأن النية فيها مستحقة، وعدم الإذن مانع من صحة النية، فكان ما أخرجه النائب واقعًا عن نفسه، فإن كان إطعامًا كان صدقة، وإن كان عتقًا كان تطوعًا منه وله ولاؤه، وإن نواه عن غيره كمن حج عن حي بغر أمره، كان الحج واقعًا عن الحاج دون المحجوج عنه. وقد اختلف الفقهاء في ولاء من أعتق عبده عن غيره، فجعله أبو حنيفة للمعتق بكل حال، وجعل مالك للمعتق عنه بكل حال، وجعل الشافعي للمعتق إن عتق بغير أمره، وللمعتق عنه إن أعتق بأمره، وإن كفر عن ميت فلا يخلو أن يكون بوصية أو بغير وصية، فإن كان بوصية كانت الوصية أمرًا، فيصير كالمكفر بأمر، فيكون على ما مضى، وإن كفر عنه بغير وصية منه، فلا يخلو المكفر عنه من أن يموت موسرًا أو معسرًا، فإن مات موسرًا فوجوب الكفارة باق في تركته، فإن كفر عنه منها غير وارث ولا ذي ولاية كان ضامنًا متعديًا، ولم يسقط به الكفارة، وإن كفر عنه منها وارث، فإن كان التكفير طعامًا أجزأ، وصار كقضاء الديون الواجبة عنه، وإن كان التكفير عتقًا فضربان: أحدهما: عتق لا تخيير فيه كعتق كفارة الظهار والقتل، فيجزئ، وإن كان بغير أمر ولا وصية؛ لأنه عتق مستحق، فإذا فات من ضمنه بالموت وجب على من قام مقامه في ماله كالحج لا يجوز أن يحج عنه في حياته إلا بإذنه، ويجب على وراثه الحج عنه فيما وجب بعد موته. والثاني: أن يكون عتقًا فيه تخيير، كالعتق في كفارة اليمين، ففيه وجهان:

أحدهما: لا يصح، لأن التخيير فيه يمنع من تعيين وجوبه. والثاني: يصح، لأنه إذا ناب عن واجب صار واجبًا وهذان الوجهان بناء على اختلاف أصحابنا في ما وجب في كفارة اليمين وسائر كفارات التخيير هل وجب بالنص أحدها، أو وجب به جميعها، وله إسقاط الوجوب بأحدهما، فأحد وجهي أصحابنا أن الواجب بالنص أحدها على وجه التخيير، فعلى هذا لا يصح العتق. والثاني: أن جميعها واجب بالنص، وله إسقاط جميعها بفعل أحدها، فعلى هذا يصح العتق. وإن مات المكفر عنه معسرًا فقد اختلف أصحابنا هل يكون التكفير بعد موته معتبرًا بالواجب أو بالتطوع على وجهين: أحدهما: يكون معتبرًا بالواجب فيكون على ما مضى. والثاني: يكون معتبرًا بالتطوع، فيكون على ما يأتي. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَكَذَبِكَ لَوْ أَعْتَقَ عَنْ أَبَوَيْهِ بَعْدَ المَوْت إِذَا لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ بِوَصِيَّةٍ مِنْهُمَا ". قال في الحاوي: أما التطوع بذلك عن وصية الميت فجائز، سواء كان عتقًا أو صدقة ويكون الولاء للميت؟ ينتقل عنه إلى الذكور من عصبته، وأما التطوع به عن الميت من غير وصية، فإن كان صدقة جاز من وارث وغير وارث؟ لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر سعد بن أبي وقاص "أن يتصدق عن أمه بعد موتها ". وروي أن رجلاً قال: يا رسول الله إن أمي اقتلتت، وأظن لو تكلمت لتصدقت، فهل لها من أجر إن تصدقت عنها، قال: نعم ". وأما العتق فإن تطوع به غير وارث لم يجز، والفرق بين الصدقة والعتق أن الصدقة بر محض لا يتعدى إلى غير الثواب، والعتق تكسب ولاء يجري مجرى النسب، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الولاء لحمة كلحمة النسب "وليس لأحد إلحاق نفسه بغيره، كذلك الولاء وإن كان المعتق وارثًا، فإن تطوع به بعض الورثة، لم يجز كالأجنبي، لأن بعض الورثة لا يجوز أن يلحق بالميت نسبًا، وإن تطوع جميع الورثة ففي جوازه وجهان: أحدهما: لا يجوز كما لو تطوع به بعضهم. والثاني: يجوز كما يصح لحوق النسب بالميت إذا أقر به جميع الورثة ولا يصح إذا أقر به بعضهم.

مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ صَامَ رَجُلٌ عَنْ رَجُلٍ بِأَمْرِهِ لَمْ يُجْزِهِ لأَنَّ الأَبْدَانَ تُعُبّدَتْ بِعَمَل فَلاَ يُجْزئُ أَنْ يَعْمَلَهُ غَيْرُهَا إِلاَّ الحَجِ وَالعُمْرّة للِخَبَرِ الَّذِي جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَبِأَنَّ فِيهِمَا نَفَقَةٌ وَلأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وَتعالى إِنَّمَا فَرَضَهُمَا عَلَى مَنْ وَجَدَ السَّبِيلَ إِلَيْهِمَا وَالسَّبِيلُ بِالمَالِ ". قال في الحاوي: أما الصيام عن الحي فلا يجوز إجماعًا بأمر أو غير أمر، عن قادر أو عاجز، للظاهر من قول الله تعالى: {وأَن لَّيْسَ لِلإنسَانِ إلاَّ مَا سَعَى (39)} [النجم: 39] ولأن ما تمحض من عبادات الأبدان لا تصح فيها النيابة، كالصلاة، وخالف الحج، لأنه لما تعلق وجوبه بالمال لم يتمحض على الأبدان، فصحت فيه النيابة كالزكاة. فأما الصيام عن الميت، فقد وقفه الشافعي في القديم على صحة الخبر المروي فيه أن امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم نذر كان على أمها؟ فماتت قبل صيامه، فأجاز لها أن تصوم عنها. وقد حكي أبو علي بن أبي هريرة عن أبي بكر النيسابوري أن الخبر قد صح فصار مذهبه في القديم جواز الصيام عن الميت وهو المذهب مالك وأحمد، وقد روى عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه "؛ ولأنها عيادة يدخل في جبرانها المال فصحت فيها النيابة كالحج طردًا والصلاة عكسًا ودخول المال في جبرانها من وجهين: أحدهما: جبران الصيام في الوطء بالكفارة. والثاني: فجز الشيخ الهرم عن الصيام وانتقاله إلى إخراج مد عن كل يوم، وقال في الجديد: إن النيابة في الصيام لا تجوز بحال عن حي ولا ميت، وهو مذهب أبي حنيفة وأكثر الفقاء؛ لرواية عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام أطعم عنه وليه "ولأنها عبادة على البدن لا يتعلق وجوبها بالمال، فلا تصح فيها النيابة كالصلاة طردًا، والحج عكسًا، فأما الخبر فمعلول وإن صح كان محتملاً أن يريد بالصيام عن الميت الصدقة عن كل يوم بمد. فصل: فأما الصلاة عن الميت فقد حكي عن عطاء بن أبي رباح وإسحاق بن راهويه في جوازه، وهو قول شاذ تفردا به عن الجماعة استدلالاً بأمرين: أحدهما: أنه لما جازت النيابة في ركعتي الطواف إجماعًا جازت في غيرها من الصلوات قياسًا

والثاني: أنه لما صحت النيابة في الحج والعمرة مع العجز دون القدرة، وصحت في الزكاة مع العجز والقدرة لم تخرج النيابة في الصلاة عن أحدهما، وذهب جمهور الفقهاء وسائر العلماء إلى أن النيابة في الصلاة لا تصح بحال مع قدرة ولا عجز لقول العلماء إلى أن النيابة في الصلاة لا تصح بحال مع قدرة ولا عجز، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: حج بقضاء، أو دين يؤدى، أو صدقة جارية ". ولأن الصلاة كالإيمان لأنها قول وعمل ونية، ثم لم تجز النيابة في الإيمان إجماعًا فلم تجز في الصلاة حجاجًا، فأما ركعتا الطواف؛ فلأنها تبع لما تصح فيه النيابة فخضت بالجواز، لاختصاصها بالمعنى، وما ذكروه من الحج فقد تقدم اختصاصه بالنيابة لاختصاص وجوبه بالمال. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَمَنْ اشْتَرَى مِمَّا أَطْعَمَ أَوْ كَسَا أَجْزَتُهُ وَلَوْ تَنَزَّهَ عَنْ ذَلكَ كَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ ". قال في الحاوي: وهذا صحيح، يكره إن تصدق بصدقة عن واجب أو تطوع أن يشتريها من المعطى، لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أراد أن يشتري فرسًا تصدق به في سبيل الله يقال له: الورد، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تعد في صدقتك ولو أعطيتها بفقير، ودعها حتى تكون هي ونتاجها لك يوم القيامة "، ولأن من عرف المعطى أن يسمح في بيعها على المعطى، فصار بالابتياع كالراجع في بعض عطيته، فإن ابتاعها صح الإبتياع على مذهب الشافعي وأكثر الفقهاء وقال مالك: لا يص الابتياع وتعاد إلى البائع احتجاجًا بما مضى، ودليلنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة "ذكر منها رجلاً رآها تباع فاشتراها فكان على عمومه ولأنه لما جاز أن يملكها ميراثًا جاز أن يملكها ابتياعًا كغيره من الرجال ولأنه لما جاز أن يملكها ميراثًا جاز أن يملكها ابتياعًا كغيره من الرجال ولأنه لما جاز أن يبتاعها غيره من الرجال جاز أن يكون هو المبتاع كغيرها من الأموال، وما قدمناه من الاستدلال محمول على التنزيه دون التحريم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَمَنْ كَانَ لَهُ مَسْكَنٌ لاَ يَسْتَغْنِىِ عَنْهُ هُوَ وَأَهْلُهُ وَخَادِمٌ أُعْطِيَ مِنَ الكَفَّارَةِ وَالزَّكَاةِ وَإنْ كَانَ فِي مَسْكَنِهِ فَضْلٌ عَنْ خَادِمِه وَأَهْلِهِ الفَضْلُ الَّذِي يَكُونُ بِهِ غَنِيًا لَمْ يُعْطَ ".

قال في الحاوي: إذا كان له مسكن لا يستغني عنه، وخادم لا يجد بداَ منه جاز له أن يأخذ من الزكاة والكفارة، وجاز أن يكفر بالصيام دون المال، ولو كان مفلسًا بيع ذلك في دينه، وإن لم يبع في كفارته، لأن في حقوق الآدميين مشاحة، وفي حقوق الله تعالى مسامحة، فإن كان في ثمن مسكنه أو في ثمن خادمه فضل يكون به غنيًا حرمت عليه الزكاة والكفارة وإن كان فيهما فضل للتفكير بالمال لم يجزه التكفير بالصيام. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَإذَا حَنَثَ مُوسِرًا ثُمَّ أَعْسَرَ لَمْ أَرَ الصَّوْمَ يُجْزئ عَنْهُ وآمُرُهُ احْتِيَاطًا أَنْ يَصُومَ فَإِذَا أَعْسَرَ كَفَّرَ، وَإِنَّمَا أَنْظُرُ فِي هَذَا إلى الوَقْتِ الَّذَي يَحْنَثُ فِيهِ، وَلَوْ حَنَثَ مُعْسرًا فَأيْسَرَ أَحْبَبْتُ لَهُ أَنْ يُكْفرَ وَلاَ يَصُومَ وَإِنْ صَامَ أَجْزَأَ عَنْهُ لأَنَّ حُكْمَهُ حِينَ حَنَثَ حُكْمُ الصَّيَام. قَالَ المِزَنِيُّ: وَقَدْ قَالَ فِي الظَّهَارِ إِنَّ حُكْمَهُ حِينَ يُكْفرَ وَقَدْ قَالَ فِي جَمَاعَةِ العُلمَاءِ إِنْ تَظَاهَرَ فَلَمْ يَجدْ رَقَبَةَ أَوْ أَحْدَثَ فَلَمْ يَجِد مَاءً فَلَمْ يَصُمْ وَلَمْ يَدْخُلْ فِي الصَّلاة بالتَّيمُّم حَتَّى وَجَدَ الرَّقَبَةَ وَالمَاءَ إِنَّ فَرْضَهُ العِتْقُ وَالوُضٌوءُ وَقَوْلُهُ في جَمَاعَةِ العُلَمَاءِ أَوْلَى بِه مِنْ انْفِرَادِهِ عَنْهَا ". قال في الحاوي: أعلم أن الكفارة تختلف باليسار والإعسار ففرض الموسر أن يكفر بالمال وفرض المعسر أن يكفر بالصيام، وقد يختلف اليسار والإعسار، فيكون عند الوجوب موسرًا، وعند التكفير معسرًا، وقد يكون عند الوجوب معسرًا، وعند التكفير موسرًا، فاختلف الشافعي هل يعتبر بالكفارة حال الوجوب أو يعتبر بها حال الأداء على قولين منصوصين، وثالث مخرج. أحدها: أن المعتبر بها حال الوجوب وهو المنصوص عليه في هذا الموضوع من كتاب الأيمان، فإذا حنث وهو موسر فلم يكفر بالمال حتى أعسر ففرضه التكفير بالمال دون الصيام وتكون الكفارة باقية في ذمته حتى يوسر فيكفر، ويستحب له أن يعجل بالتكفير بالصيام استظهارًا حذرًا من فوات التكفير بالموات لاستدامة الإعسار ولم يسقط عنه فرض التكفير بالصيام، ولو كان معسرًا عند الحنث ففرضه التكفير بالصيام، فإن عدل عنه إلى التكفير بالمال أجزأ عدل عن الأخف إلى الأغلظ، ووجه هذا القول في اعتبار الكفارة بحال الوجوب شيئان: أحدهما: إلحاقها بالحدود، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "وما يدريك لعل الحدود كفارات "والحدود معتبرة بحال الوجوب دون الفعل، لأن العبد إذا زنا فلم يحد حتى أعتق حُدَّ حدجّ العبيد، والبكر إذا زنا فلم يحد حتى أحصن حد حد الأبكار، وكذلك الكفارات.

والثاني: أن التكفير لذنب متقدم، فاعتبر بحال الوجوب لقربه من سببه. والثاني: أن المعتبر بالكفارة حال الأداء دون الوجوب نص عليه الشافعي في كتاب الظهار فإذا حنث وهو موسر فلم يكفر حتى عسر كان فرض التكفير بالصيام، ولو حنث وهو معسر فلم يكفر حتى أيسر كان فرضه التكفير بالمال، ووجه هذا القول في اعتبار الكفارة بحال الأداء شيئان: أحدهما: إلحاقها بالطهارة، لأن كل واحدة منها ذات بدل فلما اعتبرت الطهارة بحال الأداء فكذلك الكفارة. والثاني: أنها مواساة فاعتبرت بأقرب الأحوال من مواساته. والثالث: وهو مخرج أن المعتبر بالكفارة أغلظ الأمرين من حال الوجوب أو حال الأداء، لأنها تكفير عن ذنب، فكانت بالتغليظ أخص، وقد استوفينا هذه المسألة فيما تقدم بفروعها. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَمَنْ لَهُ أَنْ يَاخُذُ مِنَ الكَفَّارَةِ وَالزَّكَاةِ فَلَهُ أَنْ يَصُومَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ وَلا يُعْتِقَ فِإنْ فَعَلَ أَجْزَأًهُ ". قال في الحاوي: أعلم أن مصرف الكفارات في الفقراء والمساكين خاصة، ومصرف الزكاة في الفقراء والمساكين، وفي بقية اهل السهمان الثمانية فاشترك الفقراء والمساكين في الكفارات والزكوات، واختصت الزكاة ببقية الأصناف دون الكفارات هذا الكلام في مصرفها. فأما وجوبها، فكل من وجبت عليه الزكاة وجب عليه التكفير بالمال، وقد يجب التكفير بالمال على من لا تجب عليه الزكاة إذا ملك أقل من نصاب، وقد يجب التكفير بالمال على من يحل له الزكاة والكفارة، وهو من وجدها فاضلة عن قوته وقوت عياله، ولا يصير بفضلها غنيًا، فيجب عليه التكفير بالمال دون الصيام، ولوجودها في ملكه فاضلة عن كفاية وقته، ويحل له أن يأخذ من الزكوات والكفارات لدخوله في حكم الفقر والمسكنة بعدم الكفاية المستديمة، وقد يسقط التكفير بالمال، وبعدل عنه إلى الصيام من يحرم عليه أخذ الزكاة والكفارة، وهو الجلد المكتسب قدر كفايته في كل يوم من غير زيادة يكفر بالصيام دون المال لعدمه في ملكه، وتحرم عليه الكفارة والزكاة، لاستغنائه عنها بمكسبه. فإن قيل: فإذا كان الأمر على هذا التفصيل فلم قال الشافعي: ومن له أن يأخذ من الكفارة والزكاة فله أن يصوم؟ وقد قلتم فيما فضلتم: إنه قد يجوز أن يأخذ من الزكاة

والكفارة من لا يجوز أن يصوم عنه في الكفارة، فمنه جوابان: أحدهما: أن الشافعي أشار إلى الأغلب من أحوال الناس، والأغلب ما قاله. والثاني: أن الشافعي قصد به أبا حنيفة حيث اعتبر الغنى والفقر بوجود النصاب وعدمه، وهو عنده معتبر بوجود الكفاية المستديمة فيكون غنيًا، وإن لم يملك نصابًا إذا كان مكتسبًا بيديه، ويكون فقيرًا وإن ملك نصابًا إذا كان دون كفايته، وقد أوضحنا ذلك في قسمة الصدقات. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَإنْ كَانَ غَنِيَّا وَمَالُهُ غَائِبٌ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يُكَفَّرَ حَتَّى يَحْضُرَ مَالُُ إِلاَّ بِالإِطْعَامِ أَوْ الكُسْوَةِ أَوْ العِتْقِ ". قال في الحاوي: قال المزني جعل حكمه حكم الموسر إذا كان المكفر ذا مال غائب، إما بأن سافر عن مال خلفه ببلده، وإما بأن سافر بالمال وهو مقيم في بلده فلم يقدر على التكفير بالمال لغيبته عنه، فهو على مذهب الشافعي في حكم الموسر، ولا يجوز له الصيام حتى يقدر على ماله فيكفر بالمال. وقال أبو حنيفة: هو في حكم المعسرين يجوز له أن يكفر بالصيام، لأنه لما حل له أن يأخذ الزكاة والكفارة لحاجته جرى عليه حكم الفقر من كفارته، وهذا خطأ لأن الحاجة مختصة بمكانه، والكفارة معتبرة بإمكانه. فإن قيل: أفليس المتمع في الحج إذا كان معسرًا في مكة موسرًا في بلده كفر بالصيام كالمعسر، فهلا كان كذلك في كفارة الأيمان قيل: الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن مكان الدم في التمتع مستحق بمكة، فاعتبر يساره أو إعساره بها ومكان الإطعام في غيره مطلق فاعتبر يساره وإعساره على الإطلاق. والثاني: أن الصوم في كفارة التمتع للزمان في صوم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع فكان في تأخيره فوات بدله، وليس لصيام اليمين زمان معين يفوت بتأخيره فافترقا. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا لم يخل حاله في كمال فروضه من ثلاثة أقسام: أحدها: ما يفوت بتأخيره إلى حال الكمال، وذلك مثل صلاة العريان والمئيم وكفارة المتمتع، ففرضه تعجيل أدائه على غنى. والثاني: ما لا يفوت بتأخيره ولا يدخل عليه ضرر بالتأخير مثل كفارة اليمين والقتل وزكاة الفطر ففرضه إذا قدر على الكمال أن يؤخره إلى حال الإمكان.

باب ما يجزئ من الكسوة في الكفارة

والثالث: ما لا يفوت بتأخيره، لكن يلحقه بالتأخير ضرر مثل كفارة الظهار يلحقه بتأخيرها ضرر في امتناعه من الجماع ففيه وجهان: أحدهما: يجب تأخيرها باليسار في بلده حتى يعتق لأنه غنى. والثاني: يجوز أن يجعل التكفير بالصيام؛ لأنه مستنصر، وهكذا حكمه لو كان ضالاً أو مغصوبًا لا يجوز أن يكفر حتى يقدر على ماله فيكفر به، فإن تلف ماله قبل وصوله إليه لم يخل حاله من أحد أمرين: أحدهما: أن يقدر على التكفير له قبل وصوله إليه بأن يكاتب أو يراسل إلى بلد المال بالتكفير عنه، فلا يفعل حتى يتلف المال فهذا في حكم من كان موسرًا عند الوجوب معسرًا عند الأداء فيكون في تكفيره بالصيام على قولين: أحدهما: يجوز أن يكفر به إذا اعتبر بها حال الأداء. والثاني: لا يجوز أن يكفر إلا بالمال إذا اعتبر بها حال الوجوب. والثانية: أن لا يقدر على التكفير بالمال حتى يتلف فيجزئه التكفير بالصيام قولاً واحدًا لأعساره في حالتي وجوبها وأدائها والله أعلم. باب ما يجزئ من الكسوة في الكفارة مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: "وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ منَ الكُسْوَةِ كُلُّ مَا وَقَعَ عَلَيْهِ اسْمُ كُسْوَةٍ مِنْ عَمَامَةٍ أَوْ سَرَاوِيلَ أَوْ إِزَارِ أَوْ مَقْنَعَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لِرَجُلِ أَوْ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيِّ وَلَوْ اسْتَدَلَّ بِمَا يَجُوزُ فيهِ الصَّلاَةُ مِنَ الكُسْوَةِ عَلَى كُسْوَةِ المَسَاكِينِ لجَازَ أَنْ يَسْتَدِلٌ بمَا يَكْفِيهِ فِي الشِّتَاءِ وَالصّيْفِ أَوْ فِي السَّفَرِ مِنْ الكُسْوَةِ وَقَدْ أَطْلَقَهُ اللهُ فَهُوَ مُطْلَقٌ ". قال في الحاوي: خير الله تعالى المكفر عن اليمين بين ثلاثة أشياء: إطعام عشرة أو كسوة عشرة مساكين، أو عتق رقبة، وقد مضى الكلام في الإطعان فأما الكسوة فليس لها أقل تعتبر به، فاختلف الفقهاء فيها على خمسة مذاهب: أحدها: وهو قول عبد الله بن عمر أنه لا يجزئ فيها أقل من ثلاثة أثواب، قميص ومئزر ورداء. والثاني: وهو قول أبي موسى الأشعري أنه لا يجزئ فيها أقل من ثوبين، وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وابن سيرين. والثالث: وهو قول إبراهيم النخعي أنه لا يجزئ إلا كسوة ثوب جامع كالمحلفة والكساء. والرابع: وهو قول مالك: أنه لا يجزئ من الكسوة إلا ما تجزئ فيه الصلاة إن

كان الرجل، فما يستر به ما بين سرته وركبته، وإن كانت امرأة فما تستر به جميع بدنها. والخامس: وهو قول الشافعي وأبي حنيفة: أنه كسوة ثوب واحد ينطلق عليه اسم الكسوة ستر العورة أو لم يسترها، وبه قال ابن عباس ومجاد وطاوس وعطاء، والدليل على أن أصح الأقاويل ما ذهب إليه الشافعي وأبو حنيفة من ثوب واحد ينطلق عليه اسم الكسوة سواء ستر العورة، وأجزات فيه الصلاة أم لا؟ لأمرين: أحدهما: التزم بقيمة متفق عليه، وما يجاوزه التزام زيادة يختلف فيها، فاعتبر الأصل في براءة الذمة. والثاني: أنه لا يخلو إطلاق الكسوة من اعتبارها بما انطلق عليه الإسم أو بما دعت إليه الحاجة فلم يلزم اعتبارها بما دعت إليه الحاجة؛ لأنها تدعو إلى ما يدفئ من البرد في الشتاء، ويقي من الحر في الصيف، وإذا لم يغير ما دعت إليه حاجة الشتاء والصيف كان أولى أن لا يغير ما ذهب إليه مالك من ستر العورة وإجزاء الصلاة من وجهين: أحدهما: خروجه من اعتبار الإسم وهو أصل عن اعتبار الكفاية وهي عرف. والثاني: أنه لو أعطاه من رقيق الثياب ما يعم العورة ولا يسترها لرقته أجزأه، وإن لم تجز فيه الصلاة، ولأنه لما استوى قدر الإطعام في الرجال والنساء وجب أن يستوي قدر الكسوة فيهما وفي اعتبار ستر العورة يوجب اختلاف القدر فيهما لاختلاف العورة منهما فكان ذلك مدفوعًا، وإذا بطل بما ذكر أن يعتبر ما زاد على انطلاق الاسم ثبت أن ما انطلق اسم الكسوة عليه هو المعتبر فنقول: كساه قميصًا أو كساه منديلاً وكساه سراويل وكذلك المقنعة والخمار فأجزأه ذلك كله، وقال أبو يوسف: لا تجزئه السراويل، لأنه تبع لغيره، وهذا فاسد بالعمامة والمنديل، فأما القلنسوة ففي إجزائها وجهان؟ أحدهما: يجوز لأنها من حملة ما يكتسى. والثاني: لا يجوز لأنها زيادة ولا ينفرد بلباسها، وقال أبو الغياض البصري: إن كانت صغيرة تغطي نصف الرأس لم تجز وإن كانت كبيرة تعم الرأس وتغطي الآذان والقفا أجزأت ولا يجزئ أن يعطي خفين، ولا نعلين ولا تكة، ولا ما يلبس من العصائب ولا تجزئ منطقة ولا مكعب ولا هميان لخروج ذلك عن الكسوات الملبوسة. فصل: وما أعطى من ثياب قطن أو كتان أو شعر أجزأ فأما ثياب الحرير والإبريسم، فيجوز أن يعطاه النساء لإحالة لهن، وكذلك الصبيان، وفي جواز إعطائه للرجال وجهان: أحدهما: لا يجوز لتحريم لبسه عليهم. والثاني: يجوز وهو أصح؛ لأنه يجوز أن يعطي للرجال ثياب النساء، ويعطي النساء ثياب الرجال، وسواء بياض الثياب ومصبوغها، وخامها، ومقصورها، وجديدها وغسيلها فأما اللبيس منها، فإن أذهب اللبس أكثر منافعه لم يجزه وإن أذهب أقلها أجزأه كالرقبة

باب ما يجوز في عتق الكفارات وما لا يجوز مسألة

المعيبة إن كان عيبها يضر بالعمل إضراراً بيناً لم يجزه، وإن لم يضر بالعمل إضراراً بيناً أجزأه ويجوز أن يعطيهم ثوباً نجساً، لأنه يطهر بالغسل، لكن عليه أن يعلمهم بنجاسته حتى لا يصلوا فيه، إلا بعد غسله، ولا يجوز أن يعطيهم ما نسخ من صوف ميتة، ولا من شعرها؟ لعموم تحريمه وخصوص الانتفاع به، وإن لا سبيل إلي طهارته. فصل ولا يجوز أن يعطى الزلالي والبسط والأنطاع، لخروجها عن اسم الكسوة والملبوس، وكذلك لا يجوز أن يعطيهم غزلاً غير منسوج فأما لباس الجلود والفراءة فإن كان في بلد أهله ذلك أجزأ وإن كان في بلد لا يلبسه أهله، ففيه وجهان مخرجان من اختلاف قوليه في أجناس الحبوب في الإطعام هل يكون مخيراً فيها أو يعتبر بالغالب منها، وكذلك قميص اللبود، ولكن يجزئ أن يعطيهم الأكسية لأنها تلبس دثاراً، وإن لم تلبس شعاراً ولو أعطى مساكين ثوباً طويلاً فإن دفعه إليهم بعد قطعة أجزاه، لأنه قد صارت كل قطعة منه كسوة، وإن دفعة إليهم صحيحاً لم يجزه، لأنه ثوب واحد، فلم يكن إلا كسوة واحدة والله أعلم. باب ما يجوز في عتق الكفارات وما لا يجوز مسألة: قال الشافعي رحمه الله:" ولا يجزئ رقبة في كفارةٍ ولا واجبٍ إلا مؤمنه". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن العتق في الكفارات لا يجزئ إلا في رقبة مؤمنة وهو قول الأكثرين، وقال أبو حنيفة: يجزئ عتق الكافرة في جميعها إلا في كفارة القتال، لأن الله تعالى شرط إيمانها فحمل الشروط علي تقييده، والمطلق علي إطلاقه، ومن أصل الشافعي أن كل مطلق قيد بعض جنسه بشرط كان جميع المطلق محمولاً علي تقييد ذلك الشرط، كما أطلق قوله تعالى: {واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ} [البقرة:282]، وقيد قوله: {وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق:2]، فحمل ذلك المطلق علي هذا المقيد في اشتراط العدالة، واختلف أصحابنا فيما ذهب إليه الشافعي من حمل المطلق علي المقيد، هل قاله لغة أو شرعاً علي وجهين: أحدهما: انه قاله من طريق اللغة وما يقتضيه لسان العرب الذي جاء به الشرع ما لم يصرف عنه دليل. والثاني: أنه قال من طريق الشرع وما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة، واختلف من قال بهذا علي وجهين: أحدهما: يجمع بينهما بالإطلاق إلا أن تفرقا في (المعنى).

والثاني: أن لا يجمع بينهما إلا بعد اشتراكهما في المعني، ثم من الدليل انه عتق في كفارة، فوجب أن لا يجزئ إلا مؤمنه، كالعتق في كفارة القتل. ولأن كل رقبة لا يجزئ عتقها في كفارة القتل لم يجز عتقها في سائر الكفارات، قياساً علي المعيبة وقد مضت هذه المسألة في كتاب الظهار مستوفاة. مسألة: قال الشافعي:"وأقل ما يقع عليه اسم الإيمان علي الأعجمي أن يصف الإيمان أذا أمر بصفته ثم يكون به مؤمناً". قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا ثبت أن الإيمان شرط في عتق الكفارة فإيمانها علي ضربين: أحدهما: إيمان فعل. والثاني: إيمان حكم، فأما إيمان الفعل فلا يكون إلا من بالغ عاقل، تؤخذ عليه شروط الإيمان قطعاً، وشروطه أن يتلفظ بالشهادتين فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله، قال الشافعي:"ويقر بالبعث والجزاء، ويبرأ من كل دين خالف الإسلام، فأما إقراره بالبعث والجزاء فمستحب، وليس يقف إيمانه علي إقراراه، لأنه من موجبات الإيمان، وأما براءته من كل دين خالف الإسلام فقد اختلف أصحابنا في وجوبه علي ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه شرط في كالشهادتين. والثاني: أنه مستحب كالبعث والثالث: أنه إن كان من قوم ينكرون نبوة محمد صلي الله عليه وسلم، كان إقراره بنبوته يغنى عن براءته من كل دين خالف الإسلام، ويكون اشتراط ذلك فيه مستحباً، وإن كان من قوم يعتقدون انه مبعوث إلي قومه من العرب دون غيرهم كيهود خيبر، فإنهم كانوا يقولون: هو مبعوث إلي الأميين من العرب دوننا، وإنما ننتظر مبعوثاً إلينا من ولد إسحاق فتكون البراءة من كل دين خالف الإسلام شرطاً في صحة إيمانه، وبهذا قال أبو علي بن أبي هريرة فإذا صح ما يكون شرطاً في إيمانه نظر فإن كان عربي اللسان تلفظ به نطقاً ولا نفتنع منه بالإشارة مع سلامة لسانه وفهم كلامه، وإن كان أعجمي اللسان نظر، فإن حضر من يفهم لسانه لم يكن مؤمناً إلا بالنطق دون الإشارة كالعربي، وإن لم يحضر من يفهم لسانه دعت الضرورة إلي أن تؤخذ عليه شروط الإسلام، بالإشارة دون النطق كالأخرس، وروي أن معاوية بن الحكم جاء إلي النبي صلي الله عليه وسلم بعبد أعجمي جليب؟ فقال: يا رسول الله: إني ندرت أن أعتق مؤمنه افيجزئ هذا فقال له النبي صلي الله عليه وسلم:"من ربك، فأشار (إلى)

السماء، أي: رب السماء؟ فقال: من نبيك، فأشار إليه، فقال له النبي صلي الله عليه وسلم:" أعتقه فإنه مؤمن". مسألة قال الشافعي:" ويجزئ فيه الصغير إذا كان أبواه مؤمنين أو أحدهما". قال في الحاوي: وأما إيمان الحكم، فمعتبر فيمن لا يحكم بقوله في صغير أو مجنون، فيكون الصغير مسلماً بإسلام أبويه. وقال مالك: لا يصير مسلماً بإسلام أمه وحدها، وإن صار مسلماً بإسلام أبيه وحده، اعتباراً بلحوق نسبه بأبيه دون أمه، كذلك في الإسلام، لأن أحكامه في إتباع أبويه تنقسم قسمين: أحدهما: ما كان فيها تابعاً لأبيه دون أمه، وهو النسب. والثاني: ما كان فيها تابعاً لأمه دون أبيه، وهو الحرية والرق، فأما ما ينفرد به كل واحد من الأبوين، فخارج القسمين، ودليلنا قول الله تعالى: {والَّذِينَ آمَنُوا واتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور:21]، فأخبر أن الأولاد يتبعون الآباء والأمهات في الإيمان، وقال النبي صلي الله عليه وسلم:"الإسلام يعلو، ولا يعلى" وقد خلق الولد من ماء الأبوين، فإذا اجتمع فيه إسلام أحدهما وكفر الآخر وجب أن يعلو الإسلام علي الكفر، وروي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال:"كل مولود يولد علي الفطرة، فأبوه يهودانه أو ينصرانه، أو يجسمانه" فجعل اجتماع أبويه سبباً لشهوده فخرج بإسلام أحدهما من اليهودية؟ ولأنه لو افترق حكم أبويه في إسلامه لكان اعتباره بأمه أحق، منها قطعاً، ومن أبيه ظناً. فأما السبب فلا يلزم لأن حكمه في التحريم معتبر لكل واحد منهما فصار بالدين أشبه، وأما استدلالهم بتقسيم الحكمين فقد يقترن بهما ثالث وهو أن حرية الأب توجب حرية الولد إذا وطئها بملك اليمين، ورق الأم يوجب رق الولد إذا وطئها بعقد النكاح، فصارت الحرية والرق معتبرين بكل واحد من الأمرين فكذلك الإسلام ويصير هذا قسماً ثالثا. فصل فإذا صح إسلام الصغير المجنون بإسلام كل واحد من أبويه فعتق الصغير في الكفارة مجزئ، وإن كان ناقص العمل بخلاف الزمن؟ لأن نقص الصغير يزول، ونقص الزمانة لا يزول، سواء كان الصغير مستقلاً بنفسه، مستغنياً عن التربية كالمراهق، أو كان طفلاً يربي كالرضيع، لأنه ينشأ ويستكمل ونفقته بعد عتقه في بيت المال وفي الصدقات

ولا يجب (على) معتقه ولو تبرع بها حتى يبلغ هو الاكتساب كان أولي وإن لم تجب، فأما عتق المجنون فلا يجزئ إن كان جنونه مستديماً طبعا وكذلك المعتوه، وإن كان يجن في زمان ويفيق في زمان، فإن كان زمان جنوبه أكثر من زمان أفاقته، أو كان سواء لم يجزه عتقه، وإن كان زمان إفاقته أكثر من جنونه، ففي إجزاء عتقه وجهان: أحدهما: يجزئ كما يجزئ عتق من قل عيبه. والثاني: لا يجزئ، لأن قليل الجنون يصير كثيراً، فأما عتق الأحمق فيجزئ، لأنه يستهل بتدبير غيره، وأما عتق الفاسق فمجزئ لأجزاء أحكام الإسلام عليه. مسألة قال الشافعي:"وولد الزنا". قال في الحاوي: وهذا صحيح، لأنه صحة الانساب في عتق الكفارات غير معتبر؟ ولأن سلامه بدنه وصحة عمله مماثل لذوي الانسباب؟ ولأنه لما لم يكن ذلك عيباً في نقصان ثمنه، فأولي أن لايكون عيباً في أجزاء عتقه، واحسب الشافعي قال ذلك، ونص عليه، بخلاف شذ من بعض السلف تمسكا بقول النبي صلي الله عليه وسلم:"ولد الزنا شر الثلاثة"ولا دليل فيه، لأنه غير مستهل علي ظاهرة، وفيه تأويلان: أحدهما: انه شرهم نسباً. والثاني: أنه شرهم إذا زنا لأنه صار مع شر نسبه زانياً. مسألة: قال الشافعي:"وكل ذي نقص بعيب لا يضر بالعمل إضراراً بينا مثل العرج الخفيف والعور والشلل في الخنصر ونخو ذلك ولا يجزئ المقعد ولا الأعمى ولا الأشل الرجل ويجزئ الأصم والخصي والمريض الذي ليس به مرض زمانه مثل الفالج والسل". قال في الحاوي: اعلم أن الله تعالى أطلق عتق الرقبة في الكفارة فاقتضي إطلاقها أحد أمرين: إما السلامة من جميع العيوب كالغرة في الجنين والإبل من الدية، وإما جوازها مع كل العيوب اعتباراً بمطلق الاسم كالنذور، لكن انعقد فيها إجماع منع من اعتبار احد هذين الأصلين لأنهم أجمعوا علي أن من ذوات العيوب ما يجزئ، وهي العوراء والبرصاء والجدعاء، ومن ذوات العيوب ما لا يجزئ، وهي العمياء والقطعاء والشلل، فاعتبرنا معني ما أجاوزه، ومعني ما ردوه، فوجدناهم قد أجازوا منها ما لا يضر بالعمل إضراراً بينا وردوا منها ما يضر بالعمل إضراراً بينا، فصار هذا أصلاً عقده

الإجماع في الكفارة خارجاً عن الأصلين في إطلاقها فاعتبروا كمال المنفعة دون كمان الصفة، لأن المقصود بالعتق تميلك الرقبة منافع نفسها، فاعتبرنا كمال ما توجه إليه التمليك من المنافع دون الصفات، فإذا صار هذا أصلاً معتبراً انساق عليه التفريع، فقلنا: إن العوراء تجزئ بكمال منافعها؟ وإنها تدرك بإحدى العينين ما تدركه بهما، فإن قيل: فقد منع الشرع من الأضحية بالعوراء قيل: لأنه قصد به كمال اللحم واستطابته في الأضحية والعور مؤثر فيه، فمنع منه، ولم يمنع مما قصد به كمال المنفعة في العتق فأجير فيه. وإذا أجزأت العوراء في عتق الرقبة فأولي أن يجزئ عتق الحولاء والخيفاء والمقطوعة الأنف والأذنين والبرصاء، لأن كل هذه العيوب غير مضرة بالعمل، وكذلك يجزئ عتق الخرساء، وعتق الصماء، لأن عملها كامل والإشارة معها تقوم مقام النطق، فإن لم يفهما الإشارة لم يجز عتقهما، فإن الشافعي أجاز في موضع عتقهما ومنه منه في موضع آخر، وليس ذلك علي اختلاف قولين، وإنما هو علي اختلاف حالهما في فهم الإشارة، فأما إن اجتمع فيهما الخرس والصمم لم يجز، لأن اجتماعهما مؤثر من العمل ومقتضي عرفهم الإشارة ولا يجزئ عتق العمياء لأضرار العمى بالعمل، ولا يجوز عتق المقطوعة اليدين أو إحداهما ولا عتق المقطوعة الرجلين أو إحداهما، بخلاف العوراء، لأن ذهاب احدي اليدين مضر بالعمل، وكذلك إحدى الرجلين وذهاب احدي العينين غير مضر بالعمل، ويجزئ عتق العرجاء إذا كان عرجها قليلاً، ولا يجزء إذا كان كثيراً، لأن قليلة غير مضر؟ وكثيرة مضر، وتجزئ المقطوعة الخنصر أو البنصر من احدي الأطراف، أو الخناصر والبناصر من الأطراف كلها ولا يجزئ إذا اجتمع قطع الخنصر والبنصر من طرف واحد، ويجوز إن كانا من طرفين، لأن اجتماعهما مضر وافتراقهما غير مضر، ولا تجزئ المقطوعة الإبهام أو السبابة أو الوسطي، لأن قطع كل واحدة من هذه الأصابع الثلاث مضر، فأما قطع الأنملة الواحدة فيمنع منها إن كانت في الإبهام ولا يمنع منها إن كانت في غيرها من الأصابع، لأن الباقي من أنامل غير الإبهام أكثر بخلاف الإبهام والشلل في الأطراف كالقطع فما منع من القطع منع منه الشلل، وما جاز مع القطع جاز مع الشلل، فإذا لم تجز القطعاء فأولي أن لاتجزئ المقعدة ولا ذات الزمانه، وأما المريضة فإن كان مرضها مرجواً كالحمى والصداع أجزأت وإن ماتت، وإن كان مرضها غير مرجو كالسل والفالج لم تجز وإن صحت، وأما عتق الشيخ والعجوز، فعتقهما مجزئ، ما لم ينتهيا إلي الهرم المضر بالعمل، فلا يجزئ، وسواء في الأجزاء اعتق ذات الضعة وغير ذات الضعة، ويجزئ عتق الخصي والمجبوب لكمال عملهما، وكذلك يجزئ عتق الخنثي، فأما عتق الجذماء فإن كان الجذام في الأنف والأذن أو الشفة أجزأت، وإن كان في أطراف البدن والرجلين لم يجز، لأنه مضر بالعمل في الأطراف وغير مضر بالعمل في غير الأطراف ويجزئ عتق الأبرص والبرصاء لأنه غير مضر بالعمل، والله أعلم.

مسألة: قال الشافعي:"ولو اشترى من يعتق عليه لم يجزه ولا يعتق عليه إلا الوالد والمولودون". قال في الحاوي: قد ذكرنا أنم ملك أحداً من والديه أو مولودية عتق عليه، ولا يعتق عليه غيرهما من ذوى الأنساب، واعتق عليه أبو حنيفة كل ذي رحم محرم وسائر الكلام معه في كتاب العتق، وإن ما مضي في كتاب الظهار، وذكرنا أن من اشترى من يعتق عليه ناوياً به العتق عن كفارته لم تجزه، وأجازه أبو حنيفة وقد مضى الكلام معه في كتاب الظهار لكن اختلف أصحابنا في تعليل ما قاله الشافعي في المنع من إجزائه علي وجهين: أحدهما: هو أن الله تعالى أوجب عليه تحرير رقبة، وهذا يعتق عليه بغير تحرير منه، فلم يجزه لعدم ما لزمه من فعل التحرير. والثاني: أن تعليل المنع من إجزائه أن الرقبة الواحدة لا يجزئ عتقها بسببين حتى يكون مقصوراً علي أحدهما، وهذا عتق بسببين، فكان مقصوراً علي أثبتهما. مسألة قال الشافعي:"ولو اشترى رقبة بشرط يعتقها لم تجز عنه" قال في الحاوي: قد مضت هذه المسألة في كتاب البيوع إذا شتري عبداً بشرط العتق فالشافعي في البيع والشرط ثلاثة أقاويل: أحدها: أن البيع والشرط باطلان، وهو مذهب أبي حنيفة، فعلي هذا إن اعتقه عن كفارة لم يجزه، لأنه اعتق مالم يملك، وقال أبو حنيفة: يجزئه، ويكون مأخوذا بعتقه، لأجل الشرط حكاه أبو ثور عن الشافعي احتجاجاً بأن عائشة رضوان الله عليها اشترت بريرة بشرط العتق فأجاز رسول الله صلي الله عليه وسلم البيع وأمضى الشرط، فعلي هذا لا يجزئه عتقه عن كفارته، لأنه يصير عتقاً بسببين، ولا يجزئه عتقه عن كفارته، لأنه يصير عتقاً بسببين، ولا يجزئ في الكفارة إلا عتق رقبة يختص بسببها. والثالث: أن البيع جائز والشرط باطل ولا يلزمه عتقها عن غير الكفارة، فعلي هذا إن اعتقها في الكفارة ففي إجزائها وجهان: أحدهما: تجزئ، لأنه عتق بسبب واحد، وهو التكفير. والثاني: أنها لا تجزئ لأن الشرط قد أخذ من الثمر قسطاً، فصار العتق في مقابلة عوض فجرى العتق بسببين، وخرج عما انفرد عتقه عن التكفير مسألة: قال الشافعي:"ويجزئ المدبر ولا يجوز المكاتب حتى يعجز فيعتق بعد العجز

باب الصيام في كفارة الإيمان المتتابع وغيره

ويجزئ المعتق إلي سنين واحتج في كتاب اليمين مع الشاهد علي من أجاز عتق الذمي في الكفارة بأن الله عز وجل لما ذكر رقبة في كفارة فقال؛"مؤمنةٍ، ثم ذكر رقبة أخرى في كفارةٍ كانت مؤمنة لأنهما يجتمعان في أنهما كفارتان ولما رأينا ما فرض الله عز وجل علي المسلمين في أموالهم منقولاً إلي المسلمين لم يجز أن يخرج من ماله فرضاً عليه فيعتق به ذمياً مؤمناً". قال في الحاوي: أما المدبر فيجزئ عتقه عن الكفارة لبقائه علي الرق، وجواز بيعه، ومنع أبو حنيفة من أجزائه لمنعه من جواز بيعه وسائر الكلام معه في كتاب المدبر، وكذلك المعلق عتقه بصفه إذا عجل عتقه عن كفارة أجزأه سواء كانت الصفة معلقة بالزمان، كقوله: إذا هل شهر كذا فأنت حر كانت الصفة معلقة بالفعل، كقوله: إن دخلت الدار فأنت حر، وإنما أجزأه إلحاقاً له بالمدبر، كما أن بيعه يجوز كالمدبر، ولكن لو نوى فيه ان يصير بمجئ الصفة حراً عن كفارته لم يجزه لأنه يصير معتقاً بسببين، وتعجيل عتقه قبل الصفة يجعله معتقاً بسبب واحد فأما عتق أم الولد فلا يجزئ عن الكفارة. واختلف أصحابنا في تعليل هذا المنع، فقال بعضهم: التحريم بيعها، وقال آخرون: استحقاق عتقها بالولادة يجعلها معتقه بسببين وأما عتق المكاتب قبل عجزه فلا يجزئ وقال أبو حنيفة: إن لم يؤد شيئا من نجومه أجزاه، وإن أدى شيئاً منها لم يجزه، وقد ذكرناه في كتاب الظهار، فأما إن عجز عن الأداء فأعتقه بعد التعجيز أجزاه لأنه قد عاد إلي الرق في جواز البيع، وجميع الأحكام، فأما إذا اعتق شقصاً له من عبد ينوي به الكفارة، وكان موسراً عتق عليه جمعيه، وأجزأه منه قدر حصته، وفي إجزاء حصة شريكة ثلاثة أوجه: أحدها: لا يجزئه لأنه يعتق عليه بغير التكفير فصار عتقاً بسببين: والثاني: يجزئه، لأن عتقه تبع لعتق حصته، فجرى عليه حكمها في الأجزاء. والثالث: أنه إن نوى عند عتق حصته عتق جميعه عن كفارته أجزأة، وإن قصر نيته علي عتق حصته وحدها لم يجزه، وإذا أكمل عتق رقبة من عبدين اعتق من كل واحد نصفه، وفي إجزائه وجهان مضيا. وفيه رابع: أنه إن كان الباقي من كل واحد منهما حراً أجزأه، وإن كان الباقي منهما حراً أجزاه، وإن كان الباقي منهما مملوكاً لم يجزه، فأما إذا اعتق عبداً مرهوناً أو جانياً، فإن قيل ببطلان عتقهما علي ما ذكرناه من الأقاويل فيها لم يجزه، وإن قيل يجوزاه عتقهما علي ما ذكرناه من الأقاويل فيها لم يجزه، وإن قيل بجواز عتقهما أجزأه عن كفارته ثم ختم المزني الباب بالاحتجاج علي أبي حنيفة والمنع من إجزاءه عتق الكافر بما مضي وبالله التوفيق. باب الصيام في كفارة الإيمان المتتابع وغيره مسألة قال الشافعي رحمه الله:"كل من وجب عليه ليس بمشروطٍ في كتاب الله أن

يكون متتابعاً أجزأه متفرقاً قياساً علي قوله الله عز وجل ذكره: (فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) [البقرة:184] والعدة أن يأتي بعدد صوم لا ولاء وقال في كتاب الصيام أن صيام كفارة اليمين متتابع والله اعلم قال المزني رحمه الله هذا ألزم لأن الله عز وجل شرط صوم كفارة المتظاهر متتابعاً وهذا صوم كفارة مثله كما احتج الشافعي بشرط الله عز وجل رقبة القتل مؤمنه قال المزني فجعل الشافعي رقبة الظهار مثلها مؤمنه لأنها كفارة شبيه بكفارة فكذلك الكفارة عن ذنب بالكفارة عن ذنب أشبه منها بقضاء رمضان الذي ليس بكفارة عن ذنب فتفهم". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن الصوم في كفارة الإيمان مترتب لا يجزئ إلا بعد العجز عن الإطعام والكسوة والعتق لقول الله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة:89]، وهل يكون تتابع صومها شرطاً في صحتها أم لا علي قولين: أحدهما: نص عليه في كتاب الصيام، وهو قول أبي حنيفة والعراقيين واختاره المزني أن التتابع شرط في صيامها، فإن صام متفرقاً لم يجزه استدلالاً بقراءة ابن مسعود:"فصيام ثلاثة أيام متتابعات" وقراءة أبي: فصيام ثلاثة أيام متتابعة" والقراءة الشاذة تقوم مقام خبر الواحد في وجوب العمل، لأنها منقولة عن الرسول، ولأنه صوم تكفير فيه عتق، فوجب أن يكون التتابع من شرطه قياساً علي كفارة القتل والظهار، لما ذكره المزني أن من أصل الشافعي حمل المطلق علي ما قيد من جنسه كما حمل إطلاق العتق في كفارة الإيمان علي ما قيد في كفارة القتل من الإيمان فلزمه أن يحمل إطلاق هذا الصيام علي ما قيد من تتابعه في القتل. والثاني: نص عليه في هذا الموضع، وهو قول مالك والحاجزين أن التتابع استحباب وليس بواجب وأن صومه متفرقاً جائزاً استدلالاً بما ورد به القرآن من إطلاق صيامها فاقتضي الظاهر إجزاء صيامها في حالتي تتابعها وتفريقها، ولا يجب حمله علي المقيد من كفارة الظهار كما ألزمه المزني لتردد هذا الإطلاق بين أصلين يجب التتابع في أحدها وهو كفارة الظهار، ولا يجب في الآخر وهو قضاء رمضان فلم يكن أحد الأصلين في التتابع بأولي من الآخر في التفرق. ولأنه صوم يتردد موجبه بين إباحة خطر، فوجب أن لا يستحق فيه التتابع قياساً علي قضاء رمضان، فأما قراءة ابن مسعود وأبى فإنما تجرى في وجوب العمل بها مجرى خير الواحد، إذا أضيفت إلي التنزيل والي سماعها من الرسول صلي الله عليه وسلم فأما إذا أطلقت جرت مجرى التأويل دون التنزيل، ثم لو سلمت لحملت علي الاستحباب وإطلاقها علي الجواز، وأما كفارة القتل فلما تغلظ صومها بزيادة العدد تغلظ بالتتابع، ولما تخفف صوم كفارة اليمين بنقصان العدد تخفف بالتفرقة.

مسألة: قال الشافعي: "وإذا كان الصوم متتابعاً فافطر فيه الصائم أو الصائمة من ذعر وغير عذر استأنفا الصيام إلا الحائض فإنها لا تستأنف وقال في القديم: المرض كالحيض وقد يرتفع الحيض بالحمل وغيره كما يرتفع المرض قال ولا صوم فيما لا يجوز صومه تطوعاً مثل يوم الفطر والأضحى وأيام التشريق". قال في الحاوي: وصورتها أن يجب عليه صوم متتابع في كفارة قتل أو إظهار فيفطر في أثناء صيامه، وإن كان أكثر من باقية فلا يخلو فطره من أن يكون بعذر أو غير عذر، فإن أفطر بغير عذر أبطل به التتابع ولم يعتد بما تقدم من صيامه، وإن كان أكثر من باقية، واستأنف صوم شهرين متتابعين، وإن افطر بعذر فالأعذار ضربان: أحدهما: ما كان من أعذار الأبدان. والثاني: ما كان من أعذار الزمان، فأما أعذار الأبدان فأربعة أعذار: أحدها: الحيض، فهو مناف للصوم، فإذا دخلت المرأة في صيام شهرين متتابعين بكفارة قتل ثم حاضت في تضاعيفها لا يبطل به تتابع صيامها وتبني علي ما مضي من صيامها بعد انقطاع حيضها لعلتين: إحداهما: أنه فطر بعذر، لا يقدر معه علي الصيام. والثانية: أن طرق الحيض معتاد لا يسلم لها في العرف صيام شهرين لا حيض فيها. والثاني: المرض تفطر به في تضاعيف صيامها فهل ينقطع به التتابع أم لا؟ علي قولين: أحدهما: وهو القديم أنه يجوز معه البناء ولا ينقطع به التتابع كالحيض، تعليلاً بأنه فطر بعذر، لا يمكن معه الصوم. والثاني: وهو الجديد يجب معه الاستئناف، وينقطع به التتابع، تعليلاً بأنه لا يعتاد استمراره. والثالث: الفطر بالسفر. فإن قيل: إن الفطر بالمرض يقطع التتابع، فالفطر بالسفر أولي أن يقطعه. وإن قيل: إن الفطر بالمرض لا يقطع التتابع ففي قطعة بالسفر قولان: أحدهما: لا يقطعه، ويجوز معه البناء، لأنه قطر بعذرين قد جمع الله بينهما في الإباحة. والثاني: يقطع التتابع ويوجب الاستئناف، لأن فطره بالمرض ضرورة وبالسفر عن

باب الوصية بكفارة الإيمان والزكاة

اختيار، ولذلك إذ مرض في يوم كان صحيحاً في أوله أفطر، ولو سافر في يوم كان سقيماً في أوله لم يفطر. والرابع: أن يطرأ عليه في تضاعيف صيامه جنون، أو إغماء، فإن قيل في المرض يبني فهذا أولي، وإن قيل في المرض يستأنف ففي الاستئناف بالجنون والإغماء وجهان: أحدهما: يستأنف كالمريض. والثاني: يبني ولا يستأنف لأن الصوم مع المرض يصح، مومع الجنون والإغماء لا يصح وأما أعذار الزمان، فهو أن يتخلل مدة صيامه زمان لا يجوز صيامه مثل يوم الفطر، ويوم النحر، فهذا قاطع للتتابع وموجب للاستئناف، ولأن الاحتراز منه ممكن، وهكذا لو تخلل صيامه شهر رمضان قطع التتابع، فأما أيام التشريق فما تقدمه من يوم النحر قطع التتابع، فأما الابتداء بصيامها في الكفارة فقد كان الشافعي يرى في القديم جواز صيامها في كفارة تمتعه، لقول الله تعالى {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحَجِّ} [البقرة:196]، ثم رجع عنه في الجديد، ومنع صيامها للمتمتع وغيره لنهي رسول الله صلي الله عليه وسلم عن صيامها، وقوله:"إنها أيام أكل وشرب وبعال، فلا تصوموها"، فإن منع من صيامها للمتمتع، كان غير المتمتع أولي بالمنع، وإن جوز صيامها للمتمتع لم يجز أن تصام تطوعاً لغير سبب، وفي جواز صيامها بسبب موجب وجهان: أحدهما: يجوز وهو قول أبي إسحاق المروزي كالمتمتع لاشتراكهما في السبب الموجب. والثاني: لا تجزئ لأن صيام التمتع مختص بأيام الحج، وصيام غيره لا يختص بها، وأما إذا كان عليه صيام ثلاثة أيام في كفارة اليمين فإن قيل: إن التتابع فيها غير مستحق لم يمنع الفطر في تضاعيفها من جواز البناء. وإن قيل: إن التتابع فيها شرط مستحق كان الفطر فيها بالحيض قاطعاً للتتابع قولاً واحداً، بخلافه في كفارة القتل، لأن التحرز منه بصيامها في أول الطهر ممكن، لأن اقله خمسة عشر يوماً، وإن أفطر فيها بمرض، كان البناء علي قولين كفطره في كفارة القتل، لأن التحرز من هجوم المرض غير ممكن، وكذلك يكون حكم فطره بالسفر والجنون، كحكمه في كفارة القتل سواء، ولا يجزئ صومه في الكفارة إلا بنيه قبل الفجر، تجدد النية لكل يوم، والله أعلم. باب الوصية بكفارة الإيمان والزكاة مسألة قال الشافعي رحمه الله:"من لزمه حق المساكين في زكاةٍ أو كفارةٍ يمينٍ أو حج

فَذَلِكَ كُلُهُ رَاسِ مَالِهِ يُحَاصُّ بِهِ الغُرَمَاءُ". قال في الحاوي: أما أخص الحقوق بتركة الميت فهو الكفن، ومؤونة الدفن يقدم على حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين، وإن استوعبت جميع التركة، وأما غيره من الحقوق فضربان: أحدهما: ما كان من حقوق الآدميين كالديون فلا خلاف أنها لا تسقط بالموت لقول الله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، ولقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: "نفس الميت معلقة بدينه حتى يقضى" وأما حقوق الله تعالى من الزكوات والكفارات والحج والنذور فمذهب الشافعي أنها لا تسقط بالموت سواء وجبت باختياره كالكفارات والنذور أو بغير اختياره كالزكوات والحج، وقال أبو حنيفة: يسقط جميعها بالموت، وفرق بعض الفقهاء بين ما وجب باختياره فسقط بالموت وما وجب بغير اختياره فلا يسقط بالموت، وعكس بعضهم هذا فأسقط بالموت ما وجب بغير اختياره لم يسقط به ما وجب باختياره، وقد حكى الشافعي هذه المذاهب كلها في كتاب الأم، وقد قدمنا الكلام مع أبي حنيفة في كتاب الزكاة والحج بما أغنى عن الإعادة فإذا تقرر هذه الجملة لم يحل حال بعد الموت فيما لزمه من الحقوق من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون جميعها من حقوق الآدميين فهي على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يتعلق جميعها بالذمة، فجميع أربابها أسوة في التركة، إن اتسعت لها قضى جميعها، وإن ضاقت عنها تحاصوها بينهم على قدر ديونهم. والثاني: أن يكون جميعها متعلقة بالعين كالرهن، والعبد الجاني، فإن اختلفت العينان اختص كل واحد منهم بالعين التي تعلق حقه بها وإن تعلقت حقوقهم بعين واحدة اشتركوا فيها بقدر حقوقهم منها. والثالث: أن يكون بعض الحقوق ثابتًا في الذمة، وبعضها متعلقًا بالعين فيقدم ما تعلق بالعين على ما تعلق بالذمة، لأن صاحب العين قد جمع بين حقين، وتفرد صاحب الذمة بأحدهما. فصل: الثانية: أن يكون جميعها من حقوق الله تعالى فهي على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يتعلق جميعها بالذمة كالحج والكفارة والزكاة بعد تلف الحال والنذور المتعلقة بالذمة، فإن اتسعت التركة لجميعها قضيت، فإن فضل عنها شيء كان للورثة وإن استوعبت التركة فلا شيء للورثة، وإن ضاقت التركة عنها قسمت التركة على الحقوق بالحصص، فإن كان ما خرج بقسط الحج يمكن أن يحج به عنه من ميقات بلده أخرج

عنه وإن لم يكن سقط وتدبر من التركة على ما سواه من الحقوق وكذلك حكم العتق في الكفارة إذا لم يمكن فيه تخيير كالعتق في كفارة القتل والظهار إذا ضاق سقط عن تحرير رقبة سقط حكمه، وعاد على ما سواه. والثاني: أن يكون جميعها متعلقة بالعين، كالزكاة في نصاب موجود والنذور في عتق عبد معين، أو الصدقة بمال معين، فإن تغايرت الأعيان اختصت كل عين بالحق المتعلق بها، وإن اتفقت قسطت على الحقوق المتعلقة بها. والثالث: أن يختص بعضها بالذمة ويتعلق بعضها بالعين، فالمتعلق بالعين أحق أن يقدم على ما تعلق بالذمة كما ذكرنا في حقوق الآدميين. فصل: والثالثة: أن تجمع في تركته حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين فهذا على أربعة أضرب: أحدها: أن تكون حقوق الله تعالى متعلقة بالعين، وحقوق الآدميين مختصة بالذمة، فيقدم حق الله تعالى المتعلقة بالعين على حقوق الآدميين المتعلقة بالذمة. والثاني: أن تكون حقوق الله تعالى متعلقة بالذمة وحقوق الآدميين متعلقة بالعين فيقدم حقوق الآدميين على حقوق الله تعالى. والثالث: أن تكون حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين متعلقة بالذمة ففيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أن حقوق الله تعالى مقدمة على حقوق الآدميين لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: "فدين الله أحق أن يقضى" ولأنها حقوق لا تسقط بالإبراء فكانت أوكد من حقوق الآدميين الساقطة بالإبراء. والثاني: أن حقوق الآدميين مقدمة على حقوق الله تعالى لأمرين: أحدهما: أن نفوس الآدميين أشح، والله تعالى بحقوقه أسمح، ولذلك جعل لها أبدالًا وأسقطها بالشبهات. والثاني: أن مستحقيها متعينون؟ وحقوق الله تعالى لا يتعين مستحقها، وما تعين مستحقة أوكد. والثالث: أن كلا الحقين سواء لاشتراكهما في الوجوب، وتساويهما في الاستحقاق فتسقط التركة بينهما على قدر الحقين. والرابع: أن تكون حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين متعلقة بالعين، فإن تغايرت اختصت كل عين بمستحقها، وإن اتفقت في عين واحدة فقد أشار أبو علي بن أبي هريرة إلى وجهين: أحدهما: أنه يكون على الأقاويل الثلاثة كالمتعلق بالذمة.

والثاني: أنه يقدم فيها حقوق الآدميين على حقوق الله تعالى قولًا واحدًا لأنها في أيديهم. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَإِنْ أَوْصَى بِأَنْ يُعْتَقَ عَنْهُ فِي كَفَّارَةٍ فَإِنْ حَمَلَ ثُلْثُهُ العِتْقَ أُعْتِقَ عَنْهُ فَإِنْ لَمْ يَحْمِلْهُ الثُّلُثُ أُطْعِمَ عَنْهُ مِنْ رَاسِ مَالِهِ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا مات وعليه كفارة لم يخل حالها أن تكون على الترتيب أو على التخيير، كانت على الترتيب مثل كفارة القتل والظهار لم يخل حالة فيها من أن يوصى بها أو لا يوصى فإن لم يوص أخرجت الكفارة من رأس ماله، فإن احتمل العتق صار من أهله فأعتق عليه، وإن لم تحتمل تركته العتق صار معسرًا به، فلا يعدل عنه إلى الصيام؟ لأنه لا تصح منه النيابة، وعدل عنه إلى الإطعام وإن أوصى بالتكفير عنه لم يخل حاله في الوصية من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يجعله من رأس ماله فيكون من أصل التركة وتكون الوصية به تأكيدًا. والثانية: أن يجعله من ثلثه فتصير الوصية في الثلث، وهو بها مرفه على ورثته، فإن وفي العتق من الثلث، وإلا كمل من رأس المال. والثالثة: أن يطلق الوصية به ولا يسميه من رأس المال ولا من الثلث ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يكون من رأس المال حملًا للوصية على التأكيد. والثاني: يكون من الثلث حملًا للوصية على التأثير والترفيه. والثالث: أن ينظر فإن قرن له في الوصية بما يكون في الثلث، صار العتق في الثلث، وإن قرن به ما يكون من رأس المال صار العتق من رأس المال اعتبارًا بالجمع. فصل: فإن كانت الكفارة على التخيير مثل كفارة اليمين لم يخل حاله فيها من أن يوصى بها أو لا يوصى، فإن لم يوص بها وجب أن يخرج من رأس ماله أقل الأمرين من الإطعام أو الكسوة فإن عدل الوارث إلى أعلاهما أجزأه، وإن عدل عنهما إلى العتق ففي إجزائه وجهان: أحدهما: يجزئ لأنه يقوم في التكفير مقام الموروث فاستحق التخيير. والثاني: أنه لا يجزئ لأنه أدخل في ولاية من لا يستحق عتقه، ويشبه أن يكون هذان الوجهان مخرجين من اختلاف الوجهين فيما أوجبه التخيير في كفارة اليمين.

باب كفارة يمين العبد بعد أن يعتق

فإن قيل بوجوب أحدهما لا بعينه لم يجز العتق لأنه لم يتعين في الوجوب، وإن قيل: إنه موجب لجميعها وله إسقاط وجوبها بإخراج أحدها أجزأ، وإن وصى بالتكفير عنه، فإن لم يتعين مما يكفر به كان كمن لم يوص فيما يكفر به عنه، فيكون على ما مضى، وتكون الوصية إذكارًا أو توكيدًا، وإن عين ما يكفر به عنه لم يخل ما عينه من أحد ثلاثة أحوال: أحدها: أن يعين الإطعام الذي هو أقل فيكفر عنه بالإطعام ويكون من رأس المال إلا أن يجعله في الثلث فيصير بالوصية من الثلث. والثانية: أن يوصى بالكسوة وهو فوق الإطعام ودون العتق، فيكون ما زاد على قيمة الإطعام من الثلث، وهل يصير قدر قيمة الإطعام بذلك من الثلث أم لا؟ على وجهين نذكرهما. والثالثة: أن يوصى بالعتق فيكون ما زاد على قيمة الإطعام من العتق من الثلث. وفي قدر قيمة الإطعام وجهان: أحدهما: يكون في الثلث أيضًا، فيصير جميع قيمة العتق من الثلث، فإن امتنع له الثلث أعتق عنه، وإن ضاق الثلث بطلت الوصية بالعتق، وأطعم عنه من رأس المال، ولم يجز أن يقيم قيمة الإطعام إلى ما عجز عنه الثلث من العتق ليستكمل به جميع العتق هذا هو الأظهر في مذهب الشافعي، والمعول من قول أكثر أصحابه. والثاني: وهو محكي عن أبي العباس بن سريج وأبي إسحاق المروزي أنه يجعل في الثلث من قيمة العتق ما زاد على قيمة الإطعام، ويكون قدر قيمة الإطعام مستحقًا من رأس المال لاستحقاق إخراجه من غير وصية، فإذا ضاق الثلث عن قيمة العتق، وكان في قيمة الإطعام ما يستكمل به قيمة العتق أعتق عنه، وإن عجز عن قيمة العتق بطلت الوصية بالعتق وعدل عنه إلى الإطعام الذي هو فرضه من غير وصية ويكون من رأس ماله، لأن الثلث محل الوصايا دون الفروض والله أعلم. باب كفارة يمين العبد بعد أن يعتق مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "لَا يُجْزِئ العَبْدُ فِي الكَفَّارَةِ إِلَّا الصَّوْمَ لأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ مَالًا". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا وجبت على العبد كفارة يمين أو إظهار أو قتل لم يجزه إذا لم يملكه السيد مالًا أن يكفر إلا بالصيام؛ لأنه لا يقدر على المال وهو أسوأ حالًا من الحر المعسر الذي يصح منه تملك المال وإن ملكه السيد مالًا لم يكن له أن يكفر به إن لم يأذن له السيد في التكفير به سواء حكم له بملك المال أو لم يحكم لأنه

محجور عليه في حق السيد وإن أذن له أن يكفر بالمال فقد اختلف قول الشافعي في العبد هل يملك إذا ملك أم لا؟ على قولين: أحدهما: يملك إذا ملك وبه قال في القديم وهو مذهب مالك والحجازيين. والثاني: لا يملك وإن ملك قال في الجديد، وهو مذهب أبي حنيفة والعراقيين وقد مضى توجيه القولين في غير موضع. فإن قيل: بالجديد أن لا يملك لم يكفر إلا بالصيام، ولا يجوز أن يكفر بإطعام ولا كسوة ولا عتق، وإن قيل بالقديم أنه يملك إذا ملك جاز أن يكفر بالإطعام والكسوة لقدرته عليه مع ملكه، وفي جواز تكفيره بالعتق وجهان: أحدهما: يجوز كالإطعام والكسوة والثاني: لا يجوز لما فيه من استحقاق الولاء الذي لا يستقر له عليه ملك ولا يثبت له به ولاية ولا إرث، وإذا قيل بجوازه على الوجه الأول ففي ولائه قولان: أحدهما: للسيد. والثاني: أنه موقوف على ما يفضي إليه حاله من عتق فيصير الولاء له أو يموت على رقه، فيكون لسيده، وهكذا حكم المدبر وأم الولد والمعتق بالصفة فأما المكاتب فإن قيل: إن العبد لا يملك إذا ملك لم يكن له أن يكفر إلا بالصيام وإن أذن له السيد ففي جوازه تكفيره بالمال قولان: أحدهما: يجوز كالعبد وليس بأسوأ حالًا منه. والثاني: لا يجوز أن يكفر إلا بالصيام، وإن كان العبد أن يكفر بالمال، لأن ملك السيد لمال مكاتبه ضعيف، فضعف إذنه معه، وملكه لما عبده قوي فقوي إذنه معه. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَصُومَ إِلَّا بِإِذْنِ مَوْلَاهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَا لَزِمَهُ بِإِذْنِهِ وَلَوْ صَامَ فِي أَيْ حَالٍ أَجْزَأَهُ". قال في الحاوي: وصورتها: أن يجب على العبد الصيام في كفارة يمين، فلا يخلو حاله إذا أضر الصيام بخدمة السيد في عقد يمينه وحنثه من أربعة أحوال: أحدها: أن يحلف بإذن سيده ويحنث بإذنه فللعبد أن يصوم عن الكفارة بغير إذنه، لأن موجب الكفارة عن إذنه. والثانية: أن يحلف بغير إذنه ويحنث بغير إذنه فليس للعبد أن يصوم إلا بإذن سيده، لما فيه من التقصير في خدمته. والثالثة: أن يحلف بغير إذنه، ويحنث بإذنه، فللعبد أن يصوم بغير إذنه،

لأن وجوب الصيام بإذنه. والرابعة: أن يحلف بإذنه ويحنث بغير إذنه ففي جواز صيامه بغير إذنه وجهان: أحدهما: لا يجوز لأن عقد يمينه بإذنه فصار ما أفضى إليه من الحنث داخلًا في حكم إذنه، كما لو أذن لعبده في النكاح كان إذنًا له بالنفقة. والثاني: لا يجوز أن يصوم إلا بإذنه لأن عقد اليمين مانعة من فعل الحنث، فلم يجز أن يجري عليه حكم الإذن. فصل: وإذا كان ممنوعًا من الصوم إلا بإذن سيده على ما فصلناه، لم يحل من أن يكون الصوم فيه مؤثرًا في الضعف كالصيف أو غير مؤثر فيه كالشتاء، فإن كان الزمان صائفًا يؤثر في ضعف الصائم، فهو الممنوع من الصيام فيه إلا بإذن سيده، وإن كان الزمان شاتيًا لا يؤثر صيامه في ضعفه ففيه وجهان: أحدهما: أنه لا يلزمه استئذان سيده في صيامه لعدم تأثيره في عمله. والثاني: يلزمه استئذان وللسيد منعه، لأنه وإن قل تأثيره في إضعافه، فالفطر أنشط لعمله، وأبلغ في توفره، فإن خالف العبد في الموضع الذي نهى عن الصيام إلا بإذن سيده فصام بغير إذنه أجزأه لأنها عبادة لا يقف انعقادها على إذنه فصحت، وإن جاز للسيد منعه منها كالحج. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ حَنَثَ ثُمَّ أَعْتَقَ وَكَفَّرَ كَفَّارَةَ حُرٍّ أَجْزَأَهُ لأَنَّه حِينَئِذٍ مَالِكٌ وَلَوْ صَامَ أَجْزَأَهُ لأَنَّ حُكْمَهُ يَوْمَ حَنَثَ حُكْمُ الصِّيَامِ قَالَ المزْنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ قَدْ مَضَتِ الحُجَّةُ أَنَّ الحُكْمَ يَوْمَ يُكَفِّرُ لَا يَوْمَ يَحْنَثُ كَمَا قَالَ إِنَّ حُكْمِهِ فِي الصَّلَاةِ حِينَ يُصَلِّي كَمَا يُمْكِنُهُ لَا حِينَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ". قال في الحاوي: وصورتها في عبد حلف في حال رقه ثم حنث وأعتق فلا يخلو حال حنثه من أحد أمرين: إما أن يكون في رقه أو بعد عتقه. فإن حنث بعد عتقه، فهو في الكفارة كالحر لوجوبها عليه، وهو حر، فإن كان موسرًا كفر بالمال، وإن كان معسرًا كفر بالصيام، فإن عدل عنه إلى المال أجزأه سواء كان إطعامًا أو عتقًا، وإن حنث في حال رقه وقبل عتقه ولم يكفر حتى أعتق، فإن كان بعد عتقه معسرًا كفر بالصيام، وإن كان موسرًا فعلى قولين:

أحدهما: لا يكفر إلا بالمال من إطعام أو كسوة أو عتق إذا قيل: إن المعتبر بالكفارة حال الأداء، أو أغلظ الأمرين من حال الوجوب أو حال الأداء. والثاني: يجوز أن يكفر بالصيام إذا قيل: إن المعتبر بالكفارة حال الوجوب. فإن أراد أن يعدل عن الصيام إلى المال من إطعام أو كسوة أو عتق، فإن قيل: إن العبد يجوز أن يكفر بالمال على قوله في القديم أنه يملك إذا ملك، كان بعد عتقه أولى بالجواز، وإن قيل إنه لا يجوز للعبد أن يكفر بالمال على قوله في الجديد أنه لا يملك إذا ملك، فهل يجوز له بعد عتقه أن يكفر بالمال على وجهين: أحدهما: يجوز، لأنه عند تكفيره حر فأشبه الحر المعسر. والثاني: لا يجوز، لأنه لو أراد التكفير بالمال عند الوجوب لم يجزه، بخلاف الحر المعسر الذي لو كفّر بالمال أجزأه فلزمه استصحاب هذا الحكم بعد عتقه لاستقرار وجوبه في حال رقه فصار في محصول تكفيره ثلاثة أوجه: أحدها: لا يكفر إلا بالمال والثاني: لا يكفر إلا بالصيام. والثالث: أنه مخير بين التكفير بالمال أو الصيام. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ وَنِصْفِهِ عَبْدٌ وَنِصْفُهُ حُرٌّ وَكَانَ فِي يَدَيْهِ مَالٌ لِنَفْسِهِ لَمْ يُجْزِئْهُ الصَّوْمُ وَكَانَ عَلَيْهِ أَنْ يُكَفِّرَ مِمَّا فِي يَدَيْهِ لِنَفْسِهِ قَالَ المَزْنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ إِنَّمَا المَالُ لِنِصْفِهِ الحُرِّ لَا يَمْلِكُ مِنْهُ النِّصْفَ العَبْدُ شَيْئًا فَكَيْفَ يُكَفِّرُ بِالمَالِ نِصْفُ عَبْدٍ لَا يَمْلِكُ مِنْهُ شَيْئًا فَأَحَقُّ بِقَوْلِهِ أَنَّهُ كَرَجُلَ مُوسِرٍ بِنِصْفِ الكَفَّارَةِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا الصَّوْمَ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ". قال في الحاوي: قال المزني: إذا حنث عن نصفه حر ونصفه عبد لم يخل حاله من أن يكون بنصفه الحر موسرًا أو معسرًا، فإن كان معسرًا ففرضه التكفير بالصيام، لأنه لما صام بالإعسار مع كمال حريته كان صيامه مع تبعيض الحرية أولى، وإن كان بنصفه الحر موسرًا فقد قال الشافعي ها هنا: كفر بالمال فقلب حكم الحرية على حكم الرق في الكفارة، وإن كان يغلب حكم الرق على حكم الحرية في النكاح والطلاق والنفقة والميراث والشهادة: فاختلف أصحابنا في كفارته على ثلاثة أوجه: أحدها: وهو قول طائفة منهم أنه يكفر بالمال على قوله في القديم أنه يملك إذا ملك وعليه خرج الجواب فأما على قوله في الجديد: إنه لا يملك إذا ملك فلا يكفر إلا بالصيام. والثاني: قاله المزني وساعده غيره من أصحابنا أنه لا يكفر إلا بالصيام على القولين

باب جامع الأيمان

معًا، وأن ما ذهب إليه الشافعي من تكفيره بالمال مخالف لأصوله من وجهين: أحدهما: أنه لما غلب فيما عدا الكفارة حكم الرق على الحرية وجب أن يكون كذلك في الكفارة. والثاني: ما ذكره المزني من أن نقصان المكفر إذا كان بعضه حرًا مملوكًا كنقصان التكفير إذا وجد بعض الإطعام وعدم بعضه، فوجب أن يكون عجزه ببعض بدنه مع قدرته على جميع الكفارة كعجزه عن بعض الكفارة مع قدرته بجميع بدنه. والثالث: وهو ظاهر المذهب وما عليه جمهور أصحابنا أنه لا يكفر إلا بالمال على القولين معًا تغليبًا لحكم الحرية على الرق وإن غلب حكم الرق على الحرية في غير الكفارة، استدلالًا بقول الله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ} [النساء: 92] وهذا واحد فلم يجزه الصيام، ولأن تكفير الحر الموسر بالمال، وتكفير العبد القن بالصوم، فلم يخل حال من تبعضت فيه الحرية والرق، من ثلاثة أحوال، إما أن يغلب حكم الحرية من تكفير المال، أو يغلب حكم الرق في تكفيره بالصيام، أو ببعض تكفيره بالمال والصيام بحسب ما فيه من حرية ورق، وقد أجمعوا على إبطال التبعيض فلم يبق إلا تغليب أحدها فكان تغليب الحرية على الرق في التكفير بالمال أولى من تغليب الرق على الحرية في التكفير بالصيام من وجهين: أحدهما: أنه لما تغلب حرية بعضه في السراية إلى عتق جميعه تغلب حكمها في تكفيره. والثاني: أن التكفير بالمال أصل، وبالصيام بدل، ولذلك كان لمن فرضه الصيام أن يكفر بالمال ولم يجز لمن فرضه المال أن يكفر بالصيام فكان تغليب ما أوجب الأصل من المال أولى من تغليب ما أوجب البدل من الصيام، أما تغليب الرق فيما سوى ذلك من الأحكام، فلأن تبعيض الحرية والرق موجب لتغليب أغلظ حكميه، فكان أغلظهما من الكفارة حكم الجزية، وأغلظهما فيما عداها حكم الرق. وأما الجواب عما استدل به المزني من أن نقصان المكفر كنقصان الكفارة، فهو أن نقصان الكفارة مفضٍ إلى التبعيض فسقط، ونقصان المكفر موجب لكمال الكفارة، وافترقا في النقص لافتراقهما في الموجب، والله أعلم بالصواب، وبالله التوفيق. باب جامع الأيمان مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: "وَإِذَا كَانَ فِي دَارٍ فَحَلَفَ أَنْ لَا يَسْكُنَهَا أَخَذَ فِي الخُرُوجِ مَكَاَنُه وَإِنْ تَخَلَّفَ سَاعَةً يُمْكِنُهُ الخُرُوجُ مِنْهَا فَلَمْ يَفْعَلْ حَنَثَ".

قال في الحاوي: وهذا كما قال، إذا كان ساكنًا في دار فحلف أن لا يسكنها فإن بادر بالخروج منها عقيب يمينه بر ولم يحنث وإن توقف عن الخروج مع القدرة عليه حنث، سواء قل مقامه، أو كثر وشرع في إخراج رجله، أو لم يشرع، وقال مالك: إن أقام بعد يمينه يومًا وليلة حنث، وإن أقام أقل من يوم وليلة لم يحنث لأنه لا ينطلق عليه اسم السكنى إلا باستكمال هذا الزمان، وقال أبو حنيفة: إن أقام لنقل رحله وجمع متاعه لم يحنث وإن أقام لغير ذلك حنث، لأنه بإخراج متاعه مفارق لحكم السكنى، وقال زفر بن الهذيل: قد حنث بنفس اليمين، ولا يبر أن يبادر بالخروج، لأنه مقيم على السكنى قبل مفارقتها. ودليلنا هو أن استدامة المقام فيها سكنى لاستصحاب ما تقدم من حاله فحنث لانطلاق اسم السكن عليه بخلاف ما قال مالك وأبو حنيفة، وإذا بادر بالخروج فهو تارك ولا يكون ترك الفعل جاريًا مجرى الفعل، لأنهما ضدان، فيبطل به قول زفر، ثم يقال لمالك وأبي حنيفة: قد وافقتما أنه لو حلف لا أقيم في هذه الدار فلبث فيها بعد يمينه حنث وكذلك إذا حلف لا يسكنها، لأن المقام فيها سكنى والسكنى فيها مقام، ويتحرر هذا الاستدلال قياسًا فيقال: إن ما حنث به في المقام حنث به في السكنى قياسًا على اليوم والليلة مع مالك وعلى من أمسك عن جميع رحله وقياسه مع أبي حنيفة. مسألة: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "فَيَخْرُجُ بِبَدَنِهِ مُتَحَوِّلًا وَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يَتَرَدَّدَ عَلَى حَمْلِ مَتَاعِهِ وَإِخْرَاجِ أَهْلِهِ لأَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِسُكْنَى". قال في الحاوي: اختلف الفقهاء فيمن حلف لا يسكن دارًا هو ساكنها بماذا يبر في يمينه على أربعة مذاهب: أحدها: وهو مذهب الشافعي أنه يبر إذا انتقل منها ببدنه ولا اعتبار بنقل عياله وماله. والثاني: وهو مذهب مالك أنه لا يبر إلا أن ينتقل ببدنه وعياله، ولا اعتبار بنقل ماله. والثالث: وهو مذهب أبي حنيفة: أنه لا يبر، حتى ينتقل ببدنه وعياله وماله؟ فمتى خلف أحدها حنث. والرابع: وهو مذهب محمد بن الحسن أن بره معتبر بنقل بدنه وعياله، وأن ينقل من ماله ما يستقل به، وإن خلف فيها ما لا يستقل به من سكانها بر، وإن خلف ما يستقل به في سكانها حنث، واستدلوا على اختلاف مذاهبهم في أن البر لا يختص ببدنه دون عياله

وماله بأمرين: أحدهما: أن من استضاف رجلًا ببدنه لم ينسب إلى السكنى عنده لخروجه عن عرف السكنى، فصار العيال والمال من جملة السكنى. والثاني: أن من خلف عياله وماله في داره، وخرج منها إلى دكانه، أو بستانه لا يشار بسكناه إلى مكانه ويشار به إلى داره المشتملة على عياله ماله. ودليلنا قول الله تعالى {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ} [إبراهيم: 37] فكان بالشام وولده وأمه بمكة، فلم يخرج عن سكنى الشام، وإن كان عياله في غيرها. ولأنه لو جاز أن يكون ساكنًا فيها بعد الانتقال عنها ببدنه، لبقاء عياله وماله لوجب إذا سافر ببدنه أن يكون كالمقيم في المنع من قصره، وفطره، فلما أجرى عليه حكم السفر وجب أن يجري عليه حكم الانتقال، ولأن المتمتع بالعمرة إلى الحج لو أقام بمكة كان كالمستوطن لها في سقوط الدم عنه، وإن كان عياله وماله في غيرها فدل على أن الاعتبار ببدنه دون عياله وماله، وقد قال الشافعي أنا مقيم بمصر، وأهلي وولدي وكتب بمكة أفتراني ساكن بمكة، لأنه علق يمينه بفعله فوجب أن يكون حكمها موقوفًا عليه دون غيره، لأن الأحكام تتعلق بحقائق الأسماء. وأما الجواب عن استشهادهم بالضيف فهو أنه نزلها ضيفًا، فلم ينطلق عليه اسم السكنى، وإن كان مع عياله وماله وليس كذلك إذا قصد السكنى فكان اختلاف الاسمين لاختلاف المقصدين موجبًا لاختلاف الحكمين، وبمثله يجاب عن استشهادهم الثاني من الخارج إلى دكانه وبستانه. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا من شرط بره أن يكون معتبرًا بتعجيل خروجه بنفسه لم يخل حاله من أن يكون قادرًا على الخروج أو ممنوعًا، فإن كان ممنوعًا من الخروج، إما لحبسه في داره المغلق أبوابه، أو لتقييده وإمساكه أو لزمانته، وهو لا يجب من يحملها منها لم يحنث ما كان باقيًا على عجزه ومنعه، لأن وجود المكنة شرط في الأفعال المستحقة وخرج فيها أبو علي بن أبي هريرة قولًا آخر أنه يحنث من اختلاف قوليه في حنث الناس، وليس بصحيح لما عللنا. وإن كان قادرًا على الخروج فتوقف للبس ثيابه التي جرت عادته في الخروج بها لم يحنث ولو توقف لأكل أو شرب حنث، وكذلك لو توقف لطهارة أو صلاة حنث، لأنه لم يقدر على فعل ذلك في غيرها إلا أن يضيق عليه وقت الصلاة، ويعلم أنه إن خرج منها فاتته فلا يحنث بالصلاة، لأن الشرع قد منعه من الخروج قبل الصلاة فكان أوكد من منع المخلوقين، ولو توقف فيها لغلق أبوابه، أو إحراز ما يخاف عليه تلفه من أمواله، فإن

كان يقدر على استنابة أمين فيه حنث، وإن لم يقدر على الاستنابة لم يحنث على الصحيح من المذهب، لأن أخذه في ذلك شروع في الخروج، ويحتمل وجهًا آخر أنه يحنث، لأنه منع لا يختص ببدنه، وإن قدر على الخروج وارتفعت عوارض المنع حنث بقليل المقام وكثيره فإن كان لخروجه بابان يقرب من أحدهما ويبعد من الآخر كان مخيرًا في الخروج من أيهما شاء، ولا يحنث بالخروج من أبعدهما، لأنه أخذ في الخروج وإن بعد مسلكه، فإن صعد إلى علوها للخروج من سطحهما، وله باب يخرج منه حنث؛ لأنه بالصعود في حكم المقيم، ولو لم يقدر على الخروج من بابه لم يحنث بالصعود للخروج. فصل: وإذا خرج منها، ثم عاد إليها لنقل عياله، أو ماله، سواء قدر على الاستنابة في ذلك، أو لم يقدر، لأنه لا يكون بالعود بعد الخروج لنقل أهل، أو رحل ساكنًا، فإن لبث بعد العود لغير نقل أهل أو رحل حنث، قل زمانه لبثه أو كثر، ويراعى في لبثه لنقل الرحل والأهل وما جرى به العرف من غير إرهاق، ولا استعجال. فإن قال: (أردت بيميني لا سكنت هذه الدار شهرًا) فإن كانت بالله، حملت على ما نواه ظاهرًا أو باطنًا لأنها مختصة بحق الله الذي يحمل فيه على نيته، وإن كانت بطلاق، أو عتاق حمل على التأبيد في ظاهر الحكم لوجود خصم فيه، وكان في الباطن مدينًا فيما بينه وبين الله تعالى، ومحمولًا على ما نواه، ولو قال (لا سكنتها يومًا، كانت معلقة إلي مثل وقته من غده، ولو قال: (لا سكنتها يومي هذا) انقضت بغروب الشمس من يومه، يكون في الأولة مستوفيًا اليوم، وفي الثانية مستوفيًا لبقية اليوم: لوقوع الفرق بين الإطلاق والتعيين. مسألة: قَالَ الشّافِعِيُّ: {وَلَوْ حِلْفً أَنَّ لَا يُسَاكِنْهُ وَهُوَ سَاكِنٌ فَإِنَّ أَقَامَا جَمِيعًا سَاعَةُ يُمْكِنُهُ التَّحْوِيلَ عَنْه حِنْثً}. قال في الحاوي: أما المساكنة فهي المفاعلة بين اثنين، فأكثر، فإذا حلف "لا ساكنت فلانًا" فاليمين منعقدة على أن لا يجتمعا في مسكن واحد، وبر الحالف بخروج أحدهما، فإن خرج الحالف، وبقى المحلوف عليه، بر وإن خرج المحلوف عليه، وبقى الحالف بر وإن خرجا معًا كان أوكد في البرد، وإن بقيا فيها معًا، حنث الحالف، وإن قال: "والله لا سكنت مع زيد" فقد ذهب بعض أصحابنا البصريين أحسبه "أبا الفياض" إلى أن اليمين تكون متعلقة بفعل الحالف وحده، فإن خرج الحالف بر، وإن خرج المحلوف عليه، لم يبر، لأنه أضاف الفعل إلى نفسه، وهكذا لو قال: "والله لا سكن معي زيد" كان تعلق البر بفعل المحلوف عليه وحده، فإن خرج المحلوف عليه بر، وإن خرج

الحالف لم يبر، لأنه أضاف الفعل إلى المحلوف عليه إلى نفسه وفرق بين هذين وبين المساكنة، وهذا وإن كان له وجه فهو ضعيف والصحيح أنه يبر في هذه المسائل الثلاث بخروج أحدهما، لأن اليمين معها معقودة على الإجماع فيها، وبخروج أحدهما يزول الاجتماع، فوجب أن يقع له البر، والله أعلم. فصل: ولو قال: والله لا سكنت زيدًا وعمرًا بر بخروج أحدهما. ولو قال: والله لا ساكنت زيدًا، ولا عمرًا، لم يبر بخروج أحدهما، لأن كل واحد منهما محلوف عليه، وكان بره بخروجه دونهما، أو بخروجهما معًا دونه، وفي الأولى يبر بخروجه، أو بخروج أحدهما لأن يمينه في الأولى معقودة على الاجتماع، وفي الثانية معقودة على الإفراد والله أعلم. مسألة: قَالَ الشّافِعِيُّ:" وَلَوْ كَانَا فِي بَيْتَيْنٍ فَجَعَلَ بَيَّنَهُمَا حَدًّا وَلِكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْحَجَرَتَيْنِ بَابً فَلَيْسَتْ هَذِهٍ بِمُسَاكَنَةٍ وَإِنَّ كَانَا فِي دَارِ وَاحِدَةٍ وَالْمُسَاكَنَةَ أَنْ يَكُونَا فِي بَيْتٍ أَوْ بَيْتَيْنِ حُجْرَتِهُمَا وَاحِدَةٍ وَمَدْخَلُهُمَا وَاحِدٌ وَإِذَا اِفْتَرَقَ الْبَيْتَانِ أَوْ الْحَجَرَتَانِِ فَلَيْسَتْ بِمساكِنَةٍ إلّا أَنْ يَكُونُ لَهُ نِيَّةٌ فَهُوَ عَلَى مَا نَوَى، فَإِنَّ قَيَّلَ مَا الْحُجَّةُ فِي أَنَّ النُّقْلَةَ بِبَدَنِهِ دُونَ مَتَاعِهِ وَأُهِلُّهُ وَمَالَهُ؟ قَيَّلَ أَرَأَيْتِ إِذَا سَافِرِ أَيَكُونُ مَنْ أهْلُ السَّفَرِ فَيَقْصُرُ؟ أَوْ رَأَيْتِ لَوْ اِنْقَطَعَ إلى مَكَّةٍ بِبَدَنِهِ أَيَكُونُ مِنْ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامَ الَّذِينَ إِنَّ تُمَتِّعُوا لَمْ يَكُنْ عَلِيُّهُمْ دَمٍ؟ فَإِذَا قَالٍ نَعَمْ فَإِنَّمَا النُّقْلَةَ وَالْحُكْمَ عَلَى الْبَدَنِ لَا عَلَى مَالِ وَأَهُلُّ وَعِيَالَ". قال في الحاوي: وهذا كما قال، إذا حلف لا يساكنه، وقد جمعتهما دار واحدة لم يخل حالهما في وقت اليمين من أن يكونا مجتمعين أو غير مجتمعين، فإن لم يكونا مجتمعين وكانا خارجين، أو أحدهما فقسمت الدار بينهما بحائط بنى في وسطها، وسكن كل واحد منهما أحد الجانبين بباب مفرد، يدخل ويخرج منه، بر في يمينه، وليست هذه مساكنة، وإنما هي مجاورة، وإن كانا في وقت اليمين مجتمعين فشرعا في بناء حائط بينهما، حنث، لأنها قبل كمال ما يقع بينهما متساكنان ولو كان في الدار حجرة، فسكن أحدهما في الحجرة، والآخر في الدار نظر فإن كان باب الحجرة إلى الدار، حنث لأنهما متساكنان، وإن انفردت الحجرة بباب غير باب الدار نظر، فإن كان بابها إلى الدار مسدودًا بر، وإن كان بابها إلى الدار مفتوحًا حنث، ولو كان في الدار حجرتان فسكن كل واحد منهما في إحدى الحجرتين، فإن لم تكن الدار مع واحد منهما بر، وإن كان باب كل واحد منهما إلى الدار صارت كالخان الذي فيه حجر فلا يحنث إذا سكن كل واحد منهما

في حجرة من الخان، كذلك الدار، وإن كانت الدار مع أحدهما، فهو علي ما مضى إذا كان في الدار حجرة واحدة، فإنه لا يبر حتى تنفرد الحجرة عن الدار بباب للدخول والخروج منها بعد قطع ما بين الحجرة والدار. ولو كانا في دار واحدة فاختص كل واحد منهما ببيت منها، فإن كانت الدارة صغيرة، حنث لأنها مسكن واحد، وإن كانت واسعة فإن اعتزلا الدار، وتفرط بالبابين منها بباب يغلق كل واحد منهما على نفسه، بر وصارا كساكن بيتين من خان جامع، فلا يحنث بسكني كل واحد منهما في بيت منه، كذلك في علوها، وسكن الآخر في سفلها، فإن كان مدخلهما ومخرجهما واحدًا حنث، إن انفرد كل واحد منهما بمدخل ومخرج وانقطع ما بين العلو والسفل بر. فصل: قال الشافعي: " إلا يكون له نية، فهو على ما نوى" يريد بذلك أن ما بينه من اعتزالهما في حجرتين، أو بيتين من دار، إذا كانت يمينه مطلقة على المساكنة، فأما إذا اقترنت بنية ألا يجاوره في موضع أو في محلة، أو في قبيلة، أو في بلد كانت على يمينه محمولة علي ما نواه، ولا يبر بانفرادهما في حجرتين من دار، ثم ذكر الشافعي رضي الله عنه على أن الانتقال بالبدن دون العيال، والمال مزيل لحكم السكنى، والمساكنة وقد ذكرناه. مسألة: قَالَ الشّافِعِيُّ:" وَلَوْ حِلْفً لَا يَدْخُلْهَا فرمى فَوْقَهَا لَمْ يَحْنَثْ حَتَّى يَدْخُلَ بَيْتًا مِنْهَا أَوْ عَرْصَتَهَا". قال في الحاوي: وهذا كما قال، إذا حلف لا يدخل الدار فرقى سطحها والسطح غير محجز لم يحنث. وقال أبو حنيفة: يحنث احتجاجًا، بأنه من حقوقها، وإن سورها محيط به فأشبه قرارها. ودليلنا شيئان: أحدهما: أن السطح حاجز فأشبه سورها، فصار الراقي عليه كالراقي علي السور، وقد وافق علي أنه لا يحنث، بارتقائه علي السور، كذلك يجب أن لا يحنث بارتقائه على السطح. والثاني: هو أن الدار حرز لما فيها، يقطع سارقه، وما فوق السطح ليس بمحرز، ولا قطع علي سارقه، فلما خرج عن حكم الحرز في القطع وجب أن يخرج عن حكم الدار في الحنث.

واستدلالهم بأنه من حقوقها يبطل بارتقائه على سورها. واستدلاله بأنه محيط بها كالسور فصحيح، لكن ما فوق السطح جار مجرى ما وراء السور. فصل: فأما إذا كان علي السطح تحجيز، فهو علي ضربين: أحدهما: أن يكون غير مانع كالقصب، وما ضعف من الخشب، فلا يحنث بارتقائه عليه. والثاني: أن يكون مانعًا ببناء يمتنع بمثله ويتحرز من بناء أو خشب وثيق فقد اختلف أصحابنا في حنثه بارتقائه على ثلاثة أوجه: أحدهما: يحنث ويشبه أن يكون قول أبى إسحاق المروزي، لأن إحاطة السطح بالدار تحجز عما فوقه. والثاني: يحنث وهو قول أبي علي بن أبي هريرة، لأن السترة محيطة بالدار، فأشبهت السور. والثالث: وهو طريقة أبي الفياض إن كانت السترة عالية يحجز مثلها، لو كان في العرصة حنث، وإن كانت السترة قصيرة لا يحجز مثلها، لو كان في العرصة، لم يحنث، ولو كان في السطح غرفة فدخلها يحنث، ولو نزل من السطح إلى مرقاة من درجتها الداخلة فيها، حنث، ولو صعد من درج الدار إلى سطحها، والدرجة خارج الدار معقودة، أو غير معقودة، فإن لم يدخل في سور الدار، لم يحنث وإن دخلت في سور الدار، حتى تجاوزته في الدخول حنث، وإن لم تتجاوز حد السور لم يحنث، وإن رقى على شجرة الدار، وأغصانها في الدار، وعدل عن أغصانها الداخلة لم يحنث، وإن صار فوق أغصانها الداخلة نظر فيها فإن كانت الأغصان فوق السطح لم يحنث، وإن كانت دون السطح حنث، ولو جلس خارج الدار في ماء يجري إلى الدار، فحمله الماء إليها حنث، وصار الماء كالدابة، إذا ركبها فأدخلته الدار حنث، لأنه يصير بهما داخلًا، إلى الدار، ولو رقى على سورها فألقته الريح إليها لم يحنث، إن بادر بالخروج منها، لأن دخولها من غير فعله، ولو أدخل إحدى رجليه من باب الدار دون الأخرى، لم يحنث، لأن الدخول لم يكمل، ولو ثقب حائط الدار، ودخل إليها من ثقبها، حنث، إلا أن يكون له نية أن لا يدخلها من بابها، فيحمل على ما نواه، ولا يحنث بالدخول من غير الباب، والله أعلم. مسألة: قَالَ الشّافِعِيُّ:" وَلَوْ حِلْفً لَا يَلْبَسْ ثَوْبًا وَهُوَ لَابِسُهُ وَلَا يَرْكَبُ دَابَّةً وَهُوَ رَاكِبُهَا

فَإِنَّ نَزْعً أَوْ نُزَلْ مَكَانَهُ إلّا حِنْثً وَكَذَلِكً مَا أَشِبْهُه". قال في الحاوي: أعلم أن ما حلف عليه من الأفعال ينقسم إلي ثلاثة أقسام: أحدها: ما يحنث فيه بابتداء الفعل، واستدامته، وهو خمسة أشياء: السكنى، واللباس، والركوب، والغصب، والجماع، فإذا حلف لا سكنت دارًا حنث بأن يبتدئ سكناها، وحنث بأن يكون ساكنًا فيها، فيستديم يسكناها إلا أن يبادر بالخروج منها. ولو حلف لا لبست ثوبًا حنث بأن يبتدئ لباسه، وحنث أن يكون لابسه، فيستديم لباسه إلا أن يبادر بنزعه. ولو حلف "لا يركب دابة، حنث" بان يبتدئ ركوبها وحنث بأن يكون راكبًا، فيستديم ركوبها إلا أن يبادر بالنزل عنها، ولو حلف: لا غصبت مالًا، حنث، بأن يبتدئ بالغصب، وحنث بأن يكون غاصبًا، فيستديم الغصب إلا أن يبادر برده. ولو حلف لا جامعت، حنث بأن يبتدئ الجماع، وحنث بأن يكون مجامعًا، فيستديم الجماع إلا أن يبادر بالإخراج. وإنما حنث في هذه الخمسة بالابتداء والاستدامة لأن اسم الفعل منطلق عليه في الحالين، فاستوي حكمها في الحنث. والثاني: ما يحنث بابتداء الفعل، ولا يحنث باستدامته، وهو خمسة أشياء النكاح، والإحرام، والرهن، والشراء، والوقف، فإذا حلف لا ينكح، وقد نكح. وأن لا يحرم وقد أحرم، أو لا يرهن، وقد رهن، أو لا يقف وقد وقف، لم يحنث، حتى يستأنف نكاحًا، وإحرامًا، ورهنًا، وشراء، ووقفًا، لأنها عقود فلم يحنث باستدامتها لتقدم العقد فيها. والثالث: ما اختلف هل تكون الاستدامة فيه كالابتداء، وهو ثلاثة أشياء: الدخول، والطيب، والسفر، هلي يكون الاستدامة كالابتداء فإذا حلف لا دخلت هذه الدار حنث بأن يستأنف دخولها، إذا كان خارجًا، وفي حنثه باستدامة دخولها، إذا كان فيها قولان. أحدهما: وهو مقتضى نصه في كتاب الأم. وقال أبو عبد الله الزبيري أنه يحنث، باستدامة جلوسه فيها لما كما يحنث باستئناف دخولها، كالسكنى، وقد قال الشافعي: لو حلف لا يدخلها فأكره على دخولها، فإن عجل الخروج منها بعد المكنة، لم يحنث وإن أقام حنث، فجعل استدامة الدخول كالدخول. والثاني: نص عليه في كتاب حرملة، وقاله أبو العباس بن سريج، لا يحنث باستدامة الدخول، حتى يستأنفه، لأن الدخول يكون بعد خروج. ولو حلف لا تطيبت حنث بأن يستأنف الطيب، وفي حنثه باستدامة طيب متقدم ثلاثة أوجه: أحدها: يحنث باستدامته، لأنه منسوب إلى التطيب.

والثاني: لا يحنث بالاستدامة، لأنه لم يستحدث فعلًا. والثالث: أنه إن كان أثر طيبه باقيًا، حنث، وإن بقيت الرائحة دون الأثر لم يحنث، وهى طريقة أبي الغياض اعتبارًا ببقاء العين، وزوالها ولو حلف لا يسافر، حنث بأن يستأنف السفر طويلًا، كان أو قصيرً فأما إذا حلف وهو مسافر، فله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يأخذ في العود من سفره، فلا يحنث، لأنه قد أخذ في ترك السفر. والثانية: أن يكون باقيًا على وجهه في السفر، فيحنث باستدامة مسيره، لأن أخذ في السفر. والثالثة: أن يقيم مكانه من سفره، ففي حنثه باستدامته وجهان: أحدها: يحنث كالتوجه لبقائه على السفر. والثاني: لا يحنث لكفه عن السير، فصار كالعود. وكل ما لم نسمه فهو معتبر بما سميناه من هذه الأقسام، فيكون ملحقًا بأشبهها به والله أعلم. مسألة: قَالَ الشّافِعِيُّ:" وَإِنَّ حِلْفً لَا سَيُكَنُّ بَيْتًا وَهُوَ بِدَوى أَوْ قروي وَعَلَا نِيَّةً لَهُ فَأَيُّ بَيْتٍ مِنْ شِعْرٍ أَوْ أَدَمً أَوْ خَيْمَةً أَوْ بَيْتٌ مِنْ حَجَّارَةٍ أَوْ مُدِرًّ أَوْ مَا وَقْعٌ عَلَيه اِسْمُ بَيْتِ سَكَنِهِ حِنْثٍ". قال في الحاوي: أعلم أن بيوت السكني تختلف من وجهين: أحدها: باختلاف الأحوال. والثاني: باختلاف العادات. فأما المختلف باختلاف الأحوال فللبوادي بيوت النقلة من الأدم، والشعر، لأنهم ينتجعون في طلب الكلأ، فيسكنون من البيوت ما ينتقل معهم في النجعة من الخيام، والفساطيط، ولأهل القرى بيوت الاستقرار فيسكنون ما يدوم ثبوته في أوطانهم من الأبنية المستقرة، وأما ما يختلف باختلاف العادات، فهو أن بيوت أهل الأمصار لتشيدها، وقسمة مساكنها، مخالفة لبيوت أهل القرى في ذهابها، واحتلال قسمها وتختلف العادات، فمنهم من يبني بالأحجار والنورة، ومنهم من يبنى بالآجر والجص، ومنهم يبني بالبن والطين، ومنهم من يبني بالخشب، ومنهم من يبني بالقصب، واختلاف العادات، لا تؤثر في الأيمان وجميعا بيوت لمن اعتادها، ومن لم يعتدها، فإذا حلف لا يسكن بيتًا، حنث بسكنى كل بيت منها، وإن لم يعتد سكناه من حجر أو أجر أو طين أو خشب، أو قصب، محكم يدوم على مر السنين، ولا يحنث أن يسكن بيوت الرعاة من

الهشيم، والجريد، والحشيش، لأنه يستدفع له أذى وقت من حر أو برد، ولا يستدم سكناها، فأما إن سكن مسجدًا أو حمامًا، لم يحنث لأمرين: أحدهما: أن انطلاق اسم البيت عليهما مجاز لا حقيقة. والثاني: أنهما لا يسكنان في العرف، فلهذا لم يحنث لسكناهما. فصل: وأما ما اختلف باختلاف الأحوال من بيوت النقلة للبوادي وبيوت الاستقرار لأهل الأمصار، فلا يختلف مذهب الشافعي وسائر أصحابه، أن بيوت الاستقرار، من أبنية أهل الأمصار والقرى يحنث الحالف بسكناها بدويًا، كان أو قرويًا لأمرين: أحدهما: انطلاق اسم الحقيقة عليها، ووجود عرف الاستعمال فيها، فاقترن بحقيقة الاسم عرف الاستعمال. وأما بيوت النقلة من خيم الشعر، وفساطيط الأدم فقد قال الشافعي يحنث بسكناها البدوي، والقروي، فلم يختلف أصحابه أن الحالف لا يسكن بيتًا، إذا كان بدويًا حنث بسكناها، لانطلاق اسم الحقيقة عليها ووجود عرف الاستعمال فيها، وإن كان الحالف قرويًا، فقد اختلف أصحابه هل يحنث بسكناها، وحمل كلام الشافعي على أهل قرى عربية، يسكن أهلها بيوت المدر تارة، وبيوت الشعر أخرى، فأما من لا يسكن إلا بيوت المدر فلا يحنث بسكنى بيوت الشعر والأدم وبه قال أبو حنيفة لخروجها عن العرف والعادة، كما لو حلف لا يأكل رؤوسًا لم يحنث، برؤوس الطير والجراد، حتى يأكل رأس النعم من الإبل، والبقر، والغنم، وإن انطلق اسم الحقيقة على جميعها اعتبارًا بالعرف والعادة، وكذلك لو حلف لا يأكل بيضًا لم يحنث ببيض السمك والجراد، وإن انطلق اسم البيض عليها حقيقة، حتى يأكل من البيض ما فارق بائضه حيًا اعتبارًا بالعرف. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي: وأكثر المتأخرين أنه يحنث القروي بسكناها، كما يحنث البدوي لأمرين: أحدهما: انطلاق اسم الحقيقة عليها. والثاني: اقتران عرف الاستعمال فيها، وإن خرجت عن عادة الحالف لوجودها في غيره كما حنث البدوي بسكنى بيوت المدر. وإن خرجت عن عادته، لوجودها في غيره، وكما لو حلف عراقي من أهل اليسار، أن لا يأكل خبزًا حنث بخبز الذرة، والأرز، وإن خرج عن عرفه وعادته، لوجودها في غيره فلا يعتبر في الأيمان عادة الحالف إذا وجدت في غيره، ويعتبر في الوكالة عادة الموكل دون غيره، فإذا وكله في شراء الخبز، وعادته أكل البر فاشترى له حب الأرز لم يلزمه، ولو حلف لا يأكل الخبز وعادته أكل البر فأكل حب الأرز حنث.

مسألة: قَالَ الشّافِعِيُّ:" وَإِنَّ حِلْفً أَنَّ لَا يَاكُلْ طَعَامًا اِشْتَرَاهُ فُلَانٌ فَاِشْتَرَاهُ فُلَانٌ وَآخِرَ مَعَه طَعَامًا وَلَا نِيَّةً لَهُ فَأُكْلً مِنْه لَمْ يَحْنَثْ". قال في الحاوي: وهو كما قال: إذا حلف لا يأكل طعامًا اشتراه زيد، فاشترى زيد وعمرو طعامًا صفقة واحدة، فأكل منه لم يحنث. وقال أبو حنيفة: يحنث احتجاجًا بأمرين: أحدهما: أنه قد أكل طعامًا قد اشتراه زيد، وعمرو، فوجب أن يحنث كما لو اشترياه في صفقتين. والثاني: إلزام لنا أنه لما أجرى الشافعي على اجتماعهما في الشراء حكم الصفقتين في انفراد كل واحد منهما، بالرد بالعيب، وجب أن يجري عليه حكم الصفقتين في الحنث. ودليلنا شيئان: أحدهما: أن الشراء عقد إذا اشتركا فيه، لم ينفرد أحدهما به واختص كل واحد منهما في العرف بنصفه، فلم تكمل الصفة، فلم يقع الحنث، لأن الأسماء في الأيمان يختص بالعرف. والثاني: أن كل جزء من الطعام لم يختص الحالف بشرائه، فإن قل فوجب ان لا يقع له الحنث كما لو حلف، لا دخلت دار زيد فدخل دارًا بين زيد وعمرو، أو حلف لا يلبس ثوب زيد، فلبس ثوبًا بين زيد وعمرو لم يحنث بوفاق أبي حنيفة، كذلك يلزمه أن لا يحنث بطعام اشتراه زيد وعمرو. فإما الجواب عن استدلاله بالشراء في صفقتين مشاعًا فهو أن كل جزء من أجزاء الطعام قد اشتري زيد نصفه، بعقد تام فوجد شرط الحنث، وإذا كان بعقد واحد فهو مشترك، فلم يكمل شرط الحنث فافترقا. وأما الجواب عما ذكره من الرد بالعيب، فهو أن الأيمان والأحكام وإن اشتركا في اعتبار الأسماء فقد افترقا في غيرها، فاعتبر العرف في الأيمان واعتبر المعنى في الأحكام، فصار هذا الفرق مانعًا من اشتراكهما في تعلق الحكم بهما على سواء. فصل: فإما إذا اشترى زيد طعامًا انفرد به، واشترى عمرو طعامًا انفرد به، وخلطاه فأكل منه الحالف، ففي حنثه ثلاثة أوجه: أحدها: وهو قول أبى سعيد الإصطخري أنه لا يحنث بحال، وإن أكل جميع

الطعامين، لأن الاختلاط المحلوف عليه بغيره خارج في العرف عن اسم الانفراد، فخرج عنه من حيث الأيمان، حتى قال أبو سعيد الإصطخري: لو حلف لا يأكل جبنًا فأكل خبزًا وجبنًا لم يحنث، وزعم من نص قوله بأن الشافعي قد نص في الجامع الكبير: "أنه لو حلف لا يأكل زيتًا فأكل خبزًا وزيتًا لم يحنث"، وهذا المحكي عنه في الجامع الكبير سهو من حاكيه، والموجود في الجامع الكبير للمزني عن الشافعي: "أنه لو حلف لا أكل خبزًا وجبنًا فأكل خبزًا وزيتًا، لم يحنث" ورد بهذا القول على مالك حيث حنثه بذلك فهذا وجه. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه إذا اختلط الطعامان وكانا متساوين في القدر فأكل منهما أكثر من النصف حنثه، لعلمنا أنه قد أكل مما اشتراه زيد، وإن أكل أقل من النصف، لم يحنث للاحتمال وجواز أن لا يكون قد أكل ما اشتراه زيد، لأن الحنث لا يقع بالاحتمال، والجواز. والثالث: مذهب البصريين ويشبه أن يكون قول أبي علي بن أبي هريرة أنه إن كان كالمانع في الامتزاج، وإن كان متميزًا مثل التمر، والرطب، لم يحنث، حتى يأكل منه أكثر من النصف لدخول الاحتمال في المتميز، وانتفائه عن الممتزج. وقد قال الشافعي: "لو حلف على تمرة أن لا يأكلها فوقعت في تمر كثير. فأكله كله إلا تمرة لم يحنث" لجواز أن تكون الباقية هي التمرة المحلوف عليها. فصل: ولو حلف لا يأكل طعامًا اشتراه زيد، فأكل من طعام ورثه زيد، أو استو هبه، لم يحنث، لأنه جعل الشراء شرطًا في الحنث. وقال مالك: يحنث، لأن المقصود ملك زيد، ولو كان زيد في الشراء وكيلًا، فأكل منه الحالف لم يحنث، لأن الشراء من غيره، وحنثه مالك، لأنه من ملكه ولو توكل زيد لغيره فاشترى طعامًا لموكله، حنث الحالف بأكله، وإن لم يملكه زيد، لأن اليمين معقودة على الشراء، دون الملك، وهذا إذا كانت اليمين مطلقة فأما إن كانت له نية فإنه يحمل في الحنث على نيته. مسألة: قَالَ الشافعي:" وَلَوْ حِلْفً لَا يَسْكُنُ دَارً فُلَانٌ هَذِهٍ بِعَيْنِهَا فَبَاعَهَا فُلَانٌ حِنْثً بأَيْ وَجْهُ سَكَنِهَا إِنَّ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَإِنَّ كَانَتْ نِيَّتُهُ مَا كَانَتْ لِفُلاَنٍ لَمْ يَحْنَثْ إِذَا خَرَجْتِ مَنْ مَلَكَهُ".

قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا حلف على دار زيد أن لا يسكنها ولا يدخلها فذلك ضربان: أحدهما: أن يعين الدار فيقول لا دخلت دار زيد هذه، فتكون اليمين منعقدة على عين الدار، وتكون إضافتها آلي زيد تعريفًا فإن دخلها، وهى على ملك زيد حنث، بإجماع، وإن دخلها بعد أن باعها زيد حنث عندنا وهو مذهب مالك، ومحمد بن الحسن، وزفر تغليبًا لحكم العين دون الإضافة. وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: لا يحنث بزوال ملك زيد عنها، وجعل إضافتها إلى زيد شرطًا في عقد اليمين احتجاجًا بأمرين: أحدهما: أن المقصود بهذه اليمين قطع الموالاة، وإظهار العداوة والدار لا توالي ولا تعادي فصار صاحبها مقصودًا، فكان بقاء ملكه في اليمين شرطًا. والثاني: أنه لما كان دخولها موقوفًا على إذنه، وجب أن يكون بقاء ملكه شرطًا في حنثه. ودليلنا شيئان: أحدهما: أن اليمين إذا تعلقت بعين مضافة وجب أن يغلب حكم العين على الإضافة، ويقع بهما الحنث مع زوال الإضافة كما لو حلف لا يكلم زوجة زيد، فطلقها زيد حنث بكلامها، تغليبًا للعين على الإضافة، كذلك إذا قال: لا دخلت هذه الدار، التي لزيد، وجب أن يحنث بدخولها وإن خرجت عن ملك زيد، فإن قيل: الزوجة توالي وتعادي فغلب حكم العين على الإضافة، والدار لا توالي ولا تعادي، فغلب حكم الإضافة على العين. قيل: اعتبار هذا التعليل في إيقاع الفرق بين الفرع، والأصل باطل في الفرع بأن يقول: لا دخلت الدار من غير إضافة، فيحنث بدخولها، وإن كانت الدار لا توالي ولا تعادي وباطل في الأصل بأن يقول لا كلمت عبد زيد فحنث عنده بكلامه، إذا باعه زيد، وإن كان العبد لا يوالي ولا يعادي وإذا بطل التعليل في الأصل والفرع سقط. والثاني: أن العين إذا أضيفت آلي صفة، كانت الصفة تعريفًا ولم تكن شرطًا، كما لو قال: لا كلمت هذا الراكب، لم يكن بقاء ركوبه شرطًا في حنثه، وحنث بكلامه راكبًا، ونازلًا لأنهما إضافة تعريف، كذلك دار زيد وقد مضى الجواب عن استدلالهم بالموالاة، والمعاداة. فالجواب عن استدلالهم بأن دخولها موقوف على إذن مالكها، فهو أن الإذن في الدخول غير معتبر في البر، والحنث، فكان أولى لا يعتبر به مستحق الإذن والله أعلم. فصل: والثاني: أن يعين الدار بأن يقول: لا دخلت دار زيد، فتكون اليمين منعقدة على ملك زيد للدار، فأي دار دخلها، وزيد مالكها حنث بدخولها فإن باعها زيد بعد ملكه

لها، فدخلها الحالف لم يحنث بوفاق. والفرق بين الإطلاق والتعيين، أن عدم العين في الإطلاق أوجب عقد اليمين على الإضافة، ووجود العين في التعيين، أوجب عقدها على العين ألا تراه لو أسلم في ثوب هروي. كان العقد مختصًا بالصفة، ولو اشترى هذا الثوب الهروي، كان العقد مختصًا بالعين دون الصفة، فإن وجده هرويًا لم يبطل البيع، فإن حلف لا يدخل دار زيد، فدخل دارًا بين زيد وعمرو لم يحنث قل سهم زيد فيها، أو كثر، لأن ملكه لم يكمل وإن أعار زيد داره، أو رهنها حنث، بدخولها، لبقائها على ملكه، ولو وقفها لم يحنث لخروج الوقف عن ملك واقفه، ولو دخل استأجرها زيد من مالكها، لم يحنث بدخولها لأن حقيقة الإضافة محمولة على الملك دون اليد والتصرف وهذا مع إطلاق يمينه، وإن حنثه مالك بهذا كله فأما إذا كانت له نية، فحنثه محمول على نيته، والله أعلم. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُهَا فَانْهَدَمَتْ حَتَّى صَارَتْ طَرِيقًا لَمْ يَحْنَثْ لأَنَّهَا لَيْسَتْ بِدَارٍ". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا حلف، لا يدخل هذه الدار، فانهدمت وصارت عراصًا، فدخلها لم يحنث، وهكذا لو حلف لا يدخل هذا البيت، فانهدم، وصار براحًا لم يحنث. وقال أبو حنيفة: إذا دخل عرصة الدار بعد انهدامها حنث، وإذا دخل عرصة البيت بعد انهدامه، لم يحنث فوافق في البيت، وخالف في الدار، إلا أن يبني مسجدًا أو حمامًا، أو يجعل بستانًا، استدلالًا بأن اسم الدار ينطلق على العرصة بعد ذهاب العمارة، كما ينطلق عليها مع العمارة كما يقولون هذه ديار عاد، وديار ثمود، وديار ربيعة، وديار مضر، وإن ذهبت عمارتها، وبقيت عراصها، وهو واضح في أشعار العرب قال النابغة: يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الأَمَدِ وقال لبيد: عَفَتْ الدِّيَارُ مَحَلُّهَا فَمُقَامُهَا بِمِنًى تَأَبَّدَ غَوْلُهَا فَرَجَامُهَا فَمَا هَا دَارًا بَعْدُ أَقْوَاتُهَا والعفا: الدرس فسماها ديارًا بعد دروسها، فكان بقاء الاسم على عرصها موجبًا، لوقوع الحنث، بدخولها، ولأنه لو انهدم من سورها، فأدخل منه آلي عرصة ضمنها حنث، وإن لم يدخل في بناء ولا صار في عمارة فكذلك إذا انهدم جميع بنائها حنث بدخول عرصتها.

ودليلنا هو أن ما تناوله الاسم مع البناء زاله عنه حكم الحنث بذهاب البناء، كالبيت فإن قيل: البيت لا يسمى بعد انهدامه بيتًا، وتسمى الدار بعد انهدامها دارًا بطل بقول الله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا} [النمل: 52]. فسماها بعد الخراب بيوتًا، ولأن ما منع من الحنث بدخول عرصة البيت، منع منه بدخول عرصة الدار، كما لو بنى العرصة مسجدًا، ولأن أبا حنيفة قد وافقنا أنه لو حلف لا يدخل دارًا، ولم يعينها، فدخل عرصة دار قد انهدم بناؤها لم يحنث كذلك إذا عينها. وتحريره أن كل ما لا يتناوله الاسم الحقيقي، مع عدم التعيين، لم يتناوله مع وجود، التعيين كالبيت. فإن قيل: قد فرق الشرع في الأيمان بين التعيين والإبهام، لأنه لو حلف فقال: لا جلست في سراج فجلس في الشمس لم يحنث، وإن مساها الله تعالى سراجًا، ولو عين، فقال: لا جلست في هذا السراج إشارة إلى الشمس حنث بجلوسه فيها، ولو حلف لا جلست على بساط فجلس على الأرض لم يحنث وإن سماها الله تعالى بساطًا، ولو عين، فقال: لا جلست على هذا البساط مشيرًا إلى الأرض، فجلس عليها حنث فصارت الشمس سراجًا مع التعيين، وإن لم تكن سراجًا مع الإبهام وصارت الأرض بساطًا مع التعيين، وإن لم تكن بساطًا مع الإبهام، كذلك وجب أن تكون العرصة دارًا مع التعيين، وإن لم تكن دراً مع الإبهام، قلنا: ليس يفترق التعيين، والإبهام في حقائق الأسماء، فإن اسم السراج ينطلق على الشمس مجازًا في الإبهام، والتعيين، واسم البساط ينطلق على الأرض مجازًا في الإبهام، والتعيين، وإنما جعل التعيين مقصودًا والاسم مستعارًا، فإذا أبهم الاسم اعتبر فيه الحقيقة، دون المجاز المستعار والتعيين، في الدار توجه إلى شيئين جمعهما حقيقة الاسم وهي العرصة والبناء، فإذا ذهب البناء زال شطر العين، فارتفع حقيقة الاسم ولأن الإبهام، إذا حلف لا دخلت دارًا، أعم من التعيين، وإذا حلف لا دخلت هذه الدار، لأنه يحنث في الإبهام بدخول دار، ولا يحنث في التعيين إلا بدخول تلك الدار فلما ارتفع بالهدم حكم الأعم، كان أولى أن يرتفع به حكم الأخص. فأما الجواب عن قولهم بأن اسم الدار ينطلق عليها بعد انهدامها هو أن الاسم ينطلق عليها بعد الهدم على أحد وجهين: إما على الاستعارة والمجاز، والأيمان تراعي فيها حقائق الأسماء دون مجازها، وإما لأنها كانت دارًا فاستصحب اسمها اتساعًا، والأسماء في الأيمان معتبرة، بالحال دون ما سلف، كما لو حلف لا كلمت عبدًا فكلمه معتقًا، ثم يقال لأبي حنيفة هذا الاستدلال، والتعيين يفسد بالإطلاق في الإبهام، وأما استدلاله بدخوله إلى صحنها من هدم من سورها، فنشرح من مذهبنا فيه ما يكون انفصالًا عنه، وهو أنه ليس يخلو حال ما انهدم منها، وبقي من ثلاثة أقسام: أحدها: أن لا يمنع من سكنى شيء منها، فيحنث بدخوله من المستهدم والعامر.

والثاني: أن يمنع بالهدم من سكنى الباقي، وسكنى المستهدم، فلا يحنث بدخول ما بقي، ولا بدخول ما أنهدم. والثالث: أن يمنع الهدم من سكنى ما استهدم، ولا يمنع من سكنى ما بقي على عمارته، ولم يستهدم فلا يحنث بدخول المستهدم منها، ويحنث بدخول الباقي من عامرها، ولو انهدمت بيتونها، وبقي سورها، فإن كان السور مانعًا لعلوه حنث بدخوله، وإن كان غير مانع لقصره فالصحيح أنه لا يحنث بدخوله، وخرج بعض أصحابنا وجهًا آخر فمن حلف لا يدخل الدار، ورقا على سطحها أنه يحنث، إذا كانت عليه سترة وليس هذا التحريم صحيحًا، لأن السطح ممتنع بسكنى أسفله، فجاز أن يكون قصر سترته مانعًا فخالف الباقي من سترة الدار. فصل وإذا انهدمت الدار المحلوف عليها فبينت مسجدًا، أو حمامًا، لم يحنث بدخوله، سواء كان البناء بتلك الآلة، أو بغيرها لزوال اسم الدار عنها، وإن أعيد بناؤها دارًا، لم يخل أن تبنى بتلك الآلة، أو بغيرها، فإن بنيت بغير تلك الآلة، لم يحنث، لأنه دخل غير تلك الدار، وإن بنيت الآلة ففي حنثه بدخولها وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة، لا يحنث، لأن غير ذلك البناء يجعلها غير تلك الدار. والثاني: يحنث لأن تلك العرصة، وتلك الآلة تجعلها تلك الدار وجرى تغيير بنائها، مجرى تغيير سقوفها وأبوبها. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلْ مِنْ بَابِ هَذِهِ الدَّارِ فِي مَوْضِعٍ فَحَوَّلَ لَمْ يَحْنَث إِلَّا أَنْ يَنْوِي أَنْ يَدْخُلَهَا فَيَحْنَثَ". قال في الحاوي: اعلم أنه لا يخلو حال من حلف، لا يدخل هذه الدار من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يطلق يمينه في دخولها، ولا يسمى موضع دخوله إليها، فيحنث بدخولها من بابها، وغير بابها، من ثقب فيها أو جدار تسوره، حتى دخلها لأن عقد اليمين في الإطلاق مقصور على الدخول، دون المدخل. والثاني: أن يحلف "لا دخلتها من هذا الباب" فإن دخلها منه حنث، وإن دخلها من باب استحدث لها، لم يحنث، سواء فعل ذلك الباب من الأول إلى المستحدث، أو ترك وحكي أبو حامد الإسفراييني عن بعض أصحابنا أنه إن نقل باب الأول إلى الثاني،

حنث بدخول الثاني دون الأول، وإن ترك على الأول حنث بدخول الأول، ولم يحنث بدخول الثاني، فجعل الباب معتبرًا بالخشب المنحوت دون الفتح المعقود، والذي عليه جمهور أصحابنا هو المعول عليه من مذهب الشافعي أن الباب معتبر بالفتح المقعود، دون الخشب المنصوب، لأن الباب على ما يكون منه الدخول، والخروج، وذلك من الفتح المعقود، فكان أحق بالاسم من الخشب المنصوب. والثالث: أن يحلف لا دخلت هذه الدار من بابها، ولا يشير إلى باب بعينه، فإن تسور عليه من جدارها، أو دخل من ثقب في حائطها لم يحنث، وإن دخل من بابها الموجود لها وقت يمينه حنث، وإن استحدث لها باب غيره فدخل منه ففي حنثه وجهان: أحدهما: وهو ظاهر ما نص عليها الشافعي في هذا الموضع، أنه لا يحنث وبه قال أبو علي بن أبي هريرة لأن اليمين انعقدت على باب موجود، فكان شرطًا في الحنث، كما لو حلف: "لا دخلت دار زيد" فباعها زيد لم يحنث. والثاني: وهو أظهرهما وبه، قال أبو إسحاق المروزي أنه يحنث لأن الحادث باب لها فصار داخلًا من بابها فصار كما لو حلف "لا دخلت هذه الدار التي لزيد" فباعها زيد، حنث بدخولها، فيكون نص الشافعي محمولًا على تعين الباب دون إبهامه. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبًا وَهُوَ رِدَاءٌ فَقَطَعَهُ قَمِيصًا أَوْ اتْتَزرَ بِهِ أَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ سَرَاوِيلَ فَئْتَزَرَ بِهِ أَوْ قَمِيصًا فَارْتَدَى بِه فَهَذَا كُلُّهُ لُبْسٌ يَحْنَثُ بِهِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ نِيَّةٌ فَلَا يَحْنَثُ إِلَّا عَلَى نِيَّتِهِ". قال في الحاوي: وهذه مسألة اختلط فيها كلام أصحابنا، حتى خبطوا خبط عشواء، وسنذكر ما يسره الله تعالى، وأرجو أن يكون بالصواب مقرونًا، فإذا حلف لا يلبس ثوبًا، وهو على صفة، فلبسه وهو على خلافها، كمن حلف لا يلبس ثوبًا هو رداء فائتتزر به، أو قطعه قميصًا، أو حلف لا يلبس قميصًا، فارتدى به، أو قطعه سراويل أو حلف لا يلبس سراويل، فائتزر به، أو حوله منديلًا أو حلف لا يلبس طيلسانًا، فتعمم به، أو قطعه ملبوسًا، فلا يخلو حال يمينه من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يعقدها على عين الثوب، ويلغي صفته، وصفة لبسه، فهذا يحنث على أي حال لبسه، وعلى أي صفة لبسه مع تغير أحواله، وأوصافه اعتبارًا، بعقد اليمين على عينه، دون صفته، وهذا مما اتفق أصحابنا عليه. والثاني: أن يعقد يمينه على صفة الثوب وصفة لبسه فحنث يلبسه إذا كان على حاله، وعلى الصفة المعتادة في لبسه، ولا يحنث أن يجعل الإزار قميصًا، أو اتزر به،

ولا إن جعل القميص سراويل، أو ارتدى به ولا أن جعل السراويل منديلًا، أو اتزر به، حتى يجمع في لبسه بين بقائه على صفته، وبين المعهود في لبسه، اعتبارًا بما عقد يمينه عليه، من الجمع بين الأمرين، وهذا مما اتفق أيضًا عليه أصحابنا. والثالث: وهو الذي اختلط فيه الكلام، واختلف فيه الجواب وهو أن يعقد يمينه على الإطلاق، فيقول: لا لبست هذا الثوب، أو هذا القميص، أو هذه السراويل، فيغيره عن صفته، أو يلبسه على غير عادته، فقد اختلف أصحابنا فيما يقع به حنثه على ثلاثة أوجه: أحدها: وهو الظاهر من مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يحنث بلبسه على أي صفة كانت، فإن غير القيمص سراويل أو ارتدى به أو غير السراويل منديلًا، أو اتزر به حنث وهو قول الجمهور من أصحابنا، تغليبًا لحكم العين على الصفة ولحكم الفعل على العادة، وقد نص بقوله، فهذا كله ليس يحنث به، ويكون قوله: لا لبست ثوبًا وهو رداء من كلام الشافعي صفة للثواب، وليس من كلام الحالف شرطًا في الحنث، لأن الحالف لو قال: "هذا لم يحنث إذا لبسه وهو غير رداء". والثاني: وهو منسوب إلى المزني، وطائفة من متقدمي أصحابنا أنه لا يحنث بلبسه، إذا غيره عن صفته، ولا إذا لبسه على غير عادته، فإن جعل الرداء قميصًا، أو القميص سراويل، وارتدى بالقميص أو اتزر بالسراويل، لم يحنث، حتى يتقمص بالقميص، ويتسرول بالسراويل، ويرتدي بالرداء، فيجمع بين بقائه على صفته، وبين لبسه على عادته، حتى حكى عن المزني، أنه قال لو حلف لا يلبس خاتمًا، فلبسه في غير الخنصر من أصابعه لم يحنث، لأنه عدل به عن عادة لبسه، والعرف ولعادة في الأيمان شرط معتبر، ولأن المحرم ممنوع من لبس القميص والسراويل، ولو ارتدى بالقميص واتزر بالسراويل، جاز ولم يكفر وتأول قائل هذا الوجه كلام الشافعي، فهذا كله ليس بحنث على النفي أي لا يحنث به وهذا التأويل لكلامه زلل من قائله، لأن الشافعي قال بعده، إلا أن تكون له نية ولا نحسبه إلا على نيته، وهذا استثناء ضد حكم المستثنى منه فهذا الاستثناء نفي فلم يجز أن يعود إلى نفي، لأنه إنما يستثنى النفي من الإثبات، ويستثنى الإثبات من النفي، فدل على فساد هذا التأويل، وإن كان لما قاله من الحكم وجه. والثالث: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه إن كانت يمينه على الثوب حنث بلبسه على جميع الأحوال، فإن اشتمل به أو ارتدى أو تعمم، أو قطعه قميصًا أو سراويل حنث، وإن كانت يمينه على قميص لم يحنث إذا غيره فجعله سراويل، أو ارتدى به، ولم يتقمص، وفرق بين اسم الثوب والقميص بأن اسم الثوب عام، ينطلق على كل ملبوس، ولا يزول عنه اسم الثوب وإن تغيرت أوصفاه، واسم القميص خاص، يزول عنه اسم القميص إذا غيره فجعل سراويل، أو يخرج عن العرف، إذا لبس على غير المعهود من

الارتداء به فلم يحنث بتغيير لبسه، ولا بتخيير قطعه، لوقوع الفرق بينهما ببقاء الاسم على الثوب إذا غير لعمومه وزواله عن القميص، إذا غير لخصوصه ومن حكي عن أبي إسحاق غير هذا حرف عليه، لأن شرحه دار على ما ذكرنا. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ حَلَفَ لَا يَلْبَسُ ثَوْبَ رَجُلٍ مَنَّ عَلَيْهِ فَوَهَبَهُ لَهُ فَبَاعَهُ وَاشْتَرَى بِثَمَنِهِ ثَوْبًا لَبِسَهُ لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا أَنْ يَلْبَسَ الَّذِي حَلَفَ عَلَيْهِ بَعَيْنِهِ وَإِنَّمَا أَنْظُرُ إلى مَخْرَج اليَمِينِ ثُمَّ أَحْنُث صَاحِبَهَا أَوْ أَبُّرُهُ وَذَلِكَ أَنَّ الأَسْبَابَ مُتَقَدِّمَةٌ وَالأَيْمَانُ بَعْدَهَا مُحَدَّثَةٌ قَدْ يَخْرُجُ عَلَى مِثَالِهَا وَعَلَى خِلَافِهَا فَأُحْنِثُهُ عَلَى مَخْرَجِ يَمِينِهِ أَرَأَيْتَ رَجُلًا لَوْ كَانَ قَالَ وَهَبْتُ لَهُ مَالِي فَحَلَفَ لِيَضْرِبَنَّهُ أَمَا يَحْنَثُ إِنْ لَمْ يَضْرِبْهُ؟ وَلَيْسَ يُشْبِهُ سَبَبَ مَا قَالَ؟ ". قال في الحاوي: اعلم أن عقد الأيمان ضربان: أحدهما: ما ابتدأ الحالف عقد يمينه على نفسه من غير أن يتقدمها سبب يدعو إليه، فيقول مبتدأ والله لا كلمت زيدًا فلا يحنث بغير كلامه، أو يقول: لا أكلت طعامه، فلا يحنث بغير أكل طعامه، أو لا لبست له ثوبًا، فلا يحنث بغير لبس ثيابه، أو لا ركبت له دابة، فلا يحنث بغير ركوب دوابه، وهذا متفق عليه، لم يخالفنا مالك في شيء وتكون اليمين مقصورة على اقتضاه الاسم من خصوص وعموم. والثاني: أن تتقدم اليمين أسباب دعت إليها مثل أن يمن عليه رجل بإحسان أوصله إليه، أو بمال أنعم به عليه، فبعثه ذلك على اليمين فيقول والله لا لبست لك ثوبًا، ولا شربت لك ماء من عطش فقد اختلف الفقهاء رحمهم الله تعالى في هذا هل تكون اليمين محمولة على السبب المتقدم أو مقصورة على العقد المتأخر، فذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنها مقصورة على ما تضمنه لفظ الحالف في عقودها، ولا اعتبار بما تقدمه من سببها، فإذا حلف لا يلبس له ثوبًا لم يحنث بركوب دوابه، ولا بأكل طعامه، ولا بدخول داره. وإذا حلف لا شربت لك من عطش لم يحنث ليشرب غير الماء من الشراب ولا بلبس الثياب ولا بركوب الدواب وقال مالك رحمه الله ومن وافقه من أهل المدينة رضي الله عنهم: أن يمينه محمولة على السبب الداعي إليها، فإذا كان سببها المنة عامة، حنث بكل نفع عاد إليه، فإن حلف لا يلبس له ثوبًا حنث بأكل طعامه وركوب دوابه، وسكن داره، ولو حلف لا شربت لك ماء من عطش حنث بكل أقواله وحنث إن استظل بجدار داره اعتبارًا بعموم السبب. وإلغاء الخصوص في اليمين استدلالًا بأمرين: أحدهما: أنه لما جاز في الأيمان تخصيص عمومها بالعرف حتى يخرج منها بعض ما انطلق عليه الاسم جاز أن يتجاوز خصوصها بالعرف، إلى غير ما انطلق (عليه) الاسم.

والثاني: أنه لما جاز في أصول الشرع تخصيص العموم في قتل المشركين مع وجود الاسم، وجاز تجاوز النص في ثبوت الربا في البر أن ما لا ينطلق عليه اسم البر وجب اعتبار مثله في الأيمان فيخص عمومها بالعرف تارة مع وجود الاسم ويتخطاه بالعرف تارة مع عدم الاسم. والدليل على اعتبار الاسم وإسقاط السبب هو أن السبب قد يتجرد عن اليمين فلا يتعلق، وقد تنفرد اليمين عن سبب فيتعلق بها الحكم فوجب إذا اجتمعا وهما مختلفان أن يتعلق الحكم باليمين دون السبب لأمرين: أحدها: لقوة اليمين على السبب. والثاني: لحدوث اليمين وتقدم السبب وقد قال الله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]. ولأن ما لا ينطلق عليه حقيقة الاسم المظهر لم يجز أن يكون في الأيمان معتبرًا ألا تراه لو قال: والله لا، وقطع كلامه، فقال: أردت: لا كلمت زيدًا، لم تنعقد يمينه على الامتناع من كلامه، وإن أراده بقلبه وقرنه بيمينه فلأن لا تنعقد على السبب الذي يقترن باليمين ولم يعتقد القلب أولى: وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما أحكم بالظاهر ويتولى الله السرائر". واحتج الشافعي رضي الله عنه على إلغاء السبب بأن رجلًا لو وهب لرجل مالًا فحلف الموهوب له ليضربن الواهب. حنث إن لم يضربه، وإن كان يمينه مخالفة لما تقدمها من السبب، وقد كان يلزم من اعتبار الأسباب أن لا يحنثه فيها، وإن لم نقله فدل على فساد اعتباره. فأما الجواب عن استدلالهم بأنه لما جاز في الأيمان تخصيص عمومها بالعرف جاز تخطي خصوصها بالعرف، فهو أن العرف من تخصيصها مقارن بعقدها فجاز اعتباره والعرف في تخطي خصوصها، مفارق فلم يجز اعتباره وأما الجواب عن استدلالهم بأنه لم جاز في أصول الشرع تخصيص العموم مع وجود الاسم وجاز تجاوز النص في ثبوت الربا في البر إلا ما لا ينطلق عليها اسم البر كذلك في الأيمان معتبرة بالأسامي دون المعاني، لأن الضرورة دعت في المسكوت عنه في أحكام الشرع إلى اعتبار المعاني وتجاوز الأسامي، ولم تدع الضرورة في الأيمان إلى اعتبار المعاني، فوقفت على اعتبار الأسامي والله أعلم. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَدْخُلَ بَيْتَ فُلَانٍ فَدَخَلَ بَيْتًا يَسْكُنُهُ فُلَانٌ بِكِرَاءٍ لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا بِأَنْ يَكُونَ نَوَى مَسْكَنَ فُلَانٍ فَيَحْنَثَ".

قال في الحاوي: أما إذا قال: والله لا دخلت مسكن زيد، فدخل دارًا يسكنها زويد بملك أو إجارة أو غصب حنث لأنها مسكن له في الأحوال كلها، ولو حلف لا يدخل دار زيد، فدخل دارًا يملكها زيد حنث. سواء كان يسكنها أو لا يسكنها، ولو كان زيد يملك نصفها أو أكثرها لم يحنث، ولو دخل دارًا يسكنها زيد بإجارة وهو لا يملكها لم يحنث على مذهب الشافعي. وقال أبو حنيفة ومالك يحنث استدلالًا بقول الله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ} [الأنفال: 5]، وكان قد أخرجه من بيت خديجة: فأضاف البيت إليه، وإن لم يملكه، لأنه كان ساكنه. وقال تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَاتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]، أي من بيوت أزواجهن فأضافها إليهن بسكناها، لأن ملكها لا يجوز أن يخرج منه بالفاحشة المبينة، ولا يغيرها ولأنه لما كان الإذن في دخولها مقصورًا عليه دون مالكها صار بالإضافة إليه أحق فوجب أن يكون بالحنث ألزم. ودليلنا أن إضافة الأملاك بلام التمليك تقتضي إضافة الملك للرقاب دون المنافع ألا تراه لو قال: هذه الدار لزيد كان هذا إقرارًا منه له بالملك دون المنفعة، فلو قال: أردت أنه مالك لمنافعها لم يقبل منه فإذا كان هذا في الإقرار موجبًا للملك وجب أن يكون في الأيمان محمولًا على الملك، ولأنه لو سكن زيد دار عمرو، فحلف رجل ألا يدخل دار زيد وحلف آخر لا يدخل دار عمرو ثم دخلها كل واحد من الحالفين قالوا: يحنثان جميعًا فجعلوها كلها دار زيد، وجعلوها كلها دار عمرو ومن المستحيل أن يكون كل الدار لزيد وكلها لعمرو، فوجب أن تضاف إلى أحقهما بها والمالك أحق بها من الساكن، لأن الساكن لو حلف أن الدار له، حنث والمالك إن حلف أن الدار له لم يحنث. فوجب أن يكون الحانث من الحالفين من اختص بالملك دون الساكن. وأما الجواب عن استلالهم بالآيتين في إضافة الدار إلى ساكنها فهو أنها إضافة مجاز لا حقيقة كما يقال: مال العبد وسرج الدابة، والأيمان محمولة على حقائق الأسماء دون مجازها. وأما الجواب عن استلالهم بالإذن فهو أن استحقاق الإذن لا يغير حكم الملك، كما لو حلف المالك لا دخلت داري فدخل دارًا قد أجرها حنث، وإن كان الإذن في دخولها حقًا لغيره، فإذا تقرر هذا فهذا هو الكلام في الحكم مع عدم النية، فأما إن كانت له نية تخالف هذا الإطلاق حمل في الحنث على نيته. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ حُمِلَ فَأُدْخِلَ فِيْهِ لَمْ يَحْنَثْ إِلَّا أَنْ يَكُونَ هُوَ أَمَرَهُمْ بِذَلِكَ تَرَاخَى أَوْ لَمْ يَتَرَاخَ".

قال في الحاوي: أما إذا حلف أن لا يدخل دارًا فدخلها مختارًا ذاكرًا حنث بدخولها ماشيًا كان أو راكبًا لأنه دخل إليها حقيقة، ولو دخلها ناسيًا كان على قولين نذكرهما من بعد، ولو حمل فأدخل إليها محمولًا فلا يخلو فيه من أحد أمرين: إما بأمره أو بغير أمره، فإن كان قد أمر بحمله فعل الدخول، وإن كان من غيره فهو منسوب إليه إذا كان عن أمره فأشبه دخوله إليها راكبًا. فإن قيل: لو حلف لا باع، ولا ضرب فأمر غيره بالضرب والبيع لم يحنث، فهلا كانت في الأمر بالدخول كذلك. قيل: لأن البيع والضرب وإن كان عن أمره فالفعل موجود من غيره، فكان مثاله من دخول الدار أن يأمر غيره بالدخول فلا يحنث. فهذا إذا دخل الدار بأمر سواء أدخل عقيب الأمر أو بعد تطاول الزمان تسوية بين الفور والتراخي، لإضافته إلى أمره في الحالين، فأما إذا حمل وأدخل الدار بغير أمره لم يحنث، استصعب أو تراخى، وقال مالك رضي الله عنه إنه استصعب على الحامل لم يحنث، وإن تراخى حنث لأنه مع الاستصعاب كاره ومع التراخي مختار، وهذا ليس بصحيح، لأنه غير فاعل ولا آمر، فلا يجوز أن يضاف إليه ما لم يفعله، ولم يأمر به، ولو جاز أن يضاف إليه لاستوى حكمه في حالتي الاستصعاب والتراخي لأنه يمينه محمولة على الفعل دون الاختيار والكراهية، فأما قول الشافعي: "تراخى أو لم يتراخ" فمن أصحابنا من حمله على الرد على مالك في سقوط الحنث مع الاستصعاب والتراخي، ومنهم من حمله على الأمر في وقوع الحنث على الفور والتراخي فإذا ثبت أنه لا يحنث، إذا حمل نظر فإن بادر بالخروج منه عقب قدرته على الخروج فهو على بره وإن مكث بعد قدرته على الخروج. ففي حنثه قولان على ما بيناه من قبل هل يكون استدامة الدخول جاريًا ابتدائه أم لا؟ وقد نص الشافعي ها هنا على أنه يحنث به فكان أولاهما بمذهبه. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: "وَلَوْ قَالَ: نَوَيْتُ شَهْرًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ فِي الحُكْمِ إِنْ حَلَفَ بِالطَّلَاقِ وَدِينَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ". قال في الحاوي: أما اليمين المطلقة أن لا يدخل الدار فمحمولة على التأبيد فإن قيدها نطقًا في الامتناع من دخولها شهرًا لم يحنث بدخولها بعد انقضائه ولو نوى مع إطلاق يمينه أن لا يدخلها شهرًا لم تخل اليمين من أن يتعلق بها حق آدمي أو لا يتعلق بها حق آدمي، وهي اليمين بالله تعالى في غير الإيلاء، فهو محمول على نيته في الظاهر والباطن لاختصاصها بحقوق الله تعالى المحضة فكانت موكولة إلى ديانته، وإن تعلق بها

حق آدمي كاليمين بالطلاق والعتاق وبالله في الإيلاء من الزوجة حمل على ظاهر الحكم عند نزاعه على ما اقتضاه ظاهره لفظه من التأبيد دون ما نواه من التقييد، لأن الحكم في حقوق الآدميين محمول على الظاهر فيقع الحنث بوجود ذلك على التأييد، وهو فيما بينه وبين الله تعالى في البطن محمول على ما نوى من التقييد. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ عَلَى فُلَانٍ بَيْتًا فَدَخَلَ عَلَى رَجُلٍ غَيْرِهِ بَيْتًا فَوَجَدَ المَحْلُوفَ عَلَيْهِ فِيهِ لَمْ يَحْنَثْ لأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى ذَلِكَ وَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ فِي البَيْتِ فَدَخَلَ عَلَيْهِ حَنَثَ فِي قَوْلِ مَنْ يُحَنِّثُ عَلَى غَيْرِ النِّيَّةِ وَلَا يَرْفَعُ الخَطَأَ. قَالَ المُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَدْ سَوَّى الشَّافِعِيُّ فِي الحِنْثِ بَيْنَ مَنْ حَلَفَ فَفَعَلَ عَمْدًا أَوْ خَطَأَ". قال في الحاوي: وصورتها أن يقول: والله لا دخلت على زيد بيتًا فيدخل عليه، فهذا على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يدخل عليه في بيته الذي هو ساكنه إما بملك أو إجارة أو غصب، فإن كان ذاكرًا ليمينه حنث، وإن كان ناسيًا ففي حنثه قولان، وكذلك إذا دخل عليه مكرهًا على ما سنذكره من توجيه القولين: أحدهما: يحنث بنفس الدخول. والثاني: لا يحنث بنفس الدخول، ولا باستدامته مع تعذر الخروج، فإن أمكنه الخروج فأقام ولم يخرج حنث باستدامة الدخول قولًا واحدًا، لأنه قد وجد منه العقل وتجدد منه الذكر فصار كالعمد. والثالث: أن يدخل عليه في مسجد فقد نص الشافعي في كتاب الأم أنه لا يحنث لأن اسم البيت ينطلق على المسجد مجازًا، والحقيقة أن يسمى مسجدًا، فحمل على الحقيقة دون المجاز، وعند مالك يحنث، لأنه يعتبر الأسباب. والرابع: أن يدخل على عمرو بيتًا، فيكون زيد المحلوف عليه عنده في بيته فقد اختلف كلام الشافعي في حنثه بهذا الدخول فاختلف أصحابنا فيه على أربعة أوجه: أحدها: وهو اختيار المزني أنه يحنث علم أن بالبيت أو لم يعلم اعتبارًا بالفعل دون القصد، وهو قول من حنث العامد والناس. والثاني: وهو اختيار الربيع أنه لا يحنث علم أنه في البيت أو لم يعلم، لأنه داخل على غيره اعتبارًا بالمقاصد. والثالث: وهو اختيار أبي العباس بن سريج أنه يحنث إن علم أنه في البيت ولا يحنث إن لم يعلم، لأنه مع العلم قاصد ومع الجهل غير قاصد، وهذا قول من فرق بين العمد والخطأ.

والرابع: وهو مذهب عطاء أنه إن لم يعلم به أو علم فاستثناه بقلبه لم يحنث وإن علم ولم يستثنه حنث تخريجًا ممن حلف لا يكلم زيدًا فسلم على الجماعة وهو فيهم، واستثناه بنيته لم يحنث على ما سنذكره من شرح المذهب فيه. فصل فإذا ثبت تعليل ما ذكرنا من هذه الأوجه الأربعة، فإن قيل: بوقوع الحنث بهذا الدخول حنث إذا جمعهما بيت واحد، فإن كانا في بيتين من دار واحدة لم يحنث لأنه لا يكون داخلًا عليه بيتًا، وإن جمعتهما دار واحدة، فإن كانت صغيرة لا يفرق المتبايعان فيها حنث، لأن اسم البيت منطلق على الدار عرفًا، لأنه مشتق من المبيت، وإن كانت الدار كبيرة، وكل واحد منهما بمكان يفترق المتبايعان منه لم يحنث، وكان أبو العباس بن سريج، يرى أنه لا يحنث حتى يدخل عليه، وهو في بيت من الدار، فإن دخل عليه وهو في صحنها أو صفتها لم يحنث اعتبارًا بحقيقة اسم البيت أنه منطلق على ما تميز من الدار بهذا الاسم كما لو قال: والله لا دخلت بيتًا فدخل صحن الدار أو صفتها، أو استطرق دهليزها لم يحنث، وبينهما فرق يمنع من التساوي، وإن كان أبو حنيفة يسوي بينهما في الحنث، كما سوى أبو العباس بينهما في البر. وإن قيل: بأن الحنث لا يقع بهذا الدخول، فإن بادر بالخروج ساعة دخوله أو بادر المحلوف عليه بالخروج لم يحنث، وإن لم يخرج واحد منهما في الحال ففي حنثه قولان، فمن حلف لا يدخل دارًا وهو داخلها، هل يحنث بالاستدامة كما يحنث بالابتداء أم لا؟ على قولين: أحدهما: يحنث هذا إذا جعل الاستدامة كالابتداء. والثاني: لا يحنث، إذا فرق بين الاستدامة والابتداء فلو دخل المحلوف عليه بيتًا على الحالف فإن بادر الحالف بالخروج منه لم يحنث، وإن أقام فيه، فإن قيل: إن استدامة الدخول لا تكون دخولًا لم يحنث الحالف ها هنا. وإن قيل: إن استدامة الدخول تكون كابتدائه ففي حنث الحالف ها هنا وجهان: أحدهما: يحنث لأنه قد صار كالداخل. والثاني: لا يحنث لأنه مدخول عليه وليس بداخل على المحلوف عليه والله أعلم. مسألة قَالَ الشَّافِعيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: "وَلَوْ حَلَفَ لَيَاكُلَنَّ هَذَا الطَّعَامَ غَدَا فَهَلَكَ قَبْلَ غَدٍ لَمْ يَحْنَثَ لِلإِكْرَاهِ قَالَ اللَّهُ جَلَّ وَعَزَّ: {مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ

مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النّحل: 106] فَعَقَلْنَا أَنَّ قَوْلَ المُكْرَهِ كَمَا لَمْ يَكُنْ فِي الحُكُمِ وَعَقَلْنَا أَنَّ الإِكْرَاهِ هُوَ أَنْ يُغْلِبَ بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ فَإِذَا تَلَفَ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ لِيَفْعَلَنَّ فِيهِ شَيْئًا بِغَيْرِ فِعْلٍ مِنْهُ فَهُوَ فِي أَكْثَرِ مِنَ الإِكْرَاهِ". قال في الحاوي: ومقدمة هذه المسألة أن من حلف لا يفعل شيئًا ففعله ناسيًا أو جاهلًا أو مكرهًا ففي حنثه قولان: أحدهما: يحنث به وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل. والثاني: لا يحنث وبه قال عطاء والزهري وعمرو بن دينار وإسحاق بن راهويه. فإذا قيل: يحنث فدليله قول الله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} [المائدة: 89]، فكان عقدها موجبًا للمؤاخذة بالكفارة على عموم الأحوال من عمد وخطأ وعلم وجهل واختيار وإكراه ولأن إطلاق عقدها مع القدرة على استثناء النسيان والإكراه فيها موجب لحملها في الحنث على إطلاق الأحوال كلها كما أن تقييدها موجب لتقييد الحنث فيها اعتبارًا بالنصوص الشرعية في حمل المطلق على إطلاقه والمقيد على تقييده ألا ترى أن إطلاق قوله تعالى: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، موجب للجزاء في العمد والخطأ وإطلاق قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ينكح المحرم ولا يُنكح" موجب لإبطال النكاح مع الذكر والنسيان، ولأن الكفارة تطهير فأشبهت طهارة الحدث فلما استوى حكم الحدث في العمد والخطأ وجب أن يستوي حكم الحنث في العمد والخطأ وإذا قيل لا يحنث، فدليله قول الله تعالى: {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَاتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} [الأحزاب: 5] فكان رفع الجناح في الخطأ موجبًا لإسقاط الكفارة عن الخاطئ وبما رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تجاوز لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" فكان حكم الأيمان داخلًا في عموم هذا التجاوز، ولأن مطلق النواهي في الشرع محمول على العمد دون السهو، كالكلام في الصلاة والأكل في الصيام، كذلك في الأيمان، ولأن عقد الأيمان لما لم يلزم إلا بالقصد والاختيار وجب أن يكون حلها بالحنث لا يكون إلا عن قصد واختيار فهذا توجيه القولين والبغداديون من أصحابنا يذهبون إلى تصحيح القول بأن لا حنث على الناس، لما يرتكبونه من خلاف أبي حنيفة، وأما البصريون فقال أبو القاسم الصيمري: ما أفتيت في يمين الناسي بشيء قط، وحكي عن شيخه أبي العياض أنه لم يفت فيها بشيء قط، وحكي أبو العياض عن شيخه أبي حامد المروزي أنه لم يفت فيها بشيء قط فاقتديت بهذا السلف ولم أفت فيها بشيء لأن استعمال التوقي أحوط من ورطات الأقدام.

فصل فأما يمين المكره فلا تنعقد قولًا واحدًا. وقال أبو حنيفة: تنعقد كالمختار، وقد مضى الكلام معه في كتاب الطلاق. ودليله في الأيمان ما روي أن اليمان والد حذيفة حلفه المشركون أن لا يغير رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: "أوف بعهدك" فسوى بين يمين المكره والمختار ولأنها يمين مكلف فانعقدت كالمختار. ودليلنا رواية مكحول عن واثلة بن الأسقع وعن أبي أمامة قالا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "ليس على مقهور يمين"، ولأن ما منع ثبوت الكفر من انعقاد اليمين كالجنون، وأما يمين اليمان بها مختارًا، لأنه كان مشركًا. وأما قياسهم على المختار فلا يصح الجمع بينهما كما لا يصح الجمع بينهما في الكفر. فصل فإذا تقرر ما ذكرنا في هذه المقدمة فصورة مسألتنا هذه أن يحلف ليأكلن هذا الطعام غدًا أو ليركبن هذه الدابة غدًا، أو ليلبس هذا الثوب غدًا، فلا يخلو حاله في ذلك من أربعة أقسام: أحدها: أن يفعل ذلك في وقته. والثاني: أن يقدمه على وقته. والثالث: أن يؤخره عن وقته. والرابع: أن يفوته فعله في وقته. فأما القسم الأول: وهو أن يفعل ذلك في وقته، وهو أن يأكل الطعام في غده ويركب الدابة ويلبس فيه الثوب، فقد بر في يمينه إذا جعل ذلك ما بين طلوع الفجر وغروب الشمس، لأن الغد هو يوم يستوعب ما بين طلوع فجره وغروب شمسه وليس ما قبل طلوع الفجر بعد غروب الشمس من الغد ولا هما وقت البر. وأما القسم الثاني: وهو أن يقدم فعل ذلك قبل وقته فهو أن يأكل الطعام في يومه ويركب فيه الدابة، ويلبس فيه الثوب، فلا يبر بذلك عند الشافعي ويحنث بالاقتصار على فعله فيه. وقال مالك أبو حنيفة: يبر ولا يحنث، لأن مقصود يمينه أن لا يؤخذ فعل ذلك عن غده وهو في القديم غير مؤخر له فبر فيه. ودليلنا هو أن البر مفيد بزمان فوجب أن يكون شرطًا فيه كالمقيد بالمكان ولأنه لما كان تقديم المكان كتأخيره وجب أن يكون تقديم الزمان كتأخيره، وإذا لم يبر بفعل ذلك في يومه فإن كان طعامًا قد أكله حنث، إذا لا سبيل له أن يأكله في غده إلا أن حنثه لا

يقع إلا في غده، وهل يتعلق حنثه بطلوع فجره، أو بغروب شمسه، على وجهين: أحدهما: يحنث بطلوع فجره، لأنه أول وقت البر فيما فات، فأشبه الصلاة التي يكون خروج وقتها دليلًا على وجوبها بأوله. والثاني: أن يحنث بغروب شمسه لبقاء زمان البر قبل الغروب فلم يتعلق به حكم القوات كأوله، فأما إن كان المحلوف عليه دابة إن ركبها في غده أو ثوبًا يلبسه فيه لم يحنث بركوب الدابة ولبس الثوب في يومه لإمكان ذلك في غده فإن ركب وليس في غده فيما بين طلوع فجره وغروب شمسه بر في يمينه، وإن لم يفعل حنث بغروب الشمس وجهًا واحدًا، لأن إمكان الفعل يمنع من القطع بالحنث. وأما القسم الثالث: وهو أن يؤخر فعل ذلك عن وقته، فإن أخره عامدًا حنث، وإن أخره ناسيًا ففي حنثه قولان: أحدهما: يحنث. والثاني: لا يحنث، ولا يلزمه فعله بعد فوات وقته، فلو أكل بعض الطعام في يومه وباقيه في غده حنث لأن إكمال الأكل في غده شرط في بره. وأما القسم الرابع: وهو أن يفوته فعل ذلك في وقته، فهذا على أربعة أضرب: أحدها: أن يفوت ذلك الحالف قبل الغد فلا حنث عليه لزوال تكليفه بالموت. والثاني: أن يفوته ذلك باستهلاكه له قبل غده باختياره فيحنث في غده قولًا واحدًا، لأنه قد كان قادرًا على فعله في الغد. والثالث: أن يتلف قبل غده بفعل غيره ففي حنثه قولان لزوال قدرته وعدم مكنته. والرابع: أن يفوته فعله مع بقاء ذلك وجوده إما بحبس أو إكراه أو مرض، فيكون حنثه على قولين كالمكره فأما إن قدر على فعله في غده فلم يفعله مع القدرة حتى تلف في بقية غده، فقد اختلف أصحابنا، هل يجري على فواته فيه حكم المختار أو حكم المكره على وجهين: أحدهما: يجري عليه حكم المختار لإمكان فعله في وقته، فعلى هذا يحنث قولًا واحدًا. والوجه الثاني: يجري عليه حكم المكره لبقاء رقته، فعلى هذا يكون في حنثه قولان، والله أعلم. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ حَقَّهُ لَوَقْتٍ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ فَمَاتَ قَبْلَ يشَاءَ أَنْ يُؤَخِّرَهُ أَنَّهُ لَا حَنَثَ عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ فُلَانٌ فَمَاتَ فُلَانٌ الَّذِي

جَعَلَ المَشِيئَةَ إِلَيْهِ. قَالَ المُزَنِيُّ: هَذَا غَلَطٌ لَيْسَ فِي مَوْتِهِ مَا يَمْنَعُ إِمْكَانَ بَرِّهِ وَأَصْلُ قَوْلِهِ وَإِنْ أَمْكَنَهُ البِرُّ فَلَمْ يَفْعَلْ حَتَّى فَاتَهُ الإِمْكَانُ أَنهُ يَحْنَثُ وَقَدْ قَالَ لَوْ حَلَفَ لَا يَدْخُلُ الدَّارَ إِلَّا بِإِذْنِ فُلَانٍ فَمَاتَ الَّذِي جَعَلَ الإِذْنَ إِلَيْهِ أَنَّهُ إِنْ دَخَلَهَا حَنَثَ قَالَ المُزَنِيُّ: وَهَذَا وَذَاكَ سَوَاءٌ". قال في الحاوي: وهاتان مسألتان جمع المزني بينهما، ونحن نذكر قبل شرحهما مسألتين ليكونا أصلًا يتمهد به جواب مسائلهم، فتصير المسائل أربعًا. فالمسألة الأولى: أن يقول: والله لأقضينك حقك، ولا يعين للقضاء وقتًا، فيكون بره معتبرًا بقضائه قبل موت الغريم وصاحب الحق في قريب الزمان وبعيده سواء، لأن إطلاق اليمين يتناول مدة الحياة، فإن مات صاحب الحق قبل قضائه حنث الحالف، وكذلك لو مات الغريم الحالف قبل القضاء حنث أيضًا فيقع الحنث، بموت كل واحد منهما قبل القضاء لحدوث الموت مع إمكان البر. والمسألة الثانية: أن يحلف لأقضينك حقك في يوم الجمعة، فيجعل للقضاء وقتًا، فلا يبر الحالف إلا بقضائه فيه، فإن قضاه قبل يوم الجمعة أو بعده حنث، فلو مات الحالف قبل يوم الجمعة لم يحنث قولًا واحدًا لموته قبل إمكان بره، وإن مات صاحب الحق قبل يوم الجمعة ففي حنث الحالف قولان من اختلاف قوليه فيمن حلف ليأكلن هذا الطعام غدًا، فهلك الطعام اليوم. أحدهما: يحنث. والثاني: وهو أصح، لا يحنث، وعليه يكون التفريع، والفرق بين إطلاق اليمين، فيحنث بموت كل واحد منهما، وبين تقييدها بوقت فلا يحنث بموت كل واحد منهما قبل الوقت هو إمكان البر مع الإطلاق، وتعذر إمكانه مع التوقيت. والمسألة الثالثة: وهي أولى المنصوصين أن يحلف ليقضينه حقه في يوم الجمعة، إلا أن يشاء صاحب الحق أن يؤخره، فبره معتبرًا بأحد شطرين إما أن يشاء صاحب الحق أن يؤخره قبل انقضاء يوم الجمعة، وإما أن يقضيه حقه في يوم الجمعة إلا أن مشيئة تأخيره حل ليمينه والقضاء بر في يمينه فإن مات الحالف قبل يوم الجمعة لم يحنث بفوات القضاء فيه، وإن مات صاحب الحق قبل يوم الجمعة لم يحنث الحالف أيضًا، لكنه إن مات بعد مشيئته ارتفع الحنث بحل اليمين، وإن مات قبل مشيئته ارتفع الحنث بتعذر إمكان البر، وإن احتمل تخريج الحنث. والمسألة الرابعة: أن يحلف ليقضينه حقه في يوم الجمعة إلا أن يشاء زيد تأخيره، فارتفاع حنثه يكون بأحد شرطين: إما بمشيئة زيد للتأخير فتحل به اليمين، وإما بقضاء الحق في يوم الجمعة فيبر في اليمين، فإن مات الحالف قبل يوم الجمعة لم يحنث قولًا واحدًا، وإن مات صاحب الحق قبله لم يحنث على الصحيح من المذهب وإن احتمل تخريج الحنث، وإن مات زيد صاحب المشيئة وهي مسألة الكتاب فله قبل موته ثلاثة أحوال:

أحدها: أن يموت بعد مشيئة التأخير، فاليمين قد انحلت ولا يقع الحنث فيها بتأخير القضاء. والحال الثانية: أن يموت قبل مشيئة التأخير، فاليمين منعقدة ولا حنث عليه في الحال، لأن زمان البر منتظر، وهو بإمكان القضاء معتبر فإن قضاه في يوم الجمعة بر، وإن لم يقضه حنث لإمكان البر، فأما المزني لما رأى الشافعي رحمه الله قال في هذه المسألة: إنه لا يحنث بموت صاحب المشيئة كما لو كانت المشيئة مردودة آلي صاحب الحق ظن أنه جمع بينهما في سقوط الحنث بموتها في الأحوال كلها، فقال: كيف جمع بينهما في سقوط الحنث بموتها والبر في موت صاحب الحق متعذر وفي موت صاحب المشيئة ممكن فيقال له: إنما جمع الشافعي رحمه الله بينهما في أن الحنث لا يقع في حال موتهما، لأن وقت القضاء لم يأت فصارا فيه سواء في الحال، وإن افترقا بتأخير القضاء، فيحنث بتأخيره إذا كانت المشيئة إلى غير صاحب الحق، ولا يجب تأخيره إذا كانت المشيئة إلى صاحب الحق بما علل المزني من تعذر القضاء بموت صاحب الحق أو إمكانه بموت غيره. والحال الثالثة: من أحوال صاحب المشيئة قبل موته أن يقع الشك في مشيئته، فلا يعلم هل شاء التأخير أو لم يشأ فالذي عليه جمهور أصحابنا وهو الصحيح أنه يجري عليه حكم من لم يشأ التأخير، لأن الأصل عدم المشيئة حتى يعلم حدوثها، فيكون الحكم على ما مضى. وحكي أبو علي بن أبي هريرة أنه يجري عليه حكم التأني فلا يحنث الحالف بتأخير القضاء اعتبارًا بالظاهر من نص الشافعي واحتجاجًا بأن الحنث لا يقع بالشك وهذا زلل لأن اليمين منعقدة فلا تحل بالشك. فصل ثم إن المزني وصل احتجاجه على ما وهم في تأويله وإن أصاب في جوابه بأن الشافعي قال: إن حلف لا يدخل الدار إلا بإذن فلان، فمات الذي جعل الإذن إليه، إنه إن دخلها حنث، وهذا وذاك سواء، وهذا صحيح. والجواب في المسألتين على ما ذكره، وليس بينه وبين الشافعي فيهما اختلاف وإنما وهم فيما أطلقه الشافعي من جواب المسألة المتقدمة، فإذا حلف لا يدخل الدار إلا بإذن زيد فدخلها بعد موت زيد فإن كان زيد قد أذن قبل موته لم يحنث، ويكون إذنه شرطًا في البر وتكون المشيئة في المسألة المتقدمة شرطًا في حل اليمين لأن اليمين في دخول الدار معقودة على الإذن، وفي المشيئة معقودة على القضاء، وإن مات زيد قبل إذنه حنث في الدخول، لأن شرط البر لم يوجد، وإن مات على وشك من وجود إذنه وعدمه حنث وجهًا واحدًا على قول جميع أصحابنا، والفرق بين الإذن في هذه المسألة وبين المشيئة في المسألة المتقدمة حيث خرج فيها بعض أصحابنا من الاحتمال على ما خرج فمن وجهين:

أحدهما: أن الإذن ظاهر والمشيئة باطنة. والثاني: أن الإذن في هذه شرط في البر، والمشيئة في ذلك شرط في الحل. والله أعلم. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: "وَلَوْ حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ عِنْدَ رَاسِ الهِلَالِ أَوْ إلى رَاسِ الهِلَالِ فَرَأَى فِي اللَّيْلَةِ الَّتِي يَهِلُّ فِيهَا الهِلَالُ حَنَثَ. قَالَ المُزَنِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: وَقَدْ قَالَ فِي الَّذِي حَلَفَ لَيَقْضِيَنَّهُ إلى رَمَضَانَ فَهَلْ إِنَّهُ حَانِثٌ لَأَنَّهُ حَدَّ قَالَ المُزَيِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: هَذَا أَصَحُّ كَقَوْلِهِ إلى اللَّيْلِ فَإِذَا جَاءَ اللَّيْلُ حَنَثَ". قال في الحاوي: وهذا صحيح كقوله إلى الليل فإذا جاء الليل حنث، نقل المزني عن الشافعي في هذا الموضع ثلاث مسائل، اتفق الجواب في مسألتين واختلف في الثالثة، إحدى المسائل التي اتفق المذهب في الجواب عليها إذا حلف ليقضيه حقه عند رأس الهلال، أو عند رأس الشهر فوقت بره معين بين زماني حنث وهو أن يقضيه مع رأس الشهر ورؤية الهلال، فإن قضاه قبل الهلال حنث، وإن قضاه بعد الهلال وبعد إمكان القضاء معه حنث بمضي زمان الإمكان بعد الهلال. وقال مالك: لا يحنث بقضائه قبل القضاء يوم وليلة، وجعل زمان القضاء بعد الهلال معتبرًا بيوم وليلة، واعتبره الشافعي رحمه الله بالإمكان وهو أصح، لأن مقادير الزمان إن لم تؤخذ عن نص أو قياس بطلت لما يتوجه عليها من المعاوضة وإذا ثبت أن ذلك معتبر بالإمكان فعليه أن يأخذ في القضاء مع رأس الشهر فيستوي حكم قوله: عند رأس الشهر مع رأس الشهر، وإن كان الحق مما لا يكون زمان قضائه كوزنه من ذهب أو فضة، ضاق زمان بره لإمكان وزنه في أول زمان بعد رأس الشهر، فإن أخره عنه بأقل زمان حنث، فإن شرع في حمله إليه مع رأس الشهر، وكان بعيد الدار منه حتى مضت الليلة أو أكثرها لم يحنث، لأنه معتبر في الإمكان، وإن كان الحق مما يطول زمان قضائه كمائة كر من بر اتسع زمان بره، إذا شرع في القضاء مع رأس الشهر وامتد بحسب الواقع من كيل هذا القدر حتى ربما أيامًا، فإن أخر عند رأس الشهر في جميع ما يقضيه وتحصيله للقضاء حنث، ولو أخذ في نقله إليه لم يحنث، لأن نقله مشروع في القضاء، وليس جمعه مشروعًا فيه، وقول الشافعي رحمه الله في هذه المسألة فرأى في الليلة التي يهل فيها الهلال حنث، يعني إذا لم يقضه فيها، فإن قضاه بر، وليس رؤية الهلال شرطًا وإنما دخول الشهر بأوله جزء من ليلته هو الزمان المعتبر، لأن الهلال ربما غم بسحاب منع من رؤيته إلا أن يعلم في ليلة شك، فلا يكون من الشهر.

فصل: وأما المسألة الثانية المتفق عليها، فهي أن يحلف ليقضينه حقه إلى رمضان، فجعل رمضان غاية واحدًا، لأنه علقه بحرف وضع للغاية والحرف هو "آلي" فيكون زمان بره، من وقت يمينه إلى أول جزء من ليلة رمضان كما قال تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إلى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] فكان زمان الصيام إلى أول جزء من أجزاء الليل فإن لم يقضه حقه حتى دخل أول جزء من ليلة رمضان حنث ويجيء على مذهب مالك أنه لا يحنث إلا بانقضاء يوم وليلة منه، فإن شرع في قضاء الحق قبل رمضان وكمله في رمضان لطول زمانه بر، لأن الشروع في القضاء كالقضاء، فإن أخر القضاء في ليلة شك في دخول رمضان، ثم بان أنها من رمضان، ففي حنثه قولان كالناسي والمكره، فإن قال: أردت بقولي إلى رمضان أي: في رمضان، دين في الباطن لاحتمال ما أراد لأنها حروف تقام بعضها مقام بعض كقول الله تعالى: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أي: عليها فأما في ظاهر الحكم فيحنث إذا تعلق بيمينه حق آدمي من طلاق أو عتاق اعتبارًا بحقيقة اللفظ دون مجازه، فإن حلف لأقضينك حقك عند رمضان لم يبر بقضائه قبل رمضان، لأن كلمة عند موضوعة للمقاربة، فإذا أهل رمضان احتمل ما يعتبر في بره وجهين: أحدهما: يعتبر بإمكان القضاء عند دخوله، فإن أخره حنث كما لو قال عند رأس الشهر. والثاني: يكون جميع الشهر وقتًا للبر، لأنه لم يعين على جزء منه، فصار حكم آخره كحكم أوله. فصل وأما المسألة الثالثة: المختلف فيها، فهو أن يحلف ليقضينه حقه عند رأس الهلال، أو إلى رأس الهلال، فالذي نقله المزني فيها عن الشافعي أنه جمع بين قوله: إلى رأس الهلال، وبين قوله: عند رأس الهلال في أنه يحنث برؤية الهلال، ليكون زمان البر فيها بين وقتي حنث بتقدم أحدهما على رأس الهلال ويتأخر الآخر عنه، وجمع المزني بين قوله إلى رأس الهلال، وإلى رمضان في أن زمان البر من وقت يمينه، وإلى رأس الهلال، كما كان في وقت يمينه إلى رمضان، واختلف أصحابنا في ذلك على ثلاثة أوجه: أحدها: وهو الصحيح أن الأمر على ما قاله المزني من اختلاف الحكم بين قوله: عند رأس الهلال، في أن وقت البر يكون مع رؤية الهلال بين زماني حنث، وقوله: عند رأس الهلال، أن البر من وقت يمينه وإلى رؤية الهلال، فيكون رؤية الهلال وقتًا لحنثه، ورؤيته في قوله: عند رأس الهلال وقتًا لبره لأن لفظه "إلى" موضوعة في اللغة للحد والغاية، ولفظة: عند موضوعة للمقاربة، فاختلف حكمهما لاختلاف موضوعهما، كما اختلف حكم قوله: إلى رأس الهلال، والشافعي عادة أن يجمع بين مسألتي يعطف بالجواب عليهما، فيريد به إحداهما اكتفاء بما عرف من مذهبه في الأخرى ولم يخف

عليه أن "إلى" و"عند" مختلفا المعنى في اللغة، ويجب أن يكونا مختلفين في الحكم في الشرع. والثاني: وهو محكي عن أبي إسحاق المروزي أن جمع الشافعي بين عند رأس الهلال، وإلى رأس الهلال صحيح، وإن كليهما في البر والحنث واحد، وأن رأس الهلال وقت البر فيهما، وأن ما قبله وما بعده وقت الحنث فيهما، لأن لفظة "إلى" قد تستعمل للحد تارة وللماقربة تارة كما قال تعالى: {مَنْ أَنْصَارِي إلى اللَّهِ} [آل عمران: 52] أي: مع الله، {وَأَيْدِيَكُمْ إلى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6]، أي: مع المرافق، فلما احتمل أن تكون للحد تارة، وللمقاربة أخرى، صار الحنث في جعلها للحد مشكوكًا فيه، وفي جعلها للمقاربة متيقنًا، فحنث باليقين دون الشك، وفرق أبو إسحاق ومن تابعه، بين قوله إلى رأس الشهر، فيكون للمقاربة، وبين قوله: إلى رمضان فيكون للحد بأن رأس الشهر معين للقضاء، فغلب حكم الوقت على حكم اللفظ فحمل على المقاربة، ورمضان غير معين للقضاء، لأنه ليس جميعه وقتًا له، فغلب حكم اللفظ على حكم الوقت فحمل على الحد. والثالث: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن الشافعي جمع بين "عند" و"إلى" في الحنث، وفرق بينهما في البر، فإذا قال عند رأس الشهر لم يبر إلا بدفعه مع رأس الشهر وإذا قال: إلى رأس الشهر بر بدفعه في وقته، وإلى عند رأس الشهر، لأنه عند لم توضع إلا للمقاربة، وإلى قد وصفت للمقاربة تارة، وللحد آخر: فاجتمع فيهما حكم المقاربة وحكم الحد فوجب أن يتعلق بهما الحكمان معًا فصار الأجل ذلك مجتمعين في الحنث إن لم يقضه حتى جاء رأس الشهر حنث، ومفترقين في البر إن قضاه في قوله: إلى رأس الشهر قبل الشهر بر، وإن قضاه في قوله: عند رأس الشهر قبل الشهر لم يبر والله أعلم. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَلَوْ قَالَ إلى حِينٍ فَلَيْسَ بِمَعْلُومِ لأَنَّهُ يَقَعُ عَلَى مُدَّة الدُّنْيَا وَيَوْمٍ والفُتْيَا أَنْ يُقَالَ لَهُ الوَرَعَ لَكَ أَنْ تَقْضِيَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ يَوْمٍ لأَنَّ الحِينَ يَقَعُ عَلَيْهِ مِنْ حِينِ حَلَتْتَ وَلَا نُحْنِثُكَ أَبَدًا لأَنَّا لَا نَعْلَمُ لِلْحِينِ غَايَةً". قال في الحاوي: أما الحين من الزمان فجمعهم لا حد له في الشرع عندنا، وحده أبو حنيفة بستة أشهر، وحده مالك بسنة، فإذا حلف ليقضينه حقه إلى حين لم يحنث على مذهب الشافعي إلا بفوات القضاء بموته أو موت صاحب الحق. وقال أبو حنيفة: إن قضاه في ستة أشهر بر، وإن قضاه بعدها حنث، وقال مالك: إن قضاه إلى ستة بر، وإن قضاه بعدها حنث، واستدلالنا على ذلك بقول الله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} [إبراهيم: 25] فقدره أبو حنيفة بستة أشهر، لأنها في

النخل مدة حملها من أول طلعها إلى آخر جذاؤها، وقدره مالك بسنة، لأنها تحمل من كل سنة، فتكون من الإطلاع إلى الإطلاع ستة. ودليلنا هو أن الحين اسم مبهم، ينطلق على قليل الزمان، كقوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] وأراد به أقل من يوم، وينطلق على مدة الدنيا لقوله تعالى: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88] يعني يوم القيامة، وينطلق على ما بين الزمانين كقوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ} [الإنسان: 1] يعني: تسعة أشهر هي مدة حمله، وقيل: هي أربعون سنة إشارة إلى آدم أنه صور من حمإ مسنون وطين لازب، ثم نفخ فيه الروح بعد أربعين سنة، وإذا اختلف المراد به في هذه المواضع دل على أنه مشترك لا يختص بزمان دون غيره، وينطلق على قليل الزمان وكثيره، وإذا كان كذلك وقضاه قبل موته، ولو بطرفة عين بر في يمينه، لأنه قضاه في زمان ينطلق عليه اسم الحين، قال الشافعي رضي الله عنه: وأفتيه ورعًا أن يقضيه في يومه، وأن يحنث نفسه إن قضاه بعد انقضائه ليحمل على أقل ما ورد به الشرع، وإن لم يلزم ذلك في الحكم. فصل قال: ويتفرع على هذا إذا حلف لا أكلم فلانًا إلا بعد حين فكلمه بعد ساعة من يمينه بر لوجود الكلام بعد زمان ينطلق اسم الحين عليه. وعند أبي حنيفة لا يبر حتى يكلمه بعد ستة أشهر. وعند مالك لا يبر حتى يكلمه بعد سنة على حسب اختلافهم في مدة الحين، والفرق بين هذه المسألة والتي تقدمت أن هذه نفي وتلك إثبات، فإذا وجد الفعل النفي والإثبات في زمان ينطلق اسم الحين عليه بر، وقليل الزمان حين، فبر في النفي وكثيره حين فبر في الإثبات والله أعلم. مسألة قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَكَذَلَكَ زَمَانٌ وَدَهْرٌ وَأَحْقَابٌ وَكُلُّ كَلِمَةٍ مُفْرَدَةٍ لَيْسَ لَهَا ظَاهِرٌ يَدُلُّ عَلَيْهَا". قال في الحاوي: وهذا صحيح: إذا حلف ليقضينه حقه بعد زمان أو بعد دهر أو بعد أحقاب بر إذا قضاه بعد قليل الزمان وكثير كالحين، لأنها أسماء مبهمة ينطلق على ما قل وكثر. وقال أبو حنيفة: أقل الزمان ستة أشهر وأقل الحقب ثمانون سنة، وقال مالك: أقله أربعون سنة وليس لهذا التحديد وجه لعدم النص فيه والقياس، وهو في الجملة عبارة عن

زمان غير محدود وقال أهل اللغة ولو حلف ليقضينه حقه قريبًا أو بعيدًا فإنه غير محدود فجاز أن يقضيه في قليل الزمان وكثيره، وكذلك قريب الزمان وبعيده. وقال أبو حنيفة في القريب: إنه أقل من شهر، وفي البعيد: إنه أكثر من شهر وليس بصحيح، لأنه قد يكون قريبًا بالإضافة إلى ما هو أبعد ويكون بعيدًا بالإضافة إلى ما هو أقرب، فصار كقوله: له علي مال كثير أو قليل والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "ولو حلف لا يشترى فأمر غيره أو لا يُطّلِّقُ فجعل طلاقها إليها فطلقت أو لا يضرب عبده فأمر غيره فضربه لا يحنث إلا أن يكون نوى ذلك". قال في الحاوي: اعلم أنه لا يخلو حال من حلف لا يفعل شيئًا فأمر غيره حتى فعله من ثلاثة أحوال: أحدها: أن ينوي لا يفعله بنفسه، فلا يحنث إذا أمر غيره بفعله، لا يختلف المذهب فيه اعتبارًا بنيته، سواء جل قدر الحالف أو قلّ. والثانية: أن ينوي أنه لا كان منه ما يقتضي ذلك الفعل ولا كان باعثًا عليه فيحنث إذا أمر غيره بفعله كما يحنث إذا فعله بنفسه، لأنه قد كان باعثًا عليه سواء جلّ قدر الحالف أو قلّ. والثالثة: أن تكون يمينه مطلقة لم تقترن بها نية، فينقسم ذلك الفعل المحلوف عليه ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون العرف في فعله جاريًأ بالأمر دون المباشرة من جميع الناس، كقوله: والله لا احتجمت، ولا اقتصدت ولا حلقت رأسي، ولا بنيت داري، فإذا أمر غيره بالحجامة وفصده وحلق رأسه، وبناء داره حنث سواء جلّ قدر الحالف أو قلّ، لأنه لم يجر في العرف من قليل أو جليل أن يباشر فعلها في نفسه، إلا بأمره، فصار العرف فيه شرطًا يصرف حقيقة الفعل إلى مجازه فيصير اعتبار المجاز إذا اقترن بالعرف أولى من اعتبار الحقيقة إذا فارق العرف لأن العرف ناقل. والثاني: أن يكون العرف في فعله جاريًا بمباشرته دون أمره من جميع الناس كقوله: والله لا كتبت، ولا قرأت، ولا حججت، ولا اعتمرت فإذا أمر غيره بالكتابة والقراءة والحج والعمرة لم يحنث، سواء جلّ قدر الحالف أو قلّ، لأن العرف جار بين الناس بمباشرة ذلك من كل قليل وجليل، فصار العرف مقترنًا بالحقيقة دون المجاز فخرج مجازه عن حكمه. والثالث: أن يكون العرف مختلفًا في مباشرة فعله فيباشره من دنا، ولا يباشره من

علا، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يقترن بعرف الاستعمال في الاختلاف بينهما عرف الشرع وهو إقامة الحدود التي لا يقيمها في الشرع والعرف إلا أولو الأمر من ذي ولاية وسلطان، فيحنث الآمر بها إن كان من أولي الأمر وإن لم يباشرها، كما قيل جلد النبي صلى الله عليه وسلم زانيًا، ورجم ماعزًا وقطع سارقًا، ولا يحنث بها غير أولي الأمر حتى يباشرها بفعله، لأنه غير نافذ الأسر فيهما. والثاني: أن ينفرد الاختلاف بينهما بعرف الاستعمال دون عرف الشرع، فيباشره من دنا، ولا يباشره من علا تنزعًا وتصونًا كعقود البيوع والأشربة وتأدية العبيد والخدم، فينقسم حال الحالف والمحلوف عليه ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون عرف الحالف جاريًا بمباشرته كرجل من عوام السوقة حلف لا باع ولا اشترى، ولا تزوج ولا طلق، ولا ضرب عبدًا، ولا أدب خادمًا، فإذا أمر غيره بأن باع له واشترى وزوجه وطلق عنه وضرب عبده وأدب خادمه لم يحنث في هذا كله، وقال مالك: يحنث في هذا كله، وقال أبو حنيفة: إن كان هذا العقد مما إذا باشره الوكيل إضافة إلى نفسه كالشري، يقول: اشتريت هذه الدار لموكلي لم يحنث الموكل، وإن كان مما لا يضيفه إلى نفسه كالنكاح يقول: قبلت هذا النكاح لموكلي، ولا يقول: نكحت لموكلي، كما يقول: اشتريت لموكلي حنث الموكل، وكلا المذهبين مدخول، والصحيح أن جميعها سواء في أنه لا يحنث الآمر بهما والموكل فيها إذا كان العرف بمباشرته لها جاريًا، لأن الأيمان تحمل على حقائق الأسماء والأفعال، ما لم ينقلها عرف الحقيقة في هذه الأفعال بمباشرتها، والعرف مقترن بها، فلم يجز أن يعدل في الأمر بها عن الحقيقة والعرف إلى مجاز تجرد عن العرف فعلى هذا لو حلف على امرأته أنه لا يطلقها فرد إليها الطلاق، فطلقت نفسها لم يحنث، لأنه لا يكون مطلقًا، وإنما يكون مخيرًا في الطلاق، ولو قال لها: إن دخلت الدار فأنت طالق، فدخلتها طلقت وحنث، لأنه مطلق لها على صفة وقعت منها فلذلك افترقا. والثاني: أن يكون عرف الحالف جاريًا بالاستنابة دون مباشرته، وإن باشره استنكرته النفوس منه، كالسلطان أو من قاربه في رتبته إذا خلف، لا باع ولا اشترى، ولا ضرب عبدًا، ولا أدب خادمًا، فإذا وكل في البيع والشراء وأمر بضرب عبده وبأدب خادمه ففي حنثه قولان: أحدهما: تفرد البيع بنقله وتفرد بعض أصحاب الشافعي، أنه يحنث اعتبارًا بالعرف، لأن العرف قد صار مقترنًا بالمجاز دون الحقيقة، والعرف ناقل، كما لو حلف: لا أكلت رؤوسًا، لم يحنث برؤوس الطير والجراد، وإن وجد حقيقة الاسم فيها، لأن

العرف لما اختص برؤوس الغنم نقل عما عداها حقيقة الاسم. والثاني: وهو الأظهر، وما عليه الأكثرون من أصحابنا أنه لا يحنث، لأن الحقيقة فيها المباشرة لها دون الأمر بها والحقيقة لا تنقل إلا بعرف عام، كما قيل في الرؤوس، وهذا عرف خاص، فلم يجز أن ينتقل به الحقيقة، كما لو حلف سلطان: لا أكلت خبزًأ ولا لبست ثوبًا، فأكل خبز الذرة ولبس عباءة حنث وإن لم تجر عادته بأكل الذرة ولبس العباءة، لأنه عرف خاص وليس بعام، فلذلك ساوى فيه عرف العموم فكذلك في هذه العقود. والثالث: أن يكون عرف الحالف جاريًا بالاستنابة فيه، لكن إن باشره لم تستنكر النفوس منه، ولا تستقبحه، كالنكاح والطلاق والعتق، لا يستقبح من السلطان أن يباشر بنفسه، فإذا حلف سلطان لا تنكح ولا طلق، ولا أعتق، فوكل في النكاح والطلاق والعتاق فقد اختلف أصحابنا هل يعتبر حكم عرفة أو يعتبر ما تستنكره النفوس من فعله، على وجهين: أحدهما: يعتبر حكم عرفة، لأنه أخص به، فعلى هذا في حنثه قولان. والثاني: يعتبر ما لا تستنكره النفوس من فعله، لأنه أعم فعلى هذا لا يحنث قولاً واحدًا والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "ومن حلف لا يفعل فعلين أو لا يكون أمران، لم يحنث حتى يكونا جميعًا وحتى يأكل كل الذي حلف أن لا يأكله". قال في الحاوي: عقد اليمين على فعلين ضربان: أحدهما: أن يعقد على إثباتهما. والثاني: أن يعقد على نفيهما. فإن كانت معقودة على إثباتهما كقوله: والله لآكلن هذين الرغيفين، ولألبسن هذين الثوبين، ولأركبن هاتين الدابتين، فلا خلاف بين القضاء أنه لا يبر إلا بفعلهما فيأكل الرغيفين، يلبس الثوبين ويركب الدابتين، فإن أكل إحدى الرغيفين ولبس أحد الثوبين وركب إحدى الدابتين لم يبر، وهذا متفق عليه، وإن كانت اليمين معقودة على نفي فقال: والله لا أكلت هذين الرغيفين، ولا لبست هذين الثوبين، ولا ركبت هاتين الدابتين، فمذهب الشافعي وأبي حنيفة أنه لا يحنث إلا بهما، كما لا يبر إلا بهما، فإن أكل أحد الرغيفين، ولبس أحد الثوبين، وركب إحدى الدابتين لم يحنث. وقال مالك: يحنث بفعل أحدهما، وإن لم يبر إلا بهما وفرق بينهما من وجهين:

أحدهما: أن الإثبات إباحة، والنفي حظر، والحظر أغلب من الإباحة. والثاني: أن الأيمان موضوعة على التغليظ، والتغليظ في النفي أن يحنث بأحدهما، وفي الإثبات أن لا يبر إلا بهما، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن فعل بعض الشيء لا يقوم مقام فعل جميعه في النفي والإثبات معًا وفاقًا وشرعًا، لأنه لو حلف لا يدخل هذه الدار، فأدخل رأسه أو إحدى رجليه لم يحنث. ولو حلف ليدخلنها، فأدخل رأسه أو إحدى رجليه لم يبر وهذا وفاق قد ورد به الشرع، قد اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في مساجده فأدخل رأسه منه إلى حجرة عائشة رضوان الله عليها لتغسله، ولم يؤثر في اعتكافه. وقال لبعض أصحابه، وهو في المسجد الحرام: لقد أنزلت على آية لم تنزل على أحد قبلي إلا على أخي سليمان، قال: يا رسول الله، أي آية هي؟ قال: لا أخرج من المسجد حتى أعلمك فتوجه للخروج، وقدم إحدى رجليه فأخرجها ثم قال للرجل: بم تستفتح صلاتك قال: بسم الله الرحمن الرحيم، قال: "هي هي". فدل على أن إخراج إحدى رجليه لا يكون خروجًا، وإذا كان بعض الفعل لا يقوم مقام جميع الفعل، فأحد الفعلين أولى أن لا يقوم مقام الفعلين. والثاني: أنه لما استوي الفعلان في شرط البر وجب أن يستويا في شرط الحنث، لتردد اليمين بين بر وحنث؟ وفرقاه بينهما منتقض بفعل بعض الشيء حيث لم يقم مقام جميعه في الإثبات والنفي معًا مع وجود الحظر والإباحة فيهما. مسألة: قال الشافعي: "ولو قال: والله لا أشرب ماء هذه الإداوة أو ما هذا النهر لم يحنث حتى يشرب ماء الإداوة كله ولا سبيل له إلى شرب ماء النهر كله ولو قال من ماء هذه الإداوة أو من ماء هذا النهر حنث إن شرب شيئًًا من ذلك". قال في الحاوي: أما إذا حلف لا شربت من ماء هذه الإداوة، ولا شربت من ماء هذا النهر، فاليمين معقودة على بعض ماء الإداوة وبعض ماء النهر، لدخول حرف التبعيض عليها، وهو قوله: فأي قدر شرب من ماء الإداوة وماء النهر حنث من قليل وكثير، وكذا في الإثبات لو حلف ليشربن من ماء الإداوة أو من ماء النهر، فأي قدر شرب منهما من قليل أو كثير بر في يمينه ارتوى به أو لم يرتو. فأما إذا حذف من يمينه حرف التبعيض فأطلقها، فقال: والله لأشربن ماء هذه الإداوة لم يحنث بشرب بعضه، وإن حنثه مالك، لأن الحقيقة في إطلاق اليمين توجب

الاستيعاب فإن قيل: أفليس لو قال: والله لا أكلت طعامًا اشتراه زيد، أكل بعضه حنث، فلا حنث بشرب بعض الماء، كما حنث بأكل بعض الطعام. قيل: لا يختلف المذهب أنه لا يحنث بشرب بعض الماء وفي حنثه بأكل بعض الطعام وجهان: أحدهما: أنه كما لا يحنث بأكل بعضه فعلى هذا قد استويا. والثاني: وهو اختيار أبي على بن أبي هريرة، أنه يحنث بأكل بعض الطعام، وإن لم يحنث إلا بشرب جميع الماء، والفرق بينهما أن الماء في الإداوة مقدار ينطلق على جميعه، ولا ينطلق على بعضه، فلذلك لم يحنث بشرب بعضه وشراء زيد للطعام صفة تنطلق على بعضه، كما تنطلق على جميعه، فلذلك حنث بأكل بعضه، فإذا ثبت أن الحنث في الإداوة يقع بشرب مائها كله، ولا يحنث بشرب بعضه، فذهب من ماء الإداوة قطرة انحلت اليمين لأنه لا حنث فيها إن شرب باقي مائها، فلو شك أذهب منها قطرة أو لم يذهب، فشرب جميع مائها، ففي حنثه وجهان: أحدهما: يحنث: لأن ذهاب القطرة مشكوك فيه. والثاني: لا يحنث، لأن الحنث مشكوك فيه. فصل: فأما إذا حلف، لا شربت ماء هذا النهر، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: لا سبيل إلى شرب ماء النهر كله، ولم يتعرض لبره ولا لحنثه فيما شرب منه، فاختلف أصحابنا في شربه منه على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج يحنث بما شرب منه، لأنه لما استحال شرب جميعه، صارت اليمين معقودة على ما لا يستحيل لأن لا يصير بيمينه بعد العقد لغوًا. ألا تراه لو قال: والله لا شربت الماء حنث بشرب ما قل منه، وإن كان دخول الأول واللام يقتضي استيعاب جميعه، لأنه لما كان شرب جميعه من المستحيل، حمل على شرب ما لا يستحيل، كذلك ماء النهر لما استحال شرب جميعه، حمل على ما لا يستحيل من شرب بعضه، وتأول قول الشافعي رضي الله عنه، ولا سبيل إلى شرب ماء النهر كله على حمل يمينه على ما يجد السبيل إليه، وهو أن يشرب من ماء النهر، فعلى هذا: أى شرب شرب من مائه حنث به مما يروى أو لا يروى. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي، ويشبه أن يكون هو الظاهر من مذهب الشافعي أنه لا يحنث بشرب بشيء من مائه لأن يمينه توجهت إلى شرب جميعه، لأنه عقدها على ماء النهر، ولم يطلق فصار النهر مقدارًا كالإداوة وليس إذا استحال شرب الجميع وجب أن يحمل على شرب ما لا يستحيل.

ألا تراه لو حلف لأصعدن السماء، وهو مستحيل لم يحمل على صعود السقف، وقد يسمى سماء، لأنه غير مستحيل، ووجب حمل يمينه في صعود السماء على الحقيقة دون المجاز كذلك في شرب ماء النهر فأما إذا قال: لا شربت الماء، والألف واللام لفظ تعريف وضع لاستيعاب الجنس تارة وللمعهود أخرى وهو حقيقة فيهما، فإذا استحال استيعاب الجنس حمل على المعهود، وكان حقيقة فيه، وفارق ماء النهر لأن الاسم حقيقة في جميعه ومجاز في بعضه، وتأول قول الشافعي: "ولا سبيل إلى شرب ماء النهر كله" بسقوط حنثه. ثم يتفرع على هذين الوجهين في النفي أن يعقد يمينه على الإثبات فيقول: والله لأشربن ماء هذا النهر، فعلى مقتضى قول أبي العباس: متى شرب بعض مائه بر، لأنه لما حنث بشرب بعضه في النفي وجب أن يبر بشرب بعضه في الإثبات، وعلى مقتضى قول المروزي لا يبر في الإثبات بشرب بعضه كما لا يحنث في النفس بشرب بعضه، وإذا لم يبر صار محكومًا بحنثه، لأنه لا سبيل إلى بره، فصار كقوله: والله لأصعدن السماء، يكون حانثًا، لأنه لا سبيل له إلى البر وفي زمان حنثه وجهان: أحدهما: عقيب يمينه، لأن استحالة البر يمنع من تأخير الحنث. والثاني: يحنث من آخر حياته، لأنه عقد يمينه على التراخي، فكان تحقيق الحنث على التراخي. فصل: وإذا حلف لأشرب من ماء دجلة، فشرب من ماء الفرات، أو لأشرب من ماء الفرات فشرب من ماء دجلة، لم يحنث لأن التعيين يخص اليمين، ولو قال: والله لأشرب ماء فراتًا حنث بشربه من دجلة ومن الفرات، لأن الماء الفرات هو العذب، فحنث بشرب كل ماء عذب. قال الله تعالى: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} [المرسلات: 27] أي: عذبًا، ولا فرق إذا حلف لأشرب من ماء دجلة بين أن يشربه من إناء اغترف به وبين أن يشربه كرعًا بفيه كالبهيمة. فأما إذا حلف، لا شربت من دجلة، فإن شرب منها كرعًا بفمه حنث بإجماع، وإن اغترف منها بإناء وشرب من الإناء حنث عند الشافعي. وقال أبو حنيفة: لا يحنث حتى يكرع منها بفمه، ولا يبر إن اغترف بيده احتجاجًا بأمرين: أحدهما: أنه لو حلف: لأشرب من هذا الإناء، فاغترف من مائه، وشربه لم يحنث كذلك إذا حلف لا شربت من دجلة، فاغترف ما شربه من ماء لم يحنث بوقوع اليمين على مستقر الماء في الموضعين. والثاني: أن الشرب منها حقيقة، ومن مائها مجاز، وحمل الأيمان على الحقيقة

أولى من حملها على المجاز. ودليلنا أمور: أحدها: أن الماء المشروب مضمر في اللفظ، لأنه المقصود بالشرب، كما يقال: شرب أهل بغداد من دجلة وأهل الكوفة من الفرات، أي من ماء دجلة وماء الفرات فصار إضماره كإظهاره، فلما كان لو حلف: لأشرب من ماء دجلة حانثًا فشربه منها على جميع الأحوال وجب إذا حلف، لأشرب من دجلة أن يحنث بشربه منها على كل حال، لأن المضمر مقصود كالمظهر. والثاني: إن إجماعنا منعقد على أنه لو حلف لا شرب من البئر، ولا أكلت من النخلة أنه يحنث بشرب ما استقاه من البئر، ويأكل ما لقطه من النخلة، وإن لم يكرع ماء البئر بفمه، ولا تناول ثمرة النخلة بفمة، كذلك الدجلة. وتحريره قياسًا، أن ما كان حنثًا في ماء البر كان حنثًا في ماء الدجلة قياسًا على أصلين: أحدهما: إذا كرع منهما. والثاني: إذا تلفظ باسم الماء فيهما. فإن قيل: ماء البئر لا يمكن أن يشرب إلا باستقائه وثمر النخلة لا يمكن أن يؤكل إلا بلقاطه. قيل: يمكن أن يشرب ماء البئر بنزوله إليها، ويؤكل من النخلة بصعوده إليها وإن كان تلحقه المشقة كما يمكن أن يكرع من الدجلة بالمشقة. والثالث: أن حقيقة الدجلة اسم لقرارها، والحقيقة في هذا الاسم معدول عنها من وجهين: أحدهما: أن القرار غير مشروب. والثاني: أن ما باشر القرار لا يصل إلى كرعه لعمقه، وإذا سقط حقيقة الاسم من هذين الوجهين وجب العدول إلى مجازه، وهو الماء، لأن اسم الدجلة حقيقة في قرارها، ومجاز في مائها، والمجاز المستعمل أولى من الحقيقة المتروكة. فأما الجواب عن استدلاله إذا حلف لا يشرب من هذا الإناء فهو أن الإناء آلة للشرب، فصارت اليمين معقودة عليه، وليست الدجلة آلة للشرب، فصارت اليمين معقودة على مائها، ألا تراه إذا قال: والله لا شربت من هذه الناقة حنث إذا شرب من لبنها، وإن لم يمتصه من أخلاف ضروعها. ولو قال: والله لا شربت من هذا الإناء، فشرب من لبن الإناء بعد إخراجه منه لم يحنث. وأما الجواب عن استدلالهم بأن الشرب منها حقيقة، ومن مائها مجاز، فهو ما قدمناه من أن المجاز المستعمل أولى من الحقيقة المتروكة والله أعلم بالصواب.

باب من حلف على غريمه لا يفارقه حتى يستوفي حقه

باب من حلف على غريمه لا يفارقه حتى يستوفي حقه مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "من حلف على غريمه لا يفارقه حتى يستوفي حقه ففر منه لم يحنث لأنه لم يفارقه ولو قال: لا أفترق أنا وأنت حنث". قال في الحاوي: وأصل هذا الباب أن كل يمين علقت على فعل فاعل كانت مقصورة على فعله، ولم يتعلق بفعل غيره، فيكون البر والحنث معتبرًا بفعل من قصد باليمين، فإذا لازم صاحب الدين غريمه، وحلف أن لا يفترقا حتى يستوفي حقه لم يخل يمينه من أحد ثلاثة أقسام: أحدها: أن يعقدها على فعله. والثاني: على فعل غريمه. والثالث: على فعلهما. فأما الأول: وهو أن يعقدها على فعله، فهو أن يقول: والله لا فارقتك حتى أستوفي حقي منك، فالبر والحنث متعلق بفعل الحالف دون المحلوف عليه، فإن فارقه الحالف مختارًا ذاكرًا حنث، وإن فارقه مكرهًا أو ناسيًا ففي حنثه قولان، على ما مضى في حنث المكره والناسي، فأما إن فارقه الغريم المحلوف عليه وفر منه لم يحنث الحالف، سواء قدر على إمساكه أو لم يقدر، لأن اليمين معقودة على فعله فكان حنثه بأن يكون الفراق منسوب إلى فعل غريمه، فلم يتعلق به حنث، ووهم ابن أبي هريرة فخرج حنثه بفراق الغريم على قولين من حنث المكره والناس وهو خطأ لما ذكرنا. وأما الثاني: فهو أن يعقد يمينه على فعل غريمه، وهو أن يقول: والله لا فارقتني حتى أستوفي حقي منك، فإن فارقه الغريم مختارًا ذاكرًا حنث، وإن فارقه مكرهًا أو ناسيًا، فقد اختلف أصحابنا في الإكراه إذا كان في فعل المحلوف عليه، هل يجري مجرى الإكراه في فعل الحالف على وجهين: أحدهما: وهو قول البغداديين أن الإكراه فيهما على سواء، فعلى هذا في حنث الحالف قولان: والثاني: وهو قول البصريين، أن الإكراه معتبر في فعل الحالف وغير معتبر في فعل المحلوف عليه، فعلى هذا يحنث الحالف قولاً واحدًا، فأما إن كان الحالف هو المفارق للغريم، فلا حنث عليه لأن يمينه معقودة على فعل غريمه، لا على فعل نفسه، وهذا الفراق منسوب إليه، وليس بمنسوب إلى الغريم، فلم يتعلق به حنث. وأما الثالث: وهو أن يعقد يمينه على فعله، وفعل غريمه، وهو أن يقول: والله لا

افترقنا أنا وأنت، أو والله لا فارق واحد منا صاحبه، حتى أستوفي حقي منك، فالحنث ها هنا واقع بفراق كل واحد منهما صاحبه، لانعقاد اليمين على فعلهما، فإن فارقه الحالف حنث إن كان ذاكرًا مختارًا، وفي حنثه إن كان مكرهًا أو ناسيًا قولان، وإن فارقه الغريم المحلوف عليه ذاكرًا مختارًا حنث الحالف، وإن فارقه مكرهًا أو ناسيًا، ففي حنث الحالف ما قدمناه من خلال البغداديين والبصريين في معاني هذه الأقسام في اليمين إذا كانت في الكلام أن يقول: والله لا كلمتك، فإن كلمة الحالف، حنث لعقد اليمين على كلام الحالف، وإن كلمه المحلوف عليه لم يحنث ولو قال: والله لا كلمتن فكلمه المحلوف عليه حنث، ولو كلمه الحالف لم لحنث لعقد اليمين على كلام المحلوف عليه، ولو قال: والله لا تكلمنا أو لا كلم واحد منا صاحبه، فأيهما كلم الآخر حنث لأن اليمين معقودة على كلام كل واحد منهما والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "ولو أفلس قبل أن يفارقه". قال في الحاوي: وهذا راجع إلى من حلف لا يفارقه غريمه حتى يستوفي حقه منه فأفلس الغريم ففارقه لأجل الفلس الموجب لإطلاقه لا لخديعة، فلا يخلو حال فراقه من أن يكون بحكم أو بغير حكم، فإن فارقه بنفسه لما أوجبه الشرع من إنظار المعسر حنث، لأن أحكام الشرع إذا خالفت عقد اليمين لم يمنع من الحنث كمن غصب مالاً، وصف لا رده على صاحبه حنث برده عليه، وإن كان رده بالشرع واجبًا، لأنه رده عليه مختارًا، وهكذا لو دخل دار غيره وحلف لا خرج منها حنث بخروجه، وإن أوجبه الشرع، فأما إن حكم الحاكم عليه بمفارقته لما حكم به من فلسه، فهو في هذا الفراق مكره غير مختار، لأنه منسوب إلى إجبار الحاكم، فيكون في حنثه قولان من حنث المكره. مسألة: قال الشافعي: "أو استوفي حقه فيما يرى فوجد في دنانيره زجاجًا أو نحاسًا حنث في قول من لا يطرح الغلبة والخطأ عن الناس لأن هذا لم يعمده". قال في الحاوي: إذا استوفي حقه في الظاهر ثم وجد فيه بعد فراقه نحاسًا أو رصاصًا أو زجاجًا لم يعلم به صار فيه كالمغلوب والناسي، فيكون في حنثه قولان: أحدهما: يحنث اعتبارًا بوجود الفعل وإطراحًا للقصد. والثاني: لا يحنث اعتبارًا بالقصد وإطراحًا للفعل. وأما إذا أوجده معيبًا، وهو من جنس الحق، فهو على ضربين:

أحدهما: أن يكون عيبها يخرجها من انطلاق اسم الحق عليها، لأن حقه دنانير مغربية فأعطاه دنانير مشرقية، فتكون خلاف الصفة في اليمين جاريًا مجرى خلاف الجنس، فإن علم به قبل فراقه حنث، وإن لم يعلم به إلا بعد فراقه كان حنثه على ما مضى من القولين. والثاني: أن يكون عيبها لا يخرجها من انطلاق اسم الحق عليها؛ بأن تكون دنانير مغربية لكنها معيبة نظر، فإن كان عيبها مما يسمح به في الأغلب لقلة أرشه بر في يمينه، وإن كان ضد ذلك لكثرة أرشه حنث. فإن قيل: نقصان القدر موجب للحنث فيما قل وكثر فهلا كان نقصان الأرض بمثابته في وقوع الحنث بما قلّ أو كثر قيل: لأن نقصان القدر مستحق يمنع من التماثل في الربا ونقصان الأرض مظنون لا يمنع من التماثل في الربا ويمنع من البر في اليمين. فإن قيل: فهذا ينكسر بكثير الأرش لا يمنع من التماثل في الربا ويمنع من البر في اليمين، قيل: لأن الظن في كثيره أقوى، وفي قليله أضعف فافترقا في بر اليمين وإن استويا في تماثل الربا. مسألة: قال الشافعي: "ولو أخذ بحقه عرضًا فإن كان قيمة حقه لم يحنث وإن كان أقل حنث إلا أن ينوى حتى لا يبقى عليك من حقي شيء فلا يحنث قال المزني رحمه الله: ليس للقيمة معنى لأن يمينه إن كانت على عين الحق لم يبر إلا بعينه وإن كانت على البراءة فقد براء والعرض غير الحق سوى أو لم يسو". قال في الحاوي: وصورتها أن يحلف صاحب الحق على غريمه أن لا يفارقه حتى يستوفي حقه منه فيأخذ منه عوض حقه متاعًا أو عروضًا أو يأخذ بدل الدراهم دنانير أو بدل الدنانير دراهم، فقد اختلف الفقاء في بره على ثلاثة مذاهب: أحدها: وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه: أنه لا يبر في يمينه، ويحنث سواء كان ما أخذه بقيمة حقه أو أقل منه. والثاني: وهو مذهب أبي حنيفة أنه يبر في يمينه ولا يحنث، سواء كان بقيمة حقه أو أقل منه. والثالث: وهو مذهب مالك أنه يبر إن كان بقيمة حقه، ويحنث إن كان أقل من قيمة حقه، ووهم المزني، فنقل هذا المذهب عن الشافعي ثم رد عليه فقال: ليس للقيمة معنى، لأن يمينه إن كانت على غير الحق لم يبر إلا بعينه، وإن كانت على البراءة فقد برئ، والعوض غير الحق، سوى أو لم يساو فيقال للمزني: نقلك خطأ وجوابك صحيح، وإنما

حكاه الشافعي عن مالك، وقد أفصح بمذهبه في كتاب الأم أنه يحنث، واحتج أبو حنيفة على بره بأخذ البدل بأنه إذا أخذ عن مائة دينار ألف درهم صار عليه بأخذ الألف مائة دينار، فصار مستوفيًا لحقه. ودليلنا هو أن سقوط الحق إنما هو بالمأخوذ وهو دراهم والحق دنانير، فصار آخذًا لبدل الحق، وليس بآخذ للحق، ولأننا أجمعنا وأبو حنيفة أنه لو كان حق الحالف ثوبًا فصالح عنه بدراهم أخذها منه أنه يحنث، فكذلك إذا أخذ عن الدراهم ثوبًا أو أخذ عن الدنانير دراهم حنث، لأنه قد أخذ في الحالين بدل حقه، ولم يأخذ بعينه وفيه جواب. فصل: فأما إذا حلف لا يفارقه حتى يستوفي ما عليه ولم يقل: أستوفي حقي فأخذ بحقه بدلاً بر في يمينه، لأنه قد صار بأخذ البدل مستوفيًا ما عليه، ولو أبرأه من الحق حنث، لأن الإبراء ليس باستيفاء، ولو أخذ به رهنًا حنث أيضًا، لأن الرهن وثيقة، ولو أحاله بالحق حنث، لأنه ما استوفي ما عليه، وإنما نقله إلى ذمة غيره، ولو أحاله صاحب الحق على الغريم بر لأنه قد استوفي بالحوالة حقه، ولو جني عليه جناية أرشها بقدر حقه فإن كانت خطأ لم يبر، لأن أرشها على عاقلته، وإن كانت عمدًا فأرشها في ذمته، وحقه في ذمة غريمه، فإن كانا من جنسين لم يجز أن يتقاضاه، لأنه بيع دين بدين، فيحنث لبقاء حقه على غريمه، وإن كانا جنس واحد فهل يكون قصاصًا فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: يكون قصاصًا، وإن لم يتراضيا، فعلى هذا فقد بر في يمينه. والثاني: لا يكون قصاصًا وإن تراضيا، فعلى هذا قد حنث في يمينه. والثالث: يكون قصاصًا مع التراخي، ولا يكون قصاصًا مع عدم التراخي، فعلى هذا إن تراضيا قبل الافتراق بر، وإن لم يتراضيا حنث. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "حد الفراق أن يتفرقا عن مقامهما الذي كانا فيه أو مجلسهما". قال في الحاوي: وهذا صحيح، وهو معتبر بالعرف أن يصير كل واحد منهما في مكان لا ينسب إلى مكان صاحبه، وجملته أن كل ما جعلناه افتراقًا في البيع في سقوط الخيار في المجلس جعلناه افتراقًا في اليمين في وقوع الحنث وقد أوضحناه فأغنى عن إعادته، فلو أكره الحالف على الافتراق كان في حنثه قولان، ولو مات الحالف قبل فراقه لم يحنث، ولو مات المحلوف عليه لم يكن مفارقًا له بالموت بخلاف الافتراق بالبيع حتى يفارقه ببدنه، فإذا فارقه ببدنه، ففي حنثه حينئذٍ قولان كالمكره.

مسألة: قال الشافعي: "ولو حلف ليقضينه حقه غدًا فقضاه اليوم حنث لأن قصاءه غدًا غير قضائه اليوم فإن كانت نيته أن لا يخرج غد حتى أقضيك حقك فقد بر". قال في الحاوي: وقد مضت هذه المسألة إذا حلف ليقضينه حقه غدًا فقضاه اليوم أنه يحنث، لأن قضاءه اليوم ليس بقضاء في غد وقال أبو حنيفة ومالك: لا يحنث، ولكن لو نوى بيمينه أن لا يخرج غدًا حتى أقضيك بر، لأنه جعل خروج الغد حدًا، ولم يجعله وقتًا ولو حلف، لأدخلن الدار في غد فدخلها اليوم لم يحنث، لأنه يقدر على دخولها في غد فإن لم يدخلها في غد حنث، ولو حلف ليبيعن عبده في غد فباعه اليوم لا يحنث، لأنه يقدر على ابتياعه بعد بيعه ثم يبيعه في غد، فإن فعل ذلك وإلا حنث حينئذٍ، ولو أعتقه قبل غد حنث، لأنه لا يقدر على بيعه بعد عتقه، ولو دبره لم يحنث، لأنه يقدر على بيعه، ولو كاتبه لم يتعجل حنثه لجواز أن يعجز العبد نفسه قبل غد فيقدر على بيعه في غد. ولو حلف ليطلقن زوجته في غد، فطلقها اليوم، فإن استوفي به جميع طلاقها حنث، وإن لم يستوفيه لم يحنث، لأنه يقدر على طلاقها في غد. ولو حلف ليتزوجن هذه المرأة في غد فتزوجها اليوم، ولم يتعجل حنثه، لأنه يقدر على طلاقها واستئناف نكاحها في غد، فإن فعل وإلا حنث. ولو حلف ليعتقن عبده في غد فأغتقه اليوم حنث، لأنه لا يقدر على استئناف عتقه بعد نفوذه اليوم بخلاف النكاح، وإذا حنث في هذه المسائل على ما بينا، ففي زمان حنثه ثلاثة أوجه: أحدها: حكاه ابن أبى هريرة احتمالاً، أنه يحنث لوقته، لأنه لا سبيل له آلي البر. والثاني: أنه يحنث في أول دخول غده. لأنه أول أوقات بره. والثالث: أنه لا يحنث إلا بخروج غده، لأنه أخر أوقات بره، فصار وقتًا لحنثه، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "هكذا لو وهبه له رب الحق حنث إلا أن يكون نوى أن لا يبقى على غدًا من حق شيء فيبر". قال في الحاوي: ولسقوط الحق عنه بغير أداء حالتان: إحداهما: هبة تتوجه إلى الأعيان. والثاني: إبراء يتوجه إلى الذمة، فأما الهبة فهي تمليك محض لا يتم إلا بالقبول بعد البدل والقبض بعد العقد، فإذا حلف ليقضيه حقه في غد أو ليدفعن إليه حقه في غد فوهبه

صاحب الحق له حنث الحالف، لأن الحق سقط بغير دفع، وقد اختار التملك فصار مختارًا للحنث، فحنث ولو كان الحق في الذمة فأبرأه منه، فإن قيل: إن الإبراء تمليك يقف على القبول حنث كالهبة وإن قيل: إنه إسقاط لا يفتقر إلى القبول ففي حنثه قولان، كالمغلوب على الحنث، ولكن لو قال: والله لا فارقتك ولي عليك حق، فوهبه له أو أبرأه منه بر في يمينه، لأنه لم يبق له بعد الهبة، والإبراء حق. ولو كان له عنده وديعة ففارقه قبل استرجاعها نظر مخرج يمينه، فإن قال: لا أفارقك ولي عليك حق بر مع بقاء الوديعة، لأنه ليست عليه، وإن قال: لا أفارقك ولي عندك حق حنث ببقاء الوديعة، لأنها حق له عنده. ولو كان له عنده عارية حنث في الحالين سواء قال: عليه أو عنده، لأن عليه ضمانها وعنده عينها. فصل: ولو حلف لا بعت لزيد متاعًا فوكل زيد في بيع فباعه الحالف لم يحنث، وعلى مذهب مالك يحنث، وليس بصحيح، لأنه أضاف المتاع إلى زيد بلام التمليك، فصارت يمينه مقصورة على ملك زيد، وهذا المتاع ملك لغير زيد، ولو قال: والله لا بعت متاعًا في زيد فوكل زيد في بيع متاعه فباعه الحالف نظر في توكيل زيد فإن وكل أن يبيعه كيف أرى بنفسه أو بغيره حنث الحالف، لأنه قد باع متاعًا في يد زيد، وإن وكل أن يبيعه بنفسه فدفعه إلى الحالف حتى باعه كان البيع باطلاً، ولم يحنث به الحالف ويكون الحنث واقعًا بما يصح من البيع دون ما فسد، وكذلك سائر العقود إذا حلف لا يعقدها، فعقدها عقدًا فاسد لم يحنث، وقال أبو حنيفة: يحنث بالصحيح منها والفاسد استدلالاً بأن العقد فعل، والصحة والفساد حكم، وعقد يمينه على الفعل دون الحكم. ودليلنا: هو أن العقد ما تم، والفساد يمنع من تمامه، وإذا لم يتم شرط الحنث، لم يقع كالنكاح الفاسد، فإنه وافق على أنه لا يحنث به، وخالف في البيع الفاسد، فأوقع الحنث به، فإن اعتبر الحنق بفعل العقد بطل النكاح، وإن اعتبر بصحة العقد بطل البيع، فلم يسلم له دليل، ولم يصح له تعليل. فصل: فإذا حلف لا يصوم، فدخل في الصيام حنث بالدخول فيه، وإن لم يستكمل جميع اليوم. ولو حلف لا يصلي حنث بإحرامه بالصلاة، وإن لم يستكملها. وقال ابن سريج: لا يحنث حتى يقرأ بعد الإحرام، ويركع، فيأتي بأكثر الركعة. وقال أبو حنيفة: لا يحنث حتى يستكمل ركعة بسجدتها يستوعب بها جنس، أفعال الصلاة. ودليلنا: هو أن يكون مصليًا بالدخول في الصلاة، كما يكون صائمًا بالدخول في

باب من حلف على امرأته لا تخرج إلا بإذنه

الصيام، فوجب أن يستوفيا في الحنث بالدخول، لأن اليمين إذا تعلقت باسم استقر حكمها بالدخول في أول الاسم كمن حلف لا يدخل الدار، فدخل أول دهليزها حنث واستدلاله يفسد بالجلوس قدرًا لتشهد، فإنه من جنس أفعالها، ولم تشتمل عليه الركعة الأولى، والله أعلم بالصواب. باب من حلف على امرأته لا تخرج إلا بإذنه مسألة: قال الشافعي: "من قال لامرأته أنتِ طالق إن خرجت إلا بإذني أو حتى آذن لك فهذا على مرة واحدة وإذا خرجت بإذنه فقد بر ولا يحنث ثانية إلا أن يقول كلما خرجت إلا بإذني فهذا على كل مرة". قال في الحاوي: اعلم أن ألفاظ يمينه إذا حلف على زوجته أن لا تخرج إلا بإذنه ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما اتفق الفقهاء على أنها تنعقد على مرة واحدة، ولا توجب التكرار، وذلك لفظتان "إلى" و"حتى". فإذا قال لها: أنت طالق إن خرجت إلى أن آذن لك، أو حتى آذن لك، فتنعقد يمينه على خروجها مرة واحدة بإذنه، فإن خرجت مرة واحدة بإذنه بر، وانحلت يمينه ولا يحنث، وإن خرجت بعد ذلك بغير إذنه، واختلفوا في العلة مع اتفاقهم في الحكم، فعلل أصحاب أبي حنيفة بأنهما لفظتان غاية ارتفع حكمها بانقضائها. وعلل أصحاب الشافعي رحمه الله بأنهما لما لم يتكررا في الحنث لم يتكرر في البر. وتأثير هذا الاختلاف في التعليل يتبين في القسم الثالث، فهذا حكم القسم الأول. والثاني: ما اتفقوا على أنها تنعقد على التكرار في البر والحنث، وهي لفظة واحدة، وذلك قوله: كلما دخلت الدار بغير إذني، فأنت طالق فلفظة "كلما" موضوعة للتكرار، فبره يكون بإذنه لها في كل مرة، وحنثه يكون بأن لا يأذن لها في كل مرة، وإن خرجت مرة بغير إذنه حنث، وطلقت واحدة، ولم تسقط يمينه، وإن خرجت ثالثة بغير إذنه حنث، وطلقت ثالثة، وسقطت يمينه بعدها لاستيفاء ما ملكه من طلاقها. ولو أذن لها بالخروج ثلاثة مرات من ثلاثة خرجات بر، ولم تخل يمينه، لبقاء الطلاق. فإن خرجت رابعة بغير إذنه، طلقت، فيقدر الحنث بالثلاث، ولم يتقدر بها البر، لاعتبار الحنث بما ملكه من عدد الطلاق، فلو خرجت مرة بإذنه وثانية بغير إذنه، وثالثة بإذنه، ورابعة بغير إذنه بر في خرجتين الأولى والثالثة.

وحنث في خرجتين في الثانية والرابعة ثم على هذه العبرة. والثالث: ما اختلف فيه: هل تنعقد يمينه على مرة واحدة أو على التكرار، وذلك فيما عدا القسمين الماضيين من الألفاظ، وهي خمسة ألفاظ: أحدها: إن خرجت من الدار إلا بإذني، فأنت طالق. والثانية: إن خرجت من الدار إلا أن آذن لك، فأنت طالق. والثالثة: إن خرجت من الدار بغير إذني، فأنت طالق. والرابعة: أي وقت خرجت من الدار بغير إذني، فأنت طالق. والخامسة: متى خرجت من الدار بغير إذني، فأنت طالق. فاختلفوا في انعقاد اليمين بهذه الألفاظ هل توجب التكرار في البر والحنث على ثلاثة مذاهب: أحدها: وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه أنها تنعقد على مرة واحدة في البر والحنث، ولا توجب التكرار في بر ولا حنث. فإن خرجت مرة واحدة بإذن بر وانحلت اليمين، ولا يحنث إن خرجت بعد ذلك بغير إذن. وإن خرجت مرة واحدة بغير إذن حنث، وسقطت اليمين، ولا يعود الحنث إن خرجت بعده بغير إذن. والثاني: وهو مقتضى مذهب مالك أنها تنعقد على التكرار في البر والحنث، وإن خرجت مرة بإذن بر، ولم تخل اليمين، وإن خرجت مرة بغير إذن حنث، ولم تسقط اليمين. والثالث: وهو مذهب أبي حنيفة أنها تنعقد على المرة الواحدة في الحنث، وعلى التكرار في البر، فإذا خرجت مرة بغير إذن حنث، وسقطت اليمين، ولم يحنث إن خرجت مرة من بعد بغير إذن. وإن خرجت مرة بإذن بر، ولم تخل اليمين، وحنث إن خرجت بعده بغير إذن، ولأصحابه في هذا طريقان: منهم من يرى أن قوله: "إلا بإذني" استثناء يوجب خروج المستثنى، ولا يتعلق به بر ولا حنث، وبره بأن يكون لا تخرج، وحنثه يكون بأن تخرج بغير إذن، ليكون بارًا من وجه واحد، وحانثًأ من وجه واحد به، ولا يكون بارًا من وجهين: وحانثًا من وجه، كمن قال لزوجته: إن كلمت زيدًا، فأنت طالق كان بكلامها لزيد حانثًا ويترك كلامه بارًا، وبكلامها لغيره غير بار، ولا حانث، وهذه أشبه بطريقة المحققين منهم، وهي فاسدة من وجهين: أحدهما: أن يمينه تضمنت منعًا، وتمكينًا، فالمنع خروجها بغير إذن، والتمكين خروجها بإذن.

فلما حنث بالجمع وجب أن يبر بالتمكين، لأن كل واحد منهما قد تضمنته اليمين، وخالف ما استشهد به من يمينه على كلامها لزيد، لأن كلامها لغيره لم يدخل في يمينه من منع ولا تمكين، فلم يتعلق به بر ولا حنث. والثاني: أن البر والحنث يتعلقان في الأيمان بشيء واحد، فإن كانت على إثبات كقوله: والله لأدخلن الدار، كان بره بدخولها، وحنثه بأن لا يدخلها. وإن كانت على نفي كقوله: والله لا دخلت الدار كان بره بأن لا يدخلها وحنثه بأن يدخلها. فلما كان حنثه في قوله: إن خرجت إلا بإذني، فأنت طالق، يكون بخروجها بغير إذنه وجب أن يكون بره بخروجها بإذنه، فتثبت بهذين المعنيين فساد هذه الطريقة. والثانية: لهم أن يسلموا وقوع البر بالخروج بإذن، كما أن وقوع الحنث بالخروج بغير إذن، ويستدلوا على وجوب تكرار البر، وإن لم يتكرر الحنث بأمرين: أحدهما: إنما انعقد الإجماع عليه في قوله لزوجته: إن خرجت من الدار إلا راكبة فأنت طالق، أن البر يتكرر، ويلزمها أن تخرج في كل مرة راكبة، وإن خرجت مرة غير راكبة حنث وسقطت اليمين، وإن خرجت مرة راكبة بر ولم تخل اليمين، ولزمها الخروج بعد هذا البر راكبة أبدًا، كذلك ما اختلفنا فيه من قوله: إن خرجت إلا بإذن، فأنت طالق، فخرجت مرة بإذنه، لم تخل اليمين، ولزمها أن تخرج كل مرة بإذنه. ولو خرجت مرة بغير إذنه حنث، وسقطت اليمين، فيكون الإجماع في اشتراط الركوب دليلاً على الخلاف في اشتراط الإذن، إذ ليس بين الشرطين فرق في الحكم. والثاني: أنه لما كان البر يترك الخروج مؤبدًا، والحنث بالخروج من غير إذن مقيدًا وجب أن يكون البر بالخروج بالإذن متكررًا، وإن لم يكن الحنث بالخروج بغير إذن متكررًا. والدليل على فساد هذه الطريقة من وجهين: أحدهما: لما كان عقد اليمين بلفظ الغاية يوجب استواء البر والحنث في سقوط التكرار، وكان عقدها بقوله: "كلما" يوجب استواء البر والحنث في وجوب التكرار، وجب أن يكون عقدها بما اختلفا فيه من قوله: إن خرجت إلا بإذني، ملحقًا بأحدهما في استواء البر والحنث في وجوب التكرار وسقوطه، فلما سقط التكرار في الحنث وجب أن يسقط التكرار في البر. وتحريره قياسًا: أن كل يمين اشتملت على منع وتمكين وجب أن يكون البر فيها مقابلاً للحنث في وجوب التكرار وسقوطه كالمعقود بلفظ الغاية في سقوط التكرار، وكالمعقودة ب "كلما" في وجوب التكرار. والثاني: أن البر والحنث في الأيمان معتبران بالعقد، فإن أوجب تكرار المنع والتمكين أوجب تكرار البر والحنث، وإن لم يوجب تكرارهما لم يتكرر البر والحنث. ولفظ التكرار معدوم في قوله: إن خرجت إلا بإذني، فانعقد على مرة، وموجود في قوله:

كلما خرجت بغير إذني، فانعقد على كل مرة. ألا تراه لو قال لها: إن خرجت بإذني، فأنت طالق، انعقدت على مرة، ولو قال: كلما خرجت بإذني فأنت طالق، انعقدت على مرة، ولو قال: كلما خرجت بإذني انعقدت على التكرار وما انعقدت عليه اليمين سواء في البر والحنث في التكرار والانفراد، لأن عقدها إن قابلت مقتضاها كان حكمها مقصورًا عليه. وتحريره قياسًا: أن ما انعقدت عليه اليمين وجب أن يستوي فيه البر والحنث، قياسًا على تعليق الطلاق بالإذن، تسوية بين الإثبات والنفي فأما الجواب عن استدلالهم بقوله: إن خرجت إلا راكبة، فهو أن هذا تعليق طلاق بصفة، وهي خروجها ماشية، فوقع بوجود الصفة، وليست يمينًا توجب منعًا، وتمكينًا، فافترقا. وأما الجواب عن اجتماعهم بامتداد البر في المقام إلى الموت، وتوقيت الحنث بالخروج، فهو أن المقام في منزلها ترك مطلق، فحمل على التأبيد في البر، والخروج فعل مقيد بوقته، فتقدر به البر والحنث، فوجب أن يكون البر فيه مساويًا للحنث. فصل: ويتفرع على ما قدمناه أن يقول لها: إن خرجت إلى غير الحمام بغير إذني، فأنت طالق، فخروجها إلى الحمام مستثنى من يمينه، لأنه لا يفتقر إلى إذن، ولم يتعلق به بر ولا حنث، فاليمين منعقدة على خروجها إلى غير الحمام، فإن خرجت إليه بغير إذنه حنث وسقطت اليمين فإن خرجت إليه بإذنه بر، وانحلت اليمين. فإذا كان كذلك لم يحل خروجها بغير إذن، إذا جمعت فيه بين الحمام وغير الحمام من ثلاث أضرب: أحدها: أن تخرج إلى الحمام، ثم تعدل إلى غير الحمام، فلا حنث عليه اعتبارًا بقصد الخروج أنه كان إلى الحمام. والثاني: أن تخرج إلى غير الحمام، ثم يعدل إلى الحمام، فيحنث اعتبارًا بقصد الخروج أنه كان إلى غير الحمام. والثالث: أن تخرج جامعه في قصدها بين الحمام وغير الحمام، فيحنث، لأن خروجها إلى غير الحمام موجود، فلم يمنع اقترانه بالخروج إلى الحمام من وقوع الحنث به. ووهم أبو حامد الإسفراييني، فقال: لا يحنث به تغليبًا لما لا يوجب الحنث على ما يوجبه، والله فيه واضح، لما عللناه. ألا تراه لو قال لها: إن كلمت زيدًا، فأنت طالق، فكلمت زيدًا وعمرًا معًا طلقت، ولم يمنع كلامها لعمرو من وقوع الطلاق بكلامها لزيد؟!

فصل: فأما الإذن، فقد يكون تارة بالقول، وتارة بالكناية، وتارة بالرسالة، وتارة بالإشارة وجميعه يكون إذنًا اعتبارًا بالعرف فيه. وسواء ابتدأ الزوج بالإذن أو سألته، فأذن. فإن استأذنته وأمسك، فلم يكن منه إذن ولا منع، لم يكن السكوت إذنًا إلا أن تقترن به إشارة، فتصير الإشارة إذنًا. فإن أذن لها، ثم رجع في إذنه، لم يسقط حكم الإذن برجوعه، لأن شرط البر وجود الإذن، وليس بقاؤه عليه شرطًا فيه، وسواء كان رجوعه قبل الخروج أو بعده. فإن شرط إذنًا باقيًا، فرجع فيه حنث إن كان رجوعه قبل الخروج، ولم يحنث إن كان رجوعه بعد الخروج. ولو شرط في يمينه أن يكون خروجها بإذن غيره، اعتبر إذن ذلك الغير دون الحالف، ولو شرط إذنهما معًا حنث بخروجها عن إذن أحدهما، فإن أذن للغير أن يأذن لها، فعلى ثلاثة أضرب: أحدها: أن يقول: ائذن لها عن نفسك، فلا يجزئ في البر أن يأذن لها الغير، حتى يأذن معه الحالف، فإن أذن الغير، ولم يأذن الحالف حنث. والثاني: أن يقول: ائذن لها عني، فقد صار في الإذن نائبًا عن الحالف، فيحتاج الغير أن يأذن لها إذنين. أحدهما: عن نفسه. والثاني: عن الحالف. فإذا جمع بين الإذنين بر الحالف، وإن اقتصر على أحدهما حنث. والثالث: أن يطلق إذنه للغير، فيسأل عنه الحالف. فإذا أراد به أحد الأمرين عمل عليه، وكان حكمه على ما قدمناه من الضربين، فإن فات سؤال الحالف عنه الغيبة طالت نظر، حال ذلك الغير مع الحالف. فإن كان ممن جرت عادته أن يأمره وينهاه، صار هذا الإذن له أمرًا، فيكون إذنًا عن الحالف، فيصير كالضرب الثاني. وإن لم تجر عادته بأمره ونهيه صار مثل هذا الإذن طلبًا، فيكون إذنًا عن الغير، فيصير كالضرب الأول اعتبارًا بالعرف والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "ولو أذن لها وأشهد على ذلك فخرجت لم يحنث لأنه قد أذن لها وإن لم تعلم كما لو كان عليه حق لرجل فغاب أو مات فجعله صاحب الحق في حل

برئ غير أني أحب له في الورع لو أحنث نفسه لأنها خرجت عاصية له عند نفسها وإن كان قد أذن لها". قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا حلف بطلاقها أن لا تخرج إلا بإذنه، وأذن لها ولم تعلم بالإذن حتى خرجت لم يحنث، ولا يكون علمها بالإذن شرطًا في البر، وهذا مذهب الشافعي وبه قال أبو يوسف وقال مالك وأبو حنيفة ومحمد يحنث، ويكون علمها بالإذن شرطًا في البر، استدلالاً بأربعة معانٍ: أحدها: أن الإذن تضمن الإعلام لقوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27]، أي أعلمهم بفرضه، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس: "إذا حللت، فآذنيني"، أي: أعلميني. وقول الشاعر: آذنتنا ببينها أسماء رب ثاو يمل منه الثواء أي: أعلمتنا، فإذا ثبت بالشرع واللغة أن الإذن يتضمن الإعلام صار شرطًا، فيه فإن عدم لم يكمل الإذن، فلم يقع به البر. والثاني: أن الإذن أمر يخالف ما بعد حكم ما قبله، فجرى مجرى النسخ، ثم ثبت أن العلم بالنسخ شرط في لزومه كذلك العلم، بالإذن شرط في صحته. والثالث: أنه ألزمها بخروجه عن إذنه أن تكون مطيعة في الخروج، فإذا لم تعلم بالإذن صارت عاصية بالخروج، فلم يكن هو الخروج المأذون فيه، فوجب أن يحنث به، ويصير عدم علمها بالإذن جاريًا مجرى عدم الإذن، لوجود المعصية فيهما، كمن باع ما لا يعلم أنه مالك له، ثم علم أنه قد كان مالكًا له، كان بيعه باطلاً، وجرى عدم علمه بالملك مجرى عدم الملك. والرابع: أن الإذن يفتقر إلى آذن، ومأذون له، كالكلام الذي يفتقر إلى قائل ومستمع، فلما كان المنفرد بالكلام يسلبه حكم الكلام، وجب أن يكون تفرده بالإذن يسلبه حكم الإذن. ودليلنا أربعة معان: أحدهما: إن الإذن يختص بالآذان، والعلم به مختص بالمأذون لها، وشرط يمينه إنما كان معقوداً على ما يختص به من الإذن دون ما يختص بها من العلم. ألا ترى أن اسم الإذن ينطلق على إذنه دون علمها، فوجب أن يكون موجباً لوجود الشرط، فلا يقع به الحثت، كما لو قال: إن قمت، فأنت طالق، طلقت بقيامه، إن لم تعلم. والثاني: أنه لو كان العلم شرطًا في الإذن لكان وجوده من الحالف شرطًا فيه، كما كان وجود الإذن منه شرطًا فيه، فلما ثبت أنها لو علمت به من غيره صح، لو أذن لها

غيره لم يصح، دل على خروجه من حقوق الإذن، وصح بمجرد القول. والثالث: أنه قد حظر الخروج عليها باليمين، وأباحها الخروج بالإذن، فصار عقدها جامعًا بين حظر وإباحة، والاستباحة، إذا صادفت إباحة لم يعلم بها المستبيح جرى عليها حكم الإباحة دون الحظر، كمن استباح مال رجل قد أباح له، وهو لا يعلم بإباحته، جرى على المال المبتدئ حكم الإباحة اعتبارًا بالمبيح، ولم يجز عليه الحظر اعتبارًا بالمستبيح. كذلك حكم هذه الخروج. وتحريره: أنها استباحة بعد إباحة، فلم يكن فقد العلم بها مؤثرًا في حكمها كالمال. والرابع: أنها لا تعلم بإذنه، لبعدها تارة، ولنومها أخرى، وقد وافقوا أنه لو أذن لها، وهي نائمة، فخرجت غير عالمة بإذنه لم يحنث، كذلك إذا أذن لها، وهي بعيدة، فلم تعد تعلم بإذنه حتى خرجت وجب أن لا يحنث. وتحريره: أنها يمين تعلق البر فيها بالإذن، فوجب أن لا يكون عدم العلم به موجبًا للحنث، كالنائمة والناسية. وأما الجواب عن استدلالهم الأول، بأن الإذن يتضمن الإعلام استشهادًا بما ذكروه، فمن وجهين: أحدهما: أن الإعلام، هو الإيذان دون الإذن، وفرق بين الإذن والإيذان. والثاني: أن الإذن لو اقتضى الإعلام، لاختص به الإذن دون غيره، وهو لا يختص به، فلم يكن من شرط إذنه. وأما الجواب عن استدلالهم الثاني في النسخ، فهو أن في اعتبار العلم به وجهين: أحدهما: أن النسخ يلزم مع عدم العلم به كالإذن، فلم يكن فيه دليل. والثاني: أنه لا يلزم إلا بعد العلم به، كأهل قباء حين استداروا في صلاتهم، وبنوا على ما قتدم قبل علمهم بنسخ بيت المقدس بالكعبة. فعلى هذا أن الفرق بينهما أن النسخ مختص بالتعبد الشرعي، فلم يلزم إلا بعد العلم به، لوجوب إبلاغه، والإذن رافع للمنع، فصار مرتفعًا قبل العلم به. وأما الجواب عن استدلالهم الثالث بأن اشتراط الإذن يقتضي خروجًا تكون فيه مطيعة، فهو انتقاضة بخروجها إن كانت ناسية لإذنه، أو كانت نائمة عند إذنه هي قاصدة لمعصيته ولا يحنث به. وأما الجواب عن استدلالهم الثالث بأن اشتراط الإذن يقتضي خروجًا تكون فيه مطيعة، فهو انتقاضه بخروجها إن كانت ناسية لإذنه، أو كانت نائمة عند إذنه هي قاصدة لمعصيته ولا يحنث به. وأما الجواب عن استدلالهم الرابع بالمتكلم، فهو فساد الجمع بينهما، لأن المعتبر في كلام الغير الاستماع دون الإعلام والسماع، وهم يعتبرون في الإذن الإعلام دون السماع والاستماع، ففسد الجمع بينهما مع اختلاف مقصودهما.

فصل: فإذا ثبت أن العلم ليس بشرط في صحة الإذن، فقد قال الشافعي رضي الله عنه: ولو أذن لها وأشهد على نفسه لم يحنث، وليس إشهاده على الإذن شرطًا فيه، وإنما هي حجة له إن ادعاه، ليرفع به الطلاق إذا أنكرته الزوجة، ليقع عليه الطلاق. وإنما الشرط في صحة الإذن أن يكون مسموعًا منه، فإن لم يذكره لمستمع لم يصح، لأنه يصير من حديث النفس الذي لا يصح به الإذن. ثم قال الشافعي رضي الله عنه: "وأحب له في الورع أن يحنث نفسه". وإنما اختار له ذلك، لأنه مخرج مختلف في استباحته، فاختار له أن تكون الاستباحة ومتفقًا عليها، وأمره بالتزام الحنث، ولم يرد بالتزام الحنث التزام الطلاق، لأنه التزام الطلاق لم تصر زوجته مستبيحة الأزواج باتفاق، وإنما أمره بما تكون الاستباحة في الجهتين باتفاق يقع. وإذا كان كذلك لم يخل أن يكون الطلاق رجعيًا أو ثلاثًا. فإن كان رجعيًا، فيختار له في الورع إن أراد المقام معها أن يرتجعها، لأن الطلاق إن وقع استباحها بالرجعة، وإن لم يقع لم تضره الرجعة. وإن لم يرد المقام معها قال لها: إن لم يكن الطلاق قد وقع عليك، فأنت طالق واحدة، حتى لا يلزمه أكثر من واحدة في الحالين. فإن لم يقل هكذا، وقال: أنت طالق، واحدة لزمته واحدة، وكانت الثانية على اختلاف. وإن لم يقل أحد هذين كان النكاح لازمًا، وهي ممنوعة من الإزواج، ويؤخذ بنفقتها والورع أن يمتنع من إصابتها. وإن كان الطلاق ثلاثًا، فليس من الورع الإقامة عليها، والورع أن يفارقها بأن يقول لها: أنت طالق ثلاثًا. وليس يحتاج أن يقول لها: أنت طالق ثلاثًا إن لم يكن الطلاق قد وقع عليك لأن طلاق الحنث إن وقع لم يقع طلاق المباشرة، وخالف طلاق الرجعة، لأنه إن لم يقع طلاق الحنث وقع طلاق المباشرة. فإن لم يقل هذا في الطلاق الثلاث، كان ملتزمًا لنكاحها، وهي ممنوعة من الإزواج، ويؤخذ بنفقتها، والورع له أن يمتنع من إصابتها، فإن لم يمتنع، وأصابها في الطلاقين فلا حرج عليه، ولا مأثم، لما حكم به من بره في يمينه.

باب من يعتق من مماليكه إذا حنث

تتمة كتاب الأيمان باب من يعتق من مماليكه إذا حنث مسألة: قال: "ومن يعتق ما يملِكُ". الفصل يعني إذا قال: رقيقي أحرار، أو مماليكي أحرار، أو إن دخلت الدار فمماليكي أحرار، أو رقيقي أحرار ودخل الدار، فإن كان عبيد وإماء عتقوا؛ لأن هذا الاسم يتناولهم حقيقة، وإن كان مدبرًا أو مدبرة عتقًا أيضًا؛ لأنهما في حكم العبد القن، ولو باشرهما بالعتق عتقًا، وإن كانت له أم ولدٍ عتقت أيضًا؛ لأنه لو باشرها بالعتق عتقت، وكذلك إذا كان له أشقاصٌ من عبيدٍ وإماءٍ يحكم بعتقهم؛ لأنه يملك ذلك ملكًا حقيقةً، وإن كان له مكاتب أو مكاتبة فإن نوى عتقهما عتقًا بالنية، وإن أطلق ولم ينو فالمنصوص أنهما لا يعتقان؛ لأنه خارج عن ملك سيده في تصرفه فلا يتصرف في رقبته ولا منفعته، ويستحق كل واحدٍ منهما الحقوق على صاحبه فلا يدخل في اسم المماليك. واعلم أن الشافعي علل فقال: "لأن المكاتب خارج عن ملكه بمعنى داخل". وله تأويلان: أحدهما: أنه خارج عن ملكه مع براء عقد الكتابة، وداخل في ملكه بتعجيزه نفسه. والثاني: أنه أراد أنه خارج ببعض أحكام الحرية له، وداخل بثبوت بعض أحكام الرق له. وقال الربيع: سماعي من الشافعي أنهما يعتقان، فمن أصحابنا من لم يجعل هذا قولاً للشافعي، وقال: هذا من كيس الربيع وتخريجه وليس بقول الشافعي. ومنهم من قال وهو الصحيح: هذا قول آخر ففي المسألة قولان؛ لأنه قال: سماعي منه وهو ثقة فيما يرويه، ووجه قوله: "المكاتب عبد ما بقي عليه درهم". ويؤكده أنه مملوك لسيده، ولهذا لا ولاية ولا شهادة، وهذا لا يصح؛ لأن من أصحابنا من قال: يجوز أن يكون مملوكًا لا مالك له كستر الكعبة. ومنهم من قال: مملوك لنفسه ولا يعتق؛ لأنه لم يكمل ملكه، كما إذا [1/ أ] اشترى عبدًا فإنه يملكه ولا ينفذ عتقه فيه؛ لأنه لم يكمل ملكه. فإنه قيل: أليس لو أعتقه نفذ عتقه فدل أنه مملوك؟ قلنا: إذا واجهه بالعتق كان إبراٌ من مال الكتابة؛ لأن عتقه لا يحصل إلا به، ولهذا بقي له أولاده واكتسابه، وهنا أطلق اللفظ فينصرف إلى من ملكه حقيقة، ولا حاجة إلى استعماله في المكاتب ولا يتناوله المطلق في الحقيقة.

مسألة: قال: "ولو حلف بعتق عبده ليضربنه غدًا فباعه اليوم فلما مضى غدٌ اشتراه". الفصل هذه مسألة مبنية على مسألة في الطلاق، وهي إذا قال لها: أنت طالق إن دخلت الدار، ثم أبانها فدخلت الدار لم تطلق، فإن تزوجها بعد ذلك ثم دخلت الدار لم تطلق أيضًا؛ لأن الصفة قد وجدت دفعة فانحلت اليمين. ولو لم تدخل الدار في حال البينونة ثم تزوجها فدخلت هل تعود الصفة؟ قد ذكرنا أنه إن أبانها بدون الثلاث ثم تزوجها، ففي القديم تعود اليمين قولاً واحدًا، وفي الجديد قولان. وإن أبانها الثلاث ففي الجديد لا تعود قولاً واحدًا، وفي القديم قولان. فإذا ثبت هذا فهاهنا إذا قال لعبده: إن لم أضربك غدًا فأنت حر، فإن جاء الغد وهو مالكه، فإن ضربه بر في يمينه، وإن لم يضربه حنث، إلا أنه لا يعتق؛ لأنه ليس في ملكه. فإن اشتراه بعد ذلك لا يؤثر شيئًا؛ لأن وقت اليمين قد فات. وفرَّع أصحابنا على هذا إذا قال: إن لم أضربك غدًا فأنت حر، ثم جاء الغد وتمكن من ضربه فلم يضربه ثم باعه قبل غروب الشمس لا يعتق أيضًا، لأن الصفة قد وجدت وهي حالة الغروب وليس العبد في ملكه فلم يعتق. ولو باع العبد قبل أن يضربه ثم ابتاعه قبل غروب الشمس من الغد وتمكن من ضربه هل تعود اليمين حتى إذا لم يضربه عتق أم لا يعود؟ فيه قولان. واختلف أصحابنا على أي أصل يبنى ذلك، فمنهم من قال: هو بمنزلة البينونة [1/ ب] بعد الثلاث، وقد تقدم هذا في "كتاب الخلع". وقال القفال: العود بملكٍ جديد في هذا الرق يشبه العود بنكاح جديدٍ قبل زوج آخر، وإن أعتقه وهو كافر فاسترق فملكه من الرق الجديد، فهو كالعود في النكاح بعد زوج آخر في الجديد لا يعود الحنث، وفي القديم قولان. فرع لو قال: والله لأضربنك غدًا، فإن ضربه في الغد برَّ، وإن لم يضربه حنث عند غروب الشمس، وإن باعه قبل الغروب وفاته الضرب حنث أيضًا وتلزمه الكفارة. والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها أن اليمين هناك معلقة بالعتق وذلك تعلق بعين العبد ولا يمكن ذلك؛ لأن العبد غير مملوك له فحنث ولزمته الكفارة عند تمكنه من الضرب وتفويته إياه على نفسه. فرع آخر لو قال: إن لم أضربك غدًا فأنت حر، فباعه قبل مجيء الغد ثم اشتراه بعد انقضاء غده، قال ابن أبي هريرة: يعتق عليه وينتقض البيع ويرجع بثمنه لاستحقاق عتقه قبل بيعه وهذا غلط؛ لأن نفوذ البيع أوجب زوال ملكه.

فرع آخر لو رهنه قبل غده وافتكه بعد غده ففي عتقه عليه ثلاثة أقوال بناء على إعتاق المرهون. مسألة: قال: "ولو قال لعبده أنت حر إن بعتك فباعه بيعًا ليس ببيع خيار فهو حر". الفصل إذا قال لعبده: إن بعتك فأنت حر فقد علق عتقه على بيعه، فإن باعه مطلقًا عتق عليه؛ لأن صفة العتق مصادفة عقيب البيع والخيار ثابت له في تلك الحالة وهو خيار المجلس. ولو باشره بالعتق عتق فكذلك إذا وجدت الصفة عتق خلافًا لمالك وأبي حنيفة؛ لأن عندهما لا يثبت خيار المجلس. ولو باعه بشرط خيار الثلاث عتق بالإجماع عندنا لثبوت الخيارين؛ خيار المجلس وخيار الشريك، وعندهما لثبوت خيار الثلاث. وقد ذكرنا أنه لو باعه على أن لا خيار له فيه، ظاهر كلام الشافعي هنا مقتضى صحة البيع وأن لا يعتق عليه؛ لأنه قال: "فباعه [2/ أ] بيعًا ليس ببيع خيار" لم يعتق. وقيل: قوله: "ليس ببيع خيار"، لم يرد به هذا، بل أراد ليس ببيع شرط فيه خيار ثلاثة أيام، وقصد به الرد على مالك وأبي حنيفة حيث شرطا في نفوذ العتق هنا شرط خيار الثلاث وهذا هو الصحيح، وهو الذي نص عليه في البويطي، وذكره أبو إسحاق، واختاره القاضي أبو حامد. وقال القاضي أبو حامد: هذا يسقط تأويل من قال من أصحابنا: إن معناه ليس ببيع شرط فيه إبطال خيار المجلس عند عقد البيع وجعل جواز اشتراط إبطال خيار المجلس مع العقد قولاً للشافعي بهذا اللفظ، وقد ذكرنا في البيع فيه ثلاثة أوجهٍ، والصحيح بطلان البيع والشرط، وهو ظاهر قوله في "كتاب البيوع"؛ لأنه شرط ما ينافي مقتضى العقد ولا يتعلق به مصلحة العقد. وعلى هذا لا يعتق العبد أيضًا؛ لأن الصفة لم توجد، وإذا قلنا يصح العقد دون الشرط يعتق؛ لأن الصفة توجد. مسألة: قال: "ولو قال إن زوجتك أو بعتك فأنت حر، فزوجه أو باعه بيعًا فاسدًا لم يحنث". هذا على ما ذكر صحيح؛ لأن ظاهر اللفظ ينصرف إلى الصحيح دون الفاسد، ووافقنا المزني في عقد بصور مرة صحيحًا ومرة فاسدًا مثل هذا العقد. فأما إذا قال: إن بعت خمرًا أو خنزيرًا فأنت حر لا يحنث عند الشافعي بحالٍ، لأن البيع الصحيح لا يتصور فيها بحالٍ، وقال المزني: يحنث. وكذلك لو قال: لا أبيع الخمر فباعها لا يحنث عندنا خلافًا للمزني. واحتج بأنه لا يبيع الخمر إلا فاسدًا، فكأنه لم يرد إلا وجود لفظ لا يجافي القبول وقد وجد ذلك، وهذا غلط لما ذكرنا.

وكذلك لو قال: لا أبيع بيعًا فاسدًا لم يحنث وقلنا: لا يمكنك أن تبيع بيعًا فاسدًا فتحنث به. وقال أبو حنيفة: إذا قال لا أبيع بيعًا فاسدًا وأقبض حنث عند الإقباض؛ لأن الملك به يقع. وفي التزويج سلم أنه لا يحنث بالفاسد إذا حلف بعقد من المستقبل، فإن حلف أنه لا يزوج وكان قد زوج تزويجًأ فاسدًا قال: يحنث [3/ ب] وكذلك لو تزوج فاسدًا ثم قال: والله ما تزوجت حنث عنده، فيقيس الماضي على المستقبل. وقال مالك: يحنث بالبيع الفاسد والنكاح الفاسد بكل حال. فرع لو قال: والله ما صليت وكان قد صلى صلاةً فاسدةً لا يحنث. وقال محمد: يحنث وهذا غلط؛ لأن الفاسد لا يتناوله النهي في المستقبل كذلك في الماضي. فرع آخر لو قال: والله ما وهبت لفلان فوهب فلم يقبل، قد ذكرنا أنه لا يحنث في أصح الوجهين. وقال أبو حنيفة وبه قال ابن سريج: يحنث؛ لأن البذل أول العقد وهذا يبطل بالبيع؛ لأنه لا يعتق بالبذل حتى يعقبه القبول؛ لأن مجرد البذل لا يكون عقد فيهما. وكذلك لو علقه بالرهن والإجارة. وكذلك لو قال لا أُعيره فأعاره فلم يقبل لا يحنث خلافًا لأبي حنيفة، وعلل بأنه لا عوض في العارية، والمقصود ما يوجد من المعير فيحنث به، وهذا لا يصح لما ذكرنا. مسألة: قال: "وإذا حلف لا يأكل الرؤوس". الفصل اعلم أنه إذا حلف لا يأكل الرؤوس لا يحنث إلا بأكل رؤوس النعم خاصة الإبل والبقر والغنم، فأما غيرها فلا يحنث بأكله. وقال أبو حنيفة: يحنث بأكل رؤوس الغنم والبقر دون الإبل. وقال أبو يوسف: يحنث بأكل رؤوس الغنم فقط، وقال: يحنث بأكل رؤوس الطيور والحيتان. ودليلنا أن اسم الرؤوس وإن كان يقع على كل رأس حقيقة إلا أن الذي يتعارف الناس أكله هو هذه الثلاثة، فإنها هي التي تتميز عن الأبدان وتقصد للأكل فحنث بأكلها دون غيرها، وهو معنى قول الشافعي: "لأن الأيمان مخصوصة بالعرف". وقيل: إنما اختلفت أجوبة العلماء هنا لاختلاف العادات في بلدانهم، ففي الحجاز تفرد رؤوس الغنم كلها فتسوى وتباع صحيحة مشوية. وفي الكوفة جرت العادة بذلك في البقر والغنم خاصة. وبغداد جرت العادة بذلك برؤوس الغنم خاصة، وكذلك [3/ أ] بخراسان. وأما إذا أكل رؤوس الصيد كالأرانب والغزلان والثعالب ونحو ذلك، قال: إلا أن يكون ببلد يكثر فيها الصيد كما تكثر فيها لحوم الأنعام في السوق وتميز رؤوسها فيحنث في رؤوسها. وإن كان ببلد يقل فيها الصيد ولا يكثر، قال أصحابنا: فيه وجهان:

أحدهما: لا يحنث؛ لأن إطلاق الاسم لا يتناوله. والثاني: يحنث؛ لأن ما يثبت له العرف في بلد يثبت في سائر البلاد كخبز الأرز ولحم الفرس. قال أبو إسحاق: وعلى هذا إذا كان قوم في موضع من السواحل يأكلون السمك وتباع رؤوسها مفردة عندهم كما تباع رؤوس الغنم عندنا يحنث بأكل تلك الرؤوس أيضًا. ومن هذا أفتى بعض علماء طبرستان أنه يحنث فيها بأكل رأس الحوت وعندي هذا التخريج خطأ؛ لأنه لا يشوى في طبرستان رأس الحوت كما يشوى رأس البقر والغنم خاصة. وإذا قال بالفارسية: سربريان نخورم، فإنه لا يحتمل ذلك رأس الحوت. وقال في "الحاوي": إذا كان في بلدة يكثر فيها الصيد أو السمك، ويقطع رأسه عن جسده ويفرد بيعه في سوقه يحنث بأكله. ولكن هل يجوز عرف هذا البلد مقصورًا على أهله أم عامًا فيهم وفي الطارئين إليها؟ فيه وجهان: أحدهما: خاص في أهلها دون الطارئين إليها تغليبًا لعرف الحالف، فإن دخل أهل الريف إلى بلاد الفلوات والبحار لم يحنثوا إلا برؤوس النعم، وإن دخل أهل الفلوات إلى أمصار الريف لم يحنثوا إلا برؤوس الصيد، وإن دخل أهل البحار إلى أمصار الريف لم يحنثوا إلا برؤوس الصيد، وإن دخل أهل البحار إلى أمصار الريف لم يحنثوا إلا برؤوس الحيتان. الثاني: أنه عام في أهلها وفي الطارئين إليها تغليبًا لعرف المكان، فإن دخل أهل الريف إلى بلاد الفلوات حنثوا برؤوس الصيد، وإن دخلوا إلى بلاد البحار حنثوا برؤوس الحيتان، وإن دخل أهل الفلوات والبحار إلى الريف حنثوا برؤوس النعم. [3/ ب] وفي بقاء حنثهم بعرف بلادهم وجهان: أحدهما: باقٍ عليهم لاستقراره عندهم، فعلى هذا يحنث أهل الريف في بلاد الفلوات بأكل رؤوس الصيد وبأكل رؤوس النعم مع رؤوس الصيد، ويحنث أهل البحار فيها بأكل رؤوس الحيتان ورؤوس النعم. والثاني: لا يزول عنهم عرف بلادهم بالانتقال عنها، فلا يحنث أهل الفلوات والبحار في بلاد الريف إلا برؤوس النعم، ولا يحنث أهل الريف في بلاد الفلوات إلا برؤوس الصيد، وفي بلاد البحر إلا برؤوس الحيتان. وهذا كله إذا عللنا أن الشافعي حنثه برؤوس النعم لاختصاصها بقطع رؤوسها عن أجسادها وإفرادها ببيعها في أسواقها. ومن أصحابنا من علل بعلة أخرى، وهي أن عرف كلامهم متوجه إليها وإفراد أكلها مختص بها، فإنه لا يعرف ممن قال أكل الرؤوس إلا رؤوس النعم وغيرها يعرف بقرنيه، ولا يفرد بالأكل إلا رؤوس النعم وغيرها تؤكل مع أجسادها. قال صاحب "الحاوى": في التعليلين امتزاج من وجه وتمييز من وجه، فعلى هذا هل

يكون عرف البلد خاصًا فيه أو عامًا في جميع البلاد فيه؟ ظاهر المذهب أنه يصير عامًا في جميع البلاد كلها فيحنث جميعهم برؤوس النعم الثلاثة. وإن عرفنا أن لبعض البلاد عرفًا في رؤوس الصيد والحيتان حنث جميع الناس، وإن لم نعلمه لم يحنثوا. والشافعي إنما خص الحنث برؤوس النعم الثلاثة لأنه لم يعرف عرف بلد في غيرها، ولم علم لحنث بها جميع الناس كما حنثهم برؤوس النعم، ولهذا حنث القروي الذي لا يسكن بيت شعرٍ في حلفه لا يسكن بيتًا بسكونه؛ لأن عرف البادية جارٍ به. وقال ابن سريج: عرف كل بلدٍ مخصوص في أهله ومقصور عليهم دون غيرهم، فعلى هذا يحنث أهل الحجاز برؤوس النعم الثلاثة [4/ أ] كما قال الشافعي اعتبارً بعرفهم، ويحنث أهل الكوفة برؤوس البقر والغنم دون الإبل كما قال أبو حنيفة اعتبارًا بعرفهم، ويحنث أهل بغداد برؤوس الغنم وحدها كما قال أبو يوسف ومحمد. وعلى هذا لا يحنث القروي بسكنى بيت الشعر. قال: فإن انتقل عن بلدةٍ لهم فيها عرف إلى بلدةٍ يخالفونهم فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يحنثون بعرف بلدهم الذي انتقلوا عنه. والثاني: يحنثون بعرف البلد الذي انتقلوا إليه. والثالث: يحنثون بعرف البلدين معًا. مسألة: قال: "وكذلك البيض". الفصل اعلم أنه إذا حلف لا يأكل بيضًا إنما يحنث بأكل البيض الذي يزايل بائضه حيًا ويؤكل منفردًا عنه، وهو بيض الدجاج والطيور والبط والنعام والعصافير ونحو ذلك، ولا يحنث بأكل بيض الحيتان والجراد لأنهما لا يزايل ببائضه إلا أن ينوي ذلك. فإن قيل: أكل بيض النعامة نادر فوجب أن لا يحنث بأكله؟ قيل: العرف في بيض النعامة والدجاجة واحد في إطلاق الاسم، وإنما يؤكل نادرًا لقلته وكثير ثمنه، ومنزلة ذلك منزلة رجل فقير حلف لا يلبس ثوبًا وهو ممن يلبس الصوف أو القطن، فلبس خزًا أو وشيًا أو غير ذلك من الثياب الفاخرة التي لا يلبسها مثله يحنث؛ لأن الاسم في الجميع واحدٌ، وإنما يختلف الاستعمال للتواضع أو كثرة الثمن ونحو ذلك. وقال في "الحاوي": في بيض النعامة يحنث به أهل البادية، وهل يحنث أهل الأمصار؟ فيه وجهان: أحدها: يحنثون إذا قلنا أهل القرى يحنثون بسكنى بيت الشعر. والثاني: لا يحنثون به إذا قلنا إن أهل القرى لا يحنثون بسكنى بيت الشعر ويحنث بأكل المعتاد أهل النادر والمعتاد بلا إشكال. وقال أبو إسحاق: يحتمل أن لا يحنث ببيض العصافير والحمام ونحو ذلك؛ لأنه علم عنهم [4/ ب] ترك أكله، فخرج بالعرف من اليمين، والصحيح المنصوص ما تقدم. فرع لو ذبح دجاجة في جوفها بيض وصل إليه بذبحها فهل يحنث بأكلها؟

وجهان أحدهما: لا يحنث؛ لأنه لم يزايل بائضه حيًا فصار كبيض السمك. والثاني: يحنث؛ لأنه من جنس ما وصل إليه مع حياة بائضه. وقيل: إذا أكل الذي في جوفها من غير قشر لا يحنث وجهًا واحدًا. وقيل: لا يحنث إلا بأكل بيض الدجاج فقط للعرف، وهذا غلط. مسألة: قال: "ولو حلف لا يأكل لحمًا". الفصل اعلم أنه إذا حلف لا يأكل لحمًا حنث بأكل لحم الإبل، والبقر، والغنم، والوحش، والطيور؛ لأن كلها لحم، ولا يحنث بأكل لحم السمك؛ لأنه ليس بالأغلب وإن كان الله تعالى أطلق عليه اسم اللحم. ويقال: أكلت السمك والحوت ولا يقال أكلت لحم السمك، وهذا إذا لم يكن له نية، فإن نوى ذلك حنث. وقال مالك وأبو يوسف: يحنث بذلك بكل حال؛ لأن الله تعالى سماه لحمًا، فقال: "لِتَاكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً" [النحل: 14] قلنا: لو حلف لا يقعد تحت سقف بيتٍ لا يحنث إذا قعد تحت السماء وقد سماها الله تعالى سقفًا، لأنه مجاز كذلك ههنا. فرع لو أكله ناسيًا حنث خلافًا لمالك، وهذا لأنه يقال: أكل اللحم على الإطلاق. فرع آخر لو أكل لحم الخنزير وسائر ما لا يحل له من اللحوم، قال ابن سريج: فيه وجهان: أحدهما: لا يحنث؛ لأن ما لا يحل أكله في الشرع لا تتناوله يمينه المطلقة، كما لو قال: لا أبيع لم يحنث بالبيع الفاسد. والثاني: يحنث، وبه قال أبو حنيفة؛ لأن اسم اللحم يقع عليه حقيقة كما يقع على المأكول، ويخالف البيع لأن الاسم لا ينصرف إلى الفاسد عند الإطلاق، ولذا لو باع غيره لم يحنث. لو أكل لحم شاة غيره يحنث بلا خلاف، وهذا اختيار القفال، والأول أصح عندي للعرف والعادة. فرع آخر لو قال [5/ أ] لها: والله لا وطئتك فوطئها في حال الحيض حنث في يمينه. وقال المزني في "المنثور": لو حلف ليطأن امرأته الساعة فحاضت المرأة من ساعتها، نص الشافعي أنه إن وطئها حائضًا لا يبر؛ - لأن الشافعي يقول: لو حلف لا يشتري اليوم فاشترى فاسدًا لا يحنث؛ لأن الفاسد لا معنى له، فحصل وجهان، ذكره القاضي الطبري. وقيل: المنصوص أنه يحنث وإن كان الوطء حرامًا في الشرع وخالفه المزني. مسألة: قال: "ولو حلف لا يشرب سويقًا فأكله، أو لا يأكل خبزًا فماثه ثم شربه".

الفصل اعلم أنه إذا حلف لا يشرب سويقًا فإن شربه خلطه بالماء وتحساه حنث به، وإن استفه يابسًا لم يحنث؛ لأنه ليس بشربٍ. وإن حلف لا يأكل خبزًا فأكله بأن مضغه وابتلعه حنث، وإن جعله فيتًا وبله بالماء وتحساه لا يحنث؛ لأنه شرب وليس بأكل، والتعليل في ذلك أن الأفعال أجناس مختلفة كما أن الأعيان أجناس مختلفة، ثم علق يمينه على يمين من الأعيان لم تتعلق اليمين بغيرها، فكذلك إذا علقه على فعلٍ لا يتعلق بغيره. وقول الشافعي رضي الله عنه: "فماثه" في الماء، أي ميَّثَه، يقال: ماثه وميَّثه. فرع آخر لو حلف لا يشرب سويقًا فذاقه بلسانه لا يحنث؛ لأن الذوق ليس بأكل ولا شرب وإن دخل بطنه. فرع آخر لو حلف لا يذوق فأكل وشرب حنث؛ لأن الأكل والشرب يتضمنان الذوق. وقال بعض أصحابنا: يحتمل أنه إذا شرب لا يحنث؛ لأن الشرب غير الذوق. وقال القفال: فيهما وجهان، وعند أبي حنيفة لا يحنث. فرع آخر لو حلف لا يذوق شيئًا فأخذه بقيه فمضغه بفيه فمضغه ثم لفظه ولم يصل إلى جوفه هل يحنث؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحنث، كما لا يفطر به الصائم، ولا يقال: ذاق الشيء حتى يصل إلى حلقه [5/ ب]. والثاني: يحنث، وهو الأصح؛ لأن اسم الذوق يقع عليه وإن لم يصل إلى جوفه، فإنه عبارة عن معرفة طعم الشيء بلهواته وقد وجد ذلك، وهو قول عامة أصحابنا. فرع آخر لو قال لا أطعم شيئًا حنث بالأكل والشرب، وكذلك إذا قال بالفارسية؛ لأن الطعم اسم جامع لهما. فرع آخر لو حلف لا يتطعم هذا العام، فالتطعم معرفة طعمه بلسانه، فلا يعتبر فيه وصول شيء إلى جوفه، فمتى عرف طعمه حنث، ولو قال لا أطعم الطعام لم يحنث بتطعمه للفرق بين الطعم والتطعم، فإن الطعم أن يصير طعامًا له، والتطعم أن يعرف طعمه. فرع آخر لو أوجر الطعام بقمع في حلقه ولم يدر في لهوات فمه حتى وصل إلى جوفه، فإن كانت يمينه على الأكل والشرب والذوق والتطعم لا يحنث لعدم شرطها، وإن كانت على أن لا أطعم حنث؛ لأنه قد وصل إلى جوفه ما صار طعامًا له.

فرع آخر قال بعض أصحابنا بخراسان: لو حلف لا يأكل السكر فمضغه حنث. ولو أمسكه في فيه فذاب ودخل جوفه لا يحنث؛ لأنه يشترط في الأكل المضغ حتى يحنث، وعندي أنه يحنث به؛ لأنه يقال: أكل السكر وإن ذاب في حلقه. فرع آخر لو قال: لا ابتلعت هذا التفاح أو شيئًا آخر فمضغه ثم ابتلعه لم يحنث. ولو قال: لا أكلته فابتلعه لم يحنث ما لم يزدرده. فرع آخر لو قال: لا وطئتك فأتاها في دبرها حنث؛ لأنه يسمى وطئًا، ذكره بعض أصحابنا، وذكر في "الحاوي" أنه لا يحنث؛ لأن جنسه لا يباح. فرع آخر لو قال: لا تناولت دواء فتناول السكر بغير علة لم يحنث، وإن تداوى به حنث، كما لو قال: لا تداويت فاحتجم لعلةٍ حنث، وإن كان لغير علة لم يحنث. [6/ أ] مسألة: قال: "ولو حلف لا يأكل سمنًا فأكله بالخبز أو بالعصيدة". الفصل السمن على ضربين؛ جامد ومائع. فأما الجامد فأكله أن يمضغه، فإذا قال: لا آكل سمنًا فأكله هكذا حنث، وإن أكله بالخبز قال الشافعي رضي الله عنه وعامة أصحابنا: يحنث؛ لأنه أكله مع الخبز، يقال: أكل الخبز وأكل السمن، فقد وجد المحلوف عليه وزيادة فيحنث به. وقال أبو يوسف: لا يحنث به؛ لأنه لم يأكله وحده، بل أكله مع غيره فصار كما لو قال: لا آكل من طعام اشتراه زيد فاشتراه زيد وعمرو فأكل منه لم يحنث، وبه قال الإصطخري من أصحابنا وهذا غلط؛ لأن هناك ما أكل ما اشتراه المحلوف عليه خاصة، وهاهنا أكل المحلوف عليه حقيقة فوزانه أنه إذا حلف لا يأكل طعامًا اشتراه زيد فاشترى زيد طعامًا واشترى عمرو طعامًا فخلطهما وأكلهما حنث، وإن أذابه أو كان مائعًا فشربه لم يحنث؛ لأنه ليس بأكل، وإن أكله بالخبز حنث خلافًا للإصطخري فإنه قال: لا يحنث إذا أكله مع غيره. وقال في "الحاوي": إذا أكله مع غيره من خبز أو سويق فيه ثلاثة أوجه؛ أحدها: ما ذكرنا أولاً وهو المذهب، سواء كان جامدًا أو ذائبًا. والثاني: ما قاله الأصطخري. والثالث: ما قاله أبو إسحاق: إن كان جامدًا لم يحنث بأكله مع غيره؛ لأنه يقدر على أكل الجامد منفردًا، ولا يقدر على أكل الذائب إلا مع غيره. وكذلك لو حلف لا يأكل عسلاً أو دبسًا؛ لأنهما يجمدان تارةً ويذوبان أخرى. وكذلك لو حلف لا يأكل.

لبنًا فأكله بغيره أو طبخه مع غيره. فرع لو أكله بعصيدة، قال الشافعي رضي الله عنه: يحنث. قال بعض أصحابنا: أراد به أن يعصده في خبز ويأكله، فأما إذا طبخ عصيدة فأكلها لا يحنث؛ لأنه لا يقال له: أكل سمنًا [6/ ب] وإنما له أكل عصيدة أو خبيصًا أو غير ذلك. ومن أصحابنا من قال: أراد به العصيدة المعروفة وهي الفالوذج وغير ذلك مما يجعل السمن فيه، ينظر فيه فإن كان مستهلكًا لم يحنث، وإن كان غير مستهلك حتى لو انجمد تبين السمن فيه ونرى ذلك يحنث؛ لأنه قد أكل سمنًا مع عصيدة فكأنه أكله مع الخبز وهذا هو الصحيح، وهو كما قلنا في المحرم إذا أكل خبيصًا فيه زعفران ظاهرٌ يلزمه الفدية. وأما إذا قال لا آكل خلًا فأكل مرقًا فيه خل فهي على الاختلاف الذي ذكرنا بين أصحابنا، وقد نص عليه في "الأم" فقال: "ولو قال لا آكل خلًا فأكل مرقًا فيه خل لا يحنث"؛ لأن الخل مستهلك فيه بحيث لا أثر له، فأما إذا كان لونه وطعمه قائمين فهو غير مستهلك فيجب أن يحنث. وقيل: قول الشافعي: "إلا أن يكون جامدًا" أراد به أنه إذا لم يأكله منفردًا أو أكله في العصيدة لا يحنث، وهذا التفسير غير صحيح، وإنما ذكر هذا الاستثناء آلي ذكر العرف والعادة، حيث قال: لأن السمن لا يكون ماكولًا إلا بغيره، إلا أن يكون جامدًا فيقدر على أن يأكله جامدًا منفردًا فيأكله في عادة نادرة جامدًا منفردًا، هذا معنى الاستثناء لا ما قال القائل. فرع آخر لو حلف لا يشرب لبنًا فخلطه بمائع، فإن كان اللبن أغلب لظهور طعمه ولونه حنث بشربه وإلا فلا يحنث. مسألة: قال: "فَإذَا حَلَفَ لَا يَأُكُلُ هَذِهِ التَّمْرَةَ فَوَقَعَتْ فِي تَمْرٍ". الفصل اعلم أنه إذا حلف لا يأكل هذه التمرة بعينها فوقعت في تمر كثير فأكل، يُنظر فإن تيقن أنه أكل التمرة المحلوف عليها حنث بيقين، وإن [7/ أ] تيقن أن التي بقيت هي المحلوف عليها لا يحنث بيقين، فإن شك فلا يدري هي الباقية أم قد أكلها؟ قال الشافعي رضي الله عنه: "لا يحنث"؛ لأن الأصل عدم الحنث حتى يتحقق ذلك، ولكن الورع أن يحنث نفسه لجواز أن يكون قد حنث. وقال في "الأم": "والورع أن لا يأكل منه شيئًا إلا حنَّث نفسه". قال أصحابنا: وإذا حنَّث نفسه خرَّج كفارة يمين، كما لو تيقن الحنث، وكذلك لو هلك تمرة واحدة منها ولا يدري أنها المحلوف عليها أولًا. قال بعض مشايخنا بخراسان: وفي ضد هذا لو حلف أن لا يأكلها ثم وقعت في تمر، ثم استبقى واحدة أو ضاعت لم يبر؛ لأن الأصل عدم البر، واليقين لا يترك بالشك.

فرع لو حلف لا يأكل هذه التمرة فأكلها إلا نواها وقمعها حنث؛ لأنه أكل مأكولها أو ألقى غير مأكولها. ولو أكلها إلا يسيرًا منها كنقرة طائر لم يحنث خلافًا لمالك. مسألة: قَالَ: "وَإِذَا حَلَفَ لَا يَاكُلُ هَذِهِ الحِنْطَةَ فَطَحَنَهَا". الفصل لا فرق بين أن يقول: لا آكل هذه الحنطة، أو يقول: لا آكل من هذه الحنطة، في أنه إذا طحنها دقيقًا أو قلاها فجعلها سويقًا أو خبزها أو عصدها فأكل من ذلك لا يحنث؛ لأنه لم يأكل ما يقع عليه اسم حنطة، إلا أن قوله: من هذه الحنطة يقتضي بعضها، وقوله هذه الحنطة يقتضي جميعها. وقال أبو يوسف ومحمد: يحنث بكل ذلك. وقال أبو حنيفة: يحنث بالدقيق ولا يحنث بالخبز. وحكي عن أبي حنيفة مثل قولنا. واحتجوا بأن الحنطة تؤكل هكذا، فأشبه إذا قال: لا أكلت هذا اللحم فشواه وأكله حنث، وهذا لا يصح لما ذكرنا، فصار كما لو زرعها وأكل من حشيشها أو قال: لا أكلت هذا البيض فصار فرخًا فأكله لم يحنث، ويفارق ما قاس عليه؛ لأن اسم اللحم وصورته لم يزولا بخلاف مسألتنا. فرع إذا حلف لا يأكل من [7/ ب] هذا الدقيق فخبزه وأكله لم يحنث، ولو استلف منه حشًا لا يحنث؛ لأن العرف أنه لا يؤكل منه إلا مخبوزًا، وهذا لا يصح؛ لأن في الحنطة لا يعتبر بقاء الاسم دون العرف بالاتفاق كذلك هاهنا، ولأنه يؤكل غير مخبوز من وجوه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: من وجه لنا. فرع آخر لو قال: لا أكلمه شابًا فكلمه شيخًا، أو قال: لا أكلت جديًا فأكله تيسًا، أو قال: لا آكل تمرًا فأكل رطبًا لا يحنث قولًا واحدًا؛ لأن اليمين ها هنا تعلقت بالصفة دون العين ولم توجد الصفة. ولو قال: والله لا أكلم هذا الصبي فصار شابًا، أو لا أكلم هذا الشاب فصار شيخًا، أو لا أكلت من لحم هذا الجدي فصار تيسًا، أو لا أكلت هذه البسرة فصارت رطبة، أو هذه الرطبة فصارت تمرة هل يحنث؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحنث لزوال الاسم. والثاني: يحنث؛ لأن صورتها لم تزل بل تغيرت الصفة. وقال أبو حنيفة: في الحيوان يحنث، وفي الباقي لا يحنث؛ لأن قصده بأن لا يكلم الشاب لاستخفاف به وذلك لا يزول بكبره، وكذلك قصده باليمين أن لا يأكل لحم الجدي وذلك المعنى لم يزل وهذا صحيح؛ لأن المعتبر في اليمين الاسم دون القصد، ولهذا لو حلف لا يأكل هذا اللحم فأكله نيئًا يحنث وإن كان القصد به الانتفاع من أكله مطبوخًا.

وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا قال لا آكل هذه الحنطة فجعلها دقيقًا فأكلها هل يحنث؟ فيه وجهان: أحدهما: يحنث بكل ما يتخذ منها، ومعناه لا آكل شيئًا يتخذ من هذه الحنطة. والثاني: لا يحنث، ومن للتبعيض، أي لا آكل قليلها وكثيرها. قال: وقيل: نص الشافعي رضي الله عنه على أنه إذا قال: لا آكل هذه الحنطة فاتخذها دقيقًا فأكل منه لا يحنث، ونص أنه لو قال: لا آكل هذا السخل فصار كبشًا، أو لا أكلم هذه الصبي فصار شيخًا فكلمه، أو أكل التيس حنث [8/ أ] فمن الأصحاب من قال: في الكل قولان، ومنهم من فرق بأن في مسألة الحنطة والتمر ذكر الاسم وقد تبدل الاسم، والصبي صفة فتبدل الصفة لا يوجب سقوط حكم الحنث، وأيضًا الحنطة تصير خبزًا، والتمر يصير عصيدة بفعل وعلاج، والسخلة تصير كبشًا بفعل الله تعالى عند مضي الزمان، وهذا إذا عَرَّف فأما إذا نَكَّر فقال: صبيًا فكلم شيخًا حنث على ما ذكرنا، وهذا كله تخليط والاعتماد على ما ذكرنا أولًا. فرع آخر لو حلف لا يشرب هذا العصير فشربه خمرًا، أو قال: لا أشرب هذا الخمر فصارت خلًا لا يحنث وجهًا واحدًا؛ لأنه اقترنَ بزوال الاسم زوالُ الحكم. فرع آخر لو حلف لا يلبس هذا العزل فنسجه ثوبًا حنث بلبسه وجهًا واحدًا؛ لن الغزل لما كان لا يلبس إلا منسوجًا صار مضمرًا في اليمين والمضمر في الإيمان كالمظهر، كما لو قال: لا آكل هذا الحيوان حنث بأكله مذبوحًا وإن لم يكن حيوانًا عند أكله؛ لأنها صفة مضمرة فجرى عليها حكم المظهر. فرع آخر لو حلف لا يشم البنفسخ أو الورد فشم دهن البنفسج أو الورد لا يحنث. وقال أبو حنيفة: يحنث بدهن البنفسج دون دهن الورد لعرف أهل الكوفة؛ لأنهم يسمون دهن البنفسج بنفسجًا ولا يسمون دهن الورد وردًا. وقال أحمد: يحنث بدهن البنفسج والورد أيضًا؛ لأن المقصود الرائحة. قلنا: هذه تسمية مجازًا والحقيقة أولى، ولأن البنفسج اسم لجسم ذي رائحة فلا يجوز أن يتعلق حكمه بالرائحة وحدها ولهذا لو شم بنفسجًا بعد انتقال رائحته إلى الدهن حنث عندنا خلافًا لأبي حنيفة. فرع آخر لو يبسا كان في الحنث بهما بعد يبسها وجهان، أحدهما: لا يحنث، كمن حلف لا يأكل رطبًا فأكل تمرًا. والثاني: يحنث لبقاء اسمه وصفته ويخالف التمرة لأنه زال عنه اسم الرطب وبقي اسم الورد والبنفسج على ما يبس منه. [8/ ب]

والتعليل في هذين الوجهين كأن حلف من لا يأكل الرطب فأكله تمرًا على وجهين. فرع آخر لو مرَّ بهما في السوق فشم رائحتها، فإن حمل النسيم الرائحة حتى شمها لم يحنث، وإن اجتذب الرائحة بخياشيمه حتى شمها حنث؛ لأن شمها بهبوب النسيم ليس من فعله، وشمها باجتذاب خياشيمه من فعله، ويخالف المحرم يشم الطيب من حانوت العطار؛ لأن المحرم عليه استعمال الطيب دون الرائحة. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ حَلَفَ لَا يَاكُلُ لَحْمًا فَأَكَلَ شَحْمًا". الفصل الأصل في هذا أن كل ما انفرد عن غيره باسمه، ففي حكم الحنث ينفرد، فإذا قال: لا آكل لحمًا فأكل اللحم الأحمر أو اللحم السمين الذي على الظهر أو الحشو حنث؛ لأنه لحم سمين، ولو أكل من شحم البطن لم يحنث. وحكي عن مالك أنه قال: يحنث وهذا خطأ؛ لأنه لا يسمى لحمًا عرفًا وعادة، فهو كما لو حلف لا يأكل الشحم لم يحنث بأكل اللحم بالإجماع. فرع لو حلف لا يأكل لحمًا فأكل القلب أو الكبد أو الطحال لا يحنث. وقال أبو حنيفة: يحنث بأكلها. ودليلنا أن له اسمًا آخر منفردًا، كما لو أكل الريَّة والكرش لا يحنث بالإجماع. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا نص فيه، وينبغي أن يحنث بالقلب لأنه لحم. وقيل: فيه وجهان، وفي الكبد والطحال لا خلاف. فرع آخر لو أكل من قانصة الدجاج فهو على الخلاف الذي ذكرنا في الكبد والطحال. فرع آخر لو أكل لحم اللسان أو لحم الخدين من الرأس يحنث لأنه لحم. وكذلك لو أكل الأكارع؛ لأنها لحم وهي اسم عضو. وقال في "الحاوي" فيه وجهان؛ أحدهما: هذا. والثاني: لا يحنث؛ لأن اسمه مضاف، يقال: لحم اللسان، ولحم الرأس، ولا يقال له لحم على الإطلاق. فرع آخر لو أكل شحم العينين لا يحنث لأنه لا يسمى لحمًا. فرع آخر لو أكل الألية فيه وجهان: [9/ أ] أحدهما: يحنث؛ لأنها لا تسمى شحمًا فكانت لحمًا.

والثاني: وهو الأصح أنه لا يحنث؛ لأنها لا تسمى لحمًا كما لا تسمى شحمًا. وقال في "الحاوي": فيها ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه من الشحم فيحنث بها في الشحم دون اللحم. والثاني: أنها من اللحم لاتصالها بالعظم، وهو قول البغداديين. والثالث: وهو قول البصريين أنها ليست من اللحم ولا من الشحم؛ لأنها تتميز عن اللحم والشحم. فرع آخر لو حلف لا يأكل شحمًا فأكل اللحم أو البياض الذي على اللحم لا يحنث. وقال أبو حامد: لا يحنث بالألية بلا خلافٍ. وقد ذكرنا وجهًا آخر يحنث لأنه يسمى شحمًا، قال الله تعالى: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} [الأنعام: 146] فاستثناه من الشحم، ودليلنا أنه لا يسمى شحمًا ولهذا لا يفرد عن اللحم ولا يسمى بائعه شحامًا، فلم يحنث به وإنما يحنث بالشحم الذي ينفرد عن اللحم وهو شحم الكُلية والكرش. وحكي عن القفال أنه قال مرة: يحنث بشحم الظهر، وقال مرة: لا يحنث فيحتمل وجهين، والصحيح عندي ما تقدم. فرع آخر لو أكل شحم العينين فيه وجهان؛ أحدهما: يحنث لأنه ينطلق عليه اسم الشحم. والثاني: لا يحنث؛ لأنه لا ينطلق إلا بقرينة، فيقال: شحم العينين ولا يقال له شحم على الإطلاق، وأما الدماغ فليس بشحم ولا لحم فلا يحنث باليمين بأحدهما بلا خلاف. فرع آخر لو حلف لا يأكل رطبًا فأكل بسرًا لم يحنث، وكذلك إذا قال: لا آكل بسرًا فأكل رطبًا لم يحنث، ولو قال: لا آكل رطبًا ولا بسرًا فأكل طلعًا وملحًا لا يحنث؛ لأن لكل واحدٍ اسمًا ينفرد به. فرع آخر لو قال: لا آكل رطبًا فأكل تمرًا، أو تمرًا فأكل رطبًا لم يحنث، وحكي أن أبا حنيفة قال: إذا حلف لا يأكل تمرًا فأكل رطبًا حنث؛ لأن الرطب تمر وزيادة، ولو قال: رطبًا فأكل تمرًا لم يحنث؛ لأن التمر ليس برطبٍ وهذا لا يصح؛ لأن الرطب [9/ ب] لا يسمى تمرًا كما لا يسمى التمر رطبًا. فرع آخر لو قال: لا آكل رطبًا فأكل منصفًا، فإن أكل ما ترطب منه حنث، وإن أكل الذي لم يترطب منه ل يحنث، وإن أكل الجميع حنث؛ لأنه أكل ما يسمى رطبًا، هكذا ذكره جماعة من أصحابنا. وقال بعضهم: لا يحنث؛ لأنه لا يسمى رطبًا وإنما يسمى منصفًا

وهذا غلط؛ لأن معنى المنصف أن نصفه رطب ونصفه بسر، فإذا كان هذا معناه ينبغي أن يحنث بأكل ما هو رطب منه، ألا ترى أنه لو أكل بعض رطبة حنث؛ لأنه أكل ما هو رطب، كذلك هاهنا. وقال في "الحاوي": إذا أكل جميعها فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: وهو قول الأكثرين يحنث بها في البسر والرطب لما فيه من بسرٍ ورطبٍ. والثاني: وهو اختيار الاصطخري وابن أبي هريرة لا يحنث بها في البسر ولا في الرطب لخروجها في الإطلاق من اسم البسر والرطب. والثالث: قاله أبو الفياض البصري، إن كان أكثرها بسرًا حنث في البسر دون الرطب، وإن كان أكثرها رطبًا حنث بها في الرطب دون البسر اعتبارًا بالأغلب. فرع آخر لو قال: لا آكل رطبة فأكل منصفة لم يحنث؛ لأنها ليست برطبة. ولو قال: لا آكل تمرة فأكل منصفة لم يحنث أيضًا لهذا المعنى. فرع آخر لو قال: لا آكل هذه الرطبة فصارت تمرًا، قال صاحب "الإفصاح": وهل يحنث بأكلها؟ فيه وجهان، والصحيح أنه لا يحنث، كالحنطة إذا طبخها ثم أكلها يحنث؛ لأن تغيره بغير صنعةِ أدميٍ وليس بشيء. فرع آخر لو حلف: لا آكل خوخًا فأكله يابسًا، أو لا يأكل مشمشًا فأكله يابسًا ففي حنثه وجهان: أحدهما: لا يحنث لزوال الصفة. والثاني: يحنث لبقاء الاسم بخلاف الرطب الذي يزول عنه الاسم. فرع آخر لو حلف لا يأكل زبدًا فأكل لبنًا لم يحنث؛ لأن كل واحد منهما غير الآخر، وإن كان يستخرج منه، كما لو حلف لا يأكل دبسًا فأكل تمرًا، [10/ أ] وكذلك إن كان سمنًا لم يحنث، كما لو حلف لا يأكل تمرًا فأكل دبسًا. وقيل: إذا أكل لبنًا في يمين الزبد فيه وجه آخر أنه يحنث؛ لأن فيه زبدًا وليس بشيء. فرع آخر لو قال: لا آكل لبنًا فأكل زبدًا لا نص فيه، واختلف أصحابنا، قال أبو إسحاق: لا يحنث، لأن أحدهما غير الآخر. وقال ابن أبي هريرة، وصاحب "الإفصاح": يحنث؛ لأن جميع ما يخرج من اللبن فهو لبن، وبه قال إبراهيم النخعي، وهو اختيار بعض مشايخ خراسان. وقال ابن أبي هريرة: ولا يحنث باللبن في يمين الزبد؛ لأنه ليس

اللبن من الزبد، وهذا بالعكس أولى؛ لأن اللبن زبدًا. وقال بعض أصحابنا: الصحيح أن يقال: إن كان فيه لبن ظاهر حنث، وإن كان مستهلكًا غير ظاهر لم يحنث، كما قلنا فيه إذا حلف لا يأكل سمنًا فعصد به. فرع آخر لو أكل السمن في يمين اللبن لا يحنث قولًا واحدًا؛ لأنه لا لبن في السمن. وقيل: فيه وجهان؛ لأنه يستخرج من اللبن وليس بشيء. وقال في "الحاوي": قياس قول ابن أبي هريرة أنه يحنث به لاشتراكهما في الصفة، وهو غلط. فرع آخر لو أكل طيبًا أو رائبًا أو ماستًا أو لبئًا أو شيرازًا. قال القاضي الطبري: يحنث في جميع ذلك. ورأيت بعض أصحابنا توقف في الشيراز وليس فيه توقف عندي فإنه من أنواع اللبن، وعندي يحتمل أن يقال: لا يحنث به ولا باللباء والماست والرائب؛ لأنه لا يقع عليه اسم اللبن عرفًا وعادة ظاهرة. فرع آخر لو أكل الجبن أو المصل. قال القاضي الطبري: الذي عندي أنه لا يحنث؛ لأنه قد خرج من اسم اللبن بالصفة، كما لو حلف لا يأكل الدبس فأكل الناطف لم يحنث. وحكي عن صاحب "الإفصاح" وابن أبي هريرة أنهما قالا: لا يحنث؛ لأنه لبن مجمد كالشيراز والماست. فرع آخر لو قال: لا آكل لبنًا فأكل ألبان الصيود [10/ ب] يحنث عند الشافعي رضي الله عنه. وكذلك بكل مباح معهود كان أو غير معهود. وقال ابن سريج: يحنث بالمعهود من ألبان النعم دون ألبان الصيد، كما لو قال في البيض: لا يحنث ببيض العصافير والحمام. فرع آخر ألبان الخيل معهودة في بلاد الترك دون العرب، وألبان الأدميات معهودٌ في الصغار دون الكبار فيتغير به الحكم عند ابن سريج، والمذهب أن الكل سواء. فرع آخر في الألبان المحرمة كألبان الأتان وجهان؛ أحدهما: يحنث اعتبارًا بالاسم. والثاني: لا يحنث اعتبارًا بالشرع. فرع آخر إذا حلف على الزبد فلا يكون لألبان الإبل زبد، فإن كان لألبان شيء من الصيود

فهو نادرٌ غير معتاد، فيحنث به عند الشافعي رضي الله عنه اعتبارًا بالاسم، ولا يحنث به على قول ابن سريج اعتباراً بالعرف. فرع آخر لو حلف لا يأكل اللباء وهو أول لبن يحدث بالولادة بعد انقطاعه بالحمل إذا رأيت وقت الولادة، وفي حنثه بما حلب قبلها وجهان مخرجان من الوجهين فيما تقدم على الولادة من يوم النفاس هل يكون نفاسًا؟ فيه وجهان؟ فإن قلنا يكون نفاسًا لأن هذا لباءً، وإن قلنا لا يكون نفاسًا لأن هذا اللبن لباءً، وغاية اللباء بعد الولادة ثلاث حلبان، وربما زاد ونقص بحسب اختلاف الحيوان في القوة والضعف، وصفته ما خالف اللبن في لونه وقوامه، فإن لون اللباء يمين إلى الصفرة وهو أثخن من اللبن وهو عند الرعاة معروف. فرع آخر لو قال: والله لا آكل فاكهة حنث بأكل ما يسمى فاكهة، ومن جملتها الرطب والعنب والرمان والتفاح والخوخ ونحو ذلك. وقال أبو حنيفة: لا يحنث بأكل الرطب والعنب والرمان وخالفه صاحباه، واحتج [11/ أ] بقوله تعالى: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ ونَخْلٌ ورُمَّانٌ (68)} [الرحمن: 68]، فأفردهما بالذكر ودليلنا أنه يسمى فاكهة بدليل أنه يسمى بائعه فاكهيًا، وموضع بيعه دار الفاكهة فيحنث به. وأما الآية الكرية قلنا: أفردهما تخصصًا لأنهما أجلُ الفواكه، فهو كقوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوًا لِلَّهِ ومَلائِكَتِهِ ورُسُلِهِ وجِبْرِيلَ ومِيكَالَ} [البقرة: 98]، فأفردهما وإن كانا من جملة الملائكة. فرع آخر لو أكل نبقًا أو توتًا يحنث، ذكره في "الحاوي". فرع آخر لو أكل رطبًا ذكرنا حكمه، وهو قول الجمهور. وقال بعض أصحابنا: هو من الفاكهة في البلاد التي يقل فيها كبغداد، ولا يكون من الفاكهة في جميع الأمصار التي يكثر فيها كالبصرة. وقيل: لا يحنث بالرطب أصلًا في وجهٍ. فرع آخر الموز والبطيخ فاكهة؛ لأنه ينضج ويحلو، وهذا اختيار ابن سريج وجماعةٍ. ومن أصحابنا من قال: لا يحنث به. فرع آخر الزيتون هل يدخل في اسم الفاكهة؟ وجهان. فرع آخر القثاء والخيار لا يكون فاكهةً لا تتغير عن كونها عند فسادها لو أكله يابسًا، فإن

انتقل من اسمه كالرطب يسمى تمرًا بعد يسبه وكالعنب يسمى زبيبًا لا يحنث بأكله، وقد خرج عن الفاكهة، وإن كان لا ينتقل عن اسمه كالتين والخوخ والمشمش ففي حنثه بأكله وجهان؛ أحدهما: يحنث به لبقاء اسمه. والثاني: لا يحنث به لانتقاله عن صفته. فرع آخر لو حلف لا يأكل أدمًا فأكل لحمًا أو جبنًا حنث. وكذلك كل ما يؤتدم به في العادة سواء كان مما يصطبغ به أو لا يصطبغ، وبه قال محمد، وأحمد، ولو أكل تمرًا ففيه وجهان؛ أحدهما: يحنث. والثاني: لا يحنث؛ لأنه لا يؤتدم به وإنما يؤكل قوتًا وحلاوة. وقال أبو حنيفة: الأدم ما يصطبغ به كالخل والشيرج، فأما ما لا يصطبغ به كاللحم والجبن [11/ ب] والبيض والباذنجان فليس بأدم. واحتج بما روت عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم والبرمة تفور بأدمٍ ولحمٍ، فعطفت الأدم على اللحم فدل على افتراقهما. ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم "سيد إدام أهل الدنيا والآخرة اللحم، وسيد الشراب في الدنيا والآخرة الماء، وسيد الرياحين في الدنيا والآخرة الفاغية"، قال الأصمعي: الفاغية: نور الحناء. وروي "سيد إدام أهل الدنيا اللحم، وسيد ريحان أهل الجنة الفاغية". وعن صهيب رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللحم سيد الإدام في الدنيا والآخرة، والخبز سيد الطعام في الدنيا والآخرة" ونوعان أكرمهما الله تعالى في الدنيا والآخرة فجعلهما شرفًا لأهل الدنيا في دنياهم وزينة لأهل الآخرة في آخراهم الذهب والفضة. وفي رواية عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "فضل عائشة على النساء كفضل الخبز واللحم على سائر الإدام". وروت حفصة بنت عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اللحم إدام". وقد قال أبو حنيفة: يحنث بالملح الطيب. وأما ما ذكروه فلا يصح التسمك به؛ لأنها ذكرته تأكيدًا وإن كان داخلًا في اسم الإدام. وقال في "الحاوي": الأدم مشتق في استطابة أكل الخبز حتى يستمري، وهو أربعة أقسام: أحدهما: ما يكون إدامًا بحيث يأكله منفردًا، وهو ما يؤدم به في الأغلب من اللحم والسمك، والبيض واللبن. والثاني: ما لا يكون إدامًا إذا انفرد ويصير إدامًا مع الخبز وهو يستأدم به في خصوص العرف دون عمومه كالعسل والدبس والتمر فلا يحنث به عند الانفراد، ويحنث إن أكله مع الخبز. [12/ أ] وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى سائلًا خبزًا وتمرًا، فقال: "هذا إدام هذا". وروي عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم

أخذ كسرة من خبز شعير فوضع عليها تمرة وقال: "هذه إدام هذه" فأكلها. الثالث: ما لا يكون إدامًا ولا يحنث بأكله منفردًا ولا بالخبز، وهو الفواكه كلها؛ لأن اسم الإدام لا ينطلق عليها من عرف عام ولا خاص، والمستأدم بها خارج عن العرب. والرابع: ما اختلف فيه لاختلاف أحواله، فتارة يؤكل قوتًا وتارة أدمًا كالأرز والباقلاء، فله في أكله ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يأكله مخبوزًا فقد صار بهذه الصفة قوتًا ولا يحنث به. والثاني: أن يأكله مطبوخًا بخبز، فقد صار بهذه الصفة إدامًا يحنث بأكله. والثالث: أن يأكله مطبوخًا منفردًا بغير خبز ففيه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: يحنث بها اعتبارًا بصفته في الابتداء. والثاني: لا يحنث به اعتبارًا بأصله من الأقوات. والثالث: يعتبر عرف بلده، فإن كان في عرفهم إدامًا كأهل العراق حنث بأكله، وإن كان في عرفهم قوتًا كأهل طبرستان لم يحنث بأكله. فرع آخر لو قال: لا أكلت قوتًا فالأقوات ما قامت به الأبدان وأمكن الاقتصار عليه وهو معتبر بالعرف، والعرف فيه ضربان؛ عرف شرع وعرف استعمال. فأما عرف الشرع فهو منطلق على ما وجبت فيه زكاة العين فيحنث بأكله سواء دخل في عرف قوته أو خرج عنه؛ لأن عرف الشرع عام لعموم أحكامه، فيحنث بأكل التمر والزبيب وإن لم يكن من أقواته. فأما عرف الاختيار كأهل البوادي يقتاتون ألبان الحيوان، أو سكان الجزاير يقتاتون لحوم السمك، وسكان قلل الجبال يقتاتون لحوم الصيد، فيحنث كل قوم منهم بأكل عرفهم في أٌواتهم ولا يحنثون بعرف غيرهم لخصوصه في عرفهم، ويحنثون بالعرف الشرعي لعمومه فيهم، ولا يحنث غيرهم بعرفهم لخصوصه فيهم. وأما عرف الاضطرار [12/ ب] كأهل الفلوات يقتاتون الحشيش في زمان الجذب، فيحنثون في زمان الجذب بقوتهم في الجذب، وقوتهم في الخصب وهو الألبان، ويحنثون في زمان الخصيب بقوتهم في الخصب دون الجذب، ويكون عرف الزمان معتبرًا كما كان عرف المكان معتبرًا، ذكره في "الحاوي". فرع آخر لو حلف لا يأكل طعامًا حنث بكل مطعوم من الحلوى وغيره، ولا يحنث بأكل الدواء وإن كان مطعومًا؛ لأن اسم الطعام لا ينطلق عليه. وقال في "المهذب": في الدواء وجهان؛ لأنه يجري فيه الدواء بقلة الطعم. وحكي عن محمد أنه قال: لا يحنث إلا بأكل

الحنطة اعتبارًا باسمه عرفًا، وهذا غلط لقوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِّبَنِي إسْرَائِيلَ إلاَّ مَا حَرَّمَ إسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ} [آل عمران: 93] فأطلق الاسم على كل مطعوم. فرع آخر لو قال: لا أكلت الحلواء فأكل ما عصر بالسكر والعسل والدبس حنث، ولا يحنث بأكل السكر والعسل لأنه حلو وليس بحلواء. فرع آخر لو قال: لا آكلت حلاوة يحنث بعلكها ولا يحنث بأكل الفواكه الحلوة. ولو حلف لا يأكل شيئًا حلوًا حنث بالفواكه الحلوة أيضًا. فرع آخر لو قال: لا أكلت لذيذًا فأكل ما يستلذه هو ولا يستلذه غيره حنث. ولو أكل ما يستلذه غيره ولا يستلذه هو لم يحنث؛ لأنه غير مسلتذٍ فيما أكل. فرع آخر لو قال: لا أكلت مستلذًا حنث بما يستلذه غيره أيضًا؛ لأن المستلذ من صفات المأكول في اللذيذ من صفات الأكل. فرع آخر لو حلف لا شممت مشمومًا حنث بشم الياسمين والخزامى واللينوفر؛ لأن اسم المشموم يطلق على جميعه، ولا يحنث بشم الكافور، والمسك والعنبر لخروجهما عن اسم المشموم بأسمائها المفردة. فرع آخر لو حلف لا شممت طيبًا حنث [13/ أ] بشم الكافور والمسك والعنبر، ولا يحنث بشم المشموم؛ لأنه ليس بطيب. ولو قال: لا أشم مستطابًا حنث بكل هذا؛ لأنه مستطاب الرائحة. فرع آخر لو حلف لا يشم الريحان، قال ابن سريج يحنث إذا شم الريحان الفارس الأخضر وهو الشاهسفرم، ولا يحنث بشم الورد والياسمين وغيرهما؛ لأنه ينطلق عليه اسم الريحان لما ذكرنا. فرع آخر لو حلف لا يشم الورد فإنما يحنث بشم الورد الجوري الأحمر والأبيض دون غيره من الأوراد لما ذكرنا. فرع آخر لو حلف لا يضرب امرأته فعضها أو نتف شعرها أو خنقها لم يحنث، ذكره ابن سريج. وقال أبو حنيفة وأحمد: يحنث، واحتجوا بأن الغرض باليمين أن يؤلمها، وما فعله مؤلم لها. ودليلنا أنه لا يسمى ضربًا ولا يحنث به في اليمين على الضرب

كالشتم. وأما [...] فيحصل بالشتم ولا يحنث به. وحكي عن المزني أنه قال: أنا في هذا واقف، ولكن إن قلت لا يقع اسم الضرب على العض احتملت اللغة ذلك. فرع آخر وإذا سبها أو شتمها لا يحنث بلا إشكال. وقال مالك: يحنث بكل ما ألم قلبها من الأقوال والأفعال. فرع آخر لو لكمها أو لطمها أو رضها، قال في "الحاوي": فيه وجهان: أحدهما: يحنث به؛ لأنه يقال: ضربه بيده وإن تنوعت أسماء الضرب. والثاني: لا يحنث؛ لأن اسم الضرب ينطلق على ما كان بآلة مستعملة فيه. فرع آخر لو حلف لا يشرب الماء فشرب ماء البحر يحتمل وجهين: أحدهما: يحنث؛ لأنه ماء مطلق يجوز التوضاء به. والثاني: لا يحنث؛ لأنه لا يُشرب عادة. فرع آخر لو حلف لا يستخدم فلانًا فخدمه من غير أن يطلب خدمته لم يحنث، سواء كان عبده أو عبد غيره أو حرًا. وقال أبو حنيفة: إذا كان عبد نفسه حنث؛ لأن سكوته وإقراره على الخدمة استخدام عليه، ودليلنا أن اليمين عقدها [13/ ب] على فعل نفسه وهو الاستخدام، فإذا خدمه العبد بنفسه من جهة فعلٍ لا مختارًا ولا مكرهًا لم يحنث، كما لو قال: لا فارقتكَ حتى أستوفي حقي منك ففرَّ الغريم منه لم يحنث. وأما ما ذكره فلا يصح؛ لأنه تقرير على الخدمة ولا يسمى استخدامًا. فرع آخر لو حلف فقال: كل جارية أتسراها فهي حرة، ينظر فإن لم يكن له في ذلك الوقت جارية ثم اشترى جارية وتسراها لم تعتق؛ لأن عقد الصفة قبل وجود الملك، وإن كانت له جارية أو جوار انعقدت الصفة، فإذا تسرى بواحدة منهن عتقت وفي صفة التسري قال ابن سريج: فيه ثلاثة أوجةٍ: أحدهما: أن يحصنها الموطئ ويمنعها من الدخول والخروج، ويطأها أنزل أو لم ينزل، أحبل أو لم يحبل، وبه قال أبو حنيفة، ومحمد. والثاني: أن التسري هو الوطء حصن أو لم يحصن أنزل أو لم ينزل، وبه قال: [...]؛ لأنه مشتق من السرور، وذلك يكون بالجماع. وقيل: مشتق من السر وهو

الجماع أيضًا. وقيل: من السر وهو الظهر، فإنها صارت مركوبةً ممطاةً. والثالث: وهو المنصوص عليه في اللعان والإيلاء، وأن التسري هو الوطء الذي يطلب به الولد، وهو أن يطأ وينزل أحبل أو لم يحبل؛ لأن هذا هو العادة في التسري، وبه قال أبو يوسف. وقال القاضي الطبري: قال في "الإملاء": والتسري أن يطأ جاريته طالبًا للولد؛ وهو أن يطأ وينزل ولا يعزل سواء أحبلها أو لم يحبلها إذا كان مبتغيًا للولد. لأن العرف أن من أعد سرية فإنما يتخذها لطلب الولد، فوجب حمله على مقتضى العرف، فالمذهب هو المنصوص. ولأصحابنا وجهان آخران. وقيل: نص في "الإملاء" أن التسري يحصل بثلاث شرائط؛ أن يسترها عن أعين الناس، وأن يطأها وينزل في فرجها؛ لأن كونها أسرى جواريه إنما يحصل باتخاذها للولد، وهو في هذا. فرع آخر إذا حلف لا يصلي [14/ أ] فكبر ونوى الصلاة. قال أصحابنا: حنث، وقال ابن سريج: إذا كبر وقرأ وركع حنث سجد أو لم يسجد واحتج بأنه قيل أن يركع لم يأت بمعظم الركعة، وإذا أتى بمعظمها فقام مقام كلها. وقال أبو حنيفة: يحنث إذا أتى بسجدة؛ لأن الركعة لا يثبت لها حكم حتى يقيدها بسجدة وهذا لا يصح؛ لأنه يقال صلى إذا أحرم بالصلاة، وقد قال صلى الله عليه وسلم في إمامة جبريل عليه السلام: "وصلّى بي الظهر حين زالت الشمس"، وأراد: أحرم بي الصلاة، فإذا تناوله الاسم وجب أن يحنث. وأما ما ذكره فلا يصح؛ لأن عند أبي حنيفة الركعة الواحدة لا تكون صلاة بانفرادها، وعندنا من غير السجدتين والتشهد لا تكون صلاة، فإذا حنث ببعضٍ وجب أن يحنث بأولها؛ لأنه إبطال قول أبي حنيفة حيث اعتبر السجود. فرع آخر إذا حلف لا يصوم فدخل في الصوم بالنية حنث؛ لأنه يسمى صائمًا به. فرع آخر لو قال: والله لا أصلى صلاةً، لا يحنث بالدخول فيها حتى يصلي ركعتين ويسلم منها. وقيل: فيه قول آخر يحنث إذا صلى ركعةً واحدةً ويسلم منها. فرع آخر لو حلف لا يدخل بيتًا فدخل دهليز الدار لا يحنث؛ لأنه لا يراد الإيواء والسكني، بل يراد للممر والاجتياز، فلو دخل بيتًا في دارٍ حنث؛ لأن اسم البيت يقع عليه وإن كان من جملة الدار. فرع آخر لو دخل صُفّةَ في دار لم يحنث، وقال أبو حنيفة: يحنث وهذا لا يصح؛ لأن اسم

البيت لا يقع على الصُفّة، كاسم الصُفّة لا يقع على البيت إذا حلف لا يدخل صُفة فدخل بيتًا لا يحنث. فرع آخر لو قال: من بشرني بخبر زيدٍ من عبيدي فهو حر، فبشره واحدٌ بخبر سار لزيدٍ عتق، وإن بشره بخبرٍ مكروهٍ لزيد ففيه وجهان: أحدهما: يعتق؛ لأن البشارة مأخوذة من تغير البشرة، وقد تتغير بالمكروه كما تتغير بالسار. والثاني: [14/ ب] أنه لا يعتق؛ لأن البشارة قد صارت في العرف للسار من الأخبار دون المكروه. وقال صاحب "الحاوي": الصحيح أن ينظر حال الحالف مع زيد، فإن كان صديقًا له لم يعتق بالخبر المكروه، وإن كان عدوًا له عتق بالخبر المكروه؛ لأنه يسر فصار بشارة عنده. فرع آخر لو بشره الجماعة في حالةٍ واحدةٍ أعتقوا جميعًا، ولو بشره جميع عبيده في حالةٍ واحدةٍ لم يعتق واحد منهم؛ لأنه قال: من بشرني من عبيدي يقتضي البعض دون الجميع. فرع آخر لو قال: من بشرني بقدوم زيد من عبيدي فهو حرٌّ، فبشره واحد ثم آخر عتق الأول دون الآخر؛ لأن البشارة اسم لما تحصل به البشرى والسرور، وقد حصل ذلك بالأول دون الثاني، فإن جاء اثنان أو ثلاثة دفعةً واحدة فبشروه يعتق الكل ولا يعتق من جاء بعده. ولو قال: من أخبرني بقدوم زيد فهو حر، فأخبره واحد فهو حر، فدخل واحدٌ أولًا ثم دخل آخر يعتق الأول دون الثاني، فإن دخل اثنان معًا ثم دخل ثالث لم يعتق واحدٌ منهم؛ لأن الاثنين لم يسبق أحدهما الآخر، والشرط أن يكون عبدًا هو أول ولم توجد هذه الصفة، والثالث لا يوصف بأنه أول. فرع آخر لو قال: أول من يدخل الدار من عبيدي وحده فهو حر، فدخل اثنان معًا ثم دخل واحد بعدهما، يعتق الذي دخل بعدهما، لأنه أول من دخل الدار وحده. فرع آخر لو دخل واحد ولم يدخل بعده، قال ابن سريج: يحتمل أن يقال: يعتق الأول؛ لأنه أول داخل. ويحتمل أن يقال: لا يعتق؛ لأنه لا يكون أولًا إلا إذا كان له آخر والأول أصح، وحكي القاضي الطبري هذا الوجه الثاني عن ابن سريج، والوجه الأول عن سائر أصحابنا. [15/ أ] فرع آخر لو قال: من سبق بدخول الدار من عبيدي فهو حرٌّ، فأيهم سبق بالدخول عتق ولم يعتق بعده. ولو سبق بالدخول اثنان معًا ثم دخل بعدهما ثالث لم يعتقا؛ لأنه ليس فيهما سابق.

فرع آخر لو قال: آخر من دخل الدار من عبيدي فهو حرٌّ، فدخل واحدٌ ثم واحد لم يعتق واحد منهم حتى يموت السيد، فإذا مات عتق آخر عبدٍ دخل الدار قبل موته؛ لأن قوله: "آخر من دخل" أطلق في جميع من يدخل، فما دام هو حيًا لا يكون آخرًا لجواز أن يدخل بعده غيره وبالموت يتبين الآخر. فرع آخر لو قال لعبده: إن لم أحج العام فأنت حر، ثم اختلف العبد والسيد فقال السيد: قد حججت، وقال العبد: ما حججت وقد عتقت، وأقام العبد بينة أن السيد رؤي يوم النحر بالكوفة. قال ابن سريج: يعتق العبد؛ لأنه يستحيل في حكم العادة أن يكون حاجًا في هذه السنة، فحكم أنه لم يحج وعتق العبد. فرع آخر إذا قال لعبدين له: إذا جاء الغد فأحدكما حر، ثم جاء الغد وهما في ملكه يعتق أحدهما لا بعينه ويرجع إليه في التفسير وهو ظاهر، فأما إذا باع أحدهما قبل مجيء الغد أو أعتقه أو وهبه وأقبضه، ثم جاء الغد قال محمد: يعتق الباقي عليه. وقال ابن سريج: لا يعتق؛ لأنه أوقع عتقًا فيهما، قال: يجوز أن يتعين من غير تعينه، فينبغي أن يكون على صفةٍ بتعلق الحرية عند مجيء الغد بهما ثم يعتق هو أحدهما. فإن باع أحد العبدين في يومه ثم اشتراه وجاء الغد وهما في ملكه، فإن قلنا: الصفة تعود بعود الملك فهو كالمسألة الأولى، وإن قلنا: لا تعود، فهو كالمسألة الثانية. فرع آخر لو كانت المسألة بحالها نصف أحدهما في يومه، ثم جاء الغد وقع العتق مبهمًا في أحدهما لأنهما [15/ ب] جميعًا محل لوقوع العتق، ثم ينظر فإن عين العتق في العبد الكامل عتق كله، وإن عينه في الذي باع نصفه عتق النصف وسرى إلى الباقي إن كان مؤسرًا، وإن كان معسرًا لم يسر. فرع آخر قال ابن سريج تفريعًا على هذا: إذا كان له عبدان فقال: إذا جاء الغد وأحدكما في ملكي فهو حر، ثم جاء الغد وهما في ملكه عتق أحدهما لا بعينه، فإن باع أحدهما أو مات أو أعتقه ثم جاء الغد لا يعتق عليه النصف الباقي؛ لأنه جعل الشرط مجيء الغد وأحدهما في ملكه، وهاهنا في ملكه نصف أحدهما. فرع آخر لو قال لعبده وعبد غيره: أحدكما حرٌّ لم يعتق واحد منهما؛ لأن أحدهما لا يملك إعتاقه فلا يصح التخيير. فرع آخر لو قال: لا كملت زيدًا فيسُميَ عمرًا ثم كلمه حنث؛ لأن اليمين تعلقت بنفسه دون اسمه.

فرع آخر إذا حلف لا يتكفل لفلانٍ بمال فتكفل بوجهه لم يحنث، وبه قال أبو حنيفة. وقال أحمد: يحنث بناءً على قوله: "إذا تعذر تسليم المكفول به يجب المال وصار ذلك كفالة"، قال: وهذا لا يصح؛ لأن الكفالة بالوجه كفالة ببدنه، وبدنه ليس بمال فلم يتناوله يمينه، وما ذكروه لا يسلم ولا يصح أيضًا؛ لأنه يلزمه المال لتعذر تسليمه لأن الكفالة كانت بالمال. فرع آخر لو حلف لا يتكلم فقرأ القرآن لم يحنث سواء كان في الصلاة أو في غيرها، وبه قال أحمد: وقال أبو حنيفة: إن قرأ خارج الصلاة حنث؛ لأن القرآن كلام الله، فإذا قرأه فهو متكلم به وهذا لا يصح؛ لأن ما لا يحنث به في الصلاة لا يحنث به خارج الصلاة كالإشارة. فرع آخر إذا حلف لا يكلمه فصلى خلفه فسها فسبح أو كبر، قياس المذهب أنه يحنث. وقال أبو حنيفة: إن كان في الصلاة لم يحنث، وإن كان خارجًا يحنث كما قال في القرآن وهذا لا يصح؛ لأن قارئ القرآن لا يسمى [16/ أ] متكلمًا بل يسمى قارئًا، ويسمى بالتسبيح متكلمًا. فرع آخر لو حلف لا يكلم فلانًا فقرأ آية من القرآن فهم ذلك الرجل منها، مثل إن كان يدق الباب فقال: {ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ (46)} [الحجر: 46] فإن قصده قراءة القرآن لم يحنث وإلا حنث. فرع آخر لو حلف لا يكلم الناس فكلم واحدًا حنث، لأن الألف واللام للجنس، فإذا كلم واحدًا من الجنس حنث، كما لو قال: لا أكلت الخبز فأكل خبزًا حنث. فرع آخر لو قال: لا أكلم ناسًا انصرف إلى ثلاثة أنفس. فرع آخر لو حلف لا يكلمه فزجره بأن قال: تنح عني حنث. وقال أبو حنيفة: إن زجره عقيب اليمين لم يحنث، وإن قال بعد ذلك حنث. وكذا الخلاف إذا قال: لا كلمتك فاذهب أو فقم. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: إذا قال لزوجته: والله لا كلمتك فاذهبي لا يحنث إلا أن ينوي بقوله فاذهبي الطلاقَ؛ لأنه إذا نوى به الطلاق كان كلامًا مستأنفًا لا يتعلق بالأول، بخلاف ما لو لمم ينو به الطلاق؛ لأنه يكون تمام الكلام، وهذا لا يصح؛ لأن قوله: قومي كلام منه لها حقيقة، فإذا وجد منه بعد يمينه حنث به، كما لو كان قد فصله.

فرع آخر لو قال رجل لرجلٍ: كلم زيدًا اليوم، وقال: والله لا كلمته، فإن يمينه على الأبد إلا أن ينوي اليوم، فإن كان ذلك في الطلاق وقال: نويت اليوم لم يقبل في الحكم. وقال أصحاب أبي حنيفة: تكون يمينه على اليوم ودلالة الحال خصت ذلك، إلا أن يطول الكلام مثل أن يقول: ما أتيتني في منزلي وقد أتيتك في منزلك غير مرة، فيقول: والله لا أتيتك فإن هذا يكون على اليوم؛ لأن الكلام طال وهذا لا يصح؛ لأن يمينه مطلقة فوجب أن تكون على التأبيد، كما لو ابتدأ بها أو طال الكلام. فرع آخر لو قال: لا لبست حُليًا، قال أبو حنيفة: لا يحنث باللؤلؤ [16/ ب] حتى تمزج بذهبٍ أو فضةٍ وعندنا يحنث به؛ لأنه حُليٌ، قال الله تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} [الحج: 23]. فرع آخر لو تحلى بالخرز والصفر، فإن كان في عرفهم حُليًا كأهل البوادي وسكان السواد يحنث وإلا فلا يحنث. وقيل: هل يحنث به غيرهم؟ فيه وجهان كما قلنا في بيوت الشعر ورؤوس الصيد. فرع آخر لا فرق في الحنث بين مباحه ومحظوره، ويحنث بلبس الخاتم ذهبًا كان أو فضة. وقال أبو حنيفة: لا يحنث إن كان من فضة، ويحنث إن كان من ذهب؛ لأن الذهب غير مألوفٍ والفضة مألوفة، وهذا لا يصحٍ؛ لأن مألوفه وغيره سواء كالإسورة والأطواق. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم تحلى خاتمًا من ذهبٍ ثم نزعه. فرع آخر لو لبس ثوبًا منسوجًا بالذهب لا يحنث؛ لأنه باسم الثوب أخص منه باسم الحلي. وكذلك لو تقلد بسيف محلي؛ لأن السيف ليس بحلي وإن كان على حلٌي. فرع آخر لو لبس منطقةً محلاةً بذهب أو فضةٍ فيه وجهان، أحدهما: يحنث بها؛ لأنها من حلي الرجال. والثاني: لا يحنث بها؛ لأنها من الآلات المحلاة كالسيف. فرع آخر لو حلف لا يلبس قلنسوة فلبسها في رجله لم يحنث؛ لأن اليمين تقتضي لبسًا متعارفًا وهذا غير متعارف.

فرع آخر لو حلف لا يلبس شيئًا فلبس درعًا أو جوشنًا أو خفًا أو نعلًا فيه وجهان؛ أحدهما يحنث؛ لأنه لبس شيئًا. والثاني: لا يحنث؛ لأن إطلاق اللبس لا ينصرف آلي غير الثياب. فرع آخر لو قال: والله لا كلمتك حنث؛ لأنه بإعادة الكلام قد صار متكلمًا له. فرع آخر لو كلمه وهو نائم، فإن كان كلامًا يوقظ مثله النائم حنث به وإلا فلا. فصل قال صاحب "الحاوي": أذكر في الإيمان أصلًا يحمل عليه أحكامها ليسلم من الإخلال، فأقول: [17/ أ] كل يمين انعقدت على اسم يعتبر به البر والحنث لم يخل ذلك الاسم من أمرين؛ مجمل ومفسر، فإن كان مجملًا كقوله في الإثبات: والله لأفعلن شيئًا، وفي النفي: والله لا فعلت شيئًا، فاسم الشيء يُضم إلى كل مُسمى فلا يحمل على جميع الأشياء لخروجها عن القدرة، والعرف يوجب أن يحمل على بعضها ولا يتغير بعضها إلا بالبيان فيرجع فيها إلى بيانه، فإن كانت له نية وقت يمينه يحمل على نيته فيصير بالنية مفسرًا وبالقول مخبرًا، كأنه أراد بقوله: لا فعلت شيئًا أي لا دخلت هذه الدار. وبقوله: لأفعلن شيئًا أي لأدخلن هذه الدار، فتعلق بره وحنثه بدخول الدار، سواء تقدم على بيانه أو تأخر، فإن لم يكن له نية وقت يمينه له أن يعينها بعد اليمين فيما شاء ويعمل فيها على خياره، كمن قال لنسائه: إحداكن طالق، ولم يعين واحدة، كان لهن تعيين الطلاق فيمن شاء منهن، وإذا كان التعيين إلى خياره فإن كان حلف بالطلاق أو العتاق يؤخذ جبرًا باليقين لتعلق حق الآدمي بها، وإن كان حلف بالله لا يجبر فيعين متى شاء ولا حنث فيها قبل التعيين، وإذا عينها باختياره فجعل قوله: لأفعلن شيئًا معينًا، في أن يركب هذه الدابة، وقوله: لا فعلت شيئًا معينًا في أن لا يركب هذه الدابة صار هذا التعيين هو المراد باليمين، فتعلق به البر والحنث دون غيره. ثم لا يخلو إما إن وجد منه ركوب الدابة قبل التعيين أو لم يوجد، فإن لم يوجد تعلق بالبر والحنث بما يستأنفه من ركوبها بعد التعيين، وإن كان ركوبها قبل التعيين ففي وقوع البر والحنث به وجهان مبنيان على تعيين الطلاق المبهم في واحدة من نسائه، هل يوجب وقوعه وقت اللفظ أم وقت التعيين؟ فيه وجهان: فإن قلنا: يقع باللفظ يتعلق البر والحنث بما تقدم من [17/ ب] الركوب قبل التعيين، ولا يتعلق بما تأخر عنه برُّ ولا حنثٌ. والثاني: يقع الطلاق وقت التعيين، فعلى هذا يتعلق البر والحنث بالركوب بعد

التعيين ولا يتعلق بما تقدمه برٌّ ولا حنثٌ. وأما الاسم المفسر فضربان، أحدهما: إن كان له حقيقة ومجاز كالسراج مجاز في الشمس، والبساط مجاز في الأرض، فينقسم في الإيمان خمسة أقسام: أحدهما: أن يريد به الحقيقة دون المجاز، فيحمل على حقيقته لفظًا ومعتقدًا سواء كان من إرادة الحقيقة لغويًا أو شرعيًا، فإذا حلف لا يأكل الزبد لم يحنث باللبن على هذا. والثاني: أن يريد به المجاز دون الحقيقة، فيريد بالسراج الشمس دون المصباح، وباللحم السمك، فإن كانت يمينه بالله عز وجل حمل على المجاز في الظاهر والباطن لاستثناء الحقيقة بنيته، وإن كان بالطلاق حملت على المجاز في الباطنٍ وحملت على أغلظ الأمرين في الظاهر، وسواء كان ما أراد من المجاز شرعيًا أو لغويًا. والثالث: أن يريد به الجمع بين حقيقته ومجازه، فيحمل عليهما في بره وحنثه؛ لأنه أغلظ فيحمل السراج على المصباح والشمس على هذا. والرابع: أن يريد به غير حقيقته ومجازه، كمن أراد بالسراج غير المصباح والشمس، فلا يحمل على الذي أراده لخروجه عن مقتضي لفظه، كمن أراد الطلاق بما ليس بصريح ولا كناية، ولا يحمل على المجاز لتجرده عن النية. وأما حمله على الحقيقة، فإن كانت يمينه بالطلاق حملت على الحقيقة في الظاهر لا في الباطن، وإن كانت يمينه بالله تعالى لم يحمل على الحقيقة لا في الظاهر ولا في الباطن، وإن كانت لغوًا لا يتعلق بها برٌّ ولا حنثٌ. وقال مالك ومحمد: إنه حمل يمينه على إرادته وإن خرج عن الحقيقة والمجاز إذا اقترن به ضربٌ من الاحتمال. وحكي عن محمد أنه قال فيمن قال لغريمه: والله لأجرنك على الشوك [18/ أ] [برَّ] بمطله وتأخير دينه اعتبارًا بمخرج النية والنية لا يتعلق بها يمين، كما لو نوى يمينًا. والخامس: أن تتجرد يمينه عن نيته وإرادته فتحمل في البر والحنث على الحقيقة دون المجاز [لأن افتقار المجاز إلى النية يسقط حكمه إذا تجرد عن نية مثل كنايات الطلاق إذا لم تقترن بها نية] فإن اختلف الشرع واللغة في حقيقته ومجازه كالنجاح في الشرع هو حقيقة في العقد ومجاز في الوطء، وفي اللغة حقيقة في الوطء مجاز في العقد، وكالصلاة، والزكاة، والصوم لها حقيقة في الشرع غير حقيقة اللغة، فيحمل على حقيقته في الشرع دون اللغة لأن الشرع ناقل. والضرب الثاني على الاسم الخاص أن يكون له حقيقة وليس له مجاز، وهو على أربعة أقسام؛ مبهم، ومعين، ومطلق، ومقيد. فالمبهم: لا كلمت رجلًا يحنث بكل من كلمه من الرجال دون الصبي والمرأة.

والمعين: لا كلمت زيدًا يحنث بكلامه صغيرًا أو كبيرًا. والمطلق: أن يقول: لا شربت ماءً، فإطلاقه أن لا يذكر أنه قدرًا، ولا يعين له زمانًا ولا مكانًا، فيحنث بشربه في كل مكان وزمان إذا شربه صرفًا، فإن شربه ممزوجًا حنث ولا مكانًا، فيحنث بشربه في كل مكان وزمان إذا شربه صرفًا، فإن شربه ممزوجًا حنث إذا غلب على غيره بلونه وطعمه، وإن غلب عليه غيره بلونه وطعمه لم يحنث. والمقيد: ثلاثة؛ مقيد بمكانٍ لا شربته بالبصرة، ومقيد بزمانٍ لا شربته اليوم، ومقيد بصفة لا شربته صرفًا فيتقيد به. ويحنث في المبهم بالمعين ولم يحنث في المعين بالمبهم، وحنث في المطلق بالمقيد ولم يحنث في المقيد بالمطلق، لعموم المبهم والمطلق وخصوص المعين والمقيد، فإن أراد بالمبهم معينًا وبالمطلق مقيدًا حمل على إرادته لفظه، فيجعل المبهم معينًا والمطلق مقيدًا في الظاهر والباطن إن كان حالفًا بالطلاق؛ لأنه استثناء بعض ما شمله عموم الجنس، فصار بتخصيص العموم في النصوص الشرعية، فلا يحنث في إبهام قوله: لا كلمت رجلًا وقد أراد زيدًا [18/ ب] إلا بكلامه دون غيره من الرجال، ولا يحنث في إطلاق قوله: لا شربت ماءً وقد أراد شهرًا لا شربه فيه دون غيره من الشهور. فأما عكس هذا إذا أراد بالمعين مبهمًا وبالمقيد مطلقًا حمل على لفظه في التعيين والتقييد ولم يحمل على إرادته في الإبهام والإطلاق؛ لأن ما تجاوز المعين والمقيد خارج عن لفظ اليمين، فصار مرادً بغير يمين فلا يحنث في تعيين قوله: لا كلمت زيدًا هذا وقد أراد كل الرجال إلا بكلام زيد وحده. ولا يحنث في تقييد قوله: لا شربت الماء في شهري هذا وقد أراد كل الشهر على الأبد ألا يشربه فيه وحده. وشاهده من الطلاق أن يقول لامرأته: أنت طالق واحدة ويريد بها ثلاثًا لا تطلق ثلاثًا؛ لأنه قد صرح بنفيها بلفظ فلم يقع بمجرد إرادته، فافترق حكم العكس لافتراق العلتين. وأما العام فضربان؛ أحدهما: عامُ اللفظ عام المراد ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما كان عمومه في لفظه ومعناه، مثل قوله: والله لا كلمت الناس يحمل على كل إنسان من صغير وكبير، وعلى كل نوع من الكلام سقيم وسليم، ومثله في التنزيل قوله تعالى: {إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [العنكبوت: 62]، وقياسه بالإيمان أن يقول: لا أكلت اللحم، يحنث بكل نوع من اللحم على كل صفة من الأكل. والثاني: ما كان عمومه في لفظه دون معناه، كقوله: والله لا أكلت الحنطة، يحنث بكل نوع من الحنطة ولا يحنث بأكل ما حدث عن الحنطة من سويق أو دقيق. وإذا قال: لا أكلت اللبن يحنث بكل نوع من اللبن ولا يحنث بما حدث من اللبن من جبن وصل [وزبد] وسمن، فيصير محمولًا على عموم لفظه دون معناه، وهذا يختص بما إذا تغير عن حاله زال عن اسمه فاجعل ذلك قياسًا مطردًا في نظائره. والثالث: ما كان عمومه في معناه دون لفظه، مثل قوله: لا أكلت عسلًا فأكل خبيصًا فيه عسل، [19/ أ] ولا أكلت دقيقًا فأكل خبيصًا فيه دقيق حنث؛ لأن في الخبيص عسلًا

ودقيقًا، وكذلك السمن، وهذا يختص بما إذا حدث له اسم بالمشاركة لم يزل الاسم الخاص عن كل نوع منها؛ لأنه لا يسمى خبيصًا إلا باجتماعهما ولا يزول اسم كل نوع عنه؛ لأنه لا يقال: هذا خبيص فيه عسل وفيه دقيق وفيه سمن. فإن قيل: أليس لو قال: لا أكلت دقيقًا فأكل خبزًا حنث؟ قلنا: الفرق أنه لا يقال هذا خبز فيه دقيق، ويقال: هذا خبيص فيه دقيق، فصار اسم الدقيق في الخبيص باقيًا وفي الخبز زائلًا فافترقا. والضرب الثاني: ما كان عام اللفظ خاص المراد، فهو ما خص عموم لفظه بسببٍ أوجب خروجه عن عموم كما خصه عموم الكتاب والسنة، وتخصيص اللفظ العام في الإيمان من خمسة أوجه أحدها: تخصيص عمومه بالمفقود. والثاني: بالشرع. والثالث: بالعرف. والرابع: بالاستثناء. والخامس: بالنية. فأما الأول: ما امتنع استيفاء عمومه في القصد كقوله: والله لآكلنَّ الخبز، ولأشربنَّ الماء، ولأكلمنَّ الناس، ولأتصدقن على المساكين، لما امتنع أن يأكل كل الخبز، أو يشرب كل الماء، [ويكلم جميع الناس، ويتصدق على جميع المساكين] لما خص العقل عموم الجنس فتعلق البر والحنث بأكل بعضه وشرب بعضه، وكلام بعض الناس، والتصدق على بعض المساكين. ثم هذه الأجناس ضربان [معدود وغير معدود] فغير المعدود الخبز والماء فيتعلق البر والحنث بقليله وكثيره. والمعدود كالناس والمساكين، فإن كانت يمينه على الإثبات كقوله: لأكلمنَّ الناس، ولأتصدقنَّ على المساكين لم يبر حتى يكلم ثلاثةً ويتصدق على ثلاثة اعتبارًا بأقل الجمع، وإن كانت يمينه على نفي كقوله: لا كلمت الناس ولا تصدقت على المساكين حنث بكلام واحدٍ وبالصدقة على واحدٍ اعتبارًا [19/ ب] بأقل العدد، والفرق أن نفي الجميع ممكن وإثبات الجميع ممتنع، فاعتبر أقل الجمع بالإثبات واعتبر أقل العدد في النفي. وأما التخصيص بالشرع فضربان؛ تخصيص اسم وتخصيص حكم، فتخصيص الاسم كالصيام في اللغة الإمساك عن الطعام والكلام، ثم خصه الشرع بالإمساك عن الطعام والشراب في النهار فلا تنعقد يمينه إلا بالصوم الشرعي، وكذا الحج، والصلاة. وأما تخصيص الحكم فكلحم الخنزير خص بالتحريم من عموم اللحوم المباعة، ففي تخصيص العموم به في الإيمان وجهان: فلا يحنث إذا حلف لا يأكل لحم الخنزير، ولا يبر إذا حلف ليأكلن اللحم فأكل لحم الخنزير، ولو حلف لأوطانَّ لا يحنث بالوطء في الدبر، ولو حلف أنه لا يطأ لم يبر بالوطء

في الدبر، ويبرَّ ويحن بوطء الزنا؛ لأنه من جنس المباح، وعلى هذا لو حلف لا يتيمم لا يحمل على موضوع اللغة وهو القصد، بل يحمل على التيمم الشرعي في سفرٍ أو مرضٍ وعلى الوجه الآخر لا يتخصص عموم الإيمان بالأحكام الشرعية، لاتفاق أحكام القرآن في الحظر والإباحة اعتبارًا بما انعقدت عليه، فيحمل على عمومها فيما حل وحرم اعتبارًا بالاسم دون الحكم فيحنث في اللحم بكل لحمٍ، وفي الوطء بكل وطء. وأما تخصيص العموم بالعرف فضربان؛ عام وخاص. فالعام: كمن حلف لغيره لا خدمتك الليل والنهار، فيختص بالعرف من خدمة النهار زمان الأكل والشرب، والطهارة والصلاة، والاستراحة بحسب ما يخدم فيه من شاقٍ وسهلٍ، ومن خدمة الليل وقت النوم المألوف، فإن ترك الخدمة فيها لم يحنث لخروجها بالعرف من عموم يمينه، وإن ترك الخدمة في غيرها من الأوقات حنث لدخولها في عرف يمينه، ولو حلف [20/ أ] لأضربنك الليل والنهار خرج بالعرف من زمان الليل والنهار ما ذكرناه، فلا يكون بترك الضرب فيها حانثًا، وخرج بالعرف من بقية الزمان في الضرب خصوصًا للوقت الذي يكون ألم الضرب فيه باقيًا، فيكون بقاء ألمه كبقاء فعله، فإن ترك ضربه مع بقاء الألم لم يحنث، وإن تركه مع زوال الألم حنث؛ لأن من دوام فعله أن يتخلله فترات من العرف، فاعتبر بدوام ألمه الحادث عنه. ولو قال: والله لا وضعت ردائي عن عاتقي انعقدت يمينه على لبسه في زمان العرف، فإن نزعه في زمان الليل، أو في دخول الحمام، أو عند تبدله في منزله لم يحنث لخروجه بالعرف من زمان لبسه، وإن نزعه في غيره حنث لدخوله في عرف لبسها، ولو قال لغريمه: والله لا نزعت ردائي عن عاتقي أقضيك حقك حنث بنزعه قبل قضاء دينه في زمان العرف وغيره، والفرق أنه جعله في الإطلاق مقصودًا، وفي قضاء الدين شرطًا، والعرف معتبر في الإيمان دون الشرط. وعلى هذا لو قال لغريمه: والله لا خدمتك حتى أقضيك حقك لم يحنث بترك الخدمة في زماني الاستراحة قبل القضاء؛ لأنه جعل الخدمة جزاءً ولم يجعلها شرطًا، وعلى هذا لو حلف لا يأكل الرؤوس لا يحنث بأكل رؤوس غير النعم لخروجها بالرف من عموم الاسم. ولو حلف لا يلبس هذا القميص لا يحنث إذا ارتدى به، ولو حلف لا يلبس الخاتم لا يحنث بلبسه في الإبهام ويحنث بلبسه في الخنصر اعتبارًا بالعادة وتخصيصًا بالعرف. وأما العرف الخاص: كقوله: لا قتلت ولا ضربت، فأمر بالقتل والضرب يحنث به الملوك دون السوقة. ولو قال: والله لا تصدقت حنث الأغنياء بدفعها وحنث الفقراء بأخذها اعتبارًا بالعرف في الفريقين. ولو قال: والله لا طفت ولا سعيت حنث أهل مكة [20/ ب] بالطواف بالبيت وبالسعي بين الصفا والمروة، وحنث غيرهم بالسعي على القدم وبالطواف في الأسواق، وحنث [أهل] الوشاة بالسعي إلى الولاة. ولو قال: والله لا ختمت، حنث القارئ بختم القرآن، ويحنث التاجر بختم كيسه؛

لأنه عرفٌ بكل واحدٍ منهما به، ولو قال: والله لا قرأت، حنث بقراءة القرآن دون قراءة الشعر، ولو قال: والله لا تكلمت، حنث بالكلام، وإنشاء الشعر دون قراءة القرآن لخروجه بالإعجاز من جنس الكلام الذي ليس فيه إعجاز. وأما تخصيص العموم بالاستثناء: فهو القول المخرج من لفظ اليمين بعد ما اشتمل عليه وله شرطان؛ أن يكون متصلًا بها، وأن يخالف حكم اليمين، فإن كانت على نفيٍ كان الاستثناء إثباتًا، وإن كانت على إثباتٍ كان الاستثناء نفيًا، واختلف أصحابنا في هذا الاستنثاء، هل يفتقر إلى اعتقاده في أول اليمين على وجهين: أحدهما: يفتقر إليه حتى إن لم يعتقده بطل حكمه فيما بينه وبين الله تعالى، وإن كان حكمه في الظاهر صحيحًا. والثاني: لا يفتقر ويصح إذا اتصل بها ظاهرًا وباطنًا، وحكم هذا الاستثناء أن يخرج عن يمينه بعض جملها وهو على أربعة أضرب: أحدها: استثناء مكانٍ. والثاني: استثناء زمانٍ. والثالث: استثناء عددٍ. والرابع: استثناء صفةٍ. وفي ذكر إحداها بيان جميعها، فإذا قال: والله لأضربن زيدًا إلا في داري برَّ إن ضربه في غير داره، ولم يبر إن ضربه في داره. ولو قال: والله لا ضربت زيدًا إلا في داري، حنث إن ضربه في غير داره، ولم يحنث إن ضربه في داره، وبرَّ إن لم يضربه في غير داره، ولم يبر إن لم يضربه في داره، وعلى هذا القياس. وأما التخصيص بالنية: فإن ينوي بقلبه [21/ أ] في عقد يمنيه ما يصح أن يذكر بلفظه، فيحمل فيه على نيته إذا اقترنت بعقد يمينه، ولا يصح إن تقدمت النية على اليمين أو تأخرت عنها، وذلك مثل قوله: والله لا كلمت زيدًا وينوي به مبهمًا، أو لا أكلت خبزًا وينوي بله ليلًا، فيحمل في اليمين بالله تعالى على نيته ظاهرًا وباطنًا، وفي الطلاق يحمل ظاهرًا لا باطنًا والله أعلم. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ حَلَفَ لَا يُكَلِّم رَجُلًا فَسَلَّمَ عَلَى قَوْمٍ وَالمَحْلُوفُ عَلَيْهِ فِيهِمْ لم يَحْنَتْ". قال أصحابنا: جملة هذا أنه إذا علم ونواه بقلبه حنث قولًا واحدًا، وإن عَزَله بقلبه وقصد السلام على غيره لم يحنث قولًا واحدًا وإن لم يعلم فسلم على جماعتهم فهل يحنث؟ قولان؛ لأنه مخطئ، وفي الخاطئ قولان، ولو مرَّ عليه فسلم عليه ناسيًا فيه قولان، وإن سلم عليه ذاكرًا لليمين إلا أنه لا يعرف فهو خاطئ فيه قولان، وإن نوى السلام على جماعتهم حنث؛ لأنه سلم عليه وعليهم، وإن أطلق السلام عالمًا بأنه فيهم ولم يعزله بالنية ولا قصده بالنية، قال في "الأم" ونقله المزني إلى "المختصر": لا يحنث. وقال الربيع: وفيه قول آخر إنه يحنث. فالمسألة على قولين:

أحدهما: لا يحنث؛ لأنه يحتمل أن يسلم عليهم دونه، ويحتمل أن يسلم عليه وعليهم فلم يحنث بالشك. والثاني: يحنث؛ لأنه إذا سلم عليهم وهو فيهم فقد سلم عليهم وعلى كل واحدٍ منهم لحق عموم اللفظ فحنث به. مسألة: قَالَ: " وَلَوْ كَتَبَ إِلَيْهِ كِتَابًا أَوْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولًا فَالوَرَعُ أَنْ يُحَنِّثَ نَفْسَه". اعلم أنه إذا حلف لا يكلم رجلًا، فكتب إليه، أو أرسل إليه رسولًا، أو أشار إليه، أو أومَأ إليه هل يحنث؟ قولان: قال في "القديم": يحنث، وبه قال مالك لقوله تعالى: {ومَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلاَّ وحْيًا} [الشورى: 51] فاستثني الوحي من الكلام. [21/ ب] وقال تعالى: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إلاَّ رَمْزًا} [آل عمران: 41] فاستثني الرمز من الكلام، ولأن الكلام يراد لإفهام ما في القلب، وبهذه الأشياء يحصل الإفهام. وقال في "الجديد" لا يحنث وهو الأصح، واختاره المزني؛ لأن الله تعالى قال: {فَقُولِي إنيِّ نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: 26] الآية، ثم قال: {فَأَشَارَتْ إلَيْهِ} [مريم: 29]، فلو كانت الإشارة من الكلام لما أشارت وقد نذرت أن لا تتكلم، ولنه يصح نفي اسم الكلام عن هذه الأشياء فيقول: ما تكلمت ولكن أشرت وكتبت فلم يحنث به، وأما الآية التي ذكروها قلنا: ذاك استثناء من غير الجنس وقد ورد به القرآن، قال الله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إلاَّ سَلامًا} [مريم: 62]. واحتج المزني على اختياره بأن الله تعالى قال: {أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًا فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ المِحْرَابِ فَأَوْحَى إلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وعَشِيًا (11)} [مريم: 10، 11] فافهم بما يقوم في الفهم مقام الكلام ولم تتكلم به، وقد احتج الشافعي - رضي الله عنه - بأن الهجرة محرمة فوق ثلاثٍ، فلو كتب أو أرسل إليه وهو يقدر على كلامه لم يخرجه هذا من الهجرة التي يأثم بها، فلو كان الكتاب كلامًا يخرج به من الهجرة، وأجاب بعض أصحابنا عما ذكر المزني فقال: أما حديث زكريا صلى الله عليه وسلم فلأنه نهي عن الكلام مع استثناء الإشارة، وهو قوله تعالى: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إلاَّ رَمْزًا} [آل عمران: 41]، وبهذا استدللنا على أن الرمز كلام. وأما الهجرة فإن كانت المخاطبة بينهما فيما قبل الهجرة بالكتاب أو الرسالة خرج من الهجرة إذا كانت عادته جارية بالتسليم بالإشارة، وإن كاتبه وهما في مجلس واحدٍ وقال في هذه الحالة لغيره: قل له كذا وكذا، فهذا إصرار منه على الهجرة؛ لأنه لا تزول به الوحشة وإن كان كلامًا إذا لم يقصد إزالة الوحشة حتى لو غاب صاحبه فكاتبه [22/ أ] معتذرًا أو غير معتذرٍ، ولكنه لم يؤذنه بما في الكتاب زالت الهجرة بذلك، ولو كاتبه بالشتم أو استقبله فشافهه بالشتم لم تزل به الهجرة وإن تكلم، وهذا المعنى غير موجود، هكذا ذكره أصحابنا بخراسان. وقال في "الحاوي" وغيره: إذا كتب إليه أو أرسل إليه رسولًا (وهو) يقدر على

الكلام معه، هل يخرج عن مأثم الهجرة؟ فيه وجهان؛ قال أبو إسحاق: لا يخرج. وقال ابن أبي هريرة: يخرج؛ لأن المقصود نفي الوحشة التي بينهما وعودهما إلى ما كان عليه من الأنس. ومن أصحابنا من قال في أصل المسألة: لا يحنث قولًا واحدًا، وما ذكر في "القديم" أراد به في الورع، وأراد أنوى في يمينه المكاتبة والمراسلة. ومن أصحابنا من قال: هذا في المعاتبة بحيث جرت العادة بالمكاتبة والمراسلة، فإن كان معه في المجلس فكتب إليه رقعة لم يحنث قولًا واحدًا. فرع لو حلف لا يكلم فلانًا فكلم غيره بكلامٍ سمعه، فإن لم يكن فيه تعريض له لم يحنث، وإن كان فيه تعريض له، فإن كان مواجهًا بالكلام حنث به؛ لأنه قد صار مكلمًا له، وإن كان غير مواجهًا له لم يحنث. وقد روي عن عائشة - رضي الله عنها - لما أرادت الخروج إلى البصرة أشارت عليها أم سلمة ألا تفعل، وحلفت عليها إن خرجت أن لا تكلمها، فلما خرجت وعادت إلى المدينة، قالت أم سلمة: عليها إن خرجت أن لا تكلمها، فلما خرجت وعادت إلى المدينة، قالت أم سلمة: يا حائط ألم أقل لك، يا حائط ألم أنهك، فبلغت غرضها وسلمت من الحنث. فرع لو كان الحالف إمامًا والمحلوف عليه مصليًا خلفه فسلم في الصلاة، فالحكم فيه كما ذكرناه إذا سلم على جماعة وهو فيهم في قياس المذهب. وقال أبو حنيفة: لا يحنث؛ لأن سلام الصلاة ليس بكلام [22/ ب] كتكبيرها وهذا لا يصح؛ لأنه شرع له أن ينوي السلام على الحاضرين، وليس كالتكبير فإنه يخرج بالسلام من الصلاة وينافيها، ولو قدمه عامدًا عن موضعه بطلت صلاته. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ حَلَفَ لَا يَرَى كَذَا إِلَّا رَفَعَهُ" إلى فلان القاضي ثم رآه نُظر، فإن رفعه إليه بَّر، وإن لم يرفعه إليه مع الإمكان حتى مات القاضي أو هو حنث؛ لأنه فاته رفعه إليه بتفريط من جهته، وإن أمكنه رفعه إليه إلا أنه حجب عن القاضي ومنع من رفعه إليه حتى فات بموته هل يحنث؟ فيه قولان، وإن لم يمكنه رفعه إليه حتى مات القاضي أو هو، مثل أن يرى فيموت القاضي عقيبه من غير أن يكون بين الرؤية وبين موته زمان يمكن رفعه إليه، أو يرى فيخرج في الحال ثم يموت هو في الطريق. قال أبو إسحاق: لا يحنث قولًا واحدًا؛ لأن ما لم يمكنه رفعه إليه فهو كما لم يره، وإنما يلحقه الحنث إذا أمكنه الرفع مع الرؤية، ووافقه بعض أصحابنا على هذا وقال: القولان في المكره الذي أدركه زمان الرفع فمنع. وقال أبو حامد: في هذا قولان أيضًا كالمكره، والأول أصح. فإن قيل: قال الشافعي رضي الله عنه: "لو حلف لا يرى كذا إلا رفعه آلي قاضٍ" فنكر ولم يعين فلم يصح حمل المسألة على تعيين القاضي؟ قلنا: الشافعي لم يحك لفظ الحالف وإنما هو لفظه، ألا ترى أنه لو وصل به إلى قاضٍ سماه

وعينه كان صحيحًا فثبت ما قلناه. قال الشافعي رضي الله عنه: "وَلَوْ عُزِلَ فَإِنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ أَنْ يَرْفَعَهُ إِلَيْهِ إِنْ كَانَ قَاضِيًا فَلَا بَجِبُ رَفْعُهُ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌُ خَشِيتُ أَنْ يَحْنِثَ إِنْ لَمْ يَرْفَعْهُ إِلَيْهِ". ومعنى هذا الكلام أنه إذا سمى القاضي وعنيه ثم رأى الأمر الذي حلف على رفعه [23/ أ] إليه فلم يرفعه حتى عزل عن القضاء يُنظر، فإن قال: ما دام قاضيًا أو نوى ذلك بقلبه، فهو بمنزلة موته حتى عزل عن القضاء يُنظر، فإن قال: ما دام قاضيًا أو نوى ذلك بقلبه، فهو بمنزلة موته على ما بيناه فأغنى عن الإعادة، وإن لم يقل ذلك ولا نية له، قال الشافعي: "حشيت أن يحنث إن لم يرفع فيه". قال أبو إسحاق: إنما علَّق الشافعي القول في حنثه ولم يقطع؛ لأنه لم يقتصر على اسمه حتى وصفه بالقضاء، فيمكن أن يكون هذا شرطًا ويمكن أن يكون هذا شرطًا، وتكون الإشارة واقعة على العين دون الصفة. وقال بعض أصحابنا: فيه وجهان: أحدهما: أنه إشارة إلى العين والصفة؛ لأنه سمى ووصف فتعلق بهما. وقال أبو حنيفة: لأن الرفع إليه لا يكون إلا في حال الولاية. والثاني: لا يتعلق بالصفة وإنما يتعلق بالعين ويكون ذكر الصفة زيادة في معرفة العين وهو الصحيح، وهو ظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه؛ لأنه قال: "فإن لم يرفعه بعد عزله خشيت أن يحنث"، فنص على الحنث، فدل على أنه كان أقوى في نفسه، وهذا اختيار القاضي الطبري. قال: والدليل عليه أن رجلًا لو قال: والله لا ركبت دابة فلان بن فلان القاضي، ثم عزل فركب دابته حنث، وإن لم يكن قوله: القاضي إلا زيادة في تعريف عينه، فيجب أن يكون هنا مثله. فإذا ثبت هذا وقلنا: القضاء لا يتعلق به اليمين، فإنه يرفعه إليه بعد عزله ويبر، فإن لم يرقعه حنث. وكذلك ما يراه بعد عزله يحتاج أن يرفعه إليه، فإن لم يفعل حنث. وإذا قلنا: يتعلق اليمين بالقضاء، فإذا عزل كان كما لو مات على ما قدمناه. فرع لو لم يسم فقال: لا أرى منكرًا إلا رفعته إلى قاضٍ، فإن كان قاضيًا أو عزل ثم رآه فعليه رفعه إلى القاضي بعده؛ لأنه لم يخص قاضيًا دون قاضٍ، فإن مات الذي كان قاضيًا [23/ ب] وقت يمينه قبل الرفع إليه أو عُزل وولي غيره رفعَهُ إليه برَّ بيمينه ولا يحنث هاهنا حتى يرى منكرًا ويمكنه الرفع إلى قاضٍ، ولا يرفعه حتى يموت فيحنث به. فرع آخر لو قال: لا أرى منكرًا إلا رفعته إلى القاضي، قال أبو إسحاق: هذا التعريف وهو القاضي في بلده؛ لأنه المعروف والمعهود، ولو أمكنه الرفع إلى قاضي بلده في ذلك الوقت فلم يرفعه حتى مات ذلك القاضي حنث، ولا يبر بأن يرفع إلى القاضي بعده. ولم يذكر أبو إسحاق في هذا القسم إذا رأى بعد موت قاضي البلد وتقليد غيره كيف الحكم، ويجب أن يقال: لا يجب رفعه إليه؛ لأن التعريف عنده تعلق بالقاضي الموجود في حال يمينه، ويكون حكم هذا القسم حكم مسألة الكتاب، فإن التعريف إذا رجع إليه كان بمنزلة ما لو عنيه وعرّفه بيمينه. وقال القاضي الطبري: هذا مذهب أبي

إسحاق وقد ذكره في شرحه. وقال بعض أصحابنا: إن لم يكن له نية المعهود كان للجنس، وهذا يصح على قول من قال من أصحابنا: إن الاسم المفرد إذا عرف بالألف واللام ظاهرة للجنس ويجعل للعهد بدليل، وذلك مثل قوله تعالى: {والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] الآية، {الزَّانِيَةُ والزَّانِي فَاجْلِدُوا} [النور: 2] الآية، ونحو ذلك، فعلى هذا فآلي أي قاضٍ رفعه في ذلك البلد يبرَّ في يمينه، ولا يحنث بموته إذا ولي آخر رفعه إليه ويبرّ. مسألة: قَالَ: "ولو حَلَفَ مَا لَهُ مَالٌ وَلَهُ عَرَضٌ أَوْ دِينٌ حَنَثَ". إذا حلف ما له مال وله شيء من العروض والعقار ونحو ذلك حنث. وقال أبو حنيفة: لا يحنث إلا أن يملك شيئًا من الأموال الزكاتية استحسانًا؛ لأن عرف المال في الشرع ينصرف إلى الزكاتي لقوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103]، ودليلنا [24/ أ] أن العروض مال حقيقة، بدليل أن الله تعالى قال: {وأُحِلَّ لَكُم مَّا ورَاءَ ذَلِكُمْ أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم} [النساء: 24]، ويجوز الترويح بالعروض، وقال صلى الله عليه وسلم: "خير المال مهرة مأمورة، أو سكة مأبورة". والمهرة المأمورة: الخيل الكثيرة النتاج، والسكة المأبورة، النخيل المصطفة المؤبرة. وقال مالك: لا يحنث إلا بالذهب والفضة دون غيرها، وهذا أيضًا لا يصح لما ذكرنا. فرع إذا قال: إن شفي الله مريضي فلله عليَّ أن أتصدق بمالي، فالحكم فيه كما ذكرنا في اليمين، ويتناول ذلك كل ما يتمول خلافًا لأبي حنيفة ومالك رحمهما الله. فرع آخر قال: لو كان له دين على إنسان، فإن كان حالًا حنث، فإن ذلك مال يملك أخذه والمطالبة به متى شاء كالوديعة، وإن كان مؤجلًا ففيه وجهان: أحدهما: لا يحنث؛ لأنه لا يملكه في الحال، وإنما يملكه بعد حلول الأجل، بدليل أنه لا يملك المطالبة به، وبه قال مالك رحمه الله. والثاني: وهو الأصح يحنث؛ لأنه مال له وإن لم يملك المطالبة به كالدين على المعسر، وعدم المطالبة لا تخرجه عن كونه مالًا، كما لو آجره داره وسلمها إليه فليس له المطالبة بها وهي ماله. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يحنث به حالًا كان أو مؤجلًا، كما لو كانت له المطالبة بالشفعة وهذا غلط؛ لأن الزكاة تتعلق بالدين ولا تجب الزكاة إلا في المال، ولأنه لو قال: لفلانٍ علىَّ مال، وفسره بالدين فدل على أنه يسمى مالًا. فرع آخر لو كان يملك بضع زوجته لم يحنث. قال أصحابنا: وكذا لو ملك سائر المنافع؛

لأنها لا تسمى أموالًا وإن كانت في معنى المال. فرع آخر لو كان له مكاتب أو أم ولدٍ أو مدبرٌ يحنث لقبولها على ملكه، ذكره أصحابنا مشايخ خراسان. وقال صاحب "الحاوي": [24/ ب] في أم الولد وجهان؛ أحدهما: لا يحنث لأنه لا يجوز أن يعوض عنها بمال بخلاف المكاتب إذا عجز. فرع آخر لو كان له مال مغصوب يحنث لبقائه على ملكه، وفي الضال وجهان؛ أحدهما: لا يحنث؛ لأن بقاءه مشكوك فيه. والثاني: يحنث؛ لأن الأصل بقاءه. فرع آخر لو كان له وقف، فإن قلنا: رقبة الوقف غير داخله في ملكه لم يحنث، وإن قلنا: رقبة الوقف داخلة في ملكه فيه وجهان كأم الولد، ولو نوى مالًا دون مالٍ فهو على نيته فيما بينه وبين الله تعالى. فرع آخر لو قال: ما لي إلا مائة درهم ولم أملك إلا خمسين درهمًا، ونوى أنه لا يملك زيادة على مائةٍ لم يحنث، وإن أطلق ففيه وجهان. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ حَلَفَ لَيَضْرِبَنَّ عَبْدَهُ مائَةَ شَوْطٍ". الفصل في هذا مسائل؛ إحداها: أن يجمع مائة سوطٍ ويشدها وضربه بها ضربة واحدة، وتحقق أن المائة كلها أصابته فقد برَّ في يمينه. وقال مالك رحمه الله: لا يبرّ حتى يضربه مائة سوطٍ متفرقة، وبه قال أحمد، وهذا لا يصح لقوله تعالى: "وخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِب بِّهِ ولا تَحْنَثْ" [ص:44] فدل أنه يبر بذلك، ولأن حقيقة الضرب أن يصيب المضروب من يد الضارب، وهذا يوجد في الضرب بالجمع كوجوده بالمتفرق فحصل البر بهما. فرع لو حلف ليضربنه مائة ضربة، فجمع مائة سوط أو مائة شمراخ فضربه بها دفعة واحدة هل يبر بذلك؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يبر؛ لأنه ما ضرب إلا ضربةً واحدةً فصار كالرامي سبع حصيات في رمي الجمار تعد رمية واحدة؛ لأن هاهنا جعل العدد للضربات، وفي المسألة الأولى جعل العدد الأسواط.

والثاني: يبرُّ به؛ لأن كل سوط يحصل به ضربة، ألا ترى أن الزاني إذا ضرب به [25/ أ] سقط عنه الحد. فرع آخر متى وقع اسم الضرب فقد برَّ، سواء ألمه بذلك أو لم يؤلمه، نص عليه. وقال مالك: لا يبر إلا بأن يألم بالضرب؛ لأنه يشترط الإيلام في ضربه الحد والتعزيز، وهذا لا يصح؛ لأن اسم الضرب يتناوله مؤلمًا كان أو غير مؤلم، يقال: ضربٌ مؤلمٌ، وضربٌ غير مؤلم، فإذا تناوله الاسم برَّ به ويخالف الحد والتعزيز؛ لأن الغرض بهما الردع والزجر، ولا يحصل ذلك إلا بالإيلام، وهاهنا الاعتبار بما يتناوله وله الاسم فلا يشترط فيه الألم. ولو وضع عليه السوط ورفعه لا يبر به بلا خلاف. فرع آخر لو علم أن الجميع لم يماسه لم بر؛ لأن الضرب لم يحصل بكماله ومماسته الجميع أن يقع البعض فوق البعض حتى يصل إليه شدة الكل. فرع آخر لو شك هل أصابه الكل أم لا ظاهره قال ههنا: إنه يبر، والورع أن يحنث نفسه. قال المزني: هذا خلاف قوله: ليفعلن كذا إلا أن يشاء فلان فمات فلانٌ حنث، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم، وعند أبي حنيفة والمزني هاهنا لا يبر. وقال القفال: هاهنا قول آخر لا يبر أيضًا كما في مسألة المشتبه، وهما كالقولين في إعتاق العبد الغائب الذي لا يعرف حياته عن الكفارة، ففي قول يعتبر براءة الذمة، والأصل أنها لم تبرأ، بل هي مشتغلة بالكفارة، وفي قول يعتبر أصل بقاء العبد، كذا هاهنا يعتبر أحد القولين ظاهر إصابته الكل، وفي الثاني يعتبر أن الأصل أنه لم يبر ما لم يتيقن. ومن أصحابنا من أنكر هذا وقال: ما لم يماسه في السياط فقد يقل ما ماسه، فقد حصل معنى الضرب بالمماس وغير المماس، وهذا خلاف نص الشافعي رضي الله عنه؛ لأنه قال: أحاط أنها ل تماسه كلها لم يبر. ومن أصحابنا من قال: إذا شك في الإصابة ولم يغلب على ظنه شيء حنث، وإن لم يتيقن الإصابة وغلب على ظنه [25/ ب] الكل برَّ. وقال أبو حنيفة والمزني: لا يبر؛ لأن الأصل عدم الإصابة مالم يتيقن وهذا لا يصح؛ لأن غلبة الظن أجريت في الحكم مجرى اليقين، كما يحكم بخبر الواحد والقياس على غلبة الظن. فرع آخر لو قال: مائة سوط لم يبر بعثكال النخل، ولو قال مائة خشبة برَّ بالعثكال. فرع آخر لو كان عليه لباسٌ يمنع وصول الضرب إلى بشرة بدنه، فإن كان كثيفًا يخرج عن

العرف ويمنع من الإحساس بالضرب لم يبر، وإن كان مألوفًا لا يخرج عن العرف ولا يمنع من الإحساس بالضرب يبر وإن لم يألم. فرع آخر لو قال: ليضربن عبده مائة مرةٍ فعليه في البر أن يفارقها، ولا يجوز أيجمعها، فإن جمعها وضربه كانت مرة، ولو قال: أضربك بمائة سوطٍ وضربه بها جاز وإن لم يصل جميعها إلى بدنه على ما ذكرنا؛ لأن دخول الباء على العدد لم يجعله صفة لآلة الضرب ولا يجعله صفةً لعدد المضروب، ولو قال: أضربك مائة سوطٍ وحذف الباء من العدد لزم البر أن يصل جميعها إلى بدنه؛ لأنه جعله صفةً لعدد الضرب دون الآلة، ذكره في "الحاوي". مسألة: قَالَ: "وَلَوْ حَلَفَ لَا يَهَبُ لَهُ هِبَةٌ فَتَصَدَّقَ عَلَيْهِ أَوْ نَحَلَهُ أَوْ أَعْمَرَهُ فَهُوَ هِبَةٌ". الفصل اعلم أنه إذا حلف لا يهب لفلانٍ هبة فإن هذا يتناول جميع أنواع التمليك بغير عوضٍ في حال الحياة، فإن وهب له شيئًا أو أهدى إليه هدية وأقبض، وإن لم يتقدمها عقد، أو كان ابنه فنحله أو أعمره، أو تصدق عليه صدقة تطوع يحنث بجميع ذلك، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: لا يحنث في صدقة التطوع؛ لأن الصدقة لا تسمى هبة، ولهذا كانت الصدقة لا تحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتحل له الهدية والهبة وهذا لا يصح؛ لأن [26/ أ] المسكين الذي يتصدق عليه بشيء لا يتحاشى في العبارة أن يقول: وهب لي فلان كذا، ولأن الهبة اسم عام لجميع التمليكات بغير عوض، إلا أن كل نوع منها مختص باسم، فإذا وهب النضير من النضير يقال: هبة، وإذا وهب لمن هو أعلى منه يقال: هدية، وإذا وهب الولد يقال: نحله، وإذا وهب الفقير يقال: صدقة حنث بكلها، وهو كاسم الرطب يتناول أنواعًا كثيرة. وأما صدقة التطوع هل كانت تحل لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه قولان. فرع لو أوصى بمالٍ لم يحنث؛ لأنه ليس بتمليك عين في حال الحياة، وإنما يحصل التمليك منها بالموت والقبول، وإذا مات سقطت. فرع آخر إذا عقد الهبة ففي زمان حنثه وجهان مخرجان من القولين متى يملك الهبة؟ أحدهما: بالقبض، فيحنث وقت إقباضها. والثاني: يدل بالقبض على ملكها وقت عقدها فيحنث وقت العقد. فرع آخر إذا عقد الهبة وسلم فلم يقبلها الموهوب له وردها هل يحنث؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحنث؛ لأن الهبة لم تتم تخريجًا من قوله أنه ملكها بالقبض.

والثاني: يحنث؛ لتعلقها بفعله تخريجًا من قوله أنها تملك بالعقد. ذكره في "الحاوي"، وقد ذكرنا هذا فيما قبله مختصرًا. فرع آخر لو تصدق عليه صدقةً فرض لم يحنث لخروجها عن تبرع الهبات، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان، ولو حاب في بيع لم يحنث لخروجها عن الهبةَ، ولو أبرأ من دين عليه، فإن قلنا القبول شرط في صحته حنث، وإن قلنا لا يشترط القبول ففي صحته وجهان; أحدهما: يحث به؛ لأنه نوع من الهبةَ. والثاني: لا يحنث به لتعلقه بالذمةَ دون العين. فرع آخر لو عفا عن قود عليه [(86) / ب] لم يحنث؛ لأنه ليس ملك، وكذلك لو عفا عن الشفعةَ. فرع آخر لو وقف عليه وقفًا، فإن قلنا: إن رقبةَ الوقف لا تُملك لم يحنث به وإن قلنا: تُملك ففي حنثه به وجهان؛ أحدهما: يحنث لنقل ملكيةً بغير بدلٍ. والثاني: لا يحنث؛ لأن ملكه غير تام لمنعه من كمال التصرف فيه. فرع آخر لو دعاه إلى طعام وليمةً لم يحنث به؛ لأن طعام الوليمةَ غير موهوب، هما هو مأذون في استهلاكه على صفةً مخصوصةً. فرع آخر قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن أسكنه دارًا فهي عاريةً لم يملكها إياه، ومتى شاء رجع" فلا ينطلق عليه اسم الهبةَ ولا يحنث. وحكي عن مالك رحمه الله أنه قال: يحنث بالعاريةً والوقف. فرع آخر لو حلف لا يتصدق فتصدق على غني حنث، ذكره أصحابنا بخراسان. ونال أبو حيفة: لا يحث؛ لأن الصدقة على الغني هبة. ولو حلف لا يتصدق فوهب لم يحنث بلا خلاف، كما لو حلف لا يأكل خوخا فأكل غيره من الفواكه لا يحنث؛ لأنه غم الذي خصه بالاسم. مسألة: قال: "ولو حلف لا يركب دابة العبد فركب لم يحنث". الفصل صورة المسألة أن يحلف لا يركب دابةً العبد فركب دابةً جعلها السيد برسم عبده يركبها

لم يحنث. وقال أبو حنيفة؛ يحنث: لأن هذه الدابةً تضاف إلى عبده ولا تضاف إليه، وهذا لا يصح؛ لأن العبد لا يملكها، والإضافةَ تقتضي الملك في حق من يملك، فإذا لم يملكها المحلوف عليها لم يحنث الحالف، كما لو ركبا دابةً استعارها المحلوف عليه لم يحنث الحالف، ولأن الدابةً الواحدةَ لا تنسب إلى اثنين في حالةٍ واحدةٍ على طريق الحقيقةَ، وقد ثبت أنه لو قال: لا ركب دابةٍ سيده فركب دابةً جعلها برسم عبده يحنث، وأما ما ذكروه فلا يصح؛ لأن اليمين تحل على الحقيقةَ دون المجاز إذا كان لها [(27) / أ] حقيقةً ومجاز، وكذلك الخلاف إذا قال: والله لا دخلت دارًا الليلةَ، فدخل دارًا لا يسكنها لا يحنث في يمينه؛ لأن الدار لغيره خلافًا لأبي حنيفةَ، ويقوله قال المزني. فرع لو حلف لا يركب دابةً زيد فركب دابةً جعلها زيدٌ لركوبه يحنث عندنا خلافًا لأبي حنيفة. فرع آخر لو حلف لا يركب دابة فلان فملكه سيده دابةً. فإن قلنا: يملك العبد بالتملك حنث، وإن قلنا: لا يملك لا يحنث. فرع آخر لو حلف لا يركب دابةً زيي فركب دابةً لمكاتبه لا يحنث؛ لأن السيد لا يملكها ولا ينفذ تصرفه فيها. فرع آخر لو حلف لا يركب دابةً زيد فركب دابةً ملكها زيد عبده، قال صاحب "الإفصاح"; يحنث؛ لأنه المالك حقيقةً. وقال بعض أصحابنا: هذا مبنى على أنه يملك بالتمليك، فإن قلنا يملك التمليك لا يحنث، وإن قلنا: لا يملك يحنث. فرع آخر لو حلف لا يركب دابةً المكاتب فركب دابةً له، قال أبو حامد: يحتمل أن يقال: لا يحنث؛ لأنه له الملك حقيقةً، ويحتمل أن يقال: يحنث؛ لأنه يتصرف فيه تصرف المالك، ويملك ملكًا ضعيفًا، وهو اختيار مشايخ خراسان وهذا أظهر؛ لأنه إذا لم يضف إلى سيد المكاتب لا بد من إضافتها إليه. فرع آخر لو قال: لا أركب سرج هذه الدابةَ، أو دابةً الطبل حنث بركوب السرج الذي هو برسم تلك الدابةَ؛ لأن مقصوده بذلك التعريف لا التمليك ولذلك لو قال: لا آكل ثمرةً هذه النخلةَ أو طعام هذه القريةَ فأكل حنث. فرع آخر لو قادت لا أدخل دارا في كانجار بابل آو خان يحي بنيسابور حث بدخوله في ذلك

الموضع وإن مات أضيف إليه ذلك كما ذكرناه. فرع آخر [(88) / ب]: لو حلف لا يملك عبدًا وله مكاتب لا يحنث، نص عليه، وقال في "الأم": "لو ذهب ذاهب إلى أنه عبث ما بقي عليه درهم" فإنما يعني به أنه عبدَّ في حال دون حال؛ لأنه لو كان عبدًا لكان مسلطًا على بيعه وأخذ كسبه، فقد قيل: هذا قول آخر. وقال صاحب "الإفصاح": لا نجعل هذا قولًا آخر؛ لأن الشافعي - رضي الله عنه - ألزم نفسه شيئًا وانفصل عنه فلا يجعل بذلك قول آخر. فرع آخر لو قال: لا ضربت عبد زيدٍ، فوهبه زيد ولم يقبضه، أو جني فتعلق أرش الجنايةً برقبته فضربه حنث؛ لأن ملكه لم يزل بعد كما لو رهنه. مسألة: قال: " وَلَوْ قَالَ: مَالُي فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ صدقَهُ عَلَى مُعَنّى الأيمان ". الفصل هذه المسألة بالنذر أشبه منها بالأيمان، غير آن المزني أوردها هاهنا لتعلقها بالأيمان، والحكم فيها أن الرجل إذا نذر نذرًا أخرجه مخرج اللجاج والغضب، بأن يقصد به منع نفسه عن فعل شيء أو إلزامها فعل شيء، فيقول: إن فعلت كذا فمالي صدقةً، أو إن لم أفعل كذا فمالي صدقةً، فوجد شرطًا ذلك لزمه حكمه، واختلف العلماء فيما يلزمه على سبعةً مذاهب: فذهب الشافعي - رضي الله عنه - آلي أنه بالخيار بين أن يفي بنذره وبين أن يكفر كفارة يمين، وبه قال عمر، وابن عمر، وابن عباس، وعائشةً، وحفصةً، وزينب، وأم سلمه - رضي الله عنهم - وعطاء، وطاوس، وعبيد الله العنبري، وشريك، والحسن، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيد، وأبو ثور. وقال في كتاب "الاعتكاف" لو قال: إن فعلت كذا وكذا فعلي اعتكاف شهر، وكان قد فعل ذلك الشيء فعليه اعتكاف شهي. ومن أصحابنا من قال: الواجب الكفارة، [(28) / أ] وإذا أخرج ماله كان زيادةً على الكفارةً، واختلف أصحابنا فيه على طرقٍ: إحداها: فيه قولان؛ أحدهما: أنه مخير. والثاني: يلزمه الوفاء فقط. والثانية: قولًا واحدًا هو مخير، وما ذكره في الاعتكاف ليس بقول ثانٍ، بل هو أحد الشيئين المخير فيهما. والثالثة: قال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان؛ أحدهما: أنه مخير. والثاني: يلزمه كفارة؛ لأنه يمين لا نذر. وقد قال الشافعي رضي الله عنه: القياس آن عليه كفارة يمين.

والرابعة: فيه ثلاثةَ أقوال؛ أحدها: يلزمه كفارةَ اليمين ولكنه إن وفي بما ذكره أجزأه، وهذا العبد في القياس عبد عبدٍ. وقال في والحاوي: إذا قلنا بالتخيير فيه وجهان: أحدهما: الواجب عليه أحدهما وهما في الوجوب سواء، وله الخيار فيما شاء منهما. والثاني: الواجب عليه الكفارةً وله إسقاطها بالنذر؛ لأن حكم اليمين أغلب وهي بالله أغلظ وإن كان الوفاء بالنذر أفضل. وقال الحكم وحماد والنخعي: لا يلزمه بهذا القول شيء بحالٍ؛ لأنه وصف ماله بما لا يصير موصوفًا به، وقال ربيعة: يلزمه أن يتصدق بقدر الزكاة من الأموال الزكاتية؛ لأن المطلق محمول على معهود الشرع، وإنما يجب في الشرع من المال قدر الزكاةً. وقال مالك، والزهري، وأحمد في روايةً: يلزمه أن يتصدق بثلث ماله، واحتج بأن آبا لبابة قال: يا رسول الله، أتأذن لي آن أنخلع من مالي كله؟ فقال: "يجزيك منه الثلث".، فثبت أن الثلث يقوم مقام الكل. وقال أبو حنيفة: يلزمه أن يتصدق بجمع أمواله الزكاتيةً دون غيرها، فإن لم يكن له إلا المال الزكاتي أمسك منه قدر النفقةً ثم قضى ذلك إذا أيسر. وقال عثمان البتي: يلزمه التصدق بجميع ماله الزكاتي وغير الزكاتي، كما لو قال: إن شفي الله مريضي [(88) / ب] فلله علتي التصدق بمالي، وهو رواية عن ابن عمر - رمحي الله عنهما - وقال جابر ين زيد أبو الشعثاء ت إن كان ماله كثيرًا يتصدق بعشرهِ، وإن وسطًا يتصدق بسبعهِ، وإن كان قليلًا يتصدق بخمسهِ، والكثير ألفان، والوسط ألف، والقليل خمسمائةً. ودليلنا ما روت عائشة - رضي الله عنها - أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال؛ " من حلف بالمشي والهدى، أو جعل ماله في سبيل الله أو المساكين، آو في رتاج الكعبةَ فكفارته كفارة يمينًا، وأيضًا فبدايته بداية الأيمان، ونهايته نهايةَ النذر فخيرنا بين حكميهما. وروى سعيد بن المسيب آن أخوين كان بينهما ميراث، فسأل أحدهما صاحبه القسمةً، فقال- صلى الله عليه وسلم - إن عدت سألتني القسمة لا أكلمك أبدأ وكل مالي في رتاج الكعبةً، فقال له عمر - رضي الله عنه- إن الكعبةً غنية عن مالك، كفر عن يمينك وكلم أخاك، سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول: "لا يمين عليك ولا نذر في معصية الرب". وقال في قطيعةُ الرحم؛ "ولا فيما تملك". وأصل الرتاج الباب، ولم يرد به الباب نفسه، وإنما المعنى أن يكون ماله هديًا إلى الكعبةً، أي في كسوةَ الكعبةً والنفقةً عليها. وروي أن رجلا مال عائشةَ - رضي الله عنها - عمن قال: كل عالي في سبيل الله، أو كل مالي في رتاج الكعبةً، ما يكفر ذلك؟ فقالت: يكفره ما يكفر اليمين.

وروى عقبة بن عامر - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: وكفارةَ النذر كفارةَ اليمين، وهذا معتبر في نذر اللجاج، فإن في نذر النذور لا تجري الكفارة، وروي عن أبي رافعٍ أن مولاته حلفت بالمشي إلى بيت الله، وكل مملوك لها حر؛ وهي يومًا يهوديةً ويومًا نصرانيةً، وكل شيء لها في سبيل الله إن لم تفرق بينه وبين امرأته، فسألت [(29) / أ] ابن عمر، وابن عباس، وآبا هريرة، وعائشةً، وحفصةً، وأم سلمه - رضي الله عنهم - فكلهم: كفري عن يمينك وخلي بينهما، ففعلت وروى عمران بن حصين - رض الله عنه - أن النبي- صلى الله عليه وسلم - قال: "لا نذر في غضب، وكفارته كفارة يمين". وأما ما ذكره النخعي فلا يصح؛ لأنه ألزمهُ وهو قربةً في نفسه فيستحيل ألا يلزمه شيء، وأما ما ذكره ربيعةً فلا يصح؛ لأن الزكاةً تجب مواساةً من المال، وهاهنا تصدق بجميعه، وأما ما ذكره مالك، قلنا: أبو لبابةً كان من الثلاثةَ الذين خلفوا، فأراد أن يتبرع بماله على سبيل الله والشكر، ولم يكن أوجب ذلك؛ لأنه يقابله ما روي أن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه -تصدق يجمح ماله فأقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ذلك. وأما ما ذكره أبو حنيفةَ فلا يصح؛ لأن نذر التبرر لم يخرج مخرج اليمين بخلاف هذا، وأما ما ذكره جابر بن زيدٍ فلا يصح لما ذكرناه. فإذا تقرر هذا فما تعلق بهذا النذر على ثلاثة أضرب: أحدها: صدقة المال، أو الصوم، آو الصلاة، أو الاعتكاف، فإذا وجد شرطه تخير على المذهب الصحيح. والثاني: إن تعلق به طلاقًا أو عتاقًا يلزمه ذلك عند وجود الشرط؛ لأنهما ينتجزان عند وجود الشرط، وصورته أن يقول: إن كلمت فلانًا فعبدي حرٌ، أو امرأتي طالق، ولو قال: إن كلمت فلانًا فلله علتي أن أعتق عبدًا، فكلمه كان مخيرًا بين العتاق والكفارةً على ما ذكرنا، والفرق أنه رفع العتق والطلاق بشرط هناك، فإذا وجد الشرط وقعا، وهاهنا التزم في الذمةً بالشرط، فإن لم يكن الشرط فيه عوضًا لم يلزم. والثالث: [29/ ب] إن تعلق به حجًا فالمنصوص أنه مخير، ومن أصحابنا من قال: يلزمه الحج، والفرق بينه وبين سائر العبادات آن الحج يلزم بالدخول فيه، فكذلك بالنذر بخلاف الصوم والصلاةَ. ومن أصحابنا من قال: قال المزني: قال الشافعي - رضي الله عنه -: ومن حنث بالمشي إلى بيت الله الحرام ففيه قولان: أحدهما: قول عطاء عليه كفارةَ يمين، ومذهبه أن أعمال البر لا تكون إلا في فرض الله تعالى، وسكت الشافعي عن القول الثاني

إيجاب الوفاء. ومنهم من أراد بالقول الثاني التخيير بين الوفاء وبين الكفارة؛ ففي هذه المسألة ثلاثةَ أقاويل كالمسألة الأولى، وهي منصوصةً في مواضع متفرقةٍ. ومن أصحابنا من قال: ليس على قولين عنده، وإنما حكي خلاف الناس على قولين، واختار لنفسه قول عطاء، ومعناه أنه يجزئه كفارةَ اليمين لا أنه تتعين الكفارة، ومن خرج من هذه المسائل على قولين فإنما خرج القول الآخر من الاعتكاف على ما ذكرنا، وقدر المزني أنه خرجه على قولين فقال: قطع بأنه قول عددٍ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -والقياس، فلا وجه للقول الآخر، والجواب عنه ما ذكره هذا القائل. قال المزني: وقد قال الشافعي في موضع آخر: لو قال: لله علتي نذر حج إن شاء فلان، فشاء لم يكن عليه شيء، إنما النذر ما أريد به الله تعالى ليس ما أريد به الخلق، الخلق والثاني غير الناذر، فمال المزني إلى هذا القول وهو إيجاب الكفارةً، وقال بعض أصحابنا بخراسان: هو الكفارةَ كما في الأيمان يحنث لا يتخير بينهما وبين غيرها، وهو ظاهر قول عطاء، وهو القياس. وقال في "الحاوي": [(30) / أ] إذا علق به الحج قال في "الأم": فيه قولان، فوهم أبو حامد وخرج مذهبه على قولين؛ أحدهما: يتخير، والثاني: يلزمه الحج؛ لأن الحج في الالتزام بخلاف الصدفةَ، والصوم، والصلاةً. وقال جمهور أصحابنا مذهبه لا يختلف فيه كما لم يختلف في غيره، وأنه مخير بين الحج والكفارة قولًا واحدًا كما في الصدقةَ والصلاةً، وحملوا قول الشافعي: "فيه قولان" أي تفقهًا؛ لأن لهم في الصدقةً أقاويل وليس لهم في الحج إلا قولان، ومذهبه التخيير قولًا واحدًا في الكل. وأما قول الشافعي هاهنا: "والتبرر أن يقول: لله علي إن شفاني الله أن أحج له نذرًا قال أصحابنا هذا يدل على أنه إذا قال: لله عليّ آن أتصدق بمالي لم يلزمه شيء حتى يعلقه بمعنى، فيقول: إن شفي الله مريضي، أو رد على غائبي، أو آتاني مالأ". ومن أصحابنا من قال: لا يدل على هذا المعنى؛ لأن الشافعي قال: "لو قال فه علي آن أحج في عامي هذا كان عليه أن يحج" وإنما أراد الشافعي أن يبين أن أقل اليمين يخالف النذر، وهذا ظاهر المذهب. وقد فرع في مسائل الاعتكاف ولم يشترط فيه آن يكون على المجازاةً، وبه قال ابن سريج، وابن أبي هريرةً، والأصطخري، ولأن نذر الهدي المسمى لبيت الله الحرام لا يتعلق بالمجازاة بالإجماع، وكذلك إيجاب الضحايا، وكذلك سائر القربات والطاعات، فحصل من هذا أن النذر ضربان: نذر تبرر، ونذر لجاج وغضب. فأما نذر اللجاج فيه طرق؛ أحدها: قول واحد وهو التخيير. والثانيةً: قولان التخيير والوفاء. والثالثةً: ثلاثةَ أقوال على ما ذكرنا.

والرابعة: قولان كفارةَ اليمين والتخيير. والخامسةُ: قول واحد وهو كفارةَ اليمين، وهو اختيار كثير من مشايخ خراسان. وأما نذر التبرر ضربان: أحدهما: ما يقصد به المجازاةً بأن يستجلب نعمةً، مثل أن يقول: إن رزقني الله ولدًا أو علمًا، أو شفي مريضي فلله عليّ كذا، أو يدفع به نعمةً بأن يقول: [30/ ب] إن نجاني الله من ظلم فلانٍ أو من الغرق أو الحرق؛، فلله علي كذا، فهذا يلزمه الوفاء به بلا خلاف عند وجود الشرط لقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: (1)]، وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آَتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} [التوبة: (75)] الآية، فذم من لم يف بنذره، ولأنه في مقابلةً شرط بمنزلة المعاوضات، فإذا وجد الشرط لزم كما يلزم الثمن في مقابلة الثمن. والثاني: ما يبتدئ به النذر مطلقًا من غير المجازاةً فهو على خلافٍ، بين أصحابنا؛ فقال الجمهور: يلزم الوفاء به قولًا واحدًا، وبه قال أبو حنيفة - رحمه الله وقال أبو إسحاق والصيرفي: لا يلزم الوفاء به، وبه قال أبو يوسف، وهذا لأن حقوق الآدميين إنما تلزم ما كان في مقابلها عوض كالبيع وما لا عوض في مقابلها لا تلزم، فكذلك حقوق الله تعالى بالنذر لا تجب إلا أن يكون في مقابلته عوض. وحكي غلام ثعلب عن ثعلب أنه قال: النذر عند العرب وعد بشرطٍ، ودليلنا أنه ألزم نفسه غرامةً على وجه التبرر فيلزمه كما لو ألزم نفسه أضحيته، وأما ما ذكر ثعلب فلا يصح؛ لأن العرب تسمي الملتزم نذرًا. وأما ما ذكروه فلا يصح؛ لأن الأضحيةً والضمان عن الغير يلزمان بغير عوض، ومن أصحابنا من قال: فيه قولان مخرجان، آو وجهان، والصحيح الطريقة الأولى. فرع لو قال: إن رأيت فلانًا فلله عليّ أن أحج، سئل فإن قال: أردت إن رزقني الله رؤيته فرأيته كان عليه الحج. وإن أراد به اليمين كان حالفًا فيتخير بين الوفاء وبين كفارةً اليمين. قال أصحابنا: وكذلك لو قال: إن دخلت مكة فلله علىّ أن أعتق رقبةً، فإن أراد إن رزقني الله دخولها فهو نذرٍ، وإن أراد معنى اليمين، آي لأدخلنها فهو مخير على ما ذكرنا. وكذلك لو قال: إن سلمت علىّ فلان فلله علتي كذا، يحتمل هذين المعنيين. فرع آخر لو قال: إن دخلت الدار [(31) / أ] فمالي عليّ حرام فهو موقوف على ما حرمه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على نفسه في ماريةُ القبطيةُ حتى أنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: (1)] الآيةً، روى الأكثرون أنه حرم ماريةَ، فعلى هذا لا يلزم الحالف في تحريم غير ذات الفروج من ماله شيء، ويكون اليمين فيه لغوًا، وروي أن الذي حرمه الغسل فعلى هذا يلزم الحالف تحريم ماله، وعليه كفارة يمين كما يلزم في تحريم ذات الفروج كفارةَ يمين.

فرع آخر لو قال: إن شفي الله مريضي تصدقت بمالي، وقد ذكرنا أنه يلزمه الوفاء به، وفي قدر ما يستر به عورته وجهان؛ أحدهما: يتصدق به لاستثنائه بالشرع في حقوق الله والثاني: يلزم ذلك لعموم اللفظ. فرع آخر لو قال: إن شفي الله مريضي فلا ألبس جديدًا ولا آكل الحلوى لا ينعقد ولا يلزم الوفاء به. فرع آخر لو قال: إن هلك فلانٌ وهبت داري لفلان، فإن كان الهالك من أعداء الله تعالى انعقد به الشرط؛ لأنه طاعةً، وإن لم يكن كذلك فلا ينعقد به الشرط. ثم إن كان الموهوب له ممن يقصد بهبته الأجر والثواب لزمه الجزاء؛ لأنه طاعة، وإن كان ممن يقصد به التواصل والمحبةً لم يلزم به الجزاء لأنه مباح. فرع آخر لو قال: إن سَليم مالي وهلك مال فلان أعتقت عبدي وطلقت امرأتي، انعقد نذره على سلامةً ماله ولم ينعقد على هلاك مال غيره؛ لأن ما شرطه من سلامةُ ماله مباح، وما شرطه من هلاك مال غيره معصيةً، ولزمهُ في الجزاء عتق عبده ولا يلزمه الطلاق؛ لأن الجزاء بالعتق طاعًا، والجزاء بالطلاق مباح. فرع آخر لو قال: إن شفي الله مريضي فلله عليّ نذر، ينحرف إطلاق هذا النذر إلى الصدقةً؛ لأنها الأغلب من عرف النذور، ولا يتعذر إطلاقها بما في فجاز تقليل المال اعتبارًا بالاسم. فرع آخر لو قال: [31/ ب] أيمان البيعةً لازمةً لي، لم يلزمه بإطلاق هذا شيء ولا ينعقد به يمين؛ لأن البيعةً التي كانت على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والصحابةً والتابعين كانت أخذًا باليد بلا يمين، وإنما أحدثت الأيمان في بيعةَ الحجاج بن يوسف، فأدخل أيماناً بالله تعالى، وبالعتاق، والطلاق، والحج، وصدقةَ المال، فإذا قال: أيمان البيعةً لازمةً لي ينصرف ذلك إلى البيعةً الشرعيةُ، وليس فيها يمين. فإذا قال ذلك وعنى به الأيمان التي رتبها الحجاج نظر، فإن قال: بطلاقها وعتاقها فقد صرح بذكرها، فلا تحتاج إلى النيةً وتنعقد يمينه بالطلاق والعتاق، وإن لم يصرح بذلك ونوى أيمان البيعةً هذه التي فيها الطلاق والعتاق انعقدت يمينه بالطلاق والعتاق خاصةً؛ لأن اليمين بها تنعقد بالكناية مع النية، وليس ذلك من أجل ذكر البيعة. وقال في والحاوي: لو قادت علي أيمان البيعةً انصرف ذلك عن بيعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛

لأنه لم يكن في بيعته يمين وتوجه إلى بيعةً الحجاج لانعقادها على يمين، والحكم على ما ذكرنا. فرع آخر إذا قال: إن كلمت زيدًا وشفي الله مريضي فلله عليّ أن أحج، هل يخير بين الوفاء والكفارةً عند وجود الشرطين على قول التخيير في نذر اللجاج؟ قال والدي - رحمه الله -: القياس يقتضي أنه يخير؛ لأن التخيير هناك إنما يثبت لاجتماع الشبهين فيه، وهذا المعنى موجود هاهنا فوجب إثبات التخيير. فرع أخر لو حلف ثم نوى في الليل أن يصوم غدًا عن كفارة اليمين ثم حنث صحت هذه النيةً، وإذا طلع الفجر بعد وجوب الكفارةً، وإن كنا نقول لا يجوز تقدم الصوم على الحنث في كفارةَ اليمين؛ لأنه من صحةً النيةً لا يعتبر وجوب الصوم، وإن اعتبر في صحةً الصوم وجوبه، ألا ترى أنه ينوي في الليل صوم الغد من رمضان [(32) / أ] فيجوز، وإن لم يكن الصوم ثابتًا في الذمةً في تلك الحالةً، ولا يصح منه صومه إلا في الوقت الذي ثبت وجوبه، ومحل نيةَ الصوم محل طهارة الصلاةً قبل دخول وقت الصلاة وإن لم تكن واجبة فيه، ولا تصح الصلاة قبل وجوبها كذلك في الموضع مغله، ليحتمل وجهًا آخر، وهو أن النية في مسألة الكفارةَ لا تصح؛ لأن النيةً عبادةً على البدن، وهو في حال النيةً غير مخاطب بصوم الغد ويخالف صوم رمضان؛ لأنه مخاطب في حال النيةً يصوم الغد، وهذا الوجه ذكره والدي - رحمه الله -. فرع أخر إذا حلف وحنث ثم حلف ولم يحنث، ثم اعتق رقبةً بنية الكفارةً ولم يمن، وأراد صرف هذا العتق آلي كفارةَ اليمين الثانيةً هل له ذلك؟ قال والدي - رحمه الله -: يحتمل وجهين: أحدهما: له ذلك كما لو كانتا واجبتين عليه؛ لأن جواز كفارةَ اليمين قبل الحنث وبعد الحلف كجوازها بعدهما. والثاني: يكون العتق عن الواجب وقد تعين عنه عند الوقوع؛ لأنه إذا عين بالنيةَ إحدى الكفارتين الواجبتين عليه تعين في ذلك المزيةَ الحاصلةً بنيته التي أحدثها، وهاهنا المزيةَ حاصلةً بالوجوب فانصرف إليه دون غيره. وهكذا إذا كان عليه دينان مثلان مؤجل ومعجل وماله مرهون بالمؤجل، فقضى أحدهما من غير تعيين ولا نيةً، ثم أراد صرفه إلى المؤجل احتمل ما ذكرناه من الوجهين. فرع أخر إذا حلف لا شيء عليه لفلان، فقبل شهد شاهدان أن عليه لفلانٍ كذا وكذا، وأنه كان عليه عند هذا الحلف حنث في الحكم ووقع الطلاق إن كان الحلف به؛ لأن الشاهدين صحةً في الطلاق، والثاني وهو كالطلاق المعلق بدخول الدار، فإذا صح

الدخول بالشهادةً، كان كصحته بالإقرار في وقوع الطلاق، فكذلك إذا كانت الصفةُ [32/ ب] وجوب الحق عليه، ولا يصح أن يقال: يجوز أن يكون وفّر المال على صاحب الحق والشهود لا يعلمونه، فلا يقع الطلاق بالاحتمال؛ لأن هذا الموضع من رقيع الطلاق يصح من وجوب المال أيضًا، ويمنع من قبول الشهادة في مسألة الدخول لاحتمال كذب الشهود، ويمنع من قبول الشهادةً على أصل الطلاق لاحتمال الكذب، فلما حمل على الظاهر في هذه المواضع يحمل على الظاهر فيما نحن فيه، فلو شهد شاهدان في ذلك المجلس أن عليه لفلان كذا، ولم يكن، وكان عليه عند الحلف احتمل ألا يقبل في وقوع الطلاق لجواز وجوبه بعد اليمين في ذلك المجلس، بأن يعقد وكيله بعد اليمين عقدًا أو يجيئه الرَّاد للآبق به، وكان شرط له جعلًا ونحو ذلك من الأسباب التي قد لا تظهر، ويكون الحالف عارفًا بها والشهود كمثله ولكنهم يشهدون من غير بيان السبب، فإذا أمكن هذا لم يجز إيقاع الطلاق بالاحتمال. فرع آخر قال والدي - رحمه الله -: إذا قدم الإطعام على وقت الوجوب كأنه خرج خطأ وهو عادم للرتبةً ولا يستطيع الصوم، فأطعم ستين مسكينًا قبل ثبوت الخروج، هل يصح الإطعام؟ عندي أنه ينظر، فإن كان شيخا كبيرًا لا يستطيع الصوم بحال صح الإطعام، وإن كان مريضًا ولكن يرجى زوال مرضه احتمل أن لا يجوز؛ لأن الإطعام إنما يجوز عند العجز عن أصله وهو الصوم، وهذا إنما يعتبر عند وجوب الصوم وقبل الموت لم يكن الصوم، وإن أطعم ربما يكون قادرًا على الصوم في وقت الوجوب، وهو عقيب موت المخرج، ولا تجوز عبادةً البدن موقوفةً على شرط متأخر عنها، ويحتمل جوازه؛ لأنه حق ما في يتعلق بالكفارة فصح تقديمه كالعتق، وفي الشيخ الهرم أيضًا نظر. فرع أخر إذا مات وعليه كفارةَ القتل وهو عادم للرقبة وله مال، [(33) / أ] الظاهر أنه يطعم عنه من جهةَ أن أداء الصوم إذا تعذر بالموت بعد الإمكان يوجب الإطعام كقضاء رمضان، فإن كان هذا الصوم لا بدل له من حيث الإطعام في حال الحياةً، ولو صار هذا المكفر شيخًا هرمًا بعد الإمكان لا يجوز الإطعام لجواز أن يتمكن من العتق، وقد قيل خلاف هذا، والأصح ما ذكرنا. وهذا إذا قلنا الاعتبار في الكفارةً بحالة الأداء، فإن قلنا الاعتبار بحالةً الوجوب يلزم الإطعام. فرع أخر لو قال لها: إن خرجت من الدار بغير إذني فأنت طالق، فأذن لها في الخروج وبقي مجنونا هل يصح الإذن؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يمح كما لو أذن لها في البيع والشراء. والثاني: يصح وهو الأصح؛ لأن البيع والشراء لا يصحان من المجنون فلم يصح الإذن بها للمجنون، والدخول والخروج يوجد من المجنون فصح الإذن به للمجنون. فإذا قلنا بالثاني لم يقع الطلاق، وإذا قلنا بالأول صار كما لو خرجت بغير إذنٍ،

فيبنى على القولين في أن عمد المجنون عمد أم خطأ؟ فإن قلنا: عمدٌ وقع الطلاق، وإن قلنا: خطأ ففي ومع الطلاق قولان كما لو خرجت ناسيةً فيه قولان، والقول في الصبيةً كالقول في المجنونةَ وفيه وجهان. فرع آخر لو قال: والله لا أدخل هذه الدار مثلًا هل يعتبر القصد عند قوله والله؟ فيه ثلاث مسائل: أحدها: أن ينوي عند قوله: والله؟ تعقيبه بالدخول ذكرا فهذا حلف لا محالةً. والثانية: أن ينوي عند قوله: والله شيئًا، فلما فرغ منه عقَّبه بذكر الدخول، فهذا لا يكون حلفا. والثالثة: أن ينوي عند قوله: والله تعقيبه بذكر شيء لا على التعيين على وجه اليمين، فلما فرغ منه عقبه بذكر الدخول فيحتمل وجهين: أحدهما: يكون حلفًا ولا يجعل التعيين شرطًا عند ذكر الله تعالى. والثاني: لا يكون [33/ ب] حلفًا لفقد التعيين عند ذكر الله تعالى. فرع آخر إذا لاعن ولاعنت فالكاذب منهما يلزمه الكفارة؛ لأنه يمين عندنا، وهل يلزم كفارة أم كفارات؟ يحتمل أن يقال: يلزم كفارةً واحدةً؛ لأن الأيمان إذا تكررت على شيء وكان القصد الإعادةً التكرار فالواجب كفارةً، وكذا في أيمان القسامةً إذا كانت كذبًا يكفي كفارةً واحدةً لما ذكرنا. فرع آخر إذا حلف الكافر الذي ينفي الإله بالله تنعقد يمينه؛ لأنه يستحلف في الدعاوى بالله تعالى، وإن حلف بالله تعالى ومراده الصنم أعيد عليه الحلف؛ لأن اليمين بغير الله تعالى لا تصح بحالٍ، ولو حلف بجسم فقال: والله الذي هو جسم لا أفعل كذا، يحتمل أن يقال: لا تنعقد يمينه؛ لأنه حلف بغير الله تعالى في الحقيقةَ لاستحالةُ كون الله تعالى جسمًا، وهذا أوضح على قول من يكفرهم، ويحتمل أن يقال: تنعقد يمينه؛ لأنه حلف بالله تعالى ولكنه أخطأ في وصفه، وهذا أوضح على قول من لا يكفرهم، وهكذا لو حلف لتلك الدعوى هل تعاد عليه اليمين؟ تخرج على وجهين: أحدهما: تعاد عليه اليمين، وهذا على الوجه الأول. والثاني: لا تعاد عليه، وهذا على الوجه الثاني. فرع آخر إذا أقر بالقتل عمدا ثم رجع عن إقراره هل يقبل قوله في سقوط الكفارة؟ قال الإمام والدي - رحمه الله - يحتمل أن يقال: إن كان من أهل الإعتاق أو الإطعام لم يقبل، وإن كان من أهل الخيام قُبل، والفرق أن حق الآدمي يتعلق بكفارةَ العتق والإطعام فلم يقبل الرجوع من أجل حق الآدمي بخلاف الصوم؛ لأن حق الله تعالى على الاختصاص لا حق للآدمي فيه بوجه، فجاز قبول الرجوع فيه.

فرع أخر إذا حلف لا يدخل الدار اليوم فدخلها ناسيًا وانقضى اليوم [(34) / أ] صار بارَّا في يمينه، ولو حلف لا يدخلها فدخلها ناسيًا لا يصير حانثًا في أحد القولين. والفرق أن الغرض في الأول تحصيل الدخول، والحلف وقع ليكون داعيًا إلى فعله، فإذا حصل الدخول فقد وجد المقصود بالداعي فأغنى عن ذكر الداعي، وفي المسألة الثانيةً المقصود انتفاء الدخول والحلف ليكون داعيًا له إلى الترك، وإنما يصح أن يكون داعيًا له إلى تركه إذا كان ذاكرًا له، فإذا لم يكن ذاكرًا صار كأن حلفه لم يتناول هذا الفعل فلم يقع الحنث. تم الجزء العاشر ويليه إن شاء الله الجزء الحادي عشر وأوله: كتاب النذور

بحر المذهب في فروع المذهب الشافعي تأليف القاضي العلامة فخر الإسلام شيخ الشافعية الإمام أبي المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني المتوفي سنة 502 هـ تحقيق طارق فتحي السيد الجزء الحادي عشر يحتوي على الكتب التالية: النذور - أدب القضاء- العدد- الرضاع- النفقات

كتاب النذور

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب النذور مسألة: قال: "من نذر أن يمشي إلى بيت الله تعالى لزمه إن قدر على المشي". الفصل الأصل في النذور ثبوت حكمها في الشرع الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] الآية، فمدحهم على الوفاء بالنذر، والمدح إنما يكون على فعل واجب أو مندوب. وأما السنة ما ورت عائشة-رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من نذر أن يطيع الله فليطيعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه". وأيضاً روى أن المشركين أغاروا على سرح المدينة، فذهبوا بعضباء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسروا امرأة من المسلمين، وهي امرأة أبي ذر، فقامت فجعلت لا تضع يدها على بعير إلا رغا، حتى أتت على العبضاء فقالت: فأتيت على ناقة ذلول فلم ترغ فركبتها، ثم جعلت لله عليها إن نجاها الله لتنحرنها، فلما قدمت المدينة عرفت الناقة، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليها، فجئ بها وأخبر بنذرها، فقال: "بئس ما جزتها- أو جزيتها- إن الله أنجانا عليها لتنحرنها، لا وفاء لنذر في معصية [34/ ب] ولا فيما لا يملك ابن آدم". وقولها: مجرسة: معناه الوطئة المذللة، يقال: جرسته الأمور إذا راضته وذللته، فدل من طريق دليل الخطاب على أن النذر يلزم في الطاعة. وأيضاً روى ابن عباس-رضي الله عنهما- قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم في الشمس، فسأل عنه فقال: هذا أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال: "مروه فليتكلم وليقعد وليستظل وليتم صومه" وهذا النذر

يتضمن نوعين من طاعة ومعصية، فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بالوفاء بالطاعة وهو الصوم، وأن يترك ما ليس بطاعة وهو القيام في الشمس ونحوه. وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فخطب الناس في يوم شديد الحر، فقام رجل من الأعراب في الشمس فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مالك؟ " فقال: نذرت أن لا أجلس حتى تفرغ، فقال: "اجلس فليس هذا بنذر، إنما النذر ما ابتغى به وجه الله تعالى". وأيضاً روت ميمونة بنت كروم قالت: خرجت مع أبي في حجة، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت الناس يقولون رسول الله، فجعلت أبده بصري، فدنا إليه أبي وهو على ناقة له معه درة كدرة الكتاب، فسمعت الأعراب والناس يقولون: الطبطبية الطبطبية يا رسول الله، إن ولد لي ولدان أنحر على رأس برانة في عقبة من الثنايا عدة من الغنم، فقال رسول الله: "هل بها من هذه الأوثان؟ " قال: لا. قال: "فأوف بما نذرت به لله". [35/ أ] وقولها: "أبده بصري" معناه أتبعه بصري وألزمه إياه لا أقطعه عنه. والطبطبية حكاية وقع الإقدام. وأيضاً روى ابن عباس- رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [من نذر لم يسمه فكفارته كفارة يمين، ومن نذر في معصية الله فكفارته كفارة يمين، ومن نذر نذراً فأطاقه فليف به". وأيضاً روى بن شعيب عن أبيه، عن جده، أن امرأة أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إني نذرت أن أضرب على رأسي بالدف، فقال: "أوف بنذرك". قال الإمام الخطابي: ضرب الدف ليس مما يعد من أبواب الطاعات التي تتعلق بها النذور، وأحسن حاله أن يكون من باب المباح، غير أنه لما اتصل بإظهار الفرح سلامة مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة في بعض غزواته، وكانت مساءة الكفار وإرغام المنافقين صار فعلها كبعض القرب التي هي نوافل الطاعات، ولهذا أبيح ضرب الدف واستحب في النكاح لما فيه من الإشادة بذكره والخروج به عن معنى السفاح. وأما الإجماع فلا خوف بين المسلمين فيه. واعلم أن النذر في اللغة الوعد بخير أو شر، وفي الشرع: الوعد بالخير دون الشر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا نذر في معصية الله". واعلم أن الله تعالى حمد من وفي بعهده فقال تعالى: [يُوفُونَ بِالنَّذْرِ] [الإنسان:7]، وقال: {والْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إذَا عَاهَدُوا} [البقرة: 177]، ثم ذم من لم يف بنذره على ما ذكرنا. وقد ذكرنا أقسام النذر، والآن رجعنا إلى مسألة الكتاب، فإذا نذر المشي إلى بيت الله الحرام، إما على طريق المجازاة، أو على شرط طريق المجازاة، وأوجبنا على المذهب الصحيح ينعقد نذره، [35/ ب] ويلزمه المشي إليه بنكسة إما بحج أو عمرة لما

روى ابن عباس- رضي الله عنهما- أن أخت عقبة بين عامر نذرت أن تمشي إلى بيت الله الحرام فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تمشي بحج أو عمرة. وفي رواية: أنها نذرت أن تحج ماشية، وأنها لا تطيق ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله لغني عن مشي أختك فلتركب ولتهد بدنة". وفي رواية أن عقبة بن عامر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أخت له نذرت أن تحج حافية غير مختمرة، فقال: "مروها فلتختمر ولتركب ولتصم ثلاثة أيام". وقيل: هذا الصيام بدل من الهدى خيرت فيه كما خير قاتل الصيد بين الفدية بمثل وبين التقويم بالطعام وبين الصوم بدل كل مد يوماً. فإذا ثبت هذا فلا يخلو الناذر إما أن يكون قادراً على المشي أو عاجزاً عنه، فإن كان قادراً لزمه المشي، لأنه طاعة، ومن نذر طاعة وقدر عليها يلزمه الإتيان بها. وقد روى أن إبراهيم وإسماعيل-صلى الله عليهما- حجا ماشيين. وقال ابن عباس - رضي الله عنهما-: ما آسى علي شيء كما آسى علي أن لو حججت في شبابي ما شياً، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: [وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَاتُوكَ رِجَالاً] [الحج:27]، فبدأ بالرجال. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يلزمه المشي؟ قولان: أحدهما: يلزمه وهو المنصوص هاهنا، كالمتابعة في الصوم. والثاني: لا يلزمه، لأنه لا قربة في المشي ولا يجب بالشرع. قال: وأصل القولين أن الحج ماشياً أفضل أو راكباً؟ فيه قولان؛ أحدهما: سواء. والثاني: ماشياً أفضل. وقال ابن سريج: المشي والركوب سواء مالم يحرم، فإذا أحرم فالمشي أفضل حتى يفرغ من الحج، وهذا غريب لم يذكره أهل العراق. وقال في "الحاوي": إذا قال: أمشي أو أركب إلى بيت الله الحرام فيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يلزمه الركوب ولا المشي، لأن واحداً منهما [36/ أ] لا يجب بالشرع فلم يجب بالنذر. والثاني: يجبان به، يلزم المشي إذا شرط المشي، والركوب إذا شرط الركوب، لأن في المشي زيادة عمل، وفي الركوب زيادة نفقة وكلاهما قربة. والثالث: وهو الأشبه المشي يلزم بالشرط دون الركوب، لأن في المشي مشقة وفي الركوب ترفيهاً. فإذا تقرر هذا فأن مشى فقد أتى بما لزمه ولا كلام، وإن ركب مع قدرته على المشي فقد أساء وأجزأه، ويريق دماً واجباً لقوله صلى الله عليه وسلم: [من ترك نسكاً فعليه دم]، ولأنه ترفه بالركوب فأشبه إذا ترفه بالطيب واللباس.

وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يصح حجة؟ فيه قولان، أحدهما: ما ذكرنا. والثاني: لا يصح حجة. فيقضي الحج ويمشي ما ركب ولا يركب ما مشى جاز، وهذا غريب. وإن عجز عن المشي فله أن يركب ويصح حجة بلا إشكال لما ذكرنا من خبر أخت عقبة بن عامر، ولأنه لو عجز عن القيام في الصلاة يجوز له القعود كذلك ها هنا. وإذا ركب قال الشافعي- رضي الله عنه-: أراق دماً احتياطياً من قبل أنه لم يطق شيئاً سقط عنه. قال أبو إسحاق: ولأن ما لا يطيق لا يدخ في نذره، لأن إيجابه يتضمن الإمكان، فظاهر هذا انه لا يلزمه الدم وهو المذهب، وقيل: إنه نص على قولين، أحدهما: هذا. والثاني: يلزمه الدم للخبر الذي ذكرنا، ولا يجوز أن يأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالركوب إلا مع العجز وأوجب عليها الدم، ولأنه نسك لو تركه لغير عذر يلزمه الدم فكذلك إذا تركه لعذر كالرمي ونحوه، وأيضاً فرق الشافعي- رضي الله عنه- فقال: لأن الناس أصلحوا أمر الحج بالصيام والصدقة والنسك ولم يعلموا أمر الصلاة إلا بالصلاة، فكأنه أراد أن الحج يدخله الجيران بالمال بخلاف الصلاة. إذا أوجبنا المشي عليه فمن أي موضع لا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدها: [36/ ب] أن يقول: لله علي أن أحج ماشياً، يلزمه المشي من حين يحرم من الميقات أو قبله إذا أحرم، وله أن يركب فيما قبل، لأنه أوجب المشي في حل الحج دون غيره. والثاني: أن يقول: علي أن أمشي إلى مكة. قال أبو إسحاق: يلزمه أن يمشي من دويرة أهله، لأن نذره يقتضي هذا ويحرم من الميقات،. وقال صاحب "الإفصاح": يمشي من دويرة أهله ويحرم من دويرة أهله أيضاً، لأنه لا قربة في المشي دون الإحرام، فلا يختلف أصحابنا في وجوب المشي من دويرة أهله، واختلفوا في وجوب الإحرام منها على وجهين: أحدهما: يلزمه من دويرة أهله لأن الأصل في الإحرام الوجوب من دويرة أهله، ولكن رخص للحاج تركه إلى الميقات، فإذا نذر حمل مطلق النذر على ذلك الأصل. والثاني: وبه قال عامة أصحابنا وهو الصحيح: يلزم الإحرام من الميقات وبه قال أحمد، لأن مطلق النذر محمول على المعهود في الشرع، والإحرام في الشرع يجب من الميقات، هكذا ذكره القاضي الطبري، وقال بعض أصحابنا ذكره صاحب "الإفصاح" قول أبي إسحاق. وفي أول ما يجب عليه المشي وجهان: أحدهما: يجب عليه المشي من بلده إذا توجه منه لحجه اعتباراً بالعرف في حج الماشي، فعلى هذا يلزمه الإحرام من بلده. والثاني: يلزمه المشي من ميقاته اعتباراً بأول أفعال الحج وأركانه، لأن المشي من غير إحرام لا قربة فيه، فعلى هذا يحرم من ميقاته.

والثالث: أن يقول: لله علي أن آتي مكة ماشياً، فحكمه ما ذكرنا إذا قال: لله علي أن أمشي إلى مكة. فرع إذا أوجبنا عليه الفدية عند ترك المشي فيه وجهان: أحدهما: أنها فدية ترك المشي المشروط وتارك لما ركبه من نفقة الركوب، فصار كالمتمتع الذي وجبت عليه الفدية بترك الإحرام من ميقات بلده [37/ أ] في آخر نسكه، فعلى هذا تكون الفدية دم شاة، فإن أعسر بها صام عشرة أيام. والثاني: أنها فدية ترفيه، لأنه ترفه في ترك المشي أو في مؤنه الركوب، فصار كفدية الحلق الذي ترفه به يكون مخيراً بين دم شاة، أو إطعام ثلاثة آصع، أو صيام ثلاثة أيام لما ذكرنا من خبر أخت عقبة بن عامر: "ولتصم ثلاثة أيام". فرع آخر إذا قال: لله علي أن أمشي إلى بيت الله تعالى، ولم يقل الحرام، ظاهر ما نقله المزني ينعقد النذر ويلزمه المشي إليها بنسك كالمسألة قبلها، لأن مطلق بيت الله يرجع إلى الكعبة. وقال عامة أصحابنا: لا ينعقد نذره إلا أن ينوي بيت الله الحرام، لأن المساجد كلها بيوت الله تعالى، قال الله تعالى: [فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ] [النور: 36]، فإذا أطلق البيت احتمل البيت الحرام، واحتمل غيره من المساجد وهذا هو الصحيح، لأن الشافعي-رضي الله عنه- نص في "الأم" فقال: "إذا نذر أن يمشي إلى بيت الله ولا نية له، فالاختيار أن يمشي إلى بيت الله الحرام، ولا يجب عليه ذلك إلا أن ينويه، لأن المساجد بيوت الله"، فأسقط المزني ذكر الحرام وأخل بالنقل، فحصل قولان، والمسألة مشهورة بالوجهين. وقال في "الحاوي": إذا قال: علي المشي إلى بيت الله الحرام وأطلق ولم يقترن به إرادة، قال ابن أبي هريرة: هو مبني على اختلاف القولين فيمن أراد دخول مكة هل يلزمه الإحرام لدخوله؟ فيه قولان، فإذا قلنا: يلزمه فهنا ينعقد النذر على حج أو عمرة. وإذا قلنا: لا يلزمه ففي هذا وجهان تخريجاً من القولين فيمن نذر أن يمشي إلى مسجد المدينة. فإذا قلنا هناك يلزمه فهو قصد لا يجب به الإحرام، فكذلك قصد المسجد الحرام لا يلزمه فيه إحرام، ويكون النذر في جميعها مقصوراً على مجرد القصد لاشتراكهما في معنى الوجوب. وإذا قلنا [37/ ب] هناك لا يلزم، فإن لزمه النذر إلى المسجد الحرام لوجوب قصد المسجد الحرام شرعاً، فوجب نذراً بخلاف ذلك اقتضى افتراقهما في هذا التعليل أن يجب بقصد المسجد الحرام في النذر ما أوجب قصده بالشرع، وهذا التخريج وإن كان محتملاً فإنما يستعمل مع عدم النص،

ونص الشافعي- رضي الله عنه- على أن يلزمه الحج أو العمرة، لأنه معهودا النذر عرفاً فلا يجوز العدول عنه إلى التخريج. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا أطلق هكذا هل يصح نذره؟ قولان بناء على أصل، وهو أن النذر يحمل على أقل ما ورد الشرع به، أو على مجرد الاسم. فإذا قلنا: على أقل ما ورد الشرع يلزمه، وإن قلنا: علة مجرد الاسم فهنا أصل آخر، وهو أن الإحرام هل يجب على من يدخل مكة لغير الحج؟ وفيه قولان، فإذا قلنا يجب صح النذر ويلزمه المشي حاجاً أو معتمراً، وقيل إتيان مكة لا يلزمه النسك في وقته. وإن قلنا لا يجب فهاهنا أصل آخر ينبني عليه، وهو إذا نذر إتيان مسجد المدينة هل يصح نذره؟ قولان. وإن قلنا: يصح النذر في مسجد المدينة يأتي هناك قربة من صفة أو اعتكاف، فهاهنا أيضا يأتي مكة ويفعل شيئاً من هذا، وهذا كله تخطيط والاعتماد على ما سبق. فرع آخر لو نذر المشي إلى بيت الله الحرام، ونوى أن يأتي الحج ولا يعتمر ولا عزم أو صرح به لفظاً، قال أبو إسحاق: يحتمل وجهين: أحدهما: ينعقد نذره بالمشي إليه متنسكاً ولا يلتفت إلى كلام ونية، لأن الشريعة قد أوجبت على من قصد الإحرام بأحدهما. والثاني: لا ينعقد نذره، لأن الكلام إذا اتصل يبنى بعضه على بعض، فإذا قال: لا حاجاً ولا معتمراً صار كأنه لم ينذر النسك أصلاً فلا يلزمه شيء. قال أبو حامد: ويشبه أن يكون الوجهان مبنيين على أن من نذر المشي إلى مسجد المدينة هل ينعقد نذره؟ [38/ أ] فيه قولان، لأن المشي هناك لا يتضمن نسكاً، فإن قلنا هناك لا يلزم، لا يلزم هنا، وإن قلنا هناك يلزم، يلزم هنا، وقيل: لا يستقيم هذا البناء، لان من يقول هنا: ينعقد نذره يقول يلغو قوله: لا حاجاً ولا معتمراً، فلا يكون نذره خالياً عن النسك. وقال في "الحاوي": هل يصح نذره؟ وجهان: أحدهما: لا يصح لاستثناء مقصوده ولا شئ عليه. والثاني: لعود الاستثناء إلى الحكم دون القصد، فعلى هذا في الشرط وجهان: أحدهما: باطل وعليه أن يحرم بحج أو عمرة. والثاني: الشرط صحيح لاتصاله بالنذر. فعلى هذا فيه وجهان: أحدهما: يلزم أن يضم إلى قصد البيت عبادة من طواف، أو صلاة، أو صيام، أو اعتكاف ليصير القصد طاعة إذا اقترن بطاعة.

والثاني: لا يلزم ذلك، لأن قصد البيت طاعة، ومشاهدته قربة. فحصل أربعة أوجه، أحدهما: النذر باطل. والثاني: النذر صحصح والشرط باطل. والثالث: النذر والشرط صحيحان وعليه فعل عبادة. والرابع: أنهما صحيحان ولا شيء عليه غير القصد. وقال بعض أصاحبنا بخراسان: إذا قلنا يصح النذر يبنى على أنه نذر الخروج إلى مسجد المدينة هل يلزم أن يصلي ركعتين فيه قولان مخرجان، فإن قلنا هناك يلزم فهنا يلزمه أن يصلي ركعتين، وإن قلنا لا يلزم الصلاة هناك لا يلزم هنا غير القصد. فرع آخر إذا نذر أن يحج راكباً أو يمضي إلى بيت الله تعالى راكباً لزمه ذلك اتفاقاً في الحج، فإن ترك الركوب ومشى يلزمه دم، لأنه ترفه بترك النفقة، وقد ذكرنا وجهاً أنه لا تلزمه الفدية، لأنه لم يترفه بترك الركوب، بخلاف ما لو نذر ركب بدل المشي. وقال في "الحاوي": إذا ترك المشي والركوب [38/ ب] فيه ثلاثة أوجه، لا جبران أصلاً لاختصاص الجبران بالمناسك الشرعية وليس المشي والركوب بنسك شرعي. والثاني: يلزم جبرانهما بدم. والثالث: وهو الأشبه تلزم الفدية إذا ركب، ولا يلزم إذا مشي بدل الركوب. ولو عجز عن الركوب بالعسرة فيه وجهان، أحدهما: يسقط بالعجز. والثاني: تجب الفدية مع العجز لتوجه العجز إلى الفعل دون الفدية، كالفدية في الحلق عند العذر. وعلى هذا فيه وجهان، أحدهما: فدية وترك. والثاني: فدية ترفه على ما ذكرنا. وإذا قلنا لا يلزم الركوب يحرم في ميقاته. وإذا قلنا يلزمه الركوب ابتدأ بالركوب من دويرة أهله ولزمه الإحرام من بلده، لأنه لما صار الركوب من حقوق هذا الحج المنذور، وإن لم يكن من حقوق حج الإسلام وجب أن يقترن به الإحرام ليصير به داخلاً في لوازم النذر. فرع آخر لو قال: لله علي أن أذهب إلى بيت الله الحرام، أو أمضي، يلزمه كما لو قال: أمشي. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه بلفظ الذهاب والمضي، لأنه ليس بمعهود، وهذا لا يصح، لأنه نذر القصد إلى الخروج إلى البيت، فهو كما لو قال: أمشي. فرع آخر لو لم يشترط ركوباً ولا مشياً فقال: أقصد، أو أذهب، أو أمضي، أو أتوجه إليه تخير بين الركوب والمشي.

مسألة: قال: "وإذا فاته الحج ماشياً مشي حتى تحل له النساء". الفصل الكلام في هذا بيان انتهاء المشي، والحكم في ذلك أنه يحتاج حتى يتحلل من الحج والعمرة، إلا أن للحج تحللين، فيمشي حتى يحل التحللين جميعاً، وفي ذلك الوقت تحل له النساء، وللعمرة تحلل واحد وهو بالطواف والسعي في أحد القولين. والقول الثاني بالحج معها فيمشي حتى يأتي بجميع ذلك، [39/ أ] لأن تمام الخروج من الحج إنما يحصل في هذه الغاية، ثم له أن يركب وإن بقي عليه بقية من الحج، وهي الرمي في أيام منى أيام التشريق خارج من الحج، كالسلام الثاني في الصلاة. وقال في "الحاوي": إذا نذر أن يحج ماشياً ففي أول ما يجب عليه من المشي وجهان على ما ذكرنا، وآخر مشيه إذا حل إحلاله الثاني على ما ذكرنا. ولو نذر أن يحج إلى بيت الله كان أول مشيه من بلده إذا توجه وفي آخره ثلاثة أوجه: أحدهما: إذا وصل إلى البيت اعتباراً بلفظ. والثاني: إذا طاف بالبيت طواف القدوم اعتباراً بأول قربة. والثالث: إذا حل إحلاله الثاني اعتباراً بكمال نسكه. وإذا نذر أن يعتمر ماشياً كان في أول مشية وجهان كما ذكرنا في الحج، وآخر مشية إذا حل من عمرته. فرع لو قال: لله علي الحج ولم ينو وعليه حجة الإسلام لم ينعقد النذر، لأنه لا ينعقد نسك مجمل. مسألة: قال: "وإذا فاته الحج حل ماشياً وعليه الحج من قابل ماشياً". اعلم أنه إذا نذر أن يحج ماشياً فشرع فيه ثم فاته، فعليه المضي في الفائت والتحلل بعمل عمرة والطواف والسعي والحلق وعليه القضاء من قابل، ويلزمه المشي والقضاء بلا فدية، لأن فرض الحج لا يسقط به عنه، فصار كأنه هو الحج المنذور، وأما ما مضى فيه من الفائت فهل يلزمه المشي؟ فيه قولان، أحدهما: وهو الصحيح وعليه نص في "الأم"، ونقله المزني في "المختصر": يلزمه، لأن الفائت يلزمه أن يتحلل بعمل عمرة على الصفة التي دخل فيه الحج المنذور، إذ لا يسقط الفرض به فلم يجب المشي فيه، وهذا اختيار صاحب "الإفصاح"، قال: وقوله: "حل ماشياً" أراد به على طريق الاستحباب. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا يلزمه أن يحل ماشياً إلا على أصل المزني، فإنه يقول: يأتي بجميع أعمال الحج كمن أفسد حجه، [39/ ب] وعندنا يتحلل بعمل العمرة ويحتاج إلى القضاء، فلا يلزمه المشي فيه قولاً واحداً.

وقال في "الحاوي": وفي زمان قضائه وجهان؛ أحدهما: على التراخي كأصل النذر. والثاني: على الفور في الآتي، وعليه في القضاء أن يحج ماشياً، ولكن هل يعتد بمشيه الذي كان فيه؟ وجهان: أحدهما: لا يعتد به كما لا يعتد بغيره من أركانه، ويلزمه العود إلى بلده لإحرامه بالقضاء منه ومشيه. والثاني: يعتد بمشيه في الفائت وإن لم يعتد بشيء من أركانه لاختصاص المشي بالنذر دون الشرع، فيجوز أن يركب في حجة القضاء حتى ينتهي إلى محل الفوات ثم يركب في بقية حجه حتى يتحلل منه، حكاه ابن أبي هريرة مع ضعفه. فرع آخر لو قال: لله عليَّ أن أحج العام القابل، هل يجوز تقديمه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأن عبادات الأبدان لا يجوز تقديمها على وقتها. والثاني: يجوز إذا وجد شرط نذره كما يجوز تقديم حجة الإسلام قبل وجوبها. فرع آخر الأولى به أن يحرم في عام نذره، فإذا أحرم به ففاته هل يلزمه؟ فيه قولان؛ أحدهما: يلزمه كغير المعين. والثاني: لا يلزمه إلا أن المعين لا يتماثل في القضاء، فإذا قلنا لا يلزمه وجب أن يمشي فيما يتحلل به من فواته؛ لأنه في الباقي مؤدٍ لحقوق نذره، وإذا قلنا يلزمه قضاءهُ لزمه في قضائه المشي، وفي لزوم المشي فيما يتحلل به قولان. فرع آخر لو أخر الحج عن عامه المعين، فإن كان لغير عذرٍ يلزمه قضاءه، وإن كان لغير عذرٍ ففي وجوب قضائه قولان كالفوات. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَي أَنْ أَمْشِي لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْء حَتَى يَكُونَ برّاً". الفصل جملة هذا أنه لا يخلو إما أن ينذر مشياً مطلقاً، أو إلى موضعٍ بعينه، فإن نذر مشياً مطلقاً لم ينعقد نذره ولا شيء عليه؛ [40/ أ] لأن المشي إلي غير موضع البر ليس بقربةٍ فلا يجب النذر، كما لو نذر أن ينام أو يأكل، وحكي عن أحمد أنه قال: إذا نذر فعل المباح انعقد نذره وكان مخيراً بين الوفاء به وبين الكفارة للخبر الذي ذكرنا في المرأة التي نذرت أن تضرب الدف على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودليلنا خبر الأعرابي أنه نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم، فأسقط رسول الله صلى الله عليه وسلم من نذره ما ليس بطاعةٍ، وقد ذكرنا تأويل ما ذكروا من الخبر، وإن أطلق

ذلك ونوى بقلبه أن يمشي إلى بيت الله الحرام لزمه على ما نواه. وإن نذر أن يمشي إلى موضع معين ففيه مسائل: أحدها: أن ينذر المشي إلى بيت الله الحرام، وقد ذكرنا ذلك، وكذلك لو نذر الصلاة فيه يلزمه أن يأتيه ويصلي فيه؛ لأن بقعة الحرم تختص بالنسك. الثانية: أن ينذر المشي إلى مسجد المدينة والمسجد الأقصى، فهل ينعقد نذره؟ فيه قولان: أحدهما: ينعقد ويلزم إتيانه، نص عليه في البويطي، وهو اختيار أبي إسحاق، وبه قال مالك، وأحمد لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد؛ المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى" ولم يرد به الجواز؛ لأنه يجوز شد الرحال إلى سائر المساجد، فثبت أنه أراد به الوجوب، ولا وجوب إلا في هذا الموضع. وفي رواية: "تشد الرحال إلى ثلاثة مساجد" الخبر. والثاني: لا ينعقد نذره، وهو ظاهر النص هاهنا، ونص عليه في "الأم" لأنه قال: "واجب". ثم قال: "وَلَا يَبِينُ لِي أَنْ يَجِبَ كَمَا يَبِينُ لِي أَنَّ أَوْجِبِ المَشْيُ إِلَى بَيْتِ الَّلهِ تَعَالَى، وَذَلِكَ أَنَّ البِرَّ بِإِتْيَانِ بَيْتِ اللَّهِ تَعَالَى فَرْضٌ، وَالبِرُّ بِإِتْيَانِ هَذَين نَافِلَةٌ". وهذا اختيار عامة أصحابنا، وبه قال أبو حنيفة - رحمه الله تعالى -[40/ ب] لما روى جابر - رضي الله عنه - أن رجلاً قال يوم الفتح: يا رسول الله، إني نذرت إن فتح الله عليك مكة أن أصلي في بيت المقدس ركعتين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صل هنا"، قال ذلك مرتين أو ثلاثاً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "شأنك إذاً". ومن قال بالأول أجاب عن هذا بأن قوله: "هنا" أراد في المسجد الحرام وهو أفضل فلا حجة فيه، وهذا التأويل خطأ؛ لأنه روي أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني نذرت أن أصلي في مسجد إيلياء، وهو المسجد الأقصى ركعتين" فقال صلى الله عليه وسلم: "صل في بيتك"، فأعاد السؤال، فقال: "أنت أعلم". فرع لو نذر أن يصلي ركعتين في أحد هذين المسجدين انعقد نذره، وهل تجب الصلاة فيه؟ فعلى القولين اللذين ذكرناهما. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذان القولان ينبنيان على ما ذكرنا أن النذر يحمل على ما له وجوبٌ بأصل الشرع، أو على ما يتناوله اسم القربة في الجملة وفيه قولان، وهذا ضعيف؛ لأن الاعتكاف يلزم بالنذر ولا أصل له في الوجوب.

فرع آخر إذا قلنا انعقد نذره بالمشي إليهما، قال أصحابنا: يلزمه إذا وصل إليهما أن يصلي ركعتين؛ لأن القصد بالسعي إليهما القُربة بالصلاة فيهما، فتضمن ذلك نذره؛ لأن القصد به القربة، وهكذا ذكره القفال. ومن أصحابنا من قال: يُصلي ركعتين أو يعتكف ساعةً فيهما حتى تكون قربة. وقال صاحب "الحاوي: هل يلزمه فعل عبادةٍ فيه؟ وجهان: أحدهما: لا يلزمه ويكون النذر مقصوراً على التبرر بقصده، ومجرد النظر إليهما قربةٌ وطاعةٌ. والثاني: يلزمه [41/ أ] فعل عبادة. وإذا قلنا بهذا ففيه وجهان؛ أحدهما: أنه مخير فيما شاء من صلاةٍ أو صوم أو اعتكاف. والثاني: يلزمه الصلاة خاصة لاختصاص المساجد بالصلاة عرفاً فاقتضت بها نذراً. فرع آخر لو عين في نذره ما يفعله فيه من صلاة أو صوم أو اعتكاف تعين فيه وهل يلزمه المشي فيه؟ وجهان؛ أحدهما: لا يلزمه المشي ويكون محمولاً على القصد، فإن ركب جاز، وإن كان المشي الذي صرح به أفضل يلزمه لأنه صرح به. فرع آخر إذا قلنا بالوجه الثاني فركب هل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجزيه إذا قلنا نذره مقصور على الوصول إليه؛ لأنه يصير المشي هو العبادة المقصودة وعليه إعادة قصده إليه ماشياً. والثاني: يجزيه إذا قلنا إنه يلتزم بقصده فعل عبادة فيه؛ لأنه يصير المقصود بالنذر هو فعل العبادة منه، ولا يلزمه الجبر بفدية كما قلنا في المشي إلى الحرم لاختصاص القربة بجبران الحج دون غيره. فرع آخر إذا قال أمشي إليه وأصلي فيه ركعتين، وقلنا ينعقد النذر قد ذكرنا الحكم. وقال في "الحاوي": في استحقاق فعلها وجهان: أحدهما: يستحق إذا قلنا يلتزم بقصده فعل عبادة فيه. والثاني: لا يستحق، فإن صلاها في غيره أجزأه، لأنه لا يلتزم بقصده فعل غيره، والأظهر لزوم صلاته فيه وأنها لا تجزئه في غيره. وقد روى حبة العرني أن رجلاً قام إلى علي - رضي الله عنه - فقال: يا أمير

المؤمنين، إني اشتريت بعيرين وتجهزت أريد بيت المقدس، فقال: بع بعيرك وجهازك وصل في مسجد الكوفة. وقال بعض أصحابنا بخرسان: إذا نذر أن يصلي في مسجد المدينة لا يقوم غيره من المساجد غيره إلا مسجد مكة. ولو نذر أن يصلي في مسجد بيت المقدس قام المسجد الحرام ومسجد المدينة مقامه فقط. ولو نذر في مسجد آخر لم يتعين بحالٍ. [41/ ب] ولو نذر صلاة الفرض فر المساجد الثلاثة ذكرنا حكمه، ولو نذر في مسجدٍ آخر، فإن انتقل إلى مسجدٍ آخر يكون الجماعة فيه أكثر وأعظم جاز وإلا فلا يجوز. فرع آخر قال في "الحاوي": لو نذر أن يصلي ركعتين في مسجد الحنيف بمنى، فإن كان من أهل مكة لم يلزمه بهذا النذر أكثر من صلاة ركعتين؛ لأنه في الحرم التي حرمته مشتركة، وإن كان من أهل الحل يلزمه هذا النذر، وفيما ينعقد به نذره وجهان: أحدهما: ينعقد بما نذره من الصلاة في الحرم إذا قلنا يجوز له دخول الحرم بغير إحرام. وفي تعيين الصلاة في مسجد الخيف وجهان: أحدهما: لا يتعين ويجوز له أن يصليها في أي موضعٍ من الحرم شاء؛ لأن حرمة جميع الحرم واحدة، ولأن مشاهدة الكعبة في صلاته أفضل من أن لا يشاهدها. والثاني: يتعين في مسجد الخيف ولا يجزئه في غيره، لما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو كنت امرءاً من أهل مكة ما أتى عليَّ سبت حتى آتي مسجد الخيف وأصلي فيه". والثاني: يلزمه بنذره هذا الإحرام بحجٍ أو عمرةٍ إذا قلنا لا يجوز له دخول الحرم إلا بالإحرام. فعلى هذا في التزامه ما عقد نذره عليه من الصلاة وجهان: أحدهما: لا يلزمه فعل الصلاة؛ لأن الشرع قد نقل نذره إلى ما هو أعظم منه، فلم يجمع عليه بين بدلٍ ومبدلٍ. والثاني: لا يسقط عنه فعل الصلاة؛ لأنه ملتزم لها بنذره، وملتزم للإحرام بدخول الحرم، فصارت الصلاة واجبة عليه بالنذر، والإحرام بالشرع فلم يجتمع قيه بدلٌ ومبدلٌ. وقال أبو حنيفة: لا تتعين الصلاة عليه بالنذر في موضعٍ؛ لأن ما لا أصل له في الوجوب في الشرع لا يجب بالنذر كعيادة المريض، وهذا لا يصح؛ لما روى عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال: إني نذرت أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام، فقال: "أوف بنذرك". [42/ أ]، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف

صلاةٍ فيما سواه، وصلاة في المسجد الحرام أفضل من مائة صلاةٍ في مسجدي". وأما عيادة المريض لا نسلم، بل نلزم بالنذر لأنها قربة. والثالثة: لو نذر أن يمشي إلى العراق، أو إلى بغداد، أو إلى مسجد البصرة، أو الكوفة ونحو ذلك سوى المساجد الثلاثة لا ينعقد نذره ولا يلزمه إتيانه؛ لأنه ليس له طاعة في المشي إلى شيء من البلدان ولا إلى مساجدها، نص عليه في "الأم" ويفارق المشي إلى بيت الله الحرام فإنه طاعة على ما ذكرنا. وقد روي أن ابن عباس - رضي الله عنهما - مرضٍ، فدعا ولده فجمعهم ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من حج من مكة ماشياً حتى يرجع إلى مكة كتب الله له بكل خطوةٍ سبعمائة حسنةٍ من حسنات الحرم"، قيل: وما حسنات الحرم؟ قال: "كل حسنةٍ مائة ألف حسنةٍ". وسُئل ابن عباس - رضي الله عنهما - عمن نذر أن يمشي إلى الكعبة، فمشى نصف الطريق ثم ركب، فقال: إذا كان عام قابل فليركب ما مشى وليمش ما ركب وينحر بدنة. وقال أنس - رضي الله عنه -: مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيخ كبير يهادي بين ابنيه، فقال "ما بال هذا؟ " قالوا: نذر يا رسول الله أن يمشي، فقال: "إن الله - عز وجل - غني عن تعذيب هذا نفسه" فأمره أن يركب فركب. ولم يذكر الفدية، وهذا يدل على أنه يجوز الركوب عند العجز ولا فدية. فرع آخر لو نذر أن يأتي إلى موضع من الحرام، لزمه حج أو عمرة سواء ذكر مزدلفة أو منى أو مكة، أو الحرم أو المسجد الحرام، حتى لو قال: عليَّ أن آتي دار أبي جهل، أو دار الخيزران التي كانت داراً لزوجة خليفةٍ من الحرم يلزمه ذلك بحجٍ أو عمرةٍ؛ لأن كلها سواء في قربة الحرم، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: لا يلزمه مشي، [42/ ب] وإنما يلزمه إذا قال: أمشي إلى بيت الله الحرام، أو إلى مكة، أو إلى الكعبة استحساناً؛ لأن الناس يعبرون بذلك عن إيجاب الإحرام. وقال أبو يوسف، ومحمد، وزفر: إذا قال: إلى الحرم، أو إلى المسجد الحرام يلزمه، وإن قال: إلى مزدلفة أو منى لم يلزمه. ومن أصحابنا من قال: هذا إذا قلنا لا يجوز له دخول الحرم إلا بالإحرام. وإذا قلنا يجوز ذلك لا يلزمه شيء.

فرع آخر لو نذر أن يأتي عرفة أو أمراً أو قريباً من الحرم، قال الشافعي - رضي الله عنه -: لا يلزمه شيء؛ لأن هذه مواضع من الحل لا يلزم الإحرام بقصدها، وقد صحف في بعض النسخ فقيل: منى بدل أمراً، وهو غلط؛ لأن منى من الحرم، وأراد بالمر مر الظهران وهو من الحل. وقال في "الحاوي": لو قيل: ينعقد النذر ونذر المشي إلى عرفة كان مذهباً، ويكون المنعقد بنذره الحج دون العمرة لاختصاص عرفة بالحج، وهذا لأن قصد عرفة يجب بالشرع فوجب بالنذر بخلاف الميقات؛ لأنه لا يلزم قصده شرعاً لانعقاده بالإحرام قبلها وبعدها. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَنْحَرَ بِمَكَّةَ لَمْ يُجْزِئْهُ بِغَيْرِهَا". الفصل اعلم أنه إذا نذر أن ينحر بمكة ويفرق اللحم فيها يلزمه ذلك؛ لأنه طاعة وقربة، ولا يجوز ذلك في غيرها كالنحر الواجب في الإحرام لا يجزئه في غيرها. ولو نذر أن ينحر في مكة فقط ولم يذكر تفرقة اللحم ولا نوى ذلك، يلزمه ذلك وتفرقة اللحم هناك أيضاً؛ لأن النحر يتضمن تفرقة اللحم كما في الهدي الشرعي، نص عليه. ومن أصحابنا من قال: يلزمه النحر بها ويفرق اللحم حيث شاء؛ لأن النحر فيها قربة فيلزم بالنذر، ولا يلزمه شيء آخر لم يسمه في نذره. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا يلزمه تفرقة اللحم إلا أن ينوي ذلك ويلزمه النحر فقط؛ لأنه قربة وقد بذله وعده. ولو نذر أن ينحر بغير مكة من البلدان [43/ أ] نقل المزني أنه يجب عليه النحر وتفرقة اللحم على مساكين ذلك الموضع. واختلف أصحابنا في هذا، فذهب أبو إسحاق إلى ظاهر هذا النقل، وأوجب النحر وتفرقة اللحم على مساكين البلد الذي نذر قياساً على النذر بمكة. وقال سائر أصحابنا: لا يجب النحر هناك إلا أن يشترط مع النحر التصدق بلحمه على مساكينه، أو ينوي ذلك بقلبه، فأما إذا عرى عن ذلك الشرط والنية لم يجب، ويفارق النذر بمكة؛ لأن النحر تفرقة اللحم على مساكين الحرم واجبٌ في الشرع، فحل مطلق نذره مقتضاه، وهذا هو الصحيح، وقد نص في "الأم" على هذا، فقال: "وإذا نذر أن ينحر بمكة لزمه أن ينحر بها" لن النحر بمكة بر. ولو نذر أن ينحر في غيرها لم يلزمه؛ لأنه لا برَّ فيه إلا أن يريد التصدق بلحمها فلا يجوز أن يفرق إلا حيث نحر، هكذا ذكر القاضي أبو حامد صاحب "الإفصاح". وقيل: إن المزني أخل بالنقل، وإنما ذكر الشافعي - رضي الله عنه - لو نذر أن ينحر

في بلدةٍ من البلدان ويتصدق باللحم لزمه. وقيل: مراد المزني فيما نقل هذا، وهو أن يقسم اللحم على مساكين ذلك البلد غضاً طريًّا؛ لأنه علل فقال: لأنه وجب لمساكين الحرم وليس مراده تقييد النحر بالبلد الذي نذر النحر به؛ لأن النحر لا يتقيد إلا بالحرم، فعلى هذا لو نذر النحر هناك وتفرقة اللحم ببلدةٍ أخرى وحمل اللحم إلى تلك البلدة وتصدق به، هل يجوز؟ فيه وجهان. وقال في "الحاوي": إذا نحر بالبصرة وأطلق تفرقة لحمه فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يلزمه نحره وتفرقة لحمه فيها اعتباراً بالنذر والعرف. والثاني: يلزمه نحره بالبصرة ويجوز له تفرقة لحمه في غير البصرة اعتباراً بالنذر دون العرف. والثالث: يجوز نحره في غير البصرة ويلزمه تفرقة لحمه في البصرة اعتباراً بالعرف دون النذر؛ لأنه لا فضيلة في تعينها بالنذر. فرع [43/ ب] لو نذر النحر لنفسه لا يلزمه؛ لأنه تجرد عن قربةٍ، ولو نذر نحره للمساكين يلزمه نحره قبل دفعه إليهم، ولو دفعه حياً لم يجز لما في إراقة الدم من القربة وأنه جعل حقهم في لحمه. فرع آخر لا يجوز أن يطبخ لحمه قبل دفعه، ولو طبخ متقدماً فيضمن بما بين قيمته مطبوخاً ونياً إن نقص به. فرع آخر لو نذره للأغنياء فإن اقترن به نوع من القربة ليأنس به الأغنياء في التوسع لزمه، وإن تجرد عن القربة وقصد به المباهاة والتطاول لم يلزمه، ولو أطلق النذر لم يجعل لنفسه ولا لغيره يحمل على العرف المقصود بالنذر ويصح. فرع آخر لو نذر نحره بالبصرة وتفرقة لحمه في غير البصرة لا يلزمه نحره بالبصرة؛ لأنه لا فضل لنحره فيها على نحره في غيرها بخلاف نحره في الحرم الذي هو أفضل منه في غير الحرم ولا يلزمه نحره في الموضع الذي يستحق فيه تفرقته؛ لأنه غير مسمى في نذره، وإن كانت البصرة من أجل التسمية أولى إذا وصل لحمه إلى مستحقه طرياً. فرع آخر لو أطلق محل نحره فيه قولان من القولين نقل الصدقة، فإن قلنا يجوز نقل الصدقة يكون نحر نذره وتفرقة لحمه مستحقاً في بلده، ويجوز أن يعدل بها إلى غيره فينحر في

بلده ويفرق في مساكين غير بلده. وإن قلنا لا يجوز فعلى هذا يكون تفرقة لحمه في مساكين بلده مستحقاً، وفي وجوب نحره في بلده وجهان؛ أحدهما: يجب. والثاني: يستحب. فرع آخر لو نذر أن ينحر في بلده يلزمه ولا يحتاج إلى شرط الصدقة، وذكره في "الإفصاح". فرع آخر لو نذر الصلاة في الجامع له أن يصلي في بيته على ما ذكرنا، وفيه وجه آخر لابد أن يصلي في مسجدٍ ما وإن لم يكن جامعاً. فرع آخر [44/ أ] إذا نذر أن يجاهد في جهةٍ لم يجزئه في غيرها. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ نَذَرَ أَنْ يَهْدِي مَتَاعَاً لَمْ يُجْزِئْهُ إِلَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ". الفصل اعلم أنه إذا نذر شيئاً لا يخلو إما أن يطلق ذلك أو يعينه، فإن عينه بأن يقول: لله عليَّ أن أهدي هذا، لا يخلو إما أن يكون ذلك مما ينقل أو مما لا ينقل، كالثياب والعبيد ونحو ذلك فإنه ينقله ويفرقه على مساكين الحرم، وإنما حملنا مطلق الهدي على الحرم؛ لأن الله تعالى قال: {والْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25]، وقال تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إلَى البَيْتِ العَتِيقِ} [الحج: 33]، وإنما وجب إيصاله إلى مساكين الحرم؛ لأن المقصود من حمله إلى الحرم منفعة أهله، ومعنى الهدي المطلق في الشرع ما يصل إليهم، ولا يجوز أن يجعله في طيب البيت وتعليقه ستراً على البيت، وإن نوى شيئاً قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن نوى أن يكون من طيب البيت أو ستراً يعلقه على البيت جعله حيث نوى؛ لأن لفظ الإهداء صالح للإهداء إلى البيت والإهداء إلى المساكين". وقال أصحابنا بخراسان: إذا أطلق إن شاء جعله ستراً للبيت أو شري به الطيب وطيَّب به الكعبة، وهذا غلط ظاهر. وإن كان الشيء مما لا ينقل كالدور والعقار ونحوها باع ذلك ثم أهدى ثمنه؛ لأنه إذا تعذر نقله وجب أن يحمل بدله، ألا ترى أنه إذا أهدى شيئاً بعينه فأتلفه لزمه بدله، ووجب حمل بدله لتعذر المبدل، ولأنه لما نذر ذلك مع عمله بأنه لا ينقل علينا أنه قصد بدله. وقد روي أن رجلاً سأل ابن عمر - رضي الله عنهما - في امرأة نذرت أن تهدي داراً فقال: تبيعها وتتصدق بثمنها على مساكين الحرم.

فرع إذا نقل المنقول إلى الحرم، فمؤنة النقل على من تكون؟ قال القفال: يُنظر، فإن قال: جعلت هذا هدياً [44/ ب] بالمؤنة فقد يباع بعضه وينفق على الباقي ليصل إليهم، وإن قال: عليَّ أن أهدي بهذا فالمؤنة عليه في ماله. فرع آخر لو كان منقولاً ولكن لم تجر العادة بنقله مثل حجر الرحا والعارض الكبير، فحكمه حكم الأراضي والعقار، وإلى هذا أشار القفال - رحمه الله -. فرع آخر لو نذر حيواناً غير النعم من طائر أو دابة يلزمه أن يتصدق بها حيّاً، ولا يجوز أن يذبح إذ لا قربة في ذبحه، فإن ذبح وهو مأكول تصدق باللحم وغرم ما نقص الذبح، ولو نذر النعم يذبحه ويتصدق به، ولا يجوز أن يتصدق به حياً؛ لأن الذبح فيه قربة ذكره القفال. فرع آخر لو أطلق نذر الهدي فقال: لله عليَّ أن أهدي الهدي يحمل على الهدي الشرعي، وهو الثني من الإبل، والبقر، والمعز، والجذع من الضأن؛ لأنه لما أدخل الألف واللام في قوله الهدي اقتضى ذلك الهدي المعروف في الشرع. وقال في "الحاوي": هكذا ذكره أبو حامد، وقال سائر أصحابنا: يستوي الحكم بين دخول الألف واللام وإذا لم تدخل الألف واللام يجيء كله. فرع آخر لو قال: عليَّ أن أهدي هدياً إن لم يقل هدياً فيه قولان: أحدهما: أنه يلزمه الهدي الشرعي الذي ذكرنا ولا يجزئه إلا في الحرم. قال الشافعي رضي الله عنه هنا: إلا أن يُحصر فينحر حيث أحصر، وهذا لأن المطلق من كلام الآدميين محمول على المعهود في الشرع، وبه قال أبو حنيفة وأحمد، وهو المشهور الصحيح. والثاني: قاله في "الإملاء": أي شيء أهدي مما يُتَمَوَّل في العادة جاز؛ لأن اسم الهدي يقع عليه لغةً وشرعاً. أما اللغة: يقال أهدى فلان إلى فلان كذا، وأهدى له ما يُتَمَوَّل. وأما الشرع: روي في خبر الجمعة أن النبي صلى الله عليه وسلم [قال:] "ومن راح في الساعة [45/ أ] الخامسة فكأنما قرب بيضة". فإن قيل: يجوز أن يجب عليه عُشر شاةٍ وأقل في أجزاء الصيد، فيجوز ذلك على

القول الأول. قلنا: ذلك على طريق البدل والمقابلة، ولا يجوز ذلك العُشر في نفسه هدياً، بل هو جزء من هدي فلا يجوز ذلك. فإن قيل: إذا نذر أن يتصدق لا يلزمه أن يتصدق بخمسة دراهم، وأقل التصدق في الشرع هذا، وكذلك إذا نذر الصوم يلزمه يوم، وأقل ما ورد الشرع بالصيام ثلاثون يوماً. قيل: الدراهم تتبعض فصح التصدق بدرهم واحدٍ بخلاف الهدي. وأيضاً الدرهم الواحد قد يجب في الزكاة، وهو إذا كان خليطاً مع آخر في الدراهم، وأما صيام ثلاثين يوماً فثلاثون عبادة لخمس صلواتٍ في اليوم والليلة، وقد يبلغ صبي أو يسلم كافر في رمضان، فلا يلزمه إلا صوم يوم واحدٍ. فرع آخر لو قال: عليَّ أن أهدي بدنةً، أو بقرةً، أو شاةً هل تعتبر السلامة من العيوب منها أم لا؟ فيه قولان مخرجان بناء على القولين السابقين، وكذلك هل يعتبر فيها السن من الثنية من الإبل والبقر والمعز والجذع من الضأن على هذين. فرع آخر قال في "الحاوي": لو قال: لله عليَّ أن أجعل هذا المتاع هدياً توجه مطلق هذا النذر إلى وجوب نقله إلى الحرم؛ لأنه محل الهدي في الشرع على ما ذكرنا. ولو قال: لله عليَّ أن أهدي المتاع ولم يقل هدياً فقد نفي، يلزمه عرفان؛ عرف اللفظ أن يكون هدية، وعرف الشرع أن يكون هدياً، فإن أراد عرف اللفظ أن يكون هدية بين المتواصلين لم ينعقد به النذر، إلا إن تقرب بقربة تختص بثوابٍ، وإن أراد عرف الشرع وجب إيصاله إلى الحرم، وإن أطلق ففيه وجهان: أحدهما: يحمل على عرف الشرع وينعقد النذر. والثاني: يحمل على عرف اللفظ؛ لأنه قد اقترن به عرف الاستعمال، فيكون هدية ولا يكون، [45/ ب] فلا ينعقد به النذر. فرع آخر لو جعله للكعبة خص به الكعبة في الستر، أو الطيب، أو الشمع، أو الدهن. وإن جعله لأهل الحرم يلزمه صرفة إلى الفقراء منهم دون الأغنياء، وهل يجوز صرفه إلى ذوي القربى؟ فيه وجهان؛ أحدهما: لا يجوز كالزكاة والكفارات. والثاني: لا؛ لأنه تطوع بنذره. فرع آخر لو كان المتاع ما لا يمكن تفريقه فيهم كاللؤلؤ والجوهر كان حقهم في قيمته، وهل يلزم الناذر بيعه أو قيمته؟ فيه وجهان مخرجان من اختلاف قول الشافعي في العبد

الجاني، هل يفديه السيد بقيمته أم بثمنه؟ فيه قولان: أحدهما: بقيمته، فعلى هذا يجوز للناذر أن يصرف قيمته إليهم وإن لم يبعه. والثاني: عليه بيع الجاني لجواز ابتياعه بأكثر من قيمته فعلى هذا يلزمه بيع هذا المتاع لجواز أن يرغب فيه من يشتريه بأكثر من ثمنه، فإن أراد أن يأخذه بالثمن المبذول فيه جاز. فرع آخر إذا ألزمناه قيمته، فإن كانت قيمته في موضع النذر أكثر جاز، وإن كانت أقل لم يجز. فإن استهلكه وجبت عليه قيمته في أكثر حالتيه من موضع الاستهلاك، أو من الحرم لما وجب عليه من إيصاله إلى الحرم. فرع آخر لو كان الهدي مما لم يجز لأن إخراج البدل فيما استحقت أعيانه لا يجوز كالزكوات. فرع آخر لو نذر هدي بقرةٍ بعينها ثم أتلفها هو، فعليه أكثر الأمرين من قيمتها أو مثلها؛ لأن أكثرهما حق المساكين، وغن أتلفها غيره يجب على المتلف قيمتها ويلزمه صرفها في مثلها، فإن فضل شيء ففيه وجهان: أحدهما: يصرف في مثل آخر أو جزءٍ من مثل آخر. والثاني: يصرفها ورقاً. وإن كانت القيمة أقل فهل يلزم الناذر تمام ثمن مثلها؟ وجهان؛ أحدهما: يلزمه لاستحقاق المساكين له [46/ أ] بالنذر. والثاني: لا يلزمه وهو الأشبه؛ لأنه قد مات ما نذر. فإن قلنا بهذا يجيء فيه الوجهان اللذان ذكرناهما في زيادة القيمة. فرع آخر لو تلفت بنفسها هل يلزمه ضمانه؟ فيه وجهان، والأصح أن لا ضمان؛ لأنها بعد النذر كالأمانة. والوجه الثاني يضمنها لتعلق نذرها بذمته، فالجهة باقية بخلاف ما لو نذر إعتاق عبدٍ فمات لم يضمنه. فرع آخر إذا قلنا بالوجه الثاني أنه يضمنها ففي ضمانها ثلاثة أوجه؛ أحدها: مثلها. والثاني: يضمن قيمتها. والثالث: يضمن أكثر الأمرين من المثل أو القيمة. فرع آخر إذا أطلق الهدي، قال الشافعي - رضي الله عنه -: "فعليه أن يهدي ما كان ولو بيضة

أو تمرة". واختلف أصحابنا في هذا على وجهين: أحدهما: قال على وجه المبالغة، ويعتبر أن يهدي أقل ما يكون ثمناً لمبيع أو مبيعاً بثمن، ولا تكون التمرة الواحدة ثمناً ولا مبيعاً كما قلنا في أقل الصدقات. والوجه الثاني: أنه قال حقيقياً؛ لأن التمرة ذرة في جزء جرادةٍ. وقال الشافعي - رضي الله عنه-: "وأستحب أن لا ينقص من "المد"؛ لأنه أقل ما يواسى به وأجزل ما دونه. فرع آخر قال في "الأم": لو قال: أنا أهدي هذه الشاة نذراً، أو أمشي إلى بيت الله نذراً، فعليه أن يهديهما ويلزمه المشي إلى بيت الله تعالى، إلا أن تكون نيته أني سأحدث نذراً أو سأهديها فلا يلزمه. فرع آخر قال في "الأم": "ولو نذر أنه يهدي هدياً ونوى بهيمة أو جدياً أو رضيعاً أجزأه، ولو نذر أن يهدي شاةً عوراء أو عرجاء أو عمياء أو ما لا يجوز أضحية أهداها، ولو أهدى تاماً كان أحب إليَّ". قال الشافعي - رضي الله عنه -: وكل هذا هديٌ، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {ومَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الكَعْبَةِ} [المائدة: 95] [46/ ب] إلى الحرم أهدى". مسألة: قَالَ: "وَمَنْ نَذَرَ بَدَنَةً لَا يُجْزِئْهُ إِلَّا ثَنِيٌّ أَوْ ثَنِيَّةٌ". جملته إذا نذر بدنة فلا يخلو إما أن يطلق أو يقيد ببدنةٍ من الإبل، فإن أطلق فالإطلاق يقتضي بدنةً من الإبل، فإن كان واجداً أهداها. قال الشافعي - رضي الله عنه -: "وَإِذَا لَمْ يَجِدْ بَدَنَةً فَبَقَرَةٌ"، كما نقول في البدنة الواجبة في الإحرام متى لم يجد نزل إلى البقرة ثنية، فإن لم يجد بقرة فتبيع من الغنم يجزئ ضحايا. واختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: هو على الترتيب وهو المذهب، وبه قال عامة أصحابنا. ومنهم من قال: هو على التخيير؛ لأن الشريعة أقامت البقرة مقام البدنة فجاز أن يتخير، وأصل هذين الوجهين البدنة على المفسد حجة، هل هو على التخيير أم الترتيب؟ فيه قولان. ومن قال بالتخيير قال: قول الشافعي - رضي الله عنه -: "فَإِنْ لَمْ يَجِدْ" أي فإن لم يكن، أو لم يتفق له ذلك، ولا يجوز أن يعدل عنها إلى الإطعام عند عدم الكل، وإن كان في الشرع بدلاً منه لانتفاء اسم الهدي عنه. وإن كان قيَّد النذر وقال: بدنة من الإبل يتعين في الإبل بلا خلافٍ، ولا يجوز أن يعدل عنها مع القدرة عليها؛ لأنه أزال الاحتمال بالتقييد. وقيل: هذا إذا كان مراده أن لا يتقرب إلا بالبدنة؛ لأنه علق نذره بعينها، فينظر كم قيمة البدنة، فما كان قيمتها يشتري به بقراً،

فإن فضل منها شيء صرفه فيما أمكن من البقر ولو في عشر بقرات. وإن كان لا يقدر على شراء بقرٍ كاملٍ بالفضل هل يشتري سهماً من البقر أم يتصدق به على مساكين الحرم؟ فيه وجهان. ويخالف هذا إذا لم يقصد جنساً من الأجناس الثلاثة، [47/ أ] فالأجناس الثلاثة متساوية في الجواز، إما على التخيير أو على الترتيب، وإذا قصد الإبل والنذر تعلق بجنس البدنة، ولا يجوز أن ينتقل إلى البقرة إلا بقيمتها، وإن لم يجد بقرةً بقيمتها يلزمه إتمامها وعليه أكثر الأمرين من البقرة أو قيمة البدنة. ومن أصحابنا من قال: إذا لم يجد الإبل فلا بدل له، وتكون الإبل في ذمته حتى يجدها؛ لأنه عيَّنها بنذره، والمذهب الأول؛ لأنه يجوز الانتقال إلى بدل الشيء عند العجز، كما يجوز الانتقال إلى التيمم عند عدم الماء، ولأن المقصود نفع المساكين، وهم ينتفعون بلحوم البقر أيضاً بخلاف ما لو نذر إعتاق عبدٍ لا يجوز العدول عنه بحالٍ. ومن أصحابنا من قال: يجوز البقرة قل ثمنها أو كثر، ذكره في "الحاوي". وقال بعض أصحابنا بخرسان: أراد الشافعي - رضي الله عنه - بما ذكر إذا عين بعيراً، أو قال: لله عليَّ أن أهدي هذا، أو في هذه المسألة التي ذكرنا هل يتخير؟ وجهان أيضاً، وهو غلط ظاهر، وليس مراد الشافعي هذا. وحكي عن القفال أنه قال: لا يجوز غير الإبل سواء قال مطلقاً بدنة أو قال: بدنة من الإبل، أو كانت الإبل موجودة أو غير موجودة، ولعل هذا اختياره وهو القياس، ولكنه خلاف النص على ما بيناه. فرع قال أصحابنا: إذا انتقل إلى البدل في هذه المسائل التي ذكرناها يتخير بين البقر والغنم، ولا يراعي الترتيب بين البقر؛ لأن الواجب البدنة أو بدلها. وقال في "الحاوي": إذا وجد البقر لا يعدل إلى الغنم، فإن لم يجد البقرة عدل إلى سبع من الغنم، وهل يراعي القيمة؟ فيه وجهان؛ فإذا راعينا القيمة ففي قيمتها ثلاثة أوجه: أحدها: عليه أكثر الأمرين من قيمة البدنة أو سبع من الغنم؛ لأن البدنة هي الأصل [47/ ب] المنذور. والثاني: يلزمه أكثر الأمرين من قيمة البقرة، أو سبعٍ من الغنم. والثالث: يعتبر أكثر الأمور الثلاثة من قيمة البدنة أو البقرة، أو سبع من الغنم؛ لأنه أصل في البدنة في البقرة، والبقرة أصل في الغنم فاعتبر أغلظها. ثم قال الشافعي - رضي الله عنه -: "وَالخَصِيُّ يُجْزِئُ". وقد ذكرنا هذا في الأضحية، وذلك أن الخصي أطيب لحماً من الفحل وأوفر وأرطب وذكر بعض أصحابنا

إذا نذر أضحية وأطلق لا يجزئه الحامل، وهذا غريب. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ نَذَرَ عَشْراً صَامَهُ مُتَتَابِعاً أو مُتَفَرَّقاً". جملة هذا إذا نذر صوم عشرة أيامٍ وأطلق يجوز متتابعاً ومتفرقاً، وقال داود: يلزمه التتابع، وهذا غلط، لأن الاسم يقع عليهما. وإن نذر أن يصوم شهراً بعينه فإنه متتابع من حيث الوقت كصوم رمضان، ولكن صفة التتابع لا تلزمه حتى لو أفطر يوماً لم يلزمه استيفاؤه، وكذلك لو قال: لله عليَّ أن أصوم شهراً من الآن. ولو قال: أصوم شهراً له أن يصوم شهراً بين الهلالين تاماً كان أو ناقصاً، وله أن يفرق. وإذا فرّق لا يجوز أقل من ثلاثين يوماً. وكذلك لو تابع إلا أنه لم يبتدأ من أول الشهر بل كسره ولو بيوم. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ نَذَرَ صِيَامَ سَنَةٍ بِعَيْنِهَا صَامَهَا إِلاَّ رَمَضَانَ". اعلم أنه إذا نذر صوم سنةٍ فلا يخلو إما أن يقول: السنة الفلانية، أو يقول: سنة من وقتي هذا، أو يقول: سنةً مطلقاً. فإن قال: من وقتي هذا يلزمه صوم سنةٍ هلاليةٍ اثني عشر شهراً؛ لأن السنة في الشرع هذه، ويصوم جميع السنة إلا يوم الفطر ويوم الأضحى وأيام التشريق؛ لأنه لا ينعقد نذره فيها ولا يلزمه قضاءها، وهكذا يصوم [48/ أ] شهر رمضان عن رمضان لا عن النذر، ولا يلزمه قضاؤه؛ لأنه مستحق بصومه ولا ينعقد فيه غيره فلم يتناوله النذر، فلو أفطر فيها بعضها فلا يخلو إما أن يكون بعذرٍ أو بغير عذرٍ، فإن كان أطلق النذر ولم يشترط فيه التتابع يمضي على بقية صومه ويقضي ما أفطره، وإن كان شرط فيه التتابع انقطع حكم الصوم وعليه الاستئناف. وإن أفطر لعذر، فإن كان الناذر امرأة فأفطرت أيام حيضها، منعت في صومها ولا تستأنف؛ لأنه لا يمكن الاحتراز عنه، وهل يجب عليها قضاء ما أفطرته؟ قولان: أحدهما: لا يلزمها؛ لأنه لا يدخل في نذرها إلا ما يمكنها وتقدر عليه. والثاني: يلزمها القضاء؛ لأن الزمان محل للصوم، وإنما منعت فيها من الصوم لمعنًى يمنعها وهو الحيض فلزمها القضاء، ولأن النذر محمول على المشروع ابتداءً، والحائض تقضي الصوم الواجب بالشرع، فكذلك الواجب بالنذر. فإن قيل: أليس قلتم: لو نذرت الصوم في أيام الحيض لا ينعقد نذرها ولا يجب القضاء قولاً واحداً، فهلا قلتم هاهنا مثله؟ قيل: الفرق أن النذر إذا اختص بزمان الحيض كان نذر معصية، وهنا إذا تعلق بالسنة لم يكن معصيةً فافترقا. وإن أفطر بمرض فحكم الرجل والمرأة فيه سواء، فهل ينقطع التتابع به؟ قولان؛ فإذا قلنا لا ينقطع أو كانت الموالاة من حيث الوقت لا من حيث الشرط هل يلزمه قضاء ما أفطر بالمرض؟ فيه وجهان بناءً على القولين في الحائض؛ لأنه غير متمكن من صومه كالحائض، وإن كان لسفر ففيه طريقان؛ أحدهما: أنه كالمفطر بالمرض فيه وجهان. [48/ ب]. والثاني: أنه كالمفطر بغير عذر لقدرته على الصوم، وقد ذكرنا في كتاب "الظهار":

ويلزمه القضاء بلا خلافٍ؛ لأنه يفطر باختياره. ولو قال: لله عليَّ أن أصوم سنة كذا يصومها إلا رمضان، فإنه يصومه لرمضان ويفطر في الأيام التي ذكرنا ولا قضاء لما ذكرنا، فإن أفطر يوماً سوى هذه الأيام أو صام عن غيره يقضيه ولايبطل ما مضى؛ لأن التتابع للوقت على ما ذكرنا، ولو كان الناذر امرأة فأطرت بالحيض، أو أفطرت هي والرجل بالمرض هل تقضي؟ فعلى ما ذكرنا. قال صاحب "الإفصاح": والصحيح أن لا قضاء، لا في هذه المسألة ولا في المسألة السابقة. ولو قيد بالتتابع فقال: سنة كذا متتابعاً فأفطر يوماً متعمداً بطل التتابع، ويبطل ما مضى من صومه ويستأنف على ما ذكرنا. وحكي عن القفال أنه لا يبطل ما مضى من صومه، ولا تأثير لقوله: "متتابعاً" وهو غلط عليه عندي. ولو قال: لله عليَّ أن أصوم هذه السنة يتناول السنة الشرعية من المحرم إلى المحرم، فإن كان قد مضى نصف الحول لا يلزمه الباقي، ثم إذا كان في ذلك الباقي رمضان والأعياد لا يلزمه قضاءها. وأما إذا قال: أصوم سنة ولم يعين وأطلق ينعقد نذره ويثبت الصوم في ذمته، ويلزمه أن يصوم سنةً اثني عشر شهراً، ويجوز متوالياً ومتفرقاً. ثم إذا اختار الصوم فهو على ما ذكرنا في تمام الشهر ونقصانه، وإذا أفطر الأعياد وصام لرمضان يلزمه قضاء الكل؛ لأن السنة إذا كانت في الذمة تقدرت بتمام اثني عشر شهراً ولفظ القضاء عن الشافعي - رضي الله عنه - عبارة مجازٍ لا عبارة [49/ أ] حقيقة؛ لأن السنة إذا كانت بغير عينها فقضاء هذه الأيام على معنى الأداء لا على معنى القضاء، ثم إذا قضى شهر رمضان قضى مكانه شهراً تاماً كان أو ناقصاً؛ لأنه قضاء شهرٍ بأداء شهرٍ. وأما إذا قضى زمان الأعياد فقد أفطر في خمسة أيام فيسقط اعتبار الهلال في هذين الشهرين ويكون الاعتبار بالعدد، فإن كان الشهران تامين قضى خمسة أيام، وإن كانا ناقصين قضى سبعة أيام، وإن كان أحدهما ناقصاً والآخر تاماً قضى ستة أيامٍ. وقال بعض أصحابنا: لو ابتدأ في هذه السنة التي ذكرناها من المحرم إلى المحرم، يقال: صام سنة، وإن كان صومه لسنةٍ منكرةٍ فالقياس أنه لا يلزمه صيام هذه الأيام، وإن كان ظاهر المذهب بخلافه. وإن شرط التتابع وقال: سنةً متتابعاً يلزمه ذلك، ولا يمكنه أن لا يتخللها رمضان وأيام العيد وأيام الحيض، وذلك كله لا يقطع التتابع ولكن يلزمه قضاءها على ما ذكرنا. وقال في "الحاوي": لو نذرت صيام شهرين متتابعين فحاضت لم ينقطع التتابع بها، وفي وجوب قضائها قولان؛ أحدهما: تقضي كما تقضي في الكفارة. والثاني: لا يلزمها القضاء؛ لأن وجوبه بالشرط بخلاف الكفارة، وهذا غريب.

فرع لو نذر صوم يوم الخميس فصام يوماً قبله لا يجوز، هذا هو المذهب المشهور. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان؛ أحدهما: لا يصح وهو الأصح، وبه قال محمد. والثاني: يجوز وبه قال أبو يوسف. قال أصحابنا: وهكذا لو قيد الصلاة بوقتٍ هل يجوز تقديمها على الوقت؟ فعلى هذا الخلاف. وقال في "الحاوي": إذا نذر وقال: لله عليَّ أن أصلي في يوم الخميس، فإن قصد به تفضيل ذلك الزمان يجوز أن يصلي [49/ ب] يوم الأربعاء ويوم الجمعة. لأنه لا فضيلة ليوم الخميس، وإن قصد به أن يجعله وقتاً للنذر لا يجوز قبله ولو كان له فضيلة على غيره، فإن قال: لله عليَّ أن أصلي ليلة القدر فهي أفضل من غيرها فلا تجزئ الصلاة في غيرها، وليلة القدر في العشر الأواخر وهي لا تتعين قطعاً في إحدى ليالي العشر فيلزمه أن يصليها في كل ليلة من ليالي العشر ليصادفها في إحدى لياليه، كمن نسي صلاة من خمس صلواتٍ لا يعرفها قضى جميعها، فإن لم يصليها في العشر كلها لم يقضها إلا في مثله، وهذا حسن صحيح. ولو عير الصدقة لوقتٍ يجوز تقدمها عليه. فرع آخر لو نذر صوم يوم العيد لا ينعقد نذره، وقد ذكرنا عن أبي حنيفة أنه قال: ينعقد نذره ويلزمه أن يصوم يوماً آخر، فإن صام فيه هل يسقط عنه موجب نذره؟ فيه وجهان؛ أحدهما: لأنه نذر معصية. والثاني: ينعقد ويصليها في وقت آخر وهو الأظهر. ومن أصحابنا من قال: فيه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: النذر باطل فلا ينعقد بوفاء ولا قضاء. والثاني: ينعقد بالوفاء بالصلاة، فيصلي في الوقت ولا يقضي؛ لأنه ظهر سببها والصلاة التي لها سبب تجوز في الوقت المنهي عنه. والثالث: ينعقد النذر بالقضاء دون الوفاء فيصليها في غير وقتها ليفي بالنذر ويسلم من المعصية. والفرق بينها وبين نذر صوم يوم العيد أن الوقت المنهي عنه يصلح لشيء من الصلوات التي لها أسبابٌ، فينعقد النذر بالصلاة فيه لحقه بحكم النهي، ويوم العيد لا يقبل الصوم في حق الناس كافةً على العموم فلا ينعقد نذر الصوم فيه. فرع آخر لو نذر صوم يوم الشك هل ينعقد نذره؟ فيه وجهان، والأظهر أنه ينعقد. فرع آخر لو نذر أن يقرأ القرآن جنباً هل ينعقد نذره؟ وجهان. [50/ أ] والأظهر أنه ينعقد.

فرع آخر لو نذر أن يقرأ القرآن جنباً هل ينعقد نذره؟ وجهان، والظاهر عندي أنه ينعقد نذره. وإذا قلنا ينعقد فإنما يقرأ القرآن بعد اغتساله لا في حال الجنابة. فرع آخر لو نذر صوم نصف يوم لا ينعقد نذره وهو المذهب. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل ينعقد نذره؟ فيه قولان؛ أحدهما: ما ذكرنا. والثاني: ينعقد ويلزمه صوم يومٍ تامٍ. قال: هذا إذا لم يكن أكل في ذلك اليوم، فإن كان قد أكل ثم نذر يترتب على ما تقدم. فإن قلنا هناك: لا يلزمه شيء، فهاهنا أولى. وإن قلنا هناك: يلزمه صوم يوم فهاهنا وجهان. قال: وعلى هذا لو قال: عليَّ الركوع، فيه وجهان؛ أحدهما: لا يلزمه شيء. والثاني: يلزمه ركعة تامة. فرع آخر لو نذر أن يذبح نفسه أو ابنه أو أباه لا ينعقد، وبه قال أبو يوسف؛ لأنه تقرب بمعصية. وقال أبو حنيفة: إذا نذر ذبح نفسه أو ابنه ينعقد نذره ويلزمه ذبح شاةٍ، وبه قال محمد، وزاد على أبي حنيفة وقال: إذا نذر ذبح عبده ينعقد نذره ويلزمه شاةٌ أيضاً، وعند أبي حنيفة لا ينعقد، وعن أحمد روايتان؛ إحداهما: يلزمه ذبح شاة. والثاني: يلزمه كفارة يمين، وروي هذا عن سعيد بن المسيب واحتجوا بما روى القاسم بن محمد أن امرأةً جاءت إلى ابن عباس - رضي الله عنهما - فقالت: يا ابن عباس، إني قد نذرت أن أنحر ابني، فقال لها: لا تنحري ابنك وكفري عن يمينك، فقال له شيخ: وكيف تكون كفارة في طاعة شيطان؟ فقال: بلى، أليس الله تعالى يقول {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنكُم} [المجادلة: 2] إلى آخر الآية، ثم ذكر من الكفارة ما رأيت. وروى عن عطاء بن أبي رباح أن رجلاً أتى ابن عباس - رضي الله عنهما - فقال: إني نذرت لأنحرن نفسي [50/ ب] فقال ابن عباس: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ثم تلا قوله تعالى: {وفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107]، وروي في هذا الخبر أنه قال: إني نذرت أن أنحر ابني، فقال هذا. وروي عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال في رجل نذر أن ينحر نفسه، قال: ينحر مائة من الإبل في كل عام ثلاثاً. قلنا: قول ابن عباس لا يكون حجة، والقياس مقدم عليه واختلفت الرواية عنه، فروي أنه قال: عليه مائة بدنة ثم قال لمسروق: ما ترى؟ قال: عليه شاة، فرجع إلى

قوله، وقال: إنَّ عليه شاة. ثم هو استجاب، أي أشكر الله تعالى إذا لم يوجب ذلك. ثم روينا عن ابن عوف، عن رجل، أن رجلاً سأل ابن عمر - رضي الله عنهما - عن رجل نذر أن لا يكلم أخاه، فإن كلمه فهو ينحر نفسه بين المقام والركن في أيام التشريق، فقال: يا ابن أخي، أبلغ من وراءك أنه لا نذر في معصية الله عز وجل، لو نذر أن لا يصلي فصلى كان خيراً له، ولو نذر أن لا يصوم رمضان فصامه كان خيراً له، مُر صاحبك فليكفر عن يمينه وليكلم أخاه. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَحُجَّ عَمِي هَذَا فَحَالَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ عدُوٌّ". الفصل إذا نذر أن يحج في عامه ذلك النذر ينعقد؛ لأنه طاعة، ثم إن وجد شرائط الحج يلزمه أن يحج في عامه ذلك ويسقط عنه موجب النذر إذا فعل، وإن لم يحج نُظر، فإن مضى من الزمان قدر ما يمكنه أن يحج فلم يفعل استقر الفرض في ذمته، ولا تسقط نفقة تلك الشرائط أو بعضها. وإن مات قضي عنه، وإن نفذ هذه الشرائط أو بعضها قبل مضي زمان يمكنه الحج فيه سقط عنه حكم الحج؛ لأن فرض الحج إنما يستقر بالتمكن من أدائه، ولم يمكن هنا الأداء. ويفارق هذا [51/ أ] حجة الإسلام؛ لأنه متى أمكن وجب لأنها تختص بسنةٍ واحدةٍ، وهذا اختص بسنةٍ واحدةٍ فسقط عنه الفرض بالعجز عن أدائه فيها، وإن حُصِر ومنع فهذا مبني على أن من حُصِر عن حجة الإسلام ما حكمه؟ وقد ذكرنا في كتاب "الحج" أنه ينظر، فإن كان الحصر عاماً لم يستقر الفرض عليه في هذه السنة، فإن عاش إلى العام القابل أو كان واجداً للشرائط أو صُدَّ عن الطريق لم يلزمه، وإن مات لم يقض عنه، وإن أحصر حصراً خاصاً بأن يمنعه صاحب الدين أو سلطان بلده، قال الشافعي - رضي الله عنه - في كتاب "الحج": "يستقر الفرض عليه"، وقال هنا: "إِذَا حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ عَدُوٌّ أَوْ سُلْطَانٌ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ". واختلف أصحابنا فيه على طريقين: أحدهما: قولاً واحداً يستقر عليه، والذي قال هنا أراد به إذا حصره سلطان بلده حصراً عاماً ومنعه وغيره من الحج، وهو اختيار القاضي الطبري. والطريقة الثانية: فيه قولان؛ أحدهما: لا يستقر عليه كالحصر العام. والثاني: يستقر عليه؛ لأن الطريق مُخلَّى، وإنما تعذر عليه أداء الحج بمعنى يختص به، فهذا حكم حجة الإسلام. فأما المنذورة فحكمها مبني عليها، فكل موضع قلنا يستقر ذلك فكذلك المنذورة، وكل موضع قلنا لا يستقر ذلك لا تستقر المنذورة، ولا يختلفان إلا في شيء واحد، وهو ما ذكرنا أن حجة الإسلام إذا لم تجب في هذه السنة تجب في سنة أخرى عند

وجود الشرائط بخلاف المنذورة في هذه السنة. وقال المزني وابن سريج: يلزمه القضاء بكل حالٍ كما لو قال: أصوم غداً فأغمي عليه حتى مضى الغد يلزمه قضاء يومٍ آخر. وقال صاحب "التقريب": ولهذا وجه [51/ ب] وهو قول أبي حنيفة، وهذا لا يصح؛ لأن النذر المطلق محمول على الشرع، والحج الشرعي لا يستقر مع الحصر بخلاف الصوم، فإن الصوم الشرعي يجب عليه مع الإغماء أيضاً. ومن أصحابنا من قال: في حجة النذر طريقان؛ أحدهما: أنها كحجة الإسلام، فإن كان الإحصار خاصاً يجب به قضاء الحج المنذور، وإن كان الحصر عاماً فهل يجب قضاءه؟ قولان؛ لأن حجة النذر أغلظ. قال صاحب "الحاوي": وهذه الطريقة أشبه بالمذهب، وإن أخَّرَه لعذرٍ يختص به من مرضٍ أو ضل الطريق أو أخطأ العدد، أو نسي الوقت فقد استقر في ذمته ولزمه فعله، فإن مات قضي عنه، وهذا لأن حصر العدو يخالف هذه الأعذار في جواز التحلل من الحج الشرعي والمنذور محمول على المشروع. واعلم أن هذا مشكل، وموضع إشكاله لأن القضاء إذا لزمه مع عذر المرض وخطأ العدد وجد أن يلزمه مع حصر العدو ومنع السلطان، فإذا لم يلزمه في منع العدو وجب أن لا يلزمه في المرض، ولا تخلو هذه السنة من أن تكون متعينة لنذره أولاً، وكيفما كان فالواجب أن يستوي منع العدو ومنع المرض، وهذا مذهب المزني في المرض، وادعاه قولاً للشافعي - رضي الله عنه - أنه فصل بين المرض وحصر العدو في التحلل فألحق المرض بسائر المعاذير التي هي معاذير تقصيره مثل خطأ العدد أو النسيان والتواني، وهذه المعاذير التي حصلت بتقصيره فالقضاء معها واجب قولاً واحداً، ولا خلاف فيه وإنما الإشكال في المرض. فرع لو قال: إن شفي الله مريضي فلله عليَّ أن أحج، فشفاه الله تعالى وجب الحج عليه، ولا يعتبر في وجوبه وجود الزاد والراحلة، [52/ أ] وهل يعتبر وجودهما في وجوب أدائه؟ ظاهر المذهب أنه يعتبر. وقال صاحب "الحاوي": فيه وجهان حكاهما ابن أبي هريرة: أحدهما: لا يعتبر؛ لأنه كان قادراً على استثنائه في نذره، وهو قول من لا يطرح الغلبة في الإيمان فلم يطرحها في النذر. والثاني: يعتبر كما قلنا في المشروع. فرع آخر هل يجب تعجيله على الفور؟ فيه وجهان يخالف المشروع.

فرع آخر لو قال: إن قدم غائبي فلله عليَّ أن أحج في عامي هذا، فإن قدم عامه سقط نذره ولا يجب عليه الحج، وإن قدم قبل حج عامٍ والوقت متسع لحجة لزمه وتعين في عامه، وإن تضيق الوقت عن إمكان الأداء ففي لزوم نذره وجوب الحج عليه وجهان؛ أحدهما: يلزمه كحجة الإسلام. والثاني: يلزمه ويقضيه بعد عامه؛ لأنه قد كان قادراً على استثنائه في نذره، وهو قول من لا يطرح الغلبة، ذكره صاحب "الحاوي". فرع آخر لو قال: لله عليَّ أن أحج سنة ولم يقل في عامي هذا، لم يحج في عامه وحج في عامٍ آخر إن أمكن. وإن مات قبل الإمكان فلا شيء عليه. وحكي عن أبي حنيفة - رحمه الله - أنه قال: يلقى الله تعالى وعليه حجٌّ ولا يصح عندي عنه. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ اليَوْمَ الَّذِي يَقْدِمُ فِيهِ فُلَانٌ، فَقَدِمَ لَيْلاً فَلَا صَوْمَ عَلَيْهِ". الفصل اعلم أنه إذا نذر أن يصوم يوم يقدم فيه فلان هل ينعقد نذره؟ فيه قولان: أحدهما: لا ينعقد؛ لأنه لا يمكن الوفاء به؛ لأنه إن قدم ليلاً لم يلزمه أن يصوم من الغد؛ لأن الصفة لم توجد، وغن قدم بالنهار وهو مفطر أو صائم عن غيره لم يمكنه أن يصوم عن نذره، وإن نوى من الليل قبل القدوم أن يصوم غداً فقد أتى ببعضه تطوعاً، وقد نذر صوم جميعه واجباً وهذا اختيار أبي حامد، [52/ ب] وقاسه على ما لو قال: لله عليَّ أن أصوم أمسَ اليومِ الذي يقدم فيه فلان. والثاني: ينعقد نذره وهو الصحيح، وهو اختيار المزني والقاضي الطبري؛ لأنه يمكن أن يقف على قدومه قبله فينوي بالليل أن يصوم من الغد لقدومه، فإذا أمكن ذلك انعقد نذره. واحتج المزني فقال: قد يجب عليه الصوم في زمان لا يمكنه فعله فيه، ألا ترى أن الصبي الذي يبلغ في أثناء اليوم فيلزمه قضاءه، وكذلك المغمى عليه والحائض يلزمها قضاء الصوم وإن لم يمكنهما. وأما قياسه على ما قال: أصوم أمس اليوم الذي يقدم فيه فلان، فيحتمل أن يقال هنا: ينعقد النذر أيضاً. فإذا تقرر هذا فإذا قلنا لا ينعقد نذره فلا كلام، وإذا قلنا ينعقد نذره فإن قدم ليلاً لم يجب عليه شيء؛ لأنه نذر صوم يوم يقدم فيه ولم يوجب ذلك اليوم. قال الشافعي -

رضي الله عنه-: "وأحب أن يصوم من الغد من أجل أنه قصد ذلك بنذره" وإن قدمها بالنهار وكان قد علمه بالليل ونوى يصوم لقدومه، ويجوز أن بكون أوله تطوعًا وآخره واجبًا، وإنما يعلم بأن أعلم أنه سيدخل فيه لقربه منه، وغنما صح صومه هكذا؛ لأنه قد نواه عن علم به، وهذا اختيار أبي إسحاق وجماعة. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن يصوم هكذا؛ لأنه قد صام أوله قبل مقدمه، ولأنه يجوز أن يتأخر عنه مع الإخبار به، فلا يصير عالمًا بما يفعله، ولا يمكن قطع النية به، وهذا اختيار القفال. وإن قدم ولم يعلم وهو مفطر أو صائم عن التطوع أو واجب آخر يلزمه قضاءه؛ لأنه لم ينوه في أوله واجبًا. ومن أصحابنا من قال: [53 أ] إذا كان مفطرًا يستحب له الإمساك في بقيته ولا يجب. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه طريقان: أحدهما: يجب الإمساك فيه؟ قولان بناءً على أنه يجب عليه قضاء يوم آخر، وفيه قولان. والثاني: لا يجب قولاً واحدً وإن أوجبنا القضاء؛ لأن المسافر إذا قدم في خلال النهار لا يلزمه التشبه وإن لزمه القضاء. وإن كان صائمًا تطوعًا لا يجزئه عن نذره، وهل يتحتم صومه عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: يتحتم؛ لأنه قد كان عند الله تعالى مستحقاً في نذره. والثاني: لا يتحتم، ويكون على خياره فيه إن شاء أفطر فيه وغن شاء أتمه وهو الأظهر اعتباراً بما انعقدت نيته عليه من تطوعه. وإن كان صائمًا عن فرض لم يتعين فيه كقضاء رمضان، أو صوم كفارة يلزم إتمامه عن فرضه الذي نواه، وهل يلزمه قضاءه عن ذلك الفرض؟ وجهان: أحدهما: يلزمه وهو اختيار أبي إسحاق؛ لان فرض صيامه صار مشتركًا. وقال ابن أبي هريرة: يستحب قضاؤه؛ ولا يجب لدخوله فيه عن نية انعقدت به، ثم عليه أن يقضي صوم نذره في المستقبل فيصوم على قول أبي إسحاق ثلاثة أيام، يومين عن فرضه ويومًا عن نذره. وعلى قول ابن أبي هريرة ثلاثة أيام؛ يومًا عن فرضه، ويومًا عن نذره، ويومًا يكون مستحقًا. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ أَصْبَحَ فِيهِ صَائِمًا عَنْ نَذْرٍ غَيْرِ هَذَا أَحْبَبْتُ أَنْ يعُودَ لِصَوْمِهِ لِنَذْرِهِ وَيَعُودَ لِصَوْمِهِ لِقُدُومِ فُلاَنٍ". الفصل صورة هذه المسألة أنه نذر أن يصوم يوم الخميس ثم قال بعده: لله عليَّ أن أصوم يوم يقدم في فلان فقدم يوم الخميس، وهذا صائم عن نذره الأول. قال الشافعي رضي الله عنه: "مضى في نذره وأتمه، [53/ ب] فإذا فرغ منه أحببت

أن يعيده، فإن لم يعد أجزأه ثم قضى يومًا آخر لمقدم فلانٍ" وهو النذر الثاني؛ لأن هذا الزمان قد كان يصح صومه عن ذلك النذر ولكن صامه عن غيره فيلزمه القضاء عن نذره. فإن قيل: لم استحب الشافعي رضي الله عنه أن يعيد ما صامه عن نذره؟ قلنا: لأنه صام يوم الخميس وقد استحق فيه أن يصوم عن مقدم فلان، فأحب أن يصوم في يوم لا يستحق صومه لغيره ولا يكون فرضه مشتركًا، فيصوم يومين يومًا فرضًا ويومًا مستحبًا. فإن قيل: هلا قلتم يصح صومه عن نذره الأول وقد استحق صومه لمقدم فلان كما قلتم فيمن صام رمضان من غيره لم يصح؛ لأنه مستحق لصوم رمضان قبل استحقاق النذر في وقت لا يمنع صحة غيره، ألا ترى أنه لو نذر ان يصلي في وقت بعينه، أو يوم ثم قضى فيه صلاة فائتة، أو صومًا عن القضاء أو التطوع كان جائزاً. فإن قيل: أليس لو نذر صوم يوم من شهر رمضان لم ينعقد نذره، فكيف انعقد هنا وقد وافق يومًا يعين عليه فيه صوم النذر؟. قيل: صوم شهر رمضان متعين فيه ولا يجوز أن يقع فيه صوم آخر، وليس كمذلك اليوم الذي استحق صومه بالنذر، فإنه لو صام فيه غيره صح صومه فافترقا. ثم قال الشافعي - رضي الله عنه -: "وَيَحْتَمِلُ القِيَاسُ أَنْ لاَ يَكُونَ عَلَيْهِ القَضَاءُ مَنْ قَبْلِ أَنَّهُ لاَ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ فِيهِ صَائِماً عَنٍْ نَذْرِهِ" فحص قولان، وتفسير قوله: "لا يصلح أن يكون فيه صائمًا عن نذره" ما فسره المزني، فقال: يعني أنه لا صوم لنذره إلا بنيته قبل الفجر ولم يكن له سبيل إلى أن يعلم أن عليه صومه إلا بعد مقدمه، وفيه ضعف لما ذكرنا أنه ربما يعلم بالليل تقارب القدوم فينوي صومه [54/ أ] فيصح صوم ذلك اليوم عن نذره. واختار المزني وجوب القضاء، فقال: قضاؤه عندي أولى. واختار في نذر الحج سنة بعينها وجوب القضاء أيضاً بكل حال. واحتج بصوم رمضان ومسألة الإغماء على ما ذكر وادعى أنه قول الشافعي - رضي الله عنه -، فقال: وقد قطع بهذا القول في موضع آخر، فسارت المسألة في المرض وحصر السلطان على قولين، هكذا ذكره الإمام الجويني - رحمه الله-. فرع لو قال: عبدي حر يقدم فلان فقدم ليلاً لا يعتق إلا أن يكون أراد باليوم الوقت. وقال أبو حنيفة: يعتق. فرع آخر لو قال: إن قدم عبدي كذا فعبدي حرٌّ، فقدم من ليلته لا يعتق إلا أن يريد جملة اليوم والليلة. وحكي عن أبي حنيفة - رحمه الله -: يعتق، ذكره القفال. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ قَالَ لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ اليَوْمَ الَّذِي يَقْدِمُ فًلاَنٌ أَبَداً، فَقَدِمَ

يَوْمَ الاثْنَيْنِ فَعَلَيْهِ أَنْ يَصُومَ كُلَّ اثْنَيْنِ يَسْتَقْبِلُه". الفصل إذا قال: لله عليَّ أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان أبداً فقدم يوم الاثنين فقد ذكرنا أن نذره هل ينعقد في اليوم الذي يقدم فيه فلان؟ قولان. وأما الأثانين المستقبلة ينعقد النذر فيها قولاً واحداً؛ لأنه يمكنها صومها واجباً بعد وجود الشرط فانعقد النذر، فإن وافق أثانين رمضان فعليه أن يصومها عن رمضان؛ لأنه مستحق له، فإن صامه عن النذر لم يصح عن رمضان ولا عن النذر، ولا يلزمه قضاء الأثانين عن النذر، لان نذر صوم كل يوم اثنين وهو يعلم أنه لابد في رمضان من تخلل الأثانين وصومها عن النذر لا يصح، فصار ذلك كأنها مستثناة عن جملة النذر، فلا يتعلق حكمها بها. وإن وافق ذلك [54/ ب] يوم الأضحى أو يوم الفطر، أو أيام التشريق، فليس له أن يصومها نذره، وهل يلزمه القضاء؟ فيه قولان: أحدهما: لا يلزمه القضاء، نص عليه في النذر، وهو اختيار المزني وهو الصحيح؛ لأن الزمان مستحق للفطر، فإذا وافقه وأفطر فلا قضاء، ولأن نذره لا يصح في يوم العيد فلا يلزمه قضاءه، كالأثانين في شهر رمضان. والثاني: يلزمه القضاء نص عليه في كتاب "الصوم" لأنه نذر صوم يوم يمكنه صومه عن نذره وهو أن يتفق يوم الاثنين في هذه الأيام، فإذا تعذر الصوم فيه يلزمه القضاء ويفارق الأثانين في رمضان، لأنه رمضان لا يخلو عنها بحالٍ. قال أبو إسحاق والقول الأول أقوى. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ صَامَهُمَا وَقَضَى كُلَّ اثْنَيْنِ فِيهِمَا". جملة هذا أنه إذا نذر صوم بعينه عل التأييد وهو في المسألة التي تقدمت أو في غيرها ولزمه صوم شهرين متتابعين فعليه أن يصوم أولاً الشهرين؛ لأنته إذا صامهما أمكنه أن يقضي الأثانين التي وقعت في الشهرين فيأتي بالصومين معاً، وإذا صام الأثانين عن النذر ينقطع تتابع صوم الشهرين، فإن الجمع بين الأمرين أولى. وإذا ثبت هذا وصام الشهرين يلزمه قضاء كل اثنين تخلل الشهرين، لأنه أمكنه أن يصوم هذه الأيام عن نذره، فإذا ترك صومها لأمرٍ عرض لزمه القضاء كما لو ترك صومها لمرض. وقد قال الشافعي - رضي الله عنه: "يلزمه القضاء" لأنه أدخل صوم الشهرين على نفسه. وقال صاحب الإفصاح: اختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: إذا تقدم وجوب النذر وتأخر وجوب الشهرين عنه، فأما إذا تقدم وجوب الشهرين وتأخر وجوب النذر

[55/ أ] في كل اثنين فإنه يصوم الشهرين المتتابعين ولا قضاء عليه، كما إذا صام شهر رمضان لا قضاء عليه. ومنهم من قال: لا فرق بينهما وعليه القضاء لأن أمكنه صيامها عن نذره فلم يصمها، ولو صامها عن النذر وقعت الموقع. وقيل: هذا القول نقله الربيع وهو المذهب. وقال القاضي الطبري: الأول أصح؛ لأن الشافعي رضي الله عنه - صرح به هاهنا، فقال: "لأن هذا شيء أدخله على نفسه بعدما وجب عليه صوم الاثنين" فدل على أن وجوب صوم الشهرين متأخر، وإن كان متقدماً لا تجئ هذه العلة، بل وجبت قبل النذر فلم ينصرف النذر إليها. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ كَانَ النَّاذِرُ امْرَأَةً فَهِيَ كالَّرَّجُلِ". اعلم أن المرأة في نذرها كالرجل، فإذا نذرت أن تصوم اليوم الذي يقدم فيه فلا نأبداً ينعقد نذرها في الأيام المستقبلة، وفي اليوم الأول قولان كما في الرجل، فإذا وافق ذلك اليوم يوم حيضها فليس لها أن تصوم، وهل يلزمها القضاء؟ قولان: أحدهما: لا يلزم؛ لأن هذا الزمان مستحق بلفظه. والثاني: يلزم؛ لأنه يصح الصوم في هذا الزمان في الجملة، ولكن لا يصح منها لعارض عرض لها. ومن أصحابنا من قال قولاً واحداً لا يلزمها القضاء؛ لأن الحيض لا ينافي وجوب القضاء كما في رمضان، ولأن من قال لا يلزمها القضاء خرجه من أنه لا يلزمها قضاء يوم العيد في أحد القولين، وهذا التخريج لأن تحريم صوم يوم العيد عام في حق كل الناس، وتحريم الحيض خاص فيها. وقيل: التخريج صحيح والفرق ضعيف؛ لأن الشرع حرم عليها صوم زمان الحيض كما حرم عليها صوم زمان العيد، وسوى بينهما في نذر الزمانين أنه لا ينعقد [55/ ب] فيستوي هذا أيضاً في هذا الحكم. ومن أصحابنا من رتب فقال: إن قلنا يقضي أيام العيد هاهنا أولى، وإن قلنا لا يقضي فهنا قولان. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ قَالَتْ: لِلَّهِ عَلَيَّ أَنْ أَصُومَ أَيَّامَ حَيْضِي فَلاَ يَلْزَمُهَا شَيءٌ؛ لأَنَّهَا نَذَرَتْ نَذْرَ مَعْصِيَةٍ". الفصل جملته أنها إذا نذرت أن تصوم أيام حيضها لم ينعقد نذرها ولا يلزمها شيء بهذا النذر. وقال المزني: "هذا يدل على أنها لا تقضي نذر معصية"، وأراد به أنها إذا نذرت مطلقًا فوافق زمان الحيض، أو زمان العيد لا تقضي على ما اختار من القولين هناك. قال أصحابنا: الفرق أنها لم تقصد هناك غير ما هو معصية بل قصدت القربة والطاعة؛ فإذا وافقت زمان المعصية يلزم القضاء كما في رمضان بخلاف ما إذا قصدت

نذر صوم الحيض بعينه. وحكي أن الربيع لما ذكر هذه المسألة قال: لا ينعقد نذرها ويلزمها كفارة يمين. قال: وفيه قول آخر أنه لا يلزمهم أن يكفر عن نذر المعصية بكفارة يمين وإن لم يكن في هذه المسألة قال أصحابنا: هذا قاله تخريجًا عن نفسه؛ لأن غيره لم يحكه ولا نقضيه أصول الشافعي، وكان الربيع إذا ألزم شيئًا يقول: وفيه قولاً آخر لقصوره عن الانفصال عنه، وإنما بروايته دون تخريجه، وتأويلها: روت عائشة - رضي الله عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا نذر في معصية الله وكفارته كفارة يمين"، أن يحمل على بذل اللجاج الذي يخير فيه بين الوفاء وكفارة اليمين؛ ولأن أصحاب الحديث قالوا: لم يثبت إسناده، واعتماده على سليمان بن أرقم وهو متروك الحديث. [56/ أ] فإن قيل: روى قتادة عن الحسن عن هياج بن عمران البرجمي أن غلامًا لأبيه أبق، فجعل لله عليه لئن قدر عليه ليقطعن يده، فلما قدر عليه بعثني غلى عمران بن الحصين - رضي الله عنه - فسألته فقال: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يحث في خطبته على الصدقة وينهي عن المثلة، فقل لأبيك فليكفر عن يمينه وليتجاوز عن غلامه. وبعثني إلى سمرة - رضي الله عنه - فقال مثل ذلك. قيل: نحمله على الاستحباب بدليل أنه نذر ما لا يمكنه الوفاء به بحال فلا شيء عليه. فرع لو نذرت أن تصوم أيام حيضها صح النذر؛ لأنها جعلت أيام الحيض قدرًا ولم تجعلها زمانًا للصوم. مسألة: قَالَ: "وَإِذَا نَذَرَ الرَّجُلُ صَوْمًا أَوْ صَلاَةً وَلَمْ يَنْوِ عَدَدًا". الفصل جملة هذا أنه إذا نذر صومًا مطلقًا يلزمه صوم يوم واحد؛ لأنه أقل ما وقع عليه الاسم. وقاتل في "الحاوي": لو قيل: يلزمه صيام ثلاثة أيام كان مذهبًا؛ لأنه أقل صوم ورد فيس الشرع نصًا. ولو نذر صلاةً مطلقًا نقل المزني - رحمه الله - أنه يلزمه ركعتان، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد - رحمهما الله تعالى - في روايةٍ، ونقل الربيع يجزئه ركعة، وروي هذا عن أحمد. واتفق أصحابنا - رحمهم الله - على أن في المسألة قولان: أحدهما: يلزمه ركعتان، وقيل: هذا أصح؛ لأن أقل صلاة مقصودة متبوعة في الشرع ركعتان، وهي صلاة الصبح وصلاة الوتر، وغن كانت ركعة فهي تابعة غير مقصودة فلا يعتبر ذلك كما لا يعتبر سجدة واحدة، وإن كانت صلاة شرعية وهي سجدة التلاوة. والثاني: يلزمه ركعة؛ لأنها صلاة كاملة عندنا، ولا يعتبر بالمشروع؛ لأن المشروع

في الصوم صوم شهر رمضان، ويكفيه في النذر صوم يوم واحدٍ. وقيل: هذان [56/ ب] القولان مبنيان على أن النذر المطلق هل ينعقد بواجب الشرع أم لا؟ وفيه قولان. فرع هل يجوز صوم النذر بالنية قبل الزوال؟ ظاهر المذهب أنه لا يجوز، وقيل: فيه وجهان؛ لأنه يسلك بالمنذور مسلك النذر في وجهٍ. ثم قال الشافعي - رضي الله عنه -: "فإن مات قبل أن يقضيه وأوصى أن يقضى عنه ففي الصوم يطعم مكان كل يوم مدًا من طعامٍ، ويتقرب إلى الله عنه في الصلاة بما استطاعوا، ولا يُصَّلى ولا يصام عنه". وذكر بعض مشايخ طبرستان أن التقرب إلى الله تعالى في الصلاة وان يطعم مدا لصلاة يوم وليلةٍ، وغن زاد كان أولى، ولا يجب ذلك بحالًٍ. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ نَذَرَ إِعْتَاقَ رَقَبَةٍ فأَيَّ رَقَبَةٍ أَعْتَقَ أَجْزأََهُ". اختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من أخذ بظاهره أنه يجزئه أيُّ رقبةٍ كانت معيبة أو سليمة، مسلمة او كافرة. ومنهم من قال: لا يجزئه إلا ما يجوز في الكفارة وهي أن تكون مسلمة سليمة. قال الداركي: وهذا هو الصحيح؛ لأن مطلق كلام الناذر يحمل على معهود الشرع، والعتق واجب شرعًا لا يجوز إلا على الوصف الذي ذكرنا. قال الداركي: فإن قيل: هذا يبطل بمن قال: لله على هديٌ يجوز ما يقع عليه الاسم في أحد القولين، قيل: الفرق ان الهدي يجب في الشرع قليله وكثيره من مد طعام إلى أقل منه وأكثر، ويجب في قتل صغار الصيد صغار النعم، والشرع لم يرد بإعتاق رقبة كافرة أو معيبة بحالٍ، فظاهر كلام الشافعي - رضي الله عنه - الأول. واعلم أن هذا العطف مشكل؛ لأنه أجاب في نذر الصلاة بأنه لا يجوز أقل من ركعتين، فاعتبر الشرع فيه، فكان ينبغي أن يقيد نذر العتق بواجب الشرع أيضًا. [57/ أ] ولعل هذا العطف من جهة المزني، فنقل المسألة من موضع آخر وذكر في هذا المكان، ويحتمل أن معناه: فأي رقبة أعتق أجزأه من صغيرة أو كبيرة، أو رفيعة في القيمة أو وضيعة، ولم يرد به الكفر والإسلام والنقائص التي تمنع الإجزاء. وقيل: أصل الوجهين القولان في نذر الهدي مطلقًا هل يحمل على النعم أم لا؟. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ قَالَ رَجُلٌ لآخَرَ: يَمِينِي فِي يَمِينِكَ". الفصل في هذا مسألتان؛ إحداهما: أن يكون صاحبه حلف يمينًا فقال له رجل: يميني في يمينك، فهل ينعقد للثاني يمين؟ ينظر، فإن كان الأول حلف بالله تعالى لم ينعقد للثاني

يمين؛ لأن اليمين بالله تعالى لا تصح إلا بلفظ معظمٍ مفخمٍ. وقوله: "يميني في يمينك" ليس بلفظ معظم، وإن كان حلف بعتق أو طلاقٍ. قال المزني: قلت للشافعي: فإن يميني في يمينك بالطلاق فحلف أعليه شيء؟ فقال: لا يمين إلا على الحالف دون صاحبه. قال أصحابنا: معناه إذا لم ينو، فإذا نوى اليمين بالطلاق فحلف صاحبه لزمه؛ لأن اليمين بالطلاق والعتاق ينعقد بالكناية مع النية كما تنعقد بالصريح، وقد نص الشافعي - رضي الله عنه - على مثل هذا في الإيلاء، فقال: "إذا قال لإحدى نسائه:؛ والله لا أصبتك فقد آلى منها، فإن قال لأخرى: فقد أشركتك معها لم يكن موليًا من الثانية وإن نوى اليمين؛ لأن اليمين بالله تعالى لا تقع بالكناية، ولو قال لإحدى نسائه إن طلقتك فأنت طالق فقد آلى منها، فإن قال لأخرى: فقد أشركتك معها، فإن لم يكن نية لم يكن موليًا من الثانية، وإن كان له نية صار موليًا منهما جميعًا". هكذا ذكر القاضي الطبري. قال بعض أصحابنا: سؤال المزني أن يكون الآخر لم يحلف بعد، وإنما أراد إذا حلف، فإذا قال: يميني في يمينك، يعني إذا حلفت [57/ ب] يلزمني ما يلزمك، لا يتعلق به حلف بالله تعالى، أو بالطلاق نوى أو لم ينو؛ لأن حمل اليمين إنما يصير على يمين موجودة، ويمين الثاني لم توجد بعد، والذي يدل على أن صورة المسألة هكذا أنه لو قال: قلت له، فإن قال يميني في يمينك بالطلاق فحلف، وهذا يقتضي أنه استأنف الحلف بعد هذا القول، فإن كان حلف ذلك الرجل ثم قال: هو هذا، أن ينوي أن ينعقد له وإلا فلا، وهذا أظهر في مسألة الإيلاء وحد الحلف ثم شرك. وقال بعض أصحابنا بخراسان: اختلف أصحابنا فيما نقل المزني - رحمه الله -، فمنهم من غلط فيه، وإذا حلف بالطلاق فقال الآخر: يميني في يمينك، أي أنا معلق طلاق امرأتي كما علقت يصح، وكذلك لو قال ذلك ثم حلف المخاطب بعد. ومنهم من صحح ما نقله المزني وقال: التشريك والكناية في اليمين لا يصح بخلاف التشريك في نفس الطلاق، فلو حنث رجل بالطلاق فقال آخر يميني في يمينك وأراد وقوع الطلاق على امراته تطلق امرأته ويكون كناية في الطلاق، وكذلك لو قال قبل حنث الحالف: يميني في يمينك، أي إذا وجدت الصفة وطلقت امرأتك فامرأتي طالق أيضًا، فهذا تعليق نفس الطلاق بصفة فيصح ذلك، فحصل وجهان إذا لم يكن حنث الأول فقال هذا.

كتاب أدب القضاء

كتاب أدب القضاء الأصل في وجوب القضاء وتنفيذ الحكم بين الناس الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {يَا دَاوُودُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] الآية، وأراد: إنا جعلناك خليفة لنا، وتكون الخلافة بالنبوة. وقيل: أراد خليفة لمن تقدمك فيها، [58/ أ] وتكون الخلافة بالملك. والحكم مأخوذ من الحكمة التي توجب وضع الشيء موضعه، وقيل: مأخوذ من إحكام الشيء ومن حكمه اللجام لما فيه من الإلزام. وقوله: {بِالْحَقِّ} أي بالعدل، وقيل: بالحق الذي لزمك لله تعالى، وقوله: {ولا تَتَّبِعِ الهَوَى} أي الميل مع من تهواه، وقيل: أن تحكم بما تهواه {فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} أي دين الله، وقيل: عن طاعة الله. وقوله: {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} أي بما تركوا العمل ليوم الحساب، وقيل: بما أعرضوا عن يوم الحساب. وقوله تعالى: {ودَاوُدَ وسُلَيْمَانَ إذْ يَحْكُمَانِ فِي الحَرْثِ} [الأنبياء: 78] الآيتين، النفش: رعي الليل، والهمل: رعي النهار، وكان الحكم في أغنام رجل رعت كرم آخر وزرعه، فحكم داود -عليه السلام- بالغنم لصاحب الكرم والزرع، وحكم سليمان -عليه السلام- بأن يدفع الغنم إلى صاحب الكرم لينتفع بدرها ونسلها ويدفع الكرم إلى صاحب الغنم ليعمره حتى يعود إلى حاله، ثم يرد الكرم ويسترجع الغنم، فقال الله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} وكان حكم الله تعالى فيما حكم سليمان، فرجع داود عن حكمه إلى حكم سليمان. فإن قيل: كيف نقض داود -عليه السلام- حكمه باجتهاد سليمان عليه السلام؟ قلنا: داود -عليه السلام- كان قد أفتى بهذا لم يحكم ولم بنفذه، فلذلك رجع عنه، ويجوز أن يكون حكم سليمان من وحي فيكون نصًا يبطل به الاجتهاد. وقال الحسن البصري: لولا هذه الآية لرأيت الحكام قد هلكوا، لكن الله تعالى عذر هذا باجتهاده وأثنى على هذا بصوابه. وأيضًا قوله تعالى: {فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:65] الآية، وهي نزلت في الزبير ورجلٍ من الأنصار وقد شهدا بدرًا، وقيل: إنه حاطب بن أبي بلتعة تخاصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيء شراج من الحرة كانا يسقيان به نخلاً لهما [58/ ب] فقال صلى الله عليه وسلم: "أسق يا زبير ثم أرسل إلى جارك" فغضب الأنصاري

وقال: إن كان ابن عمتك، فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عرف أن قد ساءه، ثم قال: "يازبير احبس الماء إلى الجدر أو إلى الكعبين ثم خل سبيل الماء" فنزلت الآية: {فَلا ورَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ}، أي فيما تنازعوا فيه، وسميت المنازعة مشاجرة لتداخل كلامهما كتداخل الشجر الملتف {ثُمَّ لا يَجِدُوا} أي لا يجدوا في أنفسهم {حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ ويُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، أي تسليمًا لحكمك. وأيضًا قال الله تعالى: {إنَّ اللَّهَ يَامُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]، وأيضًا قوله تعالى: {وأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49]، وقوله تعالى: {إنَّا أنزَلْنَا إلَيْكَ الكِتَابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 105] الآية، وقوله تعالى: {إنَّمَا كَانَ قَوْلَ المُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وأَطَعْنَا} [النور: 51] الآية، وقوله تعالى: {وآتَيْنَاهُ الحِكْمَةَ وفَصْلَ الخِطَابِ} [ص:20]، قال أبو عبد الرحمن: فصل الخطاب: فصل القضاء. وقال شريح: الشهود والأيمان. وقوله تعالى: {مَن يَشَاءُ ومَن يُؤْتَ الحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة: 269]، قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: يعني المعرفة بالقرآن ناسخة ومنسوخة، ومتشابهه ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه وأمثاله. وأما السنة: فما روى بريدة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القضاة ثلاثة؛ قاضيان في النار وقاضٍ يقضي ولا يعلم فأهلك حقوق الناس فذلك في النار، وقاضٍ قضى بالحق فذلك في الجنة". هكذا رواه ابن المنذر. وروى أبو داود عن بريدة -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القضاة ثلاثة؛ واحد [59/ أ] في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق فجار عنه، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار". وفي هذا الخبر دليل على أن كل مجتهد لا يكون مصيبًا، بل الحق في واحدٍ؛ لأنه لو لم يكن هكذا لم يكن للتقسيم معنى على هذا الوجه. وأيضًا روى عمرو بن العاص وأبو هريرة -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى القاضي فأصاب كان له عشرة أجورٍ، وإن أخطأ كان له أجرٌ أو أجران". وروي أن رجلين اختصما إلى عمرو بن العاص -رضي الله عنه- فقضى بينهما، فسخط المقضي عليه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره، فقال: "إذا قضى واجتهد كان له عشرة أجور، وإذا اجتهد فأخطأ كان له أجر أو أجران". واعلم أن المخطئ إنما يؤجر به على اجتهاده في طلب الحق؛ لأن اجتهاده عبادة

ولا يؤجر على الخطأ، بل يوضع عنه الإثم فقط، وهذا إذا كان جامعًا لآلة الاجتهاد، عارفًا بالأصول، عالمًا بوجوه القياس. وأيضًا روى أبو البحتري عن علي -رضي الله عنه- أنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقلت: يا رسول الله، تبعثني وأنا شاب أقضي بينهم ولا أدري ما القضاء؟ قال: فضرب في صدري وقال: "اللهم أهد قلبه، وثبت لسانه"، قال: فو الذي فلق الحبة ما شككت في قضاءٍ بين اثنين. وروي أنه قال: "إن الله مثبت قلبك وهاد لسانك، فإذا حضر الخصمان إليه فلا تقضي لأحدهما حتى تسمع كلام الآخر، فإنه أحرى أن بتبين لك القضاء"، قال: فما أشكلت عليَّ قضية بعدها، وقدم منها على رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع. وروي أنه قال له: "إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك" فما شككت في قضاء بعد. وأيضًا روي أن رسول الله [59/ ب] صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يبعث معاذًا إلى اليمن قال: "كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ " قال: أقضي بكتاب الله -عز وجل، قال: "فإن لم تجد في كتاب الله؟ " قال: بسنة رسول الله. قال: "فإن لم تجد في سنة رسول الله؟ " قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم صدره وقال: "الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يرضي رسول الله". وقوله: "أجتهد رأيي" أراد به الاجتهاد في رد القضية من طريق القياس إلى معنى الكتاب والسنة، ولم يرد به الرأي الذي يخطر بباله من غير أصل من كتاب أو سنة، وفي هذا إثبات القياس، وأنه ليس للحاكم أن يقلد غيره. وقوله: "لا آلو" معناه لا أقصر في الاجتهاد، ولا أترك بلوغ الوسع منه. وروت أم سلمة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنما أن بشر، وإنكم تختصمون إلى، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له ما أسمع منه، فمن قضيت له حق أخيه شيئًا، فإنما أقطع له قطعة من النار". وقوله: "ألحن بحجته": معناه أفطن بها، وألحن مفتوحة الحاء، ولحن الرجل في كلامه لحنًا بسكون الحاء. وروي أن عثمان قال لعبد الله بن عمر -رضي الله عنهم-: اذهب واقض بين الناس، قال: أو تعفيني يا أمير المؤمنين، فإني أعزم عليك، قال: لا تعجل علي، هل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من عاذ بالله - عز وجل- فقد عاذ بمعاذٍ" قال: نعم،

فأني أعوذ بالله أن أكون قاضياً، قال: فما تكره من ذلك وقد كان أبوك يقضى؟ قال: إن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من كان قاضياً فقضى بالجور كان من أهل النار, ومن كان قاضياً فقضى بالجهل كان من أهل النار، وما كان قاضياً فقضى بالعدل فبالحري أن ينفلت كفافاً " فما أرجو منه بعد ذلك. وأيضاً روى أبو أيوب الأنصاري [60/ أ]-رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " الله مع القاسم حين يقسم؛ ومع القاضي حين يقضى". وروى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إذا جلس القاضي للحكم بُعث إليه ملكين يسددانه؛ فإن عدل أقاما؛ وإن جار عرجا وتركاه". وأيضا روى أن النبي صلى الله عليه وسلم استخلف عتاب بن أسيد على مكة بعد الفتح والياً وقاضياً؛ وقال " انههم عن بيع مالم يقبضوا؛ وربح مالم يضمنوا". وروى أنه صلى الله عليه وسلم قلد دحية الكلبي قضاء ناحية. وأيضاً فقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المتنازعين وحكم بين المتشاجرين على ما سنذكره بعد هذا إن شاء الله تعالى. وأما الإجماع؛ فلأنه لا خلاف بين المسلمين فيه. وقد حكم أبو بكر -رضي الله عنه-: بين الناس؛ وبعث أنس بن مالك - رضي الله عنه- إلى البحرين قاضياً. وقال على - رضي الله عنه-: قَدمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر في مرضه لصلاة المسلمين؛ فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم نظرنا فوجدناه أحق بالأمر فرضينا لدنيانا من رضيه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا؛ فبايعت أبا بكر؛ وكان لذلك أهلاً فأقام بين أظهرنا الكلمة واحدة والأمر واحد؛ لا يختلف عليه منا اثنان. وروى الحسن عن على - رضي الله عنهما - قال: لقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أن يصلى بالناس؛ فأنى لشاهد ما أنا بغائبٍ ولا بى من مرض فنرضي لدنيانا من رضي رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا. وحكم عمر- رضي الله عنه - بين الناس؛ وبعث أبا موسى الأشعرى -رضي الله عنه - إلى البصرة قاضياً. وبعث ابن عباس [60/ب]- رضي الله عنه - إلى البصرة قاضياً وناظراً. وأيضاً فالقضاء أمر بالمعروف ونهى عن المنكر؛ وقال الله عز وجل: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَر} الآية [آل عمران:110]. وأيضاً ففي أحكام الاجتهاد ما يكثر فيه الاختلاف ولم تتعين هاتين المختلفتين فيه إلا بالحكم الفاصل والقضاء القاطع.

فإذا تقرر هذا فالقضاء مأخوذ من إحكام الشيء والفراغ منه؛ قال الشاعر يرثى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-: قَضَيتَ أُموراً ثم غادَرْت بعدَها بوائِجَ مِن أكمَامِها لم تُفَتَّقِ أي أحكمت أموراً وأمضيتها؛ وخلقت بعدك دواهي خافية كامنة. وقد يراد بالقضاء إمضاء الحكم؛ ومنه قول الله سبحانه وتعالى: {وقَضَيْنَا إلَى بَنِي إسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ} [الإسراء:4]؛ أي أمضينا وأنهينا. وقيل للحاكم قاض لأنه يمضى الأحكام ويحكمها؛ وسمى حاكماً لمنعه الظالم من الظلم؛ ومن ذلك سميت حكمة اللجام؛ لأنها تمنع الدابة عن ركوبها رأسها؛ وسميت الحكمة حكمة لمنعها الناس من هواهم. فإذا تقرر هذا فاعلم أن القضاء من فرائض الكفايات؛ فإذا قام به من يصح قضاؤه سقط فرضه عن الباقين؛ وإذا تركه الجميع ولم يقم به أحدٌ أثموا بتركه وكانوا تاركين للفرض لقوله صلى الله عليه وسلم:" إن الله لا يقدس امة ليس فيهم من يأخذ للضعيف حقه ". وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لتأمرنَّ بالمعروف أو ليسلطن الله عليكم شراركم". وأيضاً فإن نصب الإمام إذا كان واجباً كان نصب القاضي واجباً ولا فرق بينهما؛ لأنه من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ ذلك فرض على الكفاية بالإجماع فكذلك [61/ أ] القضاء. فإن قيل: هذا الذي قلتموه مخالف للسنة؛ لأن أبا هريرة - رضي الله عنه - روى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ولى القضاء فقد ذبح بغير سكين " وهذا يحتمل معنيين. أحدهما: أن الذبح في العادة بالسكين فعدل به عن سنن العادة ليعلم أنه كان منه هلاك دينه دون هلاك بدنه. والثاني: أن الذبح الموحى الذي فيه إراحة لذبيحة وخلاصها من طول الألم إنما يكون بالسكين؛ لأنه يمور في حلق المذبوح فيجهز عليه؛ وإذا ذبح بغير السكين كان ذبحه خنقاً وتعذيباً؛ فضرب به المثل ليكون أبلغ في الحذر من الوقوع فيه. وروى عن على -رضي الله عنه - أنه خطب بذي قارٍ وعليه عمامة سوداء؛ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ما من قاضٍ ولا والٍ إلا يؤتى به يوم القيامة فيوقف على الصراط فينشر له شبرة؛ فإن كان عادلاً نجاه الله بعدله؛ وإن كان غير ذلك انتفض الصراط به انتفاضه فصار ما بين كل عضو من أعضائه مسيرة مائة عام؛ فلا يلقى جهنم.

إلا بحر وجهه وجبينه " وروى عن عائشة -رضي الله عنها - أنها قالت:" ويل للأمراء؛ ويل للأمناء؛ ليأتين على أحدهم يوم يود لو كان معلقاً بالثريا يتذبذب بين السماء والأرض وإنه لم يلِ أحداً ". وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبى ذر: " يا أبا ذر أحب لك ما أحب لنفسي؛ إني أراك ضعيفاً؛ فلا تأمرن على اثنين ولا تولين مال اليتيم ". وروى ابن أبى أوفي - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "الله مع القاضي ما لم يجر؛ فإذا جار برئ الله منه ولزمه الشيطان". وروى أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من ابتغى القضاء وسأل [61/ب] عنه الشفعاء وكل إلى نفسه؛ ومن أكره عليه أنزل الله -عز وجل - ملكاً يسدده ". وحكي أن أبا هريرة -رضي الله عنه - أراد محمد بن واسع على القضاء؛ فقال: لتخليني أو لأضربنك ثلاثمائة سوط إن تفعل فسلط؛ وذليل الدنيا خير من ذليل الآخرة. وقال مكحول: لو خيرت بين القضاء والقتل لاخترت القتل. وروى أن سفيان الثوري لقي شريك بن عبد الله - رحمة الله عليهما - بعد ما ولى القضاء بالكوفة؛ فقال: يا أبا عبد الله؛ بعد الإسلام والفقه والخير تلي القضاء وصرت قاضياً؟ فقال له شريك: يا أبا عبد الله؛ لابد للناس من قاض؛ فقال له سفيان يا أبا عبد الله؛ لابد للناس من شرطي. قلنا: أما الأول فلم يرد به تحريم القضاء ولا كراهية فعله؛ وإنما أراد به أن من جعل قاضياً فقد حمل أمراً عظيماً؛ وتحمل المشقة كما يتحمل الذبح؛ فإن جار فيه هلك؛ وإن عدل فاز بالثواب العظيم والأجر الجسيم ويدل عليه ما ذكرنا من الأخبار والآثار. وقال صلى الله عليه وسلم في خطبته: " أصحاب الجنة ثلاثة؛ ذو سلطان مقسط موفق؛ ورجل رحيم رقيق القلب؛ ورجل ضعيف فقير متصدق".

وروى عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المقسطون عند الله يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين؛ وهم الذين يعدلون في حكمهم وأهلهم وما ولوا" وروى عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا حسد إلا في اثنتين؛ رجل آتاه الله مالاً فسلطه عليه في الخير، ورجل آتاه الله حكمة فهو يقضى بها ويعلمها ". [62/ أ] وروى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنةٌ؛ وحدٌ يقام في الأرض أذكى من مطر أربعين يوما " وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله؛ إمام عادل ..... " الخبر؛ فبدأ بذكر الإمام العادل. وقال مسروق: لأن أقضى بعدل أو حق أحب إلىَّ من أغزو في سبيل الله سنةٌ. قال الحسن البصري: كان يقال: لأجر حاكم يوماً أفضل من أجر رجلٍ يصلى في بيته سبعين سنةٌ. وقال عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه -:لأن أجلس فأقضى بين اثنين بحقٍ أحب إلىَّ من عبادة سبعين سنةٌ. وروى عن عمر - رضي الله عنه - انه كتب في كتابه إلى أبى موسى الأشعري - رضي الله عنه: أن القضاء في مواطن الحق مما يوجب الله به الأجر ويحسن به الذكر؛ فمن خلصت نيته في الحق ولو على نفسه كفاه الله ما بينه وما بين الناس؛ ومن تزين بما ليس في نفسه شانه الله؛ فإن الله تعالى لا يقبل من العباد إلا ما كان له خالصاً. فدل هذا على إن القضاء أفضل العبادات وأقرب القرب إلى الله تعالى إذا عرف من نفسه القيام به وأداء حقوقه. والأخبار الواردة في ذم من رغب فيه محمولة على من يشق عليه القيام به ويخاف أن لا يسلم فيه. وقال أبو قلابة: ما وجدت مثل القاضي العالم الأمثل السابح وقع في بحرٍ كم عسى يسبح حتى يغرق. وقال القاضي [62/ب] الطبري: وحدثني بعض شيوخنا ببغداد أن أباه استصحبه في بعض أشغاله في باب الشام؛ فأراني دوراً مختومة فقال: هذه دور أبى (علي) بن خيران.

طلبه الوزير بن الفرات ليوليه القضاء وقد هرب منه فختم داره؛ فقال لي: أحفظ هذا حتى تحكيه. فإذا تقرر هذا فالناس في القضاء على أربعة اضرب؛ ضرب يجب عليه أن يتولى القضاء؛ وضرب يستحب له ولا يجب عليه؛ وضرب يستحب له تركه ولا يستحب له فعله؛ وضرب يحرم عليه فعله والدخول فيه. فأما من يجب عليه فرجل يكون من أهل الفقه والأمانة ولا يوجد في بلده من يصلح للقضاء غيره من أهله؛ فإنه يتعين عليه فرضه؛ لأن الفرض على الكفاية إذا لم يكن من يقوم به غيره أحد يتعين عليه كما نقول في الفتوى؛ وغسل الموتى والصلاة عليه ودفنهم ونحو ذلك. ويجب على الإمام أن يعرضه عليه ويدعوه إلى الدخول فيه؛ فإن امتنع لم يحل له؛ وكان الإمام إجباره عليه. ومن أصحابنا من قال: ليس له إجباره عليه لقول صلى الله عليه وسلم: "إن لا نجبر على القضاء أحداً"؛ ولأنه من فروض الكفايات فإذا أجبرناه عليه جعلناه من فرائض الأعيان؛ وهذا ضعيف لا وجه له؛ والخبر محمول على ما لو كان هناك نص وفرائض الكفايات قد تتعين على ما ذكرنا؛ ولأنه إذا ألزمه فلا يحل له تركه ويجوز إجباره على فعل الفرض الذي يتعلق بحقوق المسلمين؛ ولأن من اضطر إلى طعامه وهو لا يحتاج إليه [63/ أ] أجبر على بذله؛ فإذا اضطر إلى منفعته أجبر على بذلها ولا فرق بينهما. فرع إذا تعين عليه ما ذكرنا يجب عليه أن يمضى للإمام ويعرض نفسه عليه لأنه بمنزلة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إذا تعين عليه؛ فإن لم يفعل ذلك عصى وأثم. وقال في " الحاوي": لا يتعين طلب القضاء؛ لأن فرض التقليد على المولّى دون المولى. فرع آخر لو كان هناك جماعة بهذه الصفة وجب عليهم على طريق الكفاية؛ حتى يقوم به أحدهم فيسقط فرضه عن جماعتهم؛ فإن عرض الإمام القضاء على واحدٍ منهم هل يجبره على قبوله إذا امتنع؟ ينظر فإن امتنع لعذرٍ لم يجبره؛ وإن امتنع لغير عذرٍ هل يجبره عليه؟ وجهان أحدهما: لا يجبره؛ لأنها نيابة كالوكالة؛ ولأنه إذا وجد غيره لم يتعين عليه فلا يجبره عليه. والثاني: يجبره؛ لأنه دعاه إلى واجبٍ رأى تعيينه فيه؛ ولأنه مأمور بطاعته؛ فإن تركه على امتناعه يجوز أن تكون حال غيره مثل حاله فيقضى الأمر إذاً تعطيل القضاء بخلاف الوكالة.

فرع آخر لو استوى جماعه في شروط القضاء وفيهم طالبٌ وممسك فالأولى أن يقلد الممسك دون الطالب؛ لأنه أرغب في السلامة, فإن عدل الإمام عن الممسك إلى الطالب جاز وصح تقليده. فرع آخر إذا تكاملت الشروط في جماعةٍ فالأولى بالإمام أن يقلد أفضلهم؛ فإن عدل إلى المفضول انعقدت ولايته. فرع آخر لو تكاملت شروط الإمامة في جماعةٍ وجب على أهل الاختيار أن يقلدوا أفضلهم؛ فإن عدلوا إلى المفضول؛ قال جمهور العملاء: يجوز كما قلنا في القضاء. وذهب بعض الفقهاء إلى أنه لا يجوز؛ والفرق أن القضاء نيابة خاصة فجاز أن يعمل على اختيار المستنيب؛ والإمامة ولاية عامة فلم يصح فيها تفريط أهل الاختيار لافتياتهم على غيرهم. فرع آخر [63/ ب] إذا تكاملت في واحدٍ دون غيره لا يصير بتفرده في عصره والياً يوَلّى ولو تكاملت شروط الإمامة في واحد منفرد بشروطها قال أكثر الفقهاء: لا تنعقد إمامته إلا بعقد أهل الاختيار كولاية القضاء. وقال فقهاء العراق وبعض المتكلمين: تنعقد إمامته من غير عقدٍ؛ لأن عقد أهل الاختيار إنما يراد لتمييز المستحق؛ فإذا تميز بصفته استغنى عن عقدهم ويفارق القضاء؛ لأنه نيابة خاصة يجوز صرفه عنها مع بقائه على صفته فافتقرت إلى عاقدٍ؛ والإمامة ولاية عامة لا يجوز أن يصرف عنها مع بقائه على صفته فلم تفتقر إلى عاقدٍ. ومن الفقهاء من سوى بين الإمامة والقضاء، وجعل ولاية القضاء فيمن تفرد بشروطه منعقدة من غير عاقد كالإمامة وهذا أدب، والأصح التسوية بينهما في البطلان؛ لأن الولايات عقود فافتقرت إلى عاقد. وأما الضرب الثاني من يستحب له ولا يجب عليه: فرجل من أهل العفة والأمانة والاجتهاد؛ وفي البلد مثله جماعة إلا أنه فقير لا كفايه له؛ فيتولى القضاء ليأخذ الرزق. وكذلك إذا كان له كفاية ولكنه خامل الذكر لا يعرف؛ فيريد القضاء ليعرف فينفع بعلمه فيستحب له طلبه والدخول فيه. فإن قيل: أليس قال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سمرة: "لا تسأل الإمارة؛ فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها؛ وإن أعطيتها من غير مسألة أعنت عليها".

وروى أبو موسى الأشعري - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " لا أستعمل - أو لا يُستعمل - على عملنا من أراده". قيل: قال الفقهاء: الأولى أن يطلب ذلك ولا يتعرض له حتى يُساق إليه من غير طلبه لهذا الخبر؛ ويستحب له أن يجيب إليه إذا كان مطلوباً؛ وهذا لأن الطلب تكلف والإجابة معونة. وقال [64/ أ] بعض أصحابنا: يكره له الطلب بكل حالٍ؛ ولكن تستحب له الإجابة إذا كان مطلوباً ذكره في " الحاوي". وقال القاضي الطبري: تأويل الخبر عندي إذا أسرع الطلب من غير أن يقف الإمام على حاله؛ فهذا يكره حتى يستبحث الإمام عمن يستحقه ويصلح ويوليه؛ ولا يفوت عليه رأيه بالإطماع في الطلب هذا المنع على هذا الوجه؛ فأما إذا علم الإمام حاله ورآه موضعاً للقضاء يكره له طلبه؛ بل يستحب له على ما ذكرته والله أعلم. وهكذا إذا كانت الحقوق مُضاعة لجور أو عجزٍ والأحكام فاسدةٌ بجهلٍ أو هوى؛ فقصد بطلبه حفظ الحقوق وحراسة الأحكام؛ يستحب له طلبه ولا شك في هذا؛ لأنه يقصد أمراً بمعروفٍ ونهياً عن منكر؛ ويستحق به الأجر من الله تعالى. قال أصحابنا: وقد أخبر الله تعالى عن يوسف - عليه الصلاة والسلام- إنه طلب فقال: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف:55]؛ إنما طلب على المعنى الذي ذكرنا شفقة على المسلمين لا منفعة للمسلمين. وأما الضرب الثالث الذي لا يستحب له فعله ويستحب له تركه: فهو أن يكون رجلاً من أهل العفة والأمانة تقياً معروفاً بالعلم؛ يرجع إليه في الفتوى؛ فالأولى له الاشتغال بتعليم العلم والفتيا؛ ويترك طلب القضاء لما فيه من الضرر والخطر؛ وعلى هذا يحمل امتناع من امتنع من تقلد القضاء من الصحابة والتابعين؛ وقد قال تعالى: {إنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ والأَرْضِ والْجِبَالِ} الآية [الأحزاب:73]. وأما اضرب الرابع الذي يحرم عليه القضاء: فهو أن يكون جاهلاً بالحكم أو فاسقاً؛ فلا يحل لهما أن يتوليا القضاء؛ وإن ولاهما لا تصح أحكامهما ولا تنفذ قضايهما. وقال في " الحاوي": والطلبة خمسة؛ مستحب؛ ومحظور؛ ومباح؛ ومكروه؛ ومختلف فيه: فأما المستحب: [64/ب] فأن تكون الحقوق مضاعة على ما ذكرنا. وأما المحظور: فأن يقصد بطلبه انتقاماً من أعدائه أو تكسباً بارتشاء فيأثم به.

وأما المباح: فأن يطلب لاستمداد رزقه أو لاستدفاع الضرر به فهو مباح؛ لأن المقصود به مباحٌ. وأما المكروه: فأن يطلب المباهاة والاستعلاء؛ قال الله تعالى: {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًا فِي الأَرْضِ} الآية [القصص:83]. وأما المختلف فيه: فأن يطلب رغبة في الولاية. والنظر فيه ثلاثة أوجهٍ للسلف ولأصحابنا: أحدهما: يكره أن يكون طالباً ويكره أن يجيب إليه مطلوباً؛ وهو ظاهر قول ابن عمر- رضي الله عنهما- ومكحول وأبى قلابة ومن يخشى من الفقهاء؛ وطلب السلامة لما ذكرنا من أخبار النهى. والثاني: يستحب أن يكون طالباً وأن يجيب إليه إذا كان مطلوباً؛ وهو ظاهر قول عمر - رضي الله عنه - والحسن؛ ومسروق ومن يُساهل من الفقهاء وقال: إن التعاون على البر والتقوى لما روى أبو هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من طلب القضاء حتى يُنال؛ فإن غلب عدله جوره فله الجنة؛ وإن غلب جوره عدله فله النار"؛ ولأنه فرض لا يؤدى بالتعاون؛ والله تعالى يقول: {وتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ والتَّقْوَى} الآية [المائدة: 2]. والثالث: وهو أعدلها يكره أن يكون طالباً ويستحب أن يجيب إليه مطلوباً؛ وهو قول أكثر المتوسطين في الأمور من الفقهاء؛ وهذا كله حسن. فرع آخر لو بذلك على طلب القضاء مالاً؛ فإن كان واجباً متعيناً عليه أو مستحباً له ليزيل جور غيره فبذله على هذا الطلب مستحب له؛ وقبوله على القابل له. وإن كان طلبه محظوراً فبذله على هذا الطلب محظور؛ وإن كان طلبه مكروهاً فبذله على هذا الطلب مكروه فيخلف الحكم بحال الطلب لامتزاجهما، فقبوله اشد محظوراً وتحريماً. [65/ أ] وإن كان طلبه مُباحاً فيعتبر البذل؛ فإن كان بعد التقليد لم يحرم على الباذل وحرم على القابل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم:" هدايا الأمراء غلول ". وإن كان البذل قبل التقليد حرم على الباذل والقابل جميعاً؛ لأنها من الرشي المحظورة على باذلها وقابلها لرواية أنس - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله الراشى والرائش والمرتشي". فالراشي: باذل الرشوة؛ والمرتشى: قابلها؛ والرائش: المتوسط بينهما. وقال عبد الله بن عمرو:

"لعن رسول الله الراشى والمرتشى". وإنما تلحقهم العقوبة معاً إذا استووا في القصد؛ وهو أن يرتشوا لينال به باطلاً ويتوصل به إلى ظلمٍ؛ فأما إذا أعطى ليتوصل به إلى حق أو يرفع عن نفسه ظلماً؛ فإنه غير داخل في الوعيد. وقد روى ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه أخذ في شيء وهو بأرض الحبشة؛ فأعطى دينارين حتى خلى سبيله. وقال الحسن البصري؛ وجابر بن زيد وعطاء: لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه وماله إذا خاف الظلم. فرع آخر إذا حرمنا عليه بذل المال فبذل وقلده؛ فإن قال: قلدتك بهذا المال لا يصح التقليد؛ وإن قال: قلدتك القضاء مطلقاً فالتقليد صحيح؛ وإن تقدم بسببٍ هو معصية كالبيع إذا تقدمه شرط فاسد؛ وقيل: لا يصح التقليد؛ لأنه صار به فاسقاً فلا ينفذ حكمه حتى يتوب ثم يولى. فرع آخر يجب على الإمام تقليد القضاء؛ وهو فرض متعين عليه لدخوله في عموم ولايته؛ ولأن التقليد لا يصح إلا من جهته؛ ولا يجوز أن يتوقف حتى يسأله؛ لأنه من الحقوق المسترعاة. فرع آخر القاضي في إقليم من الأقاليم إذا عجز عن النظر في جميع النواحي يلزمه تقليد القضاء فيما عجز عن مباشرة النظر فيه؛ فإن بعد عن الإمام تعين [65/ب] فرض التقليد على القاضي؛ وإن قرب منه كان فرض التقليد مشتركاً بين القاضي وبين الإمام ويتعين عليهما دون غيرهما؛ فأيهما تفرد بالتقليد سقط فرضه عنهما؛ فإن تفرد القاضي فيه بالتقليد كان فيه على عموم ولايته؛ وإن تفرد الإمام بالتقليد كان عزلاً للقاضي عنه؛ إلا أن يصرح في التقليد باستنابته عنه فيكون باقياً على ولايته. فرع آخر يجوز للإمام أن يعزل من قلده القاضي؛ ولا يجوز للقاضي أن يعزل من قلده الإمام إلا أن يكون مستناباً عنه؛ ففي جواز تفرد القاضي بعزله وجهان: أحدهما: يجوز كما لو كان هو المستنيب. والثاني: لا يجوز لا فتياته على الإمام في

اختياره. ذكره في "الحاوي". فرع آخر لو خلا بلد عن قاض فقلد أهل البلد قاضياً بينهم كان باطلاً إن كان في العصر إمام لافتياتهم عليه فيما هو أحق به؛ ولم يجز أن ينظر بينهم ملزماً؛ فإن نظر بطلت أحاكمه وصار بها مجروحاً؛ ويجوز أن ينظر بينهم متوسطاً مع التراضي؛ والأولى أن يعتزل عن الوسطة بينهم لئلا يشتبه بذوي الولايات الصحيحة ولما تقدم من التقليد. وإن خلا العصر من إمامٍ؛ فإن كان يرجى أن يتجدد لإمامٍ نظر في زمانٍ قريب كان تقليد القاضي باطلاً؛ وإن لم يرج فإن أمكنهم أن يتحاكموا إلى قاضى أقرب البلاد إليهم كان تقليدهم للقاضي باطلاً؛ إن لم يمكنهم التحاكم إلى غيره نُظر؛ فإن لم يمكنهم أن ينصروه على تنفيذ أحكامه كان باطلاً أيضاً لقصورهم عن قوة الولاه؛ وإن أمكنهم نصره وتقوية يده كان تقليدهم جائزاً حتى لا يتغالبوا على الحقوق إذا اجتمع على تقليده جميع أهل الاختيار منهم. فرع آخر لا يعتبر [66/ أ] في تقليد الإمام اجتماع أهل الاختيار كلهم بخلاف القضاء في المسألة التي ذكرناها؛ والفرق أن ولاية الإمام عامة في جميع البلاد التي لا يمكن اجتماع أهلها على الاختيار سقط اعتبار اجتماعهم لتعذره؛ وولاية القاضي خاصة على بلدٍ واحدٍ يمكن اجتماع أهل الاختيار عليه؛ فلزم اعتبار اجتماعهم لإمكانه. فرع آخر لو قلده القضاء بعض أهل الاختيار منهم نظر في باقيهم؛ فإن ظهر منهم الرضا بالسكوت وعدم الاختلاف صح التقليد؛ وصار بالرضا كالمجتمعين عليه؛ لأنه يمكن يباشر جميعهم وإن ظهر منهم الإنكار بطل التقليد لعدم شرطه في الإجماع. فرع آخر لو كان للبلد جانبان فرض بتقليد أحد الجانبين دون الآخر صح تقليده في الجانب المرتضى فيه دون الجانب الآخر؛ لأن تميز الجانبين كتميز البلدين. فرع آخر إذا صحت ولايته في هذه المسألة نفذت أحكامه طوعاً وقصراً لانعقاد ولايته؛ فإن تجدد بعده إمامٌ لم ينقض له حكماً نفذ على الصحة وله عزله وإقراره؛ ولم يجز للقاضي أن يستأنف النظر إليه بعد إذنه؛ ولو كان تقليده عن إمام لم يلزمه الاستئذان؛ والفرق وجود الضرورة في تقليد أهل الاختيار وعدم الضرورة في تقليد الإمام.

فرع آخر هذا القاضي في هذه المسألة يكتفي بإذن الإمام عن تجديد تقليد ويقوم الإذن له مقام التقليد، وإن لم يجز الاقتصار علي الإذن في الولايات المستحدثة؛ لأنه تقدم لهذا القاضي شروط التقليد، فكلن حكمه أخف، ذكره في "الحاوي". فرع آخر قال الشافعي-رضي الله- عنه في"أدب القضاء": "ولو أن القاضي والقاسم والكاتب للقاضي وصاحب الديوان [66/ب] وصاحب بيت المال والمأذونين لم يأخذوا جعلاً وعملوا محتسبين كان أحبَّ إليَّ، وإن أخذوا جعلاً لم يحرم عليهم عندي، وبعضهم بالجعل من بعضٍ، وما منهم من أحدٍ كان أحبَّ إليَّ الجعل من المؤذن". ثم قال: "ولا بأس أ، يأخذ الجعل علي أن يكبل للناس ويزن لهم ويعلمهم القرآن والنحو، وما يتأدبوا به من الشعر مما ليس فيه مكروه". قال أصحابنا: إنما استحب الشافعي ترك الجعل لمن له كفاية يرجع إليها ويكتفي بها؛ لأن من الناس من قال: لا يجوز ذلك، فاستحب الخروج من الخلاف. فأما من له كفاية يرجع إليها فالمستحب أن لا يأخذ الرزق وبرر علي ما يحتاج إليه فيما يلتبس به في أمر القضاء والحكم، إلا أن أبا بكر الصديق- رضي الله عنه- أخذ في كل يوم درهمين من بيت المال، وروي أنه لما ولي الخلافة خرج برزمةٍ إلي السوق، فقيل له: ما هذا؟ فقال: أنا كاسب أهلي، فاجتمعت الصحابة وقدَّروا له درهمين في كل يوم. وروي عن عمر- رضي الله عنه- أنه قال: أنزلت نفسي من هذا المال منزلة وإلي اليتيم، ومن كان غنياً فليستعفف، ومن كان فقيراً فليأخذ بالمعروف. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من استعملناه منكم علي عملٍ ممن لم يكن له امرأة فليتزوج امرأة، ومن لم يكنن له خادم فليتخذ خادماً، ومن لم يكنن له مسكن فليتخذ مسكناً". وروي عن عمر- رضي الله عنه- أنه بعث إلي الكوفة ثلاثة نفر؛ عبد الله بن مسعود قاضياً، وعمار بن ياسر أميراً، وعثمان بن حنيف ماسحاً، وجعل لهم كل يوم شاةً، نصفها مع السواقط لعمارٍ، والنصف الآخر بين عبدا لله بن مسعود وبين عثمان بن حنيف وروي عن عمر- رضي الله عنه- أنه رزق شريحاً [67/ أ] كل شهر مائة درهم، فلما أفضت الخلافة إلي علي - رضي الله عنه- جعل رزقه كل سنةٍ خمسمائة درهم. وروي أن عمر بن عبد العزيز بعث يزيد بنأبي مالكٍ، والحارث بن محمد في أمرٍ

من أمور المسلمين وفرض لهم رزقاً، فقبل يزيد أبي مالك ولم يقبل الحارث، فقال عمر بن عبد العزيز ما نعلم بما فعل يزيد بأساً، وأكثر الله فينا مثل الحارث. وأيضاً فإن الله تعالي فرض للعاملين علي الصدقات سهماً وجعل لهم حقاً لسعيهم فيها وقيامهم ها، فالقاضي بذلك أولي، ولأن خمس الخمس لمصالح المسلمين وهذا من أهم المصالح أو مثل أهمها فوجب أن ينصرف إليه. فإن قيل: أليس وروي عن عمر- رضي الله عنه- أنه قال: لا ينبغي لقاضي المسلمين أن يأخذ علي القضاء أجراً؟ قلنا: أراد به إذا كان مستغنياً عنه فالأولي له ذلك، أو أراد به أخذ ذلك من غير بيت المال. ومن أصحابنا من قال: إذا كان له كفاية يكره له أخذ الرزق عليه وإذا لم يتعين عليه فرض القضاء، فإن تعين عليه فرضه وكان مكفياً لم يجز له أخذ الرزق من بيت المال، لأنه فرض متعين عليه، ولا يجوز أنن يأخذ في مقابلته عوضاً. وإن كان فقيراً وإذا اشتغل بالقضاء بطل كسبه وجب أن يرزق؛ لأنه تضييع حق نفسه بمراعاة حق غيره. فرع آخر قد ذكرنا أنه يجب علي الإمام أن يبعث القضاة إلي البلدان، ولا يكلفون السير في خصوماتهم إلي بلد الإمام لما ذكرنا أنه صلى الله عليه وسلم بعث القضاة إلي البلاد، ولا بد من أن يكون الإمام عالماً بتكامل شروط القضاء في المولي ليقع العقد صحيحاً بعد معرفته به، فإن كان رجلاً قد عرفه علي معرفته وعلمه لا يحتاج إلي السؤال والبحث عنه وعن حاله، وإن لم كن عرف حاله يجمع بينه وبين أهل العلم [67/ب] حتى يقف علي مقدار علمه، ثم يسأل عنه من يعرفه من جيرانه والمختلطين به، فإذا ثبت عدالته وعلمه ولاه القضاء. وقال الإصطخري: يحضر عنده الموافقين والمخالفين، وبأمرهم بالمناظرة بين يديه حتى يعرف من أهل الاجتهاد، فإذا عرفه سأل عنه في الباطن، ثم ولاه بعد ذلك، وهذا قريب كما ذكرنا. فرع آخر إذا استفاض الخبر بحاله كانت الاستفاضة أكد من الشهادة ولا يحتاج معها إلي الأخبار، وإن لم يستفيض به الخبر جاز أن يقتصر منها علي شهادة عدليين بتكامل شروط القضاء فيه، ويختبره ليتحقق باختياره صحة معرفته، وهذا الاختبار بعد شهادة عدليين هل يكون واجباً أو مستحباً؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه استحباب يستظهر به، لأن صحة الشهادة يوجب العمل بها. والثاني: أنه واجب لجواز أن يطرأ عليه نسيان أو اختلال. فإن لما يشهد بتكامل صفاته شاهدان لزم اختباره قبل تقليده علي ما ذكرناه، وهذا لأن

النبي صلى الله عليه وسلم اختبر معاذ- رضي الله عنه- حين قلده قضاء اليمن، ولم يختبر عليَّا- رضي الله عنه- عند تقليه؛ لأنه أخبر منه بمعاد- رضي الله عنهما. فرع آخر إذا قلده وهو لا يعلم تكامل الشروط فيه قم علمها كان التقليد باطلا حتى يستأنفه بعد العلم بتكاملها لوقوع التقليد مع الشك فيه. فرع آخر صفة العقد معتبٌر باللفظ مع الحضور، وبالمكاتبة مع الغيبة للضرورة، ولا يجوز أن يقتصر علي المكاتبة مع مع الحضور لارتفاع الضرورة. فرع آخر لفظ العقد يشتمل علي صريح وكناية ومختلف فيه، فالصريح أربعة ألفاظٍ، قلدتك القضاء، ووليتك القضاء، واستخلفك علي القضاء، أو استنبتك علي القضاء. [68/أ] وأما الكناية فأربعة ألفاظ؛ قد اعتمدت عليك في القضاء، أو عولت عليك، أو عهدت إليك بالقضاء، أو وكلت إليك القضاء، فلا ينعقد لاحتمالها مال يقترن بها ما يزول به الاحتمال، بأن يقول: فالحكم، أو يقول: فانظر فتكون الكناية كالصريح. فأما المختلف فيه فأربعة ألفاظٍ؛ قد فوضت إليك القضاء، أو رددت إليك القضاء، أو أسندت إليك القضاء وفيهما وجهان؛ أحدهما: أنه صريح في التقليد. والثاني: أنها كناية وهو الأصح. فرع آخر يفتقر عقد التقليد إلي شيئين؛ أحدهما: ذكر البلد الذي تقلده. والثاني: صفة الحكم منن عموم وخصوص، فإن أطلق كان علي العموم في المنازعات وعلي الخصوص في الولايات. فرع آخر تمام العقد معتبر بقبول المولي، فإن كان حاضراً كان قبوله بالقول علي الفور، فيقول: قد قبلت، أو تقلدت، وإن كان غائباً جاز أن يكون قبوله علي التراخي. فرع آخر صحة القبول تفتقر إلي شرطين: أحدهما: أن يعلم المولي أن المولي مستحق للولاية التي استنابه فيها، فإن لم يعلم لا يصح قبوله. والثاني: أن يعلم المولي من نفسه أنه مستكمل للشروط المعتبرة في القضاء، فإن علم خلافه لم يصح قبوله، وكان بالقبول مجروحاً.

فرع آخر لو شرع في النظر قبل القبول، فليكون شروعه فيه قبولاً؟ وجهان: أحدهما: يكون قبولاً فتنقذ أحكامه. والثاني: لا يكون قبولاً حتى يصرح بالقبول نطقاً وتكون أحكامه مردودة قبله، وهذا لأن الشروع في النظر فرع لعقد الولاية فلم ينعقد به قبولها. فرع آخر إذا ولاه القضاء [68/ب] علي البلد كتب له بالعهد بما ولي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كتب العهد لعمرو بن حزم حين بعثه إلي اليمن، وكتب أبو بكر الصديق لأنس- رضي الله عنهما- العهد إلي البحرين وختمه بخاتم الرسول النبي صلى الله عليه وسلم. وروي جابر بن مضرب أن عمر- رضي الله عنه- كتب إلي أهل الكوفة: أما بعد فإني بعثت إياكم عماراً أميراً، وعبد الله بن مسعود قاضياً ووزيراً فاسمعوا لهما وأطيعوا فقد لآثرتكم يهما. ولا يشترط كتب العهد في صحة التقليد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكتب العهد لمعاد بن جبل - رضي الله عنه - فاقتصر علي وصيته، وإنما يراد العهد ليكون شاهداً بما تضمنه من صفات التقليد وشروطه. فرع آخر إذا كتب العهد يأمره بتقوى الله تعالي، والتثبيت في القضاء، ومشاورة أهل العلم، وصفح أحوال الشهود وتأمل الشهادات، وتعاهد اليتامى وحفظ أموالهم، ومراعاة الأوقاف وغير ذلك مما يحتاج إلي مراعاته. وقد روي عن إدريس الآوي أنه قال: أخرج إلينا سعد بن أبي بردة كتاباً، فقال: هذا كتاب عمر بن الخطاب إلي أبي موسي: أما بعد، فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، الفهم الفهم، إذا آوى إليك أمر بين الناس ووجهك ومجلسك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا يخاف ضعيف من جورك، البينة علي من ادعي واليمن علي من أنكر، والصلح جائز بين الناس إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً، لا يمنعك من قضاء قضيته بالأمس أن تراجع الحق، فإن الحق قديم لا يبطل الحق شيء، ومراجعة الحق خير من التمادي في لباطل، الفهم فيما يختلج في صدرك ما لم يبلغك من القرآن، فتعرف الأمثال في الأشباه، ثم قس [69/ أ] الأمور عند ذلك واعتمد إلي أحبها إلي الله تعالي وأشبها، فما تري اجعل للمدعي أمداً ينتهي إليه، فإن أحضر بينة وإلا وجهت عليه القضاء، فإن ذلك أجلي للعمى وأبلغ في العذر، والمسلمون عدول بعضهم علي بعض إلا مجلوداً في حدٍ، أو مجرباً بشهادة الزور، أو ظنيناً في ولاء أو قرابة، فإن الله تولي منكم السرائر ودرأ عنكم الشبهات. ثم إياك والضجر والقلق والتأذي بالناس، والتنكر بالخصوم في مواطن الحق التي يوجب الله بها الأجر

ويكسب بها الذخر، وأنه من يصلح سريرته فيما بينه وبين ربه أصلح الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين للناس بما يعلم الله منه غير ذلك يشنه الله فما ظنك بثواب الله تعالي في عاجل الدنيا وخزائن رحمته والسلام. فرع آخر إذا كتب له العهد نظر، فإن كان البلد الذي ولاه إياه بعيداً لا يستفيض إليه الخبر بما يكون في الأمام، أحضر شاهدين عدلين وقرأ العهد أو قرأه غيره بحضرته، وأشهدهما علي توليته ليمضيا معه إلي بلد ولايته يقيما له الشهادة عند أهله ويقول لهما: أشهد عليَّ أن قد وليت قضاء البلد الفلاني وتقدمت إليه ما يشتمل العهد عليه، وإن كان البلد قريباً من بلد الإمام كوسط من بغداد والكوفة منها ونحو ذلك، فهل تثبت ولايته عند أهل البلد باستفاضة الخبر دون الشهادة؟ وجهان: أحدهما: وهو اختيار الإصطخري يثبت بذلك؛ لأنها أوكد من شهادة شاهدين. والثاني: لا يثبت بذلك وهو اختيار أبي إسحاق؛ لأن الشهادة أخص، ولأنه عقد لا يقبل فيه الاستفاضة كالإجارة والوكالة. وقيل: أصل هذا الاختلاف في النكاح والوقف والعتق هل يثبت بالاستفاضة فيه وجهان؛ فإذا ثبت [69/ب] بالاستفاضة يلزم الرعايا الانقياد له والطاعة، وإذا قلنا لا يثبت بها لا يلزمهم الطاعة. فرع آخر إذا قرظا الإمام العهد علي الشاهدين بنفسه لا يحتاج الشاهد إلي أن ينظر في الكتاب، فإن الإمام قد ثبتت أمانته، وإن قرأ غيره بحضرته نظر الشاهدان فيه ليعلما أن الأمر علي ما قرأه القارئ من غير زيادة ولا نقصان. فرع آخر إذا شهد شاهدان بالتقليد والعهد، والذي تضمنه الولاية، ن فإن عرف أهل البلد عدالتهما لزمتهم الطاعة، وإن لم يعرفوا عدالتهما لم يلزمهم الطاعة حتى يكشفوا عن الطاعة. فرع آخر لو لم يشهد بها شاهدان وورد القاضي المولي فأخبرهم بولايته لم تلزمهم الطاعة إن لم يصدقوه، وإن صدقوه هل تلزمهم طاعته؟ فيه وجهان: أحداهما: تلومهم؛ لأنهم اعترفوا بحق عليهم. والثاني: لا يلزمهم؛ لأنه يتضمن إقرارهم علي (المولى).

فرع آخر لا يلزم عقد القضاء في حق المولي والمولي؛ لأنه في حقهما من العقود الجائزة؛ لأنها استنابة كالوكالة، ويجوز للمولي أن يعزله إذا شاء، والأولي أن لا يعزله إلا من عذرٍ، وأن لا يعزله المولي نفسه إلا لعذرٍ. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لو عزله الإمام من غير عذرٍ هل ينعزل؟ وجهان. فرع آخر إذا كان العزل من المولي أشاعه حتى لا ينظر المولي بعد، فإن نظر قبل عمله بالعزل ففي نفوذ أحكامه وجهان قلنا في الموكل بالتصرفات هل ينعزل بعزله قبله علمه؟ ومن أصحابنا من قال هنا قولاً واحداً لا ينعزل ما لم يعلم؛ لأن القضاء آكد من الوكالة. وقيل: ينعزل من وقت العزل قولاً واحداً للاحتياط فيه، والصحيح الطريقة الأولي، وإن كان العزل من المولي شاعه ليقلد المولي غيره، فإن حكم بعد رد حكمه بلا خلاف. فرع آخر التقليد [70/أ] لازم في حق أهل العمل من الرعايا، فيلزمهم التزام الحكم وإظهار الطاعة، فإن امتنعوا من التزامه لعذرٍ أوضحوه، وإن كان بغير عذرٍ أرهبوا، فإن أقاموا علي الامتناع حوربوا؛ لأن التزام القضاء من الفروض. فرع آخر قال الإمام جدي: إذا أنكر القاضي كونه قاضياً صار معزولاً، كما لو كان أنكر الوكيل الوكالة؛ لأن الإنكار أبلغ من عزله نفسه، وفيه وجه لا يصير معزولاً. فرع آخر إذا صحت توليته وأراد الخروج إلي بلد القضاء دعا من بحضرته من أهل ذلك البلد وسألهم من العدول والأمناء والعلماء الذين فيه، ومن يتولي أموال اليتامي وغيرها من الأموال، فإن لم يكن بحضرته أحد سأل في طريقة حتى يقف علي حقيقته ويدخل علي علم بحال البلد. فرع آخر إذا بلغ البلد فالمستحب أن يدخلها بسوادٍ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة وعلي رأسه عمامة سوداء، ولأنه أهيب له. فرع آخر قال أصحابنا: يستحب أن يدخل البلد يوم الاثنين؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة يوم الاثنين.

فرع آخر إذا دخل البلد، فإن شاء قصد أوسع موضع في البلد من جامع أو رحبة مسجد أو غيرها، ويجمع الناس ويقرأ عليهم العهد، فإن كان معه شهود شهدوا بما في الكتاب، وإن شاء نزل في منزلٍ ثم أمر منادياً: ألا إن فلان ابن فلان قد ورد قاضياً في يوم كذا، ويريد أن يخرج إلي موضع كذا في يوم كذا لقراءة عهده، فمن أحب أن يحضر فليحضر إن شاء الله. فإن كان بلداً كبيراً أمر بالنداء يومين أو ثلاثة، وإن كان صغيراً أمر بالنداء يوماً واحداً. فرع آخر قال في "الأم": "وينزل متوسط المصر" وإنما قال ذلك ليكونن قريباً إلي الجميع، فإنه إذا نزل في طرفٍ بعد قصده عن قوم وقرب علي آخري، [70/ب] ثم بدأ واستحضر الناس وسألهم في الباطن عليه الخير سأل عنه في العلانية كما عدلوه في السر، وقد ثبت عنه غيرهم، وإن كان قد بدأ وسألتهم في العلانية فقد ترك المستحب، فإذا فعل ذلك فمن عدل سأل عنه في الباطن، فإن جرحوه وقالوا توقينا لسانه وشره في العلانية قبل جرحهم ولا يفسقون بذلك. وقال "الحاوي": أول آدابه إذا ورد بلد عمله أن يعلمهم قبل دخوله بوروده قاضياً فيه، إما بكتاب أو رسولٍ ليعلم ما هم عليه من موافقةٍ واختلاف، فإن اتفقوا علي طاعته دخل، وإن اتفقوا على مخالفته توقف واستطلع رأي الإمام. والأولي أن يستصحب القاضي كتاب الإمام إلي أمير البلد بتقليده القضاء حتى يجمعهم علي طاعته جبراً إن خالفوا، فإن وافقه بعضهم اعتبر الأكثر، فإن كان موافقوه أكثر عدداً من مخالفيه وأقوي يداً دخل، وإن كان مخالفوه أكثر توقف، وعلي الإمام رد مخالفيه إلي طاعته ولو بقتالهم حتى يذعنوا له بالطاعة، ويعنيه فيما ينفذ أمره فيهم ويبسط عليهم ليقدر علي الانتصاف ن القوي للضعيف، ومن الشريف للمشروف، ثم ينادي في البلد بوردة إن اتسع الوقت ليعلم به الداني والقاصي، والخاص والعام، والصغير والكبير، فيكون أهيب في النفوس وأعظم في القلوب. وإذا دخل يسكن وسط البلد علي ما ذكرناه، ويحتاج أن يبدأ بقراءة عهده قبل نظرة؛ ليعلم الناس ما تضمنه من حدود عمله [71/أ] ومن صفة ولايته في عموم وخصوص، ويجمع الناس لقراءته في أفسح بقاعه من جوامعه ومساجده؛ لأنه يتضمن طاعة الله تعالي، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ثم ينظر بعد قراءته في حكومةٍ ولو بين.

خصمين لتستقر ولايته بالنظر، ويتواطأ الخصوم في الحكم، وليعلم الناس قدر صنعته في عمله. قال: ثم أمرين يعتمدهما الخصوم في نظره: أحدهما: أن يجعل مجلس نظره من بُعٍد معروف بالمكان مخصوصاً بالنظر والأحكام حتى لا يسألوا عنه أن يخفى عليهم ولا يعدلوا عنه إن نظر في غير أحكامهم. والثاني: أن يكون زمان نظره معيناً عليه من الأيام ليتأهبوا فيه إلى التحاكم إليه، فإن كثرت المحاكمات لزمه النظر في كل يوم، ويكون وقت نظره من اليوم معروفاً ليكون باقيه مخصوصاً بالنظر في أمور المسلمين لراحته ودعته، فإن قلت المحاكمات جعل يوم نظره في الأسبوع مخصوصاً بحسب الحاجة في يوم أو يومين أو ثلاثةٍ بقدر الحاجة حتى يستعد الناس للتحاكم فيه. ويختار أن يكون أيام نظره من الأسبوع يوم السبت ويوم الاثنين ويوم الخميس، ولو تجدد في غير يوم النظر مالا يمكن تأخيره نظر فيه ولم يؤخره. فرع آخر إذا تصدى للحكم بعد استقرار ولايته وانقياد الناس لطاعته يبعث في الحال إلى الحاكم المعرف أن يدفع إليه ديوان الحكم، وهو حجج الخصوم من المحاضر والسجلات وكتب الوقف؛ لأن الحكام يستظهرون في حفظ الحقوق على أربابها بحفظ حججهم ووثائقهم في نسختين، فيسلم إلى المحكوم له إحداهما وتكون الأخرى في ديوانه يرجع إليها إذا احتاج ليكون على ثقةٍ مما في يده، وكان القاضي السابق [71/ب] أحق بإمساكها؛ لأن له نظراً وولاية، والآن قد زال ذلك، وصار النظر للثاني. فرع آخر إذا تسلمها واتسع له الزمان تصفحها وعمل بموجب ما تضمنها إذا دعت الحاجة إليه، ولا يحكم بما فيها إلا إذا شهد به شاهدان، ولا يحكم بخط القاضي قبله لاشتباه الخطوط وإمكان الخطوط وإمكان التزوير عليها. فرع آخر يجب على الإمام أن بسير أحوال البلاد في القضاء ويكشف عن أحوال القضاة فيها، فإذا علم أن في البلد قاضياً مستحقاً للنظر سقط عنه فرضه، وإذا علم أنه لا قاضي فيه، أو فيه من لا يستحق النظر وجب عليه أن يقلد فيه قاضياً، وكان ذلك عليه فرضاً متعيناً، وإن كان في البلد من يصلح للقضاء كان تقليده لمعرفته به وبأهله أولى من تقليد الغريب. فرع آخر لو قلد غير متعين فقال: من نظر من أهل البصرة في قضائها فهو مقلد من جهتي لم يجز؛ لأنه لا يجوز أن ينظر من ليس بأهله، ولو قال: من علمائه لم يجز أيضاً؛ لأن المقلد منهم مجهول.

فرع آخر لو قال: إن نظر في قضاء البصرة زيد قلدته لم يجز وإن نظر؛ لأنه عقد بشرط. فرع آخر لو ذكر عدد أسماءهم وقلدهم ثم قال: فاتهم نظر فيه، فهو القاضي دون غيره صح التقليد في الناظر سواء قل العدد أو كثر؛ لأنه جعل نظره عدلاً لغيره ولم يجعله شرطاً في تقليده، ولو جعل جميعهم ناظرين فيه بطل تقليدهم إن كثروا، وهل يصح إن قلوا؟ فيه وجهان. فرع آخر لا يلزم في تقليد القضاء أن يكون مذهب المولى لمذهبه، فيجوز للشفعوي أن يقلد حنفياً، وللحنفي أن يقلد شفعوياً؛ لأن على القاضي أن يحكم بمذهبه لا بمذهب غيره. فرع آخر لو كان شفعوياً فأدى اجتهاده في قضيٍة أن يحكم فيها بمذهب أبي حنيفة-رحمه الله- جاز. وقال بعض أصحابنا: [72/ أ] من اعترى إلى مذهب منع أن يحكم بمذهب غيره لتوجه التهمة إليه، وهذا وجه تقتضيه السياسة بعد استقرار المذاهب وتمييز أهلها، ولكن حكم الشرع لا يوجب؛ لأن الاجتهاد في كل طريق الاجتهاد، فإن من قضى في حكم باجتهاد ثم أراد أن يقضي من بعد لزمه إعادة الاجتهاد، فإن أداه إلى خلاف الأول كان كل واحدٍ من الحكمين ماضياً، وهذا لما روي أن عمر - رضي الله عنه - حكم في مسألة المشركة بتشريك الإخوة من الأم والأب مع الإخوة من الأم في عام، ولم يشركهم في عامٍ آخر. وقال: هذه علي ما قضينا وتلك علي ما مضينا. فرع آخر لو شرط المولي في عقد التقليد أن لا يحكم إلا بمذهب الشافعي رضي الله عنه، أو بمذهب أبي حنيفة رحمة الله عليه كان الشرط باطلاً سواء كان موافقاً لمذهب المولي أو مخالفاً؛ لأنه قد منعه من الاجتهاد فيما يجب الاجتهاد. وأما التقليد هل يصح؟ يعتبر بشرطه، فإن عدل به عن لفظ الشرط وأخرجه مخرج النهي فقال: لا يحكم بمذهب أبي حنيفة صح التقليد وإن بطل الشرط، وإن جعله بلفظ الشرط في العقد، فقال: قلدتك علي أن تحكم بمذهب أبي حنيفة أن جعله أمراً، أو أن لا تحكم بمذهب الشافعي أن جعله نهياً بطل التقليد لفساد الشرط؛ لأنه معقود علي شريطٍ فاسدٍ. وقال أهل العراق: لا يبطل التقليد، وإن بطل الشرط كما لو لم يخرج مخرج الشرط، وقد ذكرنا الفرق بينهما، فإن كان الشرط خاصاً في حكم بعينه فلا يخلو إما أن يكون أمراً أو نهياً، فإن كان أمراً فقد: قد من السلم بالكافر كان أمره بهذا الشرط فاسداً، فإن تجرد عن لفظ الشرط صح التقليد مع فساد الشرط، وإن قرنه بلفظ الشرط صح التقليد مع فساد الشرط، وإن قرنه بلفظ الشرط

بطل التقليد لفساد الشرط، وإن كان الشرط نهياً فعلي ضربين: أحدهما: أن ينهاه عن الحكم في قتل المسلم بالكافر [72/ب] ولا يقضي فيه بإيجاب قودٍ ولا بإسقاطه، فهو شرطٌ جائز وتقليد صحيح، لأنه اقتصر بولايته علي ما عداه فصار خارجاً عن نظره. والثاني: ألا ينهاه عن الحم فيه وينهاه عن القضاء بالقصاص فيه، فهذا النهي هل يوجب صرفه عن النظر؟ فيه وجهان: أحدهما: يوجب ذلك فلا يحكم فيه بإيجاب قودٍ ولا بإسقاطه، فعلي هذا يكون التقليد صحيحاً فيما عداه. والثاني: لا يوجب ذلك ويصير النهي عنه أمراً بضده، وهو أن يقتص من المسلم بالكافر، فإن تجرد عن لفظ الشرط صح التقليد مع فساد الشرط، ويحكم فيه بما يؤدي اجتهاده إليه من وجوب القصاص أو إسقاطه، وأن اقترن بلفظ التقليد بطل التقليد لفساد الشرط، وقال أهل العراق: يصح التقليد هنا أيضاً وإن فسد الشرط. فرع آخر يلزم الإمام أ، يعين علي البلد الذي تقلده فيقول: قلدتك قضاء البصرة، أو قلدتك قضاء الكوفة ليكون معلوماً. ولو قال: قلدتك البصرة أو قضاء الكوفة لم يجز للجهل بالعمل، وكذلك لو قال: قلدتك قضاء أي بلد شئت، أو أي بلد رضيك أهله لم يجز. فرع آخر لو قلده قضاء البصرة أو آمل، فإن نص علي دخول النواحي والسواد في تقليده دخل وينفذ قضائه في أعماله المنسوبة إليها، وإن نص علي خروجها من تقليده كانت ولايته مقصورة علي تلك البلدة وإن أطلق، فإن كان العرف جارياً بإفرادها عن قاضي البلد لم تدخل في ولايته، وإن جري العرف بإضافتها إلي قاضي البلد دخلت في ولايته، وإن اختلف العرف في إفرادها وإضافتها روعي أكثرهما عرفا"، فإن استويا عرفاً روعي أقربهما عهداً، فإن كان الأقرب إضافتها دخلت في ولايته، وإن كان بخلاف ذلك لا تدخل في ولايته. فرع آخر [73/أ] يجوز أن يكون التقليد عاماً ومخصوصاً. فالعام: أن يقلده قضاء جميع البلد، والقضاء بين جميع أهله، والقضاء في جميع الأيام. والخصوص: أن يكون مقصوراً علي قضاء البلد، فيجوز إذا كان معيناً سواء اقتصر علي قضاء أكثر البلد أو أقله، أو محله من محالة؛ لأن القضاء يخص ولا يعم. فرع آخر لو قلده البصرة في جانب ربيعة جاز، سواء كان للجانب الآخر قاض أخر أو لا، ويختص بما (حصي).

فرع آخر لو قلد أحدهما جانب ربيعة وقلد الآخر جانب مصر، كانت ولاية كل واحد منهما مقصورة علي جانبه. فرع آخر إذا خص جانب ربيعة علي ما ذكرنا يجوز أن ينظر بين أهله وبين الطائرين إليه من غير أهله، إلا أن يخص النظر بين أهله دون الطائرين إليه فلا يتعللوا. فرع آخر لو قلد أحدهما جانب ربيعة والآخر جانب مصر، وبين الجانبين موضع مشترك بينهما روعي الأغلب عليه في إضافته إلي أحدهما فجعل داخلاً، فإن استوي الأمران فيه روعي القرب، فما كان منه أقرب إلي جانب ربيعة دخل في ولاية قاضيه، وما كان منه أقرب إلي جانب مصر دخل في ولاية قاضيه. فرع آخر لو تحاكم من الجانبين رجلان، فدعي كل واحدٍ منهما إلي قاضي جانبه نظر، فإن كان عند التنازع؛ فليس لواحدٍ منهما أن يجير الآخر علي المحاكمة إلي قاضيه لا يقدر أن يعديه علي خصمه لخروجه عن نظره طالباً كان أو مطلوباً، فإن أراد الطالب أن يستعدي قاضي المطلوب علي خصمه [73/ب] وجب عليه أن يعديه، ويحكم بينهما في جانبه لحصولهما في عمله، فإن حصل أحد القاضيين في جانب الآخر لم يكن له أن يحكم فيه تنازع إليه سواء كان من أهل عمله أو غير عمله؛ لأن حكمه لا يتعدي إلا في عمله. فرع آخر لو قلد قاضيين في بلدٍ لينظر كل واحدٍ منهما بين جميع أهله فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، لأنه يفضي أمرهما إلي التجاذب في تنازع الخصوم إليهما، وتبطل ولايتها إن جمع بينهما في التقليد، وتصح ولاية الأول إن قلد أحدهما بعد الآخر. والثاني: وهو قول الأكثرين يجوز؛ لأنهما استنابه كالوكالة، وقد نقل الشافعي رضي الله عنه فلا نطلق الوجهان. فرع آخر إذا قلنا بالمذهب الصحيح فتنازع خصمان وجذب كل واحدٍ منهما الخصم إلي أحدهما، عمل علي قول الطالب منهما دون المطلوب، وحاكمه إلي من أراده منهما لأن حكم كل واحدٍ منهما الخصم إلي أحدهما، عمل علي قول الطالب منهما دون المطلوب، وحاكمه إلي من أراده منهما؛ لأن حكم كل واحدٍ من القاضيين نافذ عليهما.

فرع آخر لو كان كل واحد منهما طالباً ومطلوباً لتنازعهما في قسمة ملك أو اختلافهما في ثمن منيع، عمل علي قول من دعا إلي أقرب القاضيين، فإن استويا في القرب ففيه وجهان: أحدهما: يقرع بينهما لتساويهما. والثاني: يقطع التنازع بينهما حتى يتفقا علي الرضا بأحدهما. فرع آخر لو قلده جميع البلد لينظر في أصح د جانبيه أو في جامعه لم يجز لعموم ولايته، وكان التقليد باطلاً أنن جعل ذلك شرطاً فيه، كقوله: قلدتك علي أنن تنظر فيه لتنافي حكم الشرط والإطلاق، ولو لم يكن شرطاً، [74/ أ] بل كان أمراً، كقوله: قلدتك قضاء البصرة فانظر في جامعها صح التقليد وبطل الشرط، وله أن ينظر في غير الجامع؛ لأنه لا يملك الحجر عليه في مواضع جلوسه. فرع آخر لو قال: قلدتك علي أن تحكم في الجامع بين من قال فيه صح، ولم يجز أن يحكم في غيره، لأنه جعل الولاية هنا مقصورة علي من جاءه الجامع وهم لا يعينون إلا فيه. فرع آخر لو كان التقليد مقصوراً علي بعض أهل البلد دون جميعهم يجوز إذا تميزوا عن غيرهم، كقوله: قلدتك لتقضي بالبصرة بين العرب دون العجم، ويقلد الآخر القضاء بين العجم دون العرب فيجوز، ويختص بما خص وليس لواحدٍ منهما أن يحكم بين من ليس من العرب ولا من العجم كالنبط لخروجهم عن نظر كل واحدٍ منهما. فرع آخر لو كان في البلد عربي النسب عجمي اللسان أو عجمي النسب عربي اللسان فإن كان في التقليد ما يدل علي إرادة النسب دون اللسان، أو اللسان دون النسب يحمل عليه وإن لم يكن فيه ما يدل علي إرادة واحد منهما يحمل علي اعتبار النسب دون اللسان؛ لأن النسب لازمة واللسان صفة زائلة. فرع آخر لو كان في العجم فزال العرب ففي أحق الحاكمين بالنظر في أحكامهم وجهان مبنيان علي الوجهين في سؤالي ذوي القربى، هل يحرم عليهم من الصدقات ما يحرم علي ذوي القربى؟ فيه وجهان: فإن قلنا يحرم تغليباً للولاء علي النسب، فعلي هذا يكون قاضي العرب أحق بالنظر بينهم من قاضي العجم.

والثاني: [74/ب] يغلب النسب علي الولاء، فعلي هذا يكون قاضي العجم أحق. فرع آخر لو وقع التنازع بين عربي وعجمي واتفقا علي التحاكم إلي قاضي أحدهما، فإن اتفقا علي قاضي المطلوب ينفذ حكمه بينهما؛ لأنه مندوب إلي استيفاء الحقوق من أهل نظره والحق مستوفي من المطلوب للطالب، وإن اتفقا علي التحاكم إلي قاضي الطالب ففي نفوذ حكمه بينهما وجهان مخرجان من القولين في نفوذ حكم من تراضيا به من غير الحاكم. فرع آخر لو تجاذب العربي والعجمي ودعا كل واحدٍ منهما إلي نظر قاضيه ففيه وجهان: أحدهما: يوقف تنازعهما ويقطع تخاصمهما حتى يتفقا علي قاضي أحدهما، فإن اتفقا علي قاضي المطلوب جاز، وأن اتفقا علي قاضي الطالب فقد ذكرنا وجهين. والوجه الثاني: أن يجتمع القاضيان علي سماع الدعوي؛ لأن كل واحدٍ منهما موجود بين أهل نظره، وليس له الانفراد في هذا النظر فلزم اجتماعهما عليه، فإذا اجتمعا علي سماع الدعوي تفرد بالحكم منهما قاضي المطلوب دون الطالب، وإن اقتضي الحكم سماع البينة تفرد بسماعها قاضي المشهود عليه دون المشهود له، وإن اقتضي الحكم عرض اليمن استوفي قاضي الحالف دون المستخلف ليكون الحكم في الأحوال كلها نافذاً من قاضي المطلوب دون الطالب، فإن امتنع القاضيان من الاجتماع أتما بالامتناع وكان قاضي المطلوب أعصمهما أتماً، وأخذهما الأمير بالاجتماع جبراً. فرع آخر يجوز أن يكون القاضي مقصور الولاية علي النظر بين خصمين معينين، ولا ينظر بين غيرهما. فرع آخر إذا جوزنا هذا ينظر، فإن رد إليه النظر بينهما في كل تنازع يحدث منهما، فيكون بعد فصل الحكم بينهما انعزل، وإن قلده مطلقاً الحكم بينهما فيحمل علي العموم في كل ما تحدد من خصومتهما، وعلي هذا لو قلده [75/أ] الإمام قضاء بلدٍ علي أن يستخلف عليه ولا ينظر فيه بنفسه، فهذا تقليد مراعاةٍ وليس بتقليد حكم ولا نظرٍ، فإذا قلد من اختاره ثبت ولاية لمختار، ولم يكن لمن اختاره عزله وله الإشراف عليه والمراجعة له، ولو كان الإمام علي من يستخلفه جاز، وكان هذا تقليد تنفيذ وإشراف وليس بتقليد حاكم ولا اختيار. فرع آخر يجوز أن يكون التقليد مقصوراً علي بعض الأيام دون الكل، فيجوز إذا عين علي اليوم الذي يحكم فيه ولا يجوز إن لم يعنيه؛ لا، النظر مقصوراً علي المتحكمين فيه، فوجب تعيين اليوم به الحضور.

فرع آخر إذا قلده النظر في يوم السبت ففيه ثلاثة أحوالٍ: أحدهما: أن يجعله ناظراً في كل سبتٍ علي ولايته بعد انقضاء السبت، وإن لم يكن له أن ينظر في غيره لبقاء نظره في أمثاله. والحالة الثانية: أن يجعله ناظراً في سبتٍ واحدٍ فينعزل بعد غروب الشمس، وليس له أن يجمع في نظر السبت بين الليل والنهار. والحالة الثالثة: أن يطلق فيحمل علي الخصوص، وهو أول سبتٍ يكون بعد هذا التقليد. ولو لم ينظر فيه لم يجز أن ينظر في غيره. والفرق بين أن يقلده النظر بين اثنين فيحمل أطلاقة علي العموم في كل تنازع يكون بينهما، وبين أن يقلده النظر في يوم السبت فيحمل إطلاقه علي الخصوص في سبتٍ واحدٍ أن الخصمين باقيان يحمل النظر بينهما علي العموم، ويوم السبت ينقضي فيحمل النظر قيه علي الخصوص فرع آخر لو قلد قاضياً أن ينظر في يوم السبت، وقال آخر أن ينظر في يوم الأحد، كان كل واحد منهما مقصور النظر علي يومه. فرع آخر لو تدافع خصمان في يوم السبت إلي قاضيه ولم ينفصل الحكم بينهما فيه حتي رجعا في يوم الأحد، كان قاضي يوم الأحد أحق بالنظر بينهما. فرع آخر لو تنازع اثنان فدعا أحدهما إلي قاضي السبت ودعا الآخر [75/ب] إلي قاضي الأحد، فإن كان تنازعهما في يوم السبت قاضيه أحق بالنظر بينهما، وإن كان تنازعهما في يوم الأحد كان قاضيه أحق بالنظر بينهما، وإن كان تنازعهما في غيرهما من الأيام لم يتراجع قول واحدٍ منهما حتى يستأنف الترافع في أحد اليومين، فيكون ذلك اليوم أحق بالنظر بينهما. فرع آخر لو قلده النظر في شهرٍ من السنة يختص بذلك الشهر ليلاً ونهاراً؛ لأن الشهر يجمعهما. فرع آخر لو قلده النظر في جميع الأحكام تكون ولايته مشتملة علي جميع ما يختص بنظر القضاة، ويشمل عشرة أقسام: أحدها: يثبت الحقوق عند الناكر من ديونٍ في الذمم وأعيان في اليد بعد سماع الدعوي، وسؤال الخصوم وثبوتها يكون من أحد وجهين إقرار أو بينة.

والثاني: استيفاء الحقوق بعد ثبوتها عند التدافع والتمتع، فإن كانت في الذمة ألزم الخروج منها، وإن كانت أعياناً سلمها إن امتنع من تسليمها. والثالث: النظر في العقود من المناكح والبيوع وغيرها عند الاختلاف فيها، ليحكم باجتهاده في صحتها وفساده، أو ليخالف عليها. والرابع: فصل التشاجر في حقوق الأملاك من الشفعة وحدودها والاستخلاف، والعمل بشواهد الأبنية، فأما مخارج الأبنية والأجنحة في الطرقات ومقاعد الأسواق، فإن جاءه فيها متظلم نظر فيه ودخل في ولايته، وإن لم يأت فيه متظلم دخل في المشيبة وكان المحتسب أحق بالنظر فيه، ثم إن لم يفتقر إلي اجتهاده تفرد المحتسب به، وإن افتقر إلي اجتهاده وكان القاضي أحق بالاجتهاد فيه وأولي من المحتسب، ويكون المحتسب فيه منفذاً لحكم القاضي. والخامس: الولاية علي ألأيامي في المناكح منن أكافئهن عدم أوليائهن أو عضلهم. والسادس: الولاية علي [76/ أ] ذوي الحجر لصغرٍ أو جنون إذا عدم أولياء النسب، أو لسفهٍ يحجر به ويرتفع بإيناس الرشد. والسابع: الحكم بنفقات الأقارب والزوجات والعبيد وتقريرها برأيه واجتهاده. والثامن: النظر في الأوقاف والوصايا إن لم يكن فيها ناظر يتولي ذلك، وإن كان فيها ناظر يراعيها، فإن كانت لمعينين سقط الاجتهاد فيهم، وإن كان للموصوفين تعينوا باجتهاد الناظر قبل الحكم، وباجتهاد القاضي عند الحكم. التاسع: النظر في التعديل والجرح والتقليد والعزل، فيعمل فيه علي اجتهاده سواء وافق فيه اجتهاد من قلده أو خالفه إلا في التقليد والعزل، فيكون اجتهاد من قلده فيه أنفذ. والعاشر: إقامة الحدود علي مستحقيها فيما تعلق بحقوق الآدميين من إقامة حد القذف والقصاص. فأما ما تعلق منها بحقوق الله تعالي المحصنة كحد الزنا وشرب الخمر وتارك الصلاة، فإن تعلق باجتهاد كان القاضي أحق بها لاختصاصه بالاجتهاد في الأحكام، ويأمر أمير البلد باستيفائها، وهو أولي من مباشرتها بنفسه، وعليه أن يعمل بأمره فيها، وإن لم يتعين بالاجتهاد كان الأمير أحق بها لتعلقها بتقويم السلطنة، فإن تعلق بها سماع البينة سمعها القاضي واستوفي الأمير. فرع آخر لو كان أموال الغائبين في بلد قضائه، فإن علموا بها فلا نظر للقاضي فيها لوقوفها علي اختيار أربابها. وإن لم يعلموا بها لأنهم ورثوها وهم لا يعلمون فهي داخلة في نظر القاضي وعليه حفظها حتى يقدموا أو يوكلوا فتخرج حينئذ من نظره.

فرع آخر هل يتولى القاضي قبض الصدمات وتفريقها في السهمان، فإن قلد الإمام عليها ناظراً كان أحق بها من القاضي. وإن لم يقلد عليها ناظراً ففي استحقاق هذا القاضي بمطلق ولايته النظر [76/أ] فيها؟ وجهان: أحدهما لاستحق؛ لأنها من حقوق الله تعالى فيمن سماه لها. والثاني: له النظر فيها؛ لأنها من حقوق الأموال التي تحمل على اجتهاد الإمام. فرع آخر ليس للقاضي التعرض لأموال الفيء وجهاً واحداً؛ لأن وجوه مصرفها موقوف على اجتهاد الأئمة. فرع آخر الإمامة في صلاة الجمعة والأعياد بل تكون إليه فإن ندب لها إمام كأم أحق بها من القاضي، وإن لم يندب لها إمام ففي اختصاص القاضي بإقامتها وجهان: أحدهما: يقيمها؛ لأنها من حقوق الله تعالى العامة. والثاني لا حق له في إقامتها؛ لأن الأمر بها أخص. فرع آخر لو قلده النظر الخاص يصح، وهو أن يقلده النظر في المدينات دون المناكح، أو الحكم بالإقرار من غير سماع بينٍة، أو في نصابٍ مقدر من المال فيجوز ويختص بما خص. قال أبو عبدا لله الزهري: لم يزل الأمراء عندنا بالبصرة برهةً من الدهر يستقصون على المسجد الجامع قاضياً يسمونه قاضي المسجد يحكم في مائتي درهمٍ وعشرين ديناراً فما دونها، وبفرض النفقات ولا يتعدى بها موضعه ولا ما قدر له. فرع آخر لو قلده النظر في المناكح جاز أن يحكم بما يتعلق بها من صداق وفرض نفقٍة وسكن وكسوة، ويزوج ألأيامي، ولا يحكم بين الزوجين فيما يتعلق بالمدينات، ويجوز أن يحكم بأجره الرضاع، ولا يحكم بنفقة الأولاد ويحكم بنفقة خادم الزوجة ولا يحكم بنفقة خادم الزوج. فرع آخر لو قلده النظر في نصاب مقدر وهو مائتا درهم فنظر فيها بين خصمين جاز أن ينظر بينهما في هذا القدر ثالثةً. فرع آخر لو قلده النظر في مائتي درهم [77/ أ] وكان شريكين أربعمائة درهم يجوز أن ينظر

فيها، إذا كانت دعوى الشريكين متفرقة، ولا يجوز أن ينظر إذا كانت دعواهما واحدة. فرع آخر لو أراد أن ينظر في عروض قيمتها مائتي درهم جاز تغليباً لحكم التقدير دون الجنس، إلا أن يصرح بالنهي عن النظر في العروض، فلا يجوز حينئذ. واعلم أن صاحب "الحاوي" رحمه الله تعالى ذكر ترتيباً حسناً فقال: ولاية القضاء تشتمل على خمسة شروط؛ مولِّي، ومولَّى، وعمل، ونظرٌ، وعقدٌ. فأما المولِّي ينقسم إلى أصل وفرع، فالأصل الإمام والفرع قاضي الأقاليم. وأما المُولَّى فتقلد القضاء من جهته من فروض الكافيات، ويدخل في فرضه كل من تكاملت فيه شروط القضاء حتى يقوم به أحدهم. وأما العمل فيلزم الإمام أن يعين على البلد الذي تقلده القضاء، ويجوز أن يكون بالتقليد عاماً ومخصوصاً، والمخصوص ينقسم ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكون مقصوراً على قضاء بعض البلد. والثاني: أن يكون التقليد مقصوراً على بعض أهل البلد دون جميعهم. والثالث: أن يكون التقليد مقصوراً على بعض الأيام دون الكل. وأما الرابع وهو النظر فضربان؛ عام وخاص، وما يختص بنظر القضاة عشرة أقسامٍ على ما ذكرناه. وأما الخامس: العقد الذي يصح به التقليد، وهو يشتمل على ثلاثة شروط؛ مقدمة العقد: وصفة العقد ولزوم العقد. فأما الأول أن يكون المولى عارفاً بتكامل شروط القضاء في المولي. وأما صفى العقد معتبر باللفظ مع الحضور، وبالمكاتبة مع الغيبة. وما لزوم العقد: [77/ب] فمعلومٌ وقد ذكرنا تفريعات كل فصل منها مبيناً مشروحاً وبالله التوفيق. مسألة: قَالَ: " وَأَحبّ لِلقَاضِي أَنْ يَجْلِسَ فِي مَوْضِعٍ بَارِزٍ للنَّاسِ وَلاَ يَكُونُ دُونَهُ حِجَابٌ". الفصل إنما استحب الشافعي رضي الله عنه للقاضي أن يجلس في موضع فسيح ظاهرٍ، إما رحباً أو غير ذلك ليكون في موضع ظاهرٍ يراه الخاص والعام، والقاطن والغريب، كان فسيحاً واسعاً ترتاح النفوس ولا يسرع فيه الملك، وفي بعض النسخ "بارزاً للناس" بالنصب، فقوله "بارز" بالخفض صفة للموضع، وبالنصب صفة للقاضي في ظهوره من غير إذن.

قال أصحابنا: ولا يجلس في بيته وإن أذن عليه؛ لأنه ليس ببارز، ويقع فيه الحجاب ولا يعرف من جاء إليه بجلوسه، ولاسيما إذا كان غريباً. قال أصحابنا: وإذا كان بارزاً لا يحتاج مع البروز إلي الاستئذان وإذنٍ، ولو نظر بينهم في داره التي لا يدخلها أحد إلا بإذنه جاز ولم يكره إن قل، لما روي عن أم سلمه- رضي الله عنها- أنها قالت: اختصم إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان من الأنصار في مواريث متقدمٍة فقضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما في بيتي. وروي أنه كان بين عمرو وأبي كعب- رضي الله عنهما- منازعة فأتيا زيد ين ثابت في بيته فقضي بينهما، وقال لعمر-رضي الله عنه: لو أمرتني لجئتك، فقال: في بيته يؤتي الحكم. ولو كثرت المحاكمات [78/ أ] عدل عن النظر في داره التي تحوج إلي الاستئذان إلي المجلس الذي وصفناه بالشرطين المتقدمين، وإن كان حكمه نافذاً في الأحوال كلها ويكره أن يكون له حاجب علي أن يكون وصول المتحكمين إليه موقوفاً علي إذنه؛ لما روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " من ولي من أمر الناس شيئاً فاحتجب حجبه الله يوم القيامة". وروي أن أبا مريم ألأسدي قدم علي معاوية، فقال له معاوية: ما أقدمك؟ قال حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من ولاه الله من أمر الناس شيئاً فاحتجب عن حاجتهم وخلتهم وفاقتهم احتجب الله يوم القيامة عن حاجته وخلته وفاقته". وروي أن عمر -رضي الله عنه - قلد سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه- الكوفة، فقضي فيها زماناً بغير حاجب، ثم اتخذ حاجباً، فعزل عمر- رضي الله عنه- حاجبه. ولأنه ربما منع الحاجب ذا ظلامةٍ لهوى، وربما استعجل على الإذن وارتشى. قال أصحابنا: فإن أتخذ حاجباً في غير مجلس الحكم لم يكره له، بل إذا احتجب عن الناس في غير مجلس الحكم وزمانه كان أحفظ لحشمته وأعظم لهيبته فيكون أولي. ومن قال يكره للقاضي اتخاذ الحاجب في زمان الاستقامة وسداد أهله، فأما في زمان الاختلاط والتهارج واستطالة السفهاء والفادغة، فالمستحب له أن يتخذ حاجباً لحفظ هيبته ويمنع من استطالة الخصوم، وبهذا أقول في زماننا هذا. وقال الإقفال: لا يكره ذلك في وقت الحكم ليدفع الزحام عنه، فيكون في الحقيقة مرتباً لا حاجباً، ويكره في الأوقات الأخر؛ لأنه ربما يجئ صاحب حاجةٍ فيدفعه عنه، وهذا حسن.

فرع آخر لا يكره للأئمة اتخاذ الحُجاب، [78/ ب] بل يستحب لهم؛ لأنهم ينظرون في عموم الأمور، فيحتاجون أن يفردوا لكل نظر وقتاً يحرسه الحجاب عليهم ويمنعوا من دخول أصناف الناس من عير أوقاتهم، وقد روي أنه كان علي باب عمر- رضي الله عنه- حاجب يسمي يرفا، فاجتمع علي بابه أبو سفيان وسهيل بن عمرو، وسلمان وبلال، وصهيب، وجماعة من وجوه العرب، فأذن لسلمان وصهيب وبطلاب-رضي الله عنه- فتعمر وجه أبي سفيان، فقال له سهيل بن عمرو: يا أبا سفيان، إن هؤلاء دعوا ودعيت، فأجابوا وتأخرت، ولئن حسدتهم اليوم علي باب عمر بن الخطاب لأنت عدا أشد حسداً لهم علي باب الجنة. ولأنه لولا الحجاب لما تميز هؤلاء بالسابقة، ولا ترتب الناس بحس فضائلهم وأقدارهم. وحكي أنه استصعب الإذن علي المغيرة بن شعبة في خلوةٍ أرادها مع عمر- رضي الله عنه- فرشا يرفا حتى سهل له الإذن عيه، وكان يسأل يرفا أن يجس في الدهليز إذ تعذر عليه الدخول حتى يظن الناس انه وصل حتى تظهر له منزلة الاختصاص بعمر رضي الله عنه. وفي مثل هذا يكره الحجاب؛ لأن الحاجب ربما فعل مالا يراه المحتجب، وقد كان الحسن حاجب عثمان، وقنبر حاجب علي رضي الله عنهم. فرع آخر الشروط المعتبرة في الحجاب نوعان؛ واجب ومستحب، فالواجب ثلاثة؛ العدالة، والعفة، والأمانة. وأما المستحب فخمسة، أن يكون حسن المنظر، جميل المخبر عارفاً بمقادير الناس، بعيداً عن الهوى والعصبية، معتدل الأخلاق بين الشراسة واللين. مسألة: قال: "وأن يكون في غير المسجد لكثرة الغاشية والمشاتمة بين الخصوم، في أرفق الأماكن به وأحرها ألا تسرع ملالته فيه". أعلم أنه يكره للقاضي أن يجعل المسجد مجلساً لقضائه صغر المسجد أو كبر، وهذه كراهته تنزيه لا تحريم، وبه قال عمرين عبد العزيز وسعيد بن المصيب. وقال مالك، والشعبي، وشريحة، وأحمد، وإسحاق: لا يكره بحالٍ. وروي ذلك عن عمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم. وعن أبي حنيفة روايتان: إحداهما: أنه يكره. والثانية: أن لا يكره في المسجد الأعظم. وقال ابن أبي ليلي: يستحب له القضاء فيه، لأنه طاعة. واحتجوا بما روي عن

الشعبي قال: رأيت عمر - رضي الله عنه مستنداً إلي القبلة يقضي بين الناس. ودليلنا ما روي أنر سول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد، فقال: "لا وجدها، إنما بنيت المساجد لذكر الله وإقامة الصلاة"، وروى أنه قال: " أيها الناشد غيرك الواجد". وروي أبو هريرة- رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من سمع رجلاً ينشد ضالة في المسجد فليقل: لا ردها الله إليك، فإن المساجد لم تبن لهذا". وروي أنس - رضي الله عنه- في خبر الأعرابي: إنما هي- يعني المساجد- لذكر الله والصلاة، وقراءة القرآن. ووجه الدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم منع رفع الصوت لطلب الضالة في المسجد، ونحن نعلم أن رفع الأصوات والخصومات والمهاترات [79/ب] في مجلس القضاء أكثر، فكان بالكراهة أولي. وروى معاذ- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وخصوماتكم، ورفع أصواتكم وسل سيوفكم، وإقامة حدودكم، وجمهروها في الجمع، واتخذوا علي أبواب مساجدكم مطاهر". وروي أن عمر بن عبد العزيز كتب إلي عبد الحميد بن زيد: لا تقضي في المسجد فإنه يأتيك اليهودي والنصراني والحائض. وروى أنه كتب إلي القاسم بن عبد الرحم بمثل ذلك. وقال سعيد بن المسيب: لو كان لي من الأمر شيء ما تركت اثنين يختصمان غي المسجد. وأيضا فسبيل الحاكم أن يجلس في موضع يصل إليه الطاهر والخائض، والمجنون، والصغير، والمشترك والمسجد يصان عن ذلك، وربما يتوجه الحد علي رجل فلا يمكن إقامته فيه، ولأن الغالب من المتخاصمين اللغط والتكاذب واللجاجة والشتائم، وينزه المسجد عن ذلك. وأما خبرهم فلا حجة لهم فيه؛ لأنه يحتمل أن يكون عن اتفاق مقع، وقد قال أصحابنا: لو كان في المسجد معتكفاً أو منتظراً للصلاة، فتحاكم اثنان لا يكره بينهما، وقد قضي رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة في المسجد علي هذا الوجه. وهذا لأن حضوره في المسجد لم يكن مقصوراً علي القضاء فيه. وروي عن الحسن البصري أنه قال: دخلت المسجد فرأيت عثمان - رضي الله عنه- قد ألقي رداءه ونام، فأتاه سقا بفربةٍ ومعه خصم، فجلس عثمان [80/أ] رضي الله عنه (وقضى) بينهما.

فرع آخر قال أصحابنا: لا يكره القضاء في المسجد في حالتين: إحداهما: ما ذكرنا في موضع الاتفاق من غير قصدٍ. والثانية: إذا لزم تغليظ الأيمان بالمكان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم غلظ لعان العجلاني في المسجد. فرع آخر قال أصحابنا: ولا يكره فيه الجلوس للفتيا وتعلم القرآن والعلم؛ لأنه ليس فيه ما ذكرنا في القضاء. وأما قول الشافعي -رضي الله عنه-: في أرفق الأماكن به أراد أن يكون في موضع لا يتأذى منه بالشمس والغبار والدخان، والرائحة الكريهة؛ لأن عمر - رضي الله عنه - كتب إلى أبي موسى - رضي الله عنه: إياك والغضب والقلق والضجر، وهذه الأشياء تفضي إلى الضجر، وتمنع الحاكم من التوفر على الاجتهاد، وتمنع الخصوم من استيفاء الحجة، فإن حكم مع هذه الأحوال صح حكمه كما يصح إذا حكم في حال الغضب مع النهي الوارد فيه، وهكذا لا يجلس في موضع ضيق لا تصل إليه العجوز والشيخ والضعيف. وقيل: أراد به أن يكون الموضع إن احتاج فيه إلى البول والغائط قدر عليه، وإن عطش شرب الماء فيه، وإن جاع أكل فيه الطعام؛ لأنها أحوال لا يستغني القاضي عنها. وقال بعض أصحابنا: يبني له دكة عظيمة في ساحة واسعة، وإن كان على باب داره دكة واسعة يجلس عليها، أو جلس في دهليز داره مفتوح الباب وكان واسعًا يراه الناس كان حسنًا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: توطأ له فرشة ويجعل له متكأ ويوضع له وسادة ليكون أرفق به وأحبب له عند الحضور حتى لا يمل. مسألة: قَالَ: "وَأَنَا لإِقَامَةِ الحَدِّ فِي المَسْجِدِ أَكْرَهُ". إنما قال ذلك لما روى ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم [80/ ب] قال: "لا تقام الحدود في المساجد" وروى حكيم بن حزام أن النبي صلى الله عليه وسلم: نهى أن تقام الحدود في المساجد، وأن يستقاد فيها. وروى أن عمر -رضي الله عنه- أُتي برجل في شيء فقال: أخرجاه من المسجد واضرباه. وروي أن عليًا -رضي الله عنه- أُتي بسارق في المسجد فقال: يا قنبر، أخرجه من المسجد واقطع يده.

وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: لا يكره إقامة الحدود في المسجد؛ لأنها أشهر نكالًا وأبلغ زجرًا، وأنها من حقوق الله تعالى، وهذا لا يصح لما ذكرنا. ولأنه إذا أقيم عليه الحد ربما يبول أو يتقاطر منه دم فيتلوث به المسجد، فلهذا كانت الكراهية فيه، وإن كان في إقامته تلويث المسجد مثل قطع اليد في السرقة ونحوه يحرم في المسجد. فرع آخر إذا سار القاضي إلى مجلسه سلم في الطريق على من يراه؛ لأن السنة أن يسلم الراكب على الماشي، والسائر على الجالس، والقليل على الكثير. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم، أفشوا السلام بينكم". فرع آخر إذا دخل مجلسه سلم على القوم، وكذلك يفعل الخصمان إذا وصلا إليه، ويرد القاضي جواب السلام، فإن عطس القاضي شمتاه أو أحدهما، وإن عطس أحدهما شمته القاضي أو صاحبه. فرع آخر يصلي عند التأهب للجلوس ركعتين، فإن جلوسه في المسجد كانت الصلاة تحية تجوز في أوقات النهي، وإن كانت في غير المسجد لا يصليها في أوقات النهي. فرع آخر إذا فرغ من الركعتين دعا الله تعالى بالتوفيق والعصمة والتسديد، ويستحب أن يدعو بما روت أم سلمة -رضي الله عنها- قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج من بيته يقول: "اللهم إني أعوذ بك أن أزل أو أُزل، أو أضل، أو أضل، أو أظلم أو أُظلم، أو أجهل [81/ أ] أو يُجهل عليَّ". وروي أن الشعبي كان يقولهن ويزيد عليهن: أو أعتدي أو يُعتدى عليَّ، اللهم أعنِّي بالعلم، وزيني بالحلم، وأكرمني بالتقوى حتى لا أنطق إلا بالحق، ولا أقضي إلا بالعدل. فرع آخر قال بعض أصحابنا: يستحب أن يقول هذا إذا جلس للحكم، ثم يشرع في نظره بعد استقبال القبلة، لا سيما إذا كان في المسجد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير المجالس ما استقبل به القبلة".

فرع آخر قال ابن أبي أحمد: ولا يتكئ في مجلسه لما روى عمرو بن الشريد، عن أبيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم رجلًا جالسًا وقد اتكأ على يده اليسرى، فقال: "هذه جلسة المغضوب عليهم"، فأنكر الاتكاء. فرع آخر قال: ويجمع الفقهاء فيجلسهم عن يمينه وشماله حتى يسمعوا كلامه وكلام الخصمين، ويرفع مجالسهم وينزلهم على قدر منازلهم من العلم والنهي، ويكون على رأسه مُحضر يقدم الخصوم ويؤخرهم، ويكون ثقةً أمينًا لئلا يميل مع بعض الخصوم. مسألة: قَالَ: "وَمَعْقُولٌ فِي قَوْلِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَا يَحْكُمُ الحَاكِمُ وَلَا يَقْضِي القَاضِيَ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ". جملة هذا أن يكره للقاضي أن يقضي في حال الغضب، لما روى عبد الرحمن بن أبي بكرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان". وروي أن أبا بكرة -رضي الله عنه- كتب إلى ابنه وهو على سجستان: أن لا تقضي بين اثنين وأنت غضبان، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول .... وذكر الخبر. وروى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقضي القاضي إلا وهو شبعان ريان". وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقضي القاضي [81/ ب] وهو غضبان مهموم، ولا مصاب محزون، ولا يقضي وهو جائع"، فإن الغضب يفسِد عقله وفهمه وخلقه، فيشوش اجتهاده وخاطره، وقد أمر الله تعالى بالتأني والتثبت في الأحكام. وقال أنس -رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "التأني من الله، والعجلة من الشيطان". وروى ابن عباس -رضي الله عهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تأنيت أصبت أو كدت تصيب، وإذا استعجلت أخطأت أو كدت تخطئ". وقال أبو هريرة - رضي الله عنه: قال رجلٍ للنبي صلى الله عليه وسلم: أوصني، فقال: "لا

تغضب". وروي أن شريحًا كان إذا جاع أو غضب قام فلم يقض. وروي عن زياد بن أبي السكن أنه قال: دخلت على الشعبي عند طلوع الشمس وهو يأكل فقال: آخذ حلمي قبل الخروج إلى القضاء. وروي أنه كان يأكل قبل الفجر، فقيل له في ذلك فقال: آخذ حلمي ثم أخرج فأقضي بين الناس. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا إذا غضب لنفسه، فإن غضب لحق الله تعالى فلا بأس أن يقضي في تلك الحالة؛ لما روي أن الزبير بن العوام -رضي الله عنه- لما خاصم جارًا له في الماء، وقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اسق زرعك ثم أرسل الماء إلى جارك" لوى خصمه شدقه، وقال: إن كان ابن عمتك، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى احمرت وجنتاه، ثم قال للزبير: "احبس الماء حتى يبلغ الجدر" فقضي عليه في حال الغضب، وهذا غريب. قال الشافعي رضي الله عنه: "وكل شيء يحدث في الإنسان ما يغير فهمه وخُلقه كالجوع الشديد والعطش، والفرح الشديد، [82/ أ] والحر المزعج والبرد المؤلم، والغم الشديد، وكان يدافع الأخبثين، أو حضره العشاء ونفسه تتوق إليه، أو غلبة النعاس، فكل هذا في معنى الغضب فلا يقضي في هذه الأحوال، ولكن لو قضى فيها نفذ". مسألة: قَالَ: "وَأَكْرَهُ لَهُ البَيْعَ وَالشِّرَاءَ خَوْفَ المُحَابَاةِ". اعلم أنه يكره للقاضي أن يتولى البيع والشراء بنفسه؛ لأنه ربما يبتاع منه بنقصان أو يشتري منه بزيادةٍ، وذلك يجري مجرى الهبة والهدية، ويطلب بها الميل عند الحكم، وذلك محرم على القاضي. وقال في "الأم": في مجلس الحكم أكره له هذا؛ لأن في مجلس الحكم علتين: إحديهما: ما ذكرنا والثانية: اشتغال قلبه. وفي غير مجلس الحكم علة واحدة، فتكون الكراهة أشد في مجلس الحكم. فرع قال: ويجوز أن يوكل إلى غيره ذلك، ولكن ينبغي أن يكون ذلك الوكيل منسوبًا. فرع قالَ: ويجوز أن يوكل إلى غيره ذلك، ولكن ينبغي أن يكون ذلك الوكيل منسوبًا إليه معروفًا به؛ لأن المحاباة تحصل كما تحصل لو باشر القاضي بنفسه، وإنما لا تحصل

المحاباة إذا لم يعلم من بايعه أنه وكيل القاضي. فرع آخر قال في "الأم": "ولو اشترى أو باع لم أنقص البيع ولا الشراء لأنه ليس بمحرم". وحكي عن أبي حنيفة -رحمه الله- أنه قال: لا يكره له تولي البيع والشراء بنفسه، ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "ما عدل والٍ اتجر في رعيته أبدًا". وقال شريح: شرط عليَّ عمر -رضي الله عنه- حين ولاني القضاء ألا أبيع ولا أبتاع، ولا أرتشي، ولا أقضي وأنا غضبان. فإن قيل: أليس كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبيع ويشتري؟ قيل: لأن الله تعالى نزه رسول صلى الله عليه وسلم عما يتوجه إلى غيره من التهمة، فقال: "وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ" [التكوير: 24]، أي بمتهمٍ، ولأنه ما فعل بعد النبوة إلا نادرًا قصد بها بنيان الأحكام. [82/ ب]. فرع آخر إذا لم يجد بدًا من مباشرة البيع والشراء وقد احتكم إليه، اخترنا له أن لا ينظر في حكومته بنفسه ويستخلف من ينظر فيها حتى لا يتهم، فإنه وإن حكم بالحق فإنه لا يؤمن أن يكون قلبه أميل إليه من خصمه إن باشره، أو إلى خصمه إن عاشره. مسألة: قَالَ: "وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنِ الوَلِيمَةِ". الفصل اعلم أن إجابة الداعي إلى الوليمة واجبة على غير القاضي على ما تقدم بنيانه، فأما على القاضي قال بعض أصحابنا: إنها واجبة إلا أن يحللوه؛ لأن الشافعي -رضي الله عنه- قال: "ولا أحب أن يتخلف عن الوليمة"، أو إما أن يجيب كلًا أو يترك كلًا فلم يجعلها واجبة، بل جعلها مستحبةً، وهذا لأنه أجير المسلمين، وفي مروره إلى الولائم ربما يحصل الضرر بالخصوم، فإنه لا يدري متى يتحاكم إليه، فأزيل عنه الوجوب وبقي الاستحباب. ومن أصحابنا من قال: في الأئمة والقضاة ثلاثة أوجهٍ: أحدهما: أنه كغيرهم. والثاني: لا يلزمهم الإجابة لاختصاصهم بمصالح المسلمين، وبه قال ابن أبي هريرة. والثالث: إن كان مرتزقًا لا يحضر، لأنه أجير المسلمين، وإن لم يكن مرتزقًا يلزمه الإجابة. فتكون الإجابة على الوجه الأول فرضًا يأثم بتركها، وعلى الوجه الثاني الإجابة مستحبة يكره تركها، وعلى الوجه الثالث الإجابة مفضلة باعتبار حاله في الارتزاق والتطوع.

فرع قال أصحابنا: وإن كان إذا حضر الولائم كلها انقطع النظر بين الخصوم، أو يؤدي إلى البذلة لزمه النظر وترك الإجابة إلى الولائم؛ لأن الاشتغال بما أخذ عليه الجعل أولى من الاشتغال بغيره. فرع آخر قال: إن للقاضي هذا في الوليمة خاصة دون سائر الدعوات، فإنه لا يستجيب في سائر الدعوات ما يستجيب في الوليمة؛ لأنها دعوة مسنونة فأكد الأمر في إجابتها. [83/ أ] فرع: إذا أراد الإجابة ينبغي أن يجيب الكل بحيث لا ينل بالقضاء، فيكون قد فعل المستحب، ولا ينبغي أن يجيب البعض دون البعض، بل إذا لم يكن إلا ذلك ترك الكل. والأولى في زماننا هذا أن لا يجيب واحدًا؛ لأن السرائر قد خبثت والظنون قد تغيرت، ولكنه يعتذر إليهم ويسألهم التحليل، وهذا على سبيل الاستحباب والاحتياط، ولأنه إذا أجاب البعض يحمل ذلك على الميل إلى قومٍ دون قومٍ وذلك لا يجوز. فرع قال القفال: وإنما يجيب داعيًا لم يقع له خصومة، فأما إذا دعاه أحد الخصمين لا يجيب كما لا يقبل هديته بحالٍ؛ لأن الخصم الآخر ربما لا يمكنه اتخاذ دعوة فينكسر قلبه بحضور القاضي دعوة الخصم. قال: وعلى هذا إذا سلم عليه خصمان لم يخص أحدهما بالجواب، بل يجيبهما أو يدعوهما. وإفشاء السلام أولى غير أن تركه جائز؛ لأنه أهيب وأحرى أن لا يستأنس به الخصوم. قال: وقيل: إذا سلم عليه أحد الخصمين أمر للآخر أن يسلم أيضًا ثم يجيبهما، وإنما يأمر غيره بذلك إذ لا يحسن أن يقول هو بنفسه سلم عليَّ. وقال بعض أصحابنا: إذا حضر الخصوم تسقط عنهم سُنة السلام، فإن سلما جميعًا رد القاضي عليهما، وإن سلم أحدهما ففيه ثلاثة أوجهٍ؛ أحدهما: يرد عليه في الحال. والثاني: يرد عليه بعد الحكم بينهما. والثالث: يرد في الحال عليهما. ومن أصحابنا من قال: لا يرد عليهم القاضي جواب السلام أصلًا؛ لأنهم أوقعوا السلام في غير موقعه فلا يستحقون الرد عليهم. فرع آخر المرتزق إذا حضر الوليمة فإن قل زمان حضوره فيها كاليوم أو ما قاربه لم يلزم رد شيء من رزقه، وإن طال، وأقل زمان طوله ثلاثة أيام، رد من رزقه بقسط ما أخل بنظره. ذكر في "الحاوي".

مسألة: قَالَ: "ويَعُودُ [83/ ب] المَرضي، وَيَشْهَدُ الجَنَائِزَ، وَيَاتِي مَقْدَمَ الغَائِبِ". يستحب له أن يفعل كل ذلك لما روى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد غلامًا يهوديًا في جواره وعرض عليه الإسلام فأسلم. ويحضر كلها إن تيسر بخلاف الولائم؛ لأنها لا تطول والولائم تطول، فله أن يفعل البعض دون البعض. قال أبو إسحاق: ويخص بذلك من عرفه وقرب منه، والفرق بين هذا وبين حضور الولائم أن حضورها حق الداعي؛ لأنه ينفق ويتكلف الناس بحضوره إكرامًا له، وليس كذلك عيادة المريض وحضور الجنائز؛ لأن ذلك من أعمال البر والطاعة يقصد بها وجه الله تعالى والثواب. وأيضًا فإن عيادة المرضي والجنائز تكثر وفي حضورها كلها مشقة شديدة، وانقطاع عما عليه من النظر لامتدادها بخلاف الولائم في الغالب، فيحضرها متى قدر، ولا يجوز أن يحضر بينهم. وأما زيارة القادم فإن شاء زار البعض، وإن شاء تركها وليس عليه زيارة جميع القادمين؛ لأن ذلك مما يكثر ولا ينبغي أن يعتاد الزورات في البلد لهذه الأمور؛ لأن فيه ابتذالًا وتضييعًا للقضاء. وقال ابن المرزبان: سمعت القاضي أبا حمدٍ يقول: الصحيح أن يعود الكل أو يترك الكل، وكذلك في الجنائز ومقدم الغائب، وهذا خلاف ما قاله سائر أصحابنا. والشافعي -رضي الله عنه- ذكر ذلك في إجابة الوليمة دون غيرها، فلا يصح هذا القول. فرع إن جاءَه الخصمان بدأ بهما قبل صلاة الجنازة؛ لأن ذلك فرض على الكفاية والقضاء فرض على عينه. فرع آخر قال الشافعي رضي الله عنه: يجوز للقاضي اتخاذ السحن لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حبس رجلًا في تهمةٍ يومًا وليلةً. وروي أن عمر -رضي الله عنه-[84/ أ] اشترى دارًا بمكة بأربعة آلاف درهم وجعلها سجنًا. وروي أن عمر -رضي الله عنه- حبس الحُطيئة الشاعر فقال: مَاذَا تَقُولُ لأَفْرَاخ بِذِي مَرَخٍ زُغْبِ الحَوَاصِلِ لا ماءٌ وَلَا شَجَرُ أَلْقَيْتَ كَاسِبهُمْ فِي قَعْرِ مظلمةٍ فَارْحَمْ عَليكَ سَلَامُ اللهِ يا عُمَرُ

فخلاه وحبس آخر فقال: يا عمر الفاروق طال حبسي ومرَّ مني إخوتي وعرسي في حدث لم تقترفه نفسي إلا مراء ضوى من شعاع الشمس وروي أن عليًّا -رضي الله عنه- بنى سجنًا. ولأنه يحتاج إليه للتأديب ولاستيفاء الحقوق من المماطل بالدين. فرع آخر قال بعض أصحابنا: يستحب أن يتخذ درة يؤدب بها من استجوب التأديب، ويرهب بها السفيه؛ لما روي أن عمر -رضي الله عنه- اتخذ درة يؤدب بها. وروى أنس بن مالك -رضي الله عنه- أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- ضرب مملوكةً بالدرة، وقال: اكشفي قناعك. وروي أن عمر -رضي الله عنه- رأى زيد بن خالد الجهني ركع ركعتين بعد العصر، فمشى إليه حتى ضربه بالدرة. وروي أن عمر -رضي الله عنه- كتب إلى أبي موسى -رضي الله عنه: إذا رأيت الخصم يتعمد الظلم فأوجع رأسه. فرع آخر قد ذكرنا أنه ينبغي أن يكون على رأس القاضي رجل ينادي هل من خصمٍ ويقدم الأول فالأول. قال ابن المنذر: ويستحب أن يكون خادم من أجل النساء اللواتي يتقدمن إلى القاضي. وروي عن الشعبي أنه كان يقضي وعلى رأسه رجل ينادي هل من خصمٍ. فرع آخر قد ذكرنا أنه يجمع الفقهاء وقت القضاء، وقيل: يستحب أن يستحضرهم من كل مذهب ويستشيرهم فيما يشكل عليه، ثم إن شاء جمعهم في مجلس حكمه، وإن شاء أقعدهم [84/ ب] ناحيةً حتى يستدعيهم إذا احتاج إليهم، وإذا حضروه لا يردون عليه إلا ما خالف نص الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الذي لا يحتمل إلا معنًى واحدًا، إلا أن يسألهم عن ذلك فيجيبون. وينبغي أن يكون عنده شاهدان عدلان حتى إن احتاج يشهدهما فيتحملان الشهادة على ما يجري فإن في حكم القاضي بعلمه خلافًا بين العلماء فيخرج بذلك من الخلاف، ويجوز أن يقعدهما ناحيةً إذا قلنا يقضي القاضي بعلمه؛ لأن أكثر ما فيه أن يقر بعض الخصوم ثم جحد فيحكم بعلمه، ويجب أن يقعدهما بحضرته إذا قلنا لا يقضي القاضي بعلمه، حتى إن جحد الخصم بعد الإقرار شهدا به. فرع آخر ينبغي أن يكون القاضي مطرقًا رأسه عند دخول جميع المتنازعين عليه من شريفٍ

ومشروفٍ، ويراعي الوقار فلا يبدأ أحدًا بكلامٍ أو سلامٍ أو إكرامٍ. وحكي أن المهدي أمير المؤمنين تقدم مع خصوم له إلى مجلس عبيد الله العنبري قاضي البصرة، فلما رآه القاضي مقبلًا أطرق إلى الأرض حتى جلس مع خصومه مجلس المتحاكمين، فلما انفضت الخصومة قام القاضي فوقف بين يديه، فقال المهدي: والله لو قمت حين دخلت عليك لعزلتك، ولو لم تقم حين انقضى الحكم لعزلتك. وهذا لأن قيامه قبل الحكم ميل، وترك قيامه له بعد الحكم تركًا لحق الإمام، فيكون العزل الأول مستحقًا والعزل الثاني أدبًا. فرع آخر ينبغي أن يبعد مجالس الخصوم منه ليكون أبلغ في الهيبة، وأيضًا لا يسبق إليه تهمة أن يشير إلى أحدهما بخلاف الحق، ويكون البساط الذي يجلس عليه متميزًا عن بساط الخصوم حتى يكون أهيب له. فرع آخر ينبغي أن لا يحضر مجلسه مع الخصوم إلا من له بالحكم تعلقٌ، [85/ أ] فإننا نستحب ألا يخلو مجلس الحكم من شهودٍ وفقهاءٍ، أما الشهود فليشهدوا بما جرى فيه، وأما الفقهاء للمشاورة على ما ذكرنا. ويمنع أن يحضر مع الخصم من ليس بوكيل له في المخاصمة. فرع آخر قال بعض أصحابنا: يستحب أن يسوي بينهما في مقعدهما والنظر إليهما وكلامه لهما، ولا يخص أحدهما بترتيب ولا نظرٍ ولا كلامٍ، وليكن جلوس الخصوم بين يديه جثيًا على الركب، ليتميز عن جلوس غيرهم فيكون أهيب. وينبغي أن يكون كلام الخصوم مقصورًا على الدعوى والجواب، وكلام القاضي مقصورًا على المسألة والحكم. وقال في "الحاوي": ينبغي أن يميز مجلس الحكم من غيره من خمسة أوجهٍ: أحدها: فضل وقار القاضي، فلا يبدأ بكلامٍ أو سلامٍ، ويطرق رأسه على ما ذكرنا. والثاني: أن يبعد مجلس الخصوم عنه. والثالث: ألا يحضر مع الخصوم إلا من له تعلق بالحكم. والرابع: أن يسوى بينهما على ما ذكرنا. والخامس: أن يكون كلامهم مقصورًا على الدعوى والجواب كما ذكرنا. فرع آخر إذا أراد القاضي أن ينظر في الأمور عند جلوسه للقضاء، فأول ما يبدأ بالنظر فيه أمر

المحبوسين، فيتصفح عن أحوالهم، ولا يحتاج فيه إلى متظلم إليه لعجز المحبوس عن التظلم، وهذا لأن الحبس عذاب، فهم أهل بالنظر فيه من غيرهم. فرع آخر إذا بدأ بهم ينفذ إلى الحبس رجلين من إمائه حتى يكتب اسم من حبس له، وبأي شيء حبس. وقال بعض أصحابنا: [85/ ب] ينفذ إلى الحبس ثقةً أمينًا ومعه شاهدا عدلٍ، وقيل: يبعث بثقةٍ ولا يعتبر العدد، وعندي الاحتياط في العدد ولكن يجوز أن يقتصر على واحدٍ؛ لأن طريقه الخبر. فرع آخر إذا أراد الأمين أن يكتب أسماءهم يقدم بالقرعة من خرجت عليه القرعة، وإذا حمل المكتوب إلى القاضي، ثم ينادي في الناس ثلاثة أيام إن كان البلد كبيرًا، أو يومًا واحدًا إن كان البلد صغيرًا، أن القاضي يبدأ بالنظر في أمر المحبوسين، فمن كان له على محبوسٍ حق فليحضر في يوم كذا. وقيل: ينادي هكذا أولًا ثم يبعث ثقةً مع شاهدين ليكتب اسم المحبوسين، ولا بأس بهذا عندي. فرع آخر إذا اجتمعوا أقرع بين المحبوسين فيمن يقدمه في النظر، ولا يقرع بين الخصوم؛ لأن نظرهُ للمحبوسين على خصومهم، ثم إذا أقرع أحدهم أمر بإخراجه وينادي بإحضار خصمه، ولا يفتقر إخراج المحبوس إلى إذن خصمه؛ لأنه يخرج في حقه لا في حق حبسه. وقيل: إذا استبين خصم المحبوس الذي خرجت عليه القرعة وجههُ القاضي مع أمينه إلى الحبس حتى يأخذ بيد خصمه ويأتي به إلى مجلس الحكم. فرع آخر لو كان الحبس بعيدًا أخرج بالقرعة جميع من يقدر على النظر بينهم في يومه قبل شروعه في النظر. فإذا تكاملوا بدأ بالنظر في أمر الأسبق بالقرعة السابقة ولا يستأنف قرعة ثانية، وإن كان الحبس قريبًا من مجلس الحكم لم يخرج منه ثانيًا إلا بعد فراغه من النظر في أمر الأول؛ [86/ أ] لأن المقصود اتصال نظره، ولا يتصل مع البعد إلا بإخراج كلهم، ويتصل مع القرب بإخراج واحدٍ. فرع آخر إذا تقدم المحبوس إليه سأله عن سبب حبسه، ولا يقتصر على السؤال الأول في الحبس وعارضه به، فإن اتفق جوابه عمل عليه، وإن اختلف جوابه عمل على أغلظ الأمرين من الأول والثاني، فإن ثبت في ديوان الحكم سبب حبسه قابله بما قال في الأول والثاني وعمل على أغلظ الثلاثة. فرع آخر إذا استقر العمل بأحد الأمور كان له فيما يذكره من سبب حبسه خمسة أحوال:

أحدها: أن يقول: حبسني تعزيرًا في اللدد كان مني ولم يحبسني خصم، فقد استوفي حق التعزير بعزل الأول، وأن يستكمل مدة حبسه مع بقاء نظر الأول؛ لأن القاضي الثاني لا يعزر لذنبٍ كان مع غيره، ولم يطلقه لجواز أن يكون له خصم لم يذكره حتى ينادي أيامًا بأن القاضي قد رأى إطلاق فلانٍ من حبسه، فإن كان له خصم قد حبس له فليحضر، فإذا مضت ثلاثة أيام ولم يحضر له خصم أطلقه بعد إطلاقه أنه ما حبس بحق خصمٍ. والحالة الثانية: أن يقول: شهد الشهود عليَّ بحقٍ له ولكن لم تثبت عدالتهم فحبسني لتعديلهم، فاختلف أصحابنا في جواز الحبس لاستكشاف حال الشهود، فقال أبو إسحاق: يجوز؛ لأن الخصم قد أتى بما عليه، وإنما بقي الاستكشاف الذي إلى الحاكم. وقال الإصطخري: لا يجوز ذلك؛ لأنه ربما لا يعد لأن يكون حبسًا بحقٍ. فإن قلنا بقول أبي إسحاق يرد إلى الحبس حتى يسأل عن أحوال الشهود. وإن قلنا بقول الإصطخري عليه بتكامل البينة بالعدد والصفة. وقال بعض أصحابنا: إن قلنا بقول الإصطخري وكان القاضي قال: حكمت بحبسه لزوم حبسه [86/ ب] باجتهاده، ولا يجوز إطلاقه، وإن لم يقل حكمت وجب إطلاقه، ولكن لا يعجل بإطلاقه حتى ينادي في الناس ثلاثة أيام على ما ذكرنا. والحالة الثالثة: أن يقول: حبسني تعديًا بغير حقٍ ولغير خصم فقد ادعى ما يخالف الظاهر من أحوال القضاة، وحبسه حكم فلا ينقص إلا بتعيين الفساد، وعمل على بينةٍ إن كانت، فإن شهدت أنه حبس بحقٍ عزر في جرحه للقاضي الذي حبسه، وإن شهدت أنه حبس بظلم نادى ثلاثًا في حضور خصمٍ إن كان له ثم أطلق بعد ثلاثٍ إن لم يحضر، وإن لم تقم بينة بأحد أمرين لزم بأن ينادي ثلاثًا على ما ذكرنا، فإن لم يظهر له خصم خلاه ولا يخليه حتى يحلفه أنه لا خصم له؛ لأن دعواه تخالف الظاهر هنا هذا بخلاف المسألة قبلها. وقال في "الحاوي": يعيده إلى حبسه ويكشف عن حاله حتى ييأس القاضي بعد الكشف من ظهور حق عليه، وطالبه بكفيل بنفسه ثم أطلقه. فإن قيل: الكفالة بالنفس لا تصح إلا ممن يثبت عليه حق. قيل: الحبس من جملة الحقوق، فإن عدم كفيلًا استظهر في بقاء حبسه على طلب كفيلٍ ثم أطلقه عند إعوازه، بينهما، وإن أنكر قيل: أنت مدعي ابتداءً فحكم أو أقم البينة أنه كان محبوسًا بدينك وإلا حبسناه. والحالة الرابعة: أن يقول: حبسني الخصم بما لا يستحق بإراقة خمرٍ وقتل خنزير، فإن كان الخصم مسلمًا يطلقه، وإن كان الخصم ذميًا، فإن كان القاضي شفعويًا لا يرى وجوب غرمه كان حكمه باطلًا، وصار القاضي الثاني هو الحاكم، فإن كان شفعويًا

أيضًا لا يرى وجوب الغرم حكم بإطلاقه، وإن كان حنيفًا حكم بمذهبه حكم يحبسه إن امتنع، وإن كان [87/ أ] القاضي الأول حنفيًا يرى وجوب الغرم، فإن كان رأى القاضي مثل رأيه كان المحبوس على حبسه، وإن كان مخالفًا له لم ينتقض حكم الأول لنفوذه عن اجتهادٍ سائغ، وهل يجب إمضاؤه على الثاني؟ فيه قولان: أحدهما: يلزمه إمضاؤه؛ لأن اجتهاده انتقض بالاجتهاد. والثاني: لا يلزمه إمضاؤه لبطلانه عنده، ويعيده إلى حبسه من غير أن يلزمه القضاء؛ لأنه لا يراه ولا يطلقه لأنه لا ينقض الحكم به وأقره فيه حتى يصطلحوا. والحالة الخامسة: أن يقول: حبسني لخصم بحقٍ، فيسأل عن خصمه وعن الحق الذي حبس به، فإذا حضر وطالب فإن كان من حقوق الأبدان كالقصاص، فالحبس به غير مستحق؛ لأن تعجيل استيفائه منه ممكن وإن كان مالًا، فإن كان عينًا فإن استحقه بعقدٍ حكم فيه بما يوجب العقد من إقباض الثمن وتسليمه، وإن استحقه بغير عقدٍ كالمغضوب، فإن ثبت قبضها ببينةٍ حكم القاضي بتسليمها، وإن ثبت بإقراره رفع يده عنها، ولم يمنع المدعي منها ولم يحكم له بتسليمها لجواز أن تكون لغيره، وإن كان مالًا في الذمة أمره بقضائه إن كان مليًّا، وإن ادعى عسرة نظر في سبب الاستحقاق، فإن كان عن مقابلة مالٍ لم يقبل إلا بعد الكشف، وإن كان في غير مالٍ قبل قوله في العسرة مع يمينه، ووجب إطلاقه بها بعد النداء عليه، يقال: ألا إن فلان ابن فلان يُخلى، فإن كان له خصم آخر فليحضر، وهذا لجواز أن يكون له خصم آخر. ولو أقام صاحب الدَّين البينة على أن للمحبوس مالًا، فإن لم يعين المال لم تسمع الشهادة للجهل بها، وإن عين المال بأن له هذه الدار، [87/ ب] سُئل المحبوس، فإن اعترف بها حكم بقضاء الدين منها، ولو امتنع باعها عليه وقضى عنه دينه، وإن أنكرها فإن لم يقرّ بها لغيره لا يؤثر إنكاره وتباع عليه، وإن أقرّ بها لغيره فإن أحاله على إنسانٍ مجهول لا يعرفه بيعت عليه ولا يتوقف، وإن أحاله على معلوم وقال: هي لزيدٍ، سُئل زيد فإن أنكرها بيعت عليه ووكل القاضي عنه وكيلًا ببيعها، ولا يتولى القاضي مع إنكاره. وإن صدقه زيد قيل له: ألك بينة بأن الدار لك ملكًا، فإن أقامها حكم له بالدار؛ لأنه معه بإقرار المحبوس بينة ويدًا، فكان أولى من بينة المحبوس مع زوال يده بالإنكار، وإن لم يكن له بينة ففي الحكم بها لزيدٍ وجهان: أحدهما: يحكم بها لزيدٍ؛ لأن المحبوس قد أبطل بينة فبطل شهادتها وصار مقرًا بها لزيدٍ فلزم إقراره. والثاني: لا يحكم بها لزيد وتكون الدار ملك المحبوس؛ لأن البينة شهدت له بالملك، ولصاحب الدين بالقضاء، فإذا أكذبها ردت في حق نفسه ولم ترد في حق صاحب القرض، فإذا بيع المال عليه أو لم يبع ينادي عليه ويخلي. وعلى ما ذكرنا لو قال: حبسني بحد الخمر، أو حد القذف لفلان، أو حد الزنا ينظر فيه ونحده إن لزمه الحد، ويخليه إلا إذا أمكن استيفاء الحد، فلا فائدة في

التأخير. وإذا أراد تخليته أمر بالنداء عليه على ما ذكرنا. ولو قال: حبسني فلان من غير الحكم لا يقبل ذلك؛ لأنه خلاف الظاهر، ويستكشف على ما ذكرنا إذا قال: حبسني ظلمًا، وإذا أراد أن يخليه حلفه، وقيل: إن كان فلان حاضرًا أحضره [88/ أ] حتى يقيم عليه البينة أن له عليه حقًا وإلا أطلقه، وإن كان غائبًا ففيه وجهان: أحدهما: يطلقه؛ لأن الأصل أن لا حبس. والثاني: لا يطلق؛ لأن الظاهر أنه حبسه القاضي بحقٍ. ذكره بعض أصحابنا بخراسان. فرع آخر إذا فرغ من أمر المحبوسين على ما ذكرنا نظر في أمور الأوصياء؛ لأن الوصي ينظر في مال من لا يمكنه المطالبة بحقه، ولا يعبر عن نفسه، وهم الأطفال والمجانين والمساكين، فكان النظر في أمرهم أولى. ثم لا يخلو الوصي من أربعة أقسامٍ: أحدهما: أن يقيم البينة على أن الحاكم الذي نفذ وصيته وأطلق تصرفه في المال، فإن القاضي الثاني لا يتعرض له، ويمضي عليه ما ثبت من حكم الأول؛ لأن الظاهر أن الأول لم ينفذه إلا بعد ثبوت عدالته، إلا أن يعلم من حدوث فسقٍ أو خيانةٍ فينقضي ذلك. والثاني: أن لا يكون الحاكم الأول نفذ وصيته، وأراد أن يقيم البينة عنده على الوصية، فإن الحاكم الثاني يسمع بينته، ونظر في عدالته، فإن كان عدلًا أمضاه، وإن كان فاسقًا انتزع المال من يده وجعله في يد أمينٍ عدلٍ. وإن شك في أمانته ففيه وجهان؛ قال الإصطخري: يقره في يده؛ لأن الظاهر الأمانة، كما لو نصبه الحاكم. وقال أبو إسحاق: ينتزع المال من يده حتى يعلم أمانته، ويفارق أمين الحاكم؛ لأن الحاكم لا ينصب إلا من هو ثقة مرضي، وإن كان أمينًا ضعيفًا ضمَّ إليه أمينًا يقويه. والثالث: أن يقسم الوصي البينة أن فلانًا أوصى إليه وأمره بتفرقة المال، وقال: قد فرقت، نظر الحاكم، فإن كانت الوصية لأقوامٍ معينين لم يتعرض له قلوا أو كثروا؛ لأنهم يطالبون به وإن لم يوصله إليهم. وإن كانت الوصية لغير معينين مثل الفقراء والمساكين نظر، [88/ ب] فإن كان عدلًا لم يضمنه، وإن كان فاسقًا ضمنه؛ لأن الفاسق لا يكون وصيًا، فكان تفرقة المال تعديًا منه عليه فيلزمه ضمانة، ورد تفريق ما يضمنه إلى أمينه حتى يفرقه عليهم، وليس للوصي أن يرجع على المساكين بما فرقه وإن صدقوه على الوصية؛ لأنه مقرٌ بوصوله إليهم بحقٍ، ذكره في "الحاوي". وإن كان فسقه خفيًا يحتاج إلى الاجتهاد نفذ تصرفه ولا يضمنه إلا بالتعدي ما لم يحكم بفسقه، وإن كان الفسق ظاهرًا وباع شيئًا من التركة فسخ بيعه وإن لم يكن عرف

المال بعد، فإن كان عدلًا قويًا فهو أكمل الأوصياء حالًا فيقره في يده ونفذ وصيته؛ لأنه من أهل الولاية. وإن أمينًا ضعيفًا لا يقدر على التفرد بتنفيذ الوصية يضم إليه أمينًا يقوى به في تنفيذها. وإن كان فاسقًا عزله؛ لأن الوصية ولاية والفاسق ليس من أهل الولاية. ومن أصحابنا من قال: هذا إن كان خائنًا في الأمانة فاسقًا في الديانة ثقة في الأمانة، فإن كانت الوصية بالولاية على الأطفال أو بتفريق الثلث في غير معينين انتزعها منه وردها إلى غيره، وإن كانت لتفريق الثلث لمعينين أو في قضاء الدين لمسمين يجوز أن يقرها في يده، والفرق أن في تلك ولاية واجتهاد وليس الفاسق من أهلها، وهذه مقصورة بالتعيين على التنفيذ دون الاجتهاد. والرابع: أن يقول: إن فلانًا أوصى بتفرقة هذا المال وخفت عليه الهلاك ففرقته بنفسي، ولم تكن الوصية إليَّ وأقام البينة على الوصية، فإن كان لأقوام معينين لم يتعرض له حتى يدعي من له الوصية، وإن كان لأقوام بأوصافٍ مثل الفقراء والمساكين فيه وجهان؛ [89/ أ] أحدهما: يضمن؛ لأنه متعدي بتفرقته. والثاني: لا يضمن؛ لأنه قد أوصله إلى أصحابه ووضعه في موضعه، والأول أصح عندي. واعلم أنه إذا أراد النظر في أمور الأوصياء، بدأ بمن يرى من غير قرعةٍ بخلاف المحبوسين؛ لأن هذا من نظر اجتهادٍ، ولأن النظر فيه عليهم لا لهم. وقيل: للوصي ثلاثة أحوالٍ: أحدهما: أن يكون وصيًا في الولاية على الأطفال أو المجانين فيلزمه في حقهم ثلاثة أشياء؛ حفظ أصول أموالهم، وتمييز فروعها، والنفقة عليهم بالمعروف. والثانية: أن يكون وصيًا في تفريق الثلث وقضاء الدين، فلا يتعداه إلى ولاية الأطفال، ونظر في الوصية فإن كانت لمعينين سقط اجتهاده فيها، وصرف الدين والثلث إلى المسلمين، وإن كانت في موصوفين وصاروا بعد الدفع فيها كالمعينين، فإن عدل عن أهل تلك الصفة إلى غيرهم لم يجز، وضمن لأهل تلك الصفة، ولا يكون له استرجاع ما دفع إليهم إلا أن يصدقوه على الوصية والصفة. والثالثة: أن يكون وصيًّا في الأمرين من ولاية الأطفال، وتفريق الثلث فهي الوصية العامة، فيلزمه أن يعمل في كل واحدٍ منهما ما كان يعمله لو تفرد به، فإذا عرف القاضي كيفية الوصية اختبر حال الوصي في أمانته وثبوته على ما ذكرنا. فرع آخر إذا فرغ من أمر الأوصياء نظر في أمور الأمناء، فالأمين هو الذي ينصبه القاضي في أموال الأيتام الذين لا وليَّ لهم، وفي أموال المحجور عليهم للسفه ينظر في أمرهم، فإن لم يكن حالهم تغيرت وكانوا من أهل الأمانة والنظر أقرهم، وإن تغيرت حالهم عزلهم، وإن أراد يولي غيرهم ويعزلهم من غير تغيير حالهم [89/ ب] كان له ذلك،

والفرق بين هذا وبين الوصي حيث قلنا ليس له أن يعزله إن تولية الوصي ابتداء لم تكن إليه، وتولية هذا إليه إن لم يكن القاضي الأول ولاه فكان له عزله أيضًا، وإن وجد فيه ضعفًا فالقاضي بالخيار بين أن يضم إليه قويًا من أمنائه، أو ينتزع من يده إلى قوي بخلاف الوصي. وقال في "الحاوي": يعتبر فيهم ثلاثة أشياء. أحدها: ما هم عليه من قوة وأمانة. والثاني: ما يتصرفون فيه من الولاية عن الأطفال والنظر في الأموال. والثالث: ما فعلوه فيها من قبل وما يستأنفوه من العمل فيها من بعد. ويبدأ بمن يراه منهم من غير قرعةٍ كالأوصياء، ولا يخلو حال الأمين فيها من أربعة أحوالٍ: أحدهما: أن يكون عدلًا وقد فعل ما جاز فيكون على ولايته ونفاذ فعله. والثانية: أن يكون عدلًا وقد فعل ما لم يجز بالجهالة فيكون على ولايته، ويرد ما فعله ويضمن إن فات استدراكه. والثالثة: أن يكون فاسقًا وقد فعل ما جاز، فولايته باطلة بفسقه، ولا يضمن ما تعين ويضمن ما لم يتعين كالوصي. والرابعة: أن يكون فاسقًا وفعل ما لم يجز فولايته باطلة ويرد ما فعل ويضمن ما تصرف فيه. فرع آخر لو ادّعى هذا الأمين أجرة جعلها له الحاكم قبله، فإن أقام بينة أعطاه إذا لم يرد على أجرة مثله، وإن عدم البينة ففي استحقاقها وجهان مبنيان على الوجهين إذا ركب الدابة من ادعى إعارتها، وادعى المالك إجارتها، فإن قلنا هناك لا أجرة لمالك الدابة فلا أجرة للأمين هنا. وإن قلنا هناك يلزم الأجرة تلزم الأجرة هنا. فرع آخر إذا فرغ من أمور الأمناء نظر في أحوال الضوال [90/ أ] واللقطة، فربما يكون من الناس من لا يختار وتملك اللقطة فيتركها عند الحاكم، فينظر الحاكم في ذلك فما لا يخاف تلفه ولا يلزمه مؤنةٌ في حفظه حفظه على صاحبه، وما يلزمه مؤنة في حفظه أو يخاف عليه التلف كالمواشي وغيرها باعها وحفظ ثمنها على صاحبها، وإن كانت دراهم أو دنانير أو نحو ذلك أخذها الحاكم وجعلها في بيت المال معرفة له عن خبرها، حتى إذا جاء صاحبها ردها عليه أو خلطها في مال بيت المال. وقال في "الحاوي": جملة ما ذكرنا أن القاضي يبدأ بالنظر في الأمانات وهي خمسة: أحدها: أن يتسلم ديوان الحكم ممن كان قبله.

والثانية: أن يتصفح أحوال المحبوسين. والثالثة: النظر في أمور الأوصياء. والرابعة: النظر في أمور الأمناء. والخامسة: النظر في الوقوف العامة والخاصة. ففي العامة لا يقف النظر على مطالبةٍ؛ لأن مستحقها لا يتغير. وفي الخاصة؛ لأن مصرفها إلى معين من الفقراء، فينظر هل يصل إليهم؟ وهل يستحق الولاية على من يعين منهم بصغرٍ أو جنونٍ، وليعلم سبيلها فتحمل على شروط واقفيها، وإن تغير حال الوالي عليها فعل به ما قدمناه في الأولياء والأوصياء. فرع آخر يجب على القاضي بعد تصفح حال الأمناء والأوصياء أن يثبت في ديوانه حال كل أمين ووصي فيما بيده من الأموال، ومن يلي عليه من الأيتام، ليكون حجة للجهتين، فإن وجد ذكره في ديوان القضاء الأول عارض به وعمل بأحوطها، وإذا تطاول مدة الوقف سجل به لتكون الحجة باقية ويثبته في ديوانه. مسألة قال: "وإذا بان له من أحد الخصمين لدد نهاه". الفصل: أراد باللدد شدة اللجاج [90/ ب] والخصومة. وفي اللغة: اللدد الالتواء والميل، يقال: لديد الوادي وهما جانباه لأنهما يكونان ملتويين، وسمي الوجور من أحد الشدقين لدودًا؛ لأنه يميل يقال: خصم ألدُّ وخصوم لد. قال الله تعالى: {وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُّدًّا} [مريم: 97]، وقال تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204]، وهو لا يميل ولا يستقيم على جهةٍ واحدةٍ، ويقال: فلان يتلدد إذا كان يتلفت يمينًا وشمالًا. فإذا تقرر هذا، فهذا اللدد يوجد من الخصم ويظهر للحاكم من وجوهٍ؛ أحدهما: أن يقول: استحلف الخصم فإذا كان في أثناء التحليف يقول: اقطع فلي بينة، ثم لا يكون له بينة أو يقدمه إلى الحاكم، فإذا أراد أن يحكم يقول: لي بينة، ثم يمضي ويقدمه مرةً أخرى، ولا يكون له بينة، فإذا أراد أن يحكم يقول: لي بينة ويتكرر منه ذلك بحيث يعلم أنه يقصد الإضرار والتعنت، أو يحمله إلى مجلس الحكم ويهرب ثم يعود من الغد ويحمله ثانيًا ونحو ذلك، فإذا بان للحاكم ذلك أول دفعةٍ نهاه ولا يبدؤه بزبرٍ ولا زجر، فإن عاد ثانيًا زبره وزجره، ويعتبر ذلك من وجهين؛ أحدهما: بحسب لدده. والثاني: على قدر منزلته. فإن عاد ثالثًا ضربه أو حبسه تعزيرًا يجتهد فيه بحسب اللدد على قدر المنزلة. وقيل: في الأول نهاه، وفي الثاني زبره، وفي الثالث زجره وأغلظ القول، وفي الرابع عزره وهذا حسن عندي، وهو اختيار القاضي الطبري، وإنما يبدأ بالنهي لأنه

ربما فعل ذلك ليضيق صدره، ثم إذا عاد يزيد في درجة النهي، وعلى هذا. فرع لو كان في لدده شتم وفحش وكان سفيهًا ضربه بالنعل وأطراف الثياب على مقداره، وإن كان شيخًا ساكتًا يمنع الحق ويخرج عن الواجب باللدد حبسه، فإن جمع [91/ أ] في لدده بين الأمرين جاز أن يجمع في تعزيره بين الضرب والحبس. فرع آخر قال بعض أصحابنا: يضرب ضرب تأديب بالدرة ضربًا رقيقًا لا يؤلم ألمًا شديدًا ولا يضربه بالسوط لأنه ينكأ في البدن ولا يصنعه؛ لأنه بذله ولا يبطحه ولايمده. فرع آخر لو ردَّ على القاضي وأغلظ له القول، فإن رأى تأديبه فعل، وقد ترك النبي صلى الله عليه وسلم التأديب في قصة الزبير مع الأنصاري حين قال: إن كان ابن عمتك. وقيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم عزره حين قال للزبير: "أمر الماء على بطنه واحبسه حتى يبلغ الجدار"، وهذا القول منعه تعزيرًا. وروي أنه كان يقسم الصدقات، فقال له رجل: اعدل، فقال: "ويلك لم أعدل فمن يعدل". وهذا القول تعزيرًا، وفيه نزل قوله تعالى: "وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ" [التوبة: 58] الآية. فرع آخر قال الشافعي رضي الله عنه: "وأحب أن لا يكون القاضي جبارًا عسوفًا عييًا ولا ضعيفًا مهينًا"؛ لأنه إن كان جبارًا تهيبه الخصوم فلا يتمكنون من استيفاء حجتهم، وإن كان مهينًا ضعيفًا انبسطوا بين يديه واستخفوا به، ولكن يكون بين أمرين معتدل الأحوال وقورًا، كما وصف أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- شديد من غير عنف، ولين من غير ضعف. وقال عمر رضي الله عنه: لا يصلح لأمور الأمة إلا رجل قوي من غير عنف، ولين من غير ضعف، لا يأخذه في الله لومة لائم". مسألة قَالَ: "وَيُشَاوِرُ، قَالَ اللهُ تَعَالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} [آل عمران: 159] ". اعلم أنه إذا أراد القاضي أن يقضي، فإن كان يقضي في أمرٍ ظاهرٍ عليه نص كتابٍ، أو سنةٍ، أو إجماع أو قياسٍ، لا يحتمل إلا معنًى [91/ ب] واحدًا لا يحتاج في ذلك إلى المشاورة، إنما ترد للاجتهاد والنظر، وهذا أمر ظاهر لا يحتاج فيه إلى الاجتهاد والنظر، وإن كان يقتضي في أمر خفي يحتاج فيه اجتهاد ونظر، يستحب له أن يشاور لقوله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}. قال الحسن البصري رحمه الله: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لغنيًا ولكن أراد أن يستن

بذلك الأئمة والقضاة بعده. وقال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المستشير معان والمستشار مؤتمن". وقد شاور رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه في أسارى بدرٍ، فأشار أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- بالفداء، وأشار عمر بالقتل، فأخذ برأي أبي بكر الصديق وفادى، فأنزل الله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} [الأنفال: 67]، الآية، فقال صلى الله عليه وسلم: "لو نزل عذاب من السماء لما نجا منه إلا عمر بن الخطاب". وشاور أهل المدينة في شيئين؛ في حفر الخندق حتى اتفقوا عليه، وفي صلح الأحزاب على ثلث ثمار المدينة، فقالوا: إن كان الله أمرك بهذا فالسمع والطاعة لأمر الله تعالى، وإن كان غير ذلك فلا نطعمهم فينا فإنهم في الجاهلية لم يكونوا يصلون إلى ثمرة إلا بشراء أو قرى فامتنع. وشاور أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- الصحابة في الجدة أم الولد هل ترث؟ وشاورهم عمر -رضي الله عنه- في أم الأب وفي دية الجنين [92/ أ] التي أجهضت ما في بطنها. وشاورهم عثمان -رضي الله عنه- في الأحكام. وقال الزهري: قال أبو هريرة -رضي الله عنه- ما رأيت أحدًا أكثر مشاورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عمر بن عبد العزيز: القاضي لا ينبغي أن يكون قاضيًا حتى يكون فيه خمس خصالٍ؛ يكون عفيفًا حليمًا عالمًا بما كان قبله، مستشيرًا ذوي الألباب، لا يبالي بملامة الناس. ولأنه إذا شاور يكون أقطع للتهمة وأوضح لحكم المسألة، ويتنبه بالمشاورة ويتذكر بها ما نسيه. وقيل: كان علي -رضي الله عنه- قليل الاستشارة في الأحكام؛ لأنه قد شاهد استشارة من قبله فاكتفي بها. وقيل: لأنه لم يبق في عصره عديل يشاوره. وقيل: كان استشارة رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمور الدنيا ومصالحها. واختلف أصحابنا في استشارته في الدين والأحكام كاختلافهم، هل له أن يجتهد رأيه فيها، فقال بعضهم: ما استشار صلى الله عليه وسلم في الدين ولا في الأحكام؛ لأن الله تعالى قال: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4]، وقال آخرون: استشارهم في الدين والأحكام، فمنه ما شاورهم في علامةٍ تكون لأوقات الصلوات، فأشار بعضهم بالناقوس وبعضهم بالقرن والقصة معروفة. وشاور أصحابه في حد الزنا والسارق، فقالوا: الله ورسوله أعلم، فقال: "هن فواحش وفيهن عقوبة" حتى أنزل الله تعالى فيهما ما أنزل، [92/ ب] وهذا قول من جعل الاجتهاد رأيه فيها. وأما غير رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصحابة ومن بعدهم فمشاورتهم في مصالح الدنيا

وأحكام الدين فيما يختص منها بالدنيا ندب إليه عقلًا، وما اختص منها بالدين ندب إليه شرعًا، ولو لم يشاور وحكم نفذ إذا لم يخالف نصًا، أو إجماعًا، أو قياسًا جليًا، وليس على أهل الشورى أن يعارضوه فيه، ولا يمنعوه منه إذا كان مسوغًا في الاجتهاد. مسألة قَالَ: "وَلَا يُشَاوِرُ إِذَا نَزَلَ بِهِ المَشْكِلُ إِلَّا أَمِينًا عَالِمًا بِالكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالآثَارِ". الفصل اعتبر فيمن يشاور شروط المفتي وذكر سبع شرائط؛ الأمانة، والعلم بالكتاب، والعلم بالسنة، والعلم بالآثار -يعني أقاويل الصحابة- والعلم بأقاويل الناس -يعني العلماء بعدهم- فيما أجمعوا عليه وفيما اختلفوا فيه، والعلم بالقياس، والعلم بلسان العرب. ومعنى قوله: عالمًا بالكتاب والسنة: أن يكون مع العلم بمعانيها مهديًا إلى ترتيب أحدهما على الثاني عند تقابل المختلفين، ولا يشاور العوام؛ لأن القصد من المشورة طلب الفائدة، ولا يكون ذلك إلا بالمشورة مع العلماء. واعلم أن المشكل وغير المشكل في ذلك سواء، وإن خص الشافعي -رضي الله عنه- فقال: "إذا نزل به المشكل". فرع يجوز أن يشاور الأعمى، والعبد، والمرأة؛ لأنه يعتبر فيمن يشاور شروط المفتي، ولا يعتبر في المفتي البصر والحرية والذكورة، وإنما يعتبر شرطان؛ العدالة المعتبرة في المخبر دون الشاهد؛ لأن الحرية شرط في الشاهد دون المفتي، [93/ أ] والثاني أن يكون من أهل الاجتهاد، فإنه يحيط علمه بخمسة أصولٍ: أحدهما: علمه بكتاب الله تعالى في معرفة ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومفسره ومجمله، وعمومه وخصوصه وإن لم يقم بتلاوته. والثاني: علمه بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعرفة أخبار التواتر والآحاد، وصحة الطرق والإسناد، وما تقدم منها وما تأخر، وما كان على سببٍ وغير سببٍ وإن لم يسمعها مسندة إذا عرفها من وجوه الصحة. والثالث: علمه بالإجماع والاختلاف وأقاويل الناس، ليتبع الإجماع ويجتهد في المختلف فيه. والرابع: علمه بالقياس الجلي والخفي، وقياس المعنى وقياس الشبه، وصحة العلل وفسادها. والخامس: علمه بالعربية فيما تدعو إليه الحاجة من اللغة والإعراب؛ لأن لسان

الكتاب والسنة عربي، فيعرف لسان العرب وصيغة ألفاظهم، وموضوع خطابهم، ليفرق بين الفاعل والمفعول، وحكم الأوامر والنواهي في الندب والإرشاد، والعموم والخصوص. فإن قيل: هذه الشرائط لا تجتمع في أحدٍ فيكون سد باب الاجتهاد والفتوى. قيل: لم يرد الشافعي -رضي الله عنه- أن يكون محيطًا بكلها، بل إذا علم الأصول الخمسة وأشرف عليها حتى ينتبه بما علم على ما لا يعلم، وإن لم يصر أعلى الناس بها جاز أن يفتي، وجاز أن يُستفتى، وجاز أن يشاوره القاضي في الأحكام النازلة. فرع لا فرق بين المفتي الذي يوافق القاضي في مذهبه وبين المفتي الذي يخالفه؛ لأنه لا يمتنع عنه الجواب بل يسأله عن الدليل وعن التعليل، وقد قال الشافعي رضي الله عنه: "ويجمع الموافقين والمخالفين [93/ ب] ليذكر كل واحد دليله ويتناظروا فيه فيظهر الحق وتنفتح له طرق الاجتهاد". وقال أيضًا: "ويجمع المختلفين لا يتأسد لتقصيه العلم" أي لاستقصائه ولكشف بعضهم عن بعضٍ. وقيل: التقصي الكشف بالسؤال والمناظرة في طلب الصواب. فرع آخر لو كان فاسقًا لم يحمل على قوله فيما تعلق بالرواية والفتيا. واختلفوا في جواز مباحثته فيما يتعلق بالمعاني والاستنباط، فقال ابن أبي هريرة لا يجوز؛ لأنه لا يوثق به حذرًا مما يستحدثه من شبهةٍ فاسدةٍ. وقال آخرون: يجوز، لأنه ربما ينكشف بمناظرته وجه الصواب؛ لأنه لا يؤخذ بقوله بل يُحمل على ما تنتهي إليه المناظرة من وضوح الصحة والفساد. فرع آخر لا يعول على مشاورة واحدٍ، بل يجمع عددًا ينكشف بمناظرتهم ما غمض، ولا يقلدهم وإن كان عددًا. مسألة قَالَ: "وَلَا يَقْبَلُ وَإِنْ كَانَ أَعْلَمَ مِنْهُ حَتَّى يَعْلَمَ كَعِلْمِهِ أَنَّ هَذَا لَازِمٌ لَهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ تَخْتَلِفِ الِّروَايَةُ فِيهِ، أو بِدَلَالَةٍ عَلَيْهِ، أَوْ أَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ وَجْهًا أَظْهَرَ مِنْهُ" فأما أن يقلده فلم يجعل الله ذلك لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم. معنى هذا الفصل ما شرحه في الأم فقال: "ولا يقبل من المشير الإشارة حتى يخبره أنه أشار به من حيث يلزم، وذلك كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس على هذا، ولا يقبل لذا قال هذا له حتى يقفه عليه ويعقل منه ما عقل، وحتى يسأل هل له وجهٍ يحتمل غير

الذي قال، وأن الآية وجهان، أو سنة رويت مخففة، أو سنة ظاهرها يحتمل وجهين لم يعمل بأحد الوجهين حتى يجد دلالته في كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قياس على أن الوجه الذي [94/أ] عمل به هو الوجه الذي يلزمه، والذي هو أولى به من الوجه الذي تركه، وهكذا لا يعمل بالقياس أبدًا حتى أولى بالشبه بالكتاب أو السنة أو الإجماع". والمقصود أنه لا يعمل بالتقليد وإنما يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده، وبه قال أبو يوسف، ومحمد، وأحمد. وقال أبو حنيفة: إن كان القاضي أعلم من مخالفه عمل على اجتهاد نفسه، وإن كان مخالفه أعلم منه عمل على اجتهاد مخالفه. وقال بعض أصحابنا ببغداد: إذا لم يبن له حكم الحادثة جاز له ترك الاجتهاد إلى قول من يوافقه، ولا يجوز أن يعمل بقول غيره وهو يعتقد خطأه، وظاهر مذهب أبي حنيفة ما تقدم. واحتج عليه بأنه قول من هو أعلم منه عنده إذا صار إليه، فهو ضرب من الاجتهاد وهذا لا يصح؛ لأنه من أهل الاجتهاد يجوز له التقليد كما لو قلد من هو مثله. وأما ما ذكره فلا يصح؛ لأن من هو أعلم منه يجوز عليه الخطأ، فإذا اعتقد أن ما قاله خطأ لم يجز أن يعمل به، وجوز بعض العلماء تقليد علماء السلف، وجوز بعض أصحاب الحديث تقليد الصحابة والتابعين دون غيرهم لقوله صلى الله عليه وسلم: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم". ومنهم من قال: يجوز تقليد الأربعة من الخلفاء ولا يجوز تقليد غيرهم. وقال بعضهم: يجوز تقليد أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - خاصة لقوله صلى الله عليه وسلم: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر". فإن قيل: ما قاله الشافعي - رضي الله عنه - خطأ؛ لأنه جعل القبول من النبي صلى الله عليه وسلم تقليدًا. قلنا: لم يرد به حقيقة التقليد، وإنما أراد به القبول من غير السؤال عن وجهه، وهل يقع عليه اسم التقليد؟ فيه وجهان؛ فمن قال بتناوله الاسم احتج بهذا الاستثناء، [94/ب] فإن الشافعي - رضي الله عنه - استثنى ذلك من التقليد في الجواز، وهذا هو الصحيح من المذهب. ومن قال لا يتناوله قال: هذا استثناء من غير الجنس - أي التقليد - لا يجوز، لكن قبول قول رسول الله جائز. فرع لو لم يصل القاضي باجتهاده إلى حكم الحادثة ففي جواز تقليده فيها وجهان: قال ابن سريج: يجوز أن يقلد فيها للضرورة، ويحكم فإنه ما م حاكم عالم إلا يجوز أن يشكل عليه أحكام بعض الحوادث. وقال أبو إسحاق: لا يجوز، بل يستخلف عليها

من يحكم باجتهاده إن ضاق وقت الحادثة لا الحاكم ملزم، فلا يجوز أن يلزم ما لا يعتقد لزومه، وصورة التضييق أن يتقدم إليه مسافران في حادثة والقافلة ترحل ويخافان الانقطاع عنها. فرع آخر فإذا تقرر فساد التقليد وجب النظر في أصول الشرع ليصل إلى العلم بموجبها، وقال قوم من السلف: لا يجب النظر ويعول على الإلهام، وهذا غلط لقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ} [فصلت: 53]، الآية، وقال أيضًا عز وجل: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]، يعني إما بالنص على حكمه، وإما بالنص على أصله. فصل ذكره القاضي الإمام صاحب "الحاوي" رحمه الله تعالى في هذا الموضع يتصل بالأصول والفروع، فأوردته على وجهه حتى لا يشذ منه شيء، قال: إذا ثبت وجوب النظر [في الأصول الشرعية] فالسبب المؤدي إلى معرفة الأصول والعمل بها شيئان: علم الحس والعقل؛ لأن حجج العقل أصل لمعرفة الأصول، إذ لا تعرف صحة الأصول إلا بحجج العقول، ولذلك لم يرد الشرع إلا بما أوجبه العقل أو جوزه، ولم يرد بما حظره العقل [95/ أ] وأبطله، قال الله تعالى: {وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ} [العنكبوت: 43]، أي لا يعلمها إلا العاقلون. وقال تعالى: [إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى] [طه: 54] أي العقول. والسبب الثاني في معرفة الأصول الشرعية معرفة لسان العرب، وهو معتبر في حجج السمع خاصة، قال الله تعالى: [وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ قومه] [إبراهيم: 4] الآية، وهذا لأنه لا يخاطبهم إلا بما يفهمونه ليكون حجة لهم وعليهم. وقال تعالى: {لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل: 103]، فاحتاج الناظر إلى معرفة لسانهم، وموضوع خطابهم، ليفرق بين الحقيقة والمجاز، وبين الإثبات والنفي، وبين المطلق والمقيد، وبين العام والخاص، وبين المفسر والمجمل، والناسخ والمنسوخ، والفاعل والمفعول، ويعرف صيغة الأوامر والنواهي، فإن قصر عنها لم يصح منه، ولا نعني به أن يكون عالمًا بجميع لغتهم وإعراب كلامهم؛ لأن التشاغل به يقطعه عن عمل ما سواه، وإنما نعني به أن يكون عالمًا بموضوع كلامهم ومشتمل خطابهم، وهو مشهور على أربعة وجوه؛ أمر، ونهي، وخبر، واستخبار. فأما من لا يقصد النظر المؤدي إلى العلم فالذي يلزمه من معرفة العربية ما يجب أن

يتلوه في صلاته من القرآن والأذكار دون غيره، فإذا جمع الناظر بين هذين الشيئين من العقل ولسان العرب صح منه النظر في الأصول. واختلفوا في العبارة عن الأصل والفرع، فقيل: الأصل ما دل على غيره، والفرع ما دل عليه غيره، وقال آخرون: الأصل ما تفرع منه غيره والفرع ما تفرع عن غيره. ثم اعلم أن أصول الشرع أربعة؛ الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. فالأصل الأول: [95/ب] كتاب الله تعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، قال الله تعالى: {هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية: 29]، وقال تعالى: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]، وقال تعالى: {ومَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إلَى اللَّهِ} [الشورى: 10]. وكلام الله يشتمل على ثلاثة وجوه؛ أمر، ونهي، وخبر، وليس فيه استخبار لعلمه بما كان وما يكون، وما ورد فيه على صيغة الاستخبار والاستفهام، فالمراد به تقرير أو عيد، ومن أصحابنا من حل ما فيه بأخص من هذه العبارة، فقال: لأنه يشتمل على إعلام وإلزام. فالإعلام وعد أو عيد، وليس يخلو ما فيه من القصص من أن يراد به وعد أو عيد، والإلزام أمر ونهي، فالأمر ما تقيد بلفظه، والنهي ما تقيد بتركه. والأمر ينقسم بالقرائن ثلاثة أقسام، واجب، واستحباب، ومباح، فإن تجرد عن قرينة كان محمولاً عند الشافعي على الوجوب إلا بدليل تصرفه عن ظاهره. وقال غيره: هو محمول على الاستحباب، وقال جماعة: هو موقوف، وما قاله الشافعي - رضي الله عنه = أولى لفرق ما بين ورود الأمر وعدمه. والنهي ينقسم إلى ثلاثة أقسام: تحريم، وكراهة، وتنزيه، فإن جرد عن قرينة؛ قال الشافعي: "يحمل على التحريم والفساد". والأمر يقتضي فعل المأمور به مرة واحدة، ولا يحمل على التكرار إلا بدليل. والنهي يقتضي ترك المنهي عنه دومًا. والنهي يقتضي الفور. وفيما يقتضيه مطلق الأمر من الفور والتراخي وجهان؛ أحدهما: يحمل على الفور كالنهي، والثاني: على التراخي. وقد يرد الأمر بلفظ الخبر كقوله: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]. ويجوز أن يتوجه إليه الفسخ. وقال قوم: لا يجوز كالخبر، وهذا فاسد لأنه في معنى الأمر، [96/أ] ومطلق الأمر والنهي متوجه إلى جميع الأحرار من الرجال والنساء، وفي دخول العبيد فيها ثلاثة أوجه:

أحدها: يدخلون فيه لتوجه التكليف إليهم. والثاني: لا يدخلون فيه إلا بدليل؛ لأنهم أتباع الأحرار. والثالث: إن تضمن الخطاب تعبدًا توجه إليهم، وإن تضمن ملكًا أو عقدًا أو ولاية لم يدخلوا فيه. وإذا ورد الخطاب باللفظ المذكور لا يدخل النساء فيه إلا بدليل، كما لو ورد بلفظ المؤنث لا يدخل فيه الرجال إلا بدليل، وهذا متفق عليه، وهذا مختلف فيه. وما تضمنته شرائع من قبلنا فما لم يقصه الله تعالى علينا لم يلزمنا حكمه لانتقاء العلم بصحته، وأما ما قصه علينا في كتابه العزيز يلزمنا منه ما شرعه إبراهيم - عليه السلام - لقوله تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنْ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً) [النحل: 123]. وفي لزوم ما شرعه غيره من الأنبياء وجهان؛ أحدهما: يلزم لكونه حقًا ما لم يقم دليل على نسخه. والثاني: لا يلزم لكونه منسوخًا. فصل اعلم أن الذي يشتمل عليه نصوص الكتاب في الأحكام خمسمائة آية، وهي تنقسم ستة أقسام: أحدها: العموم والخصوص، فالعموم الجمع والاشتراك، وأقل الجمع ثلاثة، ومن جعل أقل الجمع اثنين جعلها أقل العموم والخصوص هو الانفراد، وأقل الخصوص واحد، ويجوز أن يكون الخصوص مخرجًا لأقل العموم إذا انطلق على الباقي اسم العموم كالاستثناء، ويكون المخصوص غير مراد بالعموم خلاف النسخ، ويصير المراد بالعموم هو الباقي منه بعد الخصوص. ويجوز تخصيص العموم المؤكد كما يجوز تخصيص العموم المطلق. وقال بعض العلماء. لا يخصص المؤكد منه، وهذا غلط لوجود الاحتمال بعد التأكيد كوجوده من قبل. ثم العموم ثلاثة أحوال: [96/ب] أحدها: أن يقترن به من الدلائل أو الشواهد ما يوجب حمله على العموم، كقوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] الآية، فهو محمول على العموم في تحريم الأمهات والبنات من تخصيص. والثانية: أن يقترن به ما يدل على تخصيصه كقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] ثم قال {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] الآية. والثالثة: أن يطلق، قال أهل الظاهر: لا صيغة للعموم توجب العمل بها، والواجب فيه التوقف حتى يقوم دليل على المراد بها كالمجمل. وقال بعض المتكلمين: يجب استعماله على عمومه ما لم يقم دليل على تخصيصه من غير نظر ولا اجتهاد امتثالاً لموجب الأمر. وقال أهل العراق إنه قبل التخصيص مستعمل على عمومه منغير اجتهاد ولا نظر، وبعد التخصيص مجمل لا يستعمل إلا بعد البيان؛ لأنه قبل

التخصيص جليٌّ وبعد التخصيص خفيٌّ. والرابع: وهو مذهب الشافعي - رضي الله عنه - أن لمطلق العموم صيغة توجب النظر والاجتهاد في أدلة تخصيصه، فإن وجد ما يخصه استعمل باقية بعد تخصيصه وإن لم يوجد ما يخصه أُجري على عمومه، ولا يجوز استعماله قبل النظر، ولا يصير مجملاً بعد التخصيص؛ لأنه قبل النظر والاجتهاد يتكافأ الاحتمال، وبعد إمعان النظر والاجتهاد يترجح الاستعمال، وليس لزمان الاجتهاد والنظر وقت مقدر وإنما هو معتبر بما يؤديه الاجتهاد إليه من الرجاء والإياس. واعلم أن أدلة التخصيص تؤخذ من أحد أربعة أصول؛ الكتاب، والسنة، والإجماع، والقياس. فأما تخصيص الكتاب كقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، لأنه خص منه المطلقة قبل الدخول بقوله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 46] الآية. [97/ أ] وأما تخصيه بالسنة كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، خصه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا قطع في أقل من ربع دينار". وأما تخصيص الكتاب بالإجماع فإن قوله تعالى: {يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ} [النساء: 11] خصه الإجماع بأن العبد لا يرث، وخصته السنة في أن القاتل والكافر لا يرثان، فصار بعضها مخصوصًا بالسنة وبعضها مخصوصًا بالإجماع. وأما تخصيصه بالقياس مثل قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] الآية، ثم خص الأمة بنصف الحد بقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ} [النساء: 25]. ثم خص العبد بنصف الحد قياسًا على الأمة، فصار بعض الآية خصوصًا بالقياس. ويجوز تخصيص العموم بالقياس الجلي، وفي جواز تخصصه بالقياس الخفي وجهان، فإن عدم المجتهد أدلة التخصيص من أحدد هذه الأصول الأربعة جاز القياس على الخصوص في العموم، ولم يجز القياس على الباقي من العموم، مثاله أن قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] الآية، لما خص منه من سرق من ثمر أو كثر في سقوط القطع عنه، لم يجز أن نقيس على قطع السارق قطع من ليس بسارق، وجاز أن نقيس على التمر والكثر سارق غير التمر والكثر في سقوط القطع عنه. والفرق بينهما أن العموم لما ضعف عن حكم استيفاء اسمه قوي معناه عن اجتذاب غيره، والمخصوص لما قوي حكمه عن استيفاء اسمه قوي معناه على اجتذاب غيره. والقسم الثاني: المجمل والمفسر: فالمفسر هو الذي يفهم منه المراد، والمجمل هو الذي ما لم يفهم منه المراد، ومثله في الكتاب قوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، وقوله تعالى: [97/ ب] {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]. وقوله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني

دماءهم وأموالهم إلا بحقها". فإن قيل: كيف جاز خطابهم بما لا يفهمونه من المجمل؟ قلنا: إنما جاز لأحد أمرين: أحدهما: ليكون إجماله توطئة للنفوس على قبول ما يتعقبه من البيان، فإنه لو بدأ في تكليف الصلاة والزكاة ببيانهما جاز أن تنفر النفوس منهما ولا تنفر من إجمالها. والثاني: أن الله تعالى جعل من الأحكام جليًا، وجعل منها خفيًا، ليتفاضل الناس في العمل بها، ويثابوا على الاستنباط لها، وكذلك جعل منها مفسرًا جليًا، وجعل منها مجملاً خفيًا. ثم اعلم أن المجمل ضربان: أحدهما: أن يقع الإجمالي في الاسم المشترك كالقرء ينطلق على الطهر والحيض، والشفق على الحمرة والبياض، فإن اقترن تنبيه أخذ به، وإن تجرد عن تنبيه أخذ به وإن تجرد واقترن به عرف عمل عليه، وإن تجرد عن تنبيه وعرف وجب الاجتهاد في المراد منها، وكان من خفي الأحكام التي وكل العلماء فيها إلى الاستنباط، فصار داخلاً في المجمل لخفائه وخارجًا عنه لإمكان استنباطه. والثاني: الإجمالي في الحكم المبهم. وهو ضربان: أحدهما: ما كان إجماله في لفظه، كقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]، {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]. والثاني: ما كان إجماله بغيره، مثل قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] والربا صنف من البيوع، فصار به الباقي من البيوع مجملاً على قول كثير من أصحابنا. [98/ أ] وقال بعضهم، وهو عموم خص منه الربا، ومثاله من السنة قوله صلى الله عليه وسلم: "الصلح جائز بين المسلمين إلا صلحًا أحل حرامًا أو حرم حلالاً"، وكلا الضربين مجمل يفتقر إلى بيان يفهم به المراد. فإن قيل: التعبد بمثل هذا الخطاب قبل بيانه؟ قلنا: يلزم لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا - رضي الله عنه - إلى اليمن، وقال له: "ادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، فإن أجابوك فأعلمهم أن في أموالهم حقًأ يؤخذ من أغنيائهم فيرد في فقرائهم" فتعبدهم بالتزام الزكاة قيل بيانها، وفي كيفية تعبدهم بالتزامه وجهان: أحدهما: أنهم متعبدون قبل البيان بالتزامه بعد البيان. والثاني: أنهم متعبدون قبل البيان بالتزامه مجملاً، وبعد البيان بالتزامه مفسرًا. ثم اعلم أن البيان يختلف باختلاف المجمل وهو ضربان: أحدهما: ما وكل العلماء إلى اجتهادهم في بيانه من غير سمع يفتقر إليه، مثل قوله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ

يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فلم يرد سماع ببيان أقل الجزية حتى اجتهد العلماء في أقلها. وكقوله تعالى: {إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] الآية، فأجمل ذكر العدد الذي تنعقد بهم الجمعة حتى اجتهد العلماء فيه. وكقوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] الآية، فأجمل قدر النفقة حتى اجتهد العلماء في تقديرها، فهذا ونظائره من المجمل التي لا يفتقر إلى بيان السمع، فبيانه عن الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه مأخوذ من أصول الأدلة المستقرة، وقد سأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم [98/ ب] عن الكلالة، فقال: "تكفيك آية الصيف"، فوكله إلى الاجتهاد ولم يصرح بالبيان .. واختلف أصحابنا في هذا النوع من البيان الصادر عن الاجتهاد هل يؤخذ قياسًا أو تنبيهًا؟ على وجهين: أحدهما: يؤخذ تنبيهًا من لفظ المجمل وشواهد أحواله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر - رضي الله عنه: "تكفيك آية الصيف" فردها إليه ليستدل بما تضمنها من تنبيه وشاهد حاله. والثاني: يجوز أن يؤخذ قياسًا على ما استتر بيانه من نص أو إجماع، لأن عمر - رضي الله عنه - سأل عن قُبلة الصائم، فقال: "أرأيت لو تضمضت" فجعل القبلة بغير إنزال كالمضمضة من غير ازدراد. والثاني من المجمل: ما يفتقر بيانه إلى السمع، كقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) [البقرة: 43]، لا يوصل إلى بيانه إلا من نص مسموع من كتاب أو سنة، فعلى هذا يجوز أن يتأخر بيانه وبيان تخصيص العموم عن وقت نزوله إلى وقت تقييده واستعماله أم لا؟ فعلى ثلاثة أوجه: أحدها: يجوز؛ لأن معاذًا - رضي الله عنه - أخر بيان الزكاة لأهل اليمن إلى الوقت الذي أخذها منهم. والثاني: لا يجوز، لاختلاف أحوال الناس في الحاجة إلى البيان وللتحرز بتعجيله من احترام المنية للرسول صلى الله عليه وسلم المبين. والثالث: يجوز تأخير بيان العموم؛ لأنه قبل البيان مفهوم، ولا يجوز تأخير بيان المجمل لأنه قبل البيان غير مفهوم. القسم الثالث: المطلق والمقيد، وهو أن يرد الخطاب مقيدًا بحال، أو وصف، أو شرط، ثم يرد من جنسه مطلق غير مقيد بوصف ولا شرط، والكلام فيه مشتمل على فصلين: أحدهما: في المقيد هل يجب أن يكون حكمه مقصورًا على الشرط المقيد به [99/ أ] أم لا؟ والثاني: في المطلق هل يجب حمله على المقيد من جنسه أم لا؟ فأما الأول عندنا وعند جمهور العلماء ينقسم قسمين:

أحدهما: ما كان تقييده بالوصف في ثبوت حكمه فيثبت الحكم بوجوده وينتفي بعدمه، كقوله تعالى: {وَإِنْ كُنتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]، فتقييد التيمم بالمرض والسفر شرطًا في إباحته، وهذا التيمم فيما كان معناه خاصًا. والثاني: ما لا يكون بالوصف المقيد شرطًا في حكم الأصل ويعمم حكمه مع وجود الشرط وعدمه، كقوله تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 101]، وليس الخوف شرطًا في جواز القصر، وكقوله في جواز الصيد: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، ولا يكون العمد شرطًا في وجوبه. وهذا القسم فيما كان معناه عامًا، والفرق بينهما يكون باعتبار معنى التقييد، فإن كان معناه خاصًا كالقسم الأول ثبت حكم التقييد، وإن كان معناه عامًا كالقسم الثاني سقط حكم التقييد. وقال داود وأهل الظاهر: لا معنى لهذا التقسيم، ويجري جميع المقيد على تقييده، ويكون شرطًا في ثبوت حكم يثبت بوجوده ويسقط بعدمه. ولا يعتبر معنى الأصل في عموم ولا خصوص؛ لأن الاعتماد على النصوص دون المعاني عندهم، وهذا غلط؛ لأن الله تعالى قال: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} [الإسراء: 31]، ولا يستباح قتلهم من إملاق كما لا يستباح مع وجوده، وقال تعالى: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} [النور: 33]، ولا يجوز الإكراه على البغاء وإن لم يردن تحصنًا. فلما سقط حكم التقييد في هذا ولم يصر نسخًا جاز أن يسقط في غيره ولا يكون نسخًا، فإن خص هذا بدليل فقد جعلوا للدليل تأثيرًا في إسقاط التقييد، وهو الذي ذكرنا. [99/ ب] فإن قيل: فإذا سقط التقييد صار لغوًا غير مقيد. قلنا: يحتمل ذكر التقييد مع سقوط حكمه أمورًا. منها: أمر يكون حكم السكوت عنه مأخوذ من حكم المنطوق به ليستعمله المجتهد فيما لم يجد فيه نصًا، فإ، أكثر الحوادث غير منصوص. ومنها: أن يكون التقييد تنبيهًا على غيره، كما قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَامَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] الآية، فنبه بالقنطار على الكثير، ونبه بالدينار على القليل، وإن كان حكم القليل والكثير فيهما سواء. ومنها: أن يكون الوصف هو الأغلب من أحوال ما قيد به، فيذكره لغلبته كما قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] الآية، وإن كانت مفاداة الزوجين تجوز مع وجود الخوف وعدمه؛ لأن الأغلب من المفاداة أن تكون مع الخوف. وإذا احتمل هذه الأمور وغيرها صار وجود التقييد مقيدًا مع سقوط حكمه وإن لم يكن لغوًا.

فإذا تقرر هذا وجب النظر في كل مقيد، فإذا ظهر دليل على عدم تأثيره سقط حكم التقييد وصار في عموم حكمه كالمطلق، وإن عدم الدليل وجب حمله على تقييده وجعل شرطًا في ثبوت حكمه. وأما حكم المطلق الوارد من جنس المقيد إذا جعل التقييد شرطًا في المقيد، فظاهر مذهب الشافعي - رضي الله عنه - أنه يجب حمل المطلق على المقيد من جنسه ما لم يقم دليل على حمله على إطلاقه كما في العدالة في الشهود، وقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282] يحمل على قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، وعلى هذا حمل إطلاق العتق في كفارة الظهار على العتق المقيد بالأيمان في كفارة القتل. وظاهر مذهب أبي حنيفة - رحمه الله - أن المطلق محمول على إطلاقه ما لم يقم دليل [100/أ] على الحمل على المقيد من جنسه. وذهب أصحابنا إلى أن حكم المطلق بعد المقيد من جنسه موقوف على الدليل، فإن قام الدليل على تقييده قيد، وإن لم يقم على واحد منهما دليل صار كالذي لم يرد فيه نص فيعدل فيه إلى غيره من أدلة الشرع والاجتهاد في استنباط المعاني، ويصير احتماله لأمرين مبطلاً لحكم النص فيه، وهذا قول من ذهب إلى وقف العموم حتى يقوم دليل على تخصيص أو عموم. وهذا أفسد المذاهب؛ لأن النصوص المحتملة يكون الاجتهاد عائدًا إليها ولا يعدل بالاحتمال إلى غيرها، ليكون حكم النص ثابتًا بما يؤدي إليه الاجتهاد من نفي الاحتمال عنه وتعيين المراد به. قال الإمام المارودي: "والذي عندي وأراه أولى المذاهب في المطلق والمقيّد أن يعتبر غلظ حكم المطلق والمقيد، فإن كان حكم المطلق أغلظ حمل على إطلاقه ولم يقيد إلى بدليل. وإن كان حكم المقيد أغلظ حمل المطلق على المقيد ولم يحمل على إطلاقه إلا بدليل؛ لأن التغليظ إلزام وما تضمنه الإلزام لم يسقط إلزامه بالإجمال". فإذا تقرر هذا الذي ذكرنا، ودب حمل المطلق على المقيد كان ذلك مستعملاً في إطلاق الصفة، ولا يكون مستعملاً في إطلاق الأصل، مثاله: أن مسح اليدين في التيمم مطلق، وفي الوضوء مقيد بالمرفقين فحمل عليه. وأطلق ذكر الرأس والرجلين في التيمم وذكرا في الوضوء، فلم يحتمل ترك ذكرهما في التيمم على إثبات ذكرهما في الوضوء؛ لأن ذكر المرافق سنة وذكر الرأس والرجلين أصل. وقال ابن خيران: المطلق يحمل على المقيد في الأصل أيضًا، فالله تعالى ذكر الإطعام في كفارة الظهار ولم يذكر في كفارة القتل فيحمل عليها. وفي هذا إثبات أصل بغير أصل، فإذا ثبت حمل المطلق على المقيد فهل وجب عليه حمله من طريق اللغة أو من طريق الشرع؟ وجهان: أحدهما: من طريق اللغة؛ لأن في لسان العرب موضوع لهذا. والثاني: بالشرع [100/ ب] المستقر على استنباط المعاني، لأن الأحكام لا تؤخذ إلا شرعًا من نص أو قياس.

وإذا وردا مقيدين من جنس واحد بشرطين مختلفين، وأطلق ثالث من جنسهما وجب حمل المطلق على إطلاقه ولم يجز حمله على أحد المقيدين؛ لأنه ليس حمله على أحدهما بأولى من حمله على الآخر، وحمل كل من المقيدين على تقييد نظيره فينظر في صفتي التقييد فيهما. فإن تنافى الجمع بينهما لم يحمل أحدهما على الآخر، واختص كل واحد منهما بالصفة التي قيد بها، وذلك مثل تقييد صوم الظهار بالتتابع، وتقييد صوم التمتع بالتفرقة، ولا يمكن الجمع بين التتابع والتفرق فيختص كل واحد منهما بصفته، فإن أمكن اجتماع الصفتين ولم يتنافيا ففي حمل كل واحد منهما على تقييد نظيره وجهان: أحدهما: لا يحمل إلا على ما قيد به إذا قلنا المطلق لا يحمل على المقيد إلا بدليل. والثاني: يحمل على تقييده وتقييد نظيره، فيصير كل واحد منهما مقيدًا بالصفتين إذا قلنا بجواز حمل المطلق على المقيد. فعلى هذا يجوز أن يحمل ما أطلق من جنسهما على تقييدهما معًا، ويصير كل واحد من النصوص الثلاثة المتجانسة مقيدًا بشرطين. والقسم الرابع: الإثبات والنفي، فينقسم ثلاثة أقسام؛ إثبات تجرد عن نفي، ونفي تجرد عن إثبات، وما اجتمع فيه نفي وإثبات. فأما الأول فضربان: أحدهما: أن يقترن بحرف التحقيق فيكون إثباته نفيًا لما عداه، كقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الأعمال بالنيات". وقوله صلى الله عليه وسلم: "إنما الولاء لمن أعتق". وسواء كان هذا الإثبات جوابًا أو ابتداء. ولكن اختلف أصحابنا في النفي به هل هو بلفظ النقط أو بدليله على وجهين: أحدهما: أن الذي أوجب النفي بعد الإثبات هو دليل اللفظ دون اللفظ، فيكون دليل الخطاب هو الموجب للنفي؛ لأنها لفظة [101/أ] لجنس فجرى مجرى التأكيد. والثاني: أنها أوجبت النفي والإثبات بنفس اللفظ؛ لأن لفظةُ إنما موضوعة في اللغة لإثبات ما اتصل ونفي ما انفصل عنها. والثاني: أن يتجرد الإثبات عن حرف التحقيق، كقوله صلى الله عليه وسلم: "في سائمة الغنم زكاة" وكقوله: "القطع في ربع دينار" فلمخرجه حالتان: إحداهما: أن يكون جوابًا لسائل عن الزكاة في مسائمة الغنم فقال: "في سائمة الغنم زكاة"، ولسائل عن القطع في ربع دينار، فقال: "القطع في ربع دينار"، فلا يكون هذا الإثبات نفيًا لما عداه. والثانية: أن يبدأ به الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول مبتدئًا: في سائمة الغنم زكاة، فيكون هذا الإثبات نفيًا لما عداه فلا يجب في غيرها، وهذا لأنه لا بد لتخصيص هذا بالذكر من موجبٍ، فلما خرج عن الجواب ثبت وردوه للبيان، وهذا هو الظاهر من مذهب

الشافعي - رضي الله عنه - وقول جمهور أصحابه. وذهب ابن سريج وأبو حامد إلى أن حكم ما عدا الإثبات موقوف على الدليل لما تضمنه من الاحتمال، وهذا فاسد لما ذكرنا من التعليل. وإذا انتفى حكم الإثبات عما عداه على ما بيناه فقد اختلف أصحابنا في موجب نفيه عنه على وجهين؛ أحدهما: أنه أوجب لسان العرب لغة. والثاني: أنه أوجب دليل الخطاب شرعًا. وأما القسم الثاني في النفي إذا تجرد عن إثبات فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون جوابًا لسؤال فلا يكون النفي موجبًا لإثبات ما عداه، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تحرم الرضعة أو الرضعتان" لا يدل على التحريم بالثالثة. والضرب الثاني: أن يبتدئ الرسول صلى الله عليه وسلم فيقول: "لا يقبل الله صلاة بغير طهور" فدل على قبولها بالطهور، ويكون نفي الحكم عن تلك الصفة موجبًا لإثباته عند عدمها، وهو الظاهر من مذهب الشافعي رضي الله عنه. ويحتمل قول من جعل ما عدا الإثبات موقوفًا، وإذا كان حكم النفي مطلقًا يحتمل نفي الجواز ونفي الكمال لعمومه، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة إلا بطهور"، فكان هذا النفي مانعًا [101/ب] من أجزائها. فإن قام دليل على نفي الكمال حمل عليه، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد". ويجيء على مذهب من قال بوقف المحتمل بجعل هذا موقوفًا لأنه محتمل. وأما القسم الثالث: الجامع للإثبات والنفي يشتمل على ثلاثة أنواع؛ الاستثناء، والشرط، والغاية. فأما الاستثناء فالمعتبر في ثبوت حكمه ثلاثة أشياء: أحدها: أن يرجع إلى أصل يبقى منه بعد الاستثناء بعضه وإن قل، فإن رفع جميعه لم يصح؛ لأنه يصير نسخًا، ويثبت حكم الأصل ويبطل الاستثناء. والثاني: أن يكون الاستثناء من جنس الأصل ليصح به خروج بعضه، فإن عاد إلى غير جنسه صح عند الشافعي في المعنى دون اللفظ، وأبطله قوم في اللفظ والمعنى، وأجازه قوم في اللفظ والمعنى. مثاله أن يقول: لفلان عليَّ ألف درهم إلا دينار، فلا يجعل لفظ الدينار مستثنى من لفظ الدراهم؛ لأنه لا يجانسها، وإنما تجعل قيمته مستثناة من الدراهم؛ لأنه لا ينافيها فصار الاستثناء في المعنى دون اللفظ. والثالث: أن يعلق على الاستثناء ضد حكم الأصل، فإن كان الأصل إثباتًا صار الاستثناء نفيًا، وإن كان الأصل نفيًا صار الاستئناء إثباتًا. فإن عاد الاستثناء إلى جمل مذكورة تقدمته يمكن أن يعود إلى جميعها، ويمكن أن يعود إلى بعضها، فعند الشافعي

تعود إلى جميعها ما لم يخصه دليل، كقوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} [المائدة: 34]، فكان راجعًا إلى كل ما تقدم من القتل والصلب والنفي. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يرجع إلى أقرب مذكور إلا أن يقم دليل، كقوله تعالى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92]، فرجع إلى الدية دون الكفارة. وكذلك ما اختلفا [102/أ] في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} إلى قوله: {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} [المائدة: 54]، فعند أبي حنيفة ترجع التوبة إلى الفسق وحده؛ لأنه أقرب مذكور، وعندنا ترجع إليه وإلى قبول الشهادة اعتبارًا بالعموم، ولا يرجع عندهما إلى الجلد لاختلافهما في التعليل، فعند أبي حنيفة لبعده عن أقرب مذكور، وعند الشافعي لخروجه بدليل، وهو أن حد القذف حق الآدمي فلا يسقط بالتوبة. وكذلك لم يجعل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] عائدًا إلى الكفارة، لأنها من حقوق الله تعالى التي لا تسقط بالعفو، ويكون عائدًا إلى الدية لسقوطها بالعموم. وأما النوع الثاني وهو الشرط: فالشرط في اللغة هو العلامة، ومنه قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18]، أي علاماتها، ولهذا يُسمى بالشرطي لتمييزه بعلامته. والشرط في الشرع هو الشيء الذي علق به الحكم لكونه علامة له. فإذا علق الحكم بشرط ثبت الحكم بوجوده وانتفى بعدمه، كقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنْ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] الآية، فيتعلق به إثبات ونفي، فيجري مجرى الاستثناء من وجه وإن خالفه من وجه. فوجه اجتماعهما أنه قد يثبت حكمًا وينفي حكمًا. ووجه افتراقهما أن الشرط يثبت الحكم في حال وجوده وينفيه في حال عدمه، والاستثناء يجمع بين النفي والإثبات في حالة واحدة، وربما قيد الحكم فيقوم الدليل على ثبوت الحكم مع وجوده وعدمه فلا يتعلق بالشرط إثبات ولا نفي، ويصرفه الدليل عما وضع له من الحقيقة إلى ما قصد من المجاز، كقوله تعالى: {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق: 4]، وحكمها في العدة مع وجود الريبة وعدم الريبة سواء، فإن تجرد الشرط عن دليل حمل على موجبه في النفي والإثبات، وإن علق الشرط بجملة مذكورة عاد إلى جميعها ما لم يخصه دليل كالاستثناء. وجعلها أبو حنيفة [102/ب] عائدًا إلى أقرب مذكور. ودليلنا قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ} إلى قوله: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89]، وهذا يعود إلى جميع ما تقدم، ولا يعود إلى أقرب مذكور من تحرير الرقبة. وأما الثالث: الغاية فهي على ثبوت الحكم قبلها وانتفائه بعدها، كقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، فكان الفجر حدًا لإباحة الأكل قبله وتحريمه بعده، فتعلق بالغاية إثبات ونفي كالاستثناء

والشرط، غير أن الشرط موجب لثبوت الحكم بعده ولانتفائه قبله، والغاية موجبة لثبوت الحكم قبلها، ولا ينافيه بعدها. فإن اقترن بالغاية شرط تعلق الإثبات بها والنفي بأحدهما، كقوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} وهذا غاية، ثم قال: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَاتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ} [البقرة: 222]، وهذا شرط [فتعلق حكم الإثبات بوجود الشرط بعد الغاية]، فلا يستباح وطئها إلا بالغسل بعد انقطاع الدم، وتنتفي الاستباحة بعدمها أو عدم أحدهما من غاية أو شرطٍ. وأما القسم الخامس: وهو المحكم والمتشابه، فأصله قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7]، وفي المحكم والمتشابه للعلماء ثمانية أقوال: أحدها: وهو قوله ابن عباس وابن مسعود - رضي الله عنهم - المحكم الناسخ، والمتشابه المنسوخ. والثاني: المحكم الفرائض والوعد، والمتشابه القصص والأمثال. والثالث: المحكم الذي لم تتكرر ألفاظه، والمتشابه الذي تكررت ألفاظه. والرابع: المحكم ما عرف العلماء تأويله وفهموا معناه، والمتشابه ما لم يكن لهم إلى علمه سبيل، كقيام الساعة، وطلوع الشمس من مغربها. والخامس: المحكم ما أحكم الله تعالى بيان حلاله وحرامه، فلم تشتبه معانيه، والمتشابه ما اشتبهت معانيه. [103/أ] والسادس: المحكم ما لم يحتمل من التأويل إلا وجهًا واحدًا، والمتشابه ما احتمل من التأويل أوجهًا. والسابع: المحكم ما قال بنفسه ولم يحتج إلى الاستدلال، والمتشابه ما لم يقم بنفسه واحتاج إلى الاستدلال. والثامن: المحكم ما كانت معاني أحكامه معقولة، والمتشابه ما كانت معاني أحكامه غير معقولة، كأعداد الصلاة، واختصاص الصيام بشهر رمضان. وفي قوله تعالى: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} ثلاثة أوجه: أحدها: أنه أراد الآي التي فيها الفرائض والحدود؛ لأنها أكثر المقصود. والثاني: أراد فواتح السور التي يستخرج منها القرآن. والثالث: أراد معقول المعاني؛ لأنه يتفرع عنه ما يشاركه في معناه، فيصير الأصل كفروعه كالأم لحدوثها عنه، فلذلك يسمى أم الكتاب. {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آل عمران: 7]، فأراد به الأجل الذي أرادت اليهود أن يعرفوا من الحروف المقطعة في القرآن من انقضاء مدة النبي صلى الله عليه وسلم بحساب الجمل. والثاني: أنه معرفة غرائب القرآن في العلم بورود النسخ قبل وقته. {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ}:

أي الشرك. وقيل: اللبس. وقيل: إفساد ذات البين. {وَابْتِغَاءَ تَاوِيلِهِ} أي التفسير، وقيل: إنه العاقبة المنتظرة. {وَمَا يَعْلَمُ تَاوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} قيل: تأويل جميع المتشابه؛ لأن فيه ما يعلمه الناس وفيه ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. وقيل: تأويله القيامة لما فيه من الوعد والوعيد [103/ب] كما قال تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَاوِيلَهُ يَوْمَ يَاتِي تَاوِيلُهُ} [الأعراف: 53]، ويعني يوم القيامة، وقيل: [إن تأويله وقت حلوله]. قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} يعني الثابتين فيه والعاملين به. وقيل: يعني المستنبطين له والعالمين به، وفيهم وجهان: أحدهما: أنهم داخلون في الاستثناء، وتقديره أن الذي يعلم تأويله هو الله تعالى والراسخون في العلم أيضًا يعلمونه. وقال مجاهد: قال ابن عباس - رضي الله عنهما: أنا ممن يعلم تأويله. والثاني: أنهم خارجون من الاستثناء، ويكون معنى الكلام: وما يعلم تأويله إلا الله وحده، ثم استأنف فقال: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} وهذا يحتمل وجهين، أحدهما: أن علم ذلك عند ربنا. والثاني: ما فصله الله تعالى من المحكم والمتشابه منزل من عند ربنا، وإنما جعل الله تعالى كتابه محكمًا ومتشابهًا استدعاءً للنظر من غير اتكال على الخبر ليتبين التفاضل ويستجزل الثواب. وروى معاذ - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "القرآن على ثلاثة أجزاء؛ حلال فاتبعه، وحرام فاجتنبه، ومتشابه يشكل عليك فكله إلى عالمه". فإذا وضح ذلك فما تضمنه كتاب الله تعالى من الأحكام والأعلام ينقسم أربعة أقسام؛ أحدها: محكم في جميع أحواله، ومتشابه في أحواله، ومتشابه في حالٍ ومحكم في حالٍ، ومحكم من وجه ومتشابه من وجه. فأما الأول فضربان: مفهوم ومعقول، والفرق بينهما أن المفهوم [104/ أ] ما لم يحتج إلى فكر، والمعقول ما احتاج إلى فكر. والمفهوم ضربان: أحدهما: ما فهم بصريح لفظه كقوله تعالى في تحريم المناكح: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]. والثاني: ما فهم بمخرج خطابه مثل قوله تعالى في تحريم الخمر والقمار: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90]، فدل وضع الخطاب على تحريمه. وأما المعقول فضربان: أحدهما: ما علم بالتنبيه، كقوله تعالى: {وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11]، فنبه بثلث الأم أن الباقي للأب.

والثاني: ما علم بالاستدلال، مثل تقدير أقل الحمل بستة أشهر بقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15]، دل بقوله حولين على أن الباقي من ثلاثين شهرًا هو أقل الحمل. فهذه الضروب الأربعة ونظائرها محكمة غير متشابهة. وأما المتشابه في الأحوال فضربان: أحدهما: ما تولجت فيه إشارة يحتمل الاستدلال بها كقوله تعالى في الكلالة: {وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} [النساء: 12] الآية، فسأل عمر - رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة فقال: "تكفيك آية الصيف"، يعني قوله تعالى: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ} [النساء: 176]، الآية، وإنما سماها آية الصيف؛ لأنها نزلت في الصيف، فلم يزده في البيان على الرد إلى الإشارة. والثاني: ما تجرد عن الإشارة كالحروف المفردة في القرآن، مثل قوله تعالى: {الم} و {كّهيعص}، فكانت على احتمال مشتبه غير أن المراد في الضرب الأول خفي، وفي هذا الضرب مبهم، وكلاهما من المتشابه. وأما المتشابه في حال والمحكم في حال فضربان؛ أحدهما: العموم إذا خص. والثاني: المجمل إذا فسر، هما قبل البيان من المتشابه وبعد البيان من المحكم. [104/ب] وأما المحكم من وجه والمتشابه من وجه فضربان: أحدهما: أن يكون المتشابه في الموجب والمحكم في الواجب، مثل قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151]، فالحق هو السبب الموجب وهو من المتشابه، وإباحة القتل هو الواجب وهو من المحكم. والضرب الثاني: أن يكون المحكم في الموجب والمتشابه في الواجب، كقوله تعالى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، فالسبب الموجب هو استحصاد الزرع وهو من المحكم، والحق المؤدى هو الواجب وهو من المتشابه. وأما القسم السادس: فهو الناسخ والمنسوخ؛ والنسخ: هو رفع ما ثبت حكمه بالشرع دون العقل؛ لأن واجبات العقول لا يجوز نسخها بشرع ولا عقل. والنسخ مختص بالأحكام المشتملة على الأوامر والنواهي دون الأخبار؛ لأن نسخ الخبر مفضي إلى دخول الكذب في ناسخه ومنسوخه، ونسخ الحكم إنما هو العلم بانقضاء مدته، وهو مأخوذ في اللغة من نسخ المطر الأثر إذا أزاله، فسمي في الشرع نسخًا لزوال الحكم به، كما سمي به نسخ الأحكام الشرعية؛ لأنها معتبرة بالمصالح. وقد تختلف المصالح باختلاف الأزمان، فيكون المنسوخ مصلحة في الزمان الأول دون الثاني، ويكون الناسخ مصلحته في الزمان الثاني دون الأول، فيكون كل واحد منهما مصلحة في زمانه وحسنًا في وقته وإن تضادا، ولا يكون بداء ورجوعًا فيستقبح كما زعم قوم من اليهود؛ لأن البداء هو الرجوع فيما تقدم من أمر ونهي، والنسخ هو أمر بالشيء في وقت ونهي عنه في وقت فافترقا.

ثم اعلم أن النسخ جائز في الكتاب والسنة؛ لأن كل واحد منهما أصل لأحكام الشرع، فإذا جاز [105/أ] في الكتاب الذي هو أصل السنة كان في السنة أجوز. ثم الناسخ والمنسوخ في الكتاب والسنة يشتمل على تفصيل بيانه على سبعة أقسام؛ أحدها: ما يقع فيه النسخ. والثاني: ما يقع به النسخ. والثالث: في أحكام النسخ. والرابع: في أحوال النسخ. والخامس: في زمان النسخ. والسادس: في دلائل النسخ. والسابع: في الفرق بين التخصيص والنسخ. فأما الأول: فقد ذكرنا أنه في الأوامر والنواهي الشرعية، وهي على ثلاثة أضرب: أحدها: أن تكون مطلقة فيجوز نسخها وإن وردت بلفظ الخبر، ووهم بعض أصحابنا وقال: لا يجوز إذا وردت بلفظ الخبر اعتبارًا بالأخبار، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: اختصاص الأخبار بالأعلام، واختصاص النواهي بالإلزام. والثاني: اختصاص الأخبار بالماضي والأوامر بالمستقبل، ولما تعلق بما ورد من الأوامر بلفظ الأخبار أحكام الأوامر دون الأخبار من هذين الوجهين، كذلك في حكم النسخ. والضرب الثاني: أن يرد الأمر مؤكدًا بالتأييد، ففي جواز نسخه وجهان: أحدهما: لا يجوز نسخه؛ لأن صريح التأييد مانع من احتمال النسخ. والثاني: وهو الأشبه أنه يجوز؛ لأن المطلق يقتضي التأبيد كالمؤكد؛ لأنه لما جاز انقطاع المؤبد بالاستثناء، مثل قوله تعالى: {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً} {إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4، 5] الآية، جاز انقطاعه بالنسخ كالمطلق. والضرب الثالث: أن يكون الأمر مقدرًا بمدة فيكون انقضاء المدة موجبًا لانقطاع الأمر، فيصير نسخًا بغير نسخ، فإن أريد نسخه قبل انقضاء مدته ففي جوازه وجهان كالمؤبد. وأما القسم الثاني: فالنسخ يكون بمثل المنسوخ، فنسخ الكتاب بالكتاب والسنة بالسنة، قال الله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَاتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، وفي المراد بنسخها وجهان؛ [105/ ب] أحدهما: تبديلها. والثاني: نقضها. وقوله تعالى: {أَوْ نُنسِهَا} أي ننزلها فلا ننسخها وجهان أحدهما: أي نتركها فلا ننسخها. والثاني: أراد نؤخرها، ومنه بيع النساء، أي نؤخر إنزالها. وفي قوله: {نَاتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} وجهان: أحدهما: أراد بخير منها في

المنفعة، إما بالتخفيف وإما بكثرة الثواب. والثاني: أنه على التقديم والتأخير، ومعناه نأت منها بخير. وإذا كان كذلك لم يجز نسخ القرآن بالسنة صرح به الشافعي، ووافقه أصحابه. واختلفوا هل منع منه العقل أو الشرع على وجهين: أحدهما: منع منه العقل؛ لأنه يمنع من اعتراض المأمور على الآخر. والثاني: منع منه الشرع دون العقل؛ لأن التفويض إلى المأمور لا يمنع من مشاركة الأمر. وجوز أبو حنيفة نسخ القرآن بالسنة المستفيضة كما نسخت آية الوصايا، وهي قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً} [البقرة: 180] الآية، بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا وصية لوارث". ودليلنا قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} [النحل: 101]، وقوله تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ} وروى جابر - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كلامي لا ينسخ كلام الله تعالى وكلام الله ينسخ كلامي، وكلام الله ينسخ بعضه بعضًا"، رواه الدارقطني رحمه الله. والذي نسخ آية الوصايا هو آية المواريث وكانت السنة بيانًا. وأما نسخ السنة بالقرآن فظاهر مذهبنا الذي نص عليه في القديم والجديد أنه لا يجوز نسخ السنة بالقرآن، كما لا يجوز نسخ القرآن بالسنة. وقال ابن سريج: يجوز بخلاف ذلك؛ لأن القرآن أوكد من السنة، وخرجه قولاً ثانيًا للشافعي - رضي الله عنه - من كلام تأوله في الرسالة، واستشهاده بأن الآمر أنفذ حكمًا من المأمور. [106/أ] ثم اختلف أصحابنا في طريق الجواز والمنع في الشرع مع جوازه في العقل على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا يوجد سنة إلا ولها في كتاب الله تعالى أصل كانت السنة بيانًا لمجمله، فإذا ورد الكتاب بنسخها كان نسخًا لما في الكتاب من أصلها، فصار هذا نسخ الكتاب بالكتاب. والثاني: أن الله تعالى يوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يحفيه عن أمته، فإذا أراد نسخ ما سنة للرسول صلى الله عليه وسلم أعلمه به حتى يظهر نسخه، ثم يرد الكتاب بنسخه، ثم يرد الكتاب بنسخه تأكيداً لنسح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار ذلك نسخ السنة بالسنة. والثالث: نسخ الكتاب بالسنة يكون أمراً من الله تعالي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسخ، فيكون الله تعالى هو الآمر به والرسول صلى الله عليه وسلم هو الناسخ، فصار ذلك نسخ السُنة بالكتاب والسُنة والله أعلم. وأما القسم الثالث في أحكام النسخ فهو على خمسة أضرب. أحدها: ما نسخ

حكمه وبقيت تلاوته، والناسخ باقي الحكم والتلاوة، كنسخ العدة حولاً بأربعة أشهر وعشر، ونسخ آية الوصايا بآية المواريث. والثاني: ما نسخ حكمه وتلاوته والناسخ باقي الحكم والتلاوة كنسخ صيام أيام البيض بصيام شهر رمضان، ونسخ استقبال بيت المقدس باستقبال الكعبة، كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: "أول ما نسخ باب الصيام الأول واستقبال بيت المقدس". والثالث: ما نسخ حكمه وبقيت تلاوته ونسخت تلاوة الناسخ وبقي حكمه، كقوله تعالى في حد الزنا: {وَاللاَّتِي يَاتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ} [النساء: 15] الآية، نسخه قوله تعالى: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم، قال عمر - رضي الله عنه -: [106/ب] كنا نقرأها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولولا أن يقال زاد عمر في كتاب الله لأثبتها فيه. فإن قيل: فكيف يجوز أن يكون المنسوخ ناسخًا؟ قلنا: فيه جوابان: أحدهما: أن النسخ إنما كان بالحكم دون التلاوة والحكم باقٍ وإن نسخت التلاوة. والثاني: يجوز أن يكون النسخ به قبل نسخ التلاوة. والضرب الرابع: ما نسخ حكمه وتلاوته ونسخت تلاوة الناسخ وبقي حكمه، وهو ما روي عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: كان فيما أنزل الله تعالى من القرآن: عشر رضعات محرمات فنسخن بخمس معلومات، وتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ في القرآن. تعني في العمل بهن دون التلاوة، فكان المنسوخ مرفوع الحكم والتلاوة، والناسخ مرفوع التلاوة باقي الحكم. والضرب الخامس: ما نسخ حكمه وتلاوته وهو لا يعلم الذي نسخه، كما روي أنه كان في القرآن: لو كان لابن آدم وادٍ من ذهب لابتغى إليه ثانيًا، ولو كان له ثانٍ لابتغى إليه ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ويتوب الله على من تاب. وروى أنس - رضي الله عنه - أنهم كانوا يقرأون: بلغوا إخواننا عنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه. ومثل هذا قد يكون رفعًا له في المعنى ولا يكون نسخًا له في الحكم، روي أن رجلاً قام من الليل ليقرأ سورة فلم يقدر عليها، وقام آخر ليقرأها فلم يقدر عليها، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: "رفعت البارحة". وأما القسم الرابع: من أحوال النسخ، فهو على خمسة أضرب: أحدها: ما نسخ إلى مثله في الخفة والغلظ، كنسخ استقبال بيت المقدس [107/ أ] باستقبال الكعبة.

والثاني: ما نسخ إلى ما هو أغلظ منه كنسخ صيام أيام البيض بصيام شهر رمضان، والحبس في الزنا بالرجم. والثالث: النسخ إلى ما هو أخف منه، كنسخ العدة حولاً بأربعة أشهر وعشر، ونسخ مصابرة الواحد بعشرة في الجهاد بمصابرته لاثنين. والرابع: ما نسخ إلى غير بدل كنسخ قيام الليل في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} {قُمْ اللَّيْلَ} [المزمل: 1، 2]، بقوله تعالى: {وَمِنْ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ} [الإسراء: 79] الآية، فنسخ فرضه بغير بدل. والخامس: ما نسخ فيه للتخيير بين شيئين بإسقاط أحدهما وانحتام الآخر، كقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] الآية، بقوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] الآية. وأما القسم الخامس في زمان النسخ فهو على ثلاثة أضرب؛ أحدها: يجوز فيه النسخ. والثاني: لا يجوز فيه النسخ. والثالث: فيه خلاف. فأما الذي يجوز فيه النسخ فهو بعد اعتقاد المنسوخ والعمل به، فيجوز سواء عمل به كل الناس كاستقبال بيت المقدس، أو عمل به بعضهم كفرض الصدقة في مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم نسخت بعد أن عمل بها علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وحده. وأما الذي لا يجوز النسخ فيه فهو قبل اعتقاد المنسوخ والعمل به، فلا يجوز أن يرد النسخ لأن من شرط النسخ أن يكون بعد استقرار الفرض ليخرج عن البداء إلى الإعلام بالمدة. فإن قيل: فقد روي في ليلة المعراج، أن الله تعالى فرض على أمته خمسين صلاة، فلم يزل صلى الله عليه وسلم يراجع ربه فيها ويستغفر له حتى استقر الفرض على خمسٍ. قلنا: كان هذا على وجه التقرير دون النسخ؛ لأن الفرض يستقر بنفوذ الأمر، ولم يكن من الله تعالى فيه أمر إلا عند استقرار الخمس. وأما المختلف فيه [107/ب] فورود النسخ بعد اعتقاد المنسوخ وقبل العمل به، وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يجوز كما لا يجوز قبل الاعتقاد لما ذكرنا من العلة، ليخرج من البداء إلى النسخ. والثاني: يجوز كما يجوز بعد العمل؛ لأن الاعتقاد من أعمال القلب دون العمل اختيارًا لطاعتهم، كما أمر الله تعالى إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بذبح ابنه ثم نهاه قبل ذبحه فقال: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 102] الآية، فاختبر بذلك طاعته ونهاه بعد الاعتقاد وقبل الفعل.

والثالث: لا يجوز إلا أن يمضي بعد الاعتقاد وزمان العمل به، وإن لم يعمل به لاختصاص النسخ بتقدير مدة التكليف وذلك موجود بمضي زمانه، فإذا استقر النسخ بما بيناه لم يلزم فرضه قبل ظهوره من الرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كان فرضه لازمًا للرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا أظهره سقط عنه فرض الإبلاغ ولزم فرضه في الحال لكل من عمل به من الحاضرين. فأما فرضه على الغائبين عنه ففيه وجهان: أحدهما: يجب؛ لأن الله تعالى عمهم بفرضه ولم يخص به حاضرًا من غائب. والثاني: وهو الأشبه أنه لا يجب إلا بعد العلم، كما يلزم الحاضرين فرضه بعد إبلاغ الرسول صلى الله عليه وسلم وإن تقدم فرضه على الرسول صلى الله عليه وسلم، وكذلك استدامة أهل قباء في صلاتهم إلى بيت المقدس وتحولوا إلى الكعبة وبنوا. وقال ابن عمر - رضي الله عنهما: كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأسًا حتى أخبرنا ابن خديج أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المخابرة فتركناها لقول رافع، ولم يتراجعوا فيما تقدم. وأما القسم السادس في دلائل النسخ: [108/أ] وهو أن يرد في الشيء الواحد كلمات مختلفات، فهما ضربان: أحدهما: أن يمكن استعمالها ولا يتنافى اجتماعهما وهو ضربان: أحدهما: أن يكون أعم من الآخر لعموم أحدهما وخصوص الآخر، فيقضي بالأخص على الأعم فيستثنى منه، كقوله تعالى: {وَلا تَنكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، وقال تعالى فيمن أباح نكاحهن: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5]، فقضى بعده بتلك، فصار كقوله تعالى: ولا تنكحوا إلا الكتابيات حتى يؤمن، وكان عمومًا مخصصًا ولم يكن ناسخًا ولا منسوخًا. والثاني: تتساوى الآيتان في جواز تخصيص كل واحد منهما بالآخر، كقوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين) [النساء: 23]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 5، 6]، فجاز أن يكون تحريم الجمع بين الأختين إلا بملك اليمين، وجاز أن يكون أباحه ملك اليمين إلا الجمع بين الأختين، فوجب الرجوع إلى دليل يوجب تخصيص إحديهما بالأخرى، ولذلك قال عثمان رضي الله عنه: أحلتهما آية وحرمتهما آية والتحريم أولى، فهذا فيما أمكن استعمال الحكمين المختلفين فيه، وأنه يحمل على التخصيص دون النسخ إلا أن يقوم دليل على النسخ فيعدل بالدليل على استعمال التخصيص النسخ كآية الوصايا وآية المواريث، فقد كان يمكن استعمالها من غير نسخ، ولكن روي عن الصحابة - رضي الله عنهم - أنهم قالوا: نسخت آية المواريث آية الوصايا، فعدل عن استعمال التخصيص إلى النسخ. والضرب الثاني: أن يتنافى الحكمان، ولا يمكن استعمالهما فيعلم مع التنافي أن أحدهما ناسخ للآخر فيرجع إلى دلائل النسخ، فيستدل بها على الناسخ والمنسوخ، وهي خمسة دلائل مرتبة بتقدم بعضها على بعض: فأولها: أن يتقدم أحدهما ويتأخر الآخر، فيعلم أن المتأخر ناسخ للمتقدم. فإن قيل: [108/ب] قوله تعالى في العدة: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}.

[البقرة: 234] ناسخ (لقوله) تعالى: {والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجًا وصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إلَى الحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ} [البقرة: 240]، وهو متقدم عليه. قيل: هو متقدم عليه في التلاوة، ومتأخر عنه في التنزيل، وقد عدل بترتيب التلاوة عن ترتيب التنزيل بحسب ما أمر الله تعالى بت للمصلحة التي استأثر بعلمها، فقد قيل: إن آخر آيةٍ نزلت قوله تعالى: {واتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ} [البقرة: 281]، وهى متقدمة في سورة البقرة، وأول ما نزل من القرآن سورة اقرأ، وهى متأخرة في المفصل والنسخ، إنما تختص بالمتأخر في التنزيل دون التلاوة. فإن أشكل المتقدم والمتأخر، وجاز أن يكون كل واحدٍ منهما متقدماً أو متأخراً عدل إلى الدليل، وهو بيان الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن ثبت عنه بيان الناسخ من المنسوخ عمل عليه، وكانت السنة مبينة ولم تكن ناسخةً. وإن عدم بيان الرسول صلى الله عليه وسلم عدل إلى الدليل أثالث وهو الإجماع، فإن انعقد الإجماع على تعيين الناسخ والمنسوخ عمل عليه، وكان الإجماع مبيناً ولم يكن ناسخاً. وإن عدم الإجماع عدل إلى الدليل الرابع وهو الاستعمال، فإذا كان أحدهما مستعملا والآخر متروكاً كان المستعمل ناسخاً والمتروك منسوخاً. فإن لم يوجد في الاستعمال بيان إما لاشتباهه أو لاشتراكه عدل إلى الدليل. الخامس: وهو الترجيح بشواهد الأصول والأدلة وكانت غاية العمل بت. وقال بعض أهل العلم: كل آية منسوخةٍ ففي ضمن تلاوتها ما يدل على أن حكمها غير ثابت على الإطلاق، كقوله تعالى في سورة النساء في حد الزنا: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15]، أن حكمها لا يدوم، فنسختها آية النور في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ والزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِّنْهُمَا} [النور: 2] الآية، [109/ أ] ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "خذوا عنى، خذوا عنى، قد جعل الله لهن سبيلا" الخبر. وهذا الذي ادّعاه هذا القائل يبعد أن يوجد في كل آيةٍ منسوخة، لكنه معتقد لمذهب أبى حنيفة في أن الزيادة على النص تكون نسخاً، فيجعل ذلك من شواهد المنسوخ، وليست الزيادة على النص عندنا نسخاً. وأما القسم السابع في الفرق بين التخصيص والنسخ: والفرق بينهما من خمسة أوجه: أحدها: أن تخصيص العموم يجوز أن يكون مقترنا بت ومتقدما عليه ومتأخرا عنه، ولا يجوز أن يكون الناسخ متقدماً على المنسوخ ولا مقرتنا بت، بل يجب أن يتأخر عنه. والثاني: التخصيص بيان ما أريد بالعموم، والنسخ بيان ما لم يرد بالمنسوخ. والثالث: تخصيص العموم يجوز أن يكون بغير جنسه بخلاف النسخ. والرابع: يجوز التخصيص في الأحكام والأخبار، والنسخ يختص بالأحكام. والخامس: التخصيص على الفور، والنسخ على التراخي. فهذا كله بيان الأقسام السبعة من أحكام الأصل وهو الكتاب. وأما الأصل الثاني وهو أصل الشرعة؛ السنة: وهذا لأن الله تعالى ختم برسوله صلى الله عليه وسلم

النبوة وكمل (به) الشريعة، وجعل الله بيان ما أخفاه من مجمل ومتشابهٍ، وإظهار ما يشرعه من أحكام ومصالح، فقال تعالى: {وأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ} [النحل: 44]. ولما جعله الله تعالى بهذه المنزلة أوجب على الناس طاعته في قبول ما يشرعه لهم وامتثال ما يأمرهم بت وينهاهم عنه، فقال تعالى: {ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ومَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]. الآية، فأوجب عليه لأمته أمرين؛ البيان والبلاغ، قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} [المائدة: 67] الآية، وأوجب للرسول على أمته صلى الله عليه وسلم أمرين؛ طاعته في قبول قوله، [109/ ب] وأن يبلغوا عنه ما أخبرهم بت، كما قال صلى الله عليه وسلم: "ليبلغ منكم الشاهد الغائب". وقال صلى الله عليه وسلم: "بلغوا عنى ولا تكذبوا علىًّ، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه". ولما كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقدر أن يبلغ جميع الناس للعجز عنه، اقتصر على إبلاغ من حضر لينقله الحاضر إلى الغائب. ولما لم يبق فيهم إلى الأبد، وكل من يأتي في عصرٍ بعد عصرٍ يأخذون عمن تقدمهم من عصرٍ لينقل عنه كل سلفٍ إلى خلفهِ، فيستديم على الأبد نقل سنته، ويعلم جميع من يأتي بشرائعه، فصار نقل الأخبار عنه أصلاً من أصول الشرعة. ثم الأخبار على ثلاثة أضرب؛ أخبار استفاضة، وتواتر، وآحادٍ. فأما الاستفاضة: أن تبدو منتشرة من البر والفاجر، ويتحقق العالم والجاهل، فلا يختلف فيها مخبر، ولا يتشكك فيها سامع، ويكون انتشارها في ابتدائها كانتشارها في آخرها، وهذا أقوى الأخبار حالاً وأثبتها حكماً. وأما التواتر فما ابتدأ بت الواحد بعد الواحد حتى يكثر عددهم ويبلغوا قدراً ينتفي عن مثلهم التواطؤ والغلط، ولا يعترض في خبرهم تشكك ولا ارتياب، فيكون في أوله من أخبار الآحاد، وفي آخره من أخبار التواتر، فيصير مخالفاً لخبر الاستفاضة في أوله وموافقاً له في آخره، ويكون الفرق بين خبر الاستفاضة وخبر التواتر من ثلاثة أوجهٍ: أحدها: ما ذكرنا من اختلافهما في الابتداء واتفاقهما في الانتهاء. والثاني: أن أخبار الاستفاضة لا يراعى فيها عدالة المخبر وفي التواتر يراعى. والثالث: أن أخبار الاستفاضة [110/ أ] ينتشر من غير قصدٍ لروايتها، وأخبار التواتر ما ننشر عن قصد لروايتها. ثم يستوي الخبران في انتفاء التشكك عنهما ووقوع العلم يهما، وليس العدد فيها محصوراً ليكون أنفي للارتياب وأمنع من التصنع، وإنما الشرط فيهما أن ينتفي عن المخبرين يهما جواز التواطؤ على الكذب، ويمتنع اتفاقهم في السهو والغلط حتى يزول الشك ويحصل اليقين، ثم ينتهي إلى عصرٍ بعد عصرٍ على مثل هذه الحال، فالمستفيض من أخبار السنة مثل عدد الركعات، والمتواتر فيها مثل نصب الزكوات. فإن قيل: فقد استفاض في النصارى قتل عيسى- عليه السلام- وقد أخبر الله تعالى بكذبهم. قيل:

إنما استفاض عن أربعة نفر، ثم استفاض عنهم الخبر فصار أصله من أخبار الآحاد وانتشاره من أخبار الاستفاضة. وأما أخبار الآحاد فهو: ما أخبر بت الواحد والعدد القليل الذي يجوز على مثلهم التواطؤ على الكذب، أو الاتفاق في السهو والغلط، وهى على ثلاثة أضربٍ؛ أخبار المعاملات، وأخبار الشهادات، وأخبار السنن والديانات. فأما أخبار المعاملات فلا يراعى فيها عدالة المخبر، وإنما يراعى فيها سكون النفس إلى خبره، فيقبل من كل برٍ وفاجرٍ، ومسلم وكافرٍ، وصغير وبالغٍ. فإذا قال واحد منهم: هذه هدية فلانٍ إليك جاز القبول ويتصرف فيها بقوله، ولذلك لو قال: قد أذن لق فلان في دخول داره، وإنما لا تعتبر فيه العدالة؛ لأن العرف جاز باستتابة أهل البذلة فيه، ومن خرج عن حد الصيانة وذلك منافٍ لشروط العدالة. وأما أخبار الشهادات فيعتبر فيها شرطان ورود الشرعة يهما وانعق الإجماع عليهما: أحدهما: العدالة؛ لأن المنتدب لها أهل الصيانة، فتعتبر العدالة ليكونوا من أهل الصدق والصيانة [110/ ب]. والثاني: العدد على موارد الشرعة بت من الاختلاف، فصارت الشهادة من هذين الوجهين أغلظ من أخبار المعاملات وإن كانا جميعا من أخبار الآحاد. وأما أخبار السنن في العبادات، فمختلف في قبول أخبار الآحاد فيها. فقال الأصم وابن عليّة: لا يقبل ويعدل إلى غيرها من أدلة الشرعة؛ لأنها لا توجب العلم فلا توجب العمل. وذهب الجمهور إلى قبولها ووجوب العمل بتا، لقوله تعالى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ولِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ} [التوبة: 122] الآية، فلو لم تلزم الحجة بالآحاد النافرة لأمر فيه بالتواتر والاستفاضة، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذ- رضي الله عنه- إلى اليمين، فنقل السنن وعلمهم العبادات ونصب الزكوات وقبلوا. وقال بعض أصحاب الحديث: لا يجوز قبول خبر ممن لا يوافقه على مذهبه وهذا غلط، ويؤدى إلى إطراح أكثر السنن، ولأنه لما سقط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرض البلاغ بذكره للآحاد لزم فيها قبول أخبار الآحاد، ولأنه يجوز العمل على قول مفتى واحد وهما في أحكام الدين سواء. وذهب بعض أهل العراق إلى أنها لا تقبل إلا عن اثنين حتى تتصل بالرسول صلى الله عليه وسلم كأقل الشهادات. وذهب آخرون إلى أنها لا تقبل إلا من أربعة عن أربعة كأكثر الشهادات. وعندنا وعند الجمهور خبر الواحد والجماعة في وجوب العمل بتا واحد، وقد عمل أبو بكر- رضي الله عنه- في ميراث الجدة على خبر الواحد، وأخذ الجزية من المحبوس. وعمل عمر- رضي الله عنه- على خبر الواحد في دية الجنين، لأن ما يجوز على [111/ أ] الواحد يجوز على الاثنين والأربعة وليس اعتبار أخبار السنن بالشهادة أولى من اعتبارها بأخبار المعاملات؛ لأنها واسطة بينهما فاعتبر فيها العدالة كالشهادة، وقبل خبر الواحد كالمعاملة.

ثم اعلم أنه يجب العمل بما تضمنها ما لم يمنع منه العقل. وقال أبو حنيفة: لا يعمل بتا إذا خالفت الأصول ولهذا رد المصرات وخبر ... وقال مالك: لا يعمل بتا إذا خالفت عمل أهل المدينة، ولذلك لم يعمل على خبر خيار المجلس وهو الراوي له، وهذا غلط؛ لأن الخبر أًل فلم يجز أن يدفع بأصلٍ وهو حجة على أهل المدينة فلم يدفع بعلمهم. وإذا وجب العمل فهو غير موجب للعلم الباطن بخلاف المستفيض والمتواتر، وهل يوجب العلم الظاهر؟ فيه وجهان: أحدهما: ليوجب؛ لأن ظاهر العلم من نتائج باطنه فلم يفترقا. والثاني: يوجب؛ لأن سكون النفس إليه موجب له ولولاه لكان ظناً ثم الكلام في السنن يشتمل على فصلين؛ أحدهما: في أحوال الرواة الناقلين لها. والثاني: في أحكام المتون المعوّل عليها. فأما الأول ففيه خمسة فصول؛ أحدها: في صفات الراوي. والثاني: في شروط التحمل. والثالث: في صيغة الأداء. والرابع: في أحوال الإسناد. والخامس: في نقل السماع. فأما الأول: فيعتبر فيه أربعة شروطٍ: أحدها: البلوغ، فإنه لا حكم لقول الصغير في حق نفسه فكيف في حق غيره. والثاني: العقل، ولا يقتصر على الذي يتعلق بت التكليف حتى ينضم إليه التيقظ والتحفظ، فيفرق بين الصحيح والباطل ليصح تمييزه. والثالث: [111/ ب] العدالة في الدين؛ لأن الفاسق مردود القول فيه، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]. ولا يرد خبر أهل الأهواء والبدع ما لم يكفروا غيرهم، ويظهروا عنادهم، وقد اتهم بذلك كثير من التابعين فما ردت بت أخبارهم، وشدد بعض أصحاب الحديث فقأ: لا يقبل خبرهم، وقد ذكرنا ذلك من قبل. والرابع: أن يكون مأمون الزلل، شديد اليقظة، بعيدا من السهو والغفلة حتى لا يشتبه عليه الكذب بالصدق، ويكون على ثقة من نفسه ويكون الناس على ثقةٍ به. وحكي عن مالك- رحمة الله- أنه قال: لقد سمعت من سبعين شيخاً أتقرب إلى الله تعالى بأدعيتهم لا أروى عن أحدهم. وإنما قال هذا لأنهم كانوا أهل سلامةٍ لا تؤمن غفلتهم وإن قويت ديانتهم. ولأفرق بين الجاهل والعالم إذا كان ضابطا؛ لأن الصدر الأول قبلوا روايات الأعراب وأهل البوادي، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رب حامل فقهٍ إلى من هو أفقه منه".

ويقبل خبر الأعمى وإن لم تقبل شهادته، وكذلك يقبل هبر العبد والمرأة؛ لأن فتواهما مقبولة لاختصاصه بالدين. وقال أبو حنيفة: لا تقبل أخبار النساء في الدين إلا أخبار عائشة وأم سلمه رضي الله عنهما. هكذا ذكر صاحب"الحاوي" عنه ولا يصح، قلنا: لو كان نقص الأنوثة مانعاً لعَّم، ولأنه يقبل المرأة في الفتوى وهو أغلظ. وأما شروط التحمل فللمستمع أربعة أحوال؛ أحدها: أن يسمعه من لفظ المحدث والثاني: أن يقرأه عليه. والثالث: أن يجيزه المحدث. والرابع: أن يكاتبه المحدث. فأما الأول فيصح تحمله عنه سواء كان عن قصدٍ واسترعاء، أو كان باتفاق ومذاكرة بخلاف الشهادة، ويجوز أن يكون المحدث أعمى أو أصم، ولا يصح السماع إن كان المتحمل أصم ويصح إن كان أعمى. وأما [112/ أ] قراءة المستمع على المحدث فيصح تحمله كما لأوقره المحدث، وكذلك لو قرأه غير المستمع على المحدث كان كما لو قرأه المستمع، ومن شرط صحة السماع في هذا شيئان: أحدهما: أن يكون المحدث سميعاً، فإن كان أصم لم يصح. والثاني: أن يغترف المحدث بصحة ما قرأه عليه، ولا يصح التحمل إن لم يغترف بت، ويجوز أن يكون القارئ أصم. وأما الإجازة فلا يصح التحمل بالإجازة عند الشافعي- رضي الله عنه- وجماعة، وأجازة بعض أصحاب الحديث في الأحوال. وقال بعضهم: يعتبر في صحة الإجازة أن يسلم الكتاب، وليصح إن لم يسلم الكتاب. وقيل: لو صحت الإجازة بطلت الرحلة، وقد يتدل في الإجازة الفاسد بالصحيح والمجهول بالمعروف. فأما المكاتبة: فلا يصح فيها التحمل. فإن قيل: فقد كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عماله في السنن والأحكام كتبا عملوا عليها وأخذ الناس بتا، منها كتابه لعمرو بن حزم في الديات، والصحيفة التي أخذها أبو بكر- رضي الله عنه- من فراب سيفه في نُصب الزكوات. قلنا: قد كانت ترد مع رسل يعوّل على خبرهم بتا. ويصح سماع غير البالغ إذا كان مميزا سمع ابن الزبير وكان ابن تسع سنين حين مات رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمع ابن عباس- رضي الله عنهما- قبل بلوغه وقبل الناس روايتهما بعد البلوغ. وهكذا لو كان كافرا ثم أسلم، أو كان فاسقا ثم اعتدل؛ لأن شرط صحة التحمل صحة التمييز وحده.

وأما صفة الأداء: فيعتبر في المحدث إذا روى بعد ما قدمناه من شروط التحمل شرطان؛ أحدهما: ذكر إسناده. والثاني: التحري في لفظ متنه. ثم له حالتان: إحداهما: أن يحدث من حفظه فيصح السماع منه [112/ ب] إذا وثق بحفظه. والثانية: أن يحدث من كتابه، فإن كان أعمى لا تصح روايته من كتابه لأن الكتب قد تشتبه عليه، وإن كان بصيراً صح أن يروى كتابه بشرطين؛ أحدهما: أن يكون واثقاً بكتابه. والثاني: أن يكون ذاكراً لوقت سماعه. فإن أخل لم تصح روايته. ومنع أبو حنيفة- رحمه الله- أن يروى من حفظه كما لا يجوز للشاهد أن يشهد من حفظه، ولا يصح هذا لقوله صلى الله عليه وسلم: "قيدوا العلم بالكتاب". ولو لم يصح الرجوع إليه لكان الأمر بتقييده غير مفيدٍ. وروى أن رجلاً شكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم النسيان، فقال له: "حرك يدك"، أي اكتب حتى ترجع إذا نسيت إلى ما كتبت. وقد كتب عثمان- رضي الله عنه- حين جمع القرآن عدة مصاحف ونفذها إلى الأمصار، فحفظ المسلمون منها القرآن. والفرق بين الشهادة والخبر أن الشهادة يفترق فيها حال الشاهد والمشهود عليه فتغلظت بالحفظ كما تغلظن بالعدد، وفي الحديث يشترك المحدث والمستمع فتخففت بالكتاب. وقد صارت الرواية في عصرنا من الكتاب أثبت عن أصحاب الحديث من الحفظ لما يرجعون إليه من شواهد الأصول في صحة السماع. ويجوز أن يقول المحدث في روايته: "حدثنا" و"أخبرنا" وهما عند الشافعي سواء في الحكم، ولكن الأولى في عرف أصحاب الحديث أن يسمع من لفظ المحدث أن يقول: "حدثنا" وإن قرأه على المحدث أن يقول: "أخبرنا" وإن سمع وحده قال: "حدثني" السماع وإن كانت في الحكم سواء. ويجوز أن يقبل في رواية المحدث فيما يعود نفعه إليه، ولا يجوز ذلك في الشهادة، وهذا لاشتراك الناس في السنن والديانات وافتراقهم في الشهادات. [113/ أ] وإذا أسند الراوي حديثه من رجل، فأنكر ذلك الرجل الحديث أو نسيه لم يقدح في صحة الرواية، ولا يجوز للمحدث أن يرويه عن المستمع إن أنكره، ويجوز أن يرويه عنه إن نسيه، وقد روى ربيعة بن عبد الرحمن عن سهيل بن أبى صالح، عن أبيه، عن أبى هريرة- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد، ثم نسى سهيل الحديث فأخبره بت ربيعة، فصار سهيل يقول: أخبرني ربيعة عنى أنني حدثته عن أبى هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى باليمين مع الشاهد.

وإذا عمل الراوي بغير روايته لم يقدح في صحة الرواية؛ لأن أبا هريرة روى غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً، وأفتى بغسله ثلاثا، فعملوا على روايته دون فتياه، لجواز أن يكون قد نسى الرواية فأفتى بغيرها؛ وروايته حجة وفتواه ليست بحجةٍ. وأما تفسير الراوي للحديث الذي رواه، فإن كان من الصحابة الذين سمعوا لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم وشاهدوا مخرج كلامه حمل على تفسيره، كما فسر ابن عمر- رضي الله عنهما- افتراق المتباعدين أنه بالأبدان دون الكلام، فحمل على تفسيره. وإن كان هذا المحدث من دون الصحابة لم يكن تفسيره حجةً؛ لأنه وغيره سواء. وأما أحوال الإسناد: فصحته معتبرة بثلاثة شروط أن يكون الإسناد متصلاً بالرسول صلى الله عليه وسلم، فإن كان مرسلاً أو منقطعاً لم ينجز. والمرسل: أن يروى التابعي عنه صلى الله عليه وسلم وهو لم يشاهده ولا يريه عن صحابي شاهده. والمنقطع أن يكون من الروايتين رجل لم يذكر، فالمنقطع لا يكون حجة، ووافقنا أبو حنيفة فيه. والمرسل عن أبى حنيفة حجة وربما جعله أقوى من المسند لثقة التابعي بصحته في إرساله. [113/ أ] ولا يكون عند الشافعي- رضي الله عنه- حجة، ولا يجوز العمل بت إذا انفرد حتى يسمى راوية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه قد يجوز أن يسمعه عن مثله من التابعين، ويجوز أن يسمعه عمن لا يوثق بصحته، وقد قال الشافعي: "ومرسل سعيد بن المصيب عندنا حسن"، وهذا لأنه ما أرسل حديثاً إلا وقد وجد مسنداً عن أكابر الصحابة رضي الله عنهم. وأما رواية الصحابة فلا مرسل فيها؛ لأنه إن قال: سمعت فلا شبه في صحته، وإن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فالظاهر أنه عن سماعه منه، وإن سمعه من غيره فليس يرويه إلا عند مثله؛ لأن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم محكوم بعد التهم، وجميعهم مقبول الرواية عنه لقوله صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم". وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ليس كل ما حدثتكم بت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن سمعت وحدثني بت أصحابه. فأجرى عليه أهل العلم وأصحاب الحديث أحكام المسند. والثاني: أن تكون الرواية عن مسمى مشهور سمى بت، حتى لا يقع التدليس في اسمه، فإن لم يسمه وقال: أخبرني الثقة، وأخبرني من لا أتهم، لم يكن حجة في صحة النقل؛ لأنه قد يثق بت ويكون مجروحاً عند غيره. فإن قيل: ذكر الشافعي مثل هذا. قلنا: قد اشتهر من عناه بهذا، وأراد بمن يثق بت إبراهيم بن إسماعيل، فصار كالتسمية له وإن كان الأولى أن يصرح باسمه، لكنه ربما أشكل عليه في وقت الحديث اسم الرواة، وهو واحد في عدد ثقاتٍ، فيتخرج أن يسمى بت من لا يقطع بصحته، فعدل عنه إلا ما لأجرح فيه [114/ أ] فقال: أخبرني الثقة، فلا وجه لمن أنكره عليه من أصحاب الحديث مع ظهور العذر فيه. والثالث: أن يعرف عدالة كل واحد من الرواة حتى يتصل ذلك بالصحابة، وليست رواية العدل عن غيره دليل على عدالته؛ لأن العدل قد يروى عن عدلٍ وغير عدلٍ. وقال الشعبي في روايته: حدثني الحارث الأعور وكان والله كاذباً.

فإن قيل: (أفيجوز) أن يروى عن غير عدلٍ. قيل: يجوز في المشاهير ولا يجوز في المناقير، ويجوز أن يروى المتقدم على المتأخر، فقد روى ابن سيرين، عن خالد الحذاء، عن أبى قالبة حديث القرعة، وسمع إبراهيم من الأعمش حديث قيام المأموم عن يمين الإمام. وإذا كانت عدالة الرواة شرطاً في صحة الحديث، فحالهم ثلاثة أقسام: أحدها: أن يعلم عدالتهم فيحكم بصحة الحديث. والثاني: أن يعلم جرحهم أو جرح أحدهم فلا يحكم بصحته. والثالث: أن يجهل أحوالهم، فعند أبى حنيفة يقبل ما لم يعلم الجرح، وعند الشافعي لا يقبل إلا أن يعلم التعديل فيكشف عن عدالتهم. فإن شهد قوم بالتعديل وقوم بالجرح، فالجرح أولى ولا يقبل الجرح حتى يذكر ما بت صار مجروحاً. فإن وجدوه كذب في حديث يرد جميع أحاديثه المتقدمة، ووجب نقض ما عمل بت منها وإن لم ينقض بشهادة من حدث فسقه؛ لأن الحديث حجة لازمة لجميع الناس وفي جميع الإعصار، فكان حكمه أغلظ من الشهادة الخاصة، وفي تعديل الرواة وجهان: أحدهما: أنه يجرى مجرى الخبر؛ لأنه حكم على غائب فلا يقبل في تعديله أقل من شاهدين. وفي جواز أن يكون المحدث أحدهما [114/ ب] وجهان، كما لو عدل شهود الفرع شهود الأصل. وأما الجرح فلا يقبل فيه أقل من شاهدين؛ لأنها شهادة على باطن مغيب. فأما الصحابة رضي الله عنهم فلا يعتبر فيهم إلا صحبتهم، فإذا صحت قبلت أحاديثهم إذا خرجوا عمن اشتهر النفاق؛ لأن الله تعالى اختار لرسوله صلى الله عليه وسلم من رضي عنهم ووصفهم بالرحمة، فقال تعالى: {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29]. فأما من عرف من الرواة بالتدليس فصفتان: أحدهما: من عرف بتدليس متون الأحاديث، فهذا مجروح العدالة مطروح الأحاديث وهو ممن يحرف الكلم عن مواضعه. والثاني: من عرف منه تدليس الرواة مع صدقة في المتون. فقد حكي أن شريكاً وهشيماً والأعمش كانوا مدلسين. وقيل: إن التدليس في أهل الكوفة أشهر منه في أهل البصرة، واتهم سفيان بن عيينة بالتدليس في حديثٍ رواه عن عمرو بن دينارٍ وكان بينه وبين عمرو بن دينار في ذلك الحديث ثلاثة رجالٍ، فقيل له بعد الرواية عنه من حدثك بهذا؟ فقال: حدثني على بن ألمديني، عن أبى عاصم، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار فاعله بعض أصحاب الحديث من أجل هذا، ونسب إلى التدليس وإن كان ثقة عدلاً. ثم لا يخلو حال التدليس في أسماء الرواة من إحدى حالتين:

إحداهما: أن يكون في إبدال الأسماء بغيرها فيعدل عن اسم زيد بن خالد فيشمسه بعمرو بن بكر لنزول من عدل عن اسمه وارتفاع من عدل إلى اسمه، فهذا كذب يرد حديثه بت. والثانية: أن يكون التدليس في إطراح اسم الراوي الأقرب وإضافة الحديث إلى من هو أبعد، كأذى حكي عن سفيان بن عيينة [في حديثه عن عمرو بن دينار] وبينهما في بعض [115/ أ] الأحاديث رجال، وإن سمع منه أكثرها فلا يكون هذا التدليس مجروحاً، ولكن لا يقبل حديثه إذا روى عن فلانٍ، حتى يقول: "حدثني" أو "أخبرني"، فإذا قال ذلك زال احتمال التدليس فيقبل حديثه. وشدد بعض أصحاب الحديث حال التدليس، فيقبل حديثه حتى يقول: "سمعت"، ولا يقبله إذا قال: "حدثني" أو "أخبرني" كما يقبل من مالك، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما. وأما القسم الخامس في نقل السماع فللراوي في نقل سماعه أربعة أحوالٍ: أحدها: أن يروى ما سمعه بألفاظه وعلى صفته. والثاني: أن يروى معناه بغير لفظه. والثالث: ينقصم. والرابع: أن يزيد عليه. فأما الحالة الأولى فلا يخلو مصدره من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون ابتداءً أو جواباً. فإن كان ابتداءً وحكاه فقد أدى الأمانة فيه كقوله صلى الله عليه وسلم:"مفتاح الصلاة الطهور، وتحريمها التكبير، وتحليلها التسليم". وإن كان جواباً عن سؤال فهو على ثلاثة أضرب: أحدهما: أن يكون الجواب مغنياً عن ذكر السؤال كما سئل الله صلى الله عليه وسلم عن التوضؤ بماء البحر، فقال:"هو الطهور ماؤه، الحل ميتته"، فالروي فيه مخير بين ذكر السؤال وتركه". والثاني: يفتقر الجواب إلى ذكر السؤال كما سئل عن بيع الرطب بالتمر، فقال:"أينقص الرطب إذا يبس؟ " فقيل: نعم، فقال:"فلا يجوز أن يقتصر على رواية الجواب حتى يذكر السؤال؛ لأن قوله:"فلا إذاً" لا يفهم إلا بذكر السؤال. والثالث: أن يكون إطلاق الجواب يحتمل أمرين، فإذا نقل السؤال بقى أحد الاحتمالين، كما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم [115/ ب] صلى الله عليه وسلم عن الناقة تذبح فيوجد في جوفها جنين ميت أيؤكل؟ فقال:"ذكىته ذكاه أمه". فلو قاله ابتداءً لا حتما أن تكون ذكرته مثل ذكوة أمه، ويحتمل أن يستباح بزكاة أمه، فإذا ذكر السؤال صار الجواب محمولا على أنه بسباح في هذا من هو أصل الخبر كالصحابي ومن تفرغ عليه من التابعين ومن دونهم. والحالة الثانية: أن يروى معنى الحديث بغير لفظة، فهو ثلاثة أضرب:

أحدها: أن يكون في الأوامر والنواهي كقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تبيعوا الذهب بالذهب"، فيروى: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الذهب بالذهب إلا سواء بسواء. وبقوله صلى الله عليه وسلم:"اقتلوا الأسودين في الصلاة"، فهذا جائز؛ لأن افعل أمر ولا تفعل نهى، وكان الراوي فيهما مخيراً، وسترى في هذا التخيير من كان أصل الخبر من الصحابة، ومن صار فارغاً فيه كالتابعين ومن بعدهم. والثانية: أن يكون في نقل كلامٍ قاله بألفاظ ويكون الكلام يحتمل الألفاظ أو خفي المعنى، كقوله صلى الله عليه وسلم:"لا طلاق في الإغلاق". فينبغي أن ينقله بلفظه ولا يعبر عنه بغيره [ليكون مات ضمنه من الاحتمال والخفاء] فإنه لم يذكره محملاً ولا خفياً إلا لمصلحة وليكل استنباطه إلى العلماء. والثالث: أن يكون المعنى جلياً غير محتمل، كقوله صلى الله عليه وسلم:"الخير كثير وقليل فاعله"، فلا يجوز لمن سمع كلامه من التابعين ومن بعدهم أن يورد المعنى بغير لفظه حتى ينقل اللفظ على صفيته، ويورد المعنى [116/ أ] بألفاظه. وهل يجوز لمن شاهده صلى الله عليه وسلم من الصحابة وعرف مخرج كلامه، أن يورد المعنى بغير لفظة؟ وجهان لأصحابنا: أحدهما: لا يجوز كغيره من التابعين. والثاني: يجوز له؛ لأنه أعرف بفحواه من غيره. وقال صاحب"الحاوي": والذي أراه أنه كان يحفظ اللفظ لم ينجز أن يرويه بغير لفظه؛ لأن في كلام الرسول صلى الله عليه وسلم من الفصاحة ما لا يوجد في كلام غيره، وإن لم يحفظ اللفظ جاز أن يورد معناه بغير لفظه؛ لأن الراوي قد يحمل أمرين؛ اللفظ والمعنى، فإن قدر عليهما لزم أداءهما وإن عجز عن اللفظ وقدر على المعنى لزم أداؤه لئلا يكون مقصراً في نقل ما تحمل، فربما تعلق بالمعنى من الأحكام ما ليجوز أن يكتمه، وقد قال الله تعالى: {ولا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: 283] الآية. والحالة الثالثة: أن ينقص من ألفاظه، وهذا على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يصير الباقي منه مبتزا لا يعلم معناه فليصح ذلك منه، وعليه أن يستوفيه لتتم فائدة الخبر. والثاني: أن يكون الباقي مفهوماً ولكن يكون ذكر المتروك يوجب اختلاف الحكم في المذكور، مثل قوله صلى الله عليه وسلم لأبى بردة بن تيار وقد ضحى قبل الصلاة قال:"أعد أضحيتك"، فقال: ليس عندي إلا جزعة من المعز، فقال:"تجزيك ولا تجزئ أحداً بعدك". فلو روى الناقل:"تجزيك" لفهم أنها تجزي جميع الناس، فلما قال:"ولتجزي أحداً بعدك"، دل على اختصاصه بهذا الحكم فلا يجوز تركه وإن كان ما (رواه) مفهوماً.

والثالث: أن يكون الباقي مفهومًا مستقل الحكم، كقوله صلى الله عليه وسلم: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته"، فيجوز أن يقتصر [في الرواية على أحدهما] فيروي: "هو الطهور ماؤه" أو يروي "الحل ميتته" لأنهما كلمات فلم يلزم الجميع [116/ ب] بينهما في الرواية إلا أن يتعين عليه فرصة الإبلاغ عند الحاجة إليه فيلزمه أداء ما تحمل كالشاهد. والحالة الرابعة: أن يزيد في الخبر، وهو على ثلاثة أضربٍ: أحدهما: أن تكون الزيادة شرحًا للحال كما نهى صلى الله عليه وسلم عن تقلي الركبان، وأن يبيع حاضر لبادٍ، فيزيد فيه ذكر السبب الذي دعاه إلى هذا القول فيصح هذا من الصحابي؛ لأنه قد شاهد الحال دون التابعي. والثاني: أن تكون الزيادة تفسيرًا لمعنى الكلام كنهيه صلى الله عليه وسلم عن المحاقلة والمزابنة، فيجوز للراوي من صحابي وتابعي أن يفسر معناها في روايته، فتصير الزيادة تفسيرًا فيجوز، ولكن إن فسرها الصحابي لزم قبول تفسيره بغير دليلٍ، وإن فسرها التابعي لم يلزم قبوله إلا بدليل. والثالث: أن تخرج الزيادة عن شرح السبب وتفسير المعنى فما هي إلا كذب صريح، وقد نزه الله تعالى عن صحابة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار". وأما الأصل الثاني من أحكام المتون المنقولة والسنن المروية، فجمع ما ذكرنا أن كتاب الله تعالى يشتمل عليه من الأقسام الستة وهي العموم والخصوص، والمفسر والمجمل، والمطلق والمقيد، والإثبات والنفي، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ فمثلها موجود في السنة وأحكامها على ما ذكرناه في الكتاب. ثم تختص السنة بأصول تشتمل عليها ثلاثة أقسام؛: ما يؤخذ من السنة والثاني ما يجب بيانه بالسنة والثالث ما يلزم العمل به من السنة فأما الأول عن الرسول صلى الله عليه وسلم من ثلاثة أوجهٍ أحدها: [117/ أ] من قوله. والثاني: من فعله. والثالث: من إقراره. فأما أقواله فهو مطاع فيها، قال الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] الآية. وهي على أربعة أضربٍ؛ أمر، ونهي، وخبر، واستخبار فيطاع في أوامره ويتبع في نواهيه ويصرف في خبره ويجاب عن استخباره. ثم ينقسم قسمين؛ أحدهما: ما ابتدأه. والثاني: ما كان جوابًا عن سؤال. فأما المبتدأ من قوله فيشتمل على خمسة أقسامٍ؛ عبادات، ومعاملات، وترغيب، وترهيب وتأديب. فأما العبادات: فتردد بين وجوب وندبٍ. وأما المعاملات: فتردد بين إباحةٍ وحظرٍ. وأما الترغيب بالثواب فداعٍ إلى الطاعة.

وأما الترهيب بالعقاب فزاجر عن المعصية. وأما التأديب: فباعث على الجملة والألفة. وبهذا تتم مصالح الدين والدنيا. وأما ما كان جوابًا عن سؤالٍ فينقسم ثلاثة أقسامٍ: أحدها: ما قابل السؤال فلم يزد عليه ولم ينقص منه، كما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الاستطاعة في الحج، فقال: "زاد وراحلة"، وهذا حد الجواب أن يكون مطابقًا للسؤال. والثاني: أن يكون الجواب أزيد من السؤال، كما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ماء البحر فقال: "هو الطهور ماؤه، الحل ميتته"، فتكون الزيادة على السؤال بيان شرع مبتدأ. والثالث: أن يكون الجواب أنقص [من السؤال] فله أربعة أحوال: أحدها: أن يكون نقصان الجواب لخطأ السائل، كما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلبس المحرم، فقال: "لا يلبس قميصًا ولا عمامة". والثاني: أن يكون في كتاب الله تعالى بيان كيفية السؤال، كما سأل عمر -رضي الله عنه- رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة فقال: [117/ ب] "يكفيك آية الصيف". والثالث: أن يكون في بعض الجواب تنبيه على بقية الجواب، كما سُئل عمر عن قبلة الصائم، فقال: أرأيت لو تمضمضت. والرابع: أن يكون لتوقفٍ عنه، فإن لم يكن له تعلق بالديانات لم يلزمه إتمام الجواب، وإن كان له تعلق بالديانات لزم إتمام الجواب لما فيه من إظهار دين الله تعالى، وليس يتوقف إلا ليتوقع أمر الله تعالى وبيانه، كما سأله صلى الله عليه وسلم أشيد بن حضير عن الحيض، فتوقف حتى نزل فيه: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ} [البقرة: 222] الآية. وأما أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم فضربان: أحدهما: ما يتعلق بالديانات كأكله ومشربه وملبسه فيدل على الإباحة، لأن أفعاله صلى الله عليه وسلم تتردد بين الحسن والجائز، ولا يفعل ما يقبح في العقل أو يكره في الشرع، فيكون التآسي به أبرك من المخالفة له، قال الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، إلا أن يقوم دليل على اختصاصه بالإباحة، كما في الناكح فلا يجوز إتباعه فيه. والثاني: ما اختص بالديانات فله ثلاثة أحوالٍ: أحدها: أن يأمر بإتباعه فيها، كما قال صلى الله عليه وسلم: "صلوا كما رأيتموني أصلى". وقال صلى الله عليه وسلم في الحج: "خذوا عني مناسككم". فيكون إتباعه فيها فرضًا لاقتران أمره بفعله. والثانية: أن ينهى عن إتباعه فيها، كما نهى صلى الله عليه وسلم عن الوصال وانتهى الناس، ثم إنه صلى الله عليه وسلم واصل فواصلوا، فقال صلى الله عليه وسلم: "إني لست مثلكم، إني أطعم وأسقى". فلا يجب علينا إتباعه فيه لنهيه، وهذا كله على ثلاثة أضرب: أحدها: ما كان له مباحًا وعلينا محظورًا كالمناكح.

والثاني: ما كان له مستحبًا ولنا مكروهًا كالوصال. والثالث: [118/ أ] ما كان عليه فرضًا وعلينا ندبًا، كالسواك والوتر والأضحية وغيرها كما في الخبر. والحالة الثالثة: أن تتجرد أفعاله عن أن يأمر بها أو ينهى عنها، فإتباعه فيها ندب، وهل يكون فرضًا أو مستحبًا؟ فيه وجهان: قال الأكثرون: يستحب إلا أن يقترن بها أمر؛ لأنه قد كان يستيسر بكثير من أفعاله، فلو كان إتباعه فيها فرضًا لأظهرها كما أظهر أقواله ليكون البلاغ بها عامًا. والثاني: إتباعه فيها فرض ما لم ينه عنه. وروي أن رجلًا أرسل إلى أم سلمة يسألها عن قبلة الصائم، فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبل وهو صائم. فقال الرجل: لسنا كرسول الله صلى الله عليه وسلم، إن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأعاد زوجته لتسأل، فذكرت أم سلمة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إني لأرجو أن أكون أتقاكم لله وأعلمكم بحدوده" فدل على وجوب إتباعه في أفعاله. وأما إقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أقرهم عليه من بياعاتٍ ومعاملاتٍ، ومأكولٍ ومشروبٍ، وأبنية ومقاعد في الأسواق، فجميعها في الشرع مباح؛ لأنه لا يستجيز أن يقر الناس على منكرٍ محظورٍ، كما وصفه الله تعالى في قوله: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ} [الأعراف: 157] الآية، فدل أن ما أقر عليه خارج عن المنكر وداخل في المعروف. واختلف العلماء في حكم الاستباحة لذلك بعد الإقرار عليه على وجهين: أحدهما: أنها مستباحة بالعرف المتقدم دون الشرع. والثاني: أنها مستباحة بالشرع حتى أقروا. وهذا الوجهان من الاختلاف في أصول الأشياء قبل مجيء الشرع، هل كانت على الإباحة حتى حظرها الشرع، أو كانت على الحظر حتى أباحها الشرع. وأما القاسم الثاني فيما يجب بيانه بالسنة [118/ ب] فعلى أربعة أضربٍ: أحدها: ما لزمه بيانه في حقوق الله تعالى وحقوق عباده، وهو بيان ما أجمله الله تعالى في كتابه العزيز من الصلاة والزكاة، فالرسول صلى الله عليه وسلم مأخوذ ببيانه في حق الله تعالى ليقام بحقه فيها، ومأخوذ بيانه في حقوق العباد ليعلموا ما كلفوا منها. والثاني: ما لزم الرسول صلى الله عليه وسلم بيانه في حقوق الله تعالى دون عباده، وهو تخصيص العموم يلزم بيانه في حق الله تعالى لاستثنائه له، ولا يلزم في حقوق العباد؛ لأنهم على العموم ما لم ينقلوا عنه. والثالث: ما لزمه بيانه في حقوق العباد دون حقوق الله تعالى، وهو ما يستحق الثواب بفعله ولا يجب العقاب بتركه، كنوافل العبادات وأفعال القلوب. والرابع: ما اختلف فيه وهو ما استأنف الرسول صلى الله عليه وسلم بيانه من الأحكام التي ليست في كتاب الله تعالى، كالحكم بالشفعة للجار، والقضاء بالدية على العاقلة، وإعطاء السلب للقاتل، وأن لا ميراث لقاتل ونحو ذلك، فيلزم الرسول صلى الله عليه وسلم بيانه في حقوق

العباد، لأنه لا طريق لهم إلى العمل إلا منه، وفي لزوم بيانها في حقوق الله تعالى وجهان مبنيان على اختلاف أصحابنا في أنه هل يجوز للرسول صلى الله عليه وسلم أن يحكم فيها باجتهاده؟ وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأن الاجتهاد فضيلة، فكان النبي صلى الله عليه وسلم بها أحق، والدليل عليه أيضًا قصة داود وسليمان -صلّى الله عليهما- في حكم الحرث إذ نفشت فيه غنم القوم، فعلى هذا يكون هذا البيان لازمًا في حقوق الله تعالى. [119/ أ] والثاني: ليس له الاجتهاد؛ لأنه لا يسوغ الاجتهاد مع وجود النص وأوامر الله تعالى نصٌ، وعلى هذا لا يكون هذا البيان لازمًا في حقوق الله تعالى. وقال صاحب "الحاوي": "الأصح عندي من إطلاق هذين الوجهين في اجتهاده أن يكون اجتهاده معتبرًا بالحكم، فإن كان مما يشارك فيه أمته، كنهيه عن الكلام في الصلاة، وكنهيه صلى الله عليه وسلم عن الجمع بين المرأة وعمتها لم يكن له أن يجتهد فيه حتى يأخذه عن أمر الله تعالى ووحيه، كما قال صلى الله عليه وسلم لابن مسعود - رضي الله عنه: "إن الله تعالى يحدث من أمره ما يشاء، وأن مما أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة". وإن كان مما لا يشارك فيه أمته، كقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ميراث لقاتل" وكحده صلى الله عليه وسلم لشارب الخمر، جاز أن يحكم فيه برأيه واجتهاده، وإنما كان كذلك لأن الأحكام هي إلزام من أمر المأمور فما دخل فيه أن يكون مأمورًا به، وما لم يدخل فيه جاز أن يكون آمرًا به؛ لأن المأمور غير الآمر". وأما القسم الثالث فيما يلزم به من السنة فنقول: السنة إذا جاءت بحكمٍ فلا يخلو من أحد أمرين؛ إما أن تنفرد السنة بذلك الحكم، أو يقترن بها فيه أصل آخر. فإن انفردت بذلك الحكم وجب العمل بها في التزام ذلك الحكم؛ لأنها أصل في أحكام الشرع سواء وافقها القياس أو لا. وقال أبو حنيفة: إن خالفت القياس الذي لا يحتمل كان العمل على القياس أولى من الأخذ بالسنة وهذا لا يصح؛ لأن القياس فرع السنة ولا يجوز [119/ ب] أن يكون رافعًا للسنة. وإن اقترن بالسنة في ذلك الحكم أصل آخر فهو على ثلاثة أضربٍ، كتاب الله تعالى، والسنة، والإجماع. فأما الأول: فلا يخلو الكتاب من أن يكون موافقًا لحكم السنة أو منافيًا له. فإن كان موافقًا له صار ذلك الحكم ثابتا بأصلين الكتاب والسنة. ونظر فيهما فإن تقدمت السنة به على الكتاب كان وجوبه بالسنة والكتاب مؤكدًا، وإن تقدم الكتاب به على السنة كان وجوبه بالكتاب والسنة. وإن كان الكتاب منافيًا للسنة في ذلك الحكم فأثبته أحدهما ونفاه الآخر فهو على ثلاثة أضربٍ: أحدها: أن يتقدم الكتاب فيكون العمل على الكتاب دون السنة؛ لأن الكتاب لا ينسخ بالسنة. والثاني: أن تتقدم السنة على الكتاب، فيكون العمل عند الشافعي بالسنة دون

الكتاب؛ لأن عنده السنة لا تنسخ بالكتاب، وعلى قول ابن سريج يكون العمل على الكتاب دون السنة، وتكون السنة منسوخة بالكتاب. والثالث: وإن وردا موردًا واحدًا ولا يتقدم أحدهما على الآخر، فلأصحابنا فيه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: يؤخذ فيه بكتاب الله تعالى؛ لأنه أصل السنة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "ما آتاكم عني فاعرضوه على كتاب الله تعالى، فإن وافقه فاعرضوه على كتاب الله تعالى، فإن وافقه فاعملوا به، وإن خالفه فاتركوه". والثاني: يؤخذ بحكم السنة لاختصاصها بالبيان، فالله تعالى يقول: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7]. والثالث: يجب التوقف عنهما حتى يقوم الدليل على ثبوت أحدهما. وقال صاحب "الحاوي": [120/ أ] "والصحيح عندي أن ينظر في حكم السنة، فإن كان تخصيصًا حمل على السنة؛ لأن عموم الكتاب مخصوص بالسنة، وإن كان نسخًا عمل على الكتاب دون السنة؛ لأن الكتاب لا ينسخ بالسنة". وأما الضرب الثاني في مقابلة السنة بالسنة، فإن اتفقا وكان الفعل فيهما موافقًا للقول، تأكد الحكم باجتماعهما فيه ووجب العمل به، وإن تنافيا فيه وكان الفعل في السنة مخالفًا للقول، مثل أن يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم قول فيعمل بخلافه، والأحكام قد توجد من فعله كما توجد من قوله، فهذا على ثلاثة أضربٍ: أحدها: أن يمكن استعمالهما على ما لا يتنافيان، مثل نهيه صلى الله عليه وسلم عن الصلاة بعد العصر، ثم صلى بعد العصر. فحمل نهيه عن الصلاة التي لا سبب لها، ويحمل فعله على الصلاة التي لها سبب فيجب العمل بها، ويحمل كل واحدٍ منهما على ما يوجبه استعماله. والثاني: أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم مخصوصًا بذلك الفعل، كما بين اختصاصه بالوصال بعد نهيه عنه فيؤخذ بعموم نهيه صلى الله عليه وسلم، ويعدل عن عمومه في حقه بفعله. والثالث: أن لا يمكن استعمالهما ولا يبين اختصاصه بأحدهما، فهذا يوجب أن يكون المتأخر منهما ناسخًا للمتقدم، والظاهر من مذهب الشافعي -رضي الله عنه- أن القول لا ينسخ إلا بالقول، والفعل لا ينسخ إلا بالفعل. وقال بعض أصحابنا: يجوز نسخ كل واحد منهما بالآخر؛ لأن كل واحد منهما سنة يؤخذ بها. وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السارق: "فإن عاد في الخامسة فاقتلوه"، ثم رفع [120/ ب] إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المرة الخامسة فلم يقتله، فدل على أن القتل منسوخ. وقال صلى الله عليه وسلم: "الثيب بالثيب جلد مائةٍ والرجم"، ثم رجم ماعزًا ولم يجلده، فدل على أن الجلد منسوخ، فعلى مذهب من جوز نسخ القول بالفعل جعل فعله المتأخر ناسخًا لقوله المتقدم.

وعلى الظاهر من مذهب الشافعي أن القول لا ينسخ بالفعل، لكن يستدل بفعله المخالف لقوله على أنه قد تقدم على فعله قول فنسخ القول الأول، ثم ورد فعله المخالف بعد قوله الناسخ، فاقتصر الناس على نقل الفعل دون القول لظهور النسخ فيه. فإن لم يعلم المتقدم من المتأخر عدل عنهما إلى عمل الصحابة بأحدهما، وكان عمله بأحدهما دليلًا على نسخ الآخر، وإن لم يكن في العمل بيان وجب التوقف عنهما حتى يقوم الدليل على ثبوت أحدهما. وأما الضرب الثالث: في مقابلة السنة بالإجماع فهو على ثلاثة أضربٍ: أحدها: أن يكون الإجماع موافقًا للسنة في العمل بها، كما قال صلى الله عليه وسلم: "لا ميراث لقاتل، ولا وصية لوارث"، فيكون الحكم ثابتًا بالسنة والإجماع دليل على صحة النقل، فيصير هذا الخبر في حكم المتواتر وإن لم يكن متواترًا. والثاني: أن ينعقد الإجماع على خلاف السنة، فيدل ذلك على أنها منسوخة أو نقلها غير صحيح، فيكون ذلك موجبًا لترك السنة والعمل على الإجماع. والثالث: أن يعمل فيها بعض الصحابة ويتركها بعضهم، فالعمل بالسنة واجبٌ [121/ أ] وإن تركها بعضهم؛ لأن التارك لها محجوج بها. ولو رويت سنة لمن غاب عن الرسول صلى الله عليه وسلم فعمل بها ثم لقيه هل يلزمه سؤاله عنها؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه ليكون على يقين من وجوب العمل بها. والثاني: لا يلزمه؛ لأنه لو لزمه السؤال إذا حضر للزمه الهجرة إذا غاب. وقال صاحب "الحاوي": "الصحيح عندي أن وجوب السؤال مختلف باختلاف السنة، فإن كانت تغليظًا لم يلزمه السؤال، وإن كانت ترخيصًا لزمه السؤال؛ لأن التغليظ التزام والترخيص إسقاط". وإذا ظفر الإنسان براوي حديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعلق بالسنن والأحكام، فإن كان من العامة المقلدين لم يلزمه سماعه؛ لأن فرضية السؤال عن نزول الحوادث به، وإن كان من الخاصة المجتهدين لزمه سماع الحديث ليكون أصلًا في اجتهاده، ونقل السنن من فروض الكفايات، فإذا نقلها من فيه كفاية سقط فرضها عن الباقين [وإذا قصر ناقلوها عن الكفاية] وإلا خرجوا أجمعين. والذي يدخل في فرض الكفاية من قبلت منه الرواية دون من لم تقبل، وعلى محتمل السنة أن يرويها إذا سئل عنها، ولا يلزمه روايتها إذا لم يُسئل، إلا أن يجد الناس على خلافها فيلزمه روايتها ليعملوا بها. وأما الأصل الثالث من أصول الشرع وهو الإجماع: والإجماع أن يستفيض إثبات أهل العلم من دلائل الأحكام وطرق الاستنباط على قولٍ في حكم لم يختلف فيه أهل عصرهم، وتكون استفاضته عند أمثالهم من أهل العلم بعد عصرهم، فتعتبر الاستفاضة

عن أهل العلم، وفي أهل العلم [121/ ب] ولا يكون لقول من خرج عن أهل العلم تأثير من وفاقٍ أو اختلافٍ، فهذا حد الإجماع وهو حجة في الأحكام. وأنكر قوم مكان الإجماع وإن كان دليلًا، وأنكر قوم أن يكون دليلًا وإن أمكن، وقد دللنا على بطلانه فيما تقدم، والدليل عليه قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} [لقمان: 15] فدل أمره بإتباعهم على إمكان اتفاقهم ووجوب إجماعهم، ثم نهى الله تعالى عن مخالفتهم بقوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النساء: 115]، فصار محظورًا ثم أكده بقوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأمة المجتمعة حجة على من شذ عنها"، ثم أخبر أنهم لا يجتمعون إلى على حق، فقال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] الآية. ثم جعل أهل كل عصرٍ حجة على من بعدهم من الإعصار ليستديم الإبلاغ، فقال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة: 143]. ثم اختلف العلماء في أمة كل نبي هل يكون اجتماعهم حجة؟ فقال بعض المتكلمين: إجماع غير هذه الأمة لا يكون حجة، وبه قال ابن أبي هريرة؛ لأن اليهود والنصارى أجمعوا على قتل عيسى - عليه السلام- وأخبر الله تعالى بكذبهم. وقال آخرون منهم: يكون حجة على من بعدهم من أمتهم؛ لوجوب العمل بشرائع الأنبياء في عصرٍ بعد عصرٍ ما لم يرد نسخًا. وأما إجماعهم على قتل عيسى -عليه السلام- فإنما أجمعوا على نقل القتل المأخوذ عن آحاد [122/ أ] فتعترضهم الشبهة ويجوز عليهم الكذب، والإجماع في النقل حق وإن كان القتل باطلًا. وعلى هذا تعلق بالإجماع أربعة أحكام إمكان وجوده، ولزوم حجته، واشتماله على الحق، ووجوده في كل عصر. ثم الكلام فيه يشتمل على أربعة فصولٍ: أحدها: ما ينعقد عنه الإجماع. والثاني: ما ينعقد به الإجماع. والثالث: ما يستقر به الإجماع. والرابع: في معارضة الاختلاف والإجماع. فأما الأول فهو ينعقد عن دليلٍ أوجب اتفاقهم عليه؛ لأن ما لا يوجب له يتعذر الاتفاق فيه، والدليل الداعي إليه يكون من سبعة أوجهٍ: أحدها: أن ينعقد عن تنبيه من كتاب الله تعالى، كإجماعهم على أن ابن الابن في الميراث كالابن. والثاني: أن ينعقد عن استنباط من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كإجماعهم على توريث كل من الجدتين السدس.

والثالث: أن ينعقد عن الاستفاضة والانتشار، كالإجماع على أعداد الركعات وترتيبها في الركوع والسجود. والرابع: أن ينعقد عن العمل به، كالإجماع على نُصب الزكوات. والخامس: أن ينعقد عن المناظرة والجدال، كإجماعهم على قتال ما نعى الزكاة. والسادس: أن ينعقد عن توقيف، كإجماعهم أن الجمعة تسقط فرض الظهر. والسابع: أن ينعقد عن استدلال وقياس، كإجماعهم على أن الجواميس في الزكاة كالبقر. فإن تجرد الإجماع عن دليل يدعو إليه ووجد الاتفاق عليه فهل يصح وينعقد؟ قال جماعة من أهل العلم: يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم: [122/ ب] "ما رأه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن". وهذا قول من جعل الإلهام دليلًا. وقال الجمهور: لا يجوز أن ينعقد إلا بدليلٍ؛ لأن إثبات الشرع بغير دليل لا يجوز، ولأن اتفاق الكافة بغير سبب لا يوجد. وإذا انعقد الإجماع عن أحد أدلته، فهل يقطع بصحته؟ وجهان: أحدهما: أنه يقطع بصحته لقيام الحجة به. والثاني: أن الإجماع غير معصومٍ عن السهو والغلط اعتبارًا بأهله في انتفاء العصمة عن آحادهم، فكذلك عن جماعتهم، ولا يكون قيام الحجة موجبًا لعصمته، كما تقوم الحجة بخبر الواحد وإن كان غير معصومٍ. وأما ما ينعقد به الإجماع فانعقاده معتبرٌ بأربعة شروطٍ: أحدها: أن يعتبر فيه قول الخاصة من أهل العلم دون العامة، لقوله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18]، فخص أهل العلم بهذه المنزلة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "العلماء ورثة الأنبياء". وروي أن أبا طلحة الأنصاري -رضي الله عنه- خالف الصحابة وقال: البرد لا يفطر الصائم؛ لأنه ليس بطعامٍ ولا شرابٍ. فردوا قوله ولم يعتدوا بخلافه؛ لأنه كان من عامة الصحابة دون علمائهم. والثاني: يعتبر فيه قول علماء الأمصار كلهم. وقال مالك رحمه الله: الإجماع معتبر بأهل المدينة وهذا باطل؛ لأن الأحكام مستنبطة من الكتاب والسنة لا من الأمكنة، وقد قال تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء: 59]، ولم يأمر برده إلى أهل المدينة. والثالث: أن لا يظهر في أحدهم الخلاف فيه، فإن تظاهر أحدهم [123/ أ] بخلافٍ، فإن كان يدفع خلافه نصٌّ كان خلافه مرتفعًا والإجماع بغيره ينعقد، كما خالف ابن مسعود -رضي الله عنه- الصحابة في الفاتحة والمعوذتين ولم يجعلهن من القرآن، فلا يعتد بخلافه لوجود النص، وقد انعقد الإجماع على أنهن من القرآن. وكما

ذهب حذيفة بن اليمان إلى أن أول الصوم أسفار الصبح، فلم يعتد بخلافه وأجمعوا على أن أوله من طلوع الفجر. وإن كان لا يدفع قول مخالفيه نصٌّ فيكون خلافه مانعًا من انعقاد الإجماع، سواء كان من أكابر أهل العصر أو من أغرهم سنًا، كما خالف ابن عباس -رضي الله عنه- جميع الصحابة في العول، وقال:"من شاء باهلته عند الحجر الأسود"، فصار خلافه خلافًا والإجماع بخلافه مرتفعًا. وقال أحمد: خلاف الواحد لا ينقص الإجماع، ويكون محجوجًا بمن عداه، وهذا غلط؛ لأن أبا بكر -رضي الله عنه- خالف جميع الصحابة في قتال أهل الردة، ثم بان الحق معه، وقد قال الله تعالى: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء} [البقرة: 269]. والرابع: أن ينتشر في جميع أهل العصر فيكونوا فيه بين معترفٍ به أو راض له، فإن انتشر فيهم فأمسكوا عنه من غير أن يظهر منهم اعترافٌ أو رضي فهو ضربان: أحدهما: أن يكون في عصر الصحابة. والثاني: أن يكونوا في غيره من الأعصار. فإن كان ذلك في غير عصر الصحابة فلا يكون انتشار قول الواحد منهم مع إمساك غيره إجماعًا ولا حجة؛ لأنهم قد يعرضون عما لا يتعين فرضه عليهم. وإن كان في عصر الصحابة الذي قد خصَّه الله تعالى بفضل أهله، وقال صلى الله عليه وسلم: "أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم" فإذا قال الواحد منهم قولًا أو حكم به فأمسك الباقي فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون مما يخاف [123/ ب] فوت استدراكه، كإراقة دمٍ أو استباحة فرج فيكون إجماعًا؛ لأنهم لو اعتقدوا خلافه لأنكروه، إذ لا يصح منهم أن لا يتفقوا على إقرار منكرٍ، وإن كان مما لا يفوت استدراكه كان حجة؛ لأن الحق لا يخرج عن عصرهم، وفي كونه إجماعًا يمنع من الاجتهاد وجهان لأصحابنا: أحدهما: يكون إجماعًا لا يسوغ معه الاجتهاد؛ لأن عدم الخلاف مع الانتشار يمنع من إثبات الخلاف. والثاني: لا يكون إجماعًا والاجتهاد معه جائز؛ لأن من نسب إلى ساكتٍ قولًا أو اعتقادًا فقد افترى عليه. وإن لم ينتشر في كلهم ولا يرد فيه خلافٌ من أحدهم لا يكون إجماعًا، وهل يكون حجةً يعتبر بما يوافقه من قياس أو يخالف؟ فله أربعة أحوالٍ: أحدها: أن يكون القياس موافقًا لقوله فيكون قوله حجة بالقياس. والثانية: أن يكون قوله مخالفًا للقياس الجلي، فالعمل بالقياس الجلي أولى. والثالثة: أن يكون مع قول الصحابي قياس جلي، ويخالف قياسٌ خفيٌّ فقوله مع القياس الجلي أولى. والرابعة: أن يكون مع قوله قياسٌ خفي ويخالفه قياس جلي. قال في "القديم": قوله مع القياس الخفي أولى وألزم من القياس الجلي؛ لأن

الصحابة أهدى إلى الحق، ثم رجع وقال في "الجديد": القياس الجلي أولى بالعمل من قوله مع القياس الخفي؛ لأنهم كانوا يحاجون بالقياس حتى قال ابن عباس رضي الله عنه: ألا يتقي الله زيد بن ثابت، يجعل ابن الابن ابنًا ولا يجعل أب الأب أبًا. فإذا لزمهم العمل بالقياس كان لغيرهم ألزم. وأما ما يستقر به الإجماع فيعتبر بأربعة شروطٍ. أحدها: العمل باتفاقهم عليه، سواء اقترن بقولهم عمل أو لا. وقال بعض الناس: لابد أن يقترن به عمل؛ لأن العمل تحقيق [124/ أ] للقول، وهذا لا وجه له؛ لأن حجج الأقوال أكثر من حجج الأفعال، وإن انفراد كل واحدٍ منهما كان حجة فلا يلزم اجتماعهما إذا لم يختلفا. فإن تجرد الإجماع في القول عن عمل يوافقه أو يخالفه كان القول إجماعًا، وإن تجرد الإجماع في العمل عن قول يوافقه أو يخالفه كان إجماعًا. ولو أجمعوا على القول واختلفوا في العمل بطل الإجماع إن لم يكن لاختلافهم في العمل تأويل. وإن أجمعوا على العمل واختلفوا في القول بطل الإجماع، ولم يكن لاختلافهم في القول تأويل لما يلزم من اتفاقهم في القول والعمل، فإن جهل الاتفاق والعمل يثبت بذلك إجماع ولا خلاف لترددهما بين اتفاقٍ يكون إجماعًا، وافتراقٍ يكون خلافًا. والثاني: أن يستديموا ما كانوا عليه من الإجماع ولا يحدث من أحدهم خلاف، فإن خالفهم واحد بعد إجماعهم بطل الإجماع وساغ الخلاف؛ لأنه لما جاز أن يحدث إجماع بعد الخلاف جاز أن يحدث خلافهم بعد الإجماع. وروي أن عليًّا -رضي الله عنه- خالف في بيع أمهات الأولاد بعد إجماعه مع أبي بكر وعمر رضي الله عنهما على أن بيعهن لا يجوز، فبطل بخلافه الإجماع في تحريم بيعهن. وقد قيل: إن رضي الله عنه رجع بعد هذا حين قال له عبيدة السلماني: يا أمير المؤمنين، إن رأيك مع الجماعة أحب إليَّ من رأيك وحدك. فإن كان هذا الرجوع صحيحًا كان تحريم بيعهن إجماعًا. والثالث: أن ينقرض عصرهم حتى يؤمن حدوث الخلاف بينهم، فإن بقاء العصر ربما أحدث من بعضهم خلافًا كما خالف ابن عباس رضي الله عنهما في العول بعد موت عمر رضي الله عنه، فقيل له: ألا قلته في أيامه؟ فقال: هبته وكان امرءًا مهيبًا. ولا يعتبر في انقراض [124/ ب] العصر موت جميع أهله لأن هذا أمر يضيق ولا ينحصر، وقد تتداخل الأعصار ويندرج الناس من حالٍ بعد حالٍ، ويختلفون في الأعمار والآجال، وإنما المعتبر في انقراضه أمران: أحدهما: أن يستولي على العصر الثاني غير أهل العصر الأول. والثاني: أن ينقرض فيهم من بقي من أهل العصر الأول؛ وهذا لأن أنس بن مالك وعبد الله بن أبي أوفي رضي الله عنهما عاشا إلى عصر التابعين وطاولوهم فجمعوا بين عصرين، فلم يدل ذلك على بقاء عصر الصحابة فيهم. ثم إذا كان انقراض العصر شرطًا في استقرار الإجماع فهو معتبر في الأحكام التي لا

يتعلق بها إتلاف وإهلاك واستهلاك، ولا يستقر إجماعهم فيها إلا بانقراضهم عليها. فأما الأحكام التي يتعلق بها إتلاف واستهلاك لا يمكن استدراكه، فقد اختلف أصحابنا في انقراض العصر، هل يكون شرطاً والإجماع مستقر بالاتفاق عليه، وليس لأحدهم أن يستحدث فيه خلافاً؛ لأنهم في عظائهم الأمور، لا يجوز أن يتفقوا على الإجماع عليها إلا بعد وضوح الحق منها، كما أجمعوا مع أبي بكر- رضي الله عنه- على قتال مانعي الزكاة وفيه إراقة الدماء، فلم يكن لأحدهم بعد الإجماع وما سفك فيه من الدماء أن يخالف فيه؛ لأنه يجعل ما تقدم من إجماعهم منكراً، ولا يجوز أن تجتمع الأمة على منكر. والرابع: أن لا يلحق بالعصر الأول من ينازعهم من أهل العصر الثاني، فإن لحق بعض الصحابة بعض التابعين فخالفهم في إجماعهم فقيه وجهان: أحدهما: لا يرتفع الإجماع؛ لأنهم بمشاهدة النبي صلى الله عليه وسلم أحفظ لشريعته وقد أنكرت عائشة- رضي الله عنها- على أبي سلمة بن عبد الرحمن منازعته الصحابة، وقالت: أراك كالفروج إذا اجتمع مع الديكة صايحتها. [125/أ] والثاني: أن خلافه يمنع الإجماع؛ وقد قال علي رضي الله عنه: اعرف الحق تعرف أهله. فإذا استقر الإجماع بهذه الشروط الأربعة وجب أن يكون إجماع أهل العصر حجة على من بعد من أهل الأعصار المتأخرة ويكون حجة على الصحابة، وإجماع التابعين حجة تابعي التابعين ولا يكون حجة على التابعين، هكذا حكم الإجماع في كل عصر ثان. وقال داود: الإجماع اللازم مختص بعصر الصحابة لاختصاصه بنزول الوحي فيهم، وهذا غلط؛ لأن وضوح الحق مستمر في كل عصر؛ لأنه لا يخلو عصر من قائم لله بحجته. الفصل الرابع: في معارضة الإجماع والاختلاف: فينقسم أربعة أقسام: أحدها: أن يحدث الخلاف بعد تقدم الإجماع في عصر واحد، مثل أن يتقدم إجماع الصحابة ثم يحدث من أحدهم خلاف، فهذا الخلاف مانع من انعقاد الإجماع. والثاني: أن يحدث الإجماع بعد تقدم الخلاف في عصر واحد فيرتفع به الخلاف المتقدم كاختلاف الصحابة في قتال مانعي الزكاة، ثم وافقوا أبا بكر الصديق- رضي الله عنه- فيرتفع به الخلاف بالإجماع، وفي هذا الإجماع وجهان: أحدهما: أنه أوكد من إجماع لم يتقدمه خلاف؛ لأنه يدل على ظهور الحق بعد التباسه. والثاني: أنهما سواء؛ لأن الحق يقترن بكل واحد منهما. والثالث: أن يحدث الخلاف بعد تقدم الإجماع في عصرين مختلفين، كإجماع

الصحابة وخلاف التابعين لهم، فهو على ضربين: أحدهما: أن يخالفوهم مع اتفاق الأحوال في المجمع عليها، فهذا الخلاف الحادث مطرح والإجماع المتقدم منعقد؛ لأن حجة الإجماع قاهرة. والثاني: أن يحدث في المجمع عليه [125/ب] صفة زائدة أو ناقصة فيحدث الخلاف فيها بحدوث ما اختلف من صفاتها، فيكون الإجماع في الصفات منعقداً، وحدوث الاختلاف في الصفات المختلفة سائغاً عند الشافعي رضي الله عنه وجمهور العلماء. وقال داود وبعض أهل الظاهر: يستصحب حكم الإجماع واختلاف الصفات الحادثة لا يبيح اختلاف الحكم فيها إلا بدليل قاطع، وجعلوا استصحاب الحال حجة في الأحكام، ومثال هذا أن ينعقد الإجماع على إبطال التيمم برؤية الماء قبل الصلاة، فإذا رأوه في الصلاة أبطلوا تيممه استصحاباً لبطلانه قبل الصلاة من غير أن يجمعوا بينهما بقياس، كما لو استيقن الطهر وشك في الحدث وجب أن يستصحب حكم اليقين ويلغي حكم الشك، وهذا فاسد. ولكل حال تجددت حكم توقف على الدليل، يجوز أن يكون مساوياً، ويجوز أن يطون مخالفاً، ويكون الإجماع حجة في الحال التي ورد فيها، ولا يكون حجة في غيرها إلا أن يكون القياس موجباً لاستصحاب حكمه، فإن الإجماع لا الإجماع، وإنما كان كذلك لأنه لما ساغ الاجتهاد فيما عدا حالة الإجماع، ولم يسغ الاجتهاد في حالة الإجماع دل على افتراقهما فيه، ولم يلزم أن يساويه في حكمه، وأما حما الطهارة على اليقين فلأن الشرع لم ينصب عليها دليلاً وقد نصب على الأحكام دليلاً. وذهب بعض أصحابنا إلى أن استصحاب الحال إن لم يعارضه دليل يجوز أن يجعل دليلاً، وقوله مدفوع بما ذكرناه. ويتفرغ على هذا إذا اختلف أهل الاجتهاد في حكم فأثبته بعضهم ونفاه بعضهم. وقال داود وأهل الظاهر: لا دليل على النافي، ويجب الدليل على المثبت استصحاباً لحكم الأصل في التفي كما تجب البينة على المدعي دون المنكر. وعند الشافعي [126/ أ] والجمهور يجب الدليل على النافي كوجوبه على المثبت، وأنه لا يجوز له نفي الحكم إلا بدليل، كما لا يجوز له إثباته إلا بدليل؛ لأن الله تعالى نصب على الأحكام أدلة النفي والإثبات، والنافي للحكم مثبت لضده فلم يجز نفيه إلا بدليل. فأما وجوب البينة على المدعي دون المنكر، فلأن يمين المنكر كبينة المدعي، فصارا مجتمعين في البينة وإن اختلفا في صفتها. والرابع: أن يحدث الإجماع بعد الخلاف في عصرين مختلفين، كاختلاف الصحابة في حكم على قولين فيجمع التابعون على أحدهما، فظاهر مذهب الشافعي- رضي الله عنه- والجمهور أن حكم الاختلاف ثابت، وأن ما يعقبه من الإجماع غير منعقد؛ لأن انقراض الصحابة على قولين في حكم إجماع منهم على تسويغ الاجتهاد في ذلك

الحكم، وفي انعقاد الإجماع بعد إبطال ما أجمعوا من تسويغ الاجتهاد، فصار في إثبات إجماع التابعين إبطال لإجماع الصحابة فلم يجز. وقال الحارث بن أسد المحاسبي وتابعه بعض أصحابه يزول حكم الاختلاف بما يعقبه من الإجماع كما يزول اختلاف الصحابة إذا تعقبه إجماعهم، وهذا فاسد؛ لأن إجماع الصحابة لا ينعقد إلا بانقراضهم، فوقع الفرق بين انقراضهم على وفاق أو خلاف. وعلى هذا لو اختلفت الصحابة على قولين في حكم صار ذلك إجماعاً منهم على إبطال ما عدا القولين، ولم يجز لمن بعدهم من التابعين إحداث قول ثالث. مثاله: أن الصحابة انقرضوا على قولين في اني عم أحدها أخ من أم، أحدهما التسوية بينهما في الميراث، والثاني الأخ للأم منهما أولى بكل الميراث، فخالفهم من التابعين سعيد بن جبير فجعل ابن العم الذي ليس بأخ لأم أحق بالميراث، فخالفهم في القولين بإحداث قول ثالث. وذهب بعض من ينتسب إلى العلم إلى تسويغ هذا؛ لأن الاختلاف [126/ب] موجب لتسويغ الاجتهاد، وهذا غلط؛ لأن في انقراض الصحابة على قولين إجماعاً منهم على إبطال ما خرج عن القولين، وأن الحق في أحدهما، فلم يجز للتابعي أن يبطل ما انعقد إجماعهم عليه، [فهذا حكم الإجماع وما يتعلق به ويتفرغ عليه وهو من دلائل السمع] ويجوز نقل الإجماع بأخبار الآحاد؛ لأنه ليس أوكد من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم. فإن نقل الراوي أنهم أجمعوا على كذا فقطع بإجماعهم عليه قبلت منه، وأثبت الإجماع بقوله سواء كان الراوي من أهل الاجتهاد أو لم يكن. وإن قال الراوي لم أعرف بينهم اختلافاً فيه، فإن لم يكن من أهل الاجتهاد ولا ممن أحاط علماً بالإجماع والاختلاف لم يثبت الإجماع بروايته. واختلف أصحابنا في ثبوته بها إن كان من أهل الاجتهاد والتقدم في العلم بالإجماع والاختلاف، فأثبت بعضهم الإجماع وجعل نفي الاختلاف إثباتاً للإجماع. وقال بعضهم: لا يثبت الإجماع بهذا النفي ولكل من القولين وجه. وأما الأصل الرابع من أصول الشرع وهو القياس فله مقدمتان؛ أحداهما: الاجتهاد، والثانية: الاستنباط. فأما الاجتهاد فهو مأخوذ من جهد النفس وكدها في طلب المراد به، كما أخذ جهاد العدو من جهد النفس في قهر العدو. والاجتهاد هو طلب الصزاب بالأمارات، الدالة عليه. وقال ابن أبي هريرة: إن الاجتهاد هو القياس، ونسبه إلى الشافعي رضي الله عنه من

كلام اشتبه عليه في كتاب "الرسالة". والذي قال الشافعي رضي الله عنه في هذا الكتاب: أن معنى الاجتهاد معنى القياس، يريد به أن كل واحد منهما يتوصل به إلى حكم غير منصوص عليه. والفرق بين الاجتهاد والقياس: أن الاجتهاد هو ما وصفناه من أنه طلب الصواب بالأمارات الدالة عليه. [127/أ] والقياس: هو الجمع بين الفرع والأصل لاشتراكهما في علة الأصل، فافترقا، غير أن القياس يفتقر إلى الاجتهاد، وقد لا يفتقر الاجتهاد إلى القياس على ما سنوضحه، فلذلك جعلنا الاجتهاد مقدمة للقياس. والدليل على أن الاجتهاد له أصل يعتمد عليه في الأحكام، خبر معاذ رضي الله عنه حيث قال: أجتهد رأيي، فدل على أن الاجتهاد عند عدم النص أصل في أحكام الشرع. ثم الكلام في الاجتهاد يشتمل على أربعة فصول؛ أحداهما: فيمن يجوز له الاجتهاد. والثاني: في وجوه الاجتهاد. والثالث: فيما يجب بالاجتهاد. والرابع: في حكم الاجتهاد. فأما الأول فضربان؛ مجتهد في عموم الأحكام، ومجتهد في خصوص الأحكام. فأما المجتهد في جميع الأحكام فالمعتبر في جواز اجتهاده أربعة شروط: أحدها: إشرافه على نصوص الكتاب والسنة، فإن قصر في أحدهما لم يجز أن يجتهد. والثاني: علمه بوجوه النصوص في العموم والخصوص، والمفسر والمجمل، والمقيد والمطلق على ما بيناه من قبل، فإن قصر فيها لم يجز أن يجتهد. والثالث: الفطنة والذكاء ليصل به إلى معرفة المسكوت عنه أمارات المنطوق به فإن قلت: فيه الفطنة والذكاء لم يصح منه الاجتهاد. والرابع: أن يكون عارفاً بلسان العرب وموضوع خطابهم ومعاني كلامهم؛ لأن الكتاب والسنة وهما أصل الشريعة وردا بلسان العرب. وإذا كان كذلك كان معرفة لسان العرب فرضاً على كل مسلم من مجتهد وغير مجتهد، إلا أن غير المجتهد يلزمه من فرضه ما اختص بتكليفه من الشهادتين وما تضمن [127/ب] الصلاة من القراءة والأذكار، ولا يلزمه معرفة ما عدا ذلك إلا بحسب ما يندرج إليه في نوازله وأحكامه، وقد قال الشافعي: "على كل مسلم أ، يتعلم من لسان العرب ما بلغه جهده في أداء فرضه كما عليه أن يتعلم الصلاة والأذكار". وقال أبو حنيفة: لا يلزمه معرفة لسان العرب؛ لأنه يجوز له القراءة والأذكار بغير العربية. وأما المجتهد فيلزمه مع حقوق الاجتهاد أن يكون عارفاً بلسان العرب، والذي يلزم في حقه أن يكون محيطاً بأكثره ليرجع فيما عزب عنه، إلى غيره، كما أن جميع السنة لا يحيط بها واحد من العلماء، وإنما يحيط بها جميع العلماء، فإذا كان المجتهد محيطا بأكثرها صح اجتهاده، وليرجع فيما عزب عنه إلى من علم به، ثم هذا المجتهد

إن قصد (بالاجتهاد) العلم صح اجتهاده وإن لم يكن عدلاً، وإن قصد به الحكم والفتيا كانت العدالة شرطاً في نفوذ حكمه وقبول فتياه وإن لم يكن شرطاً في صحة اجتهاده. وأما المجتهد في حكم خاص فحكمه في صحة اجتهاده معتبر بما يجتهد فيه، فإن كان اجتهاده في القبلة كان الشرط في صحة اجتهاده صحة البصر ومعرفة دلائل القبلة، وإن كان اجتهاده في العدالة والجرح كان صحة اجتهاده معتبر بأسباب الجرح والتعديل، وما يراعى من غلبة أحدهما على الآخر في الصغائر وتغليب الحكم في الكبائر وإن كان اجتهاده في المثل من جزاء الصيد كان صحة اجتهاده معتبراً بمعرفة الأشياء في غير ذي المثل، وعلى هذا. [128/ أ] فإذا تقرر ما ذكرنا من شروط الاجتهاد المعتبر في المجتهد، تعلق به فصلان؛ أحدهما: جواز اجتهاد الأنبياء. والثاني: جواز الاجتهاد في زمان الأنبياء. فأما الأول فقد اختلفوا فيه؛ فقيل: لا يجوز للأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم- أن يجتهدوا، ولا لنبينا صلى الله عليه وسلم أن يجتهد لقدرتهم على النص بنزول الوحي، ولهذا توقف في إحرامه حتى نزل الوحي، والوحي ينقسم إلى ما هو قرآن يتلى، وإلى ما لا يتلى، ولهذا قال تعالى: {ومَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى (3) إنْ هُوَ إلاَّ وحْيٌ يُوحَى (4)} [النجم: 3، 4]. وظاهر مذهب الشافعي وبه قال الجمهور: يجوز للكل ذلك؛ لأنه لو كان لا يجوز لما أخطأ داود وأصاب سليمان عليهما السلام، وقد قال تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وعِلْمًا} [الأنبياء: 79]، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم اجتهد في أسارى بدر على ما ذكرنا، وقال لعمر رضي الله عنه: "أرأيت لو تمضمضت" حين سأله عن قبلة الصائم هل يفطر أم لا. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال " من اغتسل من الجنابة خلق الله تعال من كل قطرة تقطر منه ملكاً يتسغفر له إلى يوم القيامي" فقال رجل: يا رسول الله، أنقضي أو طارنا ونؤجر عليها؟ فقال صلى الله عليه وسلم "ثكلتك أمك، حسبتك من فقهاء المدينة، أرأيت لو وضعتها في حرام، أفتحتسبون بالحرام ولا تحتسبون بالحلال" أي تتوقعون المثوبة بالحلال وهذا قياس. وأما توقفه في اللعان وغيره فليعلم هل ينزل عليه نص فلا يجتهد. فإذا ثبت هذا فقد اختلف أصحابنا في وجوبه وجوازه [128/ب] على وجهين: أحداهما: يجوز ولا يجب؛ لأن للأحكام أصلاً هو الكتاب. والثاني: أنه واجب عليه؛ لأن أحكام الكتاب مأخوذة من سنته إذا خلا منها. وقال صاحب "الحاوي" "الأصح عندي أنه يجب عليه الاجتهاد في حقوق الآدميين، ويجوز له الاجتهاد في حقوق الله تعالى؛ لأنهم لا يصلون إلى حقوقهم إلا باجتهاده، فلزمه وإن أراد الله تعالى منه الاجتهاد في حقوقه أمره". ثم إذا اجتهد هل يستنتج الاجتهاد برأيه أو يرجع فيه إلى دلائل الكتاب؟ وجهان: أحدهما: أنه يرجع في اجتهاده إلى الكتاب؛ لأنه أعلم بمعاني ما خفي منه من

جميع أمته، فكان اجتهاده بياناً وإيضاحاً. والثاني: وهو الأظهر أنه يجوز أن يجتهد برأيه ولا يرجع إلى أصل من الكتاب؛ لأن سنته أصل في الشرع مثل الكتاب، وقد ندب الله تعالى إليها بقوله {ومَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] الآية، وقال صلى الله عليه وسلم "إنما أجتهد رأيي فيما لم ينزل علي فيه شيء". واختلفت أصحابنا في عصمة الأنبياء- عليهم الصلاة والسلام- من الخطأ في اجتهادهم علو وجهين: أحدهما: أنهم معصومون في اجتهادهم من الخطأ لتسكن النفوس إلى التزام أوامرهم بانتفاء الخطأ عن اجتهادهم. وهذا مقتضى الوجه الذي يقال فيه إنهم لا يجتهدون إلا عن دليل من نص. والثاني: أنهم غير معصومين من الخطأ لوجوده منهم، لكن لا يقرهم الله تعالى عليه ليزول الارتياب به، وإن جاز أن يكون غيرهم من العلماء مقراً عليه؛ لأن داود- عليه السلام- قد أخطأ في اجتهاده، فاستدركه الله تعالى بإصابة سليمان- عليه السلام- واجتهد [129/ أ] النبي صلى الله عليه وسلم في أساري بدر بعد مشاورة أبي بكر وعمر- رضي الله عنهما- وأخذ منهم الفداء، فأنكره الله تعالى، وهذا يقتضي الوجه الذي يقال فيه إنهم يجوز أن يجتهدوا بالرأي من غير استدلال بنص. وقال ابن أبي هريرة: نبينا صلى الله عليه وسلم معصوم الاجتهاد من الخطأ دون غيره من الأنبياء صلوات الله عليهم؛ لأنه لا نبي بعده يستدرك خطأه لإنختام النبوة به، وغيره من الأنبياء قد بعث بعده من يستدرك خطأه. وهذا لا وجه له؛ لأن جميع الأنبياء- عليهم السلام- غير مقرين على الخطأ في وقت التنفيذ، ولا يهملون فيه على التراخي حتى يستدركه نبي بعد نبي، فاستوي فيه جميع الأنبياء. فأما أمور الدنيا فيجوز فيه على الأنبياء الخطأ والسهو؛ لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع ضجة بالمدينة، فقال: "ما هذا؟ " فقيل: إنهم يلقحون النخل، فقال: " لأي نفع ذلك، إنهم إن تركوه لم يضرهم" فبلغهم ذلك فتركوه، ففسد حمل النخل، فقال صلى الله عليه وسلم: "ما كان من أمر دينكم قردوه إلى، وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به". وأما جواز اجتهاد غير الأنبياء في زمان الأنبياء، كاجتهاد الصحابة في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم فينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون المجتهد غائباً عن مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم لا يقدر على سؤاله في وقته فله حالتان: إحداهما: أن يكون له ولاية منه، كعلي بن أبي طالب، ومعاذ بن جبل- رضي الله عنهما- حين بعثهما إلى اليمن، فيجوز اجتهادهما؛ لأن معاذاً قال: أجتهد رأيي، فاستصوبه وحمده، وسواء اجتهد في حق نفسه أو في حق غيره، ولا يلزمه إذا

قدم على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسأله [129/ب] فيما اجتهد فيه وإن كان سؤاله مستحباً، ويكون ما اجتهد فيه أثراً متبوعاً ما لم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم خلافه، كما اتبع معاذ في قوله: "أيما رجل انتقل من مخلاف عشيرته إلى غير مخلاف عشيرته فصدقته في مخلاف عشيرته" والمخلاف القربة. وإنما اختص المولى بذلك؛ لأن في الولاية إذناً بالاجتهاد فيما تضمنها. والثانية: أن لا يكون للمجتهد ولاية فله حالتان: إحديهما: أن يظفر بأصل من كتاب أو سنة فيجوز اجتهاده في الرجوع إلى الاستدلال بالظاهر منها، ولا يلزمه إذا قدم على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسأله عما اجتهد فيه؛ لأنه قد اجتهد بأصل لازم. والثانية: أن يقدم أصلاً من كتاب أو سنة فلا يجوز أن يجتهد في حق غيره لعدم ولايته. أما اجتهاده في حق نفسه، فإن كان فيما يخاف فواته جاز اجتهاده فيه، وعليه إذا قدم على الرسول صلى الله عليه وسلم أن يسأله عنه، وليس له أن يهاجر إليه من أجل السؤال، وإن كان مما يخاف فواته ففي جواز اجتهاده وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنه لا يصح منه أن يشرع، وعليه أن يسأل ليعمل بما كلف. والثاني: يجوز أن يجتهد إذا كان من أهل الاجتهاد، ويعمل باجتهاده لقوله صلى الله عليه وسلم: "بعثت بالحنيفية السمحة السهلة البيضاء". فعلى هذا في جواز تقليده في اجتهاد وجهان: أحدهما: لا يجوز لغيرة ممن ليس من اهل الاجتهاد أن يقلده فيه لوجود ما هو أقوى منه، فعلى هذا لا يلزم المجتهد إذا قدم علىلرسول صلى الله عليه وسلم أن يسأله عما اجتهد فيه [ولا يجوز أن يعمل به في المستقبل حتى يسأل إن حضر. والثاني: يجوز لغيره أن يقلده كما يجوز أن يقلد العالم وإن وجد من هو أعلم منه، فعلى هذا يلزم المجتهد إذا قدم على الرسول أن يسأله عما اجتهد فيه لئلا يصير مشرعاً بغير أصل]. والقسم الثاني: أن يكون المجتهد حاضراً في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وغائباً عن مجلسه، [130/أ] فإن رجع في اجتهاده إلى أصل من كتاب أو سنة صح وجاز أن يعمل به ويفتي؛ لأن العجلاني سأل بعض الصحابة بالمدينة عن قذف امرأته بمن سماه، فقال له: حد في جنبك إن لم تأت بأربعة شهداء، ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قيل له، فتوقف حتى نزلت عليه آية اللعان، ولم ينكر على العجلاني سؤال غيره، ولا أنكر على من أجابه مع حضوره. وإن لم يرجع المجتهد إلى أصل من كتاب ولا سنة، فقد جوز بعض أصحابنا

اجتهاده وقال بعضهم: لا يجوز اجتهاده. وقال صاحب "الحاوي": "الذي عندي أنه يصح اجتهاده في المعاملات دون العبادات؛ لأن العبادات تكليف يتوقف على الأوامر بها، والمعاملات تخفيف تعتبر النواهي عنها" والثالث: أن يكون المجتهد حاضراً في مجلس الرسول صلى الله عليه وسلم فاجتهاده معتبر بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالاجتهاد صح اجتهاده، كما حكم النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ- رضي الله عنه- في بني قريظة، فحكم بقتل من جرت عليه المواشي واسترقاق من لم تجر عليه، فقال صلى الله عليه وسلم: "هذا حكم الله من فوق سبعة أرقعة". وإن لم يأمره بالاجتهاد لم يصح اجتهاده إلا أن يعلم فيقره عليه، فيصير بإقراره عليه صحيحياً كما قال أبو بكر الصديق- رضي الله عنه- بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم في سلب القاتل وقد أخذه غير قاتله: "لاها الله إذا تعمد إلى أسد من أسد الله تعالى يقاتل عن الله ورسوله فيعطيك سلبه"، فأقره على هذا القول فصح اجتهاده حين أقره عليه. وأما الفصل الثاني في وجود الاجتهاد: فهو ما لم يرد في الكتاب والسنة بيان حكمه، فقد قيل: إن الذي تضمنه كتاب الله تعالى من الأحكام [130/ب] يشتمل على نحو خمسمائة آية، والذي تضمنه السنة منها نحو خمسمائة حديث، ونوازل الأحكام أكثر من أن تحصى ولا تقف على هذا العدد، ولا يجوز أن تكون الأمة مضاعفة لا ترجع إلى أصل من كتاب ولا سنة توصلهم إلى العلم بأحكام النوازل، وقد قال الله تعالى: {اليَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3]، وروى المطلب بن حنطب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما تركت شيئاً مما أمركم الله به إلا وقد أمرتكم به، ولا تركت شيئاً مما نهاكم عنه إلا وقد نهيتكم عنه". فدلت الآية في إكمال الدين، ودل الخبر في استيفاء الأوامر والنواهي على أن الأحكام المسكوت عنها أصلاً في الكتاب والسنة يتوصل بها إلى معرفة ما أغفل بيانه فيها، وهو الاجتهاد فيما تضمنها من الأمارات الدالة، واستخراج ما تضمنها من المعاني المستنبطة، ليكون الدين قد كمل والأحكام قد وضحت، فإن النصوص على الحوادث معدول عن استيعابه لأمرين: أحدهما: أنه شاق في الإحاطة بجمعية. والثاني: ليتفاضل العلماء في استنباطه. فصح لهذين المعنيين أن يكون الاجتهاد في الشرع أصلاً يستخرج به حكم ما لم يرد فيه نص ولا انعقد عليه إجماع. واعلم أنه مضى الاجتهاد في أعصار الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولابد من إيضاح اجتهاد العلماء فيما بعدهم، وهو ينقسم ثمانية أقسام: أحدها: ما كان حكم الاجتهاد مستخرجاً من معنى النص كاستخراج علة الربا من البر، فهذا صحيح غير مدفوع عند جميع القائلين بالقياس.

والثاني: ما كان مستخرجاً من شبه النص، كالعبد في ثبوت تملكه لتردد شبهه بالحر في أنه يملك؛ لأنه مكلف. وشبه بالبهيمة في أنه لا يملك لأنه مملوك، وهذا صحيح [131/ أ] وليس بمدفوع عنه عند من قال بالقياس ومن لم يقل، غير أن من لم يقل بالقياس جعله داخلاً في عموم أحد الشبهين، ومن قال بالقياس جعله ملحقاً بأحد الشبهين. والثالث: ما كان مستخرجاً من عموم النص، كالذي بيده عقدة النكاح في قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237]، يعم الأب والزوج والمراد به أحدهما، وهذا صحيح يوصل إليه بالترجيح. والرابع: ما كان مستخرجاً من إجمال النص، كقوله تعالى في متعة الطلاق: {ومَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 237]،فصح الاجتهاد في قدر المتعة باعتبار حال الزوجين. والخامس: ما كان مستخرجاً من أحوال النص، كقوله تعالى في المتمتع: {ومَتِّعُوهُنَّ عَلَى المُوسِعِ قَدَرُهُ وعَلَى المُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]، فاحتمل صيام الثلاثة قبل عرفة وبعدها، واحتمل صيام السبعة إذا رجع في طريقه وإذا رجع في بلده، فصح الاجتهاد في تغليب إحدى الحالتين على الأخرى. والسادس: ما كان مستخرجاً من دلائل النص، كقوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] الآية، فاستدللنا على تقدير نفقة الموسر بمدين بأنه أكثر ما جاءت به السنة في فدية الأذى، أن لكل مسكين مدين. واستدللنا على تقدير نفقة المعسر بأقل ما جاءت به السنة في كفارة الواطء أن لكل مسكين مداً. والسابع: ما كان مستخرجاً من أمارات النص كاستخراج دلائل القبلة، فيمن خفيت عليه من قوله تعالى: {وعَلامَاتٍ وبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)} [النحل: 16]، فصح الاجتهاد في القبلة بالأمارات الدالة عليها من مطالع النجوم. والثامن: ما كان مستخرجاً من غير نص ولا أصل، فقد اختلفت أصحابنا في صحة الاجتهاد عليه بغلبة الظن على وجهين: أحدهما: لا يصح حتى يقترن بأصل؛ لأنه لا يجوز أن يرجع في الشرع [131/ ب] إلى غير أصل، وهذا ظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه، ولذلك أنكر القول بالاستحسان، لأنه تغليب ظن بغير أصل. والثاني: يصح الاجتهاد به؛ لأن الاجتهاد في الشرع أصل فجاز أن يستغنى عن أصل. وقد اجتهد العلماء في التعزيز على ما دون الحدود بآرائهم في أصله من ضرب وحبس، وفي تقديره بعشر جلدات في حال، وبعشرين في حال، وبثلاثين في حال، وليس لهم في هذه المقادير أصل مشروع. والفرق بين الاجتهاد بغلبة الظن وبين الاستحسان؛ أن الاستحسان يترك له القياس،

والاجتهاد بغلبة الظن مستعمل مع عدم القياس. وأما الفصل الثالث فيما يجب بالاجتهاد: فالذي يجب على المجتهد أن يقصد باجتهاده طلب الحق عند الله تعالى، وإصابة العين التي يجتهد فيها، وهذا هو الظاهر من مذهب الشافعي، ويشبه أن يكون من مذهب المزني أن عليه أن يقصد باجتهاده طلب الحق عند نفسه؛ لأن ما عند الله لا يعلم إلا بالنصوص، وعلى كلا المذهبين عليه أن يتوصل باجتهاده إلى طلب الحق وإصابة العين، فيجتمع فيه بين هذين الشرطين. وقال بعض أهل العراق من الفقهاء والمتكلمين: إن الذي على المجتهد هو الاجتهاد ليعمل بما يؤدي إليه اجتهاده، فيجعلون عليه الاجتهاد ولا يجعلون عليه طلب الحق بالاجتهاد، ويقال: إنه مذهب أبي يوسف. وأما أبو حنيفة رحمه الله فقيل: مذهبه فيه مختلف، فيجعل عليه في بعض الأحكام طلب الحق بالاجتهاد كقولنا، ويجعل عليه في بعض الأحكام الاجتهاد ليعمل بما يؤدي إليه اجتهاده كقول أبي يوسف. وقد اختلطت مذاهب الناس في هذا حتى التبست واشتبهت. واستدل من أوجب عليه الاجتهاد دون طلب الحق بالاجتهاد [132/ أ] وهو مذهب من جعل عليه الاجتهاد بغير أصل، بأن ما أخفاه الله تعالى لا طريق لنا إلى إظهاره، وفي التزامه تكليف ما خرج عن القدرة كاختراع الأجسام وقلب الأعيان، وهذا غلط؛ لأن الاجتهاد واستدلال الحكم هو الحق المطلوب به، فلم يجز أن يختص الوجوب بالاستدلال دون الحكم المطلوب؛ لأن الاستدلال مقصود بمدلول عليه، وقد نصب الله تعالى على ما أخفاه أمارات توصل إليه فلم يخرج عن الاستطاعة. وأما الفصل الرابع في حكم الاجتهاد: فلا يخلو حال الحكم المجتهد فيه من أن يتفق عليه أقاويل المجتهدين أو تختلف. فإن اتفق صار إجماعاً تعين فيه الحق وسقط فيه الاجتهاد من بعده، كسقوط الاجتهاد مع نصوص الكتاب والسنة؛ لأن الإجماع حجة ناطقة بعد الكتاب والسنة. وإن اختلفت أقاويل المجتهدين فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون الاختلاف في أصول التوحيد وصفات الذات، فالحق فيها في واحد، وهو الذي كلف العباد طلبه وما عداه باطل، فمن أصابه فقد أصاب عند الله وأصاب الحق، ومن أخطأه فقد أخطأ عند الله وأخطأ في الحق. وقال عبيد الله العنبري: كل مجتهد مصيب في الأصول، وهذا خطأ فأحسن؛ لأن أصول التوحيد وصفات الذات لا تختلف فلا يجوز الاختلاف فيها، وأحكام الشرع قد تختلف بحسب المصالح في الأعيان والأزمان، فجاز أن يكون الاختلاف مسوغاً فيها. والضرب الثاني: الاختلاف في الأحكام الشرعية كاختلاف الصحابة- رضي الله عنهم- في أحكام الصلاة، والزكاة، والصيام، ومقاسمة الإخوة للجد، فذهب الأكثرون إلى أن الحق في جميعها، وأ، كل مجتهد مصيب فيها عند الله تعالى، ومصيب في الحكم؛ [132/ب] لأن جواز اختلاف الجميع دليل على صحة الجميع، وهو قول أبي

الحسن الأشعري والمعتزلة، وقالوا: ليس في الحادثة أشبه مطلوب. وقال أصحاب الأشعري بخراسان: لا يصح هذا المذهب عنه، والمشهور عند أهل العراق ما ذكرناه، ولأنه من أدى اجتهاده إلى حكم يلزمه العمل به ولا يحل له مخالفته، فدل على أنه الحق، ولو كان الحق واحداً لكان إليه طريق، وكان من عدل عنه مفرطاً مذموماً كمسائل الأصول. وذهب الشافعي وأبو حنيفة ومالك وأكثر الفقهاء إلى أن الحق في أحدها، وإن لم يتعين لنا فهو عند الله تعالى متعين، لاستحالة أن يكون الشيء الواحد في الزمان الواحد في الشخص الواحد حلالاً وحراماً؛ لأن ما حل لشخص في حال لم يكن حراماً عليه في تلك الحالة فينافيه ويناقضه، ولأن الصحابة ومن بعدهم تناظروا، واحتج كل واحد على قوله وخطأ بعضهم بعضاً، ولهذا قال علي، وعثمان، وعبد الرحمن- رضي الله عنهم إن كانا قد اجتهدا فقد أخطأ، وهذا يقتضي أن كل واحد منهم يطلب إصابة الأشبه، ولأنهم فد اختلفوا في اجتهادهم في القبلة إلى أربع جهات لا يدل على أن القبلة في الجهات الأربع، وإن جاز لكل واحد منهم أن يصلي إلى الجهة التي يؤدي اجتهاده إليها كذلك هنا. وأما قولهم أنه لو كان كذلك لكان مفرطاً مذموماً. قلنا: يجوز أن يعذر في الخطأ لعموم طريقه، لقوله صلى الله عليه وسلم: "وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر". وقال بعض المتكلمين: ليس عند الله تعالى شيء مطلوب، ولا يجب على المجتهد أ، ينظر في دليل ولا شيء يتوصل به إلى مطلوب، وإنما يعمل على غالب ظنه وما يقوي في نفسه، كما يعمل في المعاملات بغالب ظنه وبما يقوي في نفسه، وهذا خطأ فاحش؛ [133/أ] لقوله تعالى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79]، فأخبر أنه خص سليمان عليه السلام بالفهم، وعلى قولهم يكون داود وسليمان سواء. فإذا تقرر هذا فاعلم أن الفقهاء اختلفوا هل كل مجتهد فيها مصيب أم لا؟ فعند الشافعي أن المصيب منهم واحد وإن لم يتعين، وأن جميعهم مخطئ إلا ذلك الواحد، فمن أصاب الحق فقد أصاب عند الله تعالى في الحكم، ومن أخطأ الحق فقد أخطأ عند الله تعالى وأخطأ في الحكم، وبه قال مالك وجماعة. وقال أبو يوسف وطائفة: كل مجتهد مصيب، وأن الحق في واحد، فمن أصابه فقد أصاب ما عند الله تعالى وأصاب الحكم، ومن أخطأ فقد أخطأ ما عند الله تعالى وأصاب في الحكم. وقال بعض أصحابنا المتأخرين: مذهب الشافعي- رضي الله عنه- هذا وغلطوا فيه، وإنما تعلقوا بقول الشافعي في مواضع: "أدى ما كلف"، فظنوا أنه أراد بذلك أنه أصاب ولم يرد هذا، بل أراد أنه في معنى من أدى ما كلف في أنه لا يأثم. وقال القاضي الطبري: نص في القديم والجديد على ما ذكر أولاً، ولا أعلم أحداً من أصحابه اختلف على مذهبه في ذلك، وإنما نسب إليه قوم من المتأخرين ممن لا معرفة لهم بمذهبه، وتشبثوا بألفاظ ليس فيها دليل عند من فهم من مذهبه، وإذا أردت

أن تعرف ذلك فكل موضع رأيت فيه قوله: "أدى ما كلف" ونحو ذلك. فاقرأ الباب من أوله واقرأ ما قبله وبعده فإنك تجد للشافعي- رضي الله عنه- نصاً [133/ب] أن الحق في واحد وما عداه خطأ. وقال أبو إسحاق: يشبه أن تكون المسألة على قولين؛ لأن الشافعي ذكر قولين فيمن أخطأ القبلة بيقين هل تلزمه الإعادة أم لا؟ والأصح أن عليه الإعادة، ومن يقول كل مجتهد مصيب يقول: لا إعادة عليه، وكذلك قال: إذا دفع الزكاة إلى من ظاهره الفقر فبان عنياً، هل تلزمه الإعادة؟ فيه قولان. وهذه الطريقة اختيار أبي حامد، وهو الذي حكاه عن أبي إسحاق، والصحيح عن أبي إسحاق ما ذكرنا. واختلف القول عن أبي حنيفة رحمة الله، فقيل: إنه ذكر في بعض المسائل كقولنا، وفي بعضها كقول أبي يوسف. والدليل على صحة قولنا إن الحق لما كان في واحد لم يكن المصيب إلا واحداً ولو كان كل مجتهد مصيباً، وقد نسب الله تعالى نبيه داود عليه السلام إلى الخطأ، وسليمان عليه السلام إلى الإصابة يقول تعالى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] الآية، وأيضاً روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر" فنسبه إلى الخطأ وإن جعل له أجراً. فإن قيل: لو اختلفا في الإصابة لما شرك بينهما في الأجر. قلنا: ولو اتفقا في الإصابة لما فاضل بينهما في الأجر. فإن قيل: لما استجازوا أن يولوا من خالفهم في الاجتهاد دل على أن كل مجتهد مصيب. قيل: قد أ، كر علي- رضي الله عنه- على شريح القاضي حين خالفه في ابني عم أحدهما أخ لأم، وقال: "علي بالبعد الأبطر، وعزله عن القضاء"، على أ، نفوذ الاجتهاد عين الحكم، وقد يجوز أن يتفقا عليه [134/ أ] وقت الحكم. فإذا صح أن الواحد هو المصيب منهم، وإن كان غير متعين بالمصيب مأجور على الاجتهاد وعلى الصواب، والمخطئ غير مأجور على الخطأ، ولكن مذهب الشافعي أنه مأجور على الاجتهاد وإن أخطأ فيه لقصده الصواب وإن لم يظفر به، وإنما لا يؤجر على الخطأ: لأن الأجر للترغيب في الصواب ولا ترغيب في الخطأ. قال أبو إسحاق: ويجوز أن يؤجر على قصده وإن كان الفعل خطأ، كما لو اشترى رقبة فأعتقها تقرباً إلى الله عز وجل، ثم وجدها حر الأصل فقد تلف ثمنها وهو مأجور، وإن لم يصح شراءه وعتقه لم يقع لما أتى به من القصد إلى فك رقبة والتقرب به إلى الله تعالى، وقد نص الشافعي على هذا. وأيضا فلا بد للمجتهد أ، يعدل باجتهاده عن طرق فاسدة يتضح له فسادها إلى طريق مشتبه يظن فيه الحق بعدوله عن تلك الطريق الفاسدة اجتهاده صحيح فأثيب على ذلك. قال أبو إسحاق وفيه وجه آخر أنه يؤجر على نيته وعلى نفس اجتهاده، ولا يؤجر على الحكم لخطئه فيه.

فأما اجتهاده: فما بلغ منه فهو صواب وما بقى عليه من اجتهاده إلى بلوغ معرفة الحق فهو معذور في تخلفه عنه؛ لأن فهمه بلغ بعض طريقه ولم يبلغ به أقصى ما طلبه فهو فيما أتى به مأجور ومصيب فيه، ومنزلته منزلة الحاج الذي أمر بقطع المساقة ليبلغ به إلى بيت الله الحرام، فسلك بعض الطريق ثم ضعف عن باقية أ, تلفت راحلته، يؤجر [134/ب] على القدر الذي قصده. وعبر القفال عن هذا فقال: لا يستحق الأجر في قصده الخطأ الموضوع عنه، وإنما يستحق الأجر على إنشاء قصد الثواب. مثاله: أن يقوم ليخرج إلى مكة فأخطأ في نصف الطريق وعدل إلى طريق آخر، فثوابه من ابتداء قصده إلى موضع عدوله إلى الخطأ. قال: وهذا معنى قول الشافعي: "لا يؤجر على الخطأ إنما يؤجر على قصد الثواب". وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "نية المؤمن خير من عمله"، ولهذا ثلاث تأويلات: أحدها: أن نيته في الاجتهاد خير من خطئه في الاجتهاد. والثاني: يعني أن نيته خير من خيرات عمله. والثالث: أن النية أوسع من العمل؛ لأنها تسبق الأقوال والأفعال فيعجل الثواب عليها. وقال القاضي الطبري: ما قاله أبو إسحاق أولا أصح؛ لأن ذلك الاجتهاد خلاف الاجتهاد الذي يصيب به الحق فلا يؤجر عليه ولا على بعض أجزائه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: ثواب المخطئ على ماذا؟ فيه قولان. أحدهما: على الاجتهاد كرجلين سلكا الجامع من طريقين فأفضل أحدهما الطريق أثيب عليه وإن لم يصل إلى الجامع. والثاني: على القصد كرجلين رميا إلى كافر فأصابه أحدهما دون الآخر، يثاب المخطئ على القصد، وإطلاق القولين خطأ على المصيب. وقال الأصم وابن عليه: هو مأثوم على الاجتهاد لخطئه فيه. [135/أ] وقالت طائفة من أهل العراق: هو غير مأجور عليه ولا مأثوم فيه. وهذا خطأ للخبر الذي ذكرنا. وقال الإمام أبو القاسم الصميري: كل مجتهد مصيب في أنه أدى ما كلف من الاجتهاد وإن أخطأ الحكم الذي أراده الله تعالى إلا واحداً، وهذا لا يصح؛ لأنه كلف الاجتهاد المؤدي إلى الصواب، ولم يكلف الاجتهاد المؤدي إلى الخطأ. وأما الاستنباط وهو المقدمة الثانية من مقدمتي القياس، فهو من نتائج الاجتهاد، فكان فرعاً وأصلاً للقياس؛ لأن الوصول إلى استنباط المعاني بعد الاجتهاد في الدلائل، وصحة القياس يكون بعد استنباط المعاني، ولذلك صار الاستنباط فرعاً للاجتهاد وأصلاً للقياس. والاستنباط يختص باستخراج المعاني من ألفاظ النصوص

مأخوذ من استنباط الماء إذا استخرج من حفرته. وقد جعل الله تعالى الأحكام أعلاماً من أسماء ومعاني: فأما الأسماء فهي ألفاظ ظاهرة تعرف بالبديهة. والمعاني: علل باطنة تعرف بالاستنباط، ويكون الحكم بالاسم مقصوراً عليه وبالمعنى متعدياً عنه، فصار معنى الاسم أخص بالحكم من الاسم لعموم المعنى بالتعدي وخصوص الاسم بالوقوف، ولئن كانت المعاني تابعة للأسماء؛ لأنها مستودعة فيها فالأسماء تابعة لمعانيها لتعديها إلى غيرها. فإن تورعنا في تعليق الأحكام كان ما يدل عليه في إثبات القياس كافياً، وإذا كان كذلك وجب أن يستنبط [135/ب] معاني الأحكام بالاجتهاد، ليعلم بالقياس حكم ما يرد فيه نص من معاني ما ورد فيه النص، فما وجد فيه معنى النص شاركه في حكمه قياساً، وما عدم فيه معنى النص خالفه في حكمه عكساً، فيكون القياس موجباً لحكم الإثبات في الطرد، وحكم النفي في العكس. ومن أصحابنا من جعله موجباً لحكم الطرد في الإثبات ولم يجعله موجباً لحكم العكس في النفي، وهو قول من اعتبر في صحة العلة الطرد دون العكس، وزاد قول من اعتبر صحتها بالطرد والعكس. والفرق بين المعاني والعلل أن المعنى ما وجب به الحكم في الأصل حتى تعدى إلى الفرع، والعلة اجتذاب حكم الأصل إلى الفرع، فصار المعنى ما ثبت به حكم الأصل، والعلة ما ثبت به حكم الفرع. ثم هما بعد هذا الفرق يجتمعان من وجهين ويفترقان من وجهين: فأما الاجتماع: أن حكم الأصل موجود في المعنى والعلة. والثاني: أن المعنى والعلة موجودان في الفرع والأصل. وأما الافتراق: فالعلة مستنبطة من المعنى وليس المعنى مستنبطاً من العلة لتقدم المعنى وحدوث العلة. والثاني: أن العلة قد تشتمل على معاني، والمعنى لا يشتمل على علل؛ لأن الطعم والجنس معنيان وهما علة الربا. وعبر بعض الفقهاء عن المعنى بالعلة، وعن العلة بالمعنى، ولم يذكر فرقاً بينهما، إما اتساعاً وإما استرسالاً، والتحقيق فيهما ما ذكرناه من الفرق. فإذا تقررت هذه الجملة وجب على المجتهد في استنباطه المعاني والعلل أربعة شروط يعتبر بها صحتها ثم تختص العلل دون المعاني بشرطين مختلفين فيهما. فأما [136/أ] أحد الأربعة: فأن يكون المعنى مؤثراً في الحكم، فإن لم يؤثر فيه لم يجز أن يكون معنى للحكم ولا علة له، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرجم ماعزاً لاسمه ولا لهيئة جسمه ولكن للزنا، فصار الزنا علة الرجم، وكما أثبت الرسول صلى الله عليه وسلم الربا في البر، لا أنه مزروع، ولكن لأنه كطعوم فكان الطعم علة الربا دون الزرع. والثاني: أن يسلم المعنى والعلة على الأصول ولا يرد فيهما نص ولا إجماع؛ لأن القياس فرع لهما يستعمل عند عدمهما فلم يجز أن يكون دافعاً لهما، فإذا رده أحدهما بطل.

والثالث: أن لا يعارضهما من المعاني والعلل ما هو أقوى منهما، فإن الأقوى أحق بالحكم من القياس، وما أدى إلى إبطال الأقوى فهو الباطل بالأقوى. والرابع: أن يطرد المعنى والعلة فيوجد الحكم بوجودهما فيسلما من نقص أو كسر. فإن عارضهما نقص أو كسر فعدم الحكم مع وجودهما فسد المعنى وبطلت العلة؛ لأن فساد العلة يدفعها وفساد المعنى لا يدفعه؛ لأن المعنى لازم والعلة طارئة؛ لأن الكيل إذا بطل أ، يكون علة الربا في البر لم يبطل أن يكون الكيل باقياً في البر، فيصير التعليل باطلاً والمعنى باقياً. ولا يجوز تخصيص المعاني والعلل المستنبطة لتسلم من النقص المعترض أو يكون دخول النقص عليهما بارتفاع الحكم مع وجودهما دليلاً على فسادهما. فأما العلل المنصوص عليها فقد اختلف أصحابنا في جواز تخصيصها على وجهين: أحدهما: لا يجوز تخصيصها اعتباراً بالعلل المستنبطة. والثاني: يجوز تخصيصها؛ لأنها لفظ منطوق به، فجرت مجرى تخصيص العموم كما علل رسول الله صلى الله عليه وسلم المنع من بيع الرطب بالتمر بأنه ينقص [136/ب] إذا يبس. وحكي عن أبي حنيفة أنه جوز تخصيص العلل المستنبطة من النصوص عليها، ولم يفسدها بمعارضة النقض لخروجها منها بالتخصيص، بدليل أنه لما جاز تخصيص العموم كان تخصيص العلل أولى؛ لأنها قد تستنبط من عموم مخصوص هي له فرع وهو لها أصل، وهذا لا يصح من وجهين: أحدهما: أنه لما كان سلامة الطرد معتبراًُ في العلل العقلية وجب أن يكون معتبراً في العلل الشرعية؛ لأن أحكام الشرع لا تخرج عن قضية العقل. والثاني: أن تكون العلة إذا عارضها نقص لم يكن التعليل بالمنتقض أولى بالتعليل من الناقص، فتعارضا بهذه المقابلة فوجب العدول عنها إلى ما لا تعارض فيه. وأما الشرطان المختلف فيهما في تصحيح العلل: أحدهما: عكس العلة هل يكون معتبراً في صحتها؟ وجهان: أحدهما: قال ابن أبي هريرة وجماعة: لا يعتبر، فإنه إذا ثبت الحكم بوجودها صحت وإن لم يرتفع بعجمها؛ لأن المقصود بها ثبات الحكم دون نفيه، وكما يصح المعنى إذا اطرد ولم ينعكس. والثاني: أن صحة العكس معتبر فيها؛ لأن علل الشرع معتبرة بعلل العقل في الطرد والعكس، ولأن عدم التأثير في ارتفاعها يدل على عدم التأثير في وجودها، والفرق بين المعنى والعلة في اعتبار العكس ما قدمناه من الفرق. والثاني: وقوف العلة على حكم النص وعدم تأثيرها فيما عداه كوقوف علة الربا في الذهب والفضة عليها تعليلاً بأنها أثمان. واختلف أصحابنا في أنها هل تكون علة لثبوت الربا، فقال أبو بكر القفال: أشار إليه في أصوله ولا تكون علة؛ لأن العلة ما جذب حكم الأصل إلى فروعه، ويجعل

ثبوت الربا في الذهب والفضة بالاسم دون المعنى. وقال جمهور أصحابنا: [137/أ] إنها علة وإن لم تتعد عن حكم الأصل؛ لأن وقوفها يوجب نفي حكم الأصل عن غيره، كما أوجب تعديها ثبوت حكم الأصل في غيره، فصار وقوفها مؤثراً في النفي كما كان تعديها مؤثراً في الإثبات، فاستفيد بوقوفها وتعديها حكم غير الأصل، فعلى هذا يكون ثبوت الربا في الذهب والفضة بالمعنى دون الاسم، فصارت صحة المعاني معتبرة بأربعة شروط، وفي صحة العلل وجهان: أحدهما: تعتبر صحتها بأربعة شروط لما قدمناه من فرق ما بين المعاني والعلل. فإذا تقرر هذا وجب على المستنبط أن يعتبر بها حكم الأصل في الكشف عن معانيه، فإن لم يجد فيها ما يؤثر في الحكم، كأعداد الركعات ونصب الزكوات، علم أن معانيه غير معقولة، وأن الحكم فيها مقصوراً على الاسم ومعتبر بالاسم، وإن كان في معاني الأصل ما يكون مؤثراً في الحكم سير جميع معانيه ولم يقتصر على المعنى الأول؛ لجواز أن يكون بعده ما هو أقوى منه، ليكون حكم الأصل معتبراً بأقوى معانيه. ثم لا يخلو معاني الأصل من أن يكون الحكم متعلقاً بجميعها أو ببعضها، فإن تعلق بجميع معاني الأصل كالربا في الذهب والفضة فهي العلة الواقفة، وهل يكون ثبوت الحكم في الأصل بالمعنى أو الاسم، فعلى ما ذكرناه من الوجهين، وإن تعلق الحكم ببعض معانيه فهو على ضربين؛ أحدهما: أن يصح تعلق الحكم بأحد معانيه. والثاني: أن لا يصح. فإن صح تعليقه بأحدها فهو على ضربين: أحدهما: أن تتفق أحكامها في الفروع، فيوجب كل واحد منهما بوجوب غيره، فيكون المستنبط مخيراً في تعليق الحكم بأيها شاء، كما يجوز أ، يثبت حكم الأصل بأي دلائله شاء. [137/ب] والثاني: أن تختلف أحكام المعاني في الفروع، فيوجب كل واحد غير ما يوجب الآخر، كتعليل الربا في البر بأنه مقتات وبأنه مأكول، وبأنه مكيل، ولكل واحد من هذه المعاني فروع تجتذبها ليست في غيره، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون أحدهما داخلاً في الآخر، فيكون الحكم معتبراً بالمعنى للأعم دون الأخص في تعليل الربا في البر بأنه مقتات، وتعليله بأنه ماكول والقوت يدخل في المأكول، فكان تعليله بالأكل منه بالقوت لعموم الأكل وخصوص القوت. والثاني: أن لا يدخل أحدهما في الآخر، كالتعليل بالأكل والتعليل بالكيل، فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون أحد المعنيين أكثر فروعاً من الآخر، فيكون أكثرها قروعاً أولى وتعليل الحكم به أحق لكثرة بيانه بكثرة فروعة. والثاني: أن تتقارب فروعهما، فهو على ضربين: أحدهما: أن تكون شواهد أكثر الأصول مع أحدهما، وشواهد أقلها مع الآخر فيكون أكثرها شواهد أولى، وتعليل الحكم به أحق لقوته بكثرة شواهده.

والثاني: (أن) تتساوى شواهد الأصول لكل واحد منهما ولا يترجح أحدهما على الآخر بشيء، فيتعلق حكم الأصل بكل واحد من المعنيين، ويكون اجتماعهما معاً علة في فروع الأصل، لقوة العلة باجتماعهما واستيعابهما لفروعهما. وأما إذا لم يصح تعليق حكم الأصل بأحد معانيه لدخول الكثير عليه، وجب أن يضم إليه معنى آخر منمعاني الأصل، فيجمع فيه بين معنيين، فإن سلما بالاجتماع من كسر يدخل عليهما صارا جميعاً معنى الحكم في الأصل، وعلة الحكم في الفرع، وإن لم يسلم المعنيان من كسر ضممت إليهما معنى ثالثاً، فإن سلمت صار جميعها معنى الحكم في الأصل وعلة الحكم في الفرع، وإن لم تسلم المعاني الثلاثة [138/ أ] من كسر ضممت إليها رابعاً وخامساً، كذلك أبداً حتى يجمع بين معاني الأصل، فيتبين باجتماع معانيها وقد قل حكمه وعدم تعديه. ومنع أبو حنيفة تعليق الحكم بما لم يتعد معانيه وأبطل به العلة الواقفة. وخص بعض أصحابنا معاني العلة، ومنع من تعليق الحكم بأكثر من أربعة أصناف. ولو تعارض التعليل بمعنيين أحدهما منصوص عليه والآخر مستنبط، كان معنى النص أولى من معنى الاستنباط، كما يكون الحكم بالنص أولى من الحكم بالاجتهاد، وذلك مثل تعليل مال الفيء بقوله تعالى: {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنكُمْ} [الحشر: 7]، وتعليل تحريم الخمر بقوله تعالى: {إنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العَدَاوَةَ والْبَغْضَاءَ} [المائدة: 91] الآية. وكما علل النبي صلى الله عليه وسلم بيع التمر بالرطب بقوله: "أينقص الرطب إذا يبس .... " الخبر، فهذا التعليل كله عن نص الشافعي رضي الله عنه لا يجوز أن يدفع بعل مستنبطة. إذا ثبت ما ذكرنا من مقدمتي القياس، فالقياس موضوع لطلب أحكام الفروع المسكوت عنها من الأصول المنصوصة بالعلل المستنبطة من معانيها، ليلحق كل فرع بأصله حتى يشركه في حكمه لاشتراكهما في المعنى والجمع بينهما بالعلة، فصار القياس إلحاق الفرع بالأصل بالعلة الجامعة بينهما في الحكم. واسم القياس مأخوذ في اللغة من المماثلة، يقال: هذا قياس هذا أي مثله؛ لأن القياس هو الجمع بين المتماثلين في الحكم. وقيل: إنه مأخوذ من الإصابة، يقال: قسست الشيء إذا أصبته؛ لأن القياس يصيب به الحكم. والقياس: أصل من أصول الشرع وحجة [138/ب] يستخرج بها أحكام الفروع المسكوت عنها، يجب العمل به عند عدم النصوص في الإجماع، واختلفوا في طريق إثباته، فقال الأكثرون: هو دليل بالشرع. وقال بعضهم: هو دليل بالعقل وهو ضعيف. وقال النظام، وداود، والقاساني، والمغربي، والنهرواني، والشيعة: لا يجوز أن يعمل به في الشرع، ولا القول به، ولا يستدل به على حكم في فرع، والأحكام متعلقة بالأسماء دون المعاني. وعندنا يتعلق الحكم بمعانيها إذا عقلت، وبالأسماء إذا جهلت ويكون اختلافهما

على ما ورد الشرع بها. واختلفوا في طريق نفيه، فقال بعضهم: منفي بالعقل وحده. وقال بعضهم: منفي بالشرع وحده. وحكي عن داود أنه قال: لم يرد الشرع به، ولو ورد به لجاز أن يكون دليلاً فيه. وقيل: إنه قال: العقل لا يوجبه والشرع لم يوجبه، وهذا كله غلط، وهذا الخلاف خلاف حادث بعد أن تقدم الإجماع بإثباته من الصحابة والتابعين قولاً وعملاً. أما العمل: فإنهم اختلفوا في مسائل، مثل قوله: أنتعلي حرام، ومقاسمة الجد الإخوة، وذهب كل واحد منهم مذهباً، ولا يجوز أن يكونوا قالوا ذلك توقيقاً؛ لأن أحداً منهم ما أظهر فيه توقيفاً، فثبت أنهم قالوه اجتهاداً وقياساً. وأما القول: قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في الكلالة: أقول فيها برأيي. وعن عمر- رضي الله عنه- مثل ذلك. وقال ابن مسعود رضي الله عنه في مسألة المفوضة أقول برأيي، فإن أصبت فمن الله تعالى، وإن أخطأت فمني ومن الشيطان [139/أ] والله ورسوله منه بريئان، وغير هذا من الألفاظ في مسائل كثيرة، ما تدل على الاجتهاد والقياس، فدل ذلك على صحة ما قلناه. وأيضا قال الله تعالى: {فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ} [الحشر: 2]، وفي الاعتبار وجهان: أحدهما: أنه مأخوذ من العبور، وهو أن يجاوز المذكور إلى غير المذكور، وهذا هو القياس. والثاني: مأخوذ من العبرة، وهو اعتبار الشيء بمثله، ومنه عبرة الخراج، أن يقاس خراج عام بخراج عام غيره في المماثلة. وفي كلا الوجهين دليل على القياس؛ لأنه أمر أن يستدل بالشيء على نظيره، وبالشاهد على الغائب. وأيضا قال تعالى: {وضَرَبَ لَنَا مَثَلاً ونَسِيَ خَلْقَهُ} [يس: 78] الآية، فجعل خلق الأحياء دليلاً على خلق الموتى، وهذا دليل مستمر في قضايا العقول، ولولا القياس لما صار دليلاً. وأيضاً قال الله تعالى: {ولَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وإلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]، وأولوا الأمر هم العلماء، والاستنباط هو القياس، فصارت هذه الآية كالنص في إثباته. وروي في خبر معاذ- رضي الله عنه- أنه قال: "أجتهد رأيي" وهذا دليل على جواز الاجتهاد عند عدم النص، وأن ليس كل الأحكام مأخوذة عن نص، فصار القياس أصلاً بالنص. وروي أنه صلى الله عليه السلام قال في خبر عمر رضي الله عنه: "أرأيت لو تمضمضت" وهذا قياس. وأيضاً لما استقر في العقل أن يستدل بالشاهد على الغائب، ويجمع بين المتماثلين في الشبه، ويسوي بين المتفقين [139/ب] في المعنى، وجب أن يكون في قضايا السمع استدلال بالشاهد على الغائب، والجمع بين المتماثلين في الشبه والمتفقين في المعنى استدلالاً بالعقل والسمع. أما العقل فشواهده واضحة.

وأما السمع فقد يستقر بالشاهد على الغائب في القبلة بقوله تعالى: {وحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144]. وفي الجمع بين المشتبهين في المماثلة وجزاء الصيد بقوله تعالى: {فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]. وفي التسوية بين المتفقين في المعنى لاعتبار الرق في حد العبد بالزنا بحد الأمة بقوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ} [النساء: 25] الآية. فإن قيل: أحكام العقل متفقة وأحكام السمع مختلفة فلم يجز اعتبار أحدهما بالآخر. قلنا: نحن نقيس على أحكام السمع ما وافقها كما نقيس على أحكام العقل ما وافقها، فصار كل واحد منهما أصلاً لفروعه في المماثلة. فإذا تقرر هذا فالقياس قياسان؛ قياس معنى وقياس شبه. والفرق أن قياس المعنى ما لم يكن لفرعه إلا أصل واحد أخذ حكمه من معناه. وقياس ما تجاذبته أصول فليحق بأقواها شبهاً به، فصار قياس المعنى أقوى من قياس الشبه على الوجهين. ثم قياس المعنى ينقسم قسمين؛ خفي وجلي. فأما الجلي فيكون معناه في الفرع زائداً على معنى الأصل. والخفي يكون معناه في الفرع مساوياً لمعنى الأصل. والقياس الجلي على ثلاثة أضرب: أحدها: ما عرف معناه من ظاهر النص بغير [140/أ] استدلال، ولا يجوز أن يرد التعبد فيه بخلاف أصله، وذلك مصل قوله تعالى: {فَلا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ ولا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23]، فدل تحريم التأفيف ببديهة النص على تحريم الضرب والشتم لما فيه من إهانة الأبوين والأذى. ويجوز أن يحرم التأفيف ويبيح الضرب والشتم، فصار تحريم الضرب والشتم مأخوذاً من تحريم التأفيف قياساً، ومثله قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] الآية. فلا يجوز أن يجازي على قليل الطاعة ولا يجازى على كثيرها، ويعاقب على قليل المعصية ولا يعاقب على كثيرها. وقال القفال الشاشي: حكم ذرة ونصف ذرة بمنزلة، وإنما قال هذا حتى لا يقول مهوس الكثير ذرات والاسم متناول لها، ومثله قوله: {ومِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مَنْ إن تَامَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ} [آل عمران: 75] الآية، فالأمين على القنطار هو على الدينار آمن والخائن في الدينار هو في القنطار أخون. ومثله قوله تعالى: {وإن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} [الأنبياء: 47] وقوله تعالى: {ولا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124]. وقال بعض مشايخنا: لا يسمى هذا قياساً؛ لأن العرب وضعت هذه اللفظة للتنبيه على ما زاد عليه، فيكون النهي عن الضرب والشتم باللفظ دون المعنى، وسماه بعضهم مفهوم الخطاب، وقيل: هو فحوي الخطاب، قالوا: والقياس ما خفي حكم المسكوت عنه بالاستدلال من المنصوص عليه، فما خرج عن الخفاء لم يحتج إلى الاستدلال فليس بقياس. وقال نفاة القياس: مثل هذا لا يكون قياساً، [140/ب] بل هو نص. وقيل: إنه تنبيه وهذا غلط؛ لأن النص ما عرف حكمه من اسمه. والقياس ما عرف حكمه من اسم غيره وقد وجد هنا؛ لأن اسم التأفيف لا ينطلق على الضرب كما لا

ينطلق الضرب على التأفيف، فصار تحريم الضرب مأخوذاً من معنى التأفيف لا من اسمه، فإن امتنعوا أن يسموه قياساً فقد سلموا معناه وخالفوا في اسمه، والمخالفة في الاسم ساقطة مع تسليم المعنى. وأيضاً فالمعاني تتنوع إلى جلي تسبق بديهته إلى الفهم من غير استدلال، وإلى خفي لا يفهم إلا بالفكر والاستدلال، كالأسماء تتنوع إلى واضح تعرفه الخاصة والعامة، وإلى غامض تعرفه الخاصة دون العامة، كنهية صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل وهو زناء، وقوله صلى الله عليه وسلم "لا جلب، ولا جنب، ولا خلاط، ولا وراط". ونهى صلى الله عليه وسلم عن الملاقيح والمضامين. ثم اختلاف الأسماء وفي الوضوح والغموض لا يمنع أن تكون كلها نصوصاً، وكذلك اختلاف المعاني في الجلاء والخفاء لا يمنع أن تكون كلها قياساً. واعلم أن هذا الوجه من القياس أقرب وجوه القياس إلى النصوص لدخول فرعها في النصوص، ولا خلاف بين أصحابنا في جواز تخصيص العموم به، وهل يجوز به النسخ أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو قول الأكثرين: لا يجوز؛ لأن القياس فرع للنص الذي هو أقوى، فلا يجوز أن يكون ناسخاً له. والثاني: وهو اختيار ابن أبي هريرة وجماعة يجوز؛ لأنه لما جاز [141/أ] أن يرد التعبد في فرعه بخلاف أصله، صار الفرع كالنص فجاز به النسخ. فإن كان أصله نصاً في القرآن جاز أن ينسخ به القرآن دون السنة، وإن كان أصله نصاً في السنة جاز أن ينسخ به السنة دون القرآن. ومن هذا اختلف أصحابنا في قوله تعالى: {إن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] الآية، مع قوله: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66] الآية، أن نسخ مصابرة عشرين مائتين بمصابرة عشرين أربعين، علم بالقياس بظاهر الكلمة، فمنهم من قال: علم بالقياس؛ لأن الله تعالى لم ينص على حكم العشرين، وإنما قسناه على نسخ ظاهر الكلمة، ومنهم من قال: علم بظاهر الكلمة. والضرب الثاني: ما عرف معناه من ظاهر النص بغير استدلال بالإجماع، ولكن يجوز أن يرد التعبد فيه بخلاف أصله، مثل نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأضحية بالعوراء، والعرجاء، فكانت العمياء قياساً على العوراء والقطعاء قياساً على العرجاء، لأن نقصها أكثر والنص للنقص وإن جاز أن يرد التعبد بإباحة العمياء والقطعاء مع تحريم النص وأباح ما عداه، فحرم التضحية بالعوراء والعرجاء وأباح التضحية بالعمياء والقطعاء، وأثبت بعضهم تحريم جميعه بالتنبيه دون النص، فهذا الضرب من القياس يجوز تخصيص العموم بمثله، ولا يجوز به النسخ بالاتفاق لجواز ورود التعبد في الفرع بخلاف أصله. ومن هذا الجنس قوله صلى الله عليه وسلم [141/ب] " لا يقضي القاضي وهو غضبان" وقد أجمعوا

على أن منعه لأنه يزعجه ويغير طبعه، فكان النعاس الغالب، والجوع الشديد والشبع المثقل، والحزن المفرط قياساً عليه لوجود معناه فيه. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم في الفأرة إذا ماتت في السمن: "إن كان جامداً فألقوها وما حولها، وإن كان مائعاً فأريقوه". وأجمعوا على أنه لنجاسة الفأرة. وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يبولن أحدكم في الماء الدائم ثم يتوضأ منه" فكان التغويط مثله. وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليهرقه وليغسله سبع مرات" فكان إذا بال الكلب فيه مثله. فإن قيل: لا نعلم كل هذا قياساً، وإنما علمناه إجماعاً. قلنا: المجمعون إنما قالوا ذلك من طريق القياس دون غيره، ولو كان هناك سبب جمعهم عليه لعرفناه ولنقل إلينا كما نقل إجماعهم. والضرب الثالث: ما عرف معناه من ظاهر النص باستدلال ظاهر يعرف بمبادئ النظر، وذلك مثل قوله وتعالى: {فَإذَا أُحْصِنَّ فَإنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ} [النساء: 25]، ولم يكن المعنى إلا نقص الرق بالعبد قياس عليه بهذا المعنى، كقوله صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شركاً له في عبد قوم عليه الباقي" فكانت الأمة قياساً. وكقوله تعالى في يوم الجمعة: "وذروا البيع" [الجمعة: 9]، فعقد النكاح قياس على البيع، فهذا الضرب لا يجوز النسخ به ويجوز تخصيص العموم به عند أكثر أصحابنا. وقال بعضهم: لا يجوز تخصيص العموم به لخروجه عن الجلاء بالاستدلال، وهكذا غلط، لأنه قد صار بجلاء الاستدلال كالجلي بغير استدلال. وهذه الضروب الثلاثة [142/ أ] من القياس يجوز أن ينعقد بها الإجماع وينقض بها حكم من خالفها من الحكام. وأما القياس الخفي: فهو ما خفي معناه فلم يعرف إلا بالاستدلال، ويكو معناه في الفرع مساوياً لمعنى الأصل، وهو على ثلاثة أضرب: أحدهما: ما كان معناه لائحاً. والثاني: ما كان غامضاً. والثالث: ما كان مشتبهاً. فأما الأول: فيعرف باستدلال متفق عليه مثل قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء:23] الآية، فكان عمات الآباء والأمهات في التحريم قياساً على الخالات لاشتراكهن في الرحم. وكقوله تعالى في نفقة الولد في صغره: {فَإنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فكانت نفقة الوالد عند عجزه في كبره قياساً على نفقة الولد لعجزة في صغره، والمعنى في هذا الضرب لائح لتردده بين الجلي والخفي، وهو من ضروب الخفي بمنزلة الأول من ضروب الجلي، ويجوز أن ينعقد الإجماع بمثله وينقض به حكم الحاكم إذا خالفه، وهل يجوز تخصيص العموم به؟ فيه وجهان. وأما الثاني: فهو ما كان معناه غامضاً للاستدلال المختلف فيه فتقابلت معانيه حتى غمضت، مثاله: تعليل الربا في البر المنصوص عليه، فيقابل فيه التعليل بالأكل ليقاس

عليه كل مأكول، والتعليل بالقوت ليقاس عليه كل مقتات، والتعليل بالكيل ليقاس عليه كل مكيل. ومثل هذا الضرب لا ينقض به حكم الحاكم ولا يخص به العموم. وأما الثالث: وهو ما كان مستبهماً احتاج نصه ومعناه إلى استدلال كالذي قضي به الرسول صلى الله عليه وسلم أن الخراج بالضمان يعرف بالاستدلال، أن الخراج هو المنفعة والضمان هو ضمان البيع، ثم عرف معنى المنفعة بالاستدلال، فتقابلت المعاني بالاختلاف فيها، فمن علل [142/ ب] لها بأنها آثار فلم يجعل المشتري إذا رد بالعيب مالكاً للأعيان من الثمار والنتاج، ومن علل لها بأنها ما خالفت أجناس أصولها، فجعله مالكاً للثمار دون النتاج، وعللها الشافعي بأنها إنما يجعله مالكاً لكل نماء من ثمار ونتاج، فمثل هذا الضرب ينعقد الإجماع في حكم أصله، ولا يتعقد في معناه ولا ينقض بقياسه حكم، ولا يخص به عموم وهو مما تقدمه وإن قاربه في حكمه. وأما قياس الشبه: فهو ما تجاذبته الأصول، فأخذ من كل أصل شبهاً، وأخذ كل أصل منه شبهاً، وهو نوعان: قياس تحقيق يكون الشبه في أحكامه. وقياس تقريب يكون الشبه في أوصافه، وقياس التحقيق مقابل لقياس المعنى الجلي وإن ضعف عنه. وقياس التقريب مقابل لقياس المعنى الخفي وإن ضعف عنه. وأما قياس التحقيق فثلاثة أضرب: أحدهما: أن يتردد حكم الفرع بين أصلين ينتقص برده إلى أحدهما ولا ينتقص برده إلى الآخر قرده إلى الأصل الذي لا ينتقص برده إليه وإن كان أقبل شبهاً دون الآخر. وإن كان أكثر شبهاً كالعبد هل يتردد بين الحر والبهيمة، فلما انتقص برده إلى الميراث حين لم يملك به وجب رده إلى البهيمة لسلامته من النقص، وإن كان شبهه بالأحرار أكثر. والثاني: أن يتردد الفرع بين أصلين يسلم من النقص في رده إلى كل واحد منها وهو بأحد الأصلين أكثر شبهاً مثل أن يشبه أحدهما من وجه والآخر من وجهين أو أحدهما في وجهين والآخر من ثلاثة أوجه يرد إلى الأكثر مثاله: في الجناية على طرف العبد يتردد بتردده إلى الحر في تقدير الجناية على أطرافه وبتردده على البهيمة في وجوب ما نقص من قيمته وهو يشبه البهيمة في أنه مملوك وموروث ويشبه الحر في أنه آدمي مخاطب مكلف يجب في قتله القود والكفارة فوجب رده إلى الحر [143/ أ] في تقدير أرش طرفة دون البهيمة لكثرة شبه بالحر. والثالث: أن يتردد الفرع بين أصلين مختلفي الصفتين، ويوجد في الفرع بعض كل واحد من الصفتين ولا يكمل فيه إحدى الصفتين، لكن يوجد فيه الأكثر من إحدى الصفتين والأقل من الأخرى، فيجب رده إلى الأصل الذي فيه أكثر صفاته. مثاله: ثبوت الربا في السقمونيا لما تردد بين الخشب في الإباحة، لأنه ليس بغذاء وبين الطعام في التحريم، لأنه مأكول فكان رده إلى الغذاء في التحريم وإن لم يكن غذاء، وفي رده إلى الخشب في الإباحة وإن لم يكن غذاء، لأن الأكل أغلب بصفاته.

وأما قياس التقريب فثلاثة أضرب: أحدهما: أن يتردد الفرع بين أصلين مختلفي الصفتين، وقد جمع الفرع معنى الأصل فيترجح في الفرع اغلب الصفتين. مثاله في المعقول: أن يكون أحد الأصلين معلولا بالبياض والآخر معلولا بالسواد، ويكون الفرع جامعاً بين السواد والبياض فيعتبر حاله، فإن كان بياضه أكثر من سواده رد إلى الأصل المعلول بالبياض، ولم يكن للسواد فيه تأثير، وإن كان سواده أكثر من بياضه رد إلى الأصل المعلول بالسواد دون البياض، ولم يكن للبياض فيه تأثير. مثاله في الشرع: الشهادات أمر الله تعالى فيها بقبول العدل ورد الفاسق، وقد علم أن أحداً غير الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا بمحض الطاعة حتى لا يشوبها بمعصية من الصغائر، فوجب اعتبار الأغلب من حاليه كما قال تعالى: {فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ، وأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ، فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة:6 - 9]، [143/ ب] فإن كانت الطاعات أغلب عليه حكم بعدالته، ولا تأثير لما فيه من معصية، وإن كانت المعاصي أغلب عليه حكم بفسقه، ولا تأثير لما فيه من طاعة. وقال أبو حنيفة: هذا الضرب لا يكون قياساً، لأن ما استخرج علة فرعه من أصله، وهذا قد استخرج علة أصله من فرعه. ولأن القياس إنما يصح إذا كان معنى الأصل موجوداً بكماله في الفرع، فإذا وجد بعض أوصافه لا يصح إلحاقه به، وهذا لا يصح، لأن صفة العلة مستخرجة من الفرع وحكم العلة مستخرج من الأصل، والجمع بينهما موضوع بحكم العلة دون صفتها. ومثال هذا: ما نقول في الماء المطلق إذا خالطه مائع طاهر كماء الورد فلم يغيره نظر، فإن كان الماء أكثر حكم له بالتطهير وإن كان فيه ما ليس بمطهر، فإن كان ماء الورد أكثر حكم به غير مطهر، وإن كان فيه ما هو مطهر، ولأن الحادثة إذا أشبهت كل واحد من الأصلين في بعض الأوصاف فلا بد من تعرف حكمها، ولا نصفيها يحتاج أن يلحق بأصله، ولا يجوز إلحاقها بغير هذين الأصلين، لأنه لا يجوز إلحاقها بما لا يشبهها، ولا يمكن إلحاقها بهما لتضادهما فكان إلحاقها بأكثرها شبهاً أولى. وقال القاضي الطبري: هذا النوع من القياس ضعيف، لأنه مقيس على ما يلحق به من غير علة وذلك لا يجوز، ولا الوصف الذي أشبه الأصل فيه من أن تكون علة الأصل وليس بعلة، فإن علته فهو قياس العلة لا قياس الشبه، وإن لم تكن علته فلا يصح القياس عليه بغير علته. قال: ومعنى هذا [144/ أ] عندي إذا تردد فرع بين أصلين وقاس كل واحد من الخصمين على أصله فعله ظاهرها الصحة إلى الترجيح، فيغلب أحد الأوصاف بكثر الشبه، فيكون ذلك على سبيل الترجيح. والثاني: أن يتردد الفرع بين أصلين مختلفي الصفتين والصفتان معدومتان في الفرع، وصفة الفرع تقارب إحدى الصفتين وإن خالفتها. مثاله في المعقول: أن يكون أحد الأصلين معلولا بالبياض والأصل الآخر معلولا بالسواد، والفرع أخضر لا أسود ولا

أبيض، فيرد إلى أقرب الأصلين شبها بصفته، والخضرة أقرب إلى السواد فيلحق به. ومثاله في الشرع: قوله تعالى: {فجزاء مثل ما قتل من النعم} [المائدة:95]. وليس المثل من النعم مشبهاً للصيد في جميع أوصافه، ولا منافياً له في جميع أوصافه، فاعتبر في الجزاء أقرب الشبه بالصيد. وقال أبو حنيفة: مثل هذا لا يكون قياساً، لأن القياس ما وجدت أوصاف أصله في فرعه، وأوصاف الأصل في هذا غير موجودة في الفرع فصار قياساً بغير علة، ولهذا لا يصح، لأن الحادثة لا بد من حكم، والحكم لا بد له من دليل، فإذا لم يكن في الكتاب ولا في السنة ولا في الإجماع دليل عليها لم يبق لها أصل غير القياس، فكان أقرب بها شبهاً بأصل القياس هو علة القياس له، وقد جعله بعض أصحابنا اجتهاداً محضاً ولم يجعله قياساً، وهذا الاجتهاد لا بد له من أصل يعتبر فيه شبه الأصل فصار قياساً. والثالث: أن يتردد الفرع بين أصلين مختلفي الصفتين، والفرع جامع لصفتي الأصلين وأحد الأصلين [144/ ب] من جنس الفرع دون الآخر. مثاله: أن يكون الفرع من الطهارة وأحد الأصلين من الصلاة والثاني من الطهارة، فيكون رده إلى أصل الطهارة لمجانسته أولى من رده إلى أصل الصلاة. واعلم أن هنا أصلاً رابعاً اختلف أصحابنا في جواز وجوده، وهو أن يتردد الفرع بين أصلين فيه شبه كل واحد من الأصلين، ولا يترجح أحدهما على الآخر بشيء، فمنع كثير من أصحابنا في وجوده، وأحال تكافئ الأدلة، لأنه لا يجوز أن يتعبد الله تعالى عبادة بما لم يجعل لهم طريقاً يوصلهم إلى عمله، ولكن ربما خفي على المستدل لقصوره في الاجتهاد، فإن أعوزه الترجيح بين الأصلين عدل إلى التماس حكمه من غير القياس. وذهب الأكثرون إلى جواز وجوده، لأنه لما جاز أن يكون من الأدلة غامضة لما علمه فيها من المصلحة جاز أن يكون فيها متكافئة لما يراه من المصلحة، وليس يخلو أن يكون لها حكم مع التكافيء. فعلى هذا اختلفوا في حكم ما تكافأت فيه الأدلة، وتردد بين أصلين حاظرا ومبيح على وجهين: أحدهما: المجتهد بالخيار في رده إلى أي الأصلين شاء، لأن الله تعالى لو لم يرد كل واحد مهما لنصب على مراده منهما دليلاً. والثاني: يرده إلى أغلظ الأصلين حكماً، وهو الحظر دون الإباحة احتياطاً، لأن أصل التكليف موضوع على التغليظ. فصارت أقسام القياس على ما شرحناه اثني عشر فسماً، ستة منها مخنصة بقياس المعنى، منها ثلاثة أقسام في الجلي وثلاثة في الخفي، وستة أقسام مختصة بقياس الشبه، منها ثلاثة في قياس التحقيق، [145/ أ] وثلاثة في قياس التقريب. فإذا تقرر هذا فالذي ثبت بالقياس في الشرع هو الأحكام المستنبطة من النصوص. فأما الأسماء والحدود والمقادير، هل يجوز استخراجها بالقياس؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز إذا تعلق بالأسماء أحكام كتسمية النبيذ خمراً لوجود معنى الخمر

فيه، ويجوز أن يثبت حد الخمر ثمانين قياساً على حد القذف، كما قال على رضي الله عنه: إنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذي، وإذا هذي افترى، وحد المفتري ثمانون ويجوز أن تثبت المقادير قياساً كما قدرنا أقل الحيض وأكثره وأقل السفر وأكثره، وهذا اختيار ابن أبي هريرة، لأن جميعها أحكام. والثاني: لا يجوز، لأن الأسماء مأخوذة من اللغة دون الشرع، ومعاني الحدود غير معقولة، والمقادير مشروعة. وإنما صير إلى هذه الأمور المقدرة إلى القول والثاني النظر، الفكر بالقلب والعقل والجدل، وهو الاحتجاج باللسان، وفي الفرق بين الدليل والحجة وجهان؟ أحدهما: الدليل ما دلك على مطلوبك والحجة ما منعت منت ذلك. والثاني: الدليل ما دلك على صوابك والحجة ما دفعت قول مخالفك. وفي الفرق بين النص والظاهر وجهان: أحدهما: النص ما كان لفظ دليله، والظاهر ما سبق مراده إلى لفظ سامعيه. والثاني: النص ما لم يتوجه إليه احتمال، والظاهر ما سبق إليه احتمال. وفي الفرق بين الفحوى ولحن القول وجهان: أحدهما: الفحوى ما نبه عليه اللفظ، ولحن القول ما لاح في أثناء اللفظ. والثاني: الفحوى ما دل على ما هو أقوى منه، ولحن القول ما دل على مثله، والله أعلم بالصواب [145/ ب]. مسألة: قال: "وإن لم يكن في عقله ما إذا عقل القياس عقله، وإذا سمع الاختلاف ميزة، فلا ينبغي له أن يقضي ولا لأحد أن يستقضيه". جملة هذا أن الشافعي - رضي الله عنه- ذكر الشرائط المعتبرة فيمن يلي القضاء، وهي ثلاث شرائط، إحداهما: أن يكون من أهل الاجتهاد. والثانية: أن يكون عدلاً. والثالثة: أن يكون كاملاً. فأما كونه من أهل الاجتهاد فهو أن يكون عالماً بكتاب الله تعالى، ولا نقول يجب عليه أن يحفظ القرآن، بل يجب أن يعرف الأحكام فيعرف العام والخاص، والمحكم والمتشابه، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفسر، والناسخ والمنسوخ، ويعرف السنن التي تتعلق بالأحكام، ويعرف الإجماع والاختلاف على ذكرنا بالشرح فيمن يستشيره القاضي، ولا يجوز أن يكون القاضي عامياً، وبه قال أحمد. واختلف أصحاب أبو حنيفة، فقال بعضهم وهو الأظهر: يجوز أن يكون القاضي عامياً يحكم بالتقليد، لأن الغرض فيه فصل الخصومات ورد المظالم، ويمكن ذلك بالتقليد كما تقلده المقوم ويحكم بالقيمة. وقال بعضهم: مذهبه نحو مذهبنا. والدليل على صحة ما ذكرنا أن الحكم أكد من الفتيات، فإذا لم يجز أن يفتي بالتقليد فلأنه لا

يجوز الحكم أولى، وهذا لأن الحرية شرط في القضاء وإن لم تكن شرطاً في الفتيا. فإن قيل: أليس يجوز أن يخبر بكل ما سمع؟ قيل: هذا خطأ، لأنه لا يجوز أن يكون مفتياً بكل ما سمعه، وإنما يجوز أن يخبر عن رجل بعينه من أهل الاجتهاد، فيكون مقولاً بخبره لا بفتواه، ويخاف قول المقوم لأن ذلك لا يمكن الحاكم أن يعرف القيمة بنفسه بخلاف الحكم. فإن قيل: هذا الذي ذكرتم من الشرائط يمنع القضاء والاستشارة، لأنه لا تكاد توجد [146/ أ] هذه الأوصاف. قيل: قيد بينا أنه يعتبر معرفة حمل هذه العلوم دون التبحر في كلها، ويعرف من لسان العرب ما يفهم به عن الله تعالى، وعن رسوله صلى الله عليه وسلم، ويعرف في القياس ما يميز به بين القياس الصحيح وبين الفاسد، وبين الجلي والخفي، وقياس العلة وقياس الشبه، وهذا كله يجمعه فقهاءنا في هذا الزمان، وفيما قبله ولله الحمد. ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: "وعمل الناس بخلافه فإنهم لا يولون إلا فقيهاً في الجملة"، إلا أن الناس اليوم تسمحوا بالعلم بالقضاء وجعلوه في العامة الذين لا يعرفون من ذلك شيئاً، وإنما أحسن أحوالهم أن يقلدوا من يعتقد مذهب السلف الذين ينتمون إليه ويعتقدون مذهبه، وإذا اختلف الفتاوى عليهم لم يقدروا على التمييز عنها، فدافعوا بالخصوم حتى يصطلحوا أو يقضوا بينهم بما وافق. هداهم الله عز وجل وهو المستعان، ومن كان هكذا فهو القاضي الذي توعده رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنار، فقال في الحديث الصحيح: "القضاة ثلاثة ... " الخبر، فجعل الجاهل بمنزلة العالم إذا جار وجعلهما جميعاً من أهل النار، فمن عرف هذا الحديث ثم ولى القضاء مع الجهل فما له حظ في الدين. وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا حكم الحاكم فاجتهد فأخطأ فله أجر واحد" فدل على أن طريق الحكم هو الاجتهاد دون التقليد. وأما العدالة: فما يعتبر في الشاهد يعتبر فيه. وقال الأصم: يجوز أن يكون الفاسق أميراً، لقوله صلى الله عليه وسلم: "سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن أوقاتها، فصلوها لوقتها، ثم صلوا معهم واجعلوا صلاتكم معهم سبحة". ودليلنا قول الله تعالى: {إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات:6]، ولأنه شرط في الشهادة [146/ ب] ففي القضاء أولى، لأنه أقوى منها. وأما الخبر الذي ذكرنا قلنا: أراد يؤخرون الصلاة عن أول أوقاتها، أو نقول: سماهم أمراء على طريق المجاز. وأما الكمال: فيحتاج أن يكون كاملاً في الخلق، فأن لا يكون أعمى ولا أخرس ولا أصم، لأن فقد هذه الحواس يمنع الحكم بين الخصوم بنفسه ولا يفرق الأعمى بين الطالب والمطلوب. وقال مالك: يجوز قضاء الأعمى كما تجوز شهادته. وقيل: فيه وجه آخر يجوز كما جاز أن يكون نبياً وهو شعيب ويعقوب صلى الله عليهما. وقال ابن سريج: يجوز قضاء الأخرس كما تجوز شهادته إذا كان مفهوم الإشارة.

وأما الأحكام: فهي أن يكون بالغاً، عاقلاً، حراً ذكراً. وقال ابن جرير: يجوز قضاء المرأة كالرجل. وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكون قاضية إلا في الحدود قياساً على شهادته تقبل في الأموال دون الحدود. ودليلنا ما روى أبو بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة". وروى: "ولوا أمرهم امرأة" وروى أنه قال: "لن يفلح قوم تملكهم امرأة". وروت عائشة-رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تكون المرأة حكماً تقضي بين العامة"، ولأن من لا يصح قضاءه في الحدود لا يصح في الأموال كالصبي. فإن قيل: أليس قال عمر رصي الله عنه: لو كان سالم مولى أبي حذيفة حياً لما تخالجني في تقليده شك. قيل: كان سالم مولى عتاقة ولم يكن رقيقاً. فرع لا يجوز تقليد الخنثى، فإن زال إشكاله وبان رجلاً يجوز أن يكون قاضياً، ولو ولى في حال الجهل بحاله فحكم ثن بان رجلاً، المذهب أنه لا ينفذ حكمه، وقيل فيه وجهان. فرع آخر لو قلدت امرأة القضاء [147/ أ] على مذهب أبي حنيفة رحمه الله تعالى فحكمت، هل للشفعوي نقض حكمها؟ قال الإمام جدي رحمه الله: فيه وجهان: أحدهما: ينقض وهو اختيار الأصطخري. والثاني: لا ينقص لأنه مجتهد فيه. فرع آخر لو رد إلى المرأة قاض لم يجز، لأنه لا يجوز أن تكون مولية وإن ولا ها اختيار قاض جاز، لأن الاختيار اجتهاد كالفتيا. فرع آخر لا يجوز قضاء الكافر للكافر، وقال أبو حنيفة: يجوز كالشهادة. واعلم أن العادة جارية من الأئمة بتقليد زعامة ورياسة لا تقليد حكم وقضاء. فرع آخر لا يكتفي فيه العقل الذي يتعلق به التكليف من علمه بالمدركات الضرورية، ويعتبر أن يكون صحيح التمييز، جيد الفطنة، بعيداً من السهو والغفلة، يتوصل بذكائه إلى وضوح ما أشكل وفصل ما أعضل.

فرع آخر قال أصحابنا: ويستحب مع ذكرنا من الشرائط أن يكون حليماً، مثبتاً، ذا فطنة وتيقظ، لا يؤتي من غفلة، ولا يخدع بغرة، عالماً بلغات أهل قضائه، جامعاً للعفاف نزيهاً، بعيداً من الطمع، صدوق اللهجة، ذا رأي ومشورة، وكلامه لين إذا قرب، وهيبة إذا أوعد، ووفاء إذا وعد، وعليه السكينة والوقار. وقد حكي عن علي-رضي الله عنه- أنه ولى أبا الأسود الدؤلي القضاء ساعة من نهار ثم عزله، فقال: لم عزلتني، فو الله ما خنت، فقال بلغني أن كلامك يعلو كلام الخصمين إذا تحاكما إليك. فرع آخر لو كان يطرأ عليه في الأحيان جنون نظر، فإن امتد به حتى يتأخر عن أوقات النظر لم يصح تقليده، وإن قصر زمانه وكان كالساعة نظر، فإن أثر في زمان إفاقته كفتور حسه، ودهشة عقله لم يصح تقليده، وإن أفاق من ساعته وعاد إلى استقامته هل يجوز تقليده؟ [147/ ب] فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، لأنه يخرج في زمان ذلك عن حكم التكليف، وتبطل به فروض العبادات. والثاني: يجوز ويجري مجرى فترات النوم وأوقات الاستراحة. فرع آخر لو أغمى عليه لم يؤثر في ولايته، لأنه مرض لا تمنع منه النبوة، وفيه وجه بعيد أنه يعزل به وليس بشئ. فرع آخر لو طرأ عليه الجنون بعد التقليد ولا يته ولا يعود بالإفاقة. وفيه وجه بعيد لا يبطل، لأنه أقوى من الوكالة وليس بشيء. فرع آخر لو كان فاسقاً بشيء يختص بالاعتقاد وله فيه شبهة يتأول بها خلاف الحق، هل يجوز تقليده؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، لأنه لما استوي حكم الكفر بتأويل وغير تأويل، كذلك الفسق. والثاني: يجوز، لأنه لما كان تأويل الشبهة في الفروع لا يمنع التقليد فكذلك في الأصول. فرع آخر لو طرأ عليه فسق التعاطي بارتكاب المحظورات بطلت ولا يته كما تبطل شهادته، وهذا لأن القضاء أحوج إلى العدالة والأمانة لكونه أعظم منزلة وأجل محلاً. وحكي عن أبي حنيفة-رحمه الله- أنه قال: لا تبطل ولايته ولكن يستحق العزل. وقيل: لا يصح هذا عن أبي حنيفة، ذكره أهل العراق. وقيل: إنه وجه لبعض أصحابنا وليس

بشيء. وقيل: الصحيح من مذهب الشافعي- رضي الله عنه- أن الإمامة العظمى تبطل بالفسق وهو إجماع. وقال الأصم وبعض أصحاب الحديث: لا ينعزل به ولا يعتد بخلافهم. وقيل: فيه وجه لبعض أصحابنا لا ينعزل ولكنه يجبر أن يعزل نفسه، أو تجتمع طائفة تنعقد بهم الإمامة فيقتلونه ويقلدون آخر للضرورة. فرع آخر لو طرأ عليه فسق الاعتقاد هل تبطل ولايته؟ فيه وجهان بناء على صحة التقليد. قال صاحب "الحاوي": الصحيح أنه لا ينعقد [148/ أ] تقليده، لأنه لا يقلد إلا بتعديل كامل، ولا ينعزل إلا بجرح كامل. فرع آخر لو كان في عينيه عشاء يبصر نهاراً ليلاً جاز تقليده القضاء، ولو كان في بصره ضعف فإن كان يرى الأشباح ولا يعرف الصور لم يجز تقليده، وإن كان يعرف الصور إذا قربت ولا يعرفها إذا بعدت جاز تقليده. فرع آخر لو طرأ عليه العمى بطلت ولايته خلافاً لمالك. وقال بعض أصحابنا بخراسان: يجوز له أن يقضي بالشهادة التي سمعها في سلامة البصر. فرع آخر لو طرأ عليه صمم بطلت ولايته، والصمم المانع أن لا يفهم الأصوات وإن علت، فأما ثقيل السمع الذي يفهم عالي الأصوات دون خافتها يصح تقليده، ولكن تقليد السميع أولى منه. فرع آخر إذا كان بلسانه تمتمة أو فأفأة أو عقدة صح تقليده، لأنه نقص لا يمنع فهم الكلام وإن غمض، وكان في لسان موسى- عليه الصلاة والسلام- عقدة ولم تمنع رسالته. فرع آخر لا يعتبر صحة أعضائه، ويجوز قضاؤه وإن كان مقعداً، ولكن السلامة لذوي الولايات أهيب. فرع آخر لو كان لا يقول بخبر الواحد لا يجوز تقليده، لأن أكثر أحكام الشرع مأخوذة من

أخبار الآحاد، وكذلك لا يجوز تقليد من لا يقول بحجة الإجماع. فرع آخر لو كان من نفاه القياس فهم ضربان، أحدهما: من نفي القياس وعمل بظاهر النصوص، وعدل عما لا نص فيه إلا أقاويل سلفهم، وجعلوا ذلك كالنص في العمل بها من غير دليل لا يجوز تقليده لتقليدهم في الأحكام، وتركهم أصلاً من أصول الشرع وهو القياس، وإن كان ممن يعدل عند عدم النصوص إلى فحوى الكلام، ودليل الخطاب، وسلك طريق الاجتهاد، ويعدل عن تعليل النصوص لمعانيها كأهل الظاهر، ففي جواز تقليده وجهان: أحدهما: لا يجوز [148/ ب] لما ذكرنا. والثاني: يجوز، لأنهم يعتبرون واضح المعاني وإن عدلوا عن خفي القياس. فرع آخر هل يشترط في القاضي أن يكون عارفاً بالحساب؟ قال بعض أصحابنا: فيه وجهان، والمذهب أنه لا يشترط. فرع آخر قال بعض أصحابنا بخراسان: لو عرف رجل مذهب إمام جدا ولم يبلغ مبلغ المجتهدين، هل له أن يفتي على مذهبه؟ وجهان: أحدهما: وهو اختيار القفال يجوز. والثاني: لا يجوز. وأصل الوجهين أن تقليد ذلك المستفتي هل هو لذلك المفتي أم لذلك الميت وهو صاحب المذهب؟ فيه وجهان، فإذا قلنا للميت فله أن يفتي، وإن قلنا للمفتي فليس له ذلك. فرع آخر هل يجوز تقليد الأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب؟ قال بعض أصحابنا: فيه وجهان، والصحيح أنه يجوز، لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان أمياً، ووجه الأول أنه يحتاج أن يكتب أو يقف على ما يكتبه الكاتب، ويفارق الحالة الشريفة من النبي صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك كان من معجزاته، وكان أصحابه عدولاً يأمن خيانتهم. فرع آخر قال في "الحاوي": يعتبر في جواز ولايته ونفاذ حكمه سبعة شروط، أحدهما: أن يكون كاملاً في نفسه، وكمال نفسه ضربان، كمال حكم، وكمال خلقة. فأما كمال الحكم بالبلوغ والعقل، لأن التكليف يتعلق بهما. وأما كمال الخلقة فتعتبر سلامته فيها

في ثلاثة أوصافٍ؛ صحة بصره, وصحة سمعه, وسلامة لسانه. فجملة الأوصاف المعتبرة في كمال نفسه؛ البلوغ, والعقل, والسمع, والبصر, والنطق. والشرط الثاني: الذكورة. والثالث: الحرية. والرابع: الإسلام. والخامس: العدالة, وهو أن يكون صادق اللهجة, ظاهر الأمانة, عفيفًا عن المحارم, متوقيًا للمآثم, بعيدًا [149/ أ] من الريب, مأمونًا في الرضا والغضب, مستعملًا لمرؤة مثله في دينه ودنياه. والسادس: أن يكون عالمًا بالأحكام الشرعية, وعلمه بها يشتمل على أمرين؛ أن يكون عالمًا بما قدمناه من أصولها. والثاني: أن يكون عالمًا بفروعها فيما انعقد عليه إجماع أو حصل فيه اختلاف, فيتبع الإجماع ويجتهد في الاختلاف, ليصير بذلك من أهل الاجتهاد في الدين. والسابع: أن يكون عالمًا بما قدمناه من أصول الشرع الأربعة, فإن كان ممن يعدل في بعضها ويعتقد إبطال شيء منها, فقد ذكرنا الحكم إذا كان لا يقول بخبر الواحد أو الإجماع أو القياس حيث الحكم. فرع آخر يشترط في الإمام ما يشترط في القاضي, وزيادة وهي أن يكون قريشيًا, ويعرف تدبير الحروب ووجوه المغانم, ومصرف الصدقات, ولا يجوز أن يكون أعور بخلاف القاضي. مسألة: قَالَ: وَلاَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَحْسِنَ بِغَيْرِ قِيَاسٍ, وَلَوْ جَازَ ذَلِكَ لَجَازَ أنْ يُشْرعَ فِي الدِّينِ. اعلم أنه لا يجوز الحكم بالاستحسان, والاستحسان هو القول بالشيء من غير حجةٍ ودليل, ولكن بغالب الظن والحسن في العقل. وحكي الشافعي- رضي الله عنه- عن أبي حنيفة- رحمه الله- أنه أجاز الحكم به, وهذا غلط ظاهر؛ لأن الله تعالى قال: [فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ {[النساء: 59] الآية, فجعل الأحسن ما كان مأخوذًا من أوامر الله تعالى ورسوله- صل الله عليه وسلم-, فإن في الظن والاستحسان اتباع الهوى, وقد قال تعالى:} وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ {[ص: 26] الآية. وأيضًا فإنه لو كان الاستحسان بالعقل مغنيًا عن أحكام الشرع, وعن أصول الشرع, لاستغنى بعقله عن الأمر والنهي واجمعنا على خلافه. [149/ ب] وأيضًا قال الشافعي- رضي الله عنه-: لو جاز ذلك لجاز أن يشرع في الدين ومعناه:

أن يبعث من جهة نفسه شرعًا غير شرع محمد- صل الله عليه وسلم- ولأن القياس حجة شرعية فلا يجوز تركه بالاستحسان؛ لأنه يجوز تخصيص العموم به دون الاستحسان فلا يترك به. واعلم أن أصحاب أبي حنيفة- رحمه الله- اختلفوا في بيان مذهبه, فقال بعضهم هو العمل بأقوى القياسين, وهذا فيما نوافقه عليه؛ لأنه الأحسن والاستحسان الذي أوجبه أصول الأصول واقترن بها استحسان العقول حجة يتفق عليها يلزم العمل بها. وقال بعضهم: هو القول بتخصيص العلة كما خصَّ خروج الجص والنورة من علة الربا في البر وإن كان مكيلًا, وهذا أصل نخالفه فيه. وقال بعضهم: هو أن يترك أقوى القياسين بأضعفهما إذا كان حسنًا. وقال في شهود الزوايا: القياس أن لا يحد ولكن آخذه استحسانًا, وهذا نخالفه فيه؛ لان أقوى القياسين عندنا أحسن من أضعفهما, ولان في مسألة شهود الزوايا لا قياس أصلًا ولا خبرًا, وأنكر أصحابه ما حكى الشافعي عنه. فإن قال قائل: قال الشافعي بالاستحسان في مسائل, فإنه قال في المتعة: استحسن بقدر ثلاثين درهمًا, وقال في الأذان: وحسن أن يضع إصبعه في أذنه وقال: "وإرسال ابن المسيب عندنا حسن" قلنا: هذا كله استحسان بدليلٍ, وإنما أنكر الشافعي الاستحسان من غير دليلٍ. فأما تقدير المتعة بثلاثين درهمًا فقد رواه عن عبد الله بن عمر- رضي الله عنهما- فاستحسنه للأثر فيه, واستحسن التحليف على المصحف تغليظًا لليمين كما غلظت في الموضع الشريف والوقت الشريف, واستحسن في مدة المتعة بثلاثة أيامٍ؛ لأنها مدة مضروبة في خيار الشرط, [150/ أ] وفي مقام المسافر, وفي أكثر مدة المسح مع قوله: [تمتعوا في داركم ثلاثة أيام {بعد أن توعدهم بعذاب قريب, فدل أن الثلاث في حد القريب. واستحسن إرسال ابن المسيب؛ لأنه لا يرسل إلا عن صحابي, فصح ما ذكرنا والله أعلم. واعلم أن الاستحسان بغير دليلٍ ما قاله أبو حنيفة: لو نذر أن يتصدق بماله يلزم أن يتصدق بالمال الذي تجب الزكاة في عينه دون سائر الأموال استحسانًا. وقال: استمساح الخف يجوز استحسانًا. مسألة: قَالَ: "وَالْقِيَاسُ قِيَاسَانِ". الفصل جملة هذا أن القياس, عندنا حجة شرعية يجب العمل بها والمصير إليها. واختلف أصحابنا في ترتيب أنواع القياس, فمنهم من قال: القياس على ثلاثة أضرب؛ جلي,

وواضح, وخفي. ومنهم من قال على أربعة أضرب, والرابع قياس علة الشبة. والجلي على أضربٍ منها: التنبيه. والثاني: ما ثبت معناه في الأصل بالإجماع مثل قياس العمياء على العوراء في الأضحية. والثالث: ما ثبت معناه في الأصل بالنص, مثل قوله تعالى:} وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً {إلى قوله: [وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ {[النساء: 20,21] , فجعل العلة فيه الإفضاء, فإذا كان المهر أقل من القنطار أو أكثر لا يجوز لها أخذه إذا وجد الإفضاء. ومن جملة هذا قياس سائر الزناة على ماعز بن مالك, وسائر المفرطين بالجماع على الأعرابي المجامع, وسائر المستحاضات على فاطمة بنت أبي حبيش, وتخيير المعتقات على بريرة, وقياس الأمة على العبد إذا أعتق شركًا منها [150/ ب] وغير ذلك, فإن المعاني التي حكم النبي- صل الله عليه وسلم- فيهم لها بمنزلة المنصوص عليه, وذكر تلك المعاني يدل على أنها العلة. والرابع: ما ثبت معناه بالتأثير, فيدل ذلك على تعلقه به, وهو مثل علة تحريم الخمر؛ فلأن العصير حلال إذا وجدت الشدة المطربة حُرم, فإذا زالت الشدة حل, فلو قدرنا عود الشدة قدرنا عود التحريم, فيدل ذلك على أن التحريم تابع للشدة المطربة. ومن أصحابنا من قال: هذه العلة ثابتة بالنص بقوله تعالى: [إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ {[المائدة: 91] الآية, فاخبر عن النهي لما فيه من الصد عن الصلاة, وعن الذكر, وهذا يتعلق بما من الشدة المطربة. والصحيح أن يقال: هذه العلة ثابتة بالنص والتأثير معًا ولا يمنع مثل ذلك, ومن جملة ذلك قياس العبد على الأمة في تضعيف الحد للرق, وهذا المعنى قد ثبت بالتأثير؛ لأنا وجدنا الأمة إذا زنت كان حدها ناقصًا, وإذا عتقت ثم زنت كان حدها كاملًا, ولو كانت كتابية فلحقت بدار الحرب بعد الحرية ثم استرقت كان حدها ناقصًا, فثبت أن نقصان الحد يتعلق بالرق, وقد وجد هذا المعنى في العبد وكان حده ناقصًا. فهذا الذي ذكرنا كله أقسام القياس الجلي, وبعضها أجلي من بعض, وهو مراد الشافعي- رضي الله- عنه بقوله: "أن يكون في معنى الأصل, وإذا حكم الحاكم بخلاف هذا وجب أن ينقض ويخص بكلها العموم". وعلى قول ابن أبي هريرة تفسخ كلها. وأما القياس الواضح: فهو القياس في الأحكام [151/ أ] بالعلل المستنبطة, مثل علة الربا وغيره؛ لان يحتمل الصحة في هذا القياس ويحتمل غيره, فلا ينتقض به الحكم؛ لأنه لا يجوز نقض الحكم بالمحتمل. وذكر ابن أبي أحمد: أن قياس الأرز على الحنطة في الربا من النوع الأول, فينقض به الحكم. وقال القاضي الطبري: هذا أيضًا ما ثبت معناه بالتأثير, ولكنه أخفي مما تقدم, وذلك أنَّا نقول: إن العلة في الأربعة المنصوصة الطعم, وقيل: الكيل, وقيل:

القوت, ونحن نقول: وجدنا أنه إذا بذر الحنطة فصار حشيشًا لا ربا فيه, فإذا انعقد حبًا جرى الربا فيه, فإذا أُحرق وصار رمادًا لا ربا فيه, فالتأثير للطعم, فكان هو العلة. وقد روى أن النبي- صل الله عليه وسلم- "نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلًا بمثلٍ" فذكر الطعام فيه يدل على تعلقه به؛ لأن ذكر الصفة في الحكم تعليلًا له به في مقتضى اللغة. ومن أصحابنا من قال: هذا أيضًا من جملة الجلي, ولكن ما تقدم أجلي من هذا. وقيل: النوع الأول هو القياس الواضح, ذكره أبو إسحاق, والعبارة صحيحة لما ذكرناه. وأما القياس الخفي: فهو قياس علة الشبه, وقد ذكرنا شرحه وقيل: صورته أن تتردد الحادثة بين أصلين, وكان الحكم ثابتًا في احد الأصلين بعلةٍ ذات خمسة أوصاف, وفي الأصل الآخر بعلة ذات خمسة أوصافٍ, والحادثة تشبه احد الأصلين بأربعة أوصافٍ وتشبه الأخرى بثلاثة أوصافٍ, فإلحاقها بأكثرهما شبهًا أولى, فهذه طريقة القائل الأول أن القياس على ثلاثة أضربٍ. فأما من قال القياس على أضرب فإنه يقول: الجلي هو الأول من الأقسام [151/ ب] التي ذكرناها وهو التنبيه. والواضح باقي الأقسام من القياس الجلي. والخفي هو القياس في الأحكام. والرابع قياس علة الشبه, وهذه الطريقة أصح؛ لأن الأول هو الجلي في الحقيقة يقع لكل أحدٍ معناه, والواضح يجوز أن يرد الشرع بخلاف معناه, ولا خلاف في نقص الحكم بهما على ما ذكرنا, وإنما الخلاف في التسمية. وقال بعض أصحابنا بخراسان: القياس قياسان. أحدهما: جلي ويسمى قياسًا في معنى الأصل, وهو أن يكون للفرع والأصل واحد يشبهه, ولا عذر في ترك إلحاقه به. والثاني: قياس خفي, وهو أن يتردد الفرع بين أصلين, فيشبه هذا من وجه وهذا من وجهٍ, فإن أشبه أحدهما بمعنى يخل الحكم فيجوز أن يكون علة لذلك الحكم, غير أنه يشبه أصلًا في وصفٍ وأصلًا في وصفين, فأكثر فإلحاقه بأكثرها شبهًا به أولى, مثل الأخ تردد بين أن يكون كالأب وبين أن يكون كابن العم, وهو يشبه الأب من وجهٍ, وهو أنه محرم بالقرابة, ويشبه ابن العم لوجوهٍ كثيرة من قبول الشهادة, وسقوط النفقة عند اختلاف الدين بالاتفاق, وجريان القصاص من الطرفين بينهما, وجريان حد القذف, وحل حليلة أحدهما لصاحبه بإلحاقه بابن العم حتى لا يعتق عليه إذا ملكه أولى. واعلم أن كثرة الشبه القوي أحد جانبي القياس إذا لم يكن إثبات الحكم بكل واحدٍ من الأوصاف, فأما إذا لم يقم الحكم إلا بجموع أوصافٍ حتى يرد بها إلى أصلٍ ويرد إلى أصلٍ آخر بوصف واحدٍ, فإن كان ذلك الوصف من جملة هذه الأوصاف فتعلق الحكم بالوصف [152/ أ] الواحد أولى, وإن وصفًا آخر سوى الأوصاف المجموعة فيما سواه, مثل علة الطعم في الربا أولى من علة القوت؛ لأنه ما من قوتٍ إلا وهو طعام, وكان من علل به علل بالطعام وزيادة وعلة الطعم والكيل يستويان فتقدم

أحدهما على الآخر بالترجيح, وليس أحدهما داخلًا في جملة الآخر. وكذلك إذا كان الأصل المردود إليه واحدًا غير أن القياسين ترد الفرع إليه بوصف الآخر يرد إليه بذلك الوصف وبغيره من الأوصاف التي يضمها إليه, فالوصف الواحد الآخر يرد إليه بذلك الوصف وبغيره من الأوصاف التي يضمها إليه, فالوصف الواحد الآخر يرد إليه بذلك الوصف وبغيره من الأوصاف التي يضمها إليه, فالوصف الواحد أولى. وقول الشافعي: "فَمَوْضِعُ الصَّوَابِ فِي ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنْ يَنْظُرَ فَإِنْ أَشْبَهَهُ أحدهما فِي خَصْلَتَيْنِ والآخرُ في خَصْلَةٍ أَلْحَقَهُ بِالَّذي أّشبَهَهَ فِي خَصْلَتَيْنِ" أو إذا كان كل خصلة علة مستقلة بنفسها مستغنية عن صاحبتها, كما ذكرنا في قياس الأخ على ابن العم في مسألة العتق عليه بالملك. وقال في" الحاوي": قول الشافعي: القياس قياسان ظاهره أنه أراد بالقياس الأول المعنى وبالثاني قياس الشبه, وقيل: أراد بالأول ما لا يجوز خلافه وهو بالقياس الجلي من قياس المعنى وقياس التحقيق من قياس الشبه؛ لان خلافهما لا يجوز, وأراد بالقياس الثاني ما لا يجوز فيه الاختلاف, وهو القياس الخفي من قياس المعنى, أو قياس التقريب من قياس الشبه. مسألة: قَالَ: قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ- فِي دَاوُد وَسُلَيْمَانَ- عَليهما الصلاة والسلام: [فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً {[الأنبياء: 79] قَالَ الْحَسَنُ: لَوْلاَ هَذِهِ الآيَةُ لَرَأَيْتَ أَنَّ الحُكَّامَ قَدْ هَلَكُوا. الفصل قصد الشافعي بهذا بيان مذهبه بيان في ثلاثة أحكامٍ: أحدهما: أن عليه أن يتوصل بالاجتهاد إلى طلب العين وإصابة الحق في الحادثة. والثاني: أن الحق في أحد أقاويل المجتهدين في الجملة معذور, سواء أصاب [152/ ب] أو أخطأ على ما ذكرنا, وأنه مأجور وإن أخطأ ولكن أجره أقل, وقد تقدم ما قيل فلا إعادة. فإن قيل: كيف استجاز أن يحكمك في حادثةٍ بقولين مختلفين وثلاثة أقوال وأكثر, وهو يرى ما قلتم, وحكمه بالقولين خطأ من أربعة أوجهٍ: أحدهما: أنه خالف بذلك أصول مذهبه في الاجتهاد؛ لان العمل يمنع من وجوب طلب العين, ويجعل الحق في جميع الأقاويل؛ ويجعل كل مجتهد مصيبًا وكفي بهذا التناقض فسادًا. والثاني: ابتدع بهذا طريقة حَرَّف إجماع من تقدم من الصحابة وغيرهم إلى زمانه, فإنهم كانوا يذكرون جوابًا يستقر لهم أو يتوقفون, ولم يجب أحد منهم بقولين؛ لأن الجواب ما أبان, وليس في القولين بيان.

والثالث: التناقض, فالحلال ليس بحرامٍ, والحرام ليس بحلالٍ, وهو بالقولين حلل في أحدهما وحرمه في الآخر. والرابع: أنه إن كان ذلك لضعف اجتهاده أو لرأيه في تكافئ الأدلة فهو نقص, ولا يجوز أن يكون مع تكافؤ الأدلة أن يكون له فيها حكم, ولا يقول الأكثرون بتكافؤ الأدلة. قلنا: ما ذكره الشافعي وضع من القولين ينقسم عشرة أقسام: أحدهما: أن يقيد جوابه في موضع ويطلقه في موضع آخر, مثل قوله في أقل الحيض أنه يوم وليلة. وقال في موضع آخر: أقل الحيض يوم, وأراد به مع ليلته وهو معهود في كلام العرب. وجاء القرآن العظيم بحمل المطلق على ما قَيّدَ من جنسه كما في العدالة, قال الله تعالى: [وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ {[البقرة: 282] , ولم يذكر العدالة. وقال في موضع آخر: [وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ {[الطلاق: 2] , وحمل ذلك المطلق على هذا المقيد, فلا اعتراض فيه عليه, وإن وهم بعض أصحابه فخرجه قولًا ثانيًا فلا يؤاخذ بوهمه الشافعي. والثاني: ما اختلفت فيه ألفاظه [153/ أ] ومعانيها متفقة, مثل قوله في المظاهر: وإذا منع من الجماع أحببت أن يمنع القبلة, وقال في "القديم": رأيت أن يمنع, فأراد الاستحباب, فإن حمله بعض أصحابنا على قولين كان لاختلافهم في تأويل لفظه؛ لان قوله: رأيت, يحتمل أن يُحمل على الاستحباب والإيجاب, ولا يمتنع وجود مثله في كتاب الله تعالى, فلم يتوجه به على الشافعي اعتراض. والثالث: ما اختلف فيه قوله لاختلاف حاله, كالصداق إذا ذكر في السر قدرًا وذكر في العلانية أكثر. قال في موضع: الصداق صداق السر, وقال في موضع: الصداق صداق العلانية, وليس ذلك لاختلاف القولين فيه, بل لاختلاف حال الصداق, فإن اقترن بصداق السر عقد فهو المستحق وصداق العلانية يهمل. وإن اقتران بصداق العلانية عقد فهو المستحق وكان صداق السر موعدًا, وقد أبان ذلك بما قرره من أصول مذهبه. والرابع: ما اختلف قوليه فيه لاختلاف القراءة ولاختلاف الرواية, فالقراءة كقوله تعالى: [أَوْ لامَسْتُمْ النِّسَاءَ {[المائدة: 6] , فلمستم يوجب الوضوء على اللامس دون الملموس, ولامستم يوجب الوضوء على اللامس والملموس. واختلاف الرواية كالمروي في بيان المواقيت أنه- صل الله عليه وسلم - صل العشاء الآخرة في الوقت الثاني حين ذهب من الليل نصفه, وروى ثلثه. فمن أجل اختلاف القراءة واختلاف الرواية اختلف قوله. ومثل هذا لا يتوجه عليه إنكار فيه؛ لان اختلاف الدليل يوجب اختلاف المدلول. والخامس: ما اختلف فيه؛ لأنه عمل في أحد القولين على ظاهرٍ من كتاب الله تعالى, ثم بلغته سنة ثابتة نقله عن الظاهر إلى قولٍ آخر, كقوله تعالى: [فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ {[البقرة:196] , فاوجب صيامها في أيام التشريق؛ لأنها الظاهر [153/ ب] من

أيام الحج, ثم روي عن النبي- صل الله عليه وسلم- أنه نهى عن صيامها, فعدل بها عما عمل به من ظاهر الكتاب, وأوجب صيامها بعد إحرامه وقبل عرفة إتباعًا للسنة, ولا إنكار عليه في العدول بدليلٍ. والسادس: ما اختلف قوليه فيه؛ لأنه أدى اجتهاده إلى أحدهما في حالٍ, ثم أدى اجتهاده إلى القول الآخر في حالٍ أخرى, ومثل هذا لا ينكر وقد فعله الصدر الأول, فإن عمر- رضي الله عنه- شرك في المسألة المشتركة بين الأخ من الأب والأم وبين الأخ من الأم في الثلث وأسقط الأخ من الأب والأم في حالٍ أخرى, وقال: هذه على ما قضينا, وهذه على ما قضينا, وحرَّم عليُّ- رضي الله عنه- بيع أم الولد ثم رجع إلى جوازه. وقد اختلفت روايات أبي حنفيّة ويسميها أصحابه روايات, وسمى أصحاب الشافعي أقاويل, وهي طريقة لم يبتدعها الشافعي, وهي أدل على الورع, وأبعثُ على الاجتهاد. والسابع: أن تبلغه سنة لم تثبت عنده وقد عمل بالقياس, فيجعل قوله من بعد موقوفًا على ثبوت السنة كما في الصيام عن الميت, والغسل عن غسل الميت, وقال: إن صح الحديث قلت به, وقال: كل قول قلته فثبت عن النبي- صل الله عليه وسلم- خلافه فانا أول راجع عنه, وهذا مما يجب أن يظهره, وأن يقف الحكم على السنة إن يثبت وعلى القياس إن لم يثبت. والثامن: أن يقصد بذكر القولين إبطال ما توسطهما, فيكون مذهبه منهما ما فرَّغ عليه وحكم به, مثل قوله في وضع الجوائح وقد قدرها مالك بوضع الثلث: ليس إلا واحد من قولين, إما أن يوضع كلها أو لا يوضع شيء, وهذا تحقيق يبطل ما خالف القولين. والتاسع: أن يذكر القولين إبطالًا لما عداهما, ويكون مذهبه موقوفًا [154/ أ] على ما يؤدي اجتهاده إليه من صحة أحدهما, وإن لم يكن فهمًا, ومثل هذا جاء به الشرع والعقل. أما الشرع: قال رسول الله- صل الله عليه وسلم- في ليلة القدر: "التمسوها في العشر الأواخر" فنفي أن تكون في غير شهر رمضان, وفي غير العشر الأواخر منه, وجعلها موقوفةً على الاجتهاد في العشر الأواخر. وأما العقل: فما فعله عمر -رضي الله عنه- في أهل الشورى جعلها في ستة نفرٍ, فنفي بهم طلب الإمامة في غيرهم, ووقف الإمامة فيهم على من يؤدي اجتهادهم إليه منهم, وهذا عمل انعقد به إجماعهم. والعاشر: أن يذكر القولين ليدل على أن لكل واحدٍ منهما في الاجتهاد وجهًا, ولا يقطع بأحدهما لاحتمال الأدلة, ولا يعمل بهما لاختلاف الحكم, ويفرع كل واحدٍ منهما إن صح, وليس ينكر من العلماء التوقف عند الاشتباه, ولهذا توقف رسول الله- صل الله عليه وسلم-

في أشياء حتى ينزل الوحي عليه. وقال- صل الله عليه وسلم-: "المؤمن وقاف والمنافق وثاب", ويكون مقصود الشافعي بذكر القولين أمرين: أحدهما: إبطال ما عداهما أن يكون له الاجتهاد وجه. والثاني: إثبات أن لكل واحٍد منهما في الاجتهاد وجهًا, وليس يجيب بهما إذا استفتى فيخير السائل بينهما, بل يجتهد رأيه في الجواب بأحدهما, ولا يعتقد صحتهما لجواز أن يكون كل واحدٍ منهما هو الأصح وإن لم يقطع في الحال بالأصح, وهذا إنما قاله في عدد من المسائل, قيل: إنها سبعة عشر مسألة, وفي هذا كله انفصال عن اعتراضهم. ثم ذكر الشافعي- رضي الله عنه- خبرًا وهو قوله- صل الله عليه وسلم-: "إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجرٌ ... " الخبر بتمامه. وقد روى أحمد بن حنبل- رحمه الله تعالى- عن فرج بن فضالة, عن محمد بن عبد الأعلى, عن أبيه, [154/ ب] عن عبد الله بن عمرو بن العاص, عن أبيه- رضي الله عنه- قال: أختصم إلى النبي -صل الله عليه وسلم- رجلان وأنا جالسٌ, فقال: "يا عمرو أقض بينهما" قلت: يا رسول الله, وأنت شاهد, قال: "نعم" قلت: على ماذا؟ قال: "على أنك إن أصبت أجر فلك حسناتٍ, وإن اجتهدت فأخطأت فلك حسنة واحدة", فاختلف أجر المصيب في الخبرين, فجعل للمصيب في الأول أجرين, وجعل له في الثاني عشرة, وفي هذا الاختلاف تأويلان: أحدهما: أنه جعل له أجرين إذا وصل إلى الصواب بأول اجتهاده, وجعل له عشرًا إذا وصل بتكرار الاجتهاد, وليكن أجره بحسب قلة اجتهاده وكثرته. والتأويل الثاني: أخبر بالعشرة لمضاعفة الحسنة بعشر أمثالها, وأخبر في الخبر الآخر باجرين من غير مضاعفةٍ؛ لأن في الأصل أجر وفي المضاعفة عشر. مسألة: قَالَ: "مَنْ اجْتَهَدَ مِنَ الحُكَّامِ فَقَضَى بِاجْتِهَادِهِ ثُمَّ رَأَى أَنْ اجْتهَادِهِ خَطَأٌ". الفصل جملة هذا أن الحاكم إذا حكم في شيء باجتهاده ينظر, فإن كان ما لا يسوغ فيه الاجتهاد, بأن حكم بشيء يخالف نص الكتاب أو نص السنة أو الإجماع, أو القياس الذي لا يحتمل إلا معنى ينقض الحكم على نفسه سواء ترافع إليه الخصمان أو لم يترافعا, ولا ينقص عليه إلا بعد الترافع إليه, وهذا لقوله -صل الله عليه وسلم-:"ردوا الجهالات إلى السنن". وروى أن عمر- رضي الله عنه- كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: لا

يمنعك قضاء قضيت اليوم ثم راجعت رأيك فهديت لرشدك أن ترجع إلى الحق, فإن الحق لا يبطله شيء, وأن الرجوع إلى الحق أولى من التمادي في الباطل. وروى أن عمر- رضي الله عنه- كان يفاضل بين الأصابع حتى رُوي أن الخبر بخلافه [155/ أ] فرجع عن قوله الأول ونقض حكم نفسه. ونقض عمر بن عبد العزيز- رضي الله عنه- حكم نفسه حين قضى على مخلد بن خفافٍ برد العيب مع غلته وأخبر عروة عن عائشة- رضي الله عنها- أن النبي- صل الله عليه وسلم-: "قضى أن الخراج بالضمان" فأمر برد الغلة إلى مخلد بن خفاف. وروى أن شريحًا قضى في امرأة ماتت وخلفت زوجًا وابني عم أحدهما أخ لأمٍ, أن للأخ النصف والباقي لابن العم الذي هو أخ لأمٍ, وأجراهما مجرى الأخوين أحدهما لأبٍ, والآخر لأبٍ وأمٍ, فأخبر علي بن أبي طالب- رضي الله عنه- بذلك فقال: عليَّ بالعبد الأبطر- يعني الغليظ الشفة- فأتى به, فقال: بما قضت؟ فقال: بكتاب الله تعالى. قال: وأين قال الله تعالى: [وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ {[الأنفال: 75] , فقال: هل في كتاب الله أن للزوج النصف والباقي للأخ الذي هو ابن عمٍ؟ قال: لا ينقض عليه حكمه. فإن قيل: هذه المسألة مجتهد فيها ولا نص يخالفه, فلماذا نقضه؟ قلنا: إنما نقضه لأنه خالف فيه ظاهر النص, وهو قوله تعالى: [وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوْ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ {[النساء: 12] وقيل: إنه لم ينقض عليه حكمه, وإنما رده عليه قبل نفوذ حكمه به. فإن قيل: أليس قلتم إذا اتفق الخطأ في القبلة لا يلزمه إعادة الصلاة في أحد القولين فما الفرق؟ قيل: الفرق من ثلاثة أوجهٍ: أحدهما: أن فرض القبلة يسقط في حال العذر مع العلم بها في حال ولا يجوز ترك الحق إلى غيره في الحكم مع العلم بحاله. والثاني: الصلاة من حقوق الله تعالى, وهي مبنية على المسامحة, والقضاء يقع في حقوق الآدميين وهي مبنية على المشاحة والمضايقة. والثالث: في القبلة يتكرر الاشتباه [155/ ب] فيشق القضاء, وهنا إذا بان الخطأ بالنص لا يعود الاشتباه بعد ذلك. وإن كان الخطأ مما يسوغ فيه الاجتهاد لا ينقض الحكم فيه على نفسه ولا على غيره, ولكن في المستقبل ليس له أن ينقض بالقضاء الأول؛ لما روي عن عمر رضي الله عنه إن كان لا يشرك بين الأخ للأب والأم ثم شرّك وقال ذلك, وهذا على ما قضينا. وذكر بعض أصحابنا بخراسان: أنه لما قيل له: هب أن أبانا كان حمارًا نقض القضاء, وهذا غلط. وروى أن عمر رضي الله عنه قضى في الحد بسبعين قضية, وقيل: بمائة قضية مختلفة, يعني في مسائله, إذ لا يتصور لمسألة واحدة مائة قضية. وكان لا ينقض الأول

بالآخر؛ لأنه تبين ذلك اجتهادًا, ولأنه يحتمل أن يكون مصيبًا في الأول مخطئًا في الثاني. ويحتمل أن يكون مخطئًا في الأول مصيبًا في الثاني, والحكم الأول قد نفذ على السلامة ظاهرًا, فلا ينقض بأمرٍ محتمل, ولأنه لو نقض الاجتهاد بمثله أدى إلى أنه لا يثبت حكم أصلًا, لأنه يجوز أن يتغير اجتهاده بعد ذلك إلى الحكم الأول ثم يتغير عنه, وفي نقض ذلك مشقة عظيمة للتكرار. وإن تغير اجتهاده قبل الحكم لم يحكم بالأول بل يحكم بالثاني؛ لأنه يعتقده خطأ, ولو حكم به لكان حكمًا بما يعتقد أنه خطأ, وهذا لا يجوز, ويفارق هذا إذا كان قد حكم؛ لأن هناك بعد الحكم على السلامة في الظاهر فلا ينقض بأمرٍ محتملٍ, وهنا لم ينفذ الحكم, وهذا كما لو فسق الشهود قبل الحكم, ولو فسقوا بعد الحكم لم ينقض الحكم. [156/ أ] وحكي عن أبي حنيفة ومالك- رحمهما الله تعالى- أنهما قالا: إن خالف معنى نص الكتاب أو السنة أو القياس الجلي أو الخفي لم ينقض حكمه, وإن خالف إجماعًا نقض حكمه. وهذا قول مستبعد ولكنه محكي عنهما وناقصًا في ذلك؛ لان مالكًا قال: إن حكم بالشفعة للجار نقض حكمه, وقال أبو حنيفة: وإن حكم بجواز بيع لحم متروك التسمية عمدًا عند الذبيحة نقض حكمه. وكذلك إن حكم في القسامة بيمين المدعي ينقض حكمه. وقال محمد بن الحسن: لو حكم بالشاهد واليمين ينقض حكمه. وهذه الأحكام لا تخالف الإجماع, والذي عنهما خطأ ظاهر؛ لأنه إذا نقض الحكم بمخالفة الإجماع فنقضه بمخالفة نص الكتاب والسنة أولى. وقال القفال: عدّ أبو حنيفة مسائل وذكر أنه ينقض الحكم فيها, حكم من قال أكثر اللعان يقوم مقام الكل, وأن زوج الأمة لا يلاعن لنفي الولد, وأن لا قصاص بين الرجل والمرأة في الأطراف. وأن من تزوج بأمةٍ ووطئها مع العلم بتحريمها لا يحد, فإن النكاح بغير ولي جائز, والحكم بشهادة الفاسق, والحكم بجواز بيع أم الولد, والحكم بأن لا تقبل شهادة القاذف بعد التوبة؛ لأن الخطأ ظهر في هذه المسائل بدليلٍ قاطع. ونص الشافعي على نقض الحكم في مسألة واحدة, وهي أن المرأة إذا فقدت زوجها تربصت أربع سنين ثم اعتدت أربعة أشهر وعشرًا, ثم تزوجت وقضى القاضي بصحته نقض حكمه. ومن أصحابنا من قال: لا ينقض حكمه في شيء من هذه المسائل؛ لان الخطأ ظهر منها بقياس الشبه, وهذا هو الصحيح. [156/ ب] والنص في مسألة المفقود غريب, ولعله ذكره تغليظًا للقول فيه لا اعتقادًا. مسألة: ٌَقَالَ: "وَلَيْسَ عَلَى اَلْقَاضِي أَنْ يَتَعَقَّبَ حُكْمَ مَنْ قَبْلِهِ".

الفصل علم أنه لا يجوز للحاكم أن يتعقب حكم من قبله من الحكام, ويتفحص عنه؛ لأن الظاهر من فعله الصحة والسلامة لما ثبتت ثقتهم وأمانتهم, فلا يجوز تتبع ذلك, ولأنه لا يحتاج إليه حتى يتظلم منه ويطالب بالنظر فيه, فلا يجوز أن يشتغل بما لا حاجة إليه, ولأنه يشتغل بماضٍ لم يلزمه عن مستقبلٍ يجب عليه, ولأنه تتبع غير متوجه عليه مثله. وقال في "الحاوي": لا يجب عليه هذا من غير متظلم, وهل يجوز إن لم يجب عليه؟ فيه وجهان: أحدهما: ما ذكرنا وهو قول جمهور البصريين. والثاني: ذكره أبو حامدٍ, يجوز لما فيه من فضل الاحتياط. فإن ثبتت فيها نظر, فإن وجد خللًا فإن كان يتعلق بحق الله تعالى كالطلاق والعتاق, ووجب نقضه وجب عليه نقضه؛ لأن النظر في حقوق الله تعالى من غير مطالبة أحدٍ, وإن كان يتعلق بحق الآدمي لا ينقصَه إلا بمطالبة؛ لان الحاكم لا يستوفي لمن لا ولاية له عليه بغير مطالبةٍ. ولو تظلم متظلم وادعى على القاضي وسأل إحضاره لم يحضره بمجرد قوله حتى يسأله ما بينك وبينه؛ لأنه ربما يقصد ابتذاله من غير أن يكون له حق, وإن قال بيني وبينه من قرضٍ أو بيع أو غير ذلك أحضره وحكم بينهما؛ لأن القاضي والعامي في هذه الحقوق سواء. وإن قال: ارتشى مني على الحكم وقال: لا أحدكم لك إلا أن تعطيني مالًا, فأخذ مني مالًا وحكم لي وجعل المال [157/ أ] معلومًا. فهو بمنزلة قوله: غصبني على مالٍ؛ لأن الارتشاء حرام كالغضب, فيحضره ويحكم بينهما باليمين والبينة. إن قال: قضى عليَّ بشهادة فاسقين أو عبدين, ففيه وجهان: أحدهما: لا يحضره إلا بعد أن يقيم البينة على ما يقول ثم يحضره؛ لأن الظاهر من حكمه نفوذه على الصحة فلم يجز أن يعدل فيها عن الظاهر إلا ببينةٍ, ولان القضاء يكون ظاهرًا فلا يتعذر إقامة البينة به ويفارق الارتشاء وغيره؛ لأن ذلك يكون باطنًا فيتعذر إقامة البينة. والثاني: يحضره من غير مطالبة الخصم بالبينة؛ لأنه ربما يتعذر إقامة البينة على ذلك, وربما إذا أحضره أقرّ به فيلزمه إقراره, وهذا هو الصحيح. وقال بعض أصحابنا: فيه وجه ثالث أنه إن اقترن بدعواه أمارة تدل على صحتها من كتاب تضمنه أو محضرٍ ظاهر احضره, وإن جردت الدعوى عن أمارة لم يحضره, فإذا قلنا لا يحتاج إلى بينة فاحضره, أو قلنا: لا بد من بينة فأقامها وأحضره, سأله عما

يدعيه عليه, فإن أقرّ أنه قضى بشهادة فاسقين أو عبدين ألزمه الحق؛ لأنه أقرّ أنه قضى عليه بغير حق, وإن أنكر ذلك فالقول قوله, وهل يحنث؟ قال الإصطخري وابن أبي أحمد: لا يحلف؛ لأن الحاكم لا يكون إلا أمينًا عفيفًا من أهل الاجتهاد, فالظاهر من فعله الصحة والصواب, ولأنه يؤدي إلى الامتهان, والسائل وأعداء القاضي كثير, ولا يؤمن أن يتقلدا القضاء خوفًا من هذه. وقال أصحابنا: يحلف وهو الصحيح؛ لان أكثر ما فيه أنه أمين, والأمين إذا ادعى عليه خيانة فالقول قوله مع اليمين كالمودع. فرع قال ابن أبي أحمد: إذا ادعى على الحاكم المعزول [157/ ب] أنه قتل ابنه ظلمًا يحضر ويُسأل, فإن اعترف به ثبت عليه ما ادعاه, وإن أنكره كان على المدعي البينة, فإن أقامها على إقراره أنه قتله ظلمَا قُبلت, إن لم يكن له بينة لم يحلف. وإن قال: قتلت ابنك لفلانٍ بالحكم لقصاص وجب عليه ببينةٍ قامت عليه بالقتل, أو إقرار كان من ابنك, فقال المدعي: ما أقرَّ ابني ولا قامت عليه ببينة بالقتل, فالقول قول المعزول في ذلك, وهو مصدق ولا يمين عليه, ولا يسمع من المدعي بينة إلا أن يقيم بينة على إقراره على ما ذكرنا. وكذلك لو حضر الذي ذكر المعزول أنه حكم له بالقصاص, فقال: ما حكمت لي بشيء, ولا وجب لي على ابنه قصاص, ولا ترافعنا إليك في الخصومة. وكذلك القاضي إذا حكم بشهادة شاهدين بطلاقٍ أو قتلٍ أو عتاقٍ, فادعى المحكوم عليه على الشاهد أنه شهد عليه في ذلك بزورٍ, فإن أقرّ الشاهد أخذ بإقراره وإن أنكر لم يكن عليه يمين. وقال صاحب "الإفصاح": ويتهيأ أن يقال: لا تسمع هذه الدعوى؛ لأن الظاهر من حاله السلامة, فدعواه عليه طعن فيه, ولهذا لا يحلفه على دعواه هذه, فإذا لم يحلفه لم تسمع الدعوى, ويجيء فيه الوجه الآخر الذي ذكرنا أنه يحلف. فرع آخر قال: ولو قال المدعي: أخرج عقارًا أو عينًا من يدي ودفعها إلى فلانٍ بغير حق, فقال المعزول: فعلت هذا بحق وجب عليك ببينةٍ أو إقرارٍ, كان القول قول المعزول بلا يمين. وأما الذي في يده فإن صدق القاضي أنه حكم له بذلك لم يقبل قوله ولا قول المعزول له إلا أن يقيم البينة أن المعزول كان حكم له بذلك وهو قاضٍ؛ لأن قول المعزول بعد عزله: كنت حكمت لفلان بكذا لا يقبل إلا أن يأتي المحكوم له ببينةٍ, [158/ أ] فإن لم يكن له بينة انتزع من يده ولو كان الذي يدعيه الطالب مستهلكًا فحكمه حكم العين على ما قدمناه. وحكي الخصاف عن أبي حنيفة أن القول قول (المدعى)

عليه, وهذا غلط؛ لأنه مُقر بأنه أخذ منه عينًا وأتلفها وذلك يوجب الضمان, ودعواه الحكم بها لا يقبل, كما لا يقبل في العين الناقصة. مسألة: قَالَ: "وَإِذَا تَحَاكَمَ إِلَيهِ أَعْجَمِيٌّ لاَ يَعْرِفُ لِسَانَهُ لَمْ تُقْبَلِ التَّرْجَمَةُ عَنْهُ إِلاَّ بِعَدْلَيْنِ". اعلم أنه لا بد عندنا من ترجمانين عدلين سواء ترجما الدعوى أو الإقرار أو الإنكار أو الشهادة, ثم لا يحتاج في كل شاهدٍ إلى ترجمانين, إذ ليس هذا شهادة الفرع, وينبغي أن يعرفا ذلك اللسان لا يشكان فيه, لأن شكا لم يقبل ذلك عنهما, نص عليه في "الأم" وقال: يقبل فيه ما يقبل في الشهادة, ويرد فيه ما يرد في الشهادة. قال أصحابنا: ولا يقبل لظاهر هذا الكلام إلا أن يشهد بلفظ الشهادة, ولا تقبل الترجمة من الصبي والعبد والمرأة, وهذا لأن الترجمة قول من غير جهة المحكوم عليه يتعلق به حكم الحاكم, فوجب أن يعتبر فيه الأوصاف التي ذكرناها كالشهادة. وقال بعض أصحابنا: إن كان هذا في المال قُبل فيه شاهدان, وشاهد وامرأتان كما يقبل في الإقرار بالمال, وإن كان فيهما لا يقبل إلا رجلان لم يقبل في الترجمة إلا رجلان, وإن كان في الزنا يحتمل قولين؛ أحدهما: لا يقبل أقل من أربعةٍ. والثاني: يقبل شاهدان, وأصلهما الشهادة على الإقرار بالزنا هل يعتبر أربعة أم يكفي اثنان؟ فيه قولان, وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة, يكفي ترجمان واحد كما في الخبر لا يعتبر العدد, وهذا لا يصح لما ذكرنا. وقال في "الحاوي": [158/ أ] ومن أصحابنا من قال: لا يفتقر إلى لفظ الشهادة, وهذا غلط؛ لأنه لما افتقر إلى العدد والشهادة وجب أن يفتقر إلى لفظها. وقال في "الحاوي": لو كانا أعجمين فهل للمترجمين عن أحدهما أن يترجما عن الآخر؟ فيه وجهان مخرجان من الوجهين في الشهادة إذا تحملا عن احد شاهدي الأصل هل يتحملان عن الشاهد الآخر أم لا؟. فرع ترجمة ما قال القاضي للخصم الأعجمي خبر محض يجوز من الواحد وإن كان عبدًا؛ لان الشهادة لا تكون إلا عند الحكام الملزمين. فرع آخر لا يجوز أن يكون بين العجمي وبين المترجمين واسطة لفرق الشافعي بعرفان لسانه. فرع آخر قال القفال: إذا كان القاضي أصم لا بد من المستمع ويعتبر العدد في السمع, وفيه وجه آخر لا يحتاج إلى العدد؛ لأن الخصم حاضر يسمع وهذا ليس بشيء, ولا يتصور أن يكون الحاكم أعجميًا؛ لان من لم يعرف العربية لا يصلح للقضاء, وإن كان القاضي

يسمع والخصم أصم كفي واحد يسمعه ما يقول القاضي ويقول خصمه. فرع آخر قال أصحابنا: تقبل شهادة الأعمى في الترجمة؛ لأنه لا يحتاج فيها إلى البصر. مسألة: قَالَ: "وَإِذَا شَهِدَ الشُهُودُ عنْدَ القاضي كَتَبَ حِلْيَةَ كْلَّ رَجُلٍ وَرَفَعَ فٍي نَسَبِهٍ". الفصل الحلية عي ذكر أوصاف الرجل في نفسه, والرفع في النسب أن يكتب اسم أبيه وجده أو أجداده إن كان نسبه معروفًا, أو ولايته إن كان مولى. وجملته أن الشهود إذا حضروا عند القاضي إن كانوا من العلماء المعروفين بالعدالة يصغى إلى شهادتهم, ولا يحتاج فيهم إلى السؤال عن عدالتهم, وإن كانوا غير هؤلاء يستحب للقاضي أن يعظ الشهود, فيقول: روي عن النبي- صل الله عليه وسلم- أنه قال: [159/ أ] "شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوأ مقعده من النار". فإن أقاموا على أمرٍ يكتب أسمائهم وكناهم ورفع أنسابهم بما يتميزون به عن غيرهم, ويثبت حُلاهم وأوصافهم وألوانهم وأبدانهم لئلا تشبه الأسماء والأنساب, فيكتب أقرع, أو أسمر, أو أبيض, أو أشهل أقنى ألأنف, أو أفطس رقيق الشفتين أو غليظهما, طويل أو قصير أو ربعة, أقط أو ملتحي, دقيق الساقين أو غليظهما, ويكتب صنائعهم وموضع مساكنهم ومعايشهم وصلواتهم, ليسأل عنهم جيرانهم وأهل سوقهم وأهل مساجدهم, والغرض بذلك أن يتميزوا, فلا يقع اسم على اسم, فإن الرجل ربما يعرف بكنيته دون اسمه, وباسمه دون كنيته, وتسهيل النظر في حاله والمسألة عنه, وقال ابن شبرمة: شيئان عمل أحدٌ بهما قبلي ولا يتركهما بعدي؛ أخذ تحلية الشهود, والسؤال عنهم سرًا. مسألة قال: "وّأُحِبُّ إِنْ يَكُنْ لَهُمْ سِدَةُ عُقُولٍ أَنْ يُفَرِّقَهُمْ ثُمَّ يَسْأَلَ كُلَّ وّاحدٍ مِنْهُمْ عّلّى حِدَة". الفصل إذا شهد شاهدان بحقٍ ينظر, فإن عرف الحاكم فسقهما في الباطن والظاهر, أو في الباطن لم يحكم بشهادتهما, وغن عرف عدالتهما في الظاهر والباطن إن كان سأل عنهما قبل ذلك حكم بشهادتهما, وإن لم يعرف فسقهما ولا عدالتهما لا يجوز أن يحكم بظاهر الحال حتى يسأل عن العدالة في الباطن, سواء شهدا بمالٍ, أو حدِّ, أو قصاصٍ, أو نكاح أو غير ذلك. وبه قال مالك وأبو يوسف ومحمد وأحمد. وقال أبو حنيفة: إذا شهدا بحدٍّ أو قصاصٍ فلا بد من معرفة العدالة في الباطن كما

قلنا, وإن شهدا بمالٍ أو نكاحٍ اقتصر على الظاهر, ولا يحتاج إلى السؤال إلا أن يطعن الخصم ويقول: هما فاسقان, فحينئذ يلزمه السؤال, واحتج بأن أعرابيًا جاء إلى النبي- صل الله عليه وسلم-[160/ ب] فشهد برؤية هلال رمضان, فقال له: "أتشهد أن لا إله غلا الله؟ ". قال: نعم. فقال: "أتشهد أني رسول الله؟ " فقال: نعم. فصام وأمر الناس بالصيام. ودليلنا أن ما وجب البحث عنه في شهود القصاص يجب في شهود الأموال, كالإسلام, والعدالة إذا طعن الخصم فيها. وأما الخبر الذي ذكره فنقول: صار إلى الإسلام وترك دين الكفر في زمان رسول الله- صل الله عليه وسلم- فقد أنثى الله تعالى عليه ووصفه بالعدالة فلم يحتج إلى البحث عن حاله. وقال مالك في روايةٍ: إن كان لهم سيما جميل وسمت حسنٍ حكم بشهادتهم من غير بحثٍ عن عدالتهم, وغن لم يكونوا كذلك يجب البحث. فإذا تقرر هذا فلا يخلو حال الشهود من احد أمرين؛ إما أن يكونوا وافري العقول بحسن حالهم بحيث لا تسبق التهمة إليهم, أو كانوا من جملة الأغنياء والعوام الجهال بحيث تسبق التهمة إليهم، فإن كانوا وافري العقول وحسنت حالهم لم يتعرض لهم؛ لأن الاحتياط لا يفيد مع أمثالهم؛ وإن كانوا بخلاف ذلك يحتاج أن يفعل الحاكم معهم أمرين: أحدهما: أن يفرقهم ويسأل كل واحدٍ على الانفراد عن الشهادة وكيف تحملها, وفي أي وقتٍ كان, وفي أي موضعٍ, ومن حضره, وهل جرى ثم كلامٌ ونحو ذلك, فإن اختلف كلامهم ردهم, وإن اتفق كلامهم ورأى أن يعظهم وعظهم وخَوّفَهم, وحذّرهم من الكذب وشهادة الزور, وغن كان تم حال حسنة ولم يكن سدة العقل, يستحب أن يفعل هذا أيضًا ليستدل على عورةٍ إن كانت في شهادته. وإذا سال واحدًا لم يدعه يرجع إلى أصحابه؛ لأنه ربما يخبرهم بما قال فيقولون مثل قوله. والدليل على هذه الجملة ما روي أن أربعة [160/ أ] من حواشي نبي الله داود- عليه السلام- هموا بإصابة امرأة, فامتنعت عليهم فشهدوا عليها عند داود- عليه السلام- بالزنا, وروي أنهم نسبوها إلى الكلب وقالوا: إن كلبًا أتاهم, فهم داود- عليه السلام- برجمها, فبلغ ذلك سليمان- عليه السلام- وهو يلعب مع الصبيان, فاستدعى بأربعةٍ من الصبيان فشهدوا بمثل ذلك, ففرقهم وسألهم, فاختلفوا فرد شهادتهم, فبلغ ذلك داود عليه السلام ففرق الشهود وسألهم فاختلفوا فرد شهادتهم. وروى انه سأل كل واحدٍ عن لون الكلب وصفته فاختلف كلامهم في لونه فردهم, وهذا قول على أن في شريعة داود- عليه السلام- كان الزنا بالكلب موجبًا للحد. وروى أن سبعة نفرٍ خرجوا في سفرٍ ففقد واحد منهم, فجاءت امرأته إلى على - رضي الله عنه - تدعى عليهم بقتله، ففرقهم وأقام كل واحد منهم إلى ساريةٍ ووكل به رجلًا, واستدعى احدهم وسأله فأنكر, فقال علي رضي الله عنه: الله اكبر, فظنوا حين سمعوا تكبيره انه كبر على إقرار الأول, ثم استدعى واحدًا بعد واحدٍ فأقروا, فقال الأول: أنا ما أقررت علي رضي الله عنه: قد شهد عليك أصحابك وأنا قاتلك,

فاعترف فقتلهم جميعًا. وروي أن أول من فرق الشهود دانيال النبي عليه السلام, شهد عنده شهود على امرأةٍ بالزنا ففرقهم, فقال واحدٌ: زنت برجل شابٍ تحت شجرة كمثرى. وقال الآخر: تحت شجرة تفاح, فعلم أنهم كذبوا, [160/ ب] فدعا الله تعالى عليهم, فنزلت نار من السماء فأحرقتهم. والدليل على الوعظ ما روي أن رجلين شهدا عند علي- رضي الله عنه- فوعظهما على- رضي الله عنه- واجتمع الناس فذهبا في الزحام, فقال علي رضي الله عنه: لو صدقا لثبتا, ولم يقطع يد الرجل. وروي عن أبي حنيفة أنه قال: كنت عند محارب بن دثار وهو قاضي الكوفة, فجاءه رجل ادعى على رجلٍ حقًا فأنكر, فأحضر المدعي شاهدين فشهدا له بما ادعاه, فقال المشهود عليه: والذي تقوم به السماء والأرض ما كذبن في الإنكار, ولقد كذبا عليَّ في الشهادة, ولو سألت عنهما لم يختلف فيهما اثنان, وكان محارب بن دثار متكئًا فاستوى جالسًا, وقال: قال رسول الله- صل الله عليه وسلم-: "إن الطير لتخفق بأجنحتهما وترمي بما في حواصلها من هول ذلك اليوم, وإن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى يتبوّأ مقعده من النار" فإن صدقتما فاثبتا, وإن كذبتما فغطيا رؤوسكما وانصرفا, فغطيا رؤوسهما وانصرفا. وروي عن محمد بن الفرات أنه قال: شهدت محارب بن دثارٍ وأتاه رجلان يختصمان, فجاء أحدهما بشيخ مخضوب له ضفيرتان, بين عينيه أثر السجود, فشهد له, فقال المشهود عليه: والله لقد شهد عليَّ بالباطل ولئن سألت عنه لرجع, فقال محارب للشيخ: قد سمعت, فإن كنت شهدت بباطلٍ فارجع, فإن رسول الله -صل الله عليه وسلم- قال: "إن شاهد الزور لا تزول قدماه حتى توجب له النار, وأن الطير تجيء يوم القيامة رافعة مناقيرها تحت العرش تضرب بأجنحتها [161/ أ] تضع ما في بطونها من هول ذلك اليوم" فاتق الله, فإن كنت شهدت بباطلٍ فارجع, فقال الشيخ: لقد رجعت, ومضى. والدليل على أنه لا يفعل ذلك عند الضبط والمعرفة ما حكي أن رجلًا شهد عند أبي عمرو القاضي في بيع بستان, فقال أبو عمرو: كم في ذلك البستان, فقال: هو كما قلت, فقال: كم في دارك من جذع؟ قال: فأمسك عنه وعلم أنه ضابط. وحكي أن رجلًا شهد عند علي بن عيسى بشهادةٍ, فقال علي بن عيسى: في أي موضع شهدت عليه بذلك؟ فقال له: في فضاء وسعني ووسع الشهود والمشهود عليه. وحكي أن أم أبي عمرو بن العلاء شهدت عند سوار بن عبد الله مع امرأة أخرى, فجعلت أم أبي عمرو تلقنها وتذكرها, فزجرها سوار, فقالت: ألم تسمع قول الله تعالى: [أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى {[البقرة: 282] , فخجل سوار. والمغربي وطائفة من أهل الظاهر قالوا: يجب على المشهود له إقامة البينة بعدالة الشهود, ولا يلزم الحاكم ذلك إلا أن يتطوع, وهذا فاسد؛ لأن التعديل والجرح

مستحق على الحاكم, فوجب أن يكون الكشف عنهما مستحقًا عليه. فرع لو اعترف المشهود عليه بعد التهمة, فهل يجب الحكم عليه بشهادتهم؟ فيه وجهان: أحدهما: يحكم عليه؛ لأن البحث عن عدالته معتبر في حقه وهو قد اعترف. والثاني: لا يحكم عليه؛ لأن في الحكم بشهادتهم حكمًا بعد التهم فلا يجوز أن يحكم بها بتزكية الخصم. ولأن اعتبار التعديل في الشاهد [161/ ب] حق الله تعالى فلا يترك بقول الخصم, كما لو رضي الخصم أن يحكم عليه بشهادة الفاسق لا يجوز له أن يحكم به. مسألة: قال: "وَأُحِبُّ أَنْ يَكُونَ أَصْحَابُ مَسَائِلِهِ جَامِعِينَ لِلْعَفَافِ". الفصل أراد بأصحاب المسائل المزكين, وشرط الشافعي رضي الله عنه فيهم ثلاث شرائط: العفة والأمانة لئلا يرتشوا. والثاني: وفو العقل لئلا يخدعوا ولا يميلوا للعدو مع عدوه بتحرجه ويخفي جميله ويظهر قبحه, ولا صديقًا له فيظهر جميله ويخفي قبحه, وقلما يخلو المسلم عن قبيح وحسن. والثالث: البراءة من الشحناء والبغضاء والعداوة بينهم بالعصبية, لئلا يجرح من لا يوافقه في مذهبه, ويعدل من يوافقه, ويسأل من يعدله بالموافقة ويجرحه بالمخالفة. وأما قول المزني: وَأنْ يَكُونُوا جَامِعينَ للأَمَانَةِ فِي أَدْيَانِهِمْ لاَ يَتَعَطَّلُونَ بأَنْ يَسْأَلُوا الرَّجُلَ عَنْ عَدوِّهِ فَيُخْفِي حَسَنًا وَيَقُولَ قَبِيحًا شرحه الشافعي رضي الله عنه في "الأم" فقال: وأن يكونوا جامعين للأمانة في أديانهم, وأن يكونوا أهل عقول لا يتغفلون بأن يسألوا الرجل عن عدوه فيخفي حسنه ويقول قبيحًا, فيكون ذلك جرحًا عنده. فأفسده المزني بالاختصار فقال: جامعين الأمانة في أديانهم لا يتعطلون بأن يسألوا, وهذا لا يشبه بعضه بعضًا, والصحيح ما قال في "الأم". ثم قال: ويحرص أن لا يعرف له صاحب مسألة, يعني المزني, لا ينبغي أن يكون معروفًا فيحتال إليه بالرشوة والإخداع. قال: وإذا كتب لهم كتاب السؤال يكتب صفات الشهود [162/ أ] على ما وصفنا ويكتب اسم من شهدوا عليه واسم من شهدوا له, ومبلغ ما شهدوا به, وهذا ينسخ من المحضر الذي عقده بدعوى المدعي على المدعى عليه, وأقل ما يكتب أربعة أشياء: ذكر الشهود بأسمائهم وأنسابهم وصفاتهم ومساكنهم وأسواقهم على ما ذكرنا. والثاني: ذكر المشهود له باسمه ونسبه لئلا يكون والدًا ونحوه. والثالث: ذكر من شهدوا عليه لئلا يكون عدوًا يشهد على عدوه.

والرابع: مبلغ الحق؛ لأن الإنسان طابت نفسه بتعديل اليسير, ولم تطلب نفسه بتعديل الكثير, فيكون ذكره للمزكي أولى. ويأمرهم أن يسألوا عنه في جيرانه وسوقه وموضع مصلاه, وهو بالخيار أن يطلق فيقول: سلوا من شئتم, وبين أن يعين فيقول: سلوا فلانًا وفلانًا. ومن أصحابنا من قال: يعتبر في أصحاب مسائله سبعة أوصاف: أحدهما: أن يكونوا جامعين في الطعمة والأنفس والعفاف في الطعمة, أن لا يأكلوا الحرام والشبهة, فيدعوهم إلى قبول الرشوة, والعفاف في الأنفس أن لا يقدموا على ارتكاب محظور. والثاني: أن يكونوا وافري العقول ليصلوا إلى غوامض الأمور بلطف, ولا ينفذ عليهم خداع ولا صلة. والثالث: أن يكونوا براء من الشحناء. والرابع: أن لا يكونوا من أهل الأهواء والعصيبة في نسبٍ أو مذهب فيميل مع موافقة في تحسين قبيحه ويميل على مخالفة في تقبيح حسنه. والخامس: أن يكون بعيدًا من مماطلة الناس وهي اللجاج؛ لأن اللجوج ينصر هواه ويرتكب ما يهواه, ولا يرجع عن الخطأ وإن ظهر له الصواب, فلم يوثق بلجاجه أن يعدل مجروحًا وأن يحرج معدلًا. والسادس: أن يكون جامعًا للأمانة ليورد بأمانته ما عرف ويتأول فيه ما يصرفه [162/ ب] عن أقوى الأمرين إلى أضعفها وعن أظهر الحالين إلى أخفاهما. والسابع: أن لا يسترسل فيسأل عدوًا منابذًا أو صديقًا مواصلًا؛ لأن العدو يظهر القبيح ويخفي الحسن, والصديق يظهر الحسن ويخفي القبيح. قال: ويؤمر بأن لا يعرفوا عند أربعة أصنافٍ المشهود له حتى لا يحتال في تعديل شهوده وعند المشهود عليه حتى لا يجري في جرح شهوده, وعند الشهود حتى لا يحتالوا في تعديل أنفسهم, وعند المزكين عن المشهود حتى لا يحتال لهم الأعداء في الجرح والأصدقاء في التعديل. ذكره في "الحاوي". ولو سأل عن صديقه المعافي فعدله فلا بأس؛ لان شهادته له مقبولة وقد بينا أن لا يفعل ذلك. فرع الحاكم مخير بين أمرين؛ أحدهما: وهو الأحوط, أن يكتب بذلك أربع رقاع يرفع منها أخرتين إلى مزكيين ليسألا عن الشاهد الآخر يزكيه كل واحد من الشاهدين مزكيين ويصير المزكون أربعة.

والثاني: أن يقتصر على رقعتين فيهما ذكر الشاهدين, فيدفع إحداهما إلى أحد المزكين فتصير التزكية فيهما مسموعة من مزكيين. فرع آخر اعلم أنه قد يسمى أصحاب المسائل المزكين, وإذا توجه بها أصحاب المسائل المزكون كان أول ما سألوا عمن شهدوا له, فإن ذكروا أن بينهم وبينه ما يمنع من شهادتهم عليه لم يسألوا عما عداه, وإن ذكروا جواز شهادتهم له سألوا عمن شهدوا عليه, فإن ذكروا ما يمنع من شهادتهم عليه لم يسألوا عما عداه, وإن ذكروا جواز شهادتهم له ذكروا القدر الذي شهدوا به. ثم على أصحاب المسائل أن يشهدوا عند الحاكم [163/ أ] بما عرفوه من هذه الأحوال الأربع إن اجتمعت أو افترقت, فإن لكل واحدة منهن حكمًا في غير هذه القضية وأن اعتبار جميعها في هذه القضية. مسألة: قَالَ: "وَلَا يَقْبَلُ المسألة عَنْهُ وَلاَ تجريحهَ إِلاً مِنَ اثْنَيْنِ". اختلف أصحابنا في تأويل هذا,, فقال أبو إسحاق: أراد به المزكين دون أصحاب المسائل؛ لان الاعتماد على المزكين دون أصحاب المسائل, فيجوز أن يكون صاحب المسألة واحدًا فيبعثه ليسأل, فإن عاد وأخبر بالجرح توقف الحاكم ولا يستدعي الجارح؛ لأن في ذلك فضيحة الشاهدين, والقصد معرفة عدالتهم لا فضيحتهم ولكن يقول للخصم زد في شهودك, وإن عاد وعدل لم يعتمد على قوله ويستدعي المزكي ويسأله عن ذلك حتى يخبره مشافهةً ولا يقبل ذلك إلا من مزكي على ما قاله الشافعي رضي الله عنه. وقال الإصطخري: المراد بذلك أصحاب المسائل, فيحتاج أن يكونوا اثنين كالمزكين, فإذا أخبرا بالجرح والتعديل عمل على ذلك ولا يحتاج إلى حضور المزكين, وإن كان كالشهادة على الشهود؛ لأنه موضع حاجة لأنه لا يلزم المزكي أن يحضر عند الحاكم لتزكية وليس للحاكم إجباره على ذلك, فصار ذلك كالمرض والغيبة في سائر الشهادات وهذا هو المنصوص, وذلك خلاف نص الشافعي؛ لأنه قال: ويمضي من كل واحدٍ منهما ما رفعه إلى الآخر, وهذا إنما يكون في أصحاب المسائل دون المزكين, ولان العدد لا يسقط في الشهادة على الشهادة فكذلك هنا؛ لأن ذلك شهادة على المزكي, وبهذا قال أحمد. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز أن يكون المزكي [163/ أ] واحدًا؛ لأن التزكية ليس من شرطها لفظ الشهادة, فلم يفتقر إلى العدد كرواية الأخبار, وهذا لا يصح كما ذكرنا؛ لأنه وافقنا أنه لو جرح الشاهد بواحدٍ وعدل باثنين فالتعديل أولى, فدل أن قول

الواحد لا يثبت به شيء، إذ لو ثبت عند خلوه عن معارض لثبت وإن عارضه ضده، كما لو جرحه اثنان وعدله عشرة كان الجروح أولى بالإجماع. وأما قوله: إنه لا يعتبر فيها لفظ الشهادة لا تسلم؛ لأنه لا يقبل الجرح والتعديل إلا بلفظ الشهادة. ثم إذا بعت اثنين للمسألة يخفي عن كل واحد منهما ما دفعه إلى صاحبه، ويوصي كل واحد منهما بإخفائه لئلا يتواطئا على شيء واحدٍ بالرشوة، ثم ينظر فإن اتفقا على الجرج أو التعديل عمل عليه. وإن اختلفا فجاء أحدهما بالتعديل والآخر بالجرح، قال الشافعي: "أعادهما مع غيرهما"، قال أصحابنا: أما إعادتهما فلأن أحدهما لا محالة مقصر في النظر؛ لأنا لا نعلم أن الرجل الواحد لا يكون عدلاً فاسقاً. وأما ضم غيرهما إليهما فلأنهما ربما يختلفان في المرة الثانية كما اختلفا في المرة الأولي، فلا يمكن تنفيذ الحكم مع اختلافهما، فإذا ضم إليهما غيرهما يرجى تزكية المزكيين فيردهما. ثم ينظر فإن عاد الآخران بالتعديل فقد ثبت التعديل بثلاثة أنفس فعمل عليه. وإن عاد أحدهما بالتعديل والأخر بالجرح فقد ثبت واحد منهما باثنين، فيكون الجرح أولى من التعديل، وإن عاد أحدهما بالتعديل والآخر توقف فيه، فإن التعديل قد ثبت. وإن عاد أحدهما بالجرح وتوقف الآخر" فإن [164/ أ] الجرح قد ثبت، ولو عدل رجل بشاهدين وجرحه آخران، قال الشافعي: "الجرح أولى"، لأن التعديل على الظاهر والجرح على الباطن لزيادة العلم مع الجارح. فرع لا يجوز أن يقبل تعديل الولد للوالد. وقال أبو جنيفة: يقبل، ودليلنا أنه إثبات حكم على خصم بقول غيره فلا يجوز من الوالد. فرع آخر لا يقبل التعديل من المرأة خلافا لأبي حنيفة حنيفة، لأن شهادتها لا تقبل فيما لا يقصد فيه المال ويطلع عليه الرجال. فرع آخر إذا ثبت أنها شهادة محضة اختلف أصحابنا في أن القاضي يحكم في تعديلهم وجرحهم بأصحاب مسائلة وبمن عدلهم وجرحهم من جيرانهم وأهل الخبرة بهم على وجهين: أحدهما: أن أصحاب مسائلة هم الشهود عنده بالتعديل والجرح وهم المتحملون عن الجيران وأخل الخبرة ما ذكره من التعديل والجرح، وهذا ظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه وقول الأكثرين من أصحابة، فعلى هذا يجوز أن يكون ما يسمعه أصحاب المسائل من الجيران بلفظ الخير؛ لأن الشهادة مختصة بالحكام، ولا يعتبر فيهم العدد ويعتبر أن يقع في نفوس أصحاب المسائل صدق المخبر فيما ذكره من تعديل وجرح،

فربما وقع في نفسه صدق الواحد وربما ارتاب باثنين فيلزمه أن يستزيد، ويجوز لأصحاب المسائل أن يسألوا الجارح من أين علم تعديله وجرحه، ولا يجوز للحاكم أن يسأل أصحاب المسائل من أين علمتم الجرح والتعديل، وهذا اختيار الإصطخري. [164/ ب]. والثاني: وهو قول أبي إسحاق أن يشهد بالجرح والتعديل هم من عرفهم من الجيران وأهل الخبرة، ويكون أصحاب مسائلة فيها، لأن الشهادة سميت بذلك مسموعة من أهل المعرفة الباطنة وهو الجيران دون أصحاب المسائل، ولأن شهادة أصحاب المسائل كالشهادة على الشهادة، وهي لا تسمع مع القدرة على شهود الأصل. فعلى هذا كان ما يذكره أصحاب المسائل خبراً يجوز أن يقتصر فيه على قول الواحد بلفظ الخبر دون الشهادة، ويذكر الحاكم بالجرح والتعديل، ثم يسمع بالتعديل والجرح من الجيران وأهل الخبرة على شرط الشهادة. فرع آخر إذا شهد شاهدان من أصحاب مسائلة ومن الجيران على ما قدمناه من الوجهين بتعديل أحد شاهدي الأصل، جاز أن يشهد بتعديل الشاهد الآخر قولاً واحداً وإن كان في الشهادة على الشهادة قولان. والفرق أن في الشهادة على الشهادة هما فرع الأصل في التزكية فهما شاهدان على الأصل. فرع آخر لو شهد اثنان بجرحه في سنة أو في بلد، ثم شهد اثنان بتعديله في سنة بعدها، أو في بلد آخر انتقل إليه حكم تعديله لأنه قد يتوب وينتقل عن الفسق إلى العدالة، والتوبة ترفع المعصية ولا يقدم التعديل على الجرح إلا في هذه المسألة. فرع آخر لو بعث بذلك إلى المزكي فعدلهم ى يقبل التعديل بالكتاب حتى يحضر المزكي فيشير إليه أن الذين عدلتهم هؤلاء، لأنه ربما يلبس عليه بالكتاب، والتزكية [165/ أ] نوع شهادة فلا تقبل بالكتاب، ذكره أصحابنا رحمهم الله. مسألة: قال: "ولا أقبل الجرح إلا بالمعاينة أو السماع". أراد به صاحب المسألة إذا أخبر بالجرح لا يقبل إلا أن يضيف إلى نفسه رؤية ما يجرح، أو يستفيض ذلك في الناس، ويخبره كل من سأله بفسقه، وهذا لأنه لا يصير عالما بذلك إلا بالشهادة أو بالسماع أو بالمشاهدة يحصل العلم، وكذلك بالسماع المتواتر، فإن لم يكن متواترا ولكنه شاع في الناس، يجوز أن يؤدي الشهادة مطلقا كما يشهد بالموت والنسب بالاستفاضة، وإن كان خبر الواحد والعشرة لا يصير عالماً به،

ولكنه يشهد بما يسمع ويكون شاهد الفرع، والذي يشهد عنه شاهد الأصل فيكون حكمه حكم شاهد الفرع، هكذا ذكره أبو حامد، وقد قيل: يعتبر بهذا الكلام الرد على أبي حنيفة حيث قال: يقبل الجرح مطلقا كما يقبل التعديل مطلقا، ونحن لا نقبله إلا مفسرا، بل يقول عاينته يفعل كذا، أو سمعته يقول كذا، وما ذكرناه أولاً أظهر. مسألة: قال: "ولا نقبله إلا من فقيه دين عاقل إلا بأن يفقه على ما يجرحه به". قد ذكرنا أنه لا يقبل الجرح إلا بعد بيان سببه خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله، وهذا لأن الناس يتباينون في الأهواء، فيشهد بعضهم على بعض بالكفر أو الفسق بالتأويل، وهو بالجرح عندهم أولى. وقد قال مالك رحمه الله تعالى: يفسق الرجل بشرب النبيذ المطبوخ وإن اعتقد إباحته، ومن الناس من يقول: [165/ ب] يفسق بالوطء في نكاح المتعة ونحو ذلك، وقد يعدون ما ليس بجرح جرحاً، ولا فرق بين أن يكون الجارح فقيهاً أو غير فقيه. وقال الشافعي رضي الله عنه: لقد حضرت رجلاً مستهلاً بجرحه فقال له السائل: بأي شئ تجرحه فقال: ما يخفي على من تكون الشهادة به مجروحة، فقال الذي يسأله: لا أقبل هذا منك إلا أن تبين، فقال: رأيته يبول قائماً، فقال: وما في ذلك؟ فقال: ينتضج على ساقيه ورجليه وثيابه ثم يصلي قبل أن ينقيه، فقال: أفرأيته فعل ذلك فصلى قبل أن ينقيه وقد انتضج عليه؟ فقال: لا، ولكن أراه سيفعل. وهذا الضرب كثير في الناس والجرح خفي فلا يقبل لحفائه لما وصفت من الاختلاف إلا بتصريح الجرح، ومذهب الفقهاء أن لا يكفر أحد من أهل القبلة. قال الشافعي رضي الله عنه: "إلا واحداً وهو من نفي علم الله تعالى الأشياء قبل كونها فهو كافر"، وقد ذهب جماعة إلى تكفير أهل الأهواء كلهم. وحكي أن رجلاً جرح وقال: إنه طين سطحه بطين استخراجه من حوض البستان، ومثل هذا لا يكون جرحاً إلا بالإجماع، فلهذا يجب الاستفسار. فإن قيل: كما أن الجرح يختلف فكذلك العدالة، ولو عدلوا لا يلزم بيان سبب العدالة. قلنا: هل يشترط ذكر سبب التعديل؟ فيه وجهان: فلا نسلم، وإن سلمنا فلأن أسباب العدالة تكثر ولا يمكن ضبطها بخلاف أسباب الجرح فافترقا. فإن قيل: في كشف سبب الجرح هتك ستر الشاهد ويصير الجارح به قاذفاً. [166/ أ] قلنا: وإذ هو فاسق هتك ستره أيضاً، وربما هذا العار عند بيان السبب، وذكر ما لا يوجب الفسق، وأما القذف فيمكنه أن لا يصرح به، وإذا أتى به بلفظ الشهادة لا يكون قاذفاً.

فرع لو سأل الحاكم الشاهدين عن سبب الجرح فذكر له وكان زنا لم يكن قاذفاًً، سواء كان بلفظ الشهادة أو بغير لفظ الشهادة، لأنه لا يقصد إدخال المعرة عليه بالقذف، بل قصد إثبات صفته عند الحاكم ليتبين الحاكم حكمه عليه، هكذا ذكره أبو حامد. وقال في "الحاوي": لا يصير أصحاب المسائل إذا شهدوا بها قذفه وإن لم تكمل شهادتهم، لأن أصحاب المسائل ندبوا للإخبار فأسمعوه ولم يندب الجيران إليه. ولا يفرق بين أن يذكر أصحاب المسائل هذا الجرح بلفظ الشهادة أو بلفظ الخبر، ولكن الحاكم يحكم به إن كان بلفظ الشهادة ولا يحكم به إن كان بلفظ الخبر. فرع آخر قال في "الحاوي": اعلم أن الفسق يكون من ثلاثة أوجه: بالأفعال كالزنا والغضب، وبالأقوال كالقذف والكذب، وبالاعتقاد كاستحلال المحظور والتدين بالبدع. والأفعال تعلم بالمعاينة، والأقوال تعلم بالسماع وكذلك الاعتقاد، فلا يقبل من الجارح إذا شهد بأفعال الجرح إلا إذا شاهدها، ولا يقبل منه إذا شهد بأقوال الجرح إذا سمعه ولا يقبل إذا قال: بلغني، أو قيل لي، ولا يقبل شهادة الأعمى بالجرح في الأقوال والأفعال، فأما إذا شهد عن الإخبار بها، فإن كانت أخبار آحاد لم يكون للمخبر أن يشهد بها، وإن كانت من أخبار الاستفاضة أو التواتر التي لا يعترضها ارتياب جاز أن يشهد بها كما [166/ ب] بالأنساب وتقبل به شهادة الأعمى. فإن كان الشاهد عند الحاكم بهذا الجرح هم الجيران إن كانت هذه الشروط معتبرة في شهادتهم أن يعلمه إما يعلمه إما بالمعاينة للأفعال أو بالسماع للأقوال، أو بالخبر المستفيض للأفعال والأقوال، وأن الشاهد بها أصحاب مسائل يحملوها عند علمها من هذه الوجوه الثلاثة جاز لهم أن يشهدوا بها عنهم، لأن أصحاب مسائله ندبوا للبحث عنها، ولو تحملوهاٍ من هذه الوجوه لعلموا الشهادة بها، ولما احتاجوا إلى المسألة عنها. مسألة: قال: "ولا يقبل التعديل إلا بأن يقول: عدل على ولي". الفصل اختلف أصحابنا في هذا، فقال بعضهم: هذا يدل على أن الحاكم لا يسأل عن أسباب التعديل، ويسأل عن أسباب الجرح، لأن الشهادة بالتعديل أن يجدوه سليماً من الهفوات، ولا يحتاج في هذا إلى شرح السبب، وعلى هذا السؤال عن سبب العدالة استظهار لا واجب، وهذا الذي عليه القضاة في زماننا هذا. وعلى هذا قال الإصطخري: قول "قول عدل علي ولي" استحباب للتأكيد، لأن الشهادة بالتعديل تقتضي

الحكم بها عليه وله، فيكفي أن يقول عدل. وبه قال أبو حنيفة، ومالك وأحمد رحمهم الله، وهو اختيار صاحب: الإفصاح" والقفال. وقد قال في "حرملة": إذا قال هو عدل مرضي كفي في التعديل، وهذا لأن المقصود إثبات عدالته عند الحاكم، وذلك يثبت بهذا ولا يحتاج إلى زيادة. وقال أبو إسحاق وجماعة: هو على الوجوب، وهو ظاهر كلام الشافعي هنا، ونص عليه في "الأم" أيضاً، واختلفوا في العلة، فقال أبو إسحاق: إنما شرط هذا لأنه قد يكون [167/ أ] عدلاً في شيء دون شيء، وفي القليل دون الكثير، فإذا قال ذلك عم ولو يخص. وإذا قال عدل ولم يزد لم يثبت العدالة المطلقة، كما إذا قيل: فلان صادق، ولا يثبت بهذا القدر صدقة على الإطلاق. وقال غيره: العلة أنه قد يكون الشاهد بالتعديل من لا تقبل شهادته عليه، لأنه من أعدائه، فإذا قال عدل على ولي زال هذا الاحتمال، فقوله عدل علي نفي للعداوة، وإذا قال عدل لي نفي للقرابة وهذا أبلغ الألفاظ في التعديل وعلى هذا لا يلزم أن يقول هذا إذا علم أنه لا نسب بينهما ولا عداوة. وعلى تعليل أبي إسحاق يلزم ذلك وإن علم أنه لا نسب بينهما ولا عداوة. فرع الشهادة بأنه عدل رضا جرت العادة بالجمع بينهما في صحة التعديل، وقال جمهور أصحابنا: قوله"رضا" محمول على التأكيد، لأن العدل رضا. وقال بعض أصحابنا البصريين: هذا شرط في صحة التعديل، لأن التعديل سلامة والرضا كمال. فرع آخر استزاد بعض القضاة في التعديل أن يقول إنه مأمون في الرضا والغضب، وهذا تأكيد لا يكون شرطاً، لأنه من أحكام العدالة فلا يلزم ذكرها كالصدق والأمانة. فرع آخر قال بعض أصحابنا: سؤاله عن أسباب العدالة واجب لجواز الاحتمال في التعديل كجوازه في التفسيق، فعلى هذا يكون الشاهد مؤد بالأسباب، والقاضي هو الحاكم بالعدالة، وتكون استزادته من الشهود أن يشهدوا أنه عدل، ولي استخبار عن حكم العدالة وليس بشرط في قبول الشهادة على سببها، وهل يكون هذا الاستخبار لازماً في حق الحاكم وأنه لم يكن في حق الشاهد؟ فيه وجهان: [167/ ب] أحدهما: يكون لازماً في حقه ليكون حكمه بالتعديل على أحوط الأمور. والثاني: أنه ليس بلازم في حق الشاهد، لأن الشهادة بأسباب التعديل تغني عما سواه. فرع آخر إذا قلنا يشترط ذلك بسبب التعديل جاز أن يكون الشاهد بالتعديل من غير أهل الاجتهاد. وإن قلنا لا يشترط وجب أن يكون الشاهد بالتعديل من أهل الاجتهاد.

فرع آخر إذا قال المزكي لا أعلم إلا خيراً لا يكفي، وقال الطحاوي: عن علي بن معبد، عن أبي يوسف أنه قال: تقبل شهادته، ولم يذكر خلافاً، وهذا لا يصح، لأنه لم يصرح بالعدالة فلا يكون تعديلاً كما لو قال: أعلم فيه خيراً. فإن قيل: إذا كان من أهل الخبرة ولم يعلم إلا خيراً فهو عدل. قلنا: يجوز أن لا يعلم عدالته ولا فسقه لاشتباه حاله عليه فلا يدل على حقيقة العدالة. مسألة: قال: "ثم لا يقبله حتى يسأله عن معرفته به، فإن كانت باطنة متقادمة وإلا لم يقبل ذلك منه". وجملة هذا أنه لا يقبل التعديل إلا ممن له خبرة باطنة ومعرفة متقادمة بالشاهد، وهذا لأن الرجل لا يكاد يعرف الرجل إلا بمعاشرة متقادمة ومصاحبة، ولا يداوم الإنسان الفسق بل يفعله في بعض الأوقات دون بعض، فإذا لم يتقادم عهده ومعرفته به لم يقف عليه. وقد روي حرشة بن الحر أن رجلاً شهد عند عمر - رضي الله عنه- بشهادة، فقال له: أعرفك ولا يضرك أن لا أعرفك ائتني بمن يعرفك، فقال رجل من القوم: أنا أعرفه، قال: بأي شئ تعرفه؟ قال: بالعدالة والفضل، فقال: هو جارك الأدنى الذي تعرفه ليله ونهاره، ومدخله ومخرجه؟ [168/ أ] قال: لا. قال: فعاملك بالدينار والدرهم اللذين يهما يستدل على الورع؟ قال: لا. قال: فرفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا. قال: لست تعرفه، ثم قال للرجل: ائت بمن يعرفك. وقال مجاهد: دخل رجل المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فقال: "من يعرف هذا؟ " فقال رجل: أنا أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه، فقال: "ليست تلك بمعرفة". وقيل: الشهادة بالتعديل تخالف الشهادة بالجرح من وجهين، ووجه ثالث مختلف فيه: أحدهما: أن الشهادة بالتعديل لا تقبل إلا ممن كان قديم المعرفة بخلاف الجرح. والثاني: لا تقبل إلا من أهل المعرفة الباطنة والجرح يقبل من أهل المعرفة الظاهرة والباطنة. والثالث: هل يشترط ذكر سبب التعديل فيه وجهان، ولا يحكم بالجرح إلا بعد سببه. مسألة: قال: "ويسأل عمن جهل عدالته سراً، فإذا عدل سأل عن تعديله علانية ليعلم أن المعدل سراً هو هذا مخافة أن لا يوافق اسم أو نسب نسباً".

قال أصحابنا: فإن لم يكن إشكال وعلم أن المزكي لا يرتاب به ولا يحتاج على إظهار التعديل، وقيل: هل يحتاج إلى الإشارة إذا عدل؟ فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: تلزم الإشارة إليه عند القاضي، فيقول: هذا هو الذي شهدنا عندك بتعديله ليزول الاشتباه ويحصل الاحتياط. والثاني: قال ابن أبي هريرة: لا يجب ذلك لكنه يستحب بكل حال. والثالث: إذا كان مشهوراً في الناس بما يتميز به عن غيره لا يحتاج إلى الإشارة وجوباً لكنه يستحب، وتجب الإشارة في المجهول غير المشهور وهذا أصح. فرع إذا ثبتت عدالته عنده يعرف المشهود عليه أنه لزمه الحكم [168/ ب] فيما شهدوا به عليه، وعرفه ما عمل في أمر الشهود، فإن زعم أنه يمكنه جرحهم نظر في ذلك وتوقف في إنقاذ الحكم إن كان ما يزعم قريباً، ولا يستعجل في إنقاذ الحكم. روى أنس-رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "التأني من الله والعجلة من الشيطان". وروي ابن عباس- رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا تأنيت - وروي إذا تثبت- أصبت أو كدت تصيب، وإذا استعجلت أخطأت أو كدت تخطئ". فرع آخر لو جرح الشهود في السر لم يسأل عنهم في العلانية لئلا يؤدي إلى هتك الستر، وإثبات العداوة بينهم وبين من جرحهم، وإذا عدل أعلن التعديل ليرغب الناس في حسن الذكر، وربما كان عند بعض الناس من جرحه ما يخفي على غيره، ولو ابتدأ أصحاب المسائل بالشهادة فيمن بحثوا عنه ولا يعلم الحاكم بما يشهدون به من جرح ولا تعديل فينبغي أن يمنعهم على الجهر حذراً أن يشهدوا بالجرح المأمور بالستر، وإن علم أنهم لا يشهدون بالعدالة جاز أن يدعوهم إلى الشهادة سراً وجهراً. فرع آخر لو عدل الشهود اختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: أن الحكم بعدالته قد استقر على التأييد ما لم يطرأ جرح من بعد بناءً على أصل العدالة. والثاني: قال أبو إسحاق: يعيد البحث عن عدالته في كل مدة لجوا أن يتغير فيها حاله، ولا يلزمه البحث في كل شهادة، لأنه شاق وخارج عن العرف ولم يحد المدة بحد. وحكي عن بعض الناس أنه قال: يسأل عنه كل ستة أشهر، وهذا ليس بمذهبنا، ونسه صاحب "الحاوي" إلى بعض أصحابنا والمذهب أنه تتوقف المدة على اجتهاده وما يراه. [169/ أ].

فرع آخر إذا أعاد البحث مراراً واستقرت عدالته، فإن تجددت منه استرابة أعاد البحث والكشف وإن لم يتجرح ذلك لا يعيد البحث. فرع آخر قال الشافعي- رضي الله عنه-: وإذا نزلت قافلة الحاج أو الغزاة أو غيرهما في بلد يحضر رجلان من أهل القافلة من يعرفه الحاكم لم يحكم بشهادتهما وإن رأي عليهما سيما الخير وأثر الصلاح والعدالة. وقال مالك رحمه الله تعالى: إذا رأي فيهما سيما الخير حكم بشهادتهما، لأنه لا يمكن معرفة عدالتهما ولا يمكن التوقف عن الشهادة، فإن فيه تضييعاً للحق، فكان المرجع إلى السيما الجميل وهذا غلط، لأن عدالتهما مجهولة فلا يجوز الحكم بشهادتهما كشاهدي الحضر، وظاهر مذهبهم تسليم هذا الأصل. وأما ما ذكره فلا يصح، لأنه ربما يؤدي إلى إثبات ما لا يستحق وذلك لا يجوز. فرع آخر لا يقبل من الفاسق التعديل سراً كان أو علانية، وقال أبو حنيفة: إذا قام [.......] من الناس في الحكم وغيره، فقال القاضي: إن هذا الشاهد عدل ولم ينكر أحد ذلك فقد ثبت عدالته، فجعل سكوتهم كإخبارهم بالعدالة وهذا لا يصح، لأن سكوتهم يحتمل معاني فلا يجوز أن يقطع بواحد منها. فرع آخر لا يجوز للحاكم أن يتخذ شهوداً راتبين فيقبل شهادتهم، ور يقبل شهادة غيرهم لأن في ذلك إضراراً بالناس وتضييقاً عليهم، ولأن شرط قبول الشهادة العدالة، فكل من كان بهذه الصفة وجب قبول شهادته، وقد قال تعالى: [وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ] [الطلاق:2]، ولم يخص، وربما ثبتت الحقوق في مواضع لا يكون هناك شهود راتبون ويقال: إن أول من اتخذ ذلك إسماعيل بن إسحاق [169/ ب] وتابعه سائر القضاة في بعض البلاد في هذا، ليكون الشهود أعياناً معدودين فلا يستشهد الخصوم بمجهول العدالة، ولا يطمع في الشهادة غير مستحق لها، وعندنا يكره ذلك، ولم يفعله الصدر الأول. فإذا تقرر هذا فيجب على الحاكم أن يسمع شهادة كل من يشهد عنده، فإن عرف فسقه رد شهادته، لأنه يجوز أن يحكم بالجرح والتعديل بعلمه. مسألة: قال: "ولا ينبغي أن يتخذ كاتباً حتى يجمع أن يكون عدلاً عاقلاً". الفصل اعلم أنه لا يستغنى قضاة الأمصار والولاة على الأعمال عن كاتب ينوب عنهم في

ضبط الأمور، فيجوز لهم أن يتخذوا كاتباً، وقيل: يستحب لهم ذلك. وهذا لأن على بن أبي طالب رضي الله عنه كان كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كتب القضية يوم الحديبية. وكان زيد بن ثابت- رضي الله عنه- كاتبه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "تعرف السريانية؟ " فقال: لا، فقال: "إنهم يكتبون إلي ولا أحب أن يقرأ كتبي كل أحد، فتعلم السريانية" قال زيد: فتعلمها في نصف شهر. وروى ابن عباس - رضي الله عنهما- أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كاتب يقال له: السجل. ولأنا لو كلفناه كتب السجلات والمحاضر بيده وينظر بين الناس أدى إلى المشقة والحرج، ويتعذر عليه الجمع بين الأمرين، فكان له أن يتخذ كاتباً يستعين به. ثم ذكر الشافعي أن يشترط فيه أربعة أوصاف، العدالة، والعقل، والعفة، والنزاهة من الطمع، وهذا لأن الكتابة موضع أمانة فلا توضع في غير العدل، ويستحب أن يكون فقيهاً ليعرف مواقع الألفاظ، ويفرق بين الواجب والجائز، وتعتبر النزاهة لئلا يستمال بالطمع. [170/ أ] وقوله: "عاقلاً": أردا سديد العقل، لأن وجود العقل شرط العدالة. قال أصحابنا: ويستحب أن يكون جيد الخط ويفصل بين الحروف ويميزها ويضبط ما يحتاج أن يكون مضبوطاً فلا يكتب سبعة مثل تسعة، ذكره صاحب "الإفصاح" وقيل: ينبغي أن يكون أدبياً فلا يأتي بلفظ يلبس أو يوهم تضاعيف حروفه وأطراف سطوره كتبه شيء يتغير به الحكم، فلا ينبغي أن يفاوت الحروف في تباعدها وتدانيها، وأن يقارب السطور في كتابته وهذه كلها مستحبة، والمعتبر فيه أن يكون ممن يحسن الكتابة. فرع لا يجوز أن يكون عبداً، لأن الحرية شرط في كمال العدالة. وقال في "الأم": ما ينبغي عندي للقاضي ولا لوال من ولاة المسلمين أن يتخذ كاتباً ذمياً، وينبغي أن يعز المسلمين بأن لا يكون لهم حاجة إلى غير أهل الإسلام، والقاضي أول الخلق عذراً بهذا. قال أصحابنا: لا يجوز أن يكون ذمياً، لأنه جرح نفسه في الدين عند قبول قوله فيه. وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] الآية، وقال أيضاً عز اسمه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ والنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} [المائدة:51]، وقال أيضاً عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} [آل عمران: 118]. وروى أبو سعيد الخدري- رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما بعث من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان، بطانة تدعوه إلى الخير وتحضه عليه، وبطانة تدعوه إلى الشر وتحضه عليه، والمعصوم من عصم الله". وهذا صحيح وقد جاء به

القرآن العظيم وهو الآية التي ذكرناها. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم [170/ ب] قال: "لا تستضيئوا بنار المشركين" أي لا ترجعوا إلى أمانهم ولا تعولوا على مشاورتهم. وروي أن أبا موسى الأشعري قدم على عمر- رضي الله عنهما- ومعه كاتب نصراني فأعجب عمر بخطة وحسابه واستحسنه، فقال له عمر: أحضر كاتبك ليقرأه، فقال: إنه نصراني لا يدخل المسجد، فزبره عمر وقال: لا تأتمنوهم وقد خوفهم الله تعالى، ولا تقربوهم وقد أبعدهم الله تعالى ولا تعزوهم وقد أذلهم الله تعالى. وروي: ولا تكرموهم إذ أهانهم الله تعالى، ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله تعالى، ولا تأمنوهم إذ خوفهم الله تعالى، وأمر بعزله. وروي أنه قال عمر- رضي الله عنه -: اتخذته كاتباً؟ فقال: له دينه ولي كتابته، فقال عمر رضي الله عنه ما ذكرنا. ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان، أحدهما: مات ذكرنا. والثاني: أنه يجوز أن يكون كافراً وفاسقاً، لأن ما يكتبه لا بد أن يقف عليه القاضي ثم يمضيه فيؤمن خيانته. فرع آخر إذا اتخذ القاضي كاتباً فهو بالخيار، إن شاء أجلسه عنده وإن شاء أجلسه بالبعد منه. فإن أجلسه عنده فإذا مضى شئ يحتاج إلى إثبات أمره يكتبه وينظر في ذلك حتى لا يحرف ولا يغير، وإن أجلسه ناحية، فإذا أقر عنده رجل بحق وينكره أنفذ المقر إليه حتى يثبته. قال الشافعي رضي الله عنه: ويستحب أن يكتب الحاكم اسم المقر عنده احتياطياً لئلا يرجع عن الإقرار إلى أن يبلغ [171/ أ] فربما يختلط ولا يعرف عينه. وينبغي أن يقرأ القاضي بعد كتابته ويعلم فيه بخطه، ويشهد به على نفسه ليكون حجة للمتحاكمين وقيل: إنه يتخير بين أن يلقيه عليه حتى يكتبه في لفظه، أو يكتبه الكاتب بألفاظه والقاضي ينظر إليه أو يقرأه بعد الكتابة. فرع آخر لو رد القاضي المتخاصمين عند الاشتباه إلى وساطة متوسط بينهما لم يلومهما الرجوع إليه، وإن سألاه ردهما إليه لزمه الكف عن النظر بينهما ولا يلزمه ردهما إلى وسيط معين، لأن ردهما إليه تقييد له إلى النظر بينهما، ولا يلزمه أن يقلد لهما ناظراً، فإن فعل كان تبرعاً منه وحملهما الوسيط على التراضي دون الإلزام، إلا أن يرد القاضي إليه الإلزام فيصير حاكماً وملزماً.

فرع آخر يجوز للكاتب أن يتخذ كاتباً كما يجوز للقاسم أن يتخذ قاسماً. مسألة: قال: "والقاسم في صفة الكاتب". يشترط في القاسم زيادة، وهو أن يكون عارفاً بالحساب، لأن مدار القسمة على الحساب، وينبغي أن يكون عارفاً بالقيم لئلا يحتاج في التقويم إلى غيره، فإنه لم يعرف القيم يجوز ويرجع إلى أقوال مقومين يقومون. مسألة: قال: "ويتولى القاضي ضم الشهادات ورفعها لا يغيب ذلك عنه". الفصل قال أصحابنا: نذكر في هذا الفصل كيف يجتمع عنده الشهادات التي يحتاج إلى ضمها ورفعها، ثم يبين كيفية الضم والرفع، [171/ ب] فإذا تقدم خصمان إلى القاضي، وادعى أحدهما على الآخر، فإن القاضي يسأل المدعى عليه عما ادعاه عليه، فإن اعترف به وسأله المدعي أن يكتب بذلك محضراً كتب: بسم الله الرحمن الرحيم، حضر مجلس القاضي فلان ابن فلان الفلاني، وفلان ابن فلان كما يعرفه القاضي، وإن كان لا يعرفه القاضي كتب: رجل ذكر أنه فلان ابن فلان، ويجليه بالأوصاف التي ذكرنا، وأحضر معه رجلاً ذكر أنه فلان ابن فلان ويجليه، وادعى عليه بكذا وكذا، فسأله القاضي عما ادعاه عليه فأقر بجميعه، وذلك في يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا، وأشهد فيه من حضر القاضي من الشهود، ويلزم القاضي ذلك إذا سأل المدعي، لأنه ربما ينسى القاضي أو يعزل. ومن أصحابنا من قال: الإشهاد يجب بأنه أقر بكذا وكذا، لأنه إن كان مذهبه أنه لا يجوز له الحكم بعلة وربما يجحد بعده فلا يمكنه الحكم بعلة عليه. وإن كان مذهبه جواز الحكم بعلة ربما ينسى أو يعزل فلا يمكنه الحكم به ولا يقبل قوله بعد عزله، وهل يلزمه أن يكتب له محضراً؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه، لأنه وثيقة له كالإشهاد. والثاني: لا يلزمه، لأن الشهادة يكفيه فلا حاجة إلى محضر. وقال بعض أصحابنا: إن كان في دين يستوفي عاجلاً لا يلزمه الكتبة، وإن كان في دين مؤجل أو في ملك متأبد فهل يلزمه؟ وجهان. وإن أنكر ما ادعاه عليه فسأل القاضي فلان ابن فلان ابن فلان، وفلان ابن فلان ابن فلان المدعي بينة [172/ أ] إن كانت له فأحضر فلان ابن فلان، وفلان ابن فلان فشهدا عليه بجميع ما ادعى عليه، وإن لم يكن بينة لا يحلف القاضي المدعي عليه إلا بسؤال المدعي، فإذا سأل إحلافه كتب: فسأل فلان ابن فلان المدعي إحلافه فحلفه القاضي فلان ابن فلان بالله الذي لا إله إلا هو فحلف، ويكون هذا المحضر حجة للمدعي عليه فيكتب له بسؤال لئلا يدعي عليه الحق

في مجلسٍ آخر، ويلزمه الإشهاد عليه، وهل يلزمه كتب المحضر؟ فيه وجهان. وإن نكل عن اليمين ردت اليمين على المدعي وكتب: فنكل المدعى عليه عن اليمين ورد اليمين على المدعى عليه فلان ابن فلان، فحلفه القاضي فلان ابن فلان بالله الذي لا إله إلا هو أنه يستحق عليه ما ادعاه وهو كذا وكذا، وذلك في يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا. وإن سأله أن يحكم له بذلك ويشهد على نفسه يلزمه ذلك فإنه حجة. وإن سأله أن يكتب بالإشهاد على نفسه محضرًا هل يلزمه؟ فالحكم على ما ذكرنا إذا ثبت بالإقرار، وهذا إذا كان عنده قرطاس من بيت المال، أو أحضر المحكوم له قرطاسًا، فإن لم يكن لا يلزمه أن يكتب وجهًا واحدًا. وقال في "الحاوي": إذا ثبت الحق بالبينة فهل يلزمه الإشهاد على نفسه صاحب الحق؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه لأن له بالحق بينة فلم يلزم القاضي أن يجدد له بينةً، ويكون في ذلك مخيرًا. الثاني: يلزمه كما في الإقرار؛ لأن الشهادة على نفسه مع البينة الموجودة تعديل بينته وثبوت حقه، وهذه ثلاثة أحكام لا تثبت إلا بإشهاده على نفسه. وإن سأله أن يسجل له هل يلزمه ذلك؟ فيه وجهان؛ أحدهما لا يلزمه في المحضر. واعلم أن المحضر حكاية الحال وما جرى بينهما من الدعوى والإقرار، [172/ ب] والإنكار، والبينة، واليمين، والنكول، ورد اليمين، والسجل تنفيذ ما ثبت عنده وإمضاء ما حكم به، فهذا فرق بين المحضر والسجل، فإن ذكر في المحضر تنفيذ الحكم جرى مجرى السجل في المعنى وإن خالف لفظه في الابتداء واستغنى به عن السجل، وإن ذكر له في السجل حكاية الحال جرى مجرى المحضر في المعنى وإن خالف لفظه في الابتداء واستغنى به عن المحضر، وإن كان الأولى أن لا يعدل بواحدٍ منهما عن موضوعه؛ لأن المقصود بالمحضر أن يتذكر أحكام ما جرى بين المتنازعين ليحكم به بموجب الشرع، والمقصود بالسجل أن يكون حجة لما نفذ به الحكم، وقد ذكرنا صفة المحضر. وقال في "الحاوي": صفة المحضر أن يكتب: حضر القاضي فلان ابن فلان وهو يومئذ قاضي عبد الله الإمام فلان على بلد كذا في مجلس حكمه وقضائه في موضع كذا. وقد ذكر أبو حامد أنه كان على إقرارٍ لم يذكر مجلس حكمه؛ لأنه ليس في الإقرار حكم بخلاف سماع البينة، وليس لهذا الفرق بينهما وجهٌ؛ لأن الدعوى لا يسمعها القاضي إلا في مجلس حكمه؛ لأنه يتعلق بالإقرار إلزام والإلزام حكم. ثم يذكر اسم المدعي واسم المدعى عليه وما جرى بينهما على ما ذكرنا، وفي السجل يبدأ

بالشهادة كما يبدأ في المحضر بالحضور، فيكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا أشهد عليه القاضي فلان ابن فلان، فإن كان خليفة القاضي كتب خليفة القاضي فلان ابن فلان، وإن كان من جهة الإمام كتب في مدينة كذا وهو يومئذ قاضي عبد الله فلان أمير المؤمنين عليها وعلى نواحيها، ويذكر ما في يده من الأعمال، وأرضه وقال: في يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا أنه قد ثبت عنده [73/ أ] بإقرارٍ أو شهادة فلان ابن فلان، وفلان ابن فلانٍ وثبتت عدالتهما عنده فسأل فلان ابن فلان أن يحكم له فحكم له به وأنفذه وأمضاه، وأشهد على نفسه بذلك من حضره من الشهود. وإن كان الحاكم لا يعرف من يحكم عليه به فإنه يحكم على يمينه وكتب السجل على ما ذكرنا من اسمه ونسبه وحليته، ويكون الاعتماد على حكمه. وقال ابن جرير الطبري: إذا لم يعرف اسمه ونسبه لا يكتب ذلك، وهكذا في المحضر لا يقول: ذكر أنه فلان ابن فلان؛ لأنه ربما يزور في ذلك وهذا غلط؛ لأن الاعتماد على الحلية، ولا يمكن أن يزور في الحلية ويغيرها. ثم إذا قلنا يلزمه كتب السجل له، أو قلنا لا يلزمه فكتب له ينبغي أن يكتب نسختين ويدفع إليه إحداهما تكون حجةً في يده وتكون الأخرى عند القاضي، ولا يختم النسخة التي يتركها عند نفسه ويكتب على ظهرها: خصومه فلان ابن فلان ويدعها في القمطر، والقمطر في اللغة دفتر الحساب وغيره يُصَيَّرُ ويجمع في مكانٍ واحدٍ ويعين ويشد، يقال: قمطرت الحساب قمطرةً إذا عينته وشددته، وتسمي العامة السفط الذي يجمع فيه المحاضر والسجلات قمطر، فإذا جمعها فيه ختمها بنفسه، أو قال لأمينه حتى يختمه وهو ينظر إليه، ولا يدعه يدخل يده فيه لئلا يطرح فيه شيئًا، فإذا ختمه أخذه منه ونظر فيه لئلا يختم بغير ختمه، ثم يأمر حتى يحمل إلى موضعه، فإذا كان اليوم الثاني دعا بالقمطر وأبصر الختم ثم فكه بنفسه، أو أمر أمينه به، ولا يزال يفعل ذلك حتى يتم الأسبوع، فإذا كان العمل كثيرًا أو قد استجمعت كتب كثيرة شدها [173/ ب] وعزلها وكتب عليها: كتبت أسبوع كذا، أو خصومة أسبوع كذا في شهر كذا من سنة كذا، فإذا مضت السنة جمعها كلها في موضع واحدٍ وشدها وكتب عليها: كتبت سنة كذا، أو خصومة سنة كذا، لتكون كتب كل سنةٍ وكل شهرٍ مفردة، فإذا احتاج إليه سهل طلبه والوصول إليه، فلا يذهب وقته ولا يتقاعد عن الاجتهاد في الأحكام. وقال بعض أصحابنا: إذا كان السجل في الإقرار فلا يكتب فأقر به في مجلس حكمي؛ لأن الإقرار يصح من غير مجلس الحكم، وإذا كان بالبينة يكتب: وذلك في مجلس حكمه وقضائه؛ لأن البينة لا تُسمع إلا في مجلس الحكم، ويكتب الحاكم في محضر الإقرار علامته على رأسه الحمد لله رب العالمين ونحو ذلك، ويكتب في آخر المحضر عند سماع الشهادة: شهدا عندي بذلك، وفي أعلى المحضر علامته على ما ذكرنا.

وفي محضر التحليف يكتب: وذلك في مجلس الحكم؛ لأن الاستحلاف لا يكون إلا في مجلس الحكم، وكذلك في الحكم بالنكول ورد اليمين، وفي السجل بالحكم بالحق لا يحتاج أن يذكر محضرًا من المدعى عليه؛ لأن القضاء على الغائب جائز، فإذا أراد أن يذكره احتياطيًا قال بعد أن حضره فأساغ له الدعوى عليه. وقال في "الحاوي" في هذا الفصل: اعلم أن القضاء هو الفصل لانقضاء التنازع، قال الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] الآية، والذي يجب على القاضي في نظره ثلاثة أمورٍ: أحدها: فصل التنازع بين الخصوم. والثاني: التوثقة فيما ثبت عنده من الحقوق. والثالث: حفظ ما حصل عنده من الحجج والوثائق. أما الأول فله حالتان: إحداهما: أن يكون الحكم فيه واضحًا فيعجل فصله في الوقت المألوف من زمان نظره، ولا يلزمه في الليل وأوقات [174/ أ] الاستراحة، ولا يجوز له مع المكنة أن يؤخره، فإن أخره أثم إلا أن يحلله الخصوم، فإن اتفق الخصمان على تأخيره لم يكن له تعجيله، وإن دعا أحدهما إلى التعجيل عجل. والثانية: أن يكون الحكم فيه مشتبهًا فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون الاشتباه لاختلاط الدعوى فينبغي أن يأخذها بكشف المشتبه ولا يعجل في الفصل والأمر في كشفه موقوف عليهما، فإذا كشفاه فصل. والثاني: أن يكون الاشتباك لإشكال الحكم على القاضي لاحتماله عنده، فينبغي أن يقف الحكم على اجتهاده فيه ومشاورته الفقهاء في وجه صوابه، ولا يعجل بفصله مع الاشتباه، وإذا بان اجتهاده لا يؤخره. وأما الثاني: وهو التوثقة فلا يخلو ثبوت الحق عنده من أحد ثلاثة أضربٍ: أحدها: أن يثبت بإقرار المدعى عليه، فإذا سأله أن يشهد على نفسه بما ثبت عنده يلزمه. والثاني: أن يثبت باليمين مع النكول فيلزمه الإشهاد أيضًا، وإن سأل كتب المحضر فقد ذكرناه. والثالث: أن يثبت بالبينة، فإن سأل الإشهاد فقد ذكرنا وجهين. وأما الثالث: فقد ذكرنا كيف يحفظ المحاضر والسجلات. مسألة: قَالَ: "وَلَا يَقْبَلُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا مِمَّا وَجَدَ فِي دِيوَانِهِ إِلَّا مَا حَفِظَهُ". الفصل جملة هذا: أنه إذا تقدم اثنان إلى الحاكم وادعى أحدهما على الآخر حقًا فأنكر فادعى المدعي أن له حجة في ديوان القاضي، فالقاضي يخرج ذلك، فإن لم يذكره ولا شهد عنده به شهود ولكنه وجد عليه خطه وختمه لا يجوز له أن يحكم به، وبه قال أبو حنيفة، ومحمد، وأحمد في رواية. وقال ابن أبي ليلى وأبو يوسف: يجوز له أن يحكم به وهو رواية أخرى عن أحمد،

وهذا لا يصح؛ لأن الحكم أقوى من الشهادة؛ [174/ ب] لأن الشاهد يخبر والحاكم يلزم، ثم لا يجوز للشاهد أن يشهد لوجود خطة إذا لم يكن ذاكرًا له فالحاكم أولى. قالوا: إذا كان في قمطرة وتحت ختمه لا يحتمل إلا أن يكون صحيحًا، قلنا: يجوز أن يزور على خطه وختمه، والخط يشبه الخط. وذكر القفال عن أبي يوسف: أن له أن يشهد على الخط أيضًا وفيه نظر. فإن قيل: أليس قلتم إذا وجد بخط أبيه دينًا على رجل في دفتر حسابه له أن يدعيه ويحلف عليه فما الفرق؟ قلنا: قال أصحابنا: يراعى الاحتياط في الحكم والشهادة، فلا يحكم فيهما إلا بالعلم، وفي المعاملة يكفي عليه الظن، ولهذا يقبل خبر الواحد فيها وهذا ضعيف؛ لأن الحاكم يحكم بشهادة شاهدين ويمين المدعي عند الرد، وإن كان قبلنا ذلك. والأولى أن يقال: إذا أمكنه الرجوع فيما حكم به إلى ذكر نفسه؛ لأنه فعل نفسه فروعي فيه ذلك، وأما ما كتبه أبوه فلا يمكن الرجوع فيه إلى اليقين، فيكفي فيه غلبة الظن، وكذلك إذا وجد الإنسان بخط نفسه حقًا على الرجل فلا يطالب به ولا يحلف عليه إلا أن ينفيه. مسألة: قَال: "وَلَوْ شَهِدَ عِنْدَهُ شُهُودٌ أَنَّهُ حَكَمَ بِحُكْمٍ فَلَا يُبْطِلُهُ وَلَا يُحقُّهُ إِذَا لَمْ يَذْكُرْهُ". اعلم أنه إذا ادعى رجل على رجلٍ حقًا عند الحاكم وادعى أنه أقر به عنده نظر، فإن كان له بينة تشهد أنه أقر له عنده حكم به عليه وإن لم يذكره؛ لأن البينة لو شهدت بإقراره مطلقًا في غير مجلس الحكم حكم بها فههنا أولى أن يحكم بها، وإن لم يكن له بينة فذكر الحاكم أنه أقر له به عنده فهل يحكم بعلمه؟ قولان على ما سنذكره، وإن ذكر المدعي أنه حكم له بالحق عليه حاكم غيره، فإن أقام بينةً [75/ أ] على ذلك ألزمه الحاكم الحق وأنفذ الحكم، وإن لم يكن له بينة وادعى على الحاكم والحاكم لا يعلم ذلك هل يحكم بعلمه؟ فعلى ما ذكرنا من القولين، وإن ادعى أنك أيها الحاكم حكمت لي عليه بهذا الحق نظر، فإن تذكره ألزمه إياه وإلا يكون هذا حكمًا بالعلم، وإنما هو إمضاء ما حكم به، وإن لم يذكره القاضي فشهد عنده شاهدان على حكمه لم تقبل الشهادة على فعل نفسه، وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف. وقال ابن أبي ليلى، ومحمد، وأحمد؛ يقبل؛ لأنهما لو شهدا عنده أن غيره حكم به يقبل، فكذلك إذا شهدا عنده بحكمه وجب أن يحكم لأنهما شهدا بحكم حاكم وهذا لا يصح؛ لأنه يمكنه الرجوع إلى الاحتياط والعلم في نفسه فلا يرجع إلى الظن، كالشاهد إذا نسي شهادته فشهد عنده شاهدان أنه شهد بذلك لم يكن له أن يشهد، ويخالف حكم غيره؛ لأنه لا يمكنه أن يرجع إلى العلم واليقين فيه، ولهذا نقول: من شك في صلاته فلم يدر أثلاثًا صلى أم أربعًا يبني على الأقل؛ لأنه اليقين، ولا يعمل على قول المأمومين. فإن قيل: أليس النبي صلى الله عليه وسلم قبل قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في خبر ذي اليدين حين سلم

في صلاته من ركعتين؟ قلنا: عمل على يقينه ولكنه تذكر عند قولهما. فإذا تقرر هذا قال الشافعي رضي الله عنه: إلا أن الحاكم إذا لم يتذكر لا يجوز له أن يبطله، ولا يجوز له أن يحقه، ولكنه يتوقف عنه حتى لو رفع إلى حاكم آخر يمضيه وجوبًا. فإن علم حاكم آخر أنه أنكره فلا ينبغي له أن يقبله، وأراد به أن الحاكم إذا لم يعلم وأنكر أن يكون حكم به ثم رفع إلى غيره لا يجوز له أن أن يمضيه؛ لأنه بالإنكار قد كذب الشاهدين اللذين يشهدان [175/ ب] بحكمه. ومن أصحابنا من قال: إذا شهد عند الثاني شاهدان أن الأول توقف على الحكم لم يجز للثاني أن يحكم به؛ لأنه يمضي حكمه على حكم الأول، فهو فرع له، فإذا ثبت أن الأصل توقف فيه لم يجز للفرع أن ينفذ، كما لو شهد شهود الفرع عند الحاكم ثم قامت البينة أن شاهدي الأصل توقفا عن الشهادة لا يحكم بشهادة شهود الفرع، فأما إذا توقف نفذه الثاني، ولهذا قال الشافعي -رضي الله عنه-: الأول لا يبطله ولا يحقه حتى يجوز له من بعده تنفيذه، وهكذا ذكر القفال رحمه الله من غير شبهةٍ، وقيل: فيه وجهان. وقال أبو بكر الأزدي: لا يحكم به الثاني؛ لأن توقفه أورث تهمةً وشبهةً، وهذا أيضًا غلط لما ذكرنا من النص. وقال بعض أصحابنا: وهكذا رواية الإخبار لا تجوز عندنا بأن يرى سماعه في كتابٍ من كتب الحديث ما لم يحفظه على وجهه من يوم سمعه إلى يوم رواه. وإن كان نسي فالآن يتذكر بالحديث على وجهٍ فيروى. ومعنى قولنا: "يحفظ على الوجه" أي الألفاظ التي يختلف الحكم باختلافها، فأما إذا روى له إنك رويت لنا كذا عن فلانٍ، فإن له أن يروي ذلك، كما كان سهيل بن أبي صالح يقول: حدثني ربيعة بن أبي عبد الرحمن عني عن أبي هريرة؛ لأنه كان يروي لربيعه حديثًا ثم نسيه، فرواه له ربيعة عن نفسه. وفي الحقيقة لا فرق بين المسألتين لأن وزان هذا أن يقول الحاكم: قد شهد فلان عندي أني حكمت بكذا فلا يضر أن يقبل ويكتب السجل هكذا، وإنما لا يجوز أن يسمع مثل هذه الشهادة، ثم يقول: حكمت على فلان بكذا، أو يمضي الحكم الأول فيأخذ به الحق. وقال بعض أصحابنا في [176/ أ] الأخبار: إن غاب عنه كتاب الحديث لا يجوز له أن يروي بحفظه لاحتمال أنه زيد فيه، وإن لم يغب عنه ذلك جاز أن يوريه بخطه وإن كان لا يتذكر بخلاف الشهادة؛ لأنه يشترط في الشهادة ويشدد فيها ما لا يشترط في الرواية ولا يشدد، ألا ترى أنه يقول: حدثنا فلان عن فلانٍ، ولو قال: حدثني فلان عن فلانٍ أنه يشهد لم يقبل.

باب ما يكون قذفا وما لا يكون قذفا

[ق 2 أ] باب ما يكون قذفًا وما لا يكون قذفًا مسألة: قَالَ: "وَلَوْ وَلَدَتْ امْرَأَتُهُ وَلَدًا فَقَالَ: لَيْسَ بِابْنِي فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ". الفصل: إذا أظهرت امرأة الرجل ولدًا فقالت: هذا ولدته وهو منك فقال: هذا الولد ليس مني أو ليس بابني لم يكن قاذفًا بهذا القول ولا نافيًا نسب الولد، لأنه يحتمل القذف وغيره فلم يكن صريحًا فيه، فرجع إليه فيه وقلنا له: ما أردت بذلك فإن قال: أردت به القذف فهو كما قال ابتداءً هذا لولد من زنا وليس مني وقد مضى حكمه، وإن قال: أردت أن لا يشبهني خُلقًا وخَلقًا نُظر، فإن صدقته المرأة لم يلزمه شيء، وإن كذبته وقالت: أردت القذف فالقول قول الزوج مع يمينه، فإن حلف سقطت دعواها، وإن نكل عن اليمين ردت اليمين عليها، فإن حلفت حكم بأنه قاذف ولزمه الجد إلا أن يقيم البينة على أنها زنت أو يلاعن، وإن قال: أردت أن الولد من زوج آخر، فإن لم يعرف لها زوج قبله والولد لاحق به إلا أن ينفيه باللعان؛ لأنه اعترف بأن الولد منها فلحقه بالفراش، وإن عرف لها زوج قبله لا يخلو إما أن يعرف وقت الطلاق وقت انقضاء العدة وقت النكاح الثاني أو لا يعرف ذلك، فإن عرف ذلك فإن كان دون سنة أشهر من حين تزوج بها فالولد للأول، وإن كان لستة أشهر فصاعدًا فهو لاحق بالثاني إلا أن ينفيه باللعان، وإن لم يعرف ذلك وأشكل الأمر فلا يلحق به الولد، والقول قوله مع اليمين إلا أن يقيم البينة على أنها أتت به وهي زوجته لوقت يمكن أن يكون منه ويقبل فيه أربع نسوة [ق 2 ب] أو شاهدان أو شاهدٌ وامرأتان، فإذا قامت على ذلك لحق به إلا أن ينفيه باللعان وفي صفة يمينه وجهان: أحدهما: يقول: والله ما هذا الولد مني. والثاني: يقول: والله لقد ولدته لزمان يستحيل أن يكون مني. والحلف على أنه من الزوج الأول بلا خلاف؛ لأن يمينه للنفي عنه لا للحوقه بغيره، فإن حلف كان منفيًا عنه باللعان، فإن نكل ردت على الزوجة ويمينها أن يحلف أن هذا الولد منه ما هو من غيره وجهًا واحدًا؛ لأنها في ذلك على يقين، فإذا حلفت لحق الزوج وله نفيه باللعان، وإن نكلت هل يوقف حتى يبلغ الولد فيحلف؟ وجهان بناءً على القولين في رد اليمين على

الجارية المرهونة إذا ادعى الراهن أنه وطئها بإذن المرتهن وأنكره المرتهن ونكلا عن اليمين هل تحلف الجارية؟ قولان: فإذا قلنا: يوقف فبلغ، فإن حلف يلحق به إلا أن ينفيه باللعان، وإن لم يحلف كان منفيًا عنه بلا لعان، وإن عرف لها زوج وأتت به لوقت يمكن أن يكون من الأول ويمكن أن يكون من الثاني بأن تضعه لأربع سنين فما دونه من طلاق الأول ولستة أشهر فصاعدًا من عقد الثاني ولم تقر باقتضاء العدة يرى القافة فإن ألحقه بالأول انتفي عن الثاني بلا لعان. وإن ألحقوه بالثاني لحق به ولا ينتفي عنه إلا باللعان، وإن لم يكن قافة وقف إلى زمان الانتساب وفيه قولان: أحدهما: إلى استكمال سبع سنين اعتبارًا لحالة التخيير بين الأبوين. والثاني: إلى البلوغ اعتبارًا بأن يكون لقوله حكم. فإن انتسب إلى الثاني لم ينتف عنه إلا باللعان، وإن قال: أردت أنها لم تلده وإنما التقطته أو استعادته فإن صدقته أو كذبته، كان الحكم على ما ذكرناه من أن القول قوله مع يمينه وعليها البينة أنها ولدته، فإن لم يكن بينة [ق 3 أ] حلف ولم يلحق به الولد، وليس للولد بعد بلوغه تحديد الخصومة والاستلحاق. قال أصحابنا: وصورة يمينه أنها ما ولدته. وقيل: قياس المذهب أن يحلف أنه لا يعلم أنها ولدته لأنه يمين على نفي فعل الغير، وإن نكل عن اليمين حلفت أنها ولدته ولا يحتاج أن تحلف أنه منه، فإن حلفت ثبتت الولادة ولحق الولد به الفراش إلا أن ينفيه باللعان، فإن نكل عن اليمين هل يتوقف إلى أن يبلغ الولد؟ وجهان على ما ذكرنا، وكلامه ههنا يدل على أنه لا يتوقف وإن كان هناك قافة هل يرجع إليها في إلحاقه بها إذا لم يكن لها بينة على الولادة؟ وجهان: أحدهما: يرجع إليها فإن ألحقوه بها صار كالبينة على ولادتها فلحق به إلا أن ينفيه باللعان. والثاني: لا يرجع إلى القافة في ذلك؛ لأن الولد من جهة الأم يمكن أن يعلم قطعًا ويقينًا فلا يجوز استعمال الاستدلال، وعليه الظن فيه بخلاف الأب يلحق به بقول القافة، لأن إلحاق الولد بالأب أبدًا بالاستدلال ثم إذا كان إلحاقه بالزوج بكل حالٍ يلحق بالأم وحدها لاعترافها بولادته؟ ينبني على دعوى المرأة وفيها ثلاثة أوجه ذكرناها، ولا يتصور في مسألتنا إلا وجهان؛ لأن لها زوجًا والمنصوص في كتاب التقاط في المنبوذ أنه لا يلحق بها لأن من لحوقه بها إلحاق بزوجها. فإن قيل: أليس الأصول منهية على أنه لا يحلف شخص لحق شخص آخر، وإنما يحلف الرجل لحق نفسه ولهذا لم تستحلف الوكلاء والأوصياء والقوام، فلم أحلفتم الأم لإثبات نسب الولد، وهذه يمين شخص في حق شخص؟

قلنا: حقيقة يمينها راجعة إلى ولادتها على فراشه، ثم إذا ثبت ولادتها على فراشه ترتب النسب على الولادة، ألا ترى أن النسب لا يثبت بشهادة النساء لكن إذا [ق 3 ب] شهدت أربع نسوة على أنها ولدت على فراشه تثبت الولادة بشهادتين، ثم يترتب النسب على الولادة، فإن قيل: قد قلتم في "كتاب الطلاق" يقبل قول المرأة على زوجها في الحيض، وفي الولادة أيضًا على أحد الوجهين وقلتم ههنا لا يقبل قولها إلى بينةٍ قولًا واحدًا فما الفرق؟ قيل: الفرق أن ههنا تتعلق دعواها لحق ثالث وهو الولد وإلحاق نسبه فلم يقبل إذا اختلفا إلا ببينة، ولهذا قلنا: لا يقبل قولها في الحيض فيما يتعلق بحق ضرتها إذا قال: إن حضت فأنت طالق وضرتك، فقالت: قد حضت وكذبها يقع الطلاق عليها دون ضرتها، وهناك لا يتعلق بحق ثالث فافترقا. قال القفال: فإن قال قائل: قال الشافعي في امرأة أتت بولد بعد البينونة لأكثر من أربع سنين وادعت أن الزوج راجعها أو وطئها بشبهة فالولد منه، فالقول قوله أنه لم يراجعها ولم يطأها، فإن نكل لم تحلف المرأة ههنا فما الفرق؟ قلنا: من أصحابنا من جعل المسائل كلها على قولين هل ترد اليمين عليها أم لا؟ ومنهم من فصل بأنه في مسألة دعوى الاستعادة أو كون الولد من زوج قبله لنقصان المدة فراشًا قائمًا في الحال فيحلف على ثبوت النسب بعد وجود سببه، وفي دعواها وطئ شبهة الفراش مرتفع في الظاهر، وإنما تدعي سببًا حادثًا من رجعةٍ أو طئ شبهةً فلا يقبل قولها. قال القفال: وعندي مسألة دعوى نقصان المدة كمسألة دعواها المراجهة وهو ينكر أنها باتت به على فراشه. فأما مسألة دعوى الاستعادة فتحالفها لما ذكرناه، ولو قال: أنا عقيم، وهي عقيمة وليس الولد مني، قيل له: هذا ظن. وهكذا لو قال: هي عاقر [ق 4 أ] لأنه يجوز أن تلد العاقر ويولد للعقيم، وهذا نبي الله تعالى زكريا صلى الله عليه وسلم قال: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ} [مريم: 8] وقد بلغني الكبر {وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا} [مريم: 8] فأجابه الله تعالى: {قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: 9] فجاءها الولد بعد اليأس فإذا صدقها على الولادة لا ينتفي عنه بهذا القول إلا أن ينسبه إلى وطئ رجل على فراشه مما يجوز أن يلاعن عليه فينتفي عنه بلعانه. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ قَالَ لَهَا: مَا هَذَا الحَمْلُ مِنِّي وَلَيْسَتْ بِزَانِيَةً وَلَمْ أُصِبْهَا" قِيلَ: "قَدْ تُخْطِئُ فَلَا يَكُونُ حَمْلًا فَيَكُونَ صَادِقًا وَهِيَ غَيْرُ زَانِيَةٍ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ". الفصل: إذا قال لها: هذا الحل ليس مني ولست بزانية ولم أصبك قلنا له: يجوز أن يكون

ريحًا فسفس فلا يكون حملًا فتكون أنت صادقًا في قولك وتتربص حتى تستيقن أنه حمل، فإذا استيقنه الولادة قلنا له: يجوز أن يكون قد أخذت واستدخلتها فحملت منك فتكون صادقًا في قولك ما وطئتها ويكون الولد منك وإن لم يقل ذلك وأصر على نفيه. قال الشافعي ههنا: قلت له: إن قذفت لاعنت. وظاهر هذا يدل على أنه لا يصح اللعان حتى يتقدمه قذف، وقال بعد هذا: وإن قذفها لاعنها، وقال أيضًا: وإنما أوجب الله تعالى اللعان بالقذف فلا يجب بغيره. وهذا أيضًا يدل على أنه يلاعن إذا قدم القذف وإلا فلا يلاعن، وقال بعده: ولو قال: لم تزن هي ولكنها عصت لم تنفِ عنه إلا باللعان. فأجاز اللعان من غير قذف. وبيان المذهب فيه أنه مسائل: أحدها: إذا قال: ما هذا الحمل مني وليست هي بزانية فهذا لا يلاعن بهذا القدر من الكلام؛ لأن الولد يلحق به بالفراش، فإذا قال: [ق 4 ب] ليس مني لم يقبل منه حتى ينسبه إلى وطئ غيره لا يلحق بوطئ نسب. والثانية: أن يقول له: ما هذا الولد مني هو ولد زنى من فلان بعينه، فهذا يلاعن قولًا واحدًا، ومثل هذا كانت قضية هلال بن أُمية. والثالثة: أن يقول: هو ولد زنى ولم يقل من فلان بعينه فله اللعان أيضًا، ومثل هذا كانت قضية العجلاني. والرابعة: أن يقول: ما هذا الولد مني وإنما هو من فلان وطئها بشبهة بأن وجدها على فراشه فظنها زوجته وهي ظنت أنه زوجها، لا يكون قاذفًا لهما ولا يجب الحد، فإن كان حملًا لا يلاعن لجواز أن يكون ريحًا على ما ذكرنا. فإن وضعته، قال أبو حامد، وجماعة: لا يلاعن قولًا واحدًا؛ لأنه وطئ شبهة يجوز لحوق الولد به إن ألحقته القافةَ به فينتفي عنه بغير لعان، وإذا أمكن نفي النسب بغير لعان لم يجز أن يلاعن لنفيه لولد الأمةَ لما جاز أن ينتفي بدعوى الاستبراء لم يلاعن، وهذا لا يصح لأنه يجوز أن ينكر فلان المرمى به الوطء فلا يلحقه الولد، ولو أقر بالوطئ يجوز أن لا تلحقه القافةَ به، والصحيح أن يقال: ينظر فإن أقرّ فلان بوطئها وصدقه على ما قال، فلا لعان، وتدعى له القافة، فإن ألحقوه بالمرمى بوطئها انتفي عن الزوج بلا لعان، وإن ألحقوه بالزوج اضطر إلى نفيه باللعان، وهل يجوز لعانه منه بغير قذف؟ قولان: أحدهما: وهو الأصح، وبه قال أبو إسحاق يصح، لأن هذا الوطء مفسدة لفراسه كالزنى فكان له اللعان، ولأنه إذا اعترف أنهما لم يزنيا لا يجوز أن يكذب عليهما في رميهما بالزنى، فعلى هذا يقول في لعانه: أشهد بالله، أني لمن الصادقين فيما رميتها به

من إصابة غيري لها على فراشي [ق 5 أ] وأن هذا الولد من تلك الإصابة ما هو مني، فإذا أكمل لعانه انتفي عنه النسب ولم تلاعن المرأة بعده؛ لأن هذا اللعان لا يوجب الحد عليها؛ لأنه قد أثبت وطء شبهة لا يوجب الحد، ولعانها مقصور على إسقاط الحد، وهو اختيار مشايخ الخرسان. والثاني: وبه قال المزني وهو مخرج من كلام محتمل للشافعي أنه لا يجوز أن يلاعن منه حتى يتضمنه قذف يوجب الحد؛ لأن اللعان مقام خزي فلم يجز إلا أن يكون مثله، ولأن فحوى الكتاب ونص السنة جاءت بمثله، فعلى هذا في كيفية قذفه وجهان: أحدهما: تصريح الزنى حكام أبو حامد. والثاني: لمعارض الزنى كقوله: فجرت بوطئ غيري، أو وطئت وطئًا حرامًا لئلا يصرح بتكذيب نفسه، وهذا أشبه، فإن وقع الاقتصار منه على معاريض القذف بتلفظ في لعانه كقوله: أشهد بالله أني لمن الصادقين فيما رميتها به من وطء الفجور، أو من وطء الحرام، وأن هذا الولد ما هو مني ولا يلزمها أن تلاعن بعده سواء أضاف الفجور إليها أو إلى الوطئ، لأنه كتابه لا يوجب الحد، وإن قلنا: لابد من القذف الصريح، فإن قذفها لاعن ولا عنت. وقوله في الأول: لا أقذفها لا يمنع من قذفها، لأن الرجل قد يمتنع عن قذف شخص ولو قذفه كان صادقًا، وإن قذفه دونها لاعن ولم تلاعن بعده، وإن قذفها دونه لاعن ولاعنت بعده؛ لأن لعانه من قذفها موجب للحد عليها فلم يسقط إلا بلعانها، ولعانه من قذف الواطئ وحده موجب للحد عليها فلم يحتج فيه إلى اللعان. والخامسة: أن يقول: وطئك فلان بشبهة وكنت عالمة بأنه أجنبي، فههنا قذفها دونه فيجوز على مذهب الشافعي [ق 5 ب] أن يلاعن لنفي النسب وسقوط الحد؛ لأن هذا الوطء مفسد لفراشه على ما ذكرنا. وقال أبو حامد: لا يلاعن لنفي النسب؛ لأن وطء شبهة وفي حق الرجل يوجب لحقوق الولد به إن ألحقته القافة فينتفي عنه بغي لعان، وقد أبطلنا هذا. والسادسة: أن يقول فلان: أكرهك على الوطء، أو وطئك وأنت نائمة ولست بزانية، وما هذا الولد مني، فههنا قذفه ولم يقذفها يجوز أن يلتعن بهذا القذف وينفي ولدها سواء سمي المكره أم لا. وحكي المزني في جامعة الكبير: إن سمي المكره لاعن، وإن لم يسمه لا يلاعن لأن الحد يجب عليه إذا سماه ولا يجب إذا لم يسمه. واللعان عندنا لا يجوز إلا في قذف يوجب الحد، قال الإمام صاحب "الحاوي" نظرت في جامعة الكبير فلم أره مصرحًا بذلك، وإن كان كلامه محتملًا، فإن صح عنه هذا فهو باطل لأمرين:

أحدهما: أن تسمية المقذوف [ليست] من شروط اللعان ولا سقوط الحد بمانعٍ من لعانه من نفي النسب كما في المجنونين، إذا قال: زنا هذا المجنون بهذه المجنونة وما هذا ولدي. والثاني: أنه لما كان هذا الوطء في إفساد الفراش كغيره وجب أن يساويه في نفس النسب بلعانه. وقيل: فيه قولان أيضًا؛ لأنه تجرد عن قذف أحد الواطئين كما لو لم يقذف الواطئ وقذفها على ما ذكرنا وهذا لا يصح، وأراد الشافعي بالقذف حين قال: "إن قذفها لاعنها" أن لا يقتصر على قوله ليس مني حتى ينسبه إلى وطء لا يلحق به النسب؛ لأن المقصود أن يُبرأ يلحق الولد جهةً محتملةً. واعلم أن المزني نقل منها في أثناء المسائل. ولو نفي ولدها، وقال: لا ألاعنها ولا أقذفها لم يلاعنها ولزمه الولد. وقال أبو إسحاق [ق 6 أ] قال في الأم بخلاف ما حكاه المزني قال فيه: "ولو نفي ولدها، وقال: ألاعنها ولا أقذفها لم يلاعن، وهذا هو الصحيح وذلك غلط من المزني في النقل وتعليله يدل عليه؛ لأنه قال بعده؛ وإذا قذفها لاعنها لأنه إذا لاعنها بغير قذف فإنما يدعي أنها لم تلده، فدل أن المسألة الأولى إذا أراد اللعان وامتنع من القذف كما ذكره في "الأم" ومن هذا قال بعض أصحابنا: إنه لابد من قذف يوجب الحد، وقد ذكرنا أن الصحيح خلاف هذا والمراد باعتبار الفرق ما ذكرنا. فرع: لو قال: رأيت رجلًا يطأها ثم قال: عنيت زوجها قُبل وحلف، فإن نكل حلفت بالله أنه أراد قذفها فيحد، وإن لم يقل شيئًا، وقال: ما نويت بقول آخِرًا فيه وجهان: أحدهما: لا شيء عليه. والثاني: أنه يحلف أنه أراد قذفها فيحد. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ قَالَ لاِبْنِ المُلَاعِنَة لَسْتَ بابْنِ فُلَانٍ أُحْلِفَ مَا أَرَادَ قَذْفَ أُمِّهِ" الفصل: إذا قذف زوجته ونفي الولد فقال لهذا الولد: لست بابن فلان لم يكن قاذفًا لابنه،

لأنه لفظ يحتمل القذف وغيره، وهو أنه يريد أن ثلاثًا قذفناك فلست بابنه، فإذا لم يكن قاذفًا سألناه عن مراده، فإن قال: أردت أم أمه أتت به من زنى فقد قذف أمه، فإن كانت محصنة يلزم الحد، وإن كانت نصرانية أو أمة فعليه التعزير، وإن قال: ما أردت أن أمه زنت وإنما أردت أن أباه قد نفاه باللعان نظر، فإن صدقته أمه فيما فسره فلا شيء عليه، وإن كذبته وقالت: هل أردت قذفي؟ فالقول قول لأنه أعرف نيته، فإن حلف برئ من الحد ولكنه يعزر للأذى؛ لأنه ليس له أن يحدد عليه ذكر نفيه، وإن نكل رددنا اليمين عليه، فإن حلف ثبت أنه قذفها فإما أن يكون عليه الحد [ق 6 ب] إن كانت محصنة أو التعزير إن لم تكن محصنة، ثم قال الشافعي: ولو قال ذلك بعد أن أقَرَّ به الذي نفاه وحُدَّ إن كانت امرأته حرة إن طلبت الحد والتعزير إن كانت نصرانية أو أمة، فجعل هذا قذفًا لأمه في الظاهر إذا كان الملاعن أكذب نفسه واستلحق نسبه. قال المزني: قد قال في الرجل يقول لابنه: لست بابني أنه ليس بقاذف لأمه حتى يسأل، لأنه قد يمكن أن يعزيه إلى حلال. واختلف أصحابنا فيه على طرق: إحداها: أنه ينقل الجواب من كل واحدةٍ من المسألتين إلى الأخرى فيخرج على قولين، واختار المزني لا يكون قذفًا فيهما للاحتمال. والثانية: أنه يحتمل النصان على ظاهرهما ففي الأجنبي يكون قذفًا لها بخلاف الأب، والفرق أن الأب لا يستغني عن تأديب ولده تارة بالكلام وتارة بالضرب، فربما يقول: هذه المقالة ومراده زجر وتأديب وتغليظ عليه، فلهذا جعلناه من جهته كناية. وأما الأجنبي فقد أغناه الله تعالى عن مخاطبة ولد الأجنبي بمثل هذه المقالة فجعلنا منه قذفًا صريحًا ظاهرًا، وهذا اختيار القفال وهو حسن. والثالثة: أنه لا فرق بينهما ويكون قذفًا منهما في الكلام، والذي قاله المزني في الأب إذا قال ذلك قبل استقرار نسبة حال وصفه، فإنه يحتمل أن يكون معناه أنها لم تلد ولكنها استعادته أو التقطته، وإن قال الأب ذلك بعد استقرار نسبه يكون قذفًا لها. ويحكى هذا عن أبي إسحاق. والرابعة: أنه لا فرق بينهما ويكون كناية معًا في الظاهر، يحكى أن هذا عن أبي إسحاق وهو ضعيف؛ لأن الشافعي فرق بينها وبين ذلك بعد الاستلحاق أو قبل الاستلحاق وفي كونه كناية لا فرق. فإذا تقرر هذا وجعلناه قذفًا لها في الظاهر [ق 7 أ] من الأجنبي فقال: أردت أنك لم تكن ابن فلان حين قال بلعانه، وإن صرت ابنًا له بعد الإقرار يُقبل مع يمينه ولا يلزمه الحد لإمكان ما قال، فإن قيل: أليس لو قال: يا زانية ثم قال: أردت زنى العين لم يُقبل؟ قيل: لأنه قذف صريح في الظاهر والباطن فلم ينو، وههنا تعريض بقذف في الظاهر دون الباطن فجاز مع الاحتمال أن ينوي. وإن كان الابن ثابت النسب لم يجز عليه لعان يقال:

أحس هذا كان قذفًا في الظاهر والباطن لأنه لا احتمال فيه، نص عليه الشافعي. وحكي المزني عنه في الأب أنه إذا قال لابنه: لست بابني لا يكون قذفًا فاختلف أصحابنا فيه على طرق: أحدها: فيها قولان: أحدهما: أنه صريح منهما بالقذف. والثاني: لا يكون صريحًا لأنه يحتمل أنه ليس ابنه للاختلاف في الأفعال والأخلاق، فعلى هذا ماذا حكمه؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون قذفًا في الظاهر دون الباطن اعتبارًا بالأغلب من حاليه، فعلى هذا يؤاخذ بالحد إلا أن يقول: لم أرد به القذف وحلف. والثاني: أنه كناية ينوي فيه ولا يحد إلا أن يريد به القذف بخلاف المستلحق، والفرق أن المستلحق لما اعتل نسبه باللعان صار الظاهر من نفيه قذف ابنه وغيره لم يعتل نسبه، فصار الظاهر من نفيه مخالفة أبيه في أفعاله وأخلاقه. والثانية: وهو اختيار ابن أبي هريرة يحمل المصاف على ظاهرهما والفرق ما ذكرنا. والثالثة: الذي قال لا يكون قذفًا إذا لم يكن عند ولادته قبل استقرار نسبه فلا يكون قذفًا منهما والذي قال: يكون قذفًا منهما والفرق أن النسب ضعيف قبل استقراره بخلاف ما بعد استقراره وهو اختيار أبي إسحاق. مسألة: قَالَ: "وَإِذَا نَفَيْنَا عَنْهُ وَلَدَهَا بِاللِّعَانِ، ثُمَّ جَاءَتْ بَعْدَها بِوَلَدٍ لأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ مَا يَلْزَمُهُ [ق 7 ب] لَهُ نَسَبُ "وَلَدِ" المَبْتُوتَةِ فَهُوَ وَلَدُهُ إِلَّا أَنْ يَنْفِيَهُ بِلَعَانٍ". إذا قذف زوجته ونفي النسب ثم أتته بولد بعد هذا النفي لا يخلو إما أن يكون لاعن على الولد أو على الحمل، فإن كان لعانه على الولد مثل أن يقذفها وهي حامل فلم يلاعن حتى وضعت ثم لاعنها ونفاه، أو قذفها بعد الوضع ونفاه ثم أتت بولدٍ بعد هذا الولد لا يخلو إما أن تأتي بالثاني لدون ستة أشهر من وضع الأول أو لستة أشهر، فإن كان لدون ستة أشهر فهو الأول حمل واحد؛ لأن الله تعالى أجرى العادة إذا كان بينهما دون ستة أشهر أن لا يكونا إلا من ماء رجلٍ واحدٍ ولا يجوز أن يكونا من ماء رجلين، فإن أراد نفي الثاني فعليه أن يلتعن حتى ينفيه؛ لأنه أفرد ففي الأول باللعان فلا يكون نفيًا للثاني احتياطًا للنسب، فإنَّا إذا عرضنا عليه اللعان ربما يمتنع فيلحقه الولدان جميعًا، ولهذا نقول: يلحق النسب بالإقرار وربما يستدل به على الإقرار من السكوت

وغيره، ولكن لا ينفي إلا بالصريح. وإذا لاعن ثانيًا لنفي الولد الثاني هل يحتاج إلى ذكر الولد الأول في لعانه؟ قال بعض أصحابه بخراسان: فيه وجهان؛ الأشهر أنه يحتاج إليه والأقيس عندي أنه لا يحتاج إليه، وإن لم ينفه ولكنه سكت أو استلحق الثاني لحقه الأول معه؛ لأنه لا يجوز أن ينفي بعد الحمل دون بعض، وإن أتت به لستة أشهر فصاعدًا من حين وضعت الأول فالثاني حمل ثانٍ؛ لأن الله تعالى أجرى العادة إذا كان بينهما ستة أشهر أنهما حملان، فيصح أن ينفي أحدهما دون الآخر، ثم نظر فيه، فإن نفي الثاني باللعان فلا كلام، وإن سكت أو استلحق لم يلحقه الأول؛ لأنهما حملان فيصح نفي أحدهما دون الآخر، هذا كله إذا كان [ق 8 أ] اللعان على الولد، فإن كان اللعان على الحمل فقد بانت وانتفي حملها منه، فإن وضعت ولدًا كان منفيًا عنه بذلك اللعان، فإن وضعت آخر لا يخلو إما أن تأتي به لدون ستة أشهر من حين وضعت الأول أو لستة أشهر، فإن أتت به لدون ستة أشهر فالحمل واحد والحمل منفي عنه بذلك اللعان، لأن اللعان على الحمل إشارة إلى جميع ما يشتمل عليه الرحم، فهو كما لو أشار في اللعان الواحد إلى الولدين معًا بعد الولادة فيجوز، وإن أتت به لستة أشهر فصاعدًا من حين وضعت الأول، والثاني منفي عنه بغير لعانٍ لأنها تقطع أنها حملت به بعد البيتوتة وانقضاء العدة. فإن قيل: أليس إذا بانت زوجته بطلاقٍ أو لعانٍ أو غير ذلك فانقضت عدتها بغير الوضع، ثم أتت بولدٍ لدون أربع سنين من حين البيتوتة لحق به الولد إلا أن ينفيه باللعان، فلم قلتم أنه إذا انقضت عدتها ههنا بالوضع ثم أتت بولد لأكثر من ستة أشهر لا يلحق؟ قلنا: الفرق أن هناك حكمنا بانقضاء عدتها طاهرًا ويجوز أن تكون قد حاضت على الحمل فألحقنا به الولد وههنا قطعنا ببراءة رحمها بوضع الحمل فلا يمكن أن يكون هذا الولد الثاني منه فلم يلحق به. وذكر بعض أصحابنا بخراسان ههنا أنه إذا لم يلاعن لنفي الثاني لحقه دون الأول لاحتمال أنها علقت به بعد وضع الأول وهو غلط ظاهر. فرع: لو أتت بولد فلاعنها ونفاه، ثم أتت بولد آخر لأقل من ستة أشهر فقال: لا أنفي ولا ألاعن كان إقرارًا أو تكذيبًا لنفسه في الأول فيلحق به الولدان جميعًا، ولو قال: أنفيه ولكني لا ألاعن والنفي باللعان الأول لم يكن إقرارًا منه، وقلنا: أنت في قولك أكتفي باللعان الأول مخطئ ولابد لك من استئناف اللعان [ق 8 ب]. فرع آخر: قال القفال: إذا قال: لا ألاعن لنفي الولد الثاني لا يحد إلا أن يقر بالثاني صريحًا، فيكون قد كذب نفسه في الولد الأول فيحد؛ لأنه كان في لعانه معاضلة آخر من وقوع الفرقة، وكذا الحد فسكوته عن الولد الثاني لم يبطل أصل لعانه ولا جميع مقصوده

باللعان الأول فلا يجعل مكذبًا نفسه، ولا يكون كأنه لم يلاعن أصلًا، ويفارق هذا إذا كانت الولادة بعد البينونة بالطلاق أو غيره فنفاه باللعان بعد الولادة، ثم جاءت بولد آخر لأقل من ستة أشهر، وقال: لا ألاعن لنفي الولد الثاني يلزمه الحد لأن لعانه لم يعمل إلا عملًا واحدًا، وإذا أبطله بالامتناع من نفي الثاني باللعان جعل كأنه لم يلاعن ويلزمه الحد، وهذا حسن لم يذكره غيره. مسألة: قَالَ: "وَإِذَا وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فِي بَطْنٍ فَأَقَرَّ بِأحدهما وَنَفي الآخَرَ فَهُمَا ابْنَاهُ". الفصل: المسألة مفروضة فيه إذا ولدتهما معًا في وقت واحدٍ، أو أحدهما بعد الآخر وبينهما أقل من ستة أشهر فهما حمل واحد، فإن أقر الزوج بأحدهما ونفي الآخر لحقه معًا؛ لأن الكل حمل واحد، فإذا ألحق بعضه لحق كله، وإن نفاهما معًا باللعان ثبت نسبهما من أمهما وزال نسبهما منه فيرثان أمهما ولا يرثانه. وأما التوارث فيما بينهما إذا مات أحدهما، قد ذكرنا فيما تقدم وقيل: في هذا وفي الولدين من زنا في بطن واحد إذا مات أحدهما ثلاثة أوجه: أحدها: أن أخاه يرثه بقرابة الأم في المسألتين جميعًا. والثاني: يرثه بقرابة الأب والأم، وهو اختيار الداركي لأنهما مخلوقان من ماء رجل واحد، ولا يكون الحمل الواحد إلا من رجل واحد، فإن قيل: لما كانت القرابة منقطعة بينهما وبين الواطئ فكذلك القرابة منقطعة بينهما من جهة الواطئ، قلنا: الشريعة [ق 8 أ] قطعت القرابة من الواطئ تغليظًا عليه لما ارتكب من المعصية، وهذا كما يقول الأب القائل لا يرث ابنه ويرث أخوه بقرابة الأب والأم؛ لأن المانع يخص الأب دون الأخوين كذلك ههنا. والوجه الثالث: أنه يفرق بين ولدي الملاعنة وبين ولدي الزنى، فيرث الأخ من ولدي الملاعنة بقرابة الأب والأم جميعًا، ومن ولدي الزنى بقرابة الأم دون قرابة الأب، لأن ولدي الزنا لا يجوز أن يكون لهما أب، فإنه لو أكذب نفسه وأقرَّ به حلفناه، وهكذا حكاه القاضي الطبري عن ابن أبي هريرة وصاحب الإفصاح، والصحيح الأول وهو المشهور من مذهب الشافعي؛ لأنه لا أب لهما وإذا لم يكن لهما أب لم يجز أن يكون أخًا من الأب، لأن الإخوة فرع الأبوة فإذا لم يثبت الأصل لم يثبت الفرع. وأما قوله: إنه لا يتعدى الأب تغليظًا عليه لا يصح؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن يرثه الابنان بالبنوة ولا يرثهما بالأبوة تغليظًا عليه، فلما كان الإرث منقطعًا من الجهتين

دل على ما قلناه، فإن قيل: الأب لما لم يكن متعينًا لم تثبت الأبوة والأخ. من جهة الأب، قد يتعين، فوجب أن تثبت الإخوة ألا ترى أن الأم لما تعينت ثبتت الأمومة، قلنا: الأب لما لم يتعين لم يثبت أب، وإذا لم يكن أب لم يجز أن يكون أخ من أب، ولأن هذا يقتضي أن الصادق لو أخبر أنه مخلوق من ماء الزاني لم تثبت الأبوة وترثه الأم، فإن ارتكب هذا القائل هذا خالف قول النبي صلى الله عليه وسلم: "وللعاهر الحجر". فرع: إذ لاعن من زوجته الابنة حرمت عليه، ولو اشتراها بعد ذلك لم يحل له وجهًا واحدًا، ولو اشترى للمطلقة الثلاث حلت له في أحد الوجهين، والفرق أن تحريم الطلاق [ق 9 ب] لا يتأبد لأنها تحل بعد زوج آخرٍ وإصابته؛ بخلاف تحريم الملاعنة فإنه يتأبد، ولأن تحريم الطلاق يختص بالنكاح فحلت بملك اليمين، وتحريم اللعان لا يختص بالنكاح، لأنه يصح في النكاح الفاسد، وفي البائنة فافترقا. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ مَاتَ أحدهما ثُمَّ الْتَعَنَ نُفِيَ عَنْهُ الحَيُّ والميِّتُ". الفصل: إذا ولدت امرأته ولدين ولم يعترف لواحد منهما بل نفاهما فمات أحدهما لاعن عن الحي والميت جميعًا، فإذا لاعن عليهما انتفيا عنه. واعلم أنه لم يذكر الشافعي لفظ اللعان ههنا، ومراده إن سمي في اللعان الحي والميت جميعًا ولا ينفي عن أحدهما بتسمية الثاني، وإن كانا في بطن واحدٍ لأنهما لا ينفيان إلا معًا ولا يثبتان إلا معًا. وقال أبو حنيفة: يلحقه نسب الحي ويلاعن للقذف، وبنى ذلك على أصله أنه لا يجوز نفي الميت باللعان، وإذا لم ينف الميت لم ينف الحي لأنهما حمل واحد فلا يصح نفي بعضه، واحتج على أن الميت لا يصح نفيه بأنه انقطع نسبه بموته فلا حاجة إلى نفيه باللعان، كما لو ماتت لا يلاعنها بعد الموت لقطع النكاح، وهذا غلطٍ؛ لأن هذا الميت ينسب إليه يقال: هذا ابن فلان فيلزمه تكفينه وتجهيزه فكان له قطع نسبه وإسقاط مؤنته عن نفسه. وأما ما ذكره لا يصح لأنه بيَّنا أنه لم ينقطع نفيه بموته، ولو مات الولدان معًا أو كان مال ولدٌ واحدٌ فمات. قال أصحابنا بالعراق: يلاعن أيضًا للنفي على ما ذكرنا، وقال بعض أصحابنا: لا يلاعن ههنا للنفي ولكن يلاعن لدرء الحد؛ لأنه لا ضرورة إلى اللعان في مثل هذا

الموضع، ثم قال في المختصر: ولو نفي ولدها باللعان، ثم ولدت آخر بعده بيوم فأقر به لزماه جميعًا [ق 10 أ] وقد شرحنا حكمه فيما قبل، ثم قال: وقال بعض الناس -يعني أبا حنيفة- لو مات أحدهما قبل اللعان لاعن ولزمه الولدان وهما عندنا وعنده حمل واحد فكيف يلاعن ويلزمه الولدان؟ قال من قبل: إنه قد ورث الميت منهما، قيل له: ومن زعم أنه يرثه بل إذا لاعن نفي عنه الولدان ولا ميراث له من الميت، وقد ذكرنا هذا أيضًا. مسألة: قَالَ: "وَقَالَ أَيْضًا: "لَوْ نَفَاهُ بِاللَّعَانِ وَمَاتَ الْوَلَدُ فَادَّعَاهُ الأَبُ ضُرِبَ الحَدَّ وَلَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ وَلَمْ يَرِثَهُ الأَبُ". الفصل: هذه حكاية مذهب أبي حنيفة أنه قال: إذا ولدت ولدًا ونفاه باللعان ومات الولد ثم أكذب نفسه وأقرَّ به لا يقبل إقراره ولا يلحق نسبه ولا يرثه، إلا أن يكون خلف ولدًا فحينئذٍ يقبل ويرث، وعندنا إذا أكذب نفسه وأقرَّ به يلحقه سواءً خلف ولدًا أو لم يخلف ترك له مالًا أو لم يترك، ذكرًا أو أنثى والدليل على صحة هذا أن هذا ولد نفاه باللعان، فكان له استلحاقه كما لو كان حيًا أو كان له ولد، ويؤكده أن الأنساب لا تموت بموت الأشخاص وللميت نسب كما للحي نسب، ولا يصح مايقول أصحاب أبي حنيفة: إن الحي يحتاج إلى النسب والميت لا يحتاج إليه إذ ليست الأنساب إلى الحاجة وإنما الأنساب بالوجود. واحتج الشافعي فقال: لا فرق بين أن يترك ولدًا أو لم يتركه؛ لأن هذا الولد المنفي إذا مات فنفي السبب ثم أقرَّ به لم يعد إلى النسب؛ لأنه فارق الحياة بحال فلا ينتقل عنها فلذلك ابن المنفي في معنى المنفي وهذا إلزام عليه. ثم قال: وهو لا يكون ابنًا بنفسه فكيف يكون ابنه بالولد المنفي الذي قد انقطع نسب الحي منه والذي ينقطع به نسب الحي [ق 10 ب] ينقطع به نسب الميت، لأن حكمهما واحد وأراد بهذا الكلام أن إلحاقه به موجب كونه حاقدًا لهذا الرجل ولا يكون حاقدًا إلا بثبوت نسب الواسطة قد مات ونسبه منقطع عندك ولو لم يكن هذا الحاقد موجودًا لم يعد عندك نسب ذلك الميت، فكيف يعود نسب إلحاقه وكيف يجوز أن يصير الأصل تبعًا للفرع؟ ثم نقول لأبي حنيفة أيضًا: إن كانت العلة عندك أنه يتهم باختلاف الميراث فهو محال إذ لا يتهم أحدًا بأنه يلتزم الحد والعار ليرث ولأنه التهمة موجودة إذا خلف ولدًا وثبت النسب بإقراره ولأنه إذا مات معسرًا فالتهمة غير موجودة وعندكم لا يلحقه نسبه ولأنه يتهم باستلحاق الحي الموسر عند إعساره للاحتياج إلى النفقة ويلحقه مع ذلك.

وقال مالك: إن بدأت غنيًا ذا مال يلحق به، وإن كان معسرًا لا يلحق لأن موت الغني باقي العلق وموت الفقير ينقطع العلق، حكاه صاحب الحاوي عنه وهذا غلط لأنه يلحق به نسب الحي فلذلك نسب الميت كما لو كان غنيًا. ثم قال للشافعي: "وَلَوْ قُتِلَ وَاقْتُسِمَتْ دِيَتُهُ ثُمَّ أَقَرَّ بِهِ لَحِقَهُ وَأَخَذَ حِصَّتَهُ مِنْ دِيتِهِ وَمَالِهِ". الفصل: وشرحه قد ذكرناه. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ قَالَ لامْرَأَتِهِ: "يَا زَانِيَةُ: فَقَالَتْ: زَنَيْتُ بِكَ أَوْ بِكَ زَنَيْتُ". فالزوج قاذف وعليه الحد إلا أن يقيم البينة أو يلتعن والزوجة ليست بقاذفة؛ لأن قولها: "بك زنيت" يحتمل القذف وغير القذف، وذلك أنه يحتمل ثلاثة أشياء؛ قذف صريح وهو أن يقول: قد زنيت بي قبل الزوجية أو زنيت بك وأنت غير زانٍ لأنك وجدتني على فراشك فعرفتك أجنبيًا أو ظننتني زوجتم ويحتمل: ما زنيت أنا ولا أنت لقوله: سرقت فيقول: معك سرقت [ق 11 أ] أي لم أسرق كما لم تسرق، فإذا احتمل كل هذا سألناها عن مرادها، فإن أقرب بالقسم الأول فقد اعترفت بالزنى وقذفته فعليها الحدان معًا ويسقط حدّ الزنى وسقط حدّ القذف لأنها قد صدقته، وإن فسرت بالقسم الثالث وأنه ما زنى واحد منا فما اعترفت بالزنا، فإن صدقها فلا حدّ عليها والزوج قاذف، وإن كذبها وقال: بل أردت قذفي والإقرار على نفسك بالزنى فالقول قولها مع يمينها، لأنها في جواب هذا الخطاب لا يبعد أن يريد هذا المراد، وصورة يمينها أنها تحلف أنها ما أرادت الإقرار بالزنى ولا تحلف ما زنت ويكون يمينها في حق الزوج لما يتعلق به من سقوط حدّ القذف عنه لا في حق الله تعالى؛ لأن منكر الزنى لا يحلف، وفي القذف يحلف بالله تعالى أنها ما أرادت قذفه ولا يحلف أنها قذفته، وهل يلزمها في الأمرين يمينًا واحدة أو يمينين؟ قال صاحب "الحاوي": يحتمل وجهين: أحدهما: "يمينًا واحدًا يتعلق الحق فيها بشخص واحد. والثاني: يمينين؛ لأن لكل واحد منهما حكمًا يخالف حكم الآخر، فإن حلفت على الأمرين سقط عنها حدّ الزنى، وحدّ القذف، ووجب عليه حدّ القذف لها إن تلاعنا، وإن

نكلت في الأمرين أحلف الزوج عليها أنها أرادت الإقرار بالزنى وأرادت قذفه بالزنى، وهل يحلف يمينًا أو يمينين على ما ذكرنا من الوجهين. فإذا حلف سقط عنه حدّ قذفها ووجب عليها حدّ قذفه ولم تحدّ للزنا؛ لأنها لا تحدّ في الزنى بيمين غيرها، وإنما كانت يمين الزوج في حقّ نفسه لا في حق الله تعالى. فإن قيل: أليس توجبون حدّ الزنى عليها بلعانة ولعانة يمين عندكم. قيل: اللعان جعل حجة للزوج قائمًا مقام البينة لإثبات الزنى عليها لحاجته إلى ذلك ولهذا يرد تعدد الشهادة فثبت الزنى، وههنا يمينه لأجل ما ادعاه [ق 11 ب] من سقوط حدّ القذف عنه ووجوب حدّ القذف عليها لإثبات الزنى؛ لأنه لو ادعى زناها لم يحلف بحالٍ فافترقا. واعلم أنه لا تسمع الدعوى في الزنى على أحدٍ إلا في مسألة واحدة، وهي أن يقذف رجلًا فيطالب المقذوف بحدّه فيقول القاذف للحاكم: أحلفه أنه لم يزن فإن حلف برئ من الزنى، وإن لم يحلف ردت اليمين على القاذف، فإن حلف سقط عنه حدّ القذف ولم يجب على الناكل حدّ الزنى، وكذلك لو قالت أردت أنه لم يكن وطئ إلا منك، فإن كان ذلك زنا منك فأنت أعلم فالقول لها مع يمينها وهذا احتمال رابع. فرع: لو قالت هذا ابتداءً لزوجها زنيت بك فهذا اعتراف بالزنى وقذف له، فلا يقبل التأويل ههنا منها، لأنها لم تخرج هذا الكلام على وجه المقابلة لكلامه بخلاف المسألة قبلها. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ كَانَتْ قَالَتْ لَهُ: بَلْ أَنْتَ أَزْنَى مِنِّي فَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا لأَنَّهُ لَيْسَ بِقَذْفٍ إِذَا لَمْ تُرِدْ بِهِ قَذَفًا". الفصل: إذا قال لها: يا زانية فقالت في الجواب: بل أنت أزنى مني يكون كناية في الجواب، ويحتمل الاحتمالات الأربعة وهي أنك زنيت بي قبل النكاح وكنت أزنى مني لاختصاصك بالفعل. والثاني: أني ما زنيت ولا أنت إذا لم يطأني أحد غيرك، فإن كنت به زانية فأنت أزنى مني فإنك أنت الواطئ والداعي إليه والحامل عليَّ. والثالث: أني ما زنيت فإني وجدتك على فراشي فظننت أنك زوجي وأنت عرفت أني أجنبية.

والرابع: أني ما زنيت ولا أنت وأنه لم يطأني سواك. فإن قالت: أردت القسم الأول فقد أقرت بالزنى وقذفته، وقد سبق حكمه، وإن قالت: أردت القسم الثاني فالقول قولها على ما ذكرنا، وإن قالت: أردت القسم الثالث فقد قذفته [ق 12 أ] وما أقرت بالزنى ولكنها أقرت بوطء حرام فسقط حدّ قذفها ويجب له حدّ القذف عليها، والقسم الرابع راجع إلى القسم الثاني، وقيل: يحتمل ههنا القسم الرابع وليس كذلك على ما ذكرنا من البينتين. فرع: لو قالت في الابتداء هذا القول هل يكون كناية كالجواب أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون كناية كالجواب؛ لأن أزنى صفة محتملة فاستوت في الابتداء والجواب. والثاني: قاله الداركي أنه قذف صريح عند الابتداء؛ لأنه يكون في الجواب إذًا فجعل كناية وفي الابتداء يكون جرحًا فكان صريحًا كقولها: زنيت بك في الجواب كناية، وفي الابتداء صريح. وقال مالك: هذا اللفظ صريح فيها يوجب الحد بكل حالٍ، وهو بناء على أصله في أن معاريض القذف له صريح يوجب الحد. مسألة: قَالَ: "وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ أَزْنَا مِنْ فُلَانَةَ أَوْ أَزْنَا مِنْ النَّاسِ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَذْفًا إِلَّا أَنْ يُريدَ بِهِ قَذْفًا". إذا قال لها: أنت أزنا من فلانة لم يكن قذفًا بظاهره؛ لأنَّا لا نعلم أن فلانة زانية ولم يذكر هو أن فلانة زانية، فإن قيل: هذا اللفظ يوجب كونها زانية لأن أفعل يقتضي الاشتراك، ألا ترى أنه إذا قيل فلان أكرم من فلان يقتضي الكرم لهما، قلنا: قد ترد كلمة أفعل مقتضيًا للاشتراك، وقد يرد سلب الاشتراك، ألا ترى قوله تعالى: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرًّ} [الفرقان: 24]، ولا خير لأهل النار ولم يتضمن الاشتراك، وإذا ثبت هذا قيل له: ما أردت؟ فإن قال: ما أردت القذف لأن فلانة ليست بزانية وإنما أردت بذلك النفي، فإن صدقته فلا كلام وإن كذبته فالقول قوله مع يمينه، ولو قال: أردت أن فلانة زانية وأنت أزنى منها، أو قال في الابتداء هكذا كان قذفًا صريحًا. وحكي عن المزني أنه لا يكون صريحًا ههنا أيضًا [ق 12 ب] وهذا غلط ظاهر لما ذكرنا. وقال صاحب "الحاوي": هكذا ذكر أصحابنا والصحيح عندي أنه إذا قال: أنت

أزنى من (فلانة) يكون قذفاً صريحاً لزوجته وكنايه في قذف فلانة، لأنه صريح فيها بلفظ الزني، وأدخل ألف المبالغة زيادة في تأكيد القذف كما دخلت الألف في أكبر مبالغه للتعظيم، فالمبالغة إن لم ترد في هذا القذف شراً لم ترد خيراً. وأما في فلانة يحتمل الاشتراك ويحتمل السلب كقول القائل: زيد أعلم من عمر ويكون تشريكاً بينهما في العلم وتفصيل زيد على عمرو والسلب ما ذكرنا في أهل النار فيرجع فيه إلى إرادته. وأما إذا قال: أنت أزنى الناس لا يكون قاذفاً صريحاً للمعنى الذي ذكرنا، ولأنًا نتحقق كذبه فإن الناس كلهم ليسوا زناة ولا تكون هي أزني من جميعهم، وقال صاحب " الحاوي ": الصحيح عندي أنه يكون قذفاً صريحاً، لأن لفظ المبالغة في الصفة إذا أضيف إلى جماعة فيهم مشارك فيها ومخالف حملت علي المشاركة في إثبات الصفة ولا تحمل علي المخالفة في نفيها، كما لو قال: زيد أعلم أهل البصرة ومعلوم علماء وغير علماء كان محمولاً علي إثبات علمه في التشريك بينه وبين علمائها، ولا يحمل على نفيه في التشريك بينه وبين جهالها فيحمل ههنا أيضاً على مبالغة إضافته إلي الزيادة، وإن كان في الناس زناة وغير زناة وليس في القذف أبلغ من هذا، لأنه جعله أزنى من كل زانٍ وأيضاً لو قلنا لا يكون صريحاً لما ذكر من التعليل من تيقن كذبه لخرج بهذا التعليل من كنايه القذف أيضاً فلا يصير قذفاً، وإن أراده، لأن القذف ما احتمل الصدق والكذب. فأما ما قطع فيه بالصدق، أو قطع فيه بالكذب لا يكون قذفاً كما لو قال لبنت شهر: زنيت لا يكون قذفاً وكذلك لو قذف من ثبت زناها لم يكن قذفاً بصحته. وحكي عن المزني أنه قال: لا يكون كناية أيضاً لهذه العلة، ولكنه لم يوجد هذا في مختصره ولا في جامعه [ق 13 أ] ولو قال: أردت أنها أزنا من زناة الناس فقد قذفها صريحاً وعليه الحد لها، ولا يكون قاذفاً لزناة الناس لأنهم غير متعينين. وكذلك لو قال في الناس زناة وأنت أزنى منهم. قال أصحابنا: ولو قال الناس كلهم زناة وأنت أزنى منهم لا يكون قذفاً، لاَنَّا نعلم كذبه فإن الناس كلهم ليسوا زناة، وكذلك لو قالوا لامرأة: أنت زانيه، ثم قال لامرأته: وأنت أزنا منها كان قاذفاً لهما، ولو قال لامرأته: وأنت أيضاً فيه وجهان: أحدهما: يكون قاذفاً. والثاني: يكون كنايه كما لو قال: أنت كهي أو شريكتها. وكذلك لو قال: أنت أزنى من أهل طبرستان لا يكون قذفاً لما ذكرنا أن أهل طبرستان كلهم ليسوا بزناه إلا أن يقول: أردت أنك من زناه أهل طبرستان فيكون قذفاً، لأنه لو صرح هكذا كان قذفاً أيضاً.

قال القفال: لو قال: أنت أزنى من فلان ثم ثبت زنا فلان باعترافه أو ببينه لم يُحد، لأنه يقول: ما قذفته ولا عرفت زناه، وقيل: فيه وجهان هل يلزم الحد أم لا؟ فإن اعترف أنه كان عالماً بزني فلان لزمه الحد لهذا الذي خاطبه بقوله: أنت أزنى من فلان، ولا يلزم لفلان بهذا الاعتراف الذي حصل إلا أن البينة قامت على زناه ويعزر لفلان للآمدي. مسألة: قَالَ:" وَلَو قَالَ لَهَا: يَا زَانٍ هَذَا قَذُفاً وهَذَا تَرْخِيمٌ كَمَا تَقُولُ لِمالِكٍ يَا مَالِ، ولِحَارِثَ يَا حَارِ ". إذا قال الرجل للمرأة: يا زان كان قذفاً في المشهور من المذهب. وقال الداركي: سمعت أبا محمد الفارسي يقول: قال الشافعي في كتاب الدعوى والبينات لا يكون قذفاً. قال الداركي: وطلبت ذلك فيه فلم أجده وهذا ليس بمشهور، وإنما قلنا كذلك لأن كل كلام فهم معناه لزم القائل حكمه، وإن كان لحناً. كما لو قال: زنيت بفتح التاء أو قال له: زنيت بكسر التاء كان قذفاً بالإجماع، ولأن قوله: [ق 13 ب] يا زان خطاب لها وإشارة إليها ويلحقها المعرة بذلك في هذا القول. وحدّ القذف لدفع المعرة فلا يضر ترك هاء التأنيث، ولأنه يحتمل أن يريد به يا شخص زان فكان قذفاً، لأنه لو صرح هكذا كان قذفاً بالإجماع، ولأن هذا اللفظ صحيح في اللغة وتسقط الهاء للترخيم كما قال الشافعي، وقال محمد، وابن داود لا يكون هذا قذفاً ولا يجوز أن يكون ترخيماً، لأن الترخيم في الأسماء الأعلام ولا يدخل الترخيم في الأسماء المشتقة، ولأن هاء التأنيث إذا رخمت يجب أن يبقى الحرف الذي قبله على جهته. فأما الترخيم الهاء والحرف الذي قبله لا يجوز وهذا غلط، لان الترخيم ورد في اسم الفاعل فإنهم يقولون للصاحب: يا صاح وللمالك يا مال وللحارث يا حا وهذه أسماء مشتقه، وقد وردت مرخمة. وأما حذف الحرف الذي قبل هاء التأنيث يجوز إذا كان حرف عله. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأبي هريرة: " يا أبا هر " وقد تحذف العرب أكثر من حرف ترخيماً كما قالوا في عثمان: يا عثم، ولمروان يا مرو, ولمنصور يا منص، فبطل ما قالوه. وحكي حرملة هذه المسألة بالياء فقال: لو قال: يا زاني كان قذفاً. مسألة: قَالَ: " ولَو قَالَتْ لَهُ: يَا زَانِيَهُ أَكْمَلَتِ القَذْفَ وزَادَتْ حَرْفاً أَو حَرْفَيْنِ ". إذا قالت لزوجها أو لأجنبي: يا زانية، أو قال أجنبي لأجنبي: يا زانيه كان صريحاً في القذف، وبه قال محمد وأحمد، وقال أبو حنيفة، وأبو يوسف: لا يكون قذفاً لأنها

وصفته بصفه النساء في الزنى، والزنى من الزني التمكين وهذا الوصف من الرجال مستحيل فلا يكون قذفاً. وهذا غلط لأن العلامة الفاصلة بين الذكور والإناث سقط اعتبارياً [ق 14 أ] عند الإشارة إلي العين كما لو قال لأمته: أنت حر ولعبده أنت حرة. وأما ما ذكره لا يصح لأنه لوقال لها: يا زان جعل قاذفاً بالإجماع وقد وصفها علي زعمك بصفه الرجال في الزنى، والزنى في الرجال الإيلاج وذلك في النساء مستحيل. فإن قلتم: مرادنا زانية ولكنه أسقط الهاء لمعني من المعاني قلنا: وكذلك مرادها يا زان ولكنها ألحقت الهاء لمعني المبالغة كما يقال: فلانة راويه الأخبار إذا كان كثير الرواية لها، وفلان نسابة وعلامة، وقال الله تعالى: {بَلِ الإنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)} [القِيَامَة: 14]، وقال الله تعالى: {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ (1)} [الهُمَزة: 1]. ثم قال لها المزني قال الشافعي: " قال بعض الناس - يعني أبا حنيفة - إذا قال لها: يا زان لا عن أوحُدَّ " لان الله تعالي قال: {وقَالَ نِسْوَةٌ فِي المَدِينَةِ} [يُوسُف: 30] ولو قالت له: يا زانية لم يُحدّ، قال الشافعي: "وهذا جهل بلسان العرب إذا تقدم فعل الجماعة من النساء كان الفعل مذكراً مثل قال نسوه وخرج النسوة وإذا كانت واحدة فالفعل مؤنث مثل قالت: وخرجت وجلست " ومراد الشافعي أبطل تعليل أبي حنيفة حيث علل فقال: إذا قال لها: يا زان كان قذفاً، لأن الله تعالي قال: وقالت نسوه وإنما التعليل ما ذكر الشافعي أنه ترخيم، والترخيم عاده مشهورة في كلامهم. فأما إطلاق الزاني والسارق للمؤنث لا علي طريق الترخيم لا يجوز في كلام العرب بحالٍ، فإن قال قائل، قال الشافعي إذا قالت له: يا زانية أكملت القذف وزادته حرفاً أو اثنين ونحن نعلم أن مقدار الزيادة لا يخفي علي الشافعي فلم أخرج كلامه مخرج للشك؟ قيل: الفاعل إذا كان من باب الناقص مثل الرامي. وقد قال الشافعي: المعروف في كلام العرب أنهم يقولون زنا بغير همز إذا أراد والفاحشة وزنا بالهمزة إذا أرادوا الترقي في الجبل، فكيف يجعل صريحاً في القذف وهو يحتمل معني الصعود؟ فإن قيل: إذا أرادوا منه الصعود قالوا: زنا علي الجبل، وإذا قالوا: زنا في الجبل لم يصلح ذلك اللفظ للصعود وظاهره الفاحشة. قلنا: ليس كذلك بل يستعمل هذا اللفظ مهموزاً مع كلمه في والمراد به الصعود. وقال ابن السكيت في كتابه حكاية عن امرأة من العرب ترقص ابنها وتقول: أشبه أبا أمك أو أشبه جمل ... ولا تكونن كهلوف وكل [ق 10 أ]. يصبح في مضجعه قد انجدل وأرق إلي الخيرات زنا في الجبل وقوله: " أشبه أبا أمك " يعني أباها الذي هو جد لأمه، أو أشبه جمل هو اسم نجيب من قومه ولعله أبوه، ومعناه أشبه هذا وهذا، ولا تكن كهلوف. والهلوف: الرجل الجافي

العظيم. والوكل: ومعناه: لا تكونن رجُلاً ثقيل الجسم مسترخياً يصبح في مضجعه قد انجدل، يعني وقع علي الأرض، لأن الأرض الجدالة. وأرق إلي الخيرات معناه اصعد إليها، زنا في الجبل: أي كصعودك في الجبل والراعي والزاني فللعرب فيه لغتان، منهم من يثبت الياء ومنهم من يحذفها. وكذلك [ق 14 ب] وردت القراءتان في قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ} [القَمَر: 6] ويوم يدعو الراعي، وكذلك يوم ينادي المنادي، ويوم ينادي الناد، وكذلك جابوا الصخر بالواد، وبالوادي، فمن كانت لغته الزاني إثبات الياء يقول في قوله: يا زان قد أسقط حرفين الياء والهاء، ومن كانت لغته إسقاط الياء يقول: قد أسقط علامة التأنيث وحدها، وإن كان التوصيل إلي علامة التأنيث ولا يتصور إلا بإثبات الياء. مسألة: قَالَ: وقَائِلٌ هَذَا القَوْلَ - يَعْنِي أَبَا حَنيِفَةَ يَقُولُ: لو قَالَ الرَّجُلُ زَنَاَت فِي الجَبَلِ حُدَّ لَهُ، وإِنْ كَانَ مَعْرُوفاً عِنّدَ العَرَبِ أَنَّهُ صَعِدَتْ فِي الجَبَلِ ". إذا قال لها: زنات في الجبل لا يكون صريحاً في القذف، وبه قال أبو يوسف، ومحمد، وقال أبو حنيفة: يكون صريحاً في القذف، وروي ذلك عن أحمد، واحتج بأن قوله: زنات يستعمله الناس في الزنى كما يستعملون زنيت فكان قذفاً. وهذا غلط لأن قوله: زنات في الجبل الترقي والصعود، يقال: زنى، يزنو, زنى وزنوا إذا صعد. وقيل: إذا كان الهمز حقيقة للصعود، وإنما يحمل علي الفاحشة إذا حمل علي الخطأ، وكأنه ظن أن الزني إذا دخله المد دخله الهمز، أو يقول ذلك عامي لا يعرف الفرق بينهما فلحق فيه. فإذا تقرر هذا ينظر، فإن صدقه المخاطب أو أراد الصعود فلا كلام وإن قال: أردت القذف فالقول قوله مع يمينه، فيحلف أنه ما أراد إلا الترقي في الجبل ولا حدّ عليه، وإن لم يحلف حلف المقذوف وحُدَّ له. فرع: لو قال: زنات ولم يقل في الجبل أو قال له: يا زاني بالهمز، قال الداركي: حكي أبو أحمد عن الجرجاني عن المزني أنه قال في " الجامع الكبير" كان قذفاً لأنه يستعمل في الصعود عند ذكر الجبل ولا يستعمل فيه عند الإطلاق. قال الداركي: وطلبته هناك فلم أجده، وقال أبو الطيب ابن سلمه: إن كان عارفاً باللغة كان قذفاً. قال القاضي الطبري: هذا لا يصح فإن لم يثبت ما حكاه الجرجاني

فالذي يقتضيه المذهب أنه لا يكون قذفاً إلا أن يريد قذفاً لأن قوله: زنات بالهمزة، أو قوله: يا زاني بالهمزة ظاهره الصعود علي ما ذكرنا. وقال القفال: فيه ثلاثة أوجه الأصح أن لا يكون قذفاً. مسألة: قَالَ: "ولَو قَالَ لامْرَأَتِهِ [ق 15 ب] زَنَيْتِ وأَنْتِ صَغِيرَةُ، أَو قَالَ: وأَنْتِ نَصْرَانِيَّهُ أَو أَمَهُ ". الفصل: في هذا الفصل مسائل: إحداها: أن يقول لها: زنيت وأنت صغيرة فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن تكون صغيرة في المهد لا يمكن أن يجامع مثلها فلا يكون قاذفاً، لأنَّا نعلم كذبه، والقاذف هو الذي يكون متردداً بين الصدق والكذب، فعلي هذا لا يجب الحدّ ويعزر للفحش والجفا، ولا يسقط هذا التعزير باللعان لأنه غير واجب بالقذف، وإن كانت صغيرة يمكن أن يجامع مثلها فهذا قذف، لأنه متردد بين الصدق والكذب ولا حدّ عليه، لأنه لو أقام عليها البينة به لم يجب عليها الحدّ فكذلك لا يجب علي قاذفها حدّ ولكنه يعزر، ويسقط هذا التعزير باللعان لأنه إذا جاز درأ الحدّ باللعان فما دون الحدَ أولي أن يدرأ باللعان، والتي تجامع مثلها ابنة سبع وثمان ويقف هذا التعزير علي مطالبتها إذا بلغت. والثانية: إذا قال لها ومسلمة: زنيت وأنت نصرانيه فلا يخلو إما أن يثبت كانت نصرانيه ببينة أو إقرار منها، أولا يثبت ذلك، فإن ثبت أنه كانت نصرانيه لم يجب الحدّ لأنها ناقصة الكفر، وإنما يجب الحدّ به الكامل به الكامل دون الناقص ويعزر، وله أن يلاعن لإسقاط هذا التعزير لأنه واجب بالقذف، وإن لم يثبت أنها كانت نصرانيه فيه قولان: أحداهما: القول قول الزوج ولا حدّ عليه، لأن ظهره حمى وما قاله ممكن ' فإن الدار تشتمل علي الكفار والمسلمين. والثاني: القول قولها لأن الغلبة للإسلام في دار الإسلام فيجب أن يكون الحكم له. وقال أبو حامد: إذا أقرت أنها كانت نصرانيه وقال الزوج: لم ترد قذفي في الحال [ق 16 أ] كوني نصرانية فالقول قولها ثم يكون قوله: وأنت نصرانية خطاباً لها بالكفر في الحال، لأن ظاهر قوله: زنيت أي في الحال، وهذا بعيد لأن قوله: " وأنت نصرانية " متعلق بقوله: "زنيت" والواو تلغو, ألا تري أنه لو قال لها، أنت طالق إن دخلت الدار وأنت مسلمه، فإن الطلاق يتعلق بدخول الدار في حال الإسلام، ولا يكون قوله: " وأنت مسلم " خطاب، فإذا كان هذا ظاهر قوله لم يقبل قوله في خلافه. قال: ومسألة القولين إذا

صدقه (على) أنه أراد حاله النصرانية ولكنها لم تكن نصرانيه وهو علي ما ذكرنا، فإذا قلنا القول قوله مع يمينه فحلف وجب التعزير ويلاعن لإسقاطه، فإن نكل حلفت ووجب الحدّ ويلاعن لإسقاطه، وإن قلنا القول قولها فحلفت وجب لها الحدّ، وإن نكلت فحلف وجب عليه التعزير للقذف، وإن علم أنها لم تزل مسلمه مولودة علي الإسلام لزمه الحدّ قولاً واحداً، ولو قال لها: زنيت ولم يضفه إلي حال الكفر، ثم قال: أردت به أنها زنت وهي نصرانيه لم يقبل منه، وإن علم أنها كانت نصرانية، لأن الظاهر أنه قذفها في الحال وهي في الحال مسلمه، فإن قال: هي تعلم أني أردت به في حال النصرانية، فإن صدقته سقط عنه الحد، وإن كذبت حلفت أنها لا تعلم أنه أراد في حال النصرانية وحد إلا أن يلتعن. والثالثة: إذا قال لها: وهي حرة زنيت وأنت أمه فالحكم فيها كما ذكرنا إذا قال: وأنت نصرانية إلا أنه لو قال: زنيت وأنت أمه الآن، وقالت: أنا حرة فيه قولان، ولا يجئ هذا في النصرانية أن يقول: وأنت نصرانية الآن لأنها إذا قالت: بل أنا مسلمة الآن يكون إسلاماً وإبطالاً لقوله. وذكر أبو حامد ههنا أيضاً ما ذكر في المسألة السابقة [ق 16 ب] وقد بيَّنا بطلانه. والرابعة: إذا قال لها زنيت وأنت مستكرهه علي الزني فلا حدّ عليه، لأن هذا لوثبت لم يجب به الحدّ ويعزر للأذى إلا أن يلتعن. وقال بعض أصحابنا: فيه وجه آخر لا يعزر للأذى ههنا لانتفاء معرة الزني عنها وهي معذورة مأجورة إن كان الأمر علي ما قال والأول: أظهر، والثاني: أقيس. كذلك لو قال: زني بك فلان وأنت نائمة فهو كما لو قال: وأنت مستكرهه. والخامسة: إذا قال لها: زني بك صبي لا يجامع مثله فهذا يعلم كذبه وليس عليه حدّ ويعزر للفحش دون القذف، ولا يسقط هذا التعزير باللعان بلا خلاف. فإن قال قائل: أليس قال الشافعي عقيب هذه المسائل: ويعزر للأذى إلا أن يلتعن. قلنا: إطلاق لفظ الشافعي يرجع إلي مسألة النصرانية والأمة والمستكرهة وقوله: يعد للأذى أراد في القذف، لأن كل قذف أذي دون أذي الفحش، وفي بعض نسخ المزني ويعزر للأمة إلا أن يلتعن. وهذا علي ظاهره صحيح والمشهور الأول والمراد ما ذكرنا، ولو قال: زني بك صبي يجامع مثله فإنه قاذف وعليه الحد إلا أن يلاعن لأنه لوثبت لزمه الحد به. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: إذا قال: زنيت وأنت أمه أو مشركة يلزمه الحدّ بخلاف ما لو قال: وأنت صغيرة أو مجنونة، لأنه أضاف الزني إلي حاله هي فيها مكلفه ونحن نعتبر أن تكون مكلفه يُحدّ قاذفها في تلك الحالة. فرع: لو ادعي أنها لما قذفها كان نائماً لا يُقبل إلا ببينه، ولو قال: كنت صبياً فيه قولان.

فرع آخر: لو قال: وطئت بشبهه هل يعزر للأذى؟ فيه وجهان: أحدهما: يعزر لأنه يلحقها نوع من العار. والثاني: لا يعزر [ق 17 أ] لأنها كانت معذورة في ذلك. مسألة: قَالَ: " ولَو قَالَ: زَنَيْتِ قَبْلَ أَنْ أَتَزَوَّجَكِ حُدَّ ولَا لِعاَنَ ". الفصل: قد ذكرنا هذه المسألة وإنه إن كان هناك ولا يريد نفيه هل يلاعن أم لا؟ والآن نزيد ما تقدم بياناً فنقول: إذا ولدت بعد هذا القذف، فإن كان لأقل من ستة أشهر من وقت نكاحه فهو منتفي عنه بلا لعان، وإن ولدته بعد نكاحه لستة أشهرٍ فصاعداً فهولا حق به بحكم الفراش، وهل له أن يلتعن لنفيه بذلك القذف المتقدم الذي نسب فيه إلي ما قبل نكاحه أم لا؟ وجهان: قال إسحاق: لا يجوز أن يلتعن إلا أن يستأنف قذفاً مطلقاً، لأنه كان في القذف الأول في حكم الأجانب فمنعه من الالتعان فيه فصار كما لو قذفها ثم تزوجها لم يكن له أن يلتعن، فعلي هذا إن لم يجدد قذفاً مطلقاً حدّ للقذف الأول ولاعن بالقذف الثاني لنفي الولد ولم يسقط حدّ القذف الأول باللعان من القذف الثاني لاختلافهما في الحكم. وقال ابن أبي هريرة: يجوز أن يلتعن منه إذا ولدت ولم يجز أن يلتعن لو لم تلد، لأن الضرورة تدعو إلي الالتعان مع الولادة ولا تدعوه مع عدتها ولأن يصدق في إضافة القذف إلي ما قبل نكاحه إلي ما قبل نكاحه أولي من أن يستأنف قذفاً مطلقاً فيجوز في إرساله. فعلي هذا إذا التعن مقتصراً علي القذف الأول أجزأه وانتفي به الولد وسقط به الحد، ولو جدد بعد الأول قذفاً ثانياً نظر، فإن أضافه إلي زمان نكاحه فهو غير الأول فيلاعن من القذف الثاني وينفي به الولد ولا يسقط به حدّ القذف الأول لتمييزه عن نفي الولد فصار لوجوبه مع عدم الولد. واعلم أن الشافعي [ق 17 ب] قصد بقوله في أصل المسألة " ولا لعان " الرد علي أبي حنيفة حيث قال: " يلاعن لهذا القذف " واحتج عليه الشافعي فقال: لأني إنما أنظر إلي يوم تكلم به ويوم يوقعه - يعني هي زوجته يوم تكلم به ولكنها لم تكن زوجته يوم أوقع القذف نسبه وتاريخاً، ولم يذكر الشافعي لهذا الكلام أصلاً يتمسك به مع الخصم، ويمكن أن يجعل ما بعد البينونه أصلاً له حيث لا ولد، إذ لا خلاف أنها لو بانت بالطلاق ولا ولد

فقال لها: زنيت وأنت زوجتي حدٌ ولا لعان؛ لأنه يوم تكلم بالقذف في زمان غير النكاح؛ وإن أضاف الفعل إلى زمان النكاح؛ فكذلك في مسألتنا أضاف الفعل إلى زمان عدم النكاح وإن تكلم بالقذف في زمان النكاح. فرع: قال ابن الحداد: إذا قذفها؛ ثم أطلقها فتزوجت بزوج آخر فقذفها وجب عليهما الحد وكان لهما اللعان؛ فإن لاعنهما كل واحد منهما وامتنعت من اللعان وجب عليها حدَّاد؛ فإن كانت بكراً في النكاح الأول وثيباً في الثاني جلدت ثم رجمت؛ وإن كانت بكراً فيهما لم يتداخل الحدان لأنهما بمنزلة الجنسين؛ لأن اللعان بينة يختص بها الزوج دون غيره. ومن أصحابنا من قال: هذا خطأ ويتداخل الحدان لأنهما جنس واحد؛ كما لو ثبت بالبينة ولا يصح ما ذكره؛ لأن اللعان حجة في حق الزوج والزوجة وقد اجتمع الحدان في حقها فيتداخلا؛ وهذا هو المذهب الذي لا يحمل غيره. مسألة: قَالَ ابْن الحَدَّاد: لَوْ قَالَتْ: قَذَفَنِي قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَنِي. وقال: بل بعد ما تزوجت بك. أو قالت: قذفني بعد ما بنت منك؛ وقال: لا بل من حال الزوجة فالقول قوله مع يمينه؛ لأن القول قوله [ق 18 أ] في أصل القذف فكذلك في وقته؛ ولو قالت: قذفني وأنا أجنبية؛ وقال: بل أنت زوجتي وأنكرت الزوجة فالقول قولها؛ لأن الأصل عدم النكاح. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ قَذَفَهَا؛ ثُمَّ تَزَوَّجَهَا وَلَاعَنَهَا فَطَلَبَتْهُ بِحَدَّ القَذْفِ قَبْلَ النّكَاحِ حُدَّ لَهَا" الفصل: تقدم على هذه المسألة ما يوضحها؛ وذلك أنه إذا قذف أجنبي أجنبية وجب عليه حدّ القذف؛ فإن أقام البينة على أنها زنت سقط عنه الحد وسقط إحصانها؛ فلو قذفها هو أو غيره بعد ذلك لا يلزم الحد ولكن يعزر على ما ذكرنا فيما تقدم وإن لم يقم عليه بينة فحد بقذفها ثم قذفها ثانياً؛ فإن كان بالزنى الأول لم يحد ويعزو للنسب؛ وإن قذفها بزنى آخر ذكرنا وجهين: أحدهما: يلزمه الحد لأنه لم يكذب في الزنى الثاني.

والثاني: لا يلزمه الحد لأنه فثبت كذبه عليها في الجملة. وإن كان كرر عليها القذف قبل إقامة الحد؛ فإن كرر بزنى واحد لم يجب إلا حد واحد؛ وإن كرر بزنى آخر. قال في الجديد؛ والقديم: يلزمه حدّ واحد؛ وقال في موضع من القديم: ولو قيل عليه حدان كان مذهباً فقيل قولان: أحدهما: يجب حدان ولا يتداخل كالقصاص والصحيح خلافه لأنهما حدان من جنس واحد فيتدخلان كحدي الزنى. وأما مسألة الكتاب: إذا قذف بامرأة ثم تزوجها قبل أن يقام عليه الحد؛ ثم قذفها نظر فإن قذفها بالزنى الأول لم يجب عليه حد آخر وليس له إسقاطه إلا ببينة؛ وإن قذفها بزنى آخر فلها المطالبة بموجب كل واحد من القذفين؛ فإن طالبت بموجب القذف الأول؛ فإن أقام الزوج البينة سقط عنه حدّ القذف الأول والثاني؛ لأنه [ق 18 ب] بطل إحصانها بقيام البينة بالزنى؛ وإن لم تكن بينة حد؛ ثم إذا طالبته بالقذف الثاني؛ فإن كان له بينة أو لاعنها سقط موجبه وإن لم يكن له بينة ولاعنها يحدّ لها ثانياً نص عليه؛ وبه قال عامة أصحابنا. ويخالف هذا الأجنبية إذا حُدَّ لها؛ ثم قذفها بزنى آخر هل يحد ثانياً؟ وجهان؛ والفرق أن موجب القذفين ههنا مختلف؛ لأنه يتخلص من أحدهما باللعان بخلاف ذلك؛ وقال المزنى في جامعه الكبير: القياس أن لا يجب إلا حدّ واحد لأنهما قذفان بدل واحد فلم يجب إلا واحد. وقال بعض أصحابنا بخراسان: ينبغي أن يكون الحدّ الأول بالقذفين ولا يطالب باللعان؛ لأن الموجب واحد وهو الحد: وإنما الحجة تختلف؛ وهذا حسن غريب ولكنه خلاف المذهب المنصوص. وإن طالبته بهما فأقام الإمام عليه الحدّ الأول؛ فإن أقام البينة حدت بالزنى وسقط عنه الحدان؛ لأن البينة تسقط حصانتها من حق كل واحد؛ وإن التعن سقط عنه ما وجب بقذفه حال الزوجية؛ وعليه الحد للقذف الذي كان قبل الزوجية؛ لأن اللعان حجة للزوج وحده؛ وقبل الزوجية كان أجنبياً فعليه الحد ولهذا لو لاعن الزوج؛ ثم رماها به ثانياً لم يُحدّ؛ وإن رماها به الأجنبي حُدَّ لأن اللعان لا يتعدى إلى الأجنبي. وإن لم تقم البينة ولم يلاعن هل يقام عليه حد واحد للأول والثاني أو يقام حدان؟ فيه طريقان: إحداهما: إذا امتنع من اللعان صار الحدان من جنس واحد فإنهما لا يسقطان إلا بالبينة فهل يلزم حد أو حدان؟ قولان. [ق 19 أ] والثانية: عليه حدان قولاً واحداً ولا يتداخلان لأنهما حدان مختلفان أحدهما يسقط باللعان دون الأخر؛ وهو اختيار القاضي الطبري. قال: ولأنه وإن امتنع من اللعان فمتى أراد أن يلتعن كان له وسقط الحد فهما

مختلفان، ولأنه بمنزلة أن يزنى وهو بكر؛ ثم يزنى وهو محصن لا يتداخل الحدان لأنهما مختلفان كذلك ههنا. وكذلك الحكم لو قذفها وهى زوجته ثم أبانها؛ ثم قذفها وهى أجنبية لأنهما قذفان أحدهما حال الزوجية والآخر حال كونها أجنبية؛ وكذلك لو قذف زوجته ولاعن ثم قذفها بزنى آخر نسبه إلى ما قبل لعانة وقبل زوجتيه يحد؛ ولا يسقط ذلك الحد بما يجدد من لعانة وإن نسبه إلى ما بعد نكاحها قبل لعانة فيها وجهان. ولو رماها بزنيئين في حال الزوجية هل يجب حدّ واحد؛ أو حدان؟ قد ذكرنا؛ ويكفيه لعان واحد على القولين جميعاً؛ لأنه يمين والحقان لواحد؛ وينظر فإن كان قذفها برجلين ذكرهما في لعانة؛ وإن أطلق يحتاج أن يقول: أشهد بالله أنى لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنيئين؛ ويخالف هذا إذا قذف زوجتين لا يكفيه لعان واحد؛ لأن اليمين وجبت لكل واحدة منهما فلا تتداخل. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ قَالَ لَهَا: يَا زَانِيَةُ فَقَالَتْ لَهُ [بَلْ] أَنْتَ زَانٍ لَاعَنَهَا وحُدَّتْ لَهُ". إذا قال لها: يا زانية فقالت: بل أنت زانٍ؛ فقد قذف كل واحد منهما صاحبه بصريح القذف؛ لأن الزوج صرح بقذفها بقوله: يا زانية والمرأة صرحت بقولها بل أنت زانٍ؛ لأن هذه اللفظة موضوعة لنفي ما خاطبها به واستئناف خطابه بمثله؛ فإن قالت: لم أرد به القذف [ق 19 ب] وإنما أردت به المقابلة لم يقبل منها ويفارق هذا إذا قالت: بل أنت أزنى منى؛ لأن هذا يحتمل نفي الزنى على ما ذكرنا؛ فإذا ثبت هذا فللزوج الخروج من القذف بالبينة أو اللعان وليس لها الخروج من القذف إلا بالبينة؛ فإذا أقام البينة وجب عليها حد الزنى ولا تلاعن لإسقاطه: وإن لاعن وجب عليها الحد أيضاً ولكن يلاعن لإسقاطه. ثم إن أقام البينة على الزوج بالزنى ولا يلزمها حدّ بالقذف؛ وبعد ما لزمه الحد ببينتهما ليس له إسقاطه باللعان أصلاً؛ وحكي الشافعي مذهب أبى حنيفة أنه قال: لا حدّ ولا لعان في هذه المسألة؛ وعنده أن المرأة يجب عليها حدّ القذف بقذفه؛ ولكن لا يجب على الزوج بعد القذف بقذفها وموجب قذفه إياها باللعان فقط؛ ثم اللعان ههنا لا يثبت لا في حق الزوج ولا في حق الزوجة عنده؛ لأن المرأة تعرض أن الحد فلا يصح منها اللعان؛ وإذا لم يصح لعانها لا يصح لعانة؛ في تأويل حكاية الشافعي عن أبى حنيفة أنه لا حد ولا لعان على أنه أراد لا حد في حق الزوج دون الزوجة على ما قررنا من مذهبه. ومعنى قوله: "أستقبح أن ألاعن بينهما ثم أحدهما " أي يقبح أن يسبق في حقه منها دون حقها منه؛ فإذا استوفي منها الحد أولاً فلا يلاعن بكونها خارجة من أهل اللعان بحدها؛ ويتعزر.

لعانه بتعذر لعانها، وإن لاعنها أولاً يجب إقامة الحد عليها ولا يحد الرجل وهذا قبيح. قال الشافعي: ترك حكم الله أقبح، وهذا لأنهما قاذفان لو انفرد كل واحد منهما بقذفه يتعلق به حكم القذف، فإذا اجتمع قذفهما لم يسقط أحدهما حكم الآخر كالأجنبيين القاذفين، ويؤكده أن القذف لا يصير قصاصًا بالقذف (ق 20 أ) فكيف يجوز تعطيل الحكمين، ولأنه قال في "القسامة": يحلفون ويغرمون الدية. وهذا أقبح من هذا. مسألة: قال: "ولو قذفها وأجنبية بكلمة واحدة لاعن وحد للأجنبية". إذا قذف زوجته وأجنبية بكلمة واحدة فقال: زنيتما وأنتما زانيتان وجب الحد عليه، فإن أقام البينة أقمنا الحد على كل واحدة منهما، وإن لاعن سقط حد الزوجة وعليها الحد إلا أن تلتعن، وعليه حد الأجنبية، ويفارق هذا إذا قذفها برجل بعينه ولاعن وسماه في اللعان سقط حدهما؛ لأنه قذف بفعل واحد، فإذا ثبت صدقه في جانب امرأة ثبت في جانب المرمى به، وههنا قذف بتحصين بفعلين، فإذا سقط باللعان حق أحدهما لم يسقط حق الآخر، وإن امتنع من اللعان فقد اجتمع الحدان فهل يتداخل؟ فيه طريقان: أحدهما: فيه قولان كما لو قذف أجنبيين بكلمة واحدة. والثانية: قول واحد لا يتداخلان لأنهما مختلفان من جهة أنه يسقط أحدهما باللعان دون الآخر، وقد تقدم نظير هذا. مسألة: قال: ولو قذف أربع نسوة له بكلمة واحدة لاعن عن كل واحدة منهن". إذا قذف أربع نسوة له أو أربع أجنبيات بكلمة واحدة هل يلزمه حد واحد لهن أو يلزمه حد كامل لكل واحدة منهن؟ فيه قولان: قال في "القديم": يجب حد واحد لهن، وبه قال أبو حنيفة في الأجنبيات لأنه حدود من جنس واحد فيتداخل كحدود الزنى. وقال في الجديد: يلزمه حدود وهو الأصح واختاره المزني لأنها حقوق مقصودة للآدميين فلم تتداخل كالقصاص، وهذا لأن حقوقهم مبنية على التشديد والاستقصاء، ولو قذفهن بكلمات (ق 20 ب) يلزم لكل واحدة حد كامل بلا إشكال. فإذا تقرر هذا فإن كن أجنبيات، فإن أقام البينة، عليهن سقط عنه حكم القذف ووجب الحد عليهن، وإن لم يقم البينة عليهن فحكم الحد على ما ذكرنا، وإن كن زوجات، فإن أقام البينة عليهن سقط حكم قذفهن، وإن أراد اللعان كان عليه أن يلاعن لكل واحدة منهن لعانًا منفردًا؛ لأنه يمين والأيمان لا تتداخل في حق الجماعة، ألا ترى

أنه إذا ادعى رجلان على رجل مالاً لهما يحلف لكل واحد منهما يمينًا منفردة. وقال الاصطخري في "أدب القاضي" حكم إسماعيل بن إسحاق القاضي على رجل ادعى عليه رجلان مالاً بيمين واحدة فأجمع علماء عصره على أنه أخطأ في ذلك وخالف الإجماع. قال الداركي: فسألت أبا إسحاق عن ذلك فقال: إن كانا ادعيا من جهة واحدة مثل إن تداعيا دارًا ورثاها عن أبيهما، أو مال شركة بينهما حلف لهما يمينًا واحدة، وإن كان الحق من جهتين لكل واحدة على الانفراد؛ لأنه إذا جمع بينهما في اليمين وكان لأحدهما حق لم يحنث، والمقصود باليمين مأثم الحنث إن كذب. وهذا الذي قاله أبو إسحاق صحيح، وحقوق الزوجات ههنا من جهات مختلفة لأنه لا يشتركن في زنى واحد، ولو ادعى رجل على رجلين ملكين مختلفين جاز أن يحلفه يمينًا واحدة لأن الحق لواحد. وقال القفال: فيه وجهان: أحدهما: ما ذكرنا، والثاني: يكفي لعان واحد لهن فيجمعهن فيه. ووجهه أن حق اليمين له لا عليه فله الجمع، كما لو أقام شاهدًا على رجل لحق وعلى آخر بحق آخر فله أن يحلف يمينًا واحدة يذكر فيها الحقين. وكذا في يمين الرد لخلاف ما لو ادعى عليه جماعة لا يكفي لهم يمين واحدة وهذا قريب (ق 21 أ) لم يقله غيره من أصحابنا، وهو ضعيف لما ذكرنا. وقال: إذا قلنا يكفيه لعان واحد، وقلنا: إذا قذف الأجنبيين يكفي حد واحد فههنا يكفي حد واحد إذا امتنع من اللعان. وإن قلنا: يفرد كل واحدة باللعان فلكل واحدة حد بخلاف الأجنبيات. فرع: قال الشافعي: "وإن تساححن أيتهن تبدأ أقرع بينهن لتساوي حقوقهن. قال: وأيتهن بدأ الإمام بها رجوت أن لا يأثم لأنه لا يمكنه إلا واحدًا واحدًا. قال أصحابنا: هذا إذا لم يقصد الحاكم تفضيل بعضهن على بعض، وإنما بدأ بواحدة منهن على أنه لا بد من ذلك والقرعة أحسن. مسألة: قال: "ولو أقر أنه أصابها في الظهر الذي جامعها فيه، فله أن يلاعن والولد لها".

الفصل: صورة هذه المسألة أنها طهرت من الخيض فوطئها فيه، ثم ذكرت أنها زنت في ذلك الطهر وأتت منه بولد، فإن له أن ينفيه باللعان وحكاه الشافعي عن عطاء. ثم قال: "قال بعض من ينسب إلى العلم إنه إنما ينفي الولد إذا قال: قد استبرأتها بعدما وطئتها". قال أصحابنا: هذا الذي حكاه الشافعي مذهب مالك في إحدى الروايتين، وهذا لفظ فيه خشونة، ولم يقصد بهذا القول الوضع منه وإنما أراد أنه منسوب إلى العلم كما يقال، قال بعض أهل العلم، فإن قيل: فإذا اجتمع في الرحم ماءه وماء الزاني من أين يترجح له في نفي الولد أنه من الزاني؟ قلنا: كان ابن سريج يذهب إلى أنه لا ينفيه مع اختلاط الماءين، وهو خلاف نص الشافعي فيقول: قد يترجح الحمل عنده مع اختلاط الماءين من وجوه؛ منها: أن الذكي الفطن (ق 21 ب) من الرجال يحس باللعوق عند الإنزال كان أو لم يكن، وكذلك من النساء من يحس به. ومنها: أن يعلم من نفسه أنه عقيم لا يولد له، ومنها: أنه يرى شبه الولد بالزاني. ويجوز النفي بغلبة الظن بالأمارات، فإن قيل: ولد أمته لا ينتفي عنه إلا بدعوى الاستبراء بعد الوطء فيجب أن يكون ولد الحرة مثله. ولد الأمة التي اعترف بوطئها يلحق به إلا أن يدعي الاستبراء، فإذا ادعى الاستبراء ينفي عنه من غير لعان، فلما كان الولد ينتفي عنه الاستبراء وجب ذكره وولد الحرة لا ينتفي عنه الاستبراء فلم يكن لذكر الاستبراء معنى. واعلم أن الشافعي قال كما يذهب إلى أن نفي العجلاني كان بدعوى الاستبراء لم أقر بها منذ كذا وكذا. والجواب: أنه لا اعتبار بما ذكر العجلاني لأنه سمى الذي رأى بعينه يزني بها وذكر أنه لم يصبها منذ أشهرًا. ورأى النبي صلى الله عليه وسلم بالولد علامة تثبت صدق الزوج، ولا يقال: لا يجوز نفي الولد إلا بإجماع هذه الوجوه والشرائط كلها كذلك في هذا المتنازع. ثم ألزم الشافعي نفسه سؤالاً فقال: "فإن قيل: فما حجتك في أنه يلاعن وينفي عنه الولد، وإن لم يدع الاستبراء" ثم استغل الشافعي بالكلام في مسألة أخرى خلافية بينه وبين مالك قبل جواب هذا السؤال، فقال: قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} [النور: 4] وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] ولم تفصل عن أن يقول الرامي: رأيتها تزني، وبين أن يقول: زنت من غير دعوى الرؤية، ولم يفصل بين الأجنبي وبين الزوج، وقصد الرد على مالك حيث قال: "لا يصير قاذفًا حتى يقول: رأيتها تزني".

ثم رجع الشافعي إلى جواب ذلك السؤال (ق 22 أ) قال: "وقد يكون الاستبراء وتلد منه فلا معنى له ما كان الفراش قائمًا" لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الولد للفراش" فلا ينتفي إلا بلعان. مسألة: قال: "ولو زنت بعد القذف أو وطئت وطئًا حرامًا فلا حد عليه ولا لعان". إذا قذف زوجته أو غيرها من الأجانب فلم يحد القاذف حتى زنى المقذوف وثبت ذلك باعترافها أو بالبينة سقط الحد عن القاذف؛ لأن زنيها يدل على صدقه، وبه قال أبو حنيفة، ومالك وقال أحمد، وأبو ثور والمزني وداود: لا يسقط، واحتجوا بأنه معنى طرأ بعد وجوب الحد فلا يمنع من إقامته كردة المقذوف. واحتج المزني فقال: كيف يكون هذا الزني دليلاً على صدقه والوقت الذي رماها قد كانت في الحكم غير زانية أصلاً. وقوله: "إنه إنما ينظر إلى حال من تكلم بالرمي" وهي من ذلك الوقت في حكم من لم يزن قط، وهذا غلط لأن إحصان المقذوف شرط في وجوب الحد على القاذف، والإحصان طريقه غلبة الظن والاجتهاد دون القطع واليقين، والزنى، مما يستسر به فلما ظهر منه ذلك قدح ذلك في ظاهر إحصانه، ويدل ذلك على خبث سريرته وارتكاب أمثاله. وهذا كما لو شهد شاهدان ظاهرهما العدالة ثم ظهر منهما فسق قبل الحكم لم يجز أن يحكم به، وقدح ذلك في ظاهر عدالتهما حين شهدا به، كذلك ههنا. وروي أن رجلاً زني بامرأة في زمان عمر - رضي الله عنه - فقال: والله ما زنيت إلا هذه المرة، فقال له عمر: كذبت فإن الله تعالى: لا يفضح عبدًا في أور مرة. فإن قيل: العدالة في الشهادة آكد من الإحصان في الحد، لأن العدالة لا يكتفي الظاهر منها حتى يجب على الحاكم البحث (ق 22 ب) والسؤال عنها، وليس كذلك الإحصان فإنه يجوز لها أن تكتفي بالظاهر منه ولا يجب عليه أن يبحث عنه. قيل: اختلف أصحابنا في هذا، قال أبو إسحاق: يجب على الحاكم أن يبحث عن إحصان المقذوف قبل إقامة الحد على القاذف، كما أنه يجوز السؤال عن عدالة الشهود أيضًا؛ لأن ظهره حمي فلا يستباح بالاحتمال. وقال غيره: لا يجب هذا السؤال ههنا وتكتفي بظاهر إحصانه، والفرق أن طلب زنى المقذوف والبحث عنه يؤدي إلى هتك ستره والكشف عما أمر بستره، وليس كذلك السؤال عن العدالة؛ لأنه ليس فيه هذا المعنى. وقيل: القاذف لما أتى بما منع منه صار عاصيًا به، فغلظ عليه بإقامة الحد بظاهر الإحصان ولم يحصل من الشهود عليه عصيان يوجب التغليظ عليه بترك السؤال عن باطن عدالة الشهود الذين شهدوا عليه والاقتصار

على ظاهره، فلا يقتصر عليه ويلزم التفحص لحقه، وإنما إذا ارتد المقذوف قلنا: قال القاضي الطبري: يحتمل أن يقال: يسقط الحد عن القاذف. فخرج فيه وجهًا آخر، وبه قال أبو حنيفة: والمشهور أنه لا يسقط به الحد عن القاذف، والفرق أن الردة لا تدل على تقدم الزني وليست من جنسه، والردة يظهرها المرتد فلا يخفيها والزني يخفيه الزاني فافترقا. وأما ما ذكر المزني لا يصح؛ لأن حكم الزني لا يتعلق إلا بفعل الزنى فلا يحكم بالزني قبل الزنى، والعفة والفسق على العقائد والضمائر، ألا ترى أن رجلاً لو غصب جارية فزنى بها وعنده أنه غاصب زاني (ق 23 أ) ثم استبان له أن المغصوبة مملوكية حكمنا بفسقه على قصده واعتقاده لا لصورة فعله، فكذلك لما زنت هذه المقذوفة غلب على القلب أنها كانت قبل ذلك على قصد الزنى لو تمكنت ولم تكن عفيفة القصد، فكان طعنًا فيها وسقط حد القاذف. فإذا تقرر هذا، قال الشافعي في هذه المسألة: "أو وطئت وطئًا حرامًا". قال أبو حامد: الواطئ الحرام على أربعة أضرب: أحدها: وطء حرام لم يصادف ملكًا ولا شبهة ملك، مثل وطء المحارم بالنكاح، أو جارية الأم فيوجب الحد وتسقط الحصانة ولا يجب الحد على قاذفه. والثاني: وطء حرام صادف ملكًا ولكنه حرام لعارض يزول كالحيض والنفاس والإحرام والعدة من غيره، فلا يجب به الحد ولا يسقط به الإحصان ولا يسقط الحد به عن قاذفه. والثالث: وطء حرام صادف ملكًا إلا أنه ارتفع تحريمه بحال كوطء المحارم بملك اليمين فهل يجب به الحد؟ قولان: فإن قلنا: يجب به الحد لم يجب الحد على قاذفه وسقط إحصانه. وإن قلنا: لا يجب به الحد حد القاذف ولا يسقط إحصانه، وهو اختيار القاضي الطبري. والرابع: وطء حرام في غير ملكه سقط الحد فيه للشبهة، مثل أن يزوج بلا ولي ولا شهود، أو نكاح متعة فوطئ أو وطئ جارية ابنه، ووطئ على ظن أنها زوجته أو أمته لا يلزمه الحد ويلحقه النسب منه، وهل يسقط إحصانه؟ فيه وجهان: أحدهما: يسقط لأنه وطئ محرم لم يصادف ملكًا للزنى، وهو اختيار أبي إسحاق وهذا أيضًا وطء سقط الدح فيه عن الوطء بالشبهة فسقط الحد به (ق 23 ب) عن القاذف للشبهة. والثاني: لا يسقط إحصانه لأنه وطء يلحق به النسب ولا يجب به الحد، كوطء الزوجة في حال الحيض.

وفيه وجه ثالث: أن كل وطء يوجب الحد مع العلم به لا يسقط الحصانة عند الجهل. فعلى هذا في مسألة الظن تسقط الحصانة وفي وطء جارية الابن والجارية المشتركة، والنكاح المختلف في إباحته لا تسقط الحصانة. وفيه وجه رابع ذكره القفال: كل وطئ في غير ملك هو فيه معذور لم يسقط الحصانة، وإن لم يكن معذورًا يسقط الحصانة. ففي وطئ جارية الابن والجارية المشتركة الحصانة، وكذلك في النكاح المختلف فيه إذا كان عالمًا بتحريمه وفي مسألة الظن لا تسقط الحصانة. قال: فإن نكحت بغير ولي واعتقادها أن هذا النكاح جائز لا يبطل إحصانها والمرأة بالوطء الحرام في هذا الموضع وطء أقدمت عليه وهي تعتقد تحريمه على الصحيح من المذهب، وعلى ما ذكرنا في وطء الرجعية والكاتبة هل يسقط الإحصان؟ وجهان. وقال صاحب "الحاوي": وطء الحرام خمسة، منها ما يوجب الحد ويسقط الإحصان وهو ما ذكرنا. والثاني: ما يسقط الإحصان قولاً واحدًا وفي وجوب الحد به قولان وهي وطء المحرمة بالملك. والثالث: ما يوجب الحد ويسقط الإحصان قولاً واحدًا أيضًا وهو وطء جارية الابن والمشتركة. والرابع: لا يوجب الحد وفي سقوط الإحصان به وجهان وهو الوطء في نكاح المتعة والشغار. والخامس: ما يوجب الحد ولا يسقط العفة (ق 24 أ) كوطء الحائض والمحرمة لأنه صادف محلاً مباحًا طرأ التحريم عليه لعارض. مسألة: قال: "ولو لاعنها، ثم قذفها فلا حد". الفصل: قد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم بالشرح، وذكرنا عن القفال أنه اختار أنه إذا قذفها بزنى آخر يلزمه الحد، وأراد بما ذكر ههنا أنه إذا قذفها بذلك الزنى الذي يلاعنها به ولا حد وهذا مسلم. فأما إذا قذفها بزنى آخر فقد قذف محصنة فكيف لا يلزمه الحد، ولهذا لو قذفها أجنبي يلزمه الحد بلا إشكال وقال صاحب "الإفصاح": هذا لا يجيء على مذهب الشافعي؛ لأنه لعانه سقط إحصانها في حقه. وأطلق الشافعي ههنا، وقال:

فلا حد لها كما لو حد لها، ثم قذفها لم يحد ثانية". قال الشافعي: "وينهى فإن عاد عزر". يعني في هاتين المسألتين: إحداهما: إذا قذفها بعد اللعان، والأخرى: إذا قذفها بعد الحد، وإنما يعزر لأنه أذاها بنوع من الأذى، ثم قال بعد هذا: "ولو قذفها برجل بعينه وطلب الحد". الفصل: وقد ذكرنا هذه المسألة بالشرح وفي أكثر النسخ: فإن التعن فلا حد لها وإذا بطل الحد لها بطل له" وفي نسخة أخرى: "فإن التعن فلا حد له إذا بطل الحد لها بطل الحد له" والمعنى متقارب، ويحتمل أن الشافعي صور هذه المسألة فيما لو سمى المزني به في اللعان، ويحتمل أنه صور فيمن لم يسم في اللعان، وأجاب على أحد القولين إذا لم يسمه في اللعان هل يسقط حده؟ وفيه قولان مشهوران، ولو جاء المزني بها أولاً يطلب الحد والمرأة لم تحضر، ولم تطلب فللزوج أن يستحضر المرأة ويلاعنها ليدرأ عن نفسه (ق 24 ب) ما توجه عليه من الحد للمرمى به. واحتج الشافعي بأن العجلاني رمى امرأته بأبي إسحاق رجل مسلم فلاعن بينهما وفي إسلامه اختلاف، وكذلك هل سمى العجلاني المزني به أم لا وقد ذكرنا ذلك. مسألة: قال: "ولو شهد عليه أنه قذفها حُبس حتى يعدلوا". إذا شهد عليه شاهدان بالقذف وطالب المدعي الحاكم أنه يحبس المدعى عليه حتى تثبت عدالتهم يجاب إلى ذلك؛ لأن الشهادة التي حجة في القذف قد حصلت في الظاهر؛ لأن الناس على ظاهر العدالة حتى يعلم غيره، وإنما يبحث ويستكشف من الشهود ما يسقط شهادتهم من الجرح، فإذا كان كذلك حُبس، لأنا لا نأمن أن يهرب فيفوت حقه وغاية حبسه تعديل الشهود، ثم يخرج من الحبس ويقام عليه الحد إن عدلت الشهود وإلا خلي سبيله. ولو شهد بذلك شاهد واحد، وسأل حبسه حتى يأتي بشاهد آخر. قال الشافعي: ههنا بعد هذا "ولا يُحبس بواحد" وفي المسألة قولان: أحدهما: هذا لأن الشاهد الواحد ليس بحجة في ثبوت القذف. والثاني: يحبس ذكره ابن أبي هريرة قياسًا على ما قال في العبد إذا ادعى العتق وأقام شاهدًا واحدًا هل يحال بينه وبين سيده؟ قولان: وهذا لأن جانبه قوي بإقامة هذه الشهادة فيحبس احتياطًا. قال هذا القائل: تأويل قول الشافعي ههنا: "ولا يحبس بواحد" أي من هذين

اللعان والحد، بل إذا ثبت عليه القذف بشهادة عدلين أقيم عليه الحد عاجلاً إن لم يلتعن، ولا يحبس ليلتعن خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: "يحبس ليلاعن" وهذا تأويل بعيد (ق 25 أ) وأما في حد الله تعالى إذا أقام شاهدين لا يحبس حتى تظهر عدالتهما؛ لأنه لو هرب بعدما توجه عليه حد الله تعالى لم يطلب بخلاف حق الآدمي. هكذا ذكره القفال، وأما في المال إذا شهد عليه شاهدان بمال، قال أصحابنا: يجوز حبسه حتى يسأل عن الشاهدين. وحكي الداركي عن أبي محمد الفارسي، عن الاصطخري أنه قال: لا يحبس في المال؛ لأنه وإن هرب يمكن استيفاءه من ماله بخلاف الحد، وهذا لا يصح لأنه إن لم يكن ماله ظاهرًا لا يمكن استيفاءه، وإن كان ظاهرًا فاستيفاءه مع حضوره أمكن، فكان له غرض في حبسه فجاز ذلك. وأما إذا أقام شاهدًا واحدًا في المال، وقال: أحلف مع شاهدي وقلنا بالقول الأول، قال أبو إسحاق: يحبس المدعي عليه قولاً واحدًا؛ لأن الحجة قد حصلت وإنما يجوز للحاكم أن يحلفه حتى يسأل عن حال الشاهد، لأنه لو حلفه ثم سأل عن الشاهد فكان فاسقًا كان قد وضع اليمين في غير موضعها، وكان الامتناع من سماع يمينه من جهة الحاكم واجبًأ، فيحبس المدعي عليه حتى يسأل عن الشاهد فإذا ظهرت عدالته يحلفه ويحكم له بالمال على المدعي عليه. مسألة: "قال: "ولا يكفل رجل في حد ولا لعان". قال أصحابنا: لا تجوز الكفالة ببدن من عليه الحد الذي هو حق الله تعالى مثل حد الزنى والشرب والسرقة، وهل تصح ببدن من عليه المال؟ قولان: وقال المزني: هذا دليل على إثباته كفالة الوجه من غير الحد، وهو الصحيح إلا أنه استدل بمفهوم كلام الشافعي على أنه مذهبه جوازها في المال. وقد ذكرنا شرح هذه المسألة فيما تقدم، وأما الكفالة ببدن من عليه (ق 25 ب) حد الآدمي كالقصاص وحد القذف من أصحابنا من قال: لا يجوز قولاً واحدًا. والفرق أنه لما جاز أن يتكفل بالمال جاز أن يتكفل ببدن من عليه المال، ولما لم يجز أن يكفل بالحد لم يجز أن يتكفل ببدن من عليه الحد. وقيل: فيه قولان، وقيل: هو مرتب. فإن قلنا: الكفالة ببدن من عليه المال لا تجوز فببدن من عليه الحد أولى. وإن قلنا: ذاك يجوز فهل يجوز هذا؟ قولان، وقال القفال: الأقيس أنه يجوز وتأويل قول الشافعي ههنا: "ولا يكفل رجل في حد" أي نفس الحد واللعان لا يكفله

رجل بخلاف المال وهذا بعيد عن أصحابنا. مسألة: قال: "ولو قال: زنا فرجك أو يدك ورجلك فهو قذف". الفصل: اعلم أن الشافعي رضي الله عنه قال في القديم: لو قال لامرأته: زنى فرجك فهو قاذف، ولو قال: يدك أو يديك أو رجلك، قال بعض الناس في القذف هو قاذف وفي اليد والرجل لا يكون قاذفًا ولا في العين، قال الشافعي: وهذا كله ما عدا الفرج واحد. قال أبو إسحاق: لما قال هذا كله ما عدا الفرج واحد دل على أنه لم يجعله قذفًا وأراد بقوله بعض الناس أبا حنيفة، ونقل المزني في "الجامع الكبير" مثل ما ذكره الشافعي في القديم، واختار أنه إذا قال: "زنى بدنك كان قذفًا" وإذا قال: زنى يدرك أو رجلك لا يكون قاذفًا، وقول الشافعي بعد هذا: "وكلما قاله فكان شبه القذف إذا احتمل غيره لم يكن قذفًا" يدل على أن المزني غلط في نقله لأن قوله: زنى يدك أو رجلك يحتمل زنى المشي وزنى اللمس وفي [النظر] يحتمل زنى العين كما قال صلى الله عليه وسلم: "العينان تزنيان واليدان تزنيان (ق 26 أ) والرجلان تزنيان ويصدقهما الفرج أو يكذبهما". وقال ابن أبي هريرة: غلط المزني فيما نقله، ولم يذكر الشافعي هذه المسألة إلا في القديم، وظاهر كلامه فيه يدل على أنه ليس بقذف، ولعل ما حكاه المزني في اليد والرجل مذهب مالك. ومن أصحابنا من صحح ما نقله المزني في اليد والرجل، وقال: يكون صريحًا في القذف لأنه أضاف الزنى إلى عضو منها، فأشبه قوله زنى فرجك، ولأنه لا فرق في الطلاق والظهار بين الإضافة إلى اليد والفرج، فكذلك في القذف. وجملة المذهب أنه إذا قال لها: زنى فرجك كان قذفًا، ولو قال: زنى يدك أو رجلك أو عينك فالمذهب أنه كناية في القذف، وفيه وجه آخر وقول آخر: أنه صريح في القذف وهو ضعيف. وقال صاحب "الحاوي": الوجهان في اليد والرجل والرأس فأما إذا قال: زنت عينك لا يكون قذفًا وجهًا واحدًا، ولو قال: زنى بدنك فيه وجهان أيضًا، ولأن البدن بعض من الجملة، والصحيح والمذهب ههنا أنه يكون قذفًا. وبه قال ابن سريج: وهو مذهب أبي حنيفة، لأنه لا فرق بين قوله: زنيت وبين قوله: زنى بدنك؛ لأنه أضاف القذف إلى جملتها، ولأن البدن هو الجملة التي منها الفرج، وعن أبي حنيفة في الرأس أنه يكون قذفًا،

فاعتبر العضو الذي لا يبقى البدن بدونه، ولو قال: زنى فرجي كان إقرارًا بالزنى قولاً واحدًا. ولو قال: زنى يدي أو رجلي أو عيني لم يكن إقرارًا بالزنى لا يختلف أصحابنا فيه. فإذا تقرر هذا فكل ما قلنا إنه صريح في القذف إذا ذكره حمل على القذف ولا ينوي فيه، وكل ما قلنا إنه كناية، فإن قال: لم أرد به القذف قُبل منه مع يمينه (ق 26 ب) وإذا قال: أردت القذف قُبل منه لأنه محتمل. مسألة: قال: "وكلما قاله وكان يشبه القذف إذا احتمل غيره لم يكن قذفًا". قصد به الرد على مالك حيث قال: التعريض في القذف كالصريح مثل أن يقول في حال الغضب لمن شاتمه يا ابن الحلال وما شاكل ذلك، مثل أن يقول: ما أنا بزاني ولا أمي بزانية وما أحسن ذكر أمك في الجيران، وإن قال ذلك في حال الرضا، وبه قال إسحاق، وأحمد في أشهر الروايتين عنه، وعندنا لا يكون هذا قذفًا، وبه قال أبو حنيفة، والدليل على هذا ما احتج به الشافعي أن رجلاً من غزارة. قال: يا رسول الله إن امرأتي ولدت غلامًا أسود فجعله النبي صلى الله عليه وسلم قذفًا. وقال الله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة: 235] فكان التعريض خلاف التصريح كذلك ههنا. وروي أن رجلاً قال: يا رسول الله إن امرأتي لا ترد يد لامس. الخبر. وهذا تعريض ولم يجعله النبي صلى الله عليه وسلم قذفًا؛ ولأنه لو قال الرجل: ما زنيت لم يكن إقرارًا فكذلك إذا قال لغيره: أنت ما زنيت لم يكن إقرارًا واحتج مالك بأن عمر رضي الله عنه جلد في التعريض جلدًا تامًا، ولأن دلالة الحال تقوم مقام القصد والنية، فإذا انضمت إلى التعريض كان بمنزلة التصريح. قلنا: روينا عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: من عرض عرضنا ومن صرح صرحنا. وأراد بقوله عرضنا له العقوبة دون الحد، ولأنه لا اعتبار بدلالة الحال؛ لأن الحد (ق 27 أ) يسقط بالشبهة، وفي التعريض شبهة ظاهرة. فإذا تقرر هذا ذكر الشافعي في الأم أنه إذا قال: يا فاجرة، ويا فاسقة، ويا غلمة، ويا شبقة كله تعريض إن أراد به القذف كان قذفًا. قال القفال: وكذلك لو قال: يا خبيثة يا قوادة يا مواجرة لا يكون صريحًا. ولو قال: ما أحسن وجهك أو بارك الله عليك لا يكون قذفًا، وإن نواه؛ لأنه لا يحتمل القذف. فرع: لو قال الرجل: يا لوطي كان كناية، وفيه وجه آخر أنه صريح. وكذلك لو قال:

يتلوط أو لاط. فرع آخر: لو قال: أنت زاني زنا في الجبل كان قذفاً ويحتمل وجهاً آخر، ولو قال: ونأت في الجبل يا زان فالأقوى أنه قذف. مسألة: قال: " وَلَا يَكُونُ اللِّعاِنِ إِلَّا عِنْدَ سُلْطَانٍ أَوْ عَدُولٍ يَبْعَثُهُمْ السُّلْطَانُ". قال أصحابنا: أراد بالعدول خليفته وشاهدين يشهدان عليه فيما يمضيه ويحكم به. وقيل: أربعة عدول، وأن لم يبعث إلا خليفته وحده أجزأه في صحة اللعان. وقد ذكرنا أنه لا بد فيه من الحاكم، ولا يجوز إلا بعد أن يعرض الحاكم ألفاظ اللعان عليه. فرع: لو ترافع الزوجان إلي رجل يعرف الأحكام ورضيا بحكمه هل يصح أن يلاعن بينهما؟ قل ابن هريرة: لا يجوز قولاً واحداً، وإنما القولان في الأموال التي يجري فيها الإباحة. قال: ولا يجوز التحكيم في الطلاق والعناق أيضاً لأنه لا تجري فيه الإباحة، وبه قال صاحب "الإفصاح" وظاهر نصه ههنا هذا، وهو ظاهر المذهب، وقال الاصطخري، وأبو إسحاق: لا فرق بين الأموال وغيرها [ق 27 ب] وفي الكل قولان. فإذا قلنا: يجوز قمتي يلزم حكمه عليها؟ وجهان: أحدهما: يلزم بنفس التحكيم. والثاني: يلزم بالتراضي بعده، وقيل: القولان في اللعان بناءً علي اختلاف قوليه في لزوم حكمه في عين اللعان. فإن قلنا: يلزم ولا يقف حكمه علي رضاهما يجوز ههنا، وإن قلنا: هناك لا يلزم إلا بعد التراضي بالتزامه بعد الحكم لا يجوز ههنا لأن حكم اللعان لا يقع إلا لازماً، ولا يصح فيه العفو والإبراء، ولا يقف علي التراضي. وكان الدار كي يقول: يجوز فيه التحكيم عند القاضي للضرورة، وأ/ االتحكيم في النكاح قال القاضي الطبري: سمعت بعض شيوخنا يقول: ينظر فيه، فإن كان لها ولي حاضر أو غائب لا يجوز؛ لأنه إذا كان حاضراً فالحق له دون المرأة، وإن كان غائباً فالحق له أيضاً إلا أن الحاكم يقوم مقامه في استيفائه، فلم يكن لرضا المرأة بحكم من رضيت به معني، وإن لم يكن لها ولي أصلاً

باب الشهادة من اللعان

فهل يجوز التزويج بالتحكيم؟ وجهان: أحدهما: يجوز، لأن الحق لها وإنما يزوجها الحاكم بولاية النظر في مصالح المسلمين، بخلاف ما إذا كان الولي غائباً، لأن الحق للولي دونها. والثاني: لا يجوز لغلظ حكمه. فرع آخر: إذا زوج أمة من عبده هل يجوز أن يلاعنا عند سيدهما؟ فإن كان عامياً لا يعرف الأحكام لم يجز، وإن عالماً يحسن أن يلاعن بينهما، من أصحابنا من قال: يجوز منه ذلك، لأنه يجوز منه إقامة الحد عليه كالحاكم، ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان: أحدهما: ما ذكرنا. والثاني: لا يجوز ذلك لأنه يقيم الحد عليها [ق 28 أ] بالإقرار دون ألبته واللعان بينة فلا يجوز له سماعه، ولو تلاعن الزوجان وحدهما وتراضيا به لا يجوز بلا إشكال. باب الشهادة من اللعان: مسألة: قال: " إِذَا جَاءَ الزَّوْجُ وَثَلَاثَةٌ يَشْهَدُونَ عَلَي امْرَأَتِهِ مَعاً بالزاني لَاعَنَ الزَّوْجِ". الفصل: إذا شهد الزوج علي زوجته بالزاني مع ثلاثة نفر لا تقبل شهادته؛ لأنه يتصور فيه صورة المدعيين، ويه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: تقبل شهادته، وهذا غلط لما ذكره الشافعي أن شهادته تضمنت أنها أفسدت فراشه وألحقت به نسباً ليس منه ووترته من نفسه بأعظم من أن يأخذ الزاني له، ويشتم عرضه أو ماله تشديد من الضرب، فلهذا لا تقبل شهادته، ومعني وترته: أي نفضته في نفسه بما التزامه من العار. وجملة مقصودة أنه صار عدواً له وخصماً ومن المحال قبول شهادة العدو علي العدو والخصم علي الخصم. فإذا تقرر هذا نقول: الخلاف إذا لم يتقدم القذف منه، فإن تقدم منه قذفها ثم جاء مع ثلاثة فشهدوا عليها بالزاني لا تقبل شهادته بالإجماع؛ لأنه صار خصماً بالقذف، ويلزم الحد إلا أن يلاعن أو يقيم البينة، وهل يحد الشهود الثلاث؟ قولان: لأنهم نقصوا عن أربعة، وعند أبي حنيفة: يحدون ولو لم يتقدم قذفه وجاء يشهد مع الثلاثة، وقد بيَّنا أنه لا يقبل ويكون قاذفاً يلاعن أو يحد وهو ظاهر المذهب، واختيار أبي إسحاق، ويفارق الشهود الثلاثة لا يحدون في أحد القولين؛ لأن الزوج جاء [ق 28 ب] مجيء الخصوم

وهؤلاء الثلاثة جاؤوا مجيء الشهود. وعلي هذا قال بعض مشايخنا: لو أن جماعة من الفسق الذين يلعنون بفسقهم ولا يسترون به جاؤوا وشهدوا علي زني رجل، مع علمهم بأن شهادة مثلهم مزودة. جعلناهم قذفه قولاً واحداً، ولا ندخلهم في مسألة القولين، وإن قيدوا ألفاظهم بالشهادة. وبه قال ابن أبي هريرة، وهل يجري الزوج مجري الشهود في سقوط الحد عنه؟ وجهان: أحدهما: لا حد عليه وهو الاختيار؛ لأنه جاء بلفظ الشهادة، فعلي هذا لو أراد اللعان لم يكن له إلا باستئناف قذف. والثاني: قاله أبو إسحاق يُحد قولاً واحداً؛ لأنه لما امتنع أن يكون شاهداً امتنع أن يكون لفظه شهادة، وصار قذف محصنة فيلا عن بما تقدم. فرع: إذا قلنا: يحد الشهود فعلي الزوج الحد أيضاً، ولكن للزوج أن يلاعن علي ما ذكرنا، وهل يجوز أن يحد الشهود قبل لعان الزوج؟ وجهان مبنيان علي أن الزوج إذا لاعن وامتنعت من اللعان فحدت هل تسقط حصانتها مع الأجانب؟ فيه وجهان: فإن قلنا: لا تسقط يجوز أن يجوز أن يُحد الشهود قبل لعانها. وإن قلنا: تسقط لا يُحد الشهود إلا بعد اللعان؛ لجواز أن تمتنع فتحد فتسقط حصانتها معهم. فرع آخر: لو شهد أربعة بالزاني وفيهم من رُدت شهادته لرق أو فسق. قال أبو إسحاق في حدّ الباقين قولان، وقال الاصطخري: إذا كمل عددهم ونقصت صفتهم لم يحدوا قولاً واحداً [ق 29 أ] لأن نقصان الصفة راجع إلي الحاكم ونقصان العدد راجع إلي الشهود، وهذا فرق ضعيف. مسألة: قال: "وَلَوْ قَذَفَهَا وَانْتَفَي مِنْ حَمْلِهَا وَجَاءَ بِأَرْبَعَةٍ فَشَهِدُوا أَنَّهَا زَنَتْ لَمْ يُلَاعِنْ حَتَّى تَلِدَ". إذا شهدوا عليها الزاني، فقد ذكرنا أنه سقط عنه حدّ القذف ووجب عليها حدّ الزاني، ويقاوم عليها إلا تكون حاملاً فتؤخر حتى تضع، وقد قال ههنا: " ولَمْ تُحَدَّ حَتَّى تَضَعَ ثُمَّ تحُد" وفيه إشكال لأنه لا يجوز أن يبادر إلي حدها عقب الوضع، ومعناه تحد إذا احتملت الحد، ثم كلمة تحتمل التراخي والولي أن لا تُراحم المرأة حتى تحصن

الولد، وإن وجد من يكفله ولا يعمل الشهود في نفي الولد بحالٍ، وينظر في الزوج، فإن لم يكن لها حمل ولا ولد لا يلاعن لقطع الفراش علي ظاهر مذهب الشافعي. وقال أبو الطيب ابن سلمه: يلاعن له ليستفيد بحرمتها علي التأبيد فيحسم الطمع في مراجعتها، ويكون أبلغ من دخول المعني عليها، وإن كان هناك حمل فلا لعان ههنا لأجل الحمل دون غيره، ومتى كان اللعان لأجل الحمل دون غيره، ومتى كان اللعان لأحل الحم وكان مقصوداً به، هل يجوز أم لا؟ علي قول أبي إسحاق لا يجوز قولاً واحداً، وعلي قول غيره قولان، وقوله ههنا: " لم يلاعن حتى تلد" يدل علي ما قال أبو إسحاق، وهذا لأن القذف صار كالمعدوم بإقامة أربعة من الشهود علي زنيها، ويفارق هذا إذا قذفها والنكاح قائم، ولم يقم البينة علي زنيها وهي حامل له أن يلاعنها قولاً واحداً؛ لأن القذف باقٍ وللزوج فواحدة عن نفسه بلعانة مع عدم الحمل [ق 29 ب] فكان له ذلك عند وجود الحمل. ومن أصحابنا من قال: هل يلاعن عن الحمل في جميع المواضع؟ قولان لأنه نص ههنا علي أن لا يلاعن حتى تلد، وهذا ضعيف أنكره جمهور أصحابنا. فرع: إذا أراد أن يلاعن لنفي ولدها ولم يكن قذفها ولم يكنن قذفها قبل الشهادة فهل يستعن بالشهادة عن التلفظ بقذفها؟ وجهان محتملان: أحدهما: يستغني به، فعلي هذا يقول في لعانة: أشهد أني لمن الصادقين في زنيها، ولا يقول فيما رميتها به لأنه لم يرمها. والثاني: لا بد من القذف لقوله تعالي: {والَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النُّور:16] فجعل رميه شرطاً في اللعان، فعلي هذا يستأنف القذف ثم يلاعن. مسألة: قال: "وَلَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَي إقْرارهَا باِلزَّنَي لمَ يُلاَعنْ ولَم يُحَد َّوَلاَ حَدَّ عَلَيْهَا". إذا قذف زوجته يلزمه الحد في الظاهر، فإن طالبته به فقال: أنت قد اعترفت بالزني فإما أن تقر أو تنكر، فإن أقرت ثبت زنيها وسقطت حصانتها ووجب عليها الحد باعترافها، وسقط الحد عن قاذفها، وإن كذبته لا يخلو إما أن تكون معه بينة أولاً، فإن لم يكن فالقول قولها فإذا حلفت سقطت دعواه وعليه حدّ القذف إلا يسقطه باللعان، وهذه اليمين ليست علي حدّ الزاني؛ لأن اليمين لا تدخل فيه، وإنما هي لإسقاط دعواه ليثبت عليه حدّ القذف لها الذي هو حق الآدمي، وإن كان معه بينة علي إقرارها بالزني فهل يثبت إقرارها به (بشاهدين؟) قولان:

أحدهما: يثبت كسائر الأقاويل وهو الصحيح. والثاني: ليثبت إلا بأربعة كنفس الزاني لا يثبت إلا بأربعة. قال القفال: وبه أجابه ههنا: فإذا قلنا بالأول سقط الحد [ق 30 أ] علي قاذفها ولا حد عليها لأنها جاحدة له، وحدّ الزاني يسقط بالرجوع بعد الاعتراف، ولو أقرت بالزني ثم قالت: ما زنيت يُقبل، ولو قالت: ما أقررت بالزني ولم تقل: ما زنيت أقيم عليها الحد؛ لأن الإقرار قد ثبت بشاهدين وهذا تكذيب الشهود لا رجوع عن الإقرار. وإن قلنا بالقول الثاني لا يسقط الحدّ عن قاذفها، وقال القفال: المنصوص ههنا أنه لا يثبت الإقرار بشاهدين ولا يلزم الحدّ علي قاذفها، ويجوز أن تُقبل البينة في إسقاط الحدّ دون إيجابه؛ لأن الحدود تدرأ بالشهيات، ألا تري أنه لو شهد أربعة بالزني وشهد أربع نسوة أنها عذراء أسقطنا حدّ القذف عنه ولا حدّ عليها، وكذلك إذا قام أربعة من الفسق بالزني أسقطنا حدّ القذف ولا نوجب حدّ الزاني، فكذلك الشاهدان علي إقرارها بالزني وفي هذا نظر، وإنما قال ههنا: " وَلاَحَد َّعَلَيهَا" بجحودها لأن البينة علي الإقرار بالزني لم تكمل. فرع: لو أقام الشاهدان علي إقرارها بالزني: وقلنا: يسقط عنه الحد، ثم أراد أن يقيم البينة علي زينها هل يجوز؟ وجهان: أحدهما: يجوز تصديقاً لقذفها وتكذيباً لإنكارها، وهو اختبار أبي الطيب ابن سلمه. والثاني: وهو الأصح لا يجوز ويمنع من التعرض لها؛ لأنه لا يستفيد به حقاً لأن حده سقط بإقراره. فرع آخر: لو شهد عليها أربع بنين له بالزني، فإن كانوا من هذا الزوج لا تُقبل شهادتهم لأنهم شهدوا لأنفسهم، وإن كانوا م غيره| [ق 30 ب] قُبلت شهادتهم نص عليه في " الأم" لأن شهادة الابن علي الأم مقبولة. ومن أصحابنا من قال: إذا كانوا من هذا الزوج لا تُقبل في سقوط الحدّ عن أبيهم، وفي وجوب الحدّ علي الأم قولان مبنيان علي تبعيض الشهادة، تجوز أم لا؟ ولو شهد عليه ابناه بقذفها فإن كانا من غيره تُقبل، وإن كان منها لم تُقبل. ولو شهد ابناها (على)

إقرارها (بالزنى)، فإن كان من غيره تُقبل لإسقاط حدّ قذفه وإن كانا منها لا تُقبل. مسألة: قال: "وَلَوْ قَذفَهَا وَقاَلَ: كَانَتْ أَمَةً أَو مُشْركَةً فَعَليْهَا البَينَّةُ أَنهَّا يَوْمَ قَذَفَهَا حرَّةٌ مُسْلمَةٌ". الفصل: إذا قال القاذف: قذفتك وأنت أمة أو مشركة، وقالت المقذوفة: بل قذفتني وأنا حرة أو مسلمة، فإن عرف أنها كانت مشركة أو أمة، وادَّعت أنه قذفها، وقد أعتقت أو أسلمت فالقول قوله عليها البينة، وإن لم يعرف حالها كيف كانت، قال أبو إسحاق: يحتمل وجهين، وقال صاحب" الإفصاح": فيه قولان: أحدهما: القول قوله. وهو الذي نقله المزني؛ لأن الدار يجمع المسلمة والمشركة والحرة والأمة، فإذا ادعت أنها كانت مسلمة أو حرة فعليها البينة. والثاني: نص عليه في كتاب اللقط القول قولها، لأنا إذا رأينا في الحال حرة مسلمة فالظاهر أن ذلك حالها فيما مصلا إلا أن يعلم غيره بالبينة. وأعلم أن صورة هذه المسألة [ق 31 أ] أنه قذفها مطلقها ثم اختلفا بعده، وصورة هذه المسألة مخالفة للمسألة التي مضت قبل هذه، وذلك لأن في هذه المسألة قذفها بالزني، ثم اختلفا بعد القذف كيف حالها وقت القذف، وفي تلك المسألة أضاف الزاني إلي حال الصبي والشرك وحال الرق وكان القذف مفيداً، وهي في حال القذف حرة مسلمة إلا أن الحكم في المسألتين واحد علي ما بيناه، فإن قيل: إذا قطع يده ثم اختلفا فقال القاطع: قطعت يده وهو عبد، وقال المقطع بل أنا حر وكان مجهول الحال. قال الشافعي: " يقول قول المقطوع يده وعلي القاطع البينة" قلنا: قال أبو إسحاق: الفرق أنا إذا جعلنا القول قول القاذف لا يؤدي إلي بطلان الحدّ، فإنا نغزره وهو يقوم مقام الحدّ في التكذيب، وإذا جعلنا القول قول الجاني أدي إلي بطلان القصاص، ولا يكون هناك ما يقوم مقام القصاص في الردع فجعلنا القول قول المقطوع حتى لا يؤدي إلي سقوط ما يتعلق به الردع. ومن أصحابنا من نقل جواب كل واحدة من المسألتين إلي الأخرى وخرجهما علي قولين أو الصحيح ما تقدم، فإن قيل: القاضي في "كتاب اللقطة" في لقيط وجد في دار الإسلام فبلغ، فقذفه رجل عليه الحدّ إلا أن يقيم البينة أنه مملوك. قلنا: من أصحابنا من قال: فيهما قولان علي سبيل النقل والتخريج، ومنهم من فرق بين اللقيط وبين مجهول الحال، بأن ظاهر الدار أوجب للقيط الحرية في الظاهر، وفي مجهول الحال لم نجد

أصلاً نبني عليه، والأصل براءة ذمة القاذف ذكره القفال. مسألة. قال: " [ق 31 ب] فَلَوْ كَانَتْ حُرَّةٌ [مُسْلِمَةٌ] فَادَّعَي أَنَّها مُرْتَدَّةٌ فَعَليْه البَيَنةُ". قال أبو إسحاق: عليه البينة لأنه قد اعترف بأنها كانت مسلمة، وادعي تغير حالها فلم يقبل إلا ببينة، كما إذا أقرت بأنها كانت أمة وادعت تغير حالها قبل قذفها، لم يقبل ذلك منها، وإن علم أنها كانا مرتدة واختلفا في وقت قذفها فقال: قذفتك وأنت مرتدة، وقالت: قذفني وقد أسلمت كان القول قوله مع يمينه. مسألة: قَالَ: " وَلوْ ادَّعَي أَنَّ لَهُ البَينَّةَ عَلَي إِقْرارِهَا بالزَّني وَسَأَلَ الأَجَلَ لمْ يُؤجَّلُ إِلاَّ يوماً أو يَوْمَيِن". هكذا ذكره الشافعي، وقال أبو إسحاق: أكثرة ثلاثة أيام، وقوله الشافعي: "يوما أو يومين " تقريب لا تحديد، فإن جاء بها وإلا حد أو لاعن، وكذلك إذا أقام البينة عليها بالزني فادعت جرح الشهود، أو أقامت هي عليه البينة بالقذف فادعي جرح الشهود وأول الحدود الثلاثة لأنها جعلت حداً في مواضع كثيرة. مسألة: قال: " وَلوْ أَقَامَتْ البيَنةَ أَنَهُ قَذَفَهاَ [كبَيرةً وَأَقَامَ البيَّنة أَنَّه قَذَفَهاَ] صَغيِرةً فَهَذَانِ قَذْفانِ مُفْترَقَانِ". إذا قذف امرأته مطلقاً فطالبته بالحدّ فقال: كنت حين القذف صغيرة، لا يخلو إما أن يكون لها بينة، أولا، ف'ن لم يكن فالقول قوله، لأن الأصل براءة ذمته عن الحدّ والأصل الصغر، وإن حلف سقط الحدّ وعليه التعزيز إلا أن يلاعن، وإن كان لها بينة أقامت بينتها علي أنه قذفها وهي كبيرة حُدّ إلا أن يلاعن، وإن كانت له بينة مع بينتها لم يخل، إما أن يكونا مطلقتين أو مقيدتين، فإن كانت مطلقتين مثل إن قامت البينة أنه قذفها كبيرة وأقام البينة أنه [ق 32 أ] قذفها صغيرة فهما قذفان: قذف حال الصغر وقذف حال الكبر، فعليه تعزيز وحد إلا أن ينفيهما اللعان. ومن أصحابنا من قال: هل يدخل التعزيز غي الحد؟ وجهان: أحدهما: يدخل فيه لأنه من جنسه ولمستحقه.

والثاني: لا يدخل، لأن حقوق الآدميين لا تتداخل فيقام عليه التعزيز، ثم الحد. وإن كانتا مقيدتين لا يخلو إما إن تكونا مقيدتين بوقت واحد، مثل إن شهدت إحداهما أنه قذفها مع الزوال أول رمضان وكانت كبيرة، وقالت الأخرى: قذفها في هذا الوقت وهي صغيرة، أو اتفق الزوج والزوجة أن القذف واحد، فقد تعارضت البينتان؛ لأن الجمع بينهما لا يمكن، وفي البينتين المتعارضتين قولان: أحدهما: تسقطان. والثاني: تستعملان، وإذا قلنا تستعملان فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: توقفان. والثاني: يقرع بينهما. والثالث: يقسم. فحصل أربعة أقوال ويجئ في هذا الموضوع الأقاويل الثلاثة ولا يجئ قول القسمة، فإن قلنا: يوقفان، لم يحكم عليه بشيء ههنا، وإن قلنا: يقرع فمن خرجت القرعة علي بينته حكم بها، فإن خرجت القرعة علي بينتها حُدَّ الزوج، وهل تحتاج المرأة أن تحلف مع القرعة؟ قولان مبنيان علي القولين في القرعة هل دخلت مرجحة للدعوي أو للبينة؟ فإن قلنا: ترجح الدعوي يحلف، وإن قلنا: ترجح البينة لا يحلف. وإن خرجته القرعة علي بينته سقط الحدّ وعزر، وهل يحتاج أن يحلف مع القرعة؟ قولان. وإذا قلنا: يسقطان وهو الأظهر، وبه أجاب الشافعي ههنا فيصبر كأن البينين لم يكون، ويكون القول قوله مع يمينه أنه قذفها صغيرة. وقال أصحابنا: لا يجئ قول الوقف [ق 32 ب] ههنا، لأن فيه تعطيل حكم القذف. ذكره أبو حامد وجماعة، ثم قال الشافعي: فهي متضادة فلا حدّ ولا لعان، أما الحد فسقط، وأما اللعان قال أصحابنا: له أن يلاعن لإسقاط التعزيز عن نفسه، وتأولوا قول: "ولا لعان" أي لا عان لإسقاط الحد، لأن الحد إذا لم يجب لم يحتج إلي اللعان لإسقاطه. ومن أصحابنا من قال: لا يلاعن، لأن الحدّ لا يجب عليه وإنما التعزيز فهي لا تطالب به لدعواها الحد فلا يلاعن. ومن أصحابنا من قال: معناه إذا كانت صغيرة لا يجامع مثلها لا تلاعن للتعزيز علي ما تقدم بيانه، قال القفال: ولو أشارت البينتان إلي وقت واحد، وقالت إحداهما أنها كانت حاضت قبل ذلك فبلغت بها، وقالت الأخرى لم تحض فبينة البلوغ أولي؛ لأن معها زيادة علم ولا تُقبل البينة علب النفي وهذا وضح لا إشكال فيه.

مسألة: قال: "وَلَوْ شهِدَ عَليْه شَاهِدانِ أَنَّهُ قذَفها وقذف امْرأتهُ لمْ تَجزْ شَهَادَتُهُمَا". الفصل: إذا شهد شاهدان علي رجل أنه قذفها وقذف امرأته لم تجز شهادتهما في حق أنفسهما ولا في حق الزوجة؛ لأنهما قد صارا عدوين له بقولهما قذفنا. قال الشافعي:" إلاَّ أَنْ يَعْفو قَبْل أَنْ يَشْهَدَا وَيُري مَا بَيْنهُ وَبَيْنُهمَا حَسَناً فَيَجُوزَا". قال أصحابنا: وإذا كان كذلك لا فرق بين أن يشهدا للأجنبية بانفرادها وبين أن يشهدا لهما ولأنفسهما، فإن شهادتهما للأجنبية مقبولة قولاً واحداً؛ لأنهم شهدا لهما وهما عدلان لا عداوة بينهما، وأما إذا شهدا بأنه قذفها وقذف الأجنبية فرد الحاكم شهادتهما ثم عفوا عن حقهما وحسن الحال بينهما وبينه أعادا تلك [ق 33 أ] الشهادة للأجنبية لم تُقبل شهادتهما؛ لأن الشهادة إذا ردت بالاجتهاد ولم تُقبل بحالٍ، وثبت الرد علي التأبيد كما لو رد الحاكم شهادة الفاسق، ثم أعادها بعد التوبة لا تُقبل، وفي المسألة الأولي لم ترد شهادتهما للتهمة، بل منعنا قبول شهادتهما في الأول للعداوة فإن فإذا زالت العداوة قبلناها، فإن شهد أنه قذف زوجته، ثم قالا بعد ذلك بمدة: وقذفنا نحن أيضاً فأخبرا عن العداوة بعد الشهادة عليه بالقذف، فإن كان قولهما وقذفنا أيضاً بعد أن حكم الحاكم بشهادتهما لم ينقص حكمه، وإن [كان] ذلك منهما قبل الحكم بشهادتهما لم يحكم بها، وأصله أن إظهار العداوة بعد إقامة الشهادة كالفسق بعد إقامتها، فإن فسقا بعد الحكم لم يضر، وإن كان قبل الحكم لا يحكم كذلك العداوة مثله. فرع: لو شهد ابناه عليه أنه قذف أمهما، وقذف أجنبية، قال في " الأم": لم تُقبل شهادتهما للأم وقبلت للأجنبية". قال أصحابنا: وفيه قول آخر أن الشهادة إذا ردت في البعض ردت في الكل لا تُقبل شهادتهما للأجنبية أيضاً، فحصل قولان. والفرق بين هذه المسألة والتي قبلها هناك لا تُقبل للأجنبية قولاً وذلك أنا رددنا شهادتهما هناك لأجل العداوة فرددنا في الكل وهنا رددنا للتهمة فاختص الرد بموضع التهمة علي أحد القولين، موضوع التهمة وهو الشهادة للأم دون الأجنبية. وحكي صاحب "الإفصاح" عن بعض أصحابنا أنه قال: كلا المسألتين علي قولين وهذا غلط، والفرق ظاهر. فرع آخر: قال القفال تفريعاً علي ما ذكرنا: لو شهدنا أنه قذف زوجتيهما وقذف أجنبية، وقلنا:

لا تُقبل شهادة الزوج لزوجته [ق 33 ب] لا تقبل شهادتها للأجنبية قولاً واحداً؛ لأن الرجل عدو لمن قذف زوجته وأظهر العداوة حين شهد بذلك، ولو شهد للزوجة وللأجنبي عليه بالدين وقلنا: لا تُقبل شهادته للزوجة هل تُقبل للأجنبي فهذه شهادته ردت بعضها للتهمة هل يرد الباقي؟ قولان. فرع آخر لو أعرض عن ذكر قذف امرأته أو قذفه وشهد للأجنبي تُقبل بلا خلاف، وإن علم أنه قذف امرأته بعد ما لم يظهر هو عداوة إذا رددناها بهذا لما عجز أحد عن قذف من يريد أن يشهد عليه حتى لا يشهد. فرع آخر: قال في " الأم": ولو شهد ابناه أنه قذف ضرة أمهما يحتمل أن يقال: تُقبل هذه الشهادة، ويحتم أن ترد هذه الشهادة. وقيل قطع من الأم أنه تُقبل. وحكي لمزني هذه اسأل في " الجامع الكبير" وقال: قال الشافعي: قيها قولان: أحدهما: لا تُقبل لأنها شهادة لأمهما، فإن القذف إذا ثبت أدي إلي اللعان والفرقة ولأمهما من الفرقة غرض ومنفعة. والثاني: تُقبل لأن له أن يتزوج بامرأة أخري فلا منفعة من فراق الضرة وهذا هو الصحيح واختاره الشافعي، وبه قال مالك، وأبو حنيفة. وعلي هذا لو شهد بأنه طلق ضرة أمهما قولان، وعلق القول فيه في " الأم" وقيل: قول واحد في الجديد في مسألة القذف أنه تقبل، وفي الطلاق قولان، والفرق أن الطلاق موضوع للفراق وإزالة النكاح وفي القذف قد يلاعن فافترقا. مسألة: قال: "وَلَوْ شَهِدَ أحدهما أَنهُ قَذَفَهَا بِالعَربيِّة وَالآخَر َأَنهَّ قَذَفَهَا بالْفارسيَّةِ لمّْ يُجز". الفصل: إذا أدَّعت القذف علي زوجها فأنكر، فأتت بشاهدين فشهد أحدهما [ق 34 أ] أنه قذفها بالفارسية وشهد الآخر أنه قذفها بالعربية لم يثبت القذف لأنها شهادة علي قذف. وكذلك لو شهد أحدهما أنه قذفها يوم الخميس وشهد الآخر أنه قذفها يوم الجمعة لم

يثبت أيضاً لأنهما قذفان. وقال أبو حنيفة: يقبل لأنه لا يحتاج إلى ذكر القذف في الشهادة فيكون لغواً غلط. قال الشافعي: كل واحد من الكلامين غير الآخر فلم تتفق شهادتهما على شيء واحد. وعلى ما ذكرنا لو شهد أحدهما أنه أقر عندي أنه قذفها بالعربية، وشهد الآخر أنه أقر عندي أنه قذفها بالعجمية، وشهد الآخر أنه قذفها وشهد الآخر أنه أقر بقذفها لا تقبل، ولا تتم الشهادة في القذف ولا في الإقرار بالقذف، ولهذا لا تقبل شهادة شهود الرؤيا؛ لأن كل واحد منهم يثبت فعلاً غير الفعل الذي يثبته الآخر. وأما إذا شهد أحدهما أنه أقر عندي بالعربية أنه قذفها، وشهد الآخر أنه أقر عندي بالفارسية أنه قذفها قبلت شهادتهما وحكم بها؛ لأن القذف لم يختلف وإنما اختلف الإقرار بالقذف، ويجوز أن يعبر عن القذف الواحد لأحد الشاهدين بالعربية وللآخر بالعجمية. وكذلك إذا شهد أحدهما أنه أقر عنده يوم الخميس أنه قذفها وشهد الآخر أنه أقر عنده يوم الجمعة أنه قذفها يحكم شبهادتهما؛ لأن الإقرار يختلف والقذف غير مختلف، لأنه يجوز أن يقر بالقذف الواحد لأحد الشاهدين يوم الخميس وللآخر يوم الجمعة. وجملته أنهما إذا أثبتنا قذفين أو أثبت أحدهما قذفاً والآخر أقر بالقذف لم تتم الشهادة في واحد منهما، وإذا أثبتا إقرارين والقذف غير مختلف تمت الشهادة (ق 34 ب) ووجب الحكم. فرع: قال القاضي الطبري: سمعت بعض مشايخنا يقول: إذا شهد ثلاثة أنفس اثنان على فعل الزنى والآخر على الإقرار بالزنى، فإن الشهادة لم تتم على واحد من الفعل والإقرار، ولا يجب على شاهد الإقرار، ولا يجب على شاهد الإقرار شيء، وهل يجب على شاهدي الفعل حد القذف؟ قولان، وإن شهد اثنان على فعل الزنى وشهد اثنان على الإقرار بالزنى، فإن قلنا الإقرار بالزنى يثبت بشاهدين يلزمه الحد ولم يجب على شاهدي الفعل شيء. وإن قلنا الإقرار بالزنى لا يثبت إلا بأربعة لم تتم الشهادة في الفعل والإقرار، ولا يجب على شاهدي الإقرار شيء، وهل يجب على شاهدي الفعل حد القذف قولان. فرع آخر: حكي الاصطخري أنه قال: إذا شهد أحدهما أنه قال: القذف الذي كان مني كان بالعربية، وشهد الآخر أنه قال: القذف الذي كان مني بالعجمية فيه وجهان: أحدهما: لا تتم الشهادة لأنهما قذفان. والثاني: تتم الشهادة لأنه أقر بالقذف وقوله بعد هذا كان بالعربية أو بالعجمية إسقاط منه لإقراره فلا يلتفت إليه.

باب الوقت في نفي الولد

مسألة: قال: "ويقبل كتاب القاضي إلى القاضي بقذفها". حد القذف وحق الآدمي يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي قولاً واحداً، وفي حدود الله تعالى هل يقبل كتاب القاضي إلى القاضي؟ قولان؛ والأظهر أنه لا يقبل، وقد ذكر في آخر هذا الباب. وأما حدود الله تعالى فتدرأ بالشبهات، يعني لا يقبل فيها كتاب القاضي إلى القاضي وهذا لأن قبول الكتاب مبالغة في استيفائها وهي مبنية على الفداء (ق 35 أ) والتأخير، وهكذا الشهادة على الشهادة تقبل في حد القذف، وفي حدود الله تعالى هل تقبل؟ قولان: وعند أبي حنيفة: لا يقبل فيه كتاب القاضي إلى القاضي ولا الشهادة على الشهادة بناءً على أصله أنه حق الله تعالى. قال القفال: إذا قلنا: لا تقبل في حدود الله تعالى فله معنيان: أحدهما: أن الستر فيه أولى. والثاني: أنه يدرأ بالشبهات، ففي حد القذف والقصاص هل يقبل ذلك؟ قولان بناءً على المعنيين، فإن قلنا بالمعنى الأول يقبل ههنا، لأنه لا يجوز كتمان الشهادة في حق الآدمي، وإن قلنا بالمعنى الثاني لايقبل ههنا لأنهما يسقطان بالشبهة أيضاً وهذا غريب. مسألة: قال: "وتقبل الوكالة في تثبيت البينة على الحدود". وقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الوكالة. باب الوقت في نفي الولد مسألة: قال: "وإذا علم الزوج بالولد فأمكنه الحاكم أو من يلقاه له إمكاناً بيناً". الفصل: جملته إذا ولدت امرأته لا يخلو من أن يكون حاضراً أو غائباً، فإن كان حاضراً لا يخلو من أن يكون معذوراً أو غير معذور، فإن كان غير معذور لا يختلف المذهب أن نفيه على الإمكان في العرف والعادة، فإن كان على الطعام فرغ منه، وإن كان قد دخل وقت الصلاة، فرغ منها، وإن كان بالليل أصبح، وإن كان عرياناً لبس وسار إلى الحاكم على سجية مشيه وابناه إليه وطالبه بما ينفيه عنه من إحضارها واللعان بينهما، فإن أخر مع

الإمكان الذي وصفناه يبطل النفي. (ق 35 ب) وفيه آخر أن له نفيه إلى ثلاثة أيام، وهو الذي قال في الكتاب، ولو قال قائل: يكون له نفيه ثلاثاً إن كان حاضراً كان مذهباً، ونص عليه في القديم، واعترض المزني على هذا الكلام فقال: لا فرق بين الثلاثة والأربعة. وقال: قال الشافعي لمن جعل له نفيه في تسع وثلاثين يوماً وأباه في الأربعين، ما الفرق بين الصمتين، فمثل هذا يلزمه ههنا فقوله في أول الباب أشبه بمعناه عندي. وهو على ما ذكره المزني، ويمكن أن يجاب عن هذا بأن الإنسان لا يستغني عن مراجعة نفسه وما هل زمان وطئه إياها، وإذا نوجي الرجل بأمر لم يهتد في الحال إلى ما هو خير له فلا بد من إمهال والثلاثة زمان قريب، قال الله تعالى في قصة ثمود {فَيَاخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64]، ثم فسر ذلك القريب ثلاثة أيام، فقال: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب، وهذا معنى قول الشافعي: فأمكنه الحاكم أو من يلقاه، لم يرد أنه كان مستقبلاً بما لا بد منه يلزمه أن يبعث وكيله إلى الحاكم ليخبره أنه على النفي، ولكن إذا شهد أنه على النفي كفاه، ثم يبقي الحاكم إن شاء بنفسه، وإن شاء بوكيله، ثم هو يحضر اللعان. وذكر المزني أن الشافعي قال في "القديم" إن لم يشهد حضره ذلك في يوم أ, يومين لم يكن له نفيه، وربما يتوهم أن هذا القول الذي حكاه عن القديم وهو قول التقدير بالثلاثة أو الثنين وليس كذلك، بل هو جواب عن الفور، وهو القول الذي نص عليه في أول هذا الباب، غير أنه إذا أراد تعجيل النفي ربما يصادفه الحكم (ق 36 أ) في الحكم أول وهلة، وربما لا يصادفه، وربما يمنعه مانع فلا يبطل حقه عند ظهور عذره، ولهذا جاء بلفظ التنويع، وقال: يوماً أو يومين. ولو أراد التقدير لما استعمل عبارة التنويع، ثم قال المزني: "لوجاز في يومين لجاز في ثلاثة وأربعة في معنى ثلاثة" الفصل فقال للمزني: لعلك توهمت أن الشافعي في " القديم" ذهب إلى قول ثالث سوى القولين المذكورين في أول هذا الباب، وهو أنه بتقدير بيومين وليس كذلك بل له قولان: أحدهما: أنه على الفور. الثاني: أنه يتقدر بثلاثة أيام، وأما التقدير بيومين فليس من قوله وإنما عني به قول الفور على ما ذكرناه. واعلم أن قوله: "أو من يلقاه له" يوهم أن وكيله يقوم في النفي مقامه وليس كذلك، فإنه لا سبيل إلى التوكيل باللعان ولكنه أراد به جواز التوكيل بالنفي في الحال، ثم قال بعد هذا: وأي مدة قلت له نفيه وفيها فأشهد على نفيه وهو مشغول بما يخاف فوته أو بمرض لم ينقطع نفيه" وهذا يوهم أن الإشهاد شرط في صحة النفي وليس كذلك، وإنما أمر بالإشهاد لنوع من الاحتياط، وهو أن المرأة ربما تدعي أن حبر الولادة بلغه صباح يوم الجمعة، فأعرض عن النفي إلى يوم السبت، فإذا أقام الرجل شاهدين أنه نفى الولد

لما بلغه خبره، وإنما منعه عن الحضور عذر لم يبطل حقه فهذه فائدة الإشهاد. وأما إذا كان معذوراً لا يمكن من المجيء إلى الحاكم، فإن وجد من ينفذه إليه ويعرفه أنه مقيم على النفي فعل، وإن لم يجد أشهد على نفسه شاهدين أنه مقيم على النفي (ق 36 ب) كالمولى إذا عجز عن الوطء فاء بلسانه في المعذور، وصفة المعذور أن يكون مريضاً أو له مريض يحتاج أن يمرضه، أو كان ملازماً في دين أو ملازماً لغريمه يخاف أن يتركه فيخسر ماله وما أشبهه، فإن أمكنه أن يبعث بمن يلقاه فتركه أو أمكنه أن يشهد فلم يفعل بطل حقه ولم يكن له نفيه. فرع: لو قال: لم أعلم بالولادة نظر، فإن كان في موضع يخفي عليه مثله، بأن يكون في محلة أخرى أو موضع بعيد منها فالقول قوله مع يمينه، فإذا حلف كان له نفيه وإن كان معها في الدار وفي موضع لا يخفى عليه في الغالب لم يصدق. فرع آخر: لو قال: علمت بالولادة ولكني لم أعلم أن لي نفيه، فإن كان فقيهاً لا يخفى عليه مثله لم يصدق، وإن كان حديث العهد بالإسلام أو نشأ في بادية نائية كان القول قوله مع يمينه، وإن كان من العامة الذين نشأوا في بلاد الإسلام فهل يقبل قوله مع يمينه؟ وجهان: أحدهما: لا يقبل كما لو ترك الرد بالعيب، وقال: لم أعلم أن لي الرد لم يقبل منه. والثاني: يقبل، لأنه لا يعرفه إلا الخواص من الناس ولا يعرفه العامة فعذروا فيه. مسألة: قال: "وإن كان غائباً فبلغه الخبر فأقام والمسير يمكنه لم يكن له نفيه إلا أن يشهد أنه على نفيه، ثم يقم". الفصل: إذا كان غائباً فبلغه خبر الولادة، فإن أمكنه المسير حين سمع بخروج القافلة في ذلك الوقت فأخره سقط حقه ولم يكن له نفيه، وإن لم يمكنه المسير في الحال لتعذر الرفقة أشهد على نفسه أنه مقيم على النفي (ق 37 أ) وفائدة الإشهاد ما ذكرناه، فإن ترك الإشهاد قال أصحابنا: لم يكن له نفيه، والمراد به إذا لم يظهر أ، هـ مصر على نفيه على ما ذكرنا، ولا يلزمه أن يغرر بنفسه لخروجه وحده ولو كان يلحقه خصران فادح لو عجل المسير في تجارة هو مقبل عليها كان هذا من الأعذار الظاهرة فلا يجعل به مقصراً،

ومعنى قوله: "فقدم أي قدر ما في العادة غير مضر به ولا يتقاعد مع التمكن من المعدوم، ولو أمكنه المسير فتأخر، وقال: لم أصدق المخبر بالولادة نظر فإن كان الخبر مستفيضاً لم يقبل منه، وإن كان غير مستفيض، وإنما كان خبراً واحداً واثنين قبل قوله مع يمينه أنه لم يصدقه، وإن كان المخبر عدلاً؛ لأنه يجوز يعلم منه في الباطن ما يمنعه السكون إلى خبره، فإن حلف على ذلك كان له نفيه، وإن نكل عن اليمين لزمه الولد، هكذا قال جماعة أصحابنا، وقال في "الحاوي" إذا نكل عن اليمين هل يحكم عليه بنكو له وجهان: أحدهما: يحكم [عليه بنكو له في إبطال دعواه] ويلحقه الولد بالفراش دون النكول ولا ترد [اليمين] على الأم ولا على الولد لأنه لا يراعى فيه تصديقهما ولا يؤثر تكذيبهما. والثاني: يرد على الأم، فإن [حلفت لزمه الولد، وإن] (2) نكلت وقفت على بلوغ الولد، فإن نكل انتفى عنه لأن لحوق النسب حق للولد، وفيه من حقوق الأم نفي المعرة عنها هذا إن وقفت على بلوغ الولد لم يؤخذ الزوج بنفقته لأن نسبه على هذا الوجه غير لا حق به. ومن أصحابنا من قال: إذا أخبره عدلان ظاهرهما العدالة لا يعذر، في قوله لم أصدقهما والأول أظهر. مسألة: قال: "ولو رآها حبلى فلما ولدت نفاه، فإن قال: لم أدر لعلة ليس (ق 37 ب) بحمل لاعن". إذا كانت له زوجة فظهرت بها أمارات الحمل فلم ينفه حتى ولدت، ثم أراد نفيه بعد الوضع قيل له: هلا نفيته قبل الوضع، فإن قال: ما تحققته وظننت أنه ريح يذهب وينفش فالقول قوله مع يمينه وله نفيه؛ لأنه قد يشك فيه هكذا سواء قلنا: الحمل يعرف أو قلنا: لا يعرف، وإن قال: عرفته حملاً صحيحاً ولكني أخرت نفيه رجاء موته أو موت الأم للستر يلزمه الولد ولا يكون له نفيه إلا أن يكون الحال مبتوتة، ففي جواز نفيه بعد ولادته وجهان مبنيان على اختلاف الوجهين في نفي حمل المبتوتة. فإن قلنا: يلتعن لنفيه قبل الولادة لم يكن لهذا أ، ينفيه ولزمه بعد الولادة. وإن قلنا: لا يلاعن من حمل المبتوتة إلا بعد ولادتها، جاز له نفيه بعد الولادة، وإنما قلنا: كذلك لأن مثل هذا لا يكون عذراً، كما لو ولدت فسكت عن نفيه، وقال: لعله يموت

فيكون أستر لها ولي، لم يكن له نفيه. وكذلك لو اشترى سلعة فوجد بها عيباً فسكت عن رده، وقال: إنما سكت لأني قلت لعل هذا العيب يزول لم يكن له الرد. مسألة: قال: "ولو هنئ به فرد خيراً ولم يقر به لم يكن ذلك إقراراً". قال أصحابنا: معناه إذا قال له إنسان: بارك الله في مولودك وجعله ولداً صالحاً فقال: أحسن الله جزاك وبارك فيك، لم يكن هذا إقراراً. وكذلك إذا قال: رزقك الله مثله لم يكن إقراراً. وأما إذا قال: آمين، أو استجاب الله دعاك كان إقراراً؛ لأنه سأل الله تعالى أن يبارك له في مولوده يجعله ولداً صالحاً، وذلك اعتراف به. وكذلك لو قال له: ليهنئك الفارس (ق 38 أ) فقال: آمين كان إقراراً به. وقال أبو حنيفة: في الصورة الأولى يكون إقراراً أيضاً، وهذا غلط لما قال الشافعي هذا يحتمل المكافأة ومقابلة الدعاء بالدعاء المحصن لما بيناه فلا يكون رضاً به. فرع: لو انتفى من بعض حملها أو قال: إن وضعت في شهر كذا فليس مني، وإن وضعت في شهر كذا فمني وكلتا المدتين ستة أشهر فصاعداً بعد عقد النكاح لزمه الولد. مسألة: قال: "وأما ولد الأمة، فإن سعداً قال: يا رسول الله إن أخي عتبة كان قد عهد إلى فيه، وقال عبد بن زمعة أخي وابن الوليدة أبي ولد على فراشه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر". الفصل: إذا ملك الرجل أمة فقد استباح وطئها بالملك ولم تصر فراشاً له بذلك، فمتى أتت بولد قبل أن يطأها أو بعدما وطئها لدون أقل هذا الحمل لم يلحق به، وكان مملوكاً له كأمة، وإذا ثبت أنه قد وطئها باعترافه أو بالبينة فقد صارت فراشاً بالوطء والولد يلحقه إلا أن ينفيه، ونفيه أن يدعي الاستبراء بعد الوطء ويحلف عليه. وبه قال الأوزاعي، ومالك، وأحمد. وقال أبو حنيفة، والثوري: لا يلحقه ولدها ما لم يقر نفس الولد فيقول: هذا ولدي، واحتج الشافعي على مذهبه بخبر سعد بن أبي وقاص وعبد بن زمعة وقد ذكرناه

في "كتاب الإقرار" فألحق الولد بزمعة لأنه كان قد وطء تلك الجارية، ولم يشترط إقراره بالولد في حال الإلحاق. وقال عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- لا يأتيني وليدة يعترف سيدها أن قد ألم بها إلا ألحقت به (ق 38 ب) ولدها فأرسلوهن بعد أو أمسكوهن. فاعتبر الإلمام به ولم يشترط الاعتراف بالولد. فإن قيل: أليس عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- نفى عن نفسه نفي جارية له مع علمه بأنه كان يطأها قبل؟ أجاب الشافعي- رحمة الله عليه- عنه فقال: "إنما أنكر لأنه سألها فأخبرت أنه من غيره، وأنكر زيد بن ثابت حمل جارية له. والسيد إذا كان على إحاطة من أنها لم يحمل منه فواسع له فيما بينه وبين الله تعالى نفي الولد وإن كان يطأها. وكذلك في امرأته الحرة إلا أنه لا يستغنى في نفي ولد الحرة عن اللعان بخلاف نفي ولد الأمة. فإذا تقرر هذا نقول: لو اعترف بالوطء ثم ادعى الاستبراء بحيضة لم يلحق به على ما ذكرنا؛ لأن الاستبراء علامة تدل على براءة الرحم. واختلف أصحابنا في هذا، فمنهم من قال: لابد من دعوى الاستبراء ودعوى الاستبراء استحباب؛ لأن الحرة لا تحتاج إلى دعوى الاستبراء فالأمة أولى، وهو اختيار أبي إسحاق، وهو ظاهر كلام الشافعي، وهو الصحيح، وهكذا ذكره القاضي الطبري. وقال في "الحاوي": إذا ادعى السيد الاستبراء لنفي الولد وأنكرته الأمة ففي وجوب إخلافه وجهان: أحدهما: لا يمين عليه، وهذا على الوجه الذي ذكره بعض أصحابنا أن نفيه معتبر بدعوى الاستبراء لا بفعله. والثاني: وهو قول الجمهور اليمين واجبة إذا قلنا نفيه معتبر بفعل الاستبراء لا بدعواه. والوجه الأول غلط؛ لأنه إذا كانت دعوى الاستبراء شرطاً في نفيه لم يجز أن يكون كاذباً في تلك الدعوى، فيقتضي أن يكون فعل الاستبراء شرطاً واجباً في رفع الفراش ونفي الولد (ق 39 أ) قال: فعلى هذا في كيفية يمينه وجهان: أحدهما: [يحلف] بالله لقد استبرأها قبل ستة أشهر من ولادته. والثاني: [يحلف] بالله لقد ولدته لستة أشهر بعد استبرائه، فإن حلف انتفى وإن نكل فيه وجهان: أحدهما: يكون لاحقاً به بنكوله. والثاني: ترد اليمين على الأمة، فإن نكلت كانت اليمين موقوفة على بلوغ الولد،

فيحلف بالله أنني والده وجهاً واحداً، فإن نكل انتفي عنه. ولو ادعى الاستبراء ثم [أتت] بولد لدون ستة أشهر لحقه وبان أن ذلك الاستبراء لم يكن شيئاً، ولو أتت لستة أشهر فصاعداً من استبرائها. نص الشافعي أنه لا يلحق به. وقال ابن سريج: يلحق به إلى أربع سنين كالحرة، قال صاحب "الحاوي": وهذا هو القياس عندي، وفي الفرق بين الحرة والأمة ضعف. ولو ادعت على السيد أنه وطئها وأن الولد منه لم يحلف السيد، وإنما التحليف في المسألة السابقة لإقرار منه سابق بالوطء وهو مدع للاستبراء. ذكره القفال. فرع: إذا صارت أم ولده بالإقرار تعين الولد، ثم جاءت بولد ثان وثالث. قال أبو حنيفة: يلحقه ذلك أقر به أو لم يقر إلا أن ينكر فينتفي عنه، وعندنا في هذا الولد الثاني إذا كانت بينه وبين الولد ستة أشهر فصاعداً حتى لا يكون حملاً واحداً وجهان: أحدهما: يلحقه وإن لم يقر بوطء جديد، وهذا بناء على أنه إذا زوج أم ولده فأبانها زوجها وانقضت عدتها فماتت السيدة قبل أن يطأها هل عليها الاستبراء بموت السيد؟ قولان: ففي قول: تعود فراشاً له فعلى هذا يلحقه الولد الثاني (ق 39 ب) من غير إقرار بالوطء. والثاني: لا تعود فراشاً إلا بوطء جديد وكذلك إذا اشترى امرأته الأمة فأتت بولد لستة أشهر فصاعداً من وقت الشراء فهل يلحقه من غير إقرار بالوطء؟ فعلى القولين، والصحيح أنه يلحق به وأنها منكوحة فارقت زوجها، فأكثر ما فيه أن تجعل كأن الملك لم يكن وهذا كله ذكره الإمام القفال. قال: ويخرج على الوجهين أنه لو أقر بوطئها ولم يدع الاستبراء فجاءت بولد لأكثر من أربع سنين من يوم الوطء هل يلحقه؟ فإن جعلناها فراشاً له فهي كفراش النكاح، فمتى أتت بالولد لحق، وإن اعتبرنا الوطء لا غير يلحقه إلى أربع سنين ولا يلحقه أكثر من ذلك. مسألة: "ولو قال: كنت أعزل عنها ألحقت الولد به". أراد به إذا قال: وطئها في الفرج وأنزلت الماء خارج الفرج فوجود هذا العزل وعدته سواء، لأن أحكام الوطء لا تتعلق بالإيلاج ولا يراعى فيه الإنزال، وربما يسبق الماء إلى الفرج وهو لا يشعر به، ولو قال: وطئتها بين الفخذين وعزلت عنه الإيلاج لم يلحق به الولد على الصحيح من المذهب، وقد ذكرنا فيه وجهاً آخر.

فرع: لو لم يدع الاستبراء وقال: أريد أن أنفيه باللعان، قال بعض أصحابنا: فيه قولان: أحدهما: له ذلك لأنه دون ولد الحرة. والثاني: ليس له ذلك لأنه يمكنه نفيه بدعوى الاستبراء فلا حاجة به إلى اللعان. هكذا ذكره من الشامل ولعله ذكر القولين برواية أحمد عن الشافعي، وقد ذكرنا ما قيل فيه. مسألة: قال: "وقال بعض الناس (ق 40 أ) لو ولدت جارية له يطأها فليس هو ولده إلا أن يقر به فإن أقر بواحد، ثم جاءت بعده بآخر فله نفيه لأن إقراره بالأول ليس بإقرار بالثاني وله عنده أن يقر بواحد وينفي ثانياً وبثالث وينفي رابعاً، ثم قال: ولو أقر لواحد ثم جاءت بعده بولد فلم ينفيه حتى مات فهو ابنه ولم يدعه قط". هكذا حكي الشافعي عن أبي حنيفة وألزمه أنه إن كان الإقرار شرطاً في إلحاقه فهلا نفاه عنه إذا مات قبل إقراره به، وإذا ألحقه من غير إقرار فالولد للحي مثله، ومنهم من يقول: هذا ليس بمذهب أبي حنيفة بل مذهبه ما ذكرنا عن القفال. مسألة: قال: "ثم قالوا إن قاضياً زوج امرأة رجلاً في مجلس القضاء ففارقها ساعة ملك عقدة نكاحها ثلاثا ثم جاءت بولد لستة أشهر لزم الزوج". الفصل: إنما ذكر الشافعي هذا ليبين أنهم أبعد الناس قولاً حيث قالوا مع وجود الوطء في ملك اليمين: لا يلحقه الولد، ومع غير إمكان الوطء في النكاح يلحقه، وهو أنه لو نكحها ثم طلقها في الحال بين يدي الناس ثلاثاً ثم جاءت بولد لستة أشهر لا تزيد ولا تنقص لحقه، فإن زاد لم يلحقه بخلاف ما لو دخل بها فإنه يلحقه إلى سنتين عندهم، وأبلغ من هذا أنه لو علق طلاقها بالنكاح، فنكحها وطلقت من غير فصل فالحكم هذا، وعندنا وإمكان الوطء شرط. وعلى هذا لو غاب عن زوجته غيبة بعيدة بحيث لم يصل إليها بل كان شاهده من صحبة هناك وشاهدها من صحبتها على مر الأيام حيث هي، فجاءت بولد في زمان غيبته لحقه عندهم، وعندنا لا يلحقه إذا جاءت به لأكثر من أربع سنين من يوم غيبته والغيبة بهذه الصلة (ق 40 ب) لأن الإمكان شرط، وإن لم يكن العلم بحصول الوطء شرطاً، وهذه المسألة معروفة بالمشرقي والمغربية؛ فرضها في ملك المشرق

إذا سار إلى ملك المغرب فزوجه ابنته التي بالمشرق فأتت بولد لستة أشهر من حين العقد. قال أبو حنيفة: يلحق، وهذا من المحال الظاهر؛ لأن القاضي وغيره يعلمون بقيناً أنه لم يخلق من مائه فكيف يجوز إلحاقه به؟ وهل يكون الفراش إلا بالوطء وأين الوطء ههنا. فرع: لو ارتد وقذف امرأته ولاعن، ثم أسلم في العدة صح، وإن لم يسلم حد إن لم تقم بينة. فرع آخر: لو كانت تحته أربع نسوة فقال: إحداكن زانية قيل: بين، فإن قال: ما أردت واحدة لم يقبل منه، وإن قال: ألاعن من التي قذفتها ولا أعين لا يجوز. فرع آخر: لو قال: إن قذفتك فأنت طالق ثلاثاً، فقذفها طلقت وله أن يلاعن.

كتاب العدد

كتاب العدد باب عدة المدخول بها مسألة: قال: "قال الله تعالى: {والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] قال: فالأقراء عندنا الأطمار. الفصل: الأصل في العدة الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ومعناه تربصها. وأما السنة قوله صلى الله عليه وسلم "الطلاق بالرجال والعدة بالنساء". وأما الإجماع فلا خلاف بين المسلمين فيها. ثم اعلم أن العدة بالكسر مصدر الإحصاء للعدد والعدة بالضم الشيء المستعد لشيء والعدة بالفتح (ق 41 أ) الجملة المعدودة وعدة النساء تربصهن عن الأزواج بعد فرقة أزواجهن. ثم اعلم أن المعتدات على ثلاثة أضرب معتدة بالالأقراء، ومعتدة بالحمل، ومعتدة بالشهور، فالمعتدة بالأقراء تعتد بثلاثة أقراء لقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]. والمعتدة بالخمل تعتد بوضع الحمل سواء كانت معتدة عن وفاة أو طلاق أو فسخ، لقوله تعالى: {وأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4]. والمعتدة بالشهور على ضربين؛ معتدة عن وفاة، ومعتدة عن غير وفاة. فالمعتدة عن وفاة تعتد بأربعة أشهر وعشر. قال الله تعالى: {والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْرًا} [البقرة: 234] والمعتدة من غير وفاة وهي المعتدة عن الطلاق أو فسخ تعتد ستة أشهر. قال الله تعالى: {واللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ المَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} [الطلاق:4] واللائي لم يحضن ومعنى قوله: إن ارتبتم: أي

شككتم، فإذا ثبت أنواع المعتدات فالكلام الآن في عدة كل واحدة منهم، فبدأ الشافعي رحمة الله عليه بهذه المطلقة المدخول بها إذا كانت من ذوات الأقراء، وإنما شرط المدخول بها لأنها إذا لم تكن مدخولاً بها لا عدة عليها، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49]. ثم ذكر أن عدتها ثلاثة أقراء الآية التي ذكرها، ثم قال: الأقراء: الإظهار، ولا خلاف أن اسم القروء يقع على الطهر والحيض معاً كاللون الأبيض والأسود وغيرهما، وقال أبو عبيد: الأقراء من الأضداد من كلام العرب. وقال أبو عمرو بن العلاء: القرء: الوقت (ق 41 ب) وهو يصلح للطهر والحيض، وقد ورد الشرع بتسميته طهراً وحيضاً أيضاً، لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنه حين طلق امرأته وهي حائض: "إنما السنة أن تستقبل بها الطهر، ثم تطلقها في كل قرء طلقة" يعني في كل طهر، وقال لفاطمة بنت أبي حبيش: "دعي الصلاة أيام أقرائك" أي أيام حيضك. ثم اختلفوا فمنهم من قال: ينطلق هذا الاسم على الحيض حقيقة وفي الطهر مجازاً. ومنهم من قال: هو في الطهر حقيقة ويستعمل في الحيض مجازاً، ومنهم من قال: ينطلق هذا الاسم عليهما حقيقة، وبه قال أكثر أهل اللغة كالشفق اسم للحمرة والبياض والدلوك اسم للزوال والغروب، والجون اسم لجميع الألوان. وقيل: هو اسم ينطلق على الانتقال من ميعاد إلى ميعاد، فيتناول الانتقال من الحيض إلى الطهر ومن الطهر إلى الحيض، كما يقال: أقر النجم إذا طلع وأقر إذا غاب. واحتج من قال إنه حقيقة في الطهر بأن القرء مشتق من الجمع، يقال: قرأت الماء في الحوض، وقرأت الطعام في الشدق وسمي القرآن قرآناً للجمع. وقال الشاعر: ذراعي عيطل أدماء بكر ... هجان اللون لم تقرأ جنينا أي لم يجمع وحالة الجمع هي حالة الطهر، وإنما سمي الحيض قرء لمجاورة الطهر. واحتج من قال إنه حقيقة المحيض بأن طهر الصغيرة لا يسمى قرء فلو كان هو اسم الطهر لكان كل طهر قرءاً. واحتج من قال إنه حقيقة فيهما بأن في حالة الحيض يجمع الدم أيضاً، وإن كانت تخرج من الأوقات كما في حالة الطهر.

واحتج من قال إنه اسم (ق 42 أ) للوقت بأن العرب تسمي كل زمان أقبل قرء قال الشاعر: كرهت العقر عقر بني شليل إذا هبت لقارئها الرياح أي لوقتها، وقال ابن الهيثم: القرء والعدة والأجل عند العرب واحد. وقال الأصمعي: يقال أقرأت المرأة إذا دنا حيضها وأقرأت إذا دنا طهرها، وقال أبو عبيد: أصل الأقراء إنما هو وقت الشيء إذا حضر، قال الأعشى يمدح رجلاً يغزو غزاها: مورثة مالاً وفي الحي زمعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا وأراد ههنا الأطهار؛ لأن النساء لا يؤتين إلا فيها. فإذا تقرر هذا فاعلم أن الله تعالى أمر المطلقة أن تعتد ثلاثة أقراء، فالظاهر يقتضي أنها إذا اعتدت ثلاثة أقراء من أحد الجنسين، إما من الحيض أو من الطهر كفى، إلا أن أهل العلم أجمعوا أنه لا يكفي، ولا يجوز ذلك بل عليها أن تعتد بثلاثة أقراء من أحد الجنسين، إما من الحيض، وإما من الطهر، ثم اختلفوا في الأقراء المذكورة في الكتاب، فذهبت طائفة إلى أنها الأطهار. وروي ذلك عن عبد الله بن عمر، وزيد بن ثابت، وعائشة والفقهاء السبعة بالمدينة والزهري، وابن أبي ذئب، وربيعة، ومالك، وأبي ثور، وأحمد في رواية رضي الله عنهم. وقال الزهري، قال أبو بكر بن عمرو بن حزم: ما أجد أحداً من المدينة قال في الأقراء خلافاً لما قالته عائشة، وقال أحمد: أنا أعمل فيها بقول زيد بن ثابت الأقراء الأطهار، ثم قال: أنا لا أحسن أفتي بشيء فتوقف. وروت عمرة عن عائشة (ق 42 ب) رضي الله عنها أنها قالت: إذا دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة فقد برئت منه. وروى سليمان بن يسار أن معاوية كتب إلى زيد بن ثابت في ذلك فكتب زيد: إذا طلقت المطلقة في الحيض الثالثة فقد برئت منه، وكان ابن عمر يقول: إذا طلق امرأته فدخلت من الدم في الحيضة الثالثة، فقد برئت منه وبرئ منها ولا ترثه ولا يرثها،

وذهبت طائفة إلى أن المراد بها الحيض، وبه قال عمر وعلي، وابن مسعود وابن عباس، وأبو موسى، وأبي بن كعب، وأهل البصرة، والحسن والبصري وعبيد الله العنبري، والأوزاعي وأهل الكوفة، والثوري، وابن أبي ليل، وابن شبرمة، وأبو حنيفة وأصحابه، وإسحاق رضي الله عنهم. وروى عن علقمة أنه قال: جاءت امرأة إلى عمر رضي الله عنه فقالت: إن زوجي طلقني ثم تركني حتى رددته أبي وخلعت ثيابي فقال: قد راجعتك قد راجعتك، فقال عمر لابن مسعود رضي الله عنهما ما تقول فيها؟ قال: أرى أنه أحقبها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، وتحل لها الصلاة، فقال عمر: وأنا أرى ذلك. وحكي أن الشافعي وأبا عبيد القاسم بن سلام: تناظرا وكان الشافعي يقول: إنها الحيض، وأبو عبيد يقول: إنها الأطهار، فلم يزل الشافعي يقرر عليه أن القرء الحيض من حيث الفقه، وأبو عبيد يقرر عليه مذهبه من حيث اللغة حتى قاما وقد انتحل كل واحد منهما مذهب صاحبه، إلا أنه لم يوجد في كتب الشافعي أن الأقراء الحيض ولا في كتب أبي عبيد أن الأقراء الأطهار. وفائدة الخلاف أن عندنا إذا طلقها وهي طاهرة تحتسب ببقية الطهر قرأ ثم تعتد بطهرين آخرين، وعندهم لا تحتسب (ق 43 أ) بهذا الطهر بل تعتد الحيض التي أيامها ثم بحيضتين، وإن طلقها في حال حيضها لا تحتسب ببقية الحيض بالاتفاق فعندنا تعتد بثلاثة حيض كوامل، فإذا طهرت من الحيضة الرابعة انقضت عدتها. فعلى قولنا تسبق انقضاء العدة بكل حال سواء طلقها في الطهر أو في الحيض، فاستدل الشافعي على أنها الأطهار لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وأَحْصُوا العِدَّةَ} [الطلاق:1] ومعناه: طلقوهن في زمان عدتهن، وإنما عبر عن "في" اللام، لأن حروف الجر يقوم بعضها مقام بعض، قال الله تعالى: {ونَضَعُ المَوَازِينَ القِسْطَ لِيَوْمِ القِيَامَةِ} [الأنبياء:47] أي في يوم القيامة ولم يذكر الزمان فيه؛ لأن العدة مصدر والمصادر يعبر بها عن الزمان. فإذا ثبت هذا كان تقديره في زمان عدتهن، وقد أجمع المسلمون على أن الطلاق محرم في حال الحيض، فدل على أن زمان العدة هو زمان الطهر، وهذا لاشك فيه لمن تأمل، والذي دل على أن المراد به ما ذكرناه أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: "فطلقوهن لقبل عدتهن". وشك الشافعي أنه قرأ لقبل عدتهن وقبل الشيء ما أقبل منه فأمر بالطلاق في إقبال زمان العدة، وقد أجمعوا على أن إقبال زمان الطلاق هو إقبال الطهر فيجب أن يكون هو زمان العدة، وهكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: "مر ابنك فليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك وإن شاء طلق" فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء إشارة (ق 43 ب) إلى قوله تعالى.

ثم ذكر الشافعي قول عائشة رضي الله عنها هل تدرون ما الأقراء؟ الأقراء الأطهار، ثم قال: "والنساء بهذا أعلم". لأن هذا مما يبتلى به النساء، وذكر الشافعي: "أن القراء: الحبس، تقول العرب: هو يقري الماء في حوضه، وفي سقائه، ويقري الطعام في شدقه". وأوجز الشافعي هذا الفصل على عادة الفصحاء ومراده أن الحيض لما كان دماً يوجبه الرحم فيخرج، والطهر دم محتبس فلا يخرج وجب حمل القرء على الطهر لأن القرء: الحبس. ثم قال الشافعي: "ولا يمكن أن يطلقها طاهراً إلا وقد مضى بعض الطهر، وقد قال الله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] فكان شوال، وذو القعدة كاملين وبعض ذي الحجة". وأراد به أن طلاق الشخص لا يكون في الطهر إلا وقد مضى بعض الطهر، فإنه إذا ارتقب خاتمة حيضها، وقال لها في أول طهرها: أنت طالق فقد ..... من طهرها، ولا يتصور وقوع الطلاق من غير كسر الطهر إلا على جهة التعليق، ومقصود الشافعي بهذا الكلام أن الله تعالى لما قال: {والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] بين الرسول صلى الله عليه وسلم فقال لقبل عدتهن عرفنا أن الطلاق إذا وقع من خلال الطهر ولا يمكن إيقاعه إلا مع إنكار الطهر كان الكسر الباقي محسوباً لها قرءاً ومقصوده بذكر الحج أن يجيب عن سؤال، وذلك أن أهل العراق ألزمونا، فقالوا: قال الله تعالى: {والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] (ق 44 أ) فيجب أن تكون الثلاثة فاصلة وأنتم توجبون طهرين، وبعض طهر، ونحن حملناها على ثلاث حيض كوامل فأجاب الشافعي، فقال: وقد قال الله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة:197] والأشهر: اسم جمع وأقله ثلاثة فحملها الآية على شهرين وبعض شهر، فلذلك جاز أن تحمل هذه الثلاثة على طهرين، وبعض طهر، وهذا نص من الشافعي على أن أصل الجمع ثلاثة وهو مشهور مذهب أصحابنا. ثم قال: "وليس في الكتاب ولا في السنة الغسل بعد الحيضة الثالثة" فهي باقية في العدة ما لم تغتسل إذا انقطعت حيضتها لدون عشرة أيام، فقال الشافعي: فهذا غسل ليس له في الكتاب ذكر ولا في السنة وكيف يقول هذا، وعند أبس حنيفة الزيادة على النص نسخ ولا يجوز النسخ بالاجتهاد. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: لو اغتسلت إلا مقدار إصبع انقضت العدة وبطلت الرجعة، وإن لم يستبح الصلاة، ولو اغتسلت إلا مقدار كف من جسدها فكأنها لم تغتسل. وهذا مناقضة، قال: وإن اغتسلت بسؤر الحمار فهي في العدة حتى تتيمم فإذا

تيممت خرجت من العدة، وإن لم تدخل في الصلاة ولكن لا يحل لها التصرف في نفسها بدخول في الصلاة. وقال في الذمية: تنقضي عدتها، وإن لم تغتسل ولم يمر عليه وقت وصلاة. وهذه مناقضات ظاهرة، وقال شريك بن عبد الله: لا تنقضي عدتها ما لم تغتسل بعد انقضاء الحيضة الثلاثة كملت أو انتقصت، وبه قال (ق 44 ب) أحمد في رواية. مسألة: قال: "ولو طلقها طاهراً قبل جماع أو بعده، ثم حاضت بعده بطرفة عين فذلك قرء". قد ذكرنا أنه إذا طلقها وهي حائض فهو طلاق محرم ولا يحتسب ببقية الحيضة من العدة، ثم إذا طعنت الحيضة الثالثة بعد هذه البقية. قال الشافعي ههنا: "انقضت عدتها" وقال في البويطي: إذا رأت الدم يوماً وليلة انقضت عدتها، قال الداركي في المسألة قولان: أحدهما: ما ذكره في البويطي لأن هذا الدم في الأول يحتمل أن يكون دم فساد فلا تحل للأزواج حتى تتحقق أنه حيض. والثاني: ما ذكره ههنا وهو الصحيح؛ لأنا نحكم بأنه حيض ونأمرها بالإمساك عن الصلاة ونأمر زوجها بترك غشيانها. ومن أصحابنا من قال: هما على حالين فالموضع الذي قال تنقضي العدة برؤية الدم إذا حاضت على العادة، والذي قال حت تصل يوماً وليلة إذا انتقلت عادتها مثل إن كانت العادة خمساً وعشرين طهراً، فلما كان في هذا الوقت طهرت أقل الطهر خمسة عشر يوماً وحاضت، وسواء قلنا تنقضي العدة بالرؤية أو حين يتصل يوماً وليلة، هل يكون هذا الدم من العدة؟ وجهان: أحدهما: أنها من العدة لأنها دم تكتمل به العدة. والثاني: لا يكون من العدة لأن الله تعالى أمر أن تعتد بثلاثة أقراء، فلو قلنا ذلك من العدة لكانت زيادة على المأمور وهذا أصح. وفائدة الوجهين أنا إذا قلنا إنها من العدة كان زماناً للرجعة، وإن ماتت فيه ورثها، وإن نكحت بم يصح نكاحها، وإذا قلنا إنها ليست من العدة لا تصح الرجعة فيها، وإن ماتت فيه لم يرثها (ق 45 أ)، وإن نكحت يصح نكاحها. وأما إذا طلقها في الطهر، فقد ذكرنا أنه يحتسب ببقية الطهر قرءاً قل ذلك أو كثر. وحد أبو حامد هذا القليل بثلاثة أزمنة، زمان بلفظ الطلاق، وزمان لوقوعه، وزمان

للاعتداد به، وهذا الذي اعتبره من زمان وقوع الطلاق بعد التلفظ به لا يتميز في التصور، لأنه واقع باستيفاء لفظه لم يحتج بعده إلى زمان تحيض به، وصار محدوداً بزمانين زمان التلفظ بالطلاق وزمان الاعتداد، ولا فرق بين أن يكون هذا الطهر جامعاً فيه أو لا، وإن كان الطلاق محرماً إذا جامعها فيه. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: إذا كان جامعها في هذا الطهر لا يحتسب به، لأنه زمان حرم فيه الطلاق فلا يحتسب ببقيته من العدة كزمان الحيض، وهذا غلط لأنا لو قلنا هكذا لأدى إلى أن يصير الطهر أربعاً وتطول عدتها به فلا يجوز، ولأنه طهر يجب الطلاق فيحتسب به كما لو لم يجامعها فيه. وأما ما ذكره لا يصح؛ لأن تحريم الطلاق في الحيض إنما كان لأنه لا يحتسب ببقيتها فلا يجوز أن تحصل العلة في عدم احتساب العدة تحريم الطلاق، والطلاق يحرم في الطهر الذي جامعها فيه؛ لأنها تكون مرتابة لا تعلم بأي شيء تعتد به فافترقا، ولو فرغ من حروف الطلاق واتصل بها الحيض أو قال: أنت طالق في آخر جزء من أجزاء طهرك، فالطلاق محرم ويلزمها أن تعتد بعدة بثلاثة أقراء كوامل. نص عليه في "الأم" وهو ظاهر ما ذكر ههنا؛ لأنه شرط أن يكون حيضها بعدة طرفة عين. وحكي عن ابن سريج أنه خرج فيه بوجهين: أحدهما: ما ذكرنا (ق 45 ب). والثاني: أنه طلاق مباح ويحتسب بذلك الجزء قرءاً، فيكون وقع الطلاق وحصول القرء في زمان واحد، كما لو قال: أعتق عبدك عني فاعتقه يقع العتق والملك في زمان واحد، والمذهب الأول؛ لأنه يستحيل أن تكون معتدة قبل وقوع الطلاق. فأما ما ذكره لا يصح لأنه يقع الملك عندنا أولاً، ثم يعتق عقبه. وقال القفال، قال الشافعي في كتاب الرسالة: القرء اسم للانتقال من الطهر إلى الحيض إلى الطهر. فإذا قلنا: القرء الانتقال حصل لها قرء في هذه المسألة للانتقال ويكون طلاقاً سنياً، كما قال ابن سريج في أحد الوجهين، وهذا غير صحيح لأنه ذكر في كتاب الرسالة عن أهل اللغة ولم يرد به أن المراد بالقرء المذكور في الآية الانتقال، ولو قال: أنت طالق في آخر جزء من أجزاء حيضك فيه وجهان: أحدهما: أنه محظور لأنه واقع في زمان الحيض وهذا هو الصحيح. والثاني: أنه مباح لأنه طلاق يتعقبه طهر معتد به. قال هذا القائل: إذا كان الطلاق في المسألة السابقة محصوراً؛ لأنه يتعقبه حيض ففي هذه المسألة وجب أن يكون مباحاً؛ لأنه يتعقبه طهر، ومن نصر الوجه الأول أجاب عن هذا بأن الطلاق المجرد في حال الحيض لا يكون إلا محصوراً، فلم يجز أن يحكم بإباحة هذا الطلاق، وقد يكون الطلاق في الطهر محصوراً وهو في الطهر المجامع فيه فجاز أن يحكم بحظر هذا الطلاق، ولو اختلفا فقال الزوج: انقضت حروف الطلاق مع

انقضاء الطهر ووقع الطلاق في زمان الحيض، وقالت: بل انقضت حروف الطلاق وقد بقى بقية من الطهر فالقول قولها (ق 46 أ) لأن قولها مقبول في الحيض، وفي انقضاء العدة. مسألة: قال: "وتصدق على ثلاثة قروء في أقل ما يمكن". الفصل: قد ذكرنا فيما تقدم أنها تصدق في انقضاء عدتها إذا ادعت انقضاءها في اثنين وثلاثين يوماً وساعتين في القول المشهور. فأما على القول الذي حكاه البويطي أنه يعتبر مضي يوم وليلة تصدق في ثلاثة وثلاثين يوماً وساعتين؛ لأن التصديق يقع بعد مضي اليوم والليلة من الحيض في الساعة الأولى من اليوم الثاني من الحيض. وحكي الداركي عن الاصطخراي أنه قال: إذا كان لها عادة في الحيض أكثر من يوم وليلة لم يقبل قولها في أقل من ذلك، كما لو ادعت ابنة عشرين سنة أنها قد آيست من الحيض لم تصدق، وهذا لأن العادة صارت أصلاً متيقناً. قال القفال: وهذا مفهوم قول الشافعي لأنه قال في الكبير: "لو كان لها عادات مختلفة فادعت انقضاء عدتها بأقل عدتها قبل" فدل على أنها لو ادعت بخلاف العادة لا يقبل وظاهر المذهب أنه لا فرق؛ لأن الشافعي أطلق ههنا أنها تصدق ولم يفصل بين أن تكون معلومة العادة أو مجهولة العادة، وهذا لأن تعيين العادة ممكن ولا طريق إلى معرفتها، وليس كذلك ابنة عشرين سنة لأنها لا تعلم من نفسها أنها قد آيست، وإنما تعلم تباعد الحيض عند أيام عادتها وقد تتباعد ثم تعود، نظير هذا أن العادة في الحمل تسعة أشهر فلو ادعت الولادة في ستة أشهر من يوم النكاح قلنا كذلك ههنا. ولو ادعت انقضاء عدتها بأقل ما ذكرناه فلم يقبل قولها، ثم ادعت انقضائها بعد مضي زمان الإمكان نظر، فإن رجعت عن دعواها بالأولى قبل قولها، وإن كانت مصرة (ق 46 ب) على دعواها الأولى، وقالت: انقضت عدتي بأقل من هذا الزمان، وإنما فقدت المقدار الذي قلتموه بقولكم لم يقبل ولم يحكم بانقضاء عدتها. وحكي أبو حامد أنه إذا مضى زمان الإمكان انقضت العدة، قال: ونص الشافعي على أن عدتها تنقضي بهذا القدر، وإن كانت تدعي ما ادعت أولاً؛ لأن العدة مضي الزمان، فإذا انقضت العدة والأول أصح، وهو اختيار القاضي الطبري؛ لأنا حكمنا في الأول ببطلان إقرارها فلا نحكم بعد ذلك بصحته إلا بخبر منها مجدد. وقال الداركي: إذا قعدت ثلاثة أشهر انقضت عدتها؛ لأن الغالب من أمر النساء

أنهن يختص في كل شيء، ولو قال لها: إذا ولدت فأنت طالق فولدت ولدا، ثم ادعت انقضاء العدة بعده فإنك ما تصدق. قال الداركي: سبعة وأربعون يوماً وساعتين بساعة النفاس بعد الولادة، وخمسة عشر طهر ويوم وليلة حيض، وخمسة عشر طهر وهو القرء الثاني ويوم وليلة حيض وخمسة عشر طهر، فإذا طعنت في الحيضة الثالثة فقد انقضت العدة. ووافقه سائر أصحابنا، وقال القاضي الطبري: يجب أن تكون سبعة وأربعين يوماً وساعة لايجوز عندنا أن تلد ولا ترى النفاس. وقال القفال: فيه وجه آخر أن الدم إذا عاد في ستين يوماً فهو نفاس، وبه قال أبو حنيفة ويريد ستون، وهذا غريب بعيد، وإذا ادعت انقضاء عدتها بالسقط، نقل المزني: ولذلك صدق على السقط، وقد ذكرنا ما قيل في كتاب الرجعة. مسألة: قال: "وأقل ما علمناه من الحيض يوم". الفصل: قد ذكرنا هذا في كتاب الحيض، وقيل: كان الشافعي يرى أقل الحيض (ق 47 أ) يوم وليلة حتى صح عنده ما قال الأوزاعي: كانت عندنا امرأة تحيض بالغداة وتطهر بالعشي. وكتب إليه عبد الرحمن بن مهدي بمثل ذلك فصار إليه. واختار المزني من القولين لنفسه: أن أقل الحيض يوم وليلة، واحتج فقال: لأنه زيادة في الخبر والعلم، وهذا الذي اختاره أصح القولين، ولكن يمكن أ، يجاب عن دليله بأن يقال: الزيادة في الخبر أن يكون أقل الحيض يوماً؛ لأن المرجع فيها إلى الوجود من نوادر عادات النساء، فإذا وجدنا امرأة حيضتها يوم وليلة ووجدنا امرأة أخرى حيضتها يوم، فزيادة العلم مع التي حيضتها يوم، ولو اعتبر الزيادة في المدة لكان ما ذهب إليه أبو حنيفة أولى، وهو أن أقل الحيض ثلاثة أيام، وقيل: إنه اختار ما قال في هذا الموضع أنه يوم لا ما حكى عنه من موضع آخر، فقال: هذا أولى، يعني قوله يوم؛ لأنه زيادة في الخبر والعلم، ثم مثل القول فقال: وقد يحتمل أنه أراد يوماً بليلته فيكون المفسر من قوله يقضي على المجمل. مسألة: قال: "وإن علمنا أن طهر امرأة أقل من خمسة عشر جعلنا القول فيه قولها". أقل الطهر عندنا خمسة عشر يوماً للوجود المعتاد في خواص النساء، فلو وجدنا

أقل منها لجعلناه طهراً ولكن لم يوجد وجوداً معتاداً، والعادة أن تتكرر مراراً ومن جماعة النساء مرة واحدة، وقال الداركي: سمعت أبا إسحاق يقول: إذا تكرر مرتين فقد صار معتاداً، وقال مرة أخرى: إذا تكرر ثلاث مرات ولا يختلف المذهب أنه لا يثبت ذلك بمرة واحدة. وقال الداركي: (ق 47 ب) اعتبار الثلاث أولى وأصح، فإذا وجد متكرراً ثلاث مرات في امرأة واحدة من غير مرض ولا عارض، أو وجد مرة واحدة من نساء أقلهن ثلاث نسوة تثبت العادة، وإن ادعت امرأة بعد ذلك أنها رأت أقل من خمسة عشر يوماً صدقناها وجعلناه طهراً صحيحاً، ولكن لم يثبت بعد فلا يقبل فيه قول معتدة بحال، فإن تفرق ذلك في امرأة واحدة ولم يتوال لا تصير عادة، وإذا وجدة مرة واحدة من ثلاث نسوة هل يراعى أن يكون ذلك في فصل واحد من عام واحد؟ وجهان: أحدهما: يراعى وجود ذلك منهن في فصل واحد في عام واحد، فإن اتفق عليه فصلين في عام واحد أ, فصل واحد في عامين لم تصر عادة معتبرة، ليكون اختلاف طباعهن مع اتفاق زمانهن شاهداً على صحة العادة احتياطاً لها. والثاني: لا يعتبر ذلك وإن اختلفت في الفصول والأعوام جاز وصار عادة، ليكون أنفي للتواطؤ وأبعد من التهمة، ولا يقبل ذلك إلا من نساء ثقات تقبل شهادتهن لما فيه من إثبات حكم مرعى، ولا يقبل خبر المعتدة معهن في حق نفسها لتوجه التهمة إليها وفي قبوله في حق غيرها وجهان: أحدهما: لا تقبل لرده بالتهمة. والثاني: تقبل لأنها ثقة. فإن قيل: قلتم في الحيض تثبت عادة المرأة في الحيض بمرة أو مرتين، وههنا تعتبرون ثلاث مرات فما الفرق؟ قيل: الفرق أن تلك عادة المرأة التي تعتبرها في تمييز حيضها من استحاضتها، واعتبار حكمها في نفسها دون غيرها، فقلنا: رد إلى مقدار الدم الذي رأته مرة أولى من اعتبار أقل الحيض، أو اعتبار غالب عادة نساء بلدهم، وههنا نريد أن نعرف عادتها ليثبت به (ق 48 أ) حكمها وحكم سائر النساء في مقدار أكثر الحيض وأقله فكان حكمه آكد وأغلظ، فاعتبرنا التكرار فيه. وقال القفال: هذا الذي ذكره الشافعي ههنا من أقل الطهر لفظ في غاية الإطلاق، ولا يدل على أن الشافعي لم يحكم بأقل الطهر وأحال على ما سيوجد، بل أراد أنا لو كنا وجدنا فيما مضى عادة جارية في بعض النساء وجدنا فيه قول متقدم لقلنا به، ولكنا لم نجد ذلك والإجماع إذا انعقد على شيء لم يجز الاعتراض عليه، وقد استقرت العادة فيه على خمسة عشر إلى يومنا هذا والله تعالى ما أجرى العادة بتبديلها وتغييرها فاستقر الإجماع والأحكام عليها، ولو جاز أن يقال بهذا القول في الطهر جاز أن يقال في أكثر الحيض وأقله مثل هذا. وكان الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني يقول: إذا استقرت عادة

امرأة على أربعة عشر أو ثلاثة عشر في الطهر جعل ذلك لها أقل الطهر, وأخبر أن امرأة كانت بهذه الصفة مستقرة العادة فأتاها بهذا الفتوى ومات وهو على هذا المذهب, وظاهر كلام الشافعي معه كما ترى. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ رَأَتِ الدَّمَ فِي الثَالثَةِ دَفْعَةٌ ثُمَّ ارْتَفَعَ يَوْمْيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٌ أَوْ أَكثَرَ, فَإِنْ كَانَ الوَقْتُ الَّذِي رَأَتْ فِهِ الدَّفْعَةَ فِي أَيَّامِ حَيْضِهَا وَرَأَتْ صُفْرَةٌ أَوْ كَدْرَةٌ أَوْ لَمْ تَرَ طُهْرًا حَتَّى يَكْمُلَ يَوْمًا وَلَيْلَةٌ فَهُوَ حَيْضٌ, وإِنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَيَّام الحَيْض فَكَذَلِكَ إِذَا أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ رُؤْيَتِهَا الدَّمَ وَالحَيْضَ قَبْلَهُ قَدْرُ طُهْر وَإِنْ رَأَتْ الدَّمَ أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيلَةٍ لَمْ يَكُنْ حيْضًا". [ق 48 ب] قوله: "دفعة" أي لحظة. وقوله: "في الثالثة" أي في الحيضة الثالثة وقوله "ولم طهرًا" أي أقل الطهر, وأراد به أنها إذا طعنت في الحيضة الثالثة فرأت دمًا, ثم انقطع يومين أو ثلاثة أيام, فإن كان الدم الذي رأته حيضًا فقد انقضت به العدة, وإنما يكون حيضًا بوجود ثلاث شرائط, اثنان متفق عليها. أحدهما: أن يكون بينه وبين الحيض الذي كان قبله أقل الطهر وهو خمسة عشر يومًا. والثاني: أن يكون مقدار الدم يومًا وليلة أو يومًا على ما ذكرنا, وقد صرح ههنا باعتبار يوم وليلة. والثالث: أن يكون أسود ثخينًا, فإن كان أصفر رقيقًا أو مكدرًا, فإن كان في أيام العادة كان حيضًا, وإن كان في أيام الإمكان فالمنصوص ههنا أن يكون حيضًا, وقد ذكرنا عن الاصطرخي أنه قال: لا يكون حيضًا لأنه ليس معها أمارة تدل على أنه حيض من وقت وصفه إلا أن يتقدمها دم أسود فيكون حيضًا؛ لأن علامة دم الحيض قد تقدمت ولا يبقى الدم على حالة واحدة بل يتغير إلى الصفرة أو الكدرة فلا يخرج بذلك عن أن يكون حيضًا. قال: هذا القائل وقد شرط الشافعي ههنا يقدم الدم الأسود أو الأحمر, لأنه قال: "ورأت صفرة أو كدرة بعد الدفعة" فعرفنا أن الدفعة غير الصفرة والكدرة, وهو السواد وما يقارب السواد من الأحمر القاني الثخين, وهذا غلط؛ لأن الشافعي نص في "الأم" على هذه المسألة, وقال: "أو رأت صفرة أو كدرة" فسقط الألف من المزني ومعناه: أو كان مكان هذا الدم صفرة أو كدرة, وقال بعده: [ق 49 أ] "وإن كان في أيام الحيض فكذلك" أي إن كان في غير أيام العادة فهو كما لو كان في أيام العادة, إذا كان بينه وبين

الحيض قدر طهر يعني خمسة عشر يومًا فصاعدًا, فقول الأصطخري مخالف نص الشافعي بكل حالٍ, وإن رأت الدم في الثالثة لحظة ثم ارتفع يومًا أو يومين ولم يبلغ أقل الطهر, ثم عاودها الدم وكان الزمان يبلغان يومًا وليلة كان الكل حيضًا وانقضت به العدة, وهذا على القولين في التلفيق, وقد شرحناه في كتاب الحيض. وجملة الكلام ههنا أنَّا إذا جعلنا الدم حيضًا حكمنا بانقضاء عدتها برؤيته, وإذا لم نجعله حيضًا لم نحكم. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ طَبَقَ عَلَيْهَا الدَّم, فَإِنْ كَانَ دَمًا يَنْفَصِلُ فَيَكُونُ فِي أَيَّامِ أَحْمَرَ قَانِيًا مُحْتَدِمًا كَثِيرًا وَفِي أَيَّامِ بَعْدَهُ رَقِيقًا". الفصل: أراد به أنها إن كانت مميزة ردت إلى التمييز. والاحتدام: أن يخرج بخرقة, وإن لم تكن مميزة وكانت لها عادة ردت إلى عادتها, وإن لم تكن لها عادة وكانت مبتدأة فيه قولان: أحدهما: حيضها في كل شهر يوم وليلة. والثاني: ست أو سبع. ونص ههنا أنه حيضها يوم وليلة من أول كل شهر وسوى بين الناسية والمبتدأة في ذلك, وإنما جعل الحيض يومًا وليلة من أول كل شهر؛ لأن الغالب أن الحيض يكون في أول كل شهر. فإن قيل: ليس من الضرورة أن يوافيها حيضها مع الهلاك, بل ربما يوافيها حيضها في وسط الشهر أو في آخر الشهر, فكيف اعتبر الشافعي الأهلة في هذا الحكم؟ قيل: الأمر على ما ذكرتم ولكننا إذا لم نعرف ههنا أول دورها ولآخر دورها, وعرفنا أن أغلب عادات النساء في كل شهر طهر وحيضة [ق 49 ب] لم نجد أصلًا نرجع إليه أولى من الأهلة التي جعلها الله تعالى علمًا لمعرفة الحساب في مثل هذا الموضع, ثم قال الشافعي ههنا: "َإِذا أَهَلَّ الهِلاَلُ الرَّابعُ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا". وروى الربيع: "فإذا أهل الهلال الثالث فقد انقضت عدتها" واختلف أصحابنا في هذا, فمنهم من قال: لا فرق بين الروايتين, وصورة المسألة أن يطلقها في بعض المحرم, فنحسب به قرْءًا وصفر قرءًا ثانيًا وربيع الأول قرءًا ثالثًا, فإذا أهل هلال ربيع الآخر فقد انقضت العدة, فعد الشافعي على رواية المزني هلال المحرم في العدة, لأنه محسوب من العدة وهو الأول, ولم يعده في رواية الربيع في العدد ولكن حسبه من العدة؛ لأن الهلال قد سبق الطلاق وإنما حسبنا ما بقي من الشهر بعد إهلال الهلال قرءًا

فلم نعد ذلك الهلال في عدد الأولة فالروايتان هما واحد, ومنهم من قال: معنى رواية المزني إذا طلقها في أول المحرم فحسب ما بقي منه قرءًا, وحسب هلال المحرم في العدد؛ لأنَّا إذا حسبناه قرءًا من أوله يجب أن يحتسب في عدد الأهلة, فإذا أهل هلال ربيع الآخر وهو الرابع من هلال المحرم فقد انقضت العدة. وعنى رواية الربيع أنه طلقها في آخر المحرم, وقد بقي منه يسير فحسب ما بقي قرءًا؛ لأنها طاهرة في الجملة على ما بيَّناه, فإنَّا إذا جعلنا حيضتها في أول كل شهر تكون في آخره طاهرًا ولكنه لم يحتسب هلال المحرم في عدد الأهلة؛ لأن اليسير منه محسوب من العدة والمعظم قبل وقوع الطلاق ووجوب العدة [ق 50 أ] فلم نعده في عدد الأهلة وحسب من أوله هلال يأتي عليها وهو هلال صفر وهلال ربيع أول, فإذا أهل هلال ربيع الآخر, فقد انقضت عدتها وهو الثالث من هلال صفر. ومن أصحابنا من قال: معنى ما رواه المزني إذا طلقها في النصف الأخير من الشهر فلا تعتد بما بقي من الشهر من العدة؛ لأنه لا يجوز أن يكون جميع ما بقي حيضًا, فإذا أهل صفر دخلت في العدة, فإذا أهلّ جمادي الأولى وهو الهلال الرابع من هلال صفر, فقد انقضت العدة. ومعنى ما رواه الربيع إذا طلقها في النصف الأول من الشهر حتى يسع ما بقي حيضًا وطهرًا فيحتسب به قرءًا؛ لأنه لا يجوز أن يكون جميع ما بقي من الشهر حيضًا, ولكنه لا يحتسب هلال المحرم في العدد لأنه أهل قبل وقوع الطلاق, وإنما يحسب من هلال صفر, فإذا أهلّ ربيع الآخر فقد انقضت العدة وهو الثالث من هلال صفر. ومن أصحابنا من قال: صورة المسألة أن يطلقها في النصف الآخر من الشهر وفيه قولان: أحدهما: لا يحتسب به قرءًا وهو رواية المزني لما ذكرنا أنه يجوز أن يكون كل ما بقي حيضًا. والثاني: يحتسب قرءًا لأنَّا حكمنا بأنها طاهرة في آخر الشهر فيحتسب به قرءًا, فإذا أهلّ الهلال الثالث بعد الطلاق فقد انقضت العدة في رواية الربيع, وفي رواية المزني, فإذا أهل الهلال الرابع تنقضي العدة. ومن أصحابنا من قال, وهو اختيار صاحب المنهاج: قوله: "فإذا أهلّ الهلال الرابع" أي انقضى الشهر الثالث فالهلال مضاف إلى الشهر الرابع [ق 50 ب] كما إذا انقضى شعبان فاستهل الهلال يضاف ذلك الهلال إلى رمضان, وقوله: "فإذا أهل الهلال الثالث" أي انقضى الشهر الثالث ولكنه عبر عن انقضائه استهلال الهلال على نوع من التجوز في العبارة, فرجع الروايتان إلى معنى واحد وهو في المبتدأة والناسية إذا مضى عليهما ثلاثة أشهر بالأهلة حكمنا بانقضاء عدتها, وكذلك إن مضى شهران وأكثر الشهر الأول فحصل خمسة طرق.

وذكر القفال وجهًا آخر أن الناسية إذا لم تعرف متى استمرّ بها الدم بأن أفاقت والدم سائل بها يجعل ذلك الشهر أول شهرها ويحسب كل شهر ثلاثين يومًا, فإذا تم ثلاثون يومًا فقد أهل هلالها ولا تعمل بالأهلة. وفي المبتدأة تحتسب من أول ما رأت الدم المستمر كل ثلاثين يومًا شهرًا فنقضت شهور الأهلة أو كملت وهذا غريب بعيد. وقال بعض أصحابنا: أحد القولين في الناسية المتحيرة أنها لا تحيض شيئًا, بل تكون كل دهرها مشكوكًا فيه, وتأخذ بالاحتياط في العبارات على ما ذكرنا في "كتاب الحيض" فعلى هذا ينبغي أن تتربص في العدة حتى تصير من الآيات فتعتد حينئذٍ بثلاثة أشهر تغليظًا كما في العبادات, لأنه ما من زمان يأتي عليها إلا ويمكن فيه الحيض والطهر معًا, ولا نعلم قدر ما بين الحيضتين من الطهر فيعتذر الحكم لها بعدة صحيحة. وهذا أيضًا غريب ضعيف. وقال القفال: في الناسية طريقان: أحدهما: فيها قولان أنها كالمبتدأة أو لا حيض لها. والثانية: قول واحد لأنه لا حيض لها إلا في العدة فإنَّا نجعل كل شهر لتنقضي عدتها بثلاثة أشهر [ق 51 أ] والمنصوص التسوية بين المبتدأ والناسية ههنا وهو الصحيح. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ كَانَتْ تَحِيضُ يَوْمًا وَتَطْهُرُ يَوْمًا وَنَحْوَ ذَلِكَ جُعِلَتْ عِدَّتُهَا تَنْقَضي بِثَلاَثَةِ أَشْهُرٍ". الفصل معناه إذا لم يكن لها تمييز ولا عادة فإن عدتها تنقضي بثلاثة أشهر, وليست هذه من ذوات الشهور وإنما هي من ذوات الأقراء وبها تنقضي عدتها, ولكن الغالب أنه ثلاثة أقراء تنقضي من ثلاثة أشهر, فأمرها بالعقود ثلاثة أشهر ولتحصل لها بمضيها ثلاثة أقراءٍ, وسواء قلنا إنها تلفق أو لا تلفق فالحكم واحد لا يختلف في باب العدة. فأما إذا كانت مميزة أو كانت معتادة فإن حيضها مقدار التمييز أو مقدار العادة إن لم يكن لها تمييز, وما زاد على ذلك طهر وتعتد بثلاثة أطهار على ذلك, سواء كانت في أقل من ثلاثة أشهر أو في أكثر من ثلاثة أشهر. فإن قيل: إذا جعلتم أيام نقاءئها طهرًا فهلا تنقضي عدتها لستة أشهر؟ قلنا: أجاب الشافعي بأن الله تعالى حكم بأن العدة تنقضي بثلاثة أطهار كوامل وهذه أطهار ناقصة, وفسره أصحابنا بأن هذا طهر واحد تفرق وحيضة واحدة تفرقت؛ لأن لها في شهر واحد خمسة عشر يومًا حيضًا وخمسة عشر طهرًا.

وقال سعيد بن المسيب في المستحاضة التي استمرّ بها الدم إما دائمًا, وإما يومًا دمًا ويومًا طهرًا: تتربص تسعة أشهر ثم ثلاثة أشهر فذلك سنة, ثم تنكح؛ لأنه يحتمل أن جميع دمها دم فساد فتصير كامرأة تراخى حيضها وقد حكم رضي الله عنه في التي تراخى حيضها بهذا فقاس سعيد بن المسيب على هذه, فنقول: حديث عمر رضي الله عنه متأول على ما سنذكره, وأما هذه فإنها لا تزال [ق 51 ب] ترى الدم فلا تجعل آيةً من الحيض. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ تَبَاعَدَ حَيْضُهَا فَهِيَ مِنْ أَهْلِ الحَيْضِ حَتَّى تَبْلُغَ الِّسِّنَّ الَّتِي مَنْ بَلَغَها لَمْ يَحِضْ". المرأة التي لم تحض قط فعدتها تكون بثلاثة أشهر بلا خلافٍ, ولا فرق بين أن تكون قد بلغت سن المحيض, وإن كانت آيسة ثلاثين سنة أو خمسين أو لم تبلغ. وبه قال جماعة الفقهاء. وقال أحمد في رواية: إن بلغت سن المحيض فعدتها سنة اعتبارًا بغالب مدة الحمل وثلاثة أشهر بعدها. واحتج بأن هذه في سن المحيض, فإذا لم تر الدم اعتدت سنة كما لو كانت ذات الحيض, ثم انقطع. وهذا غلط لقوله تعالى {وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق:4] ولم يفصل ولا نسلم قياسًا عليه, وإن سلمنا على قوله القديم فالعرف أنها من ذوات الأقراء بخلاف هذه فافترقا, وإن كانت قد حاضت مدة أو أكثر, ثم تباعد حيضها نُظر فيه, فإن كان لعارض مثل رضاع أو مرض أو غيره عليها أن تقعد إلى أن يزول العارض وتحيض أو تيأس ثم تعتد بثلاثة أشهر, وهذا إجماع, والدليل عليه ما روى الشافعي بإسناده أن حيان بن منقذ طلق امرأته وهو صحيح وهي ترضع, فأقامت تسعة عشر شهرًا لا تحيض, ثم مرض حيان فسئل عن ذلك عثمان بن عفان, وعنده على بن أبي طالب, وزيد بن ثابت رضي الله عنهم, فقال عثمان لعلي وزيد: ما تريد فقالا: نرى أنها ترثه إن مات ويرثها إن ماتت فإنها ليست من القواعد التي يئسن من المحيض, وليست من الأبكار اللائي لم يبلغن المحيض ثم هي على عدة حيضها ما كان من قليل وكثير, فرفع [ق 52 أ] حيان إلى أهله فأخذ ابنته, فلما فقدت الرضاع حاضت حيضتين, ثم توفي حيان قبل الثالثة فاعتدت عدة المتوفي عنها زوجها وورثته. وروى عن محمد بن يحيى بن حيان أنه قال: كانت عند جدي حيان امرأتان له: هاشمية وأنصارية, فطلق الأنصارية وهي ترضع فمرت بها سنة, ثم هلك عنها, ولم تحض, فقالت: أنا أرثه لم أحض, فاختصما إلى عثمان بن عفان فقضى لهما عثمان

رضي الله عنه بالميراث فلامت الهاشمية عثمان فقال عثمان: هو أشار إلينا بهذا ابن عمك, يعني علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وروى عن علقمة أنه كانت له امرأة فطلقها تطليقة أو تطليقتين ثم حاضت حيضة أو حيضتين, ثم ارتفع حيضها سبعة أو ثمانية عشر شهرًا, ثم ماتت فقال ابن مسعود رضي الله عنه حبس الله عليك ميراثها فورثه منها. وإن كان لغير عارض, قال في "الجديد": تقعد إلى أن ترى الحيض أو تيأس فتعتد بثلاثة أشهر, وبه قال أبو حنيفة وجماعة, ووجهه أن الله تعالى لم يجود الأشهر إلا للآيسات, أو اللاتي لم تحض, وهذه ليست يائسة ولا ممن لا تحيض. وروى أن أبا الأحوص طلق امرأته وكانت ذات أقراءٍ فارتفعت حيضتها فسأل عبد الله بن مسعود فقال: أبقي بينكما لا تنقضي عدتها حتى تحيض أو تيأس. وروى عن ابن سيرين, عن ابن مسعود أنه قال: عدة المطلقة الحيض, وإن طالت. وقال في "القديم": تقعد حتى يمر بها ما يدل على براءة رحمها ثم فيه قولان: أحدهما: يعتبر العلم ببراءة رحمها قطعًا وهو أربع سنين. والثاني: يعتبر العلم ببراءة رحمها ظاهرًا وهو تسعة أشهر, وبه قال مالك, وأحمد, وعلى كلا القولين [ق 52 ب] لابد من ثلاثة أشهر بعدها؛ لأنَّا اعتبرنا هذه المدة لتصير بها من أهل الشهور, فإذا صارت من أهله اعتدت بها, فإن قيل: إذا اعتبرتم العلم ببراءة رحمها قطعًا بأربع سنين على القول الأول فلم اعتبرتم مضي ثلاثة أشهر ولا معنى له؟ قلنا: الاعتداد إنما يكون بالأقراء أو بالأشهر, وقد تجب العدة مع تحقق براءة الرحم, ألا ترى أنه لو علق الطلاق بوضع الحمل فوضعت اعتدت مع حصول براءة الرحم يقينًا كذلك ههنا, ومن قال بالقول الثاني احتج بان بهذا القدر تُعلم براءة الرحم ظاهرًا ويكفي الظاهر في انقضاء العدة, ألا ترى أنها تنقضي بثلاثة أقراء, وإن جاز أن تكون حاملًا. وروى الشافعي في "القديم" عن ابن المسيب, عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قضى في المرأة التي يطلقها زوجها تطليقة ثم تحيض حيضة أو حيضتين ثم ترفع حيضها أنها تتربص تسعة أشهر, فإن استبان بها حمل فهي حامل وإلا اعتدت بعد ذلك ثلاثة أشهر, ثم قد خلت بالخاء، هكذا أورده الإمام البيهقي رحمه الله ثم عاب على من خالفه, وقال: أمير المؤمنين يقضي به بين المهاجرين والأنصار ولا ينكر منكر فكيف يجوز مخالفته, ولأنَّا لو كلفنا بالجلوس حتى تبلغ سن اليأس أدى إلى ضرر عظيم بها,

حيث تبقى في العدة إلى أن تبلغ ستين سنة أو سبعين, ثم لا يرغب فيها أحد, وعلى زوجها ضرر أيضًا حيث يلزمه سكناها ونفقتها إن كانت رجعية وفي أقل هذا الضرر أزلنا النكاح في العنة ونحوها, فههنا أولى أن يزول, وقيل: إن الشافعي رجع عن قوله القديم صريحًا, وقال: يحتمل قول عمر أن يكون في المرأة التي قد بلغت السن [ق 53 أ] التي من بلغها من نسائها آيس من المحيض, وفي رواية أن عمر قال في التي رفعتها حيضها ومعناه ارتفعت حيضها. وأما فصل الضرر يبطل بما لو ارتفعت حيضتها لعارض مرض, ولأنه قد يغيب زوجها وتقعد فلا تحل إلا بعد طول عمرها, ولا يباح لها النكاح للضرر كذلك ههنا. وإذا قلنا بقوله القديم فإن تعاودها الدم فلا كلام, وإن عاودها بعد انقضاء العدّة وعند النكاح فلا تعود إلى الأقراء ولا يبطل نكاحها؛ لأنه تعلق حق الزوج الثاني بها فلا يبطل بعود الدم, وإن عاودها في العدة أو في حال المكث كانت عادتها الأقراء, وإن عاودها بعد انقضاء العدة قبل النكاح هل تعود إلى النكاح وجهان: أحدهما: تعود إليها لأنها رأت الدم قبل أن يتعلق بها حق زوج آخر. الثاني: وهو الصحيح أنها لا تعود؛ لأَّنا حكمنا بانقضاء عدتها فأشبه إذا عاودها بعد النكاح. وهو اختيار القاضي الطبري وجماعة. وإذا قلنا بقوله الجديد اختلف قول الشافعي فيما تصير به آيسة فقال في موضع: إذا بلغت السن التي من بلغها من نائها آيست من المحيض اعتدن بالأشهر، فجعل الاعتبار في الإياس بنسائها دون سائر الناس, ولا فرق في هذا بين نساء العصبات وغيرهن من عشيرتها, وهذا هو المذهب بخلاف اعتبار مهر المثل؛ لأن النسب في ذاك معتبر بخلاف هذا, ولأن الظاهره أن نساؤنا كنائسهم وطبعها كطبعهم. وقال في موضع آخر: إنها لا تصير من الأنساب حتى تبلغ السن التي من بلغها من نسائها وغيرهن من نساء زمانها لم تحض يقينًا احتياطًا كما تعتبر عادة نساء العالم [ق 53 ب] في أقل الحيض وأكثره. قال أبو إسحاق ولعله أصح القولين, وقيل: فيه وجه آخر ذكره صاحب "الإفصاح" تنتظر السن التي من بلغها لا تحيض في غالب النسوان كما اعتبر الشافعي هذا في عادة الحيض. وقال القفال: مرجع القولين إلى أن المرأة تأخذ في أمر عدتها بالظاهر أو باليقين وفيه قولان, قال بعض أصحابنا بخراسان: يعتبر بنساء بلدها خاصة, وفي وجه يعتبر بنساء عصباتها كمهر المثل, وهو غلط طاهر. وقيل: لم تحض امرأة لخمسين سنة إلا أن تكون عربية ولم تحض لستين إلا أن تكون قرشية, وهذا قول غريب. وقال صاحب "الحاوي: هذا لا يصح لأني كنت في جامع البصرة فحضرتني

امرأة ذات خشوع وصلاح, وقالت: عاودني الدم بعد الإياس فهل يكون حيضًا فقلت: كيف؟ قالت: أراه في كل شهر دمًا أسود كعادتي في زمان الشباب. قلت: ومذ كم رأيته؟ قالت: مذ نحو من سنةٍ قلت: كم سنك؟ قالت: نحو من سبعين سنةٌ. قلت: من أي الناس أنت؟ قالت: من بني تميم. قلت: أين منزلك؟ قالت: في بني حصين فأفتيتها أنه حيض لتلتزم أحكامه. فإذا قلنا بهذا القول فبلغت سن الآيسات واعتدت بثلاثة أشهر, ثم رأت الدم قبل النكاح أو بعده فالحكم على ما ذكرنا في القول الأول هكذا ذكره أبو حامد. وقال القفال: فيه قولان, والأظهر أنه يبطل النكاح لأَّنا جوزني ذلك بحكم الإياس وبالحيض يتبين أن لا إياس. والثاني: لا يبطل. قال القفال: وكنت أنكر هذا القول [ق 54 أ] حتى وجدت للشافعي أصلين يدلان عليه. أحدهما: أن المعضوب المأيوس إذا حج عن نفسه, ثم زالت زمانته هل يلزمه إعادة الحج؟ قولان؛ ففي قول اعتبر حقيقة تعذر برؤه في المستقبل, وفي قول اعتبر ظاهر الإياس عنه, والأصل الآخر أنهم إذا رأوا سوادًا وابلًا فظنوهم عدوًا فصلوا صلاة شدة الخوف, ثم بان الأمر هل يلزمه إعادة الصلاة؟ قولان؛ ففي قول اعتبر وجود العدو حقيقة. وفي قول اعتبر الخوف من العدو فكذلك ههنا ظاهر أمرها الإياس فلا يبطل بأن تحيض بعده على أحد القولين. ولو وجدنا امرأة تحيض وتطهر على الاستقامة وقد بلغ سنها مائة مثلًا فإنها من ذوات الأقراء بلا خلاف, وإن لم نجد لها نظيرًا في النساء يحيض. فرع: لو رأت الدم قبل الفراغ من الشهور فإنها تحسب ما مضى قرءًا ويبطل اعتبار الشهور, ويخالف الصغيرة إذا حاضت قبل الفراغ من الشهر لا تحتسب بما مضى قرءًا على ظاهر المذهب؛ لأن ذلك ليس بطهر بين حيضتين, وههنا طهر بين حيضتين فيحسب قرءًا لا محالة. فرع آخر: قال القفال: لو اعتدت بشهر من الثلاثة بعدما بلغت سن الإياس ثم رأت الدم مرة احتسِبت قرءًا, ثم فقدت بعد ذلك اعتدت الآن بثلاثة أشهر؛ لان أقل من هذا لا يدل على براءة رحمها, وكذلك لو رأت قرءًا آخر حصل قرءان, ثم انقطع دمها وآيست يلزمها أن تستأنف ثلاثة أشهر, وهذا بخلاف ما لو عملت بقوله القديم فتربصت [ق 54 ب] شهرًا من الثلاثة ثم ................... [ق 55 أ] كما لو طهر بعد موته, واحتج بقوله تعالى: {وَأُوْلتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ

حَمْلَهُنَّ} [الطّلَاق:4] قلنا: هذه الآية إما أن تكون واردة في المطلقات فلا حجة له فيها, وإن كانت عامة لا يدعى عدمها إلا فيما يجوز أن يكون مقصودًا بها وهو الحمل الذي يكون من الزوج, وهذا الحمل ليس من هذا الزوج بالإجماع فكيف يجوز دعوى عمومها في مثل هذا المحل. فإذا تقرر هذا فإن كان الحمل مجهولًا يحمل على أنه من زنى فلا حكم له, فإن مضت أربعة أشهر وعشر قبل الولادة, فقد انقضت عدتها. فإن قيل: لو تزوجت المطلقة في عدتها فوطئها الثاني فحملت منه لا تُحتسب أقراءها من الأول وتكون العدة من الثاني, فإذا وضعت وانقضت أيام النفاس رجعت فأتمت عدة الأول, وقلتم ههنا تحتسب بالأشهر في عدة الزوج في حال الحمل من غيره فما الفرق؟ قلنا: اختلف أصحابنا في الجواب عنه, فمنهم من قال: المغلب في عدة المطلقة الاستبراء من ماء الأول في حال اشتغال رحمها بماء غيره بخلاف عدة الوفاة, فإن المغلب فيها التعبد فلم يمنع الحمل من زنى الاحتساب بالأشهر التي تمر بها من عدتها, وعلى هذا إذا وجبت عليها عدة الوفاة فتزوجت في العدة ووطئها الثاني وحملت منه تكون العدة من الثاني بالحمل وتحتسب بالأشهر من الأول. وبه قال أبو إسحاق. ومن أصحابنا من قال: تأويل المسألة أن الحمل كان من زنى فلم يمنع انقضاء العدة من الصبي بالأشهر, وعلى هذا لو زنت في عدة الطلاق فحبلت لم يمنع ذلك انقضاء العدة [ق 55 ب] بالأقراء, ولو تزوجت في حال عدتها من موت الصبي أو وطئت بالشبهة فحبلت لم يتداخلا ويلزمها أن تعتد من الواطئ, ثم ترجع إلى عدة الأول فتلك أربعة أشهر وعشر كما قلنا في عدة الطلاق, ولا فرق بينهما, وهو اختيار أبي حامد. فإن قيل: إذا ولدت الملاعنة انقضت عدتها, وإن كان الولد متفيًا عن الزوج فيجب أن تنقضي عدتها بوطئة من الصبي, وإن كان الولد منفيًا عنه. قيل: ولد الملاعنة غير منفي عنه قطعًا؛ لأنه لو أقرّ به لحقه وهذا الولد منفي عنه قطعًا ويقينًا فافترقا في حكم العدة. واعلم أن في لفظ الشافعي إشكالًا وذلك أنه قال: "وَلَوْ مَاتَ صَبِيٌ لَا يُجَامِعُ مِثْلُهُ". وهذا يوهم أن الاعتبار بفعل الجماع والتمكين منه وليس كذلك؛ لأن الصبي ربما يقوى على الإيلاج وهو ابن ثمان بلا إنزال المني فلا يلحق به النسب ولا تعتد امرأته بالحمل ومراد الشافعي هذا. مسألة: قَالَ: "وَإِنْ كَانَ حَيْضًا أَوْ مَجْنُونًا بَقِيَ لَهُ شَيْء يَغِيبُ فِي الفَرْجِ".

الفصل: اختلف أصحابنا في هذه المسألة، فقال الاصطخري وأبو بكر الصيرفي, وأبو عبيد ابن حربويه: امرأة الخصي بمنزلة امرأة الفحل, وإن كان ممسوحًا لأن عدم مائه غير متطوع به, وماء الرجل في أصله فيجوز أن يساحقها وينزل الماء. وحكي أن أبا عبيد بن خربويه قُلد قضاء مصر فحكم في مثل هذا بلحوق الولد فحمل الصبي على كتفه وطاف به في الأسواق. وقال: انظروا هذا القاضي ألحق أولاد الزني بالخدم, وقد ذكرنا ما قيل فيه من كتاب اللعان, وقيل: إذا لم يكن له أنثيان لا يلحق [ق 56 أ] به الولد؛ لأنه لا ينزل إلا من الأنثيين, واختاره جماعة من أصحابنا وقالوا: هذا ظاهره المذهب وهو أولى عندي. وحكي الداركي عن بعض أصحابنا أنه قال: إن كان ذكره باقيًا وخصيته اليمنى منزوعة لم يلحق به الولد وكان بمنزلة الصبي الذي لا ينزل الماء؛ لأن الماء من البيضة اليمنى والشعر من اليسرى. وحكي أن أبا بكر بن الحداد لم يكن له بيضته اليمنى وكان طويل اللحية ولم يكن ينزل, وهذا لا يصح بل يلحق به الولد وجهًا واحدًا إذا بقيت إحداهما سواء كانت يمنى أو يسرى؛ لأنه لا طريق إلى العلم بكيفية ذلك, وهذا قول بعض الأطباء ولا نعول عليه, وقد وجد في القيان ذو خصية واحدة له لحية وأولاد فإن كانت يمنى فقد ولد له وإن كانت يسرى فقد بقيت لحيته فعلم فساد هذا القول. مسألة: قَالَ: "وَإِنْ أَرَادَتِ الخُرُوجَ كَانَ لَهُ مَنْعُهَا حَيَّا وَلوَرَثَتِهِ مَيِّتًا حَتَّى تَنْقَضِي مُدَّتُهَا". قال أصحابنا: المعتدات أربعة؛ معتدة من طلاق رجعي فلها السكنى والنفقة قولًا واحدًا حاملًا كانت أو حائلًا, ومعتدة من طلاق بائن وهي المختلفة ونحوها فلها السكنى قولًا واحدًا حاملًا كانت أو حائلًا. وأما النفقة إن كانت حاملًا لا تجب قولًا واحدًا, وغن كانت حاملًا فلها النفقة قولًا واحدًا ولمن تكون النفقة؟ فيه قولان: أحدهما: للحمل. والثاني: للحامل. ومطلقة عن طلاق ثلاث وهي المبتوتة فحكمها حكم المعتدة عن طلاق بائن, ومعتدة عن وفاة فلا نفقة لها بحالٍ, وهل لها السكنى قولان: فإذا قلنا لها السكنى فأسكنوها [ق 56 ب] أو قلنا لا سكنى لها فتبرعت الورثة فأسكنوها لزمها أن تقعد حيث

أسكنوها ولا يجوز لها أن تنتقل لقوله تعالي: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق:1] ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة وليس لهما أن يتراضيا على ترك هذا السكن؛ لأنه حق الله تعالى بخلاف السكنى في حال النكاح؛ لأن تلك حقّ المرأة فيجوز الرضا بإسقاطه والخصي والفحل في هذا سواء. ويحتمل أن الشافعي عطف هذا على مسألة الخصي, ويحتمل أنه استأنف المسألة في الأزواج عامة, ومن قال: لا سكنى للمتوفي عنها أّوَّلَ قول الشافعي "وَلِوَرَثَتِهِ مَيِّتًا". على أنه أراد إذا أباتها, ثم مات, فههنا لا تتبدل العدة إلى عدة الوفاة فلا يسقط حق السكنى قولَا واحدَا. وعلى هذا إذا لم تتبرع الورثة بالسكنى لم يكن لهم منعها وكان لها أن تسكن حيث شاءت, وإن تبرع الإمام من بيت المال, قال الشافعي: يلزمها أن تسكن, وإذا أوجبنا عليها أن تسكن الموضع الذي أسكنوها فيه لا يجوز لها أن تخرج على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. مسألة: قال: "وَلَوْ طَلَّقَ مَنْ لَا تَحِيضُ لِصِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ". الفصل: كل من اعتدت بالشهور لصغر أو كبر أو عدة الوفاة, فإن كان أول الهلال ولا يكاد يتصور ذلك نجيز الطلاق, وإنما يتصور في تعليق الطلاق بأن يعلقه في آخر جزء من آخر الشهر فحينئذٍ يكفيها الاعتداد بثلاثة أشهر ما بين الأهلة ناقصَا كان أو كاملَا, وإن كان في أثناء الهلال اعتدت بشهرين بالأهلة تامَا كان أو ناقصَا ويكمل الشهر المنكسر ثلاثين يومًا. وقال أبو عبد الرحمن ابن بنت الشافعي: يلزمها أن تعتد ثلاثة أشهر بالعدد [ق 57 أ] لأنه إذا حسب الشهر الأول بالعدد كان ابتداء الثاني من بعض الشهر وكان أيضًا بالعدد. وهذا غلط؛ لأن اعتبار الهلال قد تعذر في الشهر الأول ولم يتعذر في الشهر الثاني والثالث, وإذا أمكن ذلك يوجب اعتباره؛ لأن الأصل في العدد الهلال, قال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} [البَقرَة: 189] وأيضًا فإِنَّا إذا رأينا الهلال اعتبرناه وإذا غُم علينا اعتبرنا العدد فكذلك ههنا, وقال أبو حنيفة: تعتد بشهرين بالهلال وتحتسب بقية الأول وتعتد من الرابع تمام الأول ناقصًا كان أو تامًا, كأنه بقي عشرة أيام وأهل الهلال بتسع وعشرين يكفيه تسعة عشر يومًا من الشهر الرابع, وهذا أيضًا غلط لما ذكرنا. وقال مالك, والأوزاعي: لا تحتسب بالساعات وإنما تحتسب بأول النهار أو الليل, فإذا طلقها في النهار احتسب أول عدتها من أول عدتها من أول الليل, وإذا طلقها في

الليل احتسب من أول النهار لأن اعتبار الساعات يشق فسقط اعتباره, وهذا غلط لأ يمكن اعتبار الساعة التي طلق فيها إما يقينًا أو استظهارًا فلا وجه لما قاله. وأما قول الشافعي ههنا: "حَتَى يَاتِي عَلَيْهًا تِلْكَ الّسَاعَةُ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا مِنَ الشَّهْرِ" أي حتى يمضي عليها, كما يقال: أتت عليه خمسون سنة, أي انقضت عليه. ولم يرد الشافعي بهذا الدخول من تلك الساعة لأنها لو طعنت من تلك اللحظة اللطيفة لم يحكم بانقضائها حتى تمضي تلك اللحظة اللطيفة ولا يكمل العدد إلا بمضيها. فرع: لو ولدت ولم تر حيضًا قبله ولا نفاسًا بعده, ثم طلقت ففي عدتها وجهان [ق 57 ب] قال أبو حامد: تعتد بالشهور لأنها لم تحض وولادتها كالبلوغ بالسن. الثاني: يكون كالتي ارتفع حيضها قبل الإياس بغير علة ففيما تعتد به ثلاثة أقاويل قد ذكرناها. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ حَاضَتْ الصَّغِيرَةُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الثَلاَثَةِ أَشْهُرِ". الفصل: الصغيرة إذا شرعت في العدة بالشهور, ثم رأت الدم, فإن رأته بعد انقضاء الأشهر الثلاثة لا يؤثر؛ لأنه قد حكم بانقضاء عدتها بالشهور وسقط خطاب العدة عنها, وإن رأته قبل انقضاء الشهور تنتقل إلى الاعتداد بالأقراء, وإن كانت قبل انقضائها بلحظة؛ لأنها صارت قبل تمام عدتها من ذوات الأقراء فدخلت تحت قوله تعالى {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البَقَرَة:228] وهل تعتد بما مضى قرءًا؟ قال ابن سريج: تعتد به قرءًا؛ لأن القرء هو الانتقال من طهر إلى حيض, وقد وجد ذلك. قال: ومعنى قول الشافعي: "وَاسْتَقْبَلَتِ الأَقْرَءِ" أي تنتقل إلى عدة الأقراء, وقال سائر أصحابنا: تستأنف ثلاثة أقراء لظاهر كلام الشافعي "وَاسْتَقْبَلَتِ الأَقْرَءِ" ولم يقل واستقبلت القرءين فألزمها ثلاثة أقراءٍ, ولا تحتسب بما مضى قرءًا؛ لأن القرء اسم للطهر بين الحيضتين لا الطهر المجرد, وكان أبو إسحاق يطلق في المسألة قولين فيحتمل أن يكون عبر عن هذين الوجهين القولين ويحتمل أنه عرف منصوصًا آخر للشافعي, والأول اختيار أبي حامد والقاضي الطبري وجماعة. فرع: لو اعتدت بقرء أو قرءين, ثم صارت آيسة تستأنف ثلاثة أشهر ولا تحتسب بما

مضى شهرًا لا يختلف أصحابنا فيه, ومن نص قول ابن سريج في المسألة السابقة فرق بينهما بأنه إذا مضى شهر قبل الإياس [ق 58 أ] لو حسبناه من العدة شهرًا آذن إلى سقوط العدة؛ لأنه إذا مضت ثلاثة أشهر لزمنا نحكم بانقضاء عدتها وذلك لا يجوز، فأمرناها أن تستقبل ثلاثة أشهر, وههنا إذا حسبنا بما مضى قرءًا لم يؤد إلى إسقاط العدة عنها, فإنه انتقال واحد لا يزيد عليه فلا يؤدي إلى الحكم بانقضاء عدتها, وهذا أصح الفروق. وقال الماسرجسي: الفرق أن على صاحبة الأقراء قد مضت شهور ولا حكم لها في العدة, فلما لم يجعل لها حكمًا قبل الإياس, فإذا أيست لم يجعل لها حكمًا أيضًا لأنه يؤدي إلى نقض ما حكمنا به. أما الصغيرة فمما مضى عليها من الشهور كان له حكم وكان محسوبًا من عدتها لولا ما عرض لها من الحيض, وإذا كان لها حكم قبل ذلك لم نبطله برؤية الدم وجعلناه قرءًا صحيحًا. وقال ابن أبي هريرة: الفرق أن الأقراء لا تستغني عن الشهور والشهور تستغني عن الأقراء؛ لأنه بمضي بها شهور بها شهور لا ترى فيها دمًا, فإذا كان كذلك تثبتت الأقراء على الشهور, ولم تبن الشهور على الأقراء مسألة: قَالَ: "وَأَعْجَبُ مَنْ سَمِعْتُ مِنَ النِّسَاءِ يَحِضْنَ نِسَاءُ تُهًامَةَ يَحِضْنَ لِتِسْعِ سِنِينَ". قد ذكرنا هذا في "كتاب الحيض" ومقصوده ههنا أنها إذا ادعت أنها رأت دم الحيض قبل أن تبلغ تسع سنين لم يقبل منها, وإن لم يكن حيضًا وكانت عدتها بالأشهر, وهذا لأنه لم يوجد حيض مستقيم من النساء لأقل من ذلك. قال الشافعي: "وَأُحِبُّ أّنْ تَاتَي هَهُنَا ثَلَاثُ حِيَضٍ" أي بأقصى الأمرين احتياطًا وإلا فالواجب الشهور, وإن ادعت الحيض [ق 58 ب] لتسع سنين قُبل منها وكانت عدتها بالأقراء, ثم قال الشافعي: "وَلَوْ بَلَغَتْ عِشْرِينَ سَنَةٌ وَلَمْ تَحِضْ قَطُّ اعْتَدَّتُ بِالشُهُورِ" وقد ذكرنا هذا. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ طَرَحَتْ مَا تَعْلَمُ أَنَّهُ وَلَدُ مُضْغَةٍ أَوْ غَيْرِهَا حَلَّتْ". قرئ: خلت بالخاء والتخفيف ومعناه خلت من عدتها وقرئ: حلت وهو المشهور ومعناه: حلت للأزواج, والكلام فيه في أربعة فصول؛ في انقضاء العدة, وحرمة الولادة التي تصير الأمة أم ولدٍ, والغُرّةُ, والكفارة, فإذا طرحت شيئًا ففيه أربع مسائل: إحداها: أن نبين فيه خلق الآدمي من التخطيط والتصوير فتنقضي به العدة وتصير أم

ولد, وتجب الغرة على الحافي بإسقاطه ويلزمها الكفارة أيضًا. والثانية: أن لا يتبين فيه التصوير ولكن قالت القوابل: إن في ذلك خلقة الآدمي من الخطوط والتصوير للدقيقة التي يعرفها أهل البصر فيعمل على قولهن والأحكام تتعلق به على ما ذكرنا. وقيل: هذه المسألة حدثت على عهد الاصطرخي فقال: لهن ما أراه إلا مخططًا فدعت القوابل الماء الحار وغسلنه فظهر تصويره. وقال المزني: قال في كتابين: لا يكون به أم ولدٍ حتى يتبين فيه خلق الإنسان شيء, وهذا أقيس عندي. فأوهم أن المسألة على قولين, والصحيح أنها ليست على قولين, وإذا شهدت أن الخلقة خلقة ولد ثبتت هذه الأحكام والعلم لهن يحصل من جهتين: إحداهما: أن يشاهدن تخطيط حاجب أو تحديق عين أو خلقة ظفر. والثانية: أن يشاهدن [ق 59 أ] في تلك الخلقة شيئًا من العروق والأعصاب الدالة على أنه لحم ولد. وفي "كتاب أمهات الأولاد" نص على أظهر الحالتين ولم يرد أن خلقة العين والظفر شرط, ألا ترى أنه قال في سياق كلامه, وإن لم يتبين فيه خلق آدمي سألنا عدولًا من النساء, فإن زعمن أن هذا لا يكون إلا من خلق آدمي لا تكون به أم ولد, وإن شككن لم تكن به أم ولد, فعرفنا أنه اعتبر العلم لا الصورة. والثالثة: أن تقول القوابل: لا ندري هل هو ابتداء خلقة بشر أو غيره, ويجوز أن يكون ابتداء خلقة بشر فلا يتعلق به شيء من الأحكام. والرابعة: أن لا يتبين فيه الخلقة أصلًا ولكن قال النساء العدول: هذا لا يكون إلا لخلقة الآدمي. نص الشافعي على أن العدة تنقضي به في القديم والجديد. وقال في "عتق أمهات الأولاد": إذا طرحت ما فيه تصوير عين أو إصبع أو ظفر فهي أم ولدٍ. وقال في موضع: لا تصير أم ولدٍ حتى يتبين فيه من خلق الآدمي. وقال في "الجنايات": لا تجب فيه الغرة إذا لم تتبين فيه الخلقة. واختلف أصحابنا في المسألة على ثلاثة طرق: إحداهما: المسألة على قول واحد إنه يتعلق به جميع الأحكام, والذي قال في "أمهات الأولاد" في الوقت الذي كان لا يعلم أنه مبتدأ خلق الآدمي, فلما علمه قال: "تصير أم ولده" وهو كما توقف في أخذ الجزية من الصائبة والسامرة حين لم يعرف أصل دينهم, فلما عرف قطع بأخذ الجزية منهم. والثانية: المسائل كلها على قولين على سبيل النقل والتخريج. والثالثة: المسائل على طاهر فالعدة تنقضي به [ق 59 ب] لأنها تنقضي بالدم الجاري

فلأن تنقضي بهذا أولى, ولا تصير أم ولده لأنها إنما تصير أم ولده بثبوت الحرية في الولد ولم تثبت الحرية ههنا والغرة تجب للإنسان واسم الإنسان لا يقع عليه. ومن أصحابنا من زاد طريقة رابعة, وقال قول واحد: إنه لا يتعلق به شيء من الأحكام. وأراد بما نص في العدة إذا كانت فيها تصوير دقيقة. واعلم أن الشافعي قال ههنا: "مَا تَعْلَمُ أَنَّهُ وَلَدُ مُضْغَةِ أَو غَيْرِهَا"، وهذا يوهم أن ما دون المضغة كالمضغة في العلم بكونه ولدًا وليس كذلك لأن ما دون المضغة نطفة أو علقة, وإذا طرحت ذلك لا يتعلق به الحكم, وأراد الشافعي بقوله أو غيرها ما كان فوق المضغة لا ما دونها. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ كَانَتْ تَحِيْضُ عَلَى الحَمْلِ تَرَكَتِ الَّصلاَةَ وَاجْتَنَبَهَا زَوْجُهَا". الفصل: اختلف قول الشافعي في الحامل هل تحيض أم لا؟ فقال في الجديد: تحيض وهو الأصح, وبه قال مالك, والدليل عليه ما روى أن رجلين تنازعا مولودًا فترافعا إلى عمر رضي الله عنه فدعا القافلة فألحقوه بهما فدعا نسوة من قريش فسألهن عن ذلك فقلن: إنها حملت من الأول, ثم حاضت على الحمل فاستحشف الولد ثم أصابها الثاني فانتعش الولد من ماء الثاني, فأخذ الشبهة منهما, فقال عمر: الله أكبر وألحق الولد بالأول ولم ينكر عليهن قولهن حاضت على الحمل, وقالت عائشة رضي الله عنها: كنت قاعدة أغزل وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخصف نعله, فنظرت إلى رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فجعل جبينه يعرق وجعل عرقه يتولد نورًا فبهت, فنظر إليَّ رسول الله [ق 60 أ] صلى الله عليه وسلم فقال: "ما لك يا عائشة" فقلت: يا رسول الله نظرت إليك فجعل جبينك يعرق وجعل عرقك يتولد نورًا، ولو رآك أبو كثير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره, قال: "وما يقول أبو كبير" قلت: يقول: وَمُبَرَّأ مِنْ كُلِّ غَيَّرِ حَيْضَةٍ وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءٍ مُعَضَّلِ وَإِذَا نَظَرْتَ إِلَى أَسِرَّة وَجْهِهِ بَرِقَتْ كَبَرْقِ العَارِضِ المُتَهَلِّلِ فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان في يده وقام إليَّ وقبل عيني, ثم قال: "يا عائشة ما سررت مني كثير" وروي "منك" وروى عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن الحائل

ترى الدم فقالت: "لا تصلي". ومثله عن أنس بن مالك, فإن قيل: روي عن عطاء أنها قالت: الحبلى لا تحيض, فإذا رأت الدم صلت. قيل: أنكر يحيى القطان هذه الرواية وضعفها. وقال إسحاق الحنظلي قال لي أحمد بن حنبل: ما نقول في الحائل ترى الدم فقلت: تصلي, واحتججت بخبر عطاء عن عائشة رضي الله عنها, فقال أحمد أين أنت من خبر المدنيين عن عائشة رضي الله عنها, فإنه أصح. وهو ما ذكرنا عنها رواية أم علقمة مولاة عائشة عنها. قال إسحاق: فرجعت إلى قول أحمد ويحتمل أن عائشة كانت ترى أن لا تحيض في الأول, ثم رجعت عن ذلك على ما روينا. وقال في القديم: إنها لا تحيض فإذا رأت الدم كان دم فساد, وبه قال أبو حنيفة: واحتج بأن الحيض جعلت دليلًا على براءة الرحم, فلو كانت تحيض على الحمل بطلت الدلالة على ذلك قلنا: إنما جعلت دليلَا ظاهرًا على الغالب, ويجوز أن تحيض مع هذا كما أن الغالب في مدة الرضاع عدم الحيض, ثم إذا وجد حكم بكونه حيضًا. فرع: إذا قلنا إنها لا تحيض ففي أول زمانه وجهان: أحدهما: من وقت العلوق [ق 60 ب] فإن تركت الصلاة عند رؤية الدم لخفاء أمارة الحمل قضت. والثاني: من وقت حركة الحمل التي تحتاج فيها إلى الاعتداد بدم الحيض فما كان ثخينًا محتدمًا فهو حيض, وإن كان رقيقًا أصفر فيه وجهان, لأن الحيض في الحمل غير معتاد والصفرة والكدرة في غير أيام العادة هل يكون حيضًا أم لا فيه وجهان: فرع آخر: لو انقطع دم حيضها ثم وضعت نُظر, فإن كان بين انقطاعه وبين الوضع أقل من أول

الطهر فيه وجهان: أحدهما: دم فساد ولا يكون حيضًا؛ لأنه لا يجوز أن يكون بين الدمين أقل من خمسة عشر يومًا طهرًا. والثاني: وهو الأصح أنه حيض صحيح؛ لأنَّا نعتبر أقل الطهر بين الحيضتين: فأما بين حيض ووضع ونفاس عقيبه فلا يمنع أن يكون بينهما أقل الطهر, وغن كان بين انقطاعه وبين الوضع أقل الطهر فصاعدًا كان حيضًا بلا إشكال. فرع آخر: قال بعض أصحابنا: إذا قلنا: لا تحيض فدمها دم استحاضة, وهل تغتسل لكل صلاة احتياطًا أو تتوضأ؟ فيه وجهان, وهذا غريب بعيد. مسألة: قَالَ: "وَلاَ تُنْكَحُ المُرْتَابَةُ وَإِنْ أَوْفَتْ عِدَّتَهَا لأَنَّهَا لَا تَدْرِب مَا عِدِّتُهَا, فَإِنْ نُكِحَتْ لَمْ أَفْسَخُ". إذا عتدت المرأة بالأقراء, ثم ارتابت والريبة أن يظهر بها [ق 61 أ] أمارات الحمل وهو كبر البطن والثقل والحركة, فإنها تتوقف عن النكاح, فإن خالفت ونكحت قال الشافعي ههنا: "لَمْ أَفْسَخُ نِكَاحِهَا" فإن بانت حائلًا فالنكاح لحاله, وغن بانت حاملًا فالنكاح باطل. وكذا في "الأم", وقالت في موضع آخر: "فإن نكحت فالنكاح باطل" ولا يختلف أصحابنا أنها ليس على قولين, وإنما هي على اختلاف حالين واختلفوا في ذلك على ثلاثة طرق: أحدهما: قال ابن خيران, والأصطخري, وأبو إسحاق: معنى ما نقله المزني إذا عرضت الريبة بعد انقضاء عدتها فيستحب لها أن لا تتزوج, فإن تزوجت فقد أساءت والنكاح صحيح, وتستحب لزوجها أن يترك وطئها ولا يجب عليها ذلك ونظر فيه، فإن وضعت لدون الأقراء, فغن مضت ستة أشهر ولم تضع ثبت النكاح وما تلده بعد ذلك من الأولاد يكون ملحقًا بالثاني, والذي قال النكاح باطل أراد إذا عرضت الريبة في حال العدة فلا يحكم بانقضاء عدتها؛ لأنها لا تدري هل عدتها بالحمل أو بالأقراء, فإذا نكحت كان باطلًا. والفرق أن الريبة إذا حدثت بعد انقضاء العدة فقد حكم بانقضائها فلا يؤثر ما يطرأ من الشك في النكاح المعقود, وإذا حدثت في العدة فلم نحكم بانقضاء العدة فأثر ومنع النكاح, وهذا كما لو تغير حال الشهود بعد الحكم لا يضر الحكم على الريبة, فإذا

نكحت على الريبة فالنكاح باطل؛ لأنها لا تدري إن عدتها كانت بالأقراء فتكون قد حلت للأزواج, أو بالحمل فلم تحل وهي محرمة بيقين فلا تحل إلا بيقين. قال: ولا يجوز [ق 61 ب] أن يكون العقد في الابتداء موقوفًا ويجوز أن يطرأ ما يوقف به, ألا ترى أنه لو تزوج معتدة أو محرمة فإنه لا يجوز ولو تزوج ثم طرات العدة أو الإحرام جاز النكاح. قال الماسرجسي: وهذا أصح فاحفظوه, فإن في سواد المزني خللًا, وقال غيره: هذا ضعيف؛ لأنه مخالف النص ههنا حيث قال: "وَلَا تُنْكَحُ المُرْتَابَةُ, فَإِنْ نُكَحَتْ لَمْ أَفْسَخْ". فدل على أنها مرتابة عند عقد النكاح. وقال أيضًا: "فَإِنْ بَرِثَت مَنَ الحَمْلِ, فَالنِّكَاحُ صَحِيحٌ, وَقَدْ أَسَاءَتْ" فلو كان النكاح قبل الريبة لم تكن مسيئة. وقال بعض أصحابنا وهي الطريقة الثالثة: الذي قال: النكاح باطل إذا وضعت حملًا لدون ستة أشهر من حين عقد النكاح, والذي لا أفسخ إذا انقضت العدة من غير ريبة ثم ارتابت وتزوجت ووضعت لستة أشهر فأكثر من حين النكاح؛ لأنَّا لا نتحقق أنها كانت حاملًا حال عقد النكاح, وهذا أيضًا ضعيف لأنه قال: "فإن نكحت فالنكاح باطل" ولم يوقف على وضع الحمل, فإذا ثبت ما ذكرنا حصل ههنا ثلاث مسائل: إحداهما: إذا ارتابت قبل انقضاء العدة, ثم انقضت ونكحت فالنكاح باطل بلا خلاف. والثانية: إذا انقضت العدة من غير ريبة, ثم ارتابت، ثم تزوجت, قال ابن سريج: النكاح باطل, لأنَّا لو صححنا لوقع النكاح موقوفًا, ولا يجوز ذلك عند الشافعي والمذهب أنه صحيح؛ لأن العدة انقضت من غير ريبة وحكم بانقضائها حتى أبحنا النكاح وأسقطنا النفقة والسكنى فلا يبطل هذا الحكم بالشك, وقيل: فيه قولان, قال القفال: وهما كالقولين فيمن شك في وفاة أبيه الغائب فباع ماله, ثم بان أنه كان مات وورثه هو [ق 62 أ] هل يجوز البيع؟ قولان. وكالقولين فيمن فرغ من صلاته, ثم اعترض الشك هل صلى ثلاثًا أو أربعًا؟ قال في "الإملاء": "صلاته تامة", وقال في موضع آخر: "إن كان الوقت قريبًا بني على صلاتِه وسجد للسهو, وإن كان بعيدًا استأنف". ثم قال المزني: جعل الشافعي الحامل تحيض ولم يجعل لحيضها معنى تعتد به, كما تكون التي لم تحيض تعتد بالشهور, فإذا حدث الحيض كانت العدة بالحيض والشهور, كما كانت تمر عليها وليست بعدة كذلك الحيض يمر عليها وليست بعدة, وليس كل حيض عدة كما ليس كل شهور عدة, وقصد المزني بهذا الكلام نصرة قول الشافعي أن الحامل تحيض وجواب سؤال لأبي حنيفة وهو أنه قال: لو كانت حيضًا لانقضت عدتها بثلاثة منها فأجابهم بأن العدة إنما تنقضي بما وصفها الله عز وجل, فعدة الحامل بالحمل والدماء تمرّ عليها ولا تحسب كالشهور تمرّ عليها ولا تحسب, وعدة الوفاة بالشهور

والدماء تمر عليها ولا تحسب كذلك ههنا. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ كَنَتْ حَامِلًا بِوَلَدَيْن فَوَضَعَتْ الأَوَّلَ فَلَهُ الرَّجْعَةُ". إذا كانت حاملًا فطلقها زوجها فعدتها أن تضع حملها, فإن كانت حاملًا بولدين توأمين لا تنقضي عدتها حتى تضعهما معًا, فإن وضعت أحدهما فهي في عدتها وله مراجعتها, فإن وضعت الثاني بانت وانقطعت الرجعة, وبه قال كافة العلماء, وقال عكرمة: تنقضي عدتها بوضع الولد الأول, وهذا غلط لقوله تعالى {وَأُوْلتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] وهذه لم تضع جميع حملها ولان العدة تراد لبراءة الرحم [ق 62 ب] وهي لا تحصل إلا بوضع جميع الحمل. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: أجل كل حامل أن تضع ما في بطنها. وروى عن علي, وابن العباس رضي الله عنهم أنهما قالا في التي في بطنها ولدان تضع واحدًا ويبقى الآخر: هو أحق برجعتها ما لم تضع الآخر, وبه قال عطاء, والشعبي أورده الإمام البيهقي رحمه الله. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ ارْتَجَعَهَا وَقَدْ خَرَجَ بَعْضُ وَبَقِيَ بَعْضُ وَلَدِهَا كَانَتْ رَجْعََةٌ", إذا كان الحمل واحدًا فانقضاء العدة بانفصال جميعه, فإن خرج بعضه وبقي البعض وإن كان إصبعًا فهي في العدة وله مراجعتها. وقال عكرمة: تنقضي عدتها بخروج البعض ولا رجعة. وهذا غلط؛ لأن الله تعالى قال: {أّن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطّلاق:4] ووضع الحمل بانفصال جميعه, ولأنه لو أعتقت الأمة وخرج بعض ولدها عتق الولد بعتقها, ولو ضرب ضارب بطن امرأة حامل وكان قد خرج بعض الولد فخرج الباقي ميتًا تلزم الغرة, فدل أنه لا حكم له ما لم ينفصل كله. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ أّوْقَعَ الطَّلَاقَ فَلَمْ يَدْرِ وِلَادَتُهًا بَعْدَهُ فَقَالَ: وَقَعَ بَعْدَمَا وَلَدَتْ". الفصل: إذا طلق امرأته ووضعت ولدًا, ثم اختلفا لا يخلو من ثمانية أحوالٍ:

أحدها: أن يتفقا على وقت الولادة أنه في يوم الجمعة, واختلفا في وقت الطلاق فقال الزوج: طلقت يوم السبت, وقال الزوجة: بل طلقت يوم الخميس فالقول قوله مع يمينه, وعليها الاعتداد بالأقراء, وله الرجعة؛ لأن الطلاق من جهته, فكان القول فيه قوله [ق 63 أ] والثاني: أن يتفقا على أن الطلاق كان في يوم الجمعة واختلفا في وقت الولادة, فقالت: ولدت يوم السبت, وقال الزوج: بل ولدت يوم الخميس فالقول قولها, وقد انقضت عدتها لأنها أعرف بما حدث منها من الولادة. والثالث: أن يختلفا في وقت الطلاق, وفي وقت الولادة, فقال الزوج: ولدت يوم الجمعة وطلقت يوم السبت, وقالت الزوجة: بل طلقت يوم الجمعة وولدت يوم السبت يتخالفان والبادئ باليمين أسبقهما بالدعوى, وفي كيفية اليمين وجهان: أحدهما: يحلف بالله ما طلقها إلا بعد ولادتها وتحلف الزوجة بالله ما ولدت إلا بعد طلاقه لأن هذا أوجز. والثاني: يحلفان على صفة الدعوى فتتضمن يمين كل واحد منهما إثبات ما ادعاه ونفي ما ادعى عليه, فيقول: بالله لقد ولدت يوم الجمعة وما طلقتها إلا يوم السبت, وتقول بالله لقد طلقني في يوم الجمعة ولقد ولدت يوم السبت, ولا يحتاج أن يقول: ما ولدت إلا في يوم السبت, وإن احتيج ذلك في الطلاق؛ لأن الولادة لا تتكرر والطلاق قد يتكرر, فإن نكلا يحكم عند نكولهما بقول أسبقهما بالدعوى, فإن كان الزوج حكم له بالرجعة وعليها العدة, وغن كانت الزوجة أسبق بالدعوى حكم لها بانقضاء عدتها, وإن حلف أحدهما دون الآخر حكم للحالف, وإن حلفا فالتحالف وقع على حكمين الرجعة والعدة فأنفهما الزوج لنفسه بيمينه وتنفيها الزوجة عن نفسها بيمينها, فوجب أن يلزم كل واحد منهما أغلظ الأمرين عليه [ق 63 ب] وأنفي للتهمة عنه وتجب العدة على الزوجة بيمين الزوج لأنه أغلظ الأمرين عليها وأنفي للتهمة عنها. والرابع: أن يتفقا على وقت الولادة ويشكا في وقت الطلاق هل تقدمها أو تأخر عنها فيحكم عليها بالعدة وللزوج بالرجعة, لأنَّا على يقين من حدوث الطلاق وفي شك من تقدمه والورع له أن لا يرتجع. والخامس: أن يتفقا على وقت الطلاق ويُشكا في الولادة هل تقدمت أو تأخرت يحكم لها بانقضاء العدة وسقوط الرجعة, لأنَّا على يقين من حدوث الولادة وفي شك من تقدمها والورع لها أن تعتد. والسادس: أن يقول: علمت أني طلقتك بعد ولادتك, وقالت الزوجة: لا أعلم, قلنا لها: هذا ليس بجواب, فإن أصرت جعلناها ناكلة والقول قول الزوج بعلمه بما جهلته وعليها العدة وله الرجعة, ولها إحلافه على الرجعة دون العدة فإن لم يرتجعها لا يمين عليه.

والسابع: أن تقول: علمت أني ولدك بعد طلاقك، وقال الزوج: لا أعلم قلنا له: هذا ليس بجواب، فإن أصر جعلناه ناكلاً والقول قولها ولا عدة ولا رجعة، وله إحلافها في سقوط العدة دون الرجعة انه لا يستبيح الرجعة مع الجهل باستحقاقها. والثامن: أن يجهلا وقت الطلاق والولادة معًا، قال الشافعي: ولم لم يدر واحد منهما كانت العدة عليها لأنها وجبت فلا يزيلها إلا بيقين، والورع أن لا يرتجعها، وهذا لأن الأصل ثبوت الرجعة فله أن يرتجعها في ظاهر الحكم والورع أن لا يفعل ذلك لجواز أن يكون الطلاق قبل الولادة، ولا يجئ في هذا القسم الإحلاف [ق 64 أ] لأن الدعوى لا تسمع هكذا، وإن تداعيا مطلقًا، فقال الزوج: لم تنقض عدتك بوضع الحمل فعليك الاعتداد بالأقراء، وقالت: انقضت عدتي بالولادة، فالقول قوله؛ لأن الأصل بقاء العدة. مسألة: قَالَ: "وَلًَوْ طَلَّقَهَا فَلَمْ يَحْدِثْ لَهَا رَجْعَةً وَلاَ نِكَاحًا حَتَّى وَلَدَتْ لأَكْثَرِ مِنْ أَرْبَع سِنِينٍ وأَنْكَرَهُ الزَّوْجُ فَهُوَ مُنْتَفٍ عَنْهُ بِاللَّعَانِ لأَنَّهَا وَلَدَتْهُ بَعْدَ الطَّلاَقِ لَمَّا لاَ يَلِدُ لَهَ النَّسَاءُ". جملة هذه المسألة أن المطلقة إذا ولدت ولدًا فإن كان لأربع سنين فما دونها فهو لاحق بالمطلقة ما لم تتزوج، سواء كان الطلاق بائنًا أو رجعيًا، وسواء اعترفت بانقضاء عدتها أو لم تعرف؛ لأنه يمكن أن يكون بينة منه؛ لأن أكثر مدة الحمل أربع سنين، وإن كان الظاهر يخالفه وهذا كما لو أتت امرأته بولد لستة أشهر من يوم النكاح لحقه للإمكان وإن كان الظاهر يخالفه. وقد ذكرنا ما قيل في أكثر مدة الحمل. وقال الزهري، وربيعة، والليث: أكثر مدة الحمل سبع سنين، وعن مالك ثلاث روايات: إحداها: أربع سنين، والثانية: خمس سنين، والثالثة: سبع سنين، فإذا ثبت ما ذكرنا فإنها تكون معتدة به حتى تضعه ويثبت للزوج عليها الرجعة، وغن كان الطلاق رجعيًا وتستحق السكنى والنفقة حتى تضع، وإن كان لأربع سنين نظر، فإن كان الطلاق بائنَا لم يلحقه الولد وكان منفيًا عنه بلا لعان. ونقل المزني: فهو منفي عنه باللعان، ثم اعترض عليه قال: إذا كان الولد عنده لا يمكن أن تلده منه فلا معنى للعان. ويشبه أن يكون هذا غلطًا [ق 64 ب] من غير الشافعي، ثم قال الشافعي في موضع آخر: لو قال لها: كلما ولدت ولدًا فأنت طالق فولدت ولدين بينهما سنة طلقت بالأول وحلت للأزواج بالآخر، ولم يلحق به الآخر لأن الطلاق وقع

بولادتها ثم لم يحدث لها نكاحًا ولا رجعة، ولم تقر به فيلزمه إقراره فكان الولد منفيًا عنه بلا لعان، وغير ممكن أن يكون في الظاهر منه. قال المزني: فوضعها لما لا تلد له النساء من ذلك أبعد، وبأن لا يحتاج إلى لعان به أحق. والجواب: أن الشافعي ذكر هذه المسألة في الأم وقال: إذا ولدته لأكثر من أربع سنين فهو منفي عنه بلا لعان. فهذا غلط إما أن يكون من الكاتب أو من المزني في نسخته، وتعليل الشافعي يدل على هذا لأنه قال: لأنها وارثة لما لا تلد له النساء. فتأمل هذا ويحتمل أنه التزق اللام من لا بلام اللعان، فقدر أنه باللعان. وأما مسألة الولدين فعلى ما ذكره ونقله، وقد ذكرنا فيما قبل أن في مسألة الولدين لا يلجق به الثاني وإن كان لأقل من أربع سنين؛ لأنهما ليس بحمل واحد، ولم تكن بعد ولادة الأول فراشًا حتى يتوهم العلوق بالولد الثاني منه فنفيناها عنه، كما لو جاءت به لأكثر من أربع سنين في غير هذا الموضع، وإن كان الطلاق رجعيًا فهل يلحق به الولد الثاني وهو إذا أتت به لدون سنة أشهر من ولادة الأول، إذا قلنا لا يلحقه، وهو فيما نقله المزني تنقضي عدتها بوضع هذا الولد الثاني؛ لأن هذا الولد يمكن أن يكون منه بوجه أشبهه أو تجريد نكاح [ق 65 أ] فانقضت به العدة، وإن نفينا عنه في الظاهر، ألا ترى أنه لو اعترف بما ذكرنا لحق به الولد، وهو كما نقول في الملاعنة تنقضي عدتها بوضع الحمل، وإن كان منفيًا عنه باللعان لإمكان أن يكون منه، فإنه لو اعترف به يلحقه، وكذلك في المسألة السابقة إذا أتت به لأكثر من أربع سنين وكانت اعتدت بالشهور أو الأقراء، وقلنا: يلحقه تنقضي عدتها بهذه الولادة. ومن أصحابنا من اعتبر دعواها سببًا يلحق به الولد، فإن لم تدع ذلك لا تنقضي عدتها؛ لأن المشاهدة توجب خلاف ذلك، وما انتفي عنه لعدم الإمكان لا تنقضي به العدة، كزوجة الصغير إذا ولدت لا تنقضي عدتها به، وفي ولد الملاعنة لم يحكم بانقضاء عدتها بغيره فجاز أن تنقضي عدتها به، وههنا بخلافه؛ لأن ذلك يمكن أن يكون منه بالنسب المتقدم بخلاف هذا، وهذا اختيار جماعة من أصحابنا، وإن تزوجت في عدتها بزوج آخر فحبلت منه ووضعته لا تنقضي عدتها بوضعه من الأول، وإن أمكن أن يكون منه؛ لأن هذا الولد ألحقناه بالثاني وجعلنا العدة من الثاني، ولا يجوز أن تداخل العدتين عندنا وليس كذلك في مسألتنا؛ لأن الولد غير ملحق بغيره ولا يتعلق به انقضاء العدة من غيره فافترقا، وإن كان الطلاق رجعيًا في مسألة الكتاب فيه قولان: أحدهما: أنها بمنزلة الثانية؛ لأن الرجعية محرمة عندنا تحريم المبتوتة. والثاني: أن ولدها يلحقه وإن ولدت لأكثر من أربع سنين وأصل هذا أن الرجعية هل هي فراش أم لا؟ قولان:

أحدهما: أنها فراش لبقاء النكاح بدليل صحة ظهاره وإيلائه منها. والثاني: أنها لا تكون فراشًا [ق 65 ب]. فإذا قلنا: إنها فراش فإلى متى يلحقه الولد؟ قال أبو إسحاق: يلحقه أبدا، وقال الماسرجسي: سئل أبو إسحاق عن ولد الرجعية إلى متى يلحقه قال: إلى ثلاثة ألاف سنة، وهذا مبالغة في التأكيد. ومن أصحابنا من قال: يلحقه إلى أربع سنين من وقت انقضاء عدتها بالأشهر أو بالأقراء؛ لأنها في زمان العدة كالزوجة في الأحكام، وإذا أقرت بانقضاء عدتها انقطع أحكام الزوجية وهذا هو الصحيح، وهو الذي نص عليه الشافعي، واستدل أبو إسحاق على ما قاله بأنها وإن رأت الأقراء يمكن أن تكون في الباطن حائلاً، وقد حاضت على الحمل فيلحقه الولد أبداً، وهذا غلط لأنها تبين بانقضاء عدتها، وبينونة الرجعية بانقضاء العدة لبينونتها بالطلاق الثلاث، فإذا أتت به بعد مضي العدة يعلم أنه يحصل بعد البينونة؛ لأنه لا يمكن حصوله في هذه العدة إذا تحمل لا ينفي حملاً لأكثر من أربع سنين، فعلم أن هذا سهو منه، وإن لم تقر هي بانقضاء العدة فولدها يلحقه، وإن طال الزمان؛ لأن عدة المرأة قد تمتد سنين كثيرة. قال القفال: ومن أصحابنا من قال: إذا مضت ثلاثة أشهر من يوم الطلاق ثم أتت به لأكثر من أربع سنين لم يلحقه؛ لأن الغالب أن العدة تنقضي في مثل هذا، وهذا ضعيف. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ ادَّعَتِ المَرْأَةُ أَنَّهُ رَاجَعَهَا فَي العِدَّةِ أَوْ نَكَحَهَا إِنْ كَانَتْ بَائِنًا أَوْ أَصَابَهَا وَهِيَ أَنَّ لَهُ عَلَيْهَا لَمْ يَلْزَمْهُ الوَلَدُ وَكَانَتْ اليَمِينُ عَلَيْهِ". أجاب في هذه المسألة على قوله: أن الرجعية كالبائن في أنها ليست بفراش؛ لأنها على القول الآخر لا تحتاج إلى دعوى الرجعة، بل هي فراش له يلحقه ولدها إلا أن يلاعن، وسورة المسألة [ق 66 أ] أن تلد بعد الطاق لوقت لا يلحقه وهو أربع سنين، وتدعي أنه كان قد تزوج بها أو راجعها إن كانت رجعية، فالولد لاحق، ولا يخلو إما إن كانت الدعوى على الزوج أو على غيره، فإن كانت على الزوج لا يخلو إما أن يصدقها أو يكذبها، فإن صدقها فقد أقر بوجوب المهر عليه إن كان الطلاق بائنًا واستحقاق النفقة والسكنى، وإن كان ذميًا فقد أقر استحقاق النفقة والسكني وتضمن إقراره هذا ثبوت الفراش، فإن صدقها أنها ولدت ذلك الولد لحقه بالفراش، وإن أنكر وقال: ما ولدتيه بل استعرتيه فعليها البينة على الولادة، ويقبل رجلان، أو رجل وإمرأتان، أو أربع نسوة، فإن

لم تقم البينة فالقول قوله، فإن حلف سقطت دعوى الزوجة ولم يلحقه النسب، وإن لم يحلف رددنا اليمين على المرأة فتحلف وتثبت الولادة، ثم النسب يثبت بحكم الفراش، وإن كذبها لا يخلو إما أن يكون معها بينة أو لا بينة معها، فإن كان معها بينة لم تقبل على الرجعة والنكاح إلا ذكرين، فإذا أقامت هذه البينة تثبت الرجعة والنكاح والحكم على ما ذكرنا، وإن لم يكن معها بينة فالقول قوله مع يمينه، فإن حلف سقطت دعواها، وإن نكلت رددنا اليمين عليها، فإن حلفت ثبت جميع ما ادعت، وإن لم يحلف هل تؤخر اليمين للولد حتى إذا بلغ حلف، اختلف أصحابنا فيه على ما ذكرنا فيما تقدم، وإن كانت الدعوى على الورثة بعد موت الزوج لا يخلو إما أن يكون وارثًا يسقط بالحجب أو لا يسقط بالحجب، فإن كان لا يسقط بالحجب كالابن نظر، فإن كان ابنًا واحدًا فادعت الزوجة عليه ما ادعت على الزوج، فالحكم فيه كما لو كانت الدعوى على الزوج حرفًا بحرف إلا في فصلين: [ق 66 ب] أحدهما: أن يمين الابن على العلم ويمين الزوج على البنت؛ لأنه يحلف على فعل نفسه والابن يحلف على نفي فعل الغير. والثاني: أنه إذا ثبت ههنا النسب لم يكن للابن نفيه باللعان وكان لأبيه نفيه باللعان، وإن كان اثنان أو أكثر فادعت عليها كأن اعترفا معًا، أو أنكرا وحلفا، أو أنكر، أو نكل عن اليمين فحلفت، أو اعترف أحدهما وأنكر الآخر ونكل عن اليمين فحلفت، فالحكم في كلها كما لو كان ابنًا واحدًا، وإن أنكر أحدهما وحلف واعترف الآخر فالذي أنكر وحلف قد أسقط دعواها في حقه. وأما الذي اعترف نظر فإن اعترف بالرجعة تثتب الرجعة ولها النفقة بالحصة من حقه، وإن اعترف بالنكاح ثبت ويثبت المهر بالحصة من حقه، ولم يثبت نسب الولد؛ لأنه لا يثبت باعتراف بعض الورثة وهل يثبت ميراث الزوجة بالحصة من حقه؟ وجهان ذكرناهما في كتاب الإقرار، ولو كان الوارث يسقط بالحجب كالأخ يسقط بالابن فادعت عليه ذلك، فإن اعترف لها بذلك ثبت كل ما ذكرنا لها. وأما الولد فإنه يثبت نسبه ولا يرث، وقد ذكرناه من قبل، وقال القفال: قال الشافعي في كتاب اللعان: "ولو قال لامرأته استعرت هذا الولد ولم تكون يحلف، فإن نكل حلفت" ولم ههنا إن نكل حلفت. واختلف أصحابنا فيه؛ فمنهم من سوى بينهما، ومنهم من قال: لا تحلف المرأة ههنا. والفرق أن هناك فراشًا ثابتًا فيحلف على محض فعلها وهو ولادتها إياه، ثم إذا ثبتت الولادة لحقه الولد بالفراش الثابت، كما لو شهد أربع نسوة بالولادة ثبت النسب تبعًا لما شهدت به وإن كانت بشهادتين لا يقبل في النسب فكذلك يمين الرد من هذه، وههنا هي تريد إثبات الفراش الجديد [ق 67 أ] لأن الأول مرتفع فلا يثبت ذلك بيمينها. فإن قيل: إذا لم تقبلوا يمين الرد فلم حلفتموه بدعواها؟ قيل: لأنها قيمة ولدها ولها

أن تدعي حقه كما تدعي بنفقته على الزوج وكما يدعي الأب ما لا لابنه الصغير ويحلف الخصم، ولو نكل لا يحلف الأب. وقال القاضي الطبري: قال أبو إسحاق: إذا نكل بعض الورثة عن اليمين وحلف البعض لا ترد اليمين؛ لأنه لا يجوز أن تبطل بيمينها يمين من حلف من الورثة، والصحيح ما تقدم. مسألة: قَال: "وَلَوْ نَكَحَتْ فِي العِدَّةِ فَأُصِيبَتْ". الفصل: جملة هذا أنه إذا طلق زوجه بعد الدخول فعليها العدة ولا يحل لها أن تتزوج قبل انقضاء عدتها، فإن خالفت ونكحت فالنكاح باطل ولا تنقطع عدة الأول ولا تصير قراشًا للثاني، ولا نفقة لها على الأول ولا سكنى إن كان الطلاق رجعيًا، ولا سكنى إن كان الطلاقي بائنًا؛ لأنها قد نشزت، فإن دخل بها الثاني نظر، فإن كان عالمًا بالتحريم وهي عالمة أيضًا فهما زانيان ويلزمهما الحد، ولا تنقطع عدتها بهذا الوطء ولا تصير فراشًا به للثاني؛ لأنه لا حرمة لماء الزاني فوجود هذا الوطء وعدمه في الحكم سواء. وقال أبو حنيفة: لا يلزم الحد بناء على أصله أن نفس العقد شبهة في إسقاط الحد، وإن كان جاهلاً بالتحريم قطع هذا الوطء عدة الأول وصارت فراشًا للثاني؛ لأنه وطء شبهة ودعواه الجهل بأنها معتدة يقبل بكل حال، فأما دعواه الجهل بأن النكاح في العدة حرام لا يقبل إلا ممن هو قريب العهد بالإسلام، ولا يجوز أن تعتد عن الأول وهي فراش عن الثاني فهي غير معتدة عن واحد منهما [ق 67 ب]. وقال أبو حنيفة، وأحمد: لا تنقطع به عدة الأول؛ لأن كونها فراشًا لغير من له العدة لا يمنعها، كما لو وطئت بشبهة وهي زوجة فإنها تعتد وإن كانت فراشًا للزوج. وهذا غلط؛ لأن العدة تراد للاستبراء وكونها فراشًا ينافي ذلك فوجب أن يقطعها، وأما النكاح لا يمنعها لأنها طرأت عليه، فإذا ثبت هذا يلزم التفريق بينهما، فإذا فرق بينهما أكملت العدة عن الأول واستأنفت العدة من الثاني، فإذا كان قد مضي لها قرء من الأول أكملت قرءين، وإن كان قد مضى قرءان أكملت قرءًا آخر، ثم استأنفت العدة عن الثاني ثلاثة أقراء؛ لأن العدتين لا يتداخلان عندنا خلافًا لأبي حنيفة، هذا إذا كانت حائلاً، فإن كانت حاملاً لا يخلو من أربعة أحوال: أحدها: أن يمكن أن يكون من الأول دون الثاني، بأن أتت به لأقل من سنة أشهر من وطء الثاني وإتمام أربع سنين فما دونها من طلاق الأول، فهو من الأول دون الثاني،

فتعتد بوضعه من الأول، ثم تعتد من الثاني عدة ثانية بالأقراء أو بالشهور، ولو كانت الولادة مع خاتمة أربع سنين من الأول كان كما لو ولدت قبل تمام أربع سنين وقوله: وتمام أربع سنين إشارة إلى هذا. والثاني: أن يمكن أن يكون من الثاني دون الأول، بأن أتت به لستة أشهر فصاعدًا إلى أربع سنين من وطء الثاني ولأكثر من أربع سنين من طلاق الأول، فإن كان الطلاق بائنًا انتفي عن الأول بلا لعان وكان ملحقًا بالثاني تنقضي عدتها به عنه، فإذا ولدت أكملت عدتها من الأول، وإن كان الطلاق رجعيًا فهل يلحق بالأول؟ قولان: فإن قلنا [ق 68 أ] لا يلحق فحكمه حكم الطلاق البائن إلا في فصلين: أحدهما: أنها إذا انقضت عدة الثاني بوضعه وشرعت في إكمال العدة من الأول فللأول أن يراجعها في حال عدتها منه قولاً واحدًا فإنها في عدة خالصة منه، وإن كانت في زمان النفاس، وهل يلزمه نفقتها مدة النفاس كما يلزمه في القرءين بعده؟ وجهان. والثاني: أنه إذا أراد أن يراجعها في حال عدتها من الثاني وهو قبل الوضع هل تصح الرجعة؟ وجهان: أحدهما: لا تصح لأنها محرمة عليه كالمرتدة. والثاني: وهو الأصح لأنها محرمة لعارض فهو كما لو أحرمت، ويفارق المرتدة لأنها جارية إلى بينونة بخلاف هذه. وإذا قلنا: يلحقه فقد أمكن أن يكون من كل واحد منهما، وحكمه حكم القسم الثالث، أن تأتي به لستة أشهر فصاعدًا من وطء الثاني، ولأربع سنين فما دونها من طلاق الأول، فيعرض على القائف فأيهما ألحقه لحق، فإن ألحقه بالأول انقضت عدتها به عنه وتستأنف عدة الثاني ثلاثة أقراء بعد النفاس، فإن أراد الثاني أن ينكحها الآن فله ذلك لأنها عدة خالصة منه، والمستحب أن لا ينكحها في هذه العدة حتى تنقضي؛ لأنها تعتد عن ماء فاسد، وكذا لو لم يكن حبل وفرغت من عدة الأول وشرعت في العدة من الثاني فله أن ينكحها، والمستحب أن لا يفعل ذلك. نص عليه في الأم، وإن ألحقه بالثاني انقضت عدتها عنه، ثم أكملت العدة من الأول، وإن لم تكن قافة أو أشكل الأمر على القافة ترك حتى يبلغ فينتسب إلى من يميل طبعه إليه منهما، فإذا ألحقناه بأحدهما بالانتساب ثبت عن الآخر، فإذا وضعت في هذا الموضع خرجت من عدة الحمل [ق 68 ب] وعليها أن تستأنف العدة بالأقراء فتأتي بثلاثة أقراء عقيب وضعه؛ لأنه إن كان من الثاني فقد احتاطت، وإن كانت من الأول فقد أوقف عدتها. والرابع: أن لا يمكن أن يكون من واحد منهما بأن أتت لأقل من ستة أشهر من وطء الثاني، ولأكثر من أربع سنين من طلاق الأول، والطلاق بائن أو رجعي، وقلنا إن

المدة هناك من يوم الطلاق فهو منفي بلا لعان، ولا تنقضي عدتها به عن واحد منهما، فإذا وضعت أكملت عدة الأول واستأنفت عدة الثاني هكذا. ذكره جماعة، وقال بعض أصحابنا: هذا يخالف فيما تقدم إذا علق طلاقها بالولادة فولدت ولدين بينهما ستة أشهر ينتفي الثاني عنه وتنقضي به العدة، فينبغي أن تنقضي به العدة ههنا أيضًا. قال المزني: قد نفاه بلا لعان وهذا والذي قبله سواء، يعني المسألة التي وقع فيها خلل النقل، وقد ذكرنا ذلك الخلل ليس من جهة الشافعي والجواب واحد. مسألة: قَالَ: "فَإِنْ قِيلَ فَكَيْفَ لَمْ يَنْفِ الوَلَدَ إِذَا أَقَرَّتْ أَمَةُ بِانْقِضَاءِ العِدَّةِ، ثُمَّ وَلَدتْهُ لأَكْثَرَ مِنْ سِِتَّةِ أَشْهُرٍ بَعْدَ إِقْرَارِهَا". الفصل صورة المسألة أن يطلق زوجته فأقرب بانقضاء عدتها، ثم أتت بولد لدون أربع سنين من وقت الطلاق يلحق نسبه بالزوج، وبه قال مالك، وإنما قلنا كذلك لما ذكر الشافعي في جواب السؤال، وهو أنه يمكن أن تحيض وهي حامل فيقر بانقضاء العدة على ظاهر الأمارات بين الدماء والحمل قائم فلا يقطع حكم نسب الولد بإقرارها [ق 65 أ] بانقضاء عدتها. وقال أبو حنيفة، وأحمد: إذا أتت به لأكثر من ستة أشهر من وقت الإقرار بانقضاء العدة لم يلحقه، وإن أتت به لأقل من ستة أشهر من ذلك الوقت لحقه. وحكي عن أبي إسحاق أنه قال: دخلت على ابن سريج فقال: مذهب أبي حنيفة في هذه المسألة أصح عندي. قال أبو إسحاق: والعجب من أبي حنيفة حيث قال ههنا: ينتفي عنه الولد مع الإمكان الظاهر ههنا وألحق من غير الإمكان في المشرقي إذا تزوج بمغربية وطلقها في مجلس الحكم، وهذا خطأ ظاهر. واحتج ابن سريج بأن الأمة تصير فراشًا بالوطء كالحرة تصير فراشًا بالعقد، ثم ثبت أنه لو وطء أمته، ثم استبرأها، ثم أتت بولدٍ لستة أشهر أو أكثر لا يلحقه، نص عليه الشافعي فكذلك ههنا لا يلحقه نسبه بعد إقرارها بانقضاء العدة إذا أتت به لستة أشهر فأكثر، قيل: في كلا المسألتين قولان على سبيل النقل والتخريج وهو ضعيف، وقيل: في مسألة الأمة قولان، وفي الحرة قول واحد حكاه صاحب "الإفصاح" وقيل: وهو قول الجمهور: المسألتان على قول واحد والفرق أن ولد الأمة في الابتداء لا يلحق بالإمكان، وإنما يلحق بالإقرار بالوطء، فإن استبرأها زال حكم الوطء في الظاهر وبقي

الإمكان فلا يلحق به، وليس كذلك ولد الحرة لأنه يلحق بالإمكان من غير إقرار بالوطء في الابتداء فكذلك يلحق بعد انقضاء الإقراء، فإن نكحت زوجًا آخر بعد إقرارها ب انقضاء العدة، ثم أتت بولدٍ لستة أشهر فالولد يلحق بالثاني بلا إشكال؛ لأنه أقوى سببًا [ق 69 ب] من الأول. ثم اعلم أن الشافعي قال ههنا عقيب هذه المسألة: "وَكَانَ الَّذِي يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَلاَ يَمْلِكُهَا فِي ذَلِكَ سَوَاعءٌ لأَنَّ كِلْتَيْهِمَا تَحِلاَّنِ بِانْقِضَاءِ العُدَّةَ لِلأَزْوَاجِ" ومعناه أنهما سواء في مسألة الخلاف لأن العلة التي ذكرناها موجودة فيهما جميعًا. ثم قال المزني: فقال الشافعي في باب اجتماع العدتين "وَالقَافَةِ" إِنْ جَاءَتْ بِوَلَدٍ لأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ طَلَّقَهَا الأَوَّلُ، فَإِنْ كَانَ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ دَعَا لَهُ القَافَةَ، وَإِنْ كَانَ لاَ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فَهُوَ الثَّانِي" فجمع بين من لا رجعة له عليها ومن بين من له الرجعة في باب الدخول بها، يعني في هذا الباب الذي نحن فيه، وفرق بينهما في اجتماع العدتين، ومراد المزني بهذا الكلام بيان كيفية احتساب السنين الأربع، فإذا كانت بائنة فأول السنين الأربع محسوب من وقت الطلاق لا من وقت انقضاء العدة؛ لأنه لو تعمد وطئها في العدة فجاءت بولد كان منفيًا عنه وكان زانيًا بذلك الوطء وعليه الحد. فإن قال قائل: أرأيت لو وطئها غالطًا ألسنا نلحق به الولد؟ قلنا: بلى، وكذلك لو وطئها بعد العدة غالطً فلا اختصص لزمان العدة بالغلط. فأما إذا كانت رجعية فمن أي وقت يحتسب أول السنين الأربع قولان على ما ذكرنا، والقول الثاني إنها محسوبة من آخر عدتها بالأقراء؛ لأنه لو تعمد وطئها في العدة فأحبلها كان الولد ملحقًا به ولا حد، وعلى هذا القول أجاب الشافعي في باب اجتماع العدتين والقافة. واعلم أن في عبارته لإطلاقه وإيجازه إشكالاً ومعنى قوله: "إن جاءت بولد لأكثر [ق 70 أ] من أربع سنين من وقت الطلاق الرجعي وأقل من أربع سنين من وقت انقضاء عدتها ولستة أشهر فصاعدًا من وقت وطء الثاني دعا له القافة، وإن كان الأول لا يملك الرجعة فولدته لأكثر من أربع سنين من وقت طلاقه ولستة أشهر من وقت وطء الثاني فهو للثاني ولا يحتمل أن يكون للأول هذا معنى كلامه فتأمله. واعلم أن المزني لما فرغ من حكاية قوله: "وَكَانَ الَّذِي يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ وَلاَ يَمْلِكُهَا فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ" عطف عليه فقال: "وَقَالَ فِي اجْتِمَاعِ العِدَّتَيْنِ" لا يستوي من يملك الرجعة ومن لا يملك الرجعة، فأشار إلى القولين، فقال المزني: إن كنت ظننت أن القول الثاني وهو قول التسوية هو قوله: "وكان الذي يملك الرجعة ولا يملكها في ذلك سواء" فقد أخطأ ظنك؛ لأن قصد الشافعي من هذه التسوية مسألة الخلاف التي مضت بيننا وبين أإبي حنيفة، وهي أنها لو أقرت بثلاثة أقراء ثم ولدت بعد الإقرار ولدًا لأكثر من ستة أشهر ألحقناه، والذي لا يملك الرجعة ويملك في ذلك سواء، وإن كنت تريد أن

الشافعي رحمة الله تعالى عليه في هذا الباب الذي نحن فيه يحض على التسوية في اعتبار السنين الأربع من وقت الطلاق في الرجعية والبائنة فقد أصبت، وموضع نصه في أثناء الباب لا في موضع عطفك وهو قوله: وإن طلقها فلم يحدث لها رجعة ولا نكاحًا حتى ولدت لأكثر من أربع سنين فأنكر الزوج فهو منفي عنه والله أعلم. [ق 70 ب] باب لا عدة على التي لم يدخل بها زوجها مسألة: قَالَ: قَالَ الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا نَكَحْتُمُ المُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِن عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب:49] قَالَ: وَالمَسِيسُ: الإِصَابَةٌ. إذا طلقها قبل الخلوة بها فلا عدة عليها، وإن كان قبل الوطء وبعد الخلوة فقال في الجديد: لا عدة عليها لهذه الآية التي ذكرناها. قال الشافعي: والمسيس الإصابة، والله تعالى يكني بالمسيس والمماسة عن الوطء في مواضع. قال ابن عباس رضي الله عنهما وشريح وغيرهما: لا عدة عليها إلا بالإصابة بعينها لأن الله تعالى قال هكذا، وقال في القديم: فيه قولان: أحدهما: أن الخلوة توجب العدة وهو قول أبي حنيفة. والثاني: أن الخلوة دلالة على الوطء وبه قال مالك. فعلى هذا لو اختلفا في الوطء فالقول قول من يدعي الوطء، فعلى هذا إذا خلا بها، ثم تقارا على أن الوطء لم يكن فليس لها إلا نصف المهر، وهل تجب العدة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تجب كما لا يجب إلا نصف المهر. والثاني: يجب؛ لأن العدة تتعلق لحق الله تعالى، فإذا تقارا على إسقاطها مع وجود الدلالة على وجوبها لم يسقط، ولو جاءت بشاهد واحد يشهد على إقراره بالوطء وحلفت مع الشاهد أعطيناها الصداق. مسألة: قَالَ: "فَإِن وَلَدَتِ الَّتِي قَالَ لَهَا زَ! وْجُهَا لَمْ أَدْخُلَ بِهَا لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَكْثَرَ مَا تَلِدُ لَهُ النِّسَاءُ مِنْ يَوْمِ عَقَدَ نِكَاحَهَ لَحِقَ نَسَبُهُ وَعَلَيْهِ المَهْرُ". الفصل: قد ذكرنا هذه المسألة في آخر "كتاب الصداق" وإنما يلحق نسبه به [ق 71 أ] لإمكان

أن يكون الولد منه وإن لم يكن دخل بها، فإن وطئها دون الفرج فسبق الماء إلى فرجها وقد تحبل البكر على هذا الوجه، أو استدخلت ماؤه فحملت ولا يؤثر ما تقدم من يمينه على انه لم يدخل بها في هذا الحكم. وأما المهر هل تكون ولادتها دليلاً على صدقها في الدخول لتكميله لا يخلو إما أن تقر على نسبه أو ينفي اللعان، فإن أقر على نسبه، نقل المزني والربيع أنه يحكم لها بالإصابة وكمال المهر، وقال الربيع: وفيه قول آخر: لا يلزم إلا نصف المهر؛ لأنه يجوز أن تكون علقت من استدخال مائة، فقيل: هذا قاله تخريجًا ولا وجه له؛ لأن ظاهر الحكم محمول على غالب العدة، والغالب من علوق الولد أنه يكون من الوطء دون الاستدخال وقيل: قاله نقلاً؛ لأنه راوي أقاويله ففيه قولان: وقال أبو إسحاق: هما على حالين، فإن كانت الولادة بعد إنكار الزوج الإصابة قبل اليمين يكمل المهر؛ لأن الحكم لم يتبرم حتى لو مات أو خرس ولا يحسن الإشارة حكم بقولها بالإصابة، وإن كان بعد اليمين وانبرام الحكم فلا يكمل المهر، وإن كان نفاه الأب باللعان. قال أبو حامد: وجماعة: نفيه باللعان كمحوه لولادته فتصير كأنها لم تأت بولد فلا يكون لها من المهر إلا نصفه، وقال صاحب "الحاوي": هذا لا يصح عندي بل حكم نسبه قد ثبت فثبتت الولادة، وإنما استأنف نفيه بعد لحوقه فلم يجز أن يكون مساويًا لمن لم يلحق نسبه فاقتضى أن يستكمل به فهو على ما ذكرنا. فإذا قلنا بالمشهور من المذهب لو ادعت الإصابة ولم تحلفه قبل اللعان حلفناه على أنه لم يصبها [ق 71 ب] فإن قيل: يجب أن لا تحلفوه لأنكم حكمتم بعدم الوطء؛ لأنه قد يطأها ولا يحبلها فلا بد من اليمين. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ خَلاَ بِهَا فَقَالَ: لَمْ أُصِبْهَا وَقَالَتْ: قَدْ أَصابَنِي وَلاَ وَلَدَ فَهِيَ مُدَّعِيَةٌ وَالقَوْلُ قَوْلُهُ". الفصل هذا فرعه على القول الجديد أنه لا تأثير للخلوة، فإن جاءت بشاهد على إقراره بالوطء قد ذكرنا أنها تحلف مع شاهدها ولا يلزم لها كل المهر؛ لأن المقصود منه المال فقبل فيه شاهد ويمين، وكذلك إن أتت بشاهد على نفس الوطء يحلف معه وأصحابنا قالوا: يجوز النظر إلى ذلك لإقامة الشهادة ولو كان طلقها، ثم ادعى أنه كان أصابها

باب العدة من الموت والطلاق والزوج الغائب

وأقام شاهدًا واحدًا لم يحلف معه؛ لأنه تثبت به الرجعة لنفسه وليس بماله. فإن قيل: أليس المرأة إذا ادعت على الزوج وأقامت شاهدًا واحدًا لم يحلف معه، وإن كانت تثبت لنفسها. قلنا: إذا ادعت النكاح فإنها تثبت العقد دون المال، ثم يثبت في العقد المال ونفس العقد ليس بمال ولا يقصد منه المال بل يقصد الوصلة والمصاهرة بخلاف ما لو ادعت المهر والنفقة صريحًا. باب العدة من الموت والطلاق والزوج الغائب مسألة: قَالَ: "وَإِذَا عَلِمَتِ المَرْأَةُ يَقِينَ مَوْتِ زَوْجِهَا أَوْ طَلاَقَهُ". الفصل: متى علمت الزوجة الفرقة بطلاق أو موت فالعدة من حين وقوع الفرقة سواء كان غائبًا أو حاضرًا، وسواء ثبت ذلك بالبينة أو بالخبر، فإن لم تعلم حتى مضى زمان العدة [ق 72 أ] فقد قضت ما عليها، وغن لم تمض تمام العدة فعليها إتمام العدة؛ لأن العدة ليس من شرطها القصد والنية؛ ألا ترى أن المجنونة تعتد عن الطلاق والموت، وإن لم تشعر بها، وأيضًا فإنها لو تركت في عدتها الإحداد فلبست المصبوغات وتطيبت انقضت عدتها وهي عاصية، فإن لم تعلم ذلك وفعلت ذلك على غير وجه العصيان؛ لأن تنقضي عدتها بذلك أولى وأجرى. وقول الشافعي ههنا: "فَإِنْ لَمْ تَعْتَدَّ حَتَّى تَمْضِي العِدَّةُ" أي لم تقصد الاعتداد لأنها في حالة الجهالة معتدة عن طريق الاحتساب وإن لم تكن معتدة بطريق القصد، وبقولنا قال ابن عمر، وابن عباس، وابن مسعود، وابن الزبير، وابن المسيب، وعطاء، والزهري، وعامة الفقهاء رضي الله عنهم. وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال "العدة من حين العلم" وبه قال الحسن، وداود، وقال الإمام البيهقي رحمه الله اختلفت الرواية في ذلك عن علي رضي الله عنه. وقال عمر بن عبد العزيز والشعبي رضي الله عنهما: إن ثبت ذلك بالبينة فمن حيثن مات، وإن كان ذلك بخبر مخبر فمن حين بلغها، واحتجوا بان العدة عبادة فاحتاجت إلى القصد، قلنا: لا نسلم أنها عبادة وبينا أن القصد منها غير معتبر، وقد قال تعالى: {وأُوْلتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:4] فإذا وضعت الحمل قبل العلم يجب أن تكون عدتها منقضية لهذا النص. وأما في النكاح الفاسد إذا وجد الوطء فالعدة من حين التفريق، إما بتفريق الحكم أو بافتراقهما بالاختيار أو بموت أو بطلاق وهو لا يعلم بفساد النكاح.

باب عدة الأمة

وأما في الوطء بشبهة الظن [ق 72 ب] فوقت العدة من حين الفراغ من الوطء. باب عدة الأمة مسألة: قَالَ: "فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنتَ الأحْرَارَ أَوْ العَبِيدِ فِي حَدِّ الزِّنَى". الفصل: الأمة المزوجة إذا طلقها زوجها، فإن كانت حاملاً فعدتها تنقضي بوضع الحمل، ولا فرق في ذلك بين الحر والأمة، وإن كانت حائًلا، فإن كانت من ذوات الأقراء، فعدتها بقرءين، وبه قال عمر وعلي، وابن عمر رضي الله عنهم، وقال داود: عدتها ثلاثة أقراء لقوله تعالى: {والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ولم يفصل، وهذا غلط لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال بحضرة الصحابة: "ينكح العبد امرأتين ويطلق تطليقتين وتعتد الأمة حيضتين، فإن لم تكن تحيض فبشهرين أو شهرًا ونصفًا" والمراد بقوله حيضين أي طهرين ولكن الأطهار لا تتعدد إلا الحيض يعبر بالحيض عنه. وروى أصحابنا عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: تطليق العبد بطلقتين، وتعتد الأمة حيضتين" والمشهور أنه لا يصح مرفوعًا. واعلم أن الشافعي احتج في أول هذا الباب فذكر بعض ما افترق فيه الحر والعبد وبعض ما استويا فيه، فقال: "قَدْ فَرَّقَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَ الأَحْرَارِ وَالعَبِيدِ فِي حَدَّ الزَّنَى" ثُمَّ قَالَ: "وَذَكَرَ المَوَارِيثَ وَلَمْ يَخْتَلِفْ أَحَدٌ لَقِيتُهُ أَنَّ ذَلِكَ فِي الأَحْرَارِ دُونَ العَبِيدِ وَفَرَضَ اللَّهُ العُدَّةَ بِثَلاثَةِ أَشْهُرٍ، وَفِي المَوْتِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشَرًا" ثُمَّ قَالَ: "وَلَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا [مِمَّنْ حَفِظْتُ عَنْهُ مِنْ أَهْلِ العِلْمِ] فِي أَنَّ عِدَّةَ الأَمَةِ نِصْفُ عِدَّةِ الحُرَّةِ فِيهَا لَهُ نِصْفُ مَعْدُودٍ" الفصل إلى آخره. قال أصحابنا: جملة الأحكام [ق 73 أ] على ثلاثة أضرب: ضرب يستوي فيها بين الأحرار والعبيد، مثل تحريم الظهار، ومدة الإيلاء، ومدة العنة، والقصاص، والقطع في السرقة؛ لأن شيئًا منها لا يحتمل التبعيض، ولا بدل له يقوم مقامه فسوى بين الأحرار والعبيد فيه، ومن ذلك فرائض الصلوات والصيام. وضرب خص به الأحرار مثل الرجم بالزنى فإنه لا يحتمل التبعيض إلا أن له بدلاً

وهو الجلد، فاقتصر في العبيد على بدله وكذلك ما بني على الفضيلة والجمال كالجمعة، والشهادة، والولاية، والميراث لا مدخل للعبيد فيها. وضرب جعل العبد فيه على النصف من الحر، وهو حد الزنى، والقذف، والشرب، والطلاق، والعدة، إلا أن الطلقة الواحدة والحيضة الواحدة لا يتبعضان فكملتا، وقو الشافعي: " وَأَمَّا الحَيْضَةُ فَلاَ يُعْرَفُ لَهَا نِصْفٌ" معناه جعلنا عليها شيء ما على الحرة من الأقراء؛ لأنها لا تنتصف الحيضة ولو تنصفت لألزمناها حيضة ونصفًا، وأقرب الأشياء من الصنف إذا لم يسقط من النصف شيء حيضتان، وهذا لأن أقرب القرءين من نصف الثلاثة بزيادة نصف قرء، وقرب القرء الواحد من نصف الثلاثة بنقصان نصف قرء، فالواحد والاثنان سواء في القرب من نصف الثلاثة، ولكن لو صرنا إلى الواحد نقصًا من نصف الثلاثة شيئًا، فكذلك صرنا إلى الاثنين، وقلنا: الإثنان أقرب الأشياء من النصف إذا لم يسقط من النصف شيء، وإن كانت من ذوات الأشهر فيه ثلاثة أقوال: [ق 73 ب] أحدها: تعتد بشهر ونصف لأنه ذو عدد مبني على الفاضل، ويمكن تنصيفه فينصف كالحد وهو المشهور، وبه قال أبو حنيفة. والثاني: تعتد بشهرين كما تعتد بقرءين، لأنه بدل كل قرء شهر كما في الصغيرة ثلاثة أشهر بدل ثلاثة أقراء. والثالث: تعتد بثلاثة أشهر وأشار إليه في "أم الولد" إذا لم يكن ذوات الأقراء، وهذا لأن المقصود العلم ببراءة الرحم وهي أقل مدة يظهر في مثلها الحمل، فما لم يمض ذلك لا تعرف براءة رحمها، وهو اختيار جماعة من أصحابنا، وعن أحمد ثلاث روايات مثل أقوالنا سواء. وأما قول عمر رضي الله عنه: "فإن لم تحض بشهرين أو شهرًا ونصفًا" قيل: هو شك من الراوي. وقيل: هو تعليق القول، وهو دليل على جواز تعليق القولين في المسألة وهذا هو الظاهر؛ لأنه لا يبعد أن يقع الشك للراوي بين شهرين أو شهر أو نصف شهر. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ أُعْتِقَتْ الأَمَةُ قَبْلَ مُضِيَّ العِدَّةِ أَكْمَلَتْ عِدَّةَ حُرَّة". الفصل: إذا تزوج بأمة، ثم دخل بها، ثم اجتمع لها العتق والطلاق نظر، فإن عتقت قبل طلاقه فعدتها عدة الحرة الأصلية؛ لأن العتق وجد وجوب العدة، وإن عتقت بعد أن اعتدت بقرءين لم تكمل ثلاثة أقراء؛ لأن الحرية طرأت بعد انقضاء العدة وإن أعتقت في

أثناء العدة، اختلف قول الشافعي فيه، فقال في "القديم" إن كانت بائنًا أكملت عدة أمة، وإن كانت رجعية فيه قولان هل تكمل عدة حرة أو أمة؟ وقال في الجديد: إن كانت رجعية أكملت عدة حرة، وإن كانت بائنًا، قال أصحابنا: يحصل من ذلك ثلاثة أقاويل: أحدها: تكمل عدة أمة رجعية [ق 74 أ] كانت أو بائنة، قال مالك: لأن الحرية طرأت بعد وجوب العدة عليها فلا يتغير حكمها، كما لو طرات الحرية بعد وجوب الاستبراء. والثاني: أنها إن كانت رجعية تكمل عدة حرة، وإن كانت بائنًا أكملت عدة أمة. وبه قال أبو حنيفة، وأحمد؛ لأن الرجعية تعتد عدة الوفاة لو مات، فوجب أن تعتد عدة حرة بخلاف الثاني والثالث أنها تكمل عدة حرة بكل حالٍ رجعية كانت أو بائنًا. وهو اختيار المزني؛ لأن سبب العدة الكاملة إذا وجد في أثناء العدة انتقلت إليه وإن كانت بائنًا، كما لو اعتدت بالشهور فرأت الدم قبل إتمامها ويفارق الاستبراء؛ لأن الحرية لو قارنت وقت الوجوب لم تكمل، وهو إذا مات السيد فعتقت أم الولد بموته يكفيها استبراء واحد، وهذا اختيار أبي إسحاق وجماعة. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ كَانَتْ تَحْتَ عَبْدٍ فَاخْتَارَتْ فِرَاقَهُ كَانَ ذَلِكَ فَسْخًا بِغَيْرِ طَلاَقٍ وَتَكْمُلُ العِدَّةُ مِنَ الطَّلاَقِ الأَوَّلِ". صورة المسألة أن يطبق العبد زوجته الامة، ثم أعتقها سيدها وهي في العدة فلها اختيار الفراق في الحال، ولها أن تؤخر الفسخ على ما ذكرنا فيما تقدم، فإن عجلت الفسخ قال أبو إسحاق: تبني على عدتها قولاً واحدًا. ومن أصحابنا من قال: فيه قولان: أحدهما: تبقى. والثاني: تستأنف العدة وهذا ضعيف. فإذا قلنا: تستأنف استأنفت عدة حرة لأنها وجبت في حال الحرية. وإذا قلنا: نبني فهل تكمل عدة أمة أو عدة حرة؟ فيه طريقتان: إحداهما: تكمل عدة حرة قولاً واحدًا؛ لأن الفسخ سبب لابتداء العدة، فإذا وجد في حال الحرية أوجب إكمال عدة الحرة، وهو اختيار أبي إسحاق [ق 74 ب]. والثانية: فيه قولان؛ لأنها مستديمة العدة والفسخ بمنزلة الطلاق البائن. وإن راجعها كان لها أن تختار الفسخ، وإذا اختارت الفسخ فيه طريقان: أحدهما: أنه كالطلاق، ولو طلق بعد الرجعة هل تستأنف العدة أو تكمل العدة؟

قولان كذلك ههنا. والثانية: أنها تستأنف قولاً واحدًا؛ لأنها فسخت النكاح وهي زوجته ومتى استأنفت أكملت العدة، وإذا أكملت فيه طريقان على ما ذكرنا. وقال في "الحاوي": إذا فسخت بالعتق هل يكون فسخها قاطعًا لرجعة الزوج وجهان: أحدهما: لا تقطع رجعته؛ لأنها من أحكام طلاقه. فعلى هذا إن راجع الزوج وقعت الفرقة بالفسخ دون الطلاق، فيكون ابتداء عدتها من وقت الفسخ وتعتد عدة حرة؛ لأنها بدأت بالعدة وهي حرة، وإن لم يراجع فالفرقة وقعت بالطلاق دون الفسخ فيكون أول عدتها من وقت الطلاق، وقد بدأت وهي امة، ثم صارت حرة فهل تعتد عدة أمة أو حرة؟ قولان: والثاني: الفسخ قطع رجعة الزوج عنها لأنها غير مؤثرة في الإباحة، فمنع كما منع من رجعة المرتدة. فعلى هذا هل يغلب في الفرقة حكم الطلاق أو حكم الفسخ وجهان: أحدهما: يغلب حكم الطلاق لتقدمه [فعلى هذا هل تعتد عدة أمة أو عدة حرة؟ على ما مضى من القولين. والثاني: يغلب حكم الفسخ لقوته] فعلى هذا تعتد عدة حرة قولاً واحدًا لأن الفسخ ما وقع إلا بعد الحرية، ولكنها تبني على ما مضى من وقت الطلاق ولا تبتدئها من وقت الفسخ؛ لأن الفسخ قد أبطل الرجعة فلم يجز أن يطول به العدة. وهذه طريقة حسنة ولو طلقها زوجها، ثم أعتقت في العدة، ثم طلقها ثانيًا بعد الحرية هل تبنى على عدتها أم تستأنف؟ طريقان على ما ذكرنا؛ لأن وقوع الطلاق في حال الحرية بمنزلة وقبوع الفسخ في حال الحرية لا فرق بينهما. [ق 75 أ] مسألة: قَالَ: "وَلَوْ أَحْدَثَ لَهَا رُجْعَةً، ثُمَّ طَلَّقَهَا وَلَمْ يُصِبْهَا بَنَتْ عَلَى العِدَِّةِ الأُولَى". صورة المسألة أنه طلق امرأته الحرة فمضى لها قرء مثلاً، ثم راجعها زوجها ولم يصبها حتى طلقها، نقل المزني أنها تبني على العدة الأولى؛ لأنها مطلقة لم تمس هكذا علل الشافعي، ومعناه لم تمسس بعد استحداث التمليك، وهذا قوله القديم، وبه قال مالك. قال المزني: هذا غلط بل عدتها من الطلاق الثاني؛ لأنه لما راجعها بطلت عدتها وصارت في معناها المتقدم بالعقد الأول لا بنكاح مستقبل، فهي في معنى من ابتدأ

طلاقها مدخولاً، وهذا قول الشافعي في الجديد، وقد ذكره الشافعي في باب إفراد الشافعي لهذه المسألة ونص فيه على قولين، وبه قال أبو حنيفة، وهو الأصح لما ذكر المزني من الدليل. وقال داود: سقطت العدة وحلت للأزواج؛ لأن الطلاق الأول ارتفع بالرجعة فسقطت بقية العدة، ثم طلقها ثانيًا من غير إصابة، وهذا خلاف الإجماع ويؤدي إلى اختلاط المياه وفساد الأنساب، وإن نكح المرأة في يوم واحد عشرين زوجًا ولو راجعها، ثم وطئها، ثم طلقها لا يختلف المذهب أنها تستأنف العدة من الطلاق الثاني، ولو خالفها، ثم نكحها، ثم طلقها قبل الدخول بها بنت على عدتها الأولى قولاً واحدًا، وبه قال محمد. وقال أبو حنيفة: تستأنف العدة وتكمل مهرها، وقد مضى هذا فيما قبل وهو غلط ظاهر لأن الخلع يوقع البينونة فلا يمكن ضم الحالة الثانية إلى الأولى لتحلل البينونة بينهما ولا يمكن إيجاب عدة مستأنفة لأنه طلاق قبل الدخول فلم يبق إلا البناء على العدة الأولى [ق 75 ب] وحكي عن المزني أنه قال: لا يجوز المخالع نكاح المختلعة قبل انقضاء عدتها منه كما لا يجوز لغيره، وهذا خطأ لأنه لا يصان ماءه ولو طلقها طلقة رجعية، ثم راجعها، ثم خالعها، فإن قلنا: الخلع طلاق هل تستأنف العدة أو تبنى قولان على ما ذكرنا. وإن قلنا الخلع فسخ فيه طريقان: أحدهما: أنه كالطلاق أيضًا. والثانية: أن الفسخ جنس يخالف جنس الطلاق فاقتضى اختلافهما أن لا تبنى عدة أحدهما على الآخر بل تستأنف العدة بعد الخلع قولاً واحدًا ولو طلقها طلقة أخرى قبل أن يراجعها فالمذهب أنها تأتي ببقية عدتها ولا تستأنف من الطلاق الثاني قولاً واحدًا. ومن أصحابنا من قال فيه قولان أيضًا. أحدهما: تستأنف لأن الشافعي لما ذكر الاستئناف في أحد قوليه إذا راجعها، ثم طلقها قال: فمن قال بهذا لزمته أن يقول ارتجع ولم يرتجع سواء، وهذا غلط وليس هذا بتفريع على هذا القول بل تشنيع على من قال بهذا القول، وهو اختيار أبي إسحاق وقال القفال: الصحيح أن في هذه المسألة قولين أيضًا لأن الشافعي قال: فيمن قال لامرأته: كلما ولدت ولدًا فأنت طالق فولدت ثلاثة تطلق ثنتين بالأول وتنقضي عدتها بالثالث. وقال في الإملاء: طلقت ثلاثًا واستأنفت العدة بالأقراء وهنا لا يخرج إلا على هذا القول وهو انه متى لحقها طلقة استانفت العدة فتقع الطلقة الثالثة بين العدتين، وإن لم يكن بينهما زمان يشار غليه كما لو قال: أنت طالق بين الليل والنهار فإذا غربت الشمس أو طلع الفجر طلقت ولا زمان بينهما ليس من أحدهما وهذا اختيار الأصطخري، وابن خيران ولو مات عنها [ق 76 أ] في خلال عدتها وهي رجعية تستأنف عدة الوفاة قولاً

واحدًا وتسقط باقي العدة ولا يجب الإتيان به في عدة الوفاة بلا خلاف. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ كَانَ طَلاَقًا لاَ يَمْلِكُ فِيهِ الرَّجْعَةَ ثُمَّ أُعتِقَتْ". الفصل: ذكر ههنا حكم البائنة في عدتها هل تبني على عدة أمة أو تكمل عدة حرة؟ فيه قولان، وقد ذكرنا ذلك واختار أنها تعتد عدة حرة، واحتج الشافعي به لهذا القول، وهو أن المرأة إذا كانت تعتد بالشهور فرأت الأقراء انتقلت إلى الأقراء، وأنت المسافر إذا أقام في أثناء صلاته يصلي صلاة مقيم، وهذا الذي ذكره صحيح فلا يحتاج إلى جوابه. ثمَّ قَالَ: هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزَ لِمَنْ دَخَلَ فِي صَوْمِ ظِهَارٍ، ثُمَّ وَجَدَ رَقَبَةً أَنْ يَصُومَ [وَهُوَ مِمَّنْ يَجِدُ وَيُكَفُرُ بِالصِّيَامِ] وَلاَ لِمَنْ دَخَلَ فِي الَصَّلاَةِ بِالتَّيَمُّم ثُمَّ يَجِدُ المْاءَ أَنْ يُصَلِّي بِالتَّيَمُّم كَمَا قَالَ لاَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي عِدَّتِهَا مِمَّنْ تَحِيضُ وَتَعْتَدُّ بِالشُّهُورِ" وقد سوى الشافعي في ذلك بين ما دخل فيه المرء وبين ما لم يدخل فيه، فجعل المستقبل فيه كالمستدبر، يعني أنه جعله كالمسافر الذي نوى المقام في خلال صلاته أن يجعله كمن وجد الماء قبل الشروع في صلاته، ويلزمه أن يقول فيمن صام بعض الأيام عن الظهار، ثم وجد الرقبة أن ينتقل على الرقبة كمن وجد الرقبة قبل الشروع في الصيام. والجواب أن المسافر إذا نوى المقام في خلال صلاته فأمرناه بالإتمام لم تبطل عليه ما مضى من صلاته، ولو كلفنا المقيم الماء والظاهر العتق أبطلنا على كل واحد منهما ما مضى من العبادتين، فلا تصح هذه الموازنة والجمع. ومثل هذا الجواب في مسألة [ق 76 ب] الحيض، والشهور لا تستمر مع المزني إلا على مذهب من يقول: تعتد بها بما مضى قرءًا إذا حاضت قبل إكمال الشهور، فلا يبطل عليها فيما مضى من شهورها. ثُمَّ قَالَ: "وَالطَّلاَقُ إِلَى الرَّجَالِ وَالعِدَّةُ بِالنَّسَاءِ وَهُوَ أَشْبَهُ بِمَعْنَى القُرْآنِ مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الأَثَرِ، زَمَا عَلَيْهِ المُسْلِمُونَ فِيمَا سِوَى هَذَا مِنْ أَنَّ الأَحْكَامَ تُقَامُ عَلَيْهِمَا" وهذه المسألة مضت في كتاب الرجعة، ومقصوده الرد على أبي حنيفة حيث اعتبر الطلاق بالنساء، ولا شك أن العدة بالنساء، فعدة الحرة ثلاثة أقراء سواء كان زوجها حرًا أو عبدًا، وعدة الأمة قرءان سواء كان زوجها حرًا أو عبدًا، وأراد بمعنى القرآن قوله تعالى: {والْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ولم يفصل بين أن

باب عدة الوفاة من كتابين

يكون زوجها حرًا أو عبدًا، وأراد بالأثر ما ذكرنا عن عمرو رضي الله عنه: يطلق العبد تطليقتين وتعتد الأمة حيضتين. ثم احتج بالقياس في قوله الأحكام تقام عليها كما نقول في الحدود، فإن الحر يزني بأمة فيعتبر حد كل منهما لمحاله دون حال صاحبه؛ كذا ههنا يعتبر كمال الطلاق بكمال حاله ونقصانه بنقصان حاله؛ لأنه الفاعل وتعتبر العدة بها؛ لأنها الفاعلة لها. فأما الجلاد يباشر ضرب الحد ولا يعتبر به لأنه نائب عنه ليس أن الحكم ثبت له أو عليه ولا اعتبار بالنائب. باب عدة الوفاة من كتابين مسألة: قَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 240] الآيَةَ فَدَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا عَلَى الحُرَّةِ غَيْرُ ذَاتَ الحَمْلِ". الفصل: الأصل في عدة الوفاة الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجًا} [البقرة: 240] [ق 77 أ] {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وعَشْرًا} [البقرة: 234]. واعلم أن العدة كانت في أول الإسلام على المتوفي عنها زوجها حولاً كاملاً بقوله تعالى: {والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجًا وصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إلَى الحَوْلِ غَيْرَ إخْرَاجٍ} [البقرة: 240] الآية، ثم نسخ ذلك واختلف أصحابنا في كيفية النسخ، فمنهم من قال: وهو اختيار الأصطخري: نسخت جميع الحول، ثم ثبت أربعة أشهر وعشر فيكون جميع آية الحول منسوخة وآية الشهور هو الموجبة لأربعة أشهر وعشر. وروي عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما انه قال: المتاع منسوخ بآية المواريث والحول منسوخ بأربعة أشهر وعشر. ومن أصحابنا من قال: آية الشهور نسخت من آية الحول ما زاد على أربعة أشهر وعشر، وبقي من الحول أربعة أشهر وليس في هذا الاختلاف تأثير في الحكم، وهذا ظاهر كلام الشافعي رضي الله عنه. فإن قيل: هذه متقدمة على آية الحول والناسخ لا يتقدم المنسوخ. قلنا: هذه الآية متقدمة في التلاوة متأخرة في التنزيل وهذا كثير في القرآن. قال الله تعالى: {سَيَقُولُ

السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا ولاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142] متقدمة على قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:144] وقيل: في تقديم الناسخة فائدة، وهو أن لا يعتقد حكم المنسوخة قبل العلم بنسخها. فإن قيل: فليس بين الآيتين تعارض فكيف تنسخ إحداهما الأخرى؟ قلنا: المراد بهذه الآية جميع العدة بالإجماع ولهذا جعل فيها الكسر فوجد التعارض. وأما السنة ما روى حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة قالت: سمعت أم سلمة رضي الله عنها [ق 77 ب] تقول: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عيناها أفنكحلها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا" مرتين أو ثلاثًا كل ذلك يقول "لا" ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمى بالبعرة على رأس الحول "قال حميد: فقلت لزينب وما ترمي بالبعرة على رأس الحول؟ فقالت زينب: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها قطنت حفشًا ولبست شر ثيابها ولم تمس طيبًا حتى تمر بها سنة، ثم تؤتي بدابة الحمار أو شاة، فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات يعني لطول أظفارها ثم تخرج فتعطي بعرة فترمى بها، ثم تراجع بعدما شاءت من طيب أو غيره. وسئل مالك: ما تفتض؟ فقال: تمسح به جلدها، وقال القتيبي: معناه تكسر ما يبنى فيه من العدة بطائر تمسح به قبلها وتنبذه فلا يكاد يعيش، وهو من فضضت الشيء إذا كسرته أو فرقته ومنه فض خاتم الكتاب. والحفش البيت الدليل الصغير من الشعر والبناء وغيره. وقال الأزهري: الحفش البيت الصغير القصير السمك، ومنه الخبر: ألا جلس في حفيشة أمه. الخبر ومعنى رمتها بالبعرة، أي وكأنها تقول: جلوسي في البيت وحبسي نفسي سنة كالرمية بالبعرة في حب ما كان يجب من حق الزوج أو ما لاقته في الحول من الشدة هين في عظم حقك علي كهوان هذه البعرة. وقيل: معناه اديت حقك وألقيته عني كما تلقاه هذه البعرة على قبر الزوج. وروى الشافعي: فتقبض بالقاف والباء والصاد. قال الشافعي: [ق 78 أ] والقبض أن تؤخذ من الدابة موضعًا بأطراف أصابعها، والقبض: الأخذ بالكف كلها. وقيل في رواية الشافعي فتقبض بالضاد، وهو القبض بالكف، وإنما روي يقبض لأن القبض بالكف يؤول إلى القبض الذي هو الكسر فعبر عنه عما يؤول إليه. ذكره في "الحاوي". وروي: "قد كانت إحداهن تمكث في شر أحلاسها أو شر بيتها، فإذا كان حول فمر كلب رمته ببعرة وإن لا حتى تمضي أربعة أشهر وعشر".

وأما الإجماع فلا خلاف بين المسلمين فيه. فإذا تقرر هذا فعدة الوفاة بشيئين بالحمل والشهور. فإن كان حاملاً اعتدت به فإذا وضعته حلت، وظاهر الآية يوجب عليها العدة بالأشهر، وإن كانت حاملاً، ولكن عرفنا ذلك بالسنة وهي أن سبيعة الأسلمية خرج زوجها في طلب عبيد له فكروا عليه فقتلوه، فوضعت بعد وفاته بنصف شهر، فخطبها أبو السنابل ابن بعكك فأبت عليه، فاجتاز بها يومًا وقد تصنعت للأزواج فقال لها: تصنعت للأزواج لا حتى تمضي أربعة أشهر وعشر، وإنما قال ذلك طمعًا أن تتربص حتى يرجع وليها من غيبته فيحثها على الإجابة لأبي السنابل فأتت سبيعة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبرته بما قال أبو السنابل فقال صلى الله عليه وسلم: "كذب أبو السنابل قد حللت فأنكحي من شئت"، وإنما قال: "كذب" ولم يقل أخطأ لأنه صلى الله عليه وسلم عرف قصده، وأنه قال ذلك عن عمد، وإنما قال الشافعي: عرفنا هذا بالسنة ولم يقل بالآية، وهي قوله تعالى: {وأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ [ق 78 ب] حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] لأن الآية وإن كانت عامة في نفسها فهي على أثر ذكر المطلقات فربما يقول قائل هي فيه الملقة لا في المتوفي عنها. وروى أبو داود بإسناد خبر سبيعة على وجه آخر وهو الأصح وهو أن سبيعة تحت سعد بن خولة وتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعالت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليه أبو السنابل ابن بعكك رجل من بني عبد الدار، فقال: مالي أراكي متجملة لعلكي ترجين النكاح أنكي والله ما أنتي بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سبيعة: فلما قال ذلك جمعت على ثيابي حتى لبست فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي، فأمرني بالتزويج إن بدا لي وقوله: تعالت من نفاسها أي طهرت من دمها. وروي عن علي ابن أبي طالب، وابن عباس رضي الله عنهما أنهما قالا: تعتد المتوفي عنها بآخر الأجلين. ومعناه أن تمكث حتى تضع حملها، فإن كانت مدة الحمل من وقت وفاة زوجها أربعة أشهر وعشر، فقد حلت، وإن وضعته قبل ذلك تربصت إلى أن تستوفي المدة. وقال القفال: لم يصح هذا المذهب إلا عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وترك هذا المذهب عليهن وفيه نظر: وبقولنا قال عمر، وابن عمر، وابن مسعود، وأبو هريرة رضي الله عنهم ومالك، والأوزاعي، وسفيان الثوري، وأبو حنيفة. والدليل على هذا ما ذكرنا من الخبر، وروي عن أبي سلمى بن عبد الرحمن أنه قال: كنت جالسًا مع أبي هريرة [ق 79 أ]

وابن عباس رضي الله عنهما، فذكروا المرأة المتوفي عنها زوجها وهي حامل، قال أبو سلمة: فقلت: إذا وضعت حملها فقد حلت، فقال ابن عباس: أجلها آخر الأجلين، فقال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي - يعني أبا سلمة- فبعثوا كريبًا مولى ابن عباس إلى أم سلمة فسألها عن ذلك فقالت أم سلمة: إن سبيعة بنت الحارث الأسلمية وضعت بعد وفاة زوجها بليال فخطبها رجل من بني عبد الدار يدعى أبا السنابل وأخبرها أنها قد حلت فأراد أن تتزوج بغيره، فقال أبو السنابل: إنك لم تحلي فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمرها أن تتزوج. وروى مسروق، عن عبد الله بن مسعود أنه قال: من شاء لاعنته أنزلت سورة النساء القصرى بعد أربعة أشهر وعشرٌ، يعني بسورة النساء القصرى سورة الطلاق، يريد أن نزول هذه السورة إنما كان بعد نزول سورة البقرة، وقد ذكر في سورة الطلاق حكم الحامل فقال: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وفي البقرة: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وظاهر هذا الكلام منه يدل على أنه حمله على النسخ وليس كذلك، بل إحدى الآيتين مرتبة على الأخرى فالآية في سورة البقرة في عدد الحوامل، والآية التي في سورة الطلاق في عدد الحوائل، والله أعلم. وإن كانت حاملًا اعتدت بأربعة أشهر وعشرة أيام، وبه قال: كافة العلماء، وقال الأوزاعي: وعشر ليال فتنقضي العدة بطلوع الفجر من اليوم العاشر، وهذا غلط؛ لأن الليالي إذا أطلقت يقتضي دخول الأيام معها فحمل الظاهر عليها [ق 79 ب]. فإن قيل: لما حذف الباء في قوله وعشر دل على أنه أراد وعشر ليال لأن عدد المؤنث في الآحاد محذوف الهاء، قيل: العرب تحذف الهاء في عدد المؤنث والذكور فتقول: سرنا عشرًا وهو يريد عشرة أيام كما نقول: سرنا عشرًا وهو يريد عشر ليال. فإذا تقرر هذا لا فرق بين أن يموت عنها قبل الدخول أو بعده، ولا فرق بين أن تكون صغيرة أو كبيرة. وروى عن ابن عباس أنه قال: لا عدة عن المتوفي عنها قبل الدخول. قياسًا على الطلاق، وقد تفرد بهذا القول، وهذا غلط لأن الآية عامة في الكل، وإنما خصصنا قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] بالمدخول بها بحكم آية أخرى منصوصة وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49]، ولم يرد ههنا مثل هذا ولا يمكن تخصيصها بالقياس على المطلقة؛ لأن يمكن للزوج تكذيبها ونفي الولد عن نفسه باللعان إن أتت به بخلاف المتوفي عنها، فاحتاط الشرع فيها، وأيضًا المقصود من عدة الطلاق الاستبراء والمقصود من عدة الوفاة التعبد وإظهار الحزن لانقطاع الوصلة

بالوفاة من غير اختيار، ولهذا لزم فيها الإحداد واعتبر في عدة الطلاق الأقراء وههنا الشهور فافترقا. فإن قيل: أليس لو دخل بها ثم جئت ذكره وأنثياه، ثم طلقت بعد ذلك بعشرين سنة يلزمها العدة والاستبراء ههنا، قيل: المغلب في عدة الطلاق والاستبراء، وإن جاز أن يجب تعبدًا في هذا الموضع فصح ما ذكرناه. مسألة: قَالَ: "فَتَحِلُّ إِذَا وَضَعَتْ قَبْلَ أَنْ تَظْهُرَ [ق 80 أ] مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ مَفْسُوخٍ". إذا وضعت الحمل انقضت عدتها في الحال وإن لم تطهر من نفاسها؛ لأن النفاس لا يمكن النكاح كما لا يمنعه الحيض. وقال حماد، والأوزاعي: لا تحل ما لم تطهر من النفاس، كما يعتبر في عدة الأقراء بطهارتها من الحيض عندهما. وهذا غلط لقوله تعالى: {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ولم يعتبر الطهارة من النفاس. وأما قوله: "مِنْ نِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ مَفْسُوخٍ": ولم يرد به أنها تعتد بالشهور عن الوفاة؛ لأن العدة في النكاح الفاسد لا تجب إلا بالدخول، وإذا دخل وحملت كانت العدة بوضع الحمل كما في الصحيح، وهذا لأن عدة الوفاة لحرمة الوصلة ولا حرمة في النكاح الفاسد. واعلم أن الشافعي لما ذكر الآية في الأول قال: "فَدَلَّتْ سُنَّة رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهَا عَلَى الحُرَّةِ غَيْرِ ذَاتِ الحَمْلِ" ثم ذكر حديث سبيعة، ومعلوم أنه حديث سبيعة لا يدل على أن الآية وردت في الحرة دون الأمة، فكيف ادَّعى الشافعي هذا من خبرها؟ وإزالة هذا الإشكال بأن يقال: ما أراد الشافعي استفادة الحرية من حديث سبيعة، بل استفاد من حديثها حكم الحامل، فأما الحرية فإنها مستفادة عند من ظاهر الآية؛ لأن الشافعي يحمل الخطاب بظاهرة على الحرائر خاصة، وعلى هذا نص في "كتاب اليسر" حيث حمل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216]، على الأحرار دون العبيد. فمعنى قوله ههنا: "فَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم" بظاهر القرآن على أنها على الحرة، وتصريح سنته على أنها على الحرة ذات الحمل؛ لأنه قضى في سبيعة الأسلمية بما قضى [ق 80 ب]. مسألة: قَالَ: "وَلَيْسَ لِلْحَامِلِ المُتَوَفي عَنْهَا نَفَقَةٌ وَإِنْ كَانَتْ حَائِلًا". لا يختلف المذهب أنه لا نفقة بحالٍ حائلًا كانت أو حاملًا، وسواء قلنا النفقة للحمل أو للحامل؛ لأنَّا إن

جعلناها للحامل فلا سلطان له عليها؛ وإن جعلناها للحمل فلا يلزم الميت نفقة الأقارب. وروي عن جابر وابن عباس أنهما قالا: "لا نفقة لها حسبها الميراث". قال بعض العلماء: لها النفقة إذا كانت حاملًا، ويروى هذا عن علي وابن عمر، ذكره صاحب "الحاوي". وهذا غلط لما ذكرنا، ولأنها معتدة عن وفاةٍ فلا نفقة لها كالحائل. قال المزني: "هَذَا خِلَافُ قَوْلِهِ فِي البَابِ الثَّانِي وَهَذَا أَصَحُّ، وَفِي البَابِ الثَّالِثِ مَشْرُوحٌ". أراد به أن الشافعي لم يثبت لها النفقة في هذا الباب، وروي عن جابر ما ذكرنا وقال: "لأَنَّ مَالِكَهُ قَد انْقَطَعَ بِالمَوْتِ". وقال في الباب الذي بعده: "لَهَا السُّكْنَى". وهذا يخالف؛ لأن تعليل الشافعي ههنا واحتجاجه بقول جابر يدل على أنه لا سكنى لها، وإن لم يصرح به ههنا؛ لأنه لا سكنى لها. فاختار المزني أنه لا سكنى لها، وفي المسألة قولان. قال أصحابنا: هذا الذي قاله المزني لا يصح؛ لأن الشافعي قال في هذا الباب: "لا نفقة لها" وهذا لا يختلف مذهبه فيه، وليس في الباب الثاني ما يخالفه، وإنها أثبت في الباب الثاني السكنى على أحد قوليه والسكنى تخالف النفقة فلم يصح ما قاله. وقوله: "وَهُوَ فِي البَابِ الثَّالِثِ مَشْرُوحٌ" غلط في النقل، وإنما هو "في الباب الثاني مشروح"؛ لأن المزني ذكر في الباب الذي بعد هذا الباب أنه لا سكنى، واختار هذا القول ونصره. وأما [ق 81 أ] الباب الثالث فهو باب الإحداد وليس منه لوجوب السكنى وسقوطه ذكر، ولأنه أوهم أن في النفقة قولين وليس كذلك بل قولٌ واحدٌ أنه لا نفقة لها. وقول جابر: "حسبها الميراث" لم يذكره الشافعي لإسقاط السكنى، أو نقول: لعل الشافعي نص في هذا الباب على أنه لا سكنى لها، وأجاب في باب آخر على القول الثاني فلا يجب عليه على ما ذكره المزني. مسألة: قَالَ: "وَإِنْ لَمْ تَكُنْ حَامِلًا فَكَأَنَّهُ مَاتَ نِصْفُ النَّهَارِ وَقَدْ مَضَى مِنَ الهِلَالِ عَشْرُ لَيَالٍ أَحْصَتْ مَا بَقِيَ مِنَ الهِلَالِ". الفصل: قد ذكرنا فيما مضى نظير هذه المسألة، وجملته أنه إذا مات في نصف النهار مثلًا

وقد مضى من الهلال عشر ليالٍ، أحصت ما بقي من الهلال، فإن كان عشرين حفظتها ثم اعتدت بثلاثة أشهرٍ بالأهلة، ثم استقبلت الشهر الرابع فأحصت عدد أيامه، فإذا كمل لها ثلاثون يومًا بلياليها فقد أوفت أربعة أشهر واستقبلت عشرًا بلياليها، فإذا أوفت إلى الساعة التي مات فيها فقد انقضت عدتها، ويتصور أن يوافق الموت أول الهلال فتعتد بأربعة أشهر هلالية، ثم بعشرة أيام من الشهر الخامس. ويتصور أن يموت في بعض الشهر ويحصل لها أربعة أشهر بالهلال، وهو أن يكون بقي من الشهر الأول عشرة أيامٍ فما دونها. مسألة: قَالَ: "وَلَيْسَ عَلَيْهَا أَنْ تَاتِي فِيهَا بِحَيْضٍ". الفصل: المتوفي عنها تعتد بأربعة أشهر وعشر حاضت فيها أم لم تحض. وقال مالك: إن كانت من ذوات الأقراء ولم تجر عدتها [ق 81 ب] بتأخير الحيض فلم تحض لا تنقضي عدتها حتى تحيض حيضةً؛ لأن ذلك يثبت ريبةً. وإذا كانت مرتابةً لم يحكم بانقضاء عدتها. وروي عن مالك أنه إن كانت عدتها أن تحيض في كل شهرٍ مرةً فعليها في عدة الوفاة أربع حيض، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل خمسة أشهر مرة يكفيها الشهور. وهذا غلط لظاهر الآية ولم يفصل. وأما ما ذكره لا يصح؛ لأن تأخير الحيض لا يكون ريبةً إلا أن يكون معه أمارة الحمل من انتفاخ البطن والثقل فلا يعتبر ما ذكره. قال الشافعي: "إِلَّا أَنَّهَا إِنْ ارْتَابَتْ اسْتَبْرَأَتْ نَفْسَهَا مِنَ الرِّيبَةَ كَمَا لَوْ حَاضَتْ فِي الشُّهُورِ حَيْضَتَيْنِ ثُمَّ ارْتَابَتْ اسْتَبْرَأَتْ نَفْسَهَا مِنَ الرِّيبَةَ". وقد ذكرنا حكم المرتابة بالحمل في العدة. وقوله: "كَمَا لَوْ حَاضَتْ فِي الشُّهُورِ حَيْضَتَيْنِ" لفظ مشكل؛ لأنه إن أراد أن يقيس المتوفي عنها زوجها على ذات الشهور، فذات الشهور هي التي تفقد الحيض فكيف تحيض في الشهور حيضتين؟ وإن أراد أن يقيسها على ذات الأقراء فالشهور غير معتبرة فيها، ولا تنقص عدة الأقراء قط ما لم تر الحيضة، ثم ربنا ترتاب بعد الثالثة، فلعل الشافعي قال: كما لو حاضت في القرء حيضتين ثم ارتابت، فنقل المزني: أو غير الشهور بدل القرء.

فإن قال قائل: كيف يستقيم وضع القرء في هذا الموضع موضع الشهور وقد قلت: لا تنقضي عدة ذات القرء إلا برؤية ثلاث حيض والشافعي ذكر حيضتين؟ قلنا: ذات القرء إذا طلقت في آخر طهرها فرأت حيضةً ثم طهرًا ثم حيضة انقضت عدتها بالطعن في الحيضة الثالثة، فليس في خلال عدتها إلا حيضتان، فأما الحيضة الثالثة فبعد العدة فربما ترتاب وهي في خلال [ق 82 أ] الحيضة الثالثة فنأمرها باستبراء نفسها من الريبة، ومن المحتمل أن يقال: استعمل الشافعي لفظ الشهور في ذوات القرء على معنى أن القرء يمضي عليها في ثلاثة أشهر على غالب عادات النساء فاستغنى عن التغليظ. فإن قيل: أفلا يحتمل أن يكون مراد الشافعي بذكر هذه الشهور شهور الوفاة على قصد تصوير المسألة في المتوفي عنها، وتقدير كلامه: "إلا أنها إن ارتابت استبرأت نفسها من الريبة" كأنها حاضت في الشهور الأربعة حيضتين ثم ارتابت. قلنا: قوله: "كما لو حاضت" كلمة قياس وتشبيه لا كلمة تصوير فلا يصح هذا. وأيضًا المتوفي عنها زوجها سواء رأت في الشهور الأربعة حيضتين أو ثلاثًا أو أربعًا، فإذا ارتابت بعد العدة كان عليها الاستبراء فلا فائدة لذكر الحيضتين على هذا التأويل. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ طَلَّقَهَا مَرِيضًا ثَلَاثًا فَمَاتَ مِنْ مَرَضِهِ". الفصل: قد ذكرنا ميراث المبتوتة في المرض، واختار المزني أنها لا ترث، وبسط الكلام ههنا فقال: "قَدْ قِيلَ: لَا تَرِثُ مَبْتُوتَةً وَهَذَا مِمَّا أَسْتَخِيرُ اللهُ تَعَالَى فِيهِ. وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَهَذَا قَوْلٌ يَصِحُّ لِمَنْ قَالَ بِهِ" قَالَ المُزَني: "فَالاسْتِخَارَةُ شَكٌ وَقَوْلُهُ يَصِحُّ إِبْطَال الشَّكِّ" فقال المزني: الاستخارة ليس بشكٍّ كما أطلقت، ولكن يريد بالاستخارة تفويض العلم إلى الله تعالى، ومسألة الخيرة منه. ثُمَّ قَالَ: "وَهَذَا أَوْلَى بِقَوْلِهِ وَبِمَعْنَى ظَاهِرِ القُرْآنِ؛ لأَنَّ اللهَ تَعَالَى وَرَّثَ الزَّوْجَةَ مِن زَوْجٍ يَرِثُها إِنْ مَاتَتْ قَبْلَهُ فَلَمَّا كَانَتْ إِنْ مَاتَتْ لَمْ يَرِثُهَا وَإِنْ مَاتَ لَمْ تَعْتَدَّ مِنْهُ عِدَّةُ مِنْ وَفَاتِهِ فَلَا تَرِثَ هِيَ مِنْهُ مِيرَاثُ الزَّوْجَاتِ؛ لأنَّ النَّاسَ يَرِثُونَ مَنْ حَيْثُ يُورَثُونَ". ثم قال: واحتج الشافعي على أبي حنيفة [ق 82 ب] في باب القافة حيث ورث أبو حنيفة أبوين من ابنٍ واحدٍ ملحق بهما جميع ماله على الشركة بينهما نصفين، وورث الابن جميع مال كل أبٍ على الخلوص إذا لم يكن له وارث غيره، فقال الشافعي: "إِنَّمَا يَرِثُ النَّاسُ مِنْ حَيْثُ يُورَثُونَ، فَإِنْ كَانَا يَرِثَانِهِ نِصْفَيْنِ بِالبُنُوَّةِ فَكَذَلِكَ يَرِثُهُمَا نِصْفَيْنِ بِالأَبُوَّةِ" فأخذ المزني هذا الاحتجاج من الشافعي واحتج به في هذه المسألة فقال: إِنَّمَا تَرِثُ

المَرْأَةُ الزَّوْجَ مِنْ حَيْثُ يَرِثُ الزَّوْجُ [المَرْأَةَ] بِمَعْنَى النِّكَاحِ، فَإِذا ارْتَفَعَ النِّكَاحُ بَإِجْمَاعِ ارْتَفَعَ حُكْمُهُ وَالمُوَارَثَةُ [بِهِ]، وَلَمَّا أَجْمَعُوا أَنَّهُ لَا يَرِثُهَا لأَنَّهُ لَيْسَ بِزَوْجٍ كَانَ كَذَلِكَ [أَيْضًا] لَا تَرِثُهُ لَأنَّهَا لَيْسَتْ بِزَوْجَةٍ". فإن قيل: فقد ورثها عثمان رضي الله عنه؟ قيل: وقد أنكر عليه عبد الرحمن بن عوف في حياته إن مات أن يورثها منه، ولم يرد أنه قال: لا يورثوها مني، وإنما روي أنه لما طلق امرأته تماضر، دخل عليه عثمان فقال: أفررت من كتاب الله تعالى؟ فقال عبد الرحمن: ما فررت من كتاب الله تعالى ولا من سُنَّةِ رسوله صلى الله عليه وسلم. فالمزني [أراد] أن يستنبط من هذا الكلام أنه أنكر عليه التوريث؛ لأن العلة فيه هي الفرار، ومن أنكر عليه الحكم فقد أنكر الحكم. ويمكن أن يُجاب عن كل ما ذكره بأنه يجوز أن تورث منه ولا يرث هو، كالعمة لا ترث من ابن الأخ، وابن الأخ يرث منها. وقول عبد الرحمن ليس بصريح في الإنكار فيحتمل أنه أراد: أني لم أفر فإن الإرث لها مني باقٍ. وقول ابن الزبير: "لو كنت أنا [لم] أر أن ترث مبتوتة" يحتمل أني ما كنت أهتدي إلى ما اهتدى إليه عثمان رضي الله عنه. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ طَلَّقَ [ق 83 أ] إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ ثَلَاثًا فَمَاتَ وَلَا تُعْرَفُ". الفصل: صورة المسألة أن يطلق إحدى امرأتيه بعينها ومات قبل أن يبينها، ولم يكن مضى من الأقراءِ شيءٌ وكانتا جميعًا مدخولًا بهما، وكانتا من ذوات الأقراء، وكان الطلاق بائنًا، يلزم على كل واحدة منهما أن تأتي بأقصى الأجلين من أربعة أشهر وعشر، ومن ثلاثة أقراء؛ لأن على البائن ثلاثة أقراء وعلى المتوفي عنها زوجها أربعة أشهر وعشرٌ، ولا يعلم ههنا عين المتوفي عنها من البائن، فأوجبنا الأقصى منهما احتياطًا وإن كان قد مضى فيما يجب أربعة أشهر وعشر وقرءان، وإن كان قد مضى قرءان يجب أربعة أشهر وعشر وقرء، فإذا أتت بذلك فقد حلت بيقين. هكذا ذكره جميع أصحابنا. وقال صاحب "المنهاج": إذا أسلم المشرك عن عشرة نسوةٍ وأسلمت معه ومات قبل اختيار أربع، أوجبنا على كل واحدةٍ منهن أربعة أشهر وعشرًا فيها ثلاثة قروءٍ، فالأشهر للوفاة والقرء للفسخ الواقع بالإسلام. ثم اختلف أصحابنا في تأريخ أول القروء الثلاثة، فمنهم من قال: يحسب القرء من وقت إسلام متقدم الإسلام من الزوج والزوجة، لأن الفسخ يقع من ذلك الوقت، فعلى هذا في مسألتنا يحسب القروء الثلاثة من وقت الطلاق

باب مقام المطلقة في بيتها

على ما ذكرنا. والثاني: أن القروء الثلاثة هناك محسوبة من وقت الموت؛ لأنهما كانا يشبهان الزوجين إلى وقت موته. وللشافعي في هذا الموضع نص يدل على أن القروء الثلاثة يجب أن تحسب في مسألة المشرك من وقت الموت؛ لأنه قال: {وَلَوْ طَلَّقَ إِحْدَى امْرَأَتَيْهِ ثَلَاثًا فَمَاتَ وَلَا تُعْرَفُ اعْتَدَّنَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا تُكَمِّلُ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا فِيهَا ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [ق 83 ب] فقوله: "فيها": دليل على أن جميع القرء ينبغي أن يكون بعد الموت في الأربعة الأشهر، وإن وجدت فيها، وإن طال أقراءها اعتدت بأقصى الأجلين، ومثل هذا إذا فرق في النكاح الفاسد بينهما بعد الوطء هل يحسب القرء من وقت التفريق أو من آخر وطئة كانت؟ فيه وجهان. وإن كانت إحداهما مدخولًا بها والأخرى غير مدخول بها وجبت على غير المدخول بها أربعة أشهر وعشرٌ فقط، وعلى المدخول بها أربعة أشهر وعشر وثلاثة أقراء على ما بيَّناه. وإن كانتا غير مدخول بهما وجبت على كل واحدة منهما أربعة أشهر وعشر فقط؛ لأن المطلقة قبل الدخول لا عدة عليها، فإذا أتت بالشهور فقد حلت بيقين، وإن كان الطلاق رجعيًا وجب على كل واحدةٍ أربعة أشهر وعشرٌ؛ لأن الرجية تنتقل إلى عدة الوفاة فكانتا سواء، وإن لم يكونا من ذوات الأقراء، فإن كانتا من ذوات الشهور وجب على كل واحدة أربعة أشهرٍ وعشر؛ لأن المطلقة لم يجب عليها إلا ثلاثة أشهر، فإذا أتت بأربعة أشهر فقد حلت بيقين. وإن كانتا حاملتين حلتا بالوضع، هذا إذا كان الطلاق معينًا ولم يتبين في إحداهما حتى مات. فأما إذا كان الطلاق مرسلًا في إحداهما بعينها فقد ذكرنا فيما تقدم أن المذهب الصحيح أنه يقع الطلاق من حين اللفظ. ومن أصحابنا من قال: يقع من حين التعين. فإن قلنا: من حين اللفظ كان حكم العلة على ما بيَّناه في المعينة. وإن قلنا: من حين التبين، فإذا مات قبل التعين فكأنه مات قبل أن يطلق، فيجب على كل واحدة منهما عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرٌ. وهكذا ذكر بعض أصحابنا. وقال بعضهم: يلزم ههنا أقصى الأجلين أيضًا [ق 84 أ] ولكن ابتداء الأقراء من حين الموت؛ لأن الموت الإياس من بيانه ولا يمكن إسقاط حكم الطلاق الموجود بموته. وهذا هو المشهور على هذا الوجه. باب مقام المطلقة في بيتها مسألة: قَالَ: قال الله تعالى في المطلقات: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1]

إلى قوله: {بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم لفريعة بنت مالك حين أخبرته أن زوجها قتل وأنه لم يتركها في مسكن يملكه: "امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله". المطلقة مطلقتان؛ رجعية، وبائن. فالرجعية تستحق السكنى والنفقة؛ لأنها في معاني الزوجات إلى أن النفقة حق لها إن اتفقا على إسقاطه سقطت، والسُّكنى حق الله تعالى إن اتفقا على إسقاطه لم يسقط. وأما البائن فلا نفقة لها إلا أن تكون حاملًا ويلزم السكنى لها. وبه قال ابن عمر، وابن عباس، وجابر، وعائشة، وسعيد بن المسيب، وسليمان بن يسار، والفقهاء السبعة، ومالك، والأوزاعي، وابن أبي ليلى، والليث بن سعد رضي الله عنهم. وروي عن ابن عباس، والحسن، والشعبي، وعطاء، والزهري، وأحمد، وإسحاق: أنه لا نفقة لها ولا سكنى. وروى أبو سليمان الخطابي عن أحمد مثل قولنا، واحتجوا بما روت فاطمة بنت قيس أن زوجها طلقها ثلاثًا فلم يجعل لها رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى. وقال أبو حنيفة والثوري: لها النفقة والسكنى. وروي ذلك عن عمر، وابن مسعود، وشريح رضي الله عنهم، واحتجوا بأنها مطلقة تستحق السكنى فاستحقت النفقة كالرجعية. وهذا غلط؛ لأن الله تعالى قال: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] [ق 84 ب] {وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَاتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]، وقال أيضًا: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] إلى قوله: {وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6]، فأوجب السكنى على الإطلاق، وخصَّ بالنفقة الحوامل، فكان ذلك حجة على الفريقين وأما خبر فاطمة بنت قيس: قلنا: لا حجة فيه؛ لأنه روى أنه أوجب لها السكنى فبذت على أحمائها فأمرها أن تنتقل إلى بيت ابن أم مكتومٍ، وتمام الخبر ما روى أبو سلمة بن عبد الرحمن عن فاطمة بينت قيس: أن أبا عمرو بن حفص بن المغيرة طلقها البتة وهو غائب بالشام، فأرسل إليها وكيله بشعير فسخطته، فقال: والله مالك علينا من شيء، فجاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت له، فقال لها: "ليس لك عليه نفقة" وأمرها أن تعتد في بيت أم شريك، ثم قال: "تلك امرأة يغشاها أصحابي، فاعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك، فإذا حالت فأذنيني". قالت: فلما حللت ذكرتُ له أن معاوية وأبا جهم خطباني ... الخبر إلى آخره. ومعنى البتة ههنا: الثلاث. وروى أنها تطليقةٍ

بقيت لها من ثلاث. واعلم أن نقل النبي صلى الله عليه وسلم إياها من بيت أحمائها إلى بيت ابن أم مكتوم ليس بإبطال السكنى، بل فيه إثبات السكنى وإنما هو إخبار لموضع السكنى. وقد اختلفوا في سبب ذلك فقالت عائشة رضي الله عنها: كانت فاطمة في مكان وحش فخيف عليها، فرخص لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الانتقال. وقال سعيد بن المسيب: إنها انتقلت عن بيت أحمائها لطول لسانها. وروي عن عمرو بن ميمون، عن أبيه أنه قال: قلت لسعيد بن المسيب: أين تعتد المطلقة ثلاثًا؟ قال: تعتد في بيتها. قلت: أليس أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم [ق 85 أ] أن تعتد [فاطمة بنت قيس في بيت ابن أم مكتوم، قال: تلك المرأة التي فتنت الناس، إنها استطالت على أحمائها بلسانها، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تعتد] في بيت ابن أم مكتوم، وكان رجُلًا مكفوف البصر. وهو معنى قوله: {وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَاتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]. وقال ابن عباسٍ: الفاحشة أن تبذو على أهل زوجها، فإذا بذت فقد حل إخراجها. وقال ابن مسعود والحسن البصري: الفاحشة أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها. والأول أصح؛ لأن ظاهرة إخراج لا تُرد بعده إلى ذلك البيت، وإنما تخرج للحد ساعة من نهارٍ، ولها أن تخرج بالنهار لبعض الحوائج من غير فاحشةٍ مبينة. وروي أن يحيى بن سعيد بن العاص طلق ابنة عبد الرحمن بن الحكم البتة، فانتقلها عبد الرحمن بن الحكم، فأرسلت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها إلى مروان بن الحكم -وهو أمير المدينة- فقالت: اتق الله ورد المرأة إلى بيتها. فقال مروان: أو ما بلغك شأن فاطمة بنت قيس، فقالت عائشة: لا يضرك أن لا تذكر حديث فاطمة، فقال مروان: فإن [كان] بك الشر فحسبك ما بين هذين من الشر، يعني إن كنت تزعمين أن فاطمة أخرجت من بيت زوجها مخافة الشر من البذاء فحسبك ما بين هذا الزوج المطلق وهذه الزوجة من البذاء. فثبت بالسنة. وتفسير ابن عباس، وقصة عائشة ومروان أن المطلقة لا تخرج من منزل الطلاق إلا للبذاءة. وكره لها ابن المسيب وغيره أنها كتمت السبب الذي أمرها صلى الله عليه وسلم أن تعتد في غير بيت زوجها خوفًا أن يسمع ذلك سامع فيرى للمبتوتة أن تعتد حيث شاءت. وقد قال الشافعي: "فَلَمْ يَقُلْ لَهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم اعْتَدِّي حَيْثُ شِئْتِ، بَلْ خَصَّهَا إِذْ كَانَ زَوْجُهَا غَائِبًا"

وهذا يدل على أن البذيئة إذا خرجت من بيت زوجها للبذاءة [ق 85 ب] لا يجوز أن تكون بسببه تعتد حيث تشاء ولكن الحاكم يحضها بالاجتهاد وعند من يرى، كما حصَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاطمة بنت قيس. ثم اعلم أن الشافعي ذكر أولًا هذه الآية وهي واردة في المطلقات، ثم ذكر خبر فريعة في المتوفي عنها زوجها، ثم قال: "فدلت الآية على سكنى الطلاق، ودلت السنة على سكنى الوفاة". وتمام خبر فريعة ما روي عن زينب بنت كعب عن فريعة بنت مالك -أخت أبي سعيد الخدري- قالت: خرج زوجي في طلب أعبد له أبقوا، فأدركهم بطرف القدوم فقتلوه، فأتاني نعيه وأنا في دار شاسعة من دور أهلي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أتاني نعي زوجي وأنا في دارٍ شاسعة من دور أهلي ولم يدع لي نفقة ولا مالًا، وليس له مسكن لي، فلو تحولت إلى إخوتي وأهلي كان أرفق لي في بعض شأني، فقال: "تحول"، فلما خرجت إلى المسجد -أو الحجرة- دعاني -أو أمرني- فدعيت له فقال: "امكثي في البيت الذي أتاك فيه نعي زوجك حتى يبلغ الكتاب أجله"، فاعتدت فيه أربعة أشهر وعشرًا، قالت: فأرسل إليَّ عثمان بن عفان فأتيته فحدثته، فأخذ به. فمن أصحابنا من قال: نسخ قوله الآخر قوله الأول فحكم لها أولًا بالرجوع إلى بيت أهلها، ثم نسخه بإيجاب السكنى لها في قوله: "امكثي في بيتك" يعني في البيت الذي كنت فيه عند الموت، فأوجب لها السكنى. وهذا دليل على جواز نسخ الشيء قبل أن يُفعل. ومن أصحابنا من قال: اختار القول الآخر أنه لا سُكنى للمتوفي عنها، وقال: هذا ليس بنسخ، بل صرح أولًا بالحكم أن لا سكنى لها، ثم ندب إلى أن تمكث في بيتها الأول، وندب أهل الميت أن يتركوها في للاعتداد. فإذا تقرر هذا لا فرق [ق 86 أ] بين أن تكون مسلمة أو ذمية؛ لأن حقوقه الذمية في النكاح كحقوق المسلمة، وأما الأمة فحكمها في العدة حكمها في النكاح لا يلزم سيدها أن يسلمها نهارًا وله حق الاستخدام عليها، فإن رفع السيد استخدامها لم يمنع نهارًا في زمان الاستخدام، ولا سكنى لها؛ لأنه لما لم يمنع مع بقاء النكاح منها فلأن لا يمنع زواله أولى. ثم للزوج أن يحضها ليلًا إن شاء، وهل يؤخذ به جبرًا؟ وجهان. فإن قيل: فإذا كان له ذلك فقد صارت السكنى واجبة، والسكنى الواجبة في العدة لا تسقط بتراضيهما. قلنا: ليست بواجبة على الزوج وإنما له حق متعلق باستبرائها وحفظها، فلهذا كان له إسكانها ليلًا والسكنى الواجبة لا تسقط بالإسقاط وههنا لم تجب أصلًا فلا يقال سقط. واعلم أن في بعض نسخ المزني: "ولأهل الذمة أن ينقلوها من مسكن زوجها" وهذا

تصحيف من الأمة إلى الذمة. مسألة: قَالَ: "فَإِذَا طَلَّقَهَا فَلَهَا السُّكْنَى فِي مَنْزِلِهِ حَتَّى تَنْقَضِي عِدَّتُهَا يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ أَوْ لَا يَمْلِكُهَا". يحب على المعتدة أن تسكن في الموضع الذي كانت تسكنه قبل الطلاق لقوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَاتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1]، والمراد بإضافة البيوت إليهن السُّكنى دون الملك، بدليل أنه خص المطلقة بذلك، وإذا كان البيت لها لم تختص المطلقة بتحريم إخراجها، وبدليل أنه قال: {إِلاَّ أَن يَاتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] ولو أراد ملكها لم تخرج بالفاحشة. فإذا ثبت هذا لا يجوز له أن ينقلها عنه ولا يجوز أن تنتقل منه لظاهر الآية؛ لأن هذه السكنى تجب للعدة، والعدة [ق 86 ب] حق الله تعالى فلم يجز لهما التراضي على إبطال حق الله تعالى، ويجوز النقل والانتقال في ثلاثة أحوالٍ: أحدها: أن يكون المنزل عارية فيرجع المعير في العارية، أو كان بكراء فانقضت مدة الإجارة وطالب صاحبه بالانتقال. والثانية: أن يكون المنزل للزوج ولكنه انهدم أو خيف انهدامه وهو غير حصين، أو جيرانها فسقة فيخاف عليها. والثالثة: أن تأتي بفاحشةٍ مبينةٍ، وذلك عند الشافعي ما ذكره ابن عباس من البذاءة، على أهل زوجها. فإن قيل: حقيقة الفاحشة الزنى لقوله تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ} [النساء: 25]، وأراد به الزنى قيل: الفاحشة اسم الزنى وللأقوال الفاحشة، ولهذا يقال: أفحش فلان في مقالته. فإذا تقرر هذا وأراد نقلها عند البذاءة على أهل زوجها ينقلها إلى أقرب المنزل إلى منزله الذي طلقها فيه، كما إذا عدم الفقراء في بلد المالي ينقل الصدقة إلى أقرب المواضع من البلد، وإنما يتصور هذا في دارٍ تجمعهم، فإن كانت دارًا لا تسعهم يلزمهم أن ينتقلوا دونها، فإن انتقلوا عنها فبذأت بلسانها عليهم لم تنقل؛ لأن ذلك يمكنها في كل موضع تنتقل إليه، وتُنهى عن ذلك وتعزر، فإن بذت أحماؤها عليها ولم يكن من جهة شرٍّ نقلوا ولم تنتقل هي؛ لأن سكناها مستحقة لها، ولم يكن منها ما يفتح نقلها منه، وإن كانت في منزل أبويها فبذت عليها أو بذا أبويها عليها، ولم ينقل واحدٌ منهم؛ لأن الشر يطول منهم كما يطول منها ومن أحمائها، وإن كانت معها في بيت أبويها أحماءها فبذت

عليهم أبو بذوا عليها نقلوا ولم تنقل هي؛ لأنها أحق بسكنى منزل [ق 87 أ] أبويها من أحمائها، وإن كانت في دارٍ أخرى لم تنقل إذا بذت عليهم، وإنما ذلك إذا كانوا في دارٍ واحدة على ما ذكرنا وإن كانت في دارٍ تملكها، فإن أقامت فيها بإجارة منه أو إعارةٍ جاز، وإن طلبت أن يسكنها في غيرها لزمه؛ لأنه ليس عليها أن يؤجر ملكها. مسألة: قَالَ: "فَإِنْ كَانَ بِكَرَاءٍ فَهُوَ عَلَى المُطَلَّقَ وَفِي مَالِ الزَّوْجِ المَيِّتِ". السكنى إذا وجبت على المطلق وكانت في منزل بكراءٍ، يجب الكراء على المطلق بلا إشكالٍ. وقوله: "وَفِي مَالِ الزَّوْجِ المَيِّتِ" قال بعض أصحابنا: أجاب بقوله للمتوفي عنها زوجها السكنى، وحمله المزني على هذا ثم اعترض عليه فقال: هذا خلاف قوله في "باب عدة الوفاة" فإن كلامه هناك يدل على أنه لا سكنى لها على ما ذكر، والعجب من المزني حيث قال: في باب عدة الوفاء: "هذا خلاف قوله في الباب الثاني" ثم لما جاء إلى الباب الثاني كرر الكلام فقال: "هذا خلاف قوله في باب عدة الوفاة، ولا فائدة في هذا، فإن له في المسألة قولين مشهورين. ومن أصحابنا من قال: معنى قوله: "وَفِي مَالِ الزَّوْجِ المَيَّتِ" غير ما اعتقده المزني وإنما معناه أن الزوج المطلق إذا مات قبل انقضاء عدة الطلاق الثلاث فمكنا بالتمام عدتها في مال الزوج الميت، فنقول للمزني: الشافعي لم يتعرض في باب عدة الوفاة لذكر السكنى عند الوفاة ولا في هذا الفصل، وقد نسبه إلى اختلاف القول وتناقضه في هذين البابين، وإنما ذكر الشافعي القولين في سكنى الوفاة بعد هذا حيث قال: "وإن كانت هذه المسائل في موته ففيها قولان" [ق 87 ب] وهذا يدل على أن ما قبله في المطلقة، وهذا ضعيف لأنه قال هناك: ففيها قولان، أحدهما: ما وصفت، فدل أنه أوجب السكنى للمتوفي عنها فلا يحسن أن يحمل على المطلقة. مسألة: قَالَ: "وَلِزَوْجِهَا إِذَا تَرَكَهَا فِيمَا يَسَعُهَا مِنَ المَسْكَنِ وَسَتَرَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا أَنْ يَسْكُنَ فِي سِوَى مَا يَسَعُهَا". إذا أوجبنا السكنى فإنما تجب سكنى مثلها في العرف، فإن كانت من أهل الأقدار رفيعة الحال كثيرة المال والخدام، أسكنها دارًا واسعة حسناء وإن كانت من أوساط الناس متوسطة الحال في المال والخدام، أسكنها دارًا متوسطةٍ. وإن كانت من أراذل الناس دنيئة دميمة، أسكنها دارًا ضيقة في طرف البلد أو في الخان، وهذا لأن الله تعالى

أوجب السكنى مطلقًا، ولا حَدَّ له في اللغة ولا في الشريعة، فيرجع فيه إلى العرف والعادة كالأحراز والقبوض. وإنما ينظر إلى سكنى مثلها حين الطلاق ولا ينظر إلى سَكنها حال الزوجية؛ لأن الزوج قد يتطوع بأكثر من سكنى مثلها، فإن كانت ساكنةً في سكنى مثلها أقرب فيه، وإن كانت في أدون منها فإن رضيت بالمقام فيه جاز؛ وإن طلبت سكنى مثلها لزم أن يسكنها إلى أقرب المواضع إليه مما هو سكنى مثلها، أو يزيد فيه من بيتٍ آخر بجنبها. وإن كانت في أرفع فإن رضي الزوج به جاز، وإن لم يرض لا يجوز نقلها منه بلا سبب، وإن اتفقنا على النقلةُ لم يجز أيضًا لما ذكرنا. وهل يجوز أن يسكن معها أو يلزمه أن ينتقل منها؟ يُنظر فإن كانت الدار كبيرة يمكنه أن يقطعها حجرتين يغلق كل واحدة بغلق منفرد، فتكون في إحداها وهو يكون [ق 77 أ] في الأخرى، وإذا فعل ذلك وسعتها وتنفرد بمرافقها من البئر والمطبخ والرقي إلى السطح، ومثلها يسكنها في العادة جاز ذلك، وإلا فلا يجوز ويلزمه أن ينتقل منها حتى تنقضي عدتها. وإن كان في الدار بيتان ولا يمكن قطعها حجرتين، فأراد أن يسكن هو في بيتٍ وهي في بيت آخر لم يجز، وإن كان على كل واحدٍ من البيتين باب يُغلق؛ لأن في المدخل والمخرج من باب الدار يحصل بينهما خلوة. قال الشافعي: "إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ بَالِغٌ مِنَ الرِّجَالِ". وقال بعض أصحابنا: "أو نساء ثقات". وقال أبو حامدٍ: اعتبر الشافعي بلوغ المحرم، وعندي إذا كان صبيًا مراهقًا جلدًا يتحفظ به جاز أيضًا؛ لأن الغرض أن لا يخلو الرجل بالمرأة الأجنبية. وقيل: شرط الشافعي أن يكون من الرجال، وبالنساء لا يقع الحاجز عن قصد الفجور فلا يكتفي بالنساء. وقال القاضي الطبري: الأمر على ما قال الشافعي، ولا يجوز إلا أن يكون بالغًا؛ لأن غير البالغ ليس بمكلف فلا يلزمه الإنكار للفاحشة. قال الشافعي: "ويكره ذلك مع هذا"؛ لأنه لا يمكن التحرز من النظر إلى الأجنبية وإن جاز على ما ذكرنا. وقيل: إن الشافعي قال: "محرم ونساء ثقات" ولا شك أن هذا للاستحباب. ولو كانا في بيتين من الخان فطلقها فانتقل الزوج إلى بيت بجنبها جاز، ويخالف بيتين في الدار؛ لأن الخلوة لا تحصل بينهما في بيتين من خان وتحصل في بيتين من دارٍ. وكل موضع أجزنى للمطلق أن يسكن مع المطلقة أجزنى للأجنبي أن يسكن [ق 88 ب] معها، وما لا يجوز للمطلق لا يجوز للأجنبي. ثم اعلم أن المزني قدم ههنا مسألة وجوب سكنى الوفاة وأردفها بالكلام في كيفية

المسكن. ثم اعترض على مسألة وجوب السكنى على مسألة كيفية المكسن، فصار سواد الكتاب مشكلًا ملتبسًا، وكان ينبغي أن يعطف على قوله: "أَنْ يَسْكُنَ فِي سِوَى [مَا] يَسَعُهَا" حكايته عن كتاب "النكاح والطلاق": "لَا يُغْلَقُ عَلَيْهِ وَعَلَيْهَا حُجْرَةٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ". الفصل: ويعطف اعتراضه في مسألة السكنى حيث قال الشافعي: "وَفِي مَالِ الزَّوْجِ المَيِّتِ". حتى يظهر المقصود ويرتفع الإشكال. مسألة: قَالَ: "وَإِنْ كَانَ عَلَى زَوْجِهَا دَيْنٌ لَمْ يَبعْ مَسْكَنَهَا حَتَّى تَنْقَضِي عَدَّتُهَا". الفصل: إذا أراد الحاكم بيع هذه الدار بالدَّين، أو أراد الزوج بيعها وعليه دَين قبل الحجر، أو لا دَين عليه فأراد بيعها نُظر، فإن كانت عدتها بالحمل أو بالأٌقراء لم يصح البيع قولًا واحدًا. ولو باع الدار المؤجرة هل يصح البيع؟ قولان. والفرق بينهما أن زمان العدة مجهول فلم يصح البيع، وليس كذلك المنفعة المستحقة في مدة الإجارة؛ لأنها معلومة فلم يضر استحقاقها، وإن كانت عدتها بالشهور من أصحابنا من قال: فيه قولان كبيع الدار المؤجرة، لأن المدة معلومة، وهو اختيار الماسرجسي. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز ههنا قولًا واحدًا، وهو اختيار صاحب "الإفصاح". والفرق أن المرأة لو ماتت في العدة رجعت المنفعة إلى زوجها؛ لأنها لم تدخل في البيع فيصير كأنه باعها واستثنى لنفسه تلك المنفعة ولا يجوز ذلك، وليس كذلك بيع المستأجر، فإن المستأجر إذا مات [ق 89 أ] رجعت المنفعة إلى ورثته ولم ترجع إلى المؤاجر الذي باعها، وإن كان الذي باعها وارثًا رجعت المنفعة إليه إرثًا ولم ينفسخ عقد الإجارة، وفي المعتدة ترجع المنفعة إلى الزوج ويبطل استحقاقها، فلهذا فرقنا. أو نقول: هذه المنفعة بملكٍ للمرأة وإنما تبلغها على ملك الزوج؛ لأنها تملك استيفائها بنفسها خاصةً. ويجوز أن يسكنها في دارٍ مستعارة وإن كانت لا تملك منافعها، فلا يجوز أن تملك رقبة الدار من جهته، ويكون مستثنيًا لمنفعة يملكها. وقال ابن أبي هريرة: إنما اختلف أصحابنا إذا كانت عدتها بالشهور وهي صغيرة لا يحيض مثلها، أو آيسة. فأما إذا كان لها تسع سنين فأكثر ومثلها يحيض إلا أنها لم تحض فلا يجوز بيع الدار التي استحق سُكناها قولًا واحدًا؛ لأنَّا لا نأمن أن تحيض قبل

انقضاء الشهور، فتحتاج أن تنتقل إلى العدة بالأقراء فتصير المدة مجهولة، وليس هذا التفصيل لغير. ويلزمه على هذا أن يقول: إذا طلقها طلقةً وهي صغيرة لا يحيض مثلها أو آيسة لا يجوز بيع الدار قولًا واحدًا؛ لأنَّا لا نأمن من أن يموت زوجها فتحتاج أن تنتقل إلى عدة الوفاة فتزيد المدة. هذا كله إذا طلقها قبل أن يحجر الحاكم عليه. فأما إذا حجر الحاكم عليه ثم طلقها، فإن حقوق الغرماء قد تعلقت بعين ماله، فإذا طلقها تعلق حق سكناها بالدار فيباع ماله مع الدار، ثم يسقط ما يحصل من ثمنه على قدر ديونهم، وقدر أجرة السكنى والتي يستحقها ويكتري لها به في أقرب المواضع إليه موضعًا يسكنه حتى تنقضي عدتها. فإن نقص عن حقها كان ما بقي في ذمته تتبعه إذا أيسر. [ق 89 ب] فإذا قيل: إذا تعلقت حقوق الغرماء بماله ثم استدان لم يشاركهم الغريم الثاني، فذلك أن لا تشاركهم المرأة. [قلنا:] لأن حقهم أسبق قبل الدين ثبت للثاني بمعنى بعد الحجر فلم يشاركهم فيه، وليس كذلك المعتدة، فأنها استحقته بمعنى سبق الحجر وهو النكاح فافترقا. وأيضًا المجني عليه يشارك الغرماء وإن كان متأخرًا؛ لأنه ثبت حقه بغير رضاه، فكذلك حق السكنى ثبت بالطلاق من غير رضاها فوجب أن تشاركهم. فإن قيل: السكنى تجب يومًا فيومًا فكيف ضربتم لها بأجرة جميعها؟ قيل: لأنَّا نقول: بل السكنى كلها واجبة بالطلاق بخلاف السكنى في النكاح في أصل القولين؛ لأنه يقدر على إسقاط السكنى بالطلاق ولا يقدر على إسقاط هذه السكنى بحالٍ. فرع: قال القاضي الطبري: قال أبو إسحاق في شرح نص الشافعي: على أن قسمة الدار التي فيها السكنى لا تجوز كما لا يجوز البيع. وصورته في امرأة وجب لها السكنى ثم مات الزوج وخلف ابنتين فالدار لهما والسكنى لها حتى تنقضي العدة، فأراد قسمة الدار قبل انقضاء العدة، وهذا إذا قلنا القسمة بيع، فأما إذا قلنا القسمة إفراز النصيبين هل تصح القسمة؟ وجهان: أحدهما: لا تصح كما لا تصح قسمة الدار المؤاجرة. والثاني: تصح لأن المرأة لا ضرر عليها في قسمة الدار، فإنها إذا تلفت بعد القسمة طالبت بدينها سائر الورثة كما يكون لها قبل القسمة. وليس كذلك الدار المؤاجرة، فإنها إذا قسمت ثم انهدمت لم يكن للمستأجر أن يطالب كل واحدٍ منهما إلا بحصته، وربما انهدم نصيب أحدهما وكان مفلسًا، فيؤدي إلى الإضرار به، فلهذا لم تصح قسمة الدر المؤاجرة على القولين معًا. واختار أبو إسحاق [ق 90 أ] أنه لا يجوز قسمتها على القولين، وعلل بأنها قد استحقت السكنى فيها على صفة فلا يمكن تغيرها، كما لو آجر دارًا من رجلين ثم أراد قسمتها لم يجز، ولكن لو أراد القسمة من غير تمييز بحاجزٍ جاز؛ لأنه لا ضرر عليها بذلك. واعلم أن في سواد المختصر إشكالًا، وذلك أنه قال: "وَإِنْ كَانَ عَلَى زَوْجِهَا دَيْنٌ

لَمْ يَبعْ مَسْكَنَهَا حَتَّى تَنْقَضِي عِدَّتُهَا، وَذَلِكَ أَنَّهَا مَلَكَتْ عَلَيْهِ سُكْنَى مَا يَكْفِيهَا حِينَ طَلَّقَهَا كَمَا يَمْلِكُ مَنْ يَكْتَرِي". فقاس هذه الدار التي فيها المعتدة على الدار المكتراة، فأوهم أن المسألتين على سواءٍ وليستا على سواءٍ في جميع الحالات، وإنما يستويان في بعض الحالات إذا كانت عدتها بالشهور على ما ذكرنا. فأما إذا كانت عدتها بالأقراء فلا يجوز بيعها قولًا واحدًا على ما ذكرنا. ويحتمل أن يكون الشافعي قصد حالتي العدة حيث يعلم المدة وحيث لا يعلم، ولكن أجاب في الإجارة على قول المنع، فقاس العدة على الإجارة على قصد الترجيح مع القياس، ووجه الترجيح ما أشرنا إليه أن البيع إذا كان باطلًا والمدة معلومة فهو بالبطلان أولى إذا كانت المدة مجهولة. مسألة: قَالَ: "فَإِنْ كَانَ فِي مَنْزِلٍ لَا يَمْلِكُهُ وَلَمْ يَكْتَرِهْ فَلأَهْلِهِ إِخْرَاجُهَا وَعَلَيْهِ غَيْرُهُ، إِلَّا أَنْ يُفْلِسَ فَتَضْرِبُ مَعَ الغُرَمَاءِ بِأَقَلِّ قيمَةِ سُكْنَاهَا وَتَتْبَعُهُ بِفَضْلِهِ مَتَّى أَيْسَرَ". أراد به أنها إذا كانت في دارٍ استعارها زوجها كان للمعير إخراجها منها؛ لأن العارية ليست بلازمةٍ. قال الشافعي: "وعليه جبره" يعني إذا أخرجت من الدار المستعارة فعلى الزوج منزل غيره؛ لأنها تستحق السكنى عليه، فعليه أن يسكنها في أقرب المواضع إلى الدار التي كانت تسكنها [ق 90 ب]. فإن قال قائل: الدار التي كانت فريعة بنت مالك تسكنها لم تكن لزوجها، فَلِمَ أَمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاعتداد في تلك الدار؟ قلنا: إنما أمرها بذلك لعلمه بعادة أهل المدينة، فإنهم كانوا لا يعرفون يومئذٍ كراء الدار، بل كانوا يسمحون بسكنى منازلهم، وبفضول أموالهم. وهذا الجواب الذي ذكرنا جواب الشافعي، غير أنه ذكره في هذا الباب حيث قال: "لا نعلم أحدًا ممكن مضى بالمدينة أكرى منزلًا". ومن قرأ كلامه هذا في آخر الباب ظن أن ذلك الكلام غير مقيد، ولم يعلم أنه راجعٌ إلى هذه المسألة المذكورة في وسط الكلام. فإن قيل: أليس إذا أعار بُقعة للبناء عليها أو جدارًا لوضع الجذع كانت تلك العارية لازمة، فهلا جعلتم هذه العارية لازمة كيلا تحتاج المعتدة إلى الخروج عن منزلها؟ قلنا: لا مشقة ولا ضرر في انتقال المعتدة، وفي نقل البناء والجذوع فساد وهدم وضررٌ،

وإنما قوله: "إِلَّا أَنْ يُفْلِسَ فَيَضْرِبَ مَعَ الغُرَمَاءِ بَأَقَلِّ قِيمَةِ سُكْنَاهَا": قال أصحابنا: معناه أن عدتها إن كانت بالأقراء وكانت لها عادة في الحيض والطهر حملت على عادتها، وضربت مع الغرماء بأجرة السكنى في زمان عادتها على مقدار ما تقتضيه عادتها، وإن لم تكن لها عادة ضربت بأقل ما يكون من الحيض والطهر، وهو أن يُحسب الحيض يومًا واحدًا والطهر خمسة عشر يومًا، فيكون اثنان وثلاثون يومًا وساعة، وإن كانت عادتها بالحمل فإن كانت عادتها في الولادة حملت على عادتها. [ق 91 أ] وإن لم يكن لها عادة في الولادة حملت على الأقل، وذلك ستة أشهر. وإن كانت عادتها بالأشهر فهي معلومة ضربت أجرة ثلاثة أشهر لا تنقص منها. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا لم يكن لها عادة في الولادة حملت على الغالب وهو تسعة أشهر، وهو اختيار صاحب "الحاوي". قال: وكذلك في الأقراء تضارب في الغالب من مدة الأقراء وهي ثلاثة أشهر لا بأقل ما يكون. والدليل على صحة هذا أنها لو كانت معتادة حملت على عادتها مع جواز النقصان، ولم تحمل على اليقين في الأقل، ففي غير المعتادة تحمل على الغالب من عادة غيرها ولا تحمل على اليقين في النقصان. قال أصحابنا: فإذا ضربت بذلك ثم نقصت عدتها عما أخذته ردت الفضل وقسم بينهم على قدر حقوقهم. وإن زادت ذلك قال القاضي الطبري: نص الشافعي أنها تتبعه بالزيادة، وإذا أيسر بخلاف الغريم إذا أحدث؛ لأنها ضربت بهذا القدر مع العلم بجواز الزيادة عليه فيخالف الغريم الذي لم يعلم به. وأيضًا حق الغريم لم يتحدد بعد القسمة والزيادة ههنا تحددت بعد القسمة فلم يشارك الغرماء المتقدمين. ومن أصحابنا من خرَّج فيه وجهًا آخر أنها تدخل على الغرماء فتأخذ من كل منهم بحصته كما ظهر غريم آخر. وهذا أقيس؛ لأنَّا نبين استحقاقها في الأول حين طالت العدة فصار كظهور الدين. ومن أصحابنا من ذكر وجهًا ثالثًا وهو إن كانت الزيادة في الحمل رجعت بها على الغرماء، وإن كانت في مدة الأقراء لم ترجع بها عليهم؛ لأن وضع الحمل مشاهد يمكن أن تقوم به بينة، وهذه الأقراء مضنونة لا تقوم بها بينة، ويرجع إلى قولها في حق الزوج دون غيره [ق 81 ب] وهذا ضعيف. ومن أصحابنا من حكي عن أبي إسحاق أنه قال: لا حق لها أصلًا في الزيادة؛ لأنَّا دفعنا إليه ذلك القدر مع علمنا قد يستحق زيادة عليه. وهذا لا يصح عنه، والصحيح أنه اختار ما نص الشافعي عليه. وأما قول الشافعي: "تَضْرَبُ مَعَ الغُرَمَاءِ بَأَقَلِّ قِيمَةِ سُكْنَاهَا": أراد بذكر الأقل اختلاف أجرة المساكن لا مدة العدة، وذلك أنها لا تجد مسكنًا واسعًا كل شهر بدينارٍ في

محلةٍ عزيزة المساكن، وتجد بنصف دينار أو سدس دينار مسكنًا يكفيها في محلةٍ أخرى حصينة، فلا تضرب إلا بالأٌقل. مسألة: قَالَ: "وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ المَسَائِلُ فِي مَوْتِهِ فَفِيهَا قَوْلَانِ". الفصل: أراد به أن في وجوب السكنى للمتوفي عنها قولان: أحدهما: لها السكنى. وبه قال عمر، وعثمان، وابن عمر، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وأم سلمة، ومالك، والثوري، وأحمد رضي الله عنهم وهو الأظهر. والدليل عليه الخبر الذي ذكرنا. وروي عن القاسم بن محمد أن عائشة رضي الله عنها، كانت تخرج المرأة وهي في عدتها من وفاة زوجها. [قال:] فأبي ذلك الناس إلا خلافها فلا نأخذ بقولها وندع قول الناس. والقول الثاني: أن لا سكنى لها. وهو اختيار المزني، وبه قال علي، وابن عباس، وعائشة، وعطاء، وأبو حنيفة، والحسن، وجابر بن زيد رضي الله عنهم، وروي أن عليًا نقل أم كلثوم بعد موت عمر رضي الله عنهم بسبع ليالٍ. وقيل: النقل لأنها كانت في دار الإمارة. واحتجوا بأن لا نفقة لها؛ لأن الملك انقطع بالموت فكذلك السكنى [ق 92 أ] قال المزني: وقد أجمعوا أن من وجبت له نفقة وسكنى من والدٍ وولدٍ على رجل فمات انقطعت النفقة لهم والسكنى؛ لأن ماله صار ميراثًا لهم، فكذلك امرأته وولده وسائر ورثته يرثون جميع ماله. والجواب عن هذا: لأن هذا لا يشبه النفقة؛ لأن المطلقة الثلاث تستحق السكنى بكل حالٍ ولا تستحق النفقة لنفسها، فإن كانت حاملًا وجبت النفقة للحمل، فكيف يجوز المزني أن يستشهد بالنفقة على السكنى؟ ولأن النفقة بمقابلة التمكين من الاستماع ولا تمكين ههنا، والسكنى لتحصين الماء وهذا موجود ههنا فافترقا. وأما الوالد والولد فنفقتهما وسكناهما لا تصيران قط دينًا في الذمة، ونفقة النكاح وسكناه مما يصير دينًا في الذمة فكانت آكد. فإذا قلنا لها السكنى، فإذا كان المنزل ملكًا للزوج سكنه مدة العدة، وإن لم يكن ملكًا ولكنه كان مستعارًا، فإن رضي صاحبه بإقرارها فيه أقرت، وإن لم يرض صاحبه فعلى الورثة أن يكنزوا من مال الميت لها مسكنًا في

أقرب المواضع، فإن لم يكن له وارث فعلى السلطان أن يفعل ذلك من ماله، وإن لم يخلف مالًا فتبرع الورثة بإسكانها لزمه ذلك كما ذكرنا، ولا يلزم السلطان أن يكتري لها من سهم المصالح، إلا أن يرى ريبة فيلزمه إسكانها. وإذا قلنا: لا سكنى لها، قال الشافعي: "فَلِوَرَثَتِهِ أَنْ يُسْكِنُوهَا حَيْثُ شَاؤُوا إِذَا كَانَ مَوْضِعُهَا حِرِزًا وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَمْتَنِعَ وَلِلسُّلْطَانِ أَنْ يَخُصَّها حَيْثُ تَرضي لِئَلَّا يَلْحَقَ بِالزَّوْجِ مَنْ لَيْسَ لَهُ"، يعني إذا لم يكن له ورثة، فإن لم يفعلوا ذلك فلها أن تسكن حيث شاءت. فرع: لو تطوع أجنبي بسكناها فيسبر حاله، فإن كان متهومًا ذا ريبةٍ لم نتعرض لها، [ق 92 ب] وإن كان سليمًا ذا دين قام بذله لسكناها مقام بذل الوارث، ولزمها أن تسكن حيث يسكنها إذا كان مسكن مثلها وأمنت على نفسها، فيعتبر هذين الشرطين في وجوب السكنى عليها فإن رضيت بدون مسكن مثلها جاز، وإن رضيت بما لا تأمنه على نفسها لم يجز. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ أَذِنَ لَهَا أَنْ تَنْتَقِلَ فَنَقَلَتْ مَتَاعَهَا وَخَدَمَهَا وَلَمْ تَنْتَقِلُ بِبَدَنِهَا حَتَّى مَاتَ أَوْ طَلَّقَ اعْتَدَّتْ فِي بَيْتِهَا الَّذِي كَانَتْ فِيهِ". كلما أوجبنا لها السكنى فأذن لها في النقلة من دارٍ إلى دارٍ في جوف البلد فالاعتبار بالبدن دون الرحل والمال، فإن مات أو طلقها فإن كانت في الدار الأولى اعتدت فيها دون الثانية سواء نقلت الرحل والمال أو لم تنتقل. وقال أبو حنيفة بالرحل والمال فتعتد في الدار التي نقلت إليها المال والرحل. وهذا غلط؛ لأن المعتدة لو انتقلت ببدنها إلى دارٍ أخرى وتركت قماشها في الدار التي طلقها فيها عصت، ولو نقلت قماشها ولم تنتقل ببدنها لم تعص، فدل على ما قلناه. وعلى هذا إن انتقلت ببدنها ثم رجعت إلى الدار التي انتقلت عنها لنقل قماشها فطلقها أو مات عنها اعتدت في الدار التي انتقلت إليها، ومجيئها إلى الدار الأولى لنقل قماشها بمنزلة دخولها إلى دار بعض جيرانها اعتبارًا به. فرع: قال في "الأم": لو انتقلت بغير إذن زوجها ثم طلقها أو مات عنها لزمها أن ترجع فتعتد في بيتها الذي كانت تسكن معه فيه.

فرع آخر: قال في "الآم" لو انتقلت بغير إذنه لها في المقام في ذلك المنزل ثم طلقها أو مات عنها اعتدت فيه كما لو انتقلت بإذنه، (ق 93 ا) وسواء أذن لها في منزل بعينه أو قال لها: انتقلي حيث شئت ثم طلقها أو مات كان لها أن تعتد حيث انتقلت إليه. فرع آخر: لو أذن لها بالانتقال من دارٍ إلى دارٍ ثم طلقها بعد خروجها من الدار الأول وقبل وصولها إلى الدار الثانية فيه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: قال أبو إسحاق عليها أن تعتد في الدار الثانية؛ لأنها صارت المسكن بقصدها وقصد استيطانها فيها، وخرجت الأولى عن كونها مسكنها بمفارقتها بهذه النية. وقيل: نصَّ على هذا في "الأم". والثاني: إنها بالخيار بين أن يرجع إلى الدار الأولى وبين أن تنتقل إلى الثانية؛ لأنه بينهما فتختار ما شاءت. والثالث: يعتبر القرب، فإن كانت إلى الدار الأولى أقرب اعتدت فيها، وإن كانت إلى الثانية أقرب اعتدت فيها. فرع آخر: لو كان أذن لها في النقلة إلى بلدٍ والاستيطان فيه، ثم طلقها أو مات عنها، فإن كان ذلك بعد وصولها إلى ذلك البلد لزمها أن تعتد فيه، ولم يجز لها أن ترجع إلى البلد الذي انتقلت منه. قال في "الأم": فإن كان له وكيل حاضر أو وارث كان له أن ينزلها حيث ترضي من المصر حتى تنقضي عدتها، وإن لم يكن وكيل ولا وارث كان على السلطان أن يحصنها حيث ترضي لئلا يلحق بالميت أو المطلق ولدٌ ليس منه، وإن كان ذلك وهي في الطريق اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: لا يجوز لها أن ترجع إلى البلد الذي انتقلت منه، وهو قول أبي إسحاق. والثاني بالخيار، إن شاءت رجعت وإن شاءت مضت على وجهها، ويجيء ثمَّ الوجه الثالث الذي ذكرنا في الفرع قبله. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ خَرَجَ بِهَا مُسَافِرًا أَوْ أَذِنَ لَهَا فِي الحَجِّ [ق 93 ب] فَزَايَلَتْ مَنزِلَهُ فَمَاتَ أَوْطَلَّقَهَا ثَلَاثًا فَسَواءٌ لَهَا الخِيَارُ فِي أَنْ تَمْضِي به لِسَفَرِهَا ذَاهِبَةً أَوْ جَائِيَةً".

الفصل: جملته أنه إذا طلقها أو مات عنها قبل خروجها من بيتها لزمها أن تعتد فيه، ولم يجز لها أن تخرج لسفرها، وإن كانت قد شدت رحلها أو اكترت لا تخرج أيضًا لا يختلف المذهب فيه - وإن كانت قد خرجت ولم تفارق بنيان البلد اختلف أصحابنا فيه، قال الاصطخري: لا يلزمها الرجوع وهو ظاهر منصوص الشافعي؛ لأنه قادت "فزايلت منزله 0 ولم يعتبر شرطًا آخر، وقد صرح في "الأم" أبهذا فقال؛ "ولو كان أذن لها أن تخرج إلى الحج فلم تخرج حتى طلقها أو مات لم يكن لها أن تخرج إلى الحج، ولو خرجت من منزله ففارقت المصر أو لم تفارقه إلا أنها قد فارقت منزله بإذنه للخروج للحج ثم مات أو طلق كان لها أن تمضي في وجهها، وهذا نص لا يحتمل إلا ما قاله الاصطخري، وهذا لأن مزايلتها منزله بإذنه فقط عنها حكمه. وقال أبو إسحاق؛ يلزمها أن ترجع فتعتد في منزله إلا أن يكون قد فارقت بنيان البلد؛ لأنها ما دامت في البلد فهي على حكم المقام فيلزمها أن تعتد فيه، كما لو لم تخرج من منزلها، ولهذا لو أرادت أن تقضي الصلاةً يس لها ذلك ما لم تفارق آخر بنيان البلد. وهذا اختيار القفال، قال؛ ومعنى قوله: "فزايلت منزله" أي عمارةً بلده أو منزل مقامه، ومنزل مقامه بلده. وقال ابن أبي هريرةً: من أصحابنا من ذكر وجهًا ثالثًا أنه لا يستقر حكم دخولها في ألسفر حتى تنتهي إلى مسافةً يوم وليلةً اعتبارًا بالسفر الذي يستباح فيه الرخص ما لم تبلغ إليها يلزمها أن تعود وتعتد في منزلها. واحتج هذا القائل بما قال الشافعي في "الأم": "ولو آذن لها (ق 94 أ) إلى صفر يكون مسيرةً يوم وليلةً غير حجةً الإسلام لم يكن لها أن تخرج إلا مع ذي رحم محرم، فإن خرجت من تنزله ولم تبلغ السفر حتى طلقها أو مات كان عليها أن ترجع فتعتد في منزله، وهذا لا يصح؛ لأن الشافعي أمرها بالرجوع في هذه المسألة لعدم المحرم لا لقرب السفر، ألا ترى أنه استثنى حجةً الإسلام فقال: "غير حجة الإسلام"؛ لأن في حجةً الإسلام لا يعتبر المحرم، وقصد به الرد على أبي حنيفةً حيث قال: لها أن تسافر سفر التطوع أقل من ثلاثةً أيام بلا محرم، ولأن الشافعي ذكر هذه المسألة عقب المسألة التي حكاها عن "الأم"، ولا يذكر قولين في مسألتين متواليتين. وقال ابن أبي هريرة: الصحيح ما قاله الاصطخري أن الاعتبار بمفارقةً المنزل دون مفارقةً المصر واعتبار اليوم والليلةً، ولا معنى لترك المنصوص إلى الاجتهاد. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن أذن لها في الحج فخرجت عن منزلها ثم طلقها قبل أن تفارق عمران بلدها لها أن تمضي إلى الحج، ولو كان سفرا آخر يلزمها الرجوع إلى منزلها؛ لأن الشافعي غاير في العبارة ههنا فقال: "ولو خرج بها مسافرًا،، يعني فارق العمارةً، ثم قال: "أو أذن لها في الحج فزايلت منزله فمات"، فذكر مزايلةً المنزل في

الحج، وهذا لا يصح. ولا فرق بين سفر الحج وغيره، ولو جاز أن يحمل هذا اللفظ في الحج على مسكنه لا على بلده لجاز أن يدعي مثل هذا في لفظ الخروج حيث قال: "ولو خرج بها مسافرًا" لأنه إذا خرج عن داره سمي خارجًا كما يسمى بمفارقة العمران خارجًا، وإذا حمل الخروج على الخروج من الدار وجب أن يحمل مزايلةً المنزل على الخروج من الدار، ويحمل كلاهما على الخروج من عمارةً البلد (ق 94 ب) ولا وجه للفرق. وقال أبو حنيفة: إذا طلقها أو مات، فإن كان بينها وبين منزلها دون مسيرةً ثلاثةً أيام يجب عليها الرجوع وإن كان مسيرةً ثلاثةً أيام فإن كان بينهما وبين الموضع الذي قصدته ثلاثةً أيام، فإن كان الموضع الذي هي فيه موضع إقامةً أقامت فيه، بأن يكون قريةً آهلة، وإن لم يكن موضع إقامةٍ كان لها أن تمضي إلى مقصدها. واحتج بأن إنشاء السفر الصحيح محرم عليها في منزلها فكان محرمًا عليها في سفرها. وهذا غلط؛ لأن العدةً وجبت عليها وهي مسافرةً فلم يلزمها الرجوع عن سفرها، كما لو كان بينها وبين مسكنها مسيرةً ثلاثةً أيام، ويفارق هذا إذا كانت في منزلها؛ لأنها لا تنشئ سفرًا وإن قل بخلاف ما لو كانت مسافرةً. وحكي عن أبي حنيفةً أنه قال: إن كانت إلى البلد الذي خرجت منه أقرب يلزمها الرجوع، وإن كانت إلى البلد المقصود أقرب يلزمها المضي إليه، وإن بعدت من هذا البلد ولم تقرب من ذلك البلد تخيرت من الرجوع والمضي. فإذا تقرر ما ذكرنا أنه لا يلزمها العود فهي بالخيار بين الرجوع والعود، فإن خرجت قال الشافعي: "ولا تقيم في المصر الذي أذن لها في السفر إليه إلا أن يكون أذن لها [في المقام] فيه أو النقلةً إليه فيكون ذلك عليها إذا بلغت ذلك المصر" وجملته أن ينظر فيه، فإن كان أذن لها في السفر إلى الممر الذي قصدته لزيارة لا يخلو إما أن يكون جعل لها مدةً أو لم يجعل لها في ذلك مدةً، فإن لم يجعل لها مدةً قال الشافعي: "لم تقم فيه أكثر من مقام مسافرةً وهو ثلاثةً أيام". وإن جعل لها مدةً فيه قولان: أحدهما: لا تقيم فيه أكثر من مقام صام وهو ثلاثةً أيام؛ لأنه لم يأذن لها في الإقامة (ق 95 أ) المطلقةً، فصار كما لو أطلق الإذن. والثاني: وهو الأصح أنها تقيم حتى تستوفي المدةً، وهو اختيار المزني؛ لأنها مدةً مأذون فيها فكان لها استيفاؤه، ألا ترى أن الشافعي أباح لها أن تخرج في سفرها إلى الغايةً التي تريدها؛ لأن هذه المدةً مأذون فيها فكذلك مدةً المقام. ومن قال بالأول فصل بينهما بأن عليها مشقةً في الرجوع من الطريق ولا مشقةً عليها في ترك مدة المقام.

وإن أذن لها في الخروج إلى المصر الذي قصدته لقضاء الحج والعمرةً أو قضاء لدين، آو استحلال من مظلمةٍ، أو إيصال كتاب أو حاجةٍ يمكن قضائها عاجلًا لا يجوز لها أن تقيم فيه أكثر من مدة قضاء الحاجةً، ويتيها أن تخرج عقيب قضاء الحاجةً. ومن أصحابنا من قال ههنا: لها أن تقيم مقام مسافر وهو ثلاثة أيام، وهذا غلط، بل هذا في سفر النزهةً والزيارةً. قلنا في هذا الموضع نهاية سفرها قضاء حاجةٍ لا غير، وإذا ألزمنا الخروج لا فرق بين أن تكون قد بقي من عدتها ما تنقضي في الطريق ويبقى عليها بقيةً تقضيها في بيت زوجها. نص عليه في "الأم"، لأنها لو أقامت كانت هذه الإقامةً غير مأذون فيها فلا يجوز لها ذلك، وأيضًا المكان الذي تعود فيه أقرب إلى منزله من الموضح الذي تقيم فيه فكان أولى. وقال أبو إسحاق: إن بقي من عدتها ما لا ينقضي في الطريق ترجع، وإن بقي من عدتها قدر ينقضي في الطريق كان لها أن تكملها في البلد الذي هي فيه ولا يجب عليها الرجوع؛ لأن إتمام العدةً في ذلك البلد خير من إتمامها في الطريق. وهذا اختيار القفال، وهذا كله إذا وجدت رفقة (ق 95 ب) مأمونةً في الرجوع إلى بلدها، فإن لم تجد كان لها أن تقيم فيه إلى أن تجد رفقة مأمونةً وكان ذلك عذرًا في المقام. وأما قوله في السواد: "إلا أن يكون أذن لها في المقام فيه أو النقلة إليه" فحذف المزني "المقام" ولا بد منه، ثم قال: "فيكون ذلك عليها"، وفي بعض نسخ المزري؛ "فيكون ذلك لها" فمن قرأ "لها" قال: هذا راجع إلى مسألة النقل. فأما إذا أذن لها بالمقام مدةً لا يلزمها أن تقيم بل لها أن ترجع، والقولان فيه؛ "هل لها أن تقيم" ومن قرأ "لها" فهو جواب في المسألتين جميعًا، فإن لم يكن قضاء حاجتها في ثلاثةً أيام فقول: أخرج اليوم، أخرج غدا فلها ذلك إلى أن تنقضي حاجتها. مسألة: قال: "وإن كان أخرجها مسافرة أقامت ما يقيم المسافر مثلها ثم رجعت فأكملت عدتها". أراد به أنه إذا كان الزوج أخرجها مع نفسه في السفر ثم مات في بعض البلاد لزمها أن ترجع إلى بيتها وتقعد فيه، ولا يجوز لها أن تقيم إلا مقام مسافر إلا أن لا تجد رفقةً على ما قدمناه. مسألة: قال: "ولو أذن لها في زيارة أو نزهة فعليها أن ترجع؛ لأن الزيارةً ليست مقامًا"

هذه المسألة تخالف ما قبلها فتحتاج إلى تأويل، فقال أبو إسحاق: أراد به الزيارةً والنزهةً في جوف البلد، فعليها العود؛ لأن الطلاق صادفها وهي مقيمةً في البلد، والمسألة المتقدمةً في السفر فلا يلزمها العود هناك. ومن أصحابنا من قال: أراد به أنه إذا أذن لها في السفر لزيارةً أو نزهةً فأقامت ثلاثًا نم طلقها فعليها أن ترجع؛ لأن الزيارةً والنزهةً (ق 96 أ) ليست مقامًا، وقد فسره الشافعي في "الآم"، فقال: "إن كان أذن لها في زيارةً أهلها أو النزهةً إلى موضع في المصر أو خارجًا منه فخرجت إلى ذلك الموضع الذي أذن لها فيه ثم مات عنها أو طلقها طلاقًا لا يملك فيه الرجعةً، فعليها أن ترجع إلى منزله فتعتد فيه؛ لأن الزيارةً ليت مقامًا، ومعناه أنه لم يأذن لها في المقام في موضع آخر فيكون ذلك بمنزلةً ما لو أذن لها في دخول السوق لحاجة ثم مات لزمها العود إلى بيت زوجها. فرع: قال في "الأم": ولو قال لها في المصر: اسكني هذا البيت شهرًا أو هذه الدار سنةً كان هذا مثل قوله لها في السفر: أقيمي في بلد كذا وكذا شهرًا أو سه وقد خرج من السفر قولين، ثم عطف هذه المسألة عليها وسوى بينهما فجعل في المسألتين جميعًا قولين وقد بيناه. والفرق بين هذه المسألة وبين الإذن في الزيارةً والنزهةً حيث أوجب عليها الرجوع قولًا واحدًا، أن الإذن في الزيارةً والنزهةً ليس بإذن في المقام فيلزمها الرجوع، بخلاف هذا فإنه أذن في المقام فلم يلزمها أن ترجع في أحد القولين، كما لو أذن لها في النقلةً. قال القفال: فإن قلنا لها قدر المدة المضروبةً لو لحقها في الطريق مضت على وجهها إن شاءت، وإذا قلنا بالقول الآخر فعليها أن ترجع ولا تمضي على وجهها إذا لم يكن قصد إلا النزهةً ولم يكن عليها في الرجوع مشقةً، فأما الزيارةً فهي أمر مقصود، فتمضي وتزور وترجع في الحال، وهذا حسن ولكنه خلاف ظاهر المنصوص. فرع آخر: قال في "الأم": لو أذن لها في زيارةُ أهلها، ثم قال قبل الطلاق والموت: إنما نقلتها إليه (ق 97 ب) ولم تعلم هي كان عليها أن تقيم حيث أم أنه أمرها أن تنتقل؛ لأن النقلةً إليه وهي منتقلةً فلم يكن لها الرجوع. فرع آخر: قال أيضًا: لو أذن لها بعد الطلاق الذي لا يملك فيه الرجعةً أو يملكها قبل أن

يرتجعها، أو قال لها في مرضه: إذا مت فانتقلي حيث شئت فمات لم يكن لها أن تعتد في غيره. فرع آخر: لو قال: إنما انتقلت ولم ينو هو النقلةً، قادت إنما أرسلنك زائرةً ثم مات أو طلقها، كان عليها أن ترجع فتعتد في بيته؛ لأن النقلةً ليست لها إلا بإذنه. فرع آخر: لو طلقها وهي في مكن مستعار فأراد الزوج نقلها منه إلى مكن يكتريه، فإن كان في بلي عرف أهله العاريةً لم يكن له نقلها ما لم يرجع أهله في العاريةً، وإن كان في بلدٍ عرف أهله الكراء ففي جواز نقله منه وجهان: أحدهما: ليس له نقلها ما لم يرجع في الإعارةً كالبلد المعهود إعارته. والثاني: له نقلها منه لئلا يلحقه من المنةٍ فيه ما لا يلحقه في البلد المعهود إعارته. فرع آخر: لو كانت في بيت بعاريةٍ في العدةً فنقلها مالكها فعادت إلى بيت آخر، ثم بذل المالك الدار الأولى، فإن بذل بالعاريةً لم يلزمه ردها إليه، وإن بذل بالإجارةً فإن كان المنزل الثاني بالعاريةً يلزم ردها إلى الأولى، وإن كان المنزل الثاني بالإجارةً فيه وجهان: أحدهما: لا يلزم الانتقال تغليبًا لحكم الاستقرار فيه. والثاني: يلزم الانتقال إلى الأول تغليبًا للمنزل الذي كان الطلاق فيه. مسألة: قال: "ولا تخرج إلى الحج بعد انقضاء العدة ولا إلى مسيرة يوم إلا مع ذي محرم إلا أن يكون حجة الإسلام (ق 97 ا) وتكون مع نساء ثقات". ذكر الشافعي في "الأم" ثلاث مسائل؛ مسالتان في "باب حكم العدة" والثالثة في "باب الحج" فترك المزني مسألتي العدة ونقل مسألة الحج، وإنما تركهما لأنه قد نقل قبل هذا من الإذن في السفر ما يدل على حكم المسألتين. إحداهما قال: "ولو خرجت من منزله ففارقت المصر أو لم تفارقه إلا أنها قد فارقت منزله بإذنه للخروج إلى الحج، ثم مات أو طلقها كان لها أن تمضي في وجهها وتقيم فيه مقام الحج لا تزيد فيه وتعود مع الحاج فتكمل بقية عدتها في منزله إلا أن يكون أذن لها أن تقيم بمكة أو في بلتي غيرها إذا قضت الم، فيكون هذا كالنقلة وتقيم في ذلك البلد". ثم ذكر هذه المسألة الثالثةً وليست

عن مسائل العدةً وإنما هي عن مسائل الحج. وجملته أنه شرط في الفر الذي ليس بواجب صحبةً محرم ولم يشترطه في حجةُ الإسلام، بل شرط فيها صحبةُ نساء ثقات، وصرح ههنا بالفرق وعند أبي حنيفةً يشترط المحرم في حجةً الإسلام على ما ذكرنا في ((كتاب الحج)). واختلف أصحابنا في أقل النساء الثقات على ثلاثة أوجه: أحدها: تكفي واحدةً. والثاني: تكفي ثنتان. والثالث: لا بد من ثلاث نسوة. ومن أصحابنا من قال: لا يشترط المحرم في سفر التطوع أيضًا ويكفي صحبةً النساء الثقات. وهو اختيار القفال، قال: لأن الشافعي لم يفرق بين سفر الواجب وغيره في الجواز، وإنما فرق في الكراهةً فكره في غير الواجب الخروج مع النساء الثقات دون المحرم ولم يكن في الواجب ذلك، وهذا خلاف النص الظاهر ههنا. وحكي عن ابن أبي هريرة أنه قال: إن كانت الطريق (ق 97 ب) آهلة آمنة لها أن تخرج وحدها، فقيل له: يلزمك أن تجوز مثل هذا في السفر المباح، فقال: اختلفنا في الأمرين جميعًا، فلم يجعل لها أن تخرج في السفر المباح إلا مع ذي رحم محرم؛ لأنه لا ضرورة ًبها إلى ذلك، وجعلنا لها أن تخرج وحدها في حجةً الإسلام؛ لأن ذلك فرض عليها احتياطًا للفرض. فرع: قال في "الأم": لو أحرمت بإذن زوجها بالحج أو العمرةً ثم طلقها أو مات فإن كانت لا تخاف من العدةً فواته كان كما لو لم تحرم، وقد بيناه. وإن خافت فوات الحج لزمها أن تخرج؛ لأن الحج والعدةً إذا اجتمعا وتضيقًا ولم يمكن الجمع بينهما فدمنا الحج لسبق إحرامه على العدةً؛ ولأنها إذا خرجت للحج أتت بالعبادتين جميعًا وتركتا صفةً العدةً، وإذا اعتدت تركت الحج حتى يفوتها فكان الجمع بين العبادتين مع الإخلال بصفةً أحدهما أولى - وقال أبو حنيفةً: مليها أن تقيم وتعتد ولا يجوز لها الخروج سواء كان الوقت ضيقًا أو واسعًا، خاف الفوات أو لم يخف. ولو طلقها أو لا ثم أحرمت فعليها العدةً في منزلها، فإن فاتها الحج تحللت بعمل عمرة وعليها قضاء الحج؛ لأن العدةً أسبق. وكذلك إذا أذن لها في الحج ثم طلقها ثم أحرمت؛ لأن الإحرام لم يتعين عليها بإذنه، ويتعين أن تكن في منزلها، وإن سبقه الإذن بالإحرام فالاعتبار بما تعين [أولاً]

مسألة: قال: "ولو صارت إلى بلد أو منزل بإذنه ولم يقل لها أقيمي ثم طلقها فقال: لم أنقلك، وقالت: نقلتني القول إلا أن نقر هي أنه كان للزيارة أو مدة تقيمها يكون [عليها أن ترجع وتعتد في بيته] وفي مقامها قولان". فصل: في بعض نسخ المزني: (ق 98 أ) ((ولم يقل لها أقيمي أو لا تقيمي)) والأول أصح. واختلف أصحابنا في صورة المسألة، فقال أبو إسحاق: صورة المسألة أن يأذن لها في الخروج من بيته إلى موضع ثم مات وقع الاختلاف بينها وبين ورثة زوجها، فقالت هي: أذن لي في الخريج وقصد بالإذن النقلةً إليه، فلا يجوز لي الرجوع. وقال الورثةً: لم يقصد بذلك فعليك الرجوع، فالقول قولها مع يمينها؛ لأن ضميره معيب عنها والمرأة صاحبةً فجعل القول قولها. وآما إذا كان الاختلاف بينها وبين زوجها فالقول قوله مع يمينه؛ لأنه أعلم بضميره عنها. قال أبو إسحاق: وإنما جعل الشافعي في "الأم" القول قولها: إذا كان الخلاف مع الورثةً، إلا أن المزني ظن أن يكون عنده حكم في المالئين سواء، فأطلق الجواب، وهذا لو ادعت أصل الإذن كان القول قوله، فلذلك إذا ادعت وصفًا في الإذن كان القول ومن أصحابنا من قال: القول قولها مع الزن ومع الورثة؛ لأنه إذا أذن لها فالظاهر من إطلاق القلة فكان القول قولها، ونص الشافعي على هذا التعليل، فقال أصحابنا: هو بمنزلة شيء في يدها ويدعي الزوج عليها ذلك فيكون القول قولها مع يمينها، فكذلك ههنا. وأيضًا سفر النقلةً واحد وسفر العود اثنان، فكان القول في الثاني قول مكره. وهذا اختيار جماعةً من أصحابنا. وقال القاضي الطبري: ظاهر كلامه في "الأم" هذا دون ما نكرم أبو إسحاق؛ لأنه ذكر اختلافهما مع الورثةً وقال: "القول قولها"، ثم قال: أولو قال لها اخرجي إلى موضع كذا أو مصر كذا، فخرجت إليه (ق 98 ب) فلم يقل لها حجي، ولا أقيمي، ولا ارجعي منه، ولا ترجعي إلا أن تشائي ولا زوري فيه أهلك أو بعض معارفك، كانت هذه نقلةً وعليها أن تعتد في ذلك الموضع من طلاقه أو وفاته إلا أن تقر هي أن ذلك الإذن إنما كان لزيارةً أو مدةً تقيمها فيكون عليها أن ترجع إذا بلغتها الوفاةً فتعتد في بيته، وفي مئامها قولان"، فأطلق الكلام وجعل ظاهر الإذن النقلة، وجعل القول قولها، وهذا مثل ما نقله المزني دون ما (حكاه) أبو إسحاق.

ومن أصحابنا من حكي عن أبي إسحاق أنه قال: صورة ما نقله المزني أنه قال لها: انتقلي إلى موضع كذا فلما حصلت فيه طلقها، فقال لها: ما نقلتك وإنما أذنت في غير النقلةً، فعليك الرجوع، وقالت: بل أذنت لي في النقلةً والمقام فالقول قولها؛ لأن قوله: "انتقلي" حقيقته النقلةً، فأما إذا قال لها: اذهبي، أو اخرجي إلى موضع كذا، ثم اختلفا، فالقول قوله؛ لأن الظاهر معه. ثم تعجب هذا الحاكي من أبي إسحاق فقال: كيف يصورها فيما لو قال لها انتقلي، والشافعي قال: "ولم يقل لها أقيمي ولا لا تقيمي)) بإذنه بالنقلةً هو المقام، وهذا غير صحح عن أبي إسحاق. ومن أصحابنا عن قال: صورة المسألة أنه قال لها: اخرجي أو اذهبي ثم طلقها، ثم اختلفا فالقول قوله، وقول المزني: "القول قولها" غلط، أراد أن يقول القول قوله وأخطأ في الكتبةً، وهذا أيضًا غير صحيح لما ذكرنا. وقال أبو حامد: نفل المزني هذه الصالة في "جامعه الكبير" فقال: "ولو سارت إلى منزل" بأمره ثم طلقها ثم اختلفا - هكذا - فالقول قوله، ثم فئ عليه فقال: "فإن مات ثم اختلفت هي وورثته فالقول قول الورثة" وأراد أنه لما كان القول قول الزوج فوارثه يقوم مقامه - (ق 99 أ) وغلط هذا في التفرع، فإن القول قولها ههنا لما ذكرنا عن الفرق بين الزوج والورثة. وقال القفال: قال الشافعي: ((إذا حولها من بيتٍ إلى بيتٍ، ثم طلقها ثم اختلفا فالقول قولها)). وقال في موضع آخر: ((إذا ويع الاختلاف بينها وبين ورثة زوجها فالقول قول الورثة)) وليست على قولين بل هي على حالين، فصورة مسألة الوارث أن يقول: إن أبانا قد قال لك: إني أخرجتك مسافرة. ولو كان هذا الاختلاف مع الزوج نفسه كان القول قوله أيضًا؛ لأن الأصل أن لا نقلة. وصورة المسألة الأولى أنه حق لها ولم يقل شيئًا، بل أطلق فالظاهر بيدها سواء كان الاختلاف مع الزوج أو مع الورثة فالقول قولها وقال القفال مرة أخرى: قال الشافعي ((إن كان هذا الاختلاف مع الزوج فالقول قوله، وإن كان مع الورثة فالقول قولها)) فالمسألتان على قولين نقلا وتخريجًا. قال: ومن أصحابنا من قال: إن اختلفا في اللفظ فقالت; قلت لي انتقلي، وقال: ما قلت لكن قلت اخرجي للنزهةً ونحوها فالقول قوله؛ لأن الأصل أنه لم يقل ذلك. وإن اتفقا على اللفظ فقالت: قلت اخرجي وأردت به النقلةً، وقال: ما أردت فالقول قولها؛ لأن الظاهر ما ادعت. قال: وقال ابن سريج، وهو قول أبي حنيفةً: إن كان الاختلاف مع الورثةً فالقول قولها، وإن كان مع الزوج فهل يكون القول قوله أو قولها قولان 0 وكل هذا تخليط والاعتماد على ما سبق. وقال في "الحاوي": هذه المسألة تشتمل على فصول اختلط فيها كلام أصحابنا، ونبوا المزني إلى السهو في نقله والخطأ في جوابه لشبهةً دخلت عليهم في [تقرير]

أصولها (ق 99 ب) ونوضحها بما تزول به الشبهة ويصح فيه نقل المزني وجوابه، وذلك مبني على تقدير الجواب [في] خمسة فصول: أحدها: إذا أذن لها في عفر النقلةً فانتقلت ثم وجبت [عليها] العدةً اعتدت في بلد النقلة. والثاني: [إذا] أذن لها في سفر العودةً ثم وجبت العدةً عند وصولها لزمها العود ولا يجوز لها أن تقيم. والثالث: [إذا] أذن لها في الفر مطلقًا [لم بمرح فيه بنقلة ولا عود] حمل على سفر آخر تحتاج فيه إلى إذن آخر. والرابع: [إذا] أذن لها في السفر إليه لنزهةً [أو زيارةً] كان سفر عود لا سفر مقام. والخامس: [إذا] أذن لها في السفر لتقيم شهرًا ثم تعود هل لها أن تقيم تلك المدةً؟ قولان. فإن اخلفا فاختلافهما على [ستةً] أقسام: أحدها: أن تدعي [الزوجةً] سفر النقلة ويدعي الزوج سفر العود، فالقول قولها [مع الزوج] في حياته، ومع الورثةً بعد موته على ما ذكرنا. والثاني: أن تدعي المرأةً سفر العود ويدعي عليها سفر النقلةً، فالقول قول الزوج وورثته بعده؛ لأنها تدعى سفرًا ثانيًا. والثالث: أن تدعي في السفر المطلق أن المراد به النقلةً ويدعى عليها أن المراد به العود فالقول قولها مع الزوج وورثته؛ لأن الظاهر معها. والرابع: أن تدعي في [الفر] المطلق أنه أراد العود ويدعي عليها أن المراد النقلة فالقول قول الزوج وورثته بعده. والخامس: أن تدعي الزوجة سفرًا لمدةً، ويدعي عليها [أنه] سفرًا لنزهةً فإن قلنا: هي ممنوعةً من مقام تلك المدةً لم يكن لهذا الاختلاف تأثير لوجوب العودة فيهما للوقت. وإن قلنا: لها المقام تلك المدةً، فإن كان الخلاف مع الورثةً فالقول قولها، وإن كان [مع] الزوج فالقول قوله. والفرق أن الإذن اجتمع عليه الزوجان، فإذا كان الاختلاف بينهما رجع إلى الزوج الآذن في صفة إذنه (ق 100 أ) كما يرجع إليه في أصل إذنه، وإذا كان مع الورثة رجع فيه إلى من شافهه بالإذن وهي الزوجةً دون الورثةً. والسادس: أن تدعي الزوجة سفر النزهةً ويدعي عليها أنه سفر المدةً. فإن قلنا: لا تقيم تلك المدة لا تأثير لاختلافهما لوجود العود. وإن قلنا: لها المقام تلك المدةً فالقول قول الزوجة [إن كان حيًا] والقول قولها مع الورثةً إن كان ميتًا لما ذكرنا من الفرق. فهذان قسمان يختلف فيهما حكم الزوج والورثة وإن اتفق حكمهما في الأقسام الأربعةً، ليسلم المزني من خطأ النقل لحمل مراده على ما وافقه من تلك الأقسام الأربعةً

في التسويةً بين الزوج وورثته، وسلم أصحابنا من الوهم في الشبهةً الداخلةً عليهم في تخطئته لحمل جوابهم على ما وافقه من القسمين المتأخرين في الفرق بين الزوج وورثته وهذا كله حسن. مسألة: قال: ((وتنتوي البدوية حيث ينتوي أهلها)). الفصل: معناه ترحل البدوية حيث يرحل أهلها، وجملته أنه إذا طلق البدوي زوجته كان اعتدادها في المسكن الذي هو مسكنها حال الطلاق كالحاضرةً، ولكنها تخالف في صفةً المسكن؛ لأن مسكنها من صوف وشعر ونحوه، ومسكن الحاضرةً من طين وآجر وحجر، ولذلك بناء الحضر يراد للاستيطان والبقاء، وبيوت الباديةً للإقامةً والظعن على الغبطةً فما داموا مغتبطين بالمقام أقاموا، وإذا كان غبطتهم في الظعن ظعنوا، فإذا تقرر هذا فيه أربع مسائل: أحدها: [إذا] انتقل أهل الباديةً كلهم من مكان إلى مكان فإنها تنتقل بانتقالهم، كأهل البلد لو انتقلوا بأسرهم انتقلت هي معهم أيضًا، وكامرأةً صاحب السفينةً معه إذا لم يكن له مكن سوى السفينةً. والثانية: أن ينتقل قوم من أهل الباديةً (ق 100 ب) وبقي قوم فيهم منعة، وأهلها فيهم فعليها أن تقيم مع أهلها وتعتد في مسكنها؛ لأنه لا حاجة بها، كما لو انتقل بعض أهل البلد وبقي قوم فيهم منعةً تعتد فيمن بقي. والثالثة: انتقل قوم من أهل البادية وأهلها فيمن انتقل وبقي قوم لم ينتقلوا وفيهم منعةً فهي بالخيار بين أن تنتقل مع أهلها طلب الأنس بهم وحذر الوحشةً لهم إن لم تنتقل، وبين أن لا تنتقل وتقيم هناك؛ لأن هذا المكان مكان مسكنها حال الطلاق ولا ضرورةً إلى المفارقةً. والرابعة: فر أهلها وهربوا خوفًا عن أم من الأمور وما انتقلوا انتقالًا ينظر، فإن كانت تخاف مما خاف أهلها كان لها أن تهرب معهم وإن كان الخوف على الرجال دون النساء، أو على أهلها دون غيرهم لم يكن لها أن تنتقل معهم؟ لأنه لا حاجة بها إلى ترك مسكنها حين الطلاق، كما لو هرب أهلها من البلد سواء، وهذا لأنهم إذا هربوا فالمسكن باق لم ينتقل. وقال الماسرجسي: من أهل الباديةً من لا ينتجع ولا ينتقل ويكون حولهم من الرعي ما يقيم بها، فهذه كالحاضرةً. ومنهم من ينتجع في كل سنةٍ مرتين؛ إحداهما في الصيف،

والأخرى في الشتاء، فإذا انتقلوا في أول الصيف ولم نقص عدةُ المطلقةً انتقلت معهم، ومنهم من لا موضع له بل يتبع مواقع القطر والكلأ فالمعتدةً منهم تنتقل معهم؛ لأنها إذا خرجت معهم كانت أحصن وأحفظ للنسب. مسألة: قال: "وإذا دلت السنةً [على] أن المرأة تخرج من البذاء على أهل زوجها كان العذر في ذلك المعنى أو أكثر". يحتمل أن يكون هذا الكلام من الشافعي مسألة مستأنفةً في كل معذورةٍ ويحتمل أن يكون قصده للاحتجاج في مسألة البدويةً والمقصود واحدٍ، وهو أنها إذا خرجت من بيت العدةً لعذر ظاهر لم تأثم لمعنيين: أحدهما: ما ذكر الشافعي وهو أن النبي- صلى الله عليه وسلم - نقل فاطمة بنت قيس للبذاءةً على ما ذكرنا وهي معنى في غيرها، فلأن تنتقل لمعنى في نفسها من خوف الهدم، أو الغرق أو الحرق أو اللصوص أولى؛ لأن هذا العذر أشد وأقوى. والثاني: أن السكنى تراد للتحصين والاحتياط، وهذا أوجد عند الانتقال بهذه الأعذار. مسألة: قال: "ويخرجها السلطان فيما يلزمها فإذا فرغت ردها". نقل المزني هذا القدر، وقال في "الأم": "وللحاكم أن يخرج المرأةً في العدة في كل ما لزمها من حد أو قصاص أو خصومة". وقال بعض أصحابنا: هذا إذا كانت برزةً، فأما إذا كانت مخدرة وجه إليها من يقيم الحد عليها، ولهذا رجم الغامديةً ظاهرًا مكشوفًا، ورجم المرأة في خبر العسيف في بيتها، فقال لأنيس: "اغد على امرأةً هذا، فإن اعترفت فارجمها"؛ لأن الغامديةً كانت برزةً وجاءت إليه فاعترفت بالزنا، وكانت المرأة في خبر العسيف مخدرةً فإنها لم تأته فبعث إليها من رجمها، وأما المال فإن كانت معترفةً به وأمكن أخذ، منها في بيتها لم يخرجها أيضًا وإنما قال الشافعي: "يخرجها إذا لم يمكن أخذه منها في بيتها وكانت برزة فيخرجها للخصومةً، فإذا فرغت ردها إلى بيت زوجها حتى تكمل العدةً". فرع: قال أبو إسحاق: لو زنت في حال عدتها وهي بكر وقد مات زوجها كان على

السلطان يبينها وهذا أحب الأشياء التي يحوز له من أجلها إخراجها. فإن قال قائل: ينبغي أن تؤخروا إلى انقضاء عدتها كما تؤخر لشدةً الحر والبرد. قلنا: الفرق أن العدةً لا تؤثر في الحد فلا يصح من استيفائه، وشدةُ الحر والبرد (ق 101 ب) تؤثر فيه فيعينان على تلف المحدود، والقصد منه التأديب دون الإتلاف، فأخرنا إلى أن يزولا. وقال في "الحاوي": حُدت بلا خلاف، وهل تغرب قل انقضاء العدةً؟ وجهان: أحدهما: لا تغرب [إلا بعد انقضاء العدة] تغليبًا لحق الزوج في تحصين مائه. والثاني: تغرب حولًا إلى أحصن المواضع ويراعي تحصينها في التغريب في بقيةً العدةً، فإن استكملت حد التغريب قبل انقضاء العدةً وجب ردها إلى منزلها لتقضي فيه بقية العدةً. مسألة: قال: "ويكتري عليه إذا غاب". إذا طلقها ولا مسكنٍ له حين الطلاق، فإن كان الزوج حاضرًا أمر، أن يكتري لها مسكنًا تعتد فيه، فإن امتنع أجبره عليه؛ لأنه حق لها فإن امتنع اكترى الحاكم من ماله عليه، كما قلنا في الدين إذا امتنع من أدائه. وإن كان غائبًا فإن وجد له مالًا اكترى من ماله، وإن لم يكن له مال ظاهر اقترض عليه واكترى لها وحصنها فيه حتى تنقضي عدتها، فإذا عاد رجع عليه بما استقرض له، وإذا كان بها مال يمكنها أن تكتري منه فأذن لها في ذلك جاز ورجعت عليه إذا عاد؛ لأنها إذا اكترت لنفسها اكترت حيث ترى، لأنا اكترى لها السلطان اكترى حيث يرى هو، فإن اكترت هي من غير إذن الحاكم وأمكنها أن تستأذن الحاكم فلم تفعل، كانت متبرعًا لا ترجع به، وإن لم [يكن] حاكم فاستقرضت أو أدت الكرى من مال نفسها وأشهدت بذلك فهل ترجع على زوجها؟ وجهان. وأصل هذه المسألة مسألة الجمال إذا هرب، وقد ذكرناها في "كتاب الإجارةً". مسألة: قال: "ولا نعلم أحدًا بالمدينةً فيما مضى أكري منزلًا، إنما كانوا يتطوعون بإنزال منازلهم وبأموالهم مع منازلهم". معنى هذا أن الحاكم (ق 102 أ) لا يكتري إذا كان بالمدينةً فإنه يجد السكنى بغير عوض، وإنما يكتري في البلد الذي لا يجد لها سكنى بغير عوض. ونظيره ما قال في رزق المؤذن إن وجد متطوعًا لم يرزق أحدًا على الأذان، وإن لم يجد جاز له أن يرزق. وقيل: لما قال: "ويكتري عيه إذا غاب" ألزم نفسه سؤالًا فقال: "لم يثبت عن رسول

الله - صلى الله عليه وسلم - وعن الصحابةً أنهم اكتروا على غائب منزلا)) فكيف تأمر بالاكتراء؟ وأجاب عن هذا بأنه إنما لم يفعل؛ لأن أهل المدينةً كانوا يتطوعون بها على ما ذكرنا. ومن أصحابنا من قال: قصد به الرد على أبي حنيفةً ومالك، حيث قالا: لا يجوز بيع رباع مكةً ولا إجارتها؛ لأنا لا نعلم أحدًا بمكةً اكترى منزلًا. فقال الشافعي: باطل المدينة، فإن رباعها مملوكةً ولا نعلم أحدًا بالمدينةً اكترى منزلًا. ثم بين العلةً فقال: كان أهل مكةً وأهل المدينة عربًا يأبون إكراء المنازل، فلا يدل هذا على كون رباعها غير مملوكةً وهذا بعيد. ومن أصحابنا من قال: عطف هذا على قصةُ فاطمةً بنت قيس وقد ذكرناها، فما اكترى لها على زوجها؛ لأن أهل المدينةً كانوا يتطوعون بإنزال منازلهم، فكأنه ألزم نفسه قصة فاطمةً حيث قال: ((لم يكتر لها)) ثم انفصل عنه بهذا فقال: إنما لم يكتر لأن عادتهم التطوع لا لأنه ما وجب، ولا لأنه لا يجوز أن يكتري عليه لها. ومن أصحابنا من قال: ذكر الشافعي هذا على القول الذي يقول: لا سكنى للمتوفى عنها- ثم قال: ((إن تطوع الورثةً بالإسكان لزمها أن تسكن،، ثم قال: ((إن كانت بالمدينةً فعليها أن تسكن يكل حالٍ؛ لأنها تجد المسكن بغير أجرة)) وهذا أيضًا بعيد. مسألة: قال: "وإن تكارت فطلبت الكراء كان لها من يوم يطلبه وما مضى حق تركته" معناه أنها إذا اكترت لنفسها موضعًا (ق 102 ب) وسكنت ولم تطالب الزوج بالسكنى ثم جاءت تطالب بها. قال الشافعي: ((كان لها من حين تطالب به)). وقال في ((النفقة)): ((إذا أسلمت نفسها ولم تطالب بالنفقةً كان لها أن تطالب بما مضى من نفقتها ولا تسقط بترك المطالبةً، وكذلك المبتوتةً الحامل إذا جعلنا لها النفقةً فلم تطالب بها كان لها أن تطالب بما مضى)). فمن أصحابنا من قال: في كلا المسألتين قولان على سبيل النقل والتخريج، ومن أصحابنا من فرق بينهما على ظاهر الصين فقال: النفقةً حق عليه لها في مقابلة الاستمتاع، فإذا أمكنه فقد وجب لها، فإن شاءت طالبته به وإن شاءت أخرته، كما يكون ذلك في الثمن في البياعات والأجرة في الإجارات، وليس كذلك السكنى فإنها حق عليه في مقابلةً حق له وهو حفظ مائه وتحصينه، فإذا قعدت باختيارها من غير إذن الزوج ولم تكن محصنةً له ماءه، فإذا لم يحمل له حقه لم يجب ما عليه. وأيضًا النفقةً تجب على وجه البدل فلم تسقط بترك المطالبة، والسكنى تجب لحق الله تعالى لا على سبيل البدل فسقطت يترك المطالبةً. فإن قل: نفقةً الحامل في العدةً لا تجب على طريق البدل ولا تسقط بمضي الزمان على ما ذكرتم. قيل: قد قيل: إنّا إذا قلنا هي للحمل تسقط بمضي الزمان؛ لأنهما نفقةً القرب ونفقةً القريب تسقط بمضي الزمان، والصحيح أنها لا تسقط. لأن قلنا للحمل؛

لأن مصرفها إلى الحامل ومنها تصل نفقتها إلى الولد، فلم تجر مجرى نفقةُ الأقارب وأجريناها مجرى النفقة الواجبةً على طريق البدل. وقال القفال: الفرق بين السكنى والنفقة آن السكنى لغايةً الوقت، وقد مضى الوقت إذ لا يملك المكن عليه هما يملك المالح ومنعه السكنى. وأما النفقةً فعين مال ويحوز ثبوته (ق 103 أ) في ذمته فثبتت في ذمته. قال: وحكم الكسوةٍ على هذا حكم السكنى؛ لأنه لا يلزمه أن يملكها الثوب هما لها حق المنفعةً فيه. مسألة: قال: ((فأما امرأة صاحب السفينة إذا كانت مسافرة معه فكالمرأة المسافرة)). الفصل: إذا خرجت مع زوجها الملاح مسافرةً فطلقها في الطريق، فإن شاءت مضت في وجهها إلى الغايةً التي سافرت إليها معه، لأن شاءت رجعت إلى بيتها على ما بيناه في المسافرةً، فأما إذا كان الملاح لا بيت له غير سفينته ولامرأته فيها موضع. قال بعض أصحابنا؛ ظاهر المذهب أنها إن شاءت اعتدت فيه، وإن شاءت خرجت واعتدت في أقرب القرى إلى الشط، وهذا اختيار الماسرجسي وجماعةً. وقال أبو إسحاق: اعتدت حيث شاءت في أي بلدٍ شاءت؛ لأنه ليس لهم بلد ولا مسكن يرجعون إليه، فإن اختارت أن تعتد في الفينة، فإن كانت كبيرةً فيها بيوت يمكنها أن تسكن في موضع لا يشاهدها ولا يراها اعتدت في السفينةً، كما لو كان نازلًا في خان له بيوت فطلقها فإنها تعتد في يبيت منه ويكون هو في بيت آخر، وإن كانت السفينةً صغيرةً فإن كان معها ذو محرم مقيم فعليه أن ينتقل لتسكن هي في السفينةً، وإن لم يكن محرم أو كان ولكن لا يقيم في السفينةً خرجت واعتدت في أقرب المواضع لهذا المكان على ظاهر المذهب، ولا فرق بين الفينة والدار المغيرة إلا في شيء واحد، وص أن المرأة يمكنها أن تقيم في الدار الصغيرةً ولا يمكنها أن تقيم في السفينةً وحدها؛ لأنها لا تسير إلا بملاح. فصل: قال في ((القديم)): وليس للمبتوتةً المعتدةً أن تخرج من البيت ليلًا ولا نهارًا إلا من عذر، والمتوفى عنها زوجها تخرج في حوائجها نهارًا ولا تخرج ليلًا. وقال في ((الجديد)): (ق 103 ب) وليس للمعتدةً أن تخرج نهارًا، والمبتوتةً والمتوفى عنها سواء واستحب ذلك لها، ولا وجه عليها. فاستحب في الجديد أن لا تخرج نهارًا

باب الإحداد

ولم يحرمه عليها ومنعها في ((القديم)). وجملته أن المعتدةً ليس لها أن تخرج من الموضع الذي تعتد فيه ليلًا ونهارًا من غير حاجةً للآيةً التي ذكرناها، فإن اضطرت إلى الخروج فلها الخروج على ما ذكرنا. وإذا احتاجت إلى الخروج من غير ضرورةً كشراء القطن أو بيع الغزل ونحو ذلك لا يجوز لها الخروج ليلا؛ لأن الليل وقت الخلوةً فيخاف فيه الفساد. ولا فرق بين أن تكون مطلقةً أو متوفى عنها زوجها، والدليل عليه ما روى مجاهد أن ناسًا استشهدوا بأحدٍ فأيم نساءهم، فجئن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقلن: إنا نستوحش بالليل في بيوتنا أفنيت عند إحدانا حتى إذا أصبحتا بادرنا إلى بيوتنا، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - ((بل اجتمعن وتحدثن ما بدا لكن، حتى إذا أردتن النوم فلتأوي كل واحدة إلى بيتها)). وأما الخروج نهارًا، فإن كانت متوفى عنها كانت لها ذلك بلا خلاف على المذهب وإذا كانت مطلقةً فهل لها أن تخرج؟ قولان: قال في ((القديم)): ليس لها ذلك لظاهر الآيةً، وهي قوله تعالى: (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ) [الطلاق:1]، وبه قال أبو حنيفةً؛ لأن عنده عليه كفايتها. وقال في ((الجديد)): لها ذلك ويستحب أن لا تخرج وهو الأصح، لما روي عن جابر - رضي الله عنه - أنه قال: طلقت خالتي ثلاثًا فخرجت تجد نخلًا لها، فلقيها رجل فنهاها، فآتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فذكرت ذلك له، فقال لها النبي - صلى الله عليه وسلم - ((اخرجي فجدي نخلك لعلك أن تصدقي منه أو تفعلي خيرًا)). وإنما قال ذلك لأن النخل لا يجد في غالب العرف إلا نهارًا، ونخل الأنصار قريبًا من دورهم (ق 104 أ) حتى إذا خرجت بكرة للجداد أمكنها أن تمسي في بيتها، ولأن عدةَ المتوفى عنها أغلظ، فإذا جاز لها الخروج فالمطلقةً أولى، وهذا إذا كانت بائنةً، فإن كانت رجعيةً فليس لها أن تخرج إلا بإذن زوجها لحاجةً لها ليلًا أو نهارًا؛ لأنها زوجته كغير المطلقةً. باب الإحداد مسألة: قال: ((ولما قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشرا)) وكانت هي المطلقة التي لا يملك زوجها رجعتها معا في عدة وكانتا غير ذواتي زوجين أشبه أن يكون على

المطلقة إحداد كهو على المتوفى عنها والله أعلم فأحب ذلك لها ولا يتبين أن أوجبه لأنهما قد يختلفان في حال وإنما اجتمعا في غيره)). الإحداد: زيادة صفةً في الاعتداد وهو أن تجتنب في عدتها عما يدعو إلى الجماع عن المزينةً والثياب المزينةً والطيب، وقال في ((الأم)): هو أن تجتنب في عدتها عما يدعو إلي شهرتها مما ذكرنا - يقال: أحدت تحد حدادًا وسمي به لما فيه من الامتناع، وسمي الحديد حديدًا لأنه يمنع به، وجملته أن المعتدات على ثلاثةً أضرب: معتدةً من وفاة، ومعتدةً رجعيةً، ومعتدةً بائن. فأما المعتدةً عن الوفاة يلزمها الإحداد، وبه قال كافةُ العلماء، وروي عن الحسن والشعبي أنهما قالا: لا إحداد عليها واجبًا، وروي عنهما أنهما قالا: لا يلزمها الإحداد في طول عدتها وإنما يلزمها في بعضها، واحتجوا بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لأسماء بنت عميس لما أتاها نعي زوجها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ((وتسلبي ثلاثًا)) وهذا غلط (ق 104 ب) لما رواء الشافعي وظاهره أن الإحداد جائز لا واجب؛ لأنه قال: ((لا تحد إلا على زوجها)) ولكن أجمعوا أن المراد به الوجوب وأنه استثناء الواجب من الحرام ولم يعتبر الأكثر. وروى أبو داود بإسناد عن أم عطية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((لا تحد المرأة فوق ثلاث إلا على زوج فإنها تحد ... أربعةً أشهر وعشرًا، ولا تلبى ثوبا مصبوغًا إلا ثوب عصب. وروي: ((إلا مغسولًا ولا تكتحل ولا تمس طيبًا إلا أدنى طهرتها إذا طهرت من حيضها بنبذة من قط أو أظفار)، وروي: ((ولا ثوب عصب)) وهو وهم لا يصح. وروت أم سلمه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((للمتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقةً ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل)) والعصب من الثياب ما عصب غزله فصبغ قبل أن ينسج وذلك كالبرد والحبر ونحوهما. والممشق ما صبغ بالمشق وهو شبه المغرة، وقوله: ينبذه من قسط يريد بها اليسر والنبذ: القليل من الشيء، والنبذةً تصغيره وطهرت الهاء فيه لأنه نوى به القطعة منه. وروت بنت حكيم بن أسد عن أمها أن زوجها توفي وكانت تشتكي عينها فتكتحل بكحل الجلا فأرسلت مولى لها إلى أم سلمه رضي الله عنها، فسألها عن كحل الجلا فقالت: لا تكتحل به إلا من أمر لا بد منه تشتد عليك فتكتحلين بالليل وتمسحينه بالنهار،

ثم قالت عند ذلك أم سلمه دخلت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين توفي أبو سلمه وقد جعلت علتي صبرًا فقال: ((ما هذا يا أم سلمه))؟ فقلت: إنما هو صبر يا رسول الله ليس فيه طيب، قال: ((إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلا بالليل وتنزعيه بالنهار، (ق 110 أ) ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب)) قلت: بأي شيء أمتشط يا رسول الله؟ قال: ((بالسدر تغلفين به رأسك)) وكحل الجلا هو الإثمد، وسمي جلاء لأنه يجلو البصر. وقوله: يشب الوجه أي يوقد اللون، وأصله عن فعلك شببت النار إذا أوقدتها. وروي عن زينب بنت أبي سلمه أنها قالت: دخلت على أم حبيبة حين توفي أبوها أبو سفيان، فدعت بطيب فيه صفرةً خلوقٍ أو غيره ومست بعارضيها، ثم قالت; والله مالي إلى الطيب من حاجةً غير أنى سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -يقول: ((لا تحل لامرأةً تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعةً أشهر وعشرًا، قالت زينب: ودخلت على زينب بنت جحش حين توفى أخوها فدعت بطيب فمست منه، ثم قالت؛ والله مالي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول وهو على المنبر: ((لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر)) ... الخبر. وأما قوله: ((تسلبي ثلاثًا)) قيل: أراد به لبس الود وهي تسمى السلاب ومنه قول الشاعر: يخمشن حر أوجه صحاح في السلب السود وفي الأمساح والأمساح: جمع مسح. وأما المعتدةً المطلقةً عن طلاق رجعى فلا يلزمها الإحداد قولًا واحدًا، وروى أبو ثور عن الشافعي أنه قال: ((أستحب لها الإحداد وهذا النظير أسفها عليه فيرغب في مراجعتها. وقيل: فيه وجهان: أحدهما: هذا. والثاني: لا يستحب ذلك بل يندب إلى التصنع له بالزينةً ليميل إليها فيرغب في مراجعتها. وأما المطلقة البائن هل يلزمها الإحداد؟ فيه قولان: أحدهما: قاله في القديم يلزمها، وبه قال أبو حنيفةً، وأحمد (ق 105 ب) في روايةً

وروي ذلك عن سعيد بن المسيب؛ لأن هذه بائن معتدةً عن نكاح فيلزمها الإحداد كالمتوفى عنها. والثاني: قاله في الجديد: لا يلزمها الإحداد، وبه قال ربيعةً، ومالك، وعطاء. وهو الرواية الثانيةً عن أحمد ويستحب لها؛ لأن الشافعي قال: "أسحب لها ذلك ولا يتبين أن أوجبه عليها 0 وهذا لأنها معتدةً عن طلاق فأشبهت الرجعيةً، وتفارق المتوفى عنها؛ لأن عدتها. عدة الحرمة والتفجيع، وعدةً الطلاق عدةً الغبط وقلما تكون إلا ذات حقد عليه فافترقا. ثم إن المزني اختار إلحاق البائنةً بالمتوفى عنها، واعترض على كلام الشافعي لأنهما قد يختلفان في حال، وإن اجتمعا في حال ووجه اختلافهما ما ذكرنا فقال: كل بائن على أصل فهو يشبه له من وجه وإن خالف غيره، ولو لم يلزم القياس إلا باجتماع الوجوه بطل القياس. والجواب أن الفرع والأصل كما قلت يجتمعان من وجه ويفترقان من وجه، ولكن إذا كان افتراقهما راجعًا إلى معنى مختص وجب الفرق بينهما في الحكم والمعنى المختص في إحداد عدةً الوفاةً ما ذكرنا من إظهار المفجع على الزوج الميت، وهذا المعنى مفقود في عدة الطلاق، أو يقول: هذا الذي ذكره ينقلب عليه وذلك أنه لو كان يكفي في القياس شبه ما بطل القياس قط. آو نقول: هذا قياس شبه وليس بقياس عليه، وقياس الشبه إذا كان مترددًا بين أصلين يشبه كل واحد منهما لم يقس على أحدهما إلا أن يغلب شبهة به، وهذه المطلقةً بالرجعيةً أشبه. مسألة: قال: "ولا تجتنب المعتدةً في النكاح الفاسد [وأم الولد] ما تجتنب المعتدةً ويسكن حيث شئن" لا يجب الإحداد على المحتدةً من نكاح فاسد؛ لأن الإحداد إظهار الحزن على الزوج وعلى ما فاتها من عصمة (ق 106 أ) النكاح، وهذه يس لها زوج ولا عصمة نكاح، فكذلك لا يلزم أم الولد؛ لأنه لا يجب عليها عدةً الوفاةً، وإنما يجب عليها الاستبراء والإحداد من حقوق النكاح فلا يجب في الاستبراء. وأما مفسوخةً النكاح لا إحداد عليها؛ لأن فسخ النكاح رفع العقد من أصله، ألا ترى أن الزوج لو كان وطئها قبل الفسخ لزمه مهر مثلها، ولأنها لو فسخت بمعنى فيه فهي المختارة للفسخ، فلم يشبه الإحداد حالها، وإن كان هو المختار بسبب بها فإن الفسخ مضاف إليها حتى كأنها هي المختارةً للفسخ، وكذلك الموطوءة بالشبهةً لا إحداد عليها

في عدتها [كما] ذكرنا. وأما قول الشافعي: " ويكن حيث شئن"، أراد به أن المعتدةً من نكاح فاسد لا سكنى لها، لأنه لا سكنى في حال العقد قبل أن يفرق بينهما، فلان لا سكنى لها في حال العدة أولى فتسكن حيث شاءت. قال أصحابنا: وإن تبرع الواطئ وأمكنها موضعًا لزمها أن تسكنه، وكذلك ورثه اليد إذا أسكنوا أم الولد لزمها ذلك كما قال الشافعي في ورثة المتوفى عنها. مسألة: قال: ((وإنما الإحداد في البدن وتترك زينة البدن)). قصد بهذا الكلام أنها لا تؤمر بالإحداد في بيتها بأن لا تسكنه، ولا في أمر فرشها بأن لا تفرش ثيابًا حسنه، كما كان أهل الجاهليةً يفعلون، تقعد إحداهن في شر أحلامها في شر بيتها، وإنما ذلك في البدن والثوب، وهو أن لا تدخل زينة ولا طيبًا من ألوان الصبغ المزينةً ولا تلبى ثياب الحرير وكل ما تشتهيه الأنفس من هذا الجنس، وقد ذكر الشافعي تفصيله. فقال: ((ولا تدهن رأسها بدهن طيب (ق 106 ب) ولا غير طيب. قال في ((الأم)): بزيت ولا شيرق ولا غيرهما؛ لأن الأدهان كلها تقوم مقام واحد في ترجيل الشعر وإذهاب الشعر وذلك هو الزينة إلا أن يكون صلعًا فيكون لها أن تدس رأسها بدهن غير مطيب. وهكذا المحرم يفتدي بأن يدهن رأسه ولحيته بزيت لما وصفت. وأما بدنها فلا بأس بدهنها إلا الطيب كما لا بأس به للمحرم، وقال أبو حنيفة: لا تدهن بدنها كما لا تدهن رأسها وهذا غلط لما ذكرنا. وأما قول الشافعي: ((فإن خالفت المحرم من بعض أمرها 0 أراد به أن المحرم ممنوع عن لبس الثياب المخيطةً وهذه غير ممنوعةً، والمحرم غير ممنوع من لبس الثوب المعصفر وهذه ممنوعةً. قال أصحابنا: وجملته أن المحرمة والمعتدةً يشتركان في بعض المحرمات ويختلفان في البعض، فيحرم على المعتدةً ويحل للمحرمةً ويحرم على المحرمة ليحل للمعتدةً. فأما ما يشتركان في تحريمه عليهما فهو الوطء، والاستمتاع، وعقد النكاح، واستعمال الطيب والدهن في موضع الترجيل، وأما ما يحرم على المحرمة ويحل للمعتدةً، فما ذكرنا وتقليم الأظفار، وحلق الشعر، وقتل الصيد وأكله. وأما ما يحرم على المعتدةً ويحل للمحرمة فما ذكرنا والخضاب، ولبس الحلي، والكحل الأسود.

فرع: قال أصحابنا: لو كان للمرأةً لحيةً لا يجوز لها أن تدهنها لأنه ترجلها فتكون زينةً، واللحيةً، وإن كانت قبيحةً للنساء فهي مع ترك الدهن أقبح. مسألة: قال: ((وكل كحل كان زينة فلا خير فيه)). الفصل: أراد به الكحل الأسود الذي يقال له الأسود وهو الأصفهاني، لا يحل لها ذلك لأنه يسود الحدقة والأجفان ولا فرق بين آن تكون المرأةً بيضاء أو سوداء؛ لأنه زينةً وملاحةً لهما فإنه يسود حدقةً السوداء ويفتحها، والدليل عليه خبر أم سلمه الذي ذكرنا (ق 107 أ). وحكي الماسرجسي عن بعض أصحابنا أنه قال: إن كانت سوداء جاز لها الاكتحال به، وهذا غير صحيح لما ذكرنا. قال: فأما الفارسي وما أشبهه إذا احتاجت إليه فلا بأس به؛ لأنه ليس بزينةً بل يزيد العين مرهًا وقبحًا، وأراد بالفارس التوتيا والبرود الأبيض، فإن ذلك ليس بزينةً بل يزيد العين قبحًا والمرء أن لا تقبل العين الكحل فينتشر حواليها تقبح العين. وقيل: معناه تسترخي العين إذا اكتحلت به. قال أصحابنا: ويجوز ذلك أيضًا من غير ضرورة حاجته ليلًا ونهارًا، وقال بعض أصحابنا، هو زينة لبعض النساء كنساء مكةً فيمنع منه البيض والسود، وهذا لأن الاعتبار بلونه لا يكون مستعمله. وقال القفال: الإثمد: زينة لنساء العجم دون العرب؛ لأن أعينهن سود والإثمد: سود، والكحل الأبيض والأصفر زينةً لنساء العرب دون العجم فيفرق بينهن في ذلك. وهذا غير صحيح أيضًا لما ذكرنا، ولو استعملت كحل الزينةً في غير عينها جاز لأنها يزيد تشويها إلا الأصفر منه الذي له لون إذا طلي به الجسد كالصبر فتمنع منه فيما ظهر من الجسد، كالوجه ولا تمنع فيما بطن ذكره في الحاوي. ثم قال الشافعي: ((وما اضطرت إليه مما فيه زينةً من الكحل اكتحلت به ليلًا وتمسحه نهارًا)) قال: وكذلك الإمام يعني الصبر، قال الأزهري: يقال المرأةً إذا طلي حول عينيها بصبر أو زعفران قد دمت عينها، وكذلك إذا طلت غير موضح العين، وقيل: كل طلي تحسن به الوجه من اسفيذاج العرائس والكلكون ونحوه فهو الدمام، وقيل: هو ما تحمر به المرأةً وجهها. وقيل: هو ما يلطخ به حول العين مثل الحضض (ق 107 ب) وغيره مما يبرد ويزيل حكةً العين وحرقتها ونحو ذلك، فكل هذا نيةً تمنع منه.

قال الشافعي: "وَالصَّبْر زِنَيةً يَصْفَرَّ وَلَيْسَ بِطِيبٍ فَأَذِنَ لَهاَ باللَّيْل حَيْثُ لاَ تَرَي وَتمَسحُهُ بالنَّهَار حَيْثُ يُري وكَذَلِكَ مَا أَشْبَهَهُ". وقال في "الأم": "وكذلك ما أرادت به الدواء. يريد به أنه إذا كان علي وجهها شيء يحتاج أن يدع عليه الصبر لتداوي به وضعته عليه بالليل وتمسحه بالنهار، وإذا كانت تحت ثيابها قال في "الأم": وضعته عليه بالليل والنهار والأصل فيه خبر أم سلمه في الصبر علي ما ذكرنا. وأما الطيب فإنه يحرم عليها لأنه يدعو إلي الجماع، وقد ذكرنا فيه الخير. وقال بعض أصحابنا: إذا قلنا: لا يجب الإحداد علي المبتوت هل يحرم عليها الطيب وجهان: أحدهما: لا يحرم. والثاني: يحرم لاختصاصه من بين محظورات الإحداد بتحريك شهوة الرجال وشهوة الرجال لها. وأما الغالية التي لا ريح لها لا يجوز لها استعمالها في وجهها لأنه زينة، ويجوز لها استعمالها تحت ثيابها لأنه ليس بطيب. وأما الخضاب تمنع منه المعتد للخبر، وقال أصحابنا: وتمنع منه وإن غر السواد لأنهكا معاً زينة وتحسين. قالوا: وإنما يمنع من ذلك فيما يظهر من اليدين والرجلين والوجه، فإن استعملت ذلك في غوامض بدنها حيث لا تري فلا بأس به. قال أصحابنا: ولا تحت جبينها لأن زينة لوجهها، وأما الاغتسال والتنظيف فلا شك في إباحته. مسألة: قال: "وَفي الثَّياب زِينَتَان إحْدَاهُمَا جمَالُ الثَّيابِ عَلَي اللاَّبِسِينَ وتَسُتُر العوْرَةَ". الفصل: أرد به أن الثوب زينتان: أحدهما: (ق 108 أ) تحصل بنفس الثوب وهي ستر العورة والبدن ويوجد ذلك في كل ثوب، قال تعالي: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف:31] وأراد به ستر العورة. والثاني: يحصل بإدخال صبغ عليه وإطلاق الزينة ينصرف إلي هذه الزينة دون غيره، قال الشافعي: ونهي الحاد عن الزينة التي تدخل على الثياب دون الزينة التي تحصل تحت الثياب، فلا بأس أن تلبس الحاد كل ثوب من البياض لأن البياض ليس بمزين وكذلك الصوف والوبر.

قال [في] "الأم": والشعر وكل ما نسج علي وجهه لم يدخل عليه صبغ من خز أو غيره، وإنما كام كذلك لأن البياض زينة للأصل في الخلقة، وذلك لا يحرم علي الحاد قياساً علي زينة خلقها وجمالها، فإنه لا يلزمها تغييرها بما يشوهها ويقبح وجهها وعلي هذا يجوز لها لبسه، وإن كان فاخر كالمروري المرتفع والمروري والنيسابوري والد يبقي والعصب. وأما الإبر يسم لا نص فيه قال أصحابنا: هو كغيره، إذا نسج علي جهتهِ من غير صنع، وإن كان أعلي ما في الباب من جنسه هكذا ذكره أهل العراق. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لما قال الشافعي "لاَ بَاسَ أَنْ تَلْبَسَ الحَادُّ كُلَّ ثَوبٍ من البَيَاضِ [لأَنَّ البَيَاضَ] لَيْسَ بمُزيَّنٍ". يدل علي أنها يجوز لها لبس ثوب الإبر يسم إذا كان أبيض اللون. وقال القفال: لا يجوز لها لبس الإبرسيم بحالٍ. وهذا غلط، لأن جنسه من أصل الخلقة لا زينة أدخلت عليه فلا تمنع منه. وأما الخز فلها لبسه؛ لأن الصوف فيه يسير الإبريسم وللرجل لبس الخز، وما راد الشافعي بالخز ههنا خز لم يصنع بل تدل علي لونه. وقال القفال: وأما ألعتابي فإنها لا تلبسه لأن الإبر يسم فيه ظاهر (ق 108 ب) فإن لحمته إبري سم ويغلب ذلك علي سداه والاعتبار بما يظهر. وقال سائر أصحابنا: هذا إذا دخل فيه الصبغ، فإن لم يصبغ فعلي ما ذكرنا لا يحرم، ثم قال الشافعي: " وَكَذَلكَ كُلُّ صَبْغٍ لمْ تُرَدْ بِهِ تَزيْين الثَّوبِ مثل السَّوَادِ وَمَا صُبغَ ليُقبَّحَ لحُزْنٍ أَوْ لِنَفْي الوَسَخِ". وهذا الكلام غيره المزني للاختصار فأفسدنه، لأنه يقتضي أن يكون ما صبغ للحزن غير السواد، والصواب ما قال في "الأم" وكذلك كل ما صبغ لم يرد به تزييني الثوب مثل السواد وما أشبه، فإن من صبغة بالسواد إنما صبغة لتقبيحه للحزن أو لنفي الوسخ عنه، وجمله الثوب الذي أدخل عليه الصبغ علي ثلاثة أضرب: أحدهما: ما قصد به دفع الوسخ أو إظهار الحزن كالكحل يتعاطاه من كثرة وسخة طباعة الإدامة ونحوهم، والسواد كله أعلاه وأدناه من خز أو عيره يلبس في العادة عند الغم والمصائب فلأتمنع منه الحاد. قال في الحاوي: وهل يجب لبس السواد في الإحداد؟ وجهان: أحدهما: يجب لاختصاصه بشعار الحزن في المصائب.

والثاني: يستحب ولا يحب لاختصاص الوجوب بما يجتنبه دون ما يستعمله، وهذان الوجهان من اختلاف التأويلين في قوله صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت عميس: "تصلبي" فأحد التأويلين أنه [أراد به] لبس السواد فيكون واجباً لأمره وعلي التأويل الآخر لا يجب. والثاني: ما يقصد به الزينة وهو الأحمر والأصفر والخلوتي وأوردي ونحو ذلك فيمنع منه الحاد. وقال في "الأم": "لو كان في الثوب وشئ وتلميع مثل العصب ولحبره فلا تلبسه الحاد غليظاً كان أو رقيقاً، والمذهب أنه لا فصل بين ما صبغ من هذا بعد نسجه وبين ما صبغ غزله ثم نسج، وقال أبو إسحاق: إن كان صبغ بعد نسجه منعت منه (ق 109 أ) وإن كان صبغ ثم نسج لم تمنع منه؛ لأنه إذا كان غزله مصبوغاً كان بمنزلة الثياب التي ذاتها زينة ونسجت علي وجهها من غير صبغ. وروي هذا عن عمرو رضي الله عنه، وقد روي في خبر أم عطية: " إلا ثوب عصب" وفسرتاه بهذا، قال أبو سليمان الخطابي: وهذا خلاف نص الشافعي ههنا، وفي الأم لأنه قال ههنا، وصباغ الغزل بالخضرة الصافية محرمة والعصب والخبرة يصبغ غزله قبل النسج ونص عليه فيا الأم. وقد روي في خبر أم سلمه:" لا تلبس المعصفر ولا الممشوق" ولم يفصل بين ما نسج بعد صبغ الغزل وبين ما نسج، ثم صبغ ولأن ما صبغ غزله، ثم نسج يكون أرفع وأحسن مما صبغ الغزل وبين ما نسج، ثم صبغ ولأن ما صبغ غزله، ثم نسج يكون أرفع وأحسن مما صبغ بعد النسج، ويحتمل أن يكون المراد بما قال في خبر أم عطية ما لا زينة فيه كالأسود والكحل. وقد قال مالك: لا تلبس ثوباً مصبوغاً بشيء من الصبغ إلا بالسواد، وقال سفيان الثوري: تنفي الزينة والثوب المصبوغ. والثالث: ما يختلف حكمه باختلاف صبغة بالأخضر والأزرق ينظر فيه، فإن كان مشبع الخضرة كان إلي السواد أقرب، وإن كان صافي الخضرة كان إلي الأحمر أقرب فما كان منه مشبعاً لم تمنع منه كالكحل، وما كان منه صافي اللون منعت لأنه زينة. قال الشافعي: "وَصِباغُ الغَزلُ بالخُضْرةِ يُقَاربُ السَّوادَ لاَ الخُضْرةَ الصَّافيةَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ". قال أصحابنا: يريد به أن الأزرق إذا كان مشبعاً فهو بمنزلة السواد، وإن كان صافياً نقياً فهو زينة وهو أحسن الألوان فيحرم عليها، وهذا قريب مما تقدم وجمله هذا الفصل أنها مأمورة بهيئة لا تبتدرها الأبصار ولا يستحنها الناظر إظهارا لتفجع (على) فراقه (ق 109 ب).

فرع: يمنع من لبس الحلي سواء كان من الذهب أو الفضة، وقال في "البويطي": ولا تلبس شيئاً من الحلي خاتماً ولا غيره؛ لأن في ذلك زينة، وحكي ابن المنذر، عن عطاء أنه قال: يحرم عليها حلي الذهب دون الفضة، وهذا غلط لخبر أم سلمه" ولا الحلي" ولم يفصل ولأنه يزيد في حسنها، ولهذا الشاعر: وَمَا الحُليَّ إِلا زِينةٌ لِنَقيصةٌ يُتمْ منْ حُسْن إذَا الحُسْنُ قَصَّرَا فَأَمَّا إِذَا كاَنَ الجَمَالُ مُوَفَّراً كَحُسْنِك لَمْ يَحتْجْ إلَي أَنْ يُزوّرَا فرع آخر: لو تحلت بالصفر والنحاس والرصاص، فإن كان مموهاً بالذهب أو الفضة أو كان مشابهاً لهما يخفي علي الناظر إلا بعد شدة التأمل تمنع، ونلم يشبه يهما روعي فيه حال المعتد، فإن كانت من قوم جرت عادتهم بالتحلي بها منعت لأنه زينة لهم، وإن كانت من قوم لا يتحلون به وإنما يستعملونه لما يتصورن فيه من الحرز والنفع جاز لها لبسه لأنه ليس بزينة. فرع آخر: قال بعض أصحابنا: لو أرادت تلبس حلياً ليلا وتنزعه نهاراً جاز، لكن إن فعلت ذلك لإحرازه لم يكره، وإن فعلت لغير حاجة كره ولم يحرم. فرع آخر: لا يحرم عليها أن تنام علي فراش أو تضع رأسها علي وسادة وإن كانت مستحسنة، ولا تمنع من أكل الحلو أو اللحم. فأما أكل ما فيه طيب من الحلو أو الطبخ يحرم لأنه يحرك شهوتها للرجال، وإن لم تتحرك لها شهوة الرجال. ذكره في الحاوي (11/ 283) وتمنع من لبس الوقايات. فرع آخر: لو كان علي بياض الثياب طرز فإن كانت إعلاماً كباراً لم يجز لأنها زينة ظاهرة علي الثوب، وإن كانت صغاراً خفية فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه زينة كالخاتم (ق 110 أ) فتمنع. والثاني: أنه عفو لا يمنع كخضابها. والثالث: إن ركبت بعد النسج كان زينة محضة، وإن نسيجه معها لم يمنع لأنها غير مزيد في الثوب، وتمنع من لبس القرمزي والمقانع بطراز الذهب. فرع آخر: قال في "الأم": لو تركت الإحداد في عدتها حتى انقضت وفي بعضها كانت

مسيئة ولم يكن عليها أن تستأنف العدة. فرع آخر: قال أيضاً: إن بلغها يقين وفاته أو طلاقه ولم تعرف اليوم الذي طلقها أو مات فيه أعتدت من يوم استيقنت بطلاقه ووفاته حتي تكمل عدتها كأنه شهد عندها قوم أنه مات في رجب وقالوا: لا ندري في أي رجب مات فتعتد من آخر ساعات النهار من رجب واستقبلت بالعدة شعبان. مسألة: قال: "وَكَذَلكَ كُل ُّحرة وَأَمَةٍ كَبيرةٍ أِوْ صَغيرةٍ، مُسْلمَةٍ أَوْ ذِمَّيةٍ". أراد أن الإحداد واجب علي هؤلاء في عدة الوفاة؛ لأن كل من وجبت عليها عدة الوفاة وجب عليها الإحداد. فأما الصغيرة فإن وليها يجنبها جميع ما يجب علي الحاد أن يتجنبه، وهو قول الزهري علي ما حكاه محمد بن إسماعيل البخاري عنه. وأ/االذمية فلا فرق بين أن يكون زوجها مسلماً أو ذمياً؛ لأن عدة الوفاة واجبة لها فكذلك الإحداد. وقال أبو حنيفة: لا إحداد علي الصغيرة لأنها غير مكلفة بالعبادات، وهذا غلط لأنَّا ألحقناها في أصل العدة بالمكلفة فكذلك في أصل العدةز وقال أبو حنيفة أيضاً: لا يلزم الإحداد علي الذمية في عدة المسلم، وإن لزمت العدة. ولا تلزم العدة ولا الإحداد علي الزوج الكافر، واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد علي ميت" الخبر فقيد بالمؤمنة، وهذا غلط لأنها معتدة فيلزمها الإحداد كالمسلمة. وأما الخبر (ق 110 ب) فهو احتجاج بدليل الخطاب وهم لا يقولون به، وقد بينَّا أنه يتعلق به حق الزوج الكل سواء. مسألة: قال: "وَلَوْ تَزَوَّجَتْ نَصْرانَّيةٌ نَصْرانيَّا فَأَصَابَهَا أَحَلَّها لِزَوْجِهَا المُسْلمِ ويحُصَّنُهَا". الفصل: قد ذكرنا هذه المسألة في كتاب النكاح، وقصد بقوله: "يحصنها" الرد علي أبي حنبفة حيث قال: لا رجم علي المشرك أصلاً ولا رجم علي المسلم إذا أصاب النصرانية بالنكاح ثم (زنى).

باب اجتماع العدتين

باب اجتماع العدتين مسألة: قال: "وَإذَا تَزَوَّجَتْ فِي العِدَّةِ وَدَخَلَ بهَا الثَّاني فإَنَّهَا تَعْتدُّ بَقيَّةِ عِدَّتِهَا مِنَ الأَوَّلِ". الفصل: قد بيَّنا أنه لا يجوز للمعتد أن تنكح إلا بعدة انقضاء العدة لقوله تعالي: {ولا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ} [البَقَرةَ: 235] والنهي يدل علي الفساد، فإن نكحت بطل النكاح، ولا يتعلق بهذا العقد شيء من أحكام النكاح بحالٍ، فإن كانا عالمين بالتحريم عزرا لأجل النكاح، ولكن لأنهما ارتكبا أمراً محظوراً وإن أحدهما عالماً ولآخر جاهلاً عزر الجاهل وعزر العالم. وحكي عن مالك أنه قال: إذا انقضت العدة لا تجوز لمن تزوجها في العدة فلاق بينهما أن يتزوجها ثانياً وهي محرمة عليه ما لم تنكح غيره، وهذا مذهب غريب وعندنا لا تنقطع عدتها بنفس النكاح بحالٍ. نص عليه الشافعي في موضعين. وقال أبو بكر القفال ألشاشي: تنقطع عدتها بنفس النكاح وتصير به فراشاً للثاني أيضاً، حتى لو أتت بولدٍ لستة أشهر فصاعداً من وقت عقد النكاح فهو كما لو أتت به لستة أشهر من وقت العقد الصحيح، فجعلها بالعقد الفاسد فراشاً كما بالعقد الصحيح. واحتج بأن، العقد الفاسد يسلك به (ق 111 أ) مسلك الصحيح، وخالفه سائر أصحابنا، وقالوا: هذا وجه لا يحكي ولا وجه له لأنه فاسد فيلغي ولا حكم. فإن قيل: أليس قلتم لو راجع زوجته في العدة انقطعت العدة فقولوا: إذا نكحت انقطعت العدة. قيل: الفرق أن الرجعة صحيحة مبيحة فتصير به فراشاً وتنقطع بخلاف هذا العقد. فإن قيل: أليس الرجعية إذا تزوج في عدتها انقطعت نفقتها وسكناها بهذا النكاح، فهلا قلتم تنقطع عدتها به أيضاً، قيل: الفرق أنها إذا تزوجت فقد نشرت والنشوز يقطع النفقة والسكني كما في حالة النكاح، بخلاف العدة فإنها لا تنقطع بالنشوز بدليل أ، ها لو تركت الإحداد والسكون في البيت لا تنقطع العدة فلهذا لا تنقطع بنفس النكاح ما لم يوجد حقيقة الوطء. فإن قيل: لو خالعها، ثم تزوج بها في عدتها، تنقطع العدة بنفس النكاحٍ فكذلك ههنا. قلنا: سَلمهُ أكثر أصحابنا، والفرق صحيح فتصير المرأة فراشاً تنقطع العدة بخلاف هذا العقد.

وحكي عن ابن سريج أنه قال: عدتها لا تنقطع إلا يوطئه كما لو تزوجها غيره في العدة لم تنقطع إلا يوطئه، وهذا غلط، وألف ق ظاهر. فإذا تقرر هذا فإنَّا نفرق بينهما، فإن كان قبل الدخول تكمل مدة الأول ولا كلام، وإن كان بعد الدخول، فإن كانا عالمين بالتحريم غلوطء زني؛ لأن النكاح في العدة مجمع علي تحريمه ولا تنقطع به عدتها؛ لأنها لم تصر فراشاً للواطئ. وكذلك إن كان الزوج عالماً بالتحريم دونها، وإن كانا جاهلين بالتحريم لقرب عهدهما بالإسلام، أو نشأ في بادية نائية، أو كان الزوج جاهلاً دونها انقطعت تلك العدة؛ لأنها صارت فراشا للثاني. ومتى تعود إلي العدة فقد ذكرنا أن الصحيح أنها تعود عقب التفريق. وقال بعض أهل خراسان: تعود عند آخر وطئ الثاني، ثم يلزمها أن (ق 111 ب) تعتد بقية عدتها من الأول، ثم تعتد من الثاني، ولا تتداخل العدتان من رجلين علي ما ذكرنا، وبه قال أحمد خلافاً لأبي حنيفة، وعن مالك روايتان، واحتج الشافعي في ذلك بقول عمر، وعلي رضي الله عنهما، واستأنس بقول عمر بن عبد العزيز، والمزني ذكر قول عمر بن عبد العزيز في عزلته الاحتجاج ولا حجة في قوله، وإنما الحجة في قول الصحابة فلعل الشافعي أراد الاحتجاج بقول عمر، وعلي ثم أبعهما عمرين عبد العزيز لا علي جهة الاحتجاج، ثم احتج الشافعي بالقياس، فقال: فقال " لأن عليها حقين بسبب الزوجين وكذلك كل حقين لزممها من وجهين" يعني لو لزممها دينان لرجلين لم يتداخلا فالغدتان يجريان مجري دينين وتحريره أنهما حقان مقصودان لرجلين فلا يتداخلان كالدينين لرجلين، أو حقان لآدميين يتعلقان بالواطئ فلا يتداخلان كالمهرين لا مرآتين، وتمام ما روي عن عمر رضي الله عنه ما روي أن طلحة كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها ألبته. فنكحت في آخر عدتها فضربها عمر رضي الله عنه وضرب زوجها بالمخففة ضربات وفرق بينهما، ثم قال عمر: أيما امرأة نكحت في عدتها، فإن كان زوجها الذي تزوجها لم يدخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول [وكان خاطباً من الخطاب، فإن كان دخل بها فرق بينهما] ثم اعتدت بقية عدتها من زوجها الأول، ثم اعتدت من الآخر، ثم لم ينكحها أبداً وروي أبي عمر أن عليا رضي الله عنه قضي في التي تزوج في عدنها أنه يفرق بينهما ولها الصداق بما استحل من فرجها وتكمل ما أفسدت من العدة للأول وتعتد من الآخر. وقال الشعبي: أتي عمر بامرأة تزوجت في عدتها فأخذ مهرها فجعله في بيت المال، وفرق بينهما [وقال: لا يجتمعان وعاقبهما، فقل علي: ليس هكذا، ولكن هذه

الحالة من الناس، ولكن يفرق بينهما ثم تستكمل بقية العدة من الأول، ثم تستقبل عدةً أخري ولها المهر بما استحل من فرجها فحمد الله عمر وأثني عليه. وروي مسروق أن عمر رضي الله عنه (ق 112 أ) رجع عن ذلك وجعل مهرها وجعلهما يجتمعان. مسألة: قال: "وَلَوْ اعْتِدَّتْ بحَيْضَةٍ، ثُمَّ أَصَابَها الثاَّنِي فَحَمَلَتْ وَفَرَّقَ بَينْهُمَا اعْتَدَّتْ بالحَمْل، فَإِذَا وَضَعَتْهُ لأَقَلَّ منْ سَّتةِ أَشْهُرٍ منْ يوْمِ نَكَحَهَا الآَخرُ فَهُوَ مِنَ الأَوَّلِ". الفصل: قوله: "مِنْ يَومْ نَكَحَهَا لآخَرُ" أي من يوم وطئها الآخر، لأن بالنكاح الفاسد لا تصير فراشاً علي ما ذكرنا والاعتبار بالوطء، وإنما يخبر عن الوطء بالنكاح؛ لأن الوطء في اللغة يسمي نكاحاً، أو لعله صور المسألة في رجل عقد عليها النكاح الفاسد وأصابها تعقيب العقد من غير أن يطاول الزمان بين العقد والوطء، فذلك ذكر العقد. وهذا كما قال في كتاب " العيدين" لا يزال الناس يكبرون في المصلي حتى يفتتح الإمام الصلاة. وقال في موضع حتى يخرج الإمام، وأراد حتى يفتتح الإمام الصلاة ولكن خروج الإمام إلي المصلي وافتتاحه في زمان واحد، فإن السنة أن لا يشتغل إذا انتهي إلي لبصلي بشيء سوى الافتتاح، فلما تقارب الخروج والافتتاح استخار الشافعي في أن يعبر في موضع بالخروج، وفي موضع آخر بالافتتاح لا علي قصد القولين، فكذلك ههنا صور في الزمان المقارب. وجملته أنه إذا وطئها الثاني فإنها تصير فراشاً للثاني بهذا الوطء وهي فراش بالنكاح، ولا يخلو بعد التفرق بينها وبين الثاني من أن تكونن حاملاً أو حائلاً، فإن كانت حاملاً فعدتها لإقراء أو بالشهور فتكمل عدة الأول، ثم تعتد من الثاني، وإنما قدمنا عدة الأول لأنها سابقة، وأنها وجبيت عن وطء متاح ثم للأول أن يراجعها في بقية عدتها منه، وإذا راجع سقطت عنها عدتها منه وشرعت في عدة الوطء بالشبهة ويجتنبها الزوج حتى تفرغ، وإن كانت بائناً. قال أب حامد (ق 112 ب) وجماعة: لا يجوز له إن ينكحها بخلاف الرجعة؛ لأن النكاح إنما يجوز فيمن تحل منها تعقيب العقد شئ ولا تحل هذه لزوجها تعقيب العقد لمكان عدة الثاني وهي كالمحرمة لا يحل نكاحها. قال: فإن قيل: لو كانت البقية بقية عدته ينفرد بها كان له العقد عليها فيها. قيل: إنما يجوز ذلك إذا لم يكن عليها فير عدته. قال: ورأيت كثيراً من شيوخ المذهب يقول

في تلك البقية معتدة عن الأول والثاني معاً، ثم تستأنف للثاني عدة وهذا بعيد لا يحكي. وقال القفال: ظاهر المذهب أن له أن ينكحها، ومن صحابنا من قال: لا ينكحها بخلاف الرجعة لما ذكرنا، وهذا غلط علي ما ذكرنا، وإن لم يراجعها الأول حتي انقضت عدتها منه فالثاني أن ينكحها في عدتها منه، فإن كانت حاملاً فالكلام في ثلاثة أحكام في حكم النسب والعدة والرجعة، فإن أتت بولد لوقت يمكن أن يكون من الأول ولا يمكن أن يكون من الثاني علي ما تقدم بيانه يلحق بالأول وعدتها منه، فإذا وضعت استأنفت للثاني ثلاثة أقراء، فإن كان الطلاق بائناً فلا رجعة له عليها، وإن رجعياً فله الرجعة مالم تضع؛ لأنها في عدته، فإذا وضعت انقطعت رجعته وليس له مراجعتها وليس في مدة اجتماعها مع الأول لأنها خارجة فيها من عدةٍ وفراش لغيره، فإن راجع فيها كانت الرجعة باطلة. وقال في "الحاوي": له حين الرجعة ثلاثة أحوال: أحدها: أن يعلم وقت [الرجعة] بتقدم حملها علي الوطء الثاني فرجعته صحيحة علي ما ذكرنا لعلمه بأنها في عدته. والثانية: أن يعلم يحملها وقت رجعته ولا يعلم تقدمه علي وطء الثاني ففي صحة رجعته وجهان: أحدهما: وهو ظاهر المذهب يصح لأنها صادفت مدة عدته. والثاني: لا يصح، لأن الحمل قبل وضعه مشتبه الحال متردد بين أن يكون (ق 113 أ) منه فيمللك فيه الرجعة، وبين أن يكون من غيره فلا يملكها فصار شاكاً استحقاقها فيه فبطلت. والثالثة: أن يراجعها وهو غير عالم بحملها، فإن كان قبل أن يمضي عليها بقية عدته صحت، وإن كان بعد مضيها لم يصح اعتباراً بالظاهر من انقضائها، وإن كانت في الباطن باقية فيها وصارت رجعية مع اعتقاده انقضاء العدة عبثاً منه، إن وافقت زمان العدة، وإن أتت به لوقت لا يمكن أن يكون من الأول ويمكن أ، يكون من الثاني يلحق بالثاني وتنقضي عدتها به عن الثاني، ثم تكمل بعد الوضع بقية عدة الأول، فإن كان الطلاق رجعياً، وقلنا إنه كالطلاق البائن من أن مدة أكثر الحمل في حقها تكون من وقت الطلاق لا من وقت انقضاء العدة، فله الرجعة في يبقيه عدتها منه بعد الوضع وجها واحداً، وإن كانت في مدة النفاس؛ لأنها وإن كانت لا تعتد بمدة النفاس من العدة فهي من جهة العدة كالحيض الذي وقع فيه الطلاق. وهل له أن يراجعها قبل الوضع؟ قد ذكرنا وجهين. قال صاحب "الحاوي" الصحيح أنه لا يجوز لأنها معتدة من غير وذكر وجهاً عن بعض أصحابنا أنه لا يجوز في مدة النفاس لأنها غير معتدة في هذه الحالة منه، قال: والصحيح عندي ههنا أنه يجوز، وهذا غريب، وإن أتت به لوقتٍ لا يمكن أن يكون

لواحد منهما فهو منتفٍ عنهما ولا تنقضي به عدة واحد منهما فتكمل بعد الوضع عدتها من الأول ثم تستأنف للثاني عدة كاملة, وقال أبو حامد: عندي أنها تعتد به عن أحدهما لا بعينه؛ لأنه يمكن أن يكون منه بدليل أنه لو أقر به لحقه. فعلي هذا إذا وضعت اعتدت بثلاثة أقرأ احتياطا، وإن رأت علي الحمل دماً، وقلنا: أنه حيض، فإن قلنا بقول أبي حامد لم يعتد بإقرائها لئلا (ق 113 ب) تتداخل عدتان في حق شخصين. وإن قلنا بقول الجمهور فهل تحتسب بإقرائها من العدة؟ وجهان: أحدهما: لا تحتسب، لأنها لم تعتد بالحمل فبالإقراء التي علي الحمل أولي. والثاني: تحتسب، لأنه إذا سقط حكم الحمل في العدة ثبت فيها حكم الإقراء، كما تعتد بها مع الحمل إذا كانت العدتان معاً من صاحب الحمل علي ما تذكر، فعلي هذا إن مضت لها في مدة الحمل خمسة أقراء انقضت عدتها إذا كان بقي من الأول قرءان. وأما الرجعة فهي للأول من طلاقه الرجعي واستحقاقها معتبر بالحمل في سقوط أحدي العدتين به، فإن قلنا تسقط به أحدي العدتين فلا رجعة للأول في زمان الحمل، ولا في زمان الإقراء بعد وضع الحمل؛ لأن كل واحد من الزمنين قد يجوز أن يكون من عدة الأول، فصار كل واحد منهما مشكوكاً في استحقاق الرجعة فيه فلم يجز أن يستحقها بالشك، ولو جمع بين رجعتها في الحمل ورجعتها في القرءين بعد الحمل إتمام صحة رجعته وجهين: أحدهما: يصح لمصادفة إحداهما زمان العدة. والثاني: ليصح، لأنه لما لم يتعين في إحداهما لم يصح مع إبهامها، ذكره في الحاوي. وإن قلنا بالحمل لا تسقط أحدي العدتين وأنها بالإقراء فعدة الأول مقدمة علي عدة الثاني سواء اعتدت بإقرائها علي الحمل أو لا، ويجوز له أن يراجعها في الباقي من أقراء عدته، وفي جواز رجعتها في الحمل وجهان: أحدهما: لا يجوز؛ لأنها غير معتدة به منه. والثاني: يجوز، وإن لم تعتد به كالحيض ولا يجوز للثاني أن يتزوجها في عدة الحمل ولا [في عدة] الأول ويجوز له أن يتزوجها في عدته. وإن أتت به لوقت يمكن أن يكون من كل واحد منهما أريناه القافة علي ما ذكرنا، فإن لم يكن قافة أو أشكل علي القافة. قال الشافعي: ههنا "لا تكون بائن واحد منهما" ومعناه لا تكون بائن واحد منهما

بعينه [ق 114 أ] وإلا فهو ابن أحدهما بغير عينه. واعلم أن قول الشافعي: " فإن لم يكن قافه" يريد به في موضوع الولد المتنازع فيه وما قاربه إلي مسافة قل من يوم وليلة، ولم يرد أن لا يكونوا في الدنيا لأنهم لا يخلون من الحجاز. ولا يلزم إذا بعدوا أن يحمل الوالد إليهم ولا أن يحملوا إليه كالشهود والولي الغائب فيجري مجري العدم، فإن تكلفوا إحضارهم بجوز. وقال أيضاً: لو مات قبل أن يري القافة أو ألقته ميتاً فلا يكون ابن واحد منهما وأجري حكمه إذا مات قبل أن تراه القافة حكم ما لو لم تكن قافة، وظاهره أنه لا يري القائف بعد الموت. وأختلف أصحابنا في هذا، فقال عامة أصحابنا: الولد الميت لا يري القائف وهو ظاهر النص؛ لأنه الشبه الخفي والدلائل الغامضة والحلية بطلت بالموت. وقال أبو إسحاق: يري لقائف ما لم يتغير؛ لأن الشبه قائم بعد الوفاة، قال ومعني الشافعي لم يذكر الدفن، وإنما ذكر الموت فقط. وقال بعض أصحابنا: إذا خرج ميتاً نُظر، فإن كان موته قبل أن تستكمل أوصافه لم يحكم فيه بالقافة، وإن كان بعدتنا هي صورته فيه وجهان علي ما ذكرنا إذا مات بعد خروجه، وإن كان حكم القافه في المولود ميتاً أضعف، ولو مات المتناوعان في الولد وكان القائف يعرف الميت في حياته بحكم شبه منه. وقال القفال: يجوز هذا الإلحاق إن كان هناك ولد، وهذا غريب. فإذا تقرر هذا يترك الإشكال في موضوع حتي يبلغ فينتسب إلي أيهما شاء [ق 114 ب]. وأما العدة فالاحتياط أن تأي بعد النفاس بثلاثة أقراء علي ما ذكرنا، وأما الرجعة، قال أصحابنا: لا رجعة للأول في الأقراء الثلاثة فإنه لا يعلم أنها في عدة منه أو في عدة من الثاني ولا تصح الرجعة بالشك، ولو أراد أن ينكحها لا يجوز للأول ما لم تنقص عدتاهما. وأما الثاني فلا يجوز له أن يتزوجها في مدة الحمل لحق به أولا، لأنه إن لحق به فبعده عدة لغيره، وإن تزوجها في الأقراء بعد الحمل فما كان في القرءين فباطل لأنه متردد بين أن يكون من عدته، وبين أ، يكون من عدة الأول، والنكاح لا يستباح بالشك بخلاف الرجعة في أحد الوجهين؛ لأن النكاح عقد لا يجوز أن يكون موقوفاً خلوها العدة، والرجعة في أحد الوجهين؛ لأن النكاح عقد لا يجوز أن يكون موقوفاً خلوها العدة، والرجعة يجوز أن تكون موقوفة علي بقاء العدة، وإن تزوجها في القرء الثالث يجوز لأنه متردد بين أن تكون معتدة منه أو خالية من العدة، ول أراد الأول مراجعتها قبل الحمل فقد قلنا: إنه إن كان من الثاني هل للأول أن يراجعها في حال حملها من

الثاني؟ وجهان. فإن قلنا: له ذلك كان له مراجعتها ههنا؛ لأنه إن كان من الثاني صح، وإن كان منه فأولي بأن يصح. وإن قلنا: ليس له ذلك وإن كان منه فقد تردد بين أن يجوز ولا يجوز فمعناه للشك، فإن خالف وراجع ينظر، فإن ألحق الولد بالثاني فارجعة باطلة وجهاً واحداً، وإن لحق بالأول هل تصح الرجعة؟ وجهان: أحدهما: تصح، لأنا تبينَّاأنه فعل ما كان له فعله. والثاني: لا تصح، لأنه راجعها معتقداً أنه لا يجوز كما لو باع مال والده الغائب، ثم بان أن كان قد مات، وقد ورثه منه هل يصح البيع قولان؟ وكذلك إن راجع بعد وضع الحمل وقلنا: ليس له ذلك راعينا الحمل، فإن كان ملحقاً بالأول فالرجعة باطلة، وإن كان ملحقاً بالثاني هل تصح الرجعة؟ [ق 115 أ] فيه وجهان، وإن كان ذلك في القرء الثالث بعد الوضع فالرجعة باطلة بكل حالٍ؛ لأنه إن كان الولد ملجقاً بالأول فهي في عدة الثاني، وإن كان ملحقاً بالثاني فالذي عليها أن تكمل عن الأول بقرءين فهذا الثالث ليس بعدة منه. وقال القفال: إن أراد أن تصح رجعته يلزمه أن يراجعها مرتين مرة بعد وضع الحمل في القرءين ومرة قبله، وإن كانت بائناً فنكحها مرتين علي هذه الصورة هل يصح النكاح؟ وجهان، إذا جوزني له أن ينكحها وعدة الأجنبي أمامها أحدهما يجوز كالرجعة. والثاني: لا يجوز لأنه عقد النكاح علي الشك ولا يعرف متى يجوز له نكاحها، وهذا يشبهن القولين في توقف العقد علي التبيين. قال القفال: وهذا العرض علي القافة إذا دعياه أو أنكراه أو سكتا عن الإنكار وعن الدعوي، وإنما عرضنا عند سكوتهما لحق الولد في النسب، ولو ادعاه أحدهما وأنكر الآخر فيه وجهان: أحدهما: هو للمدعي كالمال. والثاني: يري القائف؛ لأن النسب حق الولد، وحق الله تعالي فلا يسقط بالإنكار ةترك اعوي. وهذا هو المشهور عند أصحابنا، والوجه الأول غريب. فرع: حكي يونس بن عبد الأعلى، عن الشافعي رحمة الله تعالي عليه، أنه قال: اختلف عمر وعلي رضي الله عنهما في ثلاثة مسائل: القياس فيها مع علي رضي الله عنه وبقوله: أقول. إحداها: أنها إذا تزوجت في عدتها ودخل بها الثاني تحرم هي علي الثاني أبداً عند عمر بن الخطاب رضي الله تعالي عنه وبه قال مالك، وعن أحمد روايتان وكان يقوله في

القديم. وعند علي رضي الله عنه وسائر الفقهاء لا تحرم عليه التأبيد وهو قوله الجديد وهكذا الخلاف [ق 115 ب] في كل وطء أفسد النسب حرمت به علي المفسد علي التأبيد مثل وطء زوجة غيره بشبهة، أو أمة غيره بشبهة في قوله القديم. ووجه هذا أنه استعجل الحق قبل وقته فحرمه الله تعالي في وقته، كلميراث إذا قتل مورثه لم يرثه، ولأنه سبب يفسد النسب فيحرم به علي التأييد كاللعان ووجه قوله الجديد أن الله تعالي ذكر أعيان المحرمات، ثم قال: {وأُحِلَّ لَكُم مَّا ورَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24]، ولأنه لو كان مباحاً لم يحرم به علي التأبيد فكذلك إذا كان حراماً بالزني، ولأنهم قالوا: لو كان عالماً بالتحريم لا يحرم علي التأبيد لعلمه أنه مزجور بالحد فاستغني عن الزجر بتأبد التحريم بخلاف الحامل، فإ، الجاهل مفسد النسب فزجر عن إفساده بتأييد التحريم بخلاف العالم وهذا لا يصح، لأن العالم أشد جرماً وبالزني يفسد النسب أيضاً، وإن لم يكن له حكم الإلحاق لزانٍ فهو بالزجر والتغليط أولي، وايضاً الوطء لا يقتضي تحريم الموطوءة علي الواطئ بل يقتضي تحريم غيرها علي الواطئ وتحريمها علي غير الواطئ فما قالوا خلاف الأصول. وأما قولهم إنه استعجل بالحق باطل كما لو طلق امرأته ثلاثاً لا تحل له حتي تنكح زوجاً غيره، فن نكحها بعد ذلك ودخل بها لم يحرم عليه أبداً وإن استعجل. وأما قياسه علي اللعان لا يصح؛ لأن الوصف لا يوجد في الأصل، فإن اللعان لا يفسد النسب، ولأن الجاهل غير مفسد للنسب؛ لأنه إذا علم نسبه إلي نفسه والعالم هو المفسد لأنه أضاف ولده إلي غيره. وقال أهل البصرة من أصحابنا: ذكر الشافعي في القديم ما ذكر حكاية ولم بعتقده مذهباً، ومن قال: أنه ذكره مذهباً لنفسه [ق 116 أ] اختلفوا هل يكون تفريق الحاكم بينهما شرطاً في هذا التحريم المؤبد أم لا؟ علي وجهين: أحدهما: لا يكون شرطاً وحرمت أبداً سواء افترقا بأنفسهما أو فرق الحاكم بينهما كما في الرضاع. والثاني: يكون شرطاً كاللعان مؤبد التحريم ولا يتم إلا بالحاكم. والمسألة الثانية: امرأة المفقودة فيها قولان. قال في القديم: تأتي الحاكم حتى تضرب أكثر من الحمل أربع سنين، ثم ثانية ليفرق بينها وتعقد عدة الوفاة، ثم تحل، وبه قال عمر رضي الله عنه وقال في" الجديد": لا تصبر أبداً، وبه قال علي رضي الله عنه، ولفظه: إنها ابتليت فلتصبر. والثالثة: إذا تزوجت الرجعية بعد انقضاء العدة وكان زوجها المطلق غائباً ودخل بها الثاني، ثم عاد المطلق وأقام بينه انه راجعها قبل انقضاء عدتها، قال عمر رضي الله عنه: الثاني أحق بها، وقال علي رضي الله عنه هي للأول وهو قولنا.

فرع آخر: قال ابن أبي هريرة: المشترك إذا تزوج بمشركة في العدة ثم أصابها وأسلم يكون عليها عدة واحدة؛ لأنه لم يؤخذ علينا حفظ نسائهم، وإنما أخذ علينا حفظ نسائنا، ولهذا المعني لا نتزوج بهن في حال العدة لئلا تختلط أنسابهم بأنسابنا. قال: وهذا إذا لم يكونوا أهل عهد، فأما إذا كانوا أهل عهد فقد وجب علينا بالعهد حفظ أنسابهم فعليها أن تأتي بالعدتين جميعاً، ونقل صاحب الإفصاح: هذه المسألة واختصرها، وقال: وكذلك المشركة تزوج في عدتها بمشرك فيسلم زوجها كان عليها ثلاثة أقراء؛ لأن الماء [ق 116 ب] الأول لا حرمة له، وإنما يستبرئها بالأجل حرمة الإسلام، وقال القاضي الطبري: رأيت أصحابنا المتأخرين ببغداد يذكرون في هذه المسألة وجهاً آخر أن علينا عدتين، ويقولون: لا نعلم للشافعي أن عليها عدة واحدة بل القياس علي أصله يقتضي عدتين، وقد طلبت هذ المسألة في الأم فلم أجدها، وذكر القاضي أبو علي البنديجي أن هذه المسألة مذكورة في الجامع الكبير والجواب: أنهما يتداخلان لأنه لا حرمة لماء الكافر فيجوز إبطال حقه، وهو ظاهر المذهب. ومن أصحابنا من قال: لا يتداخلان وهو الأقيس؛ لأنه لو لم يكن لمائه حرمة لم تجب العدة أصلاً، وهذا أصح عندي، وهو اختيار أصحابنا بخراسان، وقيل: نص الشافعي في هذه المسألة أنهما يتداخلان فقيل: المسلمة والحربية سواء ففيهما قولان نقلاً وتخريجاً ونسبوا إلي أبي حامد وهو غريب بعيد. فرع آخر: لو وطء رجل زوجة رجل بشبهة فدخلت في عدة الوطء، ثم طلقها زوجها قبل انقضاء عدة الوطء فيه وجهان. أحدهما: تأتي بما بقي من عدة الوطء لتقدمها، ثم تستأنف عدة الطلاق وتسقط بها الباقي من عدة الوطء، ولا نقول: تدخل بعينها في عدة الطلاق، وهذا لأن هذه العدة طرأ علي نكاح فجاز أن يسقط حكمها لضعفها بعد النكاح لقوة النكاح، ولأن هذه العدة وجبت عن وطء محظور، والعدة الثانية وجبت عن وطء مباح فكانت الثانية أقوي فزاحمتها، وقيل: هذا اختيار أبي إسحاق، ومثل هذا ذكره صاحب الحاوي، وقال القاضي الطبري، قال أبو إسحاق: تقدم عدة الزوج فاعتدت بثلاثة أقراء، ثم أكملت عدة الواطئ بالشبهة وكذا ذكره. [ق 117 أ] أبو حامد من أحد الوجهين وهذا أقيس. فرع آخر: إذا زوج أمته من رجل فطلقها بعد الدخول بها وجبت عليها العدة، فإن باعها في زمان عدتها من رجل صح البيع لأنه ليس فيها أكثر من تحريم الاستمتاع، ويجوز شراء

أمة لا تحل له كالأخت من الرضاعة ولا يصح أن يتزوجها؛ لأن المقصود من النكاح الاستمتاع فلا يجوز علي محرمةٍ الاستمتاع، والمقصود من البيع الثمن وهذه مباحةً الثمن فافترقا، فإذا ثبت أن البيع صحيح فإن البيع كان المشتري عالماً بحالها لم يكن له الخيار، وإن لم يعلم ثم علم بعد العقد فله الخيار إن شاء رد البيع وإن شاء أجازه، كما لو وجدها مزوجة كان له الخيار، فإن أجاز البيع فعليه أن يستبرئها بعد انقضاء العدة. نص عليه في الإملاء لأنهما وجبا لسببين مختلفين، فإن العدة تجب الوطء، والاستبراء باستحداث الملك دون الوطء فلم يجز أن يتداخلا، ولو زوج أم ولده فوطئها زوجها، ثم طلقها فانقضت عدتها جاز لسيدها وطئها من غير الاستبراء نص عليه؛ لأن السيد لم يزل ملكه عنها وإنما حرم عليه وطئها لعارض، فإذا زال حلت، كما لو رهنها قبل انفكاكها من الرهن لم يجب عليه أن يستبرئها. فرع آخر: لو اشتري رجل من رجل جارية لم يطلقها فعليه أن يستبرئها بقرء لحدوث ملكه، فإن باعها قبل أن يستبرئها يلزم الثاني أن يشتريها بقرء لحدوث ملكه عليها فإن قيل: فقد تداخل الاستبراءان من رجلين قلنا: هذا الاستبراء يجب لحدوث الملك ويسقط بزوال الملك، فلما زال الأول ملكه قيل: الاستبراء سقط ولزم الثاني أن يستبرئها بقرٍ واحدٍ. ولهذا قال أصحابنا: إذا اشتري جارية لم يطأها مولاها ثم أعتقها قبل أن يستبرئها سقط الاستبراء [ق 117 ب]. فرع آخر: لو وطء الشريكان جارية مشتركة بينهما كان عليها أن تستبرئ نفسها من كل واحد منهما بقرءٍ ولا يتداخلان. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان: أحدهما: هذا، والثاني: يكفي قرء واحد عنهما. والفرق أن العدة لوطء قد مضي والاستبراء لوطء في المستقبل، بدليل أنه لو اشتري أنته من امرأة يلزم الاستبراء، وهذا ضعيف لأن أصل الاستبراء، وإن كان للوطء في المستقبل، ولكن من هذه الصورة للوطء الماضي فلا فرق. فرع آخر: إذا وجبت العدتان لرجل واحد مثل إن طلق امرأته طلاقاً رجعياً ثم وطئها يلزمها استئناف العدة، ثم لا يخلو إما أن تكون حائلاً، ففإن كانت حائلاً لا يخلو إما أن يحلبها بهذا الوطء أو لا يحبلها به، فإن لم يحبلها فعليها عدة الوطء ثلاثة أقراء وإكمال عدة الطلاق تمام ثلاثة أقراء، وتدخل إحدى العدتين في الأخرى لأنهما عدتان لرجل من جنس واحد فيتداخلا، وإن كان قد اختلفا فقد وجبت عليها عدتان: عدة الوطء بالوضع

وعدة الطلاق بالأقراء، فهل تتداخل العدتان؟ وجهان: أحدهما: لا يتداخلان لأنهما جنسان مختلفان كحد الزني وحدّ الشرب. والثاني: يتداخلان لأنهما عدتان من رجل واحد كما لو كانتا من جنس واحد، فعلي هذا تنقضي كلا العدتين بوضع الحمل وتدخل الأقراء كلها في زمان الحمل؛ لأناَّ نتيقين بوضعة براءة الرحم وله أن يراجعها في زمان الجمل، وعلي هذا قال اصحابنا: لو زني بطراً ثم زني ثيباً هل يتداخل الحدان؟ وجهان: فإذا قلنا: لا يتداخلان فإذا وضعت ولم نرقي زمان الحمل دماً فإنها تأتي ببقية عدتها بعد وضع الحمل وانقضاء نفاسها فله الرجعة في الباقي من أقراء الطلاق بعد وضع الحمل وعليه النفقة، وفي مراجعتها ووجوب نفقتها قبل وضع الحمل وجهان: أحدهما: لا تجوز الرجعة [ق 118 أ] ولا تحب النفقة لأنها عدة من وطء شبهة، فعلي هذا إن وطئها في الحمل حُدَّ. والثاني: تجوز الرجعة وعليه النفقة؛ لأنه لما تعقب الحمل عدة الطلاق جرى علي مدة الحمل أحكام عدة الطلاق، فعلي هذا إن وطئها في الحمل لم يُحدّ. وإن رأت الدم قبل الحمل. فإن قلنا: لا يكون حيضاً فالحكم علي عدتها إذا لم تر الدم أصلاً. فإذا قلنا: يكون حيضاً اعتدت بالأقراء علي الحمل من عدة الطلاق وبوضع الحمل من عدة الوضع، فإن سبق وضع الحمل أفضت به عدة الوطء وأتت بالباقي من أقراء الطلاق وحكم الرجعة والنفقة علي ما مضي، وإن سبقت الأقراء علي وضع الحمل انقضت بها عدة الطلاق وانقضت بوضع الحمل عدة الوطء، وفيه آخر أنها تحتاج أن تأتي بالباقي بعد وضع الحمل والنفاس بكل حالٍ؛ لأن زمان الأقراء علي الحمل لا يحتسب من العدة، وهذا ضعيف والمذهب الأول، فإن قيل: ما الفرق بين هذا وبين ما لو طلقتها وهي حامل فحاضت عل الحمل لا تعتد بالأقراء، وإن كان الحيض صحيحاً؟ قلنا: الفرق أن هناك لا عدة عليها إلا عدة واحدة فلم تعتد إلا بالحمل الذي هو أقوي في البراءة، وههنا عليه عدتان أحدهما: بالحيل فجاز أن تكون الأخري بالأقراء التي هي علي الحمل. وإن كانت حاملاً عند الطلاق، ثم وطئها يجب عليها به ثلاثة أقراءٍ، وهل دخل في عدة الحمل؟ وجهان علي ما ذكرنا. فإذا قلنا: تدخل فإذا وضعت انقضت العدتان وله أن يراجعها في زمان الحمل. وإذا قلنا: لا تدخل فإن كانت تري الدم علي الحمل، وقلنا: إنها تحيض تكون عدتها من الطلاق بوضع الحمل، وعدتها من الوطء تكون بالأقراء التي علي الحمل وحكم الرجعة (على) ما ذكرنا.

[ق 118 ب] فرع آخر إذا راجع الرجعية تنقطع عدتها بنفس الرجعة، وقال مالك: لا تنقطع عدتها حتى يطأها، وهذا خطأ لأن العدة حظر والرجعة إباحة فهما ضدان لا يجتمعان. فرع آخر: لو مات علي الرجعة وكانت تزوجت في العدة وهي حامل، وحملها يجوز أن يكون من الأول ويجوز أن يكون من الثاني ففي التوارث بينهما في عدة القرءين بعد وضع الحمل وجهان: أحدهما: لها الميراث، لأن الأصل بقاء العدة. والثاني: لا ميراث لها لأن الميراث لا يستحق بالشك. فرع آخر: لو تزوج بأمٍة علي أنها حرة فوطئها علي أنه يطأ امرأته الحرة، ثم بان أنها كانت أمة تعتد بقرءين، والاعتبار بحالها لا باعتقاده؛ لأن عدة الزوجية معتبرة بحال الموطوءة دون الواطئ. وكذلك لو تزوجها علي أنها أمة فوطئها علي ذلك، ثم بان أنها حرة تعتد بثلاثة أقراء. وكذلك لو وطئت الحرة بشبهة ملم فعليها عدة مثلها ولا تنقلب عدتها إلي الاستبراء بالظن، ولو وطئت الأمة بشبهة ملك فعليها استبراء مثلها؛ لأن الوطء بشبهة الملك كالوطء بالملك الصحيح في حكم الاستبراء، والوطء بشبهة النكاح كوطئها بالنكاح الصحيح في العدة. وعلي هذا لو وطء أمة غيره ظنها زوجته يكفيها استبراء أمةٍ بحيضةٍ اعتباراً بالموظوءة. ومن أصحابنا من قال: إذا وطء حرة واعتقد أنها أمة يلزمها عدة حرة بلا إشكال، ولو وطء أمة بنكاح واعتقد أنها حرة فيه وجهان: أحدهما: تعتد عدة أمة. والثاني: تعتد عدة حرة؛ لأن اعتقاد الواطئ لما غير حكم الولد حتى حكمنا بحريته كأنه ولد حرة، وكذلك يجب أن يغير حكم العدة أيضاً. وعلي هذا لو وطء أمة [ق 119 أ] ظنها زوجته يلزمها عدة الزوجية. ذكره ابن سريج، وهذا غلط لأن نسب الولد وحريته بحقه فاعتبر علمه وجهله، والعدة حق عليها فكان الاعتبار بها دونه. فرع آخر: إذا تزوج امرأة بنكاح فاسد وخلا بها ولم يطأها هل تصير بهذه الخلوة مع النكاح الفاسد فراشاً كما نجعلها بالوطء فراشاً؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو الصحيح لا تصير فراشاً ما لم يطأها؛ لأن العقد في الأصل فاسد. والثاني: تصير فراشاً؛ لأن الخلوة تسليط علي الإصابة، فصارت كالإصابة. ذكره

بعض أصحابنا بخراسان. مسألة: قال: "وَإِنْ كَانَ أَوْصَي لَهُ بِشَيء وَقِفَ حَتَّى يَصْطَلحَا فِيْهِ". أراد به إذا كان الحمل مشكلاً وأمكن أن يكون من ألأول، ومن الثاني فأوصي رجل له بمال فالوصية صحيحة، لأن الوصية لما في البطن تصح. فإذا ثبت هذا لا يخلو من أن تلده حياً ثم يموت أو تلده ميتاً، فإن ولدته فالوصية باطلة، لأنه لم يثبت له حكم الحياة، وإن ولدته حيا ثم مات لا يخلو موته من أحد أمرين؛ إما أن يكون قبل قبول الواطئين لهذه الوصية، أو بعد قبولها، فإن قبلها الواطئان فقد استقرت الوصية وملكها الطفل في حياته؛ لأن أحدهما أب فإذا قبلاها تيقنا أن الأب قد قبل الوصية للطفل، فكذلك لو ترك حتى يبلغ فينتسب فبلغ وقبل، ثم ما قبل أن ينتسب ملك ذلك، ثم ينظر فإن لم يحف مع الواطئين أمه وقف جميع ماله بين الواطئين حتى يتبين الأب منهما أو يصطلحان، وإن حلفت معهما فإن الأم لها ثلاثة أحوال ههنا: أحدها: تستحق فيه الثلث بيقين، وهو إذا لم يكن لها ولد ولا للواطئين ولد، فيدفع إليها بالثلث ويجعل الباقي [ق 119 ب] موقوفاً بين الواطئين. والثاني: تستحق السدس بيقين، وهو أن يكون للأم ولدان أو لكل واحد من الواطئين ولد فيكون لها السدس ويجعل الباقي موقوفا. والثالث: يكون ما تستحقه مشكوكاً فيه وهو أن يكون للأم ولد واحد، ولأحد الواطئين ولد آخر؛ لأنه يحتمل أن يكون أبوه الذي له ولد فيكون للأم السدس لأنه خلف أبوين وأخوين، ويحتمل أن يكون أبوه الذي لا ولد له فيكون له أخ واحد فلا تحجب الأم من الثلث. والثاني: كان لأحد الواطئين ولدان ليس للآخر ولا للأم ولد، فإنه يحتمل أن يكون أبوه الذي له ولدان فيكون للأم السدس ويحتمل الآخر فيكون للأم الثلث، فإذا أمكن ذلك. قال أبو إسحاق، وابن هريرة: يحتمل وجهين أحدهما: يكون لها الثلث ويوقف الباقي ولا يحجبها من الثلث إلي السدس إلا بيقين الحجب وليس ههنا يقين. والثاني: لها السدس لأنه يتعين وما زاد عليه مشكوكاً فلا يثبت بالشك. وإن مات الطفل قبل أن يقبل الواطئان فالورثة يقومون مقامه في القبول فيجب أن يقبل الأم والواطئان، فإن قبلوا صحت الوصية واقتسموها علي ما بيناه وإن ردوها بطلت الوصية ورجعت إلي ورثة الموصي هذا إذا قال: أوصيت لهذا الحمل هكذا. فأما إذا قال: أوصيت

لهذا الحمل الذي هو ولد فلان هكذا فسمي أحد الواطئين، فإن ألحق به صحت الوصية وكان المال للطفل، وإن ألحق بالآخر بطلت الوصية؛ لأن الصفة وهو قوله ولد فلان بمنزلة الشرط لم يستحق مع عدمه. وإن ألحق بالذي سماه إلا أنه نفاه باللعان، قال أبو إسحاق: تصح الوصية لأن نفي اللعان لا يعتدي من الزوج إلي غيره، وهو اختيار أبي حامد [ق 120 أ] ومن أصحابنا من قال: تبطل لأنه لما نفاه باللعان حكمنا بأنه ليس بابن له في الظاهر فلم يوجد الشرط، وقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الوصايا. مسألة: قال [1] " " وَالنَّفَقَةُ عَلَي الزَّوْج الصَّحِيح النَّكَاح". الفصل: أراد به أن اقلنا: إذا نكحت في عدتها وظهر بها حمل يمكن أن يكون من كل واحدٍ منهما فلا يؤخذ الزوج بنفقتها حتى تضع؛ لأنه يمكن أن يكون من الزوج فيلزمه نفقتها ويمكن أن يكون من الواطئ فلا يلزمه نفقته، ولا يلزم الزوج المطلق أيضاً لأن الحمل إذا كان من غيره لم يلزمه أن ينفق عليها، وإنما أجاب الشافعي به علي القول الذي يقول إن النفقة للحامل دون الحمل فيختص بوجوب النفقة علي هذا القول الزوج المطلق دون الواطئ بالشبهة. فأما إذا قلنا: إن النفقة للحمل وجب علي كل واحد منهما أن ينفق علي الحمل، فإذا ثبت هذا وولدته فإن ألحق الزوج أخذت منه نفقتها من يوم طلقها وإن ألحق بالثاني لم يجب لها عليه شئ ويلزمه أن ينفق علي الولد بعد الولادة. وقال: وَإِنْ أُشْكِلَ أَمْرُهُ لَمْ آخُذُهُ بنفَقَتِه حَتَّى يَنتْسَبَ إلَيْهِ". قال أصحابنا: معناه إذا لم يكن قافة أو كانت قافة وأشكل عليها وقف الولد حتى يبلغ فينتسب إلي أحدهما، قالوا: ويجب علي كل واحد منهما أن ينفق عليه نصف النفقة؛ لأنه يجوز أن يكون من كل واحد منهما بدلا من آخر، ومعني قول الشافعي: " وَإِنْ أَشْكَل أَمْرُهُ لم آخُذْهُ بنَفَقَته حَتَّى ينَتْسِبَ إِلَيهِ". أي لا آخذه بنفقته تامة، وإنما أخذه بنصف نفقته. ومن أصحابنا من حم هذا الكلام علي ظاهرة وقال: " لا تحب عليها النفقة، لأنه إيجاب النفقة بالشك [ق 120 ب] فأشبه الزوج في حال الحمل لا يجب عليه أن ينفق عليها إذا قلنا: إن النفقة للحامل لأنه لا يجوز أن يكون الحمل لغيره، فكذلك ههنا والمذهب الأول والتأويل ما ذكرنا. والفرق بين الزوج في حال الجمل وبينه بعده الولادة أنها إذا

ولدت فنفقة الولد واجبة علي أحدهما لا محالة، فإذا أشكل أوجبنا عليها نصفين. وليس كذلك في حال الحمل إذا قلنا إن النفقة للحامل؛ لأنه لا يجوز أن لا يكون علي واحدٍ منهما نفقتها في حال فدل علي الفرق. هذا تفسير كلام المزني. فأما شرح هذه المسألة فإن لها تفصيلاً طويلاً، وجملته أن الرجل إذا طلق امرأته فإن كانت رجعية فلها النفقة حائلاً كانت أو حاملاً، فإن كانت حائلاً فلا نفقة وإن كانت حاملاً فلها النفقة قولاً واحداً، فهل النفقة للحمل أو للحامل؟ قولان: فإذا قلنا: للحامل أنفق عليها في حال الحمل. وإذا قلنا: للحمل فهل ينفق عليها في حال الحمل يوماً بيوم، وإذا وضعت؟ قولان: أحدهما: ينفق عليها في حال الحمل، والثاني إذا وضعت إليها جميع النفقة للأيام الماضية. وهذا إذا لم تتزوج، فإن تزوجت [في] عدنها فإن كانت رجعية أسقطت نفقتها من يوم زوجت لأنها صارت ناشزة، ثم إذا فرق الحاكم بينهما فإن لم يظهر بها حمل أكملت عدة الأول ولزمه أن ينفق عليها من هذا الوقت إلي تنقضي العدة وإن ظهر بها حمل يحتمل أن يكون من كل واحد منهما. فإن قلنا: إن النفقة في حال الحمل للحامل دون الحمل فلا نفقة علي واحد منهما؛ لأن الثاني ليس بزوج حتى يجب أ، ينفق عليها في عدتها، وأما الأول وهو الزوج المطلق فإن النفقة إنما تلزمه إذا كان الحمل منه، وإذا كان من غيره لا يجب [ق 121 أ] فإذا أمكن أن يكون منه ومن غيره لم نوجب عليه النفقة بالشك، فإذا وضعت فإن كان هناك قائف أريناه، فإن ألحقه بالمطلق دفع ما مضي من النفقة وعليها أن تأتي بثلاثة أقراء للثاني ولا نفقة فيها لها عليه؛ لأنه ليس بزوج. وإن ألحق الولد بالواطئ، فإن عليه أن ينفق علي الولد من حين ألحق به، وقد انقضت عدتها منه ولا يلزمه نفقة مدة الحمل، وعليها أن تتم بقية عدتها من المطلق، وعليه أن ينفق عليها بقية العدة. وهل يلزمه أن ينق عليها في مدة النفاس؟ وجهان: أحدهما: يلزمه أن ينفقه عليها كما إذا راجعها في مدة النفاس صحت الرجعة، ولأنها خرجت من عدة الثاني ودخلت في بقية عدتها منه فعليه النفقة، وليس إذا لم تحتسب به من العدة ما يدل علي أنه لا نفقة لها، كما لو طلقها في حال الحيض لا تحتسب بزمان الحيض من العدة ولها النفقة فيه لأنها من العدة، والثاني: لا نفقة لها لأن النفاس لا تعتد به من بقية العدة، وإنما هو تابع لزمان الحمل ويستولد منه ولم نوجب طلاقة فلم يجب عليه النفقة فيه وإن لم يكن هناك قائفاً أو كان أشكل عليه وقف الولد حتى يبلغ فينتسب إلي أحدهما، فأما هذه فإنها ترجع علي المطلق بنفقة أقل المدتين من حين فرق بينهما إلي أن وضعته، ومن بقية عدتها بالأقراء من المطلق، فأيهما كان أقل رجعت علي المطلق بنفقته؛ لأن ذلك واجب عليه بيقين، فإن الحمل إن كان من الأول فنفقتها في زمان الحمل عليه، وإن كان في الثاني فنفقتها في بقية العدة عليه. وأما نفقة

باب عدة المطلقة يملك زوجها رجعتها ثم يموت أو يطلق

الولد فإنها تجب علي المطلق والواطئ بالشبهة نصفين حتى يبلغ فينتسب. والفرق بين زمان الحمل وبين هذه الحالة قدمناه، وهذا كله في الرجعية. فأما إذا كانت بأنا فالحكم علي ما بيناه [ق 121 ب] في الرجعة إلا في رجوعها علي المطلق، فإنها إذا وضعت وقلنا: إن النفقة للحامل وكان الأمر مشكلاً، وقفنا الولد حتى يبلغ فينتسب ولا ترجع هي علي المطلق بنفقة أقل المدتين؛ لأن الحمل إن كان من الثاني فلا نفقة لها في بقية عدتها من الأول، لأنها تكون فيها بائن حائل فلا نتقيهن وجوب النفقة لها عليه ويجب عليهما أن يتفقا علي الولد حتى يبلغ فينتسب، فإذا بلغ وانتسب نظر، فإن انتسب إلي المطلق فإن المرأة ترجع عليه بنفقة زمان حملها، وأما رجوع الواطئ بالشبهة عليه فيما أنفق علي الولد إلي أن انتسب إليه لا يخلو إنفاقه من أحد أمرين: إما أن يكون بأمر الحاكم أو بغيره أمره، فإن كان بغيره أمره فهو متطوع بالإنفاق فلا يرجع عليه، وإن كان بأمره لا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يكونا مدعيين، أو منكرين، أو أحدهما مدعيا للولد والآخر مكراً، فإن كانا مدعيين لم يرجع الواطئ بالشبهة علي المطلق؛ لأن الواطئ بالشبهة يقول: إنه ولدي وقد أنفقت عليه ولا أستحق به الرجوع علي أحد، وإنما غلط الصبي بالانتساب أو القافة بالإلحاق، وإن كانا منكرين فإنه يرجع عليه لأنه أنفق بأمر الحاكم علي ولد المطلق، وإن كان أحدهما منكراً والآخر مدعياً، فإن كان المنكر الواطئ بالشبهة رجع عليه، وإن كان مدعياً لم يرجع، وإن انتسب إلية الواطئ بالشبهة، فإن رجع المطلق عليه علي ما بيَّناه، وإن مات هذا الصبي قبل أن ينتسب فعليهما تكفينه؛ لأنه لما لزممهما الإنفاق عليه في حياته لزممهما تكفينه بعد موته، فإذا انكشف الأمر كان حكم التراجع علي ما بينَّاه. قال المزني: خالف في إلحاق الولد في أكثر من أربع سنين بأن له الرجعة، وأراد به الشافعي قال فيما مضي: فإن كانت وضعته لأكثر من أربه سنين [ق 122 أ] من يوم فارقها الأول وكان طلاقه لا يملك فيه الرجعة فهو للآخر، فإن كان يملك فيه الرجعة وتداعي أو لم يتداع له ولم ينكراه ولا واحد منهما أريه القافة فإن ألحقه بالأول، فقد انقضت عدتها منه فألحق الولد بالزوج من الرجعية لأكثر من أربع سنين، وقد بيَّنا ذلك فيما مضي وقلنا إن المسألة علي قولين فأغني عن الإعادة. باب عدة المطلقة يملك زوجها رجعتها ثم يموت أو يطلق مسألة: قال: "وَإِنْ طَلَّقَهَا طَلْقَةً يمَلكُ رَجعْتَهَا، ثُمَّ مَاتَ اعْتَدَّتْ عدَّةَ الوَفَاةِ". هذه المسألة ذكرناها قبل هذا، وهي أن الرجعية إذا مات زوجها وهي في عدتها تعتد تعقيب الوفاة أربعة أشهر وعشراً، ونورثها زوجها لأنها في معني الزوجات، ولأنها

ما بانت بالطلاق لأنه يستبيحها من غير عقد جديد، فإذا مات فالموت أبانها فوجبت عدة ما أبانها وهي عدة الوفاة، ولأن عدة الوفاة أكد لأنها تلزم قبل الدخول وقد بيناها. مسألة: قال: "وَلَوْ رَاجَعَهَا، ثُم َّطَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا". الفصل: قد ذكرنا هذه المسألة وبينا اختيار المزني أنها تستأنف العدة، قال أبو إسحاق: وهذا أقيس. وقيل: إنه قول ابن جريج وعبد الكريم، وطاووس، والحسن بن مسلم. واحتج المزني بأن عدتها سقطت بجرعته ونحن لا نسلم علي القول الآخر ما ذكره، بل نقول: هو موقوف. ثم قال الشافعي: "وَمَنْ قاَلَ بِهَذَا انْبغَي أَن ْيقَوُلَ رَجْعتُهُ مُخَالفَةٌ لَنِكَاحِهِ إيِّاهَا ثُمَّ يُطلَّقَها قَبْلَ أَنْ يمَسهَّا". يعني أن المطلقة لو كانت بائنة يخلع وهي في العدة فجدد الخالع نكاحها، ثم طلقها قبل أن يمسها لزممها [ق 122 ب] البناء علي ما سبق من العدة، خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: يلزمها أن تستأنف العدة عن النكاح. وظاهر اللفظ يوهم أنه أراد نكاح الرجعية في العدة، ولم يرد ذلك فلا يظن عليه، وإنما لم يستقل الشافعي بتمام تصوير المسألة بأن ذلك لا يكاد يشكل عل العالم بمذهبه. ثم قال مفرعاً علي قول الاستئناف: " وَيُشْبهُ أَنْ يَلْزَمُهُ أَنْ يَقُولَ: ارْتجَعَ أَوْ لمْ يَرْتَجعْ سَواَءٌ" يعني من قال إذا رجعها، ثم طلقها قبل أن يمسها يلزمه استئناف العدة لذمه أن يقول: لو اتبعها طلاقاً من غير أن يرتجعها لزممها الاستئناف ويحتج " بِأَنَّ زَوْجَهَا لَوْ مَاتَ اعْتدَّتْ منْهُ عدَّة الوَفاَة وَوَرثتْ كَمَنْ لم تُطَلقْ". وقال بعض أصحابنا: لم يقصد الشافعي تعليق القول في مسألة الإتباع إذا اتبع طلاق طلاقاً، بل لا يختلف قوله هناك أنه يكفيها البناء علي العدة السابقة ولا يلزمها الاستئناف، وإنما قصد الشافعي بهذا الكلام تضعيف أحد القولين في المسألة السابقة وهي إذا راجعها ثم طلقها قبل أن يمسها ففيها قولان: أحدهما: لا يلزمها استئناف العدة والشافعي قد يفعل مثل هذا التضعيف أحد القولين ألا تري أنه قال في " كتابا لبيوع" في اللحمان هل هي صنف أو أصناف؟ فيه قولان، ثم قال: ومن قال إنه صنف واحد لزمه أن يقول: الثمار صنف. فذكر أن القول به يفضي إلي ما نقول به أحد فكان باطلاً كذلك ههنا. وهذا اختيار أبي إسحاق، والمزني، فإذا طلق الرجعية ثانياً لا تستأنف العدة بل تبني علي ما بقي؛ لأن جملة الطلاق

الثلاث لما أوجبت ثلاثة أقراء إذا أوقعها مجتمعاً [ق 123 أ] فكذلك إذا وقعها متفرقاً فلا نوجب أكثر منها، ويفارق هذا إذا راجعها، ثم طلقها لأنه لما راجعها سد الثلمة التي أوقعها الطلاق، فإذا طلقها بعد ذلك كان كابتداء طلاق في نكاح، قد دخل بها فيه فاستأنفت، بخلاف ما لو لم يراجعها. وعبارة المزني ههنا أنه قال: " وإنما طلق امرأته مدخولاً بها في غيره عدة فهي في معني من ابتدأ نكاحها" وقوله: في غيره عدة: احتراز عن مسألة الإتباع؛ لأن هناك الطلاق الثاني صادف العدة، وإذا راجعها ثم طلقها فالطلاق الثاني كأن لم يكن في العدة لانقطاعها بالرجعة. وقال الإصطخري: هذا تفريع والكل علي قولين، واحتج للقول الآخر بما لو مات تستأنف العدة، والجواب أن عدة الوفاة جنس آخر لأنها تتنوع نوعين، وعدة الطلاق تتنوع ثلاثة أنواع، وعدة الوفاة أقوي فإنها تجب من غير دخول وهنا الغدتان واحدة وليست إحداهما أقوي من الأخرى، فلم يراجعها. وقيل إن قلنا إذا راجعها تبني فإذا اتبع أولي وإن قلنا: هناك تستأنف ففي الإتباع قولان. فرع: قال القفال: إذا قلنا في الرجعية يراجعها زوجها، ثم يطلقها تبني علي عدتها لو مضي قرء، ثم راجعها في الطهر الثاني لا يحتسب لها أول هذا الطهر الذي راجعها قرء؛ لأن جزءا من أول الطهر لا يدل علي براءة الرحم بخلاف جزء من أجزاء الطهر، فإن ذلك يدل علي براءة الرحم لإيصاله بأول الحيض، فإن طلقها بعد الرجعة في هذا الطهر بعينه احتسب بباقية قرءاً ثانياً [ق 123 ب] وإن لم يطلقها حتى حاضت فلا تحتسب بهذا الطهر ألبته، وكذلك لو راجعها في الطهر الأول أمسكها حتى حاضت، قلنا: لم يحصل لق شأ فعليك ثلاثة أقراء، ولو احتسب ببعض الطهر من أوله قرء يحصل لها قرءان في طهر واحد، بأن يراجعها في خلال طهر، ثم يطلقها فيه وذلك محال. فرع آخر: قال: "ولو كانت حاملاً فراجعها فوضعت الحمل، ثم طلقها، وإن قلنا تستأنف العدة هناك فهنا أولي بأن تستأنف ولا كلام، وإن قلنا: تبني هناك فهنا وجهان: أحدهما: تستأنف ثلاثة أقراء إذ محال أن تنقضي العدة منه وهي تحته في صلب نكاحه ووضع الحمل حصل وهي تحته فيجعل كأن الحمل لم يكن. والثاني: لا عدة عليها ألبته بعد الطلاق، بل يحكم بأن عدتها قد انقضت بوضع الحمل، وإن كانت تحت الزوج ويجوز أن تنقض العدة بالحمل في حال لا تنقضي فيها بالإقراء، والأشهر كما لو نكحت في العدة وهي حامل فوضعت تحت الزوج الثاني انقضت عدتها من الأول، وفي هذه الحالة لا تنقضي عدتها بالإقراء والأشهر، أعني بعدما وطئها الثاني وقبل أن يفرق بينهما، وكذا إذا حبلت من الثاني فبوضع الحمل تنقضي

باب عدة امرأة المفقود إذا نكحت غيره

عدتها منه إذا وضعت بعدما فرق بينهما، ولولا الحبل لكانت تبدأ ببقية عدة الأول، وهذا الفصل لم يذكره أصحابنا بالعراف. باب عدة امرأة المفقود إذا نكحت غيره مسألة: قال: "فِي امْرَأَةِ الغَاِئبِ أَي غَيْبةً كَانَتَ لاَ تعَتْدَّ وَلاَ تَنْكحُ أَبَداً". الفصل: الغائب غائبان؛ غائب غاب شخصه ولم يغب خبره كالأسير يختص خبره، وكالتاجر خرج إلي بلد [ق 124 أ] فأقام طويلاً، فهذا لا يزول ملكه عن ماله، ولا عن زوجته، فإن كان له مال ينفق عليها نفقة الحاكم، وإن لم يكن كتب إلي الحاكم الذي هو في بلده ليطالبه بحقوقها، وغائب غاب شخصه وانقطع خبره وهو المفقود، فإذا فقد لا فصل بين أن يفقد في جوف البلد، أو في السفر، أو بين الصفين في الحرب، أو كان في مركب فانكسر ولا يعلم حاله فلا خلاف أنه لا يزال ملكه عن أمواله وتكون باقية بحالها لا تورث ولا يتصرف فيها. وأ/ االحكم في زوجته، قال القديم: تأتي الحاكم حتى يأذن لها أن تتربص أربع سنين، ثم يحكم بوفاته وتعتد عدة الوفاة، ثم تحل ويكون ابتداء التربص من حين أمرها الحاكم لا من حيث فقد. وروي ذلك عن عمرٍ، وعثمان، وابن عباس، وابن عمر، والأوزاعي، ومالك، وأحمد، وإسحاق رضي الله عنهم. وحكي عن مالك أنه فرق فقال: إن خرج نهاراً لا يكون حكمه حكم المفقود، وإن خرج ليلاً يكون مفقوداً. وقال في الجديد: تكون علي الزوجية أبداً حتى يأتيها يقين وفاته، وبه قال علي رضي الله عنه، وعمر بن عبد العزيز، وهو قال أهل الكوفة ابن أبي ليلي، وأين برمة، والنخعي، والثوري، وأبي حنيفة. وقيل: رجع عن قوله القديم. وذكر القفال أنه قال في الجديد: من حكم بهذا نقضت حكمه لأن هذا يخالف القياس الجلي. وقال صاحب الحاوي: لو حكم حاكم بقوله القديم هل ينقض حكمه؟ وجهان: أحدهما: ينقض، لأن القياس قوي، وقد رجع عمر رضي الله عنه. والثاني: لا ينقض لأن الخلاف منتشر ظاهر، وهذا أظهر. وفيما حكاه القفال نظر، [ق 124 ب] واحتجوا بما روي عبد الرحمن بن أبي ليلي أن امرأة أتت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقالت: إن زوجي خرج إلي مسجد مكة

ففقد فأمرها عمر أن تتربص أربع سنين فتربصت، ثم عادت فقال لها: اعتدي بأربعة أشهر وعشراً فلما انقضت أتت إليه فقال لها: قد حللت للأزواج فتزوجت فعاد زوجها فأتي عمر رضي الله عنه فقال له: تزوجت امرأتي فقال: ومع ذالك؟ قال: غبت أربع سنين عنها فزوجتها، فقال عمر: يغيب أحدكم أربع سنين في غير غزو ولا تجارة، ثم يأتيني فيقول: تزوجت امرأتي [فقال له: إن عذراً يا أمير المؤمنين، قال: وما عذرك] فقال: خرجت إلي مسجد أهلي فاستلبني الجن فمكثت معهم فغزاهم جن من المسلكين فوجدوني معهم في الأسر فقالوا: ما دينك؟ فقلت: الإسلام فخيروني بين أن أكون معهم وبين الرجوع إلي أهلي، فاخترت الرجوع إلي أهلي فسلموني إلي قوم، فكنت أسمع بالليل كلام الرجال وبالنهار أري مثل الغبار فأسير في أثره حتى أهبطت عندكم، فخيره عمر بين أن يأخذ زوجته، وبين أن يأخذ مهرها. وروي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قضي به مثل ذلك، وروي عنهما: ثم يطلقها ولي زوجها بعد أربع سنين، ثم تتربص بعد ذلك أربعة أشهر وعشراً ثم تتزوج. وقال مسروق: لولا أن عمر خير المفقود بين امرأته وبين الصداق لرأيت أنه أحق بها إذا جاء. وأيضاً إذا أعسر الزوج بنفقة زوجته كان لها الخيار لما عليها من الضرر بفقد الاستمتاع فهنا ولا مال ولا استمتاع ودخل الضرران جميعاً أولي أن يثبت حق الفراق، وهذا غلط لما روي المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم وقال: [ق 125 أ] امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها البيان" وروي: "حتى يأتيها بيقين موته أو طلاقه" ولأن الأصل بقاء الزوجية فلا تزال بالشك، ولأنه لم يحكم بموته في الميراث ولهذا لا يقسم ماله بين ورثته فلا يحم بموته في إبانة زوجته، وهذا معني قول الشافعي: " لا يجوز أن تعتد من وفاته ومثلها يرث إلا ورثت زوجها، وقوله: " ومثلها يرث" أي ليست بقاتلة ولا مملوكة ولا كافرة. وقصد الشافعي بهذا الكلام الرد علي أبي حنيفة حيث قال: إذا مضي مائة وعشرون سنة من وقت ميلاد الزوج فلم يرجع ولم يظهر له خبر جاز لها أن تعتد وتنكح زوجاً آخر، لأن هذه المدة أطول ما يعهد من العمر في هذه الإعصار، ثم قال: إنها لا تأخذ ميراثه، فاحتج عليه بما ذكر.

وأما خبر عمر قلنا: روينا عن علي خلافه وهو أ، هـ قال الذي قال عمر ليس بشي هي امرأة الغائب حتى يأتيها يقين موته أو طلاقها ولها الصداق من هذا بما استحل من فرجها ونكاحه باطل. وقال الشعبي: قال علي: هي امرأة للأول إن شاء طلق، وإن شاء أمسك ولا تخير [2]. وروي عن علي مثل قول عمر والمشهور ما ذكرنا، وأما فصل الضرر باطل بما لو كان معروف الغيبة، وأما الاعتبار بالنفقة والعنة عيبان ظاهران للفسخ فثبت الفسخ يهما، وهنا سبب الفسخ الموت، وهو غير معلوم يقيناً علم الحكم به. فرع: إذا قلنا بقوله القديم، قد ذكرنا أن ابتداء التربص من حين يأمرها الحاكم به، وبه قال الأوزاعي وهو اختيار أبي إسحاق المروزي من أصحابنا. قال بعض أصحابنا: فيه وجهان: أحدهما: ما ذكرنا. والثاني: ابتداءه من حيث انقطع خبره، وفقد أثره، وبه قال أحمد [ق 125 ب] وهو اختيار القفال، ووجهه، أن هذا التربص للحكم بمموته فكان من حين انقطاع خبره وهذا غلط؛ لأن عمر رضي الله عنه أمرها بالتربص وقت قضائه، ولأنن هذه المدة تثبت علي الاجتهاد فافتقرت إلي ضرب الحاكم كمدة المعدة. فرع آخر: إذا انقضت المدة هل يكون ذلك حكماً بوفاته أو يحتاج إلي استئناف حكم به؟ فيه وجهان محتملان: أحدهما: ما تقدم من الحكم بتقدير المدة حكم بالموت بعد انقضاء تلك المدة لأنه مقصود التقدير فتدخل في العدة بعد انقضائها ولا يلزمها معاودة الحاكم. والثاني: وهو الأظهر أنه بعد انقضائها تحتاج إلي أن يحكم لها الحاكم بموته، لأن عمر رضي الله عنه استأنف حكمه بعد انقضاء المدة، ولأن الحكم بأصل العنة لا يكون حكماً بالفرقة حتى يحكم بها الحاكم، فكذلك الحكم بأجل العنة، فعلي هذا لا تدخل في العدة بعد انقضاء المدة إلا أن يحكم لها الحاكم بموته فتقع الفرقة بما حكم به من الموت، ثم تدخل بعده في العدة وتحل حينئٍذ بانقضاء العدة. فرع آخر: إذا حكم الحاكم بالفرقة، هل يقع ظاهراً وباطناً أيوقع في الظاهر دون الباطن؟

وجهان، وقيل قولان: أحدهما: يقع ظاهراً وباطناً؛ لأن هذا الفسخ مختلف فيه، فإذا أدي اجتهاد الحاكم إليه نفذ ظاهراً وباطنا كالفسخ بالعنة والإعسار. والثاني: يقع ظاهراً لا باطناً، لأن عمر رضي الله عنه خير المفقود حين قدم بين زوجته أو مهر مثلها فاختارها فردها إليه. مسألة: قال: "وَلَوْ طَلَّقَهَا وَهُوَ خَفِيّ الغَيْبَة أَوْ إلي منْهَا أَوْ تَظَاهر أَوْ قَذَفَهَا لَزِمَهُ مَا يَلْزَمُ [الزَّوْجَ] الحَاضِرَ". إذا طلق المفقود امرأته التي فُقد عنها أو إلي منها أو تظاهر أو قذفها، فإن كان هذا قبل أن يرفع أمرها [ق 126 أ] إلي الحاكم أو بعد المرافعة قبل الحكم بالفرقة صح هذا كله، كما لو كان حاضراً، وإن كان هذا منه بعد أن حكم الحاكم بالفرقة فعلي قوله الجديد: الحكم فيه كما لو لم يحكم بينهما؛ لأن وجود الحكم وعدمه سواء. وأما علي قوله القديم، فإن قلنا: الغرفة تقع ظاهراً وباطناً لا تثبت هذه الأحكام وهو كالأجنبي معها، وإن قلنا: تقع ظاهراً فقط يثبت هذا الحكم. وقال القاضي الطبري: قال ابن أبي هريرة، وصاحب الإفصاح: هذا علي قوله الجديد والقديم؛ لأن الزوج إذا رجع وأخبر بهذه الأحكام تيقنا خلاف ما حكم، فكان حكمه باطلاً، كما إذا ظهر نص بخلاف حكمه، وإذا كان حكمه باطلاً كان نكاح الأول بحالة وهذه الأحكام ثابتة كما لو كان حاضراً. قال القاضي الطبري: ولا يحتما علي المذهب غير هذا: والحكم في هذا الموضوع بخلاف الأصول؛ لأن كل مسألة اجتهاد إذا حكم الحاكم فيها وجب إمضاءه. وقد قال أصحابنا ههنا: إن النكاح الثاني فاسد وإن حكم به الحاكم؛ لأن قوله القديم مخالفٌ لقياس لا يحتمل إلا معني واحد، وفي هذا الذي قاله نظر عندي. مسألة: قال: "وَلَوْ اعْتَدَّتْ بأَمْر الحَاكِم أَرْبَعَ سِنِين، ثمُ أَرْبعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَنَكَحَتْ وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْج ُكَانَ حُكْمُ الزَّوجيَّةُ بَينْهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا الأَوَّلِ بحَالِه". قال أين هريرة، وصاحب الإفصاح: هذا علي القولين جميعاً؛ لأن الزوج إذا رجع تبينا أن حكمه بوفاته كان خطأ فوجب ردها علي الأول، وهذا كما لو غضب عبداً فأبق منه فغرمه الحاكم قيمته، ثم رجع العبد وجب رده علي المغصوب منه واسترجع قيمته منه فكذلك ههنا.

وقال أبو إسحاق: هذا مبني علي أن الفرقة تقع ظاهراً وباطناً أو تقع في الظاهر دون الباطن؟ فإن قلنا: تقع [ق 126 ب] ظاهراً وباطناً أو تقع في الظاهر دون الباطن؟ فإن قلنا: تقع [ق 126 ب] ظاهراً وباطناً لا ترد إليه، كما لو فرق بينهما بعيب العنة، وإن قلنا يقع ظاهراً ترد وهذه الطريقة اختيار جماعة أصحابنا. وقال الداركي: سمعت أبا إسحاق يقول مرة أخري: إذا غاب الزوج الأول وقد تزوجت فإنها للثاني ولا ترد إلي الأول، وإن لم تكن تزوجت فإنها ترد إلي الأول وقد تزوجت فإنها للثاني ولا ترد إلي الأول، وإن لم تكن تزوجت فإنها ترد إلي الأول، وإن كان الحاكم فرق بينهما؛ لأن المقصود من هذه الفرقة إزالة الضرر، فإن لم تكن تزوجت لم يحص المقصود فكان الأول أولي، وهذا كالمتيمم إذا رأي الماء بعد الدخول في الصلاة لا يلزمه الخروج منها لاتصال التيمم المقصود، بخلاف ما لو رأي الماء قبل الدخول في الصلاة. وقال بعض أصحابنا: لا ترد إلي الأول قولاً واحداً ونكاحه لأطل بكل حالة؛ لأن علة الفسخ انقطاع غيره وعدم العلم بأثره، وهذه العلة موجودة، وإن بان حياً من يعد ذكره في "الحاوي". وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا خلاف في قوله القديم أن الشريعة فسخت نكاح المفقود، ولكنه إذا ظهر نكاح الثاني بحضوره؟ فيه وجهان: أحدهما: يفسخ بظهوره. والثاني: وهو الأصح لا ينفسخ ولكن يثبت للزوج الأول الخيار، فإن أجازه نكاحه وأخذ منه مهر امثل جاز، وإن فسخ كان له ذلك، وهذا غريب بعيد. فحصلت خمس طرق في هذه المسألة، واختار القاضي الطبري الأولي، وقال: لا يحتمل المذهب غير هذا القول. فرع: إذا قلنا: نكاح الثاني باطل ففي زمان بطلانه وجهان: أحدهما: أنن يعود الزوج الأول تبيناً أنه وقع باطلاً حين العقد. والثاني: أنه صحيح عند ويبطل عند العلم بحياة الأول، كالغاصب إذا غرم قيمة ألآبق، ثم رجع ردت القيمة بعد صحة الملك، وفائدة هذا الخلاف [ق 127 أ] أنَّا إذا قلنا بالرجعة للأول يلزمه مهر المثل إن كان قد دخل بها؛ لأن النكاح لا ينعقد موقوفاً ولا شأ إن لم يكن، وإذا قلنا بالوجه الثاني يلزمه نصف المهر المسمي إن لم يكن دخل بها، وإن كان دخل بها يلزمه تمام المهر المسمي. فرع آخر: إذا عاد الزوج الأول قال مالك، وأحمد: هو بالخيار بين أن ينتزعها من الثاني وبين أن يقرها عليه ويأخذ منه مهر مثلها.

(وحكى) الكرابيسي، عند الشافعي مثل هذا، وأنكره سائر أصحابنا، واحتجوا بخير عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خير المفقود حين قدم بين زوجته أو مهر مثلها. وهذا غلط لأنها لا تخلو إما أن تكون زوجة للأول أو زوجة للثاني وأيهما كان فالتخيير محال. وأما خبر رضي الله عنه محمول علي المصالحة والتبرع ليستأنف العقد الثاني. فرع آخر: لو حكم الحاكم بالفرقة، وفرق بينهما وتزوجت، ثم بان بعد ذلك أنه كان ميتاً حين الحكم بوفاته وانقضت عدتها، فعلي قوله القديم حكم وكان له الحكم، وفرق وكان له التفريق، فصادف في الباطن ما فعله في الظاهر وصح نكاح الثاني ظاهراً وباطناً. وأما علي القول الجديد قيه وجهان: أحدهما: أن نكاح الثاني صحيح، لأنه صادفها ولا زوج لها ولا هي في عدة من زوج فكان صحيحاً. والثاني: نكاحه باطل، لأنه لم يكن له الإقدام عليه قبل العلم بالحال. وأصل هذه المسألة إذا باع مال والده علي ظن أنه حي، ثم بان أنه كان ميتاً وأنه ورثه هل يصحّ البيع؟ قولان. وأما قول الشافعي: " غَيْرَ أَنَّهُ ممنْوعٌ مِنْ فَرْجِهَا بِوَطِء شُبْهَة" معناه أَنَّاة إذا رددناه إلي الزوج الأول معناه من وطئها حتى تعتد من الواطئ في النكاح الفاسد. مسألة: قال: " وَلاَ نَفَقَةَ لَهَا مِنْ حِينَ نكَحَتْ". الكلام الآن في نفقتها علي الزوج بالمفقود، وفي نفقتها علي الزوج الموجود، [ق 127 ب] فأما المفقود لا يخلو إما أن ترفع أمرها إلي الحاكم أو اختارت المقام عليه، فإن اختارت المقام حتى يتبين أمره فالنفقة لها أيداً عليه؛ لأن النفقة إذا وجبت بتسليم إلي الزوج لم تسقط إلا بأحد أمرين، إما بينونة أو نشوز ولم يوجد واحد مننهما، وإن رفعت أمرها إلي الحاكم فيضرب لها المدة فلها النفقة مدة التربص وهي أربع ما لم يفرق بينهما، فإذا انقضت مدة التربص وعادت إليه فحم بالفرقة هل تنقطع نفقتها؟ قال القاضي الطبري: لا يختلف أصحابنا أن لها النفقة في حال العدة أيضاً، لأنها محبوسة عليه. وقال أبو حامد، وجماعة: ومبني علي القولين، فإن قلنا القديم انقطعت

النفقة من حين فرق، سواء قلنا الفرقة وقعت في الظاهر أو في الظاهر والباطن معاً؛ لأنَّا حكمنا بالفرقة بينهما والبينونة تقطع النفقة. وأما السكني في مدة العدة هل لها ذلك؟ قولان؛ لأنها معتدة عن وفاة والمتوقي عنها هل لها السكني؟ قولان، فإذا انقضت العدة فلا نفقة ولا سكني، فإن رجع الزوج نظر، فإن لم ترد إليه فلا كلام وإن ردت إليه عادت نفقتها من حين الرد، وأما على قوله الجديد لا تسقط نفقتها بعد حكمه لا في حال العدة ولا بعد انقضائها ما لم تزوج، فإذا تزوجت سقطت نفقتها منحين النكاح؛ لأنها بالنكاح خرجت من يده وصارت ناشز ولا نفقة للناشز، فإن فرق بينهما فلا نفقة لها أيضاً ما دامت في العدة. قال الشافعي: " لأنه ممنوع منها بفعل من جهتها لخروجها من قبضته" فإذا انقضت عدتها نظر، فإن الأول قد رجع وتسلمها عادت نفقتها ولا كلام، وإن لم يكن الأول قد عاد ولكن عادت إلي منزله هل تعود نفقتها؟ ظاهر ما قال ههنا أنها تعود؛ لأنه [ق 128 أ] قال: " النفقة لها من حين نكحت ولأمن حين عدتها من الواطئ الفاسد" وقال في "الأم": " النفقة لها وهي تحت الزوج الثاني ولا في عدتها ولا بعد انقضاء عدتها". واختلف أصحابنا فيه علي طريقتين؛ فمنهم من قال: في المسألة قولان: أحدهما: تعود تفقنها، لأن نفقتها إنما سقطت بتسليمها نفسها إلي غير الزوج واشتغال رحمها بمائة، فإذا فرق بينهما واستبرأت نفسها عادت إلي حالها الأول يجب أن تكون النفقة لها واجبة، سواء أظهرت التسليم أو لم تظهر كان الزوج حاضراً أو غائباً. والثاني: لا نفقة لها حتى تظهر تسليم نفسها إليه؛ لأن النفقة إذا بطلت لم تعد إلا بتسليم حادث لنفسها إلي الزوج، منزله هذا من تعدي في وديعة بإخراجها إلي سفر، ثم يرد الوديعة إلي موضعها لا يبرأ من الضمان حتى يسلم الشيء إلي المودع، وهذا أصح عندي، قال هذا القائل: وهكذا أقول فيمن نشزت عن زوجها وهو حاضر، فغاب قبل أن تعود إليه، ثم عادت إلي منزله هل لها النفقة؟ وجهان بناء علي القولين، وعندي أنه لا تعود نفقتها بعد النشوز حتى يعلم الزوج طاعتها وجهاً واحداً، ولا يحتمل المذهب غيره، ولم يذكر القفال سوي هذا، والدليل عليه أنه لو تزوج امرأة، ثم غاب قبل أن تسلم نفسها إليه، ثم سلمت نفسها ودخلت بيته لا يلزمه نفقتها، وإن طالت الغيبة إنما لم يكن حاضراً بتسليمها كذلك ههنا. ومن أصحابنا من قال: هما علي حالين فالذي نقل المزني إذا لم يحكم لها حاكم بالتزويج فتزوجت بنفسها والذي قالي "الأم" إذا تزوجت بحكم الحاكم؛ لأن النكاح الأول قد زال بحكم الحاكم وهي غير مقيمة علي الزوج الأول فلا تعود النفقة بفعلها حتى

يقدم زوجها وتحدث تسليمًا بعلمه [ق 128 ب] وفي المسألة الأولى زالت النفقة بفعلها فعادت بفعلها. وقال بعض أصحابنا في تعليله: إنها إذا تزوجت بنفسها فهي ناشزة ولم يزل يده عنها في حال نشوزه، فإذا زال النشوز كان كما كانت في يده، وفي هذا نظر عندي وأما نفقتها على الزوج الثاني قال الشافعي: "ولم ألزم الواطئ بنفقتها لأنه ليس بينهما شيء من أحكام الزوجين إلا لحوق الولد فإنه فراش بالشبهة. وهو لأن النفقة بإزاء التمكين من الاستمتاع وهو لا يستحق عليها ذلك، فإن قيل: إذا استأجر دارًا إجارة فاسدة وتسلم الدار حتى انقضت مدة الإجارة يلزمه أجرة المثل وإن لم ينتفع بها، فيجب إذا تزوجت نكاحًا فاسدًا وتسلمها أن تجب النفقة بالتمكين والمهر أيضًا من دون الوطء؟ قلنا: الفرق أن المنافع مقدرة بالزمان في جواز العقد عليه، فلم يكن مضي الزمان، كإتلافه وإنما يتحقق الإتلاف بالاستمتاع فافترقا، ومن أصحابنا من فرق بأن الحرة لا تثبت عليها اليد، ولا على منفعتها فيكون تلف الاستمتاع في يدها بخلاف الدار، وهذا ليس بشيء؛ لأنه لو استأجر حرًا شهرًا ومكنه من الانتفاع به فلم ينتفع حتى مضي الشهر لزمته الأجرة. ولو تزوج بأمةٍ لرجل نكاحًا فاسدًا وتسلمها منه لم يلزمه المهر إلا بالوطء فلا يصح هذا الفرق طردًا وعكسًا، وهذا على القول الجديد، فإن أنفق الزوج الثاني عليها في مدة مقامها معه لم يكن له الرجوع عليها؛ لأنه متطوع بالإنفاق فلا رجوع له، وإن كان الإنفاق عليها بحكم الحاكم رجع عليها لأنه يقول أوجب على الحاكم ما لم يكن واجبًا فلي الرجوع. ورأيت لبعض أصحابنا أنه يرتجع على الزوج الأول إذا عاد وردت غليه إذا كان الإنفاق بإذن الحاكم، وهذا غلط عندي [ق 129 أ] وهذا قبل التفريق، فإن فرق بينهما وشرعت في العدة من الثاني فلا سكنى عليه؛ لأن السكنى لما لم تجب لها حال الزوجية فلأن لا تجب بعد التفريق بينهما أولى. وأما النفقة نظر، فإن كانت حائلًا فلا نفقة، لأن البائن عن نكاح صحيح لا نفقة لها فهذه أولى، وإن كانت حائلًا، فإن قلنا: النفقة للحمل تلزم، وإن قلنا للحامل لا تلزم، وأما على القول القديم تلزم نفقتها عليه بعد نكاحه لأنه صحيح فوجبت النفقة كما في سائر الأنكحة الصحيحة. مسألة: قَالَ: "وَإٍذَا وَضَعَتْ فَلِزَوْجِهَا الأَوَّل أَنْ يَمْنَعَها مِنْ رِضَاعِ وَلَدِهَا". الفصل: إذا فرقنا بينها وبين الزوج الثاني وهي قد حملت من الزوج الثاني وولدت، هل

يجوز للزوج الأول منعها من رضاع ذلك الولد، أما اللبا فالولد لا يعيش إلا به فلم يكن له منها منه. وأما الرضاع ينظر فيه، فإن لم يكن هناك من ترضعه وتحضنه لم يكن له منعها لوجوبه عليها، وإن كان هناك غيرها كان له منعها منه؛ لأنه لا يجب عليها فكان لزوجها منعها من التبرع بالصوم والصلاة وغير ذلك. وأيضًا فإنه مالك لبعضها فله منعها من الاشتغال بغير، فإن أرضعته فلها الأجرة. قال الشافعي: ولا ينفق عليها في رضاعها لولد غيره، وقال الداركي، قال أبو إسحاق: ينظر، فإن أرضعته في منزل الزوج ولم تخرج منها، فإن عليه نفقتها لأنها في قبضته، وإن خرجت إلى منزل الزوج الثاني لترضعه فلا نفقة لها سواء كان بإذنه أو غير إذنه. ومن أصحابنا من قال: إذا خرجت بإذن الزوج إلى منزل الزوج الثاني هل يلزم نفقتها على الأول؟ وجهان بناء على القولين إذا حجت بإذن زوجها هل تسقط نفقتها؟ قولان. [ق 129 ب] وقال القفال: إن كانت ترضعه في بيته ويمنعه ذلك عن الاستمتاع بها فلا نفقة لها أيضًا، وفي هذا نظر لأنها إذا كانت في بيته تكون في قبضته ولا تمنعه من الاستمتاع إلا في زمان يسير ولا اعتبار به. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ ادَّعَاهُ [الأَوَّلُ] أَرَيْتُهُ القَافَة". قال أصحابنا: إذا تربصت أربع سنين، وفرق الحكم بينهما وتزوجت بزوج آخر ثم أتت بولد، ثم جاء المفقود، فإن لم يدع الولد كان الولد للثاني؛ لأن بمضي أربع سنين تحققنا براءة رحمها من ماء الأول، وإن ادعاه وادعا الواطئ في النكاح الفاسد قلنا للزوج: من أي وجه تدعيه؟ فإن قال: لأنه ولد على فراشي في حال غيبتي. قلنا: هذه الدعوة باطلة، لأن رحمها قد برئت من مائك، فإن النطفة لا تمكث في الرحم أكثر من أربع سنين، وألحقنا بالولد الثاني، وإن قال: قدمت أنا في الخفية من خلال هذه المدة ووطئتها وأمكن ما قاله أريناه القافة، فإن ألحقه بأحدهما لحقه، وإن أشكل عليه وقف حتى يبلغ فينتسب إلى أحدهما. ومن أصحابنا من قال: إذا ادعى مطلقًا تقبل دعواه ويرى القافة، قال هذا القائل: وهذا لأن أصحابنا اختلفوا في لحوق ولدها به إذا لم تكن تزوجت على وجهين: أحدهما: يلحق لأنها لم تصر فراشًا لغيره فعلى هذا تسمع دعواه مطلقًا. والثاني: لا يلحق لأن المفقود من عدمت أخباره وانقطعت آثاره، وقد مضت مدة لا يجوز بقاء مائه معها فعلى هذا لا تسمع دعواه حتى يستفسر على ما ذكرنا.

وقال أبو حنيفة: لو أتت بعشرين ولدًا، ثم عاد الأول ألحق الأول به ادعاهم أو لا [ق 130 أ] بناء على أصله أنه يلحق الولد بالفراش المجرد من دون الإمكان. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ مَاتَ الزَّوْجُ الأَوَّلُ وَالآخَرُ وَلَا يَعْلَمُ أَيَّهُمَا مَاتَ أَوَّلًا". الفصل: إذا فرق الحاكم بين المفقود وامرأته، ثم تزوجت، فإن قلنا: الفرقة وقعت ظاهرًا وباطنًا فالنكاح الثاني صحيح قطعًا، ويلزمها أن تعتد عن الثاني عدة الوفاة إذا مات ولا شيء عليها بوفاة الزوج الأول. وإن قلنا: الفرقة تقع ظاهرًا دون الباطن وكان الأول حيًا يومئذٍ بينا بطلان النكاح وكان وطء الثاني في وطء شبهة، فإذا مات الأول يلزمها عدة منه بكل حالٍ، غير أنها لا تشرع فيها عقيب وفاته لأنها فراش للثاني ما لم يفرق بينهما فإذا فرق بينهما شرعت في عدة الوفاة من الأول وعليها أن تعتد بثلاثة أقراء من الثاني، وإن كانت زوجة للأول عند الإصابة، ولا تشرع في عدتها من الثاني أيضًا حتى يفرق بينهما. فإذا تقرر هذا وماتا معًا وجبت عليها عدتان؛ عدة الوفاة وعدة الوطء بالشبهة، ولا تتداخل العدتان بل تعتد أربعة أشهر وعشرًا وثلاثة أقراء؛ لأنهما عدتان لرجلين. ويفارق هذا إذا طلق إحدى امرأتيه ثلاثًا ومات قبل البيان، فعلى كل واحدة منهما أن تعتد أقصى الأجلين من ثلاثة أقراء وأربعة أشهر وعشرًا؛ لأنها عدة واحدة من واحد ولكنها لا تعلم أنها بالأشهر أو بالأقراء وههنا عدتان لرجلين فلم يتداخلا. فإذا تقرر هذا رجعنا إلى تفصيل المسألة فنقول: إذا ماتا لا يخلو [ق 130 ب] من ثلاثة أحوال: إما أن يعرف السابق منهما بعينه. أو يعرف وقت موت أحدهما ولا يعرف موت الآخر فيجوز أن يكون قبله ويجوز أن يكون بعده. أو يعرف أن أحدهما سابق للآخر ولا يعرف عين السابق من المتأخر، فإن عرف السابق منهما مثل أن يعلم أن زوجها المفقود مات في أول المحرم، وزوجها الحاضر مات في أول صفر فههنا بين موت الأول والثاني شهر، فعليها أن تعتد أولًا عدة الوفاة من الزوج [الأول] وهي أربعة أشهر وعشر، فإذا انقضت اعتدت من وطء الثاني ثلاثة أقراء ولا تجب عليها من الثاني عدة الوفاة، وتبتدئ بها من حين موت الثاني لأنها في الشهر [الذي] تبين موتهما كانت فراشًا للثاني يطأها فكيف يجوز أن تكون معتدة فيه، ولأن الوطء يقطع دوام العدة، فلأن يمنع ابتدائها أولى؛ لأن الدوام آكد من الابتداء، وإن كان السابق بالموت هو الواطئ في النكاح الفاسد فإن مات في أول المحرم، ومات

الغائب في أول صفر، فهذه مات زوجها وهي جارية في عدة الوطء فتقطع عدتها ويلزمها أن ترجع إلى عدة زوجها فتعتد أربعة أشهر وعشرًا، فإذا فرغت منها أكملت ما بقي من عدة الواطئ لأن عدة [الزوج] أولى وأعظم حرمة، وقد سبق نظير هذه المسألة. وأما إذا عرف موت أحدهما مثل أن يعلم أن الواطئ في النكاح الفاسد مات في أول صفر، ولم يعلم موت الزوج هل هو متقدم أو متأخر؟ فإنَّا ننظر في الوقت الذي ورد فيه موت زوجها، فإن كان في آخر صفر تنظر في أقل مدة يجيء الخبر من الموضع الذي مات فيه وتقابل بها المدة من حين مات الواطئ، فإن سبق موت الواطئ كان الحكم على ما بيناه إذا سبق موت الزوج [ق 131 أ] وإن لم يسبق موت الواطئ، فإن موت الزوج متأخر، وقد بينا حكمه. وأما إذا علم أن أحدهما مات قبل الآخر ولا يعلم السابق منهما فالاحتياط أن يكون السابق الزوج حين يكون ابتدأ عدتها من حين مات المتأخر منهما موتًا فتأتي بأربعة أشهر وعشر، فإذا انقضت اعتدت بثلاثة أقراء من الواطئ إذا كانت حائلًا، فأما إذا حملت وولدت وألحقناه بالثاني، فإذا ولدته انقضت عدتها منه بوضعها، ثم تستأنف أربعة أشهر وعشرًا. وهل تحتسب بزمان النفاس؟ وجهان: أحدهما: لا تحتسب لأن زمان النفاس تابع لزمان الحمل، فإن النفاس متولد منه. والثاني: وهو الصحيح يحتسب به لأن عدة الوطء قد انقضت فما بعدها من الأيام محسوب من هذه الأشهر. ويخالف هذا إذا كانت مطلقة فإنها لا تحتسب بزمان النفاس من عدة الأول؛ لأن الأقراء هي الأطهار فلا يحتسب منها زمان الدم كما لا يحتسب بما م ر في خلال الأقراء من الحيض، وإذا ظهر منها أمارات الحمل من الثاني فإنها تعتد منه فلو اعتدت، ثم تبين أنه كان ريحًا، ولم يكن حملًا، وقد مضت أربعة أشهر وعشر وثلاثة أقراء بعدها، فإن عدتها قد انقضت منهما جميعًا؛ لأن جهلها بأن عدتها بالأشهر أو بالأقراء لا يمنع من مضي عدتها. فرع: قال في "الأم": وامرأة المفقود إذا ماتت عند الآخر، ثم قدم المفقود أخذ إرثه منها، فإن لم تدع شيئًا لم تأخذ من المهر شيئًا إذا لم يجد زوجته بعينها فلا حق له من ميراثها، وهذا صحيح ونقل المزني هذه المسألة إلى جامِعِه الكبير هكذا ونقلها في بعض النسخ في آخر هذا الباب إلى المختصر. واعترض على قوله [ق 131 ب] إذا لم يجد زوجته بعينها فلا حق له في ميراثها فقال: كيف لا يكون له حق ميراثها، وقد ماتت وهي زوجته، ثم قال يوقف نصيب المفقود وينظر أحي هو فيأخذ حقه أو ميت فيرد على ورثتها؟ ونحن نتكلم على فقه

باب استبراء أم الولد

المسألة ثم نعود إلى تأويل الكلام واعتراض المزني وجملته: أن امرأة المفقود إذا تربصت وتزوجت وماتت، ثم قدم الأول. فإن قلنا بقوله القديم إن الفرقة تقع ظاهرًا وباطنًا فالنكاح الثاني صحيح والثاني يرثها دون الأول ولا كلام. وإن قلنا بقوله الجديد أو بقوله الآخر إن الفرقة تقع في الظاهر دون الباطن فقد بان في الباطن أن الفرقة باطلة، فإن المفقود كان حيًا ونكاح الثاني باطل، فإذا قدم، وقد ماتت كان له ميراثها النصف أو الربع منع الولد ومهر مثلها على الثاني من تركتها وله ميراثها منه. فإذا تقرر هذا رجعنا إلى تأويل الكلام، قال ابن سريج: قوله فإن لم تدع شيئًا لم يأخذ من المهر شيئًا لم يرد به ما وجب لها من المهر على الثاني وإنما أراد المهر الذي روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إذا قدم المفقود وهي تحت الثاني كان الخيار بين أن يأخذها وبين أن أخذ مهر مثلها، وبه قال مالك فالشافعي قال: لا آخذ للزوج هذا المهر على معنى أنه لما فوتها الثاني عليه كان له مطالبته بمهر مثلها لأنها قد ماتت فما فوق الثاني عليه شيئًا، وقوله: إذا لم يجد زوجته بعينها فلا حق له في ميراثها يعني لا نقول إنها ماتت أخذت مهر المثل من ميراثها والدليل على أنه أراد هذا قوله في أول الكلام فإذا قدم أخذ ميراثه منها. فأما المزني قلنا له: الفقه كما قلت هي زوجة الأول، وله ميراثها منها ويوقف له ميراثه كما قلت، فإن كان حيًا وإلا كان [ق 132 أ] لورثتها، ولكن الإنكار عليك حيث سمعت كلامه أولًا أن له ميراثه منها كيف لم تتأول كلامه أولًا فإنه ما كان يناقص آخر كلامه أوله. والله أعلم. باب استبراء أم الولد مسألة: قَالَ: "أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّه قَالَ فِي أُمِّ الوَلَدِ يُتَوَفي عَنْهَا سَيِّدُهَا تَعْتَدُّ بِحَيْضَةٍ". إذا مات السيد عن أم ولده أو أعتقها استبرأت بقرءٍ واحدٍ. وكذلك إذا مات مدبرةٍ وكان يطأها، وكذلك الأمة المشتراة والمسببة تستبرأ بقرءٍ واحدٍ، وبه قال ابن عمر، وعائشة، والشعبي، ومالك، وأحمد، وأبو ثور، وأبو عبيد، والفقهاء السبعة والزهري رضي الله عنهم. وقال أبو حنيفة: إذا مات السيد عن أم ولده أو أعتقها اعتدت بثلاثة أقرا ولا تعتد عدة الوفاة.

وروي هذا عن علي، وابن مسعود رضي الله عنهما، وبه قال عطاء، والنخعي، والثوري، وقال في المدبرة لا استبراء عليها أصلًا. واحتجوا بأنها عدة وجبت على حرة فكانت بثلاثة أقراء، وهذا غلط لأنه استبراء وجب لزوال ملك اليمين فأشبه استبراء الأمة المشتراة. وأما ما ذكروه لا يصح؛ لأن هذا الاستبراء، وإن وجب على حرة وجب بسبب ملك اليمين فصار كالاستبراء الذي ذكرنا. وقال عمرو بن العاص: إذا مات سيد أم الولد تعتد عدة الوفاة أربعة أشهر وعشرًا. وروي هذا عن سعيد بن المسيب، وسعيد بن جبير، وابن سيرين، وعبد الله بن عمرو بن العاص أيضًا، وهذا غلط؛ لأن عدة الوفاة إنما تجب عند زوال الفراش عن زوجية صحيحة، ألا ترى أنها لا تجب على الموطوءة بشبهة [ق 132 ب] ولا على المنكوحة نكاحًا فاسدًا وليس لأم الولد زوجية. فإن قيل: روى خلاس بن عمرو، عن علي رضي الله عنه أنه قال: عدة أم الولد أربعة أشهر وعشر، قلنا: فدل رواية خلاس من الصحيحة. قال وكيع: معناه إذا مات زوجها بعد سيدها فإن قيل: قال عمرو بن العاص: لا تلبسوا علينا بسنة نبينا عدة المتوفي أربعة أشهر وعشر، يعني أم الولد، فدل أنه يروي أيضًا عن الرسول صلى الله عليه وسلم قلنا: أراد اجتهادًا على معنى السنة في الحرائر، ولو كان عنده نص لأظهره ولا يقع التلبيس في النصوص وقيل تأويلها أعتق أم ولده ثم تزوجها، ثم مات. مسألة: قَالَ: "وَلَا تَحِلُّ أَمُّ الوَلَدِ لِلأَزْوَاجِ حَتَّى تَرَى الطُّهْرِ مِنَ الحَيْضَةِ". ظاهر ما قاله ههنا أن الاستبراء يكون بالحيض، وقال في الإملاء على مسائل مالك: إذا استبرأ جارية لا يجوز له أن يطأها حتى تحيض حيضة يتقدمها طهر فالمسألة على قولين: أحدهما: أنه بالحيض، وهو الصحيح لأنها أدل على براءة الرحم واقتصر على قرءٍ واحدٍ فكان الحيض بخلاف العدة، وعلى هذا يدل قوله صلى الله عليه وسلم: "لا توطأ الحامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض، فاعتبر الحيض. والثاني: أنه بالطهر كالعدة، فإذا قلنا: أنه بالطهر نظر إذا مات المولى، فإن كانت حائضًا، فإذا طهرت، ثم حاضت حلت للأزواج لأنه قد مرّ بها طهر كامل، وإن كانت

طاهرًا. قال أصحابنا: تحتسب ببقية هذا الطهر، إلا أنه لابد من حيضة كاملة، بعده، فإذا حاضت، ثم طهرت فقد حلت، ويكون الاعتبار بالطهر الذي قبل الحيضة، إلا أن الطهر لمالم يكمل اعتبرنا أن تكمل الحيضة بعده ليدل على براءة الرحم. وقال بعض مشايخ خرسان: تحتسب ببقية الطهر، وإن كان ساعة [ق 133 أ] فلا تحتاج إلى الحيضة بعده، فإن كانت جارية لا يحل الاستمتاع بها لأجل الحيض، وإن كانت معتقة يحل لها النكاح؛ لأن الحيض لا يمنع النكاح، وهذا اختيار القفال وهو القياس، وظاهر مذهب الشافعي ما تقدم. وإذا قلنا إنه بالحيض، فإذا كانت طاهرًا فحاضت، ثم طهرت، فقد حلت، وإن كانت حائضًا لا تحتسب ببقية الحيض، فإذا طهرت، ثم حاضت، ثم طهرت، فقد حلت وهذا لأن الظاهر من قوله صلى الله عليه وسلم: "ولا حائل حتى تحيض" أن تبتدئ الحيض فإن قيل: هلا قلتم إن بقية الحيض قرء على هذا القول كما قلتم على القول الآخر إن بقية الطهر قرء؟ قلنا: لأن بقية الحيض يتعقبها طهر والطهر لا يدل على براءة الرحم وهي الحيضة فجعلنا بقية الطهر قرءًا، وظهر الفرق. وقال صاحب "الحاوي": عندنا يلزمها قرء بلا خلاف وفي هذا القرء هل يكون المقصود الطهر والحيض فيه تبع كما في العدة أو المقصود الحيض والطهر فيه تبع بخلاف العدة أوجه، لأن كلام الشافعي محتمل للكل أحدها أن المقصود فيه الطهر والحيض، فإن كانت حائضًا فطهرت، ودخلت في قرئها، فإذا رأت الحيضة الثانية حلت، وإن كانت ظاهرًا ففي بقية هذا الطهر وجهان. قال أصحابنا البغداديون: يكون قرءًا كما في العدة ولكن يضم إليه حيضة كاملة ليعرف بها براءة الرحم ببقية الطهر. وقال البصريون من أصحابنا: لا تعتد بهذا البقية، وإن كانت في العدة قرءًا لأنه لو كان قرءًا لاقتصر عليه ولا يقول به أحد ولا في العدة قرء لكونه تبعًا لأٌقراء كاملة بخلاف الاستبراء فعلى هذا يحتج أن تحيض بعدها، ثم تطهر، ثم ترى الحيضة الثانية. والوجه الثاني: المقصود في هذا القرء الحيض والطهر فيه تبع [ق 133 ب] بخلاف العدة، والفرق أن في أقراء العدة حيضًا كاملًا يقوى طهرها في الاستبراء فكان الطهر فيها مقصودًا وطهر الاستبراء ضعيف بانفراده من براءة الرحم فصار الحيض مقصودًا فيه، لأن الطهر لا ينافي الحمل وإنما ينافيه الحيض فعلى هذا إذا كانت حائضًا لم تعتد ببقيتها بالإجماع، وهذا حجة البصريين في بقية الطهر وفرق البغداديون بينهما بما ذكرنا، قال: هذا الفرق تدقيق وليس بتحقيق ولو عكس لكان أشبه. وقال مالك: إن مات سيدها في أول حيضها اعتدت بتلك الحيضة، وإن جاءت في

آخرها لم تعتد بها لأن قوة أولها يمنع علوق الولد فبرئ الرحم وضعف آخره لا يمنع من علوق الولد فلم يبرأ به الرحم، وهذا فاسد لأنه لو برئ به الرحم في الاستبراء لبرئ به الرحم في العدة ولأنه لو برئ الرحم بأوله لم يحتج فيه استكمال آخره. والوجه الثالث: تفرد به البصريون الطهر والحيض مقصودان معًا في قرء الاستبراء وإن لم يقصدا معًا في أقراء العدة، والفرق أنهما في أقراء العدة. يجتمعان فجاز أن يكون أحدهما مقصودًا فعلى هذا إن كانت حائضًا فإذا انقطع دمها دخلت في العدة، فإذا تمّ طهرها، ثم رأت حيضة كاملة ودخلت في الطهر الثاني حلت، وإن كانت طاهرًا هل تعتد البقية وجهان: أحدهما: لا تعتد كما لا يعتد بقول البصريين إذا كان الطهر وحده مقصودًا فعلى هذا إذا رأت الدم بعد بقية هذا الطهر دخلت في قرئها، فإذا كملت حيضها، ثم طهرًا كاملًا، ثم رأت الحيضة الثانية حلت. والثاني: تعتد ببقية هذا الطهر إذا كانا مقصودين ولا تعتد به إذا كان أحدهما مقصودًا [ق 134 أ] لقوته إذا قرن بغيره وضعفه إذا انفرد بذاته فعلى هذا تدخل في قرئها في نية طهرها، فإذا حاضت حيضة كاملة ودخلت في الطهر حلف وهذا كله حسن، وهذا كله إذا كانت من ذوات الأقراء، فإن كانت آيسة تستبرئ بشهر نص عليه في كتاب النكاح والطلاق، لأن كل شهر بمنزلة قرءٍ وهذا أصح، وفيه قول آخر نص عليه في كتاب عتق أمهات الأولاد أنها تستبرئ بثلاثة أشهر؛ لأن براءة الرحم بالشهور لا تحصل بأقل من ثلاثة أشهر، فإن الولد لا يتحرك في البطن وراء ثلاثة أشهر. ثُمَّ قَالَ الشَّافِعِيُّ: "فَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا بِأَنْ تَضَعَ حَمْلَهَا"، وهذا صحيح لأنه براءة الرحم لا تحصل إلا بالرضع فاستوى فيه الحرة والأمة والمطلقة والمتوفي عنها. ثُمَّ قَالَ:"وَإِنْ اسْتَبْرَأَتْ فَهِيَ كَالحُرَّةِ المُسْتَرِيبَةِ" وقد بينا حكم الحرة إذا ارتابت وحكم أم الولد حكمها فيما ذكرنا ولا فرق بين أن تكون الريبة قبل وضع الولد أو بعده وضعه لأنها ربما تلد ولدًا، وفي بطنها ولد آخر ينفصل بعد شهر أو شهرين أو أربعة أشهر، ولهذا عطف الشافعي مسألة المستبرأة على الحامل إذا وضعت حتى يعلم أن هذا الشك غير مختص بالحائل، وأنه ربما يشك الحامل كما تشك الحائل والحكم أنها تتربص حتى تستيقن زوال الريبة. مسألة: قَالَ: "فَإِنْ مَاتَ سَيِّدُهَا وَهِيَ تَحْتَ زَوْجٍ أَوْ فِي عِدَّةِ مِنْ زَوْج فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا".

أجاب الشافعي على القول الذي يقول: تزويج أم الولد جائز، وقد ذكرنا ما قيل فيه في كتاب النكاح، فإذا زوجها، ثم ماتت المولى بعد تزويجها وعتقت فلا يجب عليها الاستبراء؛ لأنه لما زوجها صارت فراشًا لزوجه، وحرمت على مولاها ومحل المولى منها محل الأجنبي، فلم يجب عليها بموته الاستبراء، وكذلك [ق 134 ب] إذا طلقها أو مات عنها، ثم مات المولى وهي في عدة من زوجها لم يجب عليها الاستبراء لما ذكرنا، فإذا انقضت عدة الزوج والمولى حتى عادت فراشًا له؛ لأن الفراش قد زال بالتحريم الذي طرأ عليها النكاح، فإذا زال التحريم عادت فراشًا كما كانت وقد نص الشافعي على أن المولى يطأها قبل أن يستبرئها لأن المنع لأجل ماء الزوج، وقد حكمنا ببراءة رحمها من ماء الزوج فلم يجب على المولى استبراء آخر. وذكر ابن خيران قولًا آخر عن الشافعي في القديم أنه يجب استبرائها ولا يحل له وطئها قبل ذلك لأنها استباحة تجددت في ملك، ولأن الاستبراء والعدة حقان فلا يتداخلان وعلى هذا لا تصير فراشًا للسيد بانقضاء العدة، فإن استبرأها السيد ووطئها صارت بهذا الوطء فراشًا، فإن مات السيد بعد ذلك لزمه الاستبراء بموته، وإن لم يطأها حتى مات قبل الاستبراء أو بعده، فقد مات وهي غير فراش له فلا يلزمها الاستبراء منه. وقال في الحاوي في وجوب الاستبراء ههنا على قول ابن خيران وجهان بناء على الوجهين في استبراء أم الولد هل وجب لحرمة الولد أو لرفع الفراش. قال الاصطخري: يجب لحرمة الولد فعلى هذا يلزمها الاستبراء، وقال غيره: يجب لرفع الفراش فعلى هذا لا يلزمها الاستبراء لأن الفراش لم يعد وعلى هذا لو زوج أمته بعد الاستبراء، ثم طلقها واعتدت من طلاقه هل يستبيحها السيد قبل استبرائها وجهان: أحدهما: لا استبراء لأن براءة الرحم حصلت. والثاني: يلزمها الاستبراء لأن العدة للزوج والاستبراء يحل استمتاع السيد. وقال البندنيجي نص الشافعي عليه وعلى كلا الوجهين لا تصير فراشًا إلا بالوطء لأن فراش أم الولد أثبت لأن ولدها بعد ستة أشهر [ق 135 أ] من استبرائها يلحق بالسيد ولا يلحق به ولد الأمة، فإذا مات على الأمة لم يلزمها الاستبراء بموته ويلزم أم الولد فافترقا. وإذا قلنا بالمذهب المشهور أنه لا استبراء عليها بعد انقضاء عدتها، وصارت فراشًا للسيد فمات السيد في الحال يلزمها الاستبراء عن السيد لزوال ملكه عنها وهي فراش نص عليه الشافعي: وقال القفال: إنما يجب الاستبراء على أم الولد عند موت السيد أو إعتاقها إذا لم

يكن السيد استبرأ هل قبل الموت أو الإعتاق، فإن كان قد استبرأها أو أعتق فهل يلزمها الاستبراء وجهان، وأصل الوجهين ما ذكرنا من قبل أن أم الولد هل يزول عن كونها فراشًا بالاستبراء أو ولادة يحصل، وهل تعود فراشًا بعد زوج من غير وطء جديد. فإن قلنا: هي فراش بكل حال فلا بد من استبراء بعد زوال الملك، وإن قلنا بالآخر فالذي قبل الإعتاق محسوب، فإذا قلنا: لو استبرأها، ثم أعتقها لا يلزمها الاستبراء لا يعتد هذا التفريغ لأن استبرأها قبل أن زوجها لا محالة إذ يجوز أن يطأها، ثم يزوجها من غير استبراء فلا يحصل للعقد أو العدة منه تأثير في هذا الحكم. وإذا قلنا إنه لا يحتسب بالاستبراء قبل الإعتاق يفيد الكلام من هذا الفرع، وهذا حسن ولكنه غير مشهور. مسألة: قَالَ: "فَإِنْ مَاتَا فَعُلِمَ أَنْ أحدهما مَاتَ قَبْلَ الآخَرِ بِيَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ وَخَمْسِ لَيَالٍ أَوْ أَكْثَرَ وَلَا نَعْلَمُ أَيَّهُمَا أَوَّلًا اعْتَدَّتْ مِنْ يَوْمِ مَاتَ الآخَرُ مِنْهُمَا أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا". الفصل: وهذا تفريع على القول الصحيح أنها تعود فراشًا له من غير استبراء جديد، وجملة هذا أنه لا يخلو من ثلاثة أقسام: إما أن يكون بين موتهما شهران وخمس ليال فما دونهما أو أكثر من شهرين وخمس ليال إذا شكل الأمر فلا يدري كم كان بينهما [ق 135 ب] فإن علم أن بينهما شهرين وخمس ليال أو أقل من ذلك، فإن عليها أربعة أشهر وعشرًا من غير حيضة من أخرهما موتًا، وإنما لا تجب الحيضة لأنه لا يخلو من أن يكون الزوج هو الذي مات أولًا أو السيد وأيهما تقدم موته فلا استبراء عليها من السيد؛ لأن السيد إن كان قد تقدم موته فهي تحت زوج، وإذا مات السيد عن ام ولد وهي تحت زوج لا تجب عليها الاستبراء وإن كان قد تقدم موت الزوج، ثم مات السيد صادف حال عدتها من زوجها، وقد بينا أنها إذا كانت في عدة من زوجها لا يجب عليها الاستبراء من سيدها، وأما أربعة أشهر وعشر فإنما أوجبنا عليها احتياطًا فإنه يجوز أن يكون السيد مات أولًا فعتقت هي، ثم مات الزوج عنها وهي حرة فيلزمها أن تعتد أربعة أشهر وعشرًا وإن كان بين موتيهما أكثر من شهرين وخمس ليال، ثم مات السيد فيلزمها أن تستبرئ نفسها بحيضة وإنما أوجبنا عليها أربعة أشهر وعشرًا احتياطًا بجواز أن يكون السيد مات أولًا، ثم مات الزوج وهي حرة فوجبت عليها عدة الحرائر. وأما قول الشافعي ههنا: "وهو أكمل ما وجب عليها" لم يرد بذكر الكمال أن الجمع بين الأشهر والحيضة من المستجاب بل يلزمها ذلك، وكذلك قال

عليها وهي كلمة إيجاب وإلزام. وحكي عن أبي إسحاق عن بعض أصحابنا أنه قال: يجب أن تكون الحيضة في الأربعة الأشهر بعد شهرين وخمس ليال لأن الشهرين وخمس ليال عدة من الزوج فالاستبراء بحيضة يجب أن يكون بعدها، قال: وهذا غلط لأنا لا نحتسب بما بين الموتتين من العدة، وإنما نوجب عليها أربعة أشهر وعشرًا من عند آخرهما موتًا فعلى هذا في أي زمان حصلت الحيضة في أربعة أشهر وعشرًا [ق 136 أ] في أولها أو في آخرها فقد صح الاستبراء، وإن لم يعلم مقدار ما بين فالاحتياط أن يكون بين موتيهما أكثر من شهرين وخمس ليال فيلزمها أن تعتد أربعة أشهر وعشرًا فيها حيضة على ما بيناه. ثم إن المزني قَال: هَذَا عِنْدِي غَلَطٌ لَأَنَّهُ إِذَا لَمْ يَكُنْ بَيْنَ مَوْتَيْهِمَا إِلَّا أَقَلُّ مِنْ شَهْرَيْنِ وَخَمْسَ لَيَالٍ فَلَا مَعْنَى لِلْحَيْضِةِ" قلنا له: صدقت ومثل هذا لا تخفي على الشافعي ولما نقله تأويلان: أحدهما: أن الشافعي جمع بين مسألتين: إحداهما: أن يكون بين موتيهما أقل من شهرين وخمس ليال أو أكثر ثم أجاب عن الثاني: منهما وترك الجواب عن الأولى اكتفاء بما قد بينه في المسألة قبلها. والثاني: أنه صور المسألة فيما سكت فلم يدل على أن بين موتيهما قدر عدة الإماء أو أقل أو أكثر فكأنهما شكت من وجهين في أولهما موتًا، وفي قدر المدة بين الموتين فالحكم يكون بالاحتياط على ما ذكرنا. وإن علم أنه مات الزوج والسيد فعليها أربعة أشهر وعشر بلا خلاف. مسألة: قَالَ: "وَلَا يَقْرَبُ زَوْجِهَا حَتَّى تَسْتَيْقِن أَنَّ سَيِّدَهَا مَاتَ قَبْلَ زَوْجِهَا". أراد به إذا ماتا جميعًا ولم يعلم أيهما مات أولًا، فلا ميراث لها من زوجها، لأن الأًصل أنها رقيقة ليست من أهل الميراث، وقد شككنا هل يغير حكمها فصارت من أهل الميراث من زوجها أم لا فلا يجوز أن نزيل اليقين بالشك". فإن قيل: لم يوقفوا الميراث حتى ينكشف الحال كما قلتم في الرجل إذا كانت له امرأتان مسلمة وكتابية، فطلق إحداهما لا بعينها ومات قبل البيان يوقف ميراث زوجه إلى أن تنكشف [ق 136 ب] المطلقة هل هي الذمية فترثه المسلمة أو المسلمة فلا ترث الذمية ولا المسلمة، قلنا: الفرق أن الأصل أن المسلمة وارثته وقد شككنا هل حكمها وبطل استحقاقها أم لا، والأصل أنها مستحقة للميراث فلا يزيل اليقين بالشك وههنا الأصل أن أم الولد غير مستحقة للميراث، وقد شككنا هل صارت مستحقة فلا يزيل اليقين بالشك،

فإن ادعت علم الورثة أنه عتقها، كان قبل موت قريبه فعليهم أن يحلفوا أنهم لا يعلمون ذلك. ثم قال الشافعي: "وتعتد عدة الوفاة كاملة للاحتياط حتى تحل بيقين، وعلى هذا إذا طلق العبد امرأته الأمة طلقة رجعية فأعتقت في عدتها، ثم أعتق العبد، ثم مات فإن كانت الأمة لما أعتقت اختارت الفسخ فلا ترثه لأنها صارت بالفسخ بائنًا وإن كانت لم تختر الفسخ فهي رجعية جارية في العدة فيلزمها عدة الوفاة ورثته. مسألة: قَالَ: "وَالأَمَةِ يَطَأَهَا سَيِّدَهَا تُسْتَبْرأَ الحَيْضَةِ، فَإِنْ نَكَحَتْ فَفَسْق". أراد به إذا كانت جارية فوطئها ولم يستبرئها لم يجز له تزويجها قبل الاستبراء، فإن زوّجها كان النكاح فاسدًا، وإن باعها قبل الاستبراء صح البيع لأن المقصود من البيع هو الملك دون الوطء بخلاف النكاح ولا يجوز للمشتري وطئها حتى تستبرئها وكذلك لا يجوز للمشتري قبل الاستبراء كان التزويج فاسدًا. وقال أبو حنيفة: له تزويجها قبل الاستبراء، وهذا على اصله أنها لا تصير فراشًا بالوطء ولا يلزمه الولد بذلك ما لم تقر بعين الولد فهو كما لو لم يطأها فيقول: كل وطء لو أتت منه بولدٍ وأٌرت به ثبت النسب فذلك الوطء يوجب تربصًا كالوطء بالشبهة [ق 137 أ] وزاد أبو حنيفة على هذا فقال: لو وطء أمته، ثم زوجها في الحال ووطئها الزوج في الحال جاز فيجتمع من ساعتين وطئان من رجلين وهذا بيع في الشرع. وأما إذا وطئها ثم استبرأها له تزويجها، وجاز له بيعها، فإن باعها وجب على المشتري أن يستبرئها استبراء آخر لحدوث ملكه عليها ألا ترى أنه لو اشترى جارية من خصي أو امرأة كان عليه أن يستبرئها وإن كانت رحمها بريئة ولكن يجوز للمشتري تزويجها قبل الاستبراء، لأن الاستبراء لحدوث الملك لا يمنع التزويج، وإنما يمنع من التزويج الاستبراء يجب لأجل وجود الوطء، وإنما قلنا كذلك؛ لأن رحمها برئ في الظاهر فجاز له تزويجها وليس لذلك الوطء لأنه وإن كان رحمها برئ في الظاهر ربما أنه يتولد بعد وطئه فعلم أنه ليس منه فلا يمكن نفيه بأن يدعي الاستبراء، فإذا لم يستبرئها لا يمكن أن يدعيها وأيضًا الاستبراء للنكاح مقدم النكاح فاكتفي بالاستبراء المتقدم والاستبراء للوطء لا يتقدم الملك فلم يكتف بالاستبراء المتقدم من البائع، والفرق بين هذه يجوز تزويجها وبين مسألة الخلاف أن في تلك المسألة رحمها مشغول غير بريء في الظاهر وههنا رحمها بريء في الظاهر فافترقا، وإن كانت له جارية فوطئها، ثم أعتقها لم يجز لها أن تتزوج حتى تستبريء بحيضة وكذلك إذا وطئها ثم باعها، ثم أعتقها المشتري قبل

الاستبراء لا يجوز لها أن تتجوز إلا بعد الاستبراء، وكذلك أم ولده إذا أراد تزويجها. وقلنا: يجوز ذلك [ق 137 ب] كان عليه أن يستبرئها بحيضة، فإن زوجها قبل الاستبراء فالتزويج فاسد، ولو كانت له جارية فأعتقها ولم يكن وطئها لم يجب عليها الاستبراء، وكان لها أن تتزوج في الحال وكذلك إذا وطئها واستبرأها ثم أعتقها لم يجب عليه استبراء آخر لأن عليه وجوب الاستبراء، أما وجود الوطء أو حدوث الملك على الاستمتاع بعد التحريم وليس ههنا واحد منهما، وبه قال أحمد، وعلى ما ذكرنا لو اشترى أمةً من صبي أو خصي أو امرأة يجوز له أن يزوجها قبل الاستبراء ويحل للزوج وطئها عقيبه ولا يجوز للمشتري وطئها حتى يستبرئها. وقال القفال: نص الشافعي هكذا أنه لو اشترى أمةً ولم يطأها حتى أعتقها فلا استبراء عليها، ولكن قال أصحابنا: صورته أن البائع كان قد استبرأها قبل أن باعها، أو لم يكن وطئها أو المشتري استبرأها، ثم أعتقها. ومن أصحابنا من قال: وإن استبرأها البائع، ثم أعتقها لابد من استبراء جديد بعد التزويج، قال: وعلى هذا أكثر أصحابنا، وعندي يجوز له تزويجها، وهذا غريب بعيد ولم يساعده أحد من أصحابنا بالعراق والله أعلم. وقال أبو حنيفة: إذا أعتقها سقط الاستبراء بكل حالٍ. وحكي أن هارون الرشيد اشترى جارية فتاقت نفسه إلى جماعها قبل أن يستبرئها فقال لأبي يوسف: هل تجد لي حيلة في ذلك؟ فقال: نعم أعتقها وتزوج بها وقد حلت في الحال، ففعل ذلك وأجزل العطاء لأبي يوسف. وقيل: هذا ليس بمذهب أبي حنيفة بل هو اختيار أبي يوسف. واحتجوا [ق 138 أ] بأن له أن بيبعها فله أن يزوجها كما لو كان استبرأها، وهذا غلط لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تسق بماء له زرع غيرك، والبائع قد زرع فلا يجوز للزوج أن يسقيه ولأن هذا وطء له حرمة فلا يجوز تزويجها من غير الواطئ قبل الاستبراء كالموطوءة بشبهة، ويخالف البيع لأنه يصح في المعتدة والمحرمة بخلاف النكاح. فإذا تقرر هذا فإذا زوجها، ثم طلقها زوجها قبل الدخول بها فعليه استبراء جديد؛ لأن الحيلولة التي وقعت بينه وبين بضعها بالتزويج كزوال الملك؛ لأنه يزيل ملك الاستمتاع وإن طلقها بعد الدخول تعتد بحيضتين وهل يدخل الاستبراء في تلك العدة أو يجب الاستبراء؟ من وجهين. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ وَطِئَ المُكَاتِبُ أَمَتَهُ فَوَلَدَتْ أَلْحَقْنَاهُ بِهِ".

باب الاستبراء من كتاب الاستبراء

الفصل: المكاتب لا يتسرى على قوله الجديد، وأما على قوله القديم ليس له ذلك دون إذن السيد، وبإذنه هل يجوز؟ قولان كما نقول في تبرعاته، ثم سواء قلنا يتسرى أم لا وطء فجاءت منه فالولد مكاتب عليه ولا نعني به أنه يصير مكاتبًا مثله أو يلزمه من النجوم وإنما نعني به أنه لا يجوز له بيعه وإزالة الملك عنه ويكون موقوفًا على حكمه، فإن عتق عتق، وإن رق رق. وأما الجارية فيها قولان: أحدهما: تصير أم ولد له ولا يبعها بحال وهو الأصح لأنه ثبت لولدها حرمة حرية منتظرة فثبتت للأم أيضًا؛ لأن حكم الأم حكم الولد ولا نريد به أنها تصير أم ولده في الحال؛ بل تريد به أنه في الحال لا يبيعها، فعلى هذا إن رق المكاتب رقًا جميعًا؛ لأنه يجوز حينئذٍ بيع الولد وحرمتها بالولد فيجوز بيعها أيضًا وإن عتق كانت أم ولده وتعتق بموته [ق 138 ب]. والثاني: يبيعها ولا تصير أم ولدٍ به خاف العجز أو لا لأنها علقت بمملوك فلم تصر أم ولد، كما لو أولدها في النكاح ثم استبرأها لا تصير أم ولدٍ له، والأول اختيار المزني وهذا على أصله صحيح؛ لأن عنده الحر إذا استولد جارية بالنكاح قم ملكها صارت أم ولد أيضًا وههنا أولى. وقال مالك: إن خاف العجز باع هذه الجارية، وإن لم يخف العجز لا يبيعها، وقال أبو حنيفة: إن مات الولد حل له بيعها، وإن كان حيًا لا يبيعها، وهذا غلط لأنها لا تخلو من أحد أمرين: إما أن تكون أم ولدٍ فلا يجوز بيعها بحالٍ كسائر أمهات الأولاد. وإما أن لا تكون أم ولد فيجوز بيعها على كل حال كالأمة القن لا وجه للفرق الذي ذكره مالك ولا للذي ذكره أبي حنيفة. وحكي عن الاصطخري أنه قال: لو خاف العجز إن لم يبع الولد له بيعه لأن عجزه يفضي إلى رقهما معًا فكان بيعه في عتق الأب أولى من استرقاقه مع الأب، وهذا خلاف مذهب الشافعي؛ لأن العتق بيعه مظنون، ويجوز أن يتلف ثمنه قبل أدائه في مال الكتابة فلا يجوز أن يسقط به ما استحقه على أبيه من العتق بعتقه، ويقابل هذا التجويز أنه يجوز أن يكتسب مالًا قبل تعجيزه من لقطةٍ أو هبةٍ فيعتقان معًا. باب الاستبراء من كتاب الاستبراء مسألة: قَالَ: "نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَ سَبْيِ أَوْطَاسٍ أَنْ تُوطَأ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ وَلَا يَشُكُّ أَنَّ فِيهِنَّ أَبْكَارًا أَوْ حَرَائِرَ كُنَّ قَبْلَ أَنْ يُسْتَأمَيْنَ وَإِمَّا

وَضِيعَاتٍ وَشَرِيفَاتٍ فَكَانَ الأَمْرُ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم فِيهِنَّ وَاحِدًا" [ق 139 أ]. إذا ملك الرجل جارية بشراء أو هبة أو ميراث أو غنيمة أو وصية لا يجوز له أن يطأها حتى يستبريها سواء كانت الجارية بكرًا أو ثيبًا صغيرة لا يمكن وطئها أو كبيرة يمكن وطئها وسواء كانت ممن تحبل، أولا تحبل شريفةٍ كانت أو دينة للعلة التي ذكرها الشافعي ههنا وهي حدوث الملك على جارية محرمة عليه. واعتبر الشافعي حدوث الملك وكون الفرج محرمًا عليه قبل الملك؛ لأن الرجل إذا تزوج ثم استبرأها لا تجب عليه أن يستبرئها، لأن الفرج كان مباحًا له قبل الملك. وبه قال عمر، وعثمان، وعبد الله بن مسعود، وابن عمر، والحسن، وعطاء، وابن سيرين، وعكرمة، وجماعة الفقهاء رضي الله عنهم، وقال داود: إن كانت بكرًا فلا استبراء عليه، وإن كانت ثيبًا يلزمه الاستبراء. وروي هذا عن ابن عمر رضي الله عنه، وقال مالك: إن كانت عمن لا تجامع مثلًا فلا استبراء، وإن كانت ممن تجامع مثلًا يلزمه الاستبراء. وحكي صاحب المفتاح عنه أنه قال: تستبرأ الشريفة ولا تستبرأ الدنية، وقال الليث بن سعد: إن كانت ممن يحبل مثلها فعليها الاستبراء، وإن كانت ممن لا تحبل مثلها فلا استبراء عليها، وقال المزني من مختصر: المختصر عندي أنه لا يلزم الاستبراء بحالٍ إلا أن تكون موطأة أو كانت حائلًا وأنا أميل إلى هذا. واحتجوا بأن الغرض بالاستبراء معرفة براءة الرحم، فإذا كانت بكرًا أو لا تحبل لا حاجة إليه، وهذا غلط لما ذكر الشافعي من الدليل وأشار على لفظ الخبر ولولا ذلك لكان الأول أن يقول نهى عام سبي أوطاس أن توطأ حامل حتى تضع أو حائل حتى تحيض وكان الأولى بعدما قصد إلى اللفظ أن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [ق 139 ب] ويذكر الخبر، وقوله قبل أن يستأمنن أي قبل أن يصون بالاسترقاق إماءً. وروى أبو الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في غزوة رأى امرأة محجمًا. فقال: لعل صاحبها ألم بها قالوا: نعم، فقالت: لقد هممت أن ألعنه لعنة تدخل معه في قبره كيف يورثه وهو لا يحل له وكيف يستخدمه وهو لا يحل له" والحج الحامل المقرب وفيه بيان أن الواطئ الحامل من السبايا لا يحل حتى تضع الحمل وقوله كيف يورثه وهو لا يحل له يريد به أن ذلك الحمل قد يكون من زوجها المشترك فلا يحل له استلحاقه وبورثته، وقد يكون منه إذا وطئها بأن ينعس ما كان في الظاهر حملًا وتعلق من وطئه فلا يجوز له نفيه واستخدامه، وفي هذا دليل على أن الأمة تصير فراشًا بالوطء. وروى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم استبرأ صفية بحيضة، وروى رويفع بن ثابت الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: "لا يحل لمؤمن يؤمن بالله واليوم الآخر سقي مائه زرع غيره" يعني إتيان الحبالى.

فرع: قال القفال: قال في الأم ورواية الربيع إذا اشترى أمة معتدة من زوج فانقضت عدتها لا يلزم الاستبراء، ولو زوج أمته فأصابها الزوج، ثم طلقها فاعتدت يلزم الاستبراء. وقال في الإملاء في المسألة الأولى: يلزم الاستبراء وفي المسألة الثانية لا يلزم الاستبراء فاختلف جوابه هكذا في الكتابين على التضاد، وقد سألت كثيرًا من أصحابنا فلم يزد أحد منهم على أن قال للشافعي في المسألتين قولان: أحدهما: يدخل الاستبراء في العدة. والثاني: لا يدخل وهذا وإن كان كذلك [ق 140 أ] فلابد من أن يكون لفصل الشافعي بينهما واختلاف جوابه معنى فالمعنى الذي اعتبره الشافعي في الأم أن الاستبراء تجب عند حدوث الملك الذي اعتبره الشافعي في الأم أن الاستبراء تجب عند حدوث الملك على الفرج فمتى كان الفرج مشغولًا بحث الغير لم يجب فعلى هذا في المسألة الأولى لا تجب وفي الثاني: يجب لأن ملكه على الفرج إنما حدث عند فراغها من العدة، وإذ ذاك لم يكن للغير حق فوجب الاستبراء كما لو كانت أمة فعجزت أو زوج أمته فطلقها زوجها قبل الدخول، واعتد في الإملاء على معنى آخر وهو أن العدة إذا حصل كلها في ملكه حصل الاستبراء له، وإذا حصل بعضه في غير ملكه لم يعتد به، وهذا حسن لم يقله غيره. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ بَاعَ جَارِيَةً مِنْ امْرَأَةٍ ثِقَةٍ وَقَبَضَتْهَا وَتَفَرَّقَا بَعْدَ البَيْعِ، ثُمَّ اسْتَقَالَهَا فَأَقَالَتْهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَطَأَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئُهَا". الفصل: قصد الشافعي بهذا التصوير التنبيه على أن الاستبراء حيث يجب إنما يجب بسبب حدوث الملك سواء كان الوطء من البائع موهومًا أو غير موهوم، فلو كنا نأمر بالاستبراء لتوهم الوطء لما أوجبناه في هذه المسألة لأنا تيقنا أنها بين البيع والإقامة كانت مصونة عن الوطء وجملته أنه إذا باع أمته من امرأة أو خصي أو رجل عدل، ثم استقال في الحال فأقاله انتقل الملك إليه قبل أن يطأها المشتري ولا يحل له وطئها حتى يستبرئها سواء كان بعد قبض المشتري أو قبل قبضه. وقال أبو يوسف: إن كانت الإقالة بعد القبض يلزم الاستبراء، وإن كانت قبل القبض فالقياس أن يستبرئها ولكنه لا يجب استحبابًا. وروي هذا عن أبي حنيفة، وهذا لأن قبل القبض باقية على حكم ملكه، وهذا غلط، لأنها حرمت عليه بعقد معاوضة وحلت له بفسخه فيجب الاستبراء كما لو كان بعد

القبض. وأما ما ذكره لا يصح لأنها [ق 140 ب] ملك المشتري يلزمه نفقتها، وعلى ما ذكرنا قال القاضي الطبري: لو فسخ البائع البيع في المجلس قبل التفريق، وقلنا: الملك للمشتري لا يجب الاستبراء عليه لأنه استحدث عليها ملكًا بعد التحريم. فإن قيل: أليس يجوز للبائع وطئها في مدة الخيار فيل نعم ويكون وطئه فسخًا، فأما الوطء مع انتقال الملك فمحرم. مسألة: قَالَ: "والاسْتِبْرَاءُ أَنْ تَمْكُثَ عِنْدَ المُشْتَرِي طَاهِرًا بَعْدَمَا مَلِكَهَا". الفصل: أراد به أن الاستبراء واجب على المشتري دون البائع، فإن استبريء البائع وباعها لم يسقط عن المشتري والمستحب أن يستبرئها البائع أيضًا إن كان قد وطئها، وإن لم يكن وطئها فلا مانع له، وبه قال مالك، وأبو حنيفة، وقد ذكرنا في كتاب البيع عن النخعي وجماعة أنه يجب على البائع والمشتري معًا؛ لأن البائع يلزمه حفظ مائه وكذلك المشتري يستبرئها لحفظ مائه، وهذا غلط؛ لأن الاستبراء في حق الحرة آكد لأنه ثلاثة أقراء، ثم لا يجب قبل النكاح وبعده فههنا أولى وما ذكره يبطل بالحرة. وقال عثمان البني: يجب الاستبراء قبله كالنكاح، وهذا غلط لأنه ملك استمتاع جارية بملك اليمين بعد تحريمها عليه فكان عليه الاستبراء كالمسبية. وأما ما ذكره لا يصح في المحرمة بخلاف النكاح، والاستبراء يكون في يد المشتري، وإن كانت جميلة ففي يدي عدل، وقد ذكرنا ذلك في كتاب البيع وهذا غلط لأنه استبراء لاستحداث ملك فأشبه إذا كانت قبيحة. واعلم أن أبا حامد قال: لو استبرأها قبل القبض بعد لزوم البيع لم يعتد به ويلزمها استبراء آخر بعد القبض؛ لأن الشافعي قال: "والاستبراء أن تمكث عند المشتري طاهرًا" ولأن الملك لم يستقر بعد فأشبه إذا كان قبل التفرق، قال: وهكذا إذا أوصى له بجارية ومات [ق 141 أ] فقبل الوصية ملكها، وإن لم تقبض ولا تعتد بالاستبراء قال: ولو ورث جارية فاستبرأها قبل القبض وقع الاستبراء موقعه والفرق أن بالميراث تصير كالمقبوضة بدليل أنه يجوز له بيعها في الحال، فلها يعتد بالاستبراء هناك بخلاف مسألتنا والمسألة خلاف هذا على ما ذكرنا في كتاب البيع؛ لأن الشافعي قال: بعد هذا ولو لم يتفرقا حتى وضعت حملًا لم تحل له حتى تطهر من نفاسها ويحيض حيضة ولم يشترط القبض، لأن الملك قد تمّ ولزم فأشبه إذا كان بعد القبض. وأما قول الشافعي: "الاسْتِبْرَاء أَنْ تَمْكُثَ عِنْدَ المُشْتَرِي" قصد به الرد على مالك

حيث قال: إذا كانت حسنة تكون في يد عدل على ما ذكرنا، وأما قوله: تمكث طاهرًا بعدما ملكها ثم تحيض حيضة معروفة، فإذا طهرت منها فهو الاستبراء يريد به أن الاستبراء بالحيض ولكن يكون حيضة معروفة أي صحيحة، وهو أن يكون أقله يوم وليلة وأكثره خمسة عشر ولا بد من أن تمكث طاهرًا، ثم تحيض حيضة لأنها كانت حين ملكها طاهرًا فلا بد من أن تحيض حيضة، فإذا طهرت حلت، وإن كانت حائضًا فلا تحتسب بنفسها، فإذا طهرت، ثم حاضت حيضة كاملة، ثم طهرت ثانيًا حلت، وقد ذكرنا ما قيل فيه، وإن كانت لا تحيض فاستبرؤها بشهر. وقال عمر بن عبد العزيز، ومجاهد، وطاوس، وعطاء، وابن سيرين: ثلاثة أشهر وهو قول آخر لنا، وهو الصحيح عند كثير من أصحابنا، ثم قال: فإن استبرأت أمسك حتى يعلم أن تلك الريبة لم تكن حملًا وأراد إذا استبرأت نفسها بحيضة ثم استبرأت فعلى السيد أن يمسك عنها، ولفظ الشافعي يدل على هذا أنه قال: ولا أعلم مخالفًا في المطلقة لو حاضت ثلاث حيض وهي ترى [ق 141 ب] أنها حامل لم تحل للأزواج إلا بوضع الحمل والبراءة من أن يكون حملًا. مسألة: قَالَ: "وَلَا تَحِلُّ لَهُ قَبْلَ الاسْتِبْرَاءِ التَّلَذُّذُ بِمُبَاشَرَتِهَا". الفصل: إذا ثبت أن الاستبراء على المشتري فلا يحل له وطئها حتى يستبرئها، وأما دواعي الجماع من القبلة واللمس والنظر بشهوة فلا يحل له أيضًا في زمان الاستبراء المعنيين بأحدهما أنه استبراء لصيانة الماء فأشبه المعتدة من زود. والثاني: وهو الأظهر أنها قد يكون من سيدها أو وطء شبهة فتكون أم ولد غيره فيؤدي إلى مباشرة أم ولد غيره ولا يجوز ذلك هذا إذا ملكها بغير السبي، فإن ملكها بالسبي والاغتنام فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز شيء من هذا قياسًا على المملوكة بغير السبي. والثاني: يجوز ذلك، وهو ظاهر المذهب لأن هذا لا تخلو إما أن تكون حائلًا أو حاملًا فإن كانت حائلًا فهي مملوكة له، وإن كانت حاملًا لا تكون أم ولد للمشترك وتكون هي وولدها مملوكين له، فإن قيل فقولوا: يجوز وطئها أيضًا لهذا المعنى قلنا: إنما حرمنا وطئها لئلا يختلط ماءه بماء المشترك، وكان الاستبراء واجبًا لحرمة ماء المسلم دون المشرك، ولأنه روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه، أنه قال: وقع في سهمي جارية من سبي حلولًا فنظرت إيها، فإذا عتقها مثل الإبريق فلم أتمالك أن وثبت عليها فقبلتها والناس ينظرون ولم ينكر عليه أحد.

فرع: لو وجبت العدة على زوجة الغير بوطء شبهة لا يحل للزوج وطئها ما دامت في عدتها وهل تحل التلذذ بما دون الوطء وجهان لأن المقصود نفي اختلاط البائن وهي بعد العدة حلال للزوج كالمسبية، وهكذا لو زوج أمته، ثم طلقها بعد الدخول وانقضت عدتها، ثم عادت إلى السيد يلزمها [ق 142 أ] الاستبراء بعد العدة تعتد في أحد الوجهين وهل يحرم في هذا التلذذ وجهان: مسألة: قَالَ: "وَلَوْ لَمْ يَفْتَرِقَا حَتَّى وَضَعَتْ حَمْلًا لَمْ تَحِلَّ لَهُ حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ نِفَاسِهَا، ثُمَّ تَحِيضَ حَيْضَةً مُسْتَقْبِلَةً". الفصل: إذا اشترى جارية حائلًا فاستبرأها يكون بوضع الحمل، وإنما يصح ذلك إذا كان حملها مملوكًا، فإذا وضعت نظر، فإن وضعت بعد لزوم البيع وانبرامه وهو بعد التفرق وقع الاستبراء موقعه، وإن وضعت قبل لزوم البيع مثل أن وضعت في مدة خيار المجلس له وخيار الشرط. فإن قلنا: الملك في زمان الخيار للبائع لم يعتد به عن الاستبراء، فإذا تفرقا وطهرت من النفاس، ثم حاضت حيضة حصل الاستبراء ولا يحتسب بالنفاس من الاستبراء لأنه تابع للولادة التي قبله. وإن قلنا: ينتقل الملك بنفس العقد إلى المشتري أو قلنا إنه مراعى فهل يعتد بهذا الوضع عن الاستبراء وجهان ذكرهما أبو إسحاق: أحدهما: يعتد به لأنه استبراء بعد حدوث الملك. والثاني: لا يعتد به لا الملك لم يستقر بدليل أن للبائع انتزاعها من ملكه. وقال صاحب الحاوي: إن كان وضع الحمل حصل الاستبراء وجهًا واحدًا على هذا القول ولو كان بدل الحمل قرء فيه وجهان خرجهما أبو إسحاق لأن الاستبراء بالحمل أقوى من الاستبراء بالقرء، وهذا لا يصح لأنه يحصل الاستبراء بهما كما أعرف فرقًا بين الحمل والوضع. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ كَانَتْ أَمَةً مُكَاتِبَةً فَعَجَزَتْ لَمْ يَطَأَهَا حَتَّى يَسْتَبْرِئْهَا".

إذا كانت السيد أمته فعجزت عن الأداء ورقت أو زوجها فطلقها زوجها قبل الدخول [ق 142 ب] فارتد أحدهما أي الجارية أو سيدها ثم عاد إلى الإسلام لم يكن له وطئها حتى يستبرئها. وقال أبو حنيفة: له وطئها من غير استبراء في هذه المواضع؛ لأن ملكه لم يزل عنها، وإنما حرمت بعارضٍ كما لو رهنها، ثم فكها من الرهن، وهذا غلط لما ذكره الشافعي أنها ممنوعة منه، ثم أبيح بالعجز ولا يشبه صومها الواجب عليها وحيضها، ثم يخرج من ذلك؛ لأنه يحل له في ذلك أن يلمسها ويقبلها ويحرم ذلك في الكتابة كما يحرم إذا تزوجها، وتحرير هذا أن كل من ملك الاستمتاع بجارية بعد تحريمها عليه لم يحل له وطئها قبل الاستبراء، ولا يدخل على هذا الصائمة إذا خرجت من صومها، والحائض إذا طهرت من الحيض لأنهما لم يكونا محرمتي الاستمتاع، وكذلك الأمة إذا رهنها، ثم فكها من الرهن لا يلزمه أن يستبرئها؛ لأن الرهن لا يحرم الاستمتاع بها، فإن له أن يقبلها وله أن يطأها إن كانت صغير لا تحبل مثلها، ولا يدخل على هذه الأمة إذا أحرمت بحج أو عمرة، ثم حلت؛ لأن مولاها لم يزل ملكه من الاستمتاع بها فلا يقال إنها لما حلت من الإحرام ملك الاستمتاع بها، وإذا عجزت ملك المولى ذلك فدل على الفرق بينهما. قال الفقال: وعلى هذا الخلاف إذا وطء إحدى الأختين، ثم كاتبها حلت له الأخرى في الحال عندنا، وقال أبو حنيفة: لا تحل، ثم قال الشافعي: وإنما قلت طهر، ثم حيضة حتى تغتسل منها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم دل على أن الأقراء الأطهار بقوله صلى الله عليه وسلم لابن عمر رضي الله عنه يطلقها طاهرًا من غير جماع فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء، وأمر صلى الله عليه وسلم من الإماء أن يستبرئن بحيضة فكانت الحيضة الأولى أيامها طهرًا كما كان الطهر. أما من الحيض فكان قصد النبي صلى الله عليه وسلم [ق 143 أ] في الاستبراء إلى الحيض، وفي العدة إلى الأطهار كان قائلًا قال له: لم يفرق بين عدة الطلاق بالنكاح تكون بالطهر وبين الاستبراء بالحيض؟ فقال: لأن الشرع فرق بينهما كما ذكر. واعلم أن اللفظ إشكالًا وذلك أنه قال: وإنما قلت طهر، ثم حيضة فأوهم بظاهره أن الاستبراء يقع بالطهر، فذهب بعض أصحابنا إلى هذا الظاهر فقال: إذا استبرأها طاهرًا فحاضت حلت من الاستبراء وجاز في حيضها ما يجوز من الاستمتاع بالحائض ولكن آخر كلام الشافعي في هذا الفصل يمنع صحة هذا القول؛ لأنه قال: فكان قصد النبي صلى الله عليه وسلم في الاستبراء إلى الحيض؛ وفي العدة إلى الأطهار وإزالة الإشكال عن أول هذا الفصل بأن يقال: معنى قوله: وإنما قلت: طهر ثم حيضة أنه لو استبرأها حائضًا لا تحتسب بقية الحيضة والاستبراء لا يقع إلا بحيضة أولها وآخرها في ملك المشتري، ولم يرد أن الاستبراء بالأطهار وكيف يريد ذلك. وقد روى حديث ابن عمر، وحديث أوطاس وفرق بينهما بهذا، وأما قول الشافعي

وكانت الحيضة الأولى أمامها طهرًا كما كان الطهر أمامه الحيض لفظ مشكل فظاهره أن الطهر في العدة أمامه حيض كما أن الحيض المحسوب في الاستبراء حيض أمامه طهرًا وإزالة الإشكال أن يقال يحتمل أن يكون الشافعي أراد بهذا الطهر الثاني من العدة فإنه يتبع الحيضة، أو أراد الصغيرة التي لم تحض قط فطلقها زوجها فحاضت بعد الطلاق قبل تمام الأشهر الثلاثة، فلا يتصور أن يحتسب لها في العدة قرء حتى تكون أمامه حيض، فأما إذا حملنا لفظه على غير هذين الموضعين فلا يمكن؛ لأن بقية الطهر بعد الطلاق قرء محسوب، وإن لم تكن أمامها حيض بعد طلقها [ق 143 ب]. فرع: لو اشترى أمة مجوسية فاستبرأها، ثم أسلمت لا يجوز له أن يطأها بعد الإسلام حتى يستبرئها، ولا تعتد بالاستبراء الذي حصل في حال الكفر؛ لأنه لا يفيد الإباحة الاستبراء المعتد به إنما هو إذا تعلقت به الاستباحة وقيل: فيه وجه آخر أنه يعتد بذلك الاستبراء وعلى هذا عن أبي حامد ولا يوجد في تعاليقه ذلك، قال أصحابنا: وهكذا إذا اشترى أمة مجوسية فكاتبها، ثم أسلمت واستبرأها بعد إسلامها ثم عجزت لم تحل لمولاها إلا بأن يستبرئها، وهذه المسألة ليست من جنس ما قبلها لأن ههنا وجب بالعجز استبراء جديد، فإنه استحدث الملك على الاستمتاع. فرع آخر: لو كان لرجل عبد مأذون له في التجارة فاشترى العبد أمة واستبرأها بالحيضة، فحجز المولى عليه ومنعه من التصرف ينظر، فإن لم يكن على العبد دين فقد حلت الجارية للمولى بالاستبراء السابق، وإن كان على العبد دين لم يصح الاستبراء؛ لأن الجارية محرمة على المولى لتعلق ديون الغرماء بها، فلا يصح الاستبراء في حال التحريم، وكان عليه أن يستبرئها في حال ينفعه الاستباحة هكذا ذكر جميع أصحابنا. وقال صاحب الحاوي: عندي أنه لا يلزم الاستبراء وتحل له الاستبراء المتقدم لوجوده بعد استقرار الملك والرهن لا يوجب الاستبراء كذلك ههنا ذكر في الشامل أنه لا يحتسب الاستبراء في حال الرهن وهو غلط ظاهر. فرع آخر: لو اشترى أمةً من ذوات الأقراء فتباعد حيضها فهي كالمعتدة إذا تباعد حيضها وفي الجملة كل جنس تعتد به الحرة تعتد به الأمة إلا أنهما يختلفان في مقدارها وفي أنه بالحيض دون الطهر في أصح القولين على ما ذكرنا.

فرع آخر: [ق 144 أ] قد ذكرنا فيما تقدم أنه إذا اشترى زوجته الأمة لم يجب عليه أن يستبرئها؛ لأنها كانت حلالًا له فانقلبت من الإباحة بالنكاح إلى الإباحة بملك اليمين. قال الشافعي: واستحب له أن يستبرئها؛ لأن الولد من الماء الذي كان في النكاح رقيق ولا تصير به أم ولدٍ له، والولد المخلوق من الماء الذي يحصل في ملكه حر وتصير الجارية أم ولدٍ له فالمستحب أن يستبرئها حتى يتميز أحد الماءين عن الآخر، وقيل فيه وجه آخر إنه يجب الاستبراء، وهذا غلط لا يحكى. فرع آخر: لو اشترى لأمة فظهر بها حمل فولدت فقال البائع: هو مني كنت وطئتها قبل البيع، نظر في المشتري، فإن صدقه كانت الجارية للبائع والولد حر والبيع باطل، وعليه أن يرد ثمنها على المشتري، وإن كذبه المشتري نظر، فإن كان البائع لم يقر بالوطء إلا بعد البيع فلا يصرف؛ لأنه متهم في حق المشتري فلا يقبل قوله فيه كما لو باعها، ثم قال: كنت أعتقتها أو غصبتها من فلانٍ فلا يصدق في حق المشتري، فعلى هذا تكون الجارية مملوكة للمشتري والولد مملوك له، وقال أبو حنيفة وحده، إن أتت به لدون ستة أشهر يصدق ويبطل البيع، وهذا غلط لما ذكرنا وهل يثبت نسبه من البائع؟ قولان. قال في "الأم و"الإملاء": يثبت أنه لا يمتنع أن يكون ابنًا للبائع مملوكًا للمشتري والثاني: قاله في "البويطي": لا يثبت لأن إقراره بالوطء تضمن ثلاثة أحكام: أحدهما: أنها أم ولد. والثاني: أن الولد حر. الثالث: أنه ابنه فإذا لم يثبت إقراره حكمان كذلك الحكم الثالث. وهذا لأنه لا يستضر به المشتري لو أعتقه ومات فإنه تقدم عليه في الميراث، وإن كان قد أقر به قبل عقد البيع نظر، فإن البائع قد استبرأها، ثم باعها لا يخلو من أحد أمرين: إما أن تكون ولدت [ق 144 ب] لأقل من ستة أشهر فقد بينا أن الاستبراء لم يكن صحيحًا وأنها أم ولد له ويكون الحكم فيه على ما بيناه، وإن ولدت لستة أشهر فصاعدًا فلا يقبل إقراره فيه ويكون الولد منفيًا عن البائع وينظر، فإن لم يكن المشتري وطئها كانت الجارية والولد مملوكين، وإن كان وطئها المشتري وأتت به لستة أشهر من وقت وطئه وأقل من أربع سنين من وطء البائع فالولد يحتمل أن يكون من كل واحدٍ منهما فيرى القافة على ما بيناه. واعلم أن أبا حامد ذكر في تعليقه ولو باع جارية قد أقرّ بوطئها ثم ولدت عند المشتري وأمكن أن يكون من كل واحد منهما، وذكر الحكم ووهم في (تخريجه)؛ لأن

ظاهر مذهب الشافعي أنه منتف عنه بعد ستة أشهر من الاستبراء فهي إن ولدت لأقل من ستة أشهر من استبراء البائع فهو لأقل من ستة أشهر من استبراء البائع فهو لأقل من ستة أشهر من وطء المشتري لأن وطئه بعد وطئ البائع فيكون لاحقًا بالبائع دون المشتري، وإن ولدته لستة أشهر من وطء المشتري فهو لأكثر من ستة أشهر من استبراء البائع؛ لأن استبراءه قبل وطء المشتري فيكون لاحقًا بالمشتري دون البائع، ويصح هذا التخريج على قول ابن سريج لأنه سوى بينها وبين الحرة فيقول ولد الأمة يلحق إلى أربع سنين كالحرة. فرع آخر: لو اشترى أمة فظهر بها حمل فقال المشتري للبائع: هذا الحمل كان موجودًا في حال عقد البيع فلي أن أردها بالعيب، وقال البائع: هل حدث عندك بعد البيع؟ نظر فإن كان لأقل من ستة أشهر فهو كان موجودًا في حال البيع أن يردها بالعيب، لأن الحمل عيب في بنات آدم لجواز تلفها، وإن كان لستة أشهر [ق 145 أ] فصاعدًا فالقول قول البائع مع يمينه؛ لأنهما إذا اختلفا في العيب ومثله يحدث في يد المشتري فالقول قول البائع مع يمينه، إن أنكر البائع الحمل فأن يريها القوابل، فإن قلن إنها حامل حكمنا به لأن للحمل أمارات من انتفاخ الجوف وكبره وحركة الولد، ونزول اللبن وسواد الثديين وهن أعرف بذلك. نرجع إلى قولهن لأنهن لم يخبرن بذلك عن علم بل يخبرن عن غالب ظن بالدليل. فرع آخر: أقل الحمل ستة أشهر ومعناه أقل ما تضع المرأة حملًا يعيش ستة أشهر فأما السقط وما تصور وتحلق ولا يعيش يكون بعد ثمانين يومًا وفي مدّة ثلاثة أشهر. وهذا إجماع ودليله قوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] فذكر المدتين معًا، وأراد به أكثر مدة الرضاع وأقل مدة الحمل لأنه لا يجوز أن يريد أطول المدتين لأنه يزيد على ثلاثين شهرًا ولا يجوز أن يريد أنقص المدتين لأنه لا يبلغ ثلاثين شهرًا، ولا يجوز أن يريد أكثر مدة الحمل وأٌقل مدة الرضاع لأنه يزيد أيضًا فلم يبق إلا ما قلنا. وروى أبو الأسود الديلي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رفعت إليه امرأة ولدت لستة وأمر برجمها فأتى علي رضي الله عنه في ذلك فقال: لا رجم عليها فبلغ عمر فأرسل إلى علي فسأله عن ذلك فقال: لا رجم عليها لأن الله تعالى يقول: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233]، وقال تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] ستة أشهر وحولين كاملين تمامه لا رجم عليها فخلى عنها عمر هكذا رواه الإمام أحمد البيهقي [ق 145 ب]. وروى أصحابنا أن امرأة أتت بولدٍ لستة أشهر فهم عثمان رضي الله عنه برجمها، فقال ابن عباس: إن خاصمتكم بكتاب الله تعالى فقال عثمان: وما ذاك فقال: ما قال علي فرجع إلى قوله. واستحسن الناس استخراجه وصارت المسألة إجماعًا. وذكر العقيبي

أن عبد الملك بن مروان: حملته أمه ستة أشهر، وأما أكثر مدة الحمل فعندنا أربع سنين وهو أصح الروايات عن مالك وأحمد. وقال الثوري، وأبو حنيفة، والمزني، وعثمان: البتي أكثر سنتان، وروي ذلك عن أحمد وروت جميلة بنت سعد عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لا يكون الحمل أكثر من سنتين بقدر فلكة مغزل. وقال الزهري، وربيعة، والليث: أكثره سبع سنين، وهو رواية أخرى عن مالك وروي عن مالك رواية ثالثة خمس سنين. وقال أبو عبيد: لا حد لأكثره وهذا كله غلط؛ لأن الله تعالى ذكر الحمل مطلقًا ولا حد له في اللغة، ولا في الشرع فرجع فيه إلى العرف والعادة. وقد وجد هذا عادة في نادر من النساء. قال الشافعي: بقي محمد بن عجلان في بطن أمه أربع سنين، وزاد الزبير بن بكار: حتى خرجت أضراسه. وقال الوليد بن مسلم: قلت لمالك بن أنس: إني حدثت عن عائشة أنها قالت: لا تزيد المرأة في حملها على سنتين قدر ظل المغزل، فقال: سبحان الله من يقول هذا لا هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان امرأة صدق وزوجها رجل صدق حملت ثلاثة أبطن في اثني عشر سنة تحمل كل بطن أربع سنين، وكانت تسمى حاملة الفيل [ق 146 أ]. وروي عن مالك بن دينار أنه أتى في الدعاء لامرأة حبلى منذ أربع سنين فدعا لها فولدت غلامًا جعدًا ابن أربع سنين قد استوت أسنانه، وروي عن علي بن يزيد القرشي: أن سعيد بن المسيب أراه رجلًا فقال: إن أبا هذا غاب عن أمه أربع سنين، ثم قدم فوضعت هذا وله ثنايا. وقال القتيبي في المعارف: إن هرم بن حبان حملته أمه أربع سنين، وروي أن منظور بن ريان وضعته أمه لأربع سنين، وكذلك محمد بن عبد الله بن جبير، وكذلك إبراهيم بن نجيح العقيلي، وهذا إذا وجد في الأعيان ففي العامة أكثر فوجب الحكم به. فإن قيل: روى أبو داود، عن الحسن بن علي الحلواني، عن سليمان بن عباد ابن العوام أنه قال: كان عندنا امرأة بواسط بقي الحمل في بطنها خمس سنين فولدت ولدًا وكان شعره إلى منكبيه فمرّ به طير فقال: بئس، فقالوا: وهذا زايد فكان أولى. وروي عن الزهري أنه قال: رجل حمل سبع سنين، قلنا: الأخذ بالزائد أولى إذا ثبت وعندنا لم يثبت هذا ولا يتميز إليه، ثم مثل هذا الحكم لا يثبت بوجوده مرة بل يعتبر التكرار في جماعة من النساء، ولم يثبت ذلك، والله أعلم.

كتاب الرضاع

كتاب الرضاع مسألة: قَالَ: قَالَ اللهُ تَعَالَى فِيمَنْ حَرَّمَ مَعَ القَرَابَةِ {وَأُمَّهَاتُكُمُ الَّلاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاعة ما يحرم من الولادة". الأصل في تحريم الرضاع الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فما ذكر من الآية [ق 146 ب] قال الشافعي ونصه عليهما يعني على الأم والأخت للتنبيه على غيرهما لأنه حرم الأخوات والبنات أقر من الأخوات فكن بالتحريم أولى ويدل على التنبيه الخبر الذي ذكر، وقال أصحابنا: كأنه نبه بذكر البنات على سائر النسب وبذكر الإخوات على جميع المحارم ممن يلي جانب النسب لأنه ليس في جميع المحارم إلا معنى الولادة ومعنى الأخوة فالأم والجدات والبنات وبنات الابن يحرمن بحكم الولادة والأخوات والعمات والخالات بمعنى الأخوة إذ عمة الرجل أخت أبيه وخالته أخت أمه. وأما السنة ما ذكرنا من الخبر روته عائشة رضي الله عنها وروى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب". وروى أبو الطفيل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم لحمًا بالجعرانة فأقبلت امرأة وزنت إليه فبسط لها رادءه فجلست عليه فقلت من هذه؟ قالوا: أمه أرضعته. وأما الإجماع فلا خلاف بين المسلمين فيه. فإذا تقرر هذا فحكم الرضاع حكم النسب في شيئين: أحدهما: في تحريم النكاح. والثاني: في حرمة المحرمية فتعتبر محرمًا له حتى يجوز له أن يحلو بها وينظر منها إلى ما ينظر إليه ذوو المحارم. وأما سائر أحكام النسب من الميراث والنفقة والعتق بالملك ورد الشهادة وسقوط القصاص لا يتعلق بالرضاع. مسألة: قَالَ: فَبَيَّنَتِ السُّنَّةُ أَنَّ لَبَنَ الفَحْلِ يُحَرّمُ كَمَا تُحَرَّمُ وِلَادَةُ الأّبِ".

أراد به أن المرأة إذا أرضعت صبية أو صبيًا ثبتت الحرمة بينهما وبين المرضعة وبين زوجها الذي منه اللبن فتكون المرضعة [ق 148 أ] أما زوجها أباكما إذا ولدته من مائه حرم عليهما، وكانا أبوين، وقوله نفس السنة قد قيل: أراد به الحديث الذي تقدم ووجه الدليل أنه شبه بالنسب والنسب إلى الآباء فدل أنه تثبت الحرمة به من جهة الأب، وقد قيل: لم يرد به هذا الحديث بل أراد ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن عليَّ أفلح أبو أبي القعيس فاستترت منه فقال: أتستترين مني وأنا عمك قلت: وكيف ذلك؟ قال: راضعت امرأة أخي بلبن أخي فقلت: إنما أرضعتني المرأة دون الرجل فقلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنه عمك تربت يمينك فليلج عليك". وروى بعض الرواة أفلح من أبي القعيس وهو خطأ، قال الشافعي: وسئل ابن عباس رضي الله عنهما عن رجل كانت له امرأتان فأرضعت إحداهما غلامًا والأخرى جارية فهل يزوج الغلام بالجارية، فقال: لا اللقاح واحد أن الفحل واحد ومعناه أن لبن المرأتين لرجل واحد فيكونان أخوين من أب كما إذا ولدت إحداهما غلامًا والأخرى جارية كان أخوين من أب وعلى هذا لو كانا أخوان لكل واحد منهما امرأة فولدت إحداهما غلامًا والأخرى جارية يجوز تزويج الجارية من الغلام، فإن أرضعت إحدى المرأتين ولد المرأة الأخرى حرم التزويج لأنهما صارا أخوين من الرضاعة وبه قال الحسن، وعطاء، وطاوس، والقاسم بن محمد، وروي ذلك عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما، وجماعة الفقهاء مالك وأبي حنيفة، وإسحاق. وقال إسماعيل ابن عُلية، وداود، والأصم: لا تثبت حرمة الرضاع بين المرضع وبين زوجة المرضعة الذي اللبن منه وإنما تنتشر الحرمة إلى أقارب المرضعة لا غير. وروي هذا عن ابن عمر، وابن الزبير وهو اختيار عبد الرحمن [ق 147 ب] ابن بنت الشافعي، وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تأذن أن يدخل عليها من أرضعته بنات بنت أبي بكر، ولا تأذن أن يدخل عليها من أرضعته نساء ابن أبي بكر وهذا موافق لما روي عن ابن عمر. واحتجوا بأن اللبن للمرأة لا يشاركها الزوج فيه، وقد ينزل للبكر لبن وتثبت الحرمة وهذا غلط لأن المولود لهما لأجل أنه خلق من ماءها فكذلك اللبن الذي خلق غذاء للمولود لهما فلبنها لبن المرضعة ولبنه لبن الفحل لاشتراكهما فيه لا أن يحلب من الفحل لبن ولأن الولد في الملك يتبع المرأة والتحريم يتعلق بهما فكذلك اللبن يحصل عن المرأة وتحريمه يتعدى إليهما، وقيل ما روي عن عائشة: لا يصح لأن محمد بن إسماعيل البخاري ذكر في كتاب الصحيح خبر أفلح، ثم روى عن عروة أنه قال وبهذا قالت عائشة حرموا من الرضاعة ما يحرمون من النسب فدل أن يذهب عائشة مثل قولنا، وروي عن عمرة بنت عبد الرحمن أن عائشة رضي الله عنها أخبرتها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عندها وأنها سمعت صوت رجل يستأذن في بيت حفصة رضي الله عنها قالت عائشة قلت: يا رسول الله هذا رجل يستأذن من بيتك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أراه فلانًا" لعم حفصة من الرضاعة

فقلت: يا رسول الله لو كان فلانًا حيًا لعمها من الرضاعة يدخل عليَّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة". قال الإمام البيهقي: يشبه أن يكون هذا قبل قصة أفلح أخي أبي القعيس وفي عم آخر لعائشة وإنما لم يكتف به لما في قلبها من مراجعتها إياه أن المرأة هي التي أرضعته دون الرجل حتى ازدادت بيانًا والله أعلم. وروى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم [ق 148 أ] أريد على ابنة حمزة فقال: "إنها لا تحل لي إنها ابنة أخي من الرضاعة" وأن الله حرم من الرضاعة ما حرم من النسب". وروي مثل ذلك عن أم سلمة رضي الله عنها، فإذا تقرر هذا فحرمة الرضاعة تثبت في ثلاثة أعيان من المرضعة وزوجها الذي له اللبن والمرضع، ثم تنتشر الحرمة من كل واحد منهم. فأما المرضعة فتنتشر الحرمة منها إلى آبائها وأمهاتها وأولادها وإخوتها وأخواتها، وأما الزوج فتنتشر الحرمة إلى آبائه وأمهاته وأولاده وإخوته وأخواته، وأما المرتضع فتنتشر الحرمة إلى أولاده فقط دون إخوته وأخواته وآبائه وأمهاته وإنما كان كذلك لأن تحريم الرضاع تابع لتحريم النسب فتكون المرضعة أمًا للمرضع وزوجها آبائه وأباؤهما أبًا للمرضع وإخوة الأم أخواله وإخوانها خالاته وإخوة الأب أعمامه وأخواه عماته. وأما المرضع فإن أولاده أولادهما فيحرمون عليها، وأما آباءه وأمهاته وإخواته فليس بينهما وبينهم ما يوجب التحريم، لأن الرجل يحرم عليه أخت ابنة إلا من جهة أنه دخل بأمه فحسب، وهذا ليس بتحريم النسب وكل موضع قلنا: إ، هـ محرم بالأبوة أو البنوة فامرأته محرمة. مسألة: قَالَ: "وَكُلَّمَا حَرُمَ بِالوِلَادَةِ وَبِسَبَبِهَا حَرُمَ بِالرَّضَاعِ". أراد بالسبب الصهارة لأن النكاح سبب الولادة أو الوطء وكلاهما يوجبان حرمة المصاهرة فامرأة ابنه أو أبيه من الرضاع حرام عليه كما في النسب وكذلك أم امرأته أو ابنتها من الرضاعة حرام عليه، وإن لم تكن أرضعت تلك الابنة بلبنه بعدما كان دخل بالمرضعة كما في النسب سواء. مسألة: قَالَ: "وَالرَّضَاعُ اسْمٌ جَامِعٌ يَقَعُ عَلَى المَصَّةِ وَأَكْثَرَ إِلَى كَامِلَ الحَوْلَيْنِ وَعَلَى كُلُّ رِضَاعٍ بَعْدَ الحَوْلَيْنِ".

الفصل: الرضاع الذي ينشر الحرمة [ق 148 ب] خمس رضعات في الحولين، وبه قالت عائشة، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن الزبير، وعطاء، وطاوس، وسعيد بن جبير وإسحاق، وأحمد في رواية رضي الله عنهم. وقال أبو حنيفة: لا يعتبر العدد فيه بل الرضعة الواحدة تنشر الحرمة، وبه قال علي بن أبي طالب، وابن عمر، وابن عباس، ومالك، والأوزاعي، والثوري، والليث، وسعد رضي الله عنهم. وروي هذا عن أحمد أيضًا. قال الإمام أبو سليمان الخطابي: هذا قول أكثر الفقهاء، وقال جدي الإمام: هو وجه لأصحابنا، وقال ابن أبي ليلى، وأبو ثور وأبو عبيد، وابن المنذر، وداود: الرضاع الذي ينشر الحرمة ثلاث رضعات وهو اختيار بعض مشايخنا. وروى هذا عن زيد بن ثابت، وقال بعض العلماء: عشر رضعات، واحتج الشافعي عليهم، فقال: والرضاع اسم جامع يقع على المصة وأكثر إلى كمال الحولين، وعلى كل رضاع بعد الحولين فوجب طلب الدلالة في ذلك فقالت عائشة رضي الله عنها كان فيما أنزل الله تعالى من القرآن عشر رضعات يحرمن ثم نخسن لخمس معلومات يحرمن فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مما يقرأ من القرآن. فكان لا يدخل عليها إلا من استكمل خمس رضعات وقولها فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهن مما يقرأ من القرآن تريد به قرب عهد النسخ من وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى صار بعض ما لم يبلغه النسخ يقرأ على الرسم الأول، وفيه دليل على جواز نسخ رسم التلاوة وبقاء الحكم كما نسخت التلاوة في الرحم وبقي حكمه ثم قال الشافعي وهذا كما جاء القرآن يقطع السارق فدل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أراد بعض السارقين دون بعض [ق 149 أ] وكذلك قال الله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] فدلت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المراد بمائة جلدة بعض الزناة دون بعض لا كل من لزمه اسم السرقة والزنى وكذلك بأن المراد بتحريم الرضاع بعض المرضعين دون بعض. واحتج أيضًا بما روى ابن الزبير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحرم المصة ولا المصتان ولا الرضعة ولا الرضعتان"، وأراد بالمصة: الجرعةِ يتجرعها وبالرضعة رضعة ثانية تامة في العادة. قال المزني: قلت للشافعي: أسمع ابن الزبير من النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم وحفظ عنه،

وكان يوم سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ابن تسع سنين ولم يقل يوم سمع وإنما كان كذلك لأنه صلى الله عليه وسلم، لما قدم المدينة قالت اليهود قد سحرنا محمدًا وأصحابه فلا يولد لأحد منهم فيقال: نسلمهم فمكثوا حولًا لا يولد لمسلم ابن فاغتنم به المسلمون فولد عبد الله بن الزبير على تمام الحول فهو أول ولد ذكر ولد في الإسلام بعد الهجرة فحنكه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتى به وكبر وكبر المسلمون، وقالت أمه يوم قتله الحجاج وكبر أصحابه عليه: المكبرون عليه يوم ولد خير من المكبرين عليه يوم قتل، تعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ففرحوا بمولده وأصحاب الحجاج فرحوا بقتله. واحتج أيضًا بما روى عروة أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر امرأة أبي حذيفة أن ترضع سالمًا خمس رضعات فيحرم بهن، وروت عائشة رضي الله عنها قالت: جاءت سهلة بنت سهل بن عمرو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إني أرى من وجه أبي حذيفة من دخول سالم علي قال: أرضعيه قالت: وهو رجل كبير فضحك [ق 149 ب] وقال: "ألست أعلم أنه رجل كبير أرضعيه" فأرضعته خمس رضعات فكان بمنزلة ولدها من الرضاعة. وروى عبد الله بن الحارث عن أم الفضل أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني تزوجت امرأة ولي امرأة أخرى فزعمت امرأتي الحدثى أنها أرضعت امرأتي الأولى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحرم الإملاجة ولا الإملاجتان" أورده الحاكم أبو عبد الله الحافظ. واحتجوا بما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تحرم الرضعة بما يحرم الحولان" قلنا: لم يصح هذا مسندًا، وإنما هو موقوف على علي رضي الله عنه وليس فيه حجة لأن الحولين لا يحرمان. فإذا تقرر هذا فاعلم أن حكم الرضاع إنما يثبت إذا كان المرضع صغيرًا وهو أن يكون له حولان فما دونه، فأما بعد الحولين لا يثبت حكمه من التحريم، وبه قال عمر، وابن مسعود، وابن عباس، والشعبي، وابن شبرمة، والأوزاعي، ومالك في إحدى الروايات، وأحمد، وإسحاق، وأبو يوسف، ومحمد، وروى عن مالك أنه إن زاد على حولين شهرًا جاز، وروى شهرين، وروى عنه وهو المشهور ثبت حكمه إذا كان محتاجًا إليه غير مستغن بالطعام عنه وهذا غلط لأنه يختلف باختلاف الصبيان فلا يجوز أن يجعل هذا حدًا، وقالت عائشة رضي الله عنها: رضاع الكبير يحرم أبدًا، وبه قال داود أهل الظاهر، واحتجوا بخبر سهلة بنت سهل. وروي أنها قالت: إنا كنا نرى سالمًا ولدًا وكان يأوي معي ومع أبي حذيفة في بيت واحد ويراني فضلًا، وقد أنزل الله تعالى الحجاب فكيف ترى فيه؟ فقال: "أرضعيه" الخبر وقولها: ويراني فضلًا أي يراني مبتذلة في ثياب مهنتي. وكانت عائشة تأمر بنات أخواتها وبنات إخوتها أن يرضعن [ق 150 أ] من أبت عائشة أن يراها ويدخل عليها، وإن كان كبيرًا خمس رضعات ثم يدخل عليها وهذا غلط لما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها وعندها رجل فشق عليه وتغير وجهه فقالت: يا رسول

الله إنه أخي من الرضاعة فقال: "انظرن من إخوانكن فإن الرضاعة من المجاعة" ومعناه: الرضاعة التي تقع بها الحرمة ما كانت في الصغر والرضيع طفل يقويه اللبن ويسد جوعه. وروى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين". وروى علي رضي الله عنه موقوفًا عليه ومرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا رضاع بعد فصال". وقال تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14]. وأما خبر سهلة بنت سهيل قلنا: روينا عن أم سلمة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنهن قلن لعائشة: والله ما يرى هذا إلا رخصة لسالم دون الناس ولا يدخل عليها أحد بهذه الرضاعة. ثم روينا عن عمر أنه قال: لا رضاع إلا في الحولين في الصغر، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: "عمدت امرأة من الأنصار إلى جارية لزوجها فأرضعته فلما جاء زوجها قالت: إن جاريتك هذه قد صارت ابنتك فانطلق الرجل إلى عمر رضي الله عنه فذكر ذلك له فقال له عمر: عزمت عليك لما رجعت فأصبت جاريتك وأوجعت ظهر امرأتك، وروي أنه قال: ارجع إلى امرأتك فأوجعها ضربًا وجاريتك فأوسعها جماعًا، والذي يوضح ما ذكرنا أنها لا تستحق أجرة الرضاع إلا في الحولين، فدل أنه لا يثبت حكم التحريم في الزيادة. وقد روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا رضاع إلا ما أنشر العظم وأنبت اللحم" [ق 150 ب] ومعنى أنشر العظم بالراشد العظم والانتشار بمعنى الإحياء. وروي أنشز العظم بالزاي المعجمة ومعناه: زاد في حجمه فنشز، وروى يحيى بن سعيد أن رجلًا قال لأبي موسى الأشعري: إنى مصصت من ثدي امرأتي لبنًا فذهب في بطني فقال: لا أراه إلا قد حرمت عليك. فقال ابن مسعود: انظر ما يفتي به الرجل فقال أبو موسى: ما تقول أنت؟ قال عبد الله: "لا رضاع إلا ما كان في الحولين فقال أبو موسى: لا تسألوني عن شيء ما دام هذا الحبر بين أظهركم. واحتج الشافعي بقوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة:233] لمن أراد أن يتم الرضاعة فجعل الحولين حدًا أو غاية وما جعل غاية فالحكم بعد مضي الغاية خلاف الحكم قبل الغاية لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] فإذا مضت الأقراء فحكمها بعد مضيها خلاف حكمها فيها. وقال أبو حنيفة: مدة الرضاع حولان ونصف، وقال زفر: ثلاثة أحوال واحتج أبو

حنيفة بقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] ولم يرد بذلك حمل الأحشاء لأنه يكون سنتين، فدل على أنه أراد به الحمل على الأكف وفصاله ثلاثون شهرًا، وهي مدة الرضاع، قلنا: المراد به أن ستة أشهر منها أقل مدة الحمل وأربعة وعشرون شهرًا مدة الرضاع وهذا تفسير علي رضي الله عنه، وجماعة الصحابة، ثم قال المزني: وفي ذلك دلالة عندي على نفي الولد لأكثر من سنتين بتأقيت حمله وفصاله ثلاثين شهرًا كما نفي توقيت الرضاع لأكثر من حولين، وإنما ذكر هذا لأن مذهب المزني كمذهب أبي حنيفة أكثر مدة الحمل حولان، وظاهر احتجاجه ههنا من الآية أنه لما جعل مدة الحمل والفصال ثلاثون شهرًا، ثم مدة الرضاع حولان عند الشافعي فكذا مدة الحمل. [ق 151 أ] قلنا: هذا لا يصح وكيف يدل التأقيت بثلاثين شهرًا بشيئين على أن أكثر مدة كل واحد منهما حولان بل كان من حقه أن يجعل مدة كل واحد منهما حولان بل كان من حقه أن يجعل مدة كل واحد منهما حولان بل كان من حقه أن يجعل مدة كل واحد منهما ثلاثين شهرًا إن لم يكن بد ثم يقول له: هذا بيان مدة أكثر الرضاع وأقل مدة الحمل على ما ذكرنا، وقيل: احتجاج المزني به من وجه آخر وهو أن الآية تدل على أن مدة الحمل ستة أشهر فروينا بالإجماع فيه إلى حولين فلا يزيد أكثر من ذلك فإنه لا إجماع فيه، وهذا يسمى استصحاب الحال وقد يسمى القول بأقل ما قيل، وقد يسمى تخصيص القياس، وقد يسمى تخصيص دليل الإجماع. فرع: لو خرج نصف الولد ثم بعد مدة خرج الباقي فابتدأ الحولين في الرضاع عند ابتداء خروجه. مسألة: قَالَ: "وَلَا يُحَرِّمُ مِنَ الرِّضَاعِ إِلَّا خَمْسُ رَضَعَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ كُلَّهُنَّ فِي الحَوْلَيْنِ". الفصل: قد ذكرنا أن من شرط ثبوت تحريم الرضاع العدة ثم من شرطه أن تكون متفرقة فيرضع ثم يقطع، ثم يعود، ثم يقطع وعلى هذا إلى أن يتم. وقال أصحابنا: المرجع في كيفية الرضعات إلى العرف والعادة فإنه ليس في الكتاب ولا في السنة ما يدل عليه فكان المرجع فيه إلى العرف والعادة في أكل البالغ، فإن رضاع الصغير بمنزلة أكل الكبير كما يعد في العرف أكلة واحدة، فهو رضعة واحدة وما يعد في العرف أكلتين فهو رضعتان، فإذا حلف لا يأكل في اليوم إلا أكلة واحدة، فقعد يأكل بالازدراد والتنفس والاستراحة، ثم يعود إليه فهي أكلة واحدة، ولو بقي طول يومه ولا

يحنث في يمينه ولو قطعه لغير ذلك واشتغل بغيره حتى قطعه قطعًا بينًا، ثم عاد إليه كانت أكلتين وحنث في يمينه، وإن كان أكل [ق 151 ب] قليلًا فكذلك الصبي إذا ارتضع ثم قطعه ليتنفس أو ازدراد أو استراحة أو لعب، ثم عاد إليه كأن كله رضعة واحدة، وإن قطعه قطعًا بينًا، واستغل عنه، ثم عاد إليه كانت رضعتين، وإن التقم الثدي، فأنفذ ما فيها، ثم انتقل إلى الثدي الآخر كانت رضعة كما إذا انتقل الأكل من غضارة إلى غضارة تكون أكلة واحدة. فإذا تقرر هذا فكل ما جعلناه قطعًا لا فرق بين أن يقطع الصبي أو تقطع المرضعة فإن قيل: أليس قلتم لو حلف لا يأكل في اليوم إلا أكلة واحدة، فأكرهه إنسان شيئًا قطعه، ثم عاد فهل يحنث؟ قولان فقولوا: ههنا مثله؛ لأنه قطع الأم إكراه للصبي على قطعه. قلنا: الفرق بينهما أن الرضاع يتعلق بالمرضعة والمرضع فاعتبر قطع كل واحد منهما وليس كذلك للأكل فإنه لا يتعلق بالمكره بوجهٍ من الوجوه فلم يعتبر اختياره للقطع وإنما اعتبار اختيار الأكل للقطع. ومن أصحابنا من قال: لا اعتبار بقطعها وإنما الاعتبار بقطع الولد، ألا ترى أن المرأة لو كانت قائمة فارتضع الصبي من ثديها، وهي لا تحس به وقع التحريم، فدل أن المغلب فعل الرضع والأول أصح. فرع: لو ارتضع من امرأتين من كل واحدة منهما أربع رضعات، ثم مصّ ثدي إحداهما مصة واحدة، ثم انتقل إلى ثدي المرأة الأخرى فمصّ منها وقطع فيه وجهان؛ لأنه قد حرم على كل واحدة منهما وكملت له واحدة منهما خمس رضعات وهو الصحيح؛ لأنه ترك الارتضاع منها باختياره ولم يعد إليها فأشبه إذا تركه بغير رضاع؛ ولأن ارتضاعه من إحدى المرأتين لا يبني على ارتضاعه من الأخرى فانتقاله من ثدي امرأة إلى ثدي امرأة أخرى قطع له. والثاني لا تحرك على واحدة منهما؛ لأن انتقاله من ثدي إلى ثدي ليس [ق 152 أ] بقطع كما إذا انتقل من إحدى الثديين إلى الأخرى وهكذا لو شرب منها دفعةً واحدة وأوجر الصبي دفعة واحدة ففيه هذان الوجهان. فرع آخر: لو ارتضع أربع رضعات في الحولين، ثم التقم الثدي منها حتى وصل اللبن إلى الجوف وانقضى الحولان وهو عضها ثم قطعها، فقد جعل نصف الرضعة في الحولين فهل يحرم وجهان والصحيح التحريم. وقال بعض أصحابنا: إذا حال الحول الثاني قبل انتهاء الرضعة الخامسة لا تثبت؛ لأن الرضاع ما كمل في مدة الحولين، وحكاه عن الأم ذكره المحاملي في المجموع وفيه نظر.

فرع آخر: لو حكم الحاكم بالتحريم برضعة لا ينقض حق، وقال الاصطخري: ينقض حكمه لأنه خلاف النص الذي ذكرنا. فرع آخر: لو تقيًا جميع ما شرب قال جدي الإمام: فيه وجهان. وقيل فيه وجه واحد أنه يثبت التحريم وهو الأصح لأنه يبقى شيء، وإن قل ولأن الاعتبار لوصوله إلى جوفه، وقد وصل، وقيل: إن تقيأ في الحال من غير تغير في اللبن لا يحرم وإلا حرم وهو ضعيف. فرع آخر: لو شكت في الرضعة الخامسة هل أوقعتها في الحولين لم يجرؤ، وفيه وجه آخر يحرم بناء على الصغر، ذكره الضميري. مسألة: قَالَ:"وَالوُجُوهُ كَالرَّضَاعِ وَكَذَلِكَ السُّعُوطُ". الوجود أن يصب في حلق الصغير لبن يفصل على جوفه والسعوط أن يفطر في الفقه حتى يحصل إلى دماغه وأيهما كان فهو كالرضاع سواء، لأن خوف الرأس يغذي بما يصل إليه فأشبه جوف البدن وكذلك لو طرح في الأذن لبنًا حتى يوصل إلى جوف الرأس حرم، وقيل في السعوط قولان وليس بشيء. وقال داود وعطاء، وأحمد في رواية: لا يتعلق التحريم إلا بالارتضاع من الثدي لأن الله تعالى قال: {وَأُمَّهَاتُكُمُ الَّلاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] [ق 152 ب] ولم يوجد ههنا، وهذا غلط لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الرضاع ما أنبت اللحم وأنشز العظم" وهذا يوجد ههنا، وكذلك اللدود يوقع الجرب وهو أن يصب في أحد شفي الفم. فإذا تقرر هذا لو ارتضع الصبي مرة وأوجر مرتين وسعط مرتين ثبت التحريم. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ حُقِنَ بِهِ كَانَ فِيْهَا قَوْلَانِ". إذا حقن الصبي باللبن هل تثبت الحرمة فيه قولان منصوصان: أحدهما: قاله في القديم يثبت الحرمة، وبه قال محمد بن الحسن والمزني ووجهه

أنه يفطر الصائم فأشبه السعوط. والثاني: وقاله في الجديد لا يثبت الحرمة وهو الأصح، وبه قال أبو حنيفة ووجهه أنه لا يفع عليها اسم الرضاع ولا يوجد فيها معنى الرضاع لأنه لا يغذي وإنما يراد لاستجرار الداء وحل ما انعقد في الجوف فلم يثبت به الحرمة. وأما الإفطار بوصول الواصل إلى الجوف، وقد حصل ذلك ولهذا يثبت بالرضعة الواحدة بخلاف هذا فافترقا. فرع: لو كانت به جراحة نافذة إلى محل النظر فداواه بلبن أمه لا تثبت الحرمة وقيل: فيه قولان كالحقنة. مسألة: قَالَ: "وَأَدْخَلَ الشَّافِعِيُّ عَلَى مَنْ قَالَ إِنْ كَانَ مَا خُلِطَ بِاللَّبَنِ أَغْلَبَ لَمْ يَحْرُمْ، وَإِنْ كَانَ اللَّبَنُ أَغْلَبُ حَرُمَ". الفصل: كل لبن ينتشر الحرمة إذا وصل إلى جوف الصبي بعذره وقعت الحرمة سواء كان مشوبًا بغيره أو كان خالصًا وسواء كان مشوبة بالحرام مثل الخمر أو بالحلال وسواء كان بالدواء أو بغيره، وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: إن خلط بجامد لا تقع الحرمة سواء كان اللبن غالبًا أو مغلوبًا وإن خلط بمائع فإن كان اللبن غالبًا تقع الحرمة، وإن كان مغلوبًا لا يقع [ق 153 أ]، وقال أبو يوسف، ومحمد: لا فرق بين الجامد والمائع فيعتبر الغالب فيهما. وقال مالك، والمزني وقيل هذا أحد القولين لنا وليس بشيء، واحتج الشافعي عليهم بأنه لو وقع الحرام في الطعام يحرم ذلك الطعام، وإن كان مستهلكًا فكذلك يحرم ههنا، وإن كان مستهلكًا ولأنه وصل اللبن المحرم إلى جوفه يعدده في وقته فوجب أن يحرم كما لو كان اللبن غالبًا. فإذا تقرر هذا فلو دفعت نقطة لبن في شربة ماء فشرب الماء كله لخمس دفعات ثبتت الحرمة ولذلك لو وقعت القطرة في حب من ماء فشرب كله، وإن شرب البعض قال صاحب الإفصاح: احتمل وجهين: أحدهما: لا يحرم حتى يبقى أقل من قدر اللبن لأنا لسنا على يقين من شرابه وهو اختيار ابن سريج.

والثاني: يحرم، لأن الغالب أنه فيه جزءًا منه، وهو اختيار القاضي الطبري والصيمري لأن الكل إذا شرب حرم بلا خلاف بين أصحابنا ونحن لا نتيقن وصول اللبن في كل شربة وإنما يرجع فيه إلى الظاهر، فإذا حكمنا بوصول اللبن في كل شربة لأن الظاهر أنه جزء منه حصل فيها فكذلك البعض ولا فرق بينهما. وقال صاحب الحاوي: الصحيح أنه لا يحرم، لأن التحريم لا يثبت بالشك، وإنما يحرم إذا علم اختلاط اللبن تجميعه كأوقية من لبن مزجت بأوقيتين من ماء، ثم شرب بعضها خمس مرات، وهذا أصح عندي. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لو وقع قليل اللبن في قلتين من الماء فشرب الكل هل يثبت الحرمة وجهان: أحدهما: ثبتت لأنا تيقنا أن اللبن فيه. والثاني: لا تثبت لأنه صار مستهلكًا فيه كما تستهلك النجاسة وهذا ليس بشيء. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ جَبُنَ اللَّبَنُ فَأَطْعَمَهُ كَانَ كَالرَّضَاع". إذا طبخ اللبن أو غلاه [ق 153 ب] أو اتخذ منه الجبن أو المصل، ثم أطعمه، فتقع به الحرمة وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: لا تقع الحرمة إلا باللبن الخالص وربما يسلمون اللبن المغلي الخالص، وإنما قلنا ذلك لأنه وصل عين المص إلى جوفه فلا فرق بين أن يكون مائعًا أو جامدًا. مسألة: قَالَ: "وَلَا يُحْرَمُ لَبَنُ البَهِيمَةُ إِنَّمَا يُحْرَمُ لَبَنُ الآدَمِيَّاتِ". إذا ارتضع صبي وصبية من شاة أو بقرة خمس مرات لا يثبت بينهما حرمة الرضاع ولا يصيران أخوين ويحل للصبي أن يتوزج بالصبية، وقال عطاء: يصيران أخوين ولا يحل النكاح بينهما. ويحكى هذا عن مالك ولا يصح عنه، وهذا غلط لأن حرمة الأخوة فرع لحرمة الأمومة فكيف تثبت حرمة غيرها. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ حُلِبَ مِنْهَا رَضْعَةٌ خَامِسَةٌ، ثُمَّ مَاتَتْ فَأَوْجَرَهُ صَبِيٌّ كَانَ ابْنَهَا". الصبي إذا ارتضع من امرأة أربع رضعات، ثم حلبت لبنًا في إناءٍ وماتت ثم شربه

الصبي بعد موتها ثبتت الحرمة وهكذا لو حلب خمس دفعات في خمس أوانٍ وماتت ثم تناوله الصبي بعد موتها من خمس مرات ثبتت الحرمة أيضًا لأنه لبن انفصل منها وهو حلال في حال حياتها واتصل بجوف الصبي في حال حياته فلا يؤثر موتها فيه. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ رَضَعَ مِنْهَا بَعْدَ مَوْتِهَا لَمْ يَحْرُمْ". إذا ماتت المرأة سقطت حرمة لبنها، فإن ارتضع صبي منه لم يحرم وعلل الشافعي فقال: "لَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ لَبَنُ المَيِّتَةِ". وتحريره أنه لبن حرام قبل انفصاله فلم تثبت به الحرمة كاللبن الذي ينفصل من الرجل لما كان محرمًا قبل انفصاله لم تثبت الحرمة ولأن حرمته صعقت بموت الأصل وذهاب حرمتها ألا ترى أن حرمة أعضائها سقطت حتى لا يجب الضمان [ق 154 أ] بقطع أعضائها وأيضًا لو اتصل اللبن بجوف الصبي بعد موته لم يتعلق به الحرمة فكذلك إذا انفصل منها بعد موتها ثم اتصل بالصبي لم يتعلق به الحرمة. وقال أبو حنيفة، ومال، والأوزاعي، وأحمد: لبن الميتة يثبت الحرمة لأن اللبن لا يحله الموت. وحكي عن الكرابيسي من أصحابنا أنه قال: تثبت الحرمة بلبن الرجل كما تثبت بلبن المرأة وهذا خطأ؛ لأن لبنه لم يجعل غذاء المولود فلا يثبت التحريم كلبن البهيمة وقد قال الشافعي في "البويطي": ولا أرى ينزل من الرجل لبن، فإن نزل وارتض عبه صبية كرهت له أن يتزوج بها، فإن تزوج بها لم أفسخ النكاح. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ حُلِبَ مِنْ امْرَأَةٍ لَبَنٌ كَثِيرٌ، فَفُرِّقَ ثُمَّ أَوجِرَ مِنْهُ صَبِيٌّ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٌ لَمْ يَكُنْ إِلَّا رَضْعَةٌ وَاحِدَةٌ وَاحِدَةٌ وَلَيْسَ كَاللَّبَنِ يَحْدُثُ فِي الثَّدْيِ كُلَّمَا خَرَجَ مِنْهُ شِيْءٌ حَدَثَ غَيْرُهُ". في هذا الفصل أربع مسائل: إحداها: أن المرأة حلبت اللبن خمس دفعات متفرقات في خمس أواني وسقي الصبي خمس دفعات ثبتت الحرمة؛ لأن الوجود كالرضاع في التحريم. والثانية: أن يحلب المرأة لبنًا كبيرًا دفعة واحدة، ثم فرقت في خمس أواني ثم أوجر الصبي في خمس دفعات نقل الربيع والمزني أنها رضعة واحدة، ثم قال الربيع: وفيه قول آخر إنها خمس رضعات، قال أبو إسحاق: لا يعرف هذا للشافعي غير أن الربيع ثقة لا ينقل إلا ما سمعه منه فالمسألة على قولين:

أحدهما: أنها خمس رضعات اعتبارًا بعدد وصوله إلى جوفه. والثاني: أنها رضعة واحدة اعتبارًا بانفصاله عنها دفعة واحدة، ومن أصحابنا من قال قول واحد إنها رضعة واحدة، ونص عليه في "الأم" وهو ظاهر المذهب وما قال الربيع تخريج لا يعرف للشافعي، ذكره القاضي أبو حامد وليس الإناء كالثدي ترضع الصبي من خمس مرات إلا أن [ق 154 ب] هناك كلما وضع حدث آخر وههنا لم يحدث بل كان مجموعًا في الإناء. والثالثة: أن يحلب منه خمس دفعات، ثم يسقى الصبي دفعة واحدة، اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال هذه المسألة والتي قبلها سواء هل يكون رضعة أو خمس رضعات قولان. ومن أصحابنا من قال: ههنا تكون رضعة واحدة، وإن قلنا هناك قولين لأن جنبته أقوى، فإن لم يتفرق في حسه كانت رضعة واحدة تحصل من هذا أن أصحابنا اختلفوا في المسألتين على ثلاثة طرق: إحداهما: لا يختلف المذهب في المسألتين أنها رضعة واحدة ولا يقبل تخريج ... والثانية: في المسألتين قولان، وبه قال صاحب الإفصاح. والثالثة: إذا حلب منها خمس دفعات وسقي الصبي دفعة واحدة فهي رضعة واحدة قولًا واحدًا، ولو حب منها دفعة وسقي الصبي خمس دفعات فيه قولان. والرابعة: أن يحلب منها خمس دفعات، ثم جمع كل في إناء، ثم سقى الصبي خمس دفعات. قال أبو إسحاق، وابن أبي هريرة: يكون ذلك خمس رضعات لأن التفريق قد وجد في الطرفين وهو صحيح. ومن أصحابنا من قال: تكون رضعة واحدة لأنه قد بطل التفريق بالجمع وصار كالمحلوب دفعة واحدة، ولو حلبت امرأة في قدح، ثم حلبت امرأة أخرى في ذلك القدح فاجتمعت الحلبتان فشربهما المولود دفعة واحدة حصل له من كل واحدة رضعة، فإذا تكرر هذا خمس مرات فهو ابن كل واحدة منهما قولًا واحدًا. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ تَزَوَّجَ صَغِيرَةً، ثُمَّ أَرْضَعَتْهَا أُمَّهُ أَوْ ابْنَتُهُ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ". الفصل: الكلام ههنا في ثلاثة فصول:

أحدها: فيمن يزول نكاحه برضاعه [ق 155 أ]. والثاني: فيما يجب للزوجة بزوال النكاح على زوجها. والثالث: فيما يجب للزوج على المرضعة. أما الأولى فالأصل فيه أنه كل من يحرم عليه نكاح ابنتها، فإذا أرضعتها انفسخ نكاحها بيان ذلك أنه إن أرضعتها ابنته نظر، فإن كان بلبن ابنه فهي أخته لأبيه وأمه، وإن كان بغير لبن أبيه فهي أخته لأمه، وإن أرضعتها جدته فهي خالته، وإن كانت جدته أم أبيه فهي عمته، وإن أرضعتها بنته فهي بنت بنته وإن أرضعتها امرأة أخته، فإن كان بلبن أخيه فهو عمها، وإن كان بغير لبن أخيه صارت ربيبة أخيه، وإن أرضعتها امرأة أبيه، فإن كان بلبن أبيه فهي أخته لأبيه، وإن كان بغير لبن أبيه صارت ربيبة أبيه والنكاح لحاله لأن له أن يتزوج بربيبة أبيه، وإن أرضعتها امرأة ولده، فإن كان بلبن ولده فهي بنت ولده وهو جدها، وإن كان بغير لبن ولده فهي ربيبة ولده والنكاح لحاله لأن له أن يتزوج بربيبة ولده، هذا كله إذا كانت المرضعة من نسب وهكذا إذا كانت المرضعة محرمًا له من رضاع مثل إن أرضعتها أمه أو جدته أم أمه أو جدته أم أبيه أو ابنته أو أخته أو امرأة أخيه أو امرأة أبيه، أو امرأة ابنه من رضاع واحد لقوله صلى الله عليه وسلم: "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" والأصل في هذا التحريم المؤبد إذا منع الابتداء منع الاستدامة كما لو وطء بانته زوجته بشبهة انفسخ النكاح وحرمت عليه زوجته على التأييد. فأما إذا كانت المرضعة ممن لا يحرم عليه نكاح ابنتها فهو على جزءين: إحداهما: ما لا يؤثر في النكاح. والثاني: [ق 155 ب] ما يؤثر فيه فأما ما لا يؤثر فيه، فإن أرضعتها عمته فهي بنت عمته، وإن أرضعتها امرأة عمه بلبنه فهي بنت عمه، وإن أرضعتها امرأة خله بلبنه فهي عمته، وإن أرضعته امرأة عمه بلبنه فهي بنت عمه، وإن أرضعتها امرأة خاله بلبنه فهي بنت خاله، والنكاح لحاله لأن له أن يستأنف النكاح عليها. وأما ما يؤثر في النكاح مثل إن كان له زوجتان صغيرة وكبيرة فأرضعت أم الكبيرة هذه الصغيرة انفسخ نكاحهما لأنه صار جامعًا بين أختين وهذا كثير نشرحها في مواضعها. وأما الفصل الثاني وهو فيما يجب للزوجة بزوال النكاح على زوجها، فإن لم يكن للمرضعة فيها صنع مثل إن دبت الصغيرة إليها وهي نائمة فارتضعت منها سقط كل مهرها، لأن النسخ جاء من قبلها قبل الدخول ويرجع الزوج في مال الصغيرة بما يعزم الكبيرة من مهر المثل بعد الدخول أو نصف مهر المثل قبل الدخول لأنها هي المتلفة، وفي الإتلاف يستوي الصغيرة والكبيرة، فإن كان لها مال يستوفي منه، وإلا فحتى يؤسر فإن للمرضعة فيها صنع مثل إن أرضعتها، أو مكنتها فارتضعت منها كان للصغيرة المرتضعة على زوجها نصف المهر، لأن النكاح زال قبل الدخول لا من قبلها فكان لها نصف المهر كما لو طلقها قبل الدخول ثم ينظر فيه فإن كان المسمى لها مثل مهر مثلها أو أكثر فلها نصف

المسمى، وإن كان المسمى دون مهر مثلها فلها نصف مهر مثلها لأنه إذا زوج ابنته الصغيرة بدون مهر مثلها وجب لها مهر المثل. وأما الفصل الثالث: وهو فيما يجب للزوج على المرضعة والكلام فيه في ثلاثة فصول في الضمان، وفي قدره، وفي كيفية. فأما الضمان فعلى المرضعة الضمان للزوج سواء قصدت فسخ النكاح أم لم تقصد [ق 156 أ] وسواء لزمها ذلك بأن لم يوجد غيرها يرضعه أو وجد غيرها وبه قال أحمد، وقال الشيخ أبو حامد: يمكن أن يقال عنها وجبت ذلك عليها شرعًا لا تضمن، وقد تفرد بهذا القول من أصحابنا. وقال مالك: لا شيء على المرضعة، واحتج بأن إتلاف ....... لا يوجب الضمان للزوج كما لو قبل زوجته. وقال أبو حنيفة: إن قصدت إفساد النكاح ههنا يجب بالسبب، فإذا كان السبب جائزًا لا يتعلق به الضمان كما لو حفر بئرًا ملكه، وهذا غلط لأنه حق الآدمي يضمن مع العمد والقصد فيضمن دونه كالمال والدليل على مالك أن البعض يضمن للزوج بالعقد في الخلع فيضمن بالإتلاف عليه كالمال، وأما إذا قتلها فقد ضمن نفسها فسقط حكم أطرافها بخلاف مسألتنا، وأما حفر البئر في ملكه فتصرف في ملكه فلا يتعلق به الضمان خلاف مسألتنا. وأما قدر الضمان، قال ههنا يرجع على المرضعة بنصف مهر مثلها، وقال في كتاب الشهادات، لو شهد شاهدان على رجل بالطلاق الثلاث فحكم بالفرقة، ثم رجع الشاهدان عن الشهادة، فإن كان بعد الدخول وجب على الزوج للمرأة جميع المسمى ويرجع الزوج على الشاهدين بجميع مهر المثل، وإن كان قبل الدخول رجع بنصف المسمى في رواية المزني وبنصف مهر المثل في رواية الربيع ففيه قولان. واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: لا فصل بين المرضعة والشهود ففي كلا المسألتين قولان، ذكره الاصطخري ومنهم من قال وهو الأصح واختيار أبي إسحاق وغيره: المسألتان على ظاهرهما والفرق [ق 156 ب] بينهما أن الفرقة وقعت بالرضاع ظاهرًا وباطنًا فلم يرجع إلا بالنصف، وفي الشاهدين هما مقران بأن الفرقة لم يقع وإن ملكه ثابت في جميع البضع وأنهما حالا بينه وبينهما بشهادتهما فلزم جميع مهر مثلها. ومن أصحابنا من فصل في الشهود فقال: لو شهدوا ثم رجعوا قبل تسليم المهر يغرمون نصف مهر المثل لأنه يغرم للمرأة إلا نصف المسمى، وإن رجعوا بعد تسليم المهر غرموا جميع مهر المثل لأنه لا يمكنه استرداد شيء، فإن الطلاق لم يقع بزعمه، ذكره القفال، فإن قيل هذه المرضعة أتلفت جميع رضعها عليه فهلا أوجبتم عليها مهر مثلها قبل الفرقة إذا وقعت قبل الدخول جعل في الشريعة كأنه لم يملك إلا نصف المعقود عليه بدليل أنه لا يلزمه إلا نصف المسمى في العقد فإذا كان كذلك لم تتلف المرضعة عليه إلا

نصف البضع فيلزمها قيمة نصف لهذا المعنى، وقال أبو حنيفة، وأحمد: يرجع على المرضعة بنصف المسمى لأنه غرم هذا القدر، وهذا غلط لأنها تغرم بالإتلاف فغرمت نصف مهر المصل، وهو يغرم لها ما وجب بالعقد فيقدر المسمى. فإذا تقرر هذا فإن كان المسمى وفق مهر المثل رجع بنصفه، وإن كان المسمى أكثر مثل إن كان المسمى ألفين ومهر المثل ألفًا رجع بنصف مهر المثل وهو خمس مائة لأنه قد حابى بالزيادة فلا يرجع بما حابى به، وإن كان مهر المثل أكثر رجع به أيضًا. وأما كيفية الضمان فقد مضى ذكره في أثناء الكلام في قدر الضمان، فإذا ثبت هذا فرع ابن الحداد على هذا، فقال: لو أن صغيرة تحت رجل لم يكن يسمى مهرًا فأرضعتها امرأة إرضاعًا فسد به نكاحها لها المتعة على زوجها ويرجع الزوج على المرضعة بتلك النفقة. قال أصحابنا: غلط ابن الحداد فيه من وجهين [ق 157 أ]. أحدهما: أنه جعل له الرجوع بما غرم وهو قول أبي حنيفة أن الزوج يرجع بما يغرم فأما عندنا الرجوع يكون بقيمة البضع. والثاني: أنه لا يصح التفريق في حق الصغيرة فإنها إذا زوجت مفوضة بطل النكاح في أحد القولين، وفي القول الثاني يصح ويجب لها مهر المثل وينتصف ذلك بالطلاق أو بما هو في معنى الطلاق فلا تجب المتعة إلا أن تكون أمة صغيرة زوجها سيدها بلا مهر فيصح التفويض فيها لأن المهر حق للسيد وتجب لها المتعة حينئذٍ. وقال بعض أصحابنا: غلط ابن الحداد من وجه آخر وهو أن المتعة تكون في الطلاق وههنا فسخ لا بفعل الزوج، قلنا: هذا ليس بغلط لأنه لما وجد ههنا من يغرم الزوج يقوم بضعها على الزوج وجعل كأنه طلق فيجب نصف الصداق حتى لو دبت الصبية إلى نائمة فشربت من لبنها ففسد النكاح لا شيء لها من مهر ولا متعة لأنه غرم على المرأة التي أرضعت الصغيرة منها. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ أَرْضَعَتْهَا امْرَأَةٌ لَهُ كَبِيرةٌ لَمْ يُصِبْهَا فَسَدَ النِّكَاح". الفصل: إذا كان له امرأتان صغيرة وكبيرة، والصغيرة لها دون الحولين والكبيرة لها لبن من غيره فأرضعت الكبيرة الصغيرة، فالكلام ههنا في ثلاثة فصول في فسخ النكاح والتحريم والضمان. أما النكاح فإنه ينفسخ نكاحهما معًا لأنه صار جامعًا بين أم وابنتها. وأما التحريم فقد حرمت الكبيرة على التأييد لأنها من أمهات النساء.

وأما الصغيرة فإنها معتبرة بالكبيرة، فإن كان قد دخل بالكبيرة حرمت الصغيرة على التأييد لأنها بنت من قد دخل بها، وإن لم يكن قد دخل الكبيرة لم تحرم على التأييد بل يحل له أن يزوج بها لأنه لم يدخل بأمها وهذا مما يمنع الاستدامة دون |لابتداء لأنه في الاستدامة جمع بينهما. وأما الضمان [ق 157 ب] فللصغيرة عليه نصف المسمى ويرجع على التي أرضعتها وبماذا يرجع على ما ذكرنا من الطريق. وأما الكبيرة فلا مهر لها ولا متعة إن كان قبل الدخول لأنها هي المفسدة لنكاحها وإن كانت مدخولا بها فقد استحقت جمع مهرها المسمى ولا يجوز أن يرجع الزوج عليها بمهرها لأنها تصير في معنى المرهونة، ولهذا لو ارتدت بعد الدخول لا يرجع الزوج عليها بشيء. وقال ابن أبي أحمد في المفتاح: هل يرجع عليها بمهر مثليا بعدما غرم لها مهرها المسمى قولان، وهذا غريب لم يذكره غيره، وقال في "الحاوي": إذا اشتركا فيه فهو على ضربين: أحدهما: أن يتميزا في الشركة. والثاني: أن لا يتميزا مثل إن ابتدأ الصغيرة في كل رضعة بالتقام ثديها وتمكنها الكبيرة [من شربه] ولا تفرغ ثديها عن فمها ففيه وجهان محتملان: أحدهما: يغلب فعل الكبيرة؛ لأن الصغيرة تبع لها فيجب للمني؛ نصف مهرهما المسمى. والثاني: يكونان في التحريم سواء لأن البلوغ في هذا الفعل غير معتبر فعلى هذا التحريم من فعلها فيسقط من نصف المهر ما قابل فعلها وهو نصف النصف ويبقى نصفه وهو الربع على الزوج، وإن كان متميزا مثل أن تدل الكبيرة بإرضاعها بمص الرضعات الخمس وتنفرد الصغيرة بالارتفاع في الباقي فيه وجهان محتملان: أحدهما: يغلب فيه حكم من تفرد بالرضعة الخامسة لأن بها يقع التحريم. والثاني: يتسقط على أعداد الرضعات لأن الخامسة لم تحرم إلا بما قدمها فعلى هذا إن كانت المغيرة انفردت برضعة والكبيرة بأربع سقط من نصف مهر الصغيرة خمسة وبقي لها أربعة أخماس النصف من مهرها وعلى هذا فقس. فرع: لو حلب منها أجنبي، نم أوجر في حلق الصبي بجب على الأجنبي الغرم-[ق 185 أ]

فرع آخر: لو حلبت الكبيرة لبنها في إناء فجاء أجنبي وأوجر الصغيرة بطل نكاحها ويجب لها المهر ويرجع بالمهرين على الموجر، لأن الحلب سبب والإيجار مباشرة فكان الحكم للمباشرة في الضمان. فرع آخر: إذا خوف كبيرة حتى أرضعت ضرتها الطفلة حرمت والغرامة عليها في أصح الوجهين، والوجه الثاني يلزم الغرامة على المخوف. فرع آخر: لو حلبت لبنها في إناء وأمرت أجنبيا يسقيها منه فالغرم عليها. فرع آخر: لو تقاطر من لبن الزوج في حلقها بحيث لا يمكنها رد اللبن من الحلق ينفسخ النكاح وتحرم وهي مؤبدة ولا يسقط مهرها ولا يجب الغرم للزوج على أحد. فرع آخر: قد ذكرنا أنه يبطل نكاحهما، وقال ابن أبي ذئب: لا ينفسخ النكاح برضاع المغيرة أصلا، وروي عن مالك أنه إذ لم يكن دخل بالكبرى بطل نكاحها وثبت نكاح الصغيرة، وقال الأوزاعي: إذا لم يدخل بالكبرى ثبت نكاحها وبطل نكاح الصغيرة وهذا كله غلط لما ذكرنا. مسألة: قال: "ولو تزوج ثلاثا صغارا فأرضعت امرأته اثنتين منهن الرضعة الخامسة معا فسد نكاح الأم ونكاح الصبيين معا" الفصل: إذا كان له أربع زوجات ثلاث صغائر لهن دون الحولين وكبيرة فيها لبن من غيره فأرضعت الكبيرة الصغائر فيها ثلاث مسائل: إحداها: أرضعت الصغيرتين معا الرضعة الخامسة ولم تسبق إحداهما الأخرى وهذا يتصور في موضعين أحدهما أعطت كل واحدة منهما الثدي في زمان واحد وقطعتا معا. والثاني: حلبت في وقتين ولكن كان الشرب منهما في زمان واحد فهذه مبنية على

التي قبلها والكلام فيها في ثلاثة فصول في فسخ النكاح، والتحريم، والمهر. أما الفسخ: فإن نكاح الكبيرة [ق 158 ب] والصغيرتين ينفسخ لأنه صار جامعا بين أمين وبين كل واحدة وأمها. وأما التحريم فالأم تحرم على التأييد لأنها من أمهات النساء، وأما الصغيرتان فإن كان قد دخل بالكبيرة فقد حرمنا عليه على التأييد، وإن لم يكن دخل بها كان التحريم تحرم جمع وله أن يستأنف النكاح على كل واحدة منهما على الانفراد. وأما المهر فلكل واحدة من الصغيرتين عليه نصف المسمى والرجوع على الكبيرة على ما ذكرنا وأما الأم، فإن كان قد دخل بها لم يسقط مهرها، ولا يرجع عليها بشيء، فإذا رضعت هذه الكبيرة الثالثة الباقية من زوجاته نظر، فإن كان قد دخل بالكبيرة انفسخ نكاحها وحرمت على التأييد والحكم في المهر على ما ذكرنا، وإن لم يكن دخل بالكبيرة فنكاحها بحاله لأنه دخل بها وهو جامع بينها وبين أمها؛ لأن نكاح الكبيرة قد زال. المسألة الثانية: أرضعت إحداهن الرضعة الخامسة ثم الأخرتين الرضعة الخامسة معا حرمت عليه الكبيرة والتي أرضعتها أولا لأنهما صارتا أما وابنة في وقت معا وحرمت الأخرتان لأنهما صارتا أختين في وقت معا ليست إحداهما بأولى من الأخرى وله أن يتزوج بكل واحدة منهما على الانفراد إلا أن يكون قد دخل بالمرأة الكبيرة فيحرمن جميعا على التأبيد، أما الكبيرة فلأنها أم نسائه، وأما الصغائر فلأنهن بنات امرأته المدخول بها. المسألة الثالثة: أرضعت منهن واحدة بعد واحدة فإذا أرضعت الأولى الخامسة انفسخ نكاحها ونكاح الكبيرة والحكم في المهر والتحريم على ما مضى، فإن أرضعت الثانية للرضعة الخامسة، فإن كان قد دخل بالكبيرة انفسخ نكاح الثانية، وإن لم يكن دخل فنكاح الثانية بحاله لأنها ربيبته من لم يدخل بها، فإذا أرضعت الثالثة الرضعة الخامسة والثانية زوجته [ق 159 أ] صارت الثالثة أخت الثانية، ومن التي يفسخ النكاح منهما. نقل المزني عن الجديد أنه قال: ينفسخ نكاح الثالثة دون الثانية، ونقل عن القديم أنه قال: ينفسخ نكاحهما. قال القاضي الطبري: رأيت في الأم في كتاب الرضاع أنه قال: ينفسخ نكاح الثانية وحدها دون الثالثة، ثم قال: وفيها قول آخر، وذكر القول الثاني وجه القول الأول أن التحريم والجمع إنما حصل في نكاح الثانية فوجب أن ينفسخ نكاحها دون الأول كما لو كان متزوجا بامرأة، ثم تزوج عليها أختها. ووجه القول الثاني وهو الأصح وهو قول أبي حنيفة، وأحمد واختيار المزني أنهما صارتا أختين فانفسخ نكاحها كما لو أرضعتهما دفعه واحدة وأيضا لو تزوج رجل بامرأتين إحداهما صغيرة فجاءت أم الكبيرة وأرضعت الصغيرة خمس رضعات انفسخ نكاحهما جميعا، وإن كانت بنوة بينهما سابقة لبنوة الصغيرة والمرضعة فكذلك هاهنا، لأنه لا فرق بين أن يسبق بنوة إحداهما بالولادة أو يسبق بنوة أحدهما بالرضاع.

قال القاضي الطبري: وطلبت هذه المسألة في كتاب الرضاع الجديد فلم أجدها، فإن لم يوجد نصا يجب أن يكون الجواب فيهما واحدا، ولا يمكن الفرق بينهما بوجه. وقال بعض أصحابنا بعدما ذكر هذه المسألة فيها قول واحد أن ينفسخ نكاحهما جميعا لأن تحريم النسب أقوى. واحتج المزني أنه إذا كانت تحته كبيرة وصغيرة فأرضعتها الكبيرة بطل نكاحهما ولم تجعل الصغيرة كالمنكوحة على أمها بل جعلت كالمنكوحة مع أمها كذلك هاهنا الفرق أن سبب الأمومة والبنوة وجد فيهما معا وهاهنا وجد سبب الأخوة في إحداهما فيبطل نكاح الأخرى كما لو كانت الأخوة حاصلة ولكنه نكح إحداهما قبل الأخرى فنكاح الأول صحيح. وجواب آخر: وهو الأظهر الكبيرة إذا أرضعت الصغيرة [ق 159 ب] فسد نكاحها ولكن في الجانبين معنيان مختلفان. أما الصغيرة فإنما فسد نكاحها لاجتماعها مع الأم، وأما الكبيرة ففساد نكاحها بأن تصير من أمهات نسائه، وإن لم يتصور الإجماع ألا ترى أن رجلا لو طلق امرأة له صغيرة رضيعة، ثم تزوج كبيرة لها لبن فأرضعت الكبيرة الصغيرة البائنة خمسا فسد نكاح الكبيرة بلا اجتماع لأنها صارت من أمهات نسائه بخلاف مسألتنا، وعلى ما ذكرنا لو طلق الكبيرة، ثم جاءت وأرضعت الصغيرة فإنها حرمت على التأبيد لما ذكرنا، وأما الصغيرة فإنها ربيبته فإن كان ئد دخل بالكبيرة فقد انفسخ نكاحها وحرمت على التأبيد، وإن لم يكن دخل بها لم يفسخ نكاحها. ثم قال المزني، وقد قال الشافعي في كتاب النكاح القديم: لو تزوج صبيتين فأرضعتهما امرأة واحدة بعد واحدة انفسخ نكاحهما، قال المزني: وهذا وذاك سواء وبقوله أولى فقال المزني: إنما أجاب الشافعي في هذه المسألة على أحد القولين، فأما إذا قلنا بالقول الثاني أبطلنا نكاح الثانية وصححنا نكاح الأولى فكيف يحتج بهذه المسألة. فرع: لو جاءت أجنبية فأرضعت إحدى الصغائر اللاتي تحته، ثم ثانية، ثم ثالثة، ثم رابعة فالحكم فه هب أنها لما أر ضعت الأود، لم يضر ذلك نكاحها شيئا فلما أرضعت الثانية فهي نكون مع أختها أو على أختها قولان. فإن قلنا كالمنكوحة مع أمها بطل نكاحهما. وإن قلنا إنها كالمنكوحة على أختها جعلنا الثالثة والرابعة هكذا فيبطل نكاح الكل غير الأولى، وإن أرضعت اثنتين معا، ثم أرضعت اثنتين معا بطل نكاح الكل قولا واحدا وكذا لو أرضعت الكل الرضعة الخامسة فالحكم هذا [ق 160 أ] وعلى هذا فقس لو تزوج أربع صغائر فجاءت ثلاث خالات له فأرضعن كل واحدة منهن صغيرة فنكاحهن لخاله لأن ابنة الخالة تحل والجمع بين ابنتي الخالة جائز، ثم لو جاءت جدة الزوج أم أمه أو امرأة

أبي أمه فأرضعت الرابعة بطل نكاح الرابعة وفي الثلاث قولان، لأن الرابعة صارت خالة لهن، فإن جعلناها خالة نكحت مع بنات أخواتها بطل نكاح الكل، وإن جعلناها منكوحة على بنات أخواتها فلا يبطل نكاح أولئك وعلى هذا لو أرضعت ثلاث عمات له ثلاثا منهن، ثم جاءت جدة الزوج أم أبيه أو امرأة جده بلبن جده الذي هو أبو هؤلاء العمات فأرضعت الرابعة والعمات لأب وأم فالحكم على ما ذكرنا وعلى هذا لو جاءت ثلاث حالات للزوج متفرقات وأرضعت كل واحدة إحدى الصغائر، ثم جاءت أم أمه فأرضعت الرابعة نكاح الرابعة قولا واحدا ولم ينفسخ نكاح الصغيرة التي أرضعتها خالة الزوج للأب وفي الأخريين قولان وعلى هذا لو أرضعت امرأة أبي أم الزوج الرابعة بطل نكاحها، ولم يبطل نكاح الصغيرة التي أرضعتها خالة الزوج للأم وفي الأخريين قولان. فرع آخر: لو تزوج رجل كبيرتين وصغيرتين فأرضت كل كبيرة كلتا الصغيرتين واحدة بعد واحدة، فإن كان ترتيب إرضاع الكبيرة الثانية للصغيرتين على ترتيب إرضاع الكبيرة الأولى انفسخ نكاح الكبيرتين ونكاح الصغيرة التي ارتضعاها أولا، وأما نكاح الصغيرة التي ارتضعاها آخرا فبحالة إذا لم يكن دخل بإحدى الكبيرتين؛ لأن الأولى لما أرضعت الصغيرة الأولى اجتمع أم وابنتها في النكاح فانفسخ نكاحهما فلما أرضعت هذه الكبيرة الصغيرة الثانية لم يبطل نكاح الصغيرة لأنها صارت ربيبة امرأة لم تدخل بها [ق 160 ب] ولم يوجد معنى الجمع فلما أرضعت الكبيرة الثانية تلك الصغيرة الأولى صارت من أمهات نسائه فبطل نكاحها فلما أرضعت الصغيرة الثانية لم يبطل نكاح الصغيرة ولو كان على العكس من هذا الترتيب انفسخ نكاح الكل لأن كل واحدة لما أرضعت صغيرة صارتا أما وابنة في نكاح فبطل النكاحات، وإن كانت إحدى الكبيرتين مدخولا بها بطل نكاح الكل. فرع آخر: لو تزوج بصغيرة وثلاث زوجات كبائر فأرضعتها كل واحدة منهن خمس رضعات، فإن التي أرضعتها أولا فسخت بنكاح نفسها ونكاح الصغيرة لأنهما صارتا أما وبنتا معا، وأما التي أرضعتها بعدها، فقد صارت الصغيرة بنتا لها فينفسخ نكاح الكبيرة لأنها أم امرأته ولا يجوز له أن يتزوج بواحدة من الكبائر لأنها من أمهات النساء وينظر في الصغيرة، فإن لم يكن دخل بواحدة من الكبائر جاز له أن يتزوج بها على الانفراد، وإن كان قد دخل بواحدة منهن فقد حرمت الصغيرة أيضا على التأييد لأنها بنت امرأته الني دخل بها. فرع آخر: لو كانت له زوجتان صغيرتان فأرضعت أجنبية إحداهما ثم أرضعت أم الأجنبية الأخرى بطل نكاح الباقية لأنها صارت خالة الأولى وهل يبطل نكاح الأولى قولان: أحدهما: يبطل نكاح الأولى برضاع الثانية.

والثاني: لا يبطل وللتي بطل نكاحها نصف مهرها وترجع بنصف مهر مثلها في أصح القولين وعلى من ترجع وجهان أحدهما على المرضعة الثانية لأن برضاعها انفسخ النكاح. والثاني على المرضعتين الأولى والثانية لأن برضاعهما استقر فسخ النكاح ذكره في الحاوي. فرع آخر: لو تزوج بامرأة صغيرة لها دون الحولين واشترى أمة كبيرة لها لبن من غيره فأرضعت الصغيرة بلبنها خمس رضعات، فإن الأمة حرمت عليه على التأييد؛ لأنها [ق 161 أ] أم امرأته ولكن لا يزول ملكه عنها؛ لأنه يجوز أن يملك من لا تحل له وينظر في زوجته الصغيرة، فإن كان قد وطء الأمة انفسخ نكاحها وحرمت على التأييد؛ لأن القول في الملك بمنزلة الوطء في النكاح وإن لم يكن وطء الأمة، فإن نكاح الصغيرة لحاله لم ينفسخ. مسألة: قال: "ولو كان للكبيرة بنات مراضع أو من رضاع فأرضعن الصغار كلهن معا انفسخ نكاحهن معا". الفصل: إذا تزوج بامرأة لها ثلاث بنات مرضعات من نسب أو رضاع سواء كان اللبن لبن من أزواج أو بشبهة أو زنى وله ثلاث نسوة صغائر لهن دون الحولين فأرضت كل واحدة من البنات زوجاته الصغائر خمس رضعات دفعة واحدة فقد انفسخ نكاح الكبيرة والصغائر لأنهن صرن بنات بنات الكبيرة ولا يجوز الجمع بين الجدة وبنات بناتها فانفسخ نكاح الكل وعليه لكل واحدة من الصغائر نصف المهر المسمى، وعليه للكبيرة جميع مهرها المسمى إن كان قد دخل بها، وإن لم يكن دخل بها فيجب عليه نصف مهرها. قال الشافعي: ويرجع على كل واحدة من البنات بنصف مهر مثل التي أرضعتها. قال المزني: ويرجع عليهن بنصف مهر امرأته الكبيرة، إن لم يكن دخل بها؛ لأنها صارت جدة مع بنات بناتها معا وترجع عليهن بالسوية لأنهن اشتركن في إفساد نكاح الكبيرة، ولو كان دخل بالكبيرة حرمن جميعا أبدأ لأنهن ربائب امرأة قد دخل بها، ثم يغرمن للزوج كمال مهر المثل الكبيرة. وحكي المزني في المنشور: أنه لا يغرمن مهر الأم، وهذا خطأ بل هذا مذهب أبي حنيفة بناء على قوله في شهود الطلاق إذا رجعوا بعد الدخول لا يغرمون المهر، وقال ابن الحداد: مثل قول أبي حنيفة وعلل بأنه لو رجع في مهرها بعد الدخول يصير في معنى

المرهونة، ولهذا لو ارتدت بعد الدخول لا يرجع عليها بمهرها [ق 161 ب] ولهذا خطأ، لأنه يرجع بهذا المهر على غيرها فلا تسمصير في معنى المرهونة بخلاف المرتدة. ثم قال المزني: إذا لم يكن دخل بالكبيرة حرمت الكبيرة على التأبيد ويتزوج الصغائر على الانفراد وهذا إيهام إنه لا بجمعهن في الزوجية وليس كذلك فإن المزني يستأنف نكاحهن دفعة واحدة ويكون قد جمع يبين بنات الخالات ويحل ذلك. وقال القفال: يمكن أن يعتذر للمزني فيقال: أراد على الانفراد عن الأم ولم يرد به عن صاحبتها، وهذا غير ظاهر، لأن الظاهر من كلام المزني أنه أراد انفراد بعض الصغائر عن بعض. فرع: لو كان يخلط ألبانهن في كل مرة، ثم يؤخرن الصبيان فقد صرن أخوات، فلا يمكن الجمع بينهن ولا بين اثنتين منهن، فإن لم يكن هذا الخلط إلا في الخامسة أو في أربع مرات لم يصرن أخوات بل هن بنات خالات. فرع آخر: لو أنهن أرضعن واحدة بعد واحدة فإنه متى أرضت واحدة من الربائب واحدة من الصغائر انفسخ نكاح الصغيرة والكبيرة معا لأنه جمع بينها وبين جدتها وحرمت الجدة أبدأ. وأما الصغيرة فلا تحرم عليه لأنه ما دخل بجدتها وحرمت الربيبة التي أرضعت أبدأ لأنها من أمهات النساء، فإن أرضعت الربيبة الثانية صغيرة أخرى لم ينفخ نكاحها لأنه ما دخل بجدتها ولا جمع بينها، وبينها فإن أرخت الربيبة الثالثة الصغيرة الثالثة فلذلك أيضا ولا ينفسخ نكاحها لأنهما بنتا خالتين وكذلك لو أرضعت واحدة صغيرة، ثم اثنتان أرضعتا الأخرتين معا لا يبطل نكاح الأخرتين، إذا لم تكن الكبيرة مدخولا بها. وأما الغرم في هاتين المسألتين فالأولى تقدم نصف مهر مثل الصغيرة الأولى ونصف مهر مثل الأم، فإن كانت مدخولا بها وبطل نكاح الكل فالأولى تغرم نصف مهر الأول، وكان مهر الأم وكل واحدة من الأخرتين يغرم نصف مهر المثل للصغيرة [ق 162 أ] التي أرضعتها لا غير لأنه فساد نكاح الأم لم يكن بفعلها كان يفعل الأولى وقيل على قبل لو أرضعت الأولتان الصغيرتين معا، ثم الثالثة أرضعت الصغيرة. مسألة: قال: "ولو لم يكن دخل بها فأرضعتها أم امرأته الكبيرة أو جدتها أو أختها"

الفصل: إذا كانت له زوجات صغار وكبيرة فأرضعت أم الكبيرة هذه الصغائر انفسخ نكاحهن لأن الصغائر صرن أخوات الكبيرة، وإن أرضعتهن جدتها صرن أخوات لأم الكبيرة وإن أرضعنهن أختها صارت خالة لهن، وإن أرضعتهن ابنة أختها صارت خالة لأمهن، ولا يجوز للرجل أن يجمع بين المرأة وأختها وبين المرأة وخالتها وبين المرأة وبين أختها وبين المرأة وخالة آمها فينفسخ نكاح الكل. قال الشافعي: "ويكون الحكم كما ذكرنا في المسألة قبلها" وأراد به أن حكم هذه المسألة قبلها في انفساخ النكاح لا غير ولم يرد أنه في استئناف العقد في المستقبل هما سواء؛ لأن هناك قط لا ينكح الكبيرة والصغائر لا ينكحهن أيضا، وإن كان دخل بالكبيرة وهاهنا دخل بها أوله له أن ينكح الكبيرة على الانفراد والصغائر على الانفراد وإنما فرض الشافعي المسألة في الكبيرة غير المدخول بها لغرض كان له في حواله حكم هذه المسألة على حكم المسألة قبلها، فإن حكمها سواء في الصغائر إذا لم تكن الكبيرة مدخولا بها فيكون التحريم من طريق الجمع، فأما إذا كانت مدخولا بها فلا يتساويان؛ لأن التحريم هاهنا يكون من طريق الجمع وهناك على التأييد على ما ذكرنا. مسألة: قال: "ولو أن امرأة أرضعت مولودا فلا باس أن يتزوج المرأة المرضعة أباه". صورة المسألة آن ترضع المرأة غلاما فيجوز لأبيه أن يتزوج بها لما ذكرنا أن حرمة الرضاع لا تنتشر من المرضع إلا إلى أولاده، فأما إلى آبائه وأمهاته وأخواته وإخوانه فلا تنتشر فلهذا جاز [ق 162 ب] لأبيه أن يتزوج بالمرضعة وبابنتها وكذلك لأخ المرضع أن يتزوج بالمرضعة وبابنتها ومثل هذا الذي ذكره الشافعي في غير الرضاع يجوز فإنه يجوز للرجل أن يتزوج أم ولدم من النسب وعلى هذا يجوز أن يتزوج بأم أم الصبي أيضا؛ لأنه لا رضاع بينهما، فإن قيل: أليس لا يجوز أن يتزوج بأم آم ولده من النسب، قلنا لهما: لا يجوز هناك للمصاهرة لا النسب والرضاع لا يحرم ما تحرمه المصاهرة. مسألة: قال: "ولو شك أرضعته خمسا أو اقل لم يكن ابنا لها بالشك". إذا أرضعته أربعا وشك في الخامسة لم تحرم؛ لأن الأصل إباحة النكاح فلا يزيلها بالشك والورع له أن يدع نكاحها خوفاً من التحريم.

فرع: لو تزوج زيد بكبيرة وصغيرة فطلقهما فتزوج بها عمرو، ثم أرضعت الكبيرة الصغيرة انفسخ نكاحها، وأما التحريم فقد حرمت الكبيرة عليهما أبدأ، أما على الأول فلأنها أم من كانت زوجته، وآما على الثاني فلأنها أم زوجته. وأما الصغيرة فإن كان كل واحد منهما دخل بالكبيرة حرمت الصغيرة على التأييد لأنها بنت من دخل بها، فإن لم يدخل بها واحد منهما لم تحرم على واحد منهما، وإذا كان قد دخل بها أحدهما حرمت على من دخل دون من لم يدخل. فرع آخر: لو تزوج زيد بامرأة كبيرة لها ابن وتزوج عمرو بامرأة صغيرة لها دون الحولين فطلق كل واحد منهما امرأته وتزوج بامرأة صاحبه، ثم أرضعت الكبيرة الصغيرة فإن نكاح الكبيرة ينفسخ لأن زوجها كان زوجا للصغيرة وهي أمها ولا يجوز للرجل أن يتزوج بأم امرأته. وأما الصغيرة فإن كان زوجها قد دخل بالكبيرة لما كانت زوجة له فقد انفسخ نكاح المغيرة أيضا لابنة امرأته التي دخل بها، وإذا لم يكن دخل بالكبيرة فنكاحها باطل، وأما التحريم فالكبيرة [ق 163 أ] حرمت عليهما على التأييد فتحرم على زوج الصغيرة؛ لأنها أم زوجته، وتحرم على الآخر لأنها أم من كانت زوجته وأما الصغيرة إن كان قد دخل بها كل واحد منهما بها أعني بالكثيرة حرمت على كل واحد منهما من التأييد، وان كان قد دخل بهما أحدهما دون الآخر حرمت على من كان دخل بها دون الآخر. فرع آخر: لو كان لرجل أرع نسوة فأرضت إحداهن مولودا رضعتين وأرضعت كل واحدة من الباقيات رضعة أو كانت له خمس أمهات أولاد فأرضعته كل واحدة منهن رضعة واحدة فلا يختلف المذهب أن المرضعات لا يصرن أمهات لهذا المولود وهل يصير زوجهن أو سيد أمهات الأولاد الذي منه اللبن أبا له أم لا. اختلف أصحابنا فيه، فقال ابن الحداد: الصواب أن ذلك لا يحرم المرضعة على الزوج ولا على السيد لأنه لم يثبت من واحدة منهن أمومة بالرضاع فلذلك لم تثبت الأبوة، وهو اختيار الأنماطي، وابن سريج. وقال أكثر أصحابنا؛ وهو اختيار أبي إسحاق، وابن أبي أحمد: تحرم عليه لأنها قد أرضعت بلبانه خمس رضعات فهو أب لها، وإن لم تكن أما لها، والأول أصح لأن الأمومة إنما لم تحمل لأنها لم ترضع من لبن واحدة منهن خمس رضعات، وارتفع من لبن الرجل خمس رضعات فلا فرق بين حصولها من واحدة منهن ومن حصولها من جماعتهن وليس في هذا شبهة، وعلى هذا تحرم المرضعات عليه لأنهن حلائل أبيه.

فرع آخر: لو كان لامرأة خمس بنات فأرضعت كل واحدة منهن مولودا رضعة واحدة لم تكن البنات أمهات له وفي أم البنات وجهان مشهوران: أحدهما: أنها جدته وبناتها المرضعات خالاته؛ لأن ارتفاعه من لبن خمس بناتها كان رضاعة من خمس مرات من لبن بنت واحدة ولذلك أب البنات جده [ق 163 ب] على هذا الوجه. والوجه الثاني: لا تكون جدة له لأنه لا جدة إلا دونها أم قلما لم تكن واحدة من البنات أما لم تكن أمهن جدة. وقال القفال، والقاضي الطبري: إن قلنا في المسألة الأولى لا تحرم فهاهنا أولى وإن قلنا هناك تحرم فهاهنا وجهان والفرق أن هناك جهة معلومة واسم معلوم فيقول: صار أبا آو جدا وهاهنا لا يتبين من أي جهة صار محرما وبأي معنى والطريق الأول أصح. فرع آخر: إن كان لامرأة زوج ولها ابن منة فأرضعت صغيرة ثلاث رضعات، ثم طلقها زوجها وجف لبنها فزوجت بزوج آخر وولدت منه وجاء لبن منها فأرضعت تلك الصغيرة رضعتين صارت أما لها، ولم يصر واحد من الزوجين أبا لها لأنه لم يتم عدد الرضاع ابنه. فرع آخر: قال صاحب التلخيص: لو كانت أمة وأربع نسوة لهن لبن فأرضعت كل واحدة مولودا في الحولين رضعة في خمسة أوقات مختلفات، فإن كان اللبن من غيره نظر، فإن كان قد دخل بالخمس كلهن حرم المرضع كالربيبة. قال القاضي الطبري: وقال قوم من أصحابنا: هذا التحريم خطأ وهذه الصبية المرضعة لا تحرم عليه قولا واحدا، وهذا غلط عندي لأن كل واحدة منهن لو استكملت خمس رضعات بلبن غيره كانت تحرم عليه وكانت ربيبة له فإذا وجدت من كل واحدة رضعة رضعه وجب أن تصير ربيبة له في حقه، وإن لم يصرن أمهات على أحد الوجهين، وإنما خرجه هذا على هذا الوجه الآخر، وهذا تخريج صحيح قال: وإن دخل ببعضهن دون بعض لم تحرم واحدة منهن وهذا صحيح لأنه إذا كان في الخمس من لو انفردت بخمس رضعات لم تحرم عليه لم يجب [ق 164 أ] على ما تقدم بيانه. فرع آخر: لو كان رجل له زوجة لها دون الحولين، وله خمس أخوات مراضع فأرضعت كل واحدة من الأخوات زوجته الصغيرة رضعه واحدة فلا تصير الأخوات أمهات لها وهل يصير أبو الأخوات جدا لها وأمهن جدة والأخ خالا على الخلاف الذي ذكرناه وقيل:

الخؤولة فرع على الأمومة، فإذا لم يثبت لم يثبت فرعها بخلاف الأبوة التي مضت فتخرج القولين فيه بعيد. فإذا قلنا يصير جدا انفسخ نكاح الصبية المرضعة لأنه صار خالا لها فإنه ابن جدها من قبل الأم ويجب للصغيرة نصف مهرها المسمى وترجع بنصف مهر مثلها على أخواته المرضعات بينهن أخماسا. فإن قيل: أليس قلتم إذا وطء زوجة ابنه بشبهة انفسخ لنكاح الابن ولم يغرم الأب له شيئا قلنا: إنما كان كذلك لأن الأب وجب عليه بالوطء مهر مثلها فلا يجب عليه شيء آخر بخلاف مسألتنا. وقال أبو حامد: عندي أنه يجب المهر على الأب لابنه أيضا لأن سبب الوجوبين مختلف فلا فرق بين المسألتين. فرع آخر: لو كانت الأخوات ثلاثا فأرضعت إحداهن رضعتين والأخرى رضعتين والأخرى رضعة، قال القاضي أبو حامد في الجامع فيه وجهان: أحدهما: يرجع به عليهن ثلاثا بعد رؤوسهن؛ لأن الرضاع مفسد للنكاح فاستوي قليله وكثيرة كما لو طرح جماعة نجاسة في خل في حالة واحدة يجب عليهم ضمانه بالسوية وإن كان أحدهم طرح أكثر من الآخر. والثاني: يرجع على التي أرضعتها رضعة واحدة بخمس نصف مهرها مثلها ويرجع على كل واحدة من الأخرتين بخمسة اعتبارا بعدد الرضعات؛ لأن التحريم [ق 164 ب] يتعلق بعددها فيقسط الضمان على العدد بخلاف حكم الضمان في الحل بطرح النجاسة فيه. فرع آخر: قال القاضي في الجامع أيضا: لو حلبت امرأة أربع رضعات وأخرى ثلاث رضعات من لبن رجل واحد وخلطناه وسقناه زوجة صغيرة لهذا الرجل خمس مرات انفسخ نكاح الصغيرة ولزمه نصف مهرها المسمى للصغيرة، وفي رجوع الزوج عليها وجهان: أحدهما: يرجع عليهما نصفين. والثاني: يرجع على صاحبه الحلبات الأربع بأربعة أجزاء من ستة أجزاء من نصف مهر المثل وعلى صاحبه الحلبات الثلاث بثلاثة أجزاء. فرع آخر: لو كان للمرآة ثلاث بنات لبن بعضهن أسفل من بعض من لبن واحد مثل أن يكون لها ابن، وله ابن وابنة، ولابن الابن ابن وابنة، ولابن ابن الابن بنت فأرضعت بنت الابن غلاما رضعتين وأرضعته بنت ابن الابن رضعتين وأرضعته بنت ابن الابن الآخر (رضعة)

صارت المرأة جدة له على أحد الوجهين ولا تحرم المرضعات عليه وله أن يتزوج بالعليا وبالوسطى والسفلى على الانفراد ولا يجوز له الجمع بينهن لأن العليا عمته الوسطى، والوسطى عمته السفلى ولا يجوز الجمع بين المرأة وعمتها ولا يحرمن على الانفراد؛ لأن العليا تكون بنت ابن جدته وهي بنت الخال ولا يحرم على الرجل أن يتزوج بابنة خاله، وإن أرضعته العليا خمس رضعات صارت أما له ولا يحرم عليه الوسطى؛ لأنها بنت خاله، وإن أرضعته الوسطى خمس رضعات صارت أما له وحرمت عليه العليا أيضا لأنها عمة أمه وتحل له السفلى لأنها ابنة خالة وأما إذا كانت ثلاث بنات ابن بعضهن أسفل من بعض من ثلاث ثلاثين [ق 165 أ] فإن العليا لا تحرم على ولد الوسطى من نسب أو رضاع لأن العليا تكون بنت عم أبي الوسطى. فرع آخر: قال في "البويطي": ولو نزل للبكر أو الثيب لبن ولا زوج لواحدة فهو لبن ينشر الحرمة، فإذا أرضعت به صبيا ثبتت الحرمة وتكون المرضعة له أما ولا أب له كولد الزنى ولا أب له، وإنما قلنا لذلك لأن الغالب من حال المرأة أنه لا ينزل لها لبن إلا عند الحمل غذاء للمولود وإذا نزل قبل ذلك حمل على أنه بان بها شهوة نساء فنزل فالحق هذا النادر بالغالب من جنسه وتعلق التحريم به. قال القفال: وهذا إذا كانت بلغت تسعا، فإن كانت بنت دون تسع فلا حكم له كما أن الحيض يثبت حكمه في التسع لا فيما دونه وحكم الرضاع يثبت بالإمكان، وإن احتمل أنها غير بالغة كما يثب حكم النسب بالإمكان من ابن عشر سنين، وإن احتمل أنه غير بالغ لا لأن اللبن ونزوله بلوغ ولكن لاحتمال أنها بلغت الحيض. فرع آخر: لو أرضعت امرأة صبية أربع رضعات فجاء رجل وجمع بينهما في النكاح ثم إن الكبيرة أرضعتها الخامسة رجع بنصف مهر المثل عليها لأنها هي المبطلة للنكاح، وإن كان التحريم متعلقا يجمح الرضعات. فرع آخر: لو كانت له أمة مملوكة فأرضعت بلبن مولاها امرأة ابنة ابنه الصغيرة خمس رضعات انفسخ نكاحها، لأنها صارت أخته ووجب لها نصف مهرها المسمى ورجع على الأمة بنصف مهر المثل وتعلق ذلك برقبتها وتباع فيه بمنزلة الجناية والإتلاف. فرع آخر: لو كانت الكبيرة أم ولده فأرضعت زوجة سيدها لا يرجع عليها بشيء لأن السيد لا يبتدئ بإيجاب شيء في رقبة مملوكته ولا في ذمتها لنفسه ولو أرضعت أم ولده

[ق 165 ب] زوجة ابنه وانفسخ نكاحها لا تحرم هي على سيدها لأنها أم زوجه أم ولده ويرجع زوجها على سيدها بالضمان فيضمن أهل الأمرين من أرش جنايتها أو قيمة رقبتها، ولو كانت الكبيرة مكاتبة فأرضعت زوجة السيد حتى انفسخ نكاحها يرجع السيد بنصف مهر مثلها مكاتبته مستوفية كما في يدها فأرش الجناية عليه. فرع آخر: لو زوج رجل ابنه الصغير امرأة كبيرة فوجدت به عيبا ففسخت النكاح ثم تزوجت بزوج آخر فأولدها فنزل لها منه لبن فرجعت وأرضعت الصغير خمس رضعات حرمت على زوجها وعلى الصغير فأما تحريمها على الصغير فلأنها أمه من الرضاع وزوجة أبيه، وتحرم على زوجها لأنها خليلة ابنه من الرضاع، ولو زوج عبده الصغير أمة فأعتقت الأمة فاختارت فسخ النكاح وتزوجت بزوج فأولدها ونزل لها ابن فرجعت فأرضعت الصغير خمس رضعات حرمت على زوجها وعلى الصغير كما ذكرنا في المسألة قبلها. فإن قيل: كيف تكون حليلة ابنه بزوجة له في الحالة التي هو ابنه، قلنا: الاسم يتناوله مجازا، والمجاز يقوم مقام الحقيقة في هذا، ولهذا حرم الله تعالى الأم وكانت الجدة داخلة في التحريم لأن الاسم يتناولها مجازا. فرع آخر: لو زوج ابنه الصغير أمه لها لبن من سيدها فأرضعت زوجها لم تحرم على سيدها، لأن تزوج الآمة من صغير حن لا يجوز فإنه لا يخاف العنت ولا يستباح نكاحه الأمة إلا بشرطين عدم الطول، وخوف العنت، فإذا لم يصح النكاح بينهما لم تصر حليلة ابنه فلم تحرم عليه، وغلط بعض أصحابنا فحكي عن المزني أنه قال: تحرم على سيدها؛ لأن الصغير صار ابنا له فتكون خليلة ابنه، ذكره ابن الحداد، ثم قال: غلط فيه المزني ولا يصح هذا [ق 166 أ] على أصل الشافعي؛ لأن تزويج الأمة من الصغير لا يجوز، وهذا الغلط من هذا القائل والمزني أجل قدرا من أن يخفي عليه هذا، والذي قاله المزني حكاه الأنماطي أنه قال في رجل زوج أم ولده من طفل أجنبي فأرضعته تحرم أم الولد على المولى من قبل أنها صارت امرأة ولد، وأراد بالطفل العبد، هما كان هذا خطأ لو قال من طفل حر ولم يذكر المزني الحر فبطل ما قدره هذا القائل، وحكي ابن الحداد في فروعه عن المزني أنه قال في المنشور في هذه المسألة حرمت على زوجها وهي حلال السيد لأنها لم تصر أما له إلا في حال عدم النكاح، ثم أنكر المزني ذلك، وقال: يجب أن تحرم على مجدها، قال ابن الحداد: وهذه رواية لم يجدها إلى وقتنا هذا عن الشافعي إلا من جهة المزني، وقد أنكرها المزني وهي كما أنكر لأنا لا نعلم اخلف قول الشافعي في الرجل له امرأتان كبيرة وصغيرة فرضع الكبرى الصغرى في أن الكبيرة حرام على الزوج أبدأ لأنها أم امرأته ولا فرق بين المسلمين وكذلك لو تزوج رجل امرأة ولم يدخل بها حتى طلقها وله زوجة صغيرة مرضعة فأرضت بعد البينونة الكبيرة الصغيرة أن الكبيرة حرام عليه أبدأ لأنها من أمهات

باب لبن الرجل والمرأة

نسائه فكذلك آم الولد التي زوجها المالك من عبده الصغير وجب آن تحرم على سيدها أبدأ فالمسألة التي حكيناها عن المزني عن الشافعي غلط منه أو عليه. فرع آخر: لو أرضعت امرأة صبية وغلاما كان للغلام أن يتزوج أم الصبية من النسبة لأنها أم أخته وليست بأمه ولم يدخل بها أبوه ولم تحرم عليه، وإنما تحرم عليه أم أخته من النسب لدخول أبيه بها. فرع آخر: لو زوج ابنه المرضع ابنة أخيه المرضعة، ثم جاءت جدتهما [ق 166 ب] من قبل الأب فأرضعت أحدهما، فإن كانت قد أرضت الابن فقد انفسخ النكاح؛ لأنه صار عما للصبية وإن كانت قد أرضعت الصبية فقد انفسخ النكاح لأنها صارت عمه له. باب لبن الرجل والمرأة مسألة: قال: "واللبن للرجل والمرأة كما أن الولد لهما". الفصل: كل فحل لحق به النسب فلبن ذلك النسب له ولأمه والولد المرتفع منهما ولدهما. وقد ذكرنا هذا من قبل، ولو وطء زوجته فنزل لها لبن من غير إحبال فأرضعت به مولودا كان ولدها دون ولد زوجها وأصله أنه متى لم يكن ولد فلا لبن للفحل أبدأ. مسألة: قال: "ولو ولدت ابنا من زناها فأرضعت مولودا فهو ابنها". إذا أتت بولد من زنى فأرضت بلبنه مولودا صار ابنها من رضاع، ولم يكن الزاني أباه من رضاع؛ لأن اللبن مانع للولد فلما كان المولود ابنها دونه كذلك المرضع بذلك اللبن ابنها دونه، ولأن النسب أقوى من الرضاع، فإذا لم يثبت هاهنا حق النسب في الولد فلان لا يثبت حق الرضاع أولى. مسألة: قال: "وأكره له في الورع أن ينكح بنات الذي ولده من زنى، فإن نكح لم أفسخه".

أراد به أن الابن الذي ولد من الزنى إذا كبر وتزوج وولد له بنت جان للزاني أن يتزوج بها لأن المولود من الزنى ليس ابن له فلا تحرم ابنته عليه فكذلك إذا ولدت للمزني بها بنتا لم تحرم عليه، وقيل: قرى بنات الذي ولده من زنى برفع الدال على الاسم فمعناه أكره للزاني في الورع أن ينكح بنات ابنه من الزنى [ق 167 أ] وقرى ولده بفتح الدال على الفعل فمعناه أكره لولد الزنى أن ينكح بنات الزاني الذي ولده. وقال ابن أبي أحمد في المفتاح: ولا يجوز للرجل أن يتزوج بابنته من زنى كما قال أبو حنيفة قال: وقوله: " وأكره في الورع أن ينكح بنات الذي ولده من زنى " أي أكره المرضع بلبن الزنى أن تنكح بنات الذي ولد له من زنى - يعني بنات الزاني - فإن فسخ لم أفسخه لأنه ليس ابنه من الرضاع، قال: وهذا باب لبن الرجل والمرأة مقصده المرضع بلبن الزنى الموافق به. وقال القفال: مقصوده أمر الرضع - أي إني وإن أبحث له أن ينكح ابنه ولده من الزنى فأكره ذلك فكذا أكره آن ينكح المرضعة بلبن الزنى، وإنما صور في ابنة ولده من الزنى ولو صور في ابنته من الزنى جاز، ثم ذم الحديث في أنه لا ينسب ولد الزنى إلى الزاني بقوله- صلى الله عليه وسلم - في ابن وليدة زمعة: "هو لك يا عبد بن زمعة الولد للفراش وللعاهر الحجر" ومعناه: لا شيء له بحال؛ لأن عادة المبالغة في قطع العلائق يقولون له: الحجر وبنية الحجر أي لا شيء له، وقول الشافعي: ابنته أو ابنه من الزنى على المجاز لا على الحقيقة لأنه لا خلاف في أنه لا ينسب إليه ولا يتشرف بشرف الرأي، وعلى هذا لو كان له ابن من الزنى وابنة صحيحة النسب جاز النكاح بينهما لأنها ليست أخته لكنه يكره. ثم شبه الشافعي هذا الاحتياط بالاحتياط الذي أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سودة وهو الاحتجاب من ابن وليدة زمعة فقال: لما ألحق ذلك الغلام بزمعة لزوجته سودة بنت زمعة " احتجبي منه لا يزال فضلا" فلم يرها الغلام قط، وإنما أمرها بذلك لما رأى من شبه الغلام بعتبة الذي ألم بها في الجاهلية [ق 167 ب] كذلك هاهنا يأمر بالاجتناب من نكاح ابنته من الزنى احتياطا. ثم قال المزني: وقد كان أنكر على من قال: بتزويج ابنته من زنى ويحتج بهذا. وقد زعم أن رؤية ابن زمعة سودة مباح وأنه كرهه، فكذلك في القياس لا يفسخ نكاحه، وإن كرهه ولم يفسخ نكاح ابنه من زنى بناته من حلال بقطع الأخوة فكذلك من القياس، لو تزوج ابنته من زنى لم يفسخه، وإن كرهه لقطع الأبوة ولا حكم عندنا للزنى لقول رسول - صلى الله عليه وسلم - "وللعاهر الحجر، في معنى الأجنبي في مذهبه هذا وبالله التوفيق فأوهم المزني أن الشافعي لا يجوز للزاني نكاح ابنته من زنى آنه أنكر هذا القول على من قاله. ثم احتج على الجوار كما ترى، وأوهم أن المسألة عن قولين وليس كذلك، وهو غلط في ذلك، وذلك أن الشافعي إنما أنكر على من قال: يجوز للزاني نكاح ابنته من زنى من غير كراهية، وهذا مذهب بعض السلف وحكاه صاحب الحاوي عن المزني فقال

الشافعي: هو مكروه وإن كان جائزا والنسب منفي عنه على ما ذكرنا مسألة: قال: "ولو تزوج امرأة في عدتها فأصابها فجاءت بولد فأرضعت مولودا كان ابنها". الفصل: إذا طلق زوجته بعد الدخول بها فنكحت في العدة وأصابها الثاني فأتت بولد يمكن أن يكون من كل واحد منهما، ثم أرضعت مولودا بلبنها فحكم الموضع مائع بحكم النسب فيمن لحقه الولد المناسب كان المرصع تابعا له وللولد المناسب أربعة أخوال على ما تقدم بيانه وإنما قلنا كذلك، لأن اللبن تابع للولد، وإذا لم يكن قافة أو ألحقته القافة بهما أو أشكل على القافة وقف حتى يبلغ فينتسب إلى أحدهما فيلحق به ويصير المرضع ابنه، وإن بلغ فمات [ق 168 أ] قبل أن ينتسب، فإن كان له وارث قام مقامه في الانتساب على أحدهما، وكان المرضع تابعا له، وإن لم يكن له وارث. قال الشافعي: فقد ضاع نسبه- يعني ضاع نسبه من يلحق به النسب وبطل حكمه وأما الذي نص الشافعي فيه في الأم على قولين: أحدهما: أنه يلحق به جميعا لأن اللبن يجوز أن يكون لهما جميعا، فإن اللبن قد يحصل من الوطء ومن الولادة، وقد وطء كل واحد منهما والولادة من أحدهما فلا يصح أن يكون اللبن منهما جميعا ويخالف الولد لأنه لا يجوز أن يخلق ولد واحد إلا من ماء رجل واحد فلهذا لم يجز أن يلحق الوالد بهما وعلى هذا سأل الداركي عن المرضع، هل يحتاج أن ترضع عشر رضعات أو تكفي خمس رضعات فقال: يحتمل وجهين. وقال القاضي الطبري: هذان الوجهان مبنيان على آن الصبي إذا ارتضع من امرأتين الرضعة الخامسة، هل يكون ذلك رضعتين أو يكون من كل واحدة منهما نصف رضعة، وفيه وجهان. والقول الثاني: لا يلحق بهما لأن اللبن تابع للولد فلما لم يجز أن يلحق الولد بهما فلذلك اللبن والمرضع بذلك اللبن، وهذا أصح ولا يصح ما ذكره القائل الأول؛ لأن اللبن الذي ينتشر الحرمة من الواطئ إذا حملت المرآة منه وقبل ذلك لا حق له في اللبن، فإذا قلنا بهذا القول هل للمرجع أن ينتسب قولان منصوصان في الأم. أحدهما: ليس له ذلك؛ لأن الانتساب إنما يكون بميل النفس إلى من خلق من مائه وما يدعوه طبعه إليه لا يفيد هذا المعنى ولأنه لما تدخله القافة قي تمييز الولد من الرضاع لم تدخله في الانتساب.

والقول الثاني: أن ينتسب؛ لأن الرضاع يؤثر في تغيير الخلق والشبه ولا ينفك اللبن عن دواعي الشفقة وموانع الرحمة كما يكون ذلك في النسب، وقد قيل من ارتضع [ق 167 ب] من سيئة الخلق ساء خلقه، ومن ارتفع من حسنة الخلق حسن خلقه، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - "أنا أفصح العرب ولا فخر بيد آني من قريش ونشأت في بني سعد، وارتفعت، من بني زهرة " وكانت هذه القبائل أفصح قبائل العرب فافتخر بالرضاع كما افتخر بالنسب. وقد ذكرنا آن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تسترضعوا الحمقاء فإن اللبن يغذي في الرعونة والحمق". وروي: "فإن اللبن شبه عليه" ويخالف هذا اعتبار القيامة في النسب دون الرضاع لأن القافة تنظر إلى المشاركة في الصورة، وهاهنا ينظر إلى المشاركة في الأخلاق فافترقا. فإذا قلنا: ينتسب على أحدهما فانتسب حرم عليه أقاربه وحلت له ابنة الآخر ومحارمه لأن نسبه انقطع منه. وإذا قلنا: لا ينتسب ولا يكون أبيهما لا يصير محرما بنات واحد منهما، وهل يجوز له آن يتزوج بابنة كل واحد من الواطئين؟ اختلف أصحابنا فيه فقال ابن أبي هريرة له أن يتزوج بابنة كل واحد منهما على الانفراد، ولأن الأخت لم تتعين وهذا كما قلنا في رجلين، قال أحدهما: إن كان هذا الطائر غرابا فغلامي حر، وقال الآخر: إن لم يكن غرابا فغلامي حر لم يمنعا من التصرف في غلاميهما، فإن صارا جميعا لواحد منهما منعناه من التصرف فيهما وعتق أحدهما عليه لعلمنا أن أحدهما حر لا محالة كذلك هاهنا. قال هذا القائل: وإذا تزوج بابنة أحدهما، ثم طلقها أو ماتت لم يجز له آن يتزوج بابنة الآخر؛ لأنه إذا عقد على ابنة أحدهما فقد أقر بأن ابنة الآخر أخته، كما نقول في ثلاثة أواني اثنان طاهران وواحد نجس، فأدى اجتهاد كل واحد منهم إلى طهارة إناء غير الإناء الآخر، إن كل واحد منهم يستعمل الإناء الذي أدى اجتهاده إلى طهارته، فإذا أم كل واحد صاحبيه في ثلاث صلوات [ق 169 أ] فإن صلاة الصبح جائزة للجميع، وصلاة الظهر جائزة للإمام ولإمام الصبح ولا تجوز للآخران؛ لأن كل واحد منهم أقر بطهارة نفسه وطهارة الإمام من الصبح فإنه صلى خلفه، فكان عند كل واحد منهما أن الآخر نجس فلم تجز صلاته، وصلاة العصر جائزة للإمام وحده فهذا المعنى كذلك ههنا. وقال أبو إسحاق: لا يجوز له أن يجمع بينهما لئلا يكون مقيما على فرج محرم بيقين بابنة كل واحد منهما على الانفراد، وإذا تزوج بإحداهما، ثم مات أو طلقها يحل له آن يتزوج بالأخرى، وهذا ظاهر قول الشافعي هاهنا لأنه قال: والورع أن لا ينكح ابنة

واحد منهما ولا يكون محرما لهما فلم يحرمهما، وإنما قال: "الورع ترك النكاح " فدل على أن كل واحدة مباحة على الانفراد. قال: ولأنا إذا أبحنا له أن يتزوج بالأولى، فإذا طلقها كان له أن يتزوج بالأخرى؛ لأن في كل واحدة منهما الأصل الإباحة والشك طارئ، فكان ما آمكن في الأولى فهو مثله في الثانية، فجاز له أن يتزوج بها، وهذا يبطل بمن صلى في مسألة الأواني الثلاثة بواحد منهم صلاة الصبح لم يجز له أن يصلي خلف الآخر في صلاة الظهر؛ لأنه لما صلى خلف إمام الصبح فقد قطع بأن صاحبه الذي معه خلف إمام الصبح نجس فكذلك هاهنا. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز نكاح ابنة واحد منهما؛ لأن أحدهما أبوه قطعا، وإنما تجهل عينه فصار كما لو اختلطت أخته بأجنبية، ولم يعلم عينها لا يجوز له التزويج بواحدة منهما. قال أبو حامد: والصحيح عندي هذا، وقد أومئ إليه في "الأم"، وقال القاضي الطبري: هذا لا يصح، والصحيح: الوجه الأول، والفرق بين ما استدل به أبو حامد وبين مسألتنا أن الأخت إذا اختلطت بالأجنبية، فإن الأخت أصلها التحريم والأجنبية أصلها الإباحة فغلب التحريم، وكذلك لو اختلطت محرمة بناء محصورات [ق 167 ب] لم يجز التزوج بواحدة منهن لهذا المعنى. وأما هاهنا أصل كل واحدة منهما الإباحة ولم تتعين المحرمة منهما؛ فكان له أن يتزوج بآيتهما شاء، يدل على هذا الفرق أن الإناءين إذا كان ماء والآخر بولا، وأشكل الماء من البول فإنه يتركهما جميعا، وإذا كان أحدهما ماء طاهرا والآخر نجسا تحرى واستعمل الطاهر؛ لأن أصل كل واحد منهما الطهارة والنجاسة طارئة، فإذا لم يتعين الذي طرأت عليه النجاسة جاز له استعماله، فإن قيل: أوجبتم التحريم في الإناءين ولم تسوغوا أن يستعمل أيهما شاء من غير اجتهاد ومسوغتهم هاهنا أن يتزوج بأيهما شاء فما الفرق بينهما؟ قلنا: ليس على الأخت ولا على الأجنبية أمارات من تغير الماء وإضراب الإناء أو انكشاف الغطاء، أو أثر الكلب أو غير ذلك فأوجبنا التحري في أماراته الدالة عليه. وقال في والحاوي: فيه وجه رابع لا يحرم عليه بنات واحد منهما لانقطاع الأبوة، ويجوز له أن يجمع بين ابنة كل واحد منهما، وإنما يمنع من تزويجها ورعا لا تحريما وهو ظاهر كلام الشافعي وهذا غريب بعيد، وقال الإمام الجويني: صاحب المنهاج قال كثير من أصحابنا إذا استيقن الرجل أن له في سكة محصورة الأهل أختا من الرضاعة، ولم يعلم عينها لم يجز له أن يتزوج من نساء ملك السكة أحدا، ولو استيقن ذلك في بلدة كبيرة غير محصورة الأهل له أن يتزوج امرأة من نساء تلك البلدة وفرقوا

بالمشقة وعدمها، وفي كلام الشافعي هاهنا دليل على أنه لو نكح واحدة من نساء السكة المحصورة الأهل يجوز، وإن كان الورع أن لا يفعل ألا تراه قال في الولد المرصع: "إذا عجزني بموت الولد عن الإلحاق الورع أن لا ينكح ابنة واحد منهما، ولم يقل [ق 117 أ] حرام عليه أن يفعل، والدليل على هذا ظاهر وذلك أنه لا يستيقن الحرية من واحد من نساء السكة فصار نساء السكة كنساء البلدة وهذا غريب. مسألة: قال: "ولو قالوا للمولود هو ابنهما أجبره إذا بلغ على الانتساب إلى أحدهما" وإنما قلنا: إنه يجبر على ذلك لأنه يتعلق به حقوق له وعليه من وجوب النفقة وولاية التزويج والعتق بالملك وتحريم المناكحة وحرمة المحرمية، ورد الشهادة، ومنع الزكوات وغيرها. فإن قيل: خيرهم بين الأبوين لبلوغ سبع سنين ولم يتخيروا على الانتساب إلا بعد البلوغ؟ قل؛ الاختيار ليس بلازم بخلاف الانتساب، فإنه لازم فدل على الفرق، ولأن الاختيار حق له والانتساب يتعلق به حق لغيره فاعتبر أن يكون بالغا. مسألة: قال: "ولو كان معتوها لم يلحق بواحد منهما حتى يموت". أراد به المولود على فراشين إذا بلغ وهو معتوه لم يصح انتسابه؛ لأنه لا حكم لكلام المجنون ولا يقوم أحد مقامه فيه؛ لأنه غير مأيوس من صحته وانتسابه بنفسه، فإن مات وخلف وارثا قام مقامه في الانتساب على ما ذكرنا، وإن لم يكن له وارث كان ماله موقوفا؛ لأنا نعلم أنه ولد أحدهما، وإن لم يعلم عينه كما إذا طلق إحدى امرأتيه ومات ولم يمين وقفتاه ميراث زوجة. مسألة: قال: "ولو أرضعت بلبن مولود نفاه أبوه باللعان لم يكن أبا للمرضع". الفصل: إذا آتت زوجته بولد فقذفها ونفاه باللعان فأرضعت المرأة بهذا اللبن مولودا لرجل كان حكمه حكم ولدها من النسب وهو أنه لا ولد له، فإذا استلحق الملاعن ولده لحقه نسبه وإن ألحق نسبه لحق به ولده من الرضاع أيضا، ولا فصل بين أن ترضعه قبل أن يلاعن أو بعد أن يلاعن، فإن المرضع كولدها من النسب على ما فصلناه.

مسألة: قال: "ولو انقضت عدتها بثلاث حيض وثبت لبنها أو انقطع [ق 170 ب] ثم تزوجت زوجا فأصابها فتاب لها لبن ولم يظهر بها حمل فهو من الأول". الفصل: قوله فثاب لها أي زاد، وهذا تأكيد هاهنا لا شرط، وجملته أنه إذا طلق امرأته وفيها لبن هو منها فأرضعت به مولودا نظر، فإن لم يزد هذا اللبن على ما كان عليه بحال فهو للأول سواء دخل بها الثاني أو لم يدخل، حملت أمه أو لم يحمل ما لم تضع حملها من الثاني؛ لأن اللبن للأول بيقين، ولم يوجد للثاني: أقوى منه فكان الأول أولى به، وإن زاد هذا اللبن وكثر نظر، فإن كان قبل أن يحمل من الثاني أو بعد أن حملت منه ولكن الزيادة قبل أن ينزل اللبن من الثاني في العادة فهو للأول أيضا، وقيل: أقل مدة ينزل للحمل أربعون يومأ، وإن كانت الزيادة في وقت يمكن أن تنزل للثاني فيه قولان أحدهما: هو للأول دون الثاني، وبه قال أبو حنيفة لأنه نزل قبل الولادة من الثاني فكان للأول كما لو لم يزد. والثاني: قاله في القديم: هو لهما فيكون من يحرم به على أحدهما تحرم به على الآخر، وبه قال محمد، وزفر، وأحمد؛ لأنه: إذا زاد فالظاهر أنه لأجل الحمل لأنه نزل بسببه فكان اللبن لهما، ويخالف هذا إذا لم يزد لأنه لم يظهر هناك للحمل تأثير، هذا إذا كان لبنها قارا فيها، فأما إذا انقطع لبنها، ثم نزل نظر فإن كان نزوله قبل الوقت الذي ينزل للثاني فهو للأول قولا واحدا، وإن كان نزوله في وقت يمكن أن يكون من الثاني نظر، فإن كان الانقطاع يبرأ فيه قولان: أحدهما: أنه للأول وحده والثاني: قاله في "القديم" أنه لهما معا، وإن كان الانقطاع كثيرا، فقد نص على ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه للأول دون الثاني وبه قال أبو حنيفة لما ذكرنا. والثاني: أنه للثاني دون الأول، وبه قال أبو يوسف لأنه لما انقطع، ثم عاد كان سبب الحمل الحادث فأشبه إذا نزل بعد الولادة. والثالثة: [ق 171 أ] أنه لها معا، وبه قال أحمد لأن اللبن قد ينقطع، ثم يتوب مثل أن يزوج المولود فيعود اللبن أو تشرب دواء فيحدد ويحتمل الاختلاط باللبن عن الثاني وأما إذا ولدت من الثاني انقطع عن الأول يكل حال، وصار المرضع فاضلا بينهما ويكون اللبن للثاني قولا واحدا، وهذا لأن سبب متيقن في إدرار اللبن فكان قاطعا لسبب الأول

باب الشهادة في الرضاع

وقال أحمد: ههنا أيضاً يكون اللبن لهما كما قبل الولادة، وهذا غلط لما ذكرنا. وأما قول الشافعي: «ومن لم يفرق بين الولد واللبن، قال: هو للأول ومن فرق قال: منهما جميعاً له ثلاث تأويلات: قال أبو إسحاق: معناه من جعل اللبن كالولد فقال: لا يجوز أن يكون اللبن من اثنين كما لا يجوز أن يكون الولد لاثنين، وإن لم يجز أن يكون الولد لاثنين يقول: إن اللبن للأول، ومن فرق بينهما وقال: يجوز أن يكون اللبن لاثنتين وإن لم يجز أن يكون الولد، قال: ههنا اللبن لهما فأبو إسحاق رد هذه المسألة إلى مسألة قبلها وهو ما قلنا إنه إذا ضاع بسببه هل يجوز أن يكون الولد من الرضاع ابنهما فيه قولان فكانت هي مفرعة على تلك. ومن أصحابنا من قال: معناه لا يسبق اللبن للولد قبل انفصاله عن أمه وإنما لبنه هو الموجود حين انفصاله، فإ، لبنه لم يفارق قال: هو للأول، ومن قال: يفارقه ويسبقه قبل انفصاله قال: هو لهما، ومن أصحابنا من قال: معناه من جعل اللبن للولد الظاهر دون الباطن قال: هو للأول، ومن فرق بينهما وجعل اللبن للظاهر والباطن معاً قال: هو لهما وهذ قريب من التأويل الثاني. باب الشهادة في الرضاع مسألة: قال: «وشهادة النساء جائزة فيما لا يحل للرجال غير ذوي المحارم أن يتعمدوا النظر إليه لغير الشهادة». الفصل: [ق 171 ب] عندنا تقبل شهادة النساء على الانفراد في ثلاثة أشياء الرضاع، والولادة، وعيوب النساء تحت النساء فيقبل شهادة أربع نسوة منفردات ويقبل فيها أيضاً شهادة رجلين، أو شهادة رجل وامرأتين، وبه قال عمر، وابن عباس، ومالك، والزهري، والأوزاعي، وعطاء- رضي الله عنهم. وقال أبو حنيفة: لا تقبل شهادتهن على الانفراد إلا في الولادة، وبه قال ابن عمر، وابن أبي ليلى، وهذا غلط لما أشار الشافعي، وهو أن الرضاع والعيوب تحت ثيابهن مما لا يحل لغير ذي محرم، أو زوج أن يتعمد النظر إليها في ذلك حتى يتحمل الشهادة ولا يمكنه أن يشهد على رضاعها بغير رؤية ثديها. واعلم أن لفظ الشافعي ههنا يدل على أنه يجوز المحرم النظر إلى ثدي المرأة التي تكون من محارمه لأنه قال: وشهادة النساء جائزة فيما لا يحل للرجال غير ذي المحارم أن يتعمدوا النظر إليه بغير شهادة، وهذا هو المذهب.

ومن أصحابنا من قال: لا يجوز للمحرم أن ينظر من المحرمة إلا إلى ما يظهر منها غالباً عند الفصلة والمهنة، فمن قال بهذا اعتذر عن هذا النص بأن قال: ثدي المرضعة في أيام الرضاع لضرورة الرضاع يلتحق بأطرافها التي تطهر منها عند الفصلة والمهنة فكذلك جوز للمحرم أن ينظر إليه، فإذا انقضت أيام الرضاع انقضت الضرورة فلا يجوز له النظر إليها حينئذ، وقال الزهري، والأوزاعي: تقبل في غير هذه الأشياء شهادة امرأة واحدة، وقال مالك، والثوري: يقبل قول امرأتين، وقال الحسن، وعثمان البتي في الرضاع تقبل شهادة ثلاث نسوة. وقال أبو حنيفة: تقبل في الولادة خاصة شهادة القابلة وحدها إذا كان هناك نكاح قائم [ق 172 أ] أو حمل ظاهر، وهذا كله غلط لأن الله تعالى لما أجاز شهادة النساء في الدين جعل امرأتين يقومان مقام رجل واحد ولا بها من الأربع: أو تقول ما قبل فيه شهادة النساء لم تقتصر به على امرأتين كالمال أو كل موضع لا يقبل فيه شهادة رجل واحد يقبل فيه شهادة امرأتين كالمال. مسألة: قال: «وإن كانت المرأة تنكر الرضاع وكانت فيهن أمها أو بنتها جزن عليها». إذا ادعى الزوج أن بينهما رضاء وأنكرت المرأة فقد اعترف الزوج بأنه لا نكاح بينهما فيقبل إقراره في فسخ النكاح؛ لأن حقه وقول الإنسان مفبول في إزالة حق نفسه. فإذا تقرر هذا نظر فيه، فإن لم يكن له بينة على الرضاع قبل إقراره في حق نفسه وهو فسخ النكاح دون حقها وهو المهر، فإن كان قبل الدخول فلها نصف المسمى، وإن كان بعد الدخول فلها كل المسمى، وإن كانت له بينة، فإن كان قبل الدخول فلا شيء لها؛ لأنه لم يكن بينهما زوجته، وإن كان بعد الدخول فلها مهر مثلها، فإذا ثبت هذا، فإن الحاكم يقبل فيه شهادة أربع نسوة، وإن كان فيهن أم المرأة أو ابنتها. قال الشافعي: قبلت شهادتهما عليها؛ لأن شهادة الأم والبنت تقبل عليها، وإنما لا تقبل لها، فإن قيل: كيف تتصور شهادة البنت على أمها من الرضاع؟ قلنا: لا يتصور أن تشهد بأنها أرضعت زوجها في صغرة فلما كبر تزوج بها وتجوز أن تشاهد بنتها ذلك ويجوز أن تكون قد أرضعته أم الزوجة فيكون هو أخاها فتشهد بنتها بذلك. قال: وإن كانت تدعي الرضاع لم يجزيه أمها ولا أمهاتها ولا نبتها ولا بناتها [ق 172 ب] كان ذلك شهادة لها ولا يقبل شهادة الإنسان لأمه وبنته، وإن كان فيهن أم الزوج أو بنته، قبلت شهادتهما، لأنها شهادة على الزوج، وأما الإقرار بالرضاع لا يثبت

إلا بشهادة رجلين؛ لأن الإقرار غير نفس الرضاع. مسألة: قال: «ويجوز في ذلك شهادة التي أرضعت». الفصل: إذا شهدت المرضعة لا يخلو من أحد أمرين، إما أن تدعي أجرة الرضاع أو لا تدعيها، فإن أجرة الرضاع لم يقبل شهادتها لأنها متهمة في شهادتها، وإن لم تدع أجرة الرضاع قبلت شهادتها؛ لأنها لا تجلب بها منفعة ولا تدفع مضرة فقبلت شهادتها. وقال في «الحاوي»: إذا دعت الأجرة ولم تقبل شهادتها في الأجرة هل تقبل في ثبوت التحريم؟ وجهان: أحدهما: لا تقبل، وهو اختيار ابن أبي هريرة. والثاني: يقبل، وهو اختيار أبي إسحاق، وهذا يخرج من تبعيض الشهادة وفيه قولان: فإن قيل: أليس تصير محرماً له ويستبيح الخلوة بها والمسافرة منفعته قيل: هذا ليس من الأمور المقصودة التي ترد بها الشهادة الأ ترى أن رجلين لو شهدا أن فلاناً أعتق أمته قبلت، وإن كان يحل لخ نكاحها بالحرية وكذلك إذا شهدا بالطلاق يقبل، وإن كان يحل له المطلقة بالنكاح، فإن قيل: أليس لو شهدت امرأة بأن هذا المولود ولده وأنها ولدته لم تقبل شهادتها، فلذلك إذا شهدت بأن هذا المولود ولده أرضعته بلبنها وجب أن لا تقبل شهادتها. قلنا الوالدة متهمة فإنها يثبت بشهادتها حق الميراث والنفقات، وإسقاط القود وما أشبهه، فإن ذلك [ق 173 أ] كان معلق بنسب وليس كذلك بالرضاع فإنه لا يتعلق به من قبل الأحكام شيء فلم تكن متهمة في شهادتها فقبلناها، فإن قيل هذه تشهد أن نفس نسبها فوجب أن ترد شهادتها كالحاكم إذا شهد بما حكم لفلان على فلان بكذا أو كذا، وكالقاسم إذا شهد أنه قسم بين فلان وفلان كذا وكذا لا تقبل، قلنا: الفرق من وجهين: أحدهما: أن المرضعة لا تشهد على مجرد فعلها وإنما تشهد على إرضاع الصبي سواء وجد من جهتها صنع أو لا ألا ترى أنها لو كانت نائمة فارتضع الصبي منها أو مجنونة فارتضع منها تحرم عليها، وصار ابناً لها وليس كذلك الحاكم والقاسم فإنهما يشهدان على مجرد فعلها فلم تقبل شهادتهما. والثاني: أن شهادة الحم، والقاسم تضمن تزكيتهما وتعديلهما فإن الحكم والقسمة لا يصحان إلا من عدل أمين فلم تقبل شهادتهما به وليس كذلك شهادة المرضعة فإنها لا تتضمن تعديلها وتزكيتها؛ لأن الرضاع يصح من الفاسقة وغيرها فافترقا. ثم قال المزني: كيف تجوز شهادتها على فعلها ولا يجوز شهادة أمها، وأراد به أنه إذا جازت شهادة

المرضعة على فعلها فشهادة ابنها وأمها أجوز في القياس. قال أصحابنا: قدر المزني أن الشافعي أبطل شهادة أم المرضعة وأجاز شهادتها على فعل نفسها، فقال هذا، وهذا وهم من المزني، وإنما أراد الشافعي أن المرأة إذا ادعت على زوجها أن بينهما رضاعة فإنه لا يقبل قولها عليه ولا تقبل شهادة أمها وبنتها من النسب. فأما الأجنبية إذا شهدت لها على فعل نفسها قبلت [ق 173 ب] شهادتها لأنها غير متهمة فيه، وكذلك يقبل شهادة أمها وبنتها فبطل ما قدره المزني، فإن قيل: لعل المزني أراد بذلك شهادة المرضعة التي باشرت الإرضاع لا شهادة أم المرضعة التي أرضعت الأفواه، قال: وكيف يجوز شهادتها على فعلها ولا يجوز شهادة أمها فرد الكنايتين إليها، قلنا: وهل يجهل أحد من نفسه أن شهادة التي باشرت الإرضاع وشهادة أمها سواء في القبول، والشافعي إنما أجاز شهادة أم المرضعة إذا شهدت عليها ولم يتكلم في شهادة أم المرضعة فكيف اعترض المزني على ما لم يتكلم فيه الشافعي فعرفت أن هذا الاعتذار عن المزني اعتذار غير صحيح. مسألة: قال: «ويوقفن حتى يشهدن أن قد رضع المولود». الفصل: أراد به كيفية الشهادة على الرضاع، وجملته أن الشهادة على الرضاع لا تقبل مطلقة وهو أن تقول إنها أخته من الرضاع أو أمه ولابد من أن تكون مبنية وهو أن يقول: أشهد أن هذا المولود ارتضع منه خمس رضعات متفرقات في الحولين، ووصل كل رضعة إلى جوفة، وهذا لأن للناس خلافاً في وقت الرضاع وعدده ولابد من البيان. فإن قيل: هو لم يشاهد وصول اللبن إلى جوفه فكيف يجوز أن يشهد به؟ قيل: إذا علم الشاهد أن في الضرع لبناً والتقمه الصبي وحرك شفتيه مصاً، فإن نزول اللبن إلى جوفه إن لم يحصل له أتعلم به قطعاً فقد حصل بطاهر قوي وما تعذر الوقوف عليه بالمشاهدة أو السماع اكتفي فيه بالظاهر كما لو شهد الشاهد بالملك والنسب بالاستفاضة [ق 174 أ]. قال الشافعي: فإن أخذت المرأة رأس الصبي تحت ثيابها فالتقم من ثديها فرأى ذلك فشهد بالرضاع لم يحكم به ولم تكن شهادة لأنه بعد أن يأخذ تحت ثيابها شيئاً فيه لبن فيمتص منه المولود ولا يكون جملة ولا يكون ذلك من لبنها، فإذا كان كذلك فلابد من مشاهدة الثدي وامتصاص الصبي منه على ما بيناه.

ثم اعلم أن الرضاع إن كان لا يثبت إلا بأربع نسوة، فإذا شهدت امرأة أو أخبرت بالرضاع فالاحتياط أن لا ينكحها، وإن كانت تحته فالاحتياط أن يطلقها والدليل عليه ما ذكر الشافعي من خبر السوداء وتمامه ما روي أن عقبة بن الحارث تزوج بأم يحيى بنت أبي أهاب بن عمر فجرت بينها وبين امرأة سوداء في جوارها خصومة، فأشاعات السوداء الخبر في الجيران أني أرضعتها وزوجها، فسمعه عقبة بن الحارث فساءه ذلك فسأل أهله وأهلها؛ فقالوا: لا نعلم أنها أرضعتك وذلك بمكة فركب إلى المدينة، وقال: يا رسول الله إني تزوجت بابنة أبي أهاب فزعمت امرأة سوداء أنها أرضعتني وإياها، فوالله ما أرضعتني ولا أخبرتني قبل ذلك فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعادها فقال له في الثالثة أو الرابعة «كيف وقد زعمت السوداء أنها أرضعتكما». وروي أنه قال: «كيف وقد قيل» فطلقها بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قال الشافعي: إعراض رسول الله صلى الله عليه وسلم يشبه أن يكون كره له أن يقيم معها، وقد قيل إنها أخته من الرضاعة وهو في معنى ما قلنا يتركها ورعاً لا حكماً. مسألة: قال: «ولو قال رجل هذه أختي من الرضاعة أو قالت هذا أخي من الرضاعة». الفصل: إذا اعترف الرجل أن هذه ذات محرم لي من رضاع بنتي أو أختي أو اعترفت لا يخلو إما أن يكون قبل النكاح [ق 174 ب] أو بعده، فإن كان قبل النكاح فإن كان هو الذي أقر بذلك لم يحل له نكاحها لأنه حق عليه وإن كانت هي أقرب بذلك لم يحل لها أن تتزوج به لأنه إقرار فيما هو عليها وقبل ذلك على نفسها ولا يتعلق به ضرر على غيرها هذا إذا كان في وقت يمكن ذلك فإن كان على وجه لا يمكن ذلك مثل أن يقول لمن هو أكبر سناً منه هذه بنتي أو تقول الزوجة: هذا ابني وهو أكبر سناً منها سقط قولهما ولا اعتبار به خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: يحرم بذلك كما قال إذا قال لعبده وهو أكبر سناً منه هذا ابني يعتق فإذا ثبت هذا فكل موضع صح الاعتراف نظر فإن أقاما عليه فالحكم على ما مضى، وإن رجعا عنه وقالا: كذبنا وليس بيننا حرمة الرضاع، فإن كان الإقرار صحيحاً حرمت عليه في الظاهر والباطن وإن كان الإقرار كذباً حرمت في الظاهر دون الباطن. وعند أبي حنيفة: الإصرار على هذا الإقرار شرط، فإذا رجعا جاز النكاح، وهذا غلط لأن الإقرار إذا كان محرمه من حرمات الله تعالى على التأييد كان الرجوع عنه محالاً كما لو أقر بنسب أو أقرب به، ثم رجع لا يقبل رجوعه والرضاع يجري مجرى النسب

وإن كان هذا النكاح نظر، فإن كان الزوج هو الذي قال هذا فرق بينهما فإن كذبته أخذت نصف المسمى إن كان قبل الدخول أو كل المسمى إن كان بهد الدخول، وإن كانت هي المدعية أفتيته بأن يتقي الله ويدع نكاحها بتطليقة فتحل بها لغيره، وإن كانت كاذبة وأحلفته لها، فإن نكل حلفت وفرق بينهما، وإذا حلف الزوج يحلف على العلم وتحلف المرأة على البنت أنها أختها. قال القفال: ولو قيل إنها تحلف على المعلم إثباتاً فيقول: والله لا أعلم أنه أخي من الرضاع ليكون يمين الرد موافقاً ليمين الابتداء كان أولى ثم لا مهر لها قبل الدخول [ق 175 أ] سواء حلف أو نكل لأنها لا تدعيه. وقال في الحاوي في صف يمينه وجهان: أحدهما: على العلم ليمين الزوجة إذا أنكرت الرضاع. والثاني: البت والقطع، والفرق وإن كانتا على نفي فعل الغير أن في يمين الزوج مع تصحيح العقد فيما مضى إثبات استباحة في المستقبل فكانت على البت تغليظاً ويمين الزوجة لبقاء حق وجب بالعقد فكانت على العلم تحقيقاً. فرع: لو شك الزوج فلا يقع في نفسه صدقها ولا كذبها هل يجوز إحلافه وجهان بناء على الوجهين في صفة يمينه. أحدهما: يجوز أن يحلف إذا قلنا يمينه على نفي العلم وله أن يستمتع بها حكماً وصار أن يفارقها فدعا. والثاني: ليس له أن يحلف إذا قلنا يمينه على البنت وهو بالخيار بين أمرين: إما أن يرد عليها اليمين فإذا حلفت فسخ النكاح بيمنها. وإما أن يطلقها واحدة لتحل لغيره من الأزواج وهذا أولى الأمرين. فرع آخر: لو قال بيني رضاع افتقر التحريم إلى ذلك العدد، ولو قال: هي أختي من الرضاع، فإن كان من أهل الاجتهاد لم يفتقر إلى ذكر العدد، لأن في اعترافه بأخوتها التزاماً لحكم التحريم بالعدد المحرم، وإن لم يكن من أهل الاجتهاد ويحتمل وجهين: أحدهما: يلزم ذكر العدد ويرجع فيه إليه بعد إقراره لحهله بالتحريم. والثاني: لا يلزم ذكر العدد ولا يرجع إليه بعد إطلاق الإقرار، كما لا يرجع إليه في صفة الطلاق بعد إقراره بالطلاق ويفارق الشهادة تفتقر فيها إلى صفة الرضاع وذكر العدد لأنها لا تصح إلا عن مشاهدة فاستوى فيها شروط المشاهدة وفي الإقرار لا يحتاج إلى

المشاهدة لأنه لا يشاهد رضاع نفسه من لبن أمه وإنما يعمل فيه على الخبر الذي وثق بصدقه، ولأن من الشهادة إلزام حق على غير الشاهد فبني على [ق 175 ب] الاحتياط في نفي الاحتمال والإقرار إلزام حق على المقر فكان في ترك الاحتياط تقصير من المقر فألزم حكم إقراره. فرع آخر: لو شهد اثنان بالرضاع وقالا: تعمدنا بالنظر إلى الثدي لا لإقامة الشهادة لم يقبل لأنهما أخبرا عن فسق. فرع آخر: لو قالت: أرضعت البارحة طفلاً خمساً لا أدري هو ذا أم ذا حرما عليه ولو قالت: لا أدري ابني هذا أو ذا الطفل الأجنبي فالورع أن لا يتزوج بالطفل وجاز في الحكم. فرع آخر: قال القفال عن الشافعي: لو زوجت البكر بغير إذنها فادعت رضاعاً بينها وبين زوجها فالقول قولها مع يمينها ولو استؤذنت أو كانت ثيباً فأذنت ثم ادعت هذا لا يقبل لأنها معذورة إذا لم تستأذن وغير معذورة إذا اسنؤذنت. قال الإمام الجويني من المنهاج: ظاهر كلام الشافعي ههنا أنه لا يقبل دعواها ولا فرق بين أن تكون بكراً وبين أن تكون ثيباً فيحتمل أن يكون الشافعي قصد بالتصوير في الثيب دون البكر ويحنمل أن تكون الثيب والبكر سواء، لأن الأب قام مقامها في حق العقد فهي كالمستأذنة، وإن كانت غير مستأذنة والعادة أن الأب يستقضي ويستبرئ ويحتاط ثم يعقد عليها العقد. فرع آخر: لو شهد شاهدان بالطلاق ففرق الحاكم بينهما، ثم رجعا عن الشهادة يعرفان فلو شهد شاهدان بأنها أخت الزوج من الرضاع سقط الغرم عن شاهدي الطلاق لأنا علمنا أنهما لم يتلفا عليه ملكاً ولا حالاً بينه وبين ملكه. فرع آخر: لو تزوج رجل ثلاث نسوة كبيرتين وصغيرة فأرضعت كل واحدة منهما هذه الصغيرة أربع رضعات، ثم حلبت كل واحدة منهما حلبة، ثم مزجا في إناء واحد ثم أوجز ماءها معاً هذا اللبن انفسخ نكاح الثلاث [ق 176 أ] لأنه جمع بين امرأة وأمها وحرمت الكبيرتان على التأييد، وأما الصغيرة في التفضيل إن كان دخل بالكبيرتين أو بإحداهما حرمت على التأييد لم يكن دخل بواحدة منهما حلت له. وأما المهر فللصغيرة نصف المسمى ويرجع

على الكبيرتين بنصف مهر مثل الصغيرة على كل واحد منهما رجعياً. وأما الكبيرتان فإن كان دخل بها ثبت لكل واحدة جميع مهرها على كل واحدة منهما بنصف مهر مثل صاحبتها لأنهما كانتا السبب في فسخ النكاح معاً فسقط ما قابل فعلها ووجب نصف المهر لأجل فعلها، وإن لم تكن دخل بهما ثبت لكل واحدة منهما ربع مهرها؛ لأن الفسخ جاء من قبلها وقبل غيرها، فثبت نصف النصف وهو الربع وترجع على صاحبتها بربع مهر مثلها لأنها أتلفت عليه نصف البضع، والبضع ههنا مضمون بنصف المهر. قال أبو حامد: ويحتمل أن يقال يرجع عليه بنصف المهر والأول أصح هذا إذا أوجرناها اللبن معاً، فإن أوجرها اللبن إحداهما انفسخ نكاح الكل، وكان للصغيرة نصف المسمى وترجع هي على التي أوجرتها بمهر مثل الكبيرة الأخرى ولا ترجع في حق نفسها بشيء لأن الفسخ جاء من قبلها بعد الدخول، وإن لم يكن دخل بها سقط مهر السابقة ولغير السابقة المسمى وترجع بما غرم على ما فصلناه. وإن كانت المسألة بحالها لها فأرضعت إحداهما الرضعة الخامسة دون الأخرى انفسخ نكاح التي أرضعت ونكاح الصغيرة معاً دون التي لم ترضع والحكم والرجوع كما لو كان له زوجتان صغيرة وكبيرة فأرضعت الكبيرة الصغيرة، وقد مضى، وهذا فصل متسع التفريغ وفيما ذكرنا كفاية فقص عليه ما يرد عليه إن شاء الله تعالى. [ق 176 ب] باب رضاع الخنثى مسألة: قال: «وإن كان الأغلب من الخنثى أنه رجل نكح امرأة». الفصل: إذا رضع الخنثى بلبنه مولوداً فإن بان أنه رجل لم تثبت الحرمة بلبنه، وإن بان أنه امرأة ثبتت الحرمة بلبنها وكان ولداً لها، وإن كان مشكلاً وقف الأمر إلى أن يتبين، هكذا قال أبو حامد وجماعة، وقال القاضي الطبري: إذا كان مشكلاً قلنا له: ارجع إلى طبعك، فإن مال طبعك إلى أن يكون رجلاً كنت رجلاً لا تثبت الحرمة بلبنك، وإن مال طبعك إلى أن تكون امرأة كنت امرأة وكان المرضع ولدك، وإن قال: لا يميل إلى طبعي إلى أحدهما وليس لأحدهما على الآخر عندي مزية. قال أبو إسحاق: يعرض لبنها على القوابل: فإن قلن: هذا اللبن على غزارته لا يكون إلا لامرأة حكم بأنه وأن لبنه يحرم. وإن قلن يجوز أن يكون مثل هذا اللبن للرجل لم تثبت الحرمة بلبنه ويوقف إلى أن يكشف

الأمر، وقال غيره: لا يكون اللبن دليلاً على الأنوثة بحال لأنه قد يكون للرجال. وقال ابن أبي هريرة: إذا عدمت الأمارات كلها وعدم شهوتها في الميل يجعل اللبن دليلاً بكل حال، وهذا خلاف ظاهر المذهب، وقد ذكرنا فيما تقدم الأمارات الدالة على الذكورة والأنوثة وقيل المال أعم ملقى العضو فيقدم الاستدلال به، فإن لم يكن تعتبر المنفعة الخاصة وهو المني وذلك عند البلوغ، فإن أمنى من ذكره فهو رجل، وإن أمنى من فرجه فهو امرأة، وإن أمنى منهما فلا بيان فيه، وهل يعتبر الحيض وجهان: أحدهما: يعتبر فإن حاض فهو أنثى، وإن لم يحض فهو ذكر. والثاني: الاعتبار بالحيض، وإن اعتبر المني لأنهما يشتركان في المني ويختلفان في مخرجه فجاز أن يكون معتبراً [ق 177 أ] كما [يشتركان] في البول ولا يشتركان في الحيض، ويجوز أن لا يكون الدم حيضاً فلم يعتبره. ذكره في «الحاوي» والله أعلم. وأما قوله ههنا: «وإن كان مشكلاً فله أن ينكح بأيهما شاء» عبارة مشكلة وليس معناها أنه يختار ما شاء ولكن معناها أن الواجب عليه مراجعة نفسه ليتأمل أمارات بلوغ شهواتها ثم يخبر عن نفسه بأنه رجل أو امرأة، فإذا أخبر بواحد منهما لزم ولا يمكن الرجوع بحال. فرع: لو ارتضعت الصغيرة من أم زوجها رضعتين والأم نائمة وأرضعتها الأم تمام الخمس والصغيرة نائمة فيه وجهان: أحدهما: يسقط عن نصف المسمى نصفه وهو الربع. والثاني: يسقط على عدد الرضعات فيسقط من نصف المسمى خمسان ويجب ثلاثة أخماسه. وقد ذكرنا نظير هذه المسألة فيما قبل والله أعلم.

كتاب النفقات

كتاب النفقات باب وجوب النفقة للزوجة من كتاب النفقة قال: قال الله تعالى: ?ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا? [النساء: 3]، أي لا يكثر من تعولون. الأصل في نفقة الزوجات الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله: ?فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وثُلاثَ ورُبَاعَ فَإنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا [النساء: 3] فلولا أن النفقة واجبة عليه لهن ما ندبه إلى واحدة حذراً من المؤنة. وأيضا قوله تعالى: ?وعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233]، وقوله تعالى: ?لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ومَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ [الطلاق: 7]، قُدِرَ [طه: 40] أي ضيق. وأما السنة فما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم [ق 177 ب] فقال: يا رسول الله معي دينار فقال: أنفقه على نفسك فقال: معي آخر، فقال: أنفقه على ولدك، فقال: معي آخر فقال: أنفقه على أهلك فقال: معي آخر، فقال: أنفقه على خادمك فقال: معي آخر، فقال: أنت أعلم به، وروي: أنفقه في سبيل الله. وروي أنه قال: «أنت أبصر» وروي أنه قدم الأهل، ثم قال: «أنفقه على ولدك» والرواية الأولى أصح. وقال سعيد بن أبي سعيد المقبري: كان أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث يقول: ولدك، يقول: أنفق علي إلى أن تكلني، ويقول زوجك: أنفق علي أو طلقني، ويقول خادمك: أ، فق علي أو بعني، وكان يقول: هذا من كيسي فذكر فيه جميع الجهات التي يستحق بها النفقة وهي الزوجة والقرابة والملك ولكن النفقة تجب في النكاح من جانب واحد فإنه يجب نفقتها على الزوج ولا تجب نفقته عليها وكذلك في الملك تجب للمملوك على المالك ولا تجب للمالك على المملوك وفي القرابة يتصور من الجانبين على البدل فإنها تجب للابن على الأب، وللأب على الابن. وأيضاً ما روت عائشة رضي الله عنها، قالت: جاءت هند أم معاوية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن أبا سفيان رجل شحيح وأنه لا يعطيني ما يكفيني وولدي إلا ما

أخذت منه سرًا وهو لا يعلم فهل علي في ذلك من شيء فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف" فدل هذا على وجوب نفقة الزوجة والأولاد، وفي هذا الخبر فوائد: أحدهما: ما ذكرنا. والثاني: أنه يجوز للمرأة أن تخرج من بيتها لحاجة وتستفتي العلماء فيما يعرض لها. والثالث: أن صوتها ليس بعورة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمع كلامها [ث 178 أ] وأجابها. والرابع: أن للإنسان أن يذكر ما في غيره من عيب عند الحاجة فإنها قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح ولم ينكر عيبها. والخامس: أن للحاكم أن يحكم بعلمه فإنه لم يطالبها بالبينة ومن قال: لا يجوز للحاكم أن يحكم بعلمه قال: هذا ذكر على سبيل الفتوى لا على الحكم. والسادس: أنه قضى على الغائب وعندما يجوز ذلك خلافًا لأبي حنيفة وقيل: وهو الأشبه هذا لم يكن قصًا بل كان فتوى لأنه لم ينقل أن أبا سفيان كان غائبًا عن البلد ولم يسبق الدعوى وإقامة الحجة. والسابع: أنه يجوز لمن له حق على غيره فمنعه من أن يأخذ من ماله بغير علمه. والثامن: انه يجوز أن يأخذ من جنس حقه ومن غيره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفصل ذلك عليها. والتاسع: أن النفقة لها ولولدها تنفق بالمعروف. والعاشر: أن نفقة الولد على الأب دون الأم. والحادي عشر: أن الأم الرشيدة قيمة ولدها. وقد اختلف أصحابنا في هذا وظاهر المذهب أنها لا تلي ذلك من غير تولية ولكن الأصح ما ذكره الإمام الجويني صاحب المنهاج وأنا أفتي به لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر هندًا بأن تأخذ من مال أبي سفيان وتنفق على صغار ولدها منه. فإن قيل: من جعل الأم قيمًا يجعلها فيما بعد موت الأب فكيف يحتج بخبر هند وأبو سفيان، يومئذٍ حي، قيل: إذا أجاز لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تأخذ عند امتناع أبي سفيان وشحة ماله وتنفق وتقوم بمصلحة الأولاد التي لا يقوم بها أبوهم [ق 178 ب] استنبطنا من ذلك جواز قيامها بعد وفاة الأب. فإن قيل: إنما جاز لهند القيام بنصب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياها لا بمعنى الأمومة. قلنا: الظاهر من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قصد الفتوى على ما ذكرنا. وأيضًا روي عن حكيم بن معاوية القشيري عن أبيه، قال: قلت: يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا عليه، قال: أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في المبيت فدل على وجوب النفقة والكسوة لها، وفي قوله: ولا تضرب الوجه دليل على

جواز ضربها على غير الوجه، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضرب الوجه نهيًا عامًا في الآدمي والبهيمة، وقوله: ولا تقبح معناه لا يسمعها المكروه ولا تشتمها بأن تقول: قبحك الله ونحو ذلك. وقوله: ولا تهجر إلا في المبيت أي لا تهجرها إلا في المضجع ولا تتحول عنها أو تحول إلى دار أخرى. وأيضًا روى عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "كفي بالمرء إنما أن يضيع من يعول". وأما الإجماع فلا خلاف بين المسلمين فيه، وفيه ضرب من العبرة وهو أن المرأة محبوسة عن الزوج بمنعها من التصرف والأسباب فلا بد من أن ينفق عليها كالعبد مع سيده. فإذا تقرر هذا فاعلم أن خبر أي سريره دليل على أن نفقة الرجل على نفسه مقدمة على نفقة زوجته وولده وخادمه، وأن نفقة ولده مقدمة على نفقة زوجته، وأن نفقة الزوجة مقدمة على نفقة الخادم في ظاهر الخبر إشكال [ق 179 أ] وهو أن يوهم أنه إذا أنفق على نفسه دينارًا لزمه أن ينفق بما فضل عن الدينار على زوجته وليس كذلك بل إذا ملك دنانير ونفقته تستغرقها لم يلزمه نفقة ولده، والقص من سؤال القائل وجواب رسول الله صلى الله عليه وسلم مراتب النفقات لا مقاديرها. ثم اعلم أن إسماعيل بن إسحاق القاضي المالكي اعترض على الشافعي فقال ما قاله من التفسير في قوله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} [النساء: 3] غلط ومعناه أي لا تجوروا بترك القسم بينهن والميل إلى بعضهن. والدليل عليه قول الشاعر: وميزان قسط لا يحيف شعيرة ووزان عدل وزنه غير مائل يعنى: غير جائز، قلنا: الغلط ما قلت يقال عال يعول إذا فات. وقال صلى الله عليه وسلم: "خير الصدقة عن ظهر غنى وليبدأ أحدكم بمن يعول" يريد بمن يموت. وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قرأ ذلك: أدنى ألا تعولوا أي لا يكثر من تعولون. وقال الكسائي: سمعت العرب تقول: عال يعول. معناه: كثر عياله وأعال إذا كثر عياله وأعال في كلامهم أكثر. وروي عن زيد بن أسلم مولى عمر رضي الله عنه أنه فسره بذلك فاتبع الشافعي فيه الأثر، وروي عن ثعلب مثل ما ذكرنا عن الكسائي. مسألة: قَالَ: "أَنْ يَقْتَصِرَ الرَّجُلُ عَلَى وَاحِدَةٍ".

الفصل: إنما استحب الشافعي الاقتصار على امرأة واحدة ليكون أسلم لدينه وأبعد من الغرور فربما يقع فيما لا يمكن القيام بواجبه من النفقة والكسوة والقسم. وقال ابن داود، وطائفة من أهل الظاهر الأولى [ق 179 ب] أن يستكمل نكاح الأربع إذا قدر على القيام بها ولا يقتصر على واحدة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم مات عن تسع نسوة، وقال صلى الله عليه وسلم: "تناكحوا تكاثروا" وهذا غلط لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان معصومًا من الميل والجور، وتضييع الحقوق بخلاف الأمة. وأما قوله: "تناكحوا تكاثروا" إنما ندب على الاستكثار من النسل وذلك لا يتعلق بكثرة النساء، فقد يولد للرجل من المرأة الواحدة عدة أولاد ولا يولد من النسوة مثل ذلك. وقال صاحب "الحاوي" أولى المذهبين عندي اعتبار حال الزوج، فإن كان ممن لا تقنعه الواحدة لقوة شهوته وكثرة جماعه فالأولى أن ينتهي إلى العدد المقنع من اثنتين أو ثلاثة أو أربع ليكون أغض لطرفه وأعف لفرجه إن كان يقنعه الواحدة فالأولى أن لا يزيد عليها وهذا حسن. مسألة: قَالَ: "وَفِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ بَيَانُ أَنَّ عَلَى الرَّجُلِ مَا لَا غِنَى بامْرَأَتِهِ عَنْهُ مِنْ نَفَقَةٍ وَكُسْوَةٍ وَخِدْمَةٍ". الفصل: جملته أن على الرجل نفقة امرأته وكسوتها على ما يجيء بيانه فيما بعد إن شاء الله. وأما الخادم فإن كان مثلها مخدومه في العادة لفضلها وجلالتها فعليه إخدامها، وإن كان مثلها لا يخدم لخساسها وضعه نسبها فليس عليه إخدامها بل يخدم نفسها والمرجع في هذا إلى العرف والعادة ولا يعتبر ما ترتب المرأة نفسها به، فإن كانت دنية فكبرت لم يجب عليه إخدامها، وإن كانت جليلة فتواضعت وخدمت نفسها لم يسقط إخدامها متى طلبته، فإن مرضت أو زمنت واحتاجت إلى من يخدمها وجب عليه إخدامها دنية كانت أو جليلة كما إذا كان له ابن صغير يلزمه نفقته، وأن يخدمه خادمًا، وقيل: يعتبر من كون المرأة مخدومة عرف الشرع وعرف البلد [ق 180 أ] فإن عادة أهل مصر الاستخدام وعادة أهل السواد أن يخدموا ولا يستخدموا. وقال داود: لا يجب إخدامها لما روي أن فاطمة رضي الله عنها طلب من علي رضي الله عنه جارية فقال لها: اطلبي من أبيك صلى الله عليه وسلم فطلبت فلم يعطيها، وهذا غلط لقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [النساء: 19] وهذا من المعروف، ولأن الخدمة من جملة

كفايتها فأشبه الإدام. وأما خبر فاطمة رضي الله عنها، قلنا كان زوجها في ذلك الوقت معسرًا وإنما يجب ذلك على الموسر. واعلم أن الشافعي قبل إيجاب الخدمة ونفقتها وكسوتها بحالة زمانة الزوجة ومرضها، فقال: وخدمة في الحال التي لا تقدر على ما لإصلاح بدنها من زمانة ومرض إلا به، فأوهم أن الزوجة إذا كانت صحيحة البدن ليست بها زمانة ولا مرض فليس على الزوج أن يعطيها نفقة الخادمة. ثم قال المزني: قال الشافعي في كتاب عشرة النساء أن يكون عليه لخادمها نفقة إذا كانت ممن لا تخدم نفسها، وقال في كتاب العشرة أيضًا: إذا لم يكن لها خادم فلا يتبين أن يعطيها خادمًا ولكن يجبر على من يصنع لها الطعام الذي لا تصنعه هي ويدخل عليها ما لا تخرج لإدخاله من الماء وما يصلحها وما يجاوز به ذلك. ثم قال: قد أوجب لها في موضع من هذا الكتاب نفقة خادم، وقال في كتاب النكاح: إملاءً على مسائل مالك والمجموعة، وقاله في كتاب النفقة، وهو أولى بقوله لأنه لم يختلف قوله أن عليه أن يزكي عن خادمتها فكذلك ينفق عليها، ومما يؤكد ذلك ولو أراد أن تخرج عنها أكثر من واحدة أخرجهم فتوهم المزني أن للشافعي قولين في وجوب نفقة الخادمة واختار لنفسه الإيجاب على أصل الشافعي. واحتج بزكاة الفطر كما ترى فقال للمزني بهذا الجواب [ق 180 ب] يزول الإشكال والوهم، وأن نفقة الخادم واجبة إذا كانت مخدومة في عشيرتها ولهذا أوجب زكاة الفطر عنها على الزوج، وقد علمت أنها المزني أن زكاة الفطر تابعة للنفقة فلو اختلف قوله في وجوب نفقتها لاختلف قوله في وجوب زكاة الفطر عنها، وقد ذكرت أن قوله لم يختلف في وجوب زكاة الفطر عنها فكيف توهمت اختلاف قوله في وجوب نفقتها. وأما تقييد الشافعي في كلامه بالمرض والزمان يحتمل معنيين: أحدهما: أنه نص على أظهر الحالين من وجوب نفقة الخادم في حال صحة الزوجة وكثيرًا بنص الشافعي على أظهر الصورتين ولا يقصد الفرق بين الصورتين. والثاني: أنها إذا كانت مريضة أو زمنة يحتاج إلى زيادة الخدمة ويستغني عن ذلك في زمان الصحة فأراد أن يبين وجوب المونة على الزوج في الخدمة لأنا، إن كنا لا نوجب على الزوج أجر طبيب ولا حجام فإنا نوجب عليه النفقة المعتادة في حالتي المرض والصحة أو قيل بحالة المرض تسوية بين المعسر والموسر، فإن امرأة المعسر في حالة المرض يستحق الخادمة أيضًا. وأما قوله في كتاب عشرة النساء: "يحتمل أن يكون عليه لخادمها نفقة فليس في ذلك تعليق القول. وقد ذكر الشافعي لفظ الاحتمال في مواضع ولم يقصد تعليق القول وكذلك قال في

مسائل كثيرة: ولا يتبين لي كذا وكذا ولم يقصد به القولين في المسألة، وقيل: أراد ويحتمل الكتاب والسنة أن يكون فيها دليل على وجوبها وإنما قال الشافعي عليه نفقة خادمها، إذا كانت مثلها تخدم والذي قال: لا نفقة عليها لخادمها أراد إذا كانت لا يخدم مثلها وزكاة الفطر على هذا أيضًا ولا فرق بينهما. فرع: كل موضع أوجبنا لها الإخدام [ق 181 أ] لا يزاد على خادم واحد لأن فيه كفاية في خدمة نفسها ولا تجب على الزوج إقامة من يحفظ مالها ويقوم بحملها، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، وقال مالك: إذا كانت ممن يخدم في بيت أبيها بخادمين أو أكثر وجب لها لأنها تحتاج إلى ذلك وهذا غلط لقوله صلى الله عليه وسلم خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف والمعروف خادم واحد، ولأن الزيادة على الواحد ما يحتاج إليه لمالها فلا يلزمه القيام به ولهذا لا يلزمه زكاة مالها ويلزمه زكاة بدنها ولا يفتقر هذا الحكم بفقر الزوج وغنائه إلا إذا كان فقيرًا ينفق نفقة المعسرين عليها وعلى خادمها. فرع آخر: قال أبو إسحاق: الزوج بالخيار بين أربعة أشياء: إما أن يشتري لها خادمًا ينفق عليه ويزكي عنه، أو يستأجر لها خادمًا ينفق عليه ولا يزكي عنه، أو يكون لها خادم، وقد رضيت خدمته وهي تريده فيلزم الزوج أن ينفق عليه ويزكي عنه، أو يخدمها بنفسه. ومن أصحابنا من قال: هو بالخيار من ثلاثة أشياء وهي ما ذكرناها أولًا فأما إذا أراد أن يخدمها بنفسه فإن رضيت فله ذلك، وإن كرهت خدمته وجب عليه أن يخدمها بغيره؛ لأن العادة أن المرأة تحتشم استخدام زوجها فتكون ضرر عليها، والأول أصح ولا يلزمه أن يملكها خادمًا بلا خلاف. وقال القفال إذا قال: أخدمك بنفسي وأقوم بما لا تصنعين من كنس البيت وغسل الثياب واستبقاء البيت وغير ذلك فله ذلك إلا في أمور تحتشم من استخدامه مثل حمل الماء إلى المستحم وصب الماء على اليد للغسيل ونحو ذلك مما يرجع إلى خدمة نفسها فلها الامتناع لأنها تستحي من استخدامه في مثل ذلك، وهذا حسن لم يقله غيره. فرع آخر: لو قالت: أنا أخدم نفسي فأعطني أجرة الخادم لم يلزمه ذلك لأنها إذا لم تختر أن تترفه بخدمة غيرها ورضيت بتحمل المشقة سقط حقها [ق 181 ب] ولم تستحق العوض كما تقول في العامل في مال المضاربة له أن يبدل الأجرة للحمال والثقال والمنادي ولا يلزمه أن يتولى ذلك بنفسه، فإن رضي يتحمل المشقة وعمل ذلك بنفسه لم يجز له أن يأخذ من المال أجرته كذلك ههنا.

فرع آخر: ينبغي أن يخدمها في جوف دارها النساء أو محرمها أو صبي لم يحتلم، وأما الشيخ الهم ومملوكها وجهان بناء على الوجهين في عورتها معهما. فرع آخر: لو أراد أن يستخدم لها من خالف دينها من اليهود والنصارى فيه وجهان: قال أبو إسحاق: يجوز لحصول الخدمة بهم ولأنهم ربما كانوا أذل نفوسًا وأسرع في الخدمة، وقال غيره: لا يجوز، لأن النفوس ربما تعاف استخدامهم وربما لم يؤمنوا العداوة الذين، ولو قيل: يجوز أن يقوموا بالخدمة الخارجة دون الداخلة كان وجهًا. فرع آخر: لو اختارت امرأة لخدمتها واختار الزوج غيرها فيه وجهان: أحدهما: الخيار لها، لأن الخدمة حق لها وربما كانت التي تطلبها أقوم بخدمتها. والثاني: الخيار إلى الزوج لأن عليه الإخدام فلا يتعين عليه الجهة نفقتها ولأنه قد يتهم من تختاره المرأة فكان الاختيار إليه. فرع آخر: لو كانت عندهم خادمة حرة أو مملوكة لها فأراد الزوج إخراجها وإبدالها بغيرها فليس له ذلك إذا لم يكن بها عيب أو ظهرت بها خيانة توجب ذلك لأنا لو ملكناه من ذلك فكلما ألفت خادمًا واعتادت خدمتها أبدلها فيلحقها ضرر فيه، ولو كان لها غلام له أن يخرج عنها أكثر من واحدة فيقول: لا أدعهن في بيتي وكذلك لو كان لها مال في بيته له أن يكلفها إخراجه من بيته بغير أمره فله أن يكلفها إخراجه من بيته، ذكره القفال وهو حسن صحيح. مسألة: قَالَ: "وَيُنْفِقُ المُكَاتَبُ عَلَى وَلَدِهِ مِنْ أَمَتِهِ". [ق 182 أ] صورة المسألة أن يشتري لها كانت جارية للتجارة، وقلنا له: أيطأها لأنه ليس له أن يطأ الأمة تملك اليمين أذن السيد أو لم يأذن في أصح القولين فخالف ووطئها وأولدها لا يجب الحدّ عليه لشبهة الملك ويلحق به النسب ويكون الولد مملوكًا له فيلزمه أن ينفق عليه معنيين: أحدهما: أنه مملوك له ويلزمه أن ينفق على مماليكه الذين اشتراهم كذلك على هذا.

والثاني: أنه ليس له الإنفاق عليه تعزيرها في يده من المال لأنه لا يخلو إما أن يعتق أو يرق، فإن عتق المال الذي في يده له، وقد أنفق منه على ولده، وإن عجز ورق فهو وولده مملوكًا للسيد وما في يده من المال ملك السيد فكأنه أنفق من مال السيد على عبيده فلم يكن فيه تعزي ربه. فرع: لو وهب للكاتب أبوه أو ابنه وهما كسوبان فله أن يقبل، فإن كان زمنًا أو غير كسوب أو الولد صغيرًا فليس له أن يقبل فإن اتهب ابنه الكسوب فمرض فعليه أن ينفق من مال الكتابة كما لو مرض المكاتب بنفسه أنفق على نفسه من ذلك. ذكره القفال. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ كَانَتْ امْرَأَتُهُ مُكَاتَبَةٍ وَلَيْسَ كِتَابُهُمَا وَاحِدَةً وَلَا مَوْلَاهُمَا وَاحِدًا وَوَلَدَ لَهُ فِي الكِتَابَةِ أَوْلَادٌ فَنَفَقَتَهُمْ عَلَى الأُمِّ". الفصل: جملة هذا أن المكاتب يلزمه أنه ينفق على ولده من أمته على ما ذكرنا، فأما ولده من زوجته فلا يلزمه أن ينفق عليه سواء كان من الحرة أو الأمة أو من المكاتبة وإنما قلنا إنه لا ينفق على ولده من امرأته الحرة، لأن الولد حر فلو أوجبنا عليه الإنفاق كان ذلك نفقة الأقارب وذلك يجب على طريق المواساة وليس المكاتب من أهل المواساة وأيضًا فإنها تجب على المؤسر والمكاتب معسر لأن ما في يده من المال يتعلق به [ق 182 ب] حق السيد حتى يؤدي على ما عليه ويعتق، وأما ولده من امرأته فلا يلزمه أن ينفق عليه لهذين المعنيين، وأيضًا فإن ولده منهما مملوك لغيره إن عجز كان المال للسيد فيكون قد أنفق منه على غير مملوكه والمكاتب ممنوع من التعزير بالمال. فإن قيل: أليس فيه أن ينفق على زوجته مما في يده فما الفرق قيل: الفرق أن نفقة الزوجة طريقها المعاوضة والمكاتب في المعاوضة كالحر وليس كذلك نفقة الولد لأنها مواساة وليس المكاتب من أهل المواساة مما في يده. فإذا تقرر أن المكاتب لا ينفق عليه فإن كان ولد حرة وجب على الأم أن تنفق عليه لأن الأب إذا لم يتحملها وجب على الأم تحملها، وإن كانت أمة مملوكة لغير سيده فنفقته على سيد الأمة لأنه مملوك له، وإن كانت أمة مكاتبة لغير السيد فيه قولان: أحدهما: أنه مملوك للسيد فيلزمه أن ينفق عليه.

باب قدر النفقة

والثاني: أنه موقوف على عتق الأم ورقها فعلى هذا هل تجب النفقة على السيد أو المكاتبة قولان: أحدهما: تجب على السيد لأنه لما لزمه أن ينفق على ولد أم ولده فكذلك يلزمه على ولد مكاتبته. والثاني: يجب على المكاتبة لأن نفقة نفسها لما وجبت عليها فكذلك نفقة ولدها وليس كذلك أم الولد، قال نفقتها على سيدها فكذلك تنفقه ولدها وهذا أصح، وإن كانت أمة مملوكة لسيده لا يلزمه أن ينفق عليه لما ذكرنا فإن أحب أن ينفق عليه كان له لأنه ليس فيه تعزير بما في يده من المال لأنه إن عجز رق وكان المال لسيده وهو وولده مملوكان له فيكون قد أنفق من ماله [ق 183 أ] على مملوكه، وإن عتق يكون المال له فكأنه أنفق على ولده الحر من مال نفسه ولهذا اشترط الشافعي أن لا يكون مولاهما واحد فإنه لا يجوز الإنفاق عليه هناك كما لا يجب وههنا يجوز، وإن لم يجب. وأما قوله: وليس كتابتهما واحدة إنما ذكر لأن كتابة عبد ربه في عقدة واحدة فوجب بلأن العقدين، وإذا كانت الكتابة فاسدة فلا يكون الولد تابعًا فيها فأراد أن يعبر عن الكتابة الصحيحة، وقيل: قصد به الرد على مالك فإنه قال: إذا كانت كتابتهما واحدة ومولاهما واحد ملزم النفقة على الأب، ولم يذكر الشافعي هذا على وجه الشرط على مذهبه، وهذا لأن الولد تبع الأم في الحرية والرق سواء كانت الكتابة واحدة أو لم تكن الكتابة واحدة. مسألة: قَالَ: "وَلَيْسَ عَلَى العَبْدَ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى وَلَدِهِ مِنْ امْرَأَةٍ حُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ". العبد القن أضعف حالًا من المكاتب وقد ثبت أن المكاتب لا يلزمه نفقة ولده من امرأته فالعبد أولى وحكم نفقة الولد على من تجب على ما ذكرنا إذا كانت المرأة حرة أو أمة للغير. باب قدر النفقة مسألة: قَالَ: "النَّفَقَةُ نَفَقَتَانِ نَفَقَةُ المُوسِعِ وَنَفَقَةُ المُقْتِرِ". الفصل: نفقة الزوجة معتبرة بحال الزوج، فإن كان موسرًا لزمه نفقة الموسرين سواء كانت المرأة موسرة أو مقترة، وإن كانت مقترًا لزمته نفقة المعسرين سواء كانت المرأة موسرة أو

معسرة لقوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] فاعتبر حال الزوج وخالف بين نفقته موسرًا أو معسرًا. فإذا تقرر هذا فإن كان الزوج معسرًا فنفقتها مد، وإن كان متوسطًا فنفقتها مد ونصف، وإن كان موسرًا فنفقتها مدان، وإنما قلنا هكذا لأن المد أقل ما يجب في الكفارات والمدان أكثر ما يجب وهو في فدية الأذى وجعلنا المتوسط بينهما فزدنا على ما يجب على المعسر ونقصنا مما يجب على الموسر، وقول الشافعي: والنفقة نفقتان أراد به ما ثبت بالنص وهو نفقة الموسر والمعسر. فأما نفقة المتوسط ثبتت بالاجتهاد، وقال أبو حنيفة، ومالك: لا تتقدر النفقة هكذا بل يلزم كفايتها وللحاكم أن يزيد على المدين وينقص على المد على حسب زيادتها وزعتها في الأهل وله التسوية بين الغني والفقير. واحتج بقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 233] والمعروف: الكفاية ولأنه سوّى بين النفقة والكسوة، ثم الكسوة تعتبر بحالها فكذلك النفقة، وهذا غلط لما ذكرنا من الآية. وأما ما ذكر لا يصح لأن المعروف مجمل وفسره في ...... وأما الكسوة فلا يقع فيها التنازع والتفاوت بخلاف النفقة فيعتذر لقطع التنازع، وقال أحمد: تعتبر بحال الزوجين فعلى الموسر للفقيرة نفقة متوسط. وأما جنس النفقة فيعتبر بغالب قوت البلد، فإن كان بخراسان أو بالعراق فمن البر وإن كان بطبرستان فمن الأرز، وإن كان بالمدينة وحواليها فمن التمرد وهو كما قلنا في زكاة الفطر والكفارات يعتبر فيها غالب قوت البلد. ومن أصحابنا من قال: بغير قوته كما يعتبر مقدارها بحاله، وهذا غلط، لن الكفارة وزكاة الفطر [ق 184 أ] تعتبر بحال المكفر والمزكي أصلهما ويعتبر جنسهما بغالب قوت البلد كذلك ههنا، فإذا ثبت هذا فالواجب أن يدفع إليها الحب نفسه، لأن ذلك سيئ على الكفارة في المقدار والجنس فكذلك يبني عليها في وجوب تمليك الحب، فإذا أرادت المرأة قيمة الحب، واجتمع الرجل أو أراد الرجل القيمة وامتنعت المرأة لم يجبر الممتنع منهما عليه، وإن تراضيا جميعًا على قيمة الحب فهل يجوز وجهان: أحدهما: لا يجوز، لأن الذي وجب في ذمة الطعام، ومن كان له طعام في ذمة غيره لم يجز له أن يأخذ قيمته لأنه يكون مع الطعام قبل القبض ألا ترى أنه لو كان له في ذمته طعام من سلم فتراضيا على أخذ قيمته لم يجز لما ذكرنا، ولأن النفقة كالكفارة، وقد تقرر في الكفارة أنه لا يجوز إخراج قيمة الحب فكذلك ههنا. والثاني: يجوز وهو اختيار أبي إسحاق وهو المذهب؛ لأن النفقة إنما وجبت في ذمته على طرق الرفق فجاز أخذ قيمته بالتراضي كما لو كان عليه الطعام من جهة القرض ولأن الطعام إذا وجب مستقرًا في الذمة جاز قيمته مثل القرض والميراث، وإذا لم

يكن مستقرًا لا يجوز مثل البيع والمسلم فيه، فإن البيع يجوز أن يتلف قبل القبض فينفسخ البيع ويجوز أن يتقطع المسلم فيه فينفسخ السلم ويسقط الطعام من الذمة وههنا الطعام مستقر في الذمة والمستحق آدمي معين فجاز أخذ العوض عنه ولا يشبه هذا الكفارة لأن الفقير الذي يستحقه غير معين وهو حق الله تعالى فلا يعمل فيه بالتراضي بينهما. وأما إذا خلف الدقيق أو الخبز عوضًا عن الواجب لها، قال بعض أصحابنا: لا نص فيه والقياس أنه لا يجوز ذلك [ق 184 ب] لأنه يكون بيع الحنطة بجنسها متفاضلًا، وهذا صحيح عندي، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان فظاهر المذهب جوازه، وهو غلط. وأما نفقة الخادم، فإن كان موسرًا فنفقته مد وثلث ثلثا نفقة الزوجة، وإن كان معسرًا أو متوسطًا فنفقته مد وإنما لم يزد على مد عند التوسط لأنه لم يوجد سعة كاملة يوجب للخادم زيادة. وذكر بعض أصحابنا أنها على المتوسط مد وثلث. وهو غلط لا تحكى. فإن قيل: فقد سويتم بين امرأة المعسر وبين خادمتها فأوجبتم لكل واحد منهما مدًا واحدًا قلنا: القياس يقتضي أن يكون للخادمة عند إعساره ثلاثًا مد كما قلنا لامرأة المتوسط مد ونصف وللخادم مد واحد وهو ثلثا ما جعلناه للمرأة إلا أن المد الواحد لا يحتمل التبعيض لأنه أقل ما يقوم به البدن فكلمناه وهذا كما قلنا القياس أن تكون عدة الأمة بقرء ونصف إلا أن القرء الواحد لا يحتمل التنقيص فكملناه قرءين. فإن قيل: فمن أين أخذتم تقدير نفقة الخادم بمدٍّ وثلث عند يساره ونفقة المرأة بمدين قيل: إنما أخذه الشافعي من الميراث وهو أن للأب على الأم فضل في الميراث كما للزوجة ههنا على الخادم فضل في النفقة، ثم هناك حالتان حالة النقصان وهو إذا كان للميت ابن وحالة التفضيل وهو إذا لم يرثه إلا أبوه ففي حالة النقصان استوى الأبوان فلكل واحد منهما السدس، وفي حالة السعة والزيادة يزيد على هذا السدس مثلًا ما زيد للأم فإنه بلغ نصيب الأب الثلثين ونصب الأم الثلث فكذلك ههنا زيد للمرأة في حال الكمال مد على ما كان في حال النقصان وزيد للخادم وثلث مد وعند [ق 185 أ] الإعسار استويا كما استوى الأبوان هناك في السدس. ومن أصحابنا من قال: أخذ نفقة الموسر من نفقة المتوسط لأن هناك للمرأة مدًا ونصفًا وللخادم مدًا ففي حالة اليسار يجب أن يكون للخادم أيضًا ثلثا ما للزوجة وذلك مد وثلث. فرع: إذا أعطاها الحب على ما ذكرنا، قال القفال: يلزمه أن يعطيها مونة إصلاحه للطحن والحر أو يكفيها إصلاحه. وقال في "الحاوي": إن كانت عادة أمثالها أن يتولوا طحن أقواتهم وخبزها بأنفسهم

كأهل السواد كان مباشرة طحنه وخبزه عليها دون الزوج وإن لم يكن كذلك كان الزوج بالخيار بين أن يدفع إليها أجرة الطحن والخبز وبيم أن يقيم لها من يتولي صحنه وخبزه. مسألة: قال: " ومَكيلَةٌ منْ آدَمَ بلِاَدِهِا زَيْتاً كَانَ أَوْ سَمْناً". قد ذكرنا الكلام في القوت والكلام الآن في الإدام، وهو واجب أيضاً لأن الله تعالي أمر برزقهن وكسوتهن بالمعروف، ومن المعروف أن يعطيها مع القوت إدماً، لأنه في الخبز البحث مضرة ومشقة. وقد قال ابن عباس في تفسير قوله تعالي: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [الماَئدة: 89] الخبز والزيت. وقال ابن عمر: الخبز والسمن والخبز والزيت، والخبز والتمر ثم الاعتبار في الإدام بغالب أدم البلد كما قلنا في القوت، فإن كانت بالشام فمن الزيت، وإن كانت بالعراق فمن الزيت والشيرج لأنهما جميعاً ما يقدم ثم الإدام فير مقدر وإنما هو علي حسب كفايتها في العادة والفرق بينه وبين القوت حيث جعلناه مقدراً وإنما هو عاي حسب كفايتها في العادة والفرق بينه وبين القوت حيث جعلناه مقدراً لأن للقوت أصلاً في التقدير وهو في الكفارات فحملنا وليس كذلك الإدام [ق 185 ب] لأنه لا أصل له، وقول الشافعي لها مكيلة من الإدام لم يرد به التقدير بل أراد لها مقدراً من الإدام باجتهاد القاضي، يلزم القاضي أن يجتهد حتى يضعف ذلك القدر لامرأة الغني، فإن فرض لامرأة الفقير أو فيه من دهن وهي أربعون درهماً فرض لامرأة الموسر وقيتين وفرض لامرأة المتوسط أوقية ونصفاً وقيل: المكيلة تقارب الأوقية. فرع: أدم خادمتها من أدم المخدومة وقدرة علي قدر قوتها وهل تساوي المخدومة في الجودة. اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: يساويهما في ذلك كما يجب طعامها من جنس طعام المخدومة، ومنهم من قال: إنها دونه في الجودة، ن فإذا كان للمخدومة زيت جيد فرض للخادم زيت دون لأن هذا هو العرف في الإدام والعرف في الطعام أن يكون من جنس طعامها وهذا هو المنصوص. قال هذا القائل: وعلي هذا إذا أعطي المخدومة حنطة جيدة كان له أن يعطي الخادم حنطة دونها في الجودة.

مسألة: قال: " وَيُفرْضُ لهَا فِي دُهْنٍ وَمُشْطٍ أَقَلُّ مَا يَكْفِيهَا". جملته أن الزوجين بمنزلة المتواجدين لأن الزوج يملك الزوج منفعة المرأة بعوض كما أن المستأجر يملك منفعة الدار بعوض، وقد ثبت أن كل مونة تلزم في حفظ أصل الدار ورقبتها فإنها علي الأجر من بناء ما استهدم وإدخال جذع انكسر وبناء حائط وقع وكل ما يحتاج إليه التنظيف الدار وتزينها فهي علي المستأجر مثل كنس الدار وغسلها، فعلي هذا كل ما يحتاج إليه للتنظيف والزينة فهو علي الزوج مثل المشط والطييب والدهن [ق 186 أ] لرأسها ونحو ذلك. فرع: يعتبر الخرف في الدهن للرجل الشعر فمن البلاد ما يدهن أهله بالزيت كالشام فهو المستحق ومنها بالشيرج كالعراق فهو المستحق ومنها المطيب بالورد والبنفسج فهو المستحق ووقته كل أسبوع مرة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ادهنوا بذهب البؤس عنكم والدهن في الأسبوع بذهب البؤس. فرع آخر: الكحل للزينة كالإثمد علي الزوج إن طلبته وما كان للدواء علي الزوجة، وأما الحناء إن لم يطلبه الزوج لا يلزمه ولا يلزمها، وإن طلبه الزوج وعليها ووجب علي الزوج مؤنته. قال النبي صلى الله عليه وسلم لعن السلتا والمرها. فالسلتا: التي لا تخضب. والمرها: التي تكتحل فيعل ذلك إذا كرهت زوجها فيفارقها. فرع آخر: الطيب إن كان مرسلاً سوله الجسد يستحق علي الزوج لها لأنه مراد للتنظيف وما كان للالتذاذ لا يلزم، وقيل الشافعي من دهن ومشط بفتح الميم وأراد بالمشط آلة المشط آلة المشط من الأفايه والغلسة إذا كان ذلك من عرف بلادهم. فرع آخر: لو كانت عادتها دخول الحمام مجب أجره الحمام عليه لأنه يرد للتنظيف وإن لم تجر عادتها بذلك لا يجب عليه وهو في أهل القرى وذلك في أهل المصر. وقال في "الحاوي": يجب في المصر في كل شهر مرة ليخرجن به من دنس الحيض الذي يكون في كل شهر مرة في الغالب.

فرع آخر: لو أردت أن تصرف ما قبضه من النفقة إلي ما يضرها وينقص بدنها هل له الاعتراض عليها فيه وجهان [ق 186 ب] والصحيح، عندي أن له ذلك. مسألة: قال: "وَلَيْسَ ذَلَكَ لخَادِمَهَا لأنَّهُ لَيْسَ بِالمعْروفِ لهَا". أراد ليس لخادمها الدهن والمشط لأن ذلك إنما يراد للزينة والخادمة لا تزين في العادة بل يكون شعثة ولأن لها أن لا تتزين لأنها لا تحل للرجل. وقال القفال: إنما لا يلزم لها ما يراد به التزيين واستمالة قلب الرجل فأما ما لابد منه بحيث إذا لم يكن تأذن بالوسخ والهوام يلزم الخادم أيضاً، وهذا صحيح والخادم يستحق الدواء لأنه من حقوق الملك، فإن كانت ملكاً له فعله ذلك وغن كانت ملكاً لها فعليها. مسألة: قال: وَقِيلَ فِي كُلَّ جُمْعةٍ رَطْلُ لحْمٍ". جملته علي الزوج أن يطعم زوجته اللحم؛ لأن العادة جارية به ويعطيها في كل أسبوع يوماً إن شاء في كل يوم جمعة، وإن شاء في غيره ولكن الأفضل ما ذكره لأنه عرف عامة الناس. وقال أصحابنا: وإنما قال رطل لحم علي عادة مصر؛ لأن اللحم يغريها فأمّا في الموضوع الذي يرخص فيه اللحم يفرض لها أكثر من ذلك والمراد بهذا القدر أيضاً امرأة المقتر، فأما امرأة الموسر فلها رطلان في كل جمعة ولا مرأة المتوسط رطل ونصف، لأن الشافعي قال بعد هذا ومن اللحم والأدم ضعف وما وصفت لامرأة المقتر وقيل: الموسر هو الذي يقدر علي نفقة الموسرين في حق نفسه، وفي حق كل من يلزمه نفقته من كسبه لا من أصل ماله المقتر هو الذي لا يقدر أن ينفق من كسبه علي نفسه وعلي من يلزمه نفقته [ق 187 أ] إلا نفقة المعسرين، وإن زادت عليها كانت من أصل ماله لا من مكسبه والمتوسط هو الذي يقرر أ، ينفق من كسبه علي نفسه وعلي من يلزمه نفقته نفقة المتوسطين، فإن زادت عنه كانت من أصل ماله، وإن نقص عنها من كسبه فيكون اليسار والإعسار معتبراً بالكسب في وجوب النفقة ولا يعتبر بأصل المال كما في الكفارات. [ذكره] في الحاوي.

فرع: الخادم هل يستحق اللحم، قال أبو حامد: ينبني علي الوجهين في أدامها، فإن قلنا لها منىدم الزوجة فلها اللحم أيضاً، وإن قلنا إنه دونه في الجودة فلا يعطيها اللحم. وقال بعض أصحابنا خراسان: لأن يستحق الخادمة اللحم وجهاً واحداً ولكن العادة جارية أن المخدومة تغترف خادمتها من مرسها إذا طبخت لحمها وتعطي لإصلاح اللحم ما يحتاج إليه من الحطب وغيره. مسألة: قال: "وَفُرِضَ لهَا مِنَ الكُسْوةِ مَا يُكْتَسِي مثْلهَا ببِلَدهَا". الكسوة واجبة علي الزوج لقوله تعالي: {وعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} [الَبقَرةَ: 233] لأن قوام بدنها بالكسوة كما أن قوامها بالنفقة وكانت واجبة لها، فإذا ثبت هذا فإنها معتبر بكفايتها وليست بمقدرة لأنه ليس إما أجل مقدر في الشرع فاعتبر بالكفاية. ثم الكلام فيها ثلاثة فصول في عددها وقدرها وجنسها: أما العدد فعليه في الصيف أربعة قمص وسراويل ومصعة وما تلبسه في الرجل من نعل أو شمشك أو غيره. وأما الخادمة فتعطي قميصاً ومقنعة وخفاً فجعل الشافعي للخادمة خفاً [187 ب] ولم يجعله للمخدومة وجعل للمخدومة السراويل ولم يجعله للخادمة، وإنما كان كذلك لأن السراويل يراد للزينة أو لستر العودة والخادمة لا تتزين. وأما ستر العورة فإن ساقها ليس بعورة وما هو عورة منها فإن القميص يستره والخف أيضاً يستر ساقها، وأما الخف فإنها تخرج في الحوائج إلي التسوق فلا بد لها من الخف والمخدومة لا تحتاج إلي الخروج فلا حاجة بها إلي الخف. وقال بعض أصحابنا بخراسان: المعروف أن يعطي الخامة السراويل أيضاً ولعله أعرض عن ذكره اعتماداً علي العرف والعادة في مثله، وهذا أصح عندي، وقال في " المنهاج". إنما ألزم الشافعي السراويل للمرأة في البرد ولم يلزمه ذلك في الصيف لأنه قال في المختصر ويفرض لها في الصيف قميص وملحفة ومقنعة ولم يذكر السراويل، وفي كسوة الشتاء للبرد ولذلك ألزمه لها في الشتاء خماراً ومقنعة ولم يلزمه في الصيف سوي المقنعة للمعني الذي ذكرناه من دفع البرد.

وقال في "الحاوي": إن كانت عادة البلد في السراويل فالسراويل، وإن كانت العادة المئزر دون السراويل فالمئزر، وإن كانت السراويل أستر، وإن كانت من سكان القرى لا تلبس السراويل ولا المئزر، ففي تركه هتك عورة يؤخذ بها في حق الله تعالي جميع النساء فيؤمر بذلك، وقال في مدارس الرجل إن كانت في موضع يئزرون ولا يتقمصون كأهل البحر سقط القميص في حقه وكساه مئزراً، وفي الأمة يقتصر علي المئزر [ق 188 أ] وإن ألفوه لأنه يبدي من جسدها ما يغض عنه الأبصار، وإن لم يكن عورة فيعطيها قميصاً وقناعاً، ويحتاج مع ذلك إلي ملحفة إذا خرجت في الشتاء. قال الشافعي: تعطي في الشتاء القميص والسراويل وجبة مخمرة ومقنعة وما تلبسها في رجلها، فزادها في الشتاء الجبة وهذا فر يختلف فيه أصحابنا وأما القميص والسراويل والمقنعة فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: إ، ما ذكر الشافعي ذلك إذا كان الذي أعطاها في الصيف قد أخلق فأما إذا كان القميص والسراويل والمقنعة باقياً فلا يعطيها في الشتاء غير الجبة وهو الصحيح. ومن أصحابنا من قال: يحدد لها في الشتاء ذلك، وأما الخادمة فإنه يعطيها في الشتاء جبة صوف وكساء تلتحفه يد فيها مثله ويختلف ذلك باختلاف البلدان في حرها وبردها. وأما قدر الكسوة فإنه علي قدر كفايتها ويختلف بطولها في حرها وبردها ويخالف النفقة فإن لها أصلاً في التعزيز وهو في الكفارة بخلاف الكسوة. وأما جنسها قال الشافعي: يعطيها إذا كان موسراً لبس البصري أو الكوفي أو وسط بغدادي، وإذا كان معسراً يعطيها غليظ البصري أو الكوفي، ويعطي خادمه الموسر غليظ البصري أو الكوفي وخادمه الكرباس وهو المال يلف الغليظ. قال أصحابنا: إنما اعتبر الشافعي هذا في ذلك الوقت قلنا، وفي وقتنا هذا يعتبر ما جرت به عادة مثلها، فإن كان مثلها يكتسي [ق 188 ب] بالخز والديباج والتوري والستري وأعطاها قيل لأبي إسحاق لم لم يفرض الشافعي لها بقصر القصب والشرب وهو عادة البلد وعرهم في الكسوة فقال: لأنه لم بفرض لها إلا قميصاً واحداً، وذلك إذا كام سرياً يصف ما تحته، ويمنع جواز الصلاة. وقد قال صلى الله عليه وسلم: " لعن الله الكاسيات العاريات" فإن كان منه غليظ من مرتفع الكتان الديبقي أعطاها منه وعلي هذا يفرض لها في جبة إبريسم من الديباج والحرير وما يختص ببلدها وفرض امرأة المتوسط الوسط من ذلك ودون ذاك الزوجة المقتر. وأما ما تتغطي به في الصيف والشتاء، قال الشافعي: تعطي الزوجة في الشتاء قطيفة أو لحافاً وتعطي الخادمة عباءة أو كساء عليها وفي الصيف ملحفة وهي الإزار أو وسادة.

فرع: يلزمه أن يدفع الكسوة ثياباً دون الثمن وعليه أن يخبط ما تحتاج إلي خياطته. فرع آخر: لو باعت الكسوة بعد قبضها من الزوج صح البيع وملكت الثمن، وقال ابن الحداد: لا يجوز لها بيعها ولا يجوز لها الاستبدال، وهذا لا يصح لأنه لا يجوز أن يكون في ملك الزوج، لأنه لا يسترجعها فثبت أنها ملكها فجاز لها بيعها. فإن قيل: لا يملك الكسوة كما لا يملك المسكن، وهذا لا يصح لأنه يلزمه تسليم الكسوة إليها ولا يلزمه تسليم المسكن لأنه يسكنها معه فافترقا ولأنه لو أراد أن يكتري لها ثياباً لم يلزمها الإجابة بخلاف المسكن ويحتمل أن لا يعلم أبراه. فرع آخر: لو أرادت بيع الكسوة وشري ما هو أدون منها لم يكن لها بخلاف القوت الإدم. والفرق أن للزوج حق الاستمتاع في زينة ثيابها فمنعت من يعتبرها [ق 189 أ] بخلاف قوتها. وقال أبو إسحاق لها بيعها وشري ما هو أدون منها كما في القوت، وهذا لا يصح والفرق ظاهر. فرع آخر: لو لم يعتادوا في الصيف لنومهم غطاءً غير لباسهم لا يلزمه شيء آخر، وقد ألف الناس في زماننا أن يكون جهاز المنازل علي النساء ولا يصير ذلك عزفاً معتبراً كرشوة النساء والأزواج في بعض البلاد. فرع آخر: قال في " الحاوي": من الناس قوم تتساوي كسوتهم وكسوة عبيدهم كفقراء البوادي فيكونوا سواء ولا يزاد. فرع آخر: البدوية كالخصين به في النفقة ولكنها ربما يقتات البلوط والأقط وتلبس الشعر فيعتبر ذلك. فرع آخر: قال: وإن كانت رغبية لا يجز بها هذا دفع ذلك إليها من ثمن أدم ولحم ما شاءت

في الحب، وإن كانت زهيدة زيدت فيما لا يفوتها من فضل الملكية. أراد بالرغبية: كثيرة الأكل والزهيدة: قليلة الأكلة أو يعبر بأن الرغبية الأكولة والزهيدة المتنوعة، وجملته أنها إذا كانت كثيرة الأكل لم نوجب علي الزوج المعسر أكثر من المد الواجب ولكن عليها أن تصرف بعض إدامها إلي الخبز إذا لم يشبعها الحب المفروض لها، وإن كانت قليلة الرغبة في الخبز كثيرة الرغبة في الفواكه وأنواع الإدام لم نوجب عليه زيادة في الإدام علي ما ذكرنا ولكن عليها أن تصرف بعض الحب إلي زيادة إدام وقيل: قصد بهذا الفصل أن يبين أمرين: أحدهما: أن نفقة الزوجة مقدرة ولا يعتبر كفايتها خلاف قول أبي حنيفة. والثاني: أن النفقة إذا وصلت إليها فلها أن تتصرف فيها [ق 189 ب] بالبيع وغيره ولا تكون محجورة فيها. فرع: قال في "الحاوي": إذا نقص المدعي كفايتها كان الزوج بالخيار بين أن يتمم لها قدر شبعها وبين أن يمكنها من اكتسابه، فإن مكنها فلم تقدر عل اكتساب كفايتها صارت من أهل الصدقات تأخذ منها. مسألة: قال: " وَيخَشَي إنْ كَانَتْ ببَلَدٍ يحَتْاج أَهْلُهَا إليْه قَطيِفٍة". أراد به في البلاد الباردة يلزمه أن يخشي الكسوة بالقطن لدفع البرد والواو محذوفة من القطيفة في بعض النسخ، والصحيح إثبات الواو. ثم قال: ولا أعطيها في القوت دراهم وهذا لأنها تستحق ما تستحق علي جهة النفقة فيلزمه أن يعطيها الحب واللحم والأدم بعينه كما ذكرنا، ثم إن شاءت باعت وتصرفت فيه كما شاءت. ثم قال: واجعل خادمها حداً وثلثاً، وقد ذكرنا ذلك، ثم قال: ولامرأته فراش ووسادة من غليظ متاع البصرة وما أشبهه ولخادمها فروة ووسادة وما أشبهه من عباءة أو كساء غليظ. واختلف أصحابنا في هذا فمنهم من قال: أراد به أن يعطيها ما تفرشه للجلوس عليه والوسادة لتتوسدها في النوم ولم ترد بالفراش المضربة، وإنما أراد ما تفرش علي الأرض مثل الحصير أو اللبد. ومن أصحابنا من قال: أراد به المضربة المحشوة بقطن أو صوف أو غير ذلك فيعطيها الحصير والمضربة، لأن المعروف أن يعطيها للنوم مضربة لتنام عليه، وهو أظهر لأن الشافعي قال: من غليظ متاع البصرة ولم تجر العادة يوشون الخرق بالنهار ويجلسون

عليها، وإنما لفراش الليل ولا يلزم الفراش للخادمة ويكفيها الوسادة والكساء علي ما ذكرنا. مسألة: قال: "فَإِذَا بَليَ أخَلفَهُ". قال أكثر أصحابنا: معناه إذا مضي الزمان الذي يبلي فيه [ق 190 أ] بالاستعمال أخلفه سواء استعمله أولم تستعمله ولو أنها أتلفته بتحريق أو سرقت قبل مجيء الزمان الذي يبلي فيه مثله أو باعث فليس عليه بدلته حتى يمضي الزمان الذي يبلي فيه مثله. ومن أصحابنا من قال: إذا كانت ترفق به في الاستعمال فمضي الزمان الذي يبلي فيه مثله، وهو باق لا يلزمه إبداله وحمل كلام الشافع علي ظاهره لأنه قال: فإذا بلي أخلفه وهذا لم يبل، وهذا اختيار القفال، وهذا لا يصح وتأويل كلامه ما ذكرنا ألا تري أنه لو استبقت النفقة ومضي الزمان الذي تنفق فيه مثله لزمه بدله، وغن كان ما أعطاها باقياً فدل أنه لا اعتبار بما ذكره ولو بليت قبل انقضاء مدتها لرداءة الثياب يلزمه إبدالها بلا خلاف واو بقيت بعد مدتها لجودتها لم تستحق بدلها بلا خلاف لأن الجودة زيادة ومن الجبة ما يعتاد لبسها سنتين وأكثر كالديباج فلا يلزمه إبدالها في كل سنة وكذلك الفراش يبقي سنين فيعتبر العرف في إبدالها وجرت العادة بتطريتها في كل سنة والاستبدال بها في سنين فيعتبر ذلك. فرع: لو كساها كسوة تبقي خمسة أشهر فماتت بعد شهر أو مات أو طلقها هل يسترجع منها الكسوة اختلف أصحابنا فيه علي وجهين: أحدهما: لا يسترجع وهو الأصح لأنها تجري مجري قوت يوم فلا تسترجع ولا يتبغض لأنه لا يمكن أن يدفع إليها بعض الكسوة ولا يجوز الرجوع بجميعها فهو كما لو دفع إليها نفقة اليوم في أول اليوم، ثم مات في نصف النهار لا يسترجع منها شيئاً. والثاني: يسترجع كالنفقة المعجلة بشهر، وهذا اختيار القفال، قال: والكسوة تجب علي طريق الكفاية لا علي طريق التمليك حتى لو سرقت في الحال يلزمه الإبدال بخلاف الطعام وليس لها التصرف فيها إلا باستعمالها ولو لم تطالبه بها حتى [ق 190 ب] مضت مدة لا كسوة لها فيما مضي بخلاف النفقة، قال: ولو استعار كسوة وأعطاها ليس لها أن تطلب غيرها والضمان علي الزوج لو تلفت لأنه المستعير، ثم قال: وفيه وجه آخر يجب تمليك الكسوة في الحال يلزمه قيمتها له ثم عليه بدلها وأصحابنا بالعراق أنكروا هذا، وقالوا المنصوص وجوب تملكيها وهو الأصح علي ما تقدم بيانه.

فرع: لو زف الرجل إلي دار امرأته وأنفق عليها الطعام والشراب وأقامت عنده سنين هكذا ولم يدفع إليها شيئاً من الحب نظر، فإن كان مطلقاً من غير شرط استقرت نفقتها عليه، وهذا تطوع، وإن كان علي شرط أنه نفقتها فهو عوض فاسد وله عليها بدل ما أنفق عليها ولها عليه جميع ما اجتمع لها من الحب. فرع آخر: لو كانت الزوجة أمةً قال الشافعي: لا خادم لها لأنها تكون خادمة نفسها في العادة فليس من عبادة الإماء أن يخدمن. وقال أصحابنا هذا قال الشافعي في عرف زمانه فأما في هذا الزمان إن كانت ممن يخدم مثلها يلزم وهذا ليس بشي. مسألة: قال: "وَإنمَّا جَعَلْتُ أَقَلَّ الفْرضِ فِي هَذَا بالدَّلاَلةِ عَنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم". الفصل: بين الشافعي ههنا من أين أخذ أقل النفقة وأكثرها وهو مدان قد ذكرنا هذا فيما تقدم، فإن قيل: قد ثبت في الشرع أكثر من مدين وهو صاع في زكاة الفطر قيل: ذلك ليس كفاية واحد بل نفرق ذلك علي أهل الزكاة، ولو أعطي كل واحد منهم كفاً جاز، ثم قال: وإن كانت بدوية مما تأكل أهل البادية، وقد ذكرنا هذا أيضاً وجملته أنه يعتبر في كل موضوع بغالب القوت فيه الكسوة، ثم قال: وليس علي رجل أن يضحي لامرأته ولا يؤدي عنها أجرة طبيب ولا حجام، وجملته أن [ق 191 أ] الأضحية إذا لم تجب عليه عن نفسه ففي زوجته أولي، وإنما قصد الشافعي بهذا أنها غير مسنونة عليه في حقها، وإن كانت مسنونة عليه في حقه ولذلك لو نذرت ذلك لم تجب عليه أن تتحمل عنها لأنه شيء ألتزمته بنفسها فهي لكفارة اليمين كزكاة الفطر التي وجبت عليها ابتداء من جهة الله تعالي ولا يؤدي عنها أجر طبيب لأنه ليس من جملة النفقات علي ما ذكرناه. فرع: للنفقة وقتان: وقت الوجوب ووقت وجوب التسليم، فأما وقت الوجوب فهل تجب بالعقد أو بالتمكين من الاستمتاع قولان، وقد ذكرنا هذا فيما تقدم، وقد قال في "القديم": لو ضمها الأب عشر سنين يصح وهذا يدل علي أنها تجب بالعقد لأنه لا يجوز ضمان ما لم يجب عند الشافعي ووجهه أنها تجب لأجل النكاح وكان وجوبه بالعقد.

باب الحالة التي تجب فيها النفقة ولا تجب

كالمهر والصحيح أنها تجب بالتمكين لأنها تجب بوجوده وتسقط بعدمه، وأما وقت وجوب التسليم فعلي القولين جميعاً يلزم أن يعطيها بالغداة لأنها تحتاج إلي الطعن والإصلاح، فلو قلنا يعطيها بالعشى لم يلحق وقت الحاجة فلو دفع إليها الغداة، ثم طلقها أو ماتت لا يسترجع شيئاً لأنه دفع ما وجب لها. وقال صاحب "الحاوي": أختلف أصحابنا في تحرير العبارة عن النفقة فقال البغداديون: تجب بالتمكين المستند إلي عقد فجعلوا الوجوب مطلقاً بالتمكين وتقدم العقد شرطاً. وقال البصريون: يجب بالعقد والتمكين فجعلوا الوجوب معلقاً بالعقد وحدوث التمكين شرطاً فيه وتأثير هذا الاختلاف يكون في زمان التأهب للتمكين هل تستحق فيه النفقة، فمن جعل التمكين في الوجوب أصلاً وجعل العقد شرطاً لم يوجب لها النفقة في زمان التأهب للتمكين وأوجها بكمال التمكين ومن جعل العقد في الوجوب أصلاً [ق 191 ب] وجعل حدوث التمكين شرطاً أوجب لها النفقة من أول زمان التأهب للتمكين إلي أقصي كمال التمكين. واعلم أن التمكين بأمرين لا يتم إلا بهما. أحدهما: تمكنه من الاستمتاع يها. والثاني: تمكنه من النقلة إلي حيث يشاء إذا كانت السبيل مأمونة، فلو مكنته من نفسها ولم تمكنه من النقلة معه لم تجب النفقة، لأن التمكين لم يكمل إلا أن يستمتع بها في زمان الامتناع من النقلة فيجب لها النفقة ويصير استمتاعه بها عفواً عن النقلة في ذلك، وعلي هذا لو كان الزوج غائباً فبذلت نفسها وعرف الزوج وكمال التمكين بمضي زمان الاجتماع فعلي قول البغداديين تجب نفقتها حينئٍذ ولا تجب بما تقدم من بذل التسليم، وعلي قول البصريين تجب نففقتها من وقت الشروع في التسليم بناءً علي اختلافهم في التمكين هل هو في وجوب النفقة صل أو شرط. باب الحالة التي تجب فيها النفقة ولا تجب مسألة: قال: "وَإِذَا كَانَتْ المَرأةُ يجُامَعُ مثْلهَا فَخَلَّتْ أَوْ جَلاَ أَهْلُهَا بَيَنهُ وَبَيْنَ الدُّخُولُ بِهَا وَجَبَتَ عَلَيْه نَفَقَتُها". الكلام الآن في بيان الحالة التي تجب فيها النفقة ولا يخلو حال الزوجين من أربع أحوال. إما أن يكونا كبيرين أو يكون الزوج كبيراً والزوجة صغيرة أو الزوجة كبيرة والزوج صغيراً أو يكونا صغيرين، فإن كان كبيرين فالنفقة في مقابلة التمكين، وإن عدم التمكين فلا نفقة وينبغي أن يكون التمكين مستنداً إلي عقد صحيح، فإن وجد التمكين من

غير عقد أو وجد في عقد فاسد فلا نفقة، وتنبغي أن يكون التمكين كاملاً وهو أن تمكنه نفسها علي الإطلاق ولا يعترض في مكان مقامها وسكناها، فإن اعترضت فقالت: أنا أجلس في بيتي أو بيت أبي أو أنتقل معك إلي محلة طيبة [ق 192 أ] أو لا أسافر معك فلا نفقة، ولو عقد عليها عقد النكاح، ولم يظهر منها تسليم بالقول والامتناع ولا من الزوج مطالبة به فلا نفقة لها لأن الأصل أن لا نفقة لها حتى يحصل التسليم ولا يحصل ذلك إلا أن تقول: سلمت نفسي إليك فاحملني حيث شئت، وإذا أوجبت النفقة يلزمها إعطاءها، فإن أعطاها وإلا ثبتت في ذمة، وإذا مكنته نفسها هكذا، فإن كان حاضراً وجبت النفقة من حيث ما ذكرت، وإن كان غائباً فجاءت المرأة إلي الحاكم، وأظهرت تسليم نفسها، فإن الحاكم يكتب إلي الزوج بأنها قد سلمت نفسها إليك، فإن أخذ في المسير في الحال، وقدم عليها وتسلمها اتفق عليها من حين القدوم، وإن ترك المسير مع الإمكان فالنفقة يجب في ذمته من وقت انقضاء المدة التي يمكن فيها المسافة لأن الامتناع من جهته، وإن كان الزوج كبيراً، وهي لم تبلغ إلا أنها مراهقة يمكن الاستمتاع بها فإن حكمها حكم الكبيرة، فإن سلمت نفسها استحقت النفقة لأن التسليم المستحق قد حصل، وإن سلمها أهلها صح أيضاً واستحقت النفقة لأن التسليم مستحق علي أهلها فأنها ليست بمخاطبة ويخالف الكبيرة في ذلك، فإن الكبيرة لا يصح تسليم أهلها لها وإنما الاعتبار تسليمها نفسها. وقال بعض أصحابنا: يحتمل أن يقال إنها سلمت نفسها لا تجب النفقة إلا بعد أن تسلم ولا تجب ببذلها أنه لا حكم ليبذلها، وإن كانت صغيرة لا يمكن الاستمتاع بها وهو كبير. قال في "الأم" وفي كتاب عشرة النساء: لا نفقة لها، وقال في موضوع آخر ولو قال قائل لها النفقة [ق 192 ب] كان مذهباً فالمسألة علي قولين: أحدهما: لا نفقة لها، وهو الصحيح واختاره المزني لأنه لا يصح تسليمها منه، وبه قال أبو حنيفة، ومالك، وأحمد: وهذا إذا لم يكن فيها استمتاع لا يحصل التمكين ويفارق المريضة، لأن الاستمتاع يمكن فيها يمكن ولكنه نقص بالمرض. والثاني: لها النفقة لا محبوسة عليه من غير تفريط في تسليم نفسها إليه فوجبت النفقة لها كالمريضة التي لا يمكن الاستمتاع بها، وإن كان الزوج صغيراً والمرأة كبيرة فسلمت نفسها. قال في "الأم" وفي كتاب عشرة النساء: لها النفقة وهو الصحيح، واختيار المزني، وقال في موضوع آخر: ولو قال قائل لا نفقة لها كان مذهباً ففيها قولان: أحدهما: لا نفقة لها، وبه قال أحمد في رواية لأنه لا يمكن الاستمتاع بها كما لو غابت ولا، التسليم إذا تعذر لا فرق بين أن يكون لمعني في المستحق عليه أن يسقط ما يقابله كتسليم المبيع.

والثاني: لها النفقة، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد في الروية الأخرى وهذا لأنه يمكن الاستمتاع بها، وإنما تعذر بسبب من جهته فلم يسقط نفقتها كما لو غاب عن زوجته ويفارق إذا غاب لأنه التعذر هناك بسبب من جهتها. ومن أصحابنا من قال: هذا إذا كانت عالمة عند العقد أنه صغى، فإن لم تكن عالمة فعليه النفقة قولاً واحداً، وإن كانا صغيرين نص في "الأم" علي قولين والنص الصحيح الظاهر أنه لا نفقة لها لأن التعذر بسبب من جهتها. وقال القفال في سقوط النفقة بالصغر ثلاثة أقوال: أحدهما: تسقط بصغر أيهما كان. والثاني: لا تسقط بصغر واحد منهما. والثالث: تسقط بصغرها دون صغره، وهذا حسن ومرجعه إلي ما فصلناه. مسألة: قال: "وَلَوْ كَانَتْ مَرِيضةً لَزِمَتْهُ نَفَقُتهَا". الفصل: إذا تزوجت المرأة فمرضت عنده أو كانت مريضة [ق 193 أ] فسلمت نفسها علي حالتها وأنها تستحق النفقة لأنها تحت يده، وفي قبضته والاستمتاع بغير الوطء حاصل من جهتها، وتعذر الوطء لا يوجب سقوط النفقة كما لو كانت رتقاء أو نقول: المرض عارض ينقص الاستمتاع فأشبه الحيض، فإن قيل: أليس الصحيحة إذا بذلت الاستمتاع فيما دون الفرع لا تجب لها النفقة فينبغي أن تسقط النفقة بالمرض إذا تعذر به الوطء في الفرج. قلنا: المرض عارض يتكرر ويرجي زواله فلا يمكن إسقاط النفقة بخلاف صغرها. مسألة: قال: "وَلَوْ كَانَ فِي جمِاعِهَا شدَّةُ ضَرَرٍ مُنِعَ مِنْهاَ". الفصل: إذا كان الرجل عظيم الخلقة كبير البدن غليظ الذكر وهي نضو الخلق ضعيفة الجسم وعليها مشقة غير محتملة لجماعه ومتى جامعها لم تأمن من أن يجئ عليها بإفضاء أو غيره منع من جماعها كما لو كانت صغيرة وليس له الخيار في فسخ النكاح، بل يقال له أنت بالخيار بين أ، تمسك فعليك النفقة أو تطلق ولها نصف المهر، ثم لا يخلو إما أن يصدقها أو يكذبها، فإن صدقها يلزمه أن ينفق عليها وإن كذبها المهر، ثم لا يخلو إما أن يصدقها أو يكذبها، فإن صدقها يلزمه أن ينفق عليها وإن كذبها يري أربع نسوة فينظر إلي فرج زوجها عند الجماع ويجوز ذلك لأنه موضع ضرورة.

قال أبو إسحاق: يقبل ذلك من امرأة واحدة، لأن طريقة طريق الخبر دون الشهادة وهذا لا يصح لأن فيه إسقاط حق الزوج فافتقر إلي العدل كسائر الشهادات وهكذا إذا ادعت بفرجها قرحاً يضرّ بها وطئه. مسألة: قال: " وَلَوْ ارْتقَتْ فَلَم ْيَقْدرْ عَلَي جَمَاعِهَا فَهَذَا عَارِضٌ لاَ مَنْع يه ِمِنْهَا وَقَدْ جوُمِعَتْ فَتَستْحِق نَفَقَتهُا". إذا كان الرتق قبل النكاح له الخيار قولاً واحداً، وإن حدث بعد النكاح فيه قولان وقد مضي هذا في كتاب النكاح، فإن اختار فسخ النكاح سقطت النفقة، وإن لم يفسخ النكاح فعليه أن ينفق عليها لأنه المختار للمقام عليها، وقول الشافعي، وقد جومعت [ق 193 أ] ليس بشرط ولعله قال هذا ليعلم أن الرتق قد يحصل بعدما جومعت واعلم أن ظاهر الكلام يقتضي أ، ها لو كانت في الأصل رتقاء لا تستحق النفقة والمذهب أنها تستحق كما يستحق القسم لأنها أتت بأقصى ما في وسعها من التمكين ولعل الشافعي أن ينص من المسألة علي أظهر الحالين. مسألة: قال: "وَلَوْ أذِنَ لهَا فَأَحْرمَتْ أَو اعْتَكفَتْ أَوْ لَزمهَا نَذْرُ كَفَّارةٍ". الفصل: إذا دخلت المرأة في العبادة لا يخلو إما أن تكون العبادة حجاً أو عمرة أو اعتكافاً أو صوم رمضان، فإن كان حجاً لا يخلو من ثلاثة أحوال: إحداها: أن تكون أحرمت بغير إذنه فلا نفقة لها قولاً واحداً لأنها ناشزة. والثانية: أن تكون أحرمت بإذنه وهو معها فلها النفقة قولاً واحداً لأنها ليست بخارجة من قبضته وتحريم الاستمتاع علي الزوج بالشرع وسبب التحريم هو الإحرام وقد حصل بإذنه. والثالثة: أن تكون أجرمت بإذنه وخرجت بإذنه وليس هو معها، وظاهر ما قاله الشافعي ههنا أن لها النفقة، وقال في كتاب النكاح، لا نفقة لها، فاختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال فيه قولان. أحدهما: لا نفقة لها، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد لأنها غي ممكن من نفسها. والثاني: لها النفقة لأنها سافرت بإذنه فأشيه إذا كانت في حاجته وقال أبو إسحاق: الموضع الذي قال لا نفقة لها إذا لم يكن الزوج معها والذي قال لها النفقة إذا

كان معها ولا فرق في هذا بين أن يكون الحج فرضاً أو تطوعاً لأنه وإن كان فرضاً فليس عل الفور وإنما هو علي التراخي، وإن أحرمت بإذنه فما لم تخرج من بيته لا شك أنه يلزمه نفقتها، وإن أحرمت بغير إذنه فهل له أن يحللها قولان، فإذا قلنا: له أن يحللها فلم تفعل فيه وجهان بناء علي ما لو سافرت في حاجتها بإذنه هل تستحق النفقة قولان، والأقيس أنها تستحق لأنه متي شاء حللها ويتوصل إلي حقه منها [ق 194 أ] فإذا لم يفعل فالتقصي منه. وإن قلنا: لا يحللها قال القفال: فيه وجهان: أحدهما: لا نفقة لها لأنها ناشزة. والثاني: لها النفقة لأنه لا سبيل لها إلي ترك الإحرام ولها سبيل إلي ترك النشوز فالإحرام كالمرض والعذر السماوي والأول أظهر عندي. وأما العمرة فحكمها حكم الحج وكذلك الاعتكاف لأنه لا يصح إلا في المسجد، فإذا خرجت من المسجد كانت كما لو خرجت للحج، فإن كان زوجها معها في المسجد لها النفقة وإن لم يكن معها، فإن كان بغير إذنه فهي ناشزة فلا نفقة، وإن كان بإذنه ففيه طريقان. وأما صوم التطوع فلزوجها منعها منه، فإن صامت فإن أمرها بالإفطار فأفطرت لها النفقة، وإن لم تفطر، فقال ابن أبي هريرة: لا نفقة لها لأنها منعت منه نفسها بالصوم. وقال أبو إسحاق: لها النفقة لأن صوم التطوع لا يلزم بالدخول وله أن يطأها أي وقت شاء، فعلي هذا إن منعته الوطء سقطت نفقتها، وقيل عن الشافعي إنه قال في علته: مدة الصوم قصيرة ولا ضرر عليه في ترك الاستمتاع فيها وهذا غير صحيح عندي. وقيل: لو لم يفطرها ولم يأمرها بالإفطار بل تركها هل تستحق الفقه وجهان. ذكره القفال وهذا أيضاً ضعيف، وقال صاحب الحاوي [1]: إن لم يدعها إلي الخروج منه فهي علي النفقة، وإن دعاها إليه فامتنعت صارت ناشزة ولكنه إن كان في صدر إليها وسقطت نفقتها، وإن كان في آخره لا تسقط لقربه من زمان التمكين فصار ملحقاً بوقت الأكل ولطهارة، وهذا حسن. فرع: لو دخلت في صوم قضاء رمضان قبل شعبان فهل يجوز له إجبارها علي الفطر؟ قولان مخرجان من القولين في تحليلها من الحج إذا شرعت، فإذا قلنا: لا يجبرها علي الفطر ففي سقوط نفقتها [ق 194 ب] وجهان: أحدهما: يسقط كما في الحج.

والثاني: لا يسقط لقرب زمانه وقدرته علي الاستمتاع بها في ليلة ولمقامها في منزله بخلاف الحج. هكذا ذكره في الحاوي والمشهور عند أصحابنا بخراسان أنه يمنعها قبل شعبان ولا يمنعها في شعبان لأنه يتضيق في هذا الوقت دون ما قبله. فرع آخر: إذا كان صوم الكفارة فهو في الذمة علي التراخي فيكون له منعها منه وحق الزوج علي الفور. وقال في "الحاوي" [1]:إذا لم يمنعها حتى شرعت هل يجبر علي الخروج؟ وجهان: فإن قلنا: لا يجبرها، فإن كان التتابع فيه مستحباً بطلت به نفقتها، وإن لم يكن هل تسقط نفقتها وجهان مخرجان من نفقة الأمة إذا مكنها سيدها ليلاً ومنعها نهاراً وأما أداء رمضان فلا يمنعها منه بلا إشكال لأنه مستحق شرعاً علي الفور. فرع آخر: إذا كان صوم النذر، فإن كانت نذرت قبل النكاح، فإن كان في ذمة له منعها منه، وإن كان متعلقاً بزمان بعينه لم يكن له منعها لأن حق الزوج والصوم قد استويا في التضييق للنذر حق السبق فكأن أولي، وإن نذرت بعد عقد النكاح، فإن كان بإذنه مطر فإن نظر كان في الذمة فله منعها منه، وإن كان متعلقاً بزمان بعينه لم يكن له منعها منه، وإن نذرت بغر إذنه كان له منعها منه سواء كان في الذمة أو متعلقاً بزمان بعينه، لأن الزمان له بعد عقد النكاح، فإذا شغلت بعضه بالنذر بعينه فقد منعته حقاً وجب له فكان له منعها وكل له موضوع قلنا له: منعها فشرعت فيه، ولم يفطر فالحكم علي ما ذكرنا في صوم التطوع. فرع آخر: إذا أرادت أن تصلي صلاة الفريضة في أول وقتها، قال الشافعي: ليس لتمنعها منه لأن لها أن تؤدي هنا الفرض في وقت يجوز الفضيلة [ق 195 أ] قال الشافعي: ولأن زمان الصلاة قصير ولا يطول فلا يؤدي إلي الضرر به ولأن الزوج أيضاً مندوب إلي تقديمها في ذلك الوقت فيلزمه إمهالها لذلك أيضاً، فإن قيل: أليس له أن يمنعها من الحج في أول وقت وجوبه، وإن كانت تجوز الفضيلة، قلنا: لا فضيلة الحج متعلقة بالوقت حني إذا أخّره فإنه بفواته فالحج كالصلاة في الذمة وله منعها منها بخلاف الصلاة من (أول) الوقت. فرع آخر: لو أرادت الإحرام بقضاء الصلاة وأراد الزوج الاستمتاع بها فيه وجهان:

قال أبو حامد: يقدم حقه لثبوته في الذمة، وقال صحاب الحاوي: الأصح عندي تقد حق القضاء، لأن فرض القضاء مستحق في أول زمان المكنة فصار كالوقت شرعاً، وقيل: هما مبنيان علي الوجهين في قضاء الصلاة أنه علي الفور أو علي التراخي. فرع آخر: لو كانت الصلاة مما سّنها بالشرع من توابع الفروض المؤقتة، يلزمه تمكينها منه علي العادة المعروفة من غير تقصير ولا إطالة، وإن كانت من السنن المشرعة في الجماعة كالعيدين والمخسوفين له منعها من الخروج وليس له منعها من فعلها في منزلها لمساواتها في الأمر بها والندب إليها، وإنها مختصة بوقت يفوت بالتأخير فأشبهت الفروض، وإن كانت صلاة ندب فهي كالصوم المندوب وإن كانت تطوعاً مبتدأ فله منعها منه. مسألة: قال: " وَلَوْ هَرَبَتْ أَو امْتنَعتْ أَوْ كَانَتْ أمَةً فَمَنعَهَا سَيَّدُهَا فَلا َنَفَقَةً لهَا". إحداهما: إذا هربت إلي موضع يعرفه أو لا يعرفه أو امتنعت من تمكينه في بيته أو خرجت إلي بيت أمها وقالت: لا اجتمع معك أو قالت: لأسلم نفسي إليك إلا هنا فلا نفقة لها، وهذا قول كافة العلماء إلا الحكم بن عيينة فإنه قال: [ق 195 ب] لا تسقط نفقتها بالنشوز كالمهر لأنه يجب بملك الاستمتاع، وهذا غلط لأنها كالأجرة لا تجب إلا بالتمكين، ولهذا لو لم ينفق عليها سقط عنها التمكين ويخالف المهر لأنه يجب بالعقد لمقابلة الملك. والثانية: إذا زوج أمته لا تجب عليه أن يسلمها إلي الزوج في النهار ويلزمه أن يسلمها بالليل، وقد ذكرنا في كتاب النكاح أنه إن سلمها في الليل والنهار استحقت النفقة ولا فرق بين الحرة والأمة في قدر النفقة ويعتبر بحاله لا بحالها، وإن سلمها في الليل دون النهار، فقد ذكرنا وجهين ولا خيار للزوج في فسخ نكاحها لأنه علم برقها والأظهر أن عليه نفقتها بقسط زمان الاستمتاع وهو أن يكون علي الزوج عشاءها وعلي السيد ما تلبيه نهاراً كالحرة إذا أمكنت يوماً ونشرت يوماً. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يلزمه كالنفقة. والثاني: لا تلزم. والثالث: يوزع.

فرع آخر: لو قال لها: آذن لك أن تدخل داري وتستمتع بها ولكن لا آذن لها حتى تخرج إلي دارك هل يستحق النفقة وجهان، ذكره القفال، ولفظ الشافعي بعد هذا يدل علي أنها تجب لأنه قال: وعلي العبد نفقة امرأته الحرة والكتابية والأمة إذا نويت معه بيتاً. فرع آخر: لو آجرت المرأة نفسها ولم يعلم الزوج حتى تزوجها فله الخيار بين مقامه علي وبين فسخه لأنه تفويت الاستمتاع في النهار عيب فاستحق به الفسخ، ولو مكنه المستأجر من الاستمتاع بها في النهار لم يسقط حقه من الخيار لأن المستأجر متطوع بالتمكين فلا يسقط خياراً مستحقاً ذكره في الحاوي. مسألة: قال: " وَلاَ يُبَرئُهُ ممَّا وَجَبَ لهَا مِنْ النَّفَقَةِ، وَإِنْ كَانَ حَاضِراً مَعَهاَ إلا إِقْرَارَهَا". الفصل: نفقة الزوجة تثبت في الذمة مستقراً سواء كان [ق 196 أ] حاضراً أو غائباً فرض القاضي أو لم يفرضه خلافاً لأبي حنيفة حيث قال: لا تستقر إلا بالفرض وتسقط بمرور الزمان. فإذا تقرر هذا فلو فقال الزوج: أنفقت عليك فيما مضي ما وجب لك عليّ وأنكرت فالقول قولها، لأن الأصل أنها لم تقبض ذلك، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وقال مالك: إن كان الزوج غائباً فالقول لأن المرأة عاجزة بالغيبة عن طلب النفقة، وإن كان حاضراً وهي تعاشره فالظاهر أنها تقبض النفقة منه فالقول قوله. وهذا غلط لأن الأصل بقاءها فصار كالبائع إذا ادعي تسليم المبيع لا يكون القول قوله، لأن الحاضرة قد تتقاعد عن الطلب أو يمنعها منه مانع فلا يصح ما ذكره ولأنه لو كان عليه دين فمضي سنين وهو يصادفه، ثم ادعي القضاء، وأنكر صاحب الدين القبض فالقول قوله، وإن كان الظاهر قبضه. فرع: لو كانت أمة فاختلفت مع زوجها في الإنفاق، قال أصحابنا: القول قولها لأن النفقة حق لها يتعلق بالنكاح فكان المرجع فيها إليها فيها كالمطالبة بحق الإيلاء والعنة، ولو اختلفا في النفقة الماضية، وادعي الزوج أنه يعلمها وأنكرت وصدقه السيد، قال أصحابنا: لا تثبت دعواه بتصديق المولي ولكنه يكون شاهداً له بذلك فيشهد له ويحلف

الزوج معه وتسقط نفقتها. ومن أصحابنا من قال: ينبغي أن ينفذ إقراره في النفقة الماضية لأنها حق المولي وإنما حقها في النفقة في المستقبل وإذا ثبتت فللسيد قبضها والتصرف فيها كيف شاء، وهذا أصح عندي ولو كلن الاختلاف في قبض صداقتها فالخصومة بين زوجها وسيدها لأن المهر خالص حقه، وقد ذكرنا فيما تقدم. فرع آخر: لو اختلفنا في قدر النفقة فقال الزوج: كنت فيما مضي معسراً فتستحق نفقة [ق 196 ب] المعسرين، وقالت المرأة: كان موسراً فإنها تستحق عليه نفقة الموسرين نظر، فإن عرف له يسار، ثم ادعي الإعسار فالقول قولها وعليه البينة علي الإعسار، وإن لم يعرف له يسار فالقول قولها وعليها البينة، لأن الأصل عدمه. فرع آخر: لو اختلفنا في التمكين فقالت: مكنت نفسي وانكسر فالقول قوله لأن الأصل عدمه وعليها البينة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان: فإن قلنا: تحب النفقة بالعقد فالقول قولها، لأن الأصل بقاءها وهذا ليس بشيء ونص الشافعي في أول هذا الباب فقال: لو ادعت المرأة التخيلية فيه غير مخيلة حني يعلم ذلك منها. مسألة: قال: " وَلَوْ أَسْلَمَتْ وَثَنيةٌ فَأَسْلَمَ زَوْجُهَا فِي العِدَّة أَوْ بَعْدَهَا فَلَهَا النَّفَقَةُ". الفصل: إذا تزوج وثني بوثنية، ثم أسلمت لا يخل إما أن تكون غير مدخول بها أو يكون مدخولاً بها، فإن كانت غير مدخول بها فلا مهر ولا عدة عليها ولا نفقة لها، وإن كانت مدخولاً بها فلها المهر المسمي وعليها العدة ولها النفقة لأن الزوج يقرر علي رفع هذه العدة، وإصلاح النكاح بالإسلام، وإن أسلم الزوج وتخلفت المرأة في الشرك، فإذا كان قبل الدخول فلها نصف المهر لأن الفسخ جاء من جهته قبل الدخول. فإن قيل: أليس لو وجد بامرأته عيباً قبل الدخول ففسخ النكاح لا مهر لها، وهذا الفسخ من جهته قيل: هذا بمعني من جهتها فجعل بمنزلة الفسخ من جهتها بخلاف مسألتنا. فإن قيل: فإذا كان العيب به ففسخت النكاح قبل الدخول أسقطتم المهر ولم تجعلوا

الفسخ من جهة، قيل: يغلّط حبسها في الحالين لأنها هي المستحقة للمهر وليس كذلك إذا أسلم الزوج قبل الدخول لأن هذه الفرقة جاءت من جهته لا صنع له فيها ففرقنا بينهما. وأما إذا أسلم الزوج بعد الدخول بها فعليه مهرها المسمي ولا نفقة لها لأن الامتناع [ق 197 أ] من جهتها فكانت بمنزلة الناشزة وأسوأ حالاً لأنها نشزت بالكفر، فإن أسلمت نظر، فإن كان بعد انقضاء عدتها لم يكن لها نفقة، وإن أسلمت قبل انقضاء عدتها كلها علي الزوج واستحقت النفقة من أسلمت قولاً واحداً وهل لها النفقة لما مضي من زمان العدة قولان ذكرهما في كتاب النكاح. فرع: لو كانا مسلمين فارتد أحدهما فالحكم في المهر والنفقة علي ما ذكرنا في الوثنيين إذا أسلم أحدهما، وإن ارتد معاً كان الحكم كما لو ارتدت المرأة واختار القاضي الطبري، وقد ذكرنا في كتاب النكاح فيه وجهاً آخر. فإن قيل: ينبغي أن توجبوا لها نصف المهر، لأن الفسخ بهما كما لو خالعها قبل الدخول لها نصف المهر، قيل: المغلب في الخلع جنبه الزوج لأنه الموقع للفرقة مأخذه منها، ولأن الزوج يخالع الأجنبية كما يخالعها وهي لا تقدر علي الخلع إلا معه، فكان تصرفه أقوي، وإذا رجعت المرتدة إلي الإسلام هل تلزم النفقة لزمان الردة قيل: فيه قولان، وقيل: قول واحد لا يستحق لأنها ابتدأت الكفر بعد الإسلام فكانت الجناية أغلظ، ولو أسلم الزوج وتخلفت في الشرك فغار الزوج، ثم أسلمت في عدتها كان لها النفقة من حين أسلمت، وإن لم يعلم بخلاف ما لو نشزت وعاب، ثم عادت إلي الطاعة لا نفقة لها ما لم تعلم، وقد ذكرنا الفرق فيما تقدم وهو أن نفقة الوثنية لم تسقط لخروجها عن قبضته بل سقطت بكفرها، فإذا زال الكفر عادت النفقة حاضراً كان الزوج أو غائباً وسقطت نفقة الناشزة بخروجها عن قبضته ولا تصير إلي قبضته إلا بعد علمه بالطاعة وهكذا الحكم لو ارتدت وغاب الزوج ثم رجعت إلي الإسلام في العدة عادت نفقتها وإن لم يعلم الزوج. مسألة: قال: "فَإِنْ دَفَعَهُ إِلَيْهَا فَلَمْ يُسْلِمْ حَتى انْقَضَتْ عدَّتُهَا فَلَا حَقَّ لَهُ لأَنَّهُ تَطَوَّعَ بِهَا" صورة المسألة [ق 197 ب] أن يتزوج وثني بوثنية، ثم دفع إليها نفقة شهر، ثم أسلم وتخلقت هي في الشرك ولم تسلم حتى انقضت عدتها هل له أن يسترد منها تلك النفقة، قال أبو حامد: له أن يسترد سواء أطلق التسليم أو قيده لأنه دفعها بشرط أن يستحق في

وقته، فإذا لم تستحقه استرجع منها ويفارق الزكاة حيث قلنا إذا دفعها قبل الحول، ولم يشترط أنها معجلة، ثم خرج عن زكته من أصل الزكاة، لا يسترجع، لأن الظاهر لا يدل علي أنه يدفعها واجباً فاحتاج إلي الشرط ليعلم، وفي النفقة الظاهر أنه يعجل ما وجب لها فلا حاجة إلي الشرط. وقال غيره من أصحابنا: وهو الصحيح أنه إن شرط عليها أنها نفقتها أسلفها إياها رجع بها عليها، وإن لم يشرط فلا يرجع لأنه لا يدري أعطاها للنفقة أو هبة من جهته ولذلك لو أنفق عليها في زمان يخلعها فإن كانت بشرط أن يغطيها للنفقة جاز أن يسلم فلم يسلم له الرجوع وإلا فلا رجوع ولا فرق في الحقيقة بين مسألة الزكاة، وهذه المسألة فيختلف الإطلاق والشرط، وفي دليل علي أن الهبة لا يفتقر فيها إلي لقط الهبة والإيجاب والقبول بخلاف ما قال بعض أصحابنا لأن الشافعي جعله تطوعاً عند الإطلاق، فإن قيل: يحتمل أنه أباحه قلنا: هذا لا يصح، لأنه لو كأم إباحة لشرط أن يكون قد أتلفها حتى يسقط حقه منها. مسألة: قال: "وعَلَي العَبْد نَفَقَةُ امْرَأَتِهِ الحُرَّةِ وَالكِتَابِيَّةِ". تقدير الكلام الحرة المسلم والكتابية لأن الحرة قد تكون كتابية، وقد تكون مسلمة وحكمها واحد وكان الأولي أن يقول وعلي العبد نفقة لامرأته المسلمة والكتابية ويحتمل أن يقال: أراد بالكتابية المكانية ويجوز أن يسمي المكاتبة كتابية نسبة إلي الكتابة والكتاب، قال الله تعالي: {والَّذِينَ يَبْتَغُونَ الكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور:33] يعني الكتابة، وقد ذكرنا في كتاب النكاح [ق 198 أ] أنه يلزم علي العبد أن ينفق علي امرأته حرة كانت أو أمة أو مكاتبة أو ذمية أو مسلمة شرط ذلك عليه في عقد النكاح أولا نفقته نفقة المقتر ولأنه لا يملك شيئاً فهو أسوأ حالاً من الحر المعسر لأنه لا يجوز أن يستفيد ملكاً، وهذا لا يملك، وإن ملك وإن قلنا بالقول القديم انه يملك إذا ملك فلا يلزمه إلا نفقة المقتر لأنه لا يكون كامل الملك. قال: وحكي أصحابنا عن مالك أنه قال: إذا لم يشترط في عقد النكاح نفقة لم يجب لأنه إذا لم يشترط يكون وجوبها علي طريق المواساة ولا يجب علي العبد المواساة بدليل أنه لا يلزمه نفقة أقاربه، وهذا غلط، لأن نفقتها تجب في مقابلة التمكين عوضاً كالمهر. فإذا تقرر هذا قد ذكرنا فيما تقدم أنه يجب نفقتها في كسبه، فإن لم يكن له كسب، قال في القديم: تجب في رقبته لأن تضمن الإمكان ولا وجه له إلا الرقبة فعلي هذا يباع منه جزء فجزء إلي إن يباع جميعه.

وقال في الجديد: لا يتعلق برقبته بل يكون في ذمته وتخير المرأة كما لو أعسر الحر بنفقتها. فرع: لو طلق العبد زوجته، فإن طلقها واحدة رجعية وجبت عليه نفقتها في عدتها، وإن طلقها بائنًا فإن كانت حائلًا فلا نفقة لها، وإن كانت حاملًا. فإن قلنا: النفقة للحامل وجبت النفقة عليه، وإن قلنا: إنها للحمل فيه وجهان: أحدهما: لا تجب النفقة، لأن نفقة الأقارب لا تجب على العبد. والثاني: تجب لأنها معلق بحق المعتدة ومصلحتها ذكره القاضي الطبري، ثم قال: وإذا احتاج إلى خدمتها فذلك له ولا نفقة لها وظاهره يوهم أن السيد إذا استخدم الجارية المزوجة لا نفقة لها على زوجها [ق 198 ب] وليس كذلك ومراد الشافعي ههنا إذا استخدمها على الدوام فلا نفقة، وإن استخدمها أحيانًا وبعث إليه عند فراغها من خدمته، فقد ذكرنا أن لها النفقة لأن هذا يكون تمكين الإماء. مسألة: قَالَ: "وَمَنْ لَمْ تَكْمُلْ فِيهِ الحُرِّيَّةُ فَكَالمَمْلُوكِ". من بصفة حر وبصفة عبد يلزمه نفقة زوجته فيما يخص الرق يكون في كسبه وما يخص الحرية يكون في ذمته ولا شك أنه ينفق بما فيه من الرق نفقة المعسر وهو نصف مد، وأما بما فيه من الحرية نظر، فإن كان معسرًا فعليه نصف مد آخر تمام المد الواحد، وإن كان موسرًا بما فيه من الحرية. قال الشافعي: نفقته نفقة المعسر أبدًا، وإن كان يملك ألف دينار مثلًا لأنه لما كان حكمه حكم العبد الذي لم يعتق سبًا في النكاح والطلاق والعدة فكذلك في النفقة. وقال المزني وبعض أصحابنا: عليه نفقة الموسر بما فيه من اليسار فيكون عليه مد ونصف نصف مد بما فيه من الرق ومد بما فيه من الحرية مع اليسار. واحتج المزني فقال: إذا كان تسعة أعشاره حرًا، قال الشافعي: يجعل أعشار ما يملك ويرثه مولاه الذي أعتق تسعة أعشاره فكيف لا ينفق على قدر سعته. وقال: قال الشافعي في كتاب الأيمان: إذا كان نصفه حرًا ونصفه عبدًا كفر بالإطعام كالحر تبعض الحرية هناك ولم يجعله ببعض الحرية ههنا كالحر بل جعله كالعبد والقياس على أصله ما قلنا من أن الحر ينفق بقدر سعته والعبد منه بقدره، وكذا قال في كتاب زكاة الفطر على الحر منه بقدره في زكاة الفطر وعلى سيد العبد قدر الرق منه فالقياس ما قلنا ففهموه كذلك نحوه [ق 199 أ] إن شاء الله تعالى والجواب أن الشخص إذا كان بعضه مملوكًا

وبعضه حرًا كان بالمقدار المملوك ملتحقًا بالمماليك، وهذا نقصان ظاهر بمنعه حكم الملك المطلق ولا يكتسب كسبًا قليلًا ولا كثيرًا إلا وفيه لسيده شركة بسبب ما يملك من رقبته ولهذا لا يستغني عن مهايأة أو مقاسمة سوى المهايأة، وما دام في رقته شيء من أدق فهو مرهون بهذا النقص وما دام موصوفًا بهذا النقص فالأولى أن يستدام فيه آثار نقصان الرق إلى أن يستكمل صفة الحرية. وأما ما ذكر من الميراث فيه قولان: أحدهما: لا يرثه أحد، وإن سلمنا أنه يورث بقدر ما فيه من الحرية نقول: إذا مات وبعضه حر، وفي يده مال من حصة حريته، فهذا السيد كامل الملك ومن أهل الميراث وقد انقضى اعتبار نقصان الرق في الرقيق بموته فغلبنا جانب سيده الذي أعتقه ألا ترى أنه موروث هذا الشخص الذي بعضه رقيق وبعضه حر لو مات فلا ميراث له لأنه حين يأخذ الميراث بما فيه من نقصان الرق فكذلك لا يجوز أن يلزمه شيء من نفقة الأحرار وهو حين يلتزمها ناقص ينقص الرق. وقد قال الشافعي في الجديد: لو أذن السيد لعبده فتمتع بالعمرة إلى الحج فلا يجزيه سوى الصوم ولو ملكه سيده شاة ليذبحها لم تجزه لأنه مملوك. ثم قال: ولو مات العبد فذبح السيد عنه شاة وقعت موقعها ففاصل بين حياته وموته، وأيضًا الميراث مبني على التبعيض والنفقة لا تتبعض ألا ترى أن الحرة إذا سلمت نفسها بالليل دون النهار أو بالنهار دون الليل لم يستحق من النفقة شيئًا. وأما ما ألزم المزني من الكفارة كيف يستقيم إلزامه وهو لا يجعله في النفقة كالحر المطلق ولكن يجعل حكمه [ق 199 ب] مبعضًا والشافعي لم يبعض حكمه في الكفارة في إلزامه الإطعام وإنما غلب جانب الحرية في الكفارة؛ لأن الكفارة حيث تجب إنما تجب بعقد اليمين والعبد والحر في عقد اليمين سواء، وهذه النفقة إنما يجب بعقد النكاح، ومن نصفه حرّ ونصفه عبد كالمملوك في عقد النكاح ألا ترى أنه لا يستغني عن الاستئذان فجاز أن يلحقه في مقدار النفقة بالمملوك كما لو ألحقناه في أصل عقد النكاح وعدد المنكوحات، ثم يعارضه بأنه لا يكفر بالعتق فدل أنه بمنزلة العبد، وقيل: إذا قلنا العبد لا يملك بالتمليك ولا يكفر إلا بالصيام، وإنما يكفّر بالإطعام على قوله القديم أنه يملك بالتمليك. وأما زكاة الفطر فإنها تتبع النفقة وإذا كان بعضه حرًا وبعضه رقيقًا يلزمه من نفقة نفسه مقدار حريته فتتبعها الزكاة بقدرها والتبعيض في زكاة الفطر غير مستنكر فإن العبد قد يكون مشتركًا بين السادات فيلزم كل واحد منهم بمقدار حصته بين نفقته. فأما التبعيض في النفقات فما وجدنا له أصلًا ولا قائلًا يقول به فأما تغليب الحرية، وأما تغليب الرق ويبعد تغليب الحرية لما ذكرنا من عقد النكاح فوجب تغليب الرق. فإن قيل: النفقة تتبعض فإنها تلزم على المتوسط مد ونصف قيل: هذا ليس بتبعيض بل هو نفقة

باب الرجل لا يجد النفقة من كتابين

كاملة على المتوسط كالمد على الفقير، وعلى ما ذكرنا لا يلزم نفقة أولاده وقراباته لأنه في حكم المعسرين. وقال المزني في الجامع الكبير: يلزمه نفقة أقاربه تغليبًا للحرية لأنه يمكن تبعيضها، وهذا غلط لما ذكرنا. باب الرجل لا يجد النفقة من كتابين مسألة: قَالَ: "وَلَما دَلَّ الكِتَابُ وَالسُّنَّةُ عَلَى أَنَّ حَقَّ المَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ [ق 200 أ] أَنْ يَعُولَهَا احْتَمَلَ أَنْ لَا يَكُونَ لَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعُ بِهَا وَيَمْنَعَ حَقَّهَا". الفصل: قد ذكرنا أن نفقة الزوجة واجبة على الزوج فإذا أعسر بنفقتها لا يخلو إما أن يعسر بجميع نفقتها أو يعسر بما زاد على المد الواحد، فإن أعسر بجمع نفقتها كان لها الخيار بين أن ترضي بالمقام معه ونفقتها تصير دينًا في ذمته وتكتسب لنفسها ما يكفيها وبين أن تفسخ النكاح، فإن اختارت الفسخ رفعت أمرها إلى الحاكم حتى يفسخ الحاكم نكاحها ولا يجوز لها أن تفسخ بنفسها. وبه قال عمر وعلي وأبو هريرة وسعيد بن المسيب وسليمان بن يسار وعطاء بن أبي رباح، والحسن وحماد وربيعة ومالك، وأحمد، وإسحاق. وقال القفال: فيه وجهان: أحدهما: أنها تفسخ بنفسها بعدما ثبتت العجز عند القاضي. والثاني: يؤمر الزوج أن يطلقها، فإن امتنع طلق عليه السلطان كما نقول في المولى قال الإمام أبو يعقوب الأبيوردي وعلى هذا يدل حديث عمر أنه كتب إلى أمراء الأجناد في رجال غابوا عن نسائهم يأمرهم أن يأخذوهم إما أن ينفقوا أو يطلقوا فإن طلقوا بعثوا بنفقة ما حبسوا، وهذا غريب بعيد لم يذكره أهل العراق. وقال أبو حنيفة: لا خيار لها بحال ولكن يلزمه رفع يده عنها لتكسب، وبه قال الزهري، وابن أبي ليلى، وعطاء بن يسار، وابن شبرمة، وقال القفال: هو قول آخر للشافعي، ذكره في كتاب تحريم الجمع، وهذا أيضًا غريب، وقال جدي الإمام، وبهذا أفتى رحمه الله واحتجوا بأنها نفقة واجبة فلا تستحق فسخ العقد بها كالنفقة للأيام الماضية ونفقة الخادم، وهذا غلط لما روى أبو صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته يفرق بينهما [ق 200 ب]. وروي: من أعسر بنفقة امرأته فرق بينهما، وروى زيد بن أسلم عن أبي صالح، عن

أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى واليد العليا خير من اليد السفلى وابدأ بمن تعول" قال: ومن أعول يا رسول الله قال: "امرأتك تقول أطعمني وإلا فارقني، خادمك يقول: أطعمني واستعملني، ولدك يقول: إلى متى يتركني" أورده الإمام أحمد والبيهقي. واحتج الشافعي بما روى أبو الزياد قال: سألت سعيد بن المسيب عن الرجل لا يجد ما ينفق على امرأته قال: يفرق بينهما قلت: سنة يقال: سنة. قال الشافعي: والذي يشبه قول سعيد سنة أن يكون سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال سفيان لوكيع: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم الحسب المال والكرم التقوى فقال: أراد أن الرجل إذا كان له مال عظمة الناس فقال سفيان: ليس كذلك إنما هو قول أهل المدينة إذا لم يجد نفقة زوجته فرق بينهما. واحتج أيضًا بما ذكره في آخر هذا الباب، وهو أن يثبت لها حق الفراق عند العجز عن النفقة والضرر أكثر، وفي فقدها فقد الحياة أولى. وأما النفقة الماضية فقد صارت دينًا في ذمته ونفقة الخادم لا تقصد بكل نكاح بخلاف هذا. فرع: إذا أعسر بما زاد على المد لا خيار لها ولا نصير دينًا في ذمة الزوج وكان الموكل الواجب لها. فرع آخر: لو أعسر بكسوتها لها الخيار لأن الكسوة كالقوت ويحتاج إليها لنفي الحر والبرد وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا خيار لها لا بنية الخلقة لا تقتضي الكسوة والبدن يقوم بدونها وهذا ليس بشيء. فرع آخر: لو أعسر بسكناها لها الخيار لأنه يحتاج إليها ليكفها من الحر والبرد. قال أبو حامد، وجماعة لا نص فيه [ق 201 أ] والقياس أنه لا خيار لها لأنه تابع ولا يعدم موضعًا يسكن فيه وتكن أجرته في ذمته يتبع به إذا وجد ويحتمل أن يثبت الخيار لها، والأصح عندي ثبوت الخيار لها. فرع آخر: لو أعسر بأدمها، قال الداركي: لها الخيار عندي لأن الإدم بمنزلة النفقة ووجوب أحدهما لمن له وجوب الآخر. وقال أبو حامد: لا نص فيه والذي يجيء على المذهب أنه كالقوت والذي اختاره أنه لا خيار لها لأنه تبع وتقوم النفس بدونه ويكون عوضه في ذمته لأنه لا يسقط بالإعسار

وهو اختيار القفال: وعندي الأول أصح لأنها تستصغر بعدمه ضررًا بينًا. وقال في "الحاوي": إن كان قوتًا ينساغ للفقراء كله على الدوام بغير أدم لم تفسخ وإلا فسخت، وهذا حسن. فرع آخر: لو أعسر بنصف مد وقدر على نصف مد كل يوم أو قدر على مد يومًا وأعسر يومًا فيها الخيار. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجه آخر لا خيار لها لأن البدن يقوم بما وجد وإن لخفتها مشقة، وهذا ليس بشيء. فرع آخر: لو أعسر بنفقة يوم فلم تفسخ ثم وجد نفقتها في اليوم الثاني لا خيار لها لإعساره بنفقة الأمس لأنها تثبت في ذمته دينًا. فرع آخر: لو كان لا يجد في أول اليوم إلا نفقة الغداء وفي آخره إلا نفقة العشاء ففي خيارها وجهان: أحدهما: لا خيار لها لأنها تصل إلى الكفاية في وقتها. والثاني: لها الخيار لا نفقة اليوم لا تبعيض ولو تبعضت لجاز أن يعطيها لقمة لقمة. فرع آخر: إذا كان الرجل موسرًا فامتنع من الإنفاق عليها أجبره السلطان عليه فإن امتنع ولا يعرف له مال ظاهر حبسه أبدًا حتى ينفق، وإن كان له مال ظاهرًا أنفق عليها منه، وإن غاب غيبة معروفة أو غيبة منقطعة فلا خيار لها وإن تعذر استيفاء [ق 201 ب] النفقة من ماله لأنه لا عيب بذمته، وهذا الخيار إنما يثبت الغيب بذمته، وهو معدوم عند الانتفاع، فإن طالت غيبته وخفي خبره صارت امرأة المفقود، وقد مضى حكمه. قال أبو حامد: وهذا مما يغلط فيه الفقهاء يقولون لها الخيار إذا تعذر استيفاء النفقة بهربه أو غيبته. وقال في "الحاوي": فيه وجهان وقول الأكثرين أنها لا تفسخ، وقال القفال: مرة فيه قولان: أحدهما: لا خيار كما لو امتنع من وطئها مع القدرة.

والثاني: لها الخيار؛ لأن المنع كالعجز كما لو منع المشتري الثمن فالبائع أحق بماله وقال مرة أخرى، إن قلنا في العاجز: لا خيار فههنا الأولى، وإن قلنا لها الخيار هناك فههنا وجهان والمشهور من المذهب ما ذكره أبو حامد والمصلحة في الفتوى على الوجه الآخر لأن عليها في الصبر ضررًا، وهو اختيار القاضي الطبري ذكره في الشامل وقبل كلام الشافعي يدل على هذا لأنه قال: احتمل أن لا يكون له أن يستمتع منها ويمنع حقها، وهذا لا يصح لأنه ذكر بعد هذا ما يدل على أن المراد به المنع بالاعتبار دون الظلم. مسألة: قَالَ: "إِذَا وَجَدَ نَفَقَتَهَا يَوْمًا بِيَوْمٍ لَمْ يُفَرَّقْ بَيْنَهُمَا". إذا كان الرجل يكتسب في كل يوم قدر ما ينفقه على زوجته في ذلك اليوم لا يثبت لها حق الفسخ لأنهما إنما استحق نفقتها يومًا فيومًا وهو قادر عليها ولا تجب نفقتها للزمان القابل، وقال في "الحاوي": حال من أحوز به النفقة على ثمانية أقسام: أحدها: أن يكون لشروعه في عمل لم يستكمله بعد ويقدر بعد استكماله على النفقة كالنساج الذي ينسج في كل أسبوع ثوبًا، فإذا نسجه كانت أجرته نفقة أسبوعه فلا خيار لزوجته، لأنه في حكم الواحد، وإن تأخرت وينفق من الاستدانة [ق 202 أ] لإمكان القضاء، ويحكى هذا عن أبي إسحاق. والثاني: أن يكون لتعذر الحمل كالبناء والنجار فلم يستعمله أحد، فإن كان تعذره نادرًا لا خيار، وإن كان غالبًا فلها الخيار. والثالث: أن يكون لعجز عن التصرف كالصانع إذا مرض، فإن كان مرجو الزوال بعد يوم أو يومين لا خيار، وإن كان بعيد الزوال لها الخيار. والرابع: أن يكون لدين له غريم لا يملك سواه ومطلة، فإن كان معسرًا فالدين عليه بأنه فلها الخيار، وإن كان على موسر حاضر فمالك الدين موسر به فلا خيار ويحبس الغريم حتى يؤدى والزوجة في حكم من زوجها موسر، وقد منعها النفقة يحبس على نفقتها، وإن كان الدين على موسر غائب ففي خيارها وجهان كالوجهين في زوجة الموسر الغائب. والخامس: أن يكون المال غائبًا عنه ينتظر قدومه لينفق منه، فإن كان على مسافة قريبة لا تقصر في مثله الصلاة لا خيار لها لأن ماله في حكم الحاضر ويؤخذ بتعجيل نقله، وإن كان بعيدًا فهو في حكم النيابة ومالكه كالمعدوم فلها الخيار. والسادس: أن يكون مالكًا لمال حاضرًا استحق عليه في ديونه لا خيار لها قبل

قضاء الدين لأن له أن ينفق منها قبل القضاء والمستحق في قضائه ما فضل عن قرب يومه وليلته، فإذا قضى دينه صار بعد يومه معسرًا فلها الخيار. والسابع: أن يعجز عن حلال الكسب ويقدر على محظوره فهو على ضربين، فإن كانت أعيانًا محرمة كالسرقة وأثمان الخمور فالواحد لها كالعادم، والثاني: أن يكون الفعل الموصل إليه محظورًا كصناع الملاهي المحظورة لأنه مستعمل في محظور لا يستحق به ما سمي له من الأجرة ولا بد أن يستحق لتفويت عمله أجرًا فيصير به موسرًا [ق 202 ب] ولا يكون لزوجته خيار وكذلك كسب النجم والكاهن يوصل إليه بسبب محظور لكنه قد أعطى عنه عن طيب نفس المعطى فأجرى مجرى الهبة، وإن كان محظور السبب فساغ له إنفاقه وخرج به من حكم المعسرين وسقط به خيارها. والثامن: أن يكون عجزه لعدم الملك والكسب فهو المقتر على الإطلاق فلها الخيار وهذا كله حسن صحيح. مسألة: قَالَ: "وَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَمْ يُؤَجَّلْ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ". الإعسار على ضربين: إعسار تأخير، وإعسار عجز، فأما إعسار التأخير فما ذكرنا في النساج والصانع فلا يثبت الخيار لأنه تأخير لا يستضر به كبير ضرر، وأما إعسار العجز والعدم فيثبت الخيار على ما ذكرنا ولكن هل يؤجل ثلاثًا. قال في القديم: خيارها على الفور ولا يؤجل، وقال: ههنا يؤجل ثلاثًا ولا يؤجل أكثر، وقال في الإملاء: يؤجل يومًا وليس هذا قولًا آخر وأراد إذا أجل يومًا جاز ولم يرد أنه لا يؤجل أكثر من ذلك. واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: فيه قولان كما قلنا في الثاني بالمرتد والمولى إذا قال: أجلوني للجماع هل يؤجل ثلاثًا؟ قولان: أحدهما: لا يؤجل لأن سبب الفسخ الإعسار، وقد وجد. والثاني: يؤجل ليتيقن الإعسار، لأن الكسب ربما يقف، ثم يظهر. ومن أصحابنا من قال: يؤجل ثلاثًا قولًا واحدًا، وهذا اختيار القفال. فرع: إذا أمهلناه ثلاثة أيام فمضى يومان، ثم وجد نفقة اليوم الثالث ثم أعسر لا يستأنف له مدة الثلاث بل اليوم الرابع يتمم ثلاثة أيام فيخير لأنا لو قلنا: لا يثبت الخيار إلا بثلاثة أيام متوالية أدى إلى الإضرار بها وعلى هذا إذا لم ينفق عليها يومًا وأنفق يومًا، ثم لم ينفق يومًا كذلك [ق 203 أ] حتى كملت بالتلفيق ثلاثة أيام فلها أن تفسخ النكاح وكذلك لو

لم ينفق ثلاثة أيام، ثم أنفق في اليوم الرابع، ثم أعسر خير في الحال لأن التأجيل قد حصل، ذكره القفال وجماعة، ومن أصحابنا من قال: إنه يؤجل دفعة أخرى، فإن تكرر وصارت عادة تخير، وهذا حسن والصحيح ما سبق. فرع آخر: قال الشافعي: ولا تمنع المرأة في الثلاث أن تخرج فتعمل، وأراد به أنه إذا أمهل الزوج ثلاثة أيام ليس له أن يحجر عليها في طلب ما يقوتها ويسد رمقها من اكتساب ومسألة فإن وجد النفقة بعد الثلاث أنفق عليها وإلا كان لها الخيار. فرع آخر: لو كان لها مال ليس له منعها من الخروج من الدار أيضًا للكسب ولو قدرت على الاكتساب في منزلها بغزل أو خياطة وأرادت الخروج للكسب يعمل في غير منزلها كان لها ولا يستحق الحجر عليها في أنواع الكسب ويلزمها أن ترجع بالليل إلى منزل الزوج لأنه زمان الإيواء لا العمل. فرع آخر: إذا رجعت بالليل فأراد الاستمتاع بها لا يمنع لأن الليل زمان الدعة ولا يستحق ذلك في النهار، ولو امتنعت في الليل صارت ناشزة لا نفقة لها وهكذا إذا رضيت بالمقام معه على إعساره مكنها من الاكتساب نهارًا واستمتع بها ليلًا ونفقتها تصير دينًا عليه بالتمام يؤخذ بعد يساره وليس كالأمة تسقط نفقتها إذا بالليل دون النهار لأن منع الأمة من جهتها ومنع المعسر من جهته فلا تسقط به نفقتها، ذكره في "الحاوي". ثم قال الشافعي: "فَإِنْ لَمْ يَجِدْ خُيِّرَتْ كَمَا وَضَعَتْ فِي هَذَا القَوْلِ" وهذا منه إشارة إلى قول آخر، وقد ذكرنا ما قاله القفال والمشهور المسألة على قول واحد. [ق 203 ب]. مسألة: قَالَ: "فَإِنْ وَجَدَ نَفَقَتَهَا وَلَمْ يَجِدْ نَفَقَةَ جَارِيَتِهَا لَمْ تُخَبَّرْ". إذا أعسر بنفقة خادمة زوجته لا خيار لها لأنه لا ضرر عليها في نفسها تفقد نفقة خادمتها وهي بتماسك نفقة نفسها، ولأن نفقة خادمتها ليست بعوض من تسليم نفسها بخلاف نفقتها فإنها عوض من تسليم نفسها فافترقا، وقيل له إسقاط نفقة خادمتها بأن يخدمها بنفسه، وما كان له إسقاطها لا يثبت الخيار لها بالعجز عنها، فإذا ثبت هذا، فإن

نفقة خادمتها تكون دينًا في ذمته تطالبه بها إذا أيسر وإنما كان كذلك لأنه اعتبر في وجوبه حالها بخلاف المد الزائد، فإنه لا يثبت في ذمته لأنه اعتبر في وجوبه حاله. واعلم أن حق المطالبة بنفقة الخادمة للزوجة لا للخادمة لأنها من كمال نفقة الزوجة، وقال بعض أصحابنا بخراسان في نفقة الخادمة وجه آخر لها الخيار بالعجز عنها لأنها مستحقة بالنكاح كنفقة الزوجة، وهذا ليس بشيء. فرع: لو خدمها الزوج في مدة إعساره بنفقة خادمها ففي رجوعها عليه بنفقة الخادم وجهان مخرجان من الوجهين هل يجوز للزوج أن يسقط بخدمته لها نفقة خادمها أم لا. مسألة: قَالَ: "وَمَنْ قَالَ هَذَا لَزِمَهُ عِنْدِي إِذَا لَمْ يَجِدْ صَدَاقَهَا أَنْ يُخَيِّرَهَا". الفصل: إذا أعسر بالصداق اختلف أصحابنا فيه على طرق: أحدها: إن كان قبل الدخول فيه قولان: أحدهما: لا خيار لها لأن نفسها تقوم بدون الصداق بخلاف النفقة، وأيضًا النفقة بإزاء الاستمتاع بدليل أنها تسقط بالنشوز، فإذا لم ينفق كان لها أن تمنع الاستمتاع على وجه تنتفع هي به وهو بالفسخ والمهر إنما وجب بالعقد وهي قد صارت حكمًا فلا خيار لها بالعجز عنه، ومن قال هذا [ق 204 أ] قال: تأويل كلام الشافعي في الإملاء لها الخيار يعود إلى النفقة لا إلى المهر. والثاني: لها الخيار لأنه بدل من البضع كثمن المبيع والأجرة، وهذا أقيس، وإن كان بعد الدخول فلا خيار لها قولًا واحدًا لأنه صار دينًا في ذمته ويلف ما في مقابلة فهو بمنزلة النفقة الماضية، وأيضًا فإنها لما سلمت نفسها كان ذلك رضا منها بكونه في ذمته فلم يكن لها الفسخ، وهذه الطريقة ذكرها ابن أبي هريرة واختارها صاحب الإفصاح. والثانية: لا فرق بين أن يكون قبل الدخول أو بعده فيه قولان لأنها سلمت بعض المعقود عليه والمهر في مقابلة جميع الوطيات الماضية والمستقبلة فلها الفسخ للمستقبل كما لو وجد بعض المبيع في يد المفلس له الخيار. والثالثة: إن كان قبل الدخول يثبت لها الخيار قولًا واحدًا ويحمل على اختلاف الحالين، وهذا اختيار أبي إسحاق، قال القفال: وعلى هذا إذا حصل الدخول على أي

وجه كان طوعًا أو كرهًا أو غلطًا سقط حق الفسخ لأن تقرير المهر قد حصل فلو فسخت انتفعت هي به دون الزوج وينبغي أن ينتفع هو بالفسخ أيضًا لسقوط الصداق عنه. والرابعة: إن كان قبل الدخول لها الخيار، وإن كان بعد الدخول فقولان والأصح ثبوته، وهذا اختيار أبي حامد، وهذه الطريقة أحسن وأصح عندي. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا مبني على النفقة واختلف أصحابنا في كيفية البناء فمنهم من قال إن قلنا: هناك يثبت الخيار فههنا أولى، وإن قلنا: هناك لا يثبت فههنا قولان، والفرق أن النفقة بإزاء الاستمتاع، فإذا أعسر بها يمنع ما بإزائها وهو أن لا تمكن نفسها والمهر بإزاء طلب البضع، فإذا أعسر به يمنع الملك، ومنهم من قال: إن قلنا هناك لا يثبت الخيار [ق 204 ب] فههنا أولى وإن قلنا: هناك يثبت فههنا قولان والفرق ما تقدم فحصل خمسة طرق وهذه الطريقة الأخيرة أضعفها. فرع: لو كانت منقوصة فأعسر بصداقها لا خيار لها لأنه لا مهر لها بالعقد على الصحيح من المذهب ولكن لها المطالبة بفرض المهر، فإذا فرض التحق بالمسمى في العقد. فرع آخر: لو كانت امرأته أمة فأعسر بصداقها ونفقتها ففي المهر الخيار للسيد دونها لأنه حقه، وفي النفقة الخيار لها على ما ذكرنا من قبل ولو قال السيد لها أن أنفق عليه عن الزوج لا خيار لها، ولو كانت معتوهة لا خيار لها، لأنه لا قول لها ويلزم المولى أن ينفق عليها ولو كانت عاقلة فلم تختر الفسخ فقول السيد إن أردت النفقة فافسخي النكاح وإلا فلا نفقة لك لأنها تقدر على طلب الفسخ. فرع آخر: لو كانت الزوجة صغيرة ليس للولي طلب الفسخ بل ينفق من مالها عليها، فإن لم يكن لها مال فنفقتها على قريبها الذي يلزمه لو لم تكن زوجته ثم إذا أيسر الزوج بعده يؤخذ من نفقتها الماضية. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ اخْتَارَتْ المَقَامَ مَعَهُ فَمَتَى شَاءَتْ أجِّل أَيْضًا". إذا أعسر بنفقة امرأته فخيرناها فاختارت المقام معه، ثم بدا لها، فاختارت الفسخ كان لها الفسخ لأن وجوب النفقة يتجدد كل يوم ولا يصح الرضاء بإعسار ما لم يجب فكان لها المطالبة وكان عفوها عن الماضي لا عن المستقبل ولا فرق في هذا بين أن

يكون علمت عسرته حين عفت وبين أن لا تكون عالمة بعسرته لأنها ربما تعفو عن ماضي حقها رجاء أن يؤسر في المستقبل أو يتطوع عنه إنسان بالعزم وكذلك لو تزوجت به مع علمها بفقرة لها الخيار به. فرع: لو علمت بعسرته عند العقد هل لها الخيار لأجل الصداق وجهان: أحدهما: لا خيار لها؛ لأنها لو رضيت به [ق 205 أ] في النكاح لا يبقى لها الخيار فكذلك إذا دخلت في العقد مع الرضاء لا خيار ولأنه تجب بالعقد، وقد رضيت بتأخيره؛ لنه كان معسرًا به والنفقة تجب بعد العقد ويرجى التحصيل بالتكسب والاجتهاد غالبًا بخلاف الصداق. والثاني: لها الخيار لأنها لا يتحقق دوامه لجواز أن يوسر أو يتطوع به متطوع ولهذا لو باع شيئًا من رجل فعل إفلاسه له فسخ البيع لتعذر استيفاء الثمن وكما نقول في النفقة. فرع آخر: إذا عادت إلى المطالبة بعد الرضاء بإعساره، قال القفال: يستأنف الإمهال ثلاثة أيام وهو ظاهر ما ذكر ههنا لأنه قال: فمتى شاءت أجل أيضًا بخلاف امرأة المولى إذا رضيت، ثم عادت إلى المطالبة بوقت في الحال لأن تلك مدة مضروبة بنص الكتاب وههنا ضربنا له المدة رفقًا له، فإذا رضيت سقط حكم تلك المدة وعندي يتحمل أن يقال لا تستأنف له المدة، وقول الشافعي أجل لا ينتفي التأجيل ثلاثة أيام. فرع آخر: إذا أعسر بالصداق وقلنا: لها الخيار فخيارها على الفور بعد التنازع فيه إلى الحاكم، لأن الفسخ به لا يثبت إلا عند الحاكم، فإذا أمسكت عن محاكمة بعد العلم بإعساره نظر، فإن كان إمساكها قبل المطالبة بالصداق كانت على الخيار عند محاكمته لأنه قد يجوز أن يوسر به عند مطالبته، وإن كان إمساكها بعد المطالبة سقط خيارها وكان الإمساك عن محاكمته رضاء بإعساره ولو حاكمته وعرض عليها الحاكم الفسخ فاختارت المقام سقط خيارها، فإن عادت محاكمة له فطلب الفسخ لا خيار لها إن كانت المحاكمة الأولى بعد الدخول لاستواء إعساره في الحالين، وإن كانت المحاكمة الأولى والرضا [ق 205 ب] فيها بالمقام قبل الدخول، والمحاكمة الثانية بعد الدخول ففي استحقاقها للخيار وجهان: أحدهما: لا خيار كما لو كانت المحاكمتان بعد الدخول ففي استحقاقها وللخيار وجهان: أحدهما: لا خيار كما لو كانت المحاكمتان بعد الدخول.

باب نفقة التي لا يملك زوجها رجعتها

والثاني: لها الخيار، لأن ملكها قبل الدخول كان مستقرًا على نصفه وبعد الدخول على جميعه فصار إعساره بعد الدخول بحق لم يكن مستقرًا قبل الدخول فجاز أن تستجد به خيارًا لم يكن، ذكره في الحاوي وسائر أصحابنا قطعوا بأنه لا يتحدد لها الخيار به إذا رضيت مرة. فرع آخر: لا تسقط النفقة عندها بمضي الزمان سواء فرضها الحاكم أو لم يفرضها، وبه قال مالك، وأحمد في رواية، وقال أبو حنيفة: تسقط إلا أن يفرضها الحاكم فلا تسقط بعد فرضها، وهذا غلط لأنها تجب في حالتي اليسار والإعسار كالمهر والديون. مسألة: وَقَالَ: "وَلَهَا أَنْ لَا تَدْخُلَ عَلَيْهِ إِذَا أَعْسَرَ بِصَدَقِهَا حَتَّى تَقْبِضَهُ". معناه إذا رضيت بالمقام معه ولم تفسخ النكاح للإعسار بالصداق فلها أن تمتنع من تسليم نفسها حتى تأخذ الصداق، لأن الصداق في مقابلة البضع، فإن أصحابها مرة مطاوعةً قد ذكرنا أنه يسقط حق حبسها، وإن أصابها مكرهة قد ذكرنا فيه وجهين: أحدهما: لها الحبس كالمشتري إذا قبض المبيع كرهًا قبل دفع الثمن فللبائع الاسترجاع للحبس. والثاني: ليس لها الحبس لأن المهر قد تقرر عليه، وإذا استرد البائع المبيع يرتفع تقرير الثمن على المشتري وههنا بامتناعها لا يرتفع تقرير المهر عليه فافترقا، وإن كان موسرًا بالصداق فقال: لا أدفع حتى تسلمي نفسك وقالت [ق 206 أ] لا أسلم نفسي حتى تدفع الصداق ذكرنا في كتاب النكاح، والله أعلم. باب نفقة التي لا يملك زوجها رجعتها مسألة: قَالَ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ} [الطلاق:6]. وقال تعالى: {وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق:6] فَلَمَّا أَوْجَبَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهَا النَفَقَةِ بِالحَمْلِ دَلَّ عَلَى أَنَّ لَا نَفَقَةَ لَهَا بِخِلَافِ الحَمْلِ. وقد ذكرنا فيما مضى أن لكل مطلقة السكنى سواء كانت حاملًا أو حائلًا رجعية كانت أو بائنة. وأما النفقة فإن كانت رجعية فلها النفقة لأنها في معاني الأزواج، وإن كانت بائنًا فإن كانت حائلًا فلا نفقة لها خلافًا لأبي حنيفة، وهذا لأن الله تعالى أوجب السكنى

للمطلقة على الإطلاق وقيد النفقة بالحمل فقال: وإن كن أولات حمل فأنفقوا عليهن حتى يضعن حملهن ولم يرد به الرجعية فدل أنه أراد به البائنة وبذلك جاءت السنة في فاطمة بنت قيس حيث قال لها صلى الله عليه وسلم: ليس لك نفقة وكانت بائنة، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم: قال لها: "لا نفقة لك إلا أن تكوني حائلًا" وروي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: "نفقة المطلقات ما لم يحرم" يعني ما لم تكن بائنة، وقال عطاء: ليست المبتونة الحبلى منه في شيء إلى أنه ينفق عليها من أجل الحبل، فإن كانت حبلى فلا نفقة لها، وقد ذكرنا أنها للحمل أو الحامل قولان منصوصان، والأصح أنها تستحق في الحال فالأمارات لأن الأحكام تتعلق بها. مسألة: قَالَ: "وَكُلُّ مَا وَصَفْتُ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ مُتْعَةٍ أَوْ سُكْنَى فَلَيْسَتْ إِلَّا فِي نِكَاحٍ فَلَا نَفَقَةَ حَامِلًا أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ [ق 206 ب]. قال أصحابنا: أراد بالنكاح المنسوخ إذا فسخ أحدهما النكاح لوجود عيب بصاحبه فلا تجب النفقة ولا السكنى لأن ذلك بمنزلة النكاح الذي وقع فاسدًا في الأصل، وقد بيناه في كتاب النكاح. فأما قول الشافعي حائلًا أو غير حامل إنما ذكر على القول الذي يقول النفقة للحامل، فأما إذا قلنا النفقة للحمل فلها النفقة وكذلك المنكوحة نكاحًا فاسدًا مثل نكاح المتعة والنكاح بلا ولي ولا شهود، إذا كانت حائلًا هل تستحق النفقة فيه قولان لأن النسب ثابت منه في الحالين: واعلم أن الشافعي أوجب ههنا للمبتوتة الحال النفقة بسبب الحمل، ثم ذكر النكاح الفاسد ولم يجعل للحامل النفقة وعطف إحدى المسلمين على الأخرى وفرق بينهما والقياس يقتضي التسوية بين المسلمين في بنائهما على القولين، وهذا موضع الإشكال ولكن يحتمل أن يقال إذا كانت معتدة عن نكاح صحيح فإنها بحق العقد الصحيح تستحق حقوق الحضانة في تربية الولد وهي مشتغلة بما هو أبلغ من الحضانة لأنها تربية في بطنها فاستحقت عليه النفقة لحق العقد السابق ما دامت في العدة عن ذاك العقد وإذا كان الوطء شبهة لم يثبت ما فيه مثل هذا الحق، وقال صاحب الحاوي: إذا فسخ نكاحها بالعيب المتقدم على العقد وهي حامل هل تستحق نفقتها في زمان الحمل ويجعل كالمنسوخ من أصله؟ قولان بدليل استحقاق مهر المثل، هكذا قال أصحابنا والصحيح عندي أن لها النفقة قولًا واحدًا إلحاقًا بالفسخ الطارئ الرافع لاستدامة العقد في هذا الحكم لأنه وجد موجبي الاستحقاق قبل الفسخ من استحقاق التمكين وحرمة العقد.

مسألة: قَالَ: "فَإِنْ ادَّعَتِ الحَمْلِ [ق 207 أ] فَفِيهَا قَوْلَانِ: أحدهما: أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ بِيَقِينِ حَمْلِهَا حَتَّى تَلِدَ فَتُعْطَى نَفَقَةَ مَا مَضَى". الفصل: قد ذكرنا أن النفقة للحمل أو للحامل قولان والصحيح أنها للحامل وقوله ههنا حتى تلد فيعطى نفقة ما مضى دليل على أن النفقة للحامل لأن نفقة الأقارب يسقط لمضي الزمان. وحكي ابن الحداد، عن الشافعي رحمة الله عليه أنه قال: لو أن مسلمة ارتدت فلا نفقة لها على زوجها، وإن كانت حاملًا وكذلك لو أسلم الزوج وتخلفت عن الإسلام وهي حامل فلا نفقة لها على زوجها ما لم يسلم كما لا نفقة لها إذا لم يكن حائلًا، وهذا يوضح أن نفقة الحامل لها في نفسها لا للولد. والثاني: أنها للحمل وقد ذكرنا أنها هل تستحق قبل الوضع قولان. فإذا قلنا: يستحق وهو اختيار المزني فقولها لا يقبل في وجوب النفقة حتى تشهد أربع نسوة عدول أن بها حملًا أو يشهد رجلان أو رجل وامرأتان بذلك، فإذا أقامته البينة أنفق عليها من وقت تقام البينة يومًا بيوم ودفع إليها نفقة ما مضى من حين الطلاق إن قامت البينة بالحمل، وإذا أنفق عليها، ثم بان أنه كان ريحًا ولم يكن حملا. قال أبو إسحاق إذا قلنا: يلزمه أن ينفق عليها في حال الحمل رجع عليها بما أنفق سواء حكم عليه الحاكم أولم يحكم بذلك وسواء شرط عليها الرجوع أو لم يشرط لأنه أنفق ما لزمه أن ينفق، فإذا تبين أنه لم يكن لازمًا رجع عليه. وإذا قلنا: لا يلزمه أن ينفق عليها حتى تضع فتبرع وأنفق، فإن كان بحكم الحاكم رجع، وإن كان من غير حكمه، فإن كان الدفع بشرط الحمل رجع، وإن كان مطلقًا لا يرجع لأن ظاهرة تطوع. فإن قيل: إذا أنفق الرجل على امرأته ثم تبين أن النكاح كان فاسدًا ففرق الحاكم بينهما لا يرجع الزوج عليها بما أنفق فما الفرق [ق 207 ب] قيل: الفرق أن الزوج أنفق عليها في مقابلة ما أتلف عليها من منافعها وهو الاستمتاع الذي استمتع بها فلم يجز أن يرجع عليها بما أنفق خلاف مسألتنا. فإن قيل: لو كان ذلك على طريق المعاوضة لوجب إذا مكنته من الاستمتاع إلا أنه لم يستمتع بها ولم يسلمها أن يكون لها المطالبة بنفقة ما مضى قبل العوض في النكاح الفاسد لا يجب إلا بالإتلاف. فأما بالتمكين فلا يجب ألا ترى أن المشتري لا يلزمه تسليم الثمن في البيع الفاسد بالتمكين من المبيع ما لم تبلغه فإذا أتلفه يلزمه ذلك ههنا

وقال في "الحاوي" إن لم يشترط فيها التعجيل لم يرجع لأنه متطوع، وإن شرط فيها التعجيل، فإن ضمنها الرجوع بها إن أنعش حملتها فله الرجوع اعتبارًا بالشرط، وإن لم يضمنها الرجوع بها فيه وجهان: أحدهما: يرجع، وهو الأصح تغليبًا لحكم ما أشرطه من التعجيل كما في تعجيل الزكاة. والثاني: لا يرجع بها إذا شرط التعجيل حتى يشترط التضمين معه لاحتمال التعجيل واختلاله بالتضمين الذي هو أقوى. قال القفال: وعلى ما ذكرنا أقول في دلالة باع شيئًا من رجل فأجرته على البائع الذي أمره بذلك، فإن أخذ من المشتري شيئًا، وقال: وهبت هذا لي فقال: نعم إن عرف أنه لا شيء له، وأنه متبرع بالهبة صحت الهبة، وإن ظن أنه واجب عليه يهب فله الرجوع لأنه لم يتبرع، وهذا لأن الأصل أن من أعطى شيئًا على أنه واجب فبان أنه غير واجب فله الرجوع. فرع: إذا قلنا: لا يلزمه أن ينفق عليها في زمان الحمل فوضعت يلزمه نفقة ما مضى لها من حين الطلاق إلى أن وضعت سواء قلنا إنها للحمل أو لا، ولا يسقط بمضي المدة، وإن قلنا: إنها للحمل ويخالف نفقة الأقارب لأن المستوفي ههنا الزوجة [ق 208 أ] فلحقت بنفقة الزوجات ولم تسقط بمضي الوقت. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ فَنَفَاهُ وَقّذَفَهَا وَلَاعَنَهَا لَا نَفَقَةَ عَلَيْهَا". قال أصحابنا: يحتمل أن يكون المراد به أنه إذا قذف زوجته فلاعنها وانتفي من حملها لا نفقة لها ولا سكنى. وأما النفقة فلا تستحق؛ لأن الحمل ليس منه، وإذا لم يكن الحمل منه لا نفقة سواء قلنا: النفقة للحامل بسبب الحمل أو قلنا إنها للحمل. وأما السكنى قال أبو حامد: لها السكنى لأنهما افترقا عن نكاح صحيح، وقال غيره فيه وجهان: أحدهما: لا يجب لما روي في خبر المتلاعنين قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نفقة لها ولا يثبت لأنهما يفترقان من غير طلاق. والثاني: لها السكنى لأن الله تعالى أوجب للمعتدة السكنى وهذه الفرقة يختلف فيها فمنهم من يقول طلاق ومنهم من يقول فسخ فلم تسقط السكنى إلا بيقين وقيل:

الفسخ الطارئ يجعل بمنزلة النكاح الفاسد، وهذا فسخ وإيجاب السكنى فيه مناقضة ولكنه يتعلق بقول الزوج فيجري مجرى قطع النكاح بالطلاق كمل قلنا في الخلع مع قولنا إنه فسخ قالوا: ويحتمل أن يكون راجعًا إلى المطلقة دون الزوجة، فينظر، إن كانت رجعية حكمها حكم الزوجة، وإن كانت بائنًا هل يجوز اللعان على نفي حملها، قد ذكرنا في كتاب اللعان قولين: فإذا قلنا له: إنه لاعن فلاعن فالحكم على ما ذكرنا في السكنى والنفقة، وقال القاضي الطبري: إذا قلنا هناك لا سكنى فههنا يحتمل وجهين: أحدهما: لها السكنى لأنها اعتدت عن الطلاق. والثاني: لا سكنى لأن نفقتها سقطت لأجل اللعان فلذلك السكنى، وإن أكذب نفسه بعد اللعان رجعت المرأة بنفقتها في زمان الحمل سواء قلنا النفقة للحمل أو للحامل بسببه لما ذكرنا أنها وإن كانت للحمل [ق 208 ب] فإنها تتعلق بحقها وتنصرف إلى مصالحها فلم تسقط بمضي الزمان، وقد قال في "الأم" لو كانت أرضعته ثم أكذب نفسه يلزمه أجرة الرضاعة لأنها أرضعته على أن لا أب له إلا أنها تطوعت به. وقال بعض أصحابنا: هذا يدل على أن النفقة قبل الوضع تجب لها وبعد الوضع تجب للحمل فإنه لم يوجب النفقة لها بعد الوضع بل أوجب أجرة الحضانة وأجراها مجرى الأجرة. وقال القفال: إذا كذب نفسه بعد الوضع يلزمه الأجرة والنفقة أيضًا قال: ولو استدانت لغيبة الأب أو عند امتناعه من الإنفاق لها الرجوع عليه، وهذه ولاية للأم في ولدها ولا تجعل متبرعة بذلك، وهو أصح عندي ويحتمل أنه أراد أجرة الرضاع نفقتها على التمام فإن قال قائل: لو لم ينف ولدها فأعتقت هي عليه قلتم: لا يرجع عليه فما الفرق قلنا: الفرق أن هناك تبرعت بالإنفاق عليه وههنا لم تتبرع بل أنفقت بحكم الحاكم أن الولد منفي ونظير هذا أنه لو قضى دينًا على ظن أنه عليه، ثم بان خلافه له الرجوع، ولو ملك إنسانًا شيئًا ابتداءً ليس له الرجوع وكذلك لو زكى عن ماله على ظن سلامته فبان أنه كان تالفًا وشرط ذلك له الرجوع ولو تصدق عليه به تطوعًا لا رجوع وكذلك لو كان الأب موسرًا فظن أنه معسر فأنفق عليه، ثم ظهر ذلك له الرجوع ولو علم يساره فتبرع فلا رجوع وكذلك لو كان الأب معسرًا فظن أن ابنه معسرًا أيضًا فاستقرض وأنفق على نفسه، ثم بان له يسار ابنه يرجع في ماله بما استقرض ولو علم يساره فاستقرض ولم يطالبه لم يرجع وكذلك لو غاب الابن الموسر فاستقرض أبوه المعسر وأنفق على نفسه يرجع [ق 209 أ] ولو سأل الناس وتكدي وأنفق على نفسه لا يرجع. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ كَانَ أَعْطَاهَا بِقَوْلِ القَوَابِلِ أَنَّ بِهَا حَمْلًا ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِهَا

حَمْلٌ أَوْ أَنْفَقَ عَلَيْهَا فَجَاوَزَتْ أَرْبَعَ سِنِينَ رَجَعَ عَلَيْهَا بِمَا أَخَذَتْ". قوله: أو أنفق عليها أي بغير قول القوابل على ظن وجود الحمل، وقد ذكرنا هذه المسألة وإنما رجع عليها إذا جاوزت أربع سنين، لأنا علمنا أنها وإن كانت حبلى فليس ذلك الحمل منه، وإن أنفق عليها على توهم وجوب النفقة لا على جهة التبرع. مسألة: قَالَ: "وَلَوْ كَانَ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فَلَمْ تَقِرّ بِثَلَاثِ حِيَضٍ أَوْ كَانَ حَيْضُهَا يَخْتَلِفُ فَيَطُولُ وَيَقْصُرُ لَمْ أَجْعَلَ لَهَا إِلَّا الأَقْصَرَ". الفصل: صورته رجل طلق امرأته طلقة رجعية فلم تقر بانقضاء ثلاثة أقراء حتى ظهرت بها أمارات الحمل فأنفق عليها، ثم علم أنه لم يكن حملًا وإنما كان ريحًا أو جاوز أربع سنين، وقلنا: إن ولد الرجعية إذا أتت به لأكثر من أربع سنين لا يلحق به كولد المبتوتة، فقد علمنا أن عدتها منه بثلاثة أقراء، فإن كان قد بان أنه لم يكن حملًا بل كان ريحًا فإنا نرجع إلى إقرارها فيما مضى، فإن كان حيضها مثقفًا لا يختلف جعلنا لها النفقة في مدة ثلاثة أقراء، لأنها اعتدت بها وهي رجعية فكانت لها فيها النفقة، وإن كان حيضها مختلفًا فكانت ترى ثلاثة أقراء في ثلاثة أشهر، وفي ستة أشهر، وفي أكثر من ذلك أو أقل جعلنا لها النفقة في أقل ما يكون من عادتها في ثلاثة أقراء أنها تكون في ثلاثة أشهر فيكون لها النفقة في ثلاثة أشهر ورجع الباقي نص عليها الشافعي. وقال أبو حامد: نظرنا أقل زمان يمكن أن نحصل فيه ثلاثة أقراء فنوجب لها نفقة ذلك القدر [ق 209 ب] لأن اليقين وهذا أقيس ولكنه خلاف النص ذكره القاضي الطبري وإن لم يكن ريحًا ولكنه كان حملًا إلا أنه جاوز أربع سنين فإنا علمنا أنها وطئت بعد الطلاق فنرجع إليها فنقول لها: بين لنا الحال، فإن قالت: تزوجت بغيره ووطئني وهذا الحمل منه قلنا لها: أتزوجت بعد مضي ثلاثة أقراء أو قبلها، فإن قالت بعدها جعلنا لها النفقة لثلاثة أقراء على ما بيناه وإن قالت: تزوجت بعد مضي قرين قلنا: قد أفسدت قرءًا واحدًا فعليك أن تأتي بقرء آخر بعد وضع الحمل وذلك النفقة في هذا القرء وفيما مضى لقرءين والكلام في مقدار القرءين على ما بيناه. ثم إن المزني اعترض على الشافعي فقال: إذا حكم بأن العدة قائمة فكذلك النفقة في القياس لها بالعدة قائمة، ولو جاز قطع النفقة بالشك في انقضاء العدة جاز انقطاع الردة بالشك في انقضاء العدة فلما لم تزل الرجعة بالشك في انقضاء العدة الذي لم يجز أن يزول النفقة بالشك في انقضاء العدة قيل: نحن إذا حكمنا بسقوط النفقة حكمنا بانقطاع

الرجعة وكيف ظننت بالشافعي هذا الظن المحال وهو إسقاط النفقة مع استبقاء الرجعة ولكنها ممنوعة عن نكاح زوج آخر ما دامت تزعم أنها في العدة. وقال بعض أصحابنا: صورة المسألة التي ذكرها الشافعي غير هذه الصورة وإنما أراد إذا طلقها طلاقًا رجعيًا فادعت أنه قد تباعد حيضها وامتد طهرها. وقد ذكرنا حكم تباعد الحيض فقال الشافعي: يكون القول قولها في بقاء العدة عليها وفي ثبوت الرجعة عليها ولا يقبل قولها في وجوب النفقة إلا في مقدار مدة العدة. واعترض المزني على هذا فقال: إذا حكم بأن العدة قائمة فلذلك النفقة في القياس، والجواب أنه لا تعتبر الرجعة بالنفقة [ق 210 أ] لأن الرجعة عليها والنفقة حق لها فيقبل قولها فيما عليها ولم يقبل فيما لها، وهذا لا يصح لأن الشافعي قال: قبل هذه المسألة إذا طلقها بائنًا وظهر بها أمارات الحمل فأنفق عليها ثم تبين أنها كانت ريحًا ثم عطف عليها هذه المسألة فدل أن الشافعي لم يرد ما ذكره هذا القائل. مسألة: قَالَ: "وَلَا أَعْلَمُ حُجَّةً بِأَنْ لَا يَنْفِقَ عَلَى الأَمَةِ الحَامِلِ". الفصل: أراد به إذا طلق امرأته الأمة بائنًا وكانت حاملًا فعلى الزوج أن ينفق عليها ولا حجة لمن يقول لا ينفق عليها وهذه نصرة من القول الذي يقول إن النفقة للحامل دون الحمل، فإن على ذلك القول هو رفيق لسيدها فالنفقة على سيدها دون زوجها. واختار المزني القول الصحيح ووجهه ما ذكر ههنا أنها لو كانت للحمل لما تقدرت بكفايتها ولكفي أدنى شيء ولوجب أن يجب على الحدّ نفقة نفقة هذا الحمل عند عدم الأب أو إعساره كما لو كان منفصلًا ولوجب أن تسقط بيسار الولد وهو إذا ورث أو أوصى له بشيء وقبله أبوه، ووجه القول الآخر إنها تجب بوجوده وتسقط بعدمه فدل أن النفقة له ولأن النفقة لما كانت له إذا كان منفصلًا فكذلك إذا كان متصلًا بها. قال هذا القائل: وإنما أوجبنا بقدر كفايتها لأنه لا يصل النفع إليه من جهتها فوجب تمام كفايتها كما قلنا في زمان الرضاع لا تلزم الأجرة بقدر قيمة اللبن بل تلزم قدر ما يكون في مثله كفايتها، ومن قال بالأول: أجاب عن هذا بأنه مستمتع بها لكون ولده في بطنها كما كان مستمتعًا بها في زمان النكاح والعدة التي فيها الرجعة، وإذا وضعت زال الاستمتاع فلهذا وجب بوجوده وسقط بعدمه. وأما قول المزني الأول أحق ضدي لأنه شهد أنه حكم الله تعالى فقال ولكنه حكم الله تعالى يعني إيجاب النفقة لها وحكم الله تعالى أولى [ق 210 ب] مما خالفه وأراد به

باب نفقة الأقارب من كتاب النفقة

قول الله تعالى: {وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] وهذا الخطاب متوجه على الأزواج فدل على أنها تلزم على زوج الأمة الحامل لا على سيدها. ثم قال: فأما كل نكاح كان منسوخًا فلا نفقة لها ولا سكنى حاملًا أو غير حامل. وقد قال بعض مشايخنا: إنها تستحق النفقة إذا قلنا النفقة للحمل، وقد ذكرنا حكم النكاح الفاسد من أصله والذي كان صحيحًا، ثم فسخ فلا معنى للإعادة. فرع آخر: قال ابن الحداد: إذا أردت المسلمة سقطت نفقتها، وإن كانت حاملًا، وقال بعض أصحابنا: هذا مبني على القولين. فإن قلنا: النفقة للحامل فالحكم على ما ذكره. وإن قلنا للحمل لم تسقط بردتها، ووجه ما قاله ابن الحداد أن النفقة وإن كانت للحمل فهي المستحقة لها وتتعلق بها ألا ترى أنها لا تسقط بمضي الزمان قولًا واحدًا فجاز أن تسقط بردتها. فرع آخر: قال ابن الحداد: إذا وضعت الزوجة حملها فقال: كنت طلقتك قبل وضعك طلقة، وقد انقضت عدتك فلا نفقة لك ولا سكنى وكذبته فالقول قولها لأنه يريد إسقاطها حقها من النفقة والسكنى وعليها اليمين على نفي العلم أنها لا تعلم أنها طلقها لأنها يمين على فعل الغير وله أن يتزوج بأختها وأربع سواها ولا رجعة له عليها لأن قوله مقبول في إسقاط حق الرجعة وفي نكاح أختها لا يتعلق حقها وذلك إلى علمه، فإن كان يعلم أنها مباحة له جاز نكاحها ولا اعتراض عليه فيه. باب نفقة الأقارب من كتاب النفقة مسألة: قَالَ: قَالَ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى وسُنَّة رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم بَيَانُ أَنَّ عَلَى الأَبِ أَنْ يَقُومَ بِالمُؤْنَةِ فِي إِصْلَاحِ صَغِيرِ وَلَدِهِ" [ق 211 أ]. الفصل: القصد به بيان نفقة الأٌقارب بعضهم على بعض، وبدأ بنفقة الولد لأنها ثابتة بالنص في قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6] وهذه نفقة الولد دون الأم لأن هذه الآية في المطلقات البوائن بدليل أن الزوجات يستحقن النفقة أرضعن أو لم

يرضعن ولأن الله تعالى سماه أجرًا ولا تسمى نفقة الزوجة أجرًا ولأن الابن بعضه فكما يلزمه نفقة نفسه يلزمه نفقة ولده. فإذا تقرر هذا الكلام في فصلين في صفة من تجب عليه وصفة من تجب له فأما صفة من تجب عليه فمن ملك فضلًا عن قوت يوم وليلة، أو كان قادرًا على اكتساب ذلك، وأما صفة من تجب له، فأن يكون ناقص الأحكام أو الخلقة أو فيها جميعًا فنقصان الأحكام بالصغر وزوال نقصان الخلقة بالزمانة والمرض ونقصان الأمرين أن يجتمع فيه الصفتان، فإذا وجدت هذه الصفة نظر، فإن كان موسرًا فنفقته من ماله، وإن كان معسرًا فنفقته على والده. وبه قال جماعة العلماء من غير خلاف، وحكي عن أبي ثور أنه قال: نفقة الولد الصغير على أبيه، وإن كان له مال، وهذا غلط لأن نفقة القرابة تجب على طريق المواساة، وإذا كان له مال لا يحتاج إلى المواساة، وقيل: نفقة الولد تجب بثلاث شرائط: أن يكون فقيرًا، وأن يكون ناقص الأحكام والخلقة، وأن يكون الأب قادرًا على الإنفاق عليه، وهذا يرجع إلى ما ذكرنا، وإن كان كامل الإحكام والخلقة، وكان معسرًا لا كسب له فيه طريقان. أحدهما: لا نفقة له قولًا واحدًا. والثانية: فيه قولان، أحدهما: له النفقة لأن المراهق يستحق النفقة، وإن كان يمكن الاكتساب فلذلك بعد البلوغ، وبه قال أحمد. والثاني: وهو الذي نص عليه ههنا، وبه قال أبو حنيفة: لا نفقة له لأن القدرة [ق 211 ب] على الكسب يمنع استحقاق الزكاة فكذلك النفقة وعلى كلا القولين لا فرق بين الأب والابنة. وقال أبو حنيفة: الزمان شرط في الابن دون الابنة فلا تلزم نفقة الابن إذا بلغ صحيحًا ويلزم نفقة الابنة حتى تتزوج لأنه لا يمكنها الاكتساب فهي كالصغيرة. وقال مالك: هكذا إلا أنه قال: إن طلقت قبل الدخول لا تعود عند أبي حنيفة لا تعود بحال، وهذا غلط لأن كل معنى يسقط نفقة الابن يسقط نفقة الابنة كاليسار وأما ما قاله لا يصح لأنه يكفيهما الغزل والخدمة ويحصل النفقة به، وإن لم يكن له أب أو كان ولكنه معسر وله جد غني فنفقته على الجد. وبه وقال أبو حنيفة، وأحمد، وقال مالك: لا تجب النفقة على الجد لأنه يدلي بغيره كالأخ، وهذا غلط، لأن بينهما قرابة توجب العتق بالملك ورد الشهادة فتوجب النفقة كالأبوة، وإن لم يكن له جد فيلزم على أب الجد، وجد الجد، وإن علا فإن لم يكن أو كان ولكنه فقر، وله أم غنية فنفقته على أمه ولا ترجع بها على أبيه إذا أيسر، وبه قال أبو حنيفة، وقال مالك: لا تجب النفقة على الأم، وقال أبو يوسف، ومحمد: تنفق عليه الأم، فإذا أيسر الأب رجعت عليه، واحتج مالك بأن لا ولاية لها على الولد فلا يلزمها الإنفاق عليها، وهذا غلط لأن بينهما قرابة توجب رد الشهادة أو توجب العتق فأشبه الأب مع الابن، واحتج على أبي يوسف، ومحمد بأن من وجب عليه

الإنفاق بالقرابة لم يرجع به كالأب. واعلم أن جملة مذهبنا أن النفقة تجب على الأب، وإن علا والأم، وإن علت، وتجب على الجدات من قبل الأب والأم والأولاد، إن سلفوا ولا تجب نفقة غيرهم من ذي رحم مرحوم [ق 212 أ]. وقال أبو حنيفة: تجب كل نفقة كل ذي رحم مرحوم بالنسب مثل الإخوة والأعمام والعمات والخالات والأخوال ولا تجب بني الأعمام. واحتج بقوله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] وبقوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] وهذا غلط لأن رجلًا قال: يا رسول الله معي دينار، قال: أنفقه على نفسك فقال معي آخر فقال: أنفقه على ولدك الخبر إلى أن قال معي آخر قال: أنت أعلم به ولم يذكر نفقة الأخ والعم، فإن قيل: ولم يذكر الوالد والجد أيضًا. قلنا: اكتفي بالتنبيه في ذلك لأن الوالد أكد حرمة من الولد، فإذا وجب نفقة الولد فنفقة الوالد أولى ولأنه لا يجب النفقة من كسبه ولا مع اختلاف الدين بخلاف الوالدين والأولاد، وأما الآية الأولى محمولة على الميراث ولهذا قال في كتاب الله. وأما الآية الثانية قلنا: قال ابن عباس: أراد به وعلى الوارث مثل ذلك أن لا تضار والدة بولدها إلا أن عليها النفقة، وقال الأوزاعي: تجب النفقة على جميع العصبات دون ذوي الأرحام من عدا الوالدين والمولودين، وبه قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه. وقال مالك: لا تجب إلا نفقة الأب والولد دون الأمهات وأولاد الأولاد، وقال أبو ثور: يجب لكل موروث ولا تجب نفقة من ليس بمورث، وبه قال أحمد لأن الله تعالى علق بمعنى الميراث، فقال: وعلى الوارث مثل ذلك، وهذا غلط لأنها لو كانت على الميراث للزمت على الأم مع وجوب الأب قدر ما يستحق من ميراثه، وأجمعنا على خلافه ومعنى الآية ما ذكرنا أو يحمله على الأولاد بدليل ما ذكرنا. وقال أبو الخطاب: وإن شذّ عن الفقهاء: تجب النفقة على كل ذي قربى ورحم من قريب وبعيد وينسب هذا [ق 212 ب] إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو غلط عليه، والدليل على بطلانه ما ذكرنا. فإذا تقرر هذا فالكلام الآن في ترتيب من تجب عليه النفقة وتقديم بعضهم على بعض، واختلف أصحابنا فيه على طرق: أحدهما: وهو الأصح أن يقول إذا اجتمع اثنان منهم مثل أب وأم وهما غنيان فالأب أولى بالإنفاق من الأم لأنهما قد اشتركا في الولادة والبعضية وانفرد الأب بالتعصيب والاعتبار بهذه العلة، وإن كان جد وأم فالجد أولى من الأم وإن علا لما ذكرنا من العلة، وبه قال أبو يوسف، وقال أبو حنيفة، وأحمد: يجب على الجد ثلثا النفقة وعلى الأم الثلث اعتبارًا بالميراث وهذا غلط لما ذكرنا. وأما الميراث يبطل بالأب مع الأم، فإن الميراث لها والنفقة على الأب خاصة وإن اجتمع جد من قبل الأم وجد من قبل الأب، فالجد من قبل الأب، وإن علا أولى لأنه

ينفرد بالتعصيب، ولأن الأب يقدم على الأم فلذلك يقدم أبوه على أبيها، ولأن الجد يقدم على الأم والأم تقدم على أبيها، فإنه لو اجتمع الأم وأبو الأم تقدم الأم فيقدم الجد على أي الأم، وإن اجتمعت جدة من قبل الأم وجدة من قبل الأب من درجة واحدة فيه وجهان أنهما سواء فيجب على كل واحد منهما نصف النفقة لأنهما قد استويا في القرابة والإرث وعدم التعصيب فلم يكن لأحديهما مزية على الأخرى. والثاني: الجدة من قبل الأب أولى لأنها تدلى بالأب وتلك تدلى بالأم، ومن تدلى بالأب أكد ممن تدلى بالأم لكون الأب عصبة دون الأم، وإن كانت الأقرب أولى وجهًا واحدًا سواء كانت من قبل الأب أو من قبل الأم، وهذا يدل على أن الاعتبار بالإدلاء، وأن الصحيح مما تقدم الوجه الثاني وإن كان جد من قبل الأم وجدة من قبل الأب [ق 213 أ] مثل أب الأم، وأم الأب. قال القاضي أبو حامد: تجب النفقة على الجد من قبل الأم لأنه ذكر، وقد قال تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} [النساء: 34] قال: وإن كان الجد من قبل الأم أبعد من الجدة من قبل الأب فيه وجهان: أحدهما: تجب على الجدة لما ذكرنا من العلة. والثاني: تجب على الجدة من قبل الأب لأنها أقرب. وقال الشيخ أبو حامد: إذا استويا في الدرجة فيه وجهان: أحدهما: هما سواء ولا فرق بين الذكر والأنثى. والثاني: المدلى بالعصبية والأقوى في الميراث أولى وهي أم الأب، والوجه الأول أقيس، وهذه الطريقة أولى مما ذكر القاضي أبو حامد، وقال في الحاوي: إذا اجتمع أقارب الأب، وأقارب الأم يقدم الأقرب، فإن استووا في الدرج فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يشترك الفريقان في تحملها، وهذا على قول من اعتبر الدرج. والثاني: يختص بتحملها أقارب الأب دون أقارب الأم، وهذا على قول من اعتبر الإدلاء بالعصبية. والثالث: يختص بتحملها الورثة دون من لم يرث، فإن من لم يرث منه أحد اختص بها من كان أقرب إذا لا توارث، وهذا أصح عندي لقوة الوارث على من لا يرث، كما تقدم العصبية على من ليس بعصبة لقوته بالتعصيب، فعلى هذا لو اجتمع ثلاثة أبو أم أب وأم أبي أب، وأم أم أم فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يشتركون. والثاني: تختص أم أب الأب لأنها أقرب إدلاء بعصبية. والثالث: يشترك أم أب الأب، وأم أم الأم لاشتراكهما في الميراث دون أب أم الأب لأنها غير وارث. والطريقة الثانية: قال القفال: ما وجدت للشافعي نصًا في الترتيب والذي اعتمده

وأفتى به أنه إذا كان له ولد صغير فقر وله أم فنفقته على الأب بلا خلاف ويلزمه ختانه ومداواته، فإذا بلغ وجاوز حد الصغر فنفقته [ق 213 ب] على الأب والأم نصفين. ومن أصحابنا من قال: الأب أولى، ومن أصحابنا من قال: يجب عليهما أثلاثًا اعتبارًا بالميراث والأول أصح، ولا يصح اعتبار الميراث، لأن النفقة تجب على الجد أب الأم، ولا ميراث له أصلًا، وإن كان أم وجد فالنفقة عليهما نصفين، وكذلك أب الأب، وأب الأم فالنفقة عليهما نصفان، قال: وجملته أنه إذا وجد الأقرب فههنا سواء في النفقة هذا إذا اختلفت الجهتان، فإذا كانت الجهة واحدة فالنفقة على الأقرب، فالأقرب مثل إن كان له أب وجد فالنفقة على الأب، وإن كان ابن وابن ابن فالنفقة على الابن، وإن كان ابن وابنة فالنفقة عليهما سواء. ومن أصحابنا من قال: يلزمهما للذكر مثل حظ الأنثيين قال: وهذا غير صحيح. والطريقة الثالثة: الاعتبار بالولاية في المال، فإن كان أحدهما وليًا في المال بنفسه من غير تولية أحد فهو أولى، وإن كانا وليين أو لم يكونا وليين فمن يدلي بالولي أولى، فإن استويا في الأداء يعتبر حينئذٍ القرب، وهذا اختيار الشيخ المسعودي من أصحابنا قال: ولا يدخل على هذا جانب المولودين، لأن الولاية لا تتصور في جانبهم ولا يدخل على هذا الأب الكافر لا ولاية له، وهو أولى لأن فيه معنى الولاية ولا يعتبر كونه وليًا في الحال ولا يدخل عليه إذا كان الابن بالغًا لا ولاية للأب عليه وهو أولى من الأم، لأن فيه معنى الولاية. ومن أصحابنا من قال: هما سواء، فالأول أصح، قال القفال: اعتبار القرب أولى من اعتبار الولاية، لأن الإجماع يلزم النفقة على أب الأم وليس هو أهل الولاية [ق 214 أ]. الطريقة الرابعة: قال صاحب التلخيص: الأولى بالإنفاق ولده، ثم ولد ولده، وإن تنقلوا ذكورهم وإناثهم سواء، ثم أبوه، ثم أمه، ثم جده أبو أبيه، ثم جده أبو أمه، ثم أم الأب، ثم أم الأم قلبه تخريجًا تقدم الولد على الأب والأم على الجد، وهذا تناقض. الطريقة الخامسة: يعتبر الإرث، فإن كانا وارثين فهما سواء في الإنفاق وكذلك إن كانا غير وارثين فهما سواء، وإن كان أحدهما وارثًا دون الآخر، وفي القرب واحد فالوارث أولى، وإن اختلف ميراثهما فالنفقة على قدر الإرث. الطريقة السادسة: تعتبر الذكورة، فإن كان أحدهما ذكرًا، فهو أولى، وإن كانا ذكرين فهما سواء، وإن كانا أنثيين فالمدلى للذكر أولى، وإن استويا في الإدلاء بالذكر فالأقرب أولى، وهذا أضعف الطرق، والاعتماد على ما ذكرنا أولًا. وقال في "الحاوي": تحيض بحمل النفقة من فيه بعصبة من الآباء والأمهات فلا

يخلو حال من وجد منهم من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكونا جميعًا من قبل الأب لا يشركهم أحد من قبل الأم. والثاني: أن يكونوا جميعًا من قبل الأم لا يشركهم أحد من قبل الأب. والثالث: أقارب الأب وأقارب الأم. فأما القسم الأول إذا كانوا كلهم من قبل الأب فنفقته بعد الأب على الجد على ما ذكرنا ثم ينتقل إلى الجد ثم جد الجد فإذا عدم جميع الأجداد يلزم أم الأب لقيامها في الحضانة والميراث مقام الأب ولا يشاركها في درجتها بعد الجد أحد فإذا صعدت بعدها درجة اجتمع فيها بعد أب الحد ثلاثة أم أم أب، وأبو أم أب، وأم أب أب فيه [ق 214 ب] ثلاثة أوجه: أحدها: أنهم سواء لاستوائهم في الدرجة والبعضية وعدم التعصيب فيتحملونها أثلاثًا. والثاني: يتحملها أم أب الأب لأنها مع مساواتها في الدرجة أقرب إدلاء بعصبة. والثالث: وهو الأصح عندي إذا استووا في الدرج فالوارث أولى، فإن اشتركوا في الميراث تحملها منهم من كان أقرب إدلاء بعصبة، وإن اختلفت درجتهم تحملها الأقرب فالأقرب وارثًا كان أو غير وارث، فعلى هذا أن كان مع هؤلاء الثلاثة أم أب كانت أحق بتحملها على الوجوه الثلاثة، وإن لم يكن غيرهن اشتركوا في تحملها أم أب الأب، وأم أم الأب لاشتراكهما في الميراث ويسقط عن أب أم الأب لأنها لا ترث وعلى هذه القاعدة وما قدمته من هذه الوجوه الثلاثة يكون التفريغ في جميع من يتحملها، فإذا صعدت إلى درجة رابعة اجتمع لك فيها بعد جد الجد الذي لا يتقدمه من تحملها منهم أحد سبعة أم أب أب الأب، وأم أم الأب، وأم أم أم أب وهؤلاء الثلاث وارثات وأب أم أبي أب وأب أم أم أب، وأب أب أم أب وأم أب أم أب، وليس في هؤلاء الأربعة وارث ففيه وجهان: أحدهما: يتحملونه بالسوية لاستوائهم في الدرجة، فإن عدم واحد منهم يحملها من بقي، وهذا على قول من اعتبر فيها قرب الدرجة. والثاني: يتحملها منهم من أدلى بعصبة وهو لا محالة وارث وهو أول الذكورين أم أب أب الأب ويسقط عن من سواها لاختصاصها بقوى الميراث والإدلاء بعصبة، فإذا عدمت كانت على الثانية وهي أم أب الأب لاختصاصها بعد الأولى بالقوتين: الإرث وقوة الإدلاء بالعصبة، فإن عدمت الثانية كانت على الثالثة لتفردها بالقوتين، فإن عدمت الثالثة [ق 215 أ] الوارثات كانت على الرابع، وهو أب الأب لأنه أقرب إدلاء بعصبة وأٌقرب إدلاء بوارث، فإن عدم الربع، فيه وجهان: أحدهما: وهو قول من راعى قرب الإدلاء بالعصبة يلون على الثلاثة الباقين بالسوية لاستواء درجتهن في الإدلاء بالعصبة.

والثاني: وهو الوجه الذي خرجه في تقديم الوارث على من ليس بوارث يجب على من كان أقرب إدلاء بوارث وهو الخامس أب أم أم الأب لأنه يدلي بعد درجة بوارث فإن عدم الخامس استوى السادس والسابق لاستوائهما في الإدلاء بالتعصيب على قول من اعتبره ولاستوائهما في الإدلاء بوارث على الوجه الذي اخترته لكن السادس منهما ذكر، والسابع أنثى، وإذا اجتمع من تحمل النفقة ذكر وأنثى وهما يدليان بشخص واحد كان الذكر أحق بتحملها من الأنثى كالأبوين، ولو أدليا بشخص تساويا ويراعى قوة الأنساب، فإن استوت اشتركا في التحمل والسادس والسابع ههنا يدليان بشخص واحد وهو أب أم أم الأب، فالسادس منهما أبوه، والسابع أمه فاختص بتحملها السادس الذي هو أب أب أم الأب دون السابعة التي هي أم الأب، فإن عدم السادس تحملها السابع حينئذٍ على هذا القياس. وأما القسم الثاني: وهو أن ينفرد له أقارب الأم فمعلوم أنه لا يكون فيهم عصبة وتختص بمن فيهم أولاده وهم في أول درجة بعد الأم أبو أمها وهما أب الأم وأم الأم، فالنفقة على من اعتبر الدرج بينهما لاستوائهما في الدرجة، وعلى الوجه الذي اختاره في الترجيح بقوة الميراث تجب على أم الأم دون أب الأم لأنها الوارثة دونه وإن اختصت بالذكورة فالترجيح بالميراث أقوى، فإذا صعدت بعدهما [ق 215 ب] إلى درجة ثالثة اجتمع لك فيها أربعة منهم من جهة أب الأم أبواها، ومن جهة أم الأم أبواها فيكون أحدهم أم أم الأم، والثاني أب أم الأم، والثالث: أب أب الأب، والرابع: أم أب الأم، فهي على قول من اعتبر الدرج بينهم بالسوية لاستوائهم في الدرجة وهي على الوجه الذي اعتبر به في الترجيح بقوة الميراث واجبة على أم أم الأم لأنها الوارثة من كلهم، فإن عدمت وجبت بعدها على أب الأم، لأنه أقرب إدلاء بوارث فإن عدمت استوى الاثنان الباقيان فيهما وهما أب أب الأم، وأم أب الأم، وقد أدليا بشخص واحد أحدهما ذكر فكان أحق بتحملها ووجبت على أب أب الأم دون أم أب الأم، فإن صعدت بعدهم إلى درجة رابعة اجتمع لك فيها ثمانية، أحدها: أم أم أم الأم، وأب أم أم الأم، وأم أب أم الأم، وأب أب أب الأم، وأم أب أب الأم، وأب أم أب الأم، وأم أم أب الأم، فعلى قول من اعتبر الدرج يجب على جميعهم لاستوائهم في الدرجة وعلى الوجه الذي اعتبرته في الترجيح بقوة الميراث يجب على الأولى وهي أم أم أم الأم لأنها الوارثة من جميعهم، فإن عدمت فهي على الثاني وهو أب أم أم الأم لأنهم أقربهم إذ لا توارث، فإن عدم فهي على الثالث، وهو أب أب أم الأم لأنه مع الرابعة يدليان إلى أم الأم المولى بوارث فقد ما على ما بعدهما لبعد إدلائهم بوارث، وقدم الثالث لذكوريته على الرابعة لأنوثيتها مع اشتراكهما في الإدلاء بشخص واحد، فإن عدم الثالث فهي على الرابعة وهي أم أب أم الأم، فإن عدمت فهي على الخامس وهو أب أب أب الأب، لأنه مع السادس يدليان بأب أب الأم فقدم الخامس لذكوريته وإدلائهما بشخص واحد، فإن عدم كانت بعده على السادسة وهي أم أب أب الأم، فإن عدمت فهي بعدها على السابع وهو أب أم

أب الأم، لأنه يدلى مع الثامنة [ق 216 أ] بأم أب الأم فاختص بها لذكوريته فإن عدم فهي بعده على الثامنة وهي أم أم أب الأم. وأما القسم الثالث: أن يشترك فيها أقارب الأب وأقارب الأم، فإن كان أقارب الأب أقرب منهم المختصون بتحملها لقربهم، وإن استووا، فقد ذكرنا ثلاثة أوجه وذكرنا تفريعان فلا معنى للإعادة. مسألة: قَالَ: "وَإِذَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُضِيعَ أَب الوَلَد شَيْئًا مِنْهُ فَكَذَلِكَ هُوَ مِن ابْنِهِ إِذَا كَانَ الوَالِدُ زَمِنًا لا يُغْنِي نَفْسَهُ". الفصل: قد ذكرنا نفقة الولد على الوالد، وإن نفقة الوالد واجبة على والده بالتنبيه لأن حق الأب آكد فإذا وجبت نفقة الولد لئلا يؤدي إلى تضييعه فنفقة الأب أولى. ثم الكلام في فصلين: أحدهما: فيمن يجب عليه. والثاني: فيمن يجب له فأما من تجب عليه، فأن يفصل عن قوت يوم وليلة كفايته. وأما من تجب له، فإن كان معسرًا ناقص الإحكام أو أتخلقه، أو هما يلزمه وإن كان كامل الأحكام وهو فقير هل تجب نفقته ظاهر ما قاله ههنا أنها لا تجب. وقال في القديم: تجب فالمسألة على قولين: أحدهما: تجب كالزمن، وبه قال أبو حنيفة وأحمد. والثاني: لا تجب، لأنه قادر على الاكتساب، فأشبه المكتسب وإذا وجبت عليه نفقة أبيه يلزمه أن ينفق على زوجته أيضًا؛ لأن عليه أن يعف أباه على ما بيناه، وإذا قلنا: لا تجب عليه نفقته عند كمال أحكامه وخلقته وهل معسر هل يجب إعفافه فيه وجهان: أحدهما: وهو اختيار أبي إسحاق، وأبي سعيد الاصطخري تجب لأنه إذا منعه النفقة كان له إليها طريقًا من بيت المال، ولا طريق له إلى الإعفاف من وجه آخر، وبه حاجة إليه فيلزمه إعفافه. وقال أكثر أصحابنا: لا يجب إعفافه لأن النفقة آكد [ق 216 ب] وحاجة الأب إليها أشد، فإذا لم تلزم النفقة فالإعفاف أولى، وهذا أقيس، وإن كان لوالده طفل لم يلزمه نفقة الطفل، لأن نفقته لا تجب على أبيه المعسر ولا تجب على أخيه، وإن كان غنيًا، وأما إذا كان للابن زوجة وأولاد فلا يلزم للأب نفقة زوجته بخلاف الأب، ولهذا ذكر الشافعي العيال عند ذكر نفقة الوالد، ولم يذكر العيال عند ذكر نفقة الوالد، وإنما افترقا لأن الولد

إذا احتاج إلى تحصين فرجه لم يجب على الأب إعفافه وفرض على الابن إعفاف الأب، إذا احتاج إليه، وهذا لأن حق الولد أعظم من حق الولد ولهذا قتلنا الولد بالوالد قصاصًا ولا نقتل الوالد به. وقد روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أولادكم هبة من الله لكم يهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء ذكورًا وأموالهم لكم إذا احتجتم إليها". وروى جابر رضي الله عنه، أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن لي مالًا وعيالًا ولأبي مال وعيال ويريد أن يأخذ مال فقال: "وأنت ومالك لأبيك". وقال بعض أصحابنا: تجب نفقة زوجته لأنها تجري مجرى نفقته. وذكر الشيخ أبو إسحاق في المهذب: أنه لا يلزمه إعفافه ولكن يلزمه نفقة زوجته وزوجة كل قريب تلزمه نفقة لأن ذلك من تمام الكفاية ولم يذكر وجهًا آخر، وهو غريب. وذكر جدي الإمام رحمه الله فيها وجهين بناء على وجوب إعفافه وحكاه عن صاحب التلخيص، وهو بعيد ضعيف. وأما نفقة أولاد ابنه فواجبة عليه لأنه جدهم والنفقة على الجد واجبة عند إعسار الأب. فرع: لو كان له أب وابن موسرين فيه ثلاثة أوجه: إحداهما: تجب النفقة على الابن، ذكره أبو حامد في الجامع لأنهما إذا اجتمعا كان التعصيب للابن [ق 217 أ] ولأن حق الأب على ابنه أعظم. والثاني: يجب على الأب لأن إنفاق الأب على ولده نص وإنفاق الولد على الوالد اجتهاد، وهو اختيار أبي عبد الله ولأن النفقة عليه كانت قبل بلوغه فليستصحب ذلك الحكم. والثالث: يجب عليهما نصفين لأنهما سواء في الدرجة والتعصيب والأول أصح، وفيه وجه آخر. ذكره القفال يلزمهما على قدر الميراث، وهذا ضعيف. فرع آخر: لو كان له ابن، وأم موسران وهو فقير زمن فنفقته على الابن دون الأم، لأن التعصيب له، وقيل: فيه وجه آخر هما سواء، وقيل: إنهما على قدر الإرث وكلاهما ضعيف. فرع آخر: لو كانت له أم وابنة موسرتان. قال أبو حامد في الجامع: تجب نفقته على البنت دون الأم لأن للبنت التعصيب من بعض الأحوال إذا كان معها أخوها ولا تكون الأم عصبة بحال، ولأنه حقه على ابنته آكد.

وقال القفال: فيه ثلاثة أوجه: إحداها: ما ذكرنا. والثاني: على الأم. والثالث: هما سواء. قال أبو حنيفة، وأحمد: على الأم ربع النفقة، والباقي على الابنة إذا اجتمعتا ورثتا كذلك بالفرض والرد وهذا غلط لما ذكرنا وأبطلنا اعتبارها بالميراث. فرع آخر: لو كان أبواه معسرين زمنين، وهو غني لزمه أن ينفق عليهما جميعًا، فإن لم يفضل عن كفايته إلا نفقة أحدهما فيه ثلاثة أوجه: إحداها: ينفق على الأم لما روي أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أين يا رسول الله؟ فقال: وأمك، فقال: ثم من؟ فقال: أمك، فقال: ثم من؟ فقال: أمك، فقال: ثم من؟ فقال: أباك" وقال صلى الله عليه وسلم: "حق الوالد أعظم وحق الوالدة ألزم" ولأنها تفردت بحمله ورضاعه وقامت بكفالته فكانت حرمتها آكد. والثاني: الأب أولى، لأن الابن لو كان معسرًا زمنًا، وهما موسران كانت نفقته على أبيه دون أمه فكذلك هو أيضًا ينفق على أبيه دون أمه، وهذا أقيس والأول أظهر. والثالث: هما سواء لاستوائهما في الدرجة والولادة. فرع آخر: لو كان لهما مع الولد ولدين موسر يحمل باقي نفقتهما حتى يكفيا، فإن أنفق الولد وولد الولد على أن ينفق أحدهما على الأبوين، والآخر على الآخر صح، وإن اتفقا على الاشتراك في نفقتهما صح، وإن اختلفا رجع إلى خيار الأبوين إذا استوت نفقتهما، وإن اختلفت النفقتان اختص أيسرهما بأكثر الأبوين نفقة. فرع آخر: لو كان له أب وابن فقيران محتاجان إلى النفقة وهو لا يجد إلا نفقة أحدهما فيه ثلاثة أوجه: إحداها: الابن أولى، لأن نفقته نص. والثاني: الأب أولى لأنه حقه أعظم. والثالث: هما سواء، وهو اختيار القفال، وقال أبو حامد: هذا إذا لم يكن الابن

طفلًا لا يقدر على شيء فهو أولى وجهًا واحدًا وسائر أصحابنا لم يفصلوا وما ذكره أصح. فرع آخر: إذا كان هناك أب وابنة فقيران ففيه ثلاثة أوجه أيضًا. فرع آخر: لو كان ابن وجد فقيران قيل: حكمه كما ذكرنا في الأب والابن، وقيل: وجه واحد الابن أولى لأنه أقرب وهكذا لو كان له ابن وجد وهما موسران وهو فقير يحتاج فنفقته على من يكون على هذا الخلاف. فرع آخر: لو كان معهما زوجة يلزمه أن ينفق على زوجته لأن نفقتهما تجب على طريق العوض فكانت آكد، وقدمت على نفقة الأقارب. فرع آخر: لو كان موسرًا، وله أم وابن فقيران يحتاجان ولا يفصل إلا نفقة أحدهما أن يكون فيه ثلاثة أوجه كما قلنا في الأب والابن. فرع آخر: لو كانت له أم وأب أم غنيان فهما سواء لأنهما يستويان في القرب [ق 218 أ] وعدم التعصيب، ذكره في المهذب ويحتمل أن يقال: تقدم الأم لأنها أقرب. فرع آخر: لو كان هو غنيًا، والأم والابنة فقيرتان وليس معه إلا نفقة إحداهما يجب أن يكون فيه الأوجه الثلاثة، والظاهر أن تكون البنت أولى ههنا. فرع آخر: لو كان له ابن وابنة موسران فنفقته على الابن دون البنت، قال أبو حامد في الجامع، وذكرنا وجهًا عن القفال، وهو غير مشهور. وقال أبو حنيفة: عليهما بالسوية، وقال أحمد: ثلثاها على الابن، وثلثاها على البنت كما اختاره القفال، وهذا غلط لأن الابن عصبة بنفسه والاعتبار به دون الميراث. فرع آخر: لو كان له ابن ابن وابنة موسران فابن الابن أولى بالإنفاق عليه لما ذكرنا، وقال أبو

حنيفة: النفقة على البنت لأنها أقرب، وقال أحمد: على البنت الثلث وعلى الابن الثلثان، لأن ما اجتمع فيه الذكر والأنثى كان الذكر فيه بالثلثين كالميراث، وهذا وجه لبعض أصحابنا، وهذا غلط لأنه لو اعتبر الميراث لكان على البنت النصف، فإن لها نصف الإرث في هذا الموضع. فرع آخر: لو كان له بنت، وابن بنت، قال أبو حامد في الجامع: فيه قولان: أحدهما: البنت أولى، لأنها أقرب إليها مع تساويهما في عدم التعصيب. والثاني: ابن البنت أولى لأنه ذكر. فرع آخر: لو كان ابن بنت، وبنت ابن موسران فيه ثلاثة أوجه: إحداها: ابن البنت أولى، لأنه ذكر، وهو الصحيح. والثاني: بنت الابن أولى، لأنها تدلى بعصبة، وقد تكون عصبة مع أختها. والثالث: ما سواهما لاستوائهما في الدرجة وسقوط التعصيب فيهما. فرع آخر: لو كان له ابن صغير وابن ابن صغير ولا يفصل إلا نفقة أحدهما منه وجهان: أحدهما: الابن أولى، وهو الصحيح عندي، لأنه أقرب. والثاني: هما سواء لأنهما متساويان في أصل قرابة الولادة ولا اعتبار بقوة التعصيب [ق 218 ب] ولو كان بالعكس من هذا وكانا غنيين وهو فقير كان الابن أولى بالإنفاق على أبيه من ابن الابن. فرع آخر: لو كانا ولدين أيسر الأب بنفقة أحدهما وأعسر بنفقة الآخر، فإن كان مع الأب جد موسر كان الأب والجد بالخيار بين اشتراكهما في نفقة الولدين وبين أن يتحمل الأب نفقة أحدهما ويتحمل الجد نفقة الآخر، فإن اختلفا يحمل على قول من دعا إلى الاشتراك في نفقتهما، وإن لم يكن مع الأب غيره ساوى بين ولديه في النفقة، ويحمل نفقة كل واحد منهما. فرع آخر: نفقة المكاتب هل تجب على ولده، قال في الحاوي تحتمل وجهين: أحدهما: لا يجب، لأن أحكام الرق عليه جارية. والثاني: تجب نفقته على ولده لسقوط نفقته بالكتابة عن سيده.

فرع آخر: لو اختلف أحوال الوالدين فكان أحدهما رضيعا لا يقوم بنفسه، والآخر مراهقا يقوم بنفسه فالرضيع أولى ولا يشرك بينهما لأن الرضيع بالعجز مضاع والمراهق بالحركة متسبب وكذلك إن كان أحدهما مريضا فالمريض أولى. فرع آخر لو كان أحد الوالدين بنتاً فيه وجهان: أحدهما: البنت أولى لظهور النقص من حركتهما. والثاني: هما سواء لأن لكل واحد منهما من التصرف والتسبب نوعاً بعض الآخر عنه. فرع آخر لو كان ابن بنت، وبنت ابن وأيسر بنفقته أحدهما كانت ابنة الابن أولى لتقصها بالأنوثة، وقوة سببها بتعصيب أبيها. فرع آخر لو كان أب وجد معسران وليس معه إلا نفقة أحدهما فيه وجهان كما قلنا في الابن وابن الابن أحدهما مما سواء لأن لكل واحد مهما ولادة ولو اتسع المال وجبت نفقتهما معا. والثاني: وهو الصحيح الأب أولى لأنه أقرب ويقدم في التعصيب. فرع آخر لو اجتمع جد وجدة في درجة واحدة والذكر أبعد والأنثى أقرب، قد ذكرنا حكمه، وقال القاضي أبو حامد: إن كان الذكر عصبة وهو أن يكون بين الذكر وبين من له النفقة أم [ق 219 أ] فالجد أولى لأنه ذكر، والثاني الجدة أولى لأنها أقرب. فرع آخر لو اجتمعت جدتان لأحديهما ولادتان، فإن كانتا في درجة واحدة، فالجدة التي لها ولادتان أولى، وإن كانت التي لها ولادتها أبعد والتي لها ولادة واحدة أقرب كانت الأقرب أولى، ذكره أبو حامد في الجامع. فرع آخر لو كانت بنت بنت بنت أبوها ابن ابن بنته وابنته بنت ليس أبوها من أولاده، فإن كانتا في درجة واحدة فالتي جمعت القرابتين أولى، وإن كانت التي جمعت القرابتين

أسفل فالقريبة أولى قاله القاضي أبو حامد. فرع آخر لو كان له ابن وبنت موسران، قد ذكرنا أن النفقة على الابن، فإن لم يفضل عن كفاية الابن إلا نصف نفقة الأب كان الباقي على البنت، وقد ذكرنا نظيره. فرع آخر لو كان له ابن وولد خنثى مشكل فيه وجهان: أحدهما: يجب على الابن أن ينفق عليه ولكنه يجب أن ينفق بحكم الحاكم، فإذا أنفق، ثم بان أنه ذكر رجع عليه بنصف ما أنفق، وإن بان أنثى أو مات مشكلاً لم يرجع وعلم أنه أنفق ما كان واجباً عليه. والثاني: يجب على الابن نصف النفقة، وأما النصف الآخر فإن الحاكم يأمر من ينفق عليه إن وجده ويحكم بالرجوع على ما ينكشف أنه يجب عليه كما نقول إذا كان له ابنان حاضر وغائب أخذ الحاضر بنصف النفقة، وأما الغائب فإن كان له مال حاضر أخذ من ماله، وإن كان ماله غائباً أمر من ينفق عليه وكتب إلى حاكم البلد الذي هو فيه يأخذه بما يلزمه من نفقته، فإن لم يجد الحاكم من ينفق عليه أخذ الحاضر بالإنفاق عليه لأن نفقته عليه لو انفرد، وحكم له بالرجوع على الغائب إذا قدم أو ظهر له مال، والصحيح الوجه الأول، والفرق بين الخنثى وبين الغائب أن الابن ههنا يجوز أن يكون جميع النفقة عليه فهو أولى [ق 219 ب] بالمطالبة بها من غيره وليس كذلك إذا كان أخوه غائباً فإنا نتيقن أن الحاضر لا يلزمه أكثر من نصف النفقة فلم يجز أن يؤخذ بالباقي. وقال في "الحاوي": فيه وجهان: أحدهما: تجب كلها على الابن. والثاني: تجب عليهما نصفين، فإن بان الخنثى رجلا لم يرجع، وإن بان امرأة يرجع بما أنفق على الابن، هذا غريب. فرع آخر لو كان له بنت ولد خنثى مشكل فيه وجهان: أحدهما: يؤخذ الخنثى بجميع نفقته لأنه يجوز أن يكون ابنا فيلزمه جميع نفقته، فإن بان أنه ابن فقد أنفق ما وجب عليه، وإن بان أنه أنثى رجعت بنصفها على أخيها. والثاني: أنهما جميعاً ينفقان، فإن بان الخنثى أنثى فقد أنفقا ما وجب عليهما، وإن بان ذكراً رجعت أخته عليه بما أنفقت، وهذا أقيس وهذه التفريعات كلها على الطريقة الأولى. وأما على سائر الطرق يتأمل فيها ويقاس على ما قدمناه.

فرع آخر قد ذكرنا إذا كان أحد الابنين عائباً كيف يكون حكم النفقة، ولو كان الأقرب غائباً ولا يقدر الحاكم على ماله ولا على الاستعراض عليه أمر الأبعد بالإنفاق عليه حتى يرجع على الأقرب إذا رجع لأنه لو انفرد يلزمه الإنفاق عليه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا رجع الأقرب لا يرجع الأبعد عليه وهو غلط ظاهر. فرع آخر لو كان للصغيرة مال غائب فعلى الأب أن ينفق عليه فرضاً موقوفاً فإن قدم ماله رجه بما أنفق، وإن لم يكن بأمر الحاكم إذا قصد بالنفقة الرجوع لأن أمر الأب في ولده أنفذ من حكم الحاكم، وإن ملك المال قبل قدومه بعد مضي زمان بعض النفقة سقط من ذمة الولد ما أنفقه بعد تلف ماله ولو يسقط ما أنفقه قبل تلفه وكان ذلك ديناً له [ق 220 أ] على ولده يرجع به عليه إذا أيسر أو بلغ لأنه بتلف ماله صار فقيراً من أهل المواساة. فرع آخر لو كانت أمة ذات زوج قد أعسر بنفقتها لو تجب نفقتها على ولدها ما لم يفسخ نكاحه، وإن احتاجت لوجوبها على الزوج، وإن تأخر الاستحقاق بالإعسار ليلاً يجمع بين نفقة بزوجيه ونسب ولو خطبها الأزواج وهي خلته لم تجر على النكاح وأخذ الولد بنفقتها، فإن تزوجت سقطت نفقتها عن ولدها لعقد لوجوبها على الزوج. فرع آخر قد ذكرنا أن نفقة الأقارب لا تتقدر بل هي على الكفاية، فإن احتاج إلى من يخدمه يلزمه نفقة خادمه وتسقط بمضي الزمان ولا تصير ديناً عليه لأنها تجب لترجيه الوقت ودفع الحاجة. قال ابن أبي حامد: إلا أن يأمره القاضي، وقال جدي الإمام: هل تتقدر وجهان وهو بعيد. مسألة: قال: "ومن أجبرنا على نفقة بعنا فيه عليه العقار".

إذا امتنع من نفقة امرأته المستقرة في ذمته أو نفقتها الراتبة، أو مهرها الواجب في ذمته أو نفقة والديه أو مولوديه، فإن وجدنا مالاً من جنس ما عليه أخذنا منه مقدار الواجب، وإن لم نجد من جنسه ووجدنا من غير جنسه من البياض والثياب والعقار، فإن الحاكم يبيع من ماله بقدر النفقة والمهر الواجب في ذمته ولا يبيع العقار مع القدرة على بيع غيره ولها أخذه من ماله سراً وعلانية، وكذلك نفقة أولادها الصغار، فإن كان جنس النفقة: فذاك وإن كان [ق 220 ب] من غير جنسها فهل لها أن تأخذ قولان: فإن قلنا: تأخذ لا تتملكه قولاً واحداً بل تبيعه وتصرف إلى حقها ثمنه، وقال أبو حنيفة: تصرف دراهمه ودنانيره إلى النفقة ولا يباع عقاره وعروضه فيها ولكنه يحبس حتى ينفق أو يبيعها كما قال في سائر الديون وربما يسلم في نفقة الأب أنه يباع العقار فيها استحساناً. فرع لو كان للزوج في ذمتها طعام من جنس ما يلزمه لها من النفقة فطالبها الزوج بأن تقاضه بمالها عليه من النفقة لا يخلو إما أن تكون موسرة أو معسرة، فإن كانت موسرة كان له أن تطالبها بالمعارضة لأن أن تطالبها بقضائه وهذا على القول الذي يقول لا تقع المقاصة إلا بالتراضي، فأما إذا قلنا: يتقاصان بوجوبها يسقط أحدهما بالآخر، ذكره القاضي الطبري. مسألة: قال: "ولا تجبر امرأة على رضاع ولدها شريفة كانت أو دنيئة". إذا كان له امرأة له منها ولد مرضع فامتنعت من إرضاعه لا يملك إجبارها عليه على أي صفة كانت المرأة زوجة أو مطلقة شريفة أو دنية موسرة أو معسرة، وقال مالك: إن كانت موسرة نسبية رفيعة الحال لم يكن الحال لم يكن له إجبارها، وإن كانت دنية له إجبارها، وقيل عنه روايتان: إحداهما: يجب عليه إرضاعه بكل حال وتجبر على ذلك، وبه قال أبو ثور. والثانية: وهو المشهور إذا كانت ممن ترضع في العادة يلزمها لقوله تعالى: {والْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} [البقرة: 233] وهذا خبر والمراد به الأمر، وهذا غلط لان الله تعالى قال: {أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6]. وقال: وإن تعاسرتم فسترضع له أخرى، وإذا امتنعت فقد تعاسر ولأنه لو كان لحق الولد لأجبرها بعد الفرقة، وإن كان لحق نفسه لأجبرها على خدمة نفسه، فإذا لم يجبرها على خدمة نفسه فلان لا [ق 221 أ] تجبر على خدمة ولده أولى

وأما الآية التي ذكر محمولة على الاستحباب بدليل ما ذكرنا. فرع: لو اختارت أن تتطوع بإرضاعه كانت أولى من غيرها ولم يجز للزوج أن ينتزع الولد من يدها بوجه من الوجوه لأنها أحنى على الولد وأشفق من الأجنبية. وقال بعض أصحابنا: إذا أراد منعها من الإرضاع وتسليمه على امرأة لترضعه فقياس المذهب أن له ذلك لأنه يستحق عليها الاستمتاع في عموم الأوقات فإذا استعملت بإرضاع الصبي فوتت عليه حقه وليس لها ذلك، وهو اختيار أبي حامد، والأول اختيار القاضي الطبري. وقال في "الحاوي" فيه وجهان والصحيح عندي أن ينظر في سبب المنع، فإن كان الاستماع في أوقاته كان له، وإن كان لغير ذلك لم يكن له لأنه يقصد الضرر، وهذا أولى عندي. فرع آخر إذا تطوعت بالإرضاع هل يستحق لإرضاعه زيادة في نفقتها وجهان: أحدهما: قال أبو إسحاق، والاصطخري للحاكم أن يجتهد فيها ويزيد على قدر نفقتها لأن مؤنتها تزيد في هذه الحالة وتحتاج إلى زيادة غذاءه. والثاني: لا يزاد، لأن النفقة عندنا مقدرة ولا تزيد بكبره مؤنتها فلم يجز أن تزيد على المقدار المعهود، ولهذا لا يزاد إذا كانت رغيبة سمينة أكولة وهذا أصح. فرع آخر لو أرادت إرضاعه بأجرة مقدرة لم تكن من ذلك ولا يجوز أن يستأجرها زوجها علة ما ذكرنا في كتاب الإجارة، فإن أجرت لم تصح الإجارة وكذلك إن أجرت نفسها من زوجها للخدمة لم يجز لأنها مستحقة الاستمتاع في جميع الزمان إلا في مقدار العبادات المفروضة وما لابد لها من الأكل والشرب فلم يجز أن تعقد على نفسها إجارة تمنع الاستمتاع، وهذا كما لو أجر نفسه لتخدمه شهراً لم يجز أن يؤاجر ثانياً ليخيط له ثوباً أو يعمل له عملاً غير الخدمة في ذلك الشهر، وقال القفال [ق 221 ب] وعامة أهل خراسان يجوز استئجار زوجته لإرضاع ولدها منه ولخدمة البيت، وعند أبي حنيفة لا يجوز عند بقاء النكاح وبعد البينونة روايتان وجعل هذا مسألة ولم يذكر وجهاً بخلافها، وهذا أقيس وأجمع أهل العراق على خلاف هذا، وقد ذكرناه في كتاب الإجارة بالشرح والبيان. وقال بعض المتأخرين من أهل العراق فيه وجهان. فرع آخر لو أجرت نفسها من غير للإرضاع أو الخدمة لا يجوز، وقال القاضي أبو حامد في

جامعه يكون للزوج فسخه فأجاز العقد وجعله موقوفاً على فسخه والصحيح ما تقدم لأنها عقدت الإجارة على ما لا يقدر على تسليمه لما ذكرنا أو يطأها بالاستمتاع بها. فرع آخر إذا ثبت أن الإجارة باطلة فأرضعت على ذلك هل لها أن تطالبه بأجرة المثل. قال أبو إسحاق وغره من أصحابنا: ليس لها ذلك لأن هذا الزمان قد استحقه الزوج على ما ذكرنا، والنفقة التي أخذتها عوض عن جميع ما يعمله في ذلك الزمان فلم يجز لها أن تطالبه بعوض آخر ولأنها لو استحقت ذلك لجاز عقد الإجارة معها. وقال ابن خيران لها أن تطالبه بأجرة المثل لأنه أتلف عملاً لها لم يملكه الزوج بعوض لم يسلم لها فترجع إلى أجرة المثل كما في سائر الإجارات الفاسدة، قال: ولا يدخل على هذا إذا أجر الإنسان نفسه شهراً بعوض معلوم، ثم أجره في ذلك الشهر إجارة أخرى لأن العقد الثاني وقع على ما لا يملكه، وههنا عقدت على ما يملكه لأن الزوج لم يملك ذلك عنها بعقد النكاح. وأما النفقة التي أخذتها في مقابلة الاستمتاع دون سائر أعمالها ولم يتابعه أحد من أصحابنا، هكذا ذكره أبو إسحاق والقاضي الطبري والأول أصح [ق 222 أ]. فرع آخر قال القفال: لو امتنعت من الإرضاع تجبر على إرضاع اللبأ لأن الولد لا يعيش دونه ولها طلب الأجرة عليه كإحياء المضطر بطام يجب ولكن بالقيمة وكذلك بعد اللبأ إن لم يجد مرضعة أخرى أجبرت على الإرضاع بالأجرة وكذلك لو فقدت الأم ووجدنا مرضعة لا يجد سواها أجبرناها بالإحياء الولد بلا رضاع ويلزم الأجرة على الأب. وقال بعض أصحابنا: لا أجرة لها لأنه حق تغير عليها وعجز الأب عنه فيجري مجرى نفقته إذا أعسر الأب وأيسر ذكره في الحاوي. مسألة: قال: "وإن طلبت رضاع ولدها، وقد فارقها زوجها فهي أحق". قد ذكرنا حكم الزوجة فأما إذا كانت مطلقة بائناً فكذلك لا يجوز له إجبارها على إرضاعه فإن لم يوجد لبن من غيرها أخذت جراً إرضاع اللبأ حفطاً لحياة الولد، وهل تستحق أجرة المثل على ما ذكرنا، وإن اختارت إرضاعه نظر، فإن تبرعت به كانت أحق به، وإن لنم تتبرع به وطلبت الأجرة نظر أكثر من أجرة مثلها كان الأب أحق به تسترضعه امرأة أخرى، وإن طلبت أجرة مثلها نظر، فإن لم يكن مع الأب امرأة ترضع إلا بأجرة.

باب أي الوالدين أحق بالولد

مثلها كانت الأم أحق به، وإن كانت معه من ترضعه بغير أجرة أو برضعه أقل من أجرة مثلها، نقل المزني أن الشافعي قال: القول قوله مع يمينه أن يجد متطوعة أو من يرضي بأقل من أجرة المثل، فإذا حلف كان له أن ينتزعه من يدها ويسلم إلى غيرها، وإنما جعلنا القول قوله مع يمينه لأنه يتعذر عليه إقامة البنية بذلك والأصل براءة ذمته عن الأجرة، ثم لا يمنع أمه من زيارته لقوله صلى الله عليه وسلم لا قوله: " والدة على ولدها" ثم قال: وقال في موضع آخر: الأم أولى وهو اختيار المزني [ق 228 ب] واختلف أصحابنا فيه فقال الاصطخري وأبو إسحاق. وأكثر أصحابنا قول واحد لا أجرة لها وما قاله المزني ليس بقول آخر، بل قال الشافعي: إن أرضعت أعطاها أجرة مثلها وليس الزوج فإن نجد من يتطوع به من غير أجرة أو بأقل من أجره المثل فلا يجوز أن يجعل هذا قولاً آخر. ومن أصحابنا من قال: فيه قولان، وبه قال الإفصاح. أحدهما: ما ذكرنا. والثاني: لها الأجرة لقوله تعالى: {فَإنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6] ولأنها أشفق من غيرها ولأنها رشيدة لا زوج لها طلبت رضاع ولدها بأجرة مثلها فكانت أحق به حال الإقامة كما لو لم يجد من يتبرع بها. وقال أبو حنيفة: لا يسقط حق الأم من الحضانة ولا أجرة عليه ويأتي المرضعة مرضعة عندها لأن حقها من الحضانة باق. باب أي الوالدين أحق بالولد مسألة: قال: "أخبرنا سفيان بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خير غلاماً بين أبيه وأمه إلى أن قال: وإن كان أحدهما غير مأمون فهو عند المأمون منهما حتى يبلغ". إذا طلق امرأته وله منها ولد لا يخلو الولد من ثلاثة أحوال: أن يكون طفلاً لا يميز فتكون الأم أولى بحضانته وتربيته لأنها أعرف بذلك وأصبر عليه من الأب والنفقة على والده. وأما أن يكون بالغاً عاقلاً فيكون الولد أولى بنفسه إن شاء انفرد بموضع يسكنه وإن شاء كان مع أحد الأبوين. وأما أن يكون غير بالغ إلا أنه بلغ سناً يميز مثل أن يكون له سبع سنين أو ثمان سنين فهذا يخير عندنا بين الأبوين، فإن اختار أن يكون مع الأم كان معها وإن اختار أن يكون [ق 223 أ] مع الأب كان معه، وهذا التخيير طريقة الشهوة ولا يلزم، فإن اختار

أحدهما، ثم بدا له وأراد الآخر كان له ذلك ونقل إليه. قال القفال: إلا أن يكثر منه ذلك فيستدل منه على قلة عقله فتكون الأم حينئذ أولى به، وبه قال أبي إسحاق، وقال الثوري، وأبو حنيفة: لا يجبر الولد قط، فإن كانت بنتاً تكون معها حتى نبلغ، ثم تكون أحق بنفسها، وإن كان ابناً فإنه يكون مع أبيه حتى يبلغ حداً يأكل بنفسه ويشرب بنفسه، ويلبس، ثم تسلمه إلى أبيه حتى يؤدبه. وقيل عن أبي حنيفة أنه قال في الابنة: يجب عليها أن تقيم مع الأم حتى تزوج فإن طلقت قبل الدخول أو بعده لم تعد الكفالة. وقال مالك: إن كان ذكراً فالأم أحق به ما لم يثغر. وروي عنه: إلى البلوغ أيضاً، وإن كانت أنثى فالأم أحق بها ما لم تتزوج ويدخل بها الزوج، فإن طلقت قبل الدخول عادت الكفالة للأم، واحتج بأن الصغير لا قول له ولا يعرف حظه. وقال أحمد: إن كان ذكراً خير، وإن كانت أنثى لم تخير والأم أحق بها لأن الحظ للأنثى لا يكون عند أمها والغرض بالحضانة حظها، فلم تجبر وهذا كله غلط للخبر الذي ذكره الشافعي، وأراد بالغلام الصغير لأنه ظاهر الاسم ولأنه لو كان بالغاً لا يخير بين أحدهما وبين الانفراد عنهما. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قد طلقها زوجها فأرادت أن تأخذ ولدها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أستهما فيه فقال الرجل: من يحول بيني وبين ابني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للابن: "اختر أيهما شئت" فاختار أمه فذهبت به. وروي عن أبي ميمونة قال: كنت عند أبي هريرة فجاءته امرأة فقالت: إن زوجي يريد أن [ق 233 ب] يذهب الولد، وقد طلقني فقال: آستهما عليه فجاء زوجها فقال: هو ولدي، فقال أبو هريرة: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءته امرأة فقالت: إن زوجي يريد أن يذهب بولدي وقد نفعني وشفاني من .. عتبة فقال: أستهما فجاء زوجها فقال: من يحاقني في ولدي فقال: يا غلام هذا أبوك، وهذه أمك، خذ بيد أيهما شئت قال: فأخذ بيد أمه فانطلقت به. وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خير غلاماً بين أبيه وأمه. وروي عن عمارة الجرسي أنه قال: خيرني علي رضي الله عنه بين عمر وأمي ثم قال للأخ لي أصغر مني وهذا أيضاً لو قد بلغ خيرته. وفي هذا الخبر أنه قال: وكنت ابن سبع سنين أو ثمان سنين، وقال في أخيه وهذا أيضاً لو قد بلغ مبلغ هذا لخيرته ويقول على أحمد كل سن خير فيه الذكر خيرت فيه

الأنثى كسن البلوغ. وأما ما ذكروه لا يصح لأن الأب كالأم في مصالحها، وهذا التخيير غير لازم بل هو اختياره وشهوته كما يكون فيما لو [....]، وقيل: للولد أربع أحوال: حالة رضاع، وحالة حضانة، وحالة كفالة، وحالة كفاية، وقد ذكرنا حكم الرضاع وقدرة الشرع بحولين. وأما الحضانة تربيته ومراعاة مصلحته في وقت يعجز عنها ولا تمييز بين ضرها ونفعها وذلك دون سبع سنين فتختص الأم لأنها أحنى عليها وأصبر على مصالحها وشفقتها أكثر، والدليل على هذا ما روي عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده عبد الله بن عمرو أن امرأة قالت: يا رسول الله إن ابني كان بطني له وعاء وثدي له سقاء وحجري له حواء، وأن أباه طلقني وأراد أن ينزعه مني فقال لهال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق ما لم تنكحي" والحق اسم المكان الذي عول الشئ أو معنى هذا الكلام الإدلاء بزيادة الحرمة التي لها. وأما الكفالة بحفظه ومعونته عند تمييزه قبل كمال قوته [ق 224 أ] وذلك بعد سبع سنين. وأما الحالة الرابعة بعد بلوغها لا كفايتهما بأنفسهما لكمال التمييز والقوة، ولكل واحد منهما أن ينفرد بنفسه ويعتزل أبوه إلا أن يكره للجارية مفارقتهما. واعلم أن الشافعي قال: ههنا سن التخيير إذا بلغ سبعاً، وقال في موضع آخر: إذا بلغ سبعاً أو ثمان سنين وليس على قولين بل على اختلاف حالين، فإن ظهر التمييز فيه لسبع لفرط ذكائه خير، وإن تأخر لبعد فطنته خير في الثامنة عند ظهور ذلك، ويكون ذلك موكولاً إلى رأي الحاكم واجتهاده عند الترافع إليه. فإذا تقرر هذا، فإنما يخير بينهما إذا استوت حالهما وهو أن يوجد فيهما أربع شرائط: الحرية، والإسلام، والأمانة، وأن يكون بلدهما واحداً فأما إذا كان أحدهما حراً، والآخر مملوكاً فإن كان الأب هو المملوك فنفقته على أمه وهي أولى بحضانته، وإن كانت الأم مملوكة، فإن الولد عبداً لسيدها وهو أولى بحضانته وتربيته إن شاء استرضع أمه، وإن شاء انتزعه منها وتركه إلى أخرى لترضعه والأولى تركه. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز أن ينتزعه منها لأنه تفريق بين الأم وولدها فلا يجوز كما لا يجوز في البيع، وإن كانت الأم مملوكة والأب حراً بأن يكون الأب مغروراً، فإن الأب أولى منه، وإن كانا مملوكين والولد حر بأن يتزوج بعد بامرأة على أنها حرة وأولدها، ثم تبين أنها كانت مملوكة فالولد حر. قال أبو إسحاق: تجب نفقته وحضانته على المسلمين كاللقيط فيجيب على الحاكم أن يستأجر امرأة تحضنه وتنفق عليه من بيت المال.

وقال في "الحاوي": إذا كانت الأم مملوكة لم يجز أن يفرق بينهما في زمان الحضانة، وفي جواز التفرقة بينهما في زمان الكفالة ما بعد سبع سنين والبلوغ قولان، وإن كان أبوه ملكاً لسيده ففي [ق 224 ب] إجراء حكم الأم عليه في المنع من التفرقة بينهما وجهان. واختار الشيخ أبو حامد أن أم الولد أولى بالولد من السيد إلى سبع سنين فإذا بلغ سبعاً فالأب أولى إلا أن يعتق الأم فيخيروا المذهب الصحيح ما ذكرناه أولاً والفتوى على ما ذكره أبو حامد للمصلحة، وإن كان أحدهما كافراً والآخر مسلماً فإن المسلم منهما أولى لا يختلف المذهب فيه. وحكي عن الاصطخري أنه قال: يخير بينهما، واحتج بما روي أن رافع بن أبان اسلم وأبت امرأته أن تسلم فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: ابنتي وهي فطيم. وقال رافع: ابنتي، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لرافع: اقعد ناحية، وقال لامرأته: اقعدي ناحية، وأقعد الصبية بينهما، ثم قال: ادعوها فمالت الصبية إلى أمها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهدها" فمالت إلى أبيها فأخذها. وروي عبد الحميد بن سلمة، عن أبيه، قال اسلم أبي وأبت أمي أن تسلم وأنا غلام فاختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا غلام اذهب إلى أيهما شئت، إن شئت إلى أبيك، وإن شئت إلى أمك" فتوجهت إلى أمي فلما رآني النبي صلى الله عليه وسلم سمعته يقول: "اللهم أهده" فملت إلى أبي وقعدت في حجره. وحكي عن أبي حامد أنه قال: الذمية أولى بالحضانة إلى سبع سنين، فإذا بلغ سبعاً فالأب أولى وهذا غلط، لأن الحضانة جعلت لحظ الولد ولا حظ للولد المسلم في حضانة الكافر لأنه يفتنه عن دينه، وذلك أعظم الضرر، والخبر الذي ذكره منسوخ، لأن الأمة اجتمعت أنه لا يسلم الصبي إلى الكافر، ويحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم أنه يختار المسلم فلهذا خيره وكان هذا حكماً خاصاً له ولأنه لا خلاف أن أحدهما إذا كان فاسقاً والآخر عدلاً، فالعدل أولى، فإذا كان العدل أولى من الفاسق فالمسلم أولى من الكافر. وحكي ابن أبي هريرة، وغيره عن أبي حنيفة [ق 225 أ] أنه قال: لا تبطل كفالته [كفره، وهذا غلط لما ذكرنا، وإن كان أحدهما مأموناً والآخر غير مأمون فالمأمون أولى لأنه يستضر بغير المأمون في تربيته على خلقه، وسوء صنيعه، ونريد به العدل والفاسق، وإن اختلف بلدهما، فإن كان يريد سفراً لحاجة، ثم يعود فالمقيم أولى لأن في المسافرة به إضرار به والمقام أودع والسفر خطر، وإن أراد سفر الانتقال، فإن كان الأب منتقلاً كان أحق به من الأم، وإن انتقلت الأم إلى بلد آخر، فالأب أحق به، وهذا لأن حفظ

النسب إلى الأب, وهو أهم من الحضانة التي يحصل له بالأم فقدمنا الأب عليها وقد ذكر بعض أصحابنا: أن اختلاف البلدين بأن تكون المسافة بينهما قدر ما تقتصر فيه الصلاة, فإن كانت المسافة أقل من ذلك فالأم أحق كما في البلد الواحد لأن مراعاة الأب له ممكنة في هذا القدر من المسافة, وهذا اختيار أبي حامد والقاضي الماوردي وجماعة. وقال بعض أصحابنا: لا اعتبار بهذه المسافة لأن إذا انتقل عن بلده لا يمكنه تأديبه وتعليه ذكره في الشامل, وهو الأصح عندي, وبه قال مالك, وأحمد. وقال أبو حنيفة: إن كانت الأم مقيمة والأب منتقلاً فالأم أحق, وإن كانت الأم متنقلة, فإن انتقلت من بلد إلى قرية فالأب أحق, لأن في البلد يمكن تأديبه بخلاف القرية, وهذا غلط لأنهما أبوان استوت حالهما واختلف بهما الدار فكان الأب أولى بالبلد كما لو انتقلت من بلد إلى قرية. فرع: لو كان بعض الولد حرًا وبعضه موقوفًا خير بين الأبوين بما فيه من الحرية إذا كانا حرين, فإذا اختار أحدهما اجتمع مع سيده المالك لدقة على ما يتفقان عليه في كفالته من اشتراك فيها أو مهايأة عليها أو استنابة فيها, فإن تنازعا اختار الحاكم لها أمينًا ينوب عليها في كفالته. فرع آخر: من يجن زمانًا ويفيق زمانًا [ق 225 ب] لا كفالة له, لأنه في زمان الجنون زائل الولاية وربما يطرأ جنونه على عقله فلا يؤمن معه على الولد إلا أن يقل جنونه في الأحيان النادرة ولا يؤثر في التمييز بعد زواله فلا يمنع من الكفالة. فرع آخر: لو كان أحدهما مريضًا, فإن كان طارئًا يرجى زواله فلا يمنع, وإن كان ملازمًا كالقالج والسل, فإن أثر أو تشاغل بشدة ألمه لا كفالة له, وإن أثر في قصور حركته مع صحة عقله وقلة ألمه روعيت حاله, فإن كان ممن يباشر كفالته بنفسه سقط حقه منها لما يدخل على الولد من التقصير فيها, وإن كان ممن يراعى بنفسه التدبير ويستنيب فيما تقتضيه المباشرة كان على حقه من الكفالة سواء, كان أبًا, أو أمًا، وإذا برأ العاجز عاد إلى حقه. فرع آخر: لو وجد في كل واحد من الأبوين شروط الكفالة ويفصل أحدهما على الآخر بزيادة في الدين أو زيادة في المال أو زيادة في المحبة فيه وجهان: أحدهما: أن هذا شرط معتبر يسقط به التخيير وتكون الكفالة لا فضلهما لظهور

الحظ فيه للولد. والثاني: لا يرجع بهذا إذا خلا من نقص لأن الحق في الكفالة مشترك بين الكافل والمكفول فلم يسقط حق الكافل بالزيادة في حق المكفول. فرع آخر: قال في "الحاوي": التخيير يحتاج إلى شروط ثلاثة في الولد, الحرية والتمييز والسن, ويحتاج إلى خمسة شروط في الأبوين يشتركان فيه وإلى شرط سادس في الأم, وإلى شرط سابع يختلف فيه, أحدهما: الحرية, والثانية: العقل, والثالث: الإسلام, والرابع: الأمانة, فلو ادعى أحدهما علي الآخر فسقه لينفرد بالكفالة من غير تخيير لا يقبل وله إحلافه, والخامس: اجتماعهما في وطن واحد. والسادس: أن تكون خلية من زوج على ما سنذكره، والسابع: المختلف فيه أن يفضل أحدهما على الآخر بزيادة في الدين أو المحبة, وقد ذكرنا شرحها. فرع آخر: لو خير الولد عن الأبوين [ق 266 أ] عند وجود الشرائط فاختارهما يقرع بينهما لأنه لا يمكن اجتماعهما على كفالته ولا مزية لأحدهما على الآخر فوجب التقديم بالقرعة. فرع: لو خير بينهما فلم يختر واحدًا منهما فيه وجهان: أحدهما: يقرع لأنه لا يمكن تركه وحده ما لم يبلغ ولا مزية لأحدهما على الآخر فوجبت القرعة. والثاني: الأم أحق لاستحقاقها لحضانته, وإن لم يختر غيرها لكفالته, وهذا أشبه. فرع آخر: لو تدافعا كفالته وامتنعا منها, فإن كان بعدهما من يستحق كالجد بعد الأب والجدة بعد الأم فتنقلت الكفالة إلى من بعدهما وبخير الولد بيهما إذا تكافأت أحوالهما, وإن لم يكن بعدهما من استحق كفالته فيه وجهان: أحدهما: يكون الولد على خياره ويجبر من اختاره على كفالته, لأن في الكفالة حقًا لهما, وحقًا عليهما فلا يسقط تمانعهما حق الولد عليهما, وإن سقط حقهما. والثاني: يجبر عليهما من وجبت عليه النفقة منهما لوجوبها عليه لقوه سببه. فرع آخر: إذا قلنا بالوجه الأول وكان التمانع في وقت الحضانة أقرع بينهما وأجبر عليها من فر منها لقوله تعالى: {ومَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ} [آل عِمرَان: 44] الآية. فقيل:

اختصموا تنازعًا لكفالتها, وقيل: اختصموا تدافعًا لكفالتها فاستهموا فدل على دخول القرعة في الحالين عند التنازع والتدافع. فرع آخر: لو سلم أحدهما كفالته إلى الآخر فهو أحق وكلام للولد, فإن عاد إلى الطب عاد إلى حقه وجملة ما ذكرنا أنه إذا وجدت الشرائط لا يخلو من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يتنازعا في الكفالة. والثاني: أن يتدافعها عنها. والثالث: أن يسلمها أحدهما إلى الآخر, فإن تنازعا يخير وللولد في التخيير ثلاثة أحوال: أن يختار أحدهما, أو أن يختارهما, أو لا يختار واحدًا منهما, وقد ذكرنا شرحها. مسألة: قال: "وِإِذَا افْتَرَقَ الأَبَوَانِ [ق 266 ب] وهُمَا فِي قَرْيَةٍ وَاحِدَةٍ فَالأُمُّ أَحَقُّ بِوَلَدِهَا مَا لَمْ تتَزَوَّجْ". الفصل: الأم إنما يكون لها حق حضانة الصبي إذا كانت خالية عن زوج, فإن تزوجت سقط حقها في الحضانة. وقال الحسن البصري: لا تسقط حضانتها, وهذا غلط لقوله صلى الله عليه وسلم: للأم أنت أحق به ما لم تنكحي. وروى عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الأم أحق بولدها ما لم تتزوج" ولأن النكاح يمنع مقصود الكفالة لاشتغالها بحق الزوج, واحتج بما روي أن عليًا رضي الله عنه, وزيد بن حارثة, وجعفر بن أبي طالب تنازعوا في حضانة ابنه حمزة فقال: عليّ بنت عمر, وعند بنت رسول الله صلى عليه وسلم وقال زيد أخي لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان آخى بين حمزة وزيد, وقال جعفر بنت عمي وعندي خالتها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " الخالة بمنزلة الأم" وسلمها إلى جعفر لها الحضانة وهي متزوجة قلنا: لا صحة فيه لأنه لم يكن هناك من هو أحق منها لأن زيدًا لا حضانة له, وعلي وجعفر سيان في القرابة. فإذا تقرر هذا وتزوجت الأم, فإن لم يكن لها أم ولا إحدى أمهاتها فالأب أولى بحضانته, وإن كان لها أم ولم يكن لأمها زوج كانت أحق بحضانته, وإن كان لها زوج

نظر, فإن كان زوجها جد الصبي الذي هو أب أمه فهو أولى بحضانته من الأب, وإن كان زوجها غريبًا فالأب أولى منها، ولو كان زوج المرأة عم الصبي, قال القفال: لا تسقط حضانتها قياسًا على الجد. ومن أصحابنا من قال: لا يقاس العم على الجد, لأن حق آكد ألا ترى أنه أولى من الأخت وهي أولى من العم. وقال صاحب الحاوي: إذا كان زوج الأم عصبة للولد, فإن منعها من الكفالة سقط حقها, وإن أذن لها في الكفالة ومكنها من القيام بها فيه وجهان: أحدهما: تستحق الكفالة [ق 277 أ] لزوال السبب المانع بالتمكين واتقاء العار بامتزاج النسب. والثاني: لا تستحق الكفالة لعموم الخبر الذي ذكرنا ولأن الطبع يجذبها إلى التوفر على الزوج ومراعاة أولادها منه إن كانوا تسقط حضانتها لهذا. فإذا تقرر هذا وخيرنا الولد بين الأبوين, فإن اختار الأم فإن كان ذكرًا كان بالنهار مع الأب يعلمه القرآن والأدب أو الصنعة يأوي بالليل إلى أمه ويبيت عندها. وإن كانت أنثى كانت عند أمها ليلًا ونهارًا لأن كل ما يحتاج إليه مما تتعلمه من الخبز والطبخ والغزل, فإنها تتعلم من أمها وإن اختارت الأب تكون عنده ليلًا ونهارًا وسواء كان ذكرًا أو أنثى إلا أن الأب يوجه الابن إلى أمه ليزورها في كل وقت ولا يستدعيها إليه لأن الأم عورة, وإن كانت أنثى فالأم تجيء إليها وتزورها لأنهما عورتان, والأم أولى بالخروج لأنها أكثر تجربة وأكمل عقلًا وتمييزًا من البنت فتكون الأم بالخروج أولى, وإذا جاءت إليها تعدت عندها قعود الزائرين, ولا تطيل الجلوس أول النهار إلى آخره إلا أن تمرض البنت فإنها تعقد وتطيل, وإن ماتت قعدت إلى أن تدفن ثم ترجع ولا ينبغي أن تخلو بالزوج, فإن لم يكن معها ثالث خرج الزوج حتى تدخل, وإن مرضت الأم خرجت البنت إليها ومرضتها, إن كانت تحسن ذلك, وإن لم تحسن ذلك لصغرها نظرت إليها وسألتها عن حالها, وقعدت عنها وقتًا, ثم رجعت, وإن ماتت قعدت حتى تدفن, ثم ترجع وليس للأب أن يمنعها من البكاء, وله أن يمنعها من النياحة واللطم ويمنعها من الخروج مع الجنازة وزيارة قبرها لأنها عورة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن الله زائرات القبور ولا يمنع الابن من ذلك لأن الرجال لا يمنعون من زيارة القبور. فرع: لو أراد الغلام زيارة الأم كل يوم أو أرادت الأم ذلك فله المنع لأن عادة الزيارة معلومة [ق 277 ب] وإنما تكون من الأيام يومًا, وأما قوله ههنا فإن ماتت الابنة لم تمنع الأم من أن يأتيها حتى تدفن يحتمل

تفسيرين كل واحد منهما مسألة على حدة: أحدهما: أن الابنة إذا ماتت فليس لأبيها منع أمها من دخول داره لتجهيزها ودفنها. والثاني: أن الابنة إذا ماتت فليس لزوج الأم إذا كانت ناكحة أن يمنعها عن حضور دفن ابنتها وتجهيزها. وهذا كله من مكارم الأخلاق وقوله: ولا يمنعها معناه: إن ماتت الأم فلا ينبغي للأب أن يمنع الابنة عن حضورها, وقوله ولا تمنع من مرضها من أن تلي تمريضها من منزل أبيها تحتمل تفسيرين كما ذكرنا في موت الابنة. مسألة: قال: " وإِنْ كَانَ الوَلَدُ مَجْنُوتًا فَهُوكَالصًّغِيرِ". أراد بالمخبول: لأنه في معنى الطفل الصغير الذي لا تمييز له وتكون الأم أحق به ولا يخير أبدًا لأنه لا يهتدي إلى مصلحة نفسه في موضع حظه وإن خيرناه فاختار الأب, ثم جن كانت الأم أحق به, وبطل اختياره لنفسه لأنه بطل السبب الذي له به الاختيار مسألة: قًالَ: " وإِنْ خُيِّرَ فَاخْتَارَ أَحَدَ الأَبَوَيْنِ ثُمَّ اخْتَارَ الآخَرَ حُوِّلَ". قد ذكرنا أن هذا الاختيار اختيار شهوة وليس بلازم, ولو كان لازمًا لا تنظر فيه بلوغه فلما صح في صغره دل على ما قلناه ومعناه ظاهر, وهو أنه بما يختار أحدهما فإذا اختبره وعاشره نكد جانبه وكره مساكنته ومعاشرته فيميل باختياره إلى الآخر. مسألة: قَالَ: " وإِذَا مُنِعَتْ مِنْهُ بِالَّزوجِ فَطَلَّقَهَا طَلاَقًا يَمْلِكُ فِيهِ الَّرَّجْعَةَ أَولا يَمْلِكُهَا رَجَعَتْ عَلَى حَقّها". إذا سقط حقها من الحضانة بالنكاح فطلقها زوجها عاد حقها وكانت أولى بحضانته من غيرها سواء كان الطلاق بائنًا أو رجعيًا وكذلك إذا كانت الأم كافرة فأسلمت أو أمة فأعتقت أو مسافرة فرجعت رجع حق الحضانة إليها [ق 28 أ] في الحال. وقال مالك: لا يعود حقها بالطلاق بحال, وقال أبو حنيفة: لا يعود حقها ما دامت في عدة الرجعة, وهذا على أصله أن الرجعية مباحة لزوجها وهو قول المزني لكنه يقول: الرجعية في حكم الأزواج ولا يقول إنها مباحة لزوجها, وهذا غلط لأنه إنما بطل حقها من الحضانة لمعنى اشتغالها بالزوج عن الولد, فإذا زال هذا المعنى عادت الحضانة.

ثم ألزم الشافعي نفسه سؤالًا، فقال: فإن قيل كيف يعود إلى ما بطل النكاح وأراد به مالكًا، قيل: لم يبطل حقها بل تراخى لمعنى فيزول بزوال ذلك المعنى ولو كان بطل ما كان لأمها يعني الجدة، وكان ينبغي إذا بطل عن الأم أن يبطل عن الجدة التي إنما حقها بحق الأم. وقد قضى أبو بكر الصديق على عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، بأن جدة ابنه أحق به منه، ثم ابتدأ سؤالًا ليكشف حق الأم من الولد قيل: لحق الأب هما والدان يحدان بالولد، فلما كان الولد لا يعقل كانت الأم أولى به على أن ذلك حق للولد لا للأبوين، لأن الأم أحنى عليه وأرق من الأب. قال القفال: وإنما تعود لها حق الحضانة في العدة إذا رضي المطلق بأن يدخل ولدها بيته لأنها تعتد في بيته إذ للمعتدة السكنى بائنًا كانت أو رجعية، فإن لم ترض لم يكن لها هذا الحق. فرع: لو كانت خالية من زوج فتركت حضانتها مع القدرة، ولها أم خالية من زوج فلمن تكون الحضانة، قال الاصطخري في أدب القضاء يحتمل وجهين: أحدهما: تكون لأمها كما لو تزوجت، وهذا اختيار أبي حامد وجماعة. والثاني: تكون للأب، لأن حضانتها لم تبطل بالترك، وصارت كالفاصل في النكاح ولا تنتقل ولايته إلى من دونه، وهو اختيار ابن الحداد ومشايخ خراسان. مسألة: قَالَ: "فَإِذَا بَلَغَ الغُلاَمُ وَلي نَفْسَهُ". الفصل: [ق 288 ب] إذا بلغ الصبي رشيدًا له أن يفارق أبويه، وينفرد بنفسه ولا يجوز إجباره على أن تكون معهما إلا أن الأفضل برهما وترك فراقهما، لأن الله تعالى أوصى بالإحسان إليهما مسلمين أو كافرين، ونطق القرآن بذلك من مواضع، وإن كانت أنثى فبلغت فإنا نكره لها فراق الأبوين إلى أن تضم إلى زوجها فإنها عورة ولا يؤمن عليها من انفرادها، وإن اختارت لم تمنع منه، وإذا زفت إلى زوجها، ثم طلقها، فإنا نستحب إليها أن لا تفارق أبويها كالابن ولا يكره له فراقها كما لا يكره للابن لأمها قد خيرت الرجال وعرفت الأمور فهي تحفظ نفسها من الرجال. وقوله: فإن أمن كانت مأمونة سكنت حيث شاءت أي ثابت وتأيمت بأن طلقها

زوجها بعدما أصابها، وقول الشافعي ما لم تر ريبة. اختلف أصحابنا منهم من قال: معناه إذا رأت ريبة أجبرت على أن تسكن مع أبويها أو مع أحدهما إن كانا متفرقين وليس لها أن تسكن حيث شاءت، وهذا هو الصحيح، ومنهم من قال معناه: إذا رأت ريبة كره لها أن تنفرد وتكون بمنزلها قبل الزفاف. قال أصحابنا: وكذلك إذا كانت بكرًا طهر منها ريبة تجبر على السكون في موضع تخص فيه والأولى على كل حال أن لا تفارق الأبوين زيادة في تحصينها وسببه نفي الريبة عنها وإنزاع للتهمة. مسألة: قَالَ:" وَإِذَا اجْتَمَعَ القَرَابَةُ مِنَ النَّسَاءِ فَتَنَازعْنَ المَوْلُودَ". الفصل: الكلام الآية فيما يستحق الحضانة وترتيب الأقارب بعضهم على بعض، وذكر الشافعي في ذلك مسألتين: إحداهما: إذا اجتمع نساء الأقارب ولا رجال معهن. والثانية: إذا اجتمع الرجال والنساء، فأما المسألة الأولى فاختلف قول الشافعي في ترتيب الحضانة بينهن، فقال في الجديد: الأم أولى، ثم أمهاتها، ثم الأب, ثم أمه [ق 229 أ] ثم أمهاتها, ثم أم الجد، ثم أمهاتها، ثم أم أبي الجد، وأن يكون وقوله: ههنا، ثم الجدة أم الجد، يعنى أم الجد من جانب الأب فلا ترتقي إلى أم جد الأب بحال، ثم الأخت من الأب والأم، ثم الأخت من الأب، ثم الأخت من الأم، ثم الأخت من الأم ثم الخالة، ثم العمة. وجملته أن الاعتبار بالولادة الظاهرة، ثم بقوة الميراث، ثم بقوة الإدلاء. وقال في القديم: الأم أولى، ثم أمهاتها، ثم الأخت للأب والأم، ثم الأخت للأب، ثم الأخت للأم، ثم الخالة، ثم أم الأب وأمهاتها، ثم أم الجد، ثم العمة ووجه هذا أن الأخت رضعت معها في رحم واحد فهي أقرب من أم الأب، والخالة تدلي بالأم، وأم الأب تدلي بالأب والأم تقدم على الأب فكذلك من يدلي بالأم تقدم على من يدلي بالأب، وهذا غلط، والصحيح قوله الجديد، وبه قال أبو حنيفة لأنها جدة وارثة فوجب أن تقدم على الأخت كأم الأم، ولأن لها ولادة فتعتق على الوالد بها ويثبت ميراثها مع الابن بخلاف الأخت والخالة. وأما ما ذكر القائل يقول: القديم يبطل بأم الأم فإنها أولى بلا خلاف. فإذا تقرر هذا فأعلم أنه لا خلاف أن الأم أحق بدليل قول صلى الله عليه وسلم:" أنت أحق به ما لم

تنكحي" وأيضًا فإنها ساوت سائر الأقارب في الحضانة، واللبن وانفردت بقرب الدرجة والشفقة والحنو على الولد، فكانت أولى من غيرها ثم إذا عدمت الأم فأمهاتها فيقمن مقامها، وإن علون على الترتيب الأقرب فالأقرب لأن لهن ولادة وشفقة مثلها وهن، وإن بعدن يتقدمن على أمهات الأب، وإن قربن لأن الولادة فيهن مستحقة، وفي أمهات الأب لأجل الأب مظنونة وأنهن أقوى ميراثًا منهن لأنهن لا يسقطن بالأب، ثم بعدهن ننتقل إلى أمهات الأب. نص عليه في الجديد فأحق أمهات الأب أمه، ثم أمهاتها، وإن علون فقد مات على أم الجد لتقديم الأب على الجد [ق 299 ب] فإذا عدمن قام الجد, ثم أمهاتها، وإن علون ثم أم أب الجد ثم أمهاتها ثم ينتقل إلى الأخوات وترتيب الأخوات على ما ذكرنا, وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة الأخت من الأم أولى من الأخت للأب، وبه قال المزني، وابن سريج، قال في المنهاج، وكان القياس الذي مهده في الجد أب تقدم الأخت للأم على الأخت للأب، وقد فعل ذلك في القديم ولكنه نظر في هذا الموضوع مع القرابة إلى ترجيح الميراث والعصوبة من جانب الأب فقدم الأخت للأب، ووجه أن الأخت من الأم تدلي بالأم فتقدم على الأخت من الأب كما تقدم الأم على الأب وعلى هذا قال ابن سريج: الخالة تقدم على الأخت من الأب أيضًا لهذه العلة. وعن أبي حنيفة روايتان في هذا، وهذا غلط لأنهما أختان من أهل الحضانة فكان أقواهما في الميراث أقواهما في الحضانة كالأخت من الأب والأم مع الأخت من الأب. وأما ما ذكره لا يصح لأن الأخت تدلي بنفسها لأنهما خلقا من ماء واحد ولها تعصيب وليس للأخرى ذلك فكانت أولى ثم ينتقل إلى الخالات فيقدم الخالة للأب والأم، ثم الخالة للأب، ثم الخالة للأم وخالفه المزني، وابن سريج فقالا: تقدم الخالة من الأم على الخالة من الأب. ومن أصحابنا من يسقط حضانة الخالة للأب لإدلائها بأب الأم والأنثى إذا أدلت بذكر لا ترث لا يكون لها حضانة، هذا لا يصح لمساواتها للأم في درجتها فصارت مدلية بنفسها وخالفت أم الأب الأم المدلية بغيرها وإنما قدمنا الخالات على العمة لأنها تدلي بالأم، والعمة تدلي بالأب، فغلب جانب الأم على جانب الأب ثم بعدهن العمات فتقدم العمة من الأب والأم، ثم العمة من الأب، ثم العمة من الأم، وقال المزني، وابن سريج تقدم العمة من الأم على العمة من الأب ثم اختلف أصحابنا على وجهين: أحدهما: ينتقل بعد العمات إلى بنات الإخوة [ق 230 أ] والأخوات، ثم إلى بنات العصبات قربًا فقربًا، ثم بنات الخالات والعمات، ثم إلى خالات الأبوين على ترتيب العصبات اعتبارًا بالميراث. والثاني: أنها تنتقل بعد الخالات والعمات إلى خالات الأبوين عملًا على تدريج الأبوة فإذا قلنا بالوجه الأول تقدم بنات الأخوات على بنات الأخوة لتقدم الأخوات فيها على الأخوة فتقدم بنت الأخت للأب والأم، ثم بنت الأخت للأب ثم بنت الأخت

للأب، ثم بنت الأخت للأم، ثم ينتقل إلى بنات الأخوة فتقدم بنت الأخ للأب والأم، ثم بنت الأخ للأب، ثم بنت الأخ للأم، ثم ينتقل إلى بنات بني الأخوات لأن بني الأخوة عصبة يرثون وبنو الأخوات لا يرثون فتقدم الحضانة لبنت ابن الأخ للأب والأم، ثم لبنت ابن الأخ للأب ولا حضانة لبنت ابن الأخ للأم لأنها تدلي بذكر لا يرث، ثم تنتقل بعد بنات العصبات إلى بنات الخالات، ثم بنات العمات. وإذا قلنا بالوجه الثاني انتقلت بعد الخالات والعمات إلى جدات الأم يترتبن فيها ترتيب الخالات المرتفقات ولا حضانة لعمات الأم لإدلائهن بأب الأم وهو ذكر لا يرث، ثم ينتقل بعد خالات الأم إلى خالات الأب، ثم إلى عماته، ثم ينتقل بعد خالات الأب وعماته إلى خالات أم الأم، دون عماتها، ثم تنتقل بعدهن إلى خالات الجد، ثم إلى عماته، ثم تنتقل بعد خالات الأب وعماته إلى خالات أم الأم دون عماتها، ثم تنتقل بعدهن إلى خالات الجد، ثم إلى عماته، ثم يستعلي ذلك إلى درجةٍ بعد درجٍة ولا تستوعب عمود الأمهات، لأن البعدى من أمهات الأم وراثة كالقربى فلم يعتبر في حضانتهن قرب الدرج والخالات والعمات بخلافهن لأنهن لا يرثن [ق 230 ب] فاعتبر فيهن قرب الدرج فإذا عدم خالات الأمهات وخالات الآباء وعماتهن انتقلت الحضانة بعدهن إلى بنات الأخوات، ثم إلى بنات الأخوة، ثم إلى بنات العصبة، ثم إلى بنات الخالات، ثم إلى بنات العمات على ما بيناه في الوجه الأول. وقال بعد أصحابنا بخراسان: إذا قلنا الخالة أولى فهي أولى من بنت الأخت ثم بنت الأخت أولى من العمة، وإن استويا في حرمان الميراث والمحرمة لأنها من قرابة الأم، والصحيح ما ذكرنا، وأما المسألة الثانية فسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى. مسألة: قَالَ:" وَلاَ وِلاَيَة لأُمَّ أَبي الأُم لأَنَّ قَرَابَتَهَا بِأَبِ الأُمَّ". جملته أن كل أب يدلي بأم فلا حق له ولا لمن يدلي به من الأمهات، من أم أب الأم وغيرها وعلل ههنا فقال: لأن قرابتها بأب الأم، وهذا التعليل فيه نوع اختصار لأنك تعلم أن أم الأب وأم أب الأب تدلى بقرابة أم فلا يكتفي في التعليل بأن يقال بأن قرابتها بأن لا بأم ومعناه لأن قرابتها بأب أم وذلك الأب لا حق له في هذه الولاية وغيره من الولايات فالمدلية به تشابهه وتحاكيه فكان قرابة الصبي من سائر النساء اللاتي رتبناهن أدلى من هذه التي هي أم أم الجد أب الأب وكذلك لا حق لأم أم أم ولا لأم أب أم أب وعلى هذا لا حق لابنة الخال ولا لابنة ابن الأخت لأنها تدلي بذكر لا يرث. فرع: هل لهن الحضانة مع عدم مستحقها وجهان:

أحدهما: لهن ذلك لاختصاصهن بالقربى، وإن ضعفت لأن ضعفها يسقط جهتها مع من هو أقوى منها ولا يسقط مع من عدم قرابتها فعلى هذا لا يجوز العدول عنها إلى الأجانب. والثاني: لا يستحقن الحضانة بحالٍ لأنه لم يوجد فيهن سبب الاستحقاق ولكن يجوز أن يقدم بذلك على الأجانب من طريق الأولى [ق 231 أ] دون الاستحقاق كما تقدم المرضعة والجارة، هذا لأن حضانتهن أصلح للصبي من حضانة الأجانب فعلى هذا إن أدى اجتهاد الحاكم إلى العدول منها إلى غيرها من الأجانب جاز. وهذا اختيار أبى إسحاق، لأن الحاكم أحق نيابة عن المسلمين كما في الميراث فإذا قلنا بالأول ففي أحقهم بها إذا اجتمع الذكور والإناث وجهان: أحدهما: الذكور أحق بها لقربهم ممن أدلى بهم فيكون أب الأم أحق بالحضانة من أب، والخال أحق بها من ابنته. والثاني: الإناث مع بعدهن أحق بها ممن أدلى به من الذكور مع قربهم لاختصاصهن بالأنوثة التي هي آلة التربية ومقصود الحضانة فتكون أم أب الأم أحق من أبيها وبنت الخال أحق بها من الخال، وإن انفرد الذكور وتنازعوا فإن كان لأحدهما ولادة دون الآخر كأب الأم والخالة كانت الحضانة لأب الأم لبعضيته ولا قصاص عليه به وعتقه عليه، وإن لم يكن فيها ولادة كالخال والعم من الأم فيه وجهان: أحدهما: أنهما سواء بينهما ولا اعتبار بمن أدليا به لتساويهما في سقوط الحضانة مع وجود مستحقها. والثاني: وهو الأشبه يستحقها من قوي سبب إدلائه فيكون الخال لإدلائه بالأم أحق بها من العم للأم لإدلائه بالأب الذي تقدم عليه الأم، ولو كان ابن أخ لأم وعم لأم كان العم للأم أولى لإدلائه بأم الأب التي هى أحق بالحضانة من الأخ للأم. مسألة: قَالَ: " وَلاَ حَقَّ لأَحَدٍ مَعَ الأَبِ غَيْرَ الأُمَّ وَأُمَّهَاتِهَا". الفصل: قد مضى الكلام إذا اجتمع نساء القرابات ولا رجل معهن وهذه المسألة إذا اجتمع الرجال والنساء والحكم فيها بأن الأم وأمهاتها أولى من جميع الأقارب لما ذكرنا أن لهن ولادة وهن من أهل الحضانة بأنفسهن [ق 231 ب] فإن عدمن الأقارب اللاتي تدلين بالأب كالأمهات للأب والأخوات للأب والعمات لا حق لهن مع الأب بل يقدم الأب عليهن لأنهن يدلين به فكان المدلى به أحق من المدلى.

وأما النساء اللاتي ............. بالأم كالأخت من الأم والخالة فالمذهب المنصوص أنه يقدم الأب عنهن لأن في الأب من الولادة والاختصاص من النسب ما لا يكون في غيره. وقال الإصطخري، وابن سريج، وأبو إسحاق، وبه قال أبو حنيفة: يقدمن على الأب والأم عليه أيضاً، وهذا اختيار أبي حامد لأنها ذات حضانة تدلى بالأم فسقط الأب كالجدة أم. قال هذا القائل ومعنى قوله: ولا حق لأحد مع الأب غير الأم وأمهاتها أي لا حق لأحد مع الأب ممن يدلى به دون من يدلى بالأم بدليل أنه قال بعده فأما أخواته وغيرهن فإنما حقوقهن بالأب فلا يكون لهن حق معه وهن يدلين به فدل على أن من لا يدلى به فلها حق معه، وهذا لا يصح لأنه لو قدم الأخت مع الأم والخالة على الأب لظاهر هذا الكلام لوجب أن يقدم كلاهما على أمهات الأب لأنهن يدلين به فلما لم يدل هذا على تقديمهما على أمهاته فلذلك لا يدل على تقديمهما عليه، ولأن الشافعي صرح بأنه لا حق لأحد مع الأب غير الأم وأمهاتها، وذلك يقتضي أن يكون الأب أولى من الأخت والخالة فلا يجوز تركه بدليل الخطاب الذي بعده، وهذا اختيار صاحب الإفصاح والقاضي الطبري، وفي رواية الربيع فأما أخواتها وغيرهن فلا يكون لهن حق معه، وهذا نص صريح على أن الأب يقدم على الخالة، وعلى هذا إذا اجتمع أب وأم أب وأخت لأم فعلى القول القديم الأخت من الأم والخالة مقدمة على الأب، ومن يدلى به فالأخت للأم أولى [ق 232 أ] وههنا لا تفريغ عليه وأما على قوله الجديد أن أمهات الأب مقدمة على الأخوات يتفرع هذا، فإن قلنا بظاهر مذهب الشافعي أن الأب يقدم عليهما فالحصانة له، وإن قلنا الأصحاب وأنه لا يسقطهما ففي هذه المسألة وجهان: أحدهما: أن الحضانة للأب ههنا وهو اختيار لاصطخري لأن الخالة والأخت من يسقطان بأم الأب، ثم يسقط أم الأب بالأب، قال: ولا يمتنع أن يسقط أم الأب الخالة والأخت للأم، ثم لا يثبت لها الحق بل يثبت للأب كالأخوين مع الأبوين يحجبان الأم من الثلث إلى السدس ثم لا يحصل ذلك السدس لها بل يحصل للأب. والثاني: وهو قول عامة أصحابنا أن الحضانة للأخت من الأم والخالة لأن أم الأب تسقط بالأب والأب يسقط بالخالة والأخت للأم، وإن اجتمع أب وأخت لأم فيه وجهان أيضاً لأن مذهب الشافعي في الجديد أن الأخت للأب مقدمة على الأخت للأم. وقال في "الحاوي": إذا قلنا بالمذهب الصحيح ينتقل بعد الأب إلى أمه، ومن علا مقدمين على أبيه، فإن عدم أمهات الأب انتقلت إلى أب الأب، وهو الجد، ثم إلى أب الجد، ثم إلى أمهاته، ثم إذا عدم الآباء والأمهات فيه ثلاثة أوجه:

أحدهما: أن جميع النساء من الأقارب أحق بالحضانة من جميع العصبات فتقدم الأخوات والخالات والعمات ومن أدلى بهن من البنات على جميع من الأخوة وبينهم والأعمام وبينهم لما فيهم من الأنوثة التي هي بالحضانة أخص مع الاشتراك في القرابة، وإن تفاضلوا فيها. والثاني: جميع العصبات أحق من جميع النساء من الأخوات والعمات والخالات، ومن يدلى بهن عن بناتهن لاختصاص العصبات بالنسب واستحقاقهم للقيام بتأديب المولود والميراث. والثالث: وهو الأصح لا يترجح أحد الفريقين [ق 232 ب] على العموم ويعتبر تفاضل الدرج ويترتبون ترتيب العصبات في استحقاق فالأقرب من الرجال والنساء في الدرج قدم النساء فيها على الرجال لاختصاصهن بالأنوثة فعلى هذا ينتقل بعد الآباء والأمهات إلى الأخوة والأخوات فتقدم الأخوات لأنوثتهن، ثم ينتقل بعدهن إلى الأخوة، فإذا عدموا انتقلت إلى بنات الأخوات، ثم إلى بني الأخوة، فإن اجتمع ابن أخت، وابنة أخ كانت بنت الأخ أحق من بنت الأخت، وإن كان مدلياً بمن هو أحق اعتباراً بالأنثوية المستحق، ثم بعد الأخوة والأخوات انتقلت إلى الدرجة التي تليهم، وهو من ساوى الأبوين في درجته فالمساوئ للأم في درجتها الخالات والمساؤي للأب في درجته الأعمام والعمات، فتكون الخالات أحق بها من الأعمام والعمات لإدلائهن بالأم التي حي أحق بالحضانة من الأب، ثم ينتقل بعدهن إلي العمات يتقدمون فيها علي الأعمام، ثم ينتقل بعدهن إلي الأعمام، فإذا عدم الأعمام انتقلت إلي بنات الخالات، ثم إلي بنات العمات، ثم إلي بنات العم، ثم إلي بني العم، فإذا عدمت هذه الدرجة انتقلت إلي الدرجة التي تليها وهي الدرجة التي تساوي درجة الجد، والجدة فتساوي درجة الجدة حالات الأم وتساوي درجة الجد أعمام الأب وعماته فتنتقل الحضانة إلى خالات الأم، ثم إلى خالات الأب، ثم إلى عمات الأب، ثم إلى أعمام الأب، ثم إلى أولادهم فتكون بعدهم لبنات خالات الأم، ثم لبنات خالات الأب، ثم لبنات عمات الأم، ثم لبنات عمات الأب، ثم لبنات أعمام الأب، وعلى هذا أبداً. وحكي بعض أصحابنا عن القفال أنه قال: لا يختلف أصحابنا أن أم الأب، وأم الجد، وإن بعدن أولى من الأب لأن لهم الحق الولادة، وإن كان أولاهن به ولا حق للأخت من الأب مع الأب، لأن [ق 223 أ] إدلائهما به وليس لهما قوة الولادة، وكذلك لا حق للأخت من الأم والأخت للأم اللتين حجبتا بالأب. قال: وحكي عن الإصطخري أنه قال: تقدم الأخت من الأبوين والأخت من الأم والخالة على الأب، فأما الأخت للأب يحتمل وجهتين: أحدهما: تقدم كأم الأم.

والثاني: تؤخر، لأن إدلائهما به وليس لها حق الولادة، قال: وتأويل قوله فأما أخواته أراد أخوات الأب لا أخوات الصبي، وهذا تخليط، ولم يساعده أحد من أصحابنا بالعراق في هذا والصحيح ما ذكرنا. فرع: إذا انفرد الذكور فأحقهم الأب، ثم أباه، ثم بعد الأجداد الإخوة فيقدم الأخ للأب والأم، ثم الأخ للأب، ثم الأخ للأم، وعلى قياس قول ابن سريج يقدم الأخ من الأم على الأخ من الأب، ثم بعد الإخوة فيه وجهان: أحدهما: ينتقل إلى بني الإخوة ويتقدمون على الأعمام لقوة تعصيبهم فيقدم ابن الأخ للأب والأم، ثم ابن الأخ للأب ولا حق فيها لابن الأخ للأم لأنه غير وارث، ثم ينتقل بعدهما إلى أولادهما، وإن سفلوا ثم إلى الأعمام على هذا الترتيب. والثاني: ينتقل بعد الإخوة إلى الأعمام دون بني الإخوة لقوتهم في الدرجة على بني الإخوة، ثم بعدهم إلى بني الإخوة دون بني الأعمام لاختصاص بني الإخوة بالمحرمة دون بني الأعمام، ثم بعد بني الإخوة والأعمام وجهان: أحدهما: ينتقل إلى بني الأعمام يتقدمون بها، وإن سلفوا على أعمام الأب إذا قلنا يتقدم بها بنو الإخوة وإن سلفوا على العم، ثم تنتقل بعدهم إلى عم الأب. والثاني: ينتقل إلى عم الأب يتقدم بها على بني العم إذا قلنا العم يتقدم بها على بني الإخوة، فإذا عدم الأب انتقلت بعده إلى بني الأعمام يتقدمون بها، وإن سلفوا على بني عم الأب، وإن قربوا لاختصاصهم بالقرب تساويهم في عدم المحرمية، ثم على هذا الترتيب [ق 233 ب] في بني أب بعد أب، ثم إذا عدم جميع العصبات لم يكن للمولى المعتق حق فيها لأنه أسقط بالعتق حق نفسه عن المعتق، فسقطت حضانته. فرع آخر: لو كان للمولى المعتق نسب هو أبعد من نسب من حضر فهل يترجح بولاية مع بعده على من هو أقرب منه كعم وعم أب معتق؟ فيه وجهان: أحدهما: يتقدم به، وإن بعد لجمعه بين شيئين يجري على كل واحد منهما حكم التعصيب فتكون الحضانة لعم الأب لولاية دون العم. والثاني: لا يتقدم لأنه سبب لا يستحق به الحضانة فلم تترجح به الحضانة إلا مع التكافؤ فيكون العم أحق بالحضانة لقربه من عم الأب مع ولاية. وذكر صاحب "الحاوي" في الحضانة ترتيباً حسناً فقال: إذا اجتمع في الحضانة قرابات المولود فتكون على ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يكونوا نساءً لا رجل فيهم. والثاني: أن يكونوا رجالاً كلهم. والثالث: أن يكونوا رجالاً ونساءً، فأما الأول فيخرج منهن من لا حضانة لها وهي نوعان: أحدهما: من سقطت حضانتها لنقص. والثاني: من سقطت حضانتها لضعف قرابتها وهي كل مدلية بذكر لا يرث. ثم من عدا هذين الصنفين متقدمين فيها بقوة السبب وذلك بشيئين دنوا القرابة كالأم مع أمها وقوة القرابة وقوتها تكون بخمسة أسباب مباشرة؛ الولادة، ووجود البعضية، والتعصب، والميراث، والمحرمية، والإدلاء بمستحق الحضانة ويقسم الإدلاء ثلاثة أقسام: الإدلاء بالولادة كالإدلاء أم الأم بولادة الأم، وأم الأب بولادة الأب وهو أقوي أقسام الإدلاء. والإدلاء بالانتساب كإدلاء الأخوات بالأبوين وإدلاء بناتهن بهن، وهذا يتلو الأول في القوة. والثالث: الإدلاء بالقربى كإدلاء الخالة بالأم والعمة بالأب، وقد ذكرنا شرح الكل فلا نعيده. فرع آخر: لو اجتمع مع الرجال والنساء في الحضانة خنثي مشكل نظر [ق 234 أ] في مستحقها، فإن كان رجلاً لم تساوه الخنث فيها لجواز أن يكون امرأة، وهل يتقدم بذلك علي المرأة عند عدم الرجال؟ وجهان، وإن كان مستحقها امرأة لم تساوها الخنثى وهل يتقدم بذلك في الرجل؟ وجهان: أحدهما: يتقدم عليه إذا تقدمت عليه المرأة لجواز أن يكون امرأة. والثاني: لا يتقدم عليه لعدم الحكم بأنه امرأة. فرع آخر: لو أجبر الخنثى علي اختياره لنفسه أنه رجل أو امرأة عمل علي قوله في سقوط الحضانة، وهل علي قوله في استحقاقها وجهان: أحدهما: يعمل عليه لأنه أعرف بنفسه. والثاني: لا يعمل عليه للتهمة. فرع آخر: لو وقع التنازع في كفالة المولود وله زوجة كبيرة نظر، فإن أمكن استمتاعه بها أو استمتاعها فهي أحق بكفالته، وإن كانت أجنبية من جميع ثواباته لما جعل الله (تعالى) بين

الزوجين من المودة والرحمة فكان أسكن لها وأعطف عليه، وإن لم يكن استمتاعه بها ولا استمتاعها به لا حق لها في كفالته وأقربائه من الرجال والنساء أحق به منها. فرع آخر: لو كانت الزوجة من أقاربه هل يترجح بعقد النكاح علي غيرها من الأقارب وجهان: أحدهما: يتراجع لجمعها بين سببين. والثاني: لا يتجرع وتقف علي درجتها من القرابة التي هي أخص بالكفالة. فرع آخر: لو كان المولود جارية ولها زوج كبير، فإن أمكنه الاستمتاع بها كان أحق بكفالتها، وإن لم يمكنه فالأقارب أحق بكفالتها منه، فإنه شاركهم في القرابة فهل يتجرع بعقد النكاح عليهم؟ وجهان. مسألة: قال: " وَالجَدُّ أَبُو الأَبِ يقُومُ مَقَامَ الأَبَ إِذَا لمَ يَكُنْ أَباً أَوْ كَانَ غَائِباً أَوْ غَيْرَ رَشِيدٍ". قال أصحابنا: ليس هذا الكلام علي ظاهره، فإن أم الأب أحق من الجد وكذلك أمهاتها يقدمن علي الجد أب الأب [ق 234 ب] لاختصاصهن بالحضانة، وتأويل هذا الكلام أن الجد أحق إذا لم يكن أب من أمهاته كما يكون الأب أحق من أمهاته، وإن اجتمع معه خالة أو أخت لأم، وقلنا: إن الأب يقدم عليها فههنا وجهان: أحدهما: الجد أولي أيضاً، لأنه يقوم مقام الأب. والثاني: وهوا لأقرب الأخت أولي، لأنها مساوية للجد في الدرجة وتختص الأخت بالحضانة بخلاف الجد، وهكذا إذا كان الأب غائباً أو غير رشيد بأن يكون فاسقاً أو مجنوناً، فالجد مقامه إذا لم يكن أمهات الأب. فإن قيل: أبطلتم حق الحضانة بالغيبة ولم تبطلوا حق الولاية في النكاح بالغيبة فما الفرق؟ قلنا: الفرق أن المطلوب بالحضانة خط الصبي، والخط له بأن ينتقل إلي الجد دون الحاكم وليس كذلك ولاية النكاح فإنها حق المولي فلا تبطل بغيبته، فقام الحاكم مقامه في استيفاء حق المرأة منه، ولأن الغيبة لا تمنع حق النكاح؛ لأنه لو زوجها من موضعه يصح بخلاف الكفالة، وعلي هذا قال القفال: لو ترك الأقرب الحضانة فالحق

الأبعد بخلاف ولاية النكاح، فإنها تنتقل إلي السلطان؛ لأن تزويج السلطان يحصل لها ما يحصل من تزويج القريب ولا يحصل بحضانة السلطان ما يحصل بحضانة الأقارب فيراعي فيه حظ الصبي. مسألة: قال: "وكَذلِكَ العصْبَةُ يَقُومُونَ مَقَامَ الأَبِ إِذَا لمَ يَكُنْ أَقْرَبَ مِنْهُمْ مَع الأُمَّ وَغَيْرُهَا". الفصل: اختلف أصحابنا في تأويل هذا الكلام، فمنهم من قال: معناه أن العصبة يقومون مقام الأب في حفظ نسبه وتأديبه وإسلامه إلي الصنعة دون الحضانة، فإن الإخوة والأعمام لا مدخل لهم في الحضانة، وإنما الحضانة من الرجال للأب، والجد فقط، وبه قال أبو إسحاق، ومن أصحابنا من قال: أراد به في الحضانة [ق 235 أ] وهو الظاهر من مذهب الشافعي وهو الصحيح؛ لأن الشافعي روي خبر عمارة الجرمي أن علي بن أبي طالب خيره بين أمه وعمه علي أن العم له مدخل في الحضانة. فإذا قلنا بهذا م يكن حد من الأبوين والجد والجدات، فإن كان الولد ذكراً بدفع إلي الأقرب فالأقرب من العصبات وأولادهم، سواء كان الأقرب ذكراً أو أنثي، وإن كان الولد أنثي نظر في العصبة، فإن كان محرماً لها لم تسلم إليه وإنما تسلم إلي من يدلي به من الإناث، مثل أن يكون ابن عم وله بنت فتسلم إلي بنت ابن العم، فإذا اجتمع ذكر وأنثي مثل ابن العم، وابنة العم، فإن الولد يسلم إلي ابنة العم دون ابن العم؛ لأنهما إذا استويا في الدرجة قدمت الأنثى علي الذكر لكمال حضانتها علي ما ذكرنا فيما تقدم، وعلي ما ذكرنا إذا لم يكن أب ولا جد فهل يخير الولد بين الأم وسائر العصبيات؟ وجهان، وأما يدلي بالأب فلا يخير بينهن وبين الأب، وإن أدلين بالأم كالخالات ففي تخييره بين الأب وبينهن وجهان، وفي تخييره بين سائر العصبات، وبين سائر النساء سوي الأمهات ثلاثة أوجه: أحدها: لا تخير والعصبات أحق. والثاني: لا تخير ونساء القرابات أحق. والثالث: تخير بين عصابته ونساء قراباته إذا تساوي درجتهم فإن استوي اثنان من عصبته كأخوين أو اثنتان من قراباته كالأختين فيه وجهان:

أحدهما: يخير بينهما. والثاني: يقرع بينهما ولا يخير. وقيل: إن كانت العصبة ابن العم لا تخير الجارية بينه وبين الأم إذ لا يحل له الخلوة بها، قال القفال: إلا أن تكون صغيرة لا تشتهي مثلها فحينئٍذ هو كالغلام يخير بين أمه وبينه أيضاً وهذا غريب. مسألة: قال: " وإِذَا أَرادَ الأَب ُأَنْ يَنتْقَل عَنِ الَبلَد الَّذي نَكَحَ بِهِ المَرأَةَ كاَنَ بَلَدهُ أَوْ بَلَدَها فَسَوَاءٌ". الفصل: قد ذكرنا فيما مضي أن الأب إذا أراد أن يتقبل إلي بلد آخر، فإن الأب أحق بالولد [ق 235 ب] من الأم. قال الشافعي: " موضعاً كان أو كبيراً" وأراد به سواء كان طفلاً أو قد بلغ الحد الذي يخير بين الأبوين، فإن الأب يكون أحق به، إلا أن يريد أن ينتقل إلي بلدٍ غير مأمون من النهب والغارة فتكون الأم أحق به، وهذا لما ذكرنا أن الأنساب لا تبقي ولا تجئ بالأمهات، وإنما يجئ بالإباء، وربما يتطاول الزمان بعد نقله فيندس نسب الولد ويخفي، والنسب إذا اندرس أضر بالولد والوالد جميعاً، ولا فرق بين أن تكون البلدة التي نكحها بها بلدة مقامها أو غير ذلك خلافاً لأبي حنيفة، حيث فصل بين أن ينكحها في بلدها وبين أن ينكحها في غير بلدها، ولا فرق بين أن يكون الولد ذكراً كان أو أنثي؛ لأنها في الحاجة إلي النسب سواء، وقد ذكرن أنه لو أراد الخروج للتجارة أو النزهة فالأم أحق وليس له أن يحمل الولد معه؛ لأنه لا يندرس به النسب، وإن اختلفا فقال الأب: أريد النقلة، وقالت الأم: تريد التجارة فالقول قول الأب؛ لأن المرجع في ذلك إلي عزيمته وقصده، وهو أعلم بذلك، ويلزمه اليمين لتعلقه بسقوط حقها من الحضانة. وقال القفال: القول قوله بلا يمين؛ لأنه أمر في المستقبل، والصحيح ما ذكرنا. وكل موضع قلنا: الأب أحق ويبطل حق الأم/ من الحضانة، فلو قالت الأم: أنا أنتقل إلي ذلك البلد أو عاد الأب إلي بلدها كانت علي الحضانة. ثم قال الشافعي: "وكَذلِكَ العَصْبةُ". ومعناه إذا لم يكن للوالدات كان له عصبة من جانب الأب وأراد العصبة النقلة

باب نفقة المماليك

واستيطان بلدة أخري، فالعصبة أولي بالولد من الأم؛ لأن الأنساب مع العصبات أبقي وأحب، وهذا يدل علي أن الشافعي رحمة الله جعل للعصبات حظاً في الحضانة بخلاف ما حكيناه عن أبي إسحاق. [ف 236 أ] مسألة: قال: "وَلاَ حَقَّ لِمَنْ لمَ تَكْمُلْ فِيِه الحُريَّةُ فِي وَلَدِ الحُرَّ". من لم يكمل حريته بأن يكون بعضه حراً وبعضه مملوكاً حكمه حكم العبد القن؛ فإنه إن كان مملوكاً فالأب الحر لا حق له فيه أيضاً، وقد ذكرنا أنه إذا كان الولد حراً والأم مملوكة دون الأب فحضانته لأبيه الحر، وإذا كان الولد مملوكاً فحضانته لسيده، والأولي لسيده أن يسلمه إلي أمه، وهل يجوز أن يسلمه إلي غيرها وجهان: أحدهما: له ذلك لأنه ملكه يفعل به ما يشاء. والثاني: ليس له لأنه تفرقة بين الأم وولدها. وقال في "الحاوي": إذا كان الولد مملوكاً وأبواه حرين لا كفالة لهما بعد السبع لرق الولد، وفي استحقاق الأم لحضانته في السبع رضيعاً أو فطيماً وجهان: أحدهما: تستحقها لفضل حنوها وعجز السيد عنها. والثاني: لا تستحقها لأن المملوك لا تثبت عليه ولاية لغير سيده. وإن كان الولد وأمه مملوكين، فلو كانت الأم مملوكة لغير سيده لا حق لها في حضانته، وإن كانت لسيده لم يجز أن يفرق بينهما في حال صغره، وهل تصير بالمنع من التفرقة بينهما مستحقة لحضانته؟ وجهان: أحدهما: يستحق، لأن المنع من التفرقة بينهما، قد جعلها أحق به من غيرها. والثاني: لا تستحقها لأن ثبوت الرق عليها مانع من ولايتها. باب نفقة المماليك مسألة: قال": أَخْبَرَنَا سُفْيَان ُبْنُ عيُيْنَة عَنْ مُحَمَّد بْنِ عَجْلانَ وَذَكَرَ الخبَرَ". الفصل: الكلام ههنا في نفقة العبيد والإماء فتجب نفقة المملوك علي سيده وكذلك كسوته بالمعروف، والأصل ما ذكرنا من الخبر، وهو ما روي أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم

قال: " للمملوك طعامه وكسوته [ق 236 ب] بالمعروف ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق". قال الشافعي: ومعني قوله لا يكلف من العمل إلا ما يطيق الدوام عليه. وروي عن أبي المعرور سويد أنه قال: لقيت أبا ذر بالربذة وعليه ثوب حلة وعلي غلامه مثله فقال له رجل: يا أبا ذر لو أخذت هذا الثوب من غلامك فلبسته وكسوت غلامك ثوباً آخر، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " هم إخوانكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما سيلبس ولا يكلفه ما يغلبه، فإن كلفه فليعنه". وروي أنه قال له رجل: أ: سوت غلامك مما تلبس فقال أبو ذر: إني سأبيت غلاماً لي فرفعت يدي لأضربه فلم يفجأني إلا رجل أخذ بيدي فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هذا وقال: "لا تكلفه من العمل ما لا يطيق". فإذا تقرر هذا لا يخلو إما أن يكون مكتسباً أو غير مكتسب، فإن لم يكن مكتسباً بأن كان زمناً أو أعمي أو طفلاً لا كسب له لزمه أن ينفق عليه من سائر أمواله أو يبيعه، أو يعتقه، فإنه إذا أعتقه حلّ له أن يأخذ الصدقات فيستغني بها، وإن كان مكتسباً، فإن كان في كسبه وفاءً بنفقته، فقد فعل الواجب، وإن لم يكن وفاء وجب علي السيد إتمامه من سائر ماله، وإن كان أكثر من نفقته لزم العبد أن يدفع ما زاد عليها إلي السيد. وأما مقدار النفقة فهو ما يكفي مثله في ذلك البلد غالباً من القوت والأدم، ولا يعتبر حاله في نفسه فإنه ربما يكون كبيراً كون اعتاد كثرة الأم: ل وإنما تعتبر عادة مثله. ومن أصحابنا من قال: إذا كان لا يكفيه قدر الغال واعترف السيد به يلزمه قدر كفايته، كما إذا كان يكفيه أقل من ذلك لا يلزمه الزيادة؛ لأنه لا طريق للعبد إلي تحصيل شيء إلا من جهة كسبه وكسبه لسيده. قال في "الحاوي" [ق 237 أ] إن كانت الزيادة تؤثر في قوته وبدنه يلزمه الزيادة، وإلا فلا يلزم ويعتبر جنس القوت بغالب عرف البلد سواء كان قوت سيده أو دونه أو فوقه، ويلزمه مثله أيضاً، فإن كان ببغداد فالخبز الخشكار، وإن كان بالمدينة فالثمر، وإن كان بخراسان فالبر، وإن كان بطبرستان فالأرز، وإن كانوا في موضوع يقتاتون الشعير فمنه. ثم تكلم الشافعي علي الخبر في تفسيره المعروف فقال: فعلي مالك المملوك الذكر

(والأثنى) البالغين إذ شغلهما في عمل له أن ينفق عليهما ويكسوهما بالمعروف وذلك نفقة رقيق بلدهما الشبع لأوساط الناس تقوم به أبدانهم من أي طعام كان، وفي هذا اللفظ إشكال، وذلك أنه قيد نفقتها بالعمل فقال: " إذا شغلهما في عمل له أن ينفق عليهما" ومعلوم أن النفقة تجب بالملك ولا يتوقف وجوبها علي الاستخدام. وكذلك الكسوة، فيحتمل أن يكون مقصود الشافعي بهذا التقييد التعليل لا الشرط، فكأنه قال: لما كان السيد بسلطان الملك مسلطاً علي الاستخدام وتكليف العمل كان عليه النفقة والكسوة في مقابلة الملك الذي به ولاية الاستخدام، سواء استخدام أو لم يستخدم ويحتمل معني آخر وهو أنه أراد به الزيادة في النفقة بسبب العمل، وكذلك الكسوة. وبيان هذا أن الرجل إذا كان له مملوك فربما يكلفه عملاً يحتاج ذلك المملوك بسبب ذلك العمل الذي العمل يتكلفه إلي زيادة طعام، وإذا كلفه عملاً في الأسواق ومشاهد الناس، فالعادة أن تكون الكسوة بخلاف كسوته التي يلبسها في داره، فعله أراد بهذا التقييد هذا المعني، وإلي هذا المعني يرجع التقييد بالبلوغ لأن الصغير في العرف والعادة قد يستغني عن بعض ما لا يستغني عنه البالع من كسوة وطعام. مسألة: قال: "وَكُسْوَتُهُمْ كَذَلِكَ". الفصل: [ق 237 ب] إلي أن قال: " وَالجَوارِي إِذَا كَانَتْ لهَنَّ فَرَاهَةٌ وَجمَاَلٌ فَالَمعْروفُ أَنَّهُنًّ يُكْسَيْنَ أَحْسَنَ مِنْ كُسْوَةِ اللَّائِي دُونَهُنَّ". يلزم السيد أن يكسوهم ما يكتسي العبيد في ذلك البلد، والأولي أن يستوي بين عبيده ولا بفضل كثير الثمن علي قليله فيها، ولا تعتبر كسوة السيد فقد يكون بخيلاً يلبس ثياباً أدون مما تلبسه العبيد، وقد يكون سخياً يلبس أحسن الثياب فلا يعتبر ذلك. وأما الجواري، فإن كن للخدمة يسوي بينهن كالعبيد، وإن كان بعضهن للتسري اختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: يسوي بينهن أيضاً كالعبيد، ومنهم من قال: وهو الصحيح المنصوص أنها إذا كانت جمال وفراهة يكسوها أحسن ما يكسو الخادمة، لأن العرف جري بذلك، ولأن للرجل أغراضاً في أن تكون جاريته لفراشه أحسن زياً وثياباً من الخادمة لاستمتاعه. وأعلم أنه يختلف نفقة المملوك والمملوكة وكسوتهما باختلاف في حال السادات في عاداتهم وعسرهم ويسرهم وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "للملوك طعامه وشرابه بالمعروف".

فإن قيل: أليس قال عبد الله بن عباس رضي الله عنه في المماليك: "أطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون" قلنا: بلى قد قاله ابن عباس. وقد روي هذا اللفظ مرفوعًا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر وتفسير هذا الكلام ما فسر الشافعي فقال: هذا الكلام بعمل يجوز أن يكون على الجواب فقيل السائل عن مماليكه، وإنما يأكل تمرًا أو شعيرًا أو يلبس صوفًا فقال: "أطعموهم مما تأكلون وألبسوهم مما تلبسون" السائلون عرب ولباس عامتهم وطعامهم خشن أي خشن، ومعاشهم ومعاش رقيقهم متقارب، فأما من خالف معاش السلف والعرب فيأكل رقيق الطعام ويلبس جيد الثياب فلو ساوى رقيقه كان أحسن، وإن لم يفعل فله [ق 238 أ] ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم نفقته وكسوته بالمعروف، فأما من لبس الوشي أو الخز والمروي وأكل النقي وألوان لحوم الدجاج فهذا بالمعروف للمماليك، وهذا الذي ذكره وجه الجمع بين خبر أبي ذر، وخبر أبي هريرة رضي الله عنهما. ثم ذكر خبرًا آخر فقال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا كفي أحدكم خادمه طعامه حره ودخانه فليدعه فليجلسه معه، فإن أبى فليروغ له لقمة، فيناوله إياها أو يعطيه إياها أو كلمة هذا معناها". وروى أبو هريرة مثله، وفيه فليناوله أكلة أو أكلتين، وروي: "فإن كان الطعام قليلًا فليضع في يده أكلة أو أكلتين". ثم تكلم الشافعي على هذا الخبر وعلى احتمالاته فقال: لما قال فليروغ له لقمة كان هذا عندنا والله أعلم على وجهين: أولاهما: بمعناه أن إجلاسه معه أفضل، فإن لم يفعل فليس بواجب إذا قال صلى الله عليه وسلم: "وإلا فليروغ له لقمة" ولو كان إجلاسه واجبًا لم يجعل له أن يروغ له لقمة دون أن يجلسه معه، أو يكون بالخيار بين أن يناوله أو يجلسه، وقد يكون أمر اختيار غير الحتم. وظاهر هذا الكلام في التنويع مشكل وحقيقة معناه أن الشافعي رحمه الله ذكر ثلاثة أنواع من الاحتمال: أحدها: أن الترويغ واجب، ولو أجلسه معه كان أفضل. والثاني: أن أحدهما واجب لا بعينه وهو قوله: أو يكون الخيار بين أيدينا وله أن يجلسه. والثالث: أن الأمر في الإجلاس أو في الترويغ أمر اختيار غير الختم، هكذا ذكره القفال وجماعة، وقال أصحابنا بالعراق: لا خلاف أنه لا يجب واحد منهما وفي المسألة قولان: أحدهما: وهو المذهب الإجلاس مع نفسه أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ به، ولأنه إذا أجلسه معه أكمل كفايته وكان ذلك تواضعًا من سيده.

والثاني: هو مخير [ق 238 ب] بين الإجلاس وبين أن يروغ له اللقمة واللقمتين لأن النبي صلى الله عليه وسلم خير بينهما، وقال الزهري: الترويغ أن يرويها له بالدسم والدهن، ويحتمل أن يريد بالترويغ الاختزال فقط. وقال بعض أصحابنا: هذا الحكم فيمن باشر ذلك؛ لأنه نفس من باشره يتوق إليه أكثر مما تتوق نفس من لم يباشرها. وقال بعضهم: هذا فيمن يتولى ذلك وفيمن لم يتول ذلك سواء، إلا أن هذا في الذي قولي ذلك أشد استحبابًا، وهذا أجود عندي، والأكلة مضمومة الألف اللقمة والأكلة بفتح الألف المدة الواحدة من الأكل. وروي في الخبر: "فإن كان الطعام مشفوعًا فليضع في يده أكلة أو أكلتين" والمشفوه القليل، سمي بذلك لكثره الشفاه التي تجتمع على أكله. ثم قال الشافعي رحمه الله: وهذا يدل على ما وصفنا من بيان طعام المملوك وطعام سيده بترويغ لقمة المملوك عرفنا أنه ليس من المعروف أن يكون طعام العبد مثل طعام السيد في جميع الحالات، ولكن يختلف باختلاف العادات، وكان الإمام القفال يقرأ من بيان طعام المملوك بكسر الباء ويذهب إلى مصدر المباينة، وهذا حسن لولا الواو في العطف حيث قال من بيان طعام المملوك وطعام سيده، ولو كانت من المباينة لكانت الواو محذوفة لأنك تقول هذا الشيء يباين هذا الشيء أو تقول مباينة الشيء الشيء. ثم قال الشافعي رحمه الله: والمملوك الذي يلي طعام الرجل مخالف عندي المملوك الذي لا يلي طعامه، وينبغي أن يناوله منهما تقر إليه ولو لقمة، فإن المعروف أن لا يأكل طعامًا قد ولي العمل فيه، ثم يناوله منه شيئًا يرد به شهوة، وأقل ما يرد به شهوته لقمة وغيره من المماليك لم يله ولم يره والسنة خصت هذا من المماليك دون غيره. ثم أورد الشافعي من القرآن العظيم مثالًا [ق 239 أ] بتخصيص هذا المملوك دون غيره. فقال: وفي القرآن ما يدل على ما يوافق بعض معاني هذا، قال الله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُوا الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا} [النساء: 8] ولم يقل يرزق مثلهم ممن لم يحضر، وقيل: ذلك في المواريث وغيرها من الغنائم وهذا أحب إليّ، ويعطون ما طابت به نفس المعطي بلا توقيت، ولا يحرمون، فحصل من هذا المثال أن المساكين أو القربى أو اليتامى إذا حضروا مجلس القسمة، والورثة يقتسمون المواريث، أو كان الغانمون يقتسمون الغنائم، فالمستحب أن يعطي من حضر وذلك المقدار غير مقدر. ثم رجع الشافعي إلى تفسير قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يكلف من العمل ما لا يطيق والذي رويناه في خبر أبي ذر رضي الله عنه فقال: ومعنى ذلك والله أعلم ما يطيق الدوام عليه لا

ما لا يطيق يومًا أو يومين أو ثلاثة ونحو ذلك ثم يعجز، وجملة ذلك ما لا يضر ببدنه الضرر البين، وهذا لأنه إن كان يمشي يومًا أو يومين في كل خمسين ميلًا ففي اليوم الثالث يعجز فلا يقدر على ذلك فيكلفه ما يطيق الدوام عليه، فإن كان سفرًا ركب عقبه ومشى عقبه، فإن كان لا ينام راكبًا تركه حتى ينام في المنزل، وإن كان الليل طويلًا أمره بالعمل في طرفي الليل، وإن كان قصيرًا أمكن من القيلولة في النهار. ثم قال: "فإن عمي أو زمن أنفق عليه" وقد ذكرنا ذلك، وهذا لأن سبب النفقة الملك والحاجة، وقد وجدا. فرع: إذا دفع إلى عبده طعامًا، ثم أراد السيد أن يبدله بغيره في وقت أكله لم يجز، وإن كان قبله جاز لتعيين حقه فيه عند الأكل، فرع آخر: لو قال الحاكم لعبد رجل غائب استدان [ق 239 ب] وأنفق على نفسك فذلك دين على السيد ونحو ذلك. مسألة: "وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَرْضِعَ الأَمَةَ غَيْرَ وَلَدِهَا". الفصل: إن كان لأمته ولد من زوج أو زنى فإنه مملوك له، فإن أراد السيد أن يسترضعها ولدًا آخر نظر، فإن كان لا يفضل عن ري ولدها لبن لم يكن ذلك؛ لأنه ليس له أن يعطي مملوكه بعض الكفاية، فإذا استرضعها ولدًا آخر حصل لولدها من اللبن بما لا يكفيه، وإن كان لها لبن يفضل عن ريه، لاستغناء ولدها ببعض الطعام عن شرب لبن كثيرًا ولقلة شربه وغزارة لبنها فله ذلك بأجرة وغير أجرة لأنه لا ضرر على ولدها فيه. قال أصحابنا: وحكم الأمة في الرضاع مخالف حكم الزوجة لأن أحد الزوجين إذا أراد الفطام قبل الحولين فللآخران لا يرضي، وإذا بلغ الولد الحولين فلكل واحد الفطام. وأما في الأمة فالحكم للسيد، فإن قال لها: أرضعي الولد بعد الحولين يلزمها إذا لم يكن عليها ضرر، وإن قال: أفطمي قبل الحولين فعليها ذلك إذا لم يكن على الولد ضرر.

باب نفقة الدواب وصفته

مسألة: قَالَ: "وَيَمْنَعُهُ الإِمَامُ أَنْ يَجْعَلَ عَلَى أَمَتِهِ خَرَاجًا إِلَّا أَنْ يَكُونَ فِي عَمَلٍ وَاجِبٍ". معنى الخراج أن يقول لعبده أو أمته: اكتسب لنفسك وأعطني كل يوم شيئًا معلومًا وأنفق الباقي على نفسك فهذا ينظر فيه، فإن طلب العبد أو الأمة ذلك لم يجب على السيد أن يجيبه إلى ذلك، وإن طلب السيد لم يجب على العبد أن يجيبه إلى ذلك؛ لأن منفعته لسيده فلا يلزمه أن يشتري ماله منه بماله، فإن تراضينا على الخراج نظر، فإن كان كسبه يفي بنفقته وخراجه جميعًا جاز، وإن كان يزيد عليهما كانت الزيادة للعبد؛ لأن السيد رضي بمقدر الخراج وجعل الباقي له، فكانت الزيادة برًا من جهة السيد للعبد، وله أن يدفع إليه أكثر من حاجته لنفقته وإن كان كسبه يعجز عنهما [ق 240 أ]. قال الشافعي للإمام أن يمنعه من ذلك؛ لأنه إذا كان كسبه يعجز عنه يسرق العبد وتزني الأمة. وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال في خطبته: لا تكلفوا الأمة غير ذات الصنعة بالكسب فإنكم متى كلفتموها الكسب كسبت بفرجها، ولا تكلفوا الصغير الكسب فإنه إن لم يجد سرق، وعفوا إذا عفكم الله وعليكم من المطاعم بما طاب منها. وقوله: إلا أن يكون في عمل وأصيب: يعني دائم من الخياطة ونحوها فيقدر حينئذٍ على أداء ذلك الخراج وأما الولد في ذلك كالأمة. باب نفقة الدواب وصفته مسألة: قَالَ: "وَلَوْ كَانَتْ لِرَجُلٍ دَابَّة فِي المِصْرِ أَوْ شَاةً أَوْ بَعِيرًا أَعْلَفَهُ بِمَا يُقِيمَهُ". الفصل: إذا كان له حيوان غير الآدمي من البهائم والطيور ونحوها فعليه نفقتها؛ لأنه حيوان مملوك كالعبد، ولا فرق بين أن تكون مأكولة اللحم أو غير مأكولة، فإذا ثبت هذا لا يخلو إما أن يكون في البلد أو في الصحراء، فإن كانت في البلدة فإن العرف فيه أنها تعلف ولا ترعى، فإن كانت مما يؤكل لحمها فهو مخير بين ثلاثة أشياء: بين أن يعلفها أو يذبحها أو يبيعها، وإن كانت مما لا يؤكل لحمها فهو مخير بين أن يبيعها وبين أن يعلفها، وإذا امتنع

من ذلك كله فإن كان له مال ظاهر أنفق الحاكم عليها من ماله، وإن لم يكن له مال ظاهر باع من البهيمة جزءًا وأنفق على الباقي، وهذا لأن للحيوان حرمة مثل ما للعبد. قال أصحابنا: لو كان بدابته جرح ولا يجد خيطًا يخيط به في ملكه له أن يغضب خيطًا بالقيمة، ولو لم يجد علفه إلا مع رجل لا يبيعه وقد فضل عن حاجته والدابة مشرفة على الهلال له أن يغصب علفها بالقيمة كما في الآدمي سواء، وبه قال أحمد. وقال أبو حنيفة: لا يجبر على ذلك ولا يباع [ق 248 ب] من ماله شيء لنفقتها ولكنه يأمره بذلك كما يأمره بالمعروف، وهذا غلط لأنها نفقة واجبة عليه فكان للسلطان إجباره كنفقة العبيد، وإن كانت في الصحراء، فإن العرف فيها الرعي دون العلف فلا يكلف صاحبها العلف ولكنه يخير بين أن يخليها للرعي وبين ما ذكرنا، فإن جذبت الأرض فلم يكن فيها متعلق أو أنبتت ولكنه لا يكفيها فحكمها حكمها إذا كانت في البلد على ما بيناه. وقد قال الشافعي ببعض البهائم لا تستوفي كفايتها بالرعي مثل البغل والحمار فيلزمه أن يعلفها كفايتها. قال أصحابنا: إنما قال ذلك على عادة مصر لأن المرعى بها ضعيف لقلة الأمطار. وقيل: غن مصر لا يقع فيها مطر، وإذا رأى أهلها سحابة استغاثوا ودعوا الله تعالى في إزالتها عنهم، وخافوا الهدم، فإنه ليس لهم المزاريب التي يكون في بلادنا، وإذا كان كذلك نقل النبات في صحاريها فلا يكفي الدواب رعيه ولا تستقل، فأما في الموضع الذي يكثر فيه الرعي والكلأ، فإن الدواب يكتفي بالرعي فيه. وأما إذا كان للبهيمة ولد فأراد صاحبها أن يحلب لبنها، فالحكم فيه كما ذكرنا في الأمة إلا أنه يحلب ههنا الفصل عن ري الولد وتعني بالري ما يقيمه حق لا يموت وهناك يسترضع ولدًا آخر. وأما الأملاك التي لا روح فيها كالعقار والأشجار، فلا يجب عليه عمارتها لأن ذلك تنمية للمال ولا يتعلق لحق ذي زوج، والأصل في جميع ما ذكرنا ما روي عن ضرار ابن الأزور. قال: أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقحة فأمرني أن أحلبها فحلبتها فجهدت حلبها، فقال: "دع داعي اللبن". وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اطلعت على النار فرأيت فيها امرأة تعذب في هرة ربطتها لا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من حشاش الأرض" [ق 241 أ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن مومسة من بني إسرائيل مرّت بكلب على رأس بئر يلهث عطشًا فشدت برطها

في خفها فسقته فشكرها الله تعالى فغفر لها" فقيل: يا رسول الله إن لنا في سقي الكلاب أجرًا، فقال: "في كل كبد حرى أجر". وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بينما رجل يمشي بطريق اشتد عليه العطش فوجد بئرًا فنزل فيه فشرب، ثم خرج، فإذا كلب يلهث يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغني فنزل البئر فملأ خفه ماء، ثم أمسكه بفيه حتى ارتقى فسقى الكلب فشكر الله فغفر له" فقالوا: يا رسول الله وإن لنا في البهائم لأجرًا فقال في كل ذات كبد رطبة أجر". وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطًا لرجل من الأنصار، فإذا فيه جمل فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حق إليه وذرفت عيناه فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فمسح ذفرته فسكن فقال: "من رب هذا الجمل"؟ فجاء فتى من الأنصار فقال: هو لي يا رسول الله، قال: فقال: "ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنها تشكو إليَّ أنك تجيعه وتدنيه". فرع آخر: لو ولي على ابنه المجنون له أن ينفق على نفسه من مال المجنون ولا يحتاج إلى إذن الحاكم، وقيل: هذا يلزمه أن يستأذن الحاكم كالأم والجدة أو يأخذ بنفسه وجهان: فرع آخر: قال ابن الحداد: لو تزوج حرّ بأمة فولدت منه فنفقة الولد على سيده، فإن أعتق الولد، واختلف الوالد والسيد في وقت عتق الولد فالقول قول الوالد مع يمينه. قال أصحابنا: لا معنى لهذا الفرع لأن نفقة الولد تسقط بمضي الزمان فلا يصح اختلافهما فيه [ق 241 ب]. فرع آخر: لو تزوج مملوك بحرة موسرة فأولدها كانت نفقة الولد على أمه، فإن أعتق الأب، قال ابن الحداد: عادت النفقة إليه قال أصحابنا: هذا غلط وإنما تعود النفقة إذا اكتسب ما يفضل عن نفقته ونفقة امرأته، فأما بنفس العتق فلا تنتقل إليه. فرع آخر: قال ابن أبي أحمد في التلخيص: لو كان لرجل امرأة فلم يقدر على الكسب إلا قدر

ما ينفق على نفسه وله أب موسر أخذ الابن بنفقة امرأته وأخذ الأب بنفقته قلته تخريجًا، وهذا لأنه لو لم يفعل هكذا لخيرت امرأة هذا الابن. وقال القفال: يحتمل غير ذلك وهو أنه لما اكتسب ما يكفيه خرج بذلك من حدّ الفقر فلا يلزم إياه نفقته وليس لامرأته أن تطالبه بذلك لأنه محتاج إليه فلا يجبر على بذله لها، فإن قالت: أختار نفسي فلها ذلك. والله أعلم بالصواب وإليه المرجع وإليه المآب. تم ربع النكاح بحمد الله وحسن توفيقه، يتلوه ربع الخراج إن شاء الله تعالى وحده. الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليمًا كبيرًا إلى يوم الدين وحسبنا الله ونعم الوكيل. تم الجزء الحادي عشر ويليه إن شاء الله الجزء الثاني عشر وأوله: كتاب القتل

فهرس المحتويات

بحر المذهب في فروع المذهب الشافعي تأليف القاضي العلامة فخر الإسلام شيخ الشافعية الإمام أبي المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني المتوفى سنة 502 هـ تحقيق طارق فتحي السيد الجزء الثاني عشر المحتوى: كتاب القتل - كتاب الديات - كتاب قتال أهل البغي

كتاب القتل

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب القتل باب تحريم القتل ومن يجب عليه القصاص ومن لا يجب مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: قال الله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء: 93] الآية وقال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ} [الإسراء: 33] وقال عليه السلام: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس". قال في الحاوي: الأصل في ابتداء القتل وتحريمه ما أنزل الله جل أسمه على رسوله صلى الله عليه وسلم من قصة ابني آدم عليه السلام هابيل، وقابيل حتى بلغ الأمة وأنذرها، فقال: {واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ} [المائدة: 27] يعني بالصدق، ويريد بابني آدم قابيل القاتل، وهابيل المقتول. {إذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا ولَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ} [المائدة: 27] وسبب قربانهما أن آدم أقر أن يزوج كل واحد من ولده بتوأمه أخيه، فلما هم هابيل أن يتزوج بتوأمه قابيل منعه منها، وقال: أنا أحق بها منك. وفي سبب هذا القول منه قولان: أحدهما: لأن قبيل وتوأمته كانا من ولادة الجنة، وهابيل وتوأمته كانا من ولادة الأرض. والثاني: لأن توأمه قابيل كانت أحسن من توأمه هابيل فاختصما إلى آدم فأمرهما أن يقربا قرباناً، وكان هابيل راعياً، فقرب هابيل سمينة من خيار ماله، وكان قابيل

حراثاً، فقرب حزمه زرع، فنزلت نار من السماء فرفعت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، وكان ذلك علامة القبول فازداد حسد قابيل لهابيل، فقال: "لأقتلنك": {قَالَ إنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ المُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ العَالَمِينَ} [المائدة: 27 - 28] فلم يمنع عن نفسه، لأنه لم يؤذن له في المنع منها وهو مأذون فيه الآن، وفي وجوبه للفقهاء قولان: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ} [المائدة: 30] فيه تأويلان: أحدهما: شجعت قاله مجاهد. والثاني: زينت قاله قتادة. {فَقَتَلَهُ} [المائدة: 30] قيل: بحجر شرخ به رأسه {فَأَصْبَحَ مِنَ الخَاسِرِينَ} [المائدة: 30] لأنه خسر أخاه وديته {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ} [المائدة: 31] لأنه ترك أخاه على وجه الأرض ولم يدفنه، لأنه لم ير قبله مقتولاً ولا ميتاً، وفي بحث الغراب قولان: أحدهما: بحث الأرض على ما يدفنه فيها لقوته قتنبه بذلك على دفن أخيه. والثاني: أنه بحث على غراب ميت حتى دفنه: {قَالَ يَا ويْلَتَى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي} [المائدة: 31] فدفنه حينئذ وواراه فأصبح من النادمين فيه وجهان: أحدهما: من النادمين، على قتل أخيه. والثاني: من النادمين على أن ترك مواراة سوأة أخيه، ثم قال تعالى بعدما أنهاه من حال ابني آدم: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ومَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] أن خلصها من قتل وهلكة وسماه إحياء لما فيه من بقاء الحياة، وإن كان الله تعالى هو المحيي، وفي تسميته بقتل الناس جميعاً وإحياء الناس جميعاً تأويلان: أحدهما: فكأنما قتل جميع الناس عند المقتول، وكأنما أحيا الناس عند المستفيد وهذا قول ابن مسعود. والثاني: أن على جميع الناس دم القاتل، كما لو قتلهم جميعاً وعليهم شكر المحيي كما لو أحياهم جميعاً، وهذا أصل في تحريم القتل. وقد روى معمر عن الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن ابني آدم ضرباً مثلاً لهذه الأمة فخذوا من خيرهما ودعوا شرهما". وقال: {مَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا} [النساء: 93] الآية وهذا أغلظ وعيد يجب

في أغلظ تحريم حتى قال ابن عباس: لأجل ما تضمنته هذه الآية من الوعيد أن توبة القاتل غير مقبولة، وتعلقاً بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما نازلت ربي في شيء كما نازلته في توبة قاتل العمد فأبى علي" وذهب من سواه إلى قبول توبته لقول الله تعالى: {والَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ ولا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بِالْحَقِّ} [الفرقان: 68] إلى قوله: {إلاَّ مَن تَابَ} فاستثناه من الوعيد، فدل على قبول توبته. فإن قيل: هذه الآية نزلت قبل الآية الأولى بستة أشهر فلم يجز أن تنسخ ما بعدها. قيل: ليس فيها نسخ، وإنما فيها إثبات شرط، والشرط معمول عليه تقدم أو تأخر، فأما الخبر المحمول على المبالغة في الزجر لئلا يسارع الناس على القتل تعويلاً على التوبة منه، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "باب التوبة مفتوح" ما يقتضي حمله على هذا مع قول الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ ويَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25] وقول النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى لم ينزع التوبة عن أمتي إلا عند الحشرجة" يعني وقت المعاينة. وأما تحريم القتل بالسنة فروى أبو أمامة بن سهل عن عثمان، وروى مسروق عن ابن مسعود، وروى عكرمة عن ابن عباس، وروى عبيد بن عبيد بن عمير عن عائشة، كلهم يتفقون مع اختلاف الألفاظ على معنى واحد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بأحدث ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زناً بعد إحصان، أو قتل نفس بغير نفس". وروى أبو سعيد الخدري وأبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقتيل فقال: من لهذا؟ فلم يذكر له أحد فغضب ثم قال: "والذي نفسي بيده لو تمالأ عليه أهل السماء والأرض لأكبهم الله في النار". وروى ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الكبائر أعظم؟ قال: "أن تجعل لله نداً وهو خلقك" قلت: ثم أي؟ قال: "أن تقتل ولدك مخافة أن يأكل معك". قلت: ثم أي؟ قال: "أن تزني بحليلة جارك". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أعان على قتل امرئ مسلم ولو بشطر كلمة لقي

الله مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع: "ألا أن دماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، اللهم اشهد". فصل: فإذا ثبت تحريم القتل بالكتاب والسنة مع انعقاد الإجماع وشواهد العقول فالقصاص فيه واجب لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرُّ بِالْحُرِّ والْعَبْدُ بِالْعَبْدِ والأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإحْسَانٍ} [البقرة: 178] يعني أن العفو يوجب استحقاق الدية، يطالب بها الولي بمعروف، ويؤديها القاتل إليه بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة، يعني: التخيير بين القصاص والدية، وتخفيف من الله تعالى على هذه الأمة، لأن قوم موسى عليه السلام أوجب عليهم القصاص دون الدية، وقوم عيسى عليه السلام أوجب عليهم الدية دون القصاص، وخيرت هذه الأمة بين الأمرين، فكان تخفيفاً من الله تعالى ورحمة وقال: {ولَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] لأن القصاص وإن لم يكن في استيفائه حياة فوجوبه سبب للحياة، لأن القاتل إذا علم بوجوب القصاص عليه كف عن القتل، ولم يقتص منه فصار حياة لهما، وهذا من أوجه كلام وأوضح معنى. وقيل: إنه في التوراة: يا بني إسرائيل لا تقتلوا تقتلوا، بين المعنيين فرق إذا سبر، وتعاطت العرب مثل ذلك، فقالوا: القتل أنفي للقتل، وكان لفظ القرآن أفصح، ومعناه أوضح وكلامه أوجز، وقال: {ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] فيه تأويلان: أحدهما: أنه القصاص، وهو قول قتادة. والثاني: أنه الخيار بين القصاص والدية، أو العفو عنهما، وهو قول ابن عباس. فلا يسرف في القتل فيه تأويلان: أخدهما: أن يقتل غير قاتله، وهو قول طلق بن حبيب. والثاني: يمثل به إذا اقتص وهو قول ابن عباس. وتأوله سعيد بن جبير وداود تأويلاً ثالثاً: أن يقتل الجماعة بالواحد. إنه كان منصوراً فيه تأويلان. أحدهما: أن الولي كان منصوراً بتمكينه من القصاص وهو قول قتادة. والثاني: أن المقتول كان منصوراً بقتل قاتله، وهو قول مجاهد، وقال: {وكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا

أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ والْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} إلى قوله: {فَهُوَ كَفَّارَةٌ} [المائدة: 45] له فيه تأويلان: أحدهما: فهو كفارة له للمجروح وهو قول الشعبي. والثاني: فهو كفارة للجارح، لأنه يقوم مقام أخذ الحق منه، وهو قول ابن عباس. فإن قيل: فهذا إخبار عن شريعة من قبلنا، وهي غير لازمة لنا. قيل: في لزومها لنا وجهان: أحدهما: يلزمنا ما لم يرد نسخ. والثاني: لا يلزمنا إلا أن يقوم دليل، وقد قام الدليل بوجوب ذلك علينا من وجهين. أحدهما: أنه قد قرأ أبو عمرو: {والْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] بالرفع وهذا خارج عن الخبر إلى الأمر. والثاني: ما روي عن حميد عن أنس قال: كسرت الربيع بنت مسعود وهي عمة أنس ثنية جارية من الأنصار، فطلب القوم القصاص فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بالقصاص فقال أنس بن النضر، عم أنس بن مالك: لا والله لا تكسر ثنيتها يا رسول الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كتاب الله القصاص" فرض وقبلوا الأرش فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن من عباد الله لو أقسم على الله لأبر قسمة" ذكره البخاري في الصحيح. فموضع الدليل من أنه أخبر بأن كتاب الله موجب للقصاص في السن ولم يذكره إلا في هذه الآية فدل على لزمها لنا، ويدل على وجوب القصاص من السنة ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل، وأنا والله عاقله، فمن قتل قتيلاً فأهله بين خيرتين أن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قتل قتيل فهو به بسواء" يعني سواء فإذا ثبت وجوب القصاص، وهم معتبر بالتكافئ على مسا سنذكره تعلق بالقتل حقان. أحدهما: لله. والثاني: للمقتول. فأما حق الله فشيئان الكفارة والمأثم. فأما الكفارة فلا تسقط بالتوبة، وأما المأثم فيسقط بالتوبة على ما قدمناه، والتوبة معتبر بثلاثة شروط: أحدها: الندم على قتله، وترك العزم على مثله، وتسليم إلى ولي المقتول، ليقتص منه أو يعفو عنه.

وأما حق المقتول، فأحد أمرين يرجع فيها إلى خيار وليه في القصاص أو الدية، ولا يجوز أن يجمع بين الأمرين. وروي أن مقيس بن صبابة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطالبه بدم أخيه وقد قتله بعض الأنصار، فحكم له بالدية، فأخذها ثم عدا على قاتل أخيه وعاد إلى مكة مرتداً. وأنشأ يقول: شفي النفس أن قد بات بالقاع مسنداً ... تضرج ثوبيه دماء الأخادع ثأرت به قهراً وحملت عقله ... سراة بني النجار أرباب فارع حللت به وترى وأدركت ثؤرتي ... وكنت عن الإسلام أول راجع فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عام الفتح صبراً. وهو أحد الستة الذين أمر بقتلهم، وإن تعلقوا بأستار الكعبة. مسألة قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وإذا تكافأ الدمان من الأحرار المسلمين أو العبيد المسلمين، أو الأحرار المعاهدين، أو العبيد منهم، قتل من كل صنف مكافئ في دمه منهم الذكر قتل بالذكر وبالأنثى، والأنثى إذا قتلت بالأنثى وبالذكر". قال في الحاوي: والمكافأة معتبر في وجوب القصاص على تفصيل أقسامها، وهي منقسمة ثلاثة أقسام: مكافأة في الأجناس، ومكافأة الأنساب، ومكافأة في الأحكام. فأما مكافأة الأجناس: فهو الذكور بالذكور والإناث بالإناث، فهو غير معتبر عند الفقهاء بأسرهم، وهو قول جمهور الصحابة والتابعين فيجوز أن يقتل الذكر بالذكر وبالأنثى، وتقتل الأنثى بالأنثى وبالذكر. وحكي الحسن البصري عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: لا يقتل الذكر بالأنثى إلا أن يؤخذ منها نصف الدية ثم يقتل بها. وبه قال عطاء استدلالاً بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرُّ بِالْحُرِّ والْعَبْدُ بِالْعَبْدِ والأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة: 178] فلما لم يتكافأ الأحرار والعبيد لم يتكافأ الذكور والإناث، ولأن تفاضل الديات تمنع من التماثل في القصاص كما يمنع تفاضل القيم في المتلفات من التساوي في الغرم. ودليلنا قول الله تعالى: {وكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] فعم من غير تخصيص. وروى أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلك كتب كتاباً إلى أهل اليمن فيه الفرائض والسنن، وأنفذه مع عمرو بن حزم، وكان فيه: "يقتل الذكر

بالأنثى" وهذا نص. وروى قتادة عن أنس بن مالك أن يهودياً مر بجارية عليها حلي لها، فأخذ حليها، وألقاها في بئر فأخرجت وبها رمق، فقيل: من قتلك؟ قالت: فلان اليهودي، فانطلق به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترف فأمر به فقتل. ولأن الأحكام ضربان: ضرب تعلق بحرمة كالحدود فيستوي فيه الرجل والمرأة، وضرب تعلق بالمال كالميراث، فتكون المرأة فيه على النصف من الرجل والقود متعلق بالحرمة فاستوت فيه المرأة والرجل. والدية متعلقة بالمال فكانت المرأة فيه على النصف من الرجل. ولأن القصاص إن وجب فبذل المال معه لا يجب وإن لم يجب القصاص فبذل المال لا يجب. فأما قوله: {والأُنثَى بِالأُنثَى} فليس يمنع قتل الأنثى بالأنثى من قتل الذكر بالأنثى، لأن الحكم المعلق بعين لا يقتضي نفيه عما عداها. وأما اختلاف الديات فلا يمنع من التماثل في القصاص كتفاضل الديات بين أهل الكتاب والمجوس وهم متساوون في القصاص. فصل: وأما التكافؤ بالأنساب فغير معتبر بالإجماع فيقتل الشريف بالدنيء، والدنيء بالشريف، والعربي بالعجمي، والعجمي بالعربي. روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" وقال صلى الله عليه وسلم: "أئتوني بأعمالكم ولا تأتوتي بأنسابكم". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع: "من له علي مظلمة أو له قبلي حق فليقم ليأخذ حقه فقام له رجل يقال له عكاشة، فقال: لي عليك مظلمة ضربتين بالسوط على بطني يوم كذا، فكشف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال: قم فاقتص، فبكى الرجل، وقال: عفا الله عنك يا رسول الله. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما هلك من كان قبلكم بأن الشريف كان إذا أتى الحد لم يحد وحد الدنيء". وأما تكافؤ الأحكام فكالأحرار مع العبيد، والمسلمين مع المعاهدين فهو عندنا معتبر، وإن خولفنا فيه وسنذكره فيما يليه. وأصل التكافؤ في الحرية على ما سيأتي بيانه.

مسألة: قال الشافعي: "ولا يقتل مؤمن بكافر لقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يقتل مؤمن بكافر" وإنه لا خلاف أنه لا يقتل بالمستأمن وهو في التحريم مثل المعاهد. قال المزني رحمه الله: فإذا لم يقتل بأحد الكافرين المحرمين لم يقتل بالآخر. قال الشافعي رحمه الله: قال قائل: عنى النبي صلى الله عليه وسلم: لا يقتل مؤمن بكافر حربي فهل من بيان في مثل هذا يثبت؟. قلت: نعم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المؤمن الكافر ولا الكافر المؤمن فهل تزعم أنه أراد أهل الحرب لأن دماءهم وأموالهم حلال؟ قال: لا ولكنها على جميع الكافرين لأن اسم الكفر يلزمهم. قلنا: وكذلك لا يقتل مؤمن بكافر، لأن اسم الكفر يلزمهم فما الفرق؟ قال قائل: روينا حديث ابن البيلماني، قلنا: منقطع، وخطأ إنما روي فيما بلغنا أن عمرو بن أمية قتل كافراً كان له عهد إلى مدة، وكان المقتول رسولاً فقتله النبي صلى الله عليه وسلم به، فلو كان ثابتاً كنت قد خالفته، وكان منسوخاً لأنه قتل قبل الفتح بزمان، وخطبة رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يقتل مؤمن بكافر" عام الفتح، وهو خطأ لأن عمرو بن أمية عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم دهراً وأنت تأخذ العلم ممن بعد ليس لك به معرفة أصحابنا. قال في الحاوي: أما تكافؤ الأحكام بالحرية والإسلام فمعتبر عندنا فيقتص من الأدنى بالأعلى ولا يقتص من الأعلى بالأدنى، وهو أن يقتل الكافر بالمسلم، ولا يقتل المسلم بالكافر، وسواء كان الكافر ذمياً، أو معاهداً، أو حربياً، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق. قال أبو حنيفة: يقتل المسلم بالذمي، ولا يقتل بالمعاهد والحربي، وقال الشعبي: يقتل المسلم بالكتابي، ولا يقتل بالمجوسي. واستدلوا بعموم قول الله تعالى: {وكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وبقوله: {ولَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ورواية ابن البيلماني أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلماً بكافر وقال: "أنا أحق من وفي بذمته". وبما روي أن عمرو بن أمية الضمري قتل مشركاً، فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم. وروي أن أبا موسى الأشعري كتب إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسأله عن مسلم قتل نصرانياً فكتب إليه عمر أن يقتاد منه. ومن القياس: أن كل من قتل به الكافر جاز أن يقتل بالكافر كالكافر. لأن كل من قتل بأهل ملته جاز أن يقتل بغير أهل ملته كقتل اليهودي بالنصراني.

ولأن المسلم قد ساوى الذمي حقن دمهما على التأبيد، فوجب أن يجري القصاص بينهما كالمسلمين. ولأن حرمة نفس الذمي أغلظ من حرمة ماله وقد ثبت أن يد المسلم تقطع بسرقة ماله، فكأن أولى أن يقتص من يده بيده، لأن كافراً لو قتل كافراً ثم أسلم القاتل لم يمنع إسلامه من الاستيفاء للقود، كذلك لا يمنع من وجوب القود، ولأنه لما جاز للكافر قتل المسلم دفعاً عن نفسه كان قبله قوداً بنفسه، لأنهما في الحالين قتل مسلم بكافر. ودليلنا قوله: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وأَصْحَابُ الجَنَّةِ} [الحشر: 20] فكان نفي التساوي بينهما يمنع من تساوي نفوسهما، وتكافؤ دمائها، فإن قيل: ليس يجوز أن يقطع على هذا المسلم بالجنة لجواز كفره، ولا على الكافر بالنار لجواز إسلامه. قيل: الحكم وارد في عموم الجنسين دون أعيان الأشخاص، وقد قطع لأهل الإيمان بالجنة وأهل الكفر بالنار وقال تعالى: {ولَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141] وهذا وإن كان بلفظ الخبر فالمراد به النهي، لأن الخبر لا يجوز أن يكون بخلاف مخبره، وقد نرى لكافر سبيلاً على المسلم بالتسلط واليد، ونفي السبيل عنه يمنع من وجوب القصاص عليه. فإن قيل: وهو محمول على أن لا سبيل له عليه في الحجة والبرهان، فعنه جوابان: أحدهما: أنه محمول على العموم اعتباراً بعموم اللفظ. والثاني: أننا نعلم أنه لا سبيل له عليه بالحجة الدالة بهذه الآية فلم يجز حملها على ما هو معلوم بغيرها. ويدل عليه من السنة وهو المعتمدة في المسألة ما رواه أبو هريرة وعمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يقتل مؤمن بكافر". وروى معقل بن يسار أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده". وروى قتادة عن الحسن عن قيس قال: انطلقت أنا والاشتر إلى علي بن أبي طالب رضوان الله عليه فقلنا له: هل عهد إليك رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعهده إلى الناس عامة؟ فقال: لا إلا ما في هذا الكتاب، وأخرج كتاباً من قراب سيفه فإذا فيه: "المسلمون تتكافأ دماءهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم. ألا لا يقتل مؤمن بكافر، ولا ذو عهد في عهده".

وروى حماد عن جابر عن الشعبي عن علي بن الحسين قال: أخرج أبي سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا فيه العقل على المؤمنين عامة ولا يترك مفرج في الإسلام، ولا يقتل مسلم بكافر. والمفرج الذي لا يكون له قبيلة ينضم إليها فأمر أن يضم إلى قبيلة يضاف إليها حتى لا يكون مفرداً. فدلت هذه النصوص كلها على أن لا يقتل مسلم بكافر. فإن قالوا المراد بقوله: "لا يقتل بكافر" أي بكافر حربي، لأنه قال: "ولا ذو عهد في عهده" وذو العهد يقتل بالمعاهد، ولا يقتل بالحربي، ليكون حكم العطف موافقاً لحكم المعطوف عليه فعنه جوابان: أحدهما: أن قوله: "لا يقتل مؤمن بكافر" يقتضي عموم الكفار من المعاهدين، وأهل الحرب فوجب حمله على عمومه ولم يجز تخصيصه بإضمار وتأويل، وقوله: "ولا ذو عهد في عهده" كلام مبتدأ أي: لا يقبل ذو العهد لأجل عهده، وأن العهد من قبله حقناً لدماء ذوي العهود. والثاني: أن قوله: "لا يقتل مؤمن بكافر" محمول على العموم في كل كافر من معاهدي وحربي. ولا ذو عهد في عهده محمول على الخصوص في أنه لا يقتل بالحربي، وإن قتل بالمعاهد لأنه ليس تخصيص أحد المذكورين موجباً لتخصيص الآخر. ويدل على ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لو كنت قاتلاً مسلماً بكافر لقتلت خداماً بالهذلي" ولو جاز قتله ببعض الكفار دون بعض غيره ولم يطلقه، ويدل عليه من طريق الاعتبار أن المسلم لما لم يقتل بالمستأمن لم يقتل بالذمي. وللجمع بينهما ثلاث علل: أحداهن: أنه منقوض بالكفر، فوجب إذا قتله مسلم أن لا يقاد به كالمستأمن. والثانية: أن من لم يمنع دينه من استرقاقه لم يقتل به من منع دينه من استرقاقه كالمستأمن. فإن قيل: هذا منتقض بالكافر إذا قتل كافراً ثم اسلم القاتل فإنه يقتل به، وإن كان مسلماً فعنه جوابان: أحدهما: إن في شرط العلة إذا قتله مسلم، وهذا قتله وهو كافر، فلم تنتقض به العلة. والثاني: أن التعليل للجنس فلا تنتقض إلا بمثله. فإن قيل: المستأمن ناقص الحرمة، لأن دمه محقون إلى مدة بخلاف الذمي فإنه تام

الحرمة، محقون الدم على التأييد، فأشبه المسلم فعنه جوابان: أحدهما: أن اختلاف الحرمتين في المدة لا يمنع من تساويهما في الحكم مع بقاء المدة، ألا ترى أن تحريم الأجنبية مؤقتة، وتحريم ذات المحرم مؤبد، وقد استويا في وجوب الحد في الزنا كذلك ها هنا. والثاني: أن للنفس بدلين: القود والدية، فلما لم يمنع اختلافهما في الحرمة من تساويهما في الدية لم يمنع من تساويهما في القود، ولأن حد القذف يجب بهتك حرمة العرض، والقود يجب بهتك حرمة النفس، فلما سقط عن المسلم حد قذفه كان أولى أن يسقط عنه القود في نفسه، لأن أخذ النفس أغلظ من استيفاء الحد. فأما الجواب عن قوله تعالى: {وكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] فمن وجهين: أحدهما: أنه عائد إلى بني إسرائيل وكانوا أكفاء فلم يجز حكمهم على غير الأكفاء. والثاني: أنه عموم خص بدليل. فأما قوله تعالى: {ولَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فهو قصاص لهم فلم يجز أن يفعل قصاصاً عليهم. وأما حديث عبد الرحمن بن البيلماني أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلماً بكافر فهو حديث ضعيف لا يثبته أصحاب الحديث، ثم مرسل، لأن ابن البيلماني ليس بصحابي، والمراسيل عندنا ليست بحجة، ولو سلم الاحتجاج به لما كان فيه دليل، لأنها قضية في عين لا تجري على العموم. وقد يجوز أن يكون القاتل اسلم بعد قتله فقتله به، وإذا احتمل هذا وهذا وجب التوقف عن الاحتجاج. وأما حديث عمرو بن أمية الضمري فقد أجاب الشافعي عند بثلاثة أجوبة: أحدها: أن طريقة بن أمية الضمري عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ومات في زمن معاوية، فاستحال ما أضيف إليه. ولهذا قال الشافعي: وأنت تأخذ العلم، من بعد ليس لك به معرفة أصحابنا يعني: أهل الحرمين، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بينهم فكانوا بأقواله وأصحابه أعرف. والثالث: أن في روايتهم أنه قتله رسول مستأمن، وعندهم أن المسلم لا يقتل بالمستأمن، فلم يكن لهم فيه دليل. وأما حديث عمر فقد روى أن معاذ بن جبل أنكر عليه. وروى له عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يقتل مؤمن بكافر" وأن زيد بن ثابت قال له: لا تقتل أخاك بعبدك فرجع عنه، وكتب إلى أبي موسى أن لا تقتله به، فصار ذلك إجماعاً.

وأما قياسهم على المسلم فالمعنى فيه أنه حقن دمه بدينه وأن دينه يمنع من استرقاقه فخالف الكافر. وأما قياسهم على قتل اليهودي بالنصراني فلا يصح، لأن الكفر كله عندنا ملة واحدة، وإن تنوع، فلذلك جرى القود بينهما، وملة الإسلام مخالفة لهما ومفضلة عليهما. وقولهم: إن حرمة النفس أغلظ من حرمة المال، والمسلم يقطع في مال الكافر فكان أول أن يقتل بنفس الكافر. فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن القطع في السرقة حق الله تعالى لا يجوز العفو عنه فجاز أن يستحق في مال الكافر كما يستحق في كال المسلم والقود من حقوق الآدميين لجواز العفو عنه فلم يستحقه كافر على مسلم. والثاني: أنه لما جاز قطع المسلم بسرقة مال المستأمن، ولم يقتل به، جاز أن يقطع في مال الذمي، وإن لم يعتد به. وقياسهم على الكافر فالمعنى فيه تساويهما في الدين. وقولهم: إنه يقتل به لو اسلم بعد قتله، فكذلك إذا كان مسلماً قبل قتله لا وجه له لأن القود حد، والحدود تعتبر بحال الوجوب، ولا تعتبر بما بعده، لأن مجنوناً لو قتل ثم عقل لم يجب عليه القود، ولو كان عاقلاً وقت القتل، ثم جن وجب عليه القود، وقد ذهب الأوزاعي إلى أنه لا يقتل به الكافر، إذا أسلم تمسكاً بظاهر قوله: لا يقتل مؤمن بكافر" وإن خالفناه فيه بالمعنى الذي قدمناه. وقولهم: لما جاز أن يقتله دفعاً، جاز أن يقتله قوداً، فيفسر من وجهين: أحدهما: أن المستأمن يجوز له قتل المسلم دفعاً ولا يجوز أن يقتل به قوداً. والثاني: بالمال يجوز أن يقتل المسلم بدفعه عنه ولا يقتل ما بدفعه عليه. وفيما تتجافاه النفوس من قتل المسلم بالكافر ما يمنع من القول به، والعمل عليه. حكي يحيي بن زكريا الساجي عن موسى بن إسحاق الأنصاري عن علي بن عمرو الأنصاري أنه رفه إلى أبي يوسف القاضي مسلم قتل كافراً فحكم عليه بالقود، فأتاه رجل برقعة ألقاها إليه من شاعر بغدادي يكنى أبو المضرجي فيها مكتوب. يا قاتل المسلم بالكافر ... جرت وما العادل كالجائر يا من ببغداد وأطرافها ... من فقهاء الناس أو شاعر جار على الدين أبو يوسف ... إذ يقتل المسلم بالكافر فاسترجعوا وابكو على دينكم ... واصطبروا فالأجر للصابر فأخذ أبو يوسف الرقعة، ودخل على الرشيد، فأخبره بالحال، وقرأ عليه الرقعة،

فقال له الرشيد: تدارك هذا الأمر بحيلة لئلا يكون منه فتنة. فخرج أبو يوسف وطالب أولياء المقتول بالبينة على صحة الذمة، وأداء الجزية فلم يأتوا بها فأسقط القود وحكم الدية، وهذا إذا كان مفضياً إلى استنكار النفوس وانتشار الفتن كان العدول عنه أحق وأصواب. فصل: فإذا ثبت أن المسلم لا يقتل بالكافر فحالهما تنقسم أربعة أقسام: أحدها: ما لا يقتل به، وتجب عليه دية كافر، وهو أن يبتدئ المسلم بقتل الكافر توجيه فلا يجب القود لإسلام القاتل، وتجب به دية كافر لكفر المقتول. والثاني: ما لا يجب فيه القود، وتحب فيه دية مسلم، وهو أن يجرح المسلم كافراً، ثم يسلم المجروح، ويموت مسلماً، فلا قود على المسلم، لأن المقتول وقت الجرح كان كافراً، وفيه دية مسلم، لأنه مات من الجرح مسلماً، لأن الاعتبار في القود بحال الابتداء، وفي الدية بحال الانتهاء. والثالث: ما يقتل به المسلم ولا يجب فيه الدية كافر، وذلك في حالتين: إحداهما: أن يقتل كافر كافراً ثم يسلم القاتل به، وإن كان مسلماً اعتباراً بحال القتل، ولا تجب عليه إلا دية كافر، لأن المقتول مات كافراً. والثانية: أن يطلب المسلم نفس الكافر فيجوز للكافر أن يقبل طالب نفسه، وإن كان مسلماً فلو قتله المسلم الطالب لم يجب عليه إلا دية كافر، ولو قتل المسلم لم يجب له دية لأن نفس المطلوب مضمونة، ونفس الطالب هدر. والرابع: ما اختلف القول فيه، وهو أن يقتل مسلم كافراً في الحرابة، ففي قتله به قولان للشافعي: أحدهما: وهو المشهور عنه أنه لا يقتل به لعموم النهي. والثاني: ذكره الشافعي في موضع وقال: هذا مما استخير الله فيه أن يقتل به، لأن في قتل الحرابة حقاً لله تعالى يجب أن يستوفي ولا يجوز العفو عنه فاستوي فيه قتل المسلم والكافر، وهو في غير الحرابة حق لآدمي يجوز العفو عنه فسقط في حق الكافر، ولو قتل مرتد كافراً لم يجب عليه القود، وإن اتفقا على الكفر لما ثبت له من حرمة الإسلام، وما أجرى عليه من أحكامه. مسألة: قال الشافعي: "قال: ولا يقتل حر بعبد".

قال في الحاوي: لا يقتل الحر بعبده وبعبد غيره. وقال أبو حنيفة: يقتل الحر بعبد غيره، ولا يقتل بعبد نفسه استدلالاً بعموم قول الله تعالى: {وكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْس} [المائدة: 45] ورواية علي بن أبي طالب عليه السلام: أنه قال: المسلمون بتكافؤ دماؤهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم فاعتبر المكافأة بالإسلام قد استوى الحر والعبد فيه فوجب أن يتكافأ دمهما، ويجري القود بينهما، ومن الاعتبار أن كل من قتل بالحر قتل به الحر كالحر، ولأن الرق مؤثر في ثبوت الحجر، وما ثبت به الحجر يمنع من استحقاق القود على من ارتفع عنه الحجر كالجنون والصغر، ولأنه لما جاز أن يقتل به الحر دفعاً جاز أن يقتل به قوداً. ودليلنا قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرُّ بِالْحُرِّ والْعَبْدُ بِالْعَبْدِ} [البقرة: 178] فاقتضى هذا الظاهر أن لا يقتل حر بعبد. وروى سليمان بن مسلم عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتل حر بعبد". ورواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده وهذا نص لا يسوغ خلافه وروى إسرائيل عن جابر عن عامر عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه قال: "من السنة ألا يقتل مسلم بكافر، ومن السنة ألا يقتل حر بعبد يعني: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا يقوم مقام الرواية عنه، وليس له في الصحابة مخالف، فصار مع السنة إجماعاً، ومن الاعتبار أن حرمة النفس أغلظ من حرمة الأطراف، فلما لم يجب القود بينهما في الأطراف، فأولى أن لا يجري بينهما في النفس. وتحريره قياساً أن كل شخصين امتنع القود بينهما في الأطراف امتنع في النفس كالوالد مع ولده طرداً، وكالحربي عكساً، ولأن كل قود سقط بين المسلم والكافر المستأمن سقط بين الحر والعبد كالأطراف. فإن قيل: الأطراف تعتبر فيها المماثلة لأنه لا تؤخذ السليمة بالشلاء المريضة، ولا تؤخذ الأيدي بيد واحدة، والمماثلة غير معتبرة في النفوس لقتل الصحيح بالمريض، والجماعة بالواحد، فكذلك جرى القود بين الحر والعبد في النفس، وسقط في الأطراف. قيل: هما عندنا سواء، والمماثلة المعتبرة فيهما واحدة، لأننا نقطع الأيدي بيد واحدة، وإن خالفتمونا فيه ونقتل الصحيح بالمريض كما نقطع اليد الصحيحة بالعليلة، ولا نقطعها باليد الشلاء كما لا يقتل الحي بالميت، لأن الشلاء ميتة. فإن قيل: فقد فرقتم بين قطع الشلاء في وجوب الأرض فيهما، وبين استهلاك الميت في سقوط الأرش فيه.

قيل: لأن الشلاء متصلة بحي، وفيها جمال، فجاز أن يجب الأرش بقطعها مع موتها، كما يجب في الشعر مع كونه عندكم ميتاً، ولأن الرق حادث عن الكفر فلما سقط به القود عن المسلم وجب أن يكون ما حدث فيه من الرق بمثابته في سقوط القود عن الحر ولأن النقص بالرق يمنع من استحقاق القود على الحر كالسيد مع عبده، ولأنه لما سقط عنه الحد بقذفه فأولى أن يسقط عنه القود بقتله لأن حرمة النفس أغلظ. فأما الجواب عن الآية فهو أنها تضمنت نفساً وأطرافاً فلما خرج العبيد من حكم الأطراف خرجوا من حكم النفوس. وأما الخبر فقال قال فيه: "ويسعى بذمتهم أدناهم" يريد به العبيد، ومن كان أدناهم لم يجز أن يؤخذ بالأعلى. وأما قياسهم على الحر، فالمعنى فيه جريان القود في الأطراف فجرى في النفوس، ولا يجري في الأطراف بين الحر والعبد، فلم يجز في النفوس، وكذلك الجواب عن تعليلهم بتأثير الحجر كالجنون والصغر، وقد مضى الجواب عن جمعهم بين قتل الدفع وقتل القود، وليس لما تناكرته العامة، ونفرت منه الخاصة مساغاً في اختلاف الفقهاء. وحكي أن بعض فقهاء خراسان سئل في مجلس أميرها عن قتل الحر بالعبد فمنع منه وطولب بالدليل عليه. فقال: أقدم قبل الدليل حكاية إن احتجت بعدها إلى دليل فعلت ثم قال: كنت أيام تفقهي ببغداد نائماً ذات ليلة على شاطئ دجلة فسمعت ملاحاً يترنم وهو يقول: خذوا بدمي هذا الغلام فإنه رماني ... بسهمي مقلتيه على عمد ولا تقتلوه إني أنا عبده ... ولم أر حراً قط يقتل بالعبد وما انتشر في العامة تناكره حتى نظموه شعراً، وجعلوه في الأمثال شاهداً كان من اختلاف الفقهاء خارجاً فقال الأمير: حسبك فقد أغنيت من دليل. فصل: واستدل النخعي وداود على قتل السيد بعبده بما رواه قتادة عن الحسن عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه" وفي رواية أخرى: "ومن خصاً عبده خصيناه". والدليل عليهما رواية الأوزاعي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلاً قتل عبده فجلده النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقده به، وأمره أن يعتق رقبه، وهذا نص وما أمر به من جلده ونفيه تعزيز. فأما الخبر المستدل به ضعيف، لأن الحسن لم يرو عن سمرة إلا ثلاثة

أحاديث ليس هذا منها. وقد روى قتادة عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتل حر بعبد". ولو صح لحمل على أحد وجهين إما على طريق التغليظ والزجر لئلا يتسرع الناس إلى قتل عبيدهم، وإما على من كان عبده فاعتقه فإنه يقاد به، وإن كان من قبل عتقه لا يقاد به والله أعلم. فصل: فإذا ثبت أن الحر لا يقتل بالعبد فكذلك لا يقتل بكل من جرى عليه حكم الرق من المدبر والمكاتب، وأم الولد، ومن رق بعضه، وإن قل، فلو قتل حر كافر عبداً مسلماً لم يقتل به لحريته، ولو قتله العبد المسلم لم يقتل به لإسلامه، فيسقط القود عن كل واحد منهما بصاحبه، وإذا قتل عبد نصفه حر عبداً نصفه حر قتل به لاستوائهما في الحرية والرق، ولو كان نصف القاتل حراً وثلث المقتول حراً ولم يقتل لفضل حرية القاتل، وإن كان ثلث القاتل حراً ونصف المقتول حراً قتل به لفضل حرية المقتول على القاتل، لأنه يجوز أن يقتل الناقص بالكامل، ولا يجوز أن يقتل الكامل بالناقص، كما يجوز أن يقتل العبد بالحر، ولا يجوز أن يقتل الحر بالعبد. ولو قتل حراً عبداً في الحرابة كان في وجوب قتله به قولان على ما مضى في قتل الذمي في الحرابة، ولو جرح عبد حر عبداً فاعتق المجروح ومات حراً فلا قود على القاتل، وعليه دية حر، ولو جرح عبد عبداً فاعتق الجارح ومات قتل به. مسألة: قال الشافعي: "وفيه قيمته وإن بلغت ديات قال المزني رحمه الله تعالى: وفي إجماعهم أن يده لا تقطع بيد العبد قضاء على أن الحر لا يقتل بالعبد، فإذا منع أن يقتص من يده وهي أقل لفضل الحرية على العبودية، كانت النفس أعظم، وهي أن تقتص بنفس العبد أبعد". قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا قتل العبد بجناية أو مات في يدها منه ففيه قيمة ما بلعت، وإن زادت على دية الحر ضعافاً، وهو قول جمهور أهل الحجاز، وبه قال من العراقيين سفيان الثوري وأبو يوسف وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة ومحمد: يضمن في اليد جميع قيمته ما بلغت، ويضمن في الجناية بقيمته إلا أن تبلغ دية حر أو تزيد عليها فتنقص عن دية الحر عشر دراهم حتى لا يساويه في ديته. وإن كانت أمة قد زادت قيمتها على نصف الدية نقصت عنها عشرة دراهم.

وقيل: خمسة دراهم، لأن لا تساوي دية الحر استدلالاً بأنه آدمي مضمون بالجنابة فلم يضمن بأكثر من دية حر كالحر، ولأنه يضمن بالجناية ضمان النفوس لوجوب الكفارة فيه فوجب أن يضمن كالأطراف، ولأن نقصه بالرق يمنع من كمال بدله كالناقص القيمة، وهو معنى قول أبي حنيفة: لا أوجب في المملوك مما أوجب في المالك. ودليلنا قول الله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] والمثل في الشرع مثلان مثل يفي الصورة، ومثل في القيمة فإذا لم يعتبر المثل في الصورة اعتبر في القيمة ما بلغت، ولأن حرمة الآدمي أغلظ من حرمة البهيمة، ثم كانت البهيمة مضمونة بجميع قيمتها فكان أولى أن يضمن العبد بجميع قيمته. وتحريره قياساً بأحد معنيين: أن تقول في أحدهما: إنه مملوك مضمون فوجب أن لا تتقدر قيمته كالبهيمة. والثاني: أن ما لم يتقدر أقل قيمته لم تتقدر أكثرها كالبهيمة، ولأن ضمان العبد بالجنابة أغلظ من ضمان باليد، ثم كان في اليد مضموناً بجميع قيمته فكان أول أن يضمن في الجناية بجميع قيمته. ويتحرر منه قياسان: أحدهما: أنه أحد نوعي الضمان فوجب أن يستوفي به قيمة المضمون كالضمان باليد. والثاني: أن ما ضمنت قيمته باليد ضمنت قيمته بالجناية كالناقص القيمة، ولأن العبد متردد الحال بين أصلين: أحدهما: الحر لأنه آدمي مكلف يجب في قتله القود والكفارة. والثاني: البهيمة لأنه مملوك يباع ويوهب ويورث وهو في القيمة ملحق بأحد أصلين. فلما بالبهيمة في ثلاثة أحوال: أحدها: إذا قلت قيمته. والثانية: إذا ضمن باليد. والثالثة: إذا ضمنه أحد الشريكين بالعتق. وجب أن يلحق بالهيمة في الحال الرابعة وهو إذا أرادت قيمته في ضمانه بالجناية، لأنه لا يجوز أن يلحق بالبهيمة في أقلها، ويلحق بالحر في أكثرها، ولأنهم لا يلحقونه بالحر في أكثرها حتى ينقصوا من قيمته عشرة، فلم يسلم لهم أحد الأصلين. فأما الجواب عن قياسهم على الحر، فهم لا يساوونه بالحر لما يعتبرونه من نقصان قيمته عن دية الحر فهذا جواب. وجواب ثان أنه لما يلحق بالحر في ضمانه باليد لم يلحق في ضمانه بالجناية، ولما امتنع أن يلحق به إذا نقصت قيمته امتنع أن يلحق به به إذا نقصت قيمته امتنع أن يلحق به إذا زادت. وقياسهم على ضمان أطرافه فأطرافه معتبرة بقيمته، وقيمته غير مقدرة، فلم تتقدر بها

أطرافه، وقولهم: أنه ناقص بالرق فلم يساوي الحر في ديته، فاسد من وجهين: أحدهما: أنهم جعلوه كاملاً في القصاص وناقصاً في الدية وهذا تناقض. والثاني: أنه لما لم يمنه نقصه في ضمانه باليد من الزيادة على دية الحر لم يمنع من ذلك في ضمانه بالجناية. فصل: فإذا ثبت أن العبد مضمون بالقيمة، وإن زادت على الدية، لم يخل الضمان أن يكون نفسه أو لما دونها فإن ضمنت نفسه استوى ضمانها باليد إذا غصب وبالجناية إذا قتل، فتجب فيه جميع قيمته ما بلغت لكن يعتبر في الجناية قيمته وقت القتل، وتعتبر في اليد قيمته أكثر ما كانت من وقت الغصب إلى وقت التلف. فأما ما دون نفسه فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون جرحاً لا يتقدر فيه من الحر دية، فتجب فيه ما نقص من قيمته في ضمانه باليد والجناية جميعاً. فلا يخلو ضمانها في العبد من ثلاثة أقسام: أحدها: أن تضمن بالجناية فتضمن بنصف قيمته كالحر في ضمانها بنصف ديته. والقسم الثاني: أن تضمن باليد فتضمن ما نقص من قيمته سواء زاد على نصف القيمة أو نقص كالبهيمة. والقسم الثالث: أن تضمن باليد والجناية فيضمنها بأكثر الأمرين من نصف قيمته، أو ما نقص منها لأنه لما جمع بين الأمرين وجب أن يلزمه أغلظهما لوجود موجبه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولا يقتل والد بولد لأنه إجماع، ولا جد من قبل أم، ولا أب بولد وإن بعد، لأنه والد، قال المزني رحمه الله: هذا يؤكد ميراث الجد، لأن الأخ يقتل بأخيه، ولا يقتل الجد بابن ابنه، ويملك الأخ أخاه في قوله، ولا يملك جده، وفي هذا دليل على أن الجد كالأب في حجب الإخوة وليس كالأخ". قال في الحاوي: "لا يقتل والد ولا والدة ولا جد ولا جدة بولد ولا بولد ولد وإن سفل، سواء قتله ذبحاً قال مالك: إن ذبحة غيلة قتل به وإن حذفه بسيف فقتله لم يقتل به، استدلالاً بعموم الكتاب والسنة، ولأن تساويهما في الإسلام والحرية يوجب

تساويهما في القود كالأجانب ولأنه لما قتل الولد بالوالد جاز قتل الوالد بالولد. ودليلنا ما روى قتادة عن عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقام الحدود في المساجد، ولا يقاد بالولد الوالد" وروى محمد بن عجلان عن عمرو بن شعيب عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رجلاً من بني مدلج أولد جارية فأصاب منها ابناً، وكان يستخدمها، فلما شب الغلام قال: إلى متى تستأمن أمي أي: تستخدمها خدمة الإماء فغضب فحذفه بسيف أصاب رجله فقطعها، ومات فانطلق في رهط إلى عمر رضي الله عنه فقال: يا عدو نفسه أنت الذي قتلت ابنك، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يقاد الأب من أبنه" لقتلتلك هلم ديته، قال: فأتاه بعشرين ومائة بعير، قال: فخير منها مائة فدفعها إلى ورثته، وترك أباه، فإن قيل: إنما أسقط عنه القود للحذف، ودخول الشبهة فيه بما جعل له من تأديبه، وهذا المعنى مفقود في ذبحه غيلة. قيل: هذا فاسد من وجهين إنه ليس في عرف التأديب حذفه بالسيف فلم يجز حمله عليه. والثاني: أنه لو جاز لما استحقه من تأديبه أن لا يقال لحذفه يسقط به القود عن كل مستحق للتأديب من وال وحاكم، وهم يقادون به مع استحقاقهم للتأديب فكذلك الأب، ولأنه لا يحلو سقوط القود عن الأب في الحذف أن يكون لشبهة في الفعل، أو في الفاعل، فلم يجز أن يكون لشبهة في الفعل، لأنه لا يكون شبهة فيه مع غير الولد فثبت أنه لشبهة في الفاعل وهو الأبوة فوجب أن يسقط عنه القود مع اختلاف أحواله، ولأن الولد بعض أبيه، ولا قود على الإنسان فيما جناه على نفسه كذلك لا قود عليه في ولده لأنه بعض نفسه. واستدلاله بالظواهر مخصوص وقياسه على الأجانب ممنوع بما ذكرناه من البعضية واعتباره بقتل الولد بالوالد فاسد لتسويته في الولد بين الذبح، والحذف، وفرقة في الأب بين الذبح والحذف، وأنه يحد الولد بقذف الوالد، ولا يحد الوالد بقذف الولد، وهذا انفصال ودليل. فإن قيل: فكيف قال الشافعي فيما خالف فيه مالك: لأنه إجماع، وكيف ينعقد الإجماع مع خلاف مثله فعنه جوابان: أحدهما: أنه أراد به الصحابة لأن قول عمر رضي الله تعالى عنه ولم يخالف أحدهم. والثاني: أنه قتله حذفاً إجماع لا يعرف فيه خلاف فكان الذبح بمثابة فأما المزني

فإنه لما رأى الشافعي يقول: إن الجد كالأب في أنه لا يقتل بولده ولده قال: يجب أن يكون الجد كالأب في حجب الإخوة عن الميراث. قيل: إنما قال: إن الجد كالأب لأجل الولادة ولا يقتضي أن يحجب به الإخوة، كما تجعل الأم وأباها كالأب في سقوط القود، ولا تجعلها كالأب في حجب الإخوة. فصل: فإذا ثبت أن لا قود على الأبوين ومن علا من الأجداد والجدات من ورث منهم أو لم يرث فسواء كان الوالد القاتل حراً أو عبداً مسلماً أو كافراً، ويعزر لإقدامه على معصية، وعليه الدية والكفارة في ماله، ولا ميراث له منه، لأن القاتل لا يرث. فصل: وإذا تنازع رجلان في أبوة ولد ثم قتلاه أو أحدهما فلا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون لقيطاً قد أدعاه كل واحد منهما ولداً فعند أبي حنيفة: أنه يلحق بهما. وعلى مذهب الشافعي: أنه يعرض على القافة، ويلحق بمن ألحقوه به منهما، فإن عدمت القافة، وأشكل عليهم وقف إلى زمان الانتساب لينتسب إلى أحدهما بطبعه، وللكلام معه موضع غير هذا، وإذا كان كذلك فللمدعي أبوتة ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكونا مقيمين على ادعائه، والتنازع فيه، فإن قتلاه فلا قود عليهما، لجريان حكم الأبوة عليهما، وإن لم يتعين في أحدهما، لأن كل واحد منهما يجوز أن يكون أباه وإن قتله أحدهما قبل البيان فلا قود عليه سواء لحق بالقتل أو بالآخر، لثبوت الشبهة فيه عند قتله. والثانية: أن يسلمه أحدهما إلى الآخر قبل القتل فيلحق بمن سلم إليه، ويصير ابناً له دون الآخر، فإن قتله من ألحق به فلا قود عليه، لأنه أب له، وإن قتله من نفي عنه أقيد به، لأنه أجنبي منه، وإن قتلاه معاً فلا قود على الأب، ويقاد من الآخر. والثالثة: أن يرجعا جميعاً عن ادعائه فلا يقبل رجوعهما، وإن قبل رجوع أحدهما، لأنه قد صاراً بدعواهما مستحقاً لأبوة أحدهما فإذا سلمه أحدهما صارا متفقين على إثبات أبوته فقبل منهما، وإذا رجع عنها صاراً متفقين على إسقاط أبوته فلم يقبل منهما. فإن قتلاه أو أحدهما لم يقتل به لبقاء حكم الأبوة بينهما. وإن تنازعا لاشتراكهما في الفراش، أو تناكراه مع اشتركهما في الفراش، فالحكم فيهما سواء، وكذلك لو سلمه أحدهما إلى الأخر لم يقبل منه بخلافهما في دعوى اللقيط، لأن حكم الأبوة في اللقيط يثبت بالدعوى، فجاز تسليمه لأحدهما. وفي ولد الموطوءة ثبت حكم الأبوة بالاشتراك في الفراش فلم يؤثر فيه التسليم

والإنكار، وإذا كان كذلك فلبيان نسبة في لحوقه بأحدهما حالتان: إحداهما: بالولادة، وهو أن تلده لأقل من ستة أشهر من وطء أحدهما، ولستة أشهر فصاعداً من وطء الآخر، فيكون لاحقاً بمن ولدته لستة أشهر فصاعداً من وطئه، وهذا بيان لا يجوز أن يتأخر عن زمان الولادة فلا يكون القتل إلا بعد استقرار نسبة، فإن قتله من لحق به فلا قود عليه، وإن قتله من انتفي عنه أقيد به، وإن اشتركا في قتله به غير أبيه، وسقط القود عن أبيه. والثانية: أن لا يبين نسبة بالولادة، لولادته بعد ستة أشهر من وطئها معاً، فيوقف نسبة على البيان، بالقافة أو الانتساب، فإن قتل بعد البيان أقيد به غير أبيه، وإن قتل قبل البيان فلا قود على واحد منهما، سواء بان من بعد أنه أب أو غير أب، لثبوت الشبهة حال القتل. فصل: وإذا قتل الرجل زوجته وتركت ولداً فله حالتان: إحداهما: أن يكون من القاتل. والثاني: أن يكون من غيره. فإن كان من القاتل سقط القود عنه، لأن وراثها ابن قاتلها، وإذا لم يثبت للابن على أبيه قود في حق نفسه لم يثبت عليه بإرثه عن غيره، ولو كان الزوج قد قذفها قبل القتل سقط عنه حد القذف وإذا ورثها ابنه، لأن الابن لما لم يستحق عليه الحد في قذف نفسه، فكذلك لا يستحقه بإرثه عن غيره، وإن كان ولد المقتولة من غير القاتل ثبت له على القاتل القود حد القذف، لأنه لا نسب له بينهما، ولا بعضية. ولو تركت المقتولة ولدين أحدهما من القاتل والآخر من غيره، ورثها الولدان معاً، وسقط عن الزوج القود، ولم يسقط عنه حد القذف، لأن القود في حق ابنه قد سقط فسقط في حق الآخر منهما، كما لو عفا أحد الوليين عن القاتل سقط القود في حق الآخر ولا يجوز لأحد الوليين أن يستوفيه. وحد القذف بخلافه لأن عفو أحد الوارثين عنه لا يوجب سقوط حق الآخر منه، ويجوز لأحدهما أن يستوفه فافترقا فيه ويتصل بهذا الموضع فروع قدمناها في كتاب الفرائض. مسألة: قال الشافعي: "ويقتل العبد والكافر بالحر المسلم والولد بالوالد". قال في الحاوي: وإذا مضى الكلام في الإيقاد من الأكمل بالأنقص فلا يمنع أن

يقاد من الأنقص بالأكمل فيجوز أن يقتل الكافر بالمسلم، وإن لم يجز أن يقتل المسلم بالكافر، ويجوز أن يقتل العبد بالحر، وإن لم يجز أن يقتل الحر بالعبد، ويجوز أن يقتل الولد بالوالد، وإن لم يجز أن يقتل الوالد بالولد، لأن أخذ الأنقص بالأكمل اقتصار على بعض الحق، وأخذ الأكمل بالأنقص استفضال على الحق فيجوز الاقتصار فيه، ومنع من الاستفضال عليه، فلو بذل الأكمل نفسه بالأنقص فبذل الحر نفسه بقتل العبد، وبذل المسلم نفسه بقتل الكافر، وبذل الوالد نفسه بقتل الولد، لم يجز أن يقاد من واحد منهم، لأن القود إذا لم يجب لم يستبح بالبذل، كما لو بذل نفسه أن يقتل بغير قود لقول الله: {ولا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29]. مسألة: قال الشافعي: "ومن جرى عليه القصاص في النفس جرى عليه القصاص في الجراح". قال في الحاوي: وهذا صحيح كل بينهما القصاص في النفس جرى القصاص بينهما في الأطراف والجراح، سواء اتفقا في الدية كالحرين المسلمين أو اختلفا في الدية، كالرجل والمرأة والعبيد إذا تفاضلت فيهم، وإن لم يجز القصاص بينهما في النفس لم يجز في الأطراف كالمسلم مع الكافر والعبد مع الحر. وقال أبو حنيفة: إن اختلفت دياتهما جرى القصاص بينهما في النفس دون الأطراف كالرجل مع المرأة بقتله بها، ولا يقطع يده بيدها، والعبيد إذا تفاضلت قيمهم، وقل أن تكون متفقة، فيوجب القود بينهم في النفوس، لأنه لا يجوز أن تؤخذ اليد السليمة بالشلاء، وتؤخذ النفس السليمة بالنفس السقيمة، فلم يمنع تفاضل الديات من القود في النفوس، ومنع من القود في الأطراف، ولأن أطراف الرجل أعم نفعاً من أطراف المرأة لاختصاصهما بالتصرف في الأعمال والاكتساب، فلم يتكافأها أطراف المرأة فسقط القود فيها. ودليلنا قول الله تعالى: {وكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ والْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة: 45] إلى قوله: {والْجُرُوحَ قِصَاصٌ} فكان على عمومه. ولأن كل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس جرى في الأطراف كالرجلين. ولأن كل قصاص جرى بين الرجلين والمرأتين جاز أن يجري بين الرجل والمرأة كالنفوس، وكل قصاص جرى بين الحرين جرى بين العبدين كالنفوس، وقد مضى الجواب عن استدلاله باعتبار التكافؤ في الأطراف دون النفس بأنه معتبر في الأمرين، وفي الشلل حكم نذكره في موضعه، وما ذكره من اختصاص أطراف الرجل بالمنافع

فيفسد من ثلاثة أوجه: أحدها: ما اتفقوا عليه من أخذ يد الكاتب والصانع والمحارب بيد من ليس بكاتب ولا صانع ولا محارب. والثاني: أن في يد المرأة منافع ليست في يد الرجل فتقابلا. والثالث: أن أطراف العبيد تماثل في المنافع، ولا يجري فيها قود، فبطل هذا الاعتبار وبالله التوفيق. مسألة: قال الشافعي: "ويقتل بالواحد، واحتج بأن عمر رضي الله عنه قتل خمسة أو سبعة برجل قتلوه غيلة، وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم جميعاً" قال في الحاوي: وهو كما قال إذا اشترك الجماعة في قتل واحد قتلوا به جميعاً إذا كانوا له أكفاء وبه قال من الصحابة: عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن عباس، والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنهم. ومن التابعين: سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وعطاء، ومن الفقهاء: مالك والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق. وقالت طائفة: للولي أن يقتل به من الجماعة واحداً فيه إلى خياره، ويأخذ من الباقين قسطهم من الدية، وهو في الصحابة قول معاذ بن جبل، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما، وفي التابعين: قول ابن سيرين والزهري. وقال آخرون: لا قود على واحد من الجماعة بحال، وتؤخذ منهم الدية بالسوية، وبه قال: ربيعة بن أبي عبد الرحمن، وداود بن علي وأهل الظاهر، واستدلالاً بقول الله تعالى: {وكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وبقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرُّ بِالْحُرِّ والْعَبْدُ بِالْعَبْدِ والأُنثَى بِالأُنثَى} [البقرة: 178] فاقتضي هذا الظاهر أن لا تقتل النفس أكثر من نفس، ولا بالحر أكثر من حر، وبقوله تعالى: {ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِف فِّي القَتْلِ} [الإسراء: 33] ومن السرف قتل الجماعة بالواحد. وروى جويبر عن الضحاك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يقتل اثنان بواحد" وهذا نص ولأن الواحد لا يكافئ الجماعة لا يقتل بالجماعة إذا قتلهم، ويقتل بأحدهم، ويؤخذ ماله ديات الباقين، وكذلك إذا قتله جماعة لم يقتلوا به، ولأن زيادة الوصف إذا منعت من القود حتى لم يقتل حر بعبد، ولا مسلم بكافر، كان زيادة العدد أولى أن تمنع من القود، فلا يقتل جماعة بواحد، ولأن للنفس بدلين: قود ودية، فلما لم يجب على الاثنين بقتل الواحد ديتان لم يجب عليهما قودان.

ودليلنا قول الله تعالى: {ولَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وسبب الحياة أنه إذا علم القاتل بوجوب القصاص عليه إذا قتل كف عن القتل، فحي القاتل والمقتول، فلو لم تقتص من الجماعة بالواحد، لما كان في القصاص حياة، ولكان القاتل إذا هم بالقتل شارك غيره فسقط القصاص عنهما وصار رافعاً لحكم النص. وروى أبو شريح الكعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل، وأنا والله عاقله، فمن قتل بعد قتيلاً فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل". وهذا الخبر وارد في قتل الجماعة لواحد لأنه قال: "ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل" ثم قال: "فمن قتل بعده قتيلاً" ومن ينطلق على الجماعة كانطلاقه على الواحد ثم قال: "فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل، فدل على قتل الجماعة بالواحد، لأن الحكم إذا ورد على سبب، لم يجز أن يكون السبب خارجاً من ذلك الحكم. وروى ابن المسيب أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قتل خمسة أو سبعة برجل قتلوه غيله وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم جميعاً به. والقتل على أنواع غيلة، وفتك، وغدر، وصبر. فالغيلة: الحيلة وهو أن يحتالوا له بالتمكن من الاستخفاء حتى يقتلوه. والفتك: أن يكون آمناً فيراقب حتى يقتل. والغدر: أن يقتل بعد أمانه. والصبر: قتل الأسير محاصرة. وروي عن علي عليه السلام أنه قتل ثلاثة قتلوا واحد وكتب إلى أهل النهروان حين قتلوا عامله خباب بن الأرت سلموا إلى قاتله قالوا: كلنا قتله قال: فاستسلموا إذن أقد منكم، وسار إليهم فقتل أكثرهم. وقتل المغيرة بن شعبة سبعة بواحد. وقال ابن عباس: إذا قتل جماعة واحداً قتلوا به ولو كانوا مائة. وهذا قول أربعة من الصحابة فيهم إمامان عملاً بما قالا به فلم يقابلهم قول معاذ بن الزبير وصار ربيعة وداود خارجين من قول الفريقين بإحداث قول ثالث خالف فيه الفريقين فصارا مخالفين للإجماع، لأن من أحدث قولاً ثالثاً بعد قولين أحدث قولاً ثانياً بعد أول، ولأن قتل النفس أغلظ من هتك العرض بالقذف فلما حد الجماعة بقتل الواحد، كان أولى أن يقتلوا بقتل الواحد.

ولأن كل واحد من الجماعة ينطلق اسم القتل عليه، فوجب أن يجري عليه حكمه كالواحد، ولأن ما وجب في قتل الواحد لم يسقط في قتل الجماعة كالدية. فأما قوله تعالى: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وقوله: {الحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة: 178] فستعمل في الجنس لأن النفس تنطلق على النفوس، والحر ينطلق على الأحرار وقوله: {فَلا يُسْرِف فِّي القَتْلِ} [الإسراء: 33] يريد أن لا يقتل غير قاتله على أن قوله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] يقتضي أن يكون سلطانه في الجماعة كسلطانه في الواحد فصارت الآية دليلنا. وأما حديث الضحاك فمرسل منكور وإن صح كان محمولاً على المسك والقاتل، فيقتل به دون المسك. وقولهم إن دم الواحد لا يكافئ دم الجماعة غير صحيح، لأن حرمة الواحد كحرمة الجماعة لقول الله تعالى: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا} [المائدة: 32] فوجب أن يكون القود فيهما واحداً، وليس يوجب قتل الجماعة بالواحد، أن تقتل الواحد بالجماعة، وإن قال به أبو حنيفة لأن المقصود بالقود حقن الدماء، وأن لا تهدر فقتل الجماعة بالواحد لئلا تهدر دماؤهم. وقولهم: لما منع زيادة الوصف ممن القود كان أولى أن يمنع من زيادة العدد، فالفرق بينهما أن زيادة الوصف منعت من وجود المماثلة في الواحد فلم تمنع في الجماعة ألا ترى أن زيادة الوصف في القاذف تمنع من وجوب الحد عليه، وزيادة العدد لا يمنع من وجوب الحد عليهم وقولهم: لما لم تستحق بقتله ديتان لم تستحق به قودان فعنه جوابان: أحدهما: أن الدية تتبعض فلم يجب أكثر منها، والقود لا يتبعض فعم حكمه كسرقة الجماعة لما أوجبت غرماً يتبعض، وقطعاً لا يتبعض اشتركوا في غرم واحد وقطع كل واحد منهم. والثاني: أن القود موضوع للزجر والردع فلزم في الجماعة كلزومه في الواحد، والدية بدل من النفس فلم يلزم فيها إلا بدل واحد، فإذا ثبت قتل الجماعة بالواحد: كان الولي فيه بالخيار بين ثلاثة أحوال: إما أن يقتص من جميعهم أو يعفوا عن جميعهم، إلى الدية فتسقط الدية الواحدة بينهم على أعدادهم، أو يعفو عن بعضهم، ويقتص من بعضهم، ويأخذ ممن عفا عنه من الدية بقسطه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولو جرحه أحدهما مائة جرح والآخر جرحا واحد فمات كانوا في القود سواء".

قال في الحاوي: أعلم أن اشتراك الجماعة في قتل الواحد تنقسم ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون كل واحد منهم موجباً مثل أن يذبحه أحدهما ويبقر الآخر بطنه ويقطع حشوته فهذا على ضربين: أحدهما: أن يفعلا ذلك معاً في حالة واحدة، فيكونا جميعاً قاتلين، ويجب القود عليهما، وتؤخذ الدية منهما. والثاني: أن يتقدم أحدهما على الآخر فيوجئه ثم يتلوه الآخر مع بقاء النفس ووجود الحركة فيوجئ حتى يطفا ويبرد، فالأول منهما هو القاتل، وعليه القود وجميع الدية، دون الثاني، لأن فوات الحياة منسوب إلى فعل الأول، ولا يجري على ما بقي من النفس والحركة حكم الحياة، ولو مات له في هذه الحالة ميت لم يرثه، ولو أوصى له بمال لم يملكه، ولو انقلب على طفل فقتله لم يضمنه، ويعزز الثاني أدباً وزجراً. فصل: والقسم الثاني: أن يكون كل واحد منهم جارحاً أو قاطعاً غير موج فيكون جميعهم في قتله سواء اجتمعوا في وقت واحد أو تفرقوا، وسواء اتفقوا في عدد الجرح أو اختلفوا حتى لو جرحه واحدة، وجرحه الآخر مائه جراحة، كانوا في قتله سواء وعليهم القود والدية بينهم بالسوية، لا على عدد الجراح لأنه يجوز أن يموت من الجرح الواحد، ويحيا من مائة جرح، أما لاختلاف المواضع القاتلة، وإما لاختلاف مورد الحديد في دخوله في جسده، وذلك غير مشاهدة. فلهذا لم تقسط الدية على عدد الجراح، وتقسطت على عدد الجناة الجناية. فإن قيل: أفليس الجلاد لو حد القاذف أحداً وثمانين سوطاً فمات كان عليه من الدية جزء من إحدى وثمانين جزءاً فهلا كان الجناة في أعداد الجراح كذلك؟ قيل: في الجلاد قولان: أحدهما: عليه نصف الدية لفوات النفس من وجهين، مباح، ومحظور، ولا اعتبار بعدد الجلد، وتساوي حكم الجناة. والثاني: أنه تتقسط الدية على عدد الجلد ولا تتقسط على أعداد الجراح، والفرق بينهما: أن محل الجلد مشاهد يعلم به التساوي فتقسطت الدية على عدده ومور الجراح غير مشاهد لا يعلم به التساوي فلم تتقسط الدية فيه على عدده. فصل: والقسم الثالث: أن يكون أحدهما جارحاً، والآخر موج فهذا على ضربين: أحدهما: أن يتقدم الجارح على الموجئ فيؤخذ كل واحد منهما بحكم جنايته، فيكون الأول جارحاً فيقتص منه في الجراح، إن كان مثله قصاص أو يؤخذ منه ديته، إن لم يكن فيه قصاص، ويكون الثاني قاتلاً يقتص منه في النفس، أو تؤخذ منه جميع الدية،

وكذلك لو اجتمعا معاً لم يسقط حكم الجرح لأن التوجية لم تتقدمه. والثاني: أن يتقدم الموجئ على الجارح فيسقط حكم الجرح بعد التوجية ويؤخذ الموجئ بالقود أو جميع الدية. فصل: ولو جرحه أحدهما موضحة، وجرحه الآخر جائفة، ثم مات قبل اندمالهما كانا قائلين، والدية بينهما نصفين لأنه قد يجوز أن يبرأ من الجائفة، ويموت من الموضحة والولي في صاحب الموضحة بين خيارين بين أن يبدأ بقتله أو يوضحه ثم يقتله وفي صاحب الجائفة على قولين: أحدهما: أنه بالخيار فيه بين قتله ابتداء، وبين أن يقتص من الجائفة ثم يقتله. والثاني: أنه ليس له إجافته، لأن الجائفة لا قصاص فيها، ويعتد له بالقتل فلو اندملت الموضحة، ثم مات قبل اندمال الجائفة، صار الذي أوضحه جارحاً، ويجوز أن يقتص منه في الموضحة أو تؤخذ ديتها، وصار الذي أجافه قاتلاً عليه القود أو الدية، وهل له إجافته قبل قتله أم لا على قولين. ولو اندملت الجائفة، ومات قبل اندمال الموضحة كان في اندمال الموضحة في الجائفة ديتها دون القود، وصار الموضع قاتلاً والولي معه بين خيارين إما أن يبدأ بقتله أو يقتص من الموضحة ثم يقتله. فلو ادعى صاحب الجائفة أن جراحته اندملت ومات من الموضحة فصدقه الولي وكذبه صاحب الموضحة، نظر في حال الولي فإن أراد القود قبل قول الولي في تصديقه لصاحب الجائفة، وكان له أن يقتص من صاحب الموضحة وحده، ويأخذ من صاحب الجائفة أرش جائفته، لأن له لو لم تندمل الجائفة أن يقتص من صاحب الموضحة وحده، وإن كان الولي قد عفا عن القود، وأراد الدية لم يقبل تصديقه لصاحب الجائفة لأمرين: أحدهما: أن يجر بها إلى نفسه نفعاً في أخذ أرش الجائفة بعد اندمالها مع دية النفس. والثاني: أنه يدخل على صاحب الموضحة ضرراً، لأنه قد كان ملتزماً ما لو لم تندمل الجائفة نصف الدية فألزمه جميعاً، وإذا كان كذلك حلف صاحب الموضحة بالله لقد مات المجروح قبل اندمال الجائفة ولم يلزمه إلا نصف الدية فإن نكل عن اليمين ردت على الولي، لأن الحق له دون صاحب الجائفة وقضى له بجميع الدية. مسألة: قال الشافعي: "ويجرحون بالجرح الواحد إذا كان جرحهم إياه معاً لا يتجزأ".

قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا اشترك الجماعة في جرح أو قطع طرف اقتص من جميعهم وقال أبو حنيفة والثوري: لا قصاص عليهم إذا اشتركوا في الأطراف، وإن وجب عليهم القصاص إذا اشتركوا في النفس استدلالاً بما قدم ذكره من أن التساوي معتبر في الأطراف دون النفس، لأن اليد السليمة لا تؤخذ بالشلاء، وتقتل النفس السليمة بالنفس السقيمة ودليلنا ما روي أن رجلين شهدا عند علي بن أبي طالب، رضوان الله عليه، على رجل بالسرقة فقطع يده ثم عادا، ومعهما آخر فقالا: أخطأنا في الشهادة على الأول وهذا هو السارق، فرد شهادتهما، ولم يقطع الثاني وقال: لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما. فدل على جوازه قطع اليدين باليد الواحدة، ولأن كل جناية لو انفرد بها الواحد أقيد، وجب إذا اشترك فيها الجماعة أن يقادوا، كالجناية على النفوس، ولأنه قود يستحق في النفس فوجب أن يستحق في الطرف كالواحد، ولأن حرمة النفس أغلظ من حرمة الطرف فلما أقيدت النفوس بنفس، فأولى أن تقاد الأطراف بطرف، وقد أجبنا عن استدلالهم بأن التساوي معتبر في الأطراف، دون النفوس بأنهما سواء عندنا في اعتبار التساوي فيهما على ما بيناه. فصل: فإذا ثبت قطع الأطراف بطرف فاعتبار الاشتراك فيه أن يجتمعوا على أخذ السيف بأيديهم كلهم، ويعتمدوا جميعاً في حال واحدة على قطع اليد فحينئذ يصيروا شركاء في قطعها، فتقطع أيديهم بها. فأما إذا انفرد كل واحد منهم بقطع موضع منها حتى بانت، إما في موضع منها أو في مواضع، أو يقطع أحدهما من باطن اليد والآخر من ظاهرها حتى يلتقي القطعان فتبين اليد وتسقط فليس هذا اشتراكاً في الفعل الواحد فلم يجب على الواحد منهم قود، وأخذ بأرش جنايته. فأما اشتراكهم في جرح موضحه فإن اجتمعوا على سيف واحد، أوضحوه به في حالة واحدة، وجب على كل واحد منهم القصاص في مثل تلك الموضحة، وإن عفا عن القصاص كان على جماعتهم دية موضحة واحدة، وإن تفرد كل واحد منهم بأن أوضح منها موضعاً حتى اتسع اقتص من كل واحد منهما مثل ما أوضح، لأن القصاص يجب في صغير الموضحة كما يجب في كبيرها فإن عفا عن القصاص كان على كل واحد منهم دية موضحة، لأن دية الموضحة إذا صغرت كديتها إذا كبرت. مسألة: قال الشافعي: "ولا يقتص إلا من بالغ، وهو من احتلم من الذكور أو حاض من

باب صفة القتل العمد وجراح العمد التي فيها قصاص وغير ذلك

النساء، أو بلغ أيهما كان خمس عشرة سنة". قال في الحاوي: وهذا صحيح وجوب القصاص معتبر بالبلوغ والعقل المعتبرين في التكليف فإن كان الجاني صغيراً أو مجنوناً لم يجب عليه القصاص في نفس ولا طرف لرواية علي بن أبي طالب رضوان الله عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى ينتبه" فإن قيل: فقد روي عن علي عليه السلام أنه قطع أنملة صبي. قيل: ليس بثابت، ولو صح لاحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون قطعها الأكلة وقعت فيها لتسلم من سرايتها، ولم يقطعها قوداً. والثاني: أن يكون غلاماً صغيراً في المنظر وإن بلغ، ولأن عدم التكليف يمنع من الوعيد والزجر، فلم يجب عليه قود كما لم يجب عليه حد، ولأن حقوق الأبدان تسقط بالجنون والصغر كالعبادات. فصل: فإذا تقرر أن لا قود عليهما إذا جنيا لم يؤخذا به بعد البلوغ والعقل، ووجب القود على البالغ العاقل إذا قتلهما، لأن التكليف معتبر في القاتل دون المقتول فلو ادعى القاتل أنه قتل وهو صغير، وادعى الوالي أنه قتل وكان بالغاً، فالقول قول القاتل مع يمينه لأمرين: أحدهما: أن الأصل الصغر حتى يعلم البلوغ. والثاني: أن الأصل سقوط القود حتى يعلم استحقاقه، ولو ادعى القاتل أنه قتل وهو مجنون وادعى الولي أنه قتل وكان عاقلاً، فإن علم بجنونه فالقول قوله مع يمينه للأمرين، وإن لم يعلم جنونه فالقول قول الولي مع يمينه، لأن الأصل السلامة، فإذا سقط القود عنهما في العمد لزمتها الدية لأنها من حقوق الأموال التي يجب على غير المكلف كوجوبها على المكلف، وإن اختلفا في حقوق الأبدان، وفي الدية اللازمة لهما قولان: أحدهما: أنها تكون في أموالهما. والثاني: على عواقلهما بناء على اختلاف قولي الشافعي في عمدهما هل يكون خطأ أو عمداً، والله أعلم. باب صفة القتل العمد وجراح العمد التي فيها قصاص وغير ذلك قال الشافعي رحمه الله: "وإذا عمد رجل بسيف أو خنجر أو سنان رمح أو ما يشق بحده إذا ضرب أو رمي به الجلد واللحم دون المقتل فجرحه جرحاً كبيراً أو صغيراً فمات منه فعليه القود".

قال الماوردي: اعلم أن آلة القتل على ضربين: أحدهما: المثقل ويأتي. والثاني: المحدد وهو على ضربين: أحدهما: ما شق بحده. والثاني: ما نفذ بدفنه. فأما ما شق بحده فقطع الجلد ومار في اللحم كالسيف والسكين، والسنان والحربة، وهذا يجمع نفوذاً، وقطعاً فالقود فيه واحب باتفاق، سواء كان بحديد أو بما يقوم مقام الحديد من محدد الخشب والزجاج والقصب. وأما ما نفذ بدفنه فعلى ضربين: أحدهما: ما كبر وبعد غور نفوذه كالسهم والمسلة، إذا وصلا إلى الجسد فنفذ فيه وجب فيها القود بعد نفوذها، سواء خرج منها دم أو لم يخرج، لأن خروج الدم غير معتبر في وجوب القود كما لم يعتبر في استحقاق الدية. والثاني: ما صغر منه كالإبرة، فإن كانت في مقتل كالنحر والصدر والحاضرة والعين ففيهما القود، وإن كانت في غير مقتل كالألية والفخذ نظر حالهما، فإن اشتد ألمها ولم يزل المجروح بها زمناً منها حتى مات ففيها القود، وإن لم تؤلم نظر في الموت فإن تأخر زمانه بعد الجرح بها، فلا قود فيها، ولا دية لعدم تأثيرها في الحال، وإن مات معها في الحال ففي وجوب القود وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي: أن القود فيها واجب لأن لها سراية وموراً، ولأن في البدن مقاتل خافية في عروق ضاربة، قال: وهو معنى قول الشافعي جرحاً كبيراً أو صغيراً. والثاني: وهو قول أبي العباس بن سريج وأبي سعيد الإصطخري: أنه لا قود فيها لأن مثلها لا يقتل غالباً، ولأنه لما مزق في المثقل بين صغيرة وكبيرة، وجب الفرق في المحدد بين صغيرة وكبيرة، فعلى هذا في وجوب الدية عند سقوط القود وجهان: أحدهما: تحب الدية مغلظة لتردده بين احتمالي قتل وسلامة. والثاني: أنه لا دية فيه، لأن أقل ما ينفذ من المحدد كأقل ما يضرب به من الثقل، فلما لم تجب الدية في أقل المثقل لم تجب في أقل المحدد. مسألة: قال الشافعي: "وإن شدخه بحجر، أو تابع عليه الخنق، أو والي عليه بالسوط حتى يموت، أو طين عليه بيتاً بغير طعام، ولا شراب، مدة الأغلب أنه يموت من مثله، أو ضربه بسوط في شدة برد أو حر، ونحو ذلك: مما الأغلب أنه يموت منه فمات فعليه القود".

قال في الحاوي: أما القتل بالمثقل وما يقتل مثله في الأغلب من الخنق والحرق والتغريق، وما أشبه، ففيه القود على ما سنصفه. وبه قال مالك، وابن أبي ليلى، وأبو يوسف، ومحمد. وقال أبو حنيفة: لا قود في المثقل إلا أن يكون حديداً كالعمود، ولا قود في غير المثقل إلا أن يكون بالنار، استدلالاً بظاهر ما رواه الزهري عن سعيد بن المسيب عن ابن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا قود إلا بالسيف". وروى عاصم بن ضمرة، عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه قال: "لا قود إلا بحديدة". وروى جابر، عن أبي عازب، عن النعمان بن بشير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل شيء خطأ إلا السيف وفي كل خطأ أرش". وروى القاسم بن ربيعة عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال على درج الكعبة يوم الفتح: "الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، ألا إن في قتيل العمد الخطأ بالسوط أو العصا مائة من الإبل مغلظة، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها". وروى إبراهيم عن عبيد عن المغيرة بن شعبة قال: ضربت امرأة ضرتها بعمود فسطاط وهي حبلى فقتلها فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على عصبتها. وهذه كلها نصوص في سقوط القود بالمثقل. ومن طريق المعنى: أنه لما لم يقع الفرق في المحدد بين صغيرة وكبيرة في وجوب القود، اقتضى أن لا يقع الفرق في المثقل بين صغيرة وكبيرة في سقوط القود. ودليلنا قول الله تعالى: {ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] وهذا قتل مظلوماً فوجب أن يكون لوليه القود. وروى شعبة عن هشام بن زيد عن جده أنس بن مالك أن جارية كان عليها أوضاح فرضخ رأسها يهودي بحجر، فدخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وبها رمق فقال لها: من قتلك؟ وذكر لها جماعة وهي تشير برأسها إلى أن ذكر اليهودي فأشارت برأسها نعم فأمر به

رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل بين حجرين. فإن قيل: إنما قتله لنقض عهده لا لقتله فعنه جوابان: أحدهما: أنه حكم ورد على سبب فوجب أن يكون محمولاً عليه. والثاني: أنه لما قتله بمثل ما قتل من الحجر دل على أنه مماثلة قود لا لنقص عهده. وحكي الساجي عن بشر بن المفضل قال: قلت لأبي حنيفة: يجب القود على من قتل بالمثقل: قال لو رماه لم يجب عليه القود. قلت: قد روى شعبة عن هشام بن زيد عن جده أنس بن مالك: أن يهودياً رض رأس جارية بحجر فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتل بين حجرين فقال: هذا بهذا. وبمثل هذا القول لا تدفع أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم. وروى ابن جريج عن عمرو بن دينار عن طاوس عن حمل بن مالك بن نابغة الكلابي قال: كنت بين جاريتين لي - يعني زوجتين - فضربت إحداهما الأخرى بمسطح، والمسطح عمود الخيمة، فقتلتها وما في جوفها، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة عبد أو أمة، وأن يقتل مكانها. ولا يعارض حديث المغيرة، لأنه أجنبي من المرأتين، وحمل ابن مالك زوج الضرتين، فكان بحالهما أعرف. ومن المعنى: أن المثقل: أحد نوعي ما يقصد به القتل في الغالب فوجب أن يستحق فيه القود كالمحدد، ولأن ما وجب القود في محدده وجب في مثقله كالحديد، ولأن القود موضوع لحراسة النفوس كما قال الله تعالى: {ولَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة: 179] فلو سقط بالمثل لما انحرست النفوس، ولسارع كل من يريد القتل إلى المثقل ثقة بسقوط القود وما أدى إلى إبطال معنى النص كان مطرحاً فأما الجواب عن قوله: "لا قود إلا بالسيف" فظاهرة حال استيفاء القود أنه لا يكون إلا بالسيف، ونحن نذكره من بعد، وقوله: "كل شيء خطأ إلا السيف" فقد رواه أحمد بن حنبل في مسنده "كل شيء من خطأ إلا السيف" وهذا أولى لزيادته، ولو لم تنقل الزيادة لكان الخبر محمولاً عليه بأدلتنا، وقوله: ألا إن في قتيل الخطأ بالسوط والعصا مائة من الإبل" فلا دليل فيه من وجهين: أحدهما: أنه جعل في عمد الخطأ بالسوط والعصا الدية، ولم يجعل السوط والعصا عمدا خطأ. والثاني: ما قدمناه أن في السوط والعصا عمداً خطاً، وليس بمانع أن يكون عمداً

محضاً، لأنه قد يتنوع، والسيف لا يتنوع، وقد دفعنا حديث المغيرة برواية حمل بن مالك. واستدلالهم بالجمع بين صغير المثقل وكبيرة في سقوط القود، كما جمع بين صغير المحدد وكبيرة في وجوب القود، فالجواب عنه أنه صغير المحدد وكبيرة يقتل غالباً فجمع بينهما، وصغير المثقل غالباً ويقتل كبيره في الغالب فافترقا. فصل: فإذا ثبت في القتل بالمثقل قوداً فالمثقل ينقسم ثمانية أقسام: أحدها: قتل مثله في الأغلب كالصخرة الثقيلة والخشبة الكبيرة، ويقتل في أي موضع وقعت عليه من الجسد وعلى من وقعت عليه من جميع الناس فالقود واجب. والثاني: ما لا يقتل مثله في الغالب كالحصاة مثل النواة والخشبة مثل القلم لا يقتل في أي موضع وقعت عليه من الجسد، ولا على من وقعت عليه من جميع الناس فلا قود فيه ولا دية. والثالث: ما يجوز أن يقتل مثله، ويجوز أن لا يقتل مثله، ويجوز أن يقتل وهو ما توسط بين الأمرين فلا قود، وفيه الدية مغلظة، وهو المراد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إن في قتيل العمد والخطأ بالسوط والعصا مائة من الإبل مغلظة منها أربعون خلفة في بطونها أولادها". والرابع: ما يقتل إذا ردد، ولا يقتل إذا أفراد كالسوط والعصا فإن ردده وجب فيه القود، وإن لم يردده وجب فيه الدية دون القود. والخامس: ما يقتل الصغير والمريض ويجوز أن لا يقتل الكبير والصحيح، فيراعي المقتول به فإن كان صغيراً أو مريضاً وجب فيه القود، وإن كان كبيراً صحيحاً ففيه الدية دون القود. والسادس: ما يقتل إذا وقع في المواضع القاتلة ولا يقتل إذا وقع في غيرها فيراعي موضع وقوعها، فإن كان في مقتل، وجب فيه القود، وإن كان في غير مقتل وجبت فيه الدية دون القود. والسابع: ما يقتل بقوة الضارب ولا يقتل مع ضعفه، فيراعي حال الضارب، فإن كان قوياً وجب عليه القود. وإن كان ضعيفاً وجب عليه الدية دون القود. والثامن: ما يقتل في شدة الحر والبرد، ولا يقتل مع سكونهما، فيراعي وقت الضرب، فإن كان في شدة الحر والبرد وجب فيه القود، وإن كان مع سكونهما وجب فيه الدية دون القود. وجملته أن يراعي حال الضارب والمضروب، وما وقع به الضرب ليفصل

لك بها أحكام هذه الأقسام. فصل ثان: وأما الخنف فعلى ضربين: أحدهما: بآلة وهو أن يربط حلقة بحبل حتى يختنق فيمنع النفس ففيه القود، لأنه ربما كان أوحى من السيف، وسواء علقه بحبل أو أرسله فإن عفي عنه صح العفو، وسقط القود، وسواء تكرر منه الخنق أو لم يتكرر. وقال أبو يوسف: إن تكرر منه الخنف لم يصح العفو عنه، وتحتم عليه القتل كالمحارب، لأنه قد صار ساعياً في الأرض بالفساد وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه لو انحتم قتل من تكرر منه الخنق لا نحتم قتل من تكرر منه القتل بالسيف وهو غير منحتم، وإن تكرر وكذلك الخنق. والثاني: أنه لو صار في انحتام قتله كالمحارب لما اعتبر تكرار منه كما لم يعتبر في المحارب. والضرب الثاني: أن يخنقه بغير آلة مثل أن يمسك حلقه بيده حتى يمنع نفسه ولا يرفعها عنه حتى يموت فهذا على ضربين: أحدهما: أن يقدر المخنوق على خلاص نفسه لفضل قوته على قوة الخانق فهذا هو قاتل نفسه، ولا قود له وفي وجوب الدية قولان ممن أمر غيره بقتله. فإن قيل: فمن أريدت نفسه فلم يدفع عنها حتى قتل لم يسقط عن قائله القود فهو كان حال هذا المخنوق كذلك. قلنا: لأن سبب القتل في المخنوق موجود، فكان تركه إبراء وسببه في الطالب غير موجود، فلم يكن في الإمساك قبل حدوث السبب إبراء. والثاني: أن لا يقدر على خلاص نفسه لفضل الخانق على قوته فعليه القود فلو رفع الخانق يده، أو حل خناقه، وفي المخنوق حياة ثم مات، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون نفسه ضعيفاً كالأنين والشهيق فعليه القود، ويكون بقاء هذا النفس كبقاء حركة المذبوح. والثاني: أن يكون نفسه قوياً فهذا على ضربين: أحدهما: أن يقرب موته من حل خناقه فعليه القود لدنوه من سبب القتل. والثاني: أن يتأخر موته عن حل خناقه فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون ضميناً مريضاً من وقت خناقه إلى حين موته فعليه القود، لأن استدامة مرضه دليل على سراية خناقه. والثاني: أن يكون بعد خناقه على معهود صحته ثم يموت، فلا قود عليه ولا دية، كما لو جرح فاندمل جرحه، ثم مات.

وهكذا لو وضع على نفسه ثوباً أو وسادة، وجلس عليها، ولم يرسله حتى مات، وجب عليه القود إذا لم يمكن دفعه فإن أرسله نفسه باق فهو كالمخنوق بعد حل خناقه. فإن لطمه فمات من لطمته هذا على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون مثلها قائلاً في الغالب لقوة اللاطم وضعف الملطوم، فيجب عليه القود. والثاني: أن لا يقتل مثلها في الغالب لضعف اللاطم، وقوة الملطوم، فلا قود فيه ولا دية. والثالث: أن يقتل مثلها، ولا يقتل لقوة اللاطم، وقوة الملطوم، فلا قود عليه وفيه الدية. فصل ثالث: وأما إذا طين عليه بيتاً حبسه فيه حتى مات فهذا على ضربين: أحدهما: أن يمكنه من الطعام والشراب، ولا يمنعه منهما، فلا قود عليه، ولا دية، سواء كان المحبوس كبيراً أو صغيراً، ما لم يكن طفلاً لا يهتدي بنفسه إلى الأكل والشرب فيلزمه فيه القود. وقال أبو حنيفة: يضمن الصغير وإن كان يهتدي على الأكل والشرب إذا اقترن موته بسبب ذلك، وإن كان من غير جهته كنهشة حية، ولدغة عقرب لم يضمنه وهذا فاسد، لأن الحر لا يضمن باليد ولو ضمن بها كالمملوك للزم ضمانه في موته بسبب وغير سبب. والثاني: أن يمنعه في حبسه من الطعام والشراب فلا يخلو حاله من أربعة أقسام: أحدها: أن تطول مدة حبسه حتى لا يعيش في مثلها حي بغير طعام ولا شراب، وليس لأقله حد، وإن حده الطب باثنتين وسبعين ساعة متصلة الليل والنهار، ولما روي أن عبد الله بن الزبير واصل الصيام سبعة عشر يوماً ثم افطر على سمن ولبن وصبر، وذهب في السمن إلى أنه يفتق الأمعاء ويلينها، وفي اللبن إلى أنه ألطف غذاء، وفي الصبر إلى أنه يشد الأعضاء، فإذا مات مع طول المدة، وجب فيه القود، لأنه قتل عمد. والثاني: أن تقصر مدة حبسه عن موت مثله بغير طعام ولا شراب كاليوم الواحد وما دونه، لأن الله تعالى قد أوجب إمساكه في الصوم، ولو كان قاتلاً ما أوجبه، فهذا لا قود فيه ولا دية. والثالث: أن تكون مدة يجوز أن يموت في مثلها ويعيش فلا قود، وفيه الدية لأنه عمد كالخطأ. والرابع: أن يكون في مدة يموت في مثلها الصغير والمريض، ولا يموت في مثلها الكبير الصحيح فيراعي حال المحبوس، فإن كان صغيراً أو مريضاً وجب في القود، وإن كان كبيراً صحيحاً لم يجب وهكذا الحكم لو منعه دون الشراب، أو منعه الشراب

دون الطعام، لأن النفوس لا تحيا إلا بهما إلا أن الصبر عن الطعام إذا وجب شراباً أمد زماناً من الصبر عن الشارب إذا وجد الطعام. روي أن أبا ذر رضي الله عنه لما أراد الإسلام اختفي من المشركين تحت أستار الكعبة بضعة عشرة يوماً، فكان يخرج في الليل من بين الأستار فيشرب ماء زمزم، قال: فسمنت حتى تكسرت عكن بطني، فأخبرت بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنها طعام طعم وشفاء سقم" فبان أن الماء يمسك الرمق فيراعي حكم كل واحد منهما إذا انفرد بالعرف المعهود في الأغلب. فصل رابع: إذا ألقاه في نار مؤججة أو ألقى عليه ناراً أجاجها فهذا على ضربين: أحدهما: أن لا يقدر على الخروج منها حتى يموت فيها، وذلك لإحدى خمسة أحوال. إما أن يلقيته في حفرة قد أججها. وإما أن يربطه فلا يقدر مع الرباط على الخروج منها. وإما أن يطول مدى النار فلا ينتهي إلى الخروج منها. وإما أن يقف في طرفها فيمنعه من الخروج. وإما أن تثبط بدنه فيعجز عن النهوض فيها، فهذا قاتل عمداً، وهو أشد القتل عذاباً، ولذلك عذب الله تعالى بالنار من عصاه، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تعذبوا عباد الله بعذاب الله" فعليه القود. والثاني: أن يقدر على الخروج منها فهذان على ضربين: أحدهما: أن لا يخرج مع القدرة على الخروج حتى يموت فلا قود عليه، وفي الدية قولان فمن أذن لغيره في قتله، أحدهما عليه الدية كما لو قدر على مداواة جرحه فامتنع من الدواء حتى مات وجبت الدية. والثاني: لا دية، وعليه أرش ما لفحته النار عند إلقائه فيها، لأن التلف باستدامة النار، والتي ينسب استدامتها إليه دون ملقيه، وخالف تركه لدواء الجرح، لأن لم ينسب إلى زيادة عليه. والضرب الثاني: أن يخرج حياً ثم يموت بعد الخروج، فهذا على ضربين:

أحدهما: أن يكون تثبيط بدنه باقياً فعليه القود كالجراح إذا مات منه قبل أن يندمل. والضرب الثاني: أن يبرأ من التثبيط فلا قود فيه كالجرح إذا مات بعد اندماله وعليه أرش ما لفحته النار وتثبيط جسده. فصل خامس: إذا ألقاه في الماء فغرق فيه فهذا على ضربين: أحدهما: أن يلقيه في لجة بحر يبعد ساحله، فهذا قاتل عمد وعليه القود، سواء كان يحسب العوم أو لا يحسن لأنه بالعوم لا يصل إلى الساحل مع بعده. ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "البحر نار في نار" فشبهه بالنار لإتلافه. وأغزى عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه جيشاً في البحر، وأمر عليهم عمرو بن العاص، فلما عاد سأله عن أحوالهم فقال: دود على عود، بين غرق أو فرق فآلى على نفسه أن لا يغزى في البحر أحداً". والثاني: أن يلقيه في نهر أو بحر يقرب من الساحل فهذا على ضربين: أحدهما: أن يربطه أو يثقله حتى لا يقدر على الخلاص من الماء غرير فعليه القود أيضاً، كالملقى في لجة البحر. والثاني: أن يكون مطلقاً غير مربوط ولا مثقل فهذا على ضربين: أحدهما: أن لا يحسن العوم فعليه القود أيضا، لأنه لا يقدر على الخلاص. والثاني: أن يحسن العوم فلا يعود فلا قود فيه، لأنه قدر على خلاص نفسه، فصار متلفاً لها. واختلف أصحابنا في وجوب الدية فخرجها بعضهم على قولين كالملقى في النار إذا قدر على الخروج منها، ومنع الباقون من وجوبها، قولاً واحداً، وفرقوا بين الماء والنار بأن الإلقاء في النار جناية متلقة لا يقدم الناس عليها مختارين وليس الإلقاء في الماء لمن يحسن العوم جناية عليه، لأن الناس قد يعومون فيه مختارين لتبرد أو تنظف، فلا ينسبون إلى تغرير. فلو ألقاه في الماء فالتقمه الحوت فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون الإلقاء في ذلك الماء غير موجب للقود على ما فصلنا فلا قود فيه إذا التقمه الحوت، لأنه تلف من غيره عليه، وعليه الدية لأنه سبب من جهته أفضى إلى تلفه. والثاني: أن يكون الإلقاء في ذلك الماء موجب للقود فالتقمه الحوت قبل التلف، ففي وجوب القود قولان:

أحدهما: وهو ظاهر منصوص الشافعي: عليه القود لأنه لو لم يلتقمه الحوت لوجوب فلم يسقط بالتقامه. والثاني: حكاه الربيع أنه لا قود عليه لأن مباشرة تلفه حصلت بغير فعله وتلزمه الدية. ومن أصحابنا من حمل القولين على اختلاف حالين فالقول الذي أوجب فيه القود محمول على نيل مصر الذي يغلب عليه التماسيح فلا يسلم منها أحد، والقول الذي أسقط فيه القود محمول على غيره من البحار والأنهار التي تخلو غالباً من مثله. فصل: إذا أرسل عليه سبعاً فافترسه فهذا على ضربين: أحدهما: أن لا يقدر على الخلاص منه لقصور خطوته عن وثبة السبع، فعليه القود لأن بمثابة من أرسل سهما قاتلاً. والثاني: أن يقدر على الخلاص منه، إما بسرعة العدو وإما بالدخول إلى بيت، أو بالصعود إلى شجرة فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون مضعوف القلب، إما بصغر أو بله يدهش في مثل ذلك عن توقيه، فالقود فيه واحب، لأنه عاجز عن الخلاص، وإن قدر عليه غيره. والثاني: أن يكون ثابت النفس قوي القلب يقدر على الخلاص، فلم يفعل حتى افترسه فهذا على ضربين: أحدهما: أن يقف السبع بقدر إرساله زماناً، ثم يسترسل فلا قود ولا دية، لأن حكم إرساله قد انقطع بوقوفه فصار هو المسترسل بنفسه. والثاني: أن يسترسل عليه مع إرساله من غير توقف، فلا قود لقدرته على الخلاص وفي وجوب الدية وجهان تخريجاً من القولين المتقدمين: أحدهما: لا يجب، لأن قدرته على الخلاص تقطع حكم الإرسال. والثاني: تجب عليه الدية لا اتصال التلف بالإرسال. فأما إذا كتفه وألقاه في أرض مسبعة، فافترسه السبع فلا قود عليه ولا دية، ويكون كالممسك والذابح، لا يجب على الممسك قود كذلك ها هنا، وإذا وجب عليه القود بإرسال السبع عليه فهو معتبر بتوجيه السبع له، فأما إن جرحه السبع فمات من جراحته لم يخل جراحته من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يقتل مثلها في الغالب فعليه القود. والثاني: أن لا يقتل مثلها في الغالب فلا قود عليه ولا دية. والثالث: أن يقتل مثلها ولا يقتل، فعليه الدية دون القود. فأما إذا ألقى عليه حية فنهشته فهذا على ضربين:

أحدهما: أن يلقيها بين يديه فلا ضمان عليه بخلاف السبع لا يضر أو الحية تهرب. والثاني: أن يلقيها على جسده، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون نهشها موجياً مثل حيات الطائف، وأفاعي مكة، وثعابين مصر وعقارب نصيبين فعليه القود. والثاني: أن تكون غير موجية قد يسلم الناس منها كحيات الدود والماء، ففيه قولان: أحدهما: عليه القود اعتباراً لجنس القاتل. والثاني: لا قود، ليه الدية، لإمكان السلامة، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولو قطع مريئة وحلقومه أو قطع حشوته فأبانها من جوفه أو صيره في حال المذبوح ثم ضرب عنقه آخر فالأول قاتل دون الآخر". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا كانت جناية الأول قد أتت على النفس بقطع حلقومة أو مريئة أو قطع حشوته، فهو في حكم الميت، لانتقاض بينته التي تحفظ حياته، ولا حكم لما بقي من الحياة، لأنها تجري مجرى حركة المذبوح التي لا ينسب معها إلى الحياة وتجري مجرى الاختلاج، وإن كانت أقوى فلو جاء آخر بعد أن صيرة الأول على هذه الحال فضرب عنقه كان الأول قاتلاً يجب عليه القود أو الدية والثاني عابثاً فجرى مجرى ضرب عنق ميت فلا يجب عليه قود ولا دية، لكن يعزر أدباً لانتهاكه الحرمة التي يجب حفظها في الحي والميت وسواء كان مع جناية الأول يتكلم لأن كلامه مع انتهائه إلى هذه الحال يجري مجرى الهذيان الذي لا يصدر من عقل صحيح، ولا قلب ثابت حكي ابن أبي هريرة أن رجلاً قطع وسطه نصفين فتكلم واستسقى ماء فسقى، وقال: يفعل بالجيران، وهذا إن صح فهو كلام تصور في النفس قبل قطعة فنطق به اللسان بعده فلم يجر عليه حكم، ولو وصى لم تمض وصيته، ولا يصح منه إسلام ولا كفر. وهكذا لو افترسه سبع فقطع حشوته أو قطع مريئة أو حلقومه، ثم ضرب إنسان عنقه فلا قود عليه، لأن السبع قد أتى على حياته، والباقي منها غير مستمر، فلم يجز عليه حكم. ومثاله في مأكولة السبع إذا قطع حشوتها ثم ذبحت لم تؤكل، لأن الباقي من حياتها غير مستقر فلم يجز عليها حكم الزكاة. مسألة: قال الشافعي: "ولو أجافه أو خرق أمعاءه ما لم يقطع حشوته فيبينها منه، ثم

ضرب آخر عنقه، فالأول جارح والآخر قاتل، قد جرح معي عمر بن الخطاب رضي الله عنه في موضعين وعاش ثلاثاً، فلو قتله أحد في تلك الحال كان قاتلاً وبرئ الذي جرحه من القتل". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا كانت جراحه الأول لم تأت على النفس لا نقضت بنية الجسد، وكانت الحياة معها مستقرة، ثم ضرب عنقه آخر وذبحه أو قطع حشوته فالثاني هو القاتل يجب عليه القود أو الدية كاملة، والأول جارح يؤخذ بحكم جراحه، فإن كانت مما فيه القود كقطع يد ورجل أو شجة موضحة اقتص منه أو أخذت منه الدية، وإن كانت مما لا قود فيه أخذ منه ديتها، ولا تدخل في دية النفس لاختلاف الجانبين، سواء كانت جراحة الأول مما يجوز أن يعيش منها، أو لا يعيش، لأنه باقي الحياة. وإن قطع بموته منها فجرى المريض المدنف المقطوع بموته إذا قتل وجب القود على قاتله، لأنه المباشر لنقص بنيته وإفاقة حياته، وقد جرح عمر بن الخطاب رضوان الله عليه في موضعين من أمعائه فسقاه الطبيب لبناً فخرج من جرحه أبيض فقال له الطبيب: أنت ميت فاعهد بما شئت، فعهد بالشورى، ووصى بوصايا، وعاش ثلاثاً ثم مات رحمة الله عليه، فأمضى المسلمون عهوده، ونفذوا وصاياه. قال الشافعي: فلو قتله أحد من تلك الحال كان قاتلاً وبرئ الذي جرحه من القتل. وهكذا لو افترس السبع رجلاً فجرحه جرحاً يعيش منه أو لا يعيش لكنه باقي الحشوة والحلقوم فضرب عنقه، رجل، أو ذبحه أو قطع حشوته وجب عليه القود، لأنه هو الناقص لبنيته، والمفوت لحياته، ولو تقدمت جناية الرجل عليه فجرحه جرحاً يعيش منه ثم أكله السبع، فلا قود على الجارح، لأن نقض البينة وفوات الحياة كان من غيره، ويؤخذ الجارح بالقصاص من جرحه إن كان في مثله قصاص، أو دية جرحه، إن لم يكن فيه قصاص. ومثال ذلك: في فريسة السبع أن يجرح بهيمة لا تعيش من جراحته لكنها باقية في الحلقوم والخشوة فتذكا، حل أكلها لورودها على حياة مستقرة وإن لم تدم. مسألة: قال الشافعي: "ولو جرحه فلم يمت حتى عاد إليه فذبحه صار والجراح نفسه". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا ابتدأ الجاني فجرحه لم يمت منها،

وكانت على حالها لم تندمل حتى عاد إليه فذبحه أو ضرب عنقه فعليه القود في الجراح وفي النفس ويدخل دية الجراح في دية النفس ولا يلزمه أكثر منها. وقال أبو سعيد الاصطخري وذكره أبو العباس بن سريج أن دية الجراح لا تدخل في دية النفس كما لم يدخل قود الجراح في قود النفس، فيؤخذ بدية الجراح وبدية النفس كما أقيد بالجراح، وأقيد بالنفس، وهذا خطأ لأن جناية الواحد إذا لم تستقر بني بعضها على بعض، ودخل الأقل في الأكثر، فإذا صارت بعد الجراح نفساً كان مأخوذاً بدية النفس، ودخل دية الجراح فيها، لأن دية الجراح لا تستقر إلا بعد انتهاء سرايتها، وهي قبل الاندمال غير منتهية، فلذلك سقط أرشها، وصار داخلاً في دية ما انتهت. فإن قيل: إنما يعتبر الاندمال فيها لانقطاع سرايتها، والتوجيه بعدها قطع لسرايتها، فصارت كالاندمال. قيل: التوجيه عليه سراية الجراح، ولم تقطعها والاندمال قطع سرايتها فافترقا. فأما قود الجراح فيجوز أن يستوفي مع قود النفس، واختلف أصحابنا في حكم استيفائه على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي حامد الإسفراييني أنه يستوفي به القصاص في النفس ليقابل القاتل بمثل فعله، ولا يكون ذلك قوداً في الجراح، فعلى هذا يكون القود في الجراح داخلاً في قود النفس، كما دخلت دية الجراح في دية النفس. والثاني: وهو قول الأكثرين أنه يكون قوداً في الجراح يستوفي لأجلها، لا لأجل النفس لتميزها، فعلى هذا لا يدخل قود الجراح في قود النفس، وإن دخلت دية الجراح في دية النفس. والفرق بينهما أن حكم القود أعم من حكم الدية، لأن الجماعة يقادون بالواحد، ولا يؤخذ منهم إلا دية واحدة، فجاز لأجل ذلك أن تدخل دية الجراح في دية النفس، وإن لم يدخل قود الجراح في قود النفس. فأما إذا كان الجراح من رجل والتوجيه من آخر أخذ الجارح بحكم جراحته في القود والدية، وأخذ الموجئ بحكم القتل في القود والدية، ولم تدخل دية الجراح في دية النفس، كما لا يدخل قود الجراح في قود النفس بخلاف الواحد، وهو متفق عليه والفرق بينهما تفرد الواحد وتميز الاثنين. مسألة: قال الشافعي: "ولو برأت الجراحات، ثم عاد فقتله كان عليه ما على الجارح منفرداً، وما على القاتل منفرداً".

قال في الحاوي: وهذا صحيح، لأن الجراحات إذا اندملت وبرأت استقر حكمها في القود والدية، فإذا طرأ بعدها القتل لم يسقط حكم ما استقر من قود وعقل، لأن الحقوق المستقرة لا تسقط بحقوق مستجدة كالديون والحدود، فيستوفي قود الجراح وديتها وقود النفس وديتها، ولا يدخل دية الجراح في دية النفس كما لم يدخل قود الجراح في قود النفس، وسواء كانا من واحد أو اثنين بخلاف ما لم يندمل في الغرق بين الواحد والاثنين لما قدمناه من التعليل بالاستقرار، فلو اندمل بعض الجراح، وبقي بعضها حتى طرأت التوجيه سوى فيما اندمل بين الواحد والاثنين، وفرق فيما لم يندمل بين الواحد والاثنين. مسألة: قال الشافعي: "ولو تداوي المجروح بسم فمات، أو خاط الجرح في لحم حي فمات، فعلى الجاني نصف الدية، لأنه مات من فعلين، وإن كانت الخياطة في لحم ميت فالدية على الجاني". قال في الحاوي: وهذه المسألة تشتمل على فصلين: أحدهما: في التداوي بسم. والثاني: في خياطة الجراح. فأما التداوي بالسم فلا يخلو حاله من أربعة أقسام: أحدها: ما كان قاتلاً موجياً في الحال. والثاني: ما كان قاتلاً يتأخر قتله عن التوجئة في الحال. والثالث: ما كان قاتلاً في الأغلب، وإن جاز ألا يقتل. والرابع: ما كان غير قاتل في الأغلب، فإن جاز أن يقتل. فأما القسم الأول: وهو القاتل الموجئ في الحال، فهذا هو قاتل نفسه بالتوجيه بعد جرحه بالجناية، فيسقط عن الجارح حكم النفس في القود والدية، ويلزمه حكم الجرح في القود والدية، فالجارح إذا تعقبه قاتل موج وسواء تداوي به المجروح عالماً بحاله أو جاهلاً شربه، أو طلاءه على ظاهر جسده، إذا كان موجياً في الحالين. فصل: وأما القسم الثاني: هو القاتل الذي لا يوجئ في الحال ويقتل في ثاني حال فهذا مما يجوز أن يتقدم فيه سراية الجراح على سراية السم، ويجوز أن يتقدم سراية السم على سراية الجرح، وليس أحدهما أغلب من الآخر، فاستويا وصار القتل منسوباً إليهما،

فيعتبر حال التداوي بالسم، فلا يخلو مستعملة من أن يكون عالماً بحاله أو غير عالم، فإن لم يعلم بحاله فاستعماله عمد شبه الخطأ، لأنه عامد في الفعل خاطئ في النفس، فيسقط القود على الجارح، لأنه قد شارك في النفس خاطئاً، ولا قود على العامد إذا شاركه الخاطئ. وساء كان المداوي هو المجروح أو غيره، وإن علم بأنه سم قاتل، فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون المداوى به طبيب غير المجروح فيجب عليهما القود، فإن عفا عنه إلى الدية كانت بينهما نصفين، لأنه مات من جنايتهما بفعل تعمداه فصارا كالجارحين. والثاني: أن يكون المجروح: هو المداوي لنفسه ففي وجوب القود على الجارح قولان: أحدهما: يفاد منه في النفس، لمشاركته فيها للعامد، ولا يكون سقوطه عن الشريك موجياً لسقوطه عنه كشريك الأب في قتل الابن. والثاني: أنه لا قود عليه في النفس، وعليه نصف الدية، وعليه الكفارة، لأنه قد صار أحد القاتلين، فإن أراد الولي أن يقتص منه من الجرح دون النفس نظر في الجرح فإن لم يكن فيه قصاص إذا انفرد كالجائفة فلا قصاص عليه لانفراد حكمه بسقوط القود في النفس. وإن كان الجرح مما يوجب القصاص إذا انفرد كالموضحة أو كقطع يد أو رجل ففي وجوب القصاص منه مع سقوطه في النفس وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج: لا يجب، وتسقط بسقوطه في النفس، لأنه إذا انفرد عنها روعي فيه الاندمال، ولم يندمل. والثاني: يجب فيه القصاص لأنه قد انتهت غايته بالموت فصار كالمندمل فعلى هذا لا يخلو حال الجرح المستحق فيه القصاص من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكون دية مثله نصف دية النفس كإحدى اليدين أو الرجلين فقد استوفي الولي بالاقتصاص منه جميع حقه، لأنه استحق نصف دية النفس، وقد استوفاه بقطع أحدى اليدين. والثاني: أن تكون ديته أقل من نصف دية النفس كالإصبع فيها عشر دية النفس، فإذا اقتص منها استوفي بها خمس حقه من نصف الدية، فيرجع عليه بالباقي منها، وهو أربعة أخماس النصف ليستكمل بها جميع النصف. والثالث: أن يكون ديته أكثر من نصف الدية ففيه وجهان: أحدهما: وهو قياس قول أبي سعيد الاصطخري يقتص منه، وإن زاد على دية النفس لانفراده بالحاكم عن سقوط القود في النفس كما لو انفرد بالاندمال. والثاني: وهو عندي أشبه، أنه لا يجوز أن يقتص بنصف الدية من الأعضاء إلا ما

قابلها؟ لأنها تؤخذ بدلاً منها، فعلى هذا تكون على ضربين: أحدهما: ما أمكن تبعيضه، وأن تستوفي منه بقدر حقه كاليدين إذا قطعهما ففيهما الدية، ويمكن أنت تؤخذ إحداهما، وفيهما نصف الدية فها هنا يجب القصاص عليه في أحدى اليدين، ويسقط في الأخرى، لأنه قد استوفي بها نصف الدية، فلم يجز أن يستزيد عليها فوق حقه، ويكون مخيراً بين الاقتصاص من اليمنى أو اليسرى، ولا خيار له في غير هذا الموضع. والثاني: ما لم يمكن تبعيضه كجدع الأنف، وقطع الذكر، فيسقط القود فيه لما تضمنه من الزيادة على القدر المستحق من الدية. فصل: وأما القسم الثالث من أقسام السم: وهو القاتل في الأغلب، وإن جاز أن لا يقتل فهذا قد يجوز أن يموت من الجرح دون السم، ويجوز أن يموت من السم دون الجرح، وليس أحدهما أغلب من الآخر فجرى السم مجرى الجرح الآخر، والحكم في مستعمله على ما مضى، لكن اختلف أصحابنا فيه هل يكون في حكم العمد المحض أو خطأ العمد على وجهين: أحدهما: أنه في حكم خطأ العمد، لأن المقصود دية التداوي فصار خطأ في القصد، عمداً في القتل، يسقط القود عن الجارح في النفس، ويجب عليه نصف الدية مع الكفارة، لأن جرحه صار قتلاً ويكون حكم شريك عمد الخطأ كشريك الخطأ في سقوط القود، فإن أراد الولي القصاص في الجرح لم يكن له ذلك وجهاً واحداً، لأن شريك الخطأ في الجرح كشريكه في النفس. والثاني: أن السم يكون في حكم العمد المحض، فعلى هذا في وجوب القود على الجارح قولان على ما مضى يقاد من نفسه في أحدهما لخروجها بعمد محض، ولا يقاد منها في الآخر لسقوطه في حكم السم إذا كان المتداوى به هو المجروح، فإن أراد الولي القود في الجرح كان على ما ذكرنا من الوجهين. فصل: وأما القسم الرابع من أقسام السم: وهو أن لا يقتل في الأغلب، وإن جاز أن يقتل فهذا خطأ محض، اشترك فيه عمد محض، فيسقط القود الجارح في النفس والجرح ويجب عليه نصف الدية، حالة مغلظة في ماله، لأنها دية عمد محض، ولا يعتبر حكمها بمشاركة الخطأ المحض، وتجب عليه الكفارة، لأن جرحه صار قتلاً. فإن جهل حال السم ولم يعلم من أي هذه الأقسام الأربعة هو؟ أجرى عليه حكم أخفها، وهو هذا القسم الرابع، لأنها على يقين منه، وفي شكل من الزيادة عليه. وأما الفصل الثاني من فصلي المسألة: وهو أن يخيط المجروح جرحه فيموت فهذا على ضربين:

أحدهما: أن يخاط في لحم ميت فلا تأثير لهذه الخياطة، لأنها في اللحم الميت لا تؤلم، ولا تسري، فيصير الجارح منفرداً بقتله بسراية جرحه فوجبت عليه القصاص في النفس، فإن عفا عنه فجميع الدية مغلظة حالة في ماله، وعليه الكفارة. والثاني: أن يخيط في لحم حي فالخياطة جرح، والذي عليه جمهور أصحابنا: أنه يجري عليه حكم العمد المحض وعندي أنه يجري عليه حكم عمد الخطأ، لأنه قصد به حفظ الحياة فأفضى به إلى التلف، فصار عمداً في الفعل خطأ في القصد. فإن قيل: فبهذا فالجارح قد صار قاتلاً شريكاً لعمد الخطأ، فسقط عنه القود، وتجب عليه نصف الدية حالة مغلظة مع الكفارة، وإن قيل بما عليه الجمهور أن الخياطة عمد محض روعي من تولي الخياطة أو إبرتها فإنه لا يخلو من أحد أربعة أقسام: أحدها: أن يكون المجروح تولاها أو أمر بها. والثاني: أن يكون أبو المجروح تولاها. والثالث: أن يكون الإمام تولاها أو أمر بها. والرابع: أن يكون أجنبي تولاها أو أمر بها. فأما القسم الأول: وهو أن يتولاها المجروح، ففي وجوب القود على الجارح قولان: أحدهما: عليه القود في النفس إذا اعتبر في القود خروج النفس عن عمد محض. والثاني: لا قود عليه إذا اعتبر فيه خروج النفس عن مضمون، لأن عمد المجروح غير مضمون، وكذلك الحكم لو تولاها من أمره الجارح بها، ولا يكون المأمور ضامناً، لأنه فعله عن أمر من يملك التصرف في نفسه. فصل: وأما القسم الثاني: وهو أن يكون أبو المجروح تولاها فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون المجروح غير مولى عليه لبلوغه وعقله فيكون الأب ضامناً لنصف الدية، ولا قود عليه، لأنه لا قود للابن على أبيه، وعلى الجارح القود في النفس قولاً واحداً، لأنه شارك في عمد مضمون، فإن عفا عن القود فعليه نصف الدية، لأنه أحد القاتلين، وعليه الكفارة لأن جرحه صار نفساً. والثاني: أن يكون المجروح مولى عليه بصغر أو جنون. ففي ضمان الأب لها وجهان: أحدهما: يضمنها تغليباً لحسن النظر بمقصود ولايته، فعلى هذا في وجوب القود على الجارح قولان: أحدهما: عليه القود، إذا روعى مشاركته في عمد غير مضمون.

والثاني: أن الأب ضامناً لها تغليباً للفعل المضمون، فعلى هذا يجب على الجارح القود في النفس قولاً واحداً، لأنه شارك في عمد مضمون، وكذلك لو تولاها من أمره الأب، لأن للأب في النظر على ولده ما ليس لغيره. فصل: وأما القسم الثالث: وهو أن يتولاها الإمام، أو من يقوم مقامه من حلفائه، أو من يأمره الإمام بها، لأن أمر الإمام مطاع، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون المجروح غير مولى عليه لبلوغه وعقله فعلى الإمام القود، لإقدامه على ما لا نظر له فيه، فإن عفا عنه كان عليه نصف الدية حالة في ماله والكفارة، وعلى الجارح القود في النفس، لأنهما قاتلاً عمد. والثاني: أن يكون المجروح مولى عليه بصغر أو جنون ففي وجوب القود قولان ذكرهما الشافعي في قطه السلعة: أحدهما: عليه وعلى الجارح القود، فإن عفا عنهما كان على كل واحد منهما نصف الدية حالة في ماله والكفارة. والثاني: لا قود على الإمام لشبهة ولايته وعلى نصف الدية، وأين تكون على قولين: أحدهما: في ماله مع الكفارة. والثاني: في بيت المال، والكفارة في ماله، لو عزز فتلف المعزز، فأما الجارح فعليه القود قولاً واحداً، لأنه شارك في عمد مضمون فأما المأمور بها من قبل الإمام فمنسوب الفعل إلى الإمام لما يجب على المأمور من التزام طاعته. فصل: وأما القسم الرابع: وهو أن يتولاها أجنبي أو من لا ولاية له عليه من أقاربه فهما سواء، ولا يخلو حاله من أحد أمرين. أما أن يتولاها بنفسه أو يأمره بها غيره، فإن تولاها بنفسه كان عليه القود وعلى الجارح معاً لأنهما قاتلا عمد والدية بينهما نصفين وإن بها غيره، وجد القود على المأمور، لأنه لا شبهة له في طاعة الأمر، وعزر الآمر لمعاونته على ما أفضى إلى القتل، ووجب القود على الجارح، فإن عفا عنهما، كانت الدية سنة وبين المأمور نصفين، وعلى كل واحد منهما كفارة. فصل: وإذا اختلف الجارح والولي في الخياطة فقال الولي: كانت في لحم ميت فعليك القود أو جميع الدية، وقال الجارح: بل كانت في لحم حي، فليس علي إلا نصف الدية،.

وعدها البينة فالقول قول الجارح مع يمينه وليس عليه إلا نصف الدية لأمرين: أحدهما: أننا على يقين في وجوب النصف، وفي شك من الزيادة. والثاني: أن الأصل حياة اللحم حتى يطرأ عليه الموت فصار الظاهر مع الجارح دون الولي، ولو اختلفا في الدواء، فقال الجارح: كان سماً موجياً وليس على إلا دية الجرح، ولا قود في النفس، وقال الولي: بل كان سماً موجياً وليس علي إلا دية الجرح، ولا قود في النفس، وقال الولي: بل كان دواء غير قاتل، وأنت القاتل فعليك القود، أو دية النفس، فالقول مع عدم البينة قول الولي دون الجارح، وعلى الجارح القود في النفس أو جميع الدية لأمرين اقتضيا عكس ما اختلفا فيه من الخياطة: أحدهما: أننا على يقين من جناية الجارح وفي شك من غيرها. والثاني: أن الظاهر في التداولي أنه بالنافع دون القاتل، فصار الظاهر هو المغلب والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "ولو قطع يد نصراني فأسلم، ثم مات لم يكن قود، لأن الجناية كانت وهو ممن لا قود فيه، وعليه دية مسلم، ولا يشبه المرتد، لأن قطعة مباح، كالحد والنصراني يده ممنوعة". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا قطع مسلم يد نصراني فأسلم ثم سرى القطع إلى نفسه فمات لم يجب فيه القود ووجب فيه دية مسلم، اعتباراً في القود بحال الجناية وفي الدية باستقرار السراية، وإنما اعتبر في القود بحال الجناية لأمرين: أحدهما: أنه لما كان النصراني لو قطع يد نصراني، ثم اسلم القاطع ومات المقطوع، لم يسقط القود عن القاطع بإسلامه اعتباراً بوجوبه حال الجناية، ووجب إذا انعكس في المسلم إذا قطع يد نصراني ثم اسلم المقطوع أن لا يجب على القاطع القود، اعتباراً بسقوطه عنه حال الجناية. والثاني: أنه لما صح في هذه الجناية إسقاط بالكفر عند الجناية، وإيجاب بالإسلام عند السراية، وجب أن يغلب حكم الإسقاط على حكم الإيجاب، لأنه يصح فيه إسقاط ما وجب، ولا يصح فيه إيجاب ما سقط، واعتبرنا في الدية استقرارها بعد السراية لأمرين: أحدهما: أنه لما اعتبرنا استقرار السراية فيما زاد في الموضحة إذا صارت نفساً في إيجاب الدية الكاملة بعد أن وجب نصف عشرها، وفيما نقص بقطع اليدين والرجلين إذا سرت إلى النفس في إيجاب دية واحدة بعد وجوب ديتين وجب أن يكون بمثابتهما ما حدث من زيادة الدية بالإسلام.

والثاني: أن حدوث الزيادة في المضمون ملتزمة كزيادة المغصوب، فلما ذكرنا من هذين وقع الفرق في اعتبار القود بحال الجناية واعتبار الدية بعد استقرارها بالسراية، وهكذا لو جرح الحر عبداً فأعتق ثم مات لم يجب عليه القود، لأنه جرحه وهو عبد، ووجبت عليه دين حر لاستقرارها فيه وهو حر. فصل: فأما إذا خرج المسلم مرتداً فأسلم ثم مات لم يجب فيه قود ولا دية، فشابه النصراني إذا أسلم في سقوط القود اعتباراً بحال الجناية، وخالفه في الدية في ترك الاعتبار بها عند استقرارها بالسراية. والفرق بينهما: أن نفس النصراني مضمونة بحقن دمه، فضمن ما حدث بالإسلام من زيادة ديته، ونفس المرتد هدر غير مضمونة، فصار ما حدث من سرايتها في الإسلام هدراً غير مضمون كالسارق إذا سرى إلى نفسه القطع لم يضمن، لأن قطعه غير مضمون وكالحربي إذا قطعت يده فأسلم ثم مات لم يضمن بقود، ولا دية، لأنه عند الجناية غير مضمون بقود ولا دية. فأما إذا جرح مقراً بالزنا وهو محصن فرجع عن إقراره ثم مات ففي ضمان نفسه وجهان حكاهما ابن أبي هريرة: أحدهما: لا يضمن بقود، ولا دية لإباحة نفسه وقت الجناية كالمرتد. والثاني: يضمن ديته وإن جرى عليه حكم الإباحة وقت الجناية. والفرق بينه وبين المرتد أن المرتد مباح الدم إلا أن يتوب من ردته، والزاني محظور النفس إلا أن يقيم إقراره. مسألة: قال الشافعي: "ولو أرسل سهماً فلم يقع على نصراني حتى اسلم، أو على عبد فلم يقع حتى اعتق لم يكن عليه قصاص، لأن تخلية السهم كانت ولا قصاص، وفيه دية حر مسلم والكفارة، وكذلك المرتد يسلم قبل وقوع السهم لتحول الحال قبل وقوع الرمية". قال في الحاوي: جمع الشافعي في إرسال السهم بين ثلاث مسائل، وضم إليها أصحابنا رابعة تظهر باستمرار القياس: فإحداهما: مسلم أرسل سهمه على نصراني، فأسلم ثم وصل السهم إليه فمات. والثانية: في حر أرسل سهمه على عبد فاعتق، ثم وصل السهم إليه فمات، فلا قود فيها على المسلم والحر اعتباراً بإرسال السهم، لأن المسلم أرسله على نصراني، والحر أرسله على عبد، وعليهما دية مسلم، ودية حر، اعتباراً بوصول السهم.

وقال أبو حنيفة: إذا أعتق العبد بعد إرسال السهم، وقبل الإصابة ففيه قيمته لسيده اعتبارًا بإرسال السهم دون الإصابة، وأما الكافر فديته ودية المسلم عنده سواء، وهذا فاسد؛ لأن النصراني لم يصل السهم إليه إلا بعد إسلامه، والعبد لم يصل السهم إليه إلا بعد عتقه قد ذكرنا أن القود معتبر بحال الجناية، وهو وقت الإرسال، والدية معتبرة بحال الاستقرار وهو الإصابة. فأما ما ظهر فيه اشتباه القياس فمسألتان اتفق أصحابنا في إحداهما، وظهر الخلاف في الأخرى. فأما التي اتفق أصحابنا عليها مع ظهور الاشتباه فيها: فهي في مسلم أرسل سهمه على مرتد فأسلم ثم وصل السهم إليه فمات، قال الشافعي: "لا قود عليه" اعتبارًا بإرسال السهم وعليه الدية اعتبارًا بإصابة السهم وهذا مشتبه؛ لأن ابتداء الجناية إن كان عند إرسال السهم، فينبغي أن لا تجب فيه الدية لأنه كان عند إرساله مرتدًا، وإن كان ابتداؤها عند الإصابة، فينبغي أن يجب فيه القود، لأنه كان عند إصابته مسلمًا ولا يجوز أن يجعل ابتداؤها في سقوط القود عند الإرسال وفي وجوب الدية عند الإصابة لتنافيها، وهذا الاشتباه وإن كان محتملًا، كاد ابن أبي هريرة أن يخرجه وجهًا ثانيًا: أنه لا قود ولا دية اعتبارًا بحال الإرسال كما اعتبر في النصراني والعبد حال الإرسال، ويحمل قول الشافعي: وكذلك المرتد يعني: في سقوط القود والدية معًا، وهذا الاحتمال، وإن كان لو قاله قائل مذهبًا فلم يصرح به من أصحابنا أحد؛ لأن الدية تضمن ضمان الأموال فروعي فيها وقت المباشرة، وذلك عند الإصابة والقود يضمن ضمان الحدود، فروعي فيها وقت الفعل، وذلك عند الإرسال، فلذلك سقط القود في المرتد اعتبارًا بوقت الإرسال، ووجب فيه الدية اعتبارًا بوقت الإصابة. وأما المسألة الثانية من مسألة الاشتباه فهي التي ضمها أصحابنا إلى الثلاث المنصوصات، وظهر فيا من بعضهم خلاف. وهي في مسلم أرسل سهمه على حربي فأسلم ثم وصل السهم إليه فمات، فقد جمع أصحابنا بينه وبين المرتد، فأسقطوا فيه القود اعتبارًا بوقت الإرسال، وأوجبوا فيه دية مسلم اعتبارًا بوقت الإصابة. وفرق أبو جعفر الترمذي بينه وبين المرتد، فأسقط في الحربي القود والدية معًا، وأوجب في المرتد الدية، وأسقط القود فصار جامعًا بينهما في سقوط القود، ومفرقًا بينهما في وجوب الدية احتجاجًا بأن قتل الحربي مندوب إليه في حق الإمام وغيره، وقتل المرتد منهي عنه إلا في حق الإمام وهذا الذي قاله الترمذي فاسد؛ لأن اختلافهما من هذا الوجه لما لم يمنع من تساويهما قبل الإسلام في سقوط القود لم يمنع من تساويهما بعد الإسلام في وجوب الدية.

مسألة: قال الشافعي: "ولو جرحه مسلمًا فارتد ثم أسلم ثم مات فالدية والكفارة ولا قود للحال الحادثة". قال في الحاوي: وصورتها: في مسلم جرح مسلمًا ثم ارتد ثم أسلم ثم مات مسلمًا، فلا يخلو زمان ردته من أن تسري فيه الجناية أو لا تسري فإن كان زمانًا لا تسري فيه الجنابة في مثله لقربه وقصره، فالدية تامة؛ لأن النفس تلفت من جناية وسراية، وهو مضمون النفس في حالة الجناية وحال السراية، فوجب أن تكمل فيه الدية، ولا يؤثر فيها زمان الردة إذ ليس له تأثير في السراية. فأما القود ففيه قولان: أحدهما: يجب فيه القود؛ لأنه لما لم تؤثر الردة في الدية لم تؤثر في سقوط القود. والثاني: يسقط القود في النفس؛ لأنه قد صار بالردة في حال لو مات عليها سقط القود، فلم يستحقه بالانتقال عنها كالمبتوتة إذا ارتدت ثم أسلمت قبل موت زوجها لم ترثه؛ لأنه لو مات في ردتها لم ترثه وعليه الكفارة في الأحوال؛ لأنه قد ضمن دية النفس كاملًا فصار قاتلًا، وإن كانت الردة في زمان تسري الجناية في مثله لطوله، فلا قود فيه؛ لأن مستحق ضمان النفس في حال الجناية والسراية وبعض السراية المقابل لزمان الردة غير مضمون، فصار الضمان مختصًا بالجناية وبعض السراية، وساقطًا عن بعض السراية، فسقط في الحالين؛ لأن القود لا يتبعض وجرى مجرى عفو أحد الوليين عن القود، يوجب سقوطه في حقهما؛ لأن القود لا يصح في التبعيض فإذا سقط القود ففي قدر ما تستحقه من الدية ثلاثة أقاويل: أحدها: جميع الدية لاعتبارها بحال الجناية، واستقرار السراية، وهو فيهما مسلم مضمون الدية، فعلى هذا عليه الكفارة؛ لأنه قاتل. والثاني: عليه نصف الدية؛ لأنه مات من جناية وسراية، بعضها مضمون وبعضها غير مضمون، فصار كمجروح جرح نفسه ثم مات كان على جارحه نصف الدية، وعلى هذا يجب الكفارة؛ لأنه قد صار في حكم أحد القاتلين. والثالث: عليه أرش الجرح، ويسقط ضمان السراية؛ لأن سراية الإسلام حادثة عن سراية الردة، فصارت تبعًا لها في سقوط الضمان، فعلى هذا لا كفارة عليه؛ لأنه على هذا القول جارح وليس بقاتل. فإذا ثبت هذا فما استحق فيه من قود ودية فهو لوارثه؛ لأنه مات مسلمًا فورثه. فصل: ويتفرع على هذه المسألة أن تنعكس الردة فتكون في الجاني دون المجني عليه،

وهو أن يجرح مسلمًا خطأ ثم يرتد الجارح ويرجع إلى الإسلام، ويموت المجروح، فعلى الجارح جميع الدية دون القود؛ لأنه قتل مسلمًا خطأ وما تحمله عاقلته المسلمون لها، معتبر بزمان ردته، فإن كان يسيرًا لا تسري الجناية في مثله تحملت العاقلة عن جميع الدية كما لو كانت هذه الردة في المجروح تحمل الجارح جميع الدية. وإن كان زمان ردته كثيرًا تسري الجناية في مثله، ففيما تتحمله العاقلة عند ثلاثة أقاويل: أحدها: أن تحمل على عاقلته جميع الدية، إذا قيل إنه يضمن في ردة المجروح جميع الدية. والثاني: أنه يتحمل عنه عاقلته نصف الدية ويتحمل الجاني نصفها المقابل لزمان ردته إذا قيل إنه يضمن في ردة المجروح نصف الدية؛ لأن عصبته المسلمين يعقلون عنه في إسلام، ولا يعقلون عنه في ردته. والثالث: أنهم يعقلون عنه أرش الجرح، ويتحمل هو ما بقي من دية النفس، إذا قيل إن ردة المجروح توجب أرش جرحه. مسألة: قال الشافعي: "ولو مات مُرتدًا كان لوليه المسلم أن يقتص بالجرح. قال المزني: القياس عندي على أصل قوله أن لا ولاية لمسلم على مرتد، كما لا وراثة له منه، وكما أن ماله للمسلمين فكذلك الولي في القصاص من جرحه ولي المسلمين". قال في الحاوي: وصورتها: في مسلم جرح مسلمًا ثم ارتد المجروح ومات على ردته، فلا يجب في النفس قود، ولا دية؛ لأن تلفها كان بجناية في الإسلام، وسراية في الردة، والردة ليسقط حكم ما حدث فيها من السراية فسقط بها ما زاد على الجناية، ولم يبق إلا الجناية، وليست على النفس فسقط حكم النفس. فأما الجناية الواقعة في الإسلام على ما دون النفس من جرح أو طرف، فالمنصوص عليه من مذهب الشافعي ها هنا وفي كتاب "الأم" أنها مضمونة بالقصاص، والأرش، وهو الصحيح الذي كان عليه جمهور أصحابنا لحدوثها في الإسلام الموجب لضمانها، وتكون الردة مختصة بسقوط ما حدث من السراية فيها. وقال أبو العباس بن سريج: "يسقط القصاص ويجب الأرش" لأن الجرح إذا صار نفسًا دخل في حكمها، وصار تبعًا لها. فإذا سقط القود في النفس المتبوعة سقط في الجرح التابع. وحكي أبو حامد الإسفراييني عن بعض أصحابنا وجهًا ثالثًا: أنه يسقط حكم

الجناية في القصاص الأرش جميعًا؛ لأنها لما صارت نفسًا دخلت في حكمها، وقد سقط حكم النفس فسقط حكم ما دونها. وكلا المذهبين فاسد، وما نص عليه الشافعي أصح؛ لأن الجناية أصل، والسراية فرع، فلم يسقط حكم الأصل بسقوط فرعه، وإن سقط حكم الفرع بسقوط أصله، ألا ترى أنه لو جني عليه في الردة وسرت في الإسلام سقط حكم السراية لسقوط حكم الجناية، وكذلك إذا جني عليه في الإسلام وسرت في الردة ثبت حكم الجناية، وإن سقط حكم السراية. فصل: فإذا ثبت أن الجناية مضمونة بالأمرين، وإن سقط حكم السراية في الأمرين، لم يخل حال الجناية من أحد أمرين. إما أن يكون في مثلها قصاص أو لا يكون. فإن لم يكن في مثلها قصاص كالجائفة وجب أرشها، وكان لبيت المال دونما الورثة؛ لأن المرتد لا يورث، ولم يجز العفو عن الأرش؛ لأنه لكافة المسلمين. وإن كان في مثلها قصاص كقطع يد أو رجل وجب فيه القصاص؟ وفي مستحق استيفائه وجهان: أحدهما: وهو مذهب المزني، وابن أبي هريرة وأكثر أصحابنا: أنه للإمام؛ لأن القصاص موروث كالمال، ومال المرتد لبيت المال دون ورثته، فتولى الإمام كما يتولى أخذ أرشه ويكون معنى قول الشافعي: "كان لوليه المسلم أن يقتص بالجرح" إشارة إلى الإمام؛ لأنه ولي من لا وليه له. والثاني: أن مستحق القصاص ومستوفيه أولياؤه المسلمون، وإن لم يرثوه، لأن القصاص موضوع للتشفي ودفع الاستطالة فاختص به الأولياء دون غيرهم، فعلى هذا يكون بالخيار بين أن يقتصوا أو يعفوا عن القصاص إلى الأرش، ولم يصح عفوهم عن الأمرين؛ لأنهم ملكوا القصاص ولم يملكوا الأرش فصح عفوهم عما ملكوه من القصاص ولم يصح عفوهم عما لم يملكوه من الأرش؛ فإن سقط القصاص بعفوهم أو بعفو الإمام إن كان هو المستوفي له على الوجه الأول تعين استحقاق الأرش، ولم يصح عفو الإمام عنه كما لا يصح عفو الأولياء؛ لأنه مستحق لكافة المسلمين. وإذا كان كذلك لم يخل حال الأرش من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكون أقل من دية النفس كقطع إحدى اليدين، فيها نصف الدية فيوجبها ويسقط ما زاد عليها بالسراية. والثاني: أن يكون مثل دية النفس كقطع اليدين، فيهما كمال الدية فيوجب الدية الكاملة؛ لأنه لم يكن للسراية تأثير في الزيادة.

والثالث: أن تكون أكثر من دية النفس كقطع اليدين، وجدع الأنف، ومن حكم ذلك في المسلم أنها إذا اندملت وجب فيها ديتان، وإن سرت إلى النفس وجب فيها دية واحدة؛ لأنها صارت نفسًا فلم تزد على دية النفس، فأما إذا سرت إلى النفس في حال الردة فقد اختلف أصحابنا فيها على وجهين: أحدهما: وهو قول الأكثرين إنه يغلب حكم السراية في الدية على حكم الجناية، فلا يجب فيها أكثر من دية؛ لأنها قد صارت نفسًا فتصير الجناية مضمونة بأقل الأمرين من أرشها أو دية النفس. والثاني: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أنها تضمن بما بلغ من أرشها وإن زاد على دية النفس أضعافًا لأمرين: أحدهما: أن سقوط القود في النفس يجري على الجرح حكم الاندمال. والثاني: أنه لما سقط حكم السراية إذا نقص أرش الجرح عن دية النفس سقط حكم السراية إذا زاد الأرش على دية النفس، وتصير الجناية مضمونة بمبلغ أرشها في الزيادة والنقصان ورد أصحابنا عليه هذا الاستدلال بأن حرمة نفسه لو استدام الإسلام أغلظ من حرمتها إذا ارتد، فلا يجب فيه مع استدامة إسلامه أكثر من الدية فلأن لا يجب فيها مع الردة أكثر من الدية أولى وأشبه والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولو فقأ عيني عبدٍ قيمته مائتان من الإبل، فأعتق فمات لم يكن فيه إلا ديةٌ، لأن الجناية تنقص بموته حُرًا، وكانت الدية لسيده دون ورثته. قال المُزني رحمه الله: القياس عندي أن السيد قد ملك قيمة العبد وهو عبدٌ فلا يُنقص ما وجب له بالعتق". قال في الحاوي: وأصل هذا أن كل ما وجب في الحر منه دية وجب في العبد منه قيمة، وما وجب في الحر منه نصف الدية كان في العبد منه نصف القيمة، وما وجب في الحر منه حكومة كان في العبد ما نقص من قيمته، ويجتمع في العبد قيم كما تجتمع في الحر ديات، فإن سرت الجناية إلى النفس لم تجب فيها أكثر من قيمة في العبد، ودية في الحر. فإذا استقر هذا الأصل فصورة مسألتنا: في حر فقأ عيني عبد قيمته ديتان قدرهما الشافعي بمائتين من الإبل، وإن لم يقوم العبد بالإبل، وذلك بقدرهما بألفي دينار لأنه أشبه بالقيم فهذا على ضربين. أحدهما: أن يبقى العبد على رقة حتى تستقر الجناية، أما بالاندمال أو بالسراية، فيجب على الجاني إن أندملت ألفا دينار، وإن سرت إلى النفس فمات ألفا دينار أيضًا،

ويستوي حكم الجناية في الاندمال أو السراية، لأن الواجب فيهما قيمة كاملة، ولو فقأ إحدى عينيه وجب فيها نصف قيمته إن اندملت، وهو ألف دينار، وإن سرت إلى نفسه وجب فيها جميع قيمته وهو ألفا دينار. والثاني: أن يعتقه السيد بعد الجناية عليه فهذا على ضربين: أحدهما: أن تستقر الجناية بالاندمال فيجب فيها القيمة الكاملة ألفا دينار، سواء كان العتق قبل الاندمال أو بعده لأن ما اندمل ولم يسر اعتبر فيه وقت الجناية وكان الاندمال معتبرًا في الاستقرار دون الوجوب، كما لو فقأ عيني نصراني فأسلم ثم اندملت عيناه وجب فيهما دية نصراني، وإن كان عند الاندمال مسلمًا كذلك العبد إذا اندملت عيناه بعد عتقه وجب فيهما قيمته عبدًا، وإن كان عند الاندمال حرًا. والثاني: أن تسري الجناية إلى نفسه وقد أعتقه السيد قبل موته فيجب فيها دية حر، وذلك ألف دينار، لأنها إذا سرت إلى النفس اعتبر بها وقت السراية دون الجناية، لدخول الأطراف في النفس، هذا مذهب الشافعي وجمهور أصحابه. وقال المزني يجب فيها ألفا دينار اعتبارًا بوقت الجناية استدلالًا بأمرين: أحدهما: أن السيد قد ملك بالجناية ألفي دينار هي قيمة عبده والعتق الذي هو قربة إن لم يزده خيرًا لم يزده شرًا. والثاني: أن الاندمال غاية كالسراية، ثم كان الاندمال بعد العتق يقتضي نقص قيمته، كذلك السراية، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه لما اختلف الاندمال والسراية في نقصان القيمة، وجب أن يختلفا في زيادة القيمة قيمته عبدًا، لأنه لو كان قيمته مائة دينار ثم اندملت بعد عتقه وجب فيها مائة دينار ولو سرت إلى نفسه وجب فيه ألف دينار ديته حرًا، كذلك إذا كانت قيمته ألفا دينار وجب فيها إذا اندملت ألفان، وإذا سرت إلى النفس ألف. والثاني: أنه لما اختلف الاندمال والسراية في ديات الأطراف حتى لو قطع يديه ورجليه، وجب في الاندمال ديتان، وفي السراية دية واحدة، وجب أن يختلفا في قدر الدية فيجب إذا اندملت ألفا دينار، وإذا سرت ألف واحد، وهذا دليل وانفصال، والخير المستزاد بالعتق هو الثواب، ونقصان القيمة فيه ليس بشر، وإنما هو الإبراء والمعونة فصار خيرًا أيضًا. فصل: فإذا ثبت أن الواجب فيها بعد السراية ألف دينار، وإن وجب بالاندمال ألفان فهذه الألف ملك للسيد المعتق دون ورثة العبد. فإن قيل فهلا كانت لورثته المسلمين دون النصارى، لأنه مات مسلمًا. قيل الفرق بينهما: أن النصراني كان ملكًا للأرش في الجناية قبل إسلامه، فورثت

عنه بعد موته مسلمًا، والجناية على العبد كانت ملكًا لسيده، فلم تورث عنه بعد موته حرًا. فإن قيل: فهلا جعلتموها بين السيد والورثة نصفين لأنها مستحقة بجناية في ملك السيد وسرائه بعد العتق في ملك المعتق، فيكون ما قابل زمان الرق ملكًا للسيد وما قابل زمان العتق للوارث كما لو كسب مالًا في العتق ومالًا في الرق كان ما كسبه في الرق لسيده، وما كسبه في العتق لوارثه قيل: السراية أثرت نقصانًا في حق السيد. فلم يجز أن يشاركه الوارث ولو أثرت زيادة كانت للوارث، مثل أن تكون قيمته مائة دينار، وقت الجناية، ثم يسري بعد العتق إلى نفسه فيجب فيها ألف دينار ديته حرًا، فيكون للسيد منها مائة دينار هي قيمته عبدًا والباقي وهو تسع مائة دينار لورثته لحدوثها بعد عتقه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولو قُطع يد عبدٍ وأُعتق ثم مات فلا قود إذا كان الجاني حُرًا مُسلمًا، أو نصرانيًا حُرًا، أو مُستأمنًا حُرًا، وعل الحُر الدية كاملةً في ماله للسيد منها نصف قيمته يوم قطعه والباقي لورثته". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن المعتبر في القصاص حال الجناية، والمعتبر في الدية حال الاستقرار، إما بالاندمال أو بالسراية إلى النفس؛ لأن المقطوع كان وقت الجناية عبدًا، وعلى القاطع دية حر؛ لأن المقطوع مات حرًا، وللسيد منها أقل الأمرين من نصف قيمته عبدًا؛ لأنه لم يجب له وقت الجناية أكثر منها، أو جميع ديته حرًا؛ لأن السراية لم تستقر في أكثر منها. وقال أبو علي بن أبي هريرة للسيد أقل الأمرين من نصف قيمته عبدًا أو نصف ديته حرًا. وهذا زلل من أبي علي؛ لأن الجناية من شخص واحد؛ ولا يخلو حالها من أحد أربعة أقسام: إما أن يعتبر بها وقت الجناية فنصف القيمة قلت أو كثرت، أو يعتبر بها وقت الموت فجميع الدية قلت أو كثرت أو يعتبر بها أكثر الأمرين فلا يجوز، وهو مردود بالاتفاق، أو يعتبر بها أقل الأمرين، وهو المتفق عليه، فيجب أن يكون الأقل ما وجب في الابتداء، وهو نصف القيمة أو بما استقر في الانتهاء، وهو جميع الدية. فأما أقل الأمرين من نصف القيمة أو نصف الدية فلا يعتبر إلا في جناية الاثنين، وهو أن يقطع حر يده قبل العتق ويقطع آخر يده الأخرى بعد العتق، ثم يموت فتكون عليها دية حر بينهما نصفين، وللسيد منها أقل الأمرين من نصف قيمته، أو نصف ديته؛ لأنهما جنايتان:

أحدهما: في الرق يختص بها السيد، والأخرى في الحرية، ويختص بها الورثة. فأما الجاني الواحد فليس للسيد إلا ما قدمناه من أقل الأمرين من نصف قيمته، أو جميع ديته، وإذا كان كذلك لم يخل نصف قيمته من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن تكون نصف قيمته أقل من نصف ديته أو مثلها فما دون، فيستحق السيد نصف قيمته على المذهبين، ويكون ما بقي من ديته لورثته. والثاني: أن يكون نصف قيمته يزيد على نصف ديته، ولا تزيد على جميعها فيستحق على مذهب الشافعي نصف قيمته؛ لأنه أقل من جميع ديته، وعلى قول أبي علي بن أبي هريرة يستحق نصف ديته؛ لأنه أقل من نصف قيمته. والثالث: أن يكون نصف قيمته أكثر من جميع ديته، فيستحق على مذهب الشافعي جميع ديته، وعلى قول أبي علي بن أبي هريرة، يستحق نصف ديته. فصل: ويتفرع على هذه المسألة أن يقطع حر إحدى يدي عبد فيعتق، ثم يعود الحر الجاني فتقطع إحدى رجليه، فلا يخلو حال القطعين من أربعة أقسام: أحدهما: أن يندملا. والثاني: أن يسريا إلى النفس. والثالث: أن يندمل الأول، ويسري الثاني إلى النفس. والرابع: أن يندمل الثاني ويسري الأول إلى النفس. فأما القسم الأول: وهو أن يندمل القطعان فالأول منهما لا قود فيه؛ لأنها جناية حر على عبد، وفيه نصف قيمته قلت أو كثرت تكون لسيده، وإن زاد على ديته حرًا؛ لأن اندمالها يوجب استحقاق ما وجب بها وقت الجناية. وأما القطع الثاني: ففيه القود؛ لأنها جناية حر على حر، فإن عفا عنه ففيه نصف ديته حرًا تكون له دون سيده فيصير الجاني في هذا القسم ضامنًا بالقطع الأول نصف القيمة دون القصاص، وبالقطع الثاني القصاص، أو نصف الدية. وأما القسم الثاني: وهو أن يسري القطعان إلى نفسه فيموت فيها فلا قود على الجاني في النفس لخروجها بسرائه قطعين، لا قصاص في سراية أحدهما فيسقط القصاص في سراية الآخر، كما لو عفا أحد الوليين سقط القصاص في حقها، وعلى الجاني دية حر؛ لاستقرارها بعد السراية في حر، فإن أراد المولى أن يقتص من القطع الثاني في الحرية ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول ابن سريج لا قصاص له فيه لدخوله بالسراية في نفس لا يستحق فيها القود.

والثاني: وهو قول الجمهور أنه يستحق فيه القصاص وإن سقط القود في النفس لتمييزها في القطع، وإن اشتركا في النفس. فإن قيل بالوجه الأول أنه يسقط القصاص في الطرف لسقوطه في النفس وجب الدية، وكان للسيد منهما أقل الأمرين من نصف قيمته، أو نصف ديته وجهًا واحدًا، وبخلافه لو تفرد بالجناية عليه قبل عتقه؛ لأن نصف الجناية ها هنا في حال الرق ونصفها بعد العتق، فلم يستحق إلا أقل الأمرين من نصف القيمة أو نصف الدية، ويكون الباقي للورثة ولعل ابن أبي هريرة خالف في تلك المسألة حملًا على هذه والفرق بينهما واضح. وإن قيل بالوجه الثاني: أنه لا يسقط القصاص في الطرق الثاني، وإن سقط في النفس فهو مستحق للوارث دون السيد، فإن اقتص منه فقد استوفي به نصف الدية، وإن كان ما أخذه السيد من أقل الأمرين هو نصف الدية، فقد استوفي كل واحد من السيد والوارث حقه، وإن كان السيد قد أخذ نصف القيمة؛ لأنه أقل من نصف الدية كان زائدًا عليه من نصف الدية راجعًا على الوارث؛ لأنها زيادة حدثت بالحرية. وأما القسم الثالث: وهو أن يندمل القطع الأول، ويسري الثاني إلى النفس، فعلى الجاني في القطع الأول نصف قيمة قلت أو كثرت لاندمالها في عبد ولا قصاص فيها؛ لأنها جناية حر على عبد. وعليه في القطع الثاني القود في النفس لسرايته إليها، وأنها من حر إلى حر، فإن عفا عنه فعليه جميع الدية لاستقرارها في نفس حر، فيصير بالقطعين ملتزمًا لنصف القيمة وجميع الدية يختص السيد بنصف الدية والورثة بجميع الدية. وأما القسم الرابع: وهو أن يندمل القطع الثاني، ويسري القطع الأول في النفس، ففي القطع الثاني نصف الدية وفيه القصاص وجهًا واحدًا، لاستقرارها من حر على حر. فأما الأول فقد صار نفسًا فلا قصاص فيه؛ لأنها جناية حر على عبد، وفيه دية حر لاستقرارها في حر، يكون للسيد منها الأقل من نصف قيمته أو نصف ديته. مسألة: قال الشافعي: "ولو قطع ثانٍ بعد الحُرية رجله، وثالثٌ بعدهما يده، فمات فعليهم دية حر، وفيما للسيد من الدية قولان، أحدهما: أن له الأقل من ثلث الدية ونصف قيمته عبدًا، ولا يجعل له أكثر من نصف قيمته عبدًا، ولو كان لا يبلغ إلا بعيرًا؛ لأنه لم يكن في ملكه جنايةٌ غيرها، ولا يُجاوز به ثلث دية حر، ولو كان نصف قيمته مائة بعير من أجل أنه تنقص بالموت، والقول الثاني: أن لسيده الأقل من ثلث قيمته عبدًا، أو ثلث ديته حُرًا، لأنه مات من جنايةٍ ثالثةٍ: قال المزني رحمه الله: وقد قطع في

موضع آخر أنه لو جرحه ما الحكومة فيه بعيرٌ ولزمه بالحرية، ومن شركة عشرٌ من الإبل لم يأخذ السيد إلا البعير الذي وجب بالجرح وهو عبده؛ قال المزني رحمه الله: فهذا أقيس بقوله، وأولى عندي بأصله، وإن لم يزده على بعيرٍ؛ لأنه وجب بالجرح وهو عبده، ففي القياس أن لا يُنقصه وإن جاوز عقل حر؛ لأنه وجب له بالجرح وهو عبده". قال في الحاوي: وصورتها في عدد من الأحرار جنوا على معتق بعضهم في الرق، وبعضهم بعد العتق فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكونا اثنين. والثاني: أن يكونوا أكثر من اثنين. فإن كان الجاني عليه اثنان فقطع أحدهما في حال الرق إحدى يديه، وقطع الآخر بعد العتق إحدى رجليه، فلا يخلو حال القطعين من أربعة أقسام: أحدهما: أن يندملا فيكون الأول قاطعًا في الرق فلا قود عليه، وعليه نصف القيمة، قلت أو كثرت تكون لسيده؛ لأنها جناية حر على عبد، والقاطع الثاني عليه القود، فإن عفا عنه فعليه نصف الدية تكون للمعتق؛ لأنها جناية حر على حر. والثاني: أن يندمل القطع الأول، ويسري الثاني إلى النفس، فيكون على الأول نصف القيمة لسيده دون القصاص وعلى الثاني القود في النفس أو الدية لورثته. والثالث: أن يندمل القطع الثاني، ويسري الأول إلى النفس، فيكون في القطع الثاني القود؛ لأنه من حر على حر، فإن عفا عنه ففيه نصف الدية لورثة المعتق لاستحقاقهما بعد العتق. وأما القطع الأول فقد صار نفسًا وجبت فيه الدية كاملة لاستقرارها في حر، وللسيد منها أقل الأمرين من القيمة أو الدية، كما لو تفرد الأول بقطعه دون الثاني، وله على قول أبي علي بن أبي هريرة أقل الأمرين من جميع قيمته أو نصف ديته. والرابع: أن يسري القطعان إلى نفسه فيموت، فالكلام في فصلين: أحدهما: في القصاص. والثاني: في الدية. فأما القصاص فلا يجب على الأول القاطع في الرق قصاص في اليد، ولا قود في النفس، لأنه قاطع في الرق فتبعه حكم السراية بعد العتق؛ لأنها لم تضمن جنايته بالقصاص لم تضمن سرايته بالقود. كما أن ما لم تضمن جنايته بالأرش لم تضمن سرايته بالدية. وأما القاطع الثاني بعد العتق فعليه القصاص في الرجل والقود في النفس؛ لأنها جناية حر على حر في حال القطع والسراية. وقال أبو الطيب بن أبي سلمة: عليه القصاص في الرجل ولا قود عليه في النفس؛

لأن النفس تلفت بسراية جرحين ممتزجين فأوجب سقوط القود في أحدهما سقوطه في الآخر كاشتراك العامد والخاطئ، وهذا فاسد باشتراك الحر والعبد في قتل عبد، والمسلم والكافر في قتل الكافر، لا يكون سقوط القود عن الحر والمسلم موجبًا لسقوطه عن العبد والكافر لأنهما تساويا في الفضل، واختلفا في الكفارة كذلك في سراية القطع، وخالف اشتراك العامد والخاطئ لاختلافهما في الفضل. وأما الدية فعليها دية حر لاستقرار جنايتها في حر يجب على كل واحد منهما نصفها، ولا يتحمل القاطع في الرق أقل مما يتحمله القاطع بعد العتق. فإن قيل: فهلا اختلفا في قدر ما يتحملانه لاختلافهما في رقه وحريته؛ كما لو عبدًا في الحالتين كان على الأول نصف قيمته سليمًا، وعلى الثاني نصف قيمته مقطوعًا. قلنا: لأن قيمة العبد تختلف بالسلامة والنقصان ودية الحر لا تختلف بالسلامة والنقصان، فلذلك تساويا في دية الحر وتفاضلا في قيمة العبد. فإذا ثبت أن الدية عليهما نصفين فهي بين السيد والورثة، لحدوث الجناية في رق وحرية، وللسيد منها أقل الأمرين من نصف القيمة أو نصف الدية، فإن كان نصف الدية أقل الأمرين استوفي من القاطعين الدية إبلًا وأعطى السيد نصفها إبلًا، وللورثة نصفها إبلًا. وهل يختص السيد بالنصف الذي على القاطع الأول أم لا؟ على وجهين محتملين: أحدهما: يختص به لاختصاصه بالجناية في ملكهن فيكون النصف الذي على القاطع الأول للسيد والنصف الذي على القاطع الثاني للورثة، ولا يقع اشتراك بين السيد والورثة. والثاني: أنهما مشتركان فيهما على القاطعين، ولا يختص واحد منهما بما على أحدهما؛ لأنهما اشتركا في قتل نفس مشتركة، ولا يجوز أن يعدل بالسيد عن نصف الدية من الإبل إلى نصف القيمة إلا عن مراضاة، وإن لم تكن من الإبل مستحقة في قيم العبيد، لأنه صار معدولًا به عن القيمة إلى الدية، وجب أن يعدل به عن جنس القيمة إلى جنس الدية وإن كان أقل الأمرين نصف القيمة وجب أن يأخذ السيد من إبل الدية نصف قيمة عبده ورقًا أو ذهبًا، فإن عدل إلى الإبل لم يجز إلا عن مراضاة؛ لأن حقه من غيرها، فإن قيل بالوجه الأول أن حقه مختص بالجاني الأول رجع عليه بنصف قيمة عبده، وقوم بها من الإبل ما قابلها، ودفع ما بقي من نصف الدية مع جميع النصف الآخر إلى الورثة، وإن قيل بالوجه الثاني إن السيد والورثة مشتركان فيما على القاطعين أخذت منهما الدية إبلًا، وكان السيد شريكًا فيها للوارث بنصف قيمة عبده، والوارث بالخيار في أن يدفع إليه نصف القيمة من ماله، ويأخذ جميع الدية، وبين أن يبيع منها بقدر نصف القيمة ويأخذ الباقي، فإن أراد الوارث أن يدفع إلى السيد بنصف القيمة إبلًا لم يلزمه إلا عن مراضاة؛ لأن حقه في غيرها، فهذا حكم الجناية إذا كانت من اثنين.

فصل: وأما إذا كان عدد الجناة أكثر من اثنين كالثلاثة فصاعدًا، فهذا على ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكون الجناة في الرق أقل من الجناة بعد العتق. والثاني: أن يكون الجناة في الرق أكثر من الجناة بعد العتق. والثالث: أن يتساوي عددهم في الرق، وبعد العتق. فأما القسم الأول: وهو إذا كانوا في الرق أقل، فهو مسألة الكتاب. وصورتها: أن يقطع حر يده في حال الرق، ثم يعتق، فيقطع ثانٍ يده الأخرى، ويقطع ثالث إحدى رجليه، وتسري الجنايات الثلاث إلى نفسه فيموت، فالجاني في حال الرق لا قود عليه في نفس ولا طرف؛ لأنه جناية حر على عبد. وأما الجانيان بعد العتق فعليهما القصاص في الطرف، والقود في النفس، لأنها جناية حر على حر. وعند أبي الطيب بن سلمة أنه يقتص من طرفه، ولا يقاد من نفسه. وقد رددنا عليه فأما الدية فعلى الثلاثة دية حر بينهم بالسوية، مشترك في التزامها الجاني في الرق، والجانيان بعد العتق. وهما للسيد منهما قولان منصوصان: أحدهما: له أقل الأمرين من نصف قيمته عبدًا أو ثلث ديته لحر؛ لأن الجناية في ملكه بقطع يده أوجبت نصف قيمته، فإن حدث له بالسراية زيادة لم يملكها لزوال ملكه عند وجوبها، وإن حدث نقصان عاد عليه كما لو جني عليه جنايات توجب قيمًا ثم سرت إلى نفسه وجب قيمة واحدة، وعاد البعض عليه كذلك ها هنا. والثاني: للسيد أقل الأمرين من ثلث قيمته عبدًا، أو ثلث ديته حرًا؛ لأمرين: أحدهما: أن الجنايات إذا صارت نفسًا سقط اعتبارًا أروشها، كما ل جرحه، أحدهما موضحة، والآخر جائفة ومات كانا في ديته سواء. والثاني: أنه لما اعتبر أعداد الجناة فيمن يجب عليه الدية، وجب أن يعتبر أعدادهم فيمن يستحق للدية، فعلى هذا لو كانت المسألة بحالها، وجني عليها رابع بعد العتق وجبت الدية على أربعة بينهم بالسوية. وفيما للسيد منها قولان: أحدهما: له أقل الأمرين من نصف قيمته عبدًا أو ربع ديته حرًا، اعتبارًا بأرش الجناية. والثاني: له أقل الأمرين مع ربع قيمته عبدًا، أو ربع ديته حرًا اعتبارًا، ولو كان من الرابع خامس لكان له على القول الأول أقل الأمرين من نصف قيمته عبدًا، أو خمس ديته حرًا، اعتبارًا بأرش الجناية.

وله على القول الثاني أقل الأمرين من خمس قيمته عبدًا، أو خمس ديته حرًا؛ اعتبارًا بأعداد الجناة. ولو كان الجاني الأول قطع في الرق إحدى أصابعه، ثم أعتق، فقطع ثانٍ بعد العتق بيده، وقطع ثالث رجله، ثم مات. ففيما للسيد من الدية قولان: أحدهما: له أقل الأمرين من عشر قيمته عبدًا، أو ثلث ديته حرًا؛ اعتبارًا بأرش الجناية، لأن في الإصبع عشر القيمة. والثاني: له أقل الأمرين من ثلث قيمته عبدًا، أو ثلث ديته حرًا، اعتبارًا بأعداد الجناة. وأما القسم الثاني: وهو أن يكون الجناة في الرق أكثر منهم بعد العتق فصورته، أن يقطع حر إحدى يديه في الرق، ثم يقطع ثانٍ إحدى رجليه، ثم يعتق فيقطع ثالث يده الأخرى، ثم يسري إلى نفسه فيموت، فعلى الثلاثة الدية بينهم بالسوية. وفيهما للسيد منها قولان: أحدهما: أقل الأمرين من جميع قيمته عبدًا، أو ثلثي ديته حرًا، اعتبارًا بأرش الجناية لأن في إحدى اليدين وإحدى الرجلين قيمته. والثاني: له أقل الأمرين من ثلثي قيمته عبدًا أو ثلثي ديته حرًا، اعتبارًا بأعداد الجناة؛ لأن في الرق من الثلاثة اثنان، وبعد العتق واحد. ولو جني عليه في الرق ثلاثة: قطع أحدهم إحدى يديه، وقطع الآخر يده الأخرى، وقطع الثالث إحدى رجليه ثم أعتق فقطع رابع بعد العتق رجله الأخرى، ومات. ففيما للسيد قولان: أحدهما: له أقل الأمرين من جميع قيمته عبدًا، أو ثلاثة أرباع ديته حرًا اعتبارًا بأرش الجناية. فإن قيل: فقد وجب لجنايات الرق قيمة ونصف، فهلا أوجبتموها له إذا اعتبرتم أرش الجناية. قلنا: لأنها إذا صارت نفسًا بطل اعتبار ما زاد على القيمة فلذلك سقط حكمهما. والثاني: له أقل الأمرين من ثلاثة أرباع قيمته عبدًا، أو ثلاثة أرباع ديته حرًا، اعتبار بأعداد الجناة. ولو قطع الأول في الرق إحدى أصابعه، وقطع ثانٍ إصبعًا ثانية، ثم أعتق، فقطع ثالث إصبعًا ثالثة، ثم مات، وجبت عليهم الدية. وفيما للسيد منها قولان: أحدهما: له أقل الأمرين من خمس قيمته عبدًا، أو ثلثي ديته حرًا اعتبارًا بأرش الجناية.

والثاني: له أقل الأمرين من ثلثي القيمة، أو ثلثي الدية اعتبارًا بأعداد الجناة. وأما القسم الثالث: وهو أن يستوي أعداد الجناة في الرق وبعد العتق. وصورته: أن يقطع إحدى يديه في الرق، ويقطع ثانٍ يده الأخرى ثم يعتق، فيقطع ثالث إحدى رجليه، ويقطع رابع رجله الأخرى، ثم يموت، فعليهم الدية وفيما للسيد منها قولان: أحدهما: له أقل الأمرين من جميع قيمته عبدًا، أو نصف ديته حرًا اعتبارًا بأرش الجناية، لأن في اليدين القيمة. والثاني: له أقل الأمرين من نصف قيمته عبدًا، أو نصف ديته حرًا، اعتبارًا بأعداد الجناة؛ لأن في الرق منه اثنين، وفي الحرية اثنين. ولو قطع الأول في الرق إحدى أصابعه، وقطع الثاني إحدى رجليه، ثم أعتق، فقطع الثالث رجله الأخرى، وقطع الرابع يده الأخرى ومات، ففيما للسيد منها قولان: أحدهما: له أقل الأمرين من ثلاثة أخماس قيمته عبدًا، أو نصف ديته حرًا اعتبارًا بأرش الجناية، لأن في الإصبع عشر القيمة، وفي اليد نصفها. والثاني: له أقل الأمرين من نصف قيمته عبدًا، أو نصف ديته حرًا، اعتبارًا بأعداد الجناة، لأن في الرق منهم اثنين. ولو قطع الأول في الرق إحدى أصابعه، وقطع الثاني إحدى رجليه، ثم أعتق فقطع الثالث رجله الأخرى، وقطع الرابع يده الأخرى، ومات ففيما للسيد قولان: أحدهما: أقل الأمرين من ثلاثة أخماس قيمته عبدًا، أو نصف ديته حرًا، اعتبارًا بأرش الجناية، لأن في الإصبع عشر القيمة وفي الرجل نصفها. والثاني: له أقل الأمرين من نصف قيمته عبدًا، أو نصف ديته حرًا، اعتبارًا بأعداد الجناة؛ لأن في الرق منهم اثنين، وفي الحرية اثنين، ثم على هذا القياس. فصل: ويتفرع على هذا الأصل فرع يحمل عليه نظائره. وصورته: في حر قطع إحدى يدي عبد، ثم أعتق، فقطع ثانٍ يده الأخرى، ثم ذبح المقطوع فمات توجئة بالذبح. فلا يخلو حال الذابح من أحد ثلاثة أقسام: إما أن يكون هذا القاطع الأول فقد صار بالذبح قاطعًا لسراية القاطع الثاني سواء اندمل قطعه، أو لم يندمل، فيجب على الثاني للوارث دون السيد القصاص في اليد، أو نصف الدية، لأنه قطعه بعد الحرية. وأما الأول فقد قطع ثم ذبح فيعتبر القطع، فإن كان قد اندمل قبل الذبح استقر حكمه ووجب فيه للسيد نصف القيمة دون القود، لأنها جناية حر على عبد، ووجب على

القاطع بذبحه القود ي نفس للوارث، فإن عفا فعليه الدية؛ لأنها جناية حر على حر، وإن لم يندمل قطعه حتى ذبحه سقط القصاص في القطع، لأنه حر جني على عبد، ودخل أرشه في دية النفس، لأنه لا يستحق مع دية النفس أرش قطع لم يندمل، وعليه القود في النفس؛ لأنها جناية حر على حر، يستحقه الوارث دون السيد لحدوث سببه بعد العتق، فإن اقتص الوارث سقط حق السيد من أرش القطع، لأنه لا يجتمع قصاص وأرش. فإن عفا الوارث عن القود كان له دية حر للسيد منها أقل الأمرين من نصف قيمته عبدًا، أو نصف ديته حرًا قولًا واحدًا، اعتبارًا بأرش اليد ولو كان القطع لإصبع من اليد، كان له أقل الأمرين من عشر قيمته عبدًا، أو عشر ديته حرًا، اعتبارًا بأرش الأصبع. وإن كان الذابح هو القاطع الثاني فقد استقر قطع الأول القاطع في الرق سواء اندمل أو لم يندمل، لأن حدوث الذبح بعده قاطع لسرايته فاستقر حكمه، ووجب فيه نصف قيمته، قلت أو كثرت، ولا قود لأنه قطع حر لعبد ثم ينظر في القطع الثاني بعد العتق، فإن كان قد اندمل قبل الذبح استقر حكمه في حق الوارث مع حكم الذبح، وكان للوارث الخيار في القصاص والدية بين أربعة أشياء. وبين القصاص في اليد، والقصاص في النفس، فيستوي بهما حقي القطع والذبح، لأنهما من حر على حر، وبين أن يقتص من اليد، ويأخذ دية النفس، وبين أن يقتص من النفس ويأخذ نصف الدية في اليد، وبين أن يعفو عنها فيأخذ نصف الدية في اليد، ودية كاملة في النفس، فيحصل له باندمال اليد دية ونصف. ولو لم تندمل اليد فالوارث بالخيار في القصاص بين أربعة أشياء: أحدهما: أن يقتص من اليد والنفس، فيستوفي بهما حقي القطع والذبح. والثاني: أن يقتص من اليد، ويعفو عن القود في النفس، فيحكم له بدية النفس، وعندي أنه سهو إلا على قول أبي سعيد الإصطخري. والثالث: أن يقتص من النفس، ويعفو عن القصاص في العبد، فيسقط أرش اليد، لاختصاصها قبل الاندمال بالقصاص دون الأرش. والرابع: أن يعفو عن القصاص في اليد والنفس فيحكم له بدية النفس، ويسقط أرش اليد لدخوله في دية النفس. وإن كان الذابح أجنبيًا استقر حكم القطعين وصارا وإن لم يندملا كالمندملين لما تعقبهما من التوجئة القاطعة لسرايتها، وكان على القاطع الأول للسيد نصف قيمته عبدًا دون القود؛ لأنها جناية على حر وعلى الذبح القود في النفس، فإن عفا الوارث عنه فله دية النفس كاملة، لأنه جناية حر على حر، ولا تنقص بالمأخوذ من أرش اليدين لما جرى عليها من حكم الاندمال. فصل: ويتفرع على ما قدمناه أن يكون عبد بين شريكين فيقطع حر إحدى يديه، ثم يعتق

أحد الشريكين حصته، وهو معسر، ويأتي آخر فيقطع يده الأخرى، ثم يموتن ونصفه حر، ونصفه مملوك، فلا قود على واحد منهما، لبقاء الرق في نصفه، والمستحق منه نصف قيمته عبدًا ما بلغت، ونصف ديته حرًا لاستقرارها فيه بعد عتق نصفه ورق نصفه، ويتحمل القاطعان بينهما بالسوية فيكون على كل واحد منهما ربع القيمة وربع الدية، ولا يفضل واحد على الآخر، وإن اختلفت جنايتهما في الرق والعتق، لاستقرارها فيمن رق نصفه وعتق نصفه، ويكون للمسترق من الشريكين نصف قيمته. فأما نصف الدية فيشترك فيها المعتق والوارث إذا جعلنا من عتق بعضه موروثًا فيأخذ منها المعتق أقل الأمرين من ربع قيمته عبدًا، أو ربع ديته حرًا، لأن إحدى الجنايتين كانت في ملكه والأخرى بعد عتقه. ويعود على الوارث ربع الدية، وما فضل من ربع القيمة، إن كان. فعلى هذا لو كانت المسألة بحالها، فعاد القاطع الأول فقطع إحدى رجليه ومات، فقد مات من جنايتين أحدهما بعد العتق، والأخرى نصفها في الرق ونصفها بعد العتق، فيكون عليها نصف القيمة ونصف الدية، لاستقرارها فيمن نصفه حر ونصفه مملوك، وهما في تحملها بالسوية؛ لأن أفعال الجاني يبني بعضها على بعض، إذا صارت نفسًا. ولا يتقسط الأرش على أعداد الجرح، كما لو جرحه أحدهما جرحًا، والآخر عشرًا. ويكون لمالك رقه نصف قيمته ما بلغت. فأما نصف الدية فيكون منها لمعتقه أقل الأمرين من ربع قيمته، أو ثمن ديته، لاستقرار ثلاثة أرباع الجناية في نصف بعد عتقه. فصل: فأما المزني فإنه يحكم على فصلين: أحدهما: أنه إذا فقأ عينيه في الرق، وقيمته ألفا دينار، ثم أعتق كانت عليه الألفان، وقد تقدم الكلام عليه. والثاني: هي مسألة الكتاب إذا جني واحد عليه في الرق، واثنان بعد العتق، أنه يختار من القولين أنه يعتبر أرش الجناية في الرق، ولا يعتبر بأعداد الجناة تمسكًا بأمرين: أحدهما: أن الشافعي قد ذكره في موضع آخر، وهذا ليس بشيء، لأن ذكر أحد القولين في موضعين، وذكر الآخر في موضع لا يقتضي إثبات ما تكرر ونفي الآخر. والثاني: أن قال: لما كان الزائد بالحرية لا يعود على السيد وجب أن يكون الناقص بالحرية لا يعود عليه، وهذا خطأ، لأن الزائد بالحرية حادث في غير ملكه، فلم يستحقه، والناقص بالحرية من فعله فعاد عليه نقصه والله أعلم.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وعلى المتغلب باللصوصية والمأمور القود إذا كان قاهرًا للمأمور". قال في الحاوي: وجملة ذلك أن من أمر غيره بقتل نفس ظلمًا بغير حق لا يخلو من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون إمامًا ملتزم الطاعة. والثاني: أن يكون متغلبًا نافذ الأمر. والثالث: أن يساوي المأمور، لا يعلو عليه بطاعة ولا قدرة. فأما القسم الأول، وهو أن يكون الآمر بالقتل إمامًا ملتزم الطاعة. فلا يخلو حال المأمور في قتله من أحد أمرين: إما أن يجهل حال المقتول ولا يعلم أنه مظلوم، ويعتقد أن الإمام لا يقتل إلا بحق فلا قود على المأمور، ولا دية، ولا كفارة، لأن طاعة الإمام واجبة عليه لقول الله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وأَطِيعُوا الرَّسُولَ وأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ} [النساء:59] وعلى الإمام القود، لأن أمره إذا كان ملتزم الطاعة يقوم مقام فعله لنفوذه، وحدوث الفعل عنه، وجرى المأمور معه جري الآلة. قال الشافعي: وهكذا قتل الأئمة ويستحب للمأمور أن يكفر لما تولاه من المباشرة. والحالة الثانية: أن يكون المأمور عالمًا بأنه مظلوم، يقتل بغير حق فبهذا المأمور حالتان: إحداهما: أن يقتله مختارًا. والثانية: مكرهًا. فإن قتله مختارًا غير مكره فهو القاتل دون الإمام، لأن طاعة الإمام لا تلزم في المعاصي قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق". وقال أبو بكر رضي الله تعالى عنه: أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيت الله، فلا طاعة لي عليكم ويكون الإمام آثمًا، ويتمكن المأمور من القتل عاصيًا، وإن لم يلزمه قود ولا دية ولا كفارة. وهو ظاهر من مذهب الشافعي وقول جمهور أصحابه. وذهب بعض أصحابه إلى وجوب القود على الإمام بمجرد أمره، وإن لم يكن منه إكراه للزوم طاعته، ونفوذ أمره، وجعل القود واجبًا على الآمر والمأمور معًا، ولهذا القول وجه في اعتبار المصلحة، وحسم عدوان الأئمة، وإن كان في القياس ضعيفًا.

وإن كان المأمور مكرهًا على القتل بأن قال له الإمام: إن لم تقتله قتلتك، فالقود على الإمام الآمر واجب. وفي وجوبه على المأمور قولان: أحدهما: واجب كالإمام يقاد منهما جميعًا، فإن عفا عنهما اشتركا في الدية، وكان على كل واحد منهما كفارة. وبه قال زفر بن الهذيل: والثاني: إنه لا قود على المأمور والمكره، ويختص القود بالإمام المكره واختلف أصحابنا في تعليل هذا القول في سقوط القود عن المأمور فذهب البغداديون بأسرهم إلى أن العلة فيه أن الإكراه شبهة تدرأ بها الحدود. فعلى هذا التعليل يجب عليه إذا سقط القود عنه نصف الدية؛ لأنه أحد القائلين، وعليه الكفارة. وذهب البصريون منهم: إلى أن العلة فيه أن الإكراه إلجاء وضرورة تنقل حكم الفعل عن المباشر إلى الآمر كالحاكم إذا ألجأه شهود الزور إلى القتل. فعلى هذا التعليل تسقط عنه الدية والكفارة كما تسقط عنه القود، وتكون الدية كلها على الإمام المكره وهذا قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا قود على الإمام الآمر، ولا على المأمور استدلالًا بأن أمر الإمام سبب ومباشرة المأمور إلجاء، فسقط حكم السبب بحدوث المباشرة، وسقط حكم المباشرة بوجود الإلجاء، فسقط القود عنهما. وهذا خطأ لقول الله تعالى: {ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33] فلو سقط القود عنهما مع وجود الظلم في القتل لبطل سلطانه، ولما انزجر عن القتل ظالم، ولأن إجماع الصحابة يمنع من قول أبي يوسف. وهو ما روي أن أبا بكر رضي الله تعالى عنه ولي رجلًا اليمن، فأتاه رجل منهما مقطوع اليد، فقال: إن خليفتك ظلمني فقطعني. فقال أبو بكر: لو علمت أنه ظلمك لقطعته. فدل على مؤاخذة الوالي بظلمه فيما أمر به. وقد أنفذ عمر رضي الله تعالى عنه رسولًا إلى امرأة أرهبها فأجهضت ما في بطنها فزعًا فالتزم عمر ديته. وروي أن رجلين شهدا عند علي بن أبي طالب عليه السلام على رجل بالسرقة فقطعه بشهادتهما، ثم عادا، وقالا: غلطنا، والسارق هو هذا فرد شهادتهما، ولم يقطع الثاني، وقال: "لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما" فجعل الجهل لهما بالشهادة موجبًا لإضافة الحكم إليهما وأخذها بموجبها، ووافقه على ذلك من عاصره فصار مع ما تقدم

عن أبي بكر وعمر إجماعًا، لأن القتل قد يكون بالمباشرة تارة، وبالسبب أخرى، فلما وجب القود بالمباشرة جاز أن يجب بالسبب؛ لأنه أحد نوعي القتل. فصل: فأما أبو حنيفة فقد وافق في وجوب القود على الإمام الآمر ردًا على أبي يوسف، وأسقط القود عن المأمور المكره، وسلبه حكم المباشرة، فلم يوجب عليه دية ولا كفارة، وهذا أحد قولي الشافعي في سقوط القود. وموجب تعليل البصريين في سقوط الدية والكفارة، ومخالف لتعليل البغداديين في وجوب نصف الدية والكفارة مع سقوط القود، وهو مخالف للقول الثاني للشافعي في جميع أحكامه؛ لأنه يجري عليه حكم الإمام الآمر في وجوب القود والدية والكفارة، وأبو حنيفة يسلبه بالإكراه جميع أحكام الإمام استدلالًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ولأنه قتله لإحياء نفسه، فوجب أن يسقط عنه القود كالمقتول دفعًا عن نفسه، ولأن ما أوجب القتل بفعل المختار سقط فيه القتل بفعل المكره كالزنا، ولأن الإكراه قد نقل حكم لمباشرة إلى الآمر، فوجب أن يزول حكمها عن المأمور، لأن الفعل واحد، ويصير المأمور فيه كالآلة أو كالسبع المرسل والكلب الشلاء، ولأن الإكراه يتنوع نوعين: إكراه حكم، وإكراه قهر، ثم ثبت أن إكراه الحكم وهو إلجاء الحاكم إلى القتل بشهادة الزور يمنع من وجوب القتل عليه مع أمنه على نفسه، فكان إكراه القهر أولى أن يمنع من وجوب القود مع خوفه على نفسه؛ ولأن الإكراه يكون تارة على القول بأن يتلفظ بكلمة الكفر، وتارة على القتل بأن يؤمر بالقتل، ثم ثبت أن حكم الكفر تزول بالإكراه فوجب أن يكون حكم القتل يزول بالإكراه. ودليلنا عموم قول الله تعالى: {ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33] ولأنه عمد، قتله ظلمًا لإحياء نفسه، فلم يمنع إحياؤه لها قتله قودًا، قياسًا على المفطر إذا أكل من الجوع محظور النفس، ثم هذا أولى بالقتل من المضطر، لأن المضطر على يقين من التلف إن لم يأكل، وليس المأمور على يقين من القتل إن لم يقتل، وعلى أن الأصول تشهد لصحة هذا التعليل، ألا ترى أن ركاب السفينة إذا خافوا على أنفسهم فألقوا عليه أحدهم ليتشاغل به عنهم وجب عليهم القود، كذلك المكره المفتدي نفسه بغيره، ولأنه لا عذر له في إحياء نفسه بقتل غيره، لأن حرمة غيره مثل حرمة نفسه، فلم يكن إحياء نفسه بالغير أولى من إحياء الغير بنفسه فاستويا، وصار وجود العذر كعدمه، فاقتضى أن يحب القود بينهما كوجوبه لو لم يكن مكرهًا. فأما الخبر فمحمول على ما اختص بحقوق الله تعالى دون حقوق الآدميين،

وقياسهم على قتله دفعًا عن نفسه منتقض بأكله من الجوع، ثم المعنى في المدفوع أنه قد أباح نفسه بالطلب فصار مقتولًا بحق، وهذا مقتول بظلم، فافترقا. وقياسهم على الإكراه اختلف أصحابنا في صحة الإكراه عليه فذهب بعضهم إلى استحالته لأن إيلاج الذكر لا يكون إلا مع انتشاره، وانتشار الذكر، وإنزال مائة لا يكون إلا مع قوة الشهوة المنافية للإكراه فاستحال فيه الإكراه. وذهب آخرون منهم إلى صحة الإكراه، فيه لأن انتشار الذكر قد يكون من الطبع المحرك الذي لا يقدر على دفعه عن نفسه، وهو مؤاخذ بفعل نفسه لا بما ركبه الله تعالى في طبعه، فعلى هذا يكون المعنى في سقوط الحد بالإكراه اختصاصه بحقوق الله تعالان والقتل بحقوق الآدميين، فافترقا وقولهم: إن الإكراه قد نقل حكم المباشرة عن المأمور إلى الآمر فليس بصحيح، بل تعدى عن المأمور إلى الآمر، والفعل إذا تعدى حكمه إلى غير الفاعل كان أولى أن يؤاخذ به الفاعل، لأن تعديه لفضل قوته. وجمعهم بين المكره والحاكم إلجاء غير صحيح، لأن من قتله الحاكم بالشهادة، وقد كان واجيًا عليه لا يسوغ له تركه فلم يؤاخذ بالقود، ومن قتله المكره مظلوم، والقاتل فيه مأثوم فوجب القود عليه، لأنهما لما افترقا في جواز القتل افترقا في وجوب القود. فصل: فإذا تقرر ما ذكرنا من حكم إكراه الإمام فكذلك الحكم فيمن استخلفه الإمام وولاه إذا أكره رجلًا على القتل كان الحاكم فيه كالحكم في إكراه الإمام في وجوب القود على الآمر، وفي وجوبه على المأمور قولان، لأن طاعة من استخلفه الإمام تلزم كلزوم طاعة الإمام لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أطاع أميري فقد أطاعني، ومن أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصى أميري فقد عصاني، ومن عصاني فقد عصى الله". واختلف أصحابنا في الإكراه على القتل بماذا يكون على وجهين: أحدهما: أنه يكون بكل ما كرهته النفس وشق عليها من قتل، أو ضرب، أو حبس أو أخذ مال، كالإكراه في الطلاق والبيع على ما قدمناه. والثاني: أنه لا يكون الإكراه على القتل إلا بالقتل، أو بما أفضى إليه من قطع أو جرح، ولا يكون الضرب والحبس، وأخذ المال فيه إكراهًا، لأن حرمة النفوس من أغلظ من حرمة الأموال، فاقتضى أن يكون الإكراه على القتل أغلظ من الإكراه فيما عداه. واختلف أصحابنا في إكراه الإمام على قتل الظلم هل يخرج به من إمامته على وجهين: حكاهما ابن أبي هريرة.

وكذلك في ارتكابه للكبائر الذي يفسق بها. أحد الوجهين: أنه يخرج من الإمامة لقول الله تعالى: {إنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إمَامًا قَالَ ومِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} [البقرة:124]. والثاني: أنه لا يخرج بها من الإمامة حتى يخرجه منها أهل الحل والعقد، لانعقاده بهم، وعليهم أن يستنيبوه فإن تاب وإلا خلعوه. فصل: وأما القسم الثاني: وهو أن يكون الآمر بالقتل متغلبًا فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون متغلبًا بتأويل كمن ندب نفسه لإمامة أهل البغي، إذا أمر بقتل رجل ظلمًا فلا يخلو حال المأمور من أحد أمرين: إما أن يكون ممن يرى رأيه، ويعتقد طاعته، أو يكون مخالفًا له، فإن كان موافقًا لرأيه معتقد الطاعة فحكم المأمور معه كحكمه مع إمام أهل العدل إن لم يكن من الآمر إكراه وجب القود على المأمور دون الآمر، وإن كان منه إكراه وجب القود على الآمر وفي وجوبه على المأمور قولان. وإن كان ممن يخالفه في رأيه، ولا يعتقد طاعته ففيه وجهان: أحدهما: أن يغلب فيه حال المأمور لما يعتقده من مخالفة الآمر، ويجري عليه حكمه مع الآمر إذا كان متغلبًا باللصوصية على ما سنذكره. والثاني: أن يغلب فيه حال الآمر، ويجري عليه حكمه مع الآمر إذا كان إمامًا لأهل العدل لأمرين: أحدهما: أنه لما كان الباغي مع إمام أهل العدل في حكم أهل العدل، وجب أن يكون أهل العدل مع إمام أهل البغي في حكم أهل البغي. والثاني: أن الشافعي أمضى أحكام قضائهم على أهل العدل وأهل البغي، وجواز أخذ الزكاة وجباية الخراج منهما فاستويا في الحكم، وإن اختلفا في المعتقد. والضرب الثاني: أن يكون متغلبًا باللصوصية إذا أمر بقتل رجل فالفرق بين أمره وأمر الإمام من ثلاثة أوجه متفق عليها، ورابع مختلفة فيه. فأما الثلاثة المتفق عليها: فأحدها: أن طاعة الإمام واجبة إلا فيما يعلم أنه ظلم، وطاعة هذا المتغلب غير واجبة إلا فيما يعلم أنه حق. والثاني: أن الظاهر من أمر الإمام بالقتل أنه يحق إلا أن يعلم أنه ظلم، والظاهر من أمر المتغلب بالقتل أنه يظلم إلا أن يعلم أنه حق. والثالث: أن اجتهاد الإمام فيمن يستبيح قتله من مسلم بكافر، وحر بعبد نافذ، واجتهاد هذا المتغلب فيه غير نافذ.

فإذا افترقا من هذه الأوجه الثلاثة اعتبر كل واحد منهما في الآمر إن كان إمامًا أو متغلبًا فأجري عليه حكمه على اختلاف أحكامهما في الجهتين. وأما الرابع المختلف فيه فهو الإكراه، وقد اختلف في حكم الإكراه هل يستويان فيه أو يختلفان على وجهين: أحدهما: أنهما يستويان في الإكراه، وإن اختلفا في الآمر من غير إكراه، فعلى هذا إذا أمر المتغلب رجلًا بالقتل من غير إكراه وجب على المأمور القود، سواء علم بظلمه أو لم يعلم، لأن الظاهر من أمره بالقتل أنه بغير حق، ولا قود على الآمر لأنه غير مطاع في الظاهر، ما لم يعلم أنه حق، فصار المأمور هو المنفرد بالقتل، والآمر مشير به، وإن أكرهه الآمر المتغلب على القتل وجب على الآمر القود، وفي وجوبه على المأمور قولان، لاستواء الإمام والمتغلب في الإكراه. والثاني: أنهما مختلفان في حكم الإكراه كما اختلفا في حكم الاختيار لأمرين: أحدهما: أن في طاعة الإمام شبهة ليست في طاعة المتغلب. والثاني: أن أمر الإمام عام في جميع البلاد، لا يقدر على الخلاص منه، وأمر المتغلب خاص في بعضها يقدر على الخلاص منه إذا انتقل إلى غيرها. فعلى هذا إذا أكره المتغلب رجلًا على القتل وجب القود على الآمر والمأمور جميعًا، وإن كان في مكره الإمام قولان: لما ذكر من الفرقين، وإن كانا ضعيفين. فصل: وأما القسم الثالث أن يكون الآمر بالقتل مساويًا للمأمور لا يفضل عليه بقدرة، ولا يد فالإكراه من مثله معدوم، والمأمور هو المنفرد بالقتل دون الآمر، والآمر أضعف حالًا من الممسك، فلا يجب عليه قود ولا دية ولا كفارة، لكن يكون آثمًا بالرضا والمشورة، وعلى المأمور القود أو الدية، ويختص بالتزامهما مع الكفارة. فإن غر الآمر المأمور وقال: اقتل هذا فإنه حربي أو مرتد فقتله وكان مسلمًا فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون في دار الإسلام فالقود على المأمور واجب، ولا قود على الآمر، فإن عفي عن القود وجب عليه الدية، ولا يرجع بها على الآمر، لأن الظاهر من دار الإسلام إسلام أهلها، فضعف غرور الآمر فيها. والثاني: أن يكون ذلك في دار الحرب فلا قود على المأمور ولا على الآمر، وتجب على المأمور الدية كالخاطئ؛ لأن الظاهر من دار الحرب كفر أهلها. فإذا غرم المأمور الدية ففي رجوعه بها على الآمر الفار وجهان مخرجان من اختلاف قوليه فيمن غر في النكاح على أن المنكوحة حرة فباتت أمة، عل يرجع عليه بما غرمه من صداقها فيها قولان: كذلك ها هنا يتخرج فيه وجهان والله أعلم.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وعلى السيد القود إذا أمر عبده صبيًا أو أعجميًا لا يعقل بقتل رجلٍ فقتله، فإن كان العبد يعقل فعلى العبد القود، ولو كانا لغيره فكانا يُميزان بينه وبين سيدهما فهما قاتلان، وإن كانا لا يُميزان فالآمر القاتل وعليه القود". قال في الحاوي: وصورتها في رجل أمر عبده بالقتل، فامتثل أمره فيه فللعبد المأمور حالتان: أحدهما: أن يكون ممن لا يميز في طاعة سيده بين المحظور والمباح، إما لصغره وإما لأعجميته، فيكون السيد الآمر هو القاتل، ويكون العبد معه كالآلة التي يستعملها أو كالبهيمة التي يشليها فيكون القود في المقتول واجبًا على السيد دون العبد، فإن عفا إلى الدية كانت حاله في ماله، ولا يرتهن رقبة العبد بها، ويكون كسائر أموال السيد. وعلى هذا لو قال السيد لهذا العبد: اقتلني فقتل سيده بأمره فلا قود عليه، ويكون السيد قاتل نفسه. ولو قال له السيد: اقتل نفسك فقتل نفسه عن أمره، كان السيد هو القاتل لعبده، فيؤخذ بما يؤخذ به قاتل عبده. والثانية: أن يكون هذا العبد يميز في طاعة سيده بين المباح وبين المحظور، ويعلم أن القتل محظور لا يطاع فيه السيد، إما لبلوغه وعقله، وإما لمراهقته وتمييزه، فيكون العبد هو القاتل دون السيد، فإن كان بالغًا وجب عليه القود، وإن كان مراهقًا لم يبلغ فلا قود عليه، وتكون الدية في رقبته يباع فيها. وعلى هذا لو قال له السيد: اقتلني فقتل سيده بأمره كان العبد هو القاتل إلا أنه لا قود عليه؛ لأن في أمر السيد إبراء من القود، ولا يثبت في رقبته الدية، لأنه مملوك لمستحقها من الورثة ولو قال له السيد: اقتل نفسك فقتل نفسه كان هو القاتل لنفسه دون السيد. وهكذا حكم الأب مع ابنه إذا أمره بالقتل في أن يراعي تمييز الابن، فإن كان مميزًا يعلم أن طاعة الأب في القتل لا تجب، فالابن هو القاتل دون الأب، وإن كان لا يميز لصغره أو بلهه، فالأب هو القاتل دون الابن. فصل: وإذا أمر أجنبي عبد غيره بالقتل، فأطاع العبد غير سيده في القتل، روعي حال العبد، فإن لم يفرق بين طاعة سيده وطاعة غيره لصغره أو أعجميته أو اعتقد أن كل آمر مطاع كان الآمر هو القاتل، وإن فرق بين سيده وبين غيره في التزام طاعته، فالعبد هو القاتل دون الآمر، فإن تشبه الأجنبي بالسيد ودلس نفسه على العبد حين أمره بالقتل كان

الآمر هو القاتل دون العبد، إن كان العبد لا يفرق في طاعة السيد بين المباح والمحظور، وإن كان يفرق بينهما، فالعبد هو القاتل دون الآمر. ولو قال الأجنبي للعبد: قد أمرك سيدك بالقتل فقتل كان هذا القول في حق العبد كأمر سيده، وفي حق الأجنبي كأمر نفسه فيكون على ما تفضل من الحكمين. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو قتل مرتدٌ نصرانيًا ثم رجع ففيهما قولان، أحدهما: أن عليه القود وهو أولادهما؛ لأنه قتل وليس بمسلم، والثاني: أن لا قود عليه لأنه لا يُقر على دينه. قال المُزني رحمه الله: قد أبان أن الأول أولادهما، فالأولى أحق بالصواب، وقد دل قوله في رفع القود عنه، لأنه لا يُقر على دينه، على أنه لو كان القاتل نصرانيًا يُقر على دينه لكان القود عليه، وإن أسلم. قال المُزني رحمه الله: فإذا كان النصراني الذي يُقر على دينه الحرام الدم إذا أسلم يُقتل بالنصراني، فالمباح الدم بالردة أحق أن يُقاد بالنصراني وإن أسلم في قياس قوله". قال في الحاوي: إذا قتل مرتد نصرانيًا صاحب عهد أو جزية، ففي وجوب القود عليه قولان: أحدهما: وهو قول المزني: أن القود على المرتد واجب، سواء أقام على ردته أو رجع إلى الإسلام لأمرين: أحدهما: اجتماعهما على الكفر، وإن تنوع واختلف لأن جميع الكفر ملة واحدة، ثم النصراني أحسن حالًا من المرتد، لأنه يقر على نصرانيته، والمرتد لا يقر على ردته. والثاني: أنه لما كان حدوث إسلام النصراني بعد أن قتل نصرانيًا لا يمنع من القود لاجتماعهما على الكفر عند القتل، كذلك تقدم إسلام المرتد على قتله أولى أن لا يمنع من القود، لأن حرمة الإسلام عند ثبوته أوكد من حرمته بعد زواله. والقول الثاني: أنه لا قود على المرتد في قتل النصراني لأمرين: أحدهما: أن من جرت عليه أحكام الإسلام لم تزل عنه بالردة كالصلاة والصيام. والثاني: أنه لما أجرى على المرتد أحكام الإسلام في غير القود، بما يؤخذ من زكاة ماله، ويؤخذ بقضاء ما ترك من صلوات وقته، ولا يؤخذ منه الجزية؛ لأن لا يجري عليه صغار الكفر، وتمنع المرتدة من نكاح كافر لثبوت حرمة الإسلام لها، وجب أن يكون حكم الإسلام جازيًا عليه في سقوط القود بقتل الكافر، وبهذا يدفع احتجاج المزني.

فصل: فإذا ثبت توجيه القولين، فإن قلنا: إنه لا قود عليه كانت دية النصراني في ماله، سواء قتل بالردة أو رجع عنها، ويكون باقي ماله بعد الردة إن قل لبيت المال، وإن قلنا: إن القود واجب عليه فولي النصراني مخير بين القود والعفو، فإن عفا عنه إلى الدية فعلى ما مضى، وإن أراد القود فللمرتد حالتان: إحداهما: أن يرجع إلى الإسلام، فيسقط قتل الردة ويقتل قودًا. والثانية: أن يقيم على ردته فيقال لولي المقتول: إن عدلت إلى الدية قتلناه بالردة، وإن أقمت على ما طلب القود قتلناه قودًا، ودخل فيه قتل الردة، وكان جميع ماله فيئًا في بيت المال، ويقدم قتله بالقود على قتله بالردة لأمرين: أحدهما: أن الخصم في القود آدمي حاضر فكان أوكد. والثاني: أن المراد بقتل الردة أن لا يوجد منه الإقامة عليها، وهذا موجود في قتله قودًا. فصل فأما إذا قتل نصراني مرتدًا ففيه ثلاثة أوجه لأصحابنا: أحدها: وهو محكي عن أبي إسحاق المروزي: أنه لا قود عليه، ولا دية لأنه مباح الدم فسقط عنه الضمان كما لو قتله مسلم. والثاني: وهو اختيار أبي علي بن أبي هريرة: أن على النصراني القود أو الدية وإن لم يجب على المسلم في قتله قود ولا دية، لأن المرتد مباح الدم في حقوق المسلمين دون الكفار، كالقاتل مباح الدم في حقوق الأولياء دون غيرهم، فإن قتله الأولياء لم يضمنوا، وإن قتله غيرهم ضمنوه. والثالث: وهو قول أبي الطيب بن سلمة: إنه مضمون في حق النصراني بالقود دون الدية، فيقاد به النصراني، لأن القود معتبر بالمعتقد، وقد تكافآ فيه فوجب فإن عفا عنه سقطت الدية، لأنها بوجوب الحرمة، ولا حرمة لنفس المرتد، فلم تجب في قلته دية، وعكس ما قاله ابن سلمة أشبه، لأن وجوب القود أغلظ من وجوب الدية عمد الخطأ يوجب الدية، ولا يوجب القود، فلو قال: إن الدية واجبة لبيت المال دون القود لكان أشبه بالأصول. فصل: فأما إذا وجب قتل الزاني المحصن، فقتله رجل بغير أمر الإمام. فقد ذهب بعض أصحابنا إلى أن القود على قاتله واجب، لأن ولي قتله هو الإمام، فإذا تولاه غيره أقيد منه، كالعامل إذا قتله غير ولي المقتول أقيد به. وظاهر مذهب الشافعي، وما عليه جمهور أصحابه: أنه لا قود، لرواية أبي صالح

عن أبي هريرة أن سعد بن عبادة قال: يا رسول الله أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلًا أقتله؟ أم حتى آتي بأربعة شهداء؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا حتى تأتي بأربعة شهداء كفي بالسيف شا" يعني شاهدً هذا فانصرف سعد وهو يقول: والله، لو وجدته لضربته بالسيف غير مصفح. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للأنصار: "أاتسمعون ما يقول سيدكم؟ "، فقالوا: اعذره يا رسول الله، فإنه رجل غيور، وما طلق امرأة فتزوجها رجل منا. فموضع الدليل منه أنه أباح قتله بعد البينة. وروي الشعبي أن رجلًا غزا، واستخلف على امرأته أخاه فأتته امرأة، فقالت له: أدرك امرأة أخيك، عندها رجل يحدثها، فتسور السطح، فإذا هي تصنع له دجاجة وهو يرتجز ويقول: وأشعت غره الإسلام مني ... خلوت بعرسه ليل التمام أبيت على ترائبها وتمسي ... على جرد الأعنة والحزام كأن مواضع الربلات منها ... فئام ينهضون إلى فئام فقتله وألقى بجيفته إلى الطريق، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: أنشد الله امرءًا عنده علم هذا القتيل إلا أخبرني، فقام الرجل: فأخبره بما كان فأهدر عمر دمه، وقال: أبعده الله وسحقه. وروي سعيد بن المسيب أن رجلًا من أهل الشام يقال له: ابن خيبري وجد مع امرأته رجلًا فقتله وقتلها، فأشكل على معاوية القضاء، فكتب إلى أبي موسى الأشعري يسأله أن يسأل علي ابن أبي طالب عليه السلام عنها فسأله فقال: ليست هذه بأرضنا حلفت عليك لتخبرني بها فقال: كتب بها إلى معاوية فقال علي: يرضون بحكمنا وينقمون علينا، إن لم يأت بأربعة شهداء فليعط برمته". وفيه تأويلان: أحدهما: فليضرب على رمته يعني بالسيف قودًا. والثاني: معناه فليسلم برمته حتى يفاد منه. وأما الجمع بين الزاني والقتل، فقد فرق من خالف بينهما بأن على القتل قودًا ودية، فلم يجز تفويت الدية بالقود، وليس على الزاني إلا القتل الذي لا تخيير فيه والأصح عندي من إطلاق هذين المذهبين أن يقال: إن وجب قتل الزاني بالبينة فلا قود على قاتله لا نحتام قتله وإن وجب بإقراره أقيد من قاتله لأن قتله بإقراره غير منحتم لسقوطه عنه برجوعه عن إقراره. وعلى هذا لو أن محاربًا من قطاع الطريق قتل في الحرابة رجلًا فللإمام أن ينفرد

بقتله دون ولي المقتول، لما قد تعلق بقتله من حق الله تعالى الذي لا يجوز العفو عنه، ولولي المقتول أن يقتله بغير إذن الإمام لما تعلق به من حقه الذي لا يجوز أن يمنع منه. فإن قتله غيرهما من الأجانب فعلى الوجه الأول: يجب عليه القود، وعلى مذهب الشافعي وقول جمهور أصحابه لا قود عليه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ويقتل الذابح دون الممسك، كما يحد الزاني دون الممسك". قال في الحاوي: وصورتها في رجل أمسك رجلًا حتى قتله آخر فعلى القاتل القود، فأما الممسك فإن كان القاتل يقدر على القتل من غير إمساك، أو كان المقتول يقدر على الهرب بعد الإمساك فلا قود على الممسك بالإجماع. وإن كان القاتل لا يقدر على القتل إلا بالإمساك، وكان المقتول لا يقدر على الهرب بعد الإمساك فقد اختلف الفقهاء في الممسك، فمذهب الشافعي وأبي حنيفة: أنه لا قود عليه ولا دية، ويعزر أدبًا. وقال إبراهيم النخعي وربيعة بن أبي عبد الرحمن بحبس الممسك حتى يموت، لأنه أمسك المقتول حتى مات، فوجب أن يجازي بمثله، فيحبس حتى يموت. وقال مالك: يقتل الممسك قودًا كما يقتل القاتل إلا أن يمسك مازحًا ملاعبًا فلا يقاد استدلالً بقول الله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33]. وبما روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه تعالى عنه أنه قتل جماعة بواحد. وقال: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم به أي لو تعاونوا عليه. والممسك قد عاون على القتل ولأنهما تعاونا في قتله، فوجب أن يستويا في القود، كما لو اشتركا في قتله، ولأن ممسك الصيد لما جرى عليه حكم القاتل في وجوب الجزاء، ولو أمسكه أحد المجرمين، وقتله الآخر اشتركا في الجزاء، وجب أن يكون ممسك المقتول يجري عليه حكم القاتل في وجوب القود، ويكونا فيه سواء، ولأن الإمساك سبب أفضى إلى القتل فلم يمنع أن يجري عليه حكم المباشرة للقتل كالشهود إذا شهدوا عند الحاكم على رجل بالقتل فقتل، ثم رجعوا قتلوا قودًا بالشهادة، وإن كانت سببًا كذلك الممسك. ودليلنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقتل القاتل، ويصبر الصابر" قال أبو عبيدة: يعني يحبس لأن المصبور هو المبحوس، يريد بالحبس التأديب لا كما تأوله ربيعة على الحبس إلى الموت، ولأن الإمساك سبب، والقتل مباشرة، فإذا اجتمعا ولم يكن في

السبب إلجاء كالشهود سقط حكم السبب بوجود المباشرة، كما لو حفر رجل بئرًا فدفع رجل فيها إنسانًا فمات كان القود على الدافع دون الحافر، ولأن هذا القاتل قد يصل إلى القتل تارة بالإمساك وتارة بالحبس، ثم ثبت أنه لو قتله بعد الحبس لم يقتل الحابس، كذلك إذا قتله بعد الإمساك لم يقتل الممسك، ولأن حكم الممسك مخالف لحكم المباشر في الزنا، لأنه لو أمسك امرأة حتى زنا بها رجل، وجب الحد على الزاني دون الممسك. ووجب أن يكون حكم الممسك في القتل بمثابته في وجوب القود على القاتل دون الممسك. ولو جاز أن يساويه في القود جاز أن يساويه في الحد. ولأن الإمساك غير مضمون لو انفرد فكان أولى أن لا يضمن إذا تعقبه القتل. ولأن ما لا يضمن خطاؤه لم يضمن عمده كالضرب بما لا يقبل. فأما الآية فقد قال: {فَلا يُسْرِف فِّي القَتْلِ} [الإسراء:33] والسرف أن يتجاوز القاتل إلى من ليس بقاتل. وقول عمر رضي الله تعالى عنه: لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم به محمول على اشتراكهم في قتله، لأن المعاونة هي التساوي في الفعل وبه يجاب عن قياسهم على الاشتراك في القتل، ثم المعنى في المشركين في القتل أن كل واحد منهما يضمن إذا انفرد، فضمن إذا شارك والممسك لا يضمن إذا انفرد فلم يضمن إذا تعقبه قاتل. وأما إمساك العبد فإنما يضمن به العبد، لأنه مضمون باليد إذا انفردت، والمقتول غير مضمون باليد، وإنما يضمن بالجناية، ولو كان الإمساك جاريًا مجرى مباشرة القتل لوجوب إذا أمسك المجوس شاة فذبحها مسلم أن لا تؤكل، كما لو أشترك في ذبحها مجوس ومسلم، وفي إجماعهم على جواز أكلها دليل على الفرق بين الممسك والمشارك. وما استدلوا به من الشاهدين فلا يصح لأنهما ألجأ الحاكم إلى القتل، ولم يكن من الممسك إلجاء فافترقا. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو ضربه بما الأغلب أنه يقطع عضوًا أو يُوضح رأسًا فعليه القود". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن القود يجب في القتل بالمحدود والمثقل، كذلك القصاص في الجراح والأطراف يجب في المحدد والمثقل، فلو رمى رأسه بحجر فأوضحه، ومثله يوضح وجب فيه القصاص، وإن كان مثله لا يوضح في الغالب وربما أوضح فهو عمد شبه الخطأ، ففيه دية الموضحة دون القود، كذا لو ضرب يده بخشبة فأبانها، كان مثلها يقطع في الغالب، وجب فيها القصاص، وإن كان مثلها لا يقطع ي الغالب وجب فيها الدية، كما قلنا في تلف النفوس.

فلو ضرب يده فشلت فلا قصاص فيها، وعليه ديتها؛ لأن الشلل لا يمكن في مثله القصاص، فلو شجه بحجر فأوضح رأسه، وسرى إلى نفسه فمات فإن كان مثل الحجر يوضح ويعقل غالبًا وجبه عليه القصاص في الموضحة، والقود في النفس. وإن كان مثله يوضح غالبًا ولا يقتل في الغالب وجب فيه القصاص في الموضحة لأنها عمد محض، ولم يجب عليه القود في النفس، ووجبت الدية، لأنه عمد يشبه الخطأ، وهذا إذا حدث منه القتل في الحال من غير سراية. فأما إذا سرت الموضحة إلى نفسه فالقصاص فيها وفي النفس واجب بحدوث القتل عن جرح يوجب القصاص فوجب أن تكون سرايته موجبة للقصاص اعتبارًا بموجبها. فصل: فأما إذا سقاه سمًا فمات فالسم على ستة أقسام: أحدها: أن يكون قاتلًا في الغالب منفردًا ومع غيره، فهذا يوجب القود، ويكون هذا السم من آلة القتل كالسيف. والثاني: أن يكون هذا السم قاتلًا بانفراده، ولا يقتل إذا كسر بغيره، فيجب به القود إن أفرده، ولا يجب به القود إن كسره. والثالث: أن يقتل إذا خلط يغيره، ولا يقتل إذا أفرده، فلا يجب به القود إذا أفرد، ويجب به القود إذا خلط بما يقتل معه. والرابع: أن يكون مما يقتل العضو الضعيف، ولا يقتل الجلد القوي فلا يجب به القود في الجلد القوي، ويجب به القود في العضو الضعيف. والخامس: أن يكون مما يقتل في بعض الفصول في السنة، ولا يقتل في بعضها فيجب به القود في الفصل القاتل، ولا يجب في غير الفصل القاتل. والسادس: أن يكون مما يقتل تارة، ولا يقتل أخرى فلا يجب به القود، وتجب فيه الدية، ويكون كعمد الخطأ، فإن اختلف الساقي للسم وولى المسقي في السم. فقال الساقي: ليس بقاتل على ما مضى من أقسام ما لا يقتل. وقال ولي المسقي: هو قاتل على ما مضى من أقسام ما يقتل، فإن كان لواحد منهما بينة على ما ادعاه عمل عليها، وإن عدما البينة فالقول قول الساقي مع يمينه، لأن الأصل براءة ذمته من قود وعقل. فلو اتفقا على أنه قاتل وقال الساقي: لم أعلم أنه قاتل ففيه قولان: أحدهما: لا قود عليه إذا حلف أنه لم يعلم، لأنه شبهة محتملة، وعليه الدية كالخاطئ. والثاني: عليه القود، لأنه قد كان يقدر على استعلام حاله فجرى عليه حكم من علم به. فإذا تقرر ما وصفنا من أقسام السم القاتل وأحكامه في وجوب القود وإسقاطه فالكلام بعده في صفة وصول السم إلى المسموم، وهو على ضربين:

أحدهما: أن يكون من الساقي إكراه على شربه أو أكله فهو قاتل عمد والقود عليه واجب. والثاني: أن يدفع السم من يده إلى المسموم فيشربه المسموم فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون صغيرًا أو أبله لا يميز، ويطيع كل أمر فعلى الساقي القود، كما لو أمر صبيًا أو أبله أن يقتل فقتلها كان عليه القود. والثاني: أن يكون عاقلًا مميزًا فللساقي حالتان: إحداهما: أن يعلمه بأنه سم فيشربه بعد إعلامه به فلا قود على الساقي ولا دية ويكون شارب السم هو القاتل لنفسه، سواء أعلمه الساقي بعد تسميته بالسم أنه قاتل أو لم يعلمه، لأن اسم السم ينطلق على ما يقتل. والثانية: أن لا يعلمه عند دفعه إليه أنه سم فهو ضامن لديته، وفي وجوب القود عليه قولان: أحدهما: عليه القود لمباشرة الدفع وإخفاء الحال. والثاني: لا قود عليه لشرب المسموم له باختياره فهذا قسم. والقسم الثاني: أن يخلطه الساقي بطعام لنفسه فهذا على ضربين: أحدهما: أن يأكله المسموم بغير إذن فلا قود على الساقي ولا دية، والآكل هو القاتل نفسه. والثاني: أن يأذن له في أكل الطعام فيكون كما لو دفعه من يده، لأن الإذن في الطعام أمر بأكله فيجب عليه الدية، وفي وجوب القود قولان: والقسم الثالث: أن يضعه في طعام المسموم فيأكله المسموم، وهو لا يعلم بسمه، فيكون الساقي ضامنًا لقيمة الطعام، لأن قد صار بالسم كالمستهلك، وفي ضمانه لنفس المسموم ثلاثة أقاويل: أحدهما: يضمنها بالقود، وهكذا يكون القتل بالسم في الأغلب. والثاني: يضمنها بالدية دون القود لعدم المباشرة من جهته. والثالث: أنه لا ضمان عليه من قود ولا دية، ويكون الفرق على هذا القول بين وضع السم في طعام الساقي ووضعه في طعام المسموم أنه أكل طعام الساقي بأمره فصار بالأمر ضامنًا لديته، وأكل طعام نفسه بغير أمره فلم يضمن ديته والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو عمد عينه بإصبعه ففقأها اقتص منه؛ لأن

الأصبع يأتي منها على ما يأتي به السلاح من النفس، وإن لم تنفقئ اعتلت حتى ذهب بصرها أو انتجفت ففيها القصاص". قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا فقأ عين رجل بإصبعه وجب عليه القود، لأن الإصبع يأتي من العين على ما يأتي عليه الحديد من النفس، والعين تتميز عن غيرها من الجسد وتنفصل كالأعضاء، فوجب القود فيها كالأطراف لقول الله تعالى: {وكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ والْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} [المائدة:45] قرأ الكسائي بالرفع، وقرأ بالنصب إخبار عن شريعة غيرنا، وهي لازمة لنا في أصح الوجهين ما لم يرد نسخ، وإذا كان القود فيها واجبًا، فلها حالتان: إحداهما: أن تنقلع الحدقة بالفقأ فيجوز الاقتصاص منها بالإصبع مقابلة للجناية بمثلها، ويجوز فعلها بالحديد، لأنه أسهل وأسرع، فإن المجني عليه يبصر بالعين الأخرى، جاز أن يتولى الاقتصاص بنفسه، وإن كان أعمى لا يبصر لم يجز أن يتولاه لخوف تعديه، وتولاه وكيله. والثانية: أن تكون الحدقة باقية في موضعها، وأذهب الإصبع ضوء بصرها أو كانت الجناية على رأسه فأذهبت ضوء بصره، أو لطمه على وجهه فذهب ضوء ناظره، فالقصاص فيه واجب؛ لأن ضوء العين يجري منها مجرى الروح من الجسد، فلما وجب القود بإفاتة الروح مع بقاء الجسد وجب القصاص بإذهاب الضوء مع بقاء العين، فيفعل بالجاني مثل فعله بإصبع كإصبعه أو لطمه مثل لطمته، وليس ذلك لوجوب القصاص واللطم، ولكن ليستوفي باللطم ما يجب فيه القصاص. فإن ذهبت بالإصبع واللطمة ضوء عين الجاني فقد استوفي منه القصاص وإن لم يذهب بها ضوء عينه عدل إلى إذهاب ضوئها بما تبقى معه الحدقة من علاج ودواء، فإن لم يذهب إلا بذهاب الحدقة فلا قصاص فيها وعليه ديتها؛ لأن ما لم يمكن الاقتصاص منه إلا بالتعدي إلى غيره سقط القصاص فيه لعدم المماثلة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن كان الجاني مغلوبًا على عقله فلا قصاص عليه، إلا السكران فإنه كالصحيح". قال في الحاوي: كل من لم يجز عليه قلم بجنون أو صغر فلا قصاص عليه إذا جرح أو قتل، وسواء كان الصغير مميزًا أو غير مميز لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم، وعن المجنون حتى يفيق، وعن النائم حتى ينتبه".

ولأن القصاص حد فأشبه في سقوطه عن الصبي والمجنون سائر الحدود. ولأن ما تعلق بحقوق الأبدان لا يجب على غير مكلف كالصلاة والصيام، فإذا سقط القصاص عنهما فعليهما الدية، لأن حقوق الأموال لا تسقط بعدم التكليف كقيم المتلفات، ولأن القصد فيها غير معتبر فلم تسقط بعدم القصد كالخاطئ. فصل: فإذا ثبت وجوب الدية عليهما، لم تخل جنايتهما من أن تكون على وجه الخطأ أو العمد، فإن كانت منهما على وجه الخطأ فالدية مستحقة على عواقلهما، وإن كانت على وجه العمد ففي عمدهما قولان: أحدهما: أنه كالخطأ لعدم قصدهما فتكون الدية محققة على عواقلهما. والثاني: أنه كعمد غيرهما، وإن سقط القصاص عنهما لعدم تكليفهما، فتجب الدية عليهما مغلظة في أموالهما حالة. فلو بلغ الصبي بعد صغره، وأفاق المجنون بعد قتله، لم يستحق عليها القصاص فيما جناه في الصغر والجنون، فو اختلفا بعد البلوغ والإفاقة مع ولي المقتول. فقال القاتل: قتلت قبل البلوغ فلا قود علي. وقال الولي: قتلت بعد البلوغ فعليك القود. فالقول قول القاتل مع يمينه، لأن الصغر صفة متحققة، والأصل: "أن جنب المؤمن حمى". ولو قال القاتل: كنت عند القتل مجنونًا. وقال الولي: بل كنت مفيقًا، فلا يخلو حال القاتل من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن لا يعلم له جنون متقدم فالقول قول الولي، وعلى القاتل القود؛ لأن الأصل السلامة. والثاني: أن يعلم جنونه طبقًا مستديمًا فالقول قول القاتل، ولا قود عليه، لأنه قد صار فيه أصلًا فشابه دعوى الصغر. والثالث: أن يعلم منه أنه كان يجن في زمان، ويفيق في زمان ففيه وجهان: أحدهما: أن القول فيه قول القاتل مع يمينه لاحتماله. والثاني: أن القول قول الولي مع يمينه؛ لأن السلامة أغلب. فصل: فأما السكران من شرب المسكر من خمر أو نبيذ، فالقود عليه إذا قتل واجب لجريان القلم عليه إلا على القول الذي خرجه المزني عن الشافعي في القديم أن ظهار السكران لا يصح، وطلاقه لا يقع، فلا يجب عليه على هذا القول إن صح تخريجه قود

وتخريجه مستنكر عند جمهور أصحابنا، وإنما هو مذهب المزني لم يروه عن الشافعي سواء في قديم ولا جديد، فيقال فيه قولًا واحدًا. فأما النائم إذا انقلب على صغير أو مريض فقتله فلا قود عليه لارتفاع القلم عنه، وعليه الدية محققة على عاقلته، لأنه خطأ محض، وكذلك المغمي عليه لا قود عليه، فأما من شرب دواء فزال به عقله فإن قصد به التداوي فهو كالمغمي عليه إن أفاق، وكالمجنون إن استمر به فلا قود عليه، وإن قصد به زوال العقل واستدامة الجنون ففي وجوب القود عليه وجهان: أحدهما: عليه القود كالسكران لمعصيتهما بما أزال عقلهما. والثاني: لا قود عليه؛ لأن حكم السكران أغلظ لما اقترن بسكره من الطرب الداعي إليه في حال من شرب ما أزال العقل، وأحدث الجنون لفقد هذا المعنى فيه، وأنه نادر من فاعليه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو قطع رجلٌ ذكر خنثى مُشكل وأنثييه وشفريه عمدًا، قيل: إن شئت وقفناك فإن بنت ذكرًا أقدناك في الذكر والانثيين، وجعلنا لك حُكومةً في الشفرين، وإن بنت أنثى فلا قود لك، وجعلنا لك دية امرأةٍ في الشفرين وحكومةً في الذكر والأنثيين. قال المُزني رحمه الله: بقيةٌ هذه المسألة في معناه أن يُقال له: وإن لم تشأ أن تقف حتى يتبين أمرك وعفوت عن القصاص، وبرأت، فلك دية شفري امرأةٍ وحكومةٌ في الذكر والأنثيين، لأنه الأقل، وإن قلت: لا أعفو ولا أقف، قيل: لا يجوز أن يقص مما لا يدري أي القصاص لك، فلابد لك من الأمرين على ما وصفنا". قال في الحاوي: لهذه المسألة خمس مقدمات: إحداهما: في ذكر الرجل اقود فإن عفا عنه ففيه دية الرجل تامة. والثانية: أن في أنثيي الرجل القود فإن عفا عنه ففيه دية الرجل تامة. والثالثة: أن في أسكتي المرأة وهما شفراها القود، فإن عفا عنه ففيه دية المرأة تامة. ووهم أبو حامد الإسفراييني فأسقط القود في الشفرين؛ لأنه لحم ليس له حد ينتهي إليه. وهذا زلل منه خالف به نص الشافعي في كتاب "الأم" لأن الشفرين هما المحيطان بالفرج من جانبيه بمنزلة الشفتين من الفم وفي الشفتين القود، كذلك في

الشفرين، فإذا تعذر القود فالدية. وزعم بعض أهل اللغة أن الشفرين داخل الإسكتين، فيكون المحيط بالفرج الإسكتان، وداخلها الشفران، والخلاف في الاسم لا يغير الحكم. والرابعة: أن العضو الزائد على الخلقة لا يكافئ عضوًا من أصل الخلقة في قود ولا دية، فلا يقاد بالذكر الزائد ذكرًا من أصل الخلقة، وفيه حكومة، وكذلك ما زاد من الأنثيين والشفرين. والخامسة: أن لا يجوز أن يقضي بالقول حتى يستيقن، ولا بالدية حتى يتحقق ويعطي مع الإشكال أقل الحقين. فصل: فإذا تقررت هذه المقدمات الخمس اشتمل مسطور المسألة على خمسة فصول: أحدها: رجل جني على خنثى مشكل. والثاني: امرأة جنت على خنثى مشكل. والثالث: خنثى مشكل جني على رجل. والرابع: خنثى مشكل جني على امرأة. والخامس: خنثى مشكل جني على خنثى مشكل. فأما الفصل الأول: وهو المسطور إذا قطع رجل ذكر خنثى مشكل وأنثييه وشفريه، وطالب بعد الاندمال بحقه من القود والدية، لم يجز أن يحكم له مع بقاء الإشكال بالقود حتى يبين أمره، فإن بان رجلًا وجب له القود في ذكره وأنثييه؛ لأنهما من أصل الخلقة فأقيد بما كافأهما، وأعطي حكومة في الشفرين؛ لأنهما زائدان على الخلقة، فإن عفا عن القود أعطي ديتي رجل إحداهما في الذكر، والأخرى في الأنثيين، وحكومة في الشفرين. وإن بان الخنثى امرأة فلا قود على الرجل الجاني في ذكره ولا في أنثييه، لأنهما زائدان في خلقة المرأة، وأعطيت دية امرأة في الشفرين، وحكومة في الذكر والأنثيين. وإن بقي الخنثى على إشكاله، ولم يتعجل بيانه، وطالب بحقه، نظر، فإن عفا عن القود أعطي أقل حقيه وهو أن يجري عليه حكم المرأة فيعطي دية في الشفرين، وحكومة في الذكر والأنثيين، فإن بان امرأة فقد استوفت حقها، وإن بان رجلًا كمل له ديتي رجل في الذكر والأنثيين، وحكومة في الشفرين. فإن تعجل الطلب ولم يعف عن القود كان القود موقوفًا على زوال الإشكال، واختلف أصحابنا في إعطاء المال على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة لا يعطي المال، ويكون موقوفًا على زوال الإشكال، كما وقف القود؛ لأن في إعطاء المال سقوط القود، وهو يطالب بالقود فسقطت المطالبة بالمال.

والثاني: وهو قول جمهور أصحابنا إنه يعطي من المال أقل ما يستحقه مع القود؛ لأنه يستحق القود في عضو، ويستحق المال في غيره فلم يكن في إعطائه عفو عن القود، والذي يعطاه من المال حكومة في الشفرين كوقوف القود في الذكر والأنثيين، إذا بان رجلًا. وقال أبو حامد المروزي في "جامعة": يعطي دية الشفرين وهذا خطأ؛ لأن الذي يعطاه مالًا يسترجع منه إن أقيد، وقد يتبين رجلًا فيقاد من ذكره وأنثييه، ويستحق الحكومة في شفريه، ولو أعطاه الدية لا يسترجع منها ما زاد على الحكومة، فلذلك اقتص به على قدر الحكومة، وروعي ما سبق من أمره فإن بان رجلًا أقيد من ذكره وأنثييه، وقد استوفي حكومة شفرية، وإن بان امرأة سقط القود وكمل لها دية الشفرين، وحكومة في الذكر والأنثيين. وأما الفصل الثاني: وهو أن تقطع امرأة ذكر خنثى مشكل وأنثييه وشفريه، فيصير القود موقوفًا على الشفرين كما كان في القود في جناية الرجل موقوفًا على الذكر والأنثيين اعتبارًا بالتجانس. فإن بان الخنثى رجلًا سقط القود في الشفرين لزيادتهما على الخلقة وكان له ديتا رجل في الذكر والأنثيين، وحكومة في الشفرين. وإن بان امرأة أقيد من الشفرين، وأعطي حكومة في الذكر والأنثيين. وإن بقي على إشكاله وعفا عن القود أعطي أقل الحقين، وهو دية امرأة في الشفرين وحكومة في الذكر والأنثيين، وروعي ما يتبين من أمره، فإن بان امرأة فقد استوفت حقها، وإن بان رجلًا كما له ديتا رجل في الذكر والأنثيين، وحكومة في الشفرين، وإن لم يعف عن القود كان موقوفًا على الشفرين، وأعطي إذا قيل بإعطاء المال مع الوقف على القود حكومة في الذكر والأنثيين، فإن بان امرأة أقيد من الشفرين، وقد استوفي حكومة الذكر والأنثيين. وإن بان رجلًا أسقط القود في الشفرين، وكمل له ديتا رجل في الذكر والأنثيين، وحكومة في الشفرين، فلو اشترك في الجناية على الخنثى رجل وامرأة فقطعا معًا ذكره وأنثييه وشفريه عن الرجل القود في الشفرين، وكان القود معها موقوفًا على التعيين. فإن بان رجلًا أقيد بذكره وأنثييه من الرجل، وأخذ من المرأة نصف حكومة الشفرين مع النصف من ديتي رجل في الذكر والأنثيين؛ لأنها أحد جانبين وإن بان امرأة أقيد بشفريه من المرأة، وكان على الرجل نصف حكومة الذكر والأنثيين مع النصف من دية امرأة على الشفرين، لأنه أحد الجانبين. فأما الفصل الثالث: وهو خنثى مشكل جني على رجل فقطع ذكره وأنثييه فإن طلب القود وقف على البيان. فإن بان رجلًا أقيد من ذكره وأنثييه.

وإن بان امرأة فلا قود عليها ديتان في الذكر والأنثيين. فإن بقي الخنثى على إشكاله لم يكن للمجني عليه المطالبة بمال إلا أن يعفو عن القود؛ لأنه لا يستحق مع القود مالًا بخلاف ما مضى ولكن لو عفا عن القود في الأنثيين، وطلب القود في الذكر أعطى دية الأنثيين، ووقف القود في الذكر على البيان، فإن بان رجلًا أقيد منه، وإن بان امرأة أخذ منها دية الذكر وسقط فيه القود. وأما الفصل الرابع: فهو خنثى مشكل جني على امرأة فقطع شفريها فإن طلبت القود وقف على البيان. فإن بان امرأة أقيد من شفريها. وإن كان رجلًا فلا قود، وأخذت منه دية امرأة في الشفرين، فلو قطع مع شفري المرأة أعلى الركب، وهو منابت الشعر لم يستحق فيه قود، لأنه لحم ليس لانتهائه حد، ووجبت فيه حكومة ولو تجب فيه دية، لأنه تبع لغيره، فإن قطع مع الشفرين وجب القود في الشفرين، والحكومة في الركب، فإن سقط القود في الشفرين، وجب في الشفرين دية، وفي الركب حكومة. وأما الفصل الخامس: وهو خنثى مشكل جني على خنثى مشكل فقطع ذكره وأنثييه وشفريه وقف القود على البيان ولهما ثلاثة أحوال: إحداهما: أن يبينا رجلين فيستحق القود في الذكر والأنثيين، وحكومة في الشفرين إلا أن يمكن القود منهما لتماثلهما في الزيادة منهما، فيقاد من الزائد بالزائد عند التماثل كما قيد من الأصل لأجل التماثل. والثانية: أن يبينا امرأتين فيقاد من الشفرين، ويؤخذ حكومة في الذكر والأنثيين إلا أن يتماثلا في كل واحد منهما فيقاد بالزائد كما قيد بالأصل. والثالثة: أن يبين أحدهما رجلًا والآخر امرأة فيسقط القود لاختلاف التجانس وعدم التماثل في الأصل والزائد. وينظر في المجني عليه، فإن بان رجلًا أعطي ديتي رجل في الذكر والأنثيين، وحكومة في الشفرين. وإن بان امرأة أعطيت دية امرأة في الشفرين، وحكومة في الذكر والأنثيين. فإن ماتا مع بقاء إشكالهما جاز أن يعتبر بعد الموت بيان حال المجني عليه دون الجاني، لأن بيان الجاني موقوف على القود وقد سقط بالموت، وبيان المجني عليه لأجل الدية وهي مستحقة بعد الموت، فإن لم يبن بعد الموت أحد الأمرين وجب أقل الحقين. فإن اختلف وارثهما فادعا وارث المجني عليه أكثرهما، واعترف وارث الجاني بأقلهما لم يكن للدعوى والإقرار تأثيره ألا ترى أن يصف كل واحد منهما حال الخنثى بما يوافق قوله، فإن أخلا بالصفة أطرح قولهما ووجب أقل الحقين، وإن وصفناه بما يوافق قولهما وعدما البينة عليه عرضت اليمين عليهما، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر

باب الخيار في القصاص

قضى بيمين الحالف على الناكل، وإن حلفا معًا تعارضت اليمينان وسقطتا، وأوجبنا أقل الحقين اعتبارًا باليقين. فصل: وإذا خلق لرجل ذكراه، فإن كان يبول من أحدهما، ولا يبول من الآخر، فالذكر هو الذي يبول منه، وفيه القود أو الدية، ولا قود في الآخر، وفيه حكومة. وإن كان يبول منهما فأكثرهما بولًا وأقواهما خروجًا هو الذكر، وفيه القود أو الدية، وفي الآخر حكومة، فإن استويا في البول فالذي ينشر منهما وينقبض هو الذكر، وإن كانا في الانتشار والانقباض سواء، فالثابت في محل الذكر المنفرد هو الذكر والمنحرف زائد، فإن استويا في محل الذكر، ولم يتميز أحدهما عن الآخر بوصف زائد فهما جميعًا ذكر زائد لا يجب في واحد منهما قود، وفيه نصف الدية، وزيادة حكومة، لأنه أزيد من نصف ذكر، فإن قطعا معًا وجب فيهما القود، وزيادة حكومة في الزيادة كالكفين على ذراع. باب الخيار في القصاص مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "أخبرنا ابن أبي فديك، عن ابن أبي ذئبٍ، عن سعيد بن أبي سعيدٍ المقبري، عن أبي شريح الكعبي، رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثم أنتم يا بني خزاعةً قد قتلتم هذا القتيل من هذيلٍ، وأنا والله عاقله، فمن قتل قتيلًا بعده فأهله بين خيرتين، إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل". قال في الحاوي: قتل العمد موجب للقود ولولي المقتول أن يعفو عنه إلى الدية، ولا يفتقر إلى مراضاة القاتل. وقال أبو حنيفة ومالك: قتل العمد موجب للقود وحده ولا تجب له الدية إلا بمراضاة القاتل استدلالًا بقوله تعالى: {وكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة:45] وهذا نص في أن لا يجب في النفس غير النفس. وقال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرُّ بِالْحُرِّ} [البقرة:178] وفي الزيادة على القصاص إيجاب ما لم يجز العدول إلى غيره من الأبدال إلا عن مراضاة. ولأن القتل موجب للقود في عمده والدية في خطئه، فلما لم يجز العدول عن الدية في الخطأ إلى غيرها إلا عن مراضاة لم يجب أن يعدل عن القود إلى غيره إلا عن مراضاة. ولأن القتل يستحق بالقود تارة، وبالدفع عن النفس أخرى، فلما لم يملك بدل قتله

دفعًا لم يملك بدل قتله قودًا. ودليلنا قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى الحُرُّ بِالْحُرِّ والْعَبْدُ بِالْعَبْدِ والأُنثَى بِالأُنثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإحْسَانٍ} [البقرة:178] معناه فمن عفا له عن القصاص فليتبع الولي الدية بمعروف، ويؤديها القاتل بإحسان فجعل للولي الإتباع، وعلى القاتل الأداء فلما تفرد القاتل بالأداء وجب أن ينفرد الولي بالإتباع ولا يقف على المراضاة. وحديث أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله، فمن قتل قتيلًا بعده فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل". فجعل الولي مخيرًا بين القود والدية وهذا نص. فإن قيل: فقد روي: "إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا فادوا" والمفاداة لا تكون إلا عن مراضاة. قيل: هذه رواية شاذة، وتحمل المفاداة فيها على بذلك الدية التي لا تستحق إلا عن مراضاة، ويحمل خبرنا في خيار الولي على أصل الدية التي لا تفتقر إلى مراضاة ليستعمل الخبرين، ولا يسقط أحدهما بالآخر، ولأن القود قد يسقط بعفو الولي إذا كان واحدًا، ويعفو أحدهم إذا كانوا جماعة، ثم ثبت أن سقوطه بعفو أحدهم موجب للدية بغير مراضاة فكذلك يكون وجوبها بعفو جميعهم. وتحريره قياسًا: أنه قود سقط بالعفو عنه فلم تقف الدية فيه على مراضاة كما لو عفا عنه أحدهم. ولأن استحقاق القود لا يمنع من اختيار الدية كما لو قطع كفًا كاملة الأصابع، وفي كفه أربعة أصابع كان المجني عليه عندنا وعندهم بالخيار بين القصاص والدية. فإن أحب الدية أخذ دية كاملة، وإن أحب القصاص اقتص عندهم بالكف الناقصة، ولا شيء له غيرها، وعندنا يقتص منها، ويؤخذ دية الأصبع الناقصة من كف الجاني، ولأن للقتل بدلين، أغلظهما القود وأخفهما الدية فلما ملك القود الأغلط بغير مراضاة كان بأن يملك الدية الأخف بغير مراضاة أولى، ولأن قتل العمد أغلظ وقتل الخطأ أخف، فلما ملك الدية في أخفهما فأولى أن يملكها في أغلظهما. فأما الجواب عن الآيتين: فهو أن وجوب القصاص فيهما لا يمنع من العفو عنه إلى غريه كالمراضاة. وأما قياسهم على إتلاف المال فالمعنى فيه: أنه ليس له العمد والخطأ إلا بدل واحد، وللقتل بدلان فافترقا. وقولهم: لما لم يملك العدول عن دية الخطأ إلا بالمراضاة كذلك القود العمد. فالجواب عنه أن القود أغلظ والدية أخف فملك إسقاط الأغلظ بالأخف، ولم

يملك إسقاط الأخف بالأغلظ، وما اعتبروه من قتل الدفع الذي لا يملك فيه الدية فلا يشبه قتل القود؛ لأنه يملك بقتل الدفع إحياء نفسه فلم يجز أن يبدلها بالدية مراضاة ولا اختيارًا، وليس كذلك قتل القود، لأنه ملك به استيفاء حق يجوز أن يعدل عنه بالمراضاة، فجاز أن يعدل عنه بغير مراضاة. فصل: فإذا ثبت أن استحقاق الدية في قتل العمد لا يقف على مراضاة القاتل، فقد اختلف قول الشافعي فيما يوجبه قتل العمد على قولين: أحدهما: أنه موجب لأحد أمرين من القود، أو الدية، وكلاهما بدل من النفس، وليست الدية بدلًا من القود، والولي فيهما بالخيار، كالحالف مخير في الكفارة بين الإطعام والكسوة والعتق. ووجه ذلك شيئان: أحدهما: قول النبي صلى الله عليه وسلم "فمن قتل بعده قتيلًا فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل" وتخيرهم بين القود والدية يقتضي أن يكون كل واحد منهما بدلًا من القتل كالكفارة. والثاني: أن الدية بدل من نفس المقتول دون القاتل، بدليل أن المرأة لو قتلت رجلًا وجب عليها دية الرجل، فلو جعلت الدية بدلًا من القود صارت بدلًا من نفس القاتل دون المقتول، ولو وجب على المرأة إذا قتلت رجلًا أن يؤخذ منها دية امرأة، إذا ثبت أن الدية بدلًا من نفس المقتول جرت مجرى القد فصارا واجبين بالقتل. والقول الثاني: أن قتل العمد موجب للقود وحده، وهو بدل النفس، فإن عدل عنه إلى الدية كانت بدلًا من القود فيصير بدلًا عن النفس ووجهه شيئان: أحدهما: قول الله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِصَاصُ فِي القَتْلَى} [البقرة:187] فدل على أن الذي يجب له القصاص وحده. والثاني: أن قتل الخطأ لما أوجب بدلًا واحدًا، وهو الدية اعتبارًا بالمتلفات التي ليس لها مثل، اقتضى أن يكون قتل العمد موجبًا لبدل واحد، وهو القود اعتبارًا بالمتلفات التي لها مثل. فصل: فإذا تقرر توجيه القولين كان القود مستحقًا على كلا القولين وترتب استحقاق الدية على اختلاف القولين. فإن قلنا القول الأول إن قتل العمد موجب لأحد شيئين إما القود أو الدية فلولي المقتول في الاختيار والعفو سبعة أحوال: أحدها: أن يختار القود، فلا يسقط حقه من الدية إلا أن يقتص، فإن عدل القود

إلى الدية استحقها؛ لأنه عدل بها عن الأغلظ إلى الأخف. والثانية: أن يختار الدية فيعطاها، ويسقط حقه من القود لما في العدول إليه من الانتقال عن الأخف إلى الأغلظ. والثالثة: أن يختار القود والدية فلا يكون لاختياره تأثير، لأنه لا يستحق الجمع بينهما ولم يعين بالاختيار أحدهما. والرابعة: أن يعفو عن القود فيتعين حقه في الدية، ولا يجوز أن ينتقل عنها إلى القود إلا بعد سقوطه بالعفو، ولأنه انتقال عن الأخف إلى الأغلظ. والخامسة: أن يعفو عن الدية فله القود، ولا يكون لعفوه عن الدية تأثير، وله أن ينتقل من القود إلى الدية، لأنه انتقال من الأغلظ إلى الأخف. والسادسة: أن يعفو عن القود والدية فيصح عفوه عنهما ولا يستحق بعد العفو واحدًا منهما من قود ولا دية. والسابعة: أن يقول قد عفوت عن حقي فيكون عفوًا عن القود والدية معًا لأن يستحقهما. وإن قلنا بالقول الثاني إن قتل العمد موجب للقود وحده ولا تجب الدية إلا باختيار بدلًا من القود فللولي في اختياره وعفوه سبعة أحوال: أحدها: أن يختار القود فلا يسقط بهذا الاختيار حقه من اختيار الدية وقت استحقاقها لأنه يستحق اختيارها بعد سقوط حقه من القود، فصار كالإبراء من الحق قبل وجوبه، لا يبرئه من ذلك الحق بعد وجوبه، ولا يتحتم عليه القود بهذا الاختيار، لأنه حق له وليس بحق عليه فصار هذا الاختيار لا تأثير له. والثانية: أن يختار الدية فيكون في اختارها إسقاط لحقه من القود فيحكم له بالدية ويسقط القود. والثالثة: أن يختار القود والدية فلا يكون لهذا الاختيار تأثير في القود ولا في الدية، لأنه لا يستحق الجمع بينهما ولم يعين بالاختيار أحدهما فيستوي حكم الاختيار، وهذه الأحوال الثلاث على القولين معًا، وإنما يفترقان في الأحوال الأربع في العفو. والرابعة: أن يعفو عن القود فهذا على ضربين: أحدهما: أن يختار الدية مع عفوه عن القود، فيسقط حقه من القود بالعفو وتجب له الدية بالاختيار. والثاني: أن يقتصر على العفو، عن القود ولا يعله باختيار الدية فيسقط القود بالعفو عنه وفي الدية قولان: أحدهما: نص عليه في جراح العمد - أنه له أن يختار الدية من بعد. والثاني: ذكره في كتاب "اليمين مع الشاهد" أنه قد سقط حقه من الدية فليس له أن يختارها من بعد.

وأصل هذين القولين في المدعي إذا قام شاهدًا وامتنع أن يحلف مع شاهده، وعرضت اليمين على المنكر فنكل عنها، فهل ترد على المدعي أم لا؟ على قولين: والخامسة: أن يعفو عن الدية فلا يكون لعفوه تأثير القود ولا في الدية، لأن القود لم يعف عنه، والدية لم يستحقها مع بقاء القود، فلم يصح عفوه عنها. والسادسة: أن يعفو عن القود فيسقط القود بعفوه عنه، وفي سقوط الدية بعفوه عنهما قولان حكاهما أبو حامد المروزي في "جامعه". أحدهما: يصح عفوه عنها لاقترانه بالعفو عن القود. والثاني: لا يصح العفو عنها، لأنه لم يقع في وقت الاختيار بعد القود. فعلى هذا إن اختار الدية في الحال وجبت له، فإن اختارها بعد ذلك فعلى ما مضى من القولين: والسابعة: أن يعفو عن حقه فيسقط القود، لأنه يستحقه، ولا يسقط الدية، لأنه لم يستحقها، فإن عجل اختيارها وجبت له وإن لم يعجله فعلى القولين: أحدهما: تجب له الدية إن اختارها. والثاني: لا تجب له وقد سقط حقه منها بتأخير الاختيار والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولم يختلفوا في أن العقل يورث كالمال، وإذا كان هكذا فكل وارثٍ ولي زوجةً أو ابنةً لا يًخرج أحدٌ منهم من ولاية الدم". قال في الحاوي: أما الدية فموروثة ميراث الأموال بين جميع الورثة من الرجال والنساء من ذوي الأنساب والأسباب وهو متفق عليه. وهو معنى قول الشافعي: "لم يختلفوا في أن العقل موروثٌ" إلا حكاية شاذة عن الحسن البصري أنه لم يورث الزوج والزوجة والإخوة من الأم شيئًا من الدية وهو محجوج بالنص والإجماع. روي سفيان بن حسين عن الزهري عن سعيد بن المسيب أن رجلًا قتل خطأ فقضى عمر رضي الله تعالى عنه بديته على عاقلته فجاءت امرأته تطلب ميراثها من عقل زوجها فقال عمر: لا أعلم لك شيئًا، إنما الدية للعصبة الذين يعقلون عنه، فقام الضحاك بن سفيان الكلابي فقال: كتب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم فورثها عمر. وروي عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المرأة ترث من مال زوجها وعقله ويرث هو من مالها وعقلها".

(وروى) عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن العقل ميراث ورثة القتيل على فرائضهم. وروي الشعبي أن النبي صلى الله عليه وسلم ورث امرأة من دية زوجها، وورث زوجًا من دية امرأته. فصل: فأما القود فهو عندنا موروث ميراث الأموال بين جميع الورثة من الرجال والنساء على فرائضهم. وبه قال أبو حنيفة وأكثر الفقهاء. وقال مالك: يرثه رجال العصبات من ذوي الأنساب ودون الأسباب. وقال ابن أبي ليل: يرثه ذوو الأنساب من الرجال والنساء دون ذوي الأسباب. واستدل مالك بقول الله تعالى: {ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33] والوالي يتناول الرجال من العصبات فدل على أن لا حق فيه لغيرهم، ولأن القود موضوع لدفع العار فأشبه ولاية النكاح في اختصاصها برجال العصبات، ولأن النساء لو ورثن القود لتحملن العقل كالعصبات، وهن لا يتحملن العقل فوجب أن يسقط ميراثهم من القود كالأجانب. ودليلنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فمن قتل قتيلًا بعده فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل". ومن هذا الخبر دليلان: أحدهما: أن الأهل عبارة عن الرجال والنساء من ذوي الأنساب والأسباب. والثاني: أنه خيرهم بين الدية والقود، والدية تكون بين جميعهم فكذلك القود. وروي الأوزعي عن حصين عن ابن سلمة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ولأهل القتيل أن ينحجزوا الأول فالأول، ولو كانت امرأة" ومعنى قوله: "لينحجزوا" أن يتركوا يعني بتركهم فيما يجب على القاتل من قود ودية، ولأن كل من ورث الدية ورث القود كالعصبة؛ ولأن كل حق ورثه العصبة ورثه غيرهم من الورثة كالدية. فأما قوله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33] فقد ينطلق اسم على المرأة كما ينطلق على الرجل، لأنها تليه وإن لم تل عليه، ولو تناولت من يلي عليه لخرج منهم الأبناء والإخوة على أن المراد به مباشرة الاستيفاء، وذلك يختص بالرجال دون النساء.

وأما استدلالهم بالنكاح في وضعه لنفي العار فليس بصحيح، لأن القود يستحق للتشفي لا لنفي العار على أن ولاية النكاح لا تورث إنما تستفاد بالنسب، والقود موروث فافترقا. وما ذكره من اختصاص القود، من يتحمل العقل فاسد بالآباء والأبناء والصغار والفقراء كل هؤلاء يرثون القود، ولا يتحملون العقل كذلك النساء. فصل: فإذا ثبت أن القود موروث كالمال لم يخل حال القتيل من ثلاثة أحوال: أن يكون له ورثة يستحقون جميع ماله فلهم الخيار بين ثلاثة أمور: إما القود، أو الدية أو العفو عنهما. والثانية: أن لا يكون له وارث بحال فالإمام وليه لأنه موروث لبيت المال، وللإمام الاختيار في اعتبار الأصلح من أمرين: القود، أو الدية، وهل له الخيار في العفو عنه؟ على وجهين: أحدهما: له الخيار في العفو عنهما كالورثة. والثاني: لا خيار له في العفو عنهما؛ لأنه نائب فلم يجز أن يسقط الحق بغير بدل. والثالثة: أن يكون له من الورثة من يستحق بعض تركته كالزوج والزوجة. فليس لهذا الوارث أن ينفرد بالقود، لأنه لا ينفرد بالميراث وشريكه في استيفائه الإمام؛ لأن باقي التركة ميراث لبيت المال. فإن اتفق الوارث والإمام على القود وجب، وإن أراده أحدهما دون الآخر سقط، واستحق الدية، وكان الوارث في حقه منهما بالخيار بين الاستيفاء والعفو، وفي خيار الإمام في حق بيت المال فيهما وجهان على ما مضى. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا يقتل إلا باجتماعهم، ويحبس القاتل حتى يحضر الغائب، ويبلغ الطفل، وإن كان فيهم معتوهٌ فحتى يُفيق أو يموت فيقوم وارثه مقامه". قال في الحاوي: أما إذا كان ورثة القتيل أهل رشد لا ولاية على واحد منهم، فليس لبعضهم أن ينفرد بالقود دون شركائه، وعليه أن يستأذن من حضر وينتظر من غاب، وهذا متفق عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "فأهله من خيرتين إن أحبوا قتلوا وإن أحبوا أخذوا العقل" فأما إن كان فيهم مولى عليه لعدم رشده بجنون أو صغر فقد اختلف فيه الفقهاء.

فذهب الشافعي إلى أن القود موقوف لا يجوز أن ينفرد به الرشيد حتى يبلغ الصغير ويفيق المجنون، ويجتمعون على استيفائه، ولا يجوز لولي الصغير أن ينوب عنه في الاستيفاء. وقال أبو حنيفة ومالك: يجوز للرشيد منهم أن ينفرد باستيفاء القود ولا ينتظر بلوغ الصغير وإفاقة المجنون، ولو كان مستحقه صغيرًا أو مجنونًا لوليه أن ينوب عنه في استيفائه استدلالًا بقول الله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء:33] فذكره بلفظ الواحد فدل على جواز أن يستوفيه الولي الواحد. ولأن ابن ملجم قتل عليًا رضوان الله عليه فاقتص منه ابنه الحسن، وقد شاركه من أخوته صغار لم يبلغوا، ولم يقف القود على بلوغهم ولم يخالفه أحد من الصحابة رضي الله عنهم، فصار إجماعًا على جواز تفرده به. قال: ولأن للقود حق يصح فيه النيابة فجاز إذا لم يتبعض أن ينفرد به بعضهم كولاية النكاح، ولأن القود إذا وجب لجماعة لم يمتنع أن ينفرد باستيفائه واحد، كالقتيل إذا لم يترك وارثًا استحق قوده جماعة المسلمين، وكان للإمام أن ينفرد باستيفائه. ودليلنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فمن قتل بعده قتيلًا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل" فجعل ذلك لجماعتهم، فلم يجز أن ينفرد به بعضهم، لما فيه من العدول عن مقتضى الخير. ولأن القود إذا تعين لجماعة لم يجز أن ينفرد به بعضهم، كما لو كانوا جميعًا أهل رشد. ولأن القود أحد بدلي النفس فلم يجز أن يستوفيه بعض الورثة كالدية. ولأن كل من لم ينفرد باستيفاء الدية لم يجز أن ينفرد باستيفاء القود كالأجانب. وأما الآية فمحمولة على الولي إذا كان واحدًا. وأما تفرد الحسن بقتل ابن ملجم لعنه الله فعنه جوابان: أحدهما: أنه قد كان في شركائه من البالغين من لم يستأذنه، لأن عليًا خلف حين قتل على ما حكاه بعض أهل النقل ستة عشر ذكرًا وست عشرة أنثى فيكون جوابهم عن ترك استئذانه للأكابر جوابنا في ترك وقوفه على بلوغ الأصاغر. والثاني: أن ابن ملجم انحتم قتله لسعيه بالفساد، لأن من قتل إمام عدل فقد سعي في الأرض فسادًا فصار محتوم القتل، لا يجوز العفو عنه فلا يلزم استئذان الورثة فيه. والجواب الثالث: أن ابن ملجم استحل قتل علي عليه السلام فصار باستحلاله قتله كافرًا، لأن من استحل قتلٍ إمام عدل كان كافرًا فقته الحسن لكفره ولم يقتله قودًا، وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أيقظ عليًا من نومه في بعض الأسفار، وقد سيقت الريح عليه التراب، فقال: قم يا أبا تراب، ثم قال: أتعرف أشقى الأولين والآخرين؟ قال: الله ورسوله

أعلم، قال: أشقى الأولين عاقر ناقة صالح، وأشقى الآخرين من خصب هذه من هذا، وأشار إلى خضاب لحيته من دم رأسه، فيجوز أن يكون الحسن عرف بهذا الخبر كفر ابن ملجم لعنه الله لاعتقاده استباحة قتل علي فقتله بذلك. وأما قياسهم على ولاية النكاح فعنه جوابان: أحدهما: أن ولاية النكاح يستحقها الأكابر دون الأصاغر، فجاز أن ينفرد بها الأكابر والقود يستحقه الأكابر والأصاعر فلم يجز أن ينفرد به الأكابر. والثاني: أن ولاية النكاح يستحقها كل واحد منهم فجاز أن ينفرد بها أحدهم، والقود يستحقه جميعهم فلم يجز أن ينفرد به بعضهم. فأما ما ذكره من تفرد الإمام بالقود فيمن ورثه جماعة المسلمين، فالجواب عنه أنه لما لم يتعين مستحقه وكان للكافة، تفرد به من ولي أمورهم، وهذا قد تعين مستحقه فافترقا. فصل: فإذا ثبت وقوف القود على بلوغ الصبي وإفاقة المجنون وجب حبس القاتل إلى وقت البلوغ والإفاقة ليحفظ حقهما بحبسه ولا يطلق، وإن أعطى كفيلًا بنفسه؛ لأنه حق لا يملك استيفاؤه إلا منه، والمتولي لحبسه الإمام دون الولي؛ لأن أمر الحاكم أنفذ من أمره، فإن أراد الولي أن يلازمه لم يمنع، ولا يقف حبس الحاكم له على الاستعداء إليه، وينفرد به إذا ثبت عنده القتل لما يجب عليه من حفظ الحقوق على من يولي عليه، ولو كان في الورثة رشيد غائب لم يلزم الحاكم حبس القاتل إلا بعد الاستدعاء إليه، لأن مستحق القود رشيد لا يولي عليه، وهكذا لو غصب دارًا لغائب جاز للحاكم أن ينزعها من الغاصب إن كان مالكها موليًا عليه، ولم يجز أن ينتزعها منه إن كان مالكها رشيدًا، فإن أراد ولي الصغير والمجنون أن يعفو عن القود إلى غير مال لم يجز، وإن أراد العفو عن القود إلى الدية نظر في الصغير والمجنون، فإن كانا موسرين غير محتاجين إلى المال لم يكن للولي العفو عن القود، وإن عفا بطل عفوه، وإن كانا فقيرين فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون لهما من يجب عليه نفقتهما، فلا يجوز لوليه أن يعفو عن القود لاستغنائهما ممن وجب عليه نفقتهما. والثاني: أن لا يكون لهما من يلتزم نفقتهما وهما من ذوي الفاقة إلى قدر نفقتهما، ففي جواز عفو وليهما عن القود وجهان: أحدهما: يجوز للضرورة اعتبارًا بمصلحتهما. والثاني: لا يجوز لما فيه من إسقاط حقهما، ويحتمل وجهًا ثالثًا أن يعتبر حال

المولى فإن كان مناسبًا أو وصيًا لم يصح عفوه، وإن كان حاكمًا صح عفوه، لأنه حكم يجوز أن ينفرد باجتهاده والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وأيهم عفا عن القصاص كان على حقه من الدية، وإن عفا على غير مالٍ كان الباقون على حقوقهم من الدية". قال في الحاوي: وإن عفا على غير مال كان الباقون على حقوقهم من الدية إذا كان أولياء المقتول جماعة، فعفا أحدهم عن القود سقط جميع القود في حقوق جماعتهم، ولم يكن لواحد منهم أن يقتص سواء عفا أقلهم أو أكثرهم. وقال مالك: يجوز لمن لم يعف أن يقتص ولو كان واحد من جماعة استدلالًا بقول الله تعالى: {ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} فلو سقط حقه بعفو غيره لكان السلطان عليه ولم يكن له، ولأن القود موضوع لنفي المعرة كحد القذف، ثم ثبت أن حد القذف لا يسقط بعفو بعض الورثة، كذلك القود يجب أن يكون بمثابتهم، ولأنه لما لم يكن عفو بعضهم عن الدية مؤثرًا في حق غيره وجب أن يكون عفوه عن القود غير مؤثر في حق غيره. ودليلنا قول الله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإحْسَانٍ} [البقرة: 178] وهو محمول عند كثير من المفسرين على عفو بعض الورثة، لأنه جاء بذكر الشيء منكرًا، وجعل عفوه موجبًا لإتباع الدية بمعروف، وأن تؤدى إليه بإحسان ويحمل على عموم العفو من الواحد والجماعة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فمن قتل بعده قتيلًا فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل" فجعل الخيار في القود لجميع أهله لا لبعضهم، ولأنه إجماع الصحابة رضي الله عنهم روي أن رجلًا قتل رجلًا على عهد عمر رضي الله عنه فطالب أولياؤه بالقود فقالت أخت المقتول وهي زوجة القاتل: عفوت عن حقي من القود فقال عمر: الله أكبر، عتق الرجل يعني من القود ولم يخالفه من الصحابة أحد مع انتشاره فيهم، فثبت أنه إجماع، ولأن القود أحد يدلي النفس فلم يكن لبعض الورثة أن ينفرد باستيفاء جميعه كالدية، ولأن القاتل، قد ملك بالعفو بعض نفسه فاقتضى أن يستوي في الباقي منها كالعتق، ولأنه قد اجتمع في نفس القاتل إيجاب القود وإسقاطه فوجب أن يغلب حكم الإسقاط على الإيجاب لأمرين: أحدهما: أن القود يسقط بالشبهة، وهذا من أقوى الشبه. والثاني: أن لسقوط ما وجب منه بدلًا وهو الدية، وليس للإيجاب ما سقط منه بدل.

فأما الجواب عن الآية فقد مضى. وأما الجمع بين القد وحد القذف فغير صحيح، لأنهم في القود مشتركون وفي الحد منفردون، فلم يجز أن ينفرد أحدهم باستيفاء القود وجاز أن ينفرد باستيفاء الحد، وإنما اشتركوا جميعًا في القود وانفرد كل واحد في لحد لأمرين: أحدهما: أنهم ملكوا القود ميراثًا عن ميتهم لأنه بدل عن نفسه فاشتركوا فيه كالدية وملكوا الحد نيابة عن ميتهم لنفي العار عنه فانفرد كل واحد منهم به. والثاني: أن القود بدل فلم يسقط بالعفو حق من لم يعف، فلذلك ما اشتركوا وليس للحد بدل فانفرد، ولئلا يسقط بالعفو حق من لم يعف، وأما الدية فإنما لم تسقط بالعفو حق من لم يعف، لأنها تتبعض فصح أن ينفرد كل واحد منهما باستيفائه حقه، لأنه لا يتعدى استيفاؤه إلى حق شريكه والقود لا يتبعض ولا يمكن كل واحد منهم أن ينفرد باستيفاء حقه منه إلا بالتعدي إلى حق شريكه، فسرى العفو عن القود ولم يسر العفو عن الدية. فصل: فإذا ثبت أن عفو أحدهم موجب لسقوط القود في حق جميعهم انتقل الكلام إلى الدية، أما من لم يعف فقد ملكوا حقوقهم من الدية بسقوط القود ولا يقف ملك الدية على اختياره لأن القتل قد صار في حقوقهم بسقوط القود من غير اختيارهم جاريًا مجرى قتل عمد الخطأ الذي لا يجب فيه قود، ويملك به الدية بنفس القتل كذلك ها هنا، وأما الدية في حق العافي فمعتبرة بعفوه عن القود، فإن قرنه باختيار الدية وجب له حقه منها، وإن لم يقرنه باختيار الدية على ما مضى من القولين في الذي أوجبه قتل العمد، ثم على ما مضى من التفصيل. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن عفوا جميعًا وعفا المفلس يُجني عليه أو على عبده القصاص، جاز ذلك لهم ولم يكن لأهل الدين والوصايا منهم، لأن المال لا يُملك بالعهد إلا بمشيئة المجني عليه إن كان حيًا، وبمشيئة الورثة إن كان ميتًا. قال المزني رحمه الله: ليس يُشبه هذا الاعتلال أصله، لأنه احتج في أن العفو يُوجب الدية بأن الله تعالى لما قال: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وأَدَاءٌ إلَيْهِ بِإحْسَانٍ} لم يجز أن يقال: عفا إن صولح على مالٍ، لأن العفو تركٌ بلا عوضٍ، فلم يجز إذا عفا عن القتل الذي هو أعظم الأمرين إلا أن يكون له مالٌ في مال القاتل أحب أو كره،

ولو كان إذا عفا لم يكن له شيءٌ لم يكن للعافي ما يتبعه بمعروفٍ، ولا على القاتل ما يُؤديه بإحسانٍ. قال المزني رحمه الله: فهذا مالٌ مشيئةٍ، أو لا تراه يقول: إن عفو المحجور جائزٌ، لأنه زيادةٌ في ماله وعفوه المال لا يجوز، لأنه نقصٌ في ماله وهذا مالٌ بغير مشيئةٍ، فأقرب إلى وجه ما قال عندي في العفو الذي ليس لأهل الدين منعه هو أن يبرئه من القصاص ويقول بغير مالٍ فيسقطان وبالله التوفيق". قال في الحاوي: اعلم أنه لا يخلو حال الوارث لقتل العمد في عفوه من أحد ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكون جائز الأمر مالك التصرف فيصح عفوه عن القود وعن الدية جميعًا. والثاني: أن يكون محجورًا عليه لا يجرى عليه قلم كالصغير والمجنون، فلا يصح عفوه عن القود ولا عن الدية جميعًا. والثالث: أن يتعلق به حجر من وجه وإن جرى عليه القلم، فهذا قد يستحق من أحد أربعة أوجه: أحدها: أن يتعلق بتركة المقتول ديون ووصايا فتتعلق بدينه كما يتعلق بتركته على ما سنذكره، فيصير الوارث في حكم المحجور عليه فيها حتى تقضى الديون وتنفذ الوصايا. والثاني: أن يكون الوارث محجورًا عليه بالفلس في حقوق غرمائه حتى يستوعبوا ماله في ديونهم. والثالث: أن يكون الوارث محجورًا عليه لسفه في حقه نفسه حفظًا لماله. والرابع: أن يكون الوارث مريضًا يمنع في حق الورثة من العطاء إلا في ثلثه فهؤلاء الأربعة يصح عفوهم عن القود إلى الدية، لأن القود لا يؤثر في حقوقهم والعفو عنه أرفق بهم وفي صحة عفوهم عن الدية قولان: أحدهما: يصح من جميعهم، وهذا على القول الذي يجعل قتل العمد فيه موجبًا للقود وحده والدية لا تجب إلا باختيار الوارث، فيصح عفوه، لأنه لم يملكها فيعارض فيه ولا يملكها إلا بالاختيار، وهو لا يجبر على الاختيار، لأنه اكتساب عما لا يجبر على قبول الوصايا والهبات. والثاني: أن عفو الثلاثة باطل لا يصح، وهذا على القول الذي يجعل قتل العمد فهي موجبًا للقود، أو الدية، لأنه عفو عن مال قد تعلق به حق غيره. فأما المريض فعفوه على هذا القول معتبر من ثلثه، فإن احتمل ثلثه جميع الدية صح عفوه عنها، وإن لم يملك غيرها صح عفوه عن ثلثها وبطل عن باقيها فأما المزني فإنه تكلم على فصلين: أحدهما: الرد على أبي حنيفة في منعه من الدية إلا عن مراضاة. والثاني: في اختياره لأحد القولين أن قتل العمد موجب لأحد أمرين من القود أو الدية.

باب القصاص بالسيف وغيره

فأما الفصل الأول فسلم كلامه فيه، وأما الفصل الثاني فالتبس عليه حتى اختلط تعليله، وضعف دليله وفي كشفه إطالة يقتصر فيها على سيره عند تأمله، وبالله التوفيق. باب القصاص بالسيف وغيره مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "قال الله تعالى: {ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} قال: وإذا خلى الحاكم الولي وقتل القاتل فينبغي له أن يأمر من ينظر إلى سيفه، فإن كان صارمًا وإلا أمره بصارمٍ لئلا يُعذبه، ثم يدعه وضرب عنقه". قال في الحاوي: ما أوجب القصاص من الجنايات ضربان: طرف، ونفس. فأما الطرف فلا يمكن مستحق القصاص من استيفائه بنفسه، لما يخاف من تعديه إلى ما لا يمكن استدراكه، وأما النفس فيجوز للولي أن يتولى استيفاء القود منها بنفسه إذا قدر على مباشرته للآية ولقول النبي صلى الله عليه وسلم "فأهله بين خيرتين: إن أحبوا قتلوا" وكما يستوفي جميع حقوقه بنفسه، ولأن القود موضوع للتشفي فكانت المباشرة فيه أشقى، وإذا كان كذلك فاستيفاؤه للقود معتبر بستة شروط: أحدها: أن يحكم به الحاكم ليميز العمد المحض من عمد الخطأ، وليتعين بالحكم ما اختلف فيه الفقهاء، ولئلا يتسرع الناس إلى استباحة الدماء. والثاني: أن يكون مستوفيه رجلًا فإن كانت امرأة منعت، لما فيه من بذلتها وظهور عورتها. والثالث: أن يكون ثابت النفس عند مباشرة القتل، فإن ضعفت منع. والرابع: أن يعرف القود ويحسن إصابة المفصل، فإن لم يحسن منع. والخامس: أن يكون قوي اليد نافذ الضربة، فإن ضعفت يده لشلل أو مرض منع. فإذا تكاملت فيه هذه الشروط الخمسة وصار بها من أهل الاستيفاء لم يخل حال الولي أن يكون واحدًا أو عددًا، فإن كان واحدًا قام باستيفائه، وإن كانوا عددًا خرج منهم من لم يتكامل فيه شروط الاستيفاء ولم يجز أ، يشترك الباقون فيه حتى يتولاه أحدهم، فإن سلموه لأحد كان أحقهم به وإن تنازعوا فيه أقرع بينهم، فمن قرع كان أحقهم باستيفائه، فإذا تعين الاستيفاء لواحد منهم اعتبر في استبقائه عشرة أشياء: أحدها: حضور الحاكم الذي حكم له بالقود، أو نائب عنه ليكون حضوره تنفيذًا لحكمه. ط والثاني: أن يحضره شاهدان ليكونا بينة ي استيفاء الحق أو في التعدي بظلم. والثالث: أن يحضر معه من الأعوان من إن احتاج إليهم أعانوا، فربما حدث

ما يحتاج إلى كف وردع. والرابع: أن يؤمر المقتص منه بما تعين عليه من صلاة يومه، ليحفظ حقوق الله تعالى في الإضاعة. والخامس: أن يؤمر بالوصية فيما له وعليه من الحقوق، ليحفظ بها حقوق الآدميين. والسادس: أن يؤمر بالتوبة من ذنوبه، ليزول عند مأثم المعاصي. والسابع: أن يساق إلى موضع القصاص سوقًا رفيقًا، ولا يكلم بخنا ولا شتم. والثامن: أن تستر عورته بشداد حتى لا تبرز للأبصار. والتاسع: أن تشد عينيه بعصابة حتى لا يرى القتل ويترك ممدود العنق، حتى لا يعدل السيف عن عنقه. والعاشر: أن يكون سيف القصاص صارمًا ليس بكال ولا مسموم، لأن الكال والمسموم يفسد لحمه ويمنع من غسله، فيراعي سيف الولي، فإن كان على الصفة المطلوبة وإلا التمس سيفًا على صفته أو أعطى من بيت المال، وإن كان موجودًا، وإنما اعتبرنا هذه الشروط والأوصاف إحسانًا في الاستيفاء، ومنعًا من التعذيب، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تعالى كتب عليكم الإحسان فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة". وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه: "نهى عن تعذب البهائم" فكان النهي عن تعذيب الآدميين أحق. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه:"وإن ضربه ما لا يُخطاء بمثله من قطع رجلٍ أو وسطٍ عزر، وإن كان مما يلي العنق من رأسه أو كتفه فلا عقوبة عليه، وأجبره الحاكم على أن يأمر من يُحسن ضرب العنق ليوجيه". قال في الحاوي: وأما محل القصاص من النفس فهو العتق يضرب بالسيف من جهة القفا، لأنه أمكن والسيف فيه أمضى حتى يقطع المريء والودجين، ولا يراعي قطع الحلقوم إذا لم ينته السيف إليه، لأن في قطع المريء والودجين توجئة، وإن كان قطع الحلقوم معه أوجى، ولا يجوز أن يعدل به إلى الذبح والمعتبر في تذكية البهائم لافتراقهما في الحرمة واختلافهما في الحكم، فإن وصل بالضربة الواحدة إلى محل التوجئة اقتصر عليها ولم يزد، وإن لم تصل إلى محل التوجئة ضربة ثانية، فإن لم تصل الثانية لم يخل

من أحد أمرين: إما أن يكون من كلال سيفه فيعطي غيره من السيوف الصارمة وإما أن يكون من ضعف يده، فيعدل إلى غيره من ذوي القوة. فصل: فإن ضربه فوقع السيف في غير عنقه فعلى ضربين: أحدهما: أن يقع في موضع لا يجوز الغلط في مثله كضربه لرجله أو ظهره أو بطنه، فيعزز لتعديه، ولا تقبل دعوى الغلط فيه، ولا يحلف عليه لاستحالة صدقه، واليمين تدخل فيما احتمل الصدق ولا قود عليه فيما قطع أو جرح، ولا غرم لأرش ولا دية، لأنه قد ملك إتلاف نفسه، وإن تعدى بالسيف في غير محله. والثاني: أن يقع السيف في موضع يجوز الغلط بمثله كأعلى الكتف وأسفل الرأس سئل، فإن قال: عمدت غرز ومنع وإن قال: أخطأت أحلف على الخطأ لإمكانه ولم يعزر ولم يمنع من القصاص، فإن تاب بعد عمده وأراد العود إلى القصاص فقد قال الشافعي ها هنا ما يدل على سقوطه حقه من الاستبقاء بقوله: "وأجبره الحاكم على أن يأمر من يحسن ضرب العنق" ليوجيه يريد به الاستتابة به. وقال في كتاب "الأم" يمكنه الحاكم في الاستيفاء فاختلف أصحابنا في اختلاف هذين النصين، فخرجه البصريون على اختلاف قولين، وخرجه أبو حامد الإسفراييني على اختلاف حالين فالمنع محمول على أنه بان للحاكم أنه لا يحسن القصاص، والتمكين محمول على أنه يحسن القصاص. فصل: ولو كان الجاني قد قطع يد المجني عليه وقتله، فأراد الولي أن يقتص من القطع والقتل جاز أن يتولى القتل بنفسه ولم يجز أن يستوفي القطع بنفسه، وإذا منع من القطع والقتل كان له أن يستنيب فيه من يشاء من غير اعتراض إذا اجتمع فيه أمران: الإماتة، وشروط الاستيفاء فلو بادر الولي وقد عدم شروط الاستيفاء فاقتص بنفسه من النفس والأطراف لم يضمن قودا ولا دية، لأنه استوفي ما استحق ويعزره الحاكم لافتياته. ولو كان الولي من أهل الاستيفاء فامتنع من استيفائه بنفسه لم يجبر عليه وجاز أن يستنيب فيه، فإن استناب وإلا اختار له الحاكم من ينوب عنه في مباشرة الاستيفاء، فإن لم يستوفه النائب إلا بأجرة أعطى أجرته من بيت المال، لأنه من المصالح العامة، وإن لم يكن في بيت المال ما يعطاه كانت أجرته في مال المقتص منه دون المقتص له. وقال أبو حنيفة: تكون الأجرة في مال المقتص له دون المقتص منه، وسيأتي الكلام معه.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "قال ولو أذن لرجل فتنحى به فعفاه الولي فقتله قبل أن يعلم ففيها قولان؛ أحدهما: أن ليس له على القاتل شيء إلا أن يحلف بالله ما علمه عفا ولا على العافي. والثاني: أن ليس على القاتل قود لأنه قتله على أنه مباح وعليه الدية والكفارة ولا يرجع بها على الولي لأنه متطوع وهذا أشبههما. قال المزني رحمه الله: فالأشبه أولى به". قال في الحاوي: أما التوكيل في القصاص فضربان: أحدهما: توكيل في إثباته. والثاني: توكيل في استيفائه. وقد ذكرنا كلا الضربين في كتاب "الوكالة" ونحن نشير إليهما في هذا الموضع. أما الضرب الأول وهو التوكيل في إثبات القصاص فهو جائز عند جمهور الفقهاء إلا أبا يوسف وحده، فإنه منع منه، لأنه حد يدرأ بالشبهة، وهذا فاسد، لأن الشبهة ما اختصت بالفعل أو بالفاعل فلم يتعد إلى التوكيل والموكل، ولأن التوكيل في الإثبات مختص بإقامة البينة وإثبات الحجة، وهذا يجوز أن يفعله الموكل وتصح فيه النيابة. فإذا ثبت جواز التوكيل في إثبات القصاص لم يكن للوكيل أن يستوفيه بعد ثبوته إلا بإذن موكله، وهو قول جمهور الفقهاء إلا ابن أبي ليلى وحده، فإنه جوز له استيفاء القصاص وحده بعد إثباته، لأنه مقصود الإثبات، فأشبه الوكيل في البيع يجوز له قبض الثمن من غير إذن لأنه مقصود البيع وهذا فاسد؛ لأن فعل الموكل مقصور على ما تضمنه التوكيل فلم يجز أن يتعداه ولأن إثبات القصاص يقف موجية على خيار الموكل دون الوكيل، ولأن في استيفائه للقصاص إتلاف ما لا يستدرك وخالف قبض الثمن في البيع من وجهين: أحدهما: أن المقصود في البيع قبض الثمن، والمقصود في القصاص مختلف. والثاني: أن رد الثمن مستدرك، ورد القصاص غير مستدرك، فعلى هذا لو اقتص الوكيل كان عليه القود، وينتقل حق الموكل إلى الدية لفوات القصاص. وأما الضرب الثاني: وهو التوكيل في استيفاء القصاص فعلى ضربين: أحدهما: أن يستوفيه بمشهد الموكل فيصح الوكيل؛ لأنها استنابه في مباشرة الاستيفاء والموكل هو المستوفي. والثاني: أن يوكله في استيفائه مع غيبته عنه، فظاهر ما قاله ها هنا صحة الوكالة، وظاهر ما قاله في كتاب "الوكالة" فسادها، فخرجه أكثر أصحابنا على قولين:

أحدهما: وهو قول أبي حنيفة فسادها. والثاني: وهو أصح جوازها وقد مضي توجيه القولين، ومن عدل بهما من أصحابنا إلى اختلاف تأويلين، وعلى كلا القولين من صحة الوكالة وفسادها إذا استوفاه الوكيل كان مستوفيا لحق موكله لتصرفه فيه عن إذنه، ولا ضمان عليه من قود ولا دية. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا فصورة مسألتنا أن يوكله في القصاص، ثم يعفو عنه ويستوفيه الوكيل منه فهذا على ضربين: أحدهما: أن يعفو بعد اقتصاص الوكيل، فيكون عفوه باطلا، لأن عفوه بعد الاستيفاء كعفوه عن دين قد استوفاه وكيله ويكون عفوه بعد القبض باطلا. والثاني: أن يعفو قبل أن يقتص الوكيل، فهذا على ضربين: أحدهما: أن تكون مسافة الوكيل أبعد من زمان العفو مثل أن يكون الوكيل على مسافة عشرة أيام، ويعفو الموكل قبل القصاص بخمسة أيام، فيكون عفوه باطلا لا حكم له كما لو رمي سلاحه على المقتص منه، ثم عفا عنه قبل وصول السلاح إليه كان عفوه هدرا؛ لأنه عفو عما لا يمكن استدراكه. والثاني: أن تكون مسافة الوكيل أقصر من زمان العفو، مثل أن يكون الوكيل على مسافة خمسة أيام ويعفو الموكل قبل اقتصاص الوكيل بعشرة أيام، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يعلم الوكيل بعفو موكله قبل القصاص فيبطل حكم الإذن ويصير قاتلا بغير حق، فيجب عليه القود، ويكون الموكل على حقه من الدية إن لم يعف عنه على ما قدمناه من شرح القولين. والثاني: أن لا يعلم الوكيل بعفو الموكل حتى يقتص فلا قود عليه، لأنه مستصحب حالة إباحة، فكانت أقوى شبهة في سقوط القود، وفي وجوب الدية عليه قولان: أحدهما: لا دية عليه استصحابا لحال الإباحة كالقود. والثاني: عليه الدية، لأنه صادق الحظر بعد الإباحة، فصار بعمد الخطأ أشبه، وكالحربي إذا أسلم وقتله من لم يعلم بإسلامه ضمنه بالدية دون القود، قد أسلم اليمان أبو حذيفة بن اليمان فقتله قوم من المسلمين لم يعلموا بإسلامه "فقضي عليهم رسول الله صلي الله عليه وسلم بديته" ومن هذين القولين خرج أصحابنا بيع الوكيل بعد عزله وقبل علمه على وجهين: أحدهما: أن بيعه باطل لمصادفته حال العزل، وإن لم يعلم. والثاني: أنه صحيح ما لم يعلم بعزله، ومسألة اختلاف أصحابنا في نسخ الحكم هل يلزم من لم يعلم بالنسخ، أم لا يلزمه إلا بعد علمه بنسخه؟ على وجهين: أحدهما: لا يلزم إلا بعد انتشاره والعلم به؛ لأن أهل قباء استداروا في صلاتهم إلى الكعبة حين بلغهم تحويل القبلة إليها.

والثاني: أن فرض النسخ لازم للكافة مع البلاغ، وإن لم ينتشر في جميعهم ولا علمه أكثرهم، لأن حكم الله تعالى على الجماعة واحد. فصل: فإذا تقرر ما ذكرنا من القولين، فإن قيل بالأول إنه لا ضمان على الوكيل من قود ولا عقل فقتل الوكيل للجاني يكون قودا ويكون عفو الموكل باطلا، واختلف أصحابنا على هذا القول في الوكيل هل تلزمه الكفارة أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا كفارة عليه، لأنه قد أجرى على قتله حكم استيفائه قودا. والثاني: عليه الكفارة كمن رمى دار الحرب فقتل مسلما ضمنه وكفر عنه. وإن قيل بالقول الثاني إن الوكيل ضامن للدية، فعفو الموكل صحيح وحقه في الدية إذا استوجبها على ما مضى من التفصيل مستحق على الجاني قاتل أبيه يرجع بها في ماله ولا يرجع بها على وكيله، ويرجع أولياء القاتل المقتول بديته على الوكيل، وهل تكون حاله في مال الوكيل أو مؤجلة على عاقلته على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق تكون حالة في ماله مع الكفارة، لأنه عامد في فعله وإنما سقط القود فيه بشبهته. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة تكون مؤجلة على عاقلته والكفارة في ماله؛ لأنه قتله معتقدا لاستباحة قتله فصادف الحظر فصار خاطئا فإذا أغرم الوكيل الدية ففي رجوعه على موكله بها قولان، كالزوج المغرور إذا أغرم مهر المثل بالغرور هل يرجع به على الغارم أم لا؟ على قولين، لأن الموكل قد صار بعفوه غارا للوكيل حين لم يعلمه بعفوه، وسواء كان هذا الوكيل مستعملا أو متطوعا، وهكذا الحكم في الأطراف إذا اقتص منها الوكيل بعد العفو. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولا تقتل الحامل حتى تضع، فإن لم يكن لولدها مرضع فأحب إلي أن لو تركت بطيب نفس الولي حتى يوجد له مرضع، فإن لم يفعل قتلت. قال المزني رحمه الله: إذا لم يوجد للمولود ما يحيا به لم يحل عندي قتله بقتل أمه حتى يوجد ما يحيا به فيقتل". قال في الحاوي: إذا وجب القصاص على حامل أو وجب عليها وهي حائل فحملت، لم يجز أن يقتص منها حاملا حتى تضع لقول الله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِف فِّي القَتْلِ} [الإسراء: 33] وفي قتل الحامل سرف للتعدي بقتل الحمل معها، ولأن الغامدية أقرت عند رسول الله صلي الله عليه وسلم بالزنا وهي حامل، وقالت: طهرني يا

رسول الله (صلى) الله عليه وسلم فقال لها: "اذهبي حتى تضعي حملك" وأمر عمر برجم امرأة أقرت بالزنا وهي حامل فردها علي وقال لعمر رضي الله عنهما: إنه لا سبيل لك على ما في بطنها، فقال عمر: "لولا علي لهلك عمر". وقيل: بل كان القائل ذلك معاذ بن جبل فقال له عمر: "كاد النساء يعجزون أن يلدن مثلك" والأول أشهر ولأنه قد تقابل في الحامل حقان: أحدهما: يوجب تعجيل قتلها وهو القصاص. والثاني: استبقاء حياتها وهو الحمل، فقدم حق الحمل في الاستيفاء على حق القصاص في التعجيل لأن في تعجيل قتلها إسقاط أحد الحقين وفي إنظارها استيفاء الحقين، فكان الإنظار أولى من التعجيل، وسواء كانت في أول الحمل أو في آخره، علم ذلك بحركة الحمل أو لم يعلم إلا بقولها ليستبرأ صحة دعواها. وقال أبو سعيد الإصطخري: لا تقبل دعواها للحمل حتى يشهد به أربع نسوة عدول، ويعجل قتلها إن لم يشهدن لها، وهذا خطأ لقول الله تعالى: {ولا يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ} [البقرة: 228] فكان هذا الوعيد على ما وجب من قبول قولها فيه، وتحلف عليه إن اتهمت، فإذا وضعت حملها أمهلت حتى ترضع ولدها اللبأ الذي لا يحيا المولود إلا به، ويتعذر وجوده من غيرها في الأغلب، فإذا أرضعته ما لا يحيا إلا به لكم يخل خاله في رضاعه من أربعة أقسام: أحدها: أن لا يوجد له مرضع سواها، فالواجب الصبر عليها حتى تستكمل رضاعة حولين كاملين، لأنه لما أخرناها لحفظ حياته فأولى أن نؤخرها لحفظ حياته مولودا، ولأن النبي صلي الله عليه وسلم قال للغامدية حين عادت إليه بعد وضع حملها: "اذهبي حتى ترضعيه حولين كاملين". والثاني: أن يوجد له مرضع قد تعينت وسلم إليها ملازمة لرضاعه فيقتص منها في الحال، وإن كانت في بقية نفاسها، لأنه لم يبق للولد عليها حق ولا لحياته بها تعلق. والثالث: أن يوجد له من لا يترتب لرضاعه من النساء على الدوام، أو يوجد له بهيمة ذات لبن يكتفي بلبنها ولا يوجد لرضاعه أحد النساء، فيقال لولي القصاص. الأولى بك أن تصبر عليها لتقوم برضاعه، لئلا يختلف عليه لبن النساء إذا لم يترتب له إحداهن، أو يعدل به إلى لبن بهيمة ولبن النساء أوثق له، ولا يلزمك الصبر، لأن فيما يوجد من لبن البهيمة ومن لا يترتب له من النساء حفظ لحياته فإن صبر مختارا أخر قتلها، وإن امتنع وطلب التعجيل قتلت ولم تؤخر، وهو معنى قول الشافعي "فإن لم يكن لولدها مرضع فأحب إلي لو ترك بطيب نفس الولي حتى يوجد له مرضع، فإن لم يفعل قتلت، وليس كما توهمه المزني أنه أراد إذا لم يوجد له مرضع أبدا. والرابع: أن يعلم أنه سيوجد له مرضع يترتب لرضاعه، ولكن لم يتعين في الحال ولا تسلمته، ففي تعجيل قتلها قبل تعيين مرضعة وتسليمه وجهان:

أحدهما: وهو أظهرهما تعجيل قتلها، إلا أن يرضى الولي بإنظارها إلى تعيين المرضع وتسليمه لأننا لا نأمن على المولود من تلف النفس. والثاني: يجب تأخير قتلها حتى يتعين المرضع وتسليمه، رضي به الولي أو لم يرض؟ لأنه ربما تأخر تعيين المرضع وتسليمه إليها زمانا لا يصير المولود فيه على فقد الرضاع فيتلف. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولو عجل الإمام فاقتص منها حاملا فعليه المأثم فإن ألقت جنينا ضمنه الإمام على عاقلته دون المقتص. قال المزني رحمه الله: بل على الولي لأنه اقتص لنفسه مختارا فجني على من لا قصاص له عليه فهو بغرم ما أتلف أولى من إمام حكم له بحقه فأخذه وما ليس له". قال في الحاوي: إذا عجل قتل الحامل قودا ولم تسهل حتى تضع لم يخل حالها بعد القتل من أن تلق ولدا، أو لا تلقيه فإن لم تلق ولدا فلا ضمان في الحمل، لأنه موهوم وينظر حالها، فإن كانت أمارات الحمل ظاهرة عليها كان قاتلها آثما إذا علم بالأمارات، لأنه عجل بقتل وجب تأخيره وإن لم تظهر أماراته فلا مأثم فيه، لأن الظاهر خلوها من الحمل وإن ألقت ولدا فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون حيا يبقى بعد قتلها فلا ضمان فيه لبقاء حياته، فإن مات بعدها روعي أمره فيما يبين وضعه وموته، فإن لم يزل فيه ضمنا يحدث به ضعف بعد ضعف، فالظاهر من موته أنه كان يقتل أمه فيكون مضمونا بالدية، وإن كان فيما بين وضعه وموته سليما يزداد قوة بعد قوة ثم مات، فالظاهر من حال موته أنه عن سبب حادث بعد ولادته فلا يضمن ديته. والثاني: أن تضعه جنينا لا يبقى له حياة فيكون مضمونا؛ لأن الظاهر من إلقائه أنه كان بقتل أمه لأمرين: أحدهما: أن حياته كانت متصلة بحياتها. والثاني: أنه فقد غذاءه منها وإن كان مضمونا نظر فيه، فإن وضعته ميتا وجب فيه غرة عبد او أمة قيمتها خمسون دينارا هي عشر دية أمة: ونصف عشر دية أبيه، ولا فرق بين أن يكون الجنين ذكرا أو أنثى ضمن بدية امرأة. فصل: فإذا ثبت أن الجنين مضمون بالغرة إن لم يستعمل، وبالدية إن استهل كان لزومها مقصورا على الإمام لحكمه بالقصاص، وعلى الولي لاستيفائه القصاص، ولا يخلو

حالهما في الحمل من أربعة أقسام: أحدها: أن يعلم الولي بالحمل ولا يعلم به الإمام، فالضمان على الولي دون الإمام لمباشرته لقتل علم حظره. والثاني: أن يعلم الإمام بالحمل ولا يعلم به الولي، فالضمان على الإمام لحكمه بقتل علم حظره، كالشهود بالقتل إذا استوفاه الحاكم بشهادتهم ثم رجعوا ضمنوه دون الحاكم. وقال المزني: في هذا لقسم "يكون ضمانه على الولي دون الإمام لمباشرته" وهو فاسد بما ذكرناه. والثالث: أن يعلم الإمام والولي بالحمل فالضمان على الإمام دون الولي، وقال المزني: على الولي دون الإمام، وهذا فاسد، لأن الولي مطالب بحقه والإمام هو الممكن منه، والحاكم به فكان بالتزام الضمان أحق. والرابع: أن لا يعلم الإمام ولا الولي بالحمل، ففي ما يلزم الضمان ثلاثة أوجه: أحدها: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه مضمون على الولي، لمباشرته له. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه مضمون على الإمام دون الولي، بتسليطه عليه. والثالث: وهو قول البصريين، أنه مضمون على الإمام وعلى الولي نصفين لوجود التسليط من الإمام ووجود المباشرة من الولي، فصارا فيه شريكين. فصل: فإذا استقر تعيين من وجب عليه الضمان، على ما ذكرناه من التقسيم كان ما ضمنه الولي من ديته أو غرته على عاقلته؛ لأنه من خطئه الذي تتحمله العاقلة عنه، وكانت الكافرة في ماله، لأن العاقلة تتحمل العقل دون الكفارة. فأما ما ضمنه الإمام من الدية أو الغرة ففيه قولان: أحدهما: أنه مضمون على عاقلته يتحملونه عنه، لأن عمر رضي الله عنه حين ضمن جنين المرأة التي أرهبها فألقته ميتا قال لعلي عليه السلام: "عزمت عليه لا تبرح حتى تضربها على قومك" يعني من قريش، لأنهم عاقلة عمر وكما يتحملون عنه العقل لو لم يكن إماما فعلى هذا تكون الكفارة في ماله كغير الإمام. والثاني: تكون الدية أو الغرة مضمونة في بيت المال، لأنه يكثر من الإمام لما يتولاه من أمور المسلمين التي لا يجدهن مباشرتها والاجتهاد فيها بدا، فلو تحملت عاقلته ما لزمه من خطأ اجتهاده عجزوا عنه ولم يطيقوه، فوجب أن يكون في مال من ينوب عنهم ويقوم بمصالحهم من المسلمين، فلذلك كان في بيت مالهم. فإن قيل: ليس هذا من مصالحهم، فيكون في بيت مالهم.

قيل: لما كان سببه القصاص الذي فيه حفظ حياتهم وصلاح أنفسهم، كان موجب الخطأ فيه من جملة مصالحهم، فعلى هذا يكون في بيت المال ما ضمنه من الدية أو الغرة على تأجيل لخطأ، وفي الكفارة وجهان: أحدهما: في بيت المال كالدية لاتفاقهما في معنى الوجوب. والثاني: أنها تكون في مال الإمام دون بيت المال، لأن بيت المال عاقلته والعاقلة تتحمل الدية دون الكفارة. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولو قتل نفرا قتل للأول وكانت الديات لمن بقي في ماله فإن خفي الأول منهم أقرع بينهم فأيهم قتل أولا قتل به وأعطي الباقون الديات من ماله". قال في الحاوي: إذا قتل الواحد جماعة إما في حال واحدة بأن ألقي عليهم حائطا، أو ألقاهم في نار، أو غرقهم في سفينة، أو قتلهم في أوقات شتى واحدا بعد واحد وجب أن يقتل بأحدهم، وتؤخذ من ماله ديات الباقين. وقال مالك وأبو حنيفة يقتل بجماعتهم وقد استوفوا به حقوقهم، ولا دية لهم في ماله فإن بادر أحدهم فقتله كان مستوفيا لحقه وحقوقهم وبني أبو حنيفة ذلك على أصلين: أحدهما: أنه في قتل العمد أنه لا يوجب غير القود، وأن الدية لا تستحق إلا عن مراضاة. والثاني: أن القاتل إذا فات الاقتصاص منه بالموت لم يجب في ماله دية، وقد مضى الكلام معه في الأصل الأول، ويأتي الكلام معه في الأصل الثاني، واستدل في هذه المسألة بأن الجماعة إن كانوا كفؤا للواحد إذا قتلوه قتلوا به، وجب أن يكون الواحد كفؤا للجماعة إذا قتلهم قتل بهم، ولأن القصاص إذا ترادف على نفس واحدة تداخل بعضه في بعض كالعبد إذا قتل جماعة، وكالمحارب إذا قتل في الحرابة جماعة، ولأن القصاص حد، فوجب أن يتدخل بعضه في بعض، كحد الزنا والقطع في السرقة ولأنهم اشتركوا في عين ضاقت عن حقوق جميعهم، فوجب أن يكونوا فيها أسوة كغرماء المفلس، ودليلنا قول الله تعالى: {وكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] فمن جعل نفسا بأنفس خالف الظاهر وقال تعالى: {ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} ومن قتله بجماعته أبطل سلطان كل واحد منهم، ولأنها جنايات لا يتداخل خطأها فوجب أن لا يتداخل عمدها، كالأطراف لأن واحدا لو قطع أيدي جماعة قطع عندنا بأحدهم، وأخذ منه ديات الباقين، وعند أبي حنيفة يقطع يده بجماعته ثم يؤخذ من ماله

إن كانوا عشرة تسع ديات يد تقسم بين جماعتهم، فصار هذا الاختلاف إجماعا على أن لا تتداخل الأطراف، ولأنها جنايات لا تتداخل في الأطراف فوجب أن لا تتداخل في النفوس كالخطأ، ولأن جنايات العمد أغلظ من الخطأ، فلم يجز أن يكون أضعف من موجب الخطأ، ولأن حقوق الآدميين إذا أمكن استيفاؤها لم تتداخل كالديون، ولأن للقصاص موضوع لإحياء النفوس. كما قال تعالى: {ولَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} فلو قتل الواحد بالجماعة لكان فيه إغراء بقتل الجماعة، لأنه لا يلتزم بعد قتل الأول شيئا في جميع من قتل، وليسارع الناس بعد ابتدائهم بالقتل إلى قتل النفوس ولم يكفوا، ولم يصر القصاص حياة، وهذا استدلال وانفصال عن جمعه بين قتل الجماعة بالواحد، وقتل الواحد بالجماعة. وأما الجواب عن قياسهم على قتل العبد والمحارب، فإن جعل الأصل فيه العبد. فالجواب عنه أنه لما تداخلت جنايات خطئه تداخلت جنايات عمده وإن جعل الأصل قتل المحارب فقد اختلف أصحابنا في تداخل جنايته فذهب ابن سريج إلى أنها لا تتداخل، ويتحتم قتله بالأول، ويؤخذ من ماله ديات الباقين، وذهب جمهورهم إلى تداخلها، لأنها صارت بانحتام قتله من حقوق الله تعالى، وحقوقه تتداخل وإذا قيل في غير الحرابة، لأنها صارت بانحتام قتله من حقوق الله تعالى، وحقوقه تتداخل وإذا قيل في غير الحرابة لم ينحتم قتله، فكان من حقوق الآدميين وحقوقهم لا تتداخل وكذا الجواب عن قياسهم على الحدود وقياسهم على غرماء المفلس. فالجواب عنه أنه لم يبق لغرماء المفلس عين يستوفون حقوقهم منها، فاستهموا في الموجود منها. ولو كان القاتل مفلسا لكان الأولياء معه بمثابتهم وإذا فارق المفلس يساره وجد الأولياء سبيلا إلى استيفاء حقوقهم، فافترق الجمعان. فصل: فإذا ثبت أن قاتل الجماعة يقتل بأحدهم لم يخل حال قتله لجماعتهم من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يقتلهم واحدا بعد واحد. والثاني: أن يقتلهم في دفعة واحدة. والثالث: أن يشكل حال قتله لهم ومن يقدم قتله منهم. فأما القسم الأول: وهو أن يقتلهم واحدا بعد واحد فأحقهم بالاقتصاص منه ولي الأول، فلا يخاطب أولياء الباقين إلا بعد عرض القصاص على الأول، فإن طلبه اقتص منه للأول وكان في ماله ديات الباقين، فإن اتسع ماله لجميع دياتهم استوفوها، وإن ضاق عنها استهموا فيها بالحصص، وصار المتقدمون والمتأخرون فيها أسوة، وإنما تقدم الأسبق في القصاص، ولم يتقدم في الدية، لأن محل الدية في الذمة، وهي تتسع

لجميعها، فشارك المتأخر الأسبق لاشتراكهما في الذمة، ومحل القود الرقبة، وهي تضيق عن اقتصاص الجماعة، ولا يتسع إلا لواحد، فيقدم الأسبق بها على المتأخر، فإن عفا الأول عن القصاص إلى الدية عرض القصاص على الثاني، فإن استوفاه رجع الأول ومن بعد الثاني بدياتهم في مال القاتل، وإن عفا الثاني عن القصاص إلى الدية عرض القصاص على الثالث، ثم على هذا القياس في واحد بعد واحد إلى آخرهم، فلو عمد الإمام فقتله للأخير فقد أساء وأثم إن علم بتقدم غيره، ولا يأثم إن لم يعلم ولا ضمان عليه في الحالين، وهكذا لو بادر ولي الأخير فقتله قصاصا لم يضمنه، وعزر عليه ورجع الباقون بدياتهم في مال القاتل، ولو كان ولي الأول صغيرا أو مجنونا أو غائبا وقف الاقتصاص من القاتل على إفاقة المجنون وبلوغ الصبي، وقدوم الغائب ثم عرض الإمام عليهم القصاص على ما مضى، فإن لم ينتظر به الإمام بلوغ الصبي وإفاقة المجنون وقدوم الغائب وعجل قتله قصاصا لم يخل من أحد أمرين: إما أن يقتله لهم، أو يقتله لأولياء من بعدهم، فإن قتله لهم لم يكن ذلك قصاصا في حقهم ولا حق غيرهم، لأن لهم العدول عن القصاص إلى الدية فلم يجز أن يفوت عليهم حقهم منها ويصير الإمام ضامنا لدية المقتص منه، لأن قتله لم يكن قصاصا وهل تكون الدية على عاقلته أو في بيت المال؟ على ما مضى من القولين، وإن قتله لمن حضر أولياؤه عن أمرهم جاز وقد أساء بتقديمهم على من تقدمهم، وإن قتله بغير أمرهم كان على ما مضى من قتله في حق الصغير والمجنون والغائب. وأما القسم الثاني: وهو أن يكون قد قتل الجماعة في حالة واحدة، فإن سلموا القود لأحدهم كان أحقهم به، ورجع الباقون بالديات في تركته، وإن تشاحوا فيه وطلب كل واحد أن يقاد يقاد بقتيله أقرع بينهم واختص بقتله من قرع منهم، ورجع الباقون بدياتهم في تركته، فإن بادر أحدهم فاقتص منه بقتيله من غير قرعة، فإن كان بأمر الإمام فقد أساء الإمام ولم يعزر المقتص، وإن كان بغير أمره عزر، وقد استوفي بالاقتصاص حقه ورجع الباقون بدياتهم في تركته، فإن ضاقت اقتسموها بينهم بالحصص من غير قرعة في التقدم، وإن كان للمقتص منه غرما ضربوا بديونهم مع أولياء المقتولين بدياتهم في التركة ليتوزعوها بينهم على قدر حقوقهم. وأما القسم الثالث: وهو أن يشكل حال قتله لهم هل ترتبوا، أو اشتركوا؟ فهذا على ضربين: أحدهما: أن يعترف أولياء جميعهم بالإشكال، فيقال لهم: إن سلمتم القصاص لأحدكم كان أحقكم به وإن تشاححتم أقرع بينكم واقتص منه من قرع منكم. والثاني: أن يختلفوا ويدعي كل واحد منهم أنه الأول، فإن كانت لأحدهم بينة عمل عليها، وإن عدموها رجع إلى الجاني القاتل، فإن اعترف بالتقدم لأحدهم كان أحقهم بالقصاص، وإن لم يعترف أقرع بينهم لنكافئهم، واختص بالقصاص من قرع منهم،

فلو شهد اثنان منهم بالتقدم لأحدهم قبلت شهادتهما؛ لأنهما غير متهمين فيها فإن ردت شهادتهما بجرح سقط حقهما من القصاص بالاعتراف به لغيرهما، والاعتبار بالتقدم أن يراعي وقت الموت لا وقت الجناية، فلو قطع يد زيد ثم قطع يد عمرو فمات عمرو ثم مات زيد استحق زيد القصاص في النفس دون زيد، لأن موته أسبق والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو قطع يد رجل وقتل آخر قطعت يده باليد وقتل بالنفس". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا قطع الجاني يد رجل، ثم قتل آخر قطعت يده للأول، وقتل الثاني. وقال مالك: يقتل بالثاني ويدخل فيه القطع، لأن القتل أعم فاستوعب الحقين ولأن الغرض إفاتة نفسه والزيادة عليه ومثله ولأنه وجب عليه القطع في السرقة والقتل في الردة قتل بالردة ودخل فيه قطع السرقة، وكذلك في الجناية على اليد وعلى النفس، يجب أن يدخل قطع اليد في قتل النفس، وهذا خطأ لقول الله تعالى: {وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] وقال تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فوجب أن يجازى بالأمرين، ويستوفي منه الحقان، ولأن القطع والقتل حقان لشخصين، فلم يجز أن يتداخلا كالديون وسائر الحقوق، ولأنه لما امتنع تداخلهما في الدية امتنع تداخلهما في القود، ولأن الخطأ أخف من العمد وهما لا يتداخلان في الخطأ فكان أولى أن لا يتداخلا في العمد فبطل به الاستدلال الأول، ولا يكون نكالا ومثله، لأنه جزاء فاجتماع قطع السرقة وقتل الردة فقد اختلف أصحابنا في تداخلهما على وجهين: أحدهما: لا يتداخلان ويستوفيان، فيقطع بالسرقة ويقطع بالردة. والثاني: يتداخلان، لأنهما من حقوق الله تعالى، فجاز تداخلهما وحقوق الآدميين لا تتداخل، وهكذا اختلف أصحابنا فيمن زنا بكرا ثم زنا ثيبا، هل يدخل الجلد في الرجم مع اختلافهما في الحكم وارتفاقهما في الموجب على وجهين. فصل: ولو ابتدأ الجاني فقتل رجلا، ثم قطع يد آخر اقتص من يده بالقطع، ثم من نفسه بالقتل ويقدم القطع وإن تأخر عن القتل وإن تقدم، بخلاف القتيلين في تقديم الأسبق فالأسبق؛ لأنه لا يمكن استيفاء القود في القتيلين، فقدم أسبقهما، ويمكن استيفاء القود

في اليد والنفس فربما على الوجه الذي يمكن استيفاؤهما. ولو قدم القتل سقط القطع، وإذا قدم القطع لم يسقط القتل، فلذلك قدم القطع وإن تأخر على القتل وإن تقدم، ولكن مثال القتيلين من الأطراف أن يقطع طرفين متماثلين من اثنين مثل أن تقطع من رجل يمنى يديه ومن آخر يمنى يديه فلا يمكن استيفاء القصاص من اليد الواحدة، فيقدم الاقتصاص منها لأسبقهما كالقتلين لتعذر القصاص فإن عفا الأول اقتص منها للثاني. فإن قيل فالمقتول كان كامل الأطراف، فوجب أن يقتص له من نفس كاملة الأطراف. قيل: كمال النفوس لا يعتبر بكمال الأطراف، لأن القاتل لو كان كامل الأطراف والمقتول ناقص الأطراف قتل به مع كمال أطرافه ولو كان القاتل ناقص الأطراف والمقتول كامل الأطراف قتل به ولا شيء له في زيادة أطرافه، لأن دية النفس وإن نقصت أطرافها كدية النفس وإن كملت أطرافها. فصل: وإذا ابتدأ الجاني فقطع إصبع رجل من يده اليمنى، وقطع من آخر يده اليمنى قدم القصاص في الإصبع لتقدم استحقاقه، فإن اقتص صاحب الإصبع منها اقتص بعده لصاحب اليد وقد اقتص من يد نقصت إصبعا بيده الكاملة فيرجع بعد القصاص على الجاني بدية إصبع وهي عشر الدية، وهذا بخلاف ما قدمناه من القصاص في النفس إذا نقصت أطرافها، لأن الكمال معتبر في تكافؤ الأطراف، وغير معتبر في تكافؤ النفوس؛ لأن دية الأطراف مساوية لدية النفس الكاملة الأطراف، فلو عفا صاحب الإصبع عن القصاص كان له ديتها وقطع لصاحب اليد، ولا شيء له سواه، لأنه قد استوفي القصاص في يد كاملة بيده الكاملة، ولو ترتب القطعان بالضد، فبدأ الجاني فقطع من رجل يده اليمنى ثم من آخر إصبعا من يده اليمنى قدم القصاص لصاحب اليد على القصاص لصاحب الإصبع لتقدم قطع اليد على قطع الإصبع اعتبارا بالأسبق. فإن قيل: فهلا قدمتم القصاص في الإصبع، وإن تأخرت على القصاص في اليد ليستوفي به الحقان مما قدمتم القصاص في اليد، وإن تأخر على القصاص في النفس لاستيفاء الحقين؟ قيل: لما قدمناه من اعتبار الكمال في تكافؤ الأطراف وسقوط اعتباره في تكافؤ النفوس، وقد استحق صاحب اليد بكمال يده الاقتصاص من يد كاملة، فلم يجز أن يقتص له من يد ناقصة مع إمكان الاقتصاص منهما وهي كاملة، وإذا كان كذلك واقتص صاحب اليد سقط القصاص لصاحب الإصبع ورجع بديتها، وإن عفا صاحب اليد عن القصاص رجع بديتها واقتص لصاحب الإصبع، وهكذا قطع الأنملة من رجل وقطع تلك الإصبع من آخر يكون على قياس الإصبع مع الكف.

مسألة: قال المزني رحمه الله: "فإن مات المقطوعة يده الأول بعد أن اقتص من اليد فقياس قول الشافعي عندي أن لوليه أن يرجع بنصف الدية في مال قاطعه لأن المقطوع قد استوفي قبل موته ما فيه نصف الدية باقتصاصه به قاطعه". قال في الحاوي: وصورتها: في رجل قطع يد رجل وقتال آخر فقطعت يده قصاصا للأول، وقتل قودا للثاني ثم مات الأول من سراية يده، صار القطع قتلا وقد فات القود في النفس بالقود الثاني فوجب للمقطوع دية نفسه بسراية القطع إليها، وقد أخذ بالاقتصاص من يده ما يقابل نصف دية نفسه، فوجب أن يرجع وليه في تركه الجاني بنصفها ليصير مستوفيا بالقطع والأخذ بما يقابل جميع دية النفس، ولو كان الجاني قطع من الأول إحدى أصابعه وقتل آخر فاقتص للأول من إصبعه، وقتل للثاني ثم مات الأول من سراية إصبعه كان لوليه أن يرجع في تركة الجاني تسعة أعشار دينه لأنه قد استوفي بقطع الإصبع عشرها، فصار مستوفيا لجميع الدية ولو كان الجاني قطع يدي رجل ثم قتل آخر فقطعت يداه للأول وقتل للثاني ثم سرت يد المقطوع إلى نفسه فمات فلا شيء لوليه، لأنه قد استوفي بقطع اليد كمال الدية، لأن في اليدين جميع الدية. فصل: وإذا قطع إحدى يدي رجل فاقتص منها ثم سرت إلى نفسه فمات كان لوليه أن يقتص من نفس القاطع؛ لأن القطع صار قتلا، فإن عفا عن القود في النفس، إلى الدية كان له الرجوع بنصف الدية، لأنه قد استوفي بقطع اليد ما يقابل نصف الدية، فصار مستوفيا لجميع الدية، ولو كان المقطوع يده، أخذ دية ولم يقتص ثم سرى القطع إلى نفسه فمات سقط القود في النفس، لأن عدوله إلى دية القطع عفو عن القود في النفس، ولو قطع يد رجل فاقتص منهما ثم سرى القطع إلى نفسه فمات، كان لوليه القصاص في النفس، فإن عفا إلى الدية لم يستحقها، لأنه يقطع اليدين قد استوفاهما، وهذا موضع يجب فيه القود ولا تجب فيه الدية، وهو نادر. ولو كان المقطوع أخذ دية يده ثم سرت إلى نفسه لم يكن لوليه قود ولا دية، لسقوط القود بدية القطع واستيفاء دية النفس بدية اليدين. فصل: ولو قطع إحدى يدي رجل فأخذ المقطوع ديتها نصف الدية ثم عاد الجاني إليه فقتله قبل اندمال يده ففيما يلزمه بقتله ثلاثة أوجه حكاهما ابن أبي هريرة: أحدها: وهو ظاهر مذهب الشافعي أنه لا قود عليه في النفس لأخذه نصف الدية

في قطع اليد، ويرجع وليه بنصف الدية، وهو الباقي من دية النفس. والثاني: وهو قول ابن سريج عليه القود في النفس، فإن عفا عنه، فعليه جميع دية النفس وجعل جناية الواحد كجناية الاثنين. والثالث: وهو قول ابن علي بن أبي هريرة عليه القود في النفس، ولا يلزمه إن عفا عن القود إلا نصف الدية، لأن النفس لا تكون تبعا للأعضاء فلم يوجب سقوط القود في اليد سقوطه في النفس، ولم يستحق إلا نصف الدية، لأنه قد أخذ ما فيه نصفها. فصل: إذا قطع نصراني يد مسلم فاقتص المسلم من النصراني ثم مات المسلم من سراية القطع كان لوليه أن يقتص من نفس النصراني، لأن القطع قد صار بالسراية نفسا، فإن عفا عن القصاص في النفس كان فيما يرجع به على النصراني وجهان: أحدهما: يرجع عليه بخمسة أسداس الدية، لأن دية المسلم اثنا عشر ألف درهم ودية النصراني ثلثها أربعة آلاف درهم وقد اقتص من إحدى يديه بنصفها وهو ألفا درهم، وقدرهما سدس دية المسلم، فصار الباقي له خمسة أسداسها. والثاني: وهو أشبه أن يرجع النصراني بنصف الدية لأنه لما رضي المسلم أن يأخذ النصراني بيده ودية اليد نصف دية النفس صار الباقي له نصف الدية ألا تراه لو ابتدأ النصراني بقتل المسلم فرضي وليه أن يقتص منه كانت نفسه بنفس المسلم ولم يرجع وليه بفاضل ديته، كذلك في اليد، ولو كان النصراني قطع يدي المسلم فاقتص المسلم منها ثم مات المسلم كان لوليه القصاص في النفس فإن عفا عنه إلى الدية كان على الوجهين أيضا: أحدهما: يرجع عليه بثلثي الدية؛ لأنه قد أخذ منها باليدين دية نصراني قدرها أربعة آلاف درهم وذلك ثلث دية المسلم فبقي له ثلثاها. والثاني: أنه لا شيء له عليه، لأن في يدي النصراني دية نفسه فصار في الاقتصاص منها كالمقتص من نفسه، وعلى هذين الوجهين لو قطعت امرأة يد رجل فاقتص منها ثم مات الرجل كان لوليه أن يقتص من نفس المرأة، فإن فعا عنها إلى الدية رجع عليها في الوجه الأول بثلاثة أرباع الدية، لأن دية المرأة نصف دية الرجل وقد أخذ بيدها نصف ديتها وهي ربع دية الرجل فبقي له ثلاثة أرباعها. وعلى الوجه الثاني: يرجع عليها بنصف الدية، لأنه قد أخذ باليد نصف الدية، والديتان مع تفاضلهما يتماثلان في القصاص، ولو قطعت المرأة يدي الرجل فاقتص منها ثم مات: فعلى الوجه الأول يرجع وليه عليها إن لم يقتص من نفسها بنصف الدية، ولا يرجع عليها في الوجه الثاني بشيء لاقتصاصه من يدين يجب فيها دية النفس.

فصل: سراية الجناية مضمونة على الجاني، وسراية القصاص غير مضمونة على المقتص فإذا قطع رجل يد رجل فاقتص المجني عليه من الجاني، ثم مات المجني عليه من القطع، كانت نفسه مضمونة على الجاني، ولو مات الجاني من القصاص كانت نفسه هدرا لا يضمنها المقتص. وقال أبو حنيفة: سراية القصاص مضمونة على المقتص كما أن سراية الجناية مضمونة على الجاني، فإذا مات الجاني مع سراية القصاص ضمن المقتص جميع دية نفسه على عاقلته، استدلالا بأن ما حدث عن المباشرة كان مضمونا على المباشر كالجاني. ولأن القصاص مباح وليس بلازم لتخيير وليه بين فعله وتركه كضرب الرجل لزوجته والأب لولده، ثم ثبت أن ما حدث من التلف عن ضرب الزوج والأب مضمون عليهما كذلك ما حدث عن القصاص يجب أن يكون مضمونا على المقتص. ودليلنا قول الله تعالى: {ولَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41)} [الشورى:41] وروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما قالا: "من مات من حد أو قصاص فلا دية له الحق قتله" وليس لهما مخالف فصار إجماعا، ولأن ما استحق قطعه بالنص لم يضمن سرايته كالسرقة، ولأن السراية معتبرة بأصلها فإن كان مضمونا لحظره ضمنت سرايته، وإن كان هدرا لإباحته لم يضمن سرايته اعتبارا بالمستقر في أصول الشرع بأن من أوفد نارا في ملكه فتعدت إلى جاره، أو أجرى الماء في أرضه فجري إلى أرض غيره لم يضمن، ولو أوقد النار في غير ملكه وأجرى الماء في غير أرضه ضمن بتعديهما، ولو حفر بئرا في ملكه لم يضمن ما سقط فيها ولو حفرها في غير ملكه ضمن ما سقط فيها كذلك سراية القصاص عن مباح فلم يضمن وسراية الجناية عن محظور فضمنت، وهذا دليل وانفصال عن الجمع بين السرايتين، وما ذكره من ضرب الزوج والأب فالفرق بينه وبين القصاص تقدير القصاص بالشرع نصا، فلم يضمن والضرب عن اجتهاد فضمن، كما لا يضمن ما حدث عن جلد الزاني ويضمن ضرب التعزير. فصل: إذا قطع رجل يد رجل فاقتص المجني عليه من الجاني ثم سرى القطعان إلى النفس، فمات المجني عليه ومات الجاني فهذا على ضربين: أحدهما: أن يتقدم موت المجني عليه على موت الجاني، فيجزي قطع القصاص وسرايته عن قطع الجاني وسرايته؛ لأنه لما قامت السراية في الجناية مقام المباشرة وجب أن تقوم السراية في القصاص مقام المباشرة؛ لأن المستحق على الجاني أخذ نفسه وقد أخذها ولي المجني عليه بسراية قوده، هذا ما قاله أصحابنا وعندي فيه نظر؛ لأن سراية المجني عليه غير مضمونة، فلم يجز أن يستوفي بها سراية الجاني وهي مضمونة.

والثاني: أن يكون موت الجاني قبل موت المجني عليه، ففيه وجهان: أحدهما: لا يجزي ما تقدم من سراية القصاص في القود عما حدث بعده من سراية الجناية؛ لأن تقديم القصاص من قبل استحقاقه لا يجزي بعد استحقاقه؛ لأن يصير سلفا، والسلف في القصاص لا يجوز فعلى هذا يؤخذ من تركة الجاني نصف الدية. والثاني: أنه تجزي سراية القصاص وإن تقدمت عما وجب بالسراية عن الجناية وإن تأخرت لأن كل واحدة من السرايتين تابعة لأصلها، وقطع القصاص متأخر، فجرى على ما تقدم من سرايته حكم المتأخر، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولو قتله عمدا ومعه صبي أو معتوه أو كان حر وعبد قتلا عبدا أو مسلم ونصراني قتلا نصرانيا أو قتل ابنه ومعه أجنبي فعلى الذي عليه القصاص القصاص وعلى الآخر نصف الدية في ماله وعقوبة إن كان الضرب عمدا. قال المزني رحمه الله: وشبه الشافعي أخذ القود من البالغ دون الصبي بالقاتلين عمدا يعفو الولي عن أحدهما إن له قتل الآخر. فإن قيل: وجب عليهما القود فزال عن أحدهما بإزالة الولي قيل فإذا أزاله الولي عنه أزاله عن الآخر فإن قال لا قيل فعلهما واحد فقد حكمت لكل واحد منهما بحكم نفسه لا بحكم غيره. قال: فإن شركه قاتل خطأ فعلى العامد نصف الدية في ماله وجناية المخطئ على عاقلته واحتج على محمد بن الحسن في منع القود من العامد إذا شاركه صبي أو مجنون فقال: إن كنت رفعت عنه القود لأن القلم عنهما مرفوع وإن عمدهما خطأ على عاقلتهما فهلا أقدت من الأجنبي إذا قتل عمدا مع الأب لأن القلم عن الأب ليس بمرفوع وهذا ترك أصلك. قال المزني رحمه الله: قد شرك الشافعي رحمه الله محمد بن الحسن فيما أنكر عليه في هذه المسألة لأن رفع القصاص عن الخاطئ والمجنون والصبي واحد فكذلك حكم من شاركهم بالعمد واحد". قال في الحاوي: إذا اشترك اثنان في قتل نفس لم يخل حالهما من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون كل واحد منهما لو انفرد بقتله قتل به كحرين قتلا حرا أو عبدين قتلا عبدا، أو كافرين قتلا كافرا، فعليهما إذا اشتركا في قتله القود، لأن كل واحد منهما لو انفرد بقتله وجب عليه القود. والثاني: أن يكون كل واحد منهما لو انفرد بقتله لم يجب عليه القود، كحرين قتلا عبدا، أو مسلمين قتلا كافرا، فلا قود عليهما إذا اشتركا لسقوط القود عن كل واحد منهما إذا انفرد.

والثالث: أن يجب القود على أحدهما لو انفرد، ولا يجب على الآخر إذا انفرد، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون سقوط القود عنه لو انفرد لمعنى في نفسه، كالأب إذا شارك أجنبيا في قتل ولده، وكالحر إذا شارك عبدا في قتل عبده، وكالمسلم إذا شارك كافرا في قتل كافر، فيسقط القود عنه لمعنى في نفسه لا في فعله. والثاني: أن يكون سقوط القود عنه لو انفرد لمعنى في فعله كالخاطئ إذا شارك عاملا في القتل أو تعمد الخطأ إذا شارك عمدا محضا فيسقط القود عنه لمعنى في فعله لا في نفسه، فاختلف الفقهاء في شريك من سقط عنه القود بأحد هذين الضربين، هل توجب الشركة سقوط القد عنه بسقوطها عن شريكه أم لا؟ على ثلاثة مذاهب: أحدهما: وهو مذهب مالك، أنه لا يسقط القود عنه بسقوطه عن شريكه، سواء كان سقوط القود عنه لمعنى في نفسه كالأب إذا شارك أجنبيا، أو لمعنى في فعله كالخاطئ إذا شارك عامدا. والثاني: وهو مذهب أبي حنيفة أنه يسقط القود عنه لسقوطه عن شريكه، سواء سقط القود عنه لمعنى في نفسه كالأب إذا شارك أجنبيا أو لمعنى في فعله كالخاطئ إذا شارك عامدا. والثالث: وهو مذهب الشافعي أنه إذا شارك من سقط القود عنه لمعنى في نفسه كالأب إذا شارك أجنبيا لم يسقط القود عن الأجنبي، وإن شارك من سقط عنه القود لمعنى في فعله كالخاطئ إذا شارك عامدا لم يجب القود على العامد، فصار الخلاف مع مالك في شريك الخاطئ، عنده يقتل، وعند الشافعي لا يقتل، ومع أبي حنيفة في شريك الأب عند أبي حنيفة لا يقتل، وعند الشافعي يقتل. فأما مالك فاستدل على أن شريك الخاطئ يقتل، بأن كل من وجب عليه القود إذا انفرد وجب عليه القود إذا شارك فمن ليس عليه قود، كشريك الأب، ولأنه لو جاز أن يتعدى حكم الخاطئ إلى العامد في سقوط القود لجاز أن يتعدى حكم العامد إلى الخاطئ في وجوب القود، ولأنه لما لم يتغير حكم الدية بمشاركة الخاطئ لم يتغير بها حكم القود. والدليل على أن شريك الخاطئ لا يقتل قول النبي صلي الله عليه وسلم: " ألا إن في قتيل العمد الخطأ قتيل السوط والعصا مائة من الإبل مغلظة" وهذا القتيل قد اجتمع فيه عمد وخطأ، فوجب أن يستحق فيه الدية دون القود، ولأنها نفس خرجت بعدم أو خطأ، فوجب أن يسقط فيها القود، كما لو جرحه الواحد عمدا أو جرحه خطأ؟ ولأنه إذا اجتمع في النفس موجب ومسقط يغلب حكم المسقط على حكم الموجب، كالحر إذا قتل من نصفه مملوك ونصفه حر، ولأن سقوط القود في الخطأ يجري في حق القاتل مجرى عفو بعد الأولياء وسقوطه عن الأب يجري مجرى العفو عن أحد القاتلين، وعفو بعض الأولياء يوجب

سقوط القود في حق من بقي من الأولياء والعفو عن أحد القتلة لا يوجب سقوط القود عمن بقي من القتلة، وهذا دليل وانفصال عن جميعه بين الأمرين: وقوله: "لو تعدى الخطأ إلى العمد لتعدي العمد إلى الخطأ" فهو خطأ بما ذكرناه، وأن اجتماع الإيجاب والإسقاط يقتضي تغليب حكم الإسقاط على الإيجاب. وقوله: "لما لم يتغير حكم الدية لم يتغير حكم القود" ليس بصحيح، لأن الدية تتبعض والقود لا يتبعض. فإذا ثبت سقوط القود عن العامد لسقوطه عن الخاطئ فعلى العامد نصف الدية مغلظة حالة في ماله، وعلى عاقلة الخاطئ نصف الدية مخفضة إلى أجلها. فصل: وأما أبو حنيفة فاستدل على أن شريك الأب لا يقتل بأنه شارك من لم يجب عليه القود، فوجب أن يسقط عنه القود كشريك الخاطئ، ولأن مشاركة الأب كمشاركة المقتول ثم ثبت أن المقتول لو شارك قاتله لسقط عنه القود، كذلك الأب إذا شارك الأجنبي وجب أن يسقط عنه القود. والدليل على أن شرك الأب يقتل عموم قوله تعالى: {ومَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] ولأنها نفس مضمونة خرجت بعمد محض، فلم يكن سقوط القود عن أحد القاتلين موجبا لسقوطه عن الآخر، كالعفو عن أحدهما لا يوجب سقوط القود عن أحد القاتلين موجبا لسقوطه عن الآخر، كالعفو عن أحدهما لا يوجب سقوط القود عنهما، ولأنه لما لم يتغير حكم الأب بمشاركة الأجنبي في وجوب القود عليه لم يتغير حكم الأجنبي بمشاركة الأب في سقوط القود عنه. فأما الجواب عن قياسه على الخاطئ فهو أن سقوطه عن الخاطئ لمعنى في فعله، وقد امتزج الفعلان في السراية فلم يتميزا، وسقوطه عن الأب لمعنى في نفسه وقد تميز القاتلان فلم يستويا، وجمعه بين شركة الأب وشركة المقتول ففيه قولان: أحدهما: أن شريك المقتول، فعلى هذا يسقط الاستدلال. والثاني: وهو الأصح لا يقتل، وإن قتل شريك الأب، لأن شركة المقتول إبراء وليست شركة الأب إبراء. فصل: فأما البالغ العاقل إذا شارك في القتل صغيرا أو مجنونا، فإن كان قتل الصبي والمجنون على صفة الخطأ فلا قود على شريكه، لأنه لو كان الخطأ من بالغ عاقل سقط به القود عن العامد، فكان أولى أن يسقط به غير الصغير والمجنون، وإن كان قتل الصغير والمجنون على صفة العمد، فقد اختلف قول الشافعي في عمدهما هل يكون عمدا أو خطأ؟ على قولين:

أحدهما: وهو قول أبي حنيفة أن عمدها خطأ لقول النبي صلي الله عليه وسلم: " رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم" ولأنه لو كان عمدا لتعلق به القود والمأثم، وبسقوطهما عنه يجري عليه حكم الخطأ، فعلى هذا لا قود في العمد على البالغ العاقل إذا شاركهما، وعليه نصف الدية حالة في ماله، وعليهما نصف دية الخطأ مخففة على عواقلهما. والثاني: أن عمدها عمد، لأنهما قد يميزان مضارهما من منافعهما، ولأن النبي صلي الله عليه وسلم قد جعل للصبي تمييزا في اختيار الأبوين، وقدمه للصلاة إماما، ولأنه لما كان عمده للأكل في الصيام عمدا وعمد المجنون خطأ لكان الفرق بينهما أشبه، لأن العبادات تصح من الصبي، ولا تصح من المجنون، لكن القول في الجمع بينهما مطلق فأطلقناه مع الفرق الذي أراه، فعلى هذا يجب على العامد إذا شاركهما في القتل القود بخروج النفس بعمد محض، ولا قود عليهما، لأن ما تعلق بالأبدان ساقط عنهما، وعليهما نصف الدية مغلظة حالة من أموالهما، لأن ما تعلق بالأموال واجب عليها، فصار سقوط القود وعنهما على القول الأول لمعنى في فعلهما فلذلك سقط القود عمن شاركهما، وسقوطه عنهما على القول الثاني معنى في أنفسهما، فلذلك وجب القود على من شاركهما. فصل: فأما العامد إذا شارك في القتل سبعا أو ذئبا أو نمرا لم يخل حال الرجل العامد، ومن شاركه من سبع أو ذئب من أربعة أقسام: أحدها: أن يكون الرجل موجئا والسبع جارحا، فعلى الرجل القود، فإن عفا عنه إلى الدية فعليه جميعها. والثاني: أن يكون الرجل جارحا والسبع موجئا، فينظر، فإن تقدمت توجئة السبع، فلا ضمان على الرجل من قود ولا أرش، وإن تقدمت جراحة الرجل ضمن الجراحة وخدها بقودها أو أرشها. والثالث: أن يكونا موجئين فينظر، فإن تقدمت توجئة السبع، فلا ضمان على الرجل من قود ولا أرش، وإن تقدمت توجئة الرجل فعليه القود أو جميع الدية. والرابع: أن يكونا جارحين يجوز أن يموت من كل واحد منهما ويجوز أن يعيش، ففي وجوب القود على الرجل قولان: أحدهما: وهو أظهرهما، عليه القود لخروج النفس بالعمد. والثاني: لا قود عليه، لأنه لا تمييز للسبع، فصار كاشتراك العمد والخطأ، وهكذا مشاركته للحية إذا نهشت يكون في وجوب القود عليه قولان: أحدهما: تجب. والثاني: لا تجب، وعليه نصف الدية حالة في ماله.

فصل: وإذا اشترك في قتل العبد سيده وعبد آخر فلا ضمان على السيد من قود ولا قيمة، وفي وجوب القود على العبد المشارك له قولان، بناء على شريك السبع، لأن فعل السيد غير مضمون، كما كان فعل السبع غير مضمون. أحدهما: يجب عليه القود لخروج النفس بعمد محض. والثاني: لا قود عليه لمشاركة من لا ضمان عليه، وهكذا لو أن مسلما جرح رتدا ثم أسلم فجرحه مسلم آخر ومات فلا قود على الأول، لأن جرحه في الردة غير مضمون، وفي وجوب القود على الثاني قولان؛ لأن شارك من لم يضمن: أحدهما: يقاد منه. والثاني: لا قود عليه، وعليه نصف الدية، وعلى هذا لو أن رجلا قطعت يده قودا وقطع آخر يده الأخرى ظلما ومات المقطوع، فقد خرجت لنفس عن قصاص مباح وظلم محظور، ففي وجوب القصاص على ظالمه بالقطع قولان: أحدهما: يقتص من نفسه. والثاني: لا يقتص من نفسه، وعليه نصف الدية، فإن أراد أن يقتص من اليد وجب له على القولين معا. فصل: فأما كلام المزني فيشتمل على فصلين: أحدهما: ما حكاه عن الشافعي في مناظرته لمحمد بن الحسن في شريك الصبي، لم أسقط عنه القود؟ فقال محمد بن الحسن: لأن القلم عنه مرفوع، فأجابه الشافعي: بأن شريك الأب لا قود عليه عندك، وليس القلم مرفوعا عن الأب، فأبطل عليه تعليله بارتفاع القلم. قال أصحاب أبي حنيفة: لا يلزم محمد بن الحسن هذه لمناقضة، لأنها نقيض العكس دون الطرد، والنقيض إنما يلزم في الطرد بأن توجد العلة ولا حكم، ولا يلزم في العكس بأن يوجد الحكم ولا علة فعنه جوابان: أحدهما: أن من مذهبهم نقض العلة بطردها وعكسها، فألزمهم الشافعي على مذهبهم. والثاني: أن التعليل إذا كان لعين انتقض بإيجاد العلة ولا حكم، ولا ينتقض بإيجاد الحكم ولا علة، وإن كان التعليل لجنس انتقض بإيجاد العلة ولا بإيجاد الحكم ولا علة، وتعليل محمد بن الحسن قد كان للجنس دون العين، فصح انتفاضه بكلا الأمرين. والفصل الثاني: من كلام المزني أن اعترض به على الشافعي فقال قد شارك محمد بن الحسن فيما أنكر عليه، لأنه رفع القصاص عن الخاطئ حتى أسقط به القود

من العامد, ورفع القصاص عن الصبي ولم يسقط به القود عن البالغ, وهذا الاعتراض وهم من المنزي, لأن الشافعي حمل ذلك على اختلاف قوليه في عمد الصبي هل يكون عمدا أو خطأ, فجعله في أحد قوليه عما فلم يسقط به القود عن البالغ إذا شاركه لوجود الشبهة في الفاعل دون الفعل, بخلاف الخاطيء وإن جعل عمده في القول الثاني خطأ سقط به القود عن البالغ لوجود الشبهة في القتل دون الفاعل كالخاطيء, فكان اعتراضه زللا, والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولو قتل أحد الوليين القاتل بغير أمر صاحبه ففيهما قولان أحدهما لا قصاص بحال للشبهة قال الله تعالى: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} يحتمل أي ولي قتل كان أحق بالقتل وهو مذهب أكثر أهل المدينة ينزلونه منزلة الحد لهم عن أبيهم إن عفو إلا واحدا كان له أن يحده. قال الشافعي رحمه الله: وإن كان ممن لا يجهل عزر وقيل للولاة معه لكم حصصكم والقول من أين يأخذونها واحد من قولين أحدهما أنها لهم من مال قاتل المقتول على قاتل صاحبهم بحصة الورثة معه من الدية. والقول الثاني في حصصهم أنهم لهم في مال أخيهم القاتل قاتل أبيهم لأن الدية إنما كانت تلزمه لو كان لم يقتله ولي فإذا قتله ولي فلا يجتمع عليه القتل والغرم. والقول الثاني: أن على من قت من الأولياء قاتل أبيه القصاص حتى يجتمعوا على القتل. قال المزني رحمه الله: وأصل قوله إن القاتل لو مات كانت الدية في ماله. قال المزني رحمه الله: وليس تعدي أخيه بمبطل حقه ولا بمزيله عمن هو عليه ولا قود للشبهة". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن القود لا يستحقه الأولياء إلا باجتماعهم عليه, وأن ليس لأحدهم أن ينفرد به, فإن بادر أحد الوليين فقتل القاتل انقسمت حاله فيه ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكون عن إذن أخيه وشريكه فيه, فلا يكون بقتله متعديا, وقد استوفي القود في حقهما. والثاني: أن يكون بعد عفو أخيه وعلمه بعفوه فهو متعد بهذا القتل, والصحيح أن عليه القود لسقوطه في حقهما بعفو أحدهما. والثالث: أن لا يكون من أخيه إذن ولا عفو, فهذا على ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يحكم له الحاكم بالقود, فالصحيح أن لا قود عليه لنفوذ حكمه بمختلف فيه.

والثاني: أن يحكم عليه الحاكم بالمنع من القود, فالصحيح أن عليه القود لنفوذ حكمه برفع الشبهة فيه. والثالث: أن لا يكون من الحاكم فيه حكم بتمكين ولا منع, ففي وجوب القود عليه قولان منصوصان: أحدهما: لا يجب عليه القود, وهو مذهب أبي حنيفة لأمرين: أحدهما: إنه شريك في استحقاق النفس التي قتلها فوجب أن تكون الشركة شبهة في سقوط القود عنه كالأمة بين شريكين, إذا وطئها أحدهما سقط الحد عنه لشبهة الشركة. والثاني: أنه لما قتل نفسا استحق بعضها لم يجز أن يقاد من نفسه التي لم يستحق بعضها, لعدم التكافؤ كما لا يقاد الحر بمن تصفه عبد ونصفه حر. والقول الثاني: يجب عليه القود, وإن كان شريكا لأمرين: أحدهما: أن القود يجب في قتل بعض النفس كما يجب في قتل جميعها, لأن الشريكين في القتل يقاد كل واحد منهما, وهو متلف لبعض النفس, كما يقاد به إذا انفرد بقتله, كذلك هذا الشريك قد صار قائلا لبعض النفس بعد استحقاق بعضها فوجب عليه القود. والثاني: أن استحقاقه لبعض النفس كاستحقاقه للقود من بعض الحسد, ثم ثبت أنه لو استحق القود من بعض الجسد فقتله وجب عليه القود, كذلك إذا استحق بعض نفسه فقتله وجب عليه القود, وقد خرج من هذين القولين قول فيما ذكرنا صحة حكمه من الأقسام المتقدمة إيجابا وإسقاطا. فصل: فإذا تقرر توجيه القولين تفرع الحكم عليهما, فإذا قبل بالقول الأول, أنه لا قود على الولي القاتل, وهو اختيار المزني فعليه الدية وقد سقط عنه نصفها, وهو ما استحقه من دية أبيه إذا جعل الين المتماثل قصاصا, وبقي عليه نصف دية قاتل أبيه, وبقي لأخيه نصف دية أبيه, وفي انتقال حقه من هذا النصف عن قاتل أبيه إلي أخيه القاتل قولان منصوصان: أحدهما: وهو اختيار المزني أنها لا تنتقل ويرجع الأخ بحقه من نصف الدية في تركة قاتل أبيه, ويرجع ورثة قاتل الأب بنصف الدية على الأخ القاتل, وإنما لما ينتقل حق الأخ الذي ليس بقاتل إلي الأخ القاتل, لأنه حقه على قاتل أبيه, فلم ينتقل إلي قاتله كما لو قاتله غير أخيه, فعلى هذا لو أبرأ ورثة قاتل الأب للأخ القاتل بريء, ولو أبرأه أخوه لم يبرأ, لأن ما عبيه من الدية مستحق لورثه قاتل أبيه دون أخيه, ولو أبرخ الأخ ورثة قاتل

أبيه. برؤوا لأن حقه على قاتل أبيه دون أخيه والثاني: أنه انتقل حق الأخ من نصف الدية عن قاتل أبيه إلي أخيه القاتل؛ لنه قد صار بالقتل مستوفيًا لحقهما من قتل أبيهما كما لو كانت لهما وديعة فأخذهما أحدهما من المودع كان قابضا لحقهما, وللأخ مطالبته بحقه منها دون المودع, فعلى هذا قد براء ورثة قاتل الأب من جميع الدية وصار ما على القاتل من نصف الدية لأخيه دونه, فلو أبرأه أخوه براء ولو أبرأه ورثة قاتل أبيه لم يبرأ, وإذا قيل بالقول الثاني أن القوود على ولي القاتل واجب فلورثة القاتل لأبيه الخيار, بين أن يقتصوا أو يعفوا عن القصاص إلي الدية, أو يعفوا عن القصاص والدية. فإن اقتصوا فقد استوفوا حقهم قودًا, وعليهم في تركة أبيهم دية قتيله يكون نصفها لوليه الباقي, ونصفها لورثة وليه المقتول قودا, وإن عفوا عن القصاص إلي الدية وجبت لهم دية أبيهم على قاتله, ووجب عليهم في تركة أبيهم دية مقتولة فيبرؤوا من نصفها وهو حق القاتل, ويبقى لهم نصف الدية, وفي انتقال ما عليهم من نصفها للولي الذي ليس بقاتل إلي من لهم عليه نصفها وهو الولي القاتل قولان على ما ماضى, لو قيل بسقوط القود حكمًا وتفريعًا فإن عفوا عن القصاص والدية جميعًا سقط في قتل أبيهم ووجب في تركته دية قتيله لوليه ليستوي فيها القتل وغير القاتل, ويجري قتل أبيهم بعد عفوهم مجرى موته, ولو مات القاتل وجبت الدية في تركته, وإن سقط القود بموته. وقال أبو حنيفة: إذا مات القاتل سقطت عنه الدية, وكذلك لو قتله أجنبي سقطت عنه دية قتيله, ووجب له القصاص على قاتله, بناء على أصله في وجوب الدية بالمراضاة عند النزول عن القصاص الممكن, والموت, قد منع إمكان القصاص فمنع من وجوب الدية, واستدلالًا بعده بأمرين: أحدهما: أن سقوط القصاص بتلف المقتص منه يوجب سقوط الدية, كالعبد الجاني إذا مات قبل القصاص. والثاني: أنه لو انتقل القصاص من نفسه إلي الدية عند تلفه, لصارت نفسه مضمونة عليه, وما أحد يضمن نفسه, وإنما يضمنها غيره. ودليلنا مع بنائه على أصلنا في أن الدية تجب على القاتل من غير مراضاة قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فمن قتل بعد قتيلًا فأهله بين خيرتين, إن أحبوا قتلوا, وإن أحبوا أخذوا العقل" ومن خير بين حقين, إذا فاته أحدهما تعين حقه في الآخر, ولأن سقوط القصاص بعد استحقاقه بغير اختيار مستحقة يوجب الانتقال إلي الدية' كما لو عفا بعض الورثة انتقل حق من لم يعف إلي الدية, ولأن الدية لما وجبت في أخفّ القتلين من الخطأ كان وجوبها في أغلظهما من العمد أولى, ولأن القصاص مماثلة لجنس متلف, فوجب إذا تعذر استيفاء المثل أن يستحق الانتقال إلي بدله من المال, كمن استهلك ذا مثل من الطعام فأعوز انتقل إلي قيمته. فأما قياسه على موت العبد الجاني فلم تسقط الدية بموته, ولكن لتعذر وجودها

بعدم ملكه وقف استحقاقها بعد موته, وكذلك لو مات معسرًا. وقوله: "إن نفسه غير مضمونة عليه" فعنه جوابان: أحدهما: أنه لما جاز أن يضمنها حيًا ببذل الدية جاز أن يضمنها ميتًا بوجوب الدية. والثاني: أن يضمن الدية بدلًا من نفس قتيله لا من نفسه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولو قطع يده من مفصل الكوع فلم يبرأ حتى قطعها آخر من المرفق ثم مات فعليهما القود يقطع قاطع الكف من الكوع ويد الآخر من المرفق ثم يقتلان لأن ألم القطع الأول واصل إلي الجسد كله". قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا توالت جنايتان فأزالت الثانية منهما محل الأولى, مثل أن يقطع أحدهما يده من مفصل الكوع, ويقطع الثاني بقيتهما من الكتف أو المرفق أو يقطع أحدهما إصبعه ويقطع الثاني بقية كفه, أو يكون مثل ذلك في قطع القدم والساق, ثم يموت المقطوع ودمه سائل, فمذهب الشافعي أنهما قاتلان, وعليهما القصاص في الطرف وفي النفس. وقال أبو حنيفة: الأول قاطع يجب عليه القصاص في اليد دون النفس. والثاني: يجب عليه القصاص في النفس دون اليد, احتجاجا بأن السراية تحدث عن محل الجناية, فإذا زال محلها زالت سرايتها لانقطاع مادتها, ألا ترى أن سراية الأكلة تزول بقطع محلها, فصار انقطاعها كالاندمال, وصار الثاني الكمنفرد, أو الموجيء فوجب أن يكون هو القاتل دون الأول. ودليلنا هو أن يموت بالسراية حادث عن ألمها, وألم القطع الأول قد سرى في الحال إلي الجسد كله قبل القطع الثاني, فانتقل محله إلي القلب الذي هو مادة الحياة فإذا حدث القطع الثاني أحدث ألمًا ثانيًا زاد على الألم الأول, فصار الموت حادثًا عنهما لا عن الثاني منهما, كمن سجر تنورًا بنار حمى ثم أخرج سجاره وسجره بأخرى تكامل حماه بهما لم يكن تكامل الحمى منسوبًا إلي السجار الثاني, وإن زال السجار الأةل' بل كان منسوبًا إليهما, كذلك تكامل الألم في القلب لم يكن بالقطع الثاني دون الأول, بل كان بالثاني والأول. فإن قيل: فزيادة الألم منقطعة وزيادة الألم الثاني مستديمة, فيجب أن يكون الموت منسوبًا إلي الألم الثاني لاتصال مادته دون الألم والأول لانقطاع مادته عنه جوابان: أحدهما: أن هذا يقتضي زيادة الألم الثاني وقلة الأول, وليس اختلافهما في القلة

والكثرة مانعًا من تاسويهما في القتل, كما لو جرحاه فكانت جراحة أحدهما أكثر ألمًا كانا سواء في قتله. والثاني: أن انقطاع أسباب الألم لم يمنع من مساواة ما بقيت أسبابه في إضافة القتل إليهما, كما لو ضربه أحدهما بخشبة وجرحه الآخر بسيف كانا شريكين في قتله, وإن كان أثر الخشبة مرتفعًا وأثر السيف باقيًا, وفي هذين الجوابين دليل في المسألة وانفصال عن الاعتراض وما ذكروه من قطع الأكلة لانقطاع سرايتها فالمقصود به قطع الزيادة دون الإزالة, وأن لا يسري إلي ما داوزه, وأما الاندمال فلا يكون إلا بعد زوال الألم والقطع لا يزيل الألم وإنما يقطع زيادته فافترقا. وأما التوجئة فلا بقاء للنفس معها, فارتفع بها حكم السراية, وناظرتي في هذه المسألة القاضي أبو بكر الأشعري, وقد استدللت فيها بما تقدم, فاعترض عليّ بأن الألم عرض لا يبقى زمانين فاستحال أن يبقى مع انقطاع مادته فأجبته عنه بأن الألم لما وصل إلي القلب صار محلًا له, فتوالت منه مواده كما يتوالى من محل القطع. فصل: فإذا ثبت أنهما قاتلان فللولي أن يقتص من الأول, فيقطع يده بالجناية ويقتله بالسراية, فأما الثاني فإن كان أقطع الكف فللولي أن يقطع ذراعه من المرفق بالجناية ويقتله بالسراية, وإن كانت كفه باقية على ذراعه جاز له أن يقتله, وفي جواز قطع ذراعه قبل قتله قولان: أحدهما: وهو المنصوص عليه ها هنا يجوز, لأن المقصود به إفاته نفسه فلم تعتبر زيادته. والثاني: لا يجوز أن يقطع؛ لأنه إيجاب قصاص فيما ليس فيه قصاص, وهكذا كل جرح إذا انفرد لم يقتص منه كالجائفة والمأمومة إذا صارتا نفساً, ففي جواز القاص منه عند إرادة قتله قولان: مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا تشاح الولاة قيل لهم لا يقتله إلا واحد منكم فإن سلمتم لواحد أو لأجنبي جاز قتله وإن تشاححتم أقرعنا بينكم أيكم خرجت قرعته خليناه وقتله ويضرب بأصرم سيف وأشد ضرب". قال في الحاوي: قد مضت هذه المسألة وهي تشتمل على فصلين: أحدهما: صفة القصاص وقد استوفيناه, وذكرنا أنه إن كان في طرف استوفاه الإمام, وإن كان في نفس استوفاه الأولياء.

باب القصاص بغير السيف

والثاني: في مستحقه من الأولياء وهو معتبر بأحوالهم وهم ثلاثة أصناف: أحدهما: أن لا يكونوا من أهل القصاص وقد بيناهم. والثاني: أن يكونوا من أهل القصاص وقد بيناهم. والثالث: أن يكون بعضهم من أهله, وبعضهم من غير أهله فإن كانوا جميعاً من غير أهله كانوا إذا جاز أمرهم بالخيار بين أن يوكلوا من يختارونه من أهل القصاص, وبين أن يفوضوه إلي الإمام لييستنيب لهم من يختاروه, وإن كان بعضهم من أهله وبعضهم من غير أهله خرج منهم من كان من غير أهله, وبقي أهله هم المباشرون له ويكون التنازع فيه مقصورًا عليهم, فإن قال من ليس من أهله انا أدخل في التنازع لأستنيب من يباشره احتمل وجهين: أحدهما: له ذلك لمشاركته لهم في الاستحقاق. والثاني: ليس له ذلك, لأنه موضوع للتشفي, فكان مباشرة المستحق له أولى من مباشرة النائب عن مستحقه, وإن كانوا جميعاً من أهله لم يجز أن يشتركوا في استيفائه, لأنه قتل واحد لم يقتص منه إلا واحد وتولاه أحدهم, فإن فوضوه إلي واحد منهم كان أحقهم باستيفائه, والأولى أن يختاروا أشدهم وأقواهم وأدينهم, فإن عدلوا عنه إلي أدونهم جاز, وإن تنازعوا فيه وتشاجروا عليه أقرع بينهم, فإذا جرخت القرعة لأحدهم صار أحقهم باستيفائه, لكن لا يجوزن أن يستوفي القصاص بعد خروج قرعته إلا عن إذن من جميعهم؛ لأن الإقراع بينهم لا يكون إذنًا منهم في الاستيفاء, وإنما يتعين به مباشرة الاستيفاء, ويكون الاستيفاء موقوفًا على اتفاقهم. باب القصاص بغير السيف مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "وإن طرحه في نار حتى يموت طرح في النار حتى يموت". قال في الحاوي: قد مضى الكلام في وجوب القصاص في القتل بجميع ما يقتل مثله من حديد وغير حديد, وذكرنا خلاف أبي حنيفة في أن لا قصاص إلا في القتل بالحديد والنار, ولا قود في القتل بمثقلات وغيرها إلا بمثقل الحديد وحده, فأما استيفاء القصاص فمعتبر بحال بالقتل, فإن كان بالحديد لم يجز أن يستوفي القصاص إلا بمقله, وإن كان بغير الحديد كان الولي مخيرًا في استيفائه بمثله أو بالحديد. وقال أبو حنيفة: إذا قتله بمثقل الحديد أو بالنار لم يجز أن يستوفي القصاص منه إلا بمحدد الحديد دون مثقله, ودون النار, استدلالًا بما رواخ سعيد بن المسيب عن أبي

هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا قود إلا بالسيف". وروي عن عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي طالب عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" لا قود إلا بحديدة". وروي أن علي بن أبي طالب رضوان الله عليه حرق قومًا بالنار ادعوه إلها فقال له ابن العباس: لو كنت أن لم أقتلهم إلا بالسيف, فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يعذب بالنار إلا رب النار", ولأن استحقاق القتل يمنع من استيفائه بغير السيف كالمرتد وكالقاتل بالسيف, ولأن تقويت النفوس المباحة لا يجوز إلا بالمحدد كالذبائح, مع أن نفوس الآدميين أغلظ حرمة من نفوس البهائم. ودليلنا قوله تعالى" {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وقال تعالى: {وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] وروى البراء بن عازب عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه". وروى أنس أن رجلًا من اليهود شدخ رأسه جارية من الأنصار فقتلها, وأخذ من حليها, فأمر به رسول الله فشدخ رأسه بين حجرين حتى قتل, ولأن كل آله قتل مثلها جاز استيفاء القصاص بمثلها الكسيف. ولأن القصاص موضوع للماثلة وهي معتبرة في النفس فكان أولى أن تعتبر في ألة القتل. ولأن القتل مستحق لله تعالى تارة للآدميين تارة, فلما تنوع في حق الله تعالى نوعين بالحديد تارة, وو بالمثقل في رجم الزاني المحصن, وجب أن يتنوع في قوق الآدميين نوعين بمثقل وغير مثقل. وتحريره قياسًا: أحد القتيلين فوجب أن يتنوع استيفاء نوعين كالقتل في حقوق الله تعالى. فأما الجواب عن قوله: "لا قود إلا بالسيف". وقوله: "إلا بحديدة", فمحمول على القتل إذا كان بسيف أو حديدة, ورواية ابن عباس: "أن لا يعذب بالنار إلا رب النار" فوارد في غير القصاص, لأن القصاص مماثلة ليس بعذاب, وإنما هو استيفاء حق, وكذا الجواب عن قياسهم على قتل المرتد. وأما قياسه على الذبائح مع فساده يرجم الزاني المحصن فالمعنى فيه: أن المماثلة غير معتبرة فيه, وأن المحل الذبح معين, فجاز أن تكون الآلة معينة, ولما اعتبرت المماثلة بمحل الجناية اعتبرت بمثل آلتها.

فصل: فإذا ثبت اعتبار المماثلة في القصاص بكل ما يقتل بمثله, فهو على العموم بكل ما قتل, إلا بثلاثة أشياء: أن يقتل بالسحر, أو باللواط, أو يسقي الخمر, فلا يقتل بالسحر وإن قتل ولا يقتل باللواط وإن لاط به, ولا يقتب بسقي الخمر وإن سقاه, ويعدل إلي قتله بالسيف. وحكي عن أبي إسحاق المروزي: أنه يقتل في قتل اللواط بإيلاج خشبة, وفي سقي الخمر بسقي الخل, وهذا فاسد, لأنه لما تعذرت المماثلة لحظرها على الفاعل والمفعول به, ولم يكن في العدول عنها مماثلة, كان السيف أحق, فأما إذا قتل بالسم المهري احتمل القصاص بمثله وجهين: أحدهما: جوازه اعتبارًا بإمكانه. والثاني: لا يجوز لأمرين: أحدهما: أنه لا يمكن غسله, كذلك وهو حق لله تعالى علينا. والثاني: أنه ربما تعدى ذلك إلي من باشر غسله وتكفينه. فصل: نبدأ بما بدأ به المزني من حرقه بالنار, فيكون الولي بالخيار بين أن يعدل عن حرقه بالنار إلي قتله بالسيف, فله ذاك؛ لأنه أوجى وأسل, فيضرب عنقه, ولا يعدل عنه, فإن عدل عن العنق إلي غيره من جسده أساء وغرر, وقد استوفي قصاصه, وإن أراد أن يقتص منه بإحراقه بالنار كان له, وروعي ما فعله الجاني من إحراقه فإنه على ضربين: أحدهما: أن يكون قد ألقى عليه نارًا, فيكون الولي بالخيار بين أن يلقى عليه النار حتى يموت وبين إلقائه في النار, لأنه أوجى. والثاني: أن يكون قد ألقاه في النار, فلوليه أن يلقيه في النار, وليس له أن يلقى عليه النار, لأنه أغلظ عذابًا, وإذا ألقاه في النار كان له أ، يلقيه في مثلها, وما هو أكثر منها, وليس له أن يلقيه فيما هو أقل منها, لأنه أغلظ عذابًا, كما لو لو قتله بسيف, كان له أن يقتله بمثله وما هو أمضى, وليسه له أن يقتله بما هو أقل, ويخرج من النار إذا مات قبل أن يشوي جلده, ليمكن غسله وتكفينه, ولا تماثل بالمحرق إن أكلته النار لما علينا من استيفاء جسده في حقوق الله تعالى. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن ضربه بحجر فلم يقلع عنه حتى مات أعطي

وليه حجرًا مثله فقتله به, وقال بعض أصحابنا, إن يمت من عدد الضرب قتل بالسيف". قال الماوردي: إذا قتله بحجر يقتل مثله في الغالب على ما قدمناه وجب عليه القود بمثله, وكان لوليه الخيار إن شاء عدل إلي الاقتصاص منه بالسيف, لأن أوجى, وإن شاء رماه بحجر مثله في مثل الموضع الذي رماه من بدن المقتول إن كان في الرأس رماه على رأسه, وإن كان في الظهر رماه على ظهره, وإن كان في البطن رماه على بطنه, ولا يعدل عن موضع الرمي إلي غيره, فإن رماه بمثل ما رمى فمات فقد استوفي حقه, وإن لم يمت ففيه قولان: أحدهما: يوالي رميه بالحجر ويكرره حتى يموت أن ينتهي إلي حالة يعلم قطعًا أنه يموت منها, ولا تطول حياته بعدها, فيمسك عنه كما يمسك عن المضروب العنق إذا بقيته فيه حياة, ولو قتله برميه حتى يموت كان له وجه كالزاني. والثاني: أن يعدل إلي قتله بالسيف إذا لم يمت من رميه بمثل ما رمى, لأن السيف أوجى, وهكذا لو كان قد ضربه بعصا حتى مات ضرب بمثلها وبمثل عددها, فإن ضربه ذلك العدد فلم يمت كان على قولين: أحدهما: يوالي عليه الضرب حتى يموت. والثاني: يعدل إلي قتله بالسيف إذا لم يمت من رميه بمثل ما رمى, لأن السيف أوجى, وهكذا لو كان قد ضربه بعصا حتى مات ضرب بمثلها وبمثل عددها, فإن ضربه ذلك العدد فل يمت كان على قولين: أحدهما: يوالي عليه الضرب حتى يموت. والثاني: يعدل إلي قته بالسيف, ولو ألقاه من جبل حتى تردى فمات, من جدار أو سطح دار وأراد الولي قتله فعل, وإن أراد إلقاءه من مثل ذلك الموضع فعل, فلم يمت فعلى قولين: أحدهما: يوالي عليه الضرب حتى يموت. والثاني: يعدل به إلي قتله بالسيف, فلو ألقاه من جدار فتلقاه رجل من الأرض بسيفه فقده نصفين روعي مدى العلو, فإن كان مما يجوز أن يعيش من ألقى منه فالمستقبل له بسيفه هو القاتل, وإن كان ذلك المدى بعيد لا يجوز أن يعيش من ألقى منه ففيه وجهان: أحدهما: أن الملقي هو القاتل, لأنه بإلقائه كالموجاء. والثاني: أن المستقبل له بالسيف هو القاتل, لمباشرة التوجئة. مسألة: قال مزني: "هكذا قال الشافعي رحمه الله في المجوس بلا طعام ولا شراب

حتى مات إنه يحبس فإن لم يمت في تلك المدة قتل بالسيف". قال في الحاوي: أما إذا أراد الولي أن يعدل عن حبسه إلي قتله بالسيف كان له, ليس في اختلاف المحابس زيادة, ثم لا يخلو حاله إذا حبس من ثلاثة أحوال: أحدهما: أنه يموت كأنه قد حبس المقتول عشرة أيام مات فيها, فحبس هو فمات في خمسة أيام, فالواجب إخراجه ليواري ويدفن, ولا يترك بقية بالمدة فيتغير لحمه. والثانية: أن يموت في مثلها فقد تساويا في المدة والتلف. والثالثة: أن يحبس مثل تلك المدة فلا يموت فيها ففيه قولان: أحدهما: يستدام حبسه حتى يموت. والثاني: يقتل بالسيف بعد انقضاء المدة. فصل: فإن حبسته في بيت مفعى فنهشته أفعى فمات نظر, فإن كانت أفاعيه تغيب عنه وتعود إليه فلا ضمان عليه, وإن كانت مقيمة فيه نظر حال البيت, فإن كان واسعًا يزيد على طول الجبة ومنتهى نفخها فلا ضمان عليه, لتمكنه من البعد عنها إذا قربت, وإن كان ضيقًا يقصر عن طولها ومدى نفخها روعي البيت, فإن كان فيه كوى ونقاب تتسرب فيه الأفاعي فلا ضمان عليه, لأن من عادة الأفعى أن تغيب عن مشاهدة الإنسان, وإن كان مسلمًا لا كوة فيه ولا نقبل فعليه ضمان ديته, ولا قود عليه في نفسه, لأنه كعمد الخطأ إلا أن نهشته الأفعى بيده وهي من الأفاعي القاتلة بيجب عليه القود واختلف أصحابنا فيما يقاد به على وجهين: أحدهما: يقاد بالسيف؛ لأن الأفاعي غير متماثلة ولا نهشاتها متساوية. والثاني: أن يقاد بإنهاش الأفعى له, فإن كانت تلك الأفعى موجودة لم يعدل إلي غيرها, وإن فقدت التمس مثلها, فإن نهشته فمات فقد استوفي, وإن لم يمت فعلى قولين: أحدهما: يعاد عليه نهشها حتى يموت. والثاني: يقتل بالسيف. فأما إذا حبسه في بيت مع سبع حتى افترسه فهذا قاتل, لأن ضراوة السبع طبع لا تزول في الأغلب, وفي القود منه بإضرار السبع عليه وجهان, على ما ذكرنا في نهشه الأفعى لعدم التماثل في الجناية والقود, ويمنع السبع من أكل لحمه بعد قتله لحرمته. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "وكذا قال لو عرفه في الماء وكذلك يقليه في مهواة في

البعد أو مثل سدة الأرض وكذا عدد الضرب بالصخرة فإن مات وإلا ضربت عنقه فالقياس على ما مضى في أول الباب أن يمنعه الطعام والشراب حتى يموت كما قال في النار والحجر والخنق بالحبل حتى يموت إذا كان ما صنع بع من المتلف الوحي". قال في الحاوي: وهو صحيح مولى الغريق بالخيار بين قتل المغرق بالسيف لأنه أوجى وبين تغريقه؛ لأن المماثلة في التغريق ممكن, ويجوز أن يغرقه في ذلك الماء وفي غيره, فإن غرقه في ماء ملح كان له أن يغرقه في ماء الملح وفي العذب؛ لأن العذب اسهل, وإن غرقه في العذب لم يجز أن يغرقه في الملح, لأنه أشق, وإن كان يححسن العوم ربط حتى لا ينجو منه ثم يخرج بعد موته حتى يصلي عليه ويواري, سواء فعل ذلك بالغريق الأول أو لم يفعل, فإن كان في مالء من حيتانه ما يأكل غرقًا, فإن لم يأكل الحيتان الغريق الاول لم يلق المقتص منه إلا في ماء يؤمن ان يأكله حيتانه, وإن أكلته الحيتان ففي جواز إلقائه فيه لتأكله حيتاه وجهان إذا اقتصرت الحيتان على إفاتة نفسه دون استهلاك جسده, فإن استكلته لم يجز لوجوب حق الله تعالى في مواراة جسده. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو قطع يديه ورجليه فمات فعل به الولي ما فعل بصاحبه فإن مات وإلا قتل بالسيف". قال في الحاوي: وهذا صحيح ولي المقطوع يداه ورجلاه إذا سرت إلي نفسه بالخيار بين ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يضرب عنقه, فيجوز له ذلك باتفاق, لأن النفس يقتص من تلفها بالسراية كما يقتص من تلفها بالتوجيه. والثانية: أن يقتص من يديه ورجليه ويعفو عن القصاص في النفس فيجوز, لأن لما كان الاقتصاص منها مع عدم السراية كان مع السراية أولى, فإن اقتص وعفا عن النفس إلي الدية لم يستحقها, لأنه قد استوفي بقطع اليدين والرجلين أكثر منها, وهذا من المواضع النادرة التي يجوز أن يقتص فيها من النفس ولا يملك ديتها, وقال أو حنيفة: إذا عفا عن النفس بعد الاقتصاص من الطرف لزمته دية الأطراف, استدلالًا بأن الأطراف تبع للنفس, فإذا سقط بالعفو القصاص في النفس التي هي أصل سقط في الأطراف التابعة لها, لأن القصاص لا تبعض فصار آخذًا لها بغير قصاص, فلزمه ديتها, ولا دية عليه عند الشافعي للأطراف مع العفو عن النفس. وبه قال أبو يوسف, ومحمد. ودليلنا هو أن ما لم يضمن من الأطراف إذا اندملت فأولى أن لا يضمن إذا سرت,

لأن القصاص في النفس يسقط بالاندمال كما يسقط بالعفو, ولأنهما حقان يستوفي كل واحد منهما إذا انفرد, فجاز مع العفو عن أحدهما أن يستوفي الآخر منهما كالطرفين المختلفين, وكالدين, وإذا جاز ذلك سقط فيه الضمان. والجواب عن استدلاله بدخول الأطراف في النفس: هو أن حكم كل واحد منهما قد ينفرد عن الآخر فلم يصر بعضًا منه ولا تابعًا له. والثالثة: أن يقتص من اليدين والرجلين ثم يقتله قصاصًا من نفسه, فيجوز له ذلك عندنا. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يجمع بين القود في الأطراف والنفس, ويقتص من نفسه دون أطرافه, استدلالًا بأن للطرف بدلين القود والدية, فلما دخلت دية الأطراف في دية النفس, وجب أن يدخل قود الأطراف في قود النفس, لأنه أحد البدلين فأشبه الدية. ودليلنا: هو أن كل طرف اقتص منه لو انفرد عن النفس جاز الاقتصاص منه وإن اقتص من النفس, كما لو قتل النفس بالتوجئة, كذلك إذا قتلها بالسراية, فإن أبا حنيفة يوافق إذا عاد إليه فذبحه بعد قطع أطرافه أنه يقتص من نفسه وأطرافه, وإنما يخالف في ذهاب النفس بالسراية إلي القصاص فيما يسقط القصاص في الأطراف, وإن كان أبو يوسف يسوي بينهما, ويسقط القصاص من الأطراف فيهما, ثم يقال لأبي حنيفة: إذا لم يسقط القصاص في الأطراف بالتوجئة التي لم تحدث عن الأطراف فلأن لم تسقط بالسراية الحادثة عن الأطراف أولى, ولأن المماثلة في القصاص مستحقة, والأطراف بالأطراف أشبه بالمماثلة من النفس بالأطراف. والجواب من قياسهم على الدية فساده بالقتل توجئة هو أن القصاص أوسع حكمًا من الدية, لأن الجماعة لو قتلوا واحدًا قتلوا به جميعًا, وإن لم يجب عليه مع العفو إلا دية واحدة. فصل: فإذا ثبت أنه يقتص من أطرافه ثم من نفسه فإن للولي أن يستوفي القصاص من النفس وفي جواز مباشرته لقطع الأطراف إذا اتصلت بالنفس وجهان: أحدهما: لا يجوز كما لو انفردت, ويستنيب من يستوفي له القصاص في الأطراف. والثاني: يجوز لاتصالهما بالنفس أن يستوفيها, وهذان الوجهان مخرجان من اختلاف قوليه في الجوائف إذا صارت نفسًا, هل يقتص منها أم لا؟ على قولين: فلو كان الجاني حين قطع يد المجني عليه ورجليه جني عليه أجنبي فقطع يديه ورجليه كان للجاني أن يقتص ليديه ورجليه, أو يأخذ ديتهما, ويسقط عنه القصاص فيهما, لعدمهما, وكان ما أخذه من ديتهما إذا اقتص من نفسه خالصاً لورثته, وإن كان قطع يديه ورجليه مستحقًا

لأولياء قتيله, لأنهم استحقوها قصاصًا لا مالًا, وهكذا لو قطع أولياء المقتول يدي الجاني ورجليه قصاصًا ثم جني عليه أجنبي فقتله افتص منه في النفس, فإن عفا عنه كان عليه ما يلزمه من دية النفس, وهو أن ينظر قطع يديه ورجليه في القصاص إن اندملتا كان على ما قابله جميع الدية, وإن لم يندملا كان عليه نصف الدية, تختص بها ورثته, ولا شيء فيها لأولياء قتيله, لاستيفائهم بقطع يديه ورجليه أكثر من دية نفسه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولو كان أجافه أو قطع ذراعه فمات كان لوليه أن يفعل ذلك به على أن يقتله فأما على أن لا يقتله فلا يترك وإياه. وقال في موضع آخر: فيها قولان أحدهما هذا والآخر لا نقصه من ذلك بحال لعله إذا فعل ذلك به أن يدع قتله فيكون قد عذبه بما ليس في مثله قصاص. قال المزني رحمه الله: قد أبى أن يوالي عليه بالجوائف كما والى عليه بالنار والحجر والخنق بمثل ذلك الحبل حتى يموت ففرق بين ذلك والقياس عندي على معناه أن يوالي عليه بالجوائف إذا والى بها عليه حتى يموت كما يوالي عليه بالحجر والنار والخنق حتى يموت. قال المزني أولاهما بالحق عندي فيما كان في ذلك من جراح أن كل ما كان فيه القصاص أو بري أقصصته منه فإن مات وإلا قتلته بالسيف وما لا قصاص في مثله لم أقصه منه وقتلته بالسيف قياسا على كا قال في أحد قولي في الجائفة وقطع الذراع أنه لا يقصه منهما بحال ويقتله بالسيف". قال في الحاوي: لا يخلو حال الجرح إذا صار نفسًا من أحد أمرين: إما أن يكون موجبًا للقصاص إذا انفرد أو لا يوجبه, فإن أوجب القصاص إذا انفرد كالموضحة وقطع الأطراف من مفصل فيجوز أن يقتص منهما ومن النفس بعدها على ما مضى, وإن لم يوجب القصاص إذا انفرد عن النفس فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون موجبًا في الغالب كشدخ الرأس بالحجارة, فيوجب القصاص إذا صار نفسًا, وإن لم يوجبه إذا انفرد؛ لأنه موج في القصاص كما كان موجبًا في الجناية, ولأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتص من اليهودي الذي شدخ رأس الأنصارية بشدخ رأسه. والثاني: ما كان غير موج كالجائفة والمأمومة وقطع الأطراف من غير مفصل, فإذا صارت نفسًا جاز أن يقتص من النفس. فأما الاقتصاص من الجوائف وقطع الأطراف من غير مفصل, فإن أراده مع عفوه عن القصاص في النفس, لم يجز, لأنه قد صار بالعفو عن النفس كالمنفرد عن السراية إلي النفس فلم يجز أن يقتص منه كالمنفرد, فإن أراد أن يقتص منه مع الاقتصاص من

باب القصاص في الشجاج والجراح والأسنان

النفس ففي جوازه قولان: أحدهما وهو اختيار المزني لا يجوز, لأنه قد يعفو بعد الاقتصاص منهما عن النفس فيصير مقتصًا فيما لا قصاص فيه. والثاني: يجوز أن يقتص منها لدخولها في النفس, فخالفت ما انفرد عنها, وليس ما يتوهم من جواز العفو عن النفس مانعًا من دخولهما في حكم النفس؛ لأنه قد يجوز لو أراد القصاص عن نفسه أن يعفو بعد حزّ رقبته بالسيف حزًا لا قصاص فيه, ثم يعفو بعد فعل ما لا قصاص فيه, ولا يمنع هذا التوهم من جواز القصاص في النفس كذلك في الجوائف, وفي هذا انفصال عما احتج به المزني للقول الأول. فصل: قال مزني: "قد أبى أن يوالي عليه بالجوائف كما والى عليه بالنار, والحجر والخنق بمثل ذلك الحبل حتى يموت ففرق بين ذلك إذا والى بها عليه ... " والقياس عندي على معناه أن يوالي عليه الجوائف والكلام على الفرق بين الجمع من وجهين: أحدهما: أنه يقتص منه بالحجارة إذا صارت نفسًا قولًا واحدًا, وفي الاقتصاص من الجوائف إذا صارت نفسًا قولان: والفرق بينهما: أن الحجارة موجية فجاز الاقتصاص بها, والجوائف غير موجئة فعدل عنها. والثاني: أن الحجارة يجوز أن يوالي إلي التلف في أحد القولين, ولا يجوز أن توالي الجوائف إلي التلف قولًا واحدًا. والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: ما قدمناه, وأن موالاة الحجارة موج وموالاه الجوائف غير موج. والثاني: أن للحجارة تأثيرًا إذا أعيدت في مواضعها, ولا يجوز العدول بها إلي غير مواضعها, وإن تأثرت, وبالله التوفيق. باب القصاص في الشجاج والجراح والأسنان ومن به نقص أو شلل أو غير ذلك مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "والقصاص دون النفس شيئان جرح يشق وطرف يقطع". قال في الحاوي: قد مضى القصاص في النفس وهو فيما دون النفس واجب

كوجوبه في النفس, لقول اللع تعالى: {ولَكُمْ فِي القِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة 179] ولقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة 194] ولقوله تعالى: {وكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ والْعَيْنَ بِالْعَيْنِ والأَنفَ بِالأَنفِ والأُذُنَ بِالأُذُنِ والسِّنَّ بِالسِّنِّ والْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة 45] فجمعت هذه الآية عموم القصاص فيما استحق من الوجوه الثلاث, وهي القصاص في النفس والقصاص في الأطراف, والقصاص في الجروح, ولا قصاص فيما عداهما, وهي ضربان: أحدهما: ما أوجب الأرش دون القصاص إما بمقدر كالجائفة أو بغير مقدر كالحارضة. والثاني: ما لا يوجب أرشًا ولا قصاصًا كالضرب الذي لا أثر له في الجسد, فصارت الجنايات على خمسة أقسام, يجب القصاص منها في ثلاثة, والأرش في أربع, والعفو عنه في الخامس, وفيه يستحق التعزيز أدبًا. فإذا ثبتت هذه الجملة فالمكافأة في القصاص على ضربين: أحدهما: في الأحكام. والثاني: في الأوصاف. فأما المكافأة في الأحكام فهو اعتبار التكافؤ في الحرية والإسلام, فهذا معتبر في جميع ما يجب فيه القود من الأقسام في النفوس والأطراف والجراح, فإذا منع الرق والكفر من القصاص في النفس منع منه في الأطراف والجراح, فلا يؤخذ حر ولا مسلم بطرف عبد ولا كافر وكذلك في الجراح. وأما المكافأة في الأوصاف فتقسم ثلاثة أقسام: أحدهما: في الصحة والمرض. والثاني: في الزيادة والنقصان. والثالث: في الصغر والكبر, فلا يعتبر واحد من هذه الأقسام الثلاثة في القصاص من النفس, فيقتص من الصحيح بالمريض, ومن المريض بالصحيح, ومن الكامل بالأقطع, ومن الأقطع بالكامل, ومن السليم بالأشل, ومن الأشل بالسليم, ومن الأعمى بالبصير ومن البصير بالأعمى, ومن الكبير بالصغير, والعاقل بالمجنون , ولا يقتص من الصغير والمجنون بالكبير, ولا بالعاقل, لارتفاع القلم عنهما بالصغر والجنون. وأما الأطراف فيعتبر في القصاص منها السلامة من النقصان والزيادة, ولا يعتبر فيها الصحة والمرض, ولا الصغر والكبر, فلا يجوز أن تؤخذ اليد الكاملة الأصابع باليد الناقصة الأصابع, ولا اليد الزائدة الأصابع باليد الكاملة حتى يقع التساوي في الزيادة والنقصان وتؤخذ اليد الكبيرة باليد الصغيرة, واليد الصغيرة باليد الكبيرة, واليد الصحيحة باليد المريضة إذا سلمت من شلل, ويأخذ اليد المريضة إذا سلمت من شلل باليد الصحيحة, ولا تؤخذ سليمة بشلاء, وتؤخذ الشلاء بالسليمة إذا رضي مستحق القصاص بها.

وأما الجراح فيعتبر في القصاص فيها الصغر والكبر والزيادة والنقصان, فلا يؤخذ بالصغير إلا صغيرًا, وبالناقص إلا ناقصًا, وبالكبير إلا كبيرًا على ما سنذكره. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فإذا شجه موضحة فبراء حلق موضعها من رأس الشاج ثم شق بحديدة قدر عضها وطولها فإن أخذت رأس الشاج كله ويبقى شيء منه أخذ منه أرضه". قال في الحاوي: وإذا قد مضى القصاص في النفس فما دونها ضربان: طرف يقطع بطرف, وجرح يشق بجرح. فأما القصاص في الأطراف فقد مضى وجوبه, وسيأتي استيفاؤه. وأما الجراح فقدم الشافعي فيه شجاج الرأس وهي إحدى عشرة شجة في قول الأكثرين: الحارصة والدامية والدامغة والباضعة والمتلاحمة والسمحاق والموضحة والهاشمة والمنقلة والمأمومة والدامغة. فأما الحارصة: فهي التي تحرص جلد الرأس أي تكشطه ولا تدميه, مأخوذ من قولهم حرص القصاص الثوب: إذا شقه. وتليها الدامية: وهي التي تخدش الجلد حتى يدمى, ولا يجري. ثم تليها الدامغة: وهي التي يجري دمها كجريان الدموع. ثم تليها الباضعة: وهي التي تبضع اللحم أي: تشقه. ثم تليها المتلاحمة, وهي التي تغوص في اللحم, وقد يسميها أهل المدينة الباذلة؛ لأنها تبذل أي يشق فيها اللحم, ويحتمل أن تكون الباذلة بين الباضعة والمتلاحمة, وهي التي تبذل الدم منها فتكون أقوى من الدامغة, لأن دم الباذلة ما اتصل ودم الدامغة ما انقطع, وهذا أشبه بالمعنى والاشتقاق, فيصير الشجاج على هذا انتثي عشرة شجة. ثم تليها السمحاق وهي التي تستوعب جميع اللحم حتى يصل إلي سمحاق الرأس, وهي جلدة رقيقة تغشي عظم ال {اس, مأخوذة من سماحيق البطن وهو الشحم الرقيق, وغير سماحيق إذا كان رقيقًا وقد يسميها أهل المدينة البلطاء, ومنهم من جعلها بين المتلاحمة والسمحاق فيصير الشجاج ثلاث عشرة شجة. ثم يليها الموضحة: وهي التي توضح عظم الرأس حتى يظهر ثم تليها الهاشمة: وهي التي تزيد على الموضحة حتى تهشم العظم, أي تكسره, ومنهم من يجعل بين الموضحة والهاشمة شجة تسمى المفرشة, وهي التي إذا أوضحت صدعت الرأس ولم

تهشمه, فيصير شجاج الرأس على هذا أربع عشرة شجة. ثم يليها المنقلة: وهي التي تزيد على الهاشمة بنقل العظام من مكان إلي مكان. ثم تليها المأمومة, ويقال لها الأمة: وهي التي تصل إلي أم الدماغ, وهي جلدة رقيقة محيطة بالدماغ, ثم تليها الدامغة, وهي التي خرقت غشاوة الدماغ حتى وصلت إلي مخه. فهذه إحدى عشرة شجة في قول الأكثرين منها ستة قبل الموضحة وأربعة بعدها وهي أربع عشرة شجة في قول آخرين, منها ثمانية قبل الموضحة, وخمسة بعدها, وليس فيما قبل الموضحة قصاص, وفيها أرش مقدر إلا المفرشة على قول من زادها ففي الزيادة على الموضحة منها حكومة غير مقدرة. فأما الموضحة فيجتمع فيها القصاص إن شاء والأرش المقدر إن عدل إليه على ما سنذكره, فصارت الشجاج منقسمة على هذه الأقسام الثلاثة: قسم لا قصاص فيه ولا يتقدر أرشه, وهو ما قبل الموضحة, ويجب فيه حكومة على ما سنذكره من حكمها. وقسم لا يجب فيه القصاص ويتقدر أرضه وهو بعد الموضحة فيجب في الهاشمة عشر من الإبل, وفي المنقلة خمسة عشرة بعيرًا, وفي المأمومة ثلث الدية, ثلاثة وثلاثون بعيرًا وثلث, وكذلك في الدامغة, وكتاب أبي العباس بن سريج يجعل الدامغة والمأمومة سواء, ويجعلها الدامغة غير معممة وهي الثالثة التي تلي الدامية, ولقوله وجه, لأنها لو زادت على المأمومة لزادت على أرشها. وقسم يجب فيه القصاص ويتقدر أرشه وهو الموضحة يجب فيها خمس من الإبل. فصل: فإذا أراد القصاص من الموضحة فيقدر اعتبارها من رأس المشجوج فاعتبر فيها ثلاثة أشياء: أحدهما: موضعها من رأسه هل هي في مقدمه, أو مؤخره, أو عن يمينه, أو عن يساره وفي يافوخه أو هامته, أو قرعته, لاستحقاق المماثلة في محلها, فلا يؤخذ مقدم بمؤخر ولا مؤخر بمقدم ولا يمنى بيسرى, كما لا يؤخذ يمنى اليدين بسراها. والثاني: أن يقدر ما بين طرفيها طولًا لئلا يزاد عليها أو ينقص منها, لأن الزيادة عليها عدوان والنقص منها بخس. والثالث: أن يقدر ما بين جانبيها عرضًا؛ لأنه قد يوضح بالشيء الغليظ فتعوض الموضحة ويوضح بالشيء الدقيق فيقل عرضها فيعتبر من موضحه المشجوج لهذه الأمور الثلاثة, ولا يعتبر عمقها, لأن المقصود في الموضحة الوصول إلي العظم فسقط اعتبار

العمق, لأنه قد تغلظ جلدة الرأس من بعض الناس وترق من آخر, فصار عتق الرأس في سقوط اعتباره جاريًا مجرى مساحة الأطراف التي لا تعتبر في القصاص, ثم لا يعدل بعد ذلك إلي الشجاج فيحلق شعر رأسه, سواء كان المشجوج أشعرًا أو محلوقًا؛ لأن المماثلة في استيفاء القصاص لا تتحقق إلا بمعرفة موضعها عن رأس المقتص منه, فيعلم في رأس الشاج ما قدمنا اعتباره من رأس المشجوج, وهو موضعها, وطولها, وعرضها, ويخط عليه بسواد أو حمرة, ويبضع القصاص بالموسى, ولم يضرب بالسيف وإن كان الجاني شج بالسيف؛ لأن ضرب السيف ربما هشم ولا يستوفيه المشجوج بنفسه ويستنيب فيه من يؤمن تعديه, فإن لم يستنيب ندب الإمام مأمومًا ينوب عنه في استيفائه. فصل: فإذا تقرر ما يعتبر في الاقتصاص فيها لم يخل حالها من أن تكون في بعض الرأس أو في جميعه. فإن كانت في بعضه اقتص بقدرها في محلها من رأس الشاج, وإن كانت في جميعه قد أخذت طولًا ما بين الجبهة والقفا, وأخذت عرضًا ما بين الأذنين, لم يخل رأس الشاج والمشجوج من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يتماثل رأساهما في الطول والعرض, فاستيعاب القصاص ممكن, فإذا كانت طولًا مابين الجبهة والقفا اقتص من الشاج طول رأسه من جبهته إلي قفاه, واختلف أصحابنا في هذه القصاص على وجهين: أحدهما: أنه يبدأ به من الموضع الذي بدأ به الجاني, إما من ناحية الجبهة أو القفا ليماثل في الابتداء كما يماثل في الاستيفاء, فإن أشكل رجع إلي الجاني دون المجني عليه. والثاني: وهو أصح وبه قال جمهور أصحابنا: إن المستوفي له القصاص مخير في الابتداء بأي الموضعين شاء, لأن له أن يقتص من بعضها في أي الموضعين شاء. والقسم الثاني: أن يكون رأس المشجوج أصغر من رأي الشاج, فيستوفي بمقدارها من رأس الشاج, ويترك له باقي رأسه بعد استيفاء مقدار رأس المشجوج. مثاله: أن يكون طول رأس الشاج عشرين إصبعًا, وطول رأس المشجوج خمسة عشر إصبعًا, فيقتص من رأس الشاج قدر خمسة عشر إصبعًا ويبقى من رأسه مقدار خمس أصابع لا قصاص عليه فيها, لفضلها بعد استيفاء القصاص, ويكون محل هذا المتروك بناء على ما قدمناه من الوجهين من الابتداء بموضع القصاص. فإن قيل: بالوجه الأول إنه يبدأ في القصاص بالموضع بداية الجاني نظر, فإن بدأ بمقدم الرأس كان المتروك من مؤخره, وإن بدأ بمؤخره كان المتروك من مقدمه. وإن قيل: بالوجه الثاني الذي هو أصح أن المقتص له مخير في الابتداء بأي

الموضعين شاء كان بالخيار بين ثلاثة أحوال: إما أن يستوفي قصاصه من مقدم الرأس, ويترك فاضله من مؤخره, أو يستوفيه من مؤخره, ويترك فاضله من مؤخره, أو يتسوفيه من مؤخره, ويترك فاضله من مقدمه, أو يستوفيه من وسطه ويترك فاضله من مقدمه ومؤخره, فإن أراد أن يستوفيه من طرفيه ويترك فاضله من وسطه لم يجز, لأنه إذا فصل بينهما صارتا موضحتين, ولا يجوز أن يقتص من موضحة بموضحتين, ويجيء على تخريج أبي علي بن أبي هريرة في دية هذا القاتل أن يجوز له ذلك ليجري على كل موضع من الجناية حكم الموضحة, وليس بصحيح, لما ذكرناه من التعليل. والقسم الثالث: أن يكون رأس المشجوج أكبر من رأس الشاج. مثاله: أن يكون طول رأس المشجوج عشرين إصبعًا, وطول رأس الشاج خمسة عشرة إصبعًا, فيستوعب في الاقتصاص طول رأس الشاج, وقدره ثلاثة أرباع الموضحة, فلا يستوفي الربع الباقي من الجبهة ولا من القفا, ولا يخرج من الرأس لأن كل ذلك في غير محل القصاص, كما لا يجوز أن يقتص في موضحة الوجه من الرأس, ولا في موضحة الرأس من الوجه, ويرجع على الجاني بقسط ذلك من أرش الموضحة وهو ربع أرشها؛ لأن الباقي منها ربعها, ولو كان الباقي منها ثلثها رجع بثلث أرشها, وخرج أبو علي بن أبي هريرة احتمال وجه ثانٍ, أنه يرجع عن الباقي منها بجميع أرش الموضحة, لأن أرض الموضحة يكمل فيها قل منها وكثر, وهذا فاسد, والفصل فيها أن اسم الموضحة ينطلق على صغيرها وكبيرها, فاستوي الأرش في جميعها, ولا ينطلق على الباقي من هذه الموضحة اسم الموضحة, وإنما ينطلق عليه اسم بعضها فلم يستحق فيه إلا بعض أرشها وهكذا لو كانت موضحة المشجوج بين قرني رأسه, وكان ما بين قرني رأس الشاج أضيق لم يجز أن يعدل بعد استيفاء ما بين القرنين إلي ما يجاوزهما. وإن كان من جملة الرأس, لخروجه عن محل القصاص ورجع بقسطه من أرش الموضحة. فصل: فإذا استوفي القصاص على ما ذكرنا لم يعتبر بعد الاقتصاص اختلاف الشجتين قبل الاندمال, فلو اندمل جرح المشجوج شائنًا ظاهر العظم غير ملتحم الجلد واندمل جرج الشاج حسنًا قد تغطى لحمه والتحمه جلده فلا شيء للمشجوج في زيادة الشين لأن حقه كان في القصاص وقد استوفاه. وكذلك لو انعكس فكان الشين في جراحة الشاج دون المشجوج, وكانت زيادة الشين هدرًا كما تكون سرايتها هدرًا, فلو تجاوز مستوفي القصاص مقدار الموضحة, وأحذ أكثر منها من رأس الشاج كان عليه القصاص في الزيادة إن عمد, وأرش الموضحة كاملة إن أخطأ, وهذا بخلاف الباقي من موضحة المشجوج حيث رجع من أرشها بقسط الباقي منها.

والفرق بينهما: أن مجاوزة القصاص إلي الزيادة لما أوجب اختلاف الحكم في المستحق والعدوان تميزًا, فصارت كل واحدة منهما موضحة غير الأخرى, فلذلك كمل أرشها وما نقص عن استيفاء لم يختلف حكمه في الاستحقاق والعدوان فلم يتميز, وصار موضحة واحدة فرجع بقسط باقيها من أرشها, فإن كانت الزيادة من اضطراب المستوفي منه عند القصاص كانت هدرًا, فلو اختلفا والحال مشتبه كان القول قول المستوفي؛ لأن الأصل براءة ذمته, ويحتمل وجهًا ثانيًا من المقلوف إذا قطع واختف في وجود جناية عند القطع أن يكون القول قول المستفاد منه إذا قيل في الملقوف أن القول قول وليه, وإن كان الفرق بينهما لائحًا, فلو كانت موضحة المشجوج قد وضح وسطها حتى تبرز العظم وتلاحم طرفاها حتى بقي عليه اللحم وجب القصاص فيما وضح عن العظم, والأرش دون القصاص فيما تلاحم من الطرفين, لأن المتلاحمة لما سقط فيها القصاص إذا انفردت سقط فيها إذا اتصلت بالموضحة وكانت حكومتها أقل من قسطها وأرش الموضحة لنقصانها عن حكم الموضحة. فصل: وإذا أوضحه موضحتين وأكثر, كان المشجوج مخير فيها بين ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يعفو عن الاقتصاص عن جميعها إلي الدية, فيستحق في كل موضحة أرشًا, كما يستوي فيه أرش ما صغر منها وما كبر, وسواء تقاربت أو تباعدت. والثانية: أن يقتص من جميعها فيقاد في يوم واحد إن شاء أو في أيام شتى إلا أن يخاف على نفس الشاج إن اقتص من جميعها في يوم واحد, إما المرض أو شدة حر أو برد فلا يجمع عليه بين الاقتصاص من جميعها ويقتص من واحدة, فإذا اندملت اقتص من غيرها, وهكذا لو كانت الموضحة واحدة قد استوعبت طول الرأس وعرضه وخيف على نفسه إن اقتص من جميعها في يوم واحد جاز أن يفرق الاقتصاص منها, ويستوفي في وقت بعد وقت, ولو قيل: يستوفي الموضحة الواحدة في وقت واحد وإن خيف منها كما يقطع اليد قصاصًا وإن خيف منها كان لو وجه. والثالثة: إن يقتص من بعضها ويعفو إلي الدية عن باقيها, فيكون مخيرًا في الاقتصاص من أيهما شاء من صغير وكبير شائن, ويرجع بأروش باقيها متساوية على أعدادها, والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وكذا كل جرح يقتص منه". قال في الحاوي: وهذا صحيح, والجراح ما كان في الجسد, والشجاج ما كان في

الرأس, وقد مضى حكم الشجاج في الرأس وأنه ينقسم إلي ثلاثة أقسام: قسم يجب فيه القصاص, وأرش مقدر وهو الموضحة. وقسم لا قصاص فيه ويجب فيه مقدر وهو ما فوق الموضحة, وهذا حكم شجاج الرأس وكذلك إذا كان في الوجه واللجين يكون في حكم شجاج الرأس وإن كان جرحًا, ويصير الوجه والرأس في حكم الشجاج والجراح, سواء يجب القصاص في موضحة الوجه والمقدر من الأرش فيجب في موضحة الوجه خمس من الإبل, وفي هاشمته عشر من الإبل, وفي منقلته خمس عشرة من الإبل. فأما جراح البدن فتنقسم ثلاثة أقسام: قسم يجب فيه مقدر ولا يجب فيه القصاص, وهو الجائفة الواصلة إلي الجوف, لا قصاص فيها, وفيها ثلث الدية. وقسم لا قصاص فيه ولا مقدر وهو ماعدا الموضحة والجائفة من الباضعة والمتلاحمة؛ لأن ما لا يجب فيه من الرأس والوجه قصاص ولا مقدر فأولى أن لا يجب فيه من البدن قصاص, ولا مقدر, لشرف الرأس والوجه على جميع البدن, وأن الشين فيهما أقبح من الشين في سائر البدن. والقسم الثالث: ما يجب فيه من القصاص ولا يجب فيه المقدر وهو الموضحة إذا كانت في ذراع أو عضد أو ساق أو فخذ يجب فيها القصاص لإمكانه كالرأس, وتجب حكومة ولا تحب فيها مقدر بخلاف الرأس لما ذكنراه من شرف الرأس وضبح شينه, هذا مذهب الشافعي ومنصوصه. وقال كثير من أصحابه: لا قصاص في موضحة البدن, لأنها لما خالفت موضحة الرأس في الأرش المقدر خالفتها في القود, وهذا فاسد مذهبًا وحجاجًا. أم المذهب فقول الشافعي في كتاب "الأم": إن الموضحة إذا كانت على الساق لم تصعد إلي الفخذ ولم تنزل إلي القدم, وإن كانت على الذراع لم تصعد إلي العضد ولم تنزل إلي الكتف. وأما الحجاج: فهو: أنه لما كان في البدن جرح مقدر وهو الجائفة وجب أن يكون فيها مايوجب القصاص وهو الموضحة كالرأس. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو جرحه فلم يوضحه منه أقص منه بقدر ما شق من الموضحة فإن أشكل لم أقد إلا مما أستيقن". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن ما تقدم موضحة الرأس من الشجاج الستة وهي

الحارصة والدامية, والدامغة, والباضعة, والمتلاحمة والسمحاق, لا قصاص فيها, لأمرين: أحدهما: أن مورها في اللحم وقصورها عن حد العظم يمنع من التماثل لعدم الغاية فيه كالجائفة. والثاني: إن إثبات القصاص فيما دون الموضحة ينقص إلي أن يصير الاقتصاص منها موضحة لاختلاف الحلقة في جلدة الرأس لأنها تغلظ من قوم وترق من آخرين ولابد في الاقتصاص من تقدير عمقها حتى لا يتجاوز, وقد يكون عمقها من رأس المشجوج يبلغ إلي الموضحة من رأس الشاج, فنكون قد اقتصصنا من المتلاحمة بالموضحة وهذا غير جائز, فلهذين المعنيين سقط القصاص فيما دون الموضحة, هذا مذهب الشافعي, ومقتضى أصوله, وما نص عليه في كتاب "الأم" وغيره, وقال في كتاب "حرملة": لأن ذلك في لحم, غير أن المزني نقل عنه في هذا الموضع: "ولو جرحه فلم يوضحه اقتص منه بقدر ما شق من الموضحة", وظاهر هذا يقتضي وجوب القصاص فيما دون الموضحة, فاختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه وهم من المزني في نقله؛ لأن الشافعي لم يذكره في شيء من كتبه, وهذا لا وجه لأن المزني أضبط من نقل عن الشافعي وأثبتهم رواية. والثاني: أن هذا محمول على قول ثان, فيكون القصاص فيما دون الموضحة على قولين. والثالث: أنه ليس بقول ثان بخلاف نصه في جميع كتبه, وإنما هو محمول على استيفائه إذا أمكن, وهذا قول أبي إسحاق المروزي, وأبي علي بن أبي هريرة وأكثر أصحابنا, فإن لم يكن فلا قصاص, وليس يمكن استيفاء القصاص منه إلا على وجه واحد, وهو أن يكون الشاج قد جرح المشجوج موضحة ومتلاحمة فينظر عمق المتلاحمة نصف أنملة علم أن المتلاحمة من رأسه هي نصف موضحة, فيقتص من رأس الشاج موضحة وينظر عمقها فإن كان أنملة فقد استوفي في عمق جلدة الرأس, فإذا أردنا الاقتصاص من المتلاحمة بعد الموضحة اقتص إل نصف أنملة من جلد رأسه, وإن كان رأس الشاج أرق جلدًا أو لحمًا وكان عمق موضحته نصف أنملة اقتص من متلاحمته ربع أنملة ليكون نصف موضحة كما كانت من المشجوج نصف موضحة, لا يمكن الاقتصاص منها إذا لم ينضم إليها موضحة في الجناية على المشجوج والقصاص من الشاج, وإذا تقدرت المتلاحمة في القصاص إما بالنصف على ما مثلناه, أو بالثلث إن نقص, أو بالثلثين إن زاد تقدر أرشها بقسطها من أرش الموضحة من نصف أو ثلث أو ثلثين, وإذا لم يتقدر المتلاحمة من الموضحة في القصاص لم يتقدر أرشها وكان فيها حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده كما يقدر حكومات سائر الجراح الذي

لا قصاص فيه ولادية على ما سنذكره. وحكي أبو حامد الإسفراييني عن أبي إسحاق المروزي ولم أره في شرحه: أنه إذا أشكل مور المتلاحمة ولم يتحقق قدر عمقها اعتبر ما يتيقن قدر مورها, وما يشك فيه وجمع بينع وبين تقويم الحومة ليعتبر بيقين المور صحة التقويم في الحكومة ويعتبر بتقويم الحكومة حكم الشك في المور, فإذا تيقنا أن مور المتلاحمة نصف عمق الموضحة وشككنا في الزيادة عليه اعتبرنا تقويم الحكومة, فنجده لا يخلو من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكون قدر نصف أرش الموضحة فيتفقان في وجوب النصف ويدل كل واحد منهما على صحة الآخر, ويكون الشك في زيادة المور مطرحًا بالتقويم. والثاني: أن يكون تقويم الحكومة أكثر من نصف أرش الموضحة فيوجب ما زاد على نصف الأرش, ويكون التقويوم دليلًا على أن ما شككنا فيه من زيادة المور على النصف, قد صار بالتقويوم معلومًا. والثالث: أن يكون تقويم الحكومة أقل من النصف ويستدل بيقين المورة على أن تقويم الحكومة خطأ, لأن اليقين لا يتغير بالاجتهاد ويستفاد بالتقويم إسقاط الشك فيما زاد على النصف والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وتقطع اليد باليد والرجل بالرجل من المفاصل". قال في الحاوي: قد ذكرنا وجوب القصاص في الأطرف كوجوبه في النفوس؛ لأن الأطراف مفاصل يمكن المماثلة بها, فإذا قطه يده فله خمسة أحوال: أحدها: أن يقطعها من مفصل الكوع فيقتص منها, وإن اختلفا في الصغر والكبر, والصحة والمرض إذا كانت سليمة من نقص أو شلل, فيقتص من الكبيرة بالصغيرة, ومن القوية بالضعيفة ومن ذات الصنعة والكتابة بغير ذات الصنعة والكتابة, كما يجري مثله في النفوس, ولا تؤخذ سليمة بشلاء, ولا كاملة بناقصة على ما سنذكره بعد. والثانية: أن يقطعها من نصف الذراع فيقتص من كف القاطع ولا يقتص من نصف ذراعه لأمرين: أحدهما: لأنه لا مفصل فيها فيستوفي وربما وقع التجاوز فيه. والثاني: أنه قد ينشظا العظم إذا قطع ولا يتماثل في القاطع والمقطوع فإن قيل: قد وضعتم القطع في القصاص في غير موضع القطع من الجناية وليست هذه مماثلة قلنا: لما تعذرت المماثلة في موضع الجناية كان العدول إلي ما دونها إذا أمكنت لدخولها في الجناية, فإذا اقتص من كف الجاني أخذت منه حكومة في نصف الذراع لا يبلغ بها دية

الكف, ولو عفا المقطوع عن القصاص أعطى نصف الدية في الكف وحكومة هي أقل منها في نصف الذراع. والثالثة: أن يقطعها من مفصل المرفق فيقتص من جميعها, ويقطع الجاني من مرفقه؛ لأنه مفصل لا يمكن فيه المماثلة, فإن عدل إلي الدية أعطى نصف الدية في كف وحكومة في الذراع, ولو طلب القصاص من الكف وأرش في الذراع في المرفق لم يجز بخلاف المقطوع من نصف الذراع, لأنه إذا أمكن في القصاص وضع السكين في محلها لم يجز أن يعدل بها عن محلها. والرابعة: أن يقطع يده من المنكب فيقتص منها في المنكب, لأنه مفصل, فإن طلب القصاص من الكف أو المرفق وحكومة في الزيادة لم يجز لما ذكرنا, وإن عفا عن القود إلي الدية أعطي نصف الدية في الكف وحكومة في الذراع, والعضد يكون أقل من نصف الدية, فلو كان قد أجافه حين قطع يده من الكف لم يقتص من الجائفة, وأعطى أرشها ثلث الدية بعد الاقتصاص من المنكب. والخامسة: أن يقطع يده من نصف العضد فيجب بالقصاص من المرفق لإمكانه فيه وتعذره في نصف العضد كما قلنا في قطعها من نصف الذراع, فإن طلب القصاص من الكف وأخذ حكومة في الزيادة أجيب, ويكون في القصاص مخيرًا بين أن يقتص من المرفق, لأنه أقرب إلي محل الجناية وبين أن يقتص من الكف للفرق بينهما بأن ما أمكن وضع السكين في القصاص في موضعها لأنه أقل وخالف الجناية من المرفق حيث لم يجز أن يقتص فيها من الكف في الجناية لم يجز العدول عنه, وإذا لم يمكن جاز وضعها فيما قرب منها, وإذا جاز وضعها في الأكثر جاز وضعها في الأقل. فصل: وهكذا القصاص في الرجل تنقسم على هذه الأحوال الخمس, فإن كانت من القدم اقتص منها, فتؤخذ القدم الكبيرة بالصغيرة, والماشية بغير الماشية, والصحيحة بالمريضة والمعتدلة بالعرجاء, والمستقيمة بالحتفاء فإن كانت في نصف الساق اقتص من القدم وأعطى حكومة في نصف الساق, وإن كانت من الركبة اقتص منها, لأنها مفصل, وإن كانت من نصف الفخذ اقتص من الركبة, فإن سأل من القدم أجيب وإن كانت من الورك اقتص منها, فإن سأل القصاص من الركبة والقدم لم يجب إليه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "والأنف بالأنف". قال في الحاوي: وهذا صحيح: القصاص في الأنف واجب بالنص, فإذا جدع أنفه من العظم حتى استوعب جميع مارنه اقتص منه بمثله, وقطع جميع مارنه ويقتص من أنف

الشام بأنف الأخشم, ومن الكبير بالصغير ومن الأقنى بالأفطس, ومن الصحيحة بالخرماء إذا لم يذهب بالخرم منها شيء, فإن قطع أنفه من نصف المارن اقتص من نصف مارنه, بخلاف القاطع من نصف الذراع, لأن في الذراع عظمًا يمنع من مماثلة القصاص ومارن الأنف ليس يمكن فيه القصاص, فلو قطعه من نصف العظم صار حينئٍذ كالقاطع من نصف الذراع فيقتص له من حد العظم ويستوعب به جميع المارن, ويعطي حكومة فيما قطع من العظم, فلو أوضح عن العظم ولم يقطعه أخذ منه دية موضحة, ولو هشمه أخذ منه دية هاشمة, ولو نقله أخذ منه دية منقلة, وفي حكومة قطع أكثر من دية منقلة, وإذا قطع أحد شقي أنفه اقتص منه؛ لأن حاجز المنخرين حد ينتهي القصاص إليه, ولو قطع حاجز المنخرين اقتص منه إلي الحد الذي قطعه لإمكان الاقتصاص من جميعه, ولو ضرب أنفه فاستحشفت لم يقتص منه وكان له الدية, كما لو ضرب يده فشلت, ويحتمل أن يتخرج قيه قول آخر من استحشاف الأذن أنه له حكومة, ولو كسر أنفه مجبرة أعطى حكومة ولا قود له, فلو انجبر معوجًا كانت الحكومة أكثر منها لو انجبر مستقيمًا. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "والأذن بالأذن". قال في الحاوي: وهذا نص الكتاب, لأن للأذن حدًا يتميز به عما سواه, فيقتص من أذن السميع بأذن الأصم, لأن محل السمع في غير الأذن, ويقتص من الكبيرة بالصغيرة, ومن الصحيحة بالمثقوبة ثقب فرط أو شنف, فأما المخرومة فإن لم يذهب بالخرم منها شيء اقتص بها من الصحيحة, فإذا أذهب الخرم شيئًا منها قيل للأخرم: إن شئت القصاص قطعنا لك من أذن الجاني إلي موضع خرمتك وأعطيناك دية ما بقي منها بعد الخرم وإن شئت أعطيناك دية الأذن, ولو قطع بعض أذنيه اقتص من أذن الجاني بقدره لإمكان الاقتصاص منه, ولو قطع أذنه فذهب منها سمعه اقتص من أذنه ولم يقتص من سمعه لتعذره, ولو ضرب أذنه فاستحشفت ويئست لم يكن فيها قصاص كاليد إذا شلت, وفيما يجب فيها قولان: أحدهما: ديتها كشلل اليد. والثاني: حكومة, لأن شلل اليد يذهب منافعها في القبض والبسط, وليس كذلك في استحشاف الأذن, فإن قطعت بعد استحشافها كان فيها حكومة ولا تنقص الحكومتان عن دية الأذن ويجوز أن يكونا أكثر. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "والسن بالسن كان القاطع أفضل طرفًا أو أدنى ما

لم يكن نقص أو شلل". قال في الحاوي: وهذا نص الكتاب في السن لتمييزه عن غيره فيجوز القصاص فيه في الثنايا والرباعيات والأنياب والأضراس, فيقتص بها إذا أقلعت بمثلها من أسنان الجاني, فيقلع من أسنانه مثل ما قلع, فيقتص من البيضاء بالسوداء والخضراء, ومن الشاب بسن الشيخ, ومن القوية بالضعيفة, ومن الكبيرة بالصغيرة, ومن المشتدة بالمتحركة, إذا كانت منافعها باقية, ولا قود في السن الزائدة إلا أن يكون للجاني مثلها في مثل موضعها فيقتص منها, فإن كسر سنه وأمكن أن يسكر سن الجاني مثل كسره اقتص منه, وإن لم يكن فلا قصاص, وكان عليه دية السن, وهي خمس من الإبل بقسط ما كسر منها من نصف أو ثلث أو ربع ويكون بقسطه على ما جرح في اللثة وظهر منها, وإن كان لو قطعها من أصلها يجب فيها أكثر منها, كما لو قطع أصابع كفه وجب فيها ديته, ولو قطعها مع الكف لم يجب فيها أكثر منها, ولا تؤخذ ثنية برباعية ولا ناب بضرس ولا يمنى بيسرى, ولا عليا بسفلى. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن كان قاطع اليد ناقصًا إصبعًا قطعت يده وأخذ منه أرش أصبع". قال في الحاوي: اعلم أنه لا يخلو كف القاطع والمقطوع من أربعة أحوال: أحدهما: أن تكونا كاملتي الأصابع. والثاني: أن تكونا ناقصتي الأصابع. والثالث: أن تكون كف المقطوع كاملة وكف القاطع ناقصة. والرابع: أن يكون كف المقطوع ناقصة وكف القاطع كاملة, فإن استويا في الكمال والنقص جرى القصاص بينهما في الكاملة بالكاملة والناقصة بالناقصة إذا كان النقص فيهما متساويًا, وإن كانت يد المقطوع كاملة الأصابع ويد القاطع ناقصة إصبعًا فهي مسألة الكتاب, وله أن يقتص من كفه الناقصة ويأخذ منه دية الأصبع التي نقصت. وقال أبو حنيفة: يقتص من كفه الناقصة بكفه الكاملة ولا شيء له في الإصبع الناقصة, احتجاجًا بأنه لما لم يعتبر في قود النفوس نقصان الأطراف لدخولها في النفس لم يعتبر في قصاص الأطراف ما تخللها من نقص, ولأنه لما كان أخذ الشلاء بالسليمة أذا رضي بها المقطوع لا يوجب الرجوع بنقص الشلل كذلك أخذ الناقصة بالكاملة لا يوجب الرجوع بأرش النقص, ولأن القصاص يوجب وضع السكين من القاطع في موضعهما من المقطوع وقد فعل ذلك في الكف الناقصة فصار مستوفيًا للحق.

ودليلنا قول الله تعالى: {وإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل 126] والمثل مثلان: مثل في الخلقة, ومثل في القيمة, وليست الكف الناقصة مثلًا في الخلقة ولا مثلًا في القيمة فلم تكافيء ما فضلت عنها في الخلقة والقيمة, وإذا عدم مثل الخلقة في الناقصة أوجب العدول إلي مثلها في القيمة وهي الدية, ولأن كل عضو أخذ قودًا إذا كان موجودًا أخذت ديته إذا كان مفقودًا كما لو قطع أصابعه وكان للقاطع بعضها, ولأن المقطوع مخير بين القصاص والدية, فلما لم يؤثر نقصان كفه في نقصان الدية لم يؤثر نقصانها في نقصان القصاص. فأما جمعه بين النفوس والأطراف فقد تقد الفرق بينهما, وأما اعتباره بالشلل فلا يصح, لأن الشلاء تامة الأصابع ناقصة المنافع, وهذه ناقصة الأصابع والمنافع فافترقا, وأما اعتباره بوضع السكين, في موضعهما من المقطوع, فإن استويا في الوضع فقد اختلفا في التمام فلم يجز أن يستوفي الناقص بالتام. فصل: وإن كان كف المقطوع ناقصة الأصابع وكف القاطع كاملة الأصابع لم يقتص من كفه الكاملة بكف ناقصة, ويلزم أبا حنيفة أن يقول بهذا كما قاله في نقصان كف القاطع وكمال كف المقطوع, فإن قاله فقد جرى فيهما على قياس, وإن لم يقله فقد ناقض ومذهبه في الموضعين مسمى على القياس. فإذا كانت كف المقطوع ناقصة إصبعًا سقط القصاص في كف القاطع لزيادة أصبعه التي لا قصاص فيها ولا يمكن استيفاؤها مع قطع الكف, فوجب استيفاء الكف بها لحفظ الإصبع الزائدة, واقتص من أصابعه التي للمقطوع مثلها, واستبقى للقاطع الإصبع التي فقدت من المقطوع, وأخذ منه أرش الكف المستبقاة له, ولا يبلغ بأرشها دية إصبع, لأنها تبع للأصابع. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن كانت شلاء فله الخيار إن شاء اقتص بأن يأخذ أقل من حقه وإن شاء أخذ دية اليد". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا قطع الأشل اليد يدًا سليمة لم تكن الشلاء مكافئة لها لنقصها عن كمال السلامة فإن أراد المقطوع أعطي دية سليمة فإن أراد القصاص من الشلاء بيده السليمة كان له, لأن أخذ الأنقص بالأكمل يجوز, وأخذ الأكمل بالأنقص لا يجوز, فإن أراد أن يقتص من الشلاء ليأخذ من الشلاء ليأخذ مع القصاص من الكاملة ويأخذ فضل الدية لم يجز, فإن خيف على القاطع الأشل إن قطعت يده الشلاء أن لا تندمل عروق الدم بالشلل

الذي لا يلتحم ويتحقق تلفه لم يقتص منه, لأنه يصير اقتصاصًا من يد بنفس. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن كان المقطوع أشل لم يكن له القود فيأخذ أكثر وله حكومة يد شلاء". قال في الحاوي: لا يجوز أن يقتص من اليد السليمة باليد الشلاء. وقال داود: يقتص من السليمة بالشلاء اعتبارًا بملطق الاسم, كما يقتص من القوية الضعيفة, ومن الصحيحة بالمريضة ولأنه لما اقتص من الأذن السليمة بالأذن المستحشفة, والاستحشاف شلل, كذلك شلل اليد, وهذا خطأ, لقول الله تعالى: {وجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى 40] وليست الشلاء مثلًا لسليمة فلم يجز أن تؤخذ بها, ولأن البصير إذا قلع عينًا قائمة لا تبصر لم يقتص بها من عينه المبصرة مع وجود الحياة فيما قلع, فكل شلل اليد مع هذه الحياة فيها أولى ان لا يقتص منها من يد ذات حياة. فإن قيل: لو كانت الشلاء ميتة لما حل أكلها من الحيوان المذكى؟ قيل: إنما حل أكلها لحمًا وإن كانت ميتة؛ لأنها صارت تبعًا لمذكى كالجنين إذا مات بذكاة أمه, ولأن قطع الشلاء من حي كقطعها من ميت, لأنها في الحالتين ميتة, وقطعها من الميت لا يوجب القصاص, فكذلك قطعها من الحي. فإن قيل: قطعها من الميت لا يضمن بالأرش, وقطعها من الحي مضمون بالأرش فجاز أن تضمن بالقود وإن لم تضمن به يد الميت؟ قيل: لأن اليد تبع للجسد, وجسد الميت غير مضمون فلم تضمن يده, وجسد الأشل مضمون فضمنت يده وخلاف نفس الضعف والمرض لوجود الحياة معهما وحصول النفع بهما, فأما الأذن المستحشفة ففي الاقتصاص بها من السليمة قولان: أحدهما: لا قصاص كاليد الشلاء. والثاني: يقتص بها من السليمة بخلاف اليد الشلاء. والفرق بينهما: أن منفعة الأذن حصول الجمال بها, وهذا موجود في المستحشفة كوجوده في السليمة, ومنفعة اليد قبضها وبسطها والعمل بها, وهذا مفقود في الشلاء موجود في السليمة فافترقنا. فصل: فأما إذا قطع الأشل يد أشلاء ففي القصاص وجهان: أحدهما: وهو محكي عن أبي إسحاق المروزي: أنه لا قصاص بينهما, واعتل بأن

العلة في الأبدان تتفاوت ولا يعرف منتهاها, فصار الشللان مختلفين غير متماثلين فسقط القصاص فيه. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة وأكثر أصحابنا أن القصاص فيه واجب, لأن تفاوت الشلل يكون في نهايته ويكون في أحدهما أكثر سارية منه في الآخر, ولسنا نستوفي القصاص إلا من حد القطع فقد تساويا في نقصه فيجرب القصاص بينهما في الشلل كما يجري مع السلامة إلا أن تكون الشلاء من المقطوع يمناه ومن القاطع يسراه فلا قصاص بينهما, لأنه لا يجوز أن يقتص من يمنى بيسرى, وسواء كان الشلل حادثًا مع الولادة أو طارئًا بعدها. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن قطع أصبعه فتأكلت فذهبت كفه أقيد من الأصبع وأخذ أرش يده إلا أصبعا". قال في الحاوي: وهذا كما قال اختلف الفقهاء فيمن قطع إصبع رجل فسرى القطع إلي أن تآكلت كفه ثم اندملت فذهب الشافعي إلي وجوب القصاص عليه في الإصبع دون الكف, فأوجبه في الجناية السراية. وقال أبو حنيفة: لا قصاص عليه في الإصبع ولا في الكف, فأسقطه في الجناية والسراية. وقال آخرون: يجب عليه القصاص في جميع الكف فأوجبوه في الجناية والسراية. واستدل أبو حنيفة على سقوط القصاص في الجناية والسراية بناء على أصله في أن قطع اليد إذا سرى إلي النفس وجب القصاص في النفس دون اليد, فكان القصاص عنده معتبرًا بالسراية دون الجناية, وليس في السراية ها هنا قصاص فسقط في الجناية واحتج بعده بأمرين: أحدهما: أن الجناية إذا لم تضمن سرايتها بالقود لم يضمن أصلها بالقود كالخطأ. والثاني: أن هذه الجناية قد اجتمع فيها موجب القصاص بالمباشرة وسقط له بالسراية, وإذا اجتمع في الجناية موجب ومسقط غلب حكم الإسقاط على الإيجاب كالعامد إذا شارك خاطئًا. والدليل على وجوب القصاص في الجناية دون السراية قول الله تعالى: {والْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة 45] والجرح مختص بالجناية دون السراية, ولأن كل جناية وجب القصاص فيها مع عدم السراية وجب القصاص فيها مع وجود السراية, قياسًا على قطع يد الحامل إذا سرى إلي سقاط حملها, ولأنه لا يمتنع وجوب القصاص في الجناية وإن

انتهت (إلى) ما لا قصاص فيه كمن رمى رجلًا بسهم فنفذ السهم إلي آخر وماتا وجب القصاص للأول دون الثاني, ولأننا نبينه على أصلنا في أنه لا يسقط القصاص في الجناية وإن اقتص في السراية, نقابل أصلهم, وقياسهم على الخطأ فاسد بسراية الجناية إلي الحمل, ثم المعنى في الخطأ سقوط القصاص مع الاندمال فسقط مع الراية ووجوب القصاص في العمد مع الاندمال فوجب مع السراية. وأما قياسهم على شريك الخاطئ فالمعنى فيه مع فساده بالسراية إلي الحمل هو أن قتل الشريكين حادث بالسراية ولم يمتميز سراية بالعمد من سراية الخطأ' فسقط القود عنهما بسقوطه عن أحدهما, وحكم الجناية في مسألتنا متميز عن السراية فلم يكن سقوط القود في أحدهما موجبًا لسقوطه فيهما, كما لو قطع أحدهما يده عمدًا وقطع الآخر يده الأخرى خطأ لما تميز فعل أحدهما من فعل الآخر لم يكن سقوط القود عن أحدهما موجبًا لسقوط القود عن الآخر. فصل: واستدل من أوجب القصاص في الجناية والسراية بأمرين: أحدهما: أنه لما وجب القصاص في السراية إذا انتهت إلي النفس كان أولى أن يجب فيها إذا كانت دون النفس. والثاني: أنه لما وجب القصاص فيها إذا سرت إلي ذهاب البصر وجب فيها إذا سرت إلي طرف. والدليل على سقوط القصاص في السراية وإن وجب في الجناية: أن ما أمكن مباشرة أخذه بغير سارية كان انتهاء السراية إليه غير مقصود, وما لم يقصد بالجناية جرى عليه حكم الخطأ في سقوط القود, وبهذا المعنى قد فرقنا بين السراية إلي النفس في وجوب القود لأن النفس لا تؤخذ إلا بالسراية, لأنها مغيبة تسري في جميع البدن وبين السراية إلي الطرف في سقوط القود, لأنه يمكن أن يؤخذ بالمباشرة دون السراية وكذلك السراية إلي ذهاب البصر, لأنه محسوس غير مشاخد لا يؤخذ في الأغلب إلا بالسراية. فصل: فإذا ثبت وجوب القصاص في الجناية دون السراية قيل للمجني عليه: أنت بالخيار في الجناية بين القصاص أو الدية, فإن عفا عن القصاص فيها إلي الدية كان له دية الكف كلها, وهي نصف الدية خمسون من الإبل, وكان دية الجناية منها, وهي دية الإصبع المقطوعة عشر من الإبل دية عمد محض تجب في مال الجاني حالة, وفي دية السراية إلي الكف, وهي أربعون من الإبل وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنها لسقوط القصاص فيها دية خطأ تجب مؤجلة على العاقلة.

والثاني: وهو ظاهر قول أبي علي بن أبي هريرة أنها دية عمد تجب حالة في مال الجاني، لأنها جنايةً واحدةً فلم يختلف حكم أرشها، وإن طلب المجني عليه القصاص في الجناية اقتص له من إصبع الجاني، وأخذ منه أربعة أخماس دية الكف لذهابها بالسراية عن جناية، وذلك أربعون من الإبل هي دية أربع أصابع وأصولها من الكف واختلف أصحابنا: هل يدخل فيها أرش أصل الإصبع المأخوذ قودًا أم لا؟ على وجهين: أحدهما: أنه قد دخل في حكم القصاص تبعًا لدخوله في حكم الدية تبعًا. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي أن أصول الأصابع من الكف تكون تبعًا لها في الدية ولا تكون تبعًا لها في القصاص، ألا ترى أنه لو قطع أصابعه الخمس كان عليه خمسون من الإبل ولو قطعها مع الكف وجبت عليه الخمسون من غير زيادة، فصارت الكف تبعًا للأصابع في الدية، ولو قطع أصابعه الخمس ثم سرت إلى الكف اقتص من خمس أصابعه ووجب عليه أرش الكف، ولم يكن أرش الكف تبعًا للقصاص فاقتضى هذا التعليل أن يؤخذ منه أرش ما يجب للإصبع المقتص منها من الكف مضافًا إلى دية الأصابع الأربع، وهل يكون جميعه حالا في مال الجاني أو مؤجلًا على عاقلته؟ على الوجهين الماضين. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((ولم ينتظر به أن يراقي إلى مثل جنايته أولًا)). قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا اقتص من إصبع الجاني فسرت إلى كفه كسراية جنايته من إصبع المجني عليه إلى كفه لم تكن السراية قصاصًا من السراية. فإن قيل: فهلا كانت السراية إلى الأطراف قصاصًا كما كانت الراية إلى النفس قصاصًا؟ قيل: النفس لا تؤخذ بالمباشرة وإنما تؤخذ بالسراية، والأطراف تؤخذ بالمباشرةً دون السراية، ولذلك وجب القصاص في سراية النفس ولم تجب في سراية الأطراف. فإن قيل: أفليس لو شجه موضحةً فسرت إلى ذهاب بصره فاقتص من موضحة الجاني فسره إلى بصره كانت السراية قصاصا، وليس ذلك سراية إلى نفس، فهلا كان في السراية إلى الطرف كذلك؟ قيل: لأن أخذ البصر يكون بالسراية كالنص، لأن ضوء البصر غير مشاهد، ولذلك وجب القصاص في السراية إلى ذهاب البصر قصاصًا بالسراية إلى ذهاب البصر قصاصا بالسراية إلى ذهاب البصر قصاصًا.

فصل: فإذا ثبت أن سراية القصاص إلى الكف لا تكون قصاصا من سراية الجناية إلى الكف، فإذا اقتصصنا من إصبع الجاني أخذنا الباقي من دية الكف على ما وصفنا، ولم ينتظر بإصبعه أن ينتهي في السراية إلى مثل سراية جنايته، لأنها لو انتهت إليه لم يكن قصاصا فلم يكن للانتظار وجه، وهو معنى قول الشافعي: ((ولم ينتظر به أن يراقي إلى مثل جنايته أولًا، فإن سرت أكلة الكف إلى نفس المجني عليه بعد الاقتصاص من إصبع الجاني نظر فإن كانت السراية إلى نفسه بعد أخذ دية باقي كفه فلا قصاص له في النفس، لأنه قد استوفي بعض ديتها فيستوفي ما بقى من دية النفس وذلك نصف الدية، لأنه قد أخذ بالقصاص والأرش نصفها الآخر، وإن كانت السراية قبل أخذ الباقي من دية كفه ففي وجوب القصاص في النفس وجهان بناء على اختلاف أصحابنا في دية السراية إلى الكف هل يكون دية عمد أو خطأ؟ أحد الوجهين: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنها دية خطأ، فعلى هذا لا قود في السراية إلى النفس، ويعدل إلى استكمال الدية ليأخذ تسعين من الإبل لاقتصاصه من إصبع ديتها عشر من الإبل، وعلى هذا لو سرى القصاص من الجاني إلى نفسه لم تسقط عنه الدية. والوجه الثاني: وهو مقتضى قول أبي علي بن أبي هريرة، وقول أبو حامد الإسفراييني إنها دية عمد، فعلى هذا يستحق القصاص في النفس إلا أن يعفو إلى الدية فيعطاها إلا دية إصبع، وعلى هذا لو سرى القصاص من إصبع الجاني إلى نفسه كانت سرايته قصاصًا، لأن سراية جنايته موجبة للقصاص والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((ولو سأل القود ساعة قطع إصبعه أقدته فإن ذهبت كف المجني عليه جعلت على الجاني أربعة أخماس ديتها)) قال في الحاوي: وهذا كما قال، يجوز القصاص في الأطراف قبل اندمالها. وقال أبو حنيفة، ومالك والمزني: لا يجوز أن يقتص من طرف أو جرح حتى يندمل أو يسري إلى النفس، وبناه أبو حنيفة على أصله الذي تقدم فيه الكلام معه من أن سرايته إلى ما دون النفس موجية لسقوط القود فيه، احتجاجًا برواية ابن جريج عن ابن الزبير عن جابر أن رجلًا جرح فأراد أن يستفيد فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستفاد من الجارح حتى يبرأ المجروح. وروى يزيد بن عياض عن أبي الزبير عن جابر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((يتسانا

بالجراحات سنة))، ولان القود أحد البدلين فلم يجز استيفاؤه قبل استقرار الجناية كالدية؛ ولأن القود من الطرف قبل استقرار الجناية قد يجوز أن يسري إلى نفس الجاني قبل سرايته إلى نفي المجني عليه، فإن جعلتموه قصاصًا في النفس كان سالفًا قي قتل قبل استحقاقه وذلك غير جائز قصاصًا إن أخذتم الدية كنتم قد جمعتم بين القصاص والدية وذلك غير جائز. ودليلنا رواية أيوب عن عمرو بن دينار عن جابر أن رجلًا طعن رجلًا بقرن في ركبته فأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليستفيد فقيل له: حتى تبرأ، فأبى وعجل، فا ستفاد فعرجت رجله وبرئت رجل المستفاد منه، فأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: ((ليس لك شيء أنت أبيت)) فدل هذا الحديث على ثلاثة أشياء: أحدها: جواز تعجيل القود قبل الاندمال. والثاني: أن تأخيره إلى وقت الاندمال استحباب. والثالث: جواز القود من الجناية بغير الحديد، لأن الجناية كانت بقرن، وهذا الحديث ذكره الدارقطني في سننه، ولأن القود واجب بالجنايةً والاندمال عافيةً من الله تعالى لا توجب سقوط القود، وسرايتها لا تمنع من استيفائه، فوجب أن يكون استقرار الجناية على أحد الحالين غير مالح من تعجيل القود، ولأن ما استحق فيه القود لم يلزم تأخيره كالمندمل. فأما استدلالهم بالخبر الأول فمحمول على الاستحباب بدليل خبرنا. وأما الخبر الثاني فمتروك من وجهين: أحدهما: ضعف راويه، قال لدارقطني: يزيد بن عياض ضعيف متروك. والثاني: أن تقدير تأخيره بالسنة لا يلزم بالإجماع. وأما الجواب عن قياسهم على الديةً فهو أن للشافعي في أخذ دية الطرف قبل اندماله قولان: أحدهما: قاله في كتاب ((المكاتب)): لو جني السيد على عبده المكاتب فقطع يده كان له أن يعجل أرش يده قصاصًا من كتابته، فخرجه أصحابنا قولا في جواز تعجل الأرش قبل الاندمال، فعلى هذا إن كان أرش الجناية أقل من دية النفس أخذ جميعها، وإن كان أكثر من دية النفس كقطع يديه ورجليه، فقد اختلف أصحابنا في أخذ ما زاد على دية النفس على وجهين حكاهما أبو حامد الإسفراييني: أحدهما: يؤخذ منه ديات الأطراف وإن كانت أربعًا فوق دية النفس اعتبارًا بحال الجناية كالقود.

والثاني: حكاه عن أبي إسحاق المروزي أنه لا يؤخذ منه أكثر من دية النفس لجواز السراية إليها فلا يجب أكثر منها فلا يؤخذ ما يجوز أن يسترجع، فعلى هذا القول قد بطل أصل القياس للتسوية بين الدية والقود في استيفائهما قبل الاندمال. والقول الثاني: وهو الصحيح المنصوص عليه في جميع كتبه والمعمول عليه عند سائر أصحابنا أنه لا يجوز أخذ الدية قبل الاندمال وإن كان القود قبله. والفرق بينهما: أن القول لا يسقط بما حدث بعد ألجناية من اندمال أو سراية، فجاز أن يستوفي قبل استقرارها، ودية الطرف لا تستقر إلا بعد الاندمال، لأنه إن قطع إصبعًا أرشها عشر الدية فقد يجوز أن يشاركه في قتل المجني عليه مائة نفس، فلا يلزم كل واحد من الجماعة من الدية إلا عشر عشرها فيحتاج إلى أن يرد على قاطع الإصبع الزيادة عليه فافترقا. فإن قيل: فقد يجوز أن يحدث في القود مثله، لأنه قد يجوز أن يشركه قبل اندمال الإصبع خاطئ فتسري الجنايتان إلى نفسه فيسقط القول على العامد. قيل: إنما يسقط القول عن العامد في النفس إذا شاركه خاطئ بخروج النفس بعمده وخطئه، فأما الطرف الذي تفرد العاهد بأخذه فلا يسقط القول فيه بمشاركة خاطئ له في النفس، وصار القود في الطرف محتوم الاستحقاق. وأما الجواب عن قولهم: وإن هذا يفضي عند السرايتين إلى السلف في القصاص فهو أن تقول: لا تخلو السرايتان بعد الجناية والقصاص من أن تقدم سراية الجناية أو سراية القصاص، فإن تقدمت سراية الجناية على سراية القصاص فقد استوفي بسراية القصاص ما وجب في سراية الجناية من القصاص، وإن تقدت سراية القصاص على سرأية الجناية، ففيه وجهان: أحدهما: وهو محكي عن أبي إسحاق المروزي أنها تكون قصاصًا وإن تقدمت على سراية الجناية، فلا يكون ذلك سلفًا لحدوثها عن قصاص قد استوفي بعد استحقاقه، والسلف أن يقول: اقطع يدي ليكون قصاصًا من سراية الجناية لتقدمها عليه. والثاني: وهو قول أبي علي بن خيران أنها لا تكون قصاصًا، لتقدمها على سراية الجناية وتميز الطرفين عن السرايتين، فعلى هذا يصير المجني عليه مستحقًا لدية النفس لفوات القصاص فيها بالسراية اليها وهي غير مضمونةً لحدوثها عن مباح, وقد استوفي المجني عليه من دية النفس عشرها وهي دية الإصبع المقتص منها، فيرجع في مال الجاني بتسعة أعشار الدية، وقد استوفينا هذين الجوابين لما تعلق بهما من شرح المذهب. مسألة: قال الشافعي - رضي الله عنه -: ((ولو كان مات منها قتلته به لأن الجاني ضامن لما

حدث من جنايته والمستفاد منه غير مضمون له ما حدث من القود بسبب الحق)). قال في الحاوي: قد ذكرنا أن سراية الجناية مضمونةً على الجاني، وسراية القصاص غير مضمونة على المقتص له، لحدوث سراية الجناية عن محظور وحدوث سراية القصاص عن مباح، وإن سوى أبو حنيفة بين ضمان السرايتين، فعلى هذا صورة مسألتنا أن يقطع إصبعه فيقتص من إصبعه، ثم تسري الجناية إلى نفس المجني عليه، فيجب أن يقتص له من نفس الجاني، ولو كان المجني عليه قد أخذ دية إصبعه ثم مات من سرايتها لم يقتص له من نفس الجاني، لأن أخذه لدية إصبعه عفو عن القصاص فيها، وسراية ما لا قصاص فيه غير موجبةً للقصاص، وله أن يرجع بتسعة أعشار الدية، لأنه قد أخذ في دية الإصبع عشرها، فصار مستوفيًا لجميع الدية. مسألة: قال المزني رضي الله عنه: " وَسَمِعْتُ الشَّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ لَوْ شَجَّهُ مُوضِحَةً فَذَهَبَتْ مِنْهَا عَيْنَاهُ وَشَعْرُهُ فَلَمْ يَنْبُتْ ثم برئ أقص مِنَ المُوضِحَةِ فَإِنْ ذَهَبَتْ عَيْنَاهُ وَلَمْ يَنْبُتْ شَعْرُهُ فَقَدِ اسْتَوْفي حَقَّهُ وَإِنْ لَمْ تَذْهَبْ عَيْنَاهُ وَنَبَتَ شَعْرُهُ زِدْنَا عَلَيْهِ الدِّيَةَ وَفِي الشعر حكومة ". قال في الحاوي: اعلم أن سراية الجناية تنقم ثلاثة أقسام: أحدها: أن تسري إلى النفس، فيجب القصاص له في السراية كوجوبه في الجناية، لأن النفس تؤخذ تارة بالتوجئة وتارة بالسراية، فوجب القصاص في الحالين وليست النفس عينًا ترى فتنفرد بالأخذ، فلو سرى قصاص الجناية إلى النفس كان وفاء لحق المجني عليه. والثاني: أن تسري الجناية إلى عضو في الجسد كسراية قطع الإصبع إلى الكف وسراية قطع الكف إلى المرفق، فالقصاص في الجناية دون السراية، ويؤخذ أرش السراية مع القصاص في الجناية على ما مضى، فلو سرى قصاص الجناية مثل سراية الجناية لم يسقط به أرش سراية الجناية، لما ذكرناه من حدوث سراية الجناية غير مضمون فصار مضمونًا، وحدوث سراية القصاص عن غير مضمون فلم يصر مضمونًا. والثالث: أن تسري الجناية إلى ذهاب ضوء العين كالموضحة في الرأس إذا ذهب بها ضوء العين، فالذي نقله المزني عن الشافعي نصًا في هذا الموضع أن القصاص في السراية إليه واجب؛ لأن ضوء العين ليس بشخص يرى فيؤخذ بقلع العين تارةً وبالسرايةً أخرى فأشبه النفس، فاقتضى أن يجب القصاص في السراية إليه كما يجب في السراية إلى النفس، فيصير هذا ملحقًا بالقسم الأول.

وقال أبو حنيفة: لا قصاص في الموضحة ولا في السرايةً كما لا يجب في الإصبع ولا في السراية إلى الكف. وقال أبو يوسف: يجب القصاص في الموضحة وفي السرايةً إلى ضوء العين وإن لم يجب في الأصبع والسراية إلى الكف، وخرج أبو إسحاق المروزي قولًا ثانيًا لم يساعده عليه غيره أن السرايةً إلى ضوء العين لا توجب القصاص كما لا توجبه السرايةً إلى أعضاء الجسد لأنهما سرايتان إلى ما لا دون النفس وجعل ذلك ملحقًا بالقسم الثاني، فأما السرايةً إلى ذهاب الشعر فلا توجب القصاص، لأن الشعر عين ترى يمكن أن يقصد بالأخذ فصار كسائر الأعضاء. فصل: فإذا تقرر ما ذكرناه من هذه المقدمة فصورة مسألتنا في رجل شبح رجلًا موضحة فذهب منها ضوء عينيه وشعر رأسه، فعلى منصوص الشافعي في وجوب القصاص في السرايةً إلى ضوء العين، يقتص من موضحة الجاني، فإن ذهب منها ضوء عينيه وشعر رأسه فقد استوفي المجني عليه حقه، وإن لم يذهب منها ضوء عينيه ولا شعر رأسه أخذ منها حكومة في الشعر الزائد على موضع الموضحةً، لأن الشعر الذي في موضع الموضحة قد دخل في القصاص منها أو في أرش ديتها، ولا يعالج شعره حتى يذهب ولا يعود نباته؛ لأنه قصاص في السرايةً إلى الشعر، وقد كان القياس يقتضى أن يؤخذ من الجاني حكومةً وإن لم ينبت شعر، غير أن الشافعي جعله تبعًا لخفة حكمه من أحكام الأعضاء، فأما ضوء العين إذا لم يذهب بسراية القصاص فإن أمكن يعالج العين بما يذهب ضوءها من غير جنايةً على الحدقة مثل الكافور أو ميل يحمى بالنار ويقرب إلى العين من غير أن يذوب به شحمها اقتص منه بذلك، وإن لم يكن إلا بقلع الحدقة لم يجز قطعها لأحد أمرين: أحدهما: أن الحدقة عضو لم يجن عليه فلم يقتص منه. والثاني: أنه لا يجوز أن توضع حديدة القصاص في غير محلها من الجناية. فإن قيل: أفليس لو سرت إلى نفسه ولم يسر القصاص إلى نفس الجاني. قيل: ووضع حديد القصاص في غير موضعه من الجناية؟ قيل: لأن القصاص في النفس يستهلك به جميع الجسد وفيما دون النفس لا يستهلك به إلا عضو الجناية وحده فافترقا، وإذا تعذر القصاص في ضوء العين أخذ منه ديتها مع حكومة الشعر بعد الاقتصاص من الموضحة، ولو لم يقتص منها يضم إلى ذلك دية الموضحة. فأما على القول الثاني خرجه المروزي، أنه لا قصاص في ذهاب ضوء العين بالسرايةً فيقتص من الموضحة، ويؤخذ من الجاني دية في ذهاب في ضوء العين، وحكومةً في ذهاب الشعر، سواء سرى قصاص الموضحةً إلى ذهاب ضوء عين الجاني وذهاب

شعره أم لا، كما قلنا في السرايةً إلى الكف بقطع الإصبع لما لم يجب فيه القصاص لم تكن سراية القصاص إلى الكف مسقطًا لما وجب من أرش الكف، فأما المزني فإنه جمع بين السرايةً في النفس في وجوب القصاص فيهما وهو الأصح. فأما إن لطمه فأذهب ضوء عينه فإن كانت اللطمةً يذهب بمثلها ضوء العين في الغالب وجب القصاص فيها بلطمةً يقصد بها ذهاب ضوء العين، ولا يقصد بها القصاص في اللطمةً فإن ذهب بها ضوء العين فقد استوفي القصاص منها، وإن لم يذهب منها ضوء العين وأمكن أن يؤخذ ضوؤها مع بقاء الحدقةً بغير حديد فعل، وإن لم يمكن أخذت منه دية العين، ولا أرش عليه في اللطمةً لاستيفاء ما حدث عنها، وإن كانت اللطمةً لا يذهب في الأغلب منها ضوء العين ويجوز أن يذهب فلا قصاص فيها؛ لأنها عمد الخطأ وتؤخذ منه دية العين، ولا يعزر في اللطمةً؛ لأنه قد استوفي منه حقها، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولا أبلغ بشعر رأسه ولا بشعر لحيته دية قال المزني رحمه الله: هذا أشبه بقوله عندي قياسا على قوله إذا قطع يده فمات عنها أنه يقطع فإن مات منها فقد استوفي حقه فكذلك إذا شجه مقتصا فذهبت منها عيناه وشعره فقد أخذ حقه غير أني أقول إن لم ينبت شعره فعليه حكومة الشعر ما خلا موضع الموضحة فإنه داخل في الموضحة فلا نغرمه مرتين". قال في الحاوي: لا خلاف أن الشعر إذا عاد نباته فلا دية فيه، فأما الحكومة فمعتبرة بحال الشعر، فإن كان مما لا شين في أخذه كشعر الرأس والجسد والشارب فلا يجب في أخذه حكومة، وإن كان مما يشين أخذه كاللحية والحاجبين وأهداب العينين فلا يخلو حال نباته من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يعود مثل ما كان، فلا حكومة فيه ويعزر جانبه. والثاني: أن يعود أخف مما كان وأقل فعليه حكومة ما نقص منه، سواء عاد أقبح مما كان أو أجمل، لأنه قد زال من جسده ما لم يعد. والثالث: أن يعود أكثف مما كان وأكثر فإن لم يكن في الزيادة قبح فلا شيء عليه ويعزر، وإن كان في الزيادة قباحةً وشين فعليه حكومة ما نقص بالقباحةً والشين، وذهب بعض أصحابنا إلى أن نبات الشعر بعد ذهابه لا يسقط ما وجب فيه من حكومة أخذه، وقد روى محمد بن مسلم الطائفي عن إبراهيم بن ميسرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((من مثل بالشعر فليس له خلاق عند الله يوم القيامة)) وفيه ثلاثة أوجه:

أحدها: أن مثلة الشعر تغييره بالسواد. والثاني: أنه نتفه. والثالث: أنه حلقه في الخدود وغيرها. فصل: فأما إن قني شعره قلعا لم يعد نباته، فإن أمكن فيه القصاص حتى يذهب فلا يعود نباته اقتص منه مع التماثل والمكنة، وإن تعذر القصاص منه إلا أن يعود نباته فعليه في جميعه حكومة، ولا تبلغ حكومته دية، وأوجب أبو حنيفة الدية في الشعر في أربعة مواضع؛ في شعر الرأس، واللحية، والحاجبين وأهداب العينين، فجعل في كل واحد منها الدية إلا في العبد فإنه أوجب في شعره ما نقص من قيمته، احتجاجًا بما روي أن رجلًا أفرغ قدرًا يغلي على رأس رجل فتمعط منها شعره فأتى عليًا - عليه السلام - فقال له: اصبر سنة فصبر فلم ينبت فقضى علي له بالدية، ولم يظهر له في الصحابة مخالف فكان إجماعًا. قال: ولأن الدية تجب بإتلاف ما فيه منفعة كاليدين والرجلين، وبإتلاف ما فيه جمال كالأنف والآذنين، وفي هذا الشعر جمال، وإن لم يكن فيه منفعة، فاقتضى أن يجب فيه الدية كالأنف والأذنين. قال: ولأن كل ما فرق بين الرجل والمرأةً وجبت فيه الدية كالذكر والأنثى. ودليلنا: هو أن الدية لا تجب إلا توفيقًا كديات الشجاج والأطراف، وليس في الشعر توقف فلم يجب فيه دية، ولأن الدية تجب فيما يؤلم وليس في أخذ الشعر ألم، وما اختص بالجمال دون الألم لم تكمل فيه الدية كاليد الخلاء، ولأنه شعر لا يجب في العبد منه مقدر فلم يجب في الحر منه مقدر كشفر الجسد، ولأن من لا يجب في شعر جسده مقدر لم يجب في شعر وجهه مقدر كالعبد، ولأن ما جرت العادة بإزالته عند تجاوزه حده لم تجب الدية في إزالة أصله كالأظفار، ثم في الأظفار مع الجمال نفع ليس في الشعر، لأن الأنامل لا يتصرف إلا بها فنقص حكم الشعر عنها. فأما احتجاجهم بقضاء على رضوا ن الله عليه فقد خالفه فيه أبو بكر رضي الله عنه فقضى فيه بعشر من الإبل، فقد خالفه فيه أبو بكر رضي الله عنه فقضى فيه بعشر من الإبل، وخالفها فيه زيد فقضى فيه بثلث الدية، وليس مع الخلاف إجماع، وقيامه على الذكر لاختصاص الرجال به فيفسد بشعر الشارب يختص به الرجال ولا يجب فيه الدية. ثم المعنى في الذكر أن فيه منفعة وإنما يخاف منه للسرايةً إلى النفس، فخالف الشعر، وما ذكره من القياس على الأنف والأذين فلا توية بيها وبين الثم لأمرين: أحدهما: أن في الأنف والأذنين منفعة ليست في الشعر، لأن الأنف يحفظ النفس والشم، والأذن يحفظ السمع ويدفع الأذى.

والثاني: أن في قطعهما ألمًا ربما أفضى إلى النفس بخلاف الشعر الذي لا يؤلم ولا يخاف منه التلف. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: ((ولو أصابته من جرح يده أكلة فقطعت الكف لئلا تمشي الأكلة في جسده لم يضمن الجاني من قطع الكف شيئا فإن مات من ذلك فنصف الدية على الجاني ويسقط نصفها لأنه جني على نفسه)). قال في الحاوي: وصورتها: في رجل قطع إصبع رجل فتآكلت، وخاف المجني عليه سرايتها إلى نفسه فقطع كفه ليقطع سرايتها، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يندمل بقطع كفه فيجب على الجاني القصاص في الإصبع التي قطعها، وعليه الأرش فيما سرت إليه الجناية من كف المجني عليه كأنها سرت إلى إصبع ثانية، فيلزمه ديتها لذهابها بسراية جنايته، ولا قود عليه فيها، ويكون الباقي الكف التي قطعها صاحبها هدرًا لا يضمنها الجاني فإن قيل: إنما قطعها من الخوف الحادث عن جنايته فهلا كانت من ضمانه كالسراية. قيل: تلف السراية حادث عن فعله فضمنه، وتلف الخوف حادث عن فعل غيره فلم يضمنه. والثاني: أن يسري قطع الكف إلى نفسه فيموت، فيكون الموت حادثًا من سرايتين. قطع الجناية، وقطع الاستصلاح، فيصير الجاني أحد القاتلين، وعند أبي حنيفة يكون الثاني قاتلًا دون الأول، لأنه قطع محل الجناية فأزال سرايتها، وهذا فاسد بما قدمناه من الدلالة عليه، فإن الموت كان بسراية الألمين، فلذلك صار الأول أحد القاتلين، وإذا كان كذلك ففي قطع الجاني نصف الدية، فأما القود في النفس فقد صار مشاركًا في النفس لمن لم يلزمه ضمانها فاختلف أصحابنا في وجوب القول عليه، فكان أبو علي بن أبي هريرة يخرجه على قولين من شريك السبع ومن جارح نفسه بعد الجناية عليه: أحدهما: عليه القول في النفس. والثاني: لا قود عليه، وقد مضى توجيه القولين من قبل. وقال أبو إسحاق المروزي: لا قود عليه قولًا واحدًا وإن كان شريك السح وشريك المجني عليه قولين وفرق بينهما بأن النفس في شركة السع والمجني عليه خرجت عن قصد التلف فصار جميعها عمدًا محضًا فجاز أن يجب فيها القول، وفي هذا الموضع خرجت عن قصد الاستصلاح دون التلف، فإذا أفضى إلى التلف صار عمد الخطأ ولا قود على شريك الخاطئ وكذلك ها هنا.

فصل: فأما إذا قطع الجاني قطعة لحم من بدن المجني عليه فخاف المجني عليه سرايتها فقطع ما يليها فمات فينظر، فإن قطع المجني عليه ميتًا فلا تأثير للقطعة، لأن قطع الميت لا سرايةً له، والجاني هو القاتل وحده، والقول عليه في النفس واجب، فإن عفا عنه فجميع الدية، وإن قطع لحمًا حيًا فالموت من سرايتها والجاني أحد القاتلين بوفاق أبي حنيفةً؛ لأن محل الجناية عنده إذا كان باقيًا حدثت السراية عنهما، وإن أزاله الثاني كانت السراية عن الثاني، وعندنا أنه لا فرق بين بقاء محل الجناية وزواله في حدوث السراية عنهما، ويكون القول ها هنا على الجاني محمولًا على ما قدمناه من اختلاف أصحابنا، فيكون على قول ابن أبي هريرة على قولين، وعند أبي إسحاق المروري: لا قود عليه قولًا واحدًا، وعليه نصف الدية، وهكذا لو أن المجروح خاط جرحه فمات، فإن خاطه في لحم ميت فالجارح هو القاتل وعليه القول في النفس أو جميع الدية، وإن خاطه في لحم حي كان الجارح أحد القاتلين وكان وجوب القود على ما ذكرناه من اختلاف أصحابنا في القولين. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((ولو كان في يد المقطوع إصبعان شلاوان القصاص في اليد لم تقطع يد الجاني ولو رضي فإن سأل المقطوع أن يقطع له إصبع القاطع الثالث ويؤخذ له أرش الإصبعين والحكومة في الكف كان ذلك له ولا أبلغ بحكومة كفه دية إصبع لأنها تبع للأصابع وكلها مستوية ولا يكون أرشها كواحدة منها ((. قال في الحاوي: قد ذكرنا أن السليمة لا تقاد بالشلاء، ويجوز أن تقاد الشلاء بالسليمة، فإذا قطع كفًا فيها إصبعان شلاوان فلا تخلو كف القاطع من أن تكون سليمة أو فيها شلل فإن كانت سليمةً فلا قصاص عليه في كفه وإن بذلها، لأن سلامة ما قابل الأشل يوجب سقوط القصاص عنه، ومن سقط القصاص عنه لم يقتص منه وإن رضي لأمرين: أحدهما: أنه لما كان سقوط القود عن الأب بالابن وعن الحر بالعبد يمنع من القود مع رضا الأب والحر كذلك يمنع منه مع رضا السليم بالأشل. والثاني: أن سقوط القود في السليم عن الجاني قد أوجب المال أرشًا في الأشل من المجني عليه فصار كالدين المستحق، ولو بذل من عليه الدين أن يؤخذ به شيء من أعضائه لم يجز، كذلك هنا وإذا سقط القصاص من الملجم المقال للأشل لم يسقط من السليم المقابل للسليم فيقال للمجني عليه: أنت بالخيار بين القصاص أو الدية، فإن طلب الدية وعفا عن القصاص أعطي ديةً ثلاثةً أصابع ثلاثين بعيرًا يدخل فيها حكومة ما تحتها

من الكف، وأعطي حكومة إصبعين شلاوين لا يبلغ بهادية إصبعين سليمتين، ويدخل في حكومتهما حكومة ما تحتهما من الكف لأن أراد القصاص اقتص من ثلاثة أصابع من كف الجاني المماثلة للسليمة من كف المجني عليه، وأخذ منه حكومة في الإصبعين الشلاوين يدخل فيهما حكومة ما تحتهما من الكف، وهل يدخل في القصاص في الأصابع الثالث حكومة ما تحتهما من الكف؟ على وجهين ذكرناهما من قبل: أحدهما: تدخل حكومتهما في القصاص كما تدخل حكومتها في الدية. والثاني: وهو منصوص الشافعي لا تدخل حكومتهما في القصاص، لبقائها، بعد استيفائه، ولا يبلغ بحكومة الكف دية إصبع؛ لأنها تع للأصابع فلم يبلغ بالتابع حكم المتبوع، وإذا كان هذا في جميع الكف فالمستحق ها هنا حكومة ثلاثة أخماس الكف، لأن حكومة خمسها قد دخل في حكومة الإصبعين الشلاوين إذا كان قد أدخله في اعتبار حكومتهما فلا تبلغ بحكومة ثلاثة أخماس دية إصبع وثلاثة أخماس ديتها ست من الإبل فينقص منها شيء وإن قل. فصل: وإن كان في كف الجاني شلل فعل ضربين: أحدهما: أن يتساوى الشلللان من كف الجاني وكف المجني عليه، فيكون الشلل من أصابع الجاني والمجني عليه في الخنصر والبنصر والباقي منها سليم فيقتص من كف الجاني لتكافئهما في الأشل والسليم. والثاني: أن يختلف الشللان فيكون الآشل من المجني عليه الخصر والبنصر ومن الجاني الإبهام والسبابة، فإن رضي المجني عليه أن يأخذ الأشل بالسليم اقتص له من أصابع الجاني الثلاثة وهي الوسطى سليمة بسليمة والسبابة والإبهام شلاوان بسليمتين، وأعطي حكومة في إصبعيه الشلاوين لأن لم يرض أخذ الأشل بالسليم اقتص له من إصبع واحدةً وهي الوسطى، لسلامتهما منهما معًا، وأعطي ديتي إصبعين عشرين بعيرًا في السبابة والإبهام، لسلامتهما من المجني عليه وشللهما في الجاني، وأعطي حكومة إصبعين شلاوين لقصهما من المجني عليه وسلامتهما من الجاني، ويدخل في دية السليمتين ما تحتهما من الكف، وفي حكومة الشلاوين ما تحتهما من الكف في سقوط حكومة ما تحت المقتص منها وجهان على ما مضى مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((ولو كان القاطع مقطوع الأصبعين قطعت له كفه وأخذت للمقطوعة يده أرش (أصبعين) تامتين)).

قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا قطع كفًا كاملة الأصابع وكف القاطع ناقصة إصبعين كان للمقطوع الخيار في الدية والقصاص، فإن اختار الدية أعطي دية يد كاملة لكمالها من المقطوع، وإن نقصت من القاطع ووفقنا أبو حنيفة على أن ديتها لا تقف على مراضاة القاطع وهو أصل معه فيما خالفنا عليه من دية النفس، فإن اختار القود من كف القاطع أقيد منها وهي أنقص من حقه؛ فيقاد من الناقص بالكامل، ويعطى بعد القصاص دية أصبعين لوجودهما في كف المقطوع ونقصانهما من كف القاطع. وقال أبو حنيفة: لا شيء له بعد القصاص، وقد تقدم الكلام معه، واعتبر فقد الإصبعين بشللهما ولا يلزم بعد الاقتصاص نقص شللهما كذلك لا يلزم بعد، دية فقدهما، وهذا فساد بما قدمناه من الغرق بين شللهما وفقدهما بكمال العدد مع الشلل ونقصانه مع الفقد. فصل: قال الشافعي رضي الله عنه: ((ولو كان للقاطع ست أصابع لم يقطع لزيادة الإصبع)). قال في الحاوي: لأن القصاص أن يؤخذ من الجاني مثل ما أخذ من غير زيادة فإذا كان للقاطع ست أصابع وللمقطوع خمس لم يجز أن تؤخذ ست بخمس فإن قيل: إذا جاز إذا اشترك رجلان في قطع يد أن يقطعوا بيدهن يد فهلا جاز أن يأخذوا ست أصابع بخمس؟ قلنا: لأن يد كل واحد منهما مماثلة ليد المقطوع فقطعناها وليست يده مماثلةً لليد الزائدة فلم يقطعها، وإذا كان كذلك نظر في السادسة الزائدة، فإن كانت تحت الكف في طرف الذراع وأصل الزند اقتص من كف القاطع، لبقاء الزائدة بعد أخد الكف، وإن كانت الزائدةً في الكف مع أصابعها لم يخل حالها من ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون ثابتة في الكف، فيقتص من أصابع القاطع الخمس وتستبقي الزائدة على كفه، وهل تؤخذ منه حكومة كفه المستبقاة؟ فعلى وجهين: أحدها: وهو منصوص الشافعي: يؤخذ حكومة كفه لبقائها بعد استحقاق القود لها، ولا سلخ بها دية إصبع, لأنها تبع للأصابع. والثاني: لا تؤخذ منه حكومة كفه يتكون تبعا للاقتصاص من أصابعه كما تكون تبعًا لها لو أخذت ديتها. والقسم الثاني: أن تكون الإصبع الزائدة ملتصقةً بإحدى أصابعه الخمس فيسقط القصاص في الإصبع الزائدة مع الملتصقة بها، ولا يقتص منها لدخول الضرر على

الزائدةً، ويقتص من أربع أصابع القاطع، وتؤخذ منه دية إصبع وهي المستبقاة له مع الزائدة وتدخل حكومة ما تحتها من الكف في ديتها، وفي دخول حكومة باقي كفه في الاقتصاص من أصابعه ما ذكرناه من الوجهين: والقسم الثالث: أن تكون الإصبع الزائدة ثابتة على إحدى أنامل إصبع فيقتص من أصابع القاطع الأربع، فأما الإصبع التي تثبت الزائدةً في أناملها فلا يخلو حال الزائدة عليها من ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون ثابتة منها في الأنملة العليا، فلا قصاص عليه في شيء منها، وتؤخذ منه دية الإصبع، ولو بذلها قصاصا لم يجز أن يقتص منها. والثاني: أن تكون الزائدة ثابتة على الأنملة الوسطى، فيقتص من أنملته العليا، ويؤخذ منه دية ثلثي إصبع ستة أبعرة وثلثين لبقاء الأنملة الوسطى والأنملة السفلى. والثالث: أن تكون الزائدة ثابتة في الأنملة السفلى، فيقتص من أنملته العليا والوسطى، ويؤخذ منه ثلث دية إصبع، لبقاء الأنملة السفلى، وهو ثلاثة أبعرة وثلث. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((ولو كان الذي له خمس أصابع هو القاطع كان للمقطوع قطع يده وحكومة الإصبع الزائدة ولا أبلغ بها أرش إصبع)). قال في الحاوي: إذا كانت الإصبع الزائدة في كف المقطوع دون القاطع اقتصصنا من كف القاطع وأخذنا منه حكومة الإصبع الزائدة، ولا تبلغ بها دية إصبع من أصل الخلقة، فلو قطع الإصبع الزائدة وحدها فلا قصاص فيها لعدم مثلها في أصابع القاطع، وتؤخذ حكومتها، فإن بقي لها بعد اندمالها شين وكانت كفه بعد أخذها أجمل منها مع بقائها ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج لا شيء فيها، ويعزر الجاني عنهما، لأن الحكومة أرش للنقص ولم يحدث من جنايته نقص، وإنما يعزر للألم، ويكون بمثابة من قطع سلعة يضمن إن أفضت إلى التلف، ولا يضمن إن برأت. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي، والساجي: عليه حكومة، لأنه قد أراق دما بجناية، واختلفا في اعتبار حكومتها، فقال أبو إسحاق المروزي: اعتبر حكومتها والدم جار. وقال الساجي: اعتبر حكومتها في أول أحوال اندمالها، لأنه أقرب إلى الاندمال المعتبر في غيرها.

فصل: ولو كانت الإصبع الزائدة في كف القاطع والمقطوع معا فهذا على ضربين: أحدهما: أن يتماثل محل الزائدة من كفيهما فتكون مع الخنصرين أو مع الإبهامين فيقتص من كف القاطع بكف المقطوع ويستوفي القصاص في الأصل والزيادة. والثاني: أن يختلف محل الزائدة من كفيهما فتكون الزائدة من القاطع مع خنصره والزائدة من المقطوع مع إبهامه، فلا قصاص في الزائدة لاختلافهما باختلاف محلهما، ويقتص من أصابعه الخمس، ويؤخذ منه حكومة الأصبع الزائدة. فصل: وإذا كان لرجل أربع أصابع من أصل الخلقةً وإصبع زائدةً في محل الخامسة الناقصة، والعلم بزيادتها وإن كانت في محل الخامسةً الناقصةً يكون إما بضعفها وقلة حركتها، وإما بدقها وصغرها، وإما بغلظها وطولها، وإما بسلبها عن استواء الأصابع، فإن قطع هذا الكف رجل سليم الكف لم يقتص من كفه، لأن فيها إصبعا من أصل الخلقة قد قابلتها إصبع زائدةً الخلقةً فلم يجز أن يأخذ الكاملة بالناقصة كما لا يأخذ السليمة بالشلاء، فإن أراد الدية أعطي دية أربع أصابع أربعين من الإبل وأعطي حكومةً في الزائدة، ويدخل في ذلك حكومةً الكف، فإن أراد القصاص اقتص من أربع أصابع القاطع وأخذت منه حكومة في الإصبع الزائدة، ولو قطع كفا كاملة الأصابع وله كف قد نقصت إصبعا وزاد في محلها إصبع، فإن رضي المقطوع أن يأخذ الزائدة بالكاملةً اقتص له من كف القاطع ولا شيء له في نقص الزائدة كما لو اقتص من شلاء بسليمةً، وإن لم يرض يأخذها بدلا من إصبعه اقتص له من أربع أصابع القاطع، وأخذ منه دية إصبع عشرا من الإبل، ولو كانت الزائدة في غير محل الناقصة لم يجز أن يقتص منها بالكاملة وإن تراضيا لسقوط القصاص فيها باختلاف المحل، ولو كانت كف كل واحد من القاطع والمقطوع ناقصةً إصبعًا وزائدةً إصبعًا فإن تساويا في الناقصةً والزائدةً جرى القصاص بينهما في الزيادة والنقصان، وإن استويا في الزائدةً واختلفا في الناقصة اقتص من الزائدة بالزائدة ويؤخذ من القاطع دية إصبع واحدةً وهي الناقصة من كف القاطع ويقتص من ثلاثة أصابع المتماثلة فيهما، وإن اختلفا في الزائدة واستويا في الناقصة فلا قصاص بينهما في الزائدة، ويقتص من أصابع القاطع الأربع ويؤخذ منه حكومة الزائدةً من المقطوع. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((ولو قطع له أنملة لها طرفان فله القود من إصبعه وزيادة حكومة وإن كان للقاطع مثلها أقيد بها ولا حكومة فإن كان للقاطع طرفان

وللمقطوع واحد فلا قود لأنها أكثر)). قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا كان الطرفان في أنملة المقطوع اقتص من القاطع وأخذ منه حكومة الطرف الزائد، وإن كان الطرفان في أنملة القاطع فلا قصاص عليه، وتؤخذ منه دية أنملة، وإن كان الطرفان في أنملة القاطع والمقطوع اعتبر تماثل الطرفين، فإن كان متماثلين جرى القصاص بهما في الطرفين وإن كانا غير متماثلين فلا، لأن الطرف الزائد من أحدهما متيامن ومن الآخر متياسر فلا قصاص بينهما، ويؤخذ من القاطع دية أنملة وزيادة حكومة في الطرف الزائد. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((ولو قطع أنملة طرف ومن آخر الوسطى من إصبع واحد فإن جاء الأول قبل اقتص له ثم الوسطى وإن جاء صاحب الوسطى قيل لا قصاص لك إلا بعد الطرف ولك الدية)). قال في الحاوي: إذا ابتدأ فقطع أنملة عليا من سبابة رجل ثم قطع أنملةً وسطى من سبابة آخر ليس لها عليا كان القصاص لصاحب العليا مستحقا في الحال، وقصاص صاحب الوسطى معتبرًا بصاحب العليا، فإن اقتص صاحب العليا اقتص بعده لصاحب الوسطى، وإن طالب صاحب الوسطى بالقصاص قبل اقتصاص صاحب العليا لم يخل صاحب العليا من أن يكون قد عفا عن القصاص أو لم يعف، فإن عفا سقط قصاص صاحب الوسطى، لأنه لا يجوز أن يأخذ أنملتين عليا ووسطى بأنملة واحدة وسطى وإن لم يعف صاحب العليا قيل لصاحب الوسطى: لا قصاص لك في الحال مع بقاء العليا وأنت بالخيار بين أن تعفو عن القصاص إلى الدية وبين أن تنتظر بها قصاص صاحب العليا. فإن قيل: إذا كان غير مستحق للقصاص في الحال فكيف يجوز أن يستحقه في ثاني حال، وهلا كان باختلاف الحالين كالحر إذا قطع يد عبد لما سقط القصاص عنه في الحال لم ينتظر بها عتق العبد من بعد حتى يقتص منه قيل: القصاص في الوسطى قد وجب بعد قطع العليا وإنما أخر استيفاؤه لأجل صاحب العليا، وما أخر استيفاؤه من القصاص لسبب لم يوجب تأخيره بطلانه كتأخير الاقتصاص من الحامل حتى تضع، وخالف قطع الحر العبد، لأن القصاص له يجب فافترقا، فإن بادر صاحب الوسطى فاقتص من القاطع فقد تعدى بأخذ العليا مع الوسطى إذ لا قود له عليه فيها لعدم محلها منه، وعليه ديتها للقاطع، ويرجع صاحب العليا بديتها على القاطع. فصل: ولو ابتدأ الجاني فقطع الأنملة الوسطى من سبابة رجل ليس له عليا ثم قطع العليا

من سبابة آخر فلا قصاص لصاحب الوسطى، سواء اقتص صاحب العليا أو لم يقتص، لأنه لم يستحق القصاص في الحال فلم تستحقه في ثاني حال كالعبد إذا أعتق، وكما لو قطع إصبعا شلاء ثم شلت إصبع القاطع بعد الجناية لم يقتص منها، وحكي ابن أبي هريرة في السليمة إذا شلت وجها ثانيًا أنه يقتص منها ولا وجه له اعتبارًا بما ذكرنا، ولو قطعهما من رجلين في حالةً واحدةً وجب لصاحب الوسطى القصاص إذا استوفاه صاحب العليا، ويصير كما لو تقدم بقطع العليا ثم الوسطى، لأن القصاص مستحق بعد القطع والعليا بعده مستحقة القطع. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((ولا أقيد بيمنى يسرى ولا بيسرى يمنى)). قال في الحاوي: والمماثلة في القصاص معتبرة في الجنس والنوع، فالجنس أن تؤخذ اليد باليد، ولا تؤخذ يد برجل، والنوع أن تؤخذ يمنى بيمنى، ولا تؤخذ يمنى بيسرى، فإذا قطع يده اليمنى وكان للقاطع يد يمنى أخذناها قودًا، وإن لم يكن له يمنى سقط القصاص إلى الدية ولم يؤخذ بها اليسرى لعدم المماثلة وهو قول الجمهور. وقال شريك بن عبد الله: أقطع اليمنى باليمنى ولا أعدل عنها إلى اليسرى، فإن عدمت اليمنى قطعت اليسرى بها، لاشتراكهما في الأيسر وتماثلهما في الخلقة وتقاربهما في المنفعة وهذا خطأ، لقول الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل: 126] ولأن ما تميز محله وتفرد بنوعه لم يكن الاشتراك في الاسم العام موجبًا للقصاص كالإصبع لا تؤخذ السبابة بالوسطى وإن اشتركا في الاسم لاختلافهما في المحل، ولأنه لو جاز أخذ اليسرى باليمنى عند عمدها لجاز أن تؤخذ بها مع وجودها وذلك غير جائز مع الوجود فكذلك مع العدم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((ولو قلع سنه أو قطع أذنه ثم إن المقطوع ذلك منه ألصقه بدمه وسأل القود فله ذلك لأنه وجب له بإبانته، وكذلك الجاني لا يقطع ثانية إذا أقيد منه مرة إلا بأن يقطع لأنها ميتة)). قال الماوردي: وهذه المسألة يشتمل في القاطع والمقطوع على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يقطع أذنه فيبينها ثم إن المقطوع أذنه ألصقها بدمها فالتحمت مندملة ثم سأل القصاص من القاطع اقتص له منه لوجوب القصاص بالإبانة، فإن سأل المقتص منه أن تزال أذن المقتص له. قيل: لا حق لك في إزالتها وإنما تزال في حق الله تعالى، لأنها بعد الإبانةً ميتةً

نجسة يلزم أخذه بإزالتها لما عليه من اجتناب الأنجاس في الصلاةً وهو حق يستوفيه الإمام دونك، وهكذا لو اقتص من أذن الجاني فألصقها بدمها فسأل المقتص له أن تعاد إزالتها، قيل له: قد استوفيت حقك من القصاص بالإبانة، وإنما تزال في حق الله تعالى لا في حقك، فلو قطع هذه الأذن الملصقة قاطع من المقتص له أو من المقتص منه لم يضمنها بقود ولا ديةً، ويعزر لافتياته على الإمام لا لتعديه على المقطوع، لأنه مستحق عليه فلم يكن تعديًا في حقه وكان افتياتًا في حق الإمام لمداخلته في سلطانه. والثاني: أن تقطع أذنه إلى نصفها ثم يتركها فيلصقها المجني عليه بدمها فتلتحم وتندمل فلا قصاص على الجاني لأمرين: أحدهما: عدم الإبانة. والثاني: إقرارها مندملةً وتؤخذ منه حكومة ما حدث من الشين بعد الاندمال فلو جني عليها آخر فقطعها إلى آخر الموضع الذي قطعها الأول أخذ بحكومتها دون القود كالأول، ولو أبانها اقتص منه بها، فلو بلغ القصاص إلى نصف أذن القاطع فألصقها بدمها أعيد قطعها منه قودًا، لأنها مقرة في غير القصاص فوجب أن تؤخذ في القصاص. الثالث: أن تقطع أذنه وتتعلق بالجلد فلا تنفصل منه، فإن أعادها المجني عليه فالتصقت أقرت، لأنها إذا لم تنفصل فهي طاهرة لبقاء الحياة فيها، وإذا أقرت بعد الالتحام فلا قصاص فيها، وفيها حكومة بقدر الشين، وإن لم تلتحم وجب القصاص فيها فيقتص من أذن الجاني حتى تتعلق بجلدتها، ولا يقطع الجلدة كما لم يقطعها، لأن غضاريف الأذن محدودة فجرى القصاص فيها مع بقاء الجلد المغشي لها كما يقتص من الموضحة لانتهائها إلى العظم كذلك يقتص من غضروف الأذن لانتهائه إلى اللحم، فإذا اقتضى منها وأعادها الجاني فألصقها حتى التحمت أعيد قطعها ثانية، لأن حقه في بقائها بائنة كما بقيت أذن المجني عليه بائنةً. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((ويقاد بذكر رجل شيخ وخصي وصبي والذي لا يأتي النساء، كان الذكر ينتشر أو لا ينتشر ما لم يكن به شلل يمنعه من أن ينقبض أو ينبسط. قال في الحاوي: القصاص في الذكر واجب، لأنه عضو له حد وغايةً، فإذا استوعبه من أصل القضيب اقتص منه، ويؤخذ الطويل بالقصير، والغليظ بالدقيق، وذكر الشاب بذكر الشيخ، وذكر الذي يأتي النساء بذكر العنين، والذكر الذي ينتشر بالذي لا ينتشر ما لم يكن به شلل، وذكر الفحل بذكر الخصي.

وقال أبو حنيفة، ومالك: لا أقتص من ذكر الفحل بذكر الخصي، ولا الذكر المنتشر بغير المنتشر لنقصهما وقلة النفع بهما فلم يقتص من كامل بناقص، وهذا فاسد، لقول الله تعالى {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل: 126]. ولأنهما قد اشتركا في الاسم الخاص مع تمام الخلقة والسلامة من الشلل فجرى القصاص بينهما كسائر الأطراف، ولأن ذكر العنين صحيح وعدم الإنزال لعلة في الصلب، لأنه محل الماء، وكذلك ذكر الخصي صحيح، والنقص في غيره وهو عدم الأنثيين، ولأنه ليس في العنة والخصي أكثر من فقد الولد، وهذا المعنى لا يؤثر في سقوط القود، كما يؤخذ ذكر من ولد له بذكر العقيم، وكما يؤخذ ثدي المرضعةً ذات اللبن بثدي من لا ترضع وليس لها لبن، وفيما ذكرناه انفصال. فأما الذكر الأشل فلا قصاص فيه من السليم كما لا يقتص من اليد السليمة بالشلاء، وشلل الذكر هو أن يستحشف أو ينقبض فلا ينبسط بحال، وينبسط فلا ينقبض بحال أو ينقبض باليد فإذا فارقته انبسط، أو ينبسط باليد فإذا فارقته انقبض، فهذا هو الأشل على اختلاف أنواع شلله، فلا يقتص منه إلا بأشل ولا يمنع اختلاف أنواع الشلل من جريان القصاص بينهما لعموم النقص وعدم المنفعة. فصل: فإن قطع حشفة الذكر كان فيها القصاص، لأنها معلومة الغاية ولا يمنع اختلافهما في الصغر والكبر من جريان القصاص بينهما، ولو قطع بعض ذكره اقتص منه إذا أمكن، لأنه عصب يمكن قطعه وليس فيه عظم يتشظى كالذراع، فيقدر المقطوع من ذكر المجني عليه، فإن كان نصفه قطع نصف الذكر الجاني، سواء كان أكبر من ذكر المجني عليه أو أقل، وإن كان ثلثه قطع ثلث ذكر الجاني، ولا يؤخذ بقدر المقطوع: لأنه قد يكون نصف ذكر المجني عليه بقدر الثلث من ذكر الجاني، فيؤخذ نصف ذكره ولا يقتصر على ثلثه اعتبارًا بمقدار المقطوع من بقية ذكره لا من ذكر الجاني. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((وبأنثيي الخصي القصاص لأن ذلك طرف وإن قدر على أن يقاد من إحدى أنثيي رجل بلا ذهاب الأخرى أقيد منه وإن قطعهما ففيهما القصاص أو الدية تامةً)). قال في الحاوي: أما القود في الأنثيين فواجب، لأنهما عضوان من أصل الخلقة فيهما منفعة ويخاف من قطعهما على النفس فأشبها الذكر، فيؤخذ أنثيا الشاب بأنثيي الشيخ، وأنثيي الرجل بأنثيي الصبي، وأنثيي من يأتي النساء بأنثيي العنين، وأنثيي الفحل

بأنثيي المجبوب، وهو الذي عناه الشافعي بالخصي، ومنع أبو حنيفة ومالك من أخذ أنثيي الفحل بأنثيي المجبوب، ومن أخذ أنثيي الذي يأتي النساء بأنثيي العنين، كما منعا منه في الذكر، والكلام فيهما واحد. فإن قطع إحدى الأنثيين اقتص منها إذا علم أن القصاص منهما لا يتعدى إلى ذهاب الأخرى، لأن كل عضوين جرى القصاص فيهما جرى في أحدهما كاليدين والرجلين، فإن علم أن القصاص من إحداهما يتعدى إلى ذهاب الأخرى الأنثيين فلا قصاص فيهما، لأنه يصير قصاصًا من عضوين بعضو وذلك لا يجوز، ويؤخذ منه ديتها وهي نصف الدية، لأن في الأنثيين جميع الدية. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((فإن قال الجاني جنيت عليه وهو موجوء، وقال المجني عليه بل صحيح فالقول قول المجني عليه مع يمينه لأن هذا يغيب عن أبصار الناس ولا يجوز كشفه لهم)). قال في الحاوي: إذا اختلف في سلامة العضو المجني عليه فقال الجاني: هو أشل وهو موجوء قد بطلت منافعه فلا قود علي ولا دية، وعلي حكومة. وقال المجني عليه: بل هو سليم استحق فيه القود أو الدية عامةً فقد نص الشافعي في الأعضاء الباطنةً كالذكر والأنثيين القول المعتبر في سلامتها عند القصاص أن القول قول المجني عليه مع يمينه على سلامتها، وله القود إلا أن يقيم الجاني البينةً على ما ادعاه من الشلل، ونص في الأعضاء الظاهرة كاليدين والرجلين والأنف والعينين القول المعتبر في سلامتها عند القصاص أن القول قول الجاني مع يمينه أنها غير سليمة، ولا قود عليه ولا دية إلا أن يقيم المجني عليه البينة على سلامتها، فاختلف أصحابنا في اختلاف هذين النصين على وجهين: أحدهما: أن القول قول الجاني مع يمينه في الأعضاء الظاهرة والباطنةً أنها غير سليمةً على ما نص عليه في الأعضاء الباطنةً لا قود عليه ولا دية. وبه قال أبو حنيفة: لأن الأصل براءة الذمةً من قود وعقل فكان الظاهر صدقه. والقول الثاني: أن القول قول المجني عليه مع يمينه في الأعضاء الظاهرة والباطنة على ما نص عليه في الأعضاء الباطنة، لأن الأصل سلامة الخلقة وثبوت الصحة، وهكذا لو قطع رجلًا ملفوفًا في ثوب فادعى أنه كان ميتًا وادعى وليه أنه كان حيًا فهو على قولين: أحدهما: أن القول قول الجاني. والثاني: أن القول قول الولي وأصلهما اختلاف قوليه في أيهما هو المدعي:

أحدهما: أن الجاني هو المدعي لحدوث الموت، فيكون القول فيه قول الولي. والثاني: أن الولي هو المدعي للقود، فيكون القول قول الجاني، فهذا أحد وجهي أصحابنا. والوجه الثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي، أن اختلاف النصين محمول على اختلاف حالين، فيكون القول في الأعضاء الظاهرة قول الجاني مع يمينه أنها غير سليمةً، والقول في الأعضاء الباطنة قول المجني عليه مع يمينه أنها سليمة. والفرق بينهما: تقدير إقامة البينة في الأعضاء الباطنةً وإمكانها في الأعضاء الظاهرةً، فيقوى في الباطن جنبة المجني عليه، وقوي في الظاهر جنبة الجاني، كما لو قال: إن ولدت فأنت طالق، فادعت الولادة وأنكرها، كان القول فيه قولها لتعذر البينة عليها. وإن قال: إن ولدت فأنت طالق، فادعت الولادة وأنكرها كان القول فيه قوله دونها، لإمكان إقامة البينة على ولادتها. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا من شرح المذهب، فإن قلنا إن القول قول المجني عليه في سلامتها مع يمينه حلف لقد كان سليما عند الجناية عليه، وحكم له بالقود أو الدية، إلا أن يكون للجاني بينة على ما ادعاه من الشلل وعدم السلامة، فإن شهدوا أنه كان أشل عند الجناية أو قبلها حكم بشهادتهم، وسقط القود والدية ووجب الأرش، لأن الشلل إذا ثبت قبل الجناية يزول وكان باقيا إلى وقت الجناية، فلذلك ما استوي حكم الشهادة في الحالتين، والبينة هاهنا إن كانت الجناية موجبة للقود شاهدان، وإن كانت موجبة للدية دون القود في الجناية شاهدان، أو شاهد وامرأتان، أو شاهد ويمين، وإن قلنا: إن القول قول الجاني فلا يخلو حاله من أن يكون قد اعترف بالسلامة قبل الجناية أو لم يعترف بها، فإن لم يعترف له بالسلامة وقال لم تزل سلامته وحلف، فالقول قوله مع يمينه، وإن اعترف له بالسلامة وادعى حدوث الشلل عند الجناية القول المعتبر في السلامة عند القصاص ففي قبول قوله قولان منصوصان: أحدهما: لا تقبل للاعتراف بالسلامة، لأنها قد صارت باعترافه بها أصل استصحابه فيصير القول فيه قول المجني عليه. والثاني: أن يقبل دعواه في حدوث الشلل مع اعترافه بتقدم السلامة، لأننا لما قدمنا قوله في الشلل وإن كان الظاهر سلامة الخلقة قبلنا قوله مع اعترافه بسلامة الخلقة، لاعترافه بما وافق الظاهر من السلامة، فيكون القول قوله مع يمينه، لقد كان أشل ولا يلزم أن يكون يمينه على شلله وقت الجناية، لأن الشلل لا يزول بعد حدوث، فإن أقام المجني عليه بينة على سلامته سمعناها إن شهدت بسلامته وقت الجناية. وإن شهدت بسلامته قبلها فعلى قولين من اختلاف قوليه إذا اعترف بتقدم سلامته هل

يقبل قوله في حدوث شلله. فإن قيل بقبول قوله فيه لم يحكم عليه بهذه البينة، وإن لم يقبل قوله فيه حكم عليه بهذه البينة، وكان له إحلاف المجني عليه لقد كان سليما إلى وقت الجناية عليه، ولا يقبل فيما أوجب القود إلا شاهدان ويقبل فيما أوجب الدية دون القود شاهد وامرأتان أو شاهد ويمين والله أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: ((ويقاد أنف الصحيح بأنف الأخرم ما لم يسقط أنفه أو شيء منه)). قال في الحاوي: وهذا صحيح، لقول الله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} [المائدة: 45] ولأن الأنف حد ينتهي إليه، وهو المارن المتصل بقصبة الأنف الذي يحجز بين المنخرين، والمارن ما لان من الأنف من القصبة الذي بعده من العظم فشابه حد الكف من زند الذراع، فلذلك وجب فيه القود، فيؤخذ الأنف الكبير بالصغير، والغليظ بالدقيق، والأقنى بالأفطس، والشام بالأخشم الذي لا يشم، لأن الخشم علة في غير الأنف، ويؤخذ أنف الصحيح بأنف الأجذم والأخرم إذا لم يذهب بالجذام والخرم شيء منه، لأن الجذام مرض لا يمنع من القود، فإن ذهب بالجذام والخرم شيء من أنف المجني عليه روعي ما ذهب منه وما بقي، فإن أمكن فيه القود استوفي، وهو أن يذهب أحد المنخرين ويبقى أحدهما فيقاد من المنخر الباقي ويؤخذ مثله من الجاني، وإن لم يكن فيه القود لذهاب أرنبة الأنف وهو مقدمه سقط القود فيه، لأنه لا يمكن استيفاء الأرنبة مع القود فيما بعدها، وكان عليه من الدية بقسط ما أبقاه الجذام من أنف المجني عليه من نصف أو ثلث أو ربع. ولو كان أنف المجني عليه صحيحا وأنف الجاني أجذم، فإن لم يذهب بالجذام شيء منه أقيد به أنف الصحيح ولا شيء عليه بعده، وإن أذهب الجذام بعضه أقيد من أنفه وأخذ من دية الأنف بقسط ما أذهبه الجذام من أنف الجاني من ربع أو ثلث أو نصف، ولو قطع الجاني بعض أنف المجني عليه وكان كل واحد منهما صحيح الأنف قدر المقطوع من أنف المجني عليه وما بقي منه. فإن كان المقطوع ثلث أنفه أقيد من الجاني ثلث أنفه، وإن كان نصفا فالنصف، ولا يقاد بقدر المقطوع، لأنه ربما كبر أنف المجني عليه فكان نصفه مستوعبا لأنف الجاني، فيفضي إلى أخذ الأنف بنصف أنف وهذا لا يجوز، فلو قطع المارن وبعض القصبة أقيد من مارن الجاني وأخذ منه أرش المقطوع من القصبةً، لأنهما عظم لا يتماثل فلم يجب فيه القود، كما لو قطع يدا من عظم الذراع أقيد من كفه وأخذ منه أرش ما زاد عليها من عظم الذراع.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((وأذن الصحيح بأذن الأصم)). قال في الحاوي: والقود في الأذن واجب، لقوله تعالى: {وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ} فيأخذ الأذن الكبيرةً بالصغيرةً، والغليظةً بالدقيقةً، والسمينةً بالهزيلةً، والسميعةً بالصماء. وقال مالك: لا أقيد أذن السميع بأذن الأصم، لنقصها بذهاب السمع، وهذا فاسد؛ لأن محل السمع في الرأس، والصم يكون إما بسداد منافذه، وإما لذهابه من محله فلم يكن نقصا في الأذن وإنما هو نقص في غيرها، فجرى القود بينهما فيها، ومنفعةً الأذن تجمع الأصوات لتصل إلى السمع، وتؤخذ الأذن التي لا ثقب فيها بالأذن المثقوبة إذا لم يذهب بالثقب شيء منها، فإن أذهب الثقب منها شيئًا فهي كالأنف إذا أذهب الجذام شيئا منه، وكذلك قطع بعضها على ما بيناه في الأنف لتشابههما. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((وإن قلع سن من قد أثغر سنه هل يجب القصاص فإن كان المقلوع سنه لم يثغر فلا قود حتى يثغر فيتتام طرحة أسنانه ونباتها فإن لم ينبت، وقال أهل العلم به لا ينبت أقدناه)) قال في الحاوي: أما القصاص في الأسنان فواجب بقوله تعالى: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة: 45]. ولرواية أنس بن مالك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: في السن القصاص ولأن فيها منفعةً وجمالًا فأشبهت سائر الأعضاء. فإن قيل: فالسن عظم والعظم لا قصاص فيه. قيل: السن لانفراده كالأعضاء المنفردة التي يجري القصاص فيها، وغيره من العظام ممتزج ومستور بما يمنع من مماثلة القصاص فلم يجب فيه القصاص، فإذا ثبت وجوب القصاص فيه لم يخل حال المجني عليه بقلع سنه من أحد أمرين: إما أن يكون قد ثغر أو لم يثغر، والمثغور أن يطرح أسنان اللبن وينبت بعدها أسنان الكبر، فإن كان مثغورًا قد طرح أسنان اللبن ونبتت أسنان الكبر فقلعت سنه وجب القصاص فيها من مثلها من سن الجاني، وأسنان الفم إذا تكاملت اثنان وثلاثون سنًا، منها أربع ثنايا، وأربع رباعيات، وأربعة أنياب، وأربعة ضواحك، واثني عشر ضرسا، وهي الطواحن، وأربعة نواجذ وهي أواخر أسنان الفم، فتؤخذ الثنيةً بالثنيةً، ولا تؤخذ ثنيةً برباعيةً، ولا ناب بضاحك، كما لا يؤخذ إبهام بخنصر، وتؤخذ اليمنى باليمنى ولا تؤخذ يمنى بيسرى

وتؤخذ العليا بالعليا ولا تؤخذ عليا بسفلى، وتؤخذ السن الكبيرة بالصغيرة، والقويةً بالضعيفةً، كما تؤخذ اليد الصحيحةً بالمريضةً، لأن الاعتبار بالاسم المطلق، وإذا كان كذلك لم يخل حال السن المقلوعةً بالجنايةً من أن تقلع من أصلها أو يكسر ما ظهر منها، فإن قلعت من أصلها الأسنان قلعت سن الجاني من أصلها الداخل في لحم العمور ومنابت الأسنان، وإن كسر ما ظهر منها وبرز من لحم العمور كسر من سن الجاني ما ظهر منها وترك عليه ما ستره اللحم من أصلها، فإن عفا عن القصاص إلى الدية كانت فيه دية السن خمسًا من الإبل كما لو قلعها من أصلها، لأن منفعتها وجمالها بالظاهر دون الباطن، فإن عاد وقطع ما بطن من بقيتها كان فيه حكومةً، كمن قطع أصابع الكف وجب عليه دية كف، فإن عاد فقطع بقية الكف كانت عليه حكومة، ولو كان قد قطعها من أصل الكف لم يجب عليه أكثر من الدية، ولو كسر نصف سنة بالطول، فإن أمكن القصاص منها اقتص، وإن تقدر كان عليه نصف ديتها. فصل: وإن قلع سن من لم يثغر فلا قصاص في الحال ولا ديةً، لأنها من أسنان اللبن التي جرت العادة بنباتها بعد سقوطها ووجب الانتظار إلى أقصى المدة التي يقول أهل العلم بها من الطب أنها تنبت فيه، فإن نبتت فلا قصاص فيها ولا دية، لأن القصاص والدية إنما يجبان فيما يدوم ضرره وعينه ولا يجبان فيما يزول ضرره وشينه كالسن إذا نبتت وكاللطمة إذا آلمت، لزوال ذلك وعوده إلى المعهود منه، فإن كان قد خرج مع سن اللبن حين قلعت دم نظر فيه فإن خرج من لحم العمور وجب فيه أرش، كمن جرح في لحم بدنه فأنهر دمه، وإن خرج من محل السن المقلوعة ففي وجوب الأرش وجهان حكاها أبو حامد الإسفراييني: أحدهما: لا يجب فيه أرش كمن لطم فرعف لم يجب فيه أرش. والثاني: فيه الأرش، لأنه قد قلع بقلعه ما اتصل به من عروق محله ومرابطه فلزمه الأرش، وعلى مقتضى هذا التعليل يجب عليه الأرش وإن لم يخرج دم لقطع تلك المرابط والعروق. فإن قيل به كان هذا الوجه الثاني أصح، وإن لم يقل به كان الوجه الأول أصح، والقول الثاني عندي أولى. فإذا ثبت وجوب الانتظار بالسن المقلوعة وقت نباتها لم يخل حال صاحبها من أحد أمرين: إما أن يعيش إلى ذلك الوقت أو يموت قبله، فإن عاش إليه لم يخل حال تلك السن المقلوعة من أحد أمرين: إما أن تنبت أو لا تنبت، فإن لم تنبت وجب فيها القصاص، فإن عفا عنه فالدية تامةً، لأنه قلع سنا لم تعد فصارت كسن المثغور وإن نبتت فلها ثلاثة أحوال:

أحدها: أن تنبت كأخواتها في القد واللون، فلا قود فيها ولا دية. والثانية: أن تنبت أقصر من أخواتها فالظاهر من قصرها أنه من قلع ما قبلها قبل أوانه فصار منسوبا إلى الجاني فيلزمه دية السن بقدر ما نقص من السن العائد، فإن كان النصف فنصف ديتها، وإن كان الثلث فثلثها. والثالثة: أن تنبت في قد أخواتها لكنها متغيرةً اللون بخضرةً أو سواد، فالظاهر أنه من الجنايةً، فيؤخذ الجاني بأرش تغييرها، وإن مات المقلوع سنه قبل الوقت الذي قدره أهل العلم بالطب لعودها فلا قود فيها، لأن الظاهر أنه لو بقي لعادت، والقصاص حد يدرأ بالشبهة. وأما الدية ففي استحقاقها وجهان: أحدهما: يستحق، لأن قلعها مستحق وعودها مع البقاء متوهم، فلم يسقط بالظن حكم اليقين. والثاني: لا يستحق الدية اعتبارًا بالظاهر كما لم يجب القود اعتبارًا به. فصل: وإذا كان المقلوع سنه مثغورًا فعادت سنه ونبتت ففيها قولان: أحدهما: أنه يصير كغير المثغور إذا عادت سنه بعد قلعها تكون هي الحادثة عن المقلوعةً، فلا يجب فيها قصاص ولا دية كما لو جني على عينه فأذهب ضوءها ثم عاد الضوء كان هو الأول ولم يكن حادثًا عن غير، فلو كان قد تقدم الاقتصاص منها لم يقتص للجاني منها، لأن المستوفي على وجه القصاص لا يجب فيه القصاص لكن له الدية يرجع بها على المجني عليه لأخذه القصاص من سن لا يستحق فيها القصاص. والثاني: أن هذه السن الحادثة هبة من الله مستجدة وليست حادثة من المقلوعة، لأن الظاهر من حال المثغور أن سنه إذا انقلعت لم تعد، فلا يسقط بعودها قصاص ولا دية، فيقتص من الجاني وإن عادت من المجني عليه بخلاف من لم يثغر، لأن سن المثغور لا تعود في غالب العادة، وسن غير المثغور تعود في الأغلب، وخالف ضوء العين إذا عاد بعد ذهابه، لأنه كان مستورًا بحائل زال فأبصر بالضوء الأول لا بضوء تجدد وهذه سن تجددت فافترقا، ويتفرع على هذين القولين فرعان: أحدهما: أن يقلع رجل سنا فيقتص من سن الجاني بسن المجني عليه، ثم تعود سن الجاني فتنبت. فإن قيل: إن السن العائدة في المثغور هي هبةً مستجدةً وليست حادثةً عن الأولى، فلا شيء على الجاني بعود سنه من قصاص ولا دية لاستيفاء القصاص منه، وما حدث بعده هبةً من الله تعالى له. وإن قيل: إن السن العائدة في المثغور هي الحادثةً عن الأولى، ففي وجوب

الاقتصاص منها ثانيًا وجهان: أحدهما: يقتص منها إذا عادت ثانيةً كما اقتص منها في الأولى، وكذلك لو عادت ثالثةً ورابعةً، لأنه قد أفقد المجني عليه سنه فوجب أن يقابل بما يفقد سنه. والثاني: لا قصاص فيها لاستيفائه منها وأنه جني دفعةً واحدةً فلم يجز أن يقتص منه أكثر من دفعةً واحدةً، فعلى هذا هل تؤخذ منه ديتها أم لا: على وجهين: أحدهما: تؤخذ منه الدية لترك سنه عليه. والثاني: لا يؤخذ بالدية كما لم يؤخذ بالقصاص، لأن لا يجمع بين دية وقصاص. والفرع الثاني: أن يقتص من سن الجاني بسن المجني عليه، فتعود سن الجاني وتعود سن المجني عليه، فلا قصاص هنا من الثانيةً ولا دية على القولين معًا، لأننا إن قلنا بأن العائدة هبةً مستجدةً فهي هبةً في حق كل واحد منهما، وإن قلنا إنها حادثةً عن الأولى فقد عادت سن كل واحد منهما والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((ولو قلع له سنًا زائدةً ففيها حكومةً إلا أن يكون للقالع مثلها فيقاد منه)). قال في الحاوي: أما السن الزائدةً فهي ما زادت على الاثنين والثلاثين سنًا المعدودة التي عيناها من أسنان الفم، وتنبت في غير نظام الأسنان، إما خارجةً أو داخلةً، وتسمى هذه الزيادة سنا ثانيةً، قال الشاعر: فلا يعجبن ذا البخل كثرة ماله فإن الشغا نقص وإن كان زائدًا فإذا جني عليها جان فقلعها لم يخل أن يكون للجاني مثلها أو لا يكون، فإن لم يكن له مثلها فلا قود فيها، لعدم ما يماثلها، كما لو قطع نابه ولم يكن له ناب لم يؤخذ به غير الناب، فإذا سقط القصاص في الشاغبةً فعليه فيها حكومةً لا يبلغ بها ديةً سن غير شاغبةً لنقص الأعضاء الزائدة عن أعضاء الخلقةً المعهودةً، وإن كان للجاني سن زائدةً لم يخل من أن تكون في مثل محلها من المجني عليه أو غير محلها، فإن كانت في غير محلها منه مثل أن تكون الزائدة من الجاني مع الأسنان العليا ومن المجني عليه مع الأسنان السفلى أو تكون من الجاني يمنى ومن المجني عليه يسرى، أو تكون من الجاني مقترنة بالناب ومن المجني عليه مقترنةً بالثنية فلا قصاص فيها، لأن اختلاف محلهما يمنع من تماثلهما فإن كانت من الجاني في مثل محلها من المجني عليه ففيها القصاص، لتماثلهما في المحل، وسواء اتفقا في القدر والمنفعةً أو تفاضلا، لتساويهما في الاسم الخاص كما قلناه فيما كان من أصل الخلقة المعهودة.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((ومن اقتص حقه بغير سلطان عزر ولا شيء عليه)). قال في الحاوي: وهذا صحيح ليس لمستحق القصاص أن ينفرد باستيفائه من غير إذن السلطان، سواء كان في نفس أو طرف ثبت ذلك عند سلطان أو لم يثبت لأمرين: أحدهما: أن في القصاص ما اختلف الفقهاء في استيفائه فلم يتيقن فيه الحكم باجتهاد الولاة. والثاني: أنه موجود في تعديته في الاقتصاص منه فلم يكن له القصاص إلا بحضور من يزجره عن التعدي، فإن تفرد باستيفائه فقد وصل إلى حقه ويعزر على افتياته، ولا شيء عليه إذا كان ما استوفاه من القصاص ثابتًا فإن ادعاه ولم يكن له بينة لم تقبل دعواه وصار جانيًا، فيؤخذ بما جناه من قصاص أو ديةً، ولا تكون دعواه شبهة في سقوط القصاص عنه، لأن سعدًا قال للنبي - {صلى الله عليه وسلم} - ((أرأيت يا رسول الله، لو وجدت مع امرأتي رجلًا أقتله؟ قال: لا حتى تأتي بأربعة من الشهداء، كفي بالسيف شا)) يعني: شاهدًا عليك بالقتل، وقال منصور بن إسماعيل التميمي المصري، من أصحابنا: لا يعزر الولي إذا استوفاه بغير سلطان: لأنه استوفي حقه فلا يمنع منه كاسترجاع المغصوب وهذا فاسد بما قدمناه من الأمرين. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: ((ولو قال المقتص: أخرج يمينك فأخرج يساره فقطعها، وقال عمدت وأنا عالم فلا عقل ولا قصاص فإذا برئ اقتص من يمينه وإن قال لم أسمع أو رأيت أن القصاص بها يسقط عن يميني لزم المقتص دية اليد)). قال في الحاوي: وصورتها في رجل وجب القصاص عليه في يمناه فأخرج يسراه فقطعها المقتص، فلا يجوز أن تكون اليسرى قصاصًا باليمنى لاستحقاق المماثلة فيه، كما لا تكون اليد قصاصا بالرجل وإن وقع به التراضي، وإذا كان كذلك بدئ بسؤال فخرج يده قبل سؤال المقتص القاطع: هل أخرج يده باذلا لقطعها أو غير باذل؟ فإن قال: أخرجتها غير باذل لقطعها وإنما أردت بإخراجها التصرف بها سأل حينئذ المقتص القاطع: هل علم أنها اليسرى أو لم يعلم؟ فإن قال: لم أعلم أنها اليسرى وظننتها اليمنى فقطعتها قصاصًا فلا قصاص على هذا المقتص في اليسرى وإن لم يكن قصاصًا في اليمنى، لأنها شبهةً تدرأ بها الحدود، وعليه ديتها، لأنه قطعها خطأ بغير حق، وهل يسقط بذلك حقه من قطع اليمنى أم لا؟ على وجهين:

أحدهما: قد سقط حقه من الاقتصاص منها لاعتقاده استيفاء قصاصه، فعلى هذا يرجع المقتص على مخرج يده اليمنى حالة في ماله، لأنها دية عمد، ويرجع مخرج يده اليسرى على عاقلة المقتص، لأنها دية خطأ، ولا يكونا قصاصا لاختلاف محلهما. والثاني: أن حقه في الاقتصاص من اليمنى باق لبقائها، وأن الخطأ بغيرها لا يزيل الحق منها، فعلى هذا يكون للمقتص أن يقطع يمين الجاني المخرج ليسراه إذا اندملت اليسرى، لأن لا يوالي عليه بين قطعين فيسري قطعهما إلى تلفه، وهذا بخلاف ما لو استحق عليه قطع يديه فإنه يجوز أن يوالي عليه في الاقتصاص منهما بين قطعهما ولا ينتظر اندمال أولاهما، لأن قطعهما مستحق فلم ينتظر به الاندمال وفي مسألتنا الأولى غير مستحق فانتظر اندماله لاستيفاء المستحق بعده، فإذا اقتص من اليمنى كان على عاقلته دية يسرى الجاني. وإن قال المقتص القاطع لليسرى علمت حين قطعتها أنها اليسرى. قيل: عليك منها القصاص، لأنك أخذتها عمدًا بغير حق، سواء علم تحريم قطع اليسرى باليمنى أو جهل، فيقتص من يسراه بيسرى الجاني، فأما حقه في الاقتصاص من يمين الجاني فمعتبر بحاله في قطع اليسرى، هل قصد بقطعها القصاص من اليمنى أو لم يقصد بقطعها أن تكون قصاصًا باليمنى؟ فإن لم يقصد قصاصًا باليمنى كان على حقه من الاقتصاص من يمين الجاني، وإن قصد بقطع اليسرى أن يكون قصاصًا من اليمنى، ففي سقوط حقه من الاقتصاص منها وجهان: أحدهما: قد سقط حقه من قطع اليمنى قصاصا لاعتقاده استيفاء بدله ويكون له على الجاني ديتها. والثاني: أنه على حقه في الاقتصاص من اليمنى، لأنه لما لم تكن اليسرى بدلًا عنهما واستوفي القصاص لها وجب أن يكون على حقه من القصاص من اليمنى. فصل: وإن قال الجاني المخرج ليسراه: أخرجتها باذلا لقطعها الذي أخرج يسراه وكان عليه القصاص في يمناه سئل عن بذلها: هل جعلته بدلا من اليمنى أو غير بدل؟ فإن قال لم أجعله بدلا لعلمي بأنه لا يقتص من يسرى بيمنى قيل فقطع يدك هدر لإباحتك لها، فلا قود لك فيها ولا دية، ويعزر قاطعها زجرًا في حق الله تعالى مع علمه بالحظر، ولا يعذر مع جهله به، ثم يسأل قاطعها هل قطعها قصاصا أو غير قصاص: فإن قال: قطعتها غير قصاص كان على حقه في الاقتصاص من اليمنى بعد اندمال اليسرى، وإن قال: قطعتها قصاصًا من اليمنى، قيل له: علمت أنها اليسرى أو لم تعلم؟ فإن قال: علمت أنها اليسرى صار ذلك عفوًا منه عن قطع اليمنى فسقط حقه من الاقتصاص منها، وله ديتها حالة في مال الجاني، وإن قال: ظننتها اليمنى ولم أعلم أنها اليسرى أخرج يسراه وعليه قصاص في يمناه فهل يسقط بذلك حقه من القصاص في اليمنى؟ على ما مضى من الوجهين: أحدهما: لا يسقط وله الاقتصاص منها بعد اندمال اليسرى.

والثاني: يسقط القصاص منها ويرجع بديتها، وإن قال المخرج لليسرى أخرجتها لتكون بدلًا من اليمنى أخرج يسراه وعليه قصاص في يمناه سئل قاطعها: هل قطعتها بدلًا من اليمنى أم لا؟ فإن قال: لم أقطعها بدلًا كان عليه القصاص في يسراه، وله القصاص في يمنى الجاني، لأنه لما لم يسقط بذلك حقه من القصاص في اليمنى لم يسقط عنه القصاص في اليسرى، ولم يكن بذل مخرجها مسقطا لقصاصه لها، لأنه بذلها لتكون معاوضة باليمنى، فإذا لم تكن عوضًا سقط حكم البذل، وإن قال: قطعتها بدلًا لتكون قصاصًا من اليمنى سئل: هل علمت أنها اليسرى أو لم تعلم: فإن علم أنها اليسرى سقط قصاصه من اليمنى، وكان عليه دية اليسرى وله دية اليمنى فيتقاصان، لأنهما ديتا عمد في أموالهما، فإن تفاضلت ديةً أيديهما لكون أحدهما رجلًا والآخر امرأةً تراجعا فضل الدية وإن ظنها اليمنى ولم يعلم أنها اليسرى ففي سقوط القصاص ما قدمناه من الوجهين. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((ولو كان ذلك في سرقة لم يقطع يمينه ولا يشبه الحد حقوق العباد)). قال في الحاوي: وصورتها: أن يستحق قطع يمين السارق فيخرج يسراه فتقطع فقد قال الشافعي في موضع القديم: القياس أن تقطع يمناه والاستحسان ألا تقطع فصار قوله في القديم لم يلزم من تقديم على الاستحسان، لأنه لا يجوز أن يؤخذ يسرى السارق بيمناه كالقصاص وقطع اليمنى بعد قطع اليسرى إذا اندملت، فعلى هذا إذا أخرجها السارق مبيحا لها لا قصاص فيها ولها دية، وإن أخرجها لتقطع في السرقة بدلا من يمناه فليستفد بها منه. وإن عمد الجلاد قطع اليسرى وعلم بها اقتص منه يد السارق، وإن لم يعلم فلا قصاص عليه وفي وجوب الدية وجهان: أحدهما: يجب عليه ديةً للصيد، لأن ما وجب في القود في عمده وجبت الدية في خطئه. والثاني: لا ديةً عليه، لأنه في الخطأ متسلط، وفي العمد ممنوع هذا ما يقتضيه مذهبه في القديم. فأما قوله في الجديد فلم يختلف أن أخذ اليسرى في السرقة مجزئ عن قطع اليمنى، وإن لم يجز في القصاص. والفرق بينهما من ثلاثة أوجه: أحدها: أن حقوق الله تعالى موضوعة على المساهلةً والمسامحةً، وحقوق العباد

موضوعةً على الاستقصاء والمشاحة؟ والثاني: أن قطع اليمنى في السرقة يسقط بذهابها إذا تآكلت، ولا يسقط حكم الجناية بذهابها في القصاص إذا تآكلت والثالث: أن يسرى السارق تقطع إذا عدم اليمنى، ولا تقطع يسرى السارق بجاني إذا عدم اليمنى. فلهذه المعاني الثلاثة افترقا. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((ولو قال الجاني مات من قطع اليدين والرجلين، وقال الولي مات من غيرهما فالقول قول الولي)). قال في الحاوي: وصورتها في رجل قطع يدي رجل ورجليه ثم مات المجني عليه فلا يخلو موته من خمسة أحوال: أحدها: أن يموت بعد اندمال اليدين والرجلين فيكون الجاني قاطعا وليس بقاتل فيلزمه إن عفا عن القصاص في يديه ورجليه ديتان إحداهما في اليدين، والأخرى في الرجلين. والثانية: أن يموت قبل اندمالهما فيصير الجاني قاتلًا يقتص من نفسه بعد الاقتصاص من اليدين والرجلين، فإن عفا عن القصاص كانت عليه ديةً واحدةً، لأن ديات الأطراف تدخل في ديات النفس إذا سرت الجناية إليها. والثالثة: أن يموت بعد اندمال أحدهما وبقاء الأخرى، كموته بعد اندمال يديه وبقاء رجليه، فيصير الجاني قاتلًا بسراية الرجلين قاطعًا باندمال اليدين وتلزمه ديتان إحداهما في النفس لسراية الرجلين إليهما والأخرى في اليدين لاستقرار ديتها باندمالهما، لأنها تدخل في دية النفس ما لم تندمل، ولا تدخل فيها إذا اندملت. والرابعة: أن يختلفا فيدعي الولي أنه مات بعد اندمالهما فاستحق على الجاني ديتين، وادعى الجاني أنه مات قبل اندمالهما ليلتزم ديةً واحدةً، فالواجب مع هذا الاختلاف أن يعتبر الزمان الذي بين الجناية والموت، فإن اتسع للاندمال كالشهر فما زاد فالقول قول الولي مع يمينه بالله لقد مات بعد اندمال الجنايةً، لأنه قد استحق بابتداء الجناية ديتين، وما ادعاه من الاندمال محتمل فلم تقبل دعوى الجاني في إسقاط أحدهما إلا أن يقيم بينة أن المقطوع لم يزل مريضا حتى مات من الجناية فيحكم بها، ولا يلزمه إلا ديةً واحدةً، وإن ضاق الزمان عن الاندمال كموته بعد يوم أو أسبوع فالقول قول الجاني، لأن ما ادعاه الولي مخالف للظاهر ويحلف الجاني وإن كان الظاهر معه، لجواز أن يموت المقطوع مخنوقًا أو مسمومًا، فإن ادعى الولي مع ضيق الزمان عن

الاندمال أن المقطوع مات موجئا بذبح أو سم أو خنق صار مع كل واحد منهما ظاهر يوجب العمل عليه، فيكون على وجهين: أحدهما: أن يكون القول قول الولي مع يمينه وهو الأظهر من مذهب الشافعي، لأنه قد استحق في الظاهر بابتداء الجناية ديتين وما ادعاه من حدوث التوجية محتمل. والثاني: أن القول قول الجاني مع يمينه، لأن الظاهر موته من الجناية وما ادعاه الولي من حدوث التوجية غير معلوم فلم يقبل منه، فعلى هذا لو اختلفا في اتساع الزمان وضيقه فقال الولي: اتسع الزمان للاندمال فالقول قولي في استحقاق الديتين، وقال الجاني: ضاق الزمان عن الاندمال فالقول قولي في أن لا تلزمني إلا ديةً واحدةً، فالقول قول الجاني مع يمينه دون الولي، ولا يلزمه إلا ديةً واحدةً لأمرين: أحدهما: أن الأصل قرب الزمان حتى يعلم بعده. والثاني: أن الأصل بقاء الجناية حتى يعلم اندمالها. والخامسة: أن يختلفا فيدعي الولي أنه مات من الجناية قطع يده ورجله ومات المقطوع فاستحق القصاص في النفس، ويدعي الجاني أنه مات من غير الجناية قطع يده ورجله ومات المقطوع فلا قود عليه في النفس، فإن ضاق الزمان عن الاندمال فالقول قول الولي مع يمينه، لأن الظاهر معه، فإن اتسع الزمان للاندمال فالقول قول الجاني مع يمينه، لأن الأصل أن لا قصاص عليه في النفس. فصل: فلو كانت المسألة بضد المسطور وكانت الجناية موضحة توجب خمسا من الإبل ومات المجني عليه واختلف الولي والجاني، فقال الولي: مات من جنايتك فعليك دية النفس أو القصاص فيها، وقال الجاني: بل مات من غير جنايتي فليس علي إلا ديةً الموضحةً، فإن ضاق الزمان عن الاندمال فالقول قول الولي مع يمينه وله القصاص في النفس أو الدية كاملةً، لأن الظاهر معه، وإن اتسع الزمان للاندمال فالقول قول الجاني، لأن الظاهر معه في أن لم يجب بالجنايةً إلا دية موضحةً وأن النفس لا قصاص فيها، فصار الجواب بضد ما تقدم، لأنها بضده والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((ويحضر الإمام القصاص عدلين عاقلين حتى لا يقاد إلا بحديدةً حادةً مسقاةً ويتفقد حديده لئلا يسم فيقتل من حيث قطع بأيسر ما يكون به القطع)). قال في الحاوي: وإنما اختار الشافعي أن يحضر القصاص عدلين شاهدين ليشهدا باستيفائه إن استوفي، وبالتعدي فيه إن تعدي، فإن قيل: فما معنى قول الشافعي: عدلين

عاقلين))، والعدل لا يكون إلا عاقلا فمنه ثلاثة أجوبة: أحدهما: أنه قاله على طريق التأكيد، كمال قال الله عز وجل: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل:26] و {يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ} [آل عمران: 167]. والثاني: أنه أراد بالعقل ثبات النفس وسكون الجأش عند مشاهدة القصاص، وليس كل عدل يمكن جأشه عند مشاهدة القتل والقطع قاله أبو القاسم الصميري. والثالث: أنه أراد بالعقل الفطنة والتيقظ ليفطن بما يجري من استيفائه من حق أو تعد، إذ ليس كل عدل يفطن لذلك قاله أبو حامد الإسفراييني، فإن غاب الشاهدان عن استيفاء القصاص لم يؤثر فيه وكان المسيء هو الحاكم بالقصاص دون المستوفي له، فأما صفة ما يستوفي به القصاص من الحديد فقد ذكرنا أنه ينبغي لمن حكم باستيفائه من سلطان أو قاض أن يتفقده حتى لا يكون مثلوما كالا ولا مسموما، لأن الكال يعذب المقتص منه والمسموم يهري لحمه، فإن اقتص بكال مثلوم لم يعزر، وإن اقتص بمسموم فإن كان القصاص في النفس فقد استوفي ولا غرم في السم لكن يعزر المقتص أدبا، كما لو قطع المقتص منه بعد قتله قطعا، وإن كان في طرف فأفضى السم إلى تلفه وصار التلف حادثا عن القصاص الذي لا يضمن وعن السم الذي يضمن فيلزم نصف الدية لحدوث التلف عن مباح ومحظور، كمن جرح مرتداً ثم أسلم وجرحه بعد إسلامه أخرى ثم مات ضمن نصف ديته لتلفه عن سببين أحدهما مباح والآخر محظور. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((ويرزق من يقيم الحدود ويأخذ القصاص من سهم النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس كما يرزق الحكام فإن لم يفعل فعلى المقتص منه الأجر كما عليه أجر الكيال والوزان فيما يلزمه)). قال في الحاوي: ينبغي للإمام أن يندب لاستيفاء الحدود والقصاص رجلا أمينا من بيت المال إن لم يجد متطوعا، لأنه من المصالح العامة، ويكون من مال المصالح وهو خمس الخمس سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفيء والغنيمة المعد بعده للمصالح العامة، فإذا استوفي الجلاد القصاص أعطى أجرته منه، فإن أعوز بيت المال أو كان فيه ولزم صرفه فيما هو أولى منه من سد الثغور وفي أرزاق الجيوش منه كانت على المقتص منه أجرته دون المقتص له. وقال أبو حنيفة: أجرته على المقتص له دون المقتص منه استدلالا بأن حقه متعين، وإنما يحتاج إلى الفصل بين حقه من حق غيره فكانت أجرة الفاضل على مستوفيه كمشتري الثمرة يلزمه أجرة لقاطها وجذاذها، وكمشتري الصبرة يلزمه أجرة حمالها ونقالها، ولأنه

لما كانت أجرة متعد المال على مستوفيه دون موفيه كذلك القصاص، ولأن العامل في الصدقات مستوف من أرباب الأموال لأهل السهمان، ثم كانت أجرته في مال أهل السهمان المستوفي لهم دون أرباب الأموال المستوفي منهم وجب أن تكون أجرة المقتص في مال المستوفي له دون المستوفي منه. ودليلنا هو أن القصاص استيفاء حق فوجب أن تكون أجرته على الموفي دون المستوفي كأجرة الكيال والوزان، ولأنه قطع مستحق فوجب أن تكون أجرته على المقطوع منه كالختان وحلق شعر المحرم. فإن قيل: فالختان وحلق شعر المحرم حق للمقطوع منه فلذلك وجب عليه أجرته والقصاص حق للمقطوع له دون المقطوع منه فكان المقطوع له أولى بالتزام أجرته من المقطوع منه. قلنا: هما سواء، لأن الختان وحلق شعر حق على المقطوع منه كما أن القصاص حق على المقطوع منه، غير أن الحق في الختان والحلق لله تعالى وفي القصاص للولي فكا التزم حق الله التزم حق الآدمي. فأما الجواب عن استدلاله بأجرة الجذاذ والنقل فهو أن ذلك تصرف فيما قد استقر ملكه عليه فاختص بمؤنة تصرفه فيه، وكذلك أجرة منتقد الثمن، وليس كذلك القصاص، لأنه إيفاء للحق ومؤونة الإبقاء مستحقة على الموفي كما قال تعالى:} فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ {[يوسف: 88]. ثم ثبت أن أجرة الكيال على الموفي دون المستوفي، كذلك في القصاص، وأما عامل الصدقات فهو نائب عن أهل السهمان في الإستيفاء لهم، وليس بنائب عن أرباب الأموال في الإبقاء عنهم، فكانت أجرته واجبة على من ناب عنه كأجرة الوكيل، وخالف المقتص؛ لأنه يقوم بالإبقاء دون الاستيفاء، فصار بالكيال والوزان أشبه. فصل: فإذا ثبت ما ذكرنا أن أجرة القصاص على المقتص منه دون المقتص له فقال المقتص منه: أنا أقتص لك من نفسي لتسقط عني أجرة القصاص لم يكن ذلك له لأمرين: أحدهما: أن موجب المماثلة في القصاص يقتضي أن يؤخذ منه ما أخذه من غيره، ولا يكون هو الأخذ لهما معا. والثاني: أنه حق عليه فلم يجز أن يكون هو المستوفي له كما لو أراد بائع الصبرة أن يكيلها بنفسه لم يكن له ذلك، فلو قال السارق وقد وجب قطع يده أنا أقطع يد نفسي ولا ألتزم أجرة قاطعي ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز القصاص. والثاني: يجوز، لأن قطع السرقة حق لله يقصد به النكال والزجر فجاز أن يقوم بحق

باب عفو المجني عليه ثم يموت وغير ذلك

الله تعالى عليه وخالف القصاص المستحق للآدمي وبالله التوفيق. باب عفو المجني عليه ثم يموت وغير ذلك مسألة: قال الشافعي رحمه الله: ((ولو قال المجني عليه عمدا قد عفوت عن جنايته من قود وعقل ثم صح جاز فيما لزمه بالجناية ولم يجز فيما لزمه من الزيادة لأنها لم تكن وجبت حين عفا. قال في الحاوي: وهذا كما قال، إذا كانت جناية العمد على طرف كإصبع فعفا المجني عليه عنها لم يخل حالها من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن تندمل. والثاني: أن تسري إلى النفس. فأما القسم الأول: وهو أن تندمل الجناية ولا تسري فهو مسطور المسألة، فإذا كانت على إصبع قطعها فاندملت لم يخل حال العفو عنها من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يعفو عما وجب بها من قود وعقل. والثاني: أن يعفو عن القود وحده. والثالث: أن يعفو عما وجب بها على الإطلاق. فأما القسم الأول: وهو أن يعفو عما وجب بها من قود وعقل فيصح عفوه عنهما جميعا فلا يستحق بها قودا ولا دية وهو قول أبي حنيفة وجمهور الفقهاء. وقال المزني: ((يصح عفوه عن القود ولا يصح عفوه عن الدية)) لأن القود وجب قبل عفوه والدية لم تجب إلا بعد عفوه، لأنه لو طلب القود قبل الاندمال استحقه ولو طلب الدية قبل الاندمال لم يستحقها، والعفو عما وجب صحيح وعما لم يجب مردود، وهذا فاسد، لأن الدية مستحقة بالجناية وإنما يتأخر استيفاؤها إلى الاندمال كالديون المؤجلة بدليل أن عبدا لو جني عليه فباعه سيده قبل اندمال جنايته ثم اندملت في يد مشتريه كان أرشها لبائعه دون مشتريه، لأن استحقها بالجناية الحديثة في ملكه ولم يستحقها المشتري وإن اندملت في ملكه فصار ذلك عفوا عما وجب له، وإن لم يستحق قبضها، وفيه انفصال عما احتج له. وأما القسم الثاني: وهو أن يعفو عن القود فلا يكون ذلك عفوا عن الدية ويكون عفوا مقصورا على القود وحده، لأنه لما خصه بالذكر اختص بالحكم. وأما القسم الثالث: وهو أن يعفو عما وجب بالجناية ولا يسمى قودا ولا عقلا

فيكون ذلك عفوا عن القود، وهل يكون عفوا عن الدية أم لا؟ على قولين: بناء على اختلاف قوليه فيما توجبه جناية العمد. فإن قيل: إنها توجب أحد الأمرين من القود أو العقل كان ذلك عفوا عن الدية كما كان عفوا عن القود لوجوب الدية بالجناية كوجوب القود بها. وإن قيل إنها توجب القود وحده على التعيين ولا تجب الدية إلا باختيار المجني عليه لم يصح عفوه عن الدية وإن صح عفوه عن القود، لأن القود وجب والدية لم تجب، فهذا حكم الجناية إذا اندملت. وأما القسم الثاني: وهو أن تسري إلى ما دون النفس كسرايتها من الإصبع إلى الكف فلا قود في الكف لثلاثة معان: أحدهما: أن سقوط القود في أصل الجناية موجب لسقوطه فيما حدث عنها. والثاني: أن السراية إلى الأطراف لا توجب القود وإن وجب بالسراية إلى النفس لما قدمناه من الفرق بينهما. والثالث: أن أخذ الكف مع استيفاء الإصبع غير ممكن، فأما دية ما ذهب بالسراية من الكف فواجب مستحق لا يسقط بالعفو عن دية الإصبع لثلاثة معان: أحدهما: أنه لم يتوجب إليه عفو. والثاني: أنه لم يجب عند العفو ولم يتوجب إليه عفو. والثالث: أن الدية لما تبعضت لم يسر العفو عن بعضها إلى جميعها، والقود لما لم يتبعض سرى العفو عن بعضه إلى جميعه، ويلزمه أربعة أعشار الدية أربعون من الإبل، لأن في الإصبع المعفو عنها عشر الدية. وأما القسم الثالث: وهو أن تسري جناية الإصبع إلى النفس فيموت منها فلا قود في النفس لمعنى واحد، وهو أن سقوط القود في أصل الجناية يوجب سقوط فيما حدث عنها، وعليه دية النفس إلا قدر دية الإصبع إذا صح العفو عن ديتها، لما قدمناه من المعاني الثلاثة، فيلزمه تسعة أعشار الدية، لأن دية الإصبع عشرها إلا أن يمنع من الوصية للقاتل، عل ما سنذكره فيلزمه جميعها. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((ولو قال: قد عفوت عنها وما يحدث منها من عقل وقود ثم مات منها فلا سبيل إلى القود للعفو ونظر إلى أرش الجناية فكان فيها قولان أحدهما أنه جائز العفو عنه من ثلث مال العافي كأنها موضحة فهي نصف العشر ويؤخذ بباقي الدية. والقول الثاني أن يؤخذ بجميع الجناية لأنها صارت نفسا وهذا (قاتل) لا

يجوز له وصية بحال. قال المزني رحمه الله: هذا أولى بقوله لأن كل ذلك وصية لقاتل فلما بطل بعضها بطل جميعها)). قال في الحاوي: وهذه المسألة تخالف ما تقدمها في ((صفة العفو)) وإن وافقتها في الصورة، وهو أن يقول المجني عليه وقد قطعت إصبعه عمدا: قد عفوت عنها وعما يحدث عنها من قود وعقل، وكان عفوه في المسألة الأولى مقصورا على العفو عنها دون ما حث منها فينقسم حال الجناية على ما قدمناه من الأقسام الثلاثة: أحدهما: أن تندمل، فيكون على ما مضى من صحة عفوه عن القود في الإصبع وعن ديتها. والقسم الثاني: أن تسري الجناية إلى ما دون النفس كسرايتها إلى الكف فيسقط القود فيها بالعفو عنه، ويبرأ من دية الإصبع لعفوه عنه ويؤخذ بدية الباقي من أصابع الكف وهي أربع ذهبت بالسراية مع الكف وذلك أربعون من الإبل، ولا يبرأ منه بالعفو عنه، لأنه إبراء مما لم يجب، والإبراء من الحقوق قبل وجوبها باطل مردود. والقسم الثالث: وهو مسألة الكتاب: أن تسري الجناية إلى النفس فيموت منهما وقد عفا عنها وعما يحدث منها من قود فيسقط القود عنه في النفس والإصبع بالعفو عنه، وأما الدية فقد صار هذا الجاني قاتلا والعفو عنه من عطايا المريض المعترة من الثلث كالوصايا، وقد اختلف قول الشافعي في الوصية للقاتل على قولين: أحدهما: باطلة كالميراث، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس لقاتل شيء)) فعم الميراث والوصية؛ ولأن الميراث أقوى وأثبت من الوصية لدخوله في ملك الوارث بغير قبول ولا اختيار ووقوف الوصية على القبول والاختيار، فلما منع القتل من الميراث الذي هو أقوى كان بأن يمنع من الوصية التي هي أضعف أولى. والثاني: أن الوصية للقاتل جائزة، وإن لم يرث لتخصيص النص بردها للوارث لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)) فدل على عموم جوازها لغير الوارث، ولا يمنع الوصية كذلك القتل. فإن قيل بالقول الأول: وهو أن الوصية للقاتل باطلة لزمته الدية كلها ولم يبرأ منها بالعفو عنها، وسواء ما وجبت بالجناية قبل العفو وما حدث بعده بالسراية، لأن سراية جنايته إلى النفس قد جعلته قاتلاً. فإن قيل: فإذا أبطلتك الوصية للقاتل وأسقطتم عفوه عن الدية فهلا بطل العفو عن القود، لأن وصية لقاتل كما أبطلتم عفوه عن الدية أو أخرتم عفوه عن الدية كما أخرتم عفوه عن القود؟ قيل: لأن الدية مال والقود ليس بمال لأمرين: أحدهما: أنه لو وصى لرجل بثلث ماله كان الموصى له شريكا في الدية ولم يكن شريكا في القود. والثاني: أنه لو وصى لرجل بالدية صح، ولو وصى له بالقود لم يصح فلذلك صح

العفو عن القود ولم يصح عن الدية، فهذا حكم عفوه على القول الذي ترد فيه الوصية للقاتل. وإن قيل بجواز الوصية للقاتل اعتبر حال عفوه، فإن خرج مخرج الوصية فقال: قد وصيت له بها وبما حدث عنها من قود وعقل، صح عفوه عن جميع الدية ما وجب منها قبل العفو من دية الإصبع وما حدث بعده من دية النفس، وإن لم تكن قد وجبت عند العفو، لأن الوصايا تصح بما وجب ربما سيجب، وبما ملك وبما سيملك، وإذا صار ذلك وصية كانت الدية معتبرة من الثلث كسائر الوصايا، فإن احتملها الثلث صح جميعها فيبرأ الجاني من الدية كلها، وإن لم يحتملها الثلث أمضى منها قدر ما احتمله الثلث ورد فيما عجز إلا أن يجيزه الورثة، وإن لم يخرجه مخرج الوصية وجعله عفوا أو إبراء محضا فقد اختلف قول الشافعي في عفوه، وإبرائه هل يجري مجرى الوصية أم لا؟ على قولين: أحدهما: يجري مجرى الوصية لاعتباره من الثلث، فعلى هذا يكون على ما مضى من صحة جميعه إذا احتمله الثلث. والثاني: أنه لا يصير وصية وإن اعتبر من الثلث، لأن الوصية عطية وهو العفو، والإبراء هو ترك وإسقاط، فخرج عن عطايا الوصايا، فعلى هذا يبرأ الجاني فيما وجب قبل العفو وهو دية الإصبع ولا يبرأ فيما وجب بعده من دية النفس، لأنه إبراء منه قبل وجوبه واستحقاقه ويلزمه من الدية تسعة أعشارها، واعترض المزني على هذا القول حين رأى الشافعي قد بعض عفوه فأجاز بعضه ورد بعضه اعتراضا وهم فيه فقال: إن صحت الوصية للقاتل صحت في الجميع وإن بطلت ردت في الجميع، ولم يكن لتبعيضها وتفريقها وجه، هذا وهم منه لأن الشافعي ما بعض عفوه وفرقه إذا كان وصية، والحاكم في جميعه على ما ذكره من صحته في الكل، وإن جازت الوصية له أو إبطاله في الكل وإن ردت وإنما فرقه إذا جعل إسقاطا وإبراء، لأن من حكم الإبراء على مذهبه أن يصح فيما وجب ويبطل فيما لم يجب فبطل اعتراضه. مسألة: قال المزني رضي الله عنه: ((قال -يعني الشافعي ولأنه قطع بأنه لو عفا والقاتل عبد جاز العفو من ثلث الميت قال وإنما أجزنا ذلك لأنه وصية لسيد العبد مع أهل الوصايا)). قال في الحاوي: وهذه مسألة من إحدى ثلاث مسائل أوردها المزني ها هنا لاعتراضه الذي قدمته، وصورتها في عبد جني على حر فعفا المجني عليه عنها وعما يحدث منها من قود وعقل، ثم سرت الجناية إلى نفسه فمات عنها، فهذا العفو قد تضمن إسقاط القود وإسقاط الدية، والقود مستحق على العبد الجاني، والدية مستحقة على سيده

لتعلقها برقبة عبده، وإذا كان كذلك لم يخل حال العفو من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكون مطلقا. والثاني: أن يضاف إلى العبد. والثالث: أن يضاف إلى السيد. فإذا كان مطلقا بأن قال الجاني: عفوت عنها وعما يحدث عنها من عقل وقود صح العفو عن القود في حق العبد، وصح عن الدية في حق السيد، وسواء جازت الوصية للقاتل أو لم تجز، لأنها وصية للسيد والسيد غير قاتل، وإن كان العفو مضافا إلى العبد بأن قال له المجني عليه قد عفوت عنك وعما يجب لي عليك من قود وعقل صح العفو عن القود ولم يصح عفوه عن الدية لوجوب القود على العبد ووجوب الدية على السيد، وإن كان العفو مضافا إلى السيد بأن قال المجني عليه: قد عفوت عما وجب لي على سيدك من قود وعقل صح عفوه عن الدية ولم يصح عفوه عن القود لوجوب الدية على السيد ووجوب القود على العبد. مسألة: قال المزني رضي الله عنه: ((قال -يعني الشافعي ولأنه قال في قتل الخطأ لو عفا عن أرش الجناية جاز عفوه لأنها وصية لغير فاتل)). وهذه المسألة الثانية التي أوردها المزني لحجاجه وهو أن تكون الجناية خطأ فيعفو عنها المجني عليه ثم تسري إلى نفسه فيموت منها فلا يخلو ثبوت هذه الجناية من أحد أمرين إما بأن تكون بإقرار أو بينة فإن أقر بها الجاني وعدمت فيها البينة لزمت بإقراره كما يلزم جناية العمد. وقال مالك: لا يلزم إقراره بجناية الخطأ وإن لزم بجناية العمد، لأن دية الخطأ على العاقلة فصار مقرا بها على غيره فبطل إقراره وهذا فاسد، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تحمل العاقلة عبدا ولا عمدا ولا صلحا ولا اعترافا)). فأثبت للاعتراف حكما ونفاه عن العاقلة فدل على لزومه، ولأن للقتل الخطأ حكمين الكفارة والدية، لقول الله تعالى:} فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ {[النساء: 92] فإذا وجبت الكفارة بإقراره وجبت به الدية، ولأن ما وجب بالبينة وجب بالإقرار كالدين، وإذا لزم إقراره بها وجبت الدية عليه دون عاقلته إذا لم يصدقوه لتوجه التهمة إليه، ولذلك أسقطها رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وإذا لزمته الدية وقد صار قاتلا جرى على العفو عنها حكم العفو عن دية العمد في إبطاله إن أردت الوصية للقاتل وجوازه إن أمضيت.

فصل: وإن ثبتت جناية الخطأ بالبينة وجبت الدية على العاقلة، وفي وجوبها قولان: أحدهما: وجبت عليهم ابتداء من غير أن يتوجه وجوبها على الجاني. والثاني: أنها وجبت على الجاني ثم تحملتها العاقلة عنه، وعاقلته عصبته، فإن عدموا فجميع المسلمين في بيت مالهم، لأن دين الحق قد عقد الموالاة بينهم فصار المسلم لا يعدم عصبة، وإذا كان كذلك لم يخل مخرج عفوه من أن يكون وصية أو إبراء فإن كان وصية على ما ذكرنا فلا يخلو حالها من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يجعلها للعاقلة فيقول: قد وصيت بها وبما يحدث منها لعاقلته فتصح هذه الوصية في ثلثه إذا احتملها، وتبرأ العاقلة منها، سواء أجيزت الوصية للقاتل أو ردت، لأن العاقلة غير قتلة. والثاني: أن يجعلها للقاتل فيقول: قد وصيت بها وبما يحدث منها للجاني فإن ردت الوصية للقاتل وجبت الدية على العاقلة لورثة المقتول، فإن أجيزت الوصية للقاتل فإن له استيفاءها من عاقلته، لأنها وصية له بما عليهم، سواء قيل بوجوبها عليهم تحملا أو ابتداء، لأنهم تحملوها ساعة وجوبها عليه من غير مهلة فصارت الوصية بها بعد استحقاقها عليهم. والثالث: أن يجعل الوصية بها مطلقة فيقول قد وصيت بها وما يحدث منها، ولا يسمى الموصى له بها، فهذه وصية باطلة، لأنها لغير مسمى، وللورثة استيفاؤها من العاقلة. فصل: وإن لم يخرج عفوه مخرج الوصية بل كان عفوا وإبراء محضا فالعفو والإبراء لا ينتقل من جهة من وجبت عليه الدية إلى غيره بخلاف الوصية، سواء أجرى عليه حكم الوصية أو حكم الإسقاط، إلا أنه إن جرى عليه حكم الوصية كان عفوا عن جميع الدية، وإن جرى عليه حكم الإسقاط كان عفوا عما وجب بابتداء الجناية دون ما حدث عنها، لأن الإبراء منه كان قبل وجوبه، وإذا كان كذلك لم يخل حال عفوه من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يتوجه إلى الجاني فيقول: قد عفوت عنك وعما يحدث بجنايتك، فإن قيل: إن الدية وجبت ابتداء على العاقلة لم يبرأوا منها، وكانوا مأخوذين بها، لأن العفو عن غيرهم، وإن قيل: إنها وجبت في الابتداء على الجاني ثم تحملها العاقلة عنه صح العفو عنها وبرأت العاقلة منها لتوجه العفو إلى محل الوجوب، سواء جعل هذا العفو في حكم الوصايا أو الإبراء، وسواء أجيزت الوصية للقاتل أو ردت، لأن وجوب الدية على الجاني غير مستقر لانتقالها في الحال عنه إلى عاقلته فلم يكن في الوصية بها ما يمنع القتل منها إذا لم يتقبل إليها مالها، لكن إن أجرى عليه حكم الوصية كان عفوا عن جميع

الدية، وإن أجرى عليه حكم الإبراء، أو الإسقاط كان عفوا عما وجب بابتداء الجناية دون ما حدث بعدها بالسراية فيلزم العاقلة ما حدث بالسراية دون ما لزم بابتداء الجناية. والثاني: أن يتوجه العفو إلى العاقلة فيقول: قد عفوت عن عاقلتك في جنايتك وما يحدث منها فيصح العفو عنهم، سواء قيل بوجوبها عليهم ابتداء أو تحملا، لأنهم محل استقرارها، ولا مطالبة على الجاني بها لانتقالها عنه إلى من براء منها، لكن إن أجرى على العفو حكم الوصية كان عفوا عن جميع الدية، وإن أجرى عليه حكم الإبراء كان عفوا عما وجب بابتداء الجناية، وتؤخذ العاقلة بما حدث بالسراية. والثالث: أن يكون العفو مطلقا فيقول: قد عفوت عنها وعما يحدث منها، فيصح العفو على الأحوال كلها، لتوجه العفو المطلق إلى محل الحق، لكن إن أجرى عليه حكم الوصية صح في جميع الدية، وإن أجرى عليه حكم الإبراء صح فيما وجب بالجناية وبطل فيما حدث بالسراية. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: ((ولو كان القاتل خطأ ذميا لا يجري على عاتقه الحكم أو مسلما أقر بجناية خطأ فالدية في أموالهما والعفو باطل لأنه وصية للقاتل ولو كان لهما عاقلة لم يكن عفوا عن العاقلة إلا أن يريد بقوله: عفوت عنه أرش الجناية أو ما يلزم من أرش الجناية قد عفوت ذلك عن عاقلته فيجوز ذلك لها، قال المزني رحمه الله: قد أثبت أنها وصية وأنها باطلة لقاتل)). قال في الحاوي: وهذه المسألة الثالثة من مسائل حجاجه، وهي مصورة في الذمي إذا لم تكن له عاقلة، وفي المسلم إذا أقر بالجناية ولم يقم بها بينة، وهما يستويان في حكم جناية الخطأ وإن افترقا فيها من وجه آخر، واستواؤهما فيها أن الذمي إذا كانت له عاقلة لا يجري عليهم حكمنا كانت جناية خطئه في ماله، فلو جرى عليهم حكمنا كانت جنايته على عاقلته، والمسلم إذا أقر بجناية الخطأ كالذمي إذا لم يجز على عاقلته حكم في وجوب الدية عليهما في أموالهما، فإذا كان كذلك فهما قاتلان، فإن ردت الوصية للقاتل، وجبت الدية عليهما سواء خرج العفو مخرج الوصية أو مخرج الإبراء، وإن أجيزت الوصية للقاتل صح العفو عن جميع الدية، وإن أجري عليه حكم الوصية، وإن أجري على العفو حكم الإبراء صح فيما وجب بالجناية وبطل فيما حدث بالسراية، وأما ما يفترق المسلم والذمي فيه من جناية الخطأ فهو أن المسلم إذا لم تكن له عاقلة كانت جنايته في ماله لأن المسلمين أولياء المسلم دون الكافر فعقلوا عن المسلم ولم يعقلوا عن الكافر، ولئن صار مالهما بالموت إلى بيت المال إذا لم يكن لهما وارث فحكمه مختلف، لأن مال المسلم ينتقل إلى بيت المال ميراثا وينتقل مال الذمي إليه فيئا، وفيما أوردناه من

شرح (المذهب) في هذه المسائل الثلاث التي احتج بها المزني ما يزول به احتجاج وهمه وبالله التوفيق. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: ((ولو جني عبد على حر فابتاعه بأرش الجرح فهو عفو ولم يجز البيع إلا أن يعلما أرش الجرح، لأن الأثمان لا تجوز معلومة، فإن أصاب به عيبا رده وكان له في عنقه أرش جنايته)). قال في الحاوي: وصورتها: في عبد جني على حرجناية عمد فالتمس المجني عليه أن يبتاعه من سيده، فالسيد بالخيار بين بيعه عليه أو منعه منه، سواء أراد السيد أن يفديه من جنايته أو أن يبيعه فيها، لأن البيع عقد مراضاة لا يلزم إلا بالاختيار، فإن أجاب سيده إلى بيعه على المجني عليه، فهذا على ضربين: أحدهما: أن بيعه عليه بثمن في الذمة. والثاني: أن بيعه بأرش الجناية، فإن كان البيع بثمن في الذمة لم يكن الابتياع عفوا عن القود لاستحقاقه على العبد لو كان في ملك المجني عليه، ولم يسقط بانتقاله إليه، وإذا كان كذلك لم يخل بالقصاص من أن بكون مستحقا في طرف أو نفس، فإن كان مستحقا في طرف فالبيع جائز، وللمجني عليه أن يقتص من أطرافه إذا صار في ملكه كما كان له أن يقتص منه في ملك بائعه، ولا خيار له في نقصه بهذا القصاص، لعلمه باستحقاقه، وإن كان القصاص في نفسه لم يمنع ذلك من جواز بيعه لتردد حاله بين عفو واقتصاص، كالمريض المدمن يجوز بيعه مع خوف موته لتردد حاله بين برء وعطب، وإذا كان البيع جائزا فولى المجني عليه بعد ابتياعه على حقه من القصاص، وهو فيه بالخيار، فإن عفا عنه استقر البيع فيه، وكان له مطالبة بائعة بالدية إن كانت بقدر ثمنه فما دونه، وإن كانت أكثر منه فعلى قولين: أحدهما: يطالبه بجميعها. والثاني: ليس له إلا قدر ثمنه، وسيده البائع مخير بين دفع الثمن الذي قبضه بعينه وبين أن يدفع إليه غيره، ويكون الباقي من الدية بعد ثمنه هدرا، وإن اقتص منه ولي المجني عليه المشتري له فقد اختلف أصحابنا في الاقتصاص منه هل يجري مجرى مستهلكه بالغصب أو مجرى موته بالمرض؟ على وجهين: أحدهما وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه يجري مجرى استحقاقه بالغصب، فيعلى هذا يكون لولي المجني عليه أن يرجع على البائع بثمنه مع علمه بحاله، لأن من اشترى عبدا من غاصبه مع علمه بغصبه كان له الرجوع بثمنه.

والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أن القصاص يجري مجرى موته بالمرض، فعلى هذا لا يرجع بثمنه لتلفه في يده ولا بأرش عينه لعلمه بجنايته. فصل: وإن اشتراه المجني عليه أو وليه بأرش جنايته فهي مسألة الكتاب فيكون ذلك عفواً عن القصاص بمجرد الطلب، سواء تم البيع بينهما أم لا؛ لأنه عدول إلى الأرش، والعدول إليه عفو، ثم ينظر في أرش الجناية فإن جهلها المتبايعان كان البيع باطلاً للجهل يقدر الثمن، وإن علماها فعلى ضربين: أحدهما: أن تكون مقدرة ورقاً أو ذهباً، فالبيع جائز. والثاني: أن تكون مقدرة إبلاً كالجناية على الإصبع مقدرة بعشر من الإبل أثلاثاً في العمد أخماساً في الخطأ، فإذا ابتاعه بها فهي معلومة الجنس والسن مجهولة النوع والصفة، وفي جواز جعلها صداقاً قولان: أحدهما: يجوز للعلم بجنسها وسنها وثبوتها في الذمة واستحقاق المطالبة بها. والثاني: لا يجوز للجهل بنوعها وحبسها، وأن حكم العقود أضيق وأغلظ. فأما البيع فقد اختلف أصحابنا فيه، فكان أبو علي بن أبي هريرة يخرجه على قولين كالصداق، لأنهما عقداً معارضة، وذهب أبو إسحاق المروزي إلى بطلانه قولاً واحداً وإن كان الصداق على قولين، للفرق بينهما بأتساع حكم الصداق لثبوته بعقد وغير عقد وضيق حكم البيع الذي لا يستحق الثمن فيه إلا بعقد. فإن قبل ببطلان البيع كان أرش الجناية في رقبة العبد يباع فيها إلا أن يفديه السيد منها. فإن قبل بجواز البيع برئ العبد وبائعه من أرش جنايته، فإن وجد به المجني عليه أو وليه عيباً سوى الجناية كان له أن يرده به ويعود أرش الجناية في رقبته فيباع فيها أو يفديه السيد منها. فإن قيل: فما الفائدة في رده وليس للمجني عليه غير ثمنه معيباً؟ قيل: لجواز أن يرغب في ابتياعه من يرضي بعيبه فيبرأ المجني عليه من ضمان دركه. وبالله التوفيق.

كتاب الديات

كتاب الديات باب أسنان الإبل المغلظة والعمد وكيف يشبه العمد الخطأ مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "أخبرنا ابن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان، عن القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن في قتل العمد الخطأ بالسوط والعصا مائة من الإبل مغلظة منها أربعون خلقة في بطونها أولادها ". قال الشافعي رحمه الله: "فهذا خطأ في القتل، وإن كان عمداً في الضرب ". قال في الحاوي: والأصل في وجوب الدية في الكتاب والسنة. فأما الكتاب فقوله تعالى {ومَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلاَّ خَطَئًا ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] فنص على دية أجمل بيانها حتى أخذ من السنة الذي قدمه الشافعي بإسناده عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن في قتيل العمد الخطأ بالسوط والعصا مائة من الإبل مغلظة منها أربعون خلفة في بطونها أولادها ". فإذا ثبت وجوب الدية بالكتاب والسنة، فالقتل ينقسم ثلاثة أقسام: قسم يكون عمداً محضاً. وقسم يكون خطأ محضاً. وقسم يكون عمد الخطأ يأخذ من العمد شبهاً ومن الخطأ شبهاً. فأما العمد المحض: فهو أن يكون عامداً في فعله بما يقتل مثله قاصداً لقتله، وذلك أن يضربه بسيف أو ما يقتل مثله من المثقل عامداً في الفعل قاصداً للنفس. وأما الخطأ المحض: فهو أن لا يعمد الفعل ولا يقصد النفس، وذلك بأن يرمي من الفعل، والقصد. وأما عمد الخطأ: فهو أن يكون عامداً في الفعل غير قاصداً للقتل، وذلك بأن يعمد ضربه بما لا يقتل في الأعلب، وإن جاز أن يقتل كالسوط والعصا وما توسط من المثقل الذي يجوز أن يقتل ويجوز أن لا يقتل فيأخذ شبهاً من العمد لعمده للفعل ويأخذ شبهاً من

الخطأ لعدم قصده للقتل فسمي عمد الخطأ لوجود صفة العمد في الفعل وصفة الخطأ في عدم القصد، فصار العمد ما كان عامداً في فعله وقصده، والخطأ ما كان مخطئاً في فعله وقصده، وعمد الخطأ ما كان عامداً في فعله خاطئاً في قصده، ووافق أبو حنيفة على عمد الخطأ، وخالف فيه مالك، وقال: لا أعرف عمد الخطأ وليس القتل إلا عمداً أو خطأ، وليس بينهما ثالثة، كما قال: لا أعرف الخنثى وما هو إلا ذكر أو أنثى استدلالاً باستحالة اجتماع الضدين في حالة؛ لأن الخطأ ضد العمد فاستحال أن يجتمعا، كما استحال أن يكون قائماً قاعداً، ومتحركاً ساكناً، ونائماً مستيقظاً، قال: ولذلك ذكر الله تعالى في كتابه حكم العمد المحض وحكم الخطأ المحض، ولم يذكر حكم عمد الخطأ لاستحالته، ودليلنا السنة المعمول بها، ثم الإجماع المنعقد بعدها، ثم الاعتبار الموجب لمقتضاها. فأما السنة فما قدمه المزني ورواه الشافعي عن سفيان بن عيينة عن علي بن زيد بن جدعان عن القاسم بن ربيعة، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ألا إن في قتيل العمد الخطأ بالسوط والعصا مائة من الإبل مغلظة، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها "فدل على مالك من ثلاثة أوجه: أحدها: وصفه بالعمد الخطأ، ومالك ينكرها. والثاني: إيجاب الدية فيه، ومالك يوجب القود. والثالث: أنه قدر الدية بمائة من الإبل، ومالك يوجب ما تراضيا به كالأثمان. فإن قيل: فهذا الحديث لا يصح الاحتجاج به من وجهين: أحدهما: أن علي بن زيد بن جدعان ضعيف لا يؤخذ بحديثه. والثاني: أن القاسم بن ربيعة لم يلق ابن عمر فكان الحديث منقطعاً. قيل: أما الوجه الأول في ضعف علي بن زيد فغير مسلم بل هو ثقة قد نقل عنه سفيان وغيره. وأما الوجه الثاني: في انقطاعه فليس يمتنع أن يكون القاسم بن ربيعة قد لقي ابن عمر، وعلى أنه قد روى من طريق أبي داود، عن القاسم بن ربيعة، عن عقبة بن أوس فصار من هذا الوجه متصلاً، ويحتمل أن يكون قد رواه عن ابن عمر تارة، وعن عقبة بن أوس أخرى وأما الإجماع فهو مروي عن عمر، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، والمغيرة بن شعبة رضي الله تعالى عنهم أنهم اتفقوا على عمد الخطأ، وإن اختلفوا في بعض أحكامه ولم يعرف لهم من الصحابة مخالف فصار إجماعاً، وأما الاعتبار: فهو أن العمد المحض لما جمع صفتين من اعتماد الفعل وقصد النفس وسلب الخطأ المحض الصفتين وهو قصد النفس أن يجري عليه حكم العمد من وجه. وهو تغليظ الدية لاعتماد الفعل وحكم الخطأ من وجه وهو سقوط القود؛ لأنه خاطئ في النفس، فصار من هذا الوجه عمد الخطأ ولا يكون ذلك جمعاً بين ضدين ممتنعين؛ لأنه ليس يجمع بينهما في حكم واحد فيمتنعان.

فصل: فإذا تقرر ثبوت حكم العمد الخطأ فالدية تنقسم ثلاثة أقسام اعتباراً بأقسام القتل. أحدها: دية العمد المحض، وهي مختصة بثلاثة أحكام: أحدها: تغليظها على ما سنذكره، والثاني: تعجيلها، والثالث: وجوبها في مال الجاني. والقسم الثاني: دية الخطأ وهي مختصة بثلاثة أحكام تخالف تلك الأحكام. أحدها: أن تكون مخففة. والثاني: أن تكون مؤجلة. والثالث: أن تكون على العاقلة. والقسم الثالث: دية العمد الخطأ وهي مختصة بثلاثة أحكام: أحدها: مأخوذ من أحكام العمد المحض وهو تغليظها. والثاني والثالث: مأخوذان من أحكام الخطأ المحض وهو تأجيلها ووجوبها على العاقلة. مسألة: قال المزني رضي الله عنه: "واحتج الشافعي بعمر بن الخطاب وعطاء رضي الله عنهما أنهما قالا في تغليظ الإبل أربعون خلفة وثلاثون حقة وثلاثون جذعة. قال الشافعي رحمه الله: "والخلفة الحامل وكل ما تحمل إلا ثنية فصاعدا فإنه من إبل العاقلة حملت فهي خلقة تجزئ في الدية ما لم تكن معيبة ". قال في الحاوي: تغليظ الدية في الإبل يكون بزيادة السن والصفة مع اتفاق القدر، وتغليظها في الدراهم والدنانير يكون بزيادة العين مع اتفاق الصفة. فأما الدية من الإبل فهي مائة بعير لا يختلف قدرها بالتغليظ والتخفيف واختلف في تغليظها بالسن والصفة، فذهب الشافعي إلى أنها أثلاث ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة، والخلفات الحوامل التي في بطونها أولادها، وهل ما تحمل إلا ثنية. وهو في الصحابة قول: عمر، وعثمان، وعلي، وزيد، وابن عباس، والمغيرة وفي التابعين قول عطاء، ومجاهد، وسعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير. وفي الفقهاء قول مالك، وربيعة بن عبد الرحمن، وأهل الحرمين، ومحمد بن الحسن. وقال أبو حنيفة: تغليظها أن تكون أرباعاً خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة، ولم يوجب الخلفات، فخالف في السن والصفة، وبه قال سفيان الثوري، وأبو يوسف، استدلالاً بأن

بدل النفس لا يستحق فيه الحوامل كالخطأ؛ لأن الحوامل لا تستحق في الزكاة فلم تستحق في الدية كالزائد على الثنايا؛ ولأن الحمل صفة مجهولة فلم يستحق ثبوتها في الذمة كالمسعر. ودليلنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إن في قتيل العمد الخطأ بالسوط والعصا مائة من الإبل مغلظة، منها أربعون خلفة في بطونها أولادها ". وقد روي أنه قال: على درج الكعبة ليعم بيانه فلم يجز خلافه ولا دفعه بالتأول. فإن قيل: فإذا عولتم على هذا النص في الخلفات الأربعين فبأي دليل أوجبتم ثلاثين حقة وثلاثين جذعة؟ قيل: لأمرين أحدهما: قول عمر ومن تابعه من الصحابة والتابعين. والثاني: أنه لما نص على الخلفات لتغليظها علم أن الباقي دونها ودون الثنايا هي الجذاع، ودون الجذاع الحقاق، فلم يقتصر بالباقي على سن واحدة؛ لأنه خلاف للإجماع، فجعلناه من سنين متواليين، فلذلك أوجبنا ثلاثين جذعة، وثلاثين حقة، وعلى أنه قد روى محمد بن راشد، عن سليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه عن جده، قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: "من قتل متعمداً دفع إلى أولياء المقتول، فإن شاؤوا قتلوا، وإن شاؤوا أخذوا الدية وهي ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة وما صولحوا عليه فهو لهم "ولأنه لما كان تغليظ الدية ضد تخفيفها اقتضى أن يكون أدنى ما في المغلظة من الأسنان هو أعلى أسنان المخففة لأجل العلتين، فوجب بأن يكون المستحق فيها الجذاع والحقاق دون بنات لبون وبنات مخاض، وهذا يمنع من قياسهم على الخطأ، ويمنع قياسهم على الزكاة أنه لما وجب في الدية الثنايا، وإن لم تجب في الزكاة، وما ذكروه من الجهل بالحمل فغير صحيح؛ لأن للحمل أمارات تدل عليه، له أحكام تتوجه إليه ولا يمتنع أن يثبت في الذمة، منها ما يثبت فيها من غير الدية كما ثبت فيها الجذاع والثنايا كالمطلقة من غير نعت ولا صفة. فصل: فإذا ثبت تغليظها في الإبل بما وصفنا فقد اختلف قول الشافعي هل يعتبر في الحوامل السن أم لا؟ على قولين: أحدهما: أنه لا يعتبر فيها السن، وأي ناقة حملت من ثنية أو ما دونها لزم أخذها في تغليظ الدية، لقول النبي صل الله عليه وسلم: "منها أربعون خلفة في بطونها أولادها ". والقول الثاني: أنه يعتبر فيها السن أن تكون ثنية فما فوقها، ولا يقبل ما دون هذا السن من الحوامل، لرواية عقبة بن أوس أن النبي صل الله عليه وسلم قال: "منها أربعون خلفة في بطونها

أولادها ما بين الثنية إلى بازل عامها ". فأما تغليظها في الذهب والورق فيكون زيادة ثلثها على ما سنذكره. فصل: وإذا قد تقرر صفة الدية المغلظة فهي تتغلظ في العمد المحض إذا سقط فيه القود وتكون في مال الجاني حالة، وتتغلظ في عمد الخطأ وتكون على العاقلة مؤجلة، ولا يجب فيه القود، وأوجب مالك فيه القود وجعلها ابن شبرمة في مال الجاني دون عاقلته. والدليل عليها ما رواه عمرو بن دينار، عن طاوس، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل في عمية أو رمياً بحجر أو ضرباً بعصا أو سوط فعليه عقل الخطأ ومن قتل عمداً فهو قود لا يحال بينه وبين قاتله فمن حال بينه وبين قاتله فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرف ولا عدل ". وروي سليمان بن موسى، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده قال: قال رسول الله صل الله عليه وسلم: "عقل شبه العمد مغلظ مثل العمد ولا يقتل صاحبه ". ذكرهما الدارقطني في سننه، فسقط بهما قول مالك وابن شبرمة. فصل: فإذا صح ما ذكرناه فدية العمد المحض مغلظة بأربعة أشياء بالسن، والصفة، والتعجيل، والمحل، فتكون في مال الجاني دون عاقلته ودية الخطأ المحض مخففة بأربعة أشياء بالسن، والصفة، والتأجيل والمحل، فتكون على عاقلته دونه، ودية عمد الخطأ مغلظة بشيئين: الصفة والسن، ومخففة بشيئين: التأجيل، والمحل؛ لأنه لما كان عامداً في فعله بخلاف الخطأ ومخطئاً في قصده بخلاف العمد توسط فيها بين حكم الخطأ والعمد. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وكذلك لو ضربه بعمود خفيف أو بحجر لا يشدخ أو بحد سيف لم يجرح أو ألقاه في بحر قرب البر وهو يحسن العوم أو ماء الأغلب أنه لا يموت من مثله فمات فلا قود وفيه الدية على العاقلة وكذلك الجراح ".

قال في الحاوي: قصد الشافعي بهذا بيان عمد الخطأ بأن يكون عامداً في فعله خاطئاً في قصده وجملته أن آلة القتل على ضربين محدد، ومثقل فأما المحدد من الحديد إذا ضرب بحده أو برمته، فهو عمد محض، لأنه لما كان لا يضرب بحده إلا لقصد القتل صار عامداً في فعله وقصده، فصار عمداً محضاً، وأما المثقل فينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما يقتل ولا يسلم منه مضروبه كالحجر العظيم والخشبة الكبيرة إذا ضربه بهما، فهذا كالمحدود في أنه عمد محض؛ لأنه لا يقصد به الضرب إلا للقتل، فصار عامداً في الفعل والقصد. والقسم الثاني: ما كان خفيفاً لا يقتل مثله من ضرب به، كالنواة من الحجارة، والقلم من الخشب، فهذا هدر لا يضمن. والقسم الثالث: ما كان متوسطاً من الحجر والخشب يجوز أن يقتل ويجوز أن لا يقتل، فإذا فهو عمد الخطأ؛ لأنه عامد في فعله خاطئ في قصده. وأما إن ألقاه في بحر بقرب البر وهو يحسن العوم فهو على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون مما لا يسلم من مثله لعظم موجه وقلة خلاص من يلقي في مثله، فهذا قاتل عمد يجب عليه القود له مدة في فعله وقصده. والقسم الثاني: أن يكون مما لا يموت فيه من يحسن العوم فلا شيء فيه. والقسم الثالث: ما جاز أن يموت منه وجاز أن سلم، فهذا من عمد الخطأ، لعمده في فعله وخطئه في قصده. وأما شجاج الرأس إذا كان بالمثقل فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون مثله يشج في الأغلب، فإذا ضربه به فأوضحه كانت موضحة عمد يجب فيها القود؛ لأنه عامد في فعله وقصده. والثاني: أن يكون مثله يجوز أن يشج ويجوز أن لا يشج، فإذا أوضحه فهو موضحة عمد الخطأ فيها الدية دون القود. فأما الضرب الثالث الذي قسمناه في النفس، وهو أن لا يقتل مثله في الأغلب فيقترن به الموت، فيستحيل الشجاج أن يكون مالا يشج مثله فيقترن به الشجاج، لأن الموت قد لا يكون بالطبع وبالأسباب الخفية من أمراض وأعراض، فجاز أن يقترن بالضرب، وإن لم يحدث عنه، والشجاج لا تحدث بالطبع ولا بالأسباب الخافية، فلم يكن حدوثه إلا من الضرب، وقد يكون الحجر عمداً محضاً في الشجاج؛ لأن مثله يوضح الرأس لا محالة، ويكون ذلك الحجر عمداً الخطأ في النفس، فإن كان في النفس؛ لأن مثله يجوز أن يقتل ويجوز أن لا يقتل فلا يجب به القود في النفس، وإن كان في شجاج الموضحة وجب به القود فيصير الفرق بين النفس وما دونها من وجهين: أحدهما: أنه قد يكون الفعل في النفس هدراً ولا يكون الشجاج هدراً. والثاني: أنه قد يكون المثقل في النفس عمد الخطأ وفي الشجاج عمداً محضاً، ثم

يكون تغليظ الدية فيهما دون النفس من الأطراف والجراح لتغليظها من النفس على ما سنذكره. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وكذلك التغليظ في النفس والجراح في الشهر الحرام والبلد الحرام وذي الرحم، وروي عن عثمان بن عفان- رضي الله عنه أنه قضى في دية امرأة وطئت بمكة بدية وثلث قال: وهكذا أسنان دية العمد حالة في ماله إذا زال عنه القصاص. قال المزني رحمه الله: "إذا كانت المغلظة أعلى سناً من سن الخطأ للتغليظ فالعامد أحق بالتغليظ إذا صارت عليه وبالله التوفيق ". قال في الحاوي: أعلم أن الدية على ثلاثة أقسام: أحدها: دية العمد المحض، وهي مغلظة تجب على الجاني حالة. والثاني: دية العمد الخطأ وهي مغلظة تجب مؤجلة على العاقلة، فيتساوى الديتان في التغليظ ويختلفان في التأجيل والتحمل، فتكون في العمد المحض حالة في مال الجاني، وفي عمد الخطأ مؤجلة على عاقلته؛ لأنه لما كان عمد الخطأ أخف من العمد المحض وقد ساواه في تغليظ الدية لعمده في الفعل خالفه في التأجيل والمحل لخطئه في القصد. والقسم الثالث: دية الخطأ المحض فهي مخففة على ما سنذكره من صفة التخفيف تتحملها العاقلة مؤجلة في ثلاثة سنين ولا تتغلظ إلا في ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون قتل الخطأ في الحرم. والثاني: أن يكون في الأشهر الحرم. والثالث: أن يكون على ذي الرحم المحرم، فتكون مغلظة في الخطأ المحض كما تتغلظ دية العمد المحض ودية العمد الخطأ، فيصير تغليظ الدية في خمسة أحوال: في العمد المحض، وفي العمد الخطأ، وفي الخطأ المحض، وفي الحرم، وفي الأشهر الحرم، وعلى ذي الرحم المحرم. وقال أبو حنيفة: لا تتغلظ دية الخطأ المحض بالحرم ولا بالأشهر الحرم ولا على ذي الرحم. وبه قال مالك، والنخعي، والشعبي، استدلالاً برواية ابن مسعود عن النبي صل الله عليه وسلم أنه قال: "دية الخطأ أخماس "ولم يفرق، ولأن ما وجب بقتل الخطأ لم يتغلظ بالزمان والمكان كالكفارة، ولأن قتل الخطأ أخف من قتل العمد، فلما لم يكن للحرم والرحم والأشهر الحرم زيادة تأثير في قتل العمد، فأولى أن لا يكون لها زيادة تأثير من قتل

الخطأ، ولأن لحرم المدينة حرمة كما لحرم مكة حرمة، ولشهر رمضان حرمة كما للأشهر الحرم حرمة، ولشرف النسب حرمة كما للرحم حرمة، ثم لم يتغلظ الدية بحرمة المدينة وحرمة شهر رمضان وحرمة شرف النسب، كذلك لا تتغلظ بحرمة الحرم، وحرمة الأشهر الحرم، وحرمة الرحم؛ لأن القتل كالزنا لوجوب القتل به تارة وما دونه أخرى، فلما لم يتغلظ حكم الزنا بالمكان والزمان والرحم لم يتغلظ حكم القتل، ولأنه لو تغلظ حكم القتل بكل واحد من هذه الثلاثة لوجب إذا جمعها أن يضاعف التغليظ بها، وفي إجماعهم على سقوط هذا دليل على سقوط ذلك، ولأن الأموال تضمن كالنفوس، والعبد يضمن بالقتل كالحر، ولم يتغلظ ضمان الأموال وقتل العبد بهذه الثلاثة، كذلك لا يتغلظ بها ضمان النفوس في الأحرار، ودليلنا عليه انعقاد الإجماع به، روي ذلك عن عمر، وعثمان، وابن عباس. فأما عمر فروى ليث عن مجاهد عن عمر بن الخطاب أنه قال: من قتل في الحرم، أو قتل في الأشهر الحرم، أو قتل ذا رحم فعليه دية وثلث. وأما عثمان فروى ابن أبي نجيح عن أبيه أن عثمان قضى في دية امرأة قتلت بمكة بستة آلاف درهم وألفي درهم تغليظاً لأجل الحرم. وفي رواية الشافعي أنه قضى في دية امرأة ديست في الطواف بالبيت فهلكت بثمانية آلاف درهم. وأما ابن عباس فروى نافع بن جبير أن رجلاً قتل في الشهر الحرام في الحرم فقال ابن عباس: الدية اثنا عشر ألفاً وأربعة آلاف تغليظاً لأجل الحرم، وأربعة آلاف للشهر الحرام. وليس لقول هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم مع انتشاره عنهم لأن فيهم إمامين مخالف فثبت أنه إجماع لا يجوز خلافه. فإن قيل: يجوز أن يكون التغليظ الذي أجمعوا عليه هو في العمد المحض أو في عمد الخطأ، فلا يكون فيه دليل على تغليظه بهذه الأسباب الثلاثة في الخطأ، فعنه جوابان. أحدهما: أنهم قد نصوا على تغليظها بهذه الأسباب، ولو كانت في عمد الخطأ لما تغلظت بها. والثاني: أنه حكم نقل مع سبب فاقتضى أن يكون محمولاً عليه، كما نقل عن النبي صل الله عليه وسلم أنه سهي فسجد فكان محمولاً على سجوده لأجل السهو، ولأنه لما كانت هذه الأسباب الثلاثة مخصوصة بتغليظ الحرمة في القتل جاز أن يتغلظ بها حكم القتل.

أما الحرم فلقول الله تعالى: {ولا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ} [البقرة: 191]. ولرواية أبي سعيد المقبري عن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صل الله عليه وسلم حرم مكة "فمن كان يؤمن بالله واليوم الأخر فلا يسفك فيها دماً، ولا يعضدن فيها شجراً "فإن رخص مترخص فقال: إنها أحلت لرسول الله صل اله عليه وسلم فإن الله أحلها لي ساعة، ثم هي حرام إلى أن تقوم الساعة، ولأنه لما تغلظ بالحرم حرمة الصيد كان أولى أن نغلظ به نفوس الآدميين. وأما الأشهر الحرم فلقول الله تعالى: {إنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} [التوبة: 36]. وقال تعالى: {َسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة: 217]. وقد قال: القتال فيها محرماً في صدر الإسلام لعظم حرمتها وأما ذو الرحم فلقول الله تعالى: {والَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ ويَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ويَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} [الرعد: 21] فقيل: هي الرحم أمر الله بوصلها، ويخشون ربهم في قطعها، ويخافون سوء الحساب في المعاقبة عليها، ولأن رسول الله صل الله عليه وسلم منع أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة: من قتل أبيه يوم بدر، وقال: "دعه يلي قتله غيرك "حتى قتله حمزة بن عبد المطلب، ومنع أبا بكر من قتل ابنه عبد الرحمن يوم أحد، وإذا كانت هذه الثلاثة مخصوصة بزيادة الحرمة وعظم المأثم في القتل جاز أن يختص بتغليظ الدية كالعمد وعمد الخطأ. ويدل عليه من طريق القياس أنه قتل في الحرم فكان العمد والخطأ في قدر غرمه سواء كقتل الصيد. وأما الجواب عن عموم جواب ابن مسعود فتخصيصه بدليلنا. وأما قياسهم على الكفارة، فالجواب عنه أنها لما لم تتغلظ بالعمد لم تتغلظ بهذه الأسباب، والدية لما تغلظت بالعمد تغلظت بهذه الأسباب. وأما قياسهم على العمد فالمعنى فيه أنه قد استوفى غاية التغليظ فلم يبق للتغليظ تأثير والخطأ بخلافه، وأما اعتبارهم حرم مكة بحرم المدينة فقد اختلف أصحابنا فيه فمنهم من غلظ الدية فيها كتغليظها بمكة من قوله في القديم إن صيدها مضمون فعلى هذا يسقط الاستدلال. وقال الأكثرون: لا تتغلظ الدية فيها وإن تغلظت بحرم مكة؛ لأن حرم مكة أغلظ حرمة لاختصاصه بنسكي الحج والعمرة، وتحريم الدخول إليه إلا بإحرام، فلذلك تغلظت الدية فيه بخلاف المدينة، وهكذا اختلف أصحابنا في تغليظ الدية بالقتل في الإحرام على هذين الوجهين: وأما اعتبارهم الأشهر الحرام بشهر رمضان فغير صحيح، لأن حرمة شهر رمضان مختصة بالعبادة دون القتل، وحرمة الأشهر الحرم مختصة بالقتل فلذلك تغلظت الدية بالأشهر الحرم ولم تتغلظ بشهر رمضان، وأما اعتبارهم ذا الرحم بذي النسب، فلا يصح، لأن حرمة الرحم أقوى لاختصاصها بالتوارث والنفقة، وأما اعتبار القتل بالزنا، فالفرق بينهما: أن الزنا لما لم يختلف حكمه باختلاف الأعيان لم يختلف المكان والزمان

ولما اختلف حكم القتل باختلاف الأعيان جاز أن يختلف بالمكان والزمان. وأما اعتبارهم نفوس الأحرار بنفوس العبيد والأموال. فالفرق بينهما: أنه لما لم يختلف في نفوس العبيد والأموال غرم العمد والخطأ لم يختلف الزمان والمكان, ولما اختلف في نفوس الأحرار غرم العمد والخطأ اختلف بالزمان والمكان والله أعلم. فصل: فأم استيفاء القصاص والحدود في الحرم فيجوز أن يقتص في الحرام من القاتل في الحل والحرم, وكذلك إقامة الحدود. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يقتص من القاتل في الحل إذا لجأ إلي الحرم, ويلجأ إلي الخروج منه بالهجر وترك المبايعة والمشاراة معه حتى يخرج فيقتص منه في الحل استدلالًا بقول الله تعالى: {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وهُدًى لِّلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إبْرَاهِيمَ ومَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران 96 - 97] وقوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا ويُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت 67] فوجب بهاتين أن يكون داخله آمنًا, وليس قتله فيه أمنًا. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أعتى الناس على الله القاتل غير قاتله والضارب غير ضاربه والقاتل في الحرم, والقاتل في الجاهلية" وقوله: "القاتل في الحرم" يعني قودًا وقصاصًا؛ لأن ابتداء القاتل داخل في قوله: "القاتل غير قاتله" ولأن حرمة الحرم منتشرة عن حرمة الكعبة فلما لم يجز قتله في الكعبة لم يجز قتله فيما انتشرت حرمتها إليه من جمع الحرم, ولأن حرمة الآدميين أغلظ من حرمة الصيد, فلما حرم قتل الصيد إذا ألجأ إلي الحرم كان قتل الآدمي أشد تحريمًا. ودليلنا عموم الظواهر من الكتاب والسنة في القصاص وإن لما يقترن بها تخصيص الحل من الحرم, لأن كل قصاص جاز استيفاؤه في الحل جاز استيفاؤه في الحرم كالقاتل في الحرم ولأن كل قصاص استوفى من جانبه في الحرم استوفى منه إذا لجأ إلي الحرم كالأطراف, لأن أبا حنيفة وافق عليها, ولأن كل موضع كان محلًا للقصاص إذا جني فيه كان محلًا, وإن جني في غيره كالحل, ولأن النص وارد بتحريم الهجر وإباحة البيع قال الله تعالى: {وأَحَلَّ اللَّهُ البَيْعَ وحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة 275] , وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث" فأمر أبو حنيفة بهجره وهو محظور ومنع من بيعه وهو مباح, وأخر الاقتصاص منه وهو واجب فصار في الكل مخالفًا للنص. فأما الجواب عن قوله تعالى: {ومَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} [آل عمران 96] فهو أنه

باب أسنان الخطأ وتقويمها وديات النفوس والجراح وغيرها

محمول على البيت لقوله تعالى: {إنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا} [آل عمران 96]. فإن قيل: فالمراد به الحرم لأنه قال: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إبْرَاهِيمَ} [آل عمران 97] ومقامه خارج البيت لا فيه فعنه جوابان: أحدهما: أن مقام إبراهيم حجر منقول لا يستقر مكانه, فيجوز أن يكون في وقت وضع الحجر في البيت ثم أخرج منه. والثاني: أنه محمول على أنه في مقام إبراهيم آيات بينات. وأما قوله تعالى: {أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} [العنكبوت 67] فهو دليلنا لأنه مقتضى الأمن أن لا يؤخر فيه الحقوق ويعجل استيفاءها لأهلها, وإذا أخرت صارت مضاعة فخرج الحرم عن أن يكون آمنًا. وأما الجواب عن الخبر. وقوله: "القاتل في الحرم" فمحمول على ابتداء القتل ظلمًا بغير حق دون القصاص لأمرين: أحدهما: أن لقتل القصاص أسماء هو أخص إطلاقه على غيره. والثاني: أنه جعله من أعتى الناس وليس المقتص من أعتى الناس, لأنه مستوف لحقه ومستوفي الحق لا يكون عاتيًا, وإنما العاتي المبتديء ولئن كان داخلًا في قوله: "من قتل غير قاتله" فأعيد ذكر قتله في الحرم تغليظًا وتأكيدًا كما قال تعالى: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاةِ الوُسْطَى} [البقرة 238] وأما جمعه بين الكعبة والحرم فقد أجمعنا على الفرق بينهما لأنه يقتص منه في الحرم إذا قتل فيه فجاز أن يقتص منه فيه إذا لجأ إليه, ولا يقتص منه في الكعبة إذا قتل فيها, فلم يقتص منه فيها إذا لجأ إليها وما ذكروه من الصيد وتغليظ حرمة الآدمي عليه فاسد بالإحرام, لأنه يمنع من قتل الصيد ولا يمنع من القصاص مع تغليظ حرمة الآدمي على الصيد كذلك حال الإحرام والله أعلم. باب أسنان الخطأ وتقويمها وديات النفوس والجراح وغيرها مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "قال الله تعالى: {ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} [النساء 92] فأبان على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أن الدية مائة من الإبل, وروي عن سليمان بن يسار قال: إنهم كانوا يقولون دية الخطأ مائة من الإبل عشرةن ابنة مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون حقة وعشرون ابن لبون وعشرون جذعة. قال الشافعي رحمه الله: "فبهذا نأخذ". قال في الحاوي: أما الدية من الإبل فمائة بعير في العمد والخطأ, وفي عمد الخطأ, قضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيانًا لقول الله تعالى: {ودِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} [النساء 92] وكان أول من قضة بها في الجاهلية على ما حكاه ابن قتيبة في كتاب المعارف أبو

سارة العدواني الذي كان يفيض بالناس من مزدلغة. وقيل: إن عبد المطلب أول من سنها فجاء الشرع بها واستقر الحكم عليها إلا أن دية العمد مغلظة على الجاني, وقد ذكرنا تغليظها, ودية الخطأ مخففة على العاقلة, اختلف أهل العلم في صفة تخفيفها, فقالت طائفة: تكون أرباعًا, واختلف من قال بهذا في صفة أرباعها فحكي عن الحسن البصري أنها خمسة وعشرون ابنة مخاض وخمس وعشرون ابنة لبون, وخمس وعشرون حقة وخمس وعشرون جذعة وبه قال علي ابن أبي طالب-عليه السلام-وحكي عن عثمان بن عفان, وزيد بن ثابت, رضي الله عنهما أنها عشرون ابنة مخاض وعشرون ابن لبون, وثلاثة ابن لبون, وثلاثون حقة, وذهب الجمهور إلي أنها أخماس لرواية ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم أنها عشرون ابن مخاض وعشرون ابنة لبون, وعشرون ابن لبون, وعشرون حقه, وعشرون جذعة. وبه قال من الصحابة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ومن التابعين عمر بن عبد العزيز وسليمان بن يسار, والزهري ومن الفقهاء مالك, وربيعة والليث بن سعد والثوري, وقال أبو حنيفة: بمثل ذلك إلا في ابن اللبون فإنه جعل مكانه عشرين ابن مخاض. وبه قال النخعي, وأحمد, وإسحاق, وأضافوه إلي ابن مسعود استدلالًا برواية عبد الرحمن بن سليمان عن الحجاج بن أرطأة عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك الطائي عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دية الخطأ مائة من الإبل عشرون جذعة وعشرون حقه وعشرون بنت لبون, وعشرون بنت مخاض, وعشرون ابن مخاض ولأن بنت اللبون سن يجب دونها في الديات سن فوجب أن لا يجب ذكر من هذا السن كالجذاع والحقاق, ولأن موضوع دية الخطأ على التخفيف لتحمل العاقلة لها فكان إيجاب بني المخاض أقرب إلي التخفيف من بني اللبون. ودليلنا ما رواه قتادة عن لاحق بن حميد عن أبي عبيدة عن أبيه عبد الله بن مسعود أنه قال: دية الخطأ أخماس عشرون جذعة, وعشرون حقة, وعشرون بنات لبون, وعشرون بنو لبون ذكر, وعشرون بنات مخاض, هذا موقوف عليه. وقد روى إسماعيل بن عياش عن الحجاج بن أرطأة عن زيد بن جبير عن خشف بن مالك عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في دية الخطأ أخماسًا خمسًا جذاع, وخمسًا حقاق, وخمسًا بنات لبون, وخمسًا بنات مخاض, وخمسًا بن لبون ذكر. وهذه الرواية أثبت من رواية عبد الرحمن بن سليمان وأشبه بما رواه عن ابن مسعود ابنه أبو عبيدة وعلقمة وهو لا يفتي بخلاف ما يروى ثم يدل عليه ما حكاه الشافعي عن سليمان بن يسار من إجماع الصحابة أنهم كانوا يقولون: دية الخطأ مائة من الإبل عشرون بنت

مخاض, وعشرون بنت لبون, وعشرون ابن لبون, عشرون حقة, وعشرون جذعة. وسليمان تابعي وإشارته إلي من تقدمه محمول على الصحابة فصار ذلك إجماعًا نقله عنهم. ومن طريق القياس: أن كل ما لا يجب في الزكاة لا يجب في دية الخطأ كالثنايا والفصال, ولأن ما استحق من الإبل مواساة لم يجب فيه بنو المخاض كالزكاة, ولأن بنات المخاض أحد طرفي الزكاة فلم يجب ذكورها في الدية كالجذاع في الطرف الأعلى. فأما الجواب عن حديثهم مع ضعف الحجاج بن أرطأة, وأن خشف بن مالك مجهول لم يرو عنه إلا زيد بن جبير فهو أن ما رويناه عنه من خلافه وأنه وافق فيه الجماعة من إيدال بني اللون مكان بني المخاض أولى. وأما قياسهم على الجذاع والحقاق فالمعنى فيه: أنه مال أقيم في الزكاة منها مقاس سن دونها فلذلك لم تجب في الدية وبنو اللبون بخلافها. وأنا قولهم إنها موضوعة على التخفيف, فإذا تخففت من وجه لم يجب تخفيفها من كل وجه, لأننا نوجب فيها مع التخفيف ما نوجبه في المغلظة من الجذاع والحقاق والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا يكلف أحد من العاقلة غير إبله ولا يقبل منه دونها, فإن لم يكن لبلده إبل كلف إلي أقرب البلدان إليه". قال في الحاوي: قد مضى الكلام في مقادير الدية من الإبل وأسنانها في العمد والخطأ ونقلها نصًا, فأما أنواعهم فلم يرد فيه نص, لأنها موكولة إلي العرف اعتبارًا بنظائرها في الشرع, فتؤخذ الدية من إبل العاقلة في الخطأ وإبل القاتل في العمد فإن كانت إبله عرابًا, وإن كانت بخاتي أخذت بختًا, وإن كانت عرابًا مهرية أخذت مهرية, وإن كانت محتدبة أخذت محتدبة, تؤخذ من جنس ماله ونوعه كالزكاة وسواء كانت إبله خير الأنواع أو أدونها, فإن عدل عن إبله إلي ما هو أعلى قبل من, وإن عدل إلي ما هو أدون لم يقبل كالزكاة وإن طولب بما هو أعلى لم يجب عليه, وإن طولب بما هو أدون كان مخيرًا فيه, فإن لم يكن له إبل كلف الغالب من إبل البلد فإن لم تكن لبلده إبل كلف الأغلب من إبل أقرب البلاد إليه كما قيل في زكاة الفطر, والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن كانت إبلا لعاقلة مختلفة أدى كل رجل من إبله".

قال في الحاوي: واختلاف إبل العاقلة على ضربين: أحدهما: أن يكون لكل واحد منهم نوع من الإبل فيؤخذ كل واحد منهم من النوع الذي في ملكه ولا يكلف أحدهم إبل غيره, كما لو كانت إبل جميعهم نوعًا واحدًا. والضرب الثاني: أن تكون إبل الواحد منهم مختلفة الأنواع, فإن أراد أن يعطي من كل نوع منها جاز, وإن أراد أن يعطي من أحد أنواعها, فإن كان هو الأغلب من إبله جاز, سواء كان أعلى أو أدنى, وإن لم يكن أغلب إبله, فإن كان من أعلاها جاز قبوله وإن كان من أدناها قبل من العاقلة في الخطأ, ولم يقبل من الجاني في العمد, لأنها تؤخذ من العاقلة مواساة ومن الجاني استحقاقًا. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن كانت عجافًا أو جربًا قيل: إن أديت صحاحًا جبر على قبولها". قال في الحاوي: المستحق في إبل الدية ما كان سليمًأ من العيوب لأمرين: أحدهما: أنه يدل عن النفس فأشبه سائر الأعواض. والثاني: أنه ثابت في الذمة فأشبه زكاة الفطر والنفقات, فإذا كانت إبل العاقلة كلها مراضاة أو عجافًا أو جربى لم يأخذ منها مراضًا ولا عجافًا وإن اخناها في الزكاة إذا لم يكن في ماله غيرها للفرق بينهما في الوجهين المتقدمين, وأخذنا مثل إبله سليمة من العيوب ولا يعدل إلي الغالب من إبل بلده, لأن النوع معتبر بماله وإن منع العيب أخذه فصار أصلًا معتبرًا. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن أعوزت الإبل فقيمتها دنانير أو دراهم كما قومها عمر بن الخطاب رضي الله عنه. قال الشافعي رحمه الله تعالى: "والعلم محيط بأنه لم يقومها إلا قيمة يومها, فإذا قومها كذلك فإتباعه أن تقوم متى وجبت ولعله أن لا يكون قومها إلا في حين وبلد أعوزت فيه أو يتراضى الجاني والولي فيدل على توقيمه للإعواز قوله لا يكلف أعرابي الذهب ولا الورق لأنه يجد الإبل وأخذه ذلك من القروي لإعواز الإبل فيما أرى الله وأعلم. ولو جاز أن يقوم بغير الدراهم والدنانير جعلنا على أهل الخيل الخيل وعلى أهل الطعام الطعام. قال المزني رحمه الله: "وقوله القديم على أهل الذهب ألف دينار وعلى أهل الورق اثنا عشر ألف درهم ورجوعه عن القديم رغبة عنه إلي الجديد وهو (بالسنة) أشبه".

قال في الحاوي: أما الدية من الإبل فمقدرة بمائة بعير وردت بها السنة وانعقد عليها بالإجماع, فإذا وجدت لم يجز العدول عنها على مذهب الشافعي في القديم والجديد, فإن أعوزت إما بعدمها وإما بوجودها بأكثر من ثمن مثلها عدل عنها إلي الدنانير والدراهم التي هي أثمان وقيم دون غيرهما من العروض والسلع, ثم اختلف في كيفية العدول عن الإبل إليها على قولين: أحدهما: وبه قال في القديم إنها تعتبر في الدنانير والدراهم عن إعواز الإبل بدلًا من النفس, ولا تكون بدلًا من الإبل, فتكون الدية من الذهب ألف دينار, ومن الورق اثني عشر ألف درهم, فتصير الدية على قوله في القديم ثلاثة أصول مقدرة بالشرع دون التقويم. والقول الثاني: وبه قال في الجديد, إن إعواز الإبل يوجب العدول إلي قيمتها بالدنانير والدراهم ما بلغت بحسب اختلافها في البلدان والأزمان فتكون الدنانير والدراهم بدلًا من الإبل لا من النفس ولا تكون للدية أصلًأ واحدًا وهو الإبل. وقال أبو حنيفة: للدية ثلاثة أصول: مائة بعيرًا او ألف دينار, أو عشرة آلاف درهم, يكون الجاني فيها مخيرًا من دفع أيهما شاء فخالفهم الشافعي في القديم في شيئين: أحدهما: أنه خير بين الإبل وغيرها, والشافعي لا يخير فيها مع إمكانها. والثاني: أنه قدرها بالورق عشرة آلاف درهم, والشافعي قدرها اثني عشر ألفًا ووافقه أن الثلاثة بدل من النفس, فأما على قول الشافعي في الجديد فقد خالفه أبو حنيفة في ثلاثة أشياء: أحدها: التخيير فإنه جعله مخيرًا بين الإبل وغيرها والشافعي لا يخيره. والثاني: في البدل, فإنه جعل الدراهم والدنانير بدلًا من النفس والشافعي في الجديد يجعلها قيمة تقل وتكثر. وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن وأحمد بن حنبل: الدية على أهل الإبل مائة بعير, وعلى أهل الذهب ألف دينار, وعلى أهل الورق عشرة آلاف درهم, وعلى أهل البقر مائتي بقرة, وعلى أهل الغنم ألف شاة, وعلى أهل الحلل مائتا حلة, فجعلوا للدية ستة أصول, ونحن نبدأ بتوجيه قول الشافعي, ثم نعدل إلي خلاف أبي حنيفة. ووجه قول الشافعي في القديم ما رواه عمرو بن دينار عن عكرمة عن ابن عباس أن رجلًا من بني عدي قتل فجعل النبي صلى الله عليه وسلم ديته اثني شر ألف درهم. وروى الزهري من أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن أبيه عن جده عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلي أهل اليمن: "أن الرجل يقتل بالمرأة, وعلى أهل الذهب ألف دينار, وعلى أهل

الورق اثني عشر ألف درهم" وإذا صح هذان الحديثان فالذهب والورق أصلان مقدران كالإبل, ولأن ما استحق في الدية أصلًا مقدرًا كالإبل. ووجه قوله في الجديد ما رواه سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقوم دية الخطأ على أهل القرى أربعمائة دينار أو عدلها من الورق ويقومها على أثمان الإبل, فإذا قلت الإبل رفع من قيمتها, وإذا هانت برخص منها نقص فبلغت الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بين أربعمائة دينار إلي ثمانمائة دينار أو عدلها". وروي أن أبا بكر رضي الله عنه قوم لما كثر المال وغلت الإبل مائة من الإبل من ستمائة دينار إلي ثمانمائة دينار, حكاه أبو إسحاق في شرحه. وروى سفيان بن الحسين عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده, قال: كانت قيمة الدية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمانمائة دينار, وكانت كذلك حتى استخلف عمر فغلت الإبل, فصعد المنبر فخطب وقال: ألا إن الإبل قد غلب فقضى- يعني في الدية - على أهل الذهب بألف دينار, وعلى أهلي الورق اثني عشر ألف درهم لأن الإبل إذا كانت هي المستحقة وجب أن يكون العدول عند إعوازها إلي قيمتها اعتبارًا بسائر الحقوق وبالحرية المقدرة بالذهب إذا عدل عنه رجع إلي قيمته فهذا توجيه القولين. فصل: مع أبي حنيفة لا يعد عن إبل الدية إذا وجدت, وخير أبو حنيفة بين الإبل وبين الدراهم والدنانير استدلالًا بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بجميعها, فدل على التخيير فيها ولأن العاقلة تتحملها مواساة مكان التخيير فيها أرفق ككفارة اليمين, ولأن الدراهم والدنانير أصول الأموال فلم يجز أن تجعل فرعًا للإبل. ودليلنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ألا إن في قتيل العمد الخطأ بالسوط والعصا مائة من الإبل مغلظة منها أربعون خلفة في بطون أولادها", فاقتضى أن تكون الإبل أصلًا لا يعدل عنها إلا بعد العدم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أكرموا الإبل فإن فيها رقوء الدم" فخصها بهذه الصفة, لأنها تبذل الدية فيعفها بها عن القود فدل على اختصاصها بالحكم. وروى عطاء قال: كانت الدية بالإبل حتى قومها عمر بن الخطاب, قال

الشافعي: "ما قومها إلا قيمة يومها", وإذا كان العدول عنها قيمة لها لم تستحق القيم إلا بعد العدم, لأن ما استحقه الآدميون من حقوق الأموال إذا تعينت لم يدخلها تخيير كسائر الحقوق, وليس لما احتيج به من قضاء النبي صلى الله عليه وسلم بجميعها وجه لاحتمال قضائه بذلك مع الإعواز والعدم, ولا توجب المواساة بها التخيير فيها كما لا يخير بين ما سوى الدنانير والدراهم وبين غيرها من العروض والسلع وكذلك قوله: إنها أرفق. فصل: قدر أبو حنيفة الدية من الورق عشرة آلاف درهم, وعند الشافعي أنها إذا تقدرت كانت اثني عشر ألف درهم, فقوم الشافعي كل دينار باثني عشر درهمًا, وقومه أبو حنيفة بعشرة دراهم استدلالًا بقضاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الدية بعشرة آلاف درهم وبقول علي بن أبي طالب عليه السلام: وددت أن لي بكل عشرة منكم واحدًا من بني فراس بن غنم, وصرف الدينار بالدراهم, فدل على أن قيمة الدينار عشرة دراهم, ولأن الشرع قد قدر في الزكاة والسرقة كل دينار في مقابلة عشرة دراهم, أما الزكاة فلأن نصاب الذهب عشرون مثقالًا ونصاب الورق مائتا درهم. وأما السرقة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القطع في دينار أو عشرة دراهم". ودليلنا ما روى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار, عن عكرمة, عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الدية اثني عشر ألف درهم وحديث عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الدية اثني عشر ألف درهم, ولأنه قول سبعة من الصاحبة أنهم حكموا في الدية باثني عشر ألف درهم منهم الأئمة الأربعة وابن عباس, وأنس بن مالك, وأبو هريرة رضوان الله عليهم, ولو يظهر مخالف فكان إجماعًا لا يسوغ خلافه. فإن قيل: فقد روي عن عمر أنه قضى في الدية بعشرة آلاف درهم قيل المشهور فيه ما رويناه, وقد رواه عمرو بن شعيب وحضر السيرة فيه فكان أثبت نقلًا وأصح عملًا, ولو تعارضت عنه الروايتان كان خارجًا من خلافهم ووفاتهم, ولكان من قول من عداهم إجماعًا منعقدًا, فإن قيل فتحمل الاثني عشر ألفًا على وزن ستة, والعشرة آلاف على وزن سبعة, فيكون وفاقًا في القدر, وإن كان خلافًا في العدد, قيل: ليس تعرف دراهم الإسلام إلا وزان سبعة, ولو جاز لكم أن تتأولوه على هذا لجاز لنا أن نقابلكم بمثله فتأول من روى عشرة آلاف درهم على أنها وزن ثمانية, ومن روى اثني عشر ألف على أنها وزن سبعة. وقولهم: إن الدينار موضوع في الشرع على مقابلة عشرة دراهم في الزكاة والسرقة فليست الزكاة أصلًا للدية, لأن نصاب الإبل فيها خمس, ونصاب الذهب عشرون مثقالًا, يكون البعير الواحد في مقابلة أربعة دنانير, والدية من الإبل مائة بعير تقتضي على اعتبار الزكاة أن تكون الدية من

الذهب أربعمائة دينار, وهذا مدفوع بالإجماع فكذلك اعتبار نصاب الورق بنصاب الذهب, وأما السرقة فالحديث فيها مدفوع الونقل مردود فيما ورد فيه فكيف يجعل أصلًا لغيره, وقد روينا أنه قال: "القطع في ربع دينار أو ثلاثة دراهم", فأما المزني فإنه قال: ورجوعه عن القديم رغبة عنه إلي الجديد وهو أشبه بالسنة يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون القديم أشبه بالسنة فيكون اختيارًا له. والثاني: يحتمل أن يكون الجديد أشبه بالسنة فيكون اختيارًا له والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "وفي الموضحة خمس من الإبل وهي التي تبرز العظم حتى يقرع بالمرود لأنها على الأسماء صغرت أو كبرت شانت أو لم تشن". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن شجاج الرأس إحدى عشرة شجة في قول الأكثرين منها ستة قبل الموضحة وأربعة بعدها وهي أربع عشرة شحة في قول آخرين منها ثمانية قبل الموضحة, وخمس بدها, فأولها الحارضة, ثم الدامية, ثم الدامغة, ثم الباضعة, ثم المتلاحمة, وقد يسميها أهل المدينة البازلة, ومنهم من يجعل بين الموضحة والهاشمة شجة زائدة, وهي المفرشة, ثم المنقلة, ثم المأمومة, ثم الدامغة, وكان ابن سريج لا يجعل بعد المأمومة شيئًا, ولا يستحق فيما قبل الموضحة وبعدها قصاص, فأما الدية المقدرة فلا تجب فيما قبل الموضحة, ويجب فيها وفيما بعدها فتصير شجاج الرأس منقسمة ثلاثة أقسام: أحدها: ما لا يجب فيه قصاص ولا دية مقدرة وهو ما قبل الموضحة. والثاني: ما يجب فيه الدية المقدرة ولا يجب فيه القصاص وهو ما بعد الموضحة. والثالث: ما يجب فيه القصاص ويجب فيه الدية المقدرة وهو الموضحة ودية الموضحة مقدرة بخمس من الإبل لرواية عمرو بن حزم أن في كتاب رسول الله صلى الله ليه وسلم إلي أهل اليمن, وفي الموضحة خمس من الإبل". ورواه معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لفظًا سمعه منه. وروى عمرو بن شعيب, عن أبيه, عن جده أن رسول الله صلى الله ليه وسلم قال: "من الموضحة خمس خمس" وإذا كان هذا ثابتًا ففي الموضحة خمس من الإبل سواء كانت في الرأس أو في الوجه ولا تجب فيها إذا كانت في غيرها من البدن إلا أرش على ما سنذكره, ففرق الشافعي بين موضحة الرأس والوجه وبين موضحة الجسد وسوى بين موضحة الرأس والوجه في كل واحدة منهما خمس من الإبل, وفرق سيد بن المسيب بينهما فأوجب في موضحة الرأس خمسًا من الإبل, وفي موضحة الوجه عشرًا, وفرق مالك بينهما فأوجب

في موضحة الرأس خمسًا وأوجب في موضحة الأنف خمسًا, وما قدمناه من عموم الأخبار دليل عليها. فصل: فأما صفة الموضحة فقد قدمناه في حكم القصاص منها وهو ما أوضح عن العظم وأبرزه حتى يقرع بالمرود وإن كان العظم غير مشاهد بالدم الذي يستره أو أوصل المرود إليه, وقال الشافعي: "وهي على الأسماء صغرت أو كبرت" وهذا صحيح وفيها إذا صغرت فكانت كالمحيط أو كبرت فأخذت جميع الرأس خمس من الإبل, لأنها على الأسماء فاستوي حكم صغيرها وكبيرها كالأطراف التي تتساوى فيها الديات ولا تختلف بالصغر والكبر, وسواء كانت الموضحة في مقدم الرأس أو مؤخره, وسواء كانت في جهة الوجه أو في لحيته وذقنه, سترها الشعر أو لم يسترها, قال الشافعي: "شانت أو لم تشن" هذا مذهب أن فيها خمسًا من الإبل فيما شان أو لم يشن قل الشين أو كثر, وحكي عنه أنه قال في موضع آخر: إن موضحة الجبهة إذا كثر شينها في الوجه أن فيها أكثر الأمرين من ديتها أو أرش شينها, فاختلف أصحابنا على وجهين: أحدهما: أن خرجوا زيادة الشين في الرأس والجوه على قولين. والوجه الثاني: أنه لا يلزمه في شين الرأس إلا ديتها, ويلزمه في شين الوجه أكثر الأمرين من أرشدها أو ديتها, لأن شينها في الوجه أقبح, وهي من العين والخوف عليها أقرن. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو كان وسطها ما لم ينخرق فهي موضحتا فإن قال: شققتها من رأسي, وقال الجاني: بل تأكلت من جنايتي فالقول المجني عليه مع يمينه لأنهما وجبتا له فلا يبطلهما إلا إقراره أو بينة عليه". قال في الحاوي: إذا كان في وسط الموضحة حاجز بين طرفها لم يخل ذلك الحاجز من ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون جلدة الرأس وما تحتها من اللحم فيكون هذا الحاجز فصلًا بينهما فتصير موضحتين, ويلزمه فيهما ديتان, سواء صغر الحاجز ودق أو كبر وغلظ. والقسم الثاني: أن يكون الحاجز بينهما لحمًا بعد انقطاع الجلد عنه فصار به ما بقي من اللحم بعد انقطاع الجلد حارصة أو متلاحمة فهي موضحة واحدة وليس عليه أكثر من ديتها سواء قل اللحم أو كثر, انكشف عند الاندمال أو لم ينكشف وهكذا لو كان ذلك في

طرفي الموضحة مع إيضاح وسطها لم يلزمه إلا دينها, ودخل حكومة الحارصة والمتلاحمة والسمحاق فيها, نص عليه الشافعي لأنه لو أوضح ما لم يوضحه منها لم يلزمه أكثر من ديتها فبأن لا يلزمه إذا لم يوضحه أولى. والقسم الثالث: أن يكون الحاجز بينهما هو الجلد بعد انخراق ما تحته من اللحم حتى وضع به العظم فصارت موضحتين في الظاهر وواحدة في الباطن ففيه وجهان: أحدهما: أنها موضحتان اعتبارًا بالظاهر في الانفصال. والثاني: أنها موضحة واحدة اعتبارًا بالباطن في الاتصال. فصل: فإذا ثبت ما ذكرنا من حكم الموضحتين بالحاجز بينهما من قليل وكثير وانخرق الحاجز بينهما حتى اتصلت الموضحتان فهذا على ضربين: أحدهما: أن تنخرق بالسراية التي تآكل بها الحاجز حتى انخرق فتكون موضحة واحدة, لأن ما حدث عن الجناية من سراية كان مضافًا إليها والجاني مأخوذ بها. والضرب الثاني: أن ينخرق الحاجز بقطع قاطع فلا يخلو حال قاطعه من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون هو الجاني يعود فيقطعه فتكون موضحة واحدة, لأن أفعال الجاني يبني بعضها على بعض ألا ترى أنه لو قطع يديه ورجليه, ثم عاد فقتله لم يلزمه إلا دية واحدة ولو قتله غيره لزمه ديتان في اليدين والرجلين. والقسم الثاني: أن يقطعه المجني عليه فيلزم الجاني موضحتان, لأن فعل المجني عليه لا يبني على فعل الجاني كما لو قطع الجاني يديه ورجليه وقتل المجني عليه نفسه كان على الجاني ديتان في اليدين والرجلين. والقسم الثالث: أن يقطعه حتى ينخرق بجنايته الحاجز الذي بينهما فتكون ثلاثة مواضع يلزم الأول منها موضحتان, ويلزم الثاني موضحة واحدة, لأن فعل أحدهما لا يبني على فعل الآخر, وفعل كل واحد منهما مضمون, كما لو قطع الأول يديه ورجليه وقتله الثاني كان على الأول ديتان في اليدين والرجلين, وعلى الثاني دية النفس, فلو اختلفا بعد زوال الحاجز الذي بينهما فقال الجاني: أنا قطعته أو قطعه أجنبي فعليك موضحتان فالقول قول المجني عليه مع يمينه إذا عدم الجاني البينة, لأننا على يقين من استحقاق الموضحتين بابتداء الجناية وفي شك من سقوط أحداهما, فاعتبر حكم اليقين دون الشك, كما لو قطع يديه ورجليه, ثم مات المجني عليه فاختلف الجاني والولي, فقال الولي: مات من عير جنايتك فعليك ديتان, وقال الجاني: مات من جنايتي فعلى دية واحدة وأمكن ما قاله كل واحد منهما فالقول قول الولي مع يمينه وله ديتان لوجوبهما بابتداء الجناية.

فصل: وإذا (شجه) موضحة أخذت مقدم رأسه وأعلى جبهته فصار بها موضحًا لرأسه وجبهته ففيه وجهان: أحدهما: أنهما موضحتان ويلزمه ديتاهما, لأنهما على عضوين فانفرد كل واحد منهما بحكمه. والوجه الثاني: أنها موضحة واحدة لاتصال بعضها ببعض فلم ينفصل حكمهما بالمحل, ولو شجه موضحة أخذت مؤخر رأسه وأعلى قفاه فصار بها موضحًا لرأسه وقفاه لزمه دية الموضحة في رأسه وحكومة الموضحة في قفاه وجهًا واحدًا, لأنهما عضوان ولموضحتهما حكمان, لأن في موضحة الرأس دية وفي موضحة القفا حكومة فلم يتداخلا مع اختلاف حكمهما ومحلهما, ولو شجة موضحة في طرفيها ما دون الموضحة تداخلا ولزمه دية الموضحة, وإن كان ما دونها مخالفًا لحكمهما لو انفرد؛ لأنه الأغلب من حال الموضحة أن يندرج طرفاها حتى يوضح وسطها فألحق الطرفان بالوسط من العضو الواحد وهي متصلة فهي موضحتان يلزمه أرشهما وجهًا واحدًا؛ لأن محلهما مختلف وأرشهما مختلف, لأن في مواضع الجسد حكومة تختلف أرشها باختلاف الشين فلم يتداخل بعضها من بعض مع اختلاف المحل والأرش. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "في الهاشمة عشر من الإبل وهي التي توضح وتهشم". قال في الحاوي: أما الهاشمة فهي التي أوضحت عن العظم وهشمته حتى كسرته وفيها عشر من الإبل وهو قول أبي حنيفة وجمهور الفقهاء وقال مالك, وطائفة من أهل المدينة: فيها دية الموضحة وحكومة في الهشم غير مقدرة, لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدر دية الموضحة بخمس ودية المنقلة بخمس عشرة, وأغفل الهاشمة عشرًا من الإبل وليس يعرف له مخالف فكان إجماعًا, ولأن لما كانت الموضحة ذات وصف واحد وفيها خمس من الإبل وكانت المنقلة ذلات ثلاثة أوصاف إيضاح, وهشم وتنفيل, وفيها خمس عشرة وجب إذا كانت الهاشمة ذات وصفين أن تكون ديتها بين المنزلتين فيكون فيها عشر من الإبل كالذي قلناه في نفقة الموسر إنها مدان ونفقة المعسر أنها مد فأوجبنا نفقة المتوسط مدًا ونصفًا لأنه بين المنزلتين, ولأن كسر العظم بالهشم ملحق بكسر ما تقدرت

ديته من السن وفيه خمس من الإبل, فكذلك في الهشم, فصار مع الموضحة عشرًا. فصل: فإذا ثبت أن في الهاشمة عشرًا من الإبل فلو هشم ولو يوضح ففيه خمس من الإبل, وأوجب بعض أصحابنا في الهاشمة إذا انفرد حكومة كهشم أعضاء البدن ,وهذا فاسد, لأنها لما لم تتقدر موضحة الخد وهاشمته لم يتقدر انفراد هشمه ولما تقدرت موضحة الرأس وهاشمته تقدر انفراد هشمه, وهذا الهشم مما لا يرى فلا يثبت حكمه إلا بإقرار الجاني أو شهادة عدلين من الطب يشهدان باختيار الشجة أن فيها هشمًا يقطعان به, فلو أوضح وهشم فأراد المجني عليه أن يقتص من الموضحة في العمد حكم له بالقصاص وأإرم دية الهشم خمسًا من الإبل, ولو شجه هاشمتين عليهما موضحة واحدة كانتا هاشمتين وعليه ديتاهما, لأنه زاد إيضاح ما لا هشم تحته, ولو أوضحه موضحتين تحتهما هاشمة واحدة كانت موضحتين, لأنه قد زاده هشم ما لا إيضاح عليه. فإن قيل: فهذا هشم في الباطن دون الظاهر فهلا كان على وجهين كالموضحة في الباطن دون الظاهر؟ قيل: الفرق بينهما امتزاج اللحم بالجلد في الموضحة, وانفصال العظم عن اللحم والجلد في الهاشمة. فصل: وقد ذكرنا أنه جعل بين الموضحة والهاشمة شحة تسمى المفرسة وهي الموضحة إذا اقترن بها صداع, فينظر في الصداع الحادث عنها, فإن انقطع ولم يدم فلا شيء فيه سوى دية الموضحة, كما لو ضربه فألمه وإن استدام الصداع على الأبد ولم يسكن كان فيه مع دية الموضحة حكومة لا تبلغ زيادة الهاشمة, لأنه بالاستدامة قد صار كالجرح الثابت, فإن كان يضرب في زمان ويسكن في زمان نظر, فإن علم أن عود الصداع من الموضحة كان فيه حكومة, وإن علم أن من غيرها فلا حكومة فيه ولا فيما تقدمه, لأنه لم يدم, وإن شك فيه فلا حكومة فيه, لأنها لا تجب بالشك. فصل: وإذا شجه فهشم مقدم رأسه وأعلى جبهته فصار هاشمًا لرأسه وجبهته كان على وجهين كما قلنا في الموضحة: أحدهما: تكون هاشمتين, لأنها على عضوين. والثاني: تكون هاشمة واحدة لاتصال بعضها ببعض, ولو شجه فأوضح رأسه وهشم جبتهته, أو هشم رأسه وأوضح جبهته كان مأخوذًا يديه موضحة في إحداهما وبهاشمته في الأخرى, لأن محلها مختلف وديتها مختلفة فلم يتداخلا مع اختلاف المحل والدية.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي المنقلة خمس عشرة من الإبل وهي التي تكسر عظم الرأس حتى يتشظى فينقل من عظامه ليلتئم". قال في الحاوي: أما المنقلة فهي التي تهشم العظم حتى يتشظى فينتقل حتى يلتئم. قال الشافعي: تسمى المنقولة أيضًا, وفيها خمس عشرة من الإبل, وقد انعقد عليه الإجماع لرواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "في المنقلة خمس عشرة من الإبل". وروى عمر بن حزم أن في كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي أهل اليمن: في الموضحة خمس وفي المنقلة خمس عشرة, وفي المأمومة ثلث الدية فلو أراد القصاص من الموضحة سقط بالقصاص ديتها وهي خمس, ووجب الباقي من ديتها وذلك عشر من الإبل في الهشم والتنقيل, ولو شجه منقلة لا إيضاح عليها لزمه كمال ديتها بخلاف الهاشمة إذا لم يكن عليها إيضاح, لأن المنقلة لابد من إيضاحها لتنقيل العظم الذي فيها فصار الإيضاح عائدًا إلي جانبها فلزمه جميع ديتها, والهاشمة لا تفتقر إلي إيضاح فلم يلزمه إلا قدر ما جني فيها, وإذا شجه في رأسه شجة متصلة كان بعضها وبعضها هاشمة وبعضها منقلة كان جميعها منقلة لا يؤخذ أكثر من ديتها لأنها غاية جنايته التي تندرج حالًا بعد حال, وسواء في دية المنقلة أن يتشظى عظمها فلا يعاد أو يتشظى فيعاد بعينه أو بغيره أن في جميعها خمس عشرة من الإبل, كما يجب في ذلك في صغير الموضحة وكبرها, وإذا انتقلت الشجة في موضعين من رأسه وقد اتصل إيضاحها كانت منقلتين كما قلنا في الهاشمتين لما قدمناه من الفرق, والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وذلك كله في الرأس والوجه واللحي الأسفل". قال في الحاوي: يعني تقدير دية الموضحة بخمس والهاشمة بعشر والمنقلة بخمس عشرة إنما يكون في الرأس والوجه واللحى الأسفل فأما في الجسد وما قارب الرأس من العنق فلا يتقدر فيه دية الموضحة ولا دية الهاشمة, ولا دية المنقلة ويجب فيها حكومة ألا يبلغ بأرش موضحها خمسًا ولا بأرش هاشمتها عشرًا, ولا بأرش منقلتها خمس عشرة للفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أنها على الرأس أخوف.

والثاني: أن شينها فيه أقبح, ويتغلظ هذه الشجاج في الرأس بالعمد, ويتخفف بالخطأ, ولا تتغلظ في الجسد بعمد ولا خطأ, لأن التغليظ يختص بالمقدر من الديات ولا يدخل فيها ما لا يتقدر من أروش الجنايات, فيتغلط خمس الموضحة بالأثلاث فيكون فيه خلفتان, وجذعة ونصف, وحقة ونصف, فتخفف فيها بالأخماس فيكون فيها جذعة وحقة, وبنت لبون وابن لبون, وبنت مخاض, وتتغلظ غير الهاشمة بالأثلاث قيكون فيها أربع خلفات, وثلاث جذاع وثلاث حقاق, ويتخفف بالأخماس فيكون فيها جذعتان, وحقتان, وبنتا مخاض, ويتغلظ في خمس عشرة في المنقلة بالأثلاث فيكون فيها ثلاثة جذاع, وثلاث حقاق, وثلاث بنات لبنون, وثلاثة بني لبون, وثلاثة بنات مخاض, وعلى غير هذا فيما زاد ونقص فيما يقدر من ديات الأعضاء والأطراف. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي المأمومة ثلث النفس وهي التي تخرق إلي جلد الدماغ". قال في الحاوي: أما المأمومة فهي الواصلة إلي أم الرأس, وأم الرأس هي الغشاوة المحيطة بمخ الدماغ وتسمى الأمة. وأما الدامغة فهي التي خرقت غشاوة الدماغ حتى وصلت إلي مخه, وفيها جميعًا قلق الدية لا تفضل دية الدامغة على دية المأمومة, وإن كنت أرى انه يجب تفضيلها بزيادة حكومة في خرق غشاوة الدماغ لأنه وصف زائد على صفة المأمومة وإن لم يحك عن الشافعي. والدليل على أن المأمومة ثلث الدية حديثان: أحدهما: حديث عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: في الأمة ثلث الدية. والآخر: حديث عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في كتابه إلي أهل اليمن, وفي المأمومة ثلث الدية, ولأنها واصلة إلي جوف فأشبهت الجائفة, فلو أراد المجني عليه أن يقتص من الإيضاح سقط من ديتها إذا اقتص دية الموضحة خمس من الإبل وأخذ بالباقي منها وهو ثمانية وعشرون بعيرًا وثلث, فلو شجه رجل موضحة وهشمه ثان بعد الإيضاح ونقله ثالث بعد الهشم وأمه رابع بعد التنقيل كان على الأول دية الموضحة خمس من الإبل وعلى الثاني ما زاد عليها من دية الهاشمة وهي خمس من الإبل, وعلى الثالث ما زاد عليها من دية المنقلة وهي خمس من الإبل, وعلى الرابع ما زاد عليها من دية المأمومة وهي ثمانية عشرًا بعيرًا وثلث, فإن أريد القصاص اقتص من الأول الموضح دون من عداه, وأخذ من كل واحد منهم ما يلزمه من دية جنايته, ولو جرحه في وجنته من وجهه جراحة حرقت الجلد واللحم وهشمت العظم وتنقل العظم إلي أن وصلت إلي الأم أو كانت في إحدى الحصتين فخرقت كذلك حتى وصلت إلي الفم ففيها قولان حكاهما

أبو حامد المروزي في جامعه. أحدهما: أنها مأمومة يجب فيها ثلث الدية, ويكون وصولها إلي الفم كوصولها إلي الدماغ لأنها عملت عمل المأمومة. والقول الثاني: أنه يجب فيها دية منتقلة وزيادة حكومة في وصولها إلي الفم لا يبلغ بها دية المأمومة, لأن وصول المأمومة إلي الدماغ أخوف على النفس من وصولها إلي الفم فلم يبلغ بدية ما قل خوفه دية ما هو أخوف. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولم أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم فيما دون الموضحة بشيء ففيما دونها حكومة لا يبلغ بها قدر موضحة وإن كان الشين أكثر". قال في الحاوي: قد ذكرنا شجاج الرأٍس قبل الموضحة وأنها ست الحارصة: وهي التي تشق الجلد, ثم الدامية, وهي التي يدمى بها موضع الشق, ثم الدامغة, وهي التي يدمغ منها الدم, ثم الباضعة وهي التي تبضع اللحم فتشقه, ثم المتلاحمة وهي التي تمور في اللهم حتى تنزل فيه وقد تسمى البازلة, ومنهم من جعل البازلة شجة زائدة بين الباضعة والمتلاحمة فيجعل ما قبل الموضحة سبعًا, ثم السمحاق, وهي التي تمور جميع اللحم حتى تصل إلي سمحاق الرأس وهي جلدة تغشى عظم الدماغ ويسميها أهل المدينة الملطاة, ومنهم من جعلها بين المتلاحمة والسمحاق فيجعل شجاج ما قبل الموضحة ثمانيًا, ولا أعرف لهذه الملطاة حدًا يزيد على المتلاحمة وتنفص عن السمحاق فيصير وسطًا بينهما, وليس في جميع هذه الشجاج التي قبل الموضحة أرش مقدر بالنص, وأول الشجاج التي ورد النص بتقدير أرشها الموضحة لانتهائها إلي حد مقدر فصار أرشها مقدرًا كالأطراف, وإذا لم يتقدر أرش ما قبل الموضحة نصًا فقد اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه: أحدها: وهو الظاهر من نصوص الشافعي, وقول جمهور أصحابه: أن فيها حكومة يختلف قدرها باختلاف شينها تتقدر بالاجتهاد ولا يصير ما قدره الاجتهاد ولا يصير ما قدره الاجتهاد فيها مقدرًا معتبرًا في غيرها, لجواز زيادة الشين ونقصانه, فإذا أفضى الاجتهاد في حكومة أرشها إلي مقدر ينقص من دية الموضحة على ما سنصفه من صفة الاجتهاد أوجبنا جميعه, وإن زاد على دية الموضحة أو ساواها لم يحكم بجميعه ونقص من دية الموضحة بحسب ما يؤديه الاجتهاد إليه لأن شينها لو كان من موضحة فلم يزد على ديتها, فإذا كان فيما دون الموضحة وجب أن ينقص من ديتها. فإن قيل: فقد يجب فيما دون النفس أكثر من الدية, وإن لم يجب في النفس إلا الدية فهلا وجب فيما دون الموضحة بحسب الشين أكثر مما يجب في الموضحة. قيل: لأن ما دون الموضحة بعض

الموضحة وبعضها لا يكافئها وليست الأطراف بعض النفس, لأن النفس لا تتبعض فجاز أن يجب فيها أكثر مما يجب في النفس. والوجه الثاني: وهو محكي عن أبي العباس بن سريج أن أروشها مقدرة بالاجتهاد كما تقدرت الموضحة وما فوقها بالنص ولا يمتنع إثبات المقادير اجتهادًا كما تقدر القلتان بخمسمائة رطل اجتهادًا, فجعل في الحارصة بعيرًا واحدًا, وجعل في الجامية والدامغة بعيرين, وجعل في الباضعة, والبازلة والمتلاحمة ثلاثة أبعرة, وجعل في الملطأة, والسمحاق أربعة أبعرة لأنها أقرب الشجاج من الموضحة, فكان أرشها أقرب الأروش إلي دية الموضحة, ولما كانت الحارصة أول الشجاج كان فيها أو ما في الموضحة وكان فيما بين الطرفين ما يقتضيه قربة من أحدهما فلذلك رتبة في التقدير على ما ذكره, وهذا وإن كان مستقرًا بالظاهر فاسد من وجهين: أحدهما: أن ما دخله الاجتهاد بحسب الزيادة والنقصان كان حكمه موقوفًا عليه. والثاني: أنه لو جاز أن يستقر الاجتهاد فيه بمقدار محدود لا يراد عليه, ولا ينقص منه لكان اجتهاد الصحابة-رضي الله عنهم-فيه أمضى وتقديرهم له ألزم, وقد روى سعيد بن المسيب, عن عمر وعثمان أنهما قضيا في الملطاة والسمحاق بنص ما في الموضحة. والوجه الثالث: حكاه أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة عن الشافعي أن يعتبر قدر ما انتهت إليه في اللحم من مقدار ما بلغته الموضحة حتة وصلت إلي العظم إذا أمكن, فإذا عرف مقداره من ربع أو ثلث أو نصف كان فيه بقدر ذلك من دية الموضحة, فإن علم أنه النصف وشك في الزيادة اعتبر شكه بتقويم الحكومة, فإن زاد على النصف وبلغ الثلثين زال حكم الشلك في الزيادة بإثباتها وحكم بها, ولزم ثلثا دية الموضحة, وإن بلغت النصف زال حكم الشك في الزيادة بإسقاطها وحكم بنصف الدية, وإن نقصت عن النصف بطل حكم النقصان والزيادة وثبت حكم النصف, فإن لم يعلم مقدار ذلك من الموضحة عد عينئذ إلي الحكومة التي يتقدر الأرش فيها بالتقويم على ما سنذكره, ولهذا الوجه وجه إن لم يدفعه أصل وذلك أن مقدار الحكومة معتبر بشيئين: الضرر والشين, وهما لا يتقدران بمقدار المور في اللحم. وحكي عن الشعبي أنه قال: ليس فيما دون الموضحة أرش, وليس على الجاني إلا أجرة الطبيب لعدم النص فيه, وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن المنصوص عليه أصل للمسكون عنه. والثاني: أنه قد أوجب أجرة الطبيب ولم يرد بها شرع, وأسقط أرش الدم وقد ورد به شرع, والله أعلم بالصواب.

مسألة: قال الشافعي- رضي الله عنه-: "وفي كل جرح ما عدا الرأس والوجه حكومة إلا الجائفة ففيها ثلث النفس وهي التي تخرق إلي الجوف من بطن أو ظهر أو صدرًا أو ثغرة نحر في جائفة". قال في الحاوي: وإذ قد مضى الكلام في شجاج الرأس والوجه فسنذكر ما عداه من جراح البدن وينقسم أربعة أقسام: أحدها: ما يجب فيه القصاص وتتقدر فيه الدية وهو الأطراف. والقسم الثاني: ما لا يجب فيه القصاص ولا تتقدر فيه الدية, وهو ما دون الموضحة أو فوقها ودون الجائفة. والقسم الثالث: ما يجب فيه القصاص ولا يتقدر فيه الدية, وهو الموضحة يجب فيها القصاص في البدن كالرأس, ولا يتقد فيها الدية, وإن تقدرت في الرأس ويجب فيها حكومة. والفرق فيها بين الرأس والجسد من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الرأس لاشتماله على حواس السمع والبصر والشم والذوق. والثاني: أن الجناية عليه أخوف. والثالث: أن شينها فيه أقبح. والقسم الرابع: ما تتقدر فيه الدية ولا يجب فيه القصاص, وهو الجائفة والجائفة وصول الجرح إلي الجوف من بطن أو ظهر أو ثغرة نحر تخرق به غطاء الجوف حتى يصل إليه سواء كان بحديد أو بغيره من المحدد, وفيها ثلث الدية, صغرت أو كبرت, لرواية عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الجائفة ثلث الدية وفي المأمومة ثلث الدية". وروى عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلي أهل اليمن: "وفي الجائفة ثلث الدية", ولأنها واصلة إلي غاية مخوفة فأشبهت المأمومة, ولا قصاص فيها, لتعذر المماثلة بنفوذ الحديد إلي ما لا يرة انتهاؤه, فإن أجافه حتى لذع الحديد كبده, أو طحاله لزمت ثلث الدية في الجائفة, وحكومة في لذع الحديد الكبد والطحال. ولو أجافه فكسر أحد أضلاعه لزمه دية الجائفة, وتكون حكومة الضبع معتبرة بنفوذ الجائفة, فإن نفذت من غير ضلع لزمخ حكومة الضلع, وإن لم تنفذ إلا بكسر الضلع دخلت حكومته في دية الجائفة, وإذا أشرط بطنه بسكين ثم أجاغه في آخر الشرطة, كان عليه في الجائفة ديتها وفي الشرطة حكومتها, لأن الشرطة في غير محل الجائفة متميزة عنها فتميزت بحكمها كما قلنا إذا أوضح مؤخر رأسه وأعلى قفاه, ولو جرحه بخنجر له طرفان فأجافه في

موضعين وبينهما حاجز كانت جائفتين وعليه ثلثا الدية, فإن خرقه الجاني أو تآكل صارت جائفة واحدة ولو خرقه أجنبي كانت ثلاث جوائف, ولو خرقه المجروح كانت جائفتين كما قلنا في الموضحتين. فصل: وإذا أدخل في حلقه خشبة أو حديدة حتى وصلت إلي الجوف أو أدخلها في سبيله حتى بلغت الجوف لم تكن جائفة ولا شي عليه, لأنه ما خرق بها حاجز, فإن خدش ما حيالها من داخل الجوف لزمته حكومته, وعزر في الحالين أدبًا, وإن لم يعزر الجاني إذا أغرم الدية, لأنه قد انتهك منه بإيلاجها ما لم يقابله غرم, فإن خرق بوصول الخشبة إلي الجوف حاجز من غشاوة المعدة أو الحشوة ففي إجراء الجائفة وجهان: أحدهما: يجري عليه حكم الجائفة ويلزمه ثلث دية, لأنه قد خرق حاجزًا في الجوف فأشبه حاجز البطن. والوجه الثاني: لا يجري عليها حكم الجائفة ويلزمه حكومة لبقاء البطن الذي هو حاجز على جميع الجوف, وهذان الوجهان بناء على اختلاف الوجهين في الحاجز بين الموضحتين إذا انخرق باطنه من اللحم وهي ظاهرة من الجلد هل يجري-عليه حكم الموضحة في الجميع أم لا؟ على وجهين. فصل: ولو أولج خشبة في فرج عذراء خرق بها حاجز بكارتها عذر ولم يجد, إلا أن يطأ فيحد, ويلزمه مهر المثل إن أكرهها, ولا تلزمه دية الجائفة بخرق حاجز البكارة, لأنها في مسلك الخرق, وأما الحكومة فإن كانت بغير وطء لزمه حكومة بكارتها, لأنها بجناية منه, وإن كانت بوطء لم يلزمه, لأنه لا يخلو في وطئه من إكراه أو مطاوعة, فإن أكره دخل أرش الحكومة غي المهر, لأنه يلزمه مهر مثلها من الأبكار, وإن طاوعته كانت بالمطاوعة الكمبرئة من الأرش, لأن المطاوعة إذن, وإذا عصر بطنه وداسه حتى خرج الطعام من فمه أن النجو من دبره فلا غرم عليه, ويعزر أدبًا, فإن زال بالدوس أحد أعضاء الجوف عن محله حتى تياسر الكبد أو تيامن الطحال, لأن الكبد متيامن والطحال متياسر, فعليه الحكومة إن بقي على حاله, ولا شيء عليه إن عاد إلي محله. فصل: فإذا جرحه جائفة, ثم جاء آخر فأولج من الجائفة سكينًا, فلا يخلو حال الثاني بعد الأول من أحد أربعة أقسام: أحدهما: أن لا يؤثر في سعتها ولا في عمقها فلا شيء عليه, لأن ما جرح ويعزر أدبًا للأذى.

والقسم الثاني: أن يؤثر في سعتها ولا يؤثر في عمقها, فعليه في زيادة سعتها إذا كان ظاهرًا أو باطنًا دية جائفة, لأنه قد أجافه وإن اتصلت بجائفة غيره, فإن اتسعت في الظاهر دون الباطن أو في الباطن دون الظاهر فعليه حكومة, لأن جرح لم يستكمل جائفة. والقسم الثالث: أن يؤثر في عمقها ولا يؤثر في سعتها فيلذع بعض أعضاء الجوف من كبد أو طحال فعليه في لذع ذلك وجرحه حكومة. والقسم الرابع: أن يؤثر في سعتها ويؤثر في عمقها, فيلزمه دية جائفة في زيادة سعتها, وحكومة في جراحة عمقها, فإنه قطع بها معًا, أو حشو صار موجًا قاتلًأ يلزمه القود في النفس أو جميع الدية, ويكون الأول جارحًا جائفًا يلزمه ثلث الدية, ولو جرح الثاني المعاء والحشوة ولم يقطعه صار الثاني والأول قاتلين وعليهما القود في النفس أو الدية بينهما بالسوية لحدوث التلف بسراية جنايتهما. فصل: وإذا خاط المجروح جائفة ففتقها آخر حتى عادت جائفة لم يخل حالها بعد الخياطة من أحد أربعة أقسام: أحدهما: أن يفتقها قبل التحام ظاهرها وباطنها فلا شيء عليه في الجائفة ويعزر أدبًا للأذى, ويغرم قيمة الخيط وأجرة مثل الخياطة. والقسم الثاني: أن يفتقها بعد التحام ظاهرها وباطنها, فقد صار جائفًا وعليه دية الجائفة وإن كانت في محل جائفة متقدمة, لأنها قد صارت بعد الاندمال كحالها قبل الجناية, كما لو أوضح رأسه فاندمل, ثم عاد فأوضحه من موضع الاندمال لزمه دية موضحة ثانية ويغرم قيمة الخيط, ولا يغرم أجرة المثل لدخول أجرة فتقها في دية جائفتها بخلافة لو لم يغرم ديتها. والقسم الثالث: أن يلتحم باطنها ولا يلتحم ظاهرها, فيلزمه حكومة في فتح ما التحم من باطنها, ويغرم قيمة الخيط وأجرة مثل الخياطة, لأنه ما التزم في محله غرمًا سواء. والقسم الرابع: أن يلتحم ظاهرها ولا يلتحم باطنها, فتلزمه حكومة في فتح ما التحم من ظاهرها, ويغرم قيمة الخيط, ولا يغرم أجرة الخياطة لدخوله في حكومة محله. فصل: وإذا جرحه نافذة, النافذة: أن جرحه بسهم أو سنان فيدخل في ظهره ويخرج من بطنه, أو يدخل في بطنه ويخرج من ظهره أو ينفذ من أحد خصرية إلي الآخر فمذهب الشافي وما عليه جمهور أصحابه أن النافذة جائفتان, ويلزمه فيهما ثلثا الدية, وقال أبو حنيفة: تلزمة دية جائفة في الوصول إلي الجوف, وحكومة في النفوذ منه, وبه قال بعض

أصحابنا, لأن الجائفة ما وصلت إلي الجوف, والنافذة خارجة منه فكانت أقل من الجائفة, وهذا خطأ, لما روى عن أبي بكر-رضي الله عنه-أنه قضى على رجل رمى رجلًا بسهم فأنفذه بثلثي الدية ولم يظهر له مخالف فكان إجماعًا, ولأن ما خرق حجاب الجوف كان جائفة كالداخلة, فإن قطع سهم النافذة بنفوذه في الجوف بعض جشوته كان عليه مع دية الجائفتين حكومة فيما قطع من حشوته. مسألة: قال الشافعي- رضي الله عنه-"وفي الأذنين الدية". قال في الحاوي: وقال مالك: فيهما حكومة لاختصاصهما بالجمال دون المنفعة فكانا كاليدين الشلاوين, وهذا فاسد, لرواية عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتابه إلي أهل اليمن: "وفي الأذنين الدية" ولأنهما عضوان يجتمع فيهما منفعة وجمال فوجب أن تكمل فيهما الدية كاليدين والرجلين, فإن قيل: المنفعة فيهما مفقودة. قيل: إن منفعتهما موجودة, لأن الله تعالى ما خلق الأعضاء عبثًا ولا قدرها إلا لحكمة ومنفعة, ومنفعة الأذن جمع الصوت حتى يلج إليها فيصل إلي السمع, وهذا أكبر المنافع. فصل: فإذا ثبت وجوب الدية فيهما فتكمل الدية إذا استوصلنا صغرت الأذنان أو كبرتا, والمثقوبة وذات الخرم مساوية لغير ذات الثقب والخرم إذا لم يذهب شيء من الأذن بالثقب والخرم, فإن أذهب شيئًا منها سقط من ديتها بقدر الذاهب, وإذا قطع إحدى الأذنين كان فيها نصف الدية يمنى كانت أو يسرى كاليدين, فإن قطع بعض أذنه كان عليه من ديتها بقسط ما قطع منها من ربع أو ثلث أو نصف سواء قطع من أعلى أو أسفل, ولا اعتبار بزيادة الجمال والمنفعة في أحد النصفين كما تستوي ديات الأصابع والأسنان مع اختلاف منافعهما وسواء قطع أذن سميع أو أصم, لأن محل السمع في الصماخ لا في الأذن, لبقاء السمع بعد قطعهما, وخالف حلول البصر في العين وحلول حركة الكلام من اللسان. فصل: وإذا جني على أذنيه فاستحشفتا وصار بهما من اليبس وعدم الألم ما باليدين من الشلل ففيه قولان: أحدهما: عليه الدية كاملة كما يلزمه في شلل اليدين الدية. والقول الثاني: عليه حكومة, لبقاء منافعهما بعد الشلل والاستحشاف (وعدم) منافع

اليد بالشلل سواء, فلو قطعت الأذن بعد استحشافها كان على قولين: أحدهما: فيهما حكومة إذا قيل في استحشافهما الدية كاليد الشلاء إذا قطعت. والقول الثاني: فيها الدية إذا قيل في الاستكشاف حكومة, ولا يجتمع فيها ديتان إحداهما بالاستحشاف, والأخرى بالقطع, ولا حكومتان ويجتمع فيهما دية وحكومة, فإن أوجبت الدية في الاستحشاف كانت الدية في القطع. وذهب بعض أصحابنا إلي أنه لا يجب في الحالين إلا حكومة إحداهما بالاستحشاف والأخرى بالقطع, تستوفي بالحكومة جميع الدية لا يجوز نقصانها, ويجوز زيادتها, وهذا فاسد, لأنه لا بد أن يجري على إحدى الحكومتين: حكم الجناية على الصحة, وذلك موجب لكمال الدية. فأما إذا جني على أذنه فاسود لونها ففيها حكومة كما لو جني على يده لأن سواد اللون في الأبيض شين, وكذلك بياض اللون في الأسود شين, والحكومة في الحالين واجبة, وإن كانت المنافع باقية. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي السمع الدية ويتغفل ويصاب به فإن أجاب عرف أنه يسمع ولم يقبل منه قوله, وإن لم يجب عند غفلاته, ولم يفزع إذا صيح به حلف لقد ذهب سمعه وأخذ الدية". وروي أن رجلًا رمى رأس رجل بخحر في زمان عمر فأذهب سمعه وعقله ولسانه, وذكره, فقضى عليه عمر بأربع ديات, ولأن السمع من أشرف الحواس فأشبه حاسة البصر واختلف في أيهما أفضل؟ فقال يوم: حاسة البصر أفضل, لأن به تدرك الأعمال, وقال آخرون: حاسة السمع أفضل, لأن به يدرك الفهم, وقذ ذكرهما الله تعالى في كتابه فقرنه بذهاب البصر, لأن بذهاب البصر فقد النظر وبذهابه السمع فقد العقل, فقال تعالى في البصر: {ومِنْهُم مَّن يَنظُرُ إلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي العُمْيَ ولَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ} [يونس 43] وقال في السمع: {ومِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ ولَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ} [يونس 42].

فصل: والسمع لا يرى فيرى ذهابه, فلم يكن للبينة فيه مدخل مع التنازع, ولكن له أمارات تدل عليه يعلم بها وجوده من عدمه, فإذا ادعى المجني عليه ذهاب سمعه فللجاني حالتان: تصديق, وتكذيب فإن صدقه على ذهاب سمعه لم يحتج إلي الاستظهار بالأمارات, وسأل عنه عدول الطب هل يجوز أن يعود أم لا؟ فإن نفوا عوده حكم له بالدية دون القصاص لتعذر استيفائه وإن جوزوا عودة إلي مدة قدروها وجب الانتظار بالدية إلي انقضاء تلك المدة, فإن عادة السمع فيها سقطت الدية, وإن لم يعد حتى انقضت استقر بها ذهاب السمع, واستحق دفع الدية, وإن كذب الجاني على ذهاب السمع اعتبر صدق المجني عليه, لتعذر البينة فيه بالأمارات الدالة عليه, وذلك بأن يتغفل, ثم يصاح به بأزعج صوت وأهل له يتضمن إنذار أو تحذير, فإن أزعج به والتفت لأجله, أو أجاب عنه دل على بقاء سمعه, فصار الظاهر مع الجاني, فيكون القول فيه قول الجاني مع يمينه بالله أن سمعه لباقي ما ذهب من جنايته, ولو اقتصر في يمينه على أنه باقي السمع أجزأه, ولو اقتصر على أن سمعه ما ذهب بجنايته لم يجزه, لأن الحلف على ذهاب السمع وبقائه لإذهابه بجناية غيره, وإنما حلف الجاني مع ظهور الأمارة في جنيته لجواز أن يكون إزعاج المجني عليه بالصوت بالاتفاق, وإن كان المجني عليه عند سماع الأصوات المزعجة في أوقات غفلاته غير منزعج بها دل ذلك على ذهاب سمعه فصار الظاهر معه, فيكون القول قوله مع يمينه في ذهاب سمعه من جنايته, فإن لم يقل من جنايته لم يحكم له بالدية لجواز ذهابه بغير جنايته, ولزم اليمين مع وجود الأمارات في في جنيته لجواز أن يتصنع لها بذهابه وجلده, ولا يقتصر بهذه الأصوات المزعجة على مرة واحدة لجاوز التصنع, ويكون ذلك من جهات وفي أوقات الخلوات حتى يتحقق زوال السمع بها, فإن الطمع يظهر منها فيزول مع التصنع. فصل: وإذا ادعى المجني عليه صمم إحدى أذنيه سدت سميعته بما يمنع وصول الصوت فيها, وأطلقت ذات الجناية, وأزعج في غفلاته بالأصوات الهائلة, فإن انزعج بها كان سمعه باقيًا بظاهر الأمارة فيكون القول في بقائه قول الجاني مع يمينه, فإنه لم ينزعج بها كان سمعه ذاهبًا بظاهر الأمارة, فيكون القول في ذهابه قول المجني عليه مع يمينه ويكون على الجاني نصف الدية, لأنه قد أذهب بضمها نصف منفعة فإن قيل: فقد تسمع الأخرى ما كان يدركه بها. قيل: لا يمنع ذلك من الاستحقاق للدية وإن كان الإدراك باقيًا, كما لو أذهب ضوء إحدى عينيه لزمه ديتها, وإن كان يدرك بالباقية ما كان يدركه بهما. فصل: ولو ادعى المجني عليه وقرًا في إحدى أذنيه ذهب به بعض سمعها اعتبر ما ذهب من

قدر سمعها تصم ذات الجناية وسدها وإطلاق السليمة, وأن ينادي من بعد فإذا سمع الصوت بعد المنادي حتى ينتهي إلي أقصر غاية يسمع صوته فيها, ثم صمت السمعية وفتحت ذات الجناية, ونودي من ذلك المكان بمثل ذلك الصوت فإن سمعه كان سمعهما باقيًا بحاله, وإن لم يسمعه قرب المنادي منه حتى ينتهي إلي حيث يسمع صوته, ويعتبر ما بين المسافتين بعد أن يفعل ذلك دفعًا يزول معها التصنع ويتفق فيها النداء, فإن اختلف عمل على أقل الوجوب, فإن كان بين مسافتي السمعية وذات الوقر النصف كان عليه ربع الدية, لأن قد أذهب ربع سمعه, وإن كان الثلث كان عليه سدس الدية. فصل: فإن ادعى المجني عليه وقرًا في أذنيه معًا ذهب بعض سمعه منها, فإن كان يعلم مدى سماعه قبل وقت الجنية, اعتبر مدى سماعه بعد الجناية, واستحق من دية السمع بقدر ما بين المسافتين من ربع أو ثلث أو نصف وإن لم يعلم مدى سماعه في حال الصحة فلا سبيل إلي تحقيق المستحق من الدية ويعطى في الذاهب منه حكومة يقدرها الحاكم باجتهاده, فلو قال المجني عليه: أنا أعرف قدر ما ذهب من سمعي, وهو النصف, أحلف على دعواه وحكم بقوله لأنه لا يوصل إلي معرفة إلا من جهته فقبل قوله فيه مع يمينه كما يقبل قول المرأة في حيضها, ولو ادعى الجاني عود السمع بعد ذهابه وأنكر المجني عليه عوده كان القول مع يمينه, وهو على حقه من الدية, فإن مات قبل اليمين فلا يمين له على الورثة إن لم يدع علمهم, وإن ادعاه أحلفهم بالله ما يعلمون سمع بعد ذهاب سمعه. فصل: وإذا قطع أذنيه فذهب بقطعهما سمعه لزمته ديتان: أحداهما: في الأذنين. والأخرى: في السمع, لأنها جناية على محلين فصارت كالجناية على عضوين, وخالف قلع العين إذا ذهب ضوؤها فلم يتلزمه إلا دية واحدة, لأن محل الضوء في العين, ومحل السمع في غير الأذن ولذلك كملت الدية في أذن الأصم والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي ذهاب العقل الدية". قال في الحاوي: إذا جني عليه فأذهب عقله ضمنه بالدية دون القود, وإنما سقط القود فيه لأمرين:

أحدهما: اختلاف الناس في محله, فمن طائفة تقول محله الدماغ. وأخرى تقول محله القلب, وأخرى تقول مشترك فيهما, وإن كان الأصح من أقاويلهم أن محله القلب لقول الله تعالى: {فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج 46] ولأنه نوع من العلوم. والثاني: تعذر استيفائه, لأنه يذهب يسير الجناية ولا يذهب بكثيرها, فأما الدية فواجبة فيه على كمالها لرواية عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتابه إلي اليمن: في العقل الدية. وروى جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم: "في العقل الدية مائة من الإبل". وقضى عمر رضي الله عنه في المشجوج رأسه حين ذهب بها سمعه وعقله ولسانه وذكره بأربع ديات, ولأن العقل أشرف من حواس الجسد كلها لامتيازه بع من الحيوان البهيم, وفرقه به بين الخير والشر, وتوصله به إلي اختلاف المنافع ووقع المضار, وتعلق التكليف به, فكان أحض بكمال الدية من جميع الحواس مع تأثير ذهابه فيها وفقد أكثر منافعها. فصل: إذا ثبت وجوب الدية بذهاب العقل فإنما يستحق في العقل الغريزي الذي يتعلق به التكليف, وهو العلم بالمدركات الضروري, فأما العقل المكتسب الذي هو حسن التقدير وإصابة التدبير ومعرفة حقائق الأمور فلا دية فيه مع بقاء العقل الغريزي وفيه حكومة لما أحدث من الدهش بعد التيقظ والاسترسال بعد التحفظ, والغفلة بعد الفطنة يعتبر بحكومته قدر ما حدث من ضرره, ولا يبلغ به كمال الدية, لأنه تابع للعقل الغريزي, ولا يتبعض العقل الغريزي في ذاته, لأنه محدود بما لا يتجزأ فلا يصح أن يذهب بعضه ويبقى بعضه, ولكن قد يتبعض زمانخ فيعقل يومًا ويجن يومًا, فإن تبعض زمانه بالجناية فكان يومًا ويومًا لزم الجاني عليه نصف الدية, وإن كان يعقل في يوم ويجن في يومين لزمه ثلثًا ديته. فصل: وأما الجناية التي يزول بها العقل فعلى ضربين: أحدهما: أن تكون عن مباشرة. والثاني: عن غير مباشرة. فأما ما كان عن مباشرة فكضربة سيف أو رمية بحجر أو قرعة بعصا, أما على رأسه أو ما قرب من قلبه, فإذا ذهب بها العقل كان عن جنايته سواء أثر ذلك في جسده أو لم يؤثر, وكذلك لو لطمه بيده, أو ركله برجله حتى أزعجه بركلته أو لطمته التي يقول علماء الطب: إن مثلها يذهب العقل كان ذاهبًأ عن جنايته ومأخوذًا بديته, وأما ما كان عن غير مباشرة فكالإشارة إليه بسيف أو تقريب سبع أو إدناء أفعى فيذعر منه فيزول عقله به فيعتبر

حاله فإن كان طفلًا أو مضعوفًا مذعورًا فلذلك مزيل لعقل مثله فيؤخذ بديته, وإن كان قوي النفس ثابت الجأش فعقل مثله لا يزول بهذا التفزيع فلا دية فيه, وهكذا إن زعق عليه بصوت مهول فزال عقله كان معتبرًا بحاله في قوة جأشه أو ذعره, فلا تلزمه الدية في ذي الجأش وتلزمه في المذعور فأما إن أخبره مصيبة حزن لها فزال عقله أو أخبره بمسرة فرح فزال عقله لحدوث زواله عن فرح وحزن أحدثه الله تعالى فيه. فصل: وإذا زال عقله بجناية مباشرة فلم يخل حالها من أن يوجب غرمًا سوى دية العقل أو لا يوجب, فإن لم يوجب سوى الدية العقل غرمًا كاللطمة واللكمة وما لا يؤثر من الخشب والمثقل في الجسد غير الألم فتستقر بها دية العقل, ويكون ما عداه من ألم الضرب هدرًا, وهل يعزر به أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا يعزر لإيجابه دية العقل, وغرمها أغلظ من التعزير. والوجه الثاني: يعزر, لأن غرم الدية في غير محل الألم, فوجب أن لا يخلو من تعزير إذا خلا من غرم. وإن أوجبت الجناية غرمًا سوى دية العقل من مقدر أو غير مقدر ففيه قولان: أحدهما: وبه قال في القديم وهو مذهب أبي حنيفة: أنه إن كان ما وجب بالجناية أقل من دية العقل كالموضحة والمأمومة, أو قطع إحدى الأذنين دخل ذلك في دية العقل ولم يجب عليه أكثر منها, وإن موجبًا من الدية, لقطع الأذنين وجذع الأنف' دخله فيه دية العقل وأخذ بدية الأذنين والأنف ليكون الأقل داخلًا في الأكثر, استدلالًا بأن زوال العقل مسقط للتكليف فأشبه الموت. والقول الثاني: قاله في الجديد وهو الأصح: إن دية العقل لا تسقط بما عداها, ولا يسقط بها ما عداها, سواء كان ما وجب الجناية أقل من دية العقل كالمأمومة, فيجب عليه ثلث الدية في المأمومة وجميع الدية في العقل, أو كان ما وجب بالجناية أكثر من دي العقل كالأذنين والأنف, فيجب عليه ثلاث ديات واحدة في العقل, وثانية في الأذنين وثالثة في الأنف, لرواية أبي المهلب أن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-قضى على رجل رمى رجلًا بخنجر في رأسه فأذهب عقله وسمعه ولسانه وذكره بأربع ديات, ولأن ما اختلف محله لا يتداخل فيما دون النفس كالأطراف, ولأن العقل عرض يختص بمحل مخصوص فلم يتداخل فيه أرش الجنايات كالسمع والبصر. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي العينين الدية".

قال في الحاوي: وهذا صحيح لوراية علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" في العينين الدية" ولأنهما من أعظم الجوارح قدرًا فكانا بإيجاب الدية أحق, وسواء في ذلك الصغيرة والكبيرة, والحادة والكليلة, والصحيحة والعليلة, والعمشاء, والعشواء, والحولاء, إذا كان الباطن سليمًا, كما لا تختلف ديات الأطراف مع اختلاف أوصافهما, وفي إحدى العينين نصف الدية" ولأن كل دية وجبت في عضوين وجب نصفها في أحد العضوين كاليدين والرجلين, ولا فضل ليمنى على يسرى, ولا لصحيحة على مريضة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي ذهاب بصرهما الدية". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا جني على عينيه فأذهب بصرهما مع بقاء الحدقة وجبت عليه الدية, لرواية معاذ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وفي البصر الدية" ولأنه منفعة العين بناظرها كما قال الشاعر: وما انتفاع أخي الدنيا لمقلته ... إذا استوت عند الأنوار والظلم وإذا سلبها منفعتها كملت عليه ديتها كالشلل في اليدين والرجلين, فإن عاد بعد ذهاب البصر فقلع العين فعليه حكومة, كما لو أشل يده فغرم ديتها ثم عاد بعد الشلل فقطعهما لزمه حكومتها, ولو قطعها ابتداء لم تلزمه إلا ديتها, وقد قمنا الفرق بين قطع الأذنين فيذهب بها السمع فتلزمه ديتان, وبين قلع العينين فيذهب بهما البصر فيلمه دية واحدة بأن محل السمع في غير الأذنين فلم تسقط إحداهما بالأخرى, ومحل البصر في العين, ويلحق بالأذنين ذهاب الشم يجذع الأنف, فتلزمه ديتان ويلحق بالعين ذهاب الكلام بقطع اللسان فتلزمه دية واحدة. فصل: فإذا ثبت أن في ذهاب البصر الدية نظ: فإن محق ذهاب البصر كان المحق شواهد ذهابه الذي يقطع التنازل فيه, كما لو استأصل عينه ففقأها, وهو ما يؤس من عوده فنقضي فيه بالقود وفي العمد والدية في الخطأ, وإن كانت العين ظاهرة لم تمحقها الجناية, فقد يجوز أن يذهب بصرها مع بقائها على صورتها فيوقف علماء الطب عليها فلا يخلو حالين فيها من أحد أمرين:

إما أن يكون عندهم منها على أو لا يكون فإن لم يكن عندهم منها على لإشكالها وتجويزهم أن يكون بصرها ذاهبًا وباقيًا عملنا على قول المجني عليه دون الجاني, لأن ذهاب بصرها لا يعلم إلا من جهته, فجعل القول فيها قوله مع يمينه بعد الاستظهار عليه إذا كان بالغًا عاقلًا بأن يستقبل في أوقات غفلاته بما يزعج البصير رؤيته, ويشار إلي عينه بما يتوقاه البصير بإغماضها ويؤمر بالمشي من طريق الحظائر والآبار ومعه من يحوله منها وهو لا يشعر, فإذا دلت أحواله بأن لا يطبق طرفه بالإشارة إليه ولا يتوقى بئرًا إن كانت بين يديه صار ذلك من شواهد صدقه, فيحلف مع ذلك لجواز تصنعه فيه, ونقضي له بعد يمينه بالقود في العمد والدية في الخطأ, وإن كان يطيق طرفه عند الإشارة ويتوقى بئرًا إن كانت ويعدل عن حائط إن لقيه صارت شواهد هذا الظاهر منافيه لدعواه, فانتقل الظاهر إلي جنبه الجاني, فكان القول قوله مع يمينه بالله إن بصره لباق لم يذهب, لجواز أن يكون تحرز المجني عليه بالاتفاق, فاستظهر له باليمين, فإن كان المجني عليه صغيرًا أو مجنونًا لم يرجع إلي قولهما ولم يقبل دعواهما, لأنه لا حكم لهما, ووقف أمرهما إلي وقت البلوغ والإفاقة بعد حبس الجاني ليرجع إلي قولهما إذا بلغ الصبي وأفاق المجنون أو يموتان فيقوم مقامهما فيما يدعيانه من ذهاب البصر وإحلافهما عليه إن كان معهما ظاهر يدل عليه والله أعلم. فصل: وإن كان عند علماء الطب من حال العين فلا يخلو علمهم بها من حد أربعة أقسام: أحدها: أن يشهد عدولهم ببقاء بصرها في الحال وفي ثاني الحال. والثاني: أن يشهدوا ببقائه في الحال وجاوز ذهابه في ثاني حال. والثالث: أن يشهدوا بذهابه في الحال وفي ثاني حال. والرابع: أن يشهدوا بذهابه في الحال وجواز عوده في ثاني حال. فأما القسم الأول: إذا شهدوا ببقاء البصر في الحال وما بعدها حكم بشهادة عدلين منهم فبرئ الجاني من القود والدية, ونظر في الجناية فإن كان لها أثر يوجب حكومة غرمها ولو يعزر, وإن لم يكن لها أثر عزر أدبًا ولم يغرم. وأما القسم الثاني: إذا شهدوا ببقاء بصره في حال وجواز ذهابه في ثاني حال لم يخل خال تجويزهم لذهابه من أن يقدروه بمدة, أو لا يقدروه فإن قدروه بمدة فقالوا: يجوز أن يذهب سنة ولا يجوز أن يذهب بعدها, فإن ذهب فيها وإلا فقد سلم منها عمل على شهادتهم, ووقف المجني عليه سنة فإن ذهب بصره فيها كان الجاني مأخوذًا بالقود في العمد والدية في الخطأ, وإن ذهب بصره بعدها فلا شيء على الجاني, ويؤخذ بالحكومة إذا كان لجنايته أثر, ولا يعزر ولا حكومة إن لم يكن لها أثر ويعزر, فعلى هذا لو جني على عينه آخر ففقأها قبل ذهاب بصره كان الثاني هو المأخوذ فيها بالقود والدية

دون الأول, سواء فقأها قبل السنة أو بعدها, لأنه جني والبصر باق. وأما القسم الثالث: إذا شهدوا بذهاب بصره في الحال وما بعدها فيحكم له بالقود في العبد إذا شهد من عدولهم رجلان, وبالدية في الخطأ إذا شهد منهم رجل وامرأتان, فلو عاد بصر المجني عليه بعد أن قضى له بالدية أو القود فالمذهب أن لا درك عليه بعودها فيما قضى له من قودها أو ديتها, لأن عودها بها من عطايا الله تعالى وهباته, وللشافعي في سن المثغور إذا قلعت واقتص منها أو أخذ ديتها, ثم عادت فيثبت قولان: أحدهما: يلزمه رد ديتها, فعلى هذا اختلف أصحابنا في تخريجه إذا عاد بصرنا هل يلزمه رد ديتها أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يلزمه ردها إذا عاد بصرها كما يلزمه ردها في السن. والوجه الثاني: لا يلزمه رد الدية بعود البصر, ويلزمه ردها بعود السن. والفرق بينهما أن عود السن معهود في جنسه, وعود البصر غير معهود في جنسه فاختلفا في الرد لاختلافهما في معهود العود, وعلى هذا لو اقتص من بصر الجاني فعاد بصره بعد القصاص لم يؤخذ بذهابه ثانية على الصحيح من المذهب, وهلل يؤخذ به على القول المخرج في السن أم لا؟ على الوجهين المذكورين لا يؤخذ به في أحدهما ويؤخذ به في الوجه الآخر ويقتص منه ثانية, فإن عاد بعدها اقتص منه أبدًا حتى يذهب فلا يعود. والقسم الرابع: إذا شهدوا بذهاب بصره في الحال وجواز عوده في ثاني حال فلا يخلو حالهم فيه من أن يقدروا زمان عوده أو لا يقدروا, فإن لم يقدروا وقالوا: يجوز أن يعود إلي الأبد إلي وقت الموت من غير تحديد ولا إياس لم توجب هذه الشهادة توقفًا عن القصاص أو الدية وأخذ الجاني بهما في الحال, لأن استحقاقه مانع من تعليقه بشرط يفضي ثبوته إلي سقوطه. وإن قدروا المدة وقالوا: يجوز أن يعود إلي سنة إن كان من ظلمة غطت الباطن ولا يجوز أن يعود بعدها, لأنه من ذهاب الباطن حبس الجاني, وقف البصر إلي سنة, فإن عاد فيها بريء الجاني من القود والدية, وكان مأخوذًا بحكومة الجناية إن أثرت, ولم يعزر, وإن لم تؤثر عزر ولم يغرم, وإن لم يعد في السنة حتى انقضت أخذ الجاني بالقود في العمد والدية في الخطأ, فعلى هذا لو جني عليه قبل انقضاء السنة آخر ففقأ عينه فدية البصر والقود فيه على الأول, دون الثاني, لأنه ذهب بجناية الأول, ولم يعد عند جناية الثاني فلو اختلف الأول والثاني فقال الأول: عاد البصر قبل جنايتك فأنت المأخوذ بالقود فيه أو الدية دوني. وقال الثاني: بل كان البصر عند جنايتي على ذهابه فأنت المأخوذ فيه بالقود أو الدية دوني, فالقول قول الثاني مع يمينه دون الأول لأننا على يقين من ذهابه وفي شك من عوده. فإن ادعيا علم المجني عليه لم يخل حاله إن أجاب من أحد أمرين: إنما أن يصدق الأول أو الثاني فإن صدق الثاني أن بصره لم يعد حلف للأول وإن طلب (يمينه) , وقضى

عليه بالقود أو الدية. وإن صدق الأول أن بصره عاد قبل جناية الثاني برئ الأول من القود والدية بتصديقه, ولم يقبل قوله على الثاني, وصارت عينه هدرًا, لأنه قد استأنف بتصديق الأول دعوى على الثاني وشهادة للأول فلم تقبل دعواه على الثاني, ولم يستمع شهادته للأول لما فيها من اجتلاب النفع, ولم لم يجن عليه ثان, ولكن مات قبل انقضاء السنة كان الجاني مأخوذًا بالقود الودية, لأنه أذهب بصرًا لم يعد, وفي سن من لم يثغر إذا قلعت فقد عودها إلي مدة مات قبلها قولان: أحدهما: لا يجب فيه الدية, لأن الظاهر عودها في المدة لو عاش إليها فعلى هذا القول اختلف أصحابنا في تخريجه في العين على وجهين: أحدهما: يجيء تخريج قول ثان في العين أنه لا يلزمه القود ولا الدية وتلزمه حكومة كموته في مدة السن. والوجه الثاني: لا يجيء تخريج هذا القول في العين وإن خرج في السن لما قدمناه من الفرق بين السن والعين, فلو اختلف الحاني ووليه بعد موته. فقال الجاني: عاد بصره قبل الموت, وقال الولي: لم يعد. فالقول قول الولي مع يمينه أن بصره لم يعد, ويكون الجاني مأخوذًا بالقود أو الدية, فإن نكل الولي حلف الجاني وبريء منهما, ولو لم يذهب بصر المجني عليه في حال الجناية, وذهب بعدها نظر, فإن كان لم يزل عليل العين أو شديد الألم إلي أن ذهب بصره فالظاهر ذهابه من الجناية فيكون الجاني مأخوذًا بالقود فيه أو الدية كالمجروح إذا لم يزل صبيًا حتى مات, وإن برأت عينه وزال ألمها, ثم ذهب بصرها, كان ذاهبًا من غير الجناية في الظاهر, فلا يلزمه قود ولا دية, وللمجني عليه الإحلاف بالله لقد ذهب البصر من غير جناية إن ادعى ذهابه منها. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن نقصت إحداهما عن الأخرى اختبرته بأن أعصب عينه العليلة وأطلق الصحيح وأنصب له شخصًا على ربوة أو مستوى فإذا أثبته بعدته حتى ينتهي بصرها ثم أذرع بينهما وأطيع على قدر ما نقصت عن الصحيحة". قال في الحاوي: وصورتها: أن يجني على إحدى عينيه فيذهب ببعض بصرها فيمكن أن يختبر قدر الذاهب منها بما وصفه الشافعي من تعصيب عينه العليلة وإطلاق الصحيحة, ونصب شخص له من بعد على ربوة مرتفعة أو في أرض مستوية, فإذا رأي الشخص بوعد منه حتى ينتهي إلي أبعد مدى رؤيته الذي لا يراه أبعدها, واختبر صدق في مدى الرؤية الصحيحة بأن يعاد الشخص من جهات شتى, ولو ضم إلي الشخص بعد مدى

رؤيته شخص آخر يختبر به صدقه، وهو لا يعلم به كان أحوط؛ لأن قصده بعد مدى البصر بالعين الصحيحة، فإذا أوثق بما قاله من هذا الاختبار الذي لم يختلف مدى البصر فيه باختلاف الجهات واختلاف الأشخاص مسح قدر المسافة، فإذا كانت ألف ذراع علم أنه قدر مدى بصره مع الصحيحة، وإن اختلف عمل على الأقل احتياطًا، ثم أطلقت العليلة الصحيحة، فإن رأى الشخص من مداه علم أنه لم يذهب من بصر العليلة شيء، وإن لم يره قرب منه حتى ينتهي إلى حد يراه، وغرض في هذا تقليل مدى بصره بالعليلة كما كان غرضه تبعيد مدى بصره بالصحيحة ليكون نقصان ما بين البصرين أكثر فيكون أكثر فيما تستحقه من الدية، فيستظهر عليه بإعادة الشخص من جهات، ويحتسب بأكثر مما قاله من مدى بصره بالعليلة كما احتسب بأقل ما قاله من مدى بصره بالصحيحة حتى يكون أقل لما يستحقه ليشك فيما زاد عليه بالتصنع له، وينظر قدر مسافة العليلة، فإن كان خمسمائة ذراع من ألف كان الذاهب من بصرها النصف، فيؤخذ بربع الدية، لأن نصف دية إحدى العينين، وإن كان مائة ذراع من ألف كان الذاهب من بصرها تسعة أعشار، فيؤخذ بتسعة أعشار نصف الدية، وعلى هذه العبرة فيما زاد أو نقص، فإن سأل الجاني إحلافه على ما ذكره من المسافة أحلف له، ولا قصاص في هذا، لأن استيفاء لقدر ما ذهب من البصر من غير زيادة، ولا نقصان غير ممكن فسقط القصاص فيه. فصل: ولو جني على عينيه فأذهب بعض بصرهما فيعتذر في الحال اعتبار ما ذهب منهما بالجناية، لأن النقصان في العينين معًا، فإن كان قد عرف مدى بصره قبل الجناية اعتبر مدى بصره بعدها، ولزمه من الدية بقدر ما بين المسافتين، وإن لم يعلم ذلك قبل الجناية لم يعلم بعدها قدر الذاهب منهاما، فيلزمه حكومة (بمقدرها) الحاكم باجتهاده. فصل: ولو كان في عينيه قبل الجناية عليها بياض لم يخل حاله من ثلاثة أقسام: أحدها: أن لا يؤثر في البصر، ويرى مع البياض ما كان يراه قبله، ففي بصره إذا ذهب بالجناية الدية تامة، ولا يكون للبياض تأثير في الدية كما لم يكن له تأثير في البصر، وسواء كان يشق عليه النظر أو لا يشق لأنه يدرك مع المشقة ما كان يدركه بغير مشقة. والقسم الثاني: أن يكون البياض قد منعه من النظر حتى صار لا يبصر من قرب ولا بعد، فيكون بالجناية عليه كالبصر الذاهب لا تجب فيه إلا حكومة، وإن كان بصره باقيًا تحت البياض، لأنه لا يبصر به كما لا يبصر بالذاهب من أصله، وليس ما يرجى من زوال البياض بالعلاج، فيعود البصر بمانع من أن يجرى عليه في الحال حكم الذاهب البصر، وإنما يفترقان في قدر الحكومة فتكون حكومة ذات البياض أكثر لبقاء البصر تحته. والقسم الثالث: أن يكون البياض قد أذهب بعض بصره وبقى بعضه، فهذا على ضربين:

أحدهما: أن يكون قد غشي جميع الناظر، وهو رقيق فصار مبصرًا أقل من بصره قبل البياض، فيعتذر من هذا معرفة منه بالبياض إلا أن يكون قد عرف مدى بصره قبل البياض فيعرف ما بقى منه بعده أو يكون ذلك في إحدى عينيه وقد اعتبر ذلك بالعين الصحيحة فيلزمه من الدية بقسطه، وإن لم يعرف ففيه حكومة. والضرب الثاني: أن يكون البياض قد غشي بعض الناظر فلا يبصر بما غشاه ويبصر بما عداه فيلزم الجاني عليها إذا ذهب بصرها ما كان باقيًا منها من نصف أو ثلث أو ربع إذا عرف ذلك، وخير من أهل العلم بالبصر. فصل: وإذا ضرب عينه فأشخصها لم يخل حالها بعد الشخوص من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون بصرها باقيًا بحاله فيلزمه في إشخاصها حكومة يتقدر بقبح الأشخاص، ولا قصاص فيه لتعذره، ولا شيء عليه في البصر لبقائه. والقسم الثاني: أن يذهب بصرها، فيلزمه جميع ديتها، ويجوز أن يقتص منه في ذهاب البصر دون الأشخاص، لأن القود فيه غير ممكن. والقسم الثالث: أن يذهب بعض بصرها فيلزمه أكثر الأمرين من دية الذاهب من بصرها أو حكومة إشخاصها، ولا يجمع عليه بينهما، لاجتماع محلهما ويكون أقلهما داخلًا في الأكثر، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو قال: جنيت عليه وهو ذاهب البصر فعلى المجني عليه البينة أنه كان يبصر". وقال الحاوي: قد مضت هذه المسألة، وذكرنا حكم الأعضاء الظاهرة إذا اختلف الجاني والمجني عليه في سلامتها وعطبها، والعين من جملة الأعضاء الظاهرة، فإذا فقأ رجل عين رجل واختلف الفاقئ والمفقوء. فقال الفاقئ: فقأتها وبصرها ذاهب. وقال المفقوء: بل كان سليمًا، فلا يخلو حال الفاقئ من أن يعترف له بتقدم السلامة أو لا يعترف، فإن لم يعترف له بها، وقال: خلقت ذاهب البصر فالقول قوله مع يمينه، لأن المفقوء يمكنه إقامة البينة على سلامة بصره، وإن اعترف له بالسلامة المتقدمة وادعى ذهاب بصره قبل جنايته ففيه قولان: أحدهما: أن القول قول الفاقئ مع يمينه، لأن الأصل بقاؤه على سلامته حتي يقيم المفقوء البينة على سلامته عند الجناية.

والقول الثاني: أن القول قول المفقوء مع يمينه، لأن الأصل بقاؤه على سلامته حتى يقيم الفاقئ البينة على ذهاب بصره وأصل هذين القولين اختلاف قوليه في الملفوف إذا قطع، وقال الجاني: قطعته وكان ميتًا. وقال أولياؤه: كان حيًا. أو هدم على جماعة بيتًا وقال: هدمته عليهم وكانوا موتى، وقال أولياؤهم: كانوا أحياء ففيها قولان: أحدهما: أن القول قول الجاني مع يمينه، لأن الأصل عدم القود وبراءة الذمة. والثاني: أن القول قول الأولياء مع إيمانهم، لأن الأصل بقاء الحياة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ويسعها أن تشهد إذا رأته يتبع الشخص بصره ويطرف عنه ويتوقاه وكذلك المعرفة بانبساط اليد والذكر وانقباضهما، وكذلك المعتوه والصبي ومتى علم أنه صحيح فهو على الصحة حتى يعلم غيرها". قال في الحاوي: وأصل الشهادة أنها لا تصح إلا بأقصى جهات العلم بها فإذا شهدوا بسلامة البصر وإن كان مما لا يشاهد فقد يقترن بالشهادة من أمارات العلم به ما لا يعترضه شك، وهو أن يراه يتبع الشخص ويسلك المعاطف ويتوقى الآبار، ويقرأ الكتب، ويتطرف عينه عن الأذى، فيعلم بهذه الأمارات والدلائل علمًا لا يدخله شك أن يبصر، فجاز أن يشهد له بسلامة بصره، وهكذا في سلامة اليدين والرجلين، إذا رآه يمشي على قدميه، ويقبض أصابع رجليه، ويعمل بيديه قبضًا وبسطًا، ورفعًا ووضعًا، علم بذلك سلامتها من شلل، فجاز أن يشهد له بالصحة، وهكذا الذكر وهو من الأعضاء يجوز إذا رآه ينقبض وينبسط أن يشهد له بالسلامة من الشلل، وذلك بأن يشاهده في إحدى ثلاثة أحوال: إما في حال الصغر قبل تغليظ عورته، أو يشاهده في الكبر بالاتفاق من غير تعمد لمشاهدته، أو يكون طبيبًا قد دعته الضرورة إلى مشاهدته، فأما إن تعمد في الكبر للنظر بغير ضرورة فقد فسق، ولا يقبل للفاسق شهادة، وكذلك الشهادة للصبي والمعتوه بسلامة أعضائه، لأنه يستبدل عليها بحركات طبعه. قال الشافعي رضي الله عنه: "ومتى يعلم أنه صحيح فهو على الصحة". وشهد له شاهدان بها نظرت شهادتهما، فإن شهدا له بالصحة عند الجناية حكم بها، ولم يستحلف المجني عليه معها، لأن البينة تغني عن اليمين فيما تضمنته، وإن شهدا بالسلامة قبل الجناية ففي سماعها والحكم بها قولان من اختلاف قوليه فيمن علم بتقدم سلامتها هل يحكم فيها عند الجناية بقوله أم لا؟ على قولين: أحدهما: لا يحكم بقوله، فعلى هذا لا تسمع الشهادة له بتقدم سلامته.

والقول الثاني: يحكم له بقوله، فعلى هذا تسمع الشهادة له بتقدم سلامته، ثم يستحلف معها على أنه لم يزل على السلامة إلى حين جنايته. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي الجفون إذا استؤصلت الدية وفي كل واحد منهما ربع الدية لأن ذلك من تمام خلقته وما يألم بقطعه". قال في الحاوي: أما جفون العينين فهي أربعة تحيط بالعينين من أعلى وأسفل، وتحفظهما من الأذى، وتجلب إليهما النوم، ويكمل بهن جمال الوجه والعين، وفيها إذا استوصلت الدية تامة. وقال مالك: فيها حكومة؛ لأن مقادير الديات موقوف على النص وليس فيها نص، ولأنها تبع للعينين فلم تجب فيها الدية الواجبة في العينين؛ لأن حكم التبع أخف من حكم المتبوع، ودليلنا ما رواه بعض أصحابنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل في كتاب عمرو بن حزم: "وفي الجفون إذا استؤصلت الدية". وليس بمشهور عند أصحاب الحديث، ولأنها من تمام الخلقة فيها منفعة وجمال تألم بقطعها، ويخاف على النفس من سراية الجناية عليها، فوجب أن تكمل الدية فيها كسائر الأعضاء ولا يمتنع، وإن كانت تبعًا أن تساوي متبوعًا في الدية إذا اختصت بزيادة جمال ومنفعة كالأنف في الشم، والأذنين في السمع، فإذا ثبت أن فيها الدية فسواء استؤصلت من صغير أو كبير أو بصير؛ لأن للضرير بها منفعة وجمالًا وإن كانت منفعة البصر بها أعم. فأما القود فإن أمكن فيها ولم يتعد ضرره إلى العينين وجب، وإن لم يمكن سقط، فإنه قلع جفنًا واحدًا ففيه ربع الدية؛ لأن كل ذي عدد من الأعضاء إذا كملت فيه الدية تقسطت على عددها كاليدين في تقسيط ديتها على الأصابع، وتقسط دية الإصبع على الأنامل وسواء كان الجفن أعلى أو أسفل، وفي الجفنين نصف الدية، وفي ثلاثة جفون ثلاثة أرباع الدية، فلو جني على عينيه فقطع جفونهما، وأذهب بصرهما لزمته ديتان: أحدهما: في الجفون، والأخرى: في العينين، كما لو قطع أذنيه وأذهب سمعه. فصل: فأما أهداب العينين وأشفارهما من الشعر النابت في أجفانهما ففيهما من المنفعة ذبها عن البصر، ومن الجمال حسن المنظر، وفيها إذا انتفت فلم تعد حكومة. وقال أبو حنيفة: فيها الدية، وليس بصحيح؛ لأن الدية تجب في قطع ما يخاف من سرايته ويؤلم في إبانته، وهذا معدوم في الأهداب وموجود في الجفون، فلذلك وجب في الأجفان دية، وفي الأهداب حكومة، فإن انتف أهدابه فعاد نباتها دون ما كانت ففيها من الحكومة أقل مما فيها لو لم تعد، فإن عاد نباتها إلى ما كانت عليه ففيها وجهان:

(أحدهما): لا شيء فيها لعدم التأثير ويعزر لأجل الأذى. والثاني: فيها حكومة دون حكومتها لو عاد نباتها خفيفًا، فإن استأصل أجفانه مع أهدابها فعليه دية الجفون تدخل فيها حكومة الأهداب، وحكى أبو حامد الإسفراييني -رحمه الله- وجهًا آخر أنه يجمع عليه بين دية الجفون وحكومة الأهداب، وهذا لا وجه له، لأن الجفون محل الأهداب فلم ينفرد بالحكومة فيها كالأصابع مع الكف. فصل: فأما شعر الحاجبين فيختصان بالجمال دون المنفعة، فإن نتفه حتى ذهب ولم يعد ففيه حكومة. وقال أبو حنيفة: فيه دية، لأن يوجبها في أربعة شعور: شعر الرأس، واللحية، والحاجبين، وأهداب العينين، إلا أن يكون عبدًا فيجب فيه ما نقص من قيمته، وقد تقدم الكلام. فلو عاد شعر الحاجبين بعد نتفه فعلى ما ذكرنا من الوجهين، فلو كشط جلدة الحاجبين ولم يستخلف، كان عليه حكومة بحسب الشين هي أكثر من حكومة الشعر، فإن أوضح محلهما كان عليه دية موضحتين، وهل يدخل فيهما حكومة الشين أم لا؟ على وجهين ذكرنا نظيرهما من قبل. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي الأنف إذا أوعب مارنه جدعًا الدية". قال في الحاوي: وفي الأنف إذا أوعب مارنه جدعًا الدية"، فأورد الشافعي -رحمه الله- ذلك بلفظ رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمكن، فإن لم يمكن فبألفاظ الصحابة، فإن لم يجد فبألفاظ التابعين، وكثيرًا ما يوردها بلفظ عطاء بن أبي رباح. وروى عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في كتابه إلى اليمن: "وفي الأنف إذا أوعب جدعًا مائة من الإبل" لأن الأنف عضو فيه منفعة وجمال تألم بقطعه، وربما سرت الجناية عليه إلى نفسه فوجب أن يكمل فيه الدية كاللسان والذكر ومارن الأنف هو ما لان من الحاجز بين المنخرين المتصل بقصبة الأنف. والقصبة: هي العظم المنتهي إلى الجبهة، وكمال الدية فيه يجب باستيعاب المارن مع المنخرين، وسواء في ذلك الأنف الأقنى والأفطس والأحجر والأخنس، وأنف الأشم والأخشم فإن قطع أرنبة الأنف وتجرأ فيه من الدية بحسابه وقسطه، وإن لم يتجزأ ففيه

حكومة، ولو قطع أحد المنخرين وبقي المنخر الآخر مع المارن ففيما يلزمه من الدية وجهان حكاهما أبو حامد الإسفراييني. أحدهما: عليه نصف الدية، وحكاه عن أبي إسحاق المروزي، لأنه قد أذهب نصف منفعته. والوجه الثاني: عليه ثلث الدية تقسيطًا على المنخرين والمارن الذي يشتمل الأنف عليها، فكان في كل واحد منهما ثلث الدية، ويلزمه على هذا في قطع المارن مع بقاء المنخرين ثلث الدية، ولو شق المارن، ولم يقطعه ففيه حكومة، اندمل أو لم يندمل، غير أنها في المندمل أقل وفي غير المندمل، أكثر، فإن خرم أحد منخريه فإن لم يذهب منه بالخرم شيء ويجزأ ففيه من الدية بقسطه وإن لم يتجزأ ففيه حكومة بحسب الشين لا تبلغ بها ثلث الدية في أحد الوجهين ونصفها في الوجه الثاني، بحسب اختلاف الوجهين في قطع أحد المنخرين لأن قطعه أكثر من خرمه، فإن استوعب قطع الأنف من أصل المارن فأوضح عظم القصبة فعليه مع دية الأنف موضحة، ولو هشمه لزمه دية هاشمة، ولو نقله لزمه دية منقلة، ولو أجافهما تحته لزمه دية مأمومة، لوصوله إلى جوف الرأس، وحكي أبو حامد المروزي في جامعه قولًا ثانيًا: إنه يلزمه فيه دية مأمومة ويلزمه حكومة القصبة لا يبلغ بها دية الأنف لأنها تبع له، وخرج هذا التعليل أبو علي بن أبي هريرة قولًا ثانيًا في قصبة الأنف إذا قطعت مع الأنف قولًا ثانيًا إنه لا يجب فيها إلا دية بناء على اختلاف قولي الشافعي في قطع الحلمة مع الثديين، وقطع الحشفة مع بعض الذكر، وليس هذا التحريم بصحيح، لأمرين: أحدهما: أن محل الحلمة في الثدي ومحل الحشفة على الذكر، وليس محل الأنف على القصبة وإن اتصل بها فاختلفا. والثاني: أنه لما وجب في إيضاح المارن دية موضحة كان التزام الغرم في قطع أصلها أحق. فصل: ولو جني على أنفه فاستحشف ويبس ففيه قولان كالأذنين إذا استحشفتا: أحدهما: عليه الدية تامة كاليدين إذا شلتا. والقول الثاني: عليه حكومة، لبقاء نفعه مع ذهاب جماله بخلاف شلل اليد الذي قد فات به الجمال والمنفعة، وعلى هذا لو جدع أنفًا مستحشفًا كان فيما يلزمه قولان: أحدهما: حكومة إذا قيل في استحشافه دية. والثاني: دية إذا قيل في استحشافه حكومة، ولو جني على أنفه فاعوج لزمته حكومة، فإن جبر حتى عاد مستقيمًا كانت حكومته أقل، وإن بقى على عوجه كانت حكومته أكثر بحسب شينه.

فصل: ولو جدع أنفه فأعاده بحرارة دمه حتى التحم نظر فإن لم يكن عند الجناية قد بان وانفصل ففيه حكومة كالجراحة المندملة، وإن بان وانفصل ففيه الدية كاملة؛ لأنه لا يقر على تركه، ويؤخذ من حق الله تعالى بقطعه؛ لأنه صار بالانفصال ميتًا نجسًا، ولو ألصقه المقتص منه حتى التحم أخذ بقطعه وإزالته، فإن كان إلصاقه قبل انفصاله كان مأخوذًا بقطعه في حق المجني عليه، وإن كان بعد انفصاله كان مأخوذًا بقطعه في حق الله تعالى. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي ذهاب الشم الدية". قال في الحاوي: وهذا صحيح، وقد حكى بعض الرواة عن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتابه إلى اليمن: "وفي الشم الدية"، ولأن الشم من الحواس النافعة فأشبه حاسة السمع والبصر، وهو من الأمور المغيبة التي لا ترى ولا تعلم إلا من صاحبها، فإن ادعى المجني عليه ذهاب شمه وأنكره الجاني وادعى بقاؤه كان القول فيه قول المجني عليه، لأن ذهابه لا يعرف إلا من جهته لكن يستظهر عليه بغاية ما يمكن في اختيار صدقه بأن يثار عليه في أوقات غفلاته الروائح الطيبة والمنتنة مرة بعد أخرى، فإن كان لا يرتاح إلى الروائح الطيبة ولا يظهر منه كراهة للروائح المنتنة دل ذلك على صدقه، فكان القول فيه قوله مع يمينه، لإمكان تصنعه، وإن وجد منه الارتياح للروائح الطيبة والكراهة للروائح المنتنة، صار الظاهر بها في جنبه الجاني فأحلف على بقاء شمه ولا بشيء عليه فلو أحلف المجني عليه على ذهاب شمه ثم غطى أنفه عند رائحة منتنة فادعى الجاني أنه غطاء لبقاء شمه. وقال المجني عليه: بل غطيته لحاجة أو عادة كان القول فيه قول المجني عليه دون الجاني، ويحكم له بالدين لاحتمال ما قاله. فصل: ولو ذهب شمه وقضى له بالدية، ثم عاد شمه لزمه رد الدية، وعلم أن ذهاب شمه كان لحائل دونه، ولا حكومة له في المدة التي لم يشم فيها، لبقاء شمه إلا أن يكون بعد عوده أضعف من قبل ذهابه لأنه كان يشم من قريب وبعيد فصار يشم من القريب، ولا يشم من البعيد، أو كان يشم الروائح القوية والضعيفة فصار يشم الروائح القوية دون الضعيفة، فإن علم قدر الذاهب منه ولا أحسبه يعلم كان فيه من الدين بقدر الذاهب، فإنه لم يحلم ففيه حكومة. ولو كان في أصل خلقته يشم شمًا ضعيفًا وذلك بأن يشم من القريب أو القوي من الروائح دون الضعيف فجني عليه فأذهب شمه صار لا يشم قويًا ولا ضعيفًا من قريب ولا بعيد ففيه وجهان محتملان:

أحدهما: فيه الدية كاملة، لأن الحواس تختلف بالقوة والضعف كالأعضاء التي لا تختلف الجية باختلاف قوتها وضعفها. والوجه الثاني: أن الموجود كان فيه بعض الشم فلم يلزم في إذهابه إلا بعض الدية، بخلاف ضعف الأعضاء الذي يوجد جنس المنافع فيها. فعلى هذا إن علم قدر ما كان ذاهبًا من شمه ففيه من الدية بقسطه، وإن لم يعلم ففيه حكومة يجتهد الحاكم فيها رأيه. فصل: لو جدع أنفه فذهب منه شمه لزمه ديتان: إحداهما: في جدع الأنف، والأخرى: في ذهاب الشم، لاختلافهما في المحل كالأذنين والسمع، وخالف ذهاب البصر مع العينين، وذهاب الكلام مع اللسان، لاجتماعهما في المحل. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي الشفتين الدية إذا استوعبتا وفي كل واحدة منهما نصف الدية". قال في الحاوي: وهذا صحيح، لرواية عمرو بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في كتابه إلى اليمن: "وفي الشفتين الدية"، وهو قول أبي بكر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت -رضي الله عنهم- ولأنهما عضوان من أصل الخلقة فيهما منفعة وجمال، يألم بقطعهما ويخاف من سرايتهما فأشبها اليدين والرجلين، وسواء في ذلك الغليظتان والدقيقتان، والطويلتان والقصيرتان، من ناطق أو أخرس، ذي أسنان وغير أسنان، وفي إحدى الشفتين نصف الدية، ولا فضل للعليا على السفلى، وحكي عن زيد بن ثابت أن في السفلى ثلثي الدية، وفي العليا ثلثها؛ لأن السفلى أنفع من العليا، لحركتها ودورانها، وحفظ الطعام والشراب بها، وما فيها من حروف الكلام الشفوية، وهذا يفسد من وجهين: أحدهما: أن لكل واحدة منهما منفعة ليست للأخرى فصارتا متساويتين. والثاني: لأن تفاضل المنافع في الأعضاء المتجانسة لا يوجب تفاضلها في الديات كالأصابع والأسنان، فإن قطع النصف في إحدى الشفتين كان عليه ربع الدية، وإن قطع أكثر أو أقل كان عليه من الدية بحسب ما قطع. فصل: ولو جني عليهما فاستحشفتا ويبستا حتى لم يتحركا ولم يألما فعليه الدية كاملة قولًا

واحدًا، بخلاف الأنف إذا استحشفه إن عليه حكومة في أحد القولين، لأن منفعة الأنف باقية ومنفعة الشفة ذاهبة، وإن تقلتا بالجناية حتى صار كاشر الأسنان نظر، فإن انبسطتا فذلك نقص في المنفعة تجب فيه حكومة، وإن لم تنبسط بالمد فهو ذهاب جميع المنفعة فتكمل فيها الدية، ولو تقلص بعضها ولم ينبسط بالمد ففيه من الدية بحساب ما تقلص، ولو جني عليها فاسترختا حتى لا ينفصلان عن الأسنان إذا كشر أو ضحك ففيهما الدية كاملة، نص عليه الشافعي، وفيه عندي نظر، لبقاء منفعتهما بحفظ الأسنان وما يدخل الفم من طعام وشراب، فاقتضى لأجل ذلك أن تجب فيه حكومة بخلاف تقلصهما المذهب لجميع منافعهما، ولو شق الشفة فلم يندمل حتى صار كالأعلم إن كان الشق في العليا وكالأقلع إن كان الشق في السفلى، ففيه حكومة بحسب الشين لا يبلغ بها إحدى الشفتين، وإن اندملت ففيه حكومة إن تقل عن حكومة ما لم يندمل، وتقل إن اندملت ملتئمة وتكثر إن اندملت غير ملتئمة ولو قطع شفة مشقوقة لزمه جميع ديتها إن لم يذب الشق شيئًا من منافعها، ويقسطه إن أذهب معلوم القدر من منافعها، وحكومة تقل عن ديتها إن لم يعلم قدر الذاهب من منافعها. فصل: وحد الشفتين ما وصفه الشافعي في كتاب "الأم" أنه ما زائل جلد الذقن والخدين من الأعلى والأسفل مستديرًا بالفم كله مما ارتفع عن الأسنان واللثة. قال الشافعي: "وفي جناية العمد عليهما العود"، وقال أبو حامد الإسفراييني: لا قود فيهما؛ لأنه قطع لحم من لحم فصار كقطع بضعة من لحمه. وهذا خطأ، وما قاله الشافعي من وجوب القود أصح، لأنه محدود وإن كان لحمًا متصلًا بلحم فشابه المحدود بالمنفصل وخالف البضعة من اللحم التي ليس لها حد ولا مفصل. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي اللسان الدية". قال في الحاوي: وهذا صحيح لرواية عمرو بن حزام أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في كتابه إلى اليمن: "وفي اللسان الدية" ولأنه قول أبي بكر وعمر وعلي وابن مسعود -رضي الله عنهم- ولا مخالف لهم، ولأنه عضو من تمام الخلقة في جمال ومنفعة يألم بقطعه، وربما سرى إلى نفسه فوجب أن تكمل فيه الدية كسائر الأعضاء، فأما جمال اللسان فقد روى ابن عباس أنه قال: يا رسول الله فيما الجمال؟ قال في "اللسان".

وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المرء مخبوء تحت لسانه". وأما منفعة اللسان فالمعتمد منها ثلاثة أشياء: أحدها: الكلام الذي يعبر به عما في نفسه ويتوصل به إلى إرادته ولأهل التأويل في قوله تعالى: {خَلَقَ الإنسَانَ (3) عَلَّمَهُ البَيَانَ (4)} [الرحمن:3 - 4] تأويلان: أحدهما: الخط، والثاني: الكلام. والثاني: من منافع اللسان حاسة ذوقه الذي يدرك به ملاذ طعامه وشرابه، ويعرف به فرق ما بين الحلو والحامض، والمر والعذب. والثالث: الاعتماد عليه في أكل الطعام ومضغه وإدارته في لهواته حتى يستكمل طحنه من الأضراس ويدفع بقاياه من الأشداق. وهذه الثلاثة من أجلّ المنافع التي لا يتوصل بغير اللسان إليها، فكان من أجلّ الأعضاء نفعًا، فإذا ثبت أن في اللسان الدية ففيه الدية كاملة إذا كان ناطقًا سليمًا، ولا فوق بين لسان الصغير والكبير، والمتكلم بالعربية والأعجمية، والفصيح والألكن، والثقيل والعجل. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن خرس ففيه الدية". قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا جني على لسانه فأذهب كلامه حتى خرس ولم يتكلم بحرف فعليه الدية كاملة، لأنه قد سلبه أعظم منافعه ذهابه، لأن محل من اللسان محل ذهاب البصر من العين، ولو جني عليه فأذهب حاسة ذوقه وسلمه لذة طعامه حتى لم يفرق بين طعم الحلو والحامض فليس للشافعي فيه نص، والذي يقتضيه مذهبه أن يكون فيه الدية كاملة، لأن الذوق أحد الحواس المختصة بعضو خاص فأشبه حاسة السمع والشم، والذوق أنفع من الشم، وآكد، فكان بكمال الدية أحق. فإن جمع في الجناية على لسانه بين ذهاب كلامه وذهاب ذوقه كان عليه ديتان في كل واحد منهما دية، قد يصح بقاء الذوق مع قطع اللسان، لأن حاسة الذوق تدرك بعصب اللسان، فإذا بقى من عصبه في أصله بقية كان الذوق بها باقيًا فلذلك فلم يتحتم قطعه إلا بذهاب كلامه، فإن اقترن بقطعه استئصال العصب حتى ذهب ذوقه وجبت عليه حينئذٍ ديتان، وإذا وجب بما ذكرت أن يلزم في ذهابه الذوق الدية وأنه يجوز أن يبقى مع قطع اللسان وتذهب مع بقاء اللسان إذا ذهب حس العصب تعلق بكمال الدية بذهاب جميع الذوق، فلا يفرق بين مذاق الطعوم المختلفة، فعلى هذا لو نقص ذوقه بالجناية فنقصانه ضربان: أحدهما: أن يكون نقصان ضعيف، وهو أن يدرك الفرق ما بين الحلو والحامض

ولا يدرك حقيقة الحلو وحقيقة الحامض، فذا ناقص المذاق ولا ينحصر قدر نقصانه، فيتقسط عليه الدية، فوجب أن تلزمه حكومة تختلف باختلاف النقصان في القود والضعف. والضرب الثاني: أن يذهب بها بعض ذوقه مع بقاء بعضه فيصير مدركًا طعم الحامض دون الحلو وطعم المر دون العذب، فيلزمه من الدية بقسط ما أذهب من مذاقه، وعدد المذاق خمسة، ربما فرعها أهل الطب إلى ثمانية على أصولهم لا نعتبرها في الأحكام، لدخول بعضها في بعض كالحرافة مع المرارة والخمسة المعتبرة الحلو، والحامض، والمر، والعذب، والمالح فتكون دية الذوق مقسطة على هذه الخمسة، فإن أذهب واحد منها وجب عليه خمس الدية، وفي الاثنين خمساها، ولا يفصل بعضها على بعض كما تقسط دية الكلام على أعداد حروفه. فصل: فإن ادعى المجني عليه ذهاب ذوقه وأنكره الجاني فهو من الباطن الذي لا يعرف إلا من جهته كالشم والسمع، فيكون القول فيه قول المجني عليه مع يمينه بعد الاستظهار عليه في غفلاته بأن يمزج بحلو طعامه مرًا وبعذبه ملحًا وهو لا يعلم فإن استمر على تناولها ولم توجد منه أمارات كراهتها دل على صدقه، وأحلف على ذهاب ذوقه، وإن كرهها وظهرت منه أمارات كراهتها صار الظاهر عليه لا معه، فيصير القول قول الجاني مع يمينه على بقاء ذوقه كما قلنا في ذهاب الشم والسمع والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن ذهب بعض كلامه اعتبر عليه بحروف المعجم ثم كان ما ذهب من عدد الحروف بحسابه". قال في الحاوي: وهو كما قال: إذا ذهب بالجناية على اللسان بعض كلامه اعتبر قدر الذاهب منه بعدد حروف المعجم التي عليها بناء جميع الكلام، وهي تسعة وعشرون حرفًا إن كان عربي اللسان، وإن كان أعجمي اللسان اعتبر عدد حروف كلامه، فإن حروف اللغات مختلفة الأعداد والأنواع فالضاد مختصة بالعربية وبعضها مختص بالأعجمية، وبعضها مشترك بين اللغات كلها، وبعض اللغات يكون حروف الكلام فيها أحد وعشرون حرفًا وبعضها ستة وعشرون حرفًا، وبعضها أحد وثلاثين حرفًا، فيعتبر قدر ما ذهب من الكلام بقدر حروف اللغة التي يتكلم بها المجني عليه، فإذا كان عربي اللسان يقسط على تسعة وعشرين حرفًا، ومنهم من عدها ثمانية وعشرين حرفًا وأسقط حرف لا لدخوله في الألف واللام، وسواء في ذلك حروف الحلق والشفة، هذا ظاهر مذهب

الشافعي وقول جمهور أصحابه، وقال أبو سعيد الإصطخري وأبو علي بن أبي هريرة يكون ما ذهب من الكلام معتبرًا بعدد حروف اللسان، ويسقط منها حروف الحلق والشفة وهي عشرة أحرف، ستة منها حلقية وهي همزة الألف، والحاء، والخاء، والعين، والغين، والهاء وأربعة منها شفوية وهي الباء، والفاء، والميم، والواو. ويبقى من حروف الكلام ما يختص باللسان وهي تسعة عشر حرفًا تتقسط عليها ما ذهب من الكلام، فإن ذهب منه حرف كان عليه جزءًا من تسعة وعشرين جزءًا من الدية وهذا فاسد من ثلاثة أوجه: أحدهما: أن هذه وإن كان مخارجها في الحلق فالشفة واللسان معبر عنها وناطق بها، ولذلك لم يتلفظ الأخرس بها. والثاني: أنه يقتضي غير قولهما أن لا يلزم بالجناية على لسانه ضمان ما ذهب من حروف الحلق والشفة، ويكون ضمانه مختصًا بما ذهب من حروف اللسان وهي تسعة عشر، ويكون ضمان الحروف الحلقية والشفوية ساقطًا عنه، لأنه لم يجزئ على محله قالاه لم يقله غيرهما، وإن لم يقولاه فسد تعليله. والثالث: يلزمهما في الحروف الشفوية أنه يضمنها إذا جنى على شفته، فإن قالاه ركبا الباب، وإن لم يقولاه فسد التعليل وصح ما رأيناه من اعتبار جميعها باللسان المفصح عنها والمترجم لها، فإن أذهب بحرف واحد منها كان عليه جزءًا من تسعة وعشرين جزءًا من الدية، وإن أذهب بعشرة أحرف كان عليه عشرة أجزاء من تسعة وعشرين، وعلى قياس هذا فيما زاد أو نقص، وسواء في ذلك ما خف على اللسان، وقل هجاءه أو ثقل على اللسان وكثر هجاؤه لا يفضل بعضها على بعض، وتكون الدية مقسطة على أعداد جميعها. فصل: فإذا أردت أن تعتبر كل حرف منها في بقائه وذهابه، لم تعتبر مفردات الحروف؛ لأن للحرف الواحد يجمع في الهجاء حروفًا، لكن تعتبره بكلمة يكون الحرف من جملتها إما في أولها أو في وسطها أو في آخرها، ولو اعتبرته في الأول والوسط والأخير كان أحوط، فإذا أردت اعتباره في أول الكلمة وكان المعتبر هو الألف أمرته أن يقول: أحمد وأسهل وأبصر وأبعد، ليكون بعد الألف حروف متغايرة يزول بها الاشتباه، فإن لم يسلم له الألف في هذه الأسماء والأفعال كانت ذاهبة، وإن سلمت كانت باقية. وإذا أردت اعتبار الباء أمرته أن يقول: بركة وبابًا وبعدًا، ثم علم هذه العبرة من جميع الحروف، فإن ثقل عليه الحرف ثم يأتي به سليمًا عد من السليم دون الذاهب، وإن قلبه بلثغة صارت في لسانه عد في الذاهب دون السليم، لأن الألثغ يبدل الحروف باعتبارها فصار حرف اللثغة ذاهبًا، وكذلك لو صار به أرت، لن ما خفي بالرتة معدودًا في الذاهب دون السليم، لأن الأرت يأتي من الكلمة بعضها ويسقط بعضها ولو صار أرت

يردد الكلمة مرارًا أو وفاقًا يكرر الفاء مرارًا، أو تمتامًا يكرر التاء مرارًا، عد ذلك في السليم دون الذاهب، لأن الحرف منه سليم، وإن تكرر ففيه حكومة؛ لأن فيه مع بقائه نقصًا، ولو كان الباقي من حروف كلامه بعد الذاهب منه لا يفهم معناه لم يضمنه الجاني، للعلم بأن بعض الحروف لا يقوم مقام جميعها فلم يلزم إلا ضمان الذاهب منها. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن قطع ربع لسانه فذهب بأقل من ربع الكلام فربع الدية وإن ذهب نصف الكلام فنصف الدية". قال في الحاوي: إذا قطع بعض لسانه فذهب بعض كلامه كان عليه أكثر الأمرين مما قطع من اللسان أو ذهب من الكلام، فإن قطع نصف لسانه فذهب نصف كلامه فقد استويا وعليه نصف الدية، وإن قطع ربع لسانه فذهب نصف كلامه كان عليه نصف الدية اعتبارًا بما ذهب من الكلام دون اللسان، لأنه أكثر، وإن قطع نصف لسانه فذهب ربع كلامه كان عليه نصف الدية اعتبارًا بما قطع من اللسان، لأنه أكثر، وعلى هذه العبرة فيما زاد أو نقص، واختلف أصحابنا في العلة التي لأجلها اعتبر وجوب أكثر الأمرين على وجهين: أحدهما: وهو تعليل أبي كنيز وظاهر تعليل الشافعي في "الأم": أنه منفعة العضو إذا ضمنت بديته اعتبر فيها الأكثر من ذهاب المنفعة أو ذهاب العضو. ألا ترى أنه لو قطع الخنصر من أصابع اليد فشل جميعها لزمه دية دميعها، لذهاب جميع منافعها ولو لم يشل باقيها لزمه دية الإصبع وهو خمس دية اليد، لأنه أخذ خمس اليد وإذا كان الذاهب لها أقل من خمس المنفعة، كذلك فيما ذهب من اللسان والكلام. والوجه الثاني: وهو تعليل أبي إسحاق المروزي أن قطع ربع اللسان إذا أذهب نف الكلام دليل على شلل ربع اللسان من الباقي منه، فيلزمه نصف ديته، ربعها بالقطع، وربعها بالشلل، وفائدة هذا الاختلاف في التعليل مؤثر في فرعين: أحدهما: أنه يقطع ربع لسانه فيذهب نصف كلامه فيلزمه نصف الدية ثم يأتي آخر فيقطع باقي لسانه فعلى التعليل الأول تلزمه ثلاثة أرباع الدية لنه قطع ثلاثة أرباع اللسان، وعلى التعليل الثاني يلزمه نصف الدية في نصف اللسان، وحكومة في ربعه لأن نصفه سليم وربعه أشل. والفرع الثاني: أن يقطع نصف لسانه فيذهب ربع كلامه، فيلزمه نصف الدية ثم يأتي آخر فيقطع باقي لسانه، فعلى التعليل الأول في اعتبار الأغلظ تلزمه ثلاثة أرباع الدية لأنه أذهب ثلاثة أرباع كلامه، وعلى التعليل الثاني في اعتبار الأجزاء تلزمه نصف

الدية لأنه قطع نصف لسانه. فصل: فإن أخذ الدية ما ذهب من كلامه ثم نطق به عد ذلك رد دية ما أخذه، ولو عاد بعضه رد دية ما عاد واستحق دية ما لم يعد، ولو أخذ دية ما ذهب من كلامه ثم ذهب بعد ذلك حروف أخر من كلامه فإن كان قبل اندمال لسانه وسكون ألمه ضمنها، وإن كان بعد الاندمال وسكون الألم لم يضمن إلا ما تقدم. فصل: وإذا خلق للسان طرفان أحدهما فلا يخلو حاله أبعد من قطعه من أن ينطق بجميع كلامه أو لا ينطق، فإن نطق بجميعه لم يخل حال الطرف المقطوع من أن يكون مساويًا للطرف الثاني في تخريجه من أصل اللسان أو يكون خارجًا عنه، فإن ساواه لزمه فيه من الدية بقسط المقطوع من قدر اللسان، ولو قطع الطرفين معًا لزمه من الدية بقسطهما من جميع اللسان، وإن كان الطرف المقطوع خارجًا عن الاستقامة في اللسان فهو طرف زائد يلزمه في قطعه حكومة لا تبلغ قسطه من الدية لو كان من أصل اللسان، ولو قطع الطرفين معًا لزمه في الزائد حكومة، وفي طرف الأصل قسطه من الدية، ولو قطع جميع اللسان من أصله لزمه دية اللسان وحكومة في الطرف الزائد، وإن ذهب مع قطع هذا الطرف الزائد شيء من كلامه لزمه أكثر الأمرين من دية الذاهب من كلامه أو المقطوع من لسانه. فصل: ولو قطع باطن اللسان لزمه قسطه من الدية، فإن أذهب بشيء من كلامه لزمه أكثر الأمرين، ولا قود فيه، لتعذره، ولا قود في ذهاب الكلام أيضًا إذا أذهبه مع بقاء اللسان، فعلى هذا لو قطع نصف لسانه فذهب به نصف كلامه قطع نصف لسان الجاني، لأن في جميع اللسان وفي بعضه قود، فإن ذهب بالقود نصف كلامه كان وفاء جنايته، وإن ذهب بربع كلامه لزمه مه القود دية ربع الكلام، ولو ذهب بقطعه ثلاثة أرباع كلامه، فقد وفى المستحق بجنايته، وكان الزائد فيما ذهب من كلامه هدرًا لحدوثه عن قود مستحق، فأما قطع اللهاة ففيه القود إن أمكن، وفيه حكومة لا تتقدر بقسط من دية اللهاة عن الأعضاء التي قدرت فيها الديات. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي لسان الصبي إذا حركه ببكاء أو بشيء بغير اللسان الدية".

قال في الحاوي: وجملة ذلك أن لسان الصبي الطفل يعجز عن الكلام لضعف الصغر كما تعجز أعضاؤه عن استيفاء الحركة، فيلزم في لسانه إذا كان معروف السلامة جميع الدية مثل ما يلزم في لسان الناطق الكبير، كما يلزم من رجليه جميع الدية إذا عرفت سلامتها وإن كان ينهض للمشي بهما، وإذا كان كذلك فأول ما يظهر من الطفل حرف الحلق في البكاء، ثم حروف اللسان إذا تكلم، وبعض ذلك يتلو بعضًا، فإذا عرف منه أحد هذه الثلاثة في زمانه دل على سلامة لسانه فكملت فيه الدية وإن لم يستكمل الكلام، لأنه يكمل في غالب العرف إذا بلغ زمان الكمال، وإن لم يظهر منه في أوقات هذه الحروف ما يدل على سلامة لسانه كان ظاهره دليلًا على خرسه، فيلزمه فيه حكومة، ولو قطعه ساعة ولادته قبل أوقات حركات لسانه صار لسانه وإن كان من الأعضاء الظاهرة من الكبير جاريًا مجرى الأعضاء الباطنة فيكون على قولين: أحدهما: يحمل على الصحة، لتعذر البينة فيه اعتبارًا بالأغلب من أحوال السلامة، وتكمل فيه الدية. والقول الثاني: أنه يحمل على عدم الصحة، لن لا يقضي بالإلزام مع إمكان الإسقاط اعتبارًا ببراءة الذمة وتجب فيه حكومة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي لسان الأخرس حكومة". قال في الحاوي: وإنما لم يجب في لسان الأخرس الدية، لأنه قد سلب الكلام الذي هو الأخص الأغلب في منافع اللسان وإن بقى بالخرس بعض منافعه وهو الذوق وتصرفه في مضغ الطعام فلم تبلغ ديته دية لسان كامل المنافع. فإن قيل: فمثله لسان الصبي فهلا كان فيه أيضًا حكومة؟ قيل: لأن لسان الصبي سليم الكلام، وإن لم يظهر في زمانه، وهذا معدوم الكلام، لأنه مفقود في زمانه فافترقا، فلو كان اللسان مسلوب الذوق لا يحس به طعوم المأكولات والمشروبات وهو ناطق سليم الكلام لم تكمل فيه الدية، وكان فيه حكومة كالأخرس، وإن لم يذكره الشافعي بناء على ما قدمناه في الجناية عليه إذا أذهبت بذوقه أن فيه الدية، وحكومة المسلوب الذوق أقل من حكومة المسلوب الكلام، لأن نقص الكلام أظهر، والحاجة إليه أدعى، ولو ابتدأ بالجناية على لسان ناطق فأخرسه وضمن بالخرس ديته، ثم عاد هو فقطع لسانه لزمه حكومة، لأنه قطع بعد الجناية الأولى لسان أخرس، كما لو أشل يده بجناية ثم قطعها بعد الشلل لزمته دية في الشلل وحكومة في القطع بعده. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن قال لم أكن أبكم فالقول قول الجاني مع يمينه

فإن علم أنه ناطق حتى يعلم خلاف ذلك". قال في الحاوي: وهذا من جملة ما مضى إذا اختلفا بعد قطع اللسان في سلامته وخرسه فادعى الجاني أنه كان أخرس وادعى المجني عليه أنه كان ناطقًا فاللسان من الأعضاء الظاهرة في الكبير، لأنه يقدر على إقامة البينة بنطقه وسلامته، فيكون القول فيه قول الجاني مع يمينه إن لم يعترف له بتقدم السلامة؛ لأن الأصل براءة ذمته من قود وعقل، فإن اعترف له بتقدم السلامة وادعى زوالها قبل جناية فهو على قولين كمن قطع ملفوفًا في ثوب وادعى أنه كان ميتًا فيه قولان، كذلك هاهنا. فإن قيل: فكيف يصح من المقطوع اللسان أن يقول لم أكن أبكم وهو لا يقدر بعد قطعه على القول. قيل: معناه أنه أشار بالعين فعبر عن الإشارة بالقول كما قال الشاعر: وقالت له العينان سمعًا وطاعة وخدرنا كالدر لما يثقب فعبر عن إشارة العينين بالقول. فصل: وإذا قطع لسانه فأخذ بالقود أو الدية ثم ثبت لسان المجني عليه فهو مبني على سن المثغور إذا ثبت بعد أخذ ديتها وفيها قولان: أحدهما: أنها عطية من الله لا يسترجع بها ما أخذه من ديتها، فعلى هذا أولى في اللسان أن يكون عطيته مستجدة لا يسترجع بعد نباته بما أخذه من ديته. والقول الثاني: أن هذه السن الثابتة خلف من السن الذاهبة دل على بقاء أصلها، فيسترجع منه بعد نباتها ما أخذه من ديتها، فعلى هذا هل يكون حكم اللسان إذا نبت كذلك أم لا؟ على وجهين ذكرناهما في عود ضوء العين بعد ذهابه، ولكن لو جني على لسانه فخرس وغرم ديته ثم عاد فنطق رد ما أخذه من الدية قولًا واحدًا، بخلاف اللسان إذا نبت والفرق بينهما أن ذهاب اللسان مستحق وأن النابت غيره وذهاب الكلام مظنون، فدل النطق على بقائه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وفي السن خمس من الإبل إذا كان قد أثغر". قال في الحاوي: في كل سن من أسنان المثغور خمس من الإبل، لرواية عمرو بن حزام عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في كتابه إلى اليمن: "وفي السن خمس من الإبل" وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وفي الأسنان خمس

خمس" فإذا ثبت هذا النص في وجوب خمس من الإبل في كل سن، فإنما هي من أسنان المثغور التي لا تعود على الأغلب بعد القلع، وسواء كانت صغارًا أو كبارًا، طوالًا أو قصارًا، كما تساوى ديات الأطراف من الصغر والكبر، والطول والقصر، وسواء كانت بيضاء ملاحًا أو سوداء قباحًا كان ذلك من أصل الخلقة أو طارئًا عليها، باقية المنافع؛ لأن القلع قد أبطل منافعها وكانت كاملة وازداد محلها بالقلع قبحًا فصار مذهبًا لنفعها وجمالها، فلذلك كمل ديتها، فإن قلعها من أصلها مع سنخها الداخل في لحم اللثة الممسك لها بمرابط العصب ففيها ديتها خمس من الإبل، ولا يلزمه في قلعها مع سنخها المغيب حكومة زائدة، لأن السنخ تابه لها ظهر كتبع الكف للأصابع، وإن قلع ما ظهر من السن وخرج عن لحم اللثة وبقى السنخ المغيب جرى مجرى قطع الأصابع من الكف، فإن عاد أو غيره فقلع السنخ المغيب. ففيه حكومة، كما لو عاد بعد قطع الأصابع فقطع الكف لزمه حكومة، ولو كسر بعض سنه لزمه من الدية بقسطه، وهو مقدر من الظاهر البارز عن لحم اللثة دون السنخ المغيب فيها، لأن الدية تكمل بقلع ما ظهر فكان الكسر معتبرًا بالظاهر دون الباطل، فلو تقلص عمود اللثة حتى ظهر من السنخ المغيب في اللثة ما لم يكن ظاهرًا كان المكسور من السن معتبرًا بما كان بارزًا منها قلوص العمور عنها، ولا يعتبر بما ظهر بعده قلوصه وإذا كان كذلك واعتبر المكسور منها فإن كان النصف لزمه نصف ديتها، وإن كان أقل أو أكثر فحساب من ديتها، وسواء كان المكسور من طولها أو عرضها، فلو قلع آخر بقيتها مع سنخها بعد أن كسر الأول نصف ظاهرها لزم الثاني نصف ديتها، لأنه قلع نصفها الباقي، وهل تلزمه حكومة بقلع سنخها المغيب أم لا؟ على ثلاثة أوجه: أحدها: لا يلزمه حكومة في السنخ، لأنه تبع للمضمون بالمقدر كما لا حكومة فيه إذا قلع مع جميع السن. والوجه الثاني: وهو المنصوص من مذهب الشافعي أن عليه فيه حكومة لأن النسخ تابع لجميه السن فصار أكثر من التابع لنصفه فلزمته لهذه الزيادة حكومة. والوجه الثالث: وهو قول أبي حامد الإسفراييني أن الأول إن كان قد كسر نصفه عوضًا لزم الثاني في سنخه حكومة، لزيادته على سنخ ما قلعه وإن كان الأول قد كسره طولًا لم يلزم الثاني حكومة من السنخ؛ لأنه سنخ للبقية التي قلعها. فصل: وإذا قلع سنًا قد حصل فيها شق أو ثقب أو أكلة، فإن لم يذهب من أجزائها بذلك شيء فعليه جميع ديتها، كاليد المريضة إذا قطعها وإن ذهب بالثقب والتآكل بعض أجزائها أسقط من دية السن قدر الذاهب منها، ولزمه باقي ديتها، وإن كانت أسنانه قد تصدعت

وتحركت حتى ربطها بالذهب أو لم يربطها فقلعها الجاني نظر فإن كانت منافعها باقية مع حركتها في المضغ وحفظ الطعام والريق ففيها الدية تامة، وإن ذهبت منافعها كلها ففيها حكومة، وإن نقصت منافعها فذهب بعضها وبقى بعضها ففيها قولان نص عليمها في كتاب الأم. أحدهما: فيها الدية تامة، لأن منافع الأسنان مختلفة بالزيادة والنقصان. والقول الثاني: فيها حكومة، لقصورها عما اختص بها من منافعها. وجهل قدر الناقص فوجب فيه حكومة. فإن اختلفا فادعى الجاني ذهاب منافعها وادعى المجني عليه بقائها فالقول قول المجني عليه مع يمنه، لأن بقاء منافعها لا يعلم إلا من جهته، وله ديتها تامة، ولو كانت السن كاملة المنافع فجنى عليها حتى تصدعت وتحركت وهي باقية في موضعها نظر، فإن ذهب بالجناية جميع منافعها حتى صار لا يقدر على المضغ بها فقيل: ديتها تامة، وإن ذهب منها نصف منافعها ففيها قولان: أحدهما: عليه ديتها تامة، لأنه قد يكون المسلوب من منافعها مساويًا لمنافع غيرها. والقول الثاني: فيها حكومة، لأن منفعة كل شيء معتبرة بها، ولو قيل: بوجه ثالث إنه إن أذهب أكثر منافعها كملت ديتها، وإن ذهب أقلها ففيه حكومة اعتبارًا بالأغلب كان له وجه، فإن اختلفا فالقول قول المجني عليه مع يمينه، لأن ذهاب منافعها لا يعلم إلا من جهته. فصل: ولو اختلف نبات أسنانه فكان بعضها طوالًا وبعضها قصارًا فدياتها متساوية مع اختلافهما في الطول والقصر، فإن كسر بعض الطويلة حتى عادلت ما جاورها من القصار لزمه من ديتها بقدر ما كسر منها، وإن زادت منافعها بكسر الزيادة عن نظائرها، وكذلك لو كسر بعض القصيرة حتى كان ما كسر منها معتبر بها لا بما جاورها من الطول، فلو كان المكسور نصفها وهو من الطويلة ربعها لزمه نصف ديتها، ولو جنى على سن فخرجت عن حد صاحبتها حتى برزت عما جاورها فإن ذهبت منافعها مع البروز تحت ديتها، وإن بقيت منافعها ففيها حكومة لقبح بروزها. فصل: وإذا كانت إحدى رباعيته أقصر من الأخرى في أصل خلقتها خالفت قصر الثنية عن الرباعية، لأن السن معتبرة بأختها لكونها شبه لها في الاسم والمحل، ولا تعتبر بغيرها، فإذا نقصت إحدى الرباعيتين عن الأخرى علم أنها رباعية ناقصة، فإذا قلعت وعرف قدر نقصانها وجب فيها من دية السن بقدر ما بقى منها وسقط منها قدر ما نقص، ولو ذهب

حدة الأسنان حتى كلت بمرور الزمان كان فيها الدية تامة، لأن كلا لها مع بقائها على الصحة يجري مجرى ضعيف الأعضاء، ولو حالت حتى ذهب منها بمرور الزمان بعض أضراسها سقط من ديتها بقسط ما ذهب منها ووجب في قلعها ما بقي من ديتها. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن لم يثغر انتظر به فإن لم تنبت ثم عقلها وإن نبتت فلا عقل لها". قال في الحاوي: وهو كما قال، إذا قلع سن صبي لم يثغر فلا قود في الحال ولا دية؛ لأن المعهود من أسنان اللبن أنها تعود بعد السقوط فلم تصر مساوية لسن المثغور التي لا تعود، وقد يجوز أن لا تعود سن اللبن إذا قلعت، وإن كان نادرًا، كما يجوز أن تعود سن المثغور إذا قلعت وإن كان عودها نادرًا، ووجب أن يعتبر في كل واحد منهما حكم الأغلب دون النادر، وهو أن سن اللبن تعود وسن المثغور لا تعود، فلذلك وجب الانتظار بسن اللبن حال عودها وإن جاز أن لا تعود، ولم ينتظر بسن المثغور حال عودها وإن جاز أن تعود، فإذا كان كذلك لم تخل سن الصبي إذا قلعت من أن يعود نباتها أو لا يعود، فإن لم يعد نباتها بعد نبات أخوتها. وقال أهل العلم: قد تجاوزت مدة نباتها ووجب فيها القصاص، وكمال الدية، وكانت في حكم سن المثغور، لأنها سن لم تعد بعد القلع، وإن عاد نباتها فعلى ضربين: أحدهما: أن تعود مساوية لأخواتها من المقدار والمكان فلا دية فيها ولا قود، فأما الحكومة فإن كان قد جرح محل المقلوعة حتى أدماه لزمته حكومة جرحه، وإن لم يجرحه ففي حكومة المقلوعة وجهان: أحدهما: لا حكومة فيها؛ لأنها تسقط لو لم تقلع. والوجه الثاني: فيها حكومة؛ لأنه قد أفقده منفعتها. ولو قبل بوجه ثالث: إنه إن قلع في زمان سقوطها فلا حكومة فيها، وإن قلعها قبل زمانها ففيها حكومة كان مذهبًا، لأنها قبل زمان السقوط نافعة وفي زمانه مسلوبة المنفعة. والضرب الثاني: أن يعود نباتها مخالفًا لنبات أخواتها، وهو أن يقاس الثنية بالثنية، والرباعية بالرباعية، والناب بالناب، ولا يقاس ثنية برباعية، ولا ناب، ويقاس سفلى بسفلى، ولا يقاس عليا بسفلى وإذا كان كذلك لم يخل حال اختلافهما من أربعة أقسام: أحدها: أن يختلف في المقدار، فهذا على ضربين: أحدهما: أن تعود أطول من أختها فلا شيء عليه في زيادة طولها وإن شان أو ضر، لأن الزيادة لا تكون من جناية؛ لأن الجناية نقص لا زيادة وكذلك نبت معها سن زائدة.

والثاني: أن تعود أقصر من أختها فعليه من ديتها بقدر ما نقص من نباتها، لحدوثه في الأغلب عن جنايته. والقسم الثاني: أن يختلف في المحل فتنبت هذه العائدة خارجة عن صف أخواتها أو داخلة، أو راكبة فهذا على ضربين: أحدهما: أن تذهب منافعها بخروجها عن محلها لخلوه وانكشافه ففيها الدية تامة. والثاني: أن تكون منافعها باقية، لأنها قد سدت محلها وقامت مقام أختها، فلا دية فيها، لكمال منافعها، وفيها حكومة لقبح بروزها عن محلها. والقسم الثالث: أن يختلفا في المنفعة فتكون أقل من منفعة أختها مع نباتها في محلها ففيها قولان: أحدهما: فيها الدية تامة. والثاني: فيها حكومة، ولو قيل تكمل ديتها إن ذهب أكثر منافعها، وحكومة إن ذهب أقلها كان مذهبًا. والقسم الرابع: أن يختلف في اللون فتغير لونها مع بياض غيرها، فإن تغير بصفرة كان فيها حكومة، وإن تغير كانت حكومتها أكثر من حكومة الصفرة، وإن تغير بسواد فصارت سودًا فالصحيح من مذهب الشافعي أن فيها حكومة هي أزيد من حكومة الصفرة والخضرة؛ لأن شين السواد أقبح، وخرج قول آخر أن فيها ديتها تامة، وسنذكر ذلك في السن إذا اسودت بجنايته. فصل: فإن مات الصبي قبل أن يبلغ زمان نباتها ففيها قولان: أحدهما: فيها الدية تامة؛ لأنه قلع سنًا لم تعد. والقول الثاني: فيها حكومة؛ لأن الظاهر عودها لو بلغ زمان نباتها. ولو مات بعد أن طلع بعضها، وبقى بعضها فهو على القولين يجب فيها على أحدهما قسط ما تأخر طلوعه من الدية، وحكومة في القول الثاني هي أقل من حكومة ما لم يعد. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "والضرس سن وإن سمي ضرسًا كما أن الثنية سن، وإن سميت ثنية وكما أن اسم الإبهام غير اسم الخنصر وكلاهما أصبع وعقل كل أصبع سواء". قال في الحاوي: وهذا كما قال: ديات الأسنان متساوية مع اختلاف أسمائها

ومنافعها, ومن كل سن منها خمس من الإبل, تستوي فيه الثنية والضرس والناب والناجز, وحكي عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه جعل فيما ظهر من أسنان الفم بالكلام والأكل خمسًا من الإبل في كل سن, وجعل فيما غاب من الأضراس بعيرين في كل ضرس, وقيل: بعيرًا, لأن مقاديم الأسنان تشارك مواخيرها في المنفعة وتختص بالجمال, فيفضل بين دياتها, واختلف عنه في مفاضلة ديات الأصابع, فروي عنه أنه فاضل بينهما كالأسنان, وروي أنه سوى بينهما وإن فاضل بين الأسنان, واختلف عنه هل رجع عن هذا التفاضل أم لا؟ فحكى قوم أنه رجع عنه, وحكى آخرون أنه لم يرجع, وقد أخذ بما قاله عمر - رضي الله عنه - قوم من شواذ الفقهاء لقضائه بذلك في إمامته وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: عموم النص من قول النبي صلى الله عليه وسلم: "في كل سن خمس من الإبل" وهو اسم يعم كل سن ولأن اختلاف المنافع غير معتبر فيما تقدرت دياته من وجهين: أحدهما: أن منافع الميمان من الأعضاء أكثر من منافع مياسرها تساوي دياتها. والثاني: أن منافعها تختلف بالصغر والكبر, والقوة والضعف, ودياتها مع اختلاف منافعها سواء, كذلك الأسنان, وعلى أن لكل سنة منفعة ليس لغيره فلم تقم منفعة الثنية مقام منفعة الضرس. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن نبتت سن رجل قلعت بعد أخذه أرشها قال في موضع: يرد ما أخذ وقال في موضع آخر: لا يرد شيئًا, قال المزني - رحمه الله - هذا أقيس في معناه عندي لأنه لم ينتظر بسن الرجل كما انتظر بسن من لم يثغر هل تنبن أم لا؟ فدل ذلك عندي من قوله: إن عقلها أو القوم منها قم تم, ولولا ذلك لانتظر كما لم يرد شيئًا ولو قطعه آخر ففيه الأرش تامًا ومن أصل قوله أن الحكم على الأسماء. قال المزني: وكذلك السن في القياس نبتت أو لم تنبت سواء إلا أن تكون في الصغير إذا نبتت لم يكن لها عقل أصلًا فيترك له القياس". قال في الحاوي: وقد تقدمت هذه المسألة وقلنا: إن سن المثغور إذا قلعت لم ينتظر عودها, وقضى له بقودها أو ديتها؛ لأنها لا تعود في الأغلب بخلاف الصغير الذي تعود سنه في الأغلب, فلو عادت سن المثغور بعد أخذ ديتها ففي وجوب ردها قولان: أحدهما: يجب ردها كالصغير, إذا عادت سنة فعلى هذا هل يبقى منها شيء للألم وسيلان الدم أم لا؟ على وجهين ابن أبي هريرة:

أحدهما: يرد الكل ولا يبقى شيء منها وهو الظاهر من كلام الشافعي ها هنا. والوجه الثاني: يبقى منها قدر حكومة الألم وسيلان الدم ويرد ما سواه. والقول الثاني: اختاره المزني أن المثغور لا يرد ما أخذه من الدية لقود سنه, لأمرن ذكرهما المزني: أحدهما: أنه لما لم ينتظر بالدية عود سنه لم يلزمه ردها بعوده. والثاني: أن دية اللسان لما لم يلزم ردها بعد نباته لم يلزم رد دية السن بعد عوده, وكلا الأمرين معلول, أما الأول في ترك الانتظار فلأن المعتبر في الجنايات الأغلب من أحوالهما دون النادر, والأغلب من سن المثغور أن لا تعود, ومن سن الصغير أن تعود فانتظر بالصغير ولم ينتظر بالمثغور, وأما نبات اللسان فهو أكثر ندورًا وأبعد وجودًا. قال أبو علي عن بن أبي هريرة: وقد كنا ننكر على المزني حتى وجدنا في زماننا رجلًا من أولاد الخلفاء قطع لسانه فنبت فعلمنا أن مثله قد يكون, وإذا كان كذلك فالحكم من نبات اللسان محمول على عود اللسان, فإن قيل: إن عود السن لا يوجب رد ديتها, فأولى أن يكون نبات اللسان لا يوجب رد دينه, وإن قيل: إن عود السن يوجب رد ديته فقد اختلف أصحابنا من عود اللسان هل يوجب رد ديته أم لا؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي: يوجب نبات اللسان رد ديته كما أوجب عود السن رد ديتها, فسوى بينهما وأسقط استدلال المزني, فعلى هذا يستبقى قدر الحكومة من قطع الأول وجهًا واحدًا ورد ما زاد عليها. والوجه الثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة: لا ترد دية اللسان وإن رد دية السن, والفرق بينهما أنه في جنس السن ما يعود في الغالب فألحق به النادر, وليس في جنس اللسان ما يعود فصار جميعه نادرًا, ولذلك وقف سن الصغير دون الكبير, ولم يوقف لسان الصغير والكبير فافترقا والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "والأسنان العليا في عظم الرأس والسفلى في اللحيين ملتصقتين ففي اللحيين الدية وفي كل سنة من أسنانها خمس من الإبل". قال في الحاوي: أما أسنان الفم فأعلاها عظم الرأس وأسفلها في اللحيين واللحيان يجتمع مقدمها في الذقن ومؤخرهما في الأذن, فإن قلع الأسنان مع بقاء اللحيين كان في كل سن منها خمس من الإبل إذا لم ترد على العشرين سنًا, ويستكمل في العشرين دية كاملة, وإن زادت على العشرين وبلغت اثنين وثلاثين سنًا وهي غاية الأسنان المعهودة, فإن قلعها واحدًا بعد واحد كان في كل واحد منها خمس من الإبل, فيجتمع

في جميعها مائة وستون بعيرًا, وإن قلع جميعها دفعة واحدة ففيه وجهان: أحدهما: يجب فيها كمال الدية ولا يزاد عليها, لأن ما يجانس في البدن من ذوات الأعداد لم تجب فيه أكثر من الدية كسائر الأعضاء والأطراف. والوجه الثاني: أنه يجب في كل سن منهما خمس, وإن زادت على دية النفس؛ لأن لكل سن منها حكمها, وليس بعضها تبعًا لبعض, وكما لو قلعها متفرقًا, فأما اللحيان إذا قلعهما فلا يخلو أن يكون عليهما أسنان أو لا يكون فإن لم يكن عليها أسنان إما من طفل لم تطلع أسنانه أو في شيخ قد سقطت أسنانه ففيها الدية, لما فيها من كثرة الجمال وعظم المنفعة, وأن ذهابها أخوف على النفس وأسلب للمنافع من الأذن, فكان بإيجاب الدية أولى, فإن قلع أحد اللحيين وتماسك الآخر كان عليه نصف الدية, لأنها لما كملت فيها نصفت من أحدهما كاليدين, فأما القود فإن أمكن فيهما أو في أحدهما وجب, وإن تعذر سقط, وإن كان في اللحيين أسنان فمعلوم أنها لا تنبت مع قلعها فعليه دية اللحيين وديات الأسنان, ولا تدخل دياتها في دية اللحيين, فإن قيل: فهلا دخلت ديتها في دية اللحيين لحلولها فيها كما دخلت دية الأصابع في دية اليد, قيل: الفرق بينهما من ثلاثة أوجه: أحدهما: أن اسم اليد ينطلق على الكف والأصابع ولا ينطلق اسم اللحيين على الأسنان ولا اسم الأسنان على اللحيين. والثاني: أن اللحيين قد يتكامل خلقهما مع عدم الأسنان في الصغير ويبقيان على كمالهما بعد ذهاب الأسنان من الكبير ولا يكمل خلق اليد إلا مع أصابعها, ولا تكون كاملة بعد ذهابها. والثالث: أن اللحيين منافع غير حفظ الأسنان, وللأسنان منافع غير منافع اللحيين, فانفرد كل واحد منهما بحكمة وليس كذلك من منافع الكف, لأنه يحفظ الأصابع, فإذا زالت بطلت منافعها فصارت تبعًا لهما فلو جني على لحييه فيبستا حتى لم ينفتحا ولم ينطبقا ضمنهما بالدية كاليد إذا شلت, ولا يضمن دية الأسنان وإن ذهبت منافعها, لأنه لم يجن عليها, وإنما وقف نفعها بذهاب منافع غيرها, نص عليها الشافعي في كتاب "الأم" فلو أعوج اللحيان لجنايته وجب عليه حكومة بحسب شينه وضرره, ولا يبلغ بها الدية إذا كانا ينطبقان وينفتحان. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو ضربها فاسودت ففيها حكومة, وقال في كتاب عقولها ثم عقلها, قال المزني - رحمه الله -: الحكومة أولى؛ لأن منفعتها بالقطع والمضغ ورد الريق وسد موضعها قائمة كما اسود بياض العين لم يكن فيها إلا حكومة؛

لأن منفعتها بالنظر قائمة". قال في الحاوي: أما إذا ضرب سنه فاصفرت أو اخضرت ففيها حكومة إذا لم يذهب شيء من منافعها وحكومة الخضرة أكثر من حكومة الصفرة؛ لأنها أقبح, فأما إن ضربها فاسودت فقد قال الشافعي ها هنا, فيها حكومة كما لو اصفر أو اخضرت, وقال في كتاب العقل ثم عقلها فاختلف أصحابنا فكان المزني والمتقدمون منهم يخرجون ذلك على اختلاف قولين: أحدهما: فيها حكومة واختاره المزني, لبقاء منافعها بعد سوادها كما لو جني على عينه فاسود بياضها لبقاء نظرها بعد سواد البياض. والقول الثاني: فيها الدية تامة, لذهاب جمالها بالسواد, وذهب جمهور أصحابنا ومتأخرون إلى أن ذلك على اختلاف حالين وليس على اختلاف قولين, والمواضع الذي أوجب فيها حكومة إذا كانت باقية المنافع والمواضع الذي أوجب فيها الدية إذا ذهبت منافعها, وهذا أشبه؛ لأنه قد بقي بعد اسودادها أكثر جمالها, وهو سر موضعها فلم يجز أن يجب فيها مع بقاء أكثر جمالها وجميع منافعها دية, فلو قلع سنًا سوداء سئل عنها أهل العلم بها فإن قالوا: اسودادها من غذاء أو طول مكث كملت فيها الدية, وإن قالوا: من مرض كان في كمال ديتها قولان على اختلافهما في السن إذا ذهب بعض منافعها والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي اليدين الدية". قال في الحاوي: وهذا صحيح, وهو نص السنة, وروى معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وفي اليدين دية" ولأنهما من أعظم الأعضاء نفعًا في البطش والعمل, وفي إحدى اليدين نصف الدية لرواية عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتابه إلى اليمين: "وفي اليد خمسون من الإبل" وإذا كان كذلك فاليد التي تكمل فيها الدية أن تقطع من مفصل الكف, فإن قطعها من الذراع أو العضد وجب في الكف دية وفيما زاد من الذراع حكومة, فإن زاد إلى العضد كانت الحكومة فيه أكثر, وقال سفيان الثوري: إن قطعها من المرفق فليس عليه إلا دية, وإن زاد على المرفق ففي الزيادة حكومة؛ لأن حكم اليد يستوعبها إلى الذراع ويفارقها بعده كالوضوء. وقال أبو عبيد بن حربويه من أصحابنا: الاسم يتناولها إلى المنكب وليس عليه إذا

استوعب قطعها إلى المنكب إلا الدية دون الحكومة, لأن عمار بن ياسر تيمم حين أطلق ذكر اليد في التيمم إلى المناكب تعويلًا على مطلق الاسم حتى قال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنما يكفيك ضربة لوجهك وضربة لذراعك" وكلا المذهبين خطأ لقول الله تعالى: {إذَا قُمْتُمْ إلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وجُوهَكُمْ وأَيْدِيَكُمْ إلَى المَرَافِقِ} [المائدة: 6] فلو اقتضى إطلاق اليد إلى المرفق لاقتصر على الإطلاق ولما قيدها بالمرافق, فبطل قول سفيان, ولما جعل المرفق غاية دل على أن حد اليد ما دون الغاية فبطل به قول أبي عبيد؛ ولأن الله تعالى قال: {والسَّارِقُ والسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] وقطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده من مفصل الكف دل على أنها هي اليد لغة وشرعًا, ولأن الدية تكمل في الرجل إذا قطعت من مفصل القدم, لأنها تقطع منه في السرقة, كذلك اليد لما قطعت في السرقة من الكف وجب أن يختص بكمال الدية. فصل: فإن قطع أصابع الكف كملت فيها دية الكف, لأن ما أبقاه منها بعد قطع الأصابع مسلوب المنفعة, وتكون دية اليد مقسطة على أعداد الأصابع بالسوية, فيجب في كل إصبع عشر من الإبل, لأنها في المعهود تقسطت عليها خمسون فكان قسط كل إصبع منها عشر, ولا يفضل إبهام على خنصر. وحكي عن عمر - رضي الله عنه - أنه فاضل بين ديات الأصابع في إحدى الروايتين عنه فجعل في الخنصر ستًا, وفي البنصر تسعًا, وفي الوسطى عشرًا, وفي السبابة عشرًا, وفي الإبهام ثلاثة عشر, فقط الخمسين على الأصابع الكف هذا التقسيط المختلف اعتبارًا باختلاف المنافع, ولأن البنصر وراء الخلاف وهو ما روي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وفي اليدين الدية وفي الرجلين الدية وفي كل إصبع مما هناك عشر من الإبل", وروى أوس بن مسروق عن أبي موسى الأشعري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "والأصابع سواء". قال شعبة: قلت لغالب التمار حين روى ذلك عن أوس بن مسروق عشرًا عشرًا؟ قال: نعم, وروى يزيد النحوي عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأصابع سواء والأسنان سواء" وهذه نصوص لا يجوز خلافها, ولأنه لو جاز أن

يفاضل بينهما لتفاضل المنفعة لكان ذلك في أصابع الرجلين, ولفضلت اليمنى على اليسرى, والقوية على الضعيفة, والكبيرة على الصغيرة, ولم يقل بذلك أحد اعتبارًا بمطلق الاسم كذلك في الأصابع فصل: ولو جني على يده فشلت كملت ديتها, وإن كانت باقية بعد الشلل لذهاب منافعها, كما لو جني على عينة فذهب بصرها, فإن شلت إصبع منها ففيها ديتها, فإن قطعت بعد الشلل كان فيها حكومة لا تبلغ دية السليمة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي الرجلين الدية وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل". قال في الحاوي: وهذا صحيح, لحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "في الرجلين الدية وفي كل إصبع مما هنالك عشر من الإبل". ولرواية معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وفي الرجلين الدية" ولأن الرجلين من أعظم الأعضاء نفعًا؛ لأن عليها يسعى, وبها يتصرف وفي إحدى الرجلين نصف الدية, لرواية عمرو بن حزم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في كتابه إلى اليمين: "وفي الرجل خمسون من الإبل" ولأنها واحد من عضوين كاليدين, ولا فضل ليمنى على يسرى, وفي كل إصبع من أصابعها عشر من الإبل كأصابع اليدين, ولا يفضل إبهام على خنصر فإن شلت كان فيها ديتها كالمقطوعة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي كل أنملة ثلث عقل أصبع إلا أنملة الإبهام فإنها مفصلات ففي أنملة الإبهام نصف عقلة الإصبع". قال في الحاوي: وهذا صحيح لم قسط رسول الله صلى الله عليه وسلم دية الكف على أعداد أصابعها وجب أن يقسط دية الإصبع على أعداد أناملها وفي كل إصبع ثلاث أنامل, فيكون في كل أنملة ثلث دية إصبع ثلاثة أبعرة وقال مالك: أنملة الإبهام كغيرها فيها ثلث دية إصبع, لأنها ثلاث أنامل أحدها باطنة وهذا فاسد, لأن لجميع الأصابع أنامل

باطنة, وإنما يسقط ديتها على ما ظهر من أناملها, والظاهر من الإبهام أنملتان ومن غيرها ثلاث أنامل, فلو خلق لرجل في إبهامه ثلاث أنامل وجب في كل أنملة منها ثلث دية الإصبع, ولو خلق في غيرها أربع أنامل كان في كل أنملة منها ربع دية الإصبع, ولو خلقت له خمس أنامل كان في كل أنملة منها خمس ديتها, تقسيطًا لدية الأصابع على أعداد أناملها, وكذلك لو نقصت فكانت أنملتين كان في إحداهما نصف ديتها, فإن قيل: فلم قسطتم دية الإصبع على ما زاد من أناملها ونقص ولم تفعلوا مثل ذلك في الأصابع إذا زادت ونقصت وجعلتم في الإصبع الزائدة حكومة ولم يقسطوا دية الكف على ما بقي من الأصابع بعد الأصبع الناقصة؟ قيل: الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أنه لما اختلفت الأنامل في أصل الخلقة المعهودة بالزيادة والنقصان كان كذلك في الخلقة النادرة, ولما لم يختلف الأصابع في أصل الخلقة المعهودة, فارقها حكم الخلقة النادرة. والثاني: أن الزائدة من الأصابع متميزة ومن الأنامل غير متميزة فلذلك ما اشتركت الأنامل وتفردت الأصابع. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وأيها شل تم عقلها". قال في الحاوي: وهذا صحيح بشلل الأنامل موجب لديتها كشلل الأصابع, وليس يشل بعض الأنامل إلا في أعاليها, ولا يصح أن تشل أنملة وسطى مع سلامة العليا, وفي الأنامل القود على ما مضى فإن قطع بعض أنملة لم يجب فيها قود لأنها من غير منفصل, فإن تقدر المقطوع منها لزم فيه من ديتها بقدر المقطوع منها, وإن لم يتقدر ففيه حكومة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن قطعت من الذراع ففي الكف نصف الدية وفيما زاد حكومة وما زاد على القدم حكومة". قال في الحاوي: وهذا صحيح, وقد مضى وذكرنا أن دية اليد ينتهي كمالها إلى مفصل الكوع الذي بين الكف والذراع, فإن انتهى القطع إلى الذراع كان في الكف ديتها وفي الزيادة حكومة تقل بقلة ما قطع من الذراع وتزيد بزيادته, فإن قطعها من المرفق كانت الحكومة أزيد, ويجب فيه القود, ولا يجب فيه إذا قطع من دون المرفق اعتبارًا بالمفصل, فإن قطع من المنكب حتى استوعب بالقطع الذراع مع العضد وجب فيه القود إذا كان من مفصل, ولا يجب في الزيادة على الكف إلا حكومة هي أقل من دية الكف, لأن الزيادة عليها أصل لها يتبعها في حكمها, وكذلك دية الرجل ينتهي كمالها إلى قطع

القدم من مفصل الكعب, فإن زاد بقطعها من الساق ففي الزيادة حكومة فإن قطعها من مفصل الركبة كانت الحكومة أكثر, وفيها القود, فإن قطعها من نصف الفخذ كانت الحكومة أكثر ولا قود, فإن قطعها من أصل الورك كانت الحكومة أكثير وفيه القود, ولا يبلغ بالحكومة دية القدم كما ذكرنا في اليد. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي قدم الأعرج ويد الأعسم إذا كانتا سالمتين الدية". قال في الحاوي: أما العرج في الرجل فقد يكون تارة من قصور أحد الساقين, فتصير إحدى الرجلين أقصر من الأخرى, فيعرج إذا مشى بالميل على القصرى, وفيها الدية الكاملة, لأن القدم سليمة والنقص في غيرها, كما يكمل في ذكر العنين الدية, وأذن الأصم لأن النقص في غيره, وأما يد الأعسم فقد ذهب آخرون إلى أنه اعوجاج الرسغ إلى أن يخرج زند الذراع كوع الكف وأيهما كان فالدية في كف الأعسم كاملة, لأن العسم نقص في غير الكف فساوت غيرها. فصل: ولو خلع كفه من الزند حتى الموجب لم يجب فيه القود, لتعذره فيه حكومة, فإن جبرت فعادت بالجبر إلى استقامها قلت الحكومة فيها, وإن لم تعد إلى الاستقامة كثرت حكومتها فإن قال الجاني: أن أعيد خلعها وأجبرها لتعود إلى استقامتها منع من ذلك, لأنه ابتداء جناية منه, فإن فعل وخلعها فعادت بعد الجبر مستقيمة لم يسقط عنه ما وجب من الحكومة المتقدمة, ولزمته حكومة ثانية في الخلع الثاني, غير أن الحكومة الأولى أكثر, لأنها عادت معوجة, والحكومة الثانية أقل لأنها عادت مستقيمة, وهكذا لو كسر ذراعه من العظم حتى انتقصت, وتشظى فإن جبرت وعادت إلى حالها ففيها حكومة بقدر الألم والشين, وإن عادت بعد الجبر ناقصة البطش زيدت الحكومة في ذهاب البطش, فإن ذهب جميع بطشها كملت ديتها كالشلل وكذلك مثله إذا كان في خلع القدم وكسر الساق وبالله التوفيق. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو خلقت لرجل كفان في ذراع إحداهما فوق الأخرى فكان يبطش بالسفلى ولا يبطش بالعليا فالسفلى هي الكف التي فيها القود

والعليا زائدة وفيها حكومة وكذلك قدمان في ساق فإن استوتا فهما ناقصتان فإن قطعت إحداهما ففيها حكومة لا تجاوز نصف دية قدم وإن قطعتا معًا ففيهما دية قدم ويجاوز بها دية قدم وإن قطعت إحداهما ففيها حكومة فإن عملت الأخرى لما انفردت ثم عاد فقطعها وهي سالمة يمشي عليها ففيها القصاص مع حكومة الأولى". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا خلق لرجل كفان في ذراع أو ذراعان في عضد, أو عضدان, في منكب فلا يخلو فيها من ثلاثة أقسام: أحدها: أن لا يبطش بهما ولا بواحدة منهما فهما يد ناقصة لا قود فيهما ولا في واحدة منهما ولا دية فيهما ولا في واحدة منهما, لأن عدم البطش قد أذهب بمنافعهما, وذهاب المنافع يمنع من القود والدية كالشلل, وفيهما حكومة لا يبلغ بها دية يد باطشة, وفي إحداهما حكومة على النصف من حكومتهما إلا أن تكون إحداهما أزيد شيئًا فيزاد في حكومتهما, فلو بطشت الباقية منهما بعد المقطوعة علم أنها هي اليد من أصل الخلقة فيجب فيها القود إن قطعت وكمال الدية. فصل: والقسم الثاني: أن يبطش بأحدهما ولا يبطش بالأخرى فالباطشة هي اليد وفيها القود أو الدية وغير الباطشة هي الزائدة لا قود فيها ولا دية, وفيها حكومة وسواء كانت الباطشة في استواء الذراع أو منحرفة عنه, لأننا نستدل على الأصل بمنافعه كما نستدل على الخنثى المشكل ببوله, فإن قطعت الزائدة فصارت الباطشة غير باطشة لزم ديتها كاملة مع حكومة الزائدة ويقوم ذهاب بطشها مقام الشلل, ولو قطعت الباطشة فحكم فيها القود أو كمال الدية, ثم صارت غير الباطشة باطشة وجب فيها كمال الدية إن قطعت, لأنها يد باطشة, ويجيء في رد ما أخذه من الأول من كمال الدية وجهان مخرجان من اختلاف قوليه في المثغور إذا أخذ دية سنة فعادت: أحدهما: لا يرد من كمال ديتها شيئًا وتكون هذه قوة أحدثها الله تعالى به, والثاني: يرد ما زاد على قدر حكومتها من كمال الدية, لأن البطش قد انتقل إلى الباقية فلم يسلبه الأول بطشه وبقاء البطش يمنع من كمال الدية. فصل: والقسم الثالث: أن يكون باطشًا بهما جميعًا فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون بطشه بإحداهما أكثر من الأخرى, فأكثرهما بطشًا هي الأصل يجب فيها القود أو كمال الدية وأقلهما بطشًا هي الزائدة لا قود فيها وفيها حكومة كما يستدل في إشكال الخنثى بقوة بوله. والضرب الثاني: أن يستوي بطشه بهما فيسقط الاستدلال بالبطش لتكافئه ويعدل إلى غيره, كما إذا سقط الاستدلال في الخنثى بالبول عند التساوي عدل إلى غيره من الأمارات, وإذا كان كذلك لم يخل حالهما من أن يستويا في القدر أو يختلفا, فإن

الأمارات وإذا كان كذلك لم يخل حالهما من أن يستويا في القدر أو يختلفا فإن اختلفا فكانت إحدى الكفين أكبر من الأخرى فالكبيرة هي الأصل تكمل فيها الدية والصغيرة هيا الزائدة يجب فيها حكومة, فإن استويا في القدر ولم تزد إحداهما على الأخرى فعلى ضربين: أحدهما: أن تكون إحدى الكفين في استواء الذراع والأخرى عادلة عنه, فتكون التي في استواء الذراع هي الأصل تكمل فيها الدية والخارجة عن استوائه زائدة يجب فيها حكومة. والضرب الثاني: أن يستويا في مخرج الذراع, فإن كانت إحداهما كاملة الأصابع, والأخرى ناقصة فذات الكمال هي الأصل وذات النقص هي الزائدة, فلو كانت إحداهما كاملة الأصابع والأخرى زائدة الأصابع لم يكن في الزيادة مع الكمال دليل, وإن كانت في الكمال مع النقصان دليل؛ لأن الزيادة نقص فلم يستدل بها على أصل فإذا عدمت الأمارات الدالة على تميز الأصل من الزيادة واعتدلت في الكفين معًا فهما يدان زائدتان إن قطعهما قاطع وكان عليه القود وحكومة من الزيادة, وإن قطع إحداهما فلا قود عليه لعدم المماثلة, وعليه نصف دية يد وزيادة حكومة؛ لأنها نصف يد زائدة فإن قطع إصبعًا من إحداهما فعليه نصف دية إصبع وزيادة حكومة لأنها نصف إصبع زائدة, وإن قطع أنملة إصبع من إحداهما فعليه نصف دية إصبع وزيادة حكومة لأنها نصف أنملة زائدة, فأما القود في ذلك فيسقط إلا أن يقطع إصبعين متماثلين من الكفين قبل أن يقطع إبهام كل واحدة من الكفين فيقتص من إبهامه ويؤخذ منه حكومة في الزيادة كما يقتص من كفه إذا قطع الكفين وتؤخذ منه حكومة في الزيادة, ولو قطع من إحداهما إبهامًا ومن الأخرى خنصرًا فلا قود عليه في الإبهام ولا في الخنصر, لنقص كل واحد منهما, ويؤخذ منه دية إصبع وزيادة حكومة لأنها إصبع زائدة. فصل: ولو خلق له قدمان في ساق, أو ساقان في فخذ, أو فخذان في ورك فحكم ذلك جار مجرى الكفين في تكافؤ اعتبار المشي بهما, فإن كان لا يمشي بهما فهما رجل ناقصة لا قود فيها ولا دية, وفيها حكومة, وإن كان يمشي بواحدة منهما دون الأخرى فالتي يمشي بها هي القدم يجب فيها القود أو الدية, والأخرى زائدة لا قود فيها ولا دية, وفيها حكومة, فإن كانت إحداهما طويلة والأخرى قصيرة وهو يمشي على الطويلة دون القصيرة لزيادتها فقطعت الطويلة فصار يمشي على القصيرة ففي القصيرة بعد الطويلة دية كاملة, وفي قطع الطويلة ما قدمناه من الوجهين وإن كان يمشي على كلا القدمين فهو كبطشه بالكفين في اعتبار الكبر والصغر, ثم اعتبار الاستواء والعرج فإن حصل التساوي فيهما من كل وجه فهما رجلان زائدتان يجب فيهما القود وزيادة حكومة والله أعلم.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي الإليتين الدية وهما ما أشرف على الظهر من المأكمتين إلى ما أشرف على استواء الفخذين وسواء قطعتها من رجل أو امرأة". قال في الحاوي: وهذا صحيح, في الإليتين الدية من الرجل والمرأة لأنهما عضوان فيهما جمال ومنفعة, لأنهما رباط المفصل الورك وبهما يستقر الجلوس فكملت الدية فيهما كاليدين والرجلين, وساء ذلك في الصغير والكبير, ومن كان أرسخ الإلية معروقها, أو لحيم الإلية غليظها ففيها القصاص إذا استوعبها من الحد الذي بينه الشافعي, وأسقط المزني القصاص فيهما, لأنهما لحم متصل بلحم كقطع لحم بعض الفخذ, وليس كذلك لأن حدهما يمنع من تجاوزهما, فإن تعذر القصاص سقط ووجبت الدية, فإن قطع إحدى الإليتين فنصف الدية كقطع إحدى الرجلين ولو قطع بعض إحداهما وعلم قدر المقطوع منها ففيه من الدية بحسابه فإن جعل ففيه حكومة, ولو قطعهما حتى أبقاهما على جلد لم تنفصل وأعيدتا فالتحمتا كان فيهما حكومة كالجراح المندمل, ولو ثبتت الإليتان بعد قطعهما لم يرد المأخوذ من ديتهما, وقد خرج في ردها قول آخر كاللسان إذا نبت. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وكل ما قلت فيهما الدية ففي إحداهما نصف الدية". قال في الحاوي: وهذا صحيح, لأن النص وارد به, والإجماع منعقد عليه, والاعتبار موجب له, فإن وجبت في ثلاثة كالأنامل كان في كل واحدة منهما الثلث, وإن وجبت في أربعة كالجفون كان في كل واحد منهما ربع الدية, وإن وجبت في خمسة كالأصابع كان في كل واحد منهما الخمس, ثم على هذا القياس, لأن ما قابل الجملة تقسطت أجزاؤه على أجزائها كالأثمان. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا تفضل يمنى على يسرى". قال في الحاوي: وهذا صحيح, لأن مطلق الاسم يتناولها, والنفع والجمال مشترك بينهما, ولئن تفاضلا في المنفعة فليس ذلك بموجب لتفاضل الدية, كما لا تفضل يد الكاتب والصانع على يد من ليس بكاتب ولا صانع, وكما لا نفضل يد الكبير القوي على يد الصغير الضعيف, وعلى أن لمياسر الأعضاء نفعًا ربما لم يكن لميامنها, فإن قيل: فإذا

تساويا في حكم الدية فهلا تساويا في القود فجاز أخذ اليمنى باليسرى, قيل: القود يعتبر فيه مع التساوي في الحكم التساوي في المحل وهما وإن اشتركا في الحكم فقد افترقا في المحل فكذلك لو استويا في الدية واختلفا في القود وكما لا تفضل اليمنى على اليسرى وإن اختلفتا في القود كذلك لا تفضل العليا على السفلى في الأنامل والأسنان وإن اختلفا في القود. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا عين أعور على عين ليس بأعور ولا يجوز أن يقال فيها دية تامة وإنما قضى النبي صلى الله عليه وسلم في العينين الدية وعين الأعور كيد الأقطع". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا فقئت عين الأعور ففيها دية عين واحدة وهي نصف الدية كعين من ليس بأعور وهو قول جمهور الفقهاء. وقال مالك: فيها جميع الدية وهو قول الزهري والليث بن سعد وأحمد وإسحاق, احتجاجًا بأنه قول الأئمة وإجماع أهل المدينة, روي عن عمر بن الخطاب, وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر - رضي الله عنهم - أنهم أوجبوا في عين الأعور الدية وأن علي بن أبي طالب - عليه السلام - خيره إذا كان للجاني عينان أن يقتص من إحداهما ويأخذ نصف الدية, وبين أن يعدل عن القصاص ويأخذ جميع الدية, وليس يعرف لقولهم مع انتشاره مخالف فكان إجماعًا, ولأن الأعور يدرك بعينه جميع ما يدركه ذو العينين, فإذا قلع عينه فقد أذهب بصرًا كاملًا فوجب أن يلزم فيه دية كاملة, وخالف يد الأقطع, لأنه لا يعمل بها ما كان يعمل بهما, ولذلك جاز في الكفارة عتق العوراء ولم يجز عتق القطعاء, ولأن ضوء العينين يحول فينتقل من إحدى العينين إلى الأخرى, ألا ترى أن من أراد تحديد نظرة في رمي أو ثقب أغمض إحدى عينيه ليقوي ضوء الأخرى فيدرك بها نظرًا لما يدرك مع فتح أختها, وإذا كان كذلك علم أن ضوء الذاهبة انتقل إلى الباقية فلزم فيها جميع الدية, ودليلنا رواية عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " في العين خمسون من الإبل" ولم يفرق بين الأعور وغيره فكان على عمومه, وقول الصحابة يدفع بعموم السنة ولأنها عين واحدة لم تكمل فيها دية العينين كعين ذي العينين, ولأن كل واحد من عضوين إذا وجب فيهما نصف الدية مع بقاء نظيره وجب فيه ذلك النصف مع عدم نظيره كيد الأقطع, ولأنه لو قامت عين الأعور مقام عينين لوجب أن يقتص بها من عيني الجاني لقيامهما مقام عينيه, ولوجب إذا قلع عين الأعور إحدى عينين أن لا يقتص منه كما لا يقتص من عينين بعين, وفي الإجماع على خلاف هذا دليل على فساد ما قالوه؛ ولأنه لو

وجب في عين الأعور كمال الدية لوجب على من قلع عيني رجل واحدة بعد الأخرى أن تلزمه دية ونصف, لأنه قد جعله يقلع الأولى أعور فلزمه بها نصف الدية ويقلع الأخرى بعد العور جميع الدية ولم يقل به أحد, فدل على فساد ما اعتبروه, فأما الجواب عن احتجاجهم بالإجماع فمن وجهين: أحدهما: أنه قد خالف فيه عائشة وزيد بن ثابت وعبد الله بن مغفل فلم يكن إجماعًا. والثاني: أنه قد روي عن علي - عليه السلام - أنه رجع عما قالوا وخالفهم وأما قولهم إنه يدرك بالباقية ما كان يدركه بهما فعنه جوابان: أحدهما: دفع هذه الدعوى, لأن الأعور لا يرى البعيد كرؤية ذي العينين وقد يكون بينهما ضعف المسافة فلم يسلم ما ادعوه. والثاني: أنه لو أوجب هذا كمال الدية في العين الباقية لوجب مثله فيمن بقي سمعه من إحدى أذنية أن يلزم في ذهابه من الأذن الأخرى كمال الدية كمال قاله يزيد بن أبي زياد, لأنه يسمع بهما ما كان يسمع بهما ولم يقل بذلك في سمع الأذنين, فكذلك في ضوء العينين. وأما قولهم: إن ضوء العين ينتقل من الذاهبة إلى الباقية ففاسد, لأنه لو كان كذلك لكان من قلع واحدة من عينين أن لا يلزمه ديتها لأن ضوءها قد انتقل إلى الأخرى فصار كالمجاني على عين لا ضوء لها, فلم يلزمه أكثر من حكومتها, وهذا مدفوع بالإجماع فدل على أن الضوء غير منتقل, وإنما يغمض الرامي إحدى عينيه, وكذلك الناظر في ثقب حتى لا ينتشر ضوء العينين ويقتصر على إحداهما ليستقيم تراجع السهم والثقب ولا يختلف السمت باختلاف النظرين, وأما فرقهم بين العوراء والقطعاء لفرق ما بينهما في الكفارة فقد كان الأوزاعي يسوي بينهما في كمال الدية ويقول: إن من قطعت يده في الجهاد كان الباقية إذا قطعت جميع الدية ونحن نسوي بينهما في أن كل واحدة منهما نصف الدية وأنت تخالف بينهما لافتراقهما في الكفارة وليس ذلك بصحيح, لأن من قطعت خنصر أصابعه يجزئ في الكفارة, ولا يدل على أن من قطع الكف بعد ذهاب خنصرها يلزمه جميع ديتها لإجزائها في الكفارة, كذلك عين الأعور. فصل: وإذا قلع الأعور عين بصير ذي عينين كان للبصير أن يقتص من الأعور, فإن عفا عنه كان له على الأعور نصف الدية. وقال مالك: له أن يقتص من الأعور, فإن عفا عنه وجبه له على الأعور بعينه الواحدة جميع الدية, لأنه قد عفا الله عن جميع بصره, وهذا خطأ, لأن العفو عن القصاص يوجب دية العضو المجني عليه, لا دية المقتص منه, ألا ترى أن رجلًا لو قطع يد امرأة كان لها عليه أن تقتص من يده, فإن عفت عن القصاص كان لها دية يدها لا دية

يد الرجل, كذلك وجوبه القصاص على الأعور, وهكذا لو قطع عبد يد حر فعفا الحر عن القصاص كان له دية يد الحر لا دية العبد, لأن في العينين دية واحدة, وما قاله مالك يفضي إلى إيجاب ديتين, لأنه إذا قلع إحدى عينيه أعور أوجب عليه الدية ثم يصير بعد قلعها أعور, فيوجب فيها إذا قلعت دية ثانية, وما أفضى إلى هذا كان مطرحًا. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن كسر صلبه فلم يطق المشي ففيه الدية". قال في الحاوي: وهذا صحيح, لأنه قد أذهب جماله بكسر صلبه وأبطل تصرفه بذهاب مشيه فكملت فيه الدية, فإن كسر صلبه ولم يذهب مشيه وصار يمشي كالراكع وجب فيه حكومة لذهاب الجمال مع بقاء المنفعة, ولو صار بعد كسر صلبه منتصب الظهر لكن ذهب مشيه فعليه الدية تامة, لذهاب المنتفعين مع بقاء الجمال كما لو ضرب يده فشلت, فلو صار ضعيف المشي لا يقدر على السعي ولا على السرعة ففيه حكومة؛ لأنه قد أذهب من مشيه ما لا ينحصر, ولو انحصر لوجب فيه من الدية بقسطها, ولو صار لا يقدر على المشي إلا معتمدًا على عصا كانت عليه حكومة هي أكثر من حكومته لو مشي بغير عصا, وكلما أوجبناه في ذلك من الدية أو الحكومة فإنما نوجبه بعد استقرار الجناية بالتوقف عن الحكم بها حتى ينظر ما ينتهي إليه من أمرها, فلو حكم له بالدية لذهاب مشيه ثم صار يمشي من بعد استرجع منه ما أخذه من الدية إلا قدر حكومة الألم والشين, فإن اقترن بكسر الصلب وذهاب المشي شلل القدمين لزمته ديتان, إحداهما في ذهاب المشي, والأخرى في شلل الرجلين. فإن قيل: فهلا وجبت دية الرجلين بذهاب المشي وإن لم يصر فيهما شلل, لأنه قد أبطل نفعهما, قيل: لأن منفعة الرجلين باقية في انقباضهما وبسطهما لا تذهب إلا بالشلل, وإنما ذهب المشي لنقص في غيرهما, فلذلك لم تجب ديتها إلا بشللهما. فصل: ولو كسر صلبه فعجز عن الجماع فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون عجزه عنه لضعف حركته مع بقاء منيه وانتشار ذكره ففيه حكومة, لأنه قد يقدر على الإنزال باستدخال ذكره. والضرب الثاني: أن يكون عجزه عن الجماع لذهاب منيه وعدم انتشار ذكره ففيه الدية كاملة, لأنه قد أذهب منفعة الصلب بذهاب المني, فإن أنكر الجاني ما ادعاه نظر فإن اقترنت بدعواه علامة تدل عليه جعل القول قوله مع يمينه في ذهابه؛ لأنه لا يعلم إلا من جهته, وإن لم يقترن به علامة سئل عنه أهل العلم به, فإن قالوا: لا يذهب منه

الجماع حلف الجاني ولم يلزم الدية, وإن قالوا: يجوز أن يذهب منه الجماع حلف المجني عليه واستحق الدية, ولو كسر صلبه فأذهب مشيه وجماعه معًا ففيه وجهان: أحدهما: لا يلزمه إلا دية واحدة, لأنهما منفعة عضو واحد, حكاه أبو حامد الإسفراييني, والوجه الثاني: تلزمه ديتان وهو الظاهر من مذهب الشافعي, لأنهما منفعتان في محلين فلزمت فيهما ديتان, وإن كانت الجناية على محل واحد, كما لو قطع أذنه فذهب سمعه, أو جدع أنفه فذهب شمه. فصل: ولو جني عليه فالتوت عنقه وانعطف وجهه فصار كالملتفت وجهه وجبت فيه حكومة بحسب الشين والألم لا تبلغ بها الدية, لبقاء بعض المنافع ولو كان وجهه بعد الجناية على استقامته لكنه لا يقدر على الالتفات به كانت فيه حكومة الوجه دية ما ذهب من الكلام, فإن أذهب جميع كلامه بالتواء عنقه كملت دية الكلام وزيد في حكومة الالتواء, فإن كان لا يقدر على مضغ الطعام إلا بشدة ضم إلى ذلك حكومة في نقصان المضغ, فإن كان لا ينساغ الطعام ولا يصل إلى جوفه بوجور ولا غيره قيل: هذا لا يعيش ولا ينتظر به؛ فإن مات وجبت ديته. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ودية المرأة وجراحها على النصف من دية الرجل فيما قل أو كثر". قال في الحاوي: دية المرأة في نفسها على النصف من دية الرجل وهو قول الجمهور, وقال الأصم وابن علية ديتها كدية الرجل لأمرين: أجدهما: أن تساويهما في القصاص يوجب تساويهما في الدية. والثاني: أن استواء الغرة في الجنين الذكر والأنثى يوجب تساوي الدية في الرجل والمرأة, لأن الغرة أحد الديتين. والدليل على صحة ما ذهب إليه الجمهور رواية معاذ بن جبل, وعمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ودية المرأة على النصف من دية الرجل", وهذا نص ولأنه قول

عمر, وعلي, وابن عباس, وزيد بن ثابت - رضي الله عنهم - وليس بعرف لهم مخالف فصار إجماعًا, ولأن الدية مال والقصاص حد, والمرأة تساوي الرجل في الحدود فساوته في القصاص, ولا تساويه في الميراث وتكون على النصف منه لم تساوه في الدية, وكانت النصف منها وفيه انفصال, فأما الجنين فلأن اشتباه حاله في الحياة والموت والذكورية والأنوثية أوجبت حسم الاختلاف بإيجاب الغرة مع اختلاف أحواله فلم يجز أن يقاس عليه ما زال عنه الاشتباه والحسم فيه التنازع. فصل: فإذا أثبت أن ديتها في النفس على النصف من دية الرجل فقد اختلف الفقهاء في دية أطرافها وجراحها على النصف من دية الرجل فيما قل أو كثر, وبه قال علي بن أبي طالب - عليه السلام - وهو قول أبي حنيفة من أهل الكوفة, وعبيد الله بن الحسن العنبري في أهل البصرة والليث بن سعد في أهل مصر. وقال ابن مسعود وشريح: المرأة تعاقل الرجل إلى نصف عشر ديته, أي تساويه في الدية إلى نصف عشرها وهو دية السن والموضحة ثم تكون على النصف من الرجل فيما زاد عليه, وقال زيد بن ثابت, وسليمان بن يسار: تعاقل الرجل إلى دية المنقلة وذلك عشر الدية ونصف عشرها ثم تكون على النصف فيما زاد, وقال مالك: تعاقله إلى ثلث الدية أرش المأمومة والجائفة, ثم تكون على النصف عنه فيما زاد, وبه قال من الصحابة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ومن التابعين سعيد بن المسيب والزهري, ومن الفقهاء أحمد وإسحاق وقد ذكره الشافعي في القديم فمن أصحابه من جعله مذهبًا له في القديم ومن أصحابنا من جعله حكاية عن مذهب غيره. قال ربيعة بن أبي عبد الرحمن سألت سعيد بن المسيب كم في إصبع المرأة؟ قال: عشر, قلت: ففي إصبعين؟ قال: عشرون, قلت: ففي ثلاث؟ قال: ثلاثون, قلت: ففي أربع؟ قال: عشرون فقلت له: لما عظمت مصيبتها قل عقلها, قال: هكذا السنة يا بن أخي, واستدل من ذهب إلى هذا برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث ديتها" ولعل سعيد بن المسيب أشار بقوله هكذا السنة إلى هذه الرواية, ولأن المرأة لما ساوت الرجل في الميراث إلى المقدر بالثلث وهو ميراث ولد الأم الذي يستوي فيه الذكر والإناث وكانت على النصف من الرجل فيما زاد على الثلث وجب أن تساويه في الدية إلى الثلث وتكون على النصف فيما زاد, ودليلنا هو أن نقص الأنوثة لما منع من مساواة الرجل في دية النفس كان أولى أن يمنع من مساواته فيما دونها من ديات الأطراف والجراح, لأن دية النفس أغلظ اعتبارًا

بالمسلم مع الكافر, ولأنه لما كان القصاص فيما دون النفس معتبرًا بالقصاص في النفس وجب أن تكون الدية فيما دون النفس معتبرة بدية النفس وهي فيه على النصف فكذلك فيما دونها. وأما الجواب عن حديث عمرو بن شعيب فلم يسنده, لأن جده محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص لا صحبة له, وإنما يكون مسندًا إذا رواه عن جده عبد الله بن عمرو, ولأنه هو الصحابي وقد قال الشافعي: "لم أجد له نفاذًا" يعني طريقًا لصحبته, وأما الميراث فقد تكون فيه على النصف من الرجل فيما نقص من الثلث عند مقاسمة الإخوة, وإنما ساوت ولد الأم؛ لأن الإدلاء فيه بالرحم الذي يوجب تساوي الذكور والإناث فيه كفرض الأبوين, فإن تكن العلة فيه تقديره فلم يجز أن يحصل اختلاف والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي ثدييها ديتها". قال في الحاوي: وهذا صحيح؛ لأن في الثديين جمالًا ومنفعة فصارا في الدية كاليدين وسواء كانا كبيرين أو صغيرين, من كبيرة أو صغيرة, نزل فيهما لبن أو لم ينزل, فإن قطعهما وأجاف ما تحتهما كان عليه الدية فيهما وأرش جائفتين تحتهما, ولو ضربهما فاستحشفتا ويبسا حتى صارا لا يألمان فهذا شلل, وفيها الدية كاملة؛ لأنه قد أبطل منافعهما وإن بقي الجمال فيهما, كما لو أشل يده, ولو ضربهما فذهبا مع بقاء الألم فيهما ففيهما حكومة, ولو ضربها فذهب لبنها فقد يجوز أن يكون ذهابه من الضرب ويجوز أن يكون من غيره فيسأل أهل العلم به, فإن قالوا: إن من الضرب كان فيه حكومة, وإن قالوا: من غيره فلا شيء عليه فيه, ولو قطع إحدى الثديين كان فيه نصف الدية كإحدى اليدين, وكذلك لو ضربه فشل. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي حلمتيها ديتها لأن فيهما منفعة الرضاع". قال في الحاوي: وهذا صحيح؛ لأن جمال الثدي ومنفعته بالحلمة كما أن منفعة اليد بالأصابع, فإذا قطع الحلمتين كان فيهما الدية كاملة كما تكمل الدية بقطع الأصابع, فإن عاد أو غيره فقطع ما بقي من الثديين بعد قطع الحلمتين كان في بقيتهما حكومة كما يجب في قطع الكف بعد قطع أصابعها حكومة, وكذلك إذا استحشفت الحلمتان بجنايته كملت ديتها لذهاب منافعهما, فإن قطع إحدى الحلمتين أو أحشفهما كان فيها نصف الدية, ولو قطع بعض أجزائها كان فيه من الدية بقسطه, وهل يعتبر قسط المقطوع من نفس الحلمة أو من جميع الثدي على قولين من اختلاف قوليه في قطع بعض حشفة الذكر

هل يعتبر قسطه من الحشفة أو من جميع الذكر؟ على قولين نذكرهما من بعد, لأن محل الحلمة من الثدي محل الحشفة من الذكر. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وليس ذلك في الرجل ففيهما من الرجل حكومة". قال في الحاوي: أما ثدي الرجل فهو أقل منفعة وجمالًا من ثدي المرأة وإن لم يخل من منفعة وجمال وفي قطعهما منه قولان: أحدهما: وهو المنصوص عليه في هذا الموضع فيهما حكومة؛ لأن كمال منفعتهما بالرضاع وذلك مختص بالمرأة دون الرجل, فوجب فيهما من الرجل حكومة ومن المرأة دية. والقول الثاني: قال في كتاب الديات: فيهما الدية كاملة, لكمال نفعهما في الجنس, وإن كان أقل من نفعهما في غير الجنس, ولو قطعهما وأجاف موضعهما فعليه في إحدى القولين حكومة في الثديين ودية جائفتين. وفي القول الثالث: دية كاملة في الثديين ودية جائفتين, ولو قطع حلمتي ثدييه كان على قولين: أحدهما: فيهما حكومة دون حكومة الثديين. والثاني: فيها دية كاملة كدية اليدين, وفي قطع إحداهما نصف الواجب من قطعهما من حكومة أو دية. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي إسكتيها وهما شفراها إذا أوعبتا ديتها والرتقاء التي لا تؤتي وغيرها سواء". قال في الحاوي: أما الإسكتان وهما الشفران فهما ما غطى الفرج وانضم إليه من جانبيه كالشفتين في غطاء الفم, والجفون في غطاء العينين, وفيهما الدية كاملة إذا قطعا من الجانبين, لما فيهما من كمال المنفعة كالشفتين, فإن كان القاطع لهما امرأة وجب عليها القصاص إن أمكن, وقال المزني: لا قصاص من المكنة, لأنه قطع لحم من لحم وليس كذلك, لأن أحدهما في الخلقة يجري عليهما حكم المفصل في القصاص, وسواء قطعا مع بكر أو ثيب, صغيرة أو كبيرة يطاق جماعها, أو لا يطاق, من رتق أو قرن, لأن الرتق والقرن عيب في الفرج مع سلامة الإسكتين فجريا في كمال الدية مجرى شفتي الأخرس وأذني الأصم وأنف الأخشم, ولو ضرب إسكتيها فشلا كملت ديتها ولا قصاص فيهما كاليد إذا شلت, وهو بخلاف الأذن إذا استحشفت في أحد القولين, لأن شللهما قد

أذهب من منافعهما ما لم يذهب استحشاف الأذن, ولو قطع إحدى الإسكتين كان فيه نصف الدية كما لو قطع إحدى الشفتين, فأما الركب فهو بمنزلة العانة من الرجل, ومن قطعه من المرأة حكومة لا يبلغ بهما الدية, فإن قطعه مع الشفرين فعليه دية في الشفرين وحكومة في الركب والمخفوضة وغيرها سواء, والخفض قطع جلدة نابتة في أعلى الفرج مثل عرف الديك, وهي التي ورد الشرع بأخذها من النساء كالختان في الرجال, ولا شيء فيها إن قطعت بجناية من دية ولا حكومة لورود الشرع بأخذها تعبدًا, وإن كان يأخذها متعديًا إلا أن تسري فيضمن أرش سرايتها لتعديه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو أفضى ثيبًا كان عليه ديتها ومهر مثلها بوطئه إياها". قال في الحاوي: أما إفضاء المرأة فقد اختلف أصحابنا فيه فذهب أبو علي بن أبي هريرة وجمهور المصريين إلى أنه هتك الحاجز الذي بين سبيل الفرجين القبل والدبر, وذهب أبو حامد الإسفراييني وجمهور البغداديين إلى أنه هتك الحاجز الذي في الفرج بين مدخل الذكر ومخرج البول, وهذا قول أبي حنيفة, والأول أظهر, لأن خرق الحاجز الذي في القبل بن مدخل الذكر ومخرج البول, هو استهلاك لبعض منافعه وليس في أعضاء الجسد ما تكمل الدية في بعض منافعه, وإذا خرق ما بين السبيلين كان استهلاكًا لجميع المنافع فكان بكمال الدية أحق, فإن قيل بهذا أنه خرق ما بين السبيلين كان على خرق الحاجز الذي في القبل حكومة, وإن قيل: إنه خرق حاجز القبل كان خرق ما بين السبيلين أولى بوجوب الدية, فإذا ثبت هذا فالإفضاء مضمون بالدية الكاملة وإن كان البول معه مستمسكًا, فإن استرسل البول ولم يستمسك وجب مع دية الإفضاء حكومة في استرسال البول, وقال أبو حنيفة إن استرسل البول بالإفضاء ففيه الدية التامة وحدها من غير حكومة, وإن استمسك البول ففي الإفضاء ثلث الدية, واستدل على أنه لا حكومة عليه مع استرسال البول بأن ما ضمن إتلافه بالدية دخل غرم منافعه في ديته, كما لو قطع لسانه فأذهب كلامه, أو فقأ عينه فأذهب بصره, واستدل على أن فيه مع استمساك البول ثلث الدية بأنه ليس هتك هذا الحاجز بأعظم من حاجز الجائفة فلما وجبت في الجائفة ثلث الدية كان أولى أن لا يجب في الإفضاء أكثر من ثلث الدية, وتقدر بثلث الدية, لأنهما معًا هتك حاجز في جوف, والدليل على أن في استرسال البول حكومة زائدة على دية الإفضاء لما جاز أن يستمسك البول مع وجود الإفضاء, وجاز أن يسترسل علم أنه في غير محل الإفضاء, فصار من منافع غيره, فوجب أن يكون أرشه زائدًا على أرش الإفضاء, كما لو قطع أذنه فأذهب سمعه أو جذع أنفه فأذهب شمه لزمه غرمها, وخالف

ذهاب الكلام بقطع اللسان وذهاب البصر بفقء العين لاختصاصهما بمحل الجناية, إذ ليس يصح أن يتكلم مع قطع اللسان ولا يبصر مع فقء عينه, فلذلك لم يضمنها بزيادة على أرش الجناية, والدليل على أن في الإفضاء دية كاملة أن الأعضاء الباطنة في الجسد أخوف على النفس من الأعضاء الظاهرة, فكانت بكمال الدية أحق, وهذا الحاجز من تمام الخلقة ومخصوص بمنفعة لا توجد في غيره, لامتياز الحيض ومخرج الولد عن مخرج البول؛ لأن الحيض والولد يخرجان من مدخل الذكر, فإذا انخرق الحاجز بالإفضاء زال بالجناية عليه ما لا يقوم غير مقامه فأشبه الأعضاء المفردة من اللسان والأنف ولأن الإفضاء بقطع التناسل؛ لأن النطفة لا تستقر في محلق العلوق لامتزاجها بالبول فجرى مجرى قطع الذكر والأنثيين وفي ذلك كمال الدية, فكذلك الإفضاء, فأما الاستشهاد بالجائفة فغير صحيح, لأن دية الجائفة الثلث لاندمالها, ولو لم تندمل لأفضت غلى النفس فكمل فيها الدية, والإفضاء غير مندمل فكملت فيه الدية ولو اندمل لما كملت فيه الدية ولوجب فيه حكومة فافترقا. فصل: فإذا ثبت ما ذكرنا من حكم الإفضاء فلا يخلو من أن يكون بوطء أو بغير وطء, فإن كان بغير وطء وهو نادر لما يخل من أن يندمل أو لا يندمل, فإن اندمل ففيه حكومة, وإن لم يندمل ففيه الدية, فإن اقترن به استرسال البول ففيه مع الدية حكومة, فإن اقترن بالإفضاء ذهاب العذرة مع البكر وجب فيه مع دية الإفضاء حكومة العذرة على غير الزوج ولم يجب فيه على الزوج حكومة؛ لأنه مستحق لإزالتها باستمتاعه فاستوى الزوج وغيره في دية الإفضاء وحكومة استرسال البول, ولم يكن لهذا الإفضاء تأثير في وجوب المهر على الأجنبي, ولا في كماله على الزوج, لخلوه من وطء وإن كان هذا الإفضاء بوطء وهو الأغلب لم يخل حالة من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكون من زوج في نكاح. والثاني: أن يكون من وطء شبهة. والثالث: أن يكون من زنا. فأما القسم الأول: وهو أن يكون من زوج في عقد نكاح فعليه دية الإفضاء وكمال المهر, وقال أبو حنيفة: إفضاؤها غير مضمون على الزوج, وليس عليه أكثر المهر, استدلالًا بأن ما استبيح من الوطء لم يضمن به ما حدث من استهلاك كزوال العذرة, ولأن الفعل المباح لا تضمن سرايته كالقطع في السرقة, ودليلنا: هو أنها جناية قد يتجرد الوطء عنها فلم يدخل أرشها في حكمه كالوطء بشبهة لا يسقط بالمهر فيه دية الإفضاء, ولأنها حقان مختلفان وجبا بسببين مختلفين؛ لأنه مهر مستحق بالتقاء الختانين ودية مستحقة بالإفضاء فجزا اجتماعهما كالجزاء والقيمة في قتل العبد المملوك, ولأن الجنايات إذا ضمنها غير الزوج ضمنها الزوج كقطع الأعضاء, ولا يدخل عليه العذرة؛

لأنها من الزوج مستحقة, وبهذا فرقنا بينهما, وأما استدلاله بحدوث سرايته عن فعل مباح فليس ما أدى إلى الإفضاء مباحًا, وجرى مجرى ضرب الزوج يستباح منه ما لم يؤد إلى التلف ولا يستباح ما أدى إليه, وهو يضمن من الضرب ما أدى إلى التلف فوجب أن يضمن بالوطء ما أدى إلى الإفضاء. فصل: وأما القسم الثاني: وهو أن يكون الإفضاء من وطء شبهة فيلزم الواطئ بالشبهة مهر المثل بالوطء, ودية الإفضاء, ولا يسقط أحدهما بالآخر, وقال أبو حنيفة: يلزمه دية الإفضاء ويسقط بها المهر استدلالًا بأن ضمان العضو بإتلاف يدخل فيه ضمان المنفعة كما يضمن يده إذا قطعها بما يضمنها به لو أشلها, ودليلنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فلها المهر بما استحل من فرجها" فكان على عمومه, ولأنها جناية قد تنفك عن وطء فوجب أن لا يدخل المهر في أرشها, كما لو قطع أحد أعضائها, ولأنهما حقان مختلفان وجبا بسببين مختلفين فلم يتداخلا كالقيمة والجزاء, وهذا يمنع من جمعهم بين قطع اليد وشللها, فإذا ثبت الجمع بين مهر المثل ودية الإفضاء لم يخل حال المفضاة من أن تكون بكرًا أو ثيبًا, فإن كانت ثيبًا التزم مفضيها ثلاثة أحكام, مهر مثلها ودية إفضائها, وحكومة استرسال بولها, وإن كانت بكرًا التزم الأحكام الثلاثة, وهل يلتزم معها أرش بكارتها أو تكون داخلًا في دية إفضائها؟ على وجهين: أحدهما: يلزمه أرش البكارة, لأنه يلزمه وإن لم يفضها فكان لزومه مع إفضائها أولى. والوجه الثاني: لا يلزمه مع دية الإفضاء أرش البكارة, ويكون داخلًا في الدية, لأنها جناية واحدة فوجب أن يدخل حكم ابتدائها في انتهائها كدخول أرش الموضحة في دية المأمومة, وقول الشافعي: "لو أفضى ثيبًا كان عليه ديتها", ليس بشرط؛ لأن إفضاء البكر والثيب في الدية سواء. فصل: وأما القسم الثالث: وهو أن يكون الإفضاء من وطء زنا فلا يخلو حال الموطوءة من أن تكون مطاوعة أو مكرهة, فإن كانت مطاعة فليس لها مهر ولا أرش البكارة؛ لأنها مبيحة له بالمطاوعة غير مبيحة للإفضاء وإن أباحت ذهاب العذرة وعليها الحد, وإن كانت مكرهة وجب لها مهر دية الإفضاء, وفي وجوب أرش البكارة وجهان على ما مضى من وطء الشبهة يجب في أحدهما ولا يجب في الآخر وعليه حد الزنا

دونها, وقال أبو حنيفة: يسقط عنه المهر مع وجوب الحد عليه ولا يسقط مهرها عند الشافعي بسقوط الحد عنها وقد مضى الكلام فيها. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا من حكم الإفضاء ووجوب الدية الكاملة فيه مع ما يقترن به من الأروش الزائدة في استرسال البول وذهاب العذرة فقد ينقسم الإفضاء ثلاثة أقسام: أحدهما: ما يجري عليه حكم العمد المحض, وهو أن تكون الموطوءة صغيرة والواطئ كبير الذكر يعلم أن وطء مثله يفضيها, فهو عامد في الإفضاء, فيلزمه دية مغلظة حالة في مالها, وإن أفضى الإفضاء إلى تلفها كان عليه القود, ودخلت دية الإفضاء في دية النفس, وكذلك أرش البكارة ولا يدخل فيه مهر المثل. والقسم الثاني: ما يجري عليه حكم الخطأ المحض, وهو أن يكون وطء مثله مفضيًا للصغيرة وغير مفض للكبيرة, فيطأ الصغيرة وهو يظنها الكبيرة فيفضيها فيكون إفضاؤها خطأ محضًا, فتكون الدية فيه مخففة على عاقلته دونه ولا قود في النفس إن انتهى الإفضاء غلى التلف وتجب فيه الكفارة مع الدية؛ لأن الإفضاء صار قتلًا, والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي العين القائمة واليد والرجل الشلاء حكومة". قال في الحاوي: أما العين القائمة فهي التي قد ذهب بصرها, وهي صورة الصحيح فذهب نفعها وبقى جمالها, ففيها إذا قلعت حكومة لأجل الألم وما أذهب من جمالها, وحكي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه أوجب فيها ثلث الدية وحكي عن زيد بن ثابت أنه أوجب فيهما مائة دينار وهذا فيها على وجه الحكومة إن تقدرت باجتهاد أبي بكر ثلث الدية, وباجتهاد زيد مائة دينار, وقد يجوز أن تتقدر باجتهاد من بعدهما من الحكام بهذا المقدار وبأقل منه وبأكثر, بحسب اختلافه في الشين والقبح اليد الشلاء التي لا تألم, والرجل الشلاء إذا قطعها لا دية فيها لذهاب منفعتها؛ لأن منفعة اليد البطش, ومنفعة الرجل المشي وقد ذهب بطش اليد ومشي الرجل بشللهما وبقي الجمال فيهما, فسقطت الدية لذهاب المنفعة, ووجب الحكومة لأجل الجمال. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولسان الأخرس". قال في الحاوي: يعني أن فيه حكومة إذا قطع؛ لأن ذهاب الكلام قد سلبه المنفعة

فصار كالعين القائمة, فاقتضى لهذا التعليل أن تجب في قطعه حكومة كما يجب في العين القائمة, وهذا القول على الإطلاق ليس بصحيح عندي؛ لأن مقصود اللسان أفعال: أحدهما: الكلام, والثاني: الذوق, ويقترن بهما ثالث يكون اللسان عونًا فيه وهو إدارة الطعام به في الفم للمضغ, فإن كان ذوق الأخرس بعد قطع لسانه باقيًا ففيه حكومة كما أطلقه الشافعي, ولأنه ما سلبه القطع أحد النفعين المقصودين, وإنما سلبه أقل منافعه وهو إدارة الطعام به في فمه, وإن ذهب ذوق الأخرس بقطع لسانه ففيه الدية كاملة, لما قدمناه من وجوب الدية في ذهاب الذوق, ولأنه أحد الحواس كالشم بل هو أنفع, فيكون الإطلاق محمولًا على هذا التفصيل والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وذكر الأشل فيكون منبسطًا لا ينقبض أو منقبضًا لا ينبسط". قال في الحاوي: أما الذكر السليم من شلل ففيه الدية تامة, لرواية عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتابه إلى اليمن: "وفي الذكر الدية". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قضى في الأداف الدية, قال قطرب: الأداف الذكر ولأنه من آلة التناسل وذلك من أعظم المنافع ولأنه أحد منافذ الجسد فأشبه الأنف, ولا فرق بين ذكر الصبي والرجل والشيخ الهرم والعينين الذي لا يأتي الناس؛ لأنه العنة عيب في غير الذكر؛ لأن الشهوة في القلب والمني في الصلب, فإن كانت العنة من قلة الشهوة فمحلها في القلب, وإن كانت من قلة الماء فمحله في الصلب, والذكر ليس بمحل لواحد منهما فكان سليمًا من العنين كسلامته من غير العنين, وكانت الدية في قطعه منهما على سواء, فإن قطع حشفة الذكر حتى استوعبها مع بقاء القضيب ففيها الدية, لأن نفع الذكر بحشفة كما تكمل دية الكف بقطع الأصابع, فإن قطع بعض الحشفة كان عليه من الدية بقسطها, وهل يتقسط على الحشفة وحدها أم على جميع الذكر؟ على قولين: أحدهما: تتقسط على الحشفة, لأن الدية تكمل بقطعها, فتقسط عليها أبعاضها, فيلزمه في نصف الحشفة نصف الدية, وإن كان أقل من نصف الذكر. والقول الثاني: أنه تتقسط دية المقطوع من الحشفة على جميع الذكر؛ لأنه الأصل المقصود بكمال الدية فكانت أبعاضه مقسطة عليه, فعلى هذا إن كان المقطوع من نصف الحشفة هو سدس الذكر لزمه سدس الدية, وكذلك حكم الحلمة من الثدي إذا قطع بعضها كان على هذين القولين.

فصل: فأما الأنثيان وهم الخصيتان ففيهما الدية لأنهما من تمام الخلقة وهما محل التناسل, لانعقاد مني الصلب في يسراهما إذا نزل غليها فصار لقاحًا فيهما, ولأن الحياة محلهما, ولذلك كان عصر الأنثيين مفضيًا إلى التلف, ولا فرق في الأنثيين بين قطعهما من كبير أو صغير, عنين أو غير عنين, سواء كان باقي الذكر أو مجبوبًا, لأن جب الذكر نقص في غيره وأوجب مالك في أثنيي المجبوب الذكر حكومة؛ لأن جب الذكر قد آثر في نقص الأنثيين بعد النسل, وهذا فاسد بما قدمناه من أنه نقص في غيره فلم يؤثر فيه مع سلامته, وفي إحدى الأنثيين نصف الدية, ولا فضل ليسرى على يمنى. وحكي عن سعيد بن المسيب أنه أوجب في البيضة اليسرى ثلثي الدية, وفي اليمنى ثلثها؛ لأن محل المني في اليسرى, ومحل الشهر في اليمنى, وهذا قول فاسد؛ لأن كل عضوين كملت فيهما الدية تنصفت في كل واحد منهما على سواء, وإن اختلفت منافعهما كاليدين, وعلى أن ما ذكره من لقاح اليسرى مظنون بذكره الطب وقد حكي عن عمرو بن شعيب أنه قال: عجبت من يفضل البيضة اليسرى على اليمنى؛ لأن النسل منها, كان لنا غنم فخصيناها الجانب الأيسر فكن يلقحن, فإن قطع الذكر مع الأنثيين لزمه ديتان إحداهما في الذكر والأخرى في الأنثين سواء قطعهما معًا أو قطع إحداهما بعد الأخرى, سواء قدم قطع الذكر أو قطع الأنثيين. وقال مالك: إن قطعهما معًا ففيه الدية وحكومة, وإن قطع الذكر ثم الأنثيين وجب دية في الأنثيين وحكومة في الذكر, وقال أبو حنيفة: إن قطعهما معًا أو قطع الذكر ثم الأنثيين فعليه ديتان كما قلنا, وإن قطع الأنثيين أولًا ثم الذكر فعليه دية في الأنثيين وحكومة في الذكر كما قال مالك, وهذا خطأ؛ لأن كل ما كملت فيه الدية إذا انفرد لم تنقص ديته إذا اقترن بغيره كاليدين مع الرجلين, أو قطع الأذنين مع ذهاب السمع. وعلى قول أبي حنيفة: إن كل عضوين كملت ديتاهما إذا اجتمعا كملت ديتاهما إذا افترقا كما لو قدم قطع الذكر, وهكذا لو وجأ ذكره حتى استحشف ووجأ أنثييه حتى استشحفتا وجب في كل واحد منهما دية كاملة لأنه قد أذهب منافعهما بالاستشحاف والشلل. فصل: فأما إذا قطع أشل ينقبض فلا ينبسط, أو ينبسط فلا ينقبض فهي مسألة الكتاب, وفيه حكومة كقطع اليد الشلاء؛ لأن الشلل الذكر قد أبطل منافعه, فإن قيل: فمنافعه باقية؛ لأنه مخرج البول وخروجه من الأشل كخروجه من غير الأشل فوجب أن لا تكمل فيه

الدية, قيل: مخرج البول منه هو أقل منافعه؛ لأن البول يخرج مع قطعه وقد فات بقطعه أكثرها فلم يلزم فيه إلا حكومة, وهذا لو قطع خصيتين مستحشفتين كان فيهما حكومة لذهاب منافعهما بالاستحشاف. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي الأذنين المستحشفتين بهما من الاستحشاف ما باليد من الشلل وذلك أن تحركا فلا تتحركا أو تغمزا بما يؤلم فلا تألما". قال في الحاوي: أعلم أن شلل الأعضاء على ضربين: أحدهما: ما يسلبها جميع المنفعة ولا يبقى فيها إلا الجمال وحده على نقص فيه كشلل اليدين والرجلين, لأنه قد أذهب منافعهما وبقي بعض جمالها؛ لأنه ليس جمال السليمة كجمال الشلاء ففيهما إذا شلت بجنايته الدية, لذهاب المنفعة, ولو قطعهما بعد الشلل كان فيهما حكومة لذهاب الجمال. والضرب الثاني: ما يبقى بعد الشلل الجمال والمنفعة على نقص فيهما كاستحشاف الأذنين والأنف؛ لأن الأذنين بعد استحشافهما تجمع الصوت, والأنف بعد استحشافه يجذب الروائح المشمومة ففيهما إذا جني عليهما فاستحشفتا قولان: أحدهما: الدية كاملة كغيرها من الأعضاء إذا شلت. والثاني: حكومة لبقاء الجمال والمنفعة ولو قطعهما بعد الاستحشاف كان على قولين أيضًا. أحدهما: فيهما الدية إذا قيل في استحشافهما حكومة. والقول الثاني: فيهما حكومة إذا قيل في استحشافهما الدية. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وكل جرح ليس فيه أرش معلوم حكومة". قال في الحاوي: هذا صحيح, وهو ما دون الموضحة في شجاج الرأس وما دون الجائفة في جراح الجسد ففيها حكومة تتقدر بالاجتهاد وبحسب الألم والشين لا يبلغ بما في شجاج الرأس دية الموضحة, ولا مما في جراح البدن دية الجائفة؛ لأن الموضحة أغلظ مما تقدمها والجائفة أجوف مما دونها فلم يجز أن يبلغ بالأقل دية الأكثر. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي شعر الرأس والحاجبين واللحية وأهداب العينين في كل ذلك حكومة".

قال في الحاوي: وهذا قاله ردًا على أبي حنيفة؛ لأنه أوجب في كل واحد من هذه الشعور الأربعة الدية تامة, وأوجب الشافعي في جميعها حكومة تتقدر بحسب الشين, ولم يوجب فيها الدية, لأمرين: أحدهما: أن الدية تجب فيما يكون له مع الجمال منفعة, وهذا مسلوب المنفعة فلم تجب فيه الدية. والثاني: أن الدية تجب فيما يؤلم قطعه ويخاف سرايته, وقد عدم في الشعر الألم والسراية فلم يجب فيه دية, وإذا كان كذلك لم يخل حال الشعر المأخوذ من الجسد من ثلاثة أقسام: أحدهما: ما لا يحدث أخذه شيئًا في جميع الناس وذلك مثل شعر الإبط والعانة, فلا شيء فيه, سواء عاد أو لم يعد, إلا أن يحدث في الجلد أثرًا فيلزم في أثر الجلد حكومة دون الشعر المأخوذ منه, وقد خرج بعض أصحابنا فيه وجهًا ثانيًا أن فيه إذا لم يعد حكومة وإن كان ذهابه أجمل لأن الشافعي قد أوجب في لحية المرأة إذا نتفت فلم تعد حكومة, وإن كان ذهابها أجمل بالمرأة من بقائها وهما في المعنى سواء. والقسم الثاني: ما يحدث أخذه شيئًا في جميع الناس كشعر اللحية والحاجبين وأهداب العينين ففيه إذا لم يعد حكومة, وإن عادل مثل نباته قبل أخذه ففيه وجهان: أحدهما: لا شيء فيه. والثاني: فيه حكومة هي دون حكومة ما لم يعد, وقد لوح الشافعي إلى الوجهين معًا, فلو خرج على قولين كان محتملًا, فلو نبت بعضه لزمته حكومة ما لم ينبت, وفي حكومة ما نبت وجهان على ما مضى. والقسم الثالث: ما يحدث أخذه شيئًا في بعض الناس, ولا يحدث شيئًا في بعضهم وهو شعر الرأس والشارب, يحدث شينًا فيمن لم تجر عادته بحلق رأسه وحف شاربه, ولا يحدث شيئًا فيمن جرت عادته بذلك, فإن أخذه من لا يشينه أخذه فلا شيء عليه إن عاد, وإن لم يعد فهل فيه حكومة هي أقل من حكومة الشعر أم لا؟ على وجهين: وإن أخذه ممن يشينه أخذه ففيه إن لم يعد حكومة وهي أكثر من حكومته فيمن لا يشينه أخذه, وإن عاد ففيه ما قدمناه من الوجهين. فأما القصاص في نتف الشعر فلا يجب لاختلاف الناس في كثافته وخفته, وطوله, وقصره, وشينه, وجماله, وذهابه ونباته. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ومعنى الحكومة أن يقوم المجني عليه كم يسوي أن

لو كان عبدًا غير مجني عليه ثم يقوم مجنيًا عليه فينظر كم بين القيمتين فإن كان العشر ففيه عشر الدية أو الخمس فعليه خمس الدية". قال في الحاوي: وجملة الأروش في الجنايات ضربان: أحدهما: ما ورد الشرع بتقديره فينطلق عليه اسم الدية واسم الأرش إلا دية النفس فلا ينطلق عليها اسم الأرش, لأن الأرش لتلافي خلل ولم يبق مع تلف النفس ما يتلافي فلم تسم ديتها أرشًا, فكل شيء تقدرت ديته بالشرع زال الاجتهاد فيه, وساوى حكم مع قلة الشين وكثرته, فما تقدرت أروشه بالدية الكاملة كالأنف واللسان والذكر ففيه من العبد جميع قيمته, وما تقدر أرشه بنصف الدية كإحدى العينين وإحدى اليدين والرجلين ففيه من العبد نصف قيمته, وما تقدر أرشه بعشر الدية كالإصبع ففيه من العبد عشر قيمته, وكذلك فيما زاد ونقص, فيصير الحر أصلًا للعبد من المقدر. والضرب الثاني: ما لم يرد الشرع بتقدير أرشه فالواجب فيه حكومة يختلف باختلاف الشين لا تتقدر إلا باجتهاد الحكام, ولذلك سميت حكومة لاستقرارها بالحكم, فإن اجتهد فيها من ليس بحاكم ملزم لم يستقر تقديره, لأنه لا ينفذ حكمه, ثم إذا تقدرت باجتهاد الحاكم في واحد لم يصر ذلك حكمًا مقدرًا في كل أحد, لأمرين: أحدهما: لقصور مرتبة الاجتهاد عن النص فصار الاجتهاد خصوصًا والنص عمومًا. والثاني: لاعتبار الشين في الاجتهاد وحذفه من النص, وإذا كان كذلك فمعرفة الحكومة أن يقوم المجني عليه لو كان عبدًا لا جناية به, فإذا قيل: مائة دينار قوم وبه هذه الجناية, وإذا قيل: تسعون دينارًا علم أنه نقص الجناية عشرة من مائة هي عشرها معتبر من دية نفس الحر فيكون أرشها عشر الدية, ولو نقص بعد الجناية عشرون من مائة هي خمسمائة كان أرشها خمس الدية, وكذلك فيما زاد ونقص, ولو كان المجني عليه عبدًا كان الناقص من قيمته هو أرش حكومته, فيصير العبد أصلًا للحر في الحكومة, والحر أصلًا للعبد في التقدير, وكان بعض أصحابنا يجعل نقص الجناية معتبرًا من دية العضو المجني عليه لا من دية النفس فإن كان على يد وهو العشر وأوجب عشر دية اليد, وإن عشر دية الموضحة, وإن كان على الجسد فيما دون الجائفة أوجب عشر دية الجائفة ولم يعتبره من دية النفس حذرًا من أن يبلغ أرش الحكومة دية ذلك العضو أو زيادة عليه, وهذا الاعتبار فاسد من وجهين: أحدهما: أنه لما كان التقويم للنفس دون العضو وجب أن يكون النقص معتبرًا من دية النفس دون العضو. والثاني: أنه قد تقارب جناية الحكومة جناية المقدر كالسمحاق مع الموضحة, فلو اعتبر النقص من دية الموضحة لبعد ما بين الأرشين مع قرب ما بين الجنايتين, فإن قيل:

فإذا اعتبرتموه من دية النفس ربما ساواه وزاد عليه, قيل: يختبر زمن هذه المساواة والزيادة حد فيها والنقصان فيها على ما سنذكره فلا توجب زيادة ولا مساواة. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا من اختيار الحكومة فلا يخلو حال الجناية ذات الحكومة من أحد أمرين: إما أن يكون لها تأثير في نقصان القيمة أو لا يكون فإن كان لها تأثير في النقصان وهو العشر الموجب لعشر الدية نظرت, فإن كان أقل من دية العضو المجني عليه كالجناية على إحدى العينين يقدر أرش الحكومة بعشر الدية, فيجب بها عشر الدية, وإن كان مساويًا لدية العضو المجني عليه كالجناية على الإصبع لم توجب فيه حكومتها عشر الدية, لأن لا يساوي أرش حكومتها دية قطعها, ونقصت من عشر الدية التي هي دية الإصبع ما يقتضيه الاجتهاد بحسب كثيرة الشين وقلته, ولو كانت على الرأس وهي دون الموضحة وكان نقصها عشر القيمة لم توجب بها عشر الدية؛ لأنه أكثر من دية الموضحة ونقصت من دية الموضحة بحسب الشين, ولا يجوز أن يجعل النقصان ناقصًا حقه أو أقله ما يجوز أن يكون ثمنًا لبيع أو صداقًا لزوجة, وإن لم يكن للجناية تأثير في نقصان القيمة وذلك من وجوه إما بأن لا يكون للجراح بعد اندمالها تأثير, أو يكون كقطع إصبع زائدة أو قلع سن شاغبة أو نتف لحية امرأة فقد أذهبت الجناية شيئًا وأحدثت جمالًا ففيها وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج: أنه لا أرش لها وتكون هدرًا لأنها لم تحدث نقصًا, وقد أشار الشافعي إلى هذا في اللطمة توجب الحكومة إن أثرت في تغيير البشرة وتكون هدرًا إن لم تؤثر. والوجه الثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي: أنها تضمن ولا تكون هدرًا لاستهلاك بعض الخلقة التي توجب ضمان جملتها ضمان أجزائها وقد أشار الشافعي إلى هذا في لحية المرأة إذا نتفت أنها توجب حكومة دون حكومة لحية الرجل, وإن لم يحدث نتفها في المرأة شيئًا فعلى هذا إن كان عدم التأثير في جرح قد اندمل لم يبق له بعد الاندمال أثر اعتبرت نقصان أثره قبل الاندمال وبعد انقطاع دمه, فإن لم يكن له تأثير اعتبرت نقصانه عند سيلان دمه فنجد له في نقصان القيمة أثرًا, وكذلك في اعتبار قطع الإصبع الزائدة يعتبر وقت سيلان الدم وإن كان قلع سن شاغبة فهي وإن شانت فقد كانت مقوية لما وراءها من سن الأصل فصارت بعد قلعها أضعف فيعتبر نقصان تأثير قوة تلك السن وضعفها, وإن كانت في نتف لحية امرأة فهو يحدث في المرأة زيادة وفي الرجل نقصانًا, فسقطت الزيادة الحادثة في المرأة من النقصان الحادث في الرجل, وينظر الباقي بعده فيعتبره من ديتها, فإن لم يبق بعد إسقاط الزيادة شيء من النقصان أوجب حينئذ ما قل مما يجوز أن يكون ثمنًا أو صداقًا, والله أعلم.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وما كسر من سن أو قطع من شيء له أرش معلوم فعلى حساب ما ذهب منه". قال في الحاوي: وقد مضت هذه المسألة وذكرنا أن ما تقدرت فيه الدية من الأعضاء والأسنان كان في أبعاضها إذا عرف مقداره منها قسطه من ديتها؛ لأن ما قابل جملة تقسط على أجزائها كالأثمان, فيكون في نصف السن نصف دية السن, وفي نصف الأذن نصف دية الأذن, وكذلك فيما زاد ونقص, فإن جهل قدر الذاهب من الباقي تقدر تقسيط الدية عليه فوجبت فيه حكومة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "في الترقوة جمل وفي الضلع جمل, وقال في موضع آخر: يشبه ما حكي عن عمر فيما وصفت حكومة لا توقيت, قال المزني - رحمه الله -: هذا أشبع بقوله كما يؤول قول زيد في العين القائمة مائة دينار أن ذلك على معنى الحكومة لا توقيت, وقد قطع الشافعي - رحمه الله - بهذا المعنى فقال: في كل عظم كسر سوى السن حكومة, فإذا جبر مستقيمًا ففيه حكومة بقدر الألم والشين, وإن جبر معيبًا بعجز أو عرج أو غير ذلك زيد في حكومته بقدر شينه وضره وألمه لا يبلغ به دية العظم لو قطع". قال في الحاوي: نقل المزني عن الشافعي أنه قال: في الترقوة جمل إذا كسرت وفي الضلع جمل إذا كسر, وهذا قاله في القديم, ونقل عنه في الجديد أن فيهما حكومة, فاختلف أصحابنا فكان المزني وطائفة من المتقدمين يخرجون ذلك على قولين: أحدهما: أن الجمل منهما تقدير يقطع الاجتهاد فيه ويمنع من الزيادة عليه والنقصان منه؛ لأن عمر - رضي الله عنه - حكم فيهما بالجمل, ومذهب الشافعي أن قول الصحابي إذا انتشر ولم يظهر له مخالف وجب العمل به وإن لم ينتشر فعلى قولين, وهذا قول قد انتشر فكان العمل به واجبًا. والقول الثاني: إن فيه حكومة, لأن مقادير الديات تؤخذ عن نص أو قياس, وليس فيه نص عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أصل يقاس عليه وجوب الجمل فيه, وقال أبو إسحاق المروزي وأبو علي بن أبي هريرة وأكثر المتأخرين إنه ليس ذلك على قولين ومذهبه فيه وجوب الحكومة وإنما ذكر فيهما الجمل تبركًا بقول عمر, وأثبته على قدر الحكومة أنها لا تبلغ دية السن, وأن ما نفذ من الاجتهاد فيه بهذا القدر كان ما تعقبه عن الاجتهاد مقارنًا له, فإن زاد عليه فيصير وإن نقص عنه فيصير, ولا يصير حدًا لا يتجاوز فأما العين

القائمة فلا تتقدر رقبتها فصارت يد بمائة دينار قولًا واحدًا, لأن أبا بكر - رضي الله عنه - قد خالفه فأوجب فيها ثلث الدية فتعارض قولاهما ولزمت الحكومة, وخالف الترقوة والضلع الذي لم يظهر فيه مخالف لعمرو, ولو قدره عمر بالجمل تقديرًا عامًا في جميع الناس ما جاز خلافه, لأنه صار إجماعًا, ولكنه قضى به في رجل بعينه انتهت حكومته إليه, وجاز أن يؤديه اجتهاده في غيره إلى أقل منه أو أكثر بحسب الشين, فلذلك لم يصر حدًا, وخالف حكم الصحابة في جزاء الصيد الذي يكون اجتهادهم فيه متبوعًا, لأنه على العموم دون الخصوص. فصل: فإذا ثبت في الترقوة والضلع حكومة فإن انجبر مستقيمًا قلت حكومته, وإن انجبر معوجًا كانت حكومته أكثر, وإن كان مع اعوجاجه قد صار ذا عقدة كانت حكومته أكثر, لأن زيادة الشين في الحكومات معتبرة, وكذلك إذا كسر سائر عظام الجسد سوى الأسنان ففيه حكومة بقدر ضرره وشينة لا يبلغ دية ذلك العضو إلا أن يشل فلو ضرب عظمة حتى تشظى لم يجب فيه دية منقلة ولا هاشمة كما لا تجب في موضحة الجسد دية الموضحة في الرأس, وكانت الحكومة فيه بقدر ألمه وضرره وشينه, فلو أنفذ عظمه وأخرج مخه كانت الحكومة أكثر لأن الضرر أعظم والخوف أكثر, ولو سلخ جلده فشرره أعظم وخوفه أكثر, وفيه حكومة لا تبلغ دية النفس, ويعتبر اندماله, فإن عاد جلده كانت حكومته أقل منها إذا لم يعده ولو لطمه فإن أثر في جلده أثرًا بقى شينة ففيه حكومة, وإن لم يبقى له أثر فلا شيء فيه ويعزز اللاطم أدبًا, فصار تقدير هذا الشرح أنه متى بقى للجناية أثر شين في الجرح, أو في كسر العظم وفي جرح الجسد وفي اللطم وجبت فيه حكومة وإن لم يبق منه ذلك أثر شين في كسر العظم وفي جرح الجسد وفي اللطم وجب في كسر العظم حكومة ولم تجب في اللطمة حكومة, وفي وجوب الحكومة في الجرح وجهان؛ لأن العظم وإن انجبر مستقيمًا فهو بعد الجبر أضعف منه قبله فلذلك وجبت فيه الحكومة واللطمة لم تؤثر في الجيد شيئًا ولا ضعفًا فلذلك لم يجب فيها حكومة, فأما الجرح فمتردد بين هذين فلذلك كان على وجهين: أحدهما: فيه حكومة, لأنه قد أسال دمًا وأحدث نقصًا كالعظم إذا انجبر مستقيمًا. والثاني: لا حكومة فيه, لأنه ما أحدث شيئًا ولا ضعفًا كاللطمة إذا لم تحدث أثرًا, والله أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو جرحه فشان وجهه أو رأسه شينًا يبقى فإن كان

الشين أكثر من الجرح أخذ بالشين وإن كان الجرح أكثر من الشين أخذ بالجرح ولم يزد للشين". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن شجاج الرأس والوجه تتقدر دياتها في الموضحة وما فوقها من الهاشمة والمنقلة والمأمومة وإن لم تتقدر دياتها في الجسد تغليظًا لحكم الرأس على حكم الجسد فاقتضى ذلك فيما لا تتقدر دياته من شجاج الرأس والوجه فيما دون الموضحة من الحارصة والدامية والدامغة والباضعة والمتلاحمة والسمحاق أن تكون حكوماتها في الرأس أغلظ من حكوماتها في الجسد, وإذا كان كذلك وجب في الرأس أن يعتبر فيها أغلظ الأمرين. قال الشافعي في تفصيله الذي قدمه من الشين أو الجراح فاختلف أصحابنا في تأويله على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة وجمهور البصريين: أنه أراد أكثر الحكومتين من ح الشين بعد اندماله في الانتهاء, أو قال الجرح عند سيلان دمه في الابتداء, فأيهما كان أكثر فهو القدر المستحق تغليظ لشجاج الرأس على شجاج البدن غير المقدر كما تغلظ في المقدر. والوجه الثاني: وهوو قول أبي حامد الإسفراييني وطائفة من البغداديين أن مراد الشافعي بأكثر الحكومتين أن يعتبر قدرها في العمق قدر الموضحة, فإن كان نصفها اعتبر قدر شينها بعد الاندمال, فإن نقصت عن نصف الموضحة أوجبت نصف الموضحة وهو الجرح, لأنه أغلظ من قدر الشين وإن كان قدر شينها زائدًا على نصف الموضحة وبلغ ثلاثة أرباعها أوجبت حكومة الشين وهو ثلاثة أرباع الموضحة, لأنه أغلظ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن كان الشين أكثر من موحضة نقصت من الموضحة شيئًا ما كان الشين لأنها لو كانت موضحة معها شين لم أزد على موضحة فإذا كان الشين معها وهو أقل من موضحة لم يجز أن يبلغ به موضحة وفي الجراح على قدر دياتهم والمرأة منهم وجراحها على النصف من دية الرجل فيما قل أو كثر". قال في الحاوي: وهذا صحيح؛ لأن ما نقص عن المقدر لم يجز أن يجب فيه ما يجب في المقدر؛ لأنه يقضي إلى تفاضل الجنايات وتساوي الديات, وهذا ممتنع فإن قيل: فليس يمتنع هذا لأنكم توجبون في قطع الأصابع ما توجبونه في جميع الكف وهو أقل؟ قيل: لأن منفعة الكف ذاهبة بقطع الأصابع فلذلك وجب فيها ما يجب في جميع الكف, وخالف ذلك في مسألتنا فعلى هذا لا يجوز أن يجب فيما دون الموضحة إن كثر

شينها دية الموضحة ووجب أن ينقص منها ما يؤدي إليه الاجتهاد, وكذلك لا يبلغ بالحكومة على الكف دية الكف, ولا بالحكومة على الإصبع دية الإصبع, ولا بالحكومة على الأنملة دية الأنملة, وهو معنى قول الشافعي في الجراح: على قدر ديتها, وتأوله بعض أصحابنا أنه يعتبر نقص الحكومة من دية العضو لا من دية النفس, وهو قول من قدمنا مذهبه في اعتبار الحكومة, وقد أبطلناه بما ذكرناه, ثم قال الشافعي: "والمرأة منهم وجراحها على النصف من دية الرجل فيما قل أو كثر", يعني أن دية شجاج المرأة وجراحها وأطرافها على النصف من دية الرجل, لأن ديتها نصف دية الرجل, فيجب في موضحتها بعيران ونصف, وفي هاشمتها خمس, فأما حكومتها فهي معتبرة من ديتها, وديتها على النصف فأغنى ذلك عن تنصيف الحكومة. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "وفي الجراح في غير الوجه والرأس بقدر الشين الباقي بعد التئامه لا يبلغ بها الدية إن كان حرًا ولا ثمنه إن كان عبدًا, ولأنه ليس في الجسد قدر معلوم سوى الجائفة". قال في الحاوي: وهذا صحيح, لأن ما اقتضاه التعليل المتقدم من تغليظ شجاج الرأس, والوجه على جراح الجسد يوجب اعتبار حكوماتها بحال الشين بعد الاندمال, ولا يعتبر فيها أغلظ الأمرين, وإذا كان كذلك لم يخل حال الجراح في الجسد من أن تكون على عضو أو في البدن, فإن كانت على عضو اعتبر في حكومتها حال الشين بعد الاندمال, فقوم سليمًا وشائنًا ووجب بقسط ما بينهما من دية الحر وقيمة العيد إلا أن تزيد على دية العضو فينقص منها قدر ما يؤدي الاجتهاد إليه, وإن كانت على البدن كالظهر والبطن والصدر ففيه وجهان: أحدهما: وهو الظاهر من منصوص الشافعي: أنه يعتبر حكومة الشين ما لم تبلغ دية النفس, فإن بلغها نقص منها ولا اعتبار بدية الجائفة. والوجه الثاني: أنه يعتبر حكومة الشين ما لم تبلغ دية الجائفة, فإذا بلغها نقص فيها ما يؤدي الاجتهاد إليه, لأنها المقدر في جراح الجسد فأشبهت الموضحة في شجاج الرأس, وقد يمكن أن يفضل بين الموضحة مع ما تقدمها وبين الجائفة مع غيرها أن ما تقدم الموضحة بعض الموضحة فلم يبلغ ديتها, وغير الجائفة قد لا يكون بعضها لما فيه من كسر عظم وإتلاف لحم, فجاز أن تزيد حكومتها على ديتها وهو الأصح, فإن لم يكن للشين بعد اندماله أثر ولا للحكومة فيه قدر ففيه وجهان ذكرناهما من قبل: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج, تكون هدرًا.

والثاني: وهو قول أبي اسحاق المروزي: يعتبر ما قبل الاندمال ولا يقدر مع حال الألم وإراقة الدم, فيعتبر ما قبل الاندمال حالًا قبل حال حتى يبلغ إلى وقت الجرح وسيلان الدم للضرورة, كما يلزم في حمل الأمة إذا أعتق بوطء شبهة أن يعتبر قيمته بعد ظهوره لما تقدرت قيمته عند علوقه والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ودية النصراني واليهودي ثلث الدية واحتج في ذلك بعمر وعثمان - رضي الله عنهما". قال في الحاوي: اختلف الفقهاء في دية اليهودي والنصراني من أهل الذمة والمعاهدين على أربعة مذاهب: أحدهما: وهو مذهب أبي حنيفة: أنها كدية المسلم سواء وبه قال من الصحابة: ابن مسعود, ومن التابعين: الزهري, ومن الفقهاء: الثوري وأبو يوسف ومحمد. والثاني: وهو مذهب مالك أنها نصف دية المسلم, وبه قال عمر بن عبد العزيز وعروة بن الزبير. والثالث: وهو مذهب أحمد بن حنبل: إن قتل عمدًا فمثل دية المسلم كقول أبي حنيفة, وإن قتل خطأ فنصف دية المسلم كقول مالك. والرابع: وهو مذهب الشافعي: أن ديته دية المسلم في العمد والخطأ, وبه قال من الصحابة عمر وعثمان - رضي الله عنهما - ومن التابعين: سعيد بن المسيب, وعطاء, من الفقهاء: أبو ثور وإسحاق بن راهويه, واستدل أبو حنيفة على أن ديته مثل دية المسلم بقوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] , ثم قال تعالى: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] فلما أطلق ذكر الدية فيها دل على تساويهما, وبرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دية اليهودي والنصراني مثل نصف دية المسلم" وهذا نص وروي مقسم عن ابن عباس أن عمرو بن أمية الضمري قتل كافرين لهما أمان ولم يعلم بأمانهما فوداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم من عنده بدين حرين مسلمين, ولأنه حر محقوق الدم على التأييد فوجب أن تكون ديته كاملة كالمسلم, ولأن الحر مضمون يضمن بالدية والعبد يضمن بالقيمة, فلما كملت قيمة العبد مسلمًا كان

أو كافرًا وجب أن تكمل دية الحر مسلمًا كان أو كافرًا, ولأن القتل موجب للدية والكفارة, فلما تماثلت الكفارة في قتل المسلم والكافر وجب أن يتماثل الدية في قتل المسلم والكافر, فلما تماثلت الكفارة في قتل المسلم والكافر وجب أن يتماثل الدية في قتل المسلم والكافر, ولأن الكفر فسق, والفسق لا تأثير له في الدية فكذلك الكفر, ولأن الدية قد أوجبت حقن دمه وحفظ ماله فلما تساوى بها المسلم في ضمان ماله ساواه, في ضمان نفسه, وأما مالك فدليله ما رواه محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "دية المعاهد نصف دية المسلم" ذكره أبو داود وقال أحمد بن حنبل: ليس في الأخبار أصح من هذا, وروى سليمان بن موسى عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن عقل أهل الكتابين نصف عقل المسلم وهم اليهود والنصارى وذكره رجاء بن المرجي الحافظ ولأن النقص نوعان أنوثية وكفر, فلما أوجب نقص الأنوثية إسقاط نصف الدية كذلك نقص الكفر. ودليلنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم" فدل على أن دماء الكافر لا تكافئهم. وروى ابن المنذر من كتابه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في كتاب عمرو بن حزم: "وفي النفس المؤمنة مائة من الإبل" فجعل الإيمان شرطًا في كمال الدية, فوجب أن لا تكمل بعدمه, وروى موسى بن عقبة عن إسحاق بن يحيى عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم: "قضى أن دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم" , وهذا نص ذكره أبو إسحاق المروزي في شرحه, فإن قيل: حديث من روى كمال الدية أزيد والأخذ بالزيادة لأن الأحكام مستنبطة من الألفاظ, فإن قيل: يحمل على أنه قضى في السنة الأولى ثلث الدية لتأجيل دية الخطأ في ثلاث سنين, فالجواب عنه أن قضاءه بأن دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم تدل على أن جميع ديته هذا القدر فلم يجز أن يحمل على قدرها وهو بعضها, على أن ثلث الدية عندهم أقل من أربعة آلاف, فإن قيل: يحمل على أنه قوم إبل الدية بأربعة آلاف درهم قيل: لا يصح من وجهين: أحدهما: أن القيمة تختلف فلم يجز أن تقدر في عموم الأحوال. والثاني: إنه قضى بالدراهم ولم يقض بها قيمة على أنا روينا عن عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في دية اليهودي والنصراني بثلث دية المسلم, فبطل هذا التأويل, ومن القياس: أنه مكلف لا يكمل سهمه من القيمة فوجب أن لا تكمل ديته كالمرأة, ولا ينتقص بالصبي والمجنون, لعدم التكليف, ولأنها لم نقصت دية المرأة المسلمة عن دية

الرجل بنقصها بالأنوثية, وجب أن تنقص دية الرجل الكافر عن دية المرأة المسلمة لنقصه بالكفر لأن الدية موضوعة على التفاضل, ولأنه لما أثر أغلظ الكفر وهو الردة في إسقاط جميع الدية وجب أن يؤثر أخفه في تخفيف الدية, لأن بعض الجملة مؤثر في بعض أحكامها, ولأن اختلاف الأمة في قدر الدية توجب الأخذ بأقلها كاختلاف المقومين يوجب الأخذ بقول أقلهم تقويمًا؛ لأنه اليقين, فأما الجواب عن استدلالهم بمطلق الدية في الآية فلا يمنع إطلاقها من اختلاف مقاديرها, كما لم يمنع من اختلاف دية الرجل والمرأة ودية الجنين؛ لأن الدية اسم لما يؤدي من قليل وكثير. وأما حديث عمرو بن شعيب فقد اختلفت الرواية عنه فتعارضت ويمكن حملها على أنها مثل دية المسلم في التغليظ والتخفيف والحلول والتأجيل حتى لا يكون نقصان قدرها موجبًا لإسقاط حلولها وتغليظها وأما الجواب عن حديث عمرو بن أمية فمن وجهين: أحدهما: أنه لما تبرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحمل الدية عنه جاز أن يتبرع بالزيادة تألفًا لقومهما. والثاني: يجوز أن يكونا أسلما بعد الخروج وقبل موتهما فكمل بالإسلام ديتهما, وأما الجواب عن قياسه على السلم بعلة أنه محقون الدم على التأييد, ففاسد بالمرأة والعبد, لا يقتضي حقن دماهما على التأييد كمال ديتهما, كذلك الذمي, على أن المعنى في المسلم كمال سهمه في الغنيمة, وأما الجواب عند استدلاله بالعبد في استواء الكفر والإسلام في كمال قيمته فهو أنها لما تساوى فيهما الذكر والأنثى تساوى فيهما المسلم والكافر, ولما اختلف في الدية الذكر والأنثى اختلف فيها المسلم والكافر, وكذلك الجواب عن استدلاله بالكفارة أنه لما لم يمتنع التساوي فيها من اختلاف الذكر والأنثى في الدية كذلك تساوى المسلم والكافر فيها لا يمنع من اختلافهما في الدية, وأما الجواب عن استدلالهم بالفسق فهو أن الفسق لا يسلبه أحكام الإسلام فساوى في الدية, والكفر يسلب أحكام الإسلام فخالف في الدية, وأما الجواب عن ضمان ماله كالمسلم فهو أنه لما لم يختلف ضمانه في العمد والخطأ في حق الرجل والمرأة لم يختلف في حق المسلم والكافر, ولما اختلف ضمان الدية في حق الرجل والمرأة اختلف في حق المسلم والكافر والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ودية المجوسي ثمانمائة درهم واحتج في ذلك بعمر بن الخاطب - رضي الله عنه". قال في الحاوي: واحتج في ذلك بعمر بن الخطاب - رضي الله عنه - اختلف في دية المجوسي فجعلها أبو حنيفة كدية المسلم, وجعلها عمر بن عبد العزيز نصف دية

المسلم كاليهودي والنصراني عنده, وهي عند الشافعي ثمان مائة درهم, ثلثا عشر دية المسلم, وتكون من الإبل ستة أبعرة وثلثين ومن الدنانير ستة وستون دينارًا وثلثان, لرواية سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم والمجوسي ثمان مائة درهم. وروى الزهري عن عمر وعثمان وابن مسعود - رضي الله عنهم - أن دية المجوسي ثمان مائة درهم, فكان هذا القول منهم والقضاء به عليهم مع انتشاره في الصحابة إجماعًا لا يسوغ خلافه, ومع أن حكم المجوسي في إقرارهم وأخذ جزيتهم منقول عن عمر ومعمول به إجماعًا فكذلك حكمه فيهم بالدية, ولأنه لما نقصت رتبة المجوسي عن أهل الكتاب في تحريم نسائهم, وأكل ذبائحهم نقصت ديتهم عن دياتهم, لأن الديات موضوعة على التفاضل, وإذا نقصت عنهم لم يكن إلا ما قلنا لقضاء الأئمة به. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا لم يخل حال من خالف دين الإسلام من أن يكون له أمان أو لا يكون, فإن كان له أمان لم يخل حاله من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون من أهل الكتاب وهم اليهود والنصارى فديتهم ثلث دية المسلم, سواء كانوا أصحاب ذمة أو عهد. والقسم الثاني: أن لا يكونوا أهل كتاب ولكن سن بهم سنة أهل الكتاب في إقرارهم بالجزية وهم المجوسية, فديتهم ثلثا عشر دية المسلم. والقسم الثالث: أن لا يكونوا أهل كتاب ولا سن بهم سنة أهل كتاب وهم عبدة الأوثان الذين لا يقرون بالجزية ويقرون بالأمان والعهد, فديتهم كدية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم, لأنها أقل الديات فردوا إليها, وإن كانوا أنقص رتبة من المجوسي في أنهم يقرون بالجزية. فأما الصابئون والسامرة فإن أجروا مجرى اليهود والنصارى في إقرارهم بالجزية وأكل ذبائحهم ونكاح نسائهم لموافقتهم في أصل معتقدهم كانت ديتهم ثلث دية المسلم, وإن لم يقروا بالجزية لمخالفتهم لليهود والنصارى في أصل معتقدهم كانت ديتهم ثلث دية المسلم, وإن لم يقروا بالجزية لمخالفتهم لليهود والنصارى في أصل معتقدهم فديتهم إذا كان لهم أمان كدية المجوسي ثلثا عشر دية المسلم. فصل: وأما من لم يكن له أمان ولا عهد فضربان: أحدهما: من بلغته دعوة الإسلام, فنفوسهم مباحة ودماؤهم هدر لا تضمن بقود

ولا عقل, سواء كانوا أهل كتاب أو لم يكونوا كذلك دماء المرتدين عن الإسلام. والضرب الثاني: أن يكونوا ممن لم تبلغه الدعوة, قال الشافعي: "ولا أحسب أحدًا لم تبلغه دعوة الإسلام إلا أن يكون قوم وراء الذين يقاتلونا من الترك والخزر فدماؤهم محقونة حتى يدعوا إلى الإسلام فيمتنعوا فإن قتلوا قبل دعائهم إلى الإسلام ضمنت نفوسهم بالدية دون القود. وقال أبو حنيفة: لا تضمن نفوسهم بقود ولا دية, لأن دماء الكفار على الإباحة إلا من ثبت له عهد أو ذمة, وهذا خطأ, لأن الدماء محقونة إلا من ظهر منه المعاندة ولأنه لما حرم قتلهم قبل دعائهم ثبت حقن دمائهم ووجب ضمان نفوسهم كأهل العهد وهذه مسألة تأتي في كتاب السير مستوفاة, فإذا تقرر ضمان دياتهم ففيها وجهان, لأن الشافعي أطلقها فاختلف أصحابنا فيها من بعده على وجهين: أحدهما: أنه كدية المسلم, لأنه مولود على الفطرة لم تظهر منه معاندة. والثاني: أنها كدية المجوس ثلثا عشر دية المسلم, لأنها يقين مع الأصل براءة الذمة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وجراحهم على قدر دياتهم". قال في الحاوي: وهذا صحيح, لأن ما دون النفس معتبر بدية النفس فيكون في دية اليهودي بعير وثلثان, وفي هاشمته ثلاثة أبعرة وثلث وفي منقلته خمسة أبعرة وفي مأمومته أحد عشر بعيرًا وتسع, وفي إصبعه ثلاثة أبعرة وثلث, وفي أنملته بعير وتسع, وفي موضحة المجوس ثلث بعير, وفي هاشمته ثلثا بعير, وفي منقلته بعير, وفي إصبعه ثلث بعير, وفي أنملته تسعًا بعير, وعلى قياس هذا فيما زاد ونقص. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "والمرأة منهم وجراحها على النصف من دية الرجل فيما قل أو كثر واحتج في ديات أهل الكفر بأن الله تعالى فرق ثم رسوله صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والكافرين فجعل الكفار متى قدر عليهم المؤمنون صنفًا منهم يعبدون وتؤخذ أموالهم لا يقبل منهم غير ذلك وصنفًا يصنع ذلك بهم إلا أن يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فلا يجوز أن يجعل من كان خولا للمسلمين في حال أو خولا بكل حال إلا أن يعطوا الجزية كالعبد المخارج في بعض حالاته كفيئًا لمسلم في دم ولا دية يبلغ بدية كافر دية مؤمن إلا ما لا خلاف فيه". قال في الحاوي: وهذا صحيح, لأنه لما كانت دية المرأة المسلمة في نفسها

وأطرافها وجراحها على النصف من الرجل المسلم كانت دية المرأة الكافرة في نفسها وأطرافها وجراحها على النصف من الرجل الكافر, فيجب في موضحة اليهودية خمسة أسداس بعير, وفي هاشمتها بعير وثلثان وفي موضحة المجوسية سدس بعير, وفي هاشمتها ثلث بعير, ثم على هذا القياس. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ويقول سعيد بن المسيب أقول جراح العبد من ثمنه كجراح الحر من ديته في كل قليل وكثير وقيمته ما كانت وهذا يروى عن عمر وعلي - رضي الله عنهما -". قال في الحاوي: أما الجناية على نفس العبد فموجبه لقيمته, وهذا متفق عليه, وأما الجناية على ما دون نفسه من أطرافه وجراحه فقد اختلف على ثلاثة مذاهب: أحدها: وهو مذهب الشافعي أنها تكون مقدرة من قيمته كما تكون مقدرة من الحر من ديته, فيجب في كل واحد من لسانه وأنفه وذكره قيمته وفي إحدى يديه نصف قيمته كما يجب في الحر نصف ديته كما يجب في الحر ديته, ويجب في إصبعه عشر قيمته, وفي أنملته ثلث عشرها, وعلى هذا القياس وهو قول عمر, وعلي, وسعيد بن المسيب, والحسن, وابن سيرين, وأبي حنيفة. والمذهب الثاني: ما قاله داود بن علي وأهل الظاهر, ومحمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة الواجب في جميعها ما نقص من قيمته من غير تقدير كالبهائم. والمذهب الثالث: ما قاله مالك: أنه ما لا يبقى له أثر بعد الاندمال من شجاج الرأس ففي مقدر من قيمته - كما قلنا, وما يبقى أثره بعد الاندمال كالأطراف ففيه ما نقص من قيمته كأهل الظاهر, واستدل أهل الظاهر بأمرين أحدهما: أنه مملوك كالبهائم. والثاني: أنه لا يضمن بالقيمة فأشبه ضمان الغصب, وفرق مالك بين شجاج رأسه وأطرافه بأنه قول أهل المدينة وهو عنده حجة, وبأنه لما تقدر شجاج الرأس في الحر ولم تتقدر جراح جسده تغلظ حكمه على حكمة, والدليل عليهم أن من ضمنت نفسه بالقود والكفارة ضمنت أطرافه بالمقدر كالحر, وعلى مالك أن من تقدرت شجاجته تقدرت أطرافه كالحر, ولأن ما تقدر في الحر تقدر في العبد كالشجاج, ثم يقال لمالك: العبد متردد بين أصلين: أحدهما: الحر. والثاني: البهيمة, فإن الحق بالحر تقدرت أطرافه وشجاجه, وإن ألحق بالبهيمة لم تتقدر شجاجه ولا أطرافه, وإلحاقه بالحر أولى من إلحاقه بالبهائم لم يتوجه إليه من

التكليف, ويجب عليه من الحدود, ويلزم من قتله من القود والكفارة, فأما ضمانه باليد إذا يغصب, فإنما لم يضمن بالمقدر لأنه لا يضمن بالقود والكفارة فأجرى عليه حكم الأموال المحضة, وصار فيها ملحقًا بالبهائم, ويضمن في الجنايات بالقود والكفارة فألحق بالأحرار. فصل: فإذا ثبت تقدير الجنايات عليه من قيمته كالحر من ديته فلسيده أن يأخذ أرش الجنايات عليه كلها, سواء زادت على قدر قيمته أضعافًا أو نقصت, وهو باق على ملكه. وقال أبو حنيفة: إن وجب فيها جميع قيمته كان بيده بالخيار بين تسليمه إلى الجاني وأخذ قيمته منه أو إمساكه بغير أرش, لأن لا يجمع بين البدل والمبدل, وإن وجب بها نصف قيمته كان سيده بالخيار بين إمساكه وأخذ نصف قيمته وبين تسليمه إلى الجاني وأخذ جميع قيمته وقد مضى الكلام معه في كتاب الغصب مما أغنى عن إعادته, فأما إذا تبعضت فيه الحرية والعتق فكان نصفه حرًا ونصفه عبدًا ففي أطرافه نصف ما في أطراف الحر ونصف ما في أطراف العبد, فيجب في يده ربع الدية وربع القيمة, وفي إصبعه نصف عشر الدية ونصف عشر القيمة وفي أنملته سدس عشر القيمة وسدس عشر الدية, ثم على هذا القياس فيما زاد من الحرية ونقص, فأما ضمان المكاتب فكالعبد وكذلك أم الولد. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وتحمل ثمنه العاقلة إذا قتل خطأ". قال في الحاوي: أما العبد إذا قتل حرًا فالدية في ذمته ومرتهنة رقبته, يباع فيها ويؤدي الدية حالة في العمد والخطأ لا تتحملها العاقلة عنه ولا السيد إلا أن يتطوع باقتدائه منها, فإن عجز ثمنه عن الدية كان الباقي في ذمة العبد يؤديه بعد عتقه ولا يكون على سيده, فإن قيل: فهلا كان السيد ضامنًا لجناية عبده كما يضمن جناية بهيمته, قيل: لأن جناية البهيمة مضافة إلى مالكها, لأنها مضمونة إذا نسب إلى التفريط في حفظها وجناية العبد مضافة إليه دون سيده لأن له اختيارًا يتصرف به, فلذلك ضمن جناية بهيمته ولم يضمن جناية عبده فأما إذا قتل الحر عبدًا, فإن كان القتل عمدًا محضًا فقيمته في مال القاتل حاله, وإن كان خطأ محضًا أو عمد الخطأ ففي قيمته قولان: أحدهما: أن قيمة نفسه وأروش أطرافه على عاقلة الجاني مؤجلة وهو اختيار المزني. والقول الثاني: أن قيمة نفسه وأروش أطرافه في مال الجاني لا تحمله العاقلة في

مال القاتل حالة وهو مذهب مالك. وقال أبو حنيفة: تحمل العاقلة دية نفسه ولا تحمل أروش أطرافة فإذا قتل تحمله العاقلة, فدليله أن من وجبت الكفارة في قتله تحملت العاقلة بدل نفسه كالحر, ولأن العبد متردد الحكم بين الحر لكونه مكلفًا وبين البهيمة لأنه مقوم ومبيع فكان إلحاقه بالحر أولى, لما يتوجه إليه من الثواب والعقاب, ولما يجب في قتله من الكفارة والقود, فوجب إلحاقه بالحر أولى, لما يتوجه إليه من الثواب والعقاب, ولما يجب في قتله من الكفارة والقود فوجب إلحاقه به في تحمل العاقلة لبدل أطرافه ونفسه. فإذا قيل: لا تحمله العاقلة فدليله رواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحمل العاقلة عمدًا ولا عبدًا ولا صلحًا ولا اعترافًا" ولأنه مضمون بالقيمة فوجب أن لا تحمل العاقلة ضمانة بالجناية كما لم تحمل ضمانة باليد كالأموال, ولأنه لما لم تتحمل عنه العاقلة إذا كان قاتلًا لم تتحمله العاقلة إذا كان مقتولًا. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي ذكره ثمنه ولو زاد القطع في ثمنه أضعافًا". مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "فإن قيل فإذا كنت تزعم أن ثمنه كثمن البعير إذا قتل فلم لم يحكم في جرحه كجرح البعير وبعضه؟ قلت: قد يجامع الحر البعير بقتل فيكون ثمنه مثل دية الحر فهو في الحر دية وفي البعير قيمة والقيمة دية العبد وقسته بالحر دون البهيمة بدليل من كتاب الله تعالى في قتل النفس الدية وتحرير رقبته وحكمت وحكمنا في الرجل والمرأة والعبد بديات مختلفات وجعلنا في كل نفس منهم دية ورقبة وإنما جعل الله في النفس الرقبة حيث جعل الدية وبدل البعير والمتاع قيمة لا رقبة معها فجامع العبد الأحرار في أن فيه كفارة وفي أنه إذا قتل قتل وإذا جرح جرح في قولنا وفي أن عليه حد الحر في بعض الحدود ونصف حد الحر في بعض الحدود وأن عليه الفرائض من الصلاة والصوم والتعبد وكان آدميًا كالأحرار فكان بالآدميين أشبه فقسته عليهم دون البهائم والمتاع, قال المزني: وقال في كتاب الديات والجنايات لا تحمله العاقلة كما لا تغرم قيمة ما استهلك من مال, قال المزني: الأول بقوله أشبه لأنه شبهه بالحر في أن جراحه من ثمنه كجراح الحر من ديته لم يختلف ذلك عندي من قوله". قال في الحاوي: وهذا صحيح, لأننا قد قررنا أن ما في الحر منه دية كان في العبد منه قيمة, وفي ذكر الحر ديته, فوجب أن يكون في ذكر العبد قيمته, فإن قيل: فقطعه من الحر نقص فلذلك ضمن بالدية, وقطعه من العبد زيادة لأن ثمنه يزيد بقطعه فلم يضمن

بالقيمة قيل: المضمون بالجناية لا يراعى فيه النقص والزيادة, لأن الأعضاء الزائدة تضمن بالجناية وإن أحدثت زيادة. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "وكل جناية عمد لا قصاص فيها فالأرش في مال الجاني". قال في الحاوي: أما جناية الخطأ المحض وعمد الخطأ فتحملها العاقلة, وأما جناية العمد المحض فمن مال الجاني, ولا تتحملها العاقلة سواء وجب فيها القصاص أو لم يجب كالجائفة والمأمومة, وقال مالك: ما لا يجب فيه القصاص من العمد تتحمله العاقلة كالخطأ, وهذا خطأ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحمل العاقلة عمدًا ولا عبدًا", ولأن ما لم تتحمله العاقلة من العمد إذا وجب فيه القود لم تتحمله, وإن لم يجب فيه القود كجناية الوالد على الولد, ولأن جناية العمد مغلظة وتحل العاقلة تخفيف فتنا في اجتماعهما, ولأن تحمل العاقلة رفق ومعونة, والعامد معاقب لا يعان ولا يرفق به, والخاطئ معذور, فلذلك خص بالمعونة والرفق. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وقيل جناية الصبي والمعتوه عمدًا وخطأ يحملها العاقلة وقيل لا لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى أن تحمل العاقلة الخطأ في ثلاث سنين فلو قضينا بها إلا ثلاث سنين خالفنا دية العمد لأنها حالة فلم يقض على العاقلة بدية عمد بحال, قال المزني: هذا هو المشهور من قوله". قال في الحاوي: فلا قود عليهما فيه لعدم تكليفهما, وفيه قولان: أحدهما: أنه يجري عليه حكم الخطأ, وإن كان في صورة العمد وهو قول أبي حنيفة, لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم على ثلاثة عن الصبي حتى يحتلم, وعن المجنون حتى يفيق, وعن النائم حتى ينتبه" ولأن كل ما سقط فيه القود بكل حال كان في حكم الخطأ كالخطأ. والقول الثاني: أنه يجري عليه حكم العمد وإن سقط فيه القود, لأن صفة العمد متميزة فكان حكمها متميزًا, ولأن الصبي قد وقع الفرق فيه بين عمده ونسيانه إذا تكلم في الصلاة وأكل في الصيام وتطيب في الحج, فوجب أن يقع الفرق بين عمده وخطئه في القتل, لأن كل من وقع الفرق بين عمده وخطئه في العبادات وقع الفرق بينهما في الجنايات كالبالغ العاقل.

فصل: فإذا صح توجيه القولين قلنا بالأول منهما أن عمده كالخطأ, فالدية مخففة تحب على عاقلته في ثلاث سنين, لأن العاقلة لا تتحمل إلا مؤجلًا, وإذا قيل بالثاني إن عنده وإن سقط فيه القود, فالدية مغلظة حاله تجب في ماله دون عاقلته, ويستوي في ذلك الصبي والمجنون وسواء كان الصبي مميزًا أو غير مميز. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو صاح برجل فسقط عن حائط لم أر عليه شيئًا ولو كان صبيًا أو معتوهًا فسقط من صيحته ضمن". قال في الحاوي: وهو كما قال, إذا وقف إنسان على شفير بئر أو حافة نهر أو قلة جبل فصاح به صائح فخر ساقطًا ووقع ميتًا لم يخل حال الواقع من أمرين: أحدهما: أن يكون رجلًا, قوي النفس, ثابت الجأش, ثابت الجنان فلا شيء على الصائح, لأن صيحته لا تسقط مثل هذا الواقع, فدل ذلك على وقوعه من غير صيحته. والضرب الثاني: أن يكون صبيًا أو مجنونًا أو مريضًا أو مضعوفًا لا يثبت لمثل هذه الصيحة فالصائح ضامن لديته, لأن صيحته تسقط مثله من المضعوفين, ولا قود عليه لعدم المباشرة, لكنه إذا عمد الصيحة كانت الدية مغلظة, وإن لم يعمد كانت مخففة. وقال أبو حنيفة: لا يضمن بها الصغير كما لا يضمن بها الكبير القوي, وهذا جمع فاسد, لأن الصيحة تؤثر في الصغير المضعوف, ولا تؤثر في الكبير القوي فافترقا من الضمان؛ لأن الجنايات تختلف باختلاف المجني عليه ألا ترى أن رجلًا لو لطم صبيًا فمات ضمنه, ولو لطم رجلًا فمات لم يضمنه, لأن الصبي يموت باللطمة والرجل لا يموت بها فلو اغتفل إنسانًا وزجره بصيحة هائلة فزال عقله فقد اختلف أصحابنا فيه فحمله أكثرهم على ما قدمناه من التفسير أنه يضمن بها عقل الصبي والمجنون, ولا يضمن بها عقل الرجل الثابت. وقال ابن أبي هريرة: يضمن بها عقل الفريقين معًا بخلاف الوقوع, لأن في الوقوع فعلًا للواقع فجاز أن ينسب الوقوع إليه وليس في زوال العقل فعل من الزائل العقل لم ينسب زواله إلا الصائح المذعر, ولو قذف رجل امرأة بالزنا فماتت لم يضمنها, ولو ألقت جنينًا ميتًا ضمنه, لأن الجنين يلقى من ذعر القذف والمرأة لا تموت منه, قد أرسل عمر إلى امرأة قذفت عنده رسولًا فأرهبها فأجهضت ما في ذات بطنها فحمل عمر عاقلة نفسه دية جنينها.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو طلب رجلًا بسيف فألقى بنفسه عن ظهر بيت فمات لم يضمن وإن كان أعمى فوقع في حفرة ضمنت عاقلة الطالب ديته لأنه اضطره إلى ذلك". قال في الحاوي: وصورتها في رجل شهر سيفًا وطلب به إنسانًا فهرب منه المطلوب حتى ألقى نفسه من سطح أو جبل أو في بحر أو نار حتى هلك فتنقسم حال الهارب المطلوب ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون بالغًا عاقلًا بصيرًا فلا ضمان على طالبه من قود ولا دية لأمرين: أحدهما: أن الطلب سبب والإلقاء مباشرة, وإذا اجتمعا سقط حكم السبب بالمباشرة. والثاني: أنه وإن ألجأه بالطلب إلى الهرب فلم يلجئه إلى الوقوع؛ لأنه لو أدركه جاز أن يجيء عليه, وجاز أن يكف عنه, فصار ملقى نفسه هو قاتلها دون طالبه؛ لأنه قد عجل إتلاف نفسه بدلًا مما يجوز أن لا يتلف به, فصار كالمجروح إذا ذبح نفسه. والقسم الثاني: أن يكون المطلوب أعمى فيهرب من الطالب حتى يتردى من سطح أو جبل أو يقع من بئر أو بحر, فإن أعلم بالسطح والجبل والبئر والبحر فألقى نفسه بعد علمه كانت نفسه هدرًا كالبصير وإن لم يعلم بذلك حتى وقع فمات فعلى طالبه الدية دون القود, لأنه وإن لم يكن مباشرًا لإلقائه فقد ألجأه إليه, والملجئ إلى القتل ضامن كالقاتل, ألا ترى أن الشهود إذا شهدوا عند الحاكم على رجل بما يوجب القتل فقتله ثم بان أنهم شهدوا بزور ضمنوه دون الحاكم, لأنهم ألجئوه إلى قتله فتعلق الحكم بالملجئ دون المباشر. والقسم الثالث: أن يكون المطلوب صبيًا أو مجنونًا, ففي ضمان ديتهما على الطالب وجهان مخرجان من اختلاف قول الشافعي في قصدهما للقتل هل يجري عليه حكم العمد أم لا؟ أحدهما: أنه يضمن ديتهما إذا قيل إنه لا يجري على قصدهما للقتل حكم للعمد. والثاني: لا يضمن ديتهما إذا قيل: إنه يجري على قصدهما للقتل حكم العمد. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو عرض له في طلبه سبع فأكله لم يضمن لأن الجاني غيره". قال في الحاوي: وهذا صحيح يحتاج إلى تفصيل: فإذا اعترض الهارب المطلوب

سبع فافترسه فهذا على ضربين: أحدهما: أن يلجئه الطالب إلى موضع السبع فيضمنه بالدية كما لو ألقاه عليه. والضرب الثاني: أن لا يلجئه إليه وإنما هرب في صحراء وافق سبعًا معترضًا فيها فافترسه فلا ضمان على الطالب, سواء كان المطلوب بصيرًا أو ضريرًا, صغيرًا أو كبيرًا, لأنه غير مباشر ولا ملجئ, فإن قيل: فلو ألقاه في بحر فالتهمه الحوت ضمنه فهلا قلتم إذا اعترضه السبع ضمنه؟ قيل: لأنه بإلقائه في البحر مباشر فجاز أن يضمن ما حد بإلقائه, لأنه صار ملجئًا وفي الهرب منه غير مباشر فلم يضمن ما حد بالهرب إذا لم يقترن به إلجاء, ولو انخسف من تحت الهارب سقف فخر منه ميتًا ففي ضمان الطالب له وجهان: أحدهما: لا يضمنه كالسبع إذا اعترضه؟ والوجه الثاني: وهو قول أبي حامد الإسفراييني يضمنه لأنه ملجئ إلى ما لا يمكن الاحتراز منه. فصل: ولو رماه من شاهق فاستقبله آخر بسيفه من تحته فقده نصفين فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون الشاهق مما يجوز أن يسلم الواقع منه فضمانه على القاطع دون الملقى, لأن القاطع موج والملقى جارح. والضرب الثاني: أن يكون الشاهق مما لا يجوز أن يسلم الواقع منه ففي ضمانه ثلاثة أوجه: أحدهما: على الملقى ضمانة, لأنه قد صار بإلقائه كالموجئ فيضمنه بالقود لمباشرته. والوجه الثاني: أن ضمانه بالقود أو الدية على القاطع دون الملقى, لأنه قد سبقه إلى مباشرة موجيه. والوجه الثالث: أنهما يضمنانه جميعًا بالقود أو الدية, لأنهما قد صارا كالشريكين في توجيته, والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ويقال لسيد أم الولد إذا جنت أفدها بالأقل من قيمتها أو جنايتها ثم هكذا أو جنايتها ثم هكذا كلما جنت, قال المزني: هذا أولى بقوله من أحد قوليه وهو أن السيد إذا غرم قيمتها ثم جنت شرك المجني عليه الثاني المجني عليه الأول, قال

المزني: فهذا عندي ليس بشيء لأن المجني عليه الأول قد ملك الأرش بالجناية فكيف تجني أمه غيره وتكون بعض الغرم عليه". قال في الحاوي: إذا جنت أم الولد وجب على سيدها أن يفديها وهو قول الجمهور, إلا أن أبا ثور وداود شذا عن الجماعة, وأوجبا أرش جنايتها في ذمتها تؤديه بعد عتقها, لقول الله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر: 18] ولأنها إن جرت مجرى الإماء لم يلزم السيد الفداء, وإن جرت مجرى الأحرار فأولى أن لا يلزمه, فلما حرم بيعها صارت كالأحرار في تعلق الجناية بذمتها, وهذا خطأ, لأن من جرى عليه حكم الرق تعلقت جنايته برقبته, وأم الولد قد حرم بيعها بسبب من جهته فصار كمنعه من بيع عبده وأمته يصير بالمنع ضامنًا لجنايته, وكذلك المنع من بيع أم الولد, ولأنه قد صار مستهلكًا لثمنها بالإيلاء كما يصير مستهلكًا لثمن عبده بالقتل: ولو قتل عبده بعد جنايته ضمنها, كذلك إذا جنت أمته بعد إيلادها ضمن جنايتها وفي هذا انفصال. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا من ضمان السيد لجنايتها فإن كانت عمدًا اقتص منها لتعلق القصاص ببدنها, وإن كانت خطأ أو عمدًا عفا عن القصاص فيه, فعلى السيد أن يفديها بأقل الأمرين من قيمتها أو أرش جنايته فإن كان أرش جنايتها أقل ضمن أرش الجناية, لأنه لا يستحق المجني عليه أكثر منها, وإن كان أرش جنايتها أكثر من قيمتها لم يضمن إلا قدر قيمتها, لأنه يمنع الإيلاد كالمستهلك لها فلا يلزمه أكثر من القيمة كما لو قتل عبده بعد جنايته لم يضمن إلا قدر قيمته, فإن قيل: أفليس لو منع من بيع عبده الجاني ضمن جميع الجناية في أحد القولين فهلا كان في أم الولد كذلك؟ قيل: لأنه في المنع من بيع العبد مفوت لرغبة راغب يجوز أن يشتريه بأكثر من قيمته لو مكن من بيعه فجاز أن يضمن جميع جنايته, وليس أم الولد بمثابته لعدم هذه الرغبة التي لا يجوز الإجابة إليها فافترقا. فصل: فإذا غرم في جنايتها أقل الأمرين ثم جنت بعده على آخر نظر فيما غرمه السيد للأول من أقل الأمرين, فإن كان هو أرش الجناية, لأن قيمتها ألف وأرش جنايتها خمسمائة لزم السيد أن يغرم للثاني أرش جنايته إذا كان بقدر الباقي من قيمتها, وهو أن يكون أرشها خمسمائة فما دون, وإن كان ما غرمه للأول من أقل الأمرين هو جميع قيمتها وهي ألف, فإذا جنت على الثاني ففيها قولان: أحدهما: وهو اختيار المزني: يضمنها كضمان الأول بأقل الأمرين من قيمتها أو أرش جنايتها ويعلم للأول ما أخذه من أرش الجناية عليه لأمرين: أحدهما: أنها قد عادت بعد الفداء إلى معناها الأول فوجب أن يضمنها كضمانه

للأول, كما لو غرم قيمة عبده في جنايته للمنع من بيعه ثم جني ثانية فمنع من بيعه غرم قيمته ثانية. والثاني: أن الأول قد ملك أرش جنايته والجاني على الثاني غيره فلم يلزمه أن يضمن جناية غيره, وليس بجان ولا من عاقلة الجاني فعلى هذا يضمنها السيد في كل جناية تجددت منها ولو كانت مائة جناية بأقل الأمرين من قيمتها أو أرش جنايتها. والقول الثاني: وهو مذهب أبي حنيفة, أن السيد لا يلزمه ضمان الجناية الثانية ويرجع الثاني على الأول فيشاركه في القيمة, وإنما كان هكذا لأمرين: أحدهما: أنه بالإيلاد مستهلك, والمستهلك لا يلزمه أكثر من قيمة واحدة. والثاني: أنه لما لم يلزمه إذا تقدمت الجناية على الغرم أكثر من قيمتها كذلك لا يلزمه فيما حدث بعد غرمه أكثر من قيمتها وقد غرمها, وخالف المانع من بيع غيره, لأن أم الولد مستهلكة والممنوع من بيعه غير مستهلك ولا يمتنع أن يرجع الثاني على الأول, وإن لم يكنن جانبًا ولا عاقلة كما لو مات رجل في بئر تعدى حفرها ضمن في تركته فأتلف فيها بعد موته وإن لم يكن الورثة جناة ولا عاقلة, فلو كانت قيمة ما تلف فيها ألف وجميع التركة ألف فاستوعبها المجني عليه ثم تلف فيها ما قيمته ألف ثانية رجع الثاني على الأول فشاركه في الألف التي أخذها, وإن لم يكن جانبًا ولا عاقلة, كذلك في جناية أم الولد, فعلى هذا لو غرم قيمتها للأول وهي ألف ثم جنت ثانية بعد الأول لم يخل حال الجنايتين من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يتساويا في أرشها, فيكون أرش الأولى ألفًا وأرش الثانية ألفًا, فيرجع الثاني على الأول بنصف الألف ويتساويان فيها لتساوي جنايتهما. والقسم الثاني: أن تكون أرش الجناية الثانية أقل من أرش الجناية الأولى, لأن أرش الأولى ألفان وأرش الثانية ألف, فيرجع الثاني على الأول بثلث الألف, لأن أرشه ثلث الأرشين. والقسم الثالث: أن يكون أرش الجناية الثانية أكثر من الجناية, لأن أرش الأولى ألف وارش الثانية ألفان, فيرجع على الأول بثلثي الألف, لأن أرشه ثلثا الأرشين لتكون القيمة في الأحوال الثلاث مقسطة على قدر الأروش, وهكذا لو وجبت على ثالث بعد اشتراك الأولين في القيمة رجع الثالث على كل واحد من الاثنين بقسط جنايته مما أخذه كل واحد من الأولين, ثم كذلك على رابع وخامس, وبالله التوفيق.

التقاء الفارسين والسفينتين مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا اصطدم الراكبان على أي دابة كانتا فماتا معًا فعلى عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبة لأنه مات من صدمته وصدمة صاحبه كما لو جرح نفسه وجرحه صاحبه فمات وإن ماتت الدابتان ففي مال كل واحد منهما نصف قيمة دابة صاحبه". قال في الحاوي: إذا اصطدم الفارسان فماتا وماتت دابتاهما وجب على كل واحد منهما نصف دية صاحبه ونصف قيمة دابته, ويكون النصف الثاني هدرًا, وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: يجب على كل واحد جميع دية صاحبه وجميع قيمة دابته ولا يكون شيء منها هدرًا, وهو قول أبي يوسف ومحمد وأحمد وإسحاق استدلالًا بأمرين: أحدهما: أن موت كل واحد منهما منسوب إلى فعل صاحبه فوجب أن يضمن جميع ديته, كما لو جلس إنسان في طريق ضيقة فعثر به سائر فوقع عليه فماتا جميعًا كان على عاقلة السائر جميع دية الجالس, وعلى عاقلة الجالس جميع دية السائر, ولا يكون شيء من ديتهما هدرًا, كذلك اصطدم الفارسين. الثاني: أن حدوث التلف إذا كان بفعله ويفعل صاحبه سقط اعتبار فعله في تعيينه وكان جميعه مضافًا إلى فعل صاحبه وهو المأخوذ بجميع ديته, كما لو تعدى رجل بحفر بئر فسقط فيها سائر فمات ضمن الحافر جميع دية السائر وإن كان الوقوع فيها بحفر الحافر ومشي السائر, كذلك في اصطدام الفارسين, ودليلنا ما روي عن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه أنه قال: "إذا اصطدم الفارسان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه", ولم يظهر له مخالف, فإن كان هذا منتشرُا فهو إجماع, وإن لم ينتشر فهو حجة عند أبي حنيفة وعلى قول الشافعي في القديم, ولأن موت كل واحد منهما كان بفعل اشتركا فيه, لأنه مات بصدمته وصدمة صاحبه فوجب أن يضمن ما اختص بفعله ولا يضمن ما اختص بفعل صاحبه, وعلى هذا شواهد الأصول كلها ألا ترى لو أن رجلًا جرح رجلًا ثم جرح المجروح نفسه ومات كان نصف ديته هدرًا, لأنها في مقابلة جراحته لنفسه ونصفها على جارحه؛ لأن التلف كان يجرح اشتراكًا فيه, وهكذا لو جذبا حجر منجنيق فعاد الحجر عليهما فقتلهما كان على عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه ونصفها الباقي هدرًا لاشتراكهما في الفعل الذي كان به تلفهما, وهكذا لو اصطدم رجلان معهما إناءان له فانكسر الإناءان بصدمتهما ضمن كل واحد منهما نصف قيمة إناء صاحبه,

وكان نصفه الباقي هدرًا, وإذا كانت الأصول تشهد بصحة ما ذكرناه دل على صحته, وبطلان ما عداه. فأما استدلالهم بالسائر إذا عثر بالجالس فماتا فإنما ضمن كل واحد منهما جميع دية صاحبه, لأنهما لم يشتركا في فعل التلف, لأن السائر تلف بعثرته بالجالس فضمن الجالس جميع ديته, والجالس تلف بوقوع السائر عليه, فضمن السائر جميع ديته وليس كذلك اصطدام الفارسين لاشتراكهما في فعل التلف. وأما استدلالهم بالوقوع في البئر فالجواب عنه أن الحافر لها ملجئ للوقع فيها مسقط اعتبار فعل الملجأ وصار الجميع مضافًا إلى فعل الملجئ ففارق من هذا الوجه ما ذكرنا, كشاهدي الزور بالقتل يؤخذان به دون الحاكم لإلجائهما له إلى القتل. فصل: فإذا ثبت ما وصفنا فلا فرق بين الراكبين أن يستويا في القوة أو يختلفا فيكون أحدهما كبيرًا والآخر صغير, أو يكون أحدهما صحيحًا والآخر مريضًا, ولا فرق في المركوبين بين أن يتماثلا أو يختلفا فيكون أحدهما على فرس والآخر على حمار, أو يكون أحدهما على فيل والآخر على كبش ولا فرق بين أن يكونا راكبين أو راجلين أو أحدهما راكبًا والآخر ماشيًا راجلًا, ولا فرق بين أن يصطدما مستقبلين أو مستدبرين أو أحدهما مستقبلًا والآخر مستدبرًا, ولا فرق بين أن يكونا بصيرين أو أعميين, أو يكون أحدهما بصيرًا, والآخر أعمى, وإن اختلفا في صفة الضمان دون أصله, لأن الأعمى خاطئ وقد يكون البصير عامدًا, ولا فرق بين أن يقعا مستلقيين على ظهورهما أو مكبوبين على وجهه فدية المستلقي كلها على المكبوب, ودية المكبوب هدر, لأن المكبوب دافع والمستلقي مدفوع, وهذا اعتبار فاسد, لأن الاستلقاء قد يحتمل أن يكون لتقدم الوقوع والانكباب لتأخر الوقوع, ويحتمل أن يكون الاستلقاء في الوقوع لشدة صدمته كما يرفع الحجر من الحائط لشدة رميته فلم يسلم ما اعتل به. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا من صفة الاصطدام وحكمه, في ضمان النصف وسقوط النصف هدرًا فضمان الدابتين يستوي فيه العمد والخطأ, لأنه ضمن مال ويفترق في النفوس ضمان العمد والخطأ, وإذا كان كذلك صح في الاصطدام الخطأ المحض, وتكون الدية فيه على العاقلة مخففة, وصح فيه عمد الخطأ وتكون الدية فيه على العاقلة مغلطة, واختلف أصحابنا هل يصح فيه العمد المحض الموجب للقود؟ على وجهين:

أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي: يصح فيه العمد المحض الموجب للقود, لأن الاصطدام قاتل, وتكون الدية فيه حالة في مال الصادم دون عاقلته. والوجه الثاني: وهو قول أبي حامد الإسفراييني أنه لا يصح فيه العمد المحض, لأنه قد يجوز أن يقتل ويجوز أن لا يقتل, وتكون الدية فيه مغلظة على عاقلة الصادم. صفة الخطأ المحض أن يكونا أعميين أو بصيرين مستديرين: وصفة عمد الخطأ أن يكونا بصيرين مستقبلين. وصفة العمد المحض أن يكونا مستقبلين يقصدان القتل, فإن كان أحدهما مستقبلًا والآخر مستديرًا كان المستدير خاطئًا والمستقبل عامدًا, فإن قصد القتل فهو عمد محض, وإن لم يقصده فهو عمد الخطأ, وحكمة ما قد مضى. فصل: وإذا كان كذلك لم يخل حال الراكبين من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكونا حرين. والثاني: أن يكونا مملوكين. والثالث: أن يكون أحدهما حرًا والآخر مملوكًا. فإن كانا بالغين عاقلين فلهما خمسة أحوال: أحدها: أن يموت الراكبين والدابتان, فيكون في مال كل واحد منهما نصف قيمة دابة صاحبه, ولا تحملها العاقلة لاختصاص العاقلة بحمل ديات الآدميين دون البهائم فيتقاص المصطدمان بما لزم كل واحد منهما لصاحبه من قيمة نصف دابته, ويتراجعان فضلًا إن كان فيه, ويجب على عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه مخففة إن كان خطأ محضً, ومغلظة إن كان عمدًا شبه الخطأ, ولا قصاص من العاقلتين فيما تحملاه من ديتهما إلا أن يكون عاقلتهما ورثتهما فيتقاصان ذلك؛ لأنه حق لهما وعليهما. والحال الثانية: أن يموت الراكبان دون الدابتين, فيلزم عاقلة كل واحد منهما نصف دية صاحبه ولا يتقاضانها إلا أن تكون العاقلتان وارثي المصطدمتين. والحال الثالثة: أن تموت الدابتان دون المصطدمين, فيلزم كل واحد منهما نصف قيمة دابة صاحبه في ماله ويتقاضانها. والحال الرابعة: أن يموت أحدهما ودابته دون الآخر ودون دابته, فيضمن الحي نصف قيمة الدابة الميتة, وتضمن عاقلته نصف دية الميت. والحال الخامسة: أن يموت أحدهما دون دابته وتموت دابة الآخر دونه فيكون نصف دية الميت على عاقلة الحي, ونصف قيمة دابة الحي في مال الميت, ولا يتقاضان قيمة الدابة من الدية, وإن كانت العاقلة وارثة, لأن الحي لا يورث, ويجيء فيها حال

سادسة وسابعة قد بان حكمها بما ذكرناه, فإن كانا صغيرين, وقد ماتا ودابتاهما فلهما ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يركبا بأنفسهما. والثاني: أن يركبهما وليهما. والثالث: أن يركبهما أجنبي لا ولاية له عليهما. فإن ركبا بأنفسهما فحكمهما في الضمان كحكم البالغ, يضمن عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر, ويضمن في ماله نصف قيمة دابته, وإن أركبهما وليهما فالضمان في أموال الصغيرين وعلى عواقلهما دون الوليين, لأن للولي أن يقوم في تأديب الصغيرين بالارتياض للركوب ولا يكون به متعديًا فإنه أركبهما أجنبي لا ولاية له عليهما ضمن مركب كل واحد منهما نصف دية من أركبه ونصف دية الآخر ونصف قيمة دابته ونصف قيمة دابة الآخر, ولا يسقط شيء من دية أحدهما ولا من قيمة دابته, لأنه قد تعدى بإركابه فضمن جنايته وضمن الجناية عليه. وإن كان أحدهما صغيرًا والآخر كبيرًا كان ما اختص بالصغير مضمونًا على ما ذكرناه إذا كانا صغيرين, وما اختص بالكبير مضمونًا على ما ذكرناه إذا كان كبيرين, وهكذا لو كان المصطدمان امرأتين حاملتين فألقت كل واحدة منهما جنينًا ميتًا لم ينهدر شي من دية الجنين, وكان على عاقلة كل واحدة منهما نصف دية جنينها, ونص دية جنين صاحبتها, لأن جنينها تلف بصدمتها وصدمة الأخرى, وجنينها مضمون عليها بالجناية لو انفردت باستهلاكه, فكذلك تضمنه إذا شاركت فيه غيرها, ولا قصاص ها هنا في الديتين بحال وإن كانا ورثة الجنين, لأن من وجبت له غير من وجبت عليه. فصل: وإن كان المصطدمان عبدين فماتا صار دمهما هدرًا, وسقطت قيمة كل واحد منهما, لأن كل واحد منهما سقطت نصف قيمته بصدمته ووجب نصفها في رقبة الآخر لصدمته, وسواء ماتا معًا, أو مات أحدهما بعد الآخر إذا لم يمكن بيع المتأخر منهما قبل موته, وإن كان أحد المصطدمين حرًا, والآخر عبدًا لم ينهدر من دم كل واحد منهما إلا النصف المختص بفعله, لأن العبد إذا مات وجب على الحر نصف قيمته, فانتقل العبد بعد موته إلى نصف قيمته فلم يبطل محل جنايته فوجب فيه نصف دية الحر, وأن تكون نصف قيمة العبد على قولين: أحدهما: في مال الجاني: والثاني: على عاقلته. فإن قيل: إن نصف قيمة العبد في مال الجاني لا تتحمله عاقلته فقد وجب في مال

الحر نصف قيمة العبد، ووجب نصف دية الحر في المستحق من نصف قيمة العبد فصار من وجب عليه نصف القيمة هو الذي وجبه له نصف الدية فيكون ذلك قصاصا، ولا يخلو ذلك من ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يتساوى نصف قيمة العبد ونصف دية الحر فيقع الوفاء بالقصاص. والثاني: أن يكون نصف قيمة العبد أكثر من نصف دية الحر، فيرجع سيد العبد في تركة الحر بالفاضل من نصف قيمة عبده. والثالث: أن يكون نصف دية الحر أكثر من نصف قيمة العبد، فيكون الفاضل من نصف الدية هدرا لبطلان محله. وإن قيل: إن نصف قيمة العبد على عاقلة الحر فإن كان عاقلة الحر هم ورثته فقد وجب عليهم نصف قيمة العبد ووجب لهم نصف دية الحر، فيكون ذلك قصاصا، فإن فضل للسيد من نصف قيمة العبد فضل أخذه من العاقلة، وإن فضل من نصف الدية فضل كان هدرا، وإن لم يكن العاقلة ورثة الحر وكان ورثة غيرهم وجب على العاقلة لسيد العبد نصف قيمته، ووجب لورثة الحر في المستوفي من قيمة العبد نصف ديته، ولا يكون قصاصا، لأن من وجب له غير من وجب عليه، فإن استوي نصف قيمة العبد ونصف دية الحر ففي كيفية القبض والأداء وجهان محتملان: أحدهما: يستوفي سيد العبد عن عاقلة الحر نصف القيمة ويؤديه إلى ورثة الحر في نصف الدية ليقبضها بحق ملكه ويدفعها بحق التزامه. والوجه الثاني: أن ينتقل الحق إلى ورثة الحر، وليس لسيد العبد أن يقبضه، لأنه مستحق، وربما تلف بين قبضه وإقباضه فتلف على مستحقه، فصار ما استحقه السيد من نصف القيمة متنقلا إلى ورثة الحر بما استحقوه من نصف الدية وإن كان نصف قيمة العبد أكثر من نصف الدية أخذ سيده الفاضل من نصف قيمته بعد أن يستوفي ورثة الحر نصف ديته، وإن كان نصف الدية أكثر من نصف قيمة العبد كان الفاضل ونصف الدية هدرا، وبالله التوفيق. فصل: إذا جذب رجلان ثوبا بينهما فتخرق، فإن كان الثوب لهما فعلى كل واحد منهما لصاحبه ربع أرش خرقه، لأنه يملك نصف الثوب، وخرقه بفعله وفعل شريكه مسقطا ما قابل فعل شريكه فيتقاضان ذلك، لأن كل واحد منهما يجب عليه مثا ما يجب له، وإن كان الثوب لأحدهما كان نصف أرشه هدرا، لأنه مقابل لفعل مالكه، ونصف الأرش على الذي لا ملك له فيه، وإن كان الثوب لغيرهما كان على كل واحد منهما نصف أرشه لمالكه.

فصل: وإذا اصطدم رجلان بإناءين فيهما طعام فانكسر الإناءان واختلط الطعامان ضمن كل واحد منهما لصاحبه نصف قيمة إناثه، وكان نصفه الباقي هدرا، وأما الطعامان فضربان: أحدهما: أن يكون تمييز أحدهما عن الآخر بعد اختلاط كالسويق والسكر الصحيح، فيميز كل واحد منهما طعامه من طعام صاحبه، فإن احتاج تمييزهما إلى أجرة صانع كانت بينهما، فإن كان لتمييزهما بعد اختلاطهما نقصان في قيمتهما رجع كل واحد منهما على صاحبه بنصف أرش بنقصان طعامه. والضرب الثاني: أن لا يمكن تمييزهما بعد اختلاطهما كالسويق والعسل، فيقوم كل واحد من الطعامين على انفراده، ثم يقومان بعد الاختلاط فإن لم يكن فيهما نقصان فلا غرم وصارا شريكين فيه بتقدير الثمنين، كأن قيمة السويق خمسة دراهم وقيمة العسل عشرة دراهم فيكون صاحب الويق شركيا فيه بالثلث، وصاحب العسل شريكا فيه بالثلثين فإن باعاه اقتسما ثمنه على قدر شركتهما، وإن أراد قيمة بينهما جبرا لم يجز، لأن كل واحد منهما معاوض عن سويق بعسل، وذلك بيع لا يدخله الإجبار وإن أراد قسمة عن تراض ففي جوازه قولان: أحدهما: يجوز إذا قيل: إن القسمة بيع بدخول التفاضل فيه، وإن نقض باختلاطهما ضمن كل واحد منهما لصاحبه نصف أرش الناقض من طعامه وتضاقا، ثم كانا في الشركة على ما ذكرناه، وبالله التوفيق. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((وكذلك لو رموا بالمنجنيق معا فرجع الحجر عليهم فقتل أحدهم فترفع حصته من جنايته ويغرم عاقلة الباقين باقي ديته)). قال في الحاوي: وهذا كما قال، إذا جذب جماعة حجر منجنيق فأصابوا به رجلا فقتلوه فهو على ضربين: أحدهما: أن يقتلوا به رجلا من غيرهم، فضمان نفسه على جميعهم وبهم في إصابته ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يقصدوا بحجز المنجنيق هدم جدار فيعترضه فيصيبه فهذا خطأ محض، تجب الدية على عواقلهم مخففة بينهم بالسوية، فإذا كانوا عشرة تحمل عاقلة كل واحد منهم عشر ديته. والحال الثانية: أن يقصدوا قتله بعينه فينفقوا على اعتماده، فهؤلاء عمد على جميعهم القود.

فإن قال بعضهم: عمدت، وقال بعضهم: لم أعمد اقتص من العامد، ولزم من أنكر العمد دية الخطأ في ماله بعد إحلافه، ولا تتحملها العاقلة عنه لأنه اعتراف إلا أن يصدقوه فيتحملوا عنه. والحال الثالثة: أن يقصدوا بحجز المنجنيق رمى جماعة ليقتلوا به أحدهم لا بعينه فهذه هي القتلة العمياء تكون عمد الخطأ، لأنهم عمدوا الفعل فأخطؤوا في تعيين النفس فلا قود فيه، وتجب الدية على عواقلهم مغلظة. روى عمرو بن دينار عن طاوس عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من قتل في عمياء رميا بحجر أو ضربا بعصا فعليه عقل الخطأ، ومن قتل اعتباطا فهو قود لا يحال بينه وبين قاتله فمن حال بينهما فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل)). فالعمياء أن يرمي جماعة فيصيب أحدهم لا يعينه والاعتباط: أن يرمي أحدهم بعينه، فإذا ثبت أن ديته على عواقل الجماعة فإنما يجب على عاقلة من جذب في الرمي دون من وضع الحجر في ككفة المنجنيق، ودون من يصيب المنجنيق، لأن وقوع الحجر كان من الحذب، فاقتضى أن تجب الدية على من تولاه، ووضع الحجر يجري مجرى وضع السهم من وتر القوس، فإذا تولى الرمي غيره كان الضمان على الرامي دون واضع السهم، وناصب المنجنيق يجري مجرى صانع القوس، وأجراه بعض أصحابنا مجرى الممسك مع الذابح وبأنه أجرى فلا ضمان عليه. فصل: والضرب الثاني: أن يعود حجر المنجنيق على جاذبية فيقتل أحدهم وهي مسألة الكتاب، فيكون قتله بجذبه وجذب الجماعة، فإذا كانوا عشرة سقط من ديته عشرها، لأنه في مقابة جذبه، ووجب تسعة أعشارها على عواقل التسعة الباقين، تتحمل عاقلة كل واحد منهم عشرها ولو عاد جدر المنجنيق على اثنين من عشرة فقتلهما سقط من دية واحد منهم عشرها المقابل لجذبه، ووجب لكل واحد منهما على عاقلة الآخر عشر ديته، لأنه أحد قتلته، وواجب لكل واحد منهما على عاقلة كل واحد من الثمانية الباقين عشر ديته، فيتحمل كل واحد من الثمانية عشري في ديتين، لأنه قاتل الاثنين، ويتحمل كل واحد من القاتلين عشر دية واحدة، لأنه قاتل لواحد وعلى هذا القياس لو قتل ثلاثة فأكثر، فإن عاد الحجر على جميع العشرة فقتلهم سقط العشر من دية كل واحد منهم لمقابلتها بجذبه، فوجب على عاقلة كل واحد منهم تسعة أعشار تسع ديات، لوارث كل قتيل منهما تسع. وهكذا لو جذب جماعة حائطا أو نخلة فتلف أحدهم أو جميعهم كان كوقوع حجر المنجنيق على أحدهم أو على جميعهم في أن يسقط من دية كل واحد منهم ما قابل فعله،

ويجب على الباقين باقي ديته. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((وإذا كان أحدهما واقفا فصدمه الآخر فماتا فالصدام هدر ودية صاحبه على عاقلة الصادم)) قال في الحاوي: لأن الصادم تفرد بالجناية على نفسه وعلى الواقف المصدوم وسواء كان الوقوف في ملك الواقف أو في غير ملكه أو في طريق سابل، لأن من وقف في غير ملكه لا يستوجب القتل، فأما إذا كان أحدهما جالسا أو نائما في طريق سابل فعثر به الآخر فماتا معاً فدية الجالس على عاقلة العاثر، وأما دية العاثر فقد قال في القديم: إنها على عاقلة الجالس أو النائم. وقال في الجديد: دية العاثر هدر، فاختلف أصحابنا فخرجه بعضهم على قولين: أحدهما: وهو في القديم أن دية العاثر على عاقلة الجالس كلها، ودية الجالس على عاقلة العاثر كلها، لأن كل واحد منهما مات بفعل انفرد به الآخر، ولم يقع فيه اشتراك، فالجالس مات لسقوط العاثر، والعاثر مات بجلوس الجالس، ويكون الفرق بين الجالس والقائم أن القيام في الطرقات لا يستغنى عنه، ولا يجد الناس بدا منه، وخالف الجلوس والنوم فيها، لأن مواضع النوم والجلوس في غير المسالك المطروقة. والقول الثاني: وهو الجديد: أن حكم الواقف والجالس واحد، وأن دية العاثر هدر ودية الجالس على عاقلة العاثر، لأن عرف الناس جار بجلوسهم في الطرقات كما تقعون فيه. وقال آخرون من أصحابنا: ليس اختلاف نصه في القديم والجديد على اختلاف قولين، وإنما هو على اختلاف حالين، فالقديم الذي أوجب فيه دية العاثر على الجالس إذا جلس في طريق ضيقة يؤذي بجلوسه المارة، ولو كان بدل جلوسه فيه قائماً وقيامه مضر بالمارة كان في حكم الجالس، فيضمن دية العاثر، والجديد الذي أسقط فيه دية العاثر إذا كان الجالس قد جلس في طريق واسعة لا يضر جلوسه؛ لأن الناس لا يجدون من الجلوس في الطرقات الواسعة بداً، وكذلك لو كان نائماً لأن محل النوم والجلوس يتقاربان، وإذا انهدرت دية العاثر بالنائم والجالس كان أولى أن ينهدر بالواقف. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((وإذا اصطدمت السفينتان وتكسرتا أو إحداهما فمات من فيهما فلا يجوز فيها إلا واحد من قولين أحدهما أن يضمن القائم بهما في تلك الحال نصف كل ما أصابت سفينته لغيره أو لا يضمن بحال إلا أن يقدر على

تصريفها بنفسه وبمن يطيعه فأما إذا غلبته بريح أو موج وإذا ضمن غير النفوس في ماله ضمنت النفوس عاقلته إلا أن يكون عبدا فيكون ذلك في عنقه. قال المزني -رحمه الله- وقد قال في كتابه الإجارات لا ضمان إلا أن يمكن صرفها)). قال في الحاوي: وصورتها في سفينتين سائرتين اصطدمتا فتكسرتا وغرقتا، وهلك من فيها من الناس، وتلف ما فيها من الأموال، فلهما حالتان: إحداهما: أن يكون منهما تفريط. والثاني: أن لا يكون منهما تفريط. فإن كان ملاح كل واحدة من السفينتين المدبر لسيرها مفرطاً وتفريطاً قد يكون من وجوه منها: أن يقصر في آلتها، أو يقلل من أجزائها، أو يزيد في حملها، أو يسيرها في شدة ريح لا يسار في مثلها، أو يغفل عنها في وقت ضبطها فهذا كله وما شاكله تفريط يجب به الضمان، وإذا وجب الضمان بالتفريط تعلق بفصلين: أحدهما: بالنفوس. والثاني: بالأموال. فأما النفوس فإن عمد الملاحان للصدم والتغريق لنزاع أو شحناء فهما قاتلان عمداً لمن في السفينتين من النفوس، فيجب على كل واحد منهما القود لمن في سفينته وسفينة صاحبه، فيقتل أحدهم بالقرعة، ويؤخذ في ماله نصف ديات الباقين، ويؤخذ النصف الآخر من مال الملاح الآخر. وإن لم يعمد الاصطدام فلا قود على عاقلة كل واحد منهما نصف ديات ركاب سفينته وركاب السفينة الأخرى، فتكون دية كل واحد من ركاب السفينتين على عاقلة كل واحد من الملاحين، لأن الجناية منهما، إلا أن يكون الملاحان عبدين فيكون الديات من رقبتهما، فإن هلك الملاحان مع الركاب وكانا عبدينن كانت نفوس الركاب هدراُ، لتلف محل جنايتهما، وإن كانا حرينن تحملت عاقلة كل واحد منهما نصف دية كل واحد من الركاب فتكون عاقلة هذا نصف الدية، وعلى عاقلة الآخر نصفها الآخر، ويتحمل عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر، ويكون نصفها الباقي هدراُ لأنه في مقابة جناية نفسه. وأما الأموال فلا يخلو إما أن تكون لهما أو لغيرهما. فإن كانت لغيرهما ضمن كل واحد من الملاحين في ماله نصف قيمة المتاع الذي في سفينته، ونصف قيمة المتاع الذي في سفينة الآخر، وضمن الملاح الآخر لنصف الآخر. وإن كان المتاع لهما ضمن كل واحد منهما نصف قيمة متاع صاحبه لجنايته على مال غيره، وكان النص الباقي هدراً، لأنه من جنايته على مال نفسه. وأما السفينتين فإن كانتا لغيرهما ضمن كل واحد منهما نصف قيمة سفينته وسفينة صاحبه، وإن كانتا لهما ضمن كل واحد منهما نصف سفينة صاحبه وكان نصف سفينته هدرا كما قلنا في الأموال.

فصل: وإن كان الملاحان غير مفرطين لقيام كل واحد منهما بما يحتاج إليه من آلة وأعوان وحمل سفينة ما تقله وتسيرها في وقت العادة فهاجت ريح عاصفة لم يقدروا معها على ضبط السفينتين حتى غرقنا وما فيهما من النفوس والأموال، ففي وجوب الضمان قولان نص عليهما فيما نقله المزني في هذا الموضع. أحدهما: عليه الضمان ونص عليه في "الإملاء". والقول الثاني: لا ضمان، ونص عليه في الإجارات، فإذا قيل: بوجوب الضمان فدليله أنه لما كان اصطدام الفارسين موجبا للضمان وإن عجزا من ضبط الفرسين وجب أن يضمنه الملاحان وإن عجزا ضبط السفينتين، فعلى هذا يكون ضمان النفوس والأموال على ما مضى من التفريط إلا في القود بأنه لا يجب بخروجه عن حكم الغير، ويكون ديات النفوس مخففة على العاقلة؛ لأنه خطأ محض. وإذا قيل: بسقوط الضمان فدليله أن ما خرج عن التعدي والتفريط في الأمانات لم يضمن بالحوادث الطارقة كالودائع، ولأن التلف لو كان بصاعقة لم يضمن كذلك بالريح العارضة، وخالف اصطدام الفارسين لأن عنان الدابة بيد راكبها تتصرف على اختياره، فإذا قهرته فلتفريطه في آلة ضبطها والريح العارضة لا يقدر على دفعها ولا يجد سبيلا إلى ضبطها فافترقا، فعلى هذا تكون النفوس هدرا. فأما السفن فإذا كانت ملكا أو مستأجرة لم يضمن، وإن كانت مستعارة ضمن كل واحد منهما من الملاحين جميع قيمة سفينته التي استعارها، لأن العارية مضمونة في الأصل بعدوان وغير عدوان. وأما الأموال فإن كان معها أربابها لم يضمنها الملاحان، وإن لم يكن معها أربابها لم يضمن إن كان منفردا كالأجير المنفرد، وفي ضمانه إن كان مشتركا قولان كالأجير المشترك. أحدهما: يضمن إذا قيل إن الأجير المشترك ضامن. والثاني: لا يضمن إذا قيل إن الأجير المشترك ليس بضامن، فإن كان أحد الملاحين منفردا والآخر مشتركا، فلا ضمان على المنفرد، وفي ضمان المشترك قولان، ولو فرط أحد الملاحين ولم يفرط الآخر كان المفرد ضامنا وفي ضمان من لم يفرط قولان، فإن غرقت إحدى السفينتين ولم تغرق الأخرى كان الحكم في ضمان التي غرقت كالحكم في ضمانها لو غرقا معا، وإذا كان في السفينة مالكها وملاحها فإن كان مالكلها هو المراعي لها والمدبر لسيرها كان الضمان إن وجب على المالك دون الملاح، وإن كان الملاح هو المدبر لسيرها دون المالك فالضمان واجب على الملاح دون المالك. فلو اختلف في التفريط الملاح والركاب فادعاء الركاب وأنكره الملاح فالقول فيه قول الملاح مع يمينه، لأنه على أصل الأمانة إلا أن يجب عليه الضمان مع عدم التفريط فلا

يكون لهذا الاختلاف تأثير إلا فيما وقع الفرق في صفة ضمانه بين التفريط وغيره. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((وإذا صدمت سفينته من غير أن يعهد بها الصدم لم يضمن شيئا مما في سفينته بحال لأن الذين دخلوا غير متعدى عليهم ولا على أموالهم)). قال في الحاوي: اختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة على ثلاثة أوجه: أحدهما: أنها مصورة في اصطدام السفينتين السائرتين إذا لم يكن منهما تفريط فلا ضمان على واحد منهما في أصح القولين، ويكون هذا بقية المسألة الماضية، وهذا تأويل أبي علي بن أبي هريرة وطائفة. والوجه الثاني: أنها مصورة في سفينة مرساة إلى شاطئ نهر أو ساحل بحر قد أحكمت ربطها وألقيت أناجرها فعصفت ريح قطعت ربطها وقلعت أناجرها حتى هلكت ومن فيها فلا ضمان ها هنا على ملاحها قولا واحدا؛ لأنه لا فعل له فيها عند غرقها، وخالف حال السائرة التي هي مديرة بفعله، وربما خفي فيه وجه تقصيره حكاه أبو القاسم الصميري. والوجه الثالث: أنها مصورة في سفينة مرساة إلى الشط محكمة الربط. وأخرى سائرة عصفت بها الريح فألقتها على الواقفة حتى غرقتها فلا ضمان على صاحب الواقفة، وفي وجوب الضمان على صاحب السائرة إن لم يفرط قولان حكاهما أبو حامد الإسفرابيني. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((وإذا عرض لهم ما يخافون به التلف عليهما وعلى من فيها فألقى أحدهم بعض ما فيها رجاء أن تخف فتسلم فإن كان ماله فلا شيء على غيره وكذلك لو قالوا له ألق متاعك فإن كان لغيره ضمن)). قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا خاف ركبان السفينة من غرقها لثقل ما فيها وعصوف الريح بها فألقى رجل بعض متاعها لتخف فتسلم فهذا على ضربين: أحدهما: أن يلقي متاع نفسه. والثاني: أن يلقي متاع غيره. فإن ألقى متاع غيره كان متعديا بإلقائه سواء كان الملقي صاحب السفينة أو غيره، وعليه ضمانه، سواء نجت السفينة أو هلكت، منعه المالك من إلقائه أو لم يمنعه، لأن

إمساكه عن منعه لا يبرئه من ضمانه، كما لو قتل له قتيلا أو قطع منه عضوا، ولا يجب على ركبان السفينة من ضمانه شيء، وإن كان سببا لسلامتهم، فلو كانوا قد أمروه بإلقائه لم يضمنوا، لأن الملقي لا يستبيح الإلقاء بأمرهم، فصار وجود أمرهم وعدمه سواء. فإن قيل: فهلا سقط ضمان هذا المال لما في استهلاكه من خلاص النفوس كالفحل إذا صال فقتل لم يضمن. قيل: لأن خوف الفحل لمعنى فيه سقط ضمانه، وخوف الغرق لمعنى في غير المالك فلزم ضمانه، كما لو اضطر إلى أكل طعام غيره ضمنه، فإن ألقى متاع نفسه فعلى ضربين: أحدهما: بأمرهم. والثاني: بغير أمرهم كان محتسبا في إلقائه لما يرجى من نجاته ونجاتهم وليس له الرجوع بقيمته على أحد منهم، وإن كان ألقاه سبباً لنجاتهم لأنه تطوع بإلقائه، وإن ألقاه بأمرهم فعلى ضربين: أحدهما: أن يضمنوا له قيمته. والثاني: أن لا يضمنوها. فإن لم يضمنوها بل قالوا: ألق متاعك فألقاه فلا غرم لهم عليهم وإن أمروه به، وحكي عن مالك أن عليهم ضمانه وغرمه لأن الآمر كالفاعل، ولما في ذلك من عموم الصالح وهذا فاسد لأمرين: أحدهما: أنهم لو أمروه باستهلاكه في غير البحر لم يضمنوه فكذلك في البحر. والثاني: أنهم لو أمروه بعتق عبده أو بطلاق زوجته لم يضمنوا كذلك بإلقاء ماله وإن ضمنوه له فقالوا له: ألق متاعك وعلينا ضمانه فألقاه لزمهم ضمانه، وهو قول الجمهور، وقال أبو ثور: لا يلزمنهم ضمانه، لأن ضمان ما لم يجب، كما لو قال له: قد ضمنت لك ما تداين به فلانا لم يلزمه ضمان ما داينه به، لتقدم ضمانه على الوجوب، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن أحكام الضرورات وعموم المصالح أوسع من أحكام العقود الخاصة في الاختيار. والثاني: أنه لو قال له: أعتق عبدك عني وعلى ضمانه لزمه الضمان لعتقه كذلك في مسألتنا فأما ضمان ما لم يجب فقد اختلف أصحابنا فيه هاهنا على وجهين: أحدهما: أنه ليس بضمان، وإنما هو استدعاء للاستهلاك بشرط الغرم، لأن الضمان ما كان الضامن فيه فرعا للمضمون عنه وهنا غير موجود هاهنا. والوجه الثاني: أنه ضمان المتاع بعد إلقائه لا يصح فصح ضمانه قبل إلقائه وضمان المداينة بعد استحقاقها يصح فلا يصح ضمانها قبل الاستحقاق، ويشهد له من الأصول

أن بيع الثمر لما صح بعد خلقها لم يجز بيعها قبل خلقها، ومنافع الدار المستأجرة لما لم تصح المعاوضة عليها بعد حدوثها صح قبل حدوثها، كذلك ما ذكرناه من الضمان. فأما إذا قال له وقد أمنوا الغرق: ألق متاعك في البحر وعلى ضمانه فألقاه ففي لزوم هذا الضمان وجهان: أحدهما: وهو قول أبي حامد الإسفراييني: لا يلزمه لعدم الضرورة وارتفاع الأغراض الصحيحة. والوجه الثاني: يلزمه ضمان بشرط الضمان عند الاستهلاك والأول أشبه والثاني أقيس. فأما أخذ الرهن من هذا الضمان فلا يصح لأمرين: أحدهما: لعقده قبل وجوب الحق. والثاني: للجهل بمقدار القيمة وأجازه بعض أصحابنا كالضمان وليس بصحيح، لأن حكم الضمان أوسع من حكم الرهان، لأن ضمان الدرك يجوز أخذ الرهان عليه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((ولو قال لصاحبه ألقه على أن أضمنه أنا وركبان السفينة ضمنه دونهم إلا أن يتطوعوا. قال المزني: هذا عندي غلط غير مشكل وقياس معناه أن يكون عليه بحصته فلا يلزمه ما لم يضمن ولا يضمن أصحابه ما أراد أن يضمنهم إياه)). قال في الحاوي: وصورتها أن يلقي متاعه في البحر بشرط الضمان، فلا يخلو أن يضمنه جميعهم أو أحدهم، فإن ضمنوه جميعا فعلى ضربين: أحدهما: أن يشتركوا فيه فيقولوا: ألقه وعلينا ضمانه، فيكون الضمان مقسطا بين جميعهم على أعدادهم، فإن كانوا عشرة ضمن كل واحد منهم عشر قيمته. والضرب الثاني: أن ينفردوا فيه فيقولوا: ألقه وعلى كل واحد منا ضمانه، فيلزم كل واحد منهم ضمان جميع قيمته، وإن ضمنه أحدهم لم يخل من أن يضمنه عن نفسه أو عن جماعتهم، فإن ضمنه عن نفسه اختص بضمانه وغرمه، وإن عاد نفعه على جميعهم، وإن ضمنه عنه وعنهم لم يخل أن يكون بأمرهم أو غير أمرهم، فإن كان بأمرهم كان ضمانه عنه وعنهم لازما لجميعهم، وإن كان على وجه الاشتراك كان متقسطا على أعدادهم، وإن كان على وجه الإنفراد لزم جميع الضمان لكل واحد منهم، وإن ضمن عنه وعنهم بغير أمرهم لم يلزمهم ضمانه عنهم، لأن الضمان لا يلزم إلا بقول أو فعل ولم يوجد منهم أحدهما، وأما الضامن فيلزمه ضمان نفسه، وقدر ما يلزمه

من الضمان معتبر بلفظه وله فيه ثلاثة أحوال: أحدها: أن بعبر عنه بلفظ الانفراد فيقول: ألقه وعلى كل واحد منا ضمانه فعليه ضمان جميعه بلفظه وله فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن يعبر عنه. والحال الثانية: أن يعبر عنه بلفظ الاشتراك فيقول: ألقه وعلى جماعتنا ضمانه، فعليه من الضمان بقسطه من عددهم. والحال الثالثة: أن يعبر عنه بلفظ مطلق فيقول: ألقه على أن أضمنه أنا وركبان السفينة، فهي مسألة الكتاب قال الشافعي: ((ضمنه دونهم)) فاختلف أصحابنا في مطلق هذا الضمان هل يقتضي حمله على الانفراد أو الاشتراك؟ على وجهين: أحدهما: أن يكون محمولا على الاشتراك فلا يلزمه منه إلا بحصته ويكون تأويل قول الشافعي ضمنه دونهم محمولا على أصل الضمان دون قدره ويكون المزني موافقا للشافعي في حكم الضمان ومخطئا عليه في تأويل كلامه. والوجه الثاني: أنه محمول على ضمان الانفراد، ويلزمه ضمان جميع القيمة ويكون قول الشافعي ((ضمنه دونهم)) محمولا على ضمانه جميعه ويكون المزني مخالفا للشافعي في الحكم مصيبا في تأويل كلامه، ووجدت لبعض أصحابنا وجها ثالثا أنه أن كان عند ضمانه عنه وعنهم ضمن أن يستخلص ذلك من أموالهم لزمه ضمان جميعه، وإن لم يضمن استخلاصه من أموالهم لم يضمن إلا قدر حصته، وأشار إلى هذا الوجه أبو حامد الإسفراييني، واستشهد عليه بقول الشافعي في الخلع: ولو قال: اخلع زوجتك على ألف أصححها لك من مالك لزمه ضمانها، ولو قال: على ألف في مالها لم يلزمه ضمانها. فصل: ولو ابتدأ صاحب المتاع فقال لركبان السفينة: ألقي متاعي على كل واحد منكم ضمانه. فقالوا جميعهم: نعم، أو قالوا: افعل فهما سواء، وعلى كل واحد منهم ضمان جميع قيمته. ولو قال أحدهم: نعم أو افعل أو أمسك الباقون لزمه الضمان دونهم، ولو كان صاحب المتاع قال لهم: ألقي متاعي وعليكم ضمانه. فقالوا جميعا: نعم لزم كل واحد من الضمان بقدر حصته، لأن هذا ضمان اشتراك والأول ضمان انفراد، ولو أجابه أحدهم ضمن وحده قدر حصته. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((ولو خرق السفينة فغرق أهلها ضمن ما فيها وضمن ديات ركبانها عاقلته وسواء من خرق ذلك منها)).

قال في الحاوي: وهذا صحيح، وله إذا خرقها ثلاثة أحوال يستوي ضمان الأحوال في جميعها ويختلف فيها ضمان النفوس: أحدها: أن يكون خرقة لها عمدًا محضًا. والثاني: أن يكون خطأ محضًا. والثالث: أن يكون عمد الخطأ، فإن كان عمد الخطأ فهو أن يعمد خرقها وفتحها لغير إصلاح لها ولا لسد موضع فيها، فلا يخلو حال الخرق من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكون واسعًا لا يجوز أن تسلم السفينة من مثله فهذا قاتل عمدًا، وعليه القود إن سلم منها، وإن غرق معها ففي ماله ديات من غرق فيها مع قيمة الأموال التالفة فيها. والقسم الثاني: أن يكون الخرق مما يجوز أن تسلم السفينة مع مثله ويجوز أن تغرق منه فهذا عمد الخطأ لعمده في الفعل وخطئه في القصد، فتكون ديات النفوس مغلظة على عاقلته وضمان الأموال مع الكفارات في ماله، ولا قود عليه. والقسم الثالث: أن يكون الخرق مما لا يغرق من مثله فيتسع ويغرق فهذا خطأ محض، تكون ديات النفوس مخففة على عاقلته، وضمان الأموال مع الكفارات في ماله، فهذا حكم خرقه إذا كان عامدًا في فعله. وأما الحالة الثانية: وهو أن يكون الخرق من خطأ محضًا، فهو أن يسقط من يده حجر فيفتحها فيغرق، فتكون ديات النفوس مخففة على عاقلته، وضمان الأموال مع الكفارات في ماله، يستوي فيه الحكم على اختلاف حال الخرق في صغره وكبره. وأما الحالة الثالثة: وهو أن يكون الخرق منه عمد الخطأ فهو أن يعمد فتحها لعمل عيب فيها فتغرق، أو يدق فيها مسمار فينشق اللوح وتغرق فتكون ديات النفوس مغلظة على عاقلته، وضمان الأموال مع الكفارات في ماله، ولو دق جانبًا منها لعمل فانفتح الجانب الآخر لم يكن عن قصده. فصل: وإذا دفع الرجل ولده إلى سابح ليعلمه السباحة فغرق فللولد حالتان: إحداهما: أن يكون صغيرًا غير بالغ، فتجب ديته على عاقلة السابح مغلظة كالمعلم إذا ضرب صبيًا فمات، لأن له أن يحطه في الماء على شرط السلامة فإذا أفضى إلى التلف كان منسوبًا إلى تقصيره فضمن، كما يكون للمعلم ضرب الصبي للتأديب على شرط السلامة فإذا أفضى إلى التلف صار منسوبًا إلى التعدي فضمن. والحالة الثانية: أن يكون الولد بالغًا فلا ضمان على السابح، لأن حفظه في الماء إذا كان بالغًا وتجنبه فيه من الغرق متوجه إليه لا إلى السابح فصار التفريط منه لا من غيره فلم يضمن ديته.

باب من العاقلة التي تغرم

فصل: وإذا ربط رجل يدي رجل ورجليه وألقاه على ساحل بحر فزاد الماء فغرقه فهذا على ضربين: أحدهما: أن تكون زيادة الماء مألوفة في أوقات راتبه كالمد والجزر بالبصرة، فهذا قاتل عمدًا وعليه القود، لأنه فاسد لتغريقه. والضرب الثاني: أن تكون الزيادة غير مألوفة فلا قود فيه وهو على ضربين: أحدهما: أن يكون الأغلب من حال الماء أن يزيد وإن حاز أن لا يريد، فيكون ذلك منه عمد الخطأ تجب الدية فيه مغلظة على عاقلته. والضرب الثاني: أن يكون الأغلب من حال الماء أن لا يزيد وإن جاز أن يزيد فيكون هذا خطأ محضًا تجب فيه الدية مخففة على العاقلة. ولو ربط يديه ورجليه وألقاه في صحراء فأكله السبع فلا قود عليه، لأن المتلف غيره، ثم ينظر فإن كان الصحراء مسبعة فهو عمد الخطأ تجب فيه الدية مغلظة على عاقلته، وإن كانت غير مسبغة فهو خطأ محض تجب فيه الدية مخففة. فصل: وإذا تجارح رجلان وادعى كل واحد منهما أنه جرح صاحبه دفعًا عن نفسه والآخر منكر فالقول قول كل واحد منهما في إنكار الطلب وعليه القود فإن نكل عن يمين الطلب حلف كل واحد منهما على أنه مطلوبه ولا قود ولا أرش والله أعلم. باب من العاقلة التي تغرم مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "لم أعلم مخالفًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة". قال في الحاوي: أما العاقلة فهم ضمناء الدية ومتحملوها من عصبات القاتل، واختلف في تسميتهم عاقلة على ثلاثة أوجه: أحدها: أن العقل اسم للدية كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله" أي يتحمل عقله وهو الدية. والثاني: أنهم سموا عاقلة، لأنهم يقودون إبل الدية فيعقلونها على باب المقتول. والثالث: أنهم سموا عاقلة، لأنهم يعقلون القاتل أي يمنعون عنه، والمنع العقل، ولذلك سمى العقل في الناس عقلًا، لأنه يمنع من القبائح.

فصل: لا خلاف أن دية العمد لا تحملها العاقلة، سواء وجب فيهما القود أو لم يجب كجناية الوالد على الولد وما لا قصاص فيه من الجائفة وسائر الجوارح، وتكون الدية حالة في مال الجاني. وقال أبو حنيفة: ما لا قصاص فيه من العمد تجب الدية فيه على الجاني مؤجلة كالخطأ، وهذا خطأ الأمور: أحدها: أن سقوط القود في العمد لا يوجب تأجيل ديته كسقوطه بالعفو. والثاني: أن غرم المتلف إذا لم يدخله التحمل حل كالأموال. والثالث: أنه لما لم يتعجل دية الخطأ باختلاف أحواله لم تتأجل دية العمد باختلاف أحواله. فصل: فأما دية الخطأ المحض وعمد الخطأ فالذي عليه جمهور الأمة من المتقدمين والمتأخرين أنها واجبة على العاقلة تتحملها عن القاتل، وشذ منهم الأصم وابن علية وطائفة من الخوارج فأجبوها على القاتل دون العاقلة كالعمد، احتجاجًا بقول الله تعالى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [فاطر:18] وقوله تعالى: {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} [طه:15] وقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر:38] أي مأخوذة. وبما روي أن الحسحاس بن عمرو العنبري قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله الرجل من قومي يجني أفؤآخذ به فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "من هذا منك" وكان معه ابنه فقال: ابن اشهد به أي أعلمه قطعًا وليس بمستحلق فقال: "إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه" ولم يرد بذلك فعل الجناية؛ لأنه قد يجني كل واحد منهما على صاحبه، وإنما أراد به أن لا يؤاخذ بجنايتك ولا تؤاخذ بجنايته. وروي أياد بن لقيط عن أبي رمثة قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي فرأى التي في ظهره فقال له أبي: دعني أعالجها فإني طبيب، فقال: "أنت رفيق والله الطبيب" من هذا معك؟ فقال: ابني أشهد به فقال: "أما إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه" وروي الحكم عن مسروق عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ألا لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض، لا يؤخذ الأب بجريرة ابنه" وهذا نص. قالوا: ولأنه لما لم يتحمل

العاقلة قيم الأموال لم يتحمل دية النفوس، ولأن العاقلة لو تحملت دية الخطأ لتحملت دية العمد، ولأن الدية عقوبة فلم تتحملها العاقلة كالقود، ولأن القتل الخطأ موجبين: الدية والكفارة، فلما لم تتحمل العاقلة الكفارة لم تتحمل الدية. والدليل على أن العاقلة تتحمل الدية قول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى} [المائدة:2] وتحمل العاقلة من جملة البر والتقوى فدخل في عموم الآية، وروي سعيد بن المسيب عن أبي هريرة قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنين امرأة من بني لحيان سقط ميتًا بغرة عبد أو أمة ثم إن المرأة التي قضى عليها بالغرة توفيت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ميراثها لبنيها وزوجها وأن العقل على عصبتها. وروي أبو سلمة عن أبي هريرة قال: اقتتلت امرأتان من بني هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلها وما في بطنها، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو وليدة، وقضى بدية المرأة على عاقلتها وورثتها والدها ومن معه، فقال حمل بن مالك النابغة الهذلي: يا رسول الله كيف أغرم من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل ومثل ذلك بطل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا من إخوان الكهان" من أجل مسجعه الذي سجعه. وروي الشعبي عن جابر أن امرأتي من هذيل قتلت إحداهما الأخرى ولكل واحدة منهما زوج وولد، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم دية المقتولة على عاقلة القاتلة وروى أبو عازب عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "القود بالسيف والخطأ على العاقلة". وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم ميز بين معاقل قريش والأنصار فجعل معاقل قريش فيهم، ومعاقل الأنصار في بني ساعدة. وروي حماد عن إبراهيم أن عليًا والزبير اختصما إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنهم في موالي صفية بنت عبد المطلب لأن الزبير ابنها وعلي ابن أخيها، فقضى للزبير بالميراث وعلى علي بالعقل. ولأن إجماع الصحابة انعقد في قصة عمر بن الخطاب حين أنفذ رسوله إلى امرأة في قذف بلغه عنها فأجهضت ذات بطنها، فسأل عثمان وعبد الرحمن فقالا: لا شيء عليك إنما أنت معلم، وسأل عليًا فقال: إن كانا اجتهدا فقد أخطأ وإن كانا ما اجتهدا فقد غشيا عليك الدية، فقال عمر: غرمت لا تبرح حتى تضربها على قومك يعني قريشًا لأنهم عاقلته، فقضى بها عليهم فتحملوها عنه، ولم يخالفه منهم ولا من جميع الأمة أحد مع انتشار القضية، وظهورها في الكافة، فثبت أنه إجماع لا يسوغ خلافه، ولأن

اختصاص العاقلة بالاسم موجب لاختصاصهم بالحكم، وفقد الحكم يوجبه زوال الاسم، ولأن العقل في كلامهم المنع، وقد كانت العرب في الجاهلية يمنعون عن القاتل بأسيافهم فلما منعهم الإسلام من السيف عوض منه منعهم منه بأموالهم؛ ولذلك انطلق اسم العاقلة عليهم، ولأن النفوس مغلظة على الأموال، وقتل الخطأ يكثر بين الناس وفي إيجاب الدية على القاتل في ماله أحد أمرين إما استئصال ماله إن كان واحدًا وقل أن يتسع لتحمل الدية مال الواحد، وإما إهدار الدم إن كان معدمًا، وفي تحمل العاقلة عنه مواساة تفضي إلى حفظ الدماء واستبقاء الأحوال، وهذا أدعى إلى المصلحة وأبعث على التعاطف، ولأنه لما تحمل بالنسب بعض حقوق الله تعالى في الأموال وهو زكاة الفطر جاز أن يتحمل بعض حقوق الآدميين في الأموال وهو ديات الخطأ، فأما الجواب عن الآية فحقيقة الوزر الإثم، وهو لا يتحمل، وكذلك ظاهر الآيتين محمول على أحد أمرين: إما المأثم وإما أحكام عمده. وأما قوله في الخبرين أنه لا يجني عليك ولا تجني عليه فعنه جوابان: أحدهما: أن الأبناء والآباء لا يتحملون العقل وإنما يتحمله من عداهم من العصبات. والثاني: أنه يحمل على العمد الذي لا يتحمل عن القاتل ولا يؤاخذ به غيره، وكذلك الجواب عن قوله: "لا يؤخذ الأب بجريرة ابنه ولا الابن بجريرة أبيه". وأما جمعهم بين الأموال والنفوس فغير صحيح، لتغليظ النفوس على الأموال، ولذلك دخلت القسامة في النفوس ولم تدخل في الأموال. وأما العمد فلأنه عن معصية يستحق فيها القود، والعاصي لا يعان ولا يواسي، والقود لا يدخله تحمل ولا نيابة. وأما الكفارة فمن حقوق الله تعالى التي يتعلق بالمال تارة والصيام تارة، ولا يصح فيها عفو فلم يدخلها مواساة، وخالفتها الدية في هذه الأحكام مخالفتها في التحمل والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا اختلاف بين أحدٍ علمته في أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بها في ثلاث سنين". قال في الحاوي: ذهب قوم إلى أن العاقلة تتحمل الدية حالة يؤدونها معجلة كديات العمد وقيم المتلفات. وحكي عن ربيعة بن أبي ربيعة بن أبي عبد الرحمن أنها مؤجلة في خمس سنين،

لأن دية الخطأ أخماس، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة ومالك، وما عليه الجمهور أنها مؤجلة في ثلاث سنين. قال الشافعي: لا اختلاف بين أحدٍ علمته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بها في ثلاث سنين فأضافه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وجعل نقله كالإجماع، فاختلف أصحابنا فيما أراده الشافعي بهذا القضاء، لأن أصحاب الحديث اعترضوا على الشافعي فيه وقالوا: ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الشيء فكيف قال هذا". وقال ابن المنذر: لا أعرف هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم. وسئل أحمد بن حنبل عن هذا فقال: لا أعرف فيه شيئًا، فقيل له: إن أبا عبد الله قد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: لعل أبا عبد الله سمعه من ذلك المدني فإنه كان حسن الظن فيه يعني إبراهيم بن يحي الهجري ولأصحابنا عنه جوابان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة وطائفة أن مراد الشافعي بقضائه تأجيل الدية في ثلاث سنين، وأنه مروي لكنه مرسل، فلذلك لم يذكر إسناده. والثاني: أن مراده القضاء بأصل الدية وهو متفق عليه. فأما تأجيلها في ثلاث سنين فهو مروي عن الصحابة، روي عن عمر وعلي رضي الله عنهما أنهما جعلا دية الخطأ على العاقلة في ثلاث سنين، ولأن العاقلة تتحمل دية الخطأ مواساة، وما كان طريق المواساة كان لأجل فيه معتبرًا كالزكاة، ولما خرجت عن عرف الزكاة في القدر زاد حكمها في الأجل، فاعتبر في عدد السنين أكثر القليل وأقل الكثير فكان ثلاث سنين، وبهذا خالف العبد وقيم المتلفات، لأنه لا مواساة فيهما، ولا اعتبار بما قاله ربيعة إنما مؤجلة في خمس سنين؛ لأن دية الخطأ أخماس، لأن عمد الخطأ أثلاث والأجل فيهما سواء. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا مخالفًا في أن العاقلة العصبة وهو القرابة من قبل الأب. وقضى عمر بن الخطاب رضي الله عنه على علي بن أبي طالبٍ بأن يعقل عن موالي صفية بنت عبد المطلب وقضى للزبير بميراثهم لأنه ابنهما". قال في الحاوي: العاقلة هم العصبات سوى الوالدين من الآباء والمولودين من الأبناء، كالإخوة، وبينهم، والأعمام وبنيهم، وأعمام الآباء والأجداد وبنيهم. وقال مالك وأبو حنيفة: يتحملها الآباء والأبناء وهو من العاقلة كسائر العصبات استدلالًا بأنهم عصبة فاشبهوا في العقل سائر العصبات وهم أولى، لأن تعصيبهم أقوى، ولأن النصرة ألزم فكانوا أحق بتحمل الغرم.

ودليلنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الحسحاس بن خباب وأبي رمثة في الابن: "إنه لا يجني عليك ولا تجني عليه" وحديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يؤخذ الأب بجريرة ابنه ولا الابن بجريرة أبيه". وهذه الأحاديث نصوص مع حديث أبي هريرة، ولأن عمر رضي الله عنه قضى في موالي صفية للزبير بالميراث وعلى علي بالعقل، وهو إجماع، ولأن كل من لا يحمل العقل مع وجود أهل الديوان لم يحمله مع عدمهم كالصغير والمعتوه، ولأن كل من لزمه تحمل النفقة عنه في ماله لم يلزمه تحمل العقل عنه كالزوج. وقياسهم على البعضية منتقض بالصغير والمعتوه، ثم المعنى في الفرضية عدم الولادة والبعضية واعتبارهم بالنصرة فهو شرط وليست بعلة، ويفسد بالزوج والجار. فصل: وإذا كان للقاتلة خطأ ابن عمها لم يعقل عنها بالتعصيب تغليبًا لحكم البنوة، وجاز أن يزوجها بالتعصيب تغليبًا لحكمه على البنوة، والفرق بينهما أن خروج الأبناء من العقل وإن كانوا عصبة لاختصاصهم بتحمل النفقة وهو يتحملها هاهنا، وإن كان ابن عم فلم يجمع بين تحملها وتحمل العقل، وخالف ولاية التزويج الذي قد وجدت فيه مع البنوة شروط العصبات، والله أعلم بالصواب. فصل: وإذا ثبت أن العاقلة من عدا الآباء والأبناء من العصبات لم يتحمل القاتل معهم من الدية شيئًا، واختصوا بتحملها عنه دونه. وقال أبو حنيفة: يشاركهم في تحمل الدية ويكون فيها كأحدهم، استدلالًا بما روي أن سلمة بن نعيم قتل مسلمًا ظنه كافرًا فقال له عمر: ديته عليك وعلى قومك، ولم يظهر له مخالف. ولأن تحمل الدية عن القاتل مواساة له وتخفيف عنه فلم يجز أن يتحمل عنه ما لا يتحمله عن نفسه كالنفقة، ولأن تحملها عنه نصرة له وهو أحق بنصرة نفسه من غيره. ودليلنا حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل دية المقتولة على عاقلة القاتلة فكان الظاهر أن جعل جميعها على العاقلة، ولأن تحمل المواساة يوجب استيعاب ما وقعت به المواساة كالنفقة وزكاة الفطر، وفيه انفصال عما استدلوا به من المواساة، ولأنه لما تفرد القاتل بدية العمد وجب أن تتفرد العاقلة بدية الخطأ، لأن الدية مستحقة في جهة واحدة، وحديث عمر محمول على أ، هـ جعلها عليه وجوبًا وعلى قومه تحملًا. وأما النصرة فلا اعتبار بها، لأن الزوج ينصر زوجته ولا يعقل عنها، وعلى أن العاقلة قد كفوه النصرة.

مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ومعرفة العاقلة أن ينظر إلى إخوته لأبيه فيحملهم ما يُحمل العاقلة فإن لم يحتملوها دفعت إلى بني جده فإن لم يحتملوها دفعت إلى بني جد أبيه ثم هكذا لا يدفع إلى بين أب حتى يعجز من هو أقرب منهم". قال في الحاوي: وهذا صحيح؛ لأن تفرد الأقارب بها دون الأباعد إجحاف فخرج عن المواساة، وأخذها من كل قريب وبعيد يفضي إلى دخول جميع بني آدم فيها فوجب أن يراعي في تحملها الأقرب فالأقرب كالميراث. قال أبو حنيفة: يستوي فيها القريب والبعيد ويشتركون في تحملها على سواء استدلالًا بأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية المقتول على عاقلة القاتلة، وأن عمر بن الخطاب قال لعلي رضي الله عنهما في دية الجنين الذي أجهضته المرأة الموهوبة: "غرمت عليك لتقسمنها على قومك" ولم يفرق بين القريب والبعيد. وهذا فاسد، لأن كل حكم تعلق بالتعصيب وجب أن يعتبر فيه الترتيب كالميراث وولاية النكاح، ولأن الأقرب أخص بالنصرة من الأبعد، فكان أحق بالفعل منه. فأما الخبر والأثر فالمراد بهما بيان محل العقل أنهم العصبات ثم تقف التعيين على ما يوجبه الترتيب، فإذا ثبت هذا فأول العصبات درجة في تحمل الدية الإخوة، وقدر ما يتحمله الموسر منهم في كل سنة نصف دينار، والمتوسط ربع دينار على ما سنذكره، ويخرج من الإخوة من كان لأم، ويتحملها منهم من كان لأب وأم، أو لأب، فإن اجتمعوا فهل يقدم الإخوة للأب والأم في تحملها على الإخوة للأب؟ على قولين: كما قيل في ولاية النكاح، فإذا أمكن أن يتحملها الإخوة، لأن العقل خمسة دنانير والإخوة عشرة ضربت عليهم ولم يعدل إلى غيرهم وإن قصروا عنها، لأن العقل خمسة والإخوة خمسة ضم إليهم بنو الإخوة، فإن كانوا خمسة صاروا مع الإخوة عشرة يتحملون العقل الذي هو خمسة دنانير فلا يضم إليهم غيرهم، وإن كان بنو الإخوة أقل من خمسة ضممنا إليهم بنيهم حتى يستكملوا عشرة فيتحملون عقل الخمسة، ولا تتعداهم إلى غيرهم، فإن زاد العقل على الخمسة ضممنا إلى الإخوة وبينهم الأعمام، فإن تحملوه لم يعدل إلى غيرهم، وإن عجزوا عنه ضممنا إليهم بنيهم، ثم كذلك أعمام الأب وبنوهم وأعمام الجد وبنوهم حتى يستوعبوا جميع القبيلة التي هو إليها منسوب وبها مشهور، ولا يقتصر على النسب الأدنى دون الأبعد، لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل معاقل قريش منهم، فإذا كان القاتل من بني هاشم جعلنا الدية عليهم، فإن عجزوا عنها دخل فيها بنو عبد مناف، فإن عجزوا عنها دخل فيها بنو قصي، فإن عجزوا عنها دخل فيها بنو كلاب، ثم كذلك بنو أب بعد أب حتى تستوعب جميع قريش، ولا يعدل يعد قريش إلى غيرهم من العرب لتميزهم بأنسابهم، فإن قصروا

عنها عدلنا إلى المولي المعتقين لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "موالي القوم منهم" فإن عجزوا عنها كان ما عجزوا عنه في بيت المال، لأن جميع المسلمين عاقلة لقول النبي صلى الله عليه وسلم "المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم". مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ومن في الديوان ومن ليس فيه منهم سواءٌ قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على العاقلة ولا ديوان في حياته ولا في حياة أبي بكرٍ ولا صدرٍ من ولاية عمر رضي الله عنه". قال في الحاوي: وهذا قاله الشافعي ردًا على أبي حنيفة، لأنه أوجبها على من شاركه في ديوانه تدفع من أعطياتهم، سواء كانوا عصبة أو لم يكونوا، فإن لم يكن له ديوان قسمت حينئذٍ على عصبته احتجاجًا بأن عمر بن الخطاب دون الدواوين وجعل العقل على أهل الديوان من أعطياتهم، ولأن أهل الديوان بالنصرة أحق فكانوا بتحمل العقل أحق، وذهب الشافعي إلى أنها على العصبة، سواء كان في الديوان أو لم يكن، وسواء كانت عصبته معه في الديوان أو لم يكن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بدية المقتولة على عاقلة القاتلة ولم يكن على عهده ديوان. وكذلك قضى أبو بكر رضي الله عنه بالدية على العاقلة ولم يكن في خلافته ديوان، وكذلك في صدر من أيام عمر إلى أن أحدث الديوان في آخر أيامه لتميز القبائل وترتيب الناس في العطاء، فلم يجز العدول به عما كان في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى غيره من أمر حدث بعده، لأنه يكون نسخًا، والنسخ مرتفع بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأن كل حكم تعلق بالتعصيب مع عد الديوان، تعلق به مع وجود الديوان كالميراث وولاية النكاح، ولأنها جناية يتحمل عقلها فوجب أن يختص بها العصبات كالذي لا ديوان له، ولأن كل سبب لا يستحق به الميراث لم يتحمل به العقل كالجوار ولأن عدم العقل في مقابلة غنم الميراث ليكون غانمًا وغارمًا لا يجتمع هذا إلا في العصبات، ولذلك انتقل عنهم العقل إذا عدموا إلى بيت المال لانتقال ميراثه إليه، ولا يعقل بيت المال عن الكافر، لأن ماله يصير إليه فيئًا لا ميراثًا، وفيما ذكرنا انفصال وبالله التوفيق. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا أعلم مخالفًا أن الصبي والمرأة لا يحملان منها شيئًا وإن كانا مُوسرين وكذلك المعتوه عندي".

قال في الحاوي: وهو كما قال، لا يعقل من العصبات إلا الرجال العقلاء الأحرار دون النساء والصبيان والمجانين والعبيد، لأمرين: أحدهما: أنها مختصة بأهل النصرة من العصبات. والثاني: أن يحمل العقل في الإسلام بدل من المنع بالسيف في الجاهلية، وذلك مختص بالرجال العقلاء الأحرار. فإن قيل: فسهم ذوي القربى مستحق بالنصرة ولذلك ضم رسول الله صلى الله عليه وسلم بني المطلب إلى بني هاشم وقال: "لأنهم ما افترقوا في جاهلية ولا إسلام"، ثم سوى فيه بين الرجال والنساء والصبيان فهلا كان العقل بمثابته، وإن كان مستحقًا بالنصرة؟ قيل: لأن سهم ذوي القربى مستحق بالقرابة، وإن أثرت في النصرة فلذلك كان للذكر فيه مثل حظ الأنثيين، فلذلك أجرى عليهما حكم المواريث وخالفت العقل الذي هو مقصور على التعصيب والنصرة. فصل: فإذا تقرر هذا فلا فرق في العاقلة بين المقاتلة وغير المقاتلة، لأن جميعهم من بين ناصر بيد أو لسان، فأما الشيوخ والمرضى فمن كان منهم باقي المنة ولم ينته إلى عجز الهرم والإياس بالمرض تحملوا العقل، فقد تحمل عمار بن ياسر العقل، وهو شيخ كبير يحارب في محفة، فأما من انتهت به السن إلى عجز الهرم وانتهى به المرض إلى الزمانة حتى لم يبق فيهما نهضة ولا يقدران على الحضور في جميع ففيهم وجهان مخرجان من اختلاف قولي الشافعي فيهم: هل يقتلون إذا أسروا في الشرك؟ فإن قيل: يقتلون عقلوا، وإن قيل: لا يقتلون لم يعقلوا. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ويؤدي العاقلة الدية في ثلاث سنين من حيث يموت القتيل". قال في الحاوي: وهذا كما قال، الدية تجب على العاقلة بموت القتيل، وهو أول أجلها، سواء حكم بها الحاكم عليهم أو لم يحكم. وقال أبو حنيفة: لا تجب الدية على العاقلة إلا بحكم الحاكم، فإذا حكم بها عليهم فهو أول وقت الأجل احتجاجًا بأن تحمل العقل يختلف فيه فلم يستقر وجوبه إلا بحكم، ولم يتأجل إلا بعد الحكم كالعنة. ودليلنا: هو أن كل ما وجب بسبب تعلق وجوبه بوجود السبب كالأثمان في المبيع تجب بوجود المبيع وهو أول المؤجل، ولأنها مواساة يعتبر فيها الحول فلما يقف

ابتداؤها على الحكم كالزكاة، ولأن من لزمته الدية المؤجلة لم يقف وجوبها وابتداؤها على الحكم كالمقر بقتل الخطأ. فأما الاحتجاج بالاختلاف فيه فخطأ، لأن تحمل الدية نص، وفي النص على الأجل ما قدمناه من الوجهين، والاختلاف فيهما شاذ حدث بعد تقدم الإجماع فكان مطرحًا. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا الدية من أن تكون مستحقة في نفس أو فيما سوى النفس فإن كان في نفس فأول أجلها موت القتيل وهو وقت الجناية، سواء كان القتل بتوجيه أو سراية، لأن دية النفس لا تجب إلا بعد تلفها، ثم لا يخلو حال الدية من ثلاثة أضرب: أحدهما: أن تكون كاملة. والثاني: أن تكون ناقصة. والثالث: أن تكون زائدة. فإن كانت كاملة فهي دية الرجل الحر المسلم، فتجب على العاقلة في ثلاثة سنين، يؤدي بعد انقضاء السنة الأولى ثلثها، بعد انقضاء الثانية ثلث ثان، وبعد انقضاء السنة الثالثة الثلث الباقي، وإن كانت الدية ناقصة كدية المرأة والذمي ففيها وجهان: أحدهما: أن العاقلة بتحملها في ثلاثة سنين، لأنها دية نفس، فيؤدي في انقضاء كل سنة ثلثها. والثاني: أنها تؤدي في كل سنة منها ثلث دية الرجل الحر المسلم، فإن كانت دية ذمي فهي ثلث دية المسلم، فتؤدي العاقلة بعد انقضاء السنة جميعها، لأنه القدر الذي تؤديه من دية المسلم، وإن كانت دية امرأة فهي نصف دية الرجل، فيؤدي بعد انقضاء السنة الأولى ثلثيها وهو ثلث دية الرجل، ويؤدي بعد انقضاء السنة الثانية ثلثها الباقي وهو سدس دية الرجل، وإن كانت الدية زائدة كقيمة العبد إذا زادت على دية الحر. وقيل: إن قيمة العبد تحملها العاقلة ففيها وجهان: أحدهما: أنها تقسم على ثلاث سنين، يؤدي عند انقضاء كل سنة ثلثها، وإن كان أكثر من ثلث دية الحر، لأنها دية نفس إذا قيل: إنها إن انقضت كانت تؤدي على ثلاث سنين. والثاني: أنها تؤدي منها عند انقضاء كل سنة قدر الثلث من دية الحر إذا قيل نقصت كانت مؤداة في أقل من ثلاث سنين، فعلى هذا إن كانت قيمته دية وثلثًا أداها في أربع سنين في كل سنة ربعها، وإن كانت دية وثلثين أداها في خمس سنين، في كل سنة خمسها، فهذا حكم ديات النفوس. فأما ديات ما سوى النفس من الجراح والأطراف فعلى ضربين:

أحدهما: أن تندمل كقطع اليد إذا اندملت أو الموضحة إذا اندملت، فديتها واجبة بابتداء الجناية لاستقرار الوجوب بالاندمال، فيكون أول الأجل من وقت الجناية لا من وقت الاندمال لتقدم الوجوب بالجناية دون الاندمال، فلو اندملت بعد انقضاء الأجل استحق تعجيلها حينئذٍ كالثمن المؤجل إذا حل عند القبض. والثاني: أن تسري الجناية عن محلها إلى عضو آخر كقطع الأصبع إذا سرى إلى الكف، فالدية وجبت بعد استقرار السراية كما تجب دية النفس بعد الموت، فيكون ابتداء الأجل بعد اندمال السراية ولا اعتداد بما مضى من المدة بعد الجناية وقبل اندمال السراية، فإذا تقرر حكم هذين الضربين فيما سوى النفس في ابتداء وقت التأجيل فأرش الجناية على أربعة أضرب: أحدها: أن تكون في ثلث النفس فما دون كالجائفة وما ودونها، فتؤديه العاقلة في سنة واحدة إذا انقضت ولو كان دينارًا واحدًا. والثاني: أن تزيد على الثلث ولا تزيد على الثلثين، فتؤديه في سنتين بعد انفصال السنة الأولى وثلث الدية، وبعد انفصال السنة الثانية ما بقي منها، فإن كان سدس الدية، لأن جميع الأرش كان نصف الدية في إحدى اليدين أدته في السنة الثانية، وإن كان ثلث الدية؛ لأنهما جائفتان أدته في السنة الثانية. والثالث: أن تزيد على ثلثي الدية ولا تزيد على جميع الدية كدية اليدين، فتؤديه في ثلاث سنين عند انقضاء كل سنة ثلث دية على ما قدمناه. والرابع: أن يزيد على دية النفس مثل قطع اليدين والرجلين فنوجب ديتين إحداهما في اليدين، والأخرى في الرجلين فهذا على ضربين: أحدهما: أن يستحقا لنفسين، فعلى العاقلة أن تؤدي في كل سنة ثلث كل واحدة من الديتين، فتصير في كل سنة مؤدية فثلثي الدية لانفراد كل جناية بحكمها. والثاني: أن يستحقها نفس واحدة فتجمل العاقلة الديتين في ست سنين، تؤدي في كل سنة منها ثلث دية، لأنها جناية واحدة لا تتحمل العاقلة فيها أكثر من ثلث دية النفس والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا يقوم نجم من الدية إلا بعد حلوله، فإن أعسر به أو مطل حتى يجد الإبل بطلت القيمة وكانت عليه الإبل". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن الدية هي الإبل لا يعدل عنها مع وجودها، فإن أعوزت عدل عنها إلى الدراهم والدنانير، وهي على قوله في القديم مقدرة بالشرع، فيكون

من الدراهم اثني عشر ألف درهم ومن الدنانير ألف دينار، وعلى قوله في الجديد تقدر بقيمة وقتها دراهم أو دنانير، وعلى هذا موضوع هذه المسألة، ووقت قيمتها عند انقضاء الحول الذي يستحق فيه الأداء، ولا اعتبار بقيمتها وقت القتل، لأن قيمة ما في الدية معتبر بوقت الأداء، كالطعام المغصوب إذا مثله اعتبرت قيمة وقت الأداء لا وقت الغصب، فإذا حال الحول الثاني اعتبرت عنده قيمة النجم الثاني، فإذ حال الثالث اعتبرت عنده قيمة النجم الثالث، سواء انقضت قيم النجوم الثلاث في الأحوال الثلاثة أو اختلفت ولو أعوزت في نجم ووجدت في نجم أخذت في النجم الذي وجدت، وأخذ قيمتها من النجم الذي أعوزت، فلو قومت في حول أعوزت فيه ووجدت فيه نظر وجودها، فإن كان بعد أخذ قيمتها أجزأت القيمة ولم يرجع إلى الإبل، وإن كان وجودها قبل أخذ القيمة بطلت القيمة وأخذ الإبل كالطعام المغصوب إذا قوم مثله عند إعوازه ثم وجد بعد القيمة يرجع بالطعام وإن لم تقبض القيمة، ولا يرجع به إن قبضها. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا يجملها فقيرٌ" قال في الحاوي: وهذا كما قال، دية العاقلة تستحق على الموسر والمتوسط، ولا تجب على الفقير المعسر، لأنها مواساة فأشبهت نفقات الأقارب، ولأن المقصود بها إزالة الضرر عن القاتل فلم يجز أن يدخل بها الضرر على المتحمل العاقل، وخالفت دية العمد التي يؤخذ بها الغني والفقير لاستحقاق العمد بمباشرته واستحقاق الخطأ بمواساته. فأما الجزية ففي أخذها من الفقير قولان: أحدهما: لا تؤخذ منه كالعالقة. والثاني: تؤخذ منه الجزية وإن لم تؤخذ الدية من فقراء العاقلة للفرق بينهما بأن الجزية موضوعة لحقن الدم وإقراره في دار الإسلام فصارت عوضًا، وتحمل الدية مواساة محضة والفقر يقسط والمواساة ولا يقسط المعاوضة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن قضى بها فأيسر الفقير قبل أن يحل نجمٌ منها أو افتقر غين فإنما أنظر إلى الموسر يوم يحل نجمٌ منها". قال في الحاوي: اعلم أن ما يستحق بالحول ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما كان الحول فيه مضروبًا للوجوب وهو حول الزكاة. والثاني: ما كان الحول فيه مضروبًا للأداء مع تقدم الوجوب وهو حول العاقلة.

والثالث: ما اختلف فيه هل هو مضروب للوجوب أو للأداء على وجهين، وهو حول الجزية. فإذا تقرر هذا فالفقر والغني في العاقلة معتبر عند انقضاء الحول وقت الأداء ولا يعتبر في أوله وقت الوجوب، فإن قيل: فالاعتبار بوقت وجوبه أولى من الاعتبار بوقت أدائه كالجزية. قيل: لأن الجزية معينة فاعتبر بها وقت وجوبها، والدية تجب بالقتل على الإطلاق ولا يتعين إلا عند الاستحقاق، ألا ترى لو مات أحد العاقلة قبل الحلول لم تؤخذ من تركته، ولو تعين استحقاقها لأخذت، فإذا تقرر اعتبار الغني والفقر عند الحلول الحول فمن كان منهم عند الحلول، غنيًا وجبت عليه، وإن كان فقيرًا في أوله، ومن كان منهم عند الحول فقيرًا لم تجب عليه وإن كان غنيًا في أوله، فلو حال الحول على غني فلم يؤدها حتى افتقر كانت دينًا عليه، ولم تسقط عنه بفقره، لأنها تعينت عليه وقت غناه، وينظر بها إلى ميسرته، ولو حال الحول على فقير فلم يستوف حتى استغنى لم يجب عليه بغناه، لأنه تعين سقوطها عنه وقت فقره. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ومن غرم في نجم ثم أعسر في النجم الآخر تُرك". قال في الحاوي: وهذا صحيح، لأن الغني والفقر معتبر في كل حول فلم يتعين في الحول إلا النجم الذي يستحق فيه، فمن كان غنيًا في الأحوال الثلاثة تحمل العقل في جميعها، ومن كان منهم فقيرًا في الأحوال الثلاث سقط عنه العقل في جميعها، ومن كان غنيًا في بعضها، ومفتقرًا في بعضها وجب عليه العقل في حول غناه وسقط عنه في حول فقره، فلو ادعى فقرًا بعد الغني أحلف ولم يكلف البينة على فقره، لأنها لا تجب عليه إلا مع العلم بغناه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن مات بعد حلول النجم مؤسرًا أخذ من ماله ما وجب عليه". قال في الحاوي: وهذا كما قال، إذا مات من العاقلة موسر بعد الحلول وقبل الأداء لم يسقط عنه العقل بموته. وقال أبو حنيفة: يسقط عنه بالموت استدلالًا بأمرين: أحدهما: أنها مواساة فأشبهت نفقات الأقارب.

والثاني: أنها صلة وإرفاق فأشبهت الهبات قبل القبض، وهذا خطأ لأمرين: كالديون. والثاني: أنه لما لم يكن للورثة أن يمنعوا من الوصايا وهي تطوع، كان أولى أن لا يمنعوا من العقل وهو واجب. والثالث: أنه لما لم تسقط بالموت دية العمد لم تسقط به دية الخطأ. فأما نفقات الأقارب فإنما وجبت لحفظ النفس، وقد وجد ذلك فيما مضى فسقط معنى الوجوب، ودية القتل وجبت لإتلاف النفس وقد استقر وجوبه فلم تسقط بمضي زمانه، وأما الهبة فليس كتحمل العقل عنه، لأنها تؤخذ خبرًا والهبة تبذل تطوعًا فافترقا. فصل: فإذا ثبت أنها لا تسقط بالموت قدمت على الوصايا والمواريث، وتؤدي وإن استوعبت جميع التركة، فإن عجز صاحب التركة عنها، وعن ديون الميت قسمت على قدر الحقوق، وكان باقي العقل دينًا يؤدي على الميت، ولا يرجع به على الباقين من العاقلة لوجوبه على غيرهم، ولو امتنعت العاقة من بدل الدية ولم يوصل إليها منهم إلا بحربهم جاز أن يحاربوا عليها كما يحارب الممتنعون من الحقوق الواجبة، فإن وجدت لهم أموال بيعت عليهم ولم يحاربوا. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولم أعلم مخالفًا في أن لا يحمل أحدٌ منهم إلا قليلًا وأرى على مذاهبهم أن يحمل من كثر ماله نصف دينارٍ ومن كان دونه ربع دينارٍ لا يُزاد على هذا ولا ينتقص منه وعلى قدر ذلك من الإبل حتى يشترك النفر في البعير". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن العقل يحمله من العاقلة الأغنياء والمتوسطون دون الفقراء، فوجب أن يفرق بين الغني والمتوسط فيه. وقال أبو حنيفة: لا فرق بينهما في قدر ما يتحمله كل واحد منهما اعتبارًا بزكاة الفطر والكفارات التي يستوي فيها الكثير والمتوسط، وهذا ليس صحيح لقول الله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق:7] وقوله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ} [البقرة:236] ولأنهما مواساة فوجب أن يقع الفرق فيهما بين المقل والمكثر كالنفقات، ولم يسلم ما استدل به من زكاة الفطر والكفارات لاختلاف حكم المقل والمكثر فيها. فصل: فإذا ثبت الفرق فيها بين المقل والمكثر فالذي يتحمله الغني المكثر منها نصف دينار

والذين يتحمله المقل المتوسط ربع دينار. وقال أبو حنيفة: الذي يتحمله كل واحد من الغني والمتوسط من ثلاثة دراهم إلى أربعة دراهم، لا يزاد عليها ولا ينقص منها. وقال أحمد بن حنبل: يتحملون ما يطيقون بحسب كثرة أموالهم وقلتها من غير أن تتقدر بشرع، واستدل أبو حنيفة بأن فرض الزكاة أوكد من تحمل العقل، وأقل ما يجب في زكاة المال خمسة دراهم من مائتي درهم، فوجب أن يكون ما يلزم في العقل أق منها فكان أربعة دراهم أو ثلاثة، واستدل أحمد بقول الله تعالى: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ} [البقرة:236]. ودليلنا هو أن ما أوجبه الشرع من حقوق المواساة كان مقدرًا كالزكوات والنفقات فبطل به قول أحمد، ولكن في تقديره طريقان: أحدهما: أن يبدأ بتقدير الأقل، ويجعله أصلًا للأكثر. والثاني: أن يبدأ بتقدير الأكثر ويجعله أصلًا للأقل. فإن بدأت بتقدير الأقل في حق المتوسط فهو ما خرج عن حد التافه، لأنه لو اقتصر على التافه جاز الاقتصار على القيراط والحبة وذلك مما لا يفي بالدية وينهدر به الدم، وحد التافه ما لم يقطع فيه اليد، لقول عائشة رضي الله عنها لم تكن اليد تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "القطع في ربع دينار" فوجب أن يضاعف في حق المكثر فيلزمه نصف دينار، كما يلزم الموسر في النفقة مثلًا نفقة المعسر، وإن بدأت بتقدير الأكثر في حق المكثر فهو أن أول ما يواسى به الغني في زكاته نصف دينار من عشرين دينارًا، فحمل الغني نصف دينار، لأن الزيادة عليه تؤول إلى الإجحاف، ولا يقف على مقدار، وإذا لزم الغني نصف دينار وجب أن يقتصر من المقل على نصفه كما أن نفقة المعسر نصف نفقة الموسر، وفي هذا التقدير دليل وانفصال. فصل: فإذا ثبت تقديره بنصف دينار في حق المكثر وربع دينار في حق المقل فقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: وهو قول أكثرهم: أن هذا قدر ما يؤخذ في السنة الواحدة، فيكون في السنين الثلاث على المكثر دينار ونصف من جميع الدية، وعلى المقل ثلاثة أرباع الدينار من جميع الدية. والثاني: وهو قول أقلهم: أن هذا قدر ما يؤخذ من جميع الدية في السنين الثلاث،

فيصير المأخوذ من المكثر في كل سنة منها سدس دينار، والمأخوذ من المقل في كل سنة نصف سدس دينار، والأول أشبه، لأن لكل سنة حكمها، فإذا ثبت هذا لم يجز العدول عن الإبل مع وجودها، ومعلوم أن قيمة تعيين إبل الدية أكثر من نصف دينار، ولا يمكن أن تتجزأ فينفرد كل واحد منهم بجزء قيمته نصف دينار، فوجب أن يشترك في أداء البعير الواحد العدد الذين يكون قسط الواحد من ثمنه نصف دينار إن كان مكثرًا، وربع دينار إن كان مقلًا، وهذا عدد لا يمكن حصره، لأن البعير قد تزيد قيمته في حال وثقل في أخرى، وإن أعوزت الإبل عدل إلى الدنانير إما مقدرة بألف دينار على قوله في القديم، أو بقيمة مائة بعير على قوله في الجديد، يحمل المكثر منها نصف دينار والمقل ربع دينار، وإن عدل عنه إعواز الإبل إلى الدراهم فإن قدرت باثني عشر ألف درهم على قوله في القديم تحمل المكثر منها ستة دراهم والمقل ثلاثة دراهم، لأن الدينار فيها مقابلًا لاثني عشر درهمًا، وإن قدرت بقيمة مائة بعير ففيه وجهان محتملان: أحدهما: أن يتحمل المكثر منها ستة دراهم والمقل ثلاثة دراهم على ما ذكرنا لو قدرت بالدراهم اعتبارًا بقيمة الدينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه لما عدل بالإبل إلى قيمة الوقت وجب أن يعدل بالدينار إلى قيمة الوقت، فيتحمل المكثر من الدراهم قيمة نصف دينار بسعر وقيمة، والمقل قيمة ربع دينار، لأن الدينار في وقتها أكثر قيمة منه في وقت الرسول صلى الله عليه وسلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ويحمل كل ما كثر وق من قتلٍ أو جرحٍ من حر وعبدٍ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما حملها الأكثر دل على تحميلها الأيسر". قال في الحاوي: اختلف الفقهاء فيما تحمله العاقلة من الدية على خمسة مذاهب: فقال الشافعي: يحمل كل ما كثر وقل من قتل وجرح. وقال قتادة: تحمل دية النفس في القتل ولا تحمل ما دون النفس ويتحمله الجاني. وقال مالك وأحمد بن حنبل تحمل ثلث الدية فصاعدًا ويتحمل الجاني ما دون الثلث. وقال الزهري: يتحمل العاقلة ما زاد على الثلث ويتحمل الجاني الثلث فما دون. وقال أبو حنيفة: يتحمل العاقلة نصف عشر الدية فما زاد، ويتحمل الجاني ما دون ذلك واستدل قتادة بأن حرمة النفس أغلظ لاختصاصها بالكفارة والقسامة فاختصت بتحمل العاقلة. واستدل مالك وأحمد بأن العاقل مواسي يتحمل ما أجحف تحصينًا للدماء، وما دون الثلث غير مجحف فلم يتحمله.

واستدل الزهري بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الثلث كثير" فصار مضافًا إلى ما زاد عليه في تحمل العاقلة له. واستدل أو حنيفة على تحمل نصف العشر بأمرين: أحدهما: أن تحمل العاقلة لما عدل فيه عن القياس إلى الشرع وجب أن يختص بأقل ما ورد به الشرع، وأقله أرش الموضحة، والغرة في الجنين، وهي مقدرة بمثل أرش الموضحة خمس من الإبل أو خمسين دينار أو ستمائة درهم وذلك نصف عشر الدية فكان هذا أصلًا في أقل ما تحمله العاقلة وكان ما دونه محمولًا على موجب القياس. والثاني: أن ما دون الموضحة لما لم يجب فيه قصاص ولا أرش مقدر جرى مجرى الأموال فوجب أن لا تتحمله العاقلة كما لا تتحمل الأموال. والدليل على جميعهم في تحمل الأكثر والأقل بينه النص وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حمل العاقلة جميع الدية وهي أثقل فيه به على تحمل ما هو أقل، ولو نص على الأقل لما نبه على حكم الأثقل، وفي إلزام الجمع بين النصين خروج عن موضوع الشرع. ثم نحرر هذا الأصل قياسًا فنقول: إنه أرش خطأ على نفس فجاز أن يتحمله العاقلة قياسًا على دية النفس مع قتادة، وعلى ثلث الدية مع مالك، وعلى نصف عشرها مع أبي حنيفة، ولأنه لما تحمل الجاني قليل الدية وكثيرها في العمد وجب أن تحمل العاقلة قليلها وكثيرها في الخطأ، ويتحرر منه قياسان: أحدهما: أن من تحمل كثير الدية تحمل قليلها كالجاني. والثاني: كل قدر تحمله الجاني جاز أن يتحمله العاقلة كالكثير، ولأن الجماعة لو اشتركوا في جناية قدرها الثلث عند مالك ونصف العشر عند أبي حنيفة تحملت عاقلة كل واحد منهم ما لزمه لجنايته، وهو أقل من ثلث الدية ومن نصف عشرها، فكذلك إذا انفرد بالتزام هذا القدر، ويتحرر منه قياسان: أحدهما: أن من تحمل كثير الدية تحمل قليلها كالجاني. والثاني: كل قدر يتحمله الجاني جاز أن تتحمله العاقلة كالكثير، لأن الجماعة لو اشتركوا في جناية قدرها الثلث عند مالك ونصف العشر عند أبي حنيفة تحملت عاقلة كل واحد منهم ما لزمه لجنايته وهو أقل من ثلث الدية ومن نصف عشرها، فكذلك إذا انفرد بالتزام هذا القدر ويتحرر منه قياسان: أحدهما: أن ما تحملته العاقلة في الاشتراك جاز أن يتحمله في الانفراد كالكثير. والثاني: أن ما تحملته العاقلة من الكثير جاز أن تتحمله من القليل كالاشتراك، وما قاله قتادة من تغليظ حرمة النفس فحرمتها لأجل حرمة الإنسان، وحرمة الإنسان عامة في نفسه وأطرافه، فوجب أن يستويا في حكم الغرم ومحله، وما قاله مالك من أن الثلث قليل لا يجحف فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "الثلث كثير" فصار ضد قوله: ثم قد يجحف الثلث وأقل منه بالجاني إذا انفرد بغرمه لاسيما إذا كان مقلًا، وما قاله أبو حنيفة من ورود الشرع فيه

فلا يمنع ذلك من وجوب الأرش وإن لم يرد فيه شرع لم يمنع من تحمل العقل، وإن لم يرد فيه شرع، وما قاله من إجزائه في سقوط القصاص وتقدير الأرش مجرى الأموال فمنتقض بالأنملة يجب فيها القصاص ويتقدر أرشها بثلث العشر ولا تتحملها العاقلة عنده وقد لا يجب القصاص فيما زاد على نصف العشر ولا يتقدر أرشه وتحمله العاقلة فبطل ما اعتد به ولم يبق إلا حفظ الدماء بالتزام العاقلة لأورشها وهذا يصح قليلها وكثيرها. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن كان الأرش ثلث الدية أدته في مُضر سنة من يوم جُرح المجروح فإن كان أكثر من الثلث فالزيادة في مضي السنة الثانية فإن زاد على الثلثين ففي مضي السنة الثالثة وهذا معنى السنة". قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا وجب ثلث الدية من جرح أو طرف أدته العاقلة في سنة واحدة لأنها تلتزم في جميع الدية أداء ثلثها في كل سنة، وإن وجب ثلث الدية في نفس كدية اليهودي والنصراني ففيه وجهان على ما مضى: أحدهما: تؤديه العاقلة في سنة واحدة اعتبارًا بدية الجرح. والثاني: أن تؤديه في ثلاث سنين اعتبارًا بدية النفس، وكذلك نصف العشر في دية الجنين يكون على هذين الوجهين؛ لأنها دية نفس. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا تحمل العاقلة ما جني الرجل على نفسه". قال في الحاوي: إما إذا جني على نفسه عمدًا ققطع يده أو قتل نفسه إما لغيظ أو حمية، وإما من سفه وجهالة، فجنايته هدر لا يؤاهذ بها إن كان حيًا، ولا يؤخذ بها أرشه إن كان ميتًا، وعليه الكفارة في ماله، فيكون نفسه مضمونة عليه بالكفارة، وغير مضمونة عليه بالدية، لأن الدية من حقوقه فسقط عنه، والكفارة من حقوق الله تعالى فوجبت عليه كما لو قتل عبده سقطت عنه القيمة لأنها له ووجبت عليه الكفارة لأنها لله تعالى. فصل: فأما إذا جني على نفسه خطأ فقطع يده بانقلاب سيفه عليه أو قتل نفسه بعود سهمه إله فجنايته هدر كالعمد في قول أكثر الفقهاء، وعاقلته براء من ديته. وقال الأوزاعي وأحمد وإسحاق: تتحمل عاقلته ما جناه على نفسه يؤدونه إليه إن كانت على طرف، والورثة إن كانت على نفس، استدلالًا بما روي أن رجلًا ركب دابة له وضربها بخشبة كانت يده فطارت منها شظية ففقأت عينه فذكر ذلك لعمر بن الخطاب

باب عقل الموالي

رضي الله عنه فقال: يده يد رجل من المسلمين وجعل الدية على عصبته. ودليلنا ما روي أن عامر بن الأكواع أعوج سيفه في قتال المشركين فقتل نفسه فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أبطل جهاده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أبطل جهاده، ولم ينقل أنه قضى بالدية في ماله ولا عاقلته، وهذا وإن كان في العمد ففيه دليل على الخطأ. ويدل عليه ما روي أن عوف بن مالك الأشجعي ضرب مشركًا بالسيف فرجع السيف إليه فقتله فامتنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة عليه وقالوا: قد أبطل جهاده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مات مجاهدًا شهيدًا"، فدل الظاهر على أن هذا جميع حكمه، ولو وجبت الدية لأبانها، لأنه لا يؤخر بيان الأحكام عن أوقاتها، ولأن جناية العمد أغلظ من جناية الخطأ، فلما أهدر عمده كان خطأه أهدر، ولأنه يواسي بدية الخطأ تخفيفًا عنه، وهو لا يلزمه بقتل نفسه ما تتحمله العاقلة تخفيفًا عنه، فصار هدرًا وجرى مجرى استهلاكه مال نفسه لا يرجع ببدله على غيره، فأما قضاء عمر فهو قول واحد من الصحابة والقياس بخلافه فكان أولى منه والله أعلم. باب عقل الموالي مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ولا يعقل الموالي المعتقون عن رجلٍ من الموالي المعتقين وله قرابةٌ تحمل العقل فإن عجزت عن بعضٍ حمل الموالي المعتقون الباقي وإن عجزوا عن بعض ولهم عواقلٌ عقلته عواقلهم فإن عجزوا ولا عوقل لهم عقل ما بقي جماعة المسلمين". قال في الحاوي" العقل يتحمل بالولاء كما يتحمل بالنسب لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الولاء لحمة كلحمة النسب". ولأنه لما استحق الميراث بالولاء كاستحقاقه بالنسب وجب أن يتحمل به العقل كما يتحمل بالنسب، وإذا كان كذلك فالمناسبون من العصبات مقدمون في العقل على الموالي كما يتقدمون عليهم في الميراث، ويقدم أيضًا العصبات على الموالي في العقل والميراث كما يقدم أقرب العصبات على أبعدهم، فإذا وجد في أقرب العصبات من يتحمل العقل وقف تحملها عليهم، وخرج من التحمل البعداء من العصبات وشاركوا فيها الأقارب وخرج منها والموالي، وإن عجز الأقربون عنها تحملها البعداء والموالي من العصبات وشاركوا فيها الأقارب وخرج منها الموالي إذا تحملها جميع العصبات، وإن عجز جميعهم عنها شركهم فيها الموالي وكانوا أسوة العصبات في تحملها، فإن عجز عنها العصبات والموالي شركهم فيها عصبات الموالي ثم موالي الموالي، فإن عجزوا أو عدموا

تحمل بيت مال المسلمين ما عجزوا عنه من بقي العقل أو من جميعه إذا عدموا؛ لأن ولاء الدين يجمع عاقلة المسلمين فكان عقل جنايته عليهم في بيت مالهم عند عدم عصبته كما ورثوه، وصار ميراثه لبيت مالهم عند عدم عصبته، فإن لم يكن في بيت مال المسلمين مال كانت الدية أو ما بقي منها دينًا، وفي محله قولان مبنيان على اختلاف قول الشافعي في دية الخطأ هل كان ابتداء وجوبها على الجاني ثم تحملها العاقلة عنه أو وجبت ابتداء على العاقلة. فأحد القولين: إنها وجبت ابتداء على الجاني ثم تحملتها العاقلة لوجوبها بالقتل وتحملها بالمواساة، فعلى هذا تؤخذ من القاتل لعدم من يتحملها عنه فإن أعسر بها كانت دينًا عليه. والثاني: إنها وجبت ابتداء على العاقلة، لأنها لو وجبت على غيرهم لما انتقلت إليهم إلا بعقد أو التزام وهي تلزمهم من غير عقد ولا التزام، فعلى هذا تكون دينًا في بيت المال ولا يرجع بها على الجاني، وإن كان موسرًا بها لوجوبها على غيره. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "قال ولا أحمل الموالي من أسفل عقلًا حتى لا أجد نسبًا ولا موالي من أعلى ثم يحملونه لا أنهم ورثته ولكن يعقلون عنه كما يعقل عنهم". قال في الحاوي: اعلم أن الموالي ضربان: مولى من أعلى وهو السيد المعتق. ومولى من أسفل وهو العبد المعتق. فأما المولى الأعلى فيعقل عن المولى الأسفل ويرثه وحكم عقله ما قدمناه. وأما المولى الأسفل فلا يرث المولى الأعلى، وفي عقله عنه قولان: أحدهما: لا يعقل عنه كما لا يرثه. وبه قال أبو حنيفة: لأن العصبات ورثوا فعقلوا، وهذا لا يرث فلم يعقل، لأن غرم العقل مقابلًا لغنم الميراث. والقول الثاني: إن المولى الأسفل يعقل كما يعقل المولى الأعلى لأمرين: أحدهما: أنه لما عقل الأعلى عن الأسفل وجب أن يعقل الأسفل عن الأعلى. والثاني: أنه لما عقل الأعلى مع إنعامه كان عقل الأسفل مع الإنعام عليه أولى فعلى هذا يقدم المولى الأعلى في العقل بميراثه، فإن عجز شركه المولى الأسفل ويكون الأسفل مع الأعلى جاريًا مجرى الأعلى مع العصبات والله أعلم.

باب أين تكون العاقلة

باب أين تكون العاقلة مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "إذا جني رجلٌ جنايةً بمكة وعاقلته بالشام فإن لم يكن خبرٌ مضى يلزم به خلاف القياس فالقياس أن يكتب حاكم مكة إلى حاكم الشام يأخذ عاقلته بالعقل. وقد قيل: يحمله عاقلة الرجل ببلده ثم أقرب العواقل بهم ولا ينُتظر بالعقل غائبٌ وإن احتمل بعضهم العقل وهو حضورٌ فقد قيل: يأخذ الوالي من بعضهم دون بعض لأن العقل لزم الكل. قال: وأحب إلى أن يقضي عليهم حتى يستووا فيه". قال في الحاوي: أعلم أنه لا يخلو عاقلة الجاني خطأ من ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يكونوا حضروا مع الجاني في بلده. والثاني: أن يكونوا غائبين عن الجاني في غير بلده. والثالث: أن يكون بعضهم حاضرًا في بلد الجاني وبعضهم غائبًا عن بلده. فأما الحال الأولى: أن يكونوا كلهم حاضرين في بلد الجاني فهو على ضربين: أحدهم: أن يتساووا في الدرج. والثاني: أن يتفاضلوا في الدرج وكان بعضهم أقرب من بعض بدئ بالأقرب فالأقرب نسبًا، فيقدم الإخوة وبنوهم على الأعمام وبنيهم، فإن تحملها الأقربون خرج منها الأبعدون، وإن عجزوا عنها شركهم من بعدهم من الأباعد درجة بعد درجة حتى يستوفي، فإن عجز عنها بعداؤهم شركهم مواليهم، ثم عصبات مواليهم، ثم بيت المال، فإن استووا في الدرج ولم يتفاضلوا لم يخلوا قسم الدية فيهم من ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون موافقة لعددهم لا تزيد عليهم ولا تنقص عنهم فتنقص على جميعهم ولا يخص بها بعضهم دون بعض بحسب أحوالهم من إكثار وإقلال. والثاني: أن تزيد على عددهم كأنهم يتحملون نصفها ويعجزون عن باقيها، فتفض على ما احتملوا منها، وينقل ما عجزوا عنه إلى الموالي، فإن لم يكونوا فإلى بيت المال. والثالث: أن تنقص الدية عن عددهم ويمكن أن تنقص على بعضهم، لأنها تتقسط على مائة رجل وهم مائتان ففيه قولان: أحدهما: أنها تقضي على جميعهم ولو تحمل كل واحد منهم قيراطًا، ولا يخص بها بعضهم لاستواء جميعهم فيها. والثاني: أنها تقضي على بعضهم دون جميعهم ويخص بها منهم العدد الذي يرافق تحملها، ويكون من استغنى عنه خارجًا منها، ويكون الحاكم مخيرًا في فضها على من

شاء منهم، لأنها تؤخذ بواجب وتترك بعفو، والأولى أن يفضها على من كان أسرع إجابة إليها، وإنما خص بها بعضهم؛ لأنه لما تقدر ما يتحمله كل واحد منهم لم يجز الزيادة عليه لم يجز النقصان منه، ونقل المزني عن الشافعي تعليل هذا القول في أخذها من بعضهم دون بعض، لأن العقل لزم الكل، واختلف أصحابنا فيما نقله من هذا التعليل هل وهو فيه أو سلم؟ على وجهين: أحدهما: أنه وهم فيه وهو تعليل القول الأول، وهذا قول أبي حامد المروزي. والثاني: أنه سلم فيه، ومن قال بهذا اختلفوا هل حصل في النقل عنه سهو أم لا؟ على وجهين: أحدهما: أنه ما حصل فيه سهو، وهو تعليل صحيح، لهذا القول أنه يؤخذ ن بعضهم دون بعض؛ لأن العقل لزم الكل، فإذا أخذ من بعضهم لم يخرج من جملة من لزمه من العقل فجاز الاقتصار عليه لدخوله في اللزوم. والثاني: قد حصل في النقل عنه سهو، ومن قال بهذا اختلفوا في المحذوف بالسهو على وجهين: أحدهما: أن الذي نقله المزني لا يأخذها من بعضهم دون بعض؛ لأن العقل لزم الكل، ويكون ذلك إشارة إلى القول الأول فسها الناقل عنه فحذف لا فصار القول الثاني. الثاني: أن الذي نقله المزني يأخذها من بعضهم دون بعض، لأن العقل لزم الكل وهو تعليل للقول الثاني إن لم يلزم الكل إذا أخذها من البعض فسها الناقل عنه في حذف الألف التي أسقطها من لا أن حين نقل لأن [.......]. فصل: وأما الحالة الثانية: وهو أن يكون جميع عاقلته غيبًا عن بلده كأنه جني بمكة وعاقلته الشام، فعلى حاكم مكة أن يكتب إلى حاكم الشام حتى يفضها على عاقلته بالشام، ولحاكم مكة فيما يكاتب حاكم الشام حالتان: إحداهما: وهو أقل ما يجزئ أن يكتب به أن يقول: ثبت عندي أن فلانًا قتل فلانًا خطأ مضمونًا، فيذكر القاتل باسمه ونسبه وقبيلته، ويذكر المقتول باسمه ونسبه وإسلامه وحريته، لاختلاف الدية بالإسلام والحرية، ولا يلزمه أن يذكر قبيلة المقتول وإن لزمه أن يذكر قبيلة القاتل لتوجيه الحكم على قبيلة القاتل دون المقتول، فيكون حاكم مكة ناقلًا لثبوت القتل المضمون من القاتل للمقتول، ويختص حاكم الشام بالحكم فيحكم بوجوب الدية على العاقلة، ويحكم بفضها عليهم بحسب أحوالهم، ويحكم باستيفائها منهم عند حلولها عليهم. والثانية: أن يكتب حاكم مكة بثبوت قتل الخطأ ويحكم بالدية فيه على عاقلة القاتل

وهم بنو فلان إشارة إلى قتيلهم. فإن قيل: فكيف تقضي عليهم وهم غير حضور ولا معين؟ قيل: لأن حكمه على عموم القبيلة لا على أعيان كل واحد من أهلها لتوجه الحكم إلى عمومهم دون أعيانهم، فيحتاج حاكم الشام أن يحكم بفضها عليهم بحسب أحوالهم ويحكم باستيفائها منهم، وقد تقدم من حاكم مكة الحكم بوجوبها عليهم، ولا يسع حاكم مكة أن يزيد على هذا في فضها واستيفائها؛ لأن أعيان من تقضى عليه وتستوفي منه لا يعرف إلا عند الحلول والاستيفاء لتغير الأحوال في الإيسار والإعسار، ولكن يسعه أن يقول: وحكمت على كل موسر منهم بنصف دينار وعلى كل مقل بربع دينار، فيقطع اجتهاد حاكم الشام في التقدير، ولو لم يحكم بهذا كان التقدير موقوفًا على حاكم الشام ليحكم فيه برأيه. فصل: وأما الحال الثالثة: وهو أن يكون بعض عاقلته حضورًا بمكة وبعضهم غيبًا بالشام فهذا على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون الأقربون نسبًا حضورًا بمكة والأبعدون نسبًا غيبًا بالشام فيفضها حاكم مكة على الأقربين بمكة، فإن احتملوها خرج منها الأبعدون بالشام لاختصاص من حضر بقرب الدار وقرب النسب، فإن عجزوا عنها كتب حاكم مكة بالباقي منها إلى حاكم الشام حتى يستوفيه من الأباعد. والثاني: أن يكون الأبعدون نسبًا حضورًا بمكة والأقربون نسبًا غيبًا بالشام ففيها قولان: أحدهما: أنها تقضي على الأقربين نسبًا بالشام ولاختصاصها بالنسب الذي يستحق به الميراث، والميراث مستحق بقرب النسب لا يقرب الدار، كذلك تحمل العقل، فعلى هذا يكتب بها حاكم مكة إلى حاكم الشام فإن وفوا بها وإلا فض حاكم مكة باقيها على من بعد نسبه من الحضور. والثاني: أنها تفض على الحاضرين بمكة وإن كانوا أبعد نسبًا؛ لأن محل العقل معتبر بالنصرة والذب عن القاتل، ومن قريب داره أخص بالنصرة مع بعد نسبه ممن بعدت داره مع قرب نسبه فوجب أن يكون أخص بتحمل العقل فيفضها حاكم مكة عليهم، فإن وفوا بها خرج منها من بالشام من الأقارب، فإن عجزوا عنها فض باقيها على من الشام منهم، وكتب به بحاكم مكة إلى حاكم الشام ليستوفيه ولو كان بعض الغائبين أقرب دارًا من بعض مضي باقيها على أقربهم دارًا مثل أن يكون بعضهم بالمدينة وبعضهم بالشام فيختص باقيها أهل المدينة، لأنها أقرب إلى مكة من الشام. والثالث: أن يتساوي من حضر بمكة ومن غاب بالشام فيكونوا كلهم أقارب أو

باب عقل الحلفاء

أباعد، فهذا على ضربين: أحدهما: أن تستوعب الدية جميعهم فتفض على من حضر وغاب حتى يستوفي جميعها. والثاني: أن يكتفي بأحد الفريقين من الحضور أو الغيب ففيها ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها تفض على الخاضرين والغائبين جميعًا اعتبارًا بالتساوي في النسب. والثاني: أنها تفض على الحاضرين دون الغائبين: إذا قيل: إن بعد الدار أولى في الإسقاط. والثالث: أن الحاكم بالخيار في أن يفضها على الحاضرين دون الغائبين أو أن يفضها على الغائبين دون الحاضرين أو أن يفضها على بعض الحاضرين وبعض الغائبين إذا قيل: إن بعد الدار لا يؤثر وإن العدد إذا زاد فض على البعض والله أعلم. باب عقل الحلفاء مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا يعقل الحليف إلا أن يكون مضى بذلك خبرٌ ولا العديد ولا يعقل عنه ولا يرث ولا يورث إنما يعقل بالنسب أو الولاء الذي كالنسب وميراث الحليف والعقل عنه منسوخٌ وإنما يثبت من الحلف أن تكون الدعوة واليد واحدةً لا غير ذلك". قال في الحاوي: قد كان التوارث والعقل معتبرًا في الجاهلية بخمسة أشياء: بالنسب والولاء، والحلف، والعديد، والموالاة. فأما النسب والولاء: فقد استقر الإسلام على استحقاق الميراث وتحمل العقل بهما. وأما الحلف: فهو أن تتحالف القبيلتان عند استطالة أعدائها على التناصر والتظافر لتمتزج أنسابهم ويكونوا يدًا على من سواهم فيتوارثون ويتعاقلون، أو يتحالف الرجلان على ذلك فيصيرا كالمتناسبين في التناصر والتوارث والعقل، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في حلف المطيبين حين اجتمعت عليه قبائل قريش في دار عبد الله بن جدعان قبل الإسلام على نصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف، ومعونة الحجيج، وقال صلى الله عليه وسلم: "أنا من حلف المطيبين، وما زاده الإسلام إلا شدة وما يسرني بحله حمر النعم". وفيه توارث المسلمون بالحلف في صدر الإسلام، وتأوله بعض العلماء في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء:33] ثم نسخ التوارث بالحلف بقوله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75].

فأما تحمل العقل بالحلف فالذي عليه الشافعي رضي الله عنه وأبو حنيفة وجمهور الفقهاء أن الحلفاء يتعاقلون إلا أن يكونوا متناسبين فيتعاقلون بالنسب دون الحلف. وحكي عن مالك بن أنس ومحمد بن الحسن أن الحلفاء يتعاقلون بالحلف وإن لم يتناسبوا استدلالًا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثم أنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل وأنا والله عاقله. وإنما قال ذلك لأن خزاعة وبني كعب كانوا حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلفاء بني هاشم فتحمل العقل عنهم بالحلف مع التباعد في النسب. والدليل عليهم قوله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ} [الأنفال:75] فكان على عمومه في اختصاصهم بأحكام النسب. وروي أن علي بين أبي طالب عليه السلام أراد أن يحالف رجلًا فنهاه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك وقال: "لا حلف في الإسلام" أي لا حكم له، لأن الحلف إن كان على معصية كان باطلًا، وإن كان على طاعة فدين الإسلام يوجبها فلم يكن للحلف تأثير ولأن عقود المناكح أوكد من الحلف، ثم لا توجب تحمل العقل، فكان الحلف أولى أن لا يوجبه، وأما تحمل رسول الله صلى الله عليه وسلم عقل خزاعة فعنه ثلاثة أجوبة: أحدها: أنه تحمل عقلهم تفضلًا لا وجوبًا. والثاني: يجوز أن يكون تحمله عنهم حين كان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالحلف. والثالث: أن معنى قوله: وأنا والله عاقلة أي أحكم بعقله. وأما العديد: فهو أن القبيلة القليلة العدد تعد نفسها عند ضعفها عن المحاماة في جملة قبيلة كثيرة العدد قوية الشوكة ليكونوا منهم في التناصر والتظافر ولا يتميزون عنهم في سلم ولا حرب، أو ينافر الرجل الواحد قومه فيخرج نفسه منهم وينضم إلى غيرهم ويعد نفسه منهم فهذا أضعف الحلف، لأن في الحلف إيمانًا ملتزمة وعقودًا محكمة وهذا استجارة وغوث فلم يتوارث به المسلمون مع توارثهم بالحلف فكان أولى أن لا يوجب تحمل العقل ولا أعرف قائلًا بوجوب عقله. وأما الموالاة، فهو أن يتعاقد الرجلان لا يعرف نسبهما على أن يمتزجا في النسب والنصرة ليعقل كل واحد منهما عن صاحبه ويرثه، فهذا عقد فاسد على مذهب الشافعي، وأكثر الفقهاء لا يوجب توارثًا، ولا عقلًا، وأجازه أبو حنيفة وقال: لا يرث واحد منهما صاحبه إلا أن يعقل عنه، فإذا عقل عنه توارثًا، والكلام فيه مذكور في التوارث بالولاء وبالله التوفيق.

باب عقل من لا يعرف نسبه وعقل أهل الذمة

باب عقل من لا يعرف نسبه وعقل أهل الذمة مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه" "إذا كان الجاني نُوبيًا فلا عقل على أحدٍ من النوبة حتى يكونوا يُثبتون أنسابهم إثبات أهل الإسلام وكذلك كل رجلٍ من قبيلةٍ أعجميةٍ أو القبط أو غيره فإن لم يكن له ولاءٌ يعلم فعلى المسلمين لما بينه وبينهم من ولاية الدين وإنهم يأخذون ماله إذا مات". قال في الحاوي: وهذا قاله الشافعي ردًا على بعض أهل العراق حيث زعم أن النوبي إذا جني عقلت عنه النوبة، وكذلك الزنجي وسائر الأجناس يعقل عنهم من حضرهم من أجناسهم لأمرين: أحدهما: أن نسبهم واحد. والثاني: أنهم يتناصرون بالجنس كما تتناصر العرب بالأنساب، وهذا فاسد، والجنس لا يوجب تحمل العقل إلا أن يثبتوا أنسابهم ويتحققوا من أقاربهم فيها وأباعدهم، وإنما كان كذلك لأمرين: أحدهما: أن العقل تابع للميراث والجنس لا يوجب التوارث فكذلك لا يوجب تحمل العقل. الثاني: قد يجمعهم اتفاق البلدان واتفاق الصنائع كما يجمعهم اتفاق الأجناس فلو جاز أن تعقل النوبة عن النوبي لجاز أن يعقل أهل مكة عن المكي وأهل البصرة عن البصري، وكذلك أهل الصنائع، وهذا مدفوع بالإجماع فوجب أن يكون الجنس مدفوعًا بالحجاج، وهكذا العجم لا يعقل بعضهم عن بعض إلا بالأنساب المعروفة وكذلك اللقيط الذي لا يعرف له نسب ولا يعقل عنه ملتقطه ولا القبيلة التي نبذ فيها والتقط منها، وهكذا لو جني رجل قرشي لا يعرف من أي قريش هو لم تعقل عنه قريش كلها حتى يعرف من أي قبيلة هو من قريش، لأن أباعد قريش إنما يعقلون عنه عند عجز أقربهم نسبًا إليه، فإذا لم يعرف أقربهم إليه للجهل بنسبه فيهم سقط تحمل عقله عنهم وصار جميع هؤلاء من لا عواقل لهم بالأنساب فيعقل عنهم جماعة المسلمين من بيت مالهم كما يكون ميراث لو مات لهم لما يجمعهم من ولاية الدين، كما يعقل عنه مواليه لما يجمعهم من ولاية الولاء. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ومن انتسب إلى نسبٍ فهو منه إلا أن تثبت بينةٌ

بخلاف ذلك ولا يُدفع نسبٌ بالسماع". قال في الحاوي: اختلف أصحابنا في تأويل هذه المسألة على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي حامد الإسفراييني وطائفة أنها محمولة على دعوى النسب الخاص وهو الواحد يدعى أبًا فيقول: أنا ابن فلان، فإن اعترف له بالأبوة ثبت نسبه أو يدعي الواد ابنًا فيقول: هذا انبي، فإن اعترف له بالنبوة ثبت نسبه وصار جميع من ناسبهما عواقل لكل واحد منهما، فإذا ادعاه رجل أقر أنه ولده لم يقبل دعواه بعد لحوقه بالأول إلا بينة تشهد له أنه ولد على فراشه فيلحق به، لأن لحوق البينة بالفراش أقوى من لحوقه بمجرد الدعوى، ولو شهدت البينة له بأنه ابنه ولم يشهد له بالفراش لم يحكم به بنسبه وكان لاحقًا بالأول، سواء صدقه الولد أو لم يصدقه؛ لأن لحوقه بالأول يمنع من نفيه عنه إلا بما هو أقوى منه وليس في هذه البينة زيادة قوة إلا أن تشهد بالفراش وإلا فشهادتها منسوبة إلى السماع، وقد قال الشافعي: "لا يدفع نسب بالسماع" فهذا حكم تأويلها على الوجه الأول. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي وأبي علي بن أبي هريرة وأكثر أصحابنا أنها محمولة على دعوى النسب العام: وهو أن يدعي الرجل أنه من قريش وقريش تسمع دعواه ولا تنكره، أو يدعي أنه من بني هاشم وبنو هاشم يسمعون ولا ينكرونه فيحكم بنسبه فيهم بإقرارهم على دعوى نسبهم وبمثل هذا تثبتي أكثر الأنساب العامة، فإن تجرد من أنكر نسبه ونفاه عنهم، وقال: لست منهم لم يقبل نفيه له، ولو شهد أنه ليس منهم؛ لأن الشهادة على مجرد النفي لا يصح. وقال مالك: إذا شاع هذا القول وذاع حكمت به ونفيته عنهم؛ وهذا خطأ؛ لأن انتشار القول محكوم به في ثبوت الأنساب غير محكوم به في نفيها، لأن القول المنتشر في الأنساب كالبينة، والبينة تسمع من النسب ولا تسمع على مجرد النفي فكذلك شائع الخبر، ويكون على لحوقه بهم حتى تشهد بينته على أنه من غيرهم ولد على فراش أحدهم، ولا يقبل شهادتهم بالسماع أنه من غيرهم بعد لحوقه بهم، وهو معنى قول الشافعي: "ولا يدفع نسب بالسماع" والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا حكمنا على أهل العهد ألزمنا عواقلهم الذين تجري أحكامنا عليهم فإن كانوا أهل حربٍ لا يجري حُكمنا عليهم ألزمنا الجاني ذلك ولا يقضي على أهل دينه إذا لم يكونوا عُصبةً لأنهم لا يرثونه ولا على المسلمين لقطع الولاية بينهم وإنهم لا يأخذون ماله على الميراث إنما يأخذونه فيئًا".

قال في الحاوي: إذا جني الذمي في دار الإسلام جناية خطأ فله حالتان: أحدهما: أن تكون له عاقلة من مناسبيه. والثاني: أن لا يكون له عاقلة مناسبون فإن كان له عاقلة من ذوي نسبه لم يخل حالهم من أحد أمرين: إما أن يكونوا مسلمين أو غير مسلمين، فإن كانوا مسلمين لم يعقلوا عنه كما لم يرثوه، لأن اختلاف الدين قاطع للموالاة بيتهم، وإن كانوا كفارًا فكان القاتل يهوديًا وعاقلته نصارى؛ لأن الكفر كله ملة واحدة، ولا يخلو حالهم من أحد أمرين: إما أن تجري عليهم أحكامنا أو لا تجري عليهم، فإن لم تجر عليهم أحكامنا لمقامهم في دار الحرب كان الجاني كمن لا عاقلة له على ما سنذكره لانقطاع الموالاة بين أهل الذمة وأهل الحرب، واختلافهم في التناصر، وظهور ما بينهم من التقاطع والتدابر، ولهذا المعنى لم يتوارثوا؛ فكذلك لأجله لم يعقلوا، وإن جرت أحكامنا على عاقلة لكونهم من أهل ذمة حكمنا عليهم بالعقل. وقال أبو حنيفة: لا يعقلون عنه إن شاركوه في النسب ووافقوه في الذمية احتجاجًا بأنهم مقهورون بالذمة ولا يتناصرون فيها فبطل التعاقل بينهم لذهاب التناصر منهم، وهذا خطأ لأن ثبوت الأنساب التي يتوارثون بها توجب تحمل العقل بها كالمسلمين وهم لا يتناصرون على الباطل ويتناصرون على الحق كذلك المسلمون. فصل: وإن لم يكن للذمي من عاقلة مناسبون وجبت الدية في ماله ولم يعقل عنه. وقال بعض العلماء: يعقل عنه أهل جزيته الذين في كورته لأنهم مشاركوه في ذمته وجزيته كما يتحمل المسلمون عن المسلم، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن المسلمين قد جمعهم الحق فصحت موالاتهم عليه، وهؤلاء جمعهم الباطل فبطلت موالاتهم فيه. والثاني: أن المسلم لا يعقل عنه أعيان الأجانب فكان أولى أن لا يعقلوا عن الذمي، فإن قيل: فهلا كانت جنايته في بيت مال المسلمين، لأن ميراثه يصير إلى بيت مالهم؟ قيل: إنما صار ميراثه إلى بيت المال فيئًا ولم يصر إليه إرثًا، فذلك لم يعقل عنه وعقل عن المسلم؛ لأن ماله صار إليه إرثًا. فصل: وإذا استرسل سهم اليهودي خطأ على رجل ثم أسلم اليهودي قبل وصول السهم ثم وصل فقتل لم يعقل عنه عصباته من اليهود لوصول السهم بعد إسلامه، ولم يعقل عنه عصبته من المسلمين ليهوديته عند إرساله، تحمل الدية في ماله، ولو قطع يهودي يد رجل

باب وضع الحجر حيث لا يجوز وضعه وحفر البئر وميل الحائط

ثم أسلم ومات المقطوع عقلت عنه عصبته من اليهود دون المسلمين؛ ولحدوث الجناية في يهوديته وإن استقرت بعد إسلامه، ولذلك سقط عنه القود بإسلامه، وخالف القطع إرسال السهم لوجود الجناية مع القطع وحدوثها بعد إرسال السهم، وهكذا لو كان القاطع مسلمًا فارتد عن الإسلام ومات المقطوع عقل عنه عصباته من المسلمين لإسلامه عند جنايته، والله أعلم. باب وضع الحجر حيث لا يجوز وضعه وحفر البئر وميل الحائط مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو وضع حجرًا في أرضٍ لا يملكها وآخر حديدةً فتعقل رجلٌ بالحجر فوقع على الحديدة، فمات فعلى واضح الحجر لأنه كالدافع له". قال في الحاوي: وأصل هذا الباب أن القتل إن حدث عن سبب محظور كان مضمونًا وإن حدث عن سبب مباح كان هدرًا، فإذا وضع رجل حجرًا في أرض لا يملكها إما في طريق سابق أو في ملك غيره فوضعه محظور، فإن عثر به إنسان فمات كان واضع الحجر ضامتًا لديته لحظر السبب المؤدي إلى قتله، والقتل يضمن بالسبب كما يضمن بالمباشرة، ولو دفعه رجل على هذا الحجر فمات كانت ديته على الدافع له لا على واضع الحجر؛ لأن المباشرة أقوى من السبب، فإذا اجتمعا غلب حكم المباشرة على السبب، ولو كان صاحب الحجر وضعه في ملكه أو في ملك غيره بإذنه فعثر به إنسان فمات فلا ضمان عليه، ودية العاثر هدر، سواء كان بصيرًا أو ضريرًا، دخل بإذن أو غير إذن، لإباحة السبب المؤدي إلى قتله. فإذا تقررت هذه المقدمة فصورة المسألة: في رجل وضع حجرًا في أرض لا يملكها ووضع آخر حديدة بقربه في الأرض التي لا يملكها، فعثر رجل بالحجر فوقع على الحديدة، فمات فضمان ديته على واضع الحجر دون واضع الحديدة، لأن وقوعه على الحديدة بعثرة الحجر فصار واضعه كالدافع له فوجب أن يكون ضامنًا لديته كما لو دفعه عليها. وقال أبو الفياض من أصحابنا البصريين: إن كانت الحديدة سكينًا قاطعة فالضمان على واضعها دون واضع الحجر، وإن كانت غير قاطعة فالضمان على واضع الحجر؛ لأن السكين القاطعة موجية والحجر غير موج. وهكذا قال في رجل دفع رجلًا على سكين في يد قصاب فانذبح بها أن ديته على القصاب دون الدوافع، وهذا القول معلول، لأن الدفع مباشرة يضمن بها المدفوع سواء ألقاه على موج أو غير موج، ولو عثر بالحديدة فوقع على الحجر فمات كان ضمانه على

واضع الحديدة دون واضع الحجر؛ لأنه قد صار صاحب الحديدة كالدافع له، ولو كان صاحب الحجر غير معتد بوضعه وصاحب الحديدة متعديًا فعثر رجل بالحجر فوقع على الحديدة فمات ضمنه واضع الحديدة دون واضع الحجر، لأن وضع الحجر مباح، فصارت الجناية منسوبة إلى واضع الحديدة لتعديه، وبطل التعليل بالدفع الملغي لخروجه عن التعدي والحظر، وهكذا لو برزت نبكة من الأرض فعثر بها هذا الثمار فسقط على الحديدة الموضوعة بغير حق فمات ضمن واضعها ديته، لأن بروز النبكة التي عثر بها لا توجب الضمان فأوجبه وضع الحجر. فصل: ولو أخرج طينًا من داره لهدم أو بناء ليستعمله حالًا بعد حال فعثر به بعض المارة فسقط ميتًا نظر: فإن كان الطريق ضيقًا أو الطين كثيرًا فهو معتد بوضعه، فيه فيكون ضامنًا لديته، وإن كان الطريق واسعًا والطين قليلًا وقد عدل به عن مسلك المارة إلى فناء داره لم يضمن، لأنه غير متعد به ولا يحد الناس من مثله ابدًا. وقال بعض أصحابنا: يضمن لأنه مباح بشرط السلامه، فإذا أفضى إلى التلف ضمن كتأديب المعلوم، وهذا فاسد، لما فيه من التسوية بين المباح والمحظور مع وضوح الفرق بينهما. فصل: ولو رش ماء في طريق سابق فزلق فيه بعض المارة فسقط ميتًا ضمن ديته لحدوثه عن سبب محظور، وهكذا لو ألقي في الطريق قشور بطيخ أو فاكهة قد أكلها فزلق بها إنسان فمات ضمنه لما ذكرنا، ولو بالت دابته في الطريق فزلق إنسان فمات فإن لم يكن معها لم يضمن، كما لو رمحت برجلها وليس صاحبها معها لم يضمن، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "جرح العجماء جبار": البهيمة، وإن كان صاحبها حين بالت معها ضمن ما تلف بزلق بولها، سواء كان راكبًا أو قائدًا أو سائقًا، لأن يده عليها فجرى بولها الذي في الطريق مجرى بوله الذي يلزمه ضمان ما تلف به. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو حفر في صحراء أو طريقٍ واسعٍ محتملٍ فمات به إنسانٌ".

قال [في] الحاوي: وتفصيل هذا أنه إذا حفر بئرًا لم يخل حاله في حفرها من أحد أربعة أقسام: أحدها: أن يحفرها في ملكه. والثاني: أن يحفرها في ملك غيره. والثالث: أن يحفره في الموات. والرابع: أن يحفرها في طريق سابل. فأما القسم الأول وهو أن يحفرها في ملكه فهو مباح، ولا ضمان عليه فيما سقط فيها من بهيمة، أو إنسان، بصير أو ضرير سواء كان الدخول بأمر وغير أمر إذا كانت ظاهرة، ولكن لو حفر بئرًا في ممر داره وغطاها عن الأبصار ودخل إليها من سقط فيها فمات فلا يخلو حال الداخل من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يدخلها بغير أمر فو متعد بالدخول ونفسه هدر. والثانية: أن يكرهه الحافر على الدخول، فيضمن ديته لتعديه بإكراهه على الدخول. والثالثة: أن يدخلها مختارًا بإذن الحافر، فإ أعلمه بها فلا ضمان عليه، وإن لم يعلمه بها، وهو بصير ولها آثار تدل عليها فلا ضمان عليه وإن لم تكن لها آثار أو كان لها آثار والداخل أعمى ففي وجوب الضمان قولان: أحدهما: وهو الأظهر، المنصوص عليه أنه لا ضمان عليه، وتكون نفس الواقع فيها هدرًا، ولأنه دخل باختيار والحفر مباح. والثاني: يضمن الحافر دية الواقع تخريجًا من أحد قوليه فيمن سم طعامًا وأذن في أكله. فصل: وأما القسم الثاني وهو أن يحفر بئرًا في ملك غيره فهو على ضربين: أحدهما: أن يحفرها المالك فلا ضمان فيما سقط فيها على الحافر ولا على المالك لأن كل واحد منهما غير متعد، ويخرج الحافر بالإذن من عواقب الحفر. والثاني: أن يحفرها بغير إذن مالكها فالحافر، متعد بحفرها وهو الضامن لما تلف فيها من إنسان أو بهيمة، سواء قدر المالك على سدها أو لم يقدر لخروجه عن عدوان الحفر، فإن أراد الحافر أن يطمها ليبرأ من ضمانها أخذ المالك بتمكينه من طمها ليبرأ من ضمان ما سقط فيها، فإن أبرأه المالك من الضمان ففيه وجهان: أحدهما: أنها براءة باطلة لتقدمها على الوجوب، فعلى هذا يؤخذ بتمكين الحافر من طمها. والثاني: يبرأ ويكون الإبراء جاريًا ومجرى الإذن بالحفر، فعلى هذا يمنع الحافر من طمها.

فصل: وأما القسم الثالث، وهو أن يحفرها في الموات: فهذا على ضربين: أحدهما: أن يحفرها لنفسه ليتملكها فيمكن، ويصير مالكًا لها بالإحياء، وسواء أذن فيه الإمام أو لم يأذن، لأن إحياء الموات لا يفتقر إلى إذنه، ولا يضمن ما سقط فيها كما لا يضمنه فيما حفره في ملكه؛ لأنه في الحالين مالك. والثاني: أن يحفرها لينتفع هو والسابلة بمائها ولا يتملكها فينظر، فإن أذن له الإمام في حفرها فلا ضمان عليه فيما سقط فيها لقيام الإمام بعموم المصالح وإذنه حكم بالإبراء وإن لم يأذن له الإمام في حفرها ففي ضمانه قولان: أحدهما: وبه قال في القديم - عليه الضمان، وجعل إذن الإمام شرطًا في الجواز لأنه أحق بالنظر في عموم المصالح من الحافر. والثاني: وبه قال في الجديد: أنه لا ضمان عليه في المباح، لأن المباح لا يفتقر إلى إذن الإمام والمحظور لا يستباح بإذنه. فصل: وأما القسم الرابع وهو أن يحفرها في طريق سابل: فهذا على ضربين: أحدهما: أن يضر حفرها بالمارة فيصير متعديًا ويلزمه ضمان ما سقط فيها، سواء أذن له الإمام أو لم يأذن؛ لأن إذن الإمام لا يبيح المحظورات. والثاني: أن لا تضر بالمارة؛ لسعة الطريق وانحراف البئر عن جادة المارة فهذا على ضربين: أحدهما: أن يحفرها ليتملكها فهذا محظور؛ لأنه لا يجوز أن يتملك طريق السابلة فيلزمه ضمان ما سقط فيها. والثاني: أن يحفرها للارتفاق لا للتمليك، فإن لم يحكم رأسها وتركها مفتوحة ضمن ما سقط فيها، وإن أحكم رأسها واستأذن فيها الإمام لم يضمن، وإن لم يستأذنه فيها ففي وجوب ضمانه ثلاثة أوجه: أحدها: وهو قياس قوله في القديم يضمن، لأنه جعل إذن الإمام شرطًا في عموم المصالح. والثاني: لا يضمن للارتفاق الذي لا يجد الناس منعه بدًا. والثالث: أنه إن حفرها لارتفاق كافة المسلمين بها. إما لشربهم منها. وإما ليفيض مياه الأمطار إليها فلا ضمان عليه، وإن حفرها ليختص بالارتفاق بها لحشر داره أو لماء مطرها فعليه الضمان؛ لأن عموم المصالح أوسع حكمًا من خصوصها، وفي قول النبي صلى الله عليه وسلم: "البئر جبار والمعدن جبار" وفيه تأويلان:

أحدهما: المراد به الأجبر في حفر البئر والمعدن إذا تلف كان هدرًا. والثاني: أن ما سقط فيها بعد الحفر هدر، ولا يمتنع أن يحمل على عموم الأمرين فيما استبيح فعله وإن أريد به أحدهما لاشتراكهما في المعنى. فصل: ويتفرع على ما ذكرناه إن بني مسجدًا في طريق سابل، فإن كان مضرًا بالمارة لضيق الطريق أو سعة المسجد كان ضامنًا لما تلف به من المارة وإن لم يضر بهم فإن كان قد بناه بإذن الإمام لم يضمن، وإن بناه إذنه ففي ضمانه وجهان: لأنه من عموم المصالح، ولو علق قنديلًا في مسجد فسقط على إنسان فقتله أو فرس فيه بارية أو حصيرًا فعثر به داخل إليه فخر ميتًا فقد كان أبو حامد الإسفراييني يجريه مجرى بناء المسجد إن كان بإذن الإمام لم يضمن، وإن كان بغير إذنه فعلى وجهين، وخالفه سائر أصحابنا وقالوا: لا يضمن وجهًا واحدًا سواء أذن فيه الإمام أو لم يأذن، وهو الصحيح لكثرته في العرف، وإن أذن الإمام فيه شق. فصل: وإذا استقر البئر بحق فوقع فيها واقع ووقع فوقه آخر وحدث من ذلك موت فهذا على ضربين: أحدهما: أن يقع الثاني خلف الأول من غير جذب ولا دفع، فإن مات الأول فديته هدر، لأنه لما صنع لغيره في موته، وإن ماتا جميعًا وجبت دية الأول على الثاني، وكانت دية الثاني هدرًا لما ذكرنا، روى علي بن رباح اللخمي أن بصيرًا كان يقود أعمى فوقعا في بئر ووقع الأعمى فوق البصير فقتله فقضى عمر بعقل البصير على الأعمى فكان الأعمى ينشد في الموسم ويقول: يا أيها الناس لقيت منكرا هل يعقل الأعمى الصحيح المبصرا خرا معًا كلاهما تكسرا والثاني: أن يجذب الأول الثاني فيقع عليه، فإن مات الأول كانت ديته هدرًا وإن مات الثاني كانت ديته كلها على الأول بخلاف الضرب الأول، لأن الجاذب هو القاتل والأول جاذب والثاني مجذوب، فصار الأول ضامنًا غير مضمون، والثاني مضمونًا غير ضامن، فعلى هذا لو وقع الأول ثم وقع عليه الثاني ثم وقع عليهما ثالثًا، فإن كان وقوعهم من غير جذب ولا دفع فدية الأول على الثاني والثالث؛ لأنه مات بوقوعهما عليه فاشتركا في ديته لاشتراكهما في تلفه، ودية الثاني على الثالث؛ لأنه انفرد بالوقوع عليه فانفرد بديته، ودية الثالث هدر؛ لأنه تلف من وقوعه، وإن جذب بعضهم بعضًا فجذب

الأول الثاني وجذب الثاني الثالث فإذا ماتوا جميعًا كان موت الأول والثاني بفعل قد اشتركا فيه، وموت الثالث بفعل لم يشاركهما فيه، لأن موت الأول كان بجذبه للثاني وبجذب الثاني للثالث وموت الثاني بجذب الأول وبجذب الثاني للثالث فصار الأول والثاني مشتركين في قتل أنفسهما يجب عليهما حكم المصطدمين، وكان النصف من دية كل واحد منهما هدرًا؛ لأنه في مقابلة فعله والنصف الآخر على عاقلة صاحبه، فيكون على عاقلة الأول نصف دية الثاني وباقيها هدر، وعلى الثاني نصف دية الأول وباقيها هدر، فأما الثالث فهو مجذوب وليس بجاذب فتكون جميع ديته مضمونة؛ لأنه مجذوب ولا يضمن دية غيره، لأنه ليس بجاذب وفيمن يضمن ديته وجهان: أحدهما: يضمنها الثاني دون الأول، لأن الثاتي هو امباشر بجذبه. والثاني: يضمنها الثاني والأول بينهما بالسواء، لأن الأول لما جذب الثاني وجذب الثاني للثالث صارا مشتركين في جذب الثالث فلذلك اشتركا في ضمان ديته، وعلى هذا لو جذب الأول ثانيًا وجذب الثاني ثالثًا وجذب الثالث رابعًا وماتوا فيسقط الثلث من دية الأول هدرًا، ويجب ثلثاها على الثاني والثالث؛ لأنه مات بجذبه للثاني وبجذب الثاني للثالث وبجذب الثالث للرابع، فكان موته بفعل وفعل الثاني وفعل الثالث وليس الرابع فعل؛ لأنه مجذوب وليس بجاذب فكان ثلث ديته هدرًا؛ لأنه في مقابلة فعله وثلثها على عاقلة الثاني وثلثها على عاقلة الثالث، وهكذا الحكم في الثاني يكون ثلث ديته هدرًا، وثلثاها على عاقلة الأول وثلثها على عاقلة الثالث لأنه مات بجذب الأول له وبجذبه للثالث ويجذب الثالث الرابع فصار الأول والثاني والثالث مشتركين في قتل الثالث، فسقط ثلث الدية، لأنها في مقابلة فعله ووجب ثلثاها على الأول والثالث، وأما دية الثالث ففي قدر ما يهدر منها ويضمن وجهان: أحدهما: يهدر نصف ديته ويجب نصفها على الثاني؛ لأنه مات بجذب الثاني وبجذبه للرابع فصار مشاركًا للثاني في قتل نفسه فسقطت نصف ديته، لأنه في مقابلة قتله، ووجب نصفها على الثاني وخرج منها الأول، لأنه باشر جذبه. والثاني: أنه ينهدر من ديته ثلثها ويجب ثلثاها على الأول والثاني، لأن الأول لما جذب الثاني صار مشاركًا له في جذب الثالث، ولما جذب الثالث الرابع صار مشاركًا للأول والثاني في قتل نفسه وهم ثلاثة، فسقط من ديته ثلثها، ولأنه في مقابلة فعله، ووجب ثلثاها على الأول والثاني، وأما دية الرابع فجميعها واجبة لا ينهدر منها شيء؛ لأنه مجذوب وليس بجاذب ومقتول وليس بقاتل، وفيمن تجب عليه ديته وجهان: أحدهما: تجب على الثالث وحده، لأنه باشر جذبه. والثاني: أنها تجب على الأول والثاني والثالث أثلاثًا، لأن كل واحد منهما جاذب لمن بعده فصاروا مشتركين في جذب الرابع فاشتركوا في تحمل ديته والله أعلم.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "أو مال حائطٌ من داره فوقع على إنسانٍ فمات فلا شيء فيه، وإن أشهد عليه؛ لأنه وضعه في ملكه والميل حادثٌ من غير فعله وقد أساء بتركه، وما وضعه في ملكه فمات به إنسانٌ فلا شيء عليه. قال المزني: وإن تقدم إليه الوالي فيه أو غيره فلم يهدمه حتى وقع على إنسانٍ فقتله فلا شيء عليه عندي في قياس قول الشافعي". قال في الحاوي: وصورتها: في حائط سقط من دار رجل فأتلف نفوسًا وأموالًا فلا يخلو حاله من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون الحائط منتصبًا فيسقط عن انتصابه. والثاني: أن يبنيه المالك مائلًا فيسقط لإمالته. والثالث: أن يبنيه منتصبًا ثم يميل ثم يسقط لميله. فأم القسم الأول وهو أن يكون منتصبًا فيسقط عن انتصابه من غير ميل مستقر فيه فلا ضمان عليه فيما تلف به، سواء كان سقوطه إلى داره أو دار جاره أو إلى الطريق السابل؛ لأنه لم يكن منه عدوان يوجب الضمان، وسواء كان في الحائط شق بالطول أو بالعرض وقال ابن أبي ليلى: إن كان شق الحائط طولًا لم يضمن، وإن كان شقه عرضًا ضمن؛ لأن شق العرض مؤذن بالسقوط فصار بتركه مفرطًا، وشق الطول غير مؤذن بالسقوط فلم يصر بتركه مفرطًا، وقد قال الله تعالى فيما حكاه عن موسى والخضر عليهما السلام: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ} [الكهف:77] ومعنى ينقض: أي يسقط، فلولا ما في تركه من التفريط لما أقامه ولي الله الخضر، ولأقره على حاله لمالكه، وهذا الذي قاله ابن أبي ليلى فاسد من وجهين: أحدهما: أنه قد يسقط بشق الطول ويبقى مع شق العرض. والثاني: أنه ليس شقه عوضًا بأكثر من تشريخ آلة الحائط وتعيينها من غير بناء، وهو لو فعل ذلك فسقط لم يضمن فكان أولى إذا بناه فانشق عرضًا أن لا يضمن، فأما الآية فعنها جوابان: أحدهما: أن الخضر إما بني مبعوث أو ولي مخصوص على حسب الاختلاف في نبوته قد اطلع على مصالح البواطن على ما خالف ظواهرها ولذلك أنكرها موسى عليه السلام، ولو ساغ في الظاهر ما فعله الخضر لم ينكره موسى فكان في إنكار موسى ي الظاهر لنا دليل، وإن كان في فعل الخضر لابن أبي ليلى في الباطن دليل، والحكم في الشرع معتبر بالظاهر دون الباطن فكان دليلنا من الآية أحج.

والثاني: أنه قد قرأ عكرمة: جدارًا يريد أن ينقاض والفرق بين ينقض وينقاض أن ينقض يسقط، وينقاض ينشق طولًا، وانشقاق الطول عند ابن أبي ليلى غير مضمون، ولعل عكرمة تحرز بهذه القرارة من مثل قول ابن أبي ليلى. فصل: وأما القسم الثاني: وهو أن يبنيه مائلًا فيسقط لإمالته فهذا على ضربين: أحدهما: أن يجعل إمالة بنائه إلى ملكه فلا يضمن ما تلف به إذا سقط، لأن له أن يفعل بملكه في ملكه ما شاء من مخوف أو غير مخوف كحفر بئر، وارتباط سبع، أو تأجيج نار، وسواء علم من سقط عليه بميل الحائط أو لم يعلم، أنذرهم به أو لم ينذرهم، لأنهم أقاموا تحته باختيارهم، فلو ربط أحدهم تحته فلم يقدر على الانصراف عنه حتى سقط عليه نظر: فإن لم يكن الحائظ منذرًا بالسقوط لم يضمنه، وإن كان منذرًا بالسقوط ضمنه، لأنه مخوف إذا أنذر وغير مخوف إذا لم ينذر. والثاني: أن يجعل إمالة بنائه إلى غير ملكه إما إلى طريق سابل، وإما إلى ملك مجاوز، فيكون بإمالة بنائه متعديًا لصرفه في هواء لا يملكه؛ لأنه إن أماله إلى ملك غيره تعدى عليه، وإن أماله إلى الطريق لم يستحق منه إلا ما لا ضرر فيه كالجناح فضمن ما تلف بسقوطه من نفوس وأموال. فصل: وأما القسم الثالث: وهو أن يبنيه منتصبًا فيميل ثم يسقط بعد ميله فهي مسألة الكتاب فهذا على ضربين: أحدهما: أن يميل إلى داره فلا يضمن ما تلفه به بسقوطه؛ لأنه لا يضمن إذا بناه مائلًا فكان أولى أن لا يضمن إذا مال. والثاني: أن يميل إلى غير ملك وإما إلى دار جاره، وإما في الطريق سابل، فقد أرسل الشافعي جوابه في سقوط الضمان وقال: لا شيء عليه، وعلل بأن الميل حادث من غير فعله، واختلف أصحابنا في إطلاق هذا الجواب هل هو محمول على ميله إلى غير ملكه أم لا؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول المزني وأبي سعيد الإصطخري، وأبي علي الطبري، وأبي حامد الإسفراييني، أنه محمول على ميله إلى غير ملكه، وأنه لا ضمان عليه فيما تلف بسقوطه لأمرين: أحدهما: أن أصله في ملكه وميله ليس من فعله، فصار كما لو مال فسقط لوقته وهذا غير مضمون فكذلك إذا ثبت مائلًا ثم سقط. والثاني: أن طيران الشرر من أجيج النار أخطر وضرره أعم وأكثر، ثم ثبت أنه لو

أجج في داره نارًا طار شررها لم يضمن ما تلف بها لحدوثه عن سبب مباح، فوجب إذا بني حائطًا فمال أن لا يضمن ما تلف به، وسقوط الضمان في الحائط أولى، لأنه لا يقدر على التحرز من ميله ويقدر على التحرز من شرر النار. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي وأبي علي بن أبي هريرة أن جواب الشافعي في سقوط الضمان محمول على ميله إلى ملكه، فأما ميله إلى غير ملكه فموجب للضمان، وهذا أصح الوجهين عندي وإن كان الأول أشبه بإطلاق جواب الشافعي، وإنما وجب به الضمان لأمرين: أحدهما: أنه يؤخذ بإزالة ميله إذا مال بنفسه كما يؤخذ بإزالته إذا بناه مائلًا، فصار بتركه على ميله مفرطًا وببنائه متعديًا، وهو يضمن بالتفريط كما يضمن بالتعدي فوجب أن يستويا في لزوم الضمان. والثاني: أنه لو أشرع جناحًا من داره أقر عليه وضمن ما تلف به وهو لا يقر على ميل الحائط فكان أولى أن يضمن ما تلف به. فصل: فإذا تقرر توجيه الوجهين لم يعتبر في واحد منها إنكار الوالي والإشهاد عليه، وإن قيل بسقوط الضمان لم يجب بإنكار الوالي والإشهاد عليه، وإن قيل بوجوب الضمان لم يسقط إمساك الوالي وترك الإشهاد عليه. وقال أبو حنيفة: إن أنكره الوالي أو كان ميله إلى الطريق أو الجار وإن كان ميله إلى داره وأشهد عليه ضمن، وإن لم ينكراه ولم يشهدا عليه لم يضمن فصار مخالفًا كلا الوجهين احتجاجًا بأمرين: أحدهما: أنه يصير بتركه بعد الإنكار والمطالبة متعديًا فلزمه الضمان لتعديه، وهو قبل الإنذار غير متعد فلم يلزمه الضمان لعدم التعدي. والثاني: أنه لما وقع الفرق في تلف الوديعة بين أن يكون بعد طلبها فيضمن، وبين أن يكون قبل طلبها فلا يضمن، وجب أن يقع الفرق في ميل الحائط بين أن يكون سقوطه بعد مطالبته فيضمن وبين أن يكون قبل مطالبته لا يضمن؛ لأن يده على حائط قد استحق عليه رفعه كما يد المودع على مال قد استحق عليه رده، فوجب أن يستويا في الفرق بين المطالبة والإمساك. ودليلنا شيئان: أحدهما: أن لا يخلو ميل الحائط من أن يكون موجبًا للضمان فلا يسقط بترك الإنكار، كما لو حفر بئرًا في غير ملكه، أو يكون غير موجب للضمان فلا يجب الإنكار كما لو حفر بئرًا في ملكه، فلم يبق للإنكار تأثير في سقوط ما وجب ولا في وجوب ما سقط. الثاني: أنه لا يخلو إما أن يكون الإنكار مستحقًا فلا يسقط حكمه بعدمه

كالمنكرات، أو يكون غير مستحق فلا يثبت حكمه بوجوده كالمباحات، فلم يبق للإنكار تأثير في إباحه محظور ولا في حظر مباح، وبه يقع الانفصال عما احتج به من تعديه بعد الإنكار وعدمه قبله، واحتجاجه بالوديعة لا يصح، لأن المودع نائب عن غيره فجاز أن يتعلق ضمانها بطلبه، وليس صاحب الحائط المائل نائبًا فيه عن غيره فلم يتعلق ضمانه بإنكاره وطلبه. فصل: فإذا ثبت أن الاعتبار بالإنكار والإشهاد في وجوب الضمان لا في سقوطه فلا فرق في تلف من علم بميله أو لم يعلم، قدر على الاحتراز منه أو لم يقدر، في أن سقوط الضمان على الوجه الأول في الأحوال كلها وإن وجب الضمان على الوجه الثاني ففي الأحوال كلها يختلف بها حكم ما سقط من آلته في الطريق إذا عثر بها مار فتلف، فإن قيل إن سقوطه غير موجب للضمان على الوجه الأول لم يلزمه ضمان من عثر بآلته إذا كان عثاره قبل القدرة على نقلها، ويضمنه إن كان بعد القدرة عليه، وإن قيل إن سقوطه موجب للضمان ضمن من عثر بآلته، سواء كان عثاره قبل القدرة على النقل أو بعده، لأن سقوطه غير منسوبي إلى التعدي على الوجه الأول ومنسوب إليه على الوجه الثاني. فصل: وإذا كان حائط بين دارين مشترك بين جارين فخيف سقوطه فطالب أحدهما صاحبه بهدمه، فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون قائمًا على انتصابه، فليس لواحد منهما مطالبة الآخر بهدمه ويكون مقرًا على استدامه وإن خافاه حتى يتفقا على هدمه، فإن أراد أحدهما أن ينفرد بهدمه والتزام مؤنته نظر فيه، فإن كانت قيمته قائمًا مستهدمًا أكثر من قيمته نقصًا مهدومًا لم يكن له التفرد بهدمه، وإن كانت قيمة نقضه وآلته مثل قيمته قائمًا أو أكثر سئل عنه أهل المصر من يعرف الأبنية فإن قالوا: إن سقوطه يتعجل ولا يثبت على انتصابه كان له أن ينفرد بهدمه لحسم ضرره، وإن قالوا: إنه قد يلبث على انتصابه ولا يتعجل سقوطه لم يكن له أن ينفرد بهدمه. والثاني: أن يميل إلى أحد الدارين فللذي مال إلى داره أن يأخذ شريكه بهدمه، وله إن امتنع أن ينفرد بهدمه لحصوله فيما قد اختص بملكه من هواء داره، وليس للذي لم يمل إليه أن يأخذ شريكه بهدمه، ولا له أيضًا أن ينفرد بهدمه والتزم مؤنته، لأنه قد أمن ميلة إلى غير ملكه أن يسقط إلى داره. فصل: وإذا أشرع من داره جناحًا على طريق نافذة جاز إذا لم يضر بمار ولا مجتاز، وكذلك إذا أراد إخراج سياطًا يمده على عرض الطريق مكن إن لم يضر ومنع إن أضر، فاختلف

أصحابنا في حد ضرره، فقال أبو عبيد بن حربويه ما ناله رمح الفارس مضر، وما لم ينله رمحه غير مضر. وقال جمهور أصحابنا: إن ما لا يناله أشرف الجمال إذا كان عليها أعلى العماريات فهو غير مضر وما يناله ذلك فهو مضر، وهذا الحد عندي على الإطلاق غير صحيح، بل يجب أن يكون معتبرًا بأحوال البلاد، فما كان منها تسلكه جمال العماريات كان هذا حد ضرره، وما كان منها لا تسلكه جمال العماريات وتسلكه الأجمال كان الجمل بحمله حد ضرره، وما كان منها لا تسلكه الجمال وتسلكه الخيل بفرسانها كان أشرف الفرسان على أشرف الخيل حد ضرره، وما كان منها لا تسلكه الخيل ولا الركاب كجزائر في البحر وقرى في البطائح كان أطول الرجال بأعلى حمل على رأسه هو حد ضرره؛ لأن عرف كل بلد أولى أن يكون معتبرًا من عرف ما عداه، إذا كان غير موجود فيه، إذا كان غير مضر أقر ولم يكن لأحد أن يعترض عليه ولا يمنعه منه. وقال أبو حنيفة: يقر عل ما لا يضر إذا لم يعترض عليه أحد من المسلمين، فإن أعترض عليه أحدهم منع منه وأخذ بقلعه احتجاجًا بأنه لما منع من بناء دكة في عرصة الطريق منع من إشراع جناح في هوائه، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: ما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بدار العباس بن عبد المطلب فقطر عليه من ميزابها ماء فأمر بقلعه، فخرج العباس وقال: قلعت ميزابًا نصبه رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده؟ فقال عمر: والله لا صعد من يعيد هذا الميزاب إلا على ظهري، فصعد العباس على ظهره حتى أعاد الميزاب إلى موضعه فدل ما كان من رسول الله صلى الله عليه وسلم في نصبه ومن عمر في إعادته ومن الصحابة في إقرارهم على أنه شرع منقول وفعل متبوع. والثاني: مشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما وطئه من البلاد وفيها الأجنحة والميازيب فما أنكرها وأقر أهلها عليها، وجرى خلفاؤه وصحابته رضي الله عنهم على عادته في إقرارها بعد موته، وقد سلكوا من البلاد أكثر مما سلك، وشاهدوا من اختلاف أحوالها أكثر مما شاهد، فلم يوجد أحد عارض فيه أحد فدل على انعقاد الإجماع فيه وزوال الخلاف عنه، وخالفت الأجنحة الدكاك لأن الدكاك مضرة بالمجتازين مضيقة لطرقاتهم وليس في الأجنحة مضرة ولا تضيق. فصل: فإذا ثبت جواز فعله وجواز إقراره فسقط على مار فقتله ضمن ديته وإن كان مباحًا؛ لأنه مباح بشرط السلامة كتعزيز الإمام وضرب الزوجة، وأما الميزاب إذا سقط فأتلف مارًا ففي ضمانه قولان: أحدهما: وهو قول في القديم: لا يضمن، لأنه مما لا يوجد منه بد فصار مضطرًا إليه وغير مضطر إلى الجناح فافترقا. والثاني: وهو الجديد: أنه يكون مضمونًا يلزمه ما تلف به كالجناح، لأنه قد كان

باب دية الجنين

يقدر على إجراء مائه إلى بئر يحفرها في داره فيكون غير مضطر إليه كما هو مضطر إلى الجناح، فإذا وجب عليه الضمان فيما تلف بالجناح والميزاب نظر فيما وقع به التلف، فإن كان خارجًا عن داره ضمن به جميع الدية، وإن كان بعضه خارجًا وبعضه في حائطه فسقط جميعه فقتل ففي قدر ما يضمنه من ديته ثلاثة أقاويل حكاهما أبو حامد المروزوي في جامعه: أحدهما: يضمن جميع ديته، لأن الداخل في الحائط من الخشب جذبه الخارج منه فضمن به جميع ديته. والثاني: يضمن به نصف ديته، لأن ما في الحائط منه موضوع في ملكه والخارج منه مختص بالضمان، فصار التلف من جنسين مباح ومحظور فضمن نصف الدية. والثالث: أنه يضمن من الدية بقسط الخارج من الخشبة. مثاله: أن يكون طول الخشبة خمسة أذرع، فإن كان الخارج منها ثلاثة أذرع ضمن ثلاثة أخماس ديته، وإن كان الخارج أربعة أذرع ضمن أربعة أخماس ديته يقسط على قدر الداخل والخارج. وقال الشافعي: "ولا أبالي أي طرفيه أصابه؛ لأنها قتلت بثقلها. فصل: وإذا وضع الرجل على حائطه جرة ماء فسقطت على مار في الطريق فقتله لم يضمن ديته، لأنه وضعها في ملكه، ولو نام على طرف سطحه فانقلب إلى الطريق فسقط على مار فقتله نظر في سبب سقوطه، فإن كان بفسخ من الحائط انهار من تحته فلا ضمان عليه وإن كان لثقله في نومه فعليه الضمان؛ لأنه سقط بفعله، وسقط في الأول بغير فعله، وكلما أوجبنا عليه في هذه المسائل كلها من ضمان النفس فدياتها على عاقلته؛ لأنه خطأ عمد فيه وعليه مع ضمان الدية الكفارة في ماله، والله أعلم. باب دية الجنين مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "في الجنين المُسلم بأبويه أو بأحدهما غرةٌ". قال في الحاوي: وهو كما قال، والأصل فيه ما روه أبو سلمة عن أبي هريرة قال: قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحمل بغرة عبد أو أمة، فقال حمل بن مالك بن النابغة: يا رسول الله: كيف ندى من لا شرب ولا أكل ولا نطق ولا استهل فمثل ذلك بطل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن هذا ليقول قول شاعر فيه غرة عبد أو أمة". وروي عن الزبير عن مسور بن مخرمة قال: استشار عمر في إملاص المرأة يعني

الحامل يضرب بطنها فيسقط فقام المغيرة بن شعبة فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة. فقال: ائتني بمن يشهد معك قال: فشهد معه محمد بن مسلمة، وقال أبو عبيد: إملاصها ما أزلفته بالقرب من الولادة. وروى الشافعي عن سفيان عن عمرو بن دينار عن طاوس أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: أذكر الله امرءًا أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين شيئًا إلا قاله، فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال: كنت بين جاريتين لي فضربت إحداهما الأخرى بسطح فألقت جنينًا ميتًا، فقضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بغرة عبد أو أمة، فقال عمر: كدنا والله نقضي فيه بآرائنا، قال أبو عبيد: المسطح خشب الخباء. وقال النضر بن شميل: هو الخشبة التي ترقق بها العجين إذا حلج ليخبز، ويسميها المولودون الصولج، فدل ما رويناه على أن في الجنين غرة عبد أو أمة، فإن قيل: فقد روى في حديث أبي سلمة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فيه غرة أو أمة أو فرس أو بغل، فكيف اقتصرتم على غرة عبد أو أمة دون الفرس والبغل؟ قيل: لأنها رواية تفرد بها عيسى بن يونس عن محمد بن عمر عن أبي سلمة وقد وهم فيها عيسى بن يونس والذي رواه الزهري عن أبي سلمة وعن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة أثبت، وناقلوه أضبط، وليس في روايتهم فرس ولا بغل، ولو صحت الرواية لجاز حملها على أن الفرس والبغل جعلا بدلًا من العبد والأمة. فصل: فإذا ثبت وجوب الغرة فيه فتكمل الغرة إذا كان كاملًا بالإسلام والحرية، لأن الغرة أكمل ديات الجنين فوجبت في أكملهم وصفًا، ويجب فيه الكفارة، لأنها دية نفس، وتكون الغرة على العاقلة لانتفاء العمد عنه بعدم مباشرته للجناية فلا يكون إلا خطأ محضًا، أو عمد خطأ، والكفارة في مال الجاني فلو ألقت من الضرب جنينين لزمته غرمان وكفارتان، ولو ألقت ثلاثة أجنة لزمه ثلاث غرر وثلاث كفارات، ولو ضربها ثلاثة فألقت جنينًا واحدًا لزمهم غرة واحدة وثلاث كفارات، وهذا كله إذا ألقته ميتًا يختص بالغرة فيه ذكرًا كان أو أنثى، فأما إن ألقته حيًا وجب فيه ديته، وديته إن كان ذكرًا فمائة من الإبل، وإن كان أنثى فخمسون من الإبل، فيستوي في سقوطه ميتًا حكم الذكر والأنثى، ويفترق في سقوطه حيًا حكم الذكر والأنثى، وسمي جنينًا؛ لأنه قد أجنه بطن أمه أي ستره، ولذلك يقال: أجنه الليل إذا ستره، قال الله تعالى: {الأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم:32].

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وأقل ما يكون به جنينًا أن يُفارق المُضغة والعلقة حتى يتبين منه شيءٌ من حلق آدمي إصبعٌ أو ظفرٌ أو عينٌ أو ما أشبه ذلك". قال في الحاوي: اختلف الفقهاء في حد الجنين الذي تجب فيه الغرة على ثلاثة مذاهب: أحدها: وهو قول الشعبي ومالك والحسن بن صالح: إن في أقل الحبل غرة. والثاني: وهو قول أبي حنيفة: إن فيه ما لم يبن خلقه حكومة، فإذا بان خلقه ففيه غرة. والثالث: وهو قول الشافعي: أنه لا شيء فيه إذا لم يبن خلقه، فإذا بان خلقه على ما سنصفه ففيه غرة فصار الخلاف فيما لم يبن خلقه، فعند مالكن فيه غرة، وعند أبي حنيفة فيه حكومة، وعند الشافعي لا شيء فيه. واستدل مالك على وجوب الغرة فيه: بأنه لما لم يقع الفرق في الولد الحي بين صغير وكبير في وجوب الدية وجب أن لا يقع الفرق في الحمل بين مبادئه وكماله في وجوب الغرة. واستدل أبو حنيفة بأنه لما وجب في الجنين دون ما في الولد الحي ولم يكن هدرًا وجب أن يكون فيما دون الجنين أقل مما في الجنين ولا يكون هدرًا، واستدل الشافعي على أن لا شيء فيه بأمرين: أحدهما: أن وجوب الغرم لثبوت الحرمة وليس له قبل بيان خلقه حرمة فكان هذا كالنطفة. والثاني: أن حياة الإنسان بين حالتين بين مبادئ خلقه وبين غايته بعد موته، فلما كان في آخر حالتيه بعد الموت هدرًا وجب أن يكون في الأولى من حالتيه قبل بيان الخلق هدرًا، وفي هذين دليل وانفصال. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا فالذي يتعلق بالجنين ثلاثة أحكام: أحدهما: وجوب الغرة. والثاني: أن تصير به الأمة أم ولد. والثالث: أن تنقضي به العدة، وإذا كان كذلك فقد وصف الله تعالى حال الإنسان في مبادئ خلقه إلى استكماله فقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون:12].

وفيه قولان: أحدهما: أن آدم وحده استل من طين وهو المخصوص بخلقه منه قاله قتادة. والثاني: أنه أراد كل إنسان؛ لأنه يرجع إلى آدم الذي من سلالة من طين قاله مجاهد. وفي السلالة تأويلان: أحدهما: أنها الصفوة. والثاني: أنها القليل الذي ينسل. ثم ذكر حالة ثانية في الولد فقال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ} [المؤمنون:13] يعني به ذرية آدم المخلوقين من تناسل الرجال والنساء، لأنه خلق من طين ولم يخلق من نطفة التناسل، والنطفة هي ماء الذكر الذي تعلق منه الولد وهو أول خلق الإنسان. وقوله تعالى: {قَرَارٍ} يعني به الرحم {مَّكِينٍ} لاستقراره فيه، فصارت النطفة في أول مبادئ خلقه كالغرس، والرحم في إنشائه كالأرض. ثم ذكر حالة ثالثة هي للولد ثانية فقال تعالى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} [المؤمنون:14] والعلقة هي الدم الطري الذي انتقلت النطفة إليه حتى صارت علقة، وسميت علقة لأنها أول أحوال العلوق، والعلقة في حكم النطفة في أنه لم يستقر لها حرمة ولم يتعلق بها شيء من الأحكام الثلاثة بإجماع الفقهاء فلا تجب فيها غرة، ولا تصير بها أم ولد، ولا تنقضي بها العدة. ثم ذكر حالة رابعة هي للولد ثالثة فقال تعالى: {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} [المؤمنون:14] والمضغة اللحم، وهو أول أحوال الجسم، سميت مضغة؛ لأنها بقدر ما يمضغ من اللحم، وهو الذي تقدم فيه الخلاف فأوجب فيه مالك غرة، وأوجب فيه أبو حنيفة حكومة، ولم يوجب فيه الشافعي شيئًا، ولا تصير به على قوله أم ولد وفي انقضاء العدة به قولان: أحدهما: تنقضي به العدة لما فيه من استبراء الرحم. والثاني: لا تنقضي به العدة كما لا تصير به أم ولد ولا تجب فيه الغرة. ثم ذكر حالة خامسة وهي للولد رابعة قال تعالى: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً} [المؤمنون:14] فاحتمل خلق العظم واللحم على وجهين: أحدهما: أن يكونا في حالة واحدة قد خلق عظمًا كساه لحمًا. والثاني: أن يكون في حالتين خلق في إحداهما عظمًا ثم كساه بعد استكمال العظم لحمًا فيكون اللحم حالة سادسة وهي للولد خامسة. ثم ذكر حالة سابعة هي للولد سادسة فقال تعالى: {ثُمَّ أَنشَانَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون:14] وفيه تأويلان: أحدهما: أنه نفخ الروح فيه، قاله ابن عباس.

والثاني: أنه تميز ذكر أو أنثى قاله الحسن، ومحصول هذه الأحوال يرجع إلى ثلاثة أقسام: مضغة وما قبلها وما بعدها. فأما المضغة وما قبلها فقد ذكرناه، وقلنا: إن ما قبل المضغة لا يتعلق به شيء من الأحكام الثلاثة، وإن المضغة لا يتعلق بها ما سوى الغرة وفي العدة قولان: وأما ما بعد المضغة فتنقضي به العدة وما وجبت فيه الغرة من ذلك صارت به أم ولد، والغرة فيه تختلف بحسب اختلاف أحواله بعد المضغة وله بعدها ثلاثة أحوال: أحدها: أن لا يبين فيه صورة ولا تخطيط الصور فلا تجب فيه الغرة. والثانية: أن يبين فيه إما صورة جميع الأعضاء وإما صورة بعضها كعين أو إصبع أو ظفر فتجب فيه الغرة لبيان خلقه، سواء كانت الصورة ظاهرة للأبصار أو كانت ففيه تظهر بوضعه في الماء الحار. والثالثة: أن يبين فيه التخطيط ولا يبين فيه الصورة فيتخطط ولا يتصور، ففي وجوب الغرة فيه وجهان: أحدهما: لا تجب فيه الغرة لعدم التصوير. والثاني: تجب فيه الغرة، لأن التخطيط مبادئ التصوير. فصل: وإذا ألقت غشاوة أو جلدة شقت فوجد فيها جنينان ففيهما غرتان وكفارتان، ولو ألقت جسدًا عليه رأسان ففيه غرة واحدة فكذلك لو ألقت رأسًا ففيه غرة واحدة لجواز أن يكونا على جسد واحد، ولو ألقت جسدين ففيه غرة واحدة لجواز أن يكون عليهما رأس واحدة، ولو ألقت رأسين وجسدين ففيهما غرتان لانتفاء الاحتمال. فصل: وإذا ألقت عضوًا من جسد خرج باقيه حيًا فله حالتان: أحداهما: أن يموت بعد حياته ففيه دية كاملة يدخل فيها أرش العضو المنفصل عنه قبل ظهوره. والثاني: أن يبقى على حياته فالعضو المنفصل عنه قبل إلقائه إن كان يدًا فمعتبر باختيار أهل العلم بحاله من ثقاب الطب والقوابل، فإن دلت شواهد حاله على انفصاله بعد استقرار الحياة في ففيه نصف الدية اعتبارًا بحال الحي، وإن دلت على انفصاله قبل استقرار حياته ففيه نصف الغرة اعتبارًا بحال الجنين. فصل: وإذا ضربها فتحرك جوفها ثم خمد فلا شيء فيه، وأوجب فيه الزهري غرة، لأن خموده بعد الحركة دليل على تلفه بعد الوجود، وهذا خطأ؛ لأن الحركة يحتمل أن تكون

منه، ويحتمل أن تكون لريح اتفشت، وهكذا لو تحرك جوفها بعد الموت مع ظهور حملها ثم خمد يحتمل الأمرين فصار ما لم يظهر منه شيء مشكوكًا فيه، والغرم لا يجب بالشك. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فإذا ألقته ميتًا فسواءٌ كان ذكرًا أو أنثى. قال المزني: هذا يدل على أن أمته إذا ألقت منه دمًا أن لا تكون به أم ولدٍ لأنه لم يجعله ههنا ولدًا وقد جعله في غير هذا المكان ولدًا وهذا عندي أولى من ذلك". قال في الحاوي: وهذا صحيح، لا فرق في الجنين بين أن يكون ذكرًا أو أنثى في وجوب الغرة فيه، وقيمتها خمس من الإبل على ما سنذكره، ومن الورق إذا قدرت دية النفس ورقًا ستمائة درهم، ومن العين خمسون دينارًا، وذلك عشر دية أمه. وفرق أبو حنيفة في الجنين بين الذكر والأنثى، فأوجب فيه إن كان ذكرًا نصف عشر ديته لو كان حيًا، وإن كان أنثى عشر ديتها لو كانت حية، وهذا وإن كان موافقًا في الحكم فهو مخالف في العلة، وخلافه وإن لم يؤثر في الجنين الحر كان مؤثرًا في الجنين المملوك. والدليل على التسوية بين الذكر والأنثى رواية أبي هريرة "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة". ولم يسأل أذكر أو أنثى، ولو افترقا لسأل ولنقل فدل على استوائهما، لأن حال الجنين في الأغلب مشتبهة وفي الحي ظاهرة فسوى ينهما بصاع من تمر قطعًا للتنازع وحسمًا للاختلاف. فصل: فعلى هذا لو ألقت من الضرب ذكرًا أو أنثى أحدهما ميت والآخر حي ثم مات نظر فإن كان الميت هو الذكر والحي هو الأنثى فعلى الضارب غرة في الجنين ونصف الدية الكاملة في الحي، فإن كان الميت هو الأنثى والحي هو الذكر فعليه غرة في الميت ودية كاملة في الحي، فإن اختلف الضارب والمضروبة في الحي منها، فقالت المضروبة هو الذكر، وقال الضارب: هو الأنثى فالقول قول الضارب مع يمينه لبراءة ذمته حتى يشهد للمضروبة أربع نسوة عدول أن الحي منها هو الذكر فيحكم به والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وكذلكن إن ألقته من الضرب بعد موتها ففيه غرة عبدٍ أو أمةٍ". قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا ضربها فماتت وألقت جنينًا ميتًا فعليه ديتها

وغرة في جنينها، سواء ألقته قبل موتها أو بعده. وقال مالك وأبو حنيفة: تجب فيه الغرة إن ألقته قبل موتها ولا يجب فيه شيء إن ألقته بعد موتها، إلا أن تلقيه حيًا فيموت فتجب فيه ديته احتجاجًا بأمرين: أحدهما: أن انفصاله ميت بعد موتها موجب لسقوط غرمه كما لو ديس بطنها بعد الموت فألقت جنينًا ميتًا لم يضمن إجماعًا وهو بدياسها بعد الموت مخصوص بالجناية وقتله غير مخصوص بها فكان بسقوط الغرم أحق. والثاني: أن الجنين بمنزلة أعضائها لأمرين: أحدهما: اتباعه لها في العتق والبيع كالأعضاء. والثاني: أنه لا يفرد بغسل ولا صلاة كما لا ينفرد به الأعضاء، فلما كانت أروش أعضائها داخلة في ديتها وجب أن تكون غرة جنينها داخلة في ديتها. ودليلنا حديث أبي هريرة قال: اقتتلت امرأتان من هذيل، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فأصابت بطنها فقتلتها فأسقطت جنينًا، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعقلها على عاقلة القاتلة، وفي جنينها غرة عبد أو أمة. والظاهر من هذا النقل أن إلقاء الجنين كان بعد موت، ولو احتمل الأمرين كان في إمساك النبي صلى الله عليه وسلم عن السؤال عنه دليل على استواء الحكم في الحالين، ولو سأل لنقل. ومن القياس: أن كل جناية ضمن بها الجنين إذا سقط في الحياة وجب أن يضمن بها الجنين إذا سقط بعد الوفاة كالذي سقط حيًا ثم مات؛ ولأن الجنين ضمان النفوس دون الأعضاء لأمرين: أحدهما: أنه لا يمتنع أن يجب فيه الغرة، لأن الأصل فيه بقاء الحياة إلى أن يتحقق الموت فيسقط به الإجماع. والثاني: وإن سقطت فيه الغرة فلأن الظاهر من موته بموت أمه والمديسة غير مضمونة فلم يضمن جنينها والمضروبة مضمونة فضمن جنينها. وأما الجواب عن احتجاجهم بأنه كأعضائها فقد منعنا منه بما قدمناه. فأما أتباعه لها في العتق والمبيع فلا يمتنع أن يتميز عنها، وإن تبعها كما يتبعها في الإسلام بعد الولادة ولا يتبعها في الردة بعد الولادة. وأما الغسل والصلاة فهو يغسل وليس في إسقاط الصلاة ما يمنع من انفراده بنفسه كما لا يغسل الشهيد والذمي.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "تورت كما لو خرج حيًا فمات لأنه المجني عليه دون أمة". قال في الحاوي: وهذا صحيح، غرة الجنين موروثة عنه ولا تختص الأم باستحقاقها وبه قال أبو حنيفة ومالك. وقال الليث بن سعد: تكون لأمه ولا تورث عنه كأعضائها، وفيما قدمناه من تمييزه عنها وضمانه كالنفوس دليل عليه. وقال ربيعة: تكون غرة الجنين لأبويه خاصة دون غيرها من ورثته، وجعله كالبعض منهما لخلقه من مائهما، وهذا فاسد، فالمقتول بعد حياته، وإن كان موروثًا لم يخل حال إلقائه من أن يكون قبل موت الأم أو بعده، فإن كان قبل موت الأم فلها ميراثها منه، وإن كان بعد موت الأم فلا ميراث لها منه لاستحقاق الغرة بعد إلقائه، ولا يحجب بالجنين أحد من الورثة، لأنه لم يثبت له حكم الحياة فيكون لأمه إن ورثته ثلث الغرة ولأبيه إن كان حيًا باقيها أو لغيره من ورثته إن كان ميتًا، ولو ألقته حيًا بعد موتها ثم مات ورثها ولم ترثه، فإن أشكل إلقاؤه في حياتها وبعد موتها قطع التوازن بينهما كالغرقى. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وعليه عتق رقبةٍ". قال في الحاوي: وهذا كما قال، يجب الكفارة في الجنين. وقال أبو حنيفة: لا كفارة فيه احتجاجًا بأمرين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم فيه بالغرة ولم يقض فيه بالكفارة، ولو وجبت لأبانها وقضى بها، ولو قضى به لنقل. والثاني: لأنه من الأم بمنزلة أعضائها التي لا يجب فيها كفارة، فكذلك جنينها، ودليلنا أنها نفس آدمي ضمنت بالجناية فوجب أن تضمن بالكفارة كالحي، ولأن الكفارة أخص وجوبًا بالقتل من الدية، لأن السيد يجب عليه بقتل عبده الكفارة ولا تجب عليه القيمة ومن رمى دار الحرب بسهم فقتل به مسلمًا وجبت عليه الكفارة ولم تجب عليه الدية فلما وجب في الجنين الدية فأولى أن تجب فيه الكفارة. فأما الاستدلال بالخبر فإنما كف عن بيان الكفارة فيه لأن الله تعالى قد بينها في قوله: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأًً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء:92] كما بين الدية في قوله صلى الله عليه وسلم: فمن قتل بعده قتيلًا فأهله بين خيرتين إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا العقل، ولم يبين الكفارة تعويلًا على إثباتها في هذه الآية، وأما استدلالهم بأنه كأعضائها فقد أجبنا عنه.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا شيء لها في الأم". قال في الحاوي: وهذا صحيح. لا شيء لأم الجنين في ألم الضرب إذا لم يبن له أثر في بدنها كاللطمة والرفسة لا توجب غرمًا في رجل ولا امرأة، فأما إجهاضها عند ألقائه ففيه قولان حكاهما أبو حامد المروروزي في جامعه: أحدهما: لا شيء لها فيه أيضًا لألم الضرب، لأنه نوع من الألم. والثاني: لها فيه حكومة؛ لأنه كالجرح في الفرج عند خروج الجنين منه فضمن بالحكومة، فلو أقرت بذلك أثر الضرب في بدنها ضمن حكومة الضرب وحكومة الإجهاض. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولمن وجبت له الغرة أن لا يقبلها دون سبع سنين أو ثمانٍ سنين لأنها لا تستغني بنفسها دون هذين السنين ولا يُفرق بينها وبين أمها في البيع إلا في هذين السنين فأعلى". قال في الحاوي: أما الغرة في اللغة فتستعمل على وجهين: أحدهما: في أول الشيء ومنه قيل لأول الشهر غرته. والثاني: في جيد الشيء وخياره ومنه قيل: فلا غرة قومه إذا كان أسرهم، وقد أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم الغرة في دية الجنين فوجب أن يكون إطلاقها محمولًا على أول الشيء وخيار الجنس؛ لأنه ليس إحداهما بأولى أن يكون مرادًا من الآخر فحمل عليهما معًا، وإذا وجب الجمع بينهما كان أول الجنس إذا خرج عن الجيد مردودًا والجيد إذا خرج عن أول السن مردودًا، فإذا اجتمعا معًا في السن والجودة كان اجتماعهما مرادًا؛ وإذا كان كذلك فإن للغرة أو غاية، فأما أوله فسبع سنين أو ثمان؛ لأمرين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعلها حدًا لتعليمه الطهارة والصلاة فقال: علموهم الطهارة والصلاة وهم أبناء سبع". والثاني: أنه يستقل فيها بنفسه؛ ولذلك خير فيها بين أبويه وفرق بينه وبين أمه فلا يقبل من الغرة في الجنين مالها دون سبع سنين؛ لأنه لعدم النفع فيه ليس بغرة وإن كان بأول الشيء من الغرة. وأما غاية سن الغرة فمعتبر بشرطين: أحدهما: أكمل ما يكون نفعًا.

والثاني: أزيد ما يكون ثمنًا وهي قبل العشرين أزيد ثمنًا وأقل نفعًا، وبعد العشرين أكمل نفعًا وأقل ثمنًا، فاقتضى أن تكون العشرون سنة حدًا للغاية؛ لأنها أقرب سن إلى الجمع بين زيادة الثمن وكمال المنفعة فلا يقبل فيما جاوزها ويقبل فيما دونها ويستوي فيها الغلام والجارية، وفرق بعض أصحابنا في غاية السن بين الغلام والجارية فجعل الغاية في سن الغلام خمس عشرة سنة وهي حال البلوغ، والغاية في سن الجارية عشرين سنة، لأن ثمن الغلام بعد البلوغ ينقص وثمن الجارية إلى العشرين، يزيد وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: لما لم يختلفا في أول السن وجب أن لا يختلفا في آخره. والثاني: أن نقصان ثمنه مقابل لزيادة نفعه فتعارضا وتساوا فيهما الجارية والغلام، لأن تأثير السن في الجارية أكثر من تأثيره في الغلام. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وليس عليه أن يقبلها معيبةً ولا خصيًا؛ لأنه ناقصٌ عن الغرة وإن زاد ثمنها بالخصاء". قال في الحاوي: وهذا كما قال، يعتبر في الغرة السلامة من العيوب كلها وإن لم يعتبر في الكفارة من العيوب إلا ما أضر بالعمل فيها للفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن الرقبة في الكفارة مطلقة فجاز أن يلحقها بعض العيوب وفي الغرة مقيدة بما يقتضي السلامة من جميع العيوب، ولذلك جاز في الكفارة من نقص السن ما لم يجز في الغرة. والثاني: أن الكفارة حق الله تعالى تقع فيه المباشرة والغرم عوض لآدمي يعتبر فيه السلامة كما يعتبر السلامة من العيوب في إبل الدية. فأما الخصي والمجبوب فلا يؤخذ في الغرة، لأنه وإن كان أزيد ثمنًا فإنه أقل نفعًا ويجزئ في الغرة ذات الصنعة وغيرها، لأن الصنعة زيادة على كمال الخلقة فلم يعتبر فيها كما لم يعتبر فيها الاكتساب. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وقيمتها إذا كان الجنين حرًا مُسلمًا نصف عُشر دية مسلمٍ". قال في الحاوي: اعلم إن إطلاق الغرة لا ينفي عنها جهالة الأوصاف فاحتيج إلى تقديرها بما ينفي للجهالة عنها لتساوي جميع الديات في الصفة فعدل إلى وصفها بالقيمة؛ لأنها أنفي للجهالة فقومت بنصف عشر الدية خمس من الإبل، أو ستمائة درهم أو

خمسين ديناراً مع وصفها بما قدمنا من السن والسلامة من العيوب فلا يقبل منه بغرة في الجنين الحر المسلم إلا بهذه القيمة، وإنما كان كذلك لأمرين: أثر، ومعنى. فأما الأثر فهو ما روي عن عمر وعلي وزيد رضي الله عنهم أنهم قدروها بهذا القدر الذي لم يخالفوا فيه فكان إجماعاً. وأما المعنى: فهو أنه لما كان الجنين على أقل أحوال الإنسان اعتبر فيه أقل ما قدره الشرع من الديات وهو دية الموضحة، ودية السن المقدرة بخمس من الإبل هي نصف عشر دية النفس فجعل أقل الديات قدراً حداً لأقل النفوس حالاً. فصل: فإذا ثبت تقديرها بنصف عشر الدية فقد اختلف أصحابنا فيما يقوم به على وجهين: أحدهما: وهو قول البصريين إنها تقوم بالإبل؛ لأن الإبل أصل الدية، فإن كانت الجناية على الجنين خطأ محضاً فهي مقدرة بخمس من الإبل أخماس: جذعة وحقة وبنت لبون، وبنت مخاض، وابن لبون، وإن كانت عمد الخطأ فهي مقدرة بخمس من الإبل أثلاث جذعة، وخلفتان ونصف، وحقة ونصف وليس يمكن أن تقوم الغرة بالإبل، لأنها ليست من جنس القيم فوجب أن يقوم الخمس من الإبل الأخماس في الخطأ والأثلاث في عمد الخطأ بالورق، لأنها أصل القيم، فإن بلغت قيمتها في التغليظ ألف درهم وفي التخفيف سبعمائة درهم أخذنا منه غرة عبد أو أمة قيمتها في جناية الخطأ المحض سبعمائة درهم وقيمتها في جناية عمد الخطأ ألف درهم. والوجه الثاني: وهو قول جمهور البغداديين أننا نقدرها بالورق المقدرة بالشرع دون الإبل، لأن الإبل ليست من أجناس القيم ولا هي مأخوذة فتكون عين المستحق، وإذا قومت بالإبل احتيج إلى تقويم الإبل فوجب أن يعدل في تقويم الغرة إلى ما هو أصل في القيم وهي الورق، فعلى هذا تقوم الغرة في الخطأ المحض بستمائة درهم ويزاد عليها في عند الخطأ ثلثها، فتقوم فيه بثمان مائة درهم، وعلى هذا يكون التفريع. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن كان نصرانياً أو مجوسياً فنصف عشر دية نصراني أو مجوسي، وإن كانت أمه مجوسية وأبوه نصرانياً أو أمه نصرانية وأبوه مجوسياً فدية الجنين في أكثر أبوابه نصف عشر دية نصراني ". قال في الحاوي: وجملة ذلك أنه إذا كان في الجنين الناقص نصف عشر الدية الناقصة والكامل ما كمل بالحرية والإسلام وقد مضى، والناقص ما نقص بكفر أو رق، فإذا جرى على الجنين حكم الكفر لكفر أبويه لم يخل حال أبويه من أن تتفق ديتها أو

تختلف، فإن اتفقت دياتهما فكانا نصرانيين أو يهوديين أو مجوسيين فدية اليهودي والنصراني ثلث دية المسلم فتكون قيمة الغرة في الجنين اليهودي والنصراني على مذهب البصريين بعيراً وثلثين أخماساً في الخطأ المحض، وأثلاثاً في عمد الخطأ، وعلى مذهب البغداديين قيمتها مائتا درهم عشر دية المسلم، فتكون قيمة الغرة في الجنين المجوسي على مذهب البصريين ثلث بعير، وعلى مذهب البغداديين أربعين درهماً، والغرة بهذه القيمة معوزة فوجب أن يكون هذا القدر هو المستحق فيها. فصل: وإن اختلفت دية أبويه فكان أحدهما نصرانياً والآخر مجوسياً، فمذهب الشافعي أنه يعتبر بأغلظ أبويه دية وهو النصراني أباً كان أو أماً، فتجب فيه الغرة الواجبة في الجنين النصراني لأمرين: أحدهما: أن موضوع الدية على التغليظ فوجب أن يكون معتبراً بأغلظهما دية كما لو كان أحد أبويه مسلماً، والأخر كافراً اعتبر فيه دية المسلم دون الكافر تغليظاً، وكما يعتبر في الصيد المتولد من بين مأكول وغير مأكول أغلظ حاليه في إيجاب الجزاء وتحريم الأكل. والثاني: أن كمال الدية أصل في ضمان النفوس فلم ينقص منها إلا المتحقق دون المشتبه والمتحقق من النقصان هو حال أغلظهما دية، لأن ما دونه محتمل مشتبه، فلذلك وجب أن يعتبر بالأغلظ الأعلى دون الأقل الأدنى، واعتباره عندي بأقلها دية أولى وأشبه بالأصول لأربعة أمور: أحدها: أن الأصل فيمن لم تتحقق حياته سقوط الغرم إلا ما خصه الشرع من حال الجنين فلم يوجب فيه إلا ما تحققناه وهو الأقل دون ما شككنا فيه من الأكثر، ولذلك اعتبرت قيمة الغرة بأقل الديات دون أكثرها. والثاني: أن الأصل براءة الذمة فلم توجب فيها إلا ما تحققناه. والثالث: أن الأصل في الكفر الإباحة إلا ما حظرته الذمة فلم يعلق بالحظر إلا ما تحققناه. والرابع: أنه قد تقابل فيه إيجاب وإسقاط، فوجب أن يغلب حكم الإسقاط على الإيجاب حكماً كما تسقط الزكاة فيما تولد من بين غنم وظباء تغليباً للإسقاط على الإيجاب والانفصال عما توجه به قول الشافعي ظاهراً إذا حقق والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو جني على أمةٍ حاملٍ فلم تلق جنينها حتى

عمقت أو على ذمية فلم تلق جنينها حتى أسلمت ففيه غرة لأنه جني عليها وهي ممنوعة ". قال في الحاوي: أما جنين الأمة فقد يكون تارة حراً إن كان من سيدها ومملوكاً إن كان من زوج أو زنا، فإن كان حراً ففيه غرة كاملة، سواء ألقته وهي على رقها أو بعد عتقها، وإن كان مملوكاً ففيه عشر قيمة أمة، وخالفت فيه أبو حنيفة وقد ذكره الشافعي في الباب الذي يليه ونحن نستوفي الكلام فيه، فإن أعتقت الأمة بعد إلقاء جنينها لم يؤثر عتقها فيه ووجب فيه عشر قيمتها، وإن أعتقت بعد ضربها وقبل إلقائه عتق بعتقها تبعاً، لأن حمل الحرة حر، ووجب فيه غرة كاملة، سواء كان أكثر من عشر قيمة الأم أو أقل كالحر إذا أعتق بعد الجناية عليه ثم مات وجب فيه دية حر، سواء كانت أكثر من قيمته أو أقل، وللسيد من الغرة أقل الأمرين من قيمة الغرة أو عشر قيمة الأم كما كان له من دية العبد إذا أعتقه بعد الجناية، وقبل موته أقل الأمرين من قيمته أو ديته، فإن كانت الغرة أقلهما أخذها السيد كلها بحق ملكه، وإن كان عشر قيمة الأم أقل أخذ من قيمة الغرة عشر قيمة الأم وكان باقيها لورثة الجنين. فصل: وأما جنين الذمية فإن كان أبوه مسلماً فالجنين مسلماً في الحكم وفيه غرة كاملة وإن كان ذمياً فالجنين ذمي في الحكم، وفيه ما قدمناه من جنين أهل الذمة، فإن أسلمت الذمية أو زوجها بعد إلقاء جنينها لم يؤثر إسلام واحد منهما في الجنين لتقدمه على الإسلام، ووجب فيه ما يجب في الجنين الذمي، وكان ذلك موروثاً بينهما يشترك فيه المسلم والكافر، لأنه موروث في الكفر قبل حدوث الإسلام، وإن أسلمت بعد ضربها وقبل إلقائه أو أسلم زوجها دونها صار الجنين مسلماً بإسلام كل واحد من أبويه، فيجب فيه إذا ألقته بعد الإسلام غرة كاملة دية جنين مسلم؛ لأن الجناية ما استقرت فيه غلا بعد ثبوت إسلامه كما لو أسلم المجني علي بعد الجناية ثم مات وجبت فيه دية مسلم لاستقرارها فيه بعد إسلامه وتكون هذه الغرة الواجبة فيه موروثة للمسلم من أبويه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "في كتاب الديات والجنايات ولا أعرف أن يدفع للغرة قيمة إلا ان يكون بموضع لا توجد فيه. قال المزني: هذا معنى أصله في الدية أنها الإبل لأن النبي صل الله عليه وسلم قضى بها فإن لم توجد فقيمتها فكذلك الغرة إن لم توجد فقيمتها ". قال في الحاوي: أما إذا كانت الغرة موجودة فلا يجوز العدول عنها إلى الإبل ولا

ورق ولا ذهب، سواء قيل في دية النفس إنه مخير بين الإبل والورق والذهب على قوله في القديم، أو قيل: لا يؤخذ فيها إلا الإبل مع وجودها على قوله في الجديد، وإنما كان كذلك للفرق بينهما شرعاً في أن النص لم يرد في الجنين إلا بالغرة، وإنما عدل إلى قيمتها بالاختلاف نفياً للجهالة عنها، والنص وارد في دية النفس بالإبل والورق والذهب فافترقا، فإن عدمت الغرة دعت الضرورة غلى العدول غلى قيمتها كالطعام المغصوب الذي يستحق مثله، فإن عدم المثل عدل إلى قيمته، وفي المعدول غليه من القيمة وجهان بناء على اختلاف الوجهين فيما يقوم به الغرة مع وجودها: أحدهما: وهو قول البغداديين: يعدل عند عدمها غلى الورق إذا قيل غنها تقوم بالورق، فعلى هذا تؤخذ عنها في الخطأ المحض ستمائة درهم وفي عمد الخطأ ثمانمائة درهم. والثاني: وهو قول البصريين: يعدل على الغرة عند عدمها إلى الإبل إذا قيل تقوم بقيمة خمس من الإبل، فعلى هذا يؤخذ في الخطأ المحض خمس من الإبل أخماساً، وفي عمد الخطأ خمس من الإبل أثلاثاً، فإن أعوزت الإبل صار كإعوازها في دية النفس، فهل يعدل إلى قيمتها ما بلغت، أو إلى المقدر فيها من الورق والذهب على ما مضى من القولين؟ القديم منها يعدل غلى المقدر فيجب عنها ستمائة درهم أو خمسون ديناراً يزاد عليها في التغليظ ثلثها، وعلى قوله في الجديد يعدل عنها إلى قيمة خمس من الإبل ما بلغت قيمتها من ورق أو ذهب والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ويغرمها من يغرم ديه الخطأ ". قال في الحاوي: وهذا صحيح؛ لأن العمد المحض في الجناية على الجنين يمتنع لامتناع مباشرته لها، وكانت من بين خطأ محض تتخفف فيه الغرة كما تتخفف ديات الخطأ وبين عمد الخطأ تتغلظ فيه الغرة كما تتغلظ ديات عمد الخطأ، وإذا كان كذلك وجبت الغرة على العاقلة في حالي تخفيفها وتغليظها وأوجبها مالك في مال الجاني بناء على أصله في أن العاقلة لا تتحمل عنده إلا ما زاد على ثلث الدية، والدليل عليه مع ما تقدم من دليل الأصل أن النبي صل الله عليه وسلم قضى بالغرة في الجنين على العاقلة، فقالوا: كيف ندى من لا ضرب ولا أكل ولا صاح ولا استهل، ومثل ذلك بطل، وفي مدة ما تؤديها العاقلة وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي: تؤديها في ثلاث سنين، لأنها دية نفس فشابهت كمال الدية. والثاني: تؤديها في سنة واحدة، لأن قسط العاقلة في كل سنة من دية النفس ثلثها،

والغرة أقل من الثلث فكان أولى أن تؤدى في سنة واحدة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن قامت البينة أنها لم تزل ضمنة من الضربة حتى طرحته لزمه وإن لم تقم بينة حلف الجاني وبرئ ". قال في الحاوي: وجملة مال المرأة في ضمان جنينها ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: أن تدعي على رجل أنه ضرب بطنها حتى ألقت جنيناً ميتاً فينكر الجاني الضرب، فالقول قوله مع يمينه لبراءة ذمته إلا أن تأتي بينة تشهد عليه بضربها فيحكم بها، ويلزمه دية جنينها، وبينتها عليه شاهدان أو شاهد وامرأتان، ولا يقبل منها شهادة النساء المنفردات. والثاني: أن يعترف بضربها وينكر أنه جنينها ويدعي أنها التقطته فالقول قوله مع يمينه لبراءة ذمته إلا أن تقيم بينة على إسقاطه وبينتها شاهدان أو شاهد وامرأتان، أو أربع نسوة عدول، لأنها بينة على ولادة، فإن شهدت البينة أنها أسقطت هذا الجنين الميت يعينه حكم لها بإسقاطه وديته، وإن شهدوا أنها ألقت جنيناً ولم يعينوه في الجنين الذي أحضرته فهذا على ضربين: أحدهما: أن يشهدوا لها بموت الذي ألقته وإن لم يعينوه فيحكم لها بالدية، لأنهم قد شهدوا لها بجنين مضمون وتعيينه لا يفيد. والثاني: أن لا يشهدوا بموته فهذا على ضربيين: أحدهما: أن يكون لمدة لا يعيش لمثلها فيحكم لها بديته. والثاني: أن يكون لمدة لا يجوز أن يعيش لمثلها لم يقبل قولها في موته، لأن الذي أحضرته ميتاً لم يشهدوا لها بإسقاطه والذي شهدوا بإسقاطه لم يشهدوا لها بموته. والثاني: أن يعترف بضربها وإسقاط جنينها فهذا على ضربين: أحدهما: أن تلقيه عقيب ضربها، فالظاهر أنها ألقته ميتاً من ضربة وإن جاز أن تلقيه من غير فعليه دية الجنين، فإن ادعى أنها ألقته من غير الضرب من طلق أو شرب دواء كان القول قولها مع يمينها؛ لأن الظاهر معها. والثاني: أن تلقيه بعد زمان طويل من ضربها، فإن لم تزل مضنية مرضية من وقت الضرب إلى وقت الإسقاط فالظاهر من إلقائه ميتاً أنه من الضرب، فتجب دينه على الضارب فإن ادعى عليها إسقاطه من غيرها أحلفها وضمن ديته، فإن سكن ألمها بعد الضرب وألقته بعد زوال الألم فالظاهر أنها ألقته من غير الضرب فلا تلزمه، فإن ادعت أنها ألقته من ضربه أحلفته، وليس يحتاج في هذه الأحوال كلها عند التنازع غلى بينة؛ لأن

البينة تشهد بالظاهر وحكم الظاهر معروف، ولكن لو ادعت بعد تطاول المدة أنها ألقته من ضربه وأنكرها، فإن قامت البينة على أنها لم تزل مضنية مريضة حتى ألقته كان القول قولها، فإن أنكر أن يكون من ضربه أحلفها، وإن لم تقم البينة بمرضها فالقول قوله ولها إحلافه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن صرخ الجنين أو تحرك ولم يصرخ ثم مات مكانه فديته تامة وإن لم يمت مكانه فالقول قول الجاني وعاقلته إنه مات من غير جناية ". قال في الحاوي: وهذا كما قال، إذا ألقت من الضرب جنيناً حياً ثم مات ففيه الدية كاملة، إن كان ذكراً فمائة من الإبل، وإن كان أنثى فخمسون من الإبل وحياته تعلم بالاستهلاك تارة وبالحركة القوية أخرى، والاستهلال هو الصياح والبكاء، وفي معناه العطاس والأنين. وأما الحركة القوية فمثل ارتضاعه، ورفع يده، وحطها، ومد رجله، وقبضها، وانقلابه من جنب إلى جنب إلى ما جرى هذا المجرى من الحركات التي لا تكون إلا في حي. فأما الاختلاج والحركة الضعيفة فلا تدل على الحياة، لأن لحم الذبيحة قد يختلج ولا يدل على بقاء الحياة، وإنما تثبت حياته بأحد أمرين: استهلال، أو حركة قوية. وبه قال أبو حنيفة وأكثر الفقهاء. وقال مالك: تثبت حياته بالاستهلال ولا تثبت بالحركة. وبه قال سعيد بن المسيب والحسن وابن سيرين، واختلفوا في العطاس هل يكون استهلال؟ فأثبته بعضهم ونفاه آخرون، واستدلوا على أن ماعدا الاستهلال لا تثبت به الحاية بما روي عن النبي صل الله عليه وسلم أنه قال: "إذا استهل المولود صلي عليه وورث "فخص الاستهلال بحكم الحياة فدل على أنه لا يثبت بغيره ولأنه لما استوي حكم قليل الاستهلال وكثيره في ثبوت الحياة وجب أن يستوي حكم قليل الحركة وكثيرها في عدم الحياة. ودليلنا: هو أن ما دل على حياة الكبير دل على حياة الصغير كالاستهلال، ولأن من دل الاستهلال على حياته دلت الحركة على حياته كالكبير.

فأما الخبر ففيه نص على الاستهلال وتنبيه على الحركة، وأما قليل الحركة فما خرج عن حد الاختلاج دل على الحياة من قليل كثير، وما كان اختلاجاً فليس بحركة فقد استوي حكم الحركة في قليلها وكثيرها. فصل: فإذا ثبت أن حكم الاستهلال والحركة في ثبوت الحياة سواء فمتى كان الاستهلال بعد انفصاله من أنه تثبت حياته، وإن استهل قبل انفصاله عند خروج بعضه منها وبقاء بعضه معها ثم انفصل منها لم يثبت له حكم الحياة ولم تكمل ديته. وبه قال أبو حنيفة: وقال أبو يوسف، ومحمد، وزفر والحسن بن صالح: إن علمت حياته عند خروج أكثره ثبت له حكم الحياة في الميراث وكمال الدية، وإن كان عند خروج أقله لم يثبت اعتباراً بالأغلب، وهذا خطأ من وجهين: أحدهما: أنه إن يرى على ما قبل الانفصال حكم الحياة وجب أن يستوي حكم أقله وأكثره في ثبوتها للعلم بها، وإن لم يجر حكمها على القليل لم يجر على أكثره للاتصال وعدم الانفصال؛ ولأنه لما استوي وخرج أقله وأكثره في بقاء العدة وجب أن يستويا في الميراث وكمال الدية. فصل: فإذا صح ما ذكرنا وثبتت حياته بعد انفصاله باستهلال أو حركة ثم مات فلا يخلو حال موته من أحد أمرين: إما أن يكون عقيب سقوطه، أو متأخراً عنه، فإن مات عقيب سقوطه فالظاهر من موته أنه كان من ضرب أمه، لأنه لما تعلق بالضرب حكم إسقاطه تعلق به حكم موته إلا أن تحدث عليه بعد سقوطه جناية فيصير موته منسوباً إلى الجناية الحادثة دون الضرب المتقدم، مثل أن تنقلب عليه أمه بعد إلقائه فيصير موته بانقلاب أمه عليه فتجب ديته عليها تتحملها عاقلتها إن لم تعمد ذلك، ولا ترثه، لأنها صارت قاتلة، وعليها الكفارة، ولو عصرته برحمها عند خروجه ثم مات بعد انفصاله لم تضمنه وكانت ديته على الضارب، لأن عصرة الرحم قل ما يخلو منها مولود ووالدة. ولو جرحه جارح بعد سقوطه كانت ديته على جارحه دون ضارب أمه. فإن قيل فهلا كان كالجارحين بضمانه معاً؟ قيل: لأن جناية الضارب سبب وجناية الجارح مباشرة واجتماعهما يوجب تعليق الحكم بالمباشرة دون السبب، فلو اختلف ضارب الأم ووارث الجنين في موته بعد سقوطه فادعى الوارث موته بالضرب المتقدم وادعى الضارب موته بجناية حدثت فالقول قول الوارث مع يمينه، والضارب ضامن لديته، لأننا على يقين من ضربه وفي شك من جناية غيره، فلو أقام الضارب البينة أنه مات بجناية غيره برئ من ديته بالبينة ولم يحكم

بها على الجاني، لأن الوارث مبرئ للجاني ومكذب للبينة بمطالبة الضارب، فهذا حكمه إذا مات عقيب سقوطه. فصل: فأما إذا تأخرت فمات بعد يوم فما زاد نظر في حاله مدة حياته، فإن لم يزل فيها ضمناً مريضاً حتى مات فالظاهر من موته أنه بضربه فعليه الغرة. والثاني: أن يكون مدة حياته ساكناً سليماً، فالظاهر من موته أنه من غير الضرب المتقدم، لأنه قد يموت من غير ضرب فلا شيء على الضارب، فإن ادعى الوارث عليه موته من ضربه أحلفه وبرئ بعد يمينه، ولو اشتبهت حاله مدة حياته هل كان فيها ضمناً مريضاً وساكناً سليماً سئل عنه أهل الخبرة من قوابل النساء، لأنهن بعلل المولود أخبر من الرجال، فإن شهدن بمرضه ضمن الضارب ديته، وإن شهدت بصحته لم يضمنها. قال الربيع: وفيه قول آخر إنه لا تقبل فيه إلا شهادة الرجال، لأنه قد تعرفه منهم من يعرفه، فمن أصحابنا من أثبته قولاً للشافعي ومنهم من أنكره ونسبه إلى الربيع فلو أدعى الوارث مرضه في مدة حياته ليكون الضارب ضامناً لديته وادعى الضارب أنه كان صحيحاً فيها ليبرأ من ديته فالقول قول الضارب مع يمينه، لأن الأصل براءة ذمته ولا ضمان عليه إلا أن يقيم الوارث البينة بمرضه فيحكم بعد إقامتها بمرضه، ويصير القول قول الوارث مع يمينه أنه مات من الضرب ويضمن الضارب ديته، ويجوز أن يشهد بمرضه النساء المنفردات على الظاهر من مذهب الشافعي؛ لأنها حالة يشهدها النساء وهو بمرض المولود أعرف من الرجال، وفيه تخريج قول آخر للربيع إنه لا يسمع فيه إلا شهادة الرجال، إما حكاية عن الشافعي أو تخريجاً عن نفسه على ما قدمناه. فصل: ولو اختلفنا في استهلال المولود فادعاه الوارث وأنكره الضارب جاز أن يقبل فيه شهادة النساء المنفردات كما يقبل في الولادة، لأنها حال لا يكاد يحضرها الرجال. فإن شهدن باستهلاله وحياته قضى على الضارب بديته تتحملها عنه العاقلة، مائة من الإبل إن كان ذكراً أو خمسون من اقبل إن كان أنثى، فلو أقام الضارب البينة أنه سقط ميتاً ولم يستهل حكم ببينة الاستهلال، لأنها تثبت ما نفاه غيرها، وقد يجوز أن يقف على الاستهلال بعض الحاضرين دون بعض فغلب حكم الإثبات على النفي، وإن عدمت البينة لم يخل حال الضارب وعاقلته عند التناكر من ثلاثة أقسام: أحدها: أن ينكر الضارب والعاقلة معاً حياة الجنين ويدعو أنه سقط ميتاً وقد ادعى الوارث حياته، فالقول قول الضارب وعاقلته مع إيمانهم أنه سقط ميتاً؛ لأن الأصل براءة الذمة وأنه لم يستقر للجنين حكم الحياة، فإذا اختلفوا وجبت الغرة دون الدية. والثاني: أن يعترف العاقلة بحياة الجنين وينكرها الضارب، فتتحمل العاقلة دية

كاملة، ولا يمين على الضارب، لأن وجوب الدية على العاقلة المعترفة بها. والثالث: أن يعترف الضارب بحياة الجنين وتنكرها العاقلة فلا تلزم العاقلة ما اعترف به الجاني لما قدمناه من قول النبي صل الله عليه وسلم: "لا تحمل العاقلة عمداً ولا عبداً ولا صلحاً ولا اعترافاً "وإذا كان كذلك توجهت اليمين على العاقلة يستحقها الضارب دون وارث الجنين؛ لأنه يصل إلى الدية من الضارب، وإنما سقط بإنكارهم تحملها من الضارب فلذلك كان هو المستحق لإحلاف العاقلة دون الوارث، فإذا حلفوا وجبت عليهم الغرة، وقيمتها خمس من الإبل هي نصف عشر دية الذكر وعشر دية الأنثى، وتحمل الضارب باقي الدية، فإن كان الجنين ذكراً لزمه تسعة أعشار ديته ونصف عشرها، وهو خمسة وتسعون بعيراً، وإن كان أنثى لزمه تسعة أعشار ديتها وهو خمسة وأربعون بعيراً وعلى قياس هذا ما عداه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو خرج حياً لأقل من ستة أشهر فكان في حال لم يتم لمثله حياة قط ففيه الدية تامة وإن كان في حال تتم فيه لأحد من الأجنة حياة ففيه الدية. قال المزني: هذا سقط من الكاتب عندي إذا أوجب الدية لأنه بحال تتم لمثله الحياة أن تسقط إذا كان بحال لا تتم لمثله حياة ". قال في الحاوي: وصورتها في امرأة ألقت من الضرب جنيناً متحركاً فحركته ضربان: حركة اختلاج، وحركة حياة، فحركة الاختلاج لا تجري عليها أحكام الحياة، وتجب فيه الغرة دون الدية، وحركة الحياة تجري عليها أحكام الحياة ويجب فيها الدية والفرق بين حركة الاختلاج، وحركة الحياة، أن حركة الاختلاج سريعة تتكرر كالرعشة في اليد، وتكون في أعضاء الحركة وغيرها. وحركة الحياة بطيئة لا يسرع تكرارها وتختص بأعضاء الحركة دون غيرها فإذا كان في الجنين حركة حياة كملت فيه دية الحي، وجرى عليه في الميراث حكم الحياة، سواء ألقته لستة أشهر فصاعداً في زمان لا يتم حياة مثله. فأما المزني فإنه اعترض في هذه المسألة ونسب الكاتب إلى الغلط، وقال إذا أوجب الشافعي فيه الدية إذا كان في حال تتم لمثله حياة اقتضى أن لا تجب فيه الدية إن كان في حال لا تتم لمثله حياة، وليس يخلو اعتراضه هذا من أحد أمرين: إما أن يكون مقصوراً على تغليط الكاتب وسهوه في النقل وأن الشافعي قد أفصح بذلك في كثير من كتبه، وليس بمنكر أن يذكر قسمين ويجيب عنهما بجواب واحد لاشتراكهما في معناه. وإما أن يكون معترضاً بذلك في الجواب ويرى أنه إذا لم تتم لمثله حياة لم تجب

فيه الدية فهو خطأ منه فيما خالف فيه مذهب صاحبه من وجهين: أحدهما: أنه استوي في الكبير حال ما تطول حياته بالصحة وحال من أشفي على الموت بالمرض في وجوب الدية والقود لاختصاصه بإفاته حياة محفوظة الحرمة في قليل الزمان وكثيره وجب أن يستوي حال الجنين فيمن تتم حياته أو لا تتم في وجوب الدية، لأنه قد أفات حياة وجب حفظ حرمتها في قليل الزمان وكثيره. والثاني: أن وجوب الغرة في الجنين إنما كانت لأنه لم يعلم حياته عند الجناية وجاز أن يكون ميتاً قبلها، وإذا سقط حياً تحققنا وجوب عند الجناية فاستوي حكم قليلها وكثيرها. مسألة: قال المزني رضي الله عنه: "وقد قال: لو كان لأقل من ستة أشهر فقتله رجل عمداً فأراد ورثته القود فإن كان مثله يعيش اليوم أو اليومين ففيه القود ثم سكت. قال المزني كأنه يقول: إن لم يكن كذلك فهو في معنى المذبوح يقطع باثنين أو المجروح تخرج منه حشوته فتضرب عنقه فلا قود على الثاني ولا دية وفي هذا عندي دليل وبالله التوفيق ". قال في الحاوي: وهذه مسألة أوردها المزني احتجاجاً لنفسه وهي حجاج عليه؛ لأن الشافعي قد أوجب القود والدية في المقتول لأقل من ستة أشهر إذا كانت فيه حياة قوية وإن لم تتم ولم يدم؛ لأنه لا يجوز أن يعيش في جاري العادة لأقل من ستة أشهر فبطل به ما وطنه المزني من غلط الناقل وما ذهب إليه من مخالفة الشافعي، ثم نشرح المذهب فيها فنقول: لا تخلو حياة الملقي لأقل من ستة أشهر من أن تكون قوية أو ضعيفة، فإن كانت قوية تعيش منها اليوم واليومين فحكمه حكم غيره من الأحياء: إن قتله القاتل عمداً فعليه القود، وإن قتله خطأ فعليه الدية، وإن ضمنه الثاني بقود أو دية سقط ضمانه عن الضارب فلم يلزمه فيه غرة ولا دية، وكان مختصاً بضرب الأم وإجهاضها فلا يلزمه أرش ضربها إلا أن تؤثر في جسدها، وفي وجوب الحكومة عليه في إجهاضها قولان تقدما. فإن كانت حياة الجنين ضعيفة لا يعيش بها أكثر من ساعة أو بعضها فهو في حكم التالف بالضرب المتقدم دون القتل الحادث، فتكون ديته على الضارب ولا يلزمه فيه قود بحال، ولا شيء على قاتله، ويكون في حكم من قطع مذبوحاً باثنين أو ضرب عنق مبقور البطن فخرج الحشوة، فيكون الأول قاتله دون الثاني، فيعزر ولا يلزمه غرم ولا كفارة، فلو وقع التنازع في حياته عنه قتل الثاني هل كانت قوية يضمنها الثاني أو ضعيفة يضمنها

الأول؟ فالقول فيه قول الثاني مع يمينه، والضمان على الأول دونه، لأننا على يقين من ضمان الأول بالضرب وفي شك من ضربان الثاني بالقتل، ولأن الأصل ضعف الحياة حتى يعلم قوتها. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو ضربها فألقت يدًا وماتت ضمن الأم والجنين لأني قد علمت أنه قد جني على الجنين". قال في الحاوي: إذا ألقت من الضربة يدًا وماتت ضمن الأم والجنين، ضمن دية نفسها، وغرة جنينها، وإن لم تلقه، لأن إلقاء يده دليل على أن في بطنها جنينًا، لأن اليد لا تخلق على انفراد حتى تكون من جسد، فلو ألقت بعد اليد جنينًا نظر فيه، فإن لم تكون له يد فتلك اليد منه فتجب فيه غرة واحدة، لأنه جنين واحد، إن كان الجنين كامل اليدين فتلك اليد من جنين آخر فيلزمه غرمان وكفارتان، لأنهما جنينان. فإن قيل: فيجوز أن تكون تلك اليد يدًا زائدة قيل محل الأعضاء الزائدة مخالف لمحل الأعضاء التي من أصل الخلقة، فإن كان لها في الجنين أثر الزيادة فليس فيه إلا غرة واحدة وإن لم تكن فيه أثر الزيادة ففيه غرمان، وإن احتمل الأمرين ففيه غرة واحدة، لأنها يقين ثم ينظر في إلقاء اليد، فإن ألقتها قبل موتها ورثت من الغرة، وإن ألقتها بعد موته لم ترث منها، ولو ألقت اليد قبل موتها والجنين بعد موتها، فإن كانت اليدين من الجنين ففيه غرة واحدة ترث منها، وإن كانت من غيره ففيها غرتان ترث من الأولى ولا ترث من الثانية. فصل: ولو عاشت المضروبة بعدم إلقاء اليد ولم تلق بعد اليد جنينًا لم يضمن الضارب إلا يد جنين بنصف الغرة؛ لأن يد الحي مضمونة بنصف ديته فضمنت يد الجنين بنصف غرته، ولا يضمن باقي الجنين؛ لأننا لم نتحقق تلفه. فصل: وإذا اصطدمت امرأتان حاملتان فماتتا وألقت كل واحدة منهما جنينًا ميتًا فموت كل واحدة منهما وإلقاء جنينها بصدمتها وصدمة صاحبتها فعلى كل واحدة منهما نصف دية صاحبتها ونصفها الباقي هدر، لأنه في مقابلة جنايتها على نفسها، فأما جنيناهما فجنين كل واحدة منهما مضمون على أمه وعلى صاحبتها، فيلزم كل واحدة منهما نصف غرة في جنينها ونصف غرة في جنين صاحبتها، فتصير كل واحدة منهما ملتزمة لغرة كاملة، ولا

باب جنين الأمة

ينهدر شيء من غرة الجنين وإن أنهدر النصف من دية الأمين، يجب عليها ثماني كفارات، لأنهما قد اشتركا في قتل أربعة فلزم عن كل واحدة منهم كفارتان لاشتراك اثنين فيه. فصل: وإذا طفرت الحامل فألقت جنينًا ميتًا فإن لم تخرج الطفرة عن عادة مثلها من الحوامل ولا كان مثلها مسقطًا للأجنة لم تضمنه، وإن خرجت عن عادة مثلها وكانت الأجنة تسقط بمثل طفرتها ضمنته بالغرة والكفارة، ولم ترث من الغرة؛ لأنها قاتلة، وهكذا لو شربت الحامل دواءً فأسقطت جنينًا ميتًا روعي حال الدواء فإن زعم علماء الطب ان مثله قد يسقط الأجنة ضمنت جنينها، وإن قالوا: مثله لا يسقط الأجنة لم تضمنه، وإن أشكل وجوزوه ضمنته؛ لأن الظاهر من سقوطه أنه من حدوث شربه، ولو امتنعت الحامل من الطعام والشراب حتى ألقت جنينها وكانت الأجنة تسقط من جوع الأم وعطشها نظر، فإن دعتها الضرورة إلى الجوع والعطش للإعواز والعدم فلا ضمان عليها، وإن لم تدعها ضرورة إليه ضمنته، ولو جاعت وعطشت من صوم فرض أو تطوع ضمنت، لأنها مع الخوف على جملها مأمورة بالإفطار منهية عن الصيام والله أعلم بالصواب. باب جنين الأمة مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وفي جنين الأمة عُشر قيمة أمه يوم جني عليها ذكرًا كان أو أنثى، وهو قول المدنيين. قالي المُزَني: القياس على أصله عُشر قيمة أمه يوم تلقيه لأنه قال: لو ضربها أمة فألقت جنينًا ميتًا ثم أعتقت فألقت جنينًا آخر فعليه عشر قيمة أمه لسيدها وفي الآخر ما في جنين حرة لأنه ولورثته. قال الشافعي: قال محمد بن الحسن للمدنيين: أرأيتم لو كان حيًا أليس فيه قيمته وإن كان أقل من عُشر ثمن أمه ولو كان ميتًا فعُشر أمه فقد أغرمتم فيه ميتًا أكثر مما أغرمتم فيه حيًا. قال الشافعي رحمه الله: أليس أصلك جنين الحرة التي قضى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكر عنه أنه سأل أذكر هو أم أنثى؟ قال: بلى قلت: فجعلت وجعلنا فيه خمسًا من الإبل أو خمسين دينارًا إذا لم يكن غرة؟ قال: بلى قلت: لو خرجا حيين ذكرًا وأنثى فماتا؟ قال: في الذكر مائة وفي الأنثى خمسون. قلت: فإذا زعمت أن حكمهما في أنفسهما مختلفان فلم سويت بين حكمهما ميتين أما يدلك هذا أن حكمهما ميتين حكم غيرها ثم قست على ذلك جنين الأمة فقلت: إن كان ذكرًا فنصف عُشر قيمته لو كان حيًا وإن كان أنثى فعُشر قيمتها لو كانت حية أليس قد جعلت عقل الأنثى من أصل عقلها في الحياة وضعف عقل الرجل من أصل عقله في الحياة لا أعلمك إلا نكست القياس. قال:

فأنت قد سويت بينهما من أجل أني زعمت أن أصل حكمهما حكم غيرهما لا حكم أنفسهما كما سويت بين الذكر والأنثى من جنين الحرة فكان مخرج قولي معتدلًا فكيف يكون الحكم لمن يخرج حيًا". قال في الحاوي: في جنين الأمة إذا كان مملوكًا عشر قيمة أمه ذكرًا كان أو أنثى ويكون معتبرًا بأمه لا بنفسه. وقال أبو حنيفة: جنين الأمة معتبر بنفسه يفرق بين الذكر والأنثى، فإن كان ذكرًا وجب فيه نصف عشر قيمته، وإن كان أنثى وجب فيها عشر قيمتها. واستدل على اعتباره بنفسه أمرين: أحدهما: أنه لما وقع الفرق في جنين الأمة بين أن يكون مملوكًا أو حرًا وفي جنين الكافرة أن يكون مسلمًا أو كافرًا دل على اعتباره بنفسه لا بغيره. والثاني: أنه من أبويه فلما لم يعتبر بأبيه لم يعتبر بأمه، وإذا سقط اعتباره بهما وجب اعتباره بنفسه. واستدل على الفرق بين الذكر والأنثى بأمرين: أحدهما: أنه لما وقع الفرق في إلقائه حيًا بين الذكر والأنثى وجب أن يقع الفرق بينهما في إلقائه ميتًا. والثاني: أنه موروث واستحقاق التوارث يوجب الفرق بين الذكر والأنثى كالوارث. والدليل على اعتباره بغيره شيئان: أحدهما: أنه لما اعتبرت قيمة القيمة وليس له قيمة؛ لأنه إن قوم ميتًا لم تكن الميت قيمة، وإن قوم حيًا لم تكن له حياة فوجب أن يعدل عن تقويمه عند استحالتها إلى تقويم أصله كما يجعل العبد أصلًا للحر في الحكومات، ويجعل الحر أصلًا للعبد في المقدرات. والثاني: أنه لو قوم بنفسه لوجب استيفاء قيمته كسائر المتلفات، ولما لم يستوفِ قيمته لاعتباره بغيره كان أصل التقويم أولى أن يكون معتبرًا بغيره. والدليل على التسوية بين الذكر والأنثى شيئان: أحدهما: أن حرمته حرًا أغلظ من جرمته مملوكًا، فلما استوي الذكر والأنثى في أغلظ حاليه حرًا كان أولى أن يستوي في أخف حاليه مملوكًا.

والثاني: أن الفرق بين الذكر والأنثى يوجب تفضيل الذكر على الأنثى كالديات والمواريث وهم لا يفضلونه، وتفضيل الأنثى على الذكر وإن كان مذهبهم مفضيًا إليه مدفوع بالشرع فوجبت التسوية بينهما لامتناع ما عداه. فأما الجواب عن استدلالهم بوقوع الفرق بين حريته ورقه وبين إسلامه وكفره فهو الدليل عليهم، لأنه لما اعتبر إسلامه وكفره وحريته ورقه بغيره لا بنفسه جاز مثله في بدل نفسه. وأما الجواب عن استدلالهم بأنه لما لم يعتبر بأبيه لم يعتبر بأمه فهو أنه لما كان في الملك تابعًا لأمه دون أبيه وجب في التقويم أن يكون تابعًا لها دونه. وأما الجواب عن افتراق الأنثى والذكر في الحي فهو زوال الاشتباه في الحياة أوقع الفرق بينهما، بوقوع الاشتباه في الموت أوجب التسوية بينهما كالحر، وهو الجواب عن وقوع الفرق بينهما في الوارث دون الموروث. فصل: فأما محمد بن الحسن فإنه استدل لنصرة مذهبه وإبطال مذهب مخالفه بأن اعتباره بغيره يفضي إلى تفضيل الميت على الحي، لأنه قد يكون قيمة أمه ألف دينار عشرها مائة دينار، وقيمته في حياته دينار واحد، فيجب فيه ميتًا مائة دينار، ويجب فيه حيًا دينار واحد، وما أفض إلى هذا كان باطلًا؛ لأن الحي مفضل على الميت كالحر فيقال له وقولكم مفضٍ إلى مخالفة الأصول من وجهين: أحدهما: أنكم فضلتم الأنثى على الذكر لأنكم أوجبتم في الأنثى عُشر قيمتها وفي الذكر نصف عشر قيمته، والأصول توجب تفضيل الذكر على الأنثى. والثاني: أنكم أوجبتم فيمن كثرت قيمته أقل مما أوجبتموه فيمن قلت قيمته فقلتم في الذكر إذا كان قيمته خمسين دينارًا فيه نصف عشرها ديناران ونصف، وفي الأنثى إذا كانت قيمتها أربعين دينارًا فيها عشر أربعة دنانير، والأصول توجب زيادة الغرم عند زيادة القيمة فلم تنكر على نفسها وعلى أصحابك مخالفة أصول الشرع عن اختلاف الجهات عندنا وعندكم فقلنا وقلتم مع اتفاقنا وإياكم على تفضيل الحر على العبد: إن الغاصب لو مات في يد العبد المغصوب وجبت فيه قيمته وإن زاد على دية الحر وإن كان أنقص حالًا من الحر، ثم قلتم وحكم القتل أغلظ أنه لو قتله نقص من قيمته عن دية الحر فأوجبتم فيه غير مقتول أكثر مما أوجبتم فيه مقتولًا ولم تنكروا مثل هذا عند اختلاف الجهتين كذلك لم يمنع مثله في الجنين عند اختلاف الجهتين. فصل: فإذا ثبت أن في جنين الأمة عشر قيمه أمه فمذهب الشافعي أن الاعتبار بقيمتها يوم

ضربها لا يوم إسقاطه وهو قول جمهور أصحابه. وقال المزني: تعتبر قيمتها يوم إسقاطه وبه قال أبو سعيد الإصطخري احتجاجًا بأمرين: أحدهما: وهو احتجاج المزني أنه لو ضربها ثم أعتقت وألقت من ضربه جنين أحدهما قبل العتق والآخر بعده وجب في الجنين الذي ألقته قبل العتق عشر قيمتها وفي الجنين الذي ألقته بعد العتق غرة فدل على الاعتبار بوقت إلقائه لا وقت الضرب. والثاني: وهو احتجاج الإصطخري أن الجناية إذا صارت نفسًا كان الاعتبار ببدلها وقت استقرارها كالجناية على العبد إذا أعتق وعلى الكافر إذا أسلم. وهذا خطأ، لأن سراية الجناية إذا لم تتغير بحال حادثة كانت معتبرة بوقت الجناية دون استقرار السراية كالعبد إذا جني عليه ثم سرت إلى نفسه مع بقاء رقه، اعتبرت قيمته وقت الجناية دون استقرارها، ولو تغيرت حاله فأعتق قبل موته اعتبر بها وقت استقرارها، كذلك الجنين إذا لم يتغير حاله اعتبر وقت الجناية، وإن تغيرت اعتبر به وقت الاستقرار وفي هذا دليل وانفصال. فصل: فإذا تقرر هذا تفرع عليه أن يضرب بطن حامل حربية فتسلم ثم تلقي جنينها ميتًا وتموت بعده، فعلى مذهب الشافعي لا يضمنها ولا يضمن جنينها، اعتبارًا بوقت الجناية أنها كانت غير مضمونة، وعلى مذهب المزني يضمن جنينها ولا يضمن نفسها، لأنه يعتبر جنينها بوقت الولادة وقد صارت مضمونة وتعتبر نفسها بوقت الجناية وقد كانت غير مضمونة، فإن قيل: فكيف يضمن الجناية عند سرايتها في الجنين إذا كانت هدرًا في الابتداء. قيل: لأن الجناية على الجنين لا تكون إلا بالسراية إليه دون المباشرة فصارت السراية كالمباشرة في غيره وهو مقتضى تعليل المزني وإن كان بعيدًا. ولو ارتدت حامل فضرب بطنها ثم أسلمت فألقت جنينًا ميتًا ثم ماتت ضمن جنينها ولم يضمن نفسها على المذهبين معًا بخلاف الحربية؛ لأن جنين المرتدة مضمون لا يجري عليه حكم الردة بخلاف أمه وجنين الحربية كأمه. فصل: وإذا ضرب بطن أمة حامل لمملوك فأعتقها السيد ثم ألقت جنينًا ميتًا ففيه على الضارب غرة عبد أو أمة لاستقرار الجناية فيه بعد حريته، وللسيد منها أقل الأمرين من عشر قيمة أمه أو من الغرة كما لو أعتق عبده وقد جني عليه كان للسيد أقل الأمرين من قيمته أو ديته، فإن كانت الغرة أقل أخذها ولا شيء لوارث الجنين، وإن كانت عشر قيمتها أقل أخذها من قيمة الغرة، وكان باقي الغرة لوارث الجنين، فإن لم يكن له وارث

مناسب عاد إلى السيد وارثًا بالولاء. فصل: وإذا وطئ الحر أمة غيره بشبهة وأتت بولد كان ولده منها حرًا، وعليه قيمته يوم ولد للسيد، ولأنه استهلك رقه عليه بشبهة، فإن ألقته ميتًا فلا شيء على الواطئ تغليبًا لاستهلاكه بالموت، فلو ضرب ضارب بطنها فألقت جنينًا ميتًا كان مضمونًا على الضارب بغرة عبد أو أمة للواطئ صار مضمونًا على الواطئ بعشر قيمة أمة للسيد، أما الغرة فإنما وجبت فيه لأنه حر فكانت لأبيه الواطئ دون السيد، وصار الواطئ مستهلكًا لرقه على السيد ولولائه لأخذ من الجاني عشر قيمة أمه فضمن الواطئ، ذلك للسيد، وإن كان كذلك لم تخل الغرة وعشر قيمة أمه من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يستويا لا يفضل أحدهما على الآخر فللسيد أن ينفرد بأخذها من الجاني ولا شيء فيها للواطئ ولا عليه، فإن أراد الواطئ أن يستوفيها من الجاني ويعطيها للسيد أو غيره كان ذلك له، لأن الغرة له وعشر القيمة عليه. والثاني: أن تكون الغرة أكثر من عشر القيمة فللسيد أن يأخذ منها عشر القيمة ويأخذ الواطئ فاضلها. والثالث: أن يكون عشر القيمة أكثر فللسيد أن يأخذها ويرجع على الواطئ بالباقي من عشر القيمة. فصل: وإذا زنا المسلم بحربية كان ولدها منه كافرًا، لأنه لم يلحق به في نسبه فلم يلحق به في دينه، ولو ضرب بطنها فألقت جنينًا ميتا كان هدرًا لا يضمن كأمه، ولو وطئ المسلم حربية بشبهة كان ولدها مسلمًا؛ لأنه لما لحق به في نسبه لحق به في ديته، فلو ضرب بطنها فألقت جنينًا ميتًا كان مضمونًا على الضارب بغرة الجنين المسلم، فلو وقع التنازع في جنينها من وطء المسلم هل هو من زنا أو من وطء شبهة فادعت الأم الحربية أنه من وطء شبهة، فإن أكذبها الضارب وعاقلته، وقالوا: هو من زنا فالقول قولهم مع أيمانهم، ولا شيء عليهما؛ لأن الأصل براءة ذمتهم، فإن صدقها الضارب وكذبتها عاقلته ضمن الضارب جنينها دون العاقلة، وحلفت العاقلة للضارب دون الأم فبرئوا من الغرم، وإن صدقها العاقلة وكذبها الضارب ضمنت العاقلة جنينها ولا يمين على الضارب في إنكاره لتحمل العاقلة عنه. فصل: وإذا كانت الأمة الحامل مملوكة بين شريكين فأعتق أحدهما حصته منها وضرب ضارب بطنها فألقت جنينًا ميتًا لم يخل حال الشريك المعتق من أحد أمرين: إما أن يكون

موسرًا أو معسرًا فإن كان معسرًا أعتقت حصته منها ومن جنينها لأنه عتق الأم يسري إلى حملها، وكان الباقي منها ومن جنينها موقوفًا للشريك فيها، فيعتبر حينئذٍ حال الضارب فإنه لا يخلو من أحد ثلاثة أقسام: إما أن يكون هو المعتق أو يكون الشريك الذي لم يعتق، أو يكون أجنبيًا. فإن كان الضارب هو الشريك المعتق ضمن جنينها بنصف عشر قيمة أمه للشريك؛ لأنه نصفه مملوك له وبنصف الغرة لأن نصفه حر، وفي مستحقه قولان، ووجه ثالث بناء على اختلاف المذهب فيمن عتق بعضه هل يكون موروثًا على قولين للشافعي: أحدهما: لا يورث منه كما لا يرث له؛ فعلى هذا يكون لمالك رقه ملكًا لا ميراثًا، فيصير له نصف الغرة مع نصف عشر قيمة الأم وذلك جميع دية الجنين نصف حر ونصفه مملوك. والثاني: أن يكون موروثًا؛ لأنه لما ملك به كسب نفسه في حياته ملكه وارثه بعد موته فعلى هذا إن كان له وارث مناسب ورث نصف الغرة ولا يرث منها الآخر شيئًا لرق بعضها والمرقوق بعضه لا يرث قولًا واحدًا، وإن ورث في أحد القولين وكان نصف عشر القيمة لمالك الرق وإن لم يكن له وارث مناسب، وصار موروثًا بالولاء لم يرثه المعتق؛ لأنه قاتل وانتقل ميراثه إلى عصبة معتقه. والثالث: وهو قول أبي سعيد الإصطخري أن ميراثه يكون لبيت المال ولا يكون لمالك رقه ولا لوارثه. وإما إن كان الضارب هو مالك الرق الذي لم يعتق فلا يضمن ما ملكه من رقه، لأنه لا يضمن ملك نفسه في حقه، وفي ضمان ما عتق منه قولان: أحدهما: لا يضمنه إذا قيل لو ضمنه غيره كان له. والثاني: يضمنه إذا قيل لو ضمنه غيره كان موروثًا عنه فيكون لعصبته، فإن عدموا فلمعتقه، ويكون لبيت المال على قول الإصطخري، وإن كان الضارب أجنبيًا ضمن جميعه بنصف عشر قيمة الأم لأجل نصف المرقوق يكون للشريك المسترق وبنصف الغرة لأجل نصف المعتق، وفي مستحقه ما قدمناه من المذاهب الثلاثة: أحدهما: أن يكون للشريك المسترق إذا قيل إنه غير موروث. والثاني: يكون للمعتق إذا قيل إنه موروث. والثالث: يكون لبيت المال، فهذا حكمه إذا كان الشريك المعتق معسرًا. فأما إذا كان الشريك المعتق موسرًا قومت عليه حصة شريكه من الأم وهو النصف وعتق جميعها نصفها بالمباشرة ونصفها بالسراية، وسرى عتق المباشرة وعتق السراية إلى عتق جنينها فصارت وجنينها حرين، ومتى يعتق النصف المقوم عليه؟ في ثلاثة أقاويل: أحدها: بلفظه الذي أعتق به حصته، ويؤدي القيمة بعد عتقه عليه. والثاني: أنه يعتق عليه باللفظ وأداء القيمة، فإن لم يؤدها لم يعتق. والثالث: أنه موقوف مراعى فإن أدى القيمة بان أنه عتق بنفس اللفظ، وإن لم يؤدها

بان أنه لم يعتق باللفظ، فعلى هذا لا يخلو حالها في إلقاء جنينها من أن تكون بعد دفع القيمة أو قبلها، فإن كان بعد دفع القيمة فقد ألقته بعد استقرار عتقها وعتق جنينها، فيكون على الضارب غرة كاملة، فإن كان الضارب هو المعتق غرمها ولم يرث منها، لأنه قاتل وورثت الأم لكمال حريتها، وكان ما بقى بعد فرضها لعصبته، فإن لم يكونوا فلعصبة المعتق القاتل، وإن كان الضارب هو الشريك فحكمه وحكم الأجنبي واحد، وعليه الغرة يستحقها ورثة الجنين، يكون لأمه منها ميراث أم والباقي للعصبة، فإن لم يكونوا المعتق له، وإن ألقت جنينها بعد العتق وقبل دفع القيمة. فإن قيل: إنها قد عتقت بنفس اللفظ، أو قيل: إنه موقوف مراعى ودفع القيمة كان الحكم فيه كما لو ألقته بعد دفع القيمة، فيكون على ما مضى. وإن قيل: إنها لا تعتق إلا بعد أداء القيمة، أو قيل: إنه موقوف مراعى ولم يدفع القيمة كان كما لو كان معسرًا ولم يعتق بينها إلا ما عتق فيكون على ما مضى والله أعلم.

كتاب قتال أهل البغي

كتاب قتال أهل البغي باب من يجب قتاله من أهل البغي والسيرة فيهم مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "قال الله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين} [الحجرات:9] ". قال في الحاوي: هذه الآية هي أصل ما ورد في قتال أهل البغي، واختلف في سبب نزولها على قولين: أحدهما: ما حكاه السدي: أن رجلًا من الأنصار كانت له امرأة تدعى أم زيد أرادت زيارة أهلها فمنعها زوجها، فاقتتل أهله وأهلها، حتى نزلت هذه الآية فمنعهم. والثاني: ما حكاه الكلبي ومقاتل: أنها نزلت في رهط عبد الله بن أبي ابن سلول من الخزرج، ورهط عبد الله بن رواحة من الأوس. وسببه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على عبد الله بن أبي ابن سلول راكبًا على حمار له، فراث الحمار، فأمسك عبد الله بن أبي ابن سلول أنفه، وقال: إليك حمارك، فغضب عبد الله بن رواحة وقال: لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحًا منك ومن أبيك، وتنافروا وأعان كل واحد منهما قومه، فاقتتلوا بالنعال والأيدي، فنزلت هذه الآية فيهم، وأصلح رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم. فقال: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9] يعني: جمعين من المسلمين أخرجهم التنافر إلى القتال فأصلحوا بينهما، وهذا خطاب ندب إليه كل من قدر على الإصلاح بينهم من الولاة وغير الولاة، وإن كان بالولاة أخص {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى} [الحجرات:9] والبغي: التعدي بالقوة إلى طلب ما ليس بمستحق {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات:9] فيه وجهان: أحدهما: تبغي بالتعدي في القتال. والثاني: تبغي بالعدول عن الصلح.

وهذا الأمر بالقتال مخاطب به الولاة دون غيرهم: {حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] أي ترجع، وفيه وجهان: أحدهما: حتى ترجع إلى الصلح الذي أمر الله به. قال سعيد بن جبير. والثاني: حتى ترجع إلى كتاب الله وسنة رسوله، قال قتادة: {فَإِن فَاءتْ} [الحجرات: 9] يعني: رجعت عن البغي. {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} [الحجرات:9] فيه وجهان: أحدهما: بالحق. والثاني: بكتاب الله. {وَأَقْسِطُوا} [الحجرات:9] يعني: اعدلوا، ويحتمل وجهين: أحدهما: اعدلوا في ترك الهوى والممايلة. والثاني: في ترك العقوبة والمؤاخذة. {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين} [الحجرات:9] يعني العادلين. قال أبو مالك: في القول والفعل فدلت هذه الآية علي بقاء البغاة على إيمانهم. ودلت على الابتداء بالصلح قبل قتالهم. ودلت على وجوب قتالهم إن أقاموا على بغيهم. ودلت على الكف عن القتال بعد رجوعهم. ودلت على أن لا تباعة عليهم فيما كان بينهم فهذه خمسة أحكام دلت عليها هذه الآية فيهم. قال الشافعي: وفيها دلالة على أن كل من وجب عليه حق فمنع منه، وجب قتاله حتى يؤديه. فروى سلمة بن الأكوع وأبو هريرة رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من حمل علينا السلاح فليس منا". وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من فارق الجماعة شبرًا فقد خلع ربقة الإسلام عن عنقه". وأما الإجماع الدال على إباحة قتالهم: فهو منعقد عن فعل إمامين: أحدهما: أبو بكر في قتال مانعي الزكاة. والثاني: علي بن أبي طالب في قتال من خلع طاعته. فأما أبو بكر رضي الله عنه فإنه قاتل طائفتين: طائفة: ارتدت عن الإسلام مع مسيلمة وطليحة والعنسي فلم يختلف عليه من الصحابة في قتالهم أحد. وطائفة: أقاموا على الإسلام ومنعوا الزكاة بتأويل اشتبه، فخالفه أكثر الصحابة في

الابتداء، ثم رجعوا إلى رأيه ووافقوه عليه في الانتهاء حين وضح لهم الصواب وزالت عنهم الشبهة. ونحن نذكر شرحه من بعد مفصلًا، فكان انعقاد الإجماع معه بعد تقدم المخالفة له أوكد. وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه فإنه شهد بنفسه قتال من بغى عليه، فأول من قاتل منهم أهل الجمل بالبصرة مع عائشة. وثنى بقتال أهل الشام بصفين مع معاوية. وثلث بقتال أهل النهروان من الخوارج فسار في قتالهم سيرة أبي بكر في قتال مانعي الزكاة. فصل: فإذا ثبت بما ذكرنا من الكتاب والسنة والإجماع إباحة قتالهم على بغيهم، فقتالهم معتبر بثلاثة شروط متفق عليها، ورابع مختلف فيه. أحدهما: أن يكونوا في منعة، بكثرة عددهم، لا يمكن تفريق جمعهم إلا بقتالهم، فإن كانوا آحادًا لا يمتنعون استوفت منهم الحقوق ولم يقاتلوا. قال الشافعي: قتل عبد الرحمن بن ملجم عليًا رضوان الله عليه متأولًا، فأقيد به. يعني: أنه لما انفرد ولم يمتنع بعدد لم يؤثر تأويله في أخذ القود منه. والثاني: أن يعتزلوا عن دار أهل العدل بدار ينحازون إليها ويتميزون بها كأهل الجمل وصفين. فإن كانوا على اختلاطهم بأهل العدل، ولم ينفردوا عنهم: لم يقاتلوا. روي أن عليًا رضي الله عنه كان يخطب، فسمع رجلًا يقول: لا حكم إلا لله تعريضًا بالرد عليه فيما كان من تحكيمه فقال علي: كلمة حق أريد بها باطل، لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدؤكم بقتال. والثالث: أن يخالفوه بتأويل محتمل كالذي تأوله أهل الجمل وصفين من المطالبة بدم عثمان رضي الله عنه. فإذا باينوا من غير تأويل، أجرى عليهم حكم الحرابة وقطاع الطريق. وأما الرابع المختلف فيه: فهو نصب إمام لهم يجتمعون على طاعته، ويتفادون لأمره، ففيه وجهان: أحدهما: هو قول طائفة: إنه شرط يستحق به قتالهم، ليستقر به تميزهم ومباينتهم. والثاني: وهو قول الأكثرين من أصحاب الشافعي: أنه ليس بشرط في قتالهم لأن عليًا عليه السلام قاتل أهل الجمل ولم يكن لهم إمام، وقاتل أهل صفين قبل أن ينصبوا إمامًا لهم.

فصل: فإذا تكاملت الشروط المعتبرة في قتالهم، لم يبدأ به الإمام حتى يسألهم عن سبب انفرادهم ومباينتهم، فإن ذكروا مظلمة أزالها، وإن ذكروا شبهة كشفها وناظرهم عليها، حتى يظهر لهم أنه على الحق فيها، لأن الله تعالى أمر بالإصلاح أولًا وبالقتال أخيرًا، ولأن علي بن أبي طالب أنفذ ابن عباس رضي الله عنهما إلى الخوارج بالنهروان، يسألهم عن سبب مباينتهم ويحل شبهة تأويلهم، لتظاهرهم بالعبادة والخشوع وحمل المصاحف في أعناقهم، فقال لهم ابن عباس: هذا علي بن أبي طالب ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته، وقد عرفتم فضله فما تنقمون منه؟ قالوا: ننقم منه ثلاثًا: حكم في دين الله، وقد أغنى كتاب الله وسنة رسوله عن التحكيم وقتل ولم يسبِ: وكان ينبغي له إما أن يقتل ويسبي أو لا يقتل ولا يسبي، لأنه إذا حرمت أموالهم فقد حرمت دماؤهم، ومحا اسمه من الخلافة، فإن كان على حق فلم خلع، وإن كان على غير حق فلم دخل؟ فقال ابن عباس: أما قولكم: أنه حكم في دين الله، فقد حكم الله تعالى في الدين فقال: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا} [النساء:35]. وقال تعال: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} [المائدة: 95]. فحكم في أرنب قيمته درهم، فبأن يحكم في هذا الأمر العظيم أولى. فرجعوا عن هذا. فقال: وأما قولكم: كيف قتل ولم يسبِ، فلو حصلت عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم في سهم أحدكم، كيف يصنع، وقد قال الله تعالى: {وَلاَ أَن تَنكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا} [الأحزاب: 53]. قالوا: رجعنا عن هذه. قال: وأما قولكم: إنه محا اسمه من الخلافة حين كتب كتاب التحكيم بينه وبين معاوية، فقد محا رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمه من النبوة حين قاضى سهيل بن عمرو عام الحديبية، وقد كتب كتاب القضية بينه وبين قريش علي بن أبي طالب، فكتب هذا ما قاضى محمد رسول الله سهيل بن عمرو. فقال سهيل: لا كتب رسول الله، فلو علمنا أنك رسول الله ما خالفناك، فاكتب محمد بن عبدالله. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي: امحه. فقال: لا أستطيع أن أمحو اسمك من النبوة. فقال له: أرنيه، فأراه، فمحاه بإصبعه. فرجع بعضهم وبقى منهم نحو أربعة آلاف لم يرجعوا، فعاد إلى علي بن أبي طالب، فأخبره، فقال لأصحابه: سيروا على اسم الله تعالى إليهم، فلن يفلت منهم عشرة، ولن يقتل منكم عشرة، فساروا معه إليهم فقتلهم، وأفلت منهم ثمانية، وقتل من أصحاب علي تسعة. وقال: اطلبوا لي ذا الثدية. فرأوه قتيلًا بينهم، فكبر علي وقال: الحمد لله الذي صدق وعد رسوله إذ قال لي: تقاتلك الفئة الباغية فيهم ذو الثدية. فهذه سيرة علي بن أبي طالب فيهم.

وقد حكي عن الشافعي أن قال: أخذ المسمون السيرة في قتال المشركين من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأخذوا السيرة في قتال المرتدين من أبي بكر رضي الله عنه. وأخذوا السيرة في قتال البغاة من علي بن أبي طالب رضي الله عنه. فصل: فإذا ثبت أنه يقدم قبل قتالهم سؤالهم عن سبب بغيهم واعتزالهم عن الجماعة، ثم مناظرتهم في حل ما اشتبه عليهم، فمتى أمل رجوعهم إلى الطاعة ودخولهم في الجماعة بالقول والمناظرة لم يتجاوزه إلى القتال، وإن يئس من رجوعهم بعد كشف ما اشتبه عليهم، جاز لإمام أهل العدل حينئذٍ قتالهم ومحاربتهم، وانقسمت أحوالهم في قتالهم ثلاثة أقسام: أحدها: ما كان قتالهم عليه واجبًا. والثاني: ما كان قتالهم عليه مباحًا. والثالث: ما اختلف القول في وجوبه وإباحته. فأما ما وجب قتالهم عليه: فهو بواحدٍ من خمسة أمور: أحدها: أن يتعرضوا لحريم أهل العدل بإفساد سبيلهم. والثاني: أن يتعطل جهاد المشركين بهم. والثالث: أن يأخذوا من حقوق بيت المال ما ليس لهم. والرابع: أن يمتنعوا من دفع ما وجب عليهم. والخامس: أن يتظاهروا على خلع الإمام الذي قد انعقدت بيعته ولزمت طاعته. روى عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من خلع يده من طاعة الإمام جاء يوم القيامة لا حجة له عند الله، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية". وأما ما أبيح قتالهم عليه، وإن لم يجب: فهو أن ينفردوا عن الجماعة ولا يمتنعوا من حق، ولا يتعدوا إلى ما ليس لهم بحق، فيجوز للإمام قتالهم لتفريق الجماعة ولا يجب عليه قتالهم لتظاهرهم بالطاعة. وروى أبو هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات فميتته جاهلية". وأما ما اختلف القول في وجوب قتالهم وإباحته: فهو إذا امتنعوا مع انفرادهم من دفع زكاة أموالهم الظاهرة وقاموا بتفرقتها في أهل السهمان منهم ففيه قولان: أحدهما: وهو قياس قول الشافعي في القديم: إن قتالهم عليها واجب، إذا قيل فيها بوجوب دفعها إلى الإمام. والثاني: وهو قياس قوله في الجديد: إن قتالهم عليها مباح وليس بواجب إذا قيل فيه: إن دفعها إلى الإمام مستحب وليس بواجب، والله أعلم.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فأمر الله تعالى جده أن يصلح بينهم بالعدل ولم يذكر تباعة في دم ولا مال، وإنما ذكر الصلح آخرًا كما ذكر الإصلاح بينهم أولًا قبل الإذن بقتالهم فأشبه هذا أن تكون التبعات في الدماء والجراح وما تلف من الأموال ساقطة بينهم وكما قال ابن شهاب عندنا قد كانت في تلك الفتنة دماء يعرف في بعضها القاتل والمقتول وأُتلفت فيها أموال ثم صار الناس إلى أن سكنت الحرب بينهم وجرى الحكم عليهم فما علمته اقتص من أحد ولا أغرم مالًا أتلفه. قال الشافعي رحمه الله: وما علمت الناس اختلفوا في أن ما حووا في البغي من مال فوجد بعينه أن صاحبه أحق". قال في الحاوي: أما المستهلك بين أهل العدل وأهل البغي في غير ثائرة الحرب والتحام القتال من دماء وأموال فهمي مضمونة على مستهلكها سواء كان استهلاكها قبل القتال أو بعده، فيضمن أهل البغي ما استهلكوه لأهل العدل من دماء وأموال ويضمن أهل العدل ما استهلكوه على أهل البغي من دماء وأموال وهذا متفق عليه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " إن الله حرم من المسلم ماله ودمه وأن يظن به إلا خيرًا". وأما المستهلك في ثائرة الحرب والتحام القتال فلا ضمان على أهل العدل فيما استهلكوه من دماء أهل البغي وأموالهم لأمرين: أحدهما: أن ما وجب على أهل العدل من قتالهم يمنع من ضمان ما تلف بالقتال من دمائهم وأموالهم لتنافي اجتماع وجوب القتال ووجوب الضمان. والثاني: أن مقصود القتال دفعهم عن بغيهم، فصاروا في هدرها كالطالب إذا قتله المطلوب دفعًا عن نفسه. وهل يضمن أهل البغي لأهل العدل ما استهلكوه من دمائهم وأموالهم أم لا؟ على قولين: أحدهما: قاله في القديم، ويشبه أن يكون مذهب مالك: أنهم يضمنونه لهم لأمرين: أحدهما: أنهم لما ضمنوه إذا لم يمتنعوا ضمنوه وإن امتنعوا كأهل الحرابة. والثاني: أنه لما كان القتال محظورًا عليهم كان ما حدث عنه مضمونًا كالجنايات، كما أن القتال لما وجب على أهل العدل كان ما حدث عنه غير مضمون كالحدود، لفرق ما بين الواجب والمحظور. والثاني: قاله في الجديد، وهو قول أبي حنيفة: إنه لا ضمان عليهم وهو الصحيح

لقول الله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا} [الحجرات:9]. فأمر بالإصلاح بينهم، ولم يذكر تبعة في دم ولا مال، فدل على سقوطه عنهم ولما روي أن أبا بكر رضوان الله عليه قاله لم تاب من أهل الردة: تدون قتلانا ولا ندي قتلاكم، فقال له عمر: لا نأخذ لقتلانا دية، لأنهم عملوا لله وأجورهم على الله، فسكت أبو بكر سكوت راجع إلى قوله ولما روي أن طليحة قتل ثابت بن أقرم وعكاشة بن محصن، وهرب إلى الشام، ثم أسلم، وقدم على أبي بكر، فقبل توبته ولم يقتص منه وهكذا فعل علي رضي الله عنه يوم الجمل لم يأخذ أحدًا بما استهلكه من دم ولا مال مع معرفة القاتل والمقتول والتالف والمتلوف وهكذا حكي ابن المسيب والزهري فدل على الإجماع في سقوط الضمان ولأنهما طائفتان ممتنعان اقتتلتا تدينًا، فلم يضمن بعضهم بعضًا كالمسلمين. ولأن تضمين أهل البغي ما أتلفوه منفر لهم ومانع من رجوعهم، فوجب أن يكون مطرحًا كما أطرح في أهل الحرب. فصل: فإذا تقرر توجيه القولين، فإن قيل بالأول: أن الضمان واجب، ضمنت الأموال بالغرم، فأما النفوس فإن كانت خطأ أو عمد الخطأ ضمنت عائلة القاتل الدية دون القاتل وإن كانت عمدًا محضًا ففي ضمانها بالقود وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي: تضمن بالقود، لأنها تضمن في الحرب كما تضمن في غيره. والثاني: أنها تضمن بالدية دون القود، لأنها حال شبهة تدرأ بها الحدود، وتكون الدية في مال القاتل. وإن قيل بالقول الثاني: في سقوط الضمان، سقط ضمان ما تلف من الأموال ووجب رد ما بقي منها، فأما إن أتلف عليهم بغير قتال، نظر حال متلفه. فإن قصد بما أتلفه منها إضعافهم وهزيمتهم لم يضمنها. وإن قصد به التشفي والانتقام: ضمنها، وصارت كالمستهلك عليهم في غير القتال. وأما النفوس: فمن قتل في القتال لم يضمن في عمد ولا خطأ بقود ولا دية، وفي ضمانه بالكفارة وجهان محتملان: أحدهما: وهو الأصح: أنه غير مضمون بالكفارة، كما كان غير مضمون بقود ولا دية. والثاني: أنه يضمن بالكفارة، لأنها من حقوق الله تعالى فتأكدت على حقوق الآدميين، وكما يضمن نفس المسلم في دار الحرب بالكفارة دون الدية. ومن قتل منهم وهو معتزل عن صفوف الحرب: فإن كان ردءًا لهم وعونًا: سقط

ضمان نفسه كالمقاتلة. وإن لم يكن ردءًا ولا عونًا: خرج عن حكم المقاتلة وضمنت نفسه بالدية، وفي ضمانها بالقود وجهان على ما مضى. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وأهل الردة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ضربان: فمنهم قوم كفروا بعد إسلامهم مثل طليحة ومسيلمة والعنسي وأصحابهم ومنهم قوم تمسكوا بالإسلام ومنعوا الصدقات ولهم لسان عربي والردة ارتداد عما كانوا عليه بالكفر وارتداد، يمنع حق كانوا عليه وقول عمر لأبي بكر رضي الله عنهما أليس قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله"؟ وقول أبي بكر هذا من حقها لو منعوني عناقًا مما أعطوه النبي صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليها معرفة منهما معًا أن ممن قاتلوا من تمسك بالإسلام ولولا ذلك لما شك عمر في قتالهم ولقال أبو بكر قد تركونا لا إله إلا الله فصاروا مشركين وذلك بين في مخاطبتهم جيوش أبي بكر وأشعار من قال الشعر منهم فقال شاعرهم: ألا أصبحينا قبل ثائرة الفجر لعل منايانا قريب وما ندري أطعنا رسول الله ما كان بيننا فيا عجبًا ما بال ملك أبي بكر فإن الذي سألوكم فمنعتم لكالتمر أو أحلى إليهم من التمر سنمنعهم ما كان فينا بقية كرام على العزاء في ساعة العسر وقالوا لأبي بكر رضي الله عنه بعد الإسار ما كفرنا بعد إيماننا ولكنا شححنا على أموالنا فسار إليهم أبو بكر بنفسه حتى لقي أخا بني بدر الفزاري فقاتله ومعه عمر وعامة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ثم أمضى أبو بكر رضي الله عنه خالدًا في قتال من ارتد ومنع الزكاة فقاتلهم بعوام من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. قال الشافعي رحمه الله ففي هذا دلالة على أن من منع حقًا مما فرض الله عليه فلم يقدر الإمام على أخذه بامتناعه قاتله وإن أتى القتال على نفسه وفي هذا المعنى كل حق لرجل على رجل فمنعه بجماعة وقال: لا أؤذي ولا أبدؤكم بقتال قوتل وكذا قال من منع الصدقة ممن نسب إلى الردة فإذا لم يختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قتالهم بمنع الزكاة فالباغي الذي يقاتل الإمام العادل في مثل معناهم في أنه لا يعطي الإمام العادل حقًا يجب عليه ويمتنع من حكمه ويزيد على مانع الصدقة أن يريد أن يحكم هو على الإمام العادل". قال في الحاوي: قصد الشافعي بهذه الجملة أمرين: أحدهما: الرد على طائفة نسبت علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إلى الخطأ في

قتال أهل الجمل وصفين، وهم من أهل القبلة، وقالوا: هلا فعل مثل ما فعله عثمان أغلق بابه وكف أصحابه عن القتال، وكالذي فعل ابنه الحسن حين رأى الثائرة قد هاجت والدماء قد طاحت، سلم الأمر تسليم تقرب إلى معاوية. فرد الشافعي عليهم: بأنه ما ابتدع ذلك، ولا ارتكب فيه محظورًا، فقد فعل أبو بكر رضي الله عنه في قتال أهل القبلة من المسلمين مثل ما فعله، وإن اختلف السببان فيه، فإن أهل الردة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ضربان: منهم من ارتد عن دينه وكفر بعد إسلامه مثل مسيلمة تنبأ باليمامة فارتد معه من أطاعه من بني حنيفة، ومثل طليحة تنبأ باليمن فارتد من أطاعه من أهلها. ومثل العنسي تنبأ في قومه فارتد معه من أطاعه منهم فجهز الجيوش إليهم، وكان أول جيش سيره إليهم جيش أسامة، وكان مبرزًا يظاهر المدينة حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم فسيرهم أبو بكر رضي الله عنه إلى ابني من أرض الشام، فعاد ظافرًا، ثم سير إلى مسيلمة جيشًا وأمدهم بالجيوش حتى قتل من أهل الردة من قتل، وأسلم منهم من أسلم. فهذا ضرب منهم انطلق عليهم اسم الردة لغة وشرعًا. والضرب الثاني منهم من كان مقيمًا على إسلامه ومنه من الزكاة بتأويل ذهب إليه، وشبهة دخلت عليه في قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} [التوبة:103]. وكان دخول الشبهة عليهم فيها من وجهين: أحدهما: أنه خاطب به رسوله: فلم يتوجه بالخطاب إلى غيره. والثاني: قوله إن صلاتك سكن لهم وليست صلوات ابن أبي قحافة سكن لنا فاشتبه تأويلهم على قوم من الصحابة وصح فساده لأبي بكر فأذعن على قتالهم فأشار عليه جماعة بالكف عنهم منهم عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام وعبد الرحمن بن عوف. فقال أبو بكر رضي الله عنه: لأن أخر من السماء فتتخطفني الطير أو تهوي بي الريح في مكان سحيق أهون عليّ مما سمعت منكم يا أصحاب محمد، والله لا فرقت بين ما جمع الله يعني قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة:43]. والله لو منعوني عناقًا أو عقالًا كانوا مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه، أرأيتم لو سألوا ترك الصلاة، أرأيتم لو سألوا ترك الصيام، أرأيتم لو سألوا ترك الحج، أرأيتم لو سألوا شرب الخمر، أرأيتم لو سألوا الزنا، فإذا لا تبقى عروة من عرى الإسلام إلا انحلت. فقال له عمر رضي الله عنه: علام نقاتلهم وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله". فركز أبو بكر في صدر عمر وقال: إليك عني شديدًا في الجاهلية خوارًا في الإسلام، وهل هذا إلا من حقها؟

قال عمر: فشرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر فحينئذٍ أجمعوا معه على قتالهم مع بقائهم على إسلامهم ولم يكن الإسلام مانعًا من قتالهم، لأنهم منعوا حقًا عليهم. وكذلك حال علي عليه السلام في قتال من قاتل من المسلمين. ولا يكون كف عثمان وتسليم الحسن رضي الله عنهما حجة عليه، لأن لكل وقت حكمًا، ولكل مجتهد رأيًا. ولا يمنه الإسلام مانعي الزكاة في عهد أبي بكر من إطلاق اسم الردة عليهم لغة، وإن لم ينطلق عليهم شرعًا؛ لأنه لسان عربي، والردة في لسان العرب الرجوع، كما قال تعالى: {فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف:64] أي رجعا، فانطلق اسم الردة على من رجع عن الزكاة كانطلاقه على من رجع عن الدين. فهذا أحد الأمرين في مراد الشافعي بهذه المسألة. وأما الأمر الثاني من مراده بها: فالكلام مع أبي حنيفة في مانعي الزكاة، وهم ضربان: ضرب: منعوها في عهد أبي بكر، وضرب: منعوها من بعد. فأما مانعوها على عهد أبي بكر: فهم من قدمنا ذكرهم بما اشتبه عليهم من تأويل الآية، فلا يكونوا مرتدين وهم باقون على إسلامهم. وقال أبو حنيفة: قد ارتدوا بامتناعهم عنها، لاستحلالهم من نص الله تعالى على خلافه، كما لو استحلوا الآن منعها وهذا غير صحيح؛ لأن الصحابة عارضوا أبا بكر رضى الله عنهم في الأمر بقتالهم لبقائهم على الإسلام فوافقهم أبو بكر على إسلامهم، وبين السبب الموجب لقتالهم، ولو ارتدوا لما عارضوه، ولما احتج عليهم بما احتج، فدل على إجماعهم أنهم باقون على إسلامهم ولأن القوم حين تابوا وقدموا على أبي بكر قالوا: والله ما كفرنا بعد إيماننا ولكن شححنا على أموالنا. وقد بان هذا القول منهم في قول شاعرهم: ألا أصبحينا قبل ثائرة الفجر لعل منايانا قريب وما ندري أطعنا رسول الله ما كان بيننا فيا عجبًا ما بال ملك أبي بكر فإن الذي سألوكم فمنعتم لكالتمر أو أحلى إليهم من التمر سنمنعهم ما كان فينا بقية كرام على العزاء في ساعة العسر فلم يرد عليهم أبو بكر ولا أحد من الصحابة ما قالوه من بقائهم على إيمانهم فدل على ثبوته إجماعًا. فصل: فأما مانعوا الزكاة من بعد فضربان: أحدهما: من منعها مستحلًا لمنعها، فيكون باستحلال المنع مرتدًا، وإن لم يكن

المانع منها في عهد أبي بكر مرتدًا. والفرق بينهما: أن المنع الأول كان قبل الإجماع على إبطال ما اشتبه عليهم من حكم الآية، فكان لتأويل الشبهة مساغًا، والمنع الحادث بعده، قد انعقد الإجماع على إبطال الشبهة فيه، فلم يكن للتأويل مساغ، فافترقا في حكم الردة لافتراقهما في حال الإجماع. ومثاله: شارب الخمر في عصر الصحابة لما استحل شربها بشبهة تعلق بها في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَّآمَنُوا} [المائدة:93] لم يكفر لاحتمال شبهته فلما أجمع الصحابة على بطلان هذا التأويل صار مستحلها كافرًا. والثاني: أن يمنعوا منها غير مستحلين لمنعها، فيجوز قتالهم على أخذها منهم. وقال أبو حنيفة: لا يجوز قتالهم على منعها مع إقرارهم بوجوبها أمرين: أحدهما: لتعلقها بأموالهم دون أبدانهم، فكان المال هو المطلوب دونهم. والثاني: أن الله تعالى قد ائتمنهم على أدائها فكانت كالأموال الباطنة. ودليلنا: قول أبي بكر للصحابة رضي الله عنهم في مانعي الزكاة: والله لو منعوني عناقًا أو عقالًا مما أعطوا رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه. فوافقوه عليه بعد مخالفتهم له، فدل على انعقاد الإجماع به. ولأنهم لما قوتلوا لامتناعهم من حق الإمام في الطاعة، كان قتالهم في امتناعهم من حق الله تعالى في الزكاة أولى. ولأن العبادات نوعان: على أبدان، وفي أموال، فلما قوتلوا في عبادات الأبدان قوتلوا في عبادات الأموال. وقولهم: إن المال هو المطلوب فصحيح لكن لما لم يوصل إليه إلا بقتالهم، صار قتالهم موصلًا إلى أخذ الحق منهم، وما أوصل إلى الحق كان حقًا وأما الأموال الباطنة ففيها جوابان: أحدهما: أنه لا نظر للإمام فيها، فلم يحاربهم عليها، وخالفت الأموال الظاهرة. والثاني: أنه لا يمتنع أن يقاتلوا على إخراجها إلى مستحقها، وإن لم يقاتلوا على دفعها إلى الإمام. فصل: فإذا ثبت جواز قتالهم على منعها، فإن قدر الإمام على أموالها وأخذ زكاتها منها بغير قتال نظر. فإن قدر عليها لرفع أيديهم عنها، مع القدرة على الدفع عنها لم يقاتلهم لأن هذا تمكين من الزكاة. وإن كان لعجزهم عن الدفع عنها، كان على قتالهم، حتى يظهروا الطاعة بأدائها طوعًا.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو أن نفرًا يسيرًا قليلي العدد يعرف أن مثلهم لا يمتنع إذا أُريدوا فأظهروا آراءهم ونابذوا الإمام العادل. وقالوا نمتنع من الحكم فأصابوا أموالًا ودماءً وحددوا في هذه الحال متأولين ثم ظهر عليهم أقيمت عليهم الحدود وأخذت منهم الحقوق كما تؤخذ من المتأولين". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا قل أهل البغي ولم ينفردوا بدار ونالتهم القدرة، ولم يمنعوا عن أنفسهم بكثرة وقوة لم يؤثر ما تأولوه في سقوط الحقوق عنهم، وإقامة الحدود عليهم. فقد كان عبد الرحمن بن ملجم من أسوأ البغاة معتقدًا وأعظمهم إجرامًا، قال -وعلي- كرم الله وجهه- يخطب على المنبر بالكوفة: والله لأريحنهم منك، فأخذه الناس وحملوه إليه، وقالوا: اقتله قبل أن يقتلك، فقال: كيف أقتله قبل أن يقتلني، وخلى سبيله، فبات له في المسجد، فخرج علي عليه السلام لصلاة الفجر مغلسًا وقيل: إنه أنشد بالاتفاق قول الشاعر: أشدد حيازيمك للموت فإن الموت آتيك ولا تجزع من الموت إذا حل بواديك وأحرم بركعتي الفجر، فأمسك ابن ملجم عنه في الركعة الأولى حتى قدر ركوعه وسجوده، ورأى سجوده أطول من ركوعه، وكذا السنة. فلما قام إلى الثانية ضربه في سجوده ضربه فلق بها هامته. فقال علي: فزت ورب الكعبة وأخذ ابن ملجم فحمل إليه، وقيل له: اقتله قبل أن يقتلك فقال: كيف أقتله قبل أن يقتلني، إن عشت فأنا ولي دمي أعفو إن شئت وإن شئت استفدت، وإن مت فقتلتموه فلا تمثلوا وإن تعفو أقرب للتقوى وكان في شهر رمضان، فلما جاء وقت الإفطار، قال: أطعموه وأحسنوا إساره، وكان أول من قدم إليه الطعام في داره ابن ملجم فلما مات قتله الحسن بن علي قودًا. قال الشافعي: وفي الناس بقية من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أنكر قتله ولا عابه أحد. فدل على فرق ما بين الامتناع والقدرة. ولأن سقوط القود في الامتناع والكثرة إنما هو للحاجة إلى تألفهم في الرجوع إلى الطاعة، والمنفرد مقهور لا يحتاج إلى تألفه فلذلك وقع الفرق بين الممتنع وغير الممتنع. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا كانت لأهل البغي جماعة تكبر ويمتنع مثلها بموضعها الذي هي بها بعض الامتناع حتى يعرف أن مثلها لا ينال إلا حتى تكبر نكايته واعتقدت ونصبت إمامًا وأظهرت حكمًا وامتنعت من حكم الإمام العادل فهذه الفئة

الباغية التي تفارق حكم من ذكرنا قبلها فإن فعلوا مثل هذا ينبغي أن يسألوا ما نقموا فإن ذكروا مظلمة بينة ردت وإن لم يذكروها بينة قيل عودوا لما فارقتم من طاعة الإمام العادل وأن تكون كلمتكم وكلمة أهل دين الله على المشركين واحدة وأن لا تمتنعوا من الحكم فإن فعلوا قبل منهم وإن امتنعوا قيل إنا مؤذنوكم بحرب فإن لم يجيبوا قوتلوا ولا يقاتلوا حتى يدعوا ويناظروا إلا أن يمتنعوا من المناظرة فيقاتلوا حتى يفيئوا إلى أمر الله". قال في الحاوي: وجملة أهل البغي أنهم ضربان: ضرب خرجوا عن القدرة بالامتناع والكثرة، ولا يوصل إليهم إلا بالجيوش والمقاتلة فهم من قدمناه ذكره في إباحة قتالهم، وأن أهل العدل لا يضمنون، ما استهلكوه عليهم في ثائرة الحرب من دماء وأموال، وفي تضمين أهل البغي ما استهلكوه عن أهل العدل في ثائرة الحرب من دماء وأموال قولان. والثاني: من كان تحت القدرة، وهم ضربان: أحدهما: أن يختلطوا بأهل العدل كابن ملجم وأشياعه، فأحكامنا عليهم جارية في الحقوق والحدود، وهم مؤاخذون بضمان ما استهلكوه من دماء وأموال، سواء استهلكوها على أهل العدل، أو استهلكوها بعضهم على بعض، ويؤخذ أهل العدل بضمان ما استهلكوه عليهم من دماء وأموال. والثاني: أن ينفردوا لكثرتهم وقوتهم غير أنهم لم يتظاهروا يخلع الطاعة، ولا امتنعوا من أداء الحقوق، فهؤلاء يجب الكف عنهم، ولا يجوز قتالهم ما أقاموا على حالهم، وإن خالفوا أهل العدل معتقدهم. فقد اعتزل أهل النهروان علياً وخالفوه في رأيه، فولى عليهم عبد الله بن خباب بن الأرت عاملاً، فأطاعوه، فكف عنهم، ثم قتلوه، فأرسل إليهم على أن سلموا إلى قاتله أقيد منه، قالوا: كلنا قتله. فسار إليهم حتى قتلهم مع كثرة عددهم فدل على أن ما فعلوه قبل التظاهر بخلع الطاعة هم به مؤاخذون وله ضامنون. كذلك من كان مثلهم، ويصير مخالفا لحكم من تظاهر بخلع الطاعة من وجهين: أحدهما: في قتالهم إذا تظاهروا بخلع الطاعة، والكف عنهم إذا لم يتظاهروا. والثاني: في سقوط الضمان عنهم إذا تظاهروا في أصح القولين، ووجوب الضمان عليهم قولاً واحداً إذا لم يتظاهروا وانه أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: " والفيئة الرجوع عن القتال بالهزيمة أو الترك للقتال أي

حال تركوا فيها القتال فقد فاؤوا وحرم قتالهم لأنه أمر أن يقاتل وإنما يقاتل من يقاتل فإذا لم يقاتل حرم الإسلام أن يقاتل فأما من لم يقاتل فإنما يقال اقتلوه لا قاتلوه نادي منادي على رضي الله عنه يوم الجمل ألا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح وآتى على رضي الله عنه يوم صفين بأسير فقال له على لا أقتلك صبرا إني أخاف الله رب العالمين فخلى سبيله والحرب يوم صفين قائمة ومعاوية يقاتل جادا في أيامه كلها منتصفا أو مستعلياً فبهذا كله أقول وأما إذا لم يكن جماعة ممتنعة وحكمة القصاص قتل ابن ملجم عليا متأولا فأمر بجيشه وقال لولده إن قتلتم فلا تمثلوا ورأى عليه القتل وقتله الحسن بن علي رضي الله عنه وفي الناس بقية من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فما أنكر قتله ولا عابه أحد ولم يقد على وقد ولى قتال المتأولين ولا أبو بكر من قتله الجماعة الممتنع مثلها على التأويل على ما وصفنا ولا على الكفر وإن كان بارتداد إذا تابوا قد قتل طليحة عكاشة بن محصن وثابت بن أقرم ثم أسلم ولم يضمن عقلا ولا قوداً فأما جماعة ممتنعة غير متأولين قتلت وأخذت المال فحكمهم حكم قطاع الطريق. قال المزني رحمه الله: هذا خلاف قوله في قتال أهل الردة لأنه أكرمهم هناك ما وضع ههنا عنهم وهذا أشبه عندي بالقياس". قال في الحاوي: أصل هذا: قول الله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] {فَقَاتِلُوا} [النساء: 76] يتضمن الأمر بقتالهم لا بقتلهم. وقوله: {حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الجرات: 9] هو الغاية في إباحة قتالهم. والفيئة في كلامهم: الرجوع، وهو على ثلاثة أضرب تتفق أحكامها وإن اختلفت أنواعها: أحدها: أن يرجعوا إلى طاعة الإمام والانقياد لأمره، فهو غاية ما أريد منهم، وقد خرجوا به من البغي اسماً وحكماً، وصاروا داخلين في أحكام أهل العدل. والثاني: أن يلقوا سلاحهم مستسلمين فالواجب الكف عنهم، لأن الله تعالى أمر الحرب متوجه إلى قتلهم، وفي أهل البغي إلى قتالهم. والثالث: أن يولوا منهزمين فيجب الكف عنهم، ولا يتبعوا بعد هزيمتهم (0) فقد نادي منادى على يوم الجمل: ألا لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده علي بن الحسين عليهم السلام، قال: دخل علي مروان فقال لي: ما رأيت أكرم غلبة من أبيك، ما كان إلا إن ولينا يوم الجمل حتى نادى مناديهن: ألا لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح. ولما ولى الزبير عن القتال وخرج عن الصف، قال علي: أفرجوا للشيخ فانه محرم، فمضى وأتبعه عمرو بن جرموز حتى ظفر باغتياله فقتله بوادي السباع وأتى علياً برأسه،

فقال (علي): سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بشر قاتل ابن صفية بالنار" فقال عمرو: أف لكم إن كنا معكم أو عليكم في النار، فقام وهو يقول: أتيت علياً برأس الزبير وكنت أظن بها زلفتى فبشر بالنار قبل الوعيد وبئس بشارة ذي التحفة وولي طلحة بن عبيد الله، فلم يعرض له أحد من أصحاب علي حتى رماه مروان بن الحكم بسهم في أكحله فقتله، وكان في عسكر طلحة والزبير، فلما كان في الليل سار علي عليه السلام ومعه قنبر مولاه بمشعلة يتصفح القتلى، فمر بطلحة قتيلاً، فوقف عليه وبكى وقال: أعزز على أبا محمد أن أراك مجدلاً تحت نجوم السماء، إنا لله وإنا إليه راجعون، شفيت غيظي وقتلت معشري إلى الله أشكو عجري ويجري، ثم أنشأ يقول: فتى كان يعطي السيف في الروع حقه إذا ثوب الداعي ويشقى به الجسور فتى كان يدينه الغنى من صديقه إذ ما هو استغنى ويبعده الفقير فصل: فإذا تقرر أنهم لا يتبعون بعد انهزامهم فلا فرق بين المنهزم إلى غير دار يرجع إليها، وإلى غير إمام يعود إلى طاعته، وبين المنهزم إلى دار وإمام. وقال أبو حنيفة: لا يتبع المنهزم إلى غير دار وإمام، ويتبع المنهزم إلى دار وإمام ويقتل إن ظفر به احتجاجاً: بأن علياً لم يقع من انهزم من أهل الجمل، لأنهم انهزموا إلى غير دار وإمام، واتبع من انهزم يوم صفين لأنهم رجعوا إلى دار وإمام. حتى روى أنه اتبع مدبرا ليقتله فكشف عن سوءته فكف على طرفه ورجع عنه. قال: ولأن الانهزام مع بقاء الدار والإمام لا يكون رجوعاً عن البغي، ولا مانعاً من العود. ودليلنا: ما روي عن علي كرم الله وجهه أنه أتي بأسير يوم صفين، فقال له الأسير: أتقتلني صبراً. فقال: لا إني أخاف الله رب العالمين وخلى سبيله. قال الشافعي: والحرب يومئذ قائمة، ومعاوية يقاتل جادل في أيامه كلها مستعلياً أو منتصفاً، يعني: مستعلياً بكثرة جيشه، أو منتصفاً بمساواة الجيش. وأتى معاوية بأسير يوم صفين فأمر بقتله، فقال الأسير: والله ما تقتلني لله ولا فيه ولكن لحطام هذه الدنيا، فإن عفوت فصنع الله بك ما هو أهله، وإن قتلت فصنع الله بك ما أنت أهله فقال لهم عاوية: لقد سببت فأحسنت وخلى سبيل. ولأن الإمام مأمور بالقتال لا بالقتل، والمولى غير مقاتل فلم يجز أن يقتل ولأن المراد بالقتال الكف والمولى كاف فلم يجز أن يتبع. فأما احتجاجه بندائه يوم الجمل دون صفين فعنه جوابان:

أحدهما: أنه أمر بالنداء في اليومين معاً أن لا يتبع مدبر ولا يذفف على جريح. والثاني: أنه وإن فرق بين اليومين في النداء فلأن الحرب انجلت يوم الجمل. فتفرغ النداء، وكانت يوم صفين باقية فتشاغل بتدبير الحرب عن النداء. وأما طلبه للأسير، فقد كان ذلك عند اختلاط الصفوف وبقاء القتال. واحتجاجهم بجواز عوده فلا معنى لتعليق الحكم بعلة لم تكن، ويجوز أن لا تكون والله أعلم. مسألة قال الشافعي رحمه الله: "ولو أن قوماً أظهروا رأى الخوارج وتجنبوا الجماعات وأكفرهم لم يحل بذلك قتالهم بلغنا أن عليا رضي الله عنه سمع رجلا يقول لا حكم إلا لله في ناحية المسجد فقال علي رضي الله عنه كلمة حق أريد بها باطل لكم علينا ثلاث لا تمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله ولا تمنعكم الفيء ما دامت أيديكم مع أيدينا ولا نبدؤكم بقتال". قال في الحاوي: أما الخوارج، فهم الخارجون عن الجماعة بمذهب ابتدعوه ورأي اعتقدوه، يرون أن من ارتكب إحدى الكبائر كفر وحبط عملهم واستحق الخلود في النار، وأن دار الإسلام صارت بظهور الكبائر فيها دار كفر وإباحة، وأن من تولاهم وجرى على حكمهم فكذلك. فاعتزلوا الجماعة وأكفروهم، وامتنعوا من الصلاة خلف أحد منهم، وسموا شراة، واختلف في تسميتهم على وجهين: أحدهما: أنه تسمية ذم، ساهم به أهل العدل، لأنهم شروا على المسلمين وحاربوا جماعتهم. والثاني: أنه تسمية حمد، سموا بها أنفسهم لأنهم شروا الدنيا بالآخرة أي باعوها. فإذا اعتقد قوم رأي الخوارج وظهر معتقدهم على ألسنتهم وهم بين أهل العدل غير منابذين لهم ولا متجرئين عليهم تركوا على حالهم ولم يجز قتلهم ولا قتالهم، ولم يؤخذوا جبراً بالانتقال عن مذهبهم والرجوع عن تأويلهم وعدل إلى مناظرتهم وإبطال شبهتهم بالحجج والبراهين وإن كانوا عليها مقرين، فقد أقرهم علي بن أبي طالب عليه السلام قبل أن يعتزلوه وسمع قائلهم يقول: لا حكم إلا لله تعريضا به في تحكيمه يوم صفين. فقال على: كلمة حق أريد بها باطل. وهذا أحسن جوابا لمن عرضي بمثل هذا القول. ثم قال: لكم علينا ثلاث: لا نمنعكم مساجد الله إن تذكروا فيها اسم الله، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدأكم بقتال. فجعل هذه الأحكام فيهم كهي في أهل العدل، واقتضى في ذلك سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنافقين في كفه عنهم مع علمه بمعتقدهم لتظاهرهم بطاعته مع استيطان معصيته فإن

صرح الخوارج بسبب الإمام وسب أهل العدل: عزروا للأذى وذباً عن منصب الإمامة وإن عرضوا به من غير تصريح ففي تعزيتهم وجهان: أحدهما: لا يعزرون، لأن علياً لم يعزر من عرض، لفرق ما بين التعريض والتصريح. والثاني: أنهم يعزرون؛ لأن الإقرار على التعريض مفض إلى التصريح، فكان التعزير حاسما لما بعده من التصريح. مسألة قال الشافعي رحمه الله: " ولو قتلوا واليهم أو غيره قبل أن ينصبوا إماما أو يظهروا حكما مخالفا لحكم الإمام كان عليهم في ذلك القصاص قد سلموا وأطاعوا والياً عليهم من قبل على ثم قتلوه فأرسل إليهم رضي الله عنه أن ادفعوا إلينا قاتله نقتله به قالوا كلنا قتله قال فاستسلموا نحكم عليكم قالوا لا فسار إليهم فقاتلهم فأصاب أكثرهم". قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا اجتمع الخوارج في موضع تميزوا به عن أهل العدل، ولم يخرجوا عن طاعة الإمام، وقصدوا بالاعتزال أن ينفردوا عن مخالفهم ويتساعدوا على معتقدهم، كانت دارهم من جملة دار أهل العدل تقام عليهم الحدود وتستوفي منهم الحقوق ولا يدقوا بحرب ولا قتال ما لم يبدؤوا بالمنابذة والقتال. فإن قتلوا عاملهم الوالي عليهم من قبل الإمام أو غيره من أعوان الإمام، ثم أظهروا خلع الإمام ونابذوه أجرى الإمام عليهم القصاص ولم يسقط عنهم بما أظهروا بعد القتل من الخلع والمنابذة، وكذلك ما استهلكوه من الأموال كانوا مأخوذين بضمانه فقد ولى علي بن أبي طالب عليه السلام على النهروان عامله عبد الله ين خباب بن الأرت وقد اعتزلوه فكان ناظراً فيهم كنظره في أهل العدل، إلى أن وثبوا عليه وقالوا: ما تقول في الشيخين أبي وعمر؟ فقال: ما أقول في خليفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم وإمامي المسلمين قالوا: ما نقول في عثمان؟ فقال: في الست الأوائل خيراً. وأمسك على الست الأواخر فقالوا: ما تقول في علي بن أبي طالب. فقال: أمير المؤمنين وسيد المتقين فعمدوا إليه فذبحوه، فراسلهم علي أن سلموا إلى قاتله أحكم فيه يحكم الله قالوا: كلنا قتله. قال فاستسلموا لحكم الله، وسار إليهم، فقتل أكثرهم فدل هذا من فعله على أمرين: أحدهما: جواز إقرارهم وإن اعتزلوا ما كانوا متظاهرين بالطاعة. والثاني: وجوب القصاص عليهم، وأنه لا يسقط عنهم بخلع الطاعة. فأما من قتلوه بعد خلع الطاعة وإظهار المنابذة ففي ضمانه عليهم قولان كغيرهم من أهل البغي.

فصل: فإذا ثبت وجوب القصاص عليهم، اختص بالقاتل منهم، فإن سلموه لم يقتل غيره من معين ولا مشير وفي انحتام القصاص وجهان: أحدهما: أنه منحتم كالقتل في الحرابة لا يجوز العفو عنه، لأنهم في إشهار السلاح كالمحاربين من قطاع الطريق. فعلى هذا: يجوز أن ينفرد الإمام بقتله من غير حضور وليه وطلبه. والثاني: أنه غير منحتم، يجري عليه حكم القصاص في غيرهم كجريان حكم أهل العدل في ذلك عليهم. فعلى هذا: لا يجوز للإمام أن ينفرد بقتله حتى يحضر وليه مطالباً، فيكون مخيراً بين القصاص أو الدية أو للعفو عنهما. فإن لم يسلموا القاتل، جاز قتال جميعهم وحل قتلهم، ولم يختص به القاتل منهم فإن انجلت الحرب عن بقية منهم كف عن قتلهم إلا أن يكون القاتل فيهم، فيقتل قوداً على ما قدمناه من الوجهين من انحتامه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "وإذا قاتلت امرأة منهم أو عبد أو غلام مراهق قوتلوا مقبلين وتركوا مولين لأنهم منهم". قال في الحاوي: هذا كما قال إذا قاتل مع أهل البغي نساؤهم وصبيانهم وعبيدهم كانوا في حكمهم يقاتلون مقبلين ويكف عنهم مدبرين، وإن لم يكونوا من أهل البيعة والجهاد، لأنهم قد صاروا في وجوب كفهم عن القتال كالرجال من أهل البيعة والجهاد. ولأن الإمام في دفعهم عن المسلمين جار مجرى الدافع عن نفسه، وله دفع الطالب ولو بالقتل، ولو كانت امرأة أو صبيا، كذلك المقاتل من البغاة يدفع ولو بالقتل ولو كان امرأة أو صبيا. ولا يضمنون وإن أتى القتال على نفوسهم، كما لا يضمن الرجل البالغ، ولا تضمن البهيمة إذا صالت. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " ويختلفون في الإسار ولو أسر بالغ من الرجال الأحرار فحبس لبيايع رجوت أن يسع ولا يسع أن يحبس مملوك ولا غير بالغ من الأحرار ولا امرأة لتبايع وإنما يبايع النساء على الإسلام فأما على الطاعة فهن لا جهاد عليهن".

قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا أسر أهل البغي والحرب قائمة لم بجز قتل أسراهم. وقال أبو حنيفة: يجوز أن يقتلوا كأهل الحرب. والدليل عليه: ما رواه عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ابن أم عبد ما حكم من بغى من أمتي؟ قلت: الله ورسوله أعلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا يتبع مدبرهم ولا يجهز على جريحهم ولا يقتل أسيرهم ولا يقسم فيئهم" وهذا إن ثبت نص ولأن سيرة علي عليه السلام فيهم كانت هكذا، وعليها عمل المسلمون بعده، ولان المقصود بقتالهم كفهم عن القتال وليس المقصود قتلهم. ولأنهم في دفعهم عن البغي في حكم الطالب نفس المطلوب الذي لا يجوز قتله بعد كفه، كذلك البغاة، وهم بخلاف أهل الحرب، لأن المقصود قتلهم بقتالهم فافترقوا، فعلى هذا: لو قتل أسير منهم ضمنه القاتل بالدية، وفي ضمانه بالقود وجهان: أحدهما: يقاد منه، لأن قتل محظور النفس. والثاني: لا يقاد منه، لأنها شبهة تدرأ بالحدود. فصل: فإذا ثبت أن قتلهم بعد الإسار محظور، فهم ضربان: أحدهما: أن يكونوا من أهل الجهاد أحراراً بالغين، فيدعوا إلى البيعة على الطاعة، فإن أجابوا إليها وبايعوا الإمام عليها أطلقوا ولم يجز حبسهم، ولم يلزم أخذ رهائنهم ولا إقامة كفلائهم، وركلوا إلى ما تظاهروا به من الطاعة، ولم يستكشفوا عن ضمائرهم، وإن امتنعوا من بيعة الإمام على طاعته حبسوا إلى انجلاء الحرب، واختلف أصحابنا في علة حبسهم على وجهين: أحدهما: أن العلة في حبسهم امتناعهم من وجوب البيعة عليهم، ومن امتنع من واجب عليه حبس به والديون وهذا قول أبي إسحاق المروزي. فعلى هذا: يكون حبسهم واجباً إلى الإمام، وهو مقتضى قول الشافعي في القدس لأنه قال فيهن يحبسون. والثاني: أن العلة في حبسهم أن تضعف مقاتلة البغاة يهم وهذا أصح التعليلين. لأنهم حبسوا لوجوب البيعة لما جاز إطلاقهم بعد انجلاء الحرب إلا بها. فعلى هذا: يكون حبسهم موكولاً إلى رأي الإمام واجتهاده، وهو مقتضى قول الشافعي في الجديد، لأنه قال فيه: رجوت أن يسع. والثاني: أن يكون الأسرى من غير أهل الجهاد كالنساء والعبيد والصبيان فلا يجوز حبسهم على البيعة، لأنه لا بيعة على النساء والعبيد إلا في الإسلام دون الجهاد لوجوب الإسلام عليهم وسقوط الجهاد عنهم، والصبيان لا بيعة عليهم في الإسلام ولا

في الجهاد، وهذا معنى قول الشافعين ويختلفوا في الإسار. فإذا لم يجز حبسهم على البيعة، فقد اختلف أصحابنا في جواز حبسهم لإضعاف البغاة على وجهين، بناء على اختلاف العلتين في حبس أهل الجهاد منهم: أحدهما: لا يحبسون إذا قيل: إن علة حبسهم وجوب البيعة عليهم. والثاني: يحبسون إذا قيلت إن علة حبسهم إضعاف البغاة بهم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: "فأما إذا انقضت الحرب فلا يحبس أسيرهم". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن انقضاء الحرب تكون بأحد ثلاثة أضرب: أحدها: بالرجوع إلى الطاعة والدخول في البيعة، فيطلق أسراهم كما خليت سبيلهم، لأنه المقصود منهم. والثاني: أن تنقضي بالاستسلام وللقاء السلاح، فلا يجوز بعد استسلامهم ودخولهم تحت القدرة أن يقتلوا، وتجري عليهم أحكام من اعتقد رأيهم موادعا فيخلى سبيلهم وسبيل أسراهم. فإن اختلطوا بأهل العدل، كانوا على حكمهم وإن تميزوا بدار قلد الإمام عليهم واليا ليستوفي منهم الحقوق ويقيم عليهم الحدود، وكانت دارهم دار عدل وإن كانوا على رأي أهل البغي، اعتباراً بنفوذ الأمر عليهم. والثالث: أن تنقضي الحرب بهزيمتها فمذهب الشافعي: أنهم لا يتبعون سواء كانت لهم فيئة ينضمون إليها أو لم تكن. وأبو حنيفة يرى إتباعهم إن كانت لهم فينة ينضمون إليها وقد دللنا عليه. فأما أسراهم: فإن لم يكن للمنهزمين دار فينة ينضمون إليها: أطلق أسراهم، وإن كان لهم دار وفيئة: ففي إطلاق أسراهم وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي: ومقتضى التعليل الأول في حبسهم، أنهم يستبقون ني حبسهم ولا يطلقون إلا أن يبايعوا ولا تبقى لهم دار وفيئة. والثاني: وهو مقتضى التعليل الثاني في حبسهم، أنهم يطلقون لما قد تم من ضعفهم بالهزيمة. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن سألوا أن ينظروا لم أر بأسا على ما يرجو الإمام منهم وإن خاف على الفيئة العادلة الضعف عنهم رأيت تأخيرهم إلى تمكنه القوة عليهم".

قال في الحاوي: إذا سأل أهل البغي إنظارهم والحرب قائمة، فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون ما سألوه من الإنظار قريباً كاليوم إلى ثلاثة أيام، لا تتفرق فيها العساكر ولا يتباعد فيه معسكره، فيجابون إليه، وينظرهم هذه المدة وعسكره مقيم عليهم، ويتحرز في هذه المدة منهم، لأن قتالهم لا يدون اتصاله ليلا ونهارا، ولا بد فيه من استراحة عسكره ودوابه، فيجعلها إجابة لسؤالهم إعذاراً وإنذاراً. والثاني: أن يسألوه الإنظار مدة طويلة كالشهر وما قاربه يبعد فيها المعسكر ويتفرق فيها العساكر فينبغي للإمام أن يجتهد رأيه في الإصلاح. بالكشف عن سرائرهم وعن أحوال عسكرهم. فإن علم من مسألتهم الإنظار ليستوضحوا الحق من الباطل أو ليجمعوا كلمة جماعتهم على الطاعة أنظرهم، سواء كان في عسكره قوة عليهم أو ضعف عنهم، لأن المقصود منهم عودهم إلى الطاعة دون الاصطلام، وإن علم أنهم سألوه الإنظار ليجمعوا فيها ما يتقوون به عليه، إما من عساكر أو أموال أو سألوه الإنظار ليطلبوا له المكايد أو ليتفرق عنه العسكر فيثقا عليه العود. نظر حينئذ إلى حال عساكره ز فان وجد فيهم قوة على قتالهم وصبراً على مطاولتهم لم ينظرهم وأقام على حربهم حتى يذعنوا أو ينهزموا، وإن وجد في عسكره ضعفا عنهم وعجزة عن طاولتهم أنظرهم ليلتمس القوة عليهم إما بعساكر أو بأموال، وجعل طاهر الإنظار إجابة لسؤالهم ليقيموا على الكف والموادعة، وباطن إنظارهم التماس القوة عليهم حتى لا يغفل عنهم فصل: فإن سألوا الإنظار مدة لا يجوز إنظارهم إليها على مال بذلوه، لم يجز إنظارهم به لأمرين: أحدهما: أن بذل المال على الموادعة صغار وذلة، فلم يجز أخذه من المسلمين كالجزية. والثاني: أنهم ربما أخرجوه إلى إضعافه بما يتجدد لهم من القوة. فإن أخذ منهم المال على الإنظار بطل حكم الإنظار، ونظر فيما دفعوه من المال. فإن كان من خالص أموالهم رد عليهم وإن كان من الفيء والصدقات لم يرد، وصرف في مستحقيه. فصل: فإن خيف المكر بإنظارهم فبذلوا رهائن من أولادهم على الوفاء بعهدهم. فإن كان الإنظار مما لا تجوز الإجابة إليه مع أخذ الرهائن لم يجابوا إليه يبذل الرهائن. وإن جازت الإجابة إليه بغير الرهائن كانت الإجابة إليه مع أخذ الرهائن أولى. فإن عادت الحرب ورهائنهم في أيدينا، لم نقتل رهائنهم، لأن التعدي من غيرهم.

ولو كان في أيديهم أسارى من أهل العدل فقتلوهم، وفي أيدينا لهم أسارى منهم أو رهائن لهم لم يجز قتلهم بمن قتلوه، لأن القاتل غيرهم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو استعان أهل البغي بأهل الحرب على قتال أهل العدل قتل أهل الحرب وسبوا ولا يكون هذا أمانا إلا على الكف فأما على قتال أهل العدل". قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا استعان أهل البغي على قتالنا بأهل الحرب بأمان أعطوهم، نظر حال الآمان، فانه لا يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون مطلقا أو مشروطا بقتالنا. فإن كان مطلقا: صح الأمان لهم، وكان عقد أهل البغي لهم كعقد أهل العدل لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم". ويصيرون بهذا الأمان أمنيين من أهل البغي وأهل العدل، لعمومه وصحته، ما لم يقاتلونا، فإن قاتلونا صاروا كأهل العهد المتقدم، إذا قاتلوا على ما سنذكره. وإن كان عقد الأمان لهم مشروطة بقتالهم معهم، كان هذا الأمان باطلاً لأمرين: أحدهما: أنه لما بطل عقد الأمان لهم بقتالنا لم يجز أن ينعقد على قتالنا. والثاني: أن عقد الأمان يقتضي أن نؤمنهم ونأمنهم فلم يجز أن نؤمنهم ولا نأمنهم، وإذا بطل الأمان بما ذكرنا سقط حكمه في أهل العدل ولزم حكمه في أهل البغي اعتبارا بالشرط في حقهم، وإن بطل في حق غيرهم، وجاز لأهل العدل قتلهم واسترقاقهم وسبيهم وقتلهم مقبلين ومدبرين كما يقتلون ويقاتلون في جهادهم وهم مقبلين ومدبرين. ولم يجز لأهل البغي قتلهم ولا استرقاقهم وإن حكمنا ببطلان أمانهم للزومه في الخصوص وإن بطل في العموم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " فلو كان لهم أمان فقاتلوا أهل العدل كان نقضاً لأمانهم". قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا كان لطائفة من المشركين عهداً بأمان متقدم، فاستعان بهم أهل البغي على قتالنا، كان ذلك نقضاً لأمانهم إذا قاتلونا لقول الله تعالى: {وإمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58].

فلما جاز أن ينبذ إليهم عهدهم بنقضه إذا خفناهم كان أولى أن ينقض بقتالهم. ولأن إعطاء للعهد لهم إنما كان لمصلحتنا لا لمصلحتهم، وكذلك إذا سألوا العهد لما يلزم إجابتهم إليه إلا إذا رأى الإمام في ذلك خطأ للمسلمين، فيجوز أن يعاهدهم، فإذا قاتلوا زالت المصلحة فبطل العهد عموماً، وإن كان من أهل البغي خصوصًا. وجاز لنا قتلهم وسبيهم، وقتالهم مقبلين ومدبرين فإن أسلموا: لم يؤخذوا بما استهلكوا من دم ولا مال كغيرهم من أهل الحرب، بخلاف أهل البغي. فإن قالوا: لم نعلم أن قتالنا معهم مبطل لعهدنا معكم. لم يقبل منهم في بقاء العهد معهم، لأن الأمان هو الكف والموادعة، فضعف ما ادعوه من الجهالة. فإن ادعوا الإكراه: كلفوا البينة، فإن أقاموا على إكراه أهل البغي لهم على قتالنا بينة، كانوا على عهدهم. وإن لم يقيموها، لم تقبل دعواهم، وانتقض عهدهم، لأن أصل الفعل حدوثه عن اختيار فاعله. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن كانوا أهل ذمة فقد قيل ليس هذا نقضاً للعهد قال ورأى كانوا مكرهين أو ذكروا جهالة فقالوا كنا نرى إذا حملتنا طائفة من المسلمين على أخرى أن دمها يحل كقطاع الطريق أو لم نعلم أن من حملونا على قتاله مسلم لم يكن هذا نقضاً للعهد وأخذوا بكل ما أصابوا من دم ومال وذلك أنهم ليسوا بمؤمنين الذين أمر الله بالإصلاح بينهم. قال في الحاوي: إذا استعان أهل البغي على قتالنا بأهل الذمة وأصحاب الجزية. فإن كانوا مكرهين: لم تنتقض ذمتهم. وإن كانوا مختارين: فإن ادعوا جهالة وقالوا: ظننا أن معونتنا لبعضكم على بعض جائزة كما نعينكم على قطاع الطريق، قبل منهم دعوى الجهالة، ولم تنقض ذمتهم وإن لم يقبل من أهل العهد والنقض به عهدهم. والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن عقد الذمة حق لهم علينا، وعهد الأمان حق لنا عليهم، لأن من سأل الأمان لم يلزم إجابته، ومن بذل الجزية لزمت إجابته. والثاني: أن لنا مع خوف الخيانة أن ننقض أمان أهل العهد، وليس لنا مع خوفها أن ننقض أمام أهل الذمة حتى نتيقنها فافترقا. وإن لم يدعوا الجهالة لم يخلو عقل ذمتهم من أحد أمرين: أحدهما: أن يشترط فيه عليهم أن لا يعينوا على مسلم بقتل ولا قتال، فيكون ما خالف هذا الشرط من قتالهم لأهل العدل نقضاً لأمانهم.

والثاني: أن يكون عقد ذمتهم مطلقًا، لم يشترط ذلك في، ففي انتقاض ذمتهم قولان: أحدهما: قد انتقضت بالقتال ذمتهم كما انتقض به أمان أهل العهد. فعلى هذا: يجوز قتلهم وقتالهم مقبلين ومديرين كما ذكرنا في أهل العهد. والثاني: لا تنتقص به ذمتهم وإن انتقص به أمان أهل العهد، لقوة الذمة على العهد من وجهين: أحدهما: أن الذمة مؤبدة والعهد مقدر بمدة. والثاني: أن الذمة توجب أن نكف عنهم أنفسنا وغيرنا، والعهد لا يوجب أن تكف عنهم غيرنا، مع ما قدمناه من الفرق بينهما من الوجهين المتقدمين. فعلى هذا: يجب علينا أن نقاتلهم مقبلين ونكف عنهم مدبرين كأهل البغي، ولكن ما أصابوه من دم أو مال يؤخذون بغرمه قولاً واحداً، وإن لم يؤخذ أهل البغي بغرمه في أحد القولين، لأن قتال أهل البغي بتأويل، وقتال أهل الذمة بخير تأويل. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وأن أتى أحدهم تائباً لم يقص منه لأنه مسلم محرم الدم". قال في الحاوي: اختلف أصحاب الشافعي في مراده بهذه المسألة على وجهين: أحدهما: أنه أراد بها من استعان البغاة به من المشركين إذا أتلفوا في حربنا دماء وأموالًا ثم تابوا من الشرك وأسلموا لم يؤخذوا بغرمه إن كانوا من أهل الحرب أو من أهل العهد وكذلك إن كانوا من أهل الذمة. وجعل القتال نقضًا لذمتهم، فإن لم يجعل نقضًا لم يسقط الغرم، ولا يكون محمولاً على البغاة، لأنه علل في سقوط الغرم يما ليس بعلة في سقوطه عن أهل البغي وهو التوبة، لان علة سقوطه عن أهل البغي هو التأويل. والثاني: أنه أراد بها أهل البغي، لأن الشافعي قد أفصح بذلك في كتاب الأم، وتكون التوبة محمولة على إظهار الطاعة ووجود القدرة فلا يجيب عليهم غرم ما استهلكوه من دم ومال على أصح القولين، وإن وجب على للقول الآخر. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وقال لي قائل ما تقول فيمن أراد دم رجل أو ماله أو حريمه؟ قلت يقاتله وإن أتى القتل على نفسه إذ لم يقدر على دفعه إلا بذلك وروى

حديث النبي صلى الله عليه وسلم: " لا يحل دم امرء مسلم إلا بإحدى ثلاث كفر بعد إيمان وزنا بعد إحصان وقتل نفس بغير نفس" قلت هو كلام عربي ومعناه إذا أتى واحدة من الثلاث حل دمه فمعناه كان رجلاً زنى محصناً ثم ترك الزنى وتاب منه وهرب فقدر عليه قتل رجما أو قتل عمدا وترك القتل وتاب منه وهرب ثم قدر عليه قتل قوداً وإذا كفر ثم تاب فارقة اسم الكفر وهذان لا يفارقهما اسم الزى والقتل ولو تابا وهربا". قال في الحاوي: هذا سؤال اعترض به على الشافعي من منع من قتال أهل البغي، لأن قتالهم مقضي إلى قتلهم، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان أو قتل نفس بغير نفس". وليس الباغي واحداً من هؤلاء الثلاثة، وجعل هذا السؤال مقصوراً فيمن أريد دمه أو ماله أو حريمه كيف يجوز له قتل من أراده بذلك. فاقتضى السؤال دليلاً على الحكم وانفصالاً عن الخبر، فأما الدليل على أن من أريد دمه أو ماله أو حريمه يجوز له دفع من أراده إن أتى الدفع عن نفسه على ما سنذكره من نعد من ترتيب الدفع بحال بعد حال قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون مال، فهو شهيد". والشهيد مظلوم، وللمظلوم دفع الظلم عن نفسه بالقتال، وما أبيح من القتال لم يجب به ضمان، وأما الانفصال عن الخبر فمن وجهين: أحدهما: أنه أباح القتل بثلاثة شروط اختلفت معانيها واتفقت أحكامها: أحدها: بالكفر بعد الإيمان فلا يجوز العفو عنه، ويسقط بالتوبة منه، ويزول عنه اسم الكفر بعد التوبة. والثاني: بالزنى يعد الإحصان، لا يجوز العفو عنه، ولا يسقط بالتوبة منه بعد القدرة، وفي سقوطه قبل القدرة خلاف ولا يزول عنه اسم الزنى بعد التوبة. والثالث: بقتل نفس بغير نفس، وهذا يجوز العفو عنه، ولا يسقط بالتوبة، ولا يزول عنه اسم للقتل بالتوبة. فلما اختلفت المعاني والأسماء، صارت معاني القتل هي المعتبرة دون العدد المحصور. والثاني: أنه لسان عربي لا يمنع أن ينضم إلى العدد المحصور ما في معناه، ولا تكون الزيادة عليه رافعة لحكمه كما قال الله تعالى: {ووَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} [الأعراف: 142].

وعلى أن للخبر تأويلين يغنيان عن هذين الجوابين: أحدهما: لا يحل قتله بسبب متقدم إلا بإحدى ثلاث، وهذا لا يقتل صبراً، وإنما ينتهي حاله إلى القتل دفعًا. والثاني: لا يحل قتله بسبب متقدم إلا بإحدى ثلاث، وهذا لا يقتل بسبب متقدم، وإنما يقتل بسبب حادث في الحال. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا يستعان عليهم بمن يرى قتلهم مدبرين". قال في الحاوي: أما الاستعانة بأهل العهد والذمة في قتال أهل البغي فلا يجوز بحال، لقول الله تعالى: {ولَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} [النساء: 141]. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يعلى". ولأنهم غير مأمونين على نفوسهم وحريمهم لما يعتقدونه دينا من إباحة دمائهم وأموالهم التي أوجب الله تعالى حظرها وأمر بالمنع منها. فأما الاستعانة عليهم بمن يرى قتالهم من المسلمين مقبلين ومديرين فقد منع الشافعي منه لما يلزم من الكف عنهم إذا انهزموا. فإن قيل: فهلا جاز أن يستعين عليهم بمن يخالف رأيه فيه، ويعمل على اجتهاد نفسه، كما يجوز للحاكم أن يستخلف من يحكم باجتهاد نفسه، وإن خالف اجتهاد مستخلفه، فيجوز للشافعي أن يستخلف حنيفا، وللحنفي أن يستخلف شافعيًا. قيل: الفرق بينهما: أن قتال أهل البغي مدبرين باجتهاد الإمام والمعين فيه مأمور ممنوع من الاجتهاد، والمستخلف على الحكم مفوض إليه النظر فساغ له الاجتهاد. فإذا ثبت أنه ممنوع الاستعانة فقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: أنه منع تحريم وحظر. والثاني: أنه منع ندب واستحباب. فإذا دعته الضرورة إلى الاستعانة بهم لحجز أهل العدل عن مقاومتهم جاز أن يستعين بهم على ثلاثة شروط: أحدها: أن لا يجد عونًا غيرهم، فإن وجد لم يجز. والثاني: أن يقدر على ردهم إن خالفوا، فإن لم يقدر على ردهم لم يجز. والثالث: أن يثق بما شرطه عليهم أن لا يتبعوا مدبراً ولا يجهزوا على جريح، فإن لم يثق بوفائهم لم يجز.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا بأس إذا كان حكم الإسلام الظاهر أن يستعان بالمشركين على قتال المشركين وذلك أنه تحل دماؤهم مقبلين ومدبرين". قال في الحاوي: وهو كما قال يجوز للإمام أن يستعين بالمشركين على قتال المشركين، لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم استعان في بعض حروبه بيهود بني قينقاع، واستعار من صفوان بن أمية عام الفتح سبعين درعاً. وشهد معه حنينًا وهو على شركه، وسمع أبا سفيان يقول: غلبت هوازن وقتل محمد. فقال له: يفيك الحجر، والله لرب من قريش أحب إلينا من رب هوازن. فإن قيل: فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم مع مشرك" قيل: إنما برئ من معونة المسلم لمشرك ولم يبرأ من معونة المشرك لمسلم. وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تستضيئوا بنار أهل الشرك" ومعناه: لا ترجعوا إلى آرائهم. فإذا ثبت جواز الاستعانة بهم على المشركين وإن لم يجز الاستعانة بهم على أهل البغي فهي معتبرة بثلاثة شروط: أحدها: أن تكون نياتهم في المسلمين جميلة. والثاني: أن يعلم من حالهم أنهم إن انضموا إلى المشركين لم يضعف المسلمون عن جميعهم. والثالث: أن يؤمن غدرهم وتخزيلهم. فإذا استكملت فيهم هذه للشروط استعان بهم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يعين العادل إحدى طائفتين الباغيتين وإن استعانته على الأخرى حتى نرجع إليه". قال في الحاوي: إذا افترق أهل البغي طائفتين وقاتلت إحدى الطائفتين الأخرى. فإن قوي الإمام على قتالهما لم يكن له معونة إحدى الطائفتين على الأخرى لأمرين: أحدهما: أن كلا الطائفتين على خطأ، والمعونة على الخطأ من غير ضرورة خطأ.

والثاني: أن معونة إحداهما أمان لها، وعقد الأمان لها غير جائز. وإن ضعف عن قتالهما قاتل إحدى الطائفتين مع الأخرى، ويعتقد أنه ستعين بهم، ولا يعتقد انه معين لهم، وليضم إليه أقربهما إلى معتقده، وأرغبهما في طاعته. فإن استويا ضم إليه أقلهما جمعًا فإن استويا ضم إليه أقربها داراً، فإن استويا اجتهد رأيه في إحداهما، فإن أطاعته الطائفة التي قاتلها أو انهزمت عنه، عدل إلى الأخرى، ولم يبدأ بقتالها إلا بعد استدعائها ثانية إلى طاعته، لأن انضمامها إليه كالأمان الذي يقطع حكم ما تقدمه من الاستدعاء والحياة. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا يرمون بالمنجنيق ولا نار إلا أن تكون ضرورة بأن يحاط بهم فيخافوا الاصطلام أو يرمون بالمنجنيق فيسعهم ذلك دفعاً عن أنفسهم". قال في الحاوي: اعلم أن المقصود بقتال أهل البغي كفهم عن البغي والمقصود بقتال أهل الحرب قتلهم على الشرك، فاختلف قتالهما لاختلاف مقصودهما من وجهين: أحدهما: في صفة الحرب. والثاني: في حكمها. فأما اختلافهما في صفة الحرب فمن تسعة أوجه: أحدها: أنه يجوز أن يكبس أهل الحرب في دارهم غرة وبياتاً، ولا يجوز أن يفعل ذلك بأهل البغي. والثاني: يجوز أن يحاصر أهل الحرب ويمنعهم الطعام والشراب ولا يجوز أن يفعل ذلك بأهل البغي. والثالث: يجوز أن يقطع على أهل الحرب نخيلهم وأشجارهم وزروعهم، ولا يجوز أن يفعل ذلك بأهل البغي. والرابع: يجوز أن يفجر على أهل الحرب المياه ليغرقوا، ولا يجوز أن يفعل ذلك بأهل البغي. والخامس: يجوز أن يحرق عليهم منازلهم، ويلقى عليهم النار ولا يجوز أن يفعل ذلك بأهل البغي. والسادس: يجوز أن يلقى على أهل الحرب الحيات والحسك، ولا يجوز أن يفعل ذلك بأهل البغي. والسابع: يجوز أن بنصب على أهل الحرب العرادات ويرميهم بالمنجنيقات، ولا يجوز أن يفعل ذلك بأهل البغي.

والثامن: يجوز أن يعقر على أهل الحرب خيلهم إذا قاتلوا عليها، ولا يجوز أن يفعل ذلك بأهل البغي. والتاسع: يجوز أن يقاتل أمل الحرب مقبلين ومدبرين، ولا يقاتل أهل البغي إلا مقبلين ويكف عنهم مدبرين. وأما اختلافهما في حكم الحرب فمن ستة أوجه: أحدها: يجوز أن يقتل أسرى أهل الحرب، ولا يجوز أن يقتل أسرى أهل البغي. والثاني: يجوز أن تسبى ذراري أهل الحرب، وتغنم أموالهم ولا يجوز مثله في أهل البغي. والثالث: أنه يجوز أن يعهد لأهل الحرب عهدًا وهدنة، ولا يجوز أن يعهد لأهل البغي. والرابع: يجوز أن يصالح أهل الحرب على مال، ولا يجوز ذلك مع أهل البغي. والخامس: يجوز أن يسترق أهل الحرب، ولا يجوز أن يسترق أهل البغي. والسادس: يجوز أن يفادي أهل الحرب على مال وأسرى، ولا تجوز مفاداة أهل البغي. فصل فإذا تقرر ما ذكرنا من اختلافهما في صفة الحرب وحكمها، وأنه لا يجوز أن يرموا بالمنجنيق، فذلك في حال الاختيار. فإن دعت ضرورة في إحدى حالتين جاز أن يرموا به، وتلقى عليهم النار: إحداهما: أن يقاتلوا أهل العدل بذلك، فيجوز أن يقاتلوا عليه بمثله، قصداً لكفهم عنه لا لمقاتلتهم عليه، فإن للظلم لا يبيح الظلم، لكن يستدفع الظلم بما أمكن. والثانية: أن يحبطوا بأهل العدل ويخافوا اصطلامهم، فلا باس أن يرموهم بالمنجنيق ويلقوا عليهم النار طلباً للخلاص منهم لا قصداً لاصطلامهم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن غلبوا على بلاد فأخذوا صدقات أهلها وأقاموا عليهم الحدود لم تعد عليهم." قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا تخلب أهل البغي على بلد فأخذوا صدقاتها وجبوا خراجها وأقاموا الحدود على أهلها، وأمضى الإمام ما فعلوه إذا ظهر على بلادهم ولم يطالب بما أوجبوه من الحقوق ولم يعد ما أقاموا من الحدودي لأن عليا رضوان الله

عليه أمضى ذلك ولم يطالب به، ولأنهم متأولون في جبايته وإقامته. ولأنه لا يلزم أن يؤدي زكاة عام مرتين، ولا يقام على زان حدين. فإن ادعى أصحاب الحدود إقامتها عليهم: قبل قولهم فيها، ولم يحلقوا عليها، لأنها حدود تدراً بالشبهات. فإن ادعى من عليه الحقوق دفعها إليهم. فإن كانت زكاة: قبل قولهم في دفعها ولم يكلفوا البينة عليها لأنهم فيها أمناء، فإن اتهموا: أحلفوا، وفي يمينهم بعد اعترافهم بوجوبها وجهان: أحدهما: أنها مستحبة، إن نكلوا عنها لم تؤخذ منهم. والثاني: أنها واجبة، إن نكلوا عنها أخذت منهم بالاعتراف المتقدم دون النكول. وإن كان الحق الذي ادعوا أداءه جزية أو خراجا، فإن كان على كافر: كلف البينة ولم تقبل دعواه، لأن الجزية أجرة، والخراج إما أن يكون ثمة أو أجرة ولا يقبل قول المستأجر في دفع الأجرة، ولا قول المشتري في دفع الثمن إلا ببينة، فإن أقاموا البينة على دفعها برئوا. وإن لم يقيموها أخذت منهم الجزية والخراج. وإن كان الخراج على مسلم: ففي قبوله قوله في دفعه وجهان: أحدهما: يقبل قوله فيه ويحلف إن اتهم عليه كالزكاة. والثاني: وهو أصح أن قوله فيه غير مقبول حتى يقيم البينة على الأداء، فإن لم يقصها أخذت منه. فان أحضروا خطوطًا بقبضها فان كانت محتملة للشبهة: لم يعمل بها في الأحكام ولا في حقوق الأموال. وإن كانت سليمة من الاحتمال طاهرة الصحة لم يعمل عليها في الأحكام ولا في حقوق المعاملات. وفي جواز العمل بها في حقوق بيت المال وجهان: أحدهما: يجوز العمل بها اعتباراً بالعرف فيها. والثاني: وهو أصح أنه لا يجوز بها على العموم في جموع الأحكام والحقوق، لدخول الاحتمال فيها وإمكان التزوير عليها. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا يرد من قضاء قاضيهم إلا ما يرد من قضاء قاضي غيرهم وقال في موضع أخر: إذا كان غير مأمون برأيه على استحلال دم ومال لم ينفذ حكمة ولم يقبل كتابه". قال في الحاوي: وقال في موضع آخر: إن كان غير مأمون برأيه على استحلال دم أو مال لم ينفذ حكمه ولم يقبل كتابه إذا قلد أهل البغي قاضية على البلاد التي غلبوا

عليها، نظرت حاله: فإن كان يرى استحلال دماء أهل العدل وأموالهم: كان تقليده باطلاً، وقضاياه مردودة، سواء وافقت الحق أو خالفته، لأنه بهذا الاعتقاد فاسق، وولاية الفاسق باطلة، وبطلان ولايته توجب رد أحكامه. وإن كان لا يرى استباحة ذلك: جاز تقليده القضاء إذا كان من أهل الاجتهاد سواء كان عادلاً أو باغيًا. وقال أبو حنيفة: لا تنعقد ولايته إذا كان من أهل البغي، ولا تنفذ أحكامه. وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه متأول بشبهة خرج بها من الفسق. والثاني: أنه لما صح من الباغي أن يقلد القضاء، صح منه أن ينفذ القضاء، وصار في الحكم كالعادل، كما كان في التقليد كالعادل. فإذا حكم نفذت أحكامه على أهل البغي وأهل العدل، ولم يرد منها إلا ما يرد من أحكام قضاة أهل العدل إن خالف نصًا من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس غير محتمل. فعلى هذان لو حكم بوجوب الضمان على أهل البغي فيما أتلفوه على أهل العدل نفذ حكمه، لأنه متفق عليه. ولو حكم بسقوط الضمان عنهم فيما أتلفوه على أهل العدل، نظر: فإن كان فيما أتلفوه قبل الحرب أو بعدها: لم ينفذ حكمه، لأنه مخالف للإجماع. وإن كان فيما أتلفوه في حال القتل نفذ حكمه لاحتماله في الاجتهاد. وسقط عنهم الضمان. فصل: وإذا كتب قاضي أهل البغي إلى قاضي العدل كتابة في حكم فالأولى أن لا يتظاهر بقبوله، ويتلطف في رده استهانة به وزجراً له عن بغيه فإن قبله وحكم به جاز. فصل: وإذا كتب قاضي أهل البغي إلى قاضي العدل كتاباً في حكم، فالأولى أن لا يتظاهر بقبوله، ويتلطق في رده استهانة به وزجراً له عن بغيه، فان قبله وحكم به جاز. وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يقبله ولا ينفذ حكمه به بناء على أصله في بطلان ولايته ورد أحكامه. وهكذا يجوز لقاضي أهل العدل أن يكتب إلى قاضي أهل البغي كتابة يحكم وإن كره له ذلك. ولعل أبا حنيفة يمنع منه. فقد روي أن محمد بن أبي بكر سأل عليا رضوان الله عليه أن يكتب له كتابا يعمل عليه في أحكامه، فكتب إليه بذلك كتابا وأخذه معاوية في الطريق، وكان يعمل به في الأحكام، فبلغ ذلك علياً، فقال: غلطت غلطة لا أعذر أكيس بعدها واستمر.

فأما ما حكاه المزني من قوله في موضع آخر: إن كان غير مأمون فليس بقول مختلف وإنما وهم به المزني. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو شهد منهم عدل قبلت شهادته ما لم يكن يرى أن يشهد لموافقته بتصديقه". قال في الحاوي: وهذا صحيح. شهادة أهل البغي إذا كانوا عدولاً مقبولة، ولا يكونوا بما تأولوه من البغي فساقاً، لحدوثه منهم عن تأويل سائغ. وقال أبو حنيفة: هم فساق، ولكن تقبل شهادتهم، لأنه نسق من تدين واعتقاد، ولذلك قبلت شهادة أهل الذمة إذا كانوا عدولا في دينهم. وقال مالك: هم فساق لا نقبل شهادتهم. والدليل عليهما في صحة العدالة منهم وأن لا يصيروا بالتأويل المسوغ فساقا أن الانفصال من مذهب إلى غيره إذا كان له في الاجتهاد مساغ لا يقتضي التنسيق، كالمنتقل في فروع الدين من مذهب الشافعي إلى مذهب مالك أو أبي حنيفة لا يضق بالانتقال، لأنه عدل إلى مذهب بتأويل سائغ. فصل: فإذا ثبت أنه يجوز أن يكون عدلاً إذا اجتنب ما يجتنبه عدول أهل العدل، لم يمنع من قبول شهادته إلا في حالتين: أحدهما: أن يرى من خالفه مباح الدم والمال، فيكون بهذه الاستباحة فاسقاً. والثانية: أن يعتقد رأي الخطابية. وهم قوم يرون الشهادة لموافقتهم على مخالفهم فيما ادعاه عليه، فيصدقه، ثم يشهد له بذلك عند الحاكم. وبنوه على أصولهم في أن الكذب في القول والإيمان باله موجب للكفر وإحباط الطاعات. فشهادة هؤلاء مردودة، وفي علة ردها وجهان: أحدهما: الفسق، لأنه اعتقاد يرده الإجماع. والثاني: التهمة مع ثبوت العدالة، لأنه متهم في مماثلة موافقه، فصار كشهادة الأب لابنه وإن كان على عدالة. فعلى هذا: ترد شهادته إذا شهد بالحق مطلقاً، وإن شهد على إقرار من عليه الحق، ففي رد شهادته وجهان:

أحدهما: ترد شهادته في المقيد كردها في المطلق إذا قيل: إن العلة في ردها الفسق. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي تقبل شهادته ولا ترد إذا قيل: إن العلة في ردها التهمة؛ لأنه يتهم في المطلق أنه لتصديق موافقه, ولا يهتم في العقيد بالإقرار أن يقول: أقر عندي ولم يقر لأنه كذب يوجب عندهم الكفر. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن قتل باغ في المعترك غسل وصلى عليه ودفن وإن كان من أهل العدل ففيها قولان أحدهما أنه كالشهيد والآخر أنه كالموتى إلا من قتله المشركون". قال في الحاوي: أما إذا كان المقتول في معركة الحرب من أهل البغي فإنه يغسل ويصلى عليه. وقال أبو حنيفة: لا يغسل ولا يصلى عليه استهانة به وعقوبة له, لمخالفته في الدين كأهل الحرب. ودليلنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فرض على أمتي غسل موتاها والصلاة عليها". ولأنه مسلم مقتول بحق فلم يمنع قتله من غسله والصلاة عليه كالزاني والمقتص منه, بل هذا أحق بالصلاة منهما, لأن الزاني فاسق, وهذا متردد الحال بين فسق وعدالة. فأما استهانته فغير صحيح, لأنه لا يجوز أن يستهان بمخلوق في إضاعة حقوق الخالق. وإما جعل ذلك عقوبة, فالعقوبة إنما تتوجه إلي من يألم بها, ولأن العقوبات تسقط بالموت كالحدود. فإن قيل: يعاقب بها الحي منهم. قيل: لا يجوز أن يعاقب أحد بذنب غيره, على أنهم يرون ترك الصلاة عليهم قربة لهم. فصل: فإن كان المقتول في معركتهم من أهل العدل ففي غسله والصلاة عليه قولان: أحدهما: لا يغسل ولا يصلى عليه, لأنه مقتول في المعركة على حق كالقتيل في معركة المشركين. والثاني: يغسل ويصلى عليه, لأن عمر وعثمان وعليًا رضوان الله عليهم قتلوا شهداء فغسلوا وصلي عليهم, لأنهم لم يقتلوا في معركة المشركين.

وقتل عمار بن ياسر بصفين فغسله علي وصلى عليه. ولأنه مسلم قتله مسلم, فلم يمنه قتله من الصلاة عليه كالمقتول في غير المعركة. مسألة: قال الشافعي رضي الله: "وأكره للعدل أن يعمد قتل ذي رحم من أهل البغي وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كف أبا حذيفة بن عتبة عن قتل أبيه وأبا بكر رضي الله عنه يوم أحد عن قتل ابنه". قال في الحاوي: وهذا صحيح. يكره للعادل قتل ذي رحم من أهل البغي وقتاله, ويعدل عنه إلي غيره لقول الله تعالى: {وصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا واتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إلَيَّ} [لقمان 15] , ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كف أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة عن قتل أبيه يوم بدر, وكف أبا بكر عن قتل ابنه عبد الرحمن يوم أحد, ولأن فيه اعتيادًا للعقوق واستهانة بالحقوق. ولأن له فسخة في أن يعدى عن ذي رحمه ويكل قتله أو قتله إلي غيره. فإن قتل ذا رحم له جاز, ولم يخرج وإن كره له. روي أن أبا عبيدة بن الجراح قتل أباه مشركًا, وأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم برأسه, فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك منه حتى ظهر في وجهه وقال: ما حملك على ذلك؟ قال: سمعته يسبك, ثم ولى منكسًا إلي أن نزل الله تعالى فيه عذره: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ والْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ ورَسُولَهُ ولَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} [المجادلة 22]. فصل: فأما قول الشافعي: وأكره أن يعمد قتل ذي رحمه. عمد القتل في قتال أهل البغي ينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون رميه عميًا يرمى إلي صفه سهمًا, لا يقصد به أحدًا بعينه, فيقتل به من أصابه فلا حرج عليه. وهذا أولى ما فعله العادل في قتاله, فيكون عامدًا في القتل غير متعمد للمقتول. والثاني: أن يعمد قتل رجل بعينه, يقاتل أهل العدل وينكى فيهم هذا مباح لا حرج فيه عليه, لأنه قتل دفع. والثالث: أن يعمد قتل رجل بعينه قد كف عن القتال, وهو واقف مع صفهم, ففي عمد قتله وجهان محتملان: أحدهما: محظور, لأن القصد بقتالهم الكف, وهذا كاف فصار كالأسير الذي يحرم اعتماد قتله.

والثاني: لا يحرم, لأنه ردء لهم وعون, فأجرى عليه حكم مقاتلتهم فقد شهد حرب الجمل محمد بن طلحة بن عبيد الله. وكان ناسكًا عابدًا ورعًا يدعى السجاد. فرآه علي عليه السلام واقفًا فنهى عن قتله, وقال: إياكم وصاحب البرنس, فقتله رجل وأنشأ يقول: وأشعث قوام بآيات ربه قليل الأذى فيما ترة العين مسلم هتكت له بالرمح جيب قميصه فخر صريعا لليدين وللفم يناشدني حم والرمح مشرع فهلا تلاحم قبل التقدم على غير شيء غير أن ليس تابعًا ... عليًا ومن لا يتبع الحق يظلم قال الشافعي: فما أخذه علي بدمه, ولا زجره على قتله. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وأيهما قتل أباه أو ابنه فقال بعض الناس إن قتل العادل أباه ورثه وإن قتله الباغي لم يرثه وخالفه بعض أصحابه فقال: يتوارثان لأنهما متأولان وخالفه آخر فقال لا يتوارثان لأنهما قاتلان. قال الشافعي رحمه الله: وهذا أشبه بمعنى الحديث فيرثهما غيرهما من ورثتهما". قال في الحاوي: هذه المسألة في ميراث القاتل قد مضت في كتاب الفرائض. فإذا اقتتل الورثة في قتال أهل البغي, فقد اختلف الناس في توارثهم على أربعة مذاهب: أحدهما: وهو مذهب أبي حنيفة أنه يورث العادل من الباغي ولا يورث الباغي من العادل، لأن قتل العادل ظلم، وقتل الباغي حق. والثاني: وهو مذهب أبي يوسف ومحمد أنهما يتوارثان فيورث العادل من الباغي ولا يورث الباغي من العادل لأنهما متأولان. والثالث: وهو مذهب مالك أنه إن قتله في عميا توارثًا, لأن العمياء خطأ, وهو يورث الخاطيء وإن قتله عمدًا لم يتوارثا. والرابع: وهو مذهب الشافعي أنهما لا يتوارثان بحال في عمد ولا خطأ لعموم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ميراث لقاتل. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ومن أريد دمه أو ماله أو حريمه فله أن يقاتل وإن أتى ذلك على نفس من أراده. قال الشافعي رحمه الله: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قتل دون ماله فهو شهيد".

قال في الحاوي: قد مضت هذه المسألة فيمن أريد دمه أو ماله أو حريمه أن له أن يقاتل من أراده وإن أتى القتال على نفسه, ويكون دم الطالب هدرًا ما لم يكن للمطلوب ملجأ يلجأ إليه من حصن يغلقه عليه أو مهرب لا يمكن لحوقه فيه لرواية الضحاك عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قتل دون ماله فهو شهيد ومن قتل دون نفسه فهو شهيد, ومن قتل دون حريمه فهو شهيد ومن قتل دون جاره فهو شهيد". فإن وجد المطلوب ملجأ يلجأ إليه فقد قال الشافعي في موضع: له أن يقاتل. وقال في موضع آخر. ليس له أن يقاتل. فاختلف أصحابنا فخجره بعضهم على قولين. وقال آخرون: بل هو على اختلاف حالين, فالموضع الذي أباح قتاله: إذا لم يأمن رجعته, والموضع الذي منع من قتاله: إذا أمن رجعته. فصل: فإذا ثبت جواز القتال فوجوبه معتبر بما أراده الطالب, وذلك ينقسم ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يريد مال المطلوب دون دمه وحريمه, فهذا القتال مباح والمطلوب مخير بين قتال الطالب وبين استسلام وتسليم ماله ولا يجب عليه أن يمنع منه. والثاني: أن يريد الطالب حريم المطلوب, لإتيان الفاحشة فواج على المطلوب أن يقاتل عنها ويمنع. والثالث: أن يريد الطالب نفس المطلوب, ففي وجوب قتاله دفعه عن نفسه وجهان: أحدهما: يجب عليه أن يقاتل عنها ويدفع لقوله تعالى: {ولا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ} [النساء 29]. وقوله: {ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} [البقرة 195]. كما يجب على المضطر من الجوع إحياء نفسه بأكل ما وجده من الطعام. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي لا يجب عليه القتال والدفع, ويكون مخيرًا بينه وبين الاستسلام, طلبًا لثواب الشهادة. لقوله تعالى: {لَئِن بَسَطتَ إلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إلَيْكَ لأَقْتُلَكَ} [المائدة 28]. ولأن عثمان بن عفان رضي الله عنه حين أريدت نفسه منع عنه عبيده, فكفهم وقال لهم: من أغمد سيفه فهو حر. وأتى رجل إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت لو أن رجلًا انغمس في العدو حتى قتل صابرًا محتسبًا أيحجزه عن الجنة شيء فقال: لا, إلا الدين, فانغمس في العدو حتى قتل, ورسول الله صلى الله عليه وسلم يراه ولا يمنعه. فأما المضطر جوعًا إذا وجد طعامًا وهو يخاف التلف. فإن كان مالكًا للطعام أو لم يكن مالكًا له, وكان قادرًا على ثمنه فواجب عليه إحياء نفسه بأكله وجهًا واحدًا, بخلاف من أريد دمه في أحد الوجهين؛ لأن في القتل شهادة يرجو بها الثواب, وليس في ترك الأكل شهادة يثاب

عليها. وإن كان الطعام لغيره وهو غير قادر لي ثمنه ففي وجوب إحياء نفسه بأكله وجهان: وهكذا لو وجد ميتة كان في وجوب أكلها وجهان: أحدهما: يجب تغليبًا لإحياء النفس. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي-كون مخيرًا فيه ولا يجب عليه لتنزيه نفسه عن نجاسة الميتة وإبرا ذمته من التزام ذنب لا يعذر عليه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "فالحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يدل على جواز أمان كل مسلم من حر وامرأة وعبد قاتل أو لما يقاتل لأهل بغي أو حرب". قال في الحاوي: وهذا كما قال. وأصل هذا: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المسلمون تتكافأ دماؤهم وهو يد على من سواهم, ويسعى بذمتهم أدناهم". قيل: إنه أراد عبيدهم فإذا ثبت هذا فالأمان ضربان، عام وخاص. فأما العام: فهو الهدنة مع أهل الحرب, فلا يجوز أن يتولاها إلا الإمام جون غيره, لعموم ولايته, فإن تولاها غيره, لم يلزم. وإذا اختصت بالإمام, كان إمام أهل الهدل أحق بعقدها من إمام أهل البغي, فإن عقدها إمام أهل البغي بطلبت, كما تبطل بعقد غير الإمام, لأن إمامة الباغي لا تنعقد. وأما الأمان الخص: فيصح من كل مسلم لكل مشرك, سواء كان الأمان من رجل أو امرأة, من حر كان أو من عبد, من عادل أو باغ فيكون أمان البغي لازمًا لأهل البغي وأهل العدل, وأمان العادل لازمًا لأهل العدل وأهل البغي. فإن أمن أهل البغي قومًا من المشركين, لم يعلم بهم أهل العدل حتى سبوهم وغنموهم لم يملكوا سبيهم وغنائمهم, ولزمه رد السبي والغنائم عليهم, وكذلك لو أمنهم أل العدل وسباهم وغنمهم أهل البغي, حرم عليهم أن يتملكوهم, وحرم على أهل العدل أن يبتاعوهم. وعلى إمام أهل العدل إذا قدر عليهم أن يسترجعه منهم ويرده على أهله من المشركين. وهكذا لو أمن أهل البغي قومًا من المشركين ثم غدروا بهم فسبوهم وغنموهم, لم يحل ابتياع السبي والغنائم منهم, ولزم أهل العدل رد ما قدروا عليه. فصل: فإذا اجتمع أهل العدل وأهل البغي على قتال المشركين, قسم سبيهم وغنائمهم بين أهل العدل وأهل البغي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم, ولأن الإسلام يجمعهم وإن جرى الاختلاف بينهم.

باب الخلاف في قتال أهل البغي

وينفرد إمام أهل العدل بقسمة الغنائم بينهم, ويختص بإجازة الخمس إليه لينفرد بوضعه في مستحقيه لصحة إمامته, وبطلان إمامة غيره وبالله التوفيق. باب الخلاف في قتال أهل البغي مسألة قال الشافعي رحمه الله: "قال بعض الناس إذا كانت الحرب قائمة استمتع بدوابهم وسلاحهم وإذا انقضت الحرب فذلك رد قلت أرأيت إن عارضك وإياما معارض يستحل مال من يستحل دمه فقال: الدم أعظم فإذا حل الدم حل المال هل لك من حجة إلا أن هذا في أهل الحرب الذين ترق أحرارهم وتسبى نساؤهم وذراريهم والحكم في أهل القبلة خلافهم وقد يحل دم الزاني المحصن والقاتل ولا تحل أموالهما بجنايتهما والباغي أخف حالا منهما ويقال لهما مباحا الدم مطلقا ولا يقال للباغي مباح الدم وإنما يقال يمنع من البغي إن قدر على منعه بالكلام أو كان غير ممتنع لا يقاتل لم يحل قتاله. قال: إني إنما آخذ سلاحهم لأنه أقوى لي وأوهن لهم ما كانوا مقاتلين فقلت له فإذا أخذت ماله وقتل فقد صار ملكه كطفل أو كبير لم يقاتلك قط أفنقوى بمال غائب غير باغ؟ فقلت له أرأيت لو وجدت لهم دنانير أو دراهم تقويك عليهم أتأخذهما؟ قال: لا قلت فقد تركت ما هو أقوى لك عليهم من السلاح في بعض الحالات. قال: فإن صاحبنا يزعم أنه لا يصلي على قتلى أهل البغي قلت ولم وهو يصلي على من قتله في حد يحب عليه قتله ولا يحل له تركه؟ والباغي محرم قتله موليًا وراجعًا عن البغي ولو ترك الصلاة على أحدهما دون الآخر كان من لا يحل إلا قتله بترك الصلاة اولى. قال: كأنه ذهب إلي أن ذلك عقوبة لينكل بها غيره قلت وإن كان ذلك جائزًا فًلبه أو حرقه أو حز رأسه وابعث به فهو أشد في العقوبة. قال: لا أفعل به شيئًا من هذا. قلت له: هل تبالي من يقاتلك على أنك كافر لا يصلى عليك وصلاتك لا تقربه إلي ربه؟ وقلت له: أيمنع الباغي أن تجوز شهادته أو يناكح أو شيئاً مما يجري لأهل الإسلام؟ قال: لا قلت فكيف منعته الصلاة وحدها"؟ قال في الحاوي: إذا ظفر أهل العدل بدواب أهل البغي وسلاحهم لم يجز أن يملك عليهم, ولا أن يستعان بها في قتالهم, وتحبس عنهم مدة الحرب كما تحبس فيه أسراهم, فإذا انقضت الحرب رد عليهم. وقال أبو حنيفة: يجوز أن يستعان على حربهم بدوابهم وسلاحهم, لقول الله تعالى: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات 9]. فكان الأمر بقتالهم على عمومه, المشتمل على دوابهم وسلاحهم, ولأن كل طائفة جاز قتالها بغير سلاحها, ودوابها جاز قتالها بسلاحها ودوابها كأهل الحرب.

ولأنه لما جاز حبسه عنهم إضعافًا لهم جاز قتالهم به, معونة عليهم, لأن كلا الأمرين كاف لهم. ودليلنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يحل مال امرؤء مسلم إلا بطيب نفس منه. فكان على عمومه, ولأن كل من لا يجوز أن ينتفع من ماله بغير الكراع والسلاح كأهل العدل. ولأن كل ما لم يجز أن ينتفع به من مال أهل البغي كسائر الأموال, ولأن أهل البغي يملكون رقابها ومنافعها, فلما لم تستبح بالبغي أن تملك عليهم رقابها لم يستبح أن تملك به منافعها فأما الآية: فلا دليل فيها, لأنه تضمنت الأمر بالقتال, ولم تتضمن صفة القتال. وأما قياسهم على أهل الحرب: فلأنه لما جاز أن يتملك عليهم, رقابها جاز أن يتملك عليهم منافعها, وأهل البغي بخلافهم. وأما الجواب عن حبسها: فليس جواز حبسها مبيحًا للانتفاع بها, كما جاز حبس أهل البغي, وإن لم يجز استخدامهم والانتفاع بهم. فصل: فإذا تقرر أنه لا يجوز الانتفاع بدوابهم وسلاحهم, فإن استمتع بها أهل العدل لزمهم أجرة مثلها كالغاصب, فإن تلفت في أيدي أهل العدل بعد استعمالها ضمنوا رقابها, وإن تلفت من غير استعمال لم يضمنوها, لأنهم حبسوها عنهم بحق. ولو حبسوها بعد انقضاء الحرب مع إمكان ردها عليهم: ضمنوها, لتلفها بعد وجوب ردها. فأما إن اضطر أهل العدل إلي الانتفاع بدوابهم وسلاحهم عند خوف الاصطلام لينجوا على جوابهم هربًا منهم, ويقاتلوهم بسلاحهم دفعًا لهم: جاز ولم يحرم, لأن حال الضرورة يخالف حال الاختيار, كما يجوز للمضطر أن يأكل طعام غيره وإن لم يجز أن يأكله في حال الاختيار. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ويجوز أمان الرجل والمرأة المسلمين لأهل الحرب والبغي فأما العبد المسلم فإن كان يقاتل جاز أمانه وإلا لم يجز قلت فما الفرق بينه يقاتل أو لا يقاتل؟ قال: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون يد على من سواهم تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم" قلت: فإن قلت ذلك على الأحرار فقد أجزت أمان عبد وإن كان على الإسلام فقد رددت أمان عبد مسلم لا يقاتل. قال: فإن القتل يدل على هذا؟ قلت: ويلزمك في أصل مذهبك أن لا تحيز أمانهما. قال: فأذهب إلي الدية فأقول دية العبد لا تكافيء دية الحر. قلت: فهذا أبعد لك من الصواب. قال: ومن أين؟ قلت: دية المرأة نصف دية الحر وأنت تجيز أمانها

ودية بعض العبيد أكثر من دية المرأة ولا تجيز أمانه وقد تكون دية عبد لا يقاتل أكثر من دية عبد يقاتل فلا تجيز أمانه فقد تركت أصل مذهبك. قال: فإن قلت إنما عني مكافأة الدماء في القود قلت: فأنت تقيد بالعبد الذي لا يسوى عشرة دنانير الحر الذي ديته ألف دينار كان العبد يحسن قتالًا أو لا يحسنه. قال: إني لأفعل وما هو على القود قلت: ولا على الدية ولا على القتال. قال: فعلا هو؟ قلت: على اسم الإسلام". قال في الحاوي: وهذا ما حكاه الشافعي عنه وأجابه عليه. وهذه مسألة تأتي في كتاب السير, وتسوفي فيه. فأما قول الشافعي: "لأهل البغي والحرب" فجمع بين الأمان لأهل البغي وأهل الحرب. يصح الامان لأهل الحرب, فأما الأمان لأهل البغي فإسلامهم أمان لهم يمنع من قتالهم إذا كفوا, ومن قتلهم إذا أسروا. فإن أمن رجل من أهل العدل رجلًا من أهل البغي لم يؤثر أمانه إلا في حالة واحدة, وهو أن يؤمنه بعد كفه عن القتال وقبل أسره, فيمنع أمانه من أسره, ولا يؤثر أمانه بعد الأسر, ولا يؤثر أمانه وهو على قتاله, وعلى هذا الموضع يحمل كلام الشافعي في الجمع بينه وبين الحربي. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وقال بعض الناس إذا امتنع أهل البغي بدارهم من أن يجري الحكم عليهم فما أصابه المسلمون من التجار والأسرى في دارهم من حدود الناس بينهم أو لله لو تؤخذ منهم ولا الحقوق بالحكم وعليهم فيما بينهم وبين الله تعالى تأديتها إلي أهلها قلت: فلم قتلتله؟ قال: قياسًا على دار المحاربين يقتل بعضهم بعضًا ثم أسلموا أندع السابي يتخول المسبى مرموقًا له. قال: نعم قلت أفتحيز هذا في التجار والأسرى في دار أهل البغي؟ قال: لا. قلت: فلو غزانا أهل الحرب فقتلوا منا ثم رجعوا مسلمين أيكون على أحد منهم قود؟ قال: لا. قلت: فلو فعل ذلك التجار والأسرى ببلاد الحرب غير مكرهين ولا شبه عليهم؟ قال: يقتلون قلت أيسع قصد قتل التجار والأسرى ببلاد

الحرب فيقتلون؛ قال: بل يحرم. قلت: أرأيت التجار والأسرى لو تركوا الصلاة والزكاة في دار الحرب ثم خرجوا إلي دار الإسلام أيكون عليهم قضاء ذلك؟ قال: نعم. قلت: ولا يحل لهم في دار الحرب إلا ما يحل لهم في دار الإسلام؟ قال: لا. قلت: فإذا كانت الدار لا تغير لما أحل لهم وحرم عليهم فكيف أسقطت عنهم حق الله وحق الآدميين الذي أوجبه الله عليهم؟ ثم أنت لا تحل حبس حق قبلهم في دم ولا غيره وما كان لا يحل لهم حبسه فإن على الإمام استخراجه عندك في غير هذا الموضع؛ قال: فأقيسهم بأهل الردة الذين أبطل ما أجابوا. قلت: فأنت تزعم أن أهل البغي يقاد منهم ما لم ينصبوا إمامًا ويظهروا حكمًا والتجار والأسارى لا إمام لهم ولا امتناع ونزعم لو قتل أهل البغي بعضهم بعضًا بلا شبهة أقدت منهم. قال: ولكن الدار ممنوعة من أن يجري عليهم الحكم قلت: أرأيت لو أن جماعة من أهل القبلة محاربين امتنعوا في مدينة حتى لا يجرب عليهم حكم فقطعوا الطريق وسفكوا الدماء وأخذوا الأموال وآتوا الحدود؟ قال: يقام هذا كله عليهم قلت: فهذا ترك معناك وقلت له: أيكون على المدنيين قولهم لا يرث قاتل عمد ويرث قاتل خطأ إلا من الدية؟ فقلت: لا يرث القاتل في الوجهين لأنه يلزمه اسم قاتل فكيف لم تقل بهذا في القاتل من أهل البغي والعدل لأن كلا يلزمه اسمم قاتل وأنت تسوي بينهما فلا تقيد أحدًا بصاحبه"؟ قال في الحاوي: وهذه ما أراد به أبا حنيفة, فإنه قل: إذا فعل أهل البغي في دارهم ما يوجب حدودًا أو حقوقًا, ثم ظهر الإمام عليهم, لم تقم عليهم الحدود ولو تستوف منهم الحقوق, وكذلك يقول في أهل العدل إذا فعلوا ذلك في دار أهل البغي لم يؤاخذهم بما استهلكوه من حقوق وارتكبوه من حدود. وبناه على أصله, أن المسلمين إذا فعلوه في دار الحرب كان هدرًا, فجمع بين الدارين لخروجها عن يد الإمام وتدبيره. ومذهب الشافعي: أن دار الحرب يسقط جريان حكم الإسلام فيها على أهلها, فلا يقام عليهم بعد القدرة حد, ولا يستو منهم حق, ولا يسقط جريان حكم الإسلام على من المسلمين في استيفاء الحقوق منهم وإقامة الحدود عليهم ودار البغي لا تمنع من جريان حكم الإسلام فيها على أهلها وغير أهلها لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "منعت دار الإسلام ما فيها وأباحت بينهما في الإباحة, ولأن حكم الإسلام جار على أهله أين كانوا, كما أن حكم الشرك جار على أهله حيث وجدوا. ولأنه لو جاز أن تغير الدار أحكام المسلمين في الحقوق والحدود لتغيرت في العبادات من الصلاة والصيام فيلتزمونها في دار الإسلام ولا يلتزمونها في دار الحرب. فلما بطل هذا, واستوي إلزامهم لها في دار الإسلام ودار الحرب وجب أن يستويا في الحدود والحقوق. فأما ما احتج به أبو حنيفة من أن يد الإمام قد زالت عن دار البغي فسقط عنه إقامة الحدود عليهم كأهل الحرب

باب حكم المرتد

فالجواب عنه: أن الحدود وجبت عليهم لمخاطبتهم بها وارتكابهم لموجبها, والإمام مستوف لها, فإن عجز عنها كف, وإن قدر عليها أقامها والله أعلم. باب حكم المرتد مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ومن ارتد عن الإسلام إلي أي كفر كان مولودًا على الإسلام أو أسلم ثم ارتد قتل". قال في الحاوي: أما الردة في اللغة فهي الرجوع عن الشيء إلي غيره, قال الله تعالى: {ولا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة 21]. وأما الردة في الشرع: فهي الرجوع عن الإسلام إلي الكفر. وهو محظور لا يجوز الإقرار عليه. قال الله تعالى: {بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ} [المائدة 5]. وقال تعالى: {ومَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ} [البقرة 217]. وقال تعالى: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ} [النساء 137]. وفيها ثلاثة أقاويل: أحدهما: أنهم اليهود, آمنوا بموسى ثم كفروا بعبادة العجل, ثم آمنوا بموسى بعد عوده, ثم كفروا بعيسى, ثم ازدادوا كفرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم وهذا قول قتادة. والثاني: أنهم المنافقون, آمنوا ثم ارتدوا, ثم آمنوا ثم ارتدوا ثم ازدادوا كفرًا بموتهم على كفرهم. وهذا قول مجاهد. والثالث: أنهم قوم من أهل الكتاب قصدوا تشكيك المؤمنين, فكانوا يظهرون الإيمان ثم الكفر مرة بعد الأخرى ثم ازدادوا كفرًا بثبوتهم عليه. وهذا قول الحسن. فإذا ثبت حظر الردة بكتاب الله تعالى فهي موجبة للقتل بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع صحابته رضي الله عنهم. روى أيوب عن عكرمة عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من بدل دينه فاقتلوه". وروى عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث:

كفر بعد إيمان, أو زنًا بعد إحصان, أو قتل نفس بغير نفس". وقال أبو بكر الصديق بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الردة ووضع فيهم السيف حتى أسلموا. وروى الوليد بن مسلم عن سعيد بن عبد العزيز أن أبا بكر قتل أم قرفة الفزارية قتل مثلة, شد رجليها بفرسين, ثم صاح بهما فشقاها. وهذا التناهي منه في نكال القتل, وإن لم يكن متبوعًا فيه فلانتشار الردة في أيامه, وتسرع الناس إليها, لتكون هذه المثلة أشد زجرًا لهم عن الردة, وأبعث لهم على التوبة. ومثله ما روي أن قومًا غلوا في علي عليه السلام وقالوا له: أنت إله, فأجج لهم نارًا, وحرقهم فيها. فقال ابن عباس: لو كنت أنا لقتلتهم بالسيف, سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "لا تعذبوا بعذاب الله من بدل دينه فاقتلوه" فقال علي رضوان الله عليه: لما رأيت الأمر أمرًا منكرا ... أججت نارًا ودعوت قنبرا وروى عبد الملك بن عمير قال: شهدت عليًا عليه السلام وقد أتى بالمستور بن قبيصة العجلي وقد تنصر بعد إسلامه. فقال له علي: حدثت عنك أنك تنصرت, فقال المستورد: أنا على دين المسيح فقال له علي: وأنا أيضًا على دين الميسح. ثم قال له: ما تقول فيه فتكلم بكلام خفي علي, فقال علي رضوان الله عليه: طؤه, فوطاء حتى مات فقلت للذي يليني: ما قال؟ قال: إن المسيح ربه. وروي أن معاذ بن جبل قدم اليمن وبها أبو موسى الأشعري, فقيل له: إن يهوديًا أسلم ثم ارتد منذ شهرين. فقال: والله لا أجلس حتى يقتل, فضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك, فقتل. فصل: فإذا ثبت وجوب القتل بردة المسلم إلي الكفر, فسواء كان المسلم مولودًا على الإسلام او كان كافرًا فأسلم أو صار مسلمًا بإسلام أبويه أو أحدهما. قال أبو حنيفة: إن صار مسلمًا بإسلام أحد أبويه, لم يقتل بالردة لضعف إسلامه وهذا خطأ. لأنه لما جرى عليه أحكام الإسلام في العبادات وأحكام المسلمين في المواريث

والشهادات, وجب أن يجري عليه حكم الإسلام في الردة كغيره من المسلمين, كما كان في غير الردة كسائر المسلمين. ولأن الإسلام لا تبعض فيه, فلم تبعض فيه أحكام الإسلام. وبه يفسد ما ذكره من ضعفه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وأي كفر ارتد إليه مما يظهر أو يسر من الزندقة ثم تاب لم يقتل". قال في الحاوي: وهذا صحيح. لا يخلو حال الكفر إذا ارتد المسلم من أحد أمرين: إما أن يتظاهر به أهله كاليهودية والنصرانية. أو يسرونه كالزندقة والنفاق. فإن كان مما يتظاهر به أهله قبلت توبته منه إذا ارتد إليه سواء ولد على الإسلام أو كان كافرًا وأسلم. وحكي الشافعي, عن بعض أهل المدينة وأحبسه مالكًا أن المولود على الإسلام لا تقبل توبته إذا ارتد؛ لأنه لم يجز عليه حكم الكفر بحال, فكان أغلظ حكمًا ممن جرى عليه حكم الكفر في بعض الأحوال وهذا فاسد. ولكنه لو وقع بينهما فرق أولى, لأن توبة المولود على الإسلام أقوى, لأنه قد ألف الإسلام, وتوبة المولود على الكفر أضعف, لأنه قد ألف الكفر, فلما فسد هذا كان عكسه أفسد, ودلائل هذا تأتي فيما يليه. وإن كان الكفر مما يسره أهله الكزندقة: قبلت توبته أيضًا عند الشافعي, تسوية بين ردة كل مسلم, وبين الردة إلي كل كفر. وقال مالك: لا تقبل التوبة من الزنديق, إلا أن يتوب قبل العلم به, والقدرة عليه. ففرق بين بعض الكفر وبعضه في الردة, كما فرق في الأول, إن كان قائلًا به بين بعض المسلمين وبعضهم في الردة. والزنديق عنده: من أظهر الإسلام وأسر الكفر. ولأبي حنيفة فيه روايتان: إحداهما: كقولنا, والأخرى: كقول مالك. احتجاجًا بقول الله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران 90]. ولأن الزنديق يتظاهر بالإسلام ويسر الكفر, وهو بعد التوبة هكذا, فصار كما قبلها

فلم تؤثر فيه التوبة مما لم يكن, فوجب أن يكون الحكم فيهما على سواء. قال: ولأن الزندقة أعظم فسادًا في الأرض من الحرابة لجمعها بين فساد الدين والدنيا, فلما لم تقبل توبة المحاربين بعد القدرة فأولى أن لا تقبل توبة الزنديق بعد القدرة. قال: ولأن الظاهر من توبة الزنديق أن يستدفع بها القتل, كما كان الظاهر من توبة المحارب استدفاع القتل بهما, فوجب أن تحمل توبته على الظاهر من حالها في دفع القتل بها, كما حملت توبة المحارب على الظاهر من حالها. ودليلنا: قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا ولا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا} [النساء 94]. وقرأ أبو جعفر: لست مؤمنًا-بفتح الميم-من الأمان. وقراءة الجمهور بالكسر من الإيمان. وفيها على كلا القرائتين دليل لما حكاه السدي عن سبب نزولها: "أن رجلًا يقال له: مرداس بن عمر الفدكي كانت له غنيمات لقيته سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم: السلام عليكم لا إله إلا الله محمد رسول الله فبدر إليه أسامة بن زيد فقتله, فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: لم قتله وقد أسلم؟ قال: إنما قالها متعوذًا قال: هلا شققت عن قلبه. ثم حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ديته إلي أهله, ورد عليهم غنمه". وروى عطاء بن زيد الليثي, عن عبيد الله بن عدي بن الخيار "أن رجلًا سار رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يدر ما ساره, حتى جهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يستأذنه في قتل رجل من المنافقين, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله. قال: بلى, ولا شهادة له. قال: أليس يصلي. قال: بلى, ولا صلاة له. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أولئك الذين نهاني الله عنهم". وروى عبيد الله بن عدي بن الخيار أن المقداد بن عمرو الكندي قال: "يا رسول الله أرأيت إن لقيت رجلًا من الكافر فقاتلني, فضرب إحدى يدي فقطعها, ثم لاذ مني لشجرة, فقال: أسلمة لله أقتله يا رسول الله بعد أن قالها؟ قال: لا تقتله, فإن قتلته فإنك بمنزلته قبل أن يقول كلمته وهو بمنزلتك قبل أن تقتله, فدلت الآية والخبر على الأخذ بالظاهر دون السرائر, ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر". ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قبل من المنافقين ظاهر إسلامهم, وإن تحقق باطن كفرهم, بما أطلعه الله تعالى عليه من سرائرهم في قوله تعالى: {إذَا جَاءَكَ المُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ واللَّهُ يَعْلَمُ إنَّكَ لَرَسُولُهُ واللَّهُ يَشْهَدُ إنَّ المُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون 1 - 2]. وقرئ: إيمانهم - بكسر الهمزة من الإيمان, والأول من اليمين.

وقال تعالى: {ويَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إنَّهُمْ لَمِنكُمْ ومَا هُم مِّنكُمْ ولَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} [التوبة 56]. فلم يؤاخذهم بما أطلعه الله تعالى عليه من سرائرهم التي تحقق بما كفرهم, اعتبر ما تظاهروا به من الإسلام وإن تحقق فيه كذبهم, فوجب أن يكون أمثالهم من الزنيدقة ملحقين بهم وداخلين في حكمهم. فإن قيل: إنما كف عنهم لنه لم يعرفهم بأعيانهم, ولو عرفهم لما كف عنهم. قيل: قد كانوا أشهر من أن يخفوا, هذا عبد الله بن أبي ابن سلول وهو رأس المنافقين, قد تظاهر بالنفاق وأبدى معتقده في مواضع منها: قوله تعالى: {وعَدَنَا اللَّهُ ورَسُولُهُ إلاَّ غُرُورًا} [الأحزاب 12]. وقوله في غزوة تبوك: {لَئِن رَّجَعْنَا إلَى المَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ} [المنافقون 8]. فأخبر الله تعالى بذلك عنه, فلما رجع إليها من الغزاة جرد ابنه عليه سيفه, وقال والله لئن لم تقل إنك الأذل ورسول الله الأعز, لأضربنك بسيفي هذا, فقالها, ولأن إقراره بالزندقة أقوى من قيام البينة بها عليه, فلما قبلت توبته إذا أقر بها كان أولى أن تقبل في قيام البينة بها. ولأنه لو جاز أن يختلف حكم التوبة في جهر الكفر وسره, لكان قبول توبة المساتر أولى من قبول توبة المجاهر, لأن الجهر به يدل على قوة معتقده, والاستسرار به يدل على ضعف معتقده, فلما بطل هذا كان علته أبطل, ولأنها توبة من كفر, فوجب أن تقبل كالجهر. فأما الجواب عن قوله: {ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ} [آل عمران 90] فهو أنه قد تعارض فيها ما يتنافي اجتماعهما, لأن من ازداد كفرًا لم يتب, ومن تاب لم يزدد كفرًا, وإذا تنافي ظاهرهما صار تأويلها محمولًا على تقدم التوبة على ما حدث بعدها من زيادة الكفر, فيحبط حادث الكفر سابق التوبة. وأما الجواب عن قوله: إنه بالتوبة مظهر للإسلام مستبطن للكفر, وهكذا هو قبلها. فهو أننا ما كلفنا منه إلا الظاهر من حاله, وهو في الباطن موكول إلي ربه, ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسبوا العبد حساب الرب". وقد يجوز أن تؤثر التوبة في باطنه كتأثيرها في ظاهره. وأنا الجميع بينه وبين المحارب فلا يصح, لافتراقهما غي معنى الحكم, لأن الحرابة يقتل فيها بظاهر قوله الدال على معتقده, فجاز أن يرفعها ما جانسها من القول في توبته, ويحمل ذلك على زوال معتقده. فأما الجواب عن قوله: إن الظاهر منها استدفاع القتل. فهو أن هذا الظاهر لا يمنع من قبول التوب في الممرتد كما لا يمنع إسلام الحربي إذا قدم للقتل من قبول إسلامه والكف عن قتله والله أعلم.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن لم يتب قتل امرأة كانت أو رجلًا عبدًا كان أو حرًا". قال في الحاوي: وهذا كما قال يستوي في القتل بالردة الحر والعبد والرجل والمرأة, وتقتل المرتدة, كما يقتل المرتد. وبه قال من الصحابة: أبو بكر وعلي. ومن التابعين: الحسن, والزهري ومن الفقهاء: مالك والأوزاعي, والليث بن سعد, وأحمد, وإسحاق. وقال أبو حنيفة وأصحابه: تحبس المرتدة ولا تقتل, إلا أن تكون أمة فلا تحبس عن سيدها. استدلالًا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنه نهى عن قتل النساء والوالدان". فكان على عمومه وبما روى عاصم بن أبي النجود عن أبي رزين, عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وأسلم قال: "لا تقتل المرأة إذا ارتدت" وهذا نص. ولأن من لم يقتل بالكفر الأصلي لم يقتل بالردة كالصبي. ولأن كل حر لم يكن من أهل الجزية لم يقتل بالردة كالأطفال والمجانين. ولأنها كافرة لا تقاتل فلم تقتل كالكافرة الأصلية. ولأن المرأة محقونة الدم قبل الإسلام فلم يستبح دمها بالردة عن الإسلام, لعودها بعده إلي ما كانت عليه قبله, وبعكسها الرجل. ودليلنا: عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" فإن قيل: المراد به الرجل لقوله: من بدل دينه ولو أراد المرأة لذكره بلفظ التأنيث فقال: من بدلت دينها. قيل: لفظة من للعموم تستغرق الجمس, فاشتملت على الرجال والنساء, كما قال تعالى: {ومَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ} [النساء 124]. ولأن رجلًا لو قال: من دخل الدار فله درهم, استحقه من دخلها من ذكر أو أنثى. وروى الزهري, عن عروة, عن عائشة رضوان الله عليها قالت: "ارتدت امرأة يوم أحد, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت". وروى الزهري, عن عروة, عن عائشة رضوان الله عليها قالت: "ارتدت امرأة يوم أحد, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تستتاب فإن تابت وإلا قتلت". وروى الزهري عن محمد بن المنكدر, عن جابر: "أن امرأة من أهل المدينة يقال لها أم مروان ارتدت عن الإسلام, فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يعرض عليها الإسلام, فإن رجعت وإلا قتلت". ورواه هشام بن الغاز, عن محمد بن المنكدر, عن جابر قال:"فعرض عليها

الإسلام فأبت أن تسلم, فقتلت" وهذا نص. ولأنه كفر بعد إيمان فوجب أن يستحق به القتل كالرجل, وهذه علة ورد النص بها في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امراء مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان .. " فكانت أوكد من العائلة المستنبطة, هكذا استنبط من هذا النص علة أخرى, فنقول: كل من قتل بزنًا بعد إحصان قتل بكفر بعد إيمان كالرجل, ومنه علة ثالثة: أن كل من قتل بالنفس قودًا قتل بالردة حدًا كالرجل, فيكون تعليل النص في الثلاثة مستمرًا. ولأنه حد يستباح به قتل الرجل فجاز أن يستباح به قتل المرأة كالزنى. فأما الجواب عن نهيه عن قتل النساء والوالدان. فهو أن خروجه على سبب, روي أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بامرأة مقتولة في بعض غزواته, فقال: "لم قتلت وهي لا تقاتل" ونهى عن قتل النساء والوالدان. فعلم أنه أراد به الحربيات. فإن قيل: النهي عام فلم اقتصر به على سببه. قيل: لما عارضه قوله: "من بدل دينه فاقتلوه" ولم يكن بد من تخصيص أحدهما بالآخر, وجب تخصيص الوارد على سببه, وحمل الآخر على عموم, لأن السبب إمارات التخصيص. وأما الجواب عن حديث ابن عباس: فهو أنه رواية عبد الله بن عيسى عن عفان عن شعبة بن عاصم بن أبي النجود. قال الدارقطني: وعبد الله بن عيسى هذا كذاب يضع الأحاديث على الثقات. وقد رواه سفيان, عن أبي حنيفة, عن عاصم موقوفًا على ابن عباس وأنكره أبو بكر بن عياش على أبي حنيفة فسكت وتغير. وأنكره سفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل. وما كان بهذا الضعف لم يجز أن يجعل في الدين أصلًا. وأما الجواب عن قياسهم على الصبي: فهو انتفاضه بالشيخ الهرم والأعمى والزمن فإنهم يقتلون بالردة, ولا يقتلون بالكفر الأصلي, والأصل غير مسلم, لأن الصبي لا تصح منه الردة. وأما الجواب عن قياسهم على الكافرة الحربية: فمنكسر بالأعمى والزمن لا يقتلون بالكفر الأصلي ويقتلون بالردة, ثم المعنى في الحربية أنها مال مغنوم وليست المرتدة مالًا. وأما الجواب عن استدلالهم بحقن دمها قبل الإسلام فكذلك بالردة بعد الإسلام. فباطل الأعمى والزمن والرهبان وأصحاب الصوامع, دماؤهم محقونة قبل الإسلام ويقتلون بالردة عن الإسلام, على أن الحربية لما جاز إقرارها على كفرها لم تقتل, ولما لم يجز إقرار المرتدة على كفرها قتلت, لأن وقوع الفرق بينهما في الإقرار على الكفر

يمنع من تساويهما في الحكم والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وقال في الثاني في استتابته ثلاثًا قولان: أحدهما حديث عمر يتأنى به ثلاثًا والآخر لا يؤخر لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر فيه بأناة وهو لو تؤني به بعد ثلاث كهيئته قبلها. وهذا ظاهر الخبر. قال لامزني: وأصله الظاهر وهو أقيس على أصله". قال في الحاوي: يستناب المرتد قبل قتله, فإن تاب حقن دمه. وقال الحسن البصري: يقتل من غير استتابة. وقال عطاء: إن ولد في الإسلام قتل من غير استتابة وإن ولد في الكفر ثم أسلم لم يقتل إلا بعد الاستتابة. استدلالًا: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" فلم يأمر فيه إلا بالقتل دون الاستتابة. ولأن قتل الردة حد كالرجم في الزنى, فلما لم يلزم استتابة الزاني لم يلزم استتابة المرتد. ولأن قتل الردة حد كالرجم في الزنى, فلما لم يلزم استتابة الزاني لم يلزم استتابة المرتد. ودليلنا: ما رواه عروة, عن عائشة رضي الله عنها قالت: "ارتدت امرأة يوم أحد فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تستتاب, فإن تابت وإلا قتلت" وهذا نص. وروي أن رجلًا قدم على عمر بن الخطاب رضي الله عنه من قبل أبي موسى الأشعري, فقال له عمر بن الخطاب: هل كان فيكم من مغربة خبر؟ فقال: نعم رجل كفر بعد إسلامه, فقتلناه. فقال عمر: هلا حبستموه ثلاثًا, وأطعمتموه في كل يوم رغيفًا, واستتبتموه لعله يتوب, اللهم لم أحضر ولم أمر ... ولم أرض إذ بلغني, اللهم إني أبرأ إليك من دمه. وروي: أن ابن مسعود كتب إلي عثمان رضي الله عنهما في قوم ارتدوا فكتب إليه عثمان: ادعهم إلي دين الحق وشهادة أن لا إله إلا الله, فإن أجابوا فخل سبيلهم وإن امتنعوا فاقتلهم, فأجاب بعضهم فخلا سبيله وامتنع بعضهم فقتله. ولأن الأغلب من حدوث الردة أنه لاعتراض شبهة, فلم يجز الإقدام على القتل قبل كشفها والاستتابة منها كأهل الحرب, لا يجوز قتلهم إلا بعد بلوغ الدعوة, وإظهار المعجزة. فأما الخبر فلا يمنع من الاستتابة وأم الزنى فالتوبة لا تزيله, وهي تزيل الردة, فلذلك استتيب من الردة ولم يستتب من الزنى. فصل: فإذا ثبت الأمر باستتابته قبل قتله, ففيها قولان:

أحدهما: وهو قول أبي حنيفة واختيار أبي علي بن أبي هريرة أنها مستحبة وليست بواجبة, لأن وجوب الاستتابة يوجب حظر دمه قبلها, وهو غير مضمون الدم لو قتل قبلها, فدل على استحبابها. والثاني: وهو أصح أن الاستتابة واجبة لما قدمناه من الخبر والأثر, ولأن الاستتابة في حق المرتد في حكم إبلاغ الدعوة لأهل الحرب, وإبلاغ الدعوة واجبة, فكذلك الاستتابة. ولأن المقصود بقتل المرتد إقلاعه عن ردته, والاستتابة أخص بالإقلاع عنها من القتل, فاقتضى أن تكون أوجب منه. فصل: فإذا تقرر حكم الاستتابة في الوجوب والاستحباب, فهل يعجل قتله عند الامتناع من التوبة أو يؤجل ثلاثة أيام؟ فيه قولان: أحدهما: وهو اختيار المزني أنه يعجل قتله ولا يؤجل, وبه قال أبو حنيفة, إلا أن يسأل الإنظار فيؤجل ثلاثًا لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من بدل دينه فاقتلوه" ولأنه حد فلم يؤجل فيه كسائر الحدود. والثاني: يؤجل ثلاثة أيام, وبه قال أحمد بن حنبل, وإسحاق بن راهويه. وقال سفيان الثوري: ينظر ماكان يرجو التوبة. ودليل تأجيله ثلاثًا: قول عمر رضي الله عنه حين أخبر بقتل المرتد: هلا حبستموه ثلاثًا, اللهم لم أحضر ولم أمر .. الخبر. ولأن الله قضى بعذاب قوم ثم أنظرهم ثلاثًا فقال: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود 65]. ولأن المقصود منه استبصاره في الدين ورجوعه إلي الحق, وذلك مما يحتاج فيه إلي الارتياء والفكر, فأمهل بما يقدر في الشرع من مدة أقل الكثير, وأكثر القليل وذلك ثلاثة أيام: فعلى هذا: في تأجيله بهذه الثلاث قولان: أحدهما: أنها مستحبة إن قيل: إن الاستتابة مستحبة. والثاني: أنها واجبة إن قيل: إن الاستتابة واجبة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ويوفق ماله". قال في الحاوي: حكم الردة مشتمل على فصلين: أحدهما: في نفس المرتد, وهو القتل وقد مضى.

والثاني: حكمها في مال المرتد, وهو مشتمل على فصلين: أحدهما: بقاء ماله على ملكه. والثاني: جواز تصرفه فيه. فأما بقاؤه على ملكه, فقد ذكر الشافعي فيه قولين, وثالثًا اختلف أصحابنا في تخريجه: أحدهما: وهو المنصوص عليه في هذا الموضع-أن ملكه موقوف مراعى فإن عاد إلي الإسلام بان أن ماله كان باقيًا على ملكه, إن قتل بالردة بان أن ماله زال عن ملكه بنفس الردة, فيصير ماله معتبرًا بنفسه. والثاني: نص عليه في زكاة المواشي-أن ماله باقي على ملكه, إلي أن يقتل بالردة, فيزول ملكه عنه بالقتل أو بالموت, لأن المال لا ينفك عن مالك, فلما لم ينتقل إلي ملك غيره إلا بالموت, على بقاؤه على ملكه إلي وقت الموت. والثالث: المختلف في تخريجه: ذكره في كتاب المدبر - أن تدبير المرتد باطل في أحد أقاويله الثلاثة' لأن ملكه خارج عنه. فاختلف أصحابنا في معنى تعليله بأن ملكه خارج عنه على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج وطائفة-أن أراد به خروج ماله عن تصرفه مع بقائه على ملكه, لأنه لو خرج عن ملكه بالردة ما عاد إليه إلا بتمليك مستجد, ومنعوا من تخريجه قولًا ثالثًا. والثاني: وهو قول كثير منهم أنه أراد به زوال ملكه عن ماله, فإن عاد إلي الإسلام عاد المال إلي ملكه كالخل إذا انقلبت بنفسها خمرًا زال عن ملك صاحبه, فإن صار الخمر خلًا عاد إلي ملكه. وخرج قائل هذا الوجه في ماله ثلاثة أقاويل: أحدها: أن ماله باق على ملكه حتى يقتل أو يموت-وهو الأصح-وبه قال أبو حنيفة. والثاني: أن ماله قد زال عن ملكه قتل أو لم يقتل, فإن عاد إلي الإسلام عاد إلي ملكه بإسلامه وبه قال مالك بن أنس. والثالث: أن ماله موقوف مراعى, فإن عاد إلي الإسلام فماله لم يزل باقيًا على ملكه, وإن قتل أو مات علم أن ماله زال عن ملكه بنفس الردة. وعلى هذه الأقاويل يكون حكم ما استفاد ملكه في ردته بهبة أو صدقة أو وصية أو اصطياد أو احتشاش. فإن قيل بالأول: إن ملكه المتقدم باق على ملكه, ملك ما استفاده في ردته, وصار مضافًا إلي قديم ملكه. وإن قيل بالثاني: إن ماله خرج بالردة عن ملكه, لم يملك ما استفاده في ردته, لأنه

لما لم يملك ما استقر عليه ملكه, فأولى أن لا يملك ما لم يستقر له عليه ملك. وإن قيل بالثالث: إنه موقوف مراعى, كان ما استفاده في الردة موقوفًا مراعى: فإذا عاد إلي الإسلام ملكه مع قديم ملكه. وإن قتل بالردة لم يملكه فإن كان هبة أو وصية: بطلت, وعاد إلي الواهب والموصى. وإن كان اصطيادًا أو احتشاشًا: كان على أصل الإباحة. فصل: فأما الفصل الثاني: في جواز تصرف في ماله. فظهور الردة منه موجبة لوقوع الحجر عليه لعتلين: أحدهما: أن تظاهره بها مع ما يفضي إليه من إباحة دمه دليل على سفه رأيه وضعف تمييزه. والثاني: أن انتقال ماله عنه إلي من باينه في الدين يوجب حفظه عليه, لتوجه التهمة إليه, حتى لا يسرع إلي استهلاكه عليهم. فإن حجر الحاكم عليه, صح الحجر, وفي معنى حجره وجهان: أحدهما: أنه كحجر السفه وفي معناه إذا قيل: إن علة حجرة سفه رأيه, وضعف تميزه. والثاني: أنه كحجر المرض وفي معناه إذا قيل: إن على حجرة توجه التهمة إليه في حقوق المسلمين في ماله. ويكون بعد الحجر عليه ممنوعًا من التصرف في ماله, فإن تصرف فيه فضربان: أحدهما: أن يكون في تصرفه استهلاك لما له كالعطايا والهبات والوصايا والصدقات والوقف والعتق فكل ذلك باطل مردود, سواء قيل: إن حجره حجر سفه أو حجر مرض. فإن قيل: فهلا جازت وصاياه إذا قيل: إن حجره حجر مرضه, كما تجوز وصايا المريض. قيل: لأن للمريض في ماله الثلث, فأمضيت وصاياه من ثلثه وليس للمرتد ثلث تجعل وصاياه منه. والثاني من تصرفه: ما لم يكن فيه استهلاك كالبيوع والإجارات بأعواض مثلها فيكون في صحتها وجهان بناء على معنى حجره: أحدهما: أن جميعها باطلة إذا قيل: إن حجره سفه لأن عقود السفيه باطلة. والثاني: أن جميعها جائزة إذا قيل: إن حجره حجر مرض؛ لأن عقود المريض جائزة. وعلى هذين الوجهين, يكون حكم إقراره بالديون والحقوق أحد الوجهين بطلان إقراره بجميعها إذا قيل: إنه حجر سفه.

والثاني: صحة إقراره بجميعها إذا قيل: إنه حجر مرض. فصل: فإن لم يحجر الحاكم عليه, ففي صحة تصرفه وجوازه ثلاثة أقاويل: أحدها: أن تصرفه جائز ممضي سواء قتل بالردة أو عاد إلي الإسلام, لأن الكفر لا يمنع من جواز التصرف. والثاني: أن تصرفه باطل مردود سواء قتل بالردة أو عاد إلي الإسلام لما قدمناه من العلتين في سفه رأيه وظهور تهمته. والثالث: أن تصرفه موقوف مراعى: فإن قتل بالردة: كان جميع تصرفه باطلًا مردودًا لتحقق العلتين فيه. وإن عاد إلي الإسلام: كان جميع تصرف جائزًا ممضيًا, لانتفاء العلتين عنه. فعلى هذه الأقاويل تنقسم عقوده في ردته ثلاثة أقسام: أحدها: ما يصح أن يكون موقوفًا أو معلقًا بشرط كالعتق والتدبير, فيكون في صحته منه ثلاثة أقاويل: أحدها: يكون جائزًا. والثاني: باطلًا. والثالث: يكون موقوفًا. والثاني: ما لا يصح أن يكون موقوفًا أو معلقًا بشرط كالبيع والإجارة, ففيه قولان: أحدها: باطل. والثاني: جائز. والثالث: ما اشتمل على أمرين يصح الوقف والشرط في أحدهما, ولا يصح في الآخر كالخلع والكتابة, لأنهما يشتملان على طلاق وعتق, ويصح فيهما الوقف والشرط, وعلى معاوضة لا يصح فيها الوقف والشرط. فقد اختلف أصحابنا في المغلب منهما على وجهين: أحدهما: يغلب منهما حكم العوض, فيكون على قولين كالبيع والإجارة. أحدهما: جائز. والثاني: باطل. والثاني: أنه يغلب منهما حكم الطلاق والعتق, فيكون على ثلاثة أقاويل: أحدها: جائز. والثاني: باطل. والثالث: موقوف, والله أعلم.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن قتل فماله بعد قضاء دينه وجنايته ونفقة من تلزمه نفقته فيء لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم وكما لا يرث مسلمًا لا يرثه مسلم". قال في الحاوي: قد مضى الكلام في حكم ماله في حياته. فأما حكم ماله بعد قتله أو موته مرتدًا, فالكلام فيه مشتمل على فصلين: أحدهما: فيما يتعلق به من الحقوق. والثاني: في استحقاق باقيه. فأما الفصل الأول: في الحقوق المتعلقة به فثلاثة: ديون, وجنايات, ونفقات فأما الديون: فما وجب منها قبل الردة فمستحق, ما وجب منها بعد الردة فإن كان عن تصرف جائز ممضي استحق, وما كان منها عن تصرف باطل مردود لم يستحق. وأما الجنايات على النفوس والأموال: فمستحقة سواء كانت قبل الردة أو بعدها, لأن المرتد ضامن لما أتلف. وأما النفقات: فما وجب منها قبل الردة فمستحق إذا كان مما لا يسقط بالتأخير كنفقة الزوجات أو نفقات الأقارب, إذا حكم حاكم بالافتراض عليها وإن سقطت بالتأخير كان سقوطها مع الردة أحق. وأما ما وجب منها في زمن الردة. فإن قيل ببقاء ماله على ملكه: وجبت. وإن قيل بزوال ملكه عن ماله, ففي وجوبها وجهان: أحدهما: لا تجب لعدم محلها كالإعسار بها. والثاني: تجب ويزول ملكه عما لا يستحق عليه, ولا يزول عما يستحق عليه كالموت يزول به ملك الميت إلا عما لا يستغنى عنه من كفنه ومؤونة دفنه. وأما الثاني: وهو الموروث من باقي ماله, فقد اختلف الفقهاء في مستحقه على ستة مذاهب: أحدهما: وهو مذهب الشافعي أنه ينتقل إلي بيت المال فيئًا, ولا يرثه مسلم ولا كافر. وبه قال من الصحابة: زيد بن ثابت, وعبد الله بن عباس رضي الله عنهما. ومن التابعين: الحسن البصري. ومن الفقهاء: ربيعة, وابن أبي ليلى, وأحمد بن حنبل وأبو ثور. والثاني: وهو مذهب أبي حنيفة أن ما كسبه قبل ردته يكون لورثته من المسلمين, وما كسبه في ردته يكون فيئًا لبيت مال المسلمين إلا أن يكون المرتد امرأة فيكون جميع ما كسبته قبل الردة وبعدها لورثتها المسلمين.

والثالث: وهو مذهب أبي يوسف ومحمد, أن جميع ما كسبه قبل الردة وبعدها يكون لورثته من المسلمين رجلًا كان أو امرأة. والرابع: وهو مذهب مالك أنه إن اتهم بردته أنه أراد بها إزواء ورثته, كان ماله لورثته المسلمين, وإن لم يتهم كان فيئًا لبيت المسلمين. والخامس: وهو مذهب داود-أنه يكون موروثًا لمن ارتد إلي دينه من ورثته الكفار دون المسلمين. والسادس: وهو مذهب علقمة وقتادة, وسعيد بن أبي عروبة-أن ماله فينتقل إلي جميع أهل دينه الذين ارتد إليهم. والدليل على جميعهم: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم". ولأنه لما لم يرث مسلمًا لم يرثه مسلم كالحربي. وهذه مسألة قد مضى حجاجها في كتاب الفرائض. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ويقتل الساحر إن كان ما يسحر به كفرًا إن لم يتب". قال في الحاوي: قد مضت هذه المسألة, وذكرنا اختلاف الفقهاء في حكم الساحر على ثلاثة مذاهب: أحدها: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك-أن الساحر كافر يجب قتله, ولا تقبل توبته. والثاني: وهو مذهب أحمد بن حنبل, وإسحاق بن راهويه أن الساحر يجب قتله, ولم يقطعا بكفره. الثالث: وهو مذهب الشافعي-أن الساحر لا يكون كافرًا بالسحر, ولا يجب به قتله إلا أن يكون ما يسحر به كفرًا, فيصير باعتقاد الكفر كافرًا يجب قتله بالكفر لا بالسحر-وقد دللنا لهم وعليهم بما أجزأ. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ويقال لمن ترك الصلاة وقال أنا أطيقها ولا أصليها لا يعملها غيرك فإن فعلت وإلا قتلناك كما تترك الإيمان ولا يعمله غيرك فإن آمنت وإلا قتلناك". قال في الحاوي: قد مضت هذه المسألة في كتاب الصلاة, وذكرنا أن تارك الصلاة ضربان: جاحد ومعترف.

فأما الجاحد لوجوبها: فهو مرد تجري عليه أحكام الردة, وهو إجماع. وأما المعترف بوجوبها التارك لفعلها: قد اختلف الفقهاء في حكمه على ثلاثة مذاهب: أحدها: وهو مذهب أحمد بن حنبل-أنه يكفر بتركها كما يكفر بجحودها. لقول النبي صلى الله عليه وسلم: بين الكفر والإيمان ترك الصلاة, فمن تركها فقد كفر. والثاني: وهو مذهب أبي حنيفة ومالك أنه لا يكفر بتركها ولا يقتل, ويجبس حتى يصلي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إلا إلا الله, فإذا قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحقها". والثالث: وهو مذهب الشافعي أنه يقتل بتركها لا بكفره لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ألا إني نهيت عن قتل المصلين". فدل على أن غير المصلي مباح للدم. وقد مضى من الدلائل والمعاني ما أقنع. فصل: وإذا كان قتله بتركها واجبًا, فليجوز قتله حتى يسأل عن تركها, واختلف أصحابنا في وقت سؤاله على وجهين: أحدهما: يسأل عن تركها في آخر وقتها إذا لم يبق منه إلا قدر فعلها. والثاني: لا يسأل عنها إلا بعد خروج وقتها, فإذا سئل عنها وأجاب بأنه نسي، قيل له: صل فقد ذكرت. فإن قال: أنا مريض قيل: صل كيف أضفت. وإن قال: لست أصلي كسلًا واستثقالًا. قيل له: تب وصل, فإنه لا يصليها غيرك. فإن تاب وصلى عاد إلي حاله, وإن لم يتب ولم يصل فهو الذي اختلف الفقهاء في حكمه على ما بيناه. ومذهبنا فيه: وجوب قتله حدًا مع بقائه على إسلامه, ويكون ماله لورثته المسلمين, ويصلى عليه, ويدفن في مقابر المسلمين. واختلف أصحابنا في صفة قتله على وجهين: أحدهما: وهو الظاهر من مذهب الشافعي أنه يقتل ضربًا بالسيف. والثاني: وهو قول أبي العباس بن سريج. وطائفة-أنه يضرب بما لا يوجى من الخشب, ويستدام ضربه حتى يموت. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ومن قتل مرتدًا قبل أن يستتاب أو جرحه فأسلم ثم

مات من الجرح فلا قود ولا دية ويعزر القاتل لأن المتولي لقتله بعد استتابته الحاكم". قال في الحاوي: قد مضت هذه المسألة في كتاب الجنايات, أن المرتد يختص الإمام بقتله دون غيره, لأن قتله حق من حقوق الله تعالى التي ينفرد الأئمة بإقامتها كالحدود. فإن قتله غير الإمام لم يضمنه القاتل وعزر. لأن الردة قد أباحت دمه, فصار قتله هدرًا كالحربي إذا قتله مسلم لم يضمنه لإباحة دمه, لكن يعذر قاتل المرتد ولا يعزر قاتل الحربي. والفرق بينهما: إن قتل المرتد حد يتولاه الإمام فعزر المفتات علي. وقتل الحربي جهاد يستوي الكافة فيه, فلم يعزر المنفرد بقتله. فأما إذا جرح مرتدًا ثم أسلم المجروح وسرى الجرح إلي نفسه في الإسلام فمات منه, فمذهب الشافعي: أن دمه هدر لا يضمن, لأنها عن جناية في الردة غير مضمونة, فكان ما حدث بعدها غير مضمون, كالقطع السرقة. قال الربيع: وفيها ثول آخر: إنه ضامن لنصف ديته. لأنه مرتد في حال الجناية, ومسلم في حال السراية, فسقط نصف الدية بردته, ووجب نصفها بإسلامه. وهذا القول من تخريج الربيع من نفسه وليس بمحكي عن الشافعي, ولا تقتضيه أصول مذهبه. فإن كان المرتد هو القاتل فقد مضى في الجنايات. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا يسبى للمرتدين ذرية وإن لحقوا بدار الحرب لأن حرمة الإسلام قد ثبتت لهم ولا ذنب لهم في تبديل آبائهم". قال في الحاوي: أما المرتدون إذا كانوا في دار الإسلام ولو يلحقوا بدار الحرب فلا خلاف نعرفه في أنه لا يجوز سبيهم ولا استرقاقهم تغليبًا لما تقدم من حرمة إسلامهم ولا يجوز أن تؤكل ذبائحهم, ولا ينكحوا تغليبًا لحكم شركهم, ولا تقبل جزيتهم, ولا يهادنوا, لأن قبول الجزية وعقد الهدنة موضوعان للإقرار على الكفر, والمرتد لا يقر على كفره. فأما إذا لحق المرتدون بدار الحرب أو انفردوا بدار صارت لهم كدار أهل الحرب فقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم في جواز سبيهم واسترقاقهم. فذهب علي بن أبي طالب رضوان الله عليه إلي جواز سبيهم واسترقاقهم كأهل الحرب اعتبارًا بحكم الكفر وبه قال شاذ من الفقهاء. وذهب أبو بكر رضي الله عنه إلي تحريم سبيهم واسترقاقهم تغليبًا لحرمة ما تقدم من إسلامهم, كما يحرم سبيهم واسترقاقهم في دار الإسلام. وبه أخذ الشافعي وأكثر الفقهاء. فإن قيل: فقد سبى أبو بكر رضي الله عنه بني حنيفة حين ارتدوا مع مسيلمة قيل: إنما سباهم سبي قهر وإذلال لتضعف بهم قوتهم, ولم يكن سبي غنيمة واسترقاق. وسواء في ذلك الرجال والنساء.

وقال أبو حنيفة: يجوز استرقاق المرتدة, إذا لحقت بدار الحرب, ولا يجوز استرقاق المرتد. واستدل على ذلك: بأن علي بن أبي طالب عليه السلام استرق من سبي بني حنيفة أم ابنه محمد وأولادها. وبناه أبو حنيفة على أصله في أن المرتدة لا تقتل كالحربية فجاز استرقاقها لاستوائهما في حظر القتل عنده وهذا قد تقدم الكلام معه فيه. ثم من الدليل عليه: أن كل دين منع من استرقاق الرجل منع من استرقاق المرأة كالإسلام طردًا والكفر الأصلي عكسًا. فأما ما حكاه من استرقاق على أم ولده محمد ابن الحنفية ففيه ثلاثة أجوبة: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه كان مذهبًا له, وقد خالفه في غيره, فصار خلافًا لا يقع الاحتجاج به. والثاني: وهو قول الواقدي إنها كانت أمة سوداء سندية لبني حنيفة, وكان خالد بن الوليد قد صالحهم على إمائهم. والثالث: وهو الأظهر أنها كانت حرة تزوجها علي عليه السلام برضاها, فأولدها بالزوجية دون ملك يمين, وهو الأشبه بأفعاله رضوان الله عليه وسلامه. فصل: فأما ذرية المرتد: وهم صغار أولاده من ذكور, وإناث, فهم على حكم الإسلام الجاري عليهم بإسلام آبائهم, ولا يزول عنهم بردة آبائهم, لأن رده آبائهم جناية منهم فاختصوا بها دونهم, لأنه لا يؤاخذ أحد بمعصية غيره. فإذا قيل: فإذا تعدي إليهم إسلام آبائهم فصاروا مسلمين بإسلامهم فهلا تعدى إليهم رده آبائهم فصاروا مرتدين بردتهم؟ قيل: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الإسلام يعلو ولا يعلى" فجاز أن يرفع الإسلام من حكم الكفر, ولم يجز أن يرفع الكفر من حكم الإسلام, ولذلك إذا كان أحد الأبوين مسلمًا والآخر كافرًا كان الولد مسلمًا ولو يكن كافرًا, تغليبًا للإسلام على الكفر. فإذا ثبت إسلام أولادهم فلا يجوز سبيهم ولا استرقاقهم, وتجب نفقاتهم في أموال آبائهم المرتدين, لأن النفقة لا تختلف بالإسلام والكفر, فإن ماتوا: غسلوا وصلى عليه ودفنوا في مقابر المسلمين. فصل: وإذا لحق المرتد بدار الحرب كانت أحكام الحياة جارية عليه ما لم يمت رجلًا كان أو امرأة. وقال أبو حنيفة: تجري على المرأة أحكام الحياة, وعلى الرجل أحكام الموت,

فيقسم (ماله) بين ورثته, ويعتق عليه مدبروه وأمهات أولاده, وتحل عليه ديونه المؤجلة, فإن رجع إلي الإسلام رجع بما بقي في أيدي ورثته من تركته الباقية ولم يرجع بما استهلكوه وقد نفذ عتق أمهات أولاده ومدبريه, ولا يتأجل ما حكم بحلوله من ديونه احتجاجًا بأن الردة توجب زوال الملك, فصارت كالموت. ودليلنا: أنه حي فلم يجز أن يورث كسائر الأحياء, ولأن من جاز إسلامه من إجراء حكم الموت عليه, منعت دار الحرب من إجراء حكم الموت عليه كالمرتدة. وقياسه منقض بالردة في دار الإسلام. فصل: فإذا ثبت هذا كان ما خلفه في دار الإسلام باقيًا على ملكه, فإن عاد من دار الحرب وأخذ ماله سرًا أو كان قد حمله حين لحق بدار الحرب, ثم ظهر المسلمون عليه لم يجز أن يغنم ماله وكان في أمان منا. وقال أبو حنيفة: يجوز أن يغنم ماله اعتبارًا بحكم الدار. واعتباره عندنا بالمالك أولى كالمسلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ومن بلغ منهم إن لم يتب قتل". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا بلغ أولاد المرتدين بعد الحكم بإسلامهم فلهم حالتان: إحداهما: أن يقوموا بعبادات الإسلام من الصلاة والصيام وسائل حقوقه, فيحكم لهم بالإسلام فيما لهم وعليهم, ولا يكلفون التوبة, لأنه لم يجز عليهم فيما تقدم حكم الردة, ولا حرجوا فيما بعده من حكم الإسلام. والثانية: أن يمتنعوا بعد البلوغ من عبادات الإسلام, فيسألوا عن امتناعهم, فإن اعترفوا بالإسلام, وامتنعوا من فعل عباداته كانوا على إسلامهم وأخذوا بما تركوه من العبادات بما يؤخذ به غيرهم من المسلمين. فإن تركوا الصلاة قتلوا بها, وإن تركوا الزكاة أخذت منهم, وإن تركوا الصيام أدبوا وحبسوا. وإن أنكروا الإسلام وجحدوه: صاروا حينئذ مرتدين تجري عليهم أحكام الردة بعد البلوغ, فيستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا بالردة كآبائهم. وحكي ابن سريج قولًا آخر: إنهم يقرون على كفرهم كغيرهم من الكفار المقرين على الكفر, لأنهم لم يعترفوا بالإسلام.

وهذا القول سهو من ابن سريج في تخريجه, إلا أن يكون مذهبًا لنفسه فيفسد بما ذكرناه. فصل: فإذا ارتدوا قبل بلوغهم لم يكن لردتهم حكم, وكذلك لو أسلم أولاد أهل دار الحرب قبل البلوغ لم يكن لإسلامهم حكم, ولم يصح من الصبي إسلام ولا ردة. وقال أبو حنيفة: يصح إسلام الصبي وردته ولا يقتل بها. احتجاجًا: بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" كل مولود يولد على الفكرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه حتى يعرب عن لسانه, فإما شاكرًا وإما كفورا". فاقتضى أن يكون ما أعرب لسانه عنه من الإسلام أو الردة صحيحًا, ولأنه ممن يصح منه فعل العبادة, فصح منه الإسلام والردة كالبالغ. ودليلنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم ... ". ورفعه عنه يمنع من أن يجري على اعتقاده حكم. لأنه غير مكلف, فلم يصح منه الاعتقاد لإسلام ولا ردة كالمجنون, ولأن ما لا يستحق به قتل الردة لم يثبت به حكم الردة كسائر الأقوال والأفعال لا تكون ردة. فأما الجواب عن الخبر: فهو أن إعراب لسانه عنه يكون ببلوغه إن صحت هذه الزيادة. وإما قياسه على البالغ: فلا يصح لوقوع الفرق بينهما في القتل بالردة, فوقع الفرق بينهما في أصل الردة, كما يقع الفرق بينهما في العقود والأحكام. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ومن ولد للمرتدين في الردة لم يسب لأن آباءهم لم يسبوا". قال في الحاوي: قد مضى الكلام في أولاد المرتدين قبل الردة. فأما أولادهم بعد الردة: وهم المولودون لهم بعد ستة أشهر فصاعدًا من ردتهم. فإن كان أحد أبويهم مسلمًا: فهم مسلمون لا تجري عليهم أحكام الردة, وكانوا كالمولودين قبل الإسلام على ما قدمناه. وإن كان أبواهم مرتدين لم يجر عليهم حكم الإسلام بأنفسهم ولا بغيرهم, ففيها قولان: أحدهما: وهو الأصح المنصوص عليه في هذا الموضع أنه يجرب عليهم حكم الردة, إلحاقًا بآبائهم فلا يجوز سبيهم ولا استرقاقهم كآبائهم. لكن لا يقتلون إلا بعد بلوغهم وامتناعهم من التوبة فإن ماتوا قبل البلوغ لم يصل عليهم, ولو يورثوا, وكان مالهم فيئًا. فيكونوا على هذا القول موافقين للمولودين قبل

الردة من وجه: وهو أنهم لا يسبون ولا يسترقون, ومخالفين لهم من وجه: وهو أنه يجري عليهم حكم الردة قبل بلوغهم, ويجري على المولودين حكم الإسلام قبل بلوغهم. والثاني: أنهم مخالفون لآبائهم, فيكونوا كفارًا لم يثبت لهم حرمة الإسلام لأن آباءهم وصفوا الإسلام فثبتت فيهم حرمته, وهؤلاء لم يولدوا في إسلام آبائهم ولا وصفوه بأنفسهم, فانتفت عنهم حرمة الإسلام بهم وبآبائهم فعلى هذا: يجوز سبيهم واسترقاقهم كأولاد أهل الحرب, لكن لا يجوز أن يقروا بعد الاسترقاق على كفرهم, لدخولهم في الكفر بعد نزول القرآن. ومن أسر منهم بعد البلوغ كان الإمام على خياره فيهم كأهل الحرب بين أربعة أشياء: قتل أو استرقاق أو فدا أو من. فيكونوا مخالفين للمولودين قبل الردة من وجهين: أحدهما: أنه لا يجري عليهم حكم الإسلام قبل بلوغهم, وإن جرى حكمه على المولود قبل الردة. والثاني: أنه يجوز سبيهم واسترقاقهم وإن لم يجز ذلك في المولود قبل الردة. فصل: ولا فرق في القولين معًا بين أن يولدوا في دار الإسلام أو في دار الحرب. وفرق أبو حنيفة بينهما فقال: إن ولدوا في دار الإسلام لم يجز سبيهم ولا استرقاقهم وإن ولدوا في دار الحرب جاز سبيهم واسترقاقهم احتجاجًا: بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "منعت دار الإسلام ما فيها وأباحت دار الشرك ما فيها". قال: ولأن الذمي إذا نقض عهده لم يجز أن يسترق في دار الإسلام, وجاز أن يسترق في دار الحرب كذلك ولو المرتد. ودليلنا في التسوية بين الدارين في حكم الردة: قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله, فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها". ولم يفرق فيهم من الدارين. ولأن حكم الدار معتبر بأهلها فهي تابعة وليست متبوعة, ولأن من لم يجز استرقاقه إذا ولد في دار الإسلام لم يجز استرقاقهم إذا ولد في دار الحرب كالذي أحد أبويه مسلم, ومن جاز استرقاقه إذا ولد في دار الحرب جاز استرقاقه إذا ولد في دار الإسلام كولد الحربيين. فأما الخبر فمحمول على تغليب حكم العموم دون الخصوص. وأما ناقض الذمة فلم نعتبر نحن ولا هم فيه حكم الولادة, وجاز استرقاقه وسبيه في دار الحرب ولم يجز في دار الإسلام, لأن علينا أن بلغه مأمنه إذا نقض عهده فلذلك ما افترق حكمه في دار الإسلام ودار الحرب وخالف المرتد, لأنه لا يزمنا أن نبلغه مأمنه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن ارتد معاهدون ولحقوا بدار الحرب وعندنا لهم

ذراري لم نسبهم وقلنا إذا بلغوا لكم العهد إن شئتم وإلا نبذنا إليكم ثم أنتم حرب". قال في الحاوي: وصورتها: في قوم من أهل العهد أقاموا في دار الإسلام بأمان عقده الإمام لهم على نفوسهم وذراريهم وأموالهم, ثم نقضوا العهد, ولحقوا بدار الحرب, وخلفوا أموالهم وذراريهم في دار الإسلام, زال الأمان عنهم, وصاروا حربًا يقتلون إذا قدر عليهم, كان الأمان باقيًا في ذراريهم وأموالهم, لا يجوز أن تسبى الذراري ولا تغنم الأموال, وإن كانوا في عقد الأمان تبعًا. لأن الأمان قد يجوز أن يعقده الحربي لماله دون نفسه, بأن يكون في دار الحرب فيأخذ أمانًا لمال يحمله إلي دار الإسلام لتجارة أو وديعة فيكون المالك حربًا يجوز أن يقتل, ويكون ماله سلمًا لا يجوز أن يغنم. ويجوز أن يأخذ الأمان لنفسه دون ماله, فيكون المالك سلمًا لا يجوز أن يقتل, ويكون المال سبيًا يجوز أن يغنم. وكذلك حكمه مع ذريته يجوز أن يأخذ الأمان له دونهم ولهم دونه, فإذا اشتمل عقد أمانه على نفسه وذريته وماله, ثم نقض أمانه ولحق بدار الحرب زال أمان نفسه وبقي أمان ذريته وماله لا تسبي الذرية ولا يغنم المال. ولو أخرج معه حين لحق بدار الحرب ذريته وماله, انتقض أمان له وذريته, وجاز غنيمته ماله واسترقاق ذريته, لأن إخراجهما معه نقض لأمانهما وأمانه. ولو خلفها لقي أمانهما مع زوال أمانه. فصل: فإذا تقرر أن نقض أمانه لا يكون نقضًا لأمان ما خلفه من ذريته وماله, فسواء حاربنا بعد لحوقه بدار الحرب أو كف عنا يجب علينا حفظ ذريته وماله, وتقر الذرية إلي أن يبلغوا, سواء كان المعاهد حيًا أو ميتًا. فإذا بلغوا: خيرهم الإمام بين المقام في دار الإسلام وبين العود إلي دار الحرب, فإن اختاروا العود إلي دار الحرب لزمه أن يبلغهم مأمنهم, ثم يكونوا بعد بلوغهم حربًا وإن اختاروا المقام في دار الإسلام أقرهم فيها على إحدى حالتين: إما بجزية يبذلونها أو بعهد يستأنفونه, لأن أمانهم بالعهد مقدر بعد البلوغ, وغير مقدر قبل البلوغ فيجوز أمانهم قبل البلوغ بسنين كثيرة, ولا يجوز أن يبلغ أمانهم بعد البلوغ سنة, لأنهم قبل البلوغ من غير أهل الجزية, وهم بعد البلوغ من أهلها. وأما ماله: فمقر على ملكه ما بقي حيًا على حريته, وله إن تغيرت حاله حالتان: إحداهما: أن يموت. والثانية: أن يسترق. فإن مات أو قتل: ففي ماله قولان: أحدهما: يغنم فيئًا لبيت المال, لاختصاصه بالأمان على ماله دون ورثته. والثاني: يكون موروثًا عنه لورثته من أهلي الحرب دون أهل الذمة, لأن أهل الذمة

وأهل الحرب لا يتوارثون لارتفاع الموالاة بينهم, وإنما كان ماله باقيًا على ورثته, لأنهم يقومون فيه مقامه, فانتقل إليهم بحقوقه والأمان من حقوق المال فصار موروثًا كالمال, فإن مات الوارث انتقل إلي وارثه كذلك أبدًا. وإن استرق مالك المال: فالاسترقاق يزيل الملك الكموت, ففي المال قولان: أحدهما: يغنم فيئًا لبيت المال. والثاني: يكون موقوفًا لا ينتقل إلي وارقه, لأنه حي, ولا إلي مسترقه لأنه مال له أمان, وروعيت حاله بعد الاسترقاق. فإن عتق: دفع المال إليه بقديم ملكه. وإن مات عبدًا: ففي ماله قولان: حكاهما ابن أبي هريرة: أحدهما: يكون مغنومًا لبيت المال فيئًا, ولا يكون موروثًا, لأن العبد لا يورث. والثاني: يكون لورثته, لأنه ملكه في حريته, فانتقل إلي ورثته بحكم الحرية حتى جرى على بقاء ملكه حكم الحرية والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن ارتد سكران فمات كان ماله فيئًا ولا يقتل إن لم يتب حتى يمتنع مفيقًا, قال المزني: قلت: إن هذا دليل على طلاق السكران الذي لا يميزن أنه لا يجوز". قال في الحاوي: وهذا كما قال: تصح ردة السكران وإسلامه كما يصح عتقه وطلاقه. وقال أبو حنيفة: لا تصح ردته ولا إسلامه, وإن صح عتقه وطلاقه. احتجاجًا: بأن الإسلام والكفر يتعلقان بالاعتقاد المختص بالقلب, لقول الله تعالى: {إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ} [النحل 106]. وليس يصح من السكران اعتقاد يتعلق به كفر وإيمان, فاقتضى أن يكون باطلًا. قال: ولأنه لا عقل له, فوجب أن لا تصح ردته ولا إسلامه كالمجنون. ودليلنا: ما انعقد عليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم, من تكليف السكران بما روي: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه شاور الصحابة في حد الخمر, وقال: أرى الناس قد تهافتوا واستهانوا بحده فماذا ترون؟ فقال علي بن أبي طالب عليه السلام: أرى أن يحد ثمانين, لأنه إذا شرب سكر, وإذا سكر هذي, وإذا هذب افترى, فيحد حد المفري. فوافقه عمر والصحابة رضي الله عنهم, على هذا, وحدوه حد المفتري ثمانين.

وجعلوا ما تلفظ به في السكر افتراء ما يتعلق به حد وتعزيز, وذلك من أحكام التكليف. ولو كان غير مكلف لكان كلامه لغوًا وافتراؤه مطرحًا, وإذا صح تكليفه صح إسلامه وردته. ولأن من صح عتقه وطلاقه, صحت ردته وإسلام كالصاحي, ولأن الردة والإسلام لفظ يتعلق به الفرقة فوجب ان يصح من السكران كالطلاق. فأما الجواب عن استدلاله بأنه لا اعتقاد له: فهو أن يجري في أحكام التكليف مجرى من له اعتقاد وتمييز, ولذلك وقع طلاقه وظهاره, ولو عدم التميز ما وقعا كالمجنون. وهو الجواب عن القياس. فصل: وإذا ثبت أن السكران في الردة والإسلام كالصاحي, كما هو في العتق والطلاق كالصاحي فكذلك في جميع الأحكام فيما له, وما عليه وهو مذهب الشافعي وجمهور أصحابه. وذهب أبو علي بن أبي هريرة إلي أنه تجري عليه أحكام الصاحي فيما عليه من الحقوق تغليظًا, ولا تجري عليه أحكام الصاحي فيما له من الحقوق, لأنه يصير تخفيفًا, والسكران مغلظ عليه غير مخفف عنه. فعلى هذا تصلح منه الردة لأنها تغليظ, فأما الإسلام فإن كان بعد ردة لم يصح منه, لأنه تخفيف, وإن كان عن كفر يقر عليه كالذمي يصح منه؛ لأنه تغليظ. وهذا خطأ, لأن السكران سلبه حكم التميز وجب أن يعم كالمجنون, وإن لم يسلبه حكم التميز وجب أن يعم كالصاحي, ولا يصح أن يكون مميزًا في بعض الأحكام وغير مميز في بعضها لتناقضه في المعقول, وفساده على الأصول. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا وارتد سكران, جرت عليه أحكام الردة من وجوب قتله وسقوط القود عن قاتله, وتحريم زوجاته, والحجر على أمواله, وإن مات كان ماله فيئًا غير موروث. فأما استتابته من ردته فقد أمر الشافهي بتأخيرها إلي حال صحوه, فاختلف أصحابنا في تأخيرها هل هو على الإيجاب أو الاستحباب. على وجهين بناء على اختلافهم هلى تجري عليه أحكام الصاحي فيما له كما تجري عليه أحكام الصاحي فيما عليه؟ أحد الوجهين: وهو قول أبي إسحاق المروزي والظاهر من مذهب الشافعي أن تأخيرها استحباب, فإن استتابه في حال سكره صحت توبته, وإن قتله قاتل أقيد به, وإن مات كان ماله لورثته. والثاني: أن تأخيرها إلي صحوه واجب, لأنه ربما اعترضه في الردة شبهة يستوضحها بعد إفاقته, فإن استتابه في سكره لم تصح توبته, وكان على أحكام الردة في سقوط القود عن قاتله وانتقال ماله إلي بيت المال فيئًا دون ورثته. فأما المزني فإنه جعل تأخير توبته دليلًا على إبطال طلاقه, وغفل أن ثبوت ردته دليلًا على صحة طلاقه.

فصل: وإذا ارتد عاقل ثم جن لم يستتب في جنونه, لأن المجنون لا يصح من استلام ولا ردة, ولم يقتل حتى يفيق من جنونه. ولو جن بعد وجوب القصاص عليه: قتل قبل إفاقته. والفرق بينهما حيث منع الجنون من قتل الردة ولم يمنع من قتل القود: أن له إسقاط قتل الردة عن نفس توبته بعد إفاقته فأخر إليها, وليس له إسقاط قتل القود عن نفسه بحال فلم يؤخر إلي إفاقته. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو شهد عليه شاهدان بالردة فأنكره قيل إن أقررت بأن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله وتبرأ من كل دين خالف دين الإسلام يكشف عن غيره". قال في الحاوي: إذا شهد شاهدان على رجل بالردة لم تسمع شهادتهما عليه مطلقة, حتى يصفا ما سمعاه من قوله الذي يصير به مرتدًا, وسواء كانا من أهل العلم أو لو يكونا من أهله, لاختلاف الناس فيه, كما لا تسمع شهادتهما بالجرح حتى يصفا ما يكون به مجروحًا. فإذا ثبتت الشهادة سألناه ولم يعرض لقتله قيل سؤاله, لجاوز أن يكون قد تاب منها أو سيتوب فلو قتله قاتل قبل سؤاله عزر ولا قود عليه ولا دية, لثبوت ردته إلا أن يقيم وليه البينة أنه تاب من ردته فيحكم بإسلامخ, ويسأل القاتل, فإن علم بإسلامه, وجب عليه القود. وإن لم يعلم بإسلامه, ففي وجوب القود وجهان: أحدهما: لا قود عليه, وعليه الدية, لأن تقدم ردته شبهة. والثاني: عليه القود, لأنه عمد قتل نفس محظورة. وإذا كان باقيًا بعد الشهادة عليه بالردة وسئل عنها لم يخلو جوابه من اعتراف بها أو إنكار لها. فإن اعترف بها استتبناه, فإن تاب وإلا قتلناه وإن أنكرها قيل له: إنكارك لها مع قيام البيئة بها تكذيب لشهود عدول, لا ترد شهادتهم بالتكذيب, وليس يلزمك الإقرار بها, ولك المخرج من شهادتهم بإظهار الإسلام. فإذا أزهره: زالت عنه الردة وجرى عليه حكم الإسلام. فقد شهد شهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم على قول من المنافقين بكلمة الكفر, فأحضرهم وسألهم, فمنهم من اعترف وتاب, ومنهم من أنكر وأظهر الإسلام, فكف عن الفريقين, وأجرى على جميعهم حكم الإسلام. فإذا أظهر المشهود عليه الإسلام على ما سنذكره قال الشافعي: لم يكشف عن

غيره, ويحتمل ذلك منه تأويلين: أحدهما: لم يكشف عما شهد به الشهود من ردته. والثاني: لم يكشف عن باطن معتقده, لأن ضمائر القلوب لا يؤاخذ بها إلا علام الغيوب. روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ارتاب برجل في الردة, فأظهر الإسلام, فقال له عمر: أظنك متعوذ به. فقال يا أمير المؤمنين أما لي في الإسلام معاذ. فقال له عمر: بلى إن لك في الإسلام لمعاذ. فصل: فأما توبة المرتد: فتتضمن ما يصير به الكافر مسلمًا؛ لأن الردة قد رفعت عنه حكم الإسلام, فيشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. قال الشافعي: ويبرأ من كل دين خالف الإسلام, فذكر مع الشهادتين البراءة من كل دين خالف الإسلام, فأما الشهادتان: فواجبتان لا يصح إسلامه إلا بهما. وأما التبري من كل دين خالف الإسلام فقد اختلف أصحابنا فيه على ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه شرط في إسلام كل كافر ومرتد كالشهادتين. والثاني: أنه استحباب في إسلام كل كافر ومرتد كالاعتراف بالبعث والجزاء. والثالث: وقد أفصح به الشافعي في كتاب الأم, أنه إن كان من عبدة الأوثان ومنكري النوبات كالأميين من العرب كان التبري من كل دين خالف الإسلام مستحبًا. وإن كان من أهل كتاب يعترفون بالنبوات, أن محمدًا صلى الله عليه وسلم نبي مبعوث إلي قومه كان التبري من كل دين خالف الإسلام واجبًا لا يصح إسلامه لا بذكره. فإذا ثبت ما ذكرنا من شروط الإسلام المعتبرة في توبة المرتد, نظر في ردته, فإن كانت بجحود الإسلام, صحت توبته بما ذكرنا من شروطه. وإن كانت ردته بجحود عبادة من عباداته كالصلاة والصيام والزكاة والحج مع اعترافه بالشهادتين وصحة الإسلام, اعتبر في صحة توبته بعد شروط الإسلام الاعتراف بما جحده من الصلاة والصيام والزكاة, لأنه قد صار مرتدًا مع اعترافه بالشهادتين فلم تزل عنه الردة بهما حتى يعترف بما صار مرتدًا بجحوده, ولا يجزيه الاقتصار على الاعتراف بما جحده عن إعادة الشهادتين. لأنه قد جرى عليه حكم الكفر بالردة, فلزمه إعادة الشهادتين ليزول بهما حكم الكفر, ولزمه الاعتراف بما جحده ليزول به حكم الردة. وهكذا لو صار مرتدًا باستحلال الزنى واستباحة الخمر, كان من صحة توبته الاعتراف بتحريم الزنى وحظر الخمر. ولكن لو صار مرتدًا بسب رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان الاعتراف بنوبته في الشهادتين مقنًعا في

صحة توبته, ولا يفتقر إلي الاعتراف بحظر سبه, لأن في الاعتراف بنوبته اعترفًا بحظر سبه. فصل: فأما المكره على الكفر والردة بالقتل, فموسع له بين الإمساك عن كلمة الكفر والصبر على القتل وبين التلفظ بكلمة الكفر استدفاعًا للقتل. فقد أكرهت قريش بمكة عمار بن ياسر وأبويه على الكفر, فامتنع منه أبواه فقتلا, وتلفظ عمار بالكفر فأطلق فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فعذر عمارًا وترحم على أبويه. وقيل: إنه نزل فيه: {إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ} [النحل 106]. فإن قيل: فأي الأمرين أولى به؟ قيل: يختلف باختلاف حال المكره. فإن كان ممن يرجى منه النكاية في العدو أو القيام بأحكام الشرع, فالأولى به أن يستدفع القتل بإظهار كلمة الكفر, وإن كان ممن يعتريه من ضعف بصيرته في الدين, أو يمتنع به من أراد الإسلام من المشركين, فالأولى به الصبر على القتل والامتناع من إظهار كلمة الكفر, وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن في الجنة لقصرًا لا يسكنه إلا نبي أو صديق أو محكم في نفسه". فقيل: إن المحكم هو الذي يخير بين الكفر والقتل, فيختار القتل على الكفر, فإن تلفظ بكلمة الكفر, فله في التلفظ بها ثلاثة أحوال: إحداهن: أن يتلفظ بلسانه وهو معتقد للإيمان بقلبه, فهو على إسلامه, وليس لتلفظه حكم إلا استدفاع القتل, لقول الله تعالى: {إلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإيمَانِ} [النحل 106] أي يسقط حكم الإكراه بالاعتقاد. والثالثة: أن يتلفظ بلسانه مطلقًا من غير أن يقترن به اعتقاد إيمان ولا كفر, ففيه وجهان: أحدهما: يكون على إسلامه, لأن ما حدث من الإكراه معفو عنه. والثاني: أن يكون مرتدًا حتى يدفع حكم لفظه بمعتقده, لأنه لا عذر له في تركه. وهكذا المكره على الطلاق, تعتبر فيه هذه الأحوال الثلاث في لفظه ومتعقده. فصل: وإذا تلفظ مسلم بكلمة الكفر, فإن كان في دار الإسلام حكم بردته, إلا أن يعلم أنه قالها مكرهًا, وإن كان في دار الحرب لم يحكم بردته إلا أن يعلم أنه قالها مختارًا؛ لأن الظاهر منها في دار الإسلام وهو يخاف الكفر ويأمن الإسلام, أنه قالها عياذًا واعتقادًا. والظاهر منها في دار الحرب وهو يخاف الإسلام ويأمن الكفر أنه قالها تقية واستدفاعًا.

وعلى هذا: لو أظهرها ومات فادعى ورثته أنه كان مكرهًا عليها فلهم ميراثه. فإن كان في دار الحرب القول قولهم مع إيمانهم, أنه كان مكرهًا عليها لأنه الظاهر من حاله ولهم ميراثه. وإن كان في دار الإسلام لم تقبل دعواهم وحكم وكان ماله فيئًا, لأنه الظاهر من حاله. فصل: وإذا شرب الخمر وأكل الخنزير لم يصر بذلك مرتدًا, سواء كان ذلك منه في دار الإسلام أو في دار الحرب. لأنه لا يصير مرتدًا إلا باستحلاله دون أكله, فيسأل عنه إذا أكله في دار الحرب, ولا يسأل عنه إذا أكله في دار الإسلام لنه أكله في دار الحرب أقرب إلي استحلاله من أكله في دار الإسلام. فلو مات قبل سؤاله, فقال بعض ورثته: أكله مستحلًا, فهو كافر. وقال بعضهم: أكله غير مستحل, فهو مسلم, فلمن أقر بأنه أكله غير مستحل ميراثه من استصحابًا لإسلامه فأما ميراث من أقر بأنه أكل مستحلًا ففيه قولان: أحدهما: نص عليه في كتاب الأم, أنه يكون موقوفًا حتى يكشف عن حاله, لا يقط ميراثه منه, لأنه مقر على غيره. والثاني: حكاه الربيع وختاره المزني أنه يسقط ميراثه منه, ولو يوقف على الكشف, لأنه مقر على غيره بالكفر, وعلى نفسه بسقوط الإرث, فنفذ إقراره على نفسه وإن لم ينفذ على غيره. فصل: فإذا صلى المرتد قبل ظهور توبته: قال الشافعي في كتاب الأم: إن صلى في دار الإسلام لم يحكم بإسلامه, وإن صار في دار الحرب حكم بإسلامه وفرق أصحابنا بينهم من وجهين: أحدهما: إن الظاهر من فعلها في دار الإسلام التقية, وفي دار الحرب الاعتقاد. والثاني: أنه يقدر في دار الإسلام على الشهادتين, فلم يصر ملسمًا بالصلاة, ولا يقدر في دار الحرب على الشهادتين فصار مسلمًا بالصلاة وفي هذا نظر لأنه لو صارت الصلاة إسلامًا للمرتد, لصارت إسلامًا للحربي. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وما جرح أو أفسد في ردته أخذ به".

قال في الحاوي: لا يخلو ما أتلفه المرتد على المسلمين في حال ردته من أن يكون منفردًا أو في جماعة. فإن كان مفردًا أو في جماعة لا يمتنع بهم فحكمه حكم المنفرد, عليه أحكامه وضمان ما أتلفه عليهم من نفس ومال لأن إسلامه قد أوجب عليه التزام أحكامه, وهو يضمنها قبل الردة, فلم يسقط عنه ضمانها بالردة, لأنها زادته تغليظًا لا تخفيفًا. وإن كان في جماعة ممتنعة عن الإمام ولم يصل إليهم إلا بالقتال, فما أتلفوه في غير القتال ضمنوه, وما أتلفوه في القتل ففي ضمان أهلي البغي قولان: فأما أهل الردة فقد اختلف أصحابنا فيهم: فذهب أبو حامد الإسفراييني وأكثر البغداديين إلي أن في وجوب ضمانهم قولان كأهل البغي: أحدهما: يضمنون كما يضمن المحاربون في قطع الطريق. والثاني: لا يضمنون كما لا يضمن المشركون. وذهب أبو حامد المروزي وأكثر البصريين إلي أنهم يضمنون قولًا واحدًا, وإن كان في ضمان أهلى البغي قولان, للفرق بينهما: بأن لأهل البغي إمامًا تنفذ أحكامه, وليس لأهل الردة إمام ينفذ له حكم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن جرح مرتدًا ثم جرح مسلمًا فمات فعلى من جرحه مسلمًا نصف الدية". قال في الحاوي: وهذه مسألة مضت في كتاب الجنايات. وذكرنا أنه إذا جرحه مسلم في حال ردته ثم أسلم فجرحه آخر بعد إسلامه ومات فجرحه في الردة هدر لا يضمنه الجارح بقود ولا دية. وجرحه في حال إسلامه مضمون بالدية دون القود, فيجب على الجارح نصف الدية, لأنه قد صار أحد القاتلين. فلو عاد الأول فجرحه مع الثاني جرحًا ثانيًا, وجب على الثاني نصف الدية, وعلى الأول ربعها, لأن نصف فعله هدر والله أعلم. تم الجزء الثاني عشر ويليه إن شاء الله الجزء الثالث عشر وأوله: كتاب الحدود

بحر المذهب في فروع المذهب الشافعي تأليف العلامة القاضي فخر الإسلام شيخ الشافعية الإمام أبي المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني المتوفى سنة 502 هـ تحقيق طارق فتحي السيد الجزء الثالث عشر يحتوي على الكتب التالية: الحدود - السّرقة - قُطّاع الطريّق - الأشربة - السير - الجزية دار الكتب العلمية DKI

كتاب الحدود

كتاب الحدود مسألة: قال: رجم رسول الله صلى الله عليه وسلم يهوديين زنيا. قيل: سميت حدودًا لأن الله تعالى حدها وقدرها فلا يجوز لأحد أن يتجاوزها قاله أبو محمد بن قتيبة، وقيل لأنها تمنع من الإقدام على ما يوجبها مأخوذ من حد الدار لأنه يمنع من مشاركة غيرها فيها، وسمي الحديد حديدًا لأنه يمتنع به. واعلم أن الشافعي رضي الله عنه بدأ في الحدود بحد الزنا لأنه أغلظ الحدود وأشدها، والحدود نوعان أحدهما: بالجلدات المعدودة، والثاني: بغيرها فما ليس بالجلدات فهو بالقطع في السرقة، والرجم في الزنا، والقتل بالردة، والقطع في قطع الطريق. وما هو بالجلد فثلاثة حدود حد الزنا مائة جلدةٍ، وحد القذف ثمانون جلدةً، وحد الخمر أربعون جلدة، وهذه الحدود الثلاثة تنتصف للرق وفي القسم الأول يستوي العبد والحر إلا الرجم فإنه لا يرجم العبد بحال لأنه بني على الكمال ولا كمال مع الرق. واعلم أن في ابتداء الإسلام كان الحكم في الزاني أن يحبس في بيت إلي الممات إن كان ثيبًا لقوله تعالى: {واللاَّتِي يَاتِينَ الفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ} [النساء:15] إلى قوله {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ المَوْتُ} [النساء: 15] وإن كان بكرًا كان الحكم الأذى وهو التعزير والسب والتوبيخ لقوله تعالى [1/أ] {والَّلذَانِ يَاتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء:16] الآية. وإنما حملنا الآية الأولى على الثيب، والثانية على البكر لأنه قال: (من نسائكم) وهذه إضافة زوجية، كقوله تعالى {يُؤْلُونَ مِن نِّسَائِهِمْ} [البقرة:226] ولا فائدة في إضافة ذلك إلي الزوجات إلا اعتبار الشابة ولأنه ذكر عقوبتين إحداهما أغلظ وهو الحبس إلي الموت، والثانية: الأذى والأذى أخف فكانت الأغلظ للثيب، وحكي عن أبي الطيب بن سلمة أنه قال: أراد بالنساء الأبكار وأراد بالإضافة الجنس حدهن وجعل الأذى عقوبة للرجال لأن قوله: (بينكم) يقتضي الرجال، وقيل أراد بالأذى الذكور في قوله تعالى: {فَآذُوهُمَا} [النساء:16] الحبس المذكور أولًا وإنما أعاده ليتبين حكم التوبة كما بين في الآية الأولى تأبيد الحبس إلي الوفاة (وإلى) أن

ينسخه الله تعالى ثم نسخ ذلك بقوله تعالى {الزَّانِيَةُ والزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2]، ولم يفصل بين البكر والثيب. وروى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خذوا عني خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلًا البكر بالبكر جلد مائةٍ وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائةٍ والرجم". واعلم أنه ثبت بهذه السنة وبما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله تعالى لكتبت على حاشية المصحف "الشيخ والشيخة إذا زنيا فاجلدوهما البتة نكالًا من الله [1/ب] إن الله عزيز حكيم وكنا نقرأها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: إن هذا من جملة ما نسخت تلاوته وبقي حكمه وقد ثبت فعل الرجم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر ماعز والغامدية واليهوديين. ورجم عمر وعلي رضي الله عنهما. فإن قال قائل: لا يجوز نسخ القرآن بالسنة وأنتم قلتم: نسخ حكم الزاني في كتاب الله تعالى بالرجم ولم يثبت الرجم إلا بالسنة وأخبار الآحاد. قيل: أما على قول أبي الطيب ابن سلمة فالآية وردت في الأبكار وورد الرجم في الثيب. وأما على طريقة غيره فقول السنة الواردة في الرجم مبينةٌ للقرآن وليست بناسخةٍ، لأن النسخ إنما يكون في حكم ظاهر الإطلاق. أما إذا كان مشروطًا وزال الشرط لا يكون نسخًا وقد قال تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء:15] وقد وردت السنة مبينة للسبيل وهذا كما لو قال: احبسوهن عشر سنين فانقضت لا يكون انقضاؤها نسخًا، وقيل: لم يجعل الله تعالى الحبس حدهن بقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البُيُوتِ} [النساء:15] وإنما أمر بحبسهن ليتبين حدهن ثم تعين بالسنة، وقيل: الرجم ثبت بالقرآن الذي نسخت تلاوته على ما ذكرنا ولهذا قال صلى الله عليه وسلم في خبر العسيف: "لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" وقيل ما ذكرنا من الأخبار والإجماع عن الصحابة كالتواتر ويجوز نسخ القرآن بمثله. [2/أ] واعلم أنه لا يخالف في ثبوت رجم الزاني إلا الخوارج فإنهم لا يقولون به بناءًا على أصلهم الفاسد: إن الأحكام لا تثبت إلا بنص الكتاب أو بأخبار التواتر. ثم اعلم أن الثيب إذا زنا يرجم ولا يجلد ونريد بالثيب المحصن، وقال داود وأهل الظاهر: يجلد مائة ثم يرجم وبه قال أحمد وإسحاق وابن المنذر. وروي عن البصري كخبر عبادة بن الصامت. ودليلنا "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين زنيا" ولم ينقل أنه جلدهما ورجم ماعزًا حين اعترف بالزنا ولم يجلده وأما خبرهم فصار منسوخًا بفعل

النبي صلى الله عليه وسلم على ما ذكرنا أو بحمله على ما لو زنا بكرًا ثم زنا ثيبًا يجلد ويرجم في أحد الوجهين لأنهما حدان مختلفان ذكره أصحابنا. فإن قيل: روي عن علي رضي الله عنه أنه جلد شراحة الغمدانية يوم الخميس ورجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله تعالى ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل: رواه الشعبي مرسلًا وقد خالفه عمر رضي الله عنه، أو يحمل على ما ذكرنا. مسألة: قال: وجلد النبي صلى الله عليه وسلم بكرًا مائة وغربه عامًا. إذا زنا البكر من الرجال أو النساء جلد مائة جلدةٍ ويغرب عن بلده سنةً وكلاهما يحبان على طريق الحق، وروي ذلك عن الخلفاء الأربعة الراشدين رضي الله عنهم والأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى وأحمد، وقال أبو حنيفة: الجلد هو الحد والتغريب ليس بجد بل هو موكول إلي اجتهاد الإمام فيغربه تعزيرًا ولا يتقدر بمقدار والمعروف أنه يغرب من بيته إلي الحبس ومنهم من قال: يغرب عن بلده وهو المشهور وبه قال حماد واحتجوا بأن الله تعالى قال: {فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] ولم يذكر التغريب، وقال مالك: يحد الرجل ويغرب، والمرأة تجلد ولا تغرب واحتج بأن المرأة عورةٌ تحتاج إلي حفظ وصيانة والتغريب يمنع ذلك وهذا خطأ لما روى أبو هريرة وزيد الجهني أن رجلين اختصما إلي رسول صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما: يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي أن أتكلم قال: تكلم قال: إن ابني كان عسيفًا على هذا فزنا بامرأته فأخبروني أن على ابني الرجم فافتديت منه بمائة شاةٍ وبجاريةٍ لي، ثم إني سألت أهل العلم فأخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام وإنما الرجم على المرأة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، أما غنمك وجاريتك فرد عليك وجلد ابنه مائة جلدة وغربه عامًا. وأمر أنيسًا الأسلمي أن يأتي امرأة الآخر فإن اعترفت رجمها فاعترفت فرجمها" وهذا نص في وجوب التغريب. والعسيف الأجير. وقوله صلى الله عليه وسلم: "لأقضين بينكما بكتاب الله" معناه لأقضين بينكما بما فرضه الله عز وجل وأوحاه إذ ليس في كتاب الله تعالى ذكر الرجم منصوصًا، وقيل: الرجم، إن لم يكن منصوصًا باسمه الخاص فهو مذكور في الكتاب على سبيل الإجمال فإن الله تعالى قال: {فَآذُوهُمَا} [النساء:15] واسم الأذى عام في الرجم وغيره، وقيل: الأصل في ذلك قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء:15] فضمن الكتاب أن يكون لهن سبيل فيما بعد ثم جاء بيانه في الخبر وهو ما ذكرنا من خبر عبادة: "خذوا عني قد

جعل الله لهن سبيلًا" الخبر، وقيل: كان في كتاب الله متلوًا فنسخت التلاوة على ما ذكرنا من خبر عمر، وفيه دليل أن الرجم لا يجب إلا على المحصن. وفيه دليل أن للحاكم أن يبدأ بسماع كلام أي الخصمين شاء، وفيه أن الصلح الفاسد منقوص وما يؤخذ يرد إلي صاحبه، وفيه: أنه لم ينكر عليه قوله: فسألت رجالًا من أهل العلم ولم يعب الفتوى عليهم في زمانه. وفيه: أنه لا يجمع بين الجلد والرجم، وفيه دليل أن لما جاء مستفتيًا من ابنه أنه زنا بامرأته لم يجعله قاذفًا لها. وفيه: أنه لم يوقع الفرقة بينهما وبين زوجها بالزنا. وفيه: أنه لا يعتبر التكرار في الاعتراف بالزنا وفيه جواز الوكالة في إقامة الحدود. وفيه: أنه لا يجب على الإمام حضور المرجوم بنفسه وفيه جواز الإجازة وفيه وجوب قبول خبر الواحد وأيضًا خبر عبادة بن الصامت. وأيضًا روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيمن زنا ولم يحصن: "ينفى عامًا من المدينة مع إقامة الحد عليه" [3/ب] قال ابن شهاب: وكان عمر رضي الله عنه ينفي من المدينة إلي البصرة وإلي خيبر، وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه أتى برجل وقع على جاريةٍ فأحبلها ثم اعترف على نفسه أنه زنا ولم يكن أحصن فأمر به أبو بكر فجلد الحد، ثم نفي إلي فدك وروي أنه جلده ونفاه عامًا وروى نافع عن ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب وغرب، وأن أبا بكر ضرب وغرب وأن عمر ضرب وغرب، وقال الشعبي: جلد علي رضي الله عنه الزاني ونفى من البصرة إلي الكوفة أو قال: من الكوفة إلي البصرة، وأما الآية فليس فيها نفي التغريب فأثبتناه بخبرنا، وأما ما قال مالك فلا يصح لأن ما كان حدًا للرجل كان حدًا للمرأة كالجلد وكونها عورة لا يمنع ذلك كما يلزمها الحج وسفر الهجرة. فرع حد التغريب أن يخرجه من بلده أو قريته التي زنا فيها إلي مسافةٍ تقصر إلي مثلها الصلاة حتى يصير في حكم المسافرين نص عليه لأن ما دون ذلك في حكم الإقامة في الموضع الذي كان فيه ومن أصحابنا من قال: يغربه إلي حيث ينطلق عليه اسم الغربة ويلحقه في المقام به مشقة ووحشة، وإن كان في جوار البلد لأنه المقصود وهو اختيار ابن أبي هريرة.

فرع آخر لو رأى الإمام أن يريد في مسافة التغريب على مسافة القصر جاز لأن عمر رضي الله عنه غرب إلي الشام وغرب عثمان رضي الله عنه [4/أ] إلي مصر. وإن رأى أن يزيد على سنة لم يكن له ذلك لأن السنة منصوص عليها والمسافة مجتهد. فرع آخر في أول السنة وجهان أحدهما: من وقت إخراجه من بلده لأنه أول سفره، والثاني: بعد حصوله في مكان التغريب فوجهان من وقت مفارقته لأبنية الوطن واعتزال الأهل أنه حد التغريب، والثاني: أنه من مسافة القصر إذا قلنا إنه حد التغريب. فرع آخر الإمام بالخيار بين أن يعين البلد الذي يغرب إليه فيلزمه المقام فيه وتصير تلك البلدة كالحبس له، وبين أن لا يعين البلد فيجوز له إذا تجاوز مسافة التغريب أن يقيم في أي بلد شاء وينتقل إلي أي بلد شاء سوى البلد الذي زنا فيه، ومن أصحابنا من قال: يعين له البلد حتى يكون فيه إلي انقضاء السنة حتى تكون كالحبس ولا يأذن له في الانتقال في هذه المدة. فرع آخر قال أصحابنا: إذا انقضت المدة فهو بالخيار بين الإقامة، وبين العود إلي موضعه، وقال في "الحاوي": إن كان البلد الذي غرب إليه معينًا لم يعد إلا بإذن الإمام، فإن عاد من دون إذنه غرب كما لو خرج من الحبس من دون إذنه، وإن كان البلد غير معين جاز أن يعود بإذن وغير إذن، وإن كان الأولى أن لا يعود إلا بإذن. فرع آخر لو عاد إلي وطنه قبل السنة عزر وأخرج ويبنى على ما تقدم ولا يحتسب [4/ب] مدة مقامه في بلده. فرع آخر لا يجوز أن يحبس في تغربه إلا أن يتعرض للنساء وإفسادهن فيحبس كفًا عن الفساد. فرع آخر مؤونة تغريبه في بيت المال، فإن لم يكن ببيت المال مال ففي ماله ومؤنته في مدة تغريبه على نفسه ولا يمنع أن يحمل ماله مع نفسه ويتجر.

فرع آخر لو غرب نفسه جاز، ولو جلد نفسه لم يجز، والفرق أن الحد يستوفى منه فلا يجوز أن يكون مستوفيه والتغريب انتقال إلي مكان ويحصل منه ذلك. فرع آخر ينبغي للإمام أن يثبت في ديوانه أول زمان تغريبه، فإن لم يثبت فادعى انقضاء السنة ولا بينة فالقول قوله لأنه من حقوق الله تعالى ويحلف استظهارًا. فرع آخر لو كان الزاني غريبًا نقله إلي بلدٍ آخر غير البلد الذي هو وطنه لأن القصد منه الإيحاش والإضرار به، فإذا رددناه إلي بلده لم يستضر ولم يستوحش ويستوحش بمفارقته البلد الذي أنس فيه ثم زنا. فرع آخر يغرب الرجل وحده، وأما المرأة فلا تغرب إلي في صحبة ذي رحم محرم أو امرأةٍ ثقةٍ في صحبة مأمونةٍ، فإن لم يوجد ذو رحم محرم ولا امرأةٌ ثقةٌ تتطوع بالخروج معها استؤجر من يخرج معها، ومن أين يستأجر؟ فيه وجهان: أحدهما: يستأجر من مالها لأنه حقٌ عليها وكانت مؤنته عليها، وإن لم يكن لها مالٌ استؤجر من بيت المال، ومن أصحابنا [5/أ] من قال: يستأجر من بيت المال لأنه حق الله تعالى وكانت مؤنته من بيت المال، فإن لم يكن في بيت المال مالٌ استؤجر من مالها، ومن أصحابنا من قال: وجهًا واحدًا يجب في مالها لأنه من مؤنة سفرها الواجب عليها فإن كان في بيت المال سعة يستحب للإمام أن يدفع منه، وإن لم يكن لها مال يدفع الإمام من بيت المال واجبًا، ومن أصحابنا من قال: يجوز التغريب في غير محرمٍ ولا في صحبة امرأةٍ ثقةٍ إذا كان الطريق آمنًا لأنه سفر واجب. فرع آخر لو لم يجب محرمها إلي الخروج معها من أصحابنا من قال: يجبره الإمام على ذلك، ومن أصحابنا من قال: لا يجبره ويغربها وحدها ويحتاط في ذلك. فرع آخر العبد إذا زنا هل يلزم تغريبه مع الجلد؟ قولان وكذلك الأمة أحدهما: لا يلزم قال القاضي أبو حامد: هذا أظهر قوليه. وبه قال مالك وأحمد ووجهه ما روى أبو هريرة وزيد بن خالد الجهني رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال: "إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فاجلدوها ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفيرٍ". والضفير الحبل المفتول ولم يذكر التغريب وقوله: ولم تحصن

أي: لم تتزوج. وأيضًا فإن التغريب يراد للإيحاش والضجر والاستضرار ولا يحصل في العبيد ذلك. والثاني: يلزم التغريب نص عليه [5/ب] في القديم وهو اختيار عامة أصحابنا قوله تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ} [النساء:25] وهذا يقتضي أن عليهن نصف ما على الأحرار. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه جلد أمة له زنت ونفاها إلي فدك ولأنه حدٌ يتبعض فيلزم العبد كالجلد. فرع آخر إذا قلنا: يغرب كما يغرب الحر قال الشافعي: استخبر الله تعالى في نفيه نصف سنة وقطع في موضع آخر بأن ينفى نصف سنةٍ، وقيل: لم ينص في القديم على هذا ولكنه قولٌ مخرج خرجه ابن أبي هريرة، والمشهور أن المسألة على قولين أحدهما: يغرب نصف سنة وهو اختيار المزني وعامة أصحابنا لأنه حد يتبعض فكان العبد فيه على النصف من الحر كالجلد. والثاني: يغرب سنة كما أن مدة مهلة العبد العنين سنة مثل مهلة الحر العنين لأن كليهما يرجع إلي معنى في الطباع أما هاهنا العار والوحشة وهناك الاختيار ليعلم أنه علة أو عنةٌ وهذا ضعيف لأن مدة العنة بظهور العيب وهذا يجب حدًا فلا يجوز أن يساوى الحر فيه إذا احتمل التنصيف. فرع آخر ظاهر المذهب أن السيد إذا حده وغربه أيضًا ومؤنة تغريبه في بيت المال على ما ذكرنا، فإن لم يكن في بيت المال مال فعلى السيد ونفقته في زمان التغريب على السيد وقد ذكرنا فيه وجهًا آخر أن نفقته في بيت المال في زمان التغريب والمذهب الأول. قال بعض أصحابنا: إن حده الإمام يغربه، وإن حده السيد لا يغرب [6/أ] لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالجلد دون التغريب في خبر أبي هريرة ولأنه يلزمه فيه غرامة في ماله وإذا غربه الإمام ينفق عليه من بيت المال فافترقا وهذا لا يصح لأنه حق الله تعالى فلا يختلف فيه باختلاف مستوفيه. مسألة: قال: "إذا أصاب الحر أو أصيبت الحرة بعد البلوغ بنكاح صحيح فقد أحصنا". وذكر الشافعي رضي الله عنه الإحصان الذي هو شرط في وجوب الرجم على الزاني. وجملته أن شرائط الإحصان أربعة: البلوغ، والعقل، والحرية، والوطء في نكاح صحيح لا يختلف أصحابنا فيها. وقال بعض أصحابنا: والإحصان هو الوطء في النكاح وهو عبد ثم أعتق ثم زنا يجب عليه الرجم وعلى ظاهر المذهب لا يجب. وقال أبو حنيفة: الإسلام شرط أيضًا مع هذه الشرائط الأربعة فلا رجم على الكافر

بحال وبه قال مالك واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا إحصان مع الشرك" وروى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أشرك بالله فليس بمحصن" وروي عن كعب بن مالك رضي الله عنه أنه أراد أن يتزوج يهودية أو نصرانية فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاه عنها وقال: "إنها لا تحصنك". ودليلنا ما روى أبو داود في سننه بإسناده عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: "إن اليهود جاؤوا" إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا أن رجلًا منهم زنا فقال لهم رسول الله [6/ب] صلى الله عليه وسلم: "ما تجدون في التوراة في شأن الزنا فقالوا: نفضحهم ويجلدون فقال عبد الله بن سلام: "كذبتم إن فيها الرجم فأتوا بالتوراة ونشروها فجعل أحدهم يده على آية الرجم ثم جعل يقرأ ما قبلها وما بعدها فقال له عبد الله بن سلام: ارفع يدك فرفعها فإذا فيها آية الرجم فقالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما" قال ابن عمر: فرأيت الرجل يجنأ على المرأة يقيها الحجارة. قال الإمام أبو سليمان الخطابي: هكذا في الخبر يجنأ والمحفوظ أنه يجنأ إذا أكب عليها يقال: حنا الرجل يحنا حنوًا إذا أكب على الشيء، وقال الإمام أحمد البيهقي: الصواب يجنأ بمعنى يكب، وروي أنهم لما صدقوا عبد الله بن سلام قالوا: ولكنه كثر الزنا في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد فجعلنا التحميم والجلد مكان الرجم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أول من أحيا أمرك إذا أماتوه" فأمر به فرجم وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال: زنا رجلٌ من اليهود وامرأة فقال بعضهم لبعض: اذهبوا بنا إلي هذا النبي فإنه نبي بعث بالتخفيف فإن أفتانا بالفتوى دون الرجم قبلناها واحتججنا بها عند الله تعالى قلنا: فتيا نبي من أنبيائك فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالسٌ في المسجد فقالوا: يا أبا القاسم ما ترى في رجل وامرأة منهم زنيا فلم يكلمهم كلمة حتى أتى بيت مدارسهم فقام على الباب فقال: "أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنا إذا أحصن؟ قالوا: يحمم ويجبه ويجلد" والتجبية أن يحمل الزانيان على حمار يقابل أنفسهما ويطاف بهما قال: وسكت شاب منهم فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم سكت ألظ به النشدة.

فقال: اللهم إذ نشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "فما أول ما ارتخصتم في أمر الله عز وجل قال: زنا ذو قرابة ملك من ملوكنا فلم يرجم ثم زنا رجل في أسرة من الناس فأرادوا رجمه فحال قومه دونه، وقالوا: ألا ترجموا صاحبنا حتى يحيى بصاحبكم فنرجمه فأصلحوا عنده بينهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فإني أحكم بما في التوراة ثم أمر بهما فرجما". والتحميم تسويد الوجه بالحمم والتجبية: مفسر في الخبر ويشبه أن يكون أصله الهمز وهو يجيء من التجبية وهو الردع والردع يقال: جبأته فجبأ أي ارتدع فقلبت الهمزة هاء، والتجبية أيضًا أن ينكس رأسه فسمي بذلك الفعل تجبية، ويحتمل أن يكون من الجبة وهو الاستقبال بالمكروه وأصل الجبة إصابة الجبهة. وقوله: ألظ في النشدة أي: ألزمه القسم وألح عليه ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: "ألظوا بيا ذا الجلال والإكرام" أي: اسألوا الله بهذه الكلمة [7/ب] وواظبوا على المسألة بها. والأسرة عشيرة الرجل وأهل بيته وقوله: واحكم بما في التوراة: أراد به احتجاجًا عليهم ولا يحكم إلا بما في دينه وشريعته لأنه بعث ناسخًا لشريعتهم فلا يحكم بالمنسوخ. وروى ابن عمر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم يهوديين وكانا محصنين"، وأما الخبر الأخير فقلنا: رواه أبو بكر بن أبي مريم وهو ضعيف عند أهل الحديث. فرع اختلف أصحابنا في هذه الشرائط كيف تعتبر؟ فمنهم من قال: من شرط الوطء في النكاح الصحيح أن يصادف الرجل الكمال في البلوغ والعقل والحرية فإن وطئ وهو صحيح يجامع مثله في نكاح صحيح ثم بلغ لم يصر محصنًا حتى يطأ بعد البلوغ، وكذلك إذا وطء وهو مجنون لا يصير محصنًا حتى يطأ بعد العقل. وكذلك الموطوءة لا تصير محصنة حتى تكون في حال الوطء بالغةً عاقلةً حرة وهو ظاهر قول الشافعي رضي الله عنه، وإذا أصاب الحر أو أصيبت الحرة بعد البلوغ فشرط أن تكون الإصابة بعد البلوغ والحرية وهذا نص، ومن أصحابنا من قال: الاعتبار بالوطئ في النكاح الصحيح سواء صادف حالة النقصان، أو حالة الكمال لأن العقد شرط في هذا الوطء، ولا فرق بين أن يكون العقد حاصلًا في حالة النقص أو في حالة الكمال، فكذلك الوطء [8/أ] لا فرق فيه بين الحالين وهذا لأن وطء تقع به الإباحة للزوج الأول فيثبت به الإحصان كالوطء في حال الكمال، والصحيح الأول وهو المنصوص وبه قال أبو حنيفة ووجه قوله صلى الله عليه وسلم: "أو زنا بعد إحصان" فأوجب القتل على من زنا بعد الإحصان، وعلى القول

الآخر يزني قبل: إن يثبت له الإحصان فيلزمه الرجم، ولأن الإحصان موضع كمال فأشرط فيه وطء يوجد في حالة الكمال وهو بعد وجود هذه الشرائط. فرع آخر إذا قلنا بالقول الصحيح فهل يعتبر الكمال في الطرفين أم يعتبر في كل واحد منهما كمال نفسه دون صاحبه؟ اختلف فيه قول الشافعي رضي الله عنه قال القاضي أبو حامد: قال الشافعي في "الإملاء": وطء الصبي الذي يجامع مثله كوطء الكبير في الحرمة إلا في شيئين في أن لا يحلها الزوج، ولا يحصنا قال: وجعل الشافعي في القديم المرأة محصنة بوطء الصبي الذي يجامع مثله وجعل الرجل محصنًا إذا وطئ صبية يجامع مثلها محللًا للزوج إن كان طلقها وقال فيه: وكل وطء قام بنكاح حلال أحصن البالغ من الزوجين كما يقع به الحدود على المجامع أو المجامعة، ألا ترى أن المرأة يجامعها العبد أو المعتوه فترجم، وإن لم يكن على الواطئ رجم؟ قال: ويجامع الأمة المعتوهة فيرجم، وإن لم يكن عليها رجم، فجعل قولان: أحدهما: الكمال يعتبر في الطرفين وهذا أضعف القولين [8/ب] وبه قال أبو حنيفة. والثاني: لا يعتبر كمال صاحبه وإنما يعتبر كمال نفسه وهو الصحيح المشهور وهو قول الزهري ووجهه أن حر بالغ عاقل وطئ في نكاح صحيح فصار محصنًا كما لو كانا كاملين. واحتج أبو حنيفة أن أحدهما إذا كان ناقصًا فالوطء غير كامل فأشبه إذا كانا ناقصين، قلنا: في الأصل لم يوجد الكمال في واحد منهما وهاهنا بخلافه فيعتبر كل واحد منهما بنفسه لا بصاحبه كما لو كان أحدهما بكرًا والآخر محصنًا. وقال أبو حامد: إذا كانت الموطوءة أمته والواطئ حرًا عاقلًا بالغًا محصنًا قولًا واحدًا، وكذلك العبد إذا وطئ حرة بالنكاح صارت محصنة، وإذا كان غير بالغ ففيه قولان قال في "الأم": يصير الكامل محصنًا دون الآخر، وقال في "الإملاء": لا يكون أحدهما محصنًا، وسائر أصحابنا ذكروا القولين في الكل ولم يميزوا الرق من الصغير. وما حكاه القاضي أبو حامد على ما ذكرنا يدل على اختلاف قوله في الصبي دون الرقيق، وقال القاضي الطبري: سوى الشافعي رضي الله عنه بين الإحلال وبين الإحصان في اعتبار الكمال في الطرفين على ما ذكرنا في "الإملاء" فيجب على هذا إذا اعتبرنا كمال الوطء في نفسه أن يسوي فيه بين الإحلال والإحصان، فإذا وطئ رجل صبية يجامع مثلها فلا تحل لزوجها الأول وهذا غريب لم يذكره سائر أصحابنا. [9/أ] وقال مالك: إذا كان أحدهما كاملًا صار محصنًا إلا الصبي يطأ الكبيرة فإنها لا تصير محصنة، ولو وطئ الكبير صغيرة يجامع مثلها صار محصنًا ودليله أن ما لا يمنع الإحصان إذا كان في الموطوءة لا يمنع إذا كان في الواطئ كالرق. واعلم أن الشافعي اقتصر على ذكر الحرية والإصابة والبلوغ ولم يذكر العقل علمًا منه بأنه لا يفي اشتراط العقل في إيجاب العقوبات.

فرع آخر لو زنا بكرٌ بامرأةٍ فجلد مائة ونفي سنةً، ثم زنا بها أو بأخرى مرة ثانية جلد مائة وغرب سنة. وكذا الحكم إذا زنت وكانت بكرًا فجلدت ونفيت ثم زنت يقام عليها الحد بالجلد والنفي وأيهما زنا مرارًا كثيرةً ثم اعترف بالزنا، أو قامت عليه البينة لم يكن عليه إلا حد واحد. وسمي الحد حدا لوصوله إلي الجلد. فرع آخر قال: والزاني أن يطأ الرجل المرأة من غير عقد ولا شبيه عقد، ولا ملك ولا شبيه ملك مع العلم بتحريم ذلك عليه، ويجب الحد بتغييب الحشفة في الفرج ويقع عليه اسم الزنا إذا كان على ما وصفنا، وكذلك المرأة إذا طاوعت رجلًا حتى يغيب حشفته في فرجها، فإن زنا حر بمجنونة كان عليه الحد دونها، وكذلك إن زنا بصبية يجامع مثلها كان عليه الحد دونها ولها المهر، وكذلك النائمة إذا وطئت في حال نومها فإن استكرهها رجل فزنا بها كان عليه الحد دونها [9/ب] ولها مهر مثلها حرة كانت أو أمةً ونقصت الإصابة من ثمنها شيئًا فعليه ما نقص من ثمنها مع المهر. وكذلك إن كانت حرة فجرحها جرحًا له أرش قضي عليه بأرش الجرح مع المهر. فإن ماتت من وطئه كان عليه المهر ودية الحرة، ولو زنت المرأة بمعتوهٍ كان عليها المهر دونه وبه قال مالك، وقال أبو حنيفة: لا حد عليها لأنها لم تمكن من الزاني لأن فعل المعتوه ليس بزنا وهذا لا يصح لأنها لم تعتمد في هذا التمكين ملكًا ولا شبهة ملك فيلزمها الحد إذا كانت من أهله كما لو زنا المستأمن بمسلمة، وأما ما قاله فلا يصح لأن وطء المجنون زنا ولكن لا حد عليه لعدم التكليف ولهذا لا يلحق به الولد، وهكذا الخلاف فيمن جاءت إلي نائم فأدخلت ذكره في فرجها يلزمها الحد عندنا خلافًا لأبي حنيفة، وكذلك لو حملت على نفسها صبيًا يجامع مثله يجب عليها الحد خلافًا لأبي حنيفة. فرع آخر المحصن إذا ارتد ثم أسلم لم يبطل إحصانه، وقال أبو حنيفة: يبطل إحصانه فإذا عاد إلي الإسلام وقد زال نكاحه ثم عاد وتزوج ووطئ عاد إحصانه، وإن ارتدا معًا وبقيا على النكاح ثم أسلما ثم وطيء عاد إحصانه وبناه على أصله أن الإحصان شرط في الإسلام ودليلنا أن هذا محصن فإذا ارتد ثم عاد إلي الإسلام [10/أ] كان محصنًا كما في إحصان القذف. مسألة: قال: "فمن زنا منهما فحده الرجم حتى يموت". الفصل: الرجم لا يتكامل إلا بموت المرجوم ولا يجوز أن ترجم بأحجار ثم يترك، وإن كان

اسم الرجم ينطلق على هذا القدر ولكن يوالي رجمه بالأحجار حتى يموت لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رجم ماعزًا فلم يزل يضرب حتى مات، ورجم الغامدية فما زالت تضرب حتى ماتت وروى جابر رضي الله عنه أن رجلًا زنا فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلد الحد ثم أخبر أنه كان أحصن فأمر به فرجم. فإن أشرف المرجوم على التلف بحيث يعلم أنه لا يعيش لا يجوز الإقلاع عنه حتى يتم الإزهاق لأن القتل تمام الحد ثم إذا مات يغسل ويصلى عليه ويدفن لأن الرجم إقامة الحد فلا يمنع من سنة الموتى كما لو قتل قصاصًا، ولأنه لو مات حتف أنفه يغسل ويصلى عليه، فإذا قتل حدًا أولى لأن الكفارة حد وتطهير. فرع لا يكره للإمام الحاكم برجمه أن يصلي عليه بعد رجمه، وقال مالك: يكره وهذا خطأ لما روى عمران بن الحصين رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على التي رجمها من جهينة وأحسبها الغامدية، وقال له عمر: ترجمها ثم تصلي عليها فقال: "لقد تابت توبة لو قسمت على سبعين من أهل المدينة لوسعتهم هل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها" ورجم علي رضي الله عنه [10/ب] الهمدانية يوم الجمعة وصلى عليها. فرع تعرض عليه التوبة قبل رجمه لتكون خاتمة أمره، وإن حضر وقت صلاة أمر بها، وإن تطوع بصلاة مكن من ركعتين، وإن استسقى ماء سقي وإن استطعم طعامًا لم يطعم والفرق أن الماء لعطش متقدمٍ والأكل لشبعٍ مستقبلٍ. فرع آخر لا يربط ويخلى والاتقاء بيده لما روي في خبر اليهودي المرجوم أنه كان يجنأ عليها يقيها الحجارة، ولو كان مربوطًا لم يمكنه ذلك. ولا يحفر للرجل بحال سواء ثبت عليه الزنا بالبينة أو بالاعتراف لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحفر لماعز بن مالك، وأما المرأة إن ثبت عليها الزنا بالبينة حفر لها لصيانتها وسترها. وإن ثبت عليها بالإقرار فهل يحفر؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يحفر لها عونًا على هربها إن رجعت عن إقرارها. والثاني: يحفر تغليبًا لصيانتها وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحفر للغامدية إلي الصدر وكانت مقرة بالزنا

والأول اختيار أبي حامد. وقال القاضي أبو حامد: إن ثبت بالإقرار لا يحفر لها، وإن ثبت بالبينة كان بالخيار بين أن يحفر لها ومن أن لا يحفر، وقال القاضي الطبري: السنة تقتضي أنه بالخيار سواء ثبت بالبينة أو بالإقرار لأن النبي صلى الله عليه وسلم حفر للغامدية إلي الثندوة ولم يحفر للجهنية وكان الزنا ثبت بإقرارها، وقال قتادة: يحفر للرجل أيضًا كالمرأة [11/أ] وقال أبو يوسف وأبو ثور: يحفر للمرأة دون الرجل. فرع آخر قال أصحابنا: صفة الرجم أن يضرب بالحجارة، أو بالمدر أو بما في معنى ذلك إلي أن يموت على ما ذكرنا. وقال في "الحاوي": الاختيار أن يكون الحجر مثل الكف، ولا يكون أكبر كالصخرة فيوجبه، ولا يكون أصغر منه كالحصاة فيطول عليه ويكون موقف الرامي منه بحيث لا يبعد فيخطئه ولا يدنو منه فيؤلمه. وقال الإمام والدي رحمه الله: في الأول ثلاثة أوجه: أحدهما: أن الرجم بالحجارة الصغار. والثاني: بالكبار. والثالث: بهما جميعًا وهما سواء. فرع آخر فإن كان ثبت الزنا عليه بالبينة اتبع حتى يقتل، وإن كان ثبت بالإقرار قال الشافعي رضي الله عنه: إذا هرب خلى بينه وبين هربه ولم يتبع فإن عاد إلينا مقيمًا على إقراره حددناه. وهذا لما روي أن ماعزًا لما مسه حر الحجارة أخذ يشتد فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز أصحابه فرماه فقتله فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هلا تركتموه لعله يتوب فيتوب الله تعالى عليه" وروي أنه قال لما مسته الحجارة وهرب: ردوني إلي محمد فإن قومي عزوني، وقالوا: إن محمدًا غير قاتلي فلما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم [11/ب] قال: "هلا رددتموه إلي لعله يتوب" وروي أنه لما مر يشتد لقيه رجل معه لحي بعير فضربه فقتله. وروي: فلما أذلقته الحجارة فر أي أصابته بحدها وذلق كل شيء حده يقال لسان ذلق طرق، وقيل: الإذلاق سرعة الرمي ومعناه أنه لما تتابع عليه وقع الحجارة من كل وجه فر. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا هرب أو امتنع من إقامة الحد عليه ولم يصرح بالرجوع فيه وجهان ذكرهما صاحب "التقريب": أحدهما: أنه كالرجوع لقوله صلى الله عليه وسلم في ماعز: "هلا تركتموه". وعلى هذا يضمن وهو اختيار أبي إسحاق. والثاني: يقام عليه الحد ولا يكون رجوعًا ويسأل عن هربه حتى يفسره استحبابًا وإنما أمرهم برد ماعز استحبابًا رجاء أن يرجع ومعنى التوبة في قوله: "لعله يتوب" الرجوع عن الإقرار إذا

قلنا: لا يسقط حد الزنا بالتوبة وهو أحد القولين. فرع آخر الأولى لمن حضر رجمه أن يكون عونًا إن رجم بالبينة، وممسكًا عنه إن رجم بالإقرار لما ذكرنا. فرع آخر يختار أن يتوقى الوجه لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم باتقاء الوجه. مسألة: قال: ويجوز للإمام أن يحضر رجمه ويترك. [12/أ] اعلم أنه إذا أراد الإمام رجم المحصن فإن شاء حضر رجمه، وإن شاء لم يحضره وكذلك الشهود لا يلزمهم الحضور وبه قال مالك. وقال أبو حنيفة: إن ثبت عليه الزنا بالبينة وجب على الشهود أن يبدؤوا بالرمي ثم الإمام ثم الناس، وإن ثبت باعترافه بدأ الإمام ثم الناس. واحتجوا بما روى القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه قال: رأيت عليًا رضي الله عنه حين رجم شراحة الهمدانية لفها في عباءةٍ وحفر لها حفيرة ثم قام فحمد الله تعالى، وقال: أيها الناس إنما الرجم رجمان رجم سر، ورجم علانيةٍ ورجم السر أن يشهد عليه الشهود فيبدأ الشهود فيرجمون ثم يرجم الإمام ثم يرجم الناس ورجم العلانية أن يشهد على المرأة ما في بطنها فيبدأ الإمام فيرجم ثم يرجم الناس. إلا وإني راجم فارجموا. ودليلنا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر برجم الغامدية وماعز ولم يحضر رجمهما ولأنه إقامة حد فلا يجب هذا كسائر الحدود، وأما أثر علي فنحمله على الأولى. فرع قال: ويحضر حد الزاني في الجلد والرجم طائفة من الأحرار المسلمين لقوله تعالى: {ولْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِّنَ المُؤْمِنِينَ} [النور:2] قال الشافعي ومالك: وأقلهم أربعة، وقال عكرمة وعطاء وإسحاق: اثنان، وقال الزهري: ثلاثة، وقال الحسن: عشرة، وقال ربيعة: خمسة وما قاله الشافعي [12/ب] أولى لأنه العدد الذي يثبت به حد الزنا. مسألة: قال: وإن أقر مرةً حد. الزنا يثبت بالإقرار مرة واحدة وبه قال حماد بن أبي سليمان والحسن وعثمان البتي ومالك وأبو ثور وابن المنذر، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يثبت إلا بالإقرار أربع مرات في أربع مجالس متفرقة وبه قال إسحاق، وقال ابن أبي ليلى وأحمد: يثبت بالإقرار أربع مرات في مجلسٍ واحدٍ أو

مجالس، واحتجوا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنه قال: جاء ماعز بن مالك إلي النبي صلى الله عليه وسلم فاعترف مرتين فطرده ثم جاء فاعترف مرتين فقال: "أتشهد على نفسك أربع مرات اذهبوا به فارجموه" وروي أنه قال له: "الآن أقررت أربعًا فبمن" وروي أنه قيل له: لو أقررت أربعًا لرجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم. ودليلنا ما روي من خبر العسيف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأنيس: "فإن اعترفت فارجمها" ولم يعتبر العدد وأيضًا روى عبد الله بن بريدة عن أبيه أن امرأة من غامدٍ أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إني قد فجرت فقال: "ارجعي" فرجعت فلما كان الغد أتته فقالت: "لعلك أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك" قالت: والله إني لحبلى فقال لها: "ارجعي" فرجعت فلما كان الغد [13/أ] أتته فقال لها: "ارجعي حتى تلدي" فلما ولدت أتته فقالت: هذا قد ولدته قال: "ارجعي فارضعيه حتى تفطميه" فجاءت به وقد فطمته وفي يده شيء يأكله فأمر بالصبي فدفع إلي رجل من المسلمين وأمر بها فحفر لها فرجمت". وروي أنها قالت: طهرني فقال: "ويحك ارجعي فاستغفري الله وتوبي إليه" فقالت: لعلك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك قال: وما ذاك قالت: إني حبلى من الزنا قال: أثيبٌ أنت؟ قالت: نعم قال: إذًا لا نرجمك حتى تضعي ما في بطنك فكفلها رجل من الأنصار حتى وضعت ثم أتي النبي صلى الله عليه وسلم قال: قد وضعت الغامدية قال: إذًا لا نرجمها وندع ولدها صغيرًا ليس له من يرضعه فقام رجل من الأنصار فقال: إلي رضاعه يا رسول الله فرجمها" وروي عن عمران بن الحصين أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا وليًا لها وقال له: "أحسن إليها فإذا وضعت فجيء بها" فلما وضعت أتى بها فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فشكت عليها ثيابها ثم أمر بها فرجمت. وقوله: فشكت ثيابها أي شدت عليها لئلا تتجرد فتبدو عورتها. وفيه إثبات الكفالة بالنفس وفيه دليل أنه لا يعتبر العدد في الإقرار لأنه لم ينكر عليها قولها: لعلك تريد أن ترددني كما رددت ماعز بن مالك وفي هذا الخبر الأخير دليل على أنه أمر برجمها يوم وضعت وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه [13/ب] إذا لم يستضر به الولد بأن يقوم بكفايته آخر، وقال أحمد وإسحاق: يترك حولين حتى يفطم الولد للخبر الأول، قال أصحاب الحديث: إسناد الخبر الثاني أجود وعمران بن الحصين أولى في الرواية، وأما خبر ماعز قلنا: إنما رده للشك في عقله وكان مشكك الحال والمقال وتمام الخبر ما روى نعيم بن هزال عن أبيه قال: كان ماعز بن مالك يتيمًا في حجر أبي فأصاب جارية من الحي فقال له: ائت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنعت لعله يستغفر لك فأتاه فقال: يا رسول الله إني زنيت فأقم علي كتاب الله حتى قالها أربع مرات فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد قلتها أربع مرات فيمن" قال: بفلانة قال: هل ضاجعتها؟ قال: نعم قال: باشرتها قال: نعم قال: هل جامعتها؟ قال: نعم فأمر به فأخرج إلي الحرة فلما رجم ووجد مس الحجارة خرج فخرج يشتد فلقيه عبد الله بن أنيس وقد عجز أصحابه

فشرع له بوظيف بعير فرماه فقتله ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له فقال: "هلا تركتموه" وروى سليمان بن بريدة عن أبيه أن ماعزًا جاء فقال: يا رسول الله طهرني فقال: "ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه" فرجع غير بعيد ثم جاء فقال: يا رسول الله طهرني فقال مثل ذلك حتى إذا كانت الرابعة قال: مم أطهرك فقال: من الزنا فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبه جنون؟ فأخبر أنه ليس به جنون [14/أ] فقال: أشربت خمرًا؟ فقام رجل فاستنكهه فلم يجد منه ريح خمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أثيبٌ أنت قال: نعم فأمر به فرجم وكان الناس فيه فريقين تقول فرقة: هلك ماعز على أسوأ عمله لقد أحاطت به خطيئته وقائل يقول: أتوبةٌ أفضل من توبة ماعز إن جاء إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضع يده على يده فقال: اقتلني بالحجارة فلبثوا في ذلك يومين أو ثلاثة ثم جاء النبي صلى الله عليه وسلم وهم جلوس فسلم ثم جلس ثم قال: "استغفروا لماعز بن مالك" فقالوا: لماعز بن مالك. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لقد تاب توبة لو قسمت على أمةٍ لوسعتها" وروى أبو هريرة رضي الله عنه أنه قال له في الخامسة: أنكتها؟ قال: نعم قال: حين غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قال: نعم قال: كما يغيب المرود في المكحلة والرشا في البئر؟ قال: نعم قال: هل تدري ما الزنا؟ قال: أتيت منها حرامًا ما يأتي الرجل من امرأته حلالًا قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: أريد أن تطهرني فأمر به فرجم وروي أنه قال: "والذي نفسي بيده: إنه الآن لفي أنهار الجنة ينقمس فيها" معناه ينغمس والقاموس: معظم الماء ومنه قاموس البحر وروي فرميناه بجلاميد الصخر حتى سكت يعني مات. وروي أنه قال لهزالٍ: "يا هزال لو كنت سترت عليه بثوبك لكان خيرًا لك مما صنعت" وروي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه في هذا الخبر أتينا به مكانًا قليل الحجارة [14/ ب] فلما رميناه اشتد من بين أيدينا فسعى فتبعاه فأتى ناحيةً كثيرة الحجارة فقام ونصب نفسه فرميناه حتى قتلناه ثم اجتمعنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرناه فقال: "سبحان الله فهلا خليتم عنه حتى يسعى من بين أيديكم" هذا كله يدل على أن الإقرار الأول لم يكن تامًا والبيان كان بعد التكرار وارتفعت الشبهة عن فعاله وحاله بعد الإقرار أربع مرات، ولا يدل ذلك على أن التكرار الأربع فيه شرطٌ وأيضًا فهذا حق يبعث الاعتراف فلا يشترط فيه التكرار كسائر الحدود والحقوق، وقال أبو يوسف وزفر: لا بد من إقرارين في سائر الحدود إلا في حد القذف فإنه يكفي الإقرار به مرة. مسألة: قال: ومتى رجع ترك وقع به بعض الحد أو لم يقع. إذا اعترف الرجل بالزنا فلزمه الحد ثم رجع، وقال: ما كنت زنيت سقط عنه الحد، وكذلك كل حد لله تعالى خالص إذا أقر به ثم رجع كحد الخمر والقتل بالردة، والقطع بالسرقة وبه قال أبو حنيفة والثوري وأحمد وإسحاق، وقال سعيد بن جبير والحسن وابن

أبي ليلى وعثمان البتي وأبو ثور وداود: لا يقبل رجوعه، وعن مالك روايتان كالمذهبين. ودليلنا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض لماعز بن مالكٍ [15/أ] بعد إقراره بالرجوع فقال: "لعلك قبلت، لعلك لمست" وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أن سارقًا اعترف عنده بالسرقة فقال: أسرقت؟ قال: لا وروي عن عمر وعلي رضي الله عنهما نحو ذلك ولأنه حد لله تعالى خالص ثبت بقوله فسقط برجوعه كالقتل بالردة، وقيل: جملة ما يقر به الإنسان على أربعة أضرب أحدها: ما يوجب حقًا لله تعالى محضًا على ما ذكرنا. والثاني: ما يوجب حقًا للآدمي محضًا فإذا أقر به ثم رجع لا يقبل. والثالث: ما يوجب حقًا يتعلق بحق الله تعالى وحق الآدمي كمال المسجد والزكاة فإذا أقر ثم رجع لا يقبل رجوعه. والرابع: ما يوجب حقين أحدهما: لله تعالى. والثاني: للآدمي مثل الإقرار بالسرقة التي توجب القطع لله والغرم للآدمي فإذا أقر بها ثم رجع يقبل رجوعه في القطع دون الغرم وقد ذكرنا فيما تقدم عن بعض أصحابنا في سقوط القطع قولين أو وجهين لاقترانه بما لا يؤثر الرجوع فيه. فرع لا فرق بين أن يرجع بعد وقوع بعض الحد، أو قبل انتهاء الحد فيترك عقوبته إذا رجع، وقال بعض العراقيين: لا يقبل رجوعه بعد الشروع في حده، وحكي عن مالك أنه قال: يقبل الرجوع إن بين علة أو عذرًا بأن يقول: ظننت أن الوطء دون الفرج زنا، أو إتيان البهيمة زنا، وإن قال: كذبت ولم يبين لكلامه وجهًا [15/ب] لم يقبل. فرع آخر قال في "الحاوي": الرجوع أن يقول: كذبت في إقراري ولم أزن، أو رجعت عن إقراري فإن قال: لا تحدوني لم يكن رجوعًا صريحًا فإن بين مراده قبل، وكذلك لو قال: لا حد علي وهذا أقرب إلي صريح الرجوع ولكنه يسأل عنه، ولو ندب فهل يقوم مقام رجوعه باللفظ، فيه وجهان وذكرنا خلاف هذا عن بعض أصحابنا بخراسان وهذا الذي قاله أوضح. فرع آخر لو اجتمع في حدود الله تعالى الإقرار والشهادة فهل يختص إقامتها بالإقرار أو بالشهادة؟ فيه وجهان: أحدهما: يختص بالشهادة لأنها أغلظ فعلى هذا لو رجع لم يسقط. والثاني: يختص بالإقرار فعلى هذا إن رجع سقط، وقال صاحب "الحاوي": الأصح عندي أن ينظر في اجتماعهما فإن تقدم الإقرار على الشهادة كان وجوبه بالإقرار ويسقط بالرجوع، وإن تقدمت الشهادة على الإقرار كان وجوبه بالشهادة ولم يسقط بالرجوع لأن وجوبه بأسبقهما فلم يؤثر فيه ما يعقبه وعلى الوجوه كلها لا يسقط أحدهما بالآخر.

مسألة: قال: ولا يقام حد الجلد على حبلى، ولا على المريض المدنف ولا في يوم حر أو برد شديد. الكلام في هذا في الأعذار التي توجب تأخير إقامة الحدود [16/أ] والحكم في هذا أن من وجب عليه حد الزنا فلا يخلو من أن يكون بكرًا أو محصنًا، فإن كان بكرًا فإن كان سليمًا لا مرض به ولا خلقه نظر، فإن كان الهواء معتدلًا لا حر ولا برد شديد فإنه يجلد رجلًا كان أو امرأة للآية، وإن كان الهواء غير معتدل إما شدة حر أو برد أخّر الجلد إلي اعتدال هواء لأن القصد منه الردع والزجر والتأديب دون القتل والإتلاف، فإذا أقيم عليه الحد في هذه الحالة أعان الزمان على نفسه فيتلف، وإن كان عليلًا لم يخل إما أن تكون العلة مما يرجى زوالها، أو لا يرجى زوالها، فإن كان يرجى زوالها لم يقم عليه الحد حتى يبرأ من مرضه لأنه إن أقيم عليه الحد وهو مريض أعان المرض عليه فيفضي إلي تلفه، وإن كان مرضه مما لا يرجى زواله كالسل والزمانة والعضب أو كان نضو الخلق. يضرب بأطراف الثياب وعثكال النخل، وقال مالكٌ: لا يجوز إلا أن يضرب بالسياط مائة جلدة، فإن لم يكن يؤخر، وقال أبو حنيفة: تجمع الأسواط ويضرب بها دفعة واحدة. ودليلنا ما روى أبو أمامة بن سهل بن حنيف عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار: أنه اشتكى رجل منهم حتى أضنى فعاد جلده على عظم فدخلت عليه جارية لبعضهم فمشى لها وقع عليها فلما دخل عليه رجال من قومه [16/ب] يعودونه أخبرهم بذلك، وقال: استفتوا لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإني وقعت على جارية دخلت عليّ فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: ما رأينا بأحدٍ من الناس من الضنا مثل الذي به لو حملناه إليك لتفسخت عظامه ما هو إلا جلد على عظم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذوا له مائة شمراخ فيضربوه بها ضربةً واحدةً. وقوله: أضنى أي: أصابه الضنا وهو شدة المرض وسوء الحال حتى ينحل بدنه ويهزله، وقيل: الضنا انتكاس العلة. وفي رواية عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم وهي حبلى فقالت: إن فلانًا أحبلها فأرسل إليه فأتي به يحمل وهو ضريرٌ مقعد فاعترف على نفسه فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثكالٍ فيه مائة شمراخ الحد ضربة واحدة وكان بكرًا. ولأن في الضرب بالسياط تلفه ولا وجه للترك أصلًا والأولى ما ذكرنا. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بنغاشي وجد على ظهر امرأة يخبث بها فقال: "اجلدوه مائة جلدة" فقالوا: لو ضربناه مائة جلدة لتفتت فقال: "خذوا عثكالًا عليه مائة شمراخ فاضربوه بها". فإذا تقرر هذا [17/أ]

فإن كانت عليه مائة فرع يضرب بذلك ضربةً، وإن كان خمسون فرعًا يضرب ضربتين ولا بد أن يصيبه من الفروع المائة، فإن وقع بعض الفروع على البعض كفي لأن أذى الكل قد أصابه ولا يشدد في ذلك الضرب بل يكفي قدر ما يفارق اسم الوضع وينطلق عليه اسم الضرب، ثم من حدّ هكذا فبرأ من بعد لا يقام عليه الحد بل قد وقع الأول موقعه. وإن كان المحدود في بلدةٍ لا يسكن حرها أو لا يقل بردها لم يؤخر حده ولم ينقل إلي البلاد المعتدلة لما فيه من تأخير الحد ولحوق المشقة وقوبل إفراط الحر والبرد تخفيف الضرب حتى يسلم من القتل كما نقول في المرض الملازم. وإن وجب على امرأةٍ حامل الجلد لا يقام عليها حتى تضع لأنه لا يؤمن من إذا جلدت وهي حامل أن يسقط الولد من الأم، وإذا وضعت نظر، فإن لم يكن بها ضعف أقيم عليها الحد من نفاسها، وإن كانت ضعيفة لم يقم عليها حتى تبرأ لأنها كالزمنة وكل موضع، قلنا: لا يقام عليها الحد لعذر من شدة حرٍّ أو بردٍ أو عذر في بدنها فأقيم عليها وتلفت فهل عليه الضمان؟ قال في الجنايات: إذا أقام في شدة حرٍّ أو بردٍ فهلك فلا ضمان، وإن كانت حاملًا فعليه ضمان الحمل. وقال في موضع آخر: لو كان أغلفة فخثنه الإمام في شدة حرٍّ أو بردٍ فعلى عاقلته الدية، واختلف الأصحاب فيه على طريقين: أحدهما: لا ضمان لأنه أقام [17/ب] حدًا واجبًا. والثاني: يلزم الضمان لأنه مفرّط. والتأمة المسألتان على ظاهرهما، والفرق أن الحد ثابت نصًا بغير اجتهاد فلا يضمن والختان بالاجتهاد فيضمن وأيضًا فإن استيفاء الحد إلي الإمام لا يقيمه غيره فقد أدى فرضًا عليه بعينه. والختان يتولاه الرجل من نفسه أو أبوه منه في حال صغره والإمام قائمٌ مقامه فيجب النظر له ولا يقيمه في أسباب التلف، فإذا أقام فتلف ضمن فإذا قلنا: يضمن فكم يضمن؟ فيه وجهان: أحدهما: يضمن جميع الدية لأنه فرط. والثاني يضمن نصف الدية لأنه مات من واجبٍ محظورٍ. وأما المحصن إذا وجب عليه الرجم فلا يخلو إما أن يكون رجلًا أو امرأة، فإن كانت امرأة حاملًا أو كان رجلًا صحيحًا والزمان معتدل رجم في الحال لأنه لا عذر يقتضي تأخيره، وإن كان هناك مرض أو كان الزمان غير معتدلٍ نظر، فإن كان الرجم ثبت بالبينة أقيم في الحال ولم يؤخر لأن القصد قتله فلا يعتبر حال الزمان، وإن كان ثبت بالإقرار فالمنصوص أنه يؤخر إلي اعتدال الزمان والبرد لأنه ربما يمسه حر الحجارة فيرجع فيعين الزمان على قتله، ومن أصحابنا من قال: يقام عليه الحد لأن القصد منه القتل وقد وجب كما وجب بالبينة وهذا اختيار أبي إسحاق. وقال بعض أصحابنا: فيه ثلاثة أوجه قالها ابن أبي هريرة؛ أحدها: وهو المنصوص لا يؤخر. والثاني: يؤخر لأنه يجوز [18/أ] أن يرجع الشهود أيضًا كما يرجع عن الاعتراف. والثالث: يفصل بين أن يكون بالبينة أو بالإقرار على ما ذكرنا. ولو سرق نضو الخلف وعلم أن القطع قاتله ذكرنا وجهين ولا خلاف في القصاص أنه يستوفى وفي حد القذف يحد كما يحد في الزنا.

وإن كانت امرأة حبلى قال الشافعي رضي الله عنه: تترك حتى تضع ويكفل ولدها، وقد روي أن عمر رضي الله عنه هم برجم حبلى من الزنا فقال له معاذٌ رضي الله عنه: إن كان لك عليها سبيل فلا سبيل لك على ما في بطنها، فصبر حتى وضعت فلما وضعت سقط الحد عنها إما باعتراف الزوج بذلك، وإما بإلحاق القائف أو غير ذلك ففرح به عمر رضي الله عنه ومدح معاذًا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لم يذكر الشافعي الفطام، وقد روي الفطام في خبر الغامدية وأنه لما كفل رجلٌ ولدها رئيت الكراهة في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو كفل ولدها كافل للرضاع أقيم الحد عليها. وقيل: قال الشافعي: ظاهر الخبر التأخير إلي الفطام والكفالة والصحيح أن يقال: لا ترجم حتى تضع ولدها اللباء، ثم إن وجدت المرضعة يسلم إليها وترجم وإن لم توجد يؤخر رجمها حتى ترضعه حولين كاملين لأنا لما حفظنا حياته حملًا فأولى أن نحفظه وليدًا، وإن علم وجود المرضعة ولكنها لم تتعين ففي جواز رجمها قبل تعينها ودفعها إلي المرضع وجهان: أحدهما [18/ب] يجوز لأن المرضع موجودٌ، والثاني: لا ترجم حتى تدفع إلي المرضع. فرع إذا أقر أنه زنا بامرأة فأنكرت وجب الحد عليه دونها، وقال أبو حنيفة: لا يجب الحد عليهما لأنا صدقناها في إنكارها فصار محكومًا بكذبه فلا حدَّ عليه وهذا لا يصح لأن عدم إقرارها لا يبطل إقراره، كما لو سكت، وروى سهل بن سعدٍ الساعدي: أن رجلًا أقر أنه زنا بامرأة فبعث النبي صلى الله عليه وسلم إلي المرأة فسألها عن ذلك فجحدت فحد الرجل. فرع آخر إذا شهد أربعة عدولٍ على رجلٍ بالزنا فإن كذبهم أو صدقهم رجمناه، وقال أبو حنيفة: إن كذبهم رجمناه، وإن صدقهم لم نجرمه بناء على أصله أنه لا حكم له مع الإقرار ولم يقر أربع مراتٍ وهذا لا يصح لأنه لو كذب الشهود لزمه الحق فكذا إذا صدقهم كسائر الحقوق. فرع آخر لو وجد امرأة على فراشه فوطئها على ظن أنها امرأته، أو أمته، لا يلزمه الحد، وقال أبو حنيفة: يلزمه الحد وهذا لا يصح لأنه وطئ من ظنها زوجته فلا حد عليه، كما لو زفت إليه غير زوجته فوطئها، وأما الموطوءة فإن كانت تعتقد أنه زوجها فلا حد عليها وإن علمت أنه أجنبي وسكتت يلزمها الحد.

فرع آخر لو أقر الأخرس بالزنا وله إشارةٌ مفهمة أو كتابة معلومة يلزمه الحد، وقال أبو حنيفة: لا يلزمه الحد لأن في [19/أ] الإشارة المفهمة شبهة وهذا لا يصح لأن من صح إقراره بغير الزنا صح إقراره بالزنا كالناطق. فرع آخر لو غيب بعض الحشفة عزّر وتعزيره به أغلظ من تعزيره بالاستمتاع دون الفرج، وتعزيزه بهذا أغلظ من تعزيره بالمضاجعة والقبلة، وقال عمر وعليّ رضي الله عنهما: إذا اضطجعا في فراشٍ واحدٍ يقبلها وتقبله متعانقين يحد كل واحدٍ منهما مائة جلدة، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خمسين جلدة. فرع آخر لو شهدوا بالزنا ثم غابوا، أو ماتوا يجوز للحاكم إقامة الحد خلافًا لأبي حنيفة رحمة الله تعالى عليه. فرع آخر إذا وجد رجلٌ مع امرأة في لحافٍ واحدٍ لا يجب عليهما الحد، وقال إسحاق: يجب عليهما الحد وهذا غلط لما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلًا جاء إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني نلت من امرأة حرامًا ما ينال الرجل من امرأته إلا الجماع فقال: "استغفر الله وتوضأ" ولم يوجب عليه الحد. فرع آخر إذا وجدت امرأة حاملًا ولا زوج لها سئلت فإن اعترفت بالزنا وجب عليها الحد، وإن أنكرت الزنا لم يجب الحد عليها، وقال مالك: يجب عليها الحد لأن الظاهر أنه من زنا وهذا لا يصح لأنه يحتمل أن يكون من وطئ بشبهةٍ أو إكراهٍ والحد يسقط بالشبهة، وروى عمر رضي الله عنه أنه أتى بامرأة حامل فسألها فقالت: لم أحس حين ركبني رجلٌ فقال عمر: دعوها [19/ب]. فرع آخر من لم يعلم بتحريم الزنا لا حد عليه كالذي لم تبلغه دعوة الإسلام، أو مجنون أفاق بعد بلوغه فزنا لوقته، أو حديث عهد الإسلام، أو قادمٌ من باديةٍ. ولا يلزم إحلافه إلا استظهارًا، وإن لم يكن من هؤلاء الجملة لا يقبل قوله. وروي عن سعيد بن المسيب أنه قال: ذكر الزنا بالشام فقال رجل: زنيت البارحة فقالوا: ما تقول؟ فقال: ما علمت أن الله حرمه فكتبوا إلي عمر رضي الله عنه فكتب عمر: إن كان علم أن الله حرمه فخذوه، وإن لم يكن علم فعلموه، وإن عاد فارجموه.

وروي أن جارية سوداء رفعت إلي عمر فخفقها بالدرة خفقات وقال: أي لكعاء زنيت؟ فقالت: عرّس بي فلان بدرهمين فجيء بصاحبها الذي زنا بها ومهرها الذي أعطاها فقال عمر: ما ترون؟ وعنده عليٌّ وعثمان وعبد الرحمن بن عوف فقال عليّ: أرى أن ترجموا، وقال عبد الرحمن: أرى مثل ما رأى عليّ فقال لعثمان: ما تقول؟ قال: أرى أنها لم تر بأسًا بالذي صنعت وإنما حد الله على من علم من أمر الله تعالى قال: صدقت. مسألة: قال: لا يجوز على الزنا واللواط وإتيان البهائم إلا أربعةٌ من الشهود. جملة هذا أن الزنا واللواط وإتيان البهائم لا يثبت بأقل من أربعة من الشهود العدول الذكور لأن الله تعالى قال في الزنا: {ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} [النور:4] فجعل المخلص [20/أ] من حد القذف إن شهد أربعة شهود بالزنا واللواط وإتيان البهائم فقيس على هذا، ولأنه مندوبٌ إلى الستر على الزنا فاستظهر في عدد الشهود بالتقدير بالأربعة توصلًا إلى ستره، ولا تقبل فيه شهادة النساء مع الرجال، ولا تقبل فيه الشهادة على الشهادة في أحد القولين، وقال الحسن: تقبل فيه شهادة ثلاثة مع امرأتين قال الشافعي: ثم يتفهم الحاكم حتى يتبينوا أنهم رأوا ذلك منه يدخل في ذلك منها دخول المرود في المكحلة وهذا تحسين العبارة من جهة السلف فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فما قنع إلا بتصريح العبارة قال أصحابنا: ولو قالوا: رأينا ذكره وغاب في فرجها أجزاهم ولا يحتاجون إلي قولهم: مثل المرود في المكحلة لأنه صريح بهذا المعنى، فإن ذكروه كان تأكيدًا والدليل على وجوب التفسير على المشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم استفسر ماعزًا حتى أقر بالزنا على ما ذكرنا فإذا لزم التفسير في الإقرار ففي الشهادة أولى وروي أنه لما شهد أبو بكرة وصاحباه على المغيرة بالزنا جاء زياد ليشهد فقال عمر رضي الله عنه: جاء رجلٌ لا يشهد إلا بالحق إن شاء الله فقال زياد: رأيت ابتهارًا ومجلسًا سيئًا فقال عمر: أهل رأيت المرود دخل المكحلة؟ فقال: لا فأمر بالثلاثة فجلدوا، وروي أنه قال: رأيت نفسًا يعلو وإستًا تنبو ورأيت رجليها على عنقه كأنها أذنا حمار [20/ب] ولا أدري ما وراء ذلك فأسقط شهادته. قال: ويجوز للشهود أن ينظروا إلي ذلك منها لإقامة الشهادة عليها ليحصل الردع بالحد. ثم اعلم أن اللواط وهو إتيان الذكور محرَّمٌ وهو من كبائر الذنوب قال الله تعالى في قوم لوط عليه السلام: {أَتَاتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ العَالَمِينَ (165) وتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ} [الشعراء:165 - 166] وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أول من لاط إبليس أهبط من الجنة فردًا لا زوجة له فلاط بنفسه فكانت ذريته منه" فإذا أتى ذلك اختلف قول

الشافعي رضي الله عنه فيه فقال: في كتاب عليّ وعبد الله رضي الله عنهما: يرجم بكرًا كان أو ثيبًا، وبه قال ربيعة ومالك وإسحاق وروي ذلك عن الشعبي ووجه هذا ما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به" وروي عن ابن عباس أنه قال في البكر يوجد في اللوطية يرجم، وقال أيضًا: ينظر أعلى بناءٍ في القرية فيرمى به منكسًا ثم يتبع بالحجارة لأنه أغلظ لأنه لا يستباح بحالٍ فلزم القتل به، وقال الشافعي في أكثر كتبه: هو كالزنا إن كان بكرًا يجلد، وإن كان ثيبًا يرجم وبه قال الحسن والنخعي وعطاء وقتادة والأوزاعي وابن المسيب وأبو يوسف ومحمد والثوري والزهري. ووجه هذا أن الله تعالى سماه فاحشة [21/أ] فقال: {أَتَاتُونَ الفَاحِشَةَ} [النمل:54] وجعل حد الفاحشة الحبس إلي الممات ثم نسخ بخبر عبادة بن الصامت الذي ذكرناه، وقال أبو حنيفة: لا حد فيه ويعزر، وفيه عنه أنه قال: يحبس بعد التعزير حتى يموت، وعلى هذا تثبت اللواطة عنده بشاهدين وهذا لا يصح لما ذكرنا. وروي عن صفوان بن سليم عن خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه وجد في بعض نواحي العرب رجلًا ينكح كما تنكح المرأة فكتب إلي أبي بكر رضي الله عنه فاستشار أبو بكرٍ الصحابة فكان عليّ أشدهم قولًا فقال: ما فعل هذا إلا أمة من الأمم وقد علمتم ما فعل الله بهم أرى أن يحرق بالنار فكتب أبو بكر بذلك فحرَّقه وروى أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أتى الرجلُ الرجلَ فهما زانيان، وإذا أتت المرأةُ المرأةَ فهما زانيتان" وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: يرجم اللوطي وكان ابن الزبير يحرّق اللوطي، وروي عن عليّ أنه رجم لوطيًا، وروى الربيع أن الشافعي رجع عن القول الأول إلى هذا القول الثاني. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قول ثالث إنه يعزر كما في إتيان البهائم وهذا غلط ظاهر، ولا فرق أن يلوط بغلامٍ كبيرٍ أو صغير، ولو تلوط بغلام يملكه كما لو تلوط بغلام الأجنبي، وقيل: إن فيه وجهان إن ملكه فيه يصير شبهة في سقوط الحد وهذا ليس بشيء. [21/ب] ولو تلوط بامرأة أجنبية فالحكم كما تلوط بالغلام، وقيل: قولًا واحدًا كما لو زنا في قبلها

يختلف بالبكارة والثيابة، ولو تلوط بزوجة نفسه فالمذهب أنه لا حد وقد ذكرنا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهٌ أنه كوطء أخته من الرضاع في ملكه يلزمه الحد في أحد القولين وليس بشيء. وأما إتيان البهيمة ففيه ثلاثة أقوالٍ. أحدها: يقتل بكل حالٍ وهو ظاهر ما قاله هنا لأنه قرنه باللواط وبه قال أبو سلمة بن عبد الرحمن، ووجهه ما روى عكرمة عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أتى بهيمةً فاقتلوه واقتلوها معه" وقال عكرمة قلت له: ما شأن البهيمة؟ ما أراه قال ذلك إلا أنه كره أن يؤكل لحمها. وقد عمل بها ذلك العمل. والثاني: حكمه حكم الزنا وبه قال الحسن وروي عن إسحاق بن راهويه أنه قال: يقتل إذا تعمد ذلك وعلم ما جاء من الخبر فيه. فإن درأ عنه إمامٌ القتل لا ينبغي أن يدرأ عنه جلد مائةٍ تشبيهًا بالزنا ولأنه فرج يجب بالإيلاج فيه الغسل فيجب الحد بالإيلاج فيه كفرج الآدمية. والثالث: يعزَّر لأن الشافعي قال في كتاب الشهادات: وإذا شهدوا على رجل بالزنا سألهم الإمام: أزنا بامرأةٍ؟ لأنهم قد يعدون الزنا وقوعًا على بهيمة لعلهم يعدون الاستمناء زنا وهذا نص على أن إتيان البهيمة ليس بزنا، وبه قال [22/أ] أكثر الفقهاء عطاء والنخعي ومالك والثوري وأحمد أبو حنيفة وأصحابه: وجهه أن الحد يجب للردع والزجر، والنفس لا تدعو إلي مواقعة البهيمة فلا يحتاج إلي المبالغة في الردع عنها، ومن أصحابنا من قال: قولًا واحدًا إتيان البهيمة زنا وفي حده قولان كما في اللواط. وتأويل ما قال في الشهادات إنه ربما تعد الشهود إتيان البهيمة زنا والقاضي لا يعده زنا ولهذا يستفسرهم لأن الشافعي رضي الله عنه لا يعده زنا، ومن أصحابنا من قال: قولًا واحدًا إنه ليس بزنا كما صرح في الشهادات وهو اختيار المزني. وإشراط أربعة من الشهود في هذا لا يدل على أنه زنا لأنه شرط في التعزير الذي هو جنس الحد الذي لا يثبت إلا بأربعة من عدد الشهود الذي شرط في ذلك الحد بخلاف التعزير في الأجناس الأخر لأن حد ذلك الجنس يثبت باثنين. وأما خبر ابن عباس رضي الله عنهما قد قال أبو داود: روى عاصم عن أبي رُزين عن ابن عباس أنه قال: لا حد على الذي أتى بهيمةً وهذا يضعف الرواية المرفوعة، وقال يحيى بن معين: روى المرفوع عمرو بن أبي عمرو وليس بالقوي. فرع إذا قلنا: يجب التعزير به فظاهر مذهب الشافعي أنه لا يقبل فيه أقل من أربعة شهود

لما ذكرنا أنه [22/ب] من جنس تغلظت فيه الشهادة وهذا اختيار ابن أبي هريرة. واستدل بأن هذه شهادة على إيلاج فرجين فلا بد من أربعة كالشهادة على إيلاج فرج الآدمية ووكده أن الجلد والرجم يختلفان وكلاهما في عدد الشهود سواء، فكذلك الجلد والتعزير بسبب الإيلاج في الفرج، ومن أصحابنا من قال: يثبت بشاهدين وهذا اختيار المزني وابن خيران، وقال صاحب "الحاوي": وهكذا الخلاف على من أتى امرأة دون الفرج، وقيل: فيه وجهان والصحيح ما ذكرنا من النصوص وخلاف بعض أصحابنا وهو اختيار أبي حامد. فرع آخر قال صاحب "الحاوي": لا حد فيه فهل يلزم الغسل بإيلاجها؟ وجهان: أحدهما: يجب وهو المذهب. والثاني: لا يجب لأنه في حكم المباشرة في غير الفرج. فرع آخر في قتل البهيمة. قال القاضي أبو حامد: قال الشافعي رضي الله عنه: إن ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في قلتها وإلا لم تقتل وإنما علق الشافعي القوم فيه لأن الخبر الذي روي فيه ضعيف على ما ذكرنا، ومن أصحابنا من قال: فيه وجهان بناءً على حده هل هو مأخوذ من الخبر أو من الاستدلال؟ فإن قلنا: مأخوذ من الخبر تقتل البهيمة، وإن قلنا: مأخوذ من الاستدلال [23/ أ] فلا تقتل. فرع آخر إذا قلنا: تقتل ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: تقتل جميع البهائم للخبر. والثاني: لا تقتل. والثالث: إن كانت مما يؤكل لحمها ذبحت، وإن كان مما لا يؤكل لحمها لم تقتل لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذبح الحيوان لغير مأكلةٍ، وقال الطحاوي في مختصره: تقتل إن كانت له، ولا تقتل إن كانت لغيره ولا وجه له لعموم الخبر، ومن أصحابنا من قال: إن كانت مما لا يؤكل لحمها لا تقتل وجهًا واحدًا، وإن كانت مأكولة اللحم وجهان، وقيل: إن كانت مأكولة اللحم تقتل وجهًا واحدًا، وإن كانت لا تؤكل فيه وجهان: أحدهما: لا تقتل لأن الأمر بقتلها لئلا يؤكل لحمها على ما ذكر في الخبر وهذا يخص المأكولة. والثاني: تقتل لعموم الخبر. فرع آخر إذا قلنا: تقتل فذبح المأكولة فهل يحل أكلها؟ وجهان: أحدهما: يحل وهذا أصح لأنه حيوان يحل ذبحه ممن هو من أهل الذكاة فيحمل على أكله. والثاني: لا يحل لأنها ذبحت لغير الأكل ولأنه أمر بقتلها وذلك يقتضي تحريم أكلها.

فرع آخر اختلف أصحابنا في المعنى الذي لأجله أمر بقتلها فقيل: لئلا يؤكل لحمها، وقيل: لئلا يرى فيقذفه الناس بإتيانها، وقيل: لئلا يعير بها ويذكر بها وهذا أقرب من الأول، وقيل: لئلا تأتي بولد مشوه الخلق. فرع آخر إذا قتلت وكانت [23/ب] للغير هل تجب قيمتها على الزاني؟ قال صاحب "الإفصاح": قد قيل: قيمتها على الزاني، وقيل: في بيت المال، قيل: لا شيء عليه، وقال غيره من أصحابنا: إنها على الزاني لأن فعله سبب قتلها فصار كما لو قتلها فإن كانت مما تؤكل وقلنا: يحل الأكل يلزمه ما نقص من قيمتها بالذبح. فرع آخر إذا قلنا: يقتل بكل حالٍ به وباللواط فكيف يقتل؟ فيه وجهان أحدهما: بالسيف، والثاني: يرجم لما روي عن عليّ رضي الله عنه أنه سئل عن ذلك فقال: يرمى به من شاهقٍ ويعلى بالحجارة ثم تلا قوله تعالى: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود:82] الآية. فرع آخر إتيان المرأة المرأةَ مُحرّم لما ذكرنا من الخبر وقد قال صلى الله عليه وسلم: "السحاق زنا النساء بينهن ويجب فيه التعزير دون الحد". فرع آخر قد ذكرنا أن الاستمناء مُحرّم قال أصحابنا: ويعزَّر إذا فعل، ولا يحد لأنه مباشرة محرمة من غير إيلاج فأشبه الاستمناء دون الفرج. فرع آخر إذا وجب الحد على الزاني وأراد الإمام الإقامة يفرقه على بدنه ويجعل لكل موضع من بدنه قسطًا منه إلا الوجه والفرج ذكره أصحابنا، وقال أبو حنيفة: إلا الفرج والوجه والرأس. وهذا لا يصح لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: اجعلوا لكل موضع من البدن حظًا [24/أ] من الضرب واتقوا الوجه والفرج، وروي مثل ذلك عن عليّ رضي الله عنه وروي أنه قال: واتق وجهه ومذاكيره، وروي عن عمر أنه أمر بجارية قد فجرت فقال: أدباها واضرباها ولا تجرها بها جلدًا، وقال أبو بكرٍ رضي الله عنه: اضرب الرأس فإن الشيطان في الرأس، ولأن في الفرج يخاف التلف وفي الوجه الأعضاء الشريفة فلا يؤمن التلف إذا ضرب عليها وهذا المعنى لا يوجد في سائر الأعضاء غيرها. وقال القاضي الطبري: قال الماسرجسي: يُتقى الرأس. كما قال أبو

حنيفة وهذا لا يصح لأن في الرأس مقلًا ويخاف العمى وزوال العقل ولا يجرد ولا يمد لما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ليس في هذه الأمة مدٌّ ولا تجريد ولا غل ولا حقد. فرع آخر إذا شهد شاهدان أنه أكرهها وآخران أنه طاوعته فلا حد عليها، لأن الشهادة لم تكمل على فعلٍ واحدٍ، وأما الرجل فالمذهب المنصوص أنه لا حد عليه أيضًا وبه قال أبو حنيفة لما ذكرنا، وقال ابن سريج والقاضي أبو حامد: من أصحابنا من قال: يلزمه الحد، وقيل: قولان: أحدهما: ما ذكرنا. والثاني: يلزمه الحد وبه قال أبو يوسف ومحمد لأن الشهادة كملت في حقه على الزنا لأنه زانٍ في الحالين معاً، وهذا غلط لأن الزاني الذي تكون المرأة فيه مطاوعةً غير الزاني الذي تكون المرأة فيه مكرهةً [24/ب] فلا تتم الشهادة في الفعل الواحد. فرع آخر إذا قلنا: إنه لا حد عليهما هل يجب حد القذف على الشهود وهو مبني على القولين في الشهود إذا نقص عددهم فإن قلنا: لا حد عليهم لا يحد ها هنا، وإن قلنا: عليهم الحد فهنا وجهان فإن قلنا: يلزم فإن شاهدي الإكراه يحدان للرجل، وأما إذا قلنا: يحد الرجل فإن شاهدي الإكراه لا حد عليهما وأما شاهدا المطاوعة فهل يحدان للمرأة؟ قال القاضي الطبري: الذي عندي أنه يجب عليهما حد القذف، وقال بعض أصحابنا بخراسان: قال المزني: لا يحد الرجل ولا المرأة ولا على شاهدي الطواعية الحد وللشافعي ما يدل على هذا. فرع آخر لو شهد أربعةٌ وفيهم عبدٌ أو فاسق وقلنا: بنقصان العدد يوجب الحد على الشهود ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: وهو الأصح لا حد على جميعهم لقوة الشهادة بالعدد ولكمال صفة الأكثرين. والثاني: يحد الكل. والثالث: يحد من نقصت صفته بالرق والفسق دون الباقين. فرع آخر لو كمل عددهم وصفتهم إلا أنه التكاذب فيها يعارض بأن شهد اثنان أنه زنا بها يوم الجمعة ببغداد وشهد آخران أنه زنا بها يوم الجمعة بالبصرة فإن قلنا: رد الشهود [25/أ] من غير التكاذب يوجب الحد فمع التكاذب أولى، وإن قلنا: رد الشهود في غير التكاذب لا يوجب الحد ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: يحدون للقطع بالكذب في شهادتهم. والثاني: لا يحدون لأن الكذب لم يتعين في إحدى الجهتين وبه قال أبو حنيفة. والثالث: يحد الأخيران لتقدم إكذاب الأولين لهما قبل شهادتهما، ولا يحد الأولان لحدوث الأخيرين لهما بعد شهادتهما وهذا أصح.

فرع آخر لو ردت شهادتهم لاختلاف الزنا مع الاتفاق على وجوده منهما بأن شهد اثنان أنه زنا بها يوم الجمعة، والآخران أنه زنا بها يوم السبت أو اثنان أنه زنا بها في الدار، وآخران أنه زنا بها في البيت فليس في هذا تكاذب لأنهما فعلان. فإذا قلنا: نقصان العدد لا يوجب الحد فهذا أولى وإن قلنا: يوجبه (فهنا) وجهان: أحدهما: يحد لأن الشهادة لم تكمل بهم. والثاني: لا يلزم الحد لكمال الشهادة بالزنا فكملت في سقوط العفة. فرع آخر إذا قلنا: يحد الشهود لا تسمع شهادتهم في شيء لأنه لا يحد للقذف إلا قاذف ولا تقبل شهادته حتى يتوب ولهذا قال عمر رضي الله عنه لأبي بكرة: تُب أقبل شهادتك. وهل يقبل الإخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم: فيه وجهان: أحدهما: يقبل وهو اختيار أبي حامد [25/ب] لأن المسلمين قبلوا روايات أبي بكرة ومن حد معه لم يقبلوا شهادتهم. والثاني: لا يقبل وهو الأقيس لأن العدالة في الخبر المتعلق بالدين أولى. فرع آخر لو ملك الرجل ذا محرمٍ له مثل أمه من الرضاع أو النسب أو عمته أو خالته لا يجوز له وطؤها فإن وطئها قال في "الإملاء": في قولان أحدهما: لا يحد لشبهة الملك فيه وهو الصحيح وبه قال أبو حنيفة. والثاني: يحد لأنه وطء محرم لا يستباح بحالٍ فهو بمنزلة اللواط. فرع آخر لو نكح ذات محرم له ثم وطئها مع العلم بتحريمها يلزمه الحد بلا خلاف على المذهب وكذلك لو نكح المطلقة ثلاثًا، أو البائنة باللعان، أو المرأة الخامسة مع العلم بالتحريم ووطئها يلزمه الحد وبه قال مالك والحسن وأبو يوسف ومحمد، وقال أحمد وإسحاق: يقتل ويؤخذ ماله للخبر في ذلك، وقال سفيان: يدرأ عنه الحد إذا كان التزويج بشهود. وقال أبو حنيفة: يعزر ولا يحد ودليلنا ما روي عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: (بينما) أنا أطوف على إبلٍ لي ضلت إذ أقبل ركب أو فوارس معهم لواء فجعل الأعراب يطيفون بي لمنزلتي من رسول الله [26/أ] صلى الله عليه وسلم إذ أتوا قبةً فاستخرجوا منها رجلًا فضربوا عنقه فسألت عنه فذكروا أنه أعرس بامرأة أبيه، فإن قيل: لعله لم ينكحها قلنا: قوله: أعرس كناية عن النكاح والبناء بالأهل، وقد روى يزيد بن البراء عن أبيه قال: لقيت عمي ومعه لواء فقلت: أين تريد؟ فقال: بعثني رسول

الله (صلى) الله عليه وسلم إلي رجل نكح امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه وآخذ ماله وهذا صريح في النكاح، وروى الإمام أبو سليمان الخطابي بإسناده عن البراء بن عازب قال: مر بي خالي ومعه لواء فقلت: أين تذهب؟ قال: بعثني رسول الله صلي الله عليه وسلم إلي رجل تزوج بامرأة أبيه آتيه برأسه وهذا يرفع الإشكال وروى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "من وقع علي ذات محرم فاقتلوه" ولأنه وطء مجمع علي تحريمه لم يصادف ملكًا ولا شبهة ملك، فإذا أقدم عليه مع العلم بحاله يلزمه الحد إذا كان من أهله كما لو وطئها من غير عقد. فرع آخر إذا استأجر امرأة للزنا بها فزنا بها يلزمه الحد. وبه قال أبو يوسف ومحمد وجماعة العلماء، وقال أبو حنيفة: لا يلزمه الحد لشبهة العقد وهذا لا يصح لما ذكرنا وقياسًا علي ما لو استأجرها للخدمة ثم زنا بها يلزمه [26/ب] الحد بالإجماع ويؤكده أن ما قاله يؤدي إلي فساد عظيم لأن كل زان لا يعجز عن مثل هذا العقد. فرع آخر لو وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره لا يلزمه الحد، وقال أبو ثور: يلزمه الحد لأن ملك البعض لا يبيح الوطء وهذا غلط لأنه اجتمع في الوطء ما يوجب الحد وما يسقطه فغلب الإسقاط لأن مبنى الحد علي الإسقاط بالشبهة وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ادرؤوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم فإن وجدتم للمسلم مخرجًا فخلوا سبيله فإن الإمام إن يخطئ في العفو خيرٌ له من أن يخطئ في العقوبة". فرع آخر لو تزوج مجوسية فوطئها عالمًا بحالها لا يلزمه الحد لأن في إباحتها خلافا، كما لو نكحها بمتعةٍ ووطئها لا يلزمه الحد. ذكره القاضي الطبري، وفيه وجد آخر أنه يلزمه الحد وهو ضعيف. ولو تزوج معتدة فوطئها يلزمه الحد لأنه إجماع. فرع آخر لو ادعي الجهالة بأن لها زوجاً أو أنها معتدة في عدة من زوج أُحلف ودرء عنه الحد

نص عليه قال القاضي أبو حامد: قد قيل: إن اليمين استظهار ولو قالت المرأة: علمت أني ذات زوج ولا يحل لي النكاح أقيم عليها الحد ولو قالت: بلغني موت زوجي واعتدت ثم نكحت درأ عنها الحد [27/أ] وكلما درأنا الحد لزم المهر بالوطء. فرع آخر لو أباح جاريةً لغيره فوطئها يلزمه الحد، وقال أبو حنيفة: إن كانت لامرأته جارية فأباحتها فوطئها لا يلزمه الحد إذا قال: ظننت أنها تحل لي، وروي عن عمر وعليّ وعطاء بن أبي رباح وقتادة ومالك وإسحاق مثل قولنا، وقال الزهري والأوزاعي: يجلد ولا يرجم، وقال الثوري: إن كان يعرف بالجهالة يعزر ولا يحد، وقد روى أبو داود عن حبيب بن سالم أن رجلًا يقال له: عبد الرحمن بن حنين وقع علي جارية امرأته فرفع إلي النعمان بن بشير وهو أمير علي الكوفة فقال: لأقضين فيك بقضية رسول الله صلي الله عليه وسلم إن كانت أحلتها لك جلدتك مائة، وإن لم تك أحلتها لك رجمتك بالحجارة فوجده قد أحلتها له فجلده مائه وهذا خبر منقطع لا يعول عليه، وقال محمد بن إسماعيل البخاري: أنا أنفي هذا الحديث، وقيل: في تأويله: إذا أحلتها له أوقع شبهة في الوطء فدرأ عنه الرجم ويجب عليه التعزير لأنه لا يعذر بجهله من نشأ في الإسلام وزيد في عدد التعزير حتى أبلغ به حد الزنا للبكر وللإمام أن يبلغ بالتعزير الحد عند مالكٍ ومذهب الشافعي رضي الله عنه بخلاف هذا ولو زنا بجارية أبيه يلزمه الحد، وقال أبو حنيفة: إن ظنت الجارية أنها تحل له لا تحد [27/ب] وهذا لا يصح كما لو كانت عاقلة فكذبته. فرع آخر لو زنا بأمة له عليها قصاص يحد، وقال أبو حنيفة: لا يحد لأن له عليها حقًا يتوهم ملكه إياها بذلك السبب. فرع آخر لو زنا في دار الحرب يلزمه الحد خلافًا لأبي حنيفة وظاهر المذهب أنه يقيم الإمام الحد عليه هناك إذا لم يخف الفتنة، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان: أحدهما: هذا. والثاني: لا يقام عليه الحد لخوف الفتنة وانكسار قلوب المسلمين. مسألة: قال: وإِنْ شَهِدُوا مُتَفَرِقِيْنَ قَبِلْتُهُمْ إِذَا كَانَ الزِّنَا وَاحِدًا. إذا شهدوا بالزنا قبلت شهادتهم سواء شهدوا متفرقين أو مجتمعين في مجلس أو مجالس، وقال أبو حنيفة: إن شهدوا متفرقين في مجالس لا تقبل شهادتهم وكانوا قذفة يحدون. وحد المجلس عنده ما دام الحاكم جالسًا، وإن جلس إلي آخر النهار ودليلنا

أنه حق ثبت بشهادة الشهود فلا يصير فيه الاجتماع في مجلس واحد كسائر الحقوق. فرع إذا شهدوا بالزنا بعد تقادم العهد تقبل شهادتهم، وقال أبو حنيفة: لا تقبل، وقال أبو يوسف: جهدت بأبي حنيفة أن يؤقت لتقادم العهد في شهادة الزنا وقتًا فأبي، وقال الحسن بن زياد: ووقته أبو حنيفة بسنة وروي عن أبي يوسف أنه قال: [28/ب] حده شهر. واحتجوا بما روى عن عمر رضي الله عنه أنه قال: أيما شهود شهدوا بحد لم يشهدوا بحضرته فإنما هم شهود ضغنٍ ودليلنا أنه حق ثبت بالشهادة علي الفور فوجب أن يثبت بها بعد تطاول الزمان كسائر الحقوق، وأما الأثر رواه الحسن وهو مرسل ولأن عندهم الضغن لا يمنع الشهادة ويحتمل أنه أراد إذا لم يشاهدوه. فرع آخر إذا شهد عليه بالزنا أربعة شهود فشهد أحدهم أنه زنا بها في زاوية البيت اليسرى، وشهد الآخر أنه زنا بها في اليمنى لم يجب الحد علي المشهود عليه، وهل يحد الشهود؟ قولان، وقال أبو حنيفة: القياس هذا ولكن رجم المشهود عليه استحسانًا قال الشافعي رضي الله عنه: أي استحسان في سفك دم المسلم؟ واحتجوا بأنهم اتفقوا علي الزنا ويحتمل أنه رآه أحدهم في زاوية ثم زحف في حال الفعل إلي زاوية أخري فرآه الآخر واعتقد أحدهما أنه قريب إلي زاوية والآخر أنه مائل إلي زاوية أخري وهذا خطأ لأنه لم تتم الشهادة علي فعل واحد كما لو شهد أحدهم أنه زنا بالغداة والآخر بالعشي. [28/ب] مسألة: قال: وَمَتى رَجَعَ بَعْدَ تَمَامِ الشَّهَادَةِ لَمْ يُحَدَّ غَيْرُهُ. في هذا الفصل مسألتان: إحداهما: إذا شهد الشهود علي الزنا ثم رجع أحدهم. والثانية: إذا لم يكمل العدد في الأصل وذكرها المزني بعد هذه المسألة وهذه الثانية مقدمة علي الأولي فنبدأ بها، فإذا شهد شاهد أو اثنان أو ثلاثة علي رجل بالزنا ولم تتم الشهادة أربعة لا خلاف أنه لا يجب الحد علي المشهود عليه لأنه لم تكمل البينة، وهل يجب الحد من الشهود؟ قولان أحدهما: يجب نص عليه في القديم والجديد أيضًا وتكلم عليه، وقال: لا أعلم فيه خلافًا وهو الأصح وبه قال أبو حنيفة ومالك لما ذكرنا من خبر عمر رضي الله عنه أنه حد الثلاثة الذين شهدوا علي المغيرة بالزنا وهم أبو بكرة ونافع وشبل بن معبد. وروى أن أبا بكرة قال بعد أن حده عمر: والله إن المغيرة زنا فهم عمر بجلده فقال له عليّ: إن حددته فارجم صاحبك يعني المغيرة، وأراد أن هذا القول إن كان شهادة أخري فقد تم العدد، وإن كان هو الأول فقد جلدته عليه ومثل هذه القصة تنتشر لأن المغيرة والشهود كانوا بالبصرة واستدعاهم عمر (إلى) المدينة،

والثاني: لا يجب أومأ إليه في الجديد لأنهم جاؤوا مجيء الشهود. فرع لو كان في الأربعة عبد أو فاسق [29/أ] فقد ذكرنا ولو كانت الأربعة كلهم فساقًا ففيه طريقان: أحدهما: أن نقص العدالة كنقص العدد ففي حدهم قولان. والثاني: لا يحدون قولًا واحدًا وهذا اختيار القاضي أبي حامد وبه قال أبو حنيفة لأن نقص العدد يدرك يقينًا، ونقص العدالة يدرك اجتهادًا والحدود تدرء بالشبهة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن كان الفسق مجتهدًا فيه لا يحدون، وإن كان فسقًا ظاهرًا فيه وجهان، قال هذا القائل: وإن كانوا أعداءً للمشهود عليه لا يحدون لأنه كالفاسق المجتهد في فسقه، وقال القاضي أبو حامد: هذا إذا كان أحدهم عبدًا أو محدودًا في القذف هو بمنزلة الفسق لأنه يدرك اجتهادًا، وقيل: إنه بمنزلة نقص العدد قولًا واحدًا لأنه أمر ظاهر يستسر به بخلاف الفسق. وقيل: إن كانوا عبيدًا أو كفارًا يحدون قولًا واحدًا لأنهم تيقنوا أنا لا نقبل بشهادتهم فمجيئهم مجيء القذفة، وكذلك لو كن نسوة، وإن كان أحدهم عبدًا أو كافرًا فإن قلنا: لا يجب الحد عليه لا يجب علي أصحابه، وإن قلنا: يجب الحد عليه ففي أصحابه قولان نقص العدد، وإن كان أحدهم صبيًا أو امرأة، قال أصحابنا: هذا بمنزلة نقصان العدد. وأما المسألة الثانية إذا شهد أربعة بالزنا فقبل أن يحكم بشهادتهم رجع واحد منهم لا يجب الحد علي المشهود عليه، ويجب الحد علي الراجع لأنه قذفه لأنه إن قال: تعمدت [29/ب] فهو قاذف وإن قال: أخطأت فهو مفرط كاذب، وقال القاضي الطبري: عندي علي لزومه الحد قولان لأنه أضاف الزنا إليه بلفظ الشهادة عند الحاكم فأشبه إذا شهد واحد وحده والأول أولى لأنه اعترف بالكذب فبطل حكم لفظ الشهادة بخلاف الواحد، وأما الثلاثة الآخرون نص الشافعي علي أنهم لا يحدون. والفرق بين هذه المسألة والمسألة التي قبلها أن هنا تكامل العدد فانتفي عنهم وصف القاذفين بكمال عددهم فلما رجع واحدٌ منهم صار هذا الراجع موصوفًا بوصف القاذفين، وهناك لم ينف وصف القاذفين عن الثلاثة لأن عددهم لم يتكامل حتى يتم وصف البينة فلهذا يحدون ويؤكده أن هناك ما وجب الحد في الظاهر علي المشهود عليه وإنما سقط الحد لمعنًى طرأ بعد وجوبه فافترقا، وقال القاضي أبو حامد: من جلد الأربعة إذا كانوا فساقًا فقياسه أن يحد هؤلاء أيضًا، ومن أصحابنا من أطلق وقال: فيه قولان أيضًا وهذا ضعيف لأنه نص أنهم يحدون في هذه المسألة مع نصه علي حدهم عند نقصان العدد، وقال أبو حنيفة: يحدون لأنه انتقص العدد فصار كما لو كان ناقصًا في الابتداء وهو الأصح والفرق ظاهرة.

وقيل: [30/أ] إن المغيرة في قصة عمر رضي الله عنه علي ما ذكرنا كان نكحها سرًا فلم يذكره لعمر لأنه كان لا يري نكاح السر ويحد فيه وكان يتبسم عن الشهادة عليه فقيل له في ذلك فقال: لأني أعجب كما أريد أن أفعله بعد كمال شهادتهم فقيل له: وما تفعل؟ قال: أقيم البينة أنها زوجتي. ولو رجع واحد بعد الحكم بشهادتهم فالحكم عندنا كما لو رجع قبل الحكم، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال هنا: لا يحد الحد علي غيره. مسألة: قال: فَإِنْ رُجِمَ بِشَهَادَةِ أربعةٍ ثُمَّ رَجَعَ أَحَدُهُمْ. الفصل إذا شهد أربعة علي رجلٍ بالزنا فرجم ثم قالوا: أخطأنا في الشهادة عليه ولم يكن زنا يجب عليهم حد القذف لأنهم اعترفوا بالقذف ويلزمهم الدية للمقتول أرباعًا لأنهم سبب قتله إلا أنهم أخطؤوا فتجب دية مخففة، وإن قالوا: لم نعلم أنه يقتل بشهادتنا أو ظننا أنه بكر وكانوا ممن يجوز أن يخفى عليهم هذا لقرب عهدهم بالإسلام فالقول قولهم ويجب الحد عليهم وتجب دية مغلظة لأن هذا عمد خطأ، وإن لم يصدقهم الولي علي ذلك يلزمهم اليمين، وإن قالوا: تعمدنا وقصدنا قتله يلزمهم الحد والقصاص وعند أبي حنيفة لا حد ولا قود لأن حد القذف عنده لا يورث، وحكي عن القاضي أبي الطيب أنه قال: الحد علي القولين في هذه المسألة أيضًا من أجل [30/ب] لفظ الشهادة وقد بينا هذه المسألة قبلها. وإن رجع أحدهم فإن قال: عمدت وقصدت ليقتل وكذلك أصحابي يلزمه الحد والقصاص لأنه عامد شارك العامدين، وإن قال: عمدت وأخطأ أصحابي، أو قال أخطأت وعمد أصحابي أو أخطأنا كلنا أو لم أعلم حالهم فلا قود وعليه الحد وربع الدية مخففًا في الخطأ، ومغلظًا في العمد لأنه إما أن يكون مخطئًا، أو مشاركًا للخاطئ وكلاهما يسقط القصاص. فرع قال أصحابنا بخراسان: لو قال كل واحدٍ منهم عمدت وأخطأ أصحابي فيه وجهان أحدهما: العمد حصل من جميعهم فمقتولون. والثاني لا قصاص عليهم لأن موجب إقرار كل واحدٍ منهم أن لا قود عليه يجعل أصحابه مخطئين وهذا ظاهر المذهب ولا معني للوجه الأول عندي. فرع آخر قال ابن سريج: إذا شهد ثمانية علي رجلٍ بالزنا فرجم بشهادتهم ثم رجعوا كلهم وقالوا: أخطأنا تلزمهم الدية أثمانًا علي كل واحدٍ منهم الثمن، ولو رجع واحدٌ من الثمانية أو اثنان أو ثلاثة أو أربعة فهل يجب علي الراجعين الضمان؟ قال ابن سريج:

لا ضمان وبه قال عامة أصحابنا وهو قول أبي حنيفة قد بقي بعد رجوعهم من يستوفي الحد بشهادتهم فلا ضمان علي من رجع كما لو شهد أربعة ثم رجعوا أو قالوا: أخطأنا [31/أ] وهناك أربعة يشهدون عليه بالزنا وشهدوا لا يجب علي الراجعين شيء، كذلك هنا فعلى هذا إن رجع الخامس انحل من الوثيقة الربع فيجب ربع الدية ويكون الربع علي الخمسة بالسوية، وإن رجع ستة وجب نصف الدية عليهم، وإن رجع سبعة وجب ثلاثة أرباع الدية عليهم، وإن رجع الكل فقد ذكرنا الحكم. وقال أبو إسحاق: إذا رجع واحدٌ منهم يلزمه ثُمن الدية لأن الحكم بالرجم ثبت بشهادة الكل فمن رجع منهم فقد أقر بأنه أتلف ثمن نفسه بغير حق فلزمه ضمانه وبه قال المزني، وقال القفال: هذا القول الثاني. رواه البويطي ففي المسألة قولان والمذهب الأول، وعلي القول الثاني إن رجع اثنان يلزم الربع عليهما، وإن رجع ثلاثة يلزمهم ثلاثة أثمان الدية. فرع لا يثبت الإحصان إلا بشاهدين ذكرين، وقال أبو حنيفة: يثبت بشاهد وامرأتين، دليلنا أنه لا يقصد منه المال ولا تقبل فيه شهادة النساء علي الانفراد فلا مدخل للنساء فيه أصلًا. فرع آخر لو شهد أربعة علي رجلٍ بالزنا وهو منكر الإحصان فشهد عليه رجلان بالإحصان رجم فإن رجع شهود الإحصان عن الشهادة روى المزني عن الشافعي في أربعة شهود شهدوا علي رجلٍ بالزنا وشهد آخران بالإحصان ثم رجعوا أن الدية تجب عليهم علي شهود الزنا ثلثا الدية، وعلي شهود الإحصان ثلثها وهذا [31/ب] لأن الرجم لم يستوف إلا بقولهم فيجب الضمان عليهم عند الرجوع وعلي هذا يلزمهم القود إن تعمدوا. وقال القاضي أبو حامد: وقيل: فيه قول آخر يجب الغرم علي شهود الزنا دون شهود الإحصان. وبه قال أبو حنيفة لأن شهود الإحصان لم يثبتوا الجناية وإنما أثبتوا صفة الكمال ومدحوا المشهود عليه فهو كما لو شهد أربعة بالزنا، وآخران أنه كان عاقلًا ثم رجعوا لا غرامة علي شاهدي العقل، وبه قال صاحب "الإفصاح". قال بعض أصحابنا: يُنظر فإن كان شهود الإحصان شهدوا قبل الزنا من أجل حكم الزنا فرجعوا لم يكن عليهم شيء، وإن كانت شهادتهم بالإحصان من أجل الزنا فرجعوا ففيه وجهان: أحدهما: لا شيء عليهم، والثاني: الغرامة. ثم في الغرامة وجهان: أحدهما: يقسم علي عدد الرؤوس. والثاني: نصفها علي شهود الإحصان ونصفها علي شهود الزنا لأنه قد ثبت بهم نصف الشرط فكان عليهم نصف الدية وهكذا ذكره ابن أبي

هريرة، وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يغرم شهود الإحصان؟ فيه قولان وكم يغرمون؟ فيه قولان، وقال أبو ثور: لا ضمان علي شهود الزنا وإنما الضمان علي شهود الإحصان فلا يجب علي شهود الزنا أولى. فرع آخر لو شهد ثمانية بالزنا واثنان [32/أ] بالإحصان فالحكم في الضمان علي ذكرنا فإن قلنا: يضمن الكل ففيه وجهان. أحدهما: الثلثان علي شهود الزنا، والثلث علي شهود الإحصان. والثاني: النصف علي شهود الزنا والنصف علي شهود الإحصان ولا فرق بين أن يكون أقل العدد من هؤلاء أربعة وهؤلاء اثنان أم كانوا زائدين علي ذلك أم إحدى البينتين زائدة في العدد دون الأخرى فالحكم واحد. فرع آخر لو شهد أربعة بالزنا، واثنان سواهم بالإحصان ثم رجع أحد شاهدي الإحصان فإن قلنا: لا يغرم شهود الإحصان فيغرم الذي رجع عن الزنا ربع الدية ثم هكذا كل من رجع منهم وإن قلنا: يغرم شهود الإحصان النصف والراجع عن شهادة الإحصان يغرم الربع، والراجع عن شهادة الزنا يغرم الثمن وإن قلنا: علي شهود الإحصان الثلث يغرم الراجع عنه السدس، والراجع عن شهادة الزنا يلزمه السدس أيضًا. فرع آخر لو شهد أربعة بالزنا، وشهد اثنان من الأربعة بالإحصان ثبت الزنا والإحصان جميعًا وشهادة الإحصان لا تتضمن تصديقها في شهادة الزنا فتقبل ويخالف هذه إذا شهد أربعة علي رجلٍ بالزنا وعرف الحاكم عدالة اثنين منهم وجهل عدالة الآخرين فشهد العدلان عنده على الشاهدين الآخرين لم تقبل شهادتهما لأنهما يجران بشهادتهما صدقهما فيما شهدا به. فرع آخر إذا رجمناه [32/ب] بشهادة هؤلاء الأربعة ثم رجع الكل عن الشهادة فإن قلنا: في المسألة التي قبلها لا ضمان علي شاهدي الإحصان فهنا تكررت الدية عليهم بالسوية فيجب علي كل واحدٍ منهم الربع من الديه وإن قلنا هناك: يجب الضمان علي شاهدي الإحصان فهل يجب هنا؟ وجهان: أحدهما: لا يجب علي شاهدي الإحصان شيء إلا ما يجب علي الشاهدين الآخرين لأن القتل حصل بشهادة الأربعة، ومن شهد منهم بالإحصان فإنما زادت شهادته وذلك لا يوجب زيادة في الشخص الواحد، ألا تري أن من جرح جرحًا واحدًا ومن جرح عشرة في مقدار الديه سواء. والثاني: يجب علي شاهدي الإحصان ويكونان بمنزله أربعة فإنما شهدوا بالزنا والإحصان فكأن الشهود ستة فإذا قسطنا في المسألة الأولى علي الثلث والثلثين وجب علي شاهدي الإحصان ثلثا الدية وعلي الآخرين ثلث الدية، وإذا قسطناها علي النصف والنصف يجب (على)

شاهدي الإحصان ثلاثة أرباع الدية وعلي الآخرين ربعها. فرع آخر لو شهد أربعة علي رجلٍ بالزنا فأنكر الإحصان وله امرأة له منها ولد فأنكر أن يكون جامعها لم يرجم قيل: إن الولد يلحق بالإمكان والإحصان لا يثبت إلا بالإقرار أو بالبينة. فرع آخر لو شهد أربعة بالزنا فزكاهم نفرٌ [33/أ] زعموا أنهم أحرارٌ مسلمون فإذا هم مجوسٌ أو عبيد وقد رجمهم الإمام حين زكاهم قال القاضي أبو حامدٍ: غرم الإمام الدية ورجع بها علي المزكين، وإن غرم المزكون لم يرجعوا علي الإمام بها وإنما أوجبنا الضمان علي الإمام لأنه مفرّط بالحكم بشهادتهم، وإنما قلنا: إنه يرجع علي المزكين لأن شهادتهم هي السبب في الضمان لأنه لما شهدوا بالعدالة وثبت صدقهم ظاهرًا وجب علي الحاكم الحكم بشهادتهم فوجب أن يستقر الضمان عليهم، فأما شهود الزنا فلا ضمان عليهم لأنهم مقيمون علي ما شهدوا به ولم يثبت عند الحاكم الحكم بخلاف ما شهدوا به وإنما ثبت عنده خلاف ما شهد به المزكون قال أصحابنا: وكذلك إذا زكاهم ثم شهد شاهدان عنده بفسقهم كان الحكم علي ما ذكرنا، وحكي عن أبي ثور أنه قال: سألت أبا عبد الله عن هذه المسألة فقال: الدية علي عاقلة الإمام وعلي المركزين التعزير وهذا غير مشهور. فرع آخر قال ابن سريج: ولو شهد رجلٌ وامرأتان فقضى القاضي به ثم رجعوا فعليهم الضمان نصفين علي الرجل النصف وعلي المرأتين النصف لأنهما قائمتان مقام رجلٍ واحدٍ. فرع آخر لو شهد رجلٌ وعشرة نسوةٍ بمالٍ ثم رجعوا فعلى الرجل سدس الضمان [33/ب] وعلي النسوة خمسة الأسداس لأن الرجل في المال بمنزلة المرأتين وكل امرأتين بمنزلة رجل، فإذا شهد عشر نسوةٍ ورجل يصير بمنزلة ستة رجال. وبه قال أبو حنيفة ومالك والمزني، وقال أبو يوسف ومحمد: علي الرجل نصف الضمان وعلي النسوة النصف، وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا قول الشافعي رضي الله عنه دون الأول لأن النساء وإن كثرن يقمن مقام رجل واحد، لأنهن لو انفردن لم يحكم بشهادتهن وما ذكرناه أصح. فرع آخر لو رجعت واحدةٌ أو ثمان في هذه المسألة فلا شيء عليهن بناءً علي ما ذكرناه أنه لا ضمان ما دام هناك من يثبت الحق بقوله. فإن رجعت التاسعة فعليهن ربع الضمان لأنه انتقص ربع البينة. فإن رجعت العاشرة فعليهن نصف الضمان، فإن رجع

الرجل فعليهن كل الضمان علي الرجل نصفه وعلي النساء نصفه. فرع آخر لو شهد رجلان وامرأة فرجعت المرأة فلا شيء عليها لأنه بقي من يثبت الحق به، ولو شهد رجلان وامرأتان ثم رجع الكل فعليهم الضمان أثلاثًا علي كل رجل الثلث وعلي المرأتين الثلث. ولو شهد رجلٌ وثلاث نسوةٍ فرجعت امرأة واحدة والرجل فعلى الرجل نصف الضمان ولا شيء علي المرأة وعلي هذا قياس هذا الباب. مسألة: قال: وَلَوْ شَهِدَ عَلَيْهَا بِالزِّنَا [34/أ] أربعة، وَشَهِدَ أربعة نِسْوَةٍ أَنَّهَا عَذْرَاءُ فَلاَ حَدَّ عَلَيْهَا. وقال مالك: يلزمها الحد لأن شهادة النساء لا تسمع في الحدود فلا يسقط الحد بشهادتهن وهذا غلط لأن البكارة تثبت بشهادة النساء، وثبوت البكارة يورث شبهة لأن الظاهر عدم الوطء مع بقاء البكارة والحد يسقط بالشبهة، وأما الشهود فلا يحدون لأن العذرة قد تعود بعد زوالها، وإن كان نادرًا فلا تبطل شهادتهم مع تجويز صدقهم ويسقط الحد عن قاذفها ويسقط إحصانها حتى لو قذفها قاذفٌ بذلك الزنا لم يحد، ومن أصحابنا من قال: هل يسقط الحد عن قاذفها؟ فيه وجهان وهو غريبٌ. فرع لو شهد أربعة أن فلانًا زنا بهذه المرأة وهي مكرهةٌ، وشهد أربع نسوةٍ أنها عذراء درء عنه الحد ولزمه المهر لأن بقاء العذرة شبهة في درء الحد دون سقوط المهر، وصورة المسألة أنها إن كانت تدعي أنه فعل ذلك لتستحق المهر بدعواها ذكره أصحابنا بخراسان. فرع آخر لو بان بعد الشهادة بالزنا أنها وتقاء أو قرناء ننظر فإن كان يمنع إيلاج الحشفة لم يحد كما لو شهدت النسوة أنها عذراء، وإن كان لا يمنع إيلاجها حدت ثم هذه الشهادة، وإن سقط الحد عنها فسقطه لعفتها [34/ب] حتى أنها لو قذفت لا تحد لكمال الشهادة بالزنا وسقوط الحد بالشبهة. مسألة: قال: وَلَوْ أَكْرَهَهَا عَلَي الزَّنَا فَعَلَيْهِ الحَدَّ وَمَهْرُ مِثْلِهَا. وقد ذكرنا هذه المسألة في كتاب الغصب. فرع لو أكره الرجل علي الزنا لا يلزمه الحد، وقال أبو حنيفة. إن أكرهه السلطان أو الحاكم لا يجب الحد، وإن أكرهه واحدٌ من الرعية يجب الحد استحسانًا ودليلنا أنه مكرهٌ على الوطء فلا يلزمه الحد كما لو أكرهه السلطان، ومن أصحابنا من قال: فيه

وجهان أحدهما: ما ذكرنا. والثاني يحد لأن الوطء لا يكون إلا بالانتشار وهو الاختيار. مسألة قال: وحَدَّ العَبْدِ وَالأَمَةِ أُحْصِنَا بِالتَّزْوِيْجِ أَوْ لَمْ يُحْصَنَا نِصْفُ حَدَّ الحُرَّ. عندنا حد العبد والأمة في الزنا خمسون جلدة وبه قال مالكٌ وأبو حنيفة وأكثر الفقهاء، وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن تزوجا فعلى كل واحدٍ منهما نصف الحد، وإن لم يتزوجا فلا حد عليهما. وبه قال طاوس وأبو عبيد القاسم بن سلام، وقال داود: أما العبد فيجلد مائةً وأما الأمة فإن تزوجت يلزمها نصف الحد، وإن لم تكن تزوجت ففيه روايتان: إحداهما: حد كامل وهو مائة. والثانية: لا حد عليها لأنه قال في قوله تعالي: {فَإذَآ أُحْصِنَّ} [النساء:25] أي تزوجن {فَإنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ [35/أ] فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المُحْصَنَاتِ مِنَ العَذَابِ} وأمسك عن ذكرهن إذا لم يتزوجن فاحتمل كمال الحد واحتمل أن لا حد والعبد داخلٌ في قوله تعالى: {?لزَّانِيَةُ و?لزاَّنِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور:2] واحتج ابن عباس رضي الله عنهما بهذه الآية وقرأها صلي الله عليه وسلم (فإذا أحصن) بضم الهمزة أي: تزوجن فإذا لم تتزوج فلا حد عليها بدليل الخطاب. وقال أبو ثور: إذا لم يحصنا بالتزويج فعليها نصف الحد وإن أحصنا بالتزويج فعليها الرجم وهو قول بعض أهل الظاهر، ودليلنا ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن فقال: "إن زنت فاجلدوها" إلي أن قال في الرابعة: "ثم إن زنت فبيعوها ولو بضفير" وهذا نصٌ في وجوب الحد قبل التزويج. وقال أبو ثور: يلزم بيعها في الرابعة لهذا الخبر، وروي عن أبي الرحمن السلمي أنه قال: خطب عليّ رضي الله عنه فقال: أيها الناس أقيموا الحدود علي أرقائكم من أحصن منهن ومن لم يحصن فإن أمةً لرسول الله صلي الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها فأتيتها فإذا هي حديثة عهدٍ بنفاسها فخشيت إن أنا جلدتها أن تموت فأتيت النبي صلي الله عليه وسلم فأخبرته فقال: أحسنت. وروى نافع [35/ب] أن عبدًا كان يقوم علي رقيق الخمس استكره جاريةً من ذلك الرقيق فوقع بها فجلده عمر ونفاه ولم يجلد الوليدة لأنه استكرهها. أما الآية قلنا: قرأ ابن مسعود وعاصم والأعمش والكسائي (أحصن) بفتح الهمزة يعني أسلمن فلا صحة فيما قالوا، وفائدة هذا أنها كانت حربيةً لا يقام عليها الحد لأنه لا يجري حكمنا علي أهل الحرب ثم إن أراد به التزويج فهو بينة علي ما قبل التزويج فإنها أخف حالًا في تلك الحالة فلا يجوز أن يغلظ حدها فتجلد مائةً. وفيه بينة علي أنه لا رجم عليها فإنها لا تجلد كاملًا فالرجم أولي أن لا يجب عليها، واحتج أبو ثور بأنه حدٌ لا يتبعض

فيستوي فيه العبد والحر كالقطع في السرقة قلنا: الفرق أن لا قطع فيها دونه، فلو لم يجب أدى إلى إسقاط ما يوجب الردع عن الجناية وهنا حدٌ دونه وهو الجلد فلا يجب الرجم والردع بالجلد يحصل، وأما التغريب فقد ذكرنا حكمه في الرقيق. مسألة: قال: ويحد الرجل أمته إذا زنت. إذا كان له عبدٌ أو أمة فزنيا فله إقامة الحد عليهما. وبه قال عليٌّ وفاطمة وعبد الله بن مسعود وابن عمر وزيد بن ثابت وأنس رضي الله عنهم والحسن وعلقمة والزهري والأسود [36/أ] والأوزاعي والثوري وإسحاق، وقال أبو حنيفة: ليس للسيد إقامة الحد عليهما وإنما هو للإمام، وحكي عن مالك: أنه يقيم الحد على عبده والأمة التي لم تتزوج فإن كانت مزوجة لا يملك السيد إقامة الحد عليها وإنما هو إلى الإمام والصحيح عنه مثل: مذهبنا وهذا خطأ للخبر الذي ذكرنا. وأيضًا روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا زنت أمة أحدكم فليضربها كتاب الله تعالى ولا يثرب عليها" ومعنى التثريب التعيير والتبكيت ومعناه: لا يقتصر على ذلك ويعطل الحد الواجب عليها وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" وروى الحسن بن محمد بن علي أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم جلدت جارية لها زنت، وكان أنس بن مالك رضي الله عنه يضرب إماءه الحد تزوجن أو لم يكن تزوجن، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى: أدركت بقايا الأنصار وهم يضربون الوليدة في مجالسهم إذا زنت، وقال علي رضي الله عنه في أم ولدٍ بغت: تضرب ولا نفي عليها. وروي عنه أنه قال: تضرب وتنفى وبه قال ابن مسعود. فرع قال ابن أبي أحمد في "المفتاح": هل يملك السيد إقامة على عبده؟ فيه قولان وهذا غلط لم يساعده أصحابنا عليه، وذكر القاضي أبو حامدٍ [36/ب] في "الجامع": ويحد الرجل أمته وعبده في الزنا فإذا أحدهما لم يكن أن يثني عليهما. فرع قال القاضي أبو حامد: ولا يحدهما إلا باعترافهما أو ببينة تقوم عليهما فإن شاهدهما على الزنا لم يحدهما على أظهر قوليه، ويحدهما على القول الثاني إذا قلنا: يقضي القاضي بعلمه في الحدود، ومن أصحابنا من قال: لا يقضي القاضي بعلمه في

الحدود قولًا واحدًا وهذا غلط لأن الشافعي نص في هذا الموضع على ما يدل على القولين في الحدود أيضًا، وقال بعض أصحابنا: هل يقضي القاضي بعلمه في الأموال؟ فيه قولان فإذا قلنا: يقضي به ففي الحدود هل يقضي بعلمه؟ وجهان فإذا قلنا: لا يقضي به القاضي فالسيد أولى وإذا قلنا: يقضي القاضي به ففي السيد وجهان كالوجهين في جواز حده بالبينة على ما سنذكره. فرع آخر ظاهر نص الشافعي رضي الله عنه أنه يملك سماع البينة فيه ويجتهد في التعديل والتزكية لأن كل من ملك إقامة الحد بالإقرار ملك إقامة الحد بسماع البينة كالقاضي، وقال ابن أبي هريرة: من أصحابنا من قال: لا تسمع البينة في ذلك ضعيف لأنه يمكن ذلك إذا أراد وله معرفة بذلك والإقرار وإقامة الحد يحتاجان إلى الاجتهاد أيضًا وللسيد ذلك كذلك إقامة الحد بالبينة. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن قلنا: للسيد إقامته للولاية فله سماع البينة [37/أ] وإن قلنا: إن له ذلك لاستصلاح الملك فليس له ذلك. فرع آخر قال القفال: إذا قلنا سماع البينة لا تحتاج إلى أن يكون السيد عالمًا مجتهدًا إذ يكفي أن يعلم قدرًا يمكن الحكم به، ومن أصحابنا من قال: لابد وأن يكون مجتهدًا عالمًا بالحدود وهذا أقيس وإذا قلنا: لا يسمع البينة فمتى حكم الحاكم بثبوت الزنا ملك السيد إقامة الحد عليه من دون إذنه لأن استيفاءه إليه بعد الثبوت. فرع آخر للسيد أن يقيم على عبده حد الشرب وحد القذف لأنهما أضعف من حد الزنا، وأما القطع في السرقة والقتل بالردة ففيهما وجهان والمذهب أن له ذلك وقد نص الشافعي رضي الله عنه في البويطي على القطع من السرقة، وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قطع يد عبدٍ له سرق، وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن جارية لحفصة سحرتها فاعترفت بذلك فأمرت بها عبد الرحمن بن زيد فقتلها فأنكر ذلك عثمان رضي الله عنه فقال ابن عمر: ما ينكر علي أمير المؤمنين من امرأة سحرت واعترفت فسكت عثمان. ومن أصحابنا من قال: لا يقيم عليهما بل هما إلى الإمام لأنه جوز له إقامة الحد لئلا يبقيه الإمام فيظهر أمره وتنقص قيمته. والقتل القطع أمرٌ ظاهرٌ لا يخفى فكان إلى الإمام ذكره ابن أبي هريرة وصاحب "الإفصاح" وهذا لا يصح [37/ب] لأنه ملك إقامة الحد لقوة ولايته بسبب الملك، ولأنه أقوى ولاية فيه من الحاكم لما ذكروه من المعنى وهذه العلة توجب جواز إقامة كل الحدود ومن أصحابنا من قال: قولًا

واحدًا له ذلك للنص في "البويطي". ورواه فيه عن ابن عمر وعائشة، وقال القفال: الأظهر من الوجهين أنه لا يقطعه في السرقة لأنه لا يؤدب أحد بجنس القطع ولا يعزر به بخلاف الجلد وهذا غير صحيح على ما ذكرت، وقيل: لا يملك القتل بالردة قولًا واحدًا، وإن كان بالقطع في السرقة وجهان لأنه ليس فيه استصلاح الملك بوجهٍ وهذا أيضًا غير صحيح وهكذا الخلاف في قطع يده قصاصًا إذا قطع يد عبد الغير من غير فرق. فرع آخر إذا كان السيد ثقة عدلًا من أهل العلم والمعرفة قويًا يستوفيه بنفسه وإن لم يكن قويًا أمر قويًا باستيفائه ولا يستوفيه بنفسه. فرع آخر لو كان السيد فاسقًا أو مكاتبًا قال في القديم: له أن يجلده سواء كان عدلًا أو غير عدلٍ لأن هذه ولاية مستفادة بالملك فاستوى فيها الفاسق والعدل كالتزويج والمكاتب لما هلك سائر التصرفات فيه بحق الملك ملك إقامة الحد عليه أيضًا، وقال أبو إسحاق وجماعة: لا يملكان إقامة الحد لأن هذه ولاية وليسا من أهل الولاية. فرع آخر الكافر هل يملك [38/أ] إقامة الحد عليه؟ وجهان أيضًا، وقال بعض أصحابنا: هما ينبنيان على أنه للولاية أو لاستصلاح الملك. وهكذا الوجهان في الفاسق والمكاتب على هذين المعنيين. فرع آخر لو كان السيد امرأة هل لها أن تقيم الحد على عبدها أو أمتها؟ قال أبو إسحاق: إن أمكنها القيام بذلك قامت به، وإلا جعلت ذلك إلى غيرها ليتولى لها القيام به وللمرأة إقامة الحد على عبدها وأمتها، وقال ابن أبي هريرة في التعليق: وليس للمرأة أن تقيم حدًا، ولا أن تقطع، ولا أن تقتل لأنها ليست من الجنس الذي يكون منه الحاكم بخلاف الرجل فإنه يكون منه الحاكم والأول ظاهر المذهب لخبر فاطمة وحفصة، وقال القفال: فيه وجهان بناءً على المعنيين على ما ذكرنا. فرع آخر لو قلنا: لا تملك هي إقامة الحد بنفسها فيه وجهان، أحدهما: يتولى الحاكم إقامته، والثاني: يتولى من يلي تزويجها، وقيل: في المرأة ثلاثة أوجهٍ الثالث يتولاه وليها نيابة عنها كما في تزويج أمتها. فرع آخر لو كان السيد صبيًا فهل للوصي إقامة الحد على عبده؟ فيه وجهان بناءً على المعنيين ذكره أصحابنا بخراسان، وقيل: هما ينبنيان على أنه له أن يزوج أمته وعبده وفيه وجهان.

باب حد الذميين

فرع آخر لو كان السيد عالمًا مجتهدًا وكان الحد مختلفًا فيه ورأى الإمام وجوبه ورأى السيد إسقاطه [38/ب] فالإمام يستوفيه دون السيد وإن رأى السيد وجوبه دون الإمام فللسيد أن يستوفيه ما لم يحكم الحاكم بإسقاطه فإن حكم بإسقاطه منع لأن حكم الحاكم أعم وأنفذ. فرع آخر لو لم يكن السيد عالمًا بالحدود منع من إقامتها من يرجع فيها إلى من يجوز له العمل بقوله، فإن رجع إلى حاكم عمل على قوله فيما حكم به ويقوم باستيفائه وليس للإمام نقضه، وإن رجع ففيه وجهان: أحدهما: لا يجوز استيفاءه بفتواه لأن المختلف فيه لا يتعين إلا بحكم الحاكم. والثاني: يجوز لأن تصرف السيد في عبده أقوى من تصرف الحاكم إلا أن يحكم الحاكم بسقوطه فيمنع. ومن أصحابنا من قال: العامي لا يقيم الحد وليس بشيءٍ لأنه نص في الجديد عليه وقال: لا يجهل أحد يعقل أن يضرب خمسين جلدةً غير مبرحةٍ. وقال في القديم: يجلده عاميًا كان أو جاهلًا، وقيل: يحتاج فيه إلى أربع شرائط جواز الأمر بالبلوغ والعقل والرشد فالسفيه لا يملك ولو أقام لا يحتسب. والثانية: أن يكون رجلًا. والثالثة: أن يكون تام الملك في كامل الرق. والرابعة: أن يكون من أهل العلم بالحدود ومن المجتهدين فيها وفي هذا نظر على ما فصلناه وشرحناه. [39/أ]. فرع آخر لا يملك إقامة الحد على مكاتبه لأنه ليس في تصرفه وله إقامة الحد على أم ولده ومدبره والمعتق بالصفة. باب حد الذميين مسألة: قال: في كتاب الحدود: وإذا تحاكموا إلينا فلنا أن نحكم أو ندع، فإن حكمنا حددنا المحصن. قد ذكرنا أن أهل الذمة إذا تحاكموا إلينا نص في كتاب "الجزية" وهو اختيار المزني أنه يجب عليه أن يحكم وفي المسألة: ثم إذا حكمنا حددنا المحصن منهم بالرجم على ما ذكرنا، وقال مالك: إن كانا كافرين لم يحصن واحد منهما، وإن كان مسلمًا وزوجته ذمية فقد أحصنا وبني هذا على أصله أن نكاح الكافر فاسد وعلى هذا قال بعض أصحابنا بخراسان: لو شهد أربعةٌ من المسلمين على ذمي بالزنا كان على القولين كما لو تحاكم ذميان إلينا ففي أحدهما يلزمه إقامة الحد عليه وفي القول الآخر يتخير وهذا غريبٌ لا يساعده المذهب، ولو زنا المعاهد بمسلمة مطاوعةٍ هل يقام عليه الحد؟ قيل:

باب حد القذف

قولان، وقيل: إذا شرط في أمانة إلزام حكمنا حددناه وإلا فلا. باب حد القذف مسألة: قال: إذا قذف البالغ حرًا بالغًا مسلمًا [39/ب] أو حرةً بالغةً مسلمةً حد ثمانين. اعلم أن حد قذف المحصنة حرامٌ وهو من الكبائر والأصل فيه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور:4] الآية، وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات" قالوا: يا رسول الله ما هن؟ قال: "الشرك بالله والسحر وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات" وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قذف المحصنة يحبط عمل مائة سنة" وروى ابن عباس رضي الله عنه "أن رجلًا أقر بالزنا فجلده رسول الله صلى الله عليه وسلم مائة جلدةٍ فلما أتى مجلودًا قال: من صاحبتك قال: فلانة فدعاها فسألها فقالت: كذب من شهودك أنك خبثت بها فإنها تنكر قال: والله مالي شهداء فأمر به فجلد حد الفرية ثمانين جلدة". واعلم أن القذف بغير الزنا لا يوجب الحد، والفرق أن القذف بالزنا أعر وهو بالنسل أضر بخلاف القذف بغيره، وأيضًا فالمقذوف بالكفر يقدر على نفيه عن نفسه بإظهار الشهادتين ولا يقدر على نفي الزنا عن نفسه. ثم اعلم أن القذف بالزنا [40/أ] يوجب ثمانين جلدة إذا قذف محصنًا أو محصنةً لظاهر الآية وشرائط الإحصان خمس البلوغ، والعقل، والحرية، والإسلام، والعفة عن الزنا سواء كان عدلًا أو فاسقًا فإن كان المقذوف صبيًا أو مجنونًا أو كافرًا أو عبدًا أو زانيًا لا حد على قاذفه ويعزر. وأما القاذف فلا يعتبر إحصانه ولكن يعتبر فيه شرطان البلوغ، والعقل فإن كان بالغًا عاقلًا حد ويختلف في مقدار الحد بحريته ورقه فإن كان حرًا جلد ثمانين جلدةً، وإن كان عبدًا جلد أربعين جلدةً وإنما اعتبرنا رق القاذف وحريته لأن القذف معصية يتعلق بها الحد يختلف بالرق والحرية فيعتبر رق فاعله وحريته وبه قال أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم وجماعة الفقهاء، وقال داود: يحد قاذف العبد ولو قذف العبد: يحد ثمانين. وبه قال عمر بن عبد العزيز والزهري والأوزاعي، وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه جلد عبدًا في القذف أربعين ثم جلد عبدًا آخر ثمانين ثم قال: ذاك برأيي وهذا بكتاب الله تعالى ودليلنا ما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيما رجل قذف مملوكه وهو بريء مما قال أقيم عليه الحد يوم القيامة إلا أن يكون كما

قال" فدل أنه لا يقام عليه حدٌ كاملٌ بقذفه. وروي عن يحيي بن سعيد الأنصاري [40/ب] ضرب أبو بكر محمد بن عمرو بن حزم مملوكًا افترى ثمانين جلدةً فقال عبد الله بن عامر بن ربيعة: أدركت أبا بكرٍ وعمر وعثمان ومن بعدهم من الخلفاء يضربون المملوك إذا قذف ثمانين قبل أبي بكر محمد بن عمرو بن حزم. ولأن الحد إذا كان يتبعض كان العبد فيه على النصف كحد الزنا. فرع قال في "الأم": لو كان القاذف أبا المقذوف وإن علا، أو أمه وإن علت لم يجب عليه الحد. وبه قال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق، وقال مالك: يكره له أن يحده فإن حده جاز، وقال أبو ثور وابن المنذر: له أن يحده لظاهر الآية وهذا لا يصح لأن الحد عقوبة تسقط بالشبهة فلا يثبت للابن على الأب كالقصاص والآية مخصوصة بما ذكرنا. فرع آخر لو أن رجلًا قذف امرأةً حرةً مسلمةً له منها ولدٌ فماتت لم يكن للولد أن يطالب بحدها لأنه لما لم يثبت له عليه الحد ابتداءً فلم يثبت له إرثًا كالقصاص، ولو كان لها ابن آخر من غيره كان له استيفاء الحد لأن بعض الورثة يستوفى بخلاف القصاص. فرع آخر لو قذف أم عبده وهي حرةٌ مسلمة كان لها أن تطالب بالحد، فإن ماتت وكان لها عصبة أخر قاموا بحدها، وإن لم يكن لها عصبة فإن للإمام يطلب حدها وليس العبد من حدها بسبيل. مسألة: قال: ولو قذف نفرًا بكلمةٍ واحدةٍ. الفصل وقد ذكرنا هذه [41/أ] المسألة فيما تقدم ففي قوله الجديد: إن قذفهم بكلماتٍ يلزمه حده دون قذفهم بكلمةٍ واحدةٍ يلزمه الحدود أيضًا وفي قوله القديم: إذا كان بكلمة واحدة يلزمه حدٌ واحدٌ، وعند أبي حنيفة يلزمه حدٌ واحدٌ بكل حالٍ. ولو قال: زنا فلانٌ بفلانة فعلى قوله القديم يجب واحدٌ لهما وفي قوله الجديد وجهان أو قولان، والأصح أنه يلزمه حدان ووجه الآخر أنه فعلٌ واحدٌ لا يتميز أحدهما عن الآخر فيكفي حدٌ واحدٌ بالقذف. فرع لو قذف من بعضه حر وبعضه عبد محصنًا يحد أربعين كالعبد، وقال ابن أبي ليلى: يوزع على الحرية والرق.

مسألة: قال: وإن قال: يا ابن الزانيين. الفصل إذا قال: يا ابن الزانيين فقد قذف أباه وأمه فينظر فإن لم يكونا محصنين فلا حد وعليه التعزير، وإن كانا محصنين نص أن يلزمه حدان وهذا على القول الجديد ثم ينظر، فإن كانا حيين يستوفيان لأنفسهما، وإن كانا ميتين فلوارثهما أن يستوفي الحدين لأن حد القذف يورث عندنا. ثم قال هنا: ويأخذ حد الميت ولده وعصبته من كانوا، وهذا اللفظ ذكره الشافعي رضي الله عنه في كتاب ابن أبي ليلى وأبي حنيفة، وقال في كتاب اللعان: لورثتها أن يحدوه وقد ذكرنا من يطلب من الورثة، وقال القفال: إذا قلنا: لا يثبت للزوج والزوجة إذا قذف حيًا ثم مات، فإذا قذف ميتًا أولى [41/ب] أن لا يثبت وإن قلنا: هناك يثبت فهنا وجهان لأن الزوجية كانت منقطعة يوم القذف. مسألة: قال: ولو قال القاذف للمقذوف: إنه عبدٌ. الفصل نص هنا أنهما إذا اختلفا القاذف: هو عبدٌ، وقال المقذوف: أنا حرٌ ولا يعرف بالحرية والرق فالقول قول القاذف وعلى المقذوف البينة، وقال في كتاب التقاط المنبوذ: فإن قذفه قاذفٌ لم أحد له حتى أسأله فإن قال: أنا حر حددت قاذفه فقيل: قولان، وقيل: إن كان المقذوف مجهول النسب لا تعرف حاله فالقول قول المقذوف لأن الأصل الحرية والذي قال هنا تأويله إذا عرفت عبوديته فالقول قول القاذف وعلى المقذوف البينة أنه صار حرًا لأنه الأصل الرق قال أصحابنا: فإن كان معروف النسب حرًا فادعى القاذف رقه لم يقبل قوله وعليه الحد ولا يمين على المقذوف وقد ذكرنا ما قيل فيه قبل هذا مشروحًا. مسألة: قال: ولو قال لعربي: يا نبطي. الفصل إذا قال لعربي: يا نبطي سئل فإن قال: أردت قذفه ونفيه عن آبائه حد، وإن قال: أردت أنه نبطي اللسان وليس فيه فصاحة العرب، أو نبطي الدار لأن مولده كان في دار النبط أو فارق دار العرب وسكن دار النبط نُظر فإن صدقه المقذوف لم يُحد، وإن كذبه [42/أ] فالقول قول القائل إنه ما أراد أن ينسبه إلى النبط فإن حلف لم يُحد وأدب على الأذى وإن لم يحلف فإن كانت أمه باقيةً حلفت لقد أراد قذفي، وإن كانت ميتةً حلف لقد أراد أن ينفي نسبي أو أراد أن ينسبني إلى النبط فإن حلف حد القاذف قال

الشافعي: وإن قال: عنيت بالقذف الأب الجاهلي حلف وعزر على الأذى وتفسير هذا أنه قال: إن جدتك الكافرة زنا بها نبطيٌ فأبوك ولد ذلك النبطي فهذا قذف لجدته فيكون القول قوله مع يمينه، فإذا حلف لم يحد وعزر على الأذى، فإن قيل: لم قال الشافعي رضي الله عنه: الأب الجاهلي وإنما يكون القذف للجدة؟. قلنا: قد يسمى الجد أبًا كما يقال: أبوان ويراد به الأم والأب والجد والجدة وهذا لا يصح لأنها لا تسمى فيه هاء التأنيث والجواب الصحيح أنه أراد به إذا قال: عنيت بالمولود من النبطي أباك الجاهلي فيكون قذفًا للجدة على ما بيناه. ولو قال: أردت به قذف امرأة في الإسلام حمل على القربى كما لو قال: أمك زانية وله أمهات في الإسلام حمل على القربى. ولو قال: أردت قذف إحدى أمهاتك في الإسلام لا يحد لأن المقذوف لم يتعين، وإن كان وارث جميع أمهاته في الإسلام هو لا غيره، وكذلك لو قال: أحد أبويك زانٍ لا حد عليه لأنه لم يعين المقذوف ويعزر للأذى. [42/ب] واعلم أن الشافعي رضي الله عنه أوجب الحد في أصل المسألة بنفي النسب دون القذف لأنه قال: حُلف المقذوف على أنه أراد نفيه ولم يعتبر قذف أمه ولا إحصانها وقد ينتفي عن أبيه بغير زنا، واختلف أصحابنا في هذا فمنهم من قال: أراد به إذا كان نفاه بقذف أمته وكانت ميتة وهو اختيار أبي حامد لأن الله تعالى أوجد حد القذف بالرمي بالزنا لا غير، ومنهم من قال: يجب بنفيه على ما ذكرنا وهو الصحيح واختاره القاضي الطبري، وذكر الطحاوي أن نفي النسب عند الشافعي يوجب الحد خلافًا لأبي حنيفة وبه قال مالك وابن أبي ليلى والليث وأحمد وإسحاق وأبو ثور ووجهه ما روى الأشعث بن قيس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا أؤتى برجلٍ يقول: إن كنانة ليس من قريش إلا جلدته" وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لا حد إلا في اثنين قذف محصنة، أو نفي رجلٍ من أبيه. فرع آخر لو قال لعلوي: لست من عبد مناف، أو لست من علي ثم قال: ليس من صلبه بل بينه وبينه آباء فالقول قول المقذوف لأنه لا يراد بهذا اللفظ هذا المعنى غالبًا، فإن شكك حلف القاذف وبرئ وعزر. فرع آخر لو رماه رجل فقال: من رماني فأمه زانية فإن عرفه قبل أن قال ذلك كان قاذفًا لأنه وإن لم يعرف [43/أ] من رماه وأراد جزاء الرامي في الجملة لا يكون قاذفًا، وإن عرف من بعد لأمه علق القذف بالصفة والشرط وفي القسم الأول عرف المقذوف بالرمي.

فرع آخر لو قال: لطت أو لاط بك فلان باختيارك فهو قذفٌ يوجب الحد، ولو قال: يا لوطي، وقال: أردت أنك على دين قوم لوط يجب الحد، ومن أصحابنا من قال: لا يقبل قوله في ذلك أنه أراد به أنه على دين قوم لوط لأن هذا مستعمل في الرمي بالفاحشة ظاهرًا غالبًا فلا يقبل تأويله وبه قال مالك. والأول اختيار القاضي الطبري. فرع آخر لو قال: يا مؤاجر لا يكون قذفًا بأن يؤتي كما تؤتي النساء بل هو كناية ليس فيه إلا معنى الإجارة وقد يؤجر الإنسان نفسه لبعض الأعمال. فرع آخر لو قال للرجل: يا قواد لم يكن قذفًا لزوجته ويعزر للأذى في مثل هذا الألفاظ، وكذلك لو قال: لا حمية لك. فرع آخر لو قال: يا عاهر فيه وجهان: أحدهما: صريح في القذف لقوله صلى الله عليه وسلم: "وللعاهر الحجر". والثاني أنه كناية فيه ذكره في "الحاوي". مسألة: قال: ولو قذف امرأةً وطئت وطئًا حرامًا درء عنه الحد. قد ذكرنا في هذه المسألة قبل هذا: وجملته أن الوطء الحرام على ثلاثة أضرب: [43/ب] ضرب يوجب الحد فيسقط الإحصان ولا يجب الحد إلا على قاذفها مثل أن يطأ ذات محرم له بالنكاح مع العلم، أو يطأ الابن جارية أبيه ونحو ذلك، وضرب لا يوجب الحد ولكنه ملكه مع العلم بالتحريم مثل وطء أمته المجوسية أو زوجته الحائض أو المحرمة أو المظاهر منها فلا يسقط الإحصان قولًا واحدًا، وضرب لا يوجب الحد ولا يصادف الملك كالوطء بالشبهة، وإذا ادعى الجهالة بتحريمه وهو ممن يعذر فيه والوطء في النكاح الفاسد المختلف في صحته، ووطء أحد الشريكين، ووطء الأب جارية ابنه، ووطء مكاتبته فيها ثلاثة أوجه: أحدها: لا يحد قاذفه لأنه سقط فيه الحد عن الوطء بالشبهة فسقط به عن القاذف للشبهة وهذا اختيار أبي إسحاق. والثاني: يجب الحد على قاذفه ولا يسقط الإحصان بالوطء الذي يحد. والثالث: أن كل وطء يمكن أن يكون زنا وإنما سقط الحد فيه بشبهة ادعاها مثل أن يدعي بقاء العذرة وشهد أربع نسوة بها، أو يدعي أنه وطئ امرأته أو جاريته أو يجهل بتحريمها ويحتمل ذلك يسقط الإحصان، ولو لم يحتمل أنه زنا مثل وطء الأب جارية ابنه أو (مكاتبته) [44/أ] والجارية المشتركة لا يسقط الإحصان ويجب الحد على قاذفه.

وقيل: قال الشافعي: ولو قذف امرأةً وطئت وطئًا حرامًا فقذفها بذلك الوطء فنزل المزني قوله فقذفها بذلك الوطء، وقيل إذا نكحت بلا ولي ويعتقد بطلانه بطلت عفته إذا أصابها، والأصح أنها لا تبطل به العفة، وقيل: إذا وطئ أخته من الرضاع في ملكه هل يبطل إحصانه؟ وجهان. وكذلك إذا وطئ جارية اشتراها ثم بان أنها كانت مستحقة فيه وجهان. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: يبطل إحصانه. وقيل: لو أكره على الزنا هل تبطل عفته؟ فيه وجهان. وكذلك لو وطئ صغيرٌ صغيرة ثم بلغا هل تبطل عفتهما؟ وجهان. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: تبطل ولو نكح مجوسي أمه ووطئها ثم أسلما بطلت عفته ذكره القفال. مسألة: قال: ولا حد في التعريض. والتعريض أن يقول في المشاتمة واللجاج: أما أنا فلست ابن زنا أو يقول: يا ابن الحلال لا يكون قذفًا خلافًا لمالك. واحتج الشافعي بأن الله تعالى أباح التعريض فيما حرم عقده فقال: {وَلاَ تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة:235] وقال: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ} [البقرة:235] فجعل التعريض مخالفًا للتصريح فلا يحد إلا بقذفٍ صريح. وكذلك لو قال: ما أنا بابن إسكاف، ولا بابن خباز ويحلف أنه لم يرد قذفه ولا قذف أبيه ولا أمه فإن حلف عزر للأذى. [44/ب]. فرع لو قذف الميت وعفا الأقرب من الورثة هل يستحق الأبعد إقامة حده؟ وجهان مخرجان من اختلاف أقواله في ميراث الحد هل يجري مجرى ميراث الأموال؟ وفيه وجهان فإن قلنا: إنه كميراث الأموال لا حد له، وإن قلنا: يختص بالعصبات يستحقه الأبعد.

كتاب السرقة

كتاب السرقة باب ما يجب فيه القطع مسألة: قال: القطع في ربع دينارٍ فصاعدًا. الأصل في وجوب القطع على السارق الكتاب والسنة والإجماع. أما الكتاب فقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة:38] وقرأ ابن مسعود: والسارقون والسارقات فاقطعوا أيديهم على سبيل التفسير. وأما السنة فما روي أبو داود بإسناده عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم "قطع في مجنٍ ثمنه ثلاثة دراهم" وروي في مجنٍ أو جحفة. وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي قال: "القطع في ربع دينارٍ فصاعدًا" وروي "تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا" وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم "قطع يد رجل سرق تُرسًا من صفة النساء ثمنه ثلاثة دراهم". وروت عائشة رضي الله عنها أن قريشًا أهمهم أمر المخزومية التي سرقت فقالوا: [45/أ] من يكلم فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال واحدٌ: لا يجترئ على هذا إلا أسامة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتشفع في حد من حدود الله؟ " ثم قام فاختطب فقال: "إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" وروى ثعلبة الأنصاري أن عمرو بن سمرة بن حبيب بن عبد شمس جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا رسول الله إني سرقت جملًا لبني فلانٍ فأرسل إليهم فقالوا: إنا افتقدنا جملًا لنا فأمر بقطع يده فقطعت" قال ثعلبة: أنا أنظر إليه حين وقعت يده وهو يقول: الحمد لله الذي طهرني منك أردت أن تدخلي جسدي النار. وأما الإجماع فلا خلاف بين المسلمين فيه. اعلم أن الله تعالى جعل حد السرقة

قطع اليد لتناول المال بها ولم يقطع الذكر في آلته لأن للسارق مثل يده إذا قطعت بخلاف الذكر فإنه واحد. وأيضًا فاليد تُرى بخلاف الذكر فلا يحصل به الزجر للغير وبقطع اليد يحصل الزجر للغير، وأيضًا في قطع الذكر إبطال النسل بخلاف قطع اليد، واعلم أنه قطعت يد السارق في الجاهلية وأول من حكم به الوليد بن المغيرة [45/ب] فأمر الله تعالى به في الإسلام، وأول سارقٍ في الإسلام من الرجال الحياد بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، ومن النساء مرت بنت سفيان بن عبد الأسد من بني مخزوم. واختلف أصحابنا في آية السرقة هل هي عموم خص أو مجمل؟ فسر على وجهين، وقال عبد الله ابن عمرو: سرقت امرأة حليًا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقطع يدها اليمنى فقالت: يا رسول الله هل لي من توبة؟ فقال: "أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك" فأنزل الله تعالى {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة:39] وفي قوله: {وَأَصْلَحَ} وجهان: أحدهما: معناه أصلح سريرته بترك العزم. والثاني: معناه أصلح بترك المعاودة. فإن قيل: فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن"؟ قلنا: تأويله لا يستحلها وهو مؤمن، وقيل: معناه لا يفعل فعل المؤمن لأن المؤمن يمتنع منها، وقيل: معناه أنه لا خلاف أنه يحد إذا زنا ويقطع إن سرق، ولو تحقق أنه يقام عليه لامتنع، وقيل: إنه قالها مبالغةً في الزجر عنها كما قال صلى الله عليه وسلم: "من قتل عبده قتلناه". ثم اعلم أن العلماء اختلفوا في القدر الذي تقطع فيه اليد فقال داود وأهل الظاهر والخوارج: تقطع اليد [46/أ] في الكثير والقليل. وحكي هذا عن الحسن البصري واختاره الشافعي واحتجوا بعموم الآية وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده ويسرق البيضة فتقطع يده" رواه أبو هريرة رضي الله عنه، وقال الحسن في الرواية المشهورة وابن الزبير: تقطع في نصف دينار، وقال سليمان بن يسار: لا تقطع الخمس إلا في خمس يريد خمسة دنانير وبه قال ابن أبي ليلى وابن شبرمة. وروي ذلك عن عمر رضي الله عنه في روايةٍ، وقال أبو حنيفة: تقطع في

عشرة دراهم مضروبة يقوم غيرها بها ولا تقطع في أقل منها. وبه قال الثوري. وروي ذلك عن ابن مسعود واحتجوا روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا قطع إلا في عشرة دراهم"، وقال ابن عباس: قطع رسول الله صلى الله عليه وسلم يد رجل في مجنٍ قيمته دينار أو عشرة دراهم، وقال النخعي: لا تقطع اليد إلا في أربعين درهمًا، وقال مالك والليث وأبو إسحاق وأبو ثور: تقطع في ثلاثة دراهم أو ربع دينار وهما أصلان وقوم غيرهما بالدراهم، وحكي عن مالك أنه قال: الأصل ثلاثة دراهم والذهب وغير ذلك يقوم بها. وحكي عن أحمد أنه قال: إذا سرق متاعًا قيمته ربع دينار [46/ب] أو ثلاثة دراهم قطع قولًا بالخبرين على ما ذكرناه، وقال الشافعي: الأصل فيه ربع دينار والدراهم وغيرها مقومة به، وبه قال عمر وعثمان وعلي وعائشة وابن عمر وعمر بن عبد العزيز والأوزاعي، وقال أبو هريرة وأبو سعيد الخدري: تقطع في أربعة دراهم فصاعدًا ودليلنا ما ذكرنا من الخبر، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا قطع إلا في ربع دينار"، وروي عن يحيي بن يحيي الغساني قال: قدمت المدينة فلقيت أبا بكر محمد بن عمرو بن حزم وهو عامل على المدينة فقال: أتيت بسارقٍ من أهل بلادكم حوراني قد سرق سرقة يسيرة قال: فأرسلت إلي خالتي عمرة بنت عبد الرحمن أن لا تعجل في أمر هذا الرجل حتى آتيك فأخبرك ما سمعت عن عائشة في أمر السارق قال: فأتتني فأخبرتني أنها سمعت عائشة رضي الله عنها تقول قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك" وكان ربع دينار يومئذ ثلاثة دراهم والدينار باثني عشر درهمًا قال: وكانت سرقته دون ربع دينار فلم أقطعه، وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما طال علي وما نسيت القطع في ربع دينار فصاعدًا، وروي أن قتادة سأل أنس بن مالك رضي الله عنه فقال: يا أبا حمزة: أيقطع السارق [47/أ] في أقل من دينار؟ قال: قطع أبو بكر في شيء لا يسرني أنه لي بثلاثة دراهم، وروى أنس أن أبا بكر رضي الله عنه قطع في

خمسة دراهم وروت عمرة بنت عبد الرحمن أن سارقًا سرق أترجةً في عهد عثمان فأمر بها عثمان فقومت بثلاثة دراهم من صرف اثني عشر درهمًا بدينارٍ فقطع يده قال مالك: وهي الأترجة التي يأكلها الناس، وروي أن عليًا رضي الله عنه قطع يد السارق في بيضةٍ من حديد ثمنها ربع دينار، وأما خبر البيض كانوا يرونه أنه بيض الحديد والحبل الذي منها ما يساوي دراهم ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها: لم تكن يد السارق تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدنى من ثمن مجنٍ جحفةٍ أو ترسٍ، وأما الخبر الذي ذكره أبو حنيفة قلنا: رواه الحجاج بن أرطأة وهو مطعون فيه فخبرنا أولى، وأما الخبر الثاني حكم وليس فيه تحديد ونحن نقول: نقطع في ربع دينار والزيادة أولى بالقطع فيه. فرع قال الشافعي رضي الله عنه: والدينار الذي تقطع اليد في ربعه هو المثقال فإن كان في بلدٍ يكون أنقص منه لم يقطع. ولو سرق ذهبًا خالصًا غير مضروب وزنه ربع مثقال قال ابن أبي هريرة: لا يقطع حتى تكون قيمته ربع دينار بأن يقوم بالفضة ثم نقوم الفضة بالدينار فيعلم أنه يساوي ربع دينار لأن القطع ورد [47/ب] باسم الدينار ولأن غير المضروب بمنزلة السلعة، ألا ترى أن التقويم لا يقطع به بحالٍ فيعتبر المضروب وهو اختيار الإصطخري وصاحب "الإفصاح" والقاضي الطبري، وجماعة. ومن أصحابنا من قال: لا فرق بين الخالص والمضروب لأنه ربع مثقال من الذهب ويقال: دينار قراضة ودينار خلاص، وإن لم يكن منقوشًا قال أبو حامد: وهذا أصح وبه قال عامة أصحابنا. فرع آخر لو كان للبلد ديناران أعلى وأدنى وكلاهما خالص غالب ففيما تقوم به السرقة؟ وجهان أحدهما: يقوم بالأدنى اعتبارًا بعموم الظاهر. والثاني: بالأعلى لدرء القطع بالشبهة. فرع آخر لو سرق كسورًا تنقص عن قيمة الصحاح؟ فيه وجهان: أحدهما: قال الإصطخري وهو ظاهر قول ابن أبي هريرة: لا يقطع اعتبارًا بما يراعي في الأثمان والقيم وظاهر المذهب أنه يقطع اعتبارًا بجنسه ووزنه. فرع آخر لو سرق ربع دينار تبرًا فلا قطع فيه لأن فيه غير الذهب. مسألة: قال: بعد أن ذكر حديث عثمان رضي الله عنه: وفي ذلك دلالةٌ على قطع من سرق الرطب من طعامٍ أو غيره.

استدل الشافعي رضي الله عنه بقطع عثمان رضي الله عنه يد السارق بالأترجة أنه تقطع اليد في الطعام الرطب كالعنب والتفاح والرطب والخضراوات [48/أ] من القثاء والبطيخ والبقول والشواء والهريسة والفالوذج وبه قال مالك، وقال أبو حنيفة: لا قطع في شيء منها ولا فيما يتسارع إليه الفساد واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا قطع في الطعام" ولأنه غير محرزٍ بنفسه لأنه معرض للهلاك فأشبه إذا كان محرز بغيره. ودليلنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن التمر المعلق فقال: "من أصاب منه من ذي حاجة غير متخذٍ خبتة فلا شيء عليه، ومن خرج بشيء منه فعليه غرامة مثله والعقوبة ومن سرق شيئًا بعد أن يأويه الجرين فبلغ ثمن المجن فعليه القطع" رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه والخبتة: ما يحمله الرجل في ثوبه والجرين: البيدر وهو حرز الثمار كالمراح حرز النعم، وقد أباح لذي الحاجة فيحتمل أن يكون الاضطرار وماله فيه من حق العشر ومضاعفة الغرامة نوع من الردع والتنكيل وقد ذهب إليه جماعة من الفقهاء وعندنا أنه نسخ ذلك. وروي أن رجلًا من مزينة قال: يا رسول الله كيف ترى في حريسة الجبل؟ قال: "لا قطع في شيء من الماشية إلا ما أواه المراح ولا شيء في شيء من التمر المعلق إلا ما أواه الجرين وفيما أخذ من الجرين فبلغ ثمن المجن ففيه القطع". [48/ب] وروي عن ابن عمر رضي الله عنهم أنه سئل عن سارق الثمار فقال: القطع في الثمار فيما أحرز الجرين، والقطع في الماشية فيما آوى المراح، فإن قيل: روى أبو داود بإسناده عن محمد بن يحيي أن عبدًا سرق وديًا من حائط رجل فغرسه في حائط سيده فاستعدى صاحب الودي على العبد مروان بن الحكم فسجن مروان العبد وأراد قطع يده فانطلق سيد العبد إلى رافع بن خديج فسأله عن ذلك فأخبره أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا قطع في ثمرٍ ولا كثر" فمشى إلى مروان فحدثه بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر مروان بالعبد فأُرسل والودي: صغار النخل واحدها ودية، والمكثر جمار النخل. قلنا: معنى الثمر هنا ما كان معلقًا في النخل قبل أن يحذ ويحرز بدليل خبرنا ولأن حوائط المدينة ليست بحرز وممكن الدخول من جوانبها ومن سرق من غير حرز لا يقطع عندنا، وأما ما ذكره فلا يصح لأن الطعام محرز في الحال حرزًا تامًا والاعتبار بهذا كما لو سرق الديباج من وسط الماء يلزمه القطع، وإن كان يتسارع إليه الفساد. وأما

الخبر الذي ذكره قيل: لا أصل له ولئن صح فيحمل على ما لو كان في الحرز وعند الضرورة. فرع يلزم القطع في كل مملوكٍ سرقة وكان قيمته ربع دينار، وإن كان أصله [49/أ] على الإباحة من الصيود والخشب والزجاج ونحو ذلك وبه قال مالك وجماعة الفقهاء، وقال أبو حنيفة: لا قطع فيما أصله على الإباحة إلا في الساج والأبنوس والصندل والعود والخشب المعمول، وقال: لا قطع في اللؤلؤ والياقوت وناقض في القدور المتخذة من الأحجار وحجر الرحى والزجاج المعمول فقال: لا قطع في شيء منها، وقال في الحصير: إن كان ثمينًا كالسامان والعبداني يلزم فيه القطع، وإن كان من الحشيش والأسل لا قطع فيه، ودليلنا أنه قال: يقيس بملك بيعًا وشراء ويجب القطع في معموله فأشبه الذهب والفضة وأصلها على الإباحة أيضًا في المعدن. فرع آخر هل يلزم القطع بسرقة الماء؟ فيه وجهان: أحدهما: لا قطع فيه لأنه لا يتمول في العادة والثاني: فيه القطع وهو الأصح لأنه ملك بيعًا وشراء. فرع آخر إذا سرق من قرون الحيوان ما قيمته ربع دينار يلزمه القطع وقال أبو حنيفة: لا قطع فيها سواء كانت معمولة أو غير معمولة لأن لصنعة لا تكون فيها وقال أبو يوسف: إن كانت معمولة لا قطع فيها كما في الخشب. ثم قال: والمثقال الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وجملته أن الدينار هو وزن مثقال الذي كان سبعة منه عشرة دراهم والمثقال لم يتغير [49/ب] عما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبله وإنما اختلفت الدراهم على ما ذكرنا في كتاب الزكاة، فإذا بلغ ربع دينار بوزن مكة وجب القطع. مسألة: قال: ولا يُقطع إلا من بلغ الاحتلام من الرجال. الفصل اعلم أنه لا قطع في السرقة على رجل ولا على امرأة حتى يكونا بالغين يوم السرقة لأن الصغير غير مكلف ولا معاقب وقد ذكرنا حد البلوغ، وقال عطية القرظي: كنت في سبي قريظة فكانوا ينظرون من أنبت الشعر قتل، ومن لم ينبت لم يقتل فكنت فيمن لم ينبت، وقال أحمد وإسحاق: الإنبات بلوغ يقام به الحد على من أنبت وبه قال مالك لظاهر هذا الخبر، وقال سفيان الثوري: سمعنا أن الحلم أدناه أربع عشرة وأقصاه ثماني عشرة فإذا جاءت الحدود أخذنا أقصاها، وروي عن علي رضي الله عنه أنه شق

بطن أصابع صبي سرق، وقال أصحابنا: إن صح هذا يحتمل أنه ضرب على كفه تأديبًا فانشقت بطون أصابعه لرقتها، بدليل أنه روي عنه أنه أتى بصبي سرق فقال: أشبروه فكان دون خمسة أشبارٍ فلم يقطعه. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بجارية قد سرقت فوجدها لم تحض فلم يقطعها، وعلى ما ذكرنا لا قطع على المجنون أيضًا لأنه غير مكلف كالصبي. [50/أ] وقد روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: أُتي عمر رضي الله عنه بمجنونةٍ قد زنت فاستشار فيها ناسًا فأمر بها عمر أن ترجم فمر بها على علي رضي الله عنه فقال: ما شأن هذه؟ قالوا: مجنونة بني فلانٍ زنت فأمر بها أن ترجم فقال: ارجعوا بها فقال: يا أمير المؤمنين أما علمت أن القلم رفع عن ثلاثةٍ عن المجنون حتى يبرأ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يعقل؟ قال: بلى قال: فما بال هذه؟ قال: لا شيء فأرسلها قال: فأرسلها قال: فجعل يكبر قال أصحابنا: يحتمل أنها كانت تجن مرة وتفيق أخرى فرأى عمر أنه لا يسقط الحد عنها بالجنون الطارئ ورأى علي أنها أصابت في بقية جنونها ثم وافق اجتهاد عمر اجتهاده في ذلك فدرأ عنها الحد. مسألة: قال: وجملة الحرز أن يُنظر [إلى] المسروق فإن كان الموضع الذي سرق منه ينسبه العامة إلا أنه حرزٌ قطع. الفصل اعلم أن القطع لا يجب إلا بشرطين أحدهما: النصاب على ما ذكرنا. والثاني: أن تكون السرقة من حرزٍ فإن سرق من غير حرزٍ لا يلزم القطع، وقال داود: لا يعتبر الحرز لظاهر الآية ودليلنا ما ذكرنا من الخبر، وروى جابر رضي الله عنه قال: أضاف رجلٌ رجلًا في مشربة له فوجد متاعًا له قد اختانه فأتى به أبو بكر رضي الله عنه فقال: خل عنه فليس بسارقٍ وإنما هي أمانة اختانها. [50/ب] وإن كان جائزًا مهملًا لأهل الفساد غلطت إحرازه ويختلف باختلاف الليل والنهار فيكون في الليل أغلظ لاختصاصه بأهل العبث والفساد فلا يقتنع بإغلاق الأبواب وكثرة الإغلاق حتى يكون لها حارس يحرسها وهي بالنهار أخف لانتشار أهل الخير فيه ومراعاة بعضهم لبعض فلا يفتقر إلى حارس. ويتغير الحرز بتغير الأحوال لأن الزمان يتغير من صلاح إلى فساد، ومن فساد إلى صلاح، وقال أبو حنيفة: الحرز لا يختلف فما كان حرزًا للشيء كان حرزًا لجميع الأشياء حتى ما كان حرزًا للتبن كان حرزًا للجواهر وهذا غلط لما ذكرنا.

فرع آخر الأمتعة الجافية التي لا تنقل باليد كالحطب والقصب والجذوع تصير حرزًا بضم بعضها إلى بعض في وسط السوق، ويدار عليها ما يشد به وأن يكون في وسط سوقٍ يعلق دونها درب أو في قرية يقل أهلها وأن يكون الموضع أنيسًا إما بمساكن فيها أهلها، أو بحارسٍ يكون راعيًا لها وأن يكون الوقت ساكنًا وأهل الفساد قليلًا ومن الأمتعة ما يحرز بأن يمد عليه السريجة فإذا فتحت السريجة وأخذ ما وراءها يقطع وذلك مثل الأواني المتخذة من الخزف والزجاج ونحو ذلك. ومنها ما يجعل في غرائر وخيش ويخيط عليه مثل الطعام في كثير من البلدان، ورأيت في بلدنا صبر الأرز في السوق الذي يباع فيه مغطاة بالأكسية والمسوح ولا يزيدون في حفظها على ذلك. [51/أ] وقال الشافعي: حرز الحنطة أن تجعل في غرائر في موضع البيع ويشد بعضها إلى بعضٍ وإن لم يغلق دونها باب، وقال بعض أصحابنا: إنما قاله الشافعي على عادة أهل مصر فإنهم يحرزون هكذا فأما في العراق فحرزه أن يجعل بعضه على بعضٍ ويربط أعلاه بحبلٍ بحيث لا يمكن أن يسل منه وفي بعض البلاد يحرزون وراء الباب والغلق فيعتبر ذلك وهذا صحيح ومن الأصحاب من قال: هذا حرزه نهارًا، فأما حرزه ليلًا فلابد من بابٍ يغلق عليه. قال أبو حامد: وهذا ليس بشيء وحقيقة الكلام يرجع إلى ما قلنا: إنه يختلف باختلاف البلدان والزمان وأحوال السلطان والاعتماد على ذلك والمتاع الخفيف كمتاع الصيادلة والعطارين والبقالين فإن العادة فيه إدخاله الدكان وإغلاق الباب عليه، فإن لم يفعل ذلك لا يكون محرزًا. والذهب والفضة والجواهر تحرز بالأقفال والأغلاق. والبقول والفجل إذا ضم بعضها إلى بعضٍ وترك عليها حصيرًا وتركها على الطريق في السوق وهناك حارسٌ يدور ساعةً وينام ساعةً فتصير محرزةً. وقد يزين العامي أيام العيد حانوته بالأمتعة ويشق عليه رفعها بالليل فيدعها ويلقي عليها قطعًا وينصب هناك حارسًا فذلك حرزه، وفي غير هذه الأيام لا يكون حرزًا لأن جيرانه يفعلون ذلك في أيام العيد فيقوي بعضهم بعضًا. والزروع محرزة في المزارع، وإن لم يكن هناك حارسٌ. والحبوب المبقاة في الكدس [51/ب] لا تكون محرزة إلا بحارسٍ. مسألة: قال: وإن كان يقود قطار إبلٍ. الفصل لا يخلو حال الإبل من ثلاثة أحوالٍ: إما أن تكون راعيةً، أو باركةً، أو مقطرةً فإن كانت راعية وراعيها معها فإن كانت بحيث ينظر إليها كلها فهي في حرزٍ فإن أغفله رجلٌ فسرق منها يقطع، وإن كانت بحيث لا ينظر إليها فإن نام وحصلت في وهدةٍ أو خلف

جبلٍ، أو كان بينه وبين حائلٌ فليست في حرزٍ. وإن كانت باركةً فإن كان ينظر إليها فهي في حرزٍ، وإن كان لا ينظر إليها فإنها في حرز بشرطين: أحدهما: أن يعقلها ويشد ركبها. والثاني: أن ينام عندها. فإن اختل واحدٌ من هذين الشرطين فليست بمحرزةٍ وهذا لأن عادة الرعاة أنهم إذا أرادوا النوم عقلوا إبلهم وحل المعقولة يوقظ النائم وينبه المشغول بخلاف الراعية. وإن كانت مقطورة نُظر فإن كان يسوقها وينظر إلى جميعها فالكل في حرزٍ لأنها في حرز مثلها، وإن كان يقودها فالحرز بشرطين: أحدهما: مراعاتها والالتفات إليها. والثاني: يكون بحيث يشاهد جميعها فإن خرجت عن ضبطه وحفظه فليست بمحرزة ولذلك إن كان يسيرًا بحيث يحيط نظره به ولكنه لا يلتفت وإنما يمشي على وجهه من غير تفكر به فلا تكون محرزة وهذا لأنه إذا أكثر التفاته لا يقدم السارق على أخذ شيءٍ منها مخافة أن تخرج منه التفاتة فيراه بخلاف ما إذا قل التفاته إليها، وقال أبو حنيفة: [52/أ] الذي يباشر قيادته محرز وما سواه غير محرز حتى قال: لو ركب بعيرًا فسرق من ذلك البعير بعض العلائق نُظر فإن كان المسروق معلقًا أمامه قطع، وإن كان معلقًا وراءه لم يقطع وهذا لا يصح لأن الناس يعدون القطار المعتاد في عدده محرزًا ولا يعدون ما عليها من المال ضائعًا. فإن قال قائل: اشترط الشافعي في سوق الإبل أن تكون مقطرةً حتى تكون محرزةً فقال: وإذا كان يقود قطار إبلٍ أو يسوقها وقطر بعضها إلى بعضٍ وعند السوق ينظر إليها فكيف اشترط التقطير؟ قلنا: إنها إذا سيقت فربما يسبق بعضها بعضًا سبقًا شديدًا بحيث يتباعد أوائلها عن بصر سائقها فتخرج عن حد الحرز فلعله اشترط التقطير لكيلا يدخل في حد التباعد، وعادة العرب في السوق أن تجعلها بعيرين بعيرين في قرنٍ إن لم تكن مقطورة والمقصود في الجملة القرب من السابق كالقرب من القائد وليس المقصود صورة التقطير وقد قال في "الإفصاح" إن كان يحيط نظره بجميعها فهي محرزة مقطورة كانت أو غير مقطورة. فرع قطار الإبل التي تكون محرزة أن تكون ثلاثةً أو أربعةً وغايته خمسة إن كانت في الجمل فضل جلدٍ وشهامةٍ. هكذا ذكره في "الحاوي"، وقال بعض أصحابنا بخراسان: العادة في القطار سبع، وقيل: دون العشر إن كان في البلد، وإن كان في الصحراء ربما يقوم بخمسين منها والأول أولى [52/ب]. فرع آخر قال في "الحاوي": لو طال القطار وكثر عدده عن مراعاة الواحد كان حرزاً لما أمكن أن يراعيه، فلو كان متوسطًا كان حرزًا لواحد مما قاد ولبقية العدد مما ساق لأنه

إذا توزعت مراعاته من أمامه وورائه كان بأمامه أبصر وما تجاوز غير محرزٍ. فرع آخر لو كانت مقطورةً في سيرها كان الرجل الواحد حرزًا لما يناله سوطه منها لأنه بالسوط يسوقها ولا يكون حرزًا لما لا يناله سوطه وإن كان يراه. فرع آخر قال: لو سرق وعاءه يقطع ولو بعد عن بصر الجمال بخلاف البعير لأن حرز البعير برؤية الجمال. فرع آخر لو سرق سارقٌ وعاءً من ظهر الإبل المحرزة قطع، وقال أبو حنيفة: إنما يقطع إذا سرق شيئًا من الوعاء، أما الوعاء فهو الحرز فلا يقطع به ووافقنا في الوعاء الفارغ أنه يقطع بسرقته ودليلنا أنه محرز بصاحبه وقد سرق فيقطع. فرع آخر لو نام على جملٍ له فجاء سارقٌ فسرق الجمل وهو عليه قال أصحابنا: لم تقطع يده لأنه في يد صاحبه ولم تزل يده عنه. فرع آخر لو سرق الجمل والمتاع ولم يكن صاحبه عليه يقطع، وقال أبو حنيفة: لا يقطع إلا أن يفتق الحمل ويسرق منه لأنه لم يسرق من الحرز ولم يهتكه. فرع آخر الخيل والبغال والحمير إن كانت راعيةً أو سائمةً فالحكم على ما ذكرنا في الإبل، وإن كانت في المأوى فإن كانت بيوتها في الصحراء، [53/أ] فإن لم يكن معها من يحفظها لم تكن محرزة سواء كان البيت الذي هي فيه مغلقًا أو مفتوحًا لأنه لا يعد حرزًا، وإن كان معها حافظٌ فإن كان مستيقظًا كان حرزًا سواء كان الباب مفتوحًا أو مغلقًا، وإن كان نائمًا إما فيه أو على بابه فإن كان الباب مفتوحًا فليس بحرز، وإن كان مغلقًا فهو حرز، وإن كانت بيوتها في البنيان فإن كان معها حافظٌ فهي محرزة مفتوحة كانت أو مغلقة إذا كان مستيقظًا، وإن كان نائمًا وهي مغلقة كانت محرزة، وإن كانت مفتوحة لم تكن محرزة، وقال في "الحاوي": حرزها في مبارك الاستراحة أن يضم البهائم بعضها إلى بعضٍ ويربطها إلى حبلٍ قد مده لجميعها ولا يحتاج إلى إناختها لأنها تنام قيامًا بخلاف الإبل ويشكلها ويكون معها من يحفظ مثل عددها إما مستيقظة، وإما نائمة لأنه وإن كان نائمًا مستيقظ بحركتها إن سرقت ولابد من النوم وهذا أصح عندي.

فرع آخر الأغنام في المرعى يعتبر أن يرى الراعي جميعها وأن لا تخرج عن مدى صوته لأنها تجتمع وتفترق في المرعى بصوته وأن يكون مستيقظًا لأنها ترعى نهارًا فإن نام لا تكون محرزة، وإن كانت في مراحها فالحكم على ما ذكرنا في البغال، وإن كانت الأغنام في البلد فقدر ما جرت العادة بحفظها في البلد والصحراء تختلف والحكم يختلف على حسب العادة. فرع آخر لو كان يقود قطارًا من الإبل [53/ب] في بلدٍ فانعطف في معطفٍ أو في سكةٍ أو طريقٍ فالذي انعطف غير محرز في تلك الحالة. فرع آخر قال الشافعي رضي الله عنه: والحوائط ليست بحرزٍ للنخل ولا للتمر أكثرها مباح من مواليه فمن سرق من حائطٍ شيئًا من ثمر معلق لم يقطع. وجملته أن الحائط إذا كان فيه حافظ كان ما فيه محرزًا، قال القاضي أبو حامد: قد قيل: إن كان في وسط العمارة كان محرزًا لما فيه كالدور وغيرها، وإن كان في الصحراء لا يكون حرزًا، ومن أصحابنا من قال: إن كانت الأشجار مما يقطع سارق ثمارها يقطع فيها أيضًا ذكره في "الحاوي" والأول أصح عندي لأن حرز الشجرة غير حرز الثمرة في العادة. فرع آخر لو صرمت الثمار ووضعت في جريبها في الضياع فإن كان الموضع أنيسًا لاتصالات البساتين وانتشار أهلها لم يحتج إلى حافظٍ بالنهار، ويحتاج إلى حافظٍ بالليل. فإن سرقت نهارًا يقطع، وإن سرقت ليلًا لا يقطع إلا أن يكون لها حافظًا. فرع آخر متى كانت الشياه في حرز فضروع المواشي حرز ألبانها فإن بلغ لبن البهيمة الواحدة نصابًا قطع خلافًا لأبي حنيفة، وإن لم يبلغ النصاب إلا باختلاف جماعة منها فيه وجهان أحدهما: لا يقطع لأنها سرقات من أحراز. والثاني: يقطع لأن المراح حرز واحد لجميعها وهو اختيار جماعةٍ من أصحابنا. مسألة: قال الشافعي: لو اضطجع في صحراءٍ وترك ثوبه [54/أ] بين يديه فسرق لم يقطع، قال أصحابنا: معناه إذا نام. فأما إذا كان مُنتبهًا ينظر إليه قطع به. فرع آخر قال: ولو توسد به ونام فجره سارق من تحت رأسه قُطع، وكذلك لو فرشه ونام عليه

فجره سارقٌ من تحته قطع بدليل ما روي عن صفوان بن أمية رضي الله عنه قال: كنت نائمًا على خميصة لي في المسجد ثمن ثلاثين درهمًا فجاء رجلٌ فاختلسها مني فأخذ الرجل فأتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر به ليقطع فأتيته فقلت: أتقطعه من أجل ثلاثين درهمًا أنا أبيعة وأنسئه ثمنها قال: "فهلا قبل أن تأتيني به"، وروي أنه قال: يا رسول الله لم يبلغ من ردائي ما يقطع فيه يد رجل قد جعلتها عليه صدقة فقال ما قال، وروي أنه قال: يا رسول الله قد أحللته فقال: "هلا قبل أن تأتيني به إن الإمام إذا انتهى إليه حد من الحدود أقامه". فإن قد خرج عنه في نومه ثم أخذ لم يقطع لأن بزواله عنه زال حرزه. فرع آخر لو كان معه هميان فيه دراهم أو دنانير فوضعه تحت رأسه ونام لا يكون محرزًا حتى يشده في وسطه بخلاف ثوبه. فرع آخر قال: ولو ترك أهل السوق متاعهم في مقاعد ليس عليها حرز لم يضمن ولم يربط. أرسل رجل إبله ترعى أو تمضي على الطريق غير مقطورة بغير ما ذكرنا من تباعد بعضها عن بعضٍ فلا قطع فيه [54/ب] لأنها أموال ضائعة في العرف والعادة والعامة لا تراها محرزة، ولو كان بين يديها بالقرب منه ميزان الخباز فإن كان نائمًا فليس بحرز، ومن أصحابنا من قال: ليس في حرزٍ وليس بشيءٍ. فرع آخر صحون المساكن حرز للبسط والأواني دون الحلي والثياب، وإن كان في جدار الدار فتحه للضوء، فإن كانت عالية لا تنال فالحرز بحاله، وإن كانت قصيرة، فإن كانت ضيقة لا يمكن ولوجها إلا بهدم بناء كان حرزًا، وإن كانت واسعة يمكن ولوجها صارت كالباب المفتوح، فإن كان عليها باب وثيق كباب الدار جرى مجراه وجاز فتحه نهارًا دون الليل، وإن كان عليها شباك فإن كان ضعيفًا لا يرد لا يكون حرزًا، وإن كان قويًا كان حرزًا. فرع آخر إن سرق صندوق الصيرفي فإن كان مغروزًا يقطع، وإن لم يكن مغروزًا لم يقطع. مسألة: قال: ولو ضرب فسطاطًا وآوى فيه متاعًا واضطجع فيه فسرق الفسطاط

والمتاع من جوف الخيمة قطع لأن اضطجاعه حرزٌ له ولما فيه نائمًا كان أو منتبهًا فإن لم يضطجع فيها ولا على بابها لا يقطع وهذا القطع إذا أرسل بابها وشد أذيالها وأطنابها فإن أمكن الدخول إليها من أذيالها يُقطع، وقال بعض أصحابنا بخراسان: إنما يقطع أيضًا: إذا كان مثل هذه الخيمة في البلد لا تكون مُحرزة [55/أ] للزحام وكثرة المارة بخلاف الصحراء، وقال أبو حنيفة: لو سرق الخيمة لا يُقطع ولكن يُقطع من سرق منها ودليلنا أنه لا يُحرز الفسطاط والخيمة إلا بمثل ما ذكرنا فقد سرق المال المُحرز فقطع. فرع آخر لو حمل السارق الرجل النائم في الفسطاط إلى موضعٍ آخر، ثم ذهب هو أو غيره بالفسطاط أو المتاع لم يقطع لأنه أزال من المال ما هو حرز بمعنى غير مضمون ثم أخذ مالًا ضائعًا. مسألة: قال: والبيوت المغلقة حرزٌ لما فيها. الفصل البيت إذا كان في البرية أو الصحراء فإن كان فيه حافظٌ مستيقظ يراعيه فهو محرزٌ به، وإن كان نائمًا فيه فإن كان الباب مغلقًا فهو حرز، وإن كان مفتوحًا فليس بحرزٍ، وإن لم يكن فيه أحد فليس محرزًا سواء كان مفتوحًا أو مغلقًا لأن من ترك متاعه في البرية وانصرف عنه لا يكون حافظًا له في العادة وإن أغلق عليه. وأما البيوت في القرى والبلاد فإن كانت مغلقة فهي حرزٌ لما فيها، وإن كانت مفتوحة وليس فيها أحدٌ يراعيها فليست حرزًا لأن العامة تنسب فاعل ذلك إلى التفريط والتغرير بما فيه ولهذا يقولون: خرج ونسي باب الدار مفتوحًا، ومتى كان البيت مغلقًا فسرق منه سارق شيئًا بفتح الغلق أو نقب البيت أو قلع الباب أو كسر القفل وإخراج المتاع من حرزه يقطع. [55/ب] قال الشافعي: وإن كان الباب مفتوحًا وصاحبه في البيت فوجد إنسان يسرق منه شيئًا لم يقطع لأن هذه خيانة لأن ما في البيت يحرزه قعوده عندها. هكذا نص عليه قال القاضي أبو حامد: أراد الشافعي إذا لم يكن القاعد يحيط يمانية ببصره، فأما إذا كان الحافظ قاعدًا لها قطع السارق. فرع آخر قال أصحابنا: لو قطع باب الدار ونحاه إلى خارج وكان يساوي ربع دينار قطع لأن الباب إذا كان منصوبًا فهو حرز بنفسه وحرز لما وراءه، وكذلك آجر الحائط إذا قلع منه ما يساوي ربع دينار قطع لأنه محرز للبناء خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله، وقال ابن أبي هريرة: هذا إذا كانت الدار في البلد أو الموضع العامر، أما إذا كانت في الخرابات

التي تركت وفيها حيطان قائمة فجاء سارق فقلع منها ما قيمته ربع دينار فلا تقطع، وقال في "الحاوي": إذا خلا من أهله حتى خرب فإن كان بناؤه وثيقًا لم يستهدم قطع، وإن كان مستهدمًا متخللًا لا يقطع، ولو كان على هذا الخراب أبوابٌ لم يقطع في أخذها لأن الأبواب محرزةً بالسكنى والآلة محرزة بالبناء وهذا أصح وأظهر. فرع آخر لو سرق حلقة الباب [56/أ] وهي مسمرة فيه قطع لأنها محرزة بالتسمير في الباب. فرع آخر لو كان باب الدار مفتوحًا فدخل الدار وقلع بابًا من أبواب البيت قال أبو إسحاق: لا قطع فيه لأنه غير محرز إلا أن يكون باب البيت مغلقًا أو يكون باب الدار مغلقًا قياسًا على سائر ما في الدار من المتاع، وهذا إذا كان باب البيت مغلقًا يكون الباب محرزًا كالأمتعة التي فيه تكون محرزة والفرق بين أبواب البيوت وباب الدار أن أبواب البيوت تحرز بباب الدار وباب الدار لا يحرز الأنصبة ولا يحرز بغيره، وقال بعض أصحابنا: يقطع في أبواب البيت أيضًا وحرزها نصبها كما في باب الدار أيضًا والصحيح ما ذكرنا والفرق ظاهرٌ. مسألة: قال: وإن أخرجه من البيت أو الحجرة إلى الدار والدار للمسروق منه وحده لم يُقطع حتى يُخرجه من جميع الدار. قال أصحابنا: إذا أخرج السارق المتاع من البيت الذي هو فيه نظر فإن كان البيت في خانٍ مشتركٍ فيه بيوت كل بيت لواحدٍ يحرز متاعه فيه، فإذا فتح السارق البيت وأخرج المتاع إلى صحن الخان وجب عليه القطع سواء كان باب الخان مفتوحًا أو مغلقًا لأن هذا الخان ليس بحرزٍ لصاحب البيت لأنه مشترك يدخل فيه هو وغيره فكان بمنزلة الدرب المشترك بين أهله إذا أخرج السارق المتاع من دار رجلٍ إليه فإنه يجب القطع، كذلك هنا وإن كان البيت [56/ب] في دارٍ لصاحبه مفرد بها فأخرج المتاع من البيت فيه أربع مسائل: أحدها: أن يكون البيت مفتوحًا وباب الدار مغلقًا، فإذا أخرج المتاع من البيت إلى صحن الدار لم يجب القطع لأنه لم يخرجه من حرزه لأن باب الدار حرزه دون البيت. الثانية: أن يكون باب البيت مفتوحًا وباب الدار مفتوحًا فلا قطع أيضًا لأن المتاع غير محرز. الثالثة: أن يكون البيت مغلقًا وباب الدار مفتوحًا يلزمه القطع لأنه أخرجه من حرزه. الرابعة: أن يكون باب البيت مغلقًا وباب الدار مغلقًا فهل يجب القطع؟ فيه وجهان:

أحدهما: يجب القطع لأنه أخرجه من الحرز لأن البيت حرز له وقد أخرجه منه. والثاني: لا يجب القطع لأنه لم يخرجه من جميع حرزه لأن الدار حرز له أيضًا وهذا كما لو كان ماله في صندوقٍ في جوف بيتٍ مغلق ففتح الصندوق وأخرج المال إلى البيت لم يجب القطع وهذا أصح. ومن أصحابنا من قال: إذا أغلق باب الخان بالليل والبيوت مشتركة يكون حكمها حكم صحن الخان كحكم صحن الدار الخالصة، ومن أصحابنا من فصل في الخان بين أن يكون السارق من سكان الخان أو من خارجه لأن بعض السكان في الخان يحرز ماله عنه بعضهم بالحجرة والبيت دون الخان وعن الخارجين بالحجرة والخان، وظاهر كلام الشافعي رضي الله عنه التسوية بين الفريقين. [57/أ]. فرع لو أصعد السرقة من الدار إلى سطحها فإن كان على السطح باب يغلق على السفل قطع وإن لم يكن، فإن كان السطح عاليًا وعليه سترة مبنية تمنع من الوصول إليه لا يقطع لأنه من جملة الحرز وإن كان بخلاف ذلك يقطع. مسألة: قال: ولو أخرج السرقة فوضعها في بعض النقب فأخذها رجلٌ من خارجٍ لم يُقطع واحدٌ منهما. صورة المسألة: أن ينقب رجلان معًا نقبًا ثم دخل أحدهما فأخذ المتاع وتركه على موضع النقب وأخذه الآخر من خارج. روى المزني والربيع أنه لا يقطع عندهما لأنهما لم يخرجاه من جميع الحرز، وروى الحارث بن شريح البقال عن الشافعي أنه قال: يلزمهما القطع، وقال القاضي أبو حامد: نص الشافعي في هذه المسألة في القديم على هذين القولين أحدهما: يلزمهما القطع لأنهما قد اشتركا في النقب والإخراج فهو بمنزلة ما لو نقبا جميعًا ودخلا وحملا المتاع جميعًا. والثاني: لا قطع عليهما وهو الأصح، لأنهما وإن اشتركا في النقب فقد تفرقا في الإخراج فصار كالواحد إذا نقب وأخذ المتاع ووضعه في جوف النقب فاجتاز مجتازٌ بالنقب فتناوله فإنه لا قطع عليهما كذلك هنا، وقال مالك: يلزمها القطع للتعاون، وقال الشعبي فيه اللص الظريف لا يقطع، وقال أبو حنيفة: إذا اشترك جماعة في النقب وحمل أحدهم المال فإن صحبه الآخرون في الخروج [57/ب] قطع كلهم، وإن أخرجوا قبله أو بعده لا في صحبته قطع بناءً على أصله أن الدرء في قطع الطريق كالمباشر في الحدود. فرع لو نقب واحد ولم يشاركه الآخر فيه ثم دخل الذي نقب فأخرج المتاع ولم يكن في الدار أحدٌ اختلف أصحابنا فيه على طريقين، أحدهما: لا يقطع واحد منهما قولًا

واحدًا وهو اختيار صاحب "الإفصاح" لأنهما لم يشتركا في النقب ولا في الإخراج فأشبه ما إذا نقب أحدهما وانصرف ثم جاء آخر فدخل وأخذ المال بخلاف المسألة قبلها. والثانية فيه قولان أيضًا لأنهما اشتركا في السرقة وهذا ضعيف. فرع آخر لو نقباه ودخل أحدهما فأخذ المال ولم يدخله الآخر في النقب ولكنه تركه في الدار، ثم أدخل يده وأخذ قطع الآخذ لأنه حصل منه هتك الحرز وإخراج المتاع من الحرز فيلزمه القطع، وأما الذي قربه إلى باب النقب لا يلزمه القطع. فإن قال قائلٌ: ما بال الشافعي جعل الاشتراك في الإخراج شبهة في إسقاط القطع حيث قال: ولو وضعه في بعض النقب فأخذه رجلٌ من خارج لم يقطع ولم يجعل الاشتراك في النقب شبهة في إسقاط القطع بل قال: إذا نقبوا جميعًا فأخرج بعضهم المال قطع المخرج خاصة؟ قلنا: إنما أسقط الشافعي القطع إذا وضعه في النقب لأن حقيقة الاشتراك في الإخراج غير موجود. ولكن فعل أحدهما بعض الإخراج ولم يكمله وانقطع [58/أ] فعله ثم تناوله الثاني ففعل بعض الإخراج لا جميعه وإنما يشتركان على الحقيقة بأن يأخذا شيئًا ثقيلًا فيحملان معًا أو بساطًا فيجراه معًا. فإن قيل: فاشتراكهما في النقب هكذا أيضًا لأن أحدهما فعل بعض النقب، والثاني فعل الباقي، وفعل كل واحدٍ منهما متميز عن فعل الآخر قيل: حقيقة الاشتراك في النقب لا يكون إلا هكذا إذ يبعد في العادة أن يأخذ الفأس أو السكين فينقبا ولا يكاد يحصل النقب بمثل هذا الفعل فلما تحقق الاشتراك المتناهي في النقب جعل كل واحدٍ منهما كالمنفرد به وصار كما لو اشتركا في قطع يدٍ بإمرار الحديدة معًا من أحد الجانبين إلى الجانب الثاني فيكون كل واحدٍ منهما كالمنفرد بالإبانة في وجوب القصاص. فأما بعض الإخراج إذا وجد من واحدٍ والبعض من الثاني فالاشتراك في الإخراج درجة وراء هذه الدرجة فلا يجعل كالمنفرد بالإخراج ولكن منزلتهما منزلة من لو قطع أحدهما بعض مفصل اليد منفردًا ثم جاء الثاني فقطع الباقي منفردًا ولا قصاص على واحدٍ منهما، وقال بعض أصحابنا بخراسان: الاشتراك في النقب لا يكون إلا بأن يأخذ آلة واحدة بأيديهما فينقبا معًا وهذا غير صحيح وما ذكرناه أصح. فرع آخر لو نقب أحدهما ودخل الذي لم ينقب وكان في الدار حافظٌ متيقظٌ فأخذ نصابًا وأخرجه من الحرز قطع الآخذ، لأن الحرز قائم بالحفاظ ويخالف إذا لم يكن في الدار أحدٌ [58/ب] لا قطع عليه لأنه لم يهتك الحرز وإنما دخل في حرز مهتوك وليس على الآخر قطعٌ لأنه حصل منه هتك الحرز ولم يأخذ المتاع.

فرع آخر لو دخل الحرز وأوقف صاحبًا معه المال فخرج الحامل يجب القطع على الحامل إذا كان شاركه في النقب ولا يجب على الآخر القطع سواء ساق الآخر أو لم يسقه. فرع آخر لو نقب واحدٌ وأخرجا معًا لم يقطعا، وإنما يقطع من جمع بين الأمرين إذا بلغ نصيبه نصابًا كما لو نقبا وأخرج أحدهما المال لم يقطعا في الصحيح من المذهب. فرع آخر لو نقبا فدخل أحدهما فتناول المال صاحبه الذي هو خارج النقب فإن ناوله ذلك في فم النقب لم يقطع واحدٌ منهما، لأن الداخل لم يخرجه عن تمام الحرز والخارج لم يتناوله من داخل الرز حتى يكون فعل الإخراج كاملًا وتسمى هذه المسألة مسألة السارق اللطيف، وإن أخرج الداخل يده بالمتاع حتى أخرجه عن جميع النقب فأخذه الآخر قطع الداخل. فرع آخر إذا اشتركوا في النقب واحملوا المال فمن كان بيده نصابٌ قطع، ومن لم يكن أخرج النصاب لم يقطع حتى لو كان بيد أحدهما دينار وثلاثة أرباع دينار وبيد الآخر ربع دينار قطعا. ووافقنا أبو حنيفة في هذه الصورة لأن معهما في الجملة نصابين والمؤدي كالمباشر عنده، وقال: لو حمل المال أحدهم لابد من نصاب بعدد القوم حتى لو كان المال عشرة دنانير [59/أ] إلا حبة والقوم عشرة لم يقطعوا عنده ونحن نراعي كل واحد منهم بانفراده على ما ذكرنا، وقال مالك وأحمد وأبو ثور: إذا سرق مائة نفر ما يساوي نصابًا قطع كلهم ولا يشترط النصاب بعدد القوم. وهذا لا يصح لأنه لم يتم سبب القطع في حق كل واحدٍ منهم فلا قطع على أحدهم. مسألة: قال: ولو رمى بها فأخرجها من الحرز قُطع. إذا نقب وهتك الحرز ثم دخل وأخذ المتاع ورمي به إلى خارج الحرز قطع لأنه أكمل السرقة، وهكذا لو أخرجه من باب الدار ورمى به فوق الجدار أو أدخل محجنًا في النقب أو في كوة وأخذ المتاع به أو مد يده إلى داخل البيت فأخذ المال فلا فرق بين أن ينقب أو يتسلق الجدار أو يفتح الباب أو يغلقه، وقال أبو حنيفة: إذا لم يدخل الحرز ولكنه استخرج ما فيه بمحجنٍ أو يده لم يقطع إلا أن يكون النقب صغيرًا لا يمكنه الدخول فيه فأدخل يده وأخرجه يقطع، واحتج بأنه إذا أمكنه الدخول فيه فلم يدخل لم يهتك الحرز بما أمكنه فأشبه المختلس، ودليلنا أنه سرق نصابًا من حرز مثله ولا شبهة له فيه وهو من أهل القطع فيلزمه القطع كالطرار كما لو كان النقب ضيقًا

ويفارق المختلس لأنه لم يهتك حرزًا. فرع إذا رمى به في فم النقب فقد ذكرنا أنه يقطع وإن لم يأخذه بعده، وقال بعض أصحابنا بخراسان: [59/ب] إنما ذكر الشافعي رضي الله عنه إذا أخرج وأخذه فأما إذا تركه ولم يأخذه حتى يخرج أو ذهب به غيره أو جرى به ماءٌ أو ذهب بوجهٍ آخر لا يقطع، وقيل: فيه وجهان بناءً على القولين إذا نقبا ووضع أحدهما المتاع في نصف النقب ثم أخذ الآخر، ووجه الشبهة أن هذا الرامي لم يتناول المسروق بعد إخراجه من الحرز كما من أخرج المتاع إلى نصف النقب لم يتناوله مخرجًا من الحرز والصحيح أنه يقطع هنا قولًا واحدًا لأنه أكمل الإخراج من الحرز وليس من الشرط أن لا يغصب المسروق منه بعد الإخراج من الحرز. فرع آخر لو دخل ومعه دابةٌ فوضع المتاع عليها وساقها أو قادها حتى خرجت قطع، وإن خرجت الدابة من غير سوقٍ ولا قود لم يقطع، نص عليه لأن للبهيمة قصدًا أو اختيارًا، ومن أصحابنا من قال: فيه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: هذا. والثاني: لا يقطع لأن البهيمة تمشي بالمتاع إذا وضع عليها في العادة فكان فعله طريقًا إلى إخراجه. والثالث: قاله ابن أبي هريرة: إن سارت البهيمة عقيب حمله قطع، وإن وقفت ثم سارت لم يقطع كما قلنا في فتح القفص لما طار الطير عقيبه ضمن، ولو وقف ثم طار لم يضمن قال صاحب "الحاوي": ولهذا الوجه وجهٌ. فرع آخر قال صاحب "التلخيص": وإن كانت الدابة سائرةً فتركه عليها ولم يسقها ولم يقدها قطع [60/أ] لأن ذلك من جهة إخراجه من الحرز، وإنما لا يقطع إذا كانت الدابة واقفة فوضعه عليها ولم يسقها ولم يقدها فخرجت باختيارها من الحرز. فرع آخر لو دفعها إلى صبىً صغير لا يعقل أو إلى مجنون مطبق ثم أمرهما بالخروج كان عليه القطع وكان منزلتها كمنزلة الحمار فيما يحمل عليه ويخرج، وقال في "الحاوي": هذا إذا قلنا: عمدها خطأ فأما إذا قلنا عمدها عمدٌ فلا يقطع إذا خرجا عن إشارته. فرع آخر لو كان في الدار ماءٌ جارٍ يخرج إلى خارج الدار فأخذ السرقة وطرحها في الماء فخرجت مع الماء من الدار التي هي حرزٌ لها قطع، نص عليه الشافعي حكاه القاضي

أبو حامد لأنه لا اختيار للماء بحالٍ فالإخراج منسوب إليه. فرع آخر لو كان الماء راكدًا في بركةٍ فطرح المتاع فيه وانفجر الماء وخرج إلى خارج الحرز مع المتاع هل يقطع؟ فيه وجهان كالدابة إذا سارت بنفسها: أحدهما: يجب القطع لأنه خرج بوضعه في الماء فأشبه الجاري. والثاني: لا يجب القطع لأنه خرج بسببٍ حادثٍ ولم يكن الماء آلته عند وضعه فيه للإخراج. فرع آخر لو نقب ودخل النقب فوافق النقب مهب الريح فرمى بالمتاع من الداخل مع مهب الريح فخرج إلى خارج الحرز بمعاونة الريح يلزمه القطع، كما لو رمى سهمًا إلى الغرض عند المسابقة فعاونت الريح حتى أصابه يحتسب له. فرع آخر لو وضع السرقة في النقب [60/ب] فأطارها الريح فإن كانت الريح على هبوبها عند الوضع يقطع كالماء الجاري، وإن حدث هبوبها بعد وضعها ففيه وجهان كما قلنا في انفجار الماء بعد ركوده. فرع آخر لو نقب ودخل ثم بلغ جوهرة فإن لم تخرج منه الجوهرة لا يقطع لأنه أتلفها، كما لو أكل الطعام في الحرز وخرج لا يقطع، وإن خرجت الجوهرة منه ففيه وجهان: أحدهما: يجب القطع لأنه أخرجها في وعاءٍ كما لو أخرجها في كمه وهو الصحيح. والثاني: لا يجب القطع لأنه حين خرج من الحرز كان بمنزلة المستهلك، الأول أنه لو طالبه به في الحال لزمته قيمته ولأنه بمنزلة المكره على إخراجه لأنه يلزمه الخروج من ملك الغير ولا يمكنه إخراجه من جوفه، والمكره على إخراج الشيء من الحرز لا يقطع، وقيل: هذا ظاهر المذهب وذكر أبو العباس وجهًا ثالثًا أنها إن خرجت بعلاجٍ أو دواءٍ لم يقطع، وإن خرجت من غير ذلك قطع وسائر أصحابنا لم يفرقوا وسووا بين الأحوال. فرع آخر لو أعادها إلى حرزها لم يسقط عنه القطع ولا الضمان، وحكي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه قال: لا قطع ولا ضمان وعند مالكٍ لا ضمان ويقطع. ولا أخذ طيبًا واستعمله في لحيته وخرج نُظر فإن كان قد استهلك حتى لا يمكن أن يجمع منه ما يساوي ربع دينارٍ فلا قطع عليه، وإن كان يمكن أن [61/أ] يجمع منه ما يساوي ربع دينارٍ فيه وجهان لأصحابنا أحدهما: يلزمه القطع لأنه أخرج من الحرز طيبًا يساوي ربع دينار. والثاني: لا يلزمه القطع لأن إتلاف الطيب باستعماله فكأنه استهلك قبل إخراجه من الحرز.

فرع آخر لو أخرج ساجةً أو جذعًا طويلًا فلحقه الصراخ قبل أن يخرج جميعها من الحرز فلا قطع عليه، وكذلك بعض العمامة فلا قطع حتى يخرج جميعها بعضها لا ينفرد بحكمه، فإذا كان البعض في الحرز فكأنه لم يخرج شيئًا منه، ألا ترى أنه لو كان طرف العمامة على النجاسة وطرفها على المصلي لم تصح صلاته. فرع آخر لو نقب في موضع فانثال منه طعامٌ وخرج منه ما يساوي نصابًا وجب القطع لأن خروجه بفعله فصار كما لو أخرجه بيده لأنه لا خلاف أنه لو أخرج دفعةً واحدةً ما يساوي ربع دينار قطع فكذلك هنا، وحكى أبو إسحاق فيه وجهًا آخر: أنه لا يقطع لأنه يضاف إليه الحرز الأول الذي خرج والباقي خرج بسبب فعله وبالسبب يجب الضمان دون القطع، وذكر القفال فيه وجهين على الإطلاق. فرع آخر لو نقب بيتًا وأخذ متاعًا لا يساوي ربع دينارٍ فمضى وأحرزه ثم رجع وأخذ شيئًا آخر بني بعضه على بعضٍ فإذا بلغ ما يساوي ربع دينار قطع، ذكره القاضي أبو حامد وهو اختيار ابن سريج وهو المذهب الصحيح، وقال أبو إسحاق: لا يقطع لأنه أخرج النصاب بفعلين فلم يبن أحدهما على الآخر كما لو دخل اثنان النقب وأخذ كل واحد منهما [61/ب] ثُمن دينارٍ لا يقطعان وهو الصحيح، لأن فعل الواحد يبنى بعضه على بعضٍ كما لو خرج وقتل بخلاف ما لو خرج أحدهما وقتل الآخر ولأنه لو طر جيب رجل وجعل يخرج منه الدراهم درهمًا درهمًا يلزمه القطع كذلك هنا، وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن خرج البعض ووضعه في باب النقب ثم عاد وأخذ الباقي يقطع لأن هذا في العادة يعد سرقةً واحدةً، وإن عاد إلى داره معه بعض النصاب ثم رجع وأخذ الباقي لا يقطع لأنهما سرقتان في العادة. فرع آخر لو نقب فأدركه الصبح فمضى وعاد في الليلة الثانية ودخل النقب وسرق قال الشافعي: لا يقطع. قال أصحابنا: معناه إذا كانت المراعاة تأتي عليه فأما إن كان مثله يخفى يومًا وأكثر فعاد إليه وسرق يقطع، وقيل: فيه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: وهو قول أبي إسحاق: لا يقطع لأنه إذا لم يقطع في ليلةٍ واحدة ففي ليلتين أولى، وقال ابن سريج: يقطع لأن سرقته بلغت نصابًا في حرزٍ هتكه. وقال ابن خيران: يُنظر فإن علم الناس به وعرفوا أن الحرز انتهك فلا قطع، وإن لم يكن علم به الناس يقطع. وهكذا الأوجه إذا سرق ثمن دينارًا ثم عاد في الليلة الثانية وأخذ ثمنًا آخر. وإن علم صاحبه فسد النقب ثم جاء فنقبه ثانيًا وأكمل النصاب لا يقطع بلا خلاف.

فرع آخر لو دعي إلى ضيافةٍ فسرق شيئًا لا يقطع [62/ أ] لأنه دخل الحرز بإذن مالكه، ولو سرق من غير ذلك البيت قطع، وقال أبو حنيفة: لا يقطع. فرع آخر لو طر جيب رجلٍ وأخرج مالاً يلزمه القطع خلافًا لأبي حنيفة فرع آخر لو أن أعمى حمل مقعدًا فأدخله حزرًا فدله المقعد على المال وأخذه الأعمى وحمله يجب القطع على الأعمى دون المقعد، ولو حمل المقعد المال والأعمى حمله يجب القطع على المقعد ولا يجعل حامل المال حاملًا للمال، ولهذا لو حلف لا يحمل طبقًا فحمل رجلًا وذلك الرجل حمل على يده طبقًا لم يحنث الحالف. فرع آخر لو نقب ثم أدخل حرًا أو عبدًا صغيرًا وأمره بإخراج المال إليه قطع الآمر لأن الصبي كالآلة له وهو بمنزلة كما لو جره بمحجنة، وروي أن رجلًا كان يسرق من متاع الحاج بمحجنه فإذا علموا به يقول: ما سرقته وإنما سرقه محجني فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" رأيته يجر قصبه في النار" مسألة: قال: ولو كانوا ثلاثة فحموا متاعًا الفصل قد ذكرنا هذه المسألة وأنهم يقطعون إذا بلغ ما أخرجوا معًا ثلاثة أرباع دينارٍ، فإن أخرجوه مفرقًا فقد ذكرنا أن من أخرج ما يساوي ربع دينارٍ قطع ولا فرق بين أن يكون الشيء المسروق خفيفًا أو ثقيلًا كالخشب، وقال مالك: إن كان ثقيلًا لا يحمل مثله إلا ثلثه وبلغت قيمة الكل [62/ب] نصابًا واحدًا قطعوا، وإن كان خفيفًا فيه روايتان وقد ذكرنا الدليل على صحة مذهبنا. ثم قال: ولو نقبوا معًا ثم أخرج بعضهم ولم يخرج بعضٌ قطع المخرج خاصةً وقصد به الرد على أبي حنيفة على ما ذكرنا. مسألة: قال: وإن سرق ثوبًا فشقه، أو شاةً فذبحها. الفصل أعلم أنه إذا نقب رجلٌ الحرز وأخذ شاةً ثم ذبحها في جوف الحرز أو أخذ ثوبًا وشقه ثم أخرج الشاة المذبوحة والثوب المشقوق يلزمه ضمان ما نقصت الشاة بالذبح والثوب بالشق ثم ينظر في قيمة ذلك حال إخراجه من الحرز فإن كان يبلغ نصابًا فعليه القطع وإلا فلا قطع، ولا فرق بين أن يشقه طولًا أو عرضًا. وقال أبو حنيفة: لا قطع

في الشاة المذبوحة بحالٍ بناءً على أصله لأنه لا قطع في اللحم وفيما لا يبقى على الدوام، وأما الثوب إذا شقه طولًا ثم أخرجه فصاحبه بالخيار بين أن يأخذه ويطالبه بالأرش وبين أن يتركه للسارق ويطالبه بكمال قيمته وأما القطع إن لم يكن قيمته حين أخرجه نصابًا فلا قطع، وإن كان نصابًا نظر فإن قبله صاحبه بغير أرشٍ فعليه القطع وإن طالبه بالأرش فلا قطع لأن القطع والغرم لا يجتمعان وإن تركه على السارق وطالبه بكمال قيمته فلا قطع لأنا بينّا أنه قد ملكه حين شقه في جوف الحرز. وقال أبو يوسف ومحمد: لا قطع عليه [63/أ] بحالٍ لأن قطع لمعنيين أحدهما: ما ذكرنا. والثاني: أنه يملكها بالشيء، وقال: لو كانت حنطةً فطحنها في الحرز ثم أخرجها لا يقطع لمعنى واحد لأنه يملك بالطحن، ولو أخذه دقيقًا وأخرجه قطع بخلاف اللحم. فرع لو سرق شاةً لا تساوي ربع دينارٍ ثم ذبحت فبلغت قيمتها ربع دينار ثم أخرجها ففيه وجهان محتملان: أحدهما: يقطع لأن الزيادة للمالك. والثاني: لا يقطع لحدوثها بفعله وهو الذبح فلم يستقر للمالك عليها يدٌ، وهكذا لو سرق لحمًا فطبخه حتى ساوى نصابًا. فرع آخر لو أخذ جلد ميتةٍ في الحرز ودبغه وأخرجه مدبوغًا. قال في القديم: لا يجوز بيعه قبل الدباغ ولا ضمان على متلفه فلا قطع وعلى قوله الجديد في قطعه وجهان. فرع آخر لو كان السارق مجوسيًا فذبحها فلا قطع لأنها ميتة، ولو كان عليها صوف فإن قلنا: طاهر وبلغت قيمته نصابًا يقطع. مسألة: قال: وإن كانت قيمة ما سرق ربع دينارٍ ثم نقصت القيمة. الفصل اعلم أنه إذا كان المسروق عند الإخراج من الحرز أقل من النصاب ثم ارتفعت قيمته بعد الإخراج حتى بلغت نصابًا فلا قطع فيه بلا خلاف، وإن كان عند الإخراج قيمته قدر النصاب ثم تراجعت من بعد لم يسقط القطع [63/ب] وبه قال مالك، وقال أبو حنيفة: يسقط القطع ودليلنا أنه نقصانٌ بعد وجوب القطع فلا يسقط القطع كما نقصه بإتلافه أو سرق شاةً فماتت بعد الإخراج من الحرز لا يسقط القطع بلا خلاف. مسألة: قال: ولو وهبت له لم أدرأ بذلك عنه الحد. إذا سرق عينًا يجب فيها القطع فلم يقطع حتى ملكها السارق بإرث أو شراء أو هبة

لا يسقط القطع سواء كان قبل الترافع إلى الحاكم أو بعده إلا أنه كان قبل الترافع إلى الحاكم تسقط عنه المطالبة، وإذا سقطت عنه المطالبة لا يكون هناك من يطالب بالقطع فلا يستوفى، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال أبو حنيفة ومحمد: يسقط عنه القطع وعن أبي يوسف روايتان، وقال قوم من أصحاب الحديث: إن كان هذا قبل الترافع إلى الحاكم يسقط، وإن كان بعد الترافع إلى الحاكم لا يسقط، ويحكى هذا عن ابن أبي ليلى وأبي يوسف واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم في خبر سارق رداء صفوان: "هلا قبل أن ترفعه إليّ" قلنا: معناه ثم لا ترفعه إليّ بخلاف ما توهم ابن أبي ليلى، وإذا لم يرفع الحد إلى الإمام لم يكن له التجسس وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم:" تعافوا الحدود فيما بينكم فما رفعتموه إليّ فقد وجب". [64/أ] فرع لو أقر المالك أنه كان السارق سقط القطع بلا إشكالٍ، ولو قال: هذا ملكه مطلقًا فالظاهر أنه يسقط القطع، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان. فرع آخر لو قال السارق: إنه كان مالي وملكي بالشراء منه أو بوجهٍ آخر وقال: كان أذن لي بأخذه فالضمان يلزمه ولا تقبل دعواه إلا ببينةٍ، وأما القطع قال الشافعي: سقط عنه لأنه صار خصمًا في ذلك فصار شبهةً في سقوطه ويسميه الشافعي: السارق (الطريف) أي العالم فإنه توصل بحيله له طريفة إلى إسقاط القطع عن نفسه، وقيل: الشبهة هنا أنه آل الأمر إلى أن يحلف المسروق منه فلو قطعناه لقطعناه بيمينه وربما ينكل فيحلف السارق ويأخذ المال، ولا فرق بين أن يحلف المسروق منه أو لا، لأن حق الخصومة هو الشبهة بقدر الملك للمسروق منه إذا لم يتقرر. وقال أبو إسحاق: ومن أصحابنا من قال: يلزمه القطع ولا يسقط عنه بمجرد الدعوى بل يحتاج إلى إقامة البينة أو ينكل صاحب المال في الظاهر عن اليمين فيحلف هو، فأما إذا حلف المدعى عليه فالقطع واجب وهذا لأنا لو قلنا بخلاف هذا لأدى إلى إسقاط القطع أصلًا فإن كل سارق لا يعجز عن هذه الدعوى وهذا لا يصح [64/ب] لما ذكرنا من الشبهة والحد يسقط بالشبهة ولهذا قال أصحابنا: لا خلاف أنه لو ثبت عليه أنه زنا بامرأةٍ فادعى أنها زوجته وأنكرت فالقول قولها مع يمينها ولا يجب الحد وإن أدى إلى إسقاط جملة الحدود في الزنا، وربما لا تسلم هذه المسألة من نص القول الآخر ويقول: يلزمه الحد هنا أيضًا وهو غلط ظاهر، ولو نكل المسروق منه عن اليمين ورد اليمين على السارق فلم يحلف لا يلزم القطع وجهًا واحدًا لأن دعواه لم تبطل.

(فرع) آخر لو لم يقل هو لي لكنه قال: كان لي عليه دينٌ فدخلت وأخذته قال الشافعي: لا قطع أيضًا قال أصحابنا: معناه إذا كان من عليه الدين يمتنع من أدائه ولا يقدر على أخذه منه، فأما إذا كان باذلًا لدينه يلزمه القطع، وقال في "الحاوي": إذا كان باذلًا غير مماطل هل يقطع؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يقطع للشبهة وهو قياس أبي إسحاق. والثاني: ما ذكرنا. فرع آخر لو غصب مالًا من رجل وأحرزه في حرزٍ فنقب المغصوب منه ذلك الحرز ودخل نُظر، فإن كان لا يتميز عن ماله بأن كان طعامًا فخلطه بطعام نفسه فلا قطع كما لو سرق مالًا مشتركًا بين غيره وبينه، وإن كان متميزًا عن ماله نظر، فإن لم يكن نصابًا فلا قطع، وإن كان نصابًا فصاعدًا ففيه وجهان: أحدهما: [65/أ] لا يلزمه القطع لأنه أخذه من حرز هتكه بحقٍّ فأشبه إذا أخذه من حرزٍ مهتوكٍ. والثاني: يلزمه القطع لأنه لما أخذ مال غيره مع ماله تبينا أنه قصد هتك الحرز لمال غيره، وهكذا لو كان عليه دين يمتنع من أدائه فدخل حرزه وأخذ ما يزيد على حقه فعلى هذا الحال. فرع آخر لو كان في يده مال لغيره لحق المودع والمرتهن والمضارب والمستعير فجعله في حرز أجنبي فنقب الحرز وأخذه يلزمه القطع لأنه أخذه من حرزٍ رضي به المالك وليس للمودع قطع يد السارق ولا للمرتهن قطعه، وإنما مطالبة القطع إلى الغير والراهن خلافًا لأبي حنيفة وهذا ليس بمالك ولا نائب للمالك في المطالبة به فلا خصومة له في القطع. فرع آخر لو غصب رجل مالًا فجاء سارق وسرقه من الغاصب، أو سرق رجلٌ مالًا فجاء سارقٌ وسرقه من حرز السارق لم يكن للغاصب ولا للسارق طلب القطع، وهل للمالك المطالبة بقطعه؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك لأنه أخذه من حرز مثله والثاني: لا يطالبه بالقطع ولا يلزم القطع على من سرق من الغاصب أو من السارق لأن حرز الغاصب والسارق غير تامٍّ لأنه يجوز لكل واحدٍ هتكه لرد المال إلى ملكه فسقط القطع وهذا غلط لأنه في الحرز في الحال وصاحب المال لم يرض بتضييعه

وإنما أراد كونه في حرز نفسه، فإن لم يكن ففي حرز آخر فيجب القطع [65/ب] من أي حرز كان وهكذا المستودع أراد جحد الوديعة ثم سرق منه كان في معنى الغاصب إذا سرق منه، وقال أبو حنيفة: إن كان الأول سارقًا فالخصم فيه المالك كما ذكرنا، وإن كان الأول غاصبًا فالخصم فيه الغاصب وهذا خطأ لأن الغاصب والسارق في الظلم سواء فلا فرق بينهما في هذا الحكم، وقال صاحب "الحاوي": وعندي أن الغاصب والسارق يخاصمان أيضًا لوجوب الضمان عليهما. مسألة: قال: وإن سرق عبدًا صغيرًا لا يعقل أو أعجميًا من حرزٍ قطع. اعلم أنه إذا سرق عبدًا صغيرًا لا يعقل ولا يميز بين سيده وغير هـ، ولا يفرق بين طاعة الأجنبي وغيره أو عبدًا أعجميًا كبيرًا بهذه الصفة يلزمه القطع لأنهما بمنزلة البهيمة وسرقته بأن يحمله نائمًا أو مكرهًا أو يدعوه فيتبعه العبد حتى يخرجه من حرزه وبه قال مالك وأبو حنيفة ومحمد وأهل المدينة، وقال أبو يوسف: لا قطع عليه لأنه لو كان كبيرًا لا قطع عليه فكذا إذا كان صغيرًا، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه لم ير فيه القطع. وقال: هؤلاء خلابون ودليلنا ما ذكرنا وأما ما ذكروه فمحمول على البالغ العاقل بدليل ما روى ابن خديج عن عمر رضي الله عنه أنه قطع رجلًا في غلامٍ سرقه. قال الشافعي: "وإن كان يعقل لم يقطع" لأنه خدعه [66/أ] حتى خرج باختياره وإرادته لم يكن مسروقًا بل كان مختلسًا وخيانة وإن أكرهه وحمله فذلك غصبٌ وليس بسرقةٍ فلا يقطع، ولو سرقه وهو نائم فأخرجه من الحرز قطع ذكره أصحابنا، وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن صادفه مقيدًا فحمله وأخرجه من الحرز يقطع وهذا محتمل، وقال بعضهم: وإذا أكرهه وأخرجه قهرًا يقطع وهذا غلط ظاهر. فرع لو سرق أم ولد وهي مجنونة أو نائمة؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يلزم القطع لأنه لا يحل ثمنها كالحرة. والثاني: يلزم القطع وهو الأصح لأنها مضمونة بالقيمة. فرع آخر لو سرق حرًا صغيرًا لا يعقل لا يلزمه القطع لأنه ليس بملكٍ ولهذا لا يضمن باليد، وقال مالك: يلزمه القطع لأنه حيوان غير مميز كالعبد الصغير وهذا لا يصح لأن العبد مملوك بخلاف الحر. فرع آخر لو كان الحر نائمًا على متاع فسرقه مع المتاع لا يقطع لأن يده على المتاع، وقد ذكرنا حكم الصغير إذا سرقه مع حر نائم عليه، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه

ثلاثة أوجه أحدها: ما ذكرنا. والثاني: يقطع لأنه سرق مالًا محرزًا لا شبهة فيه. والثالث: إن كان الحارس قويًا بحيث لو أثبته لو يقو عليه السارق لا يقطع، وإن كان ضعيفًا يقطع لأنه لا معنى لليد الضعيفة التي للحارس وهذا غريب، وقيل: يفرق بين أن يكون الحارس عبدًا أو حرًا والمذهب هذا قد ذكرناه. [66/ب] فرع آخر لو سرق حرًا صغيرًا عليه ثيابٌ وحليٌ قال ابن أبي هريرة: يقطع إذا كان الصبي في موضع لا ينسب إلى التضييع أنه سرق الصبي والحلي وقصده الحلي، وإن كان خارج المحلة في موضع ينسب إلى الضياع لا يقطع، وقال بعض أصحابنا: يجب أن يكون معناه إذا كان مملوكًا، فأما إذا كان حرًا لا قطع على سارقه لأن للحر يدًا على ما معه ولم يثبت والسارق هنا على ما عليه من الثياب والحلي ولهذا قلنا في اللقيط: إذا كان في طرف ثوبه دراهم مشدودة كانت له وعلى من ادعاه البينة وهذا اختيار المحققين من أصحابنا وهو قول أبي حنيفة والأول قول القفال. وهذا على أصله لأنه إذا اجتمع ما يقطع فيه وما مالا يقطع مثل إذا سرق شاةً حيةً وشاة ميتة لا يقطع عنده، وإن كانت الحية تساوي نصابًا وقال: لو أخذ طبق ذهب وصب ماءً قليلًا وأخرجه من الحرز لا يقطع لأنه لا قطع في الماء، ولو كان الحر عاقلًا بالغًا وحمله نائمًا أو مكرهًا وعليه حلي فلا خلاف أنه لا يقطع به. فرع آخر إذا سرق ستر الكعبة قال القاضي أبو حامد: قال الشافعي رضي الله عنه في القديم: يلزمه القطع لأنه محرزٌ عليها بالخياطة واحتج في ذلك بعثمان رضي الله عنه وهو أنه قطع يد سارقٍ سرق ثوبًا قبطيًا كان على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم [67/أ] وهكذا نقل الحارث بن شريح البقال عن الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا قطع فيه. ودليلنا أنه محرزٌ بما جرت العادة به وهو لزينة الكعبة لا لمنفعة الناس فوجب القطع به. فرع آخر قال أبو حامد: وعلى هذا لو سرق باب المسجد أو سقفه يلزمه القطع لأنه في معنى ثياب الكعبة لا لمنفعة الناس. فرع آخر لو سرق حصير المسجد وفرشه والقناديل المعلقة فيه قال أبو حامد: لا قطع فيه وجهًا واحدًا والفرق، بينه وبين ثوب الكعبة أنه لمنفعة المسلمين ولكل مسلم فيه حق فلا يقطع لهذه الشبهة بخلاف ذلك. وقال صاحب الحاوي فيه وجهان: أحدهما:

هذا لاشتراك الكافة فيه كمال بيت المال. والثاني: ذكره البصريون يقطع به وهو اختيار ابن أبي هريرة قياسًا على الحصير. فرع آخر لو سرق بكرة البئر المسبلة يقطع كما قلنا في الحصير، وقال بعض أصحابنا بخراسان: يقطع فيه خلافًا لأبي حنيفة وهذا غلط وعندي أنه إذا سرق الذمي هذه البكرة لا يقطع لأن للذمي فيها حقًا أيضًا. فرع آخر لو سرق شيئًا موقوفًا فإن كان وقفًا على عموم المصالح لا يقطع، وإن كان ذميًا لأنه تبع للمسلمين في المصالح، وإن كان وقفًا على قوم بأعيانهم فإن قلنا: الملك لله تعالى فيه وجهان: أحدهما: يقطع قياسًا على ستر الكعبة. [67/ب] والثاني: لا يقطع لأن ما لا يملك في حكم المباح وإن لم يستبح، وإن قلنا: ينتقل الملك إلى الموقوف عليه فإن سرقه واحد منهم لا يقطع، وإن سرقه أجنبي فيه وجهان: أيضًا أحدهما: لا يقطع لأن الملك فيه ناقصٌ فأشبه نقصان القدر. والثاني: يقطع سارقه لما ذكرنا أنه مملوكٌ محرزٌ لا شبهة له فيه. ومن أصحابنا من قال فيه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: يقطع وهو ظاهر المذهب. والثاني: لا يقطع وهو قول أبي حنيفة. والثالث: إن قلنا: إنه مملوك الرقبة يقطع، وإن قلنا: إنه لا مالك لها لا يقطع. فرع آخر لو كان موقوفًا على الفقراء فإن كان السارق فقيرًا لا يقطع، وإن كان غنيًا يقطع. فرع آخر لو سرق من غلة الموقوف بعد إحرازها. فإن كان وقفًا على قوم معينين وليس السارق ولا واحدٌ من آبائه وأولاده منهم يلزمه القطع، وإن كان على غير معينين كالفقراء والمساكين فإن كان السارق منهم لم يقطع، وإن كان من غيرهم قطع لأنه لا شبهة له فيه. فرع آخر لو سرق من بيت المال المعد لوجود المصالح لا يقطع لأن له فيه حقًا بأحد وجوه المصالح والقطع يسقط بالشبهة. نص عليه الشافعي ورواه الشعبي عن عليّ رضي الله عنه، وقد روي أن رجلًا عدا على بيت مال الكوفة فسرق منه شيئًا فأفتى ابن مسعود رضي الله عنه بقطع يده ثم كتب [68/أ] إلى عمر رضي الله عنه ذلك فكتب إليه عمر لا تقطعه فإن له فيه حقًا، وروي أنه قال: أرسله ولا تقطعه فما أخذ إلا وله في هذا المال حقٌّ، وقال القفال: لو كان السارق غنيًا هل يقطع؟ فيه وجهان: أحدهما: يقطع لأنه لا يجوز أن يملك منه شيئًا فلا شبهة. والثاني: لا يقطع لأنه قد يصرف هذا المال إلى الرباط والقناطر وللغني الانتفاع به وربما يتحمل بحمالةٍ فتقضى عنه من بيت المال وهذا

هو المذهب والوجه الأول غريبٌ وضعيفٌ. فرع آخر لو سرق الذمي من بيت المال. قال أصحابنا: يقطع يده لأنه لا حق له في بيت مال المسلمين وظاهر المذهب عندي أنه كان معدًا لوجوه المصالح العامة لا تقطع يده أيضًا لأنه يدخل فيه تبعًا للمسلمين، وإن كان لمصالح المسلمين يلزمه القطع، وإن سرق من مال الصدقات يلزمه القطع لأنه لا حق له فيها. فرع آخر قال في سير الواقدي: لو سرق من زكاة الفطر وهو من أهل الحاجة لا يقطع وهذا على أنه لو كان غنيًا يقطع، قال القفال: وكذلك لو سرق الغني من مال الصدقات يلزمه القطع لأنه لا حق له فيها، والفرق بينه وبين بيت المال ظاهرٌ على ما ذكرنا. ويحتمل عندي وجهًا آخر لأن للغني فيها حقًا إذا كان لإطفاء فتنةٍ ووجدت هذا الوجه في كتاب " الحاوي" وعلل بأنها لغير معينين بخلاف الغنيمة ويجوز أن يصير من أهل استحقاقها. [68/ب] فرع آخر لو سرق إناءً فيه خمر هل يقطع في الإناء؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يقطع لأن الخمر يلزم إراقتها ولا يجوز التغرير في إنائها فصار ذلك شبهةً في إخراجه من الحرز. والثاني: يقطع لأنه سرق نصابًا كاملًا من حرز مثله ذكره في " الحاوي"، وقال غيره: نص الشافعي أنه يقطع لأنه يحل بيع ظرفها والانتفاع به إذا غسل. قال: ولو كان فيه بولٌ يقطع بلا خلافٍ لأبي حنيفة في الكل. وسائر أصحابنا قالوا: المذهب الوجه الثاني، ولا وجه للوجه الأول. فرع آخر لو سرق طعامًا في سنة المجاعة وكان لا يجده بمسألةٍ ولا شراء لا يلزمه القطع لأن له أن يكابر في هذه الحال صاحب الطعام عليه، وإن أخذ أكثر ما يحتاج إليه لا يقطع أيضًا لأن له هتك الحرز لإحياء نفسه فيكون الزائد على مقدار الجائز كأنه غير محرز عنه، وإن كان الطعام موجودًا إلا أنه قد غلا وزاد سعره وتشبث كل أحدٍ بما عنده وهو واجدٌ لثمنه فسرق منه ما يساوي نصابًا يقطع، وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: لا قطع في عام المجاعة، ولا قطع في عام السنة وأراد به ما ذكرنا. فرع آخر لو دخل الحمام ونزع الثياب وسلمها إلى الحمامي فدخل سارق فسرقها، فإن كان الحمامي قاعدًا على القبالة يحفظها قطع، ولا ضمان على الحمامي، وإن كان قد نام

لم يقطع وعلى الحمامي الضمان لأنها لا تكون محرزة إلا بنظره [69/أ] وإن لم يسلمها إلى الحمامي فهنا غير محرزة ولا محفوظة لأن الحمام يستطرق، فإذا سرقت لا يقطع ولا ضمان على الحمامي ولكن يجب على السارق الضمان وعند أبي حنيفة: لا قطع فيها بحالٍ. فرع آخر إذا أوجبنا عليه القطع يعتبر في وجوب قطعه خروجه من الحمام؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يعتبر كما في المسجد ويلزمه القطع إذا حمل الثياب من موضعها. والثاني: يعتبر فيه خروجه من الحمام لأنه حرز خاص والمسجد حرز عام. مسألة: قال: ولو سرق مصحفًا أو سيفًا أو شيئًا مما يحل ثمنه يقطع. إذا سرق مصحفًا من حرز مثله قيمته ربع دينار يلزمه القطع، وكذلك دفتر الشعر والأدب والفقه، وقال أبو حنيفة: لا قطع في شيء منها، وإن كان عليها حلية تساوي مالًا عظيمًا واحتج بأن المقصود مرآة ما فيها وليس ذلك بمالٍ وأما الحلية فتابعة لما لا قطع فيه فسقط القطع فيها، ولأن المصحف يجب بذله للقراءة ودليلنا أنه نوع مالٍ. يملك بيعًا وشراء فجاز أن يتعلق القطع بسرقته كالثياب، وأما ما ذكره فلا يصح لأن المقصود من الطعام أكله وإتلافه ويجب القطع فيه، وأما ما ذكر في المصحف فلا يصح لأن من ملك مصحفًا فليس لغيره أن ينظر فيه أو يقرأ منه إلا بإذن صاحبه وإن احتاج مسلم إلى تعلم القرآن الذي [69/ب] تصح به الصلاة وتعين عليه تعليمه فعليه تلقينه وليس عليه تسليم المصحف إليه بالعارية، ولأن أبا حنيفة لا يقطع يد المقرئ المستغني عن المصحف كما لا يقطع يد الجاهل بالقرآن فلا معنى لما قاله، ولأن هذا المعنى لا يوجد في كتاب الأدب والأخبار ورأيت بعض أصحابهم يسلمون وجوب القطع في غير مصحف القرآن، ولو كان المصحف مندرسًا ولكن عليه حلية تساوي ربع دينار قطع عندنا بلا إشكالٍ. مسألة: قال: ولو أعار من رجل بيتًا فكان يغلقه دونه فسرق منه رب البيت قطع. اعلم أنه إذا استعار من رجل بيتًا وجعل متاعه فيه وأغلقه فجاء المعير ونقب البيت وأخذ منه نصابًا قطع نص عليه لأن ليس للمعير رفع حرزه ولا تفريغ البيت فلم يكن له فيه شبهة في حرزه فقطع، وقال بعض أصحابنا: هذا إذا لم يقصد بنقبه الرجوع في العارية فإن قصد به الرجوع في العارية ففيه وجهان. فقال أبو إسحاق: لا يقطع وحمل كلام الشافعي على غير هذا الموضع، وقال ابن أبي هريرة: يقطع لأنه لا يملك الرجوع إلا بالقول وليس له أن يرفع إن رجع في العارية وهذا أصح، وقال أبو حنيفة: لا يلزمه القطع أصلًا لأن المنفعة ملك المعير فلم يهتك حرزًا لغيره، وقال بعض أصحابنا بخراسان مثله.

فرع لو أجره دارًا ثم دخل وسرق مال المستأجر يقطع وجهًا واحدًا وبه قال أبو حنيفة، [70/ أ] وقال أبو يوسف ومحمد: لا يقطع لأن المنفعة تحدث في ملك المؤجر ثم تدخل في ملك المستأجر وهذا غلط لأنه إذا استأجرها صار أحق بها من مالكها، وليس للمالك الرجوع فيه فصار بمنزلة سائر أملاكه. فرع آخر لو غصب دارًا ووضع فيها متاعًا فسرق مالك الدار منها لا يقطع لأنه لم يوجب له حقًا في الدار ولا أذن له في أن يتخذها حرزًا. لو جاء أجنبي وسرق منها مال الغاصب لا يقطع أيضًا لأنه ممنوع من إحراز ماله في المغصوب فصار لغير المحرز. فرع آخر لو ارتهن دارًا فأحرز فيها متاعًا لم يقطع سارقه سواء سرقه الراهن أو غيره، لأن منافع الدار للراهن فصار المرتهن كالغاضب. فرع آخر لو أعاره عبدًا ليحفظ ماله ثم سرق من ذلك المال الذي برفقة العبد ويحفظه يقطع بلا خلافٍ، وكذلك لو أعاره قميصٍا ثم طر جيبه بعدما لبسه المستعير ولا يجعل كون القميص ملكًا له شبهةً في أمر القطع. فرع آخر لو نزع حليًا من طفلٍ حرٍّ مسارقة قطع، وإن سلبه مجاهرة لم يقطع. مسألة: قال: ويقطع العبد آبقًا وغير آبقٍ. العبد إذا سرق من غير سيده قطع. لأن كل من وجب عليه الحد بالسرقة كالحر، ولا فرق بين أن يكون آبقًا أو غير آبقٍ، وقال أبو حنيفة: لا يقطع الآبق بناءً على أصله أنه لا يقضى على غائبٍ فإنه قضاء على سيده وهو غائب، قال: ولو طولب به بعد رجوعه يقطع، وروي عن ابن عباسٍ [70/ب] رضي الله عنه أنه قال: لا قطع على الآبق لأنه مضطر، وروي عن ابن عباس وشريح أنه لا يقطع العبد أصلًا، وروى أبو داود بإسناده عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سرق المملوك فبعه ولو بنش" والنش: عشرون درهمًا ولم يذكر القطع. وروى نافعٌ أن عبدًا لابن عمر سرق وهو آبق فأمر حتى يقطع يده، وروي أن مروان بن الحكم قال: لا قطع عليه فقال له عبد الله بن عمر: في أي كتاب الله وجدت أن الآبق لا يقطع، وقال الشافعي رضي الله عنه:

لا تزيده معصية الله تعالى بالإباق مجيرًا. ولأن الآبق أولى بالزجر والعقوبة على المعصية، والمراد بالخبر أن العبد السارق لا يصحب ولا يمسك ويستبدل بغيره، وأما قول ابن عباس: مضطر يمكنه أن يرجع إلى مولاه ويسأل الناس في مكانه وطريقه عند الانصراف إلى الطاعة. مسألة: قال: ويقطع النباش. الفصل النباش إذا أخرج الكفن من القبر إلى وجه الأرض يقطع، وإن أخرجه من اللحد إلى وسط القبر لا يقطع وبه قالت عائشة وعبد الله بن الزبير والحسن وعمر بن عبد العزيز والنخعي والشعبي وربيعة ومالك وعطاء وقتادة وحماد وعثمان البتي وأبو يوسف وأحمد [71/أ] وإسحاق وأبو ثور وداود، وقال أبو حنيفة ومحمد والثوري: لا يلزمه القطع أصلًا، وبه قال الأوزاعي واحتجوا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" لا قطع على المختفي" وأراد به النباش ولأن القبر ليس بحرز للكفن لأنه يوضع فيه للتلف وليس بحرز لسائر الأموال. ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم في خبر البراء بن عازب "ومن نبش قطعناه" وروى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة أنه وجد قومًا يحتفون القبور باليمن على عهد عمر فكتب بذلك إلى عمر فكتب إليه عمر رضي الله عنه أن يقطع أيديهم، قال ابن عباس: حد النباش والسارق سواء والنباش أعظمهما جرمًا، وقال ابن عباس: النباش سارق يقطع في أمواتنا كما يقطع في أحيائنا، وقالت عائشة رضي الله عنها: سارق أمواتنا كسارق أحيائنا، وروي أن الزبير قطع يد نباش يمني ولم ينكر عليه أحد، وأما الخبر الذي ذكره فأراد به الخائن والمختلس بدليل ما ذكرنا، وأما قوله: أنه ليس في حرزٍ قلنا: الناس يعدونه حرزًا له ولهذا لا ينسب واضعه فيه إلى التقصير والتعدي. فرع لا فرق أن يكون القبر في المقابر أو في دار بعد أن لا يكون مضيعًا في المقابر هذا هو الصحيح من المذهب لأن القبر في المقابر حرز في العادة، كما أن البيت المغلق بين الجيران وليس فيه حارس حرز في العرف والعادة، وقال [71/ب] بعض مشايخنا: إذا لم يكن حول القبر جدار وغلق لا يلزمه القطع وهو غير صحيح، وقيل: شرط فيه ثلاث شرائط إحداها: أن يكون القبر في مقابر البلد الأنيسة سواء كان في وسط البلد أو في ظاهره. والثانية: أن يكون القبر عميقًا على معهود القبور. والثالثة: أن يخرجه من جميع القبر بعد تجريده عن الميت، فلو أخذ وكان بعضه في القبر لم يقطع، وقال

بعض أصحابنا بخراسان: إن كان القبر في محلةٍ من الدور والعمارة يقطع، وإن كان في جبانةٍ بعيدةٍ عن الناس لا يقطع، وإن كان في مقابر البلاد بقرب العمارة ففيه وجهان والأصح أنه لا يقطع لأن نفس القبر ليس بحرز، وقال بعضهم: إن كان التبر في مفازة لا يحتاج السارق هناك إلى انتهاز فرصةٍ هل يلزمه القطع؟ وجهان: أحدهما: يقطع لأنه حرز مثله والاعتماد على ما ذكرناه أولًا. فرع آخر لو أخرج الكفن مع الميت فيه وجهان: أحدهما: لا يقطع وهو قياس قول أبي إسحاق لاستبقائه على الميت. والثاني: يقطع وهو قياس قول ابن أبي هريرة لإخراج الكفن من حرزه. فرع آخر قد ذكرنا من قبل أن أصحابنا اختلفوا في الكفن فمنهم من قال: هو على ملك الميت وبه قال ابن أبي هريرة وصاحب" الإفصاح" ومنهم من قال: هو على ملك الورثة لأن التركة كلها تنتقل إلى الورثة وما يصرف إلى الميت وتجهيزه من ملكهم لاحتياجه ولهذا لو استغنى [72/أ] عن الكفن بأن غرق أو أكله سبعٌ وبقي الكفن عاد إلى الورثة، ومنهم من قال: لا مالك له ويجوز القطع في مثله كما ثياب الكعبة، وقال القاضي الطبري: إذا غرق الميت وبقي الكفن، وقلنا: إنه ملك الميت يجب أن يرد إلى بيت المال لأنه لا يجوز أن يثبت الإرث بعد الموت فإذا لم يملكوه بالموت لم يملكوه بعده فيكون نحو مالٍ لا مالك له ومصرفه بين المال فرع آخر قال صاحب" الإفصاح": إذا ثبتت السرقة على النباش قطع الإمام يده ولا يحتاج إلى خصومة أحدٍ لأن القطع حق الله تعالى ولا يفتقر إلى دعوى مدعي وإنما نقول في مال الحي: لا يقطع حتى يدعي لأنه يجوز أن يكون أباح له أخذه فإذا حضر اعترف بما يكذب الشاهدين ويسقط عنه القطع وليس كذلك الكفن فإن هذا لا يحتمل فيه فلم يفتقر إلى دعوى مدعٍ، وقال ابن أبي هريرة: يحتاج إلى دعوى الورثة بكل حالٍ لأنه وإن كان ملكًا للميت فالورثة يقومون مقامه في سائر الحقوق، ومن أصحابنا من قال: إن قلنا: إنه ملك للميت فهل يقطع بخصومة الورثة أو الحاكم؟ فيه وجهان، وإن قلنا: إنه ملك الورثة يخاصم الورثة ويقطع بخصومتهم وإن قلنا: لا ملك له بقطعه ولا يحتاج خصومة أحدٍ. فرع آخر لو ترك في القبر للميت مضربةٌ ووسادة هل يقطع فيها؟ فيها وجهان: أحدهما: لا يقطع لأن ذلك ليس من [72/ب] الكفن، كما لو جعل فيه ثياب الميت التي كان يلبسها في حياته وسيفه وسلاحه. والثاني: يقطع لأنهم أجروه مجرى الكفن.

فرع آخر لو دفن معه دراهم أو دنانير فسرقها سارق ظاهر المذهب أنه لا يقطع لأنه لا يعد حرزًا، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان. فرع آخر لو كفن في أكثر من خمسة أثواب قال أصحابنا: لا يقطع فيما زاد على الكفن المستحب وهو خمسة أثواب لأنه ليس بمشروع فيه فلم يجعل حرزًا له. وكذلك التابوت إذا سرقه، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان. فرع آخر حكي القاضي الطبري عن الماسرجسي قال: لو أخذ الطيب الذي عليه قطع إلا أن يزيد على المستحب فإن المستحب التجهيز بالعود والكافور اليسير في الحنوط فإن اجتمع فلا قطع فيه وحكي عن الماسرجسي أنه قال مرةً أخرى: لا قطع فيه أصلًا ولا يكون محرزًا بالقبر. فرع آخر لو كفن الإمام رجلًا من بيت المال فأخذ النباش كفنه قال أصحابنا: يقطع فيه لأن تكفينه انقطع حق غيره عنه ويحتمل وجهًا آخر على قياس ما تقدم. فرع آخر لو أودع عنده وديعةً ثم نقب داره وأخذها وأخذ معها غيرها من حرزها وهو لم يكن ممنوعًا منها فيه وجهان قياسًا على ما ذكرنا في صاحب الدين. فرع آخر لو سرق من حلية فرسٍ عليه راكبه قطع، وإن كان من ثغرٍ على كفلها، وقال أبو حنيفة: إن سرق من لجام رأسها يقطع، ولا يقطع إذا سرق [73/أ] من ثغر كفلها بناءً على أصله أنه يضمن ما أفسدت الدابة بمقدمها ومؤخرها وهذا لا يصح لأن ذلك محرزٌ بالراكب. فرع آخر قال القفال: لو نقب دارًا ظن له فيها مالًا أو حقًا في مالٍ فوقع إلى دارٍ أخرى وسرق قطع لأن علم السارق بما يسرق ليس بشرط، وكذلك لو سرق دنانير ظنها فلوسٍا ووافقنا أبو حنيفة. فرع آخر لو سرق قميصًا ولم يعلم أن في جيبه شيئًا فإذا في جيبه شيء أو ما تتم به قيمة القميص نصابًا قطع، وعند أبي حنيفة لا يقطع إلا أن يكون عالمًا بمكان الدنانير.

باب قطع اليد والرجل في السرقة

باب قطع اليد والرجل في السرقة قال الشافعي رضي الله عنه: أخبرنا بعض أصحابنا عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب عن الحارث بن عبد الرحمن عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في السارق:" إذا سرق فاقطعوا يده، ثم إن سرق فاقطعوا يده ثم إن سرق فاقطعوا رجله". اعلم أنه إذا سرق من يجب عليه القطع تقطع يده اليمنى أولًا لقراءة ابن مسعود: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْمَانهُمَا} وقال أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: إذا سرق السارق فاقطعوا يمينه. ولأن البطش باليد اليمنى أقوى فليبدأ بقطعها ليكون أردع للسارق، ثم أن سرق ثانيًا تقطع رجله اليسرى، وقال عطاء: [73/ب] تقطع يده اليسرى لأنها أقرب إلى يده اليمنى وهذا غلط لما ذكرنا من الخبر، ولأن في قطع الطريق يجمع بين يده اليمنى ورجله اليسرى كذلك ها هنا وإنما قطعت رجله اليسرى لأنه أرفق به لأنه (لا) يمكنه أن يمشي على خشبةٍ، ولو قطعت رجله اليمنى بعد يده اليمنى لم يمكنه ذلك ثم قال: إذا سرق الثالثة تقطع يده اليسرى، ثم إذا سرق الرابعة تقطع رجله اليمنى، وروي ذلك عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وقتادة ومالك وإسحاق وأبي ثور رحمهم الله، وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا يقطع في الثالثة والرابعة وبه قال الثوري وأبو حنيفة والشعبي والنخعي وحماد والأوزاعي وأحمد. واحتجوا بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لم يزد النبي صلى الله عليه وسلم على قطع اليد والرجل، وكان علي يقول: إذا سرق السارق تقطع اليد والرجل فإذا سرق عوقب وسجن وأطعم من فيء المسلمين، وقال أيضًا: إني لأستحي من الله أن أدعه ليس له يد يأكل بها ولا رجل يمشي عليها، وروي أنه لم يقطع بعد يدٍ ورجلٍ، وقال: بأس شيء يمسح بأي شيء يأكل على أي شيءٍ يمشي إني لأستحي من الله تعالى. ولأن فيه إتلاف منفعة الجنس فلا يجوز كالقتل. ودليلنا ما ذكرنا من الخبر. وروى جابر رضي الله عنه أنه قال: جيء بسارق إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقتلوه، فقالوا: يا رسول الله [74/أ] إنما سرق فقال: اقطعوه فقطع ثم جيء به الثانية فقال: اقتلوه فقالوا: يا رسول الله إنما سرق فقال: اقطعوه فقطع ثم جيء به الثالثة فقال: اقتلوه فقالوا يا رسول الله إنما سرق فقال: اقطعوه فقطع ثم جيء به الرابعة فقال: اقتلوه فقالوا: يا رسول الله إنما سرق فقال: اقطعوه فقطع فأتي به في الخامسة فقال: اقتلوه قال جابر: فانطلقنا به فقتلناه ثم ألقينا في بئر ورمينا عليه الحجارة فإن قيل: أنتم لا تقولون بالقتل في الخامسة؟ قلنا صار منسوخا بقوله صلى الله عليه وسلم:" لا يحل دم امرئٍ

مسلم إلا بإحدى ثلاث .... " الخبر، وقيل: كان هذا رجلًا مشهورًا بالفساد فلهذا أمر بقتله أول مرة ثم في المرة الثانية ثم في الثالثة ثم في الرابعة ثم في الخامسة حتى قتل، ولعل فعل ذلك بوحي من الله تعالى واطلاع منه على ما سيكون منه فكان هذا خاصةً فيه، وقال مالك: للإمام أن يجتهد في تعزير المفسد ويبلغ به ما يرى من العقوبة، وإن زاد على مقدار الحد وإن رأى أن يقتل قتل واحتج بهذا الخبر. وروى عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه أن رجلًا من أهل اليمن أقطع اليد والرجل قدم فنزل على أبي بكر رضي الله عنه وشكا إليه أن عامل اليمن ظلمه وكان يصلي من الليل فيقول أبو بكر: وأبيك ما ليلك بليل سارقٍ، ثم إنهم افتقدوا حليًا لأسماء بنت عميس امرأة أبي بكر فجعل الرجل [74/ب] يطوف معهم ويقول: اللهم عليك بمن بيت أهل البيت الصالح فوجدوا الحلي عند صائغ زعم أن الأقطع جاء به فاعترف الأقطع أو شهد عليه فأمر به أبو بكر رضي الله عنه فقطعت يده اليسرى، وقال أبو بكر: والله لدعاءه على نفسه أشد عليه عندي من سرقته، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أشهد أن ابن عمر قطع رِجل رجلٍ بعد يد ورجل سرق الثالثة، وروى الإمام البيهقي عن عمر رضي الله عنه. فإن قيل: روينا أن أبا بكر رضي الله عنه أراد أن يقطع رجلًا بعد يد ورجل فقال عمر: السنة اليد قيل: هذا غير مشهور وما رويناه أصح، وأما ما روي عن علي رضي الله عنه قلنا قيل: هذا لا يصح عنه لأن الحدود لا تترك بالاستحياء ثم يعارض أقوال الصحابة وما يوافق السنة أولى بالإتباع، وأما القياس الذي ذكر فلا يصح لأنه تقطع اليدان والرجلان قصاصاً ولا يراعى تفويت منفعة الجنس كذلك هنا. فرع إذا سرق في الخامسة قال الشافعي: يعزر ويحبس قال أصحابنا: والتعزير في ذلك إلى رأي الإمام، فإن رأى أن يحبسه دون الضرب فعل، وإن رأى أن يضربه ويطلقه فعل وإن رأى أن يجمع بينهما فعل، وعن عثمان بن عفان وعبد الله بن عمرو بن العاص وعمر بن عبد العزيز رضي الله عنهم أنهم قالوا: يقتل في الخامسة [75/أ] احتجاجًا بالخبر الذي ذكرنا وقد ذكرنا أنه منسوخ.

فرع آخر يقطع من قاطع الطريق في المرة الأولى يده اليمنى ورجله اليسرى، ثم في المرة الثانية تقطع يده اليسرى ورجله اليمنى وعند أبي حنيفة لا يقطع في المرة الثانية أصلًا قياسًا على ما ذكرنا في السارق. فرع آخر تقطع يده من الكوع، وتقطع رجله من المفصل الذي بين الساق والقدم، وقال قومٌ من السلف: تقطع أصابع اليد دون الكف، وتقطع الرجل من عند مقعد الشراك ويترك له ما يمشي عليه وبه قال الرافضة، وروي هذا عن علي رضي الله عنه في روايةٍ شاذةٍ، وقال: أدع له ما يعتمد عليه وبه قال أبو ثور والمشهور عنه مثل مذهبنا، وقالت الخوارج: تقطع اليد من المنكب لأن اسم اليد يتطلق عليه. وهذا غلط للخبر الذي ذكرنا، وروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما قالا: إذا سرق السارق فاقطعوا يده من الكوع وأما ما ذكروه فلا يصح لقوله تعالى: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة:6] فدل أن اسم اليد اسم لما دون ذلك. فإن قيل: قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ} وإنما يكتب بالأصابع فلا يقطع غيرها قيل: الكتابة تكون بالقلم وإمساكه بجميع اليد، ولو كان المراد به ما يباشر بالكتابة فإنما يكتب بثلاثة أصابع لا بالخمس. [75/ب] مسألة: قال: يقطع بأخف مؤنةٍ وأقرب سلامةٍ. إذا أراد قطع يد السارق يساق إلى موضع القطع سوقًا رفيقًا لا تعنف به ولا يقابل بسبٍّ ولا بشتم ولا تعيير، ولا يقطع قائمًا حتى يجلس ويمسك عند القطع حتى لا يضطرب ولا يضربها بالسكين فربما يخطئ موضع المفصل ولكن يضع السكين عليها ويعتمد جذبها بقوته حتى تنفصل بجذبةٍ واحدةٍ. قال الإمام الصيمري: يستحب للإمام أن يتولى ذلك بنفسه فإن استعان بغيره جاز وهذا غريب، وقيل: قال الشافعي: ويقطع بأخف مؤنةٍ وأمضى حديدةٍ وأقربه إلى السلامة، والذي أعرف من ذلك أن يجلس ويضبط وتمد يده بخيط حتى يتبين مفصلها ثم تقطع بحديدةٍ حادة ثم يحسم بالنار لأن القطع جالسًا أمكن من قطعه قائمًا والضبط لئلا يتحرك فيجني على نفسه. قال أصحابنا: وتوضع يده على شيء فتبان بضربةٍ أو يمر السكين عليها دفعةً واحدةً ولا يقطع بحديدٍ كال لأن القصد قطعها دون تعذيبه والحسم بالنار أن يغلي الزيت ثم يغمس موضع القطع عقيب القطع لتجف أفواه العروق فلا يجري منها الدم فينزف فيموت، وقيل: هذا إذا كان الرجل حضريًا فإن كان بدويًا حسمت بالنار فقط لأنه عادتهم وإنما أمرنا بذلك لما روي عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم

بسارق [76/أ] سرق شملةً فقال: "سرقت ما أخالك فعلت فقال: بلى قد فعلت قال: اذهبوا به فاقطعوه ثم احسموا ثم ائتوني بقه فقطع ثم حسم ثم أتى به فقال: تب إلى الله فقال: تبت إلى الله فقال: اللهم تب عليه" فرع ثمن هذا الزيت من بيت المال لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر القاطع به وذلك يقتضي أن يكون من بيت المال ولأن فيه مصلحةً. فرع لو لم يحسمه الإمام فلا شيء عليه ويستحب له أن يفعله وهذا لأن على الإمام القطع دون المداواة. ويستحب للمقطوع يده أن يفعله، فإن لم يفعل لا يلزمه لأنه ضربٌ من التداوي ذكره أصحابنا، وقال في "الحاوي": إن كان القطع عن قصاصٍ لا يجبر على حسمها لخروجه عن حدود الله تعالى، وإن كان عن سرقةٍ فهل يجبر على حسمها؟ فيه وجهان: أحدهما: يجبر لأنه من تمام حد الله تعالى والثاني: لا يجبر لما ذكرنا قياسًا على القصاص. فرع آخر لا يحبس السارق بعد قطعه ولا يشهر في الناس لأن قطعه شهرة كافية والسنة أن تشد كفه المقطوعة في عنقه عند إطلاقه لما روي عن عبد الرحمن بن محيريز قال: سألنا فضالة بن عبيد عن تعليق يد السارق في عنقه أمن السنة هو؟ قال: سنة أتي النبي صلى الله عليه وسلم بسارقٍ قطعت يده ثم أخرجها فعلقت في عنقه، وروي مثل هذا عن علي رضي الله عنه [76/ب] لأن فيه ردعًا وزجرًا للناس. وإذا فعل ذلك يترك ساعةً ثم يزال. فرع آخر قال في "المبسوط": ولا تقطع يد السارقة إذا كانت حبلى أو مريضةً ولا يد السارق إذا كان مريضًا مدنفًا ولا بين المرض ولا في يوم بين البرد والحر ولا في أسباب التلف، وإذا وضعت الولد لم تقطع ما دامت في النفاس لأنها مريضة فربما أعان ذلك عن نفسها قال:" وإن قطعت يد السارق فلم تبرأ يده حتى سرق ثانيًا أخر القطع حتى تبرأ يده، ثم تقطع وقد ذكرنا هذا في كتاب آخر وبينا الفرق بينه وبين قاطع الطريق تقطع يده ورجله في مكان واحد.

فرع آخر لو سرق شيئًا فقطع يده وردت السرقة على صاحبها ثم سرقها ثانيًا قطع فيه ثانيًا وهكذا إذا عاد ثالثًا ورابعًا، وقال أبو حنيفة: لا يقطع ثانيًا إلا إن سرقه من مالك آخر وهذا لا يصح لأنه حد الله تعالى يجب بإتباع فعلٍ في عينٍ فيتكرر بتكرر ما فعله حد الزنا ولأنهم وافقوا على أنه لو سرق غزلًا فقطع ثم رد فنسجه ثوبًا ثم سرقه يقطع ثانيًا. فرع آخر لو سرق سرقات مختلفة فرفع في إحداها فقطع كان القطع للمسروقات المتقدمة كلها ويضمن كل شيء سرق، وهذا لأن الحدود تتداخل. فرع آخر لو سرق وكان أقطع قطعت رجله كما في السرقة الثانية. فرع آخر من وجب عليه القطع في السرقة فذهبت بيمنه قصاصًا لم تقطع رجله، فإن لم تذهب قصاصًا ولكنها ذهبت بآفة من أكلةٍ وغيرها [77/أ] سقط عنه القطع ولا تقطع رجله لأن محل القطع اليمين وقد سقطت، وذكر بعض أصحابنا بخراسان أنه إذا قطعت يده قصاصًا وقع عن الأمرين عن القصاص وعن السرقة وذكر أيضًا أنه سقطت يده اليمنى قبل القطع قطعت رجله اليسرى وهذا غلط. فرع آخر لو كان أقطع اليسار وله يمينٌ قطعت اليمين، وقال أبو حنيفة: لا تقطع اليمنى وبناه على أصله أنه لا يجوز تعطيل منفعة الجنس وقال أيضًا: لو كان يساره شلاء أو ناقصة الإبهام لا تقطع يمينه أيضًا. وهذا خطأ لأن نقصان ما لا يجب قطعه لا يمنع وجوب القطع في اليمين، كما لو كانت اليسار مقطوعة الخنصر أو البنصر. فرع آخر لو سرق وأصابع يمناه شلاء أو بعضها أو بقيت إصبع والباقي مقطوع تقطع الكف بما عليها وإن لم يبق لها إصبع قال القاضي أبو حامد في "الجامع": لا تقطع ولكن تقطع الرجل اليسرى وهو الصحيح لأن الكف ليس لها أرشٌ مقدرٌ فأشبه الذراع ولأنه إذا بقي إصبع فقد بقي متبوع الكف، وإذا لم يبق إصبع فما بقي إلا التابع فسقط حكم القطع فيها، قال القاضي أبو حامد: وقد قيل غير ذلك والمسألة معروفة بالوجهين: أحدهما: ما ذكرنا. والثاني: تقطع الكف من المفصل ولا ينتقل إلى الرجل لأن اسم اليد يقع على هذا القدر ولأن محل القطع من يمينه موجود فأشبه إذا كان [77/ب] عليه إصبع واحدة وقيل: هذا الوجه نقله الحارث بن شريح البقال عن الشافعي ففي المسألة قولان، وهكذا الخلاف فيما لو ذهب بعض الكف وبقي محل القطع.

فرع آخر لو سرق وكانت يده اليمنى شلاء فإن كانت بحيث لو قطعت استرخت العروق ولم تنقبض أفواهها ويهلك الرجل لم يقطع بل يبدأ بقطع الرجل اليسرى كما لو كان مفقود اليد اليمنى، وإن لم يكن على هذا الوجه قطعت اليد الشلاء. فرع آخر لو قيل له: أخرج يمينك لتقطع في السرقة فأخرج يساره فقطعت لم تقطع يمينه نص عليه في كتاب الجنايات، وقال في القديم: إذا قال الحاكم للجلاد: اقطع يمين هذا في سرقة سرقها فعمد الحداد فقطع يساره سئل فإن أقر بأنه عمد قطعها وهو يعلم أن القطع ليس على يساره ننتظر السارق فإذا برأ اقتص من القاطع وقطعت يمينه، وإن قال: دهشت وكان ممن يدهش مثله درئ عنه القصاص وغرم أرش يده والقياس أن تقطع يمينه وقد سمعت من يدرأ القطع عن يمينه وهذا استحسان إن كان يجوز الاستحسان وهذا قولٌ آخر في المسألة والصحيح الأول لأن القصد منه الزجر والردع وقد حصل بقطع الشمال وإنما قال الشافعي في القديم: إن القياس هذا لأنه قطع تعلق بعضوٍ فلا يسقط بقطع عضوٍ آخر كالقصاص فإذا قلنا: يسقط القطع عن يمينه [78/أ] قال القاضي أبو حامد: لا يجب على قاطع يساره قود ولا عقل. فرع آخر لو وجب القطع في يمينه فلم يقطع حتى ذهبت يساره بأكلةٍ أو مرضٍ لم يسقط القطع عن يمينه، وقال أبو إسحاق: يسقط في أحد القولين كما قطع الجلاد يساره على ما ذكرنا وهذا خلاف نص الشافعي وإنما هو مذهب أبي حنيفة، والفرق ظاهر وهو أن القاطع اعتقد أنه يأخذ يساره بيمينه فكان ذلك شبهةً في سقوط القطع عن اليمين وهنا ما ذهبت اليسار بدلًا عن يمينه فلا يسقط قطع يمينه. مسألة: قال: ولا يقطع الحربي إذا دخل إلينا بأمان. اعلم أن المقيمين في دار الإسلام ثلاثة أضرب مسلم، وذمي، ومعاهد، فأما المسلم فعلى الإمام أن يذب عنه من قصده ويدفع عنه من ظلمه، وإن وجب له حق استوفاه وإن وجب عليه حق يستوفي منه سواء كان حق الله تعالى أو حق الآدمي في مالٍ أو غير مالٍ. وأما الذمي فهو من عقدت له الذمة المؤبدة فهو بمنزلة المسلم فيما ذكرنا من الأحكام إلا أنه شرب الخمر لم يحد وإن أصاب ذات محرم بنكاح لم يحد لأنه بتدينه وقال في "الحاوي": إن اعتقدوا نكاح المحارم كالمجبوس يقرون عليه، ولو زنا بذمية ففي وجوب إقامة حدهما على الإمام قولان بناءً على القولين في

باب الإقرار بالسرقة والشهادة عليها

وجوب الحكم علينا بينهم. [78/ب] وأما المعاهد فهو أن يقيم في دار الإسلام بأمان مدةً لا تبلغ سنة لتجارةٍ أو رسالةٍ، فإذا أصاب ما يوجب حقًا فإن كان حدًا لله تعالى خالصًا كحد الزنا لا يقام لأنه دخل على أن يلزم أحكامنا فلا معنى للتعرض له، وإن كان حقاً للآدمي خالصًا كحد القذف يستوفى منه لأنه على هذا دخل وهو أن يكف عن أموالنا ونكف عن أمواله، وإن كان حقًا لله تعالى متعلقًا بحق الآدمي كالقطع في السرقة فالضمان يلزمه قولًا واحدًا لأنه من حقوق الآدميين وهل تقطع يده؟ قال هنا في "الأم" وسائر الكتب لا تقطع وهو الأصح، والأظهر لأنه حد الله تعالى كحد الزنا قال: ويقال: ننبذ إليك عهدك ونبلغك مأمنك لأن هذه الدار لا تصلح أن يقيم فيها من لا يجري عليه الحكم. وقال في سير الواقدي: تقطع يده لأنه حق لا يستوفى إلا بعد المطالبة كالدين والقصاص. وقال بعض أصحابنا بخراسان: نص الشافعي رضي الله عنه في موضعٍ أنه إن شرط الإمام عليه إنك إن سرقت قطعناك تقطع يده وإلا فلا تقطع والقولان على هذين الحالين، وقال أيضا: هل يقام عليه حد الزنا؟ فيه قولان وهو غريب، وقال صاحب " التقريب": القولان إذا قامت عليه البينة، فأما إذا جاؤوا والتمسوا حكمنا فهو كالذمي وحكم الذمي أنا نقطعه في السرقة إذا قلنا: [79/أ] يجب على حاكمنا الحكم بينهم وإن قلنا: لا يجب لا يقيم عليه حد الله تعالى إلا إذا رضي بحكمنا فحينئذ نقطعه في السرقة، ثم إذا لم يقطع الحربي في مال المسلم لا نقطع يد المسلم في ماله وإذا قلنا: نقطع يد الحربي بالسرقة تقطع يد المسلم بسرقة ماله لأن شبهة القطع تثبت في الحالتين. باب الإقرار بالسرقة والشهادة عليها مسألة: قال: ولا يقام على سارقٍ حدٌ إلا أن يثبت على إقراره الفصل اعلم أنه إذا ادعى على رجل أنه سرق من حرزٍ نصابًا لم يخل المدعى عليه من أحد أمرين: إما أن يقر له بما ادعاه أو ينكر فإن أقر ثبت عليه القطع وبه قال مالك وأبو حنيفة وقد ذكرنا عن أبي يوسف وزفر أنهما قالا: لا يثبت القطع إلا بإقراره مرتين، وقال ابن أبي ليلى وابن شبرمة وإسحاق وأحمد، وروي عن علي رضي الله عنه: أن رجلاً أقر عنده بالسرقة مرة فانتهره فأعاد الإقرار فقال: الآن أقررت مرتين وأمر بقطع يده ولأنه حد الله تعالى فيعتبر إقراره به بالشهادة كما في الزنا عندهم. ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "من أتى منكم من هذه القاذورات شيئًا فليستتر بستر الله تعالى فإن من أبدى لنا صفحته نقم عليه حد الله تعالى". ولم يعتبر العدد ولأنه حق ثبت

بالاعتراف فلا يعتبر فيه التكرار كالقصاص وحد القذف وأما ما روي [79/ب] عن علي رضي الله عنه فلا يكون حجة حتى يصير إجماعًا ويحتمل أن يكون انتهره ليرجع فلما رجع قطعه، فإذا تقرر هذا فإنه يسقط بالرجوع بعد الاعتراف خلافًا لجماعة قد ذكرناهم قبل هذا وهو قول بعض أصحابنا حكاه أبو إسحاق المروزي لتعلقه بصيانة أموال الآدميين والدليل على أنه يسقط بالرجوع بعد الاعتراف ما روى أبو أمية المخزومي أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بلص قد اعترف اعترافًا ولم يوجد معه متاعٌ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" ما أخالك سرقت" قال: بلى فأعاد عليه مرتين أو ثلاثًا فأمر به بقطع وجيء به فقال: استغفر الله وتب إليه فقال: أستغفر الله وأتوب إليه: فقال:" اللهم تب عليه ثلاثًا"، وروي أنه قال: واغفر له. وروي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه أتي بجاريةٍ سوداء سرقت فقال لها: سرقت؟ قولي: لا فقالت: لا فخلى عنها، وعن أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه مثله. فرع إذا رجع عن الإقرار نظر فإن كان قبل فعل شيء من القطع رفع عنه القطع، وإن كان بعد فعل شيء من القطع نظر، فإن كان قدر ما بقي مما يندمل ويبرأ رفع عنه، وإن كان قدرًا لا يندمل فإن بقي جلدة يسيرة رفع أيضًا فإن قال المقطوع للقاطع: تمم القطع لم يلزمه ذلك بل هو بالخيار بين تركه وقطعه لأن هذا القطع ليس بحدٍّ فلم يجب فعله، وإنما جوزنا له إتمام القطع لأنه [80/أ] يتأذى به فيبان للمصلحة ويستريح بهذا الرجوع من تعليق اليد في عنقه نكالًا. وإن تلف فيما قطعنا منه قبل الرجوع أو فيما قطعنا منه بإذنه بعد ذلك فلا ضمان. فرع آخر لو أقر اثنان بسرقة نصف دينار قطعا فإن رجع أحدهما وأقام الآخر على إقراره ترك الراجع وقطع المقيم. فرع آخر إذا كان عليه قصاص أو حد القذف يلزمه الإقرار به ولا يسعه كتمانه، وإن كان عليه حد الزنا أو حد الخمر أو حد السرقة. قال أصحابنا: إن شاع ذلك في الناس أو تكرر منه وظهر يستحب أن يحضر ويعترف ليقام عليه حد الله تعالى، وإن لم يكن شاع في الناس فالمستحب أن يكتمه ولا يظهره لقوله صلى الله عليه سلم: "فليستتر بستر الله" وقال صاحب "الحاوي": لا وجه لهذا الفرق عندي والصحيح أنه إن تاب فالمستحب له أن يكتمه ولا يقر به، وإن لم يتب فالأولى أن يقر به لأن في إقامة الحد تكفيرًا وتطهيرًا.

فرع آخر قال: المستحب للإمام أن يعرض له بالإنكار إذا رأى منه آثار الندم الذي ذكرناه. وأتي عمر رضي الله عنه برجل فسأله: أسرقت؟ قل: لا، فقال: لا، فتركه ولم يقطعه وبه قال أبو الدرداء وأبو هريرة رضي الله عنهما، وروي أنه أتي أبو هريرة بسارقٍ وهو أمير على المدينة فقال: أسرقت قل: لا وقال أحمد وإسحاق: لا بأس [80/ب] أن يلقن السارق، وقال أبو ثورٍ مثله إذا كان السارق مضعوفًا أو امرأة. فرع آخر قال في "الحاوي": يصح العفو عن القطع قبل علم الإمام لقوله صلى الله عليه وسلم في خبر صفوان: "هل قبل أن تأتيني به" وروي أن الزبير رضي الله عنه شفع في سارقٍ فقيل له: حتى يبلغه الإمام فقال: إذا بلغ الإمام يلعن الله الشافع والمشفوع كما قال صلى الله عليه وسلم وروي أن معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أتي بلصوصٍ فقطعهم حتى بقي واحدٌ منهم فقدم ليقطع فقال: يمين أمير المؤمنين أعيذها بعفوك أن تلقى نكالًا يشينها يدي كانت الحسناء لو تم سترها ولا تعدم الحسناء عيبًا يشيبها فلا خير في الدنيا وكانت حبيبةٌ إذا ما شمالي فارقت يمينها فقال معاوية: كيف أصنع بك وقد قطعت أصحابك؟ فقالت أم السارق: يا أمير المؤمنين: اجعلها من ذنوبك التي تتوب منها فخلى سبيله فكان أول حدٍّ ترك في الإسلام. فإن قيل: ما معنى قوله صلى الله عليه وسلم:" أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم إلا الحدود" قلنا: قال الشافعي رضي الله عنه: أراد بذوي الهيئة من لم يظهر منه ريبة، وقيل: خاطب الأئمة في التعزير إن شاءوا عزروا، وإن شاؤوا وتركوا به خاصةً في ذوي الهيئة، وأما إذا أنكر السارق فالقول قوله مع يمينه [81/أ] فإن كان للمدعي بينةٌ تقبل ولا يقبل إلا شهادة رجلين عدلين. فرع آخر إذا شهد رجلان بالسرقة قال الشافعي رضي الله عنه: استثبتت البينة فإن قالا: هذا

وأشاروا (إلى) السارق سرق من هذا، وأشارا إلى المسروق منه ربع دينار أو ما قيمته ربع دينار من حرز مثله وعينا الحرز ووصفاه لأن فيه اختلافًا قطع حينئذ ولا يكفي أن يقولا: سرق نصابًا من حرز لأن قدر النصاب وكيفية الحرز مختلف فيهما. قال القاضي الطبري: ويقولان: لا شبهة له فيه وهذا تأكيد لأن الأصل عدم الشبهة وهكذا إذا لم يحضر المالك وحضر وكيله وأقام البينة يحتاج أن يذكر البينة المشهود له وترفع نسبة إلى حيث يزول الإشكال، فإن كان وكيله ويذكر النصاب والحرز والسارق والمسروق، وأما قول الشافعي: ويدعي شهادتهما معناه يدعي سرقة المال الذي شهدا عليه. فإن قيل: الشافعي لم يذكر إعادة الشهادة بعد حضور المسروق منه ومعلوم أن الدعوى ما لم تسبق لم تسمع الشهادة قلنا: في هذا الكلام تقديم وتأخير، ومراده أن يحضر المسروق منه أولًا ويدعي شهادتهما ثم يشهدان ويحتمل أن يكون معنى قوله: ويدعي شهادتهما فيعدان شهادتهما [81/ب] غير أنه لم يذكر الإعادة ويحتمل أن يقال: لما كان حد السرقة حد الله تعالى لا دعوى فيه، ولا تتحقق السرقة إلا بذكر المال المسروق منه والمسروق فإذا سبق الشاهدان حضور المسروق فشهدا ثم حضرا المالك استغني عن إعادة الشهادة وصار حق المال فيه تبعًا لحق الحد في جواز الاقتصار عل الشهادة المسموعة والاستغناء عن الاستعادة والصحيح أنهما شهدا حسبة وقبلناها للقطع ثم حضر المسروق منه وادعى المال أو أمر بشبهةٍ للسارق في ذلك لا يقطع. فرع آخر لو أقر ابتداءً من غير دعوى بأن يقول: سرقت مال فلان الغائب قدر النصاب بشرائط القطع أو قال: زنيت بجارية فلانٍ الغائب، قال أبو حامد: هو كما لو شهد به الشهود قال الشافعي: ولو شهدا أن هذا بعينه سرق مالًا مبلغه كذا من حرز وصفاه من فلانٍ ابن فلانٍ الغائب وهما يعرفانه باسمه ونسبه حبس السارق حتى يحضر المسروق منه، فإذا حضر وأكذب الشهود لم يقطع ولم يغرم قال: وإن كان ذلك في الزنا وشهد عليه أربعةٌ بأنه زنا بجارية فلانٍ الغائب وهما يعرفونه بعينه ونسبه أقيم عليه الحد ولم ينتظر حضور المالك، واختلف أصحابنا على ثلاثة طرقٍ فمنهم من قال: في كلتا المسألتين [82/أ] قولان على سبيل النقل والتخريج وهذا اختيار أبي إسحاق: أحدهما: لا يقطع ولا يحد حتى يحضر الغائب لأن الحد يسقط بالشبهة ويحتمل أن يكون المال المسروق للسارق اغتصبه المسروق منه أو من أبيه أو أودعه عنده أبوه ولا يعلم به السارق. ويحتمل أن يكون المسروق منه أباحه، وكذلك في الأمة يحتمل ما ذكرنا من كونها ملكًا له والشهود شهدوا على الظاهر. والثاني: يقطع ويحد لأن سبب الحد قد وجد وجواز الشبهة لا يمنعه كما تجوز الشبهة، وإن ادعاه المسروق منه أو

وكيله، ومن أصحابنا من قال: المسألتان على ظاهرهما وهو اختيار ابن سلمة وابن الوكيل والقاضي أبي حامد وهو الأصح. والفرق أن القطع في السرقة جعل لصيانة الأموال وتحصينها فكان معلقًا بحق الآدمي فلم يقم إلا بعد دعواه وليس كذلك حد الزنا لأنه لم يجعل لتحصين الأموال على الآدميين بل هو حق الله تعالى خالصًا فلم يتعلق بالدعوى وأيضًا حد الزنا لا يسقط بالإباحة والقطع في السرقة يسقط بالإباحة لأنه لو قال: أبحت لكل من دخل الحرز أخذ ما فيه لا يجب القطع على سارقه، ولو قال: أبحت جاريتي لفلان لا يسقط الحد به. وأيضًا أوسع في الإسقاط، ولهذا لو سرق مال أبيه لم يقطع، ولو زنا بجارية أبيه حد. [82/ب] ومن أصحابنا من قال: وهو اختيار ابن سريج لا يقطع ولا يحد حتى يحضر الغائب قولًا واحدًا وما ذكره في حد الزنا خطأ من الناقل، وقيل: المنصوص أنه لا يقطع وخالفه أبو إسحاق وهو غلط. وقال ابن أبي هريرة: يقطع ويحد قولًا واحدًا في الإقرار والطرق الثلاثة من الشهادة بها. وهو اختيار صاحب "الحاوي" وهذا لقوة الشبهة في الشهادة وضعفها في الإقرار، وإن إقراره على نفسه أقوى من شهادة غيره عليه. فرع آخر إذا قلنا: يقطع مع غيبة المالك انتزعت منه السرقة ويغرم قيمتها إن كانت تالفة، ثم إن رجع الغائب وادعاها سلمت إليه فإن أنكرها فإن كان ثبوتها بشهادة ردت إلى السارق، وإن كان ثبوتها بالإقرار لم ترد إليه وكانت في بيت المال لأنه في الإقرار منكر لاستحقاقها بخلاف البينة ويفارق هذا ما إذا أقر بدين لغائب لم يؤخذ منه لأن صاحبه رضي بذمته وإن قلنا: لا يقطع فإن كانت السرقة تالفة لم يقبض منه لتكون ذمته مرتهنة به وحبس على حضور الغائب فيه وجهان: أحدهما: لا يحبس لبقاء العين المسروقة. والثاني: يحبس لحق الله في قطعه. فإن قيل: كيف يحبس لحق غائب لم يطالبه ولو أقر أنه غصب مال غائب لم يحبس؟ قلنا: الفرق أنه لا ولاية على [83/أ] الغائب فإذا لم يوجد منه المطالبة ولا له تعلق به لم يحبسه وهنا يتعلق به القطع وله المطالبة به فيحبس من أجله حتى لو مات المغصوب منه وخلف أطفالًا فللإمام مطالبته وحبسه عليه لأن له في مال الأطفال ولاية قال ابن أبي هريرة: وهذا إذا كانت مسافة الغائب قريبة فإن كانت الغيبة بعيدة لا يحبس لأنه لا يعلم غاية الحبس وعلى هذا إن كان الحبس لغرم السرقة طولب بكفيل وأطلق، وإن كانت العين قائمة انتزعت من يده وجعلت في يد أمين. ومن أصحابنا من قال: يحبس بكل حالٍ وهو كلام الشافعي رضي الله عنه. لو امتنع عند تلف السرقة من إقامة

كفيل حبس على الكفيل لا على قدوم الغائب فإن غرم السرقة لم يجبس ولم يكفل. فرع آخر لو سرق رجلان وغاب أحدهما وشهد شاهدان على سرقتهما شهادة كاملة قطع الحاضر. مسألة: قال: ولو ادعى أن هذا متاعه غلبه عليه أو ابتاعه منه أو أذن له في أخذه لم أقطعه. قد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم وهو أن يدعي السارق أن المتاع ملكه وكان قد غلبه عليه أو اشتريت منه أو أذن المالك لي بأخذه وقول الشافعي: حلفت المسروق منه فإن نكل أحلفت المشهود عليه أراد في دعوى الغصب أو الشراء، أما إذا قال: كان أذن لي [83/ب] في أخذه فلا يحلف المدعى عليه أنه لم يأذن بل يرد إليه المال بلا يمين. ولو قال: كذب الشهود في الشهادة لا يلتفت إلى قوله لأن البينة حجة لا يطرح المشهود عليه فرع لو قال: الشهود عبيدي لا يدرء القطع قال ابن أبي أحمد: إلا أن يكون قاله قبل الشهادة ولعل حجته أن تصير خصمًا ولا تجوز شهادة الخصم. فرع آخر لو أقر رجلان بالسرقة ثم ادعى أحدهما أن ما أخذه له درء عنه القطع وأقيم على المقر القطع. وهكذا لو ثبتت السرقة على رجلين بشهادة الشهود ثم ادعى أحدهما ملك المسروق دون الآخر سقط القطع عن المدعي دون الآخر. فرع آخر قال ابن أبي أحمد: لو سرق اثنان نصف دينار فادعى أحدهما أن كله لي، ولم يدع الآخر ولكنه صدقه لا قطع عليهما لأن المدعي خصم والمصدق أخذ نصف ما أخرجه بعلم من صدقه أنه له ولم يحرزه عنه، وإن كذبه في دعواه قطع المكذب على ما ذكرنا. فرع آخر قال أيضًا: لو سرق عبد من إنسان مالًا وادعى العبد أن ما أخذه مال سيده وأنكر السيد لا يقطع لادعائه شبهة يمكن صدقه فيها وإنكار السيد للشبهة غير مقبول عليه كما لو أقر السيد على عبده بما يوجب قطعه لم يقبل قوله على العبد إذا أنكره. فرع آخر قال أيضا: لو ادعى السارق أن المسروق منه عنده لا قطع عليه [84/أ] أيضًا،

وكذلك لو ادعى أن الدار التي دخلها منزله غصبها منه ساكنها لم يقطع لأنه خصم يدعي شبهةً تنافي السرقة. مسألة: قال: وإن لم يحضر رب المتاع حبس السارق حتى يحضر. قد شرحنا المسألة. مسألة: قال: ولو شهد رجل وامرأتان أو شاهدٌ ويمين على سرقةٍ أوجبت الغرم في المال ولم أوجبه في الحد. هذا توسع في العبارة لا أن الحد يسمى غرمًا، وقد ذكرنا أنه إذا ادعى سرقةً أقام شاهدًا وامرأتين أو شاهدًا وحلف معه يجب الغرم على السارق ولا يلزمه القطع لأنه حد لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين وهذا كما لو قال: إن كنت غصبت هذا المال فامرأتي طالق فشهد رجل وامرأتان على الغصب ثبت في حق الضمان دون الطلاق، قال ابن سريج: هذا إذا حلف قبل حكم الحاكم بشاهدٍ وامرأتين أو بشاهدين بالغصب ثم حلف أنه ما غصب طلقت لأنه أمر ثابت جعله صنعةً في الطلاق، ولا يراعي سببه بأي أمرٍ ثبت وقد يترتب على الأمر الثابت بالبينة مالا يثبت بمثل تلك البينة، كأحكام النسب يترتب على الولادة الثابتة بأربع نسوةٍ ذكره القفال وقال: هذه أحد القولين وفيه قول آخر لا يثبت المال ولا القطع في أصل المسألة وهذا غريب. مسألة: قال: وفي إقرار [84/ب] العبد بالسرقة شيئان. الفصل قد ذكرنا هذه المسألة فيما تقدم، وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يقبل إقراره في المال؟ قولان فقيل: محل القولين إذا كان المسروق قائمًا، لأن له تعلقًا ظاهرًا بالسرقة فإن كان تالفًا لا يقبل قولًا واحدًا. لأن العبد يدعي شيئًا وراء السرقة إذا ليس من ضرورة السرقة الإتلاف حتى يباع رقه فيها، وقيل: القولان في التالف، والقائم يسترد قولًا واحدًا لأنه بيد سيده فلا يقبل فيه قول العبد، وقيل: القولان في القائم، وفي التالف يقبل قولًا واحدًا، وقيل: القولان في الكل. فرع آخر لو شهد أحد الشاهدين أنه سرق ثورًا أبيض، وشهد الآخر أنه سرق ثورًا أسود لم يقطع لاختلاف الشهادتين، وقال أبو حنيفة: يقطع لاحتمال أن يكون نصفه أبيض ونصفه أسود فرأى أحدهما السواد والآخر البياض وهذا لا يصح لأن القطع يسقط بالاحتمال، ولأنه لو شهد أحدهما أنه سرق ثورًا والآخر أنه سرق بقرة لا يقبل ولا يقال: يحتمل أن يكون خنثى فرأى أحدهما آلة الذكر والآخر آلة الأنثى كذلك هنا.

باب غرم السارق

باب غرم السارق مسألة: قال: أغرم السارق ما سرق. الفصل اعلم أنه إذا سرق عينًا يجب فيها القطع فإن كانت باقيةً ردها [85/أ] بلا خلاف، وإن كانت تالفةً رد قيمتها وبه قال الحسن والنخعي وحماد وعثمان البتي والزهري والأوزاعي والليث وابن شبرمة وأحمد وإسحاق وداود وأبو ثور، وقال أبو حنيفة والثوري: لا يجمع بين القطع والغرم فإن طالب صاحبها بالغرم وغرم له سقط القطع ولو أتلفه بعد القطع لا غرم عليه أيضًا وروى الحسن بن زياد اللؤلؤي عنه: أنه لو أتلفها بعد القطع يغرم: وقال أبو يوسف ومحمد: لا يغرمها أصلًا، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: لو قطع السارق فأتلف أجير المسروق لم يضمن للسارق لأنه غير مالكٍ ولا للمالك لئلا يجتمع في حقه بين القطع والغرم، وقال أيضا: لو سرق حديدا فضربه كوزًا فقطع لا يلزمه رد الكوز لأنه صار كالعين الأخرى، وقال أيضا: لو كان ثوبًا فصبغه أسود فقطع يده لم يرده لأنه صار بالسواد كالمستهلك ولا يحل له التصرف فيهما قال: ولو صبغه أحمر أو أصفر فقطع لا يرد العين أيضًا. وقال أبو يوسف ومحمد: هنا يلزمه رد العين واحتج بأنه لو رد لكان شريكًا فيها بصبغه ولا يجوز القطع فيما هو شريكٌ فيه وهذا لا يصح لأن صبغه كان قبل القطع، فلو صار شريكًا بالصبغ لسقط القطع، وإن كان يصير شريكًا بالرد فالشركة الطارئة بعد القطع لا تؤثر كما لو باعه نصفه بعدما قطع صح وصار شريكًا فيه [85/ب] واحتج في سقوط الغرم بعد القطع بما روى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا قطع السارق فلا غرم عليه" ودليلنا أن العين إذا كانت قائمة بعد القطع وجب ردها ومن وجب عليه رد العين وجب عليه رد القيمة إذا أتلفها كما قبل القطع رواه سعد بن إبراهيم عن المسور عن عبد الرحمن. قال ابن المنذر: سعد بن إبراهيم مجهول، والمسور عن عبد الرحمن مرسلٌ ويحمل على الغرم الثاني الذي كان من أول الإسلام ثم نسخ. وقال مالك: يقطع بكل حالٍ، وأما الغرم يلزمه إن كان غنيًا وإن كان فقيرًا لا يلزمه ودليلنا القياس على المغصوب لا فرق فيه بين الغني والفقير، وكذلك حكم قاطع الطريق وقد قال الشافعي: لا يسقط حد الله تعالى إذا غرم ما أتلف العباد. فرع إذا سرق فضةً فضربها دراهم أو ذهبًا فضربه دنانير يقطع ويرد إلى صاحبه وبه قال أبو حنيفة، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يرد بناءً على أصلهما أنه يسقط حق صاحبها عنها. وقد دللنا على فساد هذا الأصل.

باب مالا قطع فيه

باب مالا قطع فيه مسألة: قال: ولا قطع على من سرق من غير حرزٍ ولا في خلسةٍ ولا على عبد سرق من متاع سيده. وقد ذكرنا حكم السرقة من غير حرزٍ وحكم المختلس، وأما العبد فلا يقطع بسرقة مال سيده. وبه قال [86/أ] جماعة الفقهاء، وقال داود: يقطع بها. وهذا غلط لما روى السائب بن يزيد أن عبد الله بن عمرو الحضرمي جاء بغلام له إلى عمر رضي الله عنه فقال له: اقطع يد هذا فإنه سرق فقال له عمر: ماذا سرق؟ فقال: سرق مرآة لامرأتي ثمنها ستون درهمًا. فقال عمر: أرسله فليس عليه قطع خادمكم سرق متاعكم، وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه سئل عن عبدٍ سرق قباء لعبد له فقال: مالك سرق بعضه بعضًا لا قطع عليه وهو قول ابن عباس وكأن له فيه شبهة النفقة وكذا لو سرق المكاتب من سيده لا يقطع لأنه من حكم ملكه، ولو سرق السيد من مال مكاتبه لا يقطع أيضًا؛ لأن له فيه شبهة الملك والمال متردد بينه وبين المكاتب وأما التلميذ والأجير إن سرق ما هو محرز عنه قطع ولا يقطع فيما يتبسط فيه في داره وخزانته ويكون ذلك خيانة. مسألة: قال: ولا على زوجٍ سرق من متاع امرأته ولا على امرأةٍ سرقت من مال زوجها. اعلم إنه إذا سرق أحد الزوجين مال صاحبه نقل المزني أنه لا يقطع واحد منهما، وقال في كتاب "اختلاف أبي حنيفة والأوزاعي": إذا سرقت المرأة من مال زوجها الذي لم يأتمنها عليه وأحرزه منها [86/ب] قطعت. وقال القاضي أبو حامد: فرق الشافعي في رواية الحارث بن شريح البقال بين المرأة والزوج فأسقط عن المرأة القطع وإن كان في حرزٍ منها للشبهة التي لها في ماله ولم يسقطه عن الزوج وجملته أنه ينظر فإن كان مال واحد مختلطًا بمال الآخر، أو كان متميزًا إلا أنه غير محرز عنه فسرقه لا يقطع قولًا واحدًا وإن كان محرزًا عنه فسرقه ففيه طرقٌ: أحدها: وهو قول الأكثرين المسألة على قولين. أحدهما: لا يقطع يد واحدٍ منهما وبه قال أبو حنيفة لأن لكل واحد منهما في مال صاحبه شبهة، أما المرأة فلما تستحقه عليه من النفقة، وأما الزوج ورد له فيه شرع

متأول حتى ذهب جماعةٌ من الفقهاء إلى أن المرأة لا تتصرف في مالها إلا بإذنه وأن الزوج هو القيم عليها به ولأن كل واحدٍ منهما ينبسط في مال صاحبه فأشبه الولد مع الوالد. والثاني: يقطع وبه قال مالك وأحمد وإسحاق وأبو ثور واختاره المزني وهو الصحيح لأنه عقد على منفعةٍ فلا يتضمن سقوط القطع كالإجارة وأما ما ذكره القائل الأول فيبطل بالصديقين المتلاطفين فإن بينهما تبسطًا وتقطع يد كل واحدٍ منهما بمال صاحبه. والثانية: أنه تقطع يد كل واحدٍ منهما بمال صاحبه وأراد بما ذكر [87/أ] في موضعٍ آخر إذا لم يكن محرزًا عن صاحبه وهذه الطريقة ضعيفة. والثالثة: قال القاضي أبو حامد: فيه ثلاث أقوالٍ على ظاهر النصوص. فرع قال الشافعي رضي الله عنه: ولا على عبد واحدٍ من هؤلاء سرق متاع صاحبه وأراد به أن المرأة إذا لم تقطع بمال زوجها فكذلك عبدها لا قطع بماله، وإذا لم يقطع زوجها بمالها فكذلك عنده لا يقطع لأن يد عبده يده وهذا تفريعٌ على أحد القولين والدليل على هذا خبر الحضرمي الذي ذكرنا، وقال بعض أصحابنا بخراسان: يحمل أن يقال بخلافه لأن العم يدلي إلى الجد بالبنوة ويقطع وهذا خلاف النص. مسألة: قال: ولا يقطع من سرق من مال ولده. الفصل لا تقطع يد الأب بسرقة مال ولده ولا ولد ولده سواء في ذلك ولد البنت وإن سفل، ولا يقطع الابن بسرقة مال أبيه ولا جده وإن علا ولا بسرقة مال أمه وجدته وإن علت، وكذلك الجد من قبل الأم وإن علا، وقال داود وأبو ثور: تقطع يد الأب والابن في السرقة، وقال قومٌ: تقطع يد الابن دون الأب كالقصاص. وهذا غلط لقوله صلى الله عليه وسلم: "أنت ومالك لأبيك" حين قال له رجلٌ: يا رسول الله إن أبي يريد أن يأخذ من مالي كذا وكذا، وقال حباب بن فضالة لأنس بن مالك: [87/ب] ما يحل لي من مال أبي؟ قال: ما طابت به نفسه، قال: فما يحل لأبي من مالي؟ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "أنت ومالك لأبيك" وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن أعرابيًا قال: يا رسول الله إن أبي يريد أن يحتاج مالي قال: "أنت ومالك لأبيك إن أطيب ما أكلتم من كسبكم فكلوا هنئاً". وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أولادكم

هبة الله عز وجل يهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور وهم وأموالهم لكم" ولأن على كل واحدٍ منهما نفقة الآخر الأحياء فلا يجب إتلافه لأجل المال. فإن قيل: لم فرقتم بين الأب والابن في القصاص وحد القذف وحد الزنا إذا وطئ جاريته وسويتم بينهما في هذا الحكم؟ قلنا: إن الأب يستحق على الابن جنس الوطء بالإعفاف وهو السبب في اتخاذ الابن فلا يجوز أن يكون سببًا لإعدامه والنفقة تراد لإحياء النفس وهما فيها سواء فصار استحقاقها شبهة لسقوط القطع عنهما، وإذا سرق من سائر الأقارب كالأخوة والأعمام وغيرهم يلزم القطع كما في الأجانب، وقال أبو حنيفة: لا قطع على من سرق من ذي رحم محرم وهذا لا يصح لأنها قرابة لا يتعلق بها رد الشهادة، ولا منع دفع الزكاة فأشبهت قرابة بني الأعمام. [88/أ] مسألة: قال: ولا قطع في طنبور. الفصل قال الشافعي رضي الله عنه هنا: ولا قطع في طنبور ولا مزمار، وقال في مواضع أخر: إلا أن يبلغ قيمته ربع دينار فيقطع وهذا لأن لجميع الناس حق نقص تلك الصنعة المحرمة، فإذا لم تبلغ قيمته نصابًا إلا بالصنعة المحرمة لا يقطع، وإن كان بعد فساد الصنعة المحرمة تبلغ قيمة الواحد نصابًا ليعاد إلى الحالة الأولى ويتخذ منها الملاهي بل لأمرٍ آخر يلزمه القطع. قال أصحابنا: كذلك إذا كان عليه من الذهب والفضة ما يبلغ القطع يقطع، وقال أبو حنيفة: لا يقطع لأن عنده إذا اتصل ما فيه القطع بما ليس فيه لا يقطع، وقال في الصليب من ذهبٍ وزنه نصاب وأكثر لا قطع فيه لأنه اتخذ لأمر محرم ودليلنا أنه سرق نصابًا من ذهب من حرزٍ مثله فيلزمه القطع. وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا قطع فيهما بحالٍ لأنهما من آلات اللهو المحرم وليس لهما في الحقيقة حرز لأن كل إنسان مأمور بإفسادها ودخول حرزه ليفسدها ولأنه لا يجوز إمساكها فصار كالمال المغصوب إذا سرق من حرز الغاصب وهذا غلط لأن في المغصوب ما رضي مالكه بحرزه بخلاف هذا، وقيل: فيه ثلاثة أوجهٍ، والثالث قال ابن أبي هريرة: إن أخرجه مفصلًا يقطع لزوال المعصية وإلا فلا [88/ب]. فرع قال: ولا يقطع في خمر ولا خنزير لأنه لا قيمة لهما، ولا فرق بين أن السرقة من مسلم أو ذميٍّ، وقال عطاء: إذا سرقها من ذمي يقطع لأنهم يعدونه مالًا وهذا غلط لأنه لو سرقه من المسلم يقطع، فكذلك إذا سرقها من الذمي كالدم وهكذا الخلاف معه في الصليب إذا كانت قيمته نصابًا لتأليفه.

فرع آخر لو كانت الصرة في كمه فبط الكم وأخذها يقطع خلافًا لأبي حنيفة، وإن كان مشدودًا في كمه فسرقه سارقٌ يقطع سواء كان شده خارج الكم أو داخل الكم، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: إن جعله من داخل إلى برا وشده قطع وإن جعله من برًا إلى داخل وشده لم يقطع وهذا بعيد وبالعكس أولى. فرع آخر لو سرق مالًا مشتركًا بينه وبين غيره لا يقطع قلت الشركة أو كثرت وإن بلغ نصيب المسروق نصابًا أو نصبًا كثيرةً لأن ثبوت الشركة أقوى بالشبهة، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان: أحدهما: هذا، والثاني: يقطع لأنه لا شبهة له في مال شريكه. فرع آخر قال هذا القائل: إذا قلنا: تقطع يده في المال المشترك نظر فإن كان المال متساوي الأجزاء بحيث يجبر الشريك على قسمته بالقرعة كالدراهم والحنطة فيه وجهان: أحدهما: أنه إذا كان [89/أ] الدينار بينهما نصفين فسرق نصف دينار قطع لأنا نتحقق أن ربع الدينار ملك شريكه خاصةً، والثاني: لا يقطع بهذا ولكن يجمع حقه فيما سرق فإن كان المشترك دينارين لم يقطع إلا بأن سرق دينارًا وربعًا، ولا يقطع إذا سرق دينارًا، لأن الدينار حقه والدنانير بينهما متماثلة الأجزاء ولهذا إذا امتنع أحد الشريكين عن القسمة فللأخر أن يأخذ نصيب نفسه، فأما إذا كان المال المشترك غير متساوي الأجزاء كالثياب ونحوها فإنه يقطع وجهًا واحدًا إذا سرق ما يساوي نصف دينار، والفرق أن هناك المال متساوي الأجزاء فإذا أخذ دينارًا فله في جملة المال دينار فجعله كأنه أخذ نصيب نفسه وهناك المال متقارب الأجزاء فلا يجوز له بحال أن يأخذ منه شيئًا إلا بإذن الشريك، فإذا سرق ما يساوي دينارًا جعل سارقًا لربع دينار فقطع. فرع آخر لو شهد أحدهما بسرقة وقال: قيمته كان نصابًا، وقال الآخر: أقل من نصاب لا يلزم القطع ويؤخذ في المال بالأكثر ويحلف مع الشاهد بالأكثر ويأخذ، وإن رضي بأقل القيمتين يأخذها من غير يمين. فرع آخر لو شهد شاهدان بأنه نصاب والآخر بأنه دون النصاب لا يقطع ويؤخذ في الغرم بالأقل [89/ب] وقال أبو حنيفة: يؤخذ بالأكثر في الغرم ووافقنا في القطع. فرع آخر لو قعد الرجل في بيته أو حانوته وفتح الباب وأذن في الدخول عليه للتجارة فدخل داخل وسرق شيئًا متغفلًا لا يقطع، لأنه دخل بالإذن فأخذه خيانةً لا سرقة ًكرجلين سرقا بيتًا فسرق أحدهما من صاحبه لم يقطع، وذكر بعض أصحابنا بخراسان أنه يقطع

وإن لم يأذن للناس في الدخول عليه وجلس فيه حافظًا مراقبًا فدخل داخلٌ على غفلةٍ منه وسرق قطع. فرع آخر لو كان صاحب البيت نائمًا في هذه المسألة فدخل داخل على غفلةٍ منه وسرق بعض ما هو موضوع حوله فيه وجهان: أحدهما: يقطع لأن المكان ملكه وهو فيه، وقد جرت العادة بأن ينام صاحب الدار ساعة وساعتين والباب مفتوح، والثاني: لا يقطع أن الموضع وإن كان ملكه والباب مفتوح والنائم كالغائب، ولو وضع ساعةً في بيت مفتوح وغاب فسرق لم يقطع كذلك هنا. فرع آخر لو قعد في السوق أو في المسجد وهناك كثرة الناس المارة فالصحيح أنه كما لو أذن في دخول بيته فلا قطع لأن المكان مشترك بينه وبين غيره، وفيه وجه آخر يقطع ولو كان مثل هذا في الصحراء فجلس ينظر إلى الشيء وهو موضوع يديه فتغفله السارق وأخذه قطع لأن الناس يقلون هناك، والغالب أنه لا يدنو منه أحد إلا وهو يشعر به [90/أ] ولو نام والشيء موضوع بين يديه لا يكون محرزًا لا في المسجد ولا في السوق كما في الصحراء، وهكذا لو خلع نعليه أو خفيه في موضع. فرع آخر لو نصب الصباغ أو القصار شيئًا على باب حانوته وألقى عليه الثياب فلذلك حرز يقطع فيه ذكره أصحابنا. فرع آخر لو سرق من الغنيمة واحد من الغانمين بعد إخراج الخمس منها فحكمه حكم السارق من المال المشترك على ما ذكرنا، وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه أتى برجل سرق مغفر حديد من الخمس فقال: ليس عليك قطع هو خائن وله نصيب، وروي في معناه خبر مرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم. فرع آخر لو سرق صبي وبالغ أو والد وأجنبي من مال الولد، قطع البالغ والأجنبي خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله تعالى.

كتاب قطاع الطريق

كتاب قطاع الطريق قال الشافعي رضي الله عنه: روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في قطاع الطريق: إذا قتلوا وأخذوا المال قُتلوا. الفصل الأصل في حد قطاع الطريق الكتاب والسنة والإجماع، أمال الكتاب فقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} الآية [المائدة: 33 [، هذه الآية وردت في قطاع الطريق من المسلمين وبه قال أكثر العلماء، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما [90/ب] أنه قال: وردت في المسلمين وأراد به إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلافٍ، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا مالًا نفوا من الأرض فإن هرب وأعجزهم فذلك نفيه وبه قال قتادة وسعيد بن جبير والنخعي، وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: نزلت هذه الآية في المرتدين والعرنيين حين ارتدوا عن الإسلام وقتلوا الرعاة وتمام قصتهم ما روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن رهطًا من عكل وعرينه أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله إنَّا أناس من أهل ضوع ولم نكن من أهل ريف فاستوخما المدينة، فأمر لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بذود وزاد وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من أبوالها وألبانها وروي: فأمر لهم بلقاح فانطلقوا حتى إذا كانوا ناحية الحرة قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا الذود وكفروا بعد إسلامهم فبعث النبي صلى الله عليه وسلم في طلبهم فأمر بهم فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم وتركهم في ناحية الحرة حتى ماتوا، وروي أنهم لما صبحوا قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم واستاقوا النعم فأرسل في آثارهم فما ارتفع النهار حتى جيء بهم [91/أ] ففعل بهم ما ذكرنا والقوا في الحرة يستقون فلا يسقون حتى ماتوا فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشًا، وروي فاجتووا المدينة معناه عافوا المقام بالمدينة وأصابهم بها الجى في بطونهم، واللقاح: ذوات الدر من الإبل واحدتها لقحة وقوله: سمر أعينهم، يريد أنهم كحلهم بمسامير محماة والمشهور من الرواية سمل باللام أي: فقأ أعينهم، والقافة: جميع القائف وهو الذي يتبع الأثر ويطلب الضال والهارب وقوله: يكدم الأرض أي يتناولها بفيه ويعضها بأسنانه وأصل الكدم العض، وقال الحسن البصري: هذه الآية وردت في الكفار دون المسلمين لأن الله تعالى قال: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ

يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}] المائدة: 33] وهذه صفة الكفار، وقال قومٌ: وردت في المعاهدين دون المسلمين وبهذا قال أنس أيضًا، وقال قومٌ: وردت في المعاهدين نقضوا العهد وفعلوا ذلك، وروي هذا ابن عباس في رواية شاذة، ودليلنا أن الله تعالى قال من بعد هذه الآية: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] ولو كان المراد به الكفار لكانت التوبة تسقط عنهم القتل سواء كان قبل القدرة أو بعدها، وأما قوله {يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} يحاربون المسلمين الذين هم حزب الله وحزب رسوله فأضيف ذلك إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم إذ كان هذا الفعل بالخلاف لأمرهما راجعًا [91/ب] إلى مخالفتها وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: "من آذى وليًا فقد بارزني بالمحاربة" وقيل: المحاربة قد تكون من المسلمين بارتكاب المعاصي قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ الرِّبَا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَاذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: 278 - 279] قال ابن سرين: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين قبل أن تنزل الحدود، وقال أبو الزناد: لما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم ذلك أنزل الله تعالى الحدود ووعظه ونهاه عن المثلة، وقال قتادة: بلغنا أنه كان صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يحث في خطبته على الصدقة وينهي عن المثلة، وأما السنَّة فما ذكرناه. وأما الإجماع فلا خلاف بين المسلمين في أصل حدهم. فإذا تقرر هذا قال الشافعي رضي الله عنه بقول ابن عباس: أقول والمحاربون هم قطاع الطريق الذين يعترضون القوم بالسلاح في الصحاري والطرق فيغتصبون المال مجاهرةً، وأحكامهم على الترتيب فإن أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال ولم يقتلوا يأخذهم الإمام ويعزرهم بأن يحبسوا في أرضٍ غير التي أفسدوا فيها ومن الناس من قال: يحسبون في الأرض التي أفسدوا فيها، قال ابن سريج: وهذا ضعيف، لأن الحبس في بلد الغربة أحوط وأبلغ في الردع والزجر كما ينفي الزاني عن بلده [92/أ] ردعًا وتغليظًا وإن قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا قتلًا متحتمًا لا يدخله العفو ويكون ذلك في معنى القصاص ومعنى الحد من جهة الإمام. وقال عمر رضي الله عنه: الولي إذا عفا عن القصاص في المحاربة لا يصح عفوه، وإن أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف حتمًا، وإن جمعوا بين الأمرين فقتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا فإن لم يقدر الإمام عليهم طلبهم أبدًا حتى إذا وقعوا في يد الإمام استوفى منهم الحد وهذا معنى قوله تعالى: {أَوْ يُنفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] وهو قول ابن عباسٍ وحماد والليث وقتادة وأبي مجلز وأحمد وإسحاق ومحمد وهذه العقوبات عندنا على الترتيب لا على التخيير، وقال عمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير: نفيهم إلى إخراجهم من مدينة إلى أخرى، وقال أنس والحسن: نفيهم إبعادهم من بلاد الإسلام إلى بلاد الشرك. وقال أبو حنيفة: إذا جمعوا بين القتل وأخذ المال فالإمام مخير فيهم

بين ثلاثة أشياء أن يقتلهم فقط، أو يقطع أيديهم وأرجلهم ويقتلهم، أو يقتلهم ويصلبهم قال: والنفي من الأرض أن يحسبوا وعندنا لا يتخير الإمام الحدود بحالٍ قياسًا على سائر الحدود ولا يجوز أن يجمع بين القتل والقطع وخرّج ابن سلمة من أصحابنا قولًا آخر أنه إذا قتل وأخذ المال يقطع [92/ب] للمال ويقتل للقتل ويصلب للجمع بينهما وليس بشيء. وقال مالك: الآية مرتبة على صفات قطاع الطريق فإن شهروا حد السلاح وأخافوا السبيل ولم يفعل غير ذلك فإن كان من أهل الرأي والتدبير قتل، وإن كان من أهل البطش والقتل قطعت يده ورجله من خلافٍ، وإن كان مهينًا لا رأي له ولا بطش نفي المسيب وعطاء ومجاهد والحسن والنخعي والضحاك وداود: الآية على التخيير فإذا شهروا السلاح وقطعوا الطريق فالإمام مخير فيهم بين القتل والصلب والقطع سواء قتلوا أو لم يقتلوا، واحتجوا بأن كلمة لو تقتضي التخيير كقوله تعالى: {إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} إلى قوله: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89 [. ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاثٍ" الخبر ولم يوجد ممن أظهر السلاح وأخاف السبيل واحد منها، وأما الآية قلنا: روينا عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: هي على الترتيب، فإما أن يكون ما قاله توقيفًا أو لغةً وأيهما كان وجب المصير إليه والذي يدل عليه أنه بدأ بالأغلظ فالأغلظ وهو عرف القرآن فيما أريد به الترتيب وما يراد به التخيير يبدأ بالأخف كما قال في كفارة اليمين {فًكَفارَتُهُإِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [93/أ] ثم قال: {أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وبدأ في كفارة الظهار والقتل بالعتق، ولأنا إذا حملنا الآية على الترتيب بكل لفظة فائدة جديدة وفيه تنزيل العقوبات على منازل الجنايات والإجرام وكان أولى ولا تعليق الأحكام على الأفعال أو من تعليقها على الأوصاف لأن العقوبات تتعلق بالأفعال لا بالأوصاف ولهذا اختلف حكم الزاني والسارق والقاذف وهذا لئلا يؤدي الحد أن يعاقب من قبل جرمه بأغلظ العقوبات، ومن كثر جرمه بأخف العقوبات. فرع إذا قتل في قطع الطريق قد ذكرنا بأنه يقتل حتمًا ولا يجوز للولي أن يصالح عنه على مال، وقال بعض العلماء: للولي العفو والمصالحة على مالٍ. وهذا غلط لما ذكرنا ولأن الله تعالى قال: {أَنْ يُقَتَّلُوا} [المائدة: 33] فأوجب القتل وحتمه ولأن كل معصيةٍ وجبت بها عقوبة في غير المحاربة وجبت بها زيادة عقوبة عند المحاربة كأخذ المال ولا زيادة هنا إلا باقتحام.

فرع آخر هل يعتبر فيه التكافؤ أم لا؟ قولان أحدهما: لا يعتبر فيقتل العبد والذمي والابن لأنه محض حق الله تعالى لا يدخله العفو فأشبه حد الزنا، والثاني: وهو الأصح يعتبر فيه التكافؤ لأنه قَوَد ولكنه انحتم في المحاربة تغليظًا في المحاربة تغليظًا كالقطع المعلق بأخذ المال يعتبر فيه النصاب في المحاربة كما يعتبر [93/ب] في غير المحاربة، وإن كان في المحاربة أغلظ يضم إليه قطع الرجل. فرع آخر إذا قتل دفع إلى أهله ليغسل ويكفن ويصلى عليه ويدفن، وقال أبو حنيفة: لا يغسل ولا يصلى عليه كما قال في الباغي. فرع آخر قد ذكرنا أنه يعتبر النصاب في القطع قولًا واحدًا ويكفي ربع دينار لوجوب قطع اليد والرجل، وقال ابن خيران: هل يعتبر في النصاب؟ قولان أيضًا كما قلنا في التكافؤ وكلام ابن أبي هريرة يدل على أنه لا يعتبر فيه النصاب كالاستخفاء لا يعتبر، وإن اعتبر في السرقة وهذا لا يصح والفرق بينه وبين التكافؤ أن القطع يستحق بجهة واحدة وهو لله تعالى في المحاربة وغيرها فلم يختلف القدر أي يستحق به القطع في الموضعين، وفي القتل تختلف الجهة لأن المستحق به أيضًا، وقال صاحب (الحاوي): عندي أن النصاب يعتبر إذا انفرد بأخذه فلا يقطع إلا في ربع دينار ولا يعتبر إذا اقترن بالقتل ويصلب، يعتبر إذا انفرد بأخذه فلا يقطع إلا في ربع دينار ولا يعتبر إذا اقترن بالقتل ويصلب، وإن أخذ أقل من ربع دينار لأنه إذا انفرد بأخذ المال صار مقصودًا فاعتبر فيه شرط القطع في أخذ النصاب لأنه لا يستحق فيه القطع ولأن القطع في المحاربة [94/أ] يغلظ بقطع الرجل فلم يغلظ بإسقاط النصاب. فرع آخر لا فرق بين أن يأخذ ربع دينارٍ أو جماعة كما لو سرق ربع دينار من مالكين من حرزٍ واحدٍ. فرع آخر قال الماسرجسي: ويعتبر فيه الحرز فإن أخذ جملًا في الطريق ضالًا عن صاحبه ليس معه حافظٌ أو يرعى في موضعٍ بقرب القافلة إلا أنه ليس معه في الموضع حافظ، ولا هو محفوظ بأهل القافلة لانقطاعه منهم فإنهم لا يقطعون، وقال في (الحاوي) إن كان المال مع مالكه أو بحيث يراه المالك ويقدر على دفع من ليس بمكابر ٍكان في حكم المحرز، وإن لم يكن في يد المالك جرى في المحاربة حكم الصلب إذا انضم

إلى القتل. وفي خبر كان حكم لا قطع عليه إذا انفرد عن القتل وجهان: أحدهما: يقطع ولا يعتبر فيه الحرز لأن الإحراز لا يؤثر مع القاهر الغالب، والثاني: لا يقطع ويعتبره فيه الحرز مبذولٌ ولأن قطع المحاربة غلظ من وجهٍ لا يغلظ بغيره. فرع آخر يبدأ بقطع يده ثم رجله ثم يحسمان لأن قطعهما حد واحد، وقال في الكتاب، تقطع يده وتحسم ثم تقطع رجله وتحسم في مكانٍ واحدٍ، ومن أصحابنا من قال: إن خيف على نفسه من القطع الأول حسمت قبل القطع الثاني، وإن كفى ذلك قطع الثاني ثم حسمًا معًا. [94/ب] فرع آخر قال في "الإملاء": لو أخذ المال في المحاربة، ولو أخذ الطرفين من اليد اليمنى أو الرجل اليسرى قطعنا الموجود ولم يقطع غيره لأن هذين العضوين في حكم هذا القطع كعضو واحد، ولو كان بعض الأصابع في السرقة موجود قطع ولم يعدل إلى غيره كذلك هنا، وقال في (الحاوي): فيه وجهان: أحدهما: ما ذكرنا ذكره أبو حامد، والثاني: وهو الأصح عندي يكون الموجود تبعًا للمفقود ويصيران معًا كالمفقودين فيعدل إلى يده اليسرى ورجله اليمنى لأن قطع كل طرفٍ منهما مقصود في نفسه وليس أحدهما في أصل الخلقة من الآخر بخلاف الأصابع التي هي من خلقة الكف فافترقا. فرع آخر تعتبر قيمته في موضع الأخذ إن جرت العادة فيه بالبيع والشراء، وإن لم تجر العادة بذلك يعتبر قيمته في أقرب المواضع إليه الذي يوجد فيه البيع والشراء ولا يعتبر قيمته عند استسلام الناس لأخذ أموالهم بالقهر لأنه لا قيمة له في تلك الحالة وهو نقصٌ تجدد بمعصيتهم فلم ... به غرمهم ويعتبر قيمته في الأغلب من أحوال السلامة. فرع آخر تقام عليهم الحدود في الموضع الذي حاربوا فيه إذا شاهدوهم فيه من يرتدع بهم من غواة الناس فإن كانت محاربتهم في مفازةٍ نقلوا إلى أقرب البلاد بهم من الأمصار التي يكثر فيها الفساد [95/أ] ولا يؤخر قتلهم إلا قدر استبراء أحوالهم. فرع آخر لو قطع الوالي يده اليمنى ورجله اليمنى فقد تعدى ويلزمه القود في رجله اليمنى إن عمد وديتها إن أخطأ، ولا يسقط به قطع رجله اليسرى، ولو قطع في يده اليسرى ورجله اليمنى فقد أساء ولا يضمن، ووقع موقع الأجزاء، والفرق أن قطعهما من خلاف نص

يوجب مخالفته الضمان وتقديم اليمنى على اليسرى في المحاربة اجتهاد فسقط بمخالفته الضمان ذكره في (الحاوي). فرع آخر لا يشهر بعد قطعه لأنه زيادة نكالٍ بعد الحد إلا أن يرى الإمام أن قطعه لم يشهر في أهل الفساد فلا بأس أن يشهره قدر ما يشتهر فيهم حاله ويخليه لينصرف لنفسه أين شاء ويدفن المقطع، إلا أن يرى الإمام اشتهار الأطراف ليرتدع بها الناس فلا بأس به، فإن التمس المقطع أطرافه كان أحق بها ليتولى دفنها فإن أراد استبقاءها لتدفن معه إذا مات منع. فرع آخر قد ذكرنا إن لم يقتل ولم يأخذ المال يعزر وهل يعين جنس تعزيزه؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يتعين ويعزره بما يراه من ضرب أو حبس أو نفي وعلى هذا لو رأى الإمام ترك تعزيره جاز، والثاني: تعزيره يعيّن بالحبس لأنه أكف له عن أذية الناس اقتداءً بعمر رضي الله عنه وعلى هذا لو رأى الإمام ترك تعزيره لم يجز إلا أن يظهر توبته. فرع آخر إذا قلنا: يتعين الحبس قال في (الحاوي): هل يحبس في بلده [95/ب] أو في غيره؟ وجهان: أحدهما: يحبس في بلده لأن الحبس مانع وبه قال أبو حنيفة، والثاني: يحبس في غير بلده قال ابن سريج: يشبه أن يكون هذا مذهب مالك رحمه الله تعالى ليكون أذل وأوحش. فرع آخر هل يتقدر هذا الحبس؟ وجهان: أحدهما: لا يتقدر بل يعتبر فيه ظهور التوبة، والثاني: يتقدر لأنه أقيم في المحاربة مقام الحد. فرع آخر إذا قلنا: يتقدر فيه وجهان: أحدهما: قاله الزبيري: يتقدر بستة أشهرٍ ينقص منها ولا يزاد عليها لئلا يزيد على تغريب الزنا في حق العبد، والثاني: وهو ظاهر قول ابن سريج: بسنةٍ ينقص منها ولا يزاد عليها لئلا يزيد على تغريب الحر في حد الزنا وينقص منها ولو بيوم لئلا يبلغ ما ليس بحدِّ حدّاً. فرع آخر إذا قتل وأخذ المال ذكرنا أنه يقتل ويصلب القتل على ما ذكرنا، وأما الصلب قال

الشافعي: يصلب بعد القتل ثلاثًا وإنما قتله ثم صلبه كراهية تعذيبه، وحكي أبو حامد عن بعض أصحابنا: أنه يصلب حيًا ويمنع عنه الطعام والشراب حتى يموت وهذا لا يصح لأنه تعذيبٌ وسوء قتل ونهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تعذيب الحيوان والصلب بعد القتل ليرتدع به غيره، ومن أصحابنا من قال: يصلب قليلًا على حسب اجتهاد الإمام ثم يهبطه، وقال بعض أصحابنا بخراسان: يصلب حيًا ثم يرمى حتى يكون التنكيل أشد. [96/أ] فرع آخر نص الشافعي رضي الله عنه أن يصلب على خشبة، وقال ابن أبي هريرة: يطرح على الأرض يسيل صديده وهذا لا يصح لأنه لا يترك حتى يتغير بل يدفع إلى أهله حتى يغسلوه على ما ذكرنا، وقال بعض أصحابنا: قول الشافعي يصلب ثلاثًا أراد به في البلاد الباردة التي يمكن أن يترك فيها ثلاثة أيامٍ، فأما البلاد الحارة فلا يترك أكثر مما لو زاد عليه تغير وفسد به قال صاحب "التلخيص" والماسرجسي، وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل ينزل من الصلب بعد الثلاث؟ قولان: أحدهما: لا ينزل لأن الصلب سمي به لأن صليب المصلوب تتقاطر عليه، والثاني: ينزل للضرر بالناس فإذا قلنا بهذا فإن خيف التغير قبل الثلاث هل ينزل؟ وجهان: أحدهما: لا ينزل لأن التنكيل لا يجعل بدون الثلاث، والثاني: ينزل للضرر، وقال بعضهم: إذا قلنا لا ينزل بعد ثلاثةٍ يغسل ويصلى عليه ثم يصلب في موضعٍ لا يتأذى به الناس، وعن أبي يوسف روايتان: إحداهما: مثل قولنا، والثانية: يصلب حيًا ثلاثًا ثم يبعج بطنه بالرمي أو يرمى بالسهام ويروى هذا عن أبي حنيفة حكاه الكرخي، وبه قال مالك رحمهما الله. فرع آخر لو مات حتف أنفه روى الحارث بن شريح البقال عن الشافعي أنه لا يصلب بعد موته والفرق أن قتله حد يستوفى [96/ب] فيكمل بصلبه وموته مسقطٌ لحده فسقط تابعه وهذا اختيار أبي حامد، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان: أحدهما: هذا، والثاني: يصلب بعد موته ليرتده به غيره ولأنهما حقان فإن تعذر أحدهما لم يسقط الآخر وهذا اختيار القاضي الطبري ولكنه خلاف النص. فرع آخر لو قتل أو جرح خطأً أو شبه عمدٍ في قطع الطريق لا قصاص فيه، ولو أخاف رجلًا في قطع الطريق أو جرحه جرحًا لا قصاص فيه ولا قود. مسألة: قال: وأَرَاهُمْ فِي المِصْرِ إِنْ لَمْ يَكُونُوا أَعْظَمَ ذَنْبًا فَحُدُودُهُمْ وَاحِدَةٌ. حكم قطاع الطريق في الحضر والسفر سواءٌ وهذا إذا خرجت جماعة بالسلاح على

واحدٍ أو جماعةٍ لا يقدر أن يمنع منهم لضعفهم فقتلهم، أو خرجت جماعةٌ على جماعةٍ يجوز أن يقاومهم مجاهرةً بالسلاح حتى غلبوهم وأخذ أموالهم وقتلوا نفوسهم، فأما إذا خرج عدد قليل مثل الواحد والاثنين والثلاثة على أخذ قافلة الحاج فاستلبوا منها شيئًا فليسوا بقطاع الطريق وإنما ذلك بمنزلة الاختلاس وبه قال الأوزاعي والليث وأبو ثور وأبو يوسف، وقال أبو حنيفة: لا يتعلق بهم حكم قطاع الطريق حتى يبعدوا عن المصر فإن غلبوا على قريةٍ أو بليدةٍ صغيرةٍ أو كانوا بين قريتين كما بين الكوفة والحيرة فلا يتعلق بهم حكم قطاع الطريق لأنهم يلحقهم الغوث [97/أ] وبه قال الثوري وإسحاق وعن مالك روايتان: إحداهما: مثل قولنا، والثانية: لا يتعلق بهم حكم قطاع الطريق حتى يبتعدوا عن المصر ثلاثة أميالٍ وتوقف أحمد في ذلك وهذا لا يصح لأن شوكتهم إذا كانت قوية وبين القريتين خمسة فراسخ أو دون ذلك يكاد يلحقهم الغوث وقد يقصد أهل المصر من العيارين لا من يقدر أهلها على دفعهم على أنفسهم ممن يلحقهم الغوث حتى لو جاء عدد يسير واستنزلوا في البلد واستخفوا في الليل في المواضع المنقطعة وقطعوا الطريق يكون عندنا بمنزلة الاختلاس. فإن قيل: ما الفرق بينهم وبين المختلس لا يجب القطع عليه ويجب عليهم؟ قلنا: المختلس لا يرجع إلى منعةٍ وعددٍ وقوةٍ وهذا المكابر المجاهر يرجع إلى قوةٍ ومنعةٍ لا يقدر أن يدفعه عن نفسه. فرع قال القفال: والمكابر بالليل قاطعٌ فيلزمه القطع وهو أن يهجم قومٌ على بيت رجل بالمشاعل والمصابيح ويخوّفوه بالقتل إذا صاح واستغاث وأخذوا المال، وقال غيره: ليسوا قطاع الطريق لأنهم يرجعون إلى الخفية ولا يجاهرون بل يبادرون مخافة أن يشعر بهم وهذا أصح وهو ظاهر نص الشافعي رضي الله عنه. مسألة: قال في (الحاوي): [97/ب] إذا كان المصر كبيرًا وهؤلاء لا يقاومون جميع أهلها يجري عليهم في أطرافها حكم المحاربة، فأما في وسط المصر في الموضع الذي يكثر الناس فيه من السوق إذا كبسوا سوقًا منها فنهبوها، أو دارًا فأخذوا ما فيها ففيه وجهان، قال الأكثرون: يجري عليهم حكم المحاربة لأنهم تغلبوا بالسلاح جهارًا وحد الحراب أن لا يقدر على دفعهم المحارب وقد وجد، وقال أبو حامد: لا يجري عليهم حكم الحراب لوجود الغوث فيه غالبًا فسقط حكم مبادره. فرع إذا اعترضوا بالعصي أو الرمي بالحجارة فهم محاربون وبه قال أبو ثور، وقال أبو حنيفة: ليسوا بمحاربين لأنه لا سلاح معهم وهذا لا يصح لأن العصي والحجارة من

جملة السلام الذي يأتي على النفس والطرف فأشبه الحديد. مسألة: قال: من حضر منهم فكثر أو هيب أو كان ردءًا عزر. المحاربون إذا اختلفت أحكامهم بأن يقتل بعضهم ولم يأخذ المال وقتل بعضهم وأخذ المال وأخذ بعضهم المال ولم يقتل يلزم كل واحد من العقوبة بقدر ما فعله من الجرم، ويعتبر كل واحدٍ بحال نفسه دون غيره كما نقول في الزنا وشرب الخمر، وأما من حضر منهم فكثر أو هيّب أو كان ردءًا لهم بكونه طليعةً أو سائسًا لم يلزمه القتل ولا القطع وإن وجب القتل [98/أ] والقطع على رفاقهم ويعزرون ويحبسون وذلك عقوبة كافية لمقدار ذنبهم، وقال أبو حنيفة: القتل والقطع إذا وجب على واحدٍ منهم وجب على جميعهم القتل والقطع ويشترط أن يخص كل واحدٍ منهم نصابٌ نام فإن نقص فلا قطع عليهم كما قال في جماعةٍ سرقوا وبعضهم ردءٌ فجعل كثرتهم سببًا لسقوط الحد عن المباشر الذي لو انفرد قطع فقال: إذا كانوا عشرةً فأخذ واحدٌ تسعة دنانير ونص دينار لا قطع على أحدٍ، وقال مال: يجب الحد على الردء ولا يشترط ما قال أبو حنيفة ودليلنا أنه حد يجب بارتكاب معصيةٍ فلا يجب على المعين كسائر الحدود. فرع قال الشافعي رضي الله عنه: وإذا كانت في المحاربين امرأة فحكمها حكم الرجل لأني وجدت أحكام الله تعالى على الرجال والنساء واحدةٌ في الحدود، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا حد عليها ويلزمها القصاص بالقتل وضمان المال وهذا لا يصح لما ذكرناه ولأن من لزمه الحد في السرقة لزمه الحد في قطع الطريق كالرجل، وعلى هذا الخلاف النساء المنفردات إذا قطعت الطريق يلزمهن حكم قطاع الطريق خلافًا لأبي حنيفة حتى قال: لو كان في ألف نفرٍ امرأةٌ أو صبي مراهق لا حد على أحدهم لأنها ردء لهم، فإذا لم تكن من أهل المحاربة لم يحد أصحابها وهذا تطرف إلى إسقاط هذا الحد أصلًا إذ لا يعجزون [98/ب] أن يستصحبوا صبيًا أو امرأةً في قطع الطريق أو السرقة حتى يسقط الحد عن كلهم وهذا ظاهر الفساد. مسألة: قال: ومن قتل وجرح اقتص لصاحب الجرح أولًا ثم قتل. إذا جني في المحاربة فإن كانت الجناية قتلًا فقد ذكرنا أنه يتحتم قتله، وإن كانت الجناية دون القتل مثل القطع فإن كان مما لا قصاص فيه كالقطع من نصف الذراع والمأمومة فلا قصاص في المحاربة أيضًا، وإن كان مما لا قصاص فيه كالقطع من نصف الذراع والمأمومة فلا قصاص في المحاربة أيضًا، وإن كان مما فيه قصاص كقطع اليد والرجل والموضحة وجب القصاص وهل يتحتم أم لا؟ نص الشافعي هنا أنه لا يتحتم، وقال في موضع آخر: يتحتم ففيه قولان: أحدهما: يتحتم لأن كل قصاص كان على التخيير في غير المحاربة كقصاص النفس، والثاني: لا يتحتم ويسقط بالعفو إلى مالٍ وغير مالٍ

وهو الأصح. وقال القاضي الطبري: لا يعرف للشافعي إلا هذا لأن الله تعالى نص على انحتام القتل ولم يذكر ما دونه من الجراح فبقي على أصل التخيير ولا يجوز القياس على النفس لأن النفس خصت بأحكام لا يشاركها الجراح ولهذا وجبت الكفارة في القتل دون الجراح والتحتم حق الله تعالى كالكفارة، وكان أبو منصور ابن مهران يفرق بين النفس والطرف بأن المقصود من قطع الطريق شيئان: أحدهما: أخذ المال فجعل فيه عقوبة متحتمة وهي القتل المتحتم الذي لا يسقط بعفو الولي وأما الجراح فليس بمقصود في نفسه فإن أحدًا [99/أ] لا يقصد قطع الطريق ليجرح فلم يجعل فيه عقوبة متحتمة وبقي على أصل التخيير. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا قطع اليد والرجل يتحتم القصاص قولًا واحدًا لأنه قطع يعاقب به قاطع الطريق. فإن كان غير ذلك مثل قطع الأذن والأنف هل يتحتم القصاص؟ فيه وجهان لأنه لم يشرع حدًا في قطع الطريق وهذا غلط ظاهر، وإن كانت الجناية مما يوجب المال كالجائفة لا يتحتم أخذ المال ويجوز العفو بلا إشكالٍ، وكذلك في النفس إذا وجب المال، فإذا تقرر هذا فإذا قطع المحارب اليد اليمنى والرجل اليسرى وأخذ المال فوجب به قطع يده اليمنى ورجله اليسرى فإن قلنا: قطعه في القصاص لا يتحتم، قدّم القصاص ويتخير وليه بين القصاص وبين العفو فإن عفا قطع للمال، وإن لم يعفُ عنه قطع قصاصًا وسقط القطع سواءٌ تقدم استحقاقه أو تأخر لأن قطع المال ورد على طرفٍ يجوز أن يقطع فيه إذ لم يتحتم أخذه من غيره فلم يجز أن يعدل فيه إلى غيره، وإن قلنا: قطعه في القصاص يتحتم روعي الأسبق فإن تقدم قطع المال على قطع القصاص قطع قصاصًا وسقط قطع المال بتقديم حق الآدمي على حق الله تعالى فيه لاستغناء الله سبحانه وتعالى، وإن تقدم قطع القصاص على قطع المال قطع قصاصًا ولم يسقط قطع المال بل يعدل إلى قطع يده اليسرى ورجله اليمنى كمن أخذ المال وليس له اليد اليمنى [99/ب] والرجل اليسرى لأن استحقاق القصاص فيها ختم فصار كعدمها، ولو تقدم استحقاق قطعهما للمال لم يعدل فيه إلى غيرهما لأنه ما وجب ابتداءً إلا فيهما، ولو قطع المحارب اليمنى ثم أخذ المال قطعت يمناه قصاصًا وهل يجب في قطع المال أن يقتصر على رجله اليسرى؟ وجهان ذكرناهما وعلى ما ذكرنا لو قطع يد رجلٍ في المحاربة ثم قتل تقدم القطع قصاصًا ثم يقتل لأن في تقديمه جمعًا بين الحقين ولو قطع يده في غير المحاربة ثم قتله في المحاربة فالحكم كذلك ولو قطع يده اليسرى ورجله اليمنى وأخذ المال تقطع أطرافه الأربعة اثنان قصاصًا، واثنان حدًا ولا يوالي بل يقطع اثنان قصاصًا ويترك حتى يبرأ ثم يقطع اثنان حدًا، وقال أبو حنيفة: يقطع اثنان قصاصًا أولًا ثم لا يقطع الباقي حدًا، لأن عنده مفقود اليسار فلا تقطع يمينه ثم قال: ومن

عفا عن الجراح كان له ومن عفا عن النفس لم يحقن بذلك دمه وقد بينا هذا. مسألة: قال: ومن تاب منهم قبل أن يقدر عليه سقط عنه الحد. الفصل الحقوق التي تجب على المحاربة على ثلاث أضربٍ حق يختص بالمحاربة وحق لا يختص بها وحق يختلف فيه، فأما ما يختص بها فانحتام القتل والصلب وقطع الرجل فلا يخلو من أن يتوب قبل القدرة عليه أو بعدها فإن تاب بعد القدرة عليه لا يسقط عنه شيء منها لقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ [100/أ] أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] فجعل من شرط سقوطها بالتوبة أن تكون قبل القدرة عليهم وإن تاب قبل القدرة عليه سقطت هذه الأحكام وبقي القتل مستحقًا غير متحتم ويكون إلى مشيئة الولي فإن شاء قتل، وإن شاء عفا عنه على مالٍ، وإن شاء عفا عنه على غير مالٍ. وأما الذي لا يختص بها فعلى ضربين: أحدهما: لله تعالى كحد الشرب واللواط والزنا، والثاني: للآدمي كالقصاص وحد القذف وغرامة المال فهو للآدمي لا يسقط بالتوبة بحالٍ لأن التوبة إنما تؤثر في حق الله تعالى دون حق العباد، هكذا ذكر جماعة أصحابنا، وقال صاحب "الإفصاح": إذا قلنا: الحد الذي يختص بالمحاربة مما هو حق لله تعالى كحد الزنا والشرب يسقط بالتوبة ففي حد القذف والقصاص وجهان مخرجان: أحدهما: يسقطان لأنهما يسقطان بالشبهة كحد الله تعالى، والثاني: لا يسقطان وهذا تخريج فاسد لما ذكرنا من العلة وغلط صاحب "الإفصاح" فيه وفي حكايته عن ابن أبي هريرة فإنه ذكر في كتابه ما ذكرنا ويلزم الاستغفار عن مثل هذا. ومن أصحابنا من قال: يسقط حد القذف دون القصاص لأنه لا يرجع إلى بدلٍ بخلاف القصاص وهذا أفسد من الأول لأنه حق الآدمي كالقصاص سواء، وروي عن عليّ رضي الله عنه أنه قال: يسقط عنه جميع الحقوق لله تعالى وللآدميين من الربا والأموال بالتوبة ولا يقول بهذا [100/ب] أحد من الفقهاء، وقال مالك: يسقط الكل إلا الدماء لتغليظها على ما سواها. وأما ما هو لله تعالى فهل يسقط بمجرد التوبة؟ قال الشافعي رضي الله عنه في موضع: ويحتمل أن يسقط كل حق لله تعالى بالتوبة وبه أقول ففي المسألة قولان ظاهران أحدهما: يسقط بالتوبة وهو الأصح لقوله تعالى في حد الزنا: {فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا} [النساء: 16] وقال في حق السارق: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ} [المائدة: 39] وقال صلى الله عليه وسلم: "التوبة تجب لما قبلها" وروى وائل بن حجر رضي الله عنه أن امرأةً وقع عليها رجل في سواد الصبح وهي تعمد إلى المسجد فاستغاث برجلٍمرَّ عليها وفرَّ صاحبها ثم مرَّ عليها قوم ذو عددٍ فاستغاثت بهم

فأدركوا الذي استغاثت به وسبقهم الآخر فذهب فجاءوا به يقودونه عليها فقال: أنا الذي أغثتك وقد ذهب الآخر فأتوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنه وقع عليها وأخبره القوم أنهم أدركوه يشتد فقال: إنما كنت أغثتها على صاحبها فأدركوني فأخذوني قال: كذب هو الذي وقع عليَّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اذهبوا به فارجموه" فقام رجل من الناس فقال: لا ترجموه وارجموني أنا الذي فعلت هذا الفعل فاعترف فاجتمع ثلاثةٌ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي وقع عليها والذي أجابها [101/أ] والمرأة فقال: "أما أنتَ فقد غفر لك" وقال للذي أجابها قولًا حسنًا فقال عمر رضي الله عنه: أرجمُ الذي اعترف بالزنا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" لا، لأنه قد تاب توبةً لو تابها أهل المدينة، أو أهل يثرب لقبل منهم" فأرسلهم، وقيل: إنه يحتمل أنه أمر بتعزيره دون الرجم الحقيقي ويحتمل أنهم شهدوا عليها بالزنا خطأ فلذلك لم يرجمه ولأنه حد الله تعالى فيسقط بالتوبة كحد قاطع الطريق، والقول الثاني: لا يسقط بالتوبة وبه قال أبو حنيفة لأنه لا يختص بالمحاربة فأشبه حد القذف ولأنه تاب في قبضة الإمام فأشبه حد قاطع الطريق بعد القدرة. وأما في غير المحارب لا تسقط حدود الله تعالى بمجرد التوبة، ولكن لو تاب وأصلح عمله ومضت مدةٌ على ذلك هل تسقط التوبة بعد إصلاح العمل؟ فيه قولان ففي المحارب لا يشترط إصلاح العمل وفي غيره يشترط ذلك، والفرق أن المحارب معاندٌ فإذا تاب حملت توبته على أنها من قبله واعتقاده لا للتقية وغير المحارب في قبضة الإمام فالظاهر من حاله إظهار التوبة للتقية فلا يسقط عنه بمجرد التوبة حتى يصلح عمله. وأما المختلف فيه: فقطع اليد بأخذ المال فيه وجهان: أحدهما: أنه لا يختص بالمحاربة وإنما هو القطع في السرقة غلظ بضم قطع الرجل إليه بدليل أنه يعتبر أن يخص كل واحدٍ ربع دينارٍ وبه قال أبو إسحاق، والثاني: أنه يختص بالمحاربة [101/ب] كقطع الرجل لا فرق بينهما وبه قال صاحب "الإفصاح" لأنه أخذ مالًا على سبيل المجاهرة وهذا لا يوجب القطع إلا في المحاربة فكان ذلك مما يختص بالمحاربة. والأول: الصحيح المشهور، والثاني: أقيس وهو اختيار ابن أبي هريرة وصاحب "الإفصاح" فإذا قلنا: يختص بالمحاربة سقط بالتوبة قبل الظفر قولًا واحدًا، وإذا قلنا: يختص بالمحاربة فهل يسقط بالتوبة بعد الظفر به؟ قولان أيضًا لأن ما يسقط الحد لا فرق فيه بين أن يكون قبل الظفر به وبين أن يكون بعد الظفر كالرجوع عن الإقرار وهذا خلاف نص القرآن العظيم، واعلم أن العلماء اختلفوا في المراد بالتوبة التي ذكرها الله تعالى في قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن ومجاهد وقتادة: إنها الإسلام وهذا قول من زعم أن حدود

الحراب وردت في المشركين ومعنى الآية الذين تابوا من شركهم وسعيهم في الأرض فسادًا في الإسلام، ولا يسقط الحد عن المسلم بالتوبة بكل حالٍ، وقال الجمهور منهم: وردت في المسلمين وهي التوبة من معاصي الحدود، واختلفوا في أمان الإمام لهم هل يكون شرطًا في قبول توبتهم؟ فروي عن عليّ رضي عنه أنه شرط، ومن لم يؤمنه الإمام لم تسقط التوبة منه حدًا. وقال الجمهور: لا يعتبر ذلك وإنما يعتبر أن يكون قبل القدرة عليهم وفي صفة القدرة عليهم [102/أ] ثلاثة أقوال: أحدها: أن تكون بعد لحوقهم بدار الحرب، وإن كانوا مسلمين ثم يعودوا منها تائبين قبل القدرة عليهم فإن لم يلحقوا بدار الحرب لم تؤثر التوبة في إسقاطها وبه قال عروة بن الزبير، والثاني: يكون لهم في دار الإسلام فئة يلتجؤون إليها ويمتنعون بها، فإن لم يكن لهم لم تؤثر التوبة فيها وبه قال ابن عمر وربيعة والحكم، والثالث: وهو قول الجمهور: أن تمتد إليهم يد الإمام بهرب أو استخفاء أو امتناع فيخرجوا عن القدرة عليهم فتؤثر توبتهم فيها حينئذ، واختلف من قال بهذا في رفعه إلى الإمام هل يكون شرطًا في القدرة عليه؟ على قولين أحدهما: أنه لا يكون شرطًا لأنه في الحالين قادر علية، والثاني: أن يكون شرطًا في القدرة عليه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في سارق رداء صفوان: "هلا قبل أن تأتيني به لا عفا الله عني إن عفوت عنه". مسألة: قال: ولو شهد شاهدان من أهل الوقعة أن هؤلاء عرضوا لنا. الفصل إذا شهد شاهدان أن هؤلاء قطعوا علينا الطريق وعلى القافلة وأخذوا متاعنا ومتاعهم لم تجز شهادتهما لأنهما خصمان كما لو شهدا بأن هذا قذفنا وقذف هذا لا تقبل شهادتهما لأنهما خصمان عدوان، فإن قيل: أليس لو شهدا فقالا: نشهد أن هذا قذف أمنا وهذه المرأة تقبل شهادتهما للأجنبية دون أمهما فيجب [102/ب] أن تقبل شهادتهما لأهل الوقعة دونهما، قلنا: في هذه المسألة قولان: أحدهما: لا تقبل شهادتهما للأم ولا للأجنبية، والثاني: أن تقبل للأجنبية دون الأم، والفرق أن هناك ردت الشهادة للأم للتهمة وهي تخص الأم دون الأجنبية فبعّضنا الشهادة فقبلناها للأجنبية دون الأم وهنا ردت الشهادة للخصومة والعداوة وهذا المعنى لا يخص شهادتهما لأنفسهما دون غيرهما فإن شهادة العدو لا تقبل على العدو بحال. فإذا تقرر هذا نقول: قال الشافعي: ويسعهما أن يشهدا بأن هؤلاء عرضوا لهم ففعلوا بهم كذا وكذا ونحن ننظر قال أصحابنا: وهكذا قالوا عرضوا لنا ونالوا هؤلاء بالجرح وأخذ المال قبلت شهادتهم لأنهم ليس في قولهم: عرضوا لنا ما يوجب الخصومة والعداوة، وقال الشافعي: وليس للإمام أن يقول: هل نالكم وأخذ منكم؟ ألا

ترى أن رجلًا لو شهد على رجل أنه قذف هذا وغصبه كذا وكذا أليس للإمام أن يقول: هل قذفك؟ هل أخذ منك شيئًا؟ وقال الماسرجسي: وعلى هذا لو شهد رجلان على رجل بكتاب وصية لهما فيه حق أو إشراف فقالا: نشهد بجميع ما في هذا لا تقبل شهادتهما، ولو قالا: نشهد بجميع ما فيه سوى مالنا من حق الإشراف والمال المذكور فيه قبلت شهادتهما وهذا لأن الاستفسار الذي ذكرنا من التعنت وقصد إبطال الشهادة. [103/أ] مسألة: قال: ولو اجتمعت على رجل حدود وقذف بدئ بحد القذف ثمانين. الفصل ذكر الشافعي رضي الله عنه هنا حد القذف وحد الزنا والقطع في السرقة والقطع في المحاربة والقود في غير المحاربة، بدأ بحد القذف ثم بحد الزنا ثم تقطع اليد اليمنى للسرقة والمحاربة جميعًا، ثم يقطع الرجل للمحاربة ثم بالقتل قوداً وأمر بالتربص بعد إقامة حد الله تعالى حتى يبرأ جلده، ثم أمر بحد الزنا وقال: يترك حتى يبرأ ثم والى بين قطع اليمنى ورجله اليسرى لأنها حد واحد للمحاربة ولم ينتظر البرء من القطعين وأمر بقتله لأن انتظار البرء لئلا يتلف بالموالاة بين حدين مختلفين وهنا يريد قتله فما معنى الانتظار؟ وقال بعض أصحابنا: هل يوالي بين القطعين؟ فيه وجهان لأن اليد تقطع للسرقة المتقدمة هنا والموالاة إذا كانا مخصوصين بالمحاربة، وهذا ليس بشيء. ولم يذكر الشافعي في جملتها حد الشرب، قال ابن أبي هريرة: يبدأ بحد الشرب، ثم بحد القذف ثم على الترتيب الذي ذكره الشافعي، قال الشافعي: إنما بدأ بحد القذف قبل حد الزنا لخفته وأنه أسلم من حد الزنا فيجب على هذا أن يبدأ بحد الشرب لأن حد الشرب أخف من حد القذف، ومن أصحابنا من قال: إنما بدأ بحد القذف لأنه حق الآدمي فيقدم وهذا اختيار [103/ب] أبي إسحاق وهو الأصح فعلى هذا يقدم حد القذف ثم حد الشرب ثم حد الزنا، وقيل: أخطأ ابن أبي هريرة النص لأن الشافعي قال في كتاب "جراح العمد": ولو اجتمعت على رجل حدود حد بكر في الزنا وحد قذف وحد سرقة وحد قطع طريق بدئ الحق الآدميين، ثم بحق الله تعالى فبطل قول من علل البدء به بحد القذف بالخفة والسلامة. فرع لو اجتمع معها التعزيز قال في (الحاوي): يقدم التعزيز على كلها لأنه أخف من حقوق الآدميين. فرع آخر لو كان في جملتها جرح لآدمي يجب فيه القصاص بدئ على حد الزنا والشرب فيبدأ

بحد القذف ثم بالقصاص فيما دون النفس ثم بحد الشرب ثم بحد الزنا ثم بالقطع وقطع الطريق ثم بالقتل على الصحيح من مذهب آخر. فرع آخر لو كان في جملتها قتل في غير المحاربة وقتل في المحاربة اعتبر بالسابق منهما بلا خلاف بين أصحابنا، فإن كان القتل في غير المحاربة أسبق قتل ولم يصلب وأخذنا للمقتول في المحاربة الدية لأنه قصاص تعذر استيفاؤه، وإن كان القتل في المحاربة أسبق قتلناه، وإن كان معه أخذ المال صلبناه وأخذنا للمقتول في غير المحاربة الدية، وإنما اعتبرنا السابق هنا لأنه لا يمكن استيفاء الحقين ويفوت أحدهما بفوات الآخر فقدمنا السابق. فرع آخر لو كان فيه قتل بالقود [104/أ] وقتل بالردة قتل قودًا إلا أن يريد الدية فتدفع إليه الدية ويقتل بالردة، ولو اجتمع رجم بالزنا وقتل بالردة رجم للزنا ودخل فيه قتل الردة لأن الرجم أزيد نكالًا. فرع آخر لو كان في جملة ما ذكرنا قتل في المحاربة فقط ولم يجب عليه القتل بوجه آخر سقط قطع اليد والرجل في المحاربة لأنه قد أقيم الصلب مقامه فيحد للقذف ثم للزنا ثم يقطع للسرقة ثم يقتل، وهل يوالي بين الحدين أو يترك حتى يبرأ من كل واحد ثم يقام الآخر؟ فيه وجهان قال أبو إسحاق: يوالي لأنه إنما جعل له ذلك في المسألة قبلها لأن القتل غير متحتم فربما يعفى عنه، وهنا القتل متحتم ولا معنى لترك الموالاة، والثاني: لا يوالي بينهما لأنه لا يؤمن من الموالاة التلف فيسقط بعض الحد فأشبه إذا كان القتل غير متحتم. فرع آخر لو سرق في غير المحاربة ثم قتل في المحاربة وأخذ المال فيه وجهان أحدهما: يدخل القطع في القتل فيقتل ويصلب لأنه قطع يتعلق بأخذ المال فيدخل في القتل في المحاربة كالقطع بأخذ المال في المحاربة وهو الصحيح، والثاني: لا يدخل فيه وإنما يدخل القطع بأخذ المال في المحاربة في القتل في المحاربة، وهذان الوجهان مبنيان على أن قطع اليد في المحاربة هل هو قطع اليسرى وقد ذكرنا فيه وجهين، وقال أبو حنيفة: يبدأ بحد القذف [104/ب] ثم إن شاء بدأ بحد الزنا، وإن شاء بدأ بالقطع ثم بحد الشرب فإن كان معها قتل سقطت الحدود كلها وقتل إلا حد القذف فإنه لا يدخل في القتل، وقال ابن مسعود والنخعي: يدخل حد القذف في القتل أيضًا مع جميع الحدود واحتج أبو حنيفة بأن حد الزنا والسرقة ثبتا بنص القرآن فهما أكد من حد الشرب ويخير بينهما للاستواء بهما في ذلك وفي القتل يحصل كل الردع فلا فائدة في

إقامة الحدود قبله وهذا لا يصح لما ذكرنا ولأن ما وجب من غير وجوب القتل وجب مع وجوب القتل كما لو قطع يد إنسان وقتل آخر، وأما قولهم: أيهما آكد لا يصح لأنه ثابت بالسنة والإجماع ويلزم حد القذف فإنه ساوى ذلك وتقدم، وأما الزجر في ذلك يحصل لغيره فلا يعطل بعضهما مع إمكان الاستيفاء، ثم قال الشافعي رضي الله عنه: فإن مات في الحد الأول سقطت الحدود كلها والتي لله تعالى وأما حق الآدمي فإن كان جرحًا أو قتلًا رجع إلى الدية أو الأرش فلا يملك بالقذف حد سرقة مال بحال وهذا نص على أنه لا يجوز العفو عن حد القذف على مال خلافًا لأبي إسحاق في وجه. فرع آخر لو قصد رجل رجلًا فقتل دفعًا فهو هدر بكل حال، وقال أبو حنيفة: إن كان الدفع بالسيف والقصد بالسيف فهو هدر، وإن كان القصد بالمثقل ودفعه بالسيف فإن كان [105/أ] ليلًا فلا ضمان، وإن كان نهارًا ضمن بناء على أصله أن القتل بالمثقل شبه عمد فإذا قصده به لا يجوز الدفع بالعمد.

كتاب الأشربة

كتاب الأشربة مسألة: قال: كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام. اعلم أن الأصل في تحريم الخمر الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب فقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219] وأيضًا قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ} [الأعراف: 33] والإثم الخمر، قال الشاعر: شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم يذهب بالعقول وأيضًا قوله تعالى {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الآية إلى قوله تعالى: {مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91 - 92] وروي عن أبي ميسرة أنه قال: قال عمر رضي الله عنه: اللهم بين لنا في الخمر بيانًا شافيًا فنزل {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} إلى قوله {مُّنتَهُونَ} فحين سمعها عمر قال: انتهينا انتهينا. فهذه أربع آيات في تحريم الخمر، وأما السنة فما روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الخمر أم الخبائث" وروى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لعن الله الخمر وشاربها" الخبر وأيضًا روى ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر خمر [106/ب] وكل مسكر حرام ومن مات وهو يشرب الخمر يدمنها لم يشربها في الآخرة" ومدمن الخمر هو الذي يتخذها ويتعاهدها، وقال النضر بن شميل: من شرب الخمر إذا وجدها فهو مدمن للخمر، وإن لم يتخذها وقوله: "لم يشربها في الآخرة" قيل: معناه لم يدخل الجنة لأن الخمر شراب أهل الجنة إلا أنه لا غول فيها ولا نزف، وأيضًا روى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة وما شرابهم إلا الفضيخ البسر والتمر فإذا مناديًا ينادي، فقال: اخرج فانظر، فخرجت فإذا مناد ينادي ألا إن الخمر قد حرمت فقال: اخرج فاهرقها فهرقتها فجرت في سكك المدينة، وأيضًا روى وعلة

المصري سأل ابن عباس عما يعصر من العنب فقال ابن عباس: أهدى رجل لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر فقال النبي صلى الله عليه وسلم له: "علمت أن الله حرمها" فقال: لا فسار إنسانًا إلى جنبه فقال: بم ساررته؟ فقال: أمرته ببيعها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الذي حرم شربها حرم بيعها" ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها، وأيضًا روى أنس رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم واليتامى في حجره وكان عنده خمر حين حرمت الخمر فقال يا رسول الله: أصنعها خلًا قال: لا وصبها حتى سالت في الوادي، [106/أ] وأيضًا روى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من شرب الخمر في الدنيا لم يشربها في الآخرة إلا أن يتوب" وأيضًا روى جابر رضي الله عنه أن رجلًا قدم من جيشان وجيشان من اليمن فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شراب يشربونه بأرضهم من الذرة فقال له: المزر فقال النبي صلى الله عليه وسلم ومسكر هو؟ قال: نعم فقال: "كل مسكر حرام إن الله تعالى عهد لمن شرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال"، قالوا: يا رسول الله ما طينة الخبال قال: "عرق أهل النار وعصارة أهل النار"، وأيضًا روى عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك الصلاة سكرًا مرة واحدة فكأنما كانت له الدنيا وما عليها فسلبها ومن ترك الصلاة سكرًا أربع مرات كان حقًا على الله أن يسقيه من طينة الخبال" قيل: وما طينة الخبال قال: عصارة أهل جهنم. وأيضًا روي عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما وناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسوا بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا أعظم الكبائر فلم يكن عندهم علم ينتهون إليه فأرسلوني إلى عبد الله بن عمرو بن العاص أسأله عن ذلك فأخبرني أن أعظم الكبائر شرب الخمر فأتيتهم فأخبرتهم [106/ب] فأنكروا ذلك ووثبوا جميعًا حتى أتوه فأخبرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن ملكًا من بني إسرائيل أخذ رجلًا فخيره بين أن يشرب الخمر أو يقتل صبيًا أو يزني أو يأكل من لحم خنزير أو يقتلوه إن أبى فاختار شرب الخمر فإنه لما شرب الخمر لم يمنع من كل شيء أرادوه منه"، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا مجيبًا: "ما من رجل يشربها فتقبل له صلاة أربعين ليلة ولا يموت وفي مثانته منها شيء إلا حرمت عليه الجنة فإن مات في الأربعين ليلة مات ميتة جاهلية".

وأما الإجماع فلا خلاف بين المسلمين في تحريمها وكان بعض الصحابة يعتقد إباحتها في أول الإسلام منهم قدامة بن مظعون وعمرو بن معدي كرب وكانوا يتأولون قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَّآمَنُوا} [المائدة: 93] الآية فأنكرت الصحابة عليهم وبينوا أن هذه الآية مخصوصة في الخمر فرجعوا عن القول وأجمعوا على تحريمها فمن استحلها اليوم كفر. واعلم أن عندنا العصير يصير خمرًا بشرطين: الشدة، والسكر، وقال أبو حنيفة: يشترط شرط آخر وهو أن يقذف بزبده، وقيل: سمي خمرًا لأنه يخمر عصيره في الإناء أي: يغطى حتى يصير خمرًا ولو لم يغط لم يصر خمرًا والتخمير: التغطية، وقيل: [107/ أ] سمي خمرًا لأنه يخامر العقل بالسكر أي: يغطيه، واعلم أن المسلمين كانوا يشربونها في أول الإسلام، واختلف أصحابنا فيه، فمنهم من قال: كانوا يشربونها استصحابًا لحالهم في الجاهلية لأنه لم يتقدم منع منها ولا تحرم وهذا أشبه، وقال بعضهم: استباحوا شربها بشرع ورد فيه وهو قوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل: 67] فالسكر: ما أسكر من الخمر والنبيذ والرزق الحسن ما اتخذ من التمر والزبيب والرطب وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه ومجاهد وقتادة وسعيد بن جبير ثم نسخ هذا بتحريم الخمر، وقيل: السكر: الخل بلغة الحبشة، وقيل: بلغة أزد عمان، وقيل: السكر: الطعام والرزق الحسن والإيمان. ثم نزل تحريم الخمر، وقيل في سبب تحريمها: أن قبيلتين من الأنصار ثملوا من الشرب فعبث بعضهم ببعض حتى وقعت الضغائن في قلوبهم فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ} [المائدة: 90] الآية، وقيل: إن سعد بن أبي وقاص صنع طعامًا ودعا ناسًا من الصحابة وشوى لهم رأس بعير وفيهم رجل من الأنصار فعضب من شيء تكلم به سعد بن أبي وقاص فكسر أنفه بلحي جمل فأنزل الله تعالى تحريمها. وقيل: إن رجلًا سكر من الخمر فجعل ينوح على قتلى بدر فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فغضب وأقبل الرجل [107/ب] فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا كان بيده ليضربه فقال: "أعوذ بالله من غضب الله وغضب رسول الله لا أطعمها أبدًا" فنزل تحريمها. وقيل: إن عبد الرحمن بن عوف صنع طعامًا وشرابًا ودعا نفرًا من الصحابة فأكلوا وشربوا حتى ثملوا فقدموا رجلًا منهم يصلي بهم المغرب فقرأ: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون وأنت عابدون ما أعبد وأنا عابد ما عبدتم لكن دينكم ولي ديني، فنزل قوله تعالى: {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] الآية، وقيل: سبب تحريمها ما روى أبو ميسرة أن عمر رضي الله عنه قال: اللهم بين لنا في الخمر على ما ذكرنا فهذه خمسة أقوال في سبب تحريهما، وقال الحسن البصري: تحريم الخمر بالآية التي في سورة البقرة وقرأ حمزة: {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} وما كثر إثمه لم تجز استباحته وكان ما بعدها

مؤكدًا، وقال بعض أصحابنا المتأخرين: تحريمها بقوله تعالى في سورة الأعراف والإثم لما فيها من صريح التحريم، وقال قتادة وهو قول الأكثرين تحريمها بالآية التي في المائدة {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 91] الآية. وروي أنه لما نزل تحريم الخمر قالوا: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين شربوها وماتوا؟ فأنزل الله تعالى {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا} [المائدة: 93] أراد من المباحات غير المحرمات. وقيل: من الخمر قبل التحريم [108/أ] إذا ما اتقوا في باقي أمر الله تعالى بالقول، وقيل في أداء الفرائض: وآمنوا يعني بالله ورسوله وعملوا الصالحات أي البر والمعروف ثم اتقوا وآمنوا فيه وجهان: أحدهما: المخاطب بها غير الذي خوطب بالتقوى الأولى وإن الأولى لمن شربها قبل التحريم، والثانية لمن شربها بعد التحريم، والثانية لمن شربها بعد التحريم فكرر ذكرها لاختلاف المخاطب، والثاني: المخاطب بهما واحد وكرر ذلك لاختلاف المراد بها وفيه وجهان: والثاني: المخاطب بهما واحد وكرر ذلك لاختلاف المراد بها وفيه وجهان: أحدهما: المراد بالأولى فعل الطاعات، وبالثانية اجتناب المعاصي، والثاني: المراد بالأولى جملة الفرائض، والثانية عمل النوافل {ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا} أي في هذه التقوى، وفي الثالثة ثلاثة أوجه: أحدهما: بالإقامة على التقوى، والثاني: توفي الشبهات. والثالث: إنابة المحسن والعفو عن المسيء، وحكي عن الحسن وطائفة المتكلمين: أنها تحرم إذا كانت صرفًا ولا تحرم إذا مزجت بغيرها وهذا غلط لأنه يؤدي إلى إبطال مقصود التحريمولجاز شربها إذا ألقي فيها عود ونحو ذلك، فإذا تقرر هذا فمن شرب الخمر يلزمه الحد بلا خلاف قليلًا كان أو كثيرًا، ويفسق شاربها لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا شربوا الخمر فاجلدوهم ثم إن شربوا فاجلدوهم ثم إن شربوا فاجلدوهم ثم إن شربوا فاقتلوهم" وقد صار القتل منسوخًا وروي قبيصة [108/ب] ابن ذؤيب أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي برجل شرب الخمر فجلده ثم أتي به ثانيًا فجلده، ثم أتى به ثالثًا فجلده، ثم أتي به رابعًا فجلده أربع مرات وقد قال الشافعي: لا أعلم في هذا خلافًا من أهل الفتيا، وإن أتي به خامسًا أو سادسًا فيجد أبدًا، ولا يقتل، ولو تكررت منه الشرب قبل إقامة الحد لم يحد إلا مرة لأن حدود الله تعالى تتداخل. ثم اعلم أن الخمر المتفق على تحريمها هي: عصير العنب الذي اشتد وقذف زبده وهكذا إن أغلي واشتد حتى أسكر، وبه قال أبو يوسف ومحمد وقد ذكرنا عن أبي حنيفة أنه يشترط أن يزبد وأما ما عداها من الأشربة مطبوخًا كان أو نيئًا لا فرق بين شيء من ذلك هنا في الحكم وبه قال عمر وعلي وابن عباس وابن عمر وابن مسعود وأبو هريرة وسعد ابن أبي وقاص وعائشة رضي الله عنهم ومالك والأوزاعي وأحمد

وإسحاق، وقال أبو حنيفة: الأنبذة على أربعة أضرب: أحدها: الخمر يحرم قليلها وهي ما ذكرنا عنه، والثاني: المطبوخ من عصير العنب إن ذهب أقل من ثلثه فهو حرام أيضًا، وإن ذهب ثلثه فهو حلال إلا ما يسكر منه، وقيل عنه: إذا طبخ يسيرًا يكون حرامًا ولكن لا حد فيه ما لم يسكر وإن طبخه عنبًا فيه روايتان: أحدهما: يجري مجرى عصيره والمشهور أنه حلال وإن لم يذهب ثلثاه، والثالث: نقيع التمر والزبيب [109/أ] إذا اشتد يكون حرامًا ولا حد لأنه مختلف فيه كالوطء المختلف فيه وإذا طبخا حتى اشتدا كانا حلالين إلا السكر منهما ولا يعتبر أن يذهب ثلثاهما، والرابع: نبيذ الحنطة والذرة والشعير والأرز والعسل ونحو ذلك فإنه حلال سواء كان نقيعًا أو مطبوخًا. وروى الحسن بن زياد عنه أنه قال: لا يحد من سكر من ذلك والسكر محرم وجميع الأنبذة عنده طاهرة وإن حرم سوى الخمر، وروي مثل قول أبي حنيفة في المطبوخ عن عمر وعلي وابن مسعود في رواية والخلاف معه في خمسة فصول: أحدها: أن الكل سمي خمرًا حقيقة وهو قول المزني واختيار أكثر أصحابنا لأن الاشتراك في الصفة تقتضي الاشتراك في الاسم، وقال بعض أصحابنا: سمي خمرًا مجازًا لا حقيقة لأنهما يختلفان في بعض الصفات وتحريم الكل بالآية، وقال بعضهم: لا يسمى خمرًا بل هو محرم بالسنة وعند أبي حنيفة لا يسمى خمرًا، والثاني: أن قليل المطبوخ حرام عندنا خلافًا له، والثالث: في وجوب الحد في قليل نقيع التمر والزبيب النيئ، والرابع: في سائر الأنبذة من الحبوب وعندها لا يفسق شارب النبيذ إذا كان متأولًا ولكنه يحد، وقال مالك: يفسق كما يحد وهذا لا يصح لأنه بعد التوبة يحد وإن زال الفسق، والخامس: أن تحريم الخمر يعلل بعلة الشدة [109/ب] وعند أبي حنيفة حرمت الخمرة لعينها لا لعلة، وقيل: والسادس: في طهارتها ونجاستها، واحتجوا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حرمت الخمر لعينها والسكر من كل شراب" وروى أبو بردة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اشربوا ولا تسكروا"، وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان في الطواف فدعا بشراب فشرب ثم قطب وجهه وقال: "إذا اغتلمت هذه الأشربة فاكسروا بالماء"، ودليلنا ما روى النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن من العنب خمرًا، وإن من التمر خمرًا وإن من العسل خمرًا، وإن من البر خمرًا، وإن من الشعير خمرًا". وروى ابن عمر عن عمر رضي الله عنهما قال: نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من

خمسة من العنب، والتمر، والعسل، والحنطة، والشعير، والخمر: ما خامر العقل وفيه إثبات القياس وإلحاق الشيء بنظيره وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الخمر من هاتين الشجرتين النخلة والعنبة" ومعناه معظم ما يتخذ من الخمر منهما، وإن كانت الخمر تتخذ من غيرهما، وروى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما أسكر كثيرة فقليله حرام" وروت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل مسكر حرام [110/أ] وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام" والفرق: مكيلة تسع ستة عشر رطلًا، وروت: "فالمجة منه حرام"، وقيل: للعرب أربعة مكائيل: المد والقسط: وهو ضعف المد والصاع والفرق وهو: ثلاثة أضعاف الصاع، وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رجلًا من الأنصار أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنا نصنع شرابًا نشربه عند غدائنا وعشائنا فقال: "كل مسكر حرام" فقالوا: يا رسول الله أرأيت إن عمد أحدنا إلى الشربة فمذقها بالماء؟ فقال: "حرام قليل لما أسكر كثير"، وروي أن أبا موسى الأشعري رضي الله عنه قال حين عاد من اليمن: يا رسول الله شرابان بأرضنا البتع من العسل نبيذ حتى يسكر، والمزر من الشعير نبيذ حتى يسكر فقال: حرام كل مسكر أسكر عن الصلاة. وروى أنس رضي الله عنه قال: كل مسكر حرام وإن كان القراح، وروى أبو مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليشربن أناس من أمتي الخمر يسمونها بغير اسمها"، وروى الحميدي بإسناده عن ديلم الحميري أنه قال: قلت: يا رسول الله إنا في أرض باردة نعمل فيها عملًا شديدًا، وإنا نتخذ شرابًا من هذا القمح فنتقوى به على أعمالنا وعلى برد بلادنا فقال: هل يسكر؟ قلت: نعم قال: فاجتنبوه قال: فإن الناس غير تاركيه قال: فإن لم يتركوه فاقتلوهم رواه أحمد في كتاب الأشربة. وروى عبد الله بن عمر [110/ب] أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وقال: "كل مسكر حرام" والكوبة قيل: الطبل، وقيل: النرد وروت أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن كل مسكر ومفتر، والمفتر: كل شراب يورث الفتور والخدر في

الأطراف وهي مقدمة السكر فنهى عن شربه لئلا يكون ذريعة إلى السكر، وقال أنس فيه: حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد لخمور الأعناب إلا القليل وعامة خمورهم البسر والتمر وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه سئل عن الطلا وهو العنب يعصر ثم يطبخ ثم يجعل في الدنان قال: أيسكر؟ قالوا: إذا أكثر منه يسكر قال: فكر مسكر حرام، وقال أيضًا: إن النار لا تحل شيئًا ولا تحرمه، وأما الدليل على تحريم الخمر فعلل في قوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ} [المائدة: 91] وهو صريح في التعليل وإن العصير قبل حدوث الشدة المطربة فيه حلال فإذا حدثت الشدة حرمت فإذا زالت الشدة؛ إن تحللت حل فدل على أن العلة هي الشدة المطربة. وأما خبر ابن عباس قلنا: وقال أحمد بن حنبل: والسكر من كل شراب بفتح السين والكاف وأراد به المسكر فهو دليلنا في تحريم جنس المسكر ومعنى الخبر حرمت الخمر بالنص الظاهر والمسكر ملحق بها بالسنة اسمًا وحكمًا، وأما الخبر الثاني قال أصحاب الحديث: [111/ أ] وهم أبو الأحوص فيه والصحيح لا تشربوا مسكرًا، وأما الخبر الآخر قلنا: روينا عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم فتحينت فطره بنبيذ صنعته في دباء ثم أتيته به فإذا هو هش فقال: اضرب بهذا الحائط فإن هذا شراب من لا يؤمن بالله واليوم الآخر وروي عن عبد الله بن الديلمي أنه قال: قلت: يا رسول الله إن لنا أعنابًا ما نصنع بها؟ فقال: زببوها قلنا: ما نصنع بالزبيب؟ قال: امذوه على غذائكم واشربوه على عشائكم وابنذوه في الشنان ولا تنبذوه في القلل فإنه إذا تأخر عن عصره صار خلًا، والشنان الأسقية من الأدم وغيرها وواحد شن، والقلل: الجرار الكبار واحدها قلة، وقالت عائشة رضي الله عنها: كان ينبذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في سقاء فولي أعلاه وله عزلًا ينبذ غدوه فيشربه عشاء وينبذ عشاء فيشربه غدوة، والعزلاء: فم المزادة وقد يكون السقاء من أسفله، وقالت عائشة: كنت آخذ قبضة من تمر وقبضة من زبيب وألقيه في إناء فأمرسه ثم أسقيه النبي صلى الله عليه وسلم، والمرس والمرت: بمعنى واحد وهو الدلك بالأصابع في الماء وهذا كله يدل على أنه لم يكن حرام والحرام شرب المسكر، وإنما يشرب الحلو لأن مياههم كانت مالحة ويؤكد ما ذكرنا أن الخمر [111/ب] اختلفت أسماؤها ولم يختلف حكمها فكذلك النبيذ اختلفت أسماءه، ولم يختلف حكمه، فمن أسمائه الخمر العقار سميت بذلك لأنها تعاقر الإناء أي: تقيم فيه، والقهوة لأنها تقهي عن الطعام أي: تقطع شهوته، والسلاف: وهو الذي يخرج من العنب بغير اعتصار.

ومن أسماء النبيذ السكر وهو الذي لم يطبخ، والباذق: وهو المطبوخ، والفضيخ: وهو البسر سمي به لافتضاح البسر فيه والبتع من العسل لأهل اليمن، والمزر من الذرة لأهل الحبشة والمزاء من أشربة أهل الشام والسكر: وهو نقيع التمر الذي لا تمسه النار، والسكركة من الأرز لأهل الحبشة والجعة من الشعير، وروي مرفوعًا أنه نهى عن الجعة والخلطتان ما جمع فيه من بسر وعنب أو بين تمر وزبيب والمصنف ما ذهبنصفه وبقي نصفه والمثلث ما ذهب ثلثه وبقي ثلثاه، والطلا ما بقي ثلثه وذهب ثلثاه ومنه الجمهوري وهو ما يجمد فإذا أريد شربه يحل بالماء والنار ويسميه أهل فارس البلنجيح فإذا كان كذلك جاز أن يختلف اسم الخمر والنبيذ وتتفق أحكامهما من أجل الشدة كما اتفقت أحكام الخمر وأحكام النبيذ مع اختلاف الاسم للاشتراك في الشدة وهذا دليل من سلم اختلاف الأسماء وهو قول طائفة من أصحابنا وتأثير ذلك في أن من أطلق النبيذ اسم الخمر حرمه بالنص ومن لم يطلق [112/ أ] حرمه بالقياس، فإن قيل: ما معنى ما روى ابن عمر وابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الدباء والمزفت والحنتم والنقير وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لوفد عبد القيس: أنهاكم عن النقيروالمقير والحنتم والدباء والمراد المجبوبة ولكن اشرب في سقائك وأوكه، قلنا: الدباء القرع، وقال أبو بكر الثقفي: إنا معشر ثقيف كنا بالطائف نأخذ الدباء يعني اليقطينة من القرع فنخرط فيها عناقيد العنب ثم ندفنها حتى تهدر ثم تموت، وأما المزفت فالوعاء الذي يطلى بالزفت، وأما الحنتم: فجرار خمر كانت تحمل إلينا فيها الخمر، وقال الأصمعي: هي الجرار الخضر خاصة، وقال آخرون: كل نوع من الجرار حنتم وإن اختلفت ألوانها وهذا أصح لما روى ابن أوفى أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن نبيذ الجر الأخضر والأبيض والأحمر، وأما النقير فإن أهل اليمامة كانوا ينقرون أصل النخلة ثم ينبذون الرطب البسر ويدعونه حتى يهدر ثم يموت والمزادة المجبوبة هي التي ليست بها عزلاء من أسفلها تتنفس منها والشراب قد يتغير فيها ولا يشعر به صاحبها، وفي نهيه عن الانتباذ في هذه الأواني تأويلان: أحدهما: أنه كان ذلك قبل تحريم الخمر فجعل النهي عن هذه الأواني مقدمة [112/ب] يتوطئون بها على ما يرد بعدها من تحريم الخمر لأنهم قد كانوا ألفوها فوطأهم لتحريمها، والثاني: أنه كان بعد التحريم وإباحتهم غير المسكر وهذه الأواني يعجل إسكار شرابها فنهى عنها ليطول مكث ما لا يسكر في غيرها، وقال أبو سليمان الخطابي: إنما نهى عنها لأن لها ضراوة

يشتد فيها النبيذ فلا يشعر بذلك صاحبها فيكون على غرور من شرابها والصحيح أنه صار منسوخًا بحديث بريدة الأسلمي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نهيتكم عن الأوعية فاشربوا في كل وعاء ولا تشربوا مسكرًا، وقال مالك وأحمد وإسحاق: الخطر باق ولا يحل الانتباذ في هذه الأوعية، وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس رضي الله عنهم، فإن قيل: ما معنى ما روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن ينتبذ الزبيب والتمر معًا ونهى أن ينبذ البسر والرطب والتمر جميعًا؟ قلنا: قال بعض العلماء: يحرم الخليطان، وإن لم يكن مسكرًا لظاهر الحديث، وبه قال عطاء وطاوس ومالك وأحمد وإسحاق وعامة أهل الحديث، وقالوا: من شرب الخليطين قبل حدوث الشدة فيه فهو آثم من جهة واحدة، وإذا شرب بعد حدوث الشدة كان آثمًا من جهتين: أحدهما: شرب الخليطين [113/ أ] والأخرى: شرب المسكر، وقال الليث بن سعد: إنما جاءت الكراهة أن ينبذا جميعًا لأن أحدهما يشد صاحبه وبه قال الثوري وأبو حنيفة وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه، فإن قيل: ما معنى ما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن الشرب في السقاء" وروى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن اختناث الأسقية ونهى عن الشرب من ثلمة القدم وأن ينفخ في الشراب" وروى أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يشرب الرجل قائمًا، وروى ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى أن يتنفس في الإناء أو ينفخ فيه"، قلنا: إنما كره الشرب من السقاء من أجل ما يخاف من أذى عساه يكون فيه ولا يراه الشارب حتى يدخل جوفه فاستحب له أن يشربه في إناء ظاهر يبصره، وروي أن إنسانًا شرب من في سقاء فانساب جان فدخل جوفه، وأما اختناث الأسقية هو أن يثني رؤوسها ويعطفها ثم يشرب منها وسمي المخنث مخنثًا لتكسره وتثنيته، وقيل: إن النهي في ذلك لأن الشراب غذا دام فيه تخنث وتغيرت رائحته، فإن قيل: روى أبو داود بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل [113/ب] أخنث فم الإداوة ثم اشرب من فيها فكيف الجمع بين الخبرين؟ قلنا: يحتمل أن النفي جاء في السقاء الكبير دون الأداوة ويحتمل أنه أباحه للضرورة والحاجة إليه في الوقت والنهي للعادة، وقيل: أمر به لسعة فم السقاء لئلا ينصب عليه الماء وأما النهي عن الشرب من ثلمه القدم فلأنه إذا شرب منها سال على وجهه ولحيته

ولوثه لأن الثلمة لا يتماسك عليها شفة الشارب كما يتماسك على الموضع الصحيح من الكوز والقدح، وقيل: إنه مقعد الشيطان والمعنى فيه أن موضع الثلمة لا يناله التنظيف التام إذا غسل الإناء فيكون شربه على غير نظافة وذلك من فعل الشيطان وتسويله، وكذلك إذا سال الماء من الثلمة على وجهه وثوبه فإنه من إيذاء الشيطان وتسويله، وكذلك إذا سال الماء من الثلمة على وجهه وثوبه فإنه من إيذاء الشيطان إياه. وأما النهي عن الشرب قائمًا: فهو نهي تأديب وتنزيه لأنه أحسن وأرفق بالشارب، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب قائمًا وتأويله في حال الضرورة الداعية إليه وكان بمكة شرب من ماء زمزم قائمًا لازدحام الناس عليه، وأما النهي عن التنفس والنفخ من أجل ما يخاف أن يبرز من ريقة ورطوبة فمه فيقع في الماء وقد تكون النكهة في بعض من يشرب متغيرة [114/أ] فتعلق الرائحة بالماء لرقته ولطافته فيكون الأحسن في الأدب أن يتنفس بعد إبانة الإناء عن فيه ولا حاجة إلى النفخ لأنه لأحد معنيين إن كان لحرارة الشراب فليصبر حتى يبرد، وإن كان من أجل قذى يبصره فيه فليمطه بإصبع أو بحلال أو نحو ذلك. فرع لو طبخ لحمًا بخمر وأكل مرقتها حد، وكذلك لو نثر فيها خبزًا لأن عين الخمر موجودة في المرقة والثريد، ولو أكل اللحم لم يحد لأن عين الخمر غير موجودة في اللحم وإنما فيه طعمه وإن عجن دقيقًا بخمر وخبزه فأكل الخبز لا يحد لأن عين الخمر أكلتها النار وبقي خبز نجس. فرع آخر لو استعط بالخمر أو احتقن لم يحد لأنه ليس بشرب ولا أكل. فرع آخر كل شراب مسكر لا يجوز بيعه وهو نجس، وقال أبو حنيفة: يجوز بيعها جميعًا إلا الخمر، وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز بيع نقيع التمر والزبيب ويجوز بيع الباقي منها وبنوا ذلك على إباحتها عندهم، واحتج أبو حنيفة بالتمر ولو كان محرمًا مختلف في إباحته فجاز بيعه ودليلنا أنه شراب محرم أو شراب فيه شدة مطربة فلا يجوز بيعه كالخمر. فرع آخر إذا عجن الند بالخمر كان نجسًا لا يجوز بيعه ولو تبخر به هل ينجس؟ فيه وجهان ذكرهما القاضي الطبري. مسألة: قال: ولا يحد إلا بأن يقول: شربت الخمر [114/ب]. الفصل واعلم أنه لا يجب الحد إلا أن يقر فيقول: شربت الخمر أو يقول شربت ما يسكر أو يشهد عليه شاهدان عدلان أو يشرب من إناء مع نفر فيسكر بعضهم فيعلم أن الشراب

مسكر وأنه يجب عليه الحد وليس مراد الشافعي رضي الله عنه، ولكنه أراد أن الشارب إذا شرب وهو عالم بأنه مسكر ونحن لا نعلم فسكر بعض من شرب معه وجب عليه الحد، فإذا لم يعلم الشارب صفة الشراب إلا بعد الشرب فلا حد عليه، فإن قيل: أليس قال الشافعي رضي الله عنه في رواية الربيع: لو شرب شرابًا ولم يعلم أنه مسكر فسكر فعليه الحد؟ قلنا: هذه المسألة أيضًا من مشكلات الربيع وتأويلها عند مشايخنا الذين يرجعون إلى معرفة نصوص الشافعي رضي الله عنه أن يشرب الشراب ولا يعلم أنه مسكر في جنسه، فأما إذا جهل الجنس فلا حد عليه، واختلف أصحابنا في مسألة الكتاب فمنهم من ذهب إلى إطلاق هذا فقال: إذا أقر بشرب الخمر أو المسكر أقيم عليه الحد ولم يستكشف إلا أن يدعي ما يدرأ به الحد فيقبل، ومنهم من قال: لا يجب الحد حتى يقر بأنه شربها مع علمه بها وعلمه بتحريمها مختارًا غير مكره به وقال القاضي أبو حامد، وهكذا لو شهد شاهدان أنه شرب من إناء شرب منه غيره وسكر منه فعلى هذا الاختلاف، والأول أصح [115/ أ] لأن الظاهر من فعله الاختيار والعلم كما لو شهد أنه باع يحمل على الطوع والصحة، فإن قيل: أليس لو قال الشهود: إنه زنا لم يقبل حتى يفسرا الزنا فلم لا يحتاجون إلى تفسير المسكر؟ قلنا: إنه زنا لم يقبل حتى يفسرا الزنا فلم لا يحتاجون إلى تفسير المسكر؟ قلنا: إن الزنا يعبر به عن الصريح بدواعيه ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اليدان تزنيان، والعينان تزنيان" وهما لا يسمى غير المسكر مسكرًا. فرع إذا وجده سكران أو شم منه رائحة المسكر أو تقيأ مسكرًا لا يجب الحد، وقال ابن أبي هريرة: أحده بالسكر إلا أن يدعي ما يسقط الحد، وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه جلد بالرائحة، وروي أن رجلين شهدا عند عثمان رضي الله عنه على الوليد بن عقبة فقال أحدهما: إنه شرب خمرًا، وقال الآخر: إنه تقيأها فقال عثمان: ما تقيأها حتى شربها، وقال لعلي: أقم عليه الحد، وقال ابن مسعود لرجل شم منه رائحة الخمر: لا أبرح حتى أقيم عليك الحد، والدليل على صحة قولنا؟ إنه يحتمل أنه شرب مكرهًا أو أكل تفاحًا أو شرب التفاح فإنه يكون منه كرائحة الخمر، وإذا احتمل ذلك لا يحد وقد روي عن عمر أنه شم من ابنه عبد الله رائحة الشراب فسأله فقال: شربت الطلا فقال: إني سائل عنه فإن كان مسكرًا حددتك ولم يحده بالرائحة، وقال عطاء: إن الريح [115/ب] تكون من الشراب الذي ليس به بأس، ثم احتج الشافعي رضي الله عنه في التسوية بين الخمر والنبيذ بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا أوتى بأحد شرب خمرًا أو نبيذًا مسكرًا إلا جلدته الحد.

(باب) عدد حد الخمر ومن يموت من ضرب

(باب) عدد حد الخمر ومن يموت من ضرب قال: أخبرنا الثقة عن معمر بن الزهري عن عبد الرحمن بن الأزهر رضي الله عنه قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بشارب فقال: "اضربوه" فضربوه بالأيدي والنعال وأطراف الثياب وحثوا عليه من التراب ثم قال: نكتوه فنكتوه ثم أرسله. اعلم أن حد الخمر أربعون جلدة فإن رأى الإمام أن يبلغ به ثمانين جلدة جاز وكان ما زاد على الأربعين تعزيزًا، وقال أبو حنيفة ومالك والثوري: حد الخمر ثمانون جلدة واختار ابن المنذر، واحتجوا بما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: جلد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر بنعلين أربعين فلما كان زمن عمر جلد بكل نعل سوطًا، وروى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل شرب الخمر فضربه بجريدتين نحوًا من أربعين ثم صنع أبو بكر مثل ذلك فلما كان عمر استشار الناس فيه فقال له عبد الرحمن بن عوف: أخف الحدود ثمانون ففعل. ودليلنا [116/أ] الخبر الذي ذكرنا وفيه أنه لما آل الأمر إلى أبي بكر رضي الله عنه سأل من حضر ذلك الضرب فقومه أربعين فضرب أبو بكر رضي الله عنه في الخمر أربعين حياته، ثم عمر رضي الله عنه ضرب أربعين ثم تتابع الناس في الخمر فاستشار الصحابة رضي الله عنهم قال عبد الرحمن بن عوف: ما ذكرنا فقال علي رضي الله عنه: نراه إذا سكر هذى وإذا هذى افترى وعلى المفتري ثمانون فجلد عمر ثمانين وهذا نص صريح على أن الزيادة على الأربعين باجتهاد الصحابة رضوان الله عليهم على وجه التعزيز لا على جهة الحد، وروي أن خالد بن الوليد رضي الله عنه أرسل إلى عمر رضي الله عنه وقال: وإن الناس قد انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة فيه فقال عمر: هم هؤلاء عندك وكان هناك عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير فاستشارهم فقالوا ما ذكرناه، وكان عمر إذا أتي بالضعيف الذي كانت منه الزلة ضربه أربعين، وإذا أتى بالرجل القوي المنهمك في الشرب حد ثمانين رواه أبو وبرة الكلبي وجلد عثمان رضي الله عنه ثمانين وأربعين، وروى حصين بن أبي ساسان قال: ركب نفر منهم فأتوا عثمان بن عفان فأخبروه بما صنع الوليد بن عقبة من شرب الخمر فقال عثمان لعلي: دونك [116/ب] ابن عمك فاجلده فقال علي للحسن: ثم فاجلده فقال الحسن: فما أنت وهذا ولهذا غيرك فقال: بل عجزت ووهنت وضعفت، يا عبد الله بن جعفر قم فاجلده فجعل يجلده وعلي يعد حتى بلغ أربعين فقال: أمسك، جلد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين وكل سنة، وروي أن الحسن قال لعلي: ولى حارها من تولى قارها قال الاصمعي: معناه ول شديدها من تولى هينها، وقيل: معناه ول العقوبة والضرب من توليه العمل والمنع، والقارة الباردة وكلاهما قريب، وقال علي: وجلد عمر صدرًا من خلافته أربعين ثم أتمها عمر ثمانين وهذا أحب إلى يعني أربعين، وروى قتادة عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد سكر فأمر قريبًا من عشرين رجلًا فجلده كل واحد منهما جلدتين بالجريد والنعال،

وروى عمر بن سعيد عن عليّ رضي الله عنهأنه قال: ما من صاحب حد أقيم عليه فيموت فأجد في نفسي منه شيئا الحق إلا شارب الخمر فإنه شئ رأيناه بعد رسول الله صلي الله عليه وسلم فمن مات منه فديته إما قال: في بيت المال، وإما على عاقلة الإمام الشك من الشافعي، وروى أنه قال: إلا حد شارب الخمر فإن النبي صلي الله عليه وسلم لم يسنه زائدا [117/أ] على أربعين أو لم يسنه بالسياط وأما الخبر الذي ذكروا نحمله على أنه ضرب بالنعلين عشرين مرة بدليل ما ذكرنا. فإن قيل: كيف يجوز أن يبلغ بالتعزيز أربعين سوطا وعندكم لا يبلغ به أدني الحدود؟ قيل: اجتمع هنا أسباب التعزيز من الهذيان وإزالة العقل وغير ذلك فلهذا بلغوا ثمانين. فإن قيل: لم أمر رسول الله صلي الله عليه وسلم بالتبكيت؟ وقد روى أبو هريرة أن النبي صلي الله عليه وسلم أتي بشارب فأمر أصحابه أن يضربوه فمنهم من ضربه بنعله ومنهم بيده ومنهم بثوبه ثم قال: (ارجعوا) ثم قال (بكتوه) فبكتوه فقالوا: ألا تستحي من رسول الله صلي الله عليه وسلم تصنع هذا، وروى أنه قال: (وحثوا عليه التراب) فحثي في وجهه التراب وروى وحثي عليه رسول الله صلي الله عليه وسلم التراب، وروى: فلما أدبر وقع القوم يدعون عليه ويسبونه ويقول القائل: اللهم اخزه اللهم العنه فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم (لا تقولوا هذا ولكن قولوا: اللهم ارحمه، وروى أن رجلا كان يلقب بحمار جلده رسول الله صلي الله عليه وسلم في الشراب فلما كان في زمن عمر أتي به فجلده فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتي به فقال: لا تلعنه أما علمت أنه يحب الله ورسوله. وقيل: التبكيت وحثو التراب زيادةً في التعزيز وليس بشرط [117/ب] في الحدود وهو إلى الاجتهاد. مسألة: قال: وإذا ضرب الإمام في خمر أو ما يسكر بتعلين أو طرف ثوب. الفصل اعلم أنه لا يقام الحد عليه إلا بعد الصحو لأنه للردع ولا يرتدع في حالة السكر، وإذا أقام الإمام حد الشرب بنعلين أو طرف ثوب أو رداء أو نحو ذلك ضرباً يحيط العلم أنه لم يجاوز أربعين فمات من ذلك فالحق قتله لأن هذا المقدار من الحد الذي ضربه رسول الله صلي الله عليه وسلم ولو اقتصر اليوم الإمام على مثل هذا الضرب كان حقا واحدا لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم هكذا ضرب، وإن ضربه بالسياط فمات ذكره صاحب (الإفصاح) عن بعض أصحابنا أنه قال: يحتمل وجهين أحدهما: لا يضمن لأن السياط الأصل في الحدود، والثاني: يضمن كما لو ضرب المقعد بالسياط وعدل عن عثكال النخل كذلك ها هنا، وقال (الحاوى): قال ابن سريج وأبو إسحاق: ضرب رسول الله صلي الله عليه وسلم بالنعال والثياب لعذر في الشارب من مرض أو كان نضو الخلق فعلى هذا يكون حد الصحابة بالسياط في الخمر، وعثمان رضي الله عنه جلد الوليد بالسياط، وقال

الجمهور: حده بالثياب كان شرعا خفف به الخمر كما خففه في العدد فعلى هذا عدل الصحابة بالاجتهاد عنه إلى السياط كما بلغوا ثمانين. [118/أ] وقال القاضي أبو حامد: الشافعي رضي الله عنه في جراح العمد في باب جناية السلطان: إذا ضربه بالسوط أربعين أو أقل فمات ضمن، وقال في (المختصر) و (الأم) مثل هذا، والقول الآخر لأصحابنا لا عن الشافعي فإذا قلنا بهذا فكم يضمن؟ وجهان: أحدهما: يضمن كل الدية لأنه عدل من جنس إلى غيره فكان الضمان كله عليه. والثاني: لا يضمن كله بل يضمن قدر ما زاد على ألم غير السياط هكذا ذكره أبو حامد، وقال ابن المرزبان: يلزم نصف الضمان في هذا الوجه، والثاني. ثم قال الشافعي ك فإن ضربه أكثر من أربعين فمات ضمن، قال أصحابنا: إنما ضمن لأن ما زاد على الأربعين تعزيز أضافته الصحابة إلى الحد ويجوز للإمام تركه كما يجوز ترك التعزيز، وقد روينا عن علي رضي الله عنه ذلك فإذا تقرر هذا فكم يضمن؟ فيه قولا: أحداهما: نصف ديته لأنه مات من مضمون وغير مضمون فصار كما لو جرحه وآخر جراحة فديته بهما سواء. والثاني: يضمن بقسط الزائد في الجملة فإذا ضرب أحدا وأربعين فمات يلزمه جزءمن أحد وأربعين جزءا من الدية ويسقط الباقي لأن آثار الجرح غير متقاوتة في الغالب فيجب بالحصه كما لو استأجر [118/ب] دابة تحمل عشرة مكاكيك فحمل أحد عشر فمات يلزم الضمان بالحصة لا نصف القيمة. ثم هذا الضمان يجب على الإمام دون الجلاد لأنه أمر بالضرب وهل يكون ذلك على عاقلته أو في بيت المال؟ فيه قولان والأصح أنه يجب على عاقلته وقد قطع به هنا أنه على عاقله الإمام دون بيت المال، وإن الجلاد فعل ذلك بأن أمره الإمام بأن يحد في الخمر أربعين أو يحد في القذف ثمانين فزاد على ذلك واحدا فعلى الجلاد الضمان وكم يضمن؟ قولان على ما ذكرنا اللهم إلا أن يكون الجلاد يضرب والإمام يعد فزاد بعد الإمام خطأ فيضمن هو دون الجلاد إذا تقرر هذا وقد قال المزني: وقوله فديته على عاقلة الإمام غلط بليجب بعض ديته لأنه من حق وزيادة فكيف تكون الدية بكمالها على عاقلته والموت حصل من مباح وغير مباح؟ الأول أنه لو ضرب في القذف أحدا وثمانين جزءا من الدية، ألا تري أنه قال: لو جرح رجلا فخيط المجروح في لحم حي فعلى الجارح نصف الدية لأنه مات من جرحه والجرح [119/أ] الذي أحدثه في نفسه؟ فكذلك هنا بهما مات فلا تكون الدية كلها على الإمام قلنا: الشافعي رضي الله عنه قائل في هذه المسألة بالتقسيط به كما قلت به أيها المزني ولكن قصد به بيان محل الدية وهي أنها على العاقلة فلم يهذب عبارته في المقدار فتجوز فيها، فقال: فديته على

عاقلة الإمام ومعناه الواجب من ديته على عاقلة الإمام وقد بين المقدار في غير هذا فوجب أن يحمل مطلق كلامه على ما فسره في موضعه، وقال بعض أصحابنا بخراسان: قال الشافعي في هذه الصورة: فإن ضربه أكثر من أربعين بالنعال أو غير ذلك فمات فديته على عاقلة الإمام وأراد بقوله أو غير ذلك بالسياط ويجب فيه كل الضمان في أحد القولين فقوله: فديته يعني كل الدية يرجع إلى هذا قوله: أكثر من أربعين بالنعال وهذا ضعيف. فرع آخر لو أمر الإمام أن يضرب شارب الخمر ثمانين ضربة فضربه أحدا وثمانين فمات فإن قلنا: يعتبر بعدد الضربات كان أربعين جزءا من أحد وثمانين جزءا من الدية مقدرا، ووجب أربعون جزءا من أحد وأربعين جزءا من الدية على الضارب، وإذا قلنا: يقسم على المضمون وغير المضمون اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: من فعل غير [119/ب] مضمون وفعل منسوب إلى الأمام مضمون وفعل الضارب مضمون فتكون الدية منسوبة أثلاثا فسقط ثلثها ووجب على الإمام ثلثها وعلى الضارب ثلثها، ومنهم من قال: يجب أن يقسم على مضمون وغير مضمون فيسقط نصف الدية ويجب نصفها بين الإمام والضارب نصفين فحصل في هذه المسألة ثلاثة أوجه وهذا الوجه الأخير اختيار صاحب "الإفصاح". مسألة: قال: ولو ضربت امرأة حدا فأجهضت لم يضمنها وضمن ما في بطنها. قد ذكرنا أنه لا يجوز إقامة الحد على الحامل، فلو أقام وماتت لم يضمنها لأن الحق قتلها. ويضمن ما في بطنها فإن كان عالما بأنها حبلي فهذا تعد منه فتكون دية الجنين على عاقلته، وإن لم يعلم أنها حبلي فهو خطأ من جهته فيكون في دية الجنين قولان: هل هي على عاقلته أو في بيت المال؟ وذكر ابن أبي هريرة وجها آخر في ضمان الإمام أنه إن ضمن فيها تعود منفته على كافة المسلمين كتعزيز المتعرض للزنا والأذى فديته على عاقلته، وإن كان غير ذلك ففي بيت المال، وقال أبو إسحاق وابن أبي هريرة وصاحب "الإفصاح": إنما لا يضمنها إذا ماتت من الضرب دون الإجهاض، أما إذا ماتت من الإجهاض ضمن كما يضمن [120/أ] الجنين وكما لو ضربها في شدة حر أو برد مفرط فماتت وقد قال القاضي الطبري: هذا لا يصح لأنها إذا ضربت وأجهضت وماتت فالموت يكون حادثا عن الإجهاض والضرب جميعا، فلو كان التأويل ما ذكروه لوجب أن يضمن نصف الدية لأنه يكون حادثا عن مضمون وغير مضمون، وقال بعض أصحابنا: وهو الصحيح المشروح إن كان موتها للحد لا يضمن، وإن كان من الإجهاض فقط يضمن الدية، وإن كان من الإجهاض والحد معا يضمن نصف

الدية، ومن أصحابنا من قال: إذا ماتت هنا لا يضمنها وقال: إذا أمر السلطان بالختان لا يضمن إلا أن يكون في حر شديد أو برد مفرط ففيه ثلاثة طرق: أحدهما: أراد في الحد إذا كان الغالب السلامة وأراد في الختان إذا كان الغالب الهلاك وقد صرح به في الختان. والثانية: فيهما قولان أحدهما: لا ضمان لأن كليهما واجب. والثاني: يضمن لأنه تعدي فيهما. والثالثة: هما على ظاهرهما لأن الختان جرح فالغالب عنه التلف والحد ضرب في ظاهر البدن والغالب السلامة، وأيضا وجوب الحد مجمع عليه والختان مختلف فيه وأيضا الحد [120/ب] يختص بنظر الإمام واستيفائه، والختان يجب على الإنسان ولا يختص بالإمام فإذا تولاه ضمنه، وأما إذا أقامه في شدة الحر قال في باب جناية السلطان: كرهت ذلك فلو مات من الضرب فلا عقل ولا قود ولا كفارة، وذكر في مواضع أنه لا ينبغي أن يقام الحد في هذه الحالة ولم يتعرض للحكم الذي يكون إذا فعل ذلك ومات، وقال في رجل أغلف أو امرأة لم تخفض: إذا أمر السلطان بهما فعزرا فماتا لم يضمن السلطان إلا أن يعززهما في حر شديد أو برد شديد يكون الأغلب أنه لا يسلم من عزر في مثله فيضمن عاقلته ديتهما ففيه ثلاثة طرق على ما ذكرنا. مسألة: قال: ولو حدة بشهادة عبدين. الفصل إذا ضرب الإمام حدا بشهادة عبدين ظاهرين الحرية ثم بان أنهما عبدان أو كافران أو فاسقان يلزمه الضمان لأن البحث عن أحوال الشهود إليه، فإذا لم يفعل كان من خطئه فيكون على القولين. فإذا قيل: هلا قلتم: يجب الضمان على الشاهدين كما لو شهدا بالقتل فقتل ثم قالا: أخطأنا يلزمهما الضمان؟ قيل: الفرق أن التفريط من جهة الإمام هنا حين لم يفحص [121/أ] عن أحوال الشهود وسرائرهم وهناك التفريط كان من الشاهدين فكان الضمان عليهما، ولو شهدا بالقذف فحد المشهود عليه ثم بان رقهما أو فسقهما وقد مات المحدود كان الضمان على الإمام ولا يرجع به على الشهود. فإذا قيل: فإن حد القذف حق الآدمي عندكم وقد استوفاه فكان ينبغي أن يكون الضمان عليه كما لو شهدوا له بمال وقبضه ثم بان فسقهما يلزمه الضمان دون الإمام. قيل: الفرق أن المشهود له قبض المال فإذا لم يطلب البينة بان أن مال المشهود عليه وحصل في يده فكان عليه ضمانه وهنا لم يحصل في يده شيء وكان الفعل بخطأ الإمام وتسليطه فافترقا، وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن كان معلن الفسق فالحكم ما ذكرنا، وإن كانا فاسقين وفسقهما مجتهد فيه فلا ضمان بالشك والاجتهاد. ثم حيث

يغرم فلا رجوع على الشاهدين الفاسقين لأنهما شهدا وعندهما أنه يقبل قولهما ربما أدى الأمر في قبول شهادة الفاسق إلى اجتهاد الحاكم، وأما العبدان والكافران والمرأتان فوجهان: أحدهما: يثبت الرجوع لأن رد شهادتهما يقين. والثاني: لا يثبت الرجوع لأنهما ما كذبا أنفسهما بالرجوع عن الشهادة وكان من حقه أن يفحص عن حالهما ولا يقبل شهادتهما وهذا أصح. وقال في جراح العمد: [121/ب] فإن أقر عنده صبي أو معتوه بإقراره بالسرقة ضمن يده وإنما قال ذلك لأن هذا الخطأ منه لأن إقراره لا يصح. مسألة: قال: ولو قال الإمام للجلاد: أنما أضرب هذا ظلما وعلم أنه ظالم له، فضربه وتلفف الضمان على الجلاد دون الإمام؛ ضمن الإمام والجلاد معا. في هذا ثلاث مسائل: إحداهما: أن يأمره بجلد رجل ظلمًا وعلم أنه ظالم له، فضربه وتلف فالضمان على الجلاد دون الإمام؛ لأنه ما أكرهه عليه بل فعله باختياره ولا يجب عليه طاعته في المعصية. والثانية: أن لا يعلم ظلمه فجلده فمات فالضمان على الإمام لأنه تلزمه طاعة الإمام ما لم يعلم أنه ظلم فصار كأنه ألزمه. والثالثة: أن يلزمه على ضربه فضربه يلزم الضمان عليهما نصفين لأن الإمام ضارب بالإكراه والضارب آثم فيما فعله فإنه لا يجوز له ضربه وإن أكرهه عليه، وهذا تأويل قوله: ضمن الإمام والجلاد معا، وقال بعض أصحابنا بخراسان: يجب كل الضمان على المكره ولا شيء على المكره في أحد القولين وهذا النص يدل على أن هذا الخطأ من القائل، وقال صاحب (الإفصاح): هذا تأويل باطل لأن الشافعي ذكر هذه المسألة في باب جناية السلطان من باب جراح العمد ولم يذكر مسألة الإكراه فصح التأويل، وقال صاحب (المنهاج): فإن قال قائل: هذا الجلاد إما أن يكون [122/أ] مختارا فيضمن وحده، أو يكون مكرها فيجب على السلطان دون الجلاد كالمكره والمكره قلنا: الجلاد في صوره المكره لأن أمر الإمام بمجرده إكراه فإن أخبره بأنه ظالم والمكره والمكره شريكان في ضمان النفوس قودًا ومالًا وإنما ينفرد المكره بالضمان في الأموال المستهلكة كما ينفرد فيها بالمأثم وفائدة إخباره إياه بالظلم أنه لو لم يخبره ما كان على الجلاد شيء وكان خطأ الحاكم لا يلتزم فيه الجلاد ضمانا ولا عاقلته لأنه حينئذ كالآلة وهو لا يعلم أن الفعل الذي يباشره ظلم منه وقد ذكرنا قبل هذا شرح ما قيل فيه وهذا الذي قاله غريب. مسألة: قال: ولو قال الجلاد: ضربته وأنا أرى الإمام مخطئا وعلمت أن ذلك رأي بعض الفقهاء.

الفصل إذا أمر الإمام بضرب رجل فضربه ثم قال: ضربته وعلمت أن الإمام مخطئ في ذلك وعلمت أن ذلك رأي بعض الفقهاء فترك الإمام مذهبه أو خالف نص السنة بتأويل واجتهاد مثل أن أمره بقتل حر بعبد فرجع إلى قول أبي حنيفة والجلاد يعتقد أنه لا يجوز والجلاد يعتقد ذلك أيضا يلزم الجلاد الضمان، لأنه لا يجوز له قتله ويلزم القود في هذه المسألة وتمام الدية: وقال صاحب (الإفصاح): [122/ب] ويحتمل في الضمان وجهان: أحداهما: يلزمه كل الدية. والثاني: يلزمه نصف الدية لأنه من الإمام أمرا، ومن المأمور مباشرة فالضمان عليهما وهكذا ذكره ابن أبي هريرة وأشار إليه القاضي أبو حامد. وقال في (الحاوى): إن لم يكن فيه نص لحد القذف بالتعريض يلزمه الدية، وإن كان فيه كقتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر ففيه وجهان قال ابن أبي هريرة: يلزمه القود للنص، والثاني لا قود لشبهة الاختلاف، ومن أصحابنا من قال: المسألة بعكس هذا وهو أن الجلاد يعتقد أن قتله جائز والإمام يعتقد أنه لا يجوز فيجب القود على الجلاد اعتبارا بنية الإمام والاجتهاد ليس إليه، إن كان هو من أهل الاجتهاد وإنما هو إلى الإمام لأن الإمام لم يوله القضاء ولم يستخلفه حتى يجتهد وهو مباشر عالم بالحال فيلزمه الضمان ن ولا يلزم الإمام المسبب المخطئ شيء. فرع لو اعتقد الإمام والجلاد وجوبه فلا ضمان فيما ذكرنا، وإن كان يعتقد الإمام وجوبه دون الجلاد فإن أكرهه فلا ضمان، وإن لم يكرهه فلا ضمان على الإمام وهل يجب على الجلاد؟ فيه وجهان أحدهما لا ضمان لأنه منفذ لحكم نفذ بالاجتهاد، والثاني يضمن لإقدامه مختارا على إتلاف ما يعتقد وجوب ضمانه، وقيل: هل يجوز له الإقدام عليه؟ [123/أ] فيه وجهان: أحدهما: يجوز اعتبارا باجتهاد الإمام. والثاني: لا يجوز لأنه يخالف نص قوله صلي الله عليه وسلم (لا يقتل حر بعبد) وقيل: إن مسألة الكتاب هذا _وأراد الشافعي _ عليه ضمان جميع الدية يعني على الجلاد إن لم يكرهه، وإن كان الإمام يعتقد حظره والجلاد يعتقد وجوبه فإن رده الإمام إلى اجتهاد الجلاد فلا ضمان على أحد وإن أمره الإمام به ولم يرده إلى اجتهاده فلا ضمان على الجلاد لأنه استوفي بإذن مطاع ما يراه مشرعا في الاجتهاد، وأما الإمام إن لم يكرهه فلا ضمان عليه وإن أكرهه ضمن لأنه ألجأه إلى ما لا يسوغ في اجتهاده. مسألة: قال: ولول قال: أضربه ثمانين فزاد سوطا.

الفصل هذا في حد القذف إذا أمره أن يضربه ثمانين فضربه أحدًا وثمانين لأنه في القول الثاني أوجب سهما من أحد وثمانين سهما وهذا يختص به حد القذف، فاما في حد الشرب فما زاد على الأربعين فمضمون على ما ذكرنا فوجه القولين قد نص وإذا تقرر هذا فهنا إشكال في اللفظ وهو أنه قال: فلا يجوز فيه إلا واحد من القولين: أحدهما: أنه عليهما نصفين فظاهر هذا اللفظ أن نصف الدية على الإمام ونصفها على الجلاد وليس المراد هذا لأن نصف الدية هدر [123/ب] وهو ما على مقابلة الحق والنصف الثاني مضمون وهو ما على مقابلة الظلم فمعني قوله: عليهما أي: على الحق والظلم ألا تراه أنه قال في القول الثاني: أو سهما من أحد وثمانين سهما أي: يسقط سهم من أحد وثمانين سهما لأنه سوط من أد وثمانين سوطا. ولم يشتغل بإيجاب الضمان في الأجزاء الثمانين، قال الشافعي: ولو قال له: اجلده ما شئت أو ما رأيت أو ما أحببت أو ما لزمه عندك فتعدي عليه ضمن الجالد العدوان دون الإمام وليس كالذي يأمره بضربه إمامه ولا يسم له عددا وهو يحصي عليه على ما ذكرنا. فرع إذا أمر الإمام رجلا بصعود نخلة أو نزول بئر استحببنا له أن يطيعه فإن فعل فوقع من ذلك فهلك كان الضمان على الإمام لأنه أمره به وهو مندوب إلى طاعة الإمام، ثم ينظر فإن كان ذلك لخاص نفسه كانت الدية على عاقلته، وإن كان لأمر المسلمين ففي محل الدية القولان. وإن أمره الإمام أن يسعي في حاجة فسعي فيها فتعثر فسقط فمات فلا ضمان على الإمام لأن السعي ليس بسبب الإتلاف ولا العثار بخلاف صعود النخلة ونزول البئر وإن أمره بعض الرعية بذلك فلا ضمان على الآمر لأنه لم يؤمر بطاعته. مسألة: قال: وإذا خاف نشوز امرأة فضربها. الفصل إذا ضرب امرأة للنشوز [124/أ] فماتت قد ذكرنا أنه تجب الدية على العاقلة لأنه غير مقدر ويفارق التلف المتولد من دفع الصائل، وإن كان غير مقدر ولا يتعين لأن قتل الصائل مباح إذا كان لا يندفع إلا بالقتل فليس كالتأديب المقصور على الاستصلاح، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال مثله، في معلم الكتاب خالفنا وقال: لا يضمن وقد ذكرنا أن الإمام لو أرسل إلى امرأة في سوء بلغه عنها فأجهضت ذا بطنها فضمن دية جنينها قال أصحابنا: ولو ماتت من الإجهاض ضمن أيضا لأنه متولد عن مضمون. مسألة: ولو عزر الإمام رجلا فمات فالدية على عاقلته.

الفصل قد ذكرنا فيما تقدم هذه المسألة واعلم أن التعزيز بترتب باختلاف الذنوب واختلاف فاعليها على أربع مراتب فالمرتبة الأولي: التعزير بالكلام وغايته الاستخفاف الذي لا قذف فيه ولا نفي نسب. والمرتبة الثانية: الحبس فينزلون على منازلهم بحسب ذنوبهم فمنهم من يحبس يوما، ومنهم من يحبس أكثر إلى غاية مقدرة بحسب الاجتهاد في المصلحة، وقال أبو عبد الله الزبيري: تقدر غايته بشهر للاستبراء والكشف، وبستة أشهر للتأديب والتقويم. والمرتبة الثالثة: النفي والإبعاد فظاهر مذهب الشافعي أنه يتقدر الأكثر بما دون السنة، وظاهر [124/ب] مذهب مالك أنه يجوز أن يزاد فيه على السنة وقد ذكرنا. والمرتبة الرابعة: الضرب فكل من أتي معصية فإن سرق دون النصاب من حرز، أو سرق نصابا من غير حرز أو وطئ دون الفرج، أو قذف بالتعريض فللإمام أن يعزره بالضرب لما روي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال:"وإن كان ثمنه دون ثمن المجن فقد غرم مثليه وجلدات نكال" ولا يبلغ به أدني الحدود بل ينقص عن ذلك فلا يزاد في الحر على تسعة وثلاثين سوطا، وفي العبد على تسعة عشر. وقال القاضي أبو حامد: قد قيل فيه قول آخر: إنه لا يبلغ بالتعزير في الحر عشرين سوطا لأنه حد العبد في الخمر والأصح أنه يبلغ به أدني الحدود الكاملة والعشرون بعض الحدود. وقال ابن أبي هريرة: لا يجلد احد فوق عشر جلدات في التعزير لقوله صلي الله عليه وسلم:"لا يجلد فوق عشر جلدات في غير حد من حدود الله تعالى" رواه أبو بردة ابن نيار وهذا خبر صحيح لم يقع للشافعي، ولو سمعه لقال به وهكذا قال صاحب "الإفصاح" وصاحب "التقريب". وحكي عن ابن سريج أنه قال: يجب العمل بهذا الخبر وهذا مذهب الشافعي لأن كل ما قاله وثبت عن الرسول صلي الله عليه وسلم خلافه فهو راجع عنه. وقال بعض أصحابنا: لا يزاد على العشرة بالسياط ولكن يجوز أن يزاد بالضرب بالأيدي والنعال والثياب [125/أ] ونحوها على ما يراه الإمام كما روي في حديث عبد الرحمن بن الأزهر وذلك أنه قال: كأني أنظر إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم الآن وهو جالس في الرحال يلتمس رحل خالد بن الوليد فبينما هو كذلك إذ أتي برجل قد شرب الخمر فقال للناس: ألا اضربوه فمنهم من ضربه بالنعال، ومنهم من ضربه بالميتحه بالياء قبل التاء، وقال ابن وهب: هي الجريدة الرطبة، وقيل: هي العصا الصغيرة، وقال أحمد وإسحاق: للرجل أن يضرب عبده على ترك الصلاة وعلى المعصية ولا يضرب فوق عشر جلدات، وقال أبو حنيفة: أكثره تسعة وثلاثون سوطا في الحر والعبد، وقال أبو يوسف: التعزير على قدر عظم الذنب وصغره

على قدر ما يري الحاكم من احتمال المضروب فيما بينه وبين أقل من ثمانين، وحكي عنه أنه قال: أكثر التعزير في جميع الذنوب خمسة وسبعون من غير تفصيل وبه قال ابن أبي ليلي، وقال الشعبي: التعزير ما بين سوط إلى ثلاثين سوطا، وقال مالك والأوزاعي يجوز أن يريد الإمام فيه على أكثر الحدود إن رأي ذلك، ومن أصحابنا من قال: ينقص في التعزير عن حد تلك الجناية فإن وطئ وطئا حراما لا يوجب الحد فلا يبلغ بالتعزير مائة، ويجوز أن يضرب ثمانين وفي تعزير القذف يبلغ سبعين وخمسة وسبعين [125/ب]. ولو أدار كاس الماء على هيئة إدارة الخمر يعزر دون الأربعين لأنه آثم بهذه الإدارة والتشبيه بشاربي الخمر ذكره القفال وجماعة، وقال الزهري مثل ذلك وزاد فيه فقال: لو وجده ينال منها دون الفرج ضربا بأكثر التعزير وهو خمسة وسبعون لأن حد القذف ثمانون، وإن وجدا عريانين في إزار تضامت أبدانهما من غير حائل ضربا ستين، وإن كانا عريانين غير متضامين ضربا خمسين، وإن وجدا في بيت مبذلين قد كشفا سوأتهما ضربا أربعين فإن كانا مستوري السوأة ضربا ثلاثين، وإن وجدا في طريق يتجاريان ضربا عشرين وإن وجدا يشير كل واحد منهما الآخر بالريبة ضربا عشرة أسواط، وإن وجدا مع صاحبة ضربا خفقات، واحتجوا بأن معن بن زائدة عمل خاتما على نقش خاتم بيت المال ثم جاء به إلى صاحب بيت المال فأخذ منه مالا فبلغ ذلك عمر رضي اله عنه فضربه مائة وحبسه ثم كلم في أمره فضربه مائة أخري فكلم فيه فضربه مائة أخري ونفاه، وعن علي رضي الله عنه أنه ضرب في التعزير خمسة وسبعين سوطا. ودليلنا أن العقوبات على قدر الإجرام ومعاصي الله تعالى التي نص على حدودها أعظم إثما من غيرها فلا يجوز أن يسوي بين الأهون والأعظم ويؤدي إلى أن من قبل امرأة حراما يضرب حد الزنا [126/أ] وهذا لا يجوز لأن القطع لا يجوز في سرقة ما دون النصاب على سبيل التعزير فكذلك لا يجوز في سائر الحدود وأما ما روي عن عمر رضي الله عنه قلنا: العلة اجتمع أسباب التعزير من وجوه، وقد روي أنه كتب إلى أبي موسي الأشعري رضي الله عنه أنه لا يبلغ بالتعزير إلى أدني الدود، وحكي عن أبي ثور أنه قال: التعزير على قدر الجناية وإذا كان الجرم عظيما ويجوز أن يزيد على الحد مثل أن يقتل الرجل عبده على ما يري الإمام إذا كان مأمونا عدلا، وحكي عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: إن رأي أن يزيد مع ضربه حبسا فعل، وإن رأي الاقتصار على الحبس لم يضربه، وأما تشهير المعزر فجائز إذا أدي اجتهاد الإمام إليه ليكون زيادة في نكال في التعزير. وأن يجرد من ثيابه إلا قدر ستر العورة. وينادي عليه بذنبه إذا تكرر منه ولا يقلع عنه ويجوزه ويجوز أن يحلق شعر رأسه، ولا يجوز أن يحلق شعر لحيته. واختلف أصحابنا في جواز تسويد وجهه على وجهين: أحدهما: يجوز. والثاني: لا يجوز. ويجوز أن يصلب حيا وقد صلب رسول الله صلي الله عليه وسلم على جبل يقال له أبو ثاب، ولا

يمنع إذا صلب من طعام وشراب ولا يمنع من الوضوء ويصلي مومئا ويعيد إذا أرسل ولا يجاوز عليه ثلاثة أيام وكره في (الحاوي). ثم اعلم إذا كان التعزيز لحق الله تعالى [126/ب] فللإمام أن ينفرد بالعفو عنه إذا رأي ذلك صلاحا خلافا لأبي حنيفة حيث قال: إنه واجب إن علم أنه لا يرتدع إلا به وإن تعلق بالآدمي كالمشاتمة ففيه حق المشتوم وحق الإمام في التقويم والتهذيب فلا يصلح العفو عن التعزيز فيه إلا باجتماعهما عليه فإن عفا الإمام عنه لم يسقط حق المضروب منه وكان المطالبة به، وإن عفا عنه المضروب والمشتوم نظر في عفوه فإن كان بعد الترافع إلى الإمام ففي سقوط حق الإمام منه وجهان أحدهما: قال الزبيري: سقط حقه منه وليس له التعزيز كما لو عفا عن حد القذف. والثاني وهو الأظهر له أن يسقط لأن التقويم من المصالح العامة ويضمن الإمام عندنا سواء استوفاه في حقوق الله تعالى أو في حقوق العباد خلافا لأبي حنيفة ومالك رحمهما الله تعالى. فإن قيل: ما معني ما روى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يفت في الخمر حدا؟ وقال ابن عباس: شرب رجل فسكر فلقي يميل في الفج فانطلق به إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فلما حاذا دار العباس انفلت فدخل على العباس فالتزمه فذكر ذلك للنبي صلي الله عليه وسلم فضحك وقال: ((أفعلها" ولم يأمر فيه بشيء والفج الطريق وقوله: لم يفت أي لم يوقت. قيل: في هذا دليل على أن الخمر أخف الحدود وقد ثبت أن الصحابة رضي الله عنهم قدروا ما فعل رسول الله صلي الله عليه وسلم [127/أ] بأربعين فلا يجوز النقصان عنه بحال ويحتمل أنه لم يتعرض له بعد دخوله دار العباس من أجل أنه لم يكن ثبت عليه الحد بإقرار أو بشهادة عدول وإنما لقي في الطريق يميل فظن به السكر فلم يكشف عنه صلي الله عليه وسلم وتركه على ذلك والله أعلم. فرع لو تشاتم وتوائب والد مع ولده سقط تعزيز الوالد في حق ولده، ولم يسقط تعزيز الولد في حق والده لأن الوالد لا يحد في قذف ولده ويحد الولد في قذف والده ولا يسقط حق الإمام في تعزيز كل واحد منهما فيكون تعزيز الوالد مختصا بالإمام وتعزيز الولد مشتركا بين الوالد والإمام. مسألة: قال: وإذا ظهر برجل سلعة. الفصل إذا كانت برجل سلعة وهي شيء يخرج بالرأس أو غيره من لحم وعصب مجتمع كالعقدة والمعروف بفتح السين، وقيل: هو الغدد تكون بين اللحم والجلد كالجوزة،

وسمعت بعض علمائنا يقول: الصحيح سلعة بكسر السين والسلعة بفتح السين: الشجة الداخلة في الرأس وهكذا ذكر صاحب (الحاوي) فأمر السلطان بقطع ذلك فالمقطوع لا يخلو إن أن يكون جائز الأمر أو لا فإن كان جائز الأمر فلا يجوز للسلطان ولا لغيره قطعها، وكذلك إن احتيج إلى القطع للآكلة فإن قطعها فإن كان بأمره لا يضمن لأن قطعها بإذن من له الإذن في ذلك، وإن كان بغير أمره مكرهًا أو ساكتًا فمات يلزمه القود لأنه تعدى بقطعها. [127/ ب] وإن لم يكن جائز الأمر مثل أن يكون صغيرًا أو مجنونًا فإن قطعها أبوه أو جده فلا قصاص عليه لأن القصاص لا يجب بقتل ولده ولا ولد ولده وتلزم الدية مغلظة في ماله لأنه جرح لا يؤمن منه الهلاك ولم يجز له قطعها، وإن كان القاطع أجنبيًا يلزمه القود بلا إشكال، وإن كان القاطع أمًا أو حاكمًا أو أمين الحاكم أو وصيًا قال الشافعي: قد قيل: عليه القود، وقيل: لا قود عليه وعليه الدية في ماله فحصل قولان: أحدهما: يلزمه القصاص لأنه قطع منه ما لا يجوز له قطعه وهو مخيف. وهو الثاني: لا يلزم القصاص أنه قصد مصلحته وله النظر في مصالحه فكان شبهة في سقوط القصاص وتجب الدية مغلظة في ماله. وقال صاحب "الإفصاح": من أصحابنا من قال: هذا إذا كان للمقطوع أب أو جد فافتات السلطان عليهما في ذلك، فأما إذا لم يكن من أولي السلطان فلا قود عليه قولًا واحدًا لأنه له النظر في طلب مصلحته وتكون الدية في ماله، قال القاضي الطبري: ويحتمل غير هذا لأن الشافعي قال: فأما غير السبطان ففعل يكون منه الموت فعليه القود إلا أن يكون أبا صبي أو معتوه لا يعقل أو وليه فيضمن الدية ويدرأ عنه القصاص للشبهة فدرأ القود عن الأب والولي فإذا كان السلطان وليًا كيف يجب عليه القود؟ وقال بعض أصحابنا: إن فعله الأب والجد فلا ضمان عليه أصلًا قولًا واحدًا لأن للأب معالجته [128/أ] بالفصد والحجامة وغير ذلك فولايته أقوى. وإن فعله أجنبي يلزمه القود، وإن كان وليًا في ماله وإن فعله السلطان أو قيم من جهته ولاه هذا الأمر ففيه قولان: أحدهما: لا ضمان أصلًا. والثاني: يضمن وبماذا يضمن؟ قولان: أحدهما: بالقصاص. والثاني: بالدية في ماله وهذا غلط بخلاف النص الذي ذكرنا، وقال أبو حامد: إذا قلنا لا قود على الإمام فهل يلزم الدية في ماله أو في بيت المال؟ قولان وفي هذا نظر. وقال صاحب (الحاوي): إن كان قطعها أخوف من تركها يجب القود على السلطان قولان فإن كان إمامًا ففيه وجهان: أحدهما: أنه كالسلطان والمراد بالسلطان الأمير والقاضي. والثاني: أشار إليه أبو إسحاق لا قود عليه لأنه من التهمة أبعد ولأنه أعم فإذا قلنا: يلزم القود فالدية دية عمد مغلظة حالة في ماله، وإذا قلنا: لا قود كانت دية شبه عمد وفيه قولان أحدهما: على عاقلته ولم يذكر في "الشامل" غيره، والثاني في بيت المال لأنه غلط في فعله مخطئ في قصده، وإن

كان الولي أبًا أو جدًا فإن كان تركها أخوف من قطعها فلا ضمان بخلاف السلطان لأنه من التهمة أبعد، وإن كان قطعها أخوف من تركها فهل يضمن الدية؟ وجهان وهل تكون دية عمد بتعجل من ماله أو دية شبه عمد تؤجل على عاقلته؟ [128/ب] فيه وجهان، وإن كان الولي مستنابًا كوصي الأب وأمين الحاكم فوجهان أحدهما: يلزمه القود لاختصاص ولايتهما بماله دون بدنه. والثاني: يجري عليها حكم من استنابهما لقيامهما بالاستنابة مقامه فإن كان وصي الأب أجري مجرى الأب، وإن كان أمين الحاكم أجري عليه حكم الحاكم إذا قطعها وهذا حسن والصحيح عندي ما ذكرت أولًا أنه عمد محض فلا معنى لوجوب ضمانه على العاقلة. مسألة: قال: ولو كان رجلًا أغلف أو امرأة لم تخفض. الفصل الختان واجب في الرجال والنساء، وقال أبو حنيفة: لا يجب وإنما هو سنة، وروي عن أبي حنيفة أنه قال: واجب لا فرض الكوتر واحتجوا بما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الختان سنة في الرجال مكرمة في النساء" ودليلنا قوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [النحل 123] وهذا كان واجبًا في ملة إبراهيم بدليل قوله صلى الله عليه وسلم: "عشرة من الفطرة" وذكر منها الختان وقوله تعالى: {وإذِ ابْتَلَى إبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة 124] الآية. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اختتن إبراهيم حين بلغ ثمانين سنة، وروى موسى بن علي عن أبيه أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم [129/أ] أمر أن يختتن وهو ابن ثمانين سنة فجعل فاختتن بقدوم فاشتد عليه الوجع فدعا ربه فأوحى إليه إنك عجلت قبل أن نأمرك بالآلة قال: يا رب كرهت إن أؤخر أمرك. قال: وختن إسماعيل صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثلاثة عشر سنة، وختن إسحاق صلى الله عليه وسلم وهو ابن سبعة أيام، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل "ألق عنك شعر الكفر واختتن". وأما خبرهم فلم يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فإن صح أراد به سنة واجبة والواجب يسمى سنة وحد السنة ما رسم لتحتذى، وقد روى ابن عباس أنه قال: "لا تقبل صلاة رجل لم يختتن" وقيل: أراد به إظهاره سنة في الرجال وإخفاؤه مكرمة في النساء وهذا تأويل بديع.

فرع الختان في الرجل يسمى أعذارًا، وفي النساء يسمى خفضًا ويسمى غير المختون أغلف وأقلف. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" يا أم عطية إذا خفضت فأشمي ولا تنهكي فإنه أسرى وأحظى عند الزوج" وروي "اخفضي ولا تنهكي فإن ذلك أحظى للمرأة وأحب إلى البعل" معنى لا تنهكي لا تبالغي في الخفض والنهك: المبالغة في الضرب والقطع والشتم وقوله: "أسرى للوجه" قيل: أي: أصفى للونه وأحظى أراد به ما يحصل لها في نفس الزوج من الحظوة بها. وقال الشافعي [129/ب] رضي الله عنه: فعلى الرجل والمرأة أن يفعلا ذلك بأنفسهما وأولادهما يعني يجب ذلك عليهما بعد البلوغ، فإن فعل وإلا كان للسلطان أن يجبره عليه كسائر الواجبات، ومن أصحابنا من قال في وجوبه ثلاثة أوجه: أحدها: لا يجب أصلًا. والثاني: يجب عليهما. والثالث: يجب على الرجال دون النساء وهذا ليس بشيء. فرع السنة أن يختتن في اليوم السابع، إن لم يكن ضعيفًا لا يحتمل لأن النبي صلى الله عليه وسلم ختن الحسن والحسين رضي الله عنهما اليوم السابع من الولادة .. فرع آخر هل يحتسب فيهما يوم الولادة؟ فيه وجهان: أحدهما: يحتسب وهو اختيار ابن أبي هريرة. والثاني: وهو قول الأكثرين أنه لا يحتسب، وقد روي أن ختان الحسن والحسين رضي الله عنهما كان في اليوم السابع بعد يوم الولادة. فرع آخر لو ختن قبل السابع كره لضعف المولود عن احتماله ولا فرق بين الغلام والجارية فإن أخر عن اليوم السابع فالمستحب ان يختن في الأربعين يومًا، فإن أخرها فالمستحب بعده أن يختن في السنة السابعة لأنه الوقت الذي يؤمر فيه بالطهارة والصلاة. فرع آخر لو بلغ نضو الخلق وعلم من حاله إن ختن تلف سقط فرض الختان عنه. [130/أ] فرع آخر الواجب على الرجل أن يقطع الجلدة التي على الحشفة حتى تنكشف جميعها فإذا قطعت يقال له: مختون، ويقال لهذه الجلدة الحوق، ويقال: معذور، وللمرأة عذرتان

باب صفة السوط

أحداهما: البكارة، والثانية: هي التي يجب قطعها وهي عرف في أعلى الفرج بين الشفرتين فإذا قطعت يبقى أصلها كالنواة ويقال لها إذا قطعت هي مخفوضة. فرع آخر قال ذكرنا أنه إذا بلغ يلزمه الختان إلا أن يكون شدة حر أو برد فإن ختنه السلطان عند الامتناع لا يضمن إذا لم يكن في شدة حر أو برد، وإن كان في شدة حر أو برد قد ذكرنا فيه وفيما لو أقام الحد في شدة حر أو برد ثلاثة طرق، وقال بعض أصحابنا بخراسان: وإن لم يكن ممتنعًا فختنه السلطان كان الحكم هكذا. فإن قلنا: يضمن فظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه أن يضمن كل الدية لأنها جناية، وحكي أبو حامد عن بعض أصحابنا: أنه يضمن نصف الدية لأنه تلف عن واجب ومحظور وإذا ختنه السلطان فهل يكون على عاقلته أو في بيت المال. فيه قولان. باب صفة السوط مسألة: قال: ويضرب المحدود بسوط بين سوطين لا جديد ولا خلق. قد ذكرنا أن حد الزنا وحد القذف [130/ب] يقام بالسياط، وذكرنا الخلاف في حد الشرب والمنصوص أنه بالأيدي وأطراف الثياب على طريق التنكيل للسنة وإذا كان بالسياط فالسوط بين سوطين لا جديد ولا خلق لأن الجديد يبضع اللحم وينمي الدم والخلق لا يوعه فيكون بين هذين لما روى زيد ابن أسلم مرسًلا أن رجلًا اعترف عند النبي صلى الله عليه وسلم بالزنا فدعا بسوط فأتى بسوط مكسور فقال: "فوق هذا" فأتى بسوط جديد لم تكسر ثمرته فقال: دون هذا، وروي بين هذين فأتى بسوط قد لان فأمر فحد به، ورواه أبو هريرة أيضًا مرفوعًا ولأن الغرض الإيلام لا الجرح. وأما الضرب فإنه يكون ضربًا بين ضربين لا شديدًا فيقتل ولا ضعيفًا فلا يردع، ولا يرفع باعه كل الرفع ولا يحط بحيث لا يؤلم لما روى علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ضرب بين ضربين، وسوطًا بين سوطين" وقيل: لا يرفع باعه فيقع من عل ولا يخفض باعه فيقع من سفل بل يمده عضده ويرفع ذراعه ليقع الضرب معتدلًا قال ابن مسعود رضي الله عنه: لا يرفع يده في الضرب فيرى بياضه إبطه. [131/أ] فرع قال أصحابنا: إذا أراد أن يعزر بالضرب بالسياط، فإن لم يكن بالسوط دون سوط الجلاد فلا يجوز أن يكون فوقه، وقال الزبيري: يجوز أن يضرب في التعزير بسوط لم

تكسر ثمرته فوق سوط الحد وتكون صفة الضرب فيه أعلى من صفته في الحد لأن ذنوب التعزير مختلفة فجاز أن يضرب مختلفًا وهذا خطأ لأن الحدود أغلظ فلا يجوز أن يزيد التعزير عليها. مسألة: قال: ويضرب الرجل في الحد والتعزير قائمًا ويترك يده. الفصل يضرب الرجل قائمًا لأنه أمكن لتفريق الضرب على أعضائه، والسنة أن يجعل لكل عضو قسطًا من الضرب لأنه إن والى على موضع واحد يجرحه ولا يجرد من الثياب ولكن يترك عليه قميصًا واحدًا، فإن القميص الواحد لا يمنع من وصول الضرب إلى الجسم وينزع عنه الجبة والفرو، وقيل: يجوز أن يترك عليه قميصان وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: يجرد إلا في حد القذف لأن سببه غير متحقق. ودليلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أقام الحد ولم ينقل أنه جرد من أقامه عليه، ولو كان فعل ذلك لنقل، [131/ب] وقال ابن مسعود رضي الله عنه: لا يحل في هذه الأمة تجريد ولا مد ولا غل ولا صفد وقال أيضًا: ليس في ديننا مد ولا قيد ولا غل ولا تجريد، وأما ما ذكره فلا يصح لأن حد القذف آكد لتعلقه بحق الآدمي وهتك عرضه والظاهر كذبه، ويترك له يده ليتقي بها ولا يمد ولا يربط لأن ذلك تعذيب زائد على الحد. وتحد المرأة جالسة لأنها عورة، فإذا كانت قائمة ربما تنكشف ويضم عليها ثيابها وتربط لئلا تنكشف وذلك أستر لها قال: ويلي ذلك منها امرأة يعني تشد الثياب دون إقامة الحد فإن ذلك إلى الرجال لأنهم به أبصر ولا يكاد يقوى عليه النساء مع ضعفهن وعجزهن، وقال علي رضي الله عنه: تضرب المرأة جالسة والرجل قائما قال في (الحاوي): وقد أحدث المتقدمون من ولاة العراق ضرب النساء في قفة من خوص، أو غرارة من شعر يسترها وذلك حسن والغرارة أوجب إلينا من الخوض لأن القفة يدفع ألم الضرب بخلاف الغرارة قال: ولا يبلغ في الجلد أن ينهر الدم لأن انهيار الدم سبب التلف وإنما يراد بالحد النكال أو الكفارة فإن [132/أ] أنهر دمه فلم يتلف فلا ضمان وإن أنهر دمه ثم لم يضربه تمام الحد بعده لا ضمان لأنه قد يكون ذلك من رقة لحمه، وإن ضربه بعد انهيار دمه إتمامًا لحده فإن ضربه في غير موضع انهاره هل يضمن؟ فيه وجهان أحدهما: لا يضمن، والثاني: يضمن لتعديه بإعادة الضرب فيه ثم في قدر ضمانه وجهان أحدهما: يلزمه كل الدية، والثاني: يلزمه نصف الدية بناءً على ما تقدم من الوجهين في ضمان المختون قال المزني: ويتقي الجلاد الوجه الفرج وقد ذكرنا هذا فيما تقدم، وقد روى أبو هريرة رضي الله

عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا جلد أحدكم فليتق الوجه والفرج". قال أبو إسحاق وفيه تنبيه على كل مقتل كالأذنين والخاصرة. وقد ذكرنا هل يضرب على الرأس أو لا؟ وقد ذكر في (الحاوي) ويجتنب المواضع القاتلة كالرأس وما يشينه الضرب كالوجه، وقال الماسرجسي: يتقي وجهه وما علاه، قال: وغلط بعض أصحابنا فقال: يضرب على الرأس لأن المزني خص الوجه بالذكر وهذا خطأ لأن الوجه عبارة عن ما علاه. وقال القاضي الطبري: نص الشافعي رضي الله عنه في "البويطي" [132/ب] في باب إملاء الشافعي قال: ويعطى كل عضو حقه ما خلا الوجه والرأس والمذاكير والبطن ولا يبقى الإشكال مع هذا النص وهذا أصح، وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال للجلاد: اتق وجهه ومذاكيره ودع له يديه يتقي بهما، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه أتى برجل في حد فأتى بسوط فيه شدة فقال: أريد ألين من هذا، ثم أتى بسوط فيه لين فقال: أريد أشد من هذا فأتى بسوط بين السوطين: اضرب ولا تري إبطك وأعط كل عضو حقه. مسألة: قال: ولا يبلغ بعقوبة أربعين. وقد ذكرنا هذه المسألة وجملته أن كل معصية لم يقدر فيها حد فللإمام أن يعزره فيها وضرب الابن ابنه، والزوج زوجته يسمى تأديبًا لا تعزيرًا وضرب التعزير يكون ضربًا بين الضربين. وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: ضرب التعزير أشد من حد الزنا ثم حد الشرب ثم حد القذف، قال سفيان الثوري: ضرب حد القذف أشد من حد الشرب وهذا لا يصح لأن التعزير أخف من الحد في عدده فلا يجوز أن يزاد عليه في إيلامه ووجعه، وقال عبد الملك بن عمير: سئل علي رضي الله عنه عن قول الرجل للرجل يا فاسق يا خبيث فقال: هن فواحش فيها تعزير [133/أ] وليس فيهن حد. وروي أن ابن عباس لما خرج من البصرة استخلف أبا الأسود الدؤلي فأتى بلص نقبل على قوم فأخذوه في النقب فقال: مسكين أراد أن يسرق فأعجلتموه فضربه خمسة وعشرين سوطًا وخلى عنه، وقد ذكرنها أنه لا يبلغ به الحد، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من بلغ ما ليس بحد حدًا فهو من المعتدين" وروي عن عمر رضي الله عنه أنه من كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه: لا يبلغ بنكال أكثر من عشرين سوطًا، وروي عنه ثلاثين

سوطًا، (وروي) عنه مابين الثلاثين إلى الأربعين سوطًا. فرع ضرب التعزير يفرق على جميع الجسد كالحد، وقال الزبيري: يجوز أن يجمعه في موضع واحد من الجسد، والفرق أنه لما لم يجز العفو عن الحد لم يجز العفو عن بعض الجسد، ولما جاز العفو عن التعزير جاز العفو عن ضرب بعض الجسد وهذا لا يصح لأن جميع الضرب يفضي إلى التف فالمنع في التعزير أولى. فرع آخر تجوز الشفاعة في التعزير دون الحد لما روت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "تجافوا لذوي الهيئات عثراتهم". وفي ذوي الهيئات وجهان أحدهما: أنهم أصحاب الصغائر يردون الكبائر، والثاني: أنهم الذين إذا أتوا بالذنب ندموا عليه وتابوا منه وفي عثراتهم وجهان [133/ب] أحدهما: صغائر الذنوب التي لا توجب الحدود، والثاني أنها أول معصية زل فيها مطيع وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل أمتي معافى إلا المجاهرين" وإن من الإجهار أن يعمل الرجل في الليل عملًا ثم يصبح وقد ستره ربه يبيت في ستر ربه ويصبح يكشف ستر الله عنه" وروى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خبر طويل "ومن ستر على مسلم ستره الله يوم القيامة" وروى ابن عمر أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أيها الناس قد آن لكم أن تنتهوا عن حدودا الله تعالى فمن أصاب من هذه القاذورات شيئًا فليستتر بستر الله" وروي "اجتنبوا القاذورة التي نهى الله عنها فمن ألم فليستتر بستر الله" وروي عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أنهما أمرا بالاستتار، وروي عن أبي الهيثم كاتب عقبة قال: قلت لعقبة بن عامر: إن لنا جيرانًا يشربون بالخمر وأنا داعي لهم بشرط فقال: ويحك لا تفعل فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيى موءودة من قبرها" وروى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قيل له عن رجل: هل لك في فلان تقطر لحيته خمرًا؟ قال: إن الله قد نهانا أن نتجسس فإن يظهر لنا نأخذه وأما قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ [134/أ] والْفَوَاحِشَ إلاَّ اللَّمَمَ} [الشورى: 37] قيل:

باب قتال أهل الردة

الكبائر الشرك بالله، وقيل: ما زجر الله عنه بالحد والفواحش الزنا خاصة، وقيل: إنها جميع المعاصي، واللمم قيل: ما هم به ولم يفعله، وقيل: ما تاب منه ول يعاوده، وقيل: الصغائر من الذنوب التي لا توجب حدًا ولا وعيدًا، وقيل: هي النظر الأولى دون الثانية. مسألة: قال: ولا تقام الحدود في المساجد. يكره إقامة الحدود في المساجد وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق، وكان ابن أبي ليلى يرى إقامة الحد في المسجد، وروي عن الشعبي أنه ضرب يهوديًا في المسجد ودليلنا ما روى حكيم بن حزام رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يستقاد في المساجد وأن ينشد فيها الأشعار وأن تقام فيها الحدود وأراد بالأشعار ما كان هجاء أو غزلًا أو مدحًا كذبًا فأما غيرها فلا يكره، فإن حسان بن ثابت وكعب بن زهير أنشد قصيدة مدح فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وبيعكم وشرائكم ورفع أصواتكم وسل سيوفكم وضرب حدودك وجمروها في جمعكم واجعلوا على أبوابها مطاهركم". وحكم التعزير حكم الحد في أنه لا يقام في المسجد إلا التعزير بالكلام [134/ب] فلا بأس به يكون في أي موضع كان. فرع قال في (الحاوي): المحدود إن كان متهافتًا في ارتكاب المعاصي يظهر حده في مجامع الناس يزاد نكالًا، وإن كان من ذوي الهيئات حد في الخلوات حفظًا لصيانته. باب قتال أهل الردة مسألة: قال: وإذا أسلم القوم ثم ارتدوا عن الإسلام إلى أي كفر كان في دار الإسلام أو في دار الحرب. الفصل قد ذكرنا معظم هذا الباب والمقصود بهذا الفصل أنه يبدأ الإمام بجهاد المرتدين قبل جهاد أهل الحرب الذين لم يسلموا قط لأن فتنتهم أعظم على المسلمين كما قال الله تعالى: {وقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وجْهَ النَّهَارِ واكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران 72] ولأنهم أشد عداوة للمسلمين في الغالب وقد قال

الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ} [التوبة 123]. فإن قال قائل: فما بال أبي بكر الصديق رضي الله عنه جهز جيش أسامة بن زيد بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم حوله المرتدون قلنا: إنما فعل ذلك لمصلحة فوق المصلحة التي راعيناها وهي تنفيذ عزيمة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي فيها إدراك الخيرات والمصالح، [135/أ] ألا ترى أن الصحابة رضوان الله عليهم استنكروا رأيه وخافواممن ارتدوا حواليهم من العرب فحلف أبو بكر رضي الله عنه: لا أوفر تجهيز جيش هم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فلو اتفق للإمام مصلحة مثل ذلك وعلم أن الأهم البداية بجهاد أهل الحروب بدأ بجهادهم، ولا فرق بين أن يكونوا قاهرين أو مقهورين في موضعهم الذي هم فيه، ثم ذكر أنهم يستتابون وأنهم إذا قتلوا وأتلفوا على المسلمين كيف يكون الحكم. وقد شرحنا ذلك. واعلم أن الشافعي رضي الله عنه ألزم نفسه سؤالًا على وجهه الاستكشاف فقال: فإن قيل: ما فعل أبو بكر في أهل الردة؟ قيل: القوم جاؤوا تائبين تدون قتلانا ولا ندي قتلاكم فقال عمر: لا نأخذ لقتلانا دية، فإن قيل: ما معنى تدون قتلانا؟ قيل: معناه إن كانوا يصيبون غير معتمدين وهذا خلاف حكم أهل الحرب عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فإن قيل: فلا نعلم أحدًا منهم أقيد بأحد. قيل: ولا يعلمون القتل ثبت على أحد بشهادة ولو ثبت [135/ب] لا نعلم أحدًا أبطل لولي دمًا طلبه والردة لا تدفع عنهم قودًا ولا عقلًا ولا تردهم خيرًا لم يرد شرًا وذكرنا أن الحكم عليهم كالحكم على المسلمين في القود والعقل ثم قال المزني: هذا بخلاف قوله في كتاب" قتال أهل البغي" وهذا عندي أقيس من قوله في كتاب "قتال أهل البغي" يطرح ذلك كله لأن حكم أهل الردة أن يردهم إلى حكم أهل الإسلام لا يرقون ولا يغنمون كأهل الحرب فلذلك يقاد منهم ويغنمون. مسألة: وإذا قامت لمرتد بينة أنه أظهر القول بالإيمان ثم قتله رجل. الفصل قد ذكرنا أنه إذا قتل من عنده أنه مرتد ثم بان أنه قد أسلم هل يلزمه القود؟ فيه قولان: أحدهما: يلزمه القود وهو المنصوص هنا لأنه قال: يعلم توبته أو لا يعلمها. والثاني: لا يجب القود وتجب الدية والكفارة ولأنه قتل من يعتقد إباحة دمه لكفره فصار شبهة في سقوط القصاص. وقال ابن أبي هريرة: نص على قولين وهما على حالين إن كانت آثار الردة باقية من حبس أو قيد أو اختفاء لا يلزم القصاص، وإن كانت آثارها غير باقية يلزم القصاص لأن له عذرًا عند ظهور العلامة والأثر، وقال صاحب

باب صول الفحل

(الحاوي): [136/أ] قال بعض أصحابنا: وهو الصحيح أنه إن كان في منعة فلا قود، وإن لم يكن في منعة يلزم القود لأنه ممنوع من قتل غير الممتنع، وغير ممنوع من قتل الممتنع وأن يعرف منه ردة سابقة في دار الإسلام يلزمه القود قولًا واحدًا لأنه لا معنى لظنه أنه مرتد إذا لم يعرف ردته بحال فصار كما لو قتل رجلًا ظنه قاتل أبيه يلزمه القود قولًا واحدًا، ولو كان في دار الشرك ظنه مرتدًا أو حربيًا وكان قد أسلم فلا قود قولًا واحدًا لأنها دار إباحة ودار الإسلام دار حقن ولأن كل أحد مأمور بقتل الحربي فمن أخطأ في قتله عذر في درء القود عنه، ولأن الكافر الأصلي إذًا مأمور بتغيير زيه الذي يتميز به عن زي المشركين، فإذا أسلم وبقي عليه زيه كان التفريط من جهته فلا يجب القود على قاتله وتلزم الدية والكفارة لأنهما يثبتان مع الشبهة، وقيل: هل تلزم الدية؟ فيه قولان وقد ذكرنا أنه إذا قتل عبدًا ثم بان أنه كان حرًا، أو قتل ذميًا ثم بان أنه قد أسلم يلزمه القصاص قولًا واحدًا لأنه لا يحل قتلهما لأحد، وقال أبو حامد: فيه قولان أيضًا، وقال في (الحاوي): وجهان، وقال أبو القاسم بن كج [136/ب] في مسألة المرتد ثلاثة طرق أحدها: في العبد والذمي قولان، وفي المرتد قول واحد أنه لا يلزمه القصاص. والثانية: فيهما قولان. والثالثة: الفرق بين ظهور الآثار وبين عدمها ولو أكره على كلمة الكفر فقد ذكرنا أنه لا يحكم بكفره. وحكي عن أبي حنيفة وأبي يوسف أنهما قالا: لا يصير كافرًا ولكن تبين منه امرأته استحسانًا وهذا غلط لأن الله تعالى أسقط عنه وزر الكفر عند الإكراه. ولو أكره على كلمة الإسلام فأسلم فإن كان حربيًا أو مرتدًا حكم بإسلامه لأنه أكره بحق لأنه لا يترك على كفره، ولو أكره الذمي على الإسلام لا يحكم بإسلامه لأنه إكراه بظلم وقد ذكرنا إنه إذا تكرر منه الردة والإسلام يقبل منه الإسلام أيضًا، ولكنه يعزر في كل ردة ولا يحبس، وقال أبو حنيفة: لا أعزره في الثانية، وأحبسه في الثالثة وما بعدها وعنده الحبس تعزير وهذا لا يصح لأن الحبس لا يكفه عن الردة فلم يكن له تأثير وهو في .... الثانية متهاون بالدين كهو في الثالثة فاقتضى [137/أ] أن يعزر فيها كما يعزر في الثالثة. باب صول الفحل مسألة: قال: وإذا طلب رجل دم رجل أو ماله أو حريمه بغير حق كان له دفعة عنه. من قصد دم رجل أو ماله أو حريمه فله أن يدفعه بأيسر ما يمكن دفعه به سواء كان

القاصد حرًا أو عبدًا عاقلًا أو مجنونًا بالغًا أو غير بالغ. وقد قال الشافعي رضي الله عنه في كتاب جراح العمد إذا قصده في مصر فيه غوث أو صحراء لا غوث فيها فالاختيار له أن يكلم من يريده وسده بالنهي والوعيد ويستغيث فإن امتنع أو منع لم يكن له قتاله، وإن أبى أن يمتنع فله أن يدفعه فإن لم يقدر على دفعه إلا بضربة بيد أو عصا أو سلاح حديد أو غير حديد فله ضربه وليس له عمد قتله، فإن أتى الضرب على نفسه فلا عقل عليه ولا قود ويدفع بالأيسر فالأيسر فإن ضربه ضربة فتولى تاركًا له لم يكن له أن يعود عليه بالضرب، فإن أراده وهو في الطريق وبينهما نهر أو خندق أو جدار أو ما لا يصل عليه بالضرب، فإن أراده وهو في الطريق وبينهما نهر أو خندق أو جدا أو ما لا يصل معه إليه لم يكن له ضربه حتى يكون بارزًا له مريدًا فحينئذ له ضربه إذا رأى أنه لا يدفع عنه إلا بالضرب فإن كان له [137/ب] مريدًا فانكسرت يده أو رجله حتى يصير ممن لا يقدر عليه لم يكن له ضربه لأن الإرادة لا تبيح الضرب إلا أن يكون مثله يطيق الضرب، وإذا أقبل الرجل بالسيف أو غيره من السلاح إلى الرجل فوقع في نفسه أنه يريد ضربه فله أن يضربه، وإن لم يضربه المقبل إليه وإن لم يقع في نفسه لم يكن له ضربه، ولو عرض له فضربه. ولو انضرب ضربة ثم ولى أو جرحه فسقط ثم عاد فضربه ضربة أخرى فمات منهما ضمن نصف الدية في ماله والكفاءة لأنه مات منهما فلورثته نصف الدية ولو جرحه أولًا وهو مباح جراحات ثم ولى فجرحه جراحات كانت جنايتين مات منهما سواء كثير الجراحة في الحالة الأولى وقليلها فعليه نصف الدية، فإن عاد فأقبل فجرحه جراحة قليلة كانت أو كثيرة فمات عليه ثلث الدية قال: وما أصاب المريد في هذه المواضع في أي حال كان فسواء لأنه ظالم بذلك كله فعليه القود فيما فيه القود والعقل فيما فيه العقل، وإن كان المريد معتوهًا كان فيما أصاب العقل، وإن كان المريد بهيمة في نهار فلا شيء على مالكها إذا لم يكن معها [138/ أ] ولو أراد منه قتل غيره أو أراد من حريمه الزنا يجب الدفع إن قدر ويأثم ... بترك الدفع لأن إباحة ذلك محظورة ولو أراد قتله فإن كان الطالب ممن ليسه له زاجر من نفسه كالبهيمة والمجنون يلزمه دفعه ويكون في ذلك الكف كالإذن في قتل نفسه، وإن كان الطالب ممن يزجره عن القتل عقل ودين فهل يلزمه الدفع؟ ذكرنا وجهين والأصح أنه لا يلزمه لقوله تعالى: {لَئِن بَسَطتَ إلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ} [المائدة 28] الآية وعن النبي صلى الله عليه وسلم "كن خير ابني آدم" يعني هابيل استسلم حتى قتله هابيل، وقال في حديث حذيفة: "كن عبد الله المقتول ولا تكن عبد الله القاتل".

مسألة: قال: وإن طلب الفحل رجلًا فلم يقدر عليه إلا بقتله لم يكن عليه غرم. وإذا صال عليه فحل لغيره فقتله دفعًا عن نفسه لم يجب عليه ضمانه، وبه قال مالك وأحمد وإسحاق، وقال أبو حنيفة: يجوز له قتله دفعًا عن نفسه ويجب عليه ضمانه، وكذلك إذا كان الصائل صبيًا أو مجنونًا فقتلهما دفعًا يلزمه الضمان عنده وهذا لا يصح لأنه قتله بدفع جائز فلا يجب ضمانه كما لو قتل الآدمي الصائل وهو بالغ عاقل، فإن قيل: أليس لو قتله بضرورة الجوع يلزمه الضمان؟ فكذلك هنا قلنا: الفرق أنه لم يلجئه الطعام إلى إتلافه وهنا الفحل بصوله ألجأه إلى إتلافها لفرق بينهما الأولى لو قتل المحرم صيدًا للجماعة يلزمه الجزاء، [138/ب] ولو قتله صائلًا بصوله لا يلزمه الجزاء بالإجماع. مسألة: قال: ولو عض يده رجل فانتزع يده. الفصل إذا عض رجل يد رجل فانتزع يده من فيه فندرت سن العاض كان هدرًا، وروي عن مالك وابن أبي ليلى أنهما قالا: يلزمه ضمان السن وهذا غلط لما روي عن يعلى بن أمية رضي الله عنه قال: غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة العسرة وكانت أوثق أعمالي في نفسي وكان لي أجير فقاتل إنسانًا فعض أحدهما صاحبه فانتزع إصبعه فسقطت ثنيته فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر ثنيته وقال "أيدع يده في فيك فتقضمهما قضم الفجل" وروي "أيدع يده في فيك تعضها كأنها في في فحل"، وروي مثله عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ولأن صونه جميع البدن أعظم، ولو قتل بالدفع لا ضمان فإذا أتلف جزءًا منه بالدفع أولى أن لا يضمن ويقال للعض بالأسنان: القضم والعض بالأضراس: الخضم، وقال الحسن البصري في وعظه: تخضمون وتقضمون والحساب عند البيدر. قال الشافعي: فإن مات منها فلا عقل ولا قود ولا كفارة، سواء كان العاض ظلم أو بدئ بظلم لأن نفس العض ليس له وللمعضوض منعه من العض فإن اختلفا في إمكان العض بدون ذلك فالقول قول المعضوض مع يمينه. مسألة: قال: ولو عضه كان له فك لحييه بيده الأخرى [139/أ] إن كان عض إحدى يديه وبيديه معًا إن كان عض رجله، قال: فإن عض قفاه فلم تنله يداه كان له نتر رأسه من فيه، فإن لم يقدر فله التحيل عليه برأسه إلى ورائه مصعدًا أو منحدرًا ويضرب فاه بيده أو بيديه حتى يرسله فإن ترك شيئًا مما وصفت له وبعج بطنه بسكين أو فقأ عينه

بيده أو ضربه في بعض جسده ضمن هذا كله لأن هذا ليس إليه. فإن قيل: هلا جاز له أن يضرب بعض جسده مثل ما يضرب فمه؟ قلنا: الفم موضع الجناية وضربه أقرب إلى التخلص منه فلا يجوز أن يعدل عنه. ثم اعلم إن المزني رحمه لله ظن أن الشافعي رضي الله عنه أوجب عليه الضمان حيث لا يقدر على التخلص منه إلا ببعج بطنه فأعرض في آخر الباب عن هذه المسألة وذلك غلط منه، والتأويل إذا قدر على دفعه بما ذكرنا، وأما إذا لم يقدر على التخلص منه إلا ببعج بطنه كان له ذلك وهذا ظاهر في كلامه، وقيل: مذهب المزني أنه لو قدر على تخليصه بلطمة فبعج لم يضمن وعندي لا تصح هذه الرواية عنه. ثم احتج الشافعي على نفي الضمان عن الدافع إذا راعى درجات فعاله، ورفع إلى عمر رضي الله عنه جارية كانت تحتطب فأتبعها رجل فراودها عن نفسها فرمته بفهر أو بحجر فقتلته فقال عمر: هذا قتيل الله وقتيل الله لا يؤدي أبدًا. فإن قال قائل: قال الشافعي في أول هذا الفصل إن عض قفاه فلم تنله يداه كان له نتر رأسه من فيه [139/ ب] فكيف قال في آخر المسألة: كان له ضرب فمه حتى يرسله؟ قلنا: أراد بأول المسألة إذا أمسك يديه، وأراد بالثاني: إذا كانت يداه مرسلتين وعلم منه أنه لم يتخلص إلا بالضرب. مسألة: قال: ولو قتل رجل رجلًا فقال: وجدته على امرأتي. إذا وجد مع امرأته رجلًا يفجر بها وهما محصنان كان له قتلهما، وكذلك لو وجده يتلوط بابنه أو بغلامه أو يزني بجاريته، نص عليه وأراد له قتل الزاني دون الجارية، وقد روى سعيد بن زيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من أصيب دون ماله فهو شهيد، ومن أصيب دون أهله فهو شهيد، ومن أصيب دون دينه فهو شهيد" وروي "من قتل دون أهله أو دون دمه أو دون دينه فهو شهيد" وإن وجده ينال منها فيما دون الفرج فله منعه ودفعه وإن أتى الدفع على نفسه ولا ينتهي إلى القتل إلا أن لا يقدر على دفعه إلا بالقتل وعلى هذا يجوز للأجانب أن يدفعوا كذلك حسبة وعليه ذلك وكلن لا يلزمه الدفع بالقتل متعينًا بخلاف ما لو كان من أهله من ابنته وأخته فإن الفرض في أهله متعين عليه وفي غير أهله الفرض على الكفاية. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم "لعن الركالة" وهو الذي لا يغار على أهله [140/أ] ولو كانت مكرهة يمنعه دونها، وإن كانت مطاوعة يمنعها لأنه يلزمه صيانة محارم الله تعالى وحفظ حقوقه، وإذا رآه أوقع أو أولج جاز أن يبدأ في دفعه بالقتل وله أن يتعجل لأنه في كل لحظة تمر عليه يواقع للزنا لا يستدرك

بالأناة فجاز من أجلها أن يعجل بالقتل، وروي أن رجلًا قال لعلي رضي الله عنه: إني وجدت مع امرأتي رجلًا فلم أقتله فقال: أما أنه لو كان أبو عبد الله لقتله يعني الزبير بن العوام. قال صاحب (الحاوي): وفي هذا القتل وجهان: أحدهما: أنه قتل دفع فعلى هذا يختص بالرجل دون المرأة ويستوي فيه البكر والثيب. والثاني: أنه قتل حد يجوز أن ينفرد به دون السلطان لتفرده بالمشاهدة التي لا تتعداه ولاختصاصه فيه بحق نفسه في إفساد فراشه عليه في الزنا بزوجته فعلى هذا يجوز أن يجمع فيه بين المرأة والرجل إن كانت مطاوعة إلا أن يفرق بين البكر والثيب فتقتل إن كانت ثيبًا وتجلد، إن كانت بكرًا وفي الرجل وجهان: أحدهما: يفرق فيه بين البكر والثيب أيضًا لأنه حد زنا كالمرأة. والثاني: وهو الأظهر لا يفرق ويقتل في الحالين لأمرين: أحدهما: أن قتله حدًا أغلظ من قتله دفعًا ويجوز لتغليظ حاله أن يقتل دفعًا فجاز أن يقتل حدًا. والثاني: أن السنة لم تفر في إباحته بين البكر والثيب لتغليظ حكمه في حق المستوفى. وأما في الحكم إن أقام البينة على ذلك فلا شيء عليه [140/ب] من الضمان ولكنه يعزر لتفويت القتل المفوض إلى الإمام هكذا ذكر أصحابنا، وعندي لا يعزر لأنه كان يلزمه دفعه عن ذلك على ما ذكرت فلا معنى للتعزير بعد التحقيق، وإن لم يكن لبينة فالقول قول ولي المقتول فيحلف أنه لا يعلم ذلك وله القود وهذا لما روي أن سعدًا قال: يا رسول الله أرأيت إن وجدت مع امرأتي رجلًا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء أأقتله؟ فقال: لا حتى تأتي بأربعة شهداء كفى بالسيف شاهدًا يعني شاهدًا عليك فترك الكلام على نصفه، وقال: لولا أن يحتج به الغيران والسكران فقال سعد: أيصبر حتى آتي بأربعة والله لأقتلنه قتلتموني أو تركتموني وولى سعد فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أتعجبون من غيرة سعد والله إني لأغير من سعد، والله تعالى أغير مني ولغيرته حرم الفواحش" ومعنى هذا السؤال أنه سأله عن سقوط القود عنه. وروى سعيد بن المسيب أن رجلًا من أهل خيبر وجد مع امرأته رجلًا فقتله أو قتلهما فأشكل على معاوية القضاء فكتب معاوية إلى أبي موسى الأشعري يسأل له عن ذلك علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كتب إلى في ذلك معاوية فقال علي رضي الله عنه أنا أبو الحسن إن لم تأت بأربعة شهداء [141/ أ] فليعط برمته. فإن قيل: روي أن رجلًا خرج إلى الجهاد فتأخر فيه وكان له جار يهودي فمر ببابه مسلم فسمع اليهودي يقول مرتجزًا:

وأشعث غرة الإسلام من يخلوت بعرسه ليل التمام أبيت على ترائبها وتمسي على جرداء لاحقه الخزام كأن مواقع الريلات منها فئام ينهضون إلى فئام فدخل المسلم فقتله فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأهدر دمه ولم يطالبه بالبينة. قيل: يحتمل أن ثبت ذلك عنده بإقرار الولي فلهذا أهدره. قال الشافعي رضي الله عنه: ولو كان الرجل ثيبًا والمرأة غير ثيب، أو كانت المرأة ثيبًا والرجل غير ثيب كان عليه في غير الثيب القود ولا شيء عليه في الثيب. فرع قال: ولو كان للمقتول وليان فادعى الرجل عليهما العلم بوجوب القتل عليه فحلف أحدهما ما علم ونكل الآخر عن اليمين حلف القاتل أنه زنا بامرأته ووصف الزنا الذي يوجب الحد وكان ثيبًا وعليه نصف الدية حالًا في ماله الذي حلف أنه ما علم. فرع آخر لو كان له وليان صغير وكبير فحلف الكبير ما علم لم يقتل حتى يبلغ الصغير فيحلف أو يموت فيقوم وارثه مقامه، وإن شاء الكبير أخذ نصف الدية، فإذا أخذها أخذ الصغير ولم ينتظر به أن يحلف فإذا بلغ حلف [141/ب] فإن لم يحلف وحلف القاتل رد عليه ما أخذ منه. فرع آخر لو أقر له أولياء المقتول فيهما أنه كان معها في الثوب يتحرك حركة المجامع وأنزل ولم يقر وإنما يوجب الحد لم يسقط عنه القود، ولو أقروا بما يوجب الحد وادعوا أنه كان بكرًا وادعى القاتل أنه كان ثيبًا فالقول قول أوليائه وعلى القاتل البينة، فإن جاء القاتل بالبينة أنه كان ثيبًا سقط عنه القود والعقل خلافًا لأبي حنيفة حيث اعتبر حكم الحاكم فيه على ما ذكرنا. فرع آخر قال بعض أصحابنا بخراسان تفريعًا على هذا: لو أخذ رجل متاعه من حرز وطرحه خارج الحرز وهرب ليس له أن يتبعه فيضربه، فلو تبعه فقطع يده وعلم أن قطع السرقة كان واجبًا عليه لم يضمن لأن تلك اليد بعينها مستحقة الإتلاف، وكذلك لو وجب عليه القطع في قطع الطريق فقطعه رجل بغير إذن الإمام وقع الموقع بخلاف ما لو وجب حد الزنا جلدًا على رجل فجلده رجل من عرض الناس ضمن لأن الجلد مجتهد فيه إقامة ومحلًا فلا يكون من غير القاضي حدًا بحال.

مسألة: قال: ولو تطلع إليه رجل من ثقب فطعنه بعود. الفصل إذا كان في بيت الرجل شق أو نقب أو ثقبه فاطلع عليها بنهار رجل أو امرأة يحل له أن يحذف عينه بحصاة أو يطعنها بخشبة [142/أ] أو حديدة، وإذا فعل ذلك ففقأ عينه فلا ضمان، وروي ذلك عن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم، وقال أبو حنيفة: ليس له أن يفعل ذلك فإن فعل ضمن لأنه يمكنه أن يدفعه عن النظر والاطلاع عليه بالاحتجاب عنه وسد النقب والتقدم إليه بالكلام ونحوه، فإذا لم يفعل ذلك وعمد إلى فقء عينه ضمن وليس النظر أكثر من الدخول عليه بنفسه ولو دخل هو داره ليس له فقؤ عينه وهذا لا يصح لما روى أنس رضي الله عنه أن رجلًا اطلع في بعض حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بمشقص أو مشاقص قال: فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يختله يطعنه. والمشقص نصل عريض وقوله يختله يراوده ويطلبه من حيث لا يشعر، وروى سهل بن الساعدي رضي الله عنه قال: تطلع رجل من حجر في حجرة من حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه مدرى يحك به رأسه فقال: لو أعلم أنك تنظر لطعنت به عينك إنما جعل الاستئذان من أجل النظر، وقالت عائشة رضي الله عنها: لولا أن الرجل انصرف لما بالى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضرب، وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو أن امرءًا اطلع عليك [142/ب] بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك جناح" وروي هدرت عينه، وروي أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من اطلع على قوم بغير إذنهم فرموه فأصاب عينه فلا دية له ولا قصاص" وروي "من اطلع في بيت قوم" وروي في دار قوم بغير إذنهم ففقؤا عينه فلا دية ولا قصاص، وروي "فقد هدرت عينه". فرع آخر قال أصحابنا: المستحب له أن لا يبادر بالرمي ويسأله بكلامه وينذره فإن امتنع وإلا رماه ولو رماه من غير سؤال لم يكن جناح وهذا اختيار الماسرجسي، وقال القاضي الطبري: وهو ظاهر كلام الشافعي وظاهر الخبر وأكثر البغداديين على هذا فعلى هذا يكون مخالفًا للأصول في الصول وموافقًا لنزع اليد المعضوضة إذا سقط بها أسنان العاض ابتداءً وقال القاضي أبو حامد وجمهور البصريين: لا يستبيح ذلك حتى يزجره

بالكلام فلا ينزجر فإن ابتدأ ففقأ عينه ضمن فعلى هذا يكون موافقًا للأصول في صول الفحل والآدمي وبه قال مالك، وقال أبو بكر الرازي: هذا مذهب أبي حنيفة رحمه الله، وقال الطحاوي: مذهب الطحاوي: مذهب أبي حنيفة ما ذكرنا أولًا وارتفع الخلاف. فرع آخر قال في "الأم": لو طعنه عند أول اطلاعه بحديدة [143/أ] تجرح الجرح الذي يقتل أو رماه بحجر ثقيل يقتل مثله فكان عليه القود فيما فيه القود، لأنه إنما أذن له أن يناله الشيء الخفيف الذي يردع بصره لا يقتل نفسه بالمدرى والعود الصغير ونحو ذلك، وفيه وجه آخر لأصحابنا أنه لا يضمن ذلك وهو غريب بعيد. فرع آخر لو ثبت متطلعًا لا يمتنع عن الرجوع بعد رميه بالشيء الخفيف استغاث عليه، فإن لم يكن في موضع أحببت أن ينشده، فإن لم يمتنع عن الاطلاع فله أن يضربه بالسلاح وأن يناله بما يردعه فإن أتى ذلك على نفسه أو جرحه فلا عقل ولا قود، وقال: ولو لم ينل هذا منه كان للسلطان أن يعاقبه. فرع آخر لو أخطأ في الاطلاع لم يكن للرجل أن يناله بشيء، ولو رآه متطلعًا فناله قبل أن ينزع بشيء فقال: ما عمدت ولا رأيت لم يكن شيء لأن الاطلاع ظاهر ولا يعلم ما في قلبه. فرع آخر لو كان الواقف أعمى فناله بشيء ضمنه لأن الأعمى لا يبصر بالاطلاع شيئًا. فرع آخر لو كان المطلع ذا محرم من نساء المطلع عليه لم يكن له أن يناله بشيء بحال ولم يكن له أن يطلع لأنه لا يدري لأن يرى منهم عورة ليست له رؤيتها، وإن ناله بشيء في الاطلاع هنا ضمنه عقلًا وقودًا [143/ب] إلا أن يطلع على امرأة منهم مجردة فله حينئذ ما يكون له في الأجنبي إذا تطلع، وقال في (الحاوي): هذا الحظر عام والمري خاص فيحرم التطلع على المناسبين من الآباء والأبناء، كما يحرم على الأجانب لأنه ربما كان مكشوف العورة أو كان على حاله والرمي خاص فإن كان الناظر والدية الذين لا قصاص عليهما ولا حد قذف لا يجوز له رميهما لأنه نوع حد فإن رماهما وفقأهم ضمن وهل يكون شبهة في سقوط القود عنه؟ فإن كان عند التطلع مستور العورة عنه لا شبهة له يلزمه القود، وإن مكشوف العورة فهو شبهة له في سقوط القود ويضمن الدية. وإن كان الناظر أجنبيًا أو من ليس بمحرم كبني الأعمام جاز العفو، ولا فرق بين أن

يكون الناظر رجلًا أو امرأة وفي الدار رجل أو امرأة، وإن كان يطلع الرجل على الرجل والمرأة على المرأة أخف حظرًا، وإن كان الناظر من ذوي المحارم الذي يجري القصاص بينهما سواء كالإماء والبنات والخالات ففيه وجهان ظاهرانك أحدهما: وهو ظاهر قول أبي حامد أنه يجوز فيهم، وروى عطاء بن يسار [144/ أ] أن رجلًا قال: يا رسول الله أستأذن على أمي؟ قال: نعم قال: إني أخدمها قال: استأذن عليها فعاوده ثلاثًا فقال: أتحب أن تراها عريانة؟ قال: لا قال: فاستأذن عليها. والثاني: وهو اختيار ابن أبي هريرة لا يجوز لهم رميهم كالآباء لقوله تعالى: {ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا ولْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور 31] الآية. فشرك بين جميعهم في إباحة النظر إلى الزينة الباطنة لأن الزينة الظاهرة لا تحرم على الأجانب. فرع آخر ولو كان الباب مفتوحًا أو كانت كوة واسعة فإن نظر ما رأى الإنكار عليه ولو غض بصره كان أولى، وإن وقف ناظرًا قال أبو حامد: له رميه وفقء عينه للتعدي. وقال أبو القسم الصيمري: ليسه له ويضمن إن فعل لأنه أباح النظر له بفتح بابه ويقال له: رد بابك بخلاف الكورة فإن فيها مرافق من الضوء وغيره فلم تجر العادة بسدها بحال. فرع آخر إذا قلنا بالوجه الثاني: فإن وقف في حريم الدار كان لصاحبها منعه من الوقوف عليه، وإن وقف في باحة الطريق لم يكن له منعه من الوقوف ويمنعه من النظر، وباحة الطريق وسطه. وروى أبو هريرة [144/ب] رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس للنساء باحة الطريق ولكن لهن حجزتاه" أي جانباه. فرع آخر لو كان التطلع على دار لا ساكن فيها لم يجز أن يوماء سواء كان فيها مال أو لم يكن لارتفاع العورة. فرع آخر لو كان في الدار وحده ولا حرمة له فيها له رمي عينه ذكره أصحابنا، وقال القاضي الطبري: يقتضي مذهب الشافعي رضي الله عنه أن له رمي عينه إذا كان مكشوف العورة، فإن لم يكن مكشوف العورة فالنظر إليه مباح فلا يجوز له رميه كما قال الشافعي: إذا كانت حرمه محرمًا للناظر لم يجز رمي عينه إلا أن تكون مجردة فله رمي عينه، وقال القفال: فيه وجهان، وإن كانت مستورة العورة وكذلك إن كان فيه حرم مستورات وهذا خلاف المشهور من النص.

فرع آخر قال ابن المرزبان: إذا دخل رجل المسجد فكشف عورته وأغلق الباب على نفسه أو لم يغلق فجاء ناظر فنظر إليه ففقأ عينه يلزمه الضمان لأنه ليس بموضع مختص بقوم دون قوم. فرع آخر قال الماسرجسي: لو قعد الرجل على الطريق فكشف العورة [145/أ] فنظر ناظر إلى عورته لم يكن له رمي عينه لأنه هو الهاتك لحرمة نفسه وهو كالحرز في السرقة إذا ضيع الرجل ماله وتركه في غير حرزه فلا قطع على سارقه فكذلك هنا. فرع آخر قال في "الأم": لا فرق بين أن يكون الموضع الذي يطلع منه واسعًا أو ضيقًا وبين أن يطلع من ملكه إلى ملك غيره أو من غير ملكه من الطريق أو غيره لأنه يطلع إلى ما لا يحل الاطلاع عليه. فرع آخر قال بعض أصحابنا بخراسان: لو رماه بشيء فأصاب غير العين فإن كان بعيدًا بحيث لا يخطئ من العين إليه ضمن، وإن كان قريبًا فأخطأ من العين إليه لم يضمن. مسألة: قال: ولو دخل بيته فأمره بالخروج فلم يخرج فله ضربه حتى يخرج. اعلم أنه إذا دخل منزل رجل ليلًا أو نهارًا بسلاح فأمره بأن يخرج لم يخرج فله ضربه، وإن أتى الضرب على نفسه. قال أصحابنا: ليسه لو ضربه ما لم يأمره بالخروج فقوله يخالف هذا الذي تطلع عليه من بيت فإن له رمي عينه قبل أن يأمره بالانصراف لأن رمي عينه عند الاطلاع منصوص عليه مثل قطع اليد إذا سرق، فإن أراد رمي عينه لم يكن له ذلك لأنه إذا دخل بكل بدنه يسقط الحكم في تفصيل الأعضاء [145/ب] وذكر ابن أبي هريرة وصاحب "الإفصاح" وجهًا آخر أن له ذلك لأن له قتله فضرب عينه أولى ولأنه أغلظ حالًا من التطلع لأنه جني بكل بدنه وهذا ضعيف وهذا إذا لم يرجع فأنا إذا ولى راجعًا لم يكن له ضربه. فرع آخر لا يجوز لأحد أن يدخل دار أحد إلا بإذن صريح وإن كان الباب مفتوحًا لقوله تعالى: {تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَانِسُوا وتُسَلِّمُوا} [النور 27] وقرأ ابن عباس "حتى تستأذنوا". فرع آخر وكذلك إذا دخل فسطاطه في ناديه وفيه حرمته أو لا حرمة له فيه وفيه خزانته له دفعه وإن أتى ذلك على نفسه.

فرع آخر قال: وهكذا إذا أراد دخول منزله وكابره عليه فله ضربه وإن أتى ذلك على نفسه. فرع آخر لو علم بخمر في بيت أو طنبور وعلم بشربه وضربه له أن يهجم على صاحب البيت ببيته فيريق الخمر ويفصل الطنبور ويمنعهم عن الشرب والضرب، وإن لم ينتهوا فله قتالهم، وإن أتى القتال عليهم وهو مثاب عليه. وكذلك لو كان بيده طنبور فأراد رجل أخذه وكسره فمنعه له أن يدفعه وإن أدى إلى قتله وشق ثيابه. فرع آخر قال: ولو قتل رجل رجلًا وادعى القاتل أنه أراد دخول منزله مكابرة فدفعه بالضرب وأتى عليه لم يصدق القاتل عليه سواء كان معروفًا بذلك أو لا إلا ببينة يقيمها، فإن لم يقم ببينة أعطى [146/أ] منه القود. فرع آخر قال: ولو جاء ببينة يشهدون أنهم رأوا هذا مقبلًا إلى هذا بالسلاح شاهرًا ولم يزيدوا على هذا فضربه هذا فقتله أهدرته، لأن الظاهر أنه قصده وأن القاتل دفعه، وقال صاحب (الحاوي): هكذا قال أبو حامد وعندي أن هذه الشهادة تسقط القود للشبهة ولا توجب سقوط الدية لاحتمال دخوله على هذه الحالة أن يكون هرب من طلب وإن أكملت الشهادة بأن قالوا دخل عليه بسيف مشهور وأره فلا قود ولا دية ولا إشكال. فرع آخر قال: ولو أنهم رأوه داخلًا في داره ولم يذكروا معه سلاحًا أو ذكروا سلاحًا غير شاهر فقتله أقدت منه لا أطرح عنه القود إلا بمكابرته على دخول الدار وأن يشهر السلاح عليه وتقوم بذلك بينة. فرع آخر ولو شهدوا أنه أقبل عليه في صحراء بسلاح فضربه فقطع يد الذي أريد ثم ولى عنه فأدركه فذبحه أقدته منه وضمنت المقتول به يد القاتل وهذه من فروع حمل الرجل على الرجل الذي ذكرنا في أول الباب. فرع آخر قال: ولو التقى نفسان فتقاتلا ظلمًا على عصبيته وطلب كل واحد منهما نفس الآخر أو ماله فكل قاتل منهما ظالم، وكل مقتول مظلوم يقاد من قاتله ويكونان متساويين في الظلم قبل القتل لاشتراكهما في التعدي بالقتال ومختلفين بعد القتل فيصير القاتل ظالمًا

باب الضمان على أرباب البهائم

والمقتول مظلومًا لأن التعدي بالقتل صار متعينًا [146/ب] في القاتل دون المقتول وعلى هذا حمل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار" يعني: لظلمهما بالقتال وقصده صاحبه فله دفعه الآن وإن أتى على نفسه على ما ذكرنا. فرع آخر لو كانت دار يسكنها ذو محرم له مع مالكها فأراد دخول الدار لا يلزمه الاستئذان ولكنه متى أراد الدخول عليه يشعر بدخوله بالنحنحة وشدة الوطء ليستتر العريان، وإن لم يكن المحرم ساكنًا فيها فإن كان الباب مغلقًا لم يجز الدخول إلا بإذن، وإن كان مفتوحًا فهل يجب الاستئذان وانتظار الإذن؟ وفيه وجهان أحدهما: يجب لجواز أن يكون رب الدار على عورة. والثاني: لا يجب ويلزم الإشعار بالدخول التنحنح والحركة لقوله تعالى: {ولا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَاكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النور 61] الآية. ففرق الله تعالى من ذوي المحارم وغيرهم في الإباحة. باب الضمان على أرباب البهائم قال الشافعي رضي الله عنه: أخبرنا مالك عن الزهري عن حرام بن سعد محيصة أن ناقة للبراء دخلت حائط قوم فأفسدت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن على أهل هذه الأموال حفظها [147/أ] بالنهار وما أفسدت بالليل فهو ضامن على أهلها. اعلم أنه إذا أفسدت الماشية زرع قوم فلا يخلو إما أن يكون صاحبها عليها أو لا يكون، فإن كانت يده عليها يلزمه الضمان فإن كان نهارًا فلا ضمان على مالكها لأن لصاحب الماشية أن يسيب ماشيته بالنهار في العراء من غير حافظ وحفظ الزرع على صاحبها فإذا لم يحفظه فهو المضيع لماله وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "العجماء جرحها جبار" والعجماء: البهيمة سميت عجماء لعدم نطقها والجبار: الهدر. وقال بعض أصحابنا: عادة الناس هذا وذلك في الموات فإن أرسلت المواشي نهارًا في طرف ضياع للناس أو حريم الأنهار يضمن أربابها ما أفسدت، وكذلك في القرى والمدن العامرة يتقارب العقار فيها وبينها علف وكلأ ترعى بالعادة أن رب الدابة يرعاها فيه ويحفظها ولا يحفظ رب الزرع زرعه، فإذا أفسدت زرعًا يلزمه الضمان لأن التفريط كان منه، وإن كان هذا الإفساد ليلًا قال الشافعي: يلزم الضمان على مالكها لأن حفظها بالليل عليه وليس على صاحب الزرع حفظه بالليل فكان صاحب الماشية متعديًا

بتسييبها بالليل بلا حافظ، ولا فرق بين أن يطلقها ابتداءً ليلًا أو أرسلها بالنهار وواصله بالليل، وقال أبو حنيفة: لا ضمان على صاحبها بكل حال ليلًا كان أو نهارًا [147/ب] لأنها أفسدت وليس يده عليها فلا يلزمه الضمان كما لو كان بالنهار، وقال بعض أصحاب أبي حنيفة بخراسان: سوى أبو حنيفة بين الليل والنهار في وجوب الضمان لا في سقوطه والأول أصح عنه. ودليلنا الخبر الذي رواه الشافعي، وروي عن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: كانت له ناقة ضاريه فدخلت حائطًا فأفسدت فيه فكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها فقضى أن حفظ الحوائط بالنهار على أهلها وأن حفظ الماشية بالليل على أهلها، وأن على أهل الماشية ما أصابت ماشيتهم بالليل. ففرق بين الليل والنهار فلا يجوز التسوية بينهما وهذا لأن الحفظ لا يشق بالليل ويشق بالنهار. وقال الصيمري: إن جرت عادة أهل أن يرعوا مواشيهم ليلًا دون النهار كان الضمان عليهم نهارًا دون الليل. فرع قال القفال: لو كانت العادة أن من له عمر في الحوائط فأرسل ليلًا فوجد بابها مفتوحًا أو اقتحمت ثلمة حائط فلا ضمنان على صاحبها لأنه لم يفرط في إرسالها، وإنما يضمن ذلك في المزارع التي لا حائط عليها في عادة أهل البلد. فرع آخر لو تكاثرت المواشي بالنهار حتى عجز أصحاب الزرع عن حفظها هل يضمن؟ فيه وجهان: أحدهما: يضمن لأنه لم يكن من أرباب الزرق تقصير في الحفظ. والثاني: لا يضمن لأنه لم يكن من أرباب المواشي تفريط في الحفظ. [148/أ] فرع آخر لو رد الماشية إلى البيت فخرجت بغير علمه واختياره غلبة ونفرة فأفسدت يحتمل وجهين: أحدهما: يلزمه الضمان لأنه مفرط في حفظها والاستيثاق منها. والثاني: لا يلزمه الضمان لأنه إذا آواها إلى مكانها بالليل على حسب العادة والعرف فيه فخرجت وأفسدت بالليل لم يكن متعديًا ذكره ابن أبي هريرة، وقال القاضي الطبري: والأول أصح لأنه إذا رد الماشية إلى المراح فخرجت بالليل فهو مفرط في حفظها لأنه كان يجب أن يستوثق منها بما لا تتمكن مع من الخروج من إغلاق باب المراح وإحكامه، فإذا نسي ذلك أو لم يفعله عمدًا أو أغلقه غلامًا فيمكن الماشية من فتحه فهو مقصر فيه فيلزمه الضمان. فرع آخر لو انفلتت من يده مع شدة مراعاته لها قال أصحابنا: لا ضمان عليه بحال، وقال

في (الحاوي): في وجهان: أحدهما: يضمن لأنه قلما يكون ذلك إلا من تفريط خفي. والثاني: وهو الأصح لا يضمن. وهذان الوجهان مخرجات من القولين في إصدام السفينتين بغلبه الريح. فرع آخر قال أصحابنا: لو أرسل الطيور مثل الحمام ونحوها فكسرت على الجيران شيئًا أو التقطت حبًا فلا ضمان على صاحبها لأن العادة إرسالها أبدًا. فرع آخر لو أطلق السنور فأفسدت في بيوت الجيران قال صاحب "الإفصاح": إن كان معروفًا [148/ب] بالإفساد ضمن سواء كان بالليل أو بالنهار لأن العرف في مثله في الزمانين إطلاقه وكذلك الكلاب التي تقتني للصيد ينظر فيها فإن كان عقورًا ضمن في الزمانين، وإن لم يكن عقورًا فلا ضمان على أهلها فيما كان من جنايتها في الليل والنهار لأن العرف إطلاقها في الزمانين إلا أن يكون العرف في مثلها أنها ترد في الليل إلى البيوت فيجب على صاحبها الضمان، وقال بعض مشايخنا بخراسان: في السنانير القاتلة، وإن كان ليلًا فلا ضمان لأن العادة إيواء الطيور بالليل وإرسال السنانير، في البيوت وليس بشيء. مسألة: قال: والوجه الثاني إذا كان الرجل راكبًا فما أصابت بيدها أو رجلها. الفصل: إذا كان راكبًا دابة فعليه ضمان ما تتلف بيدها أو رجلها أو ذنبها أو فيها، وكذلك لو كان قائدًا أو سائقًا أو رديفًا وسواء فيه الوطء بالقدم والرفس باليد والركض بالرجل، وقال أبو حنيفة: إن كان قائدها أو راكبها ضمن ما تتلفه بيدها وفمها دون ما تتلفه برجلها وذنبها لأنه يملك تصرفها من قدامها ولا يملك ذلك فيما ورائها قال: [149/أ] وإن كان سائقها ضمن ما تتلف بالأطراف كلها، وإن وطئ شيئًا يضمن بكل أطرافها. وقال فيمن تجري دابته فسقط منها شيء فتلف به مال الغير: فإن كان ريقها أو بولها أو روثها فلا ضمان، وإن كان شيئًا من المعاليق التي علقها عليها ضمن واحتج بما روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الرجل جبار". وما ذكره لا يصح لأنا لا نعارف فارسًا يضبط يدها دون رجلها، وأما الخبر قال أصحاب الحديث: هذا غير محفوظ ولم يروه من أصحاب الزهري سوى سفيان بن الحسين وهو معروف بسوء الحفظ وإنما هو "العجماء جرحها جبار، والمعدن جبار والبثر جبار، وفي الركاز

الخمس" وأراد بالعجماء إذا كانت مطلقة ليس لها قائد ولا سائق، وأراد بالبئر أن يحفر الرجل بئرًا في ملك نفسه فيتردى فيها إنسان فهو هدر لا ضمان فيه، وأراد بالمعدن ما يستخرجه الإنسان من معادن الذهب والفضة ونحوها فيستأجر قومًا يعملون فربما انهار على بعضهم فمات فدماؤهم هدر لأنهم أعانوا على أنفسهم، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "النار جبار"، وقيل: إن صح الخبر أراد به إذا أوقد الرجل النار في ملكه لحاجته فتطير بها [149/ب] الريح فتشعلها في مال أو متاع لغيره من حيث لا يملك ردها فيكون هدرًا. فرع قال الشافعي رضي الله عنه: وكذلك الإبل المقطرة بالبعير الذي هو عليه في حكم الضمان لأنه قائد لجميعها وعلى هذا لو كان مع قطار من الإبل يسوقها أو يقودها فابتلع جمل منها جوهرة لإنسان وجب الضمان على الحافظ لا يختلف أصحابنا فيه. فرع آخر لو كانت غنم بين يديه يسوقها فابتلعت شاة جوهرة لإنسان اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: عليه الضمان كسائق الإبل، ومنهم من قال: لا ضمان عليه، والفرق أنه ليس العرف أن يكون مع كل واحد منها حافظ ومقطور في الإبل قد يكون مع كل واحد منها حافظ ويمكن أن يحفظه بالقطار أو يشد فمه. فرع آخر لو لم يكن مع الشاة صاحبها فابتلعت جوهرة لإنسان قد ذكرنا هذه المسألة، وقد قال ابن أبي هريرة: إن كان نهارًا فلا شيء عليه، وإن كان بالليل ضمن قال أصحابنا: وكذلك الإبل والبقر وإذا أوجبنا الضمان قال ابن أبي هريرة: يحتمل أن يضمن الجوهرة ولا يذبح الشاة ويحتمل أن يؤمر بذبحها ويسلم الجوهرة إلى صاحبها. قال صاحب (الحاوي): عندي أنه يضمن ليلًا بذبحها ويسلم الجوهرة إلى صاحبها. قال صاحب (الحاوي): عندي أنه يضمن ليلًا كان أو نهاراً بخلاف الزرع، والفرق أن رعي الزرع مألوف فلزم حفظ الزرع منها وابتلاع الجوهرة غير مألوف فلم يلزم حفظ الجوهرة. [150/أ] فرع آخر لو كان رجل راكب دابة فجاء إنسان فنخسها فرمحت فأتلفت شيئًا فالضمان على الناخس دون الراكل، لأنه حملها على ذلك فهو كما لو حملها راكبها على الإتلاف، وقال بعض أصحابنا: هذا إذا كانت الدابة لا تتلف شيئًا إلا بالنخس فإن كانت تتلفه

بطبعها واتصل التلف هنا بالنخس فهل يضمن الراكب أو الناخس؟ فيه وجهان. وهكذا لو كانت الدابة تمر فنخسها رجل فأتلف شيئًا فالحكم هكذا هل يضمن الناخس إذا اتصل التلف بالنخس وطبعها الإتلاف؟ فيه وجهان. فرع آخر لو كان مع الدابة سائق وقائد فجنت الدابة وجب الضمان عليهما نصفين، ولو كان راكب وقائد وسائق ففيه وجهان: أحدهما: يضمنان نصفين لأن كل واحد لو انفرد يضمن فإذًا يضمنان كالسائق والقائد. والثاني: يضمن الراكب لأنه هو المباشر ويده أقوى من يد السائق والقائد ويمكن بناء هذا على الوجهين في راكب وقائد اختلفا في دابة وتداعيا ملكها في وجهان: أحدهما: هما سواء. والثاني: الراكب أولى. فرع قال صاحب (الحاوي) في مسألة ابتلاع البهيمة الجوهرة: إن لم تكن البهيمة مأكولة اللحم غرم صاحبها قيمة الجوهرة فإن دفع القيمة ثم ماتت البهيمة وأخرجت الجوهرة من جوفها ففيه وجهان: أحدهما: ملكها صاحب البهيمة بدفع القيمة ولا يلزمه ردها. [150/ ب] والثاني: ترد إلى صاحبها ويسترجع منه قيمتها لأنها غير مأكولة فإن نقصت قيمتها ضمن صاحب البهيمة قدر نقصها. فرع آخر لو ركب صبي أو مجنون دابة بغير أمر الولي فأتلفت شيئًا ضمن في ماله وإن ركب بأمر الأجنبي فالضمان على الأجنبي، وإن ركب بإذن الولي فإن كان مثل ملك الدابة لا يجوز للولي أن يركبها صغيرًا فالضمان على الولي، وإن كن مثله يركب مثلها وأركبه لمصالحه فالضمان على الصبي في ماله وفيه وجه آخر أنه على الولي بكل حال. فرع آخر لو ركب دابة فعضت على اللجام وغلبت على الراكب فأتلفت شيئاً قال أصحابنا بخراسان: هل يضمن الراكب؟ فيه قولان: أحدهما: لا يضمن كما لو لم يكن راكبًا لها فأتلفت شيئًا لا ضمان. والثاني: يضمن لأن الراكب في الغالب يدفعه بالسوط واللجام فإذا لم يقدر نسب على التفريط حيت لم يرضها للركوب وهذان القولان غريبان ولعله أراد وجهين وهو يحتمل. ثم رجع الشافعي رضي الله عنه إلى المناظرة في ضمان الرجل فقال: ولا يجوزن إلا ضمان ما أتلفت البهيمة تحت الرجل أو لا يضمن إلا ما حملها عليه فوطئته، فأما من ضمن عن يدها لو يضمن عن رجلها فهذا يحكم وليس هذا ما تقول منه ولا تعليق قول وإنما هو رد على أبي حنيفة رحمه الله. مسألة: قال: ولو أوقفها في موضع [151/ أ] ليس له أن يقفها فيها ضمن.

وقد ذكرنا أنه إذا وقف دابة في طريق المسلمين سواء كان الطريق ضيقًا أو واسًعا، أو ربطها في باب داره فجنت ضمن لأن الوقف في مثل هذا الموضع لا يجوز إلا بشرط السلامة كإخراج الروشن إلى الطريق وإن وقفها في ملكه أو في أرض الموات لم يضمن لأن له أن يقفها فيه والمفرد من لم يتحرز منه وهذا إذا وقفها وغاب عنها، أما إذا كان معها يلزم الضمان بكل حال، وقال الصيمري: لو وقفها في طريق واسع في ناحية أو بفناء داره فأتلفت هل يضمن؟ قولان، وقال في (الحاوي): إن كانت الدابة مشغبة ضمن، وإن كانت غير مشغبة فوجهان بناءًا على القولينفي حفر البئر بفناء داره. مسألة: قال: ولو جعل في داره كلبًا عقورًا. الفصل إذا دخل دار غيره بغير إذنه فعقره الكلب فلا ضمان، وإن أذن له المالك بالدخول فإن أعلمه أنه عقور فلا ضمان وإن لم يعلمه فهل يضمن؟ قولان: سواء أشلاه أو لم يشله أحدهما: يضمن لأنه لما أذن له في الدخول صارت الدار المأذون فيها في حكم ملكه أو صارت في حقه بمنزلة الموات، ولو وقف عقورًا أو دابة عضوضًا في موضع يشترك فيه الناس فعضت ضمن كذلك هنا. والثاني: لا يضمن لأنه دخل باختياره وهذان القولان [151/ب] مخرجان من مسألة السم إذا سم الطعام وقدمه إليه فأكله، وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يلزمه القود؟ فيه قولان فإن قلنا: لا قود فهل تجب الدية؟ فيه وجهان واختار المزني أنه لا ضمان أصلًا وهكذا إذا حفر بئرًا في داره وغطى رأسها وأذن لرجل في الدخول فسقط فيها ففي الضمان قولان، وهكذا إذًا لم يغطها ولكن الداخل أعمى وكذلك إذا نصب في داره حباله وأذن لإنسان في الدخول فأحبلته كان على القولين. فرع إذا كان مع الدابة التي هو راكبها ولدها يضمن جناية الولد لأن يده عليهما، وكذلك لو كان معها أخرى مشددة إليها ضمن جنايتها لأن يده عليهما. فرع آخر لو أحرق حشيشًا في أرضه فتعدت النار إلى زرع غيره فإن كان زرعه غير متصل بحشيشه فلا ضمان، وإن كان متصلًا فإن كانت الريح مصرفة عن جهة الزرع فهل يضمن؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يضمن لأن هبوب الريح ليس من فعله. والثاني: يضمن لأن طبع النار أن تسري إلى جهة الريح هكذا ذكره في (الحاوي) وقد ذكرنا ما قيل في موضع آخر.

فرع آخر لو أرسل الماء في [152/أ] أرضه فخرج إلى غير أرضه قد ذكرنا أنه إن كان بقدر الحاجة فلا ضمان، وإن كان أكثر فإن عجز عن حبس الريادة لطغيان الماء فلا ضمان وإن قدر على حبسه ففيه وجهان: أحدهما: يجب الضمان لأن من طبع الماء الجريان، والثاني: لا يجب لأن الجار يقدر على الاحتزاز منه بحفيرة تصد عنه ذكره في (الحاوي). فرع آخر لو أكره رجلًا على دخول داره وفيها كلب عقور فدخل فجرحه فإن اتصل التلف بالإكراه ضمن الدية، وإن لم يتصل ففي استصحاب حكمه وجهان: أحدهما: أن يستصحب الحكم إلى التف فيضمن. والثاني: زوال حكمه بانقطاعه ويكون في حكم غير المكره.

كتاب السير

كتاب السير باب أصل فرض الجهاد مسألة: قال: لما مضت برسول الله صلى الله عليه وسلم مدة هجرته أنعم الله تعالى فيها على جماعات بإتباعه حدثت لها مع عون الله قوة بالعدد لم يكن قبلها ففرض عليهم الجهاد. الفصل اعلم أن الله تعالى لما أراد إظهار الإسلام الذي اختاره لعباده بعث خبرته من خلقه محمدًا صلى الله عليه وسلم على ترتيب من أحواله وتدريج فيما أمره به لإظهاره وإحكام قواعده [152/ ب] وإعلامه ولم يأمره بجميع الشرائع دفعة واحدة وحبب إليه الخلوة فكان يمكث في غار حراء حتى أتاه الملك بأمر الله تعالى. وأنزل عليه الوحي فكان أول ما أوحي إليه قوله تعالى: {اقْرا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي} إلى قوله: {عَلَّمَ الإنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق 1 - 5] فأمره باعتقاد الإيمان وقراءة القرآن في نفسه لأنه خصه به ولم يأمره بإظهاره ثم أمره بالإظهار والقيام بالدعوة والإنذار فقال عز وجل: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنذِرْ} [المدثر 1 - 2] وقد قال تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر 94] وقال أيضًا: {وأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء 214] فجد رسول الله صلى الله عليه واجتهد فجمع عشيرته وأنذرهم فاستهزؤوا به ولم يقبلوه، وقال أبو لهب: ألهذا دعوتنا؟ تبًا لك فأنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وتَبَّ} [المسد 1] إلى آخر السورة، وقيل: إنه لما نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ} [المدثر] جد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة ولكنه كان خائفًا سطوة المشركين فكان المتوقف من مخالفتهم حتى نزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ واللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة 67] فلم يتوقف بعد ذلك ولكنه واظب على الدعوة ليلًا ونهارًا وقاسى ما قاسى من بلاء المشركين ثم أمره بعد ذلك بهجرتهم والإعراض عنهم فقال عز من قائل: {وإذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا [153/أ] فَأَعرِضْ عَنْهُم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام 68] وقال تعالى {ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام 108] وقال تعالى: {ولَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر 97 - 98]. ثم اشتد البلاء من الكفار عليه وعلى من أسلم من صاحبه لضعفهم وقلتهم فأباح

الهجرة بقوله تعالى: {ومَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وسَعَةً} [النساء 100] الآية. فهاجر بعضهم إلى أرض الحبشة وبعضهم إلى الطائف وهو يعرض نفسه في المواسم ويدعو الناس إلى الله تعالى حتى منّ الله تعالى على الأوس والخزرج وهم من عرب اليمن يسكنون بالمدينة فآمنوا وآمن ولياهما من أهلها بالمدينة فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم من لقنهم الإيمان والقرآن وعلمهم الصلوات ثم أراه الله تعالى في منامه دار الهجرة وهي المدينة وأذن له ولأصحابه في الهجرة إليها ثم فرض عليهم الهجرة بعج سنتين من الهجرة بقوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ} [النساء 97] الآية. فهاجر ولو يؤذن بعد في الجهاد ثم بعد زمان أذن لهم في قتال من قاتلهم من الكفار دون من لم يقاتلهم ولم يأذن لهم في الابتداء بالقتال بقوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} [الحج 39] الآية. فكان من أحب أن يقاتل من أصحابه فعل ولم يكن ذلك واجبًا [153/ب] ثم فرض عليهم القتل بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القِتَالُ} [البقرة 216] وبقوله تعالى: {وقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ واعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة 244]. وهذا معنى قول الشافعي رضي الله عنه: لما مضت برسول الله صلى الله عليه وسلم مدة من هجرته أنعم الله تعالى فيها على جماعات بإتباعه، حدثت لها مع عون الله قوة بالعدد لم تكن قبلها ففرض عليهم الجهاد قال: وكان فرضه في الابتداء في غير الأشهر الحرم لقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} [البقرة 217] وقال تعالى: {فَإذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة 5] وكان فرضه في غير الحرم فأما في الحرم فلم يجز القتال إلا أن يبتدئ الكفار به لقوله تعالى: {ولا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ} [البقرة 191] ثم نسخ ذلك بأمر القتال في جميع الزمان في جميع البلدان بقوله تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وثِقَالاً} [التوبة 41] الآية، وقال {وقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً} وقال: {وقَاتِلُوا} [البقرة 244] وقال: {وجَاهِدُوا} [المائدة 35] وابتدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة واعلم أن الجهاد كان من فروض الكفايات وهكذا الآن وإنما وجب على جميع المسلمين القيام به في وقت لم يكن في بعضهم كفاية وفي مثله ورد قوله تعالى: {إلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ [154/أ] عَذَابًا أَلِيمًا} [التوبة 39] وقوله تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ ومَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ} [التوبة 120] الآية. وحين حصلت الكفاية ببعضهم سوغ الآخرين التقاعد عنه وفيه ورد قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي القَاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُوْلِي الضَّرَرِ والْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [النساء 95] الآية. هذا يدل على أن القاعد غير آثم بتركه الجهاد، ومن أصحابنا من قال: كان الجهاد في الابتداء من فرائض الأعيان ثم نسخ ومنهم من قال: الاعتبار بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فكل من دعاه إلى الجهاد افترض عليه الإجابة، وقال سعيد بن المسيب: هو من فرائض الأعيان ولا يصح لما ذكرنا. وأما فرض الهجرة من مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن دار الشرك إلى دار الإسلام كل زمان فإنه يتوجه على من أسلم وهو مستضعف بين المشركين لا يقدر على إظهار

إسلامه ولو زاد وراحلة يقدر على الخروج، فأما من كان مستضعفًا لا يقدر على إظهار إسلامه ولا زاد ولا راحلة يحتملانه إلى دار الإسلام أو كان قادرًا على إظهاره آمنًا من الكفار برهطه وعشيرته فإن هذين الضربين لم تفرض عليهما الهجرة [154/ب] والأصل فيه قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ} [النساء 97] الآية. ثم قال: {إلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ} [النساء 98] الآية. وجملته أن الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب منهم من يستحب له ولا تجب عليهم وهو من أسلم وله قوة بأهله وعشيرته يقدر على إظهار دينه آمنًا. وإنما استحب لئلا يكثر سواد المشركين به وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث يوم الحديبية عثمان رضي الله عنه إلى مكة لأن عشيرته كانت أقوى القوم بمكة فأكرم ولم يبعث ضعفاء قومه. ومنهم من يجب عليه الهجرة وهو من لم يأمن على نفسه في إظهار دينه ويقدر على الهجرة. ومنهم من لا يجب عليه ولا يستحب له وهو الضعيف الذي لا يقدر لمرضه أو لفقره وهو بمنزل المكرهين ومن أكره على الكفر فلا إثم عليه. واعلم أن فرض الهجرة على هذا التفصيل باق ما دام الشرك قائمًا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطعالهجرة حتى تنقطع التوبة ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها". فإن قيل: فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا هجرة بعد الفتح" قلنا: له تأويلان أحدهما: أراد لا هجرة من مكلة لأنها صارت [155/أ] دار الإسلام أبدًا. والثاني: أراد لا فضيلة للهجرة بعد الفتح مثل ما كانت قبل الفتح لأن الهجرة والإنفاق كان أفضل في ذلك الوقت قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفَتْحِ وقَاتَلَ} [الحديد 10]. وقال الإمام أبو سليمان الخطابي رحمه الله: وجه الجمع بين الخبرين أن الهجرة كان مندوبًا إليها في أول الإسلام بقوله تعالى: {وهَاجَرُوا وجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة 20] وقوله: {ومَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وسَعَةً ومَن} [النساء 100] ثم لما انتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة اشتد أذى المشركين على المسلمين فوجبت الهجرة عليهم حتى ينتقلوا إلى حضرته ليكونوا معه فيتعاونوا ويتظاهروا وليتعلموا منه أمر دينهم فلما فتحت مكة قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح: "لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا" وارتفع وجوب الهجرة وعاد الأمر إلى الندب فهما هجرتان فالمنقطعة منهما هي الفرض والباقية هي الندب وسائر أصحابنا أجمعوا على أن فرض الهجرة على من آمن فيها باقيًا ما بقي للشرك دار وهذا هو الصحيح، ولعله أراد الهجرة من مكة إلى المدينة والله أعلم. وفي تسميتها هجرة وجهان أحدهما: أنه يهجر فيها ما ألف من وطن وأهل، والثاني: أنه يهجر فيها العادة من عمل وكسب. واعلم أن القاضي الإمام أبا الحسن

الماوردي رحمه الله طول الكلام في شرح [155/ب] هذا الفصل وذكر مولد رسول الله صل الله عليه وسلم وما كان من أموره في الابتداء والانتهاء إلى وقت وفاته وما كان بعد وفاته من الخلفاء الراشدين وبسط الكلام في كل فصل من ذلك وقد انتخبت منها ما استحسنته ونقلته وذلك أن الله تعالى اختار لرسالته واصطفا لنبوته محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صل الله عليه وسلم فبعثه على فترةٍ من الرسل حين وهت الأديان، وعبدت الأوثان، وغلب الباطل على الحق وعم الفساد في الخلق ليختم به رسله ويوضح به سبله وليستكمل دينه ويحسم به من الفساد ما عم ومن الباطل ما تم فاختاره من بيت أسس به مبادئ طاعته وقواعد عبادته بالبيت الذي جعله مثابة للناس وأمناً، والحج الذي جعله من أصول الدين ركناً ليكونوا مستأنسين بتدين تسهل به إجابتهم فكان من أول التأسيس لنبوته أن كثر الله قريشاً بعد القلة وأعزهم بعد الذلة وجعلهم ولاة الحرم فكان أول من همس في نفسه ظهور النبوة فيهم كعب بن لؤي بن غالب فكان يجمع الناس في كل جمعة وهو سماه لجمع الناس فيه يوم الجمعة فكان يخطب فيه على قريش ويقول بعد خطبته: حرمكم عظموه وتمسكوا به فسيأتي له نبأ عظيم وسيخرج منه نبي كريم والله لو كنت فيه ذا سمع وبصر ويد ورجل [156/ أ] ولتنصبت تنصب الجمل، ولأرقلت إرقال الفحل ثم انتقلت الرئاسة بعده إلى قصي بن كلاب فجدد بناء الكعبة وهو أول من بناها بعد إبراهيم وإسماعيل صل الله عليهما وسلم وبني دار الندوة للتشاجر والتشاور وعقد الألوية وهي أول دار بنيت بمكة وكانوا يجتمعون في جبالها ثم بني القوم دورهم بها فزادت الرئاسة وقوي تأسيس النبوة. ثم أمرت قريش وكثرت حتى قصدهم صاحب الفيل لهتك الحرم وهدم الكعبة وسبي قريش ففعل الله تعالى ما فعل بدعوة عبد المطلب حين أخذ خلقه الباب ودعا فكان من مبادئ إمارات النبوة في رسول الله صل الله عليه وسلم إجابة دعوة جده عبد المطلب حتى هلك أصحاب الفيل تخصيصاً له بالكرامة حتى خص بالنبوة في ولده، وقد روي في هذه القصة أنه لما جاء أبرهة لهدم الكعبة وحمل مع نفسه اثنى عشر فيلاً وركب على أعظمها جسماً وقوةً يقال له محمود، وأغار على أموال قريش منها مائتا بعير لعبد المطلب جاء عبد المطلب إليه وكان جسيماً عظيماً وسيماً فلما رآه أبرهة عظمه وأكرمه وكره أن يجلسه معه على سريره وأن يجلس تحته فهبط إلى البساط فجلس عليه ثم دعاه فأجلسه معه ثم قال لترجمانه: ما حاجتك إلى الملك؟ فقال له الترجمان ذلك فقال عبد المطلب: حاجتي إلى الملك أن يرد عليّ مائتي بعير أصابها لي [156/ ب] فقال أبرهة لترجمانه: قل له: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ولقد زهدت فيك قال: ولم؟ قال: جئت إلى بيت هو دينك ودين آبائك لأهدمه لم تكلمني فيه وتكلمني في مائتي بعير أصبتها؟! فقال عبد المطلب: أنا رب الإبل ولهذا البيت رب سيمنعه فقال: ما كان ليمنعه مني فقال: أنت وذاك فأمر بإبله فردت عليه فرجع إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم أن يتفرقوا في الشعاب ويتحرزوا في رؤوس الجبال خوفاً من معرة الجيش إن دخلوا ففعلوا وأتى عبد المطلب فأخذ بحلقة الباب وجعل يقول:

يارب لا نرجو لهم سواكا يارب فامنع منهم حماكا إن عدو البيت من عاداكا امنعهم أن يخربوا قراكا ثم ترك الحلقة وتوجه في بعض تلك الوجوه مع قومه وتهيأ أبرهة للدخول وعبأ جيشه وهيأ فيله المسمى محموداً فأقبل نفيل إلى هذا الفيل فأخذ بذنبه فقال: أبرك محمود وأرجع راشداً من حيث جئت فإنك في بلد الله الحرام فبرك الفيل فبعثوه وضربوه بالمعول في رأسه فأبى فأدخلوا محاجنهم تحت مرافقه ليقوم فأبى فوجهوه راجعاً إلى اليمن فقام يهرول ووجهوه إلى الشام ففعل مثل ذلك فصرفوه إلى الحرم فبرك وأبى أن يقوم فلما رأى ذلك خرج يشتد حتى صعد الجبل وأرسل الله تعالى طيراً من البحر [157/ أ] أمثال الخطاطيف مع كل طائر منها ثلاثة أحجار حجران في رجليه وحجر في منقاره أمثال الحصى والعدس فلما غشين القوم أرسلنها عليهم فلن تصب الحجارة أحداً إلا هلك وليست كل القوم أصابت وخرجوا هاربين يبتدون الطريق الذي منه جاؤوا ويموج بعضهم في بعض يتساقطون ويهلكون في كل منهلٍ. وبعث الله تعالى داء على أبرهة في جسده فجعل يتساقط أنامله كلما سقطت أنملة اتبعتها الأخرى فانتهى إلى صنعاء وهو في مثل فرخ الطير فيمن بقي من أصحابه وما مات حتى انصدع صدره عن قلبه ثم هلك. وروي أنه كان يقع الحجر على بيضة أحدهم فتحرقها حتى تقع في دماغه ويخر ويغيب الحجر في الأرض من شدة وقعه وكان على كل حجرٍ اسم صاحبه مكتوباً، وروي أن رجلاً يقال له: أبو يكسوم من ندماء أبرهة انفلت وحده منهم فساد وطائر يطير فوقه ولم يشعر به حتى دخل على النجاشي فأخبره بما أصابهم فلما استتم كلامه رماه الطائر فسقط فمات فأرى الله تعالى كيف هلاك أصحابه. وقيل: كان أمر الفيل قبل مولد رسول الله صل الله عليه وسلم بأربعين سنة، وقيل: بثلاث وعشرين سنة والصحيح أنه كان في العام الذي ولد فيه رسول الله صل الله عليه وسلم وقالت عائشة رضي الله عنها: رأيت قائد الفيل وسائقه أعميين [157/ب] مقعدين يستطعمان. ثم ظهر نور النبوة في وجه أبيه عبد الله حتى مر بكاهنة من العرب يريد أن يتزوج بأم رسول الله صل الله عليه وسلم آمنة بنت وهب قرأت الكاهنة نور النبوة بين عينيه فقالت: هل لك أن تقع علي ولك مائة من الإبل؟ فأعرض ومشى لشأنه ونكح آمنة وعلقت منه برسول الله صل الله عليه وسلم وعاد فمر بالكاهنة فعرض لها فلم تر ذلك النور فقالت: قد كان هذا مرة فاليوم لا. ثم ولد رسول الله صل الله عليه وسلم عام الفيل ومات أبوه عبد الله وهي حامل به فكفله جده عبد المطلب فكان يرى من نشوئه ما يسره. ومات بعد ثماني سنين من ولادته فوصى به غمه أبا طالب لأنه كان أخاً لعبد الله من أمه فخرج به أبو طالب إلى الشام لتجارته وهو ابن تسع سنين فنزل تحت صومعة بالشام وكان في الصومعة راهب يقال له بحيرا قرأ الكتب وعرف ما فيها من الأنباء والإمارات فرأى بحيرا من صومعنه غمامة قد أظلت رسول الله صل الله عليه وسلم من الشمس فنزل إليه وجعل يتفقد جسده حتى رأى خاتم النبوة بين كتفيه وسأله عن حاله

في منامه ويقظته فأخبره بها فوافقت ما عنده في الكتب، وسأل أبا طالب عنه فقال: ابني فقال: كلا فقال: ابن أخي مات أبوه وهو حمل قال: صدقت وعمل له طعاماً لم يكن يعمله لهم قبل ذلك [158/أ] وقال: أحفظوا هذا من اليهود والنصارى فإنه سيد العالمين وسيبعث نبياً إليهم أجمعين وإن عرفوه معكم قتلوه فقالوا: كيف عرفت هذا؟ قال: بالسحابة التي أظلته ورأيت خاتم النبوة في كتفه فكان هذا أول بشرى بنبوته. ثم نشأ رسول الله صل الله عليه وسلم في قريش على أحسن هدي وطريقة، وأشرف خلق وطبيعة، وأصدق لسان ولهجة حتى عرفت خديجة أمانته وأبضعته مالاً وتزوجت به. أول ما تلقاه جبريل عليه السلام ليلة السبت وليلة الأحد ثم ظهر برسالة الله تعالى يوم الاثنين في الثامن عشر من شهر رمضان، وروي في الرابع والعشرين من شهر رمضان ثم أخبر رسول الله صل الله عليه وسلم خديجة رضي الله عنها بما نزل عليه فقالت له: يا ابن عم هل تستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي أتاك؟ قال: نعم قالت: فأخبرني به إذا جاءك فجاءه جبريل عليه السلام فقال لها: يا خديجة هذا قد جاءني فقالت: قم فاجلس على فخذي اليسرى فجلس عليها قالت: تراه؟ قال: نعم قالت: فتحول إلى فخذي اليمنى فتحول إليها فقالت: تراه؟ قال: نعم قالت: فتحول في حجري فتحول في حجرها فقالت: هل تراه؟ فتسحرت وألقت خمارها وهو جالس في حجرها وقالت: هل تراه؟ قال: لا قالت: ابن عم أثبت وأبشر فوالله إنه لملك [158/ب] وما هو بشيطانٍ وآمنت به فكانت أول من أسلم من جميع الناس. ثم روي أن جبريل عليه السلام نزل على رسول الله صل الله عليه وسلم يوم الثلاثاء وهو بأعلى مكة فهمز بعقبة في ناحية الوادي فانفجرت منه عين فتوضأ جبريل عليه السلام منها ليريه كيف الطهور فوضا رسول الله صل الله عليه وسلم فصلى به فكانت هذه أول عبادة فرضت عليه ثم انصرف جبريل عليه السلام فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خديجة فتوضأ لها حتى توضأت وصلى بها كما صلى به جبريل فكانت أول من توضأ وصلى بعد رسول الله صل الله عليه وسلم واستسر رسول الله صل الله عليه وسلم بالإنذار من يأمنه، واختلفوا في أول من أسلم بعد خديجة فقيل: أول من أسلم بعدها من الذكور علي بن أبي طالب وصلى وهو ابن تسع سنين، وقيل: كان ابن عشر وهذا قول جائز وزيد بن أرقم، وقال ابن عباس وأبو أمامة: أول من أسلم وصلى أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وقال عروة بن الزبير وسليمان بن يسار: أول من أسلم زيد بن حارثة ثم أسلم على يدي أبي بكر عثمان والزبير وجماعة ثم تتابع الناس في الإسلام وكان رسول الله صل الله عليه وسلم على الإستسرار بدعائه ثلاث سنين من مبعثه وقد انتشرت دعوته في قريش إلى أن أمر بالدعاء جهراً [159/أ] ونزل عليه: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] قول الله تعالى فلزمه الجهر بالدعاء وأمر أن يبدأ بإنذار عشيرته فقال تعالى: {وأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214] ففعل إلى أن قال أبو لهب. تباً لك فأنزل الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] ثم لم يكن من قريش في دعائه إياهم مباعدة له ولكن كانوا يردون بعض الرد حتى ذكر آلهتهم وأهانها وسفه أحلامهم في عبادتها فأجمعوا حينئذ على خلافه وتظاهروا بعداوته إلا من عصمه الله منهم بالإسلام

وهم قليل مستحقون به، وهموا به حتى دفعهم أبو طالب عمه عنه وكانوا ينالون من أصحابه فلما رأى ذلك قال لأصحابه: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً عادلاً إلى أن يجعل الله لكم فرجاً "فهاجر إليها من خاف على دينه وهي أول هجرة هاجر إليها المسلمون في رجب سنة خمس من المبعث فكان أول من خرج منهم أحد عشر رجلاً وأربع نسوة فيهم عثمان بن عفان وامرأته رقية بنت رسول الله صل الله عليه وسلم ثم خرج إثرهم جعفر بن أبي طالب في جماعة صاروا مع المتقدمين اثنين وثمانين نفراً وصادفوا في النجاشي ما حمدوه. وكان قد أسلم قبل ذلك عمر ثم أسلم حمزة فجهر رسول الله صل الله عليه وسلم بالقرآن في صلاته حين أسلم حمزة ولم يكن يجهر قبل إسلامه، وقوي به المسلمون وقرأ عبد الله بن مسعود على المقام جهراً حتى سمع قريش فنالوه بالأيدي [159/ب] ثم رأت قريش من يدخل في الإسلام وعدوا رسول الله صل الله عليه وسلم أن يعطوه مالاً ويزوجوه من يشاء من نسائهم ويكف نسائهم ويكف عن ذكر آلهتهم قالوا: فإن لم تفعل فاعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة فأنزل الله تعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] إلى آخر السورة فكف عن ذلك وكان يتمنى من ربه تعالى أن يقارب قومه ويحرص على صلاحهم فأنزل الله تعالى سورة النجم فقرأها على قريش حتى بلغ صل الله عليه وسلم {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ والْعُزَّى (19) ومَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم: 19 - 20] ألقى الشيطان في تلاوته تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهم ترتجى وانتهى إلى السجدة فسجد فيها وسجد المسلمون إتباعاً لأمره وسجد من في المسجد من المشركين لما سمعوا مدح آلهتهم وتفرق الناس من المسجد متقاربين قد سر المشركون وسكن المسلمون وبلغت السجدة من بأرض الحبشة من المسلمين وقالوا أسلمت قريش فأنزل الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إلاَّ إذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج:52] الآية ونسخ ما ألقى الشيطان بقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ ولَهُ الأُنثَى (21) تِلْكَ إذًًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 21 - 22] فقالت قريش لما سمعوا النسخ: ندم محمد على ما ذكر من مدح آلهتنا وجاء بغيره فازدادوا شدة وشدة على من أسلم وقدم من عاد من أرض الحبشة وعرفوا قبل دخول مكة ما نسخ فمنهم من رجع إلى أرض الحبشة من طريقه ومنهم من دخل مكة مستخفياً [160/أ] ومنهم من دخل في جوار فدخل عثمان رضي الله عنه مع زوجته رقية في جوار عتبة بن ربيعة، ودخل جعفر بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود سراً وكانوا ثلاثة وثلاثين نفراً ثم عادوا إلى أرض الحبشة إلا عثمان فإنه أقام حتى هاجر إلى المدينة وهذه هي الهجرة الثانية. ثم لما اشتدت العداوة كادوا رسول الله صل الله عليه وسلم وأصحابه بأمرين: أحدهما: أرسلوا إلى النجاشي فيمن هاجر إليه. والثاني: تحالفوا على بني هاشم وبني المطلب فيمن بقي مع رسول الله صل الله عليه وسلم على مقاطعتهم وأن يناكحوهم ولا يبايعوهم حتى أقام أبو طالب على نصرة رسول الله صل الله عليه وسلم وجمع بين بني هاشم وبني المطلب مسلمهم وكافرهم وعاهدهم على اجتماع الكلمة ودخول الشعب فأجابوه إلا أبا لهبٍ وولده فإنهم انحازوا عنهم إلى

قريش وأقام رسول الله صل الله عليه وسلم في الشعب مع أبي طالبٍ وسائر بني هاشم وبني المطلب مدة ثلاث سنين لا يصل إليهم الطعام إلا سراً ولا يدخل عليهم أحد إلا مستخفياً إلى أن بدأ من قريش هشام بن عمرو فكلم زهير بن أبي أمية ثم كلم المطعم بن عدي يقبح لهما ما ارتكبوه من قطيعة الأرحام في بني هاشم وبني المطلب فوافقاه واجتمعوا من غدهم في نادي قريش على نقض عهدهم وبدأ بالكلام [160/ب] هشام بن عمرٍو فرد عليه أبو جهلٍ، ثم تكلم زهيرٌ ومطعمٌ بمثل كلام هشامِ فقال أبو جهلٍ: هذا أمرٌ أبرم بليلٍ. وكانوا كتبوا صحيفةً وعلقوها في سقف الكعبة فأحضرت الصحيفة من سقف الكعبة وقد أكلتها الأرض إلا قولهم باسمك اللهم فإنه بقي وشلَّت يد كاتبها وهو منصور بن عكرمة وخرج بنو هاشمٍ وبنو المطلب مع رسول الله صل الله عليه وسلم إلى مكة منتشرين فيها كما كانوا. ثم لم يزل ما كانوا على الصلح لم يصل إليه مكروهٌ حتى مات عمه أبو طالبٍ وماتت خديجة في عامٍ واحدٍ وذلك قبل هجرته إلى المدينة بثلاث سنين فناله الأذى بعد ذلك نثر بعض سفهاء قريشِ التراب على رأسه فدخل بيته قرأت إحدى بناته على رأسه التراب فبكت فقال لها: لا تبكي فإن الله تعالى يمنع أباك وخرج إلى الطائف ليمتنع ويستنصر بثقيف فلما انتهى إليها عمد إلى ساداتها وهم ثلاثة أخوةٍ عبد بالليل ومسعود وحبيب بنو عمرو بن عمير، فكلمهم ودعاهم إلى الإسلام فردوه رداً قبيحاً وأغروا به عبيدهم وضعفاءهم فاتبعوه يرمونه بالحجارة حتى دميت قدماه ورجعوا عنه، فمال إلى حائط كرم لعتبة وشيبة ابني ربيعة فاستند إليه يستروح مما ناله فرآه عتبة وشيبة فرقا له بالرحم وأَنفذا إليه طبق عنبٍ مع غلامٍ لهما نصرانيٍ يقال له: عداس فلما [161/أ] مد يده ليأكل منه سمى الله تعالى فاستخبره عداس عن أمره فأخبره وعرف نبوته فقبَّل يده وقدمه، فلما عاد قال له عتبة وشيبة: رأيناك فعلت معه ما لم تفعله معنا قال: لأنه نبي فقالا: فتنك عن دينك ثم رجع رسول الله صل الله عليه وسلم يريد مكة حتى صار بنخلة اليمامة قام بالليل يصلي ويقرأ فمر به نفرٌ من الجن قيل: إنهم من جن نصيبين اليمن فاستمعوا له فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا كما قال الله تعالى: {وإذْ صَرَفْنَا إلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الجِنِّ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ} إلى قوله {طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأحقاف: 29 - 30] وقدم رسول الله صل الله عليه وسلم مكة وقريش على أشد ما كانوا من الخلاف، وقيل: إنه قدم في جوار المطعم بن عدي ثم عرض نفسه عليهم فلم يقبلوه ثم أتى كلباً فعرض نفسه على بني عبد الله فلم يقبلوه ثم عرض نفسه على بني حنيفة فكانوا أقبح العرب رداً له ثم عرض نفسه على بني عامرٍ فقال زعيمهم: إن شاركتنا في هذا الأمر قبلناك فتركهم وقال: الأمر لله يؤتيه من يشاء ثم حضر الموسم ستة نفرٍ من الخزرج منهم أسعد بن زراره وعقبة بن عامر وجابر بن عبد الله فأتاهم ودعاهم إلى الإسلام [161/ب] فأجابوا إليه وكانوا سمعوا يهود المدينة إذا قاتلوهم يقولون: لنا نبيٌّ يبعث ونحن ننتصر به عليكم فوقر ذلك في أنفسهم لما أراد الله تعالى بهم من الخير فلذلك سارعوا إلى الإجابة وعرض عليهم نفسه فقالوا نقدم على قومنا ونخبرهم بما دخلنا فيه،

فلما عادوا ذكروا ذلك فلم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها ذكر رسول الله صل الله عليه وسلم. فلما كان العام المقبل وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً تسعة من الخزرج وثلاثة من الأوس عبادة بن الصامت وغيره فبايعوه على الإسلام بيعة النساء وذلك على {أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا ولا يَسْرِقْنَ ولا يَزْنِينَ} [الممتحنة: 12] الآية فلما انصرفوا بعث معهم رسول الله صل الله عليه وسلم مصعب ابن عمير وأمره أن يقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام فقدم معهم ونزل على أسعد بن زرارة ودعا الأنصار إلى الإسلام فأسلموا على يده قوم بعد قوم وكان أسيد بن حضير وسعد بن معاذ وهما سيدا قومهما بني عبد الأشهل أنكرا ذلك حتى قرأ عليهما مصعب سورة الزخرف فلما سمعاها أسلما وأسلم في تلك الليلة جميع بني عبد الأشهل من الرجال والنساء وكانوا أول قوم أسلم جميعهم وصلى مصعب بالناس الجمعة في حرة بني بياضة وهي أول جمعة صليت [162/أ] في الإسلام وعاد مصعب إلى رسول الله صل الله عليه وسلم بمكة فذكر له من أسلم من أهل المدينة فسره ثم لما كان العام المقبل حج من الأوس والخزرج سبعون رجلاً وكان فيهم البراء بن معرور فصلى إلى الكعبة حين قدم على رسول الله صل الله عليه وسلم وقال: لا أتركها وراء ظهري ثم سأله فيها فقال له: قد كنت على قبلة لو صبرت عليها فعاد واستقبل بيت المقدس فكان أول من استقبل الكعبة وهو من تصدق بثلث ماله. وواعد رسول الله صل الله عليه وسلم في أوسط أيام التشريق فباتوا تلك الليلة في رحالهم ثم خرجوا منها بعد ثلث الليل لوعد رسول الله صل الله عليه وسلم فحضروا شعب العقبة ووافى رسول الله صل الله عليه وسلم ومعه عمه العباس بن عبد المطلب وأبو بكر وعلي فوقف العباس وعلياً على فم الشعب عيناً له ووقف أبو بكر على فم الطريق عيناً لهم وتلا عليهم رسول الله صل الله عليه وسلم القرآن وأخذ عليهم الإسلام فأسلموا جميعاً وقد كان فيهم من لم يكن قد أسلم ثم قال للعباس وهو على دين قومه: خذ عليهم العهد وكانوا أخواله لأن أم عبد المطلب كانت سلمى بنت عمرو من بني النجار من الخزرج فقال العباس: يا معشر الخزرج إن محمداً آمناً في عز قومه ومنعةٍ من بلده وقد أبى إلا الانقطاع إليكم واللحوق بكم فإن منعتموه مما تمنعون من أنفسكم [162/ب] وإلا فدعوه بين قومه وفي بلده فقال البراء بن معرور: بل نمنعه مما نمنع نه أنفسنا وأبناءنا فقال أبو الهيثم بن التيهان: إن بيننا وبين الناس حبالاً يعني عهوداً وإنا قاطعوها فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا فتبسم رسول الله صل الله عليه وسلم وقال: "الدم الدم، والهدم الهدم أنتم مني وأنا منكم أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم "فأقبل أبو الهيثم على الأنصار ثم قال: يا قوم هذا رسول الله حقاً وأشهد أنه لصادق وأنه لفي حرم الله وبين عشيرته وأعلموا أنكم إن تخرجوه إليكم ترميكم العرب عن قوسٍ واحدةٍ فإن كانت أنفسكم قد طابت للقتال وذهاب الأموال والأولاد فادعوه وإلا فمن الآن، فقالوا: يا رسول الله اشترط علينا لربك ولنفسك ما تريد فقال: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني فيما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم فأجابوا وأحسنوا.

فقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله قد اشترطت لنفسك ولربك فماذا لنا إذا وفينا لله ولرسوله فقال: لكم على الله الجنة فقال: قد قبلنا من الله ما أعطانا ثم قال رسول الله صل الله عليه وسلم: "اختاروا منكم اثنى عشر نقيباً كما اختار موسى عليه السلام من قومه وقال للنقباء: انتم على قومكم كفلاء ككفالة الحواريين [163/أ] لعيسى ابن مريم عليه السلام قالوا: نعم فبايعوه على هذا ثم عاد رسول الله صل الله عليه وسلم فعادت الفتنة أشد مما كانت في فتنة الهجرة غلى الحبشة واشتد الأذى بأصحاب رسول الله صل الله عليه وسلم فقال رسول الله صل الله عليه وسلم: "إن الله قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون فيها" فخرجوا جماعة جماعة ورسول الله صل الله عليه وسلم مقيم بمكة ينتظر إذن الله تعالى واستأذنه أبو بكر الصديق في الهجرة فاستوقفه. وأسريب رسول الله صل الله عليه وسلم إلى بيت المقدس والسماوات قبل هجرته بسنة فأصبح وقص ذلك على قريش وذكر لهم المعراج فازداد المشركون تكذيباً. وروي أنه لما صارت المدينة دار هجرة وأسلم الأنصار خافت قريش أن ينصروا رسول الله صل الله عليه وسلم فاجتمعوا في دار الندوة ليتشاوروا في أمره وسمي ذلك اليوم لكثرة زحامهم فيه يوم الزحمة وكانت عادتهم إذا اجتمعوا للمشاورة لا يدخل عليهم أحد من غيرهم فاعترضهم إبليس لعنه الله في صورة شيخ فلما رأوه قالوا: من أين جئت؟ قال: شيخ من نجد سمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم لأنكم أحداث وأنا شيخ رأيت الأمور وجربتها فنظرت في رأيكم فقالوا: ادخل فدخل إبليس لعنة الله عليهم فقال الحارث بن هشام احبسوه في بيت وسدوا بابه وطينوه واتركوه فيه وابعثوا إليه [163/ب] كل يوم رغيفاً وكوز ماء تتربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير والنابغة فقال إبليس لعنه الله: ليس هذا برأي لأن بني هاشم تخرجه من البيت وتسرحه من أيديكم، وقال أبو البحتري بن هشام: من شأنكم أن تأخذوا جملاً هائجاً وتشدوه عليه ثم تخرجوه من بين أظهركم فتستريحوا منه فإنه إذا خرج لم يضركم ما قال فقال إبليس لعنه الله: ما هذا برأي ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه والله إن فعلتم ذلك ليستجمعن عليكم خلقاً ثم ليأتينكم فقال أبو جهل: من شانكم أن تأخذوا من أربعين قبيلة من كل قبيلة غلاماً شاباً ثم تعطون كل غلام سيفاً صارماً فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه ثم إن بني هاشم قبيلة واحدة وقريش أربعون قبيلة ولا يمكنهم أن يطلبوا القصاص في أربعين قبيلة ثم نعطيهم الدية حتى تنجوا. فقال عدو الله إبليس لعنه الله: هذا هو الرأي فتفرقوا وهم مجتمعون على ذلك فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صل الله عليه وسلم وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأخبره بمكر القوم فلم يبت في بيته وأذن الله تعالى له في الخروج إلى المدينة وأنزل بعد قدومه المدينة سورة الأنفال {وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ} [الأنفال: 30] أي ليحسبوك سجناً أو يقتلوك جميعاً أو يخرجوك طرداً مشدوداً [164/أ] على الإبل ويمكرون ويريدون هلاكك يا محمد، ويمكر الله أي: يقتلهم يوم بدر والله خير الماكرين. والمكر من الله بمعنى؟ ثم أعلم أبا بكر بالهجرة وخرج إلى الغار معه، وروي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يمشي ساعة بين يدي رسول الله صل الله عليه وسلم وساعة خلفه

حتى فطن له رسول الله صل الله عليه وسلم فقال له: "يا أبا بكر مالك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي "فقال: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك فقال: يا أبا بكر لو كان شيء أحببت أن يكون بك دوني قال: نعم والذي بعثك بالحق فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى استبرئ الغار فدخل فاستبرأه حتى إذا كان في أعلاه ذكر أنه لم يستبرئ الجحر فقال: يا رسول الله حتى استبرئ الجحر فدخل فاستبرأه ثم قال: انزل يا رسول الله فنزل قال عمر رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لتلك الليلة من أبي بكر خير من آل عمر ثم لما دخلا الغار أرسل الله تعالى زوجي حمام حتى باضا في أسفل النقب وأرسل العنكبوت حتى نسج بيتاً ثم لما انتهى بعضهم إلى الغار ورأى بيض الحمام وبيت العنكبوت [164/ب] قال: لو دخلاه لتكسر البيض وتفسخ بيت العنبكوت فانصرف. وكان عبد الله بن أبي بكر يختلف إليهما فلما أراد رسول الله صل الله عليه وسلم الخروج منها إلى المدينة جاءهم بناقتين فانطلقوا وكانوا أربعة نفر النبي صل الله عليه وسلم وأبو بكر وعامر بن فهيرة وعبد الله بن أريقط الليثي فمكث في الغار ثلاثة أيام وهو نقب في جبل في مكة يقال له: ثور ثم قدموا المدينة في يوم الإثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول ونزل بقباء وبني مسجد قباء وخرج يوم الجمعة متوجهاً إلى المدينة فأدركته الصلاة في بني سالم بن عوف في بطن وادٍ لهم فصلى بهم صلاة الجمعة وهي أول جمعة صلاها رسول الله صل الله عليه وسلم فلما دخل المدينة أرخى زمام ناقته فجعل لا يمر بدارٍ إلا سأله أهلها النزول عليهم وهو يقول: "خلوا زمامها فإنها مأمورة "حتى انتهى إلى موضع المسجد اليوم فبركت على باب مسجده وهو يومئذ مربد ليتيمين من الأنصار سهل وسهيل ابني عمرو فنزل عنها فاحتمل أبو أيوب الأنصاري رحله فوضعه في بيته فنزل عليه، وقال: المرء مع رحله، وقال للأنصار: ثامنوني بهذا المربد فقالوا: لا نأخذ له ثمناً فبناه رسول الله صل الله عليه وسلم بنفسه [165/أ] وأصحابه مسجداً وأقام عند أبي أيوب حتى فرغ من بنائه. ثم هاجر علي رضي الله عنه بعد رسول الله صل الله عليه وسلم بثلاثة أيام ثم لما استقرت برسول الله صل الله عليه وسلم دار هجرته ونزل المهاجرون على الأنصار آخى رسول الله صل الله عليه وسلم بين أصحابه ليزدهم ألفة وتناصرا. ثم وادع من حوله من اليهود لأنهم كانوا أهل كتاب يرجو منهم أن يؤدوا الأمانة بإظهار نبوته فخانوا وجحدوا الصفة التي في كتابهم وظهر المنافقون بالمدينة يعلنون الإيمان ويبطنون الكفر ويوافقون اليهود في السر على التكذيب وكان النفاق في الشيوخ ولم يكن في الأحداث إلا واحد وكان رأس المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلول فسار فيهم رسول الله صل الله عليه وسلم بقول الظاهر من إسلامهم وقصدته اليهود بالمكر بقصد الاختلاف بين الأوس والخزرج حتى ينتقض أمره. فأصلح رسول الله صل الله عليه وسلم بينهم وقطع اختلافهم وعادت ألفتهم ومع ذلك يدعو إلى الإسلام حتى أمر بالقتال فكان أول لواء عقده في سنة مقدمه لحمزة بن عبد المطلب في ثلاثين رجلاً من المهاجرين في شهر رمضان [165/ب] بعد سبعة أشهر من هجرته ليعترض عيراً لقريش فيها أبو جهل في

ثلاثمائة رجل فبلغوا سيف البحر واصطفوا للقنال حتى افترقوا بقول مجدي بن عمرو الجهني، وعاد حمزة ثم كانت سرية عبيد بن الحارث على ستين رجلاً من المهاجرين ثم هكذا غلى أن اتصل القتال. وفي السنة الثانية فرض صيام شهر رمضان وفرضت زكاة الفطر وخطب رسول الله صل الله عليه وسلم بذلك قبل الفطر بيوم أو يومين وفيها خرج رسول الله صل الله عليه وسلم إلى المصلى بالناس صلاة العيد وهو أول عيد صلى فيه وفيها غزا غزوة بدر الكبرى في يوم السبت الثاني عشر من شهر رمضان بعد تسعة عشر شهراً من هجرته وفيها صلى صلاة عيد الضحى وضحى بشاةٍ وضحى معه ذوو اليسار. ثم تتابع الغزوات والفتوح إلى فتح مكة، واختلف العلماء في مكة هل فتحها عنوة أو صلحاً فعندنا أنه فتحها صلحاً وعند أبي حنيفة أنه فتحها عنوة، وقال صاحب "الحاوي ": والذي عندي على ما يقتضيه نقل سيرته أن أسفل مكة دخله خالد بن الوليد عنوة لأنه قوتل فقاتل وقتل وأعلا مكة دخله الزبير بن العوام صلحاً لأنهم [166/أ] كفوا وألزموا شرط أبي سفيان فكف عنهم الزبير فلم يقتل أحداً، فلما دخل رسول الله صل الله عليه وسلم واستقر بمكة التزم أمان من لم يقاتل واستأنف أمان من قاتل فلذلك استجار بأم هانئ بنت أبي طالب رجلان من أهل مكة فدخل عليهما علي رضي الله عنه ليقتلهما فمنعته وأتت رسول الله صل الله عليه وسلم فقال: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ "ولو كان الأمان عاماً لم يحتاجا إلى ذلك ولو لم يكن أمان لكان كل الناس كذلك. ثم بعث رسول الله صل الله عليه وسلم علياً إلى اليمين في شهر رمضان في ثلاثمائة فارس فكانت أول خيل دخلت تلك البلاد فناوشه من أوائلهم قوم فقتل منهم وسبا وغنم ثم تسارعوا إلى الإسلام طوعاً وأسلمت همذان كلها في يوم واحد فلما بلغ رسول الله صل الله عليه وسلم خر ساجداً فقال: "السلام على همدان "وتتابع أهل اليمن في الإسلام وقدم وفد العرب قبيلة قبيلة وأسلموا. ثم حج رسول الله صل الله عليه وسلم حجة الوداع سميت به لأنه لم يعد بعدها إلى مكة وسميت حجة البلاغ لأنه بلغ أمته فيها ما تضمنت خطبته وسميت حجة التمام لأنه بين تمامها وأراهم مناسكها وسميت [166/ب] حجة الإسلام. وقال أصحاب التواريخ: ولد رسول الله صل الله عليه وسلم عام الفيل وربي في بني سعد ومات أبوه وكان ابن شهرين فمكث بها النبي صل الله عليه وسلم خمس سنين فكفله عبد المطلب، ثم مات عبد المطلب وهو ابن ثماني سنين، فكفله أبو طالب وذهب به إلى الشام وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وخرج إلى الشام بأمر خديجة وهو ابن خمسة وعشرين سنة وشهرين وصارت قريش إلى قوله ورضوا بحكمه عند الكعبة وهو ابن خمس وثلاثين سنة وبعث وهو ابن أربعين سنة وولدت فاطمة وهو ابن إحدى وأربعين سنة ومات أبو طالب وهو ابن سبعة وأربعين سنة وثمانية أشهر وأحد عشر يوماً، وماتت خديجة بعد موت أبي طالب بثلاثة أيام وخرج النبي صل الله عليه وسلم إلى الطائف مع زيد بن حارثة بعد موت خديجة بثلاثة

أشهر وأقام بها شهراً فلما تم له خمسون سنة رجع إلى مكة في جوار مطعم ابن عدي، ولما أسري به إلى السماء كان ابن أحد وخمسين سنة وتسعة أشهر فلما بلغ ثلاثاً وخمسين سنة هاجر إلى المدينة وبني بعائشة رضي الله عنها في السنة الأولى من الهجرة، وزوج فاطمة من علي في السنة الثانية وحج أبو بكر بالناس وقرأ علي سورة براءة [167/أ] على المشركين في السنة التاسعة ثم حج حجة الوداع في السنة العاشرة ونزل عليه قوله تعالى: {أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة:3] يوم عرفة في حجة الوداع فلما رجع إلى المدينة نزل قوله تعالى: {واتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ} [البقرة: 281] الآية وهي آخر ما نزل من القرآن، وعاش صل الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية سبع ليال ومات في غرة ربيع الأول يوم الاثنين. وروي أنه كان مدة مرضه ثلاثة وعشرين يوماً ولما مات يوم الاثنين ترك مسجى ولم يدفن في بقية يوم الاثنين ويوم الثلاثاء ودفن في آخره، وقيل: انتظروا لأن بعضهم كانوا يشكون في موته ويقولون: لعله يخرج بروحه. وكان عدد ما صلى أبو بكر الصديق في آخر حياته صل الله عليه وسلم سبع عشرة صلاة وعن النبي صل الله عليه وسلم أنه قال: "لم يقبض نبي قط حتى يؤمه رجل من أمته "فصلى خلف أبي بكر ذلك اليوم ومات في بقية يومه، وروي أن الناس قالوا: وددنا أن لو متنا قبله فقال معن بن عدي: والله ما أحب أني مت قبله حتى أصدقه ميتاً كما صدقته حياً. ونزل قبره أربعة اثنان متفق عليهما وهما علي والفضل ابن العباس واثنان مختلف فيهما فروي أنهما العباس وعبد الرحمن بن عوف، وقيل: قثم بن العباس وأسامة بن زيد، وجعل بين قبره وبين حائط القبلة نحو من سوط [167/ب] ثم اجتمع الصحابة وبايعوا أبا بكر الصديق على الخلافة رضي الله عنه. ثم الكلام الآن في وجوب الهجرة وفيها فصلان: أحدهما: حكمها في زمان الرسول صل الله عليه وسلم، والثاني: حكمها بعده فأما في زمانه فهما حالتان قبل الهجرة إلى المدينة وبعد هجرته إليها فأما قبل هجرته فكانت مختصة بالإباحة دون الوجوب لأنها هجرة عن الرسول صل الله عليه وسلم وقد كان المسلمون حين اشتد بهم الأذى قالوا: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالمة أهلها فأجابهم الله تعالى فقال: {ومَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وسَعَةً} [النساء: 100] والمراغم التحول من أرض إلى أرض وفي هذه الهجرة نزل قوله تعالى: {والَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} [النحل:41] يعني ظلم أهل مكة {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} يعني نزول المدينة والنصر على عدوها وأما حكمها بعد هجرة الرسول صل الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة مختصة بالوجوب وكانت هجرة من أسلم بمكة قبل الفتح إليه وهم فيها ثلاثة أقسام: أحدها: من كان منهم في منعة بمال وعشيرة لا يخاف على نفسه ولا على دينه فمثله كان مأموراً بالهجرة ندباً لا حتماً، وقال الله

تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [النساء: 100] الآية. والثاني: من خاف على دينه أو نفسه وهو قادر على الخروج بأهله وماله فهذا كانت هجرة واجبة عليه وهو عارض بالتأخير [168/أ] قال الله تعالى: {الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النساء: 97] الآية، الثالث: من خاف على نفسه أو دينه وهو غير قادر على الخروج لضعف حالٍ أو عجز بدنٍ فهو بترك الهجرة معذور قال الله تعالى: {إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً} [النساء: 98] أي: بالخلاص من مكة {وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا} أي: في الهجرة إلى المدينة فيُظهر الكفر ضرورةً ويبطن الإسلام كما كان عمار رضي الله عنه. وأما الهجرة في زماننا فتختص بمن أسلم في دار الحرب ويهاجر منها إلى دار الإسلام، ولا تختص بدار الإمام وحاله فيها ينقسم إلى خمسة أقسام: أحدهما: أن يقدر على الامتناع في دار الحرب بالاعتزال ويقدر على الدعاء والقتال فهذا يجب أن يقيم هناك لأنها صارت بإسلامه واعتزاله دار الإسلام ويجب عليه دعاء المشركين إلى الإسلام بما استطاع. والثاني: أن يقدر على الامتناع والاعتزال ولا يقدر على الدعاء والقتال فيجب عليه أن يقيم هناك أيضًا ولا يهاجر لأن داره صارت باعتزاله دار الإسلام، وإن هاجر عنها عادت دار حرب ولا يجب عليه الدعاء والقتال لعجزه عنهما. والثالث: أن يقدر على الامتناع ولا يقدر على الاعتزال ولا على الدعاء والقتال يجب عليه المقام ولا يجب عليه الهجرة لأنه يقدر على الامتناع وله ثلاثة أحوال فإن كان يرجو ظهور الإسلام بإقامته فالأولى به أن يقيم، وإن تساوت حاله في المقام والهجرة [168/ب] فهو بالخيار بين المقام والهجرة، والرابع: أن لا يقدر على الامتناع ويقدر على الهجرة فواجب عليه أن يهاجر ويعصي إن لم يهاجر وفي مثله قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أنا برئ من كل مسلم مع مشرك)) قيل: ولم يا رسول الله؟ قال: ((لا يترأى نارهما)) معناه لا يتفق رأياهما فعبر عن الرأي بالنار لأن الإنسان يستضيء بالرأي كما يستضيء بالنار وهو مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تستضيئوا بنار أهل الشرك)) أي لا تقتدوا بآرائهم، وقيل: معناه لا يستوي حكماهما، وقيل: معناه أن الله فرق بين داري الإسلام والكفر فلا يجوز لمسلم أن يساكن المفار في بلادهم حتى إذا أوقدوا نارًا كان منهم بحيث يراها، وقال بعض أهل اللغة: معناه لا يتسم المسلم بسمة المشرك ولا يتشبه به في هديه وشكله والعرب تقول: ما نار بعيرك أي: سمته. الخامس: أن لا يقدر على الامتناع ويضعف عن الهجرة فتسقط عنه الهجرة لضعفه ويجوز أن يدفع عن نفسه بإظهار الكفر مع اعتقاد الإسلام. وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة أحوال فأول أحواله أنه كان مدة

مقامه بمكة منهيًا عن القتال مأمورٍا بالصفح والإعراض قال الله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}] الحجر: 94] أي: أظهر الإنذار بالوحي وأعرض عن المشركين أي: عن قتالهم وإسرائهم، وقال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ}] النحل: 125] أي دين ربك وهو الإسلام {بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ}] 169/أ] أي: بالقرآن ولين من القول {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي بالرشاد على قدر ما يحتملون، وروي عن ابن عمر رضي الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أمرنا معاشر الأنبياء لأن نكلم الناس على قدر عقولهم)). ثم هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فصارت دار الإسلام فأذن الله تعالى أن يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه فقال: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}] البقرة: 190] ثم ازدادت قوة الإسلام فأذن فيها بقتال من رأى إذنًا خيره فيه ولم يفرضه عليه فقال: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}] الحج: 39] ولم يقطع بنصرهم بل قال: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} [الحج: 39] لأنه لم يفرض عليهم ولما فرض الجهاد قطع بنصرهم فقال: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ}] الحج: 40] وغزا بدرًا وهو في الجهاد مخير ولهذا خرج بعض أصحابه ثم قوي أمره بنصرة بدر ففرض الله الجهاد فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73]. وجهاد الكفار بالسيف وجهاد المنافقين بالوعظ إن كتموا وبالسيف إن أعلنوا وقوله {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} أي لا تقبل عليهم عذرًا، وقال تعالى للكافة {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} أي: الصبر على الشهادة وطلب النكاية في العدو دون الغنيمة ثم بين تعالى فرضه عليهم فقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}] البقرة: 216] أي: فرض وهو مكروه في أنفسكم [169/ب] وشاق على أبدانكم فإذا ثبت هذا فقد كان في ابتداء فرضه مخصوص الزمان والمكان والزمان ما عدا الأشهر الحرم والمكان ما عدا الحرم على ما ذكرنا ثم أباح فيها قتال من قاتل فقال: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ}] البقرة: 194] فاستحلوا منهم مثل ما استحلوا منكم ففي إشهار الحرمات قصاص ثم أباح الله تعالى فيها قتال من قاتل ومن لم يقاتل فقال:} يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ}] البقرة: 217] الآية فأعلمهم أن حرمة الدين أعظم من حرمة الشهر الحرام ومعصية الكفر أعظم من معصية القتال فصار لتحريم القتال في الأشهر الحرم ثلاثة أحوال تحريمه فيها لمن قاتل ومن لم يقاتل، ثم الإباحة لقتال من قاتل ومن لم يقاتل، وقال عطاء: هذه الحالة الثالثة غير مباحة ولا يستباح إلا قتال من قاتل وهذا خطأ لقوله تعالى في تعليل الإباحة: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ {ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم عقد بيعة الرضوان على قتال قريش في ذي القعدة، وأما في الحرم كان القتال حراماً على العموم لقوله تعالى:} وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِنًا} [آل عمران: 97] ثم أباح قتال من قاتل خاصةً فقال: {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191] ثم أباح قتال الكل بقوله

تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} [الأنفال: 39] وبقوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}] التوبة: 5] وللحرم هذه الأحوال الثلاثة، وقال مجاهد: هذه الحالة [170/أ] الثالثة غير مباحة ولا يباح فيه إلا قتال من قاتل وهذا خطأ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل مكة عام الفتح مبتدئًا ولأنه يقاتل فيه أهل المعاصي فكان تطهير الحرم منهم أولى. واختلف أصحابنا: هل كان الجهاد فرضًا على الأعيان ثم انتقل إلى الكفاية أو لم يزل على الكفاية؟ على ما ذكرنا، واختار ابن أبي هريرة أنه كان على الأعيان لقوله تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} قيل: أراد شبانًا وشيوخًا، وقيل: أغنياء وفقراء، وقيل: أصحاء ومرضى، وقيل: ركبانًا ومشاةً، وقيل: نشاطًا وكسالى وقال: خفافًا إلى الطاعة وثقالً إلى المخالفة، وقيل: خفافًا إلى المبارزة وثقالًا إلى المصابرة {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}] التوبة: 41] أي بالإنفاق على النفس بالزاد والراحلة، وقيب: أن يبذل المال لمن يجاهد إن عجز عن الجهاد بنفسه ولهذا قال الله تعالى: {وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا}] التوبة: 118] يعني تاب عليهم حين تخلفوا في غزوة تبوك ثم ندموا وتابوا وكان خرج في هذا الغزوة ثلاثون ألفًا. وقال سائر أصحابنا: على الكفاية لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً} [التوبة: 122] الآية وقال تعالى: {فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا}] النساء: 71] أي: انفروا فرادى وعصبًا أو انفروا بأجمعكم فخيًّرهم بين الأمرين وإنما تعين على الثلاثة لأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعاهم بأعيانهم فتعين عليهم، وقال صاحب ((الحاوي)): [170/ب] الصحيح عندي أن مبدأ فرضه كان على الأعيان في المهاجرين وعلى الكفاية في غيرهم لأن المهاجرين انقطعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لنصرته فتعين عليهم ولهذا كانت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بدرٍ بالمهاجرين خاصة وما جاهد غير الأنصار قبل بدر ولهذا سمي أهل الفيء من المقاتلة مهاجرين وجعل فرض العطاء فيهم وسمى غيرهم وإن جاهدوا أعرابًا، وقد استقر فرضه الآن على الكفاية. فالذي يلزم في فرض الجهاد شيئان: أحدهما: كف العدو عن بلاد الإسلام لينتشر المسلمون فيها آمنين على أنفسهم وأموالهم، فإن أطل العدو عليهم تعين فرض الجهاد على من أطاقه وقدر عليه ممن فيها وكان فرضه على غيرهم باقيًا على الكفاية. والثاني: أن يطلب المسلمون بلاد المشركين ليقاتلوهم على الدين حتى يسلموا أو يبذلوا الجزية لأن الله تعالى فرض الجهاد لنصرة دينه فقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّه} [البقرة: 193] فهذا ما لا يُعين ولا يكون إلا على الكفاية. واعلم أنه يلزم على الإمام والمسلمين أن يجمعوا بينهم فيذبوا عن بلاد الإسلام ويقاتلوا على بلاد الشرك ولا يجوز لهم أن يقتصروا في الجهاد على أحد هذين الأمرين فإن اقتصروا

حرجوا لاختلالهم فرضه على الكفاية، والثاني: أن تكون ثغور المسلمين [171/أ] مشحونة بالمقاتلة الذين يذبون عنها ويقاتلون من يتصل بها فيسقط فرض الجهاد عمن خلفهم فإن ضعفوا وجب على من ورائهم أن يمدوهم بمن يتقوون به على قتال عدوهم ويصير جميع من تخلف عنهم داخلًا في فرض الكفاية حتى يمدوهم بأهل الكفاية. وفي تسميته جهادًا تأويلان أحدهما: لأنه يجهد في قهر عدوه، والثاني: لأنه يبذل في جهد نفسه. وروي أنه لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بعض غزواته قال: ((رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر)) يعني جهاد النفس. ويتوجه فرض الكفاية على من لا يحسن القتال فيكثّر ويهيّب أو يحفظ رجال المحاربين. مسألة: قال: ودلَّ كتابُ اللهٍ تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم أنهُ لمْ يفرض الجهادُ على مملوكٍ. الفصل الكلام في هذا في بيان من هو من أهل فرض الجهاد ومن ليس من أهله؟ وجملته أن الجهاد لا يجب إلا على حرٍّ ذكرٍ بالغٍ عاقلٍ وهذا لأن الله تعالى قال: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}] التوبة: 41] والمملوك لا مال له وقوله تعالى: {وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ}] التوبة: 91] وروي أنه كان إذا أسلم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ يقول: ((أحرٌّ أم مملوك))؟ [171/ب] فإن كان حرًا بايعه على الإسلام والجهاد، وإن كان مملوكًا بايعه على الإسلام. وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن النساء هل عليهن جهاد؟ فقال: ((نعم جهادٌ لا قتال فيه الحج والعمرة)) واحتج الشافعي فيهن بقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ}] الأنفال: 65] قال: دلت هذه الآية على أنهم الذكور، واختلف أصحابنا في الخطاب الوارد بلفظ الذكور هل تحته النساء؟ وظاهر كلام الشافعي رضي الله عنه في هذا الموضع يدل على أن ظاهر الصيغة للرجال وإنما يحمل على النساء بقرينة لأنه تمسك بقوله تعالى: {حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ} وادعى أن الصيغة للذكور على التخصيص، وأخرج أيضًا فيهن وفي العبيد بأنهم لو حضروا القتال لأسهم لهم وقد حضروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغزو فرضخ لهم ولم يسهم وأما الدليل في الصبي خبر ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: عرضت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنة الخبر وقد ذكرنا ذلك قال الشافعي: وسواء كان جسيمًا سديدًا أو مقاربًا لخمس عشرة سنة ليس بينه وبين استكمالها إلا يوم أو ضعيفًا وؤذنًا بينه وبين استكماله سنة أو سنتين.

باب من له عذر بالضعف والضرر والزمانة

فرع لا يجب الجهاد على خنثى مشكل [172/أ] وإن بلغ لأنه لا يتيقن فيه الذكورة. فرع آخر من لا جهاد عليه من العبيد والنساء والولدان يجوز للإمام أن يأذن لهم في حضور الوقعة لأن فيهم معونة لإصلاح الطعام وتعليل المرضى ومداواة الجرحى وترضخ لهم من الغنيمة، ولا يجوز أن يأذن للمجانين في ذلك لأنه لا منعة فيهم وهم طعمة لأهل الحرب وعند مالك لا سهم للنساء ولا يرضخن بشيء، وقد روى أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ((كان يغزو بأم سلمة ونسوة من الأنصار فيسقين الماء ويداوين الجرحى)). فإن قيل: روي أن نسوة خرجن فأمر بردهن قيل: لعله لم ير القوة في المسلمين فخاف عليهن فردهن أو كن شابات ذوات جمالٍ فخاف فتنتهن. باب من له عذر بالضعف والضرر والزمانة قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى}] التوبة: 91] الآية ذكر الشافعي رضي الله عنه آيتين: إحداهما: هذه. والثانية: قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ}] النور: 61] الآية فقيل: هذه الآية وردت في الجهاد دون غيره من الفرائض والأحكام، وقيل: إن ذلك في الجهاد وفي المواكلة فإنهما كانا [172/ ب] يحضران للضيافة خوفًا أن يأخذ الأعمى ما بين يدي صاحبه، وروي أن أعرابيًا واكل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: ((كل مما يليك ولا تأكل من ذروة الطعام فإن البركة تنزل في أعلاه)) ثم أتى بالرطب فقال: ((كل من حيث شئت فإنه غير لونٍ)) وكان الأعرج يقول: آخذ مكان اثنتين فيؤذي جليسي وكان المريض يتحرج عن الحضور مخافة أن يُعاف. والجهاد أشبه به، وقيل: قول الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ}] النور: 61] نزل في موضعين في سورة الفتح وهو في القتال وفي سورة النور وهو في رفع الجناح في المواكلة فإذا تقرر هذا ذكر الشافعي رضي الله عنه في الباب الأول من لا جهاد عليه لنقصه، وذكر هنا من لا جهاد عليه لضعفه ونقصان حاله فلا جهاد على الأعمى للآية ولأن القصد منه القتال ولا يتأتى منه ذلك كاملاً. وأما الأعور فيلزمه فرض الجهاد لأنه كالصحيح في تمكنه من القتال، وكذلك الأعشى الذي يبصر بالنهار دون الليل ولو كان ضعيف البصر يرى الأشخاص، وإن لم يعرف صورها ويمكنه أن يتقي أخفى السلاح وهي السهام لزمه الجهاد، وإن كان بخلاف هذا لا يلزمه الجهاد ويلزم الأصم لأن معتبر البصر دون السمع، وأما الأعرج فضربان مقعد لا يطيق المشي ولا الركوب فلا يلزمه الجهاد [173/أ] لما ذكرنا، وإن لم يكن مقعداً ولكنه بيّن العرج لا يلزمه ذلك أيضًا والمراد بالأعرج في الآية الأعرج بالرجل الواحدة وعند أبي حنيفة المراد به المقعد ويلزم الجهاد على غيره، وإن كان عرجًا خفيًا يطيق معه العدو والقتال يلزمه ذلك ولو كان يقدر على الركوب والمشي

ويضعف على السعي يلزمه أيضًا ذكره في ((الحاوي))، وإن كان بين العرج إلا أن له دوابا وهو يحسن أن يقاتل راكبًا لا يلزمه ذلك لأنه ربما يعقر به أو تهلك دابته فيحتاج إلى الفرار أو إلى القتال راجلًا فيهلك. ولا يلزم الأقطع والأشل لأنه يقاتل باليمنى ويتقي باليسرى فإن ذهب شيء من أصابع يده أو رجله فإن بقي أكثر بطشه يلزمه وإلا فلا يلزمه، وأما المريض فعلى ضربين: مريض خفيف المرض، ومريض ثقيل المرض، فالخفيف مثل الصداع ووجع السن ونحو ذلك لا يسقط فرض الجهاد، وأما الثقيل فيسقط فرض الجهاد لأنه لا يمكنه مع ذلك البطش والقتال، وأما المعسر ينظر فإن كان الجهاد على مسافة لا يقتصر إليها الصلاة لم يعتبر وجود الراحلة ويعتبر وجود الزاد كما قلنا في الحج وإن كان على مسافة تقصر إليها الصلاة فلا يجب الجهاد إلا بوجود الزاد والراحلة ووجود الزاد لنفسه ولمن تلزمه نفقته في قدر ما يرى أنه يلبث في غزوه ويعتبر وجود السلاح الذي يقاتل به مع ذلك فإن لم يجد شيئًا منه لا يلزمه [173/ب] الجهاد نص عليه قال: وإن لم يجد ما يدع لمن يلزمه قبوله ولزمه الفرض لأن له في بيت المال حقًا وإن بذله غير الإمام من ماله لم يلزمه قبوله للمنة، وقد قال بعض أصحابنا بخراسان: لا يندب هؤلاء الذين ذكرنا من النساء والعبيد والأعرج والمريض والأعمى إلى الجهاد إلا أن يحضرهم العدو فيجب عليهم حينئذ أن يتحركوا على أنفسهم ويدفعوا ذلك. فرع لو كان في طريقه عدو ولا يمكنه مجاوزته إلا بالقتال يلزمه الخروج بخلاف الحج لأنه يخرج إلى القتال مع المخاطرة بالروح فلا يجوز التخلف بهذا العذر بخلاف الحج. مسألة: قال: ولا يجاهد إلا بإذن أهل الدين. الدين ضربان: حالٌّ ومؤجّلٌ فإن كان حالًا لم يكن عليه أن يجاهد بغير إذن صاحبه لما روى أبو قتادة رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله ((أرأيت لو انغمست في العدو فقُتلت إلى الجنة؟ فقال: نعم إلا الدين))، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرض الناس في بعض الغزوات على القتال فقال رجل يقال له عمير: بخ بخ ليس بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء قال: لا يقصد أن ينغمس في العدو فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هذا جبريل عليه السلام يقول: إلا أن يكون عليك دين" وروى عبد الله [174/أ] بن عمرو

رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((القتل في سبيل الله يكفّر كل شيء إلا الدين)) قال: وسواء كان الدين لمسلم أو لكافر ولأنه ينقطع به الكسب ويتعرض للشهادة فيمنع به. وإن كان موسرًا أو استناب في قضاء دينه والمال حاضر لا يحتاج إلى إذنه لأنه كالمؤدي، وإن كان المال غائبًا لا يخرج إلا بإذنه لجواز أن يتلف المال قبل قضاء دينه. وإن كان الدين مؤجلًا فقد ذكرنا وجهين، وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا إذ لم يكن له وفاء فإن خلف وفاءً فهل له الغزو دون إذنه؟ فيه وجهان والصحيح أن ليس له ذلك لأنه يقتل ويتلف ماله الذي خلفه فيضيع حقه. قال: ولو كان على المرتزقة دين مؤجل فهل له منعه إذا لم يكن له وفاء؟ فيه وجهان: أحدهما: له ذلك. والثاني: ليس له لأنه ربما لا يمكنه قضاء الدين إلا من الرزق فيستفيد ذلك، ولو جاهد بإذن صاحب الدين لم يتعرض للشهادة ولم يتقدم أمام الصف ووقف في وسطها أو حواشيها ليحفظ الدين بحفظ نفسه ذكره في ((الحاوي)). مسألة: قال: وبإذن أبويه. الفصل إذا أراد أن يجاهد وله أبوان مسلمان لم يكن له ذلك بغير إذنهما ولهما منعه لما روى علد الله ابن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رجلًا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال: [174/ب] أحيٌّ والداك؟ فقال: نعم فقال صلى الله عليه وسلم: ففيهما فجاهد وروى أيضًا قال: جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل فقال: جئت أبايعك على الهجرة وتركت أوي يبكيان فقال: فارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما)) وروي أنه قال: ((فأرجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما))، وروي أن رجلًا قال: يا رسول الله أبايعك على الجهاد فقال هل لك من بعل؟ قال: نعم قال: فانطلق فجاهد فإن لك فيه مجاهدًا حسنًا وأراد بالبعل من يلزمه طاعته من والدٍ أو والدة مأخوذ من قولهم: تبعَّل الدار أي: ملكها ومنه سمي الزوج بعلًا. وقال رجل لابن عباس: إني نذرت أن أغزو الروم وإن أبوي يمنعاني فقال: أطع أبويك فإن الروم ستجد من يغزوها غيرك)). فرع لو أذن له أبوه دون أمه والأم دون الأب يغلب حكم المنع ولا يخرج.

فرع آخر لو كان له جد أو جدة فإن كان الأبوان معدومين قاما مقام الأبوين في وجوب استئذانهما، وإن كان الأبوان باقيين ففي وجوب استئذانهما وجهان: أحدهما: لا يجب لحجبهما عن الولاية والحضانة بالأبوين. والثاني: يجب للشفقة وهو الأظهر. فرع آخر لو كان الأبوان مملوكين لم يلزم استئذانهما لأنهما لا إذن لهما في أنفسهما، وقال الشيخ أبو إسحاق الشيرازي: عندي لا يجوز [175/أ] إلا بإذنهما لأن المملوك كالحر في البرّ والشفقة. فرع آخر لو كان الولد مملوكًا وله أبوان حران فأذن السيد دون الأبوين كان إذن السيد مغلبًا لأنه أحق بالتصرف فيه منهما. فرع آخر لو كان بعض الولد حرًا لزم استئذان الأبوين بما فيه من الحرية واستئذان السيد بما فيه من الرق. فرع آخر لو تعين الجهاد بأن أحاط العدو بالبلد ليس لأحد منعه لا الأبوان، ولا صاحب الدين فإن منعوا لم يلتفت إلى ذلك وله الخروج إلى الجهاد. فرع آخر لو أراد سفر التجارة ولا يجب عليه نفقتهما لا يلزمه استئذانهما لأن المقصود بالجهاد التعرض للشهادة، وبالتجارة طلب السلامة والفائدة، وإن كان عليه النفقة يكون كصاحب الدين مع من عليه. فرع آخر لو خرج لطلب العلم يستحب له أن يستأذن أبويه، ويستحب له أيضًا في سفر التجارة فإن منعاه لم تحرم عليه مخالفتهما لما ذكرنا، وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا إذا كان مما يحتاج إليه بنفسه من غير علم الطهارة والصلاة والزكاة ولا يجد ببلده من يعلمه أو لا يحتاج لنفسه كالعلم بالنكاح ولا زوجة له ونحو ذلك، وليس في بلده من يعلم ذلك فإن كان في بلده من يعلمه أو يعلّمه ما يحتاج إليه أو خرج واحداً لطلب العلم هل له أن يخرج من غير الأبوين؟ فيه وجهان [175/ب] أحدهما: ليس له لأنه لم يفترض عليه ذلك. والثاني: له ذلك لأنه طاعة ونصرة للدين ولا يخاف منه الهلاك وهذا خلاف النص والمذهب المشهور على ما ذكرنا.

فرع آخر قال: ولو كانا كافرين فله الجهاد، وإن كانا كارهين لأنه يجاهد أهل دينهما فلا طاعة لهما عليه ومعنى هذا أنهما متهمان في المنع ولا يحمل منعهما إياه من الغزو على الشفقة والحذر عليه وإنما يحمل على المنع من قتال أهل دينهما فإنهما يكرهان ذلك ولأن الله تعالى قال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15] فكما لا يطعهما في الشرك فكذلك لا يطيعهما في ترك قتال المشركين، ولأن عبد الله بن أبيّ ابن سلول كان رأس المنافقين وكان يحذل الناس يوم أحد ويقول: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورًا وابنه عبد الله كان يجاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يمتنع بقوله وغزا أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر وأبوه مقدم المشركين. مسألة: قال: ومن غزا ممن له عذرٌ أو حدث له بعد الخروج عذر كان له الرجوع ما لم يلتق الزحفان. الفصل جملته أن العذر ضربان لحق غيره كالدين وحق الأبوين وحق من يلزمه نفقته، فإن خرج من غير إذن من له هذا الحق فقد عصى [176/أ] ولزمه الرجوع من السفر لأنه سفر معصية ويجبره السلطان عليه. وضربٌ لحق نفسه مثل أن يكون مريضًا أو أعرج أو فقيرًا فإنه إذ خرج بالخيار فإن شاء مضى في وجهه، وإن شاء رجع ولا يعارضه السلطان ولا فرق بين أن يكون العذر موجودًا قبل الخروج أو حادثًا بعد الخروج مثل أن يمرض أو يعرج أو يفتقر في الطريق بأن يتلف مركوبه أو تذهب نفقته أو يستدين أو يسلم أبواه أو أحدهما فإنه بمنزلة ما لو كان موجودًا قبل خروجه وكذلك إذا أذن له من له الحق ثم رجع عن الإذن كان له ذلك وعليه أن يرجع من السفر. قال الشافعي: ما لم يلتق الزحفان أو يكون في موضع كافٍ إن رجع يتلف، فأما إذا كان يخاف على نفسه في الرجوع وانفصاله من الجيش أو يخاف على ماله لا يجب عليه الرجوع، وإن التقى الزحفان فهل يجب عليه الرجوع؟ نُظر فإن كان معذورًا لمعنى في نفسه من زمانةٍ أو عرجٍ أو مرضٍ أو فقرٍ لزمه الثبوت حتى يفترق الزحفان ولا يرجع، نص عليه وهذا اختيار صاحب ((التقريب))، وقال أبو حامد: له الانصراف لأنه لا يمكنه القتال كما لو مريضًا في الابتلاء، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه قولان. وإن كان معذورًا لحق غيره، والظاهر من المذهب أنه يلزمه الثبوت ولا يجوز الرجوع لئلا يؤدي إلى أكثر [176/ب] المسلمين وقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا} [الأنفال: 45] الآية، وقال القاضي أبو حامد: فيه وجهان، وقال الشيخ أبو

حامد: فيه قولان أحدهما: ما ذكرنا قياسًا على عذره في حق نفسه، والثاني: يلزمه الرجوع لأن الثبات فرض وحق الغريم حقٌّ وهما متعينان فقدم الأسبق وهو حق الغريم ثم قال في ((الحاوي)): إذا التقى الزحفان فإن كان رجوعه أصلح من مقامه رجع، وإن كان مقامه أصلح لاضطراب المجاهدين برجوعه لا يرجع، وإن تساوى مقامه ورجوعه فإن كان عذره حادثًا له أن يرجع به سواء كان في حق نفسه أو في حق غيره لأنه قد خرج به من فرض الجهاد، وإن كان عذره متقدمًا فإن كان في حق نفسه يمنع من الرجوع التوجه الفرض عليه بالحضور، وإن كان عذره في حق غيره ففي رجوعه وجهان على ما ذكره القاضي أبو حامد. فرع كل موضع قلنا عليه أن يرجع لحق صاحب الدين أو الأبوين أو لحق من يلزمه نفقته أو قلنا: له أن يرجع لمرض لم يكن للسلطان منعه وكان عليه تحليته. قال الشافعي: إلا أن يكون أصاب ذلك جماعة وكان يخاف على المسلمين من رجوعهم الخلوة فيكون له حبسهم. فرع آخر قال الشافعي رضي الله عنه: ولو غزا مع السلطان بعد ثم رده الأبوان أو الغريم كان للسلطان منعه من الرجوع [177/أ] وإن حدث له عذر من مرض أو زمانة أو عرج شديد لا يقدر على مشي الصحيح معه ليس له الرجوع في الجعل لأنه حق من حقوقه أخذه ويريد به سهم الغزاة ففرق الشافعي بين العذر بالمرض، وبين العذر بالأبوين في الحبس واسترجاع الجعل، وقال في ((الحاوي)): إذا كان مستعجلًا على غزوه من السلطان ووجد العذر فإن كان في حق غيره لم يرجع لأن الجعالة مشتركة بين حق الله تعالى وحق الآدمي فهي آكد مما انفرد بحق الآدمي، وإن كان العذر في نفسه فإن العذر في نفسه فإن كان العذر متقدمًا على الجعالة يمنع من الرجوع لأنه التزم مع عذره، وإن حدث العذر بعد الجعالة كحدوث الزمانة أو تلف النفقة يجوز له الرجوع ولا يمنعه السلطان ولا يسترجع منه ما أخذ، وإن كان بعد التقاء الزحفين يلزمه أن يقيم ولا يرجع إذا تساوى مقامه ورجوعه، وإن كان مقامه أصلح لا يرجع أيضًا، وإن كان رجوعه أصلح من مقامه رجع. فرع آخر قال: وإن كان سليمًا صحيحًا فذهب ماله أو تلف مركوبه كان على السلطان أن يعطيه، فإن أعطاه كان له حبسه.

فرع آخر قال: وإذا غزا رجل فذهبت نفقته أو دابته ثم وجد نفقة أو أفاد دابة فإن كان كذلك ببلاد العدو لم يكن له الخروج وكان عليه الرجوع إلى المجاهدين [177/ب] إلا أن يخاف على نفسه في رجوع، وإن كان فارق بلاد العدو فالاختيار له العود إلا أن يخاف وهو بالخيار ففرق الشافعي في ذلك بين أن يكون في دار الحرب ومن خروجه منها نقله القاضي أبو حامد. فرع آخر لو أعطاه السلطان بدل ما تلف منه، فإن كان في أرض العدو لزمه قبوله للعود إلى الجهاد فإن عاد ولم يقبله كان مخيرا في العود. فرع آخر قال: فإن كان قد غزا وله عذر، ثم ذهب العدو وصار ممن عليه فرض الجهاد لم يكن له الرجوع عن الغزو دون رجوع من غزا معه وهو مثل أن يكون أعمي فذهب العمى وصح بصره، أو صح إحدى عينيه فخرج من حد العمى، أو كان أعرج فانطلقت رجله بذهاب العرج أو كان مريضا فذهب المرض، أو كان ممن لا يجد ما ينفق فصار واجدا، أ، كان كافرا فأسلم قال: وكذلك حال من عليه جهاد فخرج ثم حدث له عذر في نفسه وماله ثم زالت تلك الحال عنه وعاد إلى أن يكون ممن فرض الجهاد عليه فقال في ((الحاوي)): إن كان قبل التقاء الزحفين فإن كان المشركون أظهر منع العود، وإن كان المسلمون أظهر يتخير، وإن التقي الزحفان تعين جهة المقام، وإن كان بعد في دار الإسلام يتخير. فرع آخر لو حضر الصبي أو المرأة أو العبد القتال لا يتعين عليهم القتال بالتقاء الزحفين [178/أ] لأنهم ليسوا من أهل الفرض قبل الالتقاء إلا أن في رجوع العبد يخاف أن يظن العدو أنه حر رجع فيجترئ بذلك أو يظن المسلمون ذلك فتضعف قلوبهم فيستجب له أن لا يرجع. فرع آخر لو جاهدهم ففني سلاحه له أن يرجع. وقال بعض أصحابنا: إن أمكنه المقاتلة بالحجارة فعل ولا يرجع، والأول أصح لأنه يغني غناء بالسلاح. مسألة: قال: ويتوفي في الحرب قتل أبيه. قد ذكرنا هذه المسألة وقد منع النبي صلي الله عليه وسلم أبا بكر من قتل ابنه عبد الرحمن، وروي أن عبد الرحمن لما أسلم قال لأبيه: تمكنت منك يوم أحد، ولو شئت لأصبتك فلم

أفعل، فقال أبو بكر رضي الله عنه: لكني لو تمكنت منك لما أبقيت عليك. فرع يكره في الحرب أن يعتمد قتل كل ذي رحم محرم وفيمن عداهم من بني الأعمام وجهان قال ابن أبي هريرة: لا يكره، وقال غيره: لا يكره حتى يتراخي نسبهم ويبعد، وقال صاحب ((الحاوي)): عندي أنه ينظر فإن كانوا من يرث بنسبه ويورث كره له قتلهم لقوة النسب وتأكيدا لحرمة، وإن كان غير ذلك لا يكره. فرع آخر لو عمد قتل أحدهم لا جناح عليه وينظر فإن كان لشدة عناده لله تعالى ولرسوله والتعرض بسبهما فليس بمسيء، وإن كان لغيره فقد أساء بدليل خبر أبي عبيدة بن الجراح حين قتل أباه وحمل برأسه [178/ب] إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم على ما قدمنا بيانه. مسألة: قال: ولا يجوز أن يغزو بجعل من مال رجل. الفصل اعلم أنه لا تدخل النيابة في الجهاد بحال فلا يجوز أن يتطوع عن الغير به فإن فعل وقع عن نفسه، ولا يجوز أن يأخذ عليه أجره فإن فعل كانت الإجارة باطله، ويكون الجهاد عن نفسه ويلزمه رد الأجرة لأنه فرض على الكفاية فإذا حضر الوقعة تعين عليه فلم يجز أن يكون في فرضه المتعين نائبا عن غيره، وكذلك لا يجوز أن يكون قد جاهد عن نفسه مره أو لم يجاهد، لأنه إذا جاهد عن نفسه أعاد نفسه ثم عاد مرة أخري وحضر الوقعة تعين عليه ويصير دافعا كما تعين عليه في المرة الأولي ولهذا تفارق الحجة الثانية فإنها لا تجب عليه وإنما هي تطوع فكان له أن يحج عن غيره، فإن قيل: قال الشافعي رضي الله عنه: إنما أجرته من السلطان لأنه يغزو بشيء من حقه وهو جواب عن هذا السؤال، ومعناه أن الغازي إن كان من المرابطين فإن له حقا في الفئ وهو في أربعة أخماسه وخمس خمسه للمصالح وذلك من أهم المصالح، وإن كان من الذين يجاهدون إذا نشطوا فإن له سهما في الصدقات وهو السهم الذي جعله في سبيل الله تعالى، فإذا غزا بهذا المال فإنما يغزو عن نفسه بمال هو حقه ولهذا لو رجع عن الجهاد لمانع لم يسترجع منه ما أخذه لحقه فيه. [179/أ]. فرع قال أصحابنا: لو بذل الإمام لرجل من خالص ماله على أن يغزو ويدله على شيء، نظر فإن كان البذل ليكون الغزو عن الباذل لم يجز على ما ذكرنا، وإن بذله على أن يكون الغزو للمبذول له جاز ويكون ذلك معونة على فعل الغزو وعن نفسه، وكذلك إذا بذل رجل لرجل مالا ليؤدي فرض نفسه في الحج وغيره جاز وكان له ثواب المال الذي

دفعه إليه وهو معني قوله صلي الله عليه وسلم: ((من جهز غازيا أو حاجا أو معتمرا فله مثل أجره)) وروي أنه قال: ((للغازي أجره وللجاعل أجره وأجر الغازي)) وروي زيد بن خالد الجهني أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((من جهز غازيا في سبيل الله فقد غزا ومن خلفه في أهله بخير فقد غزا)). مسألة: قال: ومن ظهر منه تخذيل للمؤمنين بأن يقول: عدوكم قليل وخيلكم التي أسراها الإمام فلم ينقلب منهم أحد والعدو شوكته عظيمة، وللعدو كمين عظيم أو الغدر والغدر أن يكون مواطئا للمشركين علي انتهاز فرص المسلمين والإشراف علي أحوالهم ويكاتبهم بها أو الإعانة عليهم لهم يمنعه الإمام من الخروج معه وفيه نزل قوله تعالي: {ولَوْ أَرَادُوا الخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً ولَكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إلاَّ خَبَالاً} [التوبة: 46 - 47] الآية لأن المقصود قتال المشركين والظفر بهم وخروج هؤلاء يفيد ضد ذلك، فإن قيل: أليس أن رسول الله صلي الله عليه وسلم كان يحمل مع نفسه عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين وكان يخذل الناس عنه؟ قلنا: كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يأمن شره فإنه كان يمزل عليه الوحي بما يفعله فيحذر ذلك ولا يوجد هذا في غيره. فرع لو غزا معهم واحد منهم فقد ذكرنا أن الشافعي قال: لا يسهم له ولا يرضخ، وإن أظهر العون للمسلمين لأنه يحتمل أن يكون أظهره نفاقا، ومن أصحابنا من قال: يرضخ له وليس بشيء، فإن قيل: أليس لو غزا من غير إذن أبويه أو غريمه فإنه عاص ويستحق السهم فما الفرق؟ قلنا: الفرق أن المنع هناك لا يختص بالغزو، وهنا المنع من الحضور لمعني يختص بالغزو، ولهذا كان لو صلي من غير طهارة لا تصح صلاته ولو صلي في دار مغضوبة صحت. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا إذا نهاه الإمام فلم ينته. فأما إذا لم ينهه الإمام عن الحضور فله السهم كغيره وإن عرف الإمام حاله. فرع آخر لو أظهر المخذل القتال وأظهر التوبة فإن كان بعد توجه الظفر بالمشركين لم يسهم له، وإن كان قبله فإن كان لنفسه لم يسهم له أيضا، وكذلك لو كان لرغبة في الغنيمة،

وإن كان لتدين [180/أ] ظهر منه أسهم له وإن أشكل حاله لم يسهم له. فرع آخر لو غزا من ذوي النفاق من أضمره ولم يتظاهر بالضرر أسهم له ولم يكشف عن باطن معتقده وأسهم رسول الله صلي الله عليه وسلم لمن شهد غزواته من المنافقين. مسألة: قال: وواسع للإمام أن يأذن للمشرك أن يغزو معه. اعلم أنه جوز للإمام أن يستعين بالمشركين على قتال أهل الحرب بشرطين أحدهما: أن يكون بالمسلمين قلة وفي المشركين كثرة. والثاني: أن يكون المستعان به حسن الرأي ويؤمن شرهم، والدليل على هذا ما روي ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم استعان بيهود بني قينقاع بعد بدر ورضخ لهم وشهد صفوان حنينا بعد الفتح وصفوان بعد مشرك، وروي عن سعد بن مالك رضي الله عنه أنه غزا بقوم من اليهود ورضخ لهم، فإن قيل: روي أبو حميد الساعدي رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم خرج حتى إذا كان خلف ثنية الوداع فإذا كتيبة فقال: من هؤلاء؟ قالوا: بني قينقاع قال: وأسلموا؟ قالوا: لا قال لهم: فليرجعوا فإنا لا نستعين بالمشركين، وروي أن رجلا اتبع رسول الله صلي الله عليه وسلم من المشركين وكان مشهورا بحسن البلاء والشجاعة في الحرب فقال له رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((أتشهد أن لا إله إلا الله [180/ب] وأني رسول الله؟ فقال: لا فقال: انصرف فإنا لا نستعين بمشرك)) فمضي رسول الله صلي الله عليه وسلم فلما كان في بعض الطريق أدركه الرجل مرة أخري فقال له رسول الله صلي الله عليه وسلم: ((أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله؟ قال: بلي فقال: امض)) قلنا: يحتمل أن تكون الاستعانة بالمشركين ممنوعة في ابتداء الأمر ثم صارت جائزة. وقد نص الشافعي فقال: والاستعانة متأخرة ولهذا قال الشافعي: غزا بيهود بني قينقاع بعد بدر لأنه أبي أن يستعين بمشرك يوم بدر ويحتمل أن يقال: كان ذلك على حسب اختلاف الأحوال فحيث علم رسول الله صلي الله عليه وسلم قلة المسلمين لم يستعن بالمشركين مخافة أن تتمايل الطائفتان من المشركين وحيث علم قوة المسلمين وأنهم يقاومون الطائفتين لو تمايلا استعان بالمشركين، وقيل: هذا إلى رأي الإمام، فإن رأي أن يستعين بهم فعل، وإن رأي ردهم ردوا، وعلى هذا اختلاف الرواية، وقيل: استعان بهم حين احتاج إليهم ورد حين استغني عنهم، وقيل: استعان بمن عرف منه حسن النية، وحكي عن مالك وأبي حنيفة أنهما قالا: لا يجوز للإمام أن يستعين بالمشركين لقوله تعالى: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المُضِلِّينَ عَضُداً} [الكهف: 51] [181/أ] وهذا الاستدلال لا يصح لأنا اتخذناهم خدما وأعوانا لا عضدا.

فرع إذا استعان بهم وخرجوا طوعا رضخ لهم ولا يسهم لأنه لم يثبت عن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه أسهم لهم، وروي رضخ لهم على ما ذكرنا. فرع آخر قال: وأحب إليّ إذا غزا بهم أن يستأجرهم، وأحب أن لا يعطي للشريك من الفئ شيئا أي لا يعطي من أربعة أخماس الفئ على القول الذي يقول: إنها للمرابطين في سبيل الله تعالى لا حق لأحد من المسلمين معهم فيها، فأما إذا قلنا: للمصالح كان خمس الخمس وأربعة الأخماس سواء فيعطي الأجرة أو الرضخ من رأس مال الغنيمة لأنه يجري مجري العون. والثاني: يعطي من أربعة أخماس الغنيمة كسائر الغانمين والأظهر أن يعطي من سهم المصلحة وهو خمس الخمس من الغنيمة والفئ، وقال بعض أصحابنا بخراسان: ولو أعطاهم من الفئ كان جائزا ولهذا قال الشافعي رضي الله عنه: وأحب أن لا يعطي من الفئ ولم يقل: لا يجوز وإنما جوزنا لأن الفئ مرصد للمصالح والجهاد، وقال القفال: أربعة أخماس الفئ للمصالح لا يعطون أيضا لأن المرتزقة يأخذون عطاءهم منه فلا يسوي [181/ب] بين الكفار والمسلمين، وعلى هذا لو غزا مسلم ومشرك فغنما لم يقسم بينهما نصفين بل يفضل المسلم ليكون سهما له وما بقي رضخا للكافر فلا تقع التسوية وهذا غريب ضعيف. والصحيح ما ذكرنا أولا. فرع آخر قال: فإن أغفل الإمام الاستئجار أعطي ما يعطي من رسول الله صلي الله عليه وسلم ويعطي في هذه الحالة أجر لأنه يستحق بعمله. فرع آخر قال: وإن أكره أهل الذمة على أن يغزوا فلهم أجر مثلهم في مثل مخرجهم من أهاليهم إلى بعض الحرب وإرسالهم إياهم، وإن لم يغنموا وهذا إذا قاتلوا وإن حضروا ولم يقاتلوا قال: لهم أجر إحضار الذهاب لأنه فعل حصل منهم ولا يلزم مثل أجر الحضور والاحتباس لأن منافع الحر لا تضمن بالحبس، وإنما تضمن بإتلاف المنفعة، وإن كان عبدا فله في الحالين أجر المثل إلى أن يصل إلى يد المالك. فرع آخر لو أكره الإمام طائفة من المسلمين على الجهاد فلم يغنموا لا شيء لهم بخلاف الكفار والفرق أن المسلم من أهل الجهاد فيقع جهاده عن نفسه والكافر لا جهاد له بحال فيستحق الأجرة وإن لم يغنموا، وعلى هذا لو أكره مسلما على دفن ميت أو غسله لا أجره له لأن كل من أداه [182/أ] يقع عن فرضه، ولو أكره ذميا عليه فله الأجرة.

فرع آخر الرضخ الذي ذكرنا إنما يكون إذا أحضر بالإذن ولم يشترط له جعلا لا مجهولا ولا معلوما فإن شرط جعله مجهولا بأن قال: نرضيك أو نعطيك بقدر ذلك بأجره المثل، فإن لم يكن غنم المسلمون شيئا تلزم الأجرة، وفي موضع الرضخ إذا لم يغنموا لا يعطي شيئا. فرع آخر إذا استأجرهم ينبغي أن تكون الأجرة معلومة وتجوز الأجرة على سهم راجل وفارس، وقال ابن أبي هريرة: لا يجوز أن يبلغ سهم فارس ولا راجل لخروجه عن أهل الجهاد كما لا يبلغ بالرضخ ذلك وهذا خطأ لأنه أجره فيكون إلى التراضي ولأن عقد الإجارة معهم قبل المغنم ولا يدري أزيد أو ينقص. فرع آخر لا تمنع جهالة القتال ولا جهالة مدته من جواز الإجارة عليه لأنه من عموم المصالح فجاز فيه من الجهالة ما لم يجز في العقود الخاصة. فرع آخر لو قال: استأجرتك بكذا على أن تقتل فلانا الكافر فقلته أعطاه من سهم الرسول صلي الله عليه وسلم وإذا قال لمسلم لا يكون على حكم الإجارة الصحيحة ويعطيه ذلك للمصلحة. فرع آخر إذا شهدوا بالإجارة أخذوا بالقتال جبرا، وإن لم يجبر المسلم عليه إلا عند ظهور العدو واستيلائه، والفرق [182/ب] أن قتال المشركين هو العمل الذي استؤجر عليه فيجبر لأنه متعين عليه وقتال المسلم في حق نفسه على وجه الكفاية غير متعين فلم يجبر عليه. فرع آخر لو حضروا ولم يقاتلوا فإن كان بعذر لانهزام العدوم استحقوا الأجرة لأنهم بذلوا أنفسهم لما استؤجروا عليه، وإن أمكنهم القتال فيم يقاتلوا مع الحاجة رد من الأجرة بالقسط. فرع آخر كيف تتقسط الأجرة؟ فيه وجهان: أحدهما: تتقسط على المسافة في بلد الإجارة في دار الإسلام إلى موضع الوقعة في دار الحرب وعلى القتال فيها لأنها إجارة على مسافة وعمل، والثاني: على مسافة مسيره من بلاد الحرب دون بلاد الإسلام، والفرق بين المسافتين أن مسيره في بلاد الإسلام يتوصل به إلى العمل لأنه في غيرها فلم تتقسط عليه الأجرة ومسيره في دار الحرب شروع في العمل المستحق عليه لأن كل (موضع) من

دار الحرب محل لقتال أهله فقسطت عليه الأجرة وهما يثبتان على الوجهين في مسافة الحج هل تقسط عليهما أجره المعتاض أم لا؟. فرع آخر لو صالح الإمام أهل الثغر الذي استأجرهم إليه فإن كان الصلح بعد دخوله بهم دار الحرب لا يسترجع لأن سيرهم صار أثرا في الرهبة المفضية إلى الصلح، وإن كان قبل مسيره بهم من بلاد الإسلام استرجع كل الأجرة وكان هذا عندنا في فسخ الإجارة هنا [183/أ] لعموم المصلحة، وأن يفسخ بمثله العقود الخاصة، وإن كان بعد مسيره من دار الإسلام قبل دخوله في أرض العدو فهل يستحقون الأجرة بقدر المسافة؟ فيه وجهان تخريجا من الوجهين المتقدمين. فرع آخر لو استأجر للغزو إلى ثغر ثم أراد أن يعود بهم إلى غيره فإن كانت مسافة الثاني أبعد وطريقه أوعر وأهله أشجع لم يكن له، وإن كان مثل الأول أو أسهل كان له كما قلنا في إجارة الأرض للزرع له أن يزرع مثل ما عين ودونه دون الزيادة. فرع آخر لو بذل الجعل فقال: من غزا معي فله دينار يجوز مثل هذا مع المسلمين والمشركين لأنه يجوز في خصوص الحقوق فلأن يجوز في عموم المصالح أولي. فرع آخر لو قال: من غزا معي من أهل الذمة يختص بالرجال ولا يستحقها النساء منهم لأن الغزو من الرجال، ولو قال: من قاتل معي من أهل الذمة استحقته المرأة، لأن القتال فعل يوجد من الكل. فرع آخر إذا قال هنا فحضر صبي معه لا يستحق الصبي شيئا لأن الجعالة لا تصح إلا مع أهل العقل وأما عبيدهم إذا أذن لهم دخلوا فيها، وإن لم يؤذن لهم يستحق عليهم بلا جعل بما يأخذونه من الديوان والكلام في النساء والعبيد على ما ذكرنا. فرع آخر لو عم بالجعالة يدخل فيها أهل الإسلام [183/ب] من كان أهل الفئ ويدخل فيها أهل الذمة دون أهل العهد لأن أحكام الإسلام لا تجري على أهل العهد. فرع آخر لا حق فيها لمن لم يشهد الوقعة سواء دخل دار الحرب أو لا، لأن الجعالة تستحق بكمال العمل بخلاف الإجارة لأن الإجارة تتقسط، فإن شهد الوقعة فإن كان قال: من غزا استحق، قاتل أو لم يقاتل، وإن قال: من قاتل لا يستحق إلا من قاتل.

فرع لو كان مسلما يجوز أن يزيد في الجعالة على سهام الغانمين ويسهم لمستحقها أيضا، وإن كان مشركا فيه وجهان قال ابن أبي هريرة: لا يجوز أن يبلغ بها سهم الراجل، والأصح أنه يجوز ولا يستحق معها لا السهم ولا الرضخ لأنه لا يستحقه من غير جعالة فمنع الجعالة أولي. فرع آخر لو قال: جعلت لجميع من غزا معي ألف دينار فإن كان بمال في الذمة يدخل فيها من المسلمين من غزا من المطوعة دون مرتزقة أهل الفئ، ويدخل فيها من المشركين أهل الذمة دون المجاهدين ثم يقسم ذلك بين جميعهم من المسلمين وأهل الذمة على أعداد رؤوسهم قالوا: أو أكثر ولا يفضل مسلم على ذمي ولا من يسهم له على من لا يسهم له، ولا يدخل فيها من العبيد المأذون لهم إلا من لم يدخل فيه سيده لأنه يعود على سيده ولا يملكه فيصير سيده بذلك مفضلا [184/أ] على غيره ووجوب التسوية بينهم يمنع التفضيل بخلاف الجعالة المفردة، وأما النساء فعلي ما ذكرنا من لفظ الغزو والقتال. فرع آخر الصبيان هل يدخلون في هذا الحكم؟ فإن لم يدخل فيها أولياؤهم لم يدخلوا كالجعالة المفردة، وإن دخل فيها أولياؤهم دخلوا بخلاف الجعالة المفردة لأن العقد في الجعالة الجامعه واحد فدخلوا فيه تبعا وفي المفردة عقود فلم يكونوا فيه تبعا. فرع آخر لو كان مال هذه الجعالة معينا فقال: قد جعلت لجميع من غزا معي هذا المال الخطير يصح هذا سواء كان المال معلوما أو مجهولا لأنه لما صح بالمعلوم لعدد مجهول صح بالمجهول ويكون الداخل في هذه الجهالة معتبرا لحكم المال، فإن كان من مال الصدقات خرج المشركون منها لأنهم لا حق لهم في مال الصدقات ويدخل فيها المطوعة دون المرتزقة، ولا يجوز أن يسترجع منهم إن لم يغزوا لأنهم أخذوا ما يستحقونه بغير جعالة، فإن كان من مال المصالح وهو سهم الرسول صلي الله عليه وسلم المعد لمصالح المسلمين العامة، يدخل فيها مطوعة المسلمين وأهل الذمة لأنه مال يصح صرفة إلى الفريقين، فإن لم يغزوا استرجع ما أخذه المشركون دون ما أخذه المسلمون لأنه مال مرصد لمصالح المسلمين دون المشركين، وإن كان [184/ب] المال من أربعة أخماس الفئ ففي هذه الحالة المعقودة به قولان من أصل القولين فموجب مصرفه فإن قلنا: مصرفه في الجيش خاصة فهي باطلة لأنه موقوف على أرزاقهم فإذا استوقفوها لم يستحقوا غيرها ولم يستحقه غيرهم. والثاني: أنها جائزة إذا قلنا: مصرفه في المصالح العامة ودخل فيها من المسلمين من عدا مرتزقة أهل الفئ سواء كان من أهل الصدقات أو لا.

فرع آخر فإن قيل: أليس أهل الصدقة ممنوعين من مال الفئ؟ قلنا: إنما منعوا من أخذه بالفقر والمسكنة الذي يستحقون به مال الصدقة ولم يمنعوا من أخذه على عمل كما يجوز دفعه إليهم في بناء المسجد والحصن، ولذلك دخل في هذه الجعالة الأغنياء والفقراء ويدخل فيها أهل الذمة. فرع آخر لو غزا من أخرجه حكم الشرع من هذه الجعالة فإن كان عالما بالحكم كان متطوعا ولا شيء له مسلما كان أو كافرا، وإن جهل حكم الشرع فيه ففيه وجهان أحدهما: يستحق جعالة مثله ولا يستحق أجره مثله لأنه دخل في جعالة فاسدة ولم يدخل في إجارة فاسدة، والثاني: لا شيء له لأنه لم يدخل في الجعالة فيتوجه إليه حكم فسادها وقد كان يمكنه أن يستعمل حكم الشرع فيها فصار مفرطا وبزوه متبرعا. فرع آخر قد ذكرنا أنه إذا أكره أهل الذمة من غير جعالة يستحقون [185/أ] أجر المثل ولا يراعي في هذا الإكراه الحبس والضرب المراعي في الإكراه على الإطلاق وإنما المراعي أن يجبرهم على الخروج ولا يرخص لهم في التأخر لأنهم بالذمة والعهد في قبضته وتحت حجره فلم يحتج مع القبول إلى غيره. فرع آخر قد ذكرنا أنه إذا أذن للكافر مطلقا لا أجره ويستحق الرضخ بالحضور ويفضل في الرضخ من قاتل على من لم يقاتل، ومن كان منهم راجلا لم يبلغ برضخه سهم فارس ولا راجل ومن كان منهم فارسا لم يرضخه فارس وهل يجوز أن يبلغ به سهم راجل؟ فيه وجهان قال ابن أبي هريرة: لا يبلغ به حتى يساوي مسلما، وقال صاحب (الحاوي): الأظهر عندي أنه يبلغ به سهم راجل لأن الرضخ بينه وبين فرسه وإن ملكهما كان في نفسه مقصرا عن سهم راجل. فرع آخر لو حضروا متبرعين من غير إذن لا أجره ولا سهم فإن قاتلوا أرضخ لهم وإلا فلا يرضخ لهم بخلاف ما تقدم في المأذونلأن الإذن استعانة فقوبلوا عليها بالرضخ، وحضورهم من غير الإذن تبرع فلم يقابلوا عليه بالرضخ إلاعلى عمل وخالفوا فيه المسلم لأنه من أهل الدفع بخلاف المشرك. فرع آخر إذا كان المستحق أجرة دفعت من مال المصالح الحاصل قبل هذه الغنيمة لأن

الأجرة تستحق بالقصد الواقع قبلها وهي خمس الخمس من سهم الرسول صلي الله عليه وسلم من الفيء والمغانم وهل يجوز الدفع من أربعة أخماس الفيء؟ فيه قولان علي ما ذكرنا، وإن كانت جعالة دفعت من مال المصالح الحاصل قبل هذه الغنيمة لأنها تستحق بعد العمل فوجبت في المال الحاصل بالعمل بخلاف الأجرة، وإن كان المستحق رضخًا فيه ثلاثة أوجه علي ما ذكرنا: أحدها: في مال المصالح. والثاني: من أصل الغنيمة. والثالث: من أربعة أخماسها وكل ذلك من غنائم ما قاتلوا عليه. وفي رضخ من حضرها من المسلمين قولان من أصل الغنيمة ومن أربعة أخماسها. فرع آخر قال القفال: علق الشافعي رضي الله عنه القول في جواز إحضار نساء الكفار وصبيانهم في الجهاد فأحد القولين: يجوز كما يجوز إحضار نساء المسلمين وصبيانهم علي ما ذكرنا، والثاني: لا يجوز لأنه لا قتال فيهم ولا رأي ولا تبرك بدعائهم. مسألة: قال: ويبدأ الإمام بقتال من يليه من الكفار بالأقرب فالأقرب لأن الله تعالي قال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الكُفَّارِ} ولأنهم أقرب فالمؤونة في غزوهم أقل ولأنهم أبصر بعوراتنا وأحوالنا فالبداية بهم أولي، وقد قال الشافعي في موضع آخر: ويغزوا أهل الفيء كل قوم إلي من يليهم وهذا اقتداء بالسلف وتقتضيه السياسة لأن عمر رضي الله عنه مصر البصرة وأسكنها أهل الفيء لقتال من يليهم فإن كان بين المسلمين وبين من يليهم هدنة ينقلهم إلي جهة أخري. قال أصحابنا: وهكذا يكلف أهل البحر القتال في البحر لأنه أخبر به وأعرف ولا يكلفهم القتال في البر فيضعفوا عنه ويكلف أهل اليمن القتال في البر لأنهم به أعرف ولا يكلفهم في البحر فيضعفوا عنه، وروي أن عمر رضي الله عنه أغزي في البحر جيشا من المدينة وأمر عليهم عمرو بن العاص فلما قدموا عليه سأل عمرو بن العاص عنهم فقال له: دود علي عود بين غرق وفرق قال: إذن لا يغزي في البحر أحدًا، وروي أن معاوية كتب إلي عمر رضي الله عنه يستأذنه في غزوه البحر فكتب إليه عمر: إني لا أحمل المسلمين علي أعواد نجرها النجار وجلفظها الجلفاظ يحملهم عدوهم إلي عدوهم، والجلفاظ: الذي يشهد أعواد السفن وقوله: يحمله عدوهم إلي عدوهم له تأويلان: أحدهما: أن الملاحين كانوا إذ ذاك كفارًا يحملونهم إلي الكفار. والثاني: أن البحر عدو وراكبه يحملهم إلي أعدائهم الكفار. قال: وإن كان الأبعد أخوف فلا بأس أن يبدأ به علي معني الضرورة التي يجوز فيها ما لا يجوز في غيرها وصورة المسألة حيث لا يكون الخوف من الأبعد غالبًا ظاهرًا، فإن كان الخوف من الأبعد غالبا ظاهرا فواجب علي الإمام البداية بهم

فلا يقال لا بأس. وقال في "المبسوط": والواجب على الإمام أولًا أن يبدأ بسد أطراف المسلمين بالرجال حتى لا يبقى طرف إلا وفيه من يقوم بحرب من يليه من المشركين فإن قدر على الحصون والخنادق وكل أمر يدفع العدو قبل إتيانهم دار المسلمين فعل ويبدأ بالأخوف فالأخوف ويقلد القيام بذلك أميرًا من أهل الأمانة والعقل والعلم بالحرب والعدة والإناء والرفق وقلة البطش والعجلة والمعروف بالنصيحة للمسلمين فيحميهم في المقام ويدبرهم في الجهاد ولا يجعلهم فوضى فيختلفوا ويضعفوا، فإذا حكم هذا وجب عليه إدخال المسلمين ديار المشركين في الوقت الذي لا يضر بالمسلمين فيه ويرجو أن ينالوا الظفر بالمشركين وهذا كله احتياط فينا يعود إلى إصلاح المسلمين، وقال في "الحاوي": تقليد هذا الأمير يصح إذا تكاملت فيه أربعة شروط أحدها: أن يكون مسلمًا لأنه يقاتل على دين فإذا لم يعتقده لم يؤمن عليه. والثاني: أن يكون مأمونًا على من يليه من الجيش أن يخونهم وعلى من يقاتله من العدو أن يعينهم. والثالث: أن يكون شجاعًا في الحرب يثبت عند الهرب ويتقدم عند الطلب لأنه معد لهما. والرابع: أن يكون ذا رأي في السياسة والتدبير ليسوس الجيش على اتفاق الكلمة في الطاعة ويدبر الحرب في انتهاز الفرصة وأمر الغزو. ثم ولايته على ضربين ولاية تنفيذ، وولاية تفويض، فالتنفيذ ما كانت موقوفة على رأي الإمام وتنفيذ أوامره فيصح، وإن كان عبدًا من غير أهل الاجتهاد. وولاية التفويض: ما فوضت إلى رأي الأمير ليعمل فيها باجتهاده فيعتبر في انعقادها مع الشروط الأربعة شرطان آخران الحرية لأن التفويض ولاية، والثاني: أن يكون من أهل الاجتهاد في أحكام الجهاد وهل يعتبر أن يكون من أهل الاجتهاد في غيره من أحكام الدين؟ فيه وجهان بناءً على اختلاف أصحابنا في هذا الأمير هل يجوز أن ينظر في أحكام جيشه إذا كان مطلق الولاية؟ فإن قلنا: يجوز النظر في أحكامهم يلزمه أن يكون من أهل الاجتهاد في جميع الأحكام، وإن قلنا: ليس له ذلك ويكون القاضي أحق بالنظر فيها منه لا يلزم أن يكون من أهل الاجتهاد من غير الجهاد. مسألة: قال: وأقل ما على الإمام أن لا يأتي عام إلا وله فيه غزو. الفصل يستحب الإكثار من الغزو فإنه طاعة عظيمة لله تعالى فالاستكثار منها أولى، وروى عمران بن الحصين رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم حتى يقاتل آخرهم المسيح الدجال".

وفيه دليل على أن جهاد الكفار مع أئمة الجور واجب مع أمة العدل، وقوله: ناوأهم يريد ناهضهم للقتال وأصله من ناء ينوء إذا نهض، وروى عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "قفله كغزوة". وأراد به القفول عن الغزو والرجوع إلى الوطن أي: أن للمجاهد إلى أهله في انصرافه كأجره في إقباله إلى الجهاد وهذا لأن المداومة تضر بأهله وفي قوله: إليهم إزالة الضرر عنهم وقد قيل: أراد به التعقيب وهو رجوعه ثانيًا في الوجه الذي جاء منه منصرفًا، وإن لم يكن عدو وقد يفعل الجيش ذلك الانصراف لأحد أمرين: أحدهما: أن العدو إذا رآهم قد انصرفوا عن ساحتهم آمنوا فخرجوا عن مكانهم، فإذا قفل العدو نالوا الفرصة منهم فأغاروا عليهم. والثاني: أنهم إذا انصرفوا من مغزاهم ظاهرين لا يأمنوا أن يقفوا العدو أثرهم فيوقعوا بهم وهم غارون فإذا رجعوا يكونون مستعدين لقتالهم وإلا فقد سلموا. وروى أبو إمامة الباهلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثلاثة كلهم ضامن على الله عز وجل خرج غازيًا في سبيل الله تعالى فهو ضامن على الله تعالى حتى يتوفاه فيدخله الجنة أو يرده بما كان من أخر وغنيمة، ورجل راح إلى المسجد فهو ضامن على الله، ورجل دخل بيته بسلام. وقوله: "ضامن" أي: مضمون كقوله تعالى: {فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَة} أي: مرضية وقوله: "ثلاث كلهم ضامن" يريد كل واحد منهم وقوله: "ورجل دخل بيته بسلام" أراد أن يسلم إذا دخل منزله، وقيل: أراد لزوم البيت طلب السلامة من الفتن يرغب في العزلة بذلك. وروى أبو مالك الأشجع رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من فصل في سبيل الله فمات أو قتل فهو شهيد أو وفصه فرسه أو بعيره أو لدغته هامة أو مات على فراشه بأي حتف شاء الله فإنه شهيد وله الجنة". وقوله: فصل أي خرج وقوله: "وفصه فرسه" معناه صرعه فدق عنقه، والهامة إحدى الهوام وهي ذوات السموم القاتلة كالحية والعقرب ونحوهما. وقال أبو هريرة رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "شر ما في الرجل شح الهالع وجبن خالع" وأصل الهلع الجزع، والهالع هنا ذو الهلع، والشح أشد من البخل، ومعناه: البخل الذي يمنعه من إخراج الحق الواجب عليه فإذا استخرج منه هلع، والجبن الخالع هو الشديد الذي يخلع فؤاده من شدته. وروى عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله يدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة صانعه يحتسب في صنعته الخير والرامي به

ومنبله فاركبوا وإن ترموا أحب إليّ من أن تركبوا ليس من اللهو إلا ثلاث تأديب فرسه، وملاعبته أهله، ورميه بقوسه ونبله وفي ترك الرمي بعدما علمه رغبًة عنه فإنها نعمة تركها أو كفرها. وقوله "منبله" هو الذي يناول الرامي النبل وهو على وجهين: أحدهما: أن يقوم مع الرامي بجنبه أو خلفه ومعه عدد من النبل فيناوله واحدًا بعد واحد. والثاني: أن يرد عليه النبال المرمية والسهام الغريبة. وروى عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "كل شيء يلهو به الرجل باطل إلا رميه بقوسه وتأديبه فرسه وملاعبته امرأته فإنهن من الحق. وروى معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الغزو غزوان فأما من ابتغى وجه الله وأطاع الإمام وأنفق الكريم ويأسر الشريك، واجتنب الفساد فإن نومه وبيعه أجر كله وأما من غزا فخرًا ورياءً وسمعة وأفسد في الأرض فله أن يرجع بالكفاف". وقوله: "يأسر الشريك" معناه: الأخذ باليسر والسهولة فيه مع الشريك والصاحب والمعاونة لهما يقال: رجل يسر إذا كان سهل الخلق. وروي أن رجلًا قال: يا رسول الله من في الجنة قال: "النبي في الجنة والشهيد في الجنة والمولود في الجنة والوئيد في الجنة" وأراد بالمولود الطفل الصغير والسقط ومن لم يدرك الحنث، والوئيد الموءود أي المدفون في الأرض حيًا وكانوا يؤدون البنات والبنين أيضًا عند المجاعة. وروى سهل بن سعد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اثنتان لا تردان أو قلما تردان الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضًا" أي تشتبك الحرب ويلزم بعضهم بعضًا. وروى معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من قاتل في سبيل الله فواق ناقة فقد وجبت له الجنة والفواق ما بين المنكبين وروى عبد الله ابن أبي أوفى رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تمنوا لقاء العدو وسلوا الله العافية فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف". وروى جابر بن عتيق رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من الغيرة ما يحب الله ومنها ما يبغض الله فأما التي يحبها الله فالغيرة في الريبة، وأما التي يبغضها الله فالغيرة من غير ريبة وإن من الخيلاء ما يبغض الله ومنها ما يحب الله فأما الخيلاء التي يحب الله فاختيال الرجل عند القتال واختياله عند الصدقة، وأما التي يبغض الله فاختياله في البغي والفخر". ومعنى الاختيال في الصدقة أن تهزه أريحية السخاء فيعطيها طيبة نفسه بها من غير من والاختيال في الحرب أن يتقدم فيها بنشاط نفس وقوة جنان. وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات ولم يغز ولم يحدث

نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق". وروى أبو إمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق". وروى أبو إمامة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من لم يغز ولم يجهز غازيًا أو يخلف غازيًا في أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة". وروى زيد بن خالد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من جهز غازيًا في سبيل الله فقد غزا". ومن خلفه في أهله فقد غزا. فإذا تقرر هذا فينبغي أن لا يأتي عام إلا وله فيه غزو بنفسه أو بسراياه فلا يجب أن يغزو بنفسه بكل حالٍ وما مضت برسول الله صلى الله عليه وسلم سنة إلا وكان له فيها جهاد إما غزوة أو غزوتان وإنما جعل الأقل مرة في كل سنة لأن الجزية المأخوذة على ترك القتال في كل سنة مرة ولأن سهم الغزاة يجب في أموال الأغنياء في كل سنة مرة ولأنه فرض الجهاد وأقل الفروض المتكررة ما يجب في كل عام مرة كالصيام والزكاة، ولا يجوز أن يتركه إلا من ضرورة لقول الله تعالى: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} قال قتادة: إنها وردت في الجهاد. واعلم أن الذي استقرت عليه سيرة الخلفاء الراشدين أن يكون لهم في كل سنة أربع غزوات صيفية وشتوية وربيعية وخريفية. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم بعد فرض الجهاد عليه قريب من ذلك وأكثر فإنه كان له في تسع سنين سبع وعشرون غزاًة بنفسه وسبع وأربعون سرية بأصحابه وإذا عجز عن ذلك اقتصر فيها على ما يقدر عليه والأقل ما ذكرنا. فرع إذا غزا عامًا بلدًا غزا قابلًا غيره ولا يتابع الغزو على بلد واحد ويعطل ما سواه من بلاد المشركين، وإن يخلف حال أهل البلاد فيتابع الغزو على من يخاف نكايته أو على من يرجو غلبة المسلمين على بلاده فيكون تتابعه على هذا المعنى الذي ليس في غيره مثله. فرع آخر قال: وينبغي للإمام إذا غزا قومًا أن يعتمد على ثقة في دينه على ما ذكرنا ويتقدم إليه أنه لا يجمل المسلمين مهلكة يخاف ولا يكلفهم قصد حن يخاف أن يشدوا تحته ولا يلزمهم دخول مطمورة يخاف أن يعطبوا فيها، ولا يدفعوا عن أنفسهم ولا غوث لهم ولا يحملهم على شيء من أسباب المهالك فإن فعل ذلك الوالي والإمام فقد أساء ويستغفر الله تعالى ولا قود ولا كفارة عليه إن أصيب أحد منهم بطاعته، وكذلك لا يأمر القليل منهم بإتيان الكثير حيث لا عون لهم ولا يحمل أحدًا منهم على

غير فرض القتال وذلك أن يقاتل الرجل الرجلين ولا يجاوز ذلك. وروي أن عبد الله بن زياد عاد معقل بن يسار في مرضه فقال له معقل: إني محدثك لولا أني في الموت لم أحدثك به سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ما من أمير يلي أمر المسلمين ثم لا يجهد لهم ولا ينصح إلا لم يدخل الجنة معهم". وقال عمر رضي الله عنه في خطبته: ألا إنما أبعث عمالي ليعلموكم دينكم وسننكم ولا أبعثهم ليضربوا ظهوركم ولا يأخذوا أموالكم ألا من دابة شيء من ذلك فليرفعه إليّ لأقصه منه، ثم قال: ألا لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم ولا تحمدوهم فتفتنوهم ولا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم. وروي أنه نهى حمل المسلمين مهلكه قال: والذي نفسي بيده ما يسرّني أن يفتحوا مدينة فيها أربعة آلاف مقاتل بتضييع رجل مسلم. وروي أن عمر رضي الله عنه استعمل رجلًا ثم قبل ولده فقال له: ما قبلت ولدًا قط وأنت تقبل يا أمير المؤمنين فقال: أنت بالناس أقل رحمة هات عهدنا لا تعمل لي عملًا أبدًا. فرع آخر إذا حملهم على ما ليس له حملهم عليه فلهم أن يفعلوه لأنه جهاد يحل لهم بأنفسهم أن يقدموا فيه على ما لي عليهم بفرض، قد برز بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من الأنصار على جماعة من المشركين يوم بدر بعد إعلام النبي صلى الله عليه وسلم إياه بما في ذلك من الثواب فقتل رحمه الله وكان هذا الرجل عوف بن عفراء. فإن قيل: أليس قال الله تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}؟ قلنا: هذا ورد في ترك النفقة في سبيل الله هكذا قال حذيفة بن اليمان ورواه ابن عباس، وروى أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه أن رجلًا من الأنصار حمل على الروم حتى دخل فيهم ثم خرج فقال الناس: سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة فقال أيوب: إنما أنزلت فينا معشر الأنصار قلنا فيما بيننا سرًا: إن أموالنا قد ضاعت فلو أقمنا فأصلحنا فأنزل الله تعالى هذه الآية فكانت التهلكة في الإقامة التي أردنا. وقال رجل للبراءة بن عازب رضي الله عنه: أحمل على الكتيبة بالسيف في ألفٍ من التهلكة ذلك؟ قال: لا إنما التهلكة أن يذنب الرجل الذنب ثم يلقي بيديه يقول: لا يغفر لي وقد قال الشافعي: والاختيار أن يتحرز لما روى السائب بن يزيد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم ظاهر يوم أحد بين درعين. وروى ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من

باب النفير من كتاب الجزية

قبته في الدرع يوم بدر. فرع آخر قال: لو كان للإمام عذر في ترك الجهاد بأن كثر المشركون حيث يكون بإزاء كل واحد أكثر من اثنين ورأى في ثبات المسلمين ضعفًا وفي أسلحتهم قلة جاز أن يترك الغزو في هذا الموضع حتى تحصل القوة لأن فيه تغريرًا بالمسلمين. باب النفير من كتاب الجزية قال الله تعالى: {إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} قد ذكرنا أن فرض الجهاد على الكفاية ودليل الفرضية قوله تعالى: {إِلاَّ تَنفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} ودليل على أنه فرض على الكفاية به ما ذكرنا من الآية وإذا لم يقم به قدر الكفاية خرج من تخلف واستحق العذاب، وإن قام به قدر الكفاية حتى لا يكون الجهاد معطلًا لم يأثم من تخلف لأن الله تعالى وعد جميعهم الحسنى، ولأنا لو أوجبنا الجهاد على الأعيان لتعطلت المكاسب والعمارات وذلك ضرر عظيم. فرع لو أظل العدو بلدًا من بلاد المسلمين اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: تعين الفرض على جميع المسلمين ووجب النفير على جميعهم وبه قال عامة أصحابنا. ونص الشافعي رضي الله عنه قال في رواية البويطي في باب السنة في الجهاد: والغزو غزوان غزو نافلة، وغزو فريضة فأما الفريضة فهو النفير إذا أظل العدو بلاد المسلمين، والنافلة: الرباط والخروج إلى الثغور إذا كان فيها من فيه كفاية، وقال ابن أبي هريرة: هو فرض على الكفاية أيضًا. فرع آخر لو كان العدو على مسافة أقل من يوم وليلة من بلاد الإسلام يكون في حكم من قد أظل بلاد الإسلام ووصل إليها لقرب المسافة ويتعين فرض قتالهم على جميع أهل الثغر من المجاهدين ويدخل في القتال من عليه دين ومن له أبوان لا يأذنان لو لأنه قتال دفاع لا قتال غزو، ثم ينظر في عدد العدو فإن كانوا أكثر من مثلي أهل الثغر لم يسقط بأهل الثغر فرض الكفاية على كافة المسلمين، ووجب على الإمام إمدادهم، وإن كانوا مثلي أهل الثغر فما دون هل يسقط بهم فرض الكفاية عمن سواهم؟ لما أوجبه الله تعالى من قتال مثلهم فيصير فرض القتال عليهم متعينًا وعن غيرهم ساقطًا. والثاني لا يسقط من غيرهم فرض الكفاية بهم خوفًا من الظفر بهم فيصير فرض القتال عليهم متعينًا باقيًا على الكفاية في غيرهم.

فرع آخر لو دخل العدو بلاد الإسلام يتعين فرض قتاله على أهلها وهل يتعين على كافة المسلمين كما يتعين على أهل الثغر؟ فيه وجهان أحدهما: يتعين عليهم لأن جميع المسلمين يد على من سواهم، والثاني: يتعين عليهم ويكون باقيًا على الكفاية لقدرة أهل الثغر على دفعهم ولا يراعى بعد دخول العدو دار الإسلام أن يكونوا مثلين كما يراعى قبل دخوله، بل تراعى القدرة على دفعهم لأن القدرة بعد الدخول ظافر ومثله معترض. فرع آخر لو انهزم أهل ذلك الثغر عنهم صار فرض جهادهم متعينًا على كافة الأمة وجهًا واحدًا حتى يرده إلى بلادهم، فإذا ردوه إليها فإن عادوا خاليًا من سبي وأسرى سقط ما تعين من فرض قتاله، وإن عادوا بسبي وأسرى يكون فرض قتاله باقيًا حتى يسترجع ما في أيديهم من السبي وأسرى. فرع آخر ألحق الشافعي رضي الله عنه رد جواب السلام وفن الموتى والقيام بطلب العلم وصلاة الجنازة بالجهاد في كونها فرضًا على الكفاية. فرع آخر اعلم أنه يتعلق بالسلام حكمان: أحدهما: في ابتدائه. والثاني: في رده. أما ابتداءه فينقسم ثلاثة أقسام: أدب، وسنة، ومختلف فيه، فالأدب سلام المتلاقين وهو خاص لا عام لأنه لو سلم على كل من لقي لتشاغل به عن كل مهم ويخرج به عن العرف وإنما يقصد به أحد أمرين إما أن يكتسب به ردًا، أو ستدفع به بذاءًا قال الله تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} قيل: في تأويله ادفع بالسلام إساءة المسيء فصار هذا السلام خاصًا لا عامًا وكان من آداب الشرع لا من سننه لأنه يفعله لاجتلاب تآلفٍ. والأولى في ابتداء السلام أن يبدأ به الصغير على الكبير، والراكب على الماشي، والقائم على القاعد لأن ذلك مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن استويا فأيهما بدأ كان له فضل التحية. وأما السنة: فسلام القاصد على المقصود وهو عام يبتدئ به كل قاصد على كل مقصود من صغير وكبير وراكب وماشٍ. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتدئ بالسلام إذا قصد ويبتدئ به إذا لقي وقصد وهذا من سنن الشرع لأنه مندوب إليه لغير سبب مختلف وبين هذا وبين سلام الأدب فرقان: عموم هذا، وخصوص ذاك، وتعيين المبتدئ بهذا

وتكافؤ ذاك ثم هذا على ضربين: أحدهما: أن يكون المقصود واحدًا فيتعين السلام عليه من القاصد ويتعين الرد فيه على المقصود. والثاني: أن يكون المقصود جماعة وهما ضربان أحدهما: أن يكون عدد الجماعة قليلًا يعمهم السلام الواحد فليس يحتاج في قصدهم إلى أكثر من سلام واحد يقيم به سنة السلام وما زاد عليه من تخصيص بعضهم فهو أدب. والثاني: أن يكون جميعًا لا ينتشر فيهم سلام الواحد كالجامع والمسجد المحفل بأهله فسنة السلام أن يبتدئ به الداخل في أول دخوله إذا شاهد أوائلهم وتؤدى سنة السلام في جميع من سمعه ويدخل في فرض الكفاية الرد جميع من سمعه، فإذا أراد الجلوس فيهم سقطت عنه سنة السلام فيمن لم يسمعه من الباقين وإن أراد أن يجلس فيمن بعدهم ممن لم يسمعه سلامه المتقدم وجهان أحدهما: أن سنة السلام عليهم قد سقطت بالسلام على أوائلهم لأنه جمع واحد فإن سلم عليهم كان أدبًا فعلى هذا أي أهل المسجد رد عليه سقط فرض الكفاية عن جميعهم، والثاني: أن سنة السلام باقية عليه فيمن لم ينتشر فيهم سلامه إذا أراد الجلوس بينهم لأنهم بسلامه أخص فعلى هذا لا يسقط فرضه على الأوائل برد الأواخر. وأما المختلف فيه فسلام القاصد إذا لزمه الاستئذان على المقصود فيؤمر القاصد بالاستئذان والسلام لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَانِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} وفي قوله: {تَسْتَانِسُوا} تأويلان: أحدهما: أراد حتى تستأذنوا قاله ابن عباس. والثاني: حتى تعلموا أن فيها من يأذن لكم من قوله تعالى: {آنَسَ مِن جَانِبِ الطُّورِ نَارًا} أي: علم، قاله ابن قتيبة وهل يبتدئ عند الاستئذان بالاستئذان أم بالسلام؟ فيه وجهان: أحدهما: يبتدئ بالاستئذان قبل السلام لقوله تعالى: {حَتَّى تَسْتَانِسُوا وَتُسَلِّمُوا} فعلى هذا يكون الاستئذان واجبًا والسلام سنة. والثاني: يبدأ بالسلام قبل الاستئذان لأنه وإن كان مقدمًا في التلاوة فهو مؤخر في الحكم لما روى محمد بن سيرين أن رجلًا استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل عنده: " قم فعلم هذا كيف يستأذن فإنه لم يحسن" فسمعها الرجل فسلم واستأذن قال صاحب "الحاوي": الأولى عندي من اختلاف هذين الوجهين أن يكون محمولًا على اختلاف حالين لا يتعارض فيهما كتاب ولا سنة وهو إن وقعت عين القاصد على المقصود قبل دخوله قدم السلام على الاستئذان على ما جاءت به السنة، وإن لم تقع عينه عليه قدم الاستئذان على السلام على ما جاء به الكتاب العزيز فعلى هذا إذا أمر بأن يبتدئ بالسلام فسلم فهل يكون سلامه استئذانًا ويكون رده إذنًا؟ وجهان: أحدهما: يكون استئذانًا فعلى هذا يكون السلام واجبًا وإعادته بعد الوجوب إذنًا. والثاني: لا يكون استئذانًا ولا يكون رده إذنًا فعلى هذا يكون السلام مسنونًا قد سقطت به سنة السلام بعد الإذن.

وأما رد السلام فضربان فإن سلم على واحد يكون رده متعينًا على ذلك الواحد سواء كان المسلم مسلمًا أو كافرًا، وقال عطاء: يجب رده على المسلم دون الكافر وهذا غلط لقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء:86] بمعنى أحسن منها للمسلم وردوها مثلها للكافر، وقيل: فحيوا بأحسن منها أي: زيادة على الدعاء أو ردوا عليه غير زيادة. وإن كان السلام على جماعة فرده من فروض الكفايات على تلك الجماعة فأيهم تفرد بالرد سقط فرضه عن الباقين والراد منهم هو المختص بثواب رده، فإن أمسكوا عنه حرجوا أجمعين ولا يسقط الفرض عنهم برد غيرهم. فرع آخر صفة السلام وصفة الرد تختلف باختلاف المسلّم والراد وذلك ضربان: أحدهما: أن يكون السلام بين مسلمين فصفته من المبتدئ به أن يقول: السلام عليكم سواء كان على واحد أو جماعة إلا أن لفظ الجمع يتوجه إليه وإلى حافظيه من الملائكة وما زاد بعده من قوله: ورحمة الله وبركاته فهو زيادة فضل، وأما الرد فأقله أن يقابله بمثله قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تغار التحية" والغرار: النقصان أي: لا ينتقص من التحية إذا سلم عليك. والسنة أن يزاد عليه في الرد، روى الحسن البصري أن رجلًا سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وعليك السلام ورحمة الله وبركاته" ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته" ثم جاء آخر فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وعليكم" فقيل: يا رسول الله زدت الأول، والثاني وقلت للثالث وعليكم فقال: "إن الأول والثاني أبقيا من التحية شيئًا فرددت عليهما أحسن من تحيتهما، وإن الثالث جاء بالتحية كلها فرددت عليه مثلها". والثاني: أن يكون السلام بين مسلم وكافر وهذا على ضربين فإن كان الكافر مبتدئًا به يجب على المسلم رد سلامه وفي وصفه رده وجهان: أحدهما: يقول: وعليكم السلام ولا يزيده عليه ورحمة الله وبركاته. والثاني: يقول وعليك لا يزيده لأنه ربما نوى سوءًا بسلامه وقد روى ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن اليهود إذا سلم أحدهم عليكم فإنها يقول: السام عليكم"، وقال أبو سليمان الخطابي: كان سفيان يروي عليكم بحذف الواو وهو الصواب وذلك أنه إذا حذف الواو صار قولهم الذي قالوه بعينه مردودًا عليهم، وإذا دخل الواو يقع الاشتراك والدخول معهم فيما قالوه لأن الواو حرف العطف والجمع بين الشيئين. والسام الموت. فإن كان المسلم مبتدئًا ففيه وجهان أحدهما: يجوز أن يبتدئ به لأنه لما كان السلام أدبًا وسنةً كان المسلم يفعله أحق فعلى هذا يقول: السلام عليك

على لفظ الواحد ولا يذكره بلفظ الجمع ليقع الفرق بين المسلم والكافر. والثاني: لا يبتدئ بالسلام عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تبتدئوا اليهود بالسلام فإن بدؤوكم فقولوا وعليكم". فرع آخر دفن الموتى وتكفينهم وغسلهم فرض على الكفاية وهل يكون أولياءه فيه أسوة غيرهم؟ فيه وجهان أحدهما: جميع المسلمين فيه أسوة لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}، والثاني: أنهم أحق به من غيرهم وإن لم يتعين فرضه عليهم فمأثم تركه فيهم أغلظ لقوله تعالى: {وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ}. فرع آخر إذا قلنا بالوجه الأول: لا يجوز لمن علم به من الأقارب والأجانب أن يمسكوا عنه حتى يقوم به أحدهم، وإن قلنا بالوجه الثاني: يجوز أن يفوضوا أمره إلى الأقارب فإن أمسك عنه الأقارب شاركهم في فرضه الأجانب. فرع آخر لو لم يعلم بحال الميت إلا واحد تعين فرضه عليه وذلك بألا يوجد غيره ممن يقوم به، وإن وجد غيره ممن يقوم بمواراته فهو فيما تعين عليه من فرضه بين خيارين إما أن ينفرد بمواراته، وإما أن يخبر به من يقوم بمواراته فيسقط فرضه التعيين ويبقى فرض الكفاية على المخبِر والمخبَر حتى يواريه أحدهم فتصير هذه المواراة من فروض الكفاية في العموم ومن فروض الأعيان في الخصوص. فرع آخر طلب العلم على أربعة أقسام أحدها: ما تعين فرصه على كل مكلف كالطهارة والصلاة فيلزمه العلم بوجوبه وصفة آدابه على تفصيله لقوله صلى الله عليه وسلم: "علموهم الطهارة والصلاة وهم أبناء سبع" ولا يلزم أن يعلم أحكام الحوادث فيها لأنها عارضة وإنما يلزم الراتب من شروطها. والثاني: ما يتعين العلم بوجوبه على كل مكلف في تعيين فرض العلم بأحكامه على بعض المكلفين دون جميعهم وهو الزكاة والحج لأن فرضهما لا يتعين على كل مكلف فيتعين فرض الحكم على من تعين فرض الفعل فيكون برجوعه عامًا وفرض العلم بأحكامه خاصًا. والثالث: ما تعين فرض العلم بوجوبه ولا يتعين فرض العلم بأحكامه وهو تحريم الزنا والقتل وأكل لحم الخنزير فيلزمهم العلم بتحريمه لينتهوا عنه، ولا يلزمهم العلم بأحكامه إذا فعل لأنهم منهيون عنه. والرابع: ما كان فرض العلم به على الكفاية وهو جميع الأحكام من أصول وفروع ونوازل لقوله تعالى: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} وأراد فلولا نفر

من كل فرقة طائفة في الجهاد ليتفقد الطائفة المقيمة، وقيل: أراد فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة في طلب الفقه لتجاهد الطائفة المتأخرة. فإن قيل: فما تأويل قوله صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم". قيل: له تأويلان أحدهما: أراد به علم ما لا يسمع جهله. والثاني: أراد به جميلة العلم إذا لم يقم بطلبه من فيه كفاية. فرع آخر إذا ثبت أن طلب العلم من فروض الكفايات توجه فرضه إلي كل من تكاملت فيه أربعة شروط أحدها: أن يكون مكلفًا بالبلوغ والعقل. والثاني: أن يكون ممن يجوز أن يقلد القضاء بالحرية والذكورة لأن تقليد القضاء من فروض الكفايات. والثالث: أن يكون من أهل الذكاء والتصور ليكون فهيمًا للعلم. والرابع: أن يقدر على الانقطاع إليه بما يدمه فإن عجز عنه بعسر خرج من فرض الكفاية لقوله صلى الله عليه وسلم: "كفى بالمرة إثمًا أن يضيع من يقوت". فرع آخر متى تكاملت هذه الشروط الأربعة في عدل أو فاسق توجه فرض الكفاية إليه، لأن الفاسق مأمور بالإقلاع عن فسقه. فرع آخر متى أقام بطلبه من فيه كفاية انقسمت حاله وحال من دخل في فرض الكفاية أربعة أقسام: أحدها: من يدخل في فرض الكفاية ويسقط به فرضها إذا علم وهو من تكاملت فيه الشروط الأربعة إذا كان عدلًا. والثاني: من يدخل في فرض الكفاية ولا يسقط فرضها إذا علم وهو الفاسق لأنه لا يقبل قوله. والثالث: من لا يدخل في فرض الكفاية ويسقط فرضها إذا علم وهو المعسر. والرابع: من لا يدخل في فرض الكفاية وفي سقوط فرضها به وجهان، وهو المرأة، والعبد. أحدهما: يسقط لأن قولهما في الفتاوى مقبول. والثاني: لا يسقط لقصورهما عن ولاية القضاء والله أعلم.

باب جامع السير

باب جامع السير قال الشافعي: "الحكم في المشركين حكمان فمن كان منهم أهل أوثان أو من عبد ما استحسن من غير أهل الكتاب لم تؤخذ منهم الجزية وقوتلوا حتى يقتلوا أو يسلموا لقول الله تبارك وتعالى: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدتُّمُوهُمْ} وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله". قال في الحاوي: وهذه المسألة من كتاب الجزية وإنما قدمها المزني في الجهاد لتعلقها بأحكامه، والمشركون ثلاثة أصناف: أحدها: أهل الكتاب. والثاني: من لهم شبهة كتاب. والثالث: من ليس بأهل كتاب، ولا لهم شبهة كتاب. فإن قيل: فلم جعلهم الشافعي صنفين وهم أكثر، فعنه جوابان: أحدهما: أنهم في حكم الجزية صنفان، وإن كانوا في غيرها من الأحكام أكثر. والثاني: لأن الذين جاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا على عهده صنفين. فإن قيل: فلم أدخل أهل الكتاب في المشركين، وأطلق عليهم اسم الشرك وقد منع غيره من الفقهاء إطلاقه اسم الشرك عليهم، لأنه ينطلق على من جعل لله شريكًا معبودًا فعنه جوابان: أحدهما: لأن فيهم من جعل لله ولدًا وفيهم من جعله ثالث ثلاثة. والثاني: لأنهم لما أنكروا معجزات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأضافوها إلي غيره جعلوا له شريكًا فيها، فلم يمتنع لهذين أن ينطلق عليهم اسم الشرك فأما أهل الكتاب فصنفان: أحدهما: اليهود ومن تبعهم من السامرة وكتابهم التوراة. والثاني: النصارى ومن تبعهم من الصابئين وكتابهم الإنجيل، فهو لا يجوز أخذ الجزية منهم إن بذلوها مع أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم، وأما من ليس بأهل كتاب ولهم شبهة كتاب فهم المجوس، لأن وقوع الشك في كتابهم أجرى عليهم حكمه في حقن دمائهم، فيجوز أن تؤخذ منهم الجزية، ولا يجوز أكل ذبائحهم ولا نكاح نسائهم على الصحيح من المذهب وسيأتي شرحه. وأما من ليس بأهل كتاب ولا لهم شبهة كتاب فهم أهل الأوثان ومن عبد ما استحسن من الشمس والنار فلا يجوز أن تقبل جزيتهم ولا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح

نساؤهم، سواء كانوا عربًا أو عجمًا، ويقاتلوا حتى يسلموا أو يقتلوا. وقال مالك: تقبل جزيتهم إلا أن يكونوا من قريش، فلا يقبل منهم إلا الإسلام. وقال أبو حنيفة: تقبل جزيتهم إلا كانوا عجمًا ولا تقبل جزيتهم إن كانوا عربًا حتى يسلموا، احتجاجًا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا أدلكم على كلمة تدين لكم بها العرب، وتؤدي الجزية إليكم بها العجم؟ شهادة إن لا إله إلا الله" فعم الجزية جميع العجم ما عم بالدين جميع العرب، فدل على افتراقهما في حكم الجزية. وروى سليمان بن بريده عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميرًا على سرية أوصاه بتقوى الله في خاصة نفسه وبمن معه من المسلمين خيرًا وقال: "إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلي إحدى خصال ثلاث، فإلي أيتهن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، ادعهم إلي إعطاء الجزية فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم" وهذا نص في أخذ الجزية من المشركين من غير أهل الكتاب ولأن من جاز استرقاق نسائهم جاز أخذ الجزية من رجالهم كأهل الكتاب، ولأن الجزية ذل وصغار، فإذا جرت على أهل الكتاب وهم أفضل، كان إجراؤها على من دونهم من عبادة الأوثان أولى. ودليلنا قوله تعالى: {فَإذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدتُّمُوهُمْ وخُذُوهُمْ واحْصُرُوهُمْ واقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإن تَابُوا وأَقَامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. فكان الأمر بقتلهم حتى يسلموا عامًا، وخص منهم أهل الكتاب بقبول الجزية، فقال: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِالْيَوْمِ الآخِرِ} إلي قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ}. فكان الدليل في هذا من وجهين: أحدهما: أن استثناء أهل الكتاب منهم يقتضي خروج غيرهم من استثنائهم، ودخولهم في عموم الأمر. والثاني: أنه جعل قبول الجزية مشروطًا بالكتاب، فاقتضى انتفاؤها عن غير أهل الكتاب. وروى أبو صالح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" فكان على عمومه، إلا ما خصه دليل، ولأن عمر رضي الله عنه امتنع من أخذ الجزية من المجوس لشكه فيهم أنهم من أهل الكتاب، حتى أخبره عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها من مجوس

هجر وقال: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب" وقال رجل لعلي بن أبي طالب عليه السلام: "أعجبت من أخذ الجزية من المجوس، وليس لهم كتاب فقال علي: كيف تعجب وقد كان لهم كتاب فبدلوا، فأسرى به، فدل ذلك على إجماع الصحابة على أنها لا تؤخذ من غير أهل الكتاب، ولأن كل مشرك لم تثبت له حرمة الكتاب لم يجز قبول جزيته كالعرب، ولأن كل ما منع الشرك منه في العرب منع منه العجم كالمناكح والذبائح. فأما الجواب عن الحديث الأول فمن وجهين: أحدهما: أنه ضعيف، نقله أهل المغازي ولم ينقله أصحاب الحديث. والثاني: حمله على أهل الكتاب بدليلنا. وأما الجواب عن الحديث الثاني فمن وجهين: أحدهما: أن أكثر السرايا كانت إلي أهل الكتاب. والثاني: حمله بأدلتنا على أهل الكتاب. وأما الجواب عن قياسهم على أهل الكتاب، فالمعنى ثابت لهم من حرمة كتابهم، وأنهم كانوا على حق في إتباعه، وهذا معدوم في غيرهم من عبادة الأوثان، وقولهم: إنها صغار فكانت بعبدة الأوثان أحق. مسألة: قال الشافعي: "ومن كان منهم أهل كتاب قوتلوا حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فإن لم يعطوا قوتلوا وقتلوا وسبيت ذراريهم ونساؤهم وأموالهم وديارهم". قال في الحاوي: اعلم أن أهل الكتاب يوافقون عبدة الأوثان في حكمين ويفارقونهم في حكمين فأما الحكمان في الإنفاق: فأحدهم: أنه يجوز قتل أهل الكتاب كما يجوز قتل عبدة الأوثان. والثاني: يجوز سبي أهل الكتاب كما يجوز سبي عبدة الأوثان. وأما الحكمان في الافتراق فأحدهما: أنه يجوز أخذ الجزية من أهل الكتاب، ولا يجوز أخذها من عبدة الأوثان. والثاني: أنه تستباح مناكح أهل الكتاب وذبائحهم ولا يستباح ذلك من عبدة الأوثان، وإذا كان كذلك وجب استواء الفريقين في وجوب القتال واختلافهما في الكف عنهم. فأما أهل الكتاب فيجب قتالهم حتى يسلموا أو يعطوا الجزية، فإن أسلموا أو بذلوا

الجزية، وجب الكف عنهم وإن امتنعوا منها وجب قتالهم حتى يقتلوا. وأما عبدة الأوثان فيجب قتالهم حتى يسلموا، فإن أسلموا وجب الكفر عنهم، وإن لم يسلموا وجب قتالهم حتى يقتلوا، والفريقان في المهادنة سواء، إن دعت إليها حاجة هودنوا، وإن لم تدع إليها حاجة لم يهادنوا. مسألة: قال الشافعي: "وكان ذلك كله فيئًا بعد السلب للقاتل في الأنفال. قال ذلك الإمام أو لم يقله لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفل أبا قتادة يوم حنين سلب قتيله وما نفله إياه إلا بعد تقضي الحرب ونفل محمد بن مسلمة سلب مرحب يوم خيبر ونفل يوم بدر عددًا ويوم أحد رجلًا أو رجلين أسلاب قتلاهم وما عملته صلى الله عليه وسلم حضر محضرًا قط فقتل رجل قتيلًا في الأقتال إلا نفله سلبه وقد فعل ذلك بعد النبي صلى الله عليه وسلم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما". قال في الحاوي: يريد الشافعي بهذا ما غنم من أهل أموال الفريقين من أهل الكتاب وعبدة الأوثان يكون بعد تخميسه للغانمين، وسماه فيئًا، وإن كان باسم الغنيمة أخص لرجوعه إلي أولياء الله. فيبدأ الإمام من الغنائم بأسلاب القتلى فيدفع سلب كل قتيل إلي قاتله، سواء شرطه الإمام أو لم يشرطه. وقال مالك وأبو حنيفة: إن شرطه الإمام كان لهم وإن لم يشترطه كانوا فيه أسوة الغانمين احتجاجًا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس لأحد ما طابت به نفس إمامه" ودليلنا قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من قتل قتيلًا له عليه بينة فله سلبه". وروى عمرو بن مالك الأشجع أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل. وروي أنه وجد في بعض غزواته قتيلًا فسأله عنه قاتله، فقالوا: سلمه بن الأكوع. فقال: له سلبه أجمع. وقدا مضت هذه المسألة مستوفاة في كتاب قسمة الفيء والغنيمة. فصل: فإذا ثبت عطاء السلب للقاتل استحقه بأربعة شروط: أحدها: أن يقتله والحرب قائمة ليكف كيده، فإن قتله اشتباك الحرب أو بعد انكشافها فلا سلب له.

والثاني: أن يكون مقبلًا على القتال ليكف شره، فإن قتله مدبرًا عن القتال أو معتزلًا له فلا سلب له. والثالث: أن يكون ذا بطش في القتال وقوة فإن قتل زمنًا أو مريضًا أو شيخًا هرمًا أو صبيًا لا يقاتل مثله أو امرأة تضعف عن القتال فلا سلب له، ولو كان الصبي والمرأة يقاتلان عن قوة وبطش كان له سلبهما. والرابع: أن يكون القاتل مغرورًا بنفسه في قتله، بأن يبارزه فيقتله أو يقتحم المعركة فيقتله فأما إن رماه بسهم من بعد بحيث يأمن على نفسه فلا سلب له. فإذا استكملت هذه الشروط الأربعة في القتل لم يخل حال القاتلة من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون ممن يسهم له كالرجل الحر المسلم فيستحق السلب ولا يحمسه الإمام. وقال مالك: يأخذ خمسه لأهل الخمس وليس بصحيح لما قدمنها من إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا قتادة سلب قتيله، ولو يحمسه، واختلف أصحابنا هل يستحق السلب مع سهمه من المغنم أم لا، على وجهين: أحدهما: وهو ظاهر نص الشافعي في هذا الموضع أنه يجمع له بينهما، لأن السلب زيادة استحقها بالتغرير كالنفل. والثاني: لا يجمع لع بينهما وينظر في السلب، فإن كان بقدر سهمه فأكثر أخذه ولا شيء له سواه، وإن كان أقل من سهمه أعطى تمام سهمه لما يلزم من التسوية بين الغانمين. والثاني: أن يكون ممن لا يسهم له ولا يرضخ له كالمرجف والمخذل والكافر إذا لو يؤذن له فلا يستحق السلب؛ لأن لا حق له في المغنم. والثالث: أن يكون ممن يرضخ له ولا يسهم كالصبي والعبد والمرأة والكافر والمأذون له، ففي استحقاقه للسلب وجهان بناء على اختلاف أصحابنا في إعطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم السلب للقاتل هل هو ابتداء عطية منه أو بيان لقول الله تعالى: {واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ}. فأحد الوجهين: أنه ابتداء عطية، فعلى هذا يستحق القاتل، وإن لم يستحقه سهمًا. والثاني: أنه بيان لمجمل الآية، فعلى هذا لا يستحق إذا لم يستحق في الغنيمة سهمًا فإذا قيل باستحقاقه للسلب لم يرضخ له وجهًا واحدًا، وقد نص عليه الشافعي ففي سير الواقدي. وإن قيل: لا يستحقه كان السلب مغنمًا، وزيد القاتل في رضخ لأجل بلائه في قتله. فصل: فإن لم يقتله ولكن قطع بعض أعضائه، فعلى ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يقطع منه ما لا يمنعه من الحضور ولا من القتال، كقطع أسنانه، أو جدع أنفه أو ثمل إحدى عينيه، فلا يستحق لبه، لأنه لم يكف كيده. والثاني: أن يقطع منه ما يمنعه من الحضور والقتال جميعًا، كقطع يديه ورجليه فيستحق سلبه، لأنه قد عطله، فصار كقتله. والثالث: أن يقطع منه ما يمنعه من الحضور ولا يمنعه من القتال كقطع الرجلين، أو يقطع ما يمنعه من القتال ولا يمنعه من الحضور، كقطع اليدين، فعلى استحقاقه لسلبه وجهان: أحدهما: يستحقه، لأنه قد كفه عن كمال الكيد. والثاني: لا يستحقه، لأنه إن قطع رجليه قدر على القتال بيديه إذا ركبك وإن قطع يديه قدر على الحضور برجليه مكثرًا ومهيبًا، ولو أخذه أسيرًا ففي استحقاقه لسلبه قولان: أحدهما: يستحق سلبه، لأن من قدر على أسره كان على قتله أقدر. والثاني: لا سلب له لأنه ما كف كيده ولا كف شره. فصل: وأما السلب من مال المقتول ينقسم ثلاث أقسام" أحدها: ما يكون كله سلبًا يستحقه القاتل، وهو ما كان مقاتلًا فيه من ثياب وجبة أو مقاتلًا عليه من فرس أو مطية أو مقاتلًا به من سلاح وآلة. والثاني: ما يكون مغنمًا ولا يكون سلبًا، وهو ما له في العسكر من كراع وسلاح وخيم وآلة. والثالث: ما اختلف فيه، وهو ما كان معه في المعركة لا يقاتل به، ولكنه قوة له على القتال كفرس يجنبه معه، أو مال في وسطه أو حلي على بدنه، ففي كونه سلبًا وجهان: أحدهما: يكون سلبًا لقوته به. والثاني: لا يكون سلبًا لأنه لا يقاتل به والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "ثم يرفع بعد السلب خمسه لأهله". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن السلب مقدم في المغانم للقاتل، وفيما يستحق إخراجه منها بعد السلب قولان: أحدهما: وهو المنصوص عليه ها هنا، أنه يخرج خمس المغانم بعد السلب مقدمًا

على الرضخ يصرفه في أهل الخمس، لقول الله تعالى: {واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ}. فكان على عمومه في جميع الغنيمة إلا ما خصه السنة من السلب. والثاني: أنه يقدم إعطاء قبل إخراج الخمس، لأنه من جملة المصالح اعتباراً بالسلب، ويستوي على القولين قليل الغنيمة وكثبرها سواء أخذت قهراً بقوة أو أخذت خلسة بضعف في إخراج خمسها. وقال أبو حنيفة: إن أخذوها قهراً وهم ممتنعون بقوة خمسة وإن أخذوها خلسة وهم في غير متعة لم تخمس. وقال أبو يوسف: المتعة عشرة فأكثر احتجاجاً بأن الغنيمة من أحكام الظفر الذي يعز به الإسلام، ويقال به الشرك وهذا في المأخوذ خلسة وتلصصاً. ودليلنا عموم قول الله تعالي" {واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ}. فكان على عمومه ولأن الغنيمة ما غلب المشرك عليه وأخذ منه بغير اختياره، وهذا موجود في هذا المأخوذ ولأن كل ما وجب إخراج خمسه إذا وصل بالعدد الكثير وجب إخراج خمسه إذا وصل بالعدد القليل كالركاز، ولأن كل من خمسة غنيمته إذا كان في منعة خمسة، وإن كان في غير منعة كما لو أذن له الإمام، ولأن كل من خمسة غنيمته إذا أذن له الإمام خمسة، وإن لم يأذن له كما لو كانوا في منعة، ولأنه لا فرق بين التسعة والعشرة في العز والذل، فلم يقع الفرق بينهما في الغنيمة والتلصص. فصل: فإذا ثبت هذا كان ذلك بعد إخراج خمسه ملكًا لغانمة. وقال الحسن البصري: يؤخذ منهم لبيت المال عقوبة لهم ويعزروا عليه لتعزيزهم بأنفسهم، وهذا خطأ لعموم الآية، ولأنه ليس التعزير مع العدو محظورًا يوجب التعزير. روى محمد بن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرض على الجهاد يوم بدر ونفل كل امرئ ما أصاب، وقال: والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا مقبلًا غير مدبر إلا دخل الجنة". فقال عمير بن حمام، وفي يده ثمرات يأكلهن: بخ بخ، ما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن قتلني هؤلاء القوم، ثم قذف الثمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل وهو يقول: ركضا إلي الله بغير زاد ... إلا التقى وعمل المعاد والصبر في الله على الجهاد ... وكل زاد عرضه النفاد غير التقى والبر والرشاد

مسألة: قال الشافعي: "وتقسم أربعة أخماسه بين من حضر الوقعة دون من بعدها واحتج بأن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قالا: "الغنيمة لمن شهد الوقعة". قال في الحاوي: وهذا كما ذكر إذا خرج من الغنيمة خمسها، ورضخ من لا سهم له فيها كان باقيها للغانمين الذين شهدوا الوقعة يشترك فيها من قاتل ومن لم يقاتل، لأنه كان ردًا للمقاتل قال الله تعالى: {واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ} فلما أضاف الغنيمة إليهم استثنى خمسها منهم دل على أن باقيها لهم، كما قال تعالى: {ووَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} فكان الباقي بعد الثلث للأب، فإن لحق بمن شهد الوقعة مدد من المسلمين عونًا لهم فعلى ثلاثة أضرب: أحدها: أن يلحقوا بهم قبل تقضي الحرب وانكشافها، فالمدد يشركهم في غنيمتها إذا شهدوا بقية حربها. والثاني: أن يلحقوا بهم بعد تقضي الحرب وإجازة غنائمها فلا حق لهم في غنيمتها سواء أدركوهم في دار الحرب أو بعد خروجهم منها. والثالث: أن يلحقوا بهم بعد تفضي الحرب وإجازة غنائمها، فشهدوا معهم إجازتها ففيها قولان: أحدهما: يشاركونهم فيها. والثاني: لا يشاركونهم. وهذان القولان مبنيان على اختلاف قولي الشافعي فيما تملك بع الغنيمة بعد إجازتها فأحد قوليه: إنها تملك بحضور الواقعة فعلى هذا لا حق للمدد فيها. والثاني: إنهم ملكوا بالحضور أن يتملكوها بالإجازة، فعلى هذا يشاركهم المدد فيها ويخرج على القولين ... المدد بهم بعد الوقعة وإجازة الغنائم، وهو مذهب مالك والأوزاعي والليث بن سعد وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة: إن لحق بهم المدد وهم في دار الحرب أو بعد خروجهم من دار الحرب وبعد قسمة الغنائم في دار الإسلام لم يشركوهم استدلالًا بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن عامر إلي أوطاس، فعاد وقد فتح النبي صلى الله عليه وسلم حنينًا فأشركهم في غنائمها. وبما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلي أمراء الأجناد أن من جاءكم من الإمداد قبل أن يتفقا القتلى فأعطوه من الغنيمة. وروى الشعبي أن عمر كتب بذلك إلي سعد بن أبي وقاص، ولأن القوة بالمدد هي المؤثرة في الظفر فصاروا فيها كالمكثر والمهيب، فوجب أن يكونوا بمثابتهم في المغنم،

ولأن الغنيمة لا تملك عنده إلا بالقسمة لأمرين: أحدهما: أنه لا يجوز لواحد منهم بيع سهمه منها قبل القسمة، ويجوز بيعه بعدها. والثاني: أنه لو استولى المسلمون على قرية من بلادهم دفعهم المشركون عنها، وفتحها آخرون من المسلمين كانت غنيمة للآخرين دون الأولين ودليلنا قوله تعالى: {واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ} فأضافها إلي الغانمين فدل على أنه لا حق فيها لغيرهم. وروى أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبان بن سعيد بن العاص من المدينة في سرية قبل نجد فقدم أبان وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين وقد فتحها فقال أبان: اقسم لنا يا رسول الله فقال: "اجلس يا أبان" ولو يقسم له. وروى أبو بكر رضوان الله عليه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الغنيمة لمن شهد الوقعة". وقد رواه الشافعي موقوفًا على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما وهو أثبت، ووقوفه عليهما حجة؛ لأنه لم يظهر لهما مخالف؛ ولأن أبا حنيفة وافقهما في المدد لو كانوا أسرى في أيديهم فقتلوا منهم ولحقوا بالمسلمين لم يسهم لهم، فكذلك غير الأسرى ولو لحقوا بهم في الوقعة شاركوهم فكذلك غير الأسرى، ويتحرر من هذا الاستدلال قياسان: أحدهما: أنه وصول بعد القفول فلم يشركوا في الغنيمة كالأسرى. والثاني: أن ما لم يشاركهم فيه الأسرى لم يشاركهم فيه المدد، قياسًا على ما بعد قسمة الغنيمة. فأما الجواب عن حديث عبد الله بن عامر فهو أنه كان في جيش رسول الله صلى الله عليه وسلم بحنين وأنفذه إلي أوطاس، وهو واد بقرب حنين حين بلغه أن فيه قومًا من هوازن، فكان من جملة جيشه، ومستحق الغنيمة فلذلك قسم له وخالف من ليس منهم. وأما حديث عمر فهو: إن صح مما لا يقول به أبو حنيفة؛ لأنه جعل استحقاق الغنيمة معتبرًا بفقء القتلى وفقؤهم غير معتبر فلم تكن فيه حجة. وأما الجواب عن الظفر بالمدد فمن وجهين: أحدهما: بطلانه بالمدد اللاحق بعد القسم. والثاني: أن أسباب الظفر ما تقدمت أو قاربت، ولو كانت مما تأخرت لكانت بمن أقام ولم ينفر، وأما الجواب عن استدلالهم بأنها لا تملك إلا بالقسمة: فهو أن أصل لهم يخالفهم فيه كالخلاف في قرعة، واحتجاجهم فيه بأن القرى للآخرين فنحن نجعلها

للأولين، وقولهم إن بيعها قبل القسمة لا يجوز، فنحن نجوزه إذا اختار الغانم تملكها ونجعل بيعها اختيارًا لتملكها فلم يسلم لهم بناء على أصل ولا استشهاد. مسألة: قال الشافعي: " ويسهم للبرذون كما يسهم للفرس سهمان وللفارس سهم". قال في الحاوي: وهذا صحيح لا اختلاف أن الفارس يفضل في الغنيمة على الراجل، فضل عنائه واختلفوا في قدر تفضيله، فالذي ذهب إليه الشافعي وأهل مكة ومالك من أهل المدينة والأوزاعي في أهل الشام والليث بن سعد في أهل مصر وهو قول جمهور أهل العراق أن للفارس ثلاثة أسهم، سهم له، سهمان لفرسه، وللراجل سهم واحد. وقال أبو حنيفة دون أصحابه ولا يعرف له موافق عليه: أن للفارس سهمين سهم له وسههم لفرصه لئلا يفضل فرسه عليه وللراجل واحد، وقد تقدم الكلام معه فيها في كتاب "قسم الفيء والغنيمة" بما أغنى عن إعادته. وقد روى عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل للرجل ولفرسه ثلاثة أسهم، سهماً له وسهمين لفرسه. وروى يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن جده أنه كان يقول: ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عام خيبر للزبير بن العوام بأربعة أسهم له، وسهمان لفرسه، وسهم لأمه صفية بنت عبد المطلب من سهم ذوي القربى. فصل: ولا فرق في الخيل بين عتاقها وهجانها وبين سوابقها وبراذينها في الاستحقاق، سهمين لهما، وسهمًا لفارسهما. وقال سلمان بن ربيعة، والأوزاعي: يسهم للخيل العتاق ولا يسهم للبراذين الهجان ويعطى فارسها سهم راجل. وقال أحمد بن حنبل: يسهم للبرذون الهجين نصف سهم العربي العتيق، فيعطى فارس البرذون سهمين ويعطى فارس العربي العتيق ثلاثة أسهم، وفرقوا بين البراذين والعتاق، بأن البرذون يثني يده إذا شرب ولا يثنيها العتيق، احتجاجًا بأن البراذين لا تعنى عناء العتاق والسوابق في طلب ولا هرب فشابهت البغال والحمير، وهذا خطأ لقول الله تعالى: {ومِن رِّبَاطِ الخَيْلِ} فعم الحكم في ارتباط الخيل بما يجعل من رهبة العدو بها وهذا موجود في عموم الخيل وفيه قوله: {وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} فيه أربعة تأويلات:

أحدها: أن القوة التصافي واتفاق الكلمة. والثاني: أن القوة الثقة بالنصر والرغبة في الثواب. والثالث: أن القوة السلاح، قال له الكلبي. والرابع: أن القوة في الرمي. وروى عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: "قال الله تعالى: {وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ} ألا إن القوة الرمي ثلاثًا. وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اربطوا الخيل فإن ظهورها عز وبطونها لكم كنز" فعم بالخيل جميع الجنس؛ ولأنه عتاق الخيل أجرى وأسبق، وبراذينها أكر وأصبر، فكان في كل واحد منهما ما ليس في الآخر فتقابلا ولأن عتاق الخيل عراب، وبراذينها أعاجم، وليس يفرق في الفرسان بين العرب والعجم، وكذلك الخيل لا يفرق بين شديد الخيل وضعيفه، فكذلك في السابق والمتأخر. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ولا يعطى إلا لفرس واحد". قال في الحاوي: وهو كما ذكر، وقال الأوزاعي وأبو يوسف وأحمد: يسهم لفرسين ولا يسهم لأكثر منهما؛ لأنه قد يعطب الواحد فيحتاج إلي ثان، فصار معدًا للحاجة، فوجب أن يسهم له، وهذا التعليل موجود في الثالث؛ لأنه قد يعطب الثاني، ولا يوجب ذلك أن يسهم لثالث، فكذلك الثاني؛ ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حضر بأفراس فلم يأخذ إلا سهم فرس واحد، وكذلك حضر كثير من أصحابه فلم يعطوا إلا سهم فرس واحد، وبذلك جرت سيرة خلفائه الراشدين من بعده، ولأنه لا يقاتل إلا على فرس واحد وما عداه زينة أو عدة، فلم يقع الاستحقاق إلا في المباشر بالعمل كخدمة الزوجة لما باشرها الواحد، وكان من عداه زينة، أو عدة لم يستحق إلا نفقة خادم واحد. فصل: فإذا قاتل المسلم على فرس مغصوب أخذ به سهم فارس ثلاثة أسهم، ثم نظر في مالكه فإن كان مسلمًا حاضرًا كان سهم الفرس، وهو سهمان من الثلاثة ملكًا لرب الفرس، دون غاصبه لأنه إذا حضر به الوقعة استحق سهمه، وإن لم يقاتل عليه فكذلك يستحقه، وإن قاتل عليه غيره، وإن كان مالك الفرس غير حاضر كان سهمه لغاصبه دون مالكه، وللمالك على الغاصب أجره مثله، وكذلك لو كان مالكه ذميًا حاضرًا؛ لأن سهم الفرس صار مستحقًا بالقتال عليه، وذلك موجود في الغاصب دون المالك.

مسألة: قال الشافعي:" ويرضخ لمن لم يبلغ والمرأة والعبد والمشرك إذا قاتل ولمن استعين به من المشركين". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن من لم يكن من أهل الجهاد إذا حضر الوقعة رضخ له ولم يسهم، وهو الصبي والمرأة والعبد. وقال الأوزاعي يسهم لجميع من شهد الوقعة وإن كانوا صبيانًا ونساء وعبيدًا، احتجاجًا بما رواه أن النبي صلى الله عليه وسلم أسهم لهم، وهذا خطأ لما روي أن نجدة الحروري كتب إلي ابن عباس يسأله عن النساء هل كن يشهدن الحرب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل كان يضرب لهن سهم، فكتب إليه ابن عباس: قد كن يحضرن الحرب، ويسقي الماء، ويداوين الجرحى، فكان يرضخ لهن ولا يسهم، ولأن السهم حق يقابل فرض الجهاد فاقتضى أن يسقط من حق من لم يفترض عليه الجهاد وخالف أصحاب الأعذار من الفقراء والمرضى الذين يسهم لهم إذا حضروا، لأن فرضه يجب عليهم بالحضور، ولذلك لم يجز لأصحاب الأعذار أن يولوا عن الوقعة وجاز لمن ليس من أهل الجهاد أن يولي عنها، وما رواه الأوزاعي من السهم لهم محمول على الرضخ، لأن السهم النصيب، وهكذا من استعان به الإمام من المشركين رضخ لهم، ولم يسهم، لرواية مقسم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم استعان بقوم من يهود بني قينقاع، فرضخ لهم ولم يسهم. فإذا ثبت أنه يرضخ لهم ولا يسهم، فإن كان مستحق الرضخ مسلمًا، كان رضخه من الغنيمة وهل يكون من أصلها؟ أو من أربعة أخماسها؟ على قولين مضيا وإن كان مشركًا فعلى قولين: أحدهما: من سهم المصالح وهو خمس الخمس، سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني: أنه من الغنيمة وهل يكون من أًلها أو من أربعة أخماسها؟ على قولين كالمسلم. مسألة: قال الشافعي: "ويسهم للتاجر إذا قاتل". قال في الحاوي: وللتاجر إذا خرج مع المجاهدين ثلاثة أحوال: أحدها: أن يقصد الجهاد بخروجه، وتكون التجارة تبعًا لجهاده، فهذا يسهم له إذا حضر الوقعة، وسواء قاتل أو لم يقاتل، يكون كغيره من المجاهدين الذين لم يتجروا، كما لو قصد الحج فاتجر كان له حجة، ولا تؤثر فيه تجارته. والثانية: أن يقصد التجارة، ويتخلف في المعسكر تشاغلًا بها، فهذا لا يسهم

اعتبارًا بقصده وعدم أثره في الوقعة. والثالثة: أن يقصد التجارة ويشهد الوقعة، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يقاتل فيسهم له، نص عليه الشافعي بلائه في الحرب. والثاني: أن لا يقاتل ففيه قولان: أحدهما: يسهم له لقوله: "الغنيمة لمن شهد الوقعة" ولأنه قد كثر وهيب وتجارته منفعة تعود على المجاهدين، فلم يحرم بها سهمه معهم. والثاني: لا يسهم له ولا يعطى رضخ كالإتباع لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهاجر أم قيس"من كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلي ما هاجر إليه" ولأن ما قصده بالخروج من فضل التجارة قد وصل إليه، فلم يزد عليه فيصير به مفضلًا على ذوي النيات في الجهاد، وهذا لا يجوز، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "وتقسم الغنيمة في دار الحرب، قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث غنمها وهي دار حرب بني المصطلق وحنين وأما ما احتج به أبو يوسف بأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر بعد قدومه المدينة وقوله: الدليل على ذلك أنه أسهم لعثمان وطلحة ولم يشهد بدرًا فإن كان كما قال فقد خالف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يعطي أحدًا لم يشهد الوقعة ولم يقدم مددًا عليهم في دار الحرب وليس كما قال. قال الشافعي: ما قسم عليه السلام غنائم بدر إلا بسير شعب من شعاب الصفراء قريب من بدر فلما تشاح أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في غنيمتها أنزل الله عز وجل {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ والرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} فقسمها وهي له تفضلًا وأدخل معهم ثمانية أنفار من المهاجرين والأنصار بالمدينة وإنما نزلت {واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} بعد بدر ولم نعلمه أسهم لأحد لم يشهد الوقعة بعد نزول الآية ومن أعطى من المؤلفة وغيرهم فمن ماله أعطاهم لا من الأربعة الأخماس وأما ما احتج به من وقعة عبد الله بن جحش وابن الحضرمي فذلك قبل بدر ولذلك كانت وقعتهم في آخر الشهر الحرام فتوقفوا فيما صنعوا حتى نزلت {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} وليس مما خالف فيه الأوزاعي في شيء". قال في الحاوي: وهذا كما ذكر، الأولى بالإمام أن يعجل قسمة الغنيمة في دار الحرب، إذا لم يخف ضررًا، فإن أخرها إلي دار الإسلام كره له ذلك إلا من عذر. [وقال أبو حنيفة: يؤخر قسمها إلى دار الإسلام في دار الحرب وقال]

مالك: يعجل قسمة الأموال في دار الحرب ويؤخر قسم السبي إلي دار الإسلام، واستدل من منع قسمها في دار الحرب برواية مقسم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر بعد مقدمه إلي المدينة وأعطى عثمان وطلحة بن عبيد الله وعبد الرحمن بن عوف منها، ولأن عبد الله بن جحش حين غنم ابن الحضرمي بعد قتله لم يقسم غنيمته حتى قدم بها المدينة، وكانت أول ما غنمه المسلمون قالوا: وقد روى مكحول قال: ما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمته قط في دار الحرب ولا يقول مكحول هذا قطعًا وهو تابعي إلا عن اتفاق الصحابة، قالوا: ولأنها في دار الحرب تحت أيديهم، واستدامة قبضتهم، فوجب أن يمنعوا من قسمها كما منعوا من بيع ما لم يقبض، ولأنها في دار الحرب معرضة للاسترجاع فلم يجز قسمها كما لو كانت الحرب قائمة. ودليلنا ما رواه الشافعي بإسناده أن النبي صلى الله عليه وسلم نفل ابن مسعود سيف أبي جهل ببدر، والنقل من القسم. وروى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلي بدر في ثلاثمائة وخمسة عشر رجلًا حفاة عراة جياعًا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنهم حفاة فاحملهم وعراة فاكسهم وجياع فأشبعهم". فانقلب القوم حيث انقلبوا ومع كل واحد منهم الحمل والحملان، وقد كساهم، وأطعمهم، وانقلابهم من بدر بهذا يكون بعد القسمة، فدل على أنه قسمها ببدر. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بني المصطلق يوم المريسيع على مياههم، ووقعت جويرية في سهم ثابت بن قيس بن شماس فاشتراها منه، وأعتقها وتزوجها، وقسم غنائم خيبر لها، وعامل عليها أهلها، وقسم غنائم حنين مع السبي بأوطاس، وهو وادي حنين، وأعطى منها المؤلفة قلوبهم، وقد نقل أهل السير والمغازي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما غنم غنيمة قط إلا قسمها حيث غنمها، ولأن كل موضع صحت فيه الغنيمة لم يمنع فيه من القسمة كدار الإسلام، ولأن كل غنيمة صح قسمها في دار الإسلام لم تكره قسمتها في دار الحرب تعجيل الحقوق إلي مستحقيها، فكان أولى من تأخيرها، ولأن حفظ ما فسم أسهل والمؤونة في نقله أخف فكان أولى. فأما الجواب عن حديث ابن عباس: أنه قسم غنائم بدر بالمدينة فمن وجهين: أحدهما: أنا روينا خلافه، فتعارضت الروايتان. والثاني: أن المهاجرين والأنصار تشاجروا فيها، فأخرها لتشاجرهم، حتى جعلها

الله تعالى لرسوله بقوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ والرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} فحينئذ قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم على رأيه، وأدخل فيهم ثمانية لم يشهدوا بدرًا، ثلاثة من المهاجرين، وخمسة من الأنصار. وأما حديث مكحول مرسل، والنقل المشهور بخلافه. وأما الجواب عن تأخير عبد الله بن جحش غنيمة ابن الحضرمي إلي المدينة فمن وجهين: أحدهما: أنها كانت في الأشهر الحرم فشكوا في استباحتها، فأخروها حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه عنها، فأنزل الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} والثاني: أن عبد الله بن جحش لم يعلم مستحق الغنيمة وكيف تقسم، فأخرها حتى استعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها. وأما الجواب عن قياسهم على بيع ما لم يقبض، فمن وجهين: أحدهما: أن ما لم يقبض من المبيعات مضمون على بائعه، فمنع من بيعه قبل قبضه، وهذا غير مضمون فافتقرا. والثاني: أن يد الغانمين أثبت، لأن يد المشركين عليه بحكم الدار ويد الغانمين عليه بالاستيلاء والمشاهدة، فصار كرجل في دار رجل وفي يده ثوب، فادعاه صاحب الدار لأن صاحب اليد أحق من صاحب الدار، لأن صاحب الدار يده من طريق الحكم ويد القابض من طريق المشاهدة فكانت أقوى وكان بالملك أحق. فأما الجواب عن قولهم إنها معرضة للاسترجاع فهو أنها كذلك فيما اتصل من دار الإسلام بدار الحرب، ولا يمنع ذلك من جواز قسمتها، فكذلك في دار الحرب، فأما مع بقاء الحرب فلم يستقر الظفر فيستقر عليها ملك للغانمين أو يد. مسألة: قال الشافعي: "ولهم أن يأكلوا ويعلفوا دوابهم في دار الحرب فإن خرج أحد منهم من دار الحرب وفي يده شيء صيره إلي الأمام". قال في الحاوي: يجوز لأهل الجهاد إذا دخلوا دار الحرب أن يأكلوا طعامهم، ويعلفوا دوابهم، ما أقاموا في دارهم، ولا يحتسب به عليهم من سهمهم، لرواية عبد الله من مغفل قال: دلى جراب من شحم يوم خيبر، قال فأتيته فالتزمته وقلت: لا أعطي اليوم منه أحدًا شيئاً ثم التفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم، فدل تبسمه منه وتركه عليه على إباحته له.

وروى عبد الله بن أبي أوفى قال: أصبنا طعامًا يوم خيبر، قال: فكان الرجل يجيء فيأخذ منه مقدار ما يكفيه وينصرف، فدل ذلك على إباحته، ولأن أزواد المجاهدين تنفذ ويصعب نقلها من بلاد الإسلام إليهم، ولا يظفرون بمن يبيعها عليهم، فدعت الضرورة إلي إباحتها لهم. فإذا ثبت إباحتها لهم، فقد اختلف أصحابنا هل تعتبر الحاجة في استباحتها أم لا؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول الجمهور والظاهر من مذهب الشافعي، أن الحاجة غير معتبرة في استباحتها وأنه يجوز لهم أن يأكلوا ويعلفوا دوابهم، مع الحاجة، والغنى والوجود والعدم، واعتبارًا بطعام الولائم. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة إنهم لا يستبيحونه إلا مع الحاجة اعتبارًا بأكل المضطر من طعام غيره هو ممنوع منه إلا عند حاجته واعتباره بالمضطر خطأ من وجهين: أحدهما: أن المضطر لا يستبيح إلا عند خوف التلف وهذا مباح، وإن لم يخف التلف. والثاني: أن المضطر ضامن، وهذا غير ضامن فافترقنا. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا من إباحة الأكل، جاز أن يأكل ما يقتاته وما يتأدم به وتفكه من ذلك ولا يقتصد على الأقوات وحدها اتفاق من أصحابنا وهو حجة أبي علي بن أبي هريرة في اعتبار الحاجة، ويجوز أن يدخر منه، إذا اتسع قدر ما يقتاته مدة مقامه، فإن ضاق كان أسوة غيره فيه، ويجوز أن يذبح المواشي ليأكلها، ولا يذبحها لغير الأكل روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذبح البهائم إلا لمأكله. ولا يجوز أن يتخذ جلودها حذاء ولا سقاء لاختصاص الإباحة بالأكل، فأشبه طعام الولائم، ولا يجوز أن يعدل عن المأكول والمشروب إلي ملبوس ومركوب، فأما الأدوية فضربان: طلاء ومأكول. فأما الطلاء من الدهن والضماد فمحسوب عليه إن استعمله، وأما المأكول ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ممنوع منه إلا بقيمة محسوبة عليه من سهمه لخروجها عن معهود المأكول. والثاني: أنها مباحة له وغير محسوبة عليه لأن ضرورته إليها أدعى، فكانت الإباحة أولى. والثالث: أنها إن كانت لا تؤكل إلا تداويًا، حسبت عليه من سهمه وإن أكلت لدواء غير دواء لم تحسب عليه.

فصل: فأما علوفة دوابهم وبهائمهم فتنقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما لا يستغني عنه في جهاده، من فرس يقاتل عليه وبهيمة يحمل عليها رحله، فيجوز أن يعلفها من مال أهل الحرب ما تعتلفه البهائم من شعير وتبن وقت، ولا يتعدى الغرف فيه إلي غيره، لأن ضرورتها فيه كضرورته. والثاني: ما استصحب للزينة والفرجة كالفهود والنمور والبزاة المعدة للاصطياد، فلا يجوز أن يعلفها من مال أهلي الحرب، لأنها غير مؤثرة في الجهاد، فإن أطعمها كان محسوبًا عليها. والثالث: ما حمله للاستظهار به لحاجة ربما دعت إليه كالجنيبة التي يستظهر بها لركوبه، أو بهائم يستظهر بها لحمولته ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز أن يعلفها من أموالهم، لأنه عدة يقوى بها عليهم. والثاني: لا يجوز أن يتعدى بها مال نفسه، وإن علفها من أموالهم كان محسوبًا عليها من سهمه اعتبارًا لحاجته في الحال التي هم عليها، وكما لا يسهم إلا لفرس واحد، وإن استظهر بغيره، ولا يجوز أن يتجاوز العلوفة إلي أنعال دوابه، ولا أن يوقع حوافرها ويدهن أشاعرها من أموالهم، فإن فعل كان محسوبًا عليه. فصل: فأما ما عدا الطعام والعلوفة من الثياب والدواب والآلة والمتاع فجميعه غنيمة مشتركة يمنع منها، وإن احتاج إليها، فإن لبس ثوبًا منها فأخلقه، أو ركب دابة فهزلها استرجع ذلك منه ولزمه أجرة مثله وغرم نقصه كالغاصب. روى رويفع بن ثابت الأنصاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يركب دابة من فيء المسلمين حتى إذا أعجفها ردها فيه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يلبس ثوبًا من فيء المسلمين حتى إذا خلق رده فيه" ولأن المضطر في دار الإسلام يستبيح أكل الطعام دون الثياب، فكذلك المجاهد في دار الحرب فإن اشتدت ضرورة بعض المجاهدين إلي ثوب يلبسه استأذن فيه الإمام، وأعطاه من الثياب ما يدفع به ضرورته، ويكون محسوبًا عليه من سهمه، وإذا نفقت دابته أو قتلت في المعركة لم يستحق بدلها من المغنم، كما لو مات المجاهد أو قتل لم يلزم غرم ديته، فإن اشتدت ضرورته إلي ما يركبه لقتال أو غيره، استأذن الإمام حتى يعطيه إما من خمس الخمس نفلًا، وإما من الغنيمة سلفًا من سهمه، يفعل منها ما يؤديه اجتهاده إليه، فإن شرط لهم الإمام أن من قتل فرسه في المعركة كان له مثلها أو ثمنها، جاز ليحرضهم على الإقدام، ووفى بشرطه

ودفع إليهم مثلها أو ثمنها بحسب الشرط، ولم يقتصر على حكم ضمان المستهلك في غرم قيمة الدابة، وجاز أن يعدل إلي المثل والثمن، لأن ذلك من عموم المصالح التي يتسع حكمها ويكون ما يدفعه من ذلك من خمس الخمس، سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المعد للمصالح العامة. فصل: ويجوز أن يتابع المجاهدون في دار الحرب ما أخذوه من طعامهم رطلًا برطلين، ولا يكون إذا باعه مجاهد على مجاهد، لأنه مباح الأصل بينهم فسقط فيه حكم الربا، نص عليه الشافعي في سير الواقدي، وإن كان تحريم الربا عنده في دار المشركين كتحريمه في دار الإسلام، ولا يجوز أن يبيعه بذهب ولا ورق، ويكون مقصورًا على بيع المأكول بمأكول كما كان مقصورًا على إباحة المأكول، فإن تأخر قبض البدل فيه سقطت المطالبة به لإباحة أصله، فإن أراد المجاهد أن يبيعه على من ليس بمجاهد لم يجز بيعه بأكثر منه ولا بثمنه ولا بثمن في الذمة ويكون مبيعًا باطلًا على الأحوال كلها، وإن عقد على شروط الصحة لأن الإباحة مقصورة على الأكل دون البيع كطعام الولائم، وهكذا لو دفعه المجاهد قرضًا لغيره منع إن كان مقترضه غير مجاهد ولم يمنع إن كان مقترضه مجاهدًا ويصير مقترضه أحق به ولا يستحق استرجاع بدله، وإذا أراد المجاهد أن يبيع طعامًا له حمله من دار الإسلام على مجاهد أو غير مجاهد جاز وحرم له فيه الربا، وإن أقرضه استحق استرجاع بدله بخلاف المأخوذ من طعام أهل الحرب للفرق بينهما بإباحة هذا وحظر ذاك. فصل: وإذا خرج المسلمون من دار الحرب ومعهم من بقايا ما أخذوه من طعامهم ففي وجوب رده إلي المغنم قولان: أحدهما: نص عليه هاهنا أن عليهم رده إلي المغنم لارتفاع الحاجة، فإن استهلكوه كان محسوبًا عليه من سهامهم. والقول الثاني: نص عليه في سير الأوزاعي لا يلزمهم رده، لأنه موضوع على الإباحة، وبه قال الأوزاعي وقد روى نافع عن ابن عمر أن جيشًا غنموا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم طعامًا وعسلًا فلم يؤخذ منهم الخمس. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: ما بقي معهم من الطعام قبل قسم الغنيمة رده في الغنائم، وما بقي بعد قسمتها باعوه وتصدقوا بثمنه وعلى مذهب الشافعي إن لم يجب رده على أحد قوليه كانوا أحق به قبل الغنم ويجوز لهم بيعه بعد خروجهم من دار الحرب، ولا يجوز لهم بيعه قبل خروجهم منها، وتكون أيديهم عليه في دار الحرب يد استباحة، وفي دار الإسلام يد ملك، وإن وجب رده على القول الثاني ردوه إلي المغنم قبل القسم، وعلى الإمام بعد القسم وليس لهم بيعه ولا التصدق

بثمنه، لأنه حق للغانمين وتكون أيديهم عليه في دار الحرب يد استباحة، وفي دار الإسلام يد حظر، فيجوز أن يأكلوه في دار الحرب ولا يأكلوه في دار الإسلام، ولا يجوز لهم بيعه في دار الحرب ولا في دار الإسلام والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "وما كان من كتبهم فيه طب أو ما لا مكروه فيه بيع وما كان فيه شرك أبطل وانتفع بأوعيته". قال في الحاوي: كتبهم مغنومة عنهم، لأنها من أموالهم وهي ضربان: أحدهما: ما ليس بمحظور على المسلمين وهو ما فيه طب أو حساب، أو شعر، أو أدب فتترك على حالها، وتقسم في المغنم مع سائر أموالهم. والثاني: ما كان محظورًا على المسلمين من كتب شركهم وشبه كفرهم فلا يجوز أن تترك على حالها، وكذلك التوراة والإنجيل لأنهما قد بدلا وغيرا عما أنزلهما الله تعالى عليه فجرت في المنع من تركها على حالها مجرى كتب شركهم، فتغسل ولا تحرق بالنار، وإن اختار بعض الفقهاء إحراقها، لأنه ربما كان فيها من أسماء الله تعالى ما يصان عن الإحراق، ولأن في أوعيتها إذا غسلت منفعة لا يجوز استهلاكها على الغانمين، فإن لم يكن غسلها مزقت، حتى يخفض ما فيها من الشرك، ثم بيعت في المغنم إن كان لها قيمة. فصل: فأما خمورهم فتراق ولا تباع عليهم ولا تباع عليهم، ولا على غيرهم لتحريمها وتحريم أثمانها، فأما أوانيها فإن أمكن حملها إلي دار الإسلام لنفاستها وكثرة أثمانها ضمت إلي الغنائم، وإن لم يكن حملها فإن غلب المسلمون على دارهم قسمت بينهم لينتفعوا بها بعد غسلها، وإن لم يغسلوا على دارهم كسرت ولم تترك عليهم صحاحًا لئلا يعاود الانتفاع بها في حظور. وأما خنازيرهم فتقتل سواء كانت مؤذية أو غير مؤذية، وقد قال الشافعي في سير الواقدي: تقتل إن كان فيها عدوى ولم يرد بذلك تركها إن لم يكن فيها عدوى، وإنما أراد تعجيل قتلها خوف ضررها وإن كانت عادية وإن وجب قتلها عادية وغير عادة، لأن الخمر تراق وإن لم يكن فيها عدوى، فإن تعذر عليهم قتلها تركها كما يتركهم إذا تعذر قتلهم. وأما جوارح الصيد فما كان مباح الأثمان من الفهود والنمور والبزاة قسمت بين الغانمين مع الغنائم، فأما الكلاب فضربان: أحدهما: ما لا منفعة فيه فلا يتعرض لأخذه، ثم ينظر فيها كان منها عقورًا

مؤذيًا قتل، وترك ما عداه. والثاني: يكون منتفعًا بها إما في صيد أو ماشية أو حرث فيجوز أخذها ليختص بها من الغانمين أهلي الانتفاع بها، فيدفع كلاب الصيد إلي أهل الصيد خاصة، وتدفع كلاب الماشية إلي أهل الماشية، وكلاب الحرث إلي أهل الحرث، ولا يعوض بقية الغانمين عنها؛ لأنه لا قيمة لها فإن لم يكن في الغانمين من ينتفع بها أعدها لأهل الخمس، لأن فيهم من ينتفع بها. مسألة: قال الشافعي: "وما كان مثله مباحًا في بلاد الإسلام من شجر أو حجر أو صيد في بر أو بحر لمن أخذه". قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا وجد في دار الحرب ما يكون مثله مباحًا في دار الإسلام، وذلك خمسة أنواع صيد، وأشجار، وأحجار، وثمار، ونبات، فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون عليه أثر الملك، وهو أن يكون الصيد موسومًا أو مقرطًا، أو تكون الأشجار مقطوعة، وأن تكون الأحجار مصنوعة، وأن تكون الثمار مقطوفة، وأن يكون النبات مجذودًا فهذه آثار تدل على الملك، فتكون غنيمة لا ينفرد بها واجدها لأن مثل هذه الآثار تمنع من استباحتها في دار الإسلام فخرجت عن حكم المباح في دار الشرك. والثاني: أن يكون على خلقه الأصلي ليس فيها أثار يرد، ولا صنعة فهذا على ضربين: أحدهما: أن تكون في أملاكهم، فهي غنيمة لا يملكها واجدها اعتبارًا بأصولها إلا الصيد، فإن كان مربوطًا فهو في حكمها غنيمة، وإن كان مرسلًا فهو على أصل الإباحة وما فيه من أحجار وأشجار وثمار ونبات وعسل ونحل وصيد مباح تبع لأصله، يأخذه واجده ولا يكون غنيمة. وقال أبو حنيفة: يكون جميعه غنيمة يمنع واجده منه إلا الحشيش وحده لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون شركاء في ثلاث: الماء والنار والكلأ" وما عداه غنيمة تقسم بين الغانمين استدلالًا بأنه ذو قيمة، فوجب أن يكون مغنومًا كسائر أموالهم. ودليلنا هو أن ما كان أصله على الإباحة في دار الإسلام كان على الإباحة في دار الحرب كالحشيش، ولأنها دار يستباح حشيشها فاستباح ما لم يجز عليه ملك من صاحبها كدار الإسلام، ولأن دار الإسلام أغلط خطرًا من دار الشرك فكان ما استبيح فيها أولى أن

يستباح في دار الشرك. والجواب عن قياسه مع انتفاضة بالحشيش أن معنى أصله أنه مملوك وهذا غير مملوك. فصل: فأما معادن بلادهم: فإن كانت مملوكة فهي غنيمة، وإن كانت في موات مباح فهي كمعادن مواتنا، ونظر ما فيه فإن كان ظهر بعمل تقدم فهو غنيمة لا يملكه آخذه، وإن كان كامنًا فهو ملكه آخذه. وأما الركاز فإن كان في أرض مملوكة، فهو غنيمة، وإن كان في موات مباح أو طريق سابل فعلى ثلاثة أضرب: أحدها: أن يكون عليه طابع قريب العهد، ويجوز أن يكون أربابه أحياء فهذا غنيمة لا يملكها واجدها. والثاني: أن يكون عليه طابع قديم، لا يحوز أن يكون أربابًا أحياء، فهذا ركاز يملكه واجده، وعليه إخراج خمسه. والثالث: ما استشكل واحتمل الأمرين ففيه وجهان: أحدهم: يكون غنيمة اعتبارًا بالدار. والثاني: يكون ركازًا اعتبار بالمال. وأما ما وجد من عدة المحاربين، وآلة القتال، من خيم وسلاح فعلى ثلاثة أضرب: أحدها: أنه يعلم أنه لأهل الحرب فيكون غنيمة. والثاني: أن يعلم أنه للمسلمين فيكون لقطة. والثالث: أن يكون مشكوكًا، فيه فينظر فإن وجد في معسكر أهل الحرب كان غنيمته، وإن وجده في معسكر المسلم كان لقطة اعتبارًا باليد. مسألة: قال الشافعي: "ومن أسر منهم فإن أشكل بلوغهم فمن لم ينبت فحكمه حكم طفل ومن أنبت فهو بالغ أو يسلم أهل الأوثان ويؤدي الجزية أهل الكتاب أو يمن عليهم أو يفاديهم بمال أو بأسرى من المسلمين أو يسترقهم فإن استرقهم أو أخذ منهم فسبيله سبيل الغنيمة أسر سول الله صلى الله عليه وسلم أهل بدر فقتل عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث ومن على أبي عزة الجمحي على أن لا يقاتله فأخفره وقاتله يوم أحد فدعا عليه أن لا يفلت فما أسر غيره ثم أسر ثمامة بن أثال الحنفي فمن عليه ثم أسلم وحسن إسلامه

وفدى النبي عليه السلام رجلًا من المسلمين برجلين من المشركين" قال في الحاوي: الأسرى ضربان: ذرية، ومقاتلة. فأما الذرية فهم النساء والصبيان، فلا يجوز قتلهم لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والولدان، ويتسرقون على ما سيأتي حكمه، وأما المقاتلة فهم الرجال، وكل من بلغ من الذكور فهو رجل، سواء اشتد وقاتل أم لا يكون الإنبات فيهم بلوغًا، أو في حكم البلوغ، على ما مضى من القولين لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم سعد بن معاذ في بني قريظة فحكم أن من جرت عليه المواسي قتل ومن لم تجر عليه استرق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا حكم الله من فوق سبعة أرقعه" يعني سبع سموات، والإمام في رجالهم إذا أقاموا على شركهم مخير بين أربعة أحكام يجتهد فيها رأيه، ليفعل أصلحها، فيكون خيار نظر واجتهاد لا خيار شهوة وتحكم. وخياره في الأربعة بين أن يقتل، أو يسترق، أو يفادي على مال أو أسرى، أو يمن بغير فداء، وقال أبو يوسف: يكون مخيرًا بين ثلاثة أشياء: أن يقتل، أن يسترق، أو يفادي على مال أو أسري، ليس له أن يمن. وقال مالك: يكون مخيرًا بين ثلاثة أشياء: أن يقتل، أو يسترق، أو يفادي على مال، ولا يجوز أن يفادي بأسرى، ولا أن يمن. وقال أبو حنيفة: يكون مخيرًا بين شيئين: أن يقتل، أو يسترق، ولا يجوز أن يفادي، ولا أن يمن، فصار القتل والاسترقاق متفقًا عليهما، أما القتل فلقول الله تعالى: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدتُّمُوهُمْ} وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط صبرًا يوم بدر، فقال يا محمد: من للصيبة، فقال: النار، وقتل النضر بن الحارث يوم بدر صبرًا. وأما الاسترقاق فلأن رسول الله صلى الله عليه وسلم استرق سبي بني قريظة وبني المصطلق، وهوازن يوم حنين. وأما الفداء والمن، واستدل أبو حنيفة على المنع منهما بقول الله تعالى في فداء أسرى بدر: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا}، يعني العمل بما يفضي إلي ثواب الآخرة، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم شاور فيهم أصحابه، فأشار أبو بكر باستبقائهم، وأخذ فدائهم لهل الله أن يهديهم، وأشار عمر بقتلهم، لأنهم أعداء الله، وأعداء رسوله، فعمل على قول أبي بكر، وفادى كل أسير بأربعة آلاف درهم، فأنكر الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم ما فعله من الفداء، وقال: {لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وفيه تأويلان: أحدهما: {لَوْلا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ} أنه سيحل المغانم لكل {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} من فداء الأسرى عذاب عظيم قال ابن عباس. والثاني: "لولا كتاب من الله سبق" أن لا يؤاخذ أحدًا بعمل أتاه على جهالة

{لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} من الفداء {عَذَابٌ عَظِيمٌ} قاله ابن إسحاق: قال: وإذا منع من الفداء كالمنع من المن أولى والدليل على جواز المن والفداء قول الله تعالى: {فَإذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ}. وفيه تأويلان: أحدهما: أنه ضرب رقابهم صبرًا بعد القدرة. والثاني: أنه قتالهم ألمفض إلي ضرب رقابهم في المعركة {حَتَّى إذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ} يعني بالإثخان الجراح، وبشد الوثاق الأسر، ثم قال بعد الأسر: {فَإمَّا مَنًا بَعْدُ وإمَّا فِدَاءً} والمن العفو، والفداء ما فودي به الأسير من مال أو أسير، ثم قال: {حَتَّى تَضَعَ الحَرْبُ أَوْزَارَهَا} فيه تأويلان: أحدهما: أوزار الكفر بالإسلام. والثاني: أثقال السلاح بالظفر فورد بإباحة المن والفداء نص القرآن الذي لا يجوز دفعه ثم جاءت به السنة، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من على ثمامة بن أثال بعد أن ربطه إلي سارية المسجد أسرًا، فمضى وأسلم في جماعة من قومه، وحسن إسلامه ومن على أبي عزة الجمحي يوم بدر، وشرط عليه أن لا يعود لقتاله، فلما عاد إلي مكة قال: سخرت من محمد، وعاد إلي قتاله في أحد فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يلفت فما أسر يومئذ غيره، فقال: امنن علي فقال: "هيهات، ترجع إلي قومك فتقول سخرت من محمد مرتين لا يدع المؤمن من حجر مرتين" وضرب عنقه وليس هذا القول من رسول الله صلى الله عليه وسلم على طريق الخبر، لأن المؤمن قد يلدغ من جحر مرتين، وإنما هو على طريق التحذير. ويدل على إباحة الفداء بالأسرى، ما رواه عمران بن الحصين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فادى يوم بدر رجلًا برجلين، وعلى الفداء بالمال ما فادى به أسرى بدر. فإن قيل: فقد أنكره الله تعالى عليه فعنه جوابان: أحدهما: أنه أنكره عليه قبل ورود إباحته، وقد وردت الإباحة فزال الإنكار. والثاني: أنه قيد إنكاره بشرط، وهو قوله: {حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ} وفي إثخانه دليلان: أحدهما: أنه كثرة القتل. والثاني: الاستيلاء والظفر وقد أنعم الله تعالى بهما، فزال الإنكار وارتفع المنع. فصل: فإذا ثبت أن الإمام أو أمير الجيش مخير في الأسرى بين أربعة أشياء، يفعل منها أصلحها في كل أسير، فعليه أن يقدم عرض الإسلام عليهم، فإن لم يسلموا نظر فيمن كان منهم عظيم العداوة شديد النكاية فهو المندوب إلى قتله فيقتله صبرًا, يضرب العنق لقول

الله تعالى: {فَضَرْبَ الرِّقَابِ}. وقوله: {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} ولا يمثل به لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة، وقال: "إن الله كتب عليكم الإحسان في كل شيء حتى في القتل فإذا قتلته فأحسنوا القتلة". فإن قيل: فقد مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرنيين، فقطع أيديهم وأرجلهن، وسمل أعينهم، وألقاهم في حر الرمضاء، فعنه جوابان: أحدهما: أنه فعل ذلك في متقدم الأمر ثم نهى. والثاني: أنه فعل ذلك بهم جزاء وقصاصًا، لأنهم قتلوا راعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثلوا به فقاتلهم عليه بمثله وقد قال الله تعالى: {وإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ}. ولا يجوز أن يحرقهم بالنار، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يعذب بعذاب الله غير الله". فإن قيل: فقد جمع خالد بن الوليد حين قاتل أهل الردة باليمامة جماعة من الأسرى وألقاهم في حفيرة وأحرقهم بالنار، وأخذ رأس زعيمهم فأوقده تحت قدره، قيل عنه جوابان: أحدهما: أن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما أنكرا ذلك من فعله وبرئا إلي الله من فعله. والثاني: أنها كانت حالًا لم ينتشر فيها حكم النهي، ففعل خالد من ذلك ما اقتضاه حكم السياسة عنده، لأنه كان في متقدم الإسلام، وكانوا أول قوم تظاهر بالردة بعد قبض الرسول صلى الله عليه وسلم وآمنوا بمسيلمة الكذاب، فأظهر لما فعل من إحراقهم بالنار أعظم العقوبات لارتكابهم أعظم الكفر ثم علم بالنهي فكف وامتنع، فإن ادعى ولحد من أمر الإمام بقتله أنه غير بالغ نظر، فإن لم ينبت شعر عانته قبل قوله، وإن نبت شعر عانته لم يقبل قوله بغير بينة، وفي قبول قوله مع البينة قولان بناء على اختلاف قوليه في الإنبات هل يكون بلوغًا أو دلالة عليه. فإن قيل: إنه بلوغ لم تسمع بينته وقتل، وإن قيل: إنه دلالة على البلوغ سمعت بينته أنه لم يستكمل خمس عشرة سنة ولم يقتل فهذا حكم القتل. فصل: وأما الاسترقاق فمن علم أنه قوي البطش ذليل النفس فهو من أهل الاسترقاق وله حالتان: إحداهما: أن يكون ممن يجوز إقراره بالجزية كأهل الكتاب من اليهود والنصارى، أو من له شبهة كتاب كالمجوس فيجوزن أن يسترق، يقر على كفره بالرق كما يقر عليه بالجزية والثانية: أن يكون ممن لا يقر على كفره بالجزية كعبدة الأوثان، ففي جواز إقراره

على كفره بالاسترقاق وجهان: أحدهما: وهو الظاهر من مذهب الشافعي وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم يجوزن أن يسترق، ويقر على كفره بالرق، وإن لم يقر عليه بالجزية، لأن كل من جاز إقراره بالأمان جاز إقراره بالاسترقاق، كالكتابي طردًا وكالمرتد عكسًا. والثاني: وهو قول أبي سعيد الإصطخري إنه لا يجوز إقراره بالاسترقاق، كما لا يجوز إقراره بالجزية، ويبقى خيار الإمام فيه بين القتل أو الفداء أو المن، ولا فرق على كلا الوجهين بين العرب منهم والعجم. وقال أبو حنيفة: إن كانوا عجمًا جاز استرقاقهم وإن كانوا عربًأ وجب قتلهم ولا يجوز استرقاقهم لمبالغة العرب في عداوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وإخراجه من بلده، فصاروا بذلك أغلظ جرمًا وصار قتلهم محتمًا، وهذا خطأ لأمرين: أحدهما: أن الاسترقاق عقوبة تتعلق بالكفر، فوجب أن يستوي فيها العربي والعجمي كالقتل. والثاني: أن كل كافر جاز استرقاقه إذا كان أعجميًا، جاز استرقاقه إذا كان عربيًا كأهل الكتاب فهذا حكم الاسترقاق. فصل: وأما الفداء بمال، فمن علم أنه كثير المال، مأمون العاقبة وافتدى نفسه بمال، قبل منه الفداء، وأطلق عليه، وكان المال المأخوذ منه غنيمة تقسم بين الغانمين، ويكون الذي استأ سره في فدائه وغيره من الغانمين سواء كما يكون الغانم للمال وغيره فيه سواء. فإن قيل: فقد كان فداء أسرى بدر بأخذه من استأ سرهم، ولذلك سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أبي العاص بن الربيع، وقد أسر يوم بدر، وهو زوج زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنفذت في جملة فدائه قلادة كانت لها جهزتها بها خديجة، فلما أبصرها رسول الله صلى الله عليه وسلم عرفها ورق لها، وقال: إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها وتردوا عليها مالها فافعلوا فلولا حقهم فيه لتفرد بالرد ولما سألهم فعنه ثلاثة أجوبة: أحدهما: أنه قال: ذلك استطابة لقلوبهم وإن كان أمره فيه نافذًا. والثاني: أنه كان قبل أن يستقر حكم الأسري والغنائم. والثالث: أنه حق لجميعهم لا لواحد منهم فاستطاب نفوسهم فيه. وأما الفداء والأسرى: فهو لمن كان في أيدي قومه أسرى من المسلمين، وهو مشفقون عليه من الأسرى ومفتدون له بمن في أيديهم فيفادي به من قدر عليه من أسرى المسلمين والأولى أن يأخذ به أكثر منه، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم فادى كل رجل من المشركين برجلين من المسلمين، فإن لم يقدر أن يفادي كل رجل إلابرجل جاز ولو دعته الضرورة أن يفادي رجلين من المشركين برجل من المسلمين فعل، فهذا حكم الفداء.

فصل: وأما المن بغير الفداء، فهو فيمن علم منه ميلًا إلي الإسلام، أو طاعة في قومه يتألفهم به فهو الذي يمن عليه كما من رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثمامة بن أثار فعاد مسلمًا في عدد من قومه، وينبغي أن يستظهر عليه بأن يشترط بأن لا يعود إلي قتله، كما شرط رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي عزة الجحيمي، فلم يف به وعاد لقتاله، وظفر به فضرب رقبته. فأما إن كان في الأسرى عبد لم يجز أن يمن عليه، لأنه مال كما لا يجوز أن يرد عليها غنائمهم ولم يحتج إلي استرقاقه؛ لأنه مسترق، وكان الإمام فيه بالخيار بين أن يقسمه بين الغنائم مع الأموال، وبين أن يقتله إن خالف عاقبته، ويعوض الغانمين عنه، لأنه مال بخلاف من قتله من الأحرار، وبين أن يفتدي به أسرى من المسلمين، ويعوض عنه الغانمين وسنذكر من أسلم. فصل: فإن قتل مسلم هذا الأسير فلا يخلو حال قتله من أحد أمرين. إما أن يكون بعد نفوذ حكم الإمام فيه أو يكون قبله فإن قتله بعد نفوذ حكم الإمام فيه، فلا يخل حكمه من أحد أربعة أحكام: أحدها: أن يكون قد حكم بقتله، فلا ضمان على قاتله، لكن يعزر لافتيانه على الإمام في قتل من لم يأمره بقتله وأن كان قتله مباحًا. والثاني: أن يكون الإمام استرقه فيضمنه قاتله بقيمته عبدًا، وتكون القيمة من الغنيمة تقسم بين الغانمين. والثالث: أن يكون الإمام قد فادى به على مال أو أسرى فهذا على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يقتله قيل فرض الإمام فدا، فيضمن ديته من مال الغنيمة، لأنه صار له بالفداء أمان فضمن ديته وصار بقاء الفداء موجبًا لصرف الدية إلي الغنيمة. والثاني: أن يقتله بعد فرض الإمام فداء وقبل إطلاقه فيضمنه بالدية لورثته دون الغانمين لاستيفاء فدائه. والثالث: أن يقتله بعد قبض فدائه، وإطلاقه إلي مأمنه فلا ضمان عليه لعوده إلي ما كان عليه قبل أسره. والقسم الرابع: من أقسام الأصل أن يكون الإمام قد من عليه فقتله بعد المن، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يقتله قبل حصوله في مأمنه فيضمنه بالدية لورثته. والثاني: أن يقتله بعد حصوله في مأمنه فلا يضمن ويكون دمه هدرًا. وأما إذا قتله قبل أن يقضي الإمام فيه بأحد هذه الأحكام الأربعة فلا ضمان عليه لكن يعزر أدبًا، وقال الأوزاعي: يضمنه بالدية للغانمين لافتياته عليهم، وهذا خطأ لأمرين:

أحدهما: أنه على أصل الإباحة ما لم يحدث خطر فأشبه المرتد. والثاني: أن قتل الإمام لما لم يوجب ضمانًا لو يوجب قتل غيره كالحربي. مسألة: قال الشافعي: "وإن أسلموا بعد الأسر رقوا وإن أسلموا قبل الأسر فهم أحرار". قال في الحاوي: وجملة إسلامهم ضربان. أحدهما: أن يكون قبل أسرهم، فيسقط خيار الإمام فيهم، فلا يجوز أن يقتل، ولا يسترق ولا يفادي، وهم كمن أسلم قبل القتال في جميع أحكام المسلمين، وسواء أسلموا وهم قادرون على الهرب أو كانوا في حصار أو مضيق قد أحيط بهم، ولو في بئر، لأنهم قبل الإسار يجوز أن يتخلصوا فجرى على إسلامهم دماءهما وأموالهما، وهكذا من بدل الجزية قبل الإسار حقن بها دمه، وحرم بها استرقاقه، وصارت له بها ذمة كسائر أهل الذمة، فإن أقام في دار الإسلام منعنا عنه نفوسنا وغيرنا، وإن أقام في دار الحرب منعنا عنه نفوسنا ولم يلزم أن نمنع عنه غيرنا. فصل: والضرب الثاني: أن يسلموا بعد الإسار وحصولهم في أدي المسلمين فيسقط القتل عنهم بإسلامهم، ويحقنوا به دماءهم، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم" فثبت أن الإسلام موجب لحقن دمائهم، فإن بذلوا الجزية بعد الإسراء ولم يسلموا نظر فيهم، فإن كانوا من عبدة الأوثان لم تقبل جزيتهم، ولم تحقن بها دماؤهم، وإن كان من أهل الكتاب ففي حقن دمائهم وقبول الجزية بعد الإسار وجهان حكاهما ابن أبي هريرة: أحدهما: تحقن بها دماؤهم بعد الإسار كما تحقن بها دماؤهم قبل الإسار كالإسلام. والثاني: لا تحقن بها دماؤهم بعد الإسار وإن حقنت بها قبله لقول الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ} وليس لهم بعد الإسار يد. فصل: فإذا سقط قتلهم بعد الإسار بالإسلام، فقد قال الشافعي هاهنا، فإن أسلموا بعد الإسرا رقوا، وإن أسلموا قبل الإسار فهم أحرار، وظاهر هذا الكلام أنهم قد صاروا رقيقًا بالإسلام، من غير استرقاق، وقال في موضع آخر: إنهم لا يصيرون رقيقًا حتى

يسترقوا، فخرجه أصحابنا على قولين: أحدهما: أنهم قد رقوا بالإسلام، لأن كل أسير حرم قتله رق كالنساء والصبيان فعلى هذا يسقط خيار الإمام في الفداء والمن. والقول الثاني: وهو أصح إنهم لا يرقوا إلا بالاسترقاق؛ لأن سقوط الخيار من القتل لا يوجب سقوطه في الباقي كالكفارة إذا سقط خياره في العتق لعدمه لم يسقط خياره فيما عداه، فعلى هذا يكون الإمام على خياره فيه بين الاسترقاق أو الفداء أو المن، لما روي أن العقيلي أسر وأوثق في الحرة، فمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله بم أخذت وأخذت سابقة الحاج، فقال: بجريرتك وجريرة حلفائك من ثقيف، فقال: إني جائع فأطعمني، وعطشان فأسقني، فأطعمه وسقاه، فقال له: أسلم، فأسلم، فقال: لو قلتها قبل هذا لأفلحت كل الفلاح، وفاداه برجلين من المسلمين. فدل هذا الخبر على أنه لا يرق بالإسلام يسترق وأنه لا يسقط خياره في الفداء والمن. وقوله: وأخذت سابقة الحاج يعني بها ناقة كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم سابقة الحاج، أخذها المشركون، وصارت إلي العقيلي، فأخذت منه بعد أسره، فأراد بذلك أن سابقة الحاج قد أخذت مني ففيم أو خذ بعدها، فقال له: "بجريرتك وجريرة قومك" يعني بجنايتك جناية قومك، لأنهم نقصوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإن قيل: كيف يؤخذ بجناية غيره، من قومه. قيل: لما كان منهم ومشاركًا لهم في أفعالهم صار مشاركًا لهم في الأخذ بجنايتهم، فأما إن سقط عنه القتل به الإسار ببذل الجزية على ما ذكرناه من الوجهين لم يرق ببذلها قولًا واحدًا، حتى يسترق وكان الإمام فيه على خياره بين استرقاقه مفاداته والمن عليه بخلاف الإسلام في أحد القولين لأن بقاء كفره يوجب إبقاء أحكامه. مسألة: قال الشافعي: "وإذا التقوا والعدو فلا يولوهم الأدبار قال ابن عباس: "من فر من ثلاثة فلم يقر ومن فر من اثنين فقد فر" قال الشافعي: هذا على معنى التنزيل فإذا فر الواحد من الاثنين فأقل إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا غلي فئة من المسلمين قلت أو كثرت بحضرته أو مبينة عنه فسواء ونيته في التحريف والتحيز ليعود للقتال المستثنى المخرج من سقط الله فإن كان هربه على غير هذا المعنى خفت عليه إلا أن يعفو الله أن يكون قد باء بسخط من الله". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن الجهاد من فروض الكفايات قبل التقاء الزحفين، ومن فروض الأعيان إذا التقى الزحفان لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمْ

فِئَةً فَاثْبُتُوا}. فأمر بمسايرة بعد لقائه، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وصَابِرُوا ورَابِطُوا}. وفيه تأويلان: أحدهما: اصبروا على طاعة الله، وصابرو أعداء الله، ورابطوا في سبيل الله، وهذا قول الحسن وقتادة. والثاني: اصبروا على دينكم، وصابرو الوعد الذي وعدكم، ورابطوا عدوي وعدوكم وهذا قول محمد بن كعب. وقوله: {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}. أي لتفلحوا وفيه تأويلان: أحدهما: لتؤدوا فرضكم. والثاني: لتنتصروا على عدوكم وأصل هذا أن الله تعالى أوجب في ابتداء فرض الجهاد على كل مسلم أن يصابر في القتال عشرة من المشركين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ المُؤْمِنِينَ عَلَى القِتَالِ إن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وإن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} وفيه تأويلان: أحدهما: لا يعلمون ما فرض الله عليكم من الإسلام. والثاني: لا يعلمون ما فرض الله عليكم من القتال، ثم إن الله تعالى نسخ ذلك عنهم، عند كثرتهم، واشتدت شوكتهم لعلمه بدخول المشقة عليهم، فأوجب على كل مسلم لاقى المشركين محاربًا أن يقف بإزاء عشرة تخفيفًا ورخصة بقوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإن يَكُن مِّنكُم مِّائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وإن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإذْنِ اللَّهِ واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} وفيه تأويلان: أحدهما: بمعونة الله. والثاني: بمشيئة الله {واللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} وفيه تأويلان: أحدهما: مع الصابرين على القتال في معونتهم على عدوهم. والثاني: مع الصابرين على الطاعة في قبول عملهم وإجزال توابهم، فصار فرضًا على كل رجل مسلم لاقى عدوه زحفًا في القتال أن يقاتل رجلين مصابرًا لقتالهما ولا يلزمه مصابرة أكثر من رجلين، وليس المراد به الواحد إذا انفرد أن يصابر قتال رجلين وإنما المراد به الجماعة من المسلمين إذا لاقوا عدوهم أن يصابروا قتال مثلي عددهم هذا مذهب الشافعي، وبه قال عبد الله بن عباس. وقال أبو حنيفة: هذا إخبار من الله تعالى عن حالهم، موعد منه إذا صابروا مثلي عددهم أن يغلبواوليس بأمر مفروض اعتبار بلفظ القرآن، وأنه خارج مخرج الخبر دون الأمر. وقال الحسن البصري، وقتادة: هو خارج مخرج الأمر، لكنه خاص في أهل بدر

دون غيرهم، وكلا القولين فاسد، لأنه لو خرج مخرج للخبر لم يجز أن يكون بخلاف مخبره، وقد يوجد أحياناً خلافه، ولم يجز أن يختص بأهل بدر لنزول الآية، بعد بدر، وأن من قاتل ببدر إن لم نخفف عنهم لم يغلظ عليهم، فثبت أنه أمر من الله تعالى محمول على العموم. فصل: فإذا تقرر أن فرض المصابرة في تقال المشركين أن يقفوا مصابرين لقتالهم مثلهم، ولا يلزمهم مصابرة أكثر من مثلهم فلهم في القتال حالتان: إحداهما: أن يرجوا الظفر بهم إن سابروهم فواجب عليهم مصابرة عدوهم حتى يظفروا بهم، سواء قلوا أو كثروا، وهذا أكثر مراد الآية. والثاني: أن لا يرجوا الظفر بهم، فهاهنا يعتبر المشركون، فان كانوا أكثر من مثلي المسلمين جاز أن يولوا المسلمين عنهم، ويرجعوا عن قتالهم فلن أقاموا على المصابرة والقتال كان مقامهم أفضل إن لم يتحققوا التلف وفي جوازه إن تحقق وجهان: أحدهما: يجب عليهم أن يولوا ولا يجوز أن يصابروا والثاني: يجوز لهم أن يصابروا، ولا يجب عليهم أن يولوا، وهذا الوجهان بناء على الاختلاف الوجهين فيمن أريدت نفسه، هل يجب عليه المنع عنهما أم لا؟ على وجهين، وإن كانوا مثلي المسلمين فأقل حرم على المسلمين أن يولوا عنها وينهزموا منهم إلا في حالتين: إحداهما: أن ينحرفوا لقتال. والثانية: أن يتحيزوا إلى فئة لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ (15) ومَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ ومَاوَاهُ جَهَنَّمُ وبِئْسَ المَصِيرُ} فدل هذا الوعيد على أن الهزيمة لغير هذين من كبائر المعاصي، وقد ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر فذكر فيها الفرار من الزحف. وروي عن ابن عباس أنه قال: "من فر من ثلاثة لم يفر، ومن فر من اثنين فقد فر". فأما التحرف للقتال فهو أن يعدل عن القتال إلى موجع هو أصلح للقتال، بأن ينتقل من مضيق إلى سعة، ومن حزن إلى سهولة، ومن معطشة إلى ماء، ومن استقبال الريح والشمس إلى استدبارهما، ومن موضع كمين إلى حرز أو يولي هاربة ليعود طالباً، لأن الحرب هرب وطلب وكر وفنا فهذا وما شاكلة هو التحرف لقتال. وأما التحيز إلى فئة فهو أن يولي لينضم إلى طائفة من المسلمين ليعود معهم محارباً وسواء كانت الطائفة قريبة أو بعيدة. قال الشافعي: "قريبة أو مبينة" يعني متأخرة، حتى لو انهزم من الروم إلى طائفة من

الحجاز، كان متحيزًا إلى فئة. روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال يوم القادسية: أنا فئة كل مسلم، فإن انهزم المسلمون من مثلي عددهم غير منحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة فهم عصاه الله تعالى فسقه في دينهم، إلا أن يتوبوا. وهل يكون من شروط التوبة معاودة القتال استدراكا لتفريطه أم لا؟ على وجهين: أحدهما: أن من شرط صحتها ومعاودة القتال استدراكاً لتفريطه. والثاني: ليس من صحتها العود وليكن ينوي أنه متى عاد لم ينهزم إلا متحرفاً لقتال أو متحيزا إلى فئة، وسواء كان المسلمون فرسانا والمشركون رجالة، في جواز انهزامهم من أكثر من مثلي عددهم، أو كان المسلمون رجالة والمشركون فرسانا في تحريم انهزامهم من مثل عددهم. فصل: فأما الرجل الواحد من المسلمين إذا لقي رجلين من المشركين فإن طلباه ولم يطلبها جاز له أن ينهزم عنهما، لأنه غير متأهب لقتالهما، وإن طلبهما ولم يطلباه ففي جواز انهزامهم عنهما وجهان: أحدهما: وهو الظاهر من مذهب الشافعي يجوز أن ينهزم عنهما بخلاف الجماعة مع الجماعة، لأن فرض الجهاد في الجماعة دون الانفراد. والثاني: يحرم عليه أن ينهزم عنهما إلا منحرفاً لقتال، أو متحيزاً إلى فئة كالجماعة، لأن طلبه لهما قد فرض عليه حكم الجماعة. فصل: فإن تحققت الجماعة المقاتلة لمثلي عدوهم أنهم إن صابروهم هلكوا، ففي جواز هزيمتهم منهم غير متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة وجهان: أحدهما: يجوز لهم أن ينهزموا 2 صش لقول الله تعالى: {ولا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ}. والثاني: لا يجوز لهم أن ينهزموا، لأن في التعرض للجهاد أن يكون قاتلاً أو مقتولا؛ ولأنهم يقدرون على استدراك المآثم في هزيمتهم أن ينووا التحرف لقتال، أو التحيز إلى فئة، والله أعلم. مسألة قال الشافعي: "ونصب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل الطائف منجنيقاً أو عراة ونحن

نعلم أن فيهم النساء والوالدان وقطع أموال بني النضير وحرقها وشن الغارة على بني المصطلق غارين وأمر بالبيات والتحريق". قال في الحاوي: وهذا كما ذكر ويجوز للإمام أن يقاتل المشركين بكل ما علم أنه يفضي إلى الظفر بهم من نصب المنجنيق والعراقة عليهم، وقد نصب رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطائف حين حاصرها بعد فتح مكة منجنيقاً أو عرادة، ويجوز أن يشن عليهم الغارة وهم غارون لا يعلمون، قد شن رسول الله صلى الله عليه وسلم الغارة على بني المصطلق عارين، ويجوز أن يقمع عليهم البيات ليلًا، ويحرق عليهم ديارهم ويلقي عليهم النيران والحيات والعقارب، ويهدم عليهم البيوت، ويجري عليهم السبل ويقطع عنهم الماء، ويفعل بهم جميع ما يفضي إلى هلاكهم، ولا يمنع من فيهم من النساء والولدان أن يفعل ذلك بهم، وإن أفضى إلى هلاك نسائهم وأطفالهن، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يمنعه من فيء بني المصطلق منهم من شن الغارات عليهم، ولا من ثقيف من نصب المنجنيق عليهم، ولأن نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والولدان إنما كان في السبي المغنوم أن يقتلوا صبرًا، ولأنهم غنيمة، فأما وهم في دار الحرب، فهي دار إباحة يصبرون فيها تبعاً لرجالهم. روى الصعب بن جثامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن دار الشرك فيصاب من نسائهم وأبنائهم، فقال: "هم منهم" يعني في حكمهم، فأما إن كان فيهم أساري مسلمين، فلا يخلو جيش المسلمين من أن يخافوا اصطدام العدو، أو يأمنوه، فإن خافوا اصطدامه جاز أن يفعل يهم ما يفضي إلى هلاكهم، وإن هلك معهم من بينهم من للمسلمين، لأن سلامة الأكثر مع تلف الأقل أولى. وإن أمنوا اصطدامهم نظر في عدد المسلمين من الأسرى، فإن كثر وعلم أنهم لا يسلمون إن رموا كف عن رميهم وتحريقهم، وإن قلوا وأمكن أن يسلموا إن رموا جاز رميهم، وقد توفي المسلمين منهم، لأن إباحة الدار يجري عليها حكم الإباحة، وإن كان فيها حظر كما أن حظر دار الإسلام يجري عليها حكم الحظر وإن جاز أن يكون فيها مباح الدم، لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "منعت دار الإسلام ما فيها، وأباحت دار الشرك ما فيها". مسألة: قال الشافعي: "وقطع بخيبر وهي بعد النضير والطائف وهي آخر غزوة غزاها عليه السلام لقي فيها قتالاً فبهذا كله أقول وما أصيب بذلك من النساء والوالدان فلا بأس لأنه على غير عمد فإن كان في دارهم أساري مسلمون أو مستأمنون كرت النصب عليهم بما ينعم التحريق والتفريق احتياطيًا غير محرم له تحريماً بينًا وذلك أن الدار إذا كانت مباحة فلا تبين أن يحرم بأن يكون فيها مسلم يحرم دمه".

قال في الحاوي: وهو كما ذكر يجوز أن يقطع على أمل الحرب نخلهم وشجرهم ويستهلك عليهم زرعهم وثمرهم، إذا علم أنه يفضي إلى الظفر بهم، ومع أبو حنيفة من ذلك استدلالا بقول الله تعالى: {ولا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ}، وهذا فساد، ولما روي أن أبا بكر بعث جيشاً إلى الشام ونهاهم عن قطع شجرها ولأنها قد تصير دار الإسلام، فيصير ذلك غنيمة للمسلمين. ودليلنا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم حاصر بني النضير في حصونهم بالبويرة حين نقضوا عهدهم فقطع المسلمون عليهم عددا من نخلهم ورسول الله صلى الله عليه وسلم يراهم إما بأمره وإما لإقراره. واختلف في سبب قطعها فقيل لإضرارهم بها، وقيل: لتوسعة موضعها لقتالهم فيه، فقالوا وهم يهود أهل الكتاب: يا محمد ألست تزعم أنك نبي تريد الصلاح، فمن الصلاح عقر الشجر وقطع النخل وقال شاعرهم سماك اليهودي: ألسنا ورئنا كتاب الحكيم على عهد موسى ولم يصدف وأنت رعاة لشاة عجاف يسهل تهامة والأخيف ترون الرعاية مجدا لكم لدى كل دهر لكم مجحفا فيا أيها الشاهدون انتهوا عن الظلم والمنطق المؤنف لعل الليالي وصرف الدهور يدركن عن العادل المنصف بقتل النضير وإجلالها وعقر النخيل ولم تخطف فقال حسان بن ثابت: هم أوتوا الكتاب فضيعوه وهم عمي عن التوراة نور كفرتم بالقرآن وقد أتيتم بتصديق الذي قال النذير فهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير فقال المسلمون: يا رسول الله: هل لنا فيما قطعنا من أجر؟ أو هل علينا فيما قطعنا من وزر؟ وحينا انزل الله قوله تعالى: {مَا قَطَعْتُم مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإذْنِ اللَّهِ ولِيُخْزِيَ الفَاسِقِينَ} وفي اللينة ثلاثة أقاويل: أحدهما: أنها العجوة من النخل، لأنها أم الإناث، كما أن العتق أم النحول، وكانتا مع نوح في السفينة، ولذلك شق عليهم قطعها. والثاني: أنها الفسيلة، لأنها ألين من النخلة. والثالث: أنها جمع النخل والشجر للينها بالحياة. فإن قيل: فهذا منسوخ يقوله تعالى: {ولا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا}. فعنه جوابان: أحدهما: أنه يقضي إلى الظفر بالمشركين وقوة الدين كان (صلاحاً)، ولم يكن

فساداً، وفي الآية تأويلان: أحدهما: ولا تفسدوا في الأرض بالكفر بعد إصلاحها بالإيمان. والثاني: لا تفسدوا في الأرض بالجور بعد إصلاحها بالعدل. والجواب الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فعل بعد بني النضير مثل ما فعل بهم، فقطع على أهل خيبر نخلاً، وقطع على أهل الطائف وهي آخر غزواته التي قاتل فيها لزوما على بقاء الحكم في قطعها وأنه غير منسوخ، ولأن حرمة النفوس أعظم وقتلها أغلظ، فلما جاز قتل نفوسهم على الكفر كان قمع نخلهم وشجرهم عليهم أولى، فأما استدلالهم بجوابه ما ذكرنا. فصل: فإذا ثبت ما ذكرنا لم يخل حال نخلهم وشجرهم في محاربتهم من أربعة أقسام: أحدها: أن نعلم أن لا تصل إلى الظفر بهم إلا بقطعها، فقطعها واجبه لأن ما أدى إلى الظفر بهم واجب. والثاني: أن تقدر على الظفر بهم وبها من غير قطعها، فقطعها محظور، لأنها مغنم، واستهلاك الغنائم محظور وعلى هذا حمل نهي أبي بكر رضي الله عنه عن قطع الشجر بالشام. والثالث: أن لا ينفعهم قطعها وينفعنا قطعها فقطعها مباح وليس بواجبه. والرابع: لا ينفعهم قطعها ولا ينفعنا قطعها فقطعها مكروه، وليس بمحظور، وكذلك الحكم في هدم منازلهم عليهم، على هذه الأقسام قال الله تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وأَيْدِي المُؤْمِنِينَ} وفيه ثلاثة تأويلات: أحدها: بأيديهم في نقض الموادعة، وأيدي المزمن بالمقابلة. وهذا قول الزهري. والثاني: بأيديهم في أخراب دواخلها، حتى لا يأخذها المسلمون منهم، وبأيدي المؤمنين في أخراب ظواهرها، حتى يصلوا إليها، وهذا قول عكرمة. والثالث: بأيديهم في تركها وبأيدي المؤمنين بإجلائهم عنها، وهذا قول أبي عمرو ابن العلاء. مسألة قال الشافعي: "ولكن لو التحموا فكان يتكامل التحامهم أن يفعلوا ذلك رأيت لهم أن يفعلوا وكانوا مأجورين لأمرين: أحدهما الدفع عن النفس والآخر نكاية عدوهم ولو

كانوا غير ملتحمين فترسوا بأطفالهم فقد قيل يضرب المتترس منهم ولا يعمد الطفل وقد قبل يكف". قال في الحاوي: وهذا كما ذكر إذا تترس المشركون بأطفالهم لعلمهم أن شرعنا يمنع من تعمد قتلهم فهذا على ضربين: أحدهما: أن يفعلوا ذلك في التحام القتال مع إقبالهم على حربنا فلا يمنع ذلك من قتالهم ولا حرج فيما أفضى عنه إلى قتل أطفالهم لأمرين: أحدهما: أن ترك قتالهم بهذا مفض إلى ترك جهادهم. والثاني: إنهم مقبلون على حربنا فحرم أن نولي عنهم. والضرب الثاني: أن يتترسوا بهم في غير التحام القتال عند متاركهم لنا، وقد بدأنا بقتالهم وهم في حصارنا، فخافونا فيه ففعلوا ذلك، لتمتع من رميهم، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يفعلوا ذلك مكراً منهم، فلا يوجب ذلك ترك حصارهم، ولا الامتناع من رميهم ولو أفضى إلى قتل أطفالهم. والثاني: أن يفعلوه دفعاً عنهم فلا يمنع ذلك من حصارهم، وفي المنع من رميهم وضربهم قولان: أحدهما: أنه لا يمنع من رميهم كالمقاتلين تغليبا لفرض الجهاد. والثاني: أن يمنع من رميهم، ويؤخر الكف عنهم بخلاف المقاتلين. لأن جهادهم ندب وجهاد للمقاتلين فرض، وإذا قابل الندب حظر كان حكمة الحظر أغلب. مسألة قال الشافعي: "ولو تترسوا بمسلم رأيت أن يكف إلا أن يكونوا ملتحين فيضرب المشرك ويتوقي المسلم جهده فإن أصاب في هذه الحال مسلماً. قال في كتاب "حكم أهل الكتاب" أعتق رقبة وقال في موضع آخر من هذا الكتاب: إن كان علمه مسلماً فالدية مع الرقبة. قال المزني رحمه الله: ليس هذا عندي بمختلف ولكنه يقول إن كان قتله مع العلم بأنه محرم الدم مع الرقبة فإذا ارتفع العلم فالرقبة دون الدية". قال في الحاوي: وصورتها أن يتترس المشركون بمن في أيديهم من المسلمين. إما ليدفعونا عنهم، وإما ليقتدوا بهم نفوسهم، فالكلام فيها يشتعل على فصلين: أحدهما: في الكف عنهم. والثاني: في ضمان من قتل من المسلمين فيهم. فأما الفصل الأول: في الكف عنهم فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون في غير التحام الحرب، فواجب أن يكف عن رميهم قولًا

واحدًا، بخلاف ما لو تترسوا بأطفالهم في جواز رميهم على أحد القولين، لأن نفس المسلم محظورة لحرمة دينه، ونفوس أطفالهم محظورة لحرمة المغنم، ولو كان في دارهم مسلم، ولم يتترسوا به جاز رميهم بخلاف لو تترسوا به، لأنهم إذا تترسوا به كان مقصودا، وإذا لم يمسوا به فهو غير مقصود، فهذا حكمه في وجوب الكف عن رميهم، فأما الكف عن حصارهم فعلى ضربين: أحدهما: أن يأمن على ما في أيديهم من أسرى المسلمين أن يقتلونهم، فيجوز حصارهم والمقام على قتالهم. والثاني: أن لا يأمن عليهم، ويغلب في الظن أنهم يقتلونهم، إن أقمنا على قتالهم فهذا على ضربين: أحدهما: أن لا يكون علينا في الكف عنهم ضرر، فالواجب أن يكف عن حصارهم استبقاءًا لنفوس المسلمين لئلا يتعجل بقتلهم ضرراً وليس في متاركهم ضرر. والثاني: أن يكون علينا في الكف عن المشركين ضرر لخوفنا منهم على حريم المسلمين. وحرمهم، فلا يجب الكف عنهم ولا الامتناع عن قتالهم، فإن قتلوهم استدفاعاً لأكثر الضررين بأقلهما وكان وجوب المقام على قتالهم معتبرا بالضرر المخوف منهم، فلن كان معجلاً وجب المقام عليهم، وإن كان مؤجلًا لم يجز للمقام إلا عند تجدده وحدوثه، فهذا حكم الضرب الأول إذا تترسوا بهم قبل التحام القتال. فصل: والثاني: أن يتترسوا بهم بعد التحام القتال، فلا يجوز أن يولي المسلمون عنهم لأجل الأسرى، لأن فرض قتالهم قد تعين بالتقاء الزحفين، ويجوز أن يرميهم المسلمون ما أقاموا على حربهم، ويتعمدون بالرمي ويتوقوا رمي من تترسوا بهم من المسلمين فإن ولوا عن الحرب فعلى ضربين: أحدهما: أنه يمكن استنقاذ الأسرى منهم إن اتبعوا، فواجب أن يتبعوا حتى يستنقذ الأسرى منهم، لما يلزم من حراسة الإسلام وأهله، لقول الله تعالى: {ومَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا} والثاني: أنه لا يمكن استنقاذ الأسرى منهم، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يخاف المسلمون من أتباعهم، فلا يجوز لهم أن يتبعوهم وعليهم أن يكفوا عنهم إذا انهزموا لتحريم التغرير بالمسلمين. والثاني: أن لا يخلفهم المسلمون إلا كخوفهم في المعركة، فلا يجب إتباعهم ولا يجب الكف عنهم، وأمير الجيش فيهم بخير النظرين في اعتماد الأصلح من إتباعهم، أو الكف عنهم.

فصل: وأما الفصل الثاني في ضمان من قتل منهم من للمسلمين فهذا على أربعة أقسام: أحدها: أن يعمد قتله ويعلم أنه مسلم فهو على ضربين: أحدهما: أن يقتله لغير ضرورة دعته إلى قتله، فهذا يجب عليه القوه كما لو قتله في دار الإسلام، لأن دار الشرك لا تبيح دم مسلم. والثاني: أن تدعوه الضرورة إلى قتله، ليتوصل به إلى دفع الشرك عن نفسه ففي وجوب القرد عليه وجهان حكاهما ابن أبي هريرة تخريجاً من اختلاف قول الشافعي في وجوب القرد على المكره إذا قتل: أحدهما: عليه القرد إذا قتل كوجوب القرد على المكره لاشتراكهما في الضرورة. والثاني: لا قود عليه إذا قتل، لأنه لا قود على المكره، ويكون عليه الدية والكفارة وتكون هذه فدية في ماله مع الكفارة، لأنها دية عمد سقط القرد فيه بشبهة. والثاني: أن لا يعمد قتله ولا يعلم أنه ومسلم فلا قود عليه ولا دية وعليه الكفارة لقول الله تعالى: {فَإن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} فاقتصر قول الله تعالى به على وجوب الكفارة دون الدين لأن دار الكفر موضوعة على الإباحة. والثالث: أن يعمد قتله، ولا يعلم أنه مسلم فلا قود عليه، لأنه يمهل بحاله مع الغالب من حكم الدار شبهة في سقوط القود، وعليه الدية والكفارة، وتكون دية عمد يتحملها في ماله. وقال أبو إبراهيم المزني: عليه الكفارة دون الدية لجهله بإسلامه. والرابع: أن لا يعمد قتله ويعلم أنه مسلم، فلا قود عليه، وعليه الكفارة، وفي وجوب الدية قولان: أحدهما: لا دية عليه تغليباً لإباحة الدار. والثاني: عليه الدية تغليباً لحرمة الإسلام، ونكون دية خطأ تتحملها العاقلة. مسألة: قال الشافعي: "لو رمى في دار الحرب فأصاب مستأمنا ولم يقصده فليس عليه إلا رقبة ولو كان علم بمكانه ثم رماه غير مضطرا إلى الرمي فعليه رقبة ودية". قال في الحاوي: وجملته أن حكم المستأمن والذمي في دار الحرب في تحريم دمائهما كالمسلم إن تترسوا بهم يجب توقيهم، كما يجب توقي المسلم فإن أصيب أحدهم قتيلاً كان في حكم المسلم على ما ذكرناه من الأقسام الأربعة لقول الله تعالى: {وإن

كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ}. وتستوي أحكامها إلا في شيئين: أحدهما: القود لسقوطه بين المسلم والذمي. والثاني: قدر الدية لاختلافهما بالإسلام والكفر وهما قيما عداهن سواء، فإن وجب في قتل المسلم الدين والكفارة وجبا في قتل الذمي، وإن وجب في قتل المسلم القود والكفارة، وجب في دية الذمي الدية والكفارة، فلن وجب في قتل المسلم الكفارة دون الدية كان الذمي بمثابته يجب في قتله الكفارة، دون الدية، ويستوي المستأمن والذي في ضمانهما بالدية أو بالكفارة ويفترقان في شيء واحد وهم أن الناس يلزمنا دفع أهل الحرب عنه، والمستأمن لا يلزمنا دفع أهل الحرب عنه، وبالله التوفيق. مسألة قال الشافعي: " ولو أدركونا وفي أيدينا خيلهم أو ماشيتهم لم يحل قتل شيء منها ولا عقره إلا أن يذبح لمأكله ولو جاز ذلك لغيظهم بقتلهم طلبنا غيظهم بقتل أطفالهم". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا غنمنا خيلهم ومواشيهم بم أدركونا ولم نقدر على دفعهم عنها جاز تركها عليهم ولم يجز قتلهم وعقرها طلبا لغيظهم، أو قصدا لإضعافهم. وقال أبو حنيفة: يجوز قتلها وعقرها لإحدى حالتين، إما لغيظهم، وإما لإضعافهم احتجاجا بأمرين: أحدهما: أن ما أفضى إلى إضعافهم جاز استهلاكه عليهم كالأموال. والثاني: أن نماء الحيوان لا يمنع من إتلافه عليهم كالأشجار. ودليلنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن ذبح الحيوان إلا لمأكله. وروي عنه صلى الله عليه وسلم: أنه نهى أن تصبر البهائم أو تتخذ غرضًا". وروى عبد الله بن عمرو بن العاشر كن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من قتل عصفورا بغير حقها سأله الله عن قتلها، قيل يا رسول الله وما حقها؟ قال: "أن يذبحها فيأكلها ولا يقطع رأسها ويرمي بها". وهذه أخبار تمنع من عقرها وقتلها، ولأن كل حيوان لا يحل قتله إذا قدر على استنقاذه لم يحل قتله، إذا عجز عن استنقاذه كالنساء والولدان، ولأنه لو جاز قتلها لغيظهم بها كان غيظهم بقتل نسائهم أكثر وذلك محظور ولو قتله لإضعافهم كان إضعافهم بقتل أولادهم وذلك محرم فبطل المعنيان في قتل البهائم. وأما الجواب عن استهلاك الأموال، وقمع الأشجار، فأبو حنيفة يمنع من قطع

الأشجار ويبيح قتل الحيوان والشافعي يبيح قمع الأشجار ويمنع من قتل الحيوان فصارا مجمعين على الفرق بين الأشجار والحيوان وإن كانا مختلفين في المباح منهما والمحظور، فصار الجمع بينهما ممتنعا وإباحة الأشجار، وحظر الحيوان أولى من عكسه، لأن للحيوان حرمتين: إحداهما: لمالكه، والأخرى لخالقه، فإذا سقطت حرمة المالك لكفره، بقيت حرمة الخالق في بقائه على حظره، ولذلك منع مالك الحيوان من تعطيشه وإجاعته، لأنه إن اسقط حرمة ملكه بقيت حرمة خالقه، وحرمته اكبر من حرمة الأموال، وأكثر من حق المالك وحده، فلذا سقطت حرمة مالكه لكفره جاز استهلاكه لزوال حرمته، ولذلك لم يحرم على مالك المال والشجر استهلاكه، وإن حرم عليه استهلاك حيوانه. مسألة قال الشافعي: "لو قاتلونا على خيلهم فوجدنا السبيل إلى قتلهم بأن نعقر بهم فعلنا لأنها تحتهم أداة لقتلنا وقد عقر حنظلة بن الراهب بأبي سفيان بن حرب يوم أحد فانعكست به فرسه فسقط عنها فجلس على صدره ليقتله فرآه ابن شعوب فرجع إليه فقتله واستنفذ أبا سفيان من تحته". قال في الحاوي: وهذا كما ذكر إذا قاتلونا على خيلهم جاز لنا أن نعقرها عليهم، لنصل بعقرها إلى قتلهم والظفر بهم، لأنهم ممتنعون بها في الطلب والهرب أكثر من امتناعهم بحصونهم وسلاحهم، فصارت أذى لنا فجاز استهلاكها لأجل الأذى، كما جاز استهلاك ما صال من البهائم، وإن لم يجز استهلاك ما لم يصل، وقد عقر حنظلة بن الراهب فرس أبي سفيان ين حرب يوم أحد، واستعلى عليه ليقتله فرآه ابن شعوب فبدر إلى حنظلة وهو يقول: لأحمين صاحبي ونفسي بطعنه مثل شعاع الشمس ثم طعن حنظلة فقتله، واستنقذ أبا سفيان منه ف خلهم أبو سفيان وهو يقول: فما زال مهري مزجر الكلب منهم لدى غدوة حتى دانت لغروب أقاتلهم وأدعى يأل غالب وأدفعهم عني بركن صليب ولو شئت نحتني كميت لحمرة ولم أحمل النغماء لابن شعوب فبلغ ذلك ابن شعوب فقال مجيبا له حين لم يشكره: ولو دفاعي يا ابن حرب ومشهدي لألفيت يوم النعف غير مجيب ولولا مكري المهر بالنعف قرقرت ضباع عليه أو ضراء كليب وموضع الدليل من هذا اج لخببه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى حنظلة وقد عقر فرس أبي

سفيان فأقره عليه ولم ينكره. فصل: وإذا كان راكب الفرس منهم امرأة أو صبيًا كانا يقاتلان عليها، جاز عقرها من تحتهما كما لو كان راكبها رجلاً مقاتلاً، وإن كانا لا يقاتلان عليها لم يجز مقرها كما لو كانت غير مركوبة. فصل: ولو أدركونا ومعنا خيلهم وهم رجالة إن أطلقت عليهم وركبوها قهرونا بها جاز عقرها لاستدفاع الأذى بها، كما لو كانوا ركباناً عليها. مسألة: قال الشافعي: "في كتاب "حكم أهل الكتاب" وإنما تركنا قتل الرهبان إتباعًا لأبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقال في كتاب السير: ويقتل الشيوخ والأجراء والرهبان قتل دريد بن الصمة ابن خمسين ومائة سنة في شجار لا يستطيع الجلوس فذكر ذلك لنبي صلى الله عليه وسلم فلم ينكر قتله. قال: ورهبان الديات والصوامع والمساكن سواء ولو ثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه خلاف هذا لأشبه أن يكون أمرهم بالجد على قتال من يقاتلهم ولا يتشاغلون بالمقام على الصوامع على الحرب كالحصون لا يشغلون بالمقام بها عما يستحق النكاية بالعدو وليس أن قتال أهل الحصون حرام وكما روى عنه أنه نهى عن قطع الشجر المثمر ولعله لأنه قد حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع على بني النضير وحضره يترك وعليم أن النبي صلى الله عليه وسلم وعدهم بفتح الشام فترك قطعة لتبقى لهم منفعته إذا كان واسعاً لهم ترك قطعة. قال المزني رحمه الله: هذا أولى القولين عندي بالحق لأن كفر جميعهم واحد وكذلك سفك دمائهم بالكفر في القياس واحد". قال في الحاوي: وجملة المشركين بعد الظفر بهم ينقسم أربعة أقسام: أحدها: المقاتلة أو من كان من أهل القتال وإن لم يقاتل فهو من المقاتلة ويجوز قتلهم على ما قدمناه من خيار الإمام فيهم. والثاني: وهم أهل الرأي والتدبير منهم دون القتال، فيجوز قتلهم أيضاً شباناً كانوا أو شيوخا، قدروا على القتال أو لم يقدروا، لأن التدبير علم بالحرب والقتال عمل والعلم أصل للعمل، وقد أفصح المتنبي حيث قال: الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني ولأن التدبير أنكى وأضر وهو من الشك أقوى وأصح، هذا دريد بن الصمة أشار

على هوازن يوم حنين أن يتمردوا للقتال، ولا يخرجوا معهم الذراري، فخالفه مالك بن عوف ألنضري وخرج بهم فهزموا فقال دريد في ذلك: وأمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستنبينوا إلا ضحى الغد وظفر بدريد وكان في شجار وهو أبى مائة وخمسين سنة، وقيل: مائة وخمس وستين، فقتل، وقيل: ذبح ورسول الله صلى الله عليه وسلم يراه فلم ينه عنه فدل على إباحة قتل ذوي الآراء وإن كانوا شيوخا. والثالث: من الذراري من النساء والأطفال، فلا يجوز أن يقتلوا في المعركة إلا أن يقاتلوا فيقتلوا دفعًا لآذاهم، فأما بعد الأسر فلا يجوز أن يقتلوا، سواء قتلوا أو لم يقاتلوا لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والذراري والولدان ولأنهم سبايا مسترقون قد ملكهم الغانم كالأموال. والرابع: من اعتزل القتال والتدبير من رجالهم، إما لعجز كالزمني وذوي الهرم من الشيوخ، وإما لتدين كالرهبان، وأصحاب الصوامع والديارات شباباً كانوا أو شيوخا، ففي إباحة قتلهم قولان: أحدهما: قاله في كتاب حكم أهل الكتاب لا يجوز قتلهم، وهو مذهب أبي حنيفة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اقتلوا الشرخ واتركوا الشيخ" الشرخ الشباب ومنه قول الشاعر: على شرخ الشباب تحية فإن لقيت ددًا فقط من دد والدد اللهو واللعب ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لست من دد ولا دد مني". وروى أنس ابن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: انطلقوا بسم الله وعلى ملة رسول الله لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا طفلًا ولا صغيراً ولا امرأة ولا تغلوا وخيموا غنائمكم وأحسنوا إن الله يحب المحسنين". وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لزياد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص وشرحبيل ابن حسنة لما بعثهم إلى الشام: أوصيكم بتقوى الله، اغزوا في سبيل الله، وقاتلوا من كفر بالله، ولا تقتلوا ولا تغدروا، ولا تفسدوا في الأرض، ولا تعصوا ما تؤمرون، ولا تقتلوا الولدان، ولا النساء، ولا الشيوخ، وستجدون أقوال حبسوا أنفسهم على الصوامع فدعوهم، وما حبسوا له أنفسهم، وستجدون أقوامًا اتخذ الشيطان في أوساط رؤوسهم أفحاصًا فإذا وجدتموهم فاضربوا أعناقهم، والأفحاص أن يحلقوا

أوساط رؤوسهم يقال لهم الشماسة، ذكره أبو عبيدة، ولأن من لم يقاتل في الغزو لم يقتل في الأسر كالذراري. والثاني: نص عليه في سير الواقدي واختاره المزني، يجوز أن يقتلوا لعموم قول الله تعالى: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدتُّمُوهُمْ}. وروى الحسن البصري عن سمرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اقتلوا شيوخ أهل الكتاب واستحييوا شرخهم" يعني استبقوا شبابهم أحياء ومنه قوله تعالى: {يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ ويَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ}. فأمر بقتل الشيوخ واستبقاء الشباب لأمرين: أحدهما: أنه لا نفع في قتل الشيوع وفي الشباب نفع. والثاني: أن رجوع الشباب عن كفره أقرب من رجوع الشيخ ويحتمل أن يريد بالشرخ غير البالغين وهو أشبه، لأن من كان من أهل القتال جاز قتله، وإن قعد عن القتال كالمقاتل، ولأن من استحق سهمًاإذا كان مسلماً جاز قتله، وإذا كان كافراً كالمقاتل. فصل: فإذا تقرر توجيه القولين فإن قيل بالأول إنهم لا يقتلون كانوا كالأسير إذا أسلم، فهل يرقون أو يكون الإمام فيهم على خياره؟ بين ثلاثة أحكام: أن يسترقهم، أو يفادي بهم، أو يمن عليهم على ما ذكرناه من القولين، وإن قيل بالقول للثاني إنهم يقتلون كانوا كالأسرى إذا لم يسلموا، فيكون الإمام فيهم على خياره بين أربعة أحكام: أن يقتل، أو يسترق، أو يفادي، أو يمن، فأما الأجراء فإنهم يقولون قولاً واحداً، ويكون الإمام فيهم على خياره بين الأحكام الأربعة، لأنهم أعوان علينا أو مقاتلة لنا. فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قتل الحسناء والوصفاء والعسفاء الأجزاء والوصفاء جمع وصيف، قيل إنما نهى عن قتلهم لئلا يقع التشاغل بهم عن قتل المقاتلة، لأنهم أذل نفوساً، وأقل نكاية، وأنهم لا يفوتون إن هربوا ولا يمتنعون إن طلبوا، وعلى مثل هذا حمل نهي أبي بكر رضي الله عنه عن قتل أصحاب الصوامع. مسألة: قال الشافعي: "وإذا أمنهم مسلم بالغ أو عبد يقاتل أو لا يقاتل أو امرأة فالأمان جائز قال صلى الله عليه وسلم: "المسلمون يد على من سواهم يسعى بذمتهم أذناهم". قال في الحاوي: أما أمان المشركين فجائز لقول الله تعالى: {وإنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} فيه تأويلان: أحدهما: إن استغاثك فأغثه. الثاني: وهو أصح إن استأمنك فأمنه، حتى يسمع كلام الله فيه تأويلان:

أحدهما: يعني سورة براءة خاصة ليعلم ما في حكم الناقض للعهد وحكم المقيم عليه والسيرة في المشركين والفرق بينهم وبين المنافقين. والثاني: يعني جميع القرآن ليهتدى به من ضلاله، ويرجع به عن كفره. {ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَامَنَهُ} يعني بعد انقضاء مدة الأمان إن أقام على الشرك {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ} فيه تأويلان: أحدهما: لا يعلمون الرشد من الغي. والثاني: لا يعلمون استباحة دمائهم عند انقضاء مدة أمانهم فدلت هذه الآية على جواز أمانهم، ودلت عليه السنة في عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدنة مع قريش بالحديبية سنة ست على أن يأمنوا المسلمين ويأمنهم المسلمون. فإذا صح بالكتاب والسنة جواز الأمان فهو ضربان: عام وخاص، فأما العام فهو الهدنة التي تعقد أمانة للكافة من المشركين، وهذه لا يجوز أن يتولاها إلا ولاة الأمر، فإن كانت لكافة المشركين في جمع الأقاليم لم يصح عقدها، إلا من الإمام الوالي على جميع المسلمين، وإن كانت لأهل إقليم صح عقدها من الإمام، أو من والي ذلك الإقليم لقيامه فيه مقام الإمام، ولا يصح من غيرهما من المسلمين بحال، وسيأتي الكلام في عقد الهدنة ومدتها. وأما الأمان الخاص: فهو أن يؤمن من الكفار آحاد لا يتعطل بهم جهاد ناحيتهم كالواحد والعشرة إلى المائة وأمل قافلة، فان كثروا حتى تعطل بهم جهادهم صار عاماً، وهذا الأمان الخاص يجوز أن يعقده الواحد من المسلمين الأحرار البالغين العقلاء، سواء كان مريضاً أو مشروفًا، عالماً كان أو جاهلًا، قوياً كان أو ضعيفًا، لرواية محمد بن مسلمة أن رجلاً من المسلمين أمن كافراً فقال عمرو بن العاص، وخالد بن الوليد: لا يخير أمانه فقال أبو عبيدة الجراح ليس ذلك لكما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يجير على المسلمين بعضهم" فإن أمنته امرأة من المسلمين كان أمانها جائزا كالرجل. روى محمد بن السائب عن أبي صالح عن أم هانئ بنت أبي طالب أنها قالت: قلت يا رسول الله: إني أجرت حموين لي" وزعم ابن أمي أنه قاتلهما، يعني أخاها علي بن أبي طالب عام الفتح فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ". وروى الزهري عن أنس قال: لما أسر أبو العاص بن الربيع قالت زينب عليها السلام: إني أجرت أبا العاص فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "قد أجرنا من أجارت زينب" واحتمل أمان زينب له أمرين: أحدهما: أن يكون قبل أسره فيكون آمناً بأمانها. والثاني: أن يكون قد أمنته بعد أسره، فيكون آمناً بإجارة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بأمانها

لأن أمان الأسير من عليه، وليس السن إلا لولاة الأمر وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم سبب منه عليه أمان بنته له رعاية لحقها فيه. فصل: وأما أمان العبد فجائز كالحر، سواء كان مأذوناً له في القتال أو غير مأذون له، وأجاز أبو حنيفة رحمه الله أمانه إذا كان مأذوناً في القتال، وأبطله إذا كان غير مأذون له في القتال احتجاجاً بأمرين: أحدهما: أن الأمان أحد حالتي القتال فلم يملكه العبد بغير إذن كالقتال. والثاني: أن الأمان عقد فلم يسلكه العبد بغير إذن كالنكاح. ودليلنا ما رواه الحسن عن قيس بن عبادة عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسهم بذمتهم أدناهم" أي عبيدهم، لأنهم أدنى من الأحرار بداً وحكماً، فسوى في الأمان بين من علا من الأحرار أو دنا من العبيد. فإن قيل: المراد به أدناهم من الكفار جواراً، قيل: لا يصح حمله على الجار القريب الدار، لأن العبد يساويه فيه وكان جعله على العبد أولى من وجهين: أحدهما: لدخوله في الجملة من غير إضمار. والثاني: أن يعلم به ما يستفاد من مساواته للحر فيه وإن خالفه فيما عداه. وروى فضيل بن زيد الرقاشي قال: جهز عمر بن للخطاب رضي الله عنه جيشًا كنت فيه، فحضرت موضعا يقال له صرياج قرية من قرى رامهرمز، فرأينا أنا سنفتحها اليوم فرجعنا حتى نقيل فبقي عبد منا فواطأهم وواطؤوه، فكتب لهم أمانا في صحيفة وشدها مع سهم رماه إليهم، فأخذوها وخرجوا بأمانه، فكتب بذلك إلى عمر، فقال: العبد المسلم رجل من المسلمين ذمته ذمتهم. وهذا نص لم يخالف فيه فكان إجماعاً، ولأنه مكلف من المسلمين فصح أمانه كالمرأة، ولأن كل من صح أمانه إذا كان مأذونا له في القتال صح أمانه وإن كان غير مأذون له، كأمان الولد مع إذن للوالدين وأمان من عليه الدين بإذن صاحب الدين، يستوي في أمانه وجود الإذن في القتال وعدمه، ولأن القتال ضد الأمان فإذا صح أمان المأذون له في للقتال وهو ضد حاله فلأنه يجوز أمان غير المأذون له وهو موافق لحاله الأولى. وأما الجواب عن قياسه على القتال فهو أن في القتال تغرير يفوت به منافع سيده وليس في ذلك الأمان. وأما الجواب عن قياسه على النكاح: فهو أن عقد النكاح لا يدخل فيه غير عاقده،

فوقف على إذن سيده، وعقد الأمان يدخل فيه غير العاقد، فاستوي فيه العبد والسيد. مسألة: قال الشافعي: " ولو خرجوا إلينا بأمان صبي أو معتوه كان علينا ردهم إلى مأمنهم لأنهم لا يعرفون من يجوز أمانه لهم ومن لا يجوز". قال في الحاوي: وهذا صحيح لأن الصبي والمعتوه لا حكم لقولهما لارتفاع القلم عنهما، فلم يصح عقد أمانهما كما لم يصح سائر عقودهما، فإن دخل بأمانهما كافر نظرت حاله، فإن علم بطلان أمانهما في شرعنا فهو والداخل بغير أمان، فيجوز قتله واسترقاقه، وإن لم يعلم بطلان أمانهما في شرعنا لم يجز إقراره في دار الإسلام، ووجب على الإمام رده إلى مأمنه لأنه قد تمكن من شبهة توجب حقن دمه. فصل: فأما إذا كان في يد المشركين أسير من المسلمين فأمن في حال أسره رجلًا من المشركين نظر، فإن أكره على الأمان لم يصح، لأن عقود المكره باطلة، وإن كان غير مكره، قال أبو حامد الإسفراييني: صح أمانه وأطلق جوابه بهذا، وعندي أنه نعتبر أمانه بحال من أمنه، فإن كان في أمان من المشرك صح أمانه لذلك المشرك، وإن لم يكن في أمان منه لم يصح أمانه له لآن الأمان ما اقتضى التساوي فيه، فإذا صح أمانه فيه كان في أمان المسلمين ما كان مقيمة في دار الحرب، إن دخل دار الإسلام روعي عقد أمانه، فإن شرط فيه أمانه في دار الإسلام وكان أمنا فيها، وإن كان مطلقا لم يكن له فيها أمان وكان مقصوراً على أمانه منهم في دار الحرب، لأن إطلاق العقد يتوجه إلى دار العقد لاختلاف الدارين في الحكم. فصل: فإذا تقرر من يصح منه الأمان فالحكم فيه يشتمل على خمسة فصول: أحدها: ما ينعقد به الأمان وهو ضربان: لفظ وإشارة. فأما اللفظ: فينقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما كان صريحًا وذلك مثل قوله: أنت آمن، أو في أمان، أو قد أمنتك، أو يقول: أنت مجار، أو قد أجرتك، أو يقولن لا بأس عليك، فهذا وما شاكله صريح في عقد الأمان، لا يرجع فيه إلى نية، ولو قال: لا خوف عليك كان صريحاً، ولو قال: لا تخف لم يكن صريحاً، لأن قوله: لا خوف عليك نفى للخوف فكان صريحًا، وقوله: لا تخف نهي عن الخوف فلم يكن صريحًا.

والثاني: ما كان كناية يرجع فيه إلى الإرادة فمثل قوله ن أنت على ما تحب، أو كن كيف شئت، لاحتمال أن يكون على ما أحبه من الكفر أو على ما تحبه من الأمان، فلذلك صار كناية إلى ما شاكل ذلك من الألفاظ المحتملة. والثالث: ما لم يكن صريحا ولا كناية، وذلك مثل قوله: ستذوق وبال أمك، وسترى عاقبة كفرك، أو سينتقم الله منك، فهذا وما شاكله وعيد وتهديد لا ينعقد به الأمان. وأما الإشارة فضربان: مفهومة، وغير مفهومة. فإن كانت غير مفهومة لم يصح بها الأمان لا صريحاً ولا كناية، وإن كانت مفهومة انعقد بها الأمان إن أراد المثير ولا ينعقد بها إن لم يرده، لكن يجب أن يرد بها إلى مأمنه، ويكون كناية يرجع إلى قوله فيما أراد فان قيلا. لو أشار بالعتق والطلاق ارتفعا مع الإرادة، فكيف صح بهما عقد الأمان مع الإرادة. قيل: لأن الأمان ينتقص بالقول والإشارة، فصح عقده بالقول والإشارة، وبذلك خالف ما عدله من العتق والطلاق ولا يتم الأمان بعد بذله إلا أن يكون من المبذول له ما يدل على قبوله وذلك بأحد أمرين إما أن يبتدئ بالطلب والاستجارة فيبذله له بعد طلبه. وإما أن يعقب البذل الممتدة بالقبول أو بالدعاء والشكر أو بالإشارة الدالة عليه فيما يقدم ذلك مقام للقبول الصريح، لأن حقوق الأمان مشتركة فلم تلزم إلا باجتماعها عليه، ولأنه عقد فروعي فيه أحكام البذل والقبول. والفصل الثاني: من ينعقد معه الآمان، وهو من لم يحصل في الأسر من رجل أو امرأة، ويمنع الأمان من أسره واسترقاقه وندائه استصحاباً لحاله قبل أمانه. فأما الأسير فله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يصير في قبضة الإمام، فلا يصح أن يؤمنه غير الإمام، لما أوجبه الأسر من اجتهاد الإمام، فلم يصح الافتيات عليه، فإن أمنه الإمام صح أمانه، ومنع الإمام من قتله ولم يمني من استرقاقه وفدائه، لأن ما أوجبه إسلامه من أمينه أوكد من بذل الأمان له، فلما لم يمنع الإسلام من استرقاقه وفدائه كان أولى لا يمنع منهما عقد أمانه. والثانية: أن يصير في قبضة أمير الثغر، فلا يصح أن يؤمنه إلا الإمام لعموم ولايته، أو أمير الثغر لأنه في ولايته فأيهما سبق بأمانه لم يكن للآخر نقضه. والثالثة: أن يكون باقيا في يد من أسره، ولم يصر في قبضة الإمام فلا يخلو حال من أمنه من أربعة أقسام: أحدها: أن يؤمنه الذي هو في أسره فيصح أمانه، وإن لم يصح منه أمان من صار في قبضة الإمام، لأنه لما جاز له أن يقتل أسيره، صح أن يؤمنه، ولما لم يصح أن يقتل من في أسر الإمام لم يصح أن يؤمنه، ويمني الأمان من قتله، فأما استرقاقه ونداؤه فلا يرتفع به ما كان باقيا في أسره، فإن فك أسره امتنع استرقاقه وفداؤه، فيكون القتل مرتفعًا

بلفظ الأمان والاسترقاق والفداء مرتفعان بزوال اليد. والثاني: أن يؤمنه الإمام فيصح أمانه ويرتفع بالأمان قتله، لأن أمان الإمام أعم، ولا يرتفع به استرقاقه وفداءه، ولأن فك أسره بخلاف أمان الذي أسره، لأن يد الإمام في حق جميع المسلمين، ويد الذي أسره في حق نفسه. والثالث: أن يؤمنه أمير الثغر فإن كان الأسير من ثغره صح أمانه، وإن كان من غير ثغره لم يصح أمانه لخروجه عن ولايته. والرابع: أن يؤمنه غيرهم، ممن لا يد له ولا ولأية فلا يصح أمانه، ولا يرتفع به قتل ولا استرقاق ولا فداء، لأن الأسر قد أثبت فيه حقاً لغيره، فلم يملك إسقاطه بأمانه، وصار كأمانه لمن في أسر الإمام. والفصل الثالث: دخوله ماله في عقد الأمان وهو ضربان: أحدهما: أن يكون الأمان مطلقًا لم يشترط فيه دخول المال، فيقول: قد أمنتك على نفسك، فيدخل في ماله في الأمان على نفسه ما يلبسه من ثيابه التي لا يستغني عنها وما يستعمله من آلته التي لا بد له منها، وما ينفقه في مدة أمانه اعتبارا بضرورته والعرف الجاري، فمن لم ينسب إلى يسار وإعسار، ولا يدخل فيه ما عداه من أمواله، فأما مركوبه فإن كان ممن لا يستغنى عنه دخل في أمانه، وإن استغنى عنه لم يدخل فيه، وكان ما سوى ذلك من أمواله غنيمة، وكذلك ذراريه وسواء كان الباذل لهذا الأمان الإمام أو غيره من المسلمين. والثاني: أن يبذل له الأمان على نفسه وماله، فيشترط له دخول ماله في أمانه فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون ماله حاضرًا، فيصح أن يؤمنه عليه الإمام، وغيره من المسلمين، لأن المال تبع، فإذا صح الأمان للأصل كان في التبع أصلح. والثاني: أن يكون المال غائباً، فلا يصح بذل الأمان له إلا من الإمام بحق الولاية العامة، ولا يصح من غيره من المسلمين للذين لا ولاية لهم، وكذلك ذراريه إن كانوا حضورًا معه صح أن يبذل الأمان لهم وغيره، وإن كانوا غيبة لم يصح بذل الأمان لهم إلا من الإمام أو من قام مقامه من ولاة الثغور، ولا يصح ممن لا ولاية له من المسلمين لأنه اجتهاد في نظر. والفصل الرابع: الموضع الذي ينعقد عليه الأمان وهو على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يبذل له الأمام في بلاد الإسلام كلها، فيصح ويلزم أن يكون أمنًا في جميعها، سواء كان الباذل له واليًا أو غير والي لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "يسعى بذمتهم أدناهم". والثاني: أن يبذل له الأمان في بلد خاص، فيلزم أن يكون آمنًا في ملك البلد، وفي الطريق إليه في دار الحرب ولا أمان له فيما سوى ذلك من البلاد اعتبارًا بالشرط، وإن الطريق إليه مستحق.

والثالث: أن يكون موضع الأمان مطلقة غير عام، ولا معين فيكون حكمه معتبراً بحال الباذل للأمان ولا يخلو حاله من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون هو الإمام، فيقتضي إطلاق أمانه أن يكون آمنًا في جميع بلاد الإسلام لدخول جميعها في نظره. والثاني: أن يكون الباذل له وإلى الإقليم، فيكون إطلاق الأمان موجبًا لأمانه في بلاد عمله، ولا يكون له أمان في غيرها من بلاد الإسلام لقصور نظره عليها، فإن عزل عن بعضها لم يزل أمانه منها، وإن قلد غيرها لم يدخل أمانه فيها اعتبارًا بعمله وقت أمانه. والثالث: أن يكون الباذل له أحد المسلمين، فيكون إطلاق أمانه مقصورًا على البلد الذي يسكنه بازل الأمان، فإن كان مضرًا لم يتجاوز إلى قراه، وإن كان قرية لم يتجاوزها إلى مصيرها اعتبارًا بما يضاف إليه، ويكون طريقه منها إلى دار الحرب داخلًا في أمانه مجتازًا لا مقيماً اعتبارًا بقدر الحاجة. والفصل الخامس: مدة الأمان وهي مقدرة الأكثر بالشرخ ومقدرة الأقل بالعقد، فأما أكثرها ففيه نص واجتهاد، فأما النص بأربعة أشهر لقول الله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أربعة أَشْهُرٍ}.هذا أمان من الله تعالى للمشركين وفي قوله: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ} تأويلان: أحدهما: تصرفوا فيها كيف شئتم. والثاني: سافروا فيها حيث شئتم، وأما الاجتهاد فلا يجوز أن يبلغ به سنة إلا بجزية إن كان من أهلها، فيصير يبذلها من أهل الذمة، وقيما بين أربعة أشهر وسنة وجهان: أحدهما: لا يجوز أمانه فيها لمجاوزتها النص كالسنة. والثاني: يجوز أمانه فيها لقصورها عن مدة الجزية كالنص في الأربعة، فإذا استقر أكثر مدته بالشرع لم يخل حال من الأمان من أن بكون مطلقًا أو مقيداً، فإن كان مطلقا لم يقيل بمدة حمل على أكثر المدة المشروعة نصاً، ولا يحمل على المقدرة اجتهادًا، لأنه لم يتقدر به وقت الأمان حكم مجتهد، فانعقدت على مدة النص دون الاجتهاد وليس له فيما بعدها أمان يمنع الشرع منه، لكن لا ينتقض أمانه إلا بعد إعلامه انقضاء المدة الشرعية، ويجب أن يرد يعدها إلى مأمنه، وإن كان الأمان مقيدًا بمدة فعلى ثلاثة أقسام: أحدها: أن يقدر بالمدة المشروعة نصًا واجتهادًا، فيجب أن يستوفيها بمقامه، فإن كان أمانه في بلد بعينه جاز أن يستوفي المدة بمقامه فيه، وله بعد انقضائها الأمان في مدة عوده إلى بلده، وإن كان الأمان عاما في بلاد الإسلام كلها انتقض أمانه بمضي المدة، ولم يكن له أمان في قدر مسافة لاتصال دار الإسلام بدار الحرب، فصار ما اتصل بدار الحرب من بلاد أمانه، فلم يحتج إلى مدة مسافة الانتقال منها بخلاف للبلد المعين، ولا يجوز إذا تجاوزها أن يسين حتى يرد إلى مأمنه.

والثاني: أن تقدر مدة أمانه بأقل من المدة المشروعة. كإعطائه أمان شهر فلا نتجاوز مدة الشرط إلى مدة الشرع اعتبار بموجب العقد، ويكون بعد انقضائها على ما مضى. والثالث: أن تقدر مدة أمانه بأكثر من المدة المشروعة كإعطائه أمان سنة أو أمان الأبد فيبطل الأمان قيما زاد على المدة المشروعة نصاً واجتهاداً ويصير مقصوراً على المدة المشروعة نصاً واجتهاداً، ويصح فيها قولًا واحدًا، وخرج بعض أصحابنا فيه قولًا ثانيًا من تفريق الصفقة إذا جمعت سحبة وفاسداً تعليلًا بتفريقها بأن اللفظة تعمها ولا وجه لهذا التخريج لأنه من عقود المصالح العامة التي هي أوسع من أحكام العقود الخاصة ويجب إعلامه يحكمنا وهو على أمانه ما لم يعلم فإذا علم زال الأمان ووجب رده إلى مأمنه. فصل: وإذا دخل مشرك دار الإسلام وادعى دخولها بأمان رجل من أهلها، فإن كان قبل أسره قبل فيه إقرار من ادعى أمانه، وإن كان بعد أسره لم يقبل إقراره إلا ببينة تشهد بالأمان، لأنه قبل الآسر يملك أن يستأنف أمانه فملك الإقرار به، ولا يملك أن يستأنف أمانه بعد الأسر، فلم يملك الإقرار به كالحاكم يقبل قوله فيما حكم به في ولايته، ولا يقبل قوله فيه بعد عزله إلا ببينة تشهد به، والبينة على أمانه شاهدان عدلان، ولا يقبل منه شاهد وامرأتان لأنه يسقط بها القتل عنه نفسه، وبينة القتل شاهدان، ولو كان هذا في أسير قد أسلم فادعى تقدم إسلامه قبل أسره طولب بالبينة، ويجوز أن يقبل في بينته شاهد وامرأتان، لأنها بينة لنفي الاسترقاق والفداء دون القتلى وذلك من حقوق الأموال الثابتة بشاهد وامرأتين فلذلك، ما افترق حكم البينتين، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "ولو أن علجًا دل مسلمين على قلعة على أن له جارية سماها فلما انتهوا إليها صالح صاحب القلعة على أن يفتحها لهم ويخلوا بينه وبين أهله ففعل فإذا أهله تلك الجارية فأرى أن يقال للدليل إن رضيت العوض عوضناك بقيمتها وإن أبيت قيل لصاحب القلعة أعطيناك ما صالحنا عليه غيرك بجهالة فإن سلمها عوضناك وإن لم تفعل نبذنا إليك وقتلناك فإن كانت أسلكن قبل الظفر أو مات تعوض ولا يبين ذلك في الموت كما يبين إذا أسلكت". قال في الحاوي: وأصل هذا أنه يجوز للإمام ووالي الجهاد أن يبذل في مصالح المسلمين وما يفضي إلى ظفرهم بالمشركين ما يراه من أموالهم وأموال المشركين، لقيامه

بوجوه المصالح، وذلك بأن يقول: من دلنا على أقرب الطرق، أو من أوصلنا إلى القلعة، أو أرشدنا إلى مغنم، أو أظفرنا بأسباب الفتح من احتلال مضيق، وشعب حصون، أو كان عيناً لنا عليهم ونقل أخبارهم، فله كذا وكذا، فهذه جعالة يصح عقدها لمن أجاب إليها من مسلم، ومشرك، لعودها بنفع للجاعل والمستعجل، ويجوز أن يكون العوض فيها من أموال المسلمين، ومن أموال المشركين، فإن كانت من أموال المسلمين لم يصح إلا أن يكون العوض معلومًا، إما معينًا، أو في الذمة فالمعين أن يقول: فله هذا العبد، وفي الذمة أن يقول: فله مائة دينار، فإن كان مجهولاً لم يصح، لأن ما أمكن نفي الجعالة عنه منعت الجهالة من صحته كسائر العقود، وإن كان العوض من أموال المشركين، صحت الجهالة، وإن كان العوض فيها مجهولًا وبما ليس في الحال مملوكاً فتكون الجعالة بأموالهم مخالفة للجعالة بأموال المسلمين من وجهين: أحدهما: جوازها مجهول والثاني: جوازها بغير مملوك. ودليله ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صالح بني النضير على أن يأخذوا ما تستوقره الإبل إلا المال والسلاح وهذا مجهول وغير مملوك. وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل في البدأة الربع، وفي الرجعة الثلث، وذلك من غنيمة مجهولة وغير مملوكة. وروى عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: مثلت لي الحيرة كأنياب الكلاب وأنتم ستفتحونها فقام رجل فقال يا رسول الله هب لي بنت بقيلة، فقال: هي لك، فلما فتحها أصحابه أعطوه الجارية، فقال أبوها: أتبيعها، فقال: نعم بألف فأعطاه الألف فقيل له لو طلبت ثلاثين ألفًا أعطاك، فقال: وهل عدد أكثر من ألف. وروي أن أبا موسى الأشعري حاصر مدينة السوس، فصالحه دهقانها على أن يفتح له المدينة، ويؤمن مائة رجل من أهلها، فقال أبو موسى: إني لأرجو أن يخدعه الله عن نفسه فلما عزلهم قال له أبو موسى: أفزعت قال: نعم فأمنهم أبو موسى، وقال: الله أكبر، وأمر بقتل الدهقان قال: أتغدر بي وقد أمنتي قال: أمنت العدة التي سميت، ولم تسم نفسك فنادي بالويل وبذل مالاً كثيراً، فلم يقبل منه وقتله. فصل فإذا صح ما ذكرنا فصورة مسألتنا في علج اشترط أن يدل المسلمين على قلعة على أن يعطوه جارية منها سماها فدلهم عليها، فهذا شرط صحيح تصح به الجعالة مع الجهالة لما قدمناه، ولا يخلو حال القلعة بعد الوصول إليها من أن يظفر المسلمون بفتحها، أو لا يظفروا، فإن لم يظفروا بفتحها فلا شيء للدليل لأنه لما شرط جارية منها صارت جعالته مستحقة بشرطين: الدلالة، والفتح، فلم يستحقها بأحد الشرطين، ولو جعل شرطه في

الجعالة شيئا في غير القلعة استحقه بالدلالة وإن تعذر فتحها، لأنها معلقة بشرط واحد وهو الدلالة وقد وجدت وإن ظفروا بالقلعة وفتحوها فعلى ضربين: أحدهما: أن يظفروا بفتحها عنوة حال الجارية فيها من أحد أربعة أقسام: أحدها: أن لا تكون من أهل القلعة، ولا فيها فلا شيء للدليل لاشتراط معدوم ويستحب لو أعطى رضخاً، وإن لم يستحقه، فلو وجدت الجارية في غير القلعة نظر، فإن كانت من أهل القلعة كان كوجودها في القلعة فيستحقها الدليل على ما سنذكره، وإن كانت من غير أهل القلعة، فلا حق للدليل فيها، لأنه اشترط جارية من القلعة، وليست هذه منها ولا من أهلها. والثاني: أن تكون الجارية موجودة في القلعة باقية على شركها، فيستحقها الدليل ولا حق فيه للغانمين، ولا يعاوضهم الإمام عنها لاستحقاقها قبل الفتح، فصارت كأموال من أسلم قبل الفتح. والثالث: أن تكون الجارية موجودة في القلعة، وقد أسلمت فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون إسلامها قبل القدرة عليها فهي حرة، ولا يجوز استرقاقها فلا يستحقها الدليل، لمنع الشرع منها ويستحق قيمتها، لأن شرعنا منعه منها، فلذلك وجب أن يعاوض عنها بقيمتها، وسواء كان الدليل مسلم أو كافرًا. والثاني: أن يكون إسلامها بعد القدرة عليها، فهي مسترقة لا يرتفع رقها بالإسلام وللدليل حالتان: إحداهما: أن يكون مسلماً فيستحق الجارية. والثانية: أن يكون كافراً ففيه قولان، بناء على اختلاف قوليه في الكافر إذا ابتاع عبدًا مسلمًا. فأحد قوليه: إن البيع باطل فعلى هذا لا يستحق الجارية وتدفع إليه قيمتها، فإن أسلم من بعد لم يستحقها لانتقال حقه منها إلى قيمتها. والثاني: إن البيع صحيح، ويمنع من إقراره على ملكه، فعلى هذا يستحق الدليل الجارية وإن كان كافرًا، ويمنع منها حتى يبيعها، أو يسلم فيستحقها، فإن لم يفعل أحد هذه الثلاث بيعت عليه جبراً ودفع إليه ثمنها. والرابع: أن توجد الجارية في القلعة ميتة فقد ذكر الشافعي ها هنا كلامًا محتملًا في غرام القيمة له خرجه أصحابنا على قولين: أحدهما: له قيمتها كما لو أسلمت، لأنه ممنوع منها في الحالين. والثاني: لا قيمة له، لأن الميتة غير مقدور عليها فصار كما لو لم تكن فيها، وخالفت التي أسلمت لمنع الشرع منها مع القدرة على تسليمها، وعندي أن الأولى من إطلاق هذين القولين أن ينظر فإن كان موتها بعد القدرة على تسليمها استحق قيمتها، وإن كان قبل القدرة على تسلمها فلا قيمة له ويجوز أن يكون إطلاق الشافعي محمولًا على

هذا التفصيل فهذا حكم فتحا القلعة عنوة. فصل: والضرب الثاني: أن تفتح صلحا فهذا على ضربين: أحدهما: أن لا تدخل الجارية في الصلح، فيكون الحكم فيها على ما مضى من فتحها عنوة. والثاني: أن تدخل في الصلح، وهو أن يصالحنا على فتحها على أن يخلي بينه وبين أهله، وتكون هي من أهله وهي مسألة الكتاب فقد تعلق بها حقان: أحدهما: للدليل في عقد جعالته. والثاني: لصاحب القلعة في عقد صلحه وكلا العقدين محمول على الصحة. وقال أبو إسحاق المروزي الأول صحيح، والثاني باطل اعتبارًا بعقدي النكاح وعقدي البيع، لأنه لا يمكن الجمع بينهما فصح أسبقهما وهذا القول فاسد من وجهين: أحدهما: أن حكم هذا العقد أوسع من حكم العقود الخاصة، لجواز بمجهول وغير مملوك. والثاني: أن الأول لو كفى أمضينا صلح الثاني، ولو فسد لم يمض إلا بعقد مستجد وإذا كانا صحيحين والجمع بينهما غير ممكن لتنافيهما، والاشتراك بينهما غير جائز لامتناعه فيبدأ بخطاب الدليل لتقدم عقده فيقال له جعلنا لك جارية وصالحنا غيرك عليها عن جهالة بها، وليس يجوز أن سينزلك عنها جبرًا، لتقدم حقك فيها افتراض أن تعدل عنها إلى غيرها من جواري القلعة أو إلى قيمتها، فإن رضي بذلك فعلناه، وأمضينا صلح القلعة عليها، وإن امتنع الدليل أن يعدل عنها قلت لصاحب القلعة: قد صالحناك عليها بعد أن جعلناها لغيرك على جهالة افترض بأخذ غيرها في صلحك أو ثمنها، فإن رضي بذلك فعلناه ودفعناها إلى الدليل وإن امتنع أن يعدل عنها إلى غيرها لم يجبر على انتزاعها من يده لما عقدناه من صلحه، وقيل: قد تقدم فيها حق الدليل على حقك وعلينا بعقد صلحك الذي لا تقدر على إمضائه أن نعيدك إلى مأمنك، ثم تكون من بعده لك حربًا، فإذا رد إلى مأمنه مكن من التحصن والاحتراز على مثل ما كان عليه قبل صلحه من غير من زيادة عليه، ولا نقصان منه، وكنا له بعد التحصن حربًا، وإن فتحت القلعة عنوة كان حكم الجارية في تسليمها إلى الدليل مستحقًا على ما مضى، وإن لم نفتحها عنوة وعدنا عنها فلا سيء للدليل لما ذكرنا ويستحب أن لو رضخ له من سهم المصالح وإن لم يجب فلو عدنا إلى القلعة بعد الانصراف عنها وفتحناها عنوة فعل يستحق الدليل الجارية أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا يستحقها، لأنها لم تفتح بدلالته. والثاني: يستحقها، لأن الوصول إلى فتحها بدلالته.

مسألة: قال الشافعي:" وإن غزت طائفة بغير أمر الإمام كرهته لما في إذن الإمام من معرفته بغزوهم ومعرفتهم ويأتيه الخبر عنهم فيعينهم حيث يخاف هلاكهم فيقتلون ضيعة. قال الشافعي رحمه الله: ولا أعلم ذلك يحرم عليهم وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الجنة فقال له رجل من الأنصار: إن قتلت يا رسول الله صابراً محتسباً؟ قال:" فلك الجنة" قال فانغمس في العدو فقتلوه وألقى رجل من الأنصار درعا كان عليه، حين ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الجنة، ثم انغمس في العدو فقتلوه بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم قال: فإذا حل للمنفرد أن يتقدم على أن الأغلب أنهم يقتلونه كان هذا أكثر مما في الانفراد من الرجل والرجال بغير إذن الإمام وبعث رسول الله عمرو بن أمية الضمري ورجلًا من الأنصار سرية وحدهما وبعث عبد الله بن أنيس سرية وحدة فإذا سن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتسرى واحد ليصيب غرة ويسلم بالحيلة أو يقتل في سبيل الله فحكم الله تعالى أن ما أوجف المسلمون غنيمة". قال في الحاوي: وهو كما ذكر يكره أن يغزو قوم بغير إذن الإمام لأمرين: أحدهما: أنه أعرف بجهاد العدو منهم. والثاني: أنه إذا علم أعانهم وأمدهم فعلى التعليل الأول يكره لهم ذلك في حق الله تعالى، وعلى التعليل الثاني يكره لهم ذلك في حقوق أنفسهم، وإن غزوا بغير إذنه لم يحرم عليهم وسواء كانوا في منعة أو غير منعة. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يحرم عليهم إلا أن يكونوا في منعه قال أبو يوسف: المنعة عشرة، وهذا فاسد لأمرين: أحدهما: أن العدد ليس بشرط في الإباحة فقد أنفذ رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن أمية الضمري ورجلًا من الأنصار سرية وحدهما، وأنفذ عبد الله بن أنيس سرية وحده لقتل خالد بن سفيان الهذلي وهو في العدة والعدد، وأنفذ محمد بن مسلمة لقتل كعب بن الأشرف، فقتله، وأنفذ نفراً لقتل ابن أبي الحقيق فقتلوه. والثاني: أنه ليس في القلة أكثر من بذل النفس، وجهاد العدو، وهذا غير محظور قد حث رسول الله صلى الله عليه وسلم على القتال وذكر الجنة فقال رجل من الأنصار: يا رسول الله إن قتلت صابراً محتسباً ما الذي له. قال: الجنة فانغمس في العدو حتى قتل. فصل: فإذا تقرر أنه لا يحرم عليهم لم يخل حال ما أخذوه من المال من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يأخذوه عنوة بقتال فهذا غنيمة يخمسه الإمام ويقتسموا أربعة أخماسه

بينهم. وقال أبو حنيفة: يتركه الإمام عليهم ولا يخمسه. وقال الأوزاعي: الإمام مخير في أخذ خمسه منهم، أو ترك جميعه عليهم، أو تخميسه، وقسم أربعة أخماسه بينهم. وقد دللنا على وجوب تخميسه بما مضى، ولا تأديب عليهم. وقال الأوزاعي: يؤدبهم الإمام عقوبة لهم وهذا خطأ، لأنه ليس في الانتقام من أعداء الله تأديب. والثاني: أن يأخذوا المال صلحاً بغير قتال، فهذا المال فيء لا يستحقونه يكون أربعة أخماسه لأهل الفيء وخمسه لأهل الخمس. والثالث: أن يأخذوا المال اختلاساً بغير قتال، ولا صلح. قال أبو إسحاق المروزي: يكون ذلك فيئًا لا حق لهم فيه، لوصوله بغير إيجاف خيل ولا ركاب، وعندي أن يكون غنيمة يملكون أربعة أخماسه، لأنهم ما وصلوا إليه عفوًا حتى غرروا بأنفسهم فصار كتغريرهم بها إذا قاتلوا. مسألة: قال الشافعي:" ومن سرق من الغنيمة من حر أو عبد حضر الغنيمة لم يقطع لأن للحر سهما ويرضخ للعبد ومن سرق من الغنيمة وفي أهلها أبوه أو أبنه لم يقطع وإن كان أخوه أو امرأته قطع. قال المزني رحمه الله: وفي كتاب السرقة: إن سرق من امرأته لم يقطع". قال في الحاوي: وجملة ذلك أن الغنائم إذا أحرزت بعد إجازتها لم يجز لأحد من الغانمين وغيرهم أن يتعرض لها قبل قسمها، ولمستحقها مطالبة الإمام بقسمها فيهم فإن هتك حرزها من سرق منها نصاب القطع فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون خمسها باقيًا فيها لم يخرج منها فلا قطع على السارق منها، سواء كان من الغانمين أو من غيرهم، لأنه إن كان من الغانمين فله في أربعة أخماسها سهم وفي خمسها من سهم المصالح حق وهي شبهة واحدة يسقط بها عنه القطع. والثاني: أن يخرج خمسها منها فتصير أربعة أخماسها مفرداً للغانمين، وخمسها مفرداً لأهل الخمس فهذا على ضربين: أحدهما: أن تكون السرقة من أربعة أخماس الغنيمة فلا يخلو حال السارق من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون ممن حضر الوقعة من ذي سهم، كالرجل الحر، وذي رضخ

كالمرأة والعبد فيهما سواء، لأن الرضخ يستحق وإن نقص عن السهم كنقصان سهم الراجل عن سهم الفارس فكانا حقين واجبين فهذا على ضربين: أحدهما: أن يسرق منها ما يجوز أن يكون بقدر حقه، فلا قطع عليه نص عليه الشافعي وأجمع عليه أصحابه، لهم في تعليله وجهان: أحدهما: أنها شبهة في هتك حرزها. والثاني: أنها شبهة في أخذ حقه منها والضرب الثاني: أن يسرق منها ما يعلم أنه قطعا أكثر من حقه ففي وجوب قطعه في الزيادة، إذا بلغت نصاباً وجهان أشار إليهما أبو إسحاق المروزي في شرحه: أحدهما: لا يقطع وهو مقتضى قول من علل بالشبهة في هتك الحرز، لأن المال صار بها في غير حرز. والوجه الثاني: يقطع وهو مقتضى قول من علل بالشبهة في أخذ الحق، لأن الزيادة ليس فيها حق، ويتفرع على هذين الوجهين أن يكون له رجل دين فيتوصل إلى هتك حرزه ويأخذ الزيادة على قدر دينه فيكون قطعه في الزيادة على وجهين. والقسم الثاني: أن يكون السارق ممن لم يحضر الوقعة، ولا يتصل بمن حضرها فيجب قطعه فيها لارتفاع شبهته، وعلى قول أبي حنيفة لا يقطع، لأنها عن أصل مباح. والقسم الثالث: أن يكون السارق ممن لم يحضر الوقعة لكن له اتصال بمن حضرها فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون اتصالهما لا يمنع من وجوب القطع بينهما كالأخ يقطع إذا سرق من أخيه كذلك إذا سرق من غنيمة حضرها أخوه قطع. والثاني: أن يكون اتصالهما يمنع من وجوب القطع بينهما كالولد مع الأبوين لا يقطع أحدهما في مال الآخر وكالعبد مع سيده لا يقطع في ماله، كذلك إذا سرق من غنيمة حضرها واحد من والديه، أو مولوديه لم يقطع وكذلك لو حضرها عبده، أو سيده لم يقطع فأما الزوج والزوجة ففي كل واحد منهما في مال صاحبه قولان: أحدهما: لا يقطع وهو قول أبي حنيفة فعلى هذا لا يقطع في الغنيمة إذا حضرها زوج، أو زوجة، ولا إذا حضرها عبد أو زوجة. والثاني: يقطع وهو قول مالك، فعلى هذا يقطع في الغنيمة وإن حضرها هؤلاء فهذا حكم السرقة من أربعة أخماس الغنيمة. فصل: والضرب الثاني: أن يسرق من خمس الغنيمة فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون خمس الخمس وهو سهم المصالح منها باقياً فيها فلا قطع على سارقها، لأن فيها من سهم المصالح حقا فصار شبهة في سقوط القطع عنه (سواء) كان

ممن حضر الوقعة أو لم يحضرها، لأن سهم المصالح عام. والثاني: أن يكون سهم المصالح، وهو خمس الخمس أفرد فسرق من أربعة أخماس الخمس فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون من أهل ذلك، ومستحقيه كذوي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل، فلا قطع عليه ويكون كالغانم إذا سرق من أربعة أخماس الغنيمة والثاني: أن لا يكون من أهل ذلك، ولا مستحقيه ففي وجوب قطعة وجهان: أحدهما: يقطع كأربعة أخماس الغنيمة إذا سرق منها غير مستحقيها. والثاني: لا يقطع، لأنه قد يجوز أن يصير من مستحقيه في ثاني حال بخلاف الغنيمة التي لا يجوز أن يصير من مستحقيها في ثاني حال. روى إبراهيم ألنخعي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ادرؤوا الحدود فإن الإمام لأن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة فإذا وجدتم لمسلم مخرجاً فادرؤوا عنه الحد ما استطعتم. مسألة: قال الشافعي:" وما افتتح من أرض موات لمن أحياها من المسلمين" قال في الحاوي: فتح بلاد المشركين ضربان: عنوة وصلح، فأما بلاد العنوة فضربان: عامر، وموات. فأما العامر فملك للغانمين لا يشركهم فيه غيرهم، وأما الموات فضربان: أحدهما: أن يذبوا عنه، ويمنعوا منه فيكون كالذب في حكم العامر يختص به الغانمون دون غيرهم لأن الذب عنه كالتحجير عليه والمتحجر على الموات أحق به من غيره كذلك حكم هذا الموات. والثاني: أن لا يذبوا عنه فيكون في حكم موات بلاد المسلمين، من أحياه منهم ملكه ولا يختص بالغانمين، وأما بلاد الصلح فضربان: أحدهما: أن يصالحهم على الأرضين لنا ويقرها معهم بخراج يؤدونه إلينا فيكون مواتها كمواتنا يملكه من أحياه من المسلمين لاستوائهم فيه، وتصير الأرض بهذا الصلح دار الإسلام ولا يملكون ما أحيوه من هذا الموات كما لا يملكوه أهل الذمة إذا أحيوه من دار الإسلام. والثاني: أن يصالحهم على أن الأرض لهم ويقرون عليها بخراج يؤدونه عنها فتكون الأرض باقية على ملكهم، ولا تصير بهذا الصلح دار إسلام ويكون مواتها كموات دار الحرب إن أحيوه ملكوه، وإن أحياه المسلمون لم يملكوه، لأن اليد مرتفعة عن دارهم

والصلح إنما أوجب الكف عنهم وأخذ الخراج منهم. مسألة: قال الشافعي:" وما فعل المسلمون بعضهم ببعض في دار الحرب لزمهم حكمه حيث كانوا إذا جعل ذلك لإمامهم لا تضع الدار عنهم حد الله ولا حقا لمسلم. وقال في كتاب السير: يؤخر الحكم عليهم حتى يرجعوا من دار الحرب". قال في الحاوي: وهذا كما قال كل معصية وجب بها الحد في دار الحرب على المسلم أو الذمي سواء كان فيها الإمام أو لم يكن. وقال أبو حنيفة: يجب بها الحد إن كان الإمام فيها ولا يجب إن لم يكن فيها احتجاجًا يقول النبي صلى الله عليه وسلم:" منعت دار الإسلام ما فيها، وأباحت دار الشرك ما فيها" وفرق بين الدارين في الإباحة والحظر كما فرق بينهما في السبي والقتل فأوجب ذلك وقوع الفرق بينهما في وجوب الحد. ودليلنا عموم الآيات في الحدود الموجبة للتسوية بين دار الإسلام ودار الحرب قول النبي صلى الله عليه وسلم:" من أتى من هذه القاذورات شيئا فليستتر بستر الله فإنه من بيد لنا صفحته نقم حد الله عليه" فعم ولم يخص، ولأنها حدود تجب في دار الإسلام فاقتضى أن تجب بغيبة الإمام كدار الإسلام ولأنه لما استوت الداران في تحريم المعاصي وجب أن تستويا في لزوم الحدود، ولأنه لما لم تختلف أحكام العبادات من الصلاة والزكاة، والصيام باختلاف الدارين وجب أن لا تختلف أحكام المعاصي باختلاف الدارين. فأما الخبر فمحمول على إباحة ما تصح استباحته من الأموال والدماء وليس بمحمول على ما لا يجوز استباحته من الكبائر والمعاصي. فصل: فإذا ثبت وجود الحدود، فيها نظر، فإن لم يكن في دار الحرب من يستحق إقامتها أخرت إلى دار الإسلام حتى يقيمها الإمام، وإن كان في دار الحرب من يقيمها وهو الإمام، أو من ولاه الإمام إقامتها من ولاة الثغور والأقاليم نظر، فإن كان له عذر يمنعه من إقامتها لتشاغله بتدبير الحرب، أو لحاجته إلى قتال المحدود أخر حده إلى دار الإسلام وإن لم يكن له عذر قدم حده في دار الحرب، وليس ما ذكره المزني عن الشافعي من اختلاف جوابه فيه محمولًا على اختلاف قولين وإنما هو على ما ذكرناه من اختلاف حالين. وقال أبو حنيفة: لا تجوز إقامة الحدود في دار الحرب، وعلى الإمام تأخيرها

احتجاجاً بما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى أمراء الأجناد أن لا يقيموا الحدود في دار الشرك حتى يعودوا إلى دار الإسلام، ولا يؤمن أن يتداخله من الأنفة والحمية ما يبعثه على الردة اعتصامًا بأهل الحرب ودليلنا قول النبي صلى الله عليه وسلم:" فإنه من يبد لنا صفحته نقم حد الله عليه" ولم يفرق، ولأن لله تعالى عليهم حقوقًا من عبادات، وحدود في معاص، فإذا لم تمنع دار الشرك من استيفاء حقوقه لم تمنع من إقامة حدوده. فأما الجواب عن خبر عمر إن صح فهو أنه أمر بذلك لئلا يقع التشاغل بإقامتها عن تدبير الحرب وجهاد العدو. وقوله: إنه ربما بعثته الحمية على الردة، فلو كان لهذا المعنى لا تقام عليهم الحدود لما أقيمت على أهل الثغور، ولما استوفيت منهم الحقوق، ولأفضى إلى تعطيل الحدود وإسقاط الحقوق وهذا مدفوع. فصل: فأما حقوق الآدميين المستهلكة عليهم في دار الحرب، فإن كانت لأهل الحرب فهي مباحة بالكفر والمحاربة لا تضمن أموالهم، ولا نفوسهم، وإن كانت للمسلمين فضربان: أموال، ونفوس. فأما الأموال فيأتي ضمانها. وأما النفوس كمسلم قتل مسلمًا في دار الحرب، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون في حرب، وقد مضى حكمه وذكرنا أقسامه. والثاني: يكون في غير حرب فضربان: أحدهما: أن لا يعلم بإسلامه فينظر في قتله، فإن قتله خطأ ضمنه بالكفارة دون الدية، لقول الله تعالى: {فَأن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ}. وإن قتله عمدًا فلا قود عليه للشبهة وعليه الكفارة وفي وجوب الدية قولان: أحدهما: وهو اختيار المزني- لا دية عليه- لأن الجهل بإسلامه يغلب حكم الدار في سقوط ديته كما غلب حكمها في سقوط القود. والوجه الثاني: وهو اختيار أبي إسحاق المروزي- ضمن ديته تغليباً لحكم قصده ولا يؤثر سقوط القود الذي يسقط بالشبهة في سقوط الدية التي لا تسقط بالشبهة. والضرب الثاني: أن يقتله عالماً بإسلامه فيلزمه يقتله في دار الحرب ما كان لازمًا له بقتله في دار الإسلام إن كان بعمد محض وجب عليه القود، والكفارة وإن كان بعمد الخطأ وجبت عليه الدية مغلظة والكفارة وإن كان بخطأ وجبت عليه الدية مخففة والكفارة ولا فرق بين من دخل دار الحرب مسلمًا أو أسلم فيها سواء هاجر أو لم يهاجر. وقال أبو حنيفة: لا قود في قتل المسلم في دار الحرب، إذا لم يكن فيها إمام، فأما الدية فإن

دخلها وهو مسلم غير مأسور ضمن عمده بالدية دون الكفارة وضمن خطة بالدية والكفارة، وإن كان مأسورا لم يضمن ديته في عمد ولا خطأ وضمن بالكفارة في الخطأ دون العمد، لأن الأسير قد صار في أيديهم كالمملوك لهم، وإن أسلم في دار الحرب وهاجر إلى دار الإسلام كان كالداخل إليها مسلما وإن لم يهاجر إليها كانت نفسه هدراً لا يضمن بقود ولا دية وتلزم الكفارة في الخطأ دون لا العمد احتجاجا بقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا} وبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:" أنا بريء من كل مسلم مع مشرك" وهذا موجب لإهدار دمه قال: ولأنه دم لم يحقن في دار الإسلام فلم يضمن في دار الحرب كالحربي. ودليلنا قول الله عز وجل: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانا} وهذا مظلوم بالقتل فوجب أن يكون لوليه سلطاناً في القوة والدية، ولأنه إسلام صار الدم به محقوناً، فوجب أن يصير به مضمونا كالمهاجر،' ولأنه كل دار ينهدم الدم فيها بالردة، يضمن الدم فيها بالإسلام كدار الإسلام فأما الجواب عن الآية فهو ورودها في الميراث: لأنهم كانوا في صدر الإسلام يتوارثون بالإسلام والهجرة، ثم نسخت حين توارثوا بالإسلام دون الهجرة. وأما الجواب عن الخبر فهو إنما تبرأ من أفعاله ولا يوجب ذلك هدر دمه كما قال: " من غشنا فليس منا" وأما الجواب عن قياسه فهو أن هذا دم محقون فلم يكن لاختلاف الدار تأثير ودم الحربي مباح فلا يكن لاختلاف الدار تأثير، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي:" ولا أعلم أحداً من المشركين لم تبلغه الدعوة إلا أن يكون خلف الذين يقاتلون أمة من المشركين خلف الترك والخزر لم تبلغهم الدعوة فلا يقاتلون حتى يدعوا إلى الإيمان فإن قتل منهم أحد قبل ذلك فعلى من قتله الدية" قال في الحاوي: وهذا صحيح والكفارة ضربان: أحدهما: من بلغتهم دعوة الإسلام، وهم من نعرفهم اليوم كالروم والترك، والهند، ومن في أقطار الأرض من الكفارة ودعوة الإسلام أن يبلغهم أن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحجاز نبيًا أرسله إلى كافة الخلق بمعجزة دلت على صدقة يدعوهم إلى توحيده وتصديق رسوله، وطاعته في العمل بما يأمره به ويناهم عنه، وأنه يقاتل من خالفه حتى يؤمن به أو يعطي الجزية إن كان كتابيًا، فإن لم يفعل أحد هذين، أو كان غير كتابي فلم يؤمن استباح قتله فهذه صفة دعوة الإسلام، فإذا كانوا ممن قد بلغتهم هذه الدعوة، لم يجب أن يدعوا

إليها ثانية إلا على وجه الاستظهار، والإنذار وجاز أن يبدأ بقتالهم زحفًا ومصافة وجاز أن يبدأ به غرة وبياتًا قد شن رسول الله صلى الله عليه وسلم الغارة على بني المصطلق وهم غارون في نعمهم بالمريسيع فقتل المقاتلة وسبى الذرية، وقال حين سار إلى فتح مكة اللهم أطوا خبرنا عنهم حتى لا يعلموا بنا إلا فجأة لما قدمه من استدعائهم فلم يعلموا به حتى نزل عليهم. والثاني: من الكفار من لم يبلغهم دعوة الإسلام، قال الشافعي:" ولا اعلم أحدًا اليوم من المشركين، من لم يبلغه الدعوة إلا أن يكن خلف الذين يقاتلوه أمة من المشركين خلف الترك والخزر لم تبلغهم الدعوة". وهذا وإن كان بعيدًا في وقت الشافعي فهو الآن أبعد، لأن الإسلام في زيادة تحقيقًا لقول الله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} فإن جاز أن يكون الآن قوم لم تبلغهم الدعوة لم يجزا الابتداء بقتالهم إلا بعد إظهار الدعوة لهم واستدعائهم بها إلى الإسلام ودمائهم قبل ذلك محقونة وأموالهم محظورة قال الله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}. وقال الله تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} وعلى هذا كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المشركين. روى سليمان بن بريدة عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعثت أميرًا على جيش، أو سرية وأمره بتقوى الله تعالى في خاص نفسه ومن معه من المسلمين وقال:" إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم" فصل: فإذا ثبت وجوب إنذارهم بالدعوة قبل قتالهم أنفسهم ما تضمنته دعوتهم ثلاثة أقسام: أحدها: ما هم فيه محجوبون بعقولهم دون السمع، وهو معجزات الرسل وجججهم الدالة على صدقهم في الرسالة. والثاني: ما هم فيه محجوبون بالسمع دون العقل، وهو ما تضمنه التكليف من أمر ونهي. والثالث: ما اختلف فيه وهو التوحيد هل هم فيه محجوبون بالعقل، أو بالسمع على وجهين لأصحابنا مع تقدم خلاف المتكلمين فيه: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة، وزعم أنه من الظاهر من مذهب

الشافعي أنهم محجوبون فيه بالعقل دون السمع كالقسم الأول. والثاني: وهو قول أبي حامد الإسفرايينبي، وزعم أنه الظاهر من مذهب الشافعي أنهم محجوبون فيه بالسمع وإن وصلوا إلى معرفته بالعقل، وبالوجه الأول قال أكثر البصريين وبالوجه الثاني قال أكثر البغداديين. وهذا الوجهان مبنيان على اختلاف وجهي أصحابنا في التكليف هل اقترن بالعقل، أو تعقبه، فمن زعم أنه اقترن بالعقل جعلهم محجوبين بالسمع دون العقل. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا من حقن دمائهم قبل بلوغ الدعوة إليهم ضمنت دماؤهم بالدية إن قتلوا ولم تكن هدرًا. وقال أبو حنيفة: ى تضمن دماؤهم وتكون هدرًا احتجاجًا بأمرين: أحدهما: من لم يثبت له إيمان ولا أمان كان دمه هدراً كالحربي، وليس لهؤلاء إيمان ولا أمان. والثاني: أن الدية أحد موجبي القتل فوجب أن يسقط في حقهم كالقود. ودليلنا شيئان: أحدهما: أن من لم يظهر عناده في الدين مع تكليفه لم ينهدر دمه كالمسلم. والثاني: أن حرمة النفوس أعلم من حرمة الأموال، فلما وجب رد أموالهم عليهم وجب ضمان نفوسهم. فأما الجواب عند استدلالهم بأن لا إيمان لهم ولا أمان هو أن لهم أمان ولذلك حرم قتلهم وأما الجواب عن القود فهو أنه يسقط بالشبهة، ولا تسقط الدية بالشبهة فافترقا. فصل: فإذا ثبت ضمان دياتهم، فقد أطلق الشافعي هاهنا ذكر الدية واختلف أصحابنا في مقدارها على ثلاثة أوجه: أحدها: أنها الدية الكاملة دية المسلم تمسكاً بالظاهر من إطلاق الشافعي، واحتجاجًا بنفي الكفر عنهم قبل بلاغ الدعوة إليهم. والثاني: وقد نص عليه الشافعي في كتاب "الأم" أنها دية كافر إن كان يهوديًا، أو نصرانيًا، كانت ثلث دية المسلم، وإن كان مجوسيًا أو وثنيًا، فثلثا دية المسلم ثمانمائة درهم لأن قصور الدعوة عنهم موجب لحقن دمائهم وليس بمثبت لإيمانهم. والثالث: وهو قول أبي إسحاق المروزي إن يتمسكوا بدين أصله باطل، كعبدة الأوثان فدية كافر ليس له كتاب كدية المجوسي، وإن تمسكوا بدين أصله حق كاليهودية والنصرانية فدية مسلم، لأن فيه على أصل الإيمان قبل علمهم بالنسخ.

باب ما أحرزه المشركون من المسلمين

فصل: فأما قتلنا من لا نعلم هل بلغتهم الدعوة، أو لم تبلغهم ففي ضمان دمائهم وجهان بناء على اختلاف الوجهين هل كان الناس قبل ورود الشرع على أصل الإيمان حتى كفروا بالرسول أو كانوا على أصل الكفر حتى آمنوا بالرسل. فأحد الوجهين: أنهم كانوا على أصل الإيمان حتى كفروا بالرسل، وهذا قول من زعم أنهم محجوبون في التوحيد بالعقل دون السمع، فعلى هذا يكون دماء من جهلت حالهم مضمونة بدمائهم. والثاني: أنهم كانوا قبل ورود الشرع على أصل الكفر حتى آمنوا بالرسل وهذا قول من زعم أنهم محجوبون في التوحيد بالسمع دون العقل، فعلى هذا تكون دماء من جهلت حالهم هدراً لا تضمن بقود ولا دية، ومن هذين الوجهين اختلف المفسرون في تأويل قول الله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} على قولين: أحدهما: أنهم كانوا على الكفر حتى أمن منهم من أمن وهذا قول ابن عباس والحسن. والثاني: أنهم كانوا على الحق، حتى كفر منهم من كفر، وهذا قول قتادة والضحاك والأكثرين، والله أعلم. باب ما أحرزه المشركون من المسلمين قال الشافعي رحمه الله:" لا يملك المشركون ما أحرزوه على المسلمين بحال أباح الله لأهل دينه ملك أحرارهم ونسائهم وذراريهم وأموالهم فلا يساوون المسلمين في شيء من ذلك أبدا قد أحرزوا ناقة النبي صلى الله عليه وسلم وأحرزتها منهم الأنصارية فلم يجعل لها النبي عليه السلام شيئا وجعلها على أصل ملكه فيها وأبق لابن عمر عبد وعار له فرس فأحرزها المشركون ثم أحرزها عليهم المسلمون فردا عليه وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه مالكه أحق به قبل القسم وبعده ولا أعلم أحداً خالف في أن المشركين إذا أحرزوا عبداً لمسلم فأدركه وقد أوجف عليه قبل القسم أنه لمالكه بلا قيمة ثم اختلفوا بعدما وقع في المقاسم فقال منهم قائل وعلى الإمام أن يعوض من صار في سهمه من خمس الخمس وهو سهم النبي صلى الله عليه وسلم وهذا يوافق الكتاب والسنة والإجماع وقال غيرنا هو أحق به بالقيمة إن شاؤوا ولا يخلوا من أن يكون مال مسلم فلا يغنم أو مال مشرك فيغنم فلا يكون لربه فيه حق ومن زعم أنهم لا يملكون الحر ولا المكاتب ولا أم الولد ولا المدبر ويملكون ما سواهم فإنما يتحكم"

قال في الحاوي: إذا أحرز المشركون أموال المسلمين بغارة، أو سرقة لم يملكوه سواء أدخلوه دار الحرب أو لم يدخلوه، فإن باعوه على مسلم كان صاحبه أحق به من مشتريه بغير ثمن وإن غنمها المسلمون استرجعه صاحبه بغير بدل، وسواء قبل القسمة وبعدها وعلى الإمام أن يعوض من حصل ذلك في سهمه بعد القسمة قيمته من سهم المصالح لما في نقص القسمة من لحوق المشقة، فإن لم تلحق منه مشقة نقصها ولم يعوض. وقال أبو حنيفة: قد ملك المشركون ما أغار عليهم جماعتهم دون آحادهم من أموال المسلمين، إذا أدخلوه دار الحرب، فإن باعوه صح بيعه، وكان لمالكه أن يأخذه من مشتريه بثمنه وإن غنمه المسلمون منهم استرجعه صاحب قبل القسمة، بغير عوض ولم يسترجعه بعد القسمة إلا بالقيمة احتجاجاً بما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قيل له يوم فتح مكة: ألا تنزل دار ل فقال:" وهل ترك لنا عقيل من ربع" فلولا زوال ملكه عنها بغلبة عقيل عليها لاستبقاها على ملكه ونزلها وروى أبو يوسف في سير الأوزاعي عن الحسن بن عمارة عن الحكم بن عتيبة عن مقسم عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد وبعير أحرزهما العدو ثم ظفر بهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد أحرزهما العدو ثم ظفر بهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبتهما أن أصبتهما قبل القسمة، فهما لك بغير شيء، وإن وجدتهما قبل القسمة فهما لك بالقيمة قالوا: وهذا نص ولأن كل سبب ملك به المسلمون على المشركين، جاز أن يملك به المشركون على المسلمين كالبيوع، ولأن كل مال أخذ قهراً على وجه التدين ملكه أخذه كالمسلم من المشرك، ودليلنا قول الله تعالى: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَؤُوهَا} فامتن علينا بأن جعل أموالهم لنا ولو جعل أموالنا لهم لساويناهم وبطل فيه الامتنان. وروى أبو قلابة عن أبي المهلب عن عمران الحصين" أن المشركين غاروا على سرح المدينة وأخذوا العضباء ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وامرأة من الأنصار فانفلت ذات ليلة من الوثاق فركبت ناقة الرسول صلى الله عليه وسلم ونجت من طلبهم حتى قدمت المدينة وكانت قد نذرت إن نجاها الله عليها أن تنحرها فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:" بئس ما جازتها لا نذر في معصية ولا فيما لا يملك ابن آدم" وأخذ ناقته منها، فلو ملكها المشركون بالغارة لملكتها الأنصارية بالأخذ، ولما استجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم استرجاعها، ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم:" لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" فلما لم يحل بهذا الخبر ماله لمسلم، كان أولى أن لا يحل ماله لمشرك، ويتحرر من استدلال هذا الخبر قياسان:

أحدهما: إنما منع الإسلام من غصبه ما لم يملك بغصبه كالمسلم مع المسلم. والثاني: أنه تغلب لا يملك به المسلم على المسلم، فلم يملك به المشرك على المسلم كالسبي، ولأن ما لم يملك على المسلم قبل القسمة لم يملك عليه بعد القسمة كالمدبر، والمكاتب، وأم الولد. فأما الجواب عن قوله:" وهل ترك لنا عقيل من ربع" فرسول الله صلى الله عليه وسلم نشأ في دار أبي طالب حين كفله بعد موت عبد المطلب فورثها عقيل دون علي لكفر عقيل وإسلام علي وعندنا لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم فباعها عقيل بميراثه لا يغصبه. وحكي ابن شهاب الزهري قال: أخبرنا علي بن الحسين أن أبا طالب ورثه ابناه عقيل وطالب دون علي فلذلك تركنا حقنا من الشعب. أما الجواب عن حديث ابن عباس فهو أن رواية الحسن بن عمارة وهو ضعيف كثير الوهم والغلظ، ثم لو صح لكان بدليلنا أشبه، لأنه جعله له قبل القسمة ولو زال ملكه عنه لما استحقه قبل القسمة، وإن كان له أخذه بعد القسمة بالقيمة. فإن قيل: فقد أوجب القيمة بعد القسمة، وأنتم لا توجبوها بعد القسمة؟ قيل: نحن نوجبها بعد القسمة إذا نقض القسمة لكن من بيت المال من سهم المصالح لا على المال فصار الخبر دليلنا. وأما الجواب عن قياسهم على البيوع فهو جواز أن يملك بها المسلم على المسلم. وأما الجواب عن قياسهم على قهر المسلم المشرك فهو أنه قهر مباح، وذلك محظور مع انتفاضه بالمدبر والمكاتب وأم الولد، وبالسبي. مسألة: قال الشافعي:" وإذا دخل الحربي إلينا بأمان فأودع وترك مالا ثم قتل بدار الحرب فجميع ماله مغنوم، وقال في كتاب المكاتب: مردود إلى ورثته لأنه مال له أمان. قال المزني رحمه الله: هذا عندي أصح لأنه إن كان حيا لا يغنم ماله في دار الإسلام لأنه مال له أمان فوارثه فيه بمثابته". قال في الحاوي: وصورتها في حربي دخل دار الإسلام بأمان ومعه مال وذرية فلا يخلو حال أمانة من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يشرط له في أمان نفسه الأمان على ذريته وماله فيكون أمانة عامًا في الجميع. والثاني: أن يخص بالأمان على نفسه ويستثنى منه خروج ذريته وماله من أمانه فيكون الأمان مخصوصًا على نفسه، وتكون ذريته وماله غنيمة لأهل القيء، لأنه واصل

بغير قتال ولا يمنع أمانة على نفسه من غنيمته وذريته وماله لخصوصه فيه. والثالث: أن يكون الأمان مطلقا لم يسم فيه المال والذرية بالدخول فيه ولا بالخروج منه فيراعى لفظ الأمان. فإن قيل: فيه لك الأمان اقتضى هذا الإطلاق عموم أمانة على ذريته وماله، لأن من خاف على ذريته وماله ما لم يكن أمناً، وإن قيل: في أمانة لك الأمان على نفسك، اقتضى ذكر نفسه أن يكون الأمان مخصوصًا فيها دون ما سواها من المال والذرية اعتبارًا بخصوص التسمية وأطلق أبو حامد الإسفراييني جوابه في دخول ذريته وماله في أمانه وحمله على هذا التفصيل أصح، وإن لم يتقدم به أحد من أصحابنا لما ذكرناه من التعليل. فصل: فإذا صح أمانة على نفسه وماله على التقسيم المذكور كان أانه على نفسه مقدرًا بأربعة أشهر وفيما بين الأربعة أشهر والسنة وجهان: وكان أمانه على ماله غير مقدر ويجوز أن يكون مؤبداً وفي أمانة على ذريته وجهان: أحدهما: يتقدر بمثل مدته اعتبارًا به، ولأنه أمان على نفس آدمي. والثاني: يجوز أن يتأبد ولا يتقدر بمدة كالمال، لأنهما تبع فاستويا في الحكم، فإن عاد هذا المستأمن إلى دار الحرب وخلف ذريته وماله في دار الإسلام انقسم حكم عوده ثلاثة أقسام: أحدها: أن يعود إليها لتجارة أو لحاجة فيكون على أمانه في نفسه، وذريته وماله، ولا ينتقص بدخول دار الحرب كالذمي إذا دخل دار الحرب تاجراً كان على ذمته. والثاني: أن يعود إليها مستوطناً فيرتفع أمانة على نفسه اعتبارًا بقصده ويكون الأمان على ذريته وماله باقيًا، لأنه يجوز أن ينفرد الأمان على ذريته وماله دون نفسه؛ لأن حربيًا لو أنقذ الى دار الإسلام ذريته وماله على أمان أخذه لهما دون نفسه صح كما يصح أن يأخذه لنفسه دون ذريته وماله، فإذا جمع في الأمان بين ذريته وماله فارتفع في نفسه لم يرتفع في ذريته وماله. والثالث: أن يعود إلى دار الحرب ناقصاً للأمان محاربًا للمسلمين فينتقض أمانه في نفسه وماله، ولا ينتقض في ذريته، لأن حرمة المال معتبرة به وحرمة الذرية معتبرة بهم ولو كان الأمان منفردًا على ماله لم ينتقض لمحاربته وقتاله، وكان بخلاف ما لو جمعهما الأمان، لأنهما إذا اجتمعنا كان حكمهما مشتركًا وإذا انفرد بالمال كان حكمهما مختلفاً. فصل: فإن مات هذا الحربي وله أمان على ذريته وماله ما لم ينتقض أمان ورثته بموته كما لا ينتقض بنقض الأمان وكان ماله موروثاً لورثته من أهل الحرب دون أهل الذمة، لارتفاع التوارث بين أهل الذمة وأهل الحرب، وسواء كان موت هذا المستأمن في دار الحرب،

أو دار الإسلام، وإذا صار موروثًا فلورثته حالتان: إحداهما: أن يكونوا ممن لهم أمان على أموالهم فينقل إليهم هذا الميراث على أمانه كموت الذمي إذا كان وراثه ذميًا والثانية: أن يكون ورثته ممن لا أمان لهم على أموالهم وهي مسألة الكتاب ففي لإبقاء الأمان على المال بعد موت مالكه قولان: أحدهما: وهو منصوص عليه في هذا الموضع أنه يزول بموت مالكه وينتقل إلى الورثة بغير أمان فيصبر إلى بيت المال فيئًا وقول الشافعي إنه مغنوم يريد أنه فيء وإنما كان كذلك لأمرين: أحدهما: أنه كان لمالك له أمان فصار لمالك ليس له أمان. والثاني: أنه كان الأمان على النفس لا يورث وجب أن يكون الأمان على المال لا يورث. والقول الثاني: نص عليه في كتاب المكاتب، واختاره المزني أن يكون الأمان على المال باقيًا ولا ينتقص بموت مالكه وينتقل إلى ورثته بأمانة لأمرين: أحدهما: أنه لما جاز أن ينفرد الأمان بالمال دون المالك، لم ينتقض باختلاف المالك كما لو ارتفع أمان مالكه بعوده إلى دار الحرب مستوطن والثاني: أن المال ينتقل إلى الوارث بحقوقه كما لو استحقت به شفعة، أو كان في ديته رهن، وأمان هذا المال من حقوقه، فوجب أن ينتقل بحق أمانه إلى وارثه، فهذا توجيه القولين، وكان أبو علي بن خيران يمنع من تخريج ذلك على قولين ويحمله على اختلاف حالين فالموضع الذي جعله مغنومًا إذا شرط أمانه مدة حياته، والموضع الذي جعله باقيًا على ورثته إذا شرط أمانة في مدة حياته وبعد موته، وليس هذا بمانع من اختلاف القولين، لأنهما من إطلاق الأمان إذا لم يتقيد بشرط وهو في تقييده بالشرط على ما حكاه، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي:" ومن خرج إلينا منهم مسلماً أحرز ماله وصغار ولده حصر النبي صلى الله عليه وسلم بني قريظة فأسلم ابنا شعبة فأحرز لهما إسلامهما أموالهما وأولادهما الصغار وسواء الأرض وغيرها" قال في الحاوي: إذا أسلم الحربي عصم دمه بالإسلام، وأحرز له جميع أمواله، وصار إسلامًا لجميع أولاده الصغار من الذكور والإناث، يعصمهم الإسلام من السبي والاسترقاق، فإن كان له حمل من زوجته أجرى عليه حكم الإسلام في المنع من استرقاقه

ولا يمنع ذلك من استرقاق أمه، وسواء كان إسلامه في دار الحرب أو دار الإسلام، لخوف أو غير خوف، مالم يدخل تحت القدرة، وسواء كان ماله منقولًا أو غير منقول، كانت له عليه يد أو لم تكن. وقال مالك: قد عصم دمه وصغار أولاده بإسلامه، وملك من أمواله ما عليه يده، ولم يملك منها ما ليس عليه يده، بناء على أصله في أن المشرك لا يصح ملكه، وما كانت عليه صار قاهراً له بإسلامه فملكه، وقال أبو حنيفة: قد ملك بإسلامه في يده ويد وكيله من منقول وغير منقول، ولا يملك ما عداه، ومنع إسلامه من استرقاق صغار أولاده، ولا يمنع من استرقاق حمله، لأنه تبع أمه، يعتق بعتقها. ودليلنا رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلى الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" فكان على عمومه. وروى الشافعي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر بني قريظة فأسلم ابنا شعبة اليهوديان، فأحرز لهما إسلامهما أموالهما وأولادهما، ومعلوم أنه قد زالت أيديهما عنه بخروجهما، فدل على استواء الحكم في الأمرين، ولأنه مال من قد أسلم قبل الأسر، فوجب أن لا يغنم، كما لو كانت يده عليه، ولأن من لم يغنم ماله إذا كانت يده عليه لم يغنم وإن لم تكن يده عليه كالمسلم. والدليل على أن الحمل لا يسترق: هو أنه قد ثبت إسلامه قبل الأسر فلم يجز استرقاقه كالمولود، ولأن كل من لم يجز استرقاقه لم يجز استرقاقه حملًا كالمسلم. وأما الجواب عن قول مالك: إن المشرك لا يصح أن يملك مالاً ولا نكاحاً، فهو أنه مجرد مذهب يدفعه النص قال الله تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} فأضاف ماله إليه إضافة ملك، ثم قال: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} فأضاف ماله إليه إضافة ملك، ثم قال: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}. فأضاف امرأته إليه إضافة عقد، فدل على أن المشرك لا يمنع من ملك المال والنكاح. وأما الجواب عن قول أبي حنيفة: إن الحمل كالأعضاء التابعة، لأن العتق يسري إليه فهو وإن كان تبعًا في حال فقد تفرد بحكمه في حال، لأن عتقه لا يتعدى عنه، فتعارض الأمران في استدلاله، وسلم ما دللنا به.

فصل: فأما زوجة الحربي إذا أسلم فلا يمنع إسلامه من استرقاقهما لأنه لما لم يتعد إسلامه إليها لم يعصمها إسلامه من استرقاقهما، فإن كانت حاملاً، ففي جواز استرقاقها قبل وضعها وجهان: أحدهما: لا يجوز، لأن حملها مسلم، فلزم حفظ حرمته فيها حتى يفارقها. والثاني: يجوز أن يسترق لامتياز حكميهما، فإن لم تسب كان النكاح باقيًا، وإن سببت بطل نكاحها بالسبي، كما لو كان زوجها حربيًا، لأنها لما ساوت زوجة الحربي في الاسترقاق ساوتها في بطلان النكاح، ولكن لو دخل المسلم دار الحرب، فتزوج فيها حربية ففي جواز سبيها واسترقاقها وجهان: أحدهما: يجوز أن تسبى وتسترق، ولا يعصمها إسلام الزوج منه، كما لو أسلم بعد كفره والثاني: أنه لا يجوز سبيها، ولا استرقاقها، اعتصاما بإسلام الزوج، لأن عقد هذا في الإسلام فكان أقوى، وعقد ذلك في الشرك فكان أضعف. ولو أستأجر المسلم أرضا من دار الحرب ثم غنمت كان ملك المسلم في منافعها باقيًا، وإن غنمت بخلاف نكاح الزوجة، في أحد الوجهين، لوقوع الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن المنافع تضمن باليد، والاستمتاع لا يضمن باليد. والثاني: أن ملك المنافع والرقبة يجوز أن يفترقا، وملك الاستمتاع والنكاح لا يجوز أن يفترقا. فصل: وإذا أعتق المسلم عبدًا ذمياً ثبت عليه الولاء، فلو لحق بدار الحرب لم يجز أن يسترق لأن في استرقاق رقبته إبطال ولاء المسلم، فخالف منافع الأرض التي لا تبطل على المسلم بغنيمة رقبتها، فمنع ولاء المسلم من الاسترقاق، ولم نمنع منافع المسلم من الغنيمة والاسترقاق ولو أعتق ذمي عبدًا ذميًا ثم لحق العبد المعتق بدار الحرب، ففي جواز استرقاقه وجهان: أحدهما: لا يجوز، لأجل ولائه، كما لو كان الولاء لمسلم؛ لأن مال الذمي لا يغنم، كما أن مال المسلم لا يغنم. والثاني: يجوز أن يسترق مع ولاء الذمي، ولا يجوز أن يسترق مع ولاء المسلم. والفرق بينهما: هو أن الذمي يجوز أن يحدث عليه استرقاق، فجاز أن يسترق مولاه المسلم، ولا يجوز أن يحدث عليه رق فلم يجز أن يسترق مولاه.

مسألة: قال الشافعي:" ولو دخل مسلم فاشترى منهم داراً أبو أرضاً أو غيرها ثم ظهر على الدار كان للمشتري وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: الأرض والدار فيء والرقيق والمتاع للمشتري". قال في الحاوي: وهذا صحيح، يجوز أن يشتري المسلم من أهل الحرب في دارهم دورًا وأموالًا فلا يغنمها المسلمون إذا فتحت. وقال مالك: لا يصح الشراء، وتغنم إذا فتحت، إلا أن يكون المسلم مقيمًا في دار الحرب، لما ذكره من أن المشرك لا يصح ملكه. وقال أبو حنيفة: يغنم ما لا ينقل من الأرضين، ولا يغنم ما ينقل من الأموال، لأن مالا ينقل تبع للدار، وما ينقل تبع للمالك، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن الملك الواحد لا يتعض في المنقول وغيره كالذي في دار الإسلام، ولو جاز أن يتبعض لكان استيفاء الملك على مالا ينقل للعجز عن نقله أشبه من استبقائه على ما ينقل مع القدرة على نقله، فلما كان فاسدًا كان ما ذهب إليه أفسد. فصل: وإذا أسلم العبد الحربي في دار الحرب كان باقياً على رق سيده، ولو أسلم في دار الإسلام عتق بإسلامه، لأن أبا بكرة خرج في حصار الطائف مع ستة عشر عبداً لثقيف، فأسلموا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعتقهم، وقيل له: أبو بكرة، لأنه نزل من حصن الطائف في بكرة، والفرق بين إسلامه في الدارين أنه في دار الحرب مقهور، وفي دار الإسلام قاهر. فصل: وإذا أهدى رجل من المشركين هدية لرجل من المسلمين فلا تخلو من أحد أمرين: أحدهما: أن يهديها في حال القتال وقيام الحرب، فتكون الهدية غنيمة لا يملكها المهدي له؛ لأنها من خوف القتال في ظاهر الحال. والثاني: أن يهديها بعد انقضاء الحرب، فتكون هدية للمهدي إليه خاصة، ولا تكون غنيمة، لأن انقضاء الحرب قد أزال حكم الخوف، وصار كالذي ملكه منهم بابتياع. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى:" قال الأوزاعي فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عنوة

فخلى بين المهاجرين وأراضيهم وديارهم وقال أبو يوسف: لأنه عفا عنهم ودخلها عنوة وليس النبي صلى الله عليه وسلم في هذا كغيره. قال الشافعي: ما دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم عنوة وما دخلها إلا صلحاً والذين قاتلوا وأذن في قتلهم بنو نفاثة قتله خزاعة وليس لهم بمكة دار إنما هربوا إليها وأما غيرهم ممن دفع فادعوا أن خالدًا بدأهم بالقتال ولم ينفذ لهم الأمان وادعى خالد أنهم بدأوه ثم أسلموا قبل أن يظهر لهم على شيء ومن لم يسلم صار إلى قبول الأمان بما تقدم من قوله عليه السلام: "من ألقى سلاحه فهو آمن ومن دخل داره فهو آمن" فمال من يغنم ولا يقتدي إلا بما صنع عليه الصلاة والسلام وما كان له خاصة فمبين في الكتاب والسنة وكيف يجوز قولهما بجعل بعض مال المسلم فيئاً وبعضه غير فيء أم كيف يغنم مال مسلم بحال. قال المزني رحمه الله: قد أحسن والله الشافعي في هذا وجود". قال في الحاوي: اختلف العلماء في فتح مكة، هل كان عنوة أو صلحًا؟ فذهب الشافعي إلى أن مكة فتحت صلحاً بأمان علقه رسول الله صلى الله عليه وسلم بشرط شرطه مع أبي سفيان بن حرب وحكيم بن حزام غداة يوم الفتح، قبل دخول مكة على إلقاء سلاحهم وإغلاق أبوابهم ووافق الشافعي على فتحها صلحاً أبو سلمه بن عبد الرحمن، وعكرمة، ومجاهد، والزهري وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وقال مالك، وأبو حنيفة، وأكثر الفقهاء، وأصحاب الرأي: إن مكة فتحت عنوة، فمن رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهلها، فلم يسب ولم يغنم لعفوه عنهم، واختلف من قال بهذا، هل كان عفوه عنهم خاصًا أو عامًا لجميع الولاة؟ فقال أبو يوسف كان هذا خاصاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يعفو عما فتحه عنوة وليس ذلك لغيره من الأئمة. وقال غيره: بل عفوه عام في الأئمة بعده، يجوز لهم أن يعفوا عما فتحوه عنوة كما جاز عفو رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهل مكة وقد فتحها عنوة، وهذا هو تأثير الخلاف في فتحها عنوة أو صلحًا أن من ذهب إلى فتحها صلحًا لم يجعل للإمام أن يعفو عما فتح عنوة، ومن ذهب إلى فتحها عنوة جعل الإمام أن يعفو عما فتحه عنوة، واستدل من ذهب إلى فتحها عنوة بقول الله تعالى: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} يعني مكة، والفتح المبين الأقوى، فدل على أنه العنوة وبقوله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} وظاهر النصر هو الغلبة والقهر، وبقوله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} فصرح القول بالظفر فدل على العنوة، وبقوله تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} وهذا توبيخ على ترك القتال، ثم قال: بعده: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} وهذا أمر بالقتال، فصار حتماً لا يجوز على الرسول خلافه، وبقوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ} فنهاه عن السلم مع قوته، وقد كان في دخول مكة قوبًا فكانت هذه الآيات الخمس من دلائلهم،

واستدلوا عليه من السنة بنقل السيرة التي نقلها الرواة، فتمسكوا بأدلة منهم، فمن ذلك، وهو سبب الفتح أن قريشًا لما نقضت صلح الحديبية بمن قتلت من خزاعة، وأتى وفد خزاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم مستنصرين، وهم أربعون رجلاً فيهم عمرو بن سالم، ثم قال عمرو فأنشده: اللهم إني ناشد محمدًا ... حلف أبينا وأبيه الأتلدا حتى أتى على شعره قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نصرت يا عمرو بن سالم والله لأغزون قريشًا والله لأغزون قريشًا إن شاء الله" وحقق هذه اليمين بمسيره بعد رد أبي سفيان بن حرب خائباً، وسار في عشرة آلاف فيهم ألفا دارع، ودخل بهم مكة، وعلى رأسه مغفر، وراياته منشورة، وسيوفه مشهورة، قالوا: وهذه صفة العنوة التي حلف بها أن يغزوهم. قال: وقد روى أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح عنوة، وهو من أخص أصحابه وأقربهم منه، فكان ذلك نصًا. قالوا: وقد روى أبو هريرة قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح مكة فقال لي: يا أبا هريرة دع الأنصار فدعوتهم فأتوه مهر ولين فقال لهم: "إن قريشاً قد أوبشت أوباشها، فإذا لقيتموهم فاحصدوهم حصداً، حتى تلقوني على الصفا" فكان أمره بالقتل نافيا لعقد الصلح قالوا: ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح: "من أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى سلاحه فهو آمن" ولو كان دخوله عن صلح لكان جميع الناس آمنين بالعقد. قالوا: ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة طاف بالبيت، وفيه جماعة من أشراف قريش فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تروني صانعًا بكم؟ قالوا: أخ كريم وابن أخ كريم فاصنع بنا صنع أخ كريم" فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، ومثلي ومثلكم، كما قال يوسف لأخوته: {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وهذا دليل على أنهم بالعفو آمنوا إلا بالصلح. قالوا: ولأن أم هانئ أمنت يوم الفتح رجلين فهو علي بن أبي طالب بقتلهما، فمنعته. وأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: "قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" ولو كان صلحًا لاستحقا الأمان لا بالإجارة، ولما استجاز على أن يهم بقتلهما. قالوا: وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كل البلاد فتحت بالسيف إلا المدينة، فإنها فتحت بالقرآن، أو قالت بلا إله إلا الله، فدل على أن مكة فتحت بالسيف عنوة. قالوا: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله حبس الفيل عن مكة وسلط عليها

رسوله والمؤمنين، وإنها لا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لأحد قبلي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم هي حرام إلى يوم القيامة" فدل تسليطه عليها ساعة من النهار على أنه كان محاربًا فيها، غير مصالح. قالوا: وقد روي أن حماس بن قيس بن خالد أعد سلاحًا للقتال يوم الفتح فقالت له امرأته: والله ما أرى أنك تقوم بمحمد وأصحابه، فقال: لها إني لأرجو أن أخدمك بعضهم، وخرج مرتجزًا يقول: إن يقبلوا اليوم فما لي علة ... هذا سلاح كامل وأله وذو غزارين سريع السله ولحق بصفوان بن أمية وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو، فيمن يقاتل خالد بن الوليد في قريش وعاد منهزمًا، فدخل بيته وقال لامرأته: أغلقي على الباب، فقالت له امرأته: فأين ما كانت تعدنا فقال: إنك لو شهدت يوم الخندمه ... إذا فر صفوان وفر عكرمه وأبو يزيد قائمق كالمؤتمة ... واستقبلهم بالسيوف ألمسامه يقطعن كل ساعد وجمجمه ... ضرباً فلا تسمع إلا غمغمه لهم نهيت خلفنا وهمهمة ... لم تنطقي في اللوم أدمى كلمه فدل على دخولها بالقتال. قالوا: ولأنه صالحهم على دخولهم لترددت بينه وبينهم الرسل، ولكتب فيه الصحف، كما فعل معهم عام الحديبية، وهو لم يلبث حتى دخولها بعسكره قهرًا، فكيف يكون صلحًا. ودليلنا على دخولها صلحاً قول الله تعالى: {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلا نَصِيراً} يعني، والله أعلم، أهل مكة فدل على أنهم لم يقاتلوا ولو قاتلوا لم ينصروا، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ} فأخبر بكف الفريقين، والكف يمنع من العنوة، وقوله تعالى: {مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} يريد به الاستعلاء والدخول، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستعليًا في دخوله، وقال تعالى: {الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} والمحارب لا يكون آمنًا، فاقتضى أن يكون دخولها صلحًا لا عنوة، وقال تعالى في سورة الرعد: {وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَاتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ} الآية فأخبر بإصابة القوارع ولهم إلى أن يحل رسول الله صلى الله عليه وسلم قريباً منهم فصار غاية قوارعهم، وهذه حال أهل مكة إلى أن نزل رسول

الله صلى الله عليه وسلم بمر الظهران، فانتهت القوارع، فصار ما بعدها غير قارعة، والمخالف يجعل ما بعد بحلوله أعظم القوارع، وفي هذا إبطال لقوله، وفيها معجزة وهو الإخبار بالشيء قبل كونه؛ لأن سورة الرعد مكية. ويدل عليه نقل السيرة في الدخول إليها واتفاق الرواة عليها، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين تأهب للمسير إليها أخفى أمره وقال: اللهم خذ على أبصارهم حتى لا يروني إلا بغتة" وسار محثًا حتى نزل بمر الظهران، وهي على سبعة أميال من مكة وكان العباس بن عبد المطلب قد لقيه قبل ذلك بالسقيا، فسار معه وأمر كل رجل من أصحابه، أن يوقد نارًا، فأوقدت عشرة آلاف نار أضاءت بها بيوت مكة، وفعل ذلك إرهابًا لهم وإيثارًا للبقيا عليهم، لينقادوا إلى الصلح والطاعة، ولو أراد اصطلامهم لفاجأهم بالدخول، ولكنه أنذر وحذر فلما خفي عليهم من نزل بهم خرج أبو سفيان بن حرب وحكيم بن حزام وبديل بن ورقاء يتحسسون الأخبار، وقال العباس وأشياخ قريش: والله لئن دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم عنوة إنه لهلاك قريش آخر الدهر، فركب بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم الشهباء وتوجه إلى مكة؛ ليعلم قريشًا حتى يستأمنوه فينما هو بين الأراك ليلاً، إذا سمع كلام أبي سفيان، فعرف صوته، فتعارفا واستخبره عن الحال، فأخبره بنزول رسول الله صلى الله عليه وسلم في عشرة آلاف لا طاقة لهم بها فاستشاره، فقال تأتيه في جواري فتسلم، وتستأمنه لنفسك وقومك، وأردفه على عجز البغلة، وعاد مسرعاً به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن أبا سفيان رجل يحب الفخر، فقال عليه السلام: من دخل دار أبي سفيان فهو آمن" فكان عقد الأمان متعلقاً بهذا الشرط. وهذا يخالف حكم العنوة فدل على انعقاد الصلح وجود هذا الشرط لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما آمن أبا سفيان، وعقد معه أمان قريش على الشروط المقدمة، أنفذه إلى مكان مع العباس ثم استدرك مكر أبي سفيان، وأنفذ إلى العباس أن يستوقف أبا سفيان بمضيق الوادي: ليرى جنود الله فقال أبو سفيان: أعذر يا بني هاشم، فقال له العباس بل أنت أغدر، وأفجر، ولكن لترى جنود الله في إعزاز دينه ونصرة رسوله، فلو كان دخوله عنوة لم يقل أبو سفيان: أعذرًا، ولم يجعل استيقافه غدرًا، فلما أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد كتائبه المتقدمة، قال أبو سفيان للعباس: لقد أوتي ابن أخيك ملكًا عظيمًا، فقال له العباس: ويحك إنها النبوة، فقال: نعم إذا، ثم أرسله العباس إلى مكة منذرًا لقومه بالأمان، فأسرع حتى دخل مكة، فصرخ في المسجد، فقال: يا معشر قريش هذا محمد قد جاء بما لا قبل لكم به، قالوا: فمه، قال: من دخل داري فهو آمن، قالوا: وما تغني عنا دارك، قال: من دخل المسجد فهو آمن من أغلق بابه فهو آمن من ألقى سلاحه فهو آمن، فحينئذ كفوا واستسلموا، وهذا من شواهد الصلح دون العنوة. ويدل عليه أن راية الأنصار كانت مع سعد بن عبادة عند دخوله مكة، فقال سعد، وهو يريد دخولها: اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى الحرمة

اليوم يوم يذل الله قريشًا فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فعزله عن الراية وسلمها إلى ابنه قيس بن سعد وقال: اليوم يوم المرحمه ... اليوم تستر فيه الحرمه اليوم يعز الله قريشًا فجعله يوم مرحمة، وأنكر أن يكون يوم ملحمة، فدل على الصلح دون العنوة، ويدل عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم أمامه الزبير بن العوام، ومعه رايته وأمره أن يدخل مكة من كداء العليا، وهي أعلى مكة، وفيها دار أبي سفيان وأنفذ خالد بن الوليد، ليدخل من الليط، وهي أسفل مكة، وفيها دار حكيم بن خرام، ووصاهما أن لا يقاتلا إلا من قاتلهما على ما قرره من الشرط مع أبي سفيان، فأما الزبير فلم يقاتله أحد، ودخل حتى غرس الراية بالحجون، وأما خالد بن الوليد فإنه لقيه جمع من قريش وحلفائهم بني بكر، فيهم عكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن عمرو، وقاتلوه فقاتلهم حتى قتل من قريش أربعة وعشرين رجلًا، ومن هذيل أربعة رجال، ولو منهزمين، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم البارقة على رؤؤس الجبال، قال: "ما هذا، وقد نهيت خالداً عن القتال" فقيل له: إن خالدًا قوتل فقاتل، فقال: "قضى الله خيرًا" وأنفذ إليه أن يرفع السيف، وهذا من دلائل الصلح دون العنوة؛ لأنه لو كان عنوة لم يذكر القتال، ولم ينه عنه، ويدل عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم الفتح حين سار لدخول مكة كان يسير أبي بكر وأسيد بن حصير على ناقته القصوى، وعليه عمامة سوداء، ولو دخلها محارباً لركب فرساً ثم قص على أبي بكر أنه رأى في المنام أن كلبة أقبلت من مكة، فاستقلت على ظهرها، وانفتح فرجها، ودر لبنها، فقال له أبو بكر: ذهب كلبهم، وأقبل خيرهم وسيتضرعون إليك بالرحم، ثم خرج نساء مكة فلطخن وجوه الخيل بالخلوق، وفيهم قتيلة بنت النضير بن الحارث، فاستوقفت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف لها، وكان قتل أباها النضر بن الحارث صبرًا، فأنشدته: يا راكبًا إن الأثيل مظنة عن صبح خامسة وأنت موفق بلغ به ميتًا فأن تحية ما إن تزال بها الركائب تخفق مني إليه وغيره مسفوحا جادت لما نحها وأخرى تخنق أمحمد ها أنت صنو نجيبة من قومها والفحل فحل معرق فالنصر أقرب من قتلت قرابة ... وأحقهم إن كان عتقًا يعتق ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيظ المخنق فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو كنت سمعت شعرها ما قتلته" ولما رأى الخلوق على

خيله، والنساء يمسحون وجوه الخيل بخمورهن، قال: "لله در حسان، كأنما ينطق عن روح القدس، فقال له العباس؛ كأنك يا رسول الله تريد قوله: عدمنا خيلنا أن لم نروها ... تنير النقع موعدها كداء تنازعنا الأعنة مسرعات ... يلطمهن بالخمر النساء فإن أعرضتم عنا اعتمرنا وكان ... الفتح وانكشف الغطاء وإلا فاصبروا لجلاد يوم ... يعز الله فيه من يشاء فقال: نعم، ودخل مكة وابن أم مكتوم، وهو ضرير بين يديه، وهو يقول: يا حبذا مكة من وادي ... أرض بها أهلي وعوادي بها أمشي بلا هادي ... أرض بها ترسخ أوتادي فدلت هذه الحال في استقبال النساء وسكون النفوس إليه والرؤيا التي قصها على الصلح دون العنوة، ويدل على ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استثنى يوم الفتح قتل ستة من الرجال، وأربع من النساء، وإن تعلقوا بأستار الكعبة. فأما الرجال: فعكرمة بن أبي جهل وهبار بن الأسود وعبد الله بن سعد بن أبي سرح ومقيس بن صبابة، والحويرث بن نقيذ وعبد الله بن خطل. وأما النسوة: فهند بنت عتبة، وسارة مولاة عمرو بن هاشم، وبنتان لابن خطل، فقتل من الرجال ثلاثة ابن خطل تعلق بأستار الكعبة، فقتله سعيد بن حريث وأبو برزة الأسلمي وأما مقيس بن صبابة فقتله نميلة بن عبد الله، وأما الحويرث بن نقيذ فقتله علي بن أبي طالب وقتلت إحدى بنتي ابن خطل، واستؤمن لمن بقي منهم، فدل استثناء هؤلاء النفر على عموم الأمان، ولو لم يكن أمان لم يحتج إلى استثناء، وقد قال زهير بن أبي سلمى في هذا الصلح ما عير به قريش فقال: وأعطينا رسول الله منا ... مواثيقًا على حسن التصادف وأعطينا المقادة حين قلنا ... تعالوا بارزونا بالتفاف ويدل عليه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل مكة ضربت له بالحجون قبة أدم عند رأيته التي ركزها الزبير، فقيل له هلا نزلت في دورك، فقال: "وهل ترك لنا عقيل من ربع" ولو كان دخوله مكة عنوة لكان، رباع مكة كلها له، ثم بدأ بالطواف على ناقته القصوى، وكان حول الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً، وكان أعظمها هبل، وهو تجاه الكعبة، فكان كلما مر بصنم منها أشار إليها بعود في يده، وقال: "جاء الحق وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقًا" فيسقط الصنم لوجهه وصلى خلف المقام ركعتين، ثم أتاه الرجل والنساء فأسلموا طوعًا وكرهًا، وبايعوه، وليس هذه حال من قاتل وقوتل، فدلت على الصلح والأمان، ويدل على ذلك ما رواه عبيد بن عمير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لم تحل لي غنائم مكة" والعنوة توجب إحلال غنائمها، فدل على دخولها صلحاً، وفقدت أخت أبي بكر عقدًا

لها، فذكرت ذلك لأبي بكر رضي الله عنه فقال أبو بكر: ذهبت أمانات الناس، ولو حلت الغنائم لم يكن أخذه خيانة، تذهب بها الأمانة. فإن قيل: إنما لم تحل غنائمها؛ لأنها حرم الله الذي يمنع ما فيه، فعنه ثلاث أجوبة: أحدها: أن عموم قول الله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} يمنع من تخصيص الحرم بغير دليل. والثاني: أنه لما لم يمنع الحرم من القتل، وهو أغلظ من المال، حتى قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل كان أولى أن لا يمنع من غنائم الأموال، ولو منعهم الحرم من ذلك لما احتاجوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أمان. والثالث: أن ما في الكعبة من المال أعظم حرمة، مما في منازل الرجال. وقد روى مجالد عن الشعبي قال: لما افتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وجد في الكعبة مالًا كانت العرب تهديه، فقسمه في قريش، فكان أول من دعاه للعطاء منهم سعيد بن حريث، ثم دعي حكيم بن حزام فقال: خذ كما أخذ قومك، فقال حكيم: آخذ خيرًا أو أدع قال: بل تدع قال: ومنك؟ قال: "اليد العليا خير من اليد السفلى"، فقال حكيم: لا آخذ من أحد بعدك أبدًا، فلما لم تمنع الكعبة ما فيها وحرمة الحرم بها كان الحرم أولى أن لا يمنع ما فيه لكن لما كان ما في الحرم أموال لمن قد استأمنوه حرمت عليه بالأمان، ولما لم يكن ما في الكعبة مال لمستأمن لم يحرم عليه بالأمان. فإن قيل: إنما لم يغنمها، وإن ملك غنائمها؛ لأنه عفا عنها، كما عفا عن قتل النفوس، فهل يجوز له وللأمة بعده أن يعفو عن القتال؛ لأنه من حقوق الله تعالى المحضة المعتبرة بالمصلحة، وليس له وللأئمة بعده أن يعفو عن الغنائم، إلا بطيب أنفس الغانمين، لأن من حقوقهم، ألا تراه لما أراد العفو عن سبي هوازن استطاب نفوس الغانمين، حتى ضمن لمن لم تطب نفسه بحقه ست قلائص عن كل رأس، وما استطاب في غنائم مكة نفس أحد، فدل على أنها لم تملك لأجل الأمان الذي انعقد به الصلح، فلم يحتج فيها إلى استطابة النفوس، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفذ لسرايا من مكة إلى ما حولها من عرفات وغيرها، فيأتوه بغنائمها؛ لأنها لم يكن لهم أمان. ويدل على ذلك ما كان أبو حامد المروزي يعتمده أن نقل الموجب يغني عن نقل الموجب وموجب العنوة والغنيمة، وموجب الصلح العفو والمن، فلما عفا ومن، ولم يقتل ولم يغنم، وأنكر حين رأى خالدًا قد قتل كان هذا دليًل على الصلح، ومانعاً من العنوة وصار الصالح كالمنقول لنقل موجبه من العفو. فأما الجواب عن قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} فمن وجهين: أحدهما: أن الفتح ينطلق على الصلح والعنوة، لقولهم: فتحت مكة صلحًا، وفتحت عنوة؛ لأن الفتح هو الظفر بالبلد بعد امتناعه وكلا الأمرين ظفر بممتنع.

والثاني: أن هذه السورة نزلت بعد فتوحه كلها، فكانت خبرًا عن ماضيها، قال مقاتل: نزلت فعد فتح الطائف، والطائف آخر فتوحه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" إن آخر وطأة وطئها الله بوج" يعني آخر ما أظفر الله بالمشركين بوج ووج هي الطائف، فلما نزلت هذه السورة فرح بها أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وبكى العباس لها فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما يبكيك يا عم قال: نعيت إليك نفسك، قال: إنه لكما تقول، وسميت هذه السورة سورة التوديع. وأما الجواب عن قوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} فمن وجهين: أحدهما: ما حكاه الشعبي أنها نزلت في صلح الحديبية قبل فتح مكة، لأنه أصاب فيها ما لم يصب في غيرها بويع بيعه الرضوان، وأطعموا نخل خيبر، وظهرت الروم على فارس، تصديقًا لخبره، وبلغ الهدي محله. والثاني: أنها نزلت في فتح مكة، والفتح يكون على كلا الوجهين وأما الجواب عن قوله: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم} فهو أن الكف يمنع من القتال، وقوله: {مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} فهو أنه قد أضفره بهم حين لم يقاتلوه واستسلموا عفوًا فكان أبلغ الظفر بعد المحاربة، وقد ذكر بعض أصحابنا أنها نزلت عام الحديبية، وأن قوله: {بِبَطْنِ مَكَّةَ} يعني الحرم، وحكي عن ابن عباس أن مضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديبية قد كان في الحل، ومصلاه في الحرم، وقد يعبر بمكة عن الحرم، وهذا تكلف في الجواب يخالف الظاهر. فأما الجواب عن قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ} فهو أنه أمر بقتالهم إن امتنعوا، وبالكف عنهم إن استسلموا لقوله تعالى: {وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ} وهو يوم الفتح استسلموا ولو يمتنعوا. وأما الجواب عن قوله: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} فهو أن النهي توجه إلى أن يدعو المسلمون إلى الصلح، وهم ما دعوا إليه وإما دعا إليه المشركون، فخرج عن النهي. وأما الجواب عن الاستدلال بصفة مسيرة وقسمه بالله أن يغزوهم ودخوله إليه بسيوف مشهورة ورايات منشورة فمن وجهين: أحدهما: أن الصلح والأمان تحدد بمر الظهران، فلا اعتبار بما كان قبله، وقسمه أن يغزوهم فقال قال:" إن شاء فاستثنى على أنه قد غزاهم، لأنه قهرهم ودخل عليهم غالبًا". والثاني: أن نشر الرايات وسل سيوف من عادات الجيوش في الصلح والعنوة، وإنما يقع بين الفرق الحالتين بالقتال والمحاربة. وأما الجواب عن حديث أبي بن كعب أنه دخلها عنوة من وجهين: أحدهما: أنه لما دخلها على كره منهم وظهور عليهم صار موصوفًا بالعنوة.

والثاني: أن العنوة الخضوع، كما قال الله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} أي: خضعت، وهم قد خضعوا حين استسلموا لأمانه. وأما الجواب عن حديث أبي هريرة " احصدوهم حصدًا حتى تلقوني على الصفا" فمن وجهين: أحدهما: أنه قال قبل نزوله بمر الظهران وعقد الأمان مع أبي سفيان، لأن أبا بكر ابن المنذر روى أنه قال: " احصدوهم غدًا حصدًاً حتى تلقوني على الصفا" ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب " الأموال" عن حماد عن ثابت عن عبد الله بن رباح عن أبي هريرة. والثاني: أنه أشار بذلك إلى من قاتل خالد بن الوليد أسفل مكة من قريش وبني نفاثة. وأما الجواب عن قولهم: لو كان صلحا لأمن جميع الناس ولم يخصه بمن ألقى سلاحه وأغلق بابه فهو أنه جعل عقد الأمان معلقًا بهذا الشرط، فصار خاصاً في اللفظ عاماً في الحكم، وأما الجواب عن قوله، لقريش:" أنتم الطلقاء" فهو لأنه أمنهم بعد الخوف، وأحسن إليهم بعد إساءتهم، وصفح عنهم مع قدرته عليهم، فصاروا بترك المؤاخذة طلقاء وبالإحسان عتقاء، وأما الجواب عن قوله: قد أجرنا من أجرت يا أم هانئ" فهو أن الرجلين لم يظهر منهما شرط الأمان، لأنهما كانا شاكين في سلاحهما، وقد علق شرط الأمان بإلقاء السلاح وغلق الأبواب فبقيا على حكم الأصل، فلذلك استجاز علي بن أبي طالب عليه السلام أن يقتلهما حتى استجارا بأم هانئ، فأمنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأما الجواب عن حديث عائشة رضي الله عنها:" كل البلاد فتحت بالسيف إلا المدينة" فهو أن معناه أن كل البلاد فتحت بالخوف من السيف إلا المدينة ولم ترد به العنوة والصلح، لأنه قد فتح بعض البلاد صلحًا. وأما الجواب عن قوله:" إن الله حبس الفيل عن مكة وسلط عليها رسوله" فهو محمول على أن الفيل لم يظفر بها، ولا دخلها، وأظفر الله رسوله بها حتى دخلها. وأما الجواب عن حديث حماس بن قيس، وما أنشده من شعره: فهو أنه كان حليف بني بكر الذين قاتلوا خالدًا، ولم يكن من قريش القابلين لأمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قد آمن من ألقى سلاحه وأغلق بابه، فلئن دل أول أمره على العنوة، فلقد دل آخره على الصلح، وابتدأ بالقتال بجهله بعقد الأمان، ثم رجع إلى شرط الأمان حين علم به. وأما الجواب عن استدلالهم بأن عقد الصلح ما ترددت فيه الرسل وكتب فيه الصحف كالحديبية، فهو أن ذلك صلح على الموادعة والكف، فاحتاج إلى الرسل وكتب الصحف وهذا أمان استسلام وتمكين علق بشرط، فاستغنى فيه عن تردد الرسل وكتب الصحف واقتصر فيه على أخبار أبي سفيان وحكيم بن حزام بحاله، وذكره لقريش ما تعلق بشرطه، واقتصر من قبولهم على العمل به دون الرضا والاختبار.

باب وقوع الرجل على الجارية قبل القسم

فصل: وإذا قد مضت دلائل الفتح في العنوة والصلح، فالذي أراه على ما يتقضيه نقل هذه السيرة وشروط الأمان فيها لمن لم يقاتل، وأنه يخرج منه من قائل: أن أسفل مكة دخله خالد بن الوليد عنوة، وأعلى مكة دخله الزبير بين العوام صلحًا، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد عقد الأمان بعد خالد بن الوليد أسفل مكة، وبعث الزبير من أعلاها، وأمرهما أن لا يقاتلا إلا من قاتلهما، فأما خالد بن الوليد فإنه دخل من أسفل مكة فقوتل فقاتل، فلم يوجد فيهم قبول الشرط قال الشافعي: إنما قاتله بنو بكر ولم يكن لهم بمكة دار، وقد ثبت أنه كان في مقاتله عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو، وهم من أكابر قريش وأعيان أهل مكة وهي دارهم، وأما الزبير بن العوام، فإنه دخل من أعلى مكة فلم يقاتله أحد، ولا قاتل أحدًا، فوجد شرط الأمان منهم فانعقد الصلح لهم، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجميع جيشه من جهة الزبير بن العوام، فصار حكم جبهته هو الأغلب، فلما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة التزم أمان من لم يقاتل، واستأنف أمان من قاتل، ولذلك استجد لعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية أماناً، وأمن من إجارته أم هانئ، ولم يغنم أسفل مكة، لأن القتال كان على جبالها، ولم يكن فيها، فهذا ما اقتضاه نقل السيرة وشواهد حالها. فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لما قاتل خالد وقتل:" اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" فدل على أن خالد قاتل وقتل بغير حق، ففيه وجهان: أحدهما: أن هذا، قال لخالد في غير يوم الفتح، لأنه بعثه بعد استقرار الفتح سرية من مكة إلى بني جذيمة من كنانة، وكانوا أسفل من مكة على ليلة منها ناحية يلملم ليدعوهم إلى الإسلام، فأتاهم وقد أسلموا وصلوا فقتل من ظفر به منهم، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد" وأنفذ علي بن أبي طالب بديات من قتل منهم. والثاني: أنه لو قاله يوم الفتح جاز أن يكون ذلك منه قبل علمه بأنهم قاتلوه، والله أعلم بالصواب. باب وقوع الرجل على الجارية قبل القسم أو يكون له فيهم أب أو ابن وحكم السبي قال الشافعي رحمه الله تعالى:" إن وقع على جارية من المغنم قبل القسم فعليه مهر مثلها يؤديه في المغنم وينهي إن جهل ويعزر إن علم ولا حد للشبهة لأن فيها شيئا قال: وإن أحصوا المغنم فعلم كم حقه فيها مع جماعة أهل المغنم سقط عنه بقدر

حصته منها". قال في الحاوي: أما الغنائم قبل إجازتها واستقرار الظفر بهزيمة أهلها فهي باقية على ملك أربابها، فإن وطئ منهم جارية كان الواطئ زانيًا يجب عليه الحد، فأما إذا استقر الظفر بالهزيمة وأحيزت الأموال والسبي فقد ملكها جميع الغانمين على وجه الاستحقاق، لا على وجه التعيين كما يملك أهل السهمان الزكاة قبل دفعها، فأما كل واحد من الغانمين فإنما يملك بالحضور أن يتملك بالقسم كالشفعة ملك الخليط بالبيع أن يتملك بالأخذ، وإنما ملك الغانم، إن يتملك، ولم يتعين له الملك لمعنيين: أحدهما: أن حقه فيها يزول بتركه ويعود إلى غيره كالشفعة، ولو ملكه لم يزل بتركه كالورثة. والثاني: ولو تأخر قسمها حين حال حولها لم تجب زكاتها، ولو ملكت وجبت زكاتها، فإذا تقرر هذا فصورة مسألة الكتاب في رجل من الغانمين وطئ جارية من السبي المغنوم فهو وطء محرم؛ لأنه لم يملكها ولا حد عليه للشبهة. وقال مالك والأوزاعي وأبو ثور: عليه الحد؛ لأنه وطء محرم في غير ملك، فوجب به الحد كالزنا، ودليلنا في سقوط الحد عنه قول النبي صلي الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحدود بالشبهات" وشبهة الوطء فيها أنه ملك منها أن يتملكها فكانت أقوى من شبهة الأب في جارية ابنه التي ما ملك أن يتملكها فلما سقط الحد عن الأب في جارية ابنه كان سقوطه عن هذا أولى، وبه خالف محض الزنا، وصار كوطء الأجنبية بشبهة. فإذا ثبت سقوط الحد نظر، فإن علم بالتحريم عزر؛ لأن الشبهة لا منع من التعزير، وإن منعت الحد لحظر الإقدام على الشبهات، وإن لم يعلم بالتحريم فلا حد عليه ولا تعزير، فأما المهر فواجب عليه في الحالين مع علمه بالتحريم وجهله به كغيره من وطء الشبهة، فإذا وجب عليه نظر في عدد الغانمين فإن كان غير محصور لكثرتهم دفع جميع المهر، وضم إلى الغنيمة حتى يقسم معها في جميع الغانمين، فلو صارت الجارية التي وطئها في سهمه وملكها بالقسمة بعد وطئه لم يسترجع المهر بعد دفعه ولم يسقط عنه قبل دفعه؛ لأنه استحدث ملكها، بعد وجوب مهرها، فصارت كأمة وطئها بشبهة، ثم ابتاعها بعد الوطء من سيدها لم يسقط عنه مهرها، وإن كان عدد الغانمين محصورا، فقد قال الشافعي: يسقط عنه المهر بقدر حصته فيها، فاختلف أصحابنا في محل سقوطه على وجهين، حكاهما أبو إسحاق المروزي. أحدهما: أنه يسقط عنه قدر حقه منها إذا كان قد تملكها بالقسمة مع جماعة من الغانمين محصورين، وأما إن كان وطئها قبل أن يتملكها، فلا يسقط عنه شيء من مهرها، وإن كان عددهم محصورا؛ لأنه وطء في حال ليس بملك فيها، وإنما ملك أن يتملك. والثاني: انه يسقط عنه في الحالين بقدر حصته منها، سواء كان وطؤه قبل التملك أو بعده؛ لأن ملكها موقوف عليهم، ولا حق فيها لغيرهم، والأول أشبه.

مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وإن حملت فهكذا ونقوم عليه إن كان بها حملق وكانت له أم ولد". قال في الحاوي: وصورتها أن تحمل منه الجارية التي وطئها من المغنم، فيتعلق بحملها أربعة أحكام بعد ثلاثة قدمنا ذكرها في اختصاصها بالوطء: أحدها: سقوط الحد. والثاني: وجوب التعزير مع العلم بالتحريم. والثالث: استحقاق المهر، فأما الأحكام الأربعة المتعلقة بإحبالها: فأحدها: لحوق الولد به. والثاني: حريته. والثالث: وجوب قيمته. والرابع: أن تصير الجارية به أم ولد. فأما لحوق الولد فهو لاحق به، سواء اعترف به أو لم يعترف، إذا وضعته لزمان يمكن أن يكون منه. وقال أبو حنيفة: لا يلحق به، وبناه على أصله في أن ولد الأمة لا يلحق بسيدها إلا بالاعتراف، وعندنا يلحق بالفراش، وقد صارت فراشا بهذا الوطء؛ لأن وطء شبهة يسقط فيه الحد فأشبه وطء الحرة. وأما حرية الولد فهو حر؛ لأنه لحق به عن شبهة ملك، وعند أبي حنيفة يكون مملوكا؛ لأنه لم يلحق به. وأما قيمة الولد فتعتبر بحال الأم فيما يستقر لها من حكم، والأم قد أحبلها في شبهة ملك، وولد المملوكة ينقسم ثلاثة أقسام قد تكررت في كثير من هذا الكتاب: أحدها: ما تصير به المملوكة أم ولد، وهو أن تلد حرا من غير مالك كالسيد. والثاني: ما لا تصير به أم ولد، وهو أن تلد مملوكًا من غير مالك كالزوج. والثالث: ما اختلف قول الشافعي فيه، وهو أن تلد حرًا من غير مالك كالحر إذا وطئ أمة غيره بشبهة فلا تكون قبل أن يملكها الواطئ أم ولد، وهل تصير له بعد ملكها أم ولد أم لا؟ على قولين: أحدهما: تصير له أم ولد، قاله في كتاب حرملة. والثاني: لا تصير له أم ولد، قاله في كتاب الأم، وهذه الجارية المسبية قد ولدت حرًا في شبهة ملك، ولها حالتان:

إحداهما: أن يكون ذلك قبل قسمتها بين الغانمين. والثانية: أن تكون بعد قسمتها بين القبائل. فأما الحل الأولى فهي أن يكون ذلك قبل قسمتها في الغانمين، وهي مسألة الكتاب أن يطأها بعد السبي، وقيل أن يتعين فيها حق أحد من الغانمين، فهو على ضربين: أحدهما: أن يكثر عدد الغانمين حتى لا ينحصر حق الواطئ من هذه الجارية، فيكون واطئًا لجارية لم يملكها، ولا ملك شيئًا منها، وغنما له فيها شبهة ملك، وهو أنه يملك منها في الحال أن يتملكها في ثاني حال، فهل تصير أم ولد بحبلها إذا ملكها أم لا؟ على قولين، فعلى هذا قد اختلف أصحابنا هل تقوم عليه قبل الولادة لأجل علوقها منه بحر على ثلاثة أوجه: أحدها: لا تقوم عليه موسرًا كان أو معسرًا، سواء قيل إنها تصير له أم ولد إذا ملكها أم لا؟ كما لا تقوم عليه أمة غيره إذا أحبلها بشبهة، فعلى هذا يكون عليه قيمة ولدها إذا وضعته، فإن قسمت فصارت في سهمه، فهل تصير له أم ولد أم لا؟ على ما ذكر من القولين. والثاني: تقوم عليه سواء قيل إنها تصير أم ولد إذا ملكها أم لا؟ لأنها حامل منه بحر، وفي قسمها قبل ولادته ضرر على ولده، وفي تأخيرها إلى الولادة ضرر على الغانمين فوجب أن تؤخذ بقيمتها؛ لأجل الضرر الحادث عن فعله، فغن كانت قيمتها بقدر سهمه من المغنم حصلت قصاصا، وإن كانت أكثر رد الفضل، وإن كانت أقل دفع الباقي، فإذا وضعت لم يلزمه قيمة ولدها، وهل له بيعها أم لا؟ على قولين: يجوز له بيعها في أحدهما إذا قيل أنها لا تصير له أم ولد. والثالث: أنها تقوم عليه إذا قيل: إنها تصير له أم ولد إذا ملكها، ولا تقوم عليه إذا قيل: إنها لا تصير أم ولد إذا ملكها، اعتبارا بما يتعدى إليها من حكم إيلاده، فعلى هذا إن قومت عليه لم يلزمه قيمة ولدها، وإن لم تقوم عليه لزمه قيمة ولدها. فصل: والضرب الثاني: أن يقل عدد الغانمين حتى ينحصر سهمه منها، مثل أن يكونوا عشرة فهذا على ضربين: أحدهما: أن لا يكون في الغنيمة غيرها، وهي جميع المغنوم، فيصير حقه فيها ممتنعا، لا يجوز أن يعدل به إلى غيره، فيصير قدر حقه منها أم ولد له، والباقي يكون على ما سنذكره في قسمة القبائل. والثاني: أن يكون في الغنيمة غيرها من خيل ومواشي، فللأمير الجيش أن يقسم هذه الغنيمة قسمة تحكم لا قسمة مراضاة، فيجعل كل نوع من الغنيمة في سهم من شاء من

الغانمين، وربما جعل هذه الجارية في سهمه، وربما جعلها في سهم من شاء من الغانمين، وربما جعل هذه الجارية في سهمه، وربما جعلها في سهم غيره، فعلى هذا هل يصير قدر سهمه المحصور أو ولد قبل القسمة أم لا؟ على وجهين: بناء على الوجهين في سقوط قدر سهمه من مهرها إذا حصر عددهم قبل القسمة، كذلك ها هنا هل يصير قدر سهمه منها إذا انحصر قبل القسمة أم ولد له؟ على وجهين: أحدهما: لا تصير أم ولد، فيكون على ما مضى إذا لم ينحصر عددهم. والثاني: تصير أم ولد له، ويكون محسوبا عليه من حقه، ويكون حكم باقيها على ما سيأتي في وطئها بعد قسمة القبائل، فعلى هذا هل يسقط خيار الإمام في قسمها لمن شاء ويلزمه دفعها إليه؟ أو يكون على خياره؟ فيه وجهان محتملان، لاحتمال التعليل. فصل: وأما الحال الثانية: وهو أن يكون إحباله لها بعد قسمها بين القبائل بأن حصلت ملكا لعشرة من الغانمين؛ لأن الحكم لأمير الجيش إذا قلت الغنيمة وكثر العدد أن يشرك بين الجماعة في الرأس الواحد، فيعطي لعشرة فرسًا ولعشرة جارية ولعشرة بعيرًا، فإذا اختاروا ذلك وقبلوه صار مشتركا بينهم، كسائر أمالهم المشتركة بابتياع أو ميراث، فيكون في حكم هذه الجارية بعد إحبالها كحكم الجارية المشتركة إذا أحبلها أحد الشركاء فلا حد عليه؛ لأنه قدر ملكه فيها شبهة في باقيها، وعليه من مهر مثلها بقدر حصص شركائه فيها، ويصير ملكه منها أم ولد له؛ لأنه قد أحبلها بحر في ملك ولا يخلو في باقيها من أن يكون موسرا بقيمته أو معسرا به، فإن كان موسرا بباقيها قوم عليه، كما تقوم عليه حصص شركائه لو أعتق قدر سهمه، فعلى هذا يكون جميع ولده حرا، لأنها علقت به في ملك وفي شبهة ملك، ولا قيمة عليه للولد؛ لأنها ولدت له في ملكه، وقد صار جميعها أم ولد له؛ لأنها علقت منه بحر في ملك، وإن كان معسرا بحصص شركائه منها لم يقم عليه باقيها، وكان ملكا لشركائه فيها، وكان قدر سهمه من الولد وهو العشر، لأن احد الشركاء العشرة حر، لأنه قدر ما يملكه منه، كما قد صار عشر الأم أم ولد في تقويم باقي الولد عليه مع إعساره وجهان: أحدهما: لا يقوم عليه مع الإعسار، كما لا يقوم عليه باقي الأم إذا كان معسرا، فعلى هذا يكون عشر الولد حرا، وباقية مملوكا، وعشر الجارية أم ولد وباقيها مملوكا، وإن ملك باقيها من بعد بابتياع أو ميراث كان باقيها على رقه، ولم تصر أم ولد له؛ لأنه مقابل لرق ولده؛ لأنها علقت بمملوك في غير ملك. والثاني: يقوم عليه بقيمة الولد مع إعساره، وإن لم تقم عليه بقية الأم بإعساره. والفرق بينهما أن الحرية في الولد أصل متقدم، وهي في الأم فرع طارئ فلم تتبعض حرية الولد؛ لأن الرق لا يطرأ على حرية ثابتة، فجاز أن يتبعض في الأم، لأن العتق يجوز أن يطرأ على رق ثابت، فعلى هذا يصير جميع الولد حرًا، ويكون عشر الأم أم ولد، فإن ملك باقيها من بعد، فهل تصير أم ولد له على قولين؛ لأنه قد أولدها حرًا

في غير ملك، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وإن كان في السبي ابن وأب لرجل لم يعتق عليه حتى يقسمه وإنما يعتق عليه من اجتلبه بشراء أو هبة وهو لو ترك حقه من مغنمه لم يعتق عليه حتى يقسم قال المزني رحمه الله: وإذا كان فيهم ابنه فلم يعتق منه عليه نصيبه قبل القسم كانت الأمة تحمل منه من أن تكون له أم ولد أبعد". قال في الحاوي: وصورتها، أن يكون في السبي المسترق أحد من يعتق بالملك على الغانمين من والديه أو مولوديه، كالآباء والأمهات والبنين والبنات، فله في عتقه عليه ثلاثة أحوال: حال لا يعتق عليه، وحال يعتق عليه، وحال مختلف فيها. فأما الحال التي لا تعتق عليه فيها فهو قبل القسمة، والغانمون عدد كثير لا ينحصرون ولا يتحقق فيه قدر سهمه منه، فلا يعتق عليه شيء منه؛ لأنه لم يملكه، وإن ملك أن يتملكه؛ لأنه قد يجوز أن يجعل في سهم غيره. وأما الحال التي يعتق عليه فيها قدر سهمه منه، فهو أن يقسم الغنائم فيجعل في سهم عشرة هو أحدهم، فيعتق عليه منه قدر حقه وهو عشرة؛ لاستقرار ملكه على عشرة ويقوم عليه باقية إن كان موسرًا؛ لأنه ملكه باختياره. وأما الحال المختلف فيها فهو قبل القسمة إذا كان عدد الغانمين محصورًا، فيكون على ما ذكرنا من حكم أو الولد، وهو أن ينظر، فإن لم يكن في تلك الغنيمة غيره، فقد تعين ملكه فيه، فلا يجوز أن يعدل به إلى غيره، فعلى هذا يعتق عليه قدر حقه منه، ولا يقوم عليه باقية؛ لأنه ملك بغير اختياره، وإن كان في القسمة غيره، وهي الحال التي يجوز لأمير الجيش أن يقسم فيها الغنيمة بحكمه على اختياره، لا يعتبر فيها المراضاة، ففي نفوذ عتق حقه منه وجهان: أحدهما: لا يعتق عليه؛ لأنه ما ملك، وإنما جاز أن يملكه؛ لجواز أن يجعل في سهم غيره. والثاني: يعتق عليه قدر حقه منه؛ لأنه على ملك جميع الغانمين، فغلب فيه حكم الإشاعة، فإذا أعتق قدر حقه كان مسحوبًا عليه من سهمه، ولم يقم عليه باقية، لأنه عتق عليه بلا اختياره. فأما إذا بدأ أحد الغانمين في هذه الحال فأعتق أحد السبي لم يعتق عليه بحال بخلاف أم الولد، وعتق بعض المناسبين؛ لأن ما يعتق بغير اختيار أقوى، وما يعتق بالاختيار أضعف ولذلك نفذ في حق المحجور عليه عتق ما ملكه من ما سبيه، وأن تصير

أمته إذا أحبلها أم ولد، ولم يعتق عليه من تلفظ بعتقه. فأما اعتراض المزني بأنه لما لم يعتق عليه قدر حقه من أبيه، فكذلك في أم الولد فهو فاسد؛ لأنهما في الحكم سواء وإنما يخالفان عتق المباشرة، للفرق الذي ذكرنا. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ومن سبي منهم من الحرائر فقد رقت وبانت من الزوج كان معها أو لم يكن سبي النبي صلي الله عليه وسلم نساء أوطاس وبني المصطلق ورجالهم جميعًا فقسم السبي وأمر أن لا توطأ حامل حتى تضع ولا حائل حتى تحيض ولم يسأل عن ذات زوج ولا غيرها وليس قطع العصمة بينهن وبين أزواجهن بأكثر من استبائهن". قال في الحاوي: ومقدمة هذه المسألة أن سبي الذرية موجب لرقهم، والذرية هم النساء والأطفال، فإذا أحيزوا بعد تقضي الحرب رقوا، فأما سبي المقاتلة فلا يرقون بالسبي، حتى يسترقوا. والفرق بينهما: أن لأمير الجيش خيارا في الرجال بين القتل والفداء والمن والاسترقاق، فلم يتعين الاسترقاق إلا بالاختيار، ولا خيار له في الذراري فرقوا بالسبي؛ لاختصاصهم بحكم الرق. فإذا تقرر هذا لم يخل حدوث السبي في الزوجين من ثلاثة أقسام: أحدها: أن تسبي الزوجة دون الزوج، فقد بطل نكاحها بالسبي بوفاق من الشافعي وأبي حنيفة في الحكم مع اختلافهما في العلة، فهي عند الشافعي حدوث الرق، وعند أبي حنيفة اختلاف الدار. والثاني: أن يسبي الزوج دون الزوجة، فإن لم يسترق ومن عليه أو فودي به يبطل نكاح زوجته عند الشافعي، وأبي حنفية، لكن عليه عند الشافعي حدوث الرق، وعند أبي حنيفة اختلاف الدار. والثالث: أن يسبي الزوجان معًا، فعند الشافعي يبطل النكاح بينهما بحدوث الرق، وعند أبي حنيفة لا يبطل النكاح؛ لأنه لم يختلف الدار بهما؛ استدلالًا بما روي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه لما استرق سبي هوازن بأوطاس جاءته هوازن بعد إسلامهم ليستعطفونه ويستنزلونه من على سبيهم وردهم عليهم، وأكثرهم ذوات أزواج وأقرهم على مناكحهم ولو بطل النكاح بحدوث الرق لعلمهم، ولأمرهم باستئناف النكاح بينهم، وفي ترك ذلك دليل على بقاء النكاح وصحته؛ ولأن الرق لا يمنع من ابتداء النكاح، فوجب أن لا يمتنع من استدامته كالصغر؛ ولأنه قد يطرأ الرق على الحرية، كما تطرأ الحرية على الرق، فلما لم يبطل النكاح بحدوث الحرية على الرق، وجب أن لا يبطل بحدوث الرق على الحرية.

ودليلنا قول الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلى قوله: {والْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 24] والمراد بالمحصنات ها هنا ذوات الأزواج، فحرمن إلا ما ملكت أيماننا بحدوث السبي، فكان على عمومه في الإباحة فيمن كان معها زوجها، أو لم يكن. وروي أبو سعيد ألخدري أن هذه الآية نزلت في سبي هوازن، ولو كان النكاح باقيًا لما جازت الإباحة، ولكان التحريم باقيًا. والقياس: هو أنه رق طرأ على نكاح، فوجب أن يبطل به، كما لو استرق أحدهما. فإن قيل: إنما بطل النكاح باسترقاق أحدهما؛ لاختلاف الدارين، فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: انه إذا اتفق موجب العلتين لم يتنافيا، فلم يصح التعارض. والثاني: أن اختلاف الدارين لا يمنع من صحة النكاح؛ لأن أبا سفيان بن حرب، وحكيم بن حزام أسلما بمر الظهران، وزوجاتهما بمكة، فأقرهما على نكاحهما مع اختلاف الدارين بينهما أو لا ترى أن المسلم لو دخل دار الحرب فنكح زوجة، وله دار الإسلام أخرى لم يبطل نكاح زوجته في دار الإسلام، ولو عاد إلى دار الإسلام لم يبطل نكاح زوجته في دار الحرب مع اختلاف الدارين، فبطل أن تكون علة في فسخ النكاح وقياس آخر: أن النكاح ملك، فوجب أن يزول بحدوث الرق، كالأموال على أن ملك الأموال يشتمل على العين والمنفعة، والنكاح مختص بالاستمتاع الذي هو منفعة، ولك من هذا التعليل قياس ثالث: أنه عقد على منفعة فوجب أن يبطل بحدوث الرق، كما لو آجره الحربي نفسه ثم استرق. فأما الجواب عن استدلالهم بسبي هوازن: هو أنهم كانوا عند ذلك على شركهم وإنما ظهر إسلام وافدهم فلم يلزمه بيان مناكحهم قبل إسلامهم وأما الجواب عن تعليلهم بأنه لما يمنع الرق من ابتداء النكاح لم يمنع من استدامته فمن وجهين: أحدهما: انتفاضه بالخلع يمنع من استدامة النكاح، ولا يمنع من ابتدائه. والثاني: أن حدوث الرق لا يتصور في ابتداء العقد، ويتصور في أثنائه فلم يصح الجمع بين ممكن وممتنع. وأما الجواب عن استدلالهم بأنه لما لم يؤثر في النكاح حدوث الحرية على الرق، كذلك لا يؤثر فيه حدوث الرق على الحرية، فهو أن حدوث الحرية كمال، فلم يؤثر في النكاح وحدوث الرق نقص، فجاز أن يؤثر في النكاح. فصل: وإن كان الزوجان الحربيان مملوكين فسبيا، أو أحدهما ففي بطلان النكاح بينهما وجهان:

أحدهما: لا يبطل، ويكونان على النكاح؛ لأن رقهما متقدم، وليس بحادث، فصار انتقال ملكهما بالسبي، كانتقال بالبيع. والثاني: أن النكاح يبطل؛ لأن الاسترقاق أثبت من الرق الأول لثبوت الحادث بالإسلام وثبوت الأول بالشرك فتعلق حكم الرق بأثبتهما، وكان الأول داخلًا فيه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ولا يفرق بينهما وبين ولدها حتى يبلغ سبع أو ثمان سنين وهو عندنا استغناء الولد عنها وكذلك ولد الولد". قال في الحاوي: وهذا صحيح، لا يجوز أن يفرق بين الأم وولدها في القسمة إذا سبوا ولا في البيع إذا ملكوا الرواية أبي أيوب الأنصاري أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "من فرق بين والدة وولدها فرق الله بينه وبين أحبته يوم القيامة". وروى عمران بن حصين أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "ملعون من فرق بين امرأة وبين ولدها". وروى أبو سعيد الخدري أن النبي صلي الله عليه وسلم سمع امرأة تبكي فقال: ما لهذه تبكي فقيل له: فرق بينها وبين ولدها فقال: "لا توله والدة على ولدها". أي: لا يفرق بينهما بالبيع فتوله عليه بالحزن والأسف، مأخوذ من الوله، ولأن في التفرقة بينهما في الصغر إدخال ضرر عليهما بحزن الأم وضياع الولد. فإذا ثبت هذا ففي الزمان الذي تحرم فيه التفرقة بينهما قولان للشافعي: أحدهما: نص عليه في سير الواقدي، ونقله المزني غلى هذا الموضع إلى استكمال سبع سنين، ثم يفرق بينهما من بعد، وبه قال مالك، لأنه حد التفرقة في تخيير الكفالة، ولأنه يستقل فيها بنفسه في لباسه ومطعمه. والثاني: إلى وقت البلوغ، وبه قال أبو حنيفة لرواية عبادة بن الصامت أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "لا يفرق بين والدة وولدها" قيل: إلى متى؟ قال: "حتى يبلغ الغلام وتحيض الجارية" ولولا أن في هذا الحديث ضعفًا، لأن رواية عبد الله بن عمرو بن سعيد بن الربيع بن عبادة بن الصامت، وقد طعن علي بن المديني في عبد الله بن عمرو بن سعيد ونسبه إلى الكذب، لما اختلف القول فيه، ولما شاع خلافه، ولأنه لما استحقت الكفالة

على الوالدين إلى البلوغ ثم يفارقهما الولد بعد البلوغ كان البلوغ حدًا في التفرقة. وقال أحمد بن حنبل: لا تجوز التفرقة بينهما على الأبد تمسكًا بعموم الظاهر، وحديث عبد الله بن الصامت دليل عليه إن صح، ثم المعنى المعتبر في الجمع بينهما في الصغر مفقود في الكبر من وجهين: أحدهما: أنه مضر في الصغر وغير مضر في الكبر. والثاني: أنه معهود في الكبر، وغير معهود في الصغر. فصل: فأما التفرقة بين الولد ووالده، ففيه وجهان: أحدهما: لا يفرق بينهما كالأم، لما فيه من البعضية المفضية للشفقة والحنو. والثاني: يفرق بينهما، بخلاف الأم لعدم التربية في الأب، ووجودها في الأم. فأما الأجداد والجدات فمن كان منهم غير مستحق للحضانة، كالجد أبي الأم وأمهاته لم تحرم التفرقة بينهما، لضعف سببه، ومن كان منهم مستحقًا للحضانة فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون الولد مجتمعا مع الأم، فحكم الجمع مختصًا بها، ولا تحرم التفرقة بينه وبين من عداها. والثاني: أن لا يكون مجتمعًا مع الأم، إما لموت الأم أو بعدها، فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون مجتمعا مع جداته المدليات بأمه، فلا يجوز التفرقة بينه وبين القربى من جدات أمه، لقيامها في الحضانة مقام أمه. والثاني: أن يكون مجتمعًا مع جداته وأجداده من قبل أبيه، ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: تجوز التفرقة بينه وبين جميعهم ذكورا كانوا أو إناثًا، إذا قيل: تجوز التفرقة بينه وبين الأدب الذي أدلوا به. والثاني: لا يجوز التفرقة بينه وبين أقربهم من ذكر وأنثى، إذا قيل بتحريم التفرقة بينه وبين الأب. والثالث: إن كان ذكرًا كالجد أبي الأب جاز التفرقة بينهما، وإن كانت أنثى كالجدة أم الأب لم تجز التفرقة بينهما، لأن في الجدة تربية ليست في الجد. فصل: وإذا كان مع الأم أو من قام مقامها في تحريم التفرقة بينهما، فرضيت بالتفرقة بينهما لم يجز، لأن حق الجمع مشترك بينهما وبين الولد، فإن رضيت بسقوط حقها لم يسقط به حق الولد، وتؤخذ بحضانته في زمانها، فإن عتق أحدهما جاز بعد عتقه التفرقة بينهما، سواء أعتقت الأم أو الولد، لأنه لا يد على الحر، واليد مختصة بالمملوك، فانفرد كل

واحد منهما بحكمه. فصل: وإذا حرم التفرقة بينهما، ففرق بينهما ببيع ففي بطلان البيع وجهان: أحدهما: وهو مذهب البغداديين أن البيع باطل، وبه قال أبو يوسف، لرواية الحكم عن ميمون بن أبي شبيب عن علي عليه السلام أنه فرق بين جارية وبين ولدها، فنهاه النبي صلي الله عليه وسلم عن ذلك ورد البيع. وروى ابن أبي ذئب عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده، قال: قدم أبو أسيد بسبي من البحرين، فصفوا لينظر إليهم النبي صلي الله عليه وسلم فرأى امرأة تبكي، فقال: مالك تبكين؟ قالت: بيع ولدي في بني عبس فقال لأبي أسيد: لتركبن ولتجيئن به كما بعته. والثاني: وهو مذهب البصريين أن البيع صحيح، وبه قال أبو حنيفة، لأن النهي لمعنى في غير المعقود عليه، كالنهي عن البيع في وقت الجمعة، وأن يبيع الرجل على بيع أخيه، لكن لا يقر المتبايعان على التفرقة بينهما، ويقال للمشتري والبائع: إن تراضيتما ببيع الآخر لتجتمعا في الملك كان البيع الأول ماضيا، وإن تمانعتما فسخ البيع الأول بينكما، ليجمع بينهما، وعلى هذا يحمل فعل رسول الله صلي الله عليه وسلم أنه فسخ البيع، لتعذر الجمع دون فساد العقد والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "فأما الأخوان فيفرق بينهما". قال في الحاوي: وهذا صحيح، يجوز التفرقة في الملك بين ما عدا الوالدين والمولودين من الإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات وإن كان مكروهًا. وقال أبو حنيفة: تحرم التفرقة بين كل ذي رحم محرم، استدلالًا برواية أبي موسى الأشعري أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "لا يفرق بين والدة وولدها، ولا بين والد وولده، ولا بين اخ وأخيه" وبرواية عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي بن أبي طالب عليه السلام قال: قدم سبي على النبي صلي الله عليه وسلم فأمرني ببيع غلامين أخوين، فبعتهما وفرقت بينهما، فبلغ ذلك النبي صلي الله عليه وسلم فقال: أدركهما فارتجعهما وبعهما معًا ولا تفرق بينهما". ومن القياس: أنه ذو رحم محرم بنسب، فلم تجز التفرقة بينهما في الملك كالوالدين والمولودين. ودليلنا هو أن كل نسب لا يمنع من قبول الشهادة، ولا يمنع من جواز الزوجية كغير ذوي المحارم طردًا، وكالوالدين والمولودين عكسًا، ولأن الأحكام المختصة بالأنساب

إذا وفقت على بعض المناسبين كانت مقصورة على الوالدين مع المولودين، كالولاية والشهادة والقصاص وحد القذف، وهذه أربعة أحكام وافقوا عليها، فكذلك في أربعة أحكام خالفوا فيها، وهي وجوب النفقة، والعتق بالملك، والقطع في السرقة، والتفرقة في البيع، فأما الخبران فضعيفان، ولو صحا حملًا على الاستحباب بدليلنا، وقياسهم على الوالدين فالمعنى فيه وجود البعضية المانعة من قبول الشهادة. مسألة: قال الشافعي: "وإنما نبيع أولاد المشركين من المشركين بعد موت أمهاتهم إلا أن يبلغوا فيصفوا الإسلام. قال المزني رحمه الله: ومن قوله: إذا سبي الطفل وليس معه أبواه ولا أحدهما أنه مسلم وإذا سبي ومعه أحدهما فعلى دينهما فمعنى هذه المسألة في قوله أن يكون سبي الأطفال مع أمهاتهم فيثبت في الإسلام حكم أمهاتهم ولا يوجب إسلامهم موت أمهاتهم". قال في الحاوي: ومقدمة هذه المسألة أن المسبي من أولاد المشركين لا يخلو خال سبيه، أن يكون مع أحد أبويه أو مفردًا، فإن سبي مع أحد أبويه كان حكمه بعد السبي كحكم المسبي مع أبويه، فإن أسلم أبواه أو أحدهما كان إسلامًا له ولصغار أولادهما، سواء اجتمع الأبوان على الإسلام أو أسلم أحدهما، وسواء كان المسلم منهما أباه أو أمه، ولا اعتبار بحكم السابي، وإن لم يسلم واحد من أبويه كان مشركا بشركهما، ولا يصير مسلمًا بإسلام سابيه، ولأن اعتباره بأحد أبويه أولى من اعتبار سابيه لأجل البعضية، وبه قال أبو حنيفة. وقال الأوزاعي: يصير مسلمًا بإسلام السابي، وإن كان مع أحد أبويه، وهذا خطأ لقول النبي صلي الله عليه وسلم "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". وقال مالك: يصير الولد مسلما بإسلام أبيه، ولا يصير مسلمًا بإسلام أمه، ويكون في الدين تابعًا لسابيه دون أمه، وهذا غير صحيح، لأمرين: أحدهما: قول النبي صلي الله عليه وسلم: "فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" فاعتبر حكمه بأبويه دون سابيه. والثاني: أنه من أمه يقينًا، ومن أبيه ظنًا، فلما صار معتبرًا بأبيه فأولى أن يصير معتبرًا بأمه. فصل: فأما إذا سبي الصغير وحده، ولم يكن مع أحد أبويه، فحكمه حكم سابيه، ويصير

مسلمًا بإسلامه، لأن الطفل لا بد أن يعتبر في الدين بغيره، إذ ليس يصح مع عدم التكليف أن يعتبر بنفسه، فإذا ثبت اعتباره بالسابي في جريان حكم الإسلام عليه، ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجري عليه حكم الإسلام قطعًا، في الظاهر والباطن، كما يصير بأحد أبويه مسلمًا، فإن بلغ ووصف الشرك لم يقر عليه، وبه قال المزني، وهو الظاهر من مذهب الشافعي وقول جمهور البغداديين. والثاني: أنه يجري عليه حكم الإسلام في الظاهر دون الباطن، تغليبًا لحكم السابي، فإن بلغ وصف الشرك أقر عليه بعد إرهابه، وهو قول جمهور البصريين، كما يعتبر إسلام اللقيط في دار الإسلام بحكم الدار، فيكون مسلمًا في الظاهر، تغليبًا لحكم الدار، فإن بلغ ووصف الشرك أقر عليه بعد إرهابه. فصل: فإذا ثبتت هذه المقدمة في أولاد المشركين إذا سبوا صغارًا، فمتى أجرينا عليهم حكم الإسلام إما بأحد الأبوين أو بالسابي جاز بيعهم على المسلمين، ولم يجز بيعهم على المشركين، وإن أجرينا عليه حكم الشرك جاز بيعهم على المسلمين وعلى المشركين، ولم يكره. وقال أبو حنيفة: يجوز بيعهم على المشركين، ولكن يكره. وقال أبو يوسف، وأحمد بن حنبل: لا يجوز بيعهم على المشركين حال احتجاجًا بأمرين: أحدهما: ما في بيعهم من تقوية المشركين بهم. والثاني: أنهم يصيرون في الأغلب على دين سادتهم إذا بلغوا. ودليلنا على ما روي أن النبي صلي الله عليه وسلم سبى بني قريظة سنة خمس ففرق سبيهم أثلاثًا فبعث ثلثًا بيعوا بتهامة، وثلثًا بيعوا نجد وثلثًا بيعوا بالشام، وكانت مكة والشام دار شرك، وكذلك أكثر بلاد تهامة ونجد، ولأن رسول الله صلي الله عليه وسلم من على سبي هوازن، وردهم على أهلهم، وإن كان فيهم من بقي على شركه، ولأن المملوك إذا جرى عليه حكم دين جاز عليه بيعه من أهل دينه، كالعبد البالغ، ويبطل به ما احتجوا به من تقويتهم به، ويبطل أيضًا بيع الطعام عليهم مع ما فيه من تقويتهم به، وبه يبطل احتجاجهم أنهم يصيرون في الأغلب على دين سادتهم. مسألة: قال الشافعي: "ومن أعتق منهم فلا يورث كمثل أن لا تقوم بنسبه بينة".

قال في الحاوي: أما الحميل في النسب فضربان: أحدهما: أن يملك مسلم بالسبي مشركًا فيعتقه ويستلحق به، ويجعله لنفسه ولدًا، فيصير محمول النسب عن أبيه إلى سابيه، ويكون الحميل بمعنى: المحمول، كما يقال: قتيل بمعنى مقتول، فهذا لا يلحق النسب، ولا يتغير به حكم المستلحق وهو إجماع، لقول النبي صلي الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر" فنقلهم عما كانوا عليه في الجاهلية، من استلحاق الأنساب غلى ما استقر عليه الإسلام من إلحاقها بالفراش. والثاني: أن يقر المسبي بعد عتقه بنسب وارد من بلاد المشركين، ويكون الحميل بمعنى الحامل فيقسم النسب ثلاثة أقسام: مردود، ومقبول، ومختلف فيه. فأما القسم المردود: فهو أن يقر بنسب يستحق به الميراث، ولا يملك المقر استحداث مثله، كالمقر بأب، أو بأخ، أو عم، فيرد إقراره به، ولا يقبل إلا ببينة تشهد بنسبه وسواء كان يرث جميع المال كالأب أو بعضه كالأم، لرواية الشعبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى شريح أن لا يورث حميلًا حتى تقوم به بينة من المسلمين". وروى الزهري قال: جمع عثمان بن عفان أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم فاستشارهم في الحميل، فأجمعوا أنه لا يورث إلا ببينة، ولأن معتقه قد ملك ولاءه عن الرق الذي لا يملك العبد إزالة ما استحقه من الملك، فكذلك إذا أعتق لا يملك إزالة ما استحقه معتقه بولائه من الإرث. فإن قيل: أليس لو أقر الحر بأخ، وله عم قبل إقراره، وإن حجب الأخ العم، فهلا كان إقراره بالنسب مع الولاء مقبولًا كذلك، قيل: الفرق بينهما أن النسب يرث به ويورث، فزالت التهمة والولاء لا يرث به ولا يورث، فلحقت التهمة. وأما القسم المقبول: فهو أن يقر بنسب لا يستحق به الميراث، كالخال والجد من الأم فمقبول منه بغير بينة؛ لأنه لا يسقط به حق معتقه من الميراث. وأما القسم المختلف فيه: فهو أن يقر بنسب يستحق به الميراث، ويملك استحداث مثله كإقراره بابن أو بنت، فقد اختلف أصحابنا في ثبوت نسبه بإقراره من غير بينة على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لا يقبل إقراره بنسبه إلا ببينة، تشهد به، كالنسب الذي لا يملك استحداث مثله لعموم ما اجتمعت عليه الصحابة من المنع من توريث الحميل، ولما جمعهما التعليل من إسقاط الميراث بالولاء. والثاني: يقبل إقراره ببينة بخلاف ما لا يملك استحداث مثله، لأمرين: أحدهما: أن من ملك استحداثه جاز أن يملك الإقرار به أولى.

باب المبارزة

والثاني: أن ولده يدخل في ولاء معتقه، ولا يدخل فيه أبوه فافترقا. والثالث: أن يقبل إقراره بمن ولد بعد عتقه، ولا يقبل إقراره بمن ولد قبل عتقه؛ لأنه بعد العتق يملك استحداث مثله بغير إذن، ولا يملك قبل القطع استحداث مثله إلا عن إذن فافترقا، والله أعلم. باب المبارزة قال الشافعي رحمه الله: "ولا بأس بالمبارزة وقد بارز يوم بدر عبيدة بن الحارث وحمزة بن عبد المطلب وعلي بن أبي طالب بإذن النبي صلي الله عليه وسلم وبارز محمد بن مسلمة مرحبًا يوم خيبر بأمر النبي صلي الله عليه وسلم وبارز يومئذ الزبير بن العوام ياسرًا وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه يوم الخندق عمرو بن عبد ود". قال في الحاوي: المبارزة في قتال المشركين ضربان: إجابة ودعاء. فأما الإجابة: فهو أن يبتدئ المشرك ويدعو المسلمين إلى المبارزة، فيجيبه من المسلمين من يبرز إليه، وهذه الإجابة مستحبة لمن أقدم عليها من المسلمين، فإن أول حرب شهدها رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم بدر، دعي إلى المبارزة فيها ثلاثة من مشركي قريش، وهم عنبة بن ربيعة، وأخوه شيبة بن ربيعة، وابنه الوليد بن عتبة، فبرز إليهم من الأنصار عوف ومعوذ ابنا عفراء، وعبد الله بن رواحة، فقالوا: ليبرز إلينا أكفاؤنا فما نعرفكم، فبرز إليهم ثلاثة من بني هاشم: حمزة بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، وعبيدة بن الحارث فمال حمزة على عتبة فقتله، ومال علي على الوليد فقتله، واختلف عبيدة وشيبة ضربتين، أثبت كل واحد منهما صاحبه به، فمات شيبة لوقته، وقدت رجل عبيدة واحتمل حيًا فمات بالصفراء، فقال فيه كعب بن مالك: أيا عين جودي ولا تبخلي بدمعك حقًا ولا تنزري على سيد هدنا هلكه كريم المشاهد والعنصر عبيدة أمس ولا نرتجيه لعرف عرانا ولا منكر وقد كان يحمي غداة القتال لحامية الجيش بالمبتر ثم شهد رسول الله صلي الله عليه وسلم بعدها أحدًا، فدعاه أبي بن خلف الجمحي إلى المبارزة وهو على فرس له حلف أن يقتله عليها، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: بل أنا أقتله عليها إن شاء الله، وبرز فرماه بحربة كسر بها أحد أضلاعه بجرح كالخدش، فاحتمل وهو يخور كالثور، فقيل له: ما بك، فقال: والله لو تفل علي لقتلني ثم دعا إلى المبارزة في حرب الخندق عمرو بن عبد ود فلم يجبه من المسلمين أحد، ثم دعا إليها في اليوم الثاني فلم يجبه أحد، ثم دعا إليها في اليوم الثالث فلم يجبه أحد، فلما رأى الإحجام عنه قال: يا محمد

ألستم تزعمون أن قتلاكم في الجنة أحياء عند ربهم يرزقون وقتلانا في النار يعذبون، فما يبالي أحدكم أيقدم على كرامة من ربه أو يقدم عدوًا إلى النار، وأنشأ يقول: ولقد دنوت من النداء يجمعكم هل من مبارز ووقفت إذ جبن الشجا ع بموقف القرن المناجز إني كذلك لم أزل متشوقًا نحو الهزاهز إن الشجاعة في الفتى والجود من خير الغرائز فقام علي بن أبي طالب فاستأذن رسول الله صلي الله عليه وسلم في مبارزته فأذن له وقال: "اخرج يا علي في حفظ الله وعياذه" فخرج وهو يقول: يا عمرو ويحك قد أتا ك مجيب صوتك غير عاجز ذو نية وبصيرة والصدق منجي كل فائز إني لأرجو أن أقيـ ـم عليك نائحة الجنائز من ضربة نجلاء يبـ ـقي صيتها عند الهزاهز فتجاولا، وثارت عجاجة أخفتهما عن الأبصار، ثم أجلت عنهما، وعلي يمسح سيفه بثوب عمرو وهو قتيل، حكاه محمد بن إسحاق. ثم دعا إلى المبارزة بخيبر سنة سبع مرحب اليهودي، فخرج مرتجزًا يقول: قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب أطعن أحيانًا وحينًا أضرب إذا الحروب أقبلت تلهب إذا الليوث أقبلت تحرب كان حماي للحمى لا يقرب فبرز إليه من قتله، فحكي جابر بن عبد الله أنه برز إليه فقتله محمد بن مسلمة الأنصاري، وهو الذي حكاه الشافعي، وحكي بريدة الأسلمي أن الذي برز غليه فقتله علي بن أبي طالب، خرج إليه مرتجزًا يقول: أنا الذي سمتني أمي حيدره ليث غابات شديد القسورة أكيلكم بالسيف كيل السندره ودعا ياسر إلى المبارزة بخيبر، فبرز إليه الزبير بن العوام، فقالت أمه صفية: يقتل ابني فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "بل ابنك يقتله" فقتله الزبير، فهذه مواقف قد أجاب إلى المبارزة فيها رسول الله صلي الله عليه وسلم، ومن ذكرنا من أهله وأصحابه، فدل على استحبابه. فصل: فأما الدعاء إلى المبارزة فهو أن يبتدئ المسلم بدعاء المشركين إليها، فهو مباح وليس بمستحب ولا مكروه. وقال أبو حنيفة: هو مكروه، وبه قال أبو علي بن أبي هريرة احتجاجًا بقول الله

تعالى: {وقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36] وبما روي أن علي بن أبي طالب نهى بصفين عبد الله بن عباس عن المبارزة، وقال لابنه محمد ابن الحنفية: لا تدعون إلى البراز، فإن دعيت فأجب، فإن الداعي باٍغ والباغي مصروع. ودليلنا قول الله تعالى: {انفِرُوا خِفَافًا وثِقَالاً} [التوبة: 41] وقيل: خفافًا في الإسراع إلى المبارزة وثقالًا في الثبات للمصابرة. وروى أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن رسول الله صلي الله عليه وسلم سئل عن المبارزة بين الصفين فقال: "لا بأس به" وجهز رسول الله صلي الله عليه وسلم جيش مؤتة، وقال: الأمير زيد بن حارثة، فإن أصيب فالأمير جعفر بن أبي طالب فإن أصيب فالأمير عبد الله بن رواحة فإن أصيب فليرتض المسلمون رجلًا، فتقدم زيد بن حارثة وبرز فقاتل حتى قتل، ثم تقدم جعفر فقاتل حتى قتل، وتقدم عبد الله بن رواحة وبرز فقاتل حتى قتل، فاختار المسلمون خالد بن الوليد فقاتل وحمي المسلمين حتى خاضوا وعادوا، فلما بلغ ذلك رسول الله صلي الله عليه وسلم أثنى عليهم، وأخبر بعظم ثوابهم. وروى محمد بن إسحاق أن النبي صلي الله عليه وسلم ظاهر يوم أحد بين درعين وأخذ سيفًا فهزه وقال: "من يأخذ هذا السيف بحقه" فقال عمر: أنا آخذه بحقه، فأعرض عنه، ثم هزه ثانية، وقال: "من يأخذ هذا السيف بحقه"، فقال الزبير: أنا آخذه، فأعرض عنه ثم هزه ثالثة وقال: "من يأخذه بحقه" فقام أبو دجانة سماك بن خرشة فقال: وما حقه يا رسول الله فقال: أن تضرب به في العدو حتى يثخن، فأخذه منه وتعمم بعصابة حمراء ومشى إلى الحرب متبخترًا، وهو يقول: أنا أخذته في رقه إذ قيل من يأخذه بحقه قبلته بعدله وصدقه للقادر الرحمن بين خلقه المدرك القابض فضل رزقه من كان في مغربه وشرقه فعاد وقد نكأ وجعل يتبختر في مشيه بين الصفين، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: "إنها لمشية يبغضها الله إلا في هذا الموطن" فإذا لم يكره رسول الله صلي الله عليه وسلم في مبارزة جميع المشركين فأولى أن لا يكره لهم مبارزة أحدهم. فأما الجواب عما احتج به الآية، فهو أنه إذا أمر بقتالهم كافة إذا قاتلوا كافة جاز أن يقاتلوا آحادًا وكافة، لأن الواحد بعض الكافة، وأما نهي علي عليه السلام عنه فلمصلحة رآها، خاف منها على ولده وابن عمه، خصوصًا في قتال المسلمين، كيف وقد لبس درع ابن عباس، وبرز عنه حتى قبل اللخمي الذي بارزه، وفعله أوكد من نهيه. فصل: فإذا صح جواز المبارزة، إما استحبابًا إن أجاب أو إباحة إن دعا فلجوازها ثلاثة شروط:

أحدها: أن يكون قويًا على مقاومة من برز إليه بقوة جسمه، وفضل شجاعته وظهور عدته، فإن ضعف عنه لم يجزه. فإن قيل: فلو تعرض بعض المسلمين للشهادة جاز، وإن كان ضعيفًا فهلا كان المبارز كذلك، قلنا: لأن المقصود بالمبارزة ظهور الغلبة، فلم يتعرض لها إلا من وثق بنفسه فيها، والمقصود بالشهادة فضل الثواب فجاز أن يتعرض لها من شاء. والثاني: أن لا يدخل بقتل المبارزة ضرر على المسلمين؛ لهزيمة تنكؤهم أو لأنه أميرهم الذي تختل بفقده أمورهم، فإن كان كذلك لم يجز أن يبارز. والثالث: أن يستأذن أمير الجيش في برازه، ليكون ردءًا له وعونًا، ولفضل علمه بالمبارزة، ومن برز إليه فإن لم يأذن له كف، وإن أذن له أقدم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "فإذا بارز مسلم مشركًا أو مشرك مسلمًا على أن لا يقاتله غيره وفى بذلك له فإن ولي عنه المسلم أو جرحه فأثخنه فلهم أن يحملوا عليه ويقتلوه لأن قتالهما قد انقضى ولا أمان له عليهم إلا أن يكون شرط أنه آمن حتى يرجع إلى مخرجه من الصف فلا يكون لهم قتله ولهم دفعه واستنقاذ المسلم منه فإن امتنع وعرض دونه ليقاتلهم قاتلوه لأنه نقض أمان نفسه أعان حمزة عليا على عتبة بعد أن لم يكن في عبيدة قتال ولم يكن لعتبة أمان يكفون به عنه ولو أعان المشركون صاحبهم كان حقًا على المسلمين أن يعينوا صاحبهم ويقتلوا من أعان عليه ولا يقتلون المبارز ما لم يكن استنجدهم" قال في الحاوي: وهذا صحيح وإذا بارز مسلم مشركًا إما داعيًا أو مجيبًا فهذا على ضربين: أحدهما: أن لا يكون للمشرك المبارز شرط فيجوز للمسلمين أن يقاتلوه مع المبارز منهم ويقتلوه؛ لأنه على أصل الإباحة، وإن اختص بالمبارزة الواحد، قال الشافعي: اللهم غلا أن العادة جارة أن من بارز لا يعرض له حتى يعود إلى صفه، فيحمل على ما جرت به العادة، وتصير العادة كالشرط. والثاني: أن يكون له شرط فضربان: أحدهما: أن يشترط أن لا يقاتله غير من برز إليه، فيجب الوفاء بشرطه، لقول الله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] وقول النبي صلي الله عليه وسلم: "المسلمون عند شروطهم" فلا يجوز أن يقاتل المشرك ما كان المسلم على قتاله، فإذا انقضى القتال بينهما إما بأن ولي المسلم أو جرح فكف عن القتال، أو ولي المشرك أو جرح فكف عن القتال كان لنا أن نقاتل

باب فتح السواد

المشرك ونقتله، لأن أمانه كان مشروطًا بمدة المقاتلة فانقضى بزوال المقاتلة؛ ولأن شيبة بن ربيعة لما أثخن عبيدة بن الحارث يوم بدر، ولم يبق فيه قتال، مال علي بن أبي طالب، وحمزة بن عبد المطلب على شيبة حتى أجهز عليه. الضرب الثاني: أن يستظهر في أشراط الأمان لنفسه أن يكون آمنًا حتى يرجع إلى صفه، فيحمل على شرطه ولا يجوز أن يقاتل بعد انقضاء المبارزة، حتى يرجع إلى صفه، وفاء بالشرط إلا أن يكون من المشرك إحدى ثلاث خصال، يبطل بها أمانه: إحداهن: أن يولي عنه المسلم، فيتبعه، فيبطل أمانه، ويجوز لنا أن نقاتله ونقتله، لأن المبارزة قد انقضت، وأمانه منا مستحق عند أماننا منه، فإذا لم نأمنه لم نؤمنه. والثانية: أن يظهر المشرك على المسلم، ويعزم على قتله، فيجب علينا أن نستنقذ منه المسلم لما يلزم من حراسة نفسه، فإن قدر على استنقاذه منه بغير قتله لم يجز أن يقتل، وإن لم يقدر على استنقاذه منه إلا بقتله جاز لنا أن نقتله؛ لأنه لا أمان على قتل مسلم. والثالثة: أن يستنجد المشرك أصحابه من المشركين في معونته على المسلم، فيبطل أمانه؛ لأنه كان مشروطًا بالمبارزة، وقد زال حكمها بالاستنجاد، فإن أعانوه من غير أن يستنجدهم نظر، فإن نهاهم عن معونته فلم ينتهوا كان على أمانه، وكان لنا قتال من أعانه دونه، وإن لم ينههم كان إمساكه عنهم رضًا منه بمعونته له، فصار كاستنجاد لهم في نقص أمانه وجواز قتاله وقتله. فصل: وإذا أخذت رؤوس المشركين بعد قتلهم، لتحمل إلى بلاد الإسلام، فقد كره الأوزاعي والزهري ذلك؛ لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم لم يفعل ذلك بقتلى بدر. وروى عقبة بن عامر أنه حمل إلى أبي بكر رضي الله عنه رؤوس من قتل من المشركين في فتح دمشق، فكره ذلك، وقال: تحمل جيف المشركين إلى مدينة الرسول صلي الله عليه وسلم. وأجاز آخرون ذلك على الإطلاق، وليس للشافعي فيه نص، وذهب أبو حامد الإسفراييني إلى كراهيته، وعندي أن إطلاق الكراهية فيه أو الاستحباب غير صواب، ويجب أن ينظر في نقلها، فإن كان فيه وهن على المشركين أو قوة للمسلمين، فنقلها مستحب؛ لأنه لما لم يكره نقلهم إلى بلاد الإسلام أحياء ليقتلوا بها كان نقل رؤوسهم أقرب، وإن لم يكن في نقلها وهن لمشرك ولا قوة لمسلم كان نقلها مكروهًا، على هذا يحمل نهي أبي بكر رضي الله عنه والله أعلم بالصواب. باب فتح السواد وحكم ما يوقفه الإمام من الأرض للمسلمين.

قال الشافعي رحمه الله: " ولا أعرف ما أقول في أرض السواد إلا بظن مقرون إلى علم وذلك أني وجدت أصح حديث يرويه الكوفيون عندهم في السواد ليس فيه بيان ووجدت أحاديث من أحاديثهم تخالفه منها أنهم يقولون إن السواد صلح ويقولون إن السواد عنوة ويقولون إن بعض السواد صلح وبعضه عنوة، ويقولون إن جرير بن عبد الله البجلي وهذا أثبت حديث عندهم فيه. قال الشافعي: أخبرنا الثقة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير قال: كانت بجيلة ربع الناس فقسم لهم ربع السواد فاستغلوه ثلاث أو أربع سنين. شك الشافعي ثم قدمت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومعي بنت فلان امرأة منهم قد سماها ولم يحضرني ذكر اسمها. قال عمر: لولا أني قاسم مسئول لتركتكم على ما قسم لكم ولكني أرى أن تردوا على الناس. قال الشافعي: وكان في حديثه وعاضني من حقي فيه نيفًا وثمانين دينارا وكان في حديثه فقالت فلانة قد شهد أبي القادسية وثبت سهمه ولا أسلم حتى تعطيني كذا وكذا فأعطاها إياه. قال الشافعي رحمه الله: ففي هذا لحديث دلالة إذا أعطى جريرًا عوضًا من سهمه والمرأة عوضًا من سهم أبيها على أنه استطاب أنفس الذين أوجفوا عليه فتركوا حقوقهم منه فجعله وقفًا للمسلمين وقد سبى النبي صلي الله عليه وسلم هوازن وقسم الأربعة الأخماس بين الموجفين ثم جاءته وفود هوازن مسلمين فسألوه أن يمن عليهم وأن يرد عليهم ما أخذ منهم فخيرهم النبي صلي الله عليه وسلم بين الأموال والسبي فقالوا: خيرتنا بين أحسابنا وأموالنا فنختار أحسابنا فترك النبي صلي الله عليه وسلم حقه وحق أهل بيته فسمع بذلك المهاجرون فتركوا لهم حقوقهم وسمع بذلك الأنصار فتركوا لهم حقوقهم ثم بقي قوم من المهاجرين والأنصار فأمر فعرف على كل عشرة واحدًا ثم قال ائتوني بطيب أنفس من بقي فمن كره فله علي كذا وكذا من الغبل إلى وقت ذكره. قال: فجاؤوه بطيب أنفسهم إلا الأقرع بن حابس وعيينة بن بدر فإنهما أتيا ليعيرا هوازن فلم يكرههما صلي الله عليه وسلم على ذلك حتى كانا هما تركا بعد بأن خدع عيينة عن حقه وسلم لهم عليه السلام حق من طاب نفسًا عن حقه. قال: وهذا أولى الأمرين بعمر عندنا في السواد وفتوحه إن كان عنوة لا ينبغي أن يكون قسم إلا عن أمر عمر لكبر قدره ولو يفوت عليه ما انبغى أن يغيب عنه قسمه ثلاث سنين ولو كان القسم ليس لمن قسم له ما كان له منه عوض ولكان عليهم أن يردوا الغلة والله أعلم كيف كان وهكذا صنع صلي الله عليه وسلم في خيبر وبني قريظة لمن أوجف عليها أربعة أخماس والخمس لأهله فمن طاب نفسًا عن حقه فجائز للإمام نظرًا للمسلمين أن يجعلها وقفًا عليهم تقسم غلته على أهل الفيء والصدقة وحيث يرى الإمام ومن يطب نفسًا فهو أحق بماله". قال في الحاوي: أما أرض السواد فهو سواد كسرى ملك الفرس الذي فتحه

المسلمون، وملكوه عنوة في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد أن فتحت أطرافه في أيام أبي بكر رضي الله عنه. وحده طولًا من حريثة الموصل إلى عبادان، وعرضًا من عذيب القادسية إلى حلوان، يكون طوله مائة وستين فرسخًا، وعرضه ثمانين فرسخًا، وليست البصرة، وإن دخلت في هذا الحد من أرض السواد؛ لأنها مما أحياه المسلمون من الموات إلا مواضع من شرقي دجلتها يسميه أهل البصرة الفرات. ومن غربي دجلتها لنهر المعروف بنهر المرأة، ويسمى بالفهرج. وحضرت الشيخ أبا حامد الإسفراييني، وهو يدرس تحديد السواد في كتاب "الرهن" وأدخل فيه البصرة، ثم أقبل علي، وقال: هكذا تقول قلت: لا، قال: ولم؟ قلت: لأنها كانت مواتًا أحياه المسلمون، فأقبل على أصحابه، وقال علقوا ما يقول: فإن أهل البصرة أعرف بالبصرة وفي تسميته سوادا ثلاثة أقاويل: أحدها: لكثرته مأخوذ من سواد القوم: إذا كثروا، وهذا قول الأصمعي. والثاني: لسواده بالزروع والأشجار، لأن الخضرة ترى من البعد سوادًا، ثم تظهر الخضرة بالدنو منها فقال المسلمون حين أقبلوا من بياض الفلاة: ما هذا السواد، فسموه: سوادًا. والثالث: لأن العرب تجمع بين الخضرة والسواد في الاسم، قال أبو عبيدة: ومنه قول الشاعر: وراحت رواحًا من زرود فصادفت زبالة جلبابًا من الليل أخضرا يعني: أسود، وسواد كسرى أزيد من العراق بخمسة وثلاثين فرسخًا، فيكون العراق أقصر من السواد بخمسه والسواد أطول من العراق بربعه؛ لأن أول العراق من شرقي دجلة العلث، ومن غربيها جربى، وطوله مائة وخمسة وعشرون فرسخًا، وعرضه مستوعب لعرض السواد. وسمي عراقًا لاستواء أرضه حين خلت من جبال تعلو، وأودية تنخفض، والعراق في كلام العرب: الاستواء، كما قال الشاعر: سقتم إلى الحق معًا وساقوا سياق من ليس له عراق أي ليس له استواء. وقال قدامة بن جعفر: تكون مساحة العراق مكسرًا من ضرب طوله في عرضه عشرة آلاف فرسخ، يصير تكسير مساحة السواد مكسرًا بزيادة الربع مساحة العراق اثنا عشر ألف فرسخ وخمسمائة فرسخ، ومساحة تكسير فرسخ في فرسخ اثنان وعشرون ألف جريب وخمسمائة جريب؛ لأن طول الفرسخ اثنا عشر ألف ذراع بالمرسلة، ويكون بذراع المساحة، وهي الذراع الهاشمية تسعة آلاف ذراع، فتكون مساحة أرض العراق، وهي عشرة آلا فرسخ مكسرة مائتا ألف ألف جريب، وخمسة وعشرين ألف ألف جريب، يزيد عليها في مساحة السواد ربعها، فتصير مساحة السواد مائتا ألف ألف جريب وثمانين

ألف ألف جريب، يسقط منها مجاري الأنهار، والآجام والسباخ والآكام ومواضع المدن والقرى ومدارس الطرق نحو ثلثها، ويبقي مائتا ألف ألف جريب يراح نصفها، ويزرع نصفها، إذا تكاملت مصالحنا، وعمارتها، وذلك نحو مائة ألف ألف جريب، ينقص عنها في مساحة العراق خمسها، وقد كانت مساحة المرزوع في أيام عمر بن الخطاب رضي الله عنه اثنين وثلاثين ألف ألف جريب إلي ستة وثلاثين ألف ألف جريب، لأن البطائح تعطلت بالماء ونواحي تعطلت بالتبوق وفي المتقدرات تتكامل جميع العبارات حتى تستوعب من زرعها؛ لأن العوارض والحوادث لا يخلو الزمان منها خصوصا وعموما. فصل: فإذا استقر ما ذكرنا من حدود السواد، ومساحة أراضيه وقدر مزدرعه وفضل ما بينه وبين العراق، فقد اختلف العلماء في فتحه هل كان عنوه أو صلحا؛ فقدم الشافعي من الحجاز إلي العراق، وأهل العراق أعلم بفتوح سوادهم من أهل الحجاز، فسألهم عنه فاختلفوا عليه، فروي بعضهم أن السواد فتح صلحا. وروي له بعضهم أن السواد فتح عنوه. وروي له آخرون أن بعض السواد فتح صلحا، وبعضه فتح عنوه. فلما اختلفوا عليه في النقل والرواية نظرا ثبت ما رووه من الأحاديث، وأصحها، فكان حديث جرير بن عبد الله البجلي. قال الشافعي: أخبرنا الثقة يعني: أبا أسامة عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن جرير بن عبد الله البجلي قال: كانت بجيلة ربع الناس، فقسم لهم ربع السواد، فاستغلوه ثلاثا، أربع سنين شك الشافعي فقدمت علي عمر، ومعي فلانة بنت فلان امرأة منهم قد سماها، ولم يحضرني ذكر اسمها، فقال عمر: "لولا أني قاسم مسئول لتركتكم علي ما قسم لكم، ولكن أري أن تردوا علي الناس". قال الشافعي: "وكان في حديثه وعافني من حقه نيفا وثمانين دينارا وفي الحديث: فقالت فلانة: قد شهد أبي القادسية، وثبت سهمه، ولا أسلم حتى تعطيني كذا وكذا، فأعطاها إياه. وروي غير الشافعي فقالت أم كرز: لا أنزل عن حقي حتى تحملني علي ناقة ذلول عليها قطيفة حمراء وتملأ كفي ذهبا، ففعل ذلك بها، فكان ما أعطاها من العين ثمانين دينارا فمن ذهب إلي أن السواد فتح صلحا، فقد أشار الشافعي إليه في كتاب قسم الفئ واستدل بهذا الحديث من وجهين: أحدهما: أن عمر انتزعه من أيدي الغانمين حين علم بحصوله معهم، ولو كان عنوه لكان غنيمة لهم، ولم يجز انتزاعه منهم. والثاني: قول عمر: لولا أني قاسم مسئول لتركتكم علي ما قسم لكم، فدل علي أنه انتزعه منهم بحق لم يستجز تركه معهم، وهذا حكم الصلح دون العنوة.

وذهب الشافعي إلي أن فتح السواد عنوة، وهو الذي نص عليه في هذا الموضع المنقول عنه في أكثر كتبه. والدليل عليه من هذا الحديث خمسه أوجه: أحدهما: أنه أقر السواد في أيدي الغانمين ثلاث سنين، أو ربع يستغلونه، ولم ينتزعه منهم، ولو لم يكن لهم فيه حق الغنيمة لم يستجز تركه عليهم هذه المدة. والثاني: أنهم اقتسموه قسمة الغنائم حتى صار لبجيلة، وهم ربع الناس ربع السواد، وما اقتسموه إلا بأمر عمر، وعن علمه؛ لأنه من الأمور العامة، والفتوح العظيمة التي لا يستبد الجيش فيها بآرائهم إلا بمطالعته وأمره. والثاني: أنهم لو تصرفوا فيه بغير حق لاسترد منهم ما استغلوه؛ لأنه يكون لكافة المسلمين دونهم. والثالث: أنه عاوض من لم يطب نفسا بالنزول عن سهمه بعوض دفعه إليهم، جري عليه حكم الثمن حتى أعطي جريرا، وأم كرز ما أعطي، وهو لا يبذل من مال المسلمين إلا في حق. والرابع: أنه استطاب نفوسهم عنه، ولو كانت أيديهم فيه بغير حق لأخذه منهم جبرا. فدلت هذه الوجوه علي أنه كان عنوه مغنوما اقتداء في استطابه نفوسهم عنه برسول الله صلي الله عليه وسلم في سبي هوازن حين سألوه بعد إسلامهم المن عليهم، فخيرهم بين أموالهم وأهليهم، فاختاروا الأهل والأولاد، فمن عليهم، وعرف العرفاء عن استنزال الناس عنوا، وجعل لمن لم يطب نفسا بالنزول عن كل رأس من السبي ست قلائص حتى نزل جميعهم، إلا عيينة والأقرع إلي أن جدع عيينة، ونزل الأقرع، فلما استنزلهم رسول الله صلي الله عليه وسلم للمن والتكريم كان استنزال عمر للغانمين في عموم المصالح للمسلمين أولي وأوكد، واختلف في السبب الذي استنزلهم عمر لأجله علي قولين: أحدهما: أنه رأي إن أقاموا فيه علي عمارته، واتغلاله، وألفوا ريف العراق، وخصبه تعطل الجهاد، وإن انهضم عنه مع بقائه على ملكهم خرب مع جلالة قدره، وكثرة استغلاله، فعلي أن الأصلح إقرار في أيدي الدهاقين والأكرة الذين هم بعمارته أعرف، وزراعته أقوم بخراج يضربه عليهم يعود نفعه علي المسلمين، ويتوفروا به علي جهاد المشركين. والثاني: أنه فعل ذلك لنظره في المتعقب؛ لأنه جعل مصري العراق البصرة والكوفة وطنا للمجاهدين؛ ليحضوا بجهاد من بإزائهم من المشركين، ويستمدوا بسواد عراقهم في أرزاقهم، ونفقاتهم في جهادهم، وعلم أنه إن أقره علي ملكهم مع سعته، وكثرة ارتفاعه بقي من بعدهم لا يجدون ما يستمدونه، وقد قاموا مقامهم، وسدوا مسدهم فرأي أن الأعم في صلاح أهل كل عصر أن يكون وقفا عاما علي جميع المسلمين؛ ليكون لأهل

كل عصر فيه حظ يقوم بكفايتهم فاستنزلهم عن أصل ملكه، وأمدهم بارتفاعه، ليكون يأتي بعدهم فيه بمثابتهم. وقد روي زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر بن الخطاب أنه قال: لولا أخشي أن يبقي آخر الناس لا شئ لهم لتركتكم، وما قسم لكم، لكن أحب أن يلحق آخرهم أولهم، وتلا قوله تعالي: {والَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ولإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ} [الحشر: 10]. فصل: فإذا ثبت أن فتح أرض السواد عنوة انتقل الكلام إلي فصلين: أحدهما: حكم أرض العنوة. والثاني: ما استقر عليه حكم أرض السواد بعد الاستنزال. فأما الفصل الأول في حكم كل أرض إذا فتحت عنوة، فقد اختلف فيه الفقهاء علي مذاهب شتي. فذهب الشافعي إلي أنها تكون غنيمة كسائر الأموال، يخرج خمسها لأهل الخمس، وتقسم باقيها بين الغانمين كقسمة الأموال المنقولة إلا أن يري إمام العصر أن يستنزلهم عنه بطيب أنفسهم، أو بعوض يبذله لهم ليفضها علي كافة المسلمين، فيمضي وإلا فهي غنيمة مقسومة لعموم قول الله تعالي: {واعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ ولِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41]، فدل علي أن ما سوي الخمس للغانمين، كما قال: {ووَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] فدل علي أن ما سوي الثلث للأب. وقال مالك والأوزاعي: الأرض غير مغنومة، وتصير بالفتح وقفا علي كافة المسلمين، لا يجوز لهم بيعها. وقال أبو حنيفة: يكون الإمام فيها مخيرا بين ثلاثة أشياء بين أن يقسمها علي الغانمين كالذي قاله الشافعي وبين أن يقرها علي مالك أربابها، ويضرب عليهم جزيتين: إحداهما: علي رؤوسهم، والأخرى علي أرضهم. فإذا أسلموا سقطت جزية رؤوسهم، وبقيت جزية أرضهم تؤخذ باسم الخراج، ويجوز لهم بيعها. بين أن يقفها علي كافة المسلمين، فلا يجوز لهم بيعها. وأما الفصل الثاني: فيما استقر عليه حكم أرض السواد بعد الاستنزال عنها: فالذي نص عليه الشافعي في سير الواقدي أن عمر وقفها علي كافة المسلمين، فلا تباع، ولا توهب، ولا تورث كسائر الوقوف، وقال فيه مثله من كتاب الرهن: إنه لو رهن أرضا من أرض الخراج كان الرهن باطلا ثم إن عمر بعد وقفها أجرها للدهاقين والأكره بالخراج الذي ضربه عليها يؤدية كل سنه أجره عن رقابها، فيكونوا أحق بالتصرف فيها لأصل

الإجازة، وإن لم تكن ملكا لهم وإذا مات أحدهم انتقل إلي وارثه يدا لا ملكا كالموروث، وبه قال أبو سعيد الإصظخري وأكثر البصريين، واختلف من قال بهذا فيما توجه الوقف إليه علي وجهين: أحدهما: إلي جميع الأرض من مزارع ومنازل. والثاني: إلي المزارع دون المنازل، لأن وقف المنازل مفض إلي خرابها، فهذا قول من جعلها وقفا. وقال أبو العباس بن سريج وأبو إسحاق المروزي: لم يقفها، وإنما باعها علي أربابها بثمن يؤدي في كل سنة علي الأبد بالخراج المضروب عليها لينتفع بها الآخرون كما انتفع بها الأولون، ويكون الخراج ثمنا ويجوز أن تباع، وتوهب، وتورث، قالوا: إنما كانت مبيعه، ولم يكن وقفا لأمرين: أحدهما: أن عمر قصد بما فعله فيها حفظ عمارتها، ولو كانت وقفا لا يملكها المتصرف، ويري أنها ليست ملكا مبيعا موروثا لم يشرع أهلها في تأبيد عمارتها، وراعوا ما يتعجلون به استغلالها، فأفضي ذلك إلي خرابها، وزوال الغرض المقصود بها. والثاني: انه لما يزل أهلها علي قديم الوقت وحديثه، يتبايعونها ويتوارثونها، ولا ينكره عليهم احد من أثمة الامصار، ولا يبطله أحد من القضاة والحكام، ولا يمتنع احد من العلماء من اعل الديات أن يتبايعوها، ويتوارثوها، دل علي انعقاد الإجماع علي خروجها ما أحكام الوقف إلي أحكام الأملاك. قالوا: وإنما استجاز عمر بيعها بهذا الثمن المجهول المؤبد لأمرين: أحدهما: لوصولها من جهة المشركين المعفو عن الجهالة فيما صار منهم، كما بذل رسول الله صلي الله عليه وسلم في البدأة والرجعة، الثلث والربع في الغنيمة، وإن كان قدرها مجهولا، وكما يجوز أن يبذل لمن دل علي القلعة في بلاد الشرك جارية من أهلها، وإن جهلت. والثاني: أن ما تعلق بالمالح العامة يخفف حكم الجهالة فيه، للجهالة بأحكام العموم. وإطلاق هذين المذهبين في وقفها وبيعها عندي معلول، لأن ما فعله عمر فيها لا يثبت بالاجتهاد حتى يكون نقلا مرويا، وقولا محكيا عن عقد صريح يستوثق فيه بالكتاب والشهادات في الأغلب، وهذا معدوم فيه، فلم يصح القطع بوفقها لما عليه الناس من تبايعها، ولا القطع ببيعها بالخراج المضروب عليها لأمرين: أحدهما: أن الخراج مخالف للأثمان بالجهالة، وأنه مقدر بالزراعة. والثاني: أن مشتريها يدفع خراجها دون بائعها، فيصير دافعا لثمنين، وليس للمبيع إلا ثمن واحد، ويكون ما قيل من وقفها محمولا علي أنه وقفها علي قسمة الغانمين، ووقف خراجا علي كافة المسلمين فيكون ملكها مطلقا لمن أقرت عليه استصحابا لقديم ملكهم، لما علم من عموم المصلحة فيه، ودوام الانتفاع به، فتصير مخالفاً للأرض

الصلح من وجهين، موافقة لها من وجهين. فأما الوجهان من المخالفة، فأحدهما: أن أرض الصلح لا حق للغانمين في رقابها، فيمنعون منها جبرا، وأرض السواد كانت للغانمين، فاستنزلوا عنها عفوا، وعوض منهن من أبي. والثاني: أن خراج أرض الصلح لأهل الفئ خاصة، وفيه الخمس لأهل الخمس وخراج أرض السواد لكافة المسلمين، ولا خمس فيه لأهل الخمس لأن الخمس أخرج عنه عند قسمته. وأما الوجهان في الموافقة، فأحدهما: وضع الخراج علي رقابها. والثاني: جواز بيعها. فإن قيل: فقد روى عن فرقد السبخي أنه قال: اشتريت شيئا من أرض السواد، فأتيت عمر، فأخبرته بذلك، فقال: ممن اشتريتها؟ فقلت من أربابها، فقال هؤلاء أربابها يعني الصحابة، فدل علي أن بيعها لا يجوز. فعنه جوابان: أحدهما: أنه أنكر البائع، ولم ينكر البيع. والثاني: أنه محمول علي ما قبل استنزالهم عنها أن ابتياعها لا يجوز إلا من الغانمين. فصل: فأما بيع العمارة واليد المتصرفة، فقد اختلف الفقهاء في جوازه. فقال مالك: يجوز بيعها سواء كان فيها إثارة أو لم يكن. وقال أبو حنيفة: إن كان فيها إثارة جاز بيعها، وإن لم يكن فيها إثارة لم يحز بيعها. وقال الشافعي: إن كان أعيان كالزرع والشجر جاز بيعها، وإن كانت آثارا كالأثارة، لم يجز بيعها، لأنها منافع، والبيع إنما يصح في الأعيان دون منافع كما أن الإجارة تصح في المنافع دون الأعيان لأن لكل واحد من العقدين حكمًا. فصل: فأما قدر الخراج المطلوب علي الأرض السواد، فقد روى قتادة عن أبي مجلز أن عثمان بن جنيف جعل كل جريب من الكرم عشرة دراهم، وقيل علي كل جريب من النخل ثمانية دراهم، وعلي كل جريب من قصب السكر سته دراهم، وعلي كل جريب من الرطبة خمسة دراهم، وعلي كل جريب من البر أربعة دراهم، وعلي كل جريب من الشعير درهمين. وحكي الشعبي أن عثمان بن جنيف مسح السواد، فوجده ستة وثلاثين ألف ألف

جريب، فوضع علي كل جريب درهما وقفيزا. قال يحيي بن آدم وهو المختوم الحجابي: قيل إن ثمانية أرطال، فكان خراجها سوي البر والشعير متفقا علي قدره في الروايات كلها. واختلف في خراج البر والشعير، فذهب أهل العراق إلي تقديره بقفيز ودرهم وهو المأخوذ منهم في الأيام العادلة من ممالك الفرس، وقد ذكره زهير في شعره فقال: فتغلل لكم ما تغل لأهلها ... قري بالعراق من قفيز ودرهم وذهب أبو حامد الإسفراييني، وطائفة من أصحاب الشافعي إلي خراج البر أربعة دراهم، وخراج الشعير درهمان، تعويلا علي رواية أبي مجلز. وكلا القولين علي إطلاقه معلول عندي، لأن كل واحد منهما إسقاط للآخر، والصحيح أن كلا الروايتين صحيحتين، وإنما اختلفا لاختلاف النواحي، فوضع علي بعضها قفيز ودرهم، وعلي بعضها أربعة دراهم علي البر ودرهمان علي الشعير، فأخذ الدرهم والقفيز فما كان غالب زراعة برا او شعيرا، لأن ما قل من ناحيته غلا، وما كثر فيها رخص، فزيد من خراج المال ن ونقص من خراج الرخيص، والله أعلم. فكانت ذراع عثمان بن حنيف في مساحته ذراع اليد وقبضة ممدودة، وكان مبلغ ارتفاع السواد في أيام عمر بن الخطاب مائة ألف ألف درهم، وعشرين ألف ألف درهم وحياة زيادة مائة ألف ألف وخمسة وعشرين ألف ألف، وحياة عبيد الله بن زياد مائة ألف ألف، وخمسة وثلاثين ألف ألف، وحياة الحجاج ثمانيه عشر ألف ألف، لغشمه وإخرابه، وحياة عمر بن عبد العزيز ثمانين ألف ألف، ثم بلغ في آخر أيامه مائة ألف ألف وعشرين ألف ألف، لعدله وعمارته. فصل: ولا يسقط عشر الزروع بخراج الأرض، ويجمع بينهما الشافعي لأن الخراج إما أن يكون أجرة علي قوله، أو ثمنا علي قول من خالفه من أصحابه، والعشر يسقط بواحد منهما. ومنع أبو حنيفة من الجمع بينهما، وأسقط العشر بالخراج، وقد تقدم الكلام معه في كتاب الزكاة. فأما عشر زروعه فمصروف في أهل الصدقات كسائر الزكوات. وخالف فيه أبو حنيفة، فجعل مصرف الغنيمة والفئ مشتركا، وقد مضي الكلام معه في كتاب قسم الصدقات. وأما خراج السواد، فمصرفه في كل مصلحه عاد علي المسلمين نفعها من أرزاق الجيش وتحصين الثغور، وابتياع الكراع والسلاح، وبناء المساجد، والقناطر وأرزاق القضاة والأئمة، ومن انتفع به المسلمون الفقهاء، والقراء، والمؤذنين.

فصل: ولا يجوز للإمام، ولا لوال من قبله يضمن العشر والخراج لأحد من العمال، فإن عقد علي واحد منهما ضمانا كان عقده باطلا لا يتعلق به في الشرع حكم، لأن العامل مؤتمن يستوفي ما وجب، ويؤدي ما حصل لا يضمن نقصانا، ولا يملك زيادة، وضمان الأموال بمقدر معلوم يقتضي الاقتصار عليه، ويملك ما زاد، ويغرم ما نقص، وهذا مناف لوضع العمالة وحكم الأمانة فبطل. حكي أن رجلا أتي ابن عباس يتقبل منه الأبلة بمائة درهم، فضربه مائة سوط، وصلبه حيا تعزيرا وأدبا. ولا يجوز تضمين الأرض لأربابها في عشر ولا خراج، لأن العشر مستحق أن زرع، وساقط إلي قطع، والخراج مقدر علي المساحة لا يجوز أن يزاد فيه، ولا ينقص منه، وما هذه سبيله لا يصح تضمينه. فأما إجارتها، فيصح أن يؤجرها أربابها، ولا يصح أن يؤجرها غيرها، لأن حق السلطان فيها قد سقط بخراجها. فصل: فأما تفسير كلام الشافعي في أول باب، وهو قوله "لا أعرف ما أقوله في أرض السواد، إلا بظن مقرون إلى علم، فقد أنكر هذا الكلام على الشافعي من وجهين: أحدهما: قوله: لا أعرف ما أقول في ارض السواد، ما أحد بدأ في كتاب في علم بمثل هذا اللفظ، لأن من لم يعرف شيئا لم يجز أن يتعرض لإثبات حكمه. والثاني: قوله: إلا بظن مقرون إلي علم، والظن شك والعلم يقين، وهما ضدان فكيف يصح الجمع بينهما، وهو ممتنع؟ قيل: أما قوله: لا أعرف ما أقول في أرض السواد، فلأن الطريق إلي العلم يفتحها النقل المروى، وقد اختلفت الرواية عنه، فروى بعضهم أنها فتحت صلحا، وروى بعضهم أنها فتحت عنوة، وروى آخرون أن بعضها فتح صلحا، وبعضها فتح عنوة. وهذا الاختلاف في النقل يمنع من الأخذ بأحدها إلا بدليل، فحسن أن يقول: لا أعرف إثبات أحدهما، وإن كنت أعرف نقل جميعها. وأما قوله "إلا بظن القرون إلي علم"، فقد اختلف أصحابنا في مراده به علي ما هو محمول علي فتحها أو علي حكمها علي وجهين: أحدهما: أنه محمول علي فتحتها أنه عنوة لا صلحا، وهو المشهور من قوله. والثاني: أنه محمول علي حكمها أنها وقف لا يجوز بيعها، وهو الظاهر من مذهبه. فإن قيل: إن المراد فتحها، ففي تأويل قوله: "إلا بظن مقرون إلي علم" وجهان: أحدهما: أنه أراد بالظن هنا الاجتهاد الذي هو غلبة الظن وأراد بالعلم الخبر، لأن

جنس الأخبار قد يفضي إلي العلم، فكأنه توصل باجتهاده وغلبة ظنه إلي إثبات خبر جرير، وعلم من خبر جرير أنها فتحت عنوة. والثاني: أن الاجتهاد ذو غلبة الظن هو فيما خفي واشتبه من سبب فتحها والعلم هو فيما ظهر وانتشر من قسمها، فاستدل بظاهر القسمة علي باطن العنوة. وإن قيل: إن المراد به حكمها، لأنها وقف، ففي تأويل قوله: إلا بظن المقرون إلي علم وجهان: أحدهما: أن العلم ما فعله عمر من استنزالهم عنها، وغلبة الظن فيما حكم به من وقفها. والثاني أن العلم وضع للخراج عليها، وغلبة الظن في المنع من بيعها، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "وأي أرض فتحت صلحا علي أن أرضها لأهلها يؤدون فيها خراجا فليس لأحد أخذها من أيديهم وما أخذ من خراجها فهو لأهل الفئ دون أهل الصدقات لأنه فئ من مال مشرك وإنما فرق بين هذه المسألة والمسألة قبلها أن ذلك وإن كان من مشرك فقد ملك المسلمون رقبة الأرض أفليس بحرام أن يأخذ منه صاحب صدقة ولا صاحب فئ ولا غني ولا فقير لأنه كالصدقة المؤقوفة يأخذها من وقفت عليه". قال في الحاوي: اعلم أن ما استولي عليه من أرض بلاد الترك ينقسم علي خمسة أقسام: أحدهما: ما فتحوه عنوة، واستولوا عليه قهرا ن فهي ملك للغانمين تقسم بينهم قسمة الأموال بعد أخذ خمسها لأهل الخمس، وللغانمين أن يتصرفوا فيما قسم لهم تصرف المالكين بالبيع والرهن والهبة، إن خالف فيها مالك وأبو حنيفة خلافا قدمناه، وتكون أرض عشر لا خراج عليها إلا أن يستنزلهم الإمام عنها كالذي فعله عمر فيكون حكرا علي ما قدمناه في أرض السواد. والثاني: ما أسلم عليه أهله، فقد صارت تلك الأرض بإسلام أهلها دار الإسلام وأرضها معشورة ولا يجوز أن يوضع عليها خراج. وقال أبو حنيفة: الإمام مخير فيها بين أن يجعلها عشرا أو خراجا فإن جعلها لم يجز أن ينقلها إلي العشر،،وإن جعلها عشرا جاز أن ينقلها إلي الخراج، وهذا فاسد من وجهين: نص وتعليل:

أحدهما: أن أهل الطائف أسلموا، فأقرهم رسول الله صلي الله عليه وسلم علي أملاكهم في أرضهم، فكانت أرض عشر لم يضرب عليها خراجا. والثاني أن الخراج أحد الجزيتين، فلم يجز أن يؤخذ من مسلم كالجزيه علي الرؤوس. والثالث: ما جلا عنه أهله من البلاد خوفا حتى استولي عليه المسلمون، فأرضهم في مخموس توقف رقابها، ويصرف ارتفاعها مصرف الفئ، فإن ضرب الإمام عليها خراجا جاز، وكان الخراج أجرة يصرف مصرف الفئ، في أحد القولين بعد الخمس مصروفا إلي الجيش خاصة، وفي القول الثاني في جميع المصالح التي منع أرزاق الجيش، وفيما يصير به وفقا وجهان: أحدهما: يصير وفقا بالاستيلاء عليها، ولا يراعي فيها لفظ الإمام بوقفها. والثاني: لا تصير وقفا إلا أن يتلفظ الإمام بوقفها. والرابع: ما صولح عليه المشركون من أرضهم علي أن يكون ملكا للمسلمين بخراج يؤديه أهلها إلي الإمام، فهذه الأرض في ذلك الاستيلاء عليها بغير إيجاف خيل ولا ركاب وتصير وقفا علي ما ذكرنا من الوجهين: أحدهما: بأن يتلفظ الإمام أو من استنابة فيها بوقفها، وتصير الأرض من بلاد الإسلام ولا يجوز بيعها كسائر الوقوف، ولا يقر فيها أهلها من المشركين إلا بالجزية المؤداة عن رؤوسهم جزيتهم بخراج أرضهم، لأن خراجها أجرة لا جزية. فإن انتقلت إلي يد مسلم لم يسقط عنه خراجها، وكذلك لو أسلم أهلها. والخامس: وهو مسألة الكتاب أن يصالحوا علي الأرضين لهم بخراج يؤدونه عنها، فيجوز ويكون هذا الخراج جزية، والأملاك طلق يجوز بيعها، وينظر في بلادها، فإن لم يستوطنها المسلمون، فهي دار عهد، وليست دار الإسلام، ولا دار حرب، ويجوز أن يقر أهلها بالخارج من غير جزية رؤوسهم ولا يجري عليها من أحكامنا إلا ما يجري علي المعاهدين دون أهل الذمة والمسلمين، وإن استوطنها المسلمون بالاستيلاء عليها صارت دار إسلام، وصار المشركون فيها أهل ذمة يجب عليهم جزية أرضهم وحدها جاز إذا بلغ ما يؤخذ من كل واحد من أهلها دينارا فصاعدا. وقال أبو حنيفة: يجب أن يجمع عليهم بين جزية رؤوسهم وجزية أرضهم، ولا يجوز الاقتصار علي جزية الأرض وحدها، وهذا فساد، لأن الجزية واحدة لا يجوز مضاعفتها علي ذي مال ولا غيره كسائر أهل الذمة، فإن أسلموا سقطت عنهم جزية رؤوسهم وجزية أرضهم. وقال أبو حنيفة: لا تسقط عنهم جزية أرضهم بالإسلام احتجاجا لا خراج عن أرض، فلم يسقط بالإسلام كالخراج علي سواد العراق. ودليلنا: ما روى النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: "لا ينبغي لمسلم أن يؤدي الخراج، ولا

لمشرك أن يدخل المسجد الحرام" ولأنه مال حقنت به دماؤهم فوجب أن يسقط بإسلامهم كالجزية علي الرؤوس. فأما خراج أرض السواد فليس بجزية وهو أجرة أحد الوجهين، وثمن في الوجه الثاني علي ما قدمناه من اختلاف أصحابنا فيه، فافترقا، وهكذا لو باعوا أرضهم علي مسلم سقط خراجها عنه كما يسقط عنه بإسلامهم. مسألة: قال الشافعي: "ولا بأس أن يكتري المسلم من أرض الصلح كما يكتري دوابهم والحديث الذي جاز عن النبي صلي الله عليه وسلم "لا ينبغي لمسلم أن يؤدي الخراج ولا لمشرك يدخل المسجد الحرام إنما هو خراج الجزية وهذا كراء". قال في الحاوي: وهذا كما قال: "إذا كانت أرض الصلح ملكا للمشركين، وعليها خراج للمسلمين جاز للمسلم أن يستأجرها، ولا يكره له ذلك، وكرهه الإسلام لقول النبي صلي الله عليه وسلم "لا ينبغي لمسلم أن يؤدي الخراج، ولا لمشرك أن يدخل المسجد الحرام". ودليلنا علي إباحته وعدم كراهته: ما روى أن الحسن بن علي عليهما السلام استأجر قطعة كبيرة من أرض الخراج، وكذلك روى ابن مسعود ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما وليس يعرف لهم مخالف، ولأنه لما يكره أن يستأجر منهم غير الأرضين من الدواب والآلات لم يكره أن يستأجر منهم الأرضين. فأما الخبر فلا دليل فيه، لأن الخراج يؤخذ من مؤجرها، والأجرة تؤخذ من مستأجرها، فإن شروط الخراج علي مستأجرها صح إن كان معلوما، وكان أجرة في حق المستأجر وخراجا في حق المؤجر. فصل: فإن باع المشرك أرضه هذه علي مشرك صح، كان خراجها باقيا، وإن باعها علي مسلم صح البيع، وسقط الخراج بانتقالها إلي ملك المسلم كما لو كان مالكها من المشركين قد أسلم. وقال: بيعها علي مسلم باطل، لأنه مفض إلي سقوطه ما استحقه المسلمون عليها من الخراج، وهذا باطل لقول الله تعالي {وَأَحَلَّ الله اُلْبَيْعَ} [البقرة: 275]. ولأن كل ما صح بيعه من مشرك كسائر الأموال، ولأن المسلم لو باع أرضه علي مسلم صح، إن أفضي إلي إسقاط العشر، فلأن يجوز بيع أرض المشرك علي المسلم وإن أفضي إلي إسقاط الخراج أولي، وفيه انفصال، فإذا ثبت خراجها علي أهل الصلح، فإن بذلوه وإلا نبذ إليهم عهده، وهذا خطأ من وجهين:

باب الأسير يؤخذ عليه العهد أن لا يهرب، أو على الفداء

أحدهما: أن المستحق عليهم خارج أملاكهم، فلم يجز أن يؤخذ منهم خراج ما خرج عن أملاكهم. والثاني: أنه لما كان سقوط خراجها بإسلام مالكها لا يقتضي الرجوع عليها بخراجها كان بإسلام غيره أولى، والله أعلم. باب الأسير يؤخذ عليه العهد أن لا يهرب، أو على الفداء قال الشافعي - رحمه الله -: " وإذا أسر المسلم فأحلفه المشركون على أن لا يخرج من بلادهم إلا أن يخلوه فله أن يخرج لا يسعه أن يقيم ويمينه يمين مكره ". قال في الحاوي: ومقدمة هذه المسألة هجرة من أسلم من أهل الحرب، فلا يخلو أن يكون فيها ممتنعًا أو مستضعفًا، فإن كان فيها مستضعفًا لا يأمن أهلها على نفسه وأهله وماله، وجب عليه إذا قدر على الهجرة أن يهاجر منها إلى دار الإسلام لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَائِكَ مَاوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97]. فدل على وجوب الهجرةً، ولما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "أنا بريء من كل مسلم مع مشرك قيل: ولم يا رسول الله، قال: لا تراءا ناراهما". يعني تنظر ناره إلى ناره فيكثر سواد المشركين. وقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من كثر سواد قوم فهو منهم"، ولأنه لا يأمن أن يفتن عن دينه أو تسبى الدار فيسترق ولده، فإن عجز عن الهجرةً لضعفه كان معذورًا في التأخر عن الهجرة حتى يقدر عليها، قال الله تعالى: {إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوّاً غَفُوراً} [النساء: 98، 99]. فأما إذا كان المسلم في دار الحرب ممتنعًا في أهل وعشيرة، فإن لم يأمن الافتتان عن دينه كان فرض الهجرة باقيًا عليه. وإن أمن الافتتان في دينه سقط فرض الهجرة عنه لاختصاص وجوبها نصًا بالمستضعفين وكان مقامه بينهم مكروهًا؛ لأن المقام على مشاهدة المنكرات منكر، والإقرار على الباطل معصية؛ لأنها تبعث على الرضا، وتفضي إلى الولاء. قال الله تعالى: {لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [المائدة: 51].

فصل: فإذا ثبت حكم الهجرة فيمن أسلم من أهل الحرب، فصورة هذه المسألة في المسلم إذا أسره أهل الحرب، فالأسير مستضعف تكون الهجرة عليه إذا قدر عليها فرضًا، ويجوز له أن يغتالهم في نفوسهم وأموالهم، ويقاتلهم إن أدركوه هاربًا، فإن أطلقوه وأحلفوه أن يقيم بينهم، ولا يخرج عنهم وجب عليه الخروج عنهم مهاجرًا، ولم تمنعه اليمين من الخروج المفروض، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم-: "من حلف على يمين، فرأى غيرها خيرا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه". فأما حنثه في يمينه إذا خرج يمين الأسير، فمعتبر بحال إحلافه، وله فيها ثلاثة أحوال: أحدها: أن يبدءوا به، فيحلفوه في حبسه قبل إطلاقه أنهم إذا أطلقوه لم يخرج عنهم، فهذه يمين مكره لا يلزمه الحنث فيها. والثانية: أن يطلقوه على غير يمين، فيحلف لهم بعد إطلاقه أنه لا يخرج عنهم فهذه يمين مختار يحنث فيها إذا خرج، وكان التزامه للحنث مستحقًا. والثالثة: أن يبتدئ قبل إطلاقه، فيتبرع باليمين، أنهم إن أطلقوه لم يخرج عنهم. ففي يمينه وجهان: أحدهما: أنها يمين إكراه لا يحنث فيها لأنه لم يقدر على الخروج من الحبس إلا بها كما لو أحلفوه محبوسًا. مسألة: قال الشافعي: "وليس له أن يغتالهم في أموالهم وأنفسهم لأنهم إذا أمنوه فهم في أمان منه ولو حلف وهو مطلق كفر". قال في الحاوي: اعلم أن للأسير إذا أطلق في دار الحرب أربعة أحوال: أحدها: أن يؤمنوه ويستأمنوه، فيحرم عليه بعد استئمانهم له أن يغتالهم في أنفسهم وأموالهم، لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1]. إلا أن ينقضوا أمانهم له، فينتقض به أمانه لهم، لقوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]. ولو استرقوه بعد أمانهم كان الاسترقاق نقضًا لأمانهم واستئمانهم. والثانية: أن لا يؤمنوه ولا يستأمنوه، فلا يكون الإطلاق استئمانًا كما لم يكن أمانًا، ويجوز أن يغتالهم في أنفسهم وأموالهم، ولو أطلقوه بعد أن استرقوه لم يكن الاسترقاق أمانا فيهم ولا أمانا لهم. الثالثة: أن يستأمنوه، ولا يؤمنوه، فينظر، فإن كان لا يخافهم إما لقدرته على الخروج، وإما لثقته بكفهم عنه، فهم على أمانهم منه لا يجوز أن يغتالهم في نفس ولا

مال، وإن لم يأمنهم فلا أمان لهم، ويجوز له اغتيالهم، لقوله تعالى: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58]. والرابعة: أن يؤمنوه ولا يستأمنوه، ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة إنهم لا أمان لهم منه، وإن عقدوا له أمانا منهم: لأن تركهم لاستئمانه قلة رغبة في أمانه. والثاني: وهو الظاهر من مذهب الشافعي، وقول جمهور أصحابه، إنه قد صار لهم بأمانهم له أمان منه، وإن لم يستأمنوه، لما يوجبه عقد الأمان من التكافؤ فيه. مسألة: قال الشافعي: "ولو خلوه على فداء إلى وقت فإن لم يفعل عاد إلى أسرهم فلا يعود ولا يدعه الإمام أن يعود ولو امتنعوا من تخليته إلا على مال يعطهموه فلا يعطيهم منه شيئًا لأنه مال أكرهوه على دفعه بغير حق". قال في الحاوي: إذا أطلق أهل الحرب أسيرًا على اشتراط فداء يحمله إليهم، فإن حمله، وإلا عاد إليهم، لم يجب عليه حمل الفداء، ولا العود إليهم، ويكون الشرطان باطلين. وقال الزهري، والأوزاعي: الشرطان واجبان، فيؤخذ بحمل المال إليهم، فإن حمله، وإلا أخذ بالعود إليهم. وقال أبو هريرة والحسن البصري، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري: اشتراط الفداء لازم، واشتراط العود باطل. واحتجوا بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عقد صلح الحديبية مع قريش على أنه يرد إليهم من جاء مسلمًا منهم، فجاءه أبو جندل بن سهل بن عمرو مسلمًا، فرده إلى أبيه، وجاءه أبو بصير مسلمًا، فرده إليهم مع رسول لهم، فقتل الرسول، وعاد فقال: يا رسول الله قد وفيت لهم، ونجاني الله منهم، فلم ينكره عليه. ودليلنا: ما روي أن أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بعد صلح الحديبية مسلمةً، وجاء أخواها في طلبها، فنهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عن ردها إليهم، بقوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 15]. ولأن المعاوضة عن رقبة الحر لا تصح، فبطل الفداء، وسقط المال. والهجرة من دار الحرب واجبةً، والعود إليها معصيةً، فلم يجز العود. فأما حديث أبي جندل، وأبي بصير، فهو منسوخ بحديث أم كلثوم، وعلى أنهما كانا ذوي عشرة طلبا رغبة فيهما، وإشفاقا عليهما، فخالفا من عداهما.

فصل: فإذا ثبت سقوط الفداء، وتحريم العود، فالوفاء لهم بالفداء مستحب، وإن لم يجب، ليكون ذريعةً إلى إطلاق الأسرى. والوفاء بالعود محظور، لا يجب، ولا يستحب لما فيه من الخوف على نفسه ودينه. فإن افتدى نفسه بماله ساقه إليهم، ثم غنمه المسلمون منهم نظر، فإن كان بذله لهم مبتدئًا كان ذلك المال مغنومًا، وإن شرطوه على إطلاقه، كان ذلك الحال باقيًا على ملكه، ويكون أحق من الغانمين به. وهكذا إذا افتدى الإمام أسرى في دار الحرب بماله ساقه إليهم من بيت المال، ثم غنم ذلك المال منهم، لم يملكه الغانمون عنهم؛ لأنه مال المسلمين صار إليهم بغير حق، فوجب أن يعود إلى حقه في بيت المال. مسألة: قال الشافعي: "ولو أعطاهموه على شيء أخذه منهم لم يحل له إلا أداؤه إليهم إنما أطرح عنه ما استكره عليه". قال في الحاوي: إذا ابتاع الأسير من أهل الحرب مالًا بثمن أطلقوه عليه، ليحمله إليهم من بلاد الإسلام، لم يخل ابتياعه من أن يكون عن مراضاةً أو إكراه. فإن كان عن مراضاةً لزمه الوفاء به، وحمل الثمن إليهم: لأن العقود في دار الحرب لازمةً، كلزومها في دار الإسلام، ولذلك كان تحريم الربا في الدارين سواء، وإن كان عن إكراه فعقد المكره باطل، ويجب عليه رد المال: لأنه قبضه عند استئمان، وفيما يلزمه من رده وجهان: أحدهما: يلزمه رد ما ابتاعه لفساد العقد، وضمانه الرد، وهو الظاهر من مذهب الشافعي. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة - أنه يكون مخيرًا بين رد ما ابتاعه منهم: لأنه عين مالهم، وبين دفع ثمنه: لأنهم قد امتنعوا به، فلو تلف منه ما ابتاعه نظر في تلفه. فإن كان بفعله، فعليه ضمانه، وإن تلف بغير فعله اعتبر حال قبضه منهم، فإن كان باختياره وجب عليه ضمانه، وإن كان مكرها عليه لم يضمنه. وفي ضمانه إذا لزم ما قدمناه من الوجهين: أحدهما: قيمته إذا قيل: إن الواجب رد عينه. والثاني: يكون مخيرًا بين القيمة والثمن إذا قيل مع بقائه: إنه مخير فيهما. مسألة: قال الشافعي: "وإذا قدم ليقتل لم يجز له من ماله إلا الثلث".

قال في الحاوي: أما الأسير في دار الحرب، ومن وجب عليه من المسلمين القصاص في النفس، إذا وهبا مالًا وأعطيا عطايا لم يخل حالها من ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون هباتهما وعطاياهما قبل تقديمهما للقتل والقصاص، فيكون ذلك من رءوس أموالهم دون الثلث: لأن السلامة عليها في هذه الحال أغلب من الخوف. والثاني: أن تكون عطاياهما بعد تقديمهما للقتل والقصاص، ووقوع الجرح بهما، وإنها ردمهما، فيكون من الثلث لا من رأس المال؛ لأن الخوف عليهما بعد الجرح أغلب، والسلامة فيها نادرةً، فأجرى عليهما في الحياة حكم الوصايا بعد الموت، لقول الله تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ} [آل عمران: 143]. فأجرى عليهما عند حضور أسباب الموت حكم الموت. والثالث: أن يكون عطاياهما بعد تقديمهما للقتل والقصاص، وقبل وقوع الجرح بهما، فقد قال الشافعي في الأسير: تكون عطاياه من الثلث، فجعل الخوف عليه أغلب، وقال في المقتص منه: تكون عطاياه من رأس المال دون الثلث، فجعل السلامة عليه أغلب، فخالف بينهما في الجواز مع اتفاقهما في الصورة. فاختلف أصحابنا في ذلك على ثلاثة أوجه: أحدها: - وهو قول أبي إسحاق المروزي - إن جمع بين المسألتين وجمع اختلاف الجوابين وخرجهما على قولين: أحدهما: تكون عطاياهما من الثلث على ما نص عليه في الأسير: لأن الخوف عليهما أرجى من الخوف على المريض. والقول الثاني: تكون عطاياهما من رأس المال على ما نص عليه في المقتص منه بخلاف المريض ما لم يقع به جرح؛ لأن سبب الموت حال في بدن المريض، وليس بحال في بدن الأسير والمقتص منه، فهذا وجه. والثاني: أن الجواب على ظاهره فيهما، فتكون عطايا الأسير من الثلث، وعطايا المقتص منه من رأس المال، ويكون الأسير أخوف حالًا منه: لأنه مع أعدائه في الدين يرون قتله تدينا وقربة، والمقتص منه مع موافقين فيه وصفهم الله بالرأفة والرحمة، وندبهم إلى العفو مع المقدرة. والثالث: أن تغلب شواهد الحال فيهما، فإن شوهد من المشركين في الأسير رقةً ولين كانت عطاياه من رأس المال، وإن لم يشاهد ذلك كانت من الثلث. وإن شوهد من أولياء القصاص غلظة وحنق، كانت عطاياه من الثلث، وإن لم يشاهد ذلك كانت من رأس المال، وهذا محكي عن أبي العباس بن سريج، وقد ذكرنا في كتاب الوصايا من التفريع على هذه المسألة، فيمن وجب عليه القتل في الحرابة، والرجم في الزنا، والحامل إذا ضربها الطلق، وراكب البحر إذا اشتد به الريح، والملتحم في القتال بين الصفين ما أغنى عن الإعادة، وبالله التوفيق.

باب إظهار دين النبي على الأديان كلها من كتاب الجزية

باب إظهار دين النبي على الأديان كلها من كتاب الجزية قال الشافعي: - رحمه الله تعالى -: قال الله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9] وروي مسندًا أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله، وقال: ولما أتى كتاب النبي - صلى الله عليه وسلم- إلى كسرى مزقه فقال - صلى الله عليه وسلم-: يمزق ملكه قال: وحفظنا أن قيصر أكرم كتابه ووضعه في مسك فقال - صلى الله عليه وسلم- يثبت ملكه (قال الشافعي) - رحمه الله -: ووعد رسول الله الناس فتح فارس والشام، فأغزى أبو بكر الشام على ثقة من فتحها لقول النبي - صلى الله عليه وسلم- ففتح بعضها وتم فتحها في زمن عمر، وفتح عمر - رضي الله عنه - العراق وفارس، قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: فقد أظهر الله دين نبيه - صلى الله عليه وسلم- على سائر الأديان بأن أبان لكل من تبعه أنه الحق وما خالفه من الأديان فباطل، وأظهره بأن جماع الشرك دينان: دين أهل الكتاب، ودين الأميين فقهر النبي - صلى الله عليه وسلم- الأميين حتى دانوا بالإسلام طوعا وكرها، وقتل من أهل الكتاب وسبى حتى دان بعضهم بالإسلام وأعطى بعض الجزية صاغرين، وجرى عليهم حكمه - صلى الله عليه وسلم- قال: فهذا ظهوره على الدين كله، قال: ويقال ويظهر دينه على سائر الأديان حتى لا يدان لله إلا به، وذلك متى شاء الله قال: وكانت قريش تنتاب الشام انتيابًا كثيرًا، وكان كثير من معاشهم منه، وتأتي العراق، فلما دخلت في الإسلام ذكرت للنبي - صلى الله عليه وسلم- خوفها من انقطاع معاشها بالتجارة من الشام والعراق إذا فارقت الكفر ودخلت في الإسلام، مع خلاف ملك الشام والعراق لأهل الإسلام، فقال - صلى الله عليه وسلم-: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، فلم يكن بأرض العراق كسرى ثبت له أمر بعده، وقال إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، فلم يكن بأرض الشام قيصر بعده وأجابهم - عليه الصلاة والسلام - على نحو ما قالوا وكان كما قال - عليه السلام - وقطع الله الأكاسرة عن العراق وفارس وقيصر ومن قام بعده بالشام، وقال في قيصر: يثبت ملكه، فثبت له ملكه ببلاد الروم، وتنحى ملكه عن الشام وكل هذا متفق يصدق بعضه بعضًا ". قال في الحاوي: وهذا الباب أورده الشافعي، وليس من الفقه، ليوضح به صدق الله تعالى في وعده، وصدق رسوله في خبره، ليرد به على من ارتاب بهما، فصار تاليا للسير. فأما كتاب الله تعالى، فقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]. أما قوله: {بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} تفسيرها ففيه ثلاث تأويلات: أحدها: أن الهدى هو دين الحق، وإنما جمع بينهما لتغاير لفظيهما، ليكون كل

واحد منهما تفسيرًا للآخر. والثاني: معناه أنه أرسله بالهدى إلى دين الحق؛ لأن الرسول هادٍ والقرآن هدايةً، والمأمور به هو دين الحق. والثالث: أن الهدى هو الدليل، ودين الحق هو المدلول عليه. وأما قوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33]. فقد دفعه المتشككون في أديانهم، وقالوا: قد بقيت أطراف الأرض من الروم، والترك، والهند، والزنج، وغيرهم من الأمم القاصيةً، ما أظهر دينه على أديانهم، فلم يصح هذا الموعد. والجواب عن هذا القدح: أن أهل التأويل قد اختلفوا في هاء الكناية التي في قوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [التوبة: 33] إلى ماذا تعود؟ على ثلاثة أوجه: أحدها: أن تعود إلى الهدى. والثاني: أنها تعود إلى دين الحق وحده. والثالث: أنها تعود إليهما، وهو الأظهر. فأما الهدى ففي معنى إظهاره ثلاثة أوجه: أحدها: أنه إظهار دلائله، وحججه، وقد حقق الله فعل ذلك، فإن حجج الإسلام أظهر ودلائله أقهر. والثاني: أنه إظهار رسوله الله وقد حقق الله تعالى ذلك، فإنه ما حارب قومًا إلا انتصف منهم، وظهر عليهم. والثالث: أنه بقاء إعجازه ما بقي الدهر، فإن معجزة القرآن باقيةً على مرور الأعصار، ومعجزة موسى فلق البحر، وعيسى في إحياء الموتى، منقطع لم يبق. وأما الدين، ففي إظهاره على الدين كله ثلاثة أوجه: أحدها: أن إظهاره هو انتشار ذكره في العالمين، ومعرفة الخلق به أجمعين، وهذا موجود؛ لأنه لم يبق في أقطار الأرض أمة إلا وقد علمت بدين الإسلام، ودعوة محمد - صلى الله عليه وسلم- إليه، وهو بالحجاز، وهو أحد التأويلات في قوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4]. والثاني: أن إظهاره هو علوه على الأديان كلها، فهو طالب وغيره مطلوب، وقاهر وغيره مقهور، وغانم وغيره مغنوم، وزائد وغيره منقوص، وهذا ظاهر موجود، قال {صلى الله عليه وسلم}: "الإسلام يعلو ولا يعلى، ويزيد ولا ينقص". والثالث: أن إظهاره على الأديان كلها سيكون عند ظهور عيسى ابن مريم ونزوله من السماء حتى لا يعبد الله تعالى بغيره من الأديان كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا}، [النساء: 159]. وقال النبي - صلى الله عليه وسلم-: زويت لي الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي

ما زوي لي منها، ومعنى زويت: أي جمعت. فصل: وأما السنة، فقد روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- خبران: أحدهما: رواه الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، والذي نفسي بيده لتنفقن كنوزهما في سبيل الله". والثاني: ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كتب إلى كسرى يدعوه إلى الإسلام، فلما وصل كتابه إليه مزقه، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم- فقال: "تمزق ملكه". وكتب إلى قيصر كتابًا إلى الإسلام، لما وصل كتابه إليه قبله، وأكرمه، فبلغ ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: "ثبت ملكه". والأكاسرة هم ملوك الفرس، ودينهم المجوسية، والقياصرة هم ملوك الروم، ودينهم النصرانية. فكان الخبران في الأكاسرة متفقين، وقد وجد الخبر فيهما على مخبره: لأنه قال في الخبر الأول: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، وقال في الخبر الثاني: تمزق ملكه، وكان ظاهر الخبرين في القياصرة مختلفًا، والمخبر فيهما متنافيًا لأنه قال في الأول: وإذا هلك قيصر فلا قيصر بعده، وقال في الثاني: ثبت ملكه، وهذا متناف، وقد نرى ملك الروم ثابتًا فكان ثباته موافقا للخبر الثاني منافيًا للخبر الأول، فعنه جوابان يمنعان من التنافي: أحدهما: أن معنى قوله: "إذا هلك قيصر فلا قيصر بعده" يعني به زوال هذا الاسم عن ملوكهم، وكان اسمًا لكل ملك منهم، فلما هلك قيصر لم يتسم به أحد من ملوكهم، وثبت ملكه الآن في بلادهم. والثاني: أن لهذا الحديث سببًا، وهو أن قريشا كانت تنتاب اليمن في الشتاء، والشام والعراق في الصيف، وهو معنى قوله تعالى: {إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}، [قريش: 2]. فلما أسلموا وبلاد الرحلتين على شركهم شكوا ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- لانقطاع الرحلتين عنهم بالشام والعراق فقال - صلى الله عليه وسلم- ما طيب به نفوسهم: إذا هلك كسرى فلا كسرى بعده، يعني بالعراق، فهلك، فلم يبق بالعراق ولا بغيرها من البلاد، وإذا هلك قيصر، فلا قيصر بعده يعني بالشام، فهلك، ولم يبق لهم ملك بالشام، وإن بقي في غيرها في بلاد الروم، فصدق خبره، وصح موعده، وبالله التوفيق. فصل: يشتمل على فروع من كتاب الأسارى والغلول

وإذا سبى الحربي جاريةً لمسلم، فأولدها في دار الحرب أولًا ثم غنمها المسلمون لم يملكوها، وكان مالكها من المسلمين أحق بها وبأولادها. ولو أسلم الحربي وهي معه وأولادها لم يملكها: لأنها ملك لمسلم غلب عليها بغير حق. فأما قيمة أولادها، ومهر مثلها، فمعتبر بحال إيلاده لها، فإن كان قبل إسلامه، فلا قيمة عليه لأولادها، ولا مهر لها عليه: لأن ذلك استهلاك منه في حال كفره، وما استهلكه الحربي على المسلمين هدر. وإن أولدها بعد إسلامه كان عليه قيمة أولادها، ومهر مثلها؛ لأنه أولدها بشبهة ملك، فلحقوا به، وعتقوا عليه، وهو مسلم، فلا ينهدر ما استهلكه كالمسلم. فرع: ولو دخل مسلم دار الحرب، فدفع إليه أهلها مالا ليشتري لهم به متاعا من بلاد الإسلام، فللمال أمان إذا دخل به المسلم، وإن لم يكن لمالكه أمان؛ لأن استئمانهم له أمان منه، ولو خرج بالمال ذمي كان أمانه فاسدًا، فإن علم مالكه من أهل الحرب فساد أمانه كان المال مغنومًا، وإن لم يعلم فساد أمانه كان محروسا عليه حتى يصل إليه، وحال الصبي والمجنون إذا أمن أحدهما حربيًا كان الأمان فاسدًا، وكان مستأمن الصبي والمجنون محقون الدم، حتى يعود إلى مأمنه إن لم يعلم بفساد الأمان، فإن علم به كان مباح الدم، وخرج الربيع استئمان الذمي على المال على قولين، وهو خطأ منه، وحمله على هذا التفصيل أصح. فرع: ولو أسلم عبد لحربي في دار الحرب، وخرج إلينا عتق، ولو أقام في دار الحرب كان على رقه، فإن سبي العبد ملكه الغانمون؛ لأنه وإن كان مسلمًا فهو عبد لحربي. والفرق بين أن يعتق إذا خرج إلى دار الإسلام أو لا يعتق إن أقام في دار الحرب أنه إذا خرج، فقد قهر سيده على نفسه فعتق، وإذا أقام لم يقهره عليها فرق، ألا ترى أن العبد لو أسلم، وغلب على سيده الحربي وأولاده، وأزواجه، ودخل دار الإسلام عتق، وصاروا له رقيقا. فرع: وإذا دخل الحربي دار الإسلام، واشترى عبدا مسلمًا، ودخل به دار الحرب، فسبي العبد، فهل يملكه غانموه أم لا؟ على قولين على اختلاف قولي الشافعي في صحة ابتياع الكافر للعبد المسلم، فإن قيل بصحة ملكه، ملكه الغانمون، وإن قيل بفساده لم يملكوه، وكان باقيًا على ملك سيده المسلم. فرع: وإذا دخل الحربي دار الإسلام بأمان لم يكن له أن يستكمل مقام حول إلا ببذل

الجزية، وإن شرط الإمام عليه عند دخوله أنه إن أقام حولًا أخذت منه الجزية، فأقام حولا وجبت عليه الجزية، ولو شرط عليه أنه إن أقام حولا جعل نفسه من أهل الذمة، فاستكمل حولا لم يصر من أهل الذمة إلا باختياره. والفرق بين المسألتين: أن الشرط في الأولى للإمام فالتزمه الحربي بغير اختياره، وفي الثانية للذمي فلم يلزمه إلا باختياره. وسوى أبو حنيفة بينهما في اللزوم، والفرق يمنع من استوائهما. فرع: وإذا غزا صبيان لا بالغ فيهم أو نساء لا رجل بينهن أو عبيد لا حر معهم، وغنموا أخذ الإمام خمس غنيمتهم، وفي أربعة أخماسها وجهان أشار إليهما ابن أبي هريرة: أحدهما: أن يقسم جميعه بينهم باسم الرضخ، وإن كان في حكم السهام، وليسوي بينهم فيه كأهل السهام. والثاني: أنه يحبس بعضه عنهم بحسب ما يؤديه اجتهاده إليه، لئلا يساووا فيه أهل السهام، وتقسم الباقي بينهم بحسب ما يراه من مساواة وتفضيل. فصل: وإذا حاصر الإمام بلدا أو قلعة في دار الحرب، ثم صالحهم على تحكيم رجل من المسلمين، ليحكم فيهم بما يؤديه اجتهاده إليه إذا كان من أهل الاجتهاد مستوفيا لشروط الحكام، وهي البلوغ، والعقل، والحرية، والإسلام، والذكورية، والعلم. فإذا استكمل هذه الشروط السبعة صح أن يحكم فيهم برأيه كما حكم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- سعد بن معاذ في بني قريظة، فحكم أن من جرت عليه الموسى قتل، ومن لم تجر عليه استرق، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "هذا حكم الله من فوق سبع أرقعة، وهي سبع سماوات"، وإن أخل بشرط منها فقد شرط من شروط الحاكم الذي ينزل على حكمه لم يجز أن يحكم فيهم، فإن كان هذا المحكم فيهم أعمى جاز تحكيمه، وإن كان لا يجوز أن يكون حاكمًا في عموم الأحكام؛ لأنه يحكم بما اشتهرت فيه أحوالهم، وتظاهرت به أخبارهم، فاستوي فيها الأعمى والبصير، كما يستويان في الشهادة بما تعلق باستفاضة الأخبار، فإن صلحوا على تحكيم غير معين، ليقع الاختيار له، أو التعيين عليه من بعد لم يخل من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون موقوفًا على اختيار المسلمين له، فيصح. والثاني: أن يكون موقوفًا على اختيار المشركين له، فلا يصح. والثالث: أن يكون موقوفًا على اختيار المسلمين والمشركين، فيصح؛ لأن بني قريظة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم- تحكيم سعد بن معاذ فأجابهم إليه، فإن اتفق المسلمون والمشركون على اختياره انعقد تحكيمه ونفذ فيهم حكمه، وإن اختلفوا لم ينعقد تحكيمه،

وأعيدوا إلى مأمنهم حتى يستأنفوا اختيارًا أو صلحًا، فإن صولحوا على تحكيم أسير في أيديهم نظر. فإن كان في وقت اختياره للتحكيم أسيرًا لم يصح تحكيمه؛ لأنه مقهور لا ينفذ حكمه، وإن كان قد أطلق قبل تحكيمه كرهناه حذرًا للممايلة وصح تحكيمه لأن دينه يمنعه من المقابلة، وهكذا لو عقد التحكيم على رجل منهم قد أسلم قبل التحكيم جاز وإن كره. وإذا انعقد الصلح على تحكيم رجلين جاز؛ لأن اجتهادهما أقوى ونفذ حكمهما إن اتفقا عليه، ولم ينفذ إن اختلفا فيه، وإذا مات الحكم قبل حكمه، أو استعفي واعتزل أعيدوا إلى مأمنهم حتى يستأنفوا صلحا على تحكيم غيره. فإذا تقررت هذه الجملة وانعقد التحكيم على رجل بعينه اجتهد رأيه في الأصلح للمسلمين دون المشركين لعلو الإسلام على الشرك، فإن أداه اجتهاده إلى قتل رجالهم، وسبي ذراريهم جاز ولزمهم حكمه كالذي حكم له سعد في بني قريظة، فإن رأى الإمام بعد ذلك المن على من حكم بقتله من رجالهم جاز، وإن رأى المن على من حكم بسبيه من ذراريهم نظر. فإن كان بعد استرقاقهم لم يجز إلا بمراضاة الغانمين كما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في سبي هوازن حين من، وإن كان قبل استرقاقهم جاز؛ لأن سعدا لما حكم في بني قريظة بالقتل والسبي، جاء ثابت الأنصاري، فقال: يا رسول الله، إن الزبير بن باطأ اليهودي عندي، وقد سأل أن نهب له دمه وماله، ففعل ووهب له دمه وماله. وإن رأى الإمام أن يسترق رجالهم أو يأخذ فداهم لم يجز إلا عن مراضاتهم؛ لأنه نقض حكم نفذ بالاستئناف لحكم مجدد، ولو كان المحكم فيهم قد حكم بالمن على رجالهم وذراريهم نفذ حكمه إذا أداه اجتهاده إليه، ولم يجز للإمام أن يفسخ حكمه عليه، وإن حكم عليه بالفداء لم يلزمهم حكمه إن كان المال غير مقدور عليه؛ لأنه عقد معاوضةً لا يلزم إلا عن مراضاةً، ولزمهم حكمه إن كان المال مقدورًا عليه؛ لأنه حكم منه بغنيمة ذلك المال، فنفذ حكمه به، وإن حكم باسترقاقهم صاروا بحكمه رقيقًا ولم يجز للإمام أن يمن عليهم إلا باستطابة نفوس الغانمين، وإن حكم عليهم بالجزية وأن يكونوا أهل ذمة لم يلزمهم حكمه بذلك؛ لأنها عقد معاوضةً لا يصح إلا عن مراضاةً، ولو حكم بقتلهم، فأسلموا سقط القتل عنهم، ولم يجز استرقاقهم، ولو حكم استرقاقهم، فأسلموا لم يسقط استرقاقهم؛ لأنه يجوز استرقاقهم بعد إسلامهم، ولا يجوز قتلهم بعد إسلامهم وبالله التوفيق.

كتاب الجزية

كتاب الجزية باب من يلحق بأهل الكتاب قال الشافعي - رحمه الله -: "انتوت قبائل من العرب قبل أن يبعث الله محمدًا - صلى الله عليه وسلم- وينزل عليه القرآن فدانت دين أهل الكتاب فأخذ عليه الصلاة والسلام الجزية من أكيدر دومةً، وهو رجل يقال إنه من غسان أو من كندة ومن أهل ذمة اليمن وعامتهم عرب ومن أهل نجران وفيهم عرب فدل ما وصفت أن الجزية ليست على الأحساب وإنما هي على الأديان". قال في الحاوي: والأصل في أخذ الجزية وأن يصير المشركون بها أهل ذمة الكتاب والسنة: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. أما قوله هاهنا: {قَاتِلُوا} [التوبة: 29] ففيه وجهان: أحدهما: يعني جاهدوا. والثاني: اقتلوا، فعبر عن القتل بالمقاتلة لحدوثه في الأغلب عن القتال، وفي قوله: {الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ} [التوبة: 29] وجهان: أحدهما: لا يؤمنون بكتاب الله. والثاني: لا يؤمنون برسول الله - صلى الله عليه وسلم؛ لأن تصديق الرسول إيمان بالرسل وإلا فهم مؤمنون بأن الله تعالى واحد معبود. وفي قوله: {وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [النساء: 38] وإن كانوا يعتقدون البعث والجزاء وجهان: أحدهما: أن إقرارهم باليوم الآخر يوجب الإقرار بجميع حقوقه، فصاروا بترك الإقرار بحقوقه كمن لم يقر به. والثاني: أنهم لا يخافون وعيد اليوم الآخر، فذمهم ذم من لا يؤمن باليوم الآخر. وقوله: {ولا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ ورَسُولُهُ} [التوبة: 29] فيه وجهان:

أحدهما: أنه ما أمر بنسخه من شرائعهم. والثاني: أنه ما أحله لهم، وحرمه عليهم. وقوله: {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ} [التوبة: 29] فيه وجهان: أحدهما: ما في التوراة والإنجيل من أتباع الرسول، وهو قول الكلبي. والثاني: الدخول في شريعة الإسلام، وهو قول الجمهور، والحق هاهنا هو الله تعالى. وقوله: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البقرة: 101] فيه وجهان: أحدهما: يعني من آباء الذين أوتوا الكتاب. والثاني: من الذين أوتوا الكتاب؛ لأنهم في أتباعه كآبائهم. وقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29] فيه وجهان: أحدهما: حتى يدفعوا الجزية، وهو قول أبي حنيفة؛ لأنه يوجبه في أول الحول. والثاني: حتى يضمنوا الجزية، وهو قول الشافعي؛ لأنه يوجبها بانقضاء الحول. والجزية: اسم مشتق من الجزاء، إما على إقرارهم على الكفر، وإما على مقامهم في دار الإسلام، والجزية هو المال المأخوذ منهم عن رقابهم، وفيها وجهان: أحدهما: أنها من المجمل الذي يفتقر إلى البيان. والثاني: أنها من العموم الذي يعمل ما اشتمل عليه من قليل وكثير ما لم يخصه دليل. وقوله: {عَن يَدٍ} [التوبة: 29] فيه وجهان: أحدهما: عن غنى وقدرة. والثاني: أن يروا لنا في أخذها منهم بدا عليهم. وقوله: {وهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فيه وجهان: أحدهما: أن يكونوا أذلاء مقهورين. والثاني: أن تجري عليهم أحكام الإسلام، فدلت هذه الآية على ثلاثة أحكام: أحدها: وجوب جهادهم. والثاني: جواز قتلهم. والثالث: حقن دمائهم بأخذ الجزية منهم. ويدل عليه من السنة ما روى سليمان بن بريدة عن أبيه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- كان إذا بعث أميرا على جيش أوصاه بتقوى الله تعالى في خاصةً نفسه وبمن معه من المسلمين خيرًا، وقال له: إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى خصال ثلاث أيتهن أجابوك إليها فاقبل منهم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم،

وإن أبوا فالجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، وإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم". وقد أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الجزية من أهل نجران، ومن مجوس هجر، وأخذها من أهل أيلة، وهم ثلاث مائة رجل أخذ منهم ثلاثمائة دينار، ولأن في أخذ الجزية منهم معونة للمسلمين، وأناة بالمشركين في توقع استنصارهم، وذلة لهم ربما تبعثهم على الإسلام، فجوز النص لهذه المعاني الثلاثة أخذها منهم. فصل: فإذا تقرر وجوب أخذ الجزية من الكفار، لإقرارهم على الكفر في مأخوذةً من بعضهم دون جميعهم. واختلف في المأخوذ منهم على أربعة مذاهب: أحدها: وهو مذهب الشافعي أنها تؤخذ من أهل الكتاب عربًا كانوا أو عجمًا، ولا تؤخذ من غير أهل الكتاب عربًا ولا عجمًا، فاعتبرها بالأديان دون الأنساب. والثاني: على ما قاله أبو حنيفة بأنها تؤخذ من جميع أهل الكتاب، ومن عبدة الأوثان إذا كانوا عجمًا، ولا تؤخذ منهم إذا كانوا عربًا. والثالث: - ما قاله مالك - إنها تؤخذ من كل كافر من كتابي، ووثني، وعجمي، وعربي، إلا من كفار قريش، فلا تؤخذ منهم، وإن دانوا دين أهل الكتاب. والرابع: - ما قاله أبو يوسف - إنها تؤخذ من العجم سواء كانوا أهل كتاب أو عبدة أوثان حكم أخذ الجزية منهم، ولا تؤخذ من العرب سواء كانوا من أهل الكتاب أو من عبدة الأوثان، فجعلها معتبرة بالأنساب دون الأديان، فصار الخلاف مع الشافعي في حكمين: أحدهما: في عبدة الأوثان، فعند الشافعي لا تقبل جزيتهم، وعند غيره تقبل. والثاني: في العرب، فعند الشافعي تقبل جزيتهم، وعند غيره لا تقبل. فأما الحكم الأول في عبدة الأوثان، فاستدل من ذهب إلى قبول جزيتهم بحديث سليمان بن بريدة، أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كان إذا بعثه على جيش قال له: "ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم، ولم يفرق بين عبدة الأوثان وأهل الكتاب، وإن كان أكثرهم عبدة أوثان، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أخذ الجزية من المجوس وليس لهم كتاب، فكذلك عبدة الأوثان، ولأنه استذلال يجوز في أهل الكتاب، فجاز في عبدة الأوثان كالقتل. ودليلنا قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [التوبة: 29]. فجعل الكتاب

شرطًا في قبولها منهم، فلم يجز لعدم الشرط أن تقبل من غيرهم. وروى عبد الرحمن بن عوف أن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال في المجوس: سنوا بهم سنة أهل الكتاب، فدل على اختصاص الجزية بهم. وروى عمرو بن شعيب - عن أبيه - عن جده - أن النبي - صلى الله عليه وسلم- كتب إلى أهل اليمن أن تؤخذ الجزية من أهل الكتاب، فخصهم بالذكر لاختصاصهم بالحكم ولأنه وثني فلم يقر على حكمه بالجزية كالعربي، ولأن من لم يقر بالجزية من العرب لم يقر بها من العجم كالمرتد، ولأن لأهل الكتاب حرمتين: إحداهما: حرمة الكتاب الذي نزل عليهم. والثانية: حرمة دين الحق الذي كانوا عليه. وهاتان الحرمتان معدومتان في عبدة الأوثان، فافترقا في حكم الإقرار بالجزية. فأما الجواب عن حديث ابن بريدة، فمن وجهين: أحدهما: تخصيص عمومه بأدلتنا. والثاني: أنه لا يصح التعلق بظاهره حتى يقترن به إضمار، فهم يضمرون أخذ الجزية منهم إذا كانوا عجما، ونحن نضمر أخذ الجزية منهم إذا كانوا أهل كتاب، ولو تكافأ الإضماران سقط الدليل، واختيارنا أولى لثبوت حكمه عن إجماع. وأما الجواب عن أخذها من المجوس، فهو ما سنذكره من بعد في أن لهم كتابًا. وأما قياسهم على القتل، فغير صحيح لأمرين: أحدهما: أن القتل لا يبقى معه إقرار على الكفر، وفي الجزية إقرار على الكفر فافترقا. والثاني: أن القتل أغلظ من الجزية، فلم يجز أن يلحق به ما هو أخف منه إذا كان محمولًا على التغليظ. فصل: وأما الحكم الثاني: في العرب، فاستدل من منع من قبوله جزيتهم بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه كان إذا عرض نفسه في المواسم قبل هجرته على القبائل قال لهم: "هل لكم في كلمة إذا قلتموها دانت لكم العرب، وأدت إليكم الجزية العجم، فأضاف الجزية إلى العجم ونفاها عن العرب". وبما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "لا يجري على عربي صغار". والجزية صغار بالنص، وقد نفاه عنهم، فلم يجزه أخذها منهم، ولأن كل حرمة ثبتت بالإسلام منعت من قبوله الجزية ً كالإسلام، ولأن كل من لم يجز استرقاقه لم تؤخذ جزيته كالمرتد.

ودليلنا قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ} [التوبة: 29]. فكان على عمومه من كل كتابي من عجمي وعربي، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أخذ الجزية من العرب، فأخذها من أكيدر دومة بعد أسره، وحمله إلى المدينة، وكان من غسان أو من كندة، وأخذها من أهل اليمن، وأكثرهم عرب، ومن أهل نجران، وفيهم عرب، ولأن كل من جاز إقراره على كفره جاز أخذ جزيته كالعجم، ولأن وجوب القتل أغلظ من أخذ الجزية، فلما لم يمنع النسب من القتل، فأولى أن لا يمنع من الجزية، ولأنه لما جاز أن يحقن بالجزية دم ضعفت حرمته من العجم، فلأن يحقن بها دم من قويت حرمته من العرب أولى. فأما الجواب عن الخبر الأول، فهو أن المقصود به سرعة إجابة العرب إلى الإسلام، وإبطاء أهل الكتاب عنه، وهذا موجود ومعهود. وأما الجواب عن قوله: "لا يجري على عربي صغار" فالقتل أغلظ، وهو يجري عليه، فكانت الجزية أقرب، وهو محمول على أحد وجهين: إما صغار الاسترقاق. والثاني: أن يكون محمولًا على أهل مكة حين من عليهم بعد الفتح أنهم لا يغزون بعده، وبه قال الشافعي. فأما قول أبي يوسف: إنه لا تؤخذ الجزيةً من العرب، فنحن كنا على هذا أحرص، ولولا أن نأثم بثمن باطل لرددناه كما قال، وأن لا يجري على عربي صغار، ولكن الله أجل في أعيننا من أن نحب غير ما حكم به. فأما قياسهم على الإسلام فباطل؛ لأن الكفر ضد الإسلام، فلم يجز أن يقاس عليه. وأما قياسهم على المرتد، فالمرتد لا يجوز أن يقر على ردته، فلم يجز قبول جزيته، والعربي يقر على كفره، فجاز أخذ جزيته. فأما استرقاقه، ففيه قولان مضيا. فأما قول الشافعي: " انتوت قبائل من العرب " ففيه تأويلان: أحدهما: معناه قربت من بلاد أهل الكتاب. والثاني: اختلطت بأهل الكتاب، فدانت دين أهل الكتاب، فأخذها عمر بالشام من تنوخ وبهراء وبني تغلب، فدلت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وسنة خلفائه من بعدها على جواز أخذها من العرب كما جاز أخذها من غير العرب كما جاز أخذها من غير العرب. مسألة: قال الشافعي: " وكان أهل الكتاب - المشهور عند العامةً - أهل التوراةً من اليهود والإنجيل من النصارى وكانوا من بني إسرائيل، وأحطنا بأن الله تعالى أنزل كتبا من التوراة والإنجيل والفرقان بقوله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّا بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي

وَفَّى} [النجم: 36 - 37] وقال تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196] فأخبر أن له كتابا سوى هذا المشهور، قال: فأما قول أبي يوسف: لا تؤخذ الجزية من العرب، فنحن كنا على هذا أحرص، ولولا أن نأثم بتمني باطل لوددناه كما قال وأن لا يجري على عربي صغار ولكن الله أجل في أعيننا من أن نحب غير ما حكم الله به تعالى". قال في الحاوي: وهذا صحيح: إذا ثبت أن الجزيةً تؤخذ من أهل الكتاب دون غيرهم، فالكتاب المشهور كتابان: أحدهما: أن التوراة أنزلت على موسى، ودان بها اليهود، والإنجيل أنزل على عيسى، ودان به النصارى. قال الله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} [بالأنعام:156]. فكان اليهود والنصارى أهل كتاب مقطوع بصحته، فأما غير التوراة والإنجيل من كتب الله المنزلة على أنبيائه، فقد أخبر الله تعالى بها، وإن لم يسمها، ولم يعين من دان بها. قال الله تعالى: {أَمْ لَمْ يُنَبَّا بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} [النجم: 36، 37]. وقال تعالى: {الصُّحُف الْأُولَى} [الأعلى: 18]، وقال: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196]. فإن عرفنا من كتب الله تعالى غير التوراة والإنجيل، وعرفنا من دان بها غير اليهود والنصارى، فقد اختلف أصحابنا هل يكونون أهل كتاب يقرون عليه بالجزية، وتنكح نساؤهم، وتؤكل ذبائحهم كاليهود والنصارى، أم لا؟ على وجهين: أحدهما: أنهم أهل كتاب يقرون على التدين به، وتؤخذ جزيتهم، وتنكح نساؤهم، وتؤكل ذبائحهم كاليهود والنصارى، وهو الظاهر من مذهب الشافعي. وبه قال أبو إسحاق المروزي: لأن حرمة الكتاب لنزوله من الله تعالى، وحرمة من دان به أنه كان على حق، فكان كتابهم مساويا للتوراة والإنجيل، وكانوا هم مساوين لليهود والنصارى، كما كانت التوراة والإنجيل في أيام موسى وعيسى مساويين للقرآن في نزوله على محمد - صلى الله عليه وسلم- وكان اليهود والنصارى في أيامها مساوين للمسلمين، وليس التفاضل بينهم بمانع من التساوي في الحق. والثاني: أنهم لا يقرون على كتابهم، ولا تقبل جزيتهم، ولا تنكح نساؤهم، فيكونون مخالفين لليهود والنصارى في تمسكهم بالتوراة والإنجيل؛ لأن الله تعالى لما رفعها بعد نزولها دل على ارتفاع حكمها، فزوال حرمتها، ولما بقى التوراة والإنجيل دل على بقاء حكمهما وثبوت حرمتهما، وإطلاق هذين الجوابين عندي غير صحيح، فالواجب اعتبار كتابهم، فإن كان يتضمن تعبدًا وأحكامًا يكتفي أهله به عن غيره كان كالتوراةً

والإنجيل في ثبوت حرمته وإقرار أهله. وإن لم يتضمن تعبدا وأحكامًا، وكان مشتملًا على مواعظ وأمثال يفتقر أهله في التعبد والأحكام إلى غيره كان مخالفًا لحرمة التوراة والإنجيل ولم يجز أن يقر أهله عليه. فصل: فإذا تقرر حكم أهل الكتاب أنهم مقرون بالجزية على ما تدينوا به من شرائعهم، فالكلام في تعيينهم، وحكم من دخل في أديانهم تعيين أهل الكتاب وحكم من دخل في أديانهم مشتمل على فصلين: أحدهما: من عرف كتابه ودينه من اليهود والنصارى. والثاني: من لم يعرف. فأما المعروفون من اليهود المتدينون بالتوراة والنصارى المتدينون بالإنجيل فضربان: أحدهما: من عاينه وآمن به وتدين بكتابه كاليهود الذين كانوا في عصر موسى، والنصارى الذين كانوا في عصر عيسى من بني إسرائيل، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، وأبناء هؤلاء الآباء مقرون على دينهم بالجزية، وهم أبناء من عاصر موسى وعيسى، فإن لم يبدلوا كانت لهم حرمتان: حرمة آبائهم أنهم كانوا على حق، وحرمة بأنفسهم في تمسكهم بكتابهم، وإن بدلوا أقروا مع التبديل لإحدى الحرمتين، وهي حرمة آبائهم، وليس لهم حرمة أنفسهم في التمسك بكتابهم: لأن المبدل لا حرمةً له. والثاني: من دخل في دينهما من غيرهما، بعد انقضاء عصر نبوتهما، وهو أن يدخل في اليهودية بعد موسى، وفي النصرانية بعد عيسى، فهذا على ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يدخلوا فيه قبل تبديله. والثاني: أن يدخلوا فيه بعد نسخه. والثالث: أن يدخلوا فيه بعد تبديله وقبل نسخه. فأما القسم الأول: وهو أن يدخلوا فيه قبل تبديله، فهم مقرون عليه بالجزية كالداخل فيه على عصر نبيه، وسواء كان أبناؤهم الآن مبدلين أو غير مبدلين، ولأن لهم حرمتين إن لم يبدلوا، وحرمة واحدة إن بدلوا: لأن دينهم على حق بعد موت نبيهم كما كان على حق قبل موته، فاستوت حرمة الدخول فيه من الحالين. وأما القسم الثاني: وهو أن يدخلوا فيه بعد نسخه، وبعد نسخ شريعة عيسى في النصرانية بشريعة الإسلام. فأما نسخ شريعة موسى ففيه وجهان حكاهما أبو إسحاق المروزي: أحدهما: أنها تكون منسوخة بالنصرانية - شريعة عيسى - وهو أظهرها، لاختلافهما وأن الحق في أحدهما. والثاني: أنها منسوخة بشريعة الإسلام دون النصرانية: لأن عيسى نسخ من شريعة

موسى ما خالفها، ولم ينسخ منها ما وافقها، وإنما نسخ الإسلام جميع ما تقدمه من الشرائع. فإذا ثبت ما نسخ به كل شريعة، فمن دخل في دين بعد نسخه لم يقر عليه، لعدم حرمته عند دخوله فيه، فصار كعبدة الأوثان في عدم الحرمة. وقال المزني: يقر الداخل فيه بعد نسخه كما يقر الداخل فيه قبل نسخه وتبديله، لقول الله تعالى: {ومَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]. وهذا فاسد بما عللنا به من عدم الحرمة فيما دخل فيه. وقوله {ومَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} [المائدة: 51]. يعني في وجوب القتل؛ لأن من تولاهم منا مرتد لا يقر على ردته. وأما القسم الثالث: وهو أن يدخلوا فيه بعد التنزيل وقبل النسخ، فعلى ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يدخلوا فيه مع غير المبدلين مثل الروم، فيكونوا كالداخل فيه قبل التبديل في إقرارهم بالجزية ونكاح نسائهم وأكل ذبائحهم؛ لأن حرمته في غير المبدلين ثابتة. والثاني: أن يدخلوا فيه مع المبدلين كطوائف من نصارى العرب، فيكونوا كالداخل فيه بعد النسخ. والثالث: أن يشكل حال دخولهم فيه هل كان مع المبدلين أو مع غير المبدلين، أو يشكل هل دخلوا قبل التبديل أو بعد التبديل كتنوخ وبهراء وبني تغلب، فهؤلاء قد وقفهم الإشكال بين أصلين: أحدهما: يوجب حقن دمائهم واستباحة نكاحهم، كالداخل فيه مع غير المبدلين. والثاني: يوجب إباحة دمائهم، وحظر مناكحهم كالداخل فيه مع المبدلين، فوجب أن يغلب في الأصلين معا حكم الحظر دون الإباحة، فيقروا بالجزية حقنا لدمائهم: لأن أصل الدماء على الحظر، ولا تنكح نساؤهم، ولا تؤكل ذبائحهم: لأن أصل الفروج على الحظر، والحظر تعيين، والإباحة شك، فغلب حكم اليقين على الشك، وصاروا في ذلك كالمجوس، فهذا حكم الكتاب المشهور، والدين المعروف. فصل: وأما الضرب الثاني: وهو من ادعى كتابًا غير مشهور، ودينًا غير كالزبر الأولى، والصحف المتقدمة. فإن قيل: إنه لا يجري عليهم حكم أهل الكتاب، لم يقروا على دينهم وإن تحققنا كتابهم.

وإن قيل: إنهم يقرون على دينهم وتحفظ حرمة كتابهم، فلا يخلو حالهم من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يتحقق صدقهم، يعرف كتابهم، فيكونوا كاليهود والنصارى في إقرارهم بالجزية، واستباحة مناكحهم، وأكل ذبائحهم. والثاني: أن يتحقق كذب قولهم، وأن لا كتاب لهم، فيكونوا كعبدةً الأوثان في استباحة دمائهم، وحظر مناكحهم. والثالث: أن يحتمل ما قالوه الصدق والكذب، وليس على أحدهما دليل يقطع به، فلا يقبل فيهم قول كفارهم. فإن أسلم منهم عدد يكون خبرهم مستفيضًا حكم بقولهم في ثبوت كتابهم وإقرارهم بالجزية على دينهم، واستباحة مناكحهم. وإن لم يسلم منهم من يكون خبره مستفيضا متواترا، ولم يعلم قولهم إلا منهم في حال كفرهم، فيقرون بالجزيةً: لأنها مال بذلوه لا يحرم علينا أخذه، وأصل الدماء على الحظر، فلا يحل لنا قتلهم. فأما استباحة مناكحهم، وأكل ذبائحهم، فلا يقبل قولهم فيها؛ لأنها على أصل الحظر، فلا تستباح بقول من لا يوثق بصدقه، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "والمجوس أهل كتاب دانوا بغير دين أهل الأوثان وخالفوا اليهود والنصارى في بعض دينهم كما خالفت اليهود والنصارى في بعض دينهم، وكانت المجوس في طرف من الأرض لا يعرف السلف من أهل الحجاز من دينهم ما يعرفون من دين اليهود والنصارى حتى عرفوه وأن النبي - صلى الله عليه وسلم- أخذها من مجوس هجر وقال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -: هم أهل كتاب بدلوا فأصبحوا وقد أسري بكتابهم وأخذها منهم أبو بكر وعمر - رضي الله عنهما ". قال في الحاوي: وأما المجوس، فقد كانوا على بعد من الحجاز، وكانت ديارهم العراق وفارس، وهم يتدينون بنبوة زرادشت وإقرارهم بالجزية متفق عليه، لما رواه الشافعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أخذ الجزية من مجوس هجر. وروي أن عمر أشكل عليه أمر المجوس حين افتتح بلادهم بالعراق، وقال: ما أدري ما أصنع في أمرهم: فقال له عبد الرحمن بن عوف: أشهد لقد سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: "سنوا بهم سنة أهل الكتاب". فأخذ عمر منهم الجزيةً بالعراق وفارس، وقد

كان أبو بكر أخذها منهم فيما افتتحه من أطراف العراق، وأخذها بعدهما عثمان وعلي، فكان أخذها منهم سنةً عن الرسول - صلى الله عليه وسلم- وأثرا عن الخلفاء الراشدين. فصل: فأما كتاب المجوس، فلم يبق لهم في شريعة الإسلام كتاب، واختلف هل كان لهم، فذكر الشافعي - فيما نقله المزني هاهنا - أنهم أهل كتاب، وقد نص عليه في كتاب الأم، وقال في موضع آخر: لا كتاب لهم، وقد علق القول في موضع ثالث، فاختلف أصحابه في مذهبه، فذهب البغداديون إلى أنه على قولين بحسب اختلاف نصه في الموضعين: أحدهما: أنهم أهل كتاب. والثاني: ليس لهم كتاب. وذهب البصريون إلى أن قوله لم يختلف فيهم، وحملوا قوله: إنهم أهل كتاب على أن حكمهم حكم أهل الكتاب في إقرارهم بالجزية خاصة، وقوله: إنه لا كتاب لهم في أنه لا تستباح مناكحهم، ولا تؤكل ذبائحهم، وأنهم لا يتلون كتابا لهم. والذي عليه الجمهور من أصحابنا ما قاله البغداديون من القولين دون ما ذهب إليه البصريون من اختلاف الحالين. فإذا قيل: إنه لا كتاب لهم، وهو مذهب أهل العراق، فدليله قول الله تعالى: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} [الأنعام: 156]. فدل على أنه لا كتاب لمن عداهما، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- حين كاتب كسرى وقيصر، قال في كتابه إلى قيصر: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64]. فجعلهم من أهل الكتاب، ولم يكتب إلى كسرى بهذا، وكتب: أسلم تسلم، فدل على أنه ليس لهم كتاب، ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: سنوا بهم سنة أهل الكتاب، ولو كان لهم كتاب لاستغنى عن هذا بأن قال هم أهل الكتاب. ولرواية ابن عباس أن المسلمين بمكة قبل الهجرة كانوا يحبون أن يظهر الروم على فارس؛ لأنهم أهل كتاب، وكان مشركو قريش يحبون أن يظهر فارس على الروم: لأنهم غير أهل كتاب، فلما غلبت فارس الروم سر المشركون، وقالوا للمسلمين: تزعمون أنكم ستغلبونا: لأنكم أهل كتاب، وقد غلبت فارس الروم، والروم أهل كتاب، فأخبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بذلك فساءه فنزل عليه قوله تعالى: {آلم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 1 - 5].

ففرح المسلمون بذلك، وبادر أبو بكر إلى كفار قريش، فأخبرهم بما أنزل الله على رسوله من أن الروم ستغلب فارسا، وتقامر أبو بكر وأبي بن خلف على هذا بأربع قلائص إلى ثلاث سنين، وكان القمار يومئذ حلالًا، فلما علم رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أن أبا بكر قدر لهم هذه المدة أنكرها، وقال: ما حملك على ما فعلت؟ قال: ثقة بالله ورسوله. قال: فكم البضع؟ قال: ما بين الثلاث إلى العشر. فقال له: زدهم في الخطر، وازدد في الأجل فزادهم قلوصين وازداد منهم في الأجل سنتين، فصارت القلائص ستا، والأجل خمسًا، فلما أراد أبو بكر الهجرةً علق به أبي بن خلف وقال له: أعطني كفيلًا بالخطر إن غلبت، فكفل به ابنه عبد الرحمن بن أبي بكر ثم إن الله تعالى أنجز وعده في غلبة الروم لفارس في عام بدر، ونصر رسوله على قريش يوم بدر، وقيل: إنه كان النصران في يوم واحد، فعلم بهذا الخبر أن الفرس، وهم المجوس، لم يكن لهم كتاب، وأن الروم من النصارى هم أهل الكتاب، ولأنهم لو كانوا أهل كتاب، لظهر فيهم كظهور التوراةً والإنجيل، ولجرت عليهم من استباحة مناكحهم، وأكل ذبائحهم أحكام أهل الكتاب كاليهود والنصارى. وإذا قلنا بالقول الثاني إنهم أهل كتاب، فدليلنا رواه الشافعي، عن سفيان بن عيينة، عن أبي سعيد بن المرزبان، عن نصر بن عاصم، قال: قال فروة بن نوفل الأشجعي على ما تؤخذ الجزية من المجوس، وليسوا بأهل كتاب، فقام إليه المستورد، فأخذ بلبته وقال: يا عدو الله تطعن على أبي بكر، وعمر وعلى أمير المؤمنين - يعني عليا - وقد أخذوا منهم الجزية، فذهب به إلى القصر فخرج علي - عليه السلام - فقال: اتئدا فجلسنا في ظل القصر، فقال: أنا أعلم الناس بالمجوس، كان لهم علم يعلمونه، وكتاب يدرسونه، وإن ملكهم سكر، فوقع على ابنته أو أخته، فاطلع عليه بعض أهل مملكته فلما صحا جاءوا يقيمون عليه الحد، فامتنع منهم فدعا أهل مملكته، فلما أتوه قال: أتعلمون دينًا خيرًا من دين آدم، وقد كان ينكح بنيه من بناته، وأنا على دين آدم ما نزعت بكم عن دينه، فبايعوه، وقاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم، فأصبحوا وقد أسري على كتابهم فرفع من بين أظهرهم، وذهب العلم الذي في صدورهم فهم أهل كتاب. وقد أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر وعمر منهم الجزية، وانتشار هذا مع عدم المخالف فيه إجماع منعقد، ولأن الاتفاق على جواز أخذ الجزية منهم، وهي مقصورة على أهل الكتاب تجعلهم من أهل الكتاب الداخلين في قوله تعالى: {مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. ولأنهم قد كانوا ينتسبون إلى نبي مبعوث، ويتعبدون بدين مشروع، ولا يكون ذلك إلا عن كتاب يلتزمون أحكامه، ويعتقدون حلاله وحرامه.

فصل: فإذا تقرر توجيه أحد القولين، فإن قيل بالأول منهما: إنه ليس لهم كتاب جاز إقرارهم على الجزية بالسنة والإجماع ولم يجز استباحة مناكحهم، ولا أكل ذبائحهم. وإن قيل بالثاني: إنهم أهل كتاب ففي استباحة مناكحهم، وأكل ذبائحهم وجهان حكاهما أبو إسحاق المروزي: أحدهما: يحل نكاح نسائهم، وأكل ذبائحهم لثبوت كتابهم، ولأن حذيفة بن اليمان نكح مجوسية بالعراق، وهذا قول أبي ثور. والثاني: وهو أظهر أنه لا تحل نساؤهم، ولا أكل ذبائحهم، وإن كانوا أهل كتاب: لأن كتابهم رفع، فارتفع حكمه، وقد روي عن إبراهيم الحربي، مع ما انعقد عليه إجماع الأعصار أنه قول بضعة عشر من الصحابة، وما علمنا مخالفًا من المسلمين حتى بعث نبي من الكرخ يعني أبا ثور يريد أنه لما تفرد بقول خالف فيه من تقدمه صار كنبي يشرع الأحكام. مسألة: قال الشافعي - رحمه الله -: " والصابئون والسامرة مثلهم يؤخذ من جميعهم الجزيةً ولا تؤخذ الجزية من أهل الأوثان ولا ممن عبد ما استحسن من غير أهل الكتاب ". قال في الحاوي: أما الصابئة، فطائفة تنضم إلى النصارى، والسامرة طائفة تنضم إلى اليهود، ولا يخلو حال انضمامهما إلى اليهود والنصارى من خمسة أقسام: أحدها: أن نعلم أنهم يوافقون اليهود والنصارى في أصول دينهم، وفروعه، فيجوز أن يقروا بالجزيةً، وتنكح نساؤهم، وتؤكل ذبائحهم. والثاني: أن يخالفوا اليهود والنصارى في أصول دينهم وفروعه، فلا يجوز إقرارهم بالجزية، ولا تستباح مناكحهم، ولا تؤكل ذبائحهم كعبدة الأوثان. والثالث: أن يوافقوا اليهود والنصارى في أصول دينهم، ويخالفوهم في فروعه، فيجوز أن يقروا بالجزيةً، وتستباح مناكحهم، وأكل ذبائحهم: لأن الأحكام تجري على أصول الأديان، ولا يؤثر الاختلاف في فروعها كما لم يؤثر اختلاف المسلمين في فروع دينهم. والرابع: أن يوافقوا اليهود والنصارى في فروع دينهم، ويخالفوهم في أصوله، فلا يجوز أن يقروا بالجزية، ولا تستباح مناكحهم، ولا أكل ذبائحهم تعليلًا باعتبار الأصول في الدين. والخامس: أن يشكل أمرهم، ولا يعلم ما خالفوهم فيه، ووافقوهم عليه من أصل

باب الجزية على أهل الكتاب والضيافة وما لهم وعليهم

وفرع، فيقروا بالجزيةً حقنا لدمائهم، ولا تنكح نساؤهم، ولا تؤكل ذبائحهم تغليبا للحظر في الأمرين كالذي قلناه فيمن أشكل دخوله في اليهوديةً والنصرانيةً، هل كان من المبدلين. فإن أسلم اثنان من الصابئين والسامرة، فشهدوا بما وافقوا عليه اليهود والنصارى من أصل وفرع حكم بشهادتهما، وأجري عليهم حكمها، ولا يراعى في هذه الشهادة عدد التواتر، ويراعى عدد التواتر فيمن ادعوا أن لهم كتابًا غير التوراةً والإنجيل؛ لأن هذا إخبار عن أصل دين مجهول، فراعينا فيه خبر التواتر والاستفاضةً، ومعتقد الصابئين والسامرةً دين معروف يعول في صفته على الشهادةً فافترقا، وقد قال ابن أبي هريرة: إن السامرةً من نسل السامري، وإنهم اعتزلوا عن اليهود بأن يقولوا لا مساس، فإن كان هذا صحيحًا فهم من بني إسرائيل يحل نكاح نسائهم، وأكل ذبائحهم. وقال أبو سعيد الإصطخري في الصابئين: إنهم يقولون: إن الملك حي ناطق وإن الكواكب السبعة آلهةً، واستفتي فيهم في أيام القاهر فأفتى، فهم القاهر بقتلهم، إن لم يسلموا، فاستدفعوا القتل ببذل مال جزيل، فإن كانوا على ما حكاه أبو سعيد فهم كعبدة الأوثان، لا يجوز أن يقروا بالجزية، ولا تستباح مناكحهم، ولا يحل أكل ذبائحهم، والله أعلم. باب الجزية على أهل الكتاب والضيافة وما لهم وعليهم قال الشافعي - رحمه الله تعالى -: " أمر الله تعالى بقتال المشركين من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، قال: والصغار أن تؤخذ منهم وتجرى عليهم أحكام الإسلام ". قال في الحاوي: اعلم أن ما تحقن به دماء المشركين ينقسم أربعة أقسام: هدنةً، وعهد، وأمان، وذمةً. فأما القسم الأول: وهو الهدنة تعريفها: فهو أن يوادع أهل الحرب في دارهم على ترك القتال مدة أكثرها عشر سنين، كما هادن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قريشًا عام الحديبيةً، فلا يجوز أن يتولى عقدها إلا الإمام أو من يستنيبه فيها عند الحاجة إليها وظهور المصلحة فيها. ويجوز أن يعقد على مال يؤخذ منهم إذا أمكن وعلى غير مال إذا تعذر، وعلى مال يدفع إليهم عند الضرورة كالذي هم به رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عام الخندق حين تمالأت عليه قريش، وغطفان والأحابيش أن يعطيهم شطر ثمار المدينة، لينصرفوا عنها، فقال أهلها من الأنصار: يا رسول الله، إن كنت تفعل هذا بوحي من السماء فالسمع والطاعة، وإن كان رأيا رأيته فوالله ما كنا نعطيهم في الجاهلية تمرةً إلا قرى أو شرًا: فكيف وقد أعزنا الله بالإسلام: فلما عرف قوة أنفسهم كف، وصابرهم على القتال حتى انصرفوا، فكان فيما هم بفعله من ذلك دليل على جوازه.

وأما القسم الثاني: وهو العهد تعريفه: فهو أن يجعل لمن دخل من المشركين إلى دار الإسلام أمان إلى مدة مقدرةً بأربعة أشهر، ولا يجوز أن تبلغ سنة، وفيما بين أربعة أشهر وسنة قولان. فإن كان على مال يؤخذ منهم كان أولى، وإن كان على غير مال جاز، ولا يجوز أن يعقد على مال يدفع إليهم، ولا أن يتولى عهدهم غير الإمام، فيكون العهد موافقا للهدنة من وجهين، ومخالفًا لها من وجهين: فأما الوجهان في الموافقة: فأحدهما: أن لا يتولاهما إلا الإمام ونائبه. والثاني: أن لا يجيب إليهما إلا عند المصلحة فيما للمسلمين دونهم. وأما الوجهان في المخالفة: فأحدهما: أن الهدنة يجوز أن تعقد على مال يدفع إليهم، ولا يجوز أن يعقد العهد على مال يدفع إليهم. والثاني: في قدر المدةً، واختلافهما فيهما من وجهين: أحدهما: أن انتهاء مدة الهدنة مقدرة بعشر سنين، وانتهاء مدة المقام في العهد أربعة أشهر. والثاني: أنه يجوز في مدة العهد أن يتكرر دخولهم بذلك العهد، ولا يجوز بعد مدة الهدنة أن تتكرر موادعتهم إلا باستئناف عقد. وأما القسم الثالث: وهو الأمان: فهو ما بذله الواحد من المسلمين أو عدد يسير لواحد من المشركين أو لعدد كثير فيكون موافقا للعهد من وجهين، ومخالفًا له من وجهين: فأما الوجهان في الموافقة: فأحدهما: في تقدير مدتها بأربعة أشهر. والثاني: التزام حكمهما في دار الإسلام من المسلمين، ولا يلزم في دار الحرب، ولا من المحاربين. وأما الوجهان في المخالفة: فأحدهما: أن العهد عام لا يتولاه إلا الإمام، والأمان خاص يجوز أن يتولاه غير الإمام. والثاني: أن العهد يلزم فيه المماثلة، فنأمنهم إذا دخلنا إليهم كما نؤمنهم إذا دخلوا إلينا. والأمان الخاص لا تلزم فيه المماثلة، فيجوز أن يؤمن آحادهم إذا دخلوا إلينا وإن لم يؤمنوا آحادنا إذا دخلنا إليهم. وأما القسم الرابع: وهو عقد الذمة: فهو أن يقر أهل الكتاب على المقام في دار

الإسلام بجزيةً يؤدونها عن رقابهم في كل عام، وهو أوكد العقود الأربعة: لأنها موافقة لها من وجهين، ومخالفةً لها من وجهين، وزائدةً عليها من وجهين. فأما الوجهان في الموافقة: فأحدهما: الأمان. والثاني: كفهم عن مطاولة الإسلام. وأما الوجهان من المخالفة: فأحدهما: اختصاص الذمة بأهل الكتاب، وعموم ما عداها في أهل الكتاب وغير أهل الكتاب. والثاني: وجوب الجزية على أهل الذمة، وسقوطها عن غير أهل الذمة. وأما الوجهان في الزيادة: فأحدهما: أن عقد الذمة مؤبد، وما عداه مقدر، فإن قدرها بمدة فهي ناقصةً عن حكم الكمال، ويتقدر أقلها بسنة يستحق فيها الجزيةً، ولا يتقدر أكثرها بالشرع، وتتقدر بالشرط، وإن زادت على مدة الهدنة أضعافًا لأنها لما انعقدت على الأبد جاز أن تعقد مقدرةً بأكثر الأبد. والثاني: أن عقد الذمة يوجب الذب عنهم من كل من أرادهم من مسلم وكافر، وما عداه يوجب ذب المسلمين عنهم دون غيرهم. فإن عقدها لأهل الذمة على أن لا يذب أهل الحرب عنهم نظر. فإن كانوا في بلاد الإسلام لم يجز، وإن كانوا في بلاد الحرب جاز؛ لأن التمكين منهم في بلاد الإسلام تسليط لأهل الحرب على المسلمين، ولو عقد العهد على أن يمنع أهل الحرب عنهم، فإن كانوا في بلاد الإسلام جاز، وإن كانوا في دار الحرب لم يجز إلا بشرطين: أحدهما: أن يعلم الإمام من نفسه قوة على المنع. والثاني: أن يعقدها على مال يبذلونه. فإن عدم أحد الشرطين لم يجز. فأما جريان أحكامنا عليهم جريان أحكام الإسلام على أهل الذمة، فقد قال الشافعي في تأويل قول الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. إن الصغار أن يجري عليهم أحكام الإسلام، وله في المراد بهذه الأحكام قولان: أحدهما: التحكم بالقوة والاستطالة. والثاني: الأحكام الشرعية. فعلى الأول لا تلزمهم أحكامنا. وعلى الثاني تلزمهم أحكامنا، ولا تلزم من عداهم قولًا واحدًا، ولا يتولى عقد الذمة إلا الإمام، وإذا بذلوا الجزية وجب على الإمام أن يعقد لهم الذمة.

مسألة: قال الشافعي: " ولا نعلم النبي - صلى الله عليه وسلم- صالح أحدًا على أقل من دينار، فمن أعطى منهم دينارًا غنيًا كان أو فقيرًا في كل سنة قبل منه ولم يزد عليه، ولم يقبل منه أقل من دينار من غني ولا فقير، فإن زادوا قبل منهم ". قال في الحاوي: اختلف الفقهاء في أقل الجزية وأكثرها، فذهب الشافعي إلى أن أقلها مقدر بدينار لا يجوز الاقتصار على أقل منه من غني ولا فقير، وأكثرها غير مقدر، وهو موكل إلى اجتهاد الإمام. فإن لم يجيبوا إلى الزيادةً على الدينار من غني ولا فقير وجب على الإمام إجابتهم إليه، وإن طبقوا أنفسهم بالغنى والتوسط، والذي عاقدهم عليه. وقال أبو حنيفة: هي مقدرة الأقل والأكثر بحسب طبقاتهم، فيؤخذ من الغني ثمانيةً وأربعون درهما مصارفةً اثنا عشر بدينار، ومن المتوسط أربعة درهمًا مصارفة اثنا عشر بدينار، ومن المتوسط أربعة وعشرون درهمًا، ومن الفقير المعتمل اثنا عشر درهمًا. وقال سفيان الثوري: لا يتقدر أقلها، ولا أكثرها، وهي موكولة إلى اجتهاد الإمام في أقلها وأكثرها، فإن رأى الاقتصار على أقل من دينار جاز، وإن رأى الزيادة على الأربعة فعل. وقد حكي عن مالك كلا المذهبين من قول أبي حنيفة، وقول سفيان. واستدل أبو حنيفة على تقدير أقلها وأكثرها بأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ضرب الجزيةً على أهل الذمة فيما فتحه من سواد العراق، على الفقير المعتمل اثنا عشر درهمًا، وعلى المتوسط أربعة وعشرون درهمًا، وعلى الغني ثمانيةً وأربعون درهمًا عن رأي شاور فيه الصحابة، فصار إجماعًا، ولأنه مال يتعين وجوبه بالحول، فوجب أن يختلف بزيادةً المال كالزكاةً، ولأن المأخوذ بالشرك صار جزيةً وخراجًا، فلما اختلف الخراج باختلاف المال وجب أن تختلف الجزية باختلاف المال. واستدل الثوري بأن قال: الهدنة لما كانت موكولةً إلى اجتهاد الإمام، ولم يتقدر أقلها وأكثرها وجب أن تكون الجزية بمثابتها لا يتقدر أقلها وأكثرها. ودليلنا ما رواه أبو وائل شقيق بن سلمة، عن مسروق، عن معاذ بن جبل أن النبي - صلى الله عليه وسلم- أمره حين بعثه إلى اليمن أن يأخذ من كل حالم دينارًا، وعدله من المعافر، ومعلوم أنهم كانوا على اختلاف في الغنى والتوسط فسوى بينهم، ولم يفاضل. وروي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- صالح أكيدر دومة على نصارى أيلةً، وهم ثلاثمائة رجل

على ثلاثمائة دينار، فجعلها معتبرة بعددهم، وليس يعتبرها بيسارهم وإعسارهم. ولأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أخذ جزية نصراني بمكة يقال له أبو موهب دينارا، ولم يذكر يساره ولا إعساره، فدل على استواء الحالين. وروى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، أن النبي - صلى الله عليه وسلم- أمر بأخذ الجزية من أهل الكتاب - من كل حالم دينارًا، ولم يفضل فدل على التساوي. ومن القياس أن كل من حقن دمه بالجزيةً جاز أن يتقدر بالدينار - كالمقل، ولأن كل ما جاز أن يتقدر به جزية المقل جاز أن يتقدر به جزية المكثر كالأربعة، ولأن حرمةً دمهما واحدةً، فوجب أن تكون جزيتهما واحدة. فأما الجواب عما فعله عمر، فهذا أنه قدره عليهم عن مراضاة بينه وبينهم لا ينكر مثلها إذا فعلوه. وقياسهم على الزكاة منتقض بزكاة الفطر التي لا تزيد زيادة المال، ثم المعنى في الزكاةً وجوبها في عين المال، فجاز أن تختلف بقلته وكثرته، والجزية في الذمة عن حقن الدم كالأجرة، فلم تختلف بزيادة المال وكثرته كالإجارة. وأما الجواب عن جمعهم بين الجزية والخراج، فهو أن الخراج عند الشافعي أجرة عن أرض ذات منفعة، فجاز أن يختلف باختلاف المنافع، والجزية عوض عن حقن الدم والإقرار على الكفر، وذلك غير مختلف باختلاف المال، فلم يتفاضل بتفاضل المال. وأما الجواب عن استدلال سفيان الثوري بالهدنةً، فهو أن الهدنةً لما جاز أن تكون موقوفةً على رأي الإمام في عقدها بمال وغير مال جاز عقدها على رأي الإمام في قدر المال، والجزيةً لا تقف على رأيه في عقدها بغير مال، فلم تقف على رأيه في تقدير المال. مسألة: قال الشافعي: " في كتاب السير ما يدل على أنه لا جزية على فقير حتى يستغني، قال المزني: والأول أصح عندي في أصله، وأولى عندي بقوله ". قال في الحاوي: وأما المقل الذي يملك قدر الجزية ولا يملك ما سواها، فهي عليه واجبةً، لقدرته على أدائها، فأما الفقير الذي لا يملك قدر الجزية، فضربان: أحدهما: أن يكون معتملًا يكسب بعمله في السنة قدر جزيته فاضلة عن نفقته، فالجزية عليه واجبة. والثاني: أن يكون غير معتمل لا يقدر على الاكتساب إلا بالمسألة لقدر قوته من غير فضل، ففي وجوب الجزية عليه قولان:

أحدهما: وهو المنصوص عليه في كتاب الجزيةً، وعامةً كتبه أنها واجبةً عليه، ولا تعقد له الذمة إلا بها، وهو اختيار المزني. والثاني: نص عليه في سير الواقدي: أنه لا جزية عليه، ويكون في عقد الذمة تبعا لأهل المسكنة، كالنساء والعبيد، وبه قال أبو حنيفة، احتجاجا بأن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين طبق في الجزية أهل العراق ثلاث طبقات، جعل أدناها الفقير المعتمل، فدل على سقوطها عن غير المعتمل، ولأنه مال يجب في كل حول، فلم تجب على الفقير كالزكاةً، ولأن الجزية ضربان على الرءوس والأرضين، فلما سقطت عن الأرض إذا أعوز نفقتها، سقطت عن الرءوس إذا أعوز وجودها. والدليل على وجوبها على الفقير: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [التوبة: 29]. إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ} [التوبة: 29] فلما كان قتالهم عامًا في الموسر والمعسر وجب أن يكون ما جعله غاية في الكف عن قتالهم من بذل الجزية عامًا في الموسر والمعسر: لأن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال لمعاذ بن جبل - حين بعثه إلى اليمن: خذ من كل حالم دينارا، وقد علم أن فيهم فقيرا، ولم يميزهم، فدل على أخذها منهم. فإن قيل: فالأمر بالأخذ في الكتاب والسنةً مشروط بالقدرةً، ويسقط فيما خرج من القدرةً. قيل: هذا الأمر إنما توجه إلى الضمان دون الدفع: لأنه في ابتداء الحول، والدفع يكون بعد الحول، وقد يتوجه الضمان إلى المعسر ليدفعه إذا أيسر كسائر الحقوق. ومن القياس أنه حر مكلف، فلم يجز إقراره على كفره في دار الإسلام بغير جزية كالموسر، وفيه احتراز من المرأةً: لأنها تدخل في اللفظ المذكر، ولأن كل من حل قتله بالأسر لم تسقط عنه الجزية بالفقر كالغني إذا افتقر، ولأنه أحد سببي ما يحقن به الدم، فوجب أن يقوى فيه الغني والفقير كالإسلام، ولأن الجزية في مقابلة أمرين: أحدهما: حقن الدم. والآخر: الإقرار في دارنا على الكفر. وما حقن به الدم لم يسقط بالإعسار، كالدية. وما استحق به المقام في مكان لم يسقط بالإعسار كالأجرة. فأما الجواب عن فعل عمر - رضي الله عنه - فمن وجهين: أحدهما: أن أخذها من الفقير المعتمل لا يوجب سقوطها عن غير المعتمل. والثاني: أن المعتمل هو المكتسب بالعمل - وغير المعتمل قد يتكسب بالمسألة، وهي عمل فصار كالمعتمل. والقياس على الزكاة فاسد من وجهين: أحدهما: أن الزكاة تجب في المال، فاعتبرناه في الوجوب، والجزية تجب في الذمة، فلم يعتبر المال في الوجوب.

والثاني: أن الجزيةً تجب على الفقير المعتمل، ولا تجب عليه الزكاةً، فلم يجز اعتبارها بالزكاة. وأما الجواب عن الجمع بين الجزية والخراج مع اختلاله من وجهين: أحدهما: أن الخراج لا يسقط بالفقر، فكذلك الجزية. والثاني: أنه لما لم يسقط ما في مقابلة الجزية من حقن الدم في حق الفقير لم تسقط الجزيةً، ولما سقط ما قي مقابلة الخراج من المنفعة سقط به الخراج. فصل: فإذا تقرر توجيه القولين، فإن قلنا: إنه لا جزية على الفقير مطالبته بالجزية، كانت القدرة عليها شرطًا في الوجوب والأداء، فلا يخاطب بوجوبها مع الفقر، إذا أيسر بها استوقف حوله، وأخذت منه بانقضائه. وإن قلنا: إن الجزية واجبة على الفقير، لم تكن القدرة شرطًا في وجوبها، فإذا حال الحول، وهو فقير وجبت عليه الجزيةً، وفيها وجهان دل كلام ابن أبي هريرة عليهما: أحدهما: أنه ينظر بها إلى ميسرته مع إقراره في دار الإسلام كسائر الديون التي يجب الأنظار بها إلى وقت اليسار. والثاني: لا يجوز أن ينظر بها لإعساره؛ لأن لها بدلًا في حقن دمه وهو قائم عليه، وهو الإسلام، فإذا امتنع منه لم يجز إنظاره. وقيل: إن لم تسلم، ولم يتوصل إلى تحصيل الجزية بالطلب والمسألة، لم يجز أن تقر في دار الإسلام، وأبلغت مأمنك، ثم كنت حربًا، ألا ترى أن الكفارةً، لما كان الصوم فيها بدلًا لم تسقط بالإعسار؟ ولم يجب فيها أنظار إلى وقت اليسار؟ كذلك الجزية. مسألة: قال الشافعي: " وإن صالحوا على ضيافةً ضيافة ما ضفت ثلاثًا، قال: ويضيف الموسر كذا والوسط كذا، ويسمى ما يطعمونهم خبز كذا، ويعلفون دوابهم من التبن والشعير كذا، ويضيف من مر به من واحد إلى كذا وأين ينزلونهم من فضول منازلهم أو في كنائسهم، أو فيما يكن من حر وبرد ". قال في الحاوي: يجوز أن يصالح أهل الذمة على عقد الجزية على ضيافة من يمر بهم من المسلمين، لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم- صالح أكيدر دومةً عن نصارى أيلة على ثلاثمائة دينار، وكانوا ثلاثمائة رجل، وأن يضيفوا ما مر بهم من المسلمين ثلاثة أيام لا يغشوا

مسلماً. وصالح عمر بن الخطاب رضي الله عنه نصارى الشام علي أن ضرب عليهم الجزية علي أهل الذهب أربعة دنانير، وعلي أهل الورق ثمانية وأربعون درهما وضيافة ثلاثة أيام، ولأنه مرفق يستزاد من المشركين ويستعين به سابلة المسلمين، وإذا كان كذلك فالكلام في عقد هذه الضيافة، مشتمل علي ثلاثة فصول. أحدهما: حكمها فيمن يشترط عليه. والثاني: حكمها فيمن تشرط له. والثالث: حكم بيانها. فأما الفصل الأول: فيمن يشترط عليه، فمعتبر بثلاثة شروط: أحدهما أن يبذلوا طوعا لا يجبرون عليها، لأنها عقد مراضاة، فلم يصح إلا عن اختيار الجزية، فإن امتنعوا من الضيافة، ولم يجيبوا إلي غير الدينار قبل منهم، وأسقطت الضيافة عنهم كما تسقط عنهم الزيادة علي الدينار إذا امتنعوا منها فإن امتنع منها بعضهم، وأجاب إليها بعضهم سقطت عمن امتنع ولزمت من أجاب. والثاني: أن يكون بهم قوة عليها لا يضعفون عنها إما لخصب بلادهم، وإما لكثرة أموالهم، فإن ضعفوا عنها لم يؤخذوا بها، واختص وجوبها بالأغنياء والمتوسطين دون المقلين، بخلاف الجزية، لأن الضيافة تتكرر في السنة، والجزية لا تتكرر. والثالث: أن تشترط عليهم بعد جزية رؤوسهم وهو الدينار الذي هو أصل المأخوذ منهم، ليكون زيادة معونة ومرفق، فإن جعلت الضيافة في الجزية، ولم يؤخذ دينار الجزية، ففي جوازه لأصحابنا وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزى، وأبي علي بن أبي هريرة، وجمهور البغداديين أنه لا يجوز إلا بعد الدينار لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم صالح أهل أيلة عليهما، وكذلك عمر في صلح أهل الشام، ولأن الدينار معلوم يعم نفعه، فلم يجز أن يسقط بالضيافة التي يخص نفعها. والثاني: وهو قول كثير من البصريين يجوز الاقتصار عليها، إذا لم يبذلوا الدينار معها، إذا كان مبلغها في السنة معلوما قدر الدينار فما زاد، لأن الضيافة جزية، فلم يلزم أن يجمع عليهم بين جزيتين، كما لم يلزم في نصارى بني تغلب حين ضاعف عمر عليهم الصدقة أن يأخذها مع دينار الجزية، لأن كل واحد منهما جزية، ولأنه لما جاز أن يصالحوا علي الدينار دون الضيافة جاز أن يصالحوا علي الضيافة دون الدينار فعلي الوجه

الأول: يجوز أن يشترط عليهم ضيافة من يمر بهم، وإن لم يعلم عددهم في جميع السنة، وإن لم يمر بهم أحد لم يؤخذ منهم ثمن الضيافة. وعلي الوجه الثاني: لا يصح حتى يعلم عدد الأضياف في جميع السنة وإن لم يمر بهم أحد، أو يمر بهم بعض العدد حوسبوا، وأخذ منهم ثمن الضيافة من بقي، فيكون الفرق بين الوجهين من وجهين: أحدهما: جوازه علي الوجه الأول، وإن لم يعلم عددهم في جميع السنة ولا يجوز علي الوجه الثاني حتى يعلم عددهم في جميع السنة. والثاني: أن لا يؤخذ منهم علي الوجه الأول قيمة الضيافة إن تأخر الأضياف، وتؤخذ منهم علي الوجه الثاني قيمتها إن تأخروا. وأما الفصل الثاني: وهو من يشترط له من الأضياف، فهم أهل الفئ من المجتازين بهم دون المقيمين بينهم، لأن الضيافة جزية، والجزية لأهل الفئ خاصة، فعلي هذا تكون مقصورة علي الجيش المجاهدين خاصة أو تكون لهم ولغيرهم من أهل الفئ علي قولين من مصرف مال الفئ هل يختص بالجيش أو يعم جميع أهل الفئ؟ فإن شرطت الضيافة لغير أهل الفئ من تجار المسلمين وجميع السابلة جاز علي الوجه الأول إذا قيل: إنها تشترط بعد الدينار، ولم تجز علي الوجه الثاني إذا قيل: إنه يجوز الاقتصار عليها وحدها، فإن أراد الضيف أن يأخذ منهم قدر ضيافته، ولا يأكل من عندهم نظر. فإن طالبهم بثمن الضيافة لم يلزمهم دفعه، وإن طالبهم بطعام الضيافة لزمهم دفعه، وفارق ما أبيح من أكل طعام الولائم الذي لا يجوز أخذه لأن هذه معاوضة، والوليمة مكرمة، ولا يطالبهم بطعام الأيام الثلاثة في الأول منها، لأنه مؤجل فيها، فلا يطالبوا به قبل حلوله، ويطالب في كل يوم بقدر ضيافته، فإن لم يطالب بضيافة اليوم حتى مضي لم يجز أن يطالبهم به علي الوجه الأول إذا جعل تبعا للدينار وجاز أن يطالبهم به علي الوجه الثاني إذا جعل مقصودا كالدينار. ولو تكاثر أهل الذمة علي ضيف تنازعوه كان الخيار إلي الضيف دون المضيف في نزوله علي من يشاء منهم بغير قرعة، ولو تكاثر الأضياف علي المضيف كان الخيار إلي المضيف دون الأضياف إلي أن يقصد عدد أهل الناحية عن إضافة جميعهم، فيقرع بينهم، ويضيف كل واحد منهم من قرع، والأولي أن يكون للأضياف عريف يكون هو المرتب لهم، لينقطع التنازع بينهم. وأما الفصل الثالث: في بيان الضيافة، فيعتبر فيها ثلاثة شروط: أحدهما: عدد الأضياف. والثاني: أيام الضيافة.

والثالث: قدر الضيافة. فأما الشرط الأول: في عدد الأضياف، فهو أن يشترط علي الموسر ما استقر عليه من خمسة إلي عشرة، وعلي المتوسط من ثلاثة إلي خمسة بحسب ما يقع عليه التراضي، ليضيف كل واحد منهم القدر المشروط عليه في يساره وتسوطه فإن سوى بين الموسر والمتوسط في عدد الأضياف جاز مع المراضاة كما يجوز أن يسوى بينهم في دينار الجزية، فإن شرط علي جميع الناحية عددا من الأضياف كأنه شرط علي الناحية ضيافة ألف رجل جاز، واجتمعوا علي تقسيط الألف بينهم علي ما ينفقون عليه من تفاضل أو تساو، فإن اختلفوا، وتنازعوا إلينا، قسطت بينهم التساوي دون التفاضل، فإن كانت لهم جزية رؤوس تفاضلوا فيها، ففي اعتبار الضيافة بها وجهان: أحدهما: يتفاضلون في الضيافة بحسب تفاضلهم في جزية الرؤوس إذا جعلت الضيافة تبعا. والثاني: يتساوون في الضيافة، وإن تفاضلوا في الجزية إذا جعلت الضيافة أصلا. وأما الشرط الثاني: في أيام الضيافة: فالعرف والشرع فيها لكل ضيف ثلاثة أيام. أما العرف المشهور في الناس تقديرها بالثلاث. وأما الشرع: فلقول النبي صلي الله عليه وسلم "الضيافة ثلاثة أيام، وما زاد عليها مكرمة". وروى "صدقة"، ولأن الضيافة مستحقة للمسافر ومقامه في سفره ثلاث، وما زاد عليها مغير لحكم السفر إلي الإقامة والضيافة لا يستحقها مقيم، فإن زاد في الشرط علي ثلاث أو نقص منها كان الشرط أحق من مطلق الشرع والعرف، ويذكر عدد أيام الضيافة في السنة أنها مائة يوم أو اقل، أو أكثر ليكون أنفي الجهالة، فإن لم يذكر عدد الضيافة، وأيامها في السنة، واقتصر علي ذكر ثلاثة أيام عند قدوم كل قوم كان علي الوجهين في الضيافة: أحدهما: يجوز إذات جعلت تبعا. والثاني: لا يجوز إذا جعلت أصلا. وأما الشرط الثالث: فهو قدر الضيافة، فمعتبره من ثلاثة أوجه: أحدهما: جنس الطعام، وذلك غالب أقوالهم من الخبز والأدم، فإن كانوا يقتاتون الحنطة، ويتأدمون باللحم، فإن عليهم أن يضيفوهم بخبز الحنطة، وأدم اللحم. وإن كانوا يقتاتون الشعير، ويتأدمون بالألبان أضافوهم منه أو بما سوى ذلك مما هو غالب قوتهم وأدامهم، وإن كانت لهم ثمار وفواجه يأكلونها غالبا في كل يوم شرطها

عليهم في زمانها وليس للأضياف أن يكلفوهم ما ليس بغالب من أقواتهم، وأدامهم، ولا ذبح حملانهم ودجاجهم، ولا الفواكه النادرة والحلوى التي لا تؤكل في يوم غالبا ولا ما لم يتضمنه شرط صلحهم. والثاني: مقدار الطعام والأدام، وللطعام في الشرع أصل أكثره "مدان" من حب في فدية الأذي وأقله "مد" في كفارة الأيمان لأنه ليس يحتاج أحد في الأغلب إلي أكثر من "مدين" ولا يقتنع في الأغلب بأقل من مد و"المد" رطل وثلث، ويكون خبزه رطلين، والمدان أربعة أرطال خبزًا. فأما الإدام فلا أصل له في الشرع، فيكون مقداره معتبرا بالعرف الغالب يشرط لكل ضيف من الخبز كذا، فإن ذكر أقل من رطلين لم يقتنع، وإن ذكر أكثر من أربعة لم يحتج إليها، ولو شرط ثلاثة كان وسطا، ويذكر جنس الإدام، ومقداره للضيف في كل يوم، وإن كانت له دواب ذكر ما يعقله الواحد منها في كل يوم من التبن والقت والشعير بمقدار كاف، لا سر فيه ولا تقطير، فإن شرط علفها، وأطلقه علقت التبن والقت، ولا يلزمهم للأضياف أجرة حمام، ولا طبيب، ويشترط عليهم أن من انقطع مركوبه حملوه إلي أقرب بلاد الضيافة لهم، فإن لم يشترط عليهم لم يلزمهم. والثالث: السكن لحاجتهم إليه في الحر والبرد، فيشترط عليهم أن يسكنوهم من فضول منازلهم، وكنائسهم وبيعهم، ليكونوا فيها من حر وبرد، وكذلك لدوابهم. وقد كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلي الشام أن يؤخذ أهل الذمة بتوسيع أبواب كنائسهم وبيعهم، ليدخلها الراكب إذا نزلها، وليس للأضياف إخراجهم من مساكنهم إذا نزلوا عليهم، وإن ضاقت بهم ويثبت الإمام ما استقر من صلح هذه الضيافة في ديوان كل بلد من بلاد الضيافة، ليأخذهم عامل ذلك البلد بموجبه ثم يثبته في الديوان العام لثبوت الأموال كلها ليرفع إليه عند الحاجة إذا تنازع فيه المسلمون وأهل الذمة، وإن فقد الديوان، ولم يعرف فيه ما صولحوا عليه عمل ما يشهد به شاهدان من المسلمين، فإن لم يكن عندهم شهادة قبل فيه قول أهل الذمة إقرارا لا خبرا ولا شهادة، فإن عمل علي قولهم فيها ثم بان له زيادة رجع عليهم بها. مسألة: قال الشافعي: "ولا يؤخذ من امرأة ولا مجنون حتى يفيق ولا مملوك حتى يعتق ولا صبي حتى ينبت الشعر تحت ثيابه أو يحتلم أو يبلغ خمس عشرة سنة فيلزمه الجزية كأصحابه".

قال في الحاوي: ذكر الشافعي فيمن تسقط الجزية عنه أربعة أصناف النساء والمجانين والعبيد والصبيان. فأما النساء، فلا جزية عليهم لخروجهن عن المقاتلة، وتحريم قتلهن عند السبي، والله تعالي يقول: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التوبة: 29] وهن غير مقاتلات. وقد مر رسول الله صلي الله عليه وسلم في بعض غزواته بامرأة مقتولة، فقال "ما بال هذه تقتل وهي لا تقاتل" فذلك قلنا: إنه لا جزية عليها، سواء كانت ذات زوج يؤدي الجزية أو كانت خالية لا تتبع رجلا، وهكذا الخنثي المشكل لا جزية عليه، لجواز أن يكون امرأة، فلو بذلت امرأة من أهل الذمة الجزية عن نفسها، لم يلزم لخروجها من أهل الجزية، فإن دفعتها مختارة جاز قبولها منها، وتكون هدية لا جزية، فإن امتنعت من إقباضها لم تجبر علي دفعها، لأن الهدايا لا إجبار فيها وإذا نزل جيش المسلمين حصنا، فبذل نساؤه الجزية لم يخل حالهن من أمرين: أحدهما: أن يكون معهن رجال، فلا يصح عقد الجزية معهن، سواء بذلن الجزية من أموالهن أو من أموال رجالهن، لأنهن إن بذلنها من أموالهن، فليس من أهل الجزية، فلا تلزمن،، إن بذلنها من أموال رجالهن لم يلزم الرجال بعقد غيرهم. والثاني: أن ينفرد النساء في الحصن عن رجل مختلط بهن، ففي انعقاد الجزية معهن منفردات قولان حكاهما أبو حامد الإسفراييني وأشار إليهما أبو علي بن أبي هريرة توجيها: أحدهما: أنه لا تنعقد بهما الذمة لهن لخروجهن من أهل الجزية، فلم تنعقد معهم الجزية، فعلي هذا يصمم أمير الجيش علي حصارهن حتى يسبين: والثاني: تنعقد معهن الذمة بما بذلنه من الجزية ويحرم سبيهن لأنه لما كان إقرارهن بالجزية تبعا كان إقرارهن بما بذلنه منفردات أولي، فعلي هذا هل تلزمهن الجزية يبذلهن أم لا علي وجهين أشار إليهما ابن أبي هريرة: أحدهما: يلزمهن أداؤها بعد إعلامهن عند عقدها أنهن من غير أهلها فإن امتنعن من بذلها بعد لزومها خرجن عن الذمة. والثاني: أن لا يلزمهن أداؤها وتكون كالهدية تؤخذ منهن إذا أجبن إليها، ولا تؤخذ إذا امتنعن منها، وهل علي ذمتهن في حالتي الإجابة والمنع. وإذا اجتمع الرجال والنساء، فبذل الرجال الجزية عن أنفسهم ونسائهم نظر. فإن بذلوها من أموالهم جاز، ولزمهم ما بذلوه، وجري مجري زيادة بذلوها من

جزيتهم، ولا يؤخذ الرجال إلا بجزية أنفسهم دون نسائهم. فصل: وأما المجانين فلا جزية عليهم لارتفاع القلم عنهم، وأنهم في جملة الذراري ولا يقتل المجنون إذا سبي، هذا إذا كان جنونه مطبقا، فأما إذا جن في زمان، وأفاق في زمان، فقد قال أبو حنيفة: يراعي فيه أغلب حالتيه. فإن كان المجنون أكثر، فلا جزية، وإن كان أقل، فعليه الجزية. ومذهب الشافعي يلفق زمان الإفاقة قل أو كثر يستكمل حولا، فإن كان يجن يوما ويفيق يوما أخذت منه جزية سنة من سنتين وإن كان يجن يومين ويفيق يوما أخذت منه جزية سنة من ثلاث سنين، وإن كان يجن يوما، ويفيق يومين أخذت منه جزية سنة من سنة ونصف، ثم علي هذا القياس، لأنه لما اختلف حكم الإفاقة، وحكم الجنون كان تميزها أولي من تغليب أحدهما، لأن في التمييز جمعا بين الحكمين وفي تغليب الأكثر إسقاط أحدهما. فصل: وأما العبيد، فلا جزية عليهم، لما روي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: "لا جزية علي العبيد". وقال عمر: لا جزية علي مملوك. ولأنهم تبع لساداتهم، ولأنهم لا يملكون، فكانوا أسوأ حالا من الفقراء، ولأنهم مماليك، فكانوا كسائر الأموال، وكذا لا جزية علي مدبر، ولا مكاتب، ولا أم ولد، لأنهم عبيد، ولا جزية علي من بعضه حر وبعضه مملوك، لأن أحكام الرق عليه أغلب. وقيل: إنه يؤدي من الجزية بقدر ما فيه من الحرية، لأنه يملك بها، فإذا أعتق العبد علي كفره، وكان من أهل الكتاب اسؤنفت جزيته، وسواء أعتقه مسلم أو كافر. وقال مالك: إن عتقه مسلم، فلا جزية عليه، لحرمة ولائة، وهذا خطأ، لأن حرمة النسب أغلظ، ولا تسقط الجزية بإسلام الأب، فكان أولي أن لا تسقط بإسلام المعتق، لكن إن كان المعتق مسلما استؤنفت جزيته عن مراضاة، وإن كان معتقه ذميا، ففيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يلزمه جزية معتقه، لأنها لزمته بعتقه. والثاني: يلزمه جزية عصبته، لأنهم أخص بميراثه ونصرته.

والثالث: أنه لا يلزمه إلا ما استأنف الصلح عليه بمراضاته، ليفرده بها من غيره فإن امتنع منها بنذر إليه عهده، ثم صار حرا، وعلي الوجهين الأولين تؤخذ منه جبرا. فصل: وأما الصبيان، فلا جزية عليهم لارتفاع القلم عنهم، ولأن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال لمعاذ: "خذ من كل حالم دينارا" فدل علي سقوطها عن غير الحالم، ولأنهم من غير أهل القتال، ولأنهم يسترقون إذا سبوا، فصاروا أموالا، فإذا بلغوا وجبت عليهم الجزية. والظاهر من مذهب الشافعي أنهم لا يلتزمون جزية آبائهم من غير استئناف عقد معهم، لأنهم خلف لسلفهم. وقال أبو حامد الإسفراييني: لا تلزمهم جزية آبائهم، ويستأنف معهم عقدها عن مراضاتهم، إما بمثلها أو بأكثر أو أقل إذا لم ينقص عن الدينار، وهذا وهم فيه يفسد من وجهين: مذهب، وحجاج. أما المذهب: فإن الشافعي قد جعل جزية الولد إذا اختلفت جزية أبوية أن جزيته جزية أبيه دون أمه. وأما الحجاج: فمن وجهين: أحدهما: أنهم لما كانوا تبعا لآبائهم في أمان الذمة كانوا تبعا لهم في قدر الجزية. والثاني: أن عقد الذمة مؤبد، وهذا يجعله مؤقتا يلزم استئنافه مع بلوغ كل ولد، وفيه أعظم مشقه، وما فعله أحد من الأئمة. فأما البلوغ: فيكون بالاحترام، وباستكمال خمس عشرة سنة، ويحكم ببلوغه بإنبات الشعر، لأن سعد بن معاذ حكم في بني قريظة أن من جرت عليه المواسي قتل، ومن لم تجر عليه استرق. فقال النبي صلي الله عليه وسلم: "هذا حكم الله من فوق سبعة أرقعة". وهل يكون ذلك بلوغا فيهم كالسن والاحتلام، أو يكون دليلا علي بلوغهم، فيه قولان مضيا. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا، وبلغ الصبي، وأعتق العبد، وأفاق المجنون نظر. فإن كان ذلك في أول الحول: فقد ساووا أهل دينهم في حول جزيتهم، وإن كان ذلك في تضاعيف الحول مثل أن يكون قد مضي من الحول نصفه قيل لهم: لا يمكن أن يستأنف لكم حول غير حول أهل دينكم لأنه شاق، وأنتم بالخيار إذا حال حول الجماعة وقد مضي لكم من الحول نصفه بين أن تعطوا جزية نصف سنة ثم يستأنف لكم الحول مع

الجماعة، وبين أن تتعجلوا جزية سنة حتى تؤخذ منكم في السنة الثانية جزية نصف سنة، وبين أن تستنظروا بجزية نصف هذه السنة حتى تؤخذ منكم مع الجزية السنة الثانية إذا تمت جزية سنة ونصف فاق هذه الثلاثة سألوها أجيبوا إليها. مسألة: قال الشافعي: "ويؤخذ من الشيخ الفاني والزمن". قال في الحاوي: وهذا مبني علي إباحة قتل من أسر منهم، وقد اختلف قول الشافعي في إباحة قتل الرهبان، وأصحاب الصوامع، والأعمى ومن لا نهضة فيه من الشيوخ والزمني الذين لا يقاتلون إما لتعبد كالرهبان أو لعجز كالشيخ الفاني، ففي جواز قتلهم قولان: أحدهما: يجوز قتلهم، لأنهم من جنس مباح القتل، ولأنهم كان رأيهم، وتدبيرهم أضر علينا من قتال غيرهم، فعلي هذا لا يقرون في دار الإسلام إلا بجزية. والثاني: أنه لا يجوز قتلهم، لأن القتل للكف عن القتال، وقد كفوا أنفسهم عنه، فلم يقتلوا، فعلي هذا يرون بغير جزية وهو مذهب أبي حنيفة فصار في إقرارهم بغير جزية قولان. فصل: فأما يهود خيبر، فالذي عليه الفقهاء أنهم ممن أخذ الجزية منهم كغيرهم، وقد تظاهروا في هذا الزمان بأمان رسول الله صلي الله عليه وسلم في كتاب نسبوه إليه وأسقطوا به الجزية عن نفوسهم، ولم ينقله أحد من رواه الأخبار، ولا من أصحاب المغازي، ولم أر لأحد من الفقهاء في إثباته قولا غير أبي علي بن أبي هريرة فإنه جعل مساقاة رسول الله صلي الله عليه وسلم في نخل خيبر حين افتتحها، وقوله لهم: "أقركم ما أقركم الله" أمانا، وجعلهم بالمساقاة حولا، وأن بهذين سقطت الجزية عنهم، وهذا قول تفرد به لا أعرف له موافقا عليه، وليس الأمان موجبا لسقوط الجزية، لأنها تجب الأمان، فلم تسقط به، ولا تسقط بالمعاملة كما لا تسقط بها جزية غيرهم، ولو جاز هذا فيهم لكان من أهل فدك أجوز، لأنه فتحها صلحا وفتح خيبر عنوة، وأحسب أبا علي بن أبي هريرة لما رأي الولاة، علي هذا أخرج لفعلهم وجهًا، وما لم يثبته الفقهاء لنقل أوجب التخصيص فحكم العموم فيه أمضي والله أعلم.

مسألة: قال الشافعي: "ومن بلغ وأمه نصرانية وأبوه مجوسي أو أمه مجوسيه وأبوه نصراني فجزيته جزية أبيه لأن الأب هو الذي عليه الجزية لست أنظر إلي غير ذلك". قال في الحاوي: وجملته أنه إذا اختلف حكم أبوي الكافر في حكم كفرهما المتعدي عنهما إلي ولدها، تعلق باختلافهما أربعة أحكام. أحدهما: الجزية. والثاني: النكاح والذبيحة. والثالث: عقد الذمة. والرابع: الدية. فأما الحكم الأول: وهو الجزية، فهو أن يكون أبوه نصرانيا له جزية، وأمه يهودية لقومها جزية أخري، فجزية الولد جزية أبيه دون أمه سواء قلت جزية أبيه أو كثرت لأمرين: أحدهما: أنه داخل في نسب أبيه دون أمه، فدخل في جزيته دونها. والثاني: أن الجزية علي أبيه دون أمه، فدخل في جزية من تجب عليه الجزية دون من لا تجب عليه. وأما الحكم الثاني: وهو استباحة النكاح والذبيحة، وهو أن يكون أحد أبويه يهوديا، والآخر مجوسيا، فينظر. فإن كان أبوه مجوسيا وأمه نصرانية، لم تحل ذبيحة الولد ولم ينكح إن كان امرأة تغليبا لحكم الحظر واعتبارا بلحوق النسب. وإن كان أبوه نصرانيا، وأمه مجوسية، ففيه قولان: أحدهما: يعتبر بأبيه واستباحة نكاحه، وأكل ذبيحته، تعليلا بلحوق النسب به. والثاني: يعتبر بأنه في خطر نكاحه، وتحريم ذبيحته، تعليلا لتغليب الحظر علي الإباحة. وأما الحكم الثالث: وهو عقد الذمة، فهو أن يكون أحد أبويه كتابيا يقر بالجزية، وثنيا لا يقر بالجزية، فقد اختلف كلام أصحابنا فيه، لأن الشافعي عطف به علي استباحة النكاح والذبيحة عطفا مرسلا، فخرج عن اختلافهم فيه أربعة أوجه: أحدهما: أن يكون في ذمته ودينه ملحقا بأبيه دون أمه اعتبارا بنسبه، فعلي هذا إن كان أبوه كتابيا، فهو كتابي يقر بالجزية، وإن كان وثنيا فهو وثني لا يقر بالجزية.

والثاني: أن يكون في دينه ملحقا بأمه دون أبيه اعتبارا بجزيته ورقه في لحوقه بأمه دون أبيه، ولحدوثه عن اختلاف الدين، فعلي هذا إن كانت أمه كتابيه، فهو كتابي يقر بالجزية، وإن كانت وثنية، فهو وثني لا يقر بالجزية. الثالث: أن يلحق بأثبتهما دينا كما يلحق بالمسلم منهما دون الكافر، فعلي هذا إن كان أبوه كتابيا وأمه وثنية ألحق بأبيه، وجعل كتابيا يقر بالجزية، وإن كانت أمه كتابية، وأبوه وثنيا ألحق بأمه، وجعل كتابيا يقر بالجزية. والرابع: أن يلحق بأغلظهما كفرا، لأن التخفيف رخصة مستثناة، فعلي هذا أيهما كان في دينه وثنيا، فهو وثني لا يقر بالجزية سواء كان الوثني منهما أبا أو أما، وهو ضد الوجه الثالث كما أن الوجه الثاني ضد الوجه الأول. وأما الحكم الرابع، وهو الدية: إذا قتل، فهو أن يكون أحد أبويه نصرانيًا والآخر مجوسيًا، فهو ملحق في الدية بأكثر أبويه دية سواء كان أبًا وأمًا، نص عليه الشافعي في "الأم". والفرق بين الدية والنسب من وجهين: أحدهما: أن الدية لما اختلفت باختلاف الدين، ولم تختلف باختلاف النسب، وكان في الدين ملحقا بالمسلم منهما تغليظا كان في الدية ملحقا بأغلظهما دية. والثاني: أن ما أوجب ضمان النفوس كان معتبرا بأغلظ الحكمين كالمحرم إذا قتل ما تولد من بين وحشي وأهلي أو مأكول، ومحظور لزمه الجزاء تغليظا. مسألة: قال الشافعي: "فأيهم أفلس أو مات فالإمام غريم يضرب مع غرمائه". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا مات الذمي أو أفلس بعد الحول لم تسقط عنه الجزية بموته وفلسه، وأسقطها أبو حنيفة بموته احتجاجا بأن الجزية عقوبة تسقط عن الميت كالحدود، لأنه يخرج بالموت من أهل القتال، فوجب أن تسقط عنه الجزية كالنساء والصبيان. ودليلنا: هو أنه مال استقر قبوله في ذمته، فلم يسقط بموته كالديون ولأن الجزية عوض عن حقن دمه، وإقراره في دار الإسلام علي كفره، فلم يسقط ما وجب منها بموته كالأجور. فأما الجواب عن اعتبارهم بالحدود، فهو أن الحد متعلق بالبدن، فسقط بالموت كالقصاص والجزية متعلقة بالمال، فلم تسقط بالموت كالدية. وأما الجواب عن

استدلالهم بخروجه من أهل القتال، فهو أنها تؤخذ على ما مضى في حياته، وقد كان فيه من أهل القتال. فإذا تقرر أنها لا تسقط بالموت والفلس، كانت كالديون المستقرة تقدم على الوصايا، والورثة، ويساهم فيها الغرماء بالحصص، ويكون ما عجز المال عنها دينًا في ذمة المفلس، وثابتًا على الميت. وهكذا لو زمن أو عمي أو جن لم يسقط عنه، وأسقطها أبو حنيفة عنه، ودليله ما قدمناه. مسألة: قال الشافعي: "وإن أسلم وقد مضى بعض السنة أخذ منه بقدر ما مضى منها". قال في الحاوي: وهذا صحيح، وإذا أسلم الذمي بعد وجوب الجزية عليه لم تسقط بإسلامه. وقال أبو حنيفة: تسقط عنه بإسلامه استدلالًا بقول الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. والمسلم لا صغار عليه، وبقوله تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِن يَنتَهُوا يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال:38]، وقد انتهى بالإسلام، فوجب أن يغفر له ما سلف من الجزية. وبما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الإسلام يجب ما قبله". وبما روى محارب بن دثار عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا جزية على مسلم" وهذا نص. ومن القياس: أنها عقوبة تتعلق بالكفر، فوجب أن تسقط بالإسلام كالقتال. ولأن الجزية تأخذ منه صغارًا وذلة، والمسلم لا صغار عليه، فوجب سقوطها عنه. ودليلنا: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الزعيم غارم" وقد ضمنها، فوجب أن يلزمه غرمها. ومن القياس: أنه مال استقر ثبوته في ذمته، فوجب أن لا يسقط بإسلامه كالديون. فإن قيل: يبطل بالزوجين الوثنيين إذا أسلم الزوج منهما قبل الدخول سقط عنه صداقها بإسلامه.

قيل: صداقها إنما بطل بوقوع الفرقة كما يبطل صادقها بالردة، لوقوع الفرقة ألا ترى من تكلم من في صلاته، فبطلت بكلامه حل له الكلام يبطلان الصلاة لا بالكلام؟ فإن قيل: إنما لم يسقط عنه الدين بإسلامه، لأنه يجوز أن يثبت ابتداؤه في إسلامه، وسقطت الجزية بإسلامه، لأنه لا يجوز أن يثبت ابتداؤها في إسلامه. فالجواب عنه: أنه تبطل علة الأصل بالموت، لأنه يمنع من ابتداء الدين، ولا يمنع من استدامته، وتبطل علة الفرع بالاسترقاق، ويمنع الإسلام من ابتدائه، ولا يمنع من استدامته، ولأن الجزية والخراج مستحقان بالكفر، لما لم يسقط بالإسلام ما وجب من الخراج لم يسقط به ما وجب من الجزية. وتحريره قياسًا: أنه مال مستحق بالكفر، فلم تسقط ما وجب منه بالإسلام كالخراج، وعبر عنه بعض أهل خراسان بأن ما وجب على الكافر بالالتزام لم يسقط بالإسلام كالخراج، ولأن الجزية معاوضة عن حقن الدم والمساكنة، فلم يسقط ما وجب منها بالإسلام كالأجرة. وأما الجواب عن قوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. فهو أن الصغار علة في الوجوب دون الأداء، ووجوبها يسقط بالإسلام، وأداؤها لا يسقط. وأما الجواب عن قوله تعالى: {يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] فهو أن الغفران مختص بالآثام دون الحقوق. وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يجب ما قبله" فهو أنه يقطع وجوب ما قبله، ولا يرفع ما وجب منه. وأما الجواب عن قوله: "لا جزية على مسلم" فهو أنه محمول على ابتداء الوجوب دون الاستيفاء. وأما الجواب عن قياسهم على القتل، فهو أن الجزية معاوضة، وليست عقوبة، ثم هو منتقض بالاسترقاق لا يبطل بالإسلام، وإن وجب بالكفر، ثم المعنى في القتل أنه وجب بالإصرار على الكفر، وقد زال الإصرار بالإسلام، فلذلك سقط. والجزية وجبت معاوضة عن المساكنة لم تنزل، فلم تسقط بالإسلام. وأما الجواب عن قولهم: إنهم صغار، فهو أنه منتقض بالاسترقاق، وبالخراج، ويفسد بالحدود، وهي عقوبة وإزلال، ولا تسقط بالعقوبة بعد الوجوب على أن الصغار عليه، في الوجوب دون الاستيفاء وقد يمنع الإسلام من وجوب ما لا يمنع من استيفائه كذلك الجزية. فصل: فإذا ثبت أن الإسلام لا يسقط ما وجب من الجزية، لم يخل إسلامه من أن يكون

بعد انقضاء الحول أو من تضاعيفه. فإن كان بعد انقضاء الحول واستقرار الوجوب استوفيت منه جبرًا وحبس بها إن امتنع. وإن كان إسلامه في تضاعيف الحول سقطت عنه جزية ما بقي من الحول وهل تؤخذ منه جزية ما مضى قبل إسلامه أم لا؟ على قولين من اختلاف قول الشافعي في حول الجزية: هل هو مضروب للوجوب أولًا. فأحد قوليه: أنه مضروب للوجوب، كالحول في الزكاة، فعلى هذا لا جزية عليه فيما مضى منه قبل إسلامه. والثاني: أنه مضروب للأداء كالحول في عقل الدية، فعلى هذا تجب عليه جزية ما مضى قبل إسلامه. وخالف أبو حنيفة القولين معًا، وقال: الجزية تجب بأول الحول، وتؤخذ في أوله، وليس الحول فيها مضروبًا للوجوب، ولا للأداء، وإنما هو مضروب لانقضاء مدتها، احتجاجًا بقول الله تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ} [التوبة:29] إلى قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29]. فأمر بالكف عن قتالهم بإعطاء الجزية، فدل على استحقاقها بالكف عنهم دون الحول. والدليل على أنها لا يتعلق بأول الحول وجوبها، ولا أداؤها، ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كتب إلى أهل اليمن أن تؤخذ جزية أهل الكتاب من كل حالم، دينارًا في كل سنة، فاقتضى أن يكون وجوبها وأداؤها بعد انقضاء السنة، ولأنه مال يتكرر وجوبه في كل حول، فوجب أن لا يلزم أداؤه قبل انقضاء حوله كالزكاة والدية العاقلة. فأما الجواب عن الدية، فهو أن المراد بإعطاء الجزية ضمانها دون دفعها، لأجماعنا على أنه إذا ضمنوا الجزية حرم قتلهم قبل دفعها. فصل: وإذا تعذر أخذ الجزية من الذمي حتى مضت عليه سنوات لم تتداخل، وأخذت منه جزية ما مضى من السنين كلها. وقال أبو حنيفة: تتداخل، ولا يؤخذ منه إلا جزية سنة واحدة، استدلالًا بأن الجزية عقوبة، فوجب أن لا تتداخل كالحدود. ودليلنا: هو أنها مال يتكرر وجوبه في كل حول، فوجب أن لا يتداخل كالزكاة والدية على العاقلة، ولأن الجزية معاوضة عن حقن الدم والمساكنة، فوجب أن لا تتداخل كالأجرة. وأما الجواب عن قياسه على الحدود مع انتقاضه بمن أفطر بجماع في شهر

رمضان، ثم أفطر فيه في يوم ثان، لم تتداخل الكفارتان وإن كانتا من جنس واحد، فهو أن المعنى في الحدود أن لا مال فيها، فجاز أن تتداخل كالقطع في السرقة، والجزية مال، فلم تتداخل كالمال فيها، فإذا ثبت هذا، وغاب الذمي سنين، ثم عاد مسلمًا، وادعى تقدم إسلامه، وسقوط جزيته في جميع مدته، قال الشافعي: قبل قوله في سقوطها عنها، وأحلف إن اتهم. قال الربيع: وفيها قول آخر: أنه لا يقبل منه إلا ببينة، لأنها على أصل الوجوب، فلم تسقط بمجرد الدعوى. والأشبه أنه قال مذهبًا لنفسه، وليس يصح، لأنه خلف في أصل الوجوب، والأصل براءة الذمة، والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي: " ويشترط عليهم أن من ذكر كتاب الله تعالى أو محمدًا صلى الله عليه وسلم أو دينِ الله بما لا ينبغي أو زنى بمسلمةٍ أو أصابها باسم نكاح أو فتن مسلمًا عن دينه أو قطع عليه الطريق أو أعان أهل الحرب بدلالةٍ على المسلمين أو آوى عينًا لهم فقد نقض عهده وأحل دمه وبرئت منه ذمة الله تعالى وذمة رسوله عليه الصلاة والسلام، ويشترط عليهم أن لا يسمعوا المسلمين شركهم وقولهم في غريرٍ والمسيح ولا يسمعونهم ضرب ناقوسٍ وإن فعلوا عزروا ولا يبلغ بهم الحد". قال في الحاوي: وجملته أن المقصود بعقد الجزية تقوية الإسلام، وإعزازه وإضعاف الكفر وإذلاله ليكون الإسلام أعلى والكفر أخفض، كما قال النبي صلى الله عليه سلم: "الإسلام يعلو ولا يعلى"، فكل ما دعا إلى هذا كان الإمام مأمور باشتراطه عليهم، وما يؤخذون به من ذلك في عقد جزيتهم ينقسم خمسة أقسام: أحدها: ما وجب بالعقد دون الشرط. والثاني: ما وجب بالشرط، واختلف في وجوبه بالعقد. والثالث: ما لم يجب بالعقد، ووجب الشرط. والرابع: ما لم يجب بالعقد، واختلف في وجوبه بالشرط. والخامس: ما لم يجب بعقد ولا شرط. فأما القسم الأول: وهو ما وجب بالعقد، وكان الشرط فيه مؤكدًا لا موجبًا فثلاثة أشياء: أحدها: التزام الجزية، لقول الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}

[التوبة:29]. أي يضمنوها. والثاني: التزام أحكامها بالإسلام فيما أجابوه من المسلمين لقوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة:29] والصغار: أن تجري أحكام الإسلام عليهم. والثالث: أن لا يجتمعوا على قتال المسلمين، ليكونوا آمنين منهم كما أمنوهم نقضًا لعهدهم، فلو قاتل المسلمين بعضهم، وقعد عنهم بعضهم انتقض عقد المقاتل، ونظر في القاعد، فإن ظهر منه الرضا كان نقضًا لعهده، وإن لم يظهر منه الرضا كان على عهده، ولو امتنعوا جميعًا من بذل الجزية كان نقضًا لعهدهم سواء امتنعوا جميعًا من التزامها أو من أدائها وإن امتنع واحد منهم من بذلها نظر، فإن امتنع من التزامها كان نقضًا لعهده كالجماعة، وإن امتنع من أدائها مع بقائه على التزامها لم يكن نقضًا لعهده، وأخذت منه بخلاف الجماعة، لأن إجبار الجماعة عليها متعذر، وإجبار الواحد عليها ممكن. وقال أبو حنيفة: لا ينتقض عهدهم إذا امتنعوا من أدائها، وينتقض إذا امتنعوا من بذلها كالآحاد، وفيما ذكرنا من الفرق. وأما القسم الثاني: وهو ما وجب بالشرط، واختلف في وجوبه بالعقد وهو ما منعوا منه لتحريمه، وذلك ستة أشياء: أحدها: أن لا يذكروا كتاب الله بطعن عليه ولا تحريف له. والثاني: أن لا يذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بتكذيب له، ولا إزراء عليه. الثالث: أن لا يذكروا دين الله بذم له، ولا قدح فيه. والرابع: أن لا يفتنوا مسلمًا عن دينه، ولا يتعرضوا لدمه أو ماله. والخامس: أن لا يصيبوا مسلمة بزنا، ولا باسم نكاح. والسادس: أن لا يعينوا أهل الحرب، ولا يؤوا عينًا لهم، ولا ينقلوا أخبار المسلمين إليهم. فهذه الستة تجب بالشرط، وفي وجوبها بالعقد قولان: أحدهما: تجب بالعقد، ويكون الشرط تأكيدًا، تعليلًا بدخول الضرر بها على المسلمين، فعلى هذا إن خالفوها انتقض عهدهم. والثاني: إنها لا تجب بالعقد، تعليلًا بدخولهم تحت القدرة، وخروجها عن لوازم الجزية، لكنها تلزم بالشرط، لتحريمها، وظهور الضرر بها، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم"، فعلى هذا إن خالفوها بعد اشتراطها، ففي انتقاض عهدهم بها قولان: أحدهما: ينقض بها عهدهم للزومها بالشرط. والثاني: لا ينتقض بها عهد، لخروجها عن لوازم العقد.

أما القسم الثالث: وهو ما لا يجب بالعقد، ويجب بالشرط، وهو ما منعوا منه، لأنه منكر، فذلك ستة أشياء: أحدها: أن لا يعلو على المسلمين في الأبنية، ويكونوا إن لم ينخفضوا عنهم مساوين لهم. والثاني: أن لا يحدثوا في بلاد الإسلام بيعة، ولا كنيسة، وإن أقروا على ما تقدم من بيعهم وكنائسهم. والثالث: أن لا يجاهروا المسلمين بإظهار صلبانهم. والرابع: أن لا يتظاهروا بشرب خمورهم، وخنازيرهم، ولا يسقوا مسلمًا خمرًا ولا يطعمونهم خنزيرًا. والخامس: أن لا يتظاهروا بما قدره الشرع من قولهم: عزيز ابن الله، والمسيح. والسادس: أن لا يظهروا بتلاوة ما نسخ من كتبهم، ولا يظهروا فعل ما نسخ من صلواتهم وأصوات نواقيسهم. فهذه ستة تجب عليهم بالشرط، لأنها مناكير لزم المنع مناه بالشرع، فإن خالفوها، ففي بطلان عهدهم بها قولان على ما مضى. وأما القسم الرابع: وهو ما لم يجب بالعقد، واختلف في وجوبه بالشرط، وهو ما منعوا منه، لتطاولهم به، وذلك ستة أشياء: أحدها: أن يمنعوا من ركوب الخيل عتاقًا، وهجانًا، ولا يمنعوا من ركوب البغال والحمير. والثاني: تغيير هيئاتهم، بلبس الغبار وشد الزنار، ليتميزوا من المسلمين باختلاف الهيئة، ولواحدة نسائهم إذا برزت بأن يكون أحد الخفين أحمر، والآخر أسود ليتميز به نساؤهم. وأن يكون على أبوابهم أثر يتميز بها دورهم، فقد أخذ عمر رضي الله عنه، بعض أهل الذمة بذلك، فكان أولى. والثالث: أن يخفوا دفن موتاهم، ولا يظهروا إخراج جنائزهم. والرابع: أن لا يظهرا على موتاهم لطمًا، ولا ندبًا، ولا نوحًا. والخامس: أن لا يدخلوا مساجدنا صيانة لها منهم. والسادس: أن لا يتملكوا من رقيق المسلمين عبدًا، ولا أمة، لئلا يذلوهم بالاسترقاق، ويحملوهم على الارتداد. فهذه الستة إن لم تشترط عليهم لم تلزمهم، وفي لزومها إذا شرطت عليهم وجهان: أحدهما: لا تلزم لخروجها على محرم ومنكر، فعلى هذا إن خالفوها بعد

اشتراطها، عزروا عليها، ولم ينتقض بها عهدهم. والثاني: أنها تلزم بالشرط، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يعلى عليه" فعلى هذا إذا خالفوها بعد الشرط، فعلى انتقاض عهدهم بها قولان على ما مضى. فأما القسم الخامس: وهو ما لا يجب بعقد، ولا شرط، وهو ما زاد على إذلالهم. وذلك ستة أشياء: أحدها: أن لا يعلو أصواتهم على المسلمين. والثاني: أن لا يتقدوا عليهم في المجالس. والثالث: لا يضايقوهم في الطريق، ولا يمشوا فيها إلا أفرادًا متفرقين. والرابع: أن يبدؤهم بالسلام، ولا يساووهم في الرد، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اضطروهم إلى أضيق الطرق، ولا تبدءوهم بالسلام". والخامس: إذا استعان بهم مسلم فيما لا يستضروا به أعانوه. والسادس: أن لا يستبدلوا المسلمين من مهن الأعمال بأجر ولا تبرع. فهذه الستة تشترط عليهم إذلالًا لهم، فإن خالفوها لم ينتقض بها عهدهم، وجبروا عليها، إن امتنعوا منها، فإن أقاموا على الامتناع عزروا. فصل: فإذا تقرر ما ينتقض به العهد، ولا ينتقض، فإن لم ينتقض به عهدهم أخذوا بما وجب عليهم من الحقوق، وأقيم من قتل، ولزمه من حدّ، وقوموا به من تأديب وإن انتقض عهدهم، نظر حالهم بعد نقضهم، فإن قاتلوا بطل أمانهم، وكانوا حربًا يقتلون، ويسترقون، وإن لم يقاتلونا ففي بطلان أمانهم بانتقاض عهدهم قولان: أحدهما: نص عليه في كتاب الجزية أن أمانهم لا يبطل بنقض العهد، لأنه مستحق في عقد، فالتزمنا حكمه، وإن لم يلتزموه. ولا يجوز بعد نقض العهد أن يقروا في دار الإسلام لزم أن يبلغوا مأمنهم، ثم يكونوا بعد بلوغ مأمنهم حربًا. والثاني: نص عليه في كتاب النكاح من الأم أن أمانهم قد بطل، لأنه مستحق بالعهد، فبطل بانتقاضه ما استحق به كسائر العقود، فعلى هذا قد صاروا ببطلان الأمان حربًا، يجري عليهم حكم الأسرى إما الاسترقاق أو المنّ، أو الفداء، فلو أسلموا قبلها سقطت عنهم، ولم يجز أن يسترقوا، ويفادوا إسلامهم، وإن جاز استرقاق الأسير المحارب بعد إسلامه، لأن لهؤلاء أمانًا متقدمًا لم يكن للأسير، فصار حكمهم به أضعف وأخف من الأسير.

وأما أمان ذراريهم من النساء والصبيان، ففي بطلان أمانهم وجهان: أحدهما: يبطلن لأنهم تبع في لزومه، فكانوا تبعًا في بطلانه، فيصيروا سببًا. والثاني: وهو أظهر - أن أمانهم لا يبطل لاستقراره فيهم، فلم يبطل ببطلانه في غيرهم، فلا يجوز أن يسبوا، ويجوز إقرارهم في دار الإسلام، فإن سألوا الرجوع لدار الحرب أعيد الصبيان، لأن لا حكم لاختيار من لم يبلغ، وأقام الصبيان حتى يبلغوا، ثم يخاطبوا بالجزية، فإن التزموها استؤنف عهدهم عليها، وإن امتنعوا منها بلغوا مأمنهم، ثم كانوا حربًا، فإن لم يبلغ الصغار مطلبهم أهلوهم من دار الحرب نظر. فإن كان طالبهم هو المستحق لحضانتهم أجيب إلى ردهم عليه، وإن كان غير المستحق لحضانتهم منع منهم. مسألة: قال الشافعي: "ولا يحدثوا في أمصار الإسلام كنيسة ولا مجمعًا لصلاتهم ولا يُظهروا فيها حمل خمرٍ ولا إدخال خنزيرٍ". قال في الحاوي: وهذا قد دخل في جملة القسم الثالث من منكراتهم، فيمنعوا من إحداث البيع والكنائس في أمصار المسلمين، لما روي مسروق عن عبد الرحمن بن غنم قال: لما صالح عمر بن الخطاب نصارى الشام كتب لهم كتابًا، فذكر فيه أنهم لا يبنون في بلادهم، ولا فيما حولها ديرًا ولا كنيسة، , ولا صومعة راهب وأن لا يمنعوا المارة من المسلمين وأبناء السبيل، وأن لا يجدوا ما خرب منها - ذكره أبو الوليد في المخرج على كتاب المزني، ولأن إحداثها معصية، لاجتماعهم فيها على إظهار الكفر، ولذلك أبطلنا الوقوف على البيع والكنائس، وعلى كتب التوراة والإنجيل، ولأنهم يقتطعون ما بنوه من غير إظهار الإسلام فيها، ويجب أن يكون الإسلام في دار الإسلام ظاهرًا، فلهذه الأمور الثلاثة منعوا. فإذا تقرر أن حكم بلاد الإسلام موضوعة على هذا لم يخل حالهم من ثلاثة أقسام: أحدها: ما أحياه المسلمون. والثاني: ما فتحوه عنوة. والثالث: ما فتحوه صلحًا. فأما القسم الأول: وهو ما ابتدأ المسلمون إنشاءه في بلاد الإسلام من موات لم يجر عليه ملك كالبصرة والكوفة، فلا يجوز أن يصالح لأهل الذمة في نزولها على إحداث بيعة ولا كنيسة فيها، لأنه لا يجوز أن يصالحوا على ما يمنع من الشرع، ويكون خارجًا

من جملة صلحهم، وإن تمسكوا فيه بعقد الصلح قيل لهم: إن رضيتم بإبطال هذا منه، وإلا نقضنا عهدكم، وبلغناكم مأمنكم، ولا يبطل آمانهم نقضًا بعهدهم لأنن نحن نقضناه بما منع الشرع منه. فإن قيل: فقد نرى في هذه الأمصار بيعًا وكنائس كالبصرة والكوفة وبغداد، وهو مصر إسلامي بناه المنصور. قلنا: إن عملنا أنها أحدثت وجب هدمها، وإن علمنا أنها كانت قديمة في المصر قبل إنشائه لأن النصارى قد كانوا يبنون صوامع وديارات، وبيعًا في الصحاري ينقطعون إليها، فتقر عليهم، ولا تهدم، وإن أشكل أمرها، أقرت استصحابًا، لظاهر حالها. وأما القسم الثاني: وهو ما فتحه المسلمون عنوة من بلاد الشرك، فلا يجوزن أن يصالحوا على استئناف بيع وكنائس فيها، فأما ما تقدم من بيعهم وكنائسهم، فما كان منها خرابًا عند فتحها لم يجز أن يعمروه، لدروسها قبل الفتح، فصارت كالموات. فأما العامر من البيع والكنائس عند فتحها، ففي جواز إقرارها عليهم إذا صولحوا وجهان: أحدهما: يجوز إقرارها عليهم لخروجها عن أملاكهم المغنومة، وهو الصحيح، ولذلك أقرت البيع والكنائس في بلاد العنوة. والثاني: يملكها المسلمون عليهم، ويزول عنها حكم البيع والكنائس وتصير ملكًا لهم مغنومًا لا حق فيها لأهل الذمة، لأنه ليس لما ابتنوه منها حرمة، فدخلت في عموم المغانم، فعلى هذا إن يبعث عليهم، لتكون على حالها بيعًا وكنائس لهم، ففي جواز وجهان: أحدهما: يجوز استصحابًا لحالها. والثاني: لا تجوز لزوالها عنهم بملك المسلمين لها، فصارت كالبناء المبتدأ. وأما القسم الثالث: وهو ما فتحه المسلمون صلحًا، فضربان: أحدهما: أن نصالحهم على أن يكون ملك الدار لنا دونهم، ويسكنون معنا فيها بالجزية فينظر في بيعهم وكنائسهم، فإن استثنوها في صلحهم أقرت عليهم، لأن الصلح يجوز أن يقع عامًا في جميع أرضهم، وخاصًا في بعضهم، فيقروا عليهم بالصلح، يمنعوا من استحداث غيرها، وإن لم يستثنوها في صلح صارت كأرض العنوة هل يملك المسلمون بيعهم وكنائسهم إذا فتحوها؟ على ما تقدم من الوجهين. ويكون حكم هذا البلد في منع أهل الذمة في الأقسام الخمسة على ما قدمنا من أحكامنا. والثاني: أن يصالحهم على أن يكون ملك الدار له دوننا على جزية يؤدونها إلينا،

عن رؤوسهم أو عن أرضهم أو عنهما جميعًا فيجوز أن يقروا على بيعهم وكنائسهم، ويجوز أن يستأنفوا فيها إحداث بيع وكنائس، إنه لم يجز عليها للمسلمين ملك. فأما الأقسام الخمسة التي يؤخذ أهل الذمة في بلاد الإسلام، فيؤخذ هؤلاء في بلدهم بقسمين منها، وهو الأول والثاني، لأن الأول هو المقصود بعقد الجزية وهي الأحكام الثلاثة، لأنهم قد صاروا بهذا الصلح من أهل الجزية. وبالقسم الثاني: وهي الشروط الستة، لأنها محرمات منع الشرع منها. فأما الأقسام الثلاثة الباقية من منكراتهم واستغلائهم، فلا يؤخذوا بها، ولا يمنعوا منها، لأنها دارهم، وهي دار منكر في معتقد وفعل، فكان أقل أحوالهم فيها أن يكونوا مقرين على ما يقرون عليه في بيعهم وكنائسهم في بلاد الإسلام. فصل: فإذا تقرر ما ذكرنا من حكم البيع والكنائس التي لا يجوز أن تستحدث، فهي ما كانت مجمعًا لصلواتهم، وما اختص بعباداتهم، وتلاوة كتبهم، ودراسة كفرهم، فهي المخصوصة بالخطر والمنع، فأما بناء ما سواها فضربان: أحدهما: أن تكون أملاكًا خاصة، يسكنها أربابها، فلا يمنعوا بنائها، ولا أن يبيعها المسلمون عليهم، ويشترونها منهم، لأنها منازل سكني، وليست بيوت صلاة. والثاني: أن يبنوا ما يسكنه بنو السبيل منهم لكل مار ومجتاز، ولا يختص أحد منهم بملكه، فينظر. فإن شاركهم المسلمون في سكناه، فجعلوه لكل مار من مسلم وذمي جاز، ولم يمنعوا من بقائه، وإن جعلوه مقصورًا على أهل دينهم دون المسلمين، ففي جواز تمليكهم من بنائه وجهان: أحدهما: يجوز، لأنه منزل سكن، فصار كالمنزل الخاص. والثاني: لا يجوز أن يمكنوا منه كالبيع والكنائس، لأنه صد صار مقصورًا عليهم عمومًا، ليتعبد فيه سابلتهم، فلم يكن بينه وبين البيع والكنائس فرق، وقد يؤول بهم إلى أن يصير بيعة أو كنيسة لهم. فصل: فأما ما استهدم من بيعهم وكنائسهم التي يجوز إقرارهم عليها مع عمارتها، ففي جواز إعادتهم لبنائها وجهان: أحدهما: وهو قول أبي سعيد الإصطخري: يمنعون من إعادة بنائها، ويكون إقرارهم عليها ما كانت باقية على عمارتها، لأن عمر رضي الله عنه شرط على نصارى

الشام أن لا يجددوا ما خرب منها. والثاني: يجوز لهم إعادة بنائها استصحابا لحكمها، وأن الأبنية لا تبقي علي الأبد، فلو منعوا من بنائها بطلت عليهم. والصحيح عندي من إطلاق هذين الوجهين أن ينظر في خرابها، فإن صارت دراسة متسطرفة كالموات منعوا من بنائها، لأنه استئناف إنشاء، وإن كانت شعثة باقية الآثار والجدران جاز لهم بناؤهم، ولو هدموها لاستئنافها لم يمنعوا، لأن عمارة المستهدم استصلاح وإنشاء الدارس استئناف. مسألة: قال الشافعي: "ولا يحدثون بناء يتطولون به بناء المسلمين" قال الحاوي: اعلم أنه لا تخلو مساكنهم في بلاد الإسلام من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يستأنفوا بناءها. والثاني: أن يستديموا سكناها. والثالث: أن يعيدوا بناءها. فأما القسم الأول: وهو أن يستأنفوا بناءها بعد العهد، فلا يخلو مجاورهم في موضعهم من مصر في ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يكونوا مسلمين. والثاني: أن يكونوا من أهل دينهم. والثالث: أن يكونوا أهل ذمة من غير دينهم. فإن كان مجاورهم مسلمين، لم يكن لهم أن يعلوا بأبنيتهم علي أبنية المسلمين، فيطولوا علي أبنيتهم لقول النبي صلي الله عليه وسلم "الإسلام يعلو ولا يعلي" فإن علوا بأبنيتهم هدمت عليهم، وهل يمكنون من مساواتهم في الأبنية أم لا؟ علي وجهين: أحدهما: يمكنون من المساواة، لأنه قد أمن الاستعلاء والاستشراف. والثاني: يمنعون من المساواة حتى تنقص أبنيتهم عن أبنية المسلمين كما يمنعون من المساواة في اللباس والركوب، لقوله صلي الله عليه وسلم "الإسلام لا يعلو ولا يعلي". وهل يراعي المنع من الاستعلاء في موضعهم من المصر أو في جميعه علي وجهين: أحدهما: في موضعهم الذي هم فيه جيرة، لأن ما بعد عنهم، فقد أمن إشرافهم عليه.

والثاني: يمنعون في جميع المصر أن يتطاولوا بالاستعلاء علي أهل المصر. وإن كان مجاورهم في موضعهم من أهل دينهم جاز لهم أن يتطاولوا فيه بأبنيتهم، فيعلو بعضهم علي بعض كما يعلو بعض المسلمين علي بعض، وهل يمنع جميعهم أن يعلو بأبنيتهم علي أبنية من لا يجاورهم من المسلمين في المصر أو لا؟ علي الوجهين المتقدمين. وإن كان مجاورهم في موضعهم أهل ذمة علي غير دينهم كاليهود مع النصارى، ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجوز أن يتعالي بعضهم علي بعض في الأبنية، لأن جمعيهم أهل ذمة. والثاني: يمنع بعضهم على بعض إذا استعدونا، ولا يمنعون من المساواة، لأن علينا أن نمنع كل صنف منهم مما نمنع به أنفسنا. وأما القسم الثاني: من مساكنهم أن تكون قديمة الأبنية، إما لأنهم سكنوها قبل صلحهم، أو لأنهم اشتروها من مسلم بعد الصلح، فيجوز إقرارهم عليها، وإن استعلوا بها علي المسلمين، كما نقرهم علي ما تقدم من البيع والكنائس، وإن منعوا من استحداثها، لكنهم يمنعون من الإشراف على المسلمين، وأن لا يعلوا على سطوحها إلا بعد تحجيرها، وإن لم يؤمر المسلم بتحجير سطحه من جاره، ويمنع من صبيانهم م الإسراف، وإن لن يمنع صبيان المسلمين من الإشراف، فيصيروا مأخوذين من المنع من إشرافهم علي المسلمين كما يؤخذ المسلم بالمنع من إشرافه علي جاره المسلم، ويؤمر بالتحجير، وإن لم يؤمر به المسلم، لأن المسلم مأمون وهم غير مأمونين. وأما القسم الثالث: وهو أن يعيدوا أبنية مساكنهم بعد استهدامها، ففيها وجهان: أحدهما: أنهم يصيرون كالمستأنفين لبنائها، فيمنعوا من الاستعلاء بها علي المسلمين، وإن كانت عالية قبل هدمها وهذا علي الوجه الذي يمنعون من إعادة بيعهم وكنائسهم إذا استهدمت. والثاني: أنهم لا يمنعون من إعادتها بعد الهدم إلي ما كانت عليه قبل الهدم من العلو الطائل، وهذا علي الوجه الذي تقول فيه أنهم لا يمنعون من إعادة بيعهم وكنائسهم إذا استهدمت. فأما إذا أرادوا أن يرتفقوا في أبنيتهم بإخراج الرواشين والأجنحة إلي طرق السابلة ففيها وجهان: أحدهما لا يمنعون ارتفاقهم بها كالمسلمين، لاشتراكهم في استطراقها. والثاني: يمنعون منها، وإن لم يمنع منها المسلمون، لأنها طرق المسلمين دونهم كما يمنعون من إحياء الموات الذي لا يمنع منه المسلم، وهكذا القول في آثار حشوشهم

إذا أرادوا حفرها في أفنية دورهم كان علي هذين الوجهين. مسألة: قال الشافعي: "وأن يقروا بين هيئتهم في الملبس والمركب وبين هيئات المسلمين وأن يعقدوا الزنانير علي أوساطهم". قال في الحاوي: أما الفرق بين أهل الذمة والمسلمين في هيئات الملبس والمركب، فيؤخذون به في عقد ذمتهم مشروطا عليهم، ليتميزوا به، فيعرفوا، ولا يتشبهوا بالمسلمين، فيخفوا، لما بينهم وبين المسلمين، من افتراق الأحكام. والفرق بينهم وبين المسلمين في الهيئات معتبر من ثلاثة أوجه: أحدهما: في ملابسهم. والثاني: في أبدانهم. والثالث: في مواكبهم. فأما المعتبر في ملابسهم فالاختيار أن يجمع فيه بين أمرين: أحدهما: لبس الغيار. والثاني: شد الزنار. فأما الغيار: فهو أن يغيروا لون ثوب واحد من ملابسهم ولا يلبس المسلمون مثل لونه، إما في عمائهم، وإما في قمصهم، ويكونوا فيما سواه مثل ملابس المسلمين، ويفرق بين غيار اليهود والنصارى، ليتميزوا، وعادة اليهود أن يكون غيارهم العسلي، وهو المائل إلي الصفرة كالعسل، وربما غيروا بنوع من الأزرق يخالف معهود الأزرق، وغيار النصارى أن يكون غيارهم الأدكن، وهو نوع من الفاختي، وربما غيروا بنوع من الصوف وليست هذه الألوان شرطا لا يتجاوز إنما الاعتبار بلون متميز فإذا صار مألوفا منعوا من العدول عنه وإلي غيره، لئلا يقع الاشتباه والإشكال، فإن تشابه اليهود والنصارى في لون الغيار جاز، وإن كان تميزهم فيه أولي. وأما الزنار فهو كالخيط المستغلظ يشدونه في أوساطهم فوق ثيابهم، وأرديتهم، ويمنعوا أن يستبدلوا بشد المناطق والمنديل، لأن المنطقة من لبس المتخصصين بالرتب من المسلمين، والمناديل في الأوساط من لبس ذوى الصنائع من المسلمين، فلم يتميز بها أهل الذمة، وجميع الألوان من الزنانير سواء بخلاف الغيار، لأن أصل الزنار كالغيار. فإن شرط علي أهل الذمة أحد الأمرين في غيار أو زنار جاز، لأنهم يتميزون به، وإن شرط عليهم الجمع بين الغيار والزنار أخذوا بهما معا، لأنه أبلغ في التميز من أحدهما.

فأما نساء أهل الذمة، فيؤخذون بلبس الغيار في الخمار الظاهر الذي يشاهد، ويلبسوا خفين من لونين أحدهما: أسود، والآخر: أحمر أو أبيض، ليتميز نسائهم عن نساء المسلمين، ويؤخذوا بشد الزنار دون الخمار، لئلا تصفها بثيابها بعد أن يكون ظاهرا، فإن اقتصر النساء علي التميز بأحدهما جاز، وإن كان الجمع بين الثلاثة أولي، فإن لبس أهل الذمة العمائم والطيالسة، لم يمنعوا. وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل: يمنعون من لبس العمائم والطيالسة، لأنها من أجمل ملابس المسلمين، وهذا ليس بصحيح، لأن المقصود تميزهم عن المسلمين، فإذا تميزوا بالغيار والزنار جاز أن يساووهم في صفات ملابسهم كما يساووهم في أنواع مأكلهم. وأما لبس فاخر الديباج والحرير، فلا يمنعون منه في منازلهم، وفي منعهم منه ظاهرا وجهان: أحدهما: يمنعون منه لما فيه من التطاول به علي المسلمين. والثاني: لا يمنعون منه كما لا يمنعون من فاخر الثياب القطن والكتان، لأنهم يصيرون متميزين بلبسه من المسلمين، لتحريم لبسه عليهم. فصل: وأما الفرق المعتبر في أبدانهم، فمن وجهين: أحدهما: في شعورهم. والثاني: في أجسادهم. فأما الشعور فيميزون فيها من وجهين: أحدهما: أن ينحذفوا في مقدم رؤوسهم عراضا تخالف شوابير الأشراف. والثاني: لا يفرقوا شعورهم في رؤوسهم، ويرسلونها ذوائب، لأن هذا من المباهاة بين المسلمين. وأما في أجسادهم، فهو أن تطبع خواتيم الرصاص مشدودة، في أيديهم أو رقابهم، وهو أولي، لأنه أزل، وإنما أخذوا بالتميز في أبدانهم في هذين الوجهين، لأمرين: أحدهما: عند دخول الحمامات، فإذا تجردوا فيها من ثيابهم، وقد اختير أن يدخلوها وفي أيديهم جلجل. والثاني: لأنهم ربما وجدوا موتي، ليعرفوا، فيدفعوا إلي أهل دينهم، فيدفنوهم في مقابرهم ولا يتشبهوا بالمسلمين، فيصلوا عليهم، ويدفنوهم في مقابرهم، ولا يجوز أن يميزوا بميسم ولا وسم، لأنه مؤلم وغير مأثور، فإن اقتصروا علي أحد الأمرين في أبدانهم إما بالشعور أو بخواتيم الرصاص المطبوعة جاز، لوقوع التمييز به، إن كان

الجمع بينهما أولي، لأنه أظهر. فأما النساء فلا يعرض لتحذيف شعورهن، ويمنعوا من الفرق والذوائب في الحمامات دون منازلهم، وهن في طابع خواتيم الرصاص إذا خرجن كالرجال. فصل: فأما الفرق المعتبر في مراكبهم فمن وجهين: أحدهما: في جنس المركوب. والثاني: في صفة المركوب. فأما جنس المركوب، فيركبون البغال والحمير، ويمنعون من ركوب الخيل. عتاقا، وهجانا، لقول الله تعالي: {وأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ ومِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60]. فأخبر بإعدادها لأوليائه في جهاد أعدائه. وروى عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: "الخيل معقود بنواصيها الخير إلي يوم القيامة" يعني بالخير الغنيمة، وهم المغنومون، فلم يجز أن يصيروا بها غانمين. وروى أنه قال: "الخيل ظهورها عز وبطونها كنز". وأما صفة المركوب، فيختار أن يركبوا علي الأكف، عرضا لرواية عبد الله بن دينار عن ابن عمر أن عمر بن الخطاب كتب إلي أمراء الأجناد يأمرهم أن يختتموا في رقاب أهل الذمة بالرصاص، وأن يظهروا مناطقهم، ويجزوا ونواصيهم، ويركبوا الأكف عرضا، ولا يتشبهوا بالمسلمين في لبوسهم. فأما الختم بالرصاص في رقابهم، فقد ذكرنا،، أما إظهار مناطقهم، فهو شد الزنار في أوساطهم فوق ثيابهم،، أما جز نواصيهم فهو ما ذكرنا من تحذيفهم في مقدم رؤوسهم. وأما ركوب الأكف عرضا فهو أن تكون رجلا الراكب إلي جانب، وظهره إلي جانب، فإن تجاوز الأكف إلي ضده بحمل الأثقال إلي السروج بما تميز من سروج المسلمين، وكانت ركبهم فيها خشبا، ولم تكن حديدا، ويمنعون من تختم الفضة والذهب لما فيها من التطاول والمباهاة، ولو وسمت بغالهم من تختم الفضة والذهب لما فيها من التطاول والمباهاة، ولو سمت بغالهم بما يتميز به عما للمسلمين كان أولي. مسألة: قال الشافعي: "ولا يدخلوا مسجدا". قال في الحاوي: وهذا معتبر بعقد الذمة معهم، فإن شرط فيه أن لا يدخلوا مسجد المسلمين منعوا من دخوله بحكم الشرط، وإن أغفل شرطه عليهم منعوا من دخوله لأكل

ومنام، لما فيه من استبدالهم له، وإن لم يمنع منه المسلم، لأن المسلم يعتقد تعظيمه دينا، والمشرك يري استبداله دينا. وأما دخولها لغير ذلك من سماع القرآن، وما يعرض فيه من حاجة إلي مسلم، فيجوز بإذن ويمنعون منه بغير إذن. قال الله تعالي: {وإنْ أَحَدٌ مِّنَ المُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: 6] فدلت هذه الآية علي إباحة الدخول بعد الإذن. فإن قدمت وفود المشركين، فالأولي أن ينزلهم الإمام في غير المساجد، فإن أراد إنزالهم في المساجد اعتبرت حالهم. فإن خيف منهم تنجيس المسجد منعوا من نزوله، وإن أمن منهم تنجيسه نظر فيه، إن لم يرج إسلامهم منعوا من نزوله صيانة له من الاستبدال، وإن رجي إسلامهم عند سماع القرآن جاز إنزالهم فيه. قد أنزل رسول الله صلي الله عليه وسلم وفد ثقيف في المسجد، فكان سببا لإسلامهم، وإسلام قومهم. ولو دعت الضرورة فيمن لم يرج إسلامهم إلي إنزالهم في المسجد لتعذر ما ينزلون فيه، مستكنين فيه من حر أو برد جاز لأجل الضرورة أن ينزلوا، لأن رسول الله صلي الله عليه وسلم أنزل سبي بني قريظة وبني النضير من ضرورة حتى أمر بهم، فبيعوا وربط ثمامة بن أثال الحنفي إلي سارية في مسجده. فأما من يصح منه الإذن ن فلا يخلو أن يكون لمقام أو اجتياز، فإن كان لمقام أكثر من ثلاثة أيام تزيد علي مقام السفر لم يصح الإذن فيه إلا من سلطان ينفذ أمره في الدين أو يجمع عليه أهل تلك الناحية من المسلمين، ويكون الإذن مشروطا أن لا يستضر به أحد من المصلين. وإن كان دخوله لاجتياز أو لبث يسير نظر في المسجد. فإن كان في الجوامع التي لا يترتب الأئمة فيها إلا بإذن السلطان لم يصح الإذن في دخوله إلا من سلطان لأنه لما اعتبر إذنه في إمامة الصلاة المفروضة، كان أولي أن يعتبر فيما أبيح من دخول أهل الذمة. وإن كان المسجد من مساجد القبائل والعشائر التي يترتب فيها أئمتها بغير إذن السلطان لم يعتبر إذن السلطان في دخوله. وفيمن يصح إذنه وجهان: أحدهما: كل من صح أمانه لمشرك من رجل وامرأة، وحر وعبد، صح إذنه في المسجد، لأن حكم الأمان أغلظ. والثاني: أنه لا يصح إلا إذن من كان من أهل الجهاد من الرجال الأحرار، لما

تعلق بهم حق الله تعالي، والأول أظهر. فصل: فأما تعليمهم القرآن، فيجوز به إذا رجي به إسلامهم، ولا يجوز إذا خيف به الاستهزاء به. قد سمع عمر بن الخطاب أخته تقرأ سورة "طه" فأسلم. وقال جبير بن مطعم: إذا سمعت القرآن كاد أن ينقطع قلبي. وهكذا القول في تعلم الفقه والكلام، وإخبار الرسول إن رجي به إسلامهم لم يمنعوا منه، وإن خيف اعتراضهم وجرحهم فيه منعوا منه، ولا يمنعون من تعليم الشعر والنحو، ومنعهم بعض الفقهاء من تعلمه، لأنه في استقامة ألسنتهم به تطاولا علي من قصر فيه من المسلمين، وأنهم ربما استعانوا به في الاعتراض علي القرآن. وهذا فاسد، لأنه ليس من حلوم الدين وأشبه علم الطب والحساب، ولأن الله تعالي قد صان كتابه عن قدم بدليل، واعتراض بحجة. مسألة: قال الشافعي: "ولا يسقوا مسلمًا خمرًا ولا يطعموه خنزيراً". قال في الحاوي: وهذا صحيح، ولهم في ذلك ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يكرهوا المسلمين علي شرب الخمر، وأكل الخنزير، فإن التبعة فيه عليهم لا علي المسلم، فيعزروا سواء شرط عليهم في عهدهم أو لم يشرط، ولا ينتقض به العهد إن لم يشترط، وفي انتقاضه به إن شرط وجهان. والحال الثانية: أن يغلبهم المسلم عليه كرها، فيشرب خمرهم، ويأكل خنزيرهم، فيقام علي المسلم حد الخمر، ويعزر لأكل الخنزير، ويعزر في حق أهل الذمة، لتعديه عليهم، ولا قيمة عليه، فيما شربه من الخمر وأكله من الخنزير. والحالة الثالثة: أن يعرضوه علي المسلم من غير إكراه ويقبله المسلم منهم من غير تغليب، فيقام علي المسلم حد الخمر في حق الله تعالي، ولا يعزر في حقهم، ويعزر الذمي، إن كان ذلك مشروطا في عهدهم، ولا يعزر إن لم يشترط، وهكذا لو ابتدأ المسلم بطلبه، فأجابوه إلا أن تعزيزهم في الابتداء بعرضه أغلظ من تعزيزهم في إجابتهم، وإن استوت الحالات في حد المسلم وتعزيزه.

مسألة: قال الشافعي: "فإن كانوا في قرية يملكونها منفردين لم نتعرض لهم في خمرهم وخنازيرهم ورفع بنيانهم وإن كان لهم بمصر المسلمين كنيسة أو بناء طائل لبناء المسلمين لم يكن للمسلمين هدم ذلك وتركوا علي ما وجدوا ومنعوا إحداث مثله وهذا إن كان المصر للمسلمين أحيوه أو فتحوه عنوة وشرط هذا علي أهل الذمة وإن كانوا فتحوا بلادهم علي صلح منهم علي تركهم ذلك خلوا وإياه ولا يجوز أن يصالحوا علي أن ينزلوا بلاد الإسلام يحدثوا فيه ذلك". قال في الحاوي: وهذا صحيح، وقد ذكرناه من قبل أن تفردوا بملكه وسكناه من القرى والبلاد لم يتعرض عليهم في إظهار خمورهم وخنازيرهم فيه، وضرب نواقيسهم، وابتناء بيعهم وكنائسهم، وتعلية منازلهم، وترك الغيار والزنار ولأنها زادهم، فأشبهت دواخل منازلهم. فأما ركوبهم الخيل فيها فيحتمل وجهين: أحدهما: لا يمنعون من ركوبها كما لم يمنعوا مما سواها. والثاني: يمنعون من ركوبها، لأنها ربما صارت قوة لهم تدعوهم إلي نقض العهد، فخالفت بذلك ما سواها، ثم ذكر الشافعي بعد هذا من حكمهم في بلاد الإسلام التي فتحت عنوة وصلحا ما قد مضي شرحه. مسألة: قال الشافعي "ويكتب الإمام أسماءهم وحلاهم في ديوان ويعرف عليهم عرفاء لا يبلغ مولود، ولا يدخل فيهم أحد من غيرهم إلا رفعه إليه". قال في الحاوي: وهو كما قال، لأن عقد الذمة موضوع للتأبيد، فاحتاج إلي ديوان يفرد له، وقد ديوان الجوالي، لأنهم أجلوا عن الحجاز، فسموا جوالي، وهذا الديوان موضوع فيهم لثلاثة أشياء: أحدهما: أن يذكر فيه عقد ذمتهم، ومبلغ ما صولحوا عليه من قدر جزيتهم، وما شرط عليهم من الأحكام، ليحملوا عليها فيما عليهم، ولهم ممن تولاه من الأئمة، وذكر الإمام احتياط، وليس بواجب. والثاني: أن يكتب فيه اسم كل واحد منهم، ويرفع في نسبه وفبيلته، وصناعته حتى يتميز عن غيره، ويذكر حلية بدنه التي لا تتغير بالكبر كالطول والقصر، والبياض والسمرة، والسواد، وحليه الوجه، والأعضاء، ليتميز إن وافق اسم اسما، ويذكر فيه الذكور من أولادهم دون الإناث، لاعتبار الجزية ببلوغ الذكور دون الإناث، وإن لأحدهم مولود

أثبته، وإن مات منهم ميت أسقطه. والثالث: أن يثبت فيه ما أدوه الجزية، ليعلم به ما بقي وما استوفي، ويكتب لهم بالأداء براءة يكتب اسم المؤدي، ونسبه، وحليته، ليكون حجة له تمنع من مطالبته، ويختار أن يكون حول الجزية معتبرا بالمحرم، لأنه أول السنة العربية، وتعبر فيه السنة الهلالية كما تعتبر في الزكاة. فصل: وإذا تقرر ما وصفنا من حكم ديوانهم عرف الإمام عليهم العرفاء وضم إلي كل عريف قوما معينين أثبت معهم اسم عريفهم في الديوان ويكونوا عددا يضبطهم العريف الواحد فيما ندب له. والعريف مندوب لثلاثة أشياء: أحدهما: أن يعرف حال من ولد فيهم، فيثبته، وحال من مات منهم، فيسقطه، ومن قدم عليهم من غريب، ومن مسافر عنهم، ومقيم، ويثبت جميع ذلك في ديوانهم. ولا يجوز أن يكون من قام بهذا من الوفاء إلا مسلما يقبل خبره. وجوز أبو حنيفة أن يكون ذميا بناء علي أصله في قبول شهادة بعضهم لبعض. والثاني: أن يعرف حال من دخل في جزيتهم، ومن خرج منها فيثبته، والداخل فيها: الصبي إذا بلغ، والمجنون إذا أفاق، والعبد إذا عتق والخارج منها: من مات أو جن بعد إفاقته، أو افتقر بعد غناه علي أحد القولين، وكذلك من عمى او زمن، ويعرف حال من نقض عهده، ولا يجوز أن يكون من قام بهذا من العرفاء إلا مسلم. والثالث: أن يحضرهم إذا أريدوا لأداء الجزيرة، ولاستيفاء حق عليهم، وليشكوا إليه، ما ينهيه عنهم إلي الإمام من حق لهم يستوفونه، أو من تعدي مسلم عليهم يكف عنهم، ويجوز أن يكون من قام بهذا من العرفاء ذميا منهم، لأنها نيابة عنهم، لا يعمل فيها علي خبره. مسألة: قال الشافعي: "وإذا أشكل عليه صلحهم بعث في كل بلاد فجمع البالغون منهم ثم يسألون عن صلحهم فمن أقر بأقل الجزية قبل منه ومن أقر بزيادة لم يلزمه غيرها". قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا عقد الإمام معهم الذمة علي جزية وشروط يجوز مثلها، وجب علي من بعده من الأئمة إمضاء عهده، وأجري أهل الذمة فيه علي شرطه، لأن عقد الذمة مؤبد. فإن كان في عقده ما يمنع من الشرع، وهو أن يصالحهم علي أقل من دينار، أو

يشترط لهم شروطا يمنع الشرع منها أبطل الإمام بعده ذلك، واستأنف الصلح معهم علي ما يجوز في الشرع، فإن أجابوا إليه غير في الديوان ما تقدم من الصلح الفاسد، وأثبت فيه ما استأنفه من الصلح الجائز. إن امتنعوا من إجابتهم إليه نقص عهدهم، وبلغهم منهم، وعادوا حرما. فصل: فإذا تقرر هذا، وتطاول الزمان، وأشكل علي إمام الوقت قدر جزيتهم، فإن استفاضت بها الأخبار، وانتشر ذكرها في الأمصار، عمل فيها علي الخبر المستفيض. وإن لم يعرف استفاضتها رجع إلي شهادة العدول من المسلمين، فإذا شهد منهم عدلان بمقدار من الجزية يجوز أن يصالحوا علي مثله حكم بشهادتهم، وإن لم يشهد به عدلان، وكان في ديوانهم الموضوع بجزيتهم قدر جزيتهم، وشروطهم صلحهم، فإن ارتاب به ولم يقع في النفس صحته، لخطوط مشتبهة، لم يجز أن يعمل عليه. وإن انتفت عنه الريبة، وكان تحت ختم أمناء الكتاب، ففي جواز العمل عليه وجهان: أحدهما: لا يجوز العمل عليه في حقوق بيت المال، كما لا يجوز أن يعمل عليه القضاة والحكام، وعلي هذا لو ادعي ذمي دفع جزيته ببراءة أحضرها لم يبرأ بها. والثاني: يجوز أن يعمل عليه في حقوق بيت المال اعتبارا بعرف الأئمة فيه، لأن الديوان موضوع له، وكما يجوز في رواية الحديث أن يعمل الراوي علي خطه إذا تحققه، وخالف ما عليه القضاة والحكام من العمل بما دواوينهم من وجهين: أحدهما: أن حقوق بيت المال عامة، فكان حكمها أوسع، وأحكام القضاة خاصة، فكان حكمها أضيق. والثاني: أن حقوق بيت المال لا يتعين مستحقها، وبتعذر من يتولي الإشهاد فيها، وحقوق الخصوم عند القضاة، يتعين مستحقها، ولا يتعذر عليه أن يتولي الإشهاد فيها. وعلي هذا لو ادعي ذمي جزيته ببراءة أحضرها تقع في النفس صحتها برئ منها. فصل: فإن لم يجد الإمام ما يعمل عليه من جزيتهم من خبر مستفيض، ولا شهادة خاصة، ولا ديوان موثوق، بصحته أو وجده، وقلنا: إنه لا يجوز أن يعمل به، فعليه أن يجمع أهل الذمة من جميع الأمصار، ويسألهم عن قدر جزيتهم، والأولي أن يسألهم أفرادا غير مجتمعين، فإذا اعترفوا بقدر يجوز أن تكون جزية لم يقبل منهم، وكان معهم (على) ما

مضى، لو صولحوا على ما لا يجوز. وإن اعترفوا بقدر يجوز أن يكون جزية قبله منهمـ ولهم فيه حالتان: إحداهما: أن يتفقوا جميعًا على القدر، فيعمل عليه مع جميعه بعد إحلافهم عليه، واليمين واحدة. والثانية: أن يختلفوا فيها، فيقر بعضهم بدينار، ويقر بعضهم بأكثر، فيلزم كل واحد منهم ما أقر به، ولا تقبل شهادة بعضهم على بعض، وإن جوزه أبو حنيفة. ويكتب الإمام في ديوان الجزية أنه رجع إلى قولهم حين أشكل عليهم صلحهم، فاعترفوا بكذا وكذا. وإن اختلفوا أثبت أسماء المختلفين، وما لزم كل واحد بإقراره، وأنه أمضاه بعد إحلافه؛ لجواز أن تتجدد بينة عادلة، يخالفها، فيحكم بها، وإن قامت بينة بأكثرها أقروا به عمل عليها، واستوفى ما لم يأخذه من الزيادة، وعاد إلى ديوانه، فأثبت ما قامت به البينة، بعدما أخذ من الإقرار، وصار ذلك حكمًا مؤبدًا، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي: "وليس للإمام أن يصالح أحدا منهم على أن يسكن الحجاز بحال ولا يبين أن يحرم أن يمر بالحجاز مارا لا يقيم بها أكثر من ثلاث ليال وذلك مقام مسافر، لاحتمال أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلائهم عنها أن لا يسكنوها ولا بأس أن يدخلها الرسل لقوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ}] التوبة: 6] الآية ولولا أن عمر رضي الله عنه أجل من قدم المدينة منهم تاجرا ثلاثة أيام لا يقيم فيها بعد ثلاث لرأيت أن لا يصالحوا على أن لا يدخلوها بحال ولا يتركوا يدخلونها إلا بصلح كما كان عمر رضي الله عنه يأخذ من أموالهم إذا دخلوا المدينة". قال في الحاوي: اعلم أن بلاد الإسلام ثلاثة أقسام: حرم، وحجاز، وما عداهما فأما الحرم، فهو أشرفها، لما خصه الله تعالى من بيته الحرام الذي علق عليه الصلاة والحج، وشرفه بهاتين العبادتين ما ميزه من سائر البلاد بحكمين: أحدهما: أن لا يدخله قادم إلا محرم بحج أو عمرة. والثاني: تحريم صيده أن يصاد، وشجره أن يعضد. ولما كانت له هذه الحرمة، فلا يجوز أن يدخله مشرك من كتابي، ولا وثني لمقام، ولا اجتياز. وقال أبو حنيفة: يجوز دخولهم إليه للتجارة وحمل الميرة من غير استيطان ويمنعون

من الطواف بالبيت احتجاجًا بأن شرف البقاع لا يمنع منه المشرك وقال جابر بن عبد الله، وقتادة: يجوز أن يقيم فيه الذمي دون الوثني، والعبد المشرك إذا كان ملكًا لمسلم، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أخذ الجزية من نصراني بمكة يقال له موهب" ولا تؤخذ الجزية إلا من مستوطن، وهذا خطأ، لقول الله تعالى: {إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}] التوبة: 28] وفي قوله {نَجَسٌ} [التوبة: 28] ثلاثة تأويلات: أحدهما: أنهم أنجاس الأبدان، وكنجاسة الكلب والخنزير، وهذا قول عمر بن عبد العزيز والحسن البصري، حتى أوجب الحسن البصري الوضوء على من ضاجعهم. والثاني: أنه سماهم أنجاسًا لأنهم يجنبون، فلا يغتسلون، فصاروا لوجوب الغسل عليهم كالأنجاس/ وإن لم يكونوا أنجاسًا، وهذا قول قتادة. والثالث: أنه لما كان علينا أن نجتنبهم كالأنجاس صاروا بالاجتناب في حكم الأنجاس، وهذا قول جمهور أهل العلم. وقوله: {فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا}] التوبة: 28] يريد به الحرم، فعبر عنه بالمسجد، لحلوه فيه، كما قال: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}] الإسراء: 71] يريد به مكة، لأنه أسرى به من منزل أم هانئ وهكذا كل موضع ذكر الله تعالى، فقال الله المسجد الحرام، فإنما أراد به الحرم إلا في قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}] البقرة: 144] يريد به الكعبة. وإذا كان كذلك، وقد منع أن يقربه مشرك، وجب أن يكون المنع محمولًا على عمومه في الدخول والاستيطان. وقال تعالى: وَإِذْ قَالَ {إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آَمِنًا}] البقرة: 126] يعني مكة، وحرمها {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا}] البقرة: 126] يعني مكة، وهو قبل فتحها، فدل على تحريمها على الكافر بعد فتحها. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا لا يحجبن بعد هذا العام مشرك" وهذا محمول على القصد، فكان على عمومه، ولأنه لما اختص الحرم بما شرفه الله تعالى فيه على سائر البقاع تعظيمًا لحرمته، كان أولى أن يصان ممن عانده، وطاعته، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ذكر فضائل الأعمال في البقاع، فضله على غيره، فقال: "صلاة في مسجدي بألف صلاة وصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة في مسجدي هذا". وهذا التفضيل

يوجب فضل العبادة. فأما الجواب عن أخذ الجزية من موهب النصراني بمكة، فهو أنه قبل نزول هذه الآية، لأنها نزلت سنة تسع. وأما الجواب عن دخول المساجد، فهو أن حرمة الحرم أعظم، لتقدم تحريمه، ولوجوب الإحرام في دخوله، وللمنع من قتل صيده. وأما الجواب عن المسلم الجنب، فهو أنه لما لم يمنع الجنب والحائض من الاستيطان لم يمنع من الدخول والمشرك ممنوع من الاستيطان فمنع من الدخول. فإذا تقرر أنه لا يجوز أن يدخل الحرم مشرك، وورد المشرك رسولًا إلى الإمام وهو في الحرم، خرج الإمام إليه، ولم يأذن له في الدخول، فلو دخل مشرك إلى الحرم لم يقتل، وعزر إن علم بالتحريم، ولم يعزر إن جهل، وأخرج، فإن مات في الحرم لم يدفن فيه، فلو دفن فيه نبش، ونقل إلى الحل إلا أن يكون قد بلي، فيترك كسائر الأموات في الجاهلية. ولو أراد مشرك أن يدخل الحرم، ليسلم به منع من دخوله، حتى يسلم، ثم يدخله بعد إسلامه، فلو صالح الإمام مشركًا على دخول الحرم بمال بذله كان الصلح باطلًا، ويمنع المشرك من الدخول، فإن دخل إليه أخرج منه، ولزمه المال الذي بذله، مع فساد الصلح، لحصول ما أراد من الدخول، واستحق عليه ما سماه دون أجرة المثل، وإن فسد، لأنه لا أجرة لمثله لتحريمه. وحد الحرم من طريق المدينة دون التنعيم عند بيوت نفار على ثلاثة أميال. ومن طريق العراق على بنية خل بالمقطع على سبعة أميال. ومن طريق الجعرانة من شعب آل عبد الله بن خالد على سعة أميال. ومن طريق الطائف على عرفة من بطن نمرة على سبعة أميال. ومن طريق جدة منقطع الأعشاش على عشرة أميال. فصل: وأما الحجاز فلا يجوز أن يستوطنه مشرك، من كتابي ولا وثني، وجوزه أبو حنيفة كسائر الأمصار احتجاجًا بإقرار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم إلى أن قبضه الله تعالى إليه، ولأن كل أرض حل صيدها حل لهم استيطانها كغير الحجاز. ودليلنا: ما رواه عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عائشة رضي الله عنها، قالت: كان آخر ما عهد به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: "لا يجتمع في جزيرة العرب دينان" وهذا نص.

ولما قبضه الله تعالى قبل عمله به لم يسقط قوله، وتشاغل أبو بكر في أيامه مع قصرها بأهل الردة، ومانعي الزكاة، وتطاولت الأيام بعمر رضي الله عنه وتكاملت له جزيرة العرب، وفتح ما جاورها، نفذ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، فاجتمع رأيه، ورأي الصحابة، رضي الله عنهم على إجلائهم وكان فيهم تجار وأطباء وصناع، يحتاج المسلمون إليهم فضرب لمن قدم منهم تاجرًا، وصانعًا مقام ثلاثة أيام ينادى فيهم، بعدها أخرجوا، وهنا إجماع بعد نص لا يجوز خلافهما، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ليهود خيبر حين ساقاهم على نخلها: "أقركم ما أقركم الله" فدل على أن مقامهم غير مستدام، وأن لحظره فيهم حكمًا مستجدًا. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لئن عشت إلى قابل لأنفين اليهود من جزيرة العرب فمات قبل نفيهم" ولأن الحجاز لما اختص بحرم الله تعالى، ومبعث رسالته ومستقر دينه، ومهاجرة رسوله صلى الله عليه وسلم صارف أشرف من غيره، فكانت حرمته أغلظ، فجاز أن يصان عن أهل الشرك كالحرم. فإذا ثبت حظر استيطان أهل الذمة للحجاز، فيجوز أن يدخلوه دخول المسافرين لا يقيموا من موضع منه أكثر من ثلاثة أيام، لأن عمر حين أجلاهم ضرب لمن قدم منهم تاجرًا أو صانعًا مقام ثلاثة أيام، فكان هذا القدر مستثنى من الحظر، استدل به على أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يجتمع دينان في جزيرة العرب" محمول على الاستيطان دون الاجتياز؛ ولأن الله تعالى يقول: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ}] التوبة: 6] ويكفيه أن يهتدي سماع كلام الله تعالى في مدة ثلاث؛ ولأنه لما انخفضت حرمة الحجاز عن الحرم، وفضلت على غيره أبيح لهم من مقام ما لم يستبيحوه في الحرم، وحرم عليهم من استيطان الحجاز ما استباحوه في غيره، فإذا كان كذلك اختصت الإباحة بمقام المسافر، وهو ثلاثة أيام لا يتجاوزونها. ويمنعون من دخول الحجاز، وإن كانوا أهل ذمة إلا بإذن الإمام، لأن مقصوده التصرف دون الأمان. فلو أذن لهم واحد من المسلمين لم يجز أن يدخلوا بإذنه، وإن كان لو أذن لحربي جاز أن يدخل دار الإسلام بإذنه. والفرق بينهما: أن المقصود بإذنه للحربي أمانه، وأمان الواحد من المسلمين يجوز، والمقصود بإذنه للذمي في دخول الحجاز التصرف المقصور على إذن الإمام فلو دخل ذمي بغير إذن غزر وأخرج ولا يغنم ماله؛ لأن له بالذمة أمانًا ولو دخل

حربي بلاد الإسلام بغير إذن غنم ماله، لأنه لا أمان له، ويجوز إذا أقاموا ببلد من الحجاز ثلاثًا أن ينتقلوا إلى غيره، فيقيموا فيه ثلاثًا، ثم كذلك في بلد بعد بلد، فإن لم يقض حاجته في الثلاث، واحتاج إلى زيادة مقام؟ لاقتضاء الديون منح، وقيل له: وكل من يقبضها لك، ولو مرض، ولم يقدر على النهوض مكن من المقام، لأنها حال ضرورة حتى يبرأ، فيخرج بخلاف الدين الذي يقدر على قبضه؛ فإن مات في الحجاز لم يدفن فيه، لأن الدفن مقام تأبيد إلا أن يتعذر إخراجه، ويتغير إن استبقى من غير دفن فيدفن في الحجاز للضرورة كما يقيم فيه مريضًا. فأما الحجاز، فهو بعض جزيرة العرب، ولأن كل قول لرسول الله صلى الله عليه وسلم متوجه إلى جزيرة العرب مختلف فيه، فهي في قول الأصمعي من أقصى عدن إلى أقصى ريف العراق في الطول، ومن جدة وما والاها إلى أطراف الشام في العرض. وقال أبو عبيدة: جزيرة العرب في الطول ما بين جعفر أبي موسى إلى أقصى اليمن، وفي العرض ما بين رمل إلى بيرين إلى منقطع السماوة، وفي جزيرة العرب أرض نجد وتهامة، مختلف فيه، فقال الأصمعي: إذا خلفت عجاز مصعدًا، فقد أنجدت، فلا تزال منجدًا حتى تنحدر في ثنايا ذات عرق، فإذا فعلت فقد أتهمت، ولا تزال متهمًا في ثنايا العرج حتى يستقبلك الأراك والمدارج. وقال غيره: جبل السراة في جزيرة العرب وهو أعظم جبالها يقبل من ثغرة اليمن حتى ينتهي إلى وادي الشام فما دون هذا الجبل في غرسية من أسياف البحر إلى ذات عرق، والجحفة هو تهامة، وما دون هذا الجبل في شرقي ما بين أطراف العراق إلى السماوة، فهو نجد. وأما الحجاز فهو حاجز بين تهامة ونجد، وهو منهما، وحده مختلف فيه، فقال قوم: هوا ما احتجز بالجبل في شرقيه وغربيه عن بلاد مذحج إلى فيد. وقال آخرون: هو اثنا عشرة دارًا للعرب. فالحد الأول: بطن مكة، وأعلا رملة، وظهره وحرة ليلى. والحد الثاني: يلي الشام شفى وبدا، وهما جبلان. والحد الثالث: يلي تهامة بدر، والسقيا، ورهاط، وعكاظ. والحد الرابع: ساكة وودان. واختلف في تسميته بالحجاز، فقال الأصمعي: لأنه حجز بين نجد وتهامة وقال ابن الكلبي: سمي حجاز لما أحجز من الجبال وأما غير الحجاز فضل من بلاد الإسلام، فمن دخلها من المشركين بغير ذمة، ولا عهد فهو حرث كالأسرى يغنم ويسبى، ويكون الإمام

فيه مخيرًا كتخييره في الأسير بين الأحكام الأربعة من القتل أو الأسر أو الممن أو الفداء، ويجوز أن يعفو من سبي ذريته بخلاف السبايا في الحرب؛ لأن الغانمين قد ملكوهم؛ فلا يصح العفو عنهم إلا بإذنهم، وذرية هذا الداخل بغير عهد لم يملكهم أحد، فجاز عفو الإمام. فأما من دخل دار الإسلام بأمان، فضربان: أهل ذمة، وأهل عهد. فأما أهل الذمة، فهو المستوطن، ولا يجوز استيطانهم إلا بجزية إذا كانوا من أهل كتاب، أو شبهة كتاب. وأما أهل العهد، فهو الداخل إلى بلاد الإسلام بغير استيطان، فيكون مقامهم مقصورًا على مدة لا يتجاوزونها، وهي أربعة أشهر لقول الله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أربعة أَشْهُرٍ} [التوبة: 2]. فأما مدة سنة، فلا يجوز أن يقيموها إلا بجزية، وفي جواز إقامتهم بغير جزية فيما بين أربعة أشهر وبين سنة قولان: أحدهما: يجوز لأنها دون السنة كالأربعة. والثاني: لا يجوز، لأنه فوق الأربعة كالسنة، وسواء كانوا من أهل كتاب أو لم يكونوا. مسألة: قال الشافعي: رحمه الله تعالى: "ولا يترك أهل الحرب يدخلون بلاد الإسلام تجارا فإن دخلوا بغير أمان ولا رسالة غنموا". قال في الحاوي: وهذا صحيح. يجب على الإمام أن يراعي ثغور المسلمين المتصلة بدار الحرب من دخول المشركين إليها؛ لأنهم لا يؤمنون عليها من غرة يظفرون بها أو مكيدة يوقعونها، ومن دخلها منهم، فهو حرب مغنوم يتحكم الإمام فيه بخياره من قتله أو استرقاقه أو فدائه أو المن عليه إلا في حالتين: أحدهما: أن يكون رسولًا للمشركين فيما يعود بمصلحة المسلمين من صلح يجدد أو هدنة تعقد أو فداء أسرى؛ لقول الله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَامَنَهُ} [التوبة: 6]. قيل: إنها في المرسل فيكون له بالرسالة أمان على نفسه وماله، لا يحتاج معها إلى استئناف أمان، إلا أن يكون رسولًا في وعيد وتهديد، فلا يكون أمان، ويكون حربًا يفعل

فيه الإمام ما يراه من الأمور الأربعة، لأن في هذه الرسالة مضرة، وفي الأولى منفعة فصار بالمنفعة مواليًا، فأمن وبالمضرة معاديًا، فغنم. فلو ادعى وقد دخل بلاد الإسلام أو رسول نظر في دعواه. فإن علم صدقه فيها كان آمنا، وإن علم كذبه فيها كان مغنومًا وإن أشبهت حاله قبل قوله، وكان آمنا، ولم يلزم إحلافه على الرسالة، لأنه مبلغ {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} [المائدة: 99]. ولا يجوز إذا دخل الرسل بلاد الإسلام أن يظهروا فيها منكرًا من صلبانهم، وخمورهم وخنازيرهم، وجوز لهم أبو حنيفة إظهار خمورهم وخنازيرهم؟ لأنها عنده من جملة أموالهم المضمونة الاستهلاك وهذا فاسد؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم "الإسلام يعلو ولا يعلى". والثانية: أن يكون لهذا الداخل من دار الحرب أمان يدخل به دار الإسلام، فيصير آمنا على نفسه وماله، ولا ينبغي أن يتولاه إلا الإمام أو من ناب من أولي الأمر؛ لأنه أعرف بالمصلحة من أشذاذ وأقدر على الاحتراز من كيده، فإن قدر له الإمام مدة الأمان أقر عليها إلى انقضائها ما انتهت إلى أربعة أشهر، ولا يبلغ به سنة إلا بجزية، وفيما بين الأربعة أشهر والسنة قولان مضيا. ولا تنقض علبه مدة أمانه، ولا يخرج قبل انقضائه إلا بموجب لنقض الأمان، لوجوب الوفاء بالعهود، فإن كان الذي أمنه في دخوله رجل من جملة المسلمين كان أمانه مقصورًا على حقن دمه وماله دون مقامه، ونظر الإمام في حاله، فإن رأى من المصلحة إقراره أقره على الأمان، وقرر له مدة مقامه، ولم يكن لمن أمنه من لمسلمين تقدي مدته، وإن لم ير الإمام من المصلحة إقراره، في دار الإسلام أخرجه منها آمنًا حتى يصل إلى مأمنه ثم يصير حربًا، فيكون أمان المسلم له موجبًا لحقن دمه ولمقامه، وإقراره، فافترقا في الحكم من وجه، واجتمعا فيه من وجه. فصل: وإذا دخل الحربي بأمان الإمام ثم عاد إلى دار الحرب انقضى حكم أمانه فإن عاد ثانية بغير أمان غنم حتى يستأنف أمانًا، لأنه خاص، فلم يتكرر، فلو عقد له الأمان على تكرار الدخول صح اعتبارًا بصريح العقد، وكان في عوده وتردده آمنًا يقيم في كل دفعة ما شرك له من المدة وإذا كان أمان الحربي من قبل الإمام كان عامًا في جميع بلاد الإسلام إلا أن يجعله مقصورًا على بلد بعينه؛ فلا يصير آمنًا في غيره، وإذا كان أمانه ممن استنابه

الإمام كان عامًا في بلاد ولايته ولا يكون عامًا في بلاد الإسلام كلها، لأن ولاية الإمام عامة، وولاية النائب عنه خاصة، وإذا كان أمانه من جهة واحد من المسلمين كان أمانه مقصورًا على بلده خاصة وفيما كان طريقًا له إلى دار الحرب، لأن الأمان يقتضي عوده إلى مأمنه، ولا يكون له أمان أن يتجاوز ذلك إلى غيره من بلاد الإسلام، وإذا دخل حربي دار الإسلام وادعى أنه دخلها بأمان مسلم، فإن كان من ادعى أمانه حاضرًا رجع إلى قوله، فإن صدقه على الأمان قبل قوله؛ لأنه لو أمنه في حال تصديقه صح أمانه، وإن أكذبه على الأمان كان الحربي مغنومًا، وإن كان من ادعى أمانه غائبًا ففي قبول قول الحربي وجهان: أحدهما: يقبل قوله، ويكون آمنًا كما يقبل قول من ادعى الرسالة. والثاني: لا يقبل وإن قبل في الرسالة؛ لأن إقامة البينة على الرسالة متعذر قبل قوله فيها، وإقامته على الأمان ممكنة، فلم يقبل قوله فيه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "فإن دخلوا بأمان وشرط عليهم أن يؤخذ منهم عشر أو أقل أو أكثر أخذ". قال في الحاوي: وجملته أنه يجب على الإمام أن يشترط في متاجر أهل الحرب إذا دخلوا في بلاد الإسلام لمنافعتهم، وكان انقطاعها عن المسلمين غير ضار بهم حتى يأخذه الإمام منهم من عشر أو أقل أو أكثر بحسب ما يؤديه اجتهاده إليه يكون عبئًا مصروفًا في أهل الفيء؛ لأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه صالح أهل الحرب في حمل متاجرهم إلى بلاد الإسلام على العشر، وصالح أهل الذمة في حملها إلى المدينة على نصف العشر ليكون ذلك ضعف ما يؤخذ في زكاة المسلم من ربع العشر، ولأن الإمام مندوب إلى توفي ما يصل إلى المسلمين من أموال المشركين إما بغنيمة إن قهروا، وإما بجزية وخراج إن صولحوا، فكذلك عشر أموالهم إذا اتجروا، وإن كان ذلك من الشروط الواجبة عليهم كان العرف الذي عمل به الأئمة العشر، وليس بجد لا يجوز مجاوزته إلى زيادة أو نقصان؛ لأنه موقوف على ما يؤدي إليه الاجتهاد المعتبر من وجهين: أحدهما: في كثرة الحاجة إليه وقلتها، فإن كثرت الحاجة إليه كالأقوات كان المأخوذ منه أقل، وإن قلت الحاجة إليه كالطرف والدقيق كان المأخوذ منه أكثر، فإن عمر

رضي الله عنه أخذ من القطنية العشر، وأخذ من الحنطة والزبيب نصف العشر. والثاني: الرخص والغلاء، فإن كان انقطاعها يحدث الغلاء كان المأخوذ أقل وإن كان لا يحدث الغلاء كأن المأخوذ أكثر، وإذا كان الاجتهاد فيه معتبرًا من هذين الوجهين عمل الإمام في تقريره على ما يؤديه اجتهاده إليه، فإن رأى من المصلحة اشتراط العشر في جميعها فعل، وإن رأى اشتراط نصف العشر فعل، وإن رأى اشتراط الخمس فعل، وإن رأى أن ينوعها بحسب الحاجة إليها، فيشرط في نوع منها الخمس، وفي نوع العشر، وفي نوع نصف العشر فعل، وصار ما انعقد شرطه عليه حقًا واجبًا في متاجرهم ما أقاموا على صلحهم، كالجزية لا يجوز لغيره من الأئمة أن ينقضه إلى زيادة أو نقصان، فإن نقضوا شرطهم بطل حكم الشرط بنقضهم، وجاز استئناف وصلح معهم يبتدئه بما يراه من زيادة على الأول أو نقصان منه. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا لم يخل خال العشر من أن يكون مشروطًا في عين المال أو يكون في ذممهم عن المال، فإذا كان مشروطًا في المال وجب على كل من حمله إلى بلاد الإسلام من حربي وذمي ومسالم، أن يؤخذ منه العشر، ولا يمنع الإسلام من أخذه، ولا يكون أخذه من المسلم جزية، إنما يكون ثمنًا يضاف إلى الثمن الذي ابتاعه من أهل الحرب، ويكون ما أداه إليهم تسعة أعشار ثمنه، وما أداه إلى الإمام عشر الثمن أو عشر الأصل، وإن كان مشروطًا في ذممهم لأجل المال وعنه أخذ عشره من الحربي إذا حمله، ولم يؤخذ من المسلم؛ لأنه جزية محضة. وفي أخذه من الذمي وجهان: أحدهما: يؤخذ منه لشركه. والثاني: لا يؤخذ منه لجريان حكم الإسلام عليه. فأما الذمي إذا اتجر في بلاد الإسلام، فلا عشر عليه في ماله؛ لأن الجزية مأخوذة منه عن نفسه وعن ماله، إلا أن يدخل تاجرًا إلى الحجاز فيمنع من دخوله إلا بما يشترط عليه من عشر ماله؛ لأنه ممنوع من استيطان الحجاز فمنع من التجارة فيه إلا معشورًا، وهو لا يمنع من استيطان غيره، فلم يعشر. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "فإن لم يكن شرط عليهم لم يؤخذ منهم شيء

وسواء كانوا بعشرون المسلمين إذا دخلوا بلادهم أو يخمسونهم أو لا يعرضون لهم". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا دخل أهل الحرب بأمان، ولم يشترط عليهم عشور أموالهم، فلا شيء عليهم فيها إذا حملوها معهم، ولا وجه لما قاله بعض أصحابنا إنهم يعشرون اعتبارًا بالعرف المعهود من فعل عمر. وقال أبو حنيفة: يفعل معهم ما يفعلونه مع تجارنا إذا دخلوا إليهم، فإن كانوا يعشرونهم عشروا، وإن كانوا يخمسونهم خمسوا، وإن كان يتركونهم تركوا؛ لأنها عقولة، وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 26]. وهذا خطأ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شرطهم" ولأن عمر لم يأخذ عشرهم إلا بعد اشتراطه عليهم، ولأنه مال مأخوذ عن أمان، فلم يلزم بغير شرط كالجزية؛ ولأن علو الإسلام يمنع من الاقتداء بهم كما يقتدي بهم في الغدر إن غدروا، فأما الآية فواردة في الاقتصاص ممن مثل به من قتلى أحد، ثم قال: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126]. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وإذا اتجروا في بلاد المسلمين إلى أفق من الآفاق لم يؤخذ منهم في السنة إلا مرة كالجزية وقد ذكر عن عمر عن عبد العزيز أنه كتب أن يؤخذ مما ظهر من أموالهم وأموال المسلمين وأن يكتب لهم براءة إلى مثله من الحول ولولا أن عمر رضي الله عنه أخذه منهم ما أخذناه ولم يبلغنا أنه أخذ من أحد في سنة إلا مرة. قال: ويؤخذ منهم ما أخذ عمر من المسلمين ربع العشر ومن أهل الذمة نصف العشر ومن أهل الحرب العشر إتباعا له على ما أخذ. قال المزني رحمه الله: قد روى الشافعي رحمه الله عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من حديث صحيح الإسناد أنه أخذ من النبط من الحنطة والزيت نصف العشر يريد بذلك أن يكثر الحمل إلى المدينة ومن القطنية العشر. قال الشافعي: ولا احسبه أخذ ذلك منهم إلا بشرط". قال في الحاوي: وهذا كما قال، إذا أخذ من الحربي، عشر ماله في دخوله ثم نقله إلى بلد آخر لم يعشر، وكذلك لو طاف به في بلاد الإسلام، لأنها دار واحدة، فإنه باع ماله واشترى به متاعًا من بلاد الإسلام، وأراد حمله إلى دار الحرب روعي شرط صلحهم، فإن كان مشروطًا عليهم وتعشير أموالهم من دخولهم عشروا خارجين كما عشروا داخلين. وإن لم يشترط عليهم لم يعشروا في الخروج وعشروا في الدخول، وإذا اتجروا في بلاد الإسلام حتى حال عليهم الحول، قال الشافعي: عشروا بعد انقضاء الحول ثانية

واعتبرهم بالمسلمين في أخذ الزكاة منهم في كل حول، وهذا عند معتبر بالشرط المعقود معهم، فإن تضمن تعشير أموالهم في كل حول عشروا، وإن تضمن تعشيرها ما حملوه من دار الحرب لم يعشروا اعتبارًا بموجب الشرط. فأما الذمي إذا تجر في الحجاز بعد تعيشر ماله حتى حال عليه الحول عشر ثانية في كل حول؛ لأن للذمي في الجزية حولًا مقيدًا تتكرر جزيته فيه، فجعل أصلًا لعشر ماله في كل حول، وليس هو في حول الجزية أصلًا؛ ولأن أحكام الإسلام جارية على الذمي دون الحرب، فلما استقر حكم الإسلام على أخذ الزكاة من مال المسلم في كل حول، صار ذلك أصلًا في تعشير مال الذمي في الحجاز في كل حول. فأما إذا اتجر الذمي في غير الحجاز من بلاد الإسلام، فلا عشر عليه لجواز استطيانه بها بخلاف بلاد الحجاز التي لا يجوز أن يستوطنها، فإن شرط الإمام عليهم ذلك حملوا على شروطه، وكان زيادة في جزيتهم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ويحدد الإمام بينه وبينهم في تجاراتهم ما يبين له ولهم وللعامة ليأخذهم به الولاة وأنا الحرم فلا يدخله منهم أحد بحال كان له بها مال أو لم يكن ويخرج الإمام منه إلي الرسل ومن كان بها منهم مريضًا أو مات اخرج ميتًا ولم يدفن بها. وروي أنه سمع عددًا من أهل المغازي يروون أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يجتمع مسلم ومشرك في الحرم بعد عامهم هذا". قال في الحاوي: وهذا صحيح، حتى ينتشر في كافة المسلمين، وفيهم، يزول الخلاف معهم، فإذا انتشر في بلاد الإسلام كلها في عصر بعد عصر اكتفى بانتشاره عن تجديده، فإن خيف بتطاول الزمان أن يخفى جدده كما يفعل الحكام في الوقوف إذا خيف دروسها جددوا الإسجال بها، لتكون حجج سبيلها دائمة الثبوت. فصل: وإذا رأى الإمام أن يسقط عن أهل الحرب تعشير أموالهم بحادث اقتضاه نظره من جذب أو قحط أو لخوف من قوة تجددت لهم جاز إسقاطه عنهم، ولو رأى إسقاط الجزية عن أهل الذمة لم يجز إسقاطها؛ لأن الجزية نص والعشر اجتهاد. وإذا زال السبب الذي تركه تعشير أموالهم لم يأخذهم بعشر ما كانوا حملوه، ونظر في الترك، فإن كان مسامحة لهم أخذ عشرهم بعد زوال السبب بالشرط الأول' وإن كان إسقاطًا لم يأخذه بعد زوال سببه إلا بشرط مستأنف. وإذا دعت الإمام الضرورة في

باب في نصارى العرب

الاستعانة بأهل الذمة على قتال أهل الحرب أن يترك عليهم الجزية، ليستعينوا بها على معونة المسلمين كان الأولى قبضها منهم، وردها عليهم، فإن لم يفعل وأرفقهم بتركها عليهم جاز، وكان ذلك إبراء منها في وقتها، ولم يك إسقاطًا من أصلها فإذا زال السبب عاد إلي أخذها بالعقد الأول. فصل: وإذا عقدت الذمة مع قوم وجب الذب عنهم من كل من مسلم ومشرك سواء اختلطوا بالمسلمين أو اعتزلوهم، فلو عجل الإمام بجزيتهم، وقصدهم العدو، فلم يذب عنهم وجب عليه أن يرد من جزيتهم ما قابل زمان متاركتهم مع عدوهم دون ما عداه، فإن اشترطوا في عقد صلحهم أن لا يذب أهل الحرب عنهم لم يصح الشرط إن كانوا مختلطين بالمسلمين لئلا يتعدى ذلك إلي المسلمين، وإن اعتزلوا المسلمين بقرية انفردوا بسكناها، فإن كان بينهم مسلم أو مال مسلم، أو كان بينهم وبين دار الحرب قرية للمسلمين لم يصح هذا الشرط، وإن لم يكن فيهم، ولا فيما بينهم وبين دار الحرب قرية للمسلمين لم يصح هذا الشرط، وإن لم يكن فيهم، ولا فيما بينهم وبين أهل الحرب، ولم يلزم الذب عنهم إلا أن يخاف عليهم الاصطلام، فيلزم استنقاذ نفوسهم دون أموالهم، لأن للذمة حقًا في حفظها، وسقط حفظ أموالهم بالشرط والله أعلم. باب في نصارى العرب تضعف عليهم الصدق ومسلك الجزية. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "اختلفت الأخبار عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في نصارى العرب من تنوخ وبهراء وبني تغلب فروي عنه أنه صالحهم على أن يضعف عليهم الجزية ولا يكرهوا على غير دينهن وهكذا حفظ أهل المغازي. قالوا: رامهم عمر على الجزية فقالوا: نحن عرب لا نؤدي ما يؤدي العجم ولكن خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض يعنون الصدقة. فقال عمر رضي الله عنه؛ لأن هذا فرض على المسلمين. فقالوا: فزد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية فراضاهم على أن يضعف عليهم الصدفة. قال ضعفها عليهم فانظر إلي مواشيهم وذهبهم وورقهم وأطعمتهم وما أصابوا من معادن بلادهم وركازها وكل أمر أخذ فيه من مسلم خمس فخذ خمسين أو عشر فخذ عشرين أو نصف عشر فخذ عشرًا أو ربع عشر فخذ نصف عشر وكذلك ماشيتهم خذ الضعف منها".

قال في الحاوي: أما دين العرب، فلم يكونوا أهل كتاب، وكانوا عبدة أوثان، فجاورت طائفة منهم اليهود، فتهودوا وجاورت طائفة منهم النصارى، فتنصروا، فكان في قحطان بالشام بتنوخ وبهراء، وبنو تغلب مجاورين للنصارى، فتنصروا وأشكلت حالهم عند فتح الشام على عمر رضي الله عنه هل دخلوا في النصرانية قبل التبديل فيقرون أو بعد التبديل مع المبدلين، فلا يقرون، فغل فيهم حكم الحظر في حقن دمائهم، وتحريم مناكحهم وذبائحهم، فأقرهم على هذا، وشرط عليهم ألا ينصروا أولاهم، ثم طالبهم بالجزية حين أقرهم على النصرانية، فأبوا أنفة من ذل الجزية، وقالوا: نحن عرب لا نؤدي ما يؤدي العجم، ولكن خذ منا كما يأخذ بعضكم من بعض الصدقة، فقال عمر: لا آخذ من مشرك صدقة فرضها الله على المسلمين طهرة فنقر بعضهم ولحق بالروم، وكان الباقون أن يلحقوا بهم، فقال عبادة بن النعمان التغلبي يا أمير المؤمنين إن للقوم بأسًا وشدة، فلا تعز عدوك بهم، وخذ منهم الجزية باسم الصدقة، فأعاد من رحل إلي من أقام، وقالوا: زد ما شئت بهذا الاسم لا باسم الجزية، فراضاهم عمر على أن أضعف عليهم الصدقة وجعلوها جزية باسم الصدقة، تؤخذ من أموالهم الظاهرة والباطنة، كما تجب الصدقة على المسلمين في الأموال الظاهرة والباطنة من المواشي والزروع، والثماؤ، والذهب، والفضة، وعروض التجارة إذا بلغت نصابًا، ولا شيء عليهم دون النصاب، ولا في الدور والعقار، ولا في الخيل، والبغال، والحمير، فيؤخذ منهم عن كل خمس من الإبل شاتان، عن كل ثلاثين بقرة تسعين، وعن كل أربعين شاة شاتان، وعما سقته السماء من الزروع والثمار التي يجب فيها العشر الخمس، وعما سقي بنضح أو غرب يجب فيه نصف العشر العشر، وعما وجب فيه ربع العشر من الفضة والذهب نصف العشر، فيؤخذ من عشرين مثقالًا من الذهب، ومن مائتي درهم من الورق عشرة دراهم، وعما وجب في الخمس من الركاز والمعادن الخمسين، فكان لعقد صلحهم مع عمر مستقرًا على هذا، وحملهم عليه بعد عمر عثمان رضي الله عنهما وعلي عليه السلام، ولم يمنعوهم أن ينصروا أولادهم، فدل على أن اشتراط ذلك عليهم كان إرهابًا ولم يكن إلزامًا. فصل: فإذا تقرر ما وصفناه من صلح عمر، فهو شيء يزيد، وينقص بكثرة المال وقلته، ويجب ولا يجب بوجود المال وعدمه، ويعلم ولا يعلم بظهور المال واستطبانه، فصار مجهولًا لتبرزه بين قليل وكثير ووجوب وإسقاط، ومكتوم ومشهور. وقد ثبت أن عمر صالحهم عليه، ولم يأخذ منهم دينار الجزية، لأنهم امتنعوا من بذل الجزية لئلا يجري عليه صغار، فصارت مضاعفة الصدقة هي الجزية مأخوذة باسم

الصدقة، وقد قال عمر: هؤلاء قوم حمقي، أبوا الاسم، ورضوا بالمعنى. واختلف أصحابنا في عقد الصلح على هذا الوجه على ثلاثة أوجه: أحدهما: يجوز حملهم عليه سواء بلغ المأخوذ من كل واحد منهم دينارًا أو نقص عنه، ومن لم يبلغ ماله نصاب الزكاة لم يؤخذ منه، ومن لم يملك مالًا مزكى، فلا شيء عليه، وهو الظاهر من فعل عمر فكان إمضاؤه على هذا، وإن نقص المأخوذ من كل واحد على الدينار؛ لأنه قد يجوز أن يزيد في وقت آخر على الدينار لما يستفيده، ويجوز أن يملك من لا ملك له، فيؤدي، فيكون الاعتبار بها لا بالدينار، ويكون ما يخاف من نقصان الدينار في وقت مجبورًا لما يرجى من الزيادة عليه في وقت. والثاني: يجوز أن يصالحوا على هذا إذا علم أن المأخوذ من ذوي الأموال منهم يفي بدينار عن كل رأس من جميعهم، وإن لم يف بالدينار عن كل رأس لم يجز. مثاله: أن يكونوا ألف رجل، فإن علم أن المأخوذ بمضاعفة الصدقة ألف دينار فصاعدًا جاز، وإن علم أنه أقل من دينار لم يجز، ولا يضر أن يؤخذ من بعضهم أقل من دينار إذا أخذ من غيره أكثر منه، ولا شيء على من لا مال له من مزكى؛ لأنه قد أخذ من غيره ما جبره، فصار بدلًا منه، وحمل قائل هذا الوجه صلح عمر على أنه علم كثرة أموالهم، وأن المأخوذ من ذوي الأموال يفي بجزية جميعهم. والثالث: وهو الظاهر من مذهب الشافعي بأنه يجوز حملهم عليه إذا بلغ المأخوذ من كل واحد منهم دينارًا فصاعدًا، فإن نقص عن الدينار أخذ منه تمام الدينار، ولا يجبر بزيادة غيره، ومن لم يملط نصابًا مزكى، أخذ منه دينار الجزية، ولم يسقط عنه بأخذها من غيره، لأن أهل الذمة لا يجوز أن يقروا في دار الإسلام على التأبيد بغير جزية، ولا يجوز أن ينقص واحد منهم عن دينار الجزية، وحمل صلح عمر على أنه علم أن جميعهم أغنياء، لما شاهده من كثرة أموالهم، وأنه ليس فيهم من يعجز عن المأخوذ منه عن الدينار، وهذا الوجه هو الأقيس والأول هو الأشبه بصلح عمر. فصل: فإذا ثبت ما ذكرنا كانت مضاعفة الصدقة مأخوذة من أموال الرجال دون النساء والصبيان. وقال أبو حنيفة: آخذها من الرجال والنساء دون الصبيان، احتجاجًا بأن ما أخذ باسم الصدقة، وكان النصاب فيه والحول فيه معتبرين اشترك فيه الرجال والنساء كالزكاة على المسلمين، وخرج منه الصبيان، لأنه لا زكاة عليهم. ودليلنا: هو أن المأخوذ بالإقرار على الكفر جزية فوجب أن يختص بالرجال دون النساء كالدينار، ولأن النساء محقونات الدماء، فلم تضاعف صدقة الجزية كالصبيان

والمجانين. فأما الجواب عن قياسهم على الزكاة، فمن وجهين: أحدهما: أنها جزية، فكان اعتبارها بالجزية أولي من اعتبارها بالزكاة. والثاني: أنها لما خرجت عن الزكاة قدراً ومصرفًا خرجت عنها حكمًا والتزامًا. فصل: وإذا كان النصاب في مضاعفة الصدقة عليهم معتبراً، ففي زمانه وجهان: أحدهما: أنه يعتبر بوجود النصاب في الحول كله كالزكاة. والثاني: أنه يعتبر وجوده في رأس الحول؛ لأنه لما اعتبر اليسار بدينار الجزية، في رأس الحول كذلك النصاب؛ لأن المأخوذ منه جزية. فإذا تقرر هذان الوجهان لم يخل النصاب من أربعة أحوال: أحدهما: أن يكون موجودًا في الحول كله، فيؤخذ منه. والثاني: أن يكون معدومًا في الحول كله، فلا شيء عليه. والثالث: أن يكون موجودًا في آخره معدومًا في أوله، فعلى الوجه الأول لا شيء فيه اعتبارًا بالزكاة، وعلى الوجه الثاني يجب فيه ضعف الصدقة اعتبارًا بالجزية. والرابع: أن يكون موجودًا في أول الحول معدومًا في آخره، فينتظر فيه فإن عدم بالتلف، فلا شيء فيه، وإن عدم بنقله إلي مال غير مزكى أخذ منه؛ لأنهم مهتمون لا يتدينون بأدائها، فأخذت منهم، والمسلمون لا يهتمون، لأنهم يتدينون بأدائها، فلم تؤخذ منهم. فصل: وإذا بذل قوم من أهل الحرب للإمام في وقتنا أن يعقد معهم الذمة على مضاعفة الصدقة كالذي فعله عمر جاز اقتداء به، وإتباعًا، ولو سألوه أن يعقدها على صدقة واحدة من غير مضاعفة جاز إذا لم تنقص عن دينار الجزية، فإن نقصت عنه لم يجز أن يعقدها معهم وجهًا واحدًا؛ لأن ما قدمنها من الأوجه الثلاثة، إنما هي في عقد أمضاه إمام مجتهد، فإذا عقد عقدًا مستأنفًا، فلا يمضي بأقل من دينار الجزية، فإذا بلغ أخدهما من بعضهم دينارًا على كل رأس منهم، ففي جوازه وجهان: أحدهما: وقول أبي إسحاق المروزي لا يجوز، لأن فيهم من لا يؤدي دينارًا. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة يجوز؛ لأن المطلوب أخذ دينار عن كل رأس وقد أخذ.

فعلى هذين الوجهين، لو أن رجلًا من أهل الذمة عقد الجزية على نفسه، ومائة رجل من قومه على مائة دينار يؤدونها من ماله نظر في موضوعها، فإن أوجبها عليهم وتحملها عنهم جاز؛ لأنه تبرع بها وهم مأخوذون بها إن امتنع منها، وإن أوجبها على نفسه لتكون عنه وعنهم، ففي جوازه ما قدمناه من الوجهين: أحدهما: هو قول أبي إسحاق، لا يجوز؛ لأنهم يقيمون بغير جزية تلزمهم. والثاني: وهو قول أبي علي، يجوز لحصول الفرض المطلوب منهم. فصل: إذا قال: من بذل ضعف الصدقة أنفة من اسم الجزية قد أسقطت اسم الصدقة عنه، ورضي باسم الجزية، فقد اختلف أصحابنا في سقوطها، والاقتصار على دينار الجزية على وجهين: أحدهما: تسقط مضاعفة الصدقة عليه؛ لأنها في مقابلة ما قد أسقط عن نفسه. والثاني: وهو أصح أنه لا تسقط عنه؛ لأن حكم الجزية موجود في الحالين، فلم يكن لاختلاف الأسماء تأثير. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وكل ما أخذ من ذمي عربي فمسلكه الفيء وما اتجر به نصارى العرب وأهل دينهم". قال في الحاوي: وهذا صحيح المأخوذ من ذمة العربي باسم الصدقة جزية، وليست زكاة وإن كانت عند أبي حنيفة في إيجابها على النساء زكاة. والدليل على أنها ليست زكاة قول الله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة 103] الآية. والكافر لا يتطهر بما يؤديه منها. وقال أبو بكر رضي الله عنه: هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين فدل على أنها لا تجب على المشركين. وقال عمر: الناس رجلان مسلم فرض الله عليه الصدقة، كافر فرض الله عليه الجزية. وقال علي: لا زكاة على مشرك، فكان هذا إجماع الأئمة رضوان الله عليهم. وإذا ثبت هذا وجب أن يكون مصروفًا في أهل الفيء دون أهل الصدقة.

باب المهادنة على النظر للمسلمين

مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وإن كانوا يهودًا تضاعف عليهم فيه الصدقة". قال في الحاوي: وهذا صحيح؛ لأن اليهود والنصارى في جواز صلحهم على مضاعفة الصدقة سواء، وإن كان صلح عمر معقودًا على نصار العرب، فليس يمتنع أن يعقد مع اليهود، ومع نصارى العجم؛ لأن جميعهم في الجزية، سواء فإذا اتجروا بأموالهم وجب أن يؤخذ منها بعد الحول ضعف الزكاة، لأن أموال التجارة مزكاة، فلو اتجر بعض نصارى العرب إلي الحجاز أخذ من العشر في دخول الحجاز، وضعف الصدقة بعقد الصلح، وجمع عليه بين الأمرين، وإن كان حربيين كما يجمع عليه بين الدينار والعشر، والله أعلم. باب المهادنة على النظر للمسلمين ونقص ما لا يجوز من الصلح. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "إن نزلت بالمسلمين نازلة بقوة عدو عليهم وأرجو أن لا ينزلها الله بهم هادنهم الإمام على النظر للمسلمين إلي مدة يرجو إليها القوة عليهم لا تجاوز مدة أهل الحديبية التي هادنهم عليها عليه الصلاة والسلام وهي عشر سنين". قال في الحاوي: أما المهادنة، فهي المسالمة والموادعة عن عهد يمنع من القتال والمنافرة، وقد كان الله تعالى بعد فرض الجهاد منع منها بقوله: {فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ} [التوبة 5] وجعل غاية أمرهم في قتلهم أن يسلموا، فقال: {فَإن تَابُوا} [التوبة 5] الآية ثم قوله: {وهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة 29] فكان هذا بعد قوة الإسلام بكن بها تؤخذ جزيتهم، ثم إن الله تعالى أذن في مهادنتهم ومسالمتهم عند الحاجة إليها فقال تعالى: {وإن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال 61]. وقال تعالى: {إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم} [التوبة 4] إلي قوله {عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة 4]، فوادع رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير وبني قريظة، وبني قينقاع بالمدينة ليكفوا عن معونة المشركين، ويكونوا عونًا للمسلمين فكان ذلك من أول عهوده حتى نقضوا العهد، فكان أول من نقض عهده منهم بنو قينقاع في معونة قريش يوم بدر، فسار إليهم وأظفره الله بهم، وأراد قتلهم، فسأله عبد الله بن أبي ابن سلول فيهم، وكانوا ثلاثمائة

دارع وأربعمائة حاسر فنفاهم إلي أذرعات من الشام. ثم نقض بنو النضير عهودهم بعد أحد، لأنهم هموا أن يفتكوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسار إليهم، وأظفره الله بهم فأجلاهم إلي أرض خيبر. ثم نقض بنو قريظة عهودهم بمعونة أبي سفيان على رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الخندق، فسار إليهم فأظفره الله بهم وحكم سعد بن معاذ فحكم بسبي الذراري، وقتل من جرت عليه المواسي، فقتلهم، وكانوا سبعمائة رجل. ثم هادن قريشًا عام الحديبية عشر سنين، وفيه نزل قوله تعالى: {إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة 7]. حتى نقضت قريش العهد بمعونة أحلافهم من بني أبي بكر على قتال أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة فسار إليهم سنة ثمان حتى فتح مكة، وكان صلح الحديبية سنة ست، وعمرة القضية سنة سبع، وكان هذا الصلح عظيم البركة أسلم بعده أكثر ممن أسلم قلبه. فصل: فإذا تقررت هذه الجملة لم يخل حال المسلمين عند إرادة الهدنة من ثلاثة أحوال: أحدهما: أن تكون بهم قوة، وليس لهم في الموادعة منفعة، فلا يجوز للإمام أن يهادنهم وعليه أن يستديم جهادهم؛ لقول الله تعالى: {ولا تَهِنُوا ولا تَحْزَنُوا وأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران 139]. والثانية: أن يكون بهم قوة لكن لهم في الموادعة منفعة، وذلك بأن يرجوا بالموادعة إسلامهم، وإجابتهم إلي بذل الجزية، أو يكفوا عن معونة عدو ذي شوكة أو يعينوه على قتال غيرهم من المشركين إلي غير ذلك من منافع المسلمين، فيجوز أن يوادعهم مدة أربعة أشهر، فما دونها؛ لقول الله تعالى: {بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أربعة أَشْهُرٍ} [التوبة 1 - 2] وأعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم صفوان بن أمية أربعة أشهر، فإن أراد الإمام أن يبلغ بمدة موادعتهم في هذه الحال سنة لم يجز؛ لنها مدة الجزية التي لا يجوز أن يقر فيها مشرك إلا بها، فأما ما دون السنة وفوق أربعة أشهر، ففي جواز موادعتهم قولان: أحدهما: نص عليه هاهنا، وفي الجزية من كتاب الأم انه لا يجوز موادعتهم أكثر من أربعة أشهر؛ لقول الله تعالى: {فَسِيحُوا فِي الأَرْضِ أربعة أَشْهُرٍ} [التوبة 2] فجعلها حدًا لغاية الموادعة. والثاني: نص عليه في سير الواقدي، يجوز أن يوادعهم ما دون السنة، وإن زاد على أربعة أشهر، لأنها دون مدة الجزية كالأربعة مع عموم قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة 1].

والثالثة: أن لا يكون بالمسلمين قوة، وهم على ضعف يعجزون معه عن قتال المشركين فيجوزن أن يهادنهم الإمام إلي مدة تدعوه الحاجة إليها أكثرهم عشر سنين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هادن قريشًا عام الحديبية عشرين سنة لا أغلال فيها، ولا أسلال، ودامت هذه المهادنة سنتين حتى نقضوها فبطلت فإن احتاج الإمام إلي مهادنتهم أكثر منها لم يجز؛ لأنها مخصوصة عن حظر، فوجب الاقتصار على مدة الاستئناف والتخصيص، وقيل للإمام: اعقد الهدنة عشر سنين، فإذا انقضت والحاجة باقية استأنفها عشرًا ثانية، فإن عقدها على أكثر من عشر سنين بطلت الهدنة فيما زاد على العشر، وفي بطلانها في العشر قولان، من تفريق الصفقة. أحدهما: تبطل إذا منع تفريقها. والثاني: تصح إذا أجيز تفريقها، وهو المنصوص، وهكذا إن دعته الحاجة أن يهادنهم خمس سنين لم يجز أن يهادنهم أكثر منها، فإن فعل كان ما زاد على الخمس باطلًا، وفي بطلان الهدنة في الخمس قولان. ولو هادنهم عشر سنين لحاجة دعت إليها ثم ارتفعت الحاجة كانت الهدنة باقية إلي انقضاء مدتها بعد زوال الحاجة إليها، وإن لم يجز أن يبتدئ بها في هذه الحال التزامًا لما استقر من عقدها بقوله تعالى: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة 1]. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "فإن أراد أن يهادن إلي غير مدة على أنه متى بدا له نقض الهدنة فجائز وإن كان قويًا على العدو كم يهادنهم أكثر من أربعة أشهر لقوله تعالى لما قوي الإسلام {بَرَاءَةٌ مِّنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ إلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ} [التوبة 1] الآية. وجعل النبي صلى الله عليه وسلم لصفوان بعد فتح مكة بسنين أربعة أشهر لا أعلمه زاد أحد بعد قوة الإسلام عليها". قال في الحاوي: وهذا صحيح. يجوز في الهدنة أن تكون غير مقدرة المدة: إذا علقت بشرط أو على صفة؛ يجوز لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين وادع يهود خيبر قال: "أقركم ما أقركم الله". ويكون الإمام مخيرًا فيها إذا أراد نقضها وليست من عقود المعاوضات التي تمنع الجهالة فيها، وإذا جاز إطلاقها بغير مدة لم يجز أن يقول لهم: أقركم ما أقركم الله، وإن قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل خيبر؛ لأن الله تعالى يوحي إلي رسوله مراده دون غيره، وكذلك لو قال: أقركم ما

شئت فيجوز، ويكون موقوفًا على مشيئته، فيما يراه صلاحًا كم استدامة الهدنة أو نقضها فإن عقدها على مشيئتهم لم يجز، لأنهم يصيرون متحكمين على الإسلام وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام يعلو ولا يعلى": وإن عقدها الإمام عل مشيئته غيره من المسلمين جاز إذا اجتمعت فيه ثلاثة شروط: أحدها: أن يكون من ذوي الاجتهاد في أحكام الدين. والثاني: أن يكون من ذوي الرأي في تدبير الدنيا. والثالث: أن يكون من ذوي الأمانة في حقوق الله تعالى وحقوق عباده. فإذا تكاملت فيه صلح وقوف الهدنة على مشيئته، وإن أخل بشرط منها لم يصح. فإذا انعقدت نظر: فإن كان من ولاة الجهاد عمل على رأسه في استدامة الهدنة بالموادعة أو نقضها بالقتال، لم يلزمه استئذان الإمام في الحالين، وإن لم يكن من ولاة الجهاد جاز له استدامتها بغير إذن الإمام، ولم يكن له نقضها إلا بإذن الإمام؛ لأنه موافق في الاستدامة، ومخالف في النقض، وإن كان كذلك لم يخل حاله وحال الإمام من أربعة أحوال: أحدهما: أن يتفقا على استدامتها فتلزم. والثاني: أن يتفقا على نقضها فتنحل. والثالث: أن يرى المحكم نقضها، ويرى الإمام استدامتها، فتغلب استدامة الإمام ويصير كالمبتدئ بها. والرابع: أن يرى المحكم استدامتها، ويرى الإمام نقضها، فينظر فإن كان لعذر يقلب نقض الإمام، وإن كان لغير عذر غلب استدامة المحكم كالمدة المقدرة. ولو أطلق الهدنة من غير شرط، أو على غير صفة، فقال: قد هادنتكم لم يجز؛ لأن إطلاقها يقتضي التأبيد، وهو لو أبدها بطلت كذلك إذا أطلقها، وإذا أراد الإمام نقض العهد لم يبدأ بقتالهم إلا بعد إنذارهم وإعلامهم، لقول الله تعالى: {وإمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الخَائِنِينَ} [الأنفال 58]. مسألة: قال الشافعي رحمة الله تعالى: "ولا يجوز أن يؤمن الرسول والمستأمن إلا بقدر ما يبلغان حاجتهما ولا يجوز أن يقيم بها سنة بغير جزية"؟ قال في الحاوي: قد مضى الكلام، وأن للرسول أمانًا يبلغ فيه رسالته، وأنه لا يعشر ما دخل معه من مال، وإن كان العشر مشروطًا عليهم؛ لأنه لما يتميز عنهم في أمان

الرسالة تميز عنهم في تعشير المال تغليبًا لنفع الإسلام برسالته، فإن انقضت رسالته فيما دون أربعة أشهر جاز أن يستكملها، ولم يجز أن يقيم سنة إلا بجزية، وإن لم تنقض رسالته إلا في سنة جاز أن يقيمها بغير جزية؛ لأن حكم الرسالة مخصوص في أحكام جماعتهم وهكذا الأسير إذا حبس في الأسر مدة لمصلحة رآها الإمام لم تجب عليه الجزية؛ لأن مقيم بغير اختيار، فصار مساويًا للرسول في سقوط الجزية ومخالفًا في العلة. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ولا يجوز أن يهادنهم على أن يعطيهم المسلمون شيئًا بحال لأن القتل للمسلمين شهادة وأن الإسلام أعز من أن يعطى مشرك على أن يكف عن أهله لأن أهله قاتلين ومقتولين ظاهرون على الحق إلا في حال يخافون الاصطلام فيعطون من أموالهم أو يفتدي مأسورًا فلا بأس لأن هذا موضع ضرورة". قال في الحاوي: وهذا صحيح، والأولى من الهدنة أن تعقد على مال يبذله المشركون لنا إذا أجابوا إليه، فإن تعذرت إجابتهم إليه، ودعت الحاجة إلي مهادنتهم على غير مال جاز؛ فأما عقدها على مال يحمله المسلمون إليهم، فلا يجوز، لأن الله تعالى قد أعز الإسلام وأهله، وأظهره على الأديان كلها، وجعل لهم الجنة قاتلين ومقتولين، لقول الله تعالى: {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ المُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ} [التوبة 111] فلم يجز مع ثواب الشهادة وعز الإسلام أن يدخلوا في ذل البذل وصغار الدفع ما لم تدع ضرورة إليه، فإن دعت إليه الضرورة وذلك في إحدى حالتين. إما أن يحاط بطائفة من المسلمين، في قتال أو وطء يخافون مع الاصطلام، فلا بأس أن يبذلوا في الدفع عن اصطلامهم مالًا، يحقنون به دمائهم قد هم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الخندق أن يصالح المشركين على الثلث من ثمار المدينة، وشاور الأنصار، فقال: إن كان هذا بأمر الله سمعنا وأطعنا وإن كان بغير أمره لم نقبله. وروى أبو سلمة عن أبي هريرة أن الحارث بن عمرو الغطفاني رئيس غطفان قال النبي صلى الله عليه وسلم إن جعلت لي شطر ثمار المدينة وإلا ملأنها عليك خيلًا ورجلًا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "حتى استأذن السعود"، يعني سعد بن معاذ، وسعد بن عبادة، وأسعد بن زرارة فاستأمرهم فقالوا: إن كان هذا بأمر من السماء، فنسلم لأمر الله، وإن كان برأيك، فرأينا تبع لرأيك وإن لم يكن بأمر من السماء، ولا برأيك فوالله ما كنا نعطيهم في

الجاهلية ثمرة إلا بشرى أو قرى، فكيف، وقد أعزنا الله بك فقال له: هو ذا تسمع ما يقولون، ولم يعطه شيئًا، فهو وإن لم يعطهم فقد نبه بالرجوع إلي الأنصار على جواز عطائهم عند الضرورة، ولأن ما يدل المسلمين من نكاية الاصطلام أعظم ضررًا من ذلة البذل، فاقتدى به أعظم الضررين. والثانية: افتداء من في أيديهم من الأسرى إذا خيف على نفوسهم، وكانوا يستذلونهم بعذاب أو امتهان، فيجوز أن يبذل له الإمام في افتكاكهم مالًا ليستنقذهم به من الذل والحظر، وإن اقتداهم بأسرى كان أولى. وروى أبو الملهب عن عمران بن الحصين: "أن النبي صلى الله عليه وسلم فادى رجلًا برجلين". وما بذله المسلمون من مال في اصطلام، أو فداء فهو كالمغصوب لأخذه منهم جبرًا بغير حق فإن ظفر به المسلمون عنوة لم يغنموه وأعيد إلي مستحقه الذي خرج منه من مال مسلم، أو من بيت المال، وإن وجدوه مع مستأمن نظر فيه، فإن كان سبب بذله لم يسترجع منه؟ لما في استرجاعه من عود الضرر، وإن زال سبب بذله استرجع منه وأعيد إلي مستحقه، ولم يعترض عليه في غيره من أمواله لأمانه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وإن صالحهم الإمام على ما لا يجوز فالطاعة نقضه كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم في النساء وقد أعطى المشركين فيهن ما أعطاهم في الرجال ولم يستثن فجاءته أم كلثوم بنت عقبة بن معيط مسلمة مهاجرة فجاء أخواها يطلبانها فمنعها منهما وأخر أن الله منع الصلح في النساء وحكم فيهن غير حكمه في الرجال وبهذا قلنا أعطى الإمام قومًا من المشركين الأمان على أسير في أيديهم من المسلمين أو مال ثم جاءوه لم يحل له إلا نزعه منهم بلا عوض وإن ذهب ذاهب إلي أن النبي صلى الله في النساء وقد أعطى المشركين فيهن ما أعطاهم في الرجال ولم يستثن فجاءته أم كلثوم بنت عقبة معيط مسلمة مهاجرة فجاء أخواها يطلبانها فمنعها منهما وأخبر أن الله منع الصلح في النساء وحكم فيهن غير حكمه في الرجال وبهذا قلنا أعطى الإمام قومًا من المشركين الأان على أسير في أيديهم من المسلمين أو مال ثم جاءوه لم يحل له إلا نزعه منهم لا عوض وإن ذهب ذاهب إلي أن النبي صلى الله عليه وسلم رد أبا جندل بن سهيل إلي أبيه وعياش بن أبي ربيعة إلي أهله قيل أهلوهم أشفق الناس عليهم وأحرصهم على سلامتهم ولعلهم يقونهم بأنفسهم مما يؤذيهم فضلًا عن أن يكونوا متهمين على أن ينالوا بتلف أو عذاب، وإنما نقموا منهم دينهم فكانوا يشددون عليهم دينهم كرهًا وقد وضع الله المأثم في إكراههم أو لا ترى أن النساء إذا أريد بهن الفتنة ضعفن ولم يفهمن فهم الرجال وكان التقية تسعهن وكان فيهن أن يصيبهن أزواجهن وهن حرام عليهن. قال: وإن جاءتنا امرأة مهادنة أو مسلمة من دار الحرب إلي موضع الإمام فجاء سوى زوجها في طلبها منع منها بلا عوض وإن جاء زوجها ففيها قولان: أحدهما يعطي ما أنفف وهو ما دفع إليها من المهر. والآخر لا يعطى. وقال في آخر

الجواب وأشبههما أن لا يعطوا عوضًا. قال المزني: هذا أشبه بالحق عندي". قال في الحاوي: لا يجوز للإمام أن يعقد الهدنة على شروط محظورة وقد منع الشرع منها. فمنها: أن يهادنهم على مال يحمله إليهم، فهو محظور لما قدمناه. ومنها: أن يهادنهم على خارج يضربونه على بلاد الإسلام. ومنها: أن يهادنهم على رد ما غنم من سبي ذراريهم؛ لأنها أموال مغنومة. فإن قيل: فقد رد سول الله صلى الله عليه وسلم سبي هوازن عليهم. قيل: إنما ردهم عليهم بعد إسلامهم عن طيب نفس منه تفضلًا عليهم، فخالف التزامه للمشركين عن عقد. ومنها: أن يهادنهم على دخول الحرم أو استيطان الحجاز، فلا يجوز. ومنها: أن يهادنهم على ترك قتالهم على الأبد، لما فيه من تعطيل الجهاد. ومنها: أن يهادنهم، وليس به حاجة إلي مهادنتهم، لقوله عليهم عدم النفع بمهادنتهم. ومنها: أن يهادنهم أكثر من عشر سنين، وإن كان محتاجًا إليها. ومنها: أن يهادنهم على إظهار مناكيرهم في بلادنا من صلبانهم وخمورهم وخنازيرهم. ومنها: أن يهادنهم على إسقاط الجزية عمن أقام في دار الإسلام منهم. ومنها: أن يهادنهم على تعشير أموالنا إذا دخلنا إليهم. ومنها: أن يهادنهم على ألا نستنقذ أسرانا منهم، فهذه وما شاكلها محظورة، قد منع الشرع منها، فلا يجوز اشتراطها في عقد الهدنة، فإن شرطت بطلت ووجب على الإمام نقضها، لقول النبي صلى الله عليه وسلم ردوا الجهالات إلي السنن، ولا تبطل الهدنة، وإن كانت شرطًا فيها؛ لأنها ليست كالبيوع من عقود المعاوضات التي تبطل بفساد الشرط؛ لما يؤدي إليه من جهالة الثمن، وليست بأوكد في عقود المناكحات بها، فإن طالبوه بالتزامها أعلمهم حينئذ بطلانها في شرعنا، وأنه لا يجوز لنا العمل بها. فإن دعوه إلي نقض الهدنة نقضها، إلا أن يخاف منهم الصطلام، فيجوز للضرورة، أن يلتزمها ما كان على ضرورته كما قلنا في بذل المال.

فصل: فإذا تقررت هذه المقدمة، فصورة مسألتنا: أن يهادنهم على أن يرد عليهم من جاءنا مسلمًا منهم فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشًا في الحديبية على هذا، فنذكر حكمها في صلحه ثم نذكره في صلحنا. أما حكمها في صلحه، فقد كانت هدنة بالحديبية معقودة على هذا أن يرد عليهم من جاء مسلمًا منهم، فجاءه أبو جندل ابن سهيل بن عمرو مسلمًا فقال له سهيل: هذا ابني أول من أقاضيك عليه، فرد إليه، وقال لأبي جندل: قم تم الصلح بيننا، وبين القوم فاصبر حتى يجعل الله لك فرجًا ومخرجًا، ثم رده بعده عياش بن أبي ربيعة، وأبا بصير، فرد هؤلاء الثلاثة من الرجال، ثم جاءت أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط مسلمة، فجاء أخواها في طلبها، عمارة والوليد ابنا عقبة، وجاءت سعيدة زوجة صيفي بن الراهب مسلمة، فجاء في طلبها، وجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية مسلمة، فجاء زوجها واسمه مسافر من قومها في طلبها، وقالوا: يا محمد قد شرطت لنا رد النساء وطين الكتاب لم يجف، فاردد علينا نساءنا فتوقف رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ردهن توقعًأ لأمر الله تعالى فيهن حتى نزل قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإيمَانِهِنَّ فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الكُفَّارِ} [الممتحنة 10] الآية، والتي بعدها، فامتنع حينئذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من ردهن، ومن رد النساء كلهن، ولم يمتنع من رد الرجال؛ لوقوع الفرق بين الرجال والنساء من وجهين: أحدهما: أن الرجال أثبت من النساء، وأقدر على التوبة إن أكرهوا على الكفر. والثاني: أن النساء ذوات الأزواج يحرمن على أزواجهن من الكفار، ولا يقدرون على الامتناع منهم والرجال بخلافهن، فلهذين وقع الفرق في الرد بين الرجال والنساء، فرد الرجال، ولو يرد النساء، والله أعلم. فصل: ونحن نبدأ بشرع ما تضمنته الآية من تفسير وقفه. أما قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذَا جَاءَكُمُ المُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة 10] ففيما يمتحن به وجهان: أحدهما: بأن يشهدن بأن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. والثاني: بما في السورة من قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إذَا جَاءَكَ المُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة 12] الآية، ثم قال: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِإيمَانِهِنَّ} [الممتحنة 10] يعني

بما في قلوبهن؛ لأن الامتحان يعلم به ظاهر إيمانهن، والله أعلم يعلم ظاهره وباطنه، ثم قال تعالى: {فَإنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} يعني بالامتحان {فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إلَى الكُفَّارِ} [الممتحنة 10] يعني تمنعوهن من الرجوع إلي الكفار من أهليهن وأزواجهن، {لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ} [الممتحنة 10] يعني أن المسلمة لا تحل لكافر بحال {ولا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة 10] فيه وجهان: أحدهما: يعني أن الكفار لا يحلون للمسلمات بحال. والثاني: يعني أن المسلم لا يحل نكاح كافرة وثنية، ولا مرتدة، ثم قال تعالى: {وآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا} [الممتحنة 10] يعني مهورهن، وفيمن تدفع إليه مهورهن قولان: أحدهما وهو قول الشافعي أزواجهن دون غيرهم من أهليهن، فعلى هذا يدفع ذلك إليهم إن كن قد أخذنه منهم، ولا يدفه إن لم يأخذنه. والثاني: إن كل طالب لهن من زوج وأهل وهو شاذ. فعلى هذا يدفع إلي من كل مستحقًا لطلبهن من زوج وأهل، سواء أخذنه أو لم يأخذنه، وهذا فاسد؛ لأنه قال: {وآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا} [الممتحنة 10] فلا يأخذ من لم ينفق ثم قال: {ولا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة 10] يعني المؤمنات اللاتي جئن من دار الشرك مسلمات عن أزواج مشركين أباح الله تعالى نكاحهن للمسلمين إذا انقضت عددهن، أو كن غير مدخول بهن. وقوله: {إذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [المائدة 5] يعني مهورهن، وليس يريد بالإيتاء الدافع إلا أن يتضمنه العقد فيصير مستحقًا ثم قال: {ولا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الكَوَافِرِ} [الممتحنة 10] يعني أن الكافر إذا أسلم عن زوجة وثنية لم يقم على نكاجها تمسكًا بعصمتها إلا أن يسلم في عدتها، وفي العصمة هاهنا وجهان: أحدهما: الجمال. والثاني: العقد، ثم ثال تعالى: {واسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ ولْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا} [الممتحنة 10] يعني أن المسلم إذا ارتدت زوجته، فلحقت بأهل العهد رجع المسلم عليها بمهرها، كما يرجع أهل العهد علينا بمهر من أسلم منهم، ثم قال: {وإن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} [الممتحنة 11] يعني من ارتدت الكفار، وهي زوجة المسلم إذا ارتدت فلحقت بأهل العهد، وفواتها أن تنقضي عدتها في الردة، ثم قال: {فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا} [الممتحنة 11] فيه وجهان: أحدهما: فعاقبتم المرتدة بالقتل، فلزوجها أن يرجع بمهرها في غنائم المسلمين وهذا قول شاذ ذهب إليه بعض المتكلمين.

والثاني: يعني: فعاقبتم الذين لحقت المرتدة بهم من الكفار، وفيما أريد بمعاقبتهم وجهان: أحدهما: إصابة العاقبة منهم بالقتل والسبي والغنيمة فيدفع من غنائمهم مهر من ارتد إليهم. والثاني: أنه كما يوجب عليهم مهر من ارتد إليهم، ووجب لهم مهر من أسلم أيضًا جعل ذلك قصاصًا تساويًا ورد فعل إن زاد فيكون معنى "فعاقبتم" أن تقاصصتم، وهو على الوجه الأول من العقب. فصل: وإذا كان الله تعالى قد منع رسوله بهذه الآية من رد النساء إذا أسلمن دون الرجال، وأوجب لأزواجهن مهورهن، فقد اختلف العلماء وأصاحبنا معهم: هل اشترط في عقد هدنته رد من أسلم من الرجال والنساء أو جعله منصورًا على الرجال دون النساء؟ على ثلاثة أقاويل: أحدها: إنه خرج في شرطه أن يرد من أسلم من الرجال دون النساء؛ لأنه لا يجوز أن يشترط لهم ما لا يجوز، ولكن سألوه لما أسلم من نسائهم من أسلم أن يجريهم في الرد مجرى الرجال، ليمن عليهن برده؛ لظنهم أن ردهن جائز، فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم المنع من ردهن؛ ليكون حجة لرسوله صلى الله عليه وسلم من الامتناع، وإن كان ممتنعًا منه، وجعل رد المهر على الأزواج توكيدًا لعقد الهدنة. والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أطلق في شرط العقد رد من أسلم؛ ولم يصرح بذكر النساء في رد ولا منع، فكان ظاهر العموم من الشرط اشتماله عليهن مع الرجال، وإن كان تخصيصه محتملًا في دين الله تعالى خروجهن من عمومه، وكذلك كان مراد رسوله صلى الله عليه وسلم. وتمسكت قريش بظاهر العموم في رد النساء، فأظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم خروجهن من الهموم بما نزل عليه من الاستثناء. والثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح بردهن في شرط هدنته كما صرح بذكر الرجال حتى منعه الله تعالى من ردهن بهذه الآية، فعلى هذا اختلف أصحابنا في وجه اشتراطه لردهن على ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه كان ذلك منه على وجه السهو، ولولا سهوه عنه، لما أقدم عليه، وقد يسهو كغيره من أمته لكن لا يقره الله تعالى على خطأ، فيكون مساويًا لهم في السهو مباينًا لهم في الإقرار، فنزلت الآية عليه (استدراكاً) لسهوه.

والثاني: أنه فعله مع علمه بحظره لكن دعته الضرورة إليه لمصلحة وقته في حسم القتال؛ لأنه كان في ألف وأربعمائة من أصحابه، وكان المشركون نحو أربعة آلاف، وقد يفعل في الاضطرار ما لا يجوز أن يفعل في الاختيار، فلما زالت ضرورته منع منه. والثالث: أنه قد كان مباحًا في صدر الإسلام أن تقر المسلمة على نكاح كافر، ولذلك أقر رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنته زينب على نكاح أبي العاص بن الربيع، وكان على كفره إلي أنت انتزعها منه حتى أسلم، ثم ردها عليه، فلذلك شرط رد من أسلم من نسائهم عليهم، ثرم حرم الله تعالى ذلك، ونسخه، فامتنع منه وأبطل شرطه فيه. فإن قيل: فمذهبكم أنه لا يجوز أن ننسخ السنة إلا السنة، والقرآن إلا القرآن فكيف ننسخ السنة هاهنا بالقرآن. قيل: أما نسخ القرآن بالسنة، فلا يختلف مذهبنا أنه لا يجوز وأما نسخ السنة بالقرآن، فقد اختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: وهو مذهب ابن سريج أنه يجوز أن ننسخ السنة بالقرآن فعلى هذا سقط السؤال. والثاني: وهو الظاهر من مذهب الشافعي، وهو قول جمهور أصحابه أنه لا يجوز نسخ السنة بالقرآن، كما لا يجوز نسخ القرآن بالسنة، فعلى هذا عن هذا النسخ جوابان: أحدهما: أنه قد كان مستباحًا بعموم ما نزل من القرآن في إباحة النكاح، ثم نسخ ذلك بتخصيص العموم، فكان نسخ القرآن بقرآن. والثاني: أنه قد كان مستباحًا بالسنة ثم نسخته السنة بما روي من إبطال الشرط في هدنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فصل: فأما حكم الشرط في هدنة من بعده من أئمة الأعصار، فلا يجوز أن يهادنوا على رد من أسلم من نسائهم بحال، ولئن فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما قدمناه من الاختلاف في هدنته، فقد كان قبل الاستقرار الشرط في حظر الرد، قد استقر منه ما لا جوز خلافه. فأما الشرط رد من أسلم من الرجال، فمعتبر بأحوالهم عند قومهم، وفي عشائرهم، إذا رجعوا إليهم، فإن كانوا مستذلين فيهم ليس لهم عشيرة تكف الأذى عنهم، وطلبوهم ليعذبوهم، ويفتنوهم عن دينهم كما كانت قريش تعذب بلالًا، وعمارًا وغيرهما من المستضعفين بمكة، لم يجز ردهم عليهم، وكان الشرط في ردهم باطلًا، كما بطل في رد النساء حقنًا لدمائهم، وكفا عن تعذيبهم واستذلالهم، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الله حرم من

المسلم ماله ودمه، وأن لا يظن به إلا خيرًا" ولأنه لما وجب على الإمام فك الأسير المسلم وجب أن لا يكون عونًا على أسر مسلم. فأما من كان في عز من قومه، منعة من عشيرته قد أمن من أن يفتن عن دينه أو يستذله، مستطل عليه، جاز رده عليه وصحت الهدنة باشتراط رده. قدر رد سول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية أبا جندل بن سهيل بن عمرو على أبيه، ورد عياش بن أبي ربيعة على أهله، ورد أبا بصير على أبيه، وأنهم كانوا ذوي عشيرة، وطلبهم أهلوهم إشفاقًا عليهم، وفادى العقيلي بعد إسلامه برجلين من المسلمين كانا أسرين في قومه، لقوة عشيرته فيهم. وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد مراسلة قريش بالحديبية، فعرض على أبي بكر أن يتوجه إليهم، فقال: إني قليل العشيرة بمكة، ولا آمنهم على نفس. فعرض على عمر. فقال مثل ذلك فقال لعثمان: "أنت كثير العشيرة بمكة" فوجهه إليهم، فلما توجه فلقوه الإكرام وقالوا له: طف بالبيت وتحلل من أحرامك، فقال: لا أطوف بالبيت ورسوله الله صلى الله عليه وسلم محصور عن الطواف، فانقلبوا عليه، حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قتل، فبايع أصحابه من أحله بيعة الرضوان تحت الشجرة، فدل هذا على الفرق بين ذي العشيرة المانعة وبين غيره في الرد. ومثله ما قلناه: في وجوب الهجرة على من أسلم في دار الحرب إن كان ممتنعًا بعشيرته إذا أظهر إسلامه لم تجب عليه الهجرة، وإن كان مستضعفًا وجبت عليه الهجرة، فصار الرد مقصورًا على طائفة واحدة، وهي الممتنعة بيوتها لقوتها والمنع الرد مشتملًا على طائفتين: أحدهما: جميع النساء من الممتنعات، والمستضعفات. والثاني: المستضعفون من الرجال، وكذلك الصبيان إذا وصفوا الإسلام عند المراهقة ممنوعة من الرد، وإن كانوا ممتنعين؛ لأنهم قد يفتنون عن دينهم. نص عليه الشافعي، فجعل أبو علي بن أبي هريرة هذا دليلاً على صحة إسلامه قبل بلوغه، وذهب جميع أصحاب الشافعي، وهو ظاهر مذهبه، ومنصوصه في سائر كتبه إن إسلامه لا يصح قبل بلوغه، وإنما منع من رده استظهارًا لدينه حتى يتحقق ما هو عليه بعد بلوغه. فإن وصف الإسلام رد إن كان ممتنعًا، ولم يرد إن كان مستضعفًا، وإن وصف الكفر حمل على هدنة قومه. فلو شرط في الهدنة رد من أسلم مطلقًا من غير تفصيل بطلت؛ لأن إطلاقه يقتضي عموم الرد ممن يجوز أن يرد، وممن لا يجز أن يخص عمومه بالعرف فيمن يجوز رده.

فصل: فإذا تقرر هذا التفصيل، فالكلام فيه يشتمل على فصلين: أحدهما: في النساء. والثاني: في الرجال. فأما الفصل الأول: في النساء، فليس لهم إلا حال واحدة في المنع من ردهن، فإذا منع الإمام منه نظر في الطالب لهن: فإن كان غير زوج من ابن أو أخ أو عم، فلا شيء له إذا امتنع؛ لأنه لا يملك عن بضعها بدلاً. وإن كان الطالب لها زوجها قيل له: إن أسلمت في عدتها كنت على نكاحك لها، وإن لم تسلم منعت منها، ونظر في مهرها، فإن لم يدفعه إليها لم يرجع به، وإن دفعه إليها، فعنى رجوعه به قولان بناء على الاختلاف المتقدم في امتناع رسول الله صلى الله عليه وسلم من ردهن، هل كان لنسخ بعد الإباحة، أو كان مع تقدم الحظر، لأن الله تعالى أوجب رد المهم في عقد هدنته، فكان مستحقًا في منعه، وإن لم يدفعه لم يطال. فإن قيل: إنه اشترط ردهن مع إباحته، ثم نسخه الله تعالى بعد هدنته، فلا مهمر لزوج المسلمة من بعده، لأنه لا يجوز اشتراط ردها عليه؛ لما استقر من تحريمه. وإن قيل: إن حظره كان متقدمًا، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشترط ردهن أو شرطه سهوًا أو مضطرًا وجب لزوج المسلمة في هدنة الإمام بعده الرجوع بمهرها؛ لأن ردهن في الحالين محظور، والشرط فيها ممنوع، فصار الفولان في رد المهر مبنيين على هذين: أحدهما: وهو الأصح، واختاره المزني، وبه قال أبو حنيفة ومالك: لا مهر له، ووجهه شيئان: أحدهما: أنه لما لم يرجع به غير زوجها أهلها لم يرجع به زوجها كالنفقة والكسوة. والوجه الثاني: لما لم ترجع زوجة من أسلم بما استحقته من المهم وجب أن لا يرجع زوج من أسلمت بما دفعه المهر، لتكافئهما في النكاح. والقول الثاني: وبه قال عطاء له الرجوع بالمهر؛ لأمرين: أحدهما: عموم قوله تعالى: {وآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا} [الممتحنة 10]، فاقتضى أن يستوي فيه حكم الجميع. والثاني: أن عقد الهدنة قد أوجب الأمان على الأموال، ويضع الزوجة في حكم

المال؛ لصحة المعاوضة عليه نكاحًا وخلعًا، فاقتضى أن يجب في المنع منه الرجوع ببدله، وهو المهر وعلى هذا القول يكون التفريغ، فيكون استحقاق مهرها معتبرًا بتسعة شروط: أحدهما: أن يكون الطالب لها زوجها، فإن طلبها غيره من أهلها لم يستحق مهرها؛ لأنه لا يملك منافع بضعها، فإن ادعى زوجتها فصدقته قبل قولها، وإن أنكرته لم تقبل دعواه إلا بشاهدين من عدول المسلمين يشهدان بنكاحه، ولا يقبل منه شاهد وامرأتان، ولا شاهد ويمين؛ لأنه بينة على عقد نكاح. والثاني: أن يكون قد ساق إليها مهرها، فإن لم يسقه لم يستحقه، وقولها في قبضه مقبول، فإن أنكرته لم يجب عليها يمين؛ لأن رده مستحق على غيرها، وطول الزوج بالينة، ويقبل منه شاهد وامرأتان، وشاهد ويمين؛ لأنها بينة على مال، فإن كان ما دفعه من المهر حرامًا كالخمر والخنزير لم يستحق الجوع بمهرها؛ لأنه دفع ما لا يستحق فيه مثل، ولا قيمة. والثالث: أن تكون قد هاجرت بإسلامها إلي بلد الإمام أو من ينوب عنه وفي هذا النائب عنه وجهان: أحدهما: هو النائب عنه في عقد الهدنة لمباشرته لها. والثاني: النائب عنه في بيت المال؛ لأن المهر يستحق فيه، فإن هاجرت إلي غير بلده لم يستحق مهرها بعد من ينفذ تصرفه في بيت المال. والرابع: أن يستقر إسلامها بالبلوغ والعقل، فإن كانت صغيرة أو مجنونة، وقف أمرها على البلوغ والإقامة، ومنه منها، لئلا تفتن عن دينها إذا بلغت أو أفاقت، فإن صبر الزوج منتظرًا يمنع من المهر، فإن بلغت الصغيرة، وأفاقت على الإسلام دفع إليها مهرها، وإن وصفت الكفر لم يدفع إليها مهرها، ويمكن منها. وإن امتنع من الصبر والانتظار، وقال: إما التمكين منها أو دفع مهرها، ففيه وجهان: أحدهما: يجبر على الصبر انتظارًا لها، ولا يمكن منها، لجواز إسلامها، ولا يدفع إليه مهرها، لجواز كفرها. والثاني: يدفع إليه مهرها؛ لأنه مستحق لا يعجل له أيسرهما، وروعي حالها إذا بلغت، فإن أقامت على الإسلام استقر ملكه على المهر منعه منها، وإن وصفت الكفر استرجع منه مهرها، مكن منها. فأما المجنونة، فإن كانت قد وصفت الإسلام قبل جنونها دفع إليه مهرها، وإن

وصفته في جنونها كانت كالصغيرة في انتظار إقامتها. والخامس: أن تكون باقية الحياة لم تم؛ ليصير الزوج ممنوعًا منها، فإن ماتت نظر في موتها، فإن كان بعد طلب الزوج لها استحق مهرها؛ لأنه قد استوجب بالطلب فلم يسقط بالموت، وإن ماتت قبل طلبه، فلا مهر له؛ لأنه لم يتقدم منه يستحق به المهر، وكذلك لو مات الزوج دونها، وكان قبل طلبه، فلا مهر لوارثه، وإن مات بعد طلبه استحق وارثه المهر لوجوبه بالمنع قبل الموت. والسادس: أن تكون باقية في عدتها، فإن طلبها بعد انقضاء العدة، فلا منزلة لوقوع الفرق بانقضائها إلا أن يطلبها في العدة، ولا يسقط المهم بتأخيره إلي انقضائها كما لا يسقط بالموت. والسابع: أن تكون مقيمة على إسلامها، فإن ارتدت عنه منع منها، وفي استحقاقه لمهرها لهذا المنع وجهان: أحدهما: يستحقه لمنعه منها بحرمة الإسلام كالمسلمة. والثاني: لا تستحقه؛ لأنه منع لإقامة الجد وليس يمنع لثبوت الإسلام، والأول أصح لأن فرج المرأة المرتدة محظور على الكافر كالمسلمة. والثامن: أن يكون الزوج مقيمًا على كفره؛ ليكون على المنع منها، فإن أسلم، فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون إسلامه قبل انقضاء عدتها، فيكونان على النكاح، ولا مهر له لتمكينه منها، فلو كان قد أخذ المهر قبل إسلامه استرجع منه؛ لئلا يكون مالكًا لبعضها بغير مهر. والثاني: أن يكون إسلامه بعد انقضاء عدتها، فقد بطل النكاح، بانقضائها ثم ينظر في المهر، فإن كان قد أخذ بالطلب قبل الإسلام لم يسترجع منه، وصار بالقبض متسهلكًا في الشرك، وإن لم يأخذ المهر قبل إسلامه نظر. فإن لم يكن قد طلبها حتى أسلم، فلا مهر له؛ لأنه غير ممنوع أن يستأنف نكاحها، وإن قدم الطلب، ولم يأخذ منها حتى أسلم، ففي استحقاقه لمهرها وجهان: أحدهما: يستحقه ولجوبه بالطلب. والثاني: لا يستحقه؛ لأنه ممكن من نكاحها من إن أحب. والتاسع: أن يكون الزوج مقيمًا على نكاحها، فإن طلقها، فضربان: أحدهما: أن يكون طلاقه بعد المطالبة لها، فله المهر؛ لأنه قد استحقه بالمنع، ولا يسقط بالطلاق كما لا يسقط الموت.

والثاني: أن يكون طلاقه قيل المطالبة بها، فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون بائنًا بثلاث أو خلع، فلا مهر له؛ لأنه راض بتركها. والثاني: أن يكون طلاقه رجعيًا، فهو موقوف على رجعته، فإن لم يراجع، فلا مهر له، لتركها عن رضي، وإن راجعها، فله المهر لارتفاع الطلاق بالرجعة، فصار باقيًا على التمسك بها. فإذا ستقر مهرها باستكمال هذه الشروط التسعة، وكانت المطالبة بزوجة أو زوجتين أو ثلاث أو أربع، حكم له بهمورهن كلهن، ولو طالب بعشر زوجات أسلمن عنه وقد نكحهن في الشرك قيل له: اختر من جملتهن أربعًا، ولك مهورهن، ولا مهر لك، فيما عداهن، لاستقرار الشرع على تحرم من زاد على الأربع، وإذا كان المهر مستحقًا، فقد قال أبو حامد الإسفراييني: المستحق فيه هو القدر الذي هو القدر الذي دفعه من قليل وكثير دون مهر المثل، لقول الله تعالى: {وآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا} [الممتحنة 10]، والذي عندي أنه يستحق أقل الأمرين من مهر مثلها أو ما دفع، فإن كان أٌلها مهر مثلها رجع به، ولم يرجع بما غرمه من الزيادة عليه؛ لأنه بدل البضع الفائت عليه. وإن كان أقلها ما غرمه رجع به، ولم يرجع بالزيادة عليه؛ لأنه لم يغرمها، وسواء في استحقاقه المهر بين أن يشترط ردهن في عقد الهدنة، أو لا يشترط، إلا أن الهدنة تبطل باشتراطها ردهن ولا تبطل إن لم يشترط. فصل: وأما الفصل الثاني في الرجال فضربان: أحدهما: في استحقاق رد الأقوياء، فصفة الرد أن يكون إذنًا منه بالعود، وتمكينًا لهم في الرد، ولا يتولاه الإمام جبرًا إن تمانع المردود، وكذلك أذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جندل وأبي بصير في العود، فإن أقام المطلوب على تمانعه من العود قيل للطالب: أنت ممكن من استرجاعه، فإذا قدرت عليه لم تمنع منه، وإن عجزت عنه لم تعن عليه، وروعي حكم الوقت فيما يقتضيه حال المطلوب، فإن ظهرت المصلحة في حثه على العود لتألف قومه أشار به الإمام عليه بعد وعده بنصر الله، وجزيل ثوابه، ليزداد ثباتًا على دينه، وقوة في استنصاره وإن ظهره المصلحة في تثبيطه عن العود أشار به سرًا وأمسك عن خطابه جهرًا، فإن ظهر من الطالب عنف بالمطلوب واعده الإمام، فإن كان لفرط إسفاف تركه، وإن كان لشدة منعه، فإن كان مع المطلوب مال أخذه من الطالب الذي نظر فيه: فإن كان أخذه قبل الهدنة كان المطلوب أحق به، وإن أخذه بعد الهدنة كان الطلب أحق به؛ لأن أمواله قبل الهدنة مباحة، وبعدها محظورة. فأما إن كان المطلوب منها مقيمًا على شركه بعد ولو يسلم مكن طالبه منه سواء كان

قويًا أو ضعيفًا رجلًا كان أو امرأة خيف عليهم منهم أو لم يخف، لأن الهدنة قد أوجبت أمانه منا، ولو توجب أن تؤمنه منهم، واستحق بمطلق الهدنة تمكينهم منهم، واستحق بمطلق الهدنة تمكينهم منهم، ولم يستحق بها أن نقوم برده عليهم إلا أن يشترطوا ذلك علينا، فيلزمنا بالشرط أن نرده بخلاف المسلم الذي لا يجوز أن يرد، ولا يلزمنا أن نعاوضهم عنه. فإن شرطها في عقد الهدنة، أن نعاوضهم عمن لحق بنا من كفارهم كان الشرط باطلًا؛ لأنه لا يملك أن يبذل أموال المسلمين عن المشركين للمشركين. وأما الضرب الثاني: والضعفاء فلا يلزم معاوضة الطالب في دفعه عن المطلوب بخلاف النساء في حقوق الأزواج؛ لأن رقبة الحر ليست بمال يصح فيه المعاوضة بخلاف بضع الحرة، فإن كان المطلوب عبدًا غلب على سيده، وهاجر مسلمًا، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يغلب على نفسه قبل إسلامه، فيعتض بهجرته بعد إسلامه سواء فعل ذلك قبل الهدنة أو بعدها، لأن الهدنة توجب أمانهم منا، ولا تجوب أمان بعضهم من بعض. والثاني: أن يغلب على نفسه بعد إسلامه، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يفعل ذلك قبل الهدنة، فيعتض بهجرته مسلمًا؛ لأنه أغلب على نفسه في حالة الإباحة. فإذا أعتق في هذه الحال، فعل يلزم الإمام غرم قيمته لسيده أم لا؟ على قولين كالزوجة. والثاني: أن يفعل ذلك بعد الهدنة، فلا يعتض لحظره أموالهم بعدها، فلم يملكها مسلم بالغلبة، ويكون على رقه لسيده، ويمنع من دفعه إليه، استيفاء رقه عليه؛ لئلا يستذل بالاسترقاق، ويقال لسيده: إن أعتقه كان لك ولاؤه، ولا قيمة لك عنه بعد عتقه، وإن امتنعت من عتقه لم يعتق عليك جبرًا، لما أوجبته الهدنة من حفظ مالك، وكان الإمام فيه مجتهدًا في خيارين: إما أن يبيعه على مسلم أو يدفع قيمته من بيت المال، ويعتقه عن كافة المسلمين ولهم ولاؤه. فلو كان المطلوب أمة ذات زوج غلبت على نفسها وهاجرت مسلمة، فحضر سيدها وزوجها في طلبها، كان حكمها مع السيد على ما ذكرنا من حكم العبد في العتق والرد، وغرم القيمة على التقسيم المقدم. وأما حكمها مع الزوج، فلا يخلو أن يكون حرًا أو عبدًا، فإن كان حرًا كان في استحقاقه لمهرها من بيت المال قولان كالحرة، ولا يكون غرم قيمتها لو أخذها السيد مانعًا من غرم مهرها للزوج.

وإن كان الزوج عبدًا، ففي استحقاق المهر قولان أيضًا، لكنه ملك لسيده دونه، فلا يسلم إذا استحق إلا باجتماع الزوج مع سيده، لأن ملك البضع للعبد. وملك المهر لسيده، فإن تفرد أحدهما بطلبه منع، وإن اجتمعا عليه دفع باجتماعها إلي السيد دون العبد كما لو ملك العبد بالطلاق قبل الدخول نصف الصداق، كان ملكًا للسيد ولم ينفرد بقبضه، إلا باجتماع مع عبده. ولو كانت المطلوبة أم ولد، فجاء سيدهما في طلبها كانت في العتق، واستحقاق القيمة كالأمة، ولو كانت مكاتبة، فإن حكم بعتقها على ما قسمناه في الأمة بطلب كتابتها، وفي استحقاقه لقيمتها قولان. وإن لم يحكم بعتقها، كانت على كتابتها، ولم تبع عليه، وإن أدت مال كتابتها عتقت بالكتابة، وكان له ولاؤها، وسواء كان ما أدته من الكتابة أقل من قيمتها أو أكثر، وإن عجزت ورقت حسب من قيمتها بما أخذه من مال كتابتها بعد إسلامها، ولم يحتسب عليه مأخذه منها قبل الإسلام، فإن بلغ قدر القيمة، فقد استوفى حقه، وعتقت، وكان ولاؤها للمسلمين، وهول يرد عليها من بيت المال أم لا؟ على قولين: أحدهما: لا يرد إذا قيل: إن سيد الأمة لا يستحقه. والثاني: يرد إذا قيل إن سيد الأمة يستحقه، فإن كان ما أدته أكثر من القيمة، لم يسترجع فاضل القيمة من سيدها، وإن كان ما أدته أقل من قيمتها استحق سيدها تمام قيمتها قولًا واحدًا؛ لأنه عتق بعد ثبوت الرد، وكان ذلك من بيت المال. فصل: فأما من ارتد بعد الهدنة من المسلمين ولحق بهم لم يخل حال الإمام في عقد هدنته من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون قد اشترط فيها رد من ارتد إليهم ليؤخذوا برده وتسليمه سواء كان المرتد رجلًا أو امرأة، فإن امتنعوا من رده كان نقضًا لهدنتهم. والقسم الثاني: أن يشترط فيه أن لا يردوا من ارتد إليهم من المسلمين، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم شرط ذلك لقريش في هدنة الحديبية. فأما الآن ففي جواز اشتراطه الهدنة قولان: أحدهما: يجوز اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم في هدنة الحديبية؛ لأن الردة قد أباحت دماءهم فسقط عنا حفظهم. والثاني: أنه شرط باطل؛ لأن هدنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في الحديبية لما بطلت في رد من

أسلم بطلت في ترك من ارتد؛ لأن أحكام الإسلام عليها جارية. والصحيح عندي من إطلاق هذين القولين أنها تبطل في ترك من ارتد من النساء ولا تبطل في ترك من ارتد من الرجال كما بطلت في رد من أسلم من النساء، ولم تبطل في رد من أسلم من الرجال؛ لأن النساء ذوات فروج يحرم على الكافر من المرتدة مثل ما يحرم عليه من المسلمة، ولعل اختلاف القولين محمول على ما ذكرنا من الفرق بين الفريقين. فإن قلنا بوجوب الرد كان عليهم لتمكين منهم، وأن لا يذبوا عنهم، ولا يمكنوا منهم، وكانوا فيه على عهدهم. والقسم الثالث: أن يكون عهد الهدنة مطلقًا لم يشترط فيه رد من ارتد إليهم، ولإقراره معهم، فإطلاقه يوجب رد من ارتد منا، ولا يوجب رد من أسلم منهم؛ لأن إطلاقه موجب لإمضاء حكم الإسلام فيه؛ لأن حكمه أعلى، فكان العقد عليه بمعنى، فيلزمهم لتمكن منهم، ولا يلزمهم تسليمهم، فإن ذبوا عنهم، ولم يمكنوا انتقض عهدهم، فصارت أحكام المرتد إليهم من هذه الأقسام ثلاثة تنقسم على أحكام ثلاثة: أحدها: أنه يجب عليهم تسليم المرتدين. والثاني: أنه يجب عليهم التمكين من المرتدين، ولا يجب عليهم تسليمهم. والثالث: لا يجب عليهم تسليمهم، ولا التمكين منهم، فإن لم يجب عليهم تسليمهم، ولا التمكين منهم وجب عليهم أن يغرموا مهور من ارتد من نسائنا وقيمة من ارتد من عبيدنا وإمائتنا، ولم يجب عليهم عمن ارتد من الرجال الأحرار غرم كما لم يجب عليهم عمن أسلم من أحرارهم غرم؛ لأن رقبة الحر تضمن بغير جناية، فلو عاد المرتدون إلينا لم نرد على أهل الذمة ما أخذناه من مهور النساء، ورددنا ما أخذناه من قيمة العبيد؛ لأنهم قد صاروا لهم بدفع القيمة ملكًا، فلم يصر لنسائهم بدفع المهور أزواجًا. وإن وجب عليهم التمكين منهم، ولم يجب عليهم تسليمهم لم يجب عيهم غرم مهر، ولا قيمة مملوك؛ لأننا أن وصلنا إليهم بالتمكين، فقد وصلنا إلى حقنا، وإن لم نصل إليهم مع التمكين فلعجزنا. وإن وجب عليهم تسليمهم أخذوا به جبرًا إذا كان تسليمهم ممكنًا، ولا غرم إذا سلموهم، فإن فات تسليمهم بالموت أغرموا مهور النساء، وقيمة العبيد والإماء، وإن تعذر تسليمهم بالهرب، فإن كان قبل القدرة على ردهم لم يغرموا مهرًا، ولا قيمة، وإن كان بعد القدرة على ردهم غرموا مهور النساء وقيم العبيد والإماء. فإذا تقرر هذا ووجب لنا عليهم مهور من ارتد من نسائنا، وقيمة من ارتد من عبيدنا

وإمائنا، ووجب لهم علينا مهور من أسلم من نسائهم وقيمة من أسلم من عبيدهم وإمائهم جعلناه قصاصًا قولًا واحدًا، لما في القبض والتسليم من الخطر الشاق، فإن استويا في القدر برئت منه الذمتان، وإن فضل لنا رجعت بالفضل عليهم، وإن فضل لهم دفعنا الفضل إليهم، ودفع الإمام ما قاصصهم به من بيت المال إلي مستحقيه من المسلمين وكتب إليهم أن يدفعوا ما قصصوا به إلي مستحقه من المشركين، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وليس لأحد أن يعقد هذا العقد إلا الخليفة أو رجل بأمره لأنه يلي الأموال كلها". قال في الحاوي: وهذا كما قال: لا يصح أن يتولى عقد الهدنة العامة إلا من إليه النظر في الأمور، وهو الخليفة أو من استنابه به فيها الخليفة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاهد بني قريظة وبني النضير بنفسه، وهادن قريشًا عام الحديبية بنفسه؛ ولأن الخليفة، لإشرافه على جميع الأمور أعرف بمصالحها من أشذاذ الناس؛ ولأن أمره بالولاية أنفذ، وهو على التدبير والحراسة أقدر. فإن استناب فيها من أمره بعقدها صح؛ لأنها صدرت عن رأيه، فلم يلزمه أن يباشرها بنفسه؛ لأن عام النظر، فلم يفرغ لمباشرة كل عمل، فإن استناب فيها من فوض عقدها إلي رأيه جاز إذا كان من أهل الاجتهاد والرأي، وهما في اللزوم على سواء. وأما ولاة الثغور، فإن كان تقليدهم تضمن الجهاد وحده لم يكن لواحد منهم أن يعقد الهدنة إلا قدر فترة الاستراحة، وهي أربعة أشهر، ولا يجوز أن يكون سنة، لأن عليه أن يجاهد في كل سنة، وفيما بين أربعة أشهر وسنة قولان؛ لنه فقد في هذه المدة عن الجهاد من غير هدنة جاز، فكان مع الهدنة أولى بالجواز. وإن تضمن تقليد ولي الثغور أنه يعمل برأيه في الجهاد والموادعة جاز أن يعقد الهدنة عند الحاجة إليها؛ لدخولها في ولايته، والأولى أن يستأذن فيها الخليفة، فإن لم يستأذنه انعقدت. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وعلى من بعده من الخلفاء إنفاذه".

قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا اجتهد الإمام في الهدنة حتى عقدها ثم مات أن خلع لزم من بعده من الأئمة إمضاؤها إلي انقضاء مدتها، ولو يمكن له فسخها، وإن استغنى المسلمون عنها لقول الله تعالى: {فَأَتِمُّوا إلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلَى مُدَّتِهِمْ} [التوبة 4] ولما روي أن نصارى نجران أتوا عي بن أبي طالب عليه السلام في ولايته، وقالوا له: إن الكتاب بيدك وإن الشفاعة إليك، وإن عمر أجلانا من أرضنا، فزدنا إليها، فقال: إن عمر كان رشيد الأمر، وإني لا أغير أمر فعله. ولأن ما نفذ بالاجتهاد ولم يجز أن يفسخ بالاجتهاد كالأحكام، فإن كان عقد الهدنة فاسدًا، فإن كان فسادها من طريق الاجتهاد لم يفسخ لنفوذ الحكم بإمضائها، وإن كان فسادها من نص أو إجماع فسخت. ولم يجز الإقدام على حربهم إلا بعد إعلامهم فساد الهدنة، وقد تظاهر يهود خيبر بكتاب نسبوه إلي علي عليه السلام كتبه لهم في وضع الجزية عنهم، ولم ينقله أحد من الرواة عنه، فلم يجز قبول قولهم فيه، ولو كان صحيحًا لجاز أن يكون لسبب اقتضاه الوقت، ثم سقط؛ لأنه لا يستجيز أن يعاملهم بما يعدل فيه عن كتاب الله تعالى وقوله: {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة 29] ولذلك لم يعمل عليها الفقهاء، وأوجبوها عليهم كغيرهم من اليهود. وتفرد أبو علي بن أبي هريرة بإسقاطها عنهم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاملهم على نخيل خيبر حين فتحها، وهذا خطأ؛ لأن المعاملة لا تقتضي سقوط الجزية. وينبغي للإمام إذا أهان قومًا أن يكتب عقد الهدنة في كتاب يشهد فيه المسلمون ليشمل به الأئمة بعده، ويجوز أن يقول فيه: لكم ذمة الله وذمة رسوله وذمته، وكذا في الأمان: لكن أمان الله، وأمان رسوله وأماني، وحرم بعض الفقهاء ذلك، وكرهه آخرون؛ لأنه ربما خفرت الذمة، فأفضى ذلك إلي أن تخفر ذمة الله وذمة رسوله، وهذا خطأ؛ لأن معناه: أن لكم ما أوجبه ورسوله من الوفاء بالذمة والأمان، فلم ينسب إليهما ما تخفر به ذمتهما. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ولا بأس أن يصالحهم على خرج على أراضيهم يكون في أموالهم مضمونًا كالجزية". قال في الحاوي: وصورتها أن يصالح أن يصالح الإمام أهل بلد من دار الحرب على خراج

يضعه على أرضهم، يستوفيه كل سنة من أموالهم، فهو على ضربين: أحدهما: أن ينعقد الصلح على أن تكون أرضهم للمسلمين، فقد صارت بهذا الصلح من دار الإسلام، وصاروا بإقرارهم فيها أهل ذمة لا يقروم إلا بجزية ولا يجزئ الخراج المأخوذ من أرضهم عن جزية رؤوسهم، لأنه أجرة، حتى يجمع عليهم بين خراج الأرض وجزية الرؤوس، فإن أسلموا سقطت عنهم جزية رؤوسهم، لو يسقط عنهم خراج أرضهم. والثاني: أن ينعقد الصلح على أن تكون الأرض باقية على أملاكهم، والخراج المضروب عليها مأخوذًا منهم، فهذا على ضربين: أحدهما: أن ينعقد الشرط على أمانهم منا، ولا ينعقد على ذنبا عنهم، فتكون أرضهم مع هذا الشرط من حملة دار الحرب، ويكونوا فيها أهلي عهد، ولا يكونوا أهل ذمة، ولا تؤخذ منهم جزية رؤوسهم؛ لأنهم مقيمون في دار الحرب، لا في دار الإسلام، فيقتصر على أخذ الخارج منهم قل أو كثر، ويكون الخراج كالصلح يجري عليه حكم الجزية، وليس بجزية. فإن أسلموا أسقط الخراج عنهم، وصارت أرضهم أرض عشر. وقال أبو حنيفة: لا يسقط عنهم خراج الأرض بإسلامهم؛ لأنها قد صارت بالصلح أرض خراج، فلم يجز أن ينتقل إلي العشر؛ لنفوذ الحكم به، وهذا غير صحيح؛ لأن ما استحق بالكفر سقط بالإسلام كالجزية. واحتجاجه بنفوذ الحكم فنفوذه مقصور على مدة الكفر. والثاني: أن ينعقد الشرط على أمانهم منا، وذبا عنهم، فقد صارت أرضهم بهذا الشرط دار الإسلام، وصاروا فيها أهل الذمة لا يقرون إلا بجزية، ويكون خراج أرضهم مع بقائها على ملكهم جزية عن رؤوسهم، فلا يلزم أن يجمع عليهم بين خراج الأرض وجزية الرؤوس. وقال أبو حنيفة: لا تسقط جزية رؤوسهم بخراج الأرض، وأجمع عليهم بين الجزية والخراج، لأن خراج الأرض عوض عن إقرارها عليهم، والجزية عن حراسة نفوسهم، فلم يسقط أحدهما بالآخر، وهذا فاسد؛ لأنه لما جاز أن يقرهم بالجزية دون الخراج، ويكون ذلك عوضًا عنهما جاز أن يقرهم بالخراج دون الجزية، فيكون ذلك عوضًا عنها؛ لأن كل واحد منهما ينوب عنهما. فصل: فإذا تقرر الاقتصار على خراج الأرض كانت صحته معتبرة بشرطين: أحدهما: أن يكون خراج كل رجل منهم لا ينقص عن جزيته، فإن نقص عنها أخذ بتمامها.

والثاني: أن من لا أرض له منهم لا يقر معهم إلا بجزية رأسه، ويؤخذ هذا الخراج من أرضهم زرعت أو لم تزرع؛ لأنها جزية. فإن شرط أخذ الخراج منها إذا زرعت وإسقاطه إذا لم تزرع كان الشرط باطلًا؛ لأنهم قد يعطلونها فتسقط. وقال أبو علي بن أبي هريرة: إن لم يكن لهم معاش غير الزرع جاز، لأنهم لا يعطونها إلا من ضرورة، وإن كان لهم معاش غيره لم يجز. ويؤخذ هذا الخراج من كل مالك من الرجال والنساء وإن كانت جزية الرؤوس مأخوذة من الرجال دون النساء؛ لأنها في مقابلة منفعة الأرض التي يشترك فيها جميعهم، فصار الخراج أعم نفعًا من الجزية، فلذلك صار أعم وجوبًا. فإن جمع الإمام عليهم في شرط بين خارج الأرض وجزية الرؤوس جاز، وصار خراج الأرض زيادة على الجزية، فيؤخذ قليلًا كان أو كثيرًا من الرجال والنساء، وتؤخذ جزية الرؤوس من الرجال دون النساء، فإن أسلموا أسقط عنهم الخراج والجزية وأسقط أبو حنيفة الجزية دون الخراج. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ولا يجوز عشور ما زرعوا لأنه مجهول". قال في الحاوي: وهذا على ثلاثة أقسام: أحدها: أن تكون الأرض قد صارت ملكًا للمسلمين، وهي دار الإسلام، وهم فيها أهل ذمة يلزمهم خارج الأرض، وجزية الرؤوس، فلا يجوز الاقتصار منهم على عشور ما زرعوا؛ لأن عليهم حقين: الخراج والجزية، فإن جعل العشر خراجًا بقيت الجزية، وكان الخراج فاسدًا؛ لأنه أجرة لا تصح إلا معلومة، وهذه مجهولة؛ لأنهم قد يزرعون ولا يزرعون، ويكون زرعهم قليلًا أو كثيرًا. وإن جعل العشر جزية بقي الخراج، وكانت الجزية فاسدة لما ذكرنا من الجهالة بها. والثاني: أن تكون الأرض لهم وهي دار حرب، وهم فيها أهل عهد، فيجوز أن يصالحوا على عشور ما زرعوا؛ لأنه لا خراج على أرضهم لبقائها على ملكهم، ولا جزية على رؤوسهم لمقامهم في دار الحرب، فيصير عشر زرعهم مال صلح ليس بخراج ولا جزية، فجاز قليله وكثيره في العلم به، والجهل؛ لأنه مال تطوع. والثالث: أن تكون الأرض باقية على ملكهم، وهي دار الإسلام؛ لأنهم فيها أهل

باب تبديل أهل الذمة دينهم

ذمة تلزمهم جزية رؤوسهم، ولا يلزمهم خارج أرضهم، فيكون صلحهم على عشور ما زرعوا الجزية عن الرؤوس، فقد قال الشافعي: لا يجوز؛ لأنه مجهول. فاختلف أصحابنا في وجه فساده على ثلاثة أوجه: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي إنه لم يجز، لأنه لم يعلم هل يفي أقله بقدر الجزية أو لا يفي، فإن علم أنه يفي بقدر الجزية جاز. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة إنه لا يجوز إذا كان لهم مكسب غير الزرع؛ لجواز أن لا يزرعوا، فإن لم يكن لهم كسب غير الزرع جاز؛ لأنهم لا يدعونه إلا من ضرورة. والثالث: وهو الأصح أنه لا يجوز إذا لم يضمنوا تمام الجزية عند فصوره أو فواته. ويجوز أن ضمنوا تمام ما قصر أو فات؛ لأن قدر الجزية إذا تحقق حصوله لم تؤثر الجهالة فيما عداه من الطوع، والله أعلم. باب تبديل أهل الذمة دينهم مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "أضل ما أبنى عليه أن الجزية لا تقبل من أحد دن دين كتابي إلا أن يكون آباؤه دانوا به قبل نزول الفرقان". قال في الحاوي: قد مضت هذه المسألة في مواضع شتى، وذكرنا أن من خالف دين الإسلام من الكافر ينقسمون ثلاثة أقسام: قسم هم أهل كتاب كاليهود والنصارى، فتقبل جزيتهم، وتحل مناكحتهم وذبائحهم. وقسم لا كتاب لهم ولا شبهة كتاب كعبدة الأوثان فلا تقبل جزيتهم ولا تحل مناكحتهم، ولا تؤكل ذبائحهم تغليبًا لحكم التحريم. وإذا كان كذلك صار كمال الحرمة فيهم لأهل الكتاب من اليهود والنصارى وهؤلاء ضربان: أحدهما: بنو إسرائيل، وإسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، فبعث الله تعالى نبيه موسى في بني إسرائيل بالتوراة، فآمن به جميعهم، ودعا غيرهم، فآمن بعضهم،

ودخل بعده في دينه قوم ثم بدلوا دينهم حتى عدلوا عن الحق فيه، وسمي من دخل في دينه اليهود، فبعث الله تعالى بعده عيسى ابن مريم بالإنجيل إلى بني إسرائيل وغيرهم، فآمن بع بعض بني إسرائيل من اليهود، وآمن به طوائف من غيرهم ثم بدلوا دينهم حتى عدلوا عن الحق فيه، وسمى من دخل في دينه النصارى، فبعث الله تعالى بعده محمدًا صلى الله عليه وسلم بالقرآن، وجعله خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم وعلى جميع الأنبياء المرسلين، فدعا جميع الخلق بعد ابتدائه بقريش؛ لأنهم قومه، ثم بالعرب، ثم بمن عداهم، فآمن به من هداه الله تعالى من كافة الخلق، فصارت شريعة الإسلام ناسخة لكل شريعة تقدمتها فلم يختلف مذهب الشافعي بعد نسخ جميع الشرائع المتقدمة بالإسلام أن النصرانية منسوخة بشريعة الإسلام، واختلف أصحابه في اليهودية بما إذا نسخت، على وجهين: أحدهما: وهو الأشهر نسخت بالنصرانية، حيث بعث الله عيسى بالإنجيل. والثاني: أنها منسوخة بالإسلام حيث بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم بالقرآن: فإذا تقررت هذه الجملة، فكل من كان من اليهود والنصارى من بني إسرائيل، فهم مقرون على دينهم تقبل جزيتهم، وتحل مناكحتهم، وتؤكل ذبائحهم، لعلمنا بدخولهم هذين الدينين قبل تبديلهم، فثبتت لهما حرمة الحق، فلما خرج أبناؤهم عن الحق بالتنزيل حفظ الله فيهم حرمة إسلامهم، فأقرهم على دينهم مع تبديلهم، كما قال تعالى في قصة الجدار: {وكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا} [الكهف:82] الآية، وحفظ الله تعالى بينهما إصلاح أبيهما، وقيل: إنه كان الأب السابع حتى أوصلهما إلى كنزهما. وأما غير بني إسرائيل من اليهود والنصارى، فينقسمون أربعة أقسام: أحدها: أن يكونوا قد دخلوا اليهودية والنصارى قبل تبديلهم فيكونوا كبني إسرائيل في إقرارهم بالجزية واستباحة مناكحتهم وذبائحهم؛ لدخول سلفهم في دين الحق. والثاني: أن يكونوا قد دخلوا فيها بعد التبديل مع غير المبدلين، فهم كالداخل قبل التبديل في قبول جزيتهم، وإباحة مناكحتهم وذبائحهم؛ لأنهم دخلوا فيه من أهل الحق. والثالث: أن يكونوا قد دخلوا فيه بعد التبديل مع المبدلين فيكونوا عن حكم عبدة الأوثان؛ لأنهم لم يدخلوا في حق؛ لأن التبديل باطل، فلا تقبل جزيتهم، ولا تستباح مناكحتهم، ولا ذبائحهم، ويقال لهم ما يقال لعبدة الأوثان: إما الإسلام أو السيف. والرابع: أن يقع الشك فيهم: دخلوا قبل التبديل أو بعده، وخل دخلوا مع المبدلين أو مع غير المبدلين، فهؤلاء يغلب منهم حكم التحريم في الأحكام الثلاثة، فتحقن دماؤهم بالجزية تغليبًا لتحريمها، ولا تستباح مناكحتهم، ولا ذبائحهم تغليبًا لتحريمها كما فعل عمر رضي الله عنه في نصارى العرب، حين أشكل عليه أمرهم هل دخلوا في

النصرانية قبل التبديل أو بعده، فأمرهم بالجزية حقنًا لدمائهم، وحرم نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم، وجعلهم في ذلك كالمجوس. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "فلا تقبل ممن بدل يهودية بنصرانية أو نصرانية بمجوسية أو مجوسية بنصرانية أو بغير الإسلام وإنما أذن الله بأخذ الجزية منهم على ما دانوا به قبل محمد عليه الصلاة والسلام وذلك خلاف ما أحدثوا من الدين بعده فإن أقام على ما كان عليه وإلا نبذ إليه عهده وأُخرج من بلاد الإسلام بماله وصار حربًا ومن بدل دينه من كتابية لم يحل نكاحها. قال المزني رحمه الله: قد قال في كتاب النكاح. وقال في كتاب الصيد والذبائح: إذا بدلت بدين يحل نكاح أهله فهي حلال وهذا عندي أشبه وقال ابن عباس: "ومن يتولهم منكم فإنه منهم" قال المزني: فمن دان منهم دين أهل الكتاب قبل نزول الفرقان وبعده سواء عندي في القياس وبالله التوفيق". قال في الحاوي: وصورتها أن ينتقل أهل الذمة في الإسلام من دين إلى دين، فذلك ضربان: أحدهما: أن ينتقلوا إلى دين يقر عليه أهله. والثاني: إلى دين لا يقر عليه أهله. فأما الضرب الأول: وهو أن ينتقلوا إلى دين يقر عليه أهله كمن بدل يهودية بنصرانية أو بمجوسية أو بدل نصرانية بيهودية أو مجوسية، أو بدل مجوسية بيهودية أو نصرانية، ففي إقراره على ذلك قولان: أحدهما: إنه يقر عليه، وهو قول أبي حنيفة والمزني؛ لأن الكفر كله ملة واحدة يتوارثون بها مه اختلاف معتقدهم، فصاروا في انتقاله فيه من دين إلى دين، كانتقال المسلمين من مذهب إلى مذهب. والثاني: وهو أظهر أنه لا يقر عليه؛ لقول الله تعالى: {ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85]؛ ولأنه لما كان الوثني إذا انتقل إلى نصرانية لم يقر، والنصراني إذا انتقل إلى وثنية لم يقر، وجب إذا انتقل النصراني إلى يهودية أن لا يقر؛ لأن جميعهم منتقل إلى دين ليس بحق. فإذا تقرر القولان، فإن قيل بالأول إنه مقر في انتقاله، لم يخل حاله فيما انتقل إليه من ثلاثة أقسام:

أحدها: أن يكون مكافئًا لدينه كيهودي تنصر أو نصراني تهود، فأصل هذين الدينين سواء في جميع الأحكام ولا يختلف حكمهما بانتقاله من أحد الدينين إلى الآخر إلا في قدر الجزية، فتصير جزيته جزية الدين الذي انتقل إليه دون جزية الذي انتقل عنه سواء كانت أقل أو أكثر. والثاني: أن يكون الدين الذي انتقل إليه أخف حكمًا من الدين الذي كان عليه، كنصراني تمجس، فينتقل عن أحكامه من الجزية والمناكحة والذبيحة والدية إلى أحكام الدين الذي انتقل إليه، فتقبل جزيته، ولا تحل مناكحته، ولا تؤكل ذبيحته، وتكون ديته ثلثي عشر دية المسلم، بعد أن كانت نصفها كالمجوس في أحكامه كلها، فيصير بذلك منتقلًا من أخف الأحكام إلى أغلظها. والثالث: أن يكون الدين الذي انتقل إليه أعلى حكمًا من الدين الذي كان عليه كمجوسي تنصر، ففيه وجهان: أحدهما: أنه يجري عليه حكم الدين الذي انتقل إليه لإقراره عليه في إباحة المناكحة والذبيحة، وقدر الدية، فيصير منتقلًا من أغلظ الأحكام إلى أخفها. والثاني: أنه يجري عليه أحكام الدين الذي كان عليه في تحريم مناكحته وذبيحته وقدر ديته، تغليبًا لأحكام التغليظ لما تقدم من حرماتها عليه كالمشكوك في دينه من نصارى العرب. وإن قيل بالقول الثاني: إنه لا يقر على الدين الذي انتقل إليه وجب أن يؤخذ جبرًا بالانتقال عنه إلى دين يؤمر به: وفي الدين الذي يؤمر به قولان: أحدهما: دين الإسلام، أو غيره؛ لأنه انتقل إلى دين قد يكون مقرًا ببطلانه، وانتقل عن دين هو الآن مقر ببطلانه، فلم يجز أن يقر على واحد من الدينين؛ لإقراره ببطلانهما، فوجب أن يؤخذ بالرجوع إلى دين الحق، وهو الإسلام. والثاني: أنه إذا انتقل إلى دين الإسلام أو إلى دينه الذي كان عليه أقر عليه؛ فنزل لأننا كنا قد صالحناه على الأول على دينه، وإن كان عندنا باطلًا فجاز أن يعاد إليه وإن كان عنده باطلًا، فعلى هذا اختلف أصحابنا في صفة دعائه إلى دينه الذي كان عليه على وجهين: أحدهما: ويشبه أن يكون قول أبي إسحاق المروزي إننا ندعوه إلى العود إلى الإسلام، ولا يجوز أن يدعى إلى العود إلى الكفر، فإن عاد إلى دينه في الكفر أقر عليه؛ لأن الدعاء إلى الكفر معصية، ويجوز إذا لم يعلم أنه يقر عل دينه الذي كان عليه يقال له: نحن ندعوك إلى الإسلام، فإن عدت إلى دينك الذي كنت عليه أقررناك.

والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة: إننا ندعوه ابتداءً إلى الإسلام وإلى دينه الذي كان عليه ولا يكون ذلك أمرًا بالعود إلى الكفر؛ لأنه إخبار عن حكم الله تعالى، فلم يكن أمرًا بالكفر، ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاهم إلى الشهادة أو الجزية، فلم يكون ذلك منه أمرًا بالمقام على الكفر، ولكنه إخبار عن حكم الله فيهم، فإذا توجه القولان فيما يؤمر بالعود إليه، فإن عاد إلى الدين المأمور به أقر عليه وإن لم يعد إليه ففيما يلزم من حكمه قولان: أحدهما: وهو الذي نقله المزني هاهنا أنه ينبذ إليه عهده، ويبلغ مأمنه، ثم يكون حربًا، لأن له أمانًا على الكفر، فلزم الوفاء به، فعلى هذا يجوز تركه، ليقضي أشغاله ونقل ماله، ولا يتجاوز به أكثر من أربعة أشهر، فإذا بلغ أدنى مأمنه بذريته وماله صار حربًا. والثاني: أن يصير في حكم المرتد؛ لأن ذمته ليست بأوكد من ذمة الإسلام، فعلى هذا يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل صبرًا بالصيف، وفي الانتظار بقتله ثلاثًا قولان: ويكون أمان ذريته باقيًا وأما ماله، فيكون فيئًا لبيت المال، ولا يورث عنه؛ لأنه من قتل بحكم الردة لم يورث. وأما الضرب الثاني: في انتقاله إلى دين لا يقر عليه أهله، كانتقاله من يهودية أو نصرانية أو مجوسية إلى وثنية أو زندقة، فإنه لا يقر عليه، ويؤخذ بالانتقال عنه؛ لأنه لا حرمة لما انتقل إليه، ولا يجوز إقرار أهله عليه، فكان إقرار غير أهله أولى أن لا يجوز، وإذا كان كذلك ففي الذي يؤمر بالرجوع إليه ثلاثة أقاويل: أحدها: الإسلام لا غير؛ لأنه دين الحق، فكان أحق بالعود إليه. والثاني: الإسلام أو دينه الذي كان عليه لما تقدم من صلحه عليه. والثالث: الإسلام أو دينه الذي كان عليه أو دين يقر أهله عليه، ففيما علا كاليهودية، والنصرانية، أو انخفض كالمجوسية؛ لأن الكفر كله ملة واحدة، وفي صفة دعائه إلى ذلك ما قدمناه الوجهين. فإن عاد إلى المأمور به من الدين أقر عليه، ولا جزية عليه فيما بين انتقاله وعوده؛ لأنه في حكم المرتدة، ولا جزية على مرتد، وإن امتنع من العود إلى الدين المأمور به ففيما يلزم من حكمه قولان على ما مضى. أحدهما: ينبذ إليه عهده، ويبلغ مأمنه بماله وبمن أطاعه من ذريته، ثم يكون حربًا. فأما من تمانع عليه من ذريته فمن كان منهم بالغًا من نسائه وبناته، كان أملك بنفسه، ومن كان منهم صغيرًا روعي مستحق حضانته، فإن كان هو المستحق لها، كان له

باب نقض العهد

إخراجهم جبرًا، وعاونه الإمام عليه، وإن كان المقيم أحق بحضانته منع منهم، وأقر مع المقيم. والثاني: أنه يصير في حكم المرتد يستتاب، فإن تاب، وإلا قتل، ويكون ماله فيئًا لبيت المال. فأما ذريته فمن كان منهم بالغًا، فله حكم معتقده بنفسه، فإن أقام على دينه أقر عليه، وإن انتقل عنه مع وليه صار على حكمه. فأما من كان منهم صغيرًا، فهو على دينه الأول لا يزول عنه حكمه بانتقال أبيه كما لا يصير ولد المرتد مرتدًا؛ فإن كان لصغار أولاده أم وعصبة كانوا في كفالة أمهم، وفي جزية عصبتهم. وإن كان لهم أم، وإن لم يكن لهم عصبة كانوا في كفالة أمهم، وفي جزية قومها، وإن كان لهم عصبة، ولم يكن لهم أم كانوا في كفالة عصبتهم، وفي جزيتهم وإن لم يكن لهم أم ولا عصبة كانوا في كفالة أهل دينهم، وفي جزيتهم، لقول الله تعالى: {والَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [الأنفال:73]، فكانوا ألحق بكفالتهم من المسلمين، فإن تمانعوا من كفالتهم أقرع بينهم، وأجبر عليها من قرع منها. فأما نفقاتهم إذا لم يكن لهم مال، ولا ذو قرابة يلتزمها، ولا وجد في قومهم متطوع بها، فهي مستحقة لمن تركه من مات منهم من غير وارث؛ لأنها وإن كانت تصير إلى بيت المال، فبعد فواضل الحقوق. ولو قيل: إنها في سهم المصالح من خمس الخمس كان مذهبًا والله تعالى أعلم. باب نقض العهد مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وإذا نقض الذين عقدوا الصلح عليهم أو جماعة منهم فلم يخالفوا الناقض بقول أو فعل ظاهر أو اعتزال بلادهم أو يرسلون إلى الإمام أنهم على صلحهم فللإمام غزوهم وقتل مقاتلتهم وسبي ذراريهم وغنيمة أموالهم وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم ببني قريظة عقد عليهم صاحبهم فنقض ولم يفارقوه وليس كلهم أشرك في المعونة على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ولكن كلهم لزم حصنه فلم يفارق الناقض إلا نفر منهم وأعان على خزاعة وهم في عقد النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أنفار من قريش فشهدوا قتالهم فغزا النبي صلى الله عليه وسلم قريشًا عام الفتح بغدر ثلاثة نفر منهم وتركهم معونة خزاعة وإيوائهم من قاتلها".

قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا عقد الإمام الهدنة مع أخل الحرب كان عقدها موجبا لأمرين. أحدهما: للموادعة، وهي الكف عن المحاربة جهرًا، وعن الخيانة سرًا، قال الله تعالى: {وإمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58]. والثاني: أن يشترك فيها الفريقان، فيلتزم كل واحد منهما حكمهما، ولا يختص بأحدهما، ليأمن كل واحد منهما صاحبه. قال الله تعالى: {إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ المَسْجِدِ الحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ} [التوبة:7]. فإذا ثبت بهذين الشرطين وجب الوفاء بها، ولم يجز نقضها. قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة:1]. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أحق من وفى بذمته" فإن نقض المشركون ارتفع حكم العقد، وبطل أمانهم من المسلمين، وصاروا بنقضه حربًا قال الله تعالى: {وإن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ} [التوبة:12]. فصل: فإذا تقررت هذه الجملة لم يخل حالهم في نقض العهد من أحد أمرين. إما أن يكون من جميعهم أو بعضهم. فإن كان من جميعهم، صار جميعهم حربًا، وليس لواحد منهم أمان على نفس ولا مال، وإن نقضه، لم يخل حال الناقض من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يظهر منهم الرضا بنقضه في قول أو فعل، فينتقض عهدهم بالرضا كما انتقض به عهد المباشرة، ويصير جميعهم حربًا. والثاني: أن يظهر منهم الكراهة لنقضه بقول أو فعل، فيكونوا على عهدهم، ولا ينتقض فيهم بنقض غيرهم، قال الله تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ} [الأعراف:165]. والثالث: أن يمسكوا عنه، فلن يظهر منهم رضا به، ولا كراهة له في قول، ولا فعل، فيكون إمساكهم نقضًا لعهدهم. قال الله تعالى: {واتَّقُوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكُمْ خَاصَّةً} [الأنفال:25] وكذلك كانت سنة الله تعالى في عاقر ناقة صالح باشر عقرها

أحيمر وهو القدار بن سالف وأمسك قومه عنه فأخذ الله جميعهم بذنبه، فقال تعالى: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) ولا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)} [الشمس:14 - 15]، وفي قوله: {فَسَوَّاهَا} [الشمس:14] ثلاثة تأويلات: أحدها: فسوى بينهم في الهلاك. والثاني: فسوى بهم الأرض. والثالث: فسوى بهم من بعدهم من الأمم. وفي قوله: {ولا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)} [الشمس:15] ثلاثة تأويلات: أحدها: ولا يخاف الله عقبى ما صنع بهم من الهلاك. والثاني: ولا يخاف الذي عقرها ما صنع من عقرها. والثالث: ولا يخاف صالح عقبى عقرها؛ لأنه قد أنذرهم، ونجاه الله حين أهلكم. وقد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود بني النضير، وهمّ بعضهم بقتله، فجعله نقضًا منهم، لعهده، فعزلهم وأجلاهم. ووادع يهود بني قريظة، فأعان بعضهم أبا سفيان بن حرب على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخندق. وقيل: إن الذي أعانه منهم ثلاثة: حيي بن أخطب، وأخوه، وآخر فنقض به عهدهم، وغزاهم، حتى قتل رماتهم، وسبى ذراريهم. وهادن قريشًا في الحديبية، وكان بنو بكر في حلف قريش، وخزاعة في حلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فحارب بنو بكر خزاعة، وأعان نفر من قريش بني بكر على خزاعة وأمسك عنهم سائر قريش، فجعله رسول الله صلى الله عليه وسلم نقضًا لعهد جميعهم، فسار إليهم محاربًا، وأخفى عنهم أثره حتى نزل بهم، وفتح مكة، فدل على أن الممسك يجري عليه في نقض العهد حكم المباشر؛ ولأنه لما كان عقد بعضهم للهدنة موجبًا لأمان جميعهم، وإن أمسكوا كان نقض عهدهم موجبًا لحرب جميعهم إذا أمسكوا. فصل: فإذا ثبت ما وصفنا، وجعلنا ذلك نقضًا لعهد جميعهم، جاز أن يبدأ الإمام بقتالهم بإنذار وغير إنذار، كما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ناقض عهده فجاءه بغير إنذار، وجاز أن يهجم عليهم غرة وبياتًا، فيقتل رجالهم، ويسبي ذراريهم، ويغنم أموالهم كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ببني قريظة. وإن جعلناه نقضًا لعهد من باشر، ولم نجعله نقضًا لعهد من لم يباشر لم يخل حالهم أن يكونوا متميزين عنهم أو مختلطين بهم، فإن تميزوا عنهم في موضع انحازوا عنه أجرى على كل واحد من الفريقين حكمه، فقوتل الناقضون للعهد، وقتلوا، وكف عن غير الناقضين وأمنوا، وإن اختلطوا بهم في مواضعهم غير متميزين عنهم، لم يجز

أن نقاتلهم إلا بعد إنذارهم، ولا يجوز أن يشن عليهم الغارة، ولا يهجم عليهم غرة وبياتًا، ويقول لهم: يتميز منكم ناقض العهد ممن لم ينقضه، فإن تميزوا عمل بما تقدم، وإن لم يتميزوا نظر: فإن كان المقيمون على العهد أكثر أو أظهر لم ينذروا بالقتال، وقيل لهم: ميزوا عنكم ناقضوا العهد منكم، إما بتسليمهم إلينا، وإما بإبعادهم عنكم. فإذا فعلوه، فقد تميزوا به، وخرجوا من نقض العهد، وإن لم يفعلوا واحدًا منهما، وأقاموا على اختلاطهم بهم بعد المراسلة بالتميز عنهم صاروا مماثلين لهم، فصار ذلك حينئذٍ نقضًا منهم للعهد، فجرى على جميعهم حكم النقض؛ لأن موجب العهد أن لا يمايلوا علينا عدوًا لقول الله تعالى: {إلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ المُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا} [التوبة:4] الآية، وقد ظاهروهم بالممايلة، فانتقض عهدهم، وإن كان الناقضون للعهد أكثر وأظهر لم يجز أن يشن عليهم الغارة، ولا يقتلوا في غرة وبيات وحوربوا جهرًا، ولم يجب الكف عن قتالهم؛ لأجل من بينهم من أهل العهد؛ لأنهم كالأسراء فيهم، فإن أسروا لم يجز قتل الأسرى إلا بعد الكشف عنهم: هل هم ممن نقض العهد أو أقام عليه، فإن لم يوصل إليه إلا منهم جاز أن يقبل قولهم في أنفسهم، وكذلك في ذراريهم إن سبوا، وأموالهم إن غنمت، ولا تقبل شهادة بعضهم لبعض، فإن ادعوا من الذراري والأموال ما أنكره الغانمون نظر: فإن كان في أيديهم، فالقول فيه قولهم مع أيمانهم، وإن كان في أيدي الغانمين لم يقبل قولهم فيه إلا ببينة فشهد لهم من المسلمين، ولا يحلف الغانمون عليه؛ لنهم لا يتعينون في استحقاقه، وكان مغنومًا مع عدم البينة. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "متى ظهر من مهادنين ما يدل على خيانتهم نبذ إليهم عهدهم وأبلغهم مأمنهم ثم هم حرب قال الله تعالى: {وإمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال:58] الآية". قال في الحاوي: اعلم أن عقد الهدنة موجب لثلاثة أمور: أحدها: الموادعة في الظاهر. والثاني: ترك الخيانة في الباطن. والثالث: المجاملة في الأقوال والأفعال.

فأما الأول وهو الموادعة في الظاهر فهي الكف عن القتال وترك التعرض للنفوس والأموال، فجيب عليهم للمسلمين مثل ما يجب لهم على المسلمين، فيستويان غيه، ولا يتفاضلان، ويجب عليهم أن يكفوا عن أمل ذمة المسلمين، ولا يجب على المسلمين أن يكفوا عن أهل ذمتهم إلا أن يدخلوها في عقد مهادنتهم، فيختلفان في الذمتين، وإن تساويا في الموادعتين، فإن عدلوا عن الموادعة إلى ضدها، فقاتلوا قومًا من المسلمين أو قتلوا قومًا من المسلمين أو أخذوا مال قوم من المسلمين انتقضت هدنتهم بفعلهم، ولم يفتقر إلى حكم الإمام لنقضها. وجاز أن يبدأ بقتالهم من غير إنذار ويشن عليهم الغارة، ويهجم عليهم غرة وبياتًا، وجرى ذلك في نقض الهدنة مجرى تصريحهم بالقول إنهم قد نقضوا الهدنة. وأما الثاني: وهو ترك الخيانة، فهو أن لا يستسروا بفعل ما ينقض الهدنة لو أظهروه مثل أن يمايلوه في السر عدوًا أو يقتلوا في السر مسلمًا أو يأخذوا له مالًا أو يزنوا بمسلمة وهذا مما يستوي الفريقان في التزامه، فإن خانوا بذلك حكم الإمام تنتقض هدنتهم، ولم تنتقض بمجرد خيانتهم، ويكونوا على الهدنة، ما لم يحكم الإمام بنقضها لقول الله تعالى: {وإمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال:58]. وقد نقض رسول الله صلى الله عليه وسلم هدنة قريش بما أسروه من معونة بني بكر على خزاعة، ويجوز أن يبدأ بقتالهم مجاهرة ولا يشن عليهم الغارة والبيات في الابتداء، ويفعل ذلك في الانتهاء، فصار هذا القسم مخالفًا للقسم الأول من وجهين: أحدهما: أن الهدنة تنتقض في القسم الأول بالفعل، وتنتقض في هذا القسم بالحكم. والثاني: أنه يجوز أن يبتدأ في الأول بشن البيات والغارة، ويجب أن يبدأ في هذا بقتال المجاهرة. وإذا خاف خيانة أهل الهدنة جاز أن ينقض هدنتهم، ولو خاف خيانة أهل الذمة لم يجز أن ينقض بها ذمتهم. والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن النظر في عقد الهدنة لنا، والنظر في عقد الذمة لهم، ولذلك وجب علينا إجابة أهل الذمة إذا سألوها، ولم يجب علينا إجابة أهل الهدنة إذا سألوها. والثاني: أن أهل الذمة تحت القدرة يمكن استدراك خيانتهم، وأهل الهدنة، خارجون عن القدرة لا يمكن استدراك خيانتهم. والثالث: وهو المجاملة في الأقوال والأفعال، فهي في حقوق المسلمين أغلظ منها في حقوقهم، فيلزمهم في حقوق المسلمين عليهم أن يكفوا عن القبيح من القول والفعل، ويبذلوا لهم الجميل في القول والفعل، ولهم على المسلمين أن يكفوا عن القبيح في القول

والفعل، وليس عليهم أن يبذلوا لهم الجميل في القول والفعل لقول الله تعالى: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة:33] فإن عدلوا عن الجميل في القول والفعل، فكانوا يكرمون المسلمين، فصاروا يستهينون بهم، وكانوا يضيفون الرسل، ويصلونهم، فصاروا يقطعونهم، وكانوا يعظمون كتاب الإمام، فصاروا يطرحونه، وكانوا يزيدونه في الخطاب، فصاروا ينقصونه، فهذه ريبة؛ لوقوفها بين شكين؛ لأنها تحتمل أن يريدوا بها نقض الهدنة، ويحتمل أن يريدوا بها نقضها، فيسألهم الإمام عنها، وعن السبب فيها، فإن ذكروا عذرًا يجوز مثله قبله منهم، وكانوا على هدنتهم، وإن لم يذكروا عذرًا أمرهم بالرجوع إلى عادتهم من المجاملة في أقوالهم وأفعالهم، فإن عادوا أقام على هدنتهم، وإن لم يعودوا نقضها بعد إعلامهم بنقضها، فصارت مخالفة للقسمين الأولين من وجهين: أحدهما: أنه لا يعدل عن أحكام الهدنة إلا بعد مسألتهم، ولا يحكم بنقضها إلا بعد إعلامهم. فأما سب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما ينتقض به عقد الهدنة، وعقد الذمة وكذلك سب القرآن، فإن كان جهرًا، فهو من القسم الأول، وإن كان سرًا فهو من القسم الثاني. وقال أبو حنيفة: لا ينتقض بهما عقد الهدنة، ولا عقد الذمة، احتجاجًا لما روى أن رهطًا من اليهود دخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: "السام عليك" فقال: "وعليكم"، فقالت عائشة رضي الله عنها: "يا رسول الله ألم تسمع ما قالوا؟ " فقال: "قد قلت: وعليكم"، ثم قال: "مهلًا يا عائشة، فإن الله يحب الرفق في الأمر كله". فلم يجعل ذلك نقضًا لعهدهم، وإن كان سبًا، ولأن قولهم: إن الله ثالث ثلاثة أعظم من شتمهم الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم لم يكن ذلك نقضًا لعهدهم، فهو أولى أن لا يكون نقضًا لعهدهم. ودليلنا: ما روي أن رجلًا قال لعبد الله بن عمر: سمعت راهبًا يشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عبد الله: لو سمعته أنا لقتلته، إنا لم نعطه الأمان على هذا. وليس يعرف له من الصحابة مخالف، فكان إجماعًا، ولأن ما كان شرطًا في صحة الإسلام كان شرطًا في عقد الأمان؛ قياسًا على ذكر الله؛ ولأن ما حقن به دم الكافر، انتقض بشتم رسول الله صلى الله عليه وسلم كالإيمان. وأما الخبر، فعنه جوابان: أحدهما: أنهم قالوا ذمًا، ولم يقولوه شتمًا. والثاني: أنه كان في ضعف الإسلام، ولم يكن في قوته. وأما الجواب عن قولهم: إن الله ثالث ثلاثة فمن وجهين:

باب الحكم في المهادنين والمعاهدين

أحدهما: أنهم قالوه اعتقاداً للتعظيم، وهذا الشتم اعتقاد للتحقير. والثاني: أنهم يقرون على قولهم، إن الله ثالث ثلاثة، فلم ينتقض به عهدهم، وغير مقرين على شتم رسول الله صل الله عليه وسلم فانتقض به عهدهم. باب الحكم في المهادنين والمعاهدين وما أتلف من خمرهم وخنازيرهم وما يحل منه وما يرد مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "لم أعلم مخالفاً من أهل العلم بالسير أن النبي صل الله عليه وسلم لما نزل المدينة وادع يهود كافة على غير جزية وأن قول الله عز وجل {فَإن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] إنما نزلت فيهم ولم يقروا أن يجري عليهم الحكم وقال بعضهم: نزلت في اليهوديين اللذين زنيا وهذا أشبه بقول الله عز وجل {وكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ} [المائدة:43] الآية. قال: وليس للإمام الخيار في أحد من المعاهدين الذين يجرى عليهم الحكم إذا جاؤوه في حد لله تعالى وعليه أن يقيمه لما وصفت من قول الله تعالى: {وهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]. قال المزني رحمه الله: هذا أشبه من قوله في كتاب الحدود لا يحدون وأرفعهم إلى أهل دينهم ". قال في الحاوي: وقد مضت هذه المسألة في مواضع شتى. وجملته أن من خالف دين الإسلام من أهل الأمان صنفان: أهل ذمة وأهل عهد، فأما أهل العهد إذا تحاكموا إلينا، فحاكمنا بالخيار بين أن يحكم بينهم، وبين أن يمتنع؛ لقول الله تعالى: {فَإن جَاءُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} [المائدة: 42] فلم يختلف أهل العلم أنها نزلت فيمن وادعه رسول الله صل الله عليه وسلم من يهود المدينة قبل فرض الجزية، فكانوا أهل عهد لا ذمة لهم، واختلف فيها هل نزلت عامة أو على سبب، فالذي عليه قول الأكثرين، أنها نزلت عامة؛ لغير سبب. وقال بعضهم: بل نزلت في اليهوديين اللذين زنيا، فكان سببها خاصاً وحكمها عاماً، فإن حكما حاكمنا بينهم كانوا مخيرين بين التزامه، وبين رده. فإن قيل: فقد رجم اليهوديين الزانيين بغير اختيارهما؛ لأنهما أنكرا الرجم. قيل لهم: كان الإنكار لوجوب الرجم في الشرع، ولم يكن ذلك امتناعاً من التزام حكمه. وأما أهل الذمة، ففي وجوب الحكم إذا تحاكموا إلينا قولان: أحدهما: أنهم كأهل العهد يكون حاكمنا في الحكم بينهم مخيراً، وهم في التزامه

إذا حكم بينهم مخيرين؛ لعموم الآية، لاشتراك الفريقين في المخالفة. والثاني: وهو أصح اختاره المزني: أنه يجب على حاكمنا أن يحكم بينهم، ويجب إذا حكم أن يلتزموا حكمه عليهم، لقول الله تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] والصغار أن يجري عليهم أحكام الإسلام، ولأنهم قد صاروا بالذمة تبعاً للمسلمين فجرت عليهم أحكامهم. فإن كان التحاكم بين مسلم ومعاهد أو بين مسلم وذمي وجب الحكم بينهما، سواء كان المسلم طالباً أو مطلوباً؛ لأن كل واحد منهما يدعو إلى دينه، ودين الإسلام هو الحق المطاع. ولو كان التحاكم بين ذمي ومعاهد لم يجز قولاً واحداً تغليباً لحكم الإسقاط. ولو كان بين ذميين من دينين كيهودي ونصراني فعلى وجهين: أحدهما: أنهما فيه سواء؛ لأن جميع الكفر ملة واحدة، فيكون على الوجهين. والثاني: وهو قول أبي هريرة: إنه يجب الحكم بينهما قولاً واحداً، ويجب عليهما التزامه؛ لأنه اختلاف معتقدهما يوجب قطع التنازع بينهما بالحق فأما إن كان المتحاكمان من ملة واحدة على مذهبين مختلفين: أحدهما: نسطوري، والآخر: يعقوبي، فالمعتبر فيه اجتماعهما على أصل الدين، وهو واحد، فصارا فيه كالمذهب الواحد؛ لأن دينهما واحد. فلو قلد الإمام على أهل الذمة حاكماً منهم كان حكمه غير لازم لهم، وكان فيه كالمتوسط بينهم. وقال أبو حنيفة: ينفذ حكمه عليهم؛ لأنهم يلتزمون أحكام شرعهم، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن صحة المعتقد شرط في نفوذ الحكم، ومعتقده باطل. والثاني: أن صحة الحكم شرط في نفوذه، وحكمهم باطل. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وما كانوا يدينون به فلا يجوز حكمنا عليهم بإبطاله وما أحدثوا مما ليس بجائز في دينهم وله حكم عندنا أمضى عليهم. قال: ولا يكشفون عن شيء مما استحلوه مما لم يكن ضرراً على مسلمٍ أو معاهدٍ أو مستأمن غيرهم ".

قال في الحاوي: وجملة ما يفعله أهل الذمة في بلادنا من عقد وأحكام ينقسم أربعة أقسام: أحدها: ما كان جائزاً في شرعهم وشرعنا، فهم مفرون عليه في دينهم إذا ترافعوا إلينا فيه. والثاني: ما كان باطلاً في شرعهم وشرعنا، فهم ممنوعون منه إذا ظهر لنا؛ لأنهم اقروا في دارنا على مقتضى شرعهم. والثالث: ما كان جائزاً في شرعنا باطلاً في شرعهم، فيقرون عليهم؛ لأنهم فيه على حق، وفيما عداه باطل. والرابع: ما كان باطلاً في شرعنا جائزاً في شرعهم، فإن تحاكموا فيه إلينا أبطلناه، وإن لم يتحاكموا فيه إلينا تركناه إن أخفوه، فإن أظهروه لنا فهو ضربان: أحدهما: أن لا يتعلق بالمنكرات الظاهرة، كالمناكح الفاسدة والبيوع الباطلة، فيقرون عليها، ولا يمنعون منها. والثاني: أن يكون من المنكرات الظاهرة، كالتظاهر بنكاح ذوات المحارم والمجاهرة بابتياع الخمور، والخنازير، فيمنعون، ويعزرون عليها؛ لأن دار الإسلام تمنع من المجاهرة بالمنكرات. وفي نسخ عقودهم عليهم، وإن لم يتحاكموا فيها إلينا وجهان: أحدهما: تفسخ عليهم؛ لأن المجاهرة ظهور منكر فيهم. والثاني: أنها لا تفسخ عليهم، ويتركون في عقدها على ما يرونه في دينهم، لأن تجاهرهم بالكفر الذي يقرون عليه أعظم. فأما ما تعلق بأفعالهم من دخول ضرر على مسلم أو معاهد من غيرهم، فيمنعون منه، وإن كانوا يعتقدونه ديناً؛ لأنهم يعتقدون إباحة دماء من خالفهم وأموالهم، ولا يقرون على استباحتها فكذا كل مضرة. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وإن جاءت امرأة رجل] منهم تستعدي بأنه طلقها أو آلى منها حكمت عليه حكمي على المسلمين وأمرته في الظهار أن لا يقربها حتى يكفر رقبة مؤمنة كما يؤدي الواجب من حد وجرحٍ وأرضٍ وإن لم يكفر عنه وأنفذ عتقه

ولا أفسخ نكاحه لأن النبي صل الله عليه وسلم عفا عن عقد ما يجوز أن يستأنف ورد ما جاوز العدد إلا أن يتحاكموا وهي في عدةٍ فنفسخه وهكذا كل ما قبض من ربا أو ثمن خمر أو خنزير ثم اسلما أو أحدهما عفي عنه ". قال في الحاوي: وجملة ذلك أنه لا يخلو حال ما استعدت فيه على زوجها من أن يكون من محظورات دينهم أو من مباحاته. فإن كان من محظورات دينهم المنكرة وجب على حاكمنا أن يعديها عليه؛ لأن دار السلام تمنع من إقرار ما ينفق على إنكاره، وإن كان من مباحات دينهم، ففي وجوب إعدائها عليه قولان: أحدهما: أنه يجوز، ولا يجب. والثاني: أنه يجب، وهو على اختلاف القولين في جريان أحكامنا عليهم. فإن أعداها عليه وجوباً أو جوازاً لم يحكم بينهما إلا بما يوجبه دين الإسلام، ولا يحكم بينهما بأحكامهم في دينهم، لقول الله تعالى: {وأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 49]. فإن كان الحكم من طلاق بائن لم تجر له الرجعة في العدة، إذا كان أقل من ثلاثة، وحرمها عليه بعد الثلاث حتى تنكح زوجاً غيره، وإن كان في إيلاء أصله أربعة أشهر ثم ألزمه الفئ او الطلاق. وإن كان في ظهار حرمها عليه بعد العود حتى يكفر بعتق رقبة مؤمنة، ولم يجز أن يصوم فيها حتى يسلم، وفي جواز إطعامه فيها وجهان: أحدهما: يجوز، لأنه إطعام. والثاني: لا يجوز لأنه بدل عن الصيام. وإن كان في عقد نكاح راعاه، فإن كانت ممن تحرم عليه من ذوات المحارم أبطل نكاحها، وإن كانت ممن تحل له لم يكشف عنه عقد النكاح، وحكم بينهما بإمضاء الزوجية، كما يقرون عليه إذا أسلموا. وإن كان في مهر تقابضاه. أمضاه حلالاً كان أو حراماً، وإن كان يتقابضاه لم يحكم بقبضه، ولا بقيمته، وحكم لها بمهر المثل، وكذلك سائر الأحكام، وكذلك في استعداء غير الزوجين. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ومن أراق لهم خمراً أو قتل لهم خنزيراً لم

يضمن لأن ذلك حرام ولا ثمن لمحرم فإن قيل فأنت تقرهم على ذلك قيل نعم وعلى الشرك بالله وقد أخبر الله تعالى أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله فهو حرام لا ثمن له وإن استحلوه ". قال في الحاوي: قد مضت هذه المسألة في كتاب "الغصب "وذكرنا أن من أراق على ذمي خمراً، أو قتل له خنزيراً لم يضمن سواء كان متلفه ذمياً أو مسلماً. وأوجب أبو حنيفة ضمانة على المسلم والذمي، وقد مضى الكلام معه، وإن ما لم يضمنه في حق المسلم لم يضمن في حق المشرك كالميتة. وهكذا لو أراق على مسلم أو ذمي نبيذاً لم يضمنه عندنا؛ لأنه لا قيمة للنبيذ، وإن كان مختلفاً فيه، كما لم يكن للخمر فيه، وإن كان متفقاً عليه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وإذا كسر لهم صليب من ذهب لم يكن فيه غرم وإن كان من عود وكان إذا فرق صلح لغير الصليب فما نقص الكسر العود، وكذلك الطنبور والمزمار ". قال في الحاوي: وهذا كما قال؛ لأن شكل الصليب موضوع على زور، وهو أنهم جعلوه شبهاً بما ادعوه من صلب عيسى عليه السلام، فإذا كسر صليبهم، فإن كان من ذهب أو فضة أو ما لا يؤثر كسره في قيمة جنسه، لم يضمنه بالكسر، لأن تأثير الكسر فيه إزالة المطلوب منه. وسواء كان كاسره مسلماً أو نصرانياً. وإن كان الصليب من عود أو خشب يؤثر كسره في قيمته، فإن فصله، ولم يتعد تفصيله إلى الكسر، فلا ضمان عليه، وإن تعدى تفصيله إلى الكسر نظر فيه. فإن كان في شبهه لو فصل لم يصلح لغير الصليب، فلا ضمان عليه، وإن كان يصلح مفصلاً لغير الصليب ضمن ما بين قيمته مفصلاً، ومكسوراً. وهكذا القول في الطنابير والمزامير، إذا فصلت، ولم تكسر، فلا ضمان فيها، وإن كسرت فإن كان خشبها لا يصلح بعد التفصيل لغيرها لم يضمن وإن كان يصلح لغيرها، ضمن ما بين قيمتها مفصلة ومكسورة. فأما أواني والفضة إذا كسرها عليهم أو على مسلم، ففي غرم ما نقص بكسرها من العمل وجهان من اختلاف قوليه في إباحة اقتنائها من غير استعمال.

فإن قيل بإباحته ضمن نقص العمل، وإن قيل بحظره لم يضمنه، وكان أبو حامد الإسفراييني يخرج كسر الصليب من الذهب على هذين الوجهين. وهو خطأ؛ لأن ادخار الصليب محظور باتفاق، وادخار الأواني على اختلاف، فلم يجز الجمع بينهما مع اختلاف حكمهما. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ويجوز للنصراني أن يقارض المسلم وأكره للمسلم أن يقارض النصراني أو يشاركه ". قال في الحاوي: وهذا كما قال: يجوز أن يأخذ المسلم من النصراني مالاً قراضاً، ولا يكره له؛ لأن عقود المسلم تتوجه إلى المباح، ويكره للمسلم أن يدفع إلى النصراني مالاً قراضاً، لأنه ربما صرفه في محظورات الإسلام من الزنا وأثمان الخمور والخنازير، ولا يبطل القراض تغليباً لحمله على المباح، فإن صرفه النصراني في محظور من أثمان خمور وخنازير، فإن كان المسلم قد صرح له بالنهي عنه، كان النصراني ضامناً لما صرفه في ثمنه؛ لحظره ومخالفته وإن لم يصرح له بالنهي عنه، ففي ضمانه له وجهان: أحدهما: يضمنه لما أوجبه عقد المسلم من حمله على مقتضى شرعه. والثاني: لا يضمنه، لجوازه في دين عاقده، فإن ربح في الخمور والخنزير. حرم ذبحه على المسلم، فإن لم يختلط بأصل ماله حل له استرجاع ماله، وحرم عليه أخذ ربحه، وإن اختلط ربحه بماله حرم على المسلم استرجاعه، وفي رجوعه بغرمه على النصراني وجهان، واختلاف الوجهين في ضمانه، إذا صرفه في ثمنه. وهكذا يكره للمسلم أن يشارك النصراني في مال ينفرد كل واحد منهما بالتصرف في جميعه، ولا يكره اشتراكهن في مال لا يتصرف أحدهما فيه إلا باجتماعهما؛ لأن النصراني إذا تفرد بالتصرف فيه صرفه في أثمان المحظورات، وإذا اجتمع مع المسلم فيه صار ممنوعاً منه فإن تفرد النصراني بالتصرف، وظهر الربح في المال، فأراد المسلم أن يقاسمه عليه، لم يخل ماله من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يعلم حصوله من حلال، فيحل للمسلم أن يأخذ حقه من المال وربحه. والثاني: أن يعلم حصوله من حرام، فيحرم عليه أخذه، فأما المال فإن لم يمتزج ربحه، ولا عاد أصله من ثمنه حل له أخذ حقه منه، وإن امتزج بربحه أو عاد أصله من ثمنه حرم عليه أخذه، وفي رجوعه بغرمه على شريكه ما قدمناه من الوجهين:

والثالث: أن يشك في حصوله هل هو مباح او من محظور، فلا يحرم عليه بالشك حكماً، ويكره له مع الشك ورعاً. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: " وأكره أن يكري نفسه من نصراني ولا أفسخه ". قال في الحاوي: إذا آجر المسلم نفسه من نصراني بعمل يعمله له، فهو على ضربين: أحدهما: أن تكون الإجارة معقودة في ذمته على عمل موصوف فيها، فالإجارة جائزة، وحصول العمل في ذمته كحصول الأثمان والقروض فيها. والثاني: أن تكون الإجارة معقودة على عينه، فقد خرجه أصحابنا على قولين، كبيع العبد المسلم على نصراني: أحدهما: أن الإجارة باطلة إذا قيل: إن البيع باطل. والثاني: أن الإجارة جائزة إذا قيل: إن البيع جائز. والصحيح- عندي- أن يعتبر حال الإجازة، فإن كانت معقودة على عمل يعمله الأجير في يد نفسه لا في يد مستأجره، ويتصرف فيه على موجب عقده لا على رأي مستأجره كالخياطة والنساجة والصياغة، صحت الإجازة، وإن كانت معقودة على تصرف الأجير في يد المستأجر عن أمره كالخدمة لم يجز، لأنه في هذا مستذل وفي الأول مصان. فإن قيل ببطلان الإجارة كان للأجير أجرة المثل فيما عمل، ولم يلزمه إتمام ما بقي. وإن قيل بصحة الإجارة، فإن كان مما يعمله الأجير في يد نفسه أخذ بعمله، وإن كان يعمله في يد مستأجره، وبأمره منع من استذلاله بالعمل، وأوجر الأجير على ذلك العمل، ودفعت أجرته إلى المستأجر، ليستأجر بها إن شاء من يجوز أن يكون أجيراً له، كما يباع عليه العبد المسلم إذا ابتاعه، إذا صح بيعه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "وإذا اشترى النصراني مصحفاً أو دفتراً فيه أحاديث رسول الله صل الله عليه وسلم فسخته ".

قال في الحاوي: أما المصحف فممنوع من بيعه على المشركين، لما روي عن النبي صل الله عليه وسلم "أنه نهى أن يسافر بالمصحف مخافة أن تناله أيديهم "فإذا منعوا من مسه تعظيماً لحرمته كان منعهم من تملكه واستبذاله أولى. فإن بيع على مشرك كان البيع باطلاً قولاً واحداً وإن كان بيع العبد المسلم على قولين؛ لأن المصحف لتحريم مسه أغلظ حرمة منه العبد الذي لا يحرم مسه. فأما أحاديث رسول الله صل الله عليه وسلم فقد جمع الشافعي بينها وبين المصحف في المنع من البيع، وإنما يستويان في المنع، ويفترقان في البيع، وإنما منعوا من ابتياع كتب أحاديث رسول الله صل الله عليه وسلم صيانة لها من تعرضهم لاستبذالها، وإن جاز لهم مسها، فإن ابتاعوها، فهي ضربان: أحدهما: أن يكون فيها سيرته وصفته فابتياعهم لها جائز. والثاني: أن يكون فيها كلامه من أوامره ونواهيه، وأحكامه، ففي البيع وجهان: أحدهما: باطل كالمصحف؛ لأنه شرع مصان. والثاني: جائز لقصوره عن حرمة القرآن. فأما تفسير القرآن، فهم ممنوعون من ابتياعه كالقرآن لإستبداعهم فيه، وأنهم ربما جعلوه طريقاً إلى القدح فيه، فإن ابتاعوه كان البيع باطلاً. وأما كتب الفقه، فإن صينت عنهم كان أولى، وإن بيعت عليهم كان البيع جائزاً. وأما كتب النحو واللغة وأشعار العرب، فلا يمنعون منها، ولا تصان عنهم لأنه كلام لا يتميز بحرمة. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ولو أوصى ببناء كنيسة لصلاة النصارى فمفسوخ ولو قال ينزلها المارة أجزته وليس في بنائها معصية إلا بأن تبنى لصلاة النصارى ". قال في الحاوي: وهذا كما قال إذا أوصى رجل ببناء كنيسة لصلاة النصارى أو بيعه لصلاة اليهود في دار الإسلام لم يجز، وكانت الوصية به باطلة، سواء كان الموصي مسلماً أو ذمياً، لأمرين: أحدهما: أنها مجمع لما أبطله الله تعالى، من صلاتهم وإظهار كفرهم. والثاني: لتحريم ما يستأنف إحداثه في بلاد الإسلام من البيع والكنائس فإن أحد من أهل الذمة أوصى أن تبنى داره بيعة أو كنيسة لم يجز، وسواء تحاكموا إلينا في الوصية

أو إلى حاكمهم إلا أنهم إن تحاكموا إلينا أبطلنا الوصية، ومنعنا من البناء، وإن لم يتحاكموا إلينا منعنا من البناء، ولم نعترض للوصية. فإن كانت الوصية بعمارة بيعة قد استهدمت أبطلنا الوصية إن ترافعوا إلينا، ومنعنا من البناء لبطلان الوصية، وإن لم يترافعوا إلينا لم نعترض للوصية، فإن بنوها لم يمنعوا الاستحقاق إقرارهم الذي يقدم عليها. ولو أوصى ببناء كنيسة أو بيعة في دار الحرب لم يعترض عليهم في الوصية، ولا في البناء؛ لأن أحكامنا لا تجري على دار الحرب، فإن ترافعوا في الوصية إلينا حكمنا بإبطالها، ولم نمنع من بنائها. فصل: فأما إذا أوصى ببناء دار يسكنها المارة من النصارى، فلذلك ضربان: أحدهما: أن يجعل لمارة المسلمين بسكناها معهم، فهذه وصية جائزة. والثاني: أن يجعلها خاصة لمارة النصارى، ففيها وجهان: أحدهما: يجوز؛ لأنها للسكنى كالمنازل. والوجه الثاني: لا يجوز أن تفردهم بها يقضي إلى اجتماعهم على كفرهم، وصلاتهم فيها، وقد قال الله تعالى: {فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأنفال: 57]. فأما إن أوصى بالصدقة على فقراء اليهود والنصارى جاز، لقول الله تعالى: {ويُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا ويَتِيمًا وأَسِيرًا} [الإنسان: 8]، وسواء كان هذا الموصي مسلماً أو ذمياً. فصل: ولو أوصى مسلم أو مشرك بعبد مسلم لمشرك، ففي الوصية ثلاثة أوجه: أحدها: باطلة؛ لأنه غير مقر عليها، فلا يملك بها، وإن اسلم قبل قبولها. والثاني: أنها صحيحة يملكه بها، ولو كان مقيماً على شركه، ويقال له: إن أسلمت أقر العبد على ملكك، وإن لم تسلم فبعه أو اعتقه، وإلا بيع عليك، فإن كاتبه أقر على كتابته حتى يؤدي، فيعتق أو يعجز، فيرق، ويباع عليه. قد بيع سلمان في رقه، فاشتراه يهودي، ثم اسلم، فكاتب اليهودي على أن يغرس

له وادياً، ففعل وعتق. والثالث: أن الوصية موقوفة مراعاة، فإن أسلم قبل قبولها ملكها، وإن لم يسلم قبل القبول لم يملكها؛ لأن وقف الوصية جائز. مسألة: قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ولو قال: اكتبوا بثلثي التوراة والإنجيل فسخته لنبديلهم قال الله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ} [البقرة: 79] الآية ". قال في الحاوي: وهذا صحيح بكتب التوراة والإنجيل باطلة، سواء كان الموصى بها مسلماً أو ذمياً، وتصح عند قوم استدلالاً، بأمرين: أحدهما: أنها من كتب الله المنقولة، بالاستفاضة، فاستحال فيه التبديل كالقرآن. والثاني: أن التبديل وإن ظهر منهم، فقد كان في حكم التأويل، ولم يكن في لفظ التنزيل والله تعالى قد اخبر عنهم، وخبره أصدق أنهم بدلوا كتبهم، فقال تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً} [البقرة: 79] وقال تعالى: {يُحَرِّفُونَ الكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} [النساء: 46] فأخبر أنهم قد نسبوا غليه ما ليس منه وحرفوا عنه ما هو منه، وهذا صريح في تبديل المعنى واللفظ، فإذا كان مبدلاً كانت تلاوته معصية لتبديله، لا لنسخه، فإن في القرآن منسوخاً يتلى كتلاوة الناسخ، وإذا كانت تلاوته معصية كانت الوصية بالمعصية باطلة. فأما قولهم: إنه مستفيض النقل، فاستحال فيه التبديل، فالجواب عنه: أن الاستفاضة شرطان: أحدهما: أن ينقله جم غفير، وعدد كثير ينتفي عنهم التواطؤ والتساعد على الكذب والتغيير. والثاني: أنه يستوي حكم طرفي النقل ووسطه. وهذا، وإن وجد فيه أحد الشرطين من كثرة العدد، فإنه لم يوجد فيه الشرط الثاني في استواء الطرفين والوسط؛ لأن التوراة حين أحرقها بخنصر اجتمع عليها أربعة من اليهود لفقوها من حفظهم، ثم استفاضت عنهم، فخرجت عن حكم الاستفاضة. فإن قيل: فهذا يعود على القرآن في استفاضة نقله؛ لأن الذي حفظه من الصحابة ستة، فلم توجد الاستفاضة في طرفيه ووسطه. قيل: لئن كان الذي يحفظ جميع القرآن على عهد رسول الله صل الله عليه وسلم ستة، فقد كان أكثر الصحابة يحفظون منه سوراً أجمعوا عليها،

واتفقوا على صحتها، فوجدت الاستفاضة فيهم بانضمامهم إلى الستة. وقولهم: إنهم غيروا التأويل دون التنزيل؛ لأنهم قد أنكروا تغيير التأويل كما أنكروا تغيير التنزيل، ولم يكن إنكارهم حجة في تغيير التأويل، وكذلك لا يكون حجة في تغيير التنزيل؛ لأن الله تعالى قد أخبر أنهم غيروه، فاقتضى حمله على عموم الأمرين غير تخصيص. فصل: وإن أوصى أن تكتب شريعة موسى وعيسى نظر: فإن أراد كتب شريعنهم، وأخبار قصصهم الموثوق بصحتها جاز؛ لأن الله تعالى: قصها عليها في كتابه العزيز، وإن أراد الكتب الموضوعة في فقه دينهم لم يجز كالتوراة والإنجيل. وهكذا لو أوصى بكتب النجوم كانت الوصية بها وصية باطلة، لقول النبي صل الله عليه وسلم: "من صدق كاهناً أو عرافاً، فقد كفر بما أنزل على محمد "ولو وصى بكتب الطب والحساب جاز؛ لأن الشرع لا يمنع منها مع ظهورهما في بلاد الإسلام والانتفاع بها، والله أعلم. تم الجزء الثالث عشر ويليه إن شاء الله الجزء الرابع عشر وأوله؛ كتاب القاضي (إلى) القاضي

بحر المذهب في فروع المذهب الشافعي تأليف العلامة القاضي فخر الإسلام شيخ الشافعية الإمام أبي المحاسن عبد الواحد بن إسماعيل الروياني المتوفى سنة 502 هـ تحقيق طارق فتحي السيد الجزء الرابع عشر يحتوي على الكتب التالية: القاضي إلى القاضي- الشهادات- الأقضية واليمين مع الشاهد القسامة- الشهادات الثاني- الدعوى والبينات دار الكتب العلمية DKI

كتاب القاضي إلى القاضي

بسم الله الرحمن الرحيم كتاب القاضي إلى القاضي مسألة: قال: "ويقبل كل كتاب لقاضٍ عدل ولا يقبله إلا بعدلين". الأصل في جواز العمل على كتب القضاة، الكتاب، والسنة، والإجماع. أما الكتاب: فقصة سليمان عليه السلام لبلقيس في قوله تعالى: {إنِّي أُلْقِيَ إلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29)} [النمل:29] الآية، فأنذرها بكتابه ودعاها إلى دينه، وجعله بمنزلة كلامه، واقتصر منه على أن قال: {أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ واتُونِي مُسْلِمِينَ (31)} [النمل:31]، فأوجز واقتصر، وهكذا تكون كتب الأنبياء عليهم السلام، ومعناه: لا تعصوني، وقيل: لا تخالفوني {واتُونِي مُسْلِمِينَ (31)} لديني، وقيل: مستسلمين لطاعتي، وهو أول من افتتح ب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30)}، ولما نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح كتبه بها. وأما السنة: فما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى ملوك الأمم يدعوهم إلى الإسلام، كتب إلى اثني عشر ملكًا منهم كسرى ملك الفرس، وقيصر ملك الروم، فأما كسرى فكتب إليه: من محمد بن عبد الله إلى كسرى بن هرمز أن أسلم تسلم والسلام. فلما وصل إليه كتابه مزقه، فقال صلى الله عليه وسلم: "يُمزق ملكه". وكتب إلى قيصر: بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن عبد الله إلى قيصر عظيم الروم، {يَا أَهْلَ الكِتَابِ تَعَالَوْا إلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64]، فلما وصل إليه كتابه قبله ووضعه على رأسه، فقال عليه الصلاة والسلام: "ثبت ملكه" فكان كما قال صلى الله عليه وسلم في كسرى وقيصر. وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمرو بن حزام كتابًا ذكر فيه الأحكام والزكوات والديات، فصارت في الدين شرعًا ثابتًا، وعملًا مستفيضًا. وجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشًا وأمر عليهم عبد الله بن جحش، ودفع إليه كتابًا وقال: " لا تفضه حتى تبلغ موضع كذا، فإذا بلغته ففضه واعمل بما فيه" ففضه في الموقع الذي أمره وعمل بما فيه وأطاعه الجيش عليه. وروي عن الضحاك بن سفيان قال: ولأني رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعض الأعراب، ثم كتب إلي يأمرني أن أورث امرأة أشيم الضبابي

من دية زوجها. وأما الإجماع: فهو أن الخلفاء الراشدين كتبوا إلى أمرائهم وقضاتهم بما عملوا من الديانات والسياسات. وكتب عمر رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- عهده على قضاء البصرة، وهو مشهور جعله المسلمون أصلًا للعهود. وكتب إلى أبي هريرة -رضي الله عنه- أما بعد فإنه حصر بنا فالوحا الوحا. وكتب إلى ابن عباس -رضي الله عنهما- أما بعد، فإن الإنسان ليسره درك ما لم يكن ليفوته ويسوءه فوت ما لم يكن ليدركه، فلا تكن بما نلت من دنياك فرحًا، ولا بما فاتك منها ترحًا، ولا تكن ممن يرجو الآخرة بغير عمل، ويؤخر التوبة بطول أمل، فكأن قدر والسلام. وقال ابن عباس -رضي الله عنهما- فما انتفعت ولا اتعظت بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الكتاب. ولأن الحكام من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا كانوا يكتبون، يكتب بعضه إلى بعض، ويعملون عليه ولم ينكره منكر. ولأن ضرورات الحكام إليها داعية، فإن من له حق على رجل في بلد غير بلده لا يمكنه إتيانه ولا مطالبته إلا بكتاب القاضي، فوجب قبوله. ثم اعلم أن لوجوب قبولها ثلاثة شروط: أحدها: أن يكون الثاني عالمًا بصحة ولاية الأول. والثاني: أن يكون عالمًا بصحة أحكامه وكمال عدالته. والثالث: أن يعلم صحة كتابه فيما تضمنه من حكمه. واختلف العلماء فيما يعلم به صحة كتابه، فذهب الشافعي وأبو حنيفة -رضي الله عنهما- وأكثر الفقهاء إلى أنه لا يجوز أن يقبله إلا أن يشهد به شاهدان على ما نذكره، فأما بالخط أو الختم فلا يجوز. وذهب قضاة البصرة الحسن، وسوار بن عبد الله وعبيد الله العنبري، وهو قول أبي يوسف، وأبي ثور وإسحاق وأبي عبيد، وهو رواية عن مالك، ومال إليه من أصحاب الشافعي الإصطخري، أنه إذا عرف القاضي [أن] المكتوب إليه خط القاضي الكاتب وختمه، واتصلت بمثله كتبه جاز أن يقبله ويعمل بما تضمنه، لأن كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كانت مقبولة يعمل بما فيها من غير شهادة. ودليلنا قوله صلى الله عليه وسلم: "شاهداك أو يمينه"، فجعل الحكم مقصورًا على الشهادة دون الكتب، ولأن نقل ما غاب عن القاضي لا يثبت إلا بالشهادة دون الخط، كالشهود إذا كتبوا بشهادتهم، وكذلك الدعاوى والأقارير والعقود لا تثبت بمجرد الكتاب دون الشاهدين، وهذا كله لأن الخطوط تشتبه على ما ذكرنا، وأما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت ترد مع رسل يشهدون بها، وإنها تجري مجرى الأخبار التي يخف حكمها، لعموم التزامها بخلاف هذا. ثم اعلم أنه يجوز أن يكتب قاضي مصر إلى قاضي مصر، وقاضي قرية إلى قاضي قرية، وقاضي بلد إلى قاضي قرية، وقاضي قرية إلى قاضي بلد، لأن كل واحد من

هؤلاء ينفذ قضاؤه وحكمه فيقبل كتابه. ثم ينظر فإن كان كتب بحكم حكم به فيجوز قبول ذلك والعمل به سواء كان بينهما مسافة. [نعتبر فيها شهادة شهود الفرع على شهادة شهود الأصل، أو لا يكون بينهما هذه المسافة، وإن كان كتب بشيء ثبت عنده ولم يحكم به يعتبر أن يكون بينهما مسافة يقبل فيها شهادة شهود الفرع، والفرق إنه إذا حكم حاكم يكتب بما نفذه وأمضاه وما حكم به حاكم يلزم كل حاكم تنفيذه وإمضاؤه فلم يعتبر قرب المسافة، وأما إذا لك يحكم فإنه خبره بذلك هو بمنزلة الشهادة على الشهادة فاعتبر فيه بعد المسافة وتعذر إثبات شهود الأصل ذلك عند الحاكم الثاني وقدر المسافة مسافة القصر وقال بعض أصحابنا بخراسان فيه وجهان أحدهما: هذا، والثاني: نعتبر مسافة الشهود لأداء الشهادة إليه لم يمكنهم الرجوع إلى المنزل قبل الليل. وقال أبو حامد: لا يقول ثبت عندي لأن الثبوت حكم كقوله حكمت وإنما يقول شهدًا عندي لفلان بكذا إذا كان قصده نقل الشهادة فإن قال: ثبت عندي فهو حكم لا يشترط فيه المسافة والصحيح عند أكثر أصحابنا أن الثبوت لا يكون حكمًا لأن الحكم هو الإلزام والثبوت ليس إلزامًا، وهو في ثبوت الحق كالإقرار ونص عليه في الأم فقال: كتابه كتابان؛ أحدهما: كتاب يستأنف المحكوم إليه به، والثاني: كتاب حكم منه، وقد ذكرنا ما يفعل به وحكي الطحاوي عن أبي حنيفة وأصحابه أنه يجوز للحاكم المكتوب إليه أن نقبله، وإن كانت المسافة قريبة وقال بعض المتأخرين من أصحابه هذا مذهب أبي يوسف ومحمد والذي يقتضيه مذهب أبي حنيفة أنه لا يجوز ذلك كما في الشهادة على الشهادة وأحتج من أجازه بأن كتاب الحاكم بما ثبت عنده فجاز مع القرب ككتاب الحكم وهذا لنه نقل الشهادة إلى المكتوب إليه فلا تجوز مع القرب كالشهادة على الشهادة ويفارق كتاب الحكم لأنه ليس بنقل وإنما هو خبر بفعله فافترقا ثم قال الشافعي رضي الله عنه: ينتجه ويقرأ عليهما الفصل والكلام إلا أن يكون في كيفية التجميل والأداء فأما التجمل فيحتاج الحاكم الكاتب أن يحضر شاهدين من أهل بلد الحاكم المكتوب إليه أو بمن يريد الخروج إليه ويقرأ الكتاب عنهما أو يقرؤه غيره وهو يسمعه قال الشافعي رضي الله عنه: وأحب الشاهدين أن ينظرا في الكتاب لئلا يحرف شيء منه، فإن لم ينظرا جاز لأنهما يؤديان ما سمعاه فإذا سمعا ذلك وضبطاه قال الحاكم لهما: اشهدا إني كتبت إلى فلان ابن فلان بما سمعتما في هذا الكتاب]. قال الشافعي رضي الله عنه: وينبغي أن يأمرهم بنسخ كتابه في أيديهم ويوقعوا شهادتهم فيه قال أصحابنا: والاحتياط أن يكون ذلك قبل أن يقرأ الكتاب

عليهم فينسخ كل واحد منهما لنفسه نسخة تكون معه، فإذا قرأ الحاكم كتابه نظر في نسخته وقابل ليكون ضابطًا لما في الكتاب لئلا ينسوا ذلك، وقوله: ويوقعوا شهادتهم فيه، يعني في الكتاب الذي في أيديهم ويحتمل أن يريد بقوله فيه، أي في كتاب القاضي والاحتياط أن يوقعوا شهادتهم في كتاب القاضي وفي النسخة التي في أيديهم ليحفظوا من النسخة لفظ شهادتهم فإن ضبط ما يحتاج إليه من كتاب القاضي وحفظ من غير نسخ لم يحتج إلى ذلك؛ لأن المعول على ما علمه وشهد به إلا أن يكون مختومًا لأن الاعتماد على حفظهما لما فيه، ولو اقتصر القاضي فقال لهما: هذا كتابي إلى فلان القاضي أجزأ وإن لم يقل اشهدا بما فيه، وإن أدرج الكتاب وختمه استدعى شاهدين وقال لهما: هذا كتابي إلى فلان قد أشهدكما على نفسي بما فيه لم يصح التحمل وبه قال أبو حنيفة، وقال أبو يوسف: إذا ختمه بختمه المشهور جاز أن يتحمل الشهادة عليه مدرجًا فإذا وصل الكتاب شهد عنده أنه كتاب فلان إليه ويذكر هذا عن أبي حنيفة وهو غير مشهور عنه، واحتج بأنهما شهدا بما في الكتاب فلا حاجة بهما إلى معرفة تفصيله كما لو شهدا لرجل بما في هذا الكيس من الدراهم جازت شهادتهما، وإن لم يذكروا قدرها وهذا غلط [2 أ/ 12]؛ لأنهما شهدا بما هو مجهول عندهما فلا تصح شهادتهما كما لو شهدا على أن لفلان على فلان مالًا وأما ما قاس عليه فلا يصح لأن تعيينها يغني عن معرفة قدرها وهما الشهادة بما في الكتاب دون الكتاب وهما لا يعرفانه فلا يجوز. وقال الشافعي رضي الله عنه: وقبضا الكتاب قبل أن يغيبا عنه. وأما صفة الأداء: فإنهما إذا وصلا إلى الحاكم الثاني يقولان: نشهد أن هذا الكتاب قُرئ على فلان القاضي وسمعناه وأشهدنا أنه كتبه إليك وهذه الشهادة بعد قراءة الكتاب. قال الشافعي رضي الله عنه: فإن لم يقرأ الكتاب ولكنهما سلماه إليه وقالا إنه كتب إليك بهذا لم يجز خلافًا لأبي حنيفة. وإذا شهدوا بذلك قبله القاضي إن كانوا عدولًا عنده وأمضاه إن كان حكمًا وحكم به إن كان تثبيتًا بالبينة أو بالإقرار عنده. والحكم المبرم تارة يكون ببينة، وتارة يكون بإقرار، وتارة بعلم وقع له إذا جوزنا له أن يقضي بعلمه، وتارة بالنكول ورد اليمين، ولو كتب بحصول النكول ورد اليمين عنده من غير أن يبرم الحكم ليبرمه المكتوب إليه جاز، ولو كتب بعلم نفسه إلى غيره ليقضي المكتوب إليه بموجب علمه لم يجز لأنه إذا لم يبرم الحكم [2 ب/ 12] بنفسه بعلمه بل أخبره غيره بعلمه فهو شاهد إن شهد به وبالكتبة لا يحصل شيء لا الشهادة ولا غيرها، ثم إن كتب بثبوت الشيء عنده بالبينة من غير إبرام الحكم لابد أن يذكر ما تلك البينة فإنه قد تكون البينة عنده شاهدًا ويمينًا أو نكولًا محضًا، والمكتوب إليه لا يرى ذلك حجة. ولا يجوز أن يقضي باجتهاد الكاتب بل ينبغي أن يحكم باجتهاد نفسه.

وأما إذا كتب الحكم المبرم يكفيه أن يقول: ثبت عندي الأمر ببينة أو بحجة أو جبت الحكم ولا يحتاج أن يذكر كيف ذاك، لأن الثاني ينفذ قضاءه لا غير فهو كالوكيل له والنائب عنه، والاجتهاد إلى من يقضي لا إلى من ينوب عنه فينفذه، وإذا كتب بسماع البينة فلابد من أن يسمي الشاهدين فيقول: شهد عندي فلان وفلان وقد ثبت عدالتهما فإن المشهود عليه ربما يمكنه إثبات جرحها عند القاضي المكتوب إليه فيكون الجرح أولى من التعديل، وإذا لم يسمها لم يدر المكتوب إليه بماذا يحكم بل يكون تقليدًا للحاكم الكاتب لا مجتهدًا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: يجوز أن يكتب ثبت عندي بشهادة العدول ولا يسميهم فإن لم تثبت عدالتهم سماهم وهذا ضعيف، ولو ثبت الحكم بالشهود ولم يسمهم بالعدالة هل يكون الحكم بعد تعديلًا أم لا؟ فيه وجهان: أحدهما: يكون تعديلًا لأنه ذكرهم للحكم بشهادتهم تعديل فلا يحتاج إليه ثانيًا، والثاني: لابد من أن يصفهم بالعدالة وبما يجوز به قبول الشهادة لأنه قد يجوز أن يكون الحكم بظاهر التوسم والسمت، وقال أبو حنيفة: لا يتصور الكاتب بالقضاء المبرم إلا أن يقضي على حاضر ويبرم عليه ثم يهرب بماله فيكتب إلى قاضي البلد الذي هرب إليه ليأخذه به أو يكون عن الغائب نائب حاضر فيجوز القضاء على الحاضر والغائب، فأما من عير هذا فلا يقضي على الغائب بل يكتب سماع الشهادة ليبعث الحاكم المكتوب إليه بذلك الرجل المشهود عليه إليه فيعيد الشهود الشهادة علة وجهه ثم يقضي عليه. ولا يقبل شاهد وامرأتان في الشهادة بالكتاب لأن المقصود منه إثبات الكتاب وهو ليس بمال ولا يقصد منه المال ويطلع عليه الرجال فلا يقبل فيه شهادة النساء، وعند أبي حنيفة يقبل فيه شاهد وامرأتان، وأما شهود الكتاب فعدالتهم ينبغي أن تثبت عند القاضي المكتوب إليه لا عند الكاتب، ولو عدلهم القاضي الكاتب لا يثبت، وقال القفال الشاشي: يثبت، وهو غلط لأنه يؤدي إلى تزكية نفسه بنفسه وقوله وهذا لا يجوز. واعلم أن صاحب "الحاوي" ذكر في هذا الباب ترتيبًا حسنًا فأوردته على وجهه وذلك لوجوب قبول الكتاب ثلاثة شرائط على ما ذكرنا، قسّم الكلام [3 ب/ 12] في صحته ولزوم الحكم به يشتمل على أربعة فصول: أحدهما: فيما يثبت به القاضي من أحكامه، والثاني: فيمن يكاتبه القاضي بحكمه، والثالث: فيما يجب به قبول كتبه، والرابع: فيما يمضيه القاضي المكتوب إليه من حكمه. فأما الأول فأحكامه تنقسم أربعة أقسام: أحدهما: أن يحكم بحاضر على حاضر على غائب بحق غائب، والرابع: أن يحكم لحاضر على غائب بحث حاضر. فأما الأول فالحق على ثلاثة أضرب أحدهما: أن يكون عينًا حاضرة فيحكم القاضي بها لمن استحقها، إما بإقرار أو ببينة وينتزعها من يد المحكوم عليه ويسلمها إلى المحكوم له ولا يجوز في مثل هذا أن يكتب به القاضي إلى غيره سواءً أقام المحكوم عليه أو هرب، والثاني: أن يكون

الحق في يد المحكوم عليه مقيمًا بعد الحكم استوفاء منه ولم يكتب به إلى غيره وإن هرب بعد الحكم عليه وقبل استيفائه منه جاز للقاضي أن يكتب إلى قاضي البلد الذي هو فيه الهارب بما حكم عليه من قصاص أو حد أو غيره ليستوفيه القاضي المكتوب إليه وهذا حكم على حاضر فيجوز أن يكتب به من لا يرى القضاء على الغائب، والثالث: أن يكون الحق في ذمة المحكوم عليه من الأموال الثابتة في الذمم فإن كان المحكوم عليه مقيمًا استوفاه القاضي منه له ولم يكتب به [4 أ/ 12] إلى غيره، وإن هرب قبل استيفاء الحق منه فإن كان له مال استوفاه من ماله ولم يكتب به إلى قاضٍ غيره، وإن لم يكن له مال حاضر كتب وهو قضاء على حاضر. وأما القسم الثاني: أن يحكم لحاضر على حاضر بحق غائب فهذا يكون في الأعيان وهذا مما يكتب بمثله القضاة، وثبوت استحقاقه قد يكون من ثلاثة أوجه: أحدهما: أن يقر به المطلوب، والثاني: أن يثبت باليمين بعد النكول، والثالث: أن يثبت بالبينة فإن ثبت استحقاقه بإقرار القاضي فيما يكتب به من حكمه مخيرًا من أن يذكر ثبوت استحقاقه بإقراره أو لا يذكره، فإن المقر لو أقام بينة باستحقاقه لم تقبل منه، وإن ثبت يمين الطالب بعد النكول لزم القاضي فيما يكتب من حكمه أن يذكر ثبوت ذلك عن يمينه بعد نكوله لأن المطلوب لو أقام به بينة قبلت منه وإن ثبت الاستحقاق ببينة شهدت به على المطلوب ففي وجوب ذكرها في كتاب القاضي وجهان: أحدهما: لا يلزمه ويكون مخيرًا كالإقرار، والثاني: يلزمه لأنه قد يجوز أن يعارضها المطلوب ببينة أخرى فيكون ببينة ويده أحق من بينة بغير يد. وللقاضي الخيار من أن يسمي شهود البينة أو لا يسميهم إذا وصفهم بالعدالة، فإن لم يصفهم بالعدالة فقد ذكرنا وجهين. وأما القسم الثالث: وهو أن يحكم لحاضر على غائب بحق غائب، فإن كان الغائب وقت الحكم حاضرًا ثم غاب فهو حكم لحاضر على حاضر، وإن كان غائبًا عند الحكم عليه نفذ حكمه إن كان يرى جواز القضاء على الغائب ولم ينفذ إن لم يره. فإن كتب وهو لا يرى القضاء على الغائب بسماع البينة عليه ولم يذكر الحكم بها فإن ذكر الشهادة ولم يذكر ثبوت الحق بالشهادة جاز أن يكتب به ويكون القاضي المكتوب إليه هو الحاكم بها ويكون في كتاب القاضي كالشهادة على الشهادة. وإن ذكر ثبوت ذلك عنده بالشهادة ففي كون الثبوت حكمًا وجهان: فإذا قلنا يكون حكمًا لا يجوز أن يكتب به لأنه لا يرى الحكم على غائب، وإذا نفذ القضاء به على ما فصلناه بالحق المحكوم به على أربعة أضرب: أحدهما: أن يكون في ذمته، والثاني: أن يكون في بدنه، والثالث: أن يكون عينًا غير منقولة في بلده، والرابع: أن يكون عينًا منقولة في بلده، فأما الأول: فيستوفي منه إن أيسر به وينظر به إن أعسر، وأما الثاني: فإن كان الحق لآدمي كالقصاص استوفاه المكتوب إليه، وقال أبو حنيفة: لا يجوز فيه كتاب القاضي إلى القاضي ولا يستوفي [حدود الأبدان بكتب القضاة وإن كانت من حقوق الآدميين] لتغليظها وهذا لا يصح لأنه حق لآدمي لا شبهة فيه فجاز كتاب القاضي إلى القاضي كالأموال ونقول: كما جاز فيه الشهادة على

الشهادة جاز فيه كتاب القاضي إلى القاضي. وأما حقوق الله تعالى تدرأ بالشبهات وذكر في "الأم" يقبل كتاب القاضي إلى القاضي في حقوق الناس من الأموال والجراح والقول في الحدود التي لله تعالى واحد من قولين، وذكر بعض أصحابنا أنه لا يقبل في الحدود قولًا واحدًا وهو غلط، وأما الثالث: فالحكم على الغائب لا يكون إلا بالبينة فإن ثبت عنده عدالة شهودها حكم بثبوتها وجاز أن يكتب إلى قاضي البلد الذي فيه الملك المستحق دون قاضي البلد الذي فيه المحكوم إن كان في عينه، وإن لم تثبت عنده عدالة الشهود وهم غرباء وذكر الطالب أن له بينة بتزكيتهم يقيمها عند قاضي بلدهم فللشهود ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يكونوا من أهل البلد الذي فيه الملك وهو على العود إليه، فلا تسمع شهادتهم، وإن سمعها لم يكتب بها وقال للطالب: اذهب مع شهودك إلى قاضي بلدهم وبلد ملكك ليشهدوا عنده بما شهدوا به عندي، فإن كتب القضاة مختصه بما لم يمكن ثبوته بغيرها وثبوت هذا بالشهادة ممكن فلم يحكم فيه بالمكاتبة كالشهادة على الشهادة لا يحكم بها مع القدرة على شهود الأصل. والثانية: أن يكون الشهود من البلد الذي فيه الملك ولا يريدون العود إليه والبينة بتعديلهم فيه فيجوز أن يكتب القاضي بشهادتهم فيصير التعديل والحكم مختصًا بالقاضي المكتوب إليه، ويكون كتاب القاضي مقصورًا على نقل الشهادة ولا وجه لكاتبه الثاني إلى الأول بالتعديل ليقول الأول الحكم لأن الثاني قادر على تنفيذ الحكم فلم يحتج إلى الأول والثالثة: أن يكون الشهود في غير البلد الذي فيه الملك فيجوز للقاضي بعد سماع شهادتهم أن يكتب إلى قاضي بلدهم ويسأله عن عدالتهم فإن عرفها كتب بها إلى القاضي الأول ليتولى الأول الحكم بشهادتهم ويكون الثاني حاكمًا بعدالتهم ولا يجوز أن يقبل كتاب الثاني إلا بشهادة لأن كتاب الأول استخبار، وكتاب الثاني حكم. وأما الرابع فإذا أحضر الطالب البينة بعبد ادعاه في يد المطلوب بغصب وحلاه الشهود بحليته ونعتوه باسمه وجنسه وصفته ففي الحكم بشهادتهم على ما ينقل من الأعيان الغائبة قولان: أحدهما: وهو المنصوص، وحكاه الشافعي عن أبي حنيفة ومحمد واختاره المزني لا يجوز حتى يشير الشهود إليها بالتعيين وهذا أصح وهو المعمول عليه لأن الصفات تتشابه والحلي تتماثل فلم يجز الحكم بها مع الاحتمال حتى يزول بالتعيين ويفارق ما لم ينقل لتعيينه بحدوده وموضعه بلا إشكال، ولأن المشهود به مجهول فلا يكفي فيه الوصف كما لا يكفي الوصف في المشهود له والقول الثاني أضافه كثير من أصحابنا إلى الشافعي رضي الله عنه وهو حكاية عن غيره يجوز لحفظ الحقوق على أهلها وقوع العلم بالصفات كما في العقود، وخرج ابن سريج وجهًا ثالثًا فقال: إن كان العبد المدعى غيبته يختص بوصف يندر وجوده في غيره كشامة في موضع من جسده أو أصبع زائدة أو كان مشهورًا من عبيد السلطان لا يشركه غيره في اسمه ومنزله وصفته يجوز الحكم به وإلا فلا يجوز وأجري ذلك مجرى الأنساب فيمن غاب إذا رفعت حتى تراخت وزال الإشكال فيما حكم بالشهادة، وإن قربت حتى اشتبه الاشتراك فيما لم يحكم بالشهادة إلا مع التعيين ولهذا التخريج وجه

ولكنه نادر وإطلاق القول يكون على الأعم الأغلب، فإذا قلنا بالقول الأول ففي جواز سماعها والمكاتبة بها قولان: أحدهما: لا تسمع لإيراد للحكم وهو لا يحكم، والثاني: نص عليه في كتاب الدعوى يجوز أن تسمع ويكتب به إلى قاضي البلد الذي فيه العبد المطلوب فإذا وصل الكتاب إليه لم يحكم بالعبد إلا مع التعيين من وجهين: أحدهما: أن لا يتكلف الثاني الكشف عن عدالتهم، والثاني: أن لا يتكلف الشهود إعادة شهادتهم، وإنما يقتصرون على الإشارة بالتعيين فيقولون: هذا هو العبد الذي شهدنا به لفلان عند القاضي فلان. وقال صاحب "الحاوي": وفيها فائدة ثالثة عندي وهي أن يموت العبد فيستحق بهذه الشهادة على المطلوب ذي اليد قيمته علة نعته وصفته، وإذا قلنا يجوز الحكم أحضر القاضي المكتوب إليه العبد وصاحب اليد وقال هذا العبد المنعوت بهذه الصفة فإن اعترف بها حكم عليه بتسليم العبد إلى طالبه، وإن أنكر أن يكون هو الموصوف المحكوم به ففيه قولان: أحدهما: حكاه الشافعي عن ابن أبي ليلى وبه قال أبو يوسف: يختم القاضي في عنق العبد ويسلمه إلى الطالب المشهود له مضمونًا عليه ويأخذ منه كفيلًا به وينفذه إلى القاضي الأول ليحضر الشهود لتعيينه فإن عينوه وقال إنه العبد الذي شهدنا به للطالب حكم له به وكتب إلى القاضي الثاني باستحقاق الطالب له وبرأه الكفيل من ضمانه. وإن لم يشهدوا به للمطلوب بعينه ألزمه رده على من كان في يده وأخذه بنفقة عوده وبضمان نفسه إن تلف وضمن منفعته إن كان له منفعة في الزمان الذي فوتها عليه. ولو كان بدل العبد أمة قال أبو يوسف: لا يسلمها إلى الطالب لأنها ذات فرج وربما كانت أم ولد لصاحب اليد وسوى أن أبي ليلى بين العبد والأمة في التسليم ولكنه أوجب في تسليم الأمة أن تضم إلى أمين ثقة تحفظ به حذرًا من التعرض لإصابتها. قال الشافعي رضي الله عنه: وهذا استحسان وليس بقياس فأخذ بهذا القول من أصحابنا الإصطخري مذهبًا لنفسه ولا يصح تخريجه على مذهب لأنه متروك الاستحسان بالقياس وقد جعله استحسانًا وقد اختار القفال ما قال أبو يوسف. والقول الثاني: حكاه الشافعي رضي الله عنه عن بعض الحكام أم ينادي القاضي على العبد فيمن يزيد فإن انتهى ثمنه قال لمدعيه: ادفع ثمنه يكون موضوعًا على يد عدل وخذ العبد معك فإذا عينه شهودك حكم به القاضي لك وكتب برد الثمن عليك، وإن لم يعينوه لك لزمك رده واسترجاع الثمن وهذا القول إن أجاب إليه الطالب جاز العمل عليه، وإن لم يجب إليه لم يجبر عليه. قال صاحب "الحاوي": والأصح عندي من هذا كله أن يقبل القاضي الثاني

الكتاب ويحكم بوجوب ما تضمنه من العبد الموصوف فيه، ويخير صاحب اليد في العبد بين أحد ثلاثة أحوال: من أن يسلمه بالصفة المشهودة بها إلى طالبه فيبرم الحكم بها، ومن أن يمضي بالعبد مع طالبه على احتياط من هرب إلى القاضي الأول فإن عينه الشهود سلمه إلى الطالب بحكم وإلا خلى سبيل العبد مع صاحب اليد، ومن أن يعدل بالطلب إلى دفع قيمة العبد الموصوف دون العبد الذي في يده فأي هذه الثلاثة فعل صاحب اليد فقد خرج به من حث الطالب، وإن امتنع من كلها وقد ثبت استحقاق العبد الموصوف فلا يجوز أن يسقط شهادة العدول وأخذه القاضي جبرًا فدفع قيمة العبد الموصوف لأنه قد صار بالاشتباه غير مقدور عليه فجرى مجرى العبد المغصوب إذا أبق لزمه دفع قيمته، ولا يلزمه تسليم العبد لما ذكرنا من الاشتباه ولا يجبر على السفر بالعبد إلى القاضي الأول لأنه لا إجبار عليه في السفر بماله، ولا على المحاكمة إلى قاضي بلده والله أعلم بصوابه. وقال بعض أصحابنا بخراسان في المنقول: هل يقبل كتاب القاضي إلى القاضي؟ فيه ثلاثة أقوال أحدهما: لا يقبل، والثاني: ينتزع من يده ويختم في عنقه إن كان عبدًا وفي الجارية: وجهان: هل ينفذها إلى الكاتب أم لا؟ والثالث: منتزع من يده ويدفع إليه قيمته على ما ذكرنا، وقد الشافعي القول الثالث ومال إلى الثالث وفي هذا نظر والاعتماد على ما سبق. وأما القسم الرابع: وهو أن يحكم الحاكم لحاضر على غائب بحق حاضر فهذا يكون في الأعيان المستحقة بالشهادة فلا يقف الحكم فيها على مكاتبة قاضٍ آخر وينفرد بالحكم فيها بعد سماع البينة إن كان ممن يرى القضاء على الغائب وسواء كانت العين منقولة أو لا. فإن سأله المحكوم له أن يكتب له كتابًا باستحقاق الملك الحاضر إلى قاضي البلد الذي فيه المحكوم عليه، فإن كانت العين المحكوم بها منقولة لم نكتب بها لانبرام الحكم بها وانقطاع العلائق فيها، وإن كانت غير منقولة كالعقار أجابه إليه وكتب له به، وإن كان الحكم قد أنبرم لأنه قد يجوز أن يستحق على ذلك أجرًا يطلب بها المحكوم عليه. ويتفرع على هذا أن رجلًا لو حضر قاضي بلد وذكر له أنني اتبعت في خلطة فلان الغائب سهمًا من دار في بلدك وعفا عن شفعته ولي بينة قد أحضرتها فيشهد عليه بالعفو فاسمعها واكتب على قاضي البلد الذي فيه الشفيع فلست آمن إن خرجت إليه أن يطالبني بالشفعة ويجحد العفو لم يسمع القاضي بينته ولم يكتب له بشيء لأن سماعها بعفو الغائب يكون بعد دعوى الغائب فلم يجز أن يسمع عليه بينة فيما لم يدعه. وهكذا لو قال الحاضر لفلان الغائب عليّ ألف درهم وقد دفعتها إليه، وقد أبرأني منها وهذه بينتي فاسمعها فإني لا آمن إن خرجت إليه أن يجحد القبض والإبراء

ويطالبني واكتب إلى قاضي بلده لم يسمعها ولم يكتب لأن الغائب لم يطالب فلم تسمع البينة على غير مطالب، وهكذا لو قال الحاضر: إن فلانًا الغائب باعني هذه الدابة أو وهبها لي وهذه بينتي ولست آمن أن يجحد بي فاسمعها لي لم يسمعها لأن سماعها يكون بعد جواب الغائب إن أنكر، وكذلك لو أن امرأة ادعت أن زوجها طلقها وهو غائب أو حاضر وهؤلاء شهودي عليه بالطلاق الثلاث ولست آمن أن يتعرض فاسمع بينتي لا تسمع لأنه لم يتعرض لها فلم تصح هذه الدعوة، فإن تعرض لها الزوج أحضره لم تسمع البينة قبل حضوره وإنكاره، فإن كان الزوج غائبًا وأرادت الزوجة أن تخرج إلى بلده ففي سماع بينتها إذا ادعت أنه قد تعرض لها وجهان: أحدهما: لا يسمعها، والثاني: يسمعها بخلاف الأملاك لما يلزم من فضل الاحتياط في الفروج، ولو أنه تذكر خروجها إلى بلده لم تسمع بينتها وجهًا واحدًا وعلى هذا لو كانت أمة في يد رجل فأحضرها إلى القاضي وذكر أنه اشتراها من فلان الغائب ودفع إليه ثمنها، وسأل القاضي أن يسمع بينته على ما قال لم يسمعها منه، فإن استحقت الأمة من يده ببينة شهدت بها لمستحقها جاز للقاضي حينئذٍ أن يسمع بينته بابتياعها من الغائي؛ لأنه مستحق للرجوع بدركها بعد الاستحقاق بخلاف ما قبل الاستحقاق. وهكذا لو ادعت الأمة أنها حرة الأصل وأقامت بينة بحريتها فسأل صاحب اليد أن يسمع ببينته ابتياعها من الغائب سمعها لاستحقاقه الرجوع بدركها، ولو قالت الأمة: أنا حرة الأصل وعدمت البينة ولم يتقدم إقرارها بالرق قبل قولها في حريتها وأحلفت لصاحب اليد لأن حرية الأصل لا يطرأ عليها الرق، فإن سأل صاحب اليد أن يسمع بينته بابتياعها من الغائب ليرجع بدركها عليه لك يسمعها ولم يكاتب بها. والفرق بين المسألتين أن بينتها بالحرية مسموعة على كل ذي يد ثابتة وزائلة وقولها في الحرية مقبول على غير ذي اليد الثابتة، ولا يقبل على ذي اليد الثابتة ويستحق صاحب اليد إحلاف البائع أنها ليست بحرة فإن سأل القاضي أن يكتب له بما حكم به من حريتها كتب له بإحلاف البائع ولم يكتب له برجوع الدرك على البائع ويتفرع على هذا أن يشهد عند القاضي شاهد واحد بملك لرجل فذكر المشهود له [9 أ/ 12] أن له شاهد آخر في بلد آخر وسأل القاضي أن يكتب إلى قاضي ذلك البلد بما شهد به الشاهد عنده فهذا معتبر بالملك في بلد القاضي الآخر كتب إليه شهادة من شهد عنده ليتولى ذلك الحاكم تكميل البينة وتنفيذ الحكم، وإن كان الملك في بلد القاضي لم يكتب له الشهادة وأخذ كتاب ذلك القاضي إليه بما شهد به الشاهد الآخر ليتولى هذا القاضي تنفيذ الحكم بالشاهدين. وعلى هذا لو أن رجل أو امرأة ادعى أن له ولدًا آخر، أو في بلد آخر وسأل القاضي سماع البينة بنفسه وحريته أو بأنه ولد على فراشه ليكتب به إلى قاضي ذلك البلد فلهذا الطالب في طلبه ثلاثة أحوال:

أحدهما: أن يطلب ذلك لن الولد قد مات فيجوز للقاضي أن يسمع بينته به ويكتب به إلى قاضي ذلك البلد ليحكم بميراث ولده. والثانية: أن يذكر القاضي أن الولد حي وأنه في يد من استرق سمع البينة بنفسه وحريته وكتب به إلى قاضي ذلك البلد سواء ذكر اسم المسترق أو لم يذكره، ولو كان هذا في ملك لم تسمع البينة إلا بعد تسمية صاحب اليد لأن الملك ينتقل والحرية لا تنتقل، فإن كانت البينة شهدت لحرية الولد ولم تشهد بنسبه لم يسمعها ولم يكتب بها لأن الطالب إذا لم يثبت له نسب لم يثبت له حق في الطلب، ولو كانت البينة تشهد بالنسب دون الحرية فإن كان ثبوته موجبًا للحرية سمعها وكتب بها، وإن لم توجب الحرية لم يسمعها ولم يكتب بها. الثالثة: أن لا يذكر الطالب استرقاق الولد ولا موته ولا يجوز أن يسمع البينة ولا يكتب بها لأنه لا يتعلق بها الحال حق لطالب ولا مطلوب. وأما الفصل الثاني فيمن يكاتبه القاضي بحكمه على أربعة أقسام: مكاتبة القضاة، ومكاتبة الأمراء، ومكاتبة الشهود، ومكاتبة المحكوم عليه. وأما قاضي البلد الذي فيه الملك المحكوم به وليس لمكاتبة غيرهما من القضاة وجه لأنه لا يتعلق على غيرهما شيء من حكمه، فإذا كتب إلى قاضي البلد الذي فيه الخصم المطلوب فانتقل المطلوب إلى بلد آخر أوصل الطالب كتابه إلى ذلك القاضي ويتنجز به كتابه إلى قاضي البلد الذي انتقل إليه، وجاز للقاضي الثاني أن يكتب به إلى قاضي البلد فإن عاد الطالب إلى القاضي الأول وسأله أن يكتب له إلى القاضي الثالث فالأولى القاضي الأول أن يستفيد منه الكتاب الأول ويكتب له كتابًا إلى القاضي الثالث، فإن لم يستعيده وذكر في الكتاب الثاني أنه قد كان كتب له هذا بعد الحكم إلى فلان الغائب حتى لا يتوصل بالكتابين إلى أن يأخذ بحق حقين. وإن قال الطالب خصمي في بلد كذا ولا آمن أن ينتقل منه إلى غيره وسأل كتابين لم يجز أن يكتبهما وهو بالخيار بين أن يكتب إلى قاضي البلد الذي كان فيه المطلوب ليتنجز به الطالب كتاب ذلك القاضي إن خرج المطلوب إلى غيره، وأما أن يكتب كتابًا مرسلًا إلى من وصل كتابه إليه من سائر القضاة. وهكذا لو لم يعرف البلد الذي فيه المطلوب كتب كتابًا مطلقًا يعم به جميع القضاة فأي قاضٍ كان المطلوب في بلده جاز أن يقبل كتابه، وقيل: فيه وجه لا يلزمه أن يكتب على هذا الوجه ما لم يكن مستقرًا في موضع، ولو كتب القاضي له كتابًا وتسلمه منه ثم ذكر أنه قد ضاع كتب له غيره على مثل نسخته لا يتغير فيه لفظ ولا معنى وذكر فيه أن الطالب قد كان تنجز غيره مثله وذكر أنه ضاع منه ليلًا يتم بالكتابين احتيال. ويجوز أن يكون كتاب القاضي إلى القاضي على أحد ودهين: إما بالحكم بالحق ليكون الثاني مستوفيًا، وإما بثبوت الحق ليكون الثاني حاكمًا. وأما الثاني: فهو مكاتبة أمير البلد الذي فيه الخصم المطلوب أو الملك المحكوم به

دون غيره من الأمراء ولا يكتب إليه إلا بما حكم به وأمضاه ليكون الأمير مستوفيًا له ولا يكون حاكمًا به، لأن الأمراء أعوان على استيفاء الحقوق وليسوا بحكام وهو معنى قول الشافعي رضي الله عنه، ويكتب الأمير إلى القاضي والقاضي إلى الأمير. وذكر بعض أصحابنا بخراسان أنه قبول حكم من الأمير وإن لم يكن فيه شرائط القضاء وهو غلط، ويجوز أن يتولى الرجل القضاء والإمارة لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا أميرًا وقاضيًا، ثم هذه المكاتبة مقصورة على أحد ثلاثة أمور: أحدها: أن يكتب إليه بما حكم به للطالب من ملك في بلده ليمكنه [10 ب/ 12] من التصرف فيه ويرفه عنه يد من سواه فهذا يجوز إذا أمن عدوان الأمير، فلو كان لبلد الملك أمير وقاضٍ كانت مكاتبة الأمير بذلك أولى من مكاتبة القاضي لأنه بالبلد أخص ما لم يعارض القاضي فيه. والثاني: أن يكتب بما حكم به على الخصم المطلوب ليستوفيه الطالب فهذا يجوز أن يكتب به الأمير، فلو كان لبلد هذا المطلوب أمير وقاضٍ كانت مكاتبة القاضي أولى لأن القاضي بإلزام الحقوق أخص. والثالث: أن يكتب إليه بإحضار المطلوب إليه فهذا يعتبر بولاية القاضي، فإن كان بلد الأمير داخلًا في ولايته جاز أن يكتب إليه بإحضار المطلوب ولزم الأمير إنفاذه إليه، وإن كان خارجًا من ولايته لم يجز للقاضي أن يكتب إلى الأمير بإحضاره ويلم يجز للأمير أن ينفذه إليه. وأما القسم الثالث: فليس للشهود تنفيذ حكم ولا استيفاء حق وإنما هي وثائق فيما يتحملون من الحقوق ليشهدوا بها لمستحقيها عند مستوفيها فللقاضي في مكاتبته ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكاتبهم بتنفيذ الحكم فهذا منه استخلاف لهم على الحكم وهو استئناف ولاية لا يصح إلا بثلاثة شروط: أن يكونوا من أهل علمه، وأن يكونوا من أهل الاجتهاد، وأن يذكر لفظ التنفيذ ويصير هذا تقليدًا خاصًا في هذا الحكم دون غيره على إجماع فيه ولا ينفرد به أحدهم. والثانية: أن يكاتبهم [11 أ/ 12] باستيفاء الحق ليعتبر شرطان: أحدهما: أن يكونوا من أهل علمه، والثاني: أن يكونوا من أهل الاجتهاد، والثالث: أن يكاتبهم إشهادًا لهم على حكمه ليكونوا وثيقة للطالب يتحملون عنه إنفاذ حكمه له فيجري هذا فجرى الشهادة على شهادة فيصح أن يكاتبهم به، وإن كانوا من غير أهل علمه ويصح أن يتحملوه عنه إذا أشهدهم شهود المتحملين للكتاب، فيصح أن يؤدوا ذلك إذا تعذر ثبوته لمن تحملوا ذلك عنه وهو القاضي أو شهود الكتاب كما نقوله في الشهادة على الشهادة.

وأما القسم الرابع: فالكتاب إلى المحكوم عليه إلزام له وحكم عليه، فإن كان من غير أهل علمه لم يجز أن يكتب إليه ولا يجب إذا كتب إليه أن يلتزم كتابه ولا يقبله لأنه في طاعة غيره من القضاة، وإن كان من أهل علمه جاز أن يكتب إليه ولزمه إذا وصل إليه أن يقبله لأنه ملتزم بطاعته، فإن خرج إلى الطالب من حقه وإلا لزمه المسير مع الطالب إلى القاضي إذا دعاه إليه إن كان على مسافة أقل من يوم وليلة، وإن كان على أكثر منها لم يلزمه الحضور إلا بالاستحضار. وأما الفصل الثالث منها وهو فيما يجب به قبول كتابه فقد ذكرنا أنه لا يقبل كتاب القاضي في الحكم إلا بشاهدين يتحملان الكتاب عنه ويشهدان به عند القاضي المكتوب إليه وإذا كان كذلك فلتحملها الكتاب شروط ولأدائها للكتاب شروط: فأما شروط تحمله فثلاثة: أحدها: أن يعلما ما فيه وعلمهما به يكون من أحد ثلاثة أوجه: أحدها: إما أن يقرأه القاضي عليهما وإما أن يأمر من يقرأه عليهما بحضرته، وإما أن يقرأه الشاهدان عليه فإن لم يعلما ما فيه فقد ذكرنا أنه لا يجوز، فإن أراد الشاهدان في الكتاب المختوم أن يشهدا بالكتاب ولا يشهدان بما فيه ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأنها شهادة بكتاب معين، والثاني: لا يجوز لأن الشهادة به لا تفيد لأن المقصود بها ما فيه، ولا يجوز للمكاتب قبوله للحكم بما فيه إلا بشهادة غيرهما. والشرط الثاني: أن يقول القاضي لهما: هذا كتابي إلى القاضي فلان فاشهدا عليّ بما فيه فإن لم يقل لهما: هذا كتابي إلى فلان واقتصر بهما على عنوانه لم يجز. ولو قال لهما: هذا كتابي إلى فلان ولم يستدعهما للشهادة ولا أشهدا عليّ بما فيه ففي صحة العمل والإجزاء بهذا القول وحده وجهان: مخرجان من الوجهين إلى جواز الشهادة على المقر بالسماع من غير استدعاء المقر للشهود، فإن قلنا بجوازه جوز هذا في التحمل والأداء، وإن قلنا: لا يجوز هناك لا يجوز هنا. والشرط الثالث: أن لا يغيب الكتاب عنهما بعد تحمل ما فيه إلا أن يكونا قد كتبا فيه شهادتهما ليتذكرا به صحة الكتاب ومعرفته، فإن غاب الكتاب عنهما قبل إثبات خطهما فيه لم يصح إلا أن يعيد القاضي قراءته عليهما ويقول لهما: هذا كتابي الذي أشهدتكما عليّ ما فيه إلى القاضي فلان؛ لأنه قد يتحمل أن يبدل في الغيبة بغيره. وأما شروط أدائه إلى القاضي المكتوب إليه فثلاثة شروط: أحدها: أن يستديما الثقة بصحة الكتاب إما بأن لا يخرج عن أدائها، وإما بأن يكونا قد أثبنا فيه خطوطهما حتى تتحقق علامتهما فيه فإن تشككا فيه لم يصح أداؤهما فيه، والثاني: أن يصل إلى القاضي بمشهدهما إما من أيديهما أو من يد الطالب بحضرتهما فإن لم يشاهدا وصوله لم يصح الأداء، والثالث: أن يشهدا عند القاضي بما فيه بلفظ الشهادة دون الخبر، فإن قالاه بلفظ الخبر دون الشهادة، أو شهدا بالكتاب ولم يشهدا بما فيه لم يصح الأداء للحكم.

وأما الفصل الرابع: وهو فيما يمضيه القاضي المكتوب إليه من حكمه فكتابه على ضربين: أحدهما: أن يكون مقصورًا علة فصل ما ثبت عنده من إقرار أو شهادة فيثبت بالكتاب عند الثاني ما ثبت عند الأول من إقرار أو شهادة، ويتولى الثاني إنفاذ الحكم فيه باجتهاده فإن اختلف اجتهادهما فيه كان محمولًا على اجتهاد الثاني دون الأول لاختصاص الثاني بتنفيذ الحكم فيه، والثاني: أن يكون الكتاب مشتملًا على ذكر الشهادة وإمضاء الحكم بها فلا يخلو حال حكمه عنده من ثلاثة أضرب: أحدها: أن يكون عنده جائزًا لا يخالف فيه، فعليه إمضاؤه، والثاني: أن يكون عنده باطلًا لامتناع الاجتهاد فيه فعليه أن ينقضه وهل يتوقف على المطالبة بالنقض قد ذكرنا. والثالث: أن يكون حكمه محتملًا للاجتهاد فيؤدي إلى اجتهاده فيه [12 ب/ 12] إلى غير ما حكم به الكاتب فليس له أم يمضيه لاعتقاده أنه باطل، وليس له أن ينقضه لاحتماله في الاجتهاد وليس له أن يأخذ المطلوب بأدائه لأنه غير مستحق عنده وليس له أن يمنع الطالب منه لنفوذ الحكم به وقال للمطلوب: لا أوجبه عليك ولا أسقطه عنك، وقال للطالب: لا أوجبه لك ولا أمنعك منه، فإن تراضيتما أمضيته على مراضاتكما، وإن تنازعتما تركتكما على منازعتكما وقطعت التنافر بينكما، وخرج في هذه القضية أن يكون فيها حاكمًا أو مستفتيًا. ثم اعلم أن الأحوط في كتب القضاة أن يكون في نسختين: أحدهما: مع الطالب مختومة والأخرى مع الشاهدين مفضوضة يتدارسانها ليحفظا ما فيها حتى إن ضاعت إحدى النسختين أو كلاهما أمكن الشاهدين إذا حفظا ما في الكتاب أن يشهدا بما فيه فإن اقتصر على نسخة واحدة جاز. وفيه حالتان: إحداهما: أن يدفع الكتاب إلى الشاهدين من دون الطالب فيجوز وهو مخير بين ختمه وتركه والأولى أن لا يختمه ليتدارساه ويحفظا ما فيه حتى يشهدا به لفظًا إن ضاع منهما. والثانية: أن يدفع إلى الطالب دون الشاهدين فعلى القاضي من الاحتياط أن يختمه بخاتمه، وعلى الشاهدين من الاحتياط بالشهادة به أن يوقعا فيه خطهما ليكون ذلك علامة لهما في نفي الارتياب عنهما ويكون ختمهما [13 أ/ 12] في داخل الكتاب وختم القاضي على ظهره معطوفًا فإن اقتصر الشاهدان على الخط جاز، وإن تركا زيادة الاحتياط فإذا وصل الكتاب بالشاهدين إلى القاضي يقول الطالب للقاضي: أنا أستعديك على فلان في حق لي عليه أو في يده وقد منعني عنه، ويجوز أن لا يذكر الكتاب ولا حضور الشهود ولا يصف الحق لأنه مجلس استعداء لا دعوى، فإذا حضر جدد الطالب الدعوى ووصفها وسأل القاضي الخصم فإن اعترف لم يحتج الطالب إلى إيصال الكتاب وحكم له بإقراره، وإن أنكر عرفه الطالب أن حقه عليه قد ثبت عند القاضي فلان وهذا كتابه إليك بثبوته عنده وكان الطالب هو المباشر لتسليم الكتاب من يده إلى القاضي ويذكر له حضور شهوده، فإذا وقف القاضي على عنوانه وختمه سأل الشاهدين عنه قبل فضه سؤال الاستخبار لا سؤال شهادة، فإذا أخبراه أنه

كتاب القاضي إليه فضه وقرأه والأولى أن يفضه ويقرأه بمحضر المطلوب فإن قرأه بغير محضر منه جاز خلافًا لأبي حنيفة حيث قال: لا يجوز أن يفضه ويقرأه قبل حضوره بناءً على أنه لا يقضي على الغائب عنده، وهذا لا يصح لأنه لا يتعلق بالقراءة حكم ولا إلزام، فإذا قرأه القاضي سأل الشاهدين عما فيه سؤال استشهاد لأن بهذه الشهادة يجب الحكم بما في الكتاب [13 ب/ 12] ولا يجوز أن يكون هذا إلا بعد حضور الخصم غالبًا عند الاستخبار، ويجب أن يكون حاضرًا عند الاستشهاد، فلو اقتصر القاضي على الاستشهاد دون الاستخبار جاز، ولو اقتصر على الاستخبار دون الاستشهاد لم يجز لاختصاص الحكم بالشهادة دون الخبر والأولى بالقاضي أن يجمع بينهما على ما ذكرنا ليكون الاستخبار لاستباحة قراءته والاستشهاد لوجوب الحكم به فإذا ثبتت الشهادة بصحة الكتاب وقبله بالشاهدين وقع خطه فيه بالقبول وحكم به على المطلوب. فإن كان الكتاب بعين قائمة من أرض جاز أن يرد الكتاب إلى الطالب ليكون حجة باقية في يده فإن سأل الطالب الإشهاد على نفسه بقبوله والحكم بمضمونه لزمه، وإن كان الكتاب بدين في الذمة فاستوفاه القاضي فطالبه لم يجز أن يرد الكتاب إلى الطالب لنه قد سقط حقه به، والمقصود بالكتاب حفظ ما فيه من نسيان أو خطأ، وبالختم الاحتياط والتكرمة، وقد قيل في تأويل قوله تعالى: {إنِّي أُلْقِيَ إلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ} [النمل:29] أي أنه مختوم والمعمول به عليه فيه ما يشهد به شاهدان. فإن انكسر الختم قال الشافعي رضي الله عنه: شهدوا بعلمهم عليه لأن المعوّل على شهادتهم دون الكتاب والختم خلافًا لأبي حنيفة، وقال الحسن بن زياد: أراد أبو حنيفة إذا لم يحفظ الشهود ما فيه [14 ا/ 12] وكذلك لو ضاع الكتاب فلا بأس لأن الاعتماد على حفظ الشهود دون نفس الكتاب خلافًا لأبي حنيفة. وكيفية الشهادة. أن يشهدوا أن فلان ابن فلان القاضي كتب إليك بكذا وأشهدنا على ذلك، ولو كان الكتاب باقيًا فأراد الشاهدان أن يشهدا بما فيه ولا يوصلانه حرم إمساكه عليهما ولم يمنع من صحة شهادتهما لأن الكتاب أمانة مؤداة في أيديهما، فإن انمحق ما في الكتاب لم يلزمه إيصالهما لأنه ليس بكتاب، وإن انمحق بعضه لزم إيصاله إن بقى أكثره، وإن لم يبق أكثره لا يلزمه. ولو تغيرت حال القاضي الكاتب بما يمنعه من الحكم فيكون ذلك بأحد أربعة أمور: بموتٍ أو عزلٍ أو جنونٍ أو فسقٍ فإن كان بموتٍ أو عزلٍ فعند الشافعي رضي الله عنه حكم كتابه ثابت وقبوله واجب وبه قال أحمد، وقال أبو حنيفة: لا يقبل وسقط حكم كتابه، وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن كان بسماع البينة خرج بموته عن أن يكون

بينة وهو غلط، وقال أبو يوسف: إن مات قبل خروج الكتاب من يده سقط حكمه، وإن مات بعد خروج الكتاب من يده يقبل ويعمل عليه. ووجه الاختلاف أن أبا حنيفة أجرى عليه حكم الفرع اعتبارًا بمن شهد عنده، والشافعي رضي الله عنه أجرى عليه حكم الأصل اعتبارًا بمن أشهد على نفسه واعتباره بالأصل أولى من اعتباره بالفرع، لأنه لكا كان فرعًا لأصل وأصلًا لفرع كان اعتبار حكم الجاني أولى من اعتبار حكم قد زال لأن المعوّل في الكتاب على الشاهدين اللذين يشهدان على الحاكم وهما حيان. موت الحاكم بمنزلة موت شاهدي الأصل أو شهدا على شهادتهما ثم ماتا، فإن الشهادة لا تبطل. وإن تغيرت بفسق أو جنون، فإن كان الكتاب بحكم أمضاه ويقبل، وإن كان بشهادة ثبتت عنده فإن تغيرت حاله بعد قبول كتابه ثبت حكمه، وإن تغيرت قبل قبوله سقط حكمه كالشهادة على الشهادة إذا فسق فيه شهود الأصل بعد قبول شهادة الفرع صحت، ولو فسقوا قبل قبول شهادة الفرع سقطت الشهادة. ولو تغيرت حال القاضي المكاتب سقط أن يكون قابلًا أو حاكمًا به، وهل يجوز لمن تقلده بعده أن يقوم مقام الأول في قبوله؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو مذهب البصريين وبه قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يجوز لأن كتاب القاضي بمنزلة الشهادة على الشهادة عند المكتوب إليه، وإذا شهد شاهدان عند قاضٍ لم يحكم بشهادتهما غيره، والثاني: يجوز وهو مذهب البغداديين لأن المعمول من الكتاب ما يؤديه شهوده من حكم الأول بمضمونه فكان ثبوت الشهادة عند القاضي كثبوتها عند الأول، وحكي أن قاضيًا [12/ 15 أ] بالكوفة كتب إلى إياس بن معاوية وهو قاضي البصرة كتابًا بحكم فوصل بعد عزل إياس بن معاوية وولى الحسن البصري فقبله الحسن وحكم به. ولو كان أحد القاضيين من قبل الآخر فتغيرت حال المولى بموتٍ أو عزلٍ لم يعزل المولى وليس له أن يقبل كتابه، ولو كان القاضي واليًا من قبل الخليفة فمات الخليفة لم ينعزل به القاضي وجاز له قبول كتابه. والفرق أن الخليفة يستنيب القاضي في حق المسلمين لا في حق نفسه فلم ينعزل بموته بخلاف القاضي مع خليفته فعلى هذا الفرق يجوز للقاضي أن يعزل خليفته بغير موجب. قال صاحب "الحاوي": وهذا قول الجمهور ولأن موت الخليفة لو عزل القضاة أدى إلى وقوف الأحكام في جميع الدنيا وفي ذلك ضرر عظيم وليس كذلك موت القاضي فإنه لا يؤدي إلى ذلك وهذا اختيار أبي إسحاق وابن أبي هريرة وصاحب "الإفصاح"، وقال القاضي الطبري: لا يختلف أصحابنا في الخليفة أنه إذا مات أو خلع

لا يعزل القضاة، ورأيت لمن خلع الطائع لله بحكم القضاة الأربعة ببغداد على عادتهم قبل أن يبايع القادر بالله، قال: وكذلك يستخلف للمسلمين فيجب أن لا ينعزل خليفته بموته وعزله أيضًا، ولهذا يشترط أن يكون من يوليه عدلًا مرضيًا فلو كان بمنزلة النائب والوكيل جاز أن يجعله إلى من يختاره من فاسق وغيره وهذا اختيار القفال. قال: وعزل القاضي لا يوجب عزل القوام الذين ولاهم أمور الأيتام والأوقاف، ويوجب عزل وجل كتب إليه في تزويج امرأة بعينها ونحو ذلك من الأمور الخاصة، وذكر ابن أبي أحمد في أدب القضاة: أنه لا خلاف بين الفريقين في أن موت الإمام لا يوجب عزل قضاته. وقال بعض أصحابنا: ينعزل القضاة أيضًا بموت الخليفة، وهذا اختيار والدي رحمه الله لأن تصرفهم بإذن مطلق فهم كالوكيل، والفرق بين هذا وبين الإمامة إذا صحت بمبايعة واحد أو جماعة لا تبطل بموتهم، أن العاقد لا يملك عزل الإمام فلا ينعزل بموته، والقاضي يملك عزل خليفته فانعزل بموته. وقال في "الشامل": لو عزله الإمام من غير موجب لم ينعزل ويحق على قول من قال خليفة القاضي لا ينعزل بموته، أنه ليس له عزله مع سلامة حاله أيضًا. فرع لو وصل الكتاب إلى المكاتب وهو في غير موضع علمه لم يكن له أن يقبله، ولو أن قاضيين اجتمعا في غير موضع عملهما لم يكن لأحدهما: أن يؤدي إلى الآخر ما يحكم به، ولا أن يقبل منه ما حكم به، ولو اجتمعا في بلد أحدهما: مثل قاضي البصرة والكوفة إذا اجتمعا في البصرة لم يجز لقاضي البصرة بما أداه إليه قاضي الكوفة، ولو أداه قاضي البصرة إلى قاضي الكوفة فأداؤه مقبول؛ لأنه يؤدي في عمله ويصير قاضي الكوفة [12/ 16 أ] بسماعه منه عالمًا به وليس بحاكم فيه لأنه في غير عمله، فإذا صار إلى عمله ففي جواز حكمه به قولان كالقاضي في جواز حكمه بعمله. فرع آخر لو لم يكتب الحاكم الأول شيئًا بل أشهد شاهدين على حكم وأذن لهما في أداء الشهادة عنده أو عند أي حاكم من حكام المسلمين جاز، ولو ترك القاضي الكاتب اسم نفسه في الكتاب أو اسم القاضي المكتوب إليه لم يضر لما ذكرنا أن الحكم يتعلق بما يؤديه الشهود من مضمونه. وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يجوز أن يقبل الكتاب إلا أن يكون معنونًا في داخله، فإن لم يكن فيه عنوان على ظاهره لم يجز أن يقبله، وقال أيضًا: لا يقبل معنونًا بالاسم وحده إذا كتبه حتى يجمع بين اسمه واسم أبيه، وحده لكل واحد من الكاتب والمكاتب فإن اقتصر على اسمه واسم أبيه ولم يجز إلا أن يكون اسم الأب مشهورًا (لا) يشركه غيره

أو تكون الكنية مشهورة لا يشركه غيره فيها. فرع آخر اعلم أن عنوان الكتاب في داخله عرف قديم، وعلى ظاهره عرف مستحدث، والعرف المعمول به أولى من العرف المتروك، وليس يجمع بينهما في عصرنا إلا في كتب الخلفاء خاصة. واعلم أن العرف في عصرنا مستعمل باستيفاء النسب في العنوان من الأدنى إلى الأعلى وبالاقتصار فيه من الأعلى إلى الأدنى. فأما ما يبدأ به في العنوان من اسم الكاتب والمكاتب فقد جاءت الأخبار باستعمال الأمرين في عصر الصحابة، فروي أن العلاء بن الحضرمي كان يبدأ باسمه في مكاتبة النبي صلى الله عليه وسلم فيكتب من العلاء بن الحضرمي إلى محمد رسول الله وكان خالد بن الوليد يكتب لمحمد رسول الله من خالد بن الوليد ويكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم من محمد رسول الله إلى خالد بن الوليد فمن بدأ باسمه فهو على الأصل لأنه من الكاتب إلى المكاتب ومن قدم اسم المكاتب فلتعظيمه، وعرف الناس في عصرنا في كتب الملوك فمن دونهم أن يقدم في كتبهم اسم المكاتِب على اسم المكاتَب إلا الخلفاء خاصة فإنهم يقدمون في كتبهم أسماءهم على أسماء المكاتب فأي الأمرين عمل عليه في كتب القضاة ففيه سلف متبوع وقد صار تقديم اسم الكاتب في عصرنا مستنكرًا فكان العمل بما لم يتناكر أولى وإن جاز خلافه. فرع آخر قال بعض الفقهاء: كتب الخلفاء والأمراء إلى القضاة تقبل من غير شهادة في التجمل والأداء للعرف المستمر وصيانة السلطان على تكلف ما يباشر غيره وهذا فاسد لأنه لما لم تنفذ كتب القضاة في الأحكام إلا بالشهادة مع ظهورهم كان كتب الخلفاء والأمراء مع احتجابهم أولى ولأن القضاة فرع الخلفاء وحكم الأصول إن لم يكن أقوى لم يكن أضعف، فأما كتبهم في الأوامر والنواهي دون الأحكام والحقوق فمقبولة على ما جرت به العادة في أمثالها مختومة مع الرسل الثقات لأنها تنتشر ولأن التزوير فيها يظهر والختمة فيها تمنع التزوير، والاستدراك فيها ممكن بخلاف كتب الحكم. فرع آخر قال أبو حنيفة: لا يقبل كتاب قاضي الرستاق والقرية وجعل قبول الكتب موقوف على قضاة الأمصار لأنهم أحفظ لنظام الأحكام وهذا لا يصح لأن لقبول كتب القضاة شروطًا إن وجدت تقبل وإلا فلا تقبل فلا فرق بين القضاة في ذلك. فرع آخر لو كتب قاضي أهل البغي فإن كان من الخطابية لا يقبل، وإن كان ممن تقبل شهادته

فيه قولان: أحدهما: نص عليه في كتاب أهل البغي يقبل لأن أحكامهم ممضاة, وقال في "القديم": ليس لقاضي أهل العدل أن يقبل كتابه, وقال في هذا الباب: ويقبل كل كتاب لقاضي عدل وهذا يدل على أنه لا يقبل كتاب من ليس من أهل العدل وإنما يقبل كتابه وإن لم تنتقض أحكامه لأن الحكم لا ينتقض إلا بعد العلم بفساده في الكتاب لا يقبل إلا بعد العلم بصحته. فرع آخر لو كان الكتاب في الابتداء من آمل إلى قاضي همذان, فلما بلع الكتاب إلى الذي قال الشهود يتخلف هنا فللمدعي أن يقول القاضي الذي أسمع شهادتهما وأعطني بذلك كتابًا إلى المكتوب إليه, وإن لم يفعل المدعي ذلك بل أشهد بشهادتهما شاهدين آخرين في قول, وأربعة في قول وجرح شهود الفرع إلى همذان يجوز لأن شهادة الفرع تقبل في شهادة الكتاب إذا كان في الكتاب أمر يثبت بشهود الفرع, وقال القاضي الطبري: ولو كان المكتوب إليه حيًا كاتبًا لحكم وهو قادر على عرض الكتاب عليه فحمل الكتاب إلى غيره وشهد شاهدان بأن هذا كتاب فلان عمل به أيضًا في قياس المذهب. فرع آخر قال في "الأم" إذا كان فيه قاضيان كبغداد فكتب أحدهما: إلى الآخر بما ثبت عنده من البينة لم ينبغ له أن يقبلها حتى تعاد عليه وإنما يقبل البينة في البلدة الثانية التي لا يكلف أهلها إتيانه ولا يجوز أن يحكم بشهادة الفرع وشاهدا الأصل في ذلك البلد يمكن سماع الشهادة منهما بخلاف كتاب الحكم فإنه لا يعتبر فيه بعد المسافة, وكذلك لو كان في البلد قاضيان لا يتميز عمل أحدهما: عن عمل الآخر, فحكم أحدهما باجتهاده ثم رفع إلى الآخر يلزمه إمضاؤه, وإن سمع الشهادة وثبتها ولم يحكم بها ثم رفع إليه لا يحكم بها حتى تعاد الشهادة عنده وهذا يدل على أنه يجوز أن يكون في البلد قاضيان ينفذ ولاية كل واحد منهما في جميع البلد. فرع آخر قال أصحابنا: وليس للقاضي أن يسمع الشهادة ولا الدعوى في غير عمله, ولا أن يحكم في غير عمله, ولا أن يكتب كتابًا يشهد عليه فيه في غير عمله, ولا أن يفتح كتابًا أو يسمع الشهادة على القاضي الكاتب بما كتب, وإذا فعل ذلك لم يكن له حكم وأعاده إذا رجع إلى عمله فإن أذن الخليفة للقاضي المقيم عن غير عمله في الشهادة على نفسه فيما يكتب من الكتب من خلفائه وقبول كتبهم وسماع الشهادات فيما يتعلق بعمله في أي بلد هو فيه كان جائزًا.

فرع آخر لو نادى أحد القاضيين الآخر وكل منهما في موضع ولايته سمعت بينة كذا فاحكم بها والشهود ماتوا أو غابوا بعدما شهدوا عند هذا المخبر يجوز له أن يحكم بها فإن كانوا باقيين حضورًا لا يحكم على ما بيناه. فرع آخر لو أخبره فقال: أقر عندي المدعى عليه بكذا يقبل قوله إذا ثبت أنه الآن منكر فإن كان مصرًا على إقراره ولم يدرك كيف الحال لا يقضي بل يسأله ليقر بين يديه فيقضي ولا معنى لقبوله مع البينة مع المقر الذي لا يتعذر إقراره وعلى هذا إذا أقام البينة على غائب لابد من أن يقول خصمي الغائب جاحد للحق الذي أدعيه, فإن قال: أخشى أن يجحد ولا أدري جاحد أو مقر لم يسمع. فرع آخر يجوز للقاضي أن يسمع شهادة واحدة ويكتب به ليحلف مع شاهدة الأول ويستحق حتى لو لم يكن إلا امرأة واحدة شهدت له كتب بذلك القدر. فرع آخر لو قال لي: لي شهود الأصل بذلك وشهود الفرع هنا على شهادتهم فأقبل مني شهود الفرع واكتب لي بذلك فإني لا آمن إذا أتيت ذلك البلد أن يكون شهود الأصل قد ماتوا لا يقبل هذا بل يقول: اذهب فأقم هناك شهود الأصل فإن ماتوا قبل ذلك فأقم شهود الفرع إما هنا أو هناك. فرع آخر لو حكم الحاكم على الغائب بمال وكتب إلى حاكم بلد فيه المحكوم عليه فأمره الحاكم الثاني بتوفيره فوفر ثم طالب المدعي برد حججه التي كانت له عليه لم يلزم ردها لأنها ملكه, كما لا يلزم البائع دفع كتاب الأصل إلى المبتاع ويطالب بالإشهاد على نفسه بالقبض. فرع آخر هل تجب شهادة القاضي على نفسه ببراءته منه بقبض مستحقه؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو اختيار الاصطخري: يجب عليه ذلك لما ظهر من ثبوت الحق عنده, والثاني: يجب الإشهاد على القابض وحده, ولا يجب على القاضي لأن أسجال الحكام تختص بإثبات الحقوق, دون إسقاطها. فرع آخر لو سأل القاضي الثاني أن يكتب له براءة لزمه, فإن سأله أن يكاتب الحاكم الكاتب فيعرفه خروجه من الحق فهل يلزمه ذلك؟ فيه وجهان على ما ذكرنا, واختار

الإصطخري أنه يلزمه فإذا قلنا: لا يلزمه فعاد إلى الخصم بعد ذلك فطالبه بالحق مضى المدعى عليه إلى البلد الآخر وأخذ كتابه إلى القاضي بالقضاء. فرع آخر هل يجوز للقاضي أن يكاتب حاكمًا فاسقًا عنده في تثبيت حق أو استيفائه فيه وجهان والأصح أن له ذلك. فرع آخر لو لم يذكر القاضي الكاتب أسماء الشهود فسأل الخصم القاضي المكاتب أن يكاتب القاضي الكاتب يسأله عن أسماء الشهود لم يلزمه إجابته, ولم يجز أن يكتب به لأن فيه اعتراضًا على القاضي المكاتب في أحكامه وشهوده. فرع آخر لو سأل المحكوم له أن يذكر أسماء شهوده لم يلزمه تسميتهم, ولكن لم يكن للقاضي أن يسأله عنهم. فرع آخر لو خرج الخصم إلى القاضي الكاتب وسأله عن تسمية شهوده, فإن كانوا ممن استقرت عنده عدالتهم وهو ممن لا يعاد المسألة عنهم لتقديم شهادتهم لم يلزمه تسميتهم له, وإن سماهم فأقام البينة بجرحهم عنده نقض حكمه وكتب بنقضه إلى قاضيه ليسقط عنه الحق الذي كاتبه به [12/ 19 ب]. فرع آخر لو أقام البينة بجرحهم عند القاضي المكاتب لم يسمعها لأنه لا يعلم أنهم شهود الحكم إلا بقول الخصم. فرع آخر لو كان في الكتاب تسمية الشهود فأراد المحكومة عليه أن يقيم البينة على جرحهم قبلت إذا ذكروا سبب الجرح وعينوه بالاسم والحلية, ولو قال: أمهلوني حتى أذهب إلى القاضي الكاتب وأصحح عنده جرحهم قال بعض أصحابنا بخراسان: يمهل, والصحيح أنه لا يمهل أكثر من ثلاثة أيام. فرع آخر لو سأل المحكوم عليه إحلاف الطالب على عدالة الشهود لا يحلف لأن تعديل الشهود إلى الحاكم لا إليه. فرع آخر لو سأل إحلافه على أن لا ولادة بينه وبينهم ولا شركة لا يلزم إحلافه لاختصاصه بالمحكومة له دون الحاكم.

فرع آخر لو سأل إحلافه على أن لا عداوة بينه وبينهم فهذا مما يخفى عليه فلا يلزم إحلافه. فرع آخر لو ادعى فسق الشهود الذين شهدوا عليه بالحق حكي الشافعي رضي الله عنه في اختلاف العراقيين عن أبي حيفة رحمه الله أنها لا تسمع ويؤخذ بالحق لأنه لا يعلم ما حد بعده من نوبة من تقدم بجرحه, وحكي عن ابن أبي ليلى [12/ 20 أ] أنه يسمع, وإذا قامت البينة به يبطل به الحكم ثم ذكر مذهبه فقال: ينظر فإن جرحهم بما ترد به الشهادة مع العدالة كالعداوة والولادة, والشركة فيما شهدوا به تسمع الدعوى والبينة ويبطل بها الحكم عليه, وإن جرحهم بالفسق ففه ثلاثة أحوال: إحداها: أن يشهدوا بفسقهم في وقت شهادتهم فتسمع ويبطل بها الحكم, والثانية: أن يشهدوا بفسقهم بعد الحكم لا تسمع لأنه لا يؤثر, والثالثة: أن يشهدوا بفسق الشهود قبل سمع شهادتهم فيعتبر ما بين زمان الجرح والشهادة, فإن كان الزمان قريبًا لا يتكامل صلاح الحال في مثلها سمعت ويبطل الحكم, وإن تطاول لم تسمع لأن الحال يصلح مع تطاول الزمان ويرتفع الفسق. فرع آخر لو لم يذكر القاضي في كتابه سبب حكمه وقال: ثبت عندي بما تثبت بمثله الحقوق فسأله المحكوم عليه عن السبب الذي حكم به عليه نظر, فإن كان حكم عليه بإقراره ولم يلزمه أن يذكره له لأنه لا يقدر على دفعه بالبينة, فغن كان قد حكم عليه بالشهادة ويمينه لزمه أن يذكره له لأنه يمكنه دفعه بالبينة, وإن كان قد حكم عليه بالشهادة فإن كان الحكم بحق في الذمة لم يلزمه ذكرها لأنه لا يقدر على دفعها بمثلها, وإن كان الحكم بيمين قائمة يلزمه أن يذكرها لأنه لا يقدر على مقابلتها بمثلها فترجح بينته باليد. فرع آخر لو سأل الطالب أن يحكم له بشاهد ويمين, فإن كان حنفيًا لم يحكم له والحاكم يسمع شهادة شاهده, وإن كان شافعيًا فإن كان الحكم على حاضر جاز إن علم به, وإن كان على غائب ففي جواز الحكم به فيما يكتب به إلى غيره وجهان: أحدهما: يجوز لأنه قول معروف ومذهب مشهور, والثاني: لا يجوز لأن المخالفين يرون نقض الحكم به فلم له تعريض حكمه للنقض, وقال صاحب "الحاوي" الأولى من إطلاق الوجهين أن يقال: يعتبر رأي القاضي الكاتب فإن كان يرى القضاء به كتب إليه, وإن كان لا يرى القضاء به لا يكتب إليه (به)

فرع آخر لو أراد القاضي في حكمه بالشاهد واليمين أن لا يذكره في كتابه ويطلق الحكم بالبينة أو بثبوت الحق عنده جاز لأنه يحكم باجتهاد نفسه ولا يحكم باجتهاد غيره. مسألة: قال: "وإن أنكر المكتوب عليه لم يأخذه به حتى تقوم بينة بأنه هو". صورة المسألة أن يدعي حقًا على غائب وسأل الحاكم سماع البينة عليه فالحاكم يسمع البينة لأنا لو قلنا: لا يسمع لكان من عليه حق به بينة يهرب إلى بلد آخر حتى لا تسمع البينة عليه فيؤدي إلى ضياع الحقوق, فإن سأل الحاكم البينة, وسأله المدعي أن يحكم بالحق فإنه لا يحكم إلا بشرطين: أحدهما: أن تثبت عنده عدالة الشهود ظاهرًا وباطنًا على ما ذكرنا, والثاني: أن يحلفه على أن حقه ثابت عليه فيحلف بالله الذي لا إله إلا هو أنه حقه عليه ما قبضه ولا شيئًا منه ولا أبرأه ولا أحال به عليه وأنه ثابت عليه إلى هذا الوقت, وإنما حلفناه على ذلك لأنه يمكن أن يكون حدث بعد البينة قضاء وأبرأه لمن عليه الحق, ولو ادعى ذلك سمعت دعواه وحلف الخصم عليه, فإذا كان غائبًا لا يعبر عن نفسه حلف الخصم واحتياطًا وهكذا الكل من ادعى على من لا يعبر عن نفسه كالطفل والمجنون والميت وأقام بينة, فإنه يحلف مع البينة للمعنى الذي ذكرنا وليس هذا الاستحلاف لثبوته البينة ولكن لإمكان إن حدث بعد البينة قضاء أو إبراء, فإذا حلف المدعي وثبت عند الحاكم عدالة الشهود وسأله الخصم الحكم حكم به, وقال مالك وأحمد وابن شبرمة والليث والأوزاعي, وحكي عن أحمد في رواية أنه لا يحلف لأن النبي صلى الله عليه وسلم جعل البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه قلنا: الحاكم مأمور بالاحتياط في حق الغائب والخبر محمول على الحاضرين, وقال شريح وعمر بن عبد العزيز والثوري وأبو حنيفة وأصحابه لا يحكم على الغائب إلا أن يكون خصم حاضر من وكيل أو شفيع واحتجوا بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على قلبي وقال: إن الله عز وجل سيهدي قلبك ويثبت لسانك, فإذا اختصم إليك اثنان فلا تقضي للأول حتى تسمع من الآخر فإنك لا تدري كيف تقضي؟ فقال: ما زلت بعد ذلك قاضيًا, وروي فما شككت في قضاء بعد, ودليلنا ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهند امرأة أبي سفيان أم معاوية: خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف, وروي: ما يكفيك وبنيك وهذا قضاء على الغائب بعلم نفسه, وروي أن معاوية قال لأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما: أنشدك الله أتعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اختصم إليه الخصمان ضرب لهما أجلًا فوفى أحدهما: ولم يف الآخر, يعني: حضر أحدهما: ولم يحضر الآخر قضى عليه فقال: أما إذا أنشدتني فقد كان يفعل ذلك. ولأن أبا حنيفة رحمه الله وافقنا أنه لا تسمع البينة عليه فنقول: بينة عادلة مسموعة

طلب صاحبها القضاء بها فوجب أن يلزمه القضاء بها كما لو كان حاضرًا, أو كما لو كان له تعلق بالحاضر وقد قال أبو حنيفة رحمه الله: لو ادعت أن لها زوجًا غائبًا وله مال في يد رجل وهي محتاجة إلى النفقة, واعترف لها بذلك فإن القاضي يقضي لها عليه بالنفقة. وحكي عن أبي عبيدة أنه قال: يجوز القضاء على الغائب إن تبين للحاكم أن فراره واستخفاءه للفرار من الحق والمعاندة للخصم. فإذا تقرر هذا فاعلم أن أقل ما يجزيه أن يحلفه [12/ 22 أ] أن حقه هذا الثابت عليه, وإذا حكم الحاكم ينظر فإن كان ادعى عينًا حاضرة سلمها إليه لأنه قد ثبت استحقاقه لها, وإن كان أدى حقًا في الذمة نظر فإن كان له مال من غير جنسه بيع وقضى الحق من ثمنه, وإن لم يكن له مال حاضر أو كان قد ادعى عينًا غائبة فقال الخصم: اكتب لي كتابًا إلى حاكم البلد الذي هو فيه بما ثبت عندكم كتب له كتابًا صفته بسم الله الرحمن الرحيم, حضر فلان ابن فلان ويرفع في نسبه وذكر قبيلته وصناعته بما يتميز عن غيره فادعى ضامن صفته كذا على فلان ابن فلان وأقام شاهدين فلان وفلان فشهدا بعد ما عرفنا الشهود عليه من اسمه ونسبه وقد عرفت عدالتهما وحلفته على الحق وحكمت عليه به, وسألني أن أكتب له بذلك محضرًا. ثم لا يخلو إما أن يقدم الغائب قبل وصول الكتاب على الحكام أو لا يقدم, فإن قدم فجاء المدعي إلى الحاكم واستعداه عليه وسأله إحضاره فعل ذلك فإن أحضره أخبره بما جرى, فإن أقر بالحق ألزمه إياه, وإن أنكر وقال: لا حق له علي لم يلتفت إلى إنكاره, فإن ادعى القضاء قيل له: ثبت الحق بالبينة, وحلف المدعي أنه ما اقتضاه فعليك أن تقيم البينة على القضاء, فإن قال: أنظروني حتى أقيم البينة أنظر ثلاثًا, إن قال: البينة التي شهدت بالحق مجروحة لم يلتفت دعواه تلك حتى يقيم البينة بالجرح فإن سأل الأنظار ثلاثًا, وإن لم يقدم الغائب حتى وصل الكتاب إلى الحاكم استدعى الخصم وأخبره بورود الكتاب عليه, فإن قال: لا حق له علي لم يلتفت إلى قوله وحكم عليه, وإن ادعى القضاء لم يسمع إلا ببينة, وإن سأل إحلاف الطالب لم يكن له لأن القاضي الكاتب أحلفه, وإن أقر فيحكم بإقراره دون الكتاب, وإن أقر بالحق لغير هذا الطالب, فإن كان الحق عينًا قائمة بطل إقراره بها, وكان الطالب المحكوم له بها أحق, وإن كان الحق في الذمة يؤخذ بإقراره لغير الطالب ويؤخذ بالكتاب للطالب, وإن أنكر الحق وأقر بأنه المسمى في الكتاب يؤخذ بالحق وكتاب القاضي أوكد من الشهادة لأنه عن شهادة اقترن بها حكم وإن أنكر الحق وأنكر أيضًا أن يكون المسمى في الكتاب وهي مسألة الكتاب قال الحاكم للمدعي: إنما حكم لك على فلان ابن فلان وقد أنكر هذا أن يكون فلان ابن فلان فأقم البينة بذلك فإن لم يقمها فالقول قول المدعى عليه فيحلف أنه ليس هو فلان ابن فلان وتسقط الدعوى, وقال القفال: لو قال: لا أحلف هكذا ولكني أحلف أنه لا حق له علي فإن كان ما يدعيه لا

يلزمني توفيره علي له ذلك, كما لو ادعى عليه دارًا أنه باعها منه وقبض الثمن ولزمه تسليمها إليه فقال: لا أجيبك عن هذا بل أحلف أنه لا يلزمني تسليمها إليك قبل منه [12/ 23 أ] لأنه قد يبيعها منه ثم يتقابلان, وإن أقام البينة أن فلانًا ابن فلان قال له الحاكم, هل تقر بهذا؟ فإن أنكر وقال: لست أن فلان ابن فلان, لم يلتفت إلى إنكاره, وإن قال: أنا فلان ابن فلان ولكن لست أنا المحكومة عليه وإنما المحكومة عليه غيري وهو مشارك لي في اسمي ونسبي قلنا لا نعلم من هو بهذا الاسم والنسب غيرك فأقم البينة أن لك مشاركًا فيه, فإن لم يقم البينة حكم عليه, وإن أقام البينة عليه نظر؛ فإن كان الذي أقام البينة به يخالفه في الصناعة أو غيرها حكم عليه, وإن كان يوافقه في جميع الأحوال لا يحكم عليه لأنه لا يعلم من الذي عليه فيتوقف عن ذلك حتى تقوم البينة أن هذا فلان الذي حكم عليه, وإن أقام البينة باسم ميت قد عاصره الميت فإن كان موته بعد الحكم منعت هذه المشاركة من تعيين الحكم على الحي مأخوذ بالحق, فصار كما لو شارك فيه حيًا موجودًا وإن كان موته قبل الحكم ففيه وجهان: أحدهما: يثبت به حكم الاشتراك ويمنع من الحكم بالحق على الحي للاحتمال وأن الحق قد ثبت على الميت كثبوته على الحي, والثاني: لا يثبت به حكم الاشتراك لأن مطلق الأحكام متوجه في الظاهر إلى الأحياء دون الأموات وقال في "الحاوي": إذا وصل كتاب القاضي بشروطه وجب على القاضي المكاتب إحضار الخصم المطلوب ومسائلته عما تضمنه كتاب القاضي من الحكم عليه وله في الجواب عنه ستة أقوال: أحدهما: أن يقر به, والثاني: أن يقر ويدعي القضاء, والثالث: أن يقر بالحق لغير هذا الطالب, والرابع: أن ينكر ويقر بأنه المسمى في الكتاب, والخامس: أن ينكر أنه المسمى في الكتاب, وهو على ضربين: أحدهما: أن ينكر الاسم المذكور ويدعي غيره من الأسماء فله ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يعرف بما ادعاه من الأسماء المذكورة في الكتاب فلا يلزمه الحكم حتى تقوم الشهادة, والثاني: أن يعرف بالأسماء المذكورة في الكتاب فيحكم عليه ولا يقبل ما ادعاه من الاسم, والثالث: أن يكون مجهول الحال فلا يحكم عليه إلا بالبينة, والثاني: أن يعترف بالاسم ويذكر أنه اسم لغيره شاركه فيه وغيره هو المحكوم عليه دونه وهو على ضربين: أحدهما: أن يعلم اشتراك جماعة في الاسم المذكور وأقله أن يشاركه في واحد فلا يحكم عليه إلا ببينة على ما ذكرنا, والثاني: أن لا يعلم من شاركه في الاسم والنسب فيؤخذ به, فإن أقام بينة بأن غيره يسمى بمثل اسمه ونسبه فهو على ضربين: أحدهما: أن يقيمها باسم حي موجود, والثاني: أن يقيمها باسم ميت؛ وقد ذكرنا ذلك, والسادس: أن ينكر ويعترف بالاسم ويدعي جرح الشهود الذين شهدوا عليه وقد ذكرنا شرحه.

فرع القاضي في تسمية الشهود في كتابة مخير بين أمرين: إن شاء سماهم وهو أولى عندنا [12/ 24 أ] وأحوط للمحكوم عليه, وإن شاء لم يسمهم وهو أولى عند أهل الكوفة وأحوط للمحكوم له, فإن لم يسمها قال: شهد عندي به رجلان حران وعرفتهما بما يجوز به قبول شهادتهما, وإن سماهما قال: شهد عندي به فلان وفلان وقد ثبت عندي عدالتهما. فرع آخر لو لم يقل: وقد ثبت عندي عدالتهما فهل يكون تنفيذه للحكم بشهادتهما تعديلًا منه؟ فيه وجهان. فرع آخر لو كان الحكم على الغائب بإقراره ذكر في كتابه أنه أقر عندي طوعًا منه في صحة من جواز أمر, ولو اقتصر في كتابه على الحكم عليه بإقراره ولم يقل في صحة منه وجواز أمر فهل يقوم حكمه عليه مقام ذكره له فيه وجهان كما قلنا في العدالة. فرع آخر لو كان الحكم عليه بنكوله ورد اليمين ذكره القاضي مشروحًا في كتابه, واعلم أنه يصير الحق ثابتًا على الغائب من أحد ثلاثة أوجه: أحدها: بإقراره وهو الأقوى, والثاني برد اليمين وهو الأضعف, والثالث بالشهادة على إقراره وهو الأوسط, وإن لم يذكر القاضي ما حكم به منها في كتابه, وقال ثبت عندي بما ثبت بمثله الحقوق فهل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز لأن كل واحد من الثلاثة يثبت به الحق, والثاني لا يجوز لاختلاف أحكامها لأنه في الإقرار لا تسمع منه الدعوى في الأعيان وتسمع منه البينة في النكول وتتعارض به البينة في الشهادة فيرجح وجود اليد عندنا ويرجح عدمها عند أبي حنيفة, وإذا اختلف الحكم بالحق في جانب المحكوم عليه في كل واحد من الوجوه الثلاثة لم يجز للقاضي إغفال ذكرها لما فيه من إسقاط حجة المحكوم عليه, وينبغي للقاضي أن يكتب بعد إنفاذ حكمه أنه قد جعل كل دعوى حق وحجة على ما كان له من حق أو حجة. فرع آخر لو أتى بما هو حجة وهي دفع لحجة صاحبها الحق, وكان القاضي باع شيئًا وصرفه في الحق لم يبطل ذلك البيع لأنه باع بولاية الحكم حين جاز له البيع في الظاهر. فرع آخر لو كان القاضي كتب بالحكم المبرم ولم يذكر الحلف جاز ولكن ينبغي للقاضي أن يذكر في الكتاب أنه حلفته ثم يدعي هناك الإبراء أو الأداء فيحلفه المكتوب إليه على ذلك بمطالبته ذلك ويجب التحليف إذا أراد قضاء الدين من (ماله) بحضرته.

باب القسام

فرع آخر حكم الممتنع المتعنت والمتواري في البلد حكم الغائب, فأما من هو حاضر في البلد ولم يمتنع ولم يتوار عن مجلس الحكم فهل يجوز أن يسمع عليه البينة أم لا؟ قال القفال: فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز بل يأخذ بالأقرب وهو استحضاره فربما يقر, والثاني: يجوز أن يسمع عليه البينة لأن في البينة من الفوائد ما ليس في الإقرار مثل بينة الوارث على المريض بلا خلاف وإقرار المريض للوارث لا يقبل في أحد القولين ونحوه, قال: ثم لا يبرم الحكم حتى يستحضره فيقول: سمعت عليك البينة بكذا ويمكنه من دفعها فإن لم يدفعها قضى عليه حينئذ وقال غيره: هل يحكم عليه بها من غير حضوره؟ وفيه وجهان: أحدهما: يحكم عليه لأن الحجة هي البينة وقد أحدثه والثاني وهو المذهب لا يحكم عليه بل يستدعيه ويسأله عن الدعوى لأنه يمكنه ذلك من غير ضرر بصاحب الحق وربما كان عنده قدح في البينة أو حجة يدفعها ويفارق الغائب لأن في تأخر القضاء ضررًا على صاحب الحق, ولو كان حاضرًا في مجلس فيه طريقان: أحدهما: هل يجوز سماع البينة قبل السؤال عنه, فيه وجهان, وقيل: وجهًا واحدًا لا يجوز. فرع آخر إذا كان للحكم اتصال بالحاضر فقد ذكرنا أن أبا حنيفة رحمه الله وافقنا فيه على جواز القضاء على الغائب ولكنه يقول للحاكم أن ينصب على الغائب وكيلًا مسخرًا ليجيب عن الدعوى ويذب عن الغائب فيسمع البينة على وجهه, ويقضي, وعندنا لا فائدة في هذا الوكيل المسخر الذي لم يوكله الغائب وكذلك على مذهبه لا يسمع الدعوى على ميت أو صبي حتى ينصب قيم لذلك الصبي أو عن ذلك الميت فتكون الدعوى وسماع البينة على وجهه وعندنا لا يجب ذلك. فرع آخر القضاء على الغائب إنما يكون في حقوق الآدميين ويجوز في القصاص وحد القذف بلا خلاف على المذهب, ولو قامت البينة على السرقة حكم بالغرم ولم يحكم بالقطع ولا يحكم عليه في الحدود التي هي حق الله تعالى لأنه مأمور بالاحتياط في إسقاطه ولا ضرر على الغير في تأخير حكمه إلى وقت حضوره هكذا ذكر أهل العراق وقالوا: لا يختلف فيه أصحابنا, وقال القفال: فيه وجهان: أحدهما: هذا وهو المذهب, والثاني يقضي عليه بها ويكتب إلى قاضي البلد الذي فيه المدعي حتى يجحده. باب القسام مسألة: قال: "وينبغي أن يعطى أجر القسام من بيت المال لأنهم حكام الفصل".

الأصل في الحكم بالقسمة الكتاب والسنة والإجماع, أما الكتاب فقوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ}] النساء: الآية 8 [وقوله تعالى {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ}] القمر: الآية 28 [وأما السنة فقوله صلى الله عليه وسلم إن الله تعالى لم يرض في قسمة الصدقات بملك مقرب ولا بنبي مرسل حتى تولى قسمتها بنفسه وقسم غنائم بدر بشعب من شعاب الصفراء, وقسم غنائم خيبر على ثمانية عشر سهمًا وروي أنه اختصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلان في مواريث فقال: اذهبا فاقتسما واستهما وتحللا, وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الشفعة فيما لم يقتسم, فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة, وأما الإجماع فلا خلاف بين المسلمين في جوازها ووجوبها وكان للخلفاء الراشدين رضي الله عنهم قسام وكان قسام علي رضي الله عنه عبد الله بن يحيى يعطيه رزقه من بيت المال. وقول الشافعي رضي الله عنه القسام حكام أراد به أن القاسم بمنزلة الحاكم لأن الحاكم يجتهد ويعمل على ما يؤدي إليه اجتهاده فيحكم به ويلزم ذلك, والقاسم بهذه الصفة أيضًا لأنه إذا عدل السهام وأقرع لزم ذلك لقوله, ويخالفون الحكام من وجهين: أحدهما: أن حكمه مختص بالحري في تمييز الحقوق وإفرازها, وحكم الحاكم مختص بالاجتهاد, والثاني أن استعداء الخصوم إلى الحكام دون القسام, واعلم أن القاسمين أعوان الحكام فيلزم الحاكم أن يختار لنظره من القاسمين من تكاملت فيه شروط القسمة على ما تقدم بيانه وقد ذكرنا أنه لا بد من أن يكون عدلًا عارفًا بالحساب والمساحة والفرائض وغيرها من الفقه أو يكون إذا عرفه القاضي وفهمه كيف الحكم فيه عرفه ليمكنه من القسمة على حسب ذلك غير أنه إن كان فقيهًا جاز أن يوليه الأمر ليتمه باجتهاده, وإن لم يكن فالقاضي يخبره بأني حكمت بأن الدار والأرض بين هذين على كذا سهمًا فاقسم بينهما هكذا ثم يكون وكيلًا للقاضي في ذلك لا متوليًا للأمر بولاية نفسه, ثم إنما ينصب قاسمًا ويعينه الأمير إذا اكتفى الناس بقاسم واحد وإلا فلا يعين بل يدع الناس يطلبون القسام لأنفسهم, وكذا أمر الكاتب لأنه إذا عين واحدًا أمره بأخذ أجرته من صاحب القسمة وإلا وفى في ذلك ويضر ذلك بالناس, وإنما جاز للقاسم طلب الأجرة ممن أحل له وكذلك الكاتب, ولم يجز ذلك للقاضي والمزكي والمفتي لأنهم يعملون الشرع وينوبون عن كافة المسلمين فإن الحكم والفتوى من فرائض الكفايات وكذلك الشهادة والتزكية. والقسمة والكتبة لا تفرض على الأعيان ولا على الكتابة إذ تعدل في ذلك حق الله

تعالى بخلاف القسمة, ولأن القاسم عملًا يباشره, والقاضي يقضي على الأوامر والنواهي التي لا يصح الاعتياض, وإنما يأخذ القاضي المصدق من بيت المال لانقطاعه إلى الحكم لا أنه يأخذه أجره عن الحكم كما نقول في رزق الإمام والمؤذن والمفتي والمزكي. وأما الشاهد قال أصحابنا: إن كانت الشهادة تعينت عليه وهو مكفي لم يجز له أخذ الجعل عنها, وإن لم يكن له كفاية وكان ينقطع بأدائها عن كسبه جاز له أخذ الجعل على القضاء ولا فرق بينهما ذكره القاضي الطبري. وقال ابن أبي أحمد: لا يجوز أن يدفع شيئًا من بيت المال إلى الشاهد لأن أداء الشهادة فرض عليه, ولأن أخذ أجرة على الشهادة يوقع تهمة فيها وهو قول بعض أصحابنا بخراسان, ولو كثرت القسمة واتصلت فرضت أرزاقهم مشاهرة من بيت المال من سهم المصالح, وإن قلت القسمة أعطوا منه أجرة كل قسمة وهذا لأن القاضي لا يستغني عن المكاتبة فإن عدل المقتسمون عنهم إلى قسمة من تراضوا به من غيرهم جاز ولم يعترض عليهم, وجاز أن يكون من ارتضوه عبدًا أو فاسقًا وكانت أجرته في مالهم. ثم اعلم أن الكلام في فصلين: أحدهما: في عدد الأقسام, والثاني في حكم الأجرة, فأما العدد فإن تراضوا بالعدد على ما اتفقوا من واحد واثنين ولا يقبل الحاكم قول هذا القاسم لأنه ليس بنائب عنه ولا يسمع شهادته لأنه على فعله, وإن أمر الحاكم بالقسمة ففي القسمة تعديل وحكم, والتعديل معتبر باثنين كالتقويم فإن كان فيها تعديل وتقويم لم يجز فيها أقل من قاسمين, وإن لم يكن فيها تعديل ولا تقويم قال الشافعي رضي الله عنه في موضع أمر الحاكم الشركاء أن يجتمعوا على قاسمين, وقال في موضع آخر: القاسم حاكم فاختلف أصحابنا فيه فقال أكثرهم فيه قولان: أحدهما: يجزئ واحد كيال واحد, والثاني: لابد من اثنين كما في التقويم وجزاء الصيد لا بد من مجتهدين ولا يمتنع أن يكون كالحاكم ويجمع من اثنين كما قال تعالى:} فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا {] النساء: الآية 35 [ومن أصحابنا من قال: هما على اختلاف حالين فإن كان في الشركاء طفل أو غائب فلا بد من اثنين, وإن كانوا حضورًا يجيبون عن أنفسهم جاز واحد ويقبل الحاكم هنا قول القاسم للاستتابة كما يقبل قول خلفائه, فإن جازت بقاسم واحد قبل قول الواحد, وإن لم يجز إلا قاسمين قبل قول الاثنين ولا يفتقر القاسم إلى لفظ الشهادة. وقال بعض أصحابنا فيه وجهان وليس بشيء. وأما أجرتهم ففيها أربعة أحوال: أحدهما: أن يتفقوا على أجرة معلومة فيتقدر بها, والثانية: أن يتطوعوا فلا أجرة لهم, والثالثة: أن يتفقوا على أجرة مجهولة يلزم أجرة المثل, والرابعة: أن لا يجزي إلا أجرة ذلك ولم يكن من الأرباب بذل ولا من القاسم

طلب فإن كان الحاكم أمر بها تحسب أجره المثل, وإن كانوا دعوا إليها فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: وهو ظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه لا أجره, والثاني: وهو ظاهر مذهب المزني له الأجرة, والثالث: وهو إن جرت عادته بأخذ الأجرة فله الأجرة, وإن لم تجر عادته فلا أجرة, ولو استأجروه على التفاوت وعرف نصيب كل واحد منهم جاز وله أن يشترط على صاحب القليل جعلًا كثيرًا ويرضى من صاحب الكثير يجعل قليل لأنها عقود, وإن ذكر جملة الأجرة في عقد واحد فإن قال: آخذ من صاحب النصف خمسة, ومن صاحب الثلث عشرة, ومن صاحب السدس خمسة عشر. ولو استأجروه بأجرة واحدة أو استأجروه بأجرة مجهولة ففي المسمى لزمهم أجرة المثل يلزمهم ذلك على قدر الأنصباء لا على عدد الرؤوس, وقال بعض أصحابنا: هو قول مخرج للشافعي رضي الله عنه تخريجًا من الشفعة فإنها بعدد الرؤوس في أحد القولين, واحتج بأن عمله في نصيب كل واحد منهم كعمله في نصيب الآخر تساوت الأنصباء أو اختلفت قلنا: ليس كذلك لأن عمله في أكثر النصيبين أكثر لأنه لو كان المقسوم مكيلًا أو موزونًا فكيل الكثير أكثر من كيل القليل, وكذلك الوزن, ثم يبطل بأجرة الحافظ فإن حفظ القليل والكثير سواء وتختلف الأجرة باختلاف القدر, وقال أبو يوسف ومحمد: القياس يقتضي أن يكون على عدد الرؤوس ولكنا أوجبناها على قدر الأنصباء استحسانًا. وأما قول الشافعي رضي الله عنه فاستأجرهم بما شاء أراد لا ينبغي للقاضي أن يضرب للقسام راتبًا معلومًا ولكن يستأجر الخصم بما شاء ورضي به القاسم, والشافعي قال بما شاء ولم يقل بما شاءا جميعًا لعلمه أن القاسم يستكمل حقه وربما يستكره المقتسم على ما فوق حقه. . فرع لو كان القاسم اثنين فلهما في الأجرة ثلاثة أقوال: أحدها: أن يستحقا أجرة المثل فلكل واحد ذلك, والثاني: أن يكون لكل واحد منهما أجرة مسماة, فيختص كل واحد منهما بأجرته قلت أو كثرت, سواء تساويا فيها أو تفاضلا, والثالث: أن يسمي لهما أجرة فليس على المقتسمين غيرها, وفي اقتسامهما لها وجهان: أحدهما: أنها بينهما نصفين اعتبارًا بالعدد, والثاني: أنها على أجر مثلهما اعتبارًا بالعمل. فرع آخر لو أفرد العقد مع واحد ولا يقال: أجرت نفسي منك لأفرز نصيبك وهو النصف من هذه الدار على كذا فإنما يصح إذا رضي الآخر بالقسمة أو كانت بحيث لا يحتاج إلى رضاهم فإما حيث يحتاج إلى الرضى ولم يرضوا بعد فعقده فاسد في نصيب هذا.

فرع آخر إذا طلب أحد الشريكين القسمة والشيء مما يجاب فيه إلى القسمة دون رضى الآخر فالأجرة تلزمهما جميعًا ولا يختص بالتزامها هذا الذي يطلب القسمة وبه قال أبو يوسف ومحمد وأحمد, وقال أبو حنيفة: الأجرة على طلب القسمة لأنها حق له, وهذا لا يصح لأن الأجرة تجب لإفراز الأنصباء وهم فيها سواء الأجرة عليهم كما لو تراضوا عليها. فرع آخر قال الشافعي رضي الله عنه: ولو كان في جملتهم يتيم ففي نفسي من أحمل عليه شيئًا وهو ممن لا رضي له شيء, فاختلف أصحابنا فيه هل أشار بذلك إلى القسمة أو الأجرة فقيل: أشار إلى أصل القسمة فخرجوها على وجهين: أحدهما: يمنع, والثاني: يجاب وقيل: أشار إلى أجرة القسمة لأن القسمة لا تمتنع بحق الصغير إذا احترزها الكبير لأن الصغر لا يمنع الحقوق فهل يلزمه أجرة القسمة؟ فيه وجهان: أحدهما: يلزمه الحاكم ولم يسقط منها مع عدم حفظه بها كما يلزمه مما لاحظ له فيه مؤنه وكلفة, والثاني: يقول الحاكم لشركاء الصغير إن أردتم القسمة التزمتم قسطه من الأجرة ولم يوجب في ماله ما لاحظ له منه وهذا اختيار أكثر أصحابنا بخراسان. مسألة: قال: "وإذا تداعوا إلى القسمة وأبى شركاؤهم فإن كان ينتفع كل واحد منهما بما يصير إليه مقسومًا أجبرتهم على القسمة". اعلم أن الملك إذا كان مشتركًا بين اثنين وأكثر فطلب بعضهم القسمة فلا يخلو إما أن ينتفع كل واحد منهم بهذه القسمة بحيث لا ضرر على أحدهم أو كان على واحد منهم ضرر وينتفع بها كل واحد منهم مثل أرض من شريكين أو دار واسعة أو دور مختلفة تقسم فنصيب كل واحد منهم دار بحكم هذه القسمة فإنه يجاب كل شريك دعا إلى القسمة ويجبر الممتنع عليه بعدما لم يحتج في القسمة إلى أن يرد أحدهم على الآخر بعض قيمة ما يصير إليه وهذا لأن المالك يحتاج أن ينتفع بملكه منفعة تامة, وإذا كان مشتركًا لم يمكنه ذلك لأنه إذا طلب الزراعة والعمارة ربما لم يجبه الشركاء إليه, فإذا طلب إقرار لملكه لينتفع به أجيب إليه, وإن كان يلحق كل واحد منهم ضرر بالقسمة لم يجبر الحاكم الممتنع عليها, ولكن إذا رضوا بالقسمة سألوا الحاكم أن ينصب من يقيم بينهم قسمة مراضاة أجاب إلى ذلك. وإنما لم يجبر لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام من ضار الله به, ومن شاق شق الله عليه", وروى بصير مولى معاوية مرسلًا أن النبي صلى الله عليه وسلم: "نهى عن قسمة الضرار" وروى محمد بن أبي بكر بن حزم عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعضية

على أهل الميراث إلا ما حمل القسم" يعني: لا يبعض على الوارث. وقال مالك: يجبر الممتنع على القسمة مع دخول الضرر على الطالب والمطلوب لينفرد بملكه ويده وهو في قسمة الحمام الصغير وهذا لا يصح لأنها قسمة على جميع الشركاء فيها ضرر فلا يجبر عليها كما لو كان بينهما جوهرة فدعوا إلى قسمتها. وقال بعض أصحابنا: لو قسموها فيما بينهم جاز, ولكن لو سألوا الحاكم أن يقسمها بينهم لم يجبهم إلى ذلك لأن فيها ضررًا وهذا اختيار القاضي الطبري, وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن كان تذهب المنفعة بالكلية كالجوهرة تكسر فلا يجابون إليها, وإن تراضوا لأنه سفه, وإن كان لا تذهب منفعته بالكلية كالجوهرة تكسر فلا يجابون إليها, وإن تراضوا لأنه سفه, وإن كان لا تذهب منفعته بالكلية وينتفع به في الجملة ولكن ينتفع كل واحد منهم بحصته من ذلك الوجه, مثل حمام يقسم بين اثنين فلا يصلح كل نصف إذا أفرد أن يكون حمامًا ولكن يمكن أن يتخذ منه شيء آخر يقسم الحاكم بينهم برضاهم, وهكذا يقسم السيف بينهم برضاهم لأنه إذا قسم يحصل من نصيب كل واحد منهم سكين أو خنجر أو نحو ذلك فللمالك أن يفعل ذلك في ملكه وهذا حسن ولكن ظاهر المذهب ما اختاره القاضي الطبري لأن السفه في الكل لا يخفي والضرر ظاهر. وإن كان على بعض الشركاء في ذلك ضرر فإن كان الطالب لا ضرر عليه فيها فإن كانت بين رجلين لأحدهما: خمسة أسداسها, وللآخر السدس فطلب صاحب الأكثر القسمة وهو ينتفع بحصته مفرزة, وصاحب الأقل ينتفع بحصته مفرزة أجبر الممتنع عليها وبه قال أهل العراق, وقال أبو ثور: لا يجبر الممتنع عليها بل يترك مشتركًا, وقال ابن أبي ليلى وأحمد: لا يجاب إلى القسمة ولكن يباع ويقسم الثمن بينهم لأنه طلب منه قسمة يستضر بها فلا يجاب إليه كما لو كان الاستضرار بالقسمة, وأما الذي ذكروا فلا يصح لأن الاعتبار بالطلب لأن من له الحق إذا طلب بيع مسكن من عليه الحق ليستوفي حقه يجاب إليه, وإن استضر به من عليه الحق, وكذلك يستوفي صاحب الدين حقه ممن عليه الدين, وإن استضر من عليه الدين بأن يذهب عن يده رأس ماله ويصير معسرًا. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان سواء تذهب المنفعة من نصيب الشريك أصلًا أو تذهب عن أن ينتفع به من الوجه الذي ينتفع به قبل القسمة وهذا خلاف المنصوص, ولعله جعل قول أبي ثور وجهًا في المسألة ولم يعرف النص الصريح هنا. وإن كان على الطالب في قسمتها ضرر بأن طلب صاحب السدس القسمة قال أبو إسحق: لا يجبر الممتنع من القسمة ولا يجاب إلى ما يلتمسه لأنه يطلب ضرر نفسه وهو الصحيح المشهور من المذهب, ومتن أصحابنا من قال: يجبر الممتنع عليه لأن له

غرضًا في تمييز بأن يزيل سوء المشاركة ومؤنة المقاسمة وبه قال أبو حنيفة, وهذا لا يصح لما ذكرنا ويفارق هذا كله إذا كان للطالب فيها منفعة لأنه طلب ما ينتفع به فأجبر صاحبه عليه وهنا طلب ما يستضر به وفيه المال وسفه ظاهر فلا يجاب إليه. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إن كان عليه ضرر ولكنه يمكن الانتفاع به من وجه, وإن لم ينتفع به منفعة الأصل يجاب إليه. وإن كان لا ينتفع به أصلًا لا يجاب إليه, واعلم أن الضرر الذي ذكرنا إن ينتقص قيمة ما يصير إليه فظاهر كلامه أنه تنقص ونقصان القيمة يتبع نقصان المنفعة ولا يفترقان, قال: وقال بعض أصحابنا: فيما يعتبر فيه دخول الضرر وجهان: أحدهما: وهو ظاهر مذهب الشافعي وبه قال أبو حنيفة إنه نقصان المنفعة دون القيمة. والثاني: وهو الأشبه يعتبر بكل واحد من نقصان المنفعة أو نقصان القيمة لأن في كل واحد منهما ضررًا. ولو كانت دار نصفها لواحد ونصفها لعشرة نفر ولا يمكن الانتفاع بكل عشر من هذا النصف على حدته بوجه وأمكن الانتفاع بنصف الدار فدعا صاحب عشر نصف الدار إلى القسمة لم يجب إليه على ما ذكرنا من المذهب وإن اجتمع العشرة وقالوا: نفرز نصيبنا عن النصف الذي لصاحبنا أو قال صاحب النصف: أفرز نصيبي وأدع النصف مشاعًا بين العشرة فلكل واحد منهم ذلك وهو قول الشافعي رضي الله عنه. وأقول لمن كره القسمة لقلة حصصهم: إن شئتم جمعنا حقوقكم وكانت مشاعة بينكم لتنتفعوا بها فإن قال قائل: حصصهم ملك لهم يفعلون به ما شاءوا فما فائدة قول الشافعي؟ يقال لهم: إن شئتم, قلنا: لعل متوهم يتوهم أن نصيب بعضهم إذا صار مقسومًا له وجب أن يصير سائر الأنصباء مقسومة ممتازة فأبان أن ذلك ليس من شرط القسمة ويجوز أن يقسم بعضهم حصته وتبقي حصة الآخرين مشاعة كما كانت, وعلى هذا لو كانت الأرض لستة نفر فصارت سهامهم فطلب واحد منهم القسمة قسمت أسداسًا وأقر سدسها له وكانت خمسة أسداسها مشتركة بين الباقين, وإن طلبها اثنان ليجوز أشهمهما مجتمعين قسمت أثلاثًا, وأفرز لطالبي القسمة ثلثها مشتركة بينهما وكان الثلثان مشتركًا بين الباقين وعلى هذا القياس إذا طلب الثلاثة والأربعة. مسألة: قال: "وينبغي للقاسم أن يحصي عدد أهل السهام ومبلغ حقوقهم". الفصل الكلام في هذا في كيفية القسمة والقسمة على ضربين: قسمة فيها رد, وقسمة لا رد فيها, فأما التي فيها رد سيجيء حكمها, وأما التي لا رد فيها وهي قسمة الإجبار فلا

تخلو من أربعة أحوال: إما أن تكون الأنصباء متساوية والأجزاء متعادلة, أو أن تكون الأنصباء متساوية والأجزاء مختلفة القيمة, وأن تكون الأنصباء مختلفة والأجزاء مختلفة القيمة, وأنه تكون الأنصباء والأجزاء متعادلة, أو تكون الأنصباء [12/ 32 أ] مختلفة والأجزاء مختلفة, فإن كانت الأنصباء متساوية والأجزاء متعادلة فإن كانت الأرض بين نفسين لكل واحد منهما النصف, أو بين ثلاثة لكل واحد منهم الثلث وذراع منها من أول القراح يساوي درهمًا وكذلك من وسطه وآخره فإنه يقسم ذلك بالأجزاء فتمسح الأرض وتذرع ويجعل نصفها جزءًا والباقي جزءًا آخر ثم يقرع بينكما, ويمكن هنا إخراج الأسماء على الأجزاء فهو أن يكتب اسم كل واحد من المالكين في رقعة ويجعل رقعتين متساويتين, ثم تدرج في بندقتين من طين وتطرح في حجر رجل لم يحضر الكتبة والبندق ثم يقال: أخرج على الأول, فإذا أخرج فض ذلك ويجعل الجزء الأول لمن خرج اسمه ويتعين الآخر لصاحبه. وأما إخراج الأجزاء على الأسماء فهو أن يكتب الجزء الأول في رقعة والجزء الثاني في رقعة أخرى ويخرج واحد على اسم أحد الرجلين فيجعل له الجزء ويتعين الآخر لصاحبه, فإذا خرجت القرعة لزمت القسمة وتعينت الحقوق وليس لأحدهما: الامتناع بعد ذلك منها. قال: ولو أمر الصغير أو الأعجمي من العبد بإخراجه كان أولى لأنه أبعد من الحيلة, وقال أصحابنا: فإن كان هناك سمع أدرج فيه كان أخف وأنظف. قال الشافعي رضي الله عنه: توزن, ومنهم من يقرأ بوزن يعني ينبغي أن تكون البنادق مستوية [12/ 32 ب] الوزن ليكون أبعد من التهمة فإن استوت ألقاها في حجر من لم يحضر البندقة وهذا أيضًا للاحتياط. قال الشافعي: ولا الكتاب, يعني: ينبغي أن لا يكون من دفعت البنادق إليه حاضر حين يكتب الأسامي في الرقاع وتدرج في البنادق والأصل في الرقعة قصة مريم عليها السلام في قوله تعالى:} إِذْ يُلْقُونَ أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ {] آل عمران: الآية 44 [, وقوله تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ}] الصافات: الآية 141 [ولو اقتصر لعل أن أقرع بينهم عصا أو أقلام جاز, وقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير وكتب على أحدها: لله وقسمها على خمسة أجزاء وأقرع بالنوى وهذا لأن ما حضره رسول الله صلى الله عليه وسلم يكون أخف حالًا لأنه أبعد من الحيف وإنما يمكن الاحتياط في موضع التهمة فكذلك حكمها بعده إن كانت عند حاكم تنتفي عنه التهمة كان حكمها أخف, وإن كانت في موضع التهمة كان حكمها أغلظ, وإن كانت الأنصباء متساوية الأجزاء مختلفة القيمة يعدل بينهما بالقيمة في الإخراج على ما ذكرنا, وإن كانت الأنصباء مختلفة

والأجزاء معتدلة بأن يكون لواحد السدس ولآخر النصف والآخر الثلث. قال الشافعي رضي الله عنه: قسمه على أقل السهمان وهو السدس, وقال أبو إسحاق: وإن كان فيهم من له سدس وربع فهو من اثني عشر, وإن كان من له سدس وثمن [12/ 33 أ] فهو من أربعة وعشرين فيقسم أبدًا من أقل ما تخرج منه السهام كلها وهذا لأنه لو أقسم على أكثر السهمان لم يمكنه أن يعطي الأقل من الأكثر ويمكنه أن يعطي الأكثر من الأقل, فإذا تقرر هذا تجعل الدار في مسألتنا ستة أسهم لأن أقل السهمان السدس فيجعل لصاحب السدس سهمًا ولصاحب الثلث سهمين ولصاحب النصف ثلاثة أسهم فتقسم الدار على ستة أجزاء فيمكنه أن يعطي النصف من الستة وهو ثلاثة أسهم, ولو أنه جعل الدار نصفين أو ثلاثًا لم يمكنه أن يعطي السدس هذا يعني قولنا: يمكنه إعطاء الأكثر من الأقل إذا قسمها على نسبة الأقل ولا يمكنه إعطاء الأقل من الأكثر ثم يجعل على كل سهم علامة ثم يكتب الرقاع. واختلف أصحابنا في عددها فقال أبو إسحاق: يكتب ستة رقاع على عدد السهام, ويكتب اسم صاحب النصف في ثلاثة رقاع, واسم صاحب الثلاث في رقعتين, واسم صاحب السدس في رقعة, فيكتب اسم كل واحد منهم المعروف به أو يكتب صاحبه فإنه يعرف بذلك أيضًا وأيهما كتب أجزاؤه, وإنما قلنا: يكتب ستة رقاع لتكون رقاع من كثر نصيبه أكثر فيخرج اسمه أسرع من اسم من قل نصيبه, ثم يخرج ذلك على الأجزاء فإن خرج اسم صاحب السدس على السهم الأول حصل له ثم يقرع بين الآخرين فإن خرج اسم صاحب الثلث حصل له الثاني والثالث بلا قرعة ويتعين الثاني لصاحب النصف, وإن خرج في الابتداء لصاحب النصف حصل له ثلاثة أجزاء, ويقرع بين الآخرين, فإن خرج لصاحب السدس حصل له الجزء الرابع ويتعين الثاني لصاحب الثلث, وإن خرج لصاحب الثلث في الابتداء فله سهمان ثم يقرع بين الآخرين, فإن خرج لصاحب النصف فله الجزاء الثالث والرابع والخامس, ويتعين الباقي لصاحب السدس, وإن خرج لصاحب السدس فله الجزء الثاني والثالث بعد الذي خرج له بلا قرعة لأنا لو أقرعنا بينه وبين غيره في الحق الثاني ربما لا يخرج عليه فيحصل له ذلك من موضع آخر وينقطع نصيبه فيستضر به وفي هذا القسم لا يمكن إخراج الأجزاء على الاسم لأنه لو أخرج ذلك ربما يخرج الجزاء الرابع لصاحب النصف فيقول: هو أحد جزأين من الذي قبله, ويقول الآخر: بل يأخذ من الذي بعد فيؤدي إلى الخصومة والاختلاف فلم يجز. فإن قيل: أليس في العتق تكتب الحرية والرق ولم تكتب أسماء العبيد, قلنا: قال بعض أصحابنا: هناك قولان على سبيل التخريج, من هنا فيكتب أسماء العبيد,

ومنهم من فرق بأن هناك لو كتب أسماء الأحرار ربما يؤدي إلى تفريق ملك واحد فلا يجوز إلا أن يكتب أسماء المستحقين, وفي العتق يجوز كلاهما لأنه لا يوجد هذا المعنى. ومن أصحابنا من قال: يكتب ثلاث رقاع وهو اختيار ابن أبي هريرة وهو ظاهر كلام الشافعي فيكتب رقعة لصاحب السدس, ورقعة لصاحب الثلث, ورقعة لصاحب النصف, وهذا لأن صاحب النصف إذا خرج اسمه على الأول أعطيناه ثلاثة أسهم بلا قرعة أخرى فلا فائدة في أن يكتب له ثلاثة أرقاع, ويكون تعبًا في الحقيقة, وقيل: المذهب الأول لأن لصاحب النصف والثلث مزية على صاحب السدس بكثرة ملكهما, فلو كتبنا لكل واحد رقعة سوينا بينهما ولا سبيل إلى ذلك, والفائدة في كتبه ثلاث رقاع لصاحب النصف أنه ربما يكون له غرض في أن يأخذ نصيبه من الأول, فإذا كتب له ثلاث رقاع فذلك لخروجه اسمه في الأول. وإن كانت الأنصباء مختلفة والأجزاء مختلفة فإنه يعدل بين الأجزاء والقيمة, ثم يكتب اسم الملاك في ثلاث رقاع ويخرج على ما ذكرنا في القسم قبله سواء, إلا أن في ذلك القسم التعديل أن يكون بالأجزاء وهنا التعديل بالقيمة. ثم قال الشافعي رضي الله عنه: ثم يسمي السهمان أولًا وثانيًا وثالثًا, يعني يسمى أحد الطرفين من الدار السهم الأول, ويسمى الذي يليه السهم الثاني ويسمى الذي يليه السهم الثالث, فإن قال قائل: ما بال الشافعي اقتصر في تسمية السهام على الأول والثاني والثالث وقد جعلت الدار ستة أجزاء فلم يذكر تسمية الرابع والخامس والسادس؟ قلنا: إنما اقتصر على الأول والثاني والثالث لوقوع الاكتفاء بتسميتها والاستغناء عن تسمية الرابع على ما بينا أنه إذا خرج سهم صاحب النصف فهو له والسهمان اللذان يليانه على ما شرحناه. مسألة: قال: "وإذا كان في القسم رد لم يجز حتى يعلم كل واحد منهما موضع سهمه وما يلزمه ويسقط عنه". قد ذكرنا حكم القسمة التي لا رد فيها, فأما القسمة التي فيها رد وهو أن يكون قراح فيه بئر أو نخلة أو شجر وغيرها, أو مجلس مبني لا يحتمل القسمة فيكون القراح قيمته مائة, وقيمة البئر أو النخل أو المجلس المبني مائتان فإن هذه القسمة لا يجبر واحد منهما عليها ولا بد فيها من أن يقرع بينهما بتراضيهما, فإذا خرجت القرعة على

أحدهما: كان بالخيار إن شاء رضي به مع الذي يرده, أو يأخذه ويكون المال الذي يرده على صاحبه معلومًا لهما وهو معنى قوله: وما يلزمه ويسقط عنه يعني ما يلزمه من العوض وما لا يلزمه, فإذا وقع الرضى بذلك بعد القرعة لزمهما وكان ذلك بمنزلة البيع هذا مذهب الشافعي رضي الله عن وقوله: أجزته لا بالقرعة أراد به أن هذه القسمة بيع قولًا واحدًا والبيع ولا يجوز بالقرعة وإنما القولين في قسمة [12/ 35 أٍ] ليس فيها رد هل هي بيع أو إفراز حق؟ وقال الاصطخري: إذا تراضيا على الإقراع فخرجت القرعة على أحدهما: لزمه كما نقول إذا كانت الأجزاء مختلقة القيمة ولا رد فيها وهذا غلط, لأن الأجزاء المختلفة إذا لم يكن فيها رد لا يعتبر التراضي وأجبر الممتنع منهما على القسم بخلاف هذا, فدل على الفرق بينهما. وقال في "الحاوي": لهما في هذه المسألة أربعة أحوال إحداهما: إذا تراضيا بهذه القسمة ويتفقا على من يأخذ الأعلى ويرد من يأخذ الأدنى ويسترد فقد تمت القسمة بينهما بالمراضاة بعد تلفظهما بالتراضي لأن البيع لا يصح إلا باللفظ ويكون تلفظهما بالرضي جاريًا مجرى البذل والقبول ولهما خيار المجلس, وإن شرط في حال الرضى خيار الثلاث صح, وقال مالك: إذا كان الرد فيهما قليلًا صحت, وإن كان كثيرًا لا يصح وهذا لا يصح لأنها جارية مجرى البيع, ولا فرق بين القليل والكثير. والثانية: أن يتنازعا في طلب الأغلى ويتزايدا ويتنازعا في طلب الأدنى ويتناقضا ثم يستقر الأمر بينهما على من يأخذ الأعلى ويرد من يأخذ الأدنى ويسترد فيتم هذه القسمة بالمراضاة ويبطل ما تقدم من تقويم القاسمين بما استقر بينهما من الزيادة أو النقصان. والثالثة: أن يتنازعا أخذ الأعلى فيطلبه كل واحد من غير زيادة فلا يجبر ويقطع التنازع وتصير الأرض بينهما على الشركة كالجوهرة. والرابعة: أن يتنازعا ويتراضيا بالقرعة وفي جواز الإقراع بينهما وجهان: أحدهما: لا يجوز لأنه بيع وليس في البيع إقراع, والثاني: يجوز تغليبًا لحكم القسمة واعتبارًا بالمراضاة فعلى هذا إن كان القاسم من قبل الحاكم فلا خيار لهما بعد القرعة, وإن كان من قبلهما ثبت لهما بعد القرعة خيار وفيه وجهان: أحدهما: أن يختار النصيب على الفور, والثاني: أنه كخيار مجلس يعتبر بالافتراق. مسألة: قال: "ولا يجوز أن يجعل لأحدهما: سفلًا وللأخر علوًا". الفصل صور المسألة: أن تكون دار بين شريكين فطلب أحدهما: أن يقسم بينهما ويجعل العلو لأحدهما: والسفل للآخر لا يجبر على هذه القسمة؛ لأن العلو والبناء إنما يدخل

في القسمة تابعًا للعرصة ولا يدخل متبوعًا, ألا ترى أنه لو كان بين رجلين عرصة فطلب أحدهما: القسمة لم يجبر عليه فإذا أراد أن يجعل العلو لواحد والسفل لآخر يريد أن يجعل العلو والبناء متبوعًا في القسمة فلا يجبر على ذلك. وقال في "الأم": في تعليل هذه المسألة لأن أصل الحكم أن من ملك السفل ملك ما تحته من الأرض وما فوقه من الهواء فإذا أعطي كل واحد منهما على غير أصل ما يملك الناس, وأيضًا فإن العلو مع السفل يجري مجرى الدارين المتلاصقين لأن كل واحد منهما مسكن منفرد, ولو كان بينهما دار ولم يكن لأحدهما: أن يطالب بأن يجعل إحدى الدارين نصيبً كذلك هنا. وقول الشافعي رضي الله عنه: إلا أن يكون سفله وعلوه لواحد مشكل ومعناه لا يجوز أن يجعل لأحدهما سفلًا وللآخر علوًا ولا تصح القسمة إلا أن يكون سفل كل سهم وعلوه لواحد فأوجز المزني وأسقط هذا الاختيار, فإن تراضيا عليه جاز لأن أكثر ما فيه أن يكون بمنزلة الملكين المتجاورين ولو تراضيا في الملكين المتجاورين وأن يجعل لكل واحد دارًا منفردة لجاز كذلك هنا. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يقسمه الحاكم بينهما فيجعل ذراعًا من السفل بذراعين من العلو لأن عنده صاحب العلو لا ينتفع بالقرار وصاحب السفل ينتفع بالقرار, وقال أبو يوسف: يقسمها ذراعًا بذراع, وقال محمد: أقسمه بالقيمة وهذا لأنها دار واحدة فإذا قسمها على ما تراه جاز وهذا غلط ما ذكرنا, وأما ما ذكروه لا يصح لأن الهواء لصاحب العلو وله أن يصنع به ما لا يضر بصاحب السفل, ولو طلب أحدهما: أن يقسم السفل بينهما ويترك العلو على الإشاعة لم يجز الآخر على ذلك لأن القسمة ترد لتمييز حق أحدهما: عن الآخر, وإذا كان العلو مشتركًا لم يحصل التمييز. فرع إذا كان في الأرض زرع وأراد أحد الشريكين قسمة الأرض نظر؛ فإن أراد قسمة الأرض دون الزرع أجبر الآخر عليها, لأن الزرع في الأرض كالفرش في الدار لا يمنع القسمة, ولا فرق بين أن يكون خرج الزرع أو لم يخرج, وإن أراد قسمة الزرع خاصة نظر, فإن كان حبًا لم يجز وكذلك إن كان حبًا مشتدًا لم يجز لأنه مجهول, وإن كان قد خرج ولم يصر حبًا حكي الشيخ أبو حامد: أنه لا يجبر الممتنع على القسمة لأنه لا يمكن تعديله ولأن الإجبار إنما يكون على ما يبقى ويدخر ولا يقصد بالزرع التبقية وقال القاضي الطبري: في هذا نظر وعندي أنه مبني على القولين, فإن قلنا: إنه إفراز حق يجبر وهذا أشبه لأنه إذا أمكن تعديله مع الأرض أمكن منفردًا, وإن أراد قسمة الأرض مع الزرع فإن كان الحب لم يخرج لم يجز لجهالته؛ ولأنه بيع الحب بالحب ومعهما غيرهما فلا يجوز,

وكذلك إن كان الحب اشتد في السنابل, وإن قلنا: إفراز حق أيضًا لأنه معلوم ومجهول, وإن كان الزرع أخضر جازت قسمته مع الأرض ويكون تبعًا لها ويجوز مطلقًا, ولو طلب أحدهما: أن يقسم الزرع مع الأرض قال بعض أصحابنا: لا يجبر أن لأن الإجبار على ما يبقى ويدخر والصحيح أنه على ما ذكرنا. فرع آخر اعلم أن الأرض المشتركة ضربان: أحدهما: أن تكون متساوية الأجزاء يدخلها قسمة الإجبار على ما ذكرنا, والثاني أن تكون مختلفة الأجزاء بعضها عامرًا وبعضهما خرابًا, أو بعضها قويًا وبعضها ضعيفًا أو في بعضها شجرًا وبناء فهو على ضربين: أحدهما: أن يمكن التساوي الشريكين بالقسمة في جيده ورديئة مثل أن يكون الجيد في مقدمها والرديء في مؤخرها, فإذا قسمت نصفين صار إلى كل واحد الجيد والرديء على السواء فيجبر أيضًا. والثاني: أنه لا يمكن تساويهما فهذا على أربعة أضرب: أحدهما: أن تقسم قسمة تعديل بالقيمة على زيادة الزرع مثاله: أن تكون الأرض ثلثين جربيًا وتكون عشرة أجربة من جيدها بقيمة عشرين جريبًا من رديها فيجعل أحد السهمين عشرة أجربة, والسهم الآخر عشرين جريبًا فهل يجبر؟ قولان: أحدهما: لا يجبر لتعذر التساوي في الزرع, والثاني: يجبر وهو اختيار أبي حامد لوجود التساوي في التعديل فعلى هذا في أجره القاسم وجهان: أحدهما: سواء لتساويهما في أصل الملك, والثاني: على صاحب العشرة ثلث الأجرة وثلثاها على الآخر لتفاضلهما في المأخوذ بالقسمة. والضرب الثاني: أن يكون القسمة رد وقد ذكرنا فيها أربعة أقوال. والضرب الثالث: أن تقسم الأرض بينهما بالسوية ويترك البناء والشجر على الشركة, فإن تنازعا فيه لم يجبر الممتنع, وإن تراضيا به دخل في الأرض قسمة الإجبار ما كانا مقيمين على هذا الاتفاق زالت قسمة الإجبار. والضرب الرابع: أن يقسم القاضي الأرض بينهما بالسوية ويكون ما فيه الشجر والبناء بينهما على الشركة ففي حكم هذه الأرض إذا تميز بناؤها وشجرها عن بياضها وجهان؛ أحدهما: أن حكمهما حكم أرض واحدة لاتصالها فعلى هذا لا تدخل قسمة الإجبار في بياضها لأنها لا تدخل في شجرها وبنائها, والثاني: أن حكم شجرها وبنائها متميز عن حكم بياضها فصارت باختلاف الصفتين كالأرضين المفترقتين وتدخل قسمة الإجبار في البياض كما لو انفرد ولا تدخل قسمة الإجبار من البناء والشجر كما لو انفرد. فرع آخر لو كانت الأرض ما يصح فيها قسمة التعديل وقسمة الرد فدعا أحدهما: إلى قسمة التعديل ودعا الآخر إلى قسمة الرد فإن قلنا: يجبر على قسمة التعديل كان القول قول

من دعا إليها, وإن قلنا: لا يجبر لم يترجح قول واحد منهما ووقفت على مراضاتهما بأحدهما. فرع آخر قسمة الدار المشتركة تكون على الضروب الأربعة فإذا قسمت على إجبار أو تراض وكان لكل واحد من السهمين طريق منفرد يختص به أمضيت القسمة عليه وإن لم يكن لواحد منهما طريق إلا أن يجد من الملك ما يكون طريقًا لهما وجب أن يخرج من الملك قبل القسمة فيما يكون طريقًا لهما مشتركًا بينهما, ثم يقسم بعده ما عداه. وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى إذا تنازع في عرفهم أن يجعل سبعة أذرع وروي أنه قال: إذا تنازعتم في طريق فاجعلوه سبعة أذرع, وهذا يجوز أن يكون محمولًا على عرف المدينة فإن البلاد تختلف طرقها بحسب اختلافها وقد يحتاج إلى الأكثر من هذا ويتحمل أنه قال على معنى الإرفاق والاستصلاح دون الحصر والتحديد وهذا في الطرق العامة, فأما في هذا الاستطراق الخاص بين هذين الشريكين, قال أبو حنيفة: تكون سعت بقدر ما تدخله الحمولة ولا يضيق بها, وعند الشافعي يكون معتبرًا بما تدعو الحاجة إليه في الدخول والخروج وما جرت العادة بحمل مثله إليها ولا يعتبر بسعة الباب لأنهما قد يختلفان في سعة الباب كما اختلفا في سعة الطريق ولأن طريق الباب في العرف أوسع من الباب. مسألة: "قال وإذا ادعى بعضهم غلطًا كلمة البينة". صورة المسألة: أن يقسم رجلان أرضًا ثم ادعى أحدهما: غلطًا عليه وإن لم يحصل له كمال حقه فلا يخلو إما أن يكون ذلك قسمة إجبار, أو قسمة مراضاة فإن كانت قسمة إجبار لم تقبل دعواه ويكون القول قول الشريك الذي يدعي أن حقه في يده مع يمينه لأن الظاهر من القسمة الصحة, ولا يحلف القاسم لأنه حاكم, وإن أقام البينة وهي أن يأتي بقاسمين عدلين أنه حيف عليه ونقص من حقه نقضت القسمة, لأن ذلك ليس بأكثر من الحكم ولو قامت البينة أن الحاكم غلط في حكمه نقض كذلك ههنا, وإن كانت قسمة مراضاة فإن كانا اقتسما لأنفسهما من غير قاسم لم تقل دعواه لأنه رضي بأخذ حقه ناقصًا وأقر باستيفاء حقه, وفي الدعوى يكذب نفسه فلا يقبل بخلاف المسألة الأولى لأنه أقر في فعل الغير فيقبل قوله: إني أقررت ورضيت على ظاهر أن الغيب مصيب فبان لي الخطأ. فإن ادعى في هذه المسألة أن صاحبه يعلم الغلط قال بعض أصحابنا بخراسان: يلزمه اليمين أنه لا يعلم, وقال أيضًا: لو ادعى من حيث المشاهدة أن فيه غلطًا وأني

غلطت في الحساب واتفقا أنه لم يكن هناك ولا سبب يوجب الآخر أكثر من النصف وكان بينهما من قبل نصفين ودلت المشاهدة على أن هذا يوجب أن لا ترد دعواه؛ إذ لا يؤاخذ كذبه المشاهدة فيستوي حكم الفصلين أن عليه البينة وعلى صاحبه اليمين, وإن كانا نصبًا قاسمًا ففيه قولان: أحدهما: يعتبر التراضي فيها في الابتداء فقط والثاني يعتبر التراضي في الابتداء وبعد خروج القرعة وهما مبينان على أنهما لو حكما رجلًا فحكم بينهما هل يعتبر رضاهما بعد الحكم؟ قولان؛ والمنصوص الظاهر أنه يعتبر التراضي بعد القرعة, فإن قلنا: يفتقر التراضي في الابتداء أو بعد خروج القرعة لم تقبل الدعوى لأنه رضي بعد تعيين الحق بأخذه ناقصًا, وإن قلنا يفتقر إلى التراضي في الابتداء فقط فهي بمنزلة قسمة الإجبار. فرع قال الشافعي رضي الله عنه: وإذا اختلفا في الحد الذي ينتهي نصيب كل واحد منهما فقال أحدهما: تنتهي حصتك إلى هذا الموضع, وقال الآخر: تنتهي إلى موضع بعده فإنهما يتحالفان, فإذا تحالفا انفسخت القسمة, وإن قال أحدهما لصاحبه: حدي ينتهي إلى الموضع الفلاني وأنت غصبتنيه وأضفته إلى حصتك فالقول قول الذي في يده لأنه اعترف له باليد وادعى الغضب. مسألة: قال: "وإذا استحق بعض المقسوم أو لحق الميت دين فبيع بعضها انتقض القسم". صورة المسألة: أن يقسم الشريكان الأرض ثم استحق بعض نصيب أحدهما فلا يخلو إما أن يستحق شيء بعينه, أو مشاعًا, فإن استحق قطعة من نصيب أحدهما بعينه بطلت القسمة وردت على ملكهم وميز ملكهم, والذي استحق يكون من جميع الأرض. والثاني: يكون بين الشريكين ويكون قد بقي لمن استحق بعض نصيبه حقًا في الأرض التي حصلت بالشركة فصارت الإشاعة كما كانت فبطلت القسمة اللهم إلا أن يستحق قطعة أرض بعينها مثل ما استحق من نصيب الآخر قطعة بعينها فبقي مع كل واحد منهما مثل ما بقى مع الآخر فتكون القسمة بحالها. وإن استحق بعض الأرض مشاعًا فالقسمة قد بطلت في العدد المستحق, وهل تبطل في الباقي؟ اختلف أصحابنا فيه فقال ابن أبي هريرة: هذا مبني على القولين في تفريق الصفقة, فإن قلنا: لا تفرق بطلت القسمة في الكل, وإن قلنا: تفرق لم تبطل في الباقي, وقال أبو إسحاق تبطل قولًا واحدًا في الكل لأن القصد من القسمة تمييز الحقوق وهنا قد عادت الإشاعة في نصيبهما لأن المستحق صار شريكًا لكل واحد منهما فبطلت القسمة ويفارق البيع لأنه لما جاز عقد البيع في الابتداء بالتراضي جاز

استدامته بعد ذلك بالتراضي وهذه الطريقة أصح, وهكذا لو بان أنه كان أوصى بعين من الأعيان واحتمله الثلث فأدخلت في القسمة لأنه كالمستحق. وأما إذا ظهر دين على الميت بعد قسمة الورثة التركة قبل للورثة: إن شئتم قضيتم الديون من مالكم فتبقى القسمة بينكم, وإن شئتم بعتم من التركة بمقدار الدين, فإن اختاروا بيع التركة نظر ف'ن استغرق جميع التركة انتقضت القسمة بالبيع، وإن استغرق بيع بمقداره وتبطل القسمة ويقسم بين الورثة والمشتري على قدر حقوقهم, ومن أصحابنا من قال: هذا مبني على أن الوارث إذا بع التركة تعلق بها دين يستغرقها هل يصح البيع؟ فيه وجهان: وقيل قولان, فإذا قلنا: البيع صحيح فالقسمة أيضًا صحيحة, وإذا قلنا: لا يصح البيع فإن قلنا القسمة إفراز حق يصح, وإن قلنا إنها بيع لا يصح فإن قلنا: يصح فإنما يصح بشرط أن يقضي الورثة الدين, فإن لم يقضوا انتقضت القسمة وبيعت الأرض في الدين, وإن كان أوصى بشيء غير معين مثل ألف درهم ونحو ذلك فهو كما لو ظهر دين على ما ذكرنا. فرع لو مات رجل ولا دين عليه فلحقه دين حادث بسبب بئر حفرها فتردى فيها حيوان وغير ذلك من الأسباب, فالدين الحادث بعد القسمة كالدين القديم الظاهر بعد القسمة, فإن أدوه استقرت القسمة, وإن أبوا أنقضنا القسمة. فإن قال قائل: قضاء الدين واجب من المال الذي خلفه كذلك الوصية فما معنى قول الشافعي رضي الله عنه: ويقال لهم في الدين بالوصية إن تطوعتم أن تعطوا أهل الدين والوصية أنقذنا القسمة, قلنا: قضاؤهما واجبان لكن من غير التركة لا من مال الورثة, فإن طابت أنفسهم بقضائها من مالهم جاز أن يسمى مثل هذا تطوعًا وإن العوض يصل إليهم من الميراث. مسألة: قال: ولا يقسم صنف من المال مع غيره. فصل صورة المسألة: أن يكون بين رجلين أرض مختلفة بعضها فيه نخل وبعضها فيه بئر نصفها يشرب بالنضح ونصفها بالسيح وبعضها بالبعل فطلب منه أن يقسم أعيانًا وجعل لكل واحد منهما جنسًا منفردًا فلا يجبر على هذه القسمة بل يقسم كل جنس منفردًا كما قلنا في الدور المفترقة لا تقسم أعيانًا, ولكن تقسم كل واحدة على الانفراد, وقد ذكرنا الخلاف عن مالك وأبي يوسف ومحمد, وحكي عن مالك أنه قال: إذا اتصلت جمعت في قسمة الإجبار مع اختلافها, وإن افترقت لا تجمع, لأنها إذا اتصلت معًا وبها منفعتها ولا يعتبر المحال والمحلة, وحكي عن أبي حنيفة رحمه الله مثل قولنا إلا أنه

قال: إذا كانت إحداهما حجرة الأخرى يجوز أن يجعل إحداهما في أحد النصيبين لأنهما يجريان مجرى الدار الواحدة, ودليلنا أن أثمانها متباينة ومنافعها مختلفة فلا يجوز أن يجمع في حق واحد, وأما تقارب المنفعة فلا معنى له كما لو كانتا متفرقتين وربما تتقارب منفعتها أيضًا, وأما ما ذكر أبو حنيفة لا يصح لأن الحجرة مسكن منفرد عن الدار فأشبه الدار المجاورة فإن تراضيا على ذلك جاز ويكون ذلك بمنزلة التتابع, ومراد الشافعي لا تقسم جبرًا, قال أبو إسحاق: أراد الشافعي بهذا إذا كانت في مواضع متفرقة كل نوع منه يقسم بانفراده, فإن كانت في موضع واحد يتصل بعضها ببعض يجوز أن يقسم الجميع قسمة واحدة ويجبر الممتنع عليها إذا لم يكن فيها كما لو كان قراح أحد طرفيه أكثر قيمة من الطرف الآخر بعماوة فيه يقسم الجميع قسمة واحدة ويجبر الممتنع عليها إذا لم يكن فيها رد, وكما لو كانت في الدار رواق وخزائن وصفة فإنها تقسم, وإن كان بعض أجزائها أرفع من بعض ذكره القاضي الطبري وقال ابن القاص وقد قيل: لا يجبر لأن قيمتها متقاربة وهذا أشبه بقول الشافعي رضي الله عنه. فرع لو كان بينهما دكاكين فالحكم على ما ذكرنا في الدور, ولو كانت بينهما عضائد صغار وهي الدكاكين الصغار التي لا يمكن قسمة كل واحد منها فطلب أحد الشريكين قسمة بعضها في بعض فيه وجهان: أحدهما: يجبر عليه لأنها تجري مجرى البيوت في الخان الواحد يقسم ويجمع حق كل واحد منهما في بيت منفرد. والثاني: لا يجبر عليه بل يقسم كل واحد منها لانفراد كل واحد منهما بطريقة وسكناه كالدكاكين المتفرقة, وقد ذكرنا أن البعل النخل إذا أرسخ عروقها في الماء والطري ما سقي العواثير من ماء السبيل والنضح ماء البئر الذي يستقي السوابي وقوله: والأعين: يريد ما يشرب مما ينبع من الماء, والأرض بدون الانقطاع يريد به ما يشرب من النهر الكبير مثل دجلة والفرات واعتبر باختلاف الشروب عن تفرق مواضعها. مسألة: قال: وتقسم الأرضون والثياب والطعام. الفصل أما الأرضون قد ذكرناها وجملة المذهب فيها أن كل أرض تساوت أجزاؤها في القيمة, أو اختلفت أجزاؤها في القيمة إلا أنه يمكن تعديلها وقيل: الضياع المزرعة والمغروسة تقسم ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يتصل بعضها ببعض ويتماثل في المنفعة

والثمر والمؤنة فيضم بعضها إلى بعض ويقسم جبرًا كالصفة الواحدة, والثاني: أن يفترق ولا يضم بعضها إلى بعض بل يجبر على قسمة كل ضيعة منها, والثالث: أن يتصل ويختلف إما في منفعة بأن يكون في بعضها شجر وبعضها مزروعًا وبعضها كرمًا أو نخلًا, أو يختلف في مؤنة بعضها بشرب من نهر وبعضها بنضح, أو يختلف في نفاسة بعضها فقد ذكرنا أن الشافعي رضي الله عنه قال: لا يضم بعضها إلى بعض بل يجبر على قسمة كل صنف. وأما العقار المسكون ينقسم ثلاثة أقسام: أحدهما: لا يدخله قسمة الإجبار مع تمييزه وهي أن يكون بين الشريكين دارًا فيدعو أحدهما: إلى أن يجعل كل دار لأحدهما: فلا يجبره. والثاني: ما تدخله قسمة الإجبار مع تمييزه وهي أن تكون قرية ذات مسكن بين شريكين فدعا أحدهما: إلى أن يقسم جميع القرية, ودعا الآخر إلى أن يقسم كل مسكن منها فقسمة الإجبار واقعة على جميع القرية فتنقسم نصفين بما اشتمل عليه من مساكنه لأن القرية حاوية لمساكنها كالدار الجامعة للبيوت, وفي الدار لا يقسم كل بيت كذلك هنا. والثالث: ما اختلف فيه هو أن يكون بينهما عضائد متصلة وقد ذكرنا حكمها, وأما الثياب قال أبو إسحاق: إن كانت من جنس واحد يجبر على قسمتها, وإن كانت من أجناس فطلب القسم على أن يقع نصيب كل واحد منهما أحد الثوبين لم يجبر الممتنع, وإن طلب قسمة كل جنس بينهم أجبر الممتنع, قال: وكذلك لو كان بينهما ثوبان من جنس وصفة واحدة فطلب أحدهما: القسمة على أن يقع في نصيب كل واحد منهما أحد الثوبين أجبر الآخر عليه فإن قيل: فقد منعت ذلك في الدارين والأرضين المتفرقتين فما الفرق؟ قلنا: الفرق أن قسمة الثوب الواحد وقطعه يؤدي إلى إذهاب منفعته وإتلاف ثمنه وليس كذلك قسمة الدار الواحدة والأرض الواحدة فإنه لا ضرر فيها فافترقا, قال أبو إسحاق: فإن كان ثوبًا واحدًا لا تنقص قيمته بالقطع [12/ 42 ب] فإنه يقسم بينهما نصفين جبرًا وإن كان ينقص لا يجبر هذا ظاهر قول الشافعي رضي الله عنه, واختاره ابن سريج والاصطخري وجماعة وقال أبو سلمة: من أصحابنا يجبر بكل حال لأن الثياب لا تنقسم نصفين بخلاف الدور, وقال ابن خيران وابن أبي هريرة: لا يجبر على قسمة الأثواب أصلًا لأنها بمنزلة الدور والأرضين المتفرقة فلا تقسم أعيانًا ولأن في قسمة الثوب الواحد ضررًا وقسمة الثياب على أن يكون لكل واحد ثوب ينفرد به مبادلة, ولا يجبر على واحد منهما. وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا كان لا تنقص قيمته بالقطع فيه وجهان: وظاهر المذهب أنه يجبر, وهذان الوجهان مبنيان على ما لو باع ذراعًا من كرباس وعينه جانب منه على أن يقطعه من ذلك الموضع هل يجوز؟ فيه وجهان وإن كان ينقص لم يجبر بحال.

والثوب الواحد إذا اختلف فيه لاختلاف نقوشه وألوانه لا يجبر على قسمته بلا خلاف. وأما الطعام فعلى ضربين: مائع وجامد, فالجامد مثل الحنطة والعدس والحمص وغير ذلك يجبر على قسمتها لأن أجزائها متعادلة, وإذا قسم كيلًا كما يباع كيلًا ولا يضم نوع منها إلى نوع قولًا واحدًا. وأما المائع فإن لم يكن دخله ماء ولا نار قسم جبرًا كخل الخمر والأدهان لتساوي أجزائها, وإن دخلته النار نظر, فإن دخلته للتصفية لا لعقد الإجزاء مثل العسل والسمن ونحو ذلك جازت قسمته, وإن دخلته النار لعقد الإجزاء كالدبس ونحوه فإن قلنا: القسمة بيع لم يجز كما لا يجوز بيع بعضه ببعض, وإن قلنا: إفراز حق يجوز. وأما قسمة الحيوان والعبيد وغيرها فالخلاف فيها كالخلاف في الثياب, ونص الشافعي على جواز قسمة الرقيق في كتاب العتق فيقول: إن تفاضلوا لا يجبر, وإن تماثلوا ففيه وجهان: ظاهر المذهب أنه يجبر وبه قال ابن سريج وأبو إسحاق, وقال ابن أبي هريرة وابن خيران: لا يجبر وأصل هذا حديث عمران بن الحصين رضي الله عنه في إعتاق المماليك في مرضه فأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم فجعله ابن سريج دليلًا على قسمة الإجبار, وحمله ابن خيران على جوازه في العتق لاختصاصه بالجبرية فلا يجوز في غيرها, قال ابن خيران: وإن قال قائل: أليس تجب شاة في أربعين شاة فيؤخذ منها وذلك قسمة قلنا: ذاك ليس بقسمة, ولذلك يجوز أن يؤخذ من غيرها ويجب في الكبار جذعة من الضأن أو ثنية من المعز فدل أنه ليس بشركة ولا أخذها بقسمة, وبقولنا قال أبو يوسف ومحمد: إن الحيوان كلها تقسم, وقال أبو حنيفة: الرقيق لا يقسم لأنه تختلف منافعه ويقصد منها العقل والدين والفطنة ولا يقع التعديل بخلاف الشاة والبقر وهذا لا يصح لأن القيمة تجمع ذلك ويحصل التعديل, ولو اختلفت منافعها باختلاف أنواعها كالضأن والمعز يقسم كل نوع على الانفراد بلا تعيين وكذلك إذا كان بعض المعز تركيًا وبعضها هنديًا لا يقسم جبرًا, واعلم أن الشافعي رضي الله عنه أجاز قسمة الكلاب كما أجاز الوصية بها فمن أصحابنا من أجاز قسمتها إجبارًا وجهًا واحدًا للنص عليه وأنها بخروجها عن القيمة تجري مجرى ذوات الأمثال وقيل: فيه وجهان أيضًا وجعل هذا النص دليلًا على أنه أصحها, وأما الآلات من الخشب كالأبواب والأواني فكالحيوان إن اختلفت لا يجبر, وإن تماثلت فيه وجهان. وأما قسمة الحمامات والأرجاء ليأخذ كل واحد منهما واحدًا, قال ابن القاص: من أصحابنا من قال: لا يجوز لأن قسمة كل واحد منها في نصيبه لا يصح فجازت قسمة حملتها كالحيوان, ثم ذكر عن ابن سريج أنه كان يفرق بينهما ويقول: الأصل البقاع والرحى والحمام بقعة وإنما لا يتهيأ قسمتها للجارة ونحو ذلك, فإذا كان كذلك كان

معنى القسمة التي فيها الرد فلم تجز إلا بالتراضي, وليس كذلك الحيوان لأن كل واحد منهما لا ينقسم وبنا ضرورة إلى إفراز حقوقهم فجاز إذا كثروا أن يقتسموا إجبارًا وهو كالوجهين في الدكاكين الضيقة. وأما الدراهم والدنانير [12/ 44 أ] وسائر الموزونات التي لها مثل يجوز قسمتها جبرًا ولا يجوز قسمة الجواهر لتفاوتها وتباين قيمتها, وهل يعتبر التقابض قبل التفرق في قسمة الدراهم؟ قولان بناء على أنها بيع أو إفراز حق. ولو كانت حنطة بعضها عراقية, وبعضها شامية, فإن اختلفت فيه أنواعه يصير إلى كل نوع كالجنس يقسم على انفراد, وإنما تماثل قيمة أنواعه فيه وجهان: أحدهما: يغلب حكم الجنس لتماثله فيجوز أن يقع الإجبار في إفراد كل واحد نوع, والثاني يغلب حكم النوع لامتيازه فيقسم كل نوع على انفراده وهذا أشبه, وأما الحديد يقسم جبرًا إن لم يكن مصنوعًا, فإن كان مصنوعًا أو أواني فإن اختلفت لا يجبر, وإن تماثلت فوجهان كما ذكرنا في الحيوان. أما قسمة الدين, فإن كان على غريم واحد فقسمته فسخ الشركة, فإذا فسخت انقسم الدين في ذمة الغريم ويجوز أن ينفرد باقتضائه, ولو كانت الشركة على حالها لم يجز لأحدهما: أن ينفرد بقبض حقه منه وكان ما قبضه مشتركًا إن يقبضه عن غير إذنهم, وإن أذنوا في قبض حقه كان إذنهم له في قبض حقه فسخًا لشركته ولا وجه لمن خرجه على القولين في المكاتب إذا أدى إلى أحد الشريكين بإذن شريكه هل نختص فيه قولان لأن الفرق ظاهر وهو ثبوت الحجر على المكاتب وعدمه في حق الغريم [12/ 44 ب]. وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان وليس بشيء على ما ذكرنا, وإن كان الدين على غرماء يختص كل واحد بما على واحد لم يجز جبرًا لأن الغرماء يتفاضلون في الذمم واليسار وهل يجوز اختيارًا؟ فيه قولان بناء على أنها إفراز حق أو بيع فإذا قلنا: لا يجوز فيه فوجه الصحة أن يحيل كل واحد لأصحابه بحق على الغريم الذي لم يختره ويحيلوه بحقوقهم على الغريم الذي اختاره فيتعين الحق بالحوالة دون القسمة, وأما قسمة الرطب والعنب قد ذكرنا فيما قبل إنها إن قلنا: إن قسمة إفراز حق يجوز إجبارًا واختيارًا بكيل أو وزن وهل يجوز بالخرص قسمة الإجبار لأن المقصود بها التحقيق المعدوم في الخرص في قسمة الاختبار لأنها محمولة على التراضي, وإن قلنا: بيع لا يجوز أصلًا وأما قسمة الوقف فقد ذكرنا أنه إن اختلط بملك لا يجوز لأن حقوق أهله مقصودة على منافعه, بيع ففيه قولان: أحدهما: لا يجوز جبرًا ولا اختيار تغليبًا للوقف, والثاني يجوز جبرًا واختيارًا تغليبًا للملك. فرع قال بعض أصحابنا بخراسان: لو كانت دارًا مشتركة وفي أحد نصفين الدار بيت مزوق هل يجبر على القسمة من غير رد قسمة ولا هدم شيء قولان:

وأصلهما ما قال الشافعي: لو كانت التركة عبدين أحدهما: قيمته مائة وقيمة الآخر مائتين ففيه قولان: أحدهما: لا ينقسم إلا أن يتراضيا على الرد, والثاني يقسم فمن صار له القليل القيمة فهو له وربع الآخر مشاعًا فيقسم ما يحمل القسمة ويشاع ما لا يحتمل القسمة فإذا قلنا بالقول الثاني, فهناك تقسم جميع الدار سوى هذا البيت المزوق ويترك ذلك البيت المزوق على الإشاعة. فرع آخر لو تنازع الشريكان بعد القسمة في بيت دار قسماها فادعى كل واحد منهما في سهمه ولا بينة يتحالفان, ونقضت القسمة بعد إيمانهما, وقال مالك: القول قول صاحب اليد فيه مع يمينه, ولو وجد أحدهما: بعد القسمة عيبًا في سهمه فله الخيار في فسخ القسمة. فرع آخر لو كان بينهما جريب بر يجبر على القسمة, فإن دفع أحدهما: منه ابتداء خمسة أقفزة هل يجوز أن ينفرد بها وتكون قسمة أم لا فيه وجهان. مسألة: قال: وإذا طلبوا أن يقسموا دارًا في أيديهم قلت: ثبتوا على أصول حقوقكم. الفصل صورة المسألة: أن تكون دار بين اثنين فترافعا إلى الحاكم وطلبا أن يقسمها بينهما, فإن أقاما البينة بالملك قسم لأنه قد ثبت أنه ملك لهما, وإن لم يقيما البينة ولكنهما تعادا بالملك اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: نص الشافعي رضي الله عنه لا يقسم لجواز أن تكون الدار لغيرهما وفي يدهما بعارية أو إجارة ونحو ذلك فإذا قسم الحاكم بينهما ادعيا ملكها, وإن الحاكم حكم لهما بذلك فتقع الشبهة بقسمة الحاكم بينهما ذلك لحاكم آخر وكان الاختيار أن لا يقسمها بينهما بنفسه, وأما قول الشافعي: وقد قيل تقسم ويشهد حكاية لمذهب أبي حنيفة حيث قال: إن كانا ورثاها قسمها بينهما من غير بينة الملك, وإن كانا اشتراها فله أن لا يقسم وبه قال أبو يوسف ومحمد: والدليل على أن هذا ليس بقول الشافعي أنه قال: ولا يعجبني ذلك ومن أصحابنا من قال فيه قولان: أحدهما: ما ذكرنا, والثاني يقسمها بينهما لأن اليد تدل على الملك كالبينة والطريقة الأولى أصح, فإذا قلنا: يقسم استظهر بأمرين أحدهما: أن ينادي هل من منازع له؟ والثاني أن يحلفهما أنه لا حق فيها لغيرهما وفي هذه اليمين وجهان أحدهما: استظهارًا ويجوز تركه, والثاني واجبة لا يجوز القسمة بدونها, ثم إذا فرغ من القسمة يشهد الشهود أنه قسمها على إقرارهما من غير بينة على ملكهما ولكن

بحكم أن الدار في أيديهما من غير منازع ولا خلاف أنه لا يجب على القاضي أن يقسم بينهما, وإنما لو تقاسما لا يمنع وفائدة قسمة القاضي بينهما ذلك أنه يقرع ويقسم فلا يكون لهما الامتناع إذا كان مما تجري فيه القسمة جبرًا, وإذا اقتسموا بأنفسهم لا يجبر ولمن شاء منهم مثل خروج القرعة وبعده أن يقول: لا أرضى وحكي عن أبي يوسف ومحمد وأحمد أنهم قالوا: تقسم بأقدارهم كل شيء وعن أبي حنيفة: إن كان منقولًا يقسم, وإن كان عقارًا فادعياه ميراثًا لا يقسم إلا ببيته تشهد على الميراث, وإن ادعياه بابتياع أو غيره قسم من غير بينة تشهد بالابتياع, واحتج بأن الميراث باق على حكم ملك الميت فلا يقسمه إلا بالاحتياط للميت, فإذا لم يثبت عنده الموت والإرث فلا احتياط فيه ويخالف العقار المنقول ويتحفظ بالقسمة بخلاف العقار وهذا أصح من مذهب أبي حنيفة مما ذكرنا ولأن ما ذكره أبو حنيفة لا يصح لأنه لا حق للميت فيه إلا أن يظهر عليه دين والأصل عدمه وعندنا إذا أقاما البينة بالابتناء لم تكن بينة بالملك لأن يد الأب فيها كأيديهما, ولو كان تنازعهما غيرهما في تلك الحال ولا خلاف أنه لا يجوز للحاكم أن يقسم بينهما لأن قسمته إثبات ملكهما, ول تنازعا ويدعي كل واحد منهما أنها له لملكًا فجعلها أحكام بينهما بأيديهما وإيمانها لا يجوز أن يقسمها بينهما إن سألاه لأن في تنازعهما إقرار بسقوط القسمة. فرع الحاكم إذا أقر بالحكم قبل عزله والحاكم إذا أقر بالقسمة حال ولايته قبل لأنهما يملكان الحكم والقسمة وكل من ملك شيئًا ملك الإقرار به, وإن أقر بعد العزل فالمذهب أنه لا يقبل ويكون شاهدًا به نص عليه في "الأم" وقال الاصطخري: يكون شاهدًا به كالمرضعة تشهد على الإرضاع تقبل شهادته سواء كان بأجرة أو بغير أجرة وهذا لا يصح, والفرق أن الحكم هناك يتعلق بوصول اللبن إلى الجوف ولهذا لو أرضع وهي نائمة لم تثبت الحرمة, وليس ذلك من فعلها والقسمة فعله والحكم يتعلق به فلم تقبل شهادته على فعله وأيضًا فالرضاع لا يتضمن تعديل المرأة المرضعة والقسمة الصحيحة تتضمن تعديل القاسم فلم تقبل شهادته فيما تجر به إلى نفسه منفعة. فرع آخر لو كان بينهما منافع فأراد قسمتها مهاياة وهي أن تكون العين في يد أحدهما: مرة ثم في يد الآخر مرة مثلها جاز لأن المنافع كالأعيان فجاز قسمتها, وإن طلب أحدهما: وامتنع الآخر لم يجبر الممتنع قيل: فيه وجه أنه يجبر كما يجبر على قسمة الأعيان, والصحيح المنصوص الأول لأن حق كل واحد منهما معجل فلا يجبر على تأخيره بالمهاياة ويخالف قسمة الأعيان لأنه لا يتأخر بالقسمة حق واحد منهما, وقال أبو حنيفة وأصحابه ومالك: يجبر الممتنع على المهاياة [12/ 47 أ] وعند أبي حنيفة [أنه]

باب على القاضي في الخصوم والشهود

لا يجبر في العبيد على المهايا ويحبر في الدار. ولو طلب أحدهما: القسمة بعد المهايا كانت له وأسقطت المهايا في قول أبي حنيفة وعند مالك. لا تنتفي وتلزم المهايا. باب على القاضي في الخصوم والشهود مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: وينبغي للقاضي أن ينصف الخصمين في المدخل عليه. الفصل جملة هذا أن الحاكم يحتاج أن يسوي بين الخصوم في خمسة أشياء في المدخل عليه والجلوس بين يديه والإقبال عليهما والاستماع منهما والحكم عليهما والأصل في ذلك قوله تعالى {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} إلى قوله {فَلاَ تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَن تَعْدِلُوا}. قال أبو عبيد: في أدب القضاء وهو الرجلان عند القاضي فيكون إل ى القاضي وإعراضه لأحد الرجلين عن الآخر. وروى عطاء عن أم سلمه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا ابتلي أحدكم بالقضاء فليسو بينهم في المجلس والإشارة رضي الله عنه: أن البني صلى الله عليه وسلم قال: إني لأحرج عليكم حق الضعيفين اليتيم والمرأة, وأيضا خبر عمر وأبي موسى الأشعري رضي الله عنهما وقد ذكرناه, وروي أن عمر وأبي بن كعب تقاضيا إلى زيد بن ثابت رضي الله عنهم في محاكمة بينهما [12/ 47 ب] فقصداه في داره فقال زيد بن ثابت لعمر بن الخطاب: لو أرسلت إلى لجئتك فقال عمر: في بيته الحاكم فأخذ زيد وسادته ليجلس عليها عمر فقال عمر: هذا أول جورك سو بيننا في المجلس فجلسا بين يديه ونظر بينهما فتوجهت اليمين على عمر فقال زيد بن ثابت لأبي بن كعب: لو عفوت لأمير المؤمنين عن اليمين فقال عمر:" ما يدري زيد ما القضاء وما على عمر أن يحلف إن هذه أرض وهذه سماء" وروي أن أبي كعب ادعي نخلاً في يد عمر فقال: هي لي, وقال عمر هي لي وفي يدي, فاختصما إلى زيد فلما انتهيا إلى الباب قال عمر: السلام عليكم فقال زيد: ووعليك السلام يا أمير المؤمنين ورحمة الله فقال عمر: قد بدأت بجور قبل أن أدخل الباب فلما دخل قال: هنا يا أمير المؤمنين فقال عمر: وهذه مع هذه ولكنى مع خصمي فقال أبي: نخلي غلبني عليه عمر فقال عمر: هي نخلي وفي يدي فقال زيد لأبي: هل لك من بينة؟ فقال: لا, فقال لأبي: فعف أمير المؤمنين من اليمين, فقال

عمر: مازلت جائزاً مذ دخلنا عليم وعليك يا أمير المؤمنين وهنا يا أمير المؤمنين فاعف أمير المؤمنين ولم يعفيني منها إن عرفت شيئاً أخذته بيميني ثم حلف عمر أن النخل كلها لي وما لأبي بن كعب فيها حق فقال: والله إنك لصادق وما كنت تحلف إلا على حق ثم قال عمر لأبي: هي لك بعدما حلفت عليه, وروي أنه قال له بعدما حلفت [12/ 48 أ] لا يرى زيد بن ثابت القضاء بعد هذا اليوم. . . . . وروي أن عليا رضيا الله عنه نازع يهودياً في درع, فتخاصما إلى شريح القاضي فصدره شريح فقال علي رضي الله عنه: لو كان خصمي مسلماً ما ارتفعت عليه ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" لا تسووا بينهم في مجالسهم ولا تعودوا مرضاهم ولا تشهدوا جنائزهم" قال صاحب " التقريب": إن صح الحديث وإلا سوى بينهم, واختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال فيه وجهان: أحدهما: يسوى بينهما كما في الدخول والكلام والثاني يقدم المسلم لخبر علي رضي الله عنه, ومن أصحابنا من قال: صح الخبر ولا يسوى بينهما وجهاً واحداً ورواه إبراهيم التميمي مشروحاً أن عليا رضي الله عنه عرف درعاً له مع يهودي فقال: يا يهودي درعي سقطت مني يوم الجمل فقال اليهودي: ما أدري ما تقول بيني وبينك قاضي المسلمين هذه درعي وفي يدي فانطلقا إلى شريح فلما رآه شريح قام عن مجلسه فأجلسه موضعه فجلس علي وأجلس اليهودي بين يديه فقال علي: لو كان خصمي مسلماً لجلست معه بين يديك ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر الخير أورده ابن أبي أحمد وقال: بهذا أقول وروى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إن الخصمين يقعدان [12/ 48 ب] بين يدي الحاكم", وروى أبو هريرة رضي الله عنه قال:" قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجلس الخصمان بين يدي القاضي" واعلم أن المأخوذ عليه أن يسوي بينهما في الأفعال دون القلب فإن كان محبب إلى أحدهما: قلبه ويحب أن يفلح بحجته على الآخر فلا شيء عليه في ذلك لأنه لا يمكنه التسوية بينهما في القلب والقلوب بيد الله تعالى لا يستطاع التحرز من مثلها ومحبتها قال النبي صلى الله عليه وسلم: في القسم بين النساء هذا قسمي فيما أملم وأنت اعلم فيما لا أملك يعني قلبه وحبه لعائشة رضي الله عنها. ويستحب أن يجلس الخصمان بين يديه لما ذكرنا أن عبد الله بن الزبير خاصم عمرو بن الزبير فدخل عبد الله على سعيد بن العاص وعمر بن الزبير معه على السرير فقال سعيد لعبد الله: هنا فقال: لا قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الخصمين يقعدان بين يدي الحاكم قال ابن العاص: فإذا جلس الخصمان بين يديه أقبل عليهما بمجامع قلبه وفهمه وعليه السكينة والوقار ولا يمازح الخصم ولا يضاحكه ولا يشير إليه ولا يساره دون صاحبه.

مسألة: قال: ولا ينهرهما ولا يتعنت الشاهد. اعلم أنه لا يجوز للقاضي أن يزجر الخصوم ويصيح عليهم إلا أن يفعلوا ما استحقوا ذلك [12/ 49 أ] وهذا لأنه إذا فعل خلط عقولهم ولا يتمكنون من إيراد الحجة, ولا يجوز له أن يتعنت الشهود إن كان لهم عقول وافرة وحسن سمت في الظاهر لا يفرقهم ولا يسألهم عن الشهادة متفرقين لأنه يكون تعنتاً وإنما يفعل ذلك إذا استراب بهم على ما ذكرنا أولاً, ولا يقول للشهود: لم تشهدون, وكيف تشهدون ونحو ذلك لأنه تعنت وتشوش للأمر عليهم فلا يتمكنون من إقامة الشهادة ويكون ذلك ميل إلى المشهود له. وقال في " الحاوي:": اعلم أن القضاة زعماء العدل والإنصاف فدنوا ليناصف بينهم الناس فكان أولى أن يكونوا أنصف الناس, قال الله تعالى: {فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} وقال تعالى {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ}. واعلم أن للقضاة آداباً تزيد بها هيبتهم وتقوى بها رهبتهم والهيبة والرهبة في القضاة من القواعد نظرهم ليقود الخصم إلى التناصف ويكفهم عن التجاحد. ثم آدابهم تشتمل على ثلاثة أقسام: أحدهما: في أنفسهم وهو يعتبر بحال القاضي فإن كان مرموقاً بالزهد فالتواضع والخشوع أبلغ في هيبته وأيد في رهبته, وإن كان ممازحاً لأبناء الدنيا تميز عنهم بما يزيد في هيبته من لباس لا يشاركهم فيه ومجلس لا يساويه فيه غيره وسمت يزيد فيه على غيره [12/ 49 ب] فأما اللباس فينبغي أن يختص بألطفها ملبساً ويخص يوم نظره بأفخر لباسه جنساً يستكمل ما جرت به العادة بلبسه من العمامة والطيلسان ويتميز بما جرت عادة القضاة من القلانس والعمائم السود والطيالسة السود, فقد اعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم دخول مكة عام الفتح بعمامة سوداء تميز بها من غيره ويكون نظيف الجسد بأخذ شعره وتقليم ظفره, وإزالة الرائحة المكروهة ويستعمل من الطيب ما يخفي لونه وتظهر رائحته إلا أن يكون في يوم ينظر فيه بين النساء فلا يستعمل الطيب. وأما مجلسه في الحكم فينبغي أن يكون فسيحاً لا يضيق بالخصوم ولا يسرع فيه الملل ويفترش بساطاً لا يزري ولا يطغى ويختص فيه بمقعد ووسادة ولا يشاركه غيره فيها وليكن مجلسه في صدر مجلسه ليعرفه الداخل عليه ببديهة النظر, ولو كان فيه مستقبلاً للقبلة كان أفضل ويفتح مجلسه بركعتين يدعو بينهما بالتوفيق والتسديد على ما ذكرنا ثم يطمئن في جلوسه متربعاً مستنداً وغير مستند. وأما سمته فينبغي أن يكون في مجلس الحكم غاض الطرف كثير الصمت قليل الكلام يقتصر في كلامه على سؤال وجواب, ولا يرفع بكلامه صوتاً إلا لزجر وتأديب وليقلل الحركة والإشارة وليقف من أعوانه بين يديه من يستدعي الخصوم إليه ويرتب مقاعد الناس في مجلسه ويكون مهيباً [12/ 50 أ] مأموناً ليصان به مجلسه وتكمل به هيبته. ويجعل يوما جلوسه للحكم العام

معروف الزمان والمكان, ويجعل يوم جلوسه أول الزمان فإنه أولى من آخره والاعتدال أن يكون له في كل أسبوع يومان إن اتبعا ولا يحل بيوم في كل أسبوع فإن وردت فيما عداه أحكام خاصة لم يؤخرها إن ضرت, ويتخير بين أن يستحلف أو يتولى بنفسه بعد أن يستكمل الراحة والدعة لئلا يسرع إليه ملل ولا ضجر. والثاني آداب القضاة مع الشهود فمن آدابهم معهم إذا تميزوا وارتسموا بالشهادة أن يكون مقعدهم في مجلسه متميزاً عن غيرهم بالصيانة ولا يساويه واحد منهم في مقعده ولا فيما يخصص به من سواده قلنسوته ليتميز للخصوم القاضي عن شهوده. وينبغي أن يخص الشهود في ملابسهم بما يتميزون به عن غيرهم ليتميزوا عن من يشهدهم كما تميز القاضي منهم. ويسلموا على القاضي بلفظ الرئاسة عليهم ورد القاضي عليهم مجيباً أو مبتدئاً على تماثل وتفاضل ويقدم بعضهم على بعض في المجلس والخطاب بحسب ما يتميزون فيه من فضل وعلم بخلاف الخصوم الذين يلزمه التسوية بينهم, وإن تفاضلوا فإن حضروه في غير مجلس الحكم جلسوا في مقاعدهم المعروفة في مجليه ورتبهم فيه على اختياره وقطع تنافسهم فيه فإن التنافس يوهن العدالة, فإن تنافسوا في التقدم في أداء الشهادة [12/ 50 ب] كان قدحا في عدالتهم بالتمنع في أدائها وإن تنافسوا في الجلوس لم يقدح في العدالة ما لم يتنابذوا ويجو في غير مجلس الحكم أن يحادثهم القاضي ويحادثونه ويؤانسونه بما لا نتخرق به الحشمة ولا تزول معه الصيانة. فأما حضورهم في مجلس الحكم فعليه وعليهم من التحفظ والانقباض فيه أكثر مما عليهم في غيره, فإن أحب القاضي أن يفردهم عن مجلسه في موضع معتزل ليستدعوا منه إقامة الشهادة كان أولى وكانوا بمنظر ومسمع وخص منهم شاهدين لمجلسه ليشهدوا بما يجري من الدعاوي والأحكام, وإن أحضرهم جميعاً في مجلسه جاز كانت ميمنة مجلسه أولى بهم من ميسرته, فإن افترقوا في الميمنة والميسرة جاز, وإن كان اجتماعهم أولى. ويكون جلوس الكاتب في مجلسه بحيث يواجه القاضي ويشاهد الخصوم ويجمع بين سماع كلامه وكلامهم وجلوسه في الميسرة أولى به من الميمنة لأن حاجة القاضي في الإقبال عليهم أكثر منها على الشهود, وإقباله على ميسرته أسهل عليه من إقباله على ميمنة , وينبغي للقاضي أن يكف عن محادثة الشهود ويكفوا عن محادثته ويكون القاضي لهم مقصورا على الأدب في الشهادة وكلامهم له مقصوراً على أداء الشهادة ويغضوا عنه أبصارهم ولا يلقنهم شهادة ولا بتعنتهم فيها [12/ 51 أ] ولا يسألهم عن سبب تحملها, فإن أخبروه بسبب التحمل كان أولى إن تعلق به فضل بيان وزيادة استظهار أو كان تركه أولى إن لم يفد, ولا ينبغي للقاضي أن يستدعيهم للشهادة ولا ينبغي لهم أن يبدؤوا بها إلا بعد استدعائهم. والذي يجب فيه أن يستأذن المشهود له القاضي في إحضار شهوده, فإن أذن له أحضرهم وقال لهم القاضي: بم تشهدون؟ على وجه الاستفهام

ولم يقل: اشهدوا فيكون أمراً, ويكون القاضي فيه بالخيار بين أن يقول ذلك للشاهدين فيتقدم من شاء منهما بالشهادة ولا يحتاج الثاني إلى إذن بعد الأول, ومن أن يقول ذلك لأحدهما: فيبدأ بالشهادة ولا يكون للآخر أن يشهد إلا بعد إذن آخر, ولو بدأ بالأول فاستوفى الشهادة, وقال للثاني: اشهد بمثل ما شهد به لم تصح شهادته حتى يستوفيها أيضا كالأول لأنه موضع أداء وليس موضوع حكاية. والقسم الثالث: آداب القضاة مع الخصوم: وهو أن يبدأ بالنظر بين من سبق منهم ولا يقدم مسبوقاً إلا باختيار السابق ويجمع بينهما في الدخول ولا يستدعي أحدهما: قبل صاحبه فتضعف به نفس المتأخر بل يسوي في المدخل بين الشريف والمشرف, والحر والعبد, والكافر والمسلم, فإذا دخلا سوي بينهما في لفظ ولحظ, إن أقبل كان إقباله عليهما, وإن أعرض كان إعراضه عنهما, وإن تكلم كان كلامه لهما, وإن أمسك [12/ 51 ب] كان إمساكه عنهما, ولا يجوز أن يكلم أحدهما: دون الآخر, وإن اختلفا في الدين ليلاً يصير مماثلاً لأحدهما: ولا يسمع الدعوى منهما وهما قائمان حتى يجلسا بين يديه تجاه وجهه. وينبغي أن يكون مجلس الخصوم عند القاضي أبعد من مجالس غيرهم ليتميز به الخصوم من غيرهم, فإن اختلف جلوسهما فتقدم أحدهما: كان القاضي بالخيار بين أن يؤخر المتقدم أو يقدم المتأخر, والأولى أن ينظر , فإن كان المتقدم جلس في مجلس الخصوم وتأخر عنه الآخر قدمه إليه, وإن كان المتأخر جلس في مجلس الخصوم وتقدم عليه الآخر أخره إليه حتى يتساويا فيه. ومن عادة الخصوم أن يجلسوا في التحاكم بروكاً على الركب لأنه عادة العرب في التنازع وعرف الحكام في الأحكام فإن كان التخاصم بين النساء جلسن متربعات بخلاف الرجال لأنه أستر لهن. وإن كان بين رجل وامرأة برك الرجل وتربعت المرأة لأنه عرف لجنسها فلم يصر تفضيلاً لها. والأولى بالقاضي أن يجعل للنساء وقتاً وللرجال وقتاً ولا يخص تحاكم النساء مع الرجال من يستغني عن حضوره ويختار عند تحاكم النساء أن يكون الواقف بين يديه لترتيب الخصوم خصياً, وإن كان التحاكم بين رجل وامرأة فالأولى أن ينظر بينهما عند تحاكم الرجال من أجل المرأة ولا عند تحاكم النساء من أجل الرجال ويجعل لهما وقتا غير هذين. [12/ 52 أ] وإذا حضر الخصمان تقاربا إلا أن يكون أحدهما: رجلاً والآخر امرأة ليست بذات محرم فيتباعدا ولا يتلاصقا. مسألة: قال: ولا ينبغي أن يلقن واحداً منهما حجة ولا شاهد شهادته. اعلم أنه لا يجوز للقاضي أن يلقن أحد الخصمين شيئاً فلا يلقن المدعي الدعوى والاستحلاف وغير ذلك, ولا يلقن المدعى عليه الإنكار ولا الإقرار به لأنه إن لقنه الإنكار أضر بالخصم, وإن لقنه الإقرار أضر به, فلم يجز ذلك لأن عليه التسوية بين

الخصمين فيتركهما والقيام بحجتهما فلا يعينهما ولا واحداً منهما لا بصريح ولا تنبيه فإن ذلك محظور, وكذلك لا يجوز أن يلقن الشهود شيئا لأنه إذا لقنهم الشهادة أضر بالمشهود عليه, وإن لقنهم أن لا يشهدوا أضر بالمشهود له. فرع إذا جلس الخصمان بين يديه فهو بالخيار بين أن يسكت حتى يبتدئ أحدهما: بالكلام ومن أن يكلمهما فيقول: تكلما, أو يقول الذي على رأيه: تكلما ولا يجوز أن يقبل على أحدهما: ويكلمه دون صاحبه هكذا ذكر الشافعي رضي الله عنه, وقال ابن القاص: إذا جلس الخصمان بين يديه نظر القاضي إليهما كالمستنطق لهما ويقول العون للمدعي: تكلم فإن قاله الحاكم فلا بأس, وكان شريح يقول: أيكما المدعي فليتكلم, وقال أصحابنا: إذا عرف المدعي فلا بأس له أن يخاطبه [12/ 52 ب] فيقول له: تكلم, وإذا لم يعرف المدعي يقول ما قال شريح, أو ما قال الشافعي رضي الله عنه: تكلما, وقال في " الحاوي": إذا أمسك الخصمان عن الكلام لغير سبب لم يتركهما على تطاول الإمساك وقال لهما: ما خطبكما؟ وهو أحد الألفاظ في الاستدعاء لم يتركهما كما قال موسى عليه الصلاة والسلام لابنتي صلى الله عليه ما خطبكما, وإن قال: تكلما أو يتكلم المدعي منكما أو يتكلم أحدكما جاز والأولى أن يقول ذلك العدل القائم على رأسه أو بين يديه. فرع آخر لو تنازعا في الكلام كفهما عن التنازع حتى يتفقا على المبتدئ فيهما, وإن أقاما على التنازع ففيه وجهان: أحدهما: يقرع بينهما, والثاني يصرفهما حتى يتفقا على المبتدئ منهما. فرع آخر إذا بدأ المدعي بالدعوى فداخله الآخر في الدعوى , فإن لم تكن صحيحة قال له: صحح دعواك ولا يلقنه ذلك, فإن لم يصحح دعواه أقامه بعد ثانيه ولا يلقنه صحيح دعواه لأنه يصير معيناً له على خصمه, وقال له: صحح دعواك وإلا صرفتك, وقال الإصطخري وجماعة: لا يجوز أن يلقنه ما يصحح دعواه لأنه توقيف لتحقيق الدعوات وليس بتلقين للحجة, لأن في تلقين الحجة كسراً لقلب صاحبه أيضاً والمذهب الأول لأن في تلقين الدعوى كسراً لقلب صاحبه أيضاً. فرع آخر لو قال للمدعي: استعن بمن ينوب عنك فإن إشارته إلى الاستعانة بالاحتجاج [12/ 53 أ] عنه لم يجز, وإن إشارته إلى الاستعانة في تحضير الدعوى جاز.

فرع آخر إذا حقق الدعوى فالأولى أن يقول المدعي للحاكم: سله الخروج من دعواي, فإن لم يقل ذلك جاز لأن شاهد الحال يدل على أنه مطالب فيقول الحاكم للمدعى عليه: ما تقول في دعواه؟ فإن أقر لزم الخروج منها, وإن أنكر قال للمدعي: ألك بينه؟ فإن جاء ببينة سمعها وحكم بها, وإن لم تكن بينه لم يستحلف الخصم حتى يسأل استحلافه لأن ذلك حق له, فإن استحلفه قبل ذلك لا يعتد اليمين وتعاد اليمين بعد المطالبة, ثم إن طالبه بتحليفه وحلف أسقط الدعوى عن نفسه وإن نكل ردت اليمين على المدعي فيحلف ويستحق ما ادعاه. واعلم أن في لفظ الشافعي رضي الله عنه إشكالا لأنه قال: فإذا أنفذ حجته نكلم المطلوب ومعلوم أن المدعي لا يشتغل بإقامة حجته إلا بعد جواب المطلوب, ومعناه فإذا أنفذ دعواه فسمى الدعوى التي هي سبب الحاجة إلى الحجة حجة, وقال في " الحاوي": إذا صح الإنكار فيه وجهان: أحدهما: الأولى أن يقول له القاضي قد أنكر ما ادعيته عليه فماذا تريد؟ والثاني الاختيار أن يقول: قد أنكر ما ادعيت فهل لك من بينه؟ وهذا أشبه لما روى وائل بن حجر أن رجلاً من حضرموت حاكم رجلاً ن كندة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض فقال للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا, قال: فيمينه [12/ 53 ب] فقال: يا رسول الله إنه فاجر ليس يبالي ما حلف عليه, وليس يتورع من شيء فقال: ليس لك منه إلا ذلك. فرع آخر لو قدم المطلوب الإقرار قبل استيفاء الدعوى لزمه الإقرار وسقط الإقرار وسقط جوابه عن الدعوى إذا وقعت بإقراره, وإن قدم الإنكار طولب به بعد استيفاء الدعوى لأن الإنكار إسقاط فلم يجز تقديمه بخلاف الإقرار. فرع آخر لو كانت دعواه في رقعة ودفعها إلى القاضي وقال: أثبت دعواي في هذه الواقعة وأنا مطالب له بما فيها فيه وجهان: أحدهما: لا يقبل القاضي حتى يذكره نطقاً أو يوكل من ينوب عنه وبه قال شريح: لأن الطلب يكون باللسان دون الخط, والثاني يجوز ولكن يجب عليه أن يقرأها على الطالب ويقول: هكذا تقول أو تدعي , فإذا قال: نعم سأل المطلوب عن الجواب ولا يجوز أن يسأله قبل قراءتها على الطالب واعترافه بما تضمنها, فإن فعل المطلوب في جواب الدعوى مثل ذلك وكتب جوابه في رقعة ورفعها إلى القاضي فقال: هذا جوابي عن الدعوى, فإن جوزنا ذلك في الطالب جوزنا هذا في المطلوب, وإن لم نجوز في الطالب لا نجوز في المطلوب.

فرع آخر لو لقن الشاهد صفة لفظ الأداء ولم يلقنه ما يشهد به في الأداء ففيه وجهان أحدهما: يجوز لأنه توقيف لا تلقين [12/ 54 أ] وقد أشار إليه الشافعي رضي الله عنه والثاني لا يجوز لما فيه من المماثلة, ويقول له: إن بينت ما تصحح به شهادتك سمعتها وقال القفال: يجوز أن يلقن قدر ما لابد منه مثل أن يشهد ببيع ويظن أن عنده شهادة الملك فلا بد من أيقول تشهد بالملك إذا لو لم يقل هذا القدر وقال: زد أو قال: هل عندك زيادة؟ لم يدر الشاهد ماذا يقول فالاستكشاف يجوز, والتلقين لا يجوز. فرع آخر لو بادر إلى أداء الشهادة لا يبعثه على التوقيف عنها إلا في الحدود التي تدرأ بالشبهات فيجوز أن يعترض بالتوقف كما فعله عمر رضي الله عنه في قصة المغيرة حين شهدوا عليه بالزنا حتى توقف زياد عن الشهادة بتعريض. مسألة: قال: ولا ينبغي أن يضيف الخصم دون خصمه أراد بهذا أن الحاكم لا يضيف أحد الخصمين دون صاحبه بل إذا أضاف أحدهما: أضاف الآخر ولا يجيب إلى ضيافة أحدهما: ولا إلى ضيافتهما ما داما متخاصمين, وقد رو إنه نزل بعلي رضي الله عنه ضيف فأضافه أياماً ثم إنه خاصم إليه رجلاً فقال له علي: تحول عنا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن نضيف الخصم إلا ومعه خصمه وروي أنه لما نزل به قال له ألك خصم؟ فقال: نعم فقال: تحول عنا وذكر الخبر, وروي أن رسول الله [12/ 54 ب] صلى الله عليه وسلم كان لا يضيف الخصم إلا ومعه خصمه وروي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله إنه كان إذا ادعى عبد على شريف حجبه حتى يقضي بينه وبين خصمه ولأنه إذا فعل ذلك انكسر قلب خصمه ويوجب التهمة في الميل إلى أحدهما: مسألة: قال: ولا يقبل منه هدية, وإن كان يهدي إليه قبل ذلك. اعلم أن الرشوة في الحكم حرام للخبر المعروف, ولأنه إما أن تأخذ ليحكم بغير حق أو ليوقف حق الخصم وكلاهما حرام, وأما الهدية فإن أهدي إليه من لم تجر عادته بالإهداء إليه قبل الحكم لا يجوز قبولها لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من وليناه شيئا من أعمالنا ورزقناه فما أخذ بعد ذلك فهو غلول" وروي أنه قال:" هدايا الأمراء

غلول" وروي سحت ولأنه إنما يهدي إليه لخصومة حاضرة أو لخصومة يتوقعها وذلك لا يجوز. وإن أهدي إليه من جرت عادته بالإهداء إليه فإن كانت له خصومة حاضرة حرم عليه أخذها لأن الظاهر أنه أهدي إليه للخصومة, وإن لم يكن له خصومه يكره له أخذها ولا يحرم لأنه ربما يكون قد أهدي إليه لانتظار خصومة فيكره, ويجوز أن يكون جرى على عادته في الهدية فلا يجزه نص عليه, وقال في " الأم": وما أهدي له ذو رحم [12/ 55 أ] أو ذو مودة كان يهاديه قبل الولاية فالتنزه أحب إلى , ولا بأس أن يقبل, ومن أصحابنا من قال: لا يجوز له قبولها للخبر وقال الصميري: فيه قولان وهذا غلط لأنه إذا كانت عادته جارية بذلك لم يكن من أجل الحكم فلا تهمة والخبر محمول على العمال من جهة الأمراء ويجري ذلك في حقهم مجرى الرشوة وقال أبو حنيفة وأصحابه: الهدية ممن لم تجر عادته بالإهداء إليه قبل القضاء تكره ولا تحرم, وإن أهدي إليه من غير عمله قال الشافعي: كرهت له ذلك فإن قبل فجائز فأجراه الشافعي مجرى من جرت عادته بالهدية, ومن أصحابنا من حرمها وليس بصحيح فإن قيل: أليس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم الهدايا, وقال:" لو أهدي إلي ذراع لقبلت" قلنا: الله تعالى ميزه عن الخلق فقال:" {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ} وقرئ وهو أب لهم لأنه كان يكافئ وقد كافأ الأعرابي الذي أهدى بعيراً حتى رضي ولأنه بعيد من الميل ميزه عن الظن فلا يقاس عليه. فرع إذا منعناه من قبولهما فقبل فماذا يصنع بها. فيه وجهان: أحدهما: يرد إلى بيت المال لأن في ذلك مصحة للمسلمين. وقد روي أن عمر رضي الله عنه دخل على حفصة فرأى عليها قلادة من ذهب أهدت إليها ابنه هرقل فقال: أو أهدت إلى جميع نساء المسلمين مثل ذلك فقالت: لا فقال: افأهدت إليك [12/ 55 ب] لمكانك مني فأخذها ووضعها في بيت المال قال أصحابنا: لعله احتياط لها في ذلك وفعل ذلك برضاها فإنه لا بأس بهذا لأنها ليست بوصية ولا قاضية. وروي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه قال: " إنما كانت الهدايا في أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وما سواها رشوة" والثاني يردها إلى صاحبها لأنه لم يملكها فإن مات صاحبها يردها إلى ورثته, فإن لم يكونوا وضعها في بيت المال لتنفق في مصالح المسلمين, وإن كان ورثته غيباً وضع في بيت المال للحفظ للورثة, وروي أن رجلاً أهدى إلى عمر رضي الله عنه رجل جذور وتحاكم إليه من بعد مع خصم وجعل يقول: فصل بيني وبينه كما تفصل رجل الجذور, فقال عمر: فما زال يذكرني حتى كدت أزيغ فقام وأخرج رجل الجذور ورده وقال: إن

هدايا الأمراء غلول" وروي أن رجلاً كان يهدي إلى عمر رضي الله عنه كل سنة فخذ جذور فخاصم إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين اقض بيننا قضاء فصلاً كما يفصل الفخذ من الجذور فكتب عمر إلى عماله لا تقبلوا الهدايا فإنها رشوة. ولو أهدي إليه خوفاً منه وتوقياً شره فهو حرام عليه لا يملكه وإن المهدي ممن لا يتحاكم إليه في الحال. فرع آخر قال أصحابنا: ينبغي لكل ذي ولاية أن يتنزه عن قبول هدايا أهل عمله لما ذكرنا من الخبر [12/ 56 أ] وروي أنه لما رجع ابن اللتبية قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم هذا لكم وهذا أهدي ألي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر يهدى إليه أم لا. والمهاداة من عدا الولاة مستحبة في البذل ومباحة في القبول وقد ذكرنا ذلك في كتاب الهبات. فرع آخر مهاداة الإمام الأعظم ومن قام مقامه فكل الناس تحت ولايته ومن جملة رعيته فإن هاداه أهل الحرب جاز له قبولها كما تجوز استباحة أموالهم فرع آخر إذا هداه أهل الحرب ينظر في سبب الهدية, فإن كانت من أجل سلطانه فسلطانه بالمسلمين فصارت الهدية لهم دونه فكان بيت مالهم أحق بها منه, وإن هداه لما يختص بسلطانه من مودة سلفت جاز له أن يتملكها, وإن هداه لحاجة عرضت فإن كان لا يقدر على قضائها إلا بالسلطنة كان بيت المال أحق بها منه, وإن كان يقدر عليها بغير السلطنة كان أحق بها من بيت المال. فرع آخر لو هاداه أهل الإسلام ليستعين به إما على حق يستوفيه له, وإما على ظلم يدفعه عنه, وإما على باطل يعينه عليه, فهذه هي الرشوة المحرمة, وأهل الهدية إن كان على حق لقوم فهو من لوازم نظره ولا يجوز لمن لزمه القيام بحق أن يستعجل عليه كما في الصلاة. وإن كان على باطل يعين عليه كان أعظم تحريما [12/ 56 ب] فرع آخر لو أهدي إليه من كان يهاديه قبله من ذي نسب أو مودة فهذه هدية لا رشوة وهي على ثلاثة أضرب, أحدهما: أن تكون بقدر ما كانت قبل الولاية لغير حاجة عرضت فيجوز قبولها للعرف وانتفاء الظن, وإن لم يقبلها كان نهاية الاحتياط لأنه إبراء لساحته وأجمل لذكره

والثاني: أن يقترن لحاجة عرضت إليه من قبوله عند الحاجة ويجوز أن يقبلها بعد الحاجة, فقد روي أن زيد بن ثابت كان يهدي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبناً فيقبله حتى اقترض زيد بن ثابت مالاً من بيت المال ثم اهدي إليه اللبن فرده عمر فقال زيد: لم رددته قال: لأنك اقترضت من بيت المال مالا فقال زيد: لا حاجة لي في مال يقطع الوصلة بيني وبينك فرد المال وأهدي إليه اللبن فقبله منه والثالث: أن يزيد في هديته على فوق العادة لغير حاجة فينظر فإن كانت الزيادة من جنس الهدية جاز قبولها لدخولها في المألوف وإن كان من غير جنسها منع من قبولها لخروجها عن المألوف. فرع آخر لو أهدى إليه من لم يكن يهاديه قبل الولاية فهو على ثلاثة أضرب أحدهما: أن يهدي إليه من يخطب منه الولاية على عمل يقلده فهذه رشوة حرام سواء كان مستحقاً أو لا وعليه ردها, [12/ 57 أ] ويحرم على باذلها إن كان غير مستحق للولاية, وإن كان مستحقاً لها فإن كان مستغنياً عن الولاية حرم عليه بذلها, وإن كان محتاجاً إليها لم يحرم عليه بذلها. والثاني: أن يهدي إليه من شكره على جميل كان منه فهذا ملحق بالهدايا لأن الرشوة ما تقدم والهدية ما تأخر وعليه ردها ولا يجوز له قبولها لأنه يصير مكتسباً مجاملته ومعتادا على جاهه وسواء كان ما فعله من الجميل واجبا أو تبرعا لا يحرم بذلها على المهدي والثالث: أن يهدي إليه مبتدأ فهذه هدية بعث عليها جاه السلطنة, فإن كافأ عليها جاز له قبولها, وإن لم يكافئ عليها ففيه وجهان: أحدهما: يقبلها لبيت المال لأن جاه السلطنة لكافة المسلمين والثاني يردها لأنه المخصوص بها فلم يجز أن يستأثر دون المسلمين بشيء وصل إليه بجاه المسلمين. فرع آخر مهاداة ولاة الأعمال كعمال الخراج والصدقات ينظر فيها, فإن كان المهدي من غير أهل عمله كانت المهاداة بينهما كالمهاداة بين غير الولاة من الرعايا وإن كان من أهل عمله فعلى ثلاثة أضرب أحدها: أن يكون قبل استيفاء الحق فهذه رشوة يحرم قبولها وفي الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:" اللطفة عطفه" يعني: تعطف عن الواجب وسواء كان العامل مرتزقاً أو لا. [12/ 57 ب]. والثاني أن يهدي إليه بعد استيفاء الحق منه على جميل قدمه إليه, فإن كان ذلك الجميل مما يجب على العامل أن يعلمه بحق عمله وجب رد الهدية وحرم قبولها وإن كان مما لا يجب عليه لم يكن للعامل أن يتملكها ما لم تعجل المكافأة عليها وفيها وجهان: أحدهما: تعاد إلى مالكها لخروجها عن المقصود بها.

والثاني: تكون لبيت المال لأنها مبذولة على فعل نائب عنهم وفي قبله قال النبي صلى الله عليه وسلم: هدايا الأمراء غلول, والغلول ما عدل بع عن مستحقه. والثالث: أن يهدي إليه بعد استيفاء الحق على غير سبب أسفله فإن عجل المكافأ ة عليها بمثل قيمتها جاز أن يتملكها لأنه بالمكافأة معاوض فجري في إباحة التملك مجرى الابتياع, وإن لم يكافئه فقد خرجت عن الرشوة والجزاء فلم يجب ردها وتعرض بها للتهمة وسوء المقالة وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه يقر على العامل ولا يسترجع منه لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسترجع الهدية من ابن اللتبية. والثاني: يسترجع منه لبيت المال لأنه أخذها بجاه العمل ويضم إلى المال الذي استعمل فيه لوصولها بسببه, فإن رأى الإمام أن يعطيه إياها جاز إذا كان مثله يجوز أن يبدأ بمثلها, وإن رأى أن يشاطره عليها جاز كما فعل عمر رضي الله عنه في ابنيه حين [12/ 58 أ] أخذا مال العراق قرضاً واتجرا وربحا فأخذ منهما نصف ربحهما كالقرض. والثالث: إن كان العامل مرتزقاً قدر كفاية أخذت منه الهدية لبيت المال, وإن كان غير مرتزق أقرت عليه لما روى بريده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال" من استعملناه على عمل فرزقناه فما أخذ بعد ذلك فهو غلول" فرع آخر لو كان مرتزقا ولم يكتف برزقه عما تدعوه الحاجة إليه فقد روى المستورد بين شداد أن النبي صلى الله علية وسلم قال:" من كان لنا عاملاً فليكتسب زوجة, فإن لم يكن له خادم فليسكت خادماً فمن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكناً" فدل هذا الحديث على أن الغلول المسترجع منه ما يجاوز قدر حاجته. فرع آخر ولو كان الحاكم لا يأخذ رزقاً من بيت المال فقال: لا أقضي بينكما حتى تجعلا لي عوضاً حكي عن أبي حامد أنه قال له ذكره القاضي الطبري أيضا ولم يذكرا إن طلب من أحدهما: وينبغي أن يكون أخذه من أحدهما: للحكم بالحق يجري مجرى الهدية التي ذكرناها ذكره في " الشامل" فرع آخر لو أضاف العامل من هو من أهل عمله فإن كان العامل مستوطناً لم يجز أن يدخل في ضيافته, وإن كان مجتازا جاز أن يدخل بعد استيفاء الحق منه ولم يجز قبله. فرع آخر قد ذكرنا مهاداة قضاة الأحكام [12/ 58 ب] وقال في " الحاوي": الهدايا في

حقهم أغلظ مأثمًا وأشد تحريمًا لأنهم مندوبون لحفظ الحقوق على أهلها دون أخذها وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"لعن الله الراشي والمرتشي في الحكم" فخص الحكم بالذكر تغليظاً قال: وفيه ثلاثة أقسام: أحدهما: أن تكون الهدية في عمله من أهل عمله فللمهدي ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون ممن لم يهاديه قبل الولاية فلا يجوز أن يقبل لأنه معرض لأن يحاكم أو يحاكم وهو من المتحاكمين رشوة محرمة ومن غيرهما هدية محظورة. والثاني: أن يكون ممن يهاديه قبله وله في الحال محاكمته فلا يحل. والثالث: أن يكون ممن يهاديه قبله وليس محاكمة, فإن كان من غير ذلك الجنس بأن كان يهاديه بالطعام فصار يهاديه بالثياب لم يجز أن يقبلها لأن الزيادة هدية للولاية وإن كان من جنسه فهل يجوز قبولها؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز لخروجها عن سبب الولاية , والثاني: لا يجوز قبولها لجواز أن يحدث له محاكمة ينسب بها إلى الممايلة والثاني من الأقسام: أن تكون الهدية في عمله من غير أهل عمله فلمهديها ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون دخل بها إلى عمله فصار بالدخول فيها من أهل عمله فلا يجوز أن يقبلها لجواز أن يحدث له محاكمة [12/ 59 أ] والثانية: أن لا يدخل بها المهدي إلى عمله ويرسلها وله محاكمة وهو فيها طالب أو مطلوب فهي رشوة محرمة, والثالثة: أن يرسلها ولا يدخل بها إلى عمله ولا محاكمة له فهل يجوز قبولها: فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز لما يلزمه من التزامه, والثاني: يجوز قبولها لوضع الهدية على الإباحة. والقسم الثالث: أن تكون الهدية من غير عمله ومن غير أهل عمله لسفره عن عمله فنزاهته عنها أولى فإن قبلها جاز ولا يمنع. فرع آخر نزول القاضي ضيفاً على غيره فإن كان في عمله لم يجز, وإن كان في غير عمله جاز ولا يكره إن كان عابر سبيل, ويكره إن كان مقيماً فرع آخر قال في " الحاوي": أذا أبيحت له الهدية جاز أن يتملكها , ولو خطرت عليه فهي على ثلاثة أقسام: أحدهما: أن تكون رشوة فيحب ردها على باذلها, فإن ردها قبل الحكم نفذ حكمه, وإن ردها بعد الحكم فإن كان حكمه على الباذل نفذ حكمه, وإن كان حكمه لباذل ففي نفوذه وجهان: أحدهما: ينفذ إذا وافق الحكم كما ينفذ حكمه للصديق, والثاني: لا ينفذ كما لا ينفذ للولد للتهمة بالممايلة.

والثاني: أن تكون الهدية جزاء لتأخيرها عن الحكم فيجب ردها على مهديها والحكم معها نافذ سواء كان الحكم للباذل أو عليه. والثالث: أن تخرج الهدية عن الرشوة والجزاء لابتداء المهدي بها تبرعاً فلا يتملكها القاضي لخطرها [12/ 59 ب] وفيه وجهان: أحدهما: ترد على مهديها لفسادها, والثاني: توضع في بيت المال لبذلها طوعاً لنائب المسلمين. فرع آخر قال في " الحاوي": روى عبد الله بن جعفر عن خالد بن أبي عمران عن القاسم عن ابن أبي أمية أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" من شفع لأحد شفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى باباً عظيماً من أبواب الربي" وهذا وإن كان مرسلاً فليستظهر في الاستدلال به على ما يوجبه حكم الأصول فيقول: مهاداة الشافع تعتبر بشفاعته وهي على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يشفع في محظور من إسقاط حق أو معونة على ظلم فهو في الشفاعة ظالم وبقبول الهدية عليها آثم لا على كلاهما. والثاني: أن يشفع في حق يجب عليه القيام به فالشفاعة مستحقة عليه والهدية محظورة لأن لوازم الحقوق لا يستعجل عليها. والثالث: أن يشفع في مباح لا يلزمه فهو بالشفاعة محسن لما فيه من التعاون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اشفعوا إلى ويقضي الله على لسان رسوله ما يشاء" وللهدية على هذه الشفاعة ثلاثة أحوال: أحدها: أن يشترطها الشارط وقبولها محظور عليه لأنه يستعجل على الإحسان والثانية أن يقول المهدي: هذه الهدية جزاء على شفاعتك فقبولها محظور عليه كما لو شرطها [12/ 60 أ] والثالثة أن يمسك الشافع عن اشتراطها ويمسك المهدي عن الجزاء بها فإن كان مهادياً كره, وإن لم يحرم فإن كافأه عليها لم يكره القبول. مسألة: قال: وإذا حضر مسافرون ومقيمون فإن كان المسافرون قليلا فلا بأس أن يبدأ بهم. الفصل إذا اجتمع المسافرون والمقيمون في باب القاضي فإن كان المسافرون قليلاً فلا بأس أن يبدأ بهم لأنه ربما يفوتهم السفر والرفقة, والمقيمون لا يفوتهم شيء وقد وضع الله عنهم الصوم وشطر الصلاة رفقاً بهم فلذلك تجوز البداية بهم للرفق بهم,

فرع قال في" الحاوي": وهل يعتبر استطابه نفوس المقيمين؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يعتبر ويجوز للقاضي أن يقدمهم وإن كره المقيمون لدخول الضرر على المسافرين دون المقيمين والثاني يعتبر حتى إن امتنعوا لم يجبرهم لاستحقاق التقدم بالسبق والأصح الوجه الأول وهو المذهب. فرع آخر قال في " الأم": وإن جعل لهم يوماً بقدر ما يضر بأهل البلد ويرفق بالمسافرين فلا بأس. فرع آخر وإن كثر المسافرون حتى تنادوا أهل البلد آسى بينهم أي سوى بينهم مخافة الضرر ولكل حق, قال في " الأم": كان لكلهم حق ولا يجوز إضاعة الحق. فرع آخر لو كثروا كما في أيام الموسم فإن كان اليوم الواحد يتسع للنظر بين المقيمين والمسافرين [12/ 60 ب] جعل للمقيمين فيه وقتاً وللمسافرين فيه وقتاً فإن استوي الفريقان سوي بين الفريقين , وإن تفاضل فاضل في الوقتين, وإن كان اليوم الواحد لا يتسع جعل للمسافرين يوماً وللمقيمين يوماً إن تساووا, وإن تفاضلوا فاضل بينهم في الأيام وينبغي أن يخص المسافرين بالمجلس الأول إن لم يضر بالمقيمين إما إجباراً أو باستتابة نفوسهم على الوجهين وإن استضر به المقيمون أقرع بينهم في المجلس الأول لأنه ليس فيه سبق يعتبر فعدل فيه إلى القرعة. مسألة: قال: ولا يقدم رجلاً جاء قبله رجل. الفصل قال أصحابنا: إذا كان يوم القضاء فالحاكم يجب أن يقعد أمينه على بابه حتى يكتب أسماء الخصوم الأول فالأول فإذا جاء القاضي نظر في الرقعة وينظر بين الأسبق فالأسبق إذا كانوا مقيمين في البلد لأنه لا يمكن النظر بين جماعتهم في رقعة فلا بد من تقديم بعضهم فكان تقديم الأسبق أولى كما قلنا في المياه المباحة والاعتبار بسبق المدعي مجيئه لا بالمدعى عليه. فرع ينبغي أن يكون الذي يتولى إثبات أسمائهم فهماً أميناً فطناً, ويثبت في كل اسم الطالب واسم أبيه وجده وقبيلته وصناعته, وقال بعض أصحابنا: يثبت معه في الواقعة دون المطلوب ولأن الطالب لو قال: أريد أن أحاكم غيره في هذا المجلس لم يمنع.

فرع آخر إذا أريد إحضاره عند خروج رقعته نودي باسمه وحده دون اسم أبيه وجده, فإذا حضر سأله القاضي عن اسمه واسم أبيه وجده فإن وافق ما في الرقعة نظر بينه وبين خصمه, وإن خالف قال له: ليست هذه رقعتك فانصرف حتى يحضر صاحبها ونودي مرة ثانية حتى يحضر من هو صاحبها ثم نودي مرة ثالثة فإن لم يحضر اخرج رقعة غيره, فإن حضر صاحب الرقعة الأولى وصاحب الرقعة الثانية فإن كان حضوره قبل الشروع في النظر بين الثاني وخصمه قدم الأول عليه وشرع في النظر ولم يقطع واستوفاه ثم نظر الأول وبعده. فرع آخر لم جاؤوا دفعة واحدة أو لم يمكن ضبط ذلك لكثرتهم , فإن رضوا بتقديم واحد منهم قدم, وإن تشاحنوا أقرع بينهم فيكتب أسماءهم في رقاع ويتركها بين يديه ثم إذا أراد أن يحكم أخذ واحدة فمن خرج اسمه نظر بينه وبين خصمه وكذلك يفعل في الثاني والثالث ولا حاجة فيه إلى الاحتياط الذي يفعل في قسمة الأموال من الإدراج في البنادق وغير ذلك لأن هذا أسهل. فرع آخر لو أن القاضي استناب في إخراج هذه الرقاع وفي القراع من يثق [12/ 61 ب] بعقله وفطنته جاز وكان أبلغ في صيانته. فرع آخر لو كان المسبوق مريضاً يستضر بالصبر عذره الله تعالى في حقوقه بالرخص, فإن عذره الآدميون في تقديمه على أنفسهم كان أولى بهم, وإن شاحوه قدمه القاضي إن كان مطلوباً ولم يقدمه إن كان طالباً لأن المطلوب مجبر والطالب مخير. فرع آخر إذا نظر بين الأسبق وبين خصمه لا ينظر إلا في خصومة واحدة وإن كان له خصومة أخرى لا ينظر فيها ونظر في خصومة من يليه لئلا يؤدي إلى فوت حق الباقين, وقال في " الحاوي": لو ادعى دعوى ثانية على الخصم الأول هل تسمع بسبقه؟ فيه وجهان: أحدهما: تسمع لأنها مع خصم واحد, والثاني لا تسمع لأنها في محاكمة أخرى فرع آخر لو كان في آخر المجلس ولم يكن بعده خصم جاز للحاكم أن يصغي إلى خصومته الثانية, والثالثة لأنه لا ضرر فيه على أحد إن لم يلحق القاضي ملل.

فرع آخر لو أن المدعى عليه بعد انبرام الحكم معه استأنف دعوى على المدعي فإن لم يكن اسمه ثابتاً في رقعة المدعي لم يسمعها, وإن كان اسمه ثابتاً في رقعة المدعي ففيه وجهان: أحدهما: تسمع دعواه بهذا السبق وهو قول من يرى إثبات اسمه في رقعة المدعي, والثاني: لا يسمعها إلا في مجلس آخر وهو الأصح لأن اسمه فيها [12/ 62 أ] لم يثبت لحقه بل لحق غيره ذكره في " الحاوي". فرع آخر لو كان المدعي السابق ادعى على اثنين معاً في حالة واحدة فإن كانت الدعوى مختلفة لم يسمع إلا على واحد, وإن كانت الدعوى واحدة كادعائه ابتياع دار منها جاز لأنها محاكمة واحدة بين طالب ومطلوبين. فرع آخر لو اجتمع اثنان في الدعوى على واحد فإن اختلف دعواهما لم تسمع إلا من أحدهما: وإن لم تختلف دعواهما لادعائهما ميراثاً بينهما جاز أن يسمع دعواهما عليه لأنها محاكمة واحدة بين طالب ومطلوب. فرع آخر لو كانت الدعاوي على واحد تسمع عليه دعوى الجماعة واحداً بعد واحد لأن الحكم حق المدعي دون المدعى عليه والمدعي جماعة وكذلك لو ادعى المدعي الثاني على المدعي الأول نظر الحاكم بينهما أيضاً. فرع آخر قال بعض أصحابنا بخراسان: لو أراد الحاكم أن يقدم واحداً من غير قرعة لغرض مثل المرأة تقدم على الرجال جاز. فرع آخر لو تقدم اثنان إلى حاكم فادعى أحدهما: على الآخر فقال المدعى عليه: أيها الحاكم أنا جئت به وأنا المدعي, فإن الحاكم يقول له: قد سبقك بالدعوى ويمكن أن يكون الآخر صادقاً فيما ذكره ويمكن أن يكون كاذباً فلم يسقط حق السبق بأمر محتمل فينظر الحاكم في خصومه الأول فإذا فرغ منها نظر في خصومة المدعى عليه. فرع آخر لو جاء رجلان [12/ 62 ب] فحضرا بين يدي الحاكم وادعى كل واحد منهما على صاحبه أنه هو الذي جاء به ليدعي عليه, حكي ابن المنذر في هذا مذهب فقال: من

الناس من قال: يقرع بينهما, ومنهم من قال: يقدم الحاكم من شاء منهما, ومنهم من قال: يصرفهما حتى يصطلحا ثم يعودا, وقيل: بعد التحليف يقدم من شاء ولا نص للشافعي رضي الله عنه فيه, وقال أصحابنا: مذهبنا كما لو جاء مدعيان في حالة واحدة يقرع بينهما لتساويهما. فرع آخر لو كان لجماعة حق على رجل فوكلوا رجلاً فقدمه إلى القاضي وطالبه بحقوقهم فأنكر فلا يجوز أن يستحلفه القاضي يميناً واحدة بجماعتهم لأن لكل واحد منهم حق الاستحلاف, وحقوق الجماعة لا تتداخل فإن رضي الجماعة أن يستحلفوه يميناً واحدة ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لأنهم لو أقاموا بينة واحدة ثبت حق جماعتهم بها فجاز أن يسقط المدعى عليه دعواهم أيضاً بيمين واحدة والثاني وهو المذهب لا يجو لأن القصد من اليمين الردع والزجر وعند الجمع لا يحصل ذلك, وإن حصل الرضا كما لو رضيت المرأة أن يحلف الزوج دفعة واحدة في اللعان لا يجوز ذلك, ولأن اليمين حجة في حق الواحد, فإذا رضي بها في حق الاثنين صارت الحجة في حق كل واحد منهما ناقصة والحجة [12/ 62 ب] الناقصة لا تكمل يرضى الخصم كما لو رضي أن يحكم عليه بشاهد واحد لم يجز, وقال بعض أصحابنا بخراسان: وجه أن للحاكم أن يفعل ذلك من غير الرضي وهذا ليس بشيء وحكي الإصطخري أن إسماعيل بن إسحاق القاضي حلف رجلاً بحق رجلين يميناً واحدة فخطأه أهل عصره فرع آخر إذا استعدى رجل على رجل إلى الحاكم لزم أن يستدعيه سواء علم بينهما معاملة أو لم يعلم وبه قال أبو حنيفة وأحمد في رواية وقال مالك: لا يعدي عليه إلا أن يعلم أن بينهما معاملة وهو رواية عن أحمد, واحتج بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا يعد به الحاكم على خصمه حتى يعلم أن بينهما معاملة ولأن في أعدائه على كل من استعدى عليه تبذلاً لأهل المروة فلا يجوز ذلك إلا بسبب ظاهر, وهذا لا يصح لأنه يؤدي إلى الإضرار بالناس لأنه قد يستحق عليه بغصب أو وديعة أو إعارة وغير ذلك وإن لم يكن بينهما معاملة, فإذا لم يعد عليه سقط حقه, وأما ما ذكره فلا يصح لأنه مقابل بما ذكرناه أنه يؤدي إلى إسقاط الحقوق. ثم لا بد له في مجلس الحكم لأن عمر رضي الله عنه حضر عند زيد بن ثابت وعليا رضي الله عنه حضر عند شريح, وقال ابن سيرج: إذا كان من أهل الصيانات استدعاه الحاكم إلى داره [12/ 63 ب] وحكم بينه وبين خصمه فلا يحصل بذلك بذلة. مسألة: وينبغي للإمام أن يجعل مع رزق القاضي شيئاً لقراطيسه.

الفصل قد ذكرنا أنه ينبغي للإمام أن يجعل للحاكم رزقاً من بيت المال لأن منفعته مشغولة بمصالح المسلمين كالمرابطين وكارتزاق الخلفاء الراشدين على الخلافة لانقطاعهم بها عن المكاسب وهذا الرزق جعالة لا أجرة ومتى وجد الإمام متطوعاً بالقضاء لم يجز أن يعطي على القضاء رزقا والأولى إذا استغنى عن الرزق أن يتطوع بعمله لله تعالى التماس ثوابه, وإن استباح أخذه مع الحاجة والغنى ورزقه مقدر بالكفاية مع غير صرف ولا تقتير, وكذلك إنفاق أعوانه من كاتب وحاجب وقاسم وسجان. ويستحب أن يجعل له مع ذلك شيئاً يشترى به القراطيس التي تكتب فيها المحاضر والسجلات لأن ذلك من مصالح المسلمين وفيه تذكرة للحجج وحفظ لما عسى ينساه فهو كأجرة الكيال والوزان فإن لم يفعل الإمام ذلك, أو لم يكن في بيت المال شيء فإنه يكون على المحكوم له فإذا جاء بقرطاس كتب له الحاكم المحضر والسجل لأن الحق في ذلك فإن لم يفعل لم يكن عليه ولا يلزم الحاكم أن يبذل القرطاس من عنده وليس له إكراه [12/ 64 أ] المدعي على ذلك لأنه لوثيقة حقه فمن المحال إكراهه عليه, فإذا تقرر هذا قال في المختصر: فإن لم يفعل قال للطالب: إن شئت فآت بصحيفة يكتب فيها شهادة شاهديك وكتاب خصومتك ولا أكرهك ولا أقبل أن يشهد لك شاهد بلا كتاب فأنسى شهادته وذكر في " الأم" هذا الفصل وقال: يقول القاضي للطالب: إن شئت جئت بصحيفة بشهادة شاهديك وكتاب خصومتك وإلا لم أكرهك ولم أقبل منك أن يشهد عندي شاهد الساعة بلا كتاب وأنسى شهادته فاختلف أصحابنا في تأويل المسألة قال ابن العاص وغيره: قد قيل: معناه أن يكون لرجل على رجل حق مؤجل فأقام صاحب الحق أن يغيب فأقام الشهود على الذي عليه الحق لكي يحكم الحاكم عليه وقت حلول الحق لا يقبل الحاكم ذلك ولا يسمع الشهادة إلا بكتاب فيه ذكر الشهود عليه والشهادة ومبلغ الحق وأسماء الشهود لأنه قد ينسى ذلك الوقت وليس به إلا قبول الشهادة في الحال ضرورة لأنه ليس وقت الحكم, وقال بعض أصحابنا: صورة المسألة هذه ولكن قوله وأنسى شهادته من النسيان فكأنه قال: إن لم يكن كتاب بما سمعت من شهادتك أو حكمن لك ثم جئتني بعد ذلك تطالبني بإمضاء ما حكمت [12/ 64 ب] لك به والحكم بما سمعت من شهادتك لم أفعل إلا أن يكون كتاب في يدك أتذكر بع فإن قيل: لو شهد شاهد مع الكتاب والقاضي نسي شهادته لا يجوز أن يقبل فما معنى قوله بلا كتاب؟ قلنا: فائدة ذكر الكتاب الأمن من النسيان لأن الكتاب لو كان مكتوباً فالقاضي يطالبه والخصم يعرض عليه فكان لا ينسى فمعنى قوله: ولا أقبل أن يشهد لك شاهد بلا كتاب أي بلا ذكرى بسبب الكتاب فلما كان الكتاب سبب الذكر وضعه موضع الذكرى. قال القاضي الطبري: وهذا ليس بشيء لأن معنى قوله: وأنسى شهادته معناه: أؤخر شهادته ولهذا نقله المزني وأنسا بالألف لا بالياء على أنه من التأخير وليس من النسيان وقد بينه في " الأم" فقال: ولم أقبل منك إن شهد عندي شاهد الساعة بلا

كتاب وأنسا شهادته, ويدل على هذا أنه إذا نسي لم يحكم بالكتاب وإنما حكم بما يذكره فليس التأويل إلا الأول وهو ظاهر لمن تأمل كلام الشافعي رضي الله عنه في " الأم" ومن أصحابنا من قال: صورة المسألة أن الحاكم إذا حكم لرجل بشيء يقول للمحكوم له: ائتني بصحيفة لأكتب لك فيها ذلك فلا أنسى فإني إذا نسيت لا يفيد حكمي وليس معناه لا يحكم له حتى يأتي بالكاغد [12/ 65 أ] ولكن يقدم إليه العذر. فإن كان القاضي بحيث لا يمكنه حفظ شهادة شاهد إلى أن يشهد الآخر بل يلتبس عليه, وقال أبو حامد وأكثر أصحابنا: هذا هو الصحيح في الفقه, لأن الشافعي ذكر هذه المسألة في " الأم" على خلاف نقل المزني وقال: ائتني بالصحيفة لشهادة شاهدين يعني لأكتب فيها شهادة شاهديك فالمزني حرف ذلك ونقل: ائتني بصحيفة فيها شهادة شاهديك والصحيح هذا ومن تأمل كلامه في " الأم" عرف حقيقته, وقال في " الحاوي": اختلف أصحابنا في تأويله على وجهين أحدهما: يكتب فيه ما حكم له بالشهادة والثاني يكتب فيه الشهادة ليحكم بها فمن ذهب إلى التأويل الأول منع من سماع الشهادة قبل إنكار الخصم ومن ذهب إلى التأويل الثاني جوز سماع الشهادة قبل إنكار الخصم, فرع آخر إذا تعذر القاضي من بيت المال وأراد أن يرتزق من الخصوم فقد ذكرناه. وقال في " الحاوي": إن لم يقطعه النظر عن اكتساب المادة إما لغنائه بما يستجده وإما لقلة المحاكمات التي لا تمنعه من الاكتساب لم يجز أن يرتزق من الخصوم, وإن كان يقطعه النظر عن اكتساب المادة مع صدق الحاجة جاز له الارتزاق منهم [12/ 65 ب] بثمانية شروط أحدهما: أن يعلم به الخصمان قبل التحاكم إليه فإن لم يعلما إلا بعد التحاكم لم يجز أن يرتزق منهما والثاني: أن يكون رزقه على الطالب دون المطلوب والثالث: أن يكون عن إذن الإمام لتوجه الحق عليه ولا يجوز بغير إذن الإمام والرابع: أن لا يجد الإمام متطوعاً والخامس: أن يعجز الإمام عن دفع رزقه والسادس: أن يكون ما يرتزقه من الخصوم غير مؤثر عليهم ولا مضر لهم , والسابع: أن لا يستزيد على قدر حاجته, والثامن: أن يكون قدر المأخوذ مشهوراً يتساوى فيه جميع الخصوم وإن تفاضلوا في المطالبات لأنه يأخذه على زمان النظر فلم يعتبر بمقادير الحقوق فإن فاصل بينهم لم يجز إلا أن يتفاضلوا في الزمان. واعلم أن في مثل هذا معرة تدخل على جميع المسلمين ولئن جازت في الضرورات فواجب على الإمام وكافة المسلمين أن تزال مع الإمكان إما بأن يتطوع منهم بالقضاء

من يكون من أهله، وإما أن يقام لهذا بكفايته فيسقط رزقه على أهل البلد لأنه لما كان ولاية القضاء من فروض الكفايات كان رزق القاضي بمثابة ولايته. ولو اجتمع أهل البلد عند إعواز [12/ 66 أ] بيت المال على أن جعلوا للقاضي من أموالهم رزقاً داراً جاز وكان أولى من أن يأخذ من أعيان الخصوم فرع آخر قال في "الحاوي": إذا تحاكم الخصمان فلهما حالتان: إحداهما: أن يسألاه الكتابة، والثانية: أن لا يسألاه، فإن لم يسألاه إياها كان القاضي مندوباً إلى إثبات محاكمتهما في ديوانه مشروحة بما انفصلت عليه من إلزام أو إسقاط احتياطاً للمتحاكمين ووجوب ذلك معتبر بالحكم، فإن كان بما استوفى وقبض لم يجب عليه إثباته وكان ثابتاً مستظهراً، وإن كان فيما لم يقبض ولم يستوف، فإن كانت الحالة مشهورة لا تنسى مثلما لم يجب إثباتها إلا استظهاراً، وإن جاز أن ينسى مثلها وجب عليه إثباتها ليتذكر بخطه ما حكم وألزم لأنه كفيل بحفظ الحقوق على أهلها فالتزم بذلك ما يؤول إلى حفظها، وإن سأله الخصم أن يكتب له ما حكم به ليكون حجة بيده فالذي يكتب القاضي كتابان محضر وسجل، والمحضر حكاية الحال، والسجل حكاية المحضر مع زيادة إنفاذ الحكم به والذي يشتمل عليه المحضر من حكاية الحال يتضمن أربعة فصول صفة أحدها الدعوى بعد تسمية المدعى والمدعى عليه والثاني ما يعقبها من جواب المدعي عليه من الإقرار والإنكار، والثالث حكاية شهادة الشهود على وجهها، فإن حكي شهادة أحدهما: وأن الآخر شهد [12/ 66 ب] بمثل شهادته جاز بخلاف ما لو قاله الشاهد في أدائه ويكره في المحضر ذلك لمنعنا منه في الأداء، والرابع ذكر التاريخ في يوم من شهره وسنته، ولو ضم إليه ذكر ما أداه الشهود من تاريخ التحمل كان حسناً، وإن تركه قضاة زماننا، وأما السجل يتضمن ستة فصول: أحدها: تصديره بحكاية شهادة القاضي بجميع ما فيه، والثاني: حكاية جميع ما تضمنه المحضر من الفصول الأربعة، والثالث: حكاية إمهال القاضي المشهود عليه ليأتي بحجة الدفع فعجز ولم يأت، والرابع: إمضاء الحكم للمشهود له وإلزامه للمشهود عليه بعد مسألة الحاكم، والخامس: إشهاد القاضي على نفسه بما حكم، والسادس: تأريخ يوم الحكم ثم جعله نسختين وأشهد فيهما على نفسه وسلم أحدهما: إليه ووضع الآخر في ديوانه. فرع آخر في تسمية الشهود الذين حاكم بشهادتهم في المحضر والسجل قال أكثر أهل العراق: ترك تسميتهم أولى وهو أحوط للمشهود له واختاره الإصطخري، وقال أكثر

أهل الحجاز تسميتهم أولى وهو أحوط للمشهود عليه لعله يقدر على جرحهم اختاره ابن سريج. فرع آخر لو أن القاضي عدل عن كتب السجل إلى أن زاد في الخصمين إنفاذ حكمه وأمضاه بعد إمهال المشهود عليه بما يدفع به الشهادة قال: [12/ 67 أ] وأشهد على نفسه جاز. مسألة: فإن قبل الشهادة من غير محضر فلا بأس. قد ذكرنا هذه المسألة وذكر في "الأم" أن لا يقبل القاضي شهادة الشاهد إلا بمحضر من الخصم المشهود عليه، فإن قبلها بغير محضر فلا بأس ولا يختلف فيه أصحابنا ولكن إذا سمع الشهادة فإن كان الخصم غائباً أو متوارياً في البلد حكم عليه بلا خلاف، وإن كان حاضراً غير مستتر إذا دعاه أجابه قد ذكرنا في الحكم عليه وجهين: أحدهما: يحكم به وبه قال ابن شبرمة وأحمد وإسحاق، قال ابن شبرمة: أحكم عليه ولو كان وراء الجدار وهذا لأن البينة ثبتت، فإن كان له حجة تزيل بينتها سمعها وأنقض الحكم، والثاني وهو ظاهرة المذهب واختاره أبو إسحاق لا يحكم بها إلا بعد حضوره لأنه ربما كانت عنده حجة تزيل عن نفسه شهادة خصمه ولا ضرر في تأخير الحكم إلى وقت حضوره ويجوز تأخير الحكم مدة لا يلحقه الضرر كاليوم واليومين والثلاثة أكثره، فإن لم يأت بالحجة حكم عليه، فإن قيل: إذا كنت تسمع جرحه بعد الحكم فلا فائدة في تأخير الحكم من أجله قلنا: قال أبو إسحاق: فيه فائدة أنه إذا أتى بشهادة على فسق الشهود، فإن كان قبل الحكم لم يحكم بها وإن كان بعد الحكم لم ينقضه لجواز أن يكون حدث الفسق بعد الحكم، وقد ذكرنا عن القتال [12/ 67 ب] أنه قال: هل يسمع البينة من غير حضوره؟ فيه وجهان والصحيح ما ذكرنا أنه لا خلاف في جواز سماع البينة ولو كان غائباً عن الحكم حاضراً في مجلسه لا يجوز الحكم عليه إلا بعد حضوره وإعلامه بلا خلاف لأنه لا ضرورة، ذكره في "الحاوي" وقال مالك: يجوز القضاء على الغائب فيما ينقل ولا يجوز فيما لا ينقل من العقار حكاه صاحب "الحاوي"، ثم قال الشافعي: وينبغي إذا حضر أن يقرأ عليه ما شهدوا به عليه وينسخه أسماءهم وأنسابهم ويطرده جرحهم ثم إذا لم يأت به حكم عليه ومعنى قوله يطرده جرحهم أي يمهله الجرح إن أمكنه ذلك. مسألة: قال وإذا علم من رجل بإقراره أو تيقن أنه شهد عنده بزور عزره. أراد بتيقن سوى الإقرار، وجملته أن شهادة الزور من أكبر الكبائر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كالإشرال بالله قاله ثلاثاً ثم قوله تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ}

{وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} وروى خريم بن فاتك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أعدلت شهادة الزور بالاشتراك ثلاث مرات وتلا هذه الآية. فإذا ثبت عند الحاكم أن شاهداً شهد بزور عزره وأشهره [12/ 68 أ] وإنما يثبت على رجل بالقتل أو الزنا والحاكم يعلم أنه ما قتل ولا زنا إذ كذبته المشاهدة أن يشهد بقطع يد رجل ثم وجدنا يديه صحيحتين ونحو ذلك، وأما إذا شهد شاهدان أنه أقر بأنه شهد بزور لا يثبت بذلك شهادة الزور عليه لجواز أن يكونا كذبا كذبا في شهادتهما عليه، وإن قالا: نشهد أنه كاذب في شهادته لا يقبل لأنهما ينفيان أن يكون هذا الحق ثابتاً والشهادة على النفي تقبل ولا يؤثر هذا في القضاء بعد القضاء، ولكن لو أقيمت الشهادة بذلك قبل القضاء لم يقذ القاضي بتلك الشهادة فأما إذا كذبته المشاهدة فلابد من نقض الحكم بلا إشكال. والأصل في تعزيره إذا تحققنا منه بما ذكرنا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: يجلد شاهد الزور أربعين وروى ابن المنذر أن عمر رضي الله عنه جلد شاهد الزور أربعين سوطاً، وروي أنه أتى بشاهد زور فوقفه للناس يوماً إلى الليل يقول: هذا فلان شهد بزور فاعرفوه ثم حبسه، وروي أنه ظهر على شاهد زور فضربه أحد عشر سوطاً ثم قال: لا تأسروا الناس بشهود الزور فإنه لا نقبل من الشهود إلا العدل، وروي عن علي رضي الله عنه أنه كان إذا أخذ شاهد زور بعث به إلى عشيرته فقال: إن هذا شاهد زور فاعرفوه وعرفوه، ثم خلى سبيله لأنه أتى [12/ 68 ب] بكبيرة لا يجب فيها الحد فاستحق التعزير والأمر في التعزير عندنا مردود إلى اجتهاد الإمام، فإن رأى أن يضر به أقل من أقل الحدود وهو دون أربعين فغاية تعزيره تسعة وثلاثون سوطاً، وإن رأى أن يحبسه مع ذلك فعل، وإن رأى أن لا يضر به لأنه شيخ ضعيف ويحبسه فعل ذلك، وإن رأى أن ينادى عليه فقط فعل ذلك، وقال مالك رحمه الله: يجوز أن يزيد في تعزيره على أكثر الحدود وقال ابن أبي ليلى لا يبلغ بها المائة ويجوز ما دونها، وقال أبو يوسف: يجوز ما دون الثمانين. والأصل في تشهيره والنداء عليه ما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اذكروا الفاجر بما فيه لكي يعرفه الناس ". وروي: لكي يحذره الناس، ولأنه إذا شهره يجتنبه الناس ويحذروه وإذا لم يفعل ذلك ربما اغتروا به. وكيفية التشهير أن يبعث معه ثقة إلى المواضع التي يعرف فيها فإن كان من أهل الأسواق ففي سوقه، وإن كان من أهل المساجد ففي مسجده قال الشافعي رحمة الله عليه: وإن كان من أهل قبيله وقفه في قبيله، وإن كان من قبيله وقفه في قبيلته والفرق بين القبيلة والقبيل أن القبيلة بنو الأب الواحد والقبيل الأخلاط المجتمعون من آباء شتى فيقول المنادي: السلام عليكم هذا فلان ابن فلان [12/ 69 أ] قد عرفناه بشهادة الزور فاعرفوه، وحكي عن أبي حنيفة أنه قال: لا يعزر بل تكفي الشهرة، ذكره الطحاوي والمشهور أنه لا يعزر ولا يشهر ولا يجوز أن يزد على ما ذكرنا

فلا يسود وجهه ولا يحلق رأسه ولا ببلاءه بذلك على نفسه، وقال شريح: يجوز أن يفعل كل ذلك في شهرته، وروي أنه قال: يركب حماراً وينادي على نفسه هذا جزاء من شهد بالزور، وقال بعض العلماء: يحلق نصف رأسه، وقد روي عن عبد الملك بن يعلى قاضي البصرة أنه أمر بحلق نصف رأسه وتسخيم وجهه والطواف به في الأسواق والذي شهد له معه، ودليلنا أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن المثلة وهذه مثلة. فرع لو كان من ذوي الصيانات قال ابن أبي هريرة: يصان عن هذا النداء ويقتصر فيه على إشاعة أمره لقوله صلى الله عليه وسلم: "اقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم"، وقال غيره من أصحابنا لا فرق بين ذوي الصيانة وغيرهم لأن الصيانة قد خرج منها بزوره. فرع آخر إذا ظهر أنه شاهد زور يقضى بفسقه فلا تسمع له شهادة من أحد ما لم يتب، فإن تاب وأمسك حتى يستمر عليها ويتحقق صدق معتقده فيها تقبل شهادته. فرع آخر هل ينادى بعد توبته بقبول شهادته؟ فيه وجهان: أحدهما: ينادى بها كما نودي بفسقه والثاني: لا ينادى بها [12/ 69 ب] لأن ظهور التوبة بأفعاله أقوى ولأن في النداء بذلة. فرع آخر إذا شهد بالخطأ لم تكن شهادة زور ولكن يوبخ عليها لتسرعه إلى الشهادة قبل تحققها، فإن كثر ذلك منه ردت شهادته، وإن كان على عدالته بعد الثقة بها. فرع آخر لو شهد شاهدان بحق ثم بان أنهما كانا فاسقين ترد شهادتهما ولا يتصل بهما شيء مما ذكرنا لأنه لا يقطع على كذبهما، وإنما ردت شهادتهما للفسق لا للكذب. فرع آخر قد ذكرنا أنه ينبغي للقاضي إذا لم يثق بسلامة الشهود مما ذكرا أن يقدم وعظهم وتحذيرهم فقد كان شريح رحمه الله تعالى إذا حضره شاهدان للشهادة قال لهما: حضرتما ولم أستدعكما، وإن انصرفتما لم أمنعكما، وإن قلتما: سمعت فاتقيا الله فإني متق بكما. مسألة: قال: واختلف قوله في الخصم يقر عند القاضي فقال: فيها قولان:

الفصل اختلف قول الشافعي رضي الله عنه في القاضي إذا علم شيئاً ولم يشهد عنده به شهود هل يجوز أن يقضي بعلمه؟ فقال في أحد القولين: لا يجوز سواء كان في حقوق الله تعالى أو حقوق الآدميين وسواء علمه قبل القضاء أو بعده ولكن يكون شاهداً به يشهد غيره وقول الشافعي أحد القولين أنه كشاهد لم يرد به أن شاهداً آخر لو شهد عند القاضي صار الحاكم كالشاهد الثاني حين يقضي ولكن المراد به ما ذكرنا [12/ 70 أ] أنه عند قاض آخر كشاهد حتى لو شهد معه الشاهد الثاني قضى ذلك القاضي به وبه قال شريح والشعبي ومالك والأوزاعي وابن أبي ليلى وأحمد وإسحاق ومحمد بن الحسن وأبو عبيد. والقول الثاني: قاله في "الأم": يجوز أن يحكم بعلمه واختاره في كتاب "الرسالة" وهو اختيار المزني وبه قال أبو يوسف والربيع: وهو الصحيح، ولا فرق بين أن يعلم في ولايته أو في موضع عمله أو غيره وقال أبو حنيفة: إن علمه قبل ولايته يحكم، وكذلك إن علمه في غير موضع عمله، وإن كان في عمله بعد ولايته حكم به، وروي عن محمد مثله وروي عن ابن أبي ليلى أنه قال: يحكم بما علمه في مجلس قضائه ولا يحكم بما علمه في غيره ووجه القول الأول ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: في قصة الحضرمي والكندي شاهداك أو يمينه ليس لك منه إلا ذاك، وروي عن عمر رضي الله عنه: أنه تداعى عنده رجلان فقال له أحدهما: أنت شاهدي فقال: "إن شئت شهدت لك ولا أحكم، أو أحكم ولا أشهد". وروي أن عمر قال لعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما: أرأيت لو رأيت رجلاً قتل أو سرق أو زنا قال: شهادتك شهادة رجل من المسلمين قال: أصبت وسئل الشعبي عن رجل كانت عنده شهادة فجعل قاضياً فقال أتي شريح: في ذلك [12/ 70 ب] فقال: أنت الأمير. وأنا شاهداك وقال شريح: القضاء جمر فادفع الجمر عنك بعودين. ووجه القول الثاني ما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يمنعن أحدكم مخافة الناس إذا رأى الحق يقوم به ويعمل به قال أبو سعيد: وددت أني لم أسمع هذا الخبر من رسول الله صلى الله عليه وسلم وروي "لا يمنعن أحدكم هيبة الناس أن يقول الحق إذا رآه أو سمعه"، وروي أو علمه. وروي أنه قال: في خطبته ولا يمنعكم مخافة الناس من أنفسكم أن تقولوا بالحق إذا علمتم، وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا يمنعن أحدكم مخافة أن يتكلم بحق إن علمه فما زال البلاء حتى قصرنا، وروى سعد بن الأطول: أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم وترك عيالا فأردت أن أنفقها على عياله فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أخاك

محبوس بدين فاقض عنه" فقضى عنه فقال يا رسول الله: أديت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأته ليس لها ببنة فقال:" أعطها فإنها صادقة" وظاهره أنه حكم لها بعلمه وروى أبو بردة بن أبي موسى عن أبيه قال: كنت جالسا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه رجلان فقال أحدهما: يا رسول الله إن لي عند هذا بعيرا, وقال الآخر: ليس له عندي بعير فقال: استحلفه فحلف بالله [12/ 71 أ] الذي لا إله إلا هو وما له عندي بعير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كفر قولك لا إله إلا الله قم بأداء البعير فإنه عندك" وروى أبو داود بإسناده عن عمارة بن غزيه عن عمر " أن النبي صلى الله عليه وسلم المشي وأبطأ الأعرابي فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه الفرس ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتعاه فنادى الأعرابي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن كنت مبتاعاً هذا الفرس وإلا بعته فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي فقال: أو ليس قد ابتعته منك فقال الأعرابي: لا والله ما بعتك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد ابتعته منك فطفق الأعرابي يقول: هلم شهيدا فقال خزيمة: أشهد أنك بعته فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بم تشهد فقال: بتصديقك يا رسول الله. فجعل النبي صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة شهادة رجلين" ووجه الحديث عندنا أنه صلى الله عليه وسلم حكم على الأعرابي بعلمهما إذا كان صلى الله عليه وسلم صادقا بارا في قوله وجرت شهادة خزيمة في ذلك مجرى التوكيد لقوله والاستظهار بها على خصمه وغلط من قال: تجوز الشهادة لمن عرفت صدقة لهذا الخبر, وروي " أن البائع كان سوار بن الحارث المحارب فجحد [12/ 71 ب] فشهد به خزيمة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على الشهادة ولم تكن معنا حاضر؟ فقال يا رسول الله: صدقتك ما جئت به وعلمت أنك لا تقول إلا حقا فقال: من شهد له خزيمة أو شهد عليه فحسبه وروي " أن الأعرابي قال: إن شهد على خزيمة فأعطني الثمن فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خزيمة أنا لم استشهدك فكيف شهدت؟ قال: أنا أصدقك على خبر السماء ألا أصدقك على ذا الإعرابي فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين فلم يكن في الإسلام رجل تجوز شهادته شهادة رجلين غير خزيمة" وأيضا روي" عن زينب الأسدية قالت: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله إن أبي ترك جارية" فولدت ابناً وإنا نتهمها فقال: ائتوني به فلما أتوه نظر إليه وقال: إن الميراث

له وأما أنت فاحتجبي منه" وهذا حكم بعلمه واحتج المزني فقال:" قد قطع بأن سماعه الإقرار منه أثبت من الشهادة وصرح في كتاب الرسالة قال: أقضي بعلمي وهو أقوى من شاهدين" لأن العلم به مقطوع والشهادة ظن فكان الحكم بعلمه أولى, وقال الربيع: كان الشافعي رضي الله عنه يعتقد جواز القضاء بعلمه ولكن كان لا يبوح به مخافة قضاة السوء فالمسألة على قول واحد أنه يجوز القضاء بعلمه وأما خبر الحضرمي [12/ 72 أ] فلا حجة فيه لهم لأنه لم يكن معه علم الحاكم وجوز النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون معه شاهدان, وأما خبر عمر فغير مشهور فالقياس يقدم عليه واعلم أن الشافعي رضي الله عنه قال: في كتاب الرسالة أقضي بعلمي وهو أقوى من شاهدين وشاهد والمرأتان وهو أقوى من شاهد ويمين وهو أقوى من النكول ورد اليمين ولا إشكال في قوله أقوى من شاهد وامرأتين لأن الطلاق والنكاح لا يثبت بشاهد وامرأتين والشاهد والمرأتان أقوى من شاهد ويمين لأن الإجماع أقوى من الخلاف والإشكال في قوله والشاهد واليمين أقوى من النكول ورود اليمين ولموضع الإشكال أن الشاهد واليمين بينة مختصة بالأموال والنكول ورد اليمين بينة جارية في الدماء والفروج وجميع الأحكام بين الآدميين فكيف جهل الشافعي الشاهد واليمين؟ والجواب: لعل الشافعي أراد بقوله أقوى من النكول ورد اليمين في علم القاضي فإنه يغلب على قلبه فوق العلم الذي ثبت له بالنكول ورد اليمين وذلك أن شهادة العدل الواحد فوق نكول الناكل قد ينكل لكونه ظالماً وقد يخرج عن اليمين وهو صادق فصار شهادة العدل مع يمين الطالب فوق نكول الخصم مع يمين الطالب في التغليب على قلب الحاكم, فأما في الفوائد التي تستفاد من البينات فالنكول ورد اليمين أقوى [12/ 72 ب] من الشاهد واليمين أو نقول: هو أقوى في النفس من ورد اليمين لأنها أتت من غير جهة المدعي واليمين بعد النكول بينه من جهة المدعي. فرع آخر إذا قلنا لا يحكم بعلمه فأقر عنده الخصم لم يجز أن يحكم إلا أن يشهد بإقراره شاهدان ليصير حاكماً لا بعلمه وينبغي أن يكون في مجلس حكمه شاهدان عادلان على القول حتى لا يحتاج إلى القضاء بالعلم به قال مالك: وقال بعض أصحابنا: لا يعتبر ذلك ويجوز أن يقضي هنا قولاً واحدا لأنه يحكم بالإقرار وليس يحكم بالعلم قال في " الحاوي": وأكثر أصحابنا على هذا وقال بعض أصحابنا بخراسان: هذا "إذا أقر في مجلس الحكم وقضى عليه في ذلك المجلس وقال: هو قضاء بالحجة فيجوز قولاً واحداً فإن فارق مجلسه ثم عاد فأراد أن يقضي أو أقر في غير المجلس ففيه قولان.

فرع آخر قال بعض أصحابنا بخراسان: إذا كان مع علمه شاهد واحد هل يقضي ويعد نفسه شاهد آخر , فيه وجهان: أحدهما: يقضي وبه قال شريح, والثاني: لا يقضي بعلمه يدع الحكم بعلم نفسه وإذا شهد عنده شاهدان بالنكاح والقاضي يعرف بين الزوجين رضاعاً لا يقضي بصحة النكاح, ولو قضى يكون عاصياً ولا يصح قضاؤه وكذلك لو شهد بقتل رجل وهو يعرف يقيناً بقاء ذلك الرجل لا يقضي ونحو ذلك كبير وقال في "الحاوي": لو شهد عنده شاهدان بما يعلم خلافه لم يجز أن يحكم بعلمه [12/ 73 أ] وهل يجوز حكمه بالشهادة؟ فيه وجهان: أحدهما: يحكم بها لأن الشهادة هي المعتبرة في حكمه دون علمه والثاني لا يحكم بها. وهو الأصح لأنه يتحقق كذبهما. فرع آخر لو ذكر القاضي أن بينة قامت عنده بصدقة على ما ذكر منها ويجوز له أن يحكم بها على القولين لأنه حاكم بالبينة دون العلم. فرع آخر إذا قلنا: يحكم بعلمه يقول القاضي للمنكر علمت أن له عليك ما ادعاه وحكمت عليك بعلمي فإن اقتصر على أحد هذين وأغفل الآخر لم ينفذ حكمه ذكره في" الحاوي" فرع آخر إذا قلنا: لا يقتضي بعلمه في الأموال ففي حدود الله تعالى أولى وإذا قلنا: يحكم بعلمه هناك ففي حدود الله تعالى هل يجوز أن يقضي بعلمه؟ قال الشافعي رضيا الله عنه: يحتمل أن تكون حقوق الآدميين ويحتمل أن يفرق بينهما لأن من أقر بشيء للناس ثم رجع لم يقبل رجوعه ومن أقر لله تعالى ثم رجع قبل رجوعه فخرجه على قولين: على هذا القول وقد روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال: لو رأيت رجلاً على حد لم أحده حتى تقوم البينة عندي ولأن الحد مأمور بالستر عليه والخصم في الحدود الحاكم فلا يحكم فيما بعلمه. فرع آخر إذا قلنا: يحكم بإقراره في مجلس حكمه ولا يكون حاكماً بعلمه بل يكون حكماً بحجته فأقر في مجلس حكمه بحد الله تعالى حكم عليه بالحد من غير شهادة أيضاً فرع آخر لو حكم خصمان رجلاً من الرعية [12/ 73 ب] ليقضي بينهما جاز لما روي أن عمر بن الخطاب وأبي بن كعب رضي الله عنهما تحاكما إلى زيد بن ثابت, وروي أن

عثمان وعبد الرحمن بن عوف تحاكما إلى خبير بن مطعم رضي الله عنهم فإن قيل: كان عمر رضي الله عنه إماماً فإذا تحاكم إلى زيد صار زيد حاكماً قلنا: لم ينقل أكثر من الرضا بحكمه وهذا لا يصير حاكماً. وروي أن عليا رضي الله عنه حكم في الإمامة ففيما عداها أولى وهكذا حكم أهل الشورى في الإمامة عبد الرحمن بن عوف فرع آخر التحاكم يجوز سواء كان في البلد حاكم أو لا لأنه إذا جاز أن يوليا عند عدم الحاكم جاز مع وجود الحاكم كالإمام يجوز أن يولي رجلاً حاكماً وإن كان في البلد حاكم. فرع آخر قال ابن أبي أحمد في أدب القضاء إذا تحاكما إليه فأيهما أراد الرجوع عن ذلك رجع مالم يقض بينهما, فإذا قضى وأبرم الحكم قال الشافعي رضي الله عنه فيه قولان: أحدهما: أن ذلك لازم ولا يرد إلا ما يرد من قضاء قاض غيره وبه قال أبو حنيفة وأحمد لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من حكم بين اثنين تراضياً له فلم يعدل بينهما فهو ملعون. ولولا أنحكمه يلزمها لم يلزمه بترك العدل ولأنهما إلى من لم يتراضيا بحكمه جاز ولزم فلئن يلزم بتراضيهما أولى ولأنهما رضيا بحكمه ونظره فحكمه محل الإمام الذي رضوا بحكمه وأمانته والثاني [12/ 74 أ] أنه كالفتيا يعني لهما فلا ينفذ حكمه عليهما إلا أن يترضيا به بعد الحكم لأن الحكم إنما يلزم ممن له ولاية والولاية لمن ولاه الإمام لأنه يلي على الأيتام ويزوج ألأيامي وهذا لا ولاية له فلا يلزم حكمه إلا بالتراضي قال ابن سريج: وهذا أشبه بقوله: لأنه قال في القاسم بالتراضي لا يلزم القسمة ألا أن يتراضيا عليه بعد القسمة وهذا اختيار المزني والأول أصح عندي خاصة في زماننا هذا وبه قال أكثر الفقهاء وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" إذا كنتم ثلاثة فأمروا عليكم واحداً" فصار بتأمرهم له نافذ الأمر عليهم وروى شريح عن أبيه هانئ أنه " وفد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى المدينة فكانوا يكنونه بأبي الحكم فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن الله هو الحكم وإليه الحكم فلا تكني أبا الحكم فقال: إن قومي إذا اختلفوا في شيء أتوني فحكمت بينهم فرضي بهذا الفريقان فقال صلى الله عليه وسلم: حسن هذا فما لك من الولد فقال لي شريح ومسلم وعبد الله , قال فمن أكبرهم؟ قال قلت: شريح قال: وأنت أبو شريح"

فرع آخر إذا قلنا بالقول الأول فلو شرع المحكم في الحكم فأراد أن يمتنع فهل له ذلك؟ فيه وجهان: ذكرهما الإصطخري أحدهما: له ذلك لأنه إنما يلزم بالتراضي حال الحكم ولم يؤكد ذلك, والثاني ليس له ذلك لو جوزنا ذلك لم يلزم بحال [12/ 74 ب] لأنه كلما هم بالحكم يمتنع المحكوم عليه. فرع آخر لا يجوز لقاضي البلد أن يرد من حكمه إلا ما يرد من حكم غيره, وقال أبو حنيفة رحمه الله: له أن يفسخ إّا خالف رأيه , وإن لم يخالف الإجماع لأن هذا عقد في حق الحاكم فكان له فسخه كالعقد الموقوف يجوز أن يفسخه من وقع في حقه وهذا لا يصح لأن هذا الحكم قد صح ولزم فلا يفسخ بمخالفة رأيه كسائر الأحكام وأما ما ذكره فلا يصح لأنه لازم للخصمين فكيف يكون موقوتاً ولا سليم الوقف في العقود. ولو كان كما قاله لكان له إمضاءه إذا خالف رأيه فرع آخر إذا حكم بينهما به في المجلس الذي حكم فيه قبل التفرق لأن قوله لا يقبل عليهما بعد الافتراق كما لا يقبل قول الحاكم بعد العزل. فرع آخر لو تعدى الحكم إلى غيرهما وكان منفصلاً عن الحكم ولا يتصل به إلا عن سبب موجب كبينة شهدت بالدين وأن فلانً ضامنه يلزم حكمه في الدين دون الضمان لأن الرضي لم يوجد ممن عليه الضمان. فرع آخر لو كان متصلاً بالحكم ولا ينفصل عنه إلا بسبب موجب مثل إن تحاكما إليه في قتل خطأ فقامت به البينة ففي وجوب الدية على العاقة التي لم ترض بحكمة وجهان: أحدهما: يجب عليهم بهذا الحكم إذا قلنا تجب الدية على الجاني ثن تتحملها العاقلة والثاني لا تجب على العاقلة الدية لأنهم [12/ 75 أ] لم يرضوا بحكمه إذا قلنا تجب الدية ابتداء بين العاقلة. فرع آخر يجب أن يكون الحاكم من أهل الاجتهاد بحيث يجوز قضاءه فإن كان لا يصلح للقضاء فهو مصلح لا لاحاكم فلا يلزمهما قوله قولاً واحداً فرع آخر التحكيم لا يجوز إلا في أحكام مخصوصة والأحكام ثلاثة أقسام: قسم يجوز فيه التحكيم وهو حقوق الأموال وما يصح العفو منه والإبراء وقسم لا يجوز فيه التحكيم

وهو ما اختص القضاة بالإخبار عنه من حقوق الله تعالى والولايات عن الأيتام والحجر على المبذر وقسم مختلف فيه وهو أربعة أقسام: النكاح واللعان والقذف والقصاص فيها وجهان: أحدهما: يجوز التحكيم فيها لوقوفها على رضا المتحاكمين، والثاني لا يجوز لأنها حقوق تختص الولاة بها وحكمها آكد والأول أظهر وبه قال أكثر أصحابنا. فرع آخر لو أن امرأة لا ولي لها فتحاكمت مع رجل غلى رجل ليزوجها منه فإن كانا في دار الحرب أو في بادية لا يصلان إلى حاكم جاز، وإن كانا في دار الإسلام يقدران على الحاكم جاز في أحد القولين وهو اختيار أبي طاهر الزيادي وأبي إسحاق الإسفرايني وعملائه وأنا على هذه الفتوى خاصة في زماننا هذا، وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا يجوز في الحدود والقصاص وجهاً واحداً وفي اللعان وجهان، وكذلك في النكاح. فرع آخر لو رضي المتنازعان بتحكيم اثنين لم ينفذ [12/ 75 ب] ذلك فإذا أذن له يجوز أن يستخلف قل عمله أو كثر إلا أنه إن قل عمله يتخير في الاستخلاف، وإن كثر عمله يجب عليه الاستخلاف، ويجوز له أن يولي من شاء في بلد ولايته وقراه وأطرافه والمستحب أن لا يدع طرفاً من ولايته قد جرت العادة فيه بأن يكون هناك خليفة كيلا تبعد على الناس المسافة ولا يشق والأولى إذا ولي قضاء مصر كبير أن يقضي هو في المصر ويستخلف على السواد لأنه تبع فاختص بالتابع، وإن كانا مصرين كالكوفة والبصرة كان بالخيار في أن يقضي في أيهما شاء ويستخلف في أيهما شاء. فرع القاضي في بلدين إذا حكم في أحدهما: واستخلف خليفة في البلدة الأخرى أن ينتقل إلى بلد خليفته وينفذ خليفته غلى بلده إلا أن يكون الإمام عين له الحكم في إحداهما والاستخلاف على الآخر فلا يجوز أن يعدل عما عين له وتكون ولايته على البلد الآخر مقصورة على اختيار الناظر فيه دون الحكم. فرع أخر لو تنازع خصمان فيه وفي خليفته فإن كان القاضي في يوم التنازع ناظراً فالداعي إليه أولى، وإن كان خليفته ناظراً، والقاضي فيه تاركاً فالداعي غلى خليفته أولى لأنه أعجل. فرع أخر لو جعل له الإمام على القضاء رزقاً فإن سمي له اختص به، وإن سمي للقضاء شاركه فيه خلفاءه بحسب كفاياتهم في النظر وكثرة العمل، فإن عزل من استخلف وقام بعمله جاز [12/ 76 أ] أن يأخذ رزقه، وإن لم يقم به لم يجز أن يأخذه. فرع أخر لو نهاه الإمام عن الاستخلاف لا يجوز له ذلك سواء قل عمله أو كثر، وإن

استخلف فلا ولاية لخليفته فإن حكم بين خصمين ترافعا إليه كان كالمحكم من الرعايا. فرع آخر إذا كثر عمله لزمه إعلام الإمام بعجزه عن النظر لتخير الإمام بين أن يأذن له بالاستخلاف أو يصرفه عما لا يمكنه القيام بنفسه، ولا يجوز للإمام بعد علمه أن يتركه على حاله وأولى الأمرين بالإمام أن يصرفه عن الزيادة ليكون هو المتولي للاختيار فيكون عن ثقة من نفسه فإن لم يعلم الإمام أو أعلمه فلم يأذن له في أحد الأمرين فكثرة عمله على ضربين: أحدهما: أن يكون مصراً كثير السواد كالبصرة فيختص نظره بالبعد اعتباراً بالعرف وله أن يحكم بين أهل السواد إذا قدموا عليه، فإن استعدى إليه على رجل من أهل السواد فإن كان على أقل من مسافة يوم وليلة لزمه إحضاره، وإن كان على مسافة القصر وأكثر ففي وجوب إحضاره قد ذكرنا وجهين، والضرب الثاني أن يكون عمله مشتملاً على مصرين متباعدين كالبصرة وبغداد يتخير في النظر في أيهما شاء، فإذا نظر في أحدهما: هل ينعزل عن الآخر؟ قال صاحب "الحاوي ": يحتمل وجهين: أحدهما: أنه انعزل عنه لتعذر حكمه فيه بالعجز عما لو تعذر بآفة والثاني لا ينعزل عنه ويكون باقي الولاية عليه لصحة الولاية عليهما [12/ 76 ب] مع العجز عنهما فعلى هذا يجوز أن ينتقل من أحدهما إلى الآخر وعلى الوجه الأول لا يجوز له ذلك. فرع آخر لو أطلق الولاية ولم يأذن له في الاستخلاف ولا نهى عنه فإن كان الذي ولاه إياه مما يمكنه القيام في جميعه بنفسه فالمذهب أنه يجوز له الاستخلاف في شيء منه لأنه رضي باجتهاده دون غيره فهو كالوكيل لا يوكل، وبه قال جمهور أصحابنا، وقال الإصطخري: له الاستخلاف اعتباراً بعموم ولايته ولأن الإمام يولي القضاء للمسلمين لا لنفسه ولهذا لا يجوز له عزله فلا يقف استخلافه على إذنه والأول أصح. ولا نسلم بل له عزله من غير فسق ذكره ابن خيران وجماعة، وقال بعض أصحابنا بخراسان: فيه وجهان ولا معنى لهذا فإن المذهب المنصوص ما ذكرنا. وإن كان الذي ولاه مما لا يمكنه القيام فيه بنفسه يجوز له أن يستخلف على القدر الذي لا يمكنه القيام فيه بنفسه لأن مثل هذا التقليد يتضمن الإذن في الاستخلاف ضرورة، كما لو دفع ثوباً إلى بزاز ليبيعه يتضمن الإذن في أن يدفعه إلى من ينادي عليه، وأما القدر الذي يمكنه القيام فيه بنفسه هل يجوز له أن يستخلف فيه؟ اختلف أصحابنا فيه على وجهين: أحدهما: يجوز له لما جاز الاستخلاف في البعض جاز في الكل، والثاني لا يجوز وهو الأصح لأنه لا ضرورة في ذلك.

فرع آخر إذا قلنا بالوجه الأول أنه يجوز له الاستخلاف [12/ 77 أ] في الكل لأن العرف فيه كالإذن ينظر، فإن استخلف فيما يدور على مباشرته جاز له أن يعزل خليفته مع بقائه على سلامته وإن استخلف فيما لا يقدر على مباشرته ففي جواز عزله مع بقائه على سلامته وجهان أحدهما: يجوز لنيابته عنه كالوكيل، والثاني: لا يجوز لأنه نائب عنه في حقوق المسلمين ذكره في "الحاوي "وقال أيضاً في الخلافة ثلاثة أوجه: أحدهما: ليس له أن يستخلف قل عمله أو كثر وهو اختيار ابن خيران وذكره القفال، والثاني: وهو قول الإصطخري له ذلك بكل حال، والثالث: وهو قول الجمهور يعتبر بعمله فإن قل وقدر على مباشرته بنفسه يجوز ثم في أي قدر يجوز وجهان على ما ذكرنا. فرع آخر إذا جوزنا الاستخلاف فحكم الخليفة نافذ، وعلى الحاكم المولى إمضاء ذلك، وإن خرج المولى من موضع ولايته فحكم خليفته نافذ، وإن كان حكم الأصل لا ينفذ بمفارقته تلك الولاية. فرع آخر إذا لم يجز الاستخلاف فاستخلف وحكم الخليفة قال الشافعي رضي الله عنه في "الأم ": فمن رأى أنه لا يجوز إلا بأمر، وإن لم ينبغ للقاضي أن ينفذ حكم ذلك القاضي الذي استقضاه ولم يجعل إليه، وإن أنفذه كان تنفيذه باطلاً إلا أن يكون إنفاذه إياه على استئناف حكم بين الخصمين إلى مسالة القولين في رجل تحاكم إليه وتراضيا بحكمه [12/ 77 ب] فحكم بينهما هل يلزم حكمه بنفس الحكم أو لا يلزم غلا بعد أن يتراضيا به؟ فقولان فكذلك هذا المولى في حكم من لم يول فيجئ القولان فيه ولما رأى الإصطخري تعليق الإمام الشافعي رضي الله عنه في "الأم "على ما ذكرنا اجتهد فيه وذكر ما حكيناه عنه. مسألة: قال: ولو عزل فقال كنت قضيت لفلان على فلان لم يقبل. الفصل قد ذكرنا أن القاضي إذا قال في حال الولاية: حكمت لفلان بكذا يقبل لأنه يملك الإنشاء فيملك الإقرار به سواء قال: قضيت عليه بشهادة عدلين رجلين أو قال: سمعت بينته وثبت عندي عدالتهم أو خلفت المدعى عليه أو أقر عندي لفلان بكذا فحكمت به وبه قال أبو حنيفة وأبو يوسف واحمد، وروى ابن سماعة عن محمد أنه قال: لا يقبل حتى يشهد معه رجل عدل وبه قال مالك، واحتج بأنه لما يكن له أن يحكم على

المنكر إلا بالشهادة لم يقبل قوله على المنكر إلا بالشهادة. وأيضاً روي أن رجلاً سب أبا بكر الصديق رضي الله عنه فقال أبو بردة: دعني أقوم إليه وأقتله، فقال له أبو بكر: لو أمرتك بهذا أكنت فاعله؟ قال: نعم، قال: فما كان هذا لأحد بعد رسول الله صل الله عليه وسلم ". ودليلنا ما ذكرنا ويفارق هذا الشهادة لأن للحاكم ولاية وليس للشاهد ولاية، وأما الخبر أراد به أنه لا يقتل عن سب [12/ 78 أ] أحد إلا من سب رسول الله صل الله عليه وسلم ولم يرد به أن قبول القول يكون للنبي صل الله عليه وسلم خاصة دون غيره. وإن أخبر به بعد العزل لا يقبل حتى يأتي المقضي له بشاهدين على أنه حكم له قبل أن يعزل لأنه بعد العزل بمنزلة واحد من الرعية ولا يقبل شهادته مع غيره أيضاً لأنه يشهد على فعل نفسه، وقال أحمد: يقبل قوله لأن عزله لا يمنع قبول قوله كما لو كتب كتاباً إلى غيره ثم عزل وهذا لا يصح لما ذكرنا، وأما الكتاب فإنما يقبل عندنا بشهادة شاهدين ويقبل حكمه أيضاً بمثل ذلك. فرع لو قال بعد العزل لحاكم آخر: أشهد أن فلاناً أقر في مجلس حكمي بكذا تقبل شهادته على الإقرار لا على الحكم، ولو قال: أشهد أن حاكماً عدلاً حكم عليه بكذا ففيه وجهان: أحدهما: يقبل لأنه لم يضف الحكم إلى نفسه والظاهر أنه أراد غيره، والثاني لا يقبل لأنه يحتمل أن يريد حكم نفسه ويحتمل أن يريد حكم غيره فلا يقبل مع الشك حتى يتيقن. فرع آخر لو حكم بعد العزل وهو لا يعلم أنه معزول قال في "الإفصاح "فيه قولان: كما نقول في تصرف الوكيل بعد العزل وقبل العلم فيه قولان، وقال ابن أبي هريرة في المسألتين وجهان بناءً على اختلاف القولين في الفسخ هل يلزم حكمه قبل العلم؟ وقال القفال: قال بعض أصحابنا: هنا قولاً واحداً ينفذ حكمه بخلاف الوكيل، لأن فيه ضرراً بالناس لنقض الأحكام الماضية [12/ 78 ب] وربما يشكل التاريخ وهذا اختيار الإمام أبي زيد المروزي، ولهذا لا يوجب موت الإمام عزله وهذا لأنه ناظر في حق غير المولي والوكيل ناظر في حق الموكل، وقال صاحب "الإفصاح ": ينعزل في الحال قولاً واحداً إذا قال في الكتاب: أما بعد فأنت معزول فإن قال: إذا أتاك كتابي فأنت معزول فلا شك أنه لا ينعزل ما لم يبلغه الكتاب وكذلك إذا قال: إذا قرأت كتابي فما لم يقرأ لا ينعزل، وإذا قرأ بنفسه أو قرئ عليه أو أخبر به انعزل لأن القصد في مثل هذا العلم بخلاف الطلاق فإنه تعلق بالإخطار فيجوز أن يعلق بصفته وهي القراءة بنفسها. فرع آخر إذا أراد الإمام عزل القاضي فأدى إليه اجتهاده إما لظهور ضعفه أو لوجود من هو أكفأ منه جاز، وإن لم يؤد اجتهاده إلى عزله لاستقلاله بالنظر في علمه على الاستقامة لم يكن له أن يعزله ولكن إن عزله انعزل، وإن كان الاجتهاد بخلافه لأن عزله حكم فلا

يراد إذا لم يخالف نعتاً أو إجماعاً، وإذا عزله ينعزل بعزله جميع خلفائه ولا ينعزل من ولاه على الأيتام والأوقاف لنظرهم في حق غيره. فرع آخر العزل يكون بالقول: فإن قلد غيره واقترن بتقليده شواهد العزل كان تقليد غيره عزلاً له وإن لم يقترن به شواهد العزل [12/ 79 أ] كان الثاني مشاركاً للأول في نظره. فرع آخر لو أراد أن يعزل نفسه فإن كان لعذر جاز له الاعتزال، وإن كان لغير عذر منع، وإن لم يخير عليه ولا يجوز أن يعتزل إلا بعد إعلام الإمام واستعفائه لأنه موكول بعمل يحرم عليه إضاعته وعلى الإمام أن يعفيه إذا وجد غيره حتى لا يخلو العمل من ناظر، فإن أعفاه قبل ارتياد غيره جاز إن كان لا يتعذر ولم يجز إن تعذر. فرع آخر قال في "الحاوي ": لا يكون قوله: عزلت نفسي عزلاً لأن العزل يكون من المولي وهو لا يجوز أن يولي نفسه فلم يجز أن يعزل نفسه وإنما له أن يستعفي فيعفى. فرع آخر قد ذكرنا أن موت الإمام لا يبطل ولاية القضاة لأنه استنابة في حق المسلمين لا في حق نفسه، وروي "أن رسول الله صل الله عليه وسلم قلد عتاب بن اسيد قضاء مكة فلما توفي اختبا عتاب وامتنع من القضاء فأظهره سهيل بن عمرو، وقال: إن يكن رسول الله صل الله عليه وسلم مات فإن المسلمون باقون فعاد عتاب إلى نظره ولم ينكره أحد من الصحابة "فصار إجماعاً. فرع آخر قد ذكرنا أن القاضي إذا مات يبطل بموته ولايات خلفائه لأنه خاص النظر خاص العمل [12/ 79 ب] لأنه يفارق الإمام لأن القاضي إذا مات يقدر الإمام على استدراك الأمر في الحال بتقليد غيره، ولو كان قاضي القضاة العام الولاية في جميع الأمصار فهو عام العمل خاص النظر فعموم عمله أنه والٍ على البلاد كلها وخصوص نظره أنه مقصور على القضاء دون غيره فشابه الإمام من وجه فهل تنعزل القضاة بموته؟ فيه وجهان: أحدهما: لا تنعزل لعموم عمله، والثاني تنعزل لخصوص نظره. فرع آخر لو حدث فيه عجز فهو على ثلاثة اضرب: أحدها: ما يمنع التقليد كالعمى والخرس فقد انعزل لحدوثه فيه، والثاني: ما لا يمنع من التقليد كالزمانة فلا ينعزل بها، والثالث: المرض فإن أعجزه عن النهضة ولم يعجزه

عن الحكم لم ينعزل به، وإن أعجزه عن النهضة والحكم فإن كان مرجو الزوال لم ينعزل به، وإن لم يكن مرجو الزوال انعزل به. فرع آخر لو حدث الفسق في الإمام الأعظم كان كموته لأنه ينعزل بالفسق في الظاهر، وإن حدث في القاضي فإن استدامه مصراً عليه انعزل به، وإن عجل الإقلاع عنه فإن كان عن غير ندم وتوبة انعزل وإن كان عن ندم وتوبة فإن كان فسقه ظهر قبل التوبة انعزل به، وإن لم يظهر حتى تاب منه [12/ 80 أ] لم ينعزل به لانتفاء العصمة عنه، وإن هفوات ذوي الهيئات مقالة وقل من يسلم منها إلا من عصم الله ذكره في "الحاوي "وسائر أصحابنا أطلقوا أنه ينعزل بالفسق. فرع آخر إذا انعزل بالفسق فحكم في حال عزله فإن كان إلزاماً بإقرار صح، وإن كان حكماً بشهادة بطل. فرع آخر إذا انعزل به يلزمه أن يمتنع عن الحكم وينهي حاله إلى من ولاه ليقلد غيره ولا يغتر به الناس. فرع آخر إذا لزمه أنها حالة فهو مخير بين أمرين: أحدهما: أن يظهر الاستعفاء ويكتم حاله ليكون حافظاً لستره وهو أولاهما، والثاني: أن يخبر ما به وسبب انعزاله وإن كره له هتك ستره للخبر عن رسول الله صل الله عليه وسلم "من أتى منكم من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله "ويخرج بكل واحد منهما عن مأثم الإمساك عن الحكم. فرع آخر إذا تمم الحكم قبل موته وعزله فهو على نفاذه، وإن شرع فيه ثم عزل فإن كان مما لا يجوز أن يعاد ولا يجوز أن يراد مثل حد القذف إذا عزل بعد استيفاء بعضه، أو اللعان إذا عزل بعد لعانه قبل لعانها أو بعد بعض لعانه كالمتحالفين إذا حلف أحدهما: وكالأيمان والقسامة إذا حلف بعضها ثم عزل يجوز للقاضي الثاني أن يبني على فعل الأول ولا يلزمه استئنافه، وهذا البناء معتبر بتصادق الخصمين أو بقيام البينة [12/ 80 ب] إن تعاونا. فرع آخر لو حكم بفسخ النكاح بإعسار الزوج ولم يفسخ النكاح حتى عزل فليس للثاني فسخه

بحكم الأول بإعساره حتى يستأنف الحكم وكذلك لو حكم ببيع مال المفلس ثم عزل قبل بيعه لم يكن للثاني بيعه حتى يستأنف الحكم، وكذلك لو أذن لولي يقيم في بيع ماله في مصالحه فلم يبعه حتى عزل منع حتى ياذن الثاني، وكذلك لو حكم بشفعة الجوار ولم يسلط الشفيع على الأخذ حتى عزل فليس للثاني تسليطه بحكم الأول حتى يستأنف الحكم بالشفعة والتسليط. فرع آخر لو عزل القاضي بعد سماع البينة فإن سمعها ولم يحكم بقبولها حتى عزل يستأنف الثاني الشهادة، فإن قيل أفليس يجوز للقاضي أن يكتب بسماع البينة في الغائب فكذلك هنا؟ فلنا: الفرق أن الغائب لا يقدر على سماع بينة وهنا القاضي الثاني كالأول قادر على سماع البينة فيلزمه سماعها، وإن حكم بقبولها وألزم الحق الذي تضمنها فعلى القاضي الثاني إذا شهد الأول على نفسه بالإلزام أن يبني على حكم الأول في تنفيذ الإلزام، وإن عزل بعد الحكم بقبولها وقبل الحكم بإلزام ما تضمنها فلا يخلو حال من شهد عنده من أن يكونوا أحياء أو موتى، فإن كانوا أحياء لم يجز للثاني البناء حتى يستأنف سماع الشهادة والحكم لأن القدرة على شهود الأصل تمنع الحكم [12/ 71 أ] بشهود الفرع، وإن كانوا موتى أو مفقودين جاز للثاني أن يبني على حكم الأول فيحكم بإلزام حكم الأول بالقبول لأن تعذر القدرة على شهود الأصل يبيح الحكم بشهود الفرع. فرع آخر قال في "الحاوي ": الكلام في القاضي في أربعة فصول في ولايته وفي عزله وفي حكمه وفي قوله فأما الفصل الأول وهو الولاية فهي معتبرة بما تضمنه عهده من حدود العمل في صفة النظر من عموم أو خصوص وعلى الإمام فيه حق، وعلى القاضي فيه حق فأما ما على الإمام من حق فثلاثة أشياء: أحدها: تقوية يده حتى لا يعجز عن استيفاء حق ودفع ظلم. والثاني: مراعاة عمل حتى لا يتخطاه إلى غيره ولا يخل ببعضه. والثالث: مراعاة أحكامه وأن تجري على السداد من غير تجاوز ولا تقصير ولذلك اخترنا للإمام أن يثبت نسخة العهد في ديوانه لتعتبر أفعاله بما تضمنها وما يلزمه من مراعاته في مبادئ نظره أكثر مما يلزمه فيما بعد، وإن لم يجز أن يخل بمراعاته في حال من الأحوال، فإن شق ذلك عليه ندب له من يراعيه وينهي غليه ما يجري فيه، ولذلك قلد الإمام قاضي القضاة ليكون نائباً عنه في مراعاة القضاء، وأما ما على القاضي من الحق فثلاثة أشياء: أحدها: أن يعمل بما تضمنه عهده من عمل ونظر من

غير مجاوزة وتقصير ولذلك أمر بقراءة عهده على أهل عمله ليعلموا منه ما غليه وما ليس إليه والأولى أن يكون معه قراءة [12/ 81 ب] عهده شاهدان قد شهدا على ما تضمنه ليشهدا به عند أهل عمله حتى يلتزموا طاعته فإن لم يكن الشهود فما قرن بقراءة العهد من شواهد الحال ما يدل على صحته من القرب من بلد الإمام وانتشار الحال واشتهارها لزمتهم الطاعة، وإن لم يقترن به شاهد الحال لم تلزم الطاعة. والثاني: أن يستمد معونة افمام فيما عجز عنه من استيفاء حق أو دفع ظلم حتى لا يفوت حق قد ندب لاستيفائه ولا يتم ظلم قد ندب لرفعه. والثالث: أن لا يخل بالنظر مع المكنة اعتباراً بالعرف والعادة. ولو كان القاضي مرتزقاً لا يستحق رزقه قبل وصوله إلى عمله فإذا وصل إليه ونظر استحق الرزق، وإن وصل ولم ينظر فإن كان متصدياً للنظر استحقه، وإن لم ينظر كالأجير إذا سلم نفسه إلى مستأجره فلم يستعمله استحق الأجرة فإن لم يتصد للنظر فلا رزق له كالأجير إذا لم يسلم نفسه. وأما الفصل الثاني في العزل وهو على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يعزله الإمام المولي، والثاني: أن يعزل نفسه، والثالث: أن تحدث أسباب العزل والأسباب ثلاثة: موت، وعجز، وجرح وقد ذكرنا حكم الكل. وأما الفصل الثالث في حكمه وهو على ضربين: ما تممه قبل موته، وما شرع فيه ثم عزل وقد ذكرناه. وأما الفصل الرابع في قوله وهو ما يخبر به عن نفسه وقد ذكرنا حكم قوله قبل العزل وبعد العزل. [12/ 82 أ]. مسألة: قال: وكل ما حكم به لنفسه وولده ووالده ومن لا تجوز له شهادته رد حكمه. جملة هذا أن كل من ردت شهادته له للتهمة يرد حكمه له لأن التهمة فيها واحدة وهم الآباء، والأجداد، والأولاد، وأولاد الأولاد، ويردهما إلى خليفته وقال أبو ثور: يجوز الحكم لكل هؤلاء وهذا غلط لأن التهمة في الحكم أكثر من التهمة في الشهادة، فإذا لم تجز شهادته لهم فالحكم أولى، وقال ابن أبي أحمد: قال الشافعي رضي الله عنه في القديم: تقبل شهادته لوالده وولده وهل يجوز حكمه له؟ وهذا قول شاذ لم يحكه غيره، وقيل إنه وجه لأصحابنا ولا يصح، وأما الحكم عليهم فيجوز كالشهادة عليهم لأنه لا تهمه. ويجوز الحكم لمن عدا الوالدين والمولودين من الأقارب كما تقبل الشهادة لهم، وكذلك يجوز للولي المعتق والمعتق.

فرع حكم القاضي على نفسه مقبول، وهل يكون إقراراً أو حكماً فيه وجهان: أحدهما: يكون إقراراً فعلى هذا يصح في كل ما يصح في الإقرار به، ويرد فيما لا يلزم الإقرار كشفعة الجار إذا قال: حكمت فيها على نفسي للجار لم ينفذ حكمه بها على نفسه، والثاني: يكون حكماً على نفسه ويلزم الشفعة للجار، وكذلك بمقاسمة الإخوة للجد وهو جد ذكره في "الحاوي ". فرع آخر للأب أن يفتي للابن في العبادات وهل يلزمه الإفتاء فيما عداها وجهان. فرع آخر لو تحاكم إليه والداء [12/ 82 ب] أو ولداه فحكم لأحدهما على الآخر ففي جوازه وجهان محتملان: أحدهما: لا يجوز، والثاني: يجوز لأنهما استويا في البعضية فانتفت عنهما تهمة الممايلة فصار حاكماً على ولده أو على والده. فرع آخر لو أراد القاضي أن يستخلف في أعماله والداً أو ولداً جاز، وكذلك جاز أن يستخلف في أعماله من يرى من أولاده. فرع آخر لو رد الإمام إلى القاضي اختيار قاض لم يكن له أن يختار والده ولا ولده لأن رد الاختيار إليه يمنعه من اختيار نفسه فمنعه ذلك من يجري بالبعضية مجرى نفسه ويخالف تقليد القضاء لأنه يجوز أن يقضي بنفسه فجاز أن يستقضي من يجري بالبعضية مجرى نفسه. فرع آخر لو أراد الإمام محاكمته جاز أن يحاكمه إلى قضائه، وكذلك لو حاكم إلى واحد من رعيته ثم ينظر؛ فإن قلده خصوص هذا النظر صار قاضياً خاصاً قبل الترافع إليه فلم يعتبر فيه رضي الخصم، وإن لم يقلده النظر قبل الترافع اعتبر فيه رضي الخصم. فرع آخر القاضي إذا أراد محاكمة خصم له فإن كان في بلد الإمام يحاكمه إلى الإمام أو إلى من يرد إليه الإمام، ولو أراد أن يحاكمه إلى خليفته جاز لأن عمر تحاكم مع أبي بن كعب إلى زيد بن ثابت رضي الله عنهم هكذا ذكره عامة أصحابنا، وقال في "الحاوي ": إذا أراد أن يحاكمه إلى خليفته ففيه وجهان: أحدهما: يجوز [12/ 83 أ]

كما يجوز للإمام أن يحاكم إلى خليفته، والثاني: لا يجوز لأن كل القضاة خلفاء الإمام، وليس كل القضاة خلفاء هذا القاضي فجاز للإمام ما لم يجز للقاضي. فرع آخر قال ابن أبي أحمد: لا يجوز قضاؤه لمكاتبه، ولا لأم ولده، ولا لشريكه فيما له فيه شركة. فرع آخر لو وجب على القاضي أن يعدي خصماً يدفع إليه ختمه إلى خصمه ويكون منقوشاً فيه أجب القاضي فلان ابن فلان باسمه ونسبه فإن رد الطابع أو كسره أو قال: لا أجب أو سكت، أو قال: أجئ ثم دافع وتمادى ولم يحضر فرجع الطالب وذكر أنه امتنع من الحضور وصح ذلك بعث العون لإحضاره والعود الرجل الذي يكون في باب داره يأخذ رزقه من بيت المال، وقال في "الحاوي ": القاضي بالخيار بين أن ينفذ عوناً من أمنائه ليحضره، وبين أن يختم طبن بخاتمه المعروف ويكون علامة استدعائه وبين أن يجمع له بين العون والختم بحسب ما يؤدي إليه الاجتهاد من قوة الخصم وضعفه. فرع آخر إذا أخبر بامتناع الخصم من الحضور فإن أخبره العون الأمين قبل من غير بينة، وإن أخبره المستعدي لم يقبل إلا بشاهدي عدل وقال أبو حنيفة: يقبله بقول شاهدين، وإن لم يعرف عدالتهما وقال ابن أبي أحمد: يكفي أن يعدل تلك البينة [12/ 83 ب] من سكن قلبه إلى تعديله. فرع آخر إذا لم تكن بينة استحلفه على أنه ما أراه الطابع، وإن لم يرد الطالب اليمين إذا رأى القاضي ذلك لأنه من حقه فإن حلف برئ، وإن برئ اتهمه بعد اليمين أو عدل وهدده، وإن نكل عن اليمين فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن ترد اليمين على الطالب فيحلف إن أراد الطالب أنه أراه الختم ولم يجب تخريجاً من النص على قطع السارق لما فيه من حقوق الله تعالى وحقوق بني آدم. فرع آخر إذا ثبت أنه رد الطابع أدبه الحاكم على ما يراه من زجر أو من ضرب أو من حبس؛ قال ابن أبي أحمد: ولا يبلغ بتعزير العبد أربعين وبتعزير الحر عشرين. فرع آخر إن لم يحضر بالعون بعث شاهدين حتى يشهدا على امتناعه من الحضور بعث إلى

وإلى الأحداث وهو صاحب الشرط ويأمره بإحضاره أو يحضره هو جبرًا بأهل القوةً من أعوانه فإن تغيب ولم يحضر بعث القاضي ثقةً ينادي على بابه ثلاثًا وأعذر إليه في النداء أنه إن لم يحضر المجلس سمر بابه، أو ختم عليه وحسن أن يجمع المنادي أماثل جيرانه ويشهدهم على إعذاره، فإن لم يظهر ولم يحضر سأل المطالب أن يسمر عليه أو يختم وتقرر عند القاضي أن المنزل له وأنه يأوي إليه بشاهدي عدل سمر بابه أو ختم بأي ذلك [12/ (84) أ] رأى فعله فإن لم يحضر بعد التسمير والختم فمذهب الشافعي - رضي الله عنه - أنه يوكل عنه وكيلًا، فإن ثبت عليه حق وقدر على ماله وتوفير حقه فعل وباع عليه عقاره وعروضه وإن لم يكن له مال قال ابن سريج: يجوز الهجوم عليه إن ثبت عند القاضي أنه متوارٍ في بيته فيبعث القاضي الأعوان والخصيان والغلمان الذين لم يبلغوا، فإن كان عنده قوة في ذلك وإلا استعان بالوالي ويبعث معهم ثقاتًا من النساء فيقدم معهن غلمان لم يبلغوا وخلفهم الخصيان ثم الأعوان من وراء ذلك، فإذا توسط النساء صحن الدار مع الغلمان أنذروا النساء الحرم بدخول الدار ليتجاوزوا إلى بيت ثم يدخل الخصيان فيفتشون الدار ويؤمر ثقةً من النساء بتفتيش النساء ذكره ابن أبي أحمد وقال في ((الحاوي)): إذا ظهر امتناعه من الحضور فالقاضي يتخير بحسب اجتهاده بين أن يحضره جبرًا بأهل القوةً من أعوانه وبين أن ينهي إلى ذي سلطان خبره بعد أن لا يهتك عليه ولا على حرمه سترًا، وبين أن يفعل ما اختاره أبو يوسف أن ينادى على بابه بما يتوجه عليه في الامتناع وبما يمضيه عليه من الحكم. فرع آخر إذا تعذر إحضاره قال القاضي للمدعي: ألك بينة؟ فإن ذكر بينةً أذن له في إحضارها وأمره بتحرير الدعوى عليه ويسمع البينةً ويحكم عليه بعد النداء على بابه بإنفاذ الحكم [12/ (84) ب] عليه ويجري مجرى الغائب في الحكم عليه. فرع آخر لا يلزم القاضي في حق هذا المتواري أن يحلف المدعي أنه ما قبض كما ذكرنا في الغائب لأن هذا قادر بحضوره على المطالبةً به لو أراد بخلاف الغائب. فرع آخر لو قال: ليس لي بينةً هل يكون هذا الامتناع من الحضور كالنكول في رد اليمين على المدعي أم لا؟ على وجهين: أحدهما: أنه لا يجعل نكولًا، لأن النكول بعد سماع الدعوى، وسؤاله عن الجواب، فيصيران شرطين في النكول، وهما مفقودان مع عدم الحضور. والثاني: وهو الأشبه أن يجعل كالنكول بعد النداء على بابه بمبلغ الدعوى وإعلامه بأنه يحكم عليه بالنكول لوجود شرطي النكول في هذا النداء، فعلى هذا يسمع القاضي الدعوى مجردةً، ثم يعيد النداء على بابه ثانيةً

أنه يحكم عليه بالنكول. فإذا امتنع من الحضور بعد النداء الثاني, حكم بنكوله, ورد اليمين على المدعي, وحكم له بالدعوى إذا حلف. فرع آخر لو كان الخصم المدعى عليه امرأةً, فإن كانت برزةً, والبرزةً التي تتظاهر بالخروج في مآربها غير مستخفيةً فهي كالرجل سواء. وإن كانت مخدرة لا تخرج لحوائجها وأمورها إلا في النادر فالحاكم لا يحضرها بل يبعث إليها مع خصمه من يحكم بينهما في بيتها وتسمى هذه المخدرةً خفرةً وهي التي لا تتظاهر بالخروج في إرب، وإن خرجت استخفت ولم تعرف ولهذا أصل في الشرع وذلك أن الغامدية [(12) / (85) أ] اعترفت بالزنا ورجمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رؤوس الملأ ظاهرًا لأنها كانت برزةً، وقال في قصة العسيف: "واغد يا أنيس على امرأةً هذا فإن اعترفت فارجمها فغدا عليها فاعترفت فرجمها " في موضع مستور لأنها لم تكن برزةً. فرع آخر لو اختلفت وخصمها في البروز والخفر فإن كانت من قوم الأغلب من حال نسائهم الخفر فالقول قولها مع يمينها، وإن كانت من قوم الأغلب من حال نسائهم البروز فالقول قول الخصم مع يمينه. فرع آخر قال ابن أبي أحمد: لو أن رجلًا استعدى على أحد حدًا من حدود الله تعالى لم يعده ولم يهجم عليه في أخذه إلا في مسألة واحدةً وهى حد قاطع الطريق قلته تخريجًا. فرع آخر إذا حكم على الغائب قال الحسين بن علي الكرابيسي: من أصحابنا وغيره يطالب القاضي المحكوم له بكفيل لجواز أن يتجدد ما يوجب بطلان الحكم، وقال جمهور أصحابنا: لا يجب ذلك لأنها كفالةً بغير مستحق، ولأنه لو قضى على ميت أو صبى لا يلزم أخذ الكفيل والغائب مثله. فرع آخر لو كان غائبًا في أعمال هذا القاضي فإن كان له فيه نائب لم يلزمه إحضاره وهو بالخيار بين إنفاذ الخصم إلى خليفته لمحاكمة خصمه، أو سماع البينة عليه ومكاتبه خليفته به [12/ 85 ب] وإن لم يكن له فيه خليفة، قال أبو يوسف: إن كان على مسافةً يرجع منها إلى وطنه قبل منام الناس أحضره، وإن زاد عنها لا يحضره وقال بعض العلماء: يحضره إذا كان بينهما مسافةً يوم وليلةً، ومنهم من قال: يعتبر مسافة ثلاثةً أيام وعند الشافعي إن كانت مسافةً لا يقصر فيها الصلاةً يحضره، وإن كان على مسافةً يقصر فيها الصلاة اختلف أصحابنا فيه قال أكثرهم وهو الظاهر من مذهبه يحضره للتحاكم لئلا يتمانع الناس في الحقوق بالتباعد، والثاني: لا يجب إحضاره وهو غلط لما ذكرنا من العلة.

فرع آخر إذا ألزم إحضار الغائب على ما بيناه لم يجز للقاضي أن يحضره إلا بعد تحرير الدعوى وصحة سماعها لأنه قد يجوز أن يدعي ما لا تصح فيه الدعوى، وحكي أن رجلين تقدما إلى قاض فقال أحدهما: إن أخا هذا قتل أخي، فقال القاضي للمدعى عليه ما تقول فقال: إن غير هذا قتله غيري فماذا علىّ، وهذا جواب صحيح عن فساد هذه الدعوى وكان من صحتها أن يقول: إن أخاه قتل أخي وأنا وأرث وهذا من عاقلته لتتوجه له المطالبة بهذه الدعوى فلذلك لم يجز أن يحضر الغائب إلا بعد تحرير الدعوى بما يصح سماعها، ولو كانت الدعوى على حاضر في البلد جاز للقاضي إحضاره قبل تحرير الدعوى [12/ 86 أ] والفرق أن في إحضار الغائب مشقةً فلم تلزم إلا بعد تحرير الدعوى بخلاف الحاضر، وحكي القاضي الطبري عن ابن أبي أحمد أنه قال: إذا كان خارج المصر في موضح يتهيأ حضور المجلس والرجوع بعد المجلس إلى أهله في يومه أحضره، وإن كانت المسافة أبعد من ذلك لا يحضره إلا بعد إقامة المدعي البينةً في حقه لأنه تلحقه المشقةً في الحضور فلا يستحضر حتى يتحقق دعواه بالبينة وهذا غريب ولكنه محتمل؛ لأنه وإن يحقق الدعوى ربما لا يقدر على تمشيتها بالحجةً ولا يعجز كل أحد عن الدعوى الصحيحةً، ولو كان في موضعه رجل مستور كتب إليه حتى يتوسط بينهما حتى لا يحتاج إلى إحضاره، والأولى إن كان ذلك الرجل يصلح للقضاء يفوض إليه القضاء بينهما حتى لا يحتاج إلى إحضاره. فرع آخر إذا حضر الخصمان في مجلسه وأراد القاضي فصل الحكم بينهما ابتدأ المدعي بتحرير الدعوى لتنتفي الجهالةً إلا فيما يصح تمليكه كالوصايا فيجوز أن يدعيها مجهولةً فإن قيل: لو أقر لمجهول جاز فهلا جاز أن يدعي مجهولًا قلنا: الفرق أنه تعلق بالإقرار حق لغيره فلزم بالمجهول ولم يتعلق بالدعوى حق لغيره فلم يجز مجهولًا. فرع آخر لو كانت الدعوى بشيء في الذمة لا تحتاج إلى ذكر الموضع وإن كانت الدعوى في دار في يد المدعى عليه بين موضعها من السكةً والمحلة والناحيةً والبلد على قدر ما يتعارف أهلها من مواضع الدور [12/ 86 ب] والمحال وحدودها الأربعةً، ثم قال ادعى علي فلان ابن فلان هذا أن جميع هذه الدور بحدودها كلها أرضًا وسفلًا وعلوًا وجمع حقوقها لي وإنها في يده ظلمًا وإني أطالبه بردها علي وإنه ممتنع من ردها، وإن كانت الدعوى على ظالم يمنعه منها قال بعد التحديد: ادعى أن هذه الدار لي وأنه يمنعني منها ولا يحتاج في هذا إلى أن يقول: إنها في يده ولا إني أطالبه بها ولا أنه يمتنع من ردها علىّ، وكذلك الأرضون والعقار يحدها ويبين القريةً ويذكر الرستاق والكورةً والطسوج والناحيةً من البلد على قدر تعارف أهلها، وقال أبو حنيفة رحمه الله: يجوز

أن يذكر ثلاثة حدود من الأربعةً، وإن اشتهرت الدار باسم لا يشاركها فيه غيرها ميزها بذكر الاسم لأنه زيادة علم ولفظ الدعوى ينبغي أن يقول: لي في يده ولا يقول: لي عليه ولا عنده، ثم يصل هذه الدعوى بأن يقول: وقد غلبني عليها بغير حق أو قد باعها مني ولم يسلمها ولا يلزم صفة البيع إلا بعد أن يختلفا فيه فتنتقل الدعوى إلى البيع فتوصف، فإن كانت الدار في يد المدعي لم تصح الدعوى إلا بعد أن يتعلق له بها حق على المدعى عليه من أجرة سكناها أو قيمةً مستهلك منها، فإن قال: قد نازعني فيها لم يصح لأن المنازعةً دعوى تكون من غيره، وإن قال: وقد عارضني فيها بغير حق قال بعض أصحابنا: تصح هذه الدعوى وسأل الخصم عنها [12/ 87 أ] لأن في المعارضةً رفع يد مستحقةً، ومن أصحابنا من قال: لا تصح هذه الدعوى حتى يصفا المعارضةً بما يصح معها الدعوى. فرع آخر لو كانت الدعوى فيما ينقل في الذمة فقد يستحق ذلك من خمسة أوجه: ثمن وأجرة وقرض وقيمة متلف وعقد سلم. ويجب أن يصف بما يدعيه في الذمة بما ينفي عنه الجهالةً، فإن كان من سلم استوفى أوصاف السلم كلها، وإن كان من ثمن أو أجرةً أو من متلف صار معلومًا بأربعة أشياء: ذكر قدره، وذكر جنسه، وذكر نوعه، وذكر صفته، وإن نسبت إلى طابع ذكر الطابع. فرع آخر لفظ الدعوى منه أن يقول: لي عليه، فإن قال: لي عنده جاز، وقال أبو حنيفة: لا يجوز، قلنا: عندنا قد يستعمل في موضع على اتساعًا فلا يمنع صحة الدعوى. فرع آخر هو في هذه الدعوى مخير بين أن يذكر سبب الاستحقاق من أحد الوجوه الخمسة التي ذكرناها، أو لا يذكر بعد أن وصف بما ينفى عنه الجهالة وبين المكيل المعروف والوزن في الموزون والذرع في المذروع ونحو ذلك. فرع آخر لو كانت الدعوى على عين حاضره تصح الدعوى بالإشارة إليها من غير ذكر الصفة ولفظ الدعوى أن يقول: لي في يده هذا العبد، أو هذه الدابةً، فإن قال لي عنده جاز، ولو قال: لي عليه هذا العبد جاز عند بعض [12/ 87 ب] أصحابنا ولا يجوز عند بعضهم. فرع آخر لا يجوز أن يطلق بيان الدراهم في الدعوى، وإن جاز إطلاقها في الأثمان لجواز أن يكون الثمن مشروطًا من غير الغالب ففي الدعوى لا بد من البيان.

فرع آخر لو كانت العين غائبةً فإن كانت محبط بالصفة كالحبوب والأدهان فما له مثل يصفها ولا يحتاج إلى ذم قيمتها، وإن لم يكن له مثل لؤمه أن يستوفي جميع صفاته ويستظهر بذكر قيمته لجواز أن يستحقها مع التلف، ولو ذكر القيمةً في ذوات الأمثال فلا بأس وكان تأكيدًا فإن أغفل عن ذكر القيمة جاز مع بقاء العين لأنها غير مستحقةً، وإن كان مما لا يضبط بالصفة كالجوهر يذكر الجنس والنوع واللون ثم حرر الدعوى ونفى الجهالة بذكر القيمة لأنه لا يصير معلومًا إلا بها، وإذا ادعى أنه أتلف عليه سلعةً قيمتها كذا أو لم يصفها جاز، فإن ذكر صفتها كان تأكيدًا ولا بأس. فرع آخر لو ادعى عليه سيفًا محلى لم يكن بد من ذكر قيمته إلا أنه إن كان محلى بالفضة قوّمه بالذهب وإن كان محلى بالذهب، قومه بالفضة، وإن كان محلى بالذهب والفضي قومه بأحدهما: لأنه موضع ضرورةً ذكره أصحابنا، ويحتمل عندي أن يقال: ينبغي أن يفصل بينهما في الدعوى ويقوم بغير الجنس والله أعلم. فرع آخر إذا صحت الدعوى [12/ (88) أ] فالأولى أن سال المدعى القاضي بعد استيفاء دعواه لمطالبة خصمه بما ادعاه عليه، فإذا طالب هكذا سأل المدعى عليه فيقول: سمعت ما ادعاه عليك فما تقول فيه، فإن أجاب بإقرار أو إنكار كان كافيًا ولو بدأ القاضي بسؤاله من غير أن يطالبه المدعي بسؤاله هل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز سؤاله لأنه من حقوق المدعي فلم يجز أن ينفرد به القاضي ويكون السؤال لغوًا يعيد فيه باتهام المدعى عليه دون إنكاره كما لو ابتدأ بالجواب قبل السؤال، والثاني: يجوز هذا السؤال ويصح الجواب عقيبه لأن شاهد الحال يدل على إرادة المدعي لسؤاله ويغني ذلك عن سؤاله وهذا أصح، وقيل: هل يجب عليه أن يسأل المدعى عليه قبل مطالبة المدعى؟ فيه وجهان: والمذهب أنه يجب. فرع آخر لو أن المدعي تفرد بسؤاله لم يلزمه الجواب حتى يكون القاضي هو السائل لأن حق المدعي مختص بالمطالبة دون السؤال، فإن أجابه المدعى عليه عن سؤاله بإقرار أو إنكار هل يقوم سؤاله مقام سؤال القاضي؟ فيه وجهان: أحدهما: يقوم إذا قلنا: لا يسأل القاضي إلا بعد طالبة المدعي بالسؤال، والثاني: لا يقوم إذا قلنا بالوجه الآخر فعلى هذا يكفى إنكاره. فرع آخر إذا طالب المدعى عليه بالجواب لا يخلو من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يقر، والثاني: [12/ 88 ب] أن ينكر، والثالث: أن لا ينكر ولا يقر، فإن أقر ثبت الحق

بإقراره ولا يحكم به إلا بعد أن يسأله المدعي الحكم لأنه الطالب فيقول القاضي: قد أقر لك بما ادعيت فماذا تريد؟ ولا يقول له: قد سمعت إقراره لأن قوله قد أقر حكم بصحة الإقرار بخلاف قوله: سمعت إقراره، فإن لم يطالب المدعي بالحكم أمسك عنه وصرفهما وكان للمدعي أن يتخير من القاضي محضرًا بثبوت الحق دون الحكم به ولم يكن له ملازمة المقر قبل الحكم، وإن سأله الحكم عليه بإقراره حكم بثلاثة ألفاظ: قد حكمت عليك بإقرارك، أو ألزمتك ما أقررت به، أو أخرج إليه من حقه، وليس له مطالبته بكفيل إلا أن يتفقا عليه عن تراض. ولا يسقط حقه من ملازمته بإقامة الكفيل سواء كفل بنفسه أو بماله لأن الكفالة وثيقةً فلم تمنع الملازمة كما لم تمنع المطالبة، فإن اتفقا على تخلية سبيله عند الكفالة لم يلزم هذا الاتفاق وله أن يعود إلى ملازمته بعد تخليته لأنه حق له إلى أن يستوفي حقه. وأما القسم الثاني إذا أنكر يجوز للقاضي أن يقول للمدعي قد أنكر ويجوز أن يقول: قد سمعت إنكاره بخلافه في الإقرار لتردد الإقرار بين صحة وفساد وعدمه في الإنكار، ثم إن كان هذا المدعي عاميًا لا يعرف رسوم الحاكم، فإن كان الحاكم يقول له: أقم البينةً إن كانت لك فإن كانت له بينة [12/ 89 أ] سمعها ولا يسمعها إلا أن يقول المدعي: سلهم أيها الحاكم فإذا قال ذلك قال لهم الحاكم: ما تقولون أو ما عندكم في هذا؟ ولا يقول لهم: اشهدوا فإذا شهدوا نظر فإن كانت الشهادةً غير صحيحةً لم يحكم بها ولم يلقنهم، وقال للمدعي: زد في شهودك، وإن لم تكن له بينةً فليس له إلا يمين المدعى عليه إلا أن الحاكم لا يحلفه حتى يسأله المدعى عليه. وإن كان المدعي ممن يعرف رسوم القضاء فالحاكم بالخيار إن شاء قال: أقم البينة إن كانت لك، وإن شاء قال قد أنكر دعواك وسكت، فإن قال: لي بينةً سمعها، وإن طلب إحلافه أحلفه بالله تعالى وقال بعض أصحابنا: القاضي في اختياره بالإنكار بائن أن يقول له: قد أنكر فماذا عندك فيه والأول أولى مع من جهل، والثاني أولى مع من علم. واعلم أن الحكم في إنكار الدعوى موقوف على بينة المدعي في إثبات الحق بها، وعلى يمين المدعى عليه عند عدمها لإسقاط المطالبة بها وللمدعى الخيار في إقامة البينةً لأنها من حقوقه فلم يجبر على إقامتها، وللمنكر الخيار في اليمين لأنها من حقوقه فلم يجبر على الحلف بها. فرع آخر لو أنكر المدعى عليه وقال: ما لك عليّ فقال له المدعي: نعم، كان تصديقًا له على الإنكار وبطلت دعواه، ولو قال: بلى، كان تكذيبًا له على الإنكار ولم تبطل دعواه، والفرق أن نعم حجاب الإيجاب [12/ 89 ب] وبلى جواب النفي وهذا حكمه فيمن كان من أهل العربية وفى اعتباره فيمن كان من غير أهل العربية وجهان على ما ذكرنا في كتاب الإقرار. وأما القسم الثالث: أن لا يقر ولا ينكر فله حالتان: إحداهما: أن يكون

غير ناطق لخرس أو صمت فإن كان مفهوم الإثارة صار بها كالناطق فيجري عليه حكم الغائب، والثانية: أن يكون ناطقًا فامتناعه من الإقرار والإنكار من أحد: إما أن يقول: لا أقر ولا أنكر، وإما أن يسكت فلا يجيب بشيء فيجري عليه حكم الناكل ولا يحبس على الجواب وقال أبو حنيفة: يحبسه حتى يجب بإقرار أو إنكار. فرع آخر البينة تسمع على المنكر دون المقر لأن الإقرار أصل هو أقوى، والبينة فرع هو أضعف. فرع آخر لو خالفت البينة الدعوى في الجنس لا تسمع، وإن خالفتها في القدر إلى نقصان حكم في القدر بالبينةً دون الدعوى فإن خالفتها إلى زيادةً حكم في القدر بالدعوى دون البينةً ما لم يكن من المدعي تكذيب البينة في الزيادةً، فإن أكذبها فيه ردت ولم يحكم بها. فرع آخر لو اتفق شاهدًا البينةً على الشهادة، فإن اختلف الشاهدان في الجنس ردت وإن اختلفا في القدر ثبت في الأصل. فرع آخر لو سمعت البينة بعد الدعوى قبل الإنكار هل يجوز؟ فيه وجهان: أحدهما: يجوز [12/ 90 أ] لوجودها بعد الطلب، والثاني: لا يجوز حتى تقام بعد الإنكار لتقدمها على زمانها. فرع آخر لابد أن يكون الأداء بلفظ الشهادة أشهد أنه أقر عندي وأشهدني على نفسه أن عليه لفلان كذا، وأن يقل: أشهدني فيه وجهان بناء على أن الاسترعاء شرط في حمل الإقرار أولًا، والأصح أنه لا يشترط. فرع آخر لو كانت الشهادةً في غير إقرار كالثمن في بيع حضرةً أو قرض، ففي لزوم ذكر سببه في أدائه وجهان كقوله في أداء الإقرار وأشهدني. فرع آخر لو شهد بلفظ الخبر بأن قال: اعلم أن له كذا لم يجز لأن الخبر حكاية حال: مضافةً إلى المشهود عليه فلا يتعلق بها الإلزام إلا بالشهادة المضافة إلى الشاهد. فرع آخر لا تسمع البينة إلا بمشهد المدعي وعينه، ثم إذا سمعها لم يحكم بها إلا إن يسأله

فإن حكم بها قبل سؤال المشهود له هل يجوز؟ فيه وجهان: بناء على الوجهين في جواز سؤاله للمدعى عليه قبل أن يطالبه المدعي بسؤاله أحدهما: لا يجوز لأنه حكم لغير طالب، والثاني: يجوز لأن شواهد الحال تدل على الطلب. فرع آخر إذا ثبتت عدالة الشهود وسأل المدعي الحكم بها فالأولى أن يقول للمشهود عليه: قد شهد عليك فلان وفلان وقد ثبتت عندي عدالتهما وقد اطردت لك [12/ 90 ب] جرحهما وينظره يومًا ويومين وثلاثةً، فإن أتي بالجرح سقطت الشهادةً، وإن لم يأت بالجرح حكم له، فإن حكم به قبل إعلامه جاز. فرع آخر قال في "الأم": واجب للقاضي إذا أراد القضاء على رجل أن يجلسه ويبين له ويقول له: احتججت عندي بكذا وقامت البينة عليك بكذا، واحتج خصمك بكذا أفرأيت الحكم عليك من قبل كذا ليكون أطيب لنفس المحكوم عليه وأبعد من التهمة، وإن لم يفعل جاز حكمه. فرع آخر قال في "الأم": وإذا كان الأمر بينا عند القاضي مما يختصم فيه الخصمان فأحب أن يأمرهما بالصلح، وأن يتحللهما من تأخير الحكم بينهما بشيء بان له، وإن أشكل الحكم عليه لم يحكم بينهما طال ذلك أو قصر حتى تنتهي الغايةً في البيان والحكم قبل البيان ظلم، والحبس قبل البيان يعني حبس الحكم ظلم فجعل الشافعي رضي الله عنه الحكم على الفور إذا انكشف له ولم يسوغ له التأخير إلا برضي من له الحكم وجوز التأخير إذا بان مشكلًا لم ينكشف. فرع آخر لو قال المدعى عليه قبل الشهادة: ما يشهد به هذان الشاهدان علي فهو حق لم يكن إقرارًا بما يشهدان به لتقدمه على الشهادة. فرع آخر لو قال بعد الشهادة: [12/ 91 أ] ما شهدا به علي حق كان إقرانًا، ولو قال: ما شهدا علي صدق لم يكن إقرارًا، والفرق أن الحق ما لزم فلم يتوجه إليه احتمال والصدق قد يكون فيما قفاه فيتوجه عليه الاحتمال. فرع آخر لا يحلف المدعي مع البينة، وقال ابن أبي ليلى: لا حكم له بالبينة حتى يحلف معها كما في الحكم على غائب، وبه قال شريح والشعبي والنخعي وسوار القاضي، وقال إسحاق: إذا استرابه الحاكم يجب ذلك، واستحلف شريح رجلًا فتأبى عليه فقال: بئس

ما تثني على شهودك وهذا غلط لأن في إحلافه مع بينته قدحًا فيها ولأن الحاضر لو قضى لذكر بخلاف الغائب. فرع آخر لو أخر المدعي إحضار بينته وأراد ملازمة خصمه على إحضارها سأله القاضي فإن كانت غائبةً لم يكن له ملازمته وقيل له: لك الخيار في تأخيره إلى حضور بينتك أو تحلفه فتسقط الدعوى، فإن حضرت البينة لم تمتع اليمين من سماعها، وإن كانت البينة حاضرةً في البلد له أن يلازمه ما كان في مجلس الحكم في يومه باقيًا، فإذا انقضى المجلس لم يكن له ملازمته ما لم يشهد الحال بوجود البينةً، فإن شهدت أحواله بوجودها جاز له أن يلازمه إلى غايةً أكثرها ثلاثة أيام لا يتجاوزها ولا يلزمه إقامة كفيل بنفسه لما روى الهرماس بن حبيب عن أبيه عن جده ((أنه استعدى [12/ 91 أ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رجل فقال له: إلزمه)) ودليلنا خبر الحضرمي والكندي ((شاهداك أو يمينه ليس لك إلا ذاك)). وأما خبرهم فمحمول على حق ثبت وجوبه هكذا ذكره في ((الحاوي)) وقال ابن أبي أحمد عندنا لا يلزمه إلا أن يكون في مقدار جلوس القاضي فيلازم حتى يحضر البينة، وقال أبو حنيفة ت له ملازمته إلى ثلاثة أيام وهذا أولى عندي بالصواب لأن المدعي يدفع دعواه بيمينه فلا معنى لملازمته. فرع آخر قد ذكرنا أنه لا يجوز إحلاف المدعى عليه إلا بعد مطالبة المدعى فإن كان المدعي عالمًا باستحقاق اليمين وإلا أعلمه القاضي أنه قد وجب له اليمين ولو حلفه القاضي قبل سؤال المدعي لا يعتد به وحلفه ثانيًا بسؤاله، وقال بعض أصحابنا بخراسان: يحتسب به إذا حلفه القاضي وهو غلط ظاهر. فرع آخر قال في ((الحاوي)): هل يجوز للقاضي أن يعرض عليه اليمين قبل مسألة المدعي؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز، وبه قال أبو حنيفة كما لا يجوز إحلافه، وقال ابن سريج يجوز أن يعرضها، وإن لم يجز أن يحلفه بها ليعلم إقدامه عليها فيعطيه أو يقفه عليها فيحذره. فرع آخر لو حلف المدعى عليه قبل تحليف القاضي لا يعتد به وأعاد الحاكم عليه اليمين لخبر ((ركانة بن عبد يزيد فإنه طلق امرأته البتة فقال له [12/ 92 أ] النبي - صلى الله عليه وسلم - ما أردت قال والله ما أردت بها إلا واحدةً فردها عليه فأعاد اليمين عليه لما حلف قبل الاستحلاف))، ولأن يمين المدعى عليه تنعقد بحسب ما يستحلفه عليه الحاكم دون نية الحالف، فإذا حلف قبل استحلافه انعقد بحكم نيته فلم تكن اليمين المستحقة عليه فلا يعتد بها، وقيل في خبر ركانةً اثنتا عشرةً فائدةً ثلاث في اليمين أنه يجوز الاقتصار في

اليمين على الاسم خاصة، والثانية: أنه أعادها عليه حين كان قبل الاستحلاف، والثالثة: جواز حذف طرفي القسم من اليمين لأنه قال: الله إنك أردت واحدة فقال: الله إني أردت واحدة فحذف الواو. وثلاث في الرجعة إحداها: أن الرجعة ثبتت بعد الواحدة والثانية: أنها لا تفتقر إلى رضي المرأةً، والثالثة: أنها لا تفتقر إلى الشهود. وست في الطلاق إحداها: أن البينة ليست بصريح ولا يقع الطلاق بها إلا بالبينةً، والثانية: أنه يقع بها ما نواه من عدد الطلاق لأنه رجع إلى نيته، والثالثة: إيقاع الثلاث ليس بمحرم لأنه سأله عما أراد من العدد، والرابعة: أن الطلقة الواقعة بها لا تقطع الرجعة خلافًا لأبى حنيفة رحمه الله تعالى. . .، والسادسة: أن اليمين تعرض في الطلاق خلافًا لأبي, حنيفة رحمه الله، وقيل بدل على أنه لا يقع بها الثلاث خلافًا لمالك رحمه الله. فرع آخر لو ترك إحلافه لا يسقط حقه منها [12/ 92 ب] متى أراد إحلافه، ولو قال: عفوت في اليمين أو أبرأته منها سقط حقه منها في هذه الدعوى، ولم تسقط الدعوى، فإن أراد إحلافه من بعد لم يجز أن يحلفه يا لدعوى المتقدمة، ويجوز أن يستأنف الدعوى فيحلفه بالدعوى المستأنفة. فرع آخر لو أن المدعي سأل إحلافه وأمسك عن ذكر بيته عند سؤاله هذا فلم يذكر أن له بينة أو لا بينة فليس للقاضي أن يلزمة ذكر البينة وعليه أن يحلف له. فرع آخر إذا حلف له ثم جاء بالبينةً وأقامها تسمع بينته وثبت حقه وبه قال شريح والشعبي وأبو حنيفة ومالك وقال ابن أبي ليلى وأبو عبيد وإسحاق وداود: لا تسمع بينته، وحكاه صاحب ((الحاوي)) عن مالك أنه قال: إن علم أن له بينة عند التحليف لم يكن له إقامتها، وإن لم يعلم فله إقامتها. واحتجوا بأن اليمين حجة المدعى عليه كما أن البينةً حجة المدعي ولا تسمع يمين المدعى عليه بعد حجةً المدعي فلذلك لا تسمع حجة المدعي يعد حجة المدعى عليه. ودليلنا أن كل حالةً يجب عليه الحق بإقراره يجب عليه بالبينة كما قبل اليمين وأما ما ذكروه فلا يصح لأن البينة أقوى ولهذا تقدم على اليمين فلا يجوز اعتبا ر البينة بها. فرع آخر لو ذكر أن له بينةً غابت وسأله إحلافه يلزمه إحلافه لأن الغائبة كالمعدومة [12/ 93 أ] ولأن الحكم إذا وجب تعجيله لم يجز له تأخيره. فرع آخر لو قال لي بينة حاضرة وأريد إحلافه ولا أريد إقامتها أحلف له أيضًا لأنه قد يكون

له غرض في تأخير البينةً وطلب اليمين لأنه يخاف من اليمين فبقي مستغنى عن البينةً، أو ليثبت كذبه في يمينه بعد إقامة البينةً، وقال في ((الحاوي)): فيه وجهان أحدهما: وهو ظاهر مذهب الشافعي رضي الله عنه وبه قال أبو يوسف له ذلك، والثاني: ليس له إحلافه وبه قال أبو حنيفة رحمه الله لأن مقصود المدعي إثبات الحق عليه دون إسقاطه ويمكن إثباته بالبينةً، ولو أراد إحلافه بعد إقامة البينة لم يجز لعدم تأثيرها. فرع آخر لو قال المدعي: إن حلف فهو بريء فحلف لم يمنع ذلك من سماع البينة عليه لأن البراءةً لا تقع بالصفات. فرع آخر لو قال: لا بينةً لي حاضرةً ولا غائبةً وسأل إحلافه يلزمه فإن أحضر بينة ففيه وجهان أحدهما: وهو قول الأكثرين لا تسمع لأنه قد أكذبها بإنكارها وبه قال محمد وقال الإصطخري تسمع لأنه قد لا يعلم أن له بينةً ثم علم، ولو علم لكان ذلك كذبًا منه ولم يكن تكذيبًا للبينه وقيل: هذا ظاهر المذهب وبه قال أبو يوسف ومن أصحابنا من قال: إن تولى الإشهاد بنفسه لم تسمع له بينة لأنه أكذبها، وإن كان وكيله [12/ 93 ب] تولى الإشهاد عليه أو كانا شهدًا عليه من غير أن أشهدهما سمعت بينته وكذلك لو قال: كل بينة تشهد لي فهي كاذبةً وحلف المدعى عليه ثم أقام البينة ففيه ثلاثة أوجه على ما ذكرنا، وهذا إذا اعتذر وقال: لم أعلم في ذلك الوقت والآن علمت وقال الصيمري: إذا قال: كل بينةً أقيمها فهي داحضةً لا تقبل إذا أتي بشهود بعده. فرع آخر لو استمهل المدعى عليه في اليمين فإن كان ليراجع النظر في حسابه أمهله بحسب ما يمكنه مراجعة الحساب، وقيل: يمهل ثلاثة أيام ولا يمهل أكثر منها، وإن استمهله لغير ذلك لم يمهله ولم يحبسه على اليمين وكان باطلًا ولا يسأل عن سبب امتناعه عن اليمين. فرع آخر لو قال المدعى عليه: لا أحلف لأنه حلفني على هذه الدعوى مرةً واستنظره لإقامة الحجةً على يمينه أنظره القاضي مجلسًا واحدًا أو أكثر على ما يراه إلى ثلاثة أيام، وإن قال أحلفني عندك والقاضي يعلم أنه ما أحلفه لا يقبل ذلك ولا ينظره لإقامة البينة. فرع آخر لو لم يكن القاضي عالمًا بذلك فأقام البينة أنه حلفه عنده قال ابن أبي أحمد يقبل البينة تخريجًا مما قال الشافعي رضي الله عنه في ((الأم)) في باب أدب القضاء: الخصمان إذا تداعيا وأقام المدعي البينة فاتخذ القاضي محضرًا بما جرئ، فإن حلف إنسان أمر من حضره من [12/ 94 أ] العدول بتوقيع شهاداتهم في المحضر فإذا أدوا شهادتهم يحكم بها وإلا شهد عليه من يقيل شهادته فيقبله.

فرع آخر لو لم يقم على ذلك بينةً ولكنه رام استحلاف المدعي على أنه لم يحلفه على هذه الدعوى حلفه القاضي بالله فإن قال المدعي أيضًا، لا أحلف فإنه قد حلفني على ذلك مرةً ولي بذلك بينةً سمعها القاضي، وإن قال لا بينة لي فأحلفوه على أنه لم يحلفني أنه ما حلفته في هذه الدعوى لم يسمع القاضي من المدعي لأن المدعى عليه يدفع ذلك مثل مقالته وعواه وذلك يطول إلى ما لا نهايةً له وفي ذلك ذريعةً إلى منع القاضي من الوصول إلى الحكم فالمدعي أحق بقطع المادةً لأنه هو الطالب دون المدعى عليه، فإما أن يحلف، وإما أن يقوم عن المجلس قاله ابن أبي أحمد تخريجًا. فرع آخر لو قال المدعى عليه: حلف المدعى أنه ما أبرأني من هذه الدعوى، مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يحلف المدعى لأنه لو أقر بأنه لا دعوى عليه بريء. فرع آخر لو قال: أبرأني من هذه الدعوى لا يكون إقرارًا بالمال، ولو قال: أبرأني من هذا المال قال ابن أبي أحمد: يكون إقرارًا بالمال لأن الإبراء لا يكون إلا عن دين قال: ولو حلف رجل لأبرأ فلانًا من هذا المال فبرأه مما ليس عليه لم يكن ذلك إبراء فدل على أن الإبراء يقتضى ثبوت [12/ 94 ب] المال وقال بعض المتأخرين من أصحابنا: لا يكون إقرارًا بالمال لأن الله تعالى قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} [الأحزاب: الآية (69)] الآية وكان الإيذاء بقولهم به آدرةً ولم يكن به آدرةً. والجواب عن هذا التمسك أن الله تعالى برأه من قولهم لا من الأدرةً فلا حجةً فيه لهم. فرع آخر وقال: أبرأني من المال قد بينا أنه يكون إقرارًا فإن أقام البينةً على الإبراء برئ، فإن لم يكن له بينةً فالقول قول المدعي مع يمينه لأن الأصل عدم البراءةً، فإذا أراد أن يحلف قال الشافعي رضي الله عنه: يحلف بالله تعالى أن هذا الحق ويسميه تسميةً يصير بها معلومًا ثابت عليه ما اقتضاه ولا شيئًا منه ولا اقتضاه مقتضى بأمره ولا بغير أمره ولا أحال به ولا بشيء منه ولا أبرأه منه ولا من شيء منه، وإنه لثابت عليه إلى أن حلف هذه اليمين قال أبو إسحاق: هذا إذا ادعى البراءة مطلقًا فإن ادعى البراءةً بجهةً معلومةً حلف على تلك الجهة، فإذا ادعى أنه استوفى حلف أنه ما استوفى فقط قال أصحابنا: يمكنه أن يجمع ذلك بأن يحلفه أنه لم يبرأ من ذلك الحق لا بقول ولا بفعل، ولو حلفه ما برئت ذمته من ذلك الحق ولا من شيء منه أو ما برأت ذمته من شيء من ذلك الحق كفاه، وما ذكره الشافعي رضي الله عنه [12/ 95 أ] تأكيدًا لا يضر تركه.

فرع آخر قال ابن أبي أحمد: لو قال برئت إليه من هذا المال مذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يسأل عنه فإن قال: قضيت كان إقرارًا وحلف المدعى بالله تعالى واقتضاه فإن قال: برئت إليه بأن حلفت له أو أقمت بينة على إقراره فالقول قول المدعى عليه مع يمينه فلم يجعل قوله: برئت إليه من هذا المال إقرارًا بالمال ورجع في تفسيره إليه وجعل قوله من هذا المال إقرارًا بالمال قال القاضي الطبري: ويمكن أن يقال في وجه الفرق بينهما أن قوله: أبرأني يقتضي ثبوت المال قبل إبرائه لأن ما يبرأ منه بإبرائه هو المال الثابت، فأما إذا قال: برئت إليه أو عندي براءةً من هذا المال محتمل لأن يكون قد حلف له على إنكاره أو غير ذلك فيرجع في تفسيره إليه والله أعلم. فرع آخر قال ابن أبي أحمد لو قال عندي مخلص من هذا المال أو مخرج من هذا المال لا يكون إقرارًا وسأله القاضي عن وجه المخلص، وكذلك لو قال: عندي مخرج من هذه الدعوى أو مخلص أو براءةً من هذه الدعوى. فرع آخر لو قال المدعى عليه بعد إنكاره حلفوا المدعى على ما ادعى وأحكموا له بما يدعيه لم يحلف المدعي وتعرض اليمين أولًا على المدعى عليه فينكل تم ترد اليمين على المدعى بعد النكول ثلاثةً تخريجًا على مذهب الشافعي رضي الله عنه [12/ 95 ب] لأنه إنما جاز رد اليمين وليس ترد حتى تعرض وينكل. فرع آخر لو قال المدعى عليه: لا يجوز لي أن أحلف ماله القاضي عن ذلك، فإن قال: لأني حلفت أن لا أحلف عند حاكم أو نذرت لم يعذره بذلك ولم يجعله ناكلًا بل طالبه باليمين فإن أبى أن يحلف رد اليمين على المدعي. فرع آخر لو قال المدعى عليه للقاضي: محل المدعي من أين له هذا المال فإن ادعى من وجه كذا فلي عليه بينةً، وإن ادعى من غيره حلفته فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن القاضي بالخيار إن شاء سأله تخريجًا مما قال الشافعي وأحب أن لا يقبل الشهادةً حتى يسأل من أين هذا عليه. فرع آخر لو قال المدعي: أريد تأخير إحلاف المدعى عليه ليغلظ بإحلافه بعد العصر أو في ((الجامع)) كان له ملازمته إن استحق تغليطها وإن لم يستحق تغليطها فليس له ملازمته.

فرع آخر لو كانت الدعوى تشتمل على أنواع فأراد أن يحلف على أحدها ويتوقف فيما عداه جاز، وإن أراد أن يحلفه على كل نوع منها يمينا يمينًا فإن فرقها في الدعوى جاز أن يفرق في الأيمان وإن جمعها في الدعوى لم يجز أن يفرق في الأيمان. فرع آخر إذا وجب اليمين على المدعى عليه فامتنع أو قال: نكلت عنها أو قال: لا أحلف فإن لم يعرف حكم النكول وجب على القاضي [12/ 96 أ] أن يعلمه حكمه وهو رد اليمين، وإن عرف حكمه استغنى عن إعلامه، ولكن يقول له: إن أقمت على امتناعك جعلتك ناكلًا. فرع آخر بماذا يستقر نكوله؟ قال ابن سريج: يستقر نكوله بإعلامه ولو كان بدفعة واحدةٍ ومن أصحابنا من قال وهو اختيار أهل العراق لا يستقر إلا بأن يعرضه عليه ثلاثًا هي حد في الاستظهار. فرع آخر إذا استقر المكود فهل يفتقر إلى حكم الحاكم به قبل رد اليمين فيه وجهان: أحدهما: لا يرد إلا بعد أن يقول للمنكر: قد حكمت عليك بالنكول لما فيه من الاجتهاد فإن ردها عليه قبل علمه لم يجز. والثاني: يجوز أن يردها على المدعي وإن لم يقل حكمت بالنكول لأن ردها عليه حكم بالنكول. فرع آخر لو أراد المدعى عليه أن يحلف بعد الحكم بنكوله ليس له ذلك لانتقالها إلى المدعى. فرع آخر لو حلف المدعي بعد النكول والرد عليه حكم له، وإن قال: لا أحلف سألناه عن سبب امتناعه فإن قال: امتنعت لأن لي بينةً أقيمها، أو لي حساب أنظر فيه للاحتياط فأحلف على ما يتيقنه لم يسقط حقه من اليقين ومتى اختار اليمين حلف وثبت حقه. فإن قيل أليس قلتم: لو امتنع المدعى عليه من اليمين لا يسأل عن سب امتناعه، وإذا امتنع المدعي من يمين سئل عن سبب امتناعه فما الفرق؟ قيل: إن المدعى عليه إذا امتنع قويت يذلك جنبةً المدعي فانتقلت اليمين إليه [12/ 96 ب] فلا فائدةً في سؤاله لأنه لا يقبل منه ما يبطل ما ثبت بامتناعه للمدعي، وأما إذا انتقل لا ينتقل الحق إلى غيره بل يقف الأمر فسألناه عن ذلك.

فرع آخر لو توقف المدعي لغير استمهال هل يحكم على المدعي بالنكول في يمين النكول؟ فيه وجهان: أحدهما: وهو قول الإصطخري يحكم، فإن رام أن يحلف بعد الحكم بنكوله لم يجز كما في المدعى عليه، والثاني وهو الأظهر لا يحكم بنكوله والعرف أن نكول المنكر يتعلق به حق الغير ونكول المدعى لا يتعلق به حق لغيره فله أن يحلف متى شاء ويستحق. واعلم أن صاحب "الحاوي" ذكر فصلًا وترتيبًا حسنًا فيما ذكرنا من الفروع فقال: إذا حضر الخصمان عند القاضي ففصل الحكم بينهما يشتمل على ستة فصول: أحدها: ابتداء المدعي تحرير الدعوى، والدعوى على ضربين فيما ينقل وهو على ضربين: أحدهما: أن يكون في الذمة، والثاني: أن يكون بعين قائمةً وهي على ضربين: حاضرة، وغائبة, والفصل الثاني في سؤال المدعي، والفصل الثالث في جواب المدعى عليه وهو على ثلاثة أقسام، والفصل الرابع سماع البينةً ولسماعها أربعة شروط: أن تكون موافقةً للدعوى، والثاني أن يتفق شاهدًا البينةً على الشهادة، والثالث أن يسمع بعد الدعوى والإنكار، والرابع أن يكون الأداء بلفظ الشهادة، والفصل الخامس في إحلاف المنكر وللمدعي حالتان: أن يترك إحلافه [12/ (97) أ] وأن يسأل إحلافه وإذا سأل فهو على أربعة أضرب: أحدها: أن يمسك عن ذكر البينةً ولا يقول لي بينة. والثاني: أن يذكر أن له بينة غائبةً. والثالث: أنه يذكر أن له بينةً حاضرةً. والرابع: أن يقول: لا بينةً لي حاضرةً ولا غائبةً والفصل السادس في حكم النكول وقد ذكرنا شرحها مفصلًا وبالله التوفيق. فرع آخر قال ابن أبي أحمد وإذا أراد المدعي إقامة البينة فشهدت قبل الاستشهاد لا تكون شهادةً؛ لأنه شهد ولم يستشهد، وقد عاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على من فعل ذلك وروي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: ((خير الناس قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثم يأتي أقوام فيحلفون ولا يستحلفون ويشهدون ولا يتشهدون)). فإن استعادها القاضي فأعادها قبلت لأنه ليس بجرح وهذا فيما عدا السرقة وقطع الطريق لتعلقه بحق الله تعالى وهذا تخريج مما قال الشافعي رضي الله عنه في شاهدين شهدا عند القاضي على رجل بسرقة من حرز فلان يوجب القطع تسمع الشهادةً ويسأل فلانًا فإن ادعاها حكم بها، وعلى هذا لو كان في زكاةً أو كفارة يندب إلى الشهادة قبل الاستشهاد وهكذا [12/ 97 ب] كل ذلك مقبول والاحتياط أن يثبت الوكالة أولًا، ثم سمع البينة على المال لأن أبا حنيفة رحمه الله قال: لا يكون خصمًا عند صاحب المال إلا بعد ثبوت الوكالة.

فرع آخر لو أقر بوكالته وأنكر الدين ورام الوكيل إقامة البينة على الدين، قال ابن أبي أحمد: لا تسمع البينة منه على الدين لأن الوكالة لا تثبت بإقراره إلا ببينة تقوم عليه قلت على مذهب الشافعي تخريجًا، لأنه قال: ولو أقر بالوكالة والدين لا أجبره على دع المال، وقلت له: إن شئت فادفع، وإن شئت فلا تدفع. فرع آخر قال: ولو أرسل رسولًا إلى رجل ليقبض مالًا له عليه فأنكر الرجل لم يكن للرسول أن يخاصمه، ولو وكله بالخصومة دون القبض أو بالقبض دون الخصومة كان وكيلًا في القدر الذي أذن له فيه، وقد ذكرنا عن ابن سريج إذا وكله بالقبض هل له الخصومة، فيه قولان وما قاله ابن أبي أحمد أصح. فرع آخر لو أقام الوكيل البينة على خصم بحق للموكل فذكر الخصم أن الموكل قد قبض منه الدين أو أبرأه ورام إحضار الموكل ليحلفه قيل له: أخرج مما لزمك ووفر على الوكيل الدين ثم ارفع الموكل وطالبه قال ابن سريج تخريجًا وإن أراد أن يحلف الوكيل أنه لا يعلم أن الموكل أبرأه فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يحلفه، لأنه لو أقر به خرج عن الوكالةً والخصومةً ذكره ابن سريج. فروع متفرقة إذا قال الشريكان: قد قسم هذا [12/ 98 أ] المال هل يقبله الحاكم؟ فيه وجهان. ولو تقاسم الشريكان، ثم تقابلا جاز وأعادت الإشاعة، ولو كانت دار بين ثلاثة نفر وكل أحدهم شريكه أن يقسم عنه على أن ينفرد على كل واحد نصيبه لم يجز، وإن كان على أن يكون نصيب الوكيل والموكل حيزًا واحدًا فلا بأس. فرع آخر لو اتفق ثلاثة شركاء في دار على أن وكلوا رجلًا يقسم عنهم ويرى فيما يأخذه القسمةً لكل واحد منهم رأيه لم يجز حتى يوم كل واحد وكيلًا على حاله. فرع آخر لو استأجر رجل من قوم أرضًا بينهم وأرادوا القسمة فله منعهم إن أضر، وإن لم يضر ففيه وجهان. فرع آخر لو قال: والله ما بعت شيئًا فقاسم شريكًا له وقلنا: إنها بيع لم يحنث وفيه وجه أن يحنث.

فرع آخر لو قال رجل للحاكم: لا تقبل شهادتي لأني جُرحت أو جرحت نفسي لم يرده ما لم يبين. فرع آخر هل يعدل الحاكم الشهود بعلمه، فيه قولان وقيل: يحكم به قولًا واحدًا وهو الأصح. فرع آخر إذا وقع الحاكم إلى فقيه ليزوج فلانة وعنده أن الموقع إليه المذكور فيه هو فلان بعينه فتبين أنه كان غيره هل يكون هذا إذنًا لفلان غير المذكور في القصة قال والدي رحمه الله: الظاهر عندي أنه لا يكون إذنًا قياسيًا على من صلى خلف رجل وعنده أنه زيد فبان أنه كان عمرو لم يجز. فرع آخر لو أذن الحاكم في التزوج لمن في التوقيع ولا يعرف عين [12/ 98 ب] المأذون له جاز ويكون إذنًا مضافًا إلى الاسم والنسب والحرفةً المذكورةً كل ذلك فيه، ولهذا يصح من الرجل توكيل الغائب عنه بالاسم والنسب والحرفةً، وإن لم يعرفه بعينه قط ولهذا تعتبر الرؤية في صحة الوكالة. فرع آخر من عدل في القليل هل يعدل في الكثير؟ فيه وجهان: أحدهما: يعدل في الكل لأن الفاسق لا تقبل شهادته والمعدل تقبل شهادته فتقبل على العموم كما ترد على العموم والذي قاله الشافعي رضي الله عنه من الفرق بين القليل دون الكثير لأن من صحت عدالته في القليل لا يكون عدلًا في الكثير، والثاني أنه يجوز أن يعدل في القليل دون الكثير لأن القضاء بالشهادةً بطريق غلبة الظن على الصدق، وقد لا يسكن القلب بقول الإنسان في الكثير دون القليل ولهذا يرى الرجل في العادة يؤتمن على المال القليل دون الكثير، ولهذا تهيب النفوس بالتعديل في القليل دون الكثير، وفائدة هذا الاختلاف أن الشاهد بالقليل إذا عدله عدلان وصح ذلك بتعديلهما ثم شهدا في الحال هل يلزم السؤال عن الحال ثانيًا؟ على هذين الوجهين. فرع آخر إذا ادعى الوكيل حقًا على رجل وصحت وكالته عند الحاكم فشهد والد الوكيل أو ابنه بما يدعيه الوكيل لموكله هل تقبل هذه الشهادة إذا كان الوكيل وكيلًا بالخصومة فقط دون [12/ 99 أ] قبض الحق؟ يحتمل أن يقال لا يقبل، لأنها تصديق من الوالد لولده، فتجري مجرى تعديله له، وذلك لا يجوز، ولأن ذلك يوجب إسقاط المطالبة عن الوكيل بإقامة البينة وثبوت المطالبة على المدعى عليه بالمعارضة، والدفع أو التزام موجب

الشهادة، فكانت هذه الشهادة واقعةً من الأب لابنه، فلم يقبل قوله له، كما لو كان وكيلًا بالقبض أيضًا لا تقبل شهادته له. فرع آخر إذا شهد على امرأةً ولم يذكر أنه رآها سافرةً عن وجهها يحتمل أن يقال تصح هذه الشهادة ما لو كانت الشهادة على رجل ويحتمل أن يقال لا تصح هذه الشهادة وهو الأظهر؛ لأن الظاهر ستر وجوههن وهو الغالب بخلاف الرجل، ويخالف هذا ما ذكره الشافعي إذا شهدوا على إقراره، ولم يقولوا: إنه كان صحيح العقل فهو على الصحة لأن الظاهر وجود العقل فاعتبرنا الظاهر في جميع ذلك. فرع آخر إذا ادعى شيئًا في يد غيره وأقام عليه شاهدين ظاهرهما العدل فعدل المدعي عند عدل فتلف عنده نم ثبت أن الشيء كان للمدعي أو للمدعى عليه فلا ضمان على الحاكم ولا على العدل، وهل على المحكوم الضمان يحتمل وجهين الأصح أن يقال: إن الحكم للمدعي فالمدعى عليه يلزمه الضمان، وإن علم أنه المدعى عليه فلا ضمان على المدعي، ولو سلم الشيء المدعي على طريق التعديل عنده لا يجوز له ذلك لأن التعديل لا يكون عند [12/ 99 ب] المنازع ولكن لو فعله الحاكم فتلف في يد المدعي ثم صح أن الشيء كان له فهل يلزم المدعى عليه الضمان؟ فمرتب على ما ذكرناه من الوجهين فإن أسقطناه هناك فههنا أولى وإن أوجبنا الضمان هناك ففي هذا وجهان مخرجان بناء على القولين في إطعام الغاصب المغصوب منه مع جهل المالك بالحال، ووجه الجمع بينهما أن التسليم حصل لا على التزام لأن المدعي لا يتمكن من التبسط فيه بالتصرف والتنازع حاصل كما أن المغصوب منه مع الجهل بالحال لا يتمكن من التصرف في المغصوب لأن الإباحةً توجب جواز التصرف على الخصوص دون العموم فوجب تخرج الجواب على وجهين لهذا الوجه. فرع آخر إذا نوى العدل أن يواقع كبيرةً كالقتل والزنا لم يصر به فاسقًا، وإذا نوى المسلم أن يكفر غدًا فهل يكفر في الحال؟ فيه وجهان: والصحيح أنه يصير كافرًا في الحال، والفرق أن نية الاستدامة في الإيمان شرط والتوبة لا تجب في حق من لا ذنب له فإنه ليس الأصل وجوب الفسق والأصل فقد الإيمان وإيجاب فعله. فرع آخر القاذف إذا أتى بأربعة يشهدون بزنا المقذوف، وأحدهم أبوه أو ابنه هل تقبل هذه الشهادة؟ يحتمل أن تقال: تقبل فيثبت الزنا بشهادتهم ثم يسقط الحد عن القاذف لثبوت الزنا ولهذا لو ثبت [12/ 1 أ] على رجل الزنا بشهادة الشهود قبل القذف ثم قذفه ابن أحد الشهود أو أبوه يعد الحكم لم تبطل الشهادة ولم يلزم القاذف الحد ولا فرق بين

أن يكون هذا القذف بعد إقامة الحد على المشهود عليه أو قبل إقامته فإن كان بعد إقامته أظهر ويحتمل أن يقال: لا تقبل هذه الشهادة لأن هذه تجر نفعًا وتنفع ضرًا عن والده أو ولده فتصير كالشهادة التي يدفع الشاهد بها عن نفسه ضررًا ولا يشبه هذا إذا تأخر القذف عن الحكم بالشهادة بدليل أن شاهدين لو شهدا لرجل بدار وحكم الحاكم بشهادتهما ثم ملكا أحد الشاهدين صح، ولو اشتراها أولًا ثم شهد أبوه أن البائع كان مالكًا حين البيع لم يقبل فدل على الفرق بين ما قبل الحكم وما بعده. فرع آخر الشاهد على الزنا إذا قدم لفظ الزنا ثم عقبه بقوله: اشهد على ذلك يحتمل على مذهبنا أنه يصير قاذفًا لأن بقوله زنا صار قاذفًا ولزمه الحد، فإذا قال: وأنا اشهد على ذلك صار متهمًا في إسقاط موجب القذف عن نفسه وبهذا فارق تقديم لفظة أشهد لأن التهمة منتفيةً هناك، ويخالف هذا سائر الشهادات إذا أخر فيها لفظة لأن بقوله لم يتوجه عليه شيء فلم يصر متهمًا بضم لفظة أشهد إليه فقبلنا، ولهذا لو لم يعقب بقوله أشهد هناك ثم شهد في مجلس آخر يقبل بخلاف مسألتنا ويحتمل أن يقال [12/ (1) ب] يحصل في المسالة وجهان. فرع آخر إذا شهد على إقرار المدعى عليه بعشرة دراهم وكان المدعي ادعى بتسعة فالشهادة زائدةً على الدعوة فتبطل في الزيادة، وهل تبطل في الباقي؟ قولان بناء على القولين تنقيض الشهادة. فرع آخر لو ادعى رجل على رجلين مالًا ثم شهد له الرجلان على أخر بدين، الأظهر أنها مقبولةً إلا أن يكون ذكر في دعواه عليهما ما لو صح كان فسقًا وإنكارهما لحقه لا يوجب التنسيق لجواز أن يكونا خاطئين في الإنكار ويجب أن لا يفصل بين أن تكون هذه الشهادة في المجلس الذي وقعت فيه الدعوى الأولى أو غيره. فرع آخر إذا ادعى رجلان على رجل مالًا فأنكر ثم شهدا له بشيء على رجل يجب أن تقبل إذا لم يقل عند إنكاره ما يوجب على قوله فسقهما، ولا فرق بين أن تكون هذه الشهادة في ذلك المجلس أو مجلس غيره. فرع آخر إذا ادعى عنى آخر عشرة دنانير وذكر أوصافها إلا أنه لم يذكر أنها موزونة بالمثاقيل، أو شهد شاهدان على البت بعشرة دنانير ولم يذكر من أوصافها أنها موزونةً بالمثاقيل هل تصح هذه الدعوى والشهادة؟ الأظهر أنها تصح لأنه استقر العرف على أنه يراد به الوزن دون العدد ولهذا إذا باع ماله بعشرة دنانير ولم يذكر الوزن حمل عليه

ولهذا [12/ 101 أ] إذا أقر به وأطلق حمل عليه ولم يقبل قوله أنه أراد به العدد باتفاق أصحابنا، وقال بعض أصحابنا: لا تصح الشهادة إلا بذكر الوزن لأن هذا اللفظ يحتمل الوزن والعدد ولهذا أقر بعشرة دراهم عددًا تلزمه بهذه الصفة فلولا أنه من يحتمل اللفظ لما صح تفسيره به والشهادة بالمحتمل إذا وقعت على البت لا تكون صحيحةً، والأول أصح لأن ما يقبح أن يفسق به لا يمنع من جملة مطلقةً على ما يفعل من ظاهره ألا ترى أنه لو شهد بالطلاق أو الحريةً يصح وإن صح بغير ذلك بالطلاق من وثاق وحرية الخلق ولو قيد هكذا لم يقع الطلاق ولا الحريةً وقد رأيت عن بعض أصحابنا: أنه إذا قال: علي عشرة دراهم عددًا يلزمه وزنًا وعددًا. فرع آخر إذا شهد على شهادة رجل أن الأرض التي حدودها هكذا لفلان ولا يعرف شاهد الفرع عين الأرض وهي معلومةً عند شاهد الأصل يحتمل أن يقال تصح هذه الشهادة لأنه ناقل للشهادةً غير مبتدئ بها، وهذا كما أن الناقل للخبر عن أبي هريرة أو غيره لا تعتبر مشاهدته النبي - صلى الله عليه وسلم - وإن اعتبر ذلك في المنقول عنه. فرع آخر إذا سعى بآخر إلى السلطان ثم شهد عليه عقيب السعاية ولم يظهر بينهما شيء [12/ 101 ب] وعنده شهادة لرجل هل له أن يشهد أو عليه أن يشهد؟ فيه وجهان بناء على اختلاف الوجهين في الفاسق هل عليه إقامة الشهادة لأن الشاهد فرضه وحقه أن يؤدي الشهادة والتفحص عن العدالة من فرض الحاكم فإذا لم يجد الحاكم وجها يوجب الجرح فلا على الشاهد شيء إذا أدى الفرض وقال الحق ويحتمل أن يقال: لا يشهد لأن في أدائه الشهادة إيقاعًا منه في الحكم بالباطل بل هو حلي له على أن يحكم حكمًا باطلًا وهذا لا يجوز لأن الحمل على الباطل منهي عنه في الدين وبهذا فارق إذا كان فسقه ظاهرًا عنده لأن ذلك لا يقتضي حمل الحاكم على الحكم بالباطل لأن الحاكم إذا تفحص عن الحال عرف الفسق، ولا يصح أن يقال: الحاكم قضى بالحق فكيف يكون باطلًا لأن السبب الذي يستند إليه القضاء إذا كان باطلًا من جهة الشرع كان القضاء باطلًا، وإن وافق الحق عند الله تعالى، كمن صلى الفرض مع الشك في دخول الوقت تكون صلاته باطلةً، وإن صادفت الوقت ولهذا نقول من اعتقد التوحيد عما ظنه دليلًا وليس بدليل في الحقيقةً فهو غير عارف بالتوحيد كمن اعتقد لا عن دلالة أصلًا. فرع آخر إذا ادعى على آخر مالًا يعرض اليمين عليه فرد اليمين على المدعي سهل [12/ 102 أ] لينظر في الحساب أتأخر لعارض أمر ثم عاد في مجلس آخر فقال المدعى عليه: أنا أحلف الآن فيه وجهان: أحدهما: له ذلك لأن المجلس الثاني لا ينبني على الأول في الأقوال وغيرها،

والثاني: ليس له ذلك لأن اليمين صارت حقًا للمدعي في المجلس الأول وسقط فيه حق المدعى عليه عنها فلا تعود بزوال المجلس وعلى هذا يجب أن لا يلزم استئناف الدعوى والرد في المجلس الثاني. فرع آخر إذا ادعى رجل على رجل عشرة دنانير فأنكر وامتنع من اليمين وقال: أرد اليمين في خمسةً من هذه الجملة وأحلف في الباقي. الظاهر جواز هذا الرد لأن نكود المدعى عليه ويمين المدعي إما أن تكون كإقرار المدعى عليه، أو كإقامة البينة، أو أضعف منهما، وأي الأمور كان يوجب جواز ذلك لأنه لو أقر بالبعض ورد اليمين كان له، فكذلك هذا لأن كل واحد منهما رد اليمين في بعض ما تناولته الدعوى، فلو ادعى على رجل عشرة دنانير فأنكر فقال المدعي: أحلفه في خمسةً الآن، الأظهر أن له ذلك لأن له إقامة البينة على البعض فله التحليف في البعض، لأن كل واحد منهما أحد حجتي المدعي، ولا يقال في هذا إضرار بالمدعى عليه لأن هذا يوجب إذا ادعى خمسةً وحلف المدعى عليه أن لا تسمع دعواه في خمسةً أخرى ليعرض عليه اليمين ثانيًا، وكذلك [12/ 102 ب] ثالثًا ورابعًا. ومن أصحابنا من قال في كلتي المسألتين: ليس له ذلك وليس بشيء. فرع آخر لو شهد شاهدان لرجل ثم قال المدعي بعده: صرفت شاهدي عن شهادتهما هذه بطلت الشهادة ولا يصح الحكم بها لأن صحة الشهادة تفتقر إلى طلب المدعي لها فلا بد من المقام على الطلب، يؤكده أن الشاهد لو صرف نفسه عن الشهادة لم يجز القضاء بشهادته كذلك إذا صرفه المشهود له عنها، فإن عاد المدعي وأقام هذا الشاهد ثانيًا قبلت الشهادة لأنه لم يكذبها، وإنما صرف نفسه عن إقامتها فإذا أعيدت ثانيًا لزم قبولها. فرع آخر إذا ادعى على آخر شيئًا في يده وأقام بينة على ما ادعاه، ثم أقام المدعى عليه بينة على أن الشيء له، ثم أقام الخارج بينة على إقرار المدعي أنه لا حق له فيه ولم يذكروا التاريخ يحتمل أن يقال: يقضى ببينة الخارج لأن قوله لا حق له فيه إنما يبنى عما عقلناه بالأصل أنه لا حق له فيه فكما أن عملنا بهذا الأصل لا يمنع من القضاء بشهود الخارج على إقرار صاحب اليد لم يكن قول المدعى عليه إذا وافق هذا الأصل مانعًا منه، ويبين هذا أن هذه الدعوى لو كانت بدين في الذمة فأقام المدعي بينةً على إقرار المدعى عليه بكذا وأقام الآخر بينةً على إقرار المدعي أنه لا حق له عليه لم تكن هذه [12/ 103 أ] البينةً دافعةً لبينة المدعى على ما ذكرنا من المعنى، فكذلك القول إذا كانت الدعوى في العين.

فرع آخر إذا شهد على شهادة ابنه وكانا عدلين صحت الشهادة، فإن قيل: لعل الابن يخفي من حال والده ما لو ظهر كان جرحًا قلنا: نحن لا نعمل على تعديل الابن بل المسألة مصورة فيه إذا عرفت عدالة الوالد من غير جهة الابن ولا تهمة في سماع الشهادة على شهادته، ولا يقال: يخفى الجرح إذا كان شاهدًا على شهادته لينفذ قوله فيصير متهمًا من هذا الوجه لأن هذا يوجب إذا شهد الرجل مع ابنه لأجنبي شيء أن لا تقبل شهادتهما لأن كل واحد يخفي ما يعلمه من صاحبه من الجرح ليعمل، وأجمعنا على قبول هذه الشهادةً وهذا اختيار عبد الله القطان الطبري من أصحابنا. ويحتمل أن يقال: لا تقبل لأنه لو شهد على شهادة وجرحه وعدله سائر الناس لم تقبل شهادته على شهادته فلما كان قوله عليه بالجرح مسموعًا وهو سكت عن الجرح صار كأنه منفذًا لشهادته لأن شهادته لا تتم إلا بسكوته عن جرحه وبهذا خالف شهادة الرجل مع ابنه لآخر، لأن أحدهما: لو جرح الآخر وعدلهما سائر الناس كان العمل على التعديل فلا تهمة إذا في شهادة أحدهما مع صاحبه فجوزناها. فرع آخر إذا شهد الابن عند أيه الحاكم لأجني على آخر الأظهر [12/ 103 ب] أنه لا يقبل، وإن كان أزهد الناس عند الكافةً لأنه يجوز أن يخفي ما يعرفه من أحواله من الجرح فلا يعرى عن تهمةً، وفيه وجه آخر: يجوز ذلك إذا كانت عدالته معقولة من غير جهة الوالد. قال هذا القائل: أليس يجوز للوالد أن يستخلف ابنه على القضاء ولا يعرى عن تهمةً لأنه قد يخفي ما لو ظهر لا يجوز استخلافه فجاز مثله في مسألتنا، وهذا لأن التهمة الضعيفة لا توجب رد الشهادة كالصداقةً والأخوة. فرع آخر إذا ادعى على آخر في يده وأقام بينة، ثم أقام المدعى عليه شاهدين على أن الشيء له فعاد شهود المدعي بمطالبة المدعي وشهدوا بجرح شاهدي المدعى عليه الأظهر أن هذه الشهادة مسموعة؛ إذ لا مانع من قبولها من قرابةً وعداوةً وغيرها، وقال بعض أصحابنا: لا تقبل هذه الشهادة لأنهم متهمون في تنفيذ شهادتهم وهذا ضعيف لأن شاهد الفرع إذا عدل شاهد الأصل قبل، وإذا شهد الرجل مع ابنه بحق تقبل الشهادة وما ذكروه من التهمةً الضعيفةً موجودةً في هذين الموضعين وهذا لأن ما عرفناه من عدالة الشاهدين يمنعنا من المبالاة بهذه التهمةً الضعيفة. فرع آخر إذا أراد النظر إلى امرأةً أجنبيةً للشهادةً مرةً واحدةً وهو يعلم أنه لا يقع له [12/ 104 أ] المعرفة بالمرة الواحدة على وجه لو رآها ثانيًا علم أنها تلك المرأةً هل يفسق به

ويصير ذلك طعنًا؟ ويحتمل أن يقال: لا يكون طعنًا لأن لهذه الرؤية تأثيرًا في شهادته لأن الرؤية لو تكررت حتى وقعت المعرفة على الوجه الذي ذكرناه كان المؤثر في ذلك جميع ما تقدم من الرؤية فلم يصر هذا طعنًا في العدالة، وإن كان هذا القدر غير كاف في جواز الشهادة كالعبد يدخل في الشهادة في مثل ذلك فلا يصير طعنًا في عدالته من جهة جواز أداء الشهادة بهذه الرؤية بعد الحرية، وإن كانت لا تقبل في الحال ويحتمل أن يقال: يكون طعنًا لأن التحمل لا يقع بهذه الرؤية فهي إذًا غير مفيدةً فصار كالرؤية لا لغرض صحيح ويفارق مسألة العبد لأن التحمل هناك يقع بتلك الرؤية على وجه الصحة فصارت الرؤية مفيدةً هناك فلم تصر طعنًا، وهذه الرؤيةً وإن كان لها تأثير فإنما يحصل ذلك التأثير بضم غيرها إليها ومسألتنا فيمن يريد الاقتصار على هذه النظرةً الواحدةً. فرع آخر إذا قال المشهود له للشاهد: عفوت عن أداء الشهادة ثم طلبها منه يلزمه إقامتها لأن أداء الشهادة عند الطلب هو حق لله تعالى وحق الله تعالى لا يصح فيه العفو من جهة الآدمي له ولأن الشاهد يجرح بهذا العفو من الشهادة لأنه لو أقامها بعد الطلب [12/ 104 ب] صحت الإقامة. فرع آخر إذا قال: زنيت ولكني حددت يحتمل أن يقال: لا يقبل قوله بخلاف ما لو رجع عن إقراره يقبل لأن رجوعه أوجب شبهة في أصل الفعل وهو الزنا فلم يكن الحد، وهنا يدعي استيفاء ما وجب عليه فلا يقبل إلا ببينة، ويحتمل أن يقال: يقبل لأنه لو لم يقبل قوله في استيفاء الحد لم يقبل في الرجوع كما في الأموال، يؤكده أنه لو أقر ثم رجع لا يقبل، ولو ادعى دفع الزكاة إلى ساعٍ آخر قبل قوله فصار أمر القبول في دعوى الاستيفاء أولى. فرع آخر إذا قال رجل: لا شهادةً لفلان عندي في الأرض الفلانية إلا باليد، ثم شهد بالملك في الحال يحتمل أن يقال: لا تقبل، ولا يقال: اليد دلالةً على الملك، والشاهد به الشاهد بالملك في الحقيقةً؛ لأنه لو صح هذا لما جاز أن يكون شاهدًا بالملك دون اليد، أو باليد دون الملك وأجمعنا على جوازه. فرع آخر لو قال للقاتل: عفوت عن بعض دمك ولم يبين مقدار البعض فإن قلنا: البراءةً عن المجهول تجوز فهذا أجوز، وإن قلنا: لا يجوز ذلك فهنا يحتمل أن يقال: يجوز لأن العفو عن البعض فيه كالعفو عن الكل.

فرع آخر إذا اعتقد الشاهد أن الحاكم لا يصلح للقضاء لكنه يوصل المشهود له إلى حقه بشهادته لزمه أن يشهد عنده [12/ 105 أ] ذكره أصحابنا. فرع آخر إذا حلف فاستثنى في يمينه أعيدت عليه اليمين مثل أن يقول: إن شاء الله قال: إلا أن يكون بين يمينه واستثنائه سكتة فلا يعاد عليه لأن الاستثناء إذا انفصل عنها ما لا يعمل فيها.

كتاب الشهادات

كتاب الشهادات الأصل في الشهادات الكتاب والسنة والإجماع، أما الكتاب: فقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} [البقرة: (282)] 1 لآية. فذكر الشهادة في هذه الآية في ثلاثة مواضع فقال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} ثم قال: {وَأَشْهِدُوَا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} ثم قال: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] فلما توعد على كتمان الشهادة دل على أنه إذا ظهر تعلق الحكم بها، وأيضًا قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: (2)]. وأما السنة فما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الشهادة فقال: ((ترى الشمس فقال: نعم، فقال: مثلها فاشهد أو دع)) وقال ابن عباس رضي الله عنهما: ذكر عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الرجل يشهد بشهادة فقال: ((أما أنت يا ابن عباس فلا تشهد إلا على أمر يضيء لك كضياء هذه الشمس وأومأ بيده [(12) / 105 ب] إلى الشمس)) وأيضًا روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في خبر الحضرمي والكندي ((شاهداك أو يمينه ليس لك غيره)). وقال ابن عمر رضي الله عنهما: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول ((من قال في مؤمن ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال)) والردغة الوحل الشديد يقال: ارتدغ الرجل إذا ارتطم في الوحل. وأما الإجماع فلا خلاف بين المسلمين فيها والحاجة داعية إليها، فإذا تقرر هذا فالحقوق على ضربين: حق الله تعالى وحق الآدمي، فأما حقوق الآدمي فعلى ثلاثة أضرب: أحدها: ما ليس بمالٍ ولا المقصود منه المال ويطلع عليه الرجال كالنكاح والطلاق والرجعةً والعتق والكتابة والتدبير والنسب والولاء وعقد الوكالة وإثبات البلوغ والموت وجرح الشهود وعدالتهم وإثبات الإسلام في الردة والإيلام والظهار وانقضاء العدة والإقرار بالاستيلاد والجناية الموجبة للقود فلا يقبل فيها إلا شهادة ذكرين حرين فقط. والثاني: ما كان مالًا كالغصب والقرض والمقصود منه المال كالبيع والإجارة

والرهن ونحو ذلك يقبل فيه ثلاث حجج شاهدان، وشاهد، وامرأتان [12/ 106 أ] وشاهد ويمين. والثالث: يقبل فيه ثلاثة أضرب: ضرب لا يقبل فيه إلا أربعة ذكور، وهو الزنا، وضرب لا يقبل فيه إلا شاهدان ذكران وهو شرب الخمر والسرقة والقتل في المحاربة، وضرب هل يقبل فيه رجلان أو يعتبر فيه أربعة؟ فيه قولان وهو في الإقرار بالزنا، فإذا تقرر هذا فنقول: قال الشافعي قال الله جل ذكره: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} فاحتمل أمره جل وعز أمرين: أحدهما أن يكون مباحًا تركه والآخر حتمًا يقضي من تركه بمنزله، فلما أمر الله تعالى في أية الدين والدين تبايع بالإشهاد وقال فيها: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: (283)] دل على أن الأولى دلالةً على الحظ لما في الإشهاد من منع الظالم بالجحود أو النسيان الفصل إلى آخره. وجملة هذا أن الإشهاد على شيء من العقود غير واجب إلا في النكاح، وفي الرجعة قولان والاحتياط في البيع الإشهاد، وكذلك في المداينات ويستحب ذلك [12/ 106 ب] ولا يجب وبه قال عامة أصحابنا، وقال سعيد بن المسيب والضحاك والحسن والشعبي وداود يجب الإشهاد على البيع، واختلف أصحاب داود فمنهم من قال: يحتاج أن يقول المتبايعان أشهدنا كم ومنهم من قال: يكفي إحضارهما واحتجوا بقوله {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: الآيه (282)]. ودليلنا ما ذكره الشافعي رضي الله عنه أن هذا محمول على الندب والاحتياط بدليل أنه لم يأمر بذلك عند العلم بالأمانة، ثم بين ما فيه الفوائد فذكر أن صاحب الحق يستفيد بأن يستوثق حقه بالشهادة ومن عليه يستفيد من وجهين أحدهما: أن يمنعه مكان الشهادة من الجحود، والثاني: أنه لو مات ولم يعلم وارثه أن عليه ذلك الدين يشهد الشهود فيؤخذ الدين من تركته فلا تبقى ذمته مرهونة به. واحتج بخبر الأعرابي ((باع فرسًا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم جحده فشهد له خزيمة)) ووجه الدليل أنه لم يكن استشهد أحدًا على البيع على ما ذكرنا. وقيل: إن خزيمة كان يشهد عند الخلفاء فيقصون بشهادته وحده. وقال الإمام الجويني في ((المنهاج)): هذا الأعرابي جحد بقول بعض المنافقين فترافعا إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فقال أبو بكر لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -[12/ 10 أ] ((شاهداك فترافعا إلى عمر رضي الله عنه فضرب عنقه)) وإنما ضربه لأنه كذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فصار مرتدًا بالتكذيب، وهذا يدل على أن مثل هذا المرتد لا يستتاب. وذكر بعض أصحابنا بخراسان في مثل هذا الخبر أنه - صلى الله عليه وسلم - ((بايع أعرابيًا فرسًا فجحد الأعرابي الثمن)) وهذا غلط ظاهر. ولأن البيع عقد معاوضةً محضة فلا يفتقر إلى الإشهاد كالإجارةً، فإن قال قائل الأمر بظاهرة يدل على الوجوب فلم نزله الشافعي

باب عدة الشهود وحيث لا يجوز فيه شهادة النساء

منزلةً واحدةً في الاحتمالين احتمال الإباحة واحتمال الوجوب وهلا قال: ظاهره الحتم فهو على الوجوب إلى أن يقوم الدليل قلنا: الأمر إن كان على الوجوب فهو يحتمل الإباحة، والشافعي ما ادعى أحد الاحتمالين ولكن ادعى مجرد الاحتمالين. فإن قيل أليس قد اشتغل بطلب الدليل لإجراء الأمر على أحد الاحتمالين؟ فهل دل على أنه لم يجعل صفته للوجوب؟، قلنا: بل يحمل الأمر على ظاهر الوجوب مع احتماله الإباحة ثم طلب الدليل على إزالة ظاهره في الوجوب والدليل آية الدين وهكذا يفعل في سائر الأوامر حيث ما كانت. باب عدة الشهود وحيث لا يجوز فيه شهادة النساء مسألة: قال: دل كتاب الله تعالى على أن لا يجوز في الزنا [12/ 107 ب] أقل من أربعة. قد ذكرنا أن الحقوق ضربان: مجملًا والكلام الآن في شرحها وتفسيرها، فالزنا لا يثبت إلا بأربعة شهود على أي صفة كان لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ} [النور: الآية (4)]. وقوله تعالى: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور الآية (13)]. وقال - صلى الله عليه وسلم - في خبر سعد حين قال: ((يا رسول الله أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجلًا أمهله حتى آتي بأربعة شهداء قال نعم)). وروي أن عمر رضي الله عنه جلد ثلاثة نفر شهدوا الزنا حين لم يتم الرابع. ولأن الأمة أجمعت على أن عدد الشهود في الزنا أربعة لا يجوز النقصان منه. والمعنى في ذلك أن الناس مندوبون إلى الستر على الزاني بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم - لهزال: ((حيث أمر ماعزًا أن يقر بالزنا هلا سترته بثوبك يا هزال)).! فإذا شهدوا مع كونهم مندوبين إلى الستر غلظ عليهم فلم يقبل إلا أربعة ولا مدخل للنساء فيها بحال لأنه تعالى قال: {الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: الآية (4)]. والهاء إنما تدخل على جمع المذكر وتسقط في جمع المؤنث. وروي عن عطاء وحماد بن أبي سليمان أنهما قالا: يجوز ثلاثة رجال وامرأتان لأن شهادة المرأتين تقوم مقام شهادة رجل كما في الحال، وهذا لما غلط لما ذكرنا، وقال الزهري: جرت السنة من النبي [12/ 108 أ]- صلى الله عليه وسلم - والخليفتين من بعده أن لا تقبل شهادة النساء في الحدود. وأما عدا الزنا من حدود الله تعالى فيقبل فيها شاهدان ذكران لأنه فعل يحصل من شخص واحد فيثبت بشاهدين كإتلاف المال، ولا يقبل فيها شاهد وامرأتان خلافًا لعطاء وحماد وهذا لأنها تدرأ بالشبهات فكانت الشهادة فيها أغلظ كالزنا لما كان أغلظ لتعديه إلى اثنين واختصاصه بإسقاط نسب الولد كانت الشهادةً فيها أغلظ مما عداه. ثم قال

الشافعي رضي الله عنه هنا وقال الله تعالى في الإمساك والفراق {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: الآية (2)] فانتهى إلى الشاهدين ودل على ما دل قبله من نفي أن يجوز فيه إلا رجال لا نساء معهم لأنه لا يحتمل إلا أن يكونا رجلين وقصد بهذا أنه لا يقبل في الرجعةً والطلاق إلا شاهدان ذكران ولا مدخل للنساء في ذلك لقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: الآية (2)] في الرجعة فانتهى إلى شاهدين، وقوله: ودل على ما دل قبله أي ودلت هذه الآية على مما دلت عليه آية الربا في أول الباب أن النساء لا مدخل لهن فيها وكذلك النكاح والخلع والعتق والقصاص والقذف والعتق والنسب والكناية والتدبير وعقد الوكالة والوصية، فلا يقبل فيها شهادة النساء وبه قال مالك والأوزاعي والنخعي وقال الحسن البصري لا يجيزه بشهادة النساء على الطلاق [12/ 108 ب] وروي نحوه عن النخعي. وقال أبو حنيفة رحمه الله: يقبل في ذلك شاهد وامرأتان واحتج الشافعي رضي الله عنه بما ذكرنا، ثم قال: وقال الله تعالى في آية الدين: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: الآية (282)]. ولم يذكر في شهود الزنا ولا الفراق ولا الرجعة امرأةً ووجدنا شهود الزنا يشهدون على حد لا على مال، والطلاق والرجعةً تحريم بعد تحليل وتثبيت تحليل لا مال وهذا لفظ مشكل وأراد أن الطلاق تحريم شيء بعد التحليل، والرجعة تثبيت، تحليل وكلاهما ليسا بمال، والوصيةً إلى الموصى له قيام بما أوصى به إليه لا أن له مالًا، يعني لا تثبت ولاية التوصيةً بشاهد وامرأتين، كما لا يثبت الطلاق والرجعة خلافًا لأبي حنيفة، ثم قال: ولا أعلم أحدًا من أهل العلم يخالف في أنه لا يجوز في الزنا إلا الرجال وأكثرهم قال في الطلاق ولا في الرجعة إذا تناكر الزوجان، وقالوا في ذلك في الوصية وأراد الوصاية إليه فكان ذلك كالدلالةً على ظاهر القرآن وكان أولى الأمور أن يصار إليه ويقاس عليه وهذا تنبيه للقياس على الزنا فكأنه قاس ما عدا الأموال على الزنا. وقوله لا أعلم أحدًا من أهل العلم يخالف لعله يريد به الصحابة رضي الله عنهم، فأما من بعدهم فالكافة على ذلك إلا عطاء وحماد على ما ذكرنا. [12/ 109 أ] ثم قال: والدين فما أخذ المشهود له مالًا جازت فيه شهادة النساء مع الرجال وما عدا ذلك فلا يجوز إلا الرجال. وذلك مثل الفروض والبياعات والإجارات والوصية بالمال والإقرار بالمال والإقرار بالإتلافات والغصوب والآجال التي يقصد بها استحقاق المال وسائر الثلاث وقبل الخطأ والعمد الذي لا يوجب القصاص مثل قتل الحر عبدًا ونحو ذلك، وكذلك إثبات الإقالة والرد بالعيب وضمان المال وإثبات قبض نجوم الكتابةً إلا النجم الأخير ففيه وجهان:

أحدهما: لا يثبت لأن العتق به يحصل، والثاني يثبت لأن العتق يحصل بفقد الكتابة لا بهذا، وكذلك الرجوع في التدبير وعجز المكاتب عن أداء النجوم ووجوب المهر بوطء الشبهةً وثبوت طاعة المرأة لاستحقاق النفقة، واستحقاق سلب الغنيمة بقتل الكافر، لإثبات أن مال الصيد لعملك بذلك وعقد المسابقة وحصول السبق فيه، ونحو ذلك يثبت كله بشاهد وامرأتين. ثم قال وفي قول الله عز وجل: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: الآية (282)] وقال: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى} [البقرة: الآية (282)]. دلالة على أن لا تجوز شهادة النساء حيث تجوز إلا مع رجل ولا يجوز منهن إلا امرأتان فصاعدًا بهذا أن شهادةً النساء [12/ 109 ب] في المال لا تجوز وحدهن حتى يكون معهن رجل ولا يقبل منهن أقل من امرأتين للآية التي ذكرنا. والمعنى في ذلك ما أشار بعد هذا فقال: وأصل الماء أنه قصر بهن عن أشياء بلغها الرجال وأنهم يعلوا قوامين وحكامًا ومجاهدين، فإن لهم السهمان من الغنيمة دونهن وغير ذلك، فالأصل أن لا يجزن فإذا جزن في موضع لم تعد بهن ذلك الموضع. وفي ضمن هذا الكلام أن المرأة لا يجوز أن تكون قاضية خلافًا لأبي حنيفة، ولأن الله تعالى ما جوز شهادتهن في آية الدين إلا مع رجل فكيف تفرد بالقضاء؟ وفيه إلى مسألة من الأصول أن الأصل إذا كان ممنوعًا محصورًا فاستثني عن أصل الحصر شيء لم يجز القياس على ذلك المستثني هذا معنى قول الشافعي فالأصل أن لا يجزن، فإذا أجزن في موضع لم يعد بهن ذلك الموضع، ونظير هذا على أصله مسألة العرايا فيما زاد على خمسة أوسق، ومسألة حصر المريض ونحو ذلك. ثم قال الشافعي رضي الله عنه: وكيف أجازهن محمد بن الحسن في الطلاق والعتاق وردهن في الحدود في إجماعهم على أن لا يجزن على الزنا ولم يستثنين في الأعوان من الأربعة؟ دليل على أن لا يجزن في الوصية إذا لم ستثنين في الأعواز من شاهدين وهو إشارة [12/ 110 أ] إلى قوله تعالى في الوصية {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ} [المائدة: الآية (106)]، ولم يذكر رجل وامرأتان هنا فدل أن الوصاية لا تثبت بذلك وعلى ما ذكرنا قال بعض أصحابنا بخراسان: لو أرادت المرأة إثبات النكاح لمكان المهر يقبل شاهد وامرأتان لأن النكاح يرتفع يقول الرجل متى شاء ويؤاخذ بإقراره أنه لا نكاح بينهما، وحكي عن الحسن البصري أنه قال: كل ما يوجب القتل لا يقبل فيه أقل من أربعة عدول كالزنا وهذا لا يصح لأن الزنا مختلف فيه وبعضه يوجب الرجم وبعضه يوجب الجلد والشهادةً فيهما واحدةً فيجب أن يخالف ما عداه فيما يوجب القتل ولا يوجبه في أن تكون البينةً فيه واحدةً.

مسألة: قال: وقال بعض أصحابنا: إن شهدت امرأتان لرجل بمال حلف معهما. الفصل قد ذكرنا أنه يقبل في المال شاهدان وشاهد وامرأتان بلا خلاف ويحكم بشاهد ويمين خلافًا لأبي حنيفة ولا يحكم فيه بأربع نسوة وأكثر منهن بلا خلاف. ولو شهد به امرأتان وحلف معهما لا يحكم به خلافًا لمالك رحمه الله، فإنه قال: يحكم بذلك كما يحكم بشاهد ويمين لأن المرأتين تقومان مقام رجل وهذا غلط لما قال الشافعي: لو جاز هذا لجاز أربع نسوةً ويعطي بهن حقًا، فإن قال مالك: هما مع يمين رجل كرجلين فيلزمه أن لا يجيزهما مع يمين امرأةً والحكم فيهما واحد [12/ 110 ب] ولأن اليمين أضعف من المرأتين لأن شهادة الرجل والمرأتين أكثر من شهادة الرجل مع اليمين، فإذا لم يجز الحكم بشهادة المرأتين مع المرأتين فلان لا يجوز بشهادة المرأتين مع اليمين أولى ولأن اليمين ضعيف، فإذا انضم إلى المرأتين انضم الضعيف إلى الضعيف فلا يتقوى بخلاف ما لو انضم المرأتان إلى رجل أو اليمين إلى رجل. ثم قال الشافعي رضي الله عنه: وكان القتل والجرح وشرب الخمر والقذف مما لم يذكر فيه عدد الشهود في نص كتاب ولا نص سنة لكان ذلك قياسًا على شاهدي الطلاق وغيره مما وصفت. قال أصحابنا: من نظر أن لظاهر هذا الكلام ظن أن الشافعي قصد به بيان مجرد المذهب وليس كذلك بل فيه بيان المذهب أقوى حجةً على أبي حنيفة، ووجه الحجة فيه أن أبا حنيفة وافقنا على أن شرب الخمر والقذف والقصاص لا يثبت إلا برجلين وليس لشهادة هذه الأحكام نص في الكتاب ولا في السنة فما استقرأناها إلا قياسًا بالإجماع على شاهدي الرجعةً المقصوصين في آية الرجعة فكيف وافقنا في الفرع المستنبط من الأصل ثم خالفنا في الأصل؟ ولا يجوز أن يقال: علم ذلك بالقياس على حد الزنا لأن العدد هناك أربعة، وهنا لا يعتبر أربعة فإن قيل: فهذا إثبات الأصل المختلف فيه بفرع متفق عليه [12/ 111 أ] وهو محال قلنا: لم نأخذ حكم الأصل من الفرع بل تعرفنا بوجود الحكم في الفرع أنه ثابت في الأصل وذلك جائز بكل حال. مسألة: قال: ولا يحيل حكم الحاكم الأمور عما هي عليه. الفصل أنه إذا ادعى حقًا عند الحاكم وشهد له بذلك شاهدان يحكم الحاكم بشهادتهما

فالحكم يتبع الشهادة, فإن كانت صحيحة في الظاهر والباطن نفذ الحكم في الظاهر دون الباطن فلا للمحكوم له لم حكم له بحال سواء كان مالا أو نكاحا أو طلاقا أو غير ذلك, وبه قال مالك وأبو يوسف ومحمد واعمة الفقهاء, وروي عن شريح القاضي أنه كان يقول للرجل: إني لا أقضي لك, وإني لأظنك ظالما ولكن لا يسعني إلا أن أقضي بما يحضرني من البينة وإن قضائي لا يحل لك حراما, وقال أبو حنيفة: إن كان المحكوم به نكاحا أو طلاقا أو عقدا نفذ ظاهرا وباطنا, وإن كان ذلك بشهادة الزرو حتي قال: لو ادعي رجل زوجيه أجنبيه وشهد له شاهدان بالزور فحكم الحاكم له حل له وطؤها ظاهرا وباطنا وصارت زوجة له, وكذلك لو ادعت طلاقا بالزور وشهد لها شاهدان بالزور فحكم الحاكم بشهادتهما بانت من زوجها ظاهرا وباطنا وتحل لكل واحد من الشاهدين [12/ 111 ب] أن يتزوجها. واحتج بما روي أن رجلا ادعي علي امرأة نكاحا ورفعها إلي علي رضي الله عنه فشهد له شاهدان بذلك فقضي بينها بالزوجية فقالت: والله ما تزوجني يا أمير المؤمنين فاعقد بيننا عقد حتى أحل له فقال: ((شاهداك زوجاك)) فدل علي أن النكاح قد ثبت بهما. ودليلنا ما روت أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له علي نحو ما أسمع منه فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار)) , وروي أنه قال: ((إنما أحكم بالظاهر والله يتولي السرائر)) , وروي ((فإنما أقطع له اسطافا من النار)). ومعني قوله الحق بحجته أي أفطن لها واللحن مفتوحة الحاء: الفطنة, يقال: لحنت الشيء ألحن لحنا ولحن الرجل في كلامه يلحن لحنا بسكون الحاء. واحتج الشافعي رضي الله عنه بأن شهادة الزور لو كانت في القتل فقضي القاضي بها لم يحل لولي الدم القصاص فيما بينه وبين الله تعالي فكذلك هنا لا يحل الفرج فيما بينه وبين الله تعالي, وأما خبرهم فلا حجة لهم فيه لأنه لم يضف إلي حكمه بل أضافه إلي الشاهدين وأراد في الظاهر ولم يستأنف النكاح لأنه يكون طعنا [12/ 112 أ] في الشهود, فإذا تقرر هذا نقول: إذا شهد بالزور في الطلاق وحكم الحاكم به فإنها لا تبين منه في الباطن ولا تحرم عليه, ومتى قدر عليها حل له وطؤها إلا أن الشافعي قال: أكره أن يطأها فيجد لأن الحكم نفذ في الظاهر, وإن لم ينفذ في الباطن, وقال في ((القديم)): أكره أن يتبعها مخافة أن يتهم أو يصاب معها فيظن أنه علي فرج حرام فيقام عليه الحد, والنفقه ساقطه لأنها محولة بينه وبينها ويتوارثان, ولو تزوجت بآخر لم تحرم علي الأول, فإن وطئها الثاني فإن كان أحد الشاهدين فهو زان بحد ولا تحريم ولا عدة, وإن كان غيرهما تنظر فإن كان عالما بحال الشهود فهو زان فلا تحريم ولا

عدة أيضا, ويحد وإن كان جاهلا فعليها العدة لأنه وطء شبهة وتحرم علي الأول حتى تنقضي عدتها وعلي هذا لو أقام شهود زور علي الزوجية فحكم الحاكم بالنكاح فوطئها عالما يلزمه الحد وعليها أن تمتنع منه ما أمكنها, فإن أكرهها لم تأثم هي؛ ذكره أبو حامد وقال بعض أصحابنا: في وجوب الحد نظر, وأنا أقول: لا يلزم الحد في كلتا المسألتين لأنه مختلف في إباحته وخلاف أبي حنيفة في صحة النكاح أعظم الشبهة فالوطئ وطئ شبهة سواء كان عالما أو جاهلا, ويحرم علي الأول وطئها بعد ما وطئها [12/ 112 ب] الثاني حتى تنقضي عدتها, ورأيت بعض أصحاب أبي حنيفة؟ يشفعون علي الشافعي فيقولون: أباح الشافعي أن يطأ رجلان امرأة واحدة أحدهما: في الباطن, والثاني في الظاهر وترتفع هذه الشفعة بما بينت والله أعلم. فرع لو حكم بما يخالف باطنه ولا يبرم علانية بعد حكمه كرجل باع جارية من رجل وجحده المشتري وحاكمه فأحلف الحاكم أنه لم يشتريها, وعادت الجارية إلي بائعها فالأولي بالحاكم أن يحمل المشتري علي الاستقالة ويحمل البائع علي الإقامة لتحل لبائعها ظاهرا وباطنا, فإن لم يفعل أو فعل فلم يجب ففيه ثلاثة أوجه: أحدهما: تعود إلي البائع ملكا للمشتري فيبيعها فيما يستحق من ثمنها ولا يحل له وطئها ثم زيادة الثمن للمشتري والنقصان عليه في الباطن. والثاني: الجحود يجري مجري الرد بالإقالة, فإن أراد البائع إعادتها إلي ملكه أظهر الإقالة وحلت له بعد إظهارها, وإن لم يرد إعادتها إلي ملكه لم تحل له وكانت في يده ليستوفي ماله من ثمنها وهل ينفرد ببيعها؟ فيه وجهان. والثالث: الجحود يجري مجري الفلس لتعذر الوصول إلي الثمن فيقول: قد اخترت غير مالي باسترجاعها وفي جواز تفرده بهذا القول من غير حاكم وجهان, ثم هي حلال له, وإن لم يرد أن يتملكها كانت في يده للمشتري ليستوفي ثمنها من بيعها. فرع آخر [12/ 113 أ] لو حكم بما اختلف فيه الفقهاء, فإن حكم بأقوى المذهبين أصلا نفذ في الظاهر والباطن, وإن حكم في أضعف المذهبين أصلا مما ينقضه عليه غيره من القضاة فحكمه باطل في الظاهر والباطن وهل يفتقر بطلانه لما حكم حاكم؟ فيه وجهان, وإن حكم فيما يحتمل كل واحد من المذهبين ولا يجوز لغيره من القضاة أن ينقضه عليه فحكمه نافذ في الظاهر والباطن له وعليه من غير أهل الاجتهاد كان لازما للمحكوم عليه لأنه مجبر وفي إباحته للمحكوم له إذا خالف معتقدة وجهان. أحدهما: لا يباح له لاعتقاده وحظره, والثاني يباح له لنفوذه في الظاهر والباطن, ومن أصحابنا من قال: إذا أعتقد الرجل أن الطلاق قبل النكاح لازم فحلف هكذا, ثم تزوج فحكم له الحاكم بجوازه لا تحل له فيما بينه وبين الله تعالي في للمقام عليه ويلزمه

باب شهادات النساء لا رجل معهن

نصف المهر بالعقد لحكم الحاكم, ولو مات رجل وترك جدا وأخا لأبيه وأمه فقدم إلي قاض يقول: تقدم الجد فحكم له بالمال واعتقاده أن الأخ يرث مع الجد لا يحل له أن يستبد بالمال, وكذلك لو كان لا يري توريث ذوي الأرحام فحكم له بميراث ذوي رحمه لا يحل له. فرع آخر الحكم يختلف في الناكح كالنكاح بغير ولي فللزوجين حالتان في عقده وفي حله, فأما في العقد, فإن كانا من أهل الاجتهاد فلهما أن ينفردا بالعقد باجتهادهما من غير حكم حاكم [12/ 113 ب] ولا استفتاء مجتهد, وإن كانا من غير أهل الاجتهاد ففي جواز تفردهما بالعقد من غير اجتهاد حكم واستفتاء مجتهد وجهان: أحدهما: يجوز ما لم يمنعها ذو حكم لما في الاجتهاد من إباحته, والثاني: لا يجوز ما لم يأذن لها ذو حكم لما في الاجتهاد من خطره, وأما حال الحل فلهما حالتان فإن كانا من غير أهل الاجتهاد فلا يرتفع بأنفسهما ونظر فإن زوجها حاكم لم يرتفع إلا بحكم حاكم, وإن زوجها فقيه مجتهد فبما يرتفع به وجهان: أحدهما: يرتفع باستفتاء مجتهد اعتبارا بعقده, والثاني: وهو اختيار ابن سريج لم يرتفع إلا بحكم حاكم حتى بعقد النكاح من بعده, والثانية: أن يكون الزوجان من أهل الاجتهاد ففيما يرتفع به العقد وجهان: أحدهما: يرتفع باجتهادهما اعتبارا بعقده وقال ابن سريج: لا يرتفع إلا بحكم حاكم لتجاوزهما إلي أن ينعقد النكاح من بعدهما ذكره في ((الحاوي)). باب شهادات النساء لا رجل معهن مسألة: قال: ولادة النساء لا أعلم فيها مخالفا أن شهادة النساء جائزة فيها. الفصل جملة هذا أن شهادة النساء بانفرادهن جائزة فيما لا يطلع عليها الرجال غالبا كالرضاع والولادة, وعيوب النساء والأخبار ولا يقبل فيها أقل من أربع نسوة [12/ 114 أ] وقد ذكرنا اختلاف العلماء فيه في كتاب الرضاع, وحكي عن الحسن أنه قال: يكفي واحدة, وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما وبه قال أحمد, وحكي عن ابن أبي ليلي يكفي اثنتان, وقال أبو حنيفة: يقبل شهادة القابلة وحدها في الولادة, واحتج بما روي حديفة رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة وأراد به وحدها, ومثله روي عن علي رضي الله عنه قلنا: قال الدارقطني: رواه أبو عبد الرحمن المدائني رجل مجهول والذي روي عن علي رضي الله عنه رواه جابر الجعفي

عن عبد الله بن يحيي وهما ضعيفان, وقد قال الشافعي: لو ثبت عن علي رضي الله عنه صرنا إليه إن شاء الله ولكنه لا يثبت عندكم ولا عندنا عنه, وقال إسحاق الحنظلي: لو صحت شهادة عن علي لقلنا به ولكن في إسناده خلل ثم إنه أراد به قبل شهادتهما ولي فيه أنه قبل شهادتهما وحدها, وأفاد أنه يقبل شهادتهما مع مشاهدتها للعورة أو قبل شهادتها مع أن لها في ذلك صدق. واحتج ابن أبي ليلي بأن كل جنس يثبت به الحق كفي فيه الاثنتان منه كالرجال وهذا غلط؛ لأن الرجل كامل الدين كامل العقل في الغالب, ولهذا فهو مثل بامرأتين في المآل عند اجتماعهما ثم يقابل بأنها شهادة من شرطها الجزية فلا يقبل قول الاثنتين من النساء ولا قول امرأة واحدة أصله سائر الشهادات. واحتج الشافعي: فقال: لما أمر الله تعالي النساء فجعل امرأتين يقومان مقام رجل [12/ 114 ب] في الموضع الذي أجازهما فيه دل والله أعلم إذا أجاز المسلمون شهادة النساء في موضع أن لا يجوز منهن إلا أربعة عدول لأن معني حكم الله تعالي. قال: وقلت لمن يجيز شهادة امرأة واحدة في الولادة كما يجيز الخبر بها من قبل الشهادة أراد به أبا حنيفة أيقبل امرأة عن امرأة؟ إن امرأة رجل ولدت هذا الولد قال: لا قلت: فيقبل في الخبر, أخبرنا فلان عن فلان قال: نعم قلت: والخبر ما استوي فيه المخبر والمخبر والعامة من حلال أو حرام قال: نعم قلت: والشهادة ما كان الشاهد منه خليا والعامة وإنما يلزم المشهود عليه قال: نعم قلت: أفتري هذا مشبها هذا قال: أما في هذا فلا. فإن قيل: ما معني قول الشافعي رضي الله عنه الخبر ما استوي فيه؟ ومن الأخبار وما يلزم الراوي به حكم ويلزم غيره, ومن الشهادات ما يلزم الشاهد بما حكم كما يلزم المشهود عليه وهو الشهادة علي الصوم والفطر قلنا: قال الشافعي رضي الله عنه: هذا وأورد ما فسره به من تحريم وتحليل اللذين هما مؤبدان لا ينقطعان وليس كذلك ما ذكروه من الصوم والفطر وغير ذلك فإنه مما ينقطع, وحكي ابن أبي أحمد عن أبي الطيب بن أبي سلمة أنه كان يقول: قد يستوي الشاهد والمشهود عليه في الحكم [12/ 115 أ] وهو إذا شهد اثنان من الورثة علي الميت بدين لإنسان فإنه يلزمهما من الدين مثلما يلزم الجاحد من الورثة. وقد يكون الإخبار ما يختص به غيره, ولا يجب علي الراوي منه شيء ولكن أراد الشافعي بما قاله الغالب من أمرهما, فإن الغالب من الشهادة أن الشاهد لا يدخل فيما يجب بها والغالب من الخبر عن النبي صلي الله عليه وسلم استواء المخبر وسائر الناس.

فرع استهلال الصبي يثبت بشهادة أربعة نسوة نص عليه الشافعي, ومن أصحابنا من قال فيه قول آخر لا يثبت إلا برجلين, لأنه يعلم ذلك من غير النظر إلي عورة المرأة والأول أصح لأنه لا يطلع عليه الرجال في تلك الحالة كالولادة, وأما شهادة رجلين ورجل وامرأتين تقبل في الولادة والاستهلال وعيوب النساء والرضاع بلا خلاف علي المذهب. فرع آخر العيب إذا كان في وجه المرأة وكفيها لا يقبل عند التنازع فيه إلا شهادة الرجال لخروجه عن العورة في حق الرجال, ولو كان في صدرها فهو عورة في الأجانب دون المحارم فيقبل فيه شهادة النساء, وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا يقبل هنا شهادة النساء إلا علي الانفراد لإباحته لذوي المحارم كما قال في الرضاع, ودليلنا أنه لا يطلع الرجال عليه [12/ 115 ب] غالبا كالولادة. فرع آخر هل للرجل أن يعتمد النظر إلي عورة المرأة لتحمل الشهادة؟ قال أبو إسحاق: يجوز في الزنا وغيره وهو الصحيح, واحتج بأن سعد بن عبادة قال: أرأيت لو وجدت مع امرأتي رجل أمهله حتى آتي بأربعة شهداء فقال صلي الله عليه وسلم: ((نعم)) فدل علي أن للشهود أن يتعمدوا النظر إلي الموضع, ولأن أبا بكرة وغيره تعمدوا النظر إلي المغيرة في الحال التي كان عليها وشهدوا عليه بالزنا ولم ينكر أحد وهذا ظاهر كلام الشافعي, لأنه قال: وأقبل شهادة النساء فيما لا يجوز للرجال غير ذوي المحارم أن يتعمدوا إليه لغير شهادة وهذا يقتضي أنه يجوز تعمد النظر إليه للشهادة, وحكي ابن العاص عن ابن سلمة أنه قال: كنا نقول: شهادة الرجال في الرضاع لا تجوز إذا تعمدوا النظر وليس لهم أن ينظروا إلي ثدي المرأة لإقامة الشهادة وإنما يجوز ذلك إذا رأوه من غير قصد منهم. وأما في الشهادة علي الزنا فلم يتعمدوا النظر إلي الفرج ليقيموا الشهادة وكنا نفرق بينهما بأن الزانيين هنا حرمة أنفسهما وليس كذلك المرضعة فيفسق بالنظر في غير الزنا دون الزنا وأيضا فلا يقبل في الزنا شهادة النساء فلو لم يجز للرجال أن [12/ 116 أ] يتعمدوا النظر لإقامة الشهادة عليه أدي إلي بطلان حد الزنا وفي الرضاعة والولادة تقبل شهادة النساء فلم يجز للرجال النظر. قال ابن سلمة: حتى وجدت في القرآن العظيم أن شهادة الرجال في الرضاعة والولادة جائزة رأوا مفاجأة أو تعمدوا النظر إذا قصدوا به أداء الشهادة, ويقول ابن سلمة يقول بعض أصحابنا الآن من غير رجوع للفرق الذي ذكره الإصطخري. لا يجوز تعمد النظر في ذلك بحال لأن الناس في الزنا مندبون إلي الستر وفي غيره تقبل شهادة النساء علي الانفراد فلا حاجة للرجال إلي النظر في ذلك وهذا خلاف

باب الشهادة القاذف

النص، وكذلك ما قال الثاني والاعتماد علي القول الأول وهو اختيار ابن ابي هريرة وابن ابي أحمد وثبت النص في أحكام القرآن. ومن أصحابنا من قال: يجوز تعمد النظر في غير الزنا ولا يجوز في الزنا، والفرق أن الحد حق الله تعالي وهو مبني علي الدرء والإسقاط ما أمكن، وغيره حق الآدمي المبني علي التضييق والتشديد وهذا أيضا خلاف النص، وقال ابن أبي أحمد: لو وقعت في يد امرأة آكله جاز للرجل أن يداويها وينظر إليها وإن كان يتهيأ طلب امرأة تداويها فكذلك يجوز النظر إلي الثدي لتحمل الشهادة. [12\ 116 ب]. فرع آخر إذا شهد الرجال بذلك لا يسأل عن كيفية التحمل فإن قالوا كانت منا التفاتة من غير تعمد فرأينا يقبل بلا خلاف، وإن قالوا: تعمدنا النظر لغير شهادة فرأينا فسقوا ولا تقبل شهادتهم، وإن قالوا تعمدنا النظر لإقامة الشهادة فيه أربعة أوجه علي ما ذكرنا. باب الشهادة القاذف مسألة: قال: أمر الله تعالي أن يضرب القاذف ثمانين. الفصل إذا قذف رجل امرأة لا يخلو إما أن يكون قد حقق قذفه أو لم يحقق، فإن حقق قذفه وتحقيقه إذا كان المقذوف أجنبيا، في أحد شيئين: إما بإقامة البينة بالزنا أو بإقرار المقذوف بالزنا، وإن كانت المقذوفه زوجة فتحقيقه بأحد أشياء ثلاثة: اثنان ما ذكرنا، والثالث: اللعان فمتى حقق هكذا سقط عنه حكمه ووجب علي المقذوف حد الزنا، وإن لم يحقق تعلق بقذفه ثلاثة أحكام: إقامة الحد والتفسيق ورد الشهادة فإن تاب لم يسقط الحد إجماعا ويزول الفسق إجماعا، وأما رد الشهادة فمذهبنا أنه يسقط وتقبل شهادته، وروى ذلك عن عمر رضي الله عنه وعطاء وطاوس والشعبي وربيعة ومالك [12\ 117 أ] وسليمان بن يسار والزهري ومجاهد وأبي عبيد وعثمان البتي وأحمد وإسحاق وأهل المدينة. وقال شريح والنخعي والحسن والثوري وأبو حنيفة: لا تقبل شهادته بعد إقامة الحد أبدا وتقبل قبل إقامة الحد والخلاف مع أبي حنيفة في فصلين: أحدهما: في قبول شهادته بعد التوبة وإقامة الحد، والثاني: رد الشهادة عندنا يتعلق بالقذف فلا تقبل شهادته قبل إقامة الحد عليه إذا لم يثبت وعنده يتعلق الرد بإقامة الحد فتقبل شهادته، وإن لم يثبت. واحتج في الفصل الأول بقوله تعالي {ولا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: الآية 4]. وروى ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((لا تجوز شهادة مجلود أو محدود في قذف)). واحتج في الفصل الثاني بأنه يجوز قبل الحد أن

يحقق صدقه بإقامة البينة فلا يوجب التفسيق. وهذا بخلاف الأصول، وذلك أن الله تعالي قال: {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً ولا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: الآية 4]. ولم يقل: ثم لا تقبلوا فدل علي أن رد الشهادة بالقذف كما أن الحد بالقذف ثم قال تعالي: {إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا} [النور: الآية 5]. فإن كان الاستثناء راجعا إلي قوله: {ولا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا}. وجب قبول شهادته، وإن كان راجعا إلي قوله: {وأُوْلَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ} [النور: الآية 4]. فإذا ارتفع الفسق رددنا الشهادة وجب أن تقبل [12\ 117 ب] شهادته. قال الشافعي رضي الله عنه: أن أخبرنا ابن عيينة قال: سمعت الزهري يقول: زعم أهل العراق أن شهادة القاذف لا تجوز فأشهد لأخبرني، ثم سمي الرجل الذي أخبره أن عمر رضي الله عنه قال لأبي بكرة ((تب تقبل شهادتك أو قال إن تبت قبلت شهادتك)) قال وبلغني عن ابن عباس رضي الله عنهما مثل معني هذا، وقال ابن أبي نجيح كلنا نقوله قلت: من قال عطاء وطاوس ومجاهد، قال محمد بن إسماعيل البخاري وأجازه عبد الله بن عيينة وعمر بن عبد العزيز وسعيد بن جبير وعكرمة والزهري ومحارب بن دثار وشريح ومعاوية بن قرة، وقال أبو الزناد: والأمر بالمدينة علي ما ذكر الشافعي، وقال الشعبي: قبل الله توبته ولا تقبلون شهادته. قال الشافعي: وحاله قبل أن يجد شر منه بعد الحد لأن الحدود كفارات فكيف تردون الشهادة في أحسن حالته وتقبلون في شر حالته، وإذا قبلتم توبة القاتل عمدا والكافر فكيف لا تقبلون شهادة القاذف وهو أيسر ذنبا؟ قال المزني: حين قال الشافعي هذا صدق والله. قال أصحابنا وروى سعيد بن المسيب أن عمر رضي الله عنه قال لأبي بكرة وشبل ونافع ((من تاب منكم قبلت شهادته)) وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالي {ولا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: الآية 4] ثم قال [12\ 118 أ] {إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وأَصْلَحُوا} فشهادته في كتاب الله تعالي تقبل. وروى بعض أصحابنا بخراسان عن سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنه عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: ((في هذه الآية توبتهم إكذابهم أنفسهم فإن كذبوا أنفسهم قبلت شهادتهم)) وروى خزيمة بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((من أذنب ذنبا فأقيم عليه حد ذلك الذنب فهو كفارته))، وروى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له، والمستغفر من الذنب وهو مقيم عليه كالمستهزئ بربه))، وروى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((هل تعلمون أحباء الله؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: التوابون من الذنوب ثم تلا هذه الآية {إٍنّ

اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ ويُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: الآية 222]. وأما الآية التي ذكروها فقد جعلناها دليلا لنا ولأن الاستثناء يرجع إلي الجملتين من التفسيق ورد الشهادة كالشرط إذا قال: أنت طالق وعبدي حر إن شاء الله، وبل عوده إلي الشهادة أولي، لأن التفسيق خرج مخرج الخبر والتعليل لرد الشهادة، ورد الشهادة هو الحكم المذكور [12\ 118 ب] والاستثناء به أولي وأما قوله: إن قبل الحد لا يتحقق كذبه قلنا قد ختم بوجوب الحد عليه فقد تحققنا كذبه أيضا وعندهم لو بقي من ثمانين سوط لا ترد شهادته. مسألة: قال: والتوبة إكذابه نفسه. الفصل مسموع والتوبة إكذابه نفسه لأنه أذنب بأن نطق بالقذف وفي نسخة أخري والتوبة إكذابه بأنه أذنب بأن نطق بالقذف وهما متقاربان في المعني فإذا أكذب نفسه ورجع عن قوله قبلت توبته ثم في عطفها إشكال ومذلك أنه قال: والتوبة أن يقول: القذف باطل كما تكون الردة بالقول والتوبة عنها بالقول وموضع الإشكال أنه قال: التوبة إكذابه نفسه، ثم قال: والتوبة أن يقول: القذف باطل أي هذا القذف الذي تلفظت به باطل، فإن قال قائل كيف يصير تائبا بأن يصير مكذبا لنفسه مبطلا لقوله ولعله مصر علي عبارته في قذف غير المقذوف، وأن يكذب نفسه فيه فعلا اشترطتم لفظ التوبة؟ قلنا: معني قوله والتوبة إكذابه نفسه إذا أكذب نفسه علي معني الندامة والتلافي. وحقيقة التوبة الندامة علي ما فرط هكذا قال رسول الله صلي الله عليه وسلم [12/ 119 أ] ((الندم توبة)) فأما إذا اقتصر علي تكذيب نفسه وإبطال قوله لا علي معني الندامة والإنابة والتوبة لم نجعله تائبا، وقد قال أبو إسحق: ليس معني قول الشافعي أن يقول: كذبت فيما قلت بل معناه أن يكذب نفسه في استباحة القذف فيقول: القذف باطل وإني لا أعود فيه وأنا نادم عليه أو يقول: قذفي له بالزنا كان كذبا ولا يقول: كنت كاذبا لجواز أن يكون صادقا وبه قال أبي هريرة: فإن قيل قد تقبل توبة المرتد وإن لم يقل الكفر باطل فلم شرطتم هنا أن يقول القذف باطل؟ قلنا: لا تقبل واحدة منهما حتى يأتي بما يضاد الأول فالتوحيد يضاد الكفر فاكتفي به وليس ما يضاد القذف إلا أن يقول القذف باطل فافترقا. وقال الإصطخري: وبه قال أحمد: توبة القاذف أن يقول: كذبت فيما قلت وإنني كاذب في قذفي له بازنا وهذا ظاهر قول الشافعي التوبة إكذابه نفسه وقد روى عن عمر رضي الله عنه أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: ((توبة القاذف إكذاب نفسه)) قال أصحابنا: ما قاله أبو إسحاق أصح وهو المذهب لما ذكرنا أنه يجوز أن يكون صادقا في الباطن ويجب الحد

بذلك في ظاهر الحكم وتأويل لفظ الشافعي ما ذكره أبو إسحاق إلا أنه قال: كذبت فيما قلت يكون ذكرا لما فسق به، والتوبة لا تحصل بذلك [12\ 119 ب] كما أن من فسق بالزنا لم تكن التوبة عنده بذكر الزنا الذي فسق به. ثم قال الشافعي رضي الله عنه: فإن كان عدلا قبلت شهادته وإلا فحتى يحسن حاله، قال أصحابنا: أراد به أن القاذف إذا كان عدلا قبل قذفه وشهد علي رجل بالزنا قلم تتم الشهادة فإن هذا إذا قال القذف باطل وأنا لا أعود فيه قبلت شهادته في الحال. ألا تري أن عمر رضي الله عنه قال لأبي بكرة: ((تب تقبل شهادتك))، وإن لم يكن عدلا وكان فاسقا من غير جهة القذف أو قذفه صريحا علي طريق الشتم لا تقبل شهادته حتي تختبر حاله مدة، وقد نص علي هذا في كتاب ((الشهادات)) من ((الأم)) والدليل عليه قوله تعالي {إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وأَصْلَحُوا} [النور: الاية 5] فاعتبر صلاح العمل في القذف الصريح بعد التوبة. ومن أصحابنا من قال: إذا قذفه صريحا علي طريق الشتم ثم تاب هل يعتبر صلاح العمل؟ قولان: أحدهما: لا يعتبر وبه قال أحمد لما ذكرنا من خبر عمر رضي الله عنه ولأن هذه المعصية بالقول فكفي في التوبة عنها القول كالردة، ولأنه يحتمل صدقه بخلاف الزاني والشارب، والثاني: ما ذكرنا وإن كان بطريق الشهادة يحد لنقصان العدد يكفي العدد ولا يحتاج إلي إصلاح العمل قولا واحدا لقول عمر رضي الله عنه لأبي بكرة ((تب أقبل شهادتك))، ولأن فسق هذا ثبت من طريق الاجتهاد [12\ 120 أ] بخلاف فسق القاذف علي طريق النسب. وقال بعض أصحابنا بخراسان: نص الشافعي رضي الله عنه أنه تقبل شهادته عقيب التوبة بكل حال لأنها كبيرة ارتكبها وتاب عنها فاستغنيا عن استبراء حاله، وقال في موضع: لا تقبل عقيب التوبة، فقيل قولان وقيل: هو علي حالين، فالذي قال تقبل ولا تستبرأ، وإن لم يكذب نفسه وأظهر الندامة علي قوله وكان عدلا من قبل لا يحتاج إلي زمان الاستبراء والصحيح في التحقيق ما ذكرنا أولا. فرع إذا ردت الشهادة للقذف بلفظ الشهادة ولم يتب لا يرد خبره، وإن ردت شهادته إذا كان عدلا من قبل لأن أبا بكرة ردوا شهادته، ولم يردوا خبره، لأن السلف كانوا يروون عنه ولأن هذا التفسيق بالتأويل فكان حكمه دون التفسيق بالمعاصي المجمع عليها، ولأن أمر الإخبار أخف وأسهل ولهذا يقبل من واحد ويقبل من عبد، وفي قذف النسب لا يقبل الخبر ما لم يتب لأن التفسيق بقذف النسب نص وقذف الشهادة اجتهاد.

فرع آخر لو كان من غير أهل الشهادة فشهد بالزنا لم تقبل شهادته بعد التوبة إلا باستبراء حاله وإصلاح عمله لظاهر الآية. [12/ 120 ب]. فرع آخر هل يحتاج تفي توبة القذف أن يقول: ولا أعود إلي مثله؟ فيه وجهان؛ أحدهما: لا يعتبر بل يكفي الندم والعزم علي أن لا يعود إلي مثله, وإكذابه نفسه لأن العزم علي ترك مثله يغني عن هذا القول, والثاني: لابد منه لأن القول في هذه التوبة شرط والعزم ليس بقول. فرع آخر إذا كان القذف بالشهادة لنقصان العذر فإن قلنا: لا حد عليه لا يؤمر بالتوبة لأنهم قصدوا إقامة حد الله تعالي, وإذا قلنا: يحدون يحكم بفسقهم وتجب التوبة فيقول: قذفي باطل ولا يحتاج إلي الندم وترك العزم في المستقبل لأنها شهادة في حق الله تعالي ولا يعتبر أن يقول: إنني كاذب ولا أن يقول: لا أعود إلي مثله لأنه لو كمل عدد الشهود لزمه أن يشهد. فرع آخر متى كانت الشهادة تقبل بنفس التوبة فللإمام أن يقول له: تب أقبل شهادتك كما قال عمر رضي الله عنه لأبي بكره, وقال مالك: لا أعرف لهذا القول وجها وهذا رد منه علي عمر رضي الله عنه في قول انتشر في الصحابة ووافقوه عليه, وقال الشافعي: كيف لا يعرفه وقد أمر النبي صلي الله عليه وسلم بالتوبة وقال عمر هكذا. فرع آخر شروط التوبة تختلف باختلاف وللذنب حالتان: إحداهما: أن يتعلق به حق, والثانية: أن لا يتعلق به حق [12/ 121 أ] فإن لم يتعلق به حق سوي الإثم كمن قبل أجنبية أو لمسها أو وطئها دون الفرج أو شرب مسكرا فالتوبة من بشرطين: الندم والعزم علي ترك مثله في المستقبل قال الله تعالي: {والَّذِينَ إذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً} [آل عمران: الآية 135] الآية. فالندم بالاستغفار والعزم علي تركه بقوله: {ولَمْ يُصِرُّوا} [آل عمران: الآية 135] , وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: بقية عمر المرء لا قيمة لها يدرك بها ما فات ويحيي ما أمات وتبدل سيئاته حسنات, فإن كان هذا الذنب باطنا يكتفي فيه بالتوبة الباطنة, وإن كان ظاهرا ففيما بينه وبين الله تعالي يكفيه التوبة الباطنه ولا يكتفي فيما بينه وبين العباد لا بالتوبة الظاهرة, فإن تجاوز إلي أن أثم به في حق العباد, وإن لم يتعلق به غرم ولا حد كمن تعدي بضرب إنسان احتاج مع ما ذكرنا إلي استحلال المضروب فإن أحله وإلا مكنه من نفسه حتى يقابله علي فعل مثله, وإن كان لا يجب في الحكم به قصاص لأنا نعتبر من القصاص المماثلة وهي

متعذرة هنا، ويعتبر في التوبة الانقياد والطاعة وهي هنا موجودة، وروى إبراهيم النخعي أن عمر رضي الله عنه، نهى الرجال أن يطوفوا مع النساء" فرأى رجلًا يصلي مع النساء فضربه بالدرة فقال الرجل: والله إن كنت أحسنت فقد ظلمتني، وإن كنت أسأت فقد علمتني فقال عمر: أما شاهدت عزمي [12/ 12 ب] قال ما شهدت لك عزمة فألقى إليه الدرة وقال: اقتص فقال: لا أقتص اليوم قال: فاعف قال لا أعفو اليوم فافترقا على ذلك ثم لقيه من الغد فتغير لون عمر رضي الله عنه فقال له الرجل: يا أمير المؤمنين أرى ما كان مني قد أسرع فيك؟ قال: أجل، قال: "فأشهدك أني قد عفوت عنك فبذل له القصاص" وإن لم يجب ليزول عنه مأثم الخطأ في حقه وإن الخطأ في حق الله تعالى عفو. فإن مكن من نفسه فلم يستوف صحت توبته فإنه عليه الانقياد وليس عليه الاستيفاء، وإن كان الذنب معصية يتعلق بها مع الإثم حق فضربان: فعل وقول: فأما الفعل فضربان؛ أحدهما: يختص الحق بالآدميين كالغصب والقتل فصحة توبته بثلاثة شروط بالندم، والعزم على ترك مثله، ورد المغصوب أو بدله إن عدم فإن أعسر أنظر إلى ميسرته والتوبة صحت وهذه التوبة تعتبر في الظاهر والباطن، والثاني: أن يختص الحق بالله تعالى كحد الزنا ونحوه، فإن كان استسر بفعله ولم يتظاهر به فالأولى أن يستره على نفسه ولا يظهره وتوبته بشيئين على ما ذكرنا، فإن أظهره لم يأثم بإظهاره لأن النبي صلي الله عليه وسلم لم ينكر على ماعز حين أظهر الزنا من نفسه فإن اظهر ذلك قبل التوبة وجب الحد وتوبته بثلاثة شروط: [12/ 122 أ] الندم، والعزم، وتسليم نفسه للحد فإن لم يحد صحت توبته والمأثم على من ترك إقامة الحد، وإن أظهر بعد توبته فهل تسقط الحدود بالتوبة؟ فيه قولان فإن قلنا: تسقط توبته بشرطين، وإن قلنا: لا تسقط بتوبته بثلاثة شروط، وهذا إذا تاب قبل ظهور حاله يعود بعد التوبة إلى حاله قبل المعصية، فإن كان مقبول الشهادة قبلت بعد التوبة ولا يتوقف عنه لاستبراء صلاحه لأنه ما أظهر التوبة فيما كان مستورًا إلا عن صلاح يغني عن استبراء الحال. والثانية: أنه يكون تظاهر بها فعليه أن يتظاهر بالتوبة أيضًا، فإن ثبت الحد عليه عند مستوفيه فتوبته بثلاثة شروط، وإن تاب قبل ثبوت الحد عليه فهل يسقط بالتوبة؟ فيه قولان على ما ذكرنا. وأما ثبوت العدالة وقبول الشهادة فمعتبر بعد التوبة بصلاح حاله واستبراء أفعاله بزمان يختبر فيه لقوله تعالى: {إلاَّ مَن تَابَ وآمَنَ وعَمِلَ صَالِحًا}] الفرقان: الآية 70 [. واعتبر أصحابنا في هذا سنة كاملة لأنها تشتمل على الفصول الأربعة المهيجة للطباع. وقد قال الشافعي في هذا: يصلح عمله مدة من المدد ولم يقدر ولأن السنة تتعلق بأحكام كثيرة في الشرع من وجوب الجزية والزكاة وتحمل الفعل، والطباع تختلف بها فكانت أولى بالاعتبار، وهل تكون السنة على التحقيق أو التقريب؟ فيه وجهان [12/ 122 ب] وقال بعض أصحابنا: يعتبر ستة أشهر. وأما المعصية بالقول فضربان؛ ردة يتعلق بها حق الله تعالى، وقذف بالزنا يتعلق به

باب التحفظ في الشهادة والعلم بها

حق الآدمي، فأما الردة فالتوبة بالندم والعزم بالإسلام ثم إن كان ممن لا تقبل شهادته قبل توبته لم تقبل منه توبته حتى تظهر منه شروط العدالة، وإن كان ممن تقبل شهادته قبلها نظر في توبته، فإن كان عند اتقائه للقتل لم تقبل إلا أن يظهر فيه شروط العدالة في استبراء حاله في صلاح عمله، وإن تاب عفوًا غير متٍق بها القتل عاد إلى عدالته في الحال. وأما القذف فيعتبر فيه الندم والعزم وإكذاب نفسه على ما ذكرناه. فرع آخر إذا رددنا الشهادة بالقذف فلا فرق بين أن يوجب الحد، أو يوجب التعزير لتكذيبه وكذلك حكم التوبة فيها سواء. باب التحفظ في الشهادة والعلم بها مسألة: قال: قال الله تعالى: {ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}] الإسراء: الآية 36 [. وقال تعالى: {إلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وهُمْ يَعْلَمُونَ}] الزخرف: الآية 86 [. والعلم من ثلاثة أوجه. الفصل اعلم أن عماد الشهادة العلم بما يشهد الشاهد عليه لقوله تعالى: {ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}] الإسراء: الآية 36 [. وقال قتادة في "تفسيره" لا تقل سمعت ولم تسمع، ولا رأيت ولم تر [12/ 123 أ] وعلمت ولم تعلم وقد ذكرنا خبر ابن عباس رضي الله عنهما فإذا تقرر هذا نقول: قال الشافعي رضي الله عنه: والعلم من ثلاثة أوجه وجملته أن الشهادات على ثلاثة أضرب. أحدها: يحتاج فيه إلى البصر دون السمع وذلك مثل الشهادة على الأفعال كالقتل والزنا والسرقة وشرب الخمر وأخذ الأموال ومثل الشهادة على اليد في الأموال إذا عاينه في يده فالسميع والأصم فيها سواء لأن القصد الشهادة على استدراكه بالعين. والثاني: يحتاج إلى السمع والبصر جميعًا وذلك مثل عقد النكاح وعقد البيع وإيقاع الطلاق والإقرار بالمال فلا يجوز أن يشهد به حتى يسمع القول ويبصر القائل ويثبته ثم يشهد عليه. والثالث: ما يجوز أن يشهد فيه بتظاهر الأخبار من غير أن يبصر المشهود عليه، ولا أن يسمع قوله وذلك في النسب والأملاك المطلقة، قال أصحابنا: وكذلك الموت فأما النسب فلأنه تتقدر الشهادة على نسبه الذي يتعلق ثبوته به وهو الوطئ والعكوف الذي لا يطلع عليه مخلوق، وأما الأملاك المطلقة فلأن وجوه الملك متسعة وفيها ما يتقدر عليه الإشهاد، وأما الموت فإنه يحصل بوجه لا يمكن الإشهاد عليه، ويستحب تعجيل الدفن فكان ذلك بمنزلة الشهادة على الملك المطلق بتظاهر الأخبار.

وقال بعض أصحابنا بخراسان: [12/ 123 ب] في الأملاك قول آخر لا تجوز الشهادة حتى يعلم سبب الملك وهذا أقيس ولكنه خلاف ظاهر المذهب المنصوص، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا تجوز الشهادة في الأملاك بالاستفاضة واحتج بأن هذه شهادة بالمال فلا تجوز بالاستفاضة كالشهادة بالدين وهذا لا يصح قياسًا على النسب والموت فإنه وافقنا فيهما وبقولنا قال أحمد في الكل، وأما الدين قال بعض أصحابنا: لا نسلم وإن سلمنا فإنه لا تقع الاستفاضة بقدره بل يستفيض الدين في الجملة من حيث المطالبة به بخلاف الأعيان فإن قيل: يمكنه أن يعلم الملك بمشاهدة سببه فلا حاجة إلى الشهادة بالاستفاضة قلنا: وجود السبب لا يثبت به الملك لأنه يجوز أن يشتري ما لا يملك البائع، أو يصطاد صيدًا قد صاده غيره وانفلت منه وإنما يتصور بادرًا أن يشاهده يأخذه من ماء دجلة. فإن قيل لم قال الشافعي: وجوه العلم ثلاثة؟ وهي أكثر من ثلاثة فإن بالحواس الخمس يقع العلم والاستفاضة لا تكون علمًا بل هي ظن. قلنا: قصد الشافعي رضي الله عنه إلى وجوه العلم التي تقع الشهادة بها فإن الشم والذوق لا حاجة إليه في الشهادة به، وإنما تكون معظم الشهادات بالوجوه التي ذكرناهما وأما الاستفاضة، وإن كانت ظنًا ولكن الظن يسمى علمًا بدليل [12/ 124 أ] قوله تعالى: {ومَا شَهِدْنَا إلاَّ بِمَا عَلِمْنَا}] يوسف: الآية 81 [أي بما ظننا. فرع آخر قال الشافعي رضي الله عنه: من شرط جواز الشهادة فيما ذكرنا أن يتظاهر به الخبر زمانًا طويلًا ممن يصدق ولا يكون هناك دافع يدفعه ولا منازع ينازع فيه ولا دلالة يرتاب بها قال أصحابنا: وهذا يدل على أن تظاهر الأخبار ليس مما يوجب العلم الضروري وإنما يصل به المعرفة في القلب بضرب من الاستدلال إذا تكرر الخبر مرة بعد مرة من أهل الصدق وليس هناك ريبة تدل على غير ما أخبروا به فيدل السامع على أنه كما أخبروا به فيجوز أن يشهد به لما ذكرنا. وقال صاحب "الحاوي": أقل العدد في هذا الخبر أن يبلغوا عدد التواتر، وقال أبو حامد وجماعة: أقله عدلان يذكران نسبه خبرًا لا شهادة يسكن قلبه إلى خبرهما لأن الحقوق تثبت بقول اثنين قال: وهذا لا يصح لأن قول الاثنين من أخبار الآحاد وبأخبار الآحاد لا تحصل الاستفاضة فوجب أن يعتبر فيه العدد المقطوع بصدق مخبره وهو عدد التواتر المنتفي عنه المواطأة والغلط، والقول الأول أولى عندي وهو أنه لا يعتبر العلم الضروري ولا يكفي فيه شاهدان على ما يثبت.

فرع آخر قال الشافعي رضي الله عنه هنا: ويسمع الشهادة على النسب إذا سمعته زمانًا ينتسب إلى نسب [12/ 124 ب] وينسبه غيره إلى ذلك النسب ولم يسمع دفاعًا ولا دلالة يرتابها فهذه شرائط أربع طول الزمان وانتسابه إلى ذلك النسب ونسب غيره إياه وعدم الدافع وعدم الأدلة التي هي سبب البينة حتى تجوز الشهادة على النسب. وذكر صاحب "الحاوي" أنه يثبت بسماع الخبر الشائع الخارج إلى حد الاستفاضة في أوقات مختلفة وأحوال متباينة من حمد وذم وسخط ورضي يسمع الناس يقولون فيها: هذا فلان ابن فلان فيخصونه بالنسب إلى أب أدنى يعمونه بنسب أعلى فيقولون: هذا من بني هاشم فيسع الشاهد إذا استفاض عنده الخبر أن يشهد بالنسب، وإن كان استدلالًا لا يقطع بغيبته لأن الأنساب تلحق بالاستدلال. فرع آخر قال أصحابنا: وإذا سمع رجلًا يقول: هذا الصبي ابني جاز أن يشهد بنسبه وكذلك لو سمع رجلًا يقول هذا أبي وقد سمعه وسكت جاز أن يشهد بنسبه لأن سكوت الأب بمنزلة إقراره، والإقرار جهة يثبت بها النسب فجازت الشهادة عنه. وإنما أقمنا السكوت فيه مقام النطق لأن الإقرار على الانتساب الفاسد لا يجوز بخلاف سائر الدعاوي، ولأن النسب يغلب فيه الإثبات بدليل أنه يلحق بالإمكان البعيد، وقال بعض أصحابنا: إذا سكت عن الإقرار [12/ 125 أ] والإنكار فإن لم يشهد لحال بالرضي لم يثبت وإن شهدت حاله بالرضي قال أبو حامد: يثبت لأن الرضي من شواهد الاعتراف، وهذا لا يصح على الإطلاق والحكم فيه أنه إن لم ينكر ذلك لم يكن إقرارًا به يجوز أن يكون لخوف أو رجاء، وإن تكرر أحوال مختلفة وزال شواهد الخوف صار اعترافًا لأن أكثر الأنساب بمثله تثبت، وهكذا لو ابتدأ أحدهما فقال للآخر: هذا أبوك وإذا صدقه ثبت ويكون بالإقرار ثبوت النسب فلو تناكرا لا ينبغي، فإذا أنكره لا يثبت، فإن عاد فأقر ثبت، ولو أنكر المقر لم يثبت. فرع آخر لو شهد شاهدان أن فلان ابن فلان وكل فلان ابن فلان هل تكون الشهادة بالوكالة موجبة للشهادة بنسبهما؟ قال مالك: لا يوجب ذلك لأن المقصود الوكالة وعلى مذهب الشافعي تكون شهادة بالوكالة والنسب جميعًا لأن الشهادة توجب ثبوت ما تضمنها من مقصود وغير مقصود كمن شهد بثمن في مبيع كان شهادة بالبيع وإن قصد الثمن. فرع آخر الملك المطلق يثبت بسماع الخبر الشائع فيسمع الناس على اختلاف أحوالهم

يقولون: هذه الدار لفلان، وهذه الدابة لفلان، ويتكرر ذلك على مرور الزمان لا يرى فيهم منكر ولا منازع فتصح الشهادة بهذا الخبر المتظاهر ولا يشهد بسببه، وإن علم ذلك بالسماع لأنه لا تجوز الشهادة على السبب بالسماع إلا أن يكون سبب [12/ 125 ب] الميراث فيجوز أن يشهد بهذا السبب بالخبر المتظاهر لأن الميراث يستحق بالنسب والموت وكلاهما يثبتان بالخبر المتظاهر فأما الشراء والهبة لا يجوز أن يشهد به بتظاهر الأخبار لأنه يعلم بالمشاهدة. واختلف أصحابنا مع تظاهر الأخبار بملكه هل يصح أن يشهد به من غير أن يراه متصرفًا فيه على وجهين؛ أحدهما: يصح حتى يرى تصرفه فيه فيجمع الشاهد التصرف في العلم به بين السماع والشهادة، وقال الأكثرون: يصح وإن لم يشاهد التصرف لأن الخبر المتظاهر أنفى الاحتمال من التصرف الذي يجوز أن يكون بملك وغير ملك. فرع آخر في الموت إذا رأى الجنازة على بابه ويسمع الصراخ ولم يذكر له موته لم يجز أن يشهد به، فإن ذكر له موته كان الخبر المعتبر فيه غير معتبر بالتواتر لأنه قد اقترن به من شواهد الحال ما يقوم مقام التواتر. فرع آخر اختلف أصحابنا في ثلاثة أشياء هل يجوز أن يشهد بها من جهة الظاهر والإخبار على وجهين: وهي الوقف والنكاح والولاء، أحدهما: وهو اختيار أبي إسحاق لا يجوز، لأن الإشهاد على عقد الوقف ممكن وكذلك الإشهاد على عقد النكاح والعتق فلم يجز أن يشهد بها بتظاهر الأخبار ويخالف النسب والملك المطلق والموت لتشعب وجوهها وحصولها من جهات لا يمكن إيقاع الشهادة عليها [12/ 126 أ] وهذا أشبه بمذهب الشافعي وهو الأصح. والثاني: وهو اختيار ابن أبي أحمد وابن أبي هريرة وصاحب "الإفصاح" والإصطخري يصح وبه قال أحمد لأن الوقف مؤبد والولاء كذلك والنكاح فيما يطول زمانه وينقرض شواهد الأصل فجازت الشهادة عليه بتظاهر الأخبار ولأنه تجوز بأن عائشة رضي الله عنها زوجة النبي صلي الله عليه وسلم وفاطمة زوجة علي رضي الله عنهما، ودليلنا أن تأبدها وتطاول زمانها لا يدل على جواز الشهادة عليها بتظاهر الأخبار لأنه يمكن الإشهاد على شهود الأصل ويستحب للحاكم أن يحدد كتب الوقف وإيقاع الشهادة فيها على الشهود إذا خاف انقراض شهود الأصل، وأما زوجية عائشة وفاطمة رضي الله عنهما وأنها ثبتت بالخبر المتواتر الذي يوجب العلم ضرورة وليس الخبر الذي تراعيه مثل ذلك وإنما هذا علم بضرب من الاستدلال على ما بينا فافترقا. ومن أصحابنا من قال: ما قاله الإصطخري أقيس وهو الأصح عندي لأن الشهادة لا تكون إلا بالعقد بالوقف، وكذلك تشهد بالنكاح دون العقد فهو بمنزلة الملك سواء

فعلى هذا لا يقول الشاهد: زوجها أبوها برضاها بحضرة شاهدين ولا يجوز أن يشهد بذلك إلا أن يسمع العقد وشاهد العقد ولا يضيف الوقف [12/ 126 ب] إلى لفظ الواقف بل يشهد أنها زوجة فلان أو وقف على فلان أو مولى فلان وكذلك الخلاف في العتق يشهد أنه عتيق الولاء يجوز قولًا واحدًا لأنه كالنسب سواء وقال أبو حنيفة: يجوز في النكاح والدخول أيضًا لأنه يستفيض في الناس، وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز في الولاء إذا شهد مثل عكرمة مولى ابن عباس. فرع آخر إذا جوزنا أن يشهد بها أنها زوجة فلان هل يجوز أن يرى الزوج داخلًا عليها وخارجًا من عندها؟ فيه وجهان: كالوجهين في النسب في الملك هل يشترط؟ فيه وجهان. فرع آخر لو رأى رجلًا يتصرف في داره مدة طويلة يسكنها ويدخلها ويخرج منها من غير منازع ولا دافع يجوز له أن يشهد باليد بلا خلاف، وهل يجوز أن يشهد له بالملك قال الإصطخري: وبه قال أبو حنيفة واحمد يجوز لأن اليد تدل على الملك والتصرف بقوى اليد فجازت الشهادة بالملك به ولا يحتاج أن يقول اشتراها من فلان لأنه إذا قال ذلك احتاج إلى إثبات ملك فلان فيلزم أن يذكر أنه اشتراها فلان من فلان ثم يحتاج إلى إثبات ملكه إلى ما يتناهى، ولهذا لو شهد بأن هذا لفلان ورثه من فلان وكان ملكًا له إلى أن مات كفى ولا يحتاج إلى إثبات سبب ملكه، وقال أبو إسحاق: وهو الأصح وهو اختيار القاضي الطبري وغيره [12/ 127 أ] لا يجوز لأن اليد قد تكون بغير ملك كإجارة وعارية ووديعة ووكالة ووصاية، فلا يجوز أن يشهد بالملك وجهًا واحدًا، ويجوز أن يشهد باليد هنا أيضًا. مسألة: قال فبذلك: قلنا: لا تجوز شهادة الأعمى لأن الصوت يشبه الصورة. جملة هذا أن العمى لا تقبل شهادته في الأفعال التي تفتقر إلى المشاهدة بلا خلاف لأن المشاهدة متعذرة عليه. وأما ما يفتقر فيه إلى السماع والمشاهدة لا تقبل شهادته عندنا فيه، وبه قال النخعي والحسن وسعيد بن جبير وسوار القاضي والثوري وعثمان البتي وأبو حنيفة وأصحابه وأكثر فقهاء الكوفة رحمهم الله، وروي عن علي رضي الله عنه وقال مالك: تقبل شهادته فيه، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما والزهري وربيعة والليث وشريح وعطاء وابن أبي ليلى وأحمد قال البخاري في كتابه والقاسم بن محمد وابن سيرين والحسن والشعبي أيضًا.

واحتجوا بأنه يعرف المشهود عليه بالصوت فجازت شهادته عليه كالبصير وجواز اشتباه الصوت كجواز اشتباه الصورة [12/ 127 ب] بالصورة وقال القفال: سئل مالكي ببخاري عن هذه المسألة ليشفعوا عليه فشفع عليهم وقال ما قولك في أعمى يطأ زوجته فأقرت بحقه بدرهم، فإن قلتم لا تحل شهادته فقد أحلتم إذ عرف أنها امرأته حتى استباح بضعها أفلا صدقتموه أنه عرفها وثبت عنده إقرارها بدراهم قالوا: ونبي الله شعيب عليه السلام كان أعمى قال الله تعالى: {وإنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا} [هود: 91] قيل: معناه ضريرًا. ودليلنا قول الله تعالى: {ولا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إنَّ السَّمْعَ والْبَصَرَ والْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36] فجمع في العلم بين السمع والبصر في الإدراك وضم الفؤاد إليها في الإثبات فدل على أن استقرار العلم بجميعها، ولأن من لا يجوز له تحمل الشهادة على الفعال لا يجوز له تحملها على الأقوال كالصبي ولأن شهادة البصير في الظلمة ومن وراء حائل أثبت من شهادة الأعمى ولا يقبل ذلك فهذا أولى. وأما ما ذكروه فلا يصح لأن الأصوات أكثر اشتباهًا والشهادة إنما تجوز على العقود باليقين دون الاستدلال، ولهذا لو استفاض في الناس أن فلانًا باع داره لا تجوز الشهادة عليه به والأعمى لا يتيقن [12/ 128 أ] ذلك بحال وأما الوطئ فمخصوص الاستحقاق ويجوز الاستدلال عليها باللمس فكذلك بالصوت، وكذلك يعتمد في الوطئ على خبر ناقل العروس إليه، وإن كان واحدًا ويقبل فيه قول المرأة الواحدة بخلاف الشهادة ولأن الوطئ يجوز للضرورة وهو كالعبد يعهد بالنكاح، وإن لم تجز شهادته وأما عمى شعيب عليه السلام فقد أنكره بعضهم، وقيل حدث فيه العمى بعد أداء الرسالة وأيضًا فإعجاز النبوة يوجب القطع بصحة شهادته بخلاف غيره. فرع شهادة الأعمى في النسب والملك المطلق والموت من ريق تظاهر الأخبار هل تجوز أم لا؟ اختلف أصحابنا فيها فمنهم من قال تجوز وبه أقول، وقال ابن أبي أحمد: كان ابن سيرين يقول: شهادة العميان تجوز في النسب تخريجًا من عنده وهذا لأن المعول فيه على سماع الأخبار، والأعمى في ذلك بمنزلة البصير. وقال صاحب "الحاوي": يقبل إذا لم تعتبر مشاهدته بالتصرف في النكاح أيضًا إذا لم تعتبر مشاهدة الدخول والخروج وجهًا واحدًا. ومن أصحابنا من قال: لا يجوز ذلك لأنه لا بد من مشاهدة المخبرين وأحوالهم ليتمكن من [12/ 128 ب]. . . . . . . على ذلك وهذا أصح عند عامة أصحابنا وعليه يدل نص الشافعي رضي الله عنه لأنه قال: لا تجوز شهادة الأعمى بعد ما ذكر تظاهر الأخبار ثم قيل إلا أن يكون أثبت شيئًا معاينة وسمعًا ونسبًا ثم عمي فيجوز فأخبر انه إنما يشهد بالنسب إذا كان قد أثبته وهو بصير ثم عمي وقال أبو حامد: هذا مقتضى المذهب ولكن جميع أصحابنا ذكروا جواز ذلك وفيه نظر فإن قيل: إذا جوزتم أن يشهد الأعمى على النسب كيف يشير إلى من يشهد على

نسبه؟ قلنا: لا تقبل الآن إنما يقبل منه أن يقول الرجل الذي صنعته كذا وسوقه سوق كذا واسمه كذا أو كنيته كذا هو ابن فلان ابن فلان ثم يقال لذلك الرجل: أقم بينة أخرى على أنك الرجل الذي تسكن سوق كذا واسمك كذا أو كنيتك كذا وصنعتك كذا وليس في سوقك من يشتبه معك، فإن قيل: فما فائدة شهادة الأعمى إذا كان لا بد من هذه البينة الأخرى؟ قلنا: هذه البينة لا علم عندها بنسبه فثبت النسب بشهادة والإشارة بالشهادة الأخرى كما ثبت الوقف بشهادة والملك بشهادة أخرى ومثل هذا كثير ذكره الجويني رحمه الله. فرع آخر إذا تحمل الشهادة وهو بصير على الإقرار أو البيع ونحو [12/ 129 أ] ذلك ثم عمي تقبل شهادته فيه فيقول فلان ابن فلان ويرفع نسبه رفعًا يميزه عن غيره باع أو أقر بكذا وهو كالبصير يشهد عن ميت أو غائب نص عليه الشافعي، وقال أبو حنيفة: لا تقبل شهادته فيه أصلًا لأنه لا يجوز أن يكون حاكمًا ولا إمامًا فلا يجوز أن يكون شاهدًا ودليلنا أن العمى فقد حاسة لا تحل بالتكليف ولا تمنع قبول الشهادة كالصمم، وأما الحكم قال أصحابنا: إذا جوزنا بالقضاء بعلمه يجوز له أن يقضي بعلمه السابق، وأما الإمامة فأكثر شرائط لأنه يجوز أن يكون أصم بخلاف هذا. فرع آخر لو شهد وهو بصير ثم عمي قبل الحكم بها لا يقدح في شهادته ويجوز للحاكم أن يحكم بها وبه قال أبو يوسف: وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يحكم بها. ودليلنا أنه معنى طرأ بعد الشهادة لا يوجب التهمة في شهادته فلا يمنع الحكم بها كالموت ويؤكده أن الموت أبلغ من العمى ثم الموت لا يمنع الحكم فالعمى أولى. فرع آخر لو كان في حال البصر تحمل الشهادة على العين لا يجوز له أن يؤديها بلا خلاف ولأنه لا يشاهد العين. فرع آخر شهادة الأعمى تقبل في الضبطة وهو أن يجيء إلى أعمى فيضع فاه على أذنه ويضع الأعمى يده على رأسه حتى يعلم أنه المقر ثم يحمله غلى الحاكم مضبوطًا ويقول: أقر عندي هذا بكذا ذكره جميع أصحابنا بالعراق [12/ 129 ب] وقال أصحابنا بخراسان: في المضبوط وجهان وعلى هذا لو تحمل وهو بصير ويده في يده ثم عمي فشهد عليه قبل تخليته يجوز. فرع شهادة الأعمى في الترجمة مقبولة لأنه لا يحتاج فيه إلى أكثر من تفسير ما سمعه من

الكلام ولا يتعلق ذلك بإثبات الحكم وما حاله وبه قال أبو حنيفة وله في النسب روايتان. فرع لو سمع الشاهدان لفظ المتعاقدين من وراء حائل وعرف صوتها والحائل ثوب فإن كان ضعيفًا يمنع من تحقيق النظر لا تجوز الشهادة، وإن كان خفيفًا يشف فيه وجهان: أحدهما: يجوز لأنه لا يمنع من مشاهدة ما وراءه، والثاني: لا يجوز لأن الاشتباه معه مجوز. فرع يجوز للأخرس تحمل لشهادة وأما أداؤها قال أبو حامد: المذهب أنه لا تقبل شهادته وبه قال أبو حنيفة وأحمد وقال ابن سريج: تقبل وبه قال مالك: وحكي القاضي الطبري عن الشيخ الإمام أبي عبد الله الحناطي المذهب أنه لا تقبل شهادته وقال ابن سريج: لا تقبل قال القاضي: وهذا هو الصحيح لأني رأيت للمزني على هذه المسألة في "الجامع الكبير" قال: والذي يجيء على قياس قول الشافعي رضي الله عنه: أن شهادته تصح كما يصح بيعه وطلاقه ونكاحه وحكاه ابن المنذر عن المزني في كتاب الشهادات ووجه القول الأول: أن الإشارة لا تصح [12/ 130 أ] مع موجب الظن ولا حاجة فيه لأنه يمكن أن يشهد غيره بخلاف العقود فإنها لا تستفاد إلا من جهته إما بعقده أو إذنه ويمكن أن يجاب عن هذا بأنه يجوز أن يكون وكيلًا لغيره في عقد، وإن لم يكن به حاجة وقد تيقن عليه شهادته فتدعو الحاجة غلى سماعها وقولها. مسألة: قال: وكذلك يشهد على عين المرأة ونسبها إذا تظاهرت له الأخبار ممن يصدق بأنها فلانة ورآها مرة بعد مرة وهذا كله شهادة بعلم كما وصفنا. اعلم أنه يجوز أن تشهد على إقرارها على هذا الوجه ولا يجوز أن تتحمل الشهادة عن المرأة وهي متنقبة فيعتمد صوتها بل لا بد من رؤية وجهها ثم إذا عرفها بوجهها فحكمها حكم الرجل. فرع لو تعمد النظر إلى امرأة ليعرفها الشهادة يجوز، وإن نظر إلى وجهها عمدًا بشهوة كان فاسقًا، وإن تعمد النظر لغير شهوة وشهادة قال صلي الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه: "لا تتبع النظرة النظرة فإن الأولى لك والثانية عليك". وله تأويلان يختلف حكم عدالته بهما: أحدهما: أراد لا تتبع نظر عينيك نظر قلبك فعلى هذا لا يأثم به، والثاني: أراد لا تتبع النظرة التي وقعت سهوًا بالنظرة الثانية التي توقعها عمدًا فعلى هذا بمعاودة النظر يخرج من العدالة فلا تقبل شهادته إلا بعد التوبة.

فرع آخر إذا جاز النظر [12/ 130 ب] إلى وجهها للشهادة لها وعليها قال جمهور الفقهاء: يجوز أن ينظر إلى جميع وجهها لأن جميعه ليس بعورة والثاني وهو قول الأكثرين لا يجوز لاختصاص المعرفة بالوجه وقال الآخرون: لا يجوز أن ينظر إلى جميع وجهها بل ينظر إلى قدر ما يعرفها به، وقال آخرون: إن كانت شابة نظر إلى بعض وجهها، وإن كانت عجوزًا نظر إلى الكل، وقال آخرون: إن كانت ذات جمال نظر إلى بعضه، وإن لم تكن ذات جمال نظر إلى كله تحرزًا من الافتتان بذات الجمال والصحيح من كل هذا أن ينظر إلى ما يعرفها به فإن كان لا يعرفها إلا بالنظر إلى كل وجهها جاز إلى كله، وإن كان يعرفها بالنظر إلى بعضه لا يتجاوزه. فرع آخر لا يزيد على النظرة الواحدة إلا ليتحقق إثباتها إلا بنظرة ثانية فتجوز الثانية. فرع آخر متى خاف إثارة الشهوة بالنظر كف ولم يشهد إلا في متعين عليه بعد ضبط نفسه. فرع آخر إذا كانت في نقاب عرفها فيه لم يكشفه، وإن لم يعرفها فيه كشف منه ما يعرفها به ولا يعول على معرفة الكلام لأنه قد يشتبه. فرع آخر إذا عرفها بعينها احتاج في معرفة نسبها إلى الخبر المتظاهر فرع آخر تظاهر الخبر إن كان من رجال [12/ 131 أ] ونساء وصغار وكبار وأحرار وعبيد فهو الأوكد لامتزاج من تصح شهادته بمن لا تصح. فرع آخر لو انفرد به النساء في العبيد صح به تظاهر الخبر لقبول خبرهم وإن ردت شهاتهم. فرع آخر لو انفرد به الصبيان في اختلاف أحوالهم وشواهد الحال بانتفاء التصنع والمواطأة عنهم يحتمل صحة تظاهره بهم وجهين: أحدهما: لا يصح لأن أخبار آحادهم غير مقبولة، والثاني: يصح لأن أخبار آحادهم قد تقبل في الإذن وقبول الهدية ولأنهم أبعد من التصنع والتهمة فكان أولى أن يحصل بهم التظاهر. فرع آخر تجوز شهادة الأحول، فإن كان يرى الواحد اثنين لا تقبل شهادته في العدد وتقبل فيما سواه.

فرع آخر لو عرف رجلاً باسمه ونسبه ولم يعرفه بعينه جاز أن يشهد له، ولا يجوز أن يشهد عليه لأنه يجوز أن يتحملها الغائب، ولا يجوز أن يتحملها عن الغائب. فرع آخر لو أراد أن يتحمل الشهادة عمن لا يعرفه ومن يعرفه قال قوم لا يجوز وقال قوم: يكلف المقر ان يأتيه بمن يعرفه ثم يشهد عليه بعد التعريف ولا يشهد عليه قبل، وقال الجمهور: يجوز أن يشهد إذا ثبت صورتهما وتحقق أشخاصهما، وإن لم يرهما قيل الشهادة ثم إذا أراد إقامتهما فإن عرفهما بأعيانهما صح إقامتها مع الجهالة باسمهما ونسبهما فإن خفي [12/ 131 ب] عليه أشخاصهما واشتبهت لا يجوز إقامتها. فرع آخر تحلية المشهود عليه إن كان مجهولاً قال قوم: يجب ذلك لأنه يؤدي إلى المعرفة، وقال آخرون: يمنع من ذلك لأن الحلي قد تشتبه، وقال الجمهور: هي استظهار باعث على التذكرة كالخط في القبالة ولا يعول عليه في الأداء. فرع آخر قال في "الحاوي": الكلام في الحلية في فصلين: أحدهما: ما يجوز أن يحلى فيه المقر به والثاني ما يجوز أن يحلى فيه المقر. فأما الأول فالمقر بها ثلاثة أضرب: أحدها: ما لا يحتاج فيه إلى التحلية كالوصايا وما يلزم من العقود، والثاني: ما يحتاج فيه إليها كالديوان والبراءات والحقوق المؤجلة، والثالث: ما لم يجز العرف فيه بالتحلي، وإن جازت وهي عقود البياعات الناجزة والمناكح والوكالات. وأما الثاني: حده قوم بما يجوز أن يستدل به القائف في إلحاق النسب فلا يجوز بما يحدث من آثار وجراح أو يمكن أن يغير أو يتغير من شيب أو شباب وقال آخرون: جده كل ما اشتهر به من أوصافه ولا يجوز تحليته بما لم يشتهر به. وقال الجمهور: التحلية تجوز بكل ما دل على المحلى من أوصافه الظاهرة دون الباطنة فمنها الطول والقصر واللون من بياض أو سواد أو سمرة والبدن من سمن أو هزال وفيها الكلام كاللثغة والفأفأة والتمتمة والرثة وما في اللسان من العجلة [12/ 132 أ] والثقل ومنها في العين بين الكحل والشهلة والشكلة وفقدان كهيئة، الحمرة في بياض العين والشهلة كهيئة الحمرة في سواد العين، وروي "أنه كان في عين رسول الله صل الله عليه وسلم شكله"، ومنها الشعر في الجعودة السبط وقيل: لا يحلى به قد يتصنع للناس تجعيد السبط وتبسيط الجعد وهذا ليس بشيء لأنه يعرف المصنوع من المخلوق، ومنها

سواد الشعر وبياضه وقيل: لا يحلى به لأن السواد قد يبيض والبياض يخضب وهذا ليس بشيء لأن بياض السواد بعلو السن يدل عليه تاريخ الشهادة وخضاب البياض يظهر للمتأمل. فرع آخر هل تجوز التحلية بالصمم؟ قال قوم من العلماء: يجوز وقال آخرون: لا يجوز لأنه قد يكون من مرض يزول. فرع آخر التحلية بما في الفم من الأسنان يجوز بما ظهر من الثنايا والأنياب دون الأضراس. فرع آخر تجوز التحلية بالجراح والشجاج والآثار اللازمة ولا يجوز بالثياب واللباس. فرع آخر يجوز تحلية النساء بما في وجوههن وبما ظهر من طول وقصر وهزال وسمن ويجوز تحلية المشهود له أيضاً كما تجوز تحلية المقر. مسألة: قال: وكذلك يحلف الرجل على ما يعلم بأحد هذه الوجوه التي ذكرناها في العلم فيأخذ بيمينه مع شاهده في رد اليمين [12/ 132 ب] أو غيره من القسامة وغيرها لأن شرط اليمين أن يكون على علم من الحالف كما أن شرط الشهادة أن تكون على علم من الشاهد. وجملته أن كل وجه يجوز أن يشهد به يجوز أن يحلف به قد يجوز أن يحلف على ما لا يجوز أن يشهد به وهو إذا رأي بخط يده في دفتر حسابه أو في رزنامته ديناً له علي رجل وعرف من عادته إتقانه في ذلك وأنه يضرب على ما يستوفيه فغلب على طنه صحته أو رأي بخطه فغلب على ظنه، أو أخبره من يثق بخبره ولا يتهمه في قوله فإنه يجوز له أن يحلف عليه، ولا يجوز أن يشهد بمثل ذلك وقال في "الحاوي": إن عرفه من وجه يجوز أن يشهد به لغيره ويصح له الشهادة به بخبر الواحد ويكون مكتوباً في كتاب الحساب فإن تشكل فيه ولا شيء يدل على صحته تجوز له المطالبة فربما يقر فيعلم صحته ولا يجوز أن يدعي إن أنكر ولا أن يحلف، وإن وقع في نفسه صحته يجوز أن يطالب به ويدعي وهل يحلف؟ فيه وجهان: أحدهما: لا يجوز له أن يحلف لأنه عرفه بغالب ظن يجوز أن يكون في الباطن بخلافه وقال هذا القائل هو ظاهر كلام الشافعي رضي الله عنه، والثاني: وهو الأصح [12/ 133 أ] يجوز له أن يحلف لأن النبي صل الله عليه وسلم قال في خير القسامة للأنصار "تحلفون وتستحقون دم صاحبكم"، وقد غابوا عن قتله

باب ما يجب من القيام بالشهادة

ولأنه يثبت في الشرع بخبر الواحد فاليمين أولى أن تجوز، ثم رجع الشافعي بعد هذا إلى المناظرة مع أبي حنيفة في شهادة الأعمى فقال: قلت لمن لا يجيز شهادة الشاهد، وإن كان بصيراً حين علم حتى عاين المشهود عليه يوم يؤدها عليه: أنت تجيز شهادة البصير على ميت وعلى غائب في حال وهذا نظير ما أنكرت فإنه لا يمكن الإشارة إلى الميت والغائب ولكن يرفع في نسبه ويحيزه عن غيره ويكفي كذلك هنا، ولأن الشافعي رضي الله عنه يجوز للبصير أن يشهد بالاسم والنسب من غير إشارة إلى عين المشهود عليه والإشارة إليه استحباب عنده وإنما يحتاج إلى الإشارة إلى عينه إذا لم يعرفه باسمه ونسبه فيشهد ويشير إليه فتقبل شهادته ذكره القاضي الطبري. باب ما يجب من القيام بالشهادة مسألة": قال الله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ} [البقرة: الآية 283] الآية. جملة هذا أن تحمل الشهادة فرض على الكفاية، والأصل فيه قوله تعالى: {وَلَا يَابَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: الآية 282] الآية. وقال ابن عباس رضي الله عنهما "أراد دعوا لتحملها وإثباتها عند الحاكم"، وقيل: أراد دعوا لأدائها [12/ 133 ب] عند الحاكم وقيل: أراد إذا دعوا للتحمل والأداء جميعاً، وقيل: إنه ندب لا فرض وبه قال عطاء وعطية وقال الشعبي: هو فرض على الكفاية، وقال قتادة والربيع بن أنس: هو فرض على الأعيان وعلى ما ذكرنا لو قعد الناس كلهم عن تحمل الشهادة جرحوا، وإن قام بتحملها بعضهم سقط عن الباقين الفرض لأن القصد من الشهادة وثيقة صاحب الحق فإذا قام بها اثنان حصلت الوثيقة ولأن في شهادة الجميع مشقة؛ لأن ذلك بمنزلة سائر فروض الكفايات مثل غسل الموتى والصلاة عليهم ودفنهم والجهاد ورد السلام وغير ذلك. وإن لم يكن في الموضع غير شاهدين تعين عليهما التحمل كما لو مات رجل في سفر ولم يكن هناك غير واحد تعين عليه القيام بأمره حتى يدفنه، وإذا تحملها ودخلوا فيها ثم دعي إلى أدائها فهو أيضاً على الكفاية، فإذا امتنع الجميع من أدائها أثموا، وإن قام بها بعضهم سقط الفرض عن الباقين، وإن لم يكن غير واحد أو اثنين لموت الباقين أو غيبتهم، أو لم يكن فيه غير اثنين تعين الفرض عليهما، ولم يجز لهما تأخير أدائها وهذا لقوله تعالى: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: الآية 283] وقيل: هذا أعظم وعيد لأنه نسب الإثم إلى القلب وهو أن يمسح مسحاً حتى لا يجد مرارة المعصية. قال الشافعي رضي الله عنه: [12/ 134 أ] أحفظ عن كل من سمعت من أهل العلم أن ذلك في الشاهد قال الشيخ القفال: لا يكاد يخفى هذا عن أحد لكن لم يجب

أن يتكلم في القرآن إلا حكاية عن غيره لقوله صل الله عليه وسلم:"من فسر القرآن برأيه فإن أصاب كتبت له خطيئة لو قسمت على أهل السموات والأرض وسعتهم، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار". فرع قد يكون التحمل فرضاً على الكفاية ويكون الأداء فرضاً على الأعيان وهو إذا كثروا عند التحمل وقلوا في الأداء، ولا يجوز أن يكون فرض التحمل على الأعيان وفرض الأداء على الكفاية؛ لأن الأداء يكون بعد التحمل والأغلب من التحمل أنه على الكفاية ومن الأداء أنه على الأعيان لأنه يكثر المتحملين ويقل عدد المؤدين ولذلك اختير أن يكون عدد المتحملين ثمانية، اثنان يموتان، واثنان يمرضان، واثنان يغيبان واثنان يحضران فيؤديان. فرع آخر قال بعض أصحابنا: فرض الأداء أغلظ من فرض التحمل للآية التي ذكرناها حيث قال: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: الآية 283]، وقيل: أراد فاجر قلبه فيحمل على فسقه بكتمها في العموم، وقيل: يكتسب الإثم يكتمها فيحمل على مأثمه في الخصوص وقيل: خص القلب بها لأنه محل اكتساب الآثام وقيل: لأن القلب موضع العلم بها قال الله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: الآية 37]. فرع آخر إذا بدأ باستدعاء أحدهم إلى تحمل الشهادة أو أدائها [12/ 134 ب] فقيه وجهان: أحدهما: يتعين عليه فرض الإجابة إلا أن يعلم أن غيره يجيب فلا يتعين عليه. والثاني: لا يتعين عليه فرض الإجابة إلا أن يعلم أن غيره لا يجيب فعلى الوجه الأول يصير عاصياً حتى يجيب غيره وهو اختيار أبي إسحاق وهو الصحيح من المذهب وهو ظاهر من قول الشافعي رضي الله عنه وفرض القيام بالشهادة في الابتداء عند التحمل على الكفاية فدل أن الانتهاء خلاف الابتداء، وهكذا قال الجويني صاحب "المنهاج" وعلى هذا قال أبو إسحاق: لو تحمل عشرة شهادة ثم دعا صاحب الحق اثنين منعم ليس لهما أن يفوضا إلى غيرهما ويمتنعا من إقامتها اتكالاً على غيرهما لأنه فرض قد تقلده وألزمه نفسه فلا يكون له الامتناع إلا بإقامة الغير ذلك فيمتنع حينئذٍ لعلمه بأن فيمن شهد كفاية ولأن لصاحب الحق مطالبة الطاعن، وإن كان معه غيره لأنه قد التزمه بدخوله فيه ولأنه تعين بطلب الطالب منه ذلك، ولو جوزنا لكل اثنين منهم الامتناع هلك حق الرجل، وعلى الوجه الثاني لا ييصير عاصياً في الحال حتى يمتنع

غيره، وقال ابن أبي أحمد فيه قولان، ولعله أراد قولين مخرجين. فرع آخر إذا امتنعوا جرحوا وكان المبتدئ بالاستدعاء [12/ 135 أ] أغلظهم مأثماً لأنه صار متبوعاً في الامتناع كما لو بدأ بالإجابة كان أكثرهم أجراً لأنه صار متبوعاً فيها فرع آخر لو توقف عن الإجابة عند التعيين يصير عاصياً إلا أن تكون الشهادة في حدود الله تعالى فإنه مندوب إلى التوقف عن تحملها، فأما توقفه عن أدائها، فإن كان في توقفه إيجاب حد على غيره كشهود الزنا إذا لم يكملوا يجب عليه الأداء، وأثم بالتوقف، وإن كان لا يجب بتوقفه حد فهو على ضربين فإن ظهر من المشهود عليه ندم فللمندوب إليه أن لا يؤدي الشهادة عليه بالحد، ولا يأثم بتوقفه، وإن كان غير نادم على فعله فللمندوب إليه أن يقيمها بتوقفه عنها مكروه ولا تكون معصية وإنما يعصي بالتوقف عن حقوق الآدميين. فرع آخر لو بقي الشاهد الواحد فإن كان مما لا يحكم فيه بالشاهد واليمين يسقط فرض الأداء عنه وإن كان مما يحكم فيه بالشاهد واليمين فإن كان هو والحاكم يرى الحكم به يجب أن يشهد وعليه أن يحكم، وإن كانا لا يريان ذلك لا يجب أن يشهد، وإن كان به والحاكم يرى الحكم به يلزمه أن يشهد لأنه يعتقد أن ما يشهد به حق واجب وإن كان في إلزام الحاكم غير واجب عنده والإلزام معتبر [12/ 135 ب] باجتهاد الحاكم دون الشاهد. فرع آخر يلزمه أن لا يكتم الشهادة على والده وولده وعلى نفسه أيضاً وشهادته على نفسه الإفادة، قال الله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [النساء: الآية 135]. فرع آخر لو نصر مع واحد لأداء الشهادة ليس لواحد منهما أن يقول: يشهد لك صاحبي فأحلف معه، وإن كان القاضي يقضي بشاهد ويمين لأنه يقول: إنما أشهدتكما لكي لا أحتاج إلى الابتداء باليمين. فرع آخر الكاتب إذا دعي ليكتب فعليه أن يكتب خاصة إذا علم أنه متعين، قال الله تعالى: {وَلَا يَابَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ} [البقرة: 282] ثم قال: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [البقرة: الآية 282] ومضرتهما تضيق الأمر عليهما في

وقت يكونان مدفوعين إلى شغل يتعذر عليهما إهماله الإحلال به مثل الصلاة والأكل وغير ذلك من الحوائج. وقال الشافعي رضي الله عنه: فأشبه أن يكون خرج من ترك ذلك ضراراً يعني من شرك الله تعالي بترك مضارتهما فضارهما أشبه أن يكون إثماً وقيل: الكاتب والشهيد فاعلان أي لا يضار كاتب ولا شهيد في ذلك بأن يدفع الكتبة ويكتم الشهادة والكتبة هي تحمل الشهادة فوجب أن يشهد بما علم وواجب أن يتحمل إذا لم يكن يحضره سواء ممن يتحمل على ما ذكرنا وقيل: هما مفعولان أي لا يعجلا عن صلاة [12/ 163 أ] أو أكل على ما ذكرنا وقيل: يضار قرئ بنصب الراء ورفعه ومعنى الرفع لا يضر الكاتب والشهيد من يدعو ضار لا يجيبه وقيل أيضاً، بأن يكتب ما لم يستكتبه أو يشهد بما لم يشهد ومعنى النصب أنه لا يضر بالكاتب والشهيد بأن يقطعا عن شغلهما على ما ذكرنا. فرع آخر أعذار الشهادة ضربان: أحدهما: العجز، والثاني: المشقة فالعجز أن يكون مريضاً يعجز عن الحركة، فإن حضره الحاكم لم يعذر في التوقف. وأما المشقة فضربان: حظر وأذى فالحظر أن يخاف من سلطان جائر وفتنة عامة فلا تلزم الإجابة، وأما المشقة فضربان: أحدهما: ما يتوقع زواله من حر شديد أو برد شديد لا يلزمه الإجابة حتى يزول، وإن كان دائماً مثل أن يدعي مع الصحة إلى المشي إلى مجلس الحكم لأدائها، فإن كان خارج البلد عذر بالتأخير سواء قربت المسافة أو بعدت وسواء كان ذا مركب أو لا، لأن في مفارقته وطنه مشقة، وإن كان في بلده فإن قربت أطراف بلده لصغره يلزمه الإجابة، وإن بعدت أقطاره فإن جرت عادته بالمشي في جميع أقطاره لزمته الإجابة، وإن لم تجر عادته لم تلزمه، وإن قدر لأن مفارقة العادة مشقة إلا أن يكون ذا مركب فلا مشقة عليه في الركوب فتلزمه الإجابة. فرع آخر لو حمل الشاهد مركوب وهو غير ذي مركوب اعتبرت حاله [12/ 136 ب] فإن كان لم تنكر الناس ركوب مثله لزمته الإجابة، وإن لم ينكروه لم تلزمه الإجابة لأن ما ينكره الناس يستقبح. فرع آخر إذا خاف ضياع ماله لم يلزمه الإجابة فإن ضمن له الداعي حفظ ماله لا يلزمه الإجابة أيضاً لأنه لا يلتزم ائتمان الناس على ماله. فرع آخر لو كان يتعطل به عن اكتسابه فإن دعي في اكتسابه لم تلزمه الإجابة، وإن دعي في غيره لزمته الإجابة.

باب شروط الذين تقبل شهادتهم

فرع آخر لو بذل الداعي قدر مكسبه لم يلزمه قبوله ولو طلب قدر كسبه، فإن كان أكثر من أجرة مثله لم يجز وإن كان قدر أجره مثله قد ذكرنا ما قيل فيه، وقال في "الحاوي": فيه ثلاثة أوجه: أحدها: يجوز له أخذها كأجرة الكاتب، والثاني: لا يجوز كالحاكم، والثالث له أن يأخذها على التحمل دون الأداء لأنه في الأداء متهم وفي التحمل غير متهم. فرع آخر يلزم أن يشهد عند كل ذي ولاية من أهل العدل أو أهل البغي. فرع آخر لو دعي أن يشهد عند جائر فإن كان جور في الحق المشهود به لا تلزمه الإجابة، وإن كان جوره في غيره لزمته الإجابة. فرع آخر لو دعي أن يشهد عند متوسط، فإن لم يلزمه ما حكم لم يلزم، وإن التزم ما حكمه هل تجب الإجابة فيه وجهان مخرجان من القولين في الحكم هل يلزم المتراضين به حكمه أو لا. فرع آخر لو دعي إلى حاكم لا يعلم هل يقبل شهادته أم لا يلزمه الإجابة لجواز [12/ 137 أ] أن يقبلها فإن شهد عنده فتوقف عن قبولها لاستبراء حاله يلزمه أن يشهد بها عند غيره من الحكام إذا دعي إليه لأنه لا يجوز لغيره الحكم بشهادة ردت بحكم. باب شروط الذين تقبل شهادتهم قال الشافعي رضي الله عنه: قال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}. وقال تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: الآية 283]. فكان الذي يعرف من خوطب بهذا أنه أريد بذلك الأحرار البالغون المسلمون. اعلم أنه لا تقبل الشهادة إلا من حر بالغ عاقل ثقة فالعبد لا تقبل شهادته بحال وبه قال عمر وابن عمر وابن عباس رضي الله عنه: "شهادة العبيد تقبل بعضهم على بعض ولا يجوز قبولها على حر"، وقال عثمان البتي: تقبل شهادته على الكل وحكي عنه أنه قال: رب عبد خير من سيده، وروى ذلك عن أنس بن مالك وبه قال داود وأبو ثور وروي البخاري هذا عن شريخ وزارة، وروي ذلك عن أحمد وإسحاق ورواه بعض أصحابنا بخراسان عن مالك ولا يصح عنه، وقال ابن سيرين: شهادته

جائزة إلا لسيده، وقال الشعبي والنخعي: [12/ 137 ب] تقبل شهادته في القليل دون الكثير وروي هذ عن الحسن البصري وقيل: إن عبداً شهد عند شريح فقبل شهادته فقيل له إنه عبد فقال: كلكم ابن عبد وأمة. واحتجوا بأن من قبل خبره قبلت شهادته كالحر. ودليلنا قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}. قال مجاهد: يعني من الأحرار وقال الشافعي: ورجالنا أحرار لا مماليكنا الذين يغلبهم من يملكهم على كثير من أمورهم، وأيضاً قوله تعالى: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: الآية 282]. والعبيد ليسوا من المرضيين على الإطلاق في المروءة وغيرها ويغلبهم من يملكهم على أمورهم كذا قال الشافعي. وأراد أن المرؤة لا تحصل لهم لأنهم يملكهم من يتبذلهم فيما يخالف المروءة، وأيضاً فالشهادة موضوعة على المفاضلة لأن الرجل فيها كالمرأتين ولا يساوي العبد الحر في الولايات والعبادات والتمليكات، أو نقول الشهادة أمر لا يتبعض شيء على التفاضل فلا مدخل للعبيد فيها كالميراث، وقولنا: لا يتبعض احتراز عن النكاح والطلاق، وقولنا: شيء على المفاضلة احتراز عن القطع في السرقة وأما الخبر قلنا الشهادة تخالف الخبر لأن المرأة فه كالرجل بخلاف الشهادة. مسألة: قال: وفي قوله تعالى: {شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: الآية 282] دليل على إبطال قول من قال تجوز شهادة الصبيان [12/ 138 أ] في الجراح ما لم يتفرقوا. اعلم أنه لا تقبل شهادة الصبيان بحال، وبه قال ابن عباس رضي الله عنهما والحسن وعطاء والشعبي والأوراعي والثوري وابن أبي ليلى وأبو حنيفة، وروي أن ابن أبي مليكة "كتب إلى ابن عباس يسأله عن شهادة الصبيان فكتب إليه أن الله تعالى يقول: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: الآية 282]. وليسوا ممن نرضى فلا يجوز". وقال ابن الزبير تقبل شهادة بعضهم على بعض في الجراح إذا كانوا مجتمعين على الصفة التي كانوا عليها، وبه قال النخعي ومالك وهذا لأنهم إذا تفرقوا يحتمل أنهم لقنوا، وروي أن ابن الزبير رضي الله عنهما قضى بشهادتهم في الجراح ما لم يتفرقوا فخالفه ابن عباس رضي الله عنهم فصار الناس إلى قضاء ابن الزبير، وعن أحمد ثلاث روايات: إحداها: مثل قول مالك، والثانية: مثل قولنا، والثالثة: أن تقبل شهادتهم في كل شيء. وحكي عن الحسن أنه "أجاز شهادة الصبيان في الموضحة والسن فيها دون احتجاجاً بقضاء ابن الزبير في الحكم بشهادتهم في الجراح ما لم يتفرقوا"، ودليلنا قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: الآية 282]. والصبيان ليسوا من الرجال ولأنه لا تقبل شهادتهم في الأموال مع ضعفها فلأن لا تقبل في هذا أولى، أو نقول: لو جاز

ما قالوه للضرورة [12/ 138 ب] لجاز في الجراح بشهادة النساء في الحمامات والأعراس، وينبغي أن تقبل شهادة قطاع الطريق بعضهم على بعض للضرورة، أو نقول: لا تقبل شهادتهم في الأموال فكذا في الجراح كالفاسق، أو نقول: الصبي لا يلزمه شيء إذا أقر أو نذر أو عقد بيعاً فكيف يلزم غيره بشهادته؟ واحتج الشافعي رضي الله عنه بأن الصبيان لا فرائض عليهم فكيف يجب بقولهم فرض. مسألة: قال: المعروفون بالكذب من المسلمين لا تجوز شهادتهم فكيف تجوز شهادة الكافر مع كذبهم على الله تعالى. قصد بهذا الرد على أبي حنيفة رحمه الله حيث قال: تقبل شهادة الكفار بعضهم على بعض ولا تقبل شهادتهم على المسلمين وبه قال الحسن وسوار وحماد والثوري وعثمان البتي وعندنا لا تقبل شهادتهم بحال، وبه قال مالك والأوزاعي والحسن في رواية وابن أبي ليلى وأحمد، وروي عن أحمد أنه قال: تقبل شهادته على المسلمين في الوصية إذا لم يكن مسلم ولا يقبل بعضهم على بعض، وقال داود: تجوز شهادة أهل الذمة على المسلم في وصيته في السفر دون الحضر، وبه قال سعيد بن المسيب وعكرمة، وروي ذلك عن الحسن والنخعي وشريح والأوزاعي أيضاً، [12/ 139 أ] وقال الشعبي والزهري وقتادة والحكم بن عتيبة وإسحاق وأبو عبيد تقبل شهادة أهل كل ملة بعضهم على بعض، ولا تقبل شهادة يهودي على نصراني ولا نصراني على يهودي، واحتج أبو حنيفة بما روى البراء بن عازب رضي الله عنه ان النبي صل الله عليه وسلم "أجاز شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض"، وأنه يلي بعضهم على بعض. واحتج أحمد بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ} [المائدة: الآية 106]. الآية وقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: يعني من غير أهل دينكم، وروي الشعبي أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة. . . ولم يجد أحداً من المسلمين يشهد على وصيته فأشهد رجلين من أهل الكتاب فقدما الكوفة فأتيا الأشهري فأخبراه وقدما بتركته ووصيته فقال الأشعري: هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله صل الله عليه وسلم فأحلفا بعد العصر بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيرا وإنها وصية الرجل وتركته فأمضي شهادتهما. ودليلنا قوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] وقال تعالى أيضاً {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة:282] وقال أيضاً: {مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة:282] قال الشافعي: في الآية دلالة على أن الله تعالى إنما عنى المسلمين دون غيرهم من قبل أن رجالنا ومن نرضى من أهل ديننا لا المشركون لقطع الله تعالى الولاية بيننا وبينهم بالدين ووصف الشهود من فقال {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: الآية 2] فلا يجوز من غيرنا، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: "يا معشر

المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وقد حدثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدلوا ما كتب الله وغيروا"، وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صل الله عليه وسلم قال: "لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم"، وروى أبو سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صل الله عليه وسلم قال: "لا يتوارث أهل ملتين بشيء"، ولا يجوز شهادة ملة على ملة إلا ملة محمد فإنها تجوز على غيرهم، وروي: إلا أمتي فإنهم يجوزون على سائر الأمم صل الله عليه وسلم. واحتج الشافعي رضي الله عنه بما ذكرنا هنا وهو أنه لا تقبل شهادة المعروف بالكذب وكذلك المغفل الذي يكثر غلطه ونسيانه، وإن كان من الصالحين لا تقبل شهادته. وأما خيرهم قال أصحابنا: لا أصل له فإن صح يحمل على اليمين ويعبر بالشهادة عن اليمين، قال الله تعالى: {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} [المنافقون: الآية 1] يعني: نحلف ثم نعارضه بما روى عبادة بن نسي عن ابن غنيم [12/ 140 أ] رضي الله عنه أن النبي صل الله عليه وسلم قال: "لا تقبل شهادة أهل ملة على أهل الملة إلا المسلمين فإنهم عدول على أنفسهم من غيرهم". وأما الآية التي ذكروها قال الحسن: أراد والحران من غيركم من المسلمين من القبيلة أو غير القبيلة، ألا ترى أنه قال: تحبسونهما من بعد الصلاة وهكذا قال عكرمة وهذا لأن الغالب في الوصية أن الموصي يشهد أقربائه وعشيرته دون الأجانب، وقيل: هذه الآية صارت منسوخة بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: الآية 2]. وروي هذا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وروي عن ابن عباس أنه قال: "خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن براء فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم فلما قدما بتركته فقدوا جام فضة مخوصاً بالذهب فأحلفهما رسول الله صل الله عليه وسلم ثم وجد الجام بمكة فقالوا: اشترينا من تميم وعدي فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم قال فنزلت فيهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المائدة: الآية 106] الآية. وفي هذا حجة لمن رأى رد اليمين على المدعي والآية محكمة لم تنسخ، هكذا قالت عائشة رضي الله عنها والحسن وعمرو بن شرحبيل وقالوا: "المائدة [12/ 140 ب] " آخر ما نزل من القرآن الكريم لم ينسخ منها شيء" والآية على الوصية دون الشهادة لأن نزولها كان في الوصية وتميم الداري وصاحبه عدي كانا وصيين لا شاهدين، والشهود لا يحلفون وقد حلفهما رسول الله صل الله عليه وسلم وإنما عبرا بالشهادة عن الأمانة التي تحملاها وهو معنى قوله تعالى: {وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ} أي أمانة الله.

وروى ابن عباس رضي الله عنهما عن تميم الداري في هذه الآية قال: يرى الناس منها غيري وغير عدي بن براء وكانا نصرانيين يختلفان إلى الشام قبل الإسلام لتجارتهما وقدم عليهما مولى لبني سهم يقال له بريك بن أبي مريم بتجارة ومعه جام من فضة وهو عظم تجارته فمرض فأوصى إلهما وأمرهما أن يبلغا ما ترك إلى أهله قال تميم: فلما مات أخذنا ذلك الجام فبعناه بألف درهم ثم اقتسمناه أنا وعدي فلما قدمنا إلى أهله دفعنا إليهم كل ما كان معنا وفقدوا الجام فسألونا عنه فقلنا: ما ترك غير هذا وما دفع إلينا غيره قال تميم: فلما أسلمت بعد قدوم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة تأثمت من ذلك، فأتيت أهله فأخبرتهم الخبر وأديت إليهم خمس مائة درهم وأخبرتهم أن عند صاحبي مثلها فوثبوا إليه فأتوا به رسول الله [12/ 141 أ] صلى الله عليه وسلم فسألهم البينة، فلم يجدوا فأمرهم أن يستحلفوه بما يعظم به على أهل دينه فحلف فأنزل الله تعالى: {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: الآية 106]. إلى قوله تعالى: {أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} [المائدة:108] فقام عمرو بن العاص ورجل آخر منهم فنزعت الخمس مائة من عدي بن براء وقال مقاتل في هذه القصة: جاء تميم وعدي بالمال والوصية فدفعاه إلى أولياء الميت، فاستنكر القوم قلة المال فقالوا لهما: إن صاحبنا خرج بمال كثير فهل باع شيئًا وهل طال مرضه فأنفق على نفسه فقالا: لا فقالوا: خنتما وقبضوا المال ورفعوا أمرهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلما نزلت أن يحبسا بعد الصلاة أمرهما النبي صلى الله عليه وسلم فقاما بعد الصلاة فحلفا بالله رب السموات ورب الأرض ما ترك مولاكم من المال إلا ما أنبأنكم به وإنا لا نشتري بأيماننا ثمنًا من الدنيا، ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين، فلما حلفا خلي سبيلهما ثم إنهم وجدوا بعد ذلك إناء من آنية الميت وأخذوا تميمًا وعديًا فقالا: اشترينا منه في حياته فكلفا البينة فلم يقدرا عليها فرفعوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى، {فَإِنْ عُثِرَ} [المائدة: الآية 107] يقول فإن اطلع {عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً} [المائدة: الآية 107] يعني تميمًا وعديًا يقول: إن كانا كتمًا حقًا {فَآخَرَانِ} [12/ 141 ب] من أولياء الميت {يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ}، يقول: فيحلفان بالله إن مال صاحبنا كان كذا وكذا، وإن الذي نطلبه قبل تميم وعدي لحق {شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ} [المائدة: الآية 107] فهذا قول الشاهدين أولياء الميت حين أطلع على خيانة الوصيين لقول الله تعالى: {ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَاتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا}، يعني تميمًا وعديًا والناس أن يعود ولمثل ذلك وبه قال مجاهد والحسن والضحاك. قال الشافعي: ومعنى شهادة بينكم، أيمان بينكم والله أعلم فإن قيل: أليس يجوز أن يكون الكافر وليًا لولده الكافر في المال والنكاح، فكذلك يجوز أن يكون شاهدًا، قيل الولاية مخالفة للشهادة لأن المسلم لا يكون وليًا للكافر ويكون شاهدًا للكافر وعليه ولأن الكافر يكون وليًا للكافر فيما له على المسلم وفيما للمسلم عليه، ولا يكون الكافر شاهدًا على المسلم وقد قيل: الولاية تتعلق بالنسب وتتعين في شخص بعينه فكانت أقوى من الشهادة التي لا تتعين.

كتاب الأقضية واليمين مع الشاهد

وقيل الشرائط فيمن تجوز شهادته ست: إحداها: العدالة وهي الركن في كل الشهادة وقال الله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ}. وقال: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: الآية 282] والرضي العدل. والثانية: إلى السادسة شرائط العدالة وهي البلوغ والعقل والحرية [12/ 142 أ] والإسلام والعفاف عن المعاصي وقيل: السادسة حفظ المروءة وانتفاء التهمة وما تقدم أصح. كتاب الأقضية واليمين مع الشاهد قال: أخبرنا عبد الله بن الحارث وذكر الحديث عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم "قضى باليمين مع الشاهد". أعلم أنه إذا ادعى مالًا وأقام به شاهدًا واحدًا لحلف معه ويحكم له به، وبه قال الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي بن كعب رضي الله عنهم والحسن وعمر بن عبد العزيز وأبو سلمة بن عبد الرحمن والشعبي وشريح ويحي ومعمر وسليمان بن يسار وعطاء، والفقهاء السبعة وأبو الزناد وربيعة ومالك وبان أبي ليلى وأحمد وإسحاق وأبو ثور، وقال كلثوم بن زياد: أدركت سليمان بن حسن والزهري يقضيان بذلك يعني بشاهد ويمين. وقال أبو حنيفة: لا يقضي به بحال وبه قال النخعي وابن شبرمة والأوزاعي والثوري، وروي ذلك عن الزهري أيضًا، وروي عن النخعي مثل مذهبنا، وحكي عن محمد بن الحسن أنه قال: من قضى بالشاهد واليمين نقضت حكمه، واحتجوا بقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ من رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ} [البقرة: الآية 282]. فمن زاد في ذلك [12/ 142 ب] فقد زاد في النص والزيادة في النص نسخ. ودليلنا الخبر الذي ذكره الشافعي رضي الله عنه، وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده عن علي رضي الله عنهم "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بالشاهد الواحد مع يمين صاحب الحق"، وقضى به علي رضي الله عنه بالعراق، وروي علي رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أحلف صاحب الحق مع الشاهد" وروي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بشاهدة رجل ويمين الطالب" وروي عن مسلمة بن قيس الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استشرت جبريك عليه السلام في اليمين مع الشاهد فأمرني بها"، وروي جابر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتاني جبريل عليه السلام فقال: إن الله يأمرك أن تقضي بشاهد ويمين"، وروي عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"قضى الله ورسوله في الحق بشاهدي عدلٍ فإن جاء بشاهدين أخذ حقه، وإن جاء بشاهد واحد حلف مع شاهده". وأيضًا روى أبو داود بإسناده عن عمار بن شعيب بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عن جده الزبير رضي الله عنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشًا إلى بني العنبر فأخذ فيهم بركية من ناحية الطائف فاستاقهم [12/ 143 أ] إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فركبت فسبقتهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: "السلام عليك يا نبي الله ورحمة الله وبركاته أتانا جندك فأخذونا وقد كنا أسلمنا وخضرمنا أذان النعم فلما قدم بلعنبر فشهد الرجل فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ألكم بينة على أنكم أسلمتم قبل أن تؤخذ في هذه الأيام قلت: نعم قال: من بينتك؟ قلت سمرة رجل من بني العنبر ورجل آخر سماه فشهد الرجل وأبي سمرة فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: قد أبى أن يشهد لك فتحلف مع شاهدك قلت: نعم فاستحلفني فحلفت بالله لقد أسلمنا يوم كذا وكذا وخضرمنا أذان النعم فقال: اذهبوا فقاسموهم أنصاف أموالهم ولا تسبوا ذراريهم لولا أن الله لا يحب ضلالة العمل ما رزقناكم عقالًا قال الزبير: فدعتني أمي فقالت: هذا الرجل أخذ بيتي فانصرفت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال: احبسه فأخذت بتلبيته وقمت معه بمكاننا ثم نظر إلينا نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما تريد من أسيرك؟ فأرسلته من يدي فقام نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال للرجل رد عليه زربية أمه التي أخذت منها فقال: يا نبي الله إنها خرجت من يدي فاختلع نبي الله إنها خرجت من يدي فاختلع نبي الله صلى الله عليه وسلم سيف الرجل فأعطانيه فقال للرجل اذهب فزده أصوعًا من طعم قال: فزاد في أصوعًا من شعير". قوله خضرما أي قطعنا أطراف [12/ 143 ب] آذانها وكان ذلك في الأموال علامة بين من أسلم وبين من لم يسلم والمخضرمون قوم أدركوا الجاهلية وبقوا إلى أن أسلموا، ويقال: أصل الخضرمة خلط الشيء بالشيء وضلالة العمل بطلانه وذهاب نفعه يقال: طل اللبن في الماء إذا بطل وتلف، وقوله ما رزيناكم أصله رزأناكم بالهمز يعني ما نقصناكم من أموالكم عقالًا والزربية: الطنفسة فإن قيل: هذا استعمال اليمين مع الشاهد في غير الأموال وعندكم لا يجوز قلنا: قد قيل: قصد هذا المال لأن الإسلام يعصم المال كما يعصم الدم، ثم هو دليل على أنه يقضي باليمين مع الشاهد في الجملة ثم تركنا له البعض بدليل، وروى عمرو بن حزم والمغيرة بن شعبة قالا: "بينا نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل رجلان يختصمان مع أحدهما شاهد على حقه فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمين صاحب الحق مع شاهده فاقتطع بذلك حقه" وأما الآية التي ذكروها قلنا: الزيادة لا تكون نسخًا عندنا وعندهم أيضًا لا يكون نسخًا إذا لم يغير حكم المزيد وهذه الزيادة لا تغير حكم المزيد ولهذا زدتم النكول ولا يكون نسخًا أن نقول: وردت الآية في التحمل دون الأداء ولهذا قال تعالى: {تَضِلَّ احْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى}.

فرع قال الشافعي رضي الله عنه: فكل ما كان مالًا من القرض والغصب وأداء مال الكتابة أو المقصود منه [12/ 144 أ] المال كالبيع والرهن والآجال والخيار في البيع وجناية الخطأ جميع ذلك بشاهد ويمين وما عدا ذلك لا يثبت بشاهد ويمين، وقد ذكرنا فيما مضى أنه لا يحكم به في الرضاع والولادة ونحو ذلك، وروي عن مالك أنه قال: يحكم بالشاهد واليمين في الحدود أيضًا وهذا لا يصح لما روي الدارقطني بإسناده عن أبي سلمة عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "استشرت جبريل عليه السلام في القضاء باليمين مع الشاهد فأشار بذلك علي في الأموال لا تعدوا ذلك"، وقال عمرو بن دينار: فيما رواه عن ابن عباس رضي الله عنهما وذلك في الأموال وتفسير الراوي أولى من تفسير غيره. فرع آخر قال أبو حامد في "التعليق": إذا قطع يده من الساعد عمدًا يثبت بالشاهد واليمين لأنه لا قصاص فيه، وقال القاضي الطبري: هذا غلط لأنه له أن يستوفي القصاص من الكوع فلا يثبت ذلك بالشاهد واليمين، وقد نص الشافعي رضي الله عنه على أنه لا يقبل شاهد وامرأتان وشاهد ويمين في الهاشمة والمأمومة لأن المشجوج لو أراد الاقتصاص من موضحته له ذلك ونص الشافعي على أن من له ثلاثة أصابع إذا قطع من له يد كاملة الأصابع فله عليه أن يقطع من يده ثلاثة أصابع وإن كان الجاني قطع من الكوع ولم يقطع أصابعه. فرع آخر يجوز أن يحكم بالمال [12/ 144 ب] بشاهد وامرأتين مع وجود شاهدين، وحكي عن مالك أنه قال: لا يجوز الحكم بالمال بالشاهد، والمرأتين إلا عند عدم الشاهدين وهذا غلط لأنه يجوز أن يستوثق المستشهد بشاهد وامرأتين، مع القدرة على الشاهدين. فرع آخر عندنا مع القدرة على البينة الكاملة يجوز إثباته بشاهد ويمين في ظاهر المذهب، وقال في "الحاوي" فيه وجهان: أحدهما: هذا، والثاني لا يجوز لأن نقصها عن الكمال يبعث على الحكم بها في الاضطرار دون الاختيار. فرع آخر لا يسمع الحاكم يمينه حتى يثبت عنده عدالة شاهده ظاهرًا وباطنًا، فإذا ثبت ذلك استحلف المدعي وحكم له وهذا لأن الحال قبل ثبوت العدالة كالحال قبل الشهادة.

فرع آخر لو حلف المدعي مع شاهده فيما ذكرنا حكم له فإن قال: لا أحلف وامتنع كان القول قول المدعي عليه مع يمينه فإن حلف سقطت دعواه وليس للمدعي أن يحلف بعد ذلك مع شاهده لأن بامتناعه سقط حقه من اليمين ولا يشبه ذلك إقامة البينة بعد اليمين لأن اليمين فعله وهو قادر عليها فامتنع بخلاف البينة. وقال بعض أصحابنا: لو انصرفنا عن هذا المجلس ثم عادا في مجلس آخر واستأنفا الدعوى [12/ 145 أ] وأقام لم يقض منها، والثاني القبول يبني على ملك سابق من حين مات الموصي فبالقبول يدخل في ملك ميتهم ثم يورث عنه وعلى هذا لو كان على أبيهم دين قضي منها ويقتسمون قسمة الميراث. فرع آخر لو نكلوا عن اليمين ثم ماتوا وأراد ورثتهم أن يحلفوا مع الشاهد فإن كان امتناعهم لنكولهم لا يجوز للورثة الحلف لأنهم أسقطوا حقهم من الأيمان بنكولهم، وإن خافوا فوقفوا عن الأيمان فيجوز للورثة أن يحلفوا وقد ذكرنا فيما مضى أن الدين عندنا لا يمنع ملك الورثة والتركة كالمرهونة به. وقال الإصطخري: ولو يملكوا بما أحاط بقدر الدين، وعند أبي حنيفة إن أحاط بكل التركة لم يملكوها، وإن أحاط ببعضها ملكوا كلها الحلاف وتأثير الخلاف فيما يحدث عن التركة من النماء قبل قضاء الدين كالثمرة والنتاج وكسب العبد تكون مضمونة إلى التركة في قول من جعلها باقية على ملك الميت يتعلق بها قضاء الدين ويظهر في الزكاة وزكاة الفطر. مسألة: قال: وإن كان فيهم معتوه وقف حقه حتى يعقل فيحلف. ظاهر هذا أن يستوفي حقه من الديون أو يستخرج من يد الورثة في الوصية، وليس المراد هذا وإنما أراد التوقف في استيفاء حقه وكيف يستوفي له شيء من الوصية أو من الميراث والبينة لم تكمل له؟ وقال [12/ 145 ب] أبو إسحاق: معناه أنه لم يمنع من اليمين إذا عقل في الرأي فيكون حقه من اليمين موقوفًا، ولم يرد به أن الشيء ينتزع من يد المدعي عليه ويجعل موقوفًا وقال صاحب "الإفصاح": يؤخذ نصيبه منه ويوقف بشاهد واحد فيه قولان كما قلنا هل له أن يطلب بالكفيل بشاهد ويمين فيه قولان، وكذلك إذا ادعى على أجنبي أنه قذف وأقام عليه شاهدًا واحدًا فهل يجوز حبسه إلى أن يقيم الشاهد الآخر فيه قولان ولا خلاف أنه إذا أقام شاهدين يحبس أو يطالب بالكفيل إلى أن يعدل الشاهدان لأن البينة قد تمت في الظاهر، فإذا تقرر هذا فإذا بلغ الطفل أو عقل المعتوه كان له أن يحلف، فإن حلف استحق، وإن نكل عن اليمين سقط حقه وإن مات قبل أن يعقل قام وارثه مقامه.

وقال في "الأم": ولو كان في الورثة أخرس وكان يعقل الإشارة باليمين أشار إليه باليمين حتى يقسم عنه أنه حلف ثم يعطيه حقه، وإن كان لا يعقل الإشارة أو يموت فيقوم وارثه مقامه وعلى هذا قال بعض أصحابنا بخراسان، إذا كان أحد الاثنين غائبًا فالحاضر يحلف مع شاهده ولا يستحق من يد المدعى عليه إلا نصيبه وهو النصف والباقي يترك في يده حتى يرجع الغائب، فإذا رجع فلا حاجة إلى إعادة إقامة ذلك الشاهد إذا كانت الدعوى في ميراث [13/ 146 أ] وأقام الشاهد يجوز أن يحلف معه وفي هذا نظر. فرع آخر لو نكل المدعى عليه عن اليمين هنا بعد طلبه فهل ترد اليمين على المدعي؟ فيه قولان: أحدهما: لا ترد لأنه قد أبطلها بنكوله كما تقول في المدعي عليه إذا امتنع من اليمين لا يعرض ثانيًا، والثاني: يرد وهو الأصح لأن يمين النكول غير اليمن التي يحلف بها مع الشاهد لأن يمين النكول تدخل في المال وغيره بخلاف اليمين مع الشاهد فيقول: بالله إن شاهدي لصادق وما شهد به لحق، فإذا كان كذلك اختلفا فلم يكن النكول عن إحداهما نكولًا عن الأخرى. فرع آخر إذا قلنا بالقول الأول لا يُرد على المدعي قال أبو حامد: يحبس المنكر بالشاهد حتى يحلف ويعترف لأنه قد تعين عليه ذلك فلا يكون له إسقاطها ويخالف هذا إذا امتنع المدعي من يمين الرد وطلب حبس المدعي عليه حتى يحلف لم يمكن له لأن الامتناع من جهته، وقال صاحب "الحاوي": هذا خطأ لأن الحبس على الحقوق يكون بعد ثبوت استحقاقها ولم يثبت الحق بالشاهد. فرع آخر لو نكل المدعي عليه عن اليمين أولًا ثم ردت على المدعي فنكل فأقام شاهدًا واحدًا وأراد أن يحلف مع شاهده [12/ 146 ب] بعد الحكم بنكوله عن يمين الرد هل يجوز ذلك له؟ فيه قولان تفريعًا على القولين الأولين. فرع آخر إذا قلنا: يرد إلى المدعي في المسألة التي ذكرناها فيحلف ويستحق بيمينه لا بشاهده فإن امتنع خلى المدعي عليه بلا خلاف، ولو نكل عن اليمين مع الشاهد الواحد ثم شهد له آخر يقبل وتمت البينة بهما وحكم له.

فرع آخر لو ادعى أن المدعي كذب الشاهدين حكم فيه بالشاهد واليمين، لأن تكذيب المدعي لبينته توجب سقوط حقه ولا توجب جرح شهوده وفي الجرح لا يقبل شاهد ويمين. فرع آخر قد ذكرنا كيف يحلف مع شاهده وقيل: يحلف إن ما شهد به شاهده ثابت له إلى وقته ويستحقه، ومن أصحابنا من قال: يجوز سماع يمينه قبل شهادة شاهده وليس بشيء. فرع آخر إذا لم يحلف مع شاهده وعرض اليمين على المدعي عليه فنكل لا يحكم بمجرد نكوله وقال مالك: يحكم هنا بمجرد نكوله وإن كان لا يحكم بالنكول في غير هذا الموضع واحتج بأن نكوله مع شاهد المدعي بمنزلة يمين المدعي مع نكول المدعي عليه بل الشاهد أقوى من اليمين وهذا غلط؛ لأن الشاهد الواحد معنى يتقوى به جنبه المدعي فلا يحكم به في القسامة، ولأنه لو نكل المدعى عليه من اليمين فأقام المدعي شاهدًا [12/ 147 أ] واحدًا لم يثبت حقه فكذلك هنا. مسألة: قال: "ولو أتى قوم بشاهد على أن لأبيهم على فلان حقًا وأن فلانًا قد أوصى لهم فمن حلف منهم مع شاهده استحق مورثه أو وصيته دون من لم يحلف"، وإنما قال ذلك لأنه إذا ادعى دينًا فهو يدعي مالًا محضًا، وإن ادعى وصية فهو ما المقصود منه المال فحكم في الجميع بشاهد ويمين ثم ينظر فإن حلف جماعة المدعيين قضى بالحق لهم فإن كانوا ادعوا دينًا لمورثهم ثبت الدين ويقسم بينهم على قدر مواريثهم منه، وإن كانوا ادعوا وصيته حكم بذلك وقسم بينهم بالسوية لأن الموصى لهم يتساوون في الوصية إلا أن يكون الموصى قد فضل بعضهم فيها، وإن حلف بعضهم دون بعض فالذي حلف يحكم له بحقه، والذي لم يحلف يسقط حقه ولا يشارك الذي لم يحلف الحالف لأن الحق ثبت باليمين مع الشاهد فالحالف أثبت حق نفسه فحكم له به، والذي لم يحلف أسقط حق نفسه فلم يتعلق حكمه بحكم الآخر، كما لو كان بجماعة على رجل دين فطالب بعضهم بحقه وأبرأه الباقون منه فالطالب أخذ بحقه ويسقط حق المبرئ كذلك هنا. وقال ابن أبي أحمد في شرحه: اختلف أصحابنا في هذا فمنهم من قال يشارك الحالف [12/ 147 ب] لأن الشافعي قال في كتاب "الصلح": إذا ادعى أخوان دارًا في يد رجل فقالا: ورثناها عن أبينا فأقر لأحدهما بالنصف وأنكر الآخر شاركه الأخ الذي

لم يقر له بالنصف الذي أخذه لأنه مقر بأن كل جزء يأخذه بينه وبين أخيه فكذلك هنا. وقال عامة أصحابنا: لا يشاركه وهو الصحيح المشهور والفرق أن هذا لم يسقط حقه بامتناعه من اليمين فلهذا يشاركه وهنا سقط حقه بامتناعه من اليمين فلم يشاركه كما لو برأه، فإذا ثبت هذا قلنا: إن نكل يحلف المدعي عليه ابتداءً وإن نكل هل يرد على المدعي؟ قد ذكرناه وهكذا لو كانت الدعوى في عين كذاب وحلف أحد الاثنين مع شاهده ولم يحلف الآخر. فرع لو ادعى وصية وصى بها لميتهم وأقاموا بها شاهدًا واحدًا فإن ادعوا أن ميتهم قبلها قبل موته وحلفوا مع الشاهد قسم الوصية على قدر مواريثهم لأن ميتهم ملكها بقبوله، وإن كان ميتهم لم يقبلها وهم القائلون لها بعد موته ففيه قولان: أحدهما: يستحقون بالسوية بعد أيمانهم إذا قلنا: يملك الوصية بالقبول؛ لأن من حكم الوصية التساوي فيكون المورث عن ميتهم حقه من القبول ويصيرون مالكين لها بالقبول من غير أن تدخل في ملك ميتهم فعلى هذا لو كان على أبيهم دين [12/ 148 أ] لأن الأول أقام البينة لأبيه لا لنفسه فصح ذلك في الاثنين فإن كانت الدعوى في الوصية أو بالملك المطلق فلابد للغائب إذا رجع من إقامة الشاهد مرة أخرى؛ لأن الأول أقام شاهده لنفسه لا لصاحبه إلا أن يكون وكيل الغائب فحينئذ صحت إقامته في حقها ولا حاجة إلى إعادة الشهادة، فإن قال قائل أليس قلتم في عبد أقام شاهدًا واحدًا بالعتق فحال بينه وبين سيده إلى أن يأتي بشاهد آخر في أحد القولين فينبغي أن يوقف هنا نصيب الغائب إلى أن يرجع إذا أقام أحد الاثنين شاهدًا لأبيه؟ قلنا: يوقف قليلًا قدر ما يأتي بالشاهد في يومين أو ثلاثة فلا يعظم الخبر فيه وهنا ربما يعود بعد سنين فيعظم صدره ويحتمل أيضًا ما قال صاحب "الإفصاح": على ما ذكرنا، ولو أتى الحاضر بشاهدين وهو وكيل الغائب في الدعوى وإقامة البينة تسلم نصف الدار إليه ويوقف النصف للغائب بعد ما يخرجه من يد المعدي عليه فإن جاء وطلب سلم إليه وإن لم يدع رد على المدعي عليه. مسألة: قال: وليس الغريم ولا المُوصي له من معنى الورثة في شيء. الفصل أرد به إذا مات رجل وخلف دينًا عليه ودينًا به شاهد واحد فالوارث إن حلف مع الشاهد حكم بالدين ويُقضي دين الميت منه وإن لم يحلف [12/ 148 ب] فهل للغريم أن يحلف معه؟ فيه قولان وكذلك لو أراد أن يقضي دينه من غيره كان له ويلزم الوارث نفقته، وإن كان مما يحتاج إلى الإنفاق عليه فدل على الفرق بين الوارث والغريم وهذا مذهبه في الجديد، وقال في القديم: يحلف الغريم أو الموصى له إذا نكل الوارث عن اليمين لما تعلق به حقهم وأنهم أولى به من الوارث وهذا لا يصح لأنه لا يستحق عينه فيؤدي إلى أن يستحق عند غيره بيمينه بخلاف الورثة لأنهم يستحقون عينه، ولأن الغريم

إذا حلف ثم أبرأ الميت من الدين لم يرجع المال إلى الورثة بل يرجع إلى المدعي عليه فلو ثبت بيمين الغريم الدين لكان بعد براءته للورثة وهكذا لو لم يقم الوارث الشاهد فهل للغريم أو للوصي أن يتولى إقامة الشاهد والدعوى؟ فيه قولان، وهكذا يبني الرد على القولين ويتفرع على هذا أنه إذا حلف واحد من الورثة فهل يقضي من الدين ما حلف عليه أم لا يبني على يمين الغريم، فإن قلنا: إنه لا يحلف الغريم يبني على القولين فإن قلنا: الورثة يشاركونه قضى منه جميع الدين لأنه تركه وإن قلنا: إنه يختص به بني على أن بعض الورثة إذا أقر وجحد الباقون هل يلزمه جميع الدين، وإن قلنا: يحلف الغريم لم يلزم الوارث من الدين إلا بقدر حصته. فرع لو أوصى [12/ 149 أ] الميت بعين قائمة في يد زيد لعمروٍ فأنكرها زيد ونكل عن اليمين فردت اليمين على الورثة، فإن حلفوا استحقت العين ودفعت إلى الموصى له، وإن نكلوا هل يحلف الموصى له، قيل قولان وقيل له أن يحلف قولًا واحدًا بخلاف الدين لأن الأعيان مخالفة للديون لسقوط حق الورثة من الأعيان وثبوته في الدين، لأن لهم قضاء الدين من عين التركة وليس لهم تبديل الوصية بغير العين. مسألة: قال: ولو أقام شاهدًا واحدًا أنه سرق له متاعًا من حرزٍ يساوي ما تُقطع فيه اليد حلف مع شاهده واستحق ولا يقطع. قد ذكرنا هذه المسألة في الشاهد والمرأتين ولا فرق بينهما، وقال الشافعي رضي الله عنه: هنا لأن الحد ليس بمال كرجل قال: امرأتي طالق أ, عبدي حر إن كنت غصبت فلانًا هذا العبد فشهد عليه بغضبه شاهدًا فيحلف ويستحق المغصوب ولا يثبت عليه طلاق ولا عتاق لأن حكم الحنث غير حكم المال. وقال بعض أصحابنا بخراسان: هل يثبت هنا بشاهد ويمين؟ فيه قولان وهذا غريب وقال في مسألة الغصب نص الشافعي على ما ذكرنا وقال ابن سريج للمسألة حالتان: إحداهما أن يثبت الغصب أولًا بشاهد ويمين ثم حلف هو [12/ 149 ب] بطلاق زوجته طلقت امرأته لأنا حكمنا بثبوت الغصب، وإن حلف أولًا ثم ثبت الغصب بشاهد ويمين لا يقع الطلاق وهو صورة مسألة الشافعي، فإن قيل: ألا قلتم إذا ادعى قتل عمد يثبت بشاهد ويمين الدية دون القود كما يثبت المال المسروق دون القطع؟! قلنا: الواجب في قتل العمد القود في أحد القولين والدية بدل عنه ولا يثبت البدل إلا إذا ثبت المبدل، وعلى القول الآخر موجبه أحد شيئين لا بعينه فلا يتعين إلا بالاختيار أو بالتعذر، فأما بالبينة فلا يتعين وفي السرقة ينفرد وجوب الغرم على القطع فيجوز أن يثبت به الغرم دون القطع.

فرع قال في "الأم": إذا رمى سهمًا إلى رجل فأصابه ثم نفذ عنه فأصاب آخر فقتله فالثاني خطأ ولا يثبت هذا الثاني بشاهد ويمين، قال: وفيه قول آخر لا يثبت لأنه لا يثبت الثاني إلا بعد ثبوت الأول الذي هو عمد والجناية واحدة، والأول أصح لأن الثانية خطأ محض والأول يوجب القصاص ولا يجوز ثبوته بشاهد ويمين إلا أن الشاهد يكون لوثًا فيه فيحلف معه خمسين يمينًا، ثم هل يستحق بها القصاص قولان. مسألة: قال: "ولو أقام شاهدًا على جاريةٍ أنها له وأن ابنها ولد منه" الفصل صورة المسألة: [12/ 150] أن يكون في يد رجل جارية لها ولد فادعى رجل أن الجارية كانت له، وأنه استولدها في ملكه وولدها منه وأقام على ذلك شاهدًا وامرأتين، أو شاهدًا وحلف معه فأما الأم يحكم بها لأن أم الولد في حكم المملوكة فإذا ادعاها كان بمنزلة الدعوى في الأمة القن، فإذا ثبت أنه يحكم بها فإنها تسلم إليه ويحكم بأنها أم ولده وتعتق بموته لأنه أقر بذلك، وأما الولد فهو يدعي أن نسبه ثابت منه وأنه حر فهل يحكم بذلك؟ فيه قولان منصوصان أحدهما: قاله في "الأم"، ونقله المزني لا يحكم به لأنه لا يدعي ملكًا وإنما يدعي نسبًا وحرية وذلك لا يثبت به الشهادة. والثاني: يحكم له بذلك لأنه نماء الأم فكان تابعًا لها فإن من ملك الأصل يحب أن يكون النماء له على طريق التبع قال المزني: هذا أشبه بقوله الذي لم يختلف في مسألة أخرى. وهي قوله لو أقام شاهدًا على عبد في يد رجل يسترقه أنه كان عبدًا له فأعتقه ثم عصبه هذا بعد العتق حلف أخذه وكان مولىً له. قال المزني: فهو لا يأخذه مولاه على أن يسترقه كما لا يأخذه ابنه على أن يسترقه، فإذا أجازه في المولى لزمه في الابن. والجواب أن أصحابنا اختلفوا في هذا فمنهم من قال: هما سواء ففيهما قولان، ومن أصحابنا [12/ 150 ب] من سلم وفرق بأن هناك يدعي ملك العبد وأنه تصرف فيه بالعتق والتصرف في الملك لا يثبت إلا بعد ثبوت الملك، فإذا أثبتنا ملكه بالشاهد أعتقناه بإقراره كما إذا شهد شاهدان على رجل أنه أعتق عبدًا فردت شهادتهما فاشترياه منه عتق عليهما بإقرارها المتقدم، وأما الابن فإنه يخالف في ذلك لأنه لا يدعي ملكه بحال وإنما يدعي أنه خلق حرًا أو أنه ابنه والحرية والنسب لا يثبتان بالشاهد واليمين، قال أبو إسحاق: والفرق بينهما أوضح من تخريجهما على القولين. قال القفال: وعلى هذا لو قال: استولدتها بالنكاح وهي ملك، ثم اشتريتها وولدها منك فيعتق الولد على أو وهبتها لي ونحو ذلك قبلنا شاهدًا ويمينًا ويثبت العتق بإقراره

كمسألة العتق سواء، وقال بعض أصحابنا بخراسان: إذا قلنا لا يعتق الولد ولكن هل يثبت النسب بإقرار المدعي؟ فيه قولان قال في "كتاب الدعاوي" لا يثبت وقال في التقاط المنبوذ يثبت وهذا ليس بشيء. مسألة: قال: "ولو أقام شاهدًا أن أباه تصدق بهذه الدار صدقة مُحرمة". الفصل في هذه المسألة فصول كثيرة، وجملتها أن الشافعي رضي الله عنه هنا نص على أن الوقف يثبت [12/ 151 أ] بالشاهد واليمين، واختلف أصحابنا في هذا فمنهم من قال على القول الذي يقول الرقبة تنتقل إلى الموقوف عليه فأما إذا قلنا: الرقبة لله تعالى فلا يثبت بشاهد ويمين، وعلى هذا عامة أصحابنا وقال ابن سريج: يثبت به على القولين جميعًا، والفرق بين العتق والوقف أن القصد من العتق كمال أحكامه في الشهادات والعبادات والكفارات والحدود وليس كذلك الوقف؛ لأن القصد منه تمليك العلة والمنفعة لا مقصود له غيره، وهذا مال فجاز أن يثبت بالشاهد واليمين، فإذا تقرر هذا نقول: اختلف أصحابنا في صورة المسألة التي نقلها المزني. فقال أبو إسحاق وابن سريج وجماعة: صورتها أن يموت رجل ويخلف ثلاثة بنين وزوجة وأبوين فادعى الأولاد الثلاثة أن دارًا أو ضيعة من جملة تركة أبيهم وقف عليهم وقفها أبوهم دون سائر الورثة وأقاموا على ذلك شاهدًا واحدًا، فأما إذا كانت الدار في يد أجنبي يتصرف فيها فقالوا: هذه الدار وقف علينا وقفها أبوك وهي في يدك بغصب لا يحكم لهم بها بالشاهد واليمين، وهذا مثل ما حكي المزني عن الشافعي أنه قال في رجل يدعي على رجل عبدًا في يده أنه أعتقه وأن له عليه ولاءً وأقام على ذلك شاهدًا وحلف معه وحكم له قولًا واحدًا لأنه يثبث به الملك، فإذا ملكه صار حرًا [12/ 151 ب] بإقراره فكذلك هنا يحكم له به ويصير وقفًا بإقرارهم، ومن أصحابنا من قال: هو اختيار ابن أبي هريرة صورة هذه المسألة أن يدعي الأولاد الثلاثة على رجل مات أبوه وخلف من جملة التركة دارًا أو ضيعة فيقولون: إن هذه الدار وقف علينا وقفها علينا وأقاموا شاهدًا واحدًا فمن قال هذا قال الذي يدل على أن مراد الشافعي هذا دليلان: أحدهما: أن الشافعي قال فمن حلف منهم مع شاهده حكم له وصار ما بقي ميراثًا بينهم وإذا كانت الدار في أيدي الأولاد الثلاثة فمن لم يحلف لا يصير الباقي بينهم ميراثًا ولكن يجعل نصيب كل واحد منهم وقفًا بإقراره وإقرار جميع الورثة بالوقفية صار كلها وقفًا بإقرارهم ولا يحتاج إلى الشهادة. والثاني: أنه قال: وإن حلفوا معًا خرجت الدار من ملك صاحبها والظاهر من هذا أنه المدعي دون المدعي عليه، فإن المدعي عليه لم يجز له ذكر والباقي، فإن (أبى)

أخواه أن يحلفا فنصيبه منها وهو الثلث صدقة على ما شهد به شاهده ثم نصيبه على ما تصدق به أبوه عليه بعده وبعد أخويه وهذا نص على قول أبي إسحاق. فأما قول الشافعي رضي الله عنه وكان ما بقي ميراثًا فصحيح فإنا نقسم بين جميع الورثة على فرائض الله تعالى فإن كانت للميت وصايا أو كانت عليه ديون [12/ 152 أ] قضاها ونفذنا الوصايا، وإن لم يكن قسمناه بينهم ثم نجعل نصيب كل واحد ممن ادعى أنه وقف ونكل عن اليمين وقفًا بإقراره ونصيب من لم يدع أنه وقف طلق في يده هذا كما نقول فيمن شهد على رجل أنه أعتق عبده فردت شهادته فاشتراه منه ملكه بالشراء عتق عليه بإقراره الأول فقد صار الكل ميراثًا من نصيب من لم يدع الوقف وهو من عدا الأولاد. وأما قوله: أخرجت الدار من ملك صاحبها إلى من جعلت له جماعة تفقد بفقد الوقف فلم يكن فيه دليل على ما قاله، فإذا ثبت أن صورة المسألة ما ذكرناه، وادعى الأولاد الثلاثة أن الدار وقف عليهم فإذا انقرضوا فعلى أولادهم أو على المساكين وأقاموا شاهدًا واحدًا فلا يخلو من ثلاثة أحوال: إما أن يخلفوا، وإما أن يتكلموا، وإما أن يحلف بعضهم وينكل بعضهم، فإن حلفوا صارت الدار وقفًا عليهم تكون منفعتها بينهم أثلاثًا، فإن ماتوا لم يخل من أحد أمرين: إما أن يموتوا دفعة واحدة، أو يموت بعضهم دون بعض، فإن ماتوا دفعة واحدة انتقل الوقف إلى البطن الثاني، والمذهب أنهم لا يحتاجون إلى اليمين لأن الشافعي قال: فإن جاء بعدهم أحد قام مقام الوارث أي ولد الوالد قام مقام والده، وقد ثبت أن الوارث لا يحتاج إلى اليمين فما ثبت لمورثه [12/ 152 ب] بالشاهد واليمين وهذا اختيار أبي إسحاق وجماعة، ومن أصحابنا من قال: وهو اختيار ابن سريج يحلفون ولا يستحقون إلا بيمين، لأن البطن الثاني إذا كان مع البطن الأول في الوقف سواء لم يستحقوا إلا مع الأيمان، فكذلك إذا كانوا وحدهم وهذا غلط؛ لأنهم وإن تلقوه من جهة الواقف إلا أن بينهم وبينهم واسطة أثبتوه وقفًا فلا تحتاج إلى إثبات آخر. وقال القفال: فيه قولان مبنيان على أنهم يتلقون الوقف عن آبائهم أو عن الواقف، فإن قلنا عن الواقف يلزمهم اليمين، وإن قلنا عن آبائهم فلا يمين عليهم وفي هذا نظر ولا يصح عندي. وأما قول ذلك القائل أنهم إذا كانوا في درجة البطن الأول قلنا: الفرق أنهم إذا كانوا مع البطن الأول فليس بينهم وبين الواقف واسطة بل كل واحد منهم أصل بنفسه وليس كذلك هنا على ما ذكرنا، وكذلك الكلام في البطن الثاني إلى أن ينتهي إلى الفقراء والمساكين، فإذا انتهى إليهم فإن قلنا بالمذهب الصحيح يأخذون من غير يمين فالفقراء بذلك أولى، وإن قلنا بقول بعض أصحابنا أن البطن الثاني لا يستحقون إلا بيمين فالفقراء لا يمكن إحلافهم لأنهم غير محصورين فكيف يكون حكم الوقف [12/ 153 أ] فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: يبطل ويعود ملكًا مطلقًا لورثة الواقف وهذا اختيار

ابن سريج ومن مذهبه أن الوقف المقدر بمدة يجوز، وإن كان الشافعي رضي الله عنه: لا يجوزه ووجه هذا القول أن الفقراء لا يتعينون فيه فلا يمكن إحلاف المستحق، وإذا لم يحلفوا لا يثبت كما لو امتنع البطن الثاني من اليمين. والثاني: يرجع الواقف إلى أقرب الناس بالواقف كما لو عدم الفقراء فهو كالوقف المنقطع. والثالث: يرجع إلى الفقراء من غير يمين الضرورة الداعية إلى ترك اليمين ولا يمكن إبطال الوقف بعد صحته يتعذر لا من جهة الموقف عليه، وإن مات بعضهم واحدًا بعد واحد عاد نصيبه إلى إخوته وإن كان الواقف أطلق الشرط ففيه وجهان: أحدهما: إلى من في درجته، والثاني: يستحقه المساكين حتى ينقرض جميعهم ثم يستحقه البطن الثاني، فإذا قلنا: يعود إلى الباقين من الثلاثة فهل يحلفان. قال بعض أصحابنا: المذهب أنهما لا يحلفان، ومن أصحابنا من قال يحلفان على ما ذكرنا في البطن الثاني وهذه الطريقة اختيار القاضي الطبري، ومن أصحابنا من قال وهو اختيار القاضي أبي حامد إن قلنا: البطن الثاني لا يحلفون فهناك أولى أن لا يحلفوا، وإن قلنا: هناك يحلفون فهنا وجهان والفرق أن البطن الثاني لم يكن من أهل الوقف [12/ 153 ب] ولم يحلفوا على إثباته فلا ينتقل إليهم إلا بعد اليمين وهما الأخوان حلفا وصارا من أهل الوقف باليمين فلا يحتاجان إلى اليمين مرة أخرى هذا إذا حلف الجميع، فإن حلف أحد الأولاد ونكل الآخران فإن ثلث الدار تكون وقفًا على الحالف بيمينه مع الشاهد ويكون الثلثان بين سائر الورثة ثم يجعل حق الاثنين وقفًا بإقرارهما، ولا يدخل الحالف معهم في قيمة الثلثين لأن يقر بأنها وقف على أخويه لا يجوز لأحد تملكها، فإن مات هذا الحالف فلا يخلو إما أن يموت قبل موت الأخوين أو بعده، فإن مات بعد موت الأخوين انتقل حقه من الوقف إلى البطن الثاني، وهل تحتاجون إلى اليمين؟ فعلى ما ذكرنا، وإن مات قبل الأخوين فالذي نص عليه الشافعي أن الثلث الذي حكمنا بوقفه يرجع إلى البطن الثاني وهو الصحيح وأومأ إليه في "الأم" لأن الولدين أسقطا حقهما من الوقف بالنكول فصارا كالمعدومين ووجودهما وعدمهما سواء ومن أصحابنا من قال: يرجع إلى الأخوين لأنه لا يمكن نقله إلى ولد الولد لعدم شرط النقل وهو انقراض الولد فكان أخواه أحق به، وهل يحتاج إلى اليمين؟. وجهان فإن قيل: الأخوان أبطلا حقهما وتركاه بالنكول فيكف يرجع إليهما؟ قيل: لم ينكراه ولكنهما عجزا عن إقامة البينة كما في الديون يحلف [12/ 154 أ] بعض الورثة ثم ينكل البعض ثم يموت الحالف فيرثه الناكل، وقيل: هذا تخريج من القولين فيمن وقف على زيد ثم من بعده على عمرو فلم يقبل زيد فيه قولان: أحدهما: يبطل عن عمرو أيضًا، والثاني: لا يبطل ويصرف إلى أقرب الناس بالواقف إلى أن يموت زيد ثم يصرف على عمرو، ومن أصحابنا من قال يرجع نصيب الحالف إلى أقرب الناس بالواقف ما دام الأخوان حيين، فإذا مات صرف إلى البطن الثاني لأنه لا يمكن نقله إلى

الأخوين لأنهما أسقطا حقهما بالنكول ولا يمكن نقله إلى ولد الولد لأن شرط النقل لم يوجد فكان أهل الواقف أحق به وهل يستوي فيه الأغنياء والفقراء أو يختص به الفقراء؟ قولان قال هذا القائل: وهذا لأن الشافعي رضي الله عنه قال هنا: تم نصيبه من تصدق به أبوه عليه بعده وبعد أخويه ولم ينتقل في الحال، ومن قال بالأول، قال معناه: أن أباه هكذا ذكر في وقفه أن الشافعي جعل هذا من جوابه في الفتوى فيدفع في الحال إلى ولد الولد. وإن مات الأخوان الناكلان لا يخلو موتهما من أحد أمرين، إما أن يموتا قبل موت الأخ الحالف أو بعده فإن كان قبله فإن نصيبهما الذي حكم بكونه وقفًا بإقرارهما يكون للولد الحالف لأنهما أقرا أنه من أهل الوقف، وقد حلف عليه، ولا يمكن صرفه إلى ولد الولد لأن شرط الانتقال [12/ 154 ب] لم يوجد ثم إذا انقرض الولد ينتقل إلى ولد الولد لوجود شرط النقل، وإن كان موتهما بعد موت الحالف فقال الأولاد: نحن نحلف على ما أتى عليه آباءنا قال الشافعي رضي الله عنه فيه قولان: أحدهما: ليس لهم لأن الولد أصل وولد الولد تبع لهم، فإذا لم يثبت الوقف للأصل لم يثبت للتابع، والثاني: لهم ذلك لأنهم يأخذون من الواقف الوقف كالولد فلما كان للولد الحلف فكذلك لولد الولد، وقد قال الشافعي هذا أصح القولين وبه أقول، فقال بعض أصحابنا: إذا اختار الشافعي هذا القول فوجب أن يسقط القول الآخر، فإن قيل قد قلتم البطن الأول إذا حلف وثبت الوقف لا يحتاج البطن الثاني إلى اليمين فكذلك إذا بطل في البطن الأول وجب أن يبطل في البطن الثاني، وإذا لم يثبت في البطن الأول لا يجوز أن يثبت في البطن الثاني إلى اليمين، فكذلك إذا بطل في البطن الأول يقتضي ثبوته على ما شرطه الواقف. ومن شرطه تأييده وانتقاله من بطن إلى البطن الذي بعده وليس كذلك إذا لم يثبت لامتناعهم من اليمين، فإنه لا يثبت في حقهم لنكول من جهتهم يختصون به فلم يكن هذا متعديًا إلى من بعدهم، واختلف أصحابنا في هذين القولين على أي أصل ينبني فمنهم من قال أصلهما أن الوقف إذا كان منقطع الابتداء معلوم الانتهاء هل يصح؟ قولان فإن قلنا: يصح [12/ 155 أ] كان يولد الولد أن يحلفوا لأن الوقف هنا قد انقطع في الابتداء على الولد وذلك لا يؤثر في إبطاله على هذا القول، وإذا قلنا الوقف باطل لم يكن لهم أن يحلفوا لأن الوقف قد بطل بانقطاعه في حق الولد فلم يكن لولد الولد أن يحلفوا عليه، ومنهم من قال هذان القولان أصل بأنفسهما إلا أنهما مبنيان لأن مسألة القولين إذا كان أصله باطلًا في الابتداء وهذا الوقف ليس باطل في الابتداء بل هو صحيح، ألا ترى أن الولد لو حلف عليه صح ذلك فلا يمكن بناء هذه المسألة على ذلك. وقال القفال: هذان القولان مبنيان على ما ذكرنا في كيفية التلقي، فإن قلنا: يتلقى أولاد الولد عن آبائهم لم يكن لهم أن يحلفوا لأن الأب قد أبطل الحق بالنكول، وإن

قلنا بالقول الأخير يحلفون، ولفظ تعليله لهذا القول مشكل وهو قوله من قبل إنهم إنما يملكون إذا حلفوا بعد ثبوت الذي جعل له ملكًا إذا مات وإنما يصح هذا الكلام بتقديم وتأخير وزيادة وإيجاز، وتقديره مع الإضمار كأنه قال من قبل إنهم إذا حلفوا بعد موت الذي جعل له ملك يعني الناكل إنما يملكون إذا مات الناكل عن الواقف فمعنى الكلام أنهم يتلقون الملك عن الواقف لا عن الناكل. فإذا استقر القولان فيها إما بناء وإما أصلًا اختلف أصحابنا في موضع القولين على وجهين قال [12/ 155 ب] أبو إسحاق إن كان البطن الأول باقين لم يكن للبطن الثاني أن يحلفوا قولًا واحدًا فإن انقرضوا فحينئذٍ قولان، وقال ابن أبي هريرة بالعكس وهو أنه إذا انقرض البطن الأول كان للبطن الثاني أن يحلفوا قولًا واحدًا، وإن كانوا باقيين فهل يحلفون؟ فيه قولان والطريق أشبه بالصواب لأن ترتيب البطون يمنع من استحقاق الثاني مع بقاء الأول. وإن نكل الجميع من اليمين مع شاهدهم تكون الدار بعد إحلاف بقية الورثة تركة في الظاهر فإن كان على الميت ديون يستوعبها قضيت من ثمنها وبطل الوقف، وإن لم تكن ديون وكانت وصايا أمضى من وصاياه ما احتمل الثلث، وإن لم يكن ذلك كانت ميراثًا بين كل الورثة ويملك هؤلاء الأخوة الثلاثة ميراثهم منها وتصير وقفًا بإقرارهم، فإذا انقرضوا انتقل الوقف إلى البطن الثاني بغير يمين، وكذلك من بعدهم من البطون وبقية الدار ملك مطلق لبقية الورثة، فإن مات الباقون من الورثة وعاد نصيبهم إلى الأخوة فادعوا وقف بقيتها عليهم بعد انبرام الحكم مع من تقدمهم فإن ادعوا عليهم بوقفيتها صحت الدعوى عليهم لأنهم لو اعترفوا بوقفها صار وقفًا، وإن لم يدعوا علمهم لم تصح الدعوى عليهم لأن انبرام الحكم مع تقدمهم أسقط دعواهم. ولو أراد البطن الثاني [12/ 156 أ] أن يحلفوا عند نكول البطن الأول فيه قولان على ما ذكرنا. ولو كانت الإخوة الثلاثة عند ادعاء الوقف ورثة الواقف ولا يشركهم غيرهم صار وقفًا بإقرارهم على ما ذكرنا، وانتقل الوقف عنهم إلى البطن الثاني وما يليه بغير يمين، فإن كان على الواقف دين يحيط بالتركة، فإن قضوه من مالهم خلص الوقف، وإن لم يقضوه فلابد من البينة، ونظر فإن كان الوقف في المرض في المرض بطل لأنه وصيته تبطل باستقرار الديون وإن كان في الصحة سمعت بينتهم، وثبت بالشاهد واليمين، وإن عدمت البينة حلف أرباب الديون وصرف في ديونهم، فإن نكلوا ردت على الورثة، فإن حلفوا ثبت الوقف، وإن نكلوا صرف في أرباب الديون. وأما تصوير المسألة على الوجه الثاني فإن صدقهم وارث الأجنبي فالدار وقف عليهم كما ادعوا وتنتقل عنه إلى البطن الثاني بلا يمين، فإن أكذبهم الوارث وأقاموا شاهدًا حلفوا معه والحكم كما ذكرنا في الصورة الأولى إلا في حكم واحد وهو أنهم إذا نكلوا عن اليمين مع شاهدهم صار جميعها ملكًا مطلقًا للوارث، ولو كانت من أبيهم بقدر مواريث منها وقف عليهم بإقرارهم.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: وعلى أولادهم وأولاد أولادهم ما تناسلوا [12/ 156 ب] إلا بيمينه في الوقف مقرون على الواقف وفي غير الوقف مقرون على أنفسهم ولأن في الوقف حقًا للبطن الثاني فلم ينفذ إقراره عليهم وليس في الملك حقًا لغيرهم، وعلى هذا لو حدث خامس وقف له خمس الوقف علي يمينه بعد البلوغ استحق الرابع الربع قبل حدوث الخامس، واستحق الخمس بعد حدوثه، واستحق الخامس الخمس لا غير، وإن نكلا رد الموقوف على الإخوة الثلاثة. وإن حلف أحدهما ونكل الآخر سقط حق الناكل وقضي للحالف بما حلف، ولو مات الحالف الموقوف سهمه قبل بلوغه أو إفاقته تقوم ورثته مقامه فيحلفون ويستحقون، أو ينكلون فيرد على أهل الوقف، ثم وارث هذا الميت إن كان عمومته الثلاثة الذين حلفوا فهل يلزمهم في ميراث سهمه يمينًا أخرى؟ فيه وجهان ذكرناها في الوقف المرتب. وإن كان ورثة الميت ممن لا مدخل لهم في الوقف كالزوجة والأم والجدة والإخوة والأخوات للأم فلا حق في سهم الموقوف إلا بعد أيمانهم لأن الميت ما كان يستحق إلا بيمينه، فإن حلفوا استحقوا كل الموقوف، وإن حلف بعضهم ونكل بعضهم استحق الحالف منهم قدر نصيبه ورد نصيب من لم يحلف على الإخوة الثلاثة. وإن كان وارثه ممن يدخل في الوقف كموت المجنون عن ولد فيوقف ما ورثه [12/ 157 أ] من سهم أبيه على يمينه بعد بلوغه فيصير الموقوف له سهمين، سهم أبيه وسهم أخيه، فإذا بلغ ففي يمينه وجهان: أحدهما: يحلف يمينًا واحدة على استحقاقه لسهم نفسه فيستحق بها سهم أبيه وسهم نفسه إذ إن عمومته لو ورثوه لم يحلفوا، فإن حلف على استحقاقه سهم أبيه استحقه ولم يستحق سهم نفسه لأنه قد يستحق سهم أبيه من ليس من أهل الوقف، والثاني: يحلف بيمينين يستحق بأحدهما سهم أبيه، ويستحق بالأخرى سهم نفسه إذا قلنا إن عمومته لو ورثوه حلفوا، وإذا كان كذلك فله أربعة أحوال: أحدها: أن يحلف يمينين يستحق بهما السهمين، والثاني: ينكل عن اليمينين ولا يستحق السهمين، والثالث: أن يحلف على سهم أبيه دون سهم نفسه فيستحق سهم أبيه ولا يستحق سهم نفسه ويخرج أن يكون من أهل أبيه ويرد على الإخوة الثلاثة. واعلم أن معنى قوله هذا إذا حدث لواحد منهم ولد دخل النقص على جميعهم إما نأخذ الربع من كرى الوقف ونجعله موقوفًا حتى يبلغ هذا، وإن نكل هذا الذي يبلغ عن اليمين أبطلنا حقه، وهو معنى قوله: أو يدع فيبطل حقه، فإذا بطل حقه أخذنا الكري الموقوف في هذه المدة الماضية فقسمناه على هؤلاء الثلاثة البالغين الذين أنقصنا حقوقهم في هذه المدة بسبب الولد بالسوية [12/ 157 ب] وهذا معنى قوله ويرد كرى ما

وقف من حقه على الذين انتقصوا من أجل حقوقهم وإنما قسمنا هذا المردود بالسوية لأنهم يستحقون أصل الوقف بالسوية. ولو أن واحدًا من الإخوة الثلاثة الذين نقصنا حقوقهم مات والمولود ابن سبع سنين لم يبلغ بعد وقفنا للمولود من هذا الوقف ثلث الكرى إلى أوان بلوغه لأنه ثالثهم وإلى الآن كان ربع الكرى لأنه كان رابعهم ثم هذا المولود لو بلغ ولم يخلف وجب قسمة الثلث الموقوف بعد موت أحد الإخوة مقسومًا على الأخوين الباقيين لا نصيب لوارث الميت فيه إذا لم يكن ورثته من أولاده، وأما الربع الذي كان موقوفًا قبل موت الميت فإنه يقسم على ثلاثة أسهم سهمان لهذين الأخوين، وسهم لورثة الأخ الميت لأنه كان منقوصًا من نصيب الثلاثة جميعًا. وقد اختصر المزني بيان القسمة غاية الاختصار حتى قرب من الاختلال فقال: فإن مات من المنقوص بيان القسمة غاية الاختصار حتى قرب من الاختلال فقال: فإن مات من المنقوص حقوقهم أحد في نصف عمر الذي وقف له أن يبلغ رد حصة الموقوف على المنقوص حقوقهم أحد في نصف عمر الذي وقف له أن يبلغ رد حصة الموقوف على من معه من الحبس يعني رد الثلث الموقوف على الأخوين، ثم قال: وأعطي ورثة الميت منهم بقدر ما استحق يعني من الربع الموقوف قبل موته فما رد على الميت بقدر حصته على ورثته، ولم يذكر المزني هنا نكول المولود بعد بلوغه لأنه عطف هذه الجملة على نكوله في سابق كلامه [12/ 158 أ] حين مات فيحلف ويأخذ أو يدع فيبطل حقه فمع هذا البيان لا يبقى الإشكال في شرح الألفاظ التي ذكر في الكتاب ومعنى قوله في نصف عمر الذي وقف إلى أن يبلغ أراد به إذا مات أحد البنين الثلاثة بعد مضي سبع سنين ونصف سنة على المولود لأن البلوغ يحصل باستكمال خمس عشرة سنة. فإذا تقرر هذا نقول: سأل المزني سؤالين: أحدهما: قال: لا يجوز أن يقضي في الوقف بالشاهد واليمين كما لا يجوز ذلك في العتق، وعلق على هذا الفصل حكمًا آخر وهو أن الوقف غير مملوك الرقبة وهذا أحد القولين قلنا له: إنك عرفت للشافعي قولًا مشهورًا في رقبة الوقف أنها ملك للموقوف عليه فكيف نسيت هذا القول، ولا إشكال على هذا القول أنه يثبت بشاهد ويمين، وإن قلنا بالقول الآخر فالصحيح ما ذكرنا من الفرق بين العتق والوقف وهو أن المقصود بالوقف تملك منافعه التي هي أموال بخلاف العتق. والسؤال الثاني قال: إذا كان الوقف مشتركًا بين البطن الأول والثاني فولد لواحد منهم ولد وقف له الربع فلما بلغ نكل عن اليمين وجب أن لا يرد نصيبه عليهم لأنهم يقرون بأنه له دونهم لا حق لهم فيه وينبغي أن يبقى موقوفًا حتى يحلف أو يموت فيقوم وارثه مقامه لأنه حرام على الإخوة بإقرارهم وهذا سؤال جيد [12/ 158 ب] وإنما أورده الشافعي رضي الله عنه على وجه المعارضة دون الإنكار عليهم، والثاني يحلفه على العلم دون القطع فيحلف بالله ولا يعلم أنه آبق لأنه غاية ما يقدر عليه. قال محمد بن إلياس من هذا بدًا غير أن الزهري أنكرها يحتمل أنه قال لا يجب الناس من اليمين على البراءة من الإباق بدًا فقال الشافعي ولابد من هذا الذي نحن فيه أيضًا ويحتمل أن محمدًا قال لا يجد الناس من اليمين والشاهد بدًا غير أن الزهري أنكر ذلك فعارضه الشافعي فقال: قضي بهذا الزهري حين ولي القضاء، ثم قال بإنكاره لا يرد

الخبر لأن عليًا أو زيدًا أو ابن عمر رضي الله عنهم أنكروا خبر بروع بنت واشق حين رواه معقل بن يسار ثم لم يردوا الخبر بإنكارهم ثم يحتمل أن الزهري أنكره في الجراح لا في الأموال، ثم قال الشافعي: وقلت له: وكيف حكمت بشهادة المرأة الواحدة في الاستهلال مما يطلع عليه الرجال ثم أنكرت الحكم بشاهد ويمين فإن قلت: الحكم بالشاهد واليمين زيادة في النص فشهادة القابلة كذلك ثم قال: أم كيف حكمت على أهل في القسامة وعلى عواقلهم بدية الموجود قتيلًا في محلتهم وزعمت أن القرآن يحرم أن يجوز أقل من شاهدين أو شاهد وامرأتين، وزعمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل اليمين براءة [12/ 159 أ] من حلف، وأما إفادتهم اليمين في القسامة فخالفت في جملة قولك الكتاب والسنة وكما جاز أن يثبت الحق مع اليمين هناك جاز لنا نظير ذلك هنا. ثم ناظر في القسامة فقال: أرأيت لو قال لك أهل المحلة: أتدعي علينا فأحلفت جميعنا وأبرأنا قال لا أحلفهم إذا جاوزوا خمسين رجلًا ولكن أحلف منهم خمسين ولا أبرئهم بأيمانهم. القود لا تجري عندك في القسامة والمال لا يندفع عنهم بالإيمان فلا فائدة في هذا الإيمان قال: روينا ذلك عن عمر رضي الله عنه يعنون بذلك أنهم قالوا لعمر رضي الله عنه: ما وقت أموالنا أيماننا ولا أيماننا أموالنا قلت: فإن كان ذلك لا يجوز على عمر رضي الله عنه أن يخالف الكتاب والسنة قال: لا يجوز أن أتهم من أثق به من الرواة الذين رووا هذا الحديث عن عمر رضي الله عنه ولكن أقول بالكتاب والسنة الكتاب والسنة مذهب أبي حنيفة وقولنا القديم جواز تخصيص الكتاب والسنة الكتاب والسنة مذهب أبي حنيفة وقولنا القديم جواز تخصيص الكتاب والسنة بقول الصحابي: قلت: فلم يجز لنا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم [12/ 159 ب] ما أجزت لنفسك من قول عمر يعني إذا جوزت تخصيص الكتاب والسنة بقول الصحابي فلم لا يجوز ذلك بما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "قضى باليمين مع الشاهد" ثم قال: لكن قد رويتم هذا الحديث عن عمر رضي الله عنه أنه كتب في القسامة فجلبهم إلى مكة من مسيرة اثنين وعشرين يومًا وأحلفهم في الحجر وقضى عليهم بالدية فقالوا: ما وقت إيماننا أموالنا ولا أموالنا ولا أموالنا إيماننا فقال: حقنتم بإيمانكم دمائكم فخالفتم في ذلك عمر لأنكم لا ترون تغليط اليمين بالمكان ولا أنه يستدعي الخصم من مسيره اثنين وعشرين يومًا. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه بدأ في القسامة بالمدعي عليهم ثم ردها المدعي عليهم على المدعين، وأنتم لا ترون الرد فلا أنتم أخذتم بكل قول عمر ولا تركتموه، وقد دل قول عمر علي صورة مسألتهم كيف كانت حيث قال: حقنت إيمانكم دمائكم وصورتها أن المدعي ادعى عليهم قتل العمد وكانوا معترفين بقتل الخطأ فحلفوا أنهم كانوا غير عامدين فحقنوا بأيمانهم دمائهم ولزمتهم الدية بإقرارهم ونحن نروي بالإسناد الصحيح "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بدأ في القسامة بالمدعيين فلما لم يحلفوا قال: تبرئكم يهود [12/ 160 أ] بخمسين يمينًا" أو قال تبرئكم يهود فلا يكون عليهم غرم. ثم قال: وقد أجزتم شهادة أهل الذمة وهم غير الذين شرط الله تعالى أن تجوز شهادتهم، وقد قال أيضًا من رجالكم والكفار لبسوا من رجالنا ورددت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليمين مع

الشاهد وهذا معارضة قال: فأنا أجيز شهادة أهل الذمة بالكتاب قال الله تعالى: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} يعني من المشركين قلت: سمعت من أرضي من أهل العلم يقول من غيركم أي: من غير قبيلتكم من المسلمين ويحتج بقوله تعالى: تحسبونهما من بعد الصلاة والكافر لا يعظم وقت صلاتنا قلت: والمنزل فيه هذه الآية رجل من العرب وهو في شهادة مشركي العرب وأهل الأوثان فأجر شهادة مشركي العرب بعضهم على بعض قال: لا أجيز إلا شهادة أهل الكتاب قلت: فإن قال لك قائل أهل الكتاب على وصية مسلم كما زعمت أنها في القرآن قال: لا أنها منسوخة قلت: بماذا قال: بقوله تعالى: {ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: الآية 2]. قلت: فقد زعمت بلسانك أنك خالفت القرآن إذ لم يجز الله تعالى إلا مسلمًا وأجزت كافرًا واعترفت بأن تلك الآية منسوخة فكيف يجوز [12/ 160 ب] في المال إلا أن يكثر، فأما إذا كان العبد يحلف ابتداء وردت اليمين عليه فإنه يغلظ ولا تعتبر القيمة لأن العتق يثبت بيمينه لا المال، وإنما عممنا ما ليس بمال هذا الحكم لارتفاع درجته. . . المال وكذلك يغلظ في دعوى الولادة والرضاع لقوة الأمر فيه حتى قبلنا فيه أربعة نسوة ولا يقبل ذلك في المال وليس ذلك لضعفه بل لأن الرجال لا يطلعون عليها غالبًا فجوزنا شهادتهن بالإنفراد للضرورة، وقال في "الحاوي": اختلف أصحابنا في علة التغليظ بعشرين دينارًا فقال بعضهم: لأنها نصاب في الزكاة ليكون المقدار معتبرًا بأصل مشروع فعلي هذا في الدراهم تغليط بمائتي درهم وفي الغنم بأربعين شاة وفي البقر بثلاثين بقرة وفق الحبوب في خمسة أوسق، وفي الإبل في خمس من الإبل وإن لم يبلغ عشرين دينارًا، والثاني أنه قدر بالعشرين لأنه أصل عن توقيف أو اجتهاد لا يعتبر بغير مصلحة هذا في الدراهم والمواشي لا يغلظ إلا أن يكون قيمتها عشرين دينارًا من غالب دنانير البلد الخالصة من الغش. وقال ابن جرير: تغلظ اليمين في كل قليل وكثير كالبنية تغلظ بالعدد في القليل والكثير، فإذا تقرر هذا نقول إن كان بمكة حلف بين البيت والمقام وإن كان بالمدينة [12/ 161 أ] فعلى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان في بيت المقدس فعند صخرة، وإن كان في سائر البقاع ففي الجوامع التي هي أشرف البقاع وعند المنبر وغيره فيها سواء، وقال أبو حنيفة رحمه الله: لا معنى لتغليظ الأيمان بالمكان ولا يجب ذلك واحتج الشافعي رضي الله عنه بأن هذا قول حكام المكيين ومفتيهم ومن جهتهم أن مسلم بن خالد أخبرني عن ابن جريج عن عكرمة بن عبد الرحمن بن عوف رأي قومًا يحلفون بين المقام والبيت فقال: أعلى دم قالوا: لا قال: أفعلي عظيم من المال قالوا: لا قال: خشيت أن يبها الناس بهذا المقام وروي بهذا البيت، وقال الإمام الجويني: في سماعنا أن يتباها الناس بهذا المكان، وروي يتيها الناس بهذا المقام والمعنى واحد أي يتهاون الناس ويستخفوا به يقال بهأت بالشيء فأنا أبها به فإذا أنسيت به حتى ذهبت هيبته من القلوب في كل شيء آنس به الإنسان فإن هيبته تنقص من القلب. وكتب ميمون بن مهران إلى يونس بن عبيد أن الناس قد بهوا بكتاب الله تعالى واستحبوا أحاديث

الرجال. ثم قال الشافعي: فذهبوا إلى أن العظيم من الأموال ما وصفت من عشرين دينارًا فصاعدًا وهذا ذكره ردًا على مالك حيث قال: يغلظ فيما تقطع في اليد ثلاثة دراهم. [12/ 161 ب] وأيضًا روى جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحلف أحد على يمين عند منبري هذا ولو على سواك أخضر إلا تبوأ مقعده من النار" أو قال "وجبت له النار" وروي أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحلف عبد أو أمة عند هذا المنبر على يمين ولو على سواك رطب عامدًا إلا وجبت له النار" وأيضًا روي أبو غطفان قال: اختصم زيد بن ثابت وابن مطيع في دار إلى مروان بن الحكم فقضى على زيد بن ثابت باليمين فقال له زيد: احلف له مكاني فقال مروان: لا والله إلا عند مقاطع الحقوق فجعل زيد يحلف أن حقه لحق ويأبي أن يحلف عند المنبر فجعل مروان يعجب من ذلك قال الشافعي: فلو لم يعرف زيد أن اليمين عليه لقال لمروان: ما هذا علي قال الشافعي: وبلغني أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه حلف على المنبر في خصومه كانت بينه وبين رجل، وروى الشافعي رضي الله عنه بإسناده عن المهاجر بن أبي أمية قال: كتب أبو بكر رضي الله عنه إلى أن أبعث إلى بقيس بن مكشوح في وثاق فبعثه إليه فأحلفه خمسين يمينًا عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قتل فلانًا [12/ 162 أ] وروي ما قبل دارٍ، وروي عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه أمر بمن اتهم من أعمال يمينه وأرضى صاحبه. ثم قال الشافعي رضي الله عنه: وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل العلم ببلدنا دار السنة والهجرة وبحرم الله وبحرم الرسول اقتدينا. قال القفال: ولو حلف في الروضة وهي ما بين القبر والمنبر جاز لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنها روضة من رياض الجنة. قال الشافعي: وقد روي الذين خالفوا أن عمر رضي الله عنه حلف قومًا من اليمين، فأدخلهم الحجر فكيف أنكروا علينا أن يحلف من بمكة بين الركن والمقام، ومن بالمدينة على المنبر ونحن لا نجلب أحدًا من بلده. وأما التغليظ بالزمان نص عليه الشافعي رضي الله عنه: وأحب إلى لو حلفه بعد العصر لقوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة:106] قيل: أراد به صلاة العصر، وروي أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أحلفهما بعد العصر ما خانا، وروي عن ابن أبي مليكة قال: كتب إلى ابن عباس رضي الله عنهما في جاريتين ضربت إحداهما الأخرى أن احبسهما بعد العصر ثم أقرأ عليهما إلا به ففعل فاعترفت. وأما الألفاظ أن يقول: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة [12/ 162 ب] ونحو ذلك، وقال في القسامة: يحلف بالله الذي لا إله إلا هو عالم خافية الأعين وما تخفي الصدور ويجوز كلاهما ويجب أن يقرأ عليه: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} الآية. قال الشافعي: ورأيتهم يؤكدون بالمصحف وذلك عندي حسن أخبرني بذلك مطرف بن مازن

بإسناده عن عبد الله بن الزبير قال الشافعي: ورأيت مطرف بن مازن بصنعاء يحلف على المصحف ويروي ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا وهذا لأن المصحف يشتمل على أسماء الله تعالى وكلامه. وحكي عن بعض أصحابنا أنه قال: يحلفه قائمًا لأن الشافعي ذكر ذلك في اللعان وأما العدد فلا يغلط به إلا في القسامة واللعان على ما ذكرنا دون غيرهما. فرع التغليظ هل يكون بطلب الخصم أو يكون ذلك إلى الحاكم؟ فيه وجهان: أحدهما: أنه إلى الحاكم، والثاني: أنه لم يطلب الخصم لا يؤكد ولأنه رضي بدون حقه. فرع آخر التغليظ بالألفاظ والزمان لا يجب بل هو تأكيد واستحباب والتغليظ بالمكان هل يجب؟ فيه قولان لأن الشافعي قال في اللعان: يلاعن على المنبر فإن لاعن في موضع آخر هل يعيد اللعان؟ فيه قولان: أحدهما: يلزم الإعادة لأنه منصوص عليه كالعدد [12/ 163 أ]. والثاني: وهو الصحيح لا يلزم لإعادة لا يتصرف اليمين كالزمان. وقال في موضع آخر: ولو أخطأ الحاكم في رجل عليه اليمين بين البيت والمقام فأحلفه في غيره فالقول فيه واحد من القولين. وقال ابن المنذر: أصح مذهبه أنه لا يعاد لأنه حكم قد مضى، وقال ابن أبي أحمد: لا خلاف من أهل العلم أنه القاضي حيث استحلف المدعي عليه في عمله وبلد قضائه جاز والتغليظ بالمكان اختيار وهذا لا يصح لأنا بينا نصه على القولين وقال القفال: لا فرق بين المكان والزمان فهل يجب كلاهما قولان أحدهما: ن يجب حتى الوضع من تأكيد لفظ هل يكون نكولًا فيه وجهان لأن حرمة الزمان والمكان لا توجد في غيره وحرمة اللفظ موجودة في قوله تعالى. فرع آخر قال في "الأم": لو حلف لا يحلف بين المقام والبيت أحلف في الحجر ولو حلف لا يحلف في الحجر أحلف عن يمين المقام عند باب البيت ويكون قرب إلى البيت من المقام، قال: ولو قال قائل: يجبر على اليمين بين البيت والمقام وإن حنث كما يجبر على اليمين، وقال القفال: إذا قلنا: إنه اختيار نعرض عليه القاضي فنكل فالصحيح من الوجهين أنه نكول لأنه ليس له رد [12/ 163 ب] لا يغلط عليها بالمكان لأنه إذا لم يجب عليها حضور مجلس الحكم لتعددها وكان ذلك عذرًا لها فكذلك يجب أن يسقط التغليظ بالمكان في يمينها. فرع إذا أراد الحاكم أن يحلف المرأة فإن كان الحاكم يعرفها حلفها متنقبة، وإن لم يعرفها فإن شهد شاهدان على أن هذه فلانة بنت فلان أحلفها وسجل بأنه حلف فلانة

بنت فلان بعدما ثبت عنده بشهادة شاهدين أنها فلانة بنت فلان، فإن لم يشهد شاهدان فإنه يكلفها أن تسفر عن وجهها وينظر إليها ثم يحلفها. فرع آخر يحلف المرأة على المنبر وتحلف جالسة سترًا لها لأنها عور. فرع آخر لو أراد تغليظ اليمين على الزمن الذي لا يقدر على المشي إلى مكان التغليظ فأجرة حمله على المستحلف له لأنه ليس بحق على الحالف وإنما هو حق للمستحق وكانت أجرة عوده على الحالف لأنه يعود في حق نفسه. فرع آخر قال في "الأم" لا يجلب رجل إلى مكة ولا إلى المدينة للتحليف بل يستحلفه الحاكم في الموضع الشريف في مكانه، فإن امتنع بجند أو بعز استحضره الإمام ليستحلفه في المكان الأشرف إلا أن يكون بالقرب من موضعه وقبل بلد الإمام قاض يقدر عليه فيستحلفه في المكان الشريف قال بعض أصحابنا: هذا يدل أنه [12/ 164 أ] ليس للمستخلف الامتناع من تغليظ المكان. مسألة: قال: ويحلف المشركون وأهل الذمة والمستأمنون في الأيمان كما وصفنا يحلف كل واحد منهم بما يعظم من الكتب وحيث ما يعظم من الموضع. وجملته أنه إذا توجهت اليمين على أهل الذمة تغلظها عليهم اليمين كما تغلظ على المسلمين والغليظ عليهم بالمكان والزمان واللفظ، ولا يختلف أصحابنا أن اليهودي يحلف في الكنائس والنصارى في البيع، وأما المجوسي فمن أصحابنا من قال: لا يحلف في بيت النار لأنهم لا يعظمون البيوت ولا البقاع بوجه وليس لهم كتاب يعظمونه وإنما يعظمون النار دون بيت النار ولا يجوز أن يحلف بالنار فلا يكون في أيمانهم تغليظ بالمكان ولا بالكتاب، ومن أصحابنا من قال: تغلط عليهم اليمين ببيت النار لأنهم إذا عظموا النار عظموا بيتها والموضع الذي يخدمونها فيه فيغلط هذان وهذا أصح، والأول اختيار أبي حامد، فإذا تقرر هذا نقول: يحلف اليهودي والله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى وأنجاه من الغرق وفرعون ونحو ذلك وروي عن كعب بن بشر أنه أدخل يهوديًا الكنيسة ووضع التوراة على رأسه واستحلفه بالله. وروي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه قال: زنا رجل [12/ 164 ب] من أهل فدك فكتب أهل فدك إلى ناس من اليهود أن سلوا محمدًا عن ذلك وذكر الحديث إلى أن قال النبي صلى الله عليه وسلم لابن صوريا: "أنشدكم بالذي فلق البحر لبني إسرائيل وظلل عليهم الغمام وأنجاهم من آل فرعون وأنزل التوراة على موسى، وأنزل المن والسلوى على

بني إسرائيل ما تجدون في التوراة من شأن الرجم" ذكره ابن المنذر وقال: إن ثبت الخبر فإن فيه حجة التغليظ. ويحلف النصراني فيقول: والله الذي لا إله إلا هو الذي بعث عيسى بالحق وأنزل عليه الإنجيل وجعله يبرئ الأكمه والأبرص ويحي الموتى، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحلف واحدًا من اليهود فقال: "قل بأيام الله عند نبي إسرائيل" والمراد بأيام الله نعمه عليهم وذاك تأكيد لليمين لا أصل اليمين إذ لا يجوز الحلف بالأيام والنعم. فرع يحلف اليهودي في وقت أشرف صلواتهم عندهم وليس للمجوس صلوات مؤقتة يحلفون بها وإنما لهم زمزمة يرونها قربة فإن كانت مؤقتة عندهم أحلفوا في أعظم أوقاتهم عندهم، وإن لم تكن مؤقتة سقط تعليق إيمانهم بالزمان إلا أنهم يرون النهار أشرف من الليل لأن النور عندهم أشرف من الظلمة فيحلفون في النهار دون الليل. فرع آخر هل يحلف المجوسي بالله [12/ 165 أ] الذي خلق النار والنور؟، قال بعض أصحابنا: يحلف بذلك لاختصاصه بتعظيمها وهو اختيار القفال، ومن أصحابنا من قال: لا يحلفون بذلك لأنهم يعتقدون قدم النار والنور. فرع آخر فلو كان وثنيًا أو زنديقًا حلفه بالله تعالى حسب ولا يزيد على ذلك ولا يغلظ في حقه بالمكان والزمان والألفاظ وإنما يحلف بالله تعالى، وإن كان لا يعتقد ذلك ليزداد بها إثمًا وعقوبة من الله تعالى ويحلقه شؤم كذبه إن كذب، فإن قال قائل: هلا يحلف باللات والعزى لأنهم يعتقدون تعظيم ذلك كما يغلظ يمين اليهودي بالكنيسة قلنا: الفرق أن الحلف بذلك كفر ومعصية قال صلى الله عليه وسلم: "من حلف باللات والعزى فقد كفر" لأن دخول المسلمين بيوت أصنامهم معصية لأنها لم توضع في الابتداء والانتهاء إلا على معصية والدخول في الكنيسة والبيعة ليس بمعصية فقد كانت موضوعة في الابتداء على طاعة فتحسب فجاز التغليظ بذلك ردعًا وزجرًا. فرع آخر قال الشافعي رضي الله عنه: ولا يحلفون بما يجهل معرفته المسلمون قال بعض أصحابنا: معناه العشر الآيات ونحوها لأنهم بدلوا كتبهم وحرفوها وأدخلوا فيها ما ليس منها ولا يؤمن أن يكون ذلك مما بدلوه، وإنما يحلفهم بما يعرفه المسلمون وربما يكذبون في استعظام شيء ونحن لا نعرف معناه [12/ 165 ب] فلا يحلف بذلك.

مسألة: قال: ويحلف الرجل في حق نفسه وما عليه بعينه على البت. معنى قوله في حق نفسه أنه إن ادعى على غريم دينًا فقال الغريم: قد استوفيته مني يحلف بالله ما استوفيته منك ولا يرضى منه بأن يقول: بالله لا أعلم أني استوفيته منك وقوله فيما عليه بعينه معناه أن الذمي إذا ادعى عليه فأنكر فالقول قوله مع يمينه ويحلف على البت، ولا يكتفي منه بالعلم لأن أحوال نفسه لا تكاد تخفي عليه، وأما قول الشافعي مثل أن يدعي عليه براءً من حق له فيحلف بالله أن هذا الحق ويسميه الثابت عليه ما اقتضاه ولا شيئًا منه ولا مقتضي بأمره بعلمه ولا أحال به ولا بشيء منه ولا أبرأه ولا من شيء منه بوجه من الوجوه فذاك خمس شرائط: إحداهما: أن هذا الحق الثابت عليه، والثانية: ما اقتضاه ولا شيئًا منه يريد ما قبضه ولا شيئًا منه، والثالثة: ولا مقتضي بأمره بعلمه يريد به ولا قبضه غيره بأمره وإنما قال بعلمه لأن من عليه الدين إذا قال: دفعت الدين إلى وكيلك حلف أنه لا يعلم أن وكيلي قبضه فلهذا شرط العلم ويرجع معناه إلى قبضه لا إلى أمره به، قال في "الأم": ويزيد على ذلك ولا قبضة غيره بغير أمره ثم وصل إليه لأنه إذا قبضه غيره بغير أمره ثم وصل إليه فقد برئ به من عليه الدين، والرابعة: ولا أحال به [12/ 166 أ] ولا بشيء منه، والخامسة: ولا أبرأه ولا من شيء منه ثم قال: وإنه لثابت عليه إلى أن يحلف بهذه اليمين وهذا تكرار الأول لأنه قال: إن هذا الحق ثابت وهذا يقتضي ثبوته في الحال، ولو جعل ست شرائط مع الذي زاد في "الأم" كان صحيحًا. واختلف أصحابنا في هذا فمنهم من قال: تلزم اليمين على ما ذكر الشافعي على الأنواع كلها لأنها أنفى للإجمال، وقد ذكرنا عن أبي إسحاق أنه قال: إذا ادعى جهة معينة فقال: دفعتها إليه أو أبرأني منها فيمين المدعي مقصورة على النوع الذي ادعاه وهو الأصح لأن ما لم يذكره لا يطالب به. قال الشافعي: وإن كان حقًا لأبيه حلف على البت في نفسه وفي أبيه على العلم وأراد به أنه إذا ادعى عليه أنك استوفيت دين أبيك حلف على البت، وإن ادعى أن أباك استوفى وإنك تعلم ذلك حلف أنه لا يعلم ذلك لأن فعل أبيه قد يخفي عليه. وجملته أن اليمين على أربعة أضرب: أحدهما: أن يحلف على إثبات فعل نفسه، والثاني أن يحلف على نفي فعل نفسه، والثالث على إثبات فعل غيره، والرابع أن يحلف على نفي فعل غيره وفي جميعها يحلف على البت أو في القسم الأخير فإنه يحلف على العلم وذلك مثل ما ذكرنا. وكذلك لو ادعى أن أباه اشترى منه كذا أو استقرض منه كذا أو أتلف عليه كذا أو وهبه ونحو ذلك فإنه يحلف [12/ 166 ب] أنه لا يعلم أن أباه فعل ذلك أو لا يعلم أن له على أبيه ما يدعيه من الدين، ولو ادعى على أبيه الميت دينًا حلف الوارث على العلم فلو رد اليمين على المدعي حلف على البت وعلى هذا فقس، وإن شئت قلت:

إذا حلف على الإثبات حلف على البت سواء كان يحلف على فعل نفسه، أو على فعل غيره وإن حلف على النفي نظر فإن كان على نفي فعل نفسه حلف على البت، وإن كان على نفي فعل غيره أو معنى يرجع إلى غيره حلف على العلم، وإنما كان كذلك لأنه لا يمكنه الإحاطة بعدم فعل غيره ولا يمكنه القطع عليه أبدًا فحلف على العلم وليس كذلك فعل نفسه، فإنه يمكنه أن يحيط بوجوده وعدمه فوجب أن يحلف على القطع، ولهذا نقول: إذا ادعي عليه عيب باطن في الحيوان أنه يحلف على العلم فيقول: بعته وما به داء علمته لأن العيب الباطن تشق معرفته ويتعذر لأنه يفتدى على الصحة والسقم وتحول طبائعه، وقل ما يبرأ من عيب يخفي أو يظهر، وقال الشعبي والنخعي: الأيمان كلها على العلم سواء كانت على نفي فعل نفسه أو فعل غيره، وقال ابن أبي ليلى على البت في النفي: سواء كان علي فعل نفسه أو فعل غيره، واحتج الشعبي بأنه لا يجوز أن يحلف ما لا علم له به، واحتج ابن أبي ليلى بأنه لا يجوز اليمين بالاحتمال كما في فعل نفسه، وهذا غلط لما روي في خبر الخضرمي [12/ 167 أ] والكندي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للخضرمي: هل بينه؟ قال: لا ولكن يحلف يا رسول الله بالله الذي لا إله إلا هو ما يعلم أنها أرضى اغتصبنيها أبوه فيها الكندي لليمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه لا يقتطع رجل إلا بيمينه إلا لقي الله يوم القيامة يلقاه وهو أجدم، فردها الكندي ولم يكره عليه النبي صلى الله عليه وسلم عرض اليمين على نفي العلم" وروي أنه حلف رجلًا: "قل والله ما له عليك حق". وأما ما ذكروه فلا يصح لأنه يمكنه الإحاطة بفعل نفسه ونفيه دون فعل غيره كما قلنا في الشهادة، تارة تكون على القطع فيما يمكن فيه القطع من العقود، وتارة تكون على غالب الظن فيما لا يمكن فيه القطع من الأملاك والأنساب كذلك هنا. فرع لو حلفه الحاكم على البت في الموضوع الذي قلنا يحلفه على العلم لم يضره وكان معناه راجعًا إلى نفي العلم كما نقول في الشهود إذا شهدوا على إثبات النسب بأنه لا وارث له غيره، قال الشافعي رضي الله عنه: تقبل شهادتهم ويكون معناه لا يعلمون له وارثًا غيره. فرع آخر قال أصحابنا: إذا ادعى رجل أنه غصبه شيئًا أو أودعه شيئًا ذكره فأجاب فقال: ما له علي حق كان جوابًا صحيحًا ولا يطلب أنه ما غصبه أو لا أودعه لأنه قد يغصبه أو يودعه فيسترده منه، أو سلف الوديعة من غير [12/ 167 ب] تفريط منه فلا يلزمه ضمانها، فلم يكلف اليمين على أنه ما غصبه ولا أودعه ولا يحلف على ذلك، فإنه إن حلف على أنه ما غصبه وكان قد غصبه ثم اشتراه، أو أنه ما أودعه وكان أودعه ثم اشتراه، أو تلف عنده فكان قد حلف كذبًا وذلك لا يجوز، وإن أقر به كلفه الإمام إقامة

البينة على ذلك، فإن لم يكن بينة على الشري فيؤخذ منه الشيء أو قيمته وذلك ظلم، فإذا كان كذلك سمع جوابه بأنه ما له عليه حق ويحلف على ذلك، وإن أجاب المدعي عليه بأنه ما غصبه ولا أودعه كان الجواب أيضًا صحيحًا، فإذا أراد أن يحلفه اختلف أصحابنا فيه فمنهم من قال: يحلفه على أنه لا حق له عليه، ولا يحلف على أنه ما غصبه ولا أودعه لما ذكرنا من الاحتياط، ومنهم من قال: يحلفه على حسب الجواب لأنه لما أجاب بذلك دل على أنه يجوز له أن يحلف عليه، ولا يؤدي إلى كذبه في يمينه، وقد ذكرنا هذا في مواضع في أثناء المسائل. فرع آخر قال في "الحاوي": ولو ادعى عليه غصب دار فقال: ما غصبته إياها وهي لي دونه ففي إحلاف الحاكم له وجهان: أحدهما: يحلفه على ما أجاب به والله ما غصبته هذه الدار [وأنها لي دونه. والثاني: يحلفه أنه لا حق له في هذه الدار] ولا بسببها؛ لأن الغصب موجب للأجر فصار بادعاء غصبها وملكها مدعيًا [12/ 168 أ] لها ولأجرتها فاحتاجت يمينه إلى أن تتضمن نفي الأمرين: الملك والأجرة فلذلك قال في يمينه، لا حق له فيها ولا بسببها لأنه لا يمتنع أن [يزول] ملكه عنها بعد استحقاق أجرتها بالغصب. فرع آخر ادعى دينًا في ذمته ورد إليه يحلف على إثباتها ونفي ما يسقطه فيقول: والله إن لي عليه ألف درهم ما قبضتها ولا شيئًا منها ولا قُبضت لي ولا شيء منها ولا أبرأته منها ولا من شئ منها ولا وجب له علي ما يبرأ به منها أو من شيء منها ثم يقول: وإنها لثابتة عليه إلى وقتي هذا، وقد ذكرنا هذا فإثباتها باليمين يستحق، وأما بقاؤها إلى وقت اليمين فمستحق، وأما نفي إسقاطها ففيه وجهان محتملان: أحدهما: مستحق لأن ثبوتها لا يمنع من حدوث ما يسقطها، والثاني: مستحب لأن إثباتها في الحال يمنع من سقوطها من قبل. فرع آخر قد ذكرنا كيف يحلف في اليمين مع الشاهد، وقال في "الحاوي": فيه وجهان: أحدهما: يلزمه أن يذكر فيها وأن ما شهد به شاهده حق وصدق على ما شهد به تحقيقًا لشهادته وإثباتًا لقوله، والثاني: لا يلزمه لأنه في يمينه بمثابة الشاهد الآخر وليس يلزم الشاهد أن يشهد بصدق الآخر وصحة شهادته.

فرع آخر إذا ادعى رجل على رجل دينًا له على أبيه سمعت دعواه لثلاث شرائط إحداها: [12/ 168 ب] الأرض على أنها كذا فوجدت أكثر من ذلك بطل البيع. فرع آخر قال: ولو ادعى على رجل تسليم شيء اشتراه منه فأنكر المدعي عليه ذلك وذكره أنه غير واجب عليه تسليم ما ادعى فالقول قول المدعي عليه مع يمينه على البت ما يجب عليه تسليم ما ادعاه ولا شيء منه بحق البائع الذي ذكره. فرع آخر قال: لو أقر بأنه باع هذه الدار وأنكر وجوب التسليم عليه وذكر أنه غير واجب عليه تسليمها فالقول قول المدعي مع يمنيه، ولو أقر بالبيع وادعى أنه لا يقدر على التسليم ولا بينة له فالقول قول المشتري مع يمينه على البت بالله إنه لقادر على تسليمها قلته تخريجًا، وإن ادعى البائع أن المشتري قد تسلمها حلف المشتري بالله ما تسلمها على البت، وإذا ادعى البائع أن قد تسلمها وكيل المشتري فمذهب الشافعي أن يحلف المشتري بالله ما يعلم أن وكيلي فلانًا تسلمها، وإن كان وكيل المشتري ادعى على البائع التسليم فذكر البائع أنه سلمها إلى الموكل فإن كان الموكل حاضرًا حلف الموكل على البت أنه ما قبضها ولا شيئًا منها وأنه لواجب عليه تسليمها إليه، وإن كان الموكل غائبًا بحيث يشق إحضاره، فمذهب الشافعي أن الوكيل يحلف أنه ما يعلم أن موكله قد تسلم هذه الدار منه بحق هذا المشتري الذي ادعاه [12/ 169 أ] ولا شيئًا منها وإنه لواجب عليه تسليمها قلته تخريجًا. مسألة: قال: وإذا حلف قال: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم. الفصل أولى الأيمان له الزاجرة ما ذكره الشافعي رضي الله عنه هنا: والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلانية، وقد ذكرنا أنه قال في "الأم": الذي يعلم خافية الأعين وما تخفي الصدور وهما سواء في المعنى ولكن الأول أولى لأن سبقها الرحمن الرحيم قد تضمنها القرآن وقوله: الذي يعلم تنبيه للحالف على علم الله تعالى بصدقه وكذبه، فإذا زاد في إحلافه ما يقوله كثير من الحكام بالله الطالب الغالب الضار النافع المدرك المهلك جاز لأن فيه تنبيه الحالف على استدفاع مضاره واستجلاب منافعه، ولو اقتصر على قوله والله قد ذكرنا أنه يجوز

بدليل خبر ركانه، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "والله لأغزون قريشًا" فاقتصر على الاسم الشريف، ومن أصحابنا من ذكر وجهًا أنه لا يجوز الاقتصار عليه ثم قال الشافعي: ثم ينسق اليمين، ومعناه ينبغي أن تكون ألفاظ اليمين منسوقة لا يقطع بعضها عن بعض. فرع لا يجوز أن يحلف أحدًا [12/ 169 ب] بطلاق أو عتاق أو نذر لأنها تخرج عن حكم اليمين إلى إيقاع فرقة والتزام عزم وهو مبتدع، وقد قال الشاعر: رأيت كليبًا أحدثت في قضائها طلاق نساء لم يسوقوا لها مهرا فرع آخر قال الشافعي رضي الله عنه: ومتى بلغ الإمام أن حاكمًا يستحلف الناس بالطلاق أو العتاق عزله عن الحكم لأنه جاهل. فرع آخر لو وصل اليمين بكلام لم يفهمه الحاكم أو دخل في أثنائها ما ليس منها أعادها عليه وزجره عليه إن تعمد. فرع آخر الأخرس يحلف بالإشارة إن كان مفهوم الإشارة، فإن لم يكن مفهومًا يتوقف كما في المجنون. مسألة: قال: ولا يقبل منه اليمين إلا بعد أن يستحلفه الحاكم. قد ذكرنا هذه المسألة أنه إذا حلف قبل الاستحلاف تعاد ولا يعتد بها لخبر ركانة. فرع لو فوض الحاكم اليمين إليه فاستوفاها الحالف على نفسه كان الحاكم مقصرًا وهل تجوز؟ فيه وجهان محتملان: أحدهما: تجزئ فيما يجب بهم من نفي أو إثبات لأنها باجتهاد الحاكم وعن أمره، والثاني: لا تجزئ لأنها تصير محمولة على تنبيه الحالف وهي مستحقة على نية المستحلف فكانت غير المستحقة. فرع آخر لو ادعى عليه بيعًا فأجاب [12/ 170 أ] ما اشتراها مني ففي يمنيه وجهان: أحدهما: أنه ما له في هذه حق استظهار من أن يكون قد ملكها بعد البيع، والثاني: يحلف على موافقة الإنكار لأن هذا الاختلاف ارتفع بقوله: ما اشتراها منه ولا شيئًا منها، ولا

باب الامتناع عن اليمين

اشتريت له ولا شيئًا منها، ولو حلف بالله منا باعها منه ولا شيئًا منها ولا باعها على أحد اشتراها له ولا شيئًا منها، ولا باعها عليه أحد من جهتي ولا شيئًا منها أجزئ لأن نفي الشراء موجب لنفي البيع، ونفي البيع موجب لنفي الشراء وفي أولادهما باليمين وجهان محتملان: أحدهما: الأولى ما ذكرنا أولًا لأنها مقابلة الدعوى، والثاني: الأولى ما ذكرنا ثانيًا لأن الثاني أخص بنفي فعله. فرع آخر لو ادعى رجل بأنه قتل أباه فأجاب بأنه لا يجب عليه بهذه الدعوى حق يكفي ويحلف عليه لأنه يجوز أن يكون قتله قودًا أو مرتدًا. باب الامتناع عن اليمين مسألة: وإذا كانت الدعوى غير دم في مال أحلف المدعي عليه. الفصل إذا ادعى مالًا أو غيره فنظر فإن كان المدعي بينة قدمت على يمين المدعي عليه لأنها حجة من غير جهة الخصم فلا يلحقها التهمة واليمين من جهة الخصم فيها تهمة فقدم ما لا تهمة فيها، وإن لم يكن له بينة حلف المدعى عليه وقدمت يمينه على يمين المديى لأن [12/ 170 ب] جنبته أقوى لكون الأصل برأة الذمة، فإن حلف سقطت دعواه، وإن لم يحكم لم يحلف بنكوله خلافًا لأبي حنيفة ولا يتوقف لتركه اليمين عندنا بل ترد اليمين في الحال على المدعي فيحلف ويحكم له فإن حلف حكم له وإن لم يحلف قيل له: لماذا لا تحلف فلم يسأل الشافعي رضي الله عنه المدعي عليه عن سبب نكوله وسأل المدعي عنه، وقد ذكرنا الفرق من قبل، وقال ابن أبي أحمد: القياس أن يسأل المدعي عليه كما يسأل المدعي فيقال للمدعي عليه: لماذا تأبي عن اليمين وتستثبت وهذا لا يصح والفرق ظاهر قال صاحب "الإفصاح": لو قال المدعي عليه: أمهلني حتى أنظر في الحساب أمهلناه قولًا واحدًا وإنما يفرق بينهما إذا نكل ولم يسأل المهلة وعندي أنه إذا قال: أمهلني حتى أسأل عن عالم يمهل أيضًا ولا يتأقت بيوم ولكن قضاة بلدنا استحسنوا في الإمهال يومًا، وقال بعض أصحابنا بخراسان: لا يمهل للنظر في الحساب أيضًا لأن الحق لزمه فلصاحب الحق أن لا يؤخر حقه وهذا ضعف، ولو قال المدعي: لا أوخر ذلك الشيء غير أني لا أحلف أبطلنا أن يحلف بكذا ذكره الشافعي وأراد به أن المدعي عليه إذا أراد اليمين إلى المدعي فقال: لا أختار أن أحلف لا لأني أنظر في الحساب ولا لأني انتظر البينة بطل حلفه ويمنعه [12/ 171 أ] القاضي من ملازمة خصمه ويأمره بتخليته. ثم إذا نكل هكذا سقطت اليمين من جهته حتى لا يكون العودة إليها إلا أن يدعي ثانيًا في مجلس آخر وينكل المدعي عليه عن اليمين وترد ثانيًا اليمين على المدعي وهذا لأنه أسقط اليمين عن جنبته فلا يعود إلا بسبب آخر بخلاف ما لو قال: انظر في الحساب لأنه لم يسقط فبعد ذلك له العود

إليها. وأما قول الشافعي: وإذا كانت الدعوى في غير دم إنما استثنى الدم لأن البداية في القسامة بالمدعي وفي سائر الخصومات بالمدعي عليه. وأيضًا ذكر أن المدعي عليه يبرأ بيمين واحدة وهذا في غير الدم، فأما في الدم لا يبرأ إلا بخمسين يمينًا في أحد القولين فأما يمين الرد تدخل في الدم كما تدخل في غيره بلا خلاف على المذهب، وعند أبي حنيفة في دعوى الدم يحبس المدعي عليه إلى أن يحلف ولا يقضي بالنكول، وعندنا كل ما تدخله الدعوى من الأمور دخل فيه الاستحلاف وإنما لا يستحلف في حقوق الله تعالى المحضة من الشرب والزنا لأن الدعوى لا تسمع فيه ابتداء، ولكن لو قذف ميتًا فلما أراد وارثه إقامة الحد عليه قال له القاذف: احلف أنك لا تعلم أنه زنى قال الشافعي رضي الله عنه: يحلف خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله تعالى قال أصحابنا وكذا الحي [12/ 171 ب] المقذوف يلزمه أن يحلف أنه ما زنا ليمكنه إقامة الحد على القاذف. مسألة: قال: ولو رد المدعى عليه أم لم يحلف فنكل المدعي، فأبطلنا يمينه ثم جاء بشاهدين. الفصل قد ذكرنا أنه إذا حلف المدعي عليه، ثم أقام المدعي بينة على الحق يحكم بها والبينة العادلة أولى من اليمين الفاجرة، وهكذا لو نكل المدعي عن يمين الرد ثم أتى بشاهدين قبلنا بينته. مسألة: قال: ولو رد المُدعي عليه فقلت للمدعي: احلف فقال المدعي عليه: أحلف. الفصل قد ذكرنا أنه إذا رد اليمين على المدعي فقال الحاكم للمدعي: احلف ثم قال المدعي عليه: أنا أحلف، لم يكن له ذلك لأن يمينه بطلت بنكوله السابق وتحولت إلى صاحبه، وقال بعض أصحابنا بخراسان: القضاء بنكول المدعي عليه يحصل بأمرين: إما بأن يقول له القاضي: قضيت عليك بالنكول، أو بان يقبل على المدعي فيقول: احلف أنت أو أتحلف أنت فبعد ذلك لا تقبل يمين المدعي عليه، والمستحب أن لا يقضي بنكوله ما لم يعرض اليمين ثلاثًا وما لم يقدم العذر في الثالثة إنك إذا لم تحلف في هذه الكرة ردت اليمين على خصمك ثم لا أقبل يمينك، فإن لم يفعل ذلك ورد اليمين جاز، وعندنا إذا قال للمدعي: أتحلف أنت ثم قال [12/ 172 أ] المدعي عليه: أنا أحلف له ذلك وهو الأظهر. مسألة: قال: ولو قال: أحلفه ما اشتريت هذه الدار التي في يديه ولا تملكتها لم

باب النكول ورد اليمين

أحلفه إلا ما لهذا ويسميه في هذه الدار حق. الفصل وقد ذكرنا صورة هذه المسألة أن يدعي دارًا في يد رجل فيقول: اشتريت منك هذه الدار وبعت مني فقال صاحب اليد: لا يلزمني تسليم الدار إليك فقال المدعي: أيها الحاكم أحلفه بالله ما باعها مني لم يحلفه على هذه العبارة وقد ذكرنا تحليله، قال ابن أبي أحمد: ولو حلفه ما هي له على ما ادعاه من البيع بالثمن الذي ذكره كان جائزًا، ولو قال: ما بعتها منه هل يحلفه على ذلك؟ قد ذكرنا وجهين، ثم إن كان وكيله يدعي ولم يكن المدعي حاضرًا يحلف فيقول: ما لفلان ابن فلان ويسمى الوكيل في هذه الدار التي تدعيها حق ولا يلزمني تسليمها إليه، ولو لم يقل ما له فيها حق فله ذلك لأنه قد تكون الدار له في إجازة الحالف وللمالك في ملكه حق، لكن إن قال ذلك وأراد الإستخراج من يد المدعى عليه صح ذلك، وإن كان المدعي حاضرًا يقول: ما لهذا في هذه الدار التي يدعيها حق ولا يلزمني تسليمها إليه والصحيح أن يقرأ لفظ المختصر ما لهذا أو يسميه ولا يقرأ ويسميه من غير الألف [12/ 172 ب] لأنه لا حاجة مع الإشارة والتعيين إلى التسمية. باب النكول ورد اليمين مسألة: قال: لا يقوم النكول مقام إقرار في شيء. الفصل قد ذكرنا أنه لا يحكم بالنكول عندنا بل يرد اليمين على المدعي، ولا فرق بين ما يقبل البذل وبين ما لا يقبل البذل وبه قال عمر وعثمان وعلي والمقداد رضي الله عنهم والشعبي والنخعي وشريح، وقال مالك: إن كان ذلك مما يحكم فيه يشاهد وامرأتين، أو بشاهد ويمين ترد اليمين على المدعي، وإن كان مما لا يحكم فيه بذلك لا يرد فيه اليمين بل يحبس المدعى عليه حتى يحلف أو يقر، وقال أبو محمد: يحكم بالنكول، وقال أبو حنيفة: يقضي به في القصاص الطرف دون النفس لأنه يدخل البذل في الأطراف فإنه إذا قال: اقطع يدي فقطعها فلا ضمان وهذا لا يصح لأنه لا يستباح الطرف بالبذل كالنفس سواء فإن قال: أجريت النكول مجرى الإقرار والطرف يستوفى بالإقرار قلنا: والنفس تستوفى بالإقرار أيضًا فهلا قضيت فيها بالنكول؟ وقال أبو يوسف: يقضي بالنكول في النفس بالدية دون القصاص، واحتج أبو حنيفة بقوله صل الله عليه وسلم: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه "، فجعل جنس اليمين في جنبه [12/ 173 أ] المدعى عليه كما جعل حبس البينة في جنبة المدعي واحتج مالك بأن اليمين مع الشاهد لا يثبت بها عن المال فبأن لا يثبته باليمين وحده أولى وهذا غلط لما روى ابن عمر رضي الله عنهما "أن النبي صل الله عليه وسلم رد

اليمين على طالب الحق "رواه الدارقطني بإسناده وأما ما رواه فلا حجة فيه لأنه أراد به ابتداء، وأما ما قال مالك رحمه الله تعالى فلا يصح لأن ما يثبت بإقرار المدعى عليه يثبت باليمين مع النكول كدعوى المال ولأن نكول المدعى عليه أقوى من الشاهد لأنه حجة من جهة المدعى عليه فهو في معنى إقراره، وقد ذكرنا أن لأيمان تدخل في الأنساب والطلاق والعتاق والقسامة والنكاح والرجعة والولاء خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله وخالف أبو يوسف ومحمد وقال مالك وأحمد رحمهم الله تعالى: لا تعرض اليمين فيما لا يثبت إلا بشاهدين ذكرين، وروي عن أحمد أنه يستحلف في دعوى القصاص والقذف والطلاق والعتاق. ثم اشتغل الشافعي رضي الله عنه بالمناظرة في هذه المسألة فقال: فإن قيل كيف اختلفت في الحدود والطلاق والنسب وجعلت الأيمان كلها تجب على المدعى عليه ثم كلها مردودة على المدعي؟ قلنا: إنما قلنا به استدلالاً بالكتاب والسنة ثم الخبر [12/ 173 ب] عن عمر رضي الله عنه وأما الكتاب فهو أن الله تعالى حكم على القاذف غير الزوج بالحد ولم يجعل له مخرجًا إلا بأربعة شهداء، وأخرج الزوج من الحد بأن استحلف أربع ويلتعن فخامسة فيسقط عنه الحد ويلزمها أن تخرد بأربع أيمان والتعانها من الحد أفضل هذا ما ادعى الشافعي من الكتاب فإن قال: قابل هذا الاحتجاج كيف يستقيم وقد علم أن الخصم لا يسمى اللعان يمينًا وأن الحد عند لا يجب عن المرأة بنكولها عن اللعان ويقولون أيضًا: لا يجب الحد على الزوج إذا أنكل والمحتج بما لا يستقيم إلا على أصله خاطئ، والجواب من وجهين: أحدهما: أن ذلك مستقيم على وجه البقاء فإذا لم يسلم الخصم صار الكلام منقولاً إلى هذه الأصول وللمسئول البناء والشافعي نصب نفسه مسئولاً ألا ترى قال: فإن قيل: كيف أجريت الإيمان في هذه المواضع؟ والجواب الثاني أن هذا الاستدلال منه، وإن كان على خلاف مذهب الخصم فلا يضر إثبات مسائل يدل مسألة واحدة وهذه طريقة قوية في المناظرة وبيانها أنا إذا سئلنا عن الأيمان ثم أجريناها في الحدود فاحتججنا باللعان كما احتج الشافعي فقال: اللعان بشهادة أمكننا أن نثبت بهذه الآية كونه يمينًا لاشتراط لفظ [12/ 174 أ] يمين وأن الرجل لا يشهد بنفسه ويحلف لنفسه، وإذا قال الخصم: أنا لا أوجب الحد عليها أمكننا بهذه الآية وجوب الحد عليها لأن الله تعالى قال: ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله وكان المتقدمون على مثل هذه المناضرة أحرص وإليها أسرع لأنها أكثر فائدة وأجمع علمًا وكأن مناظرة المزني هذا الوجه، وقد قال الشافعي رضي الله عنه: في المزني حين أقبل يومًا من أحب أن ينظر إلى رجل يقطع الشيطان في النظر فلينظر إلى هذا. وأما السنة التي أدعاها في أول الباب ما روي "أن النبي صل الله عليه وسلم قال للأنصار: من أن تحلفون وتستحقون دم صاحبكم فلما لم يحلفوا رد الأيمان على يهود ليبرؤوا بها فلما لم يقبلها الأنصار تركوا حقهم فلما خاف رسول الله صل الله عليه وسلم ثائرة الفتنة ودي الأنصاري من عنده بمائة من الإبل ". فقد حول النبي صل الله عليه وسلم اليمين من حيث وضعها في الابتداء. وإنما خبر عمر رضي الله عنه الذي ادعاه فهو ما روي أن عمر رضي الله عنه جعل الأيمان

على المدعى عليهم فلما لم يحلفوا ردها على المدعين، وكل هذا تحويل يمين من موضع قد بدأت فيه إلى الموضع الذي يخالفه. ثم احتج الشافعي بحديث آخر على الابتداء بعد ما خرج عن هذه دعواه المسابقة فقال: [12/ 174 ب] قال رسول الله صل الله عليه وسلم: وعلى المدعى عليه اليمين فلا يجوز أن يكون على مدعى عليه دون غيره وهو على عمومه في النكاح والطلاق والحدود ولا تخصيص إلا بخبر لازم، وقد روى زيد بن ثابت رضي الله عنه أن النبي صل الله عليه وسلم قال: "من طلب طلبة بغير شهود فالمطلوب أولى باليمين "، وروي أن حذيفة رضي الله عنه عرض جمل له سرق فخاصم فيه إلى قاضي المسلمين فصارت على حذيفة يمين في القضاء فأراد أن يشتري يمينه فقال: لك عشره فأبى، قال: لك عشرون فأبى، قال: لك ثلاثون فأبى، قال: لك أربعون فأبى، قال حذيفة: أتراني أترك جملي فحلف بالله أنه جمله ما باعه ولا وهبه، وهذا دليل على رد اليمين. وقال الشافعي رضي الله عنه: ولا بأس أن يفتدي الرجل يمينه وبه قال مالك رحمه الله تعالى، وعن جبير بن مطعم رضي الله عنه أنه فدى يمينه بعشرة آلاف درهم. واحتج بحجة أخرى من الخبر الذي ذكر قال: قال النبي صل الله عليه وسلم: البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه وهما لفظتان من رسول الله صل الله عليه وسلك ومخرجهما سواء فكيف يجوز أن يقال: إن جاء المدعي بالبينة أخذ حقه، وإن لم يبطل حقه لعجزه ولكن يحدث له حكم آخر وهو استحلاف المدعى عليه وفي جانب المدعى عليه يقال: اليمين حقه، فإن لم يات بها [12/ 175 أ] هل يجب أن يقال: إن لم يأت باليمين حدث له حكم غيرها وهو رد اليمين كما حدث لمدعي إن لم يأت بها عليه حكم غيره وهو اليمين، وإذا ترك النبي صل الله عليه وسلم اليمين من حيث وصفها فكيف لم تحول [.......]. فرع آخر قال ابن أبي أحمد: لا يقوم النكول مقام الإقرار إلا في خمس مسائل إحداها: إذا جاء الساعي إلى رب الماشية فطالبه بزكاة الماشية فقال: أديتها إلى بياع آخر ولم يحل عليها الحول قال الشافعي: صدقه فإن اتهمه أحلفه فإن نكل عن اليمين سمعت ابن جريج يقول أخذت صدقته. والثانية: قال الشافعي رضي الله عنه: لو أن رجلاً من اهل الذمة غاب في بعض السنة ثم رجع مسلمًا بعد تمام السنة وقال: كنت أسلمت وسقطت عني الجزية فالقول قوله فإن حلف سقطت الجزية وإن أبى أن يحلف حكم عليه بالجزية. والثالثة: قال الشافعي رضي الله عنه: لو أنا كشفنا عن ذراري أهل الحرب فوجدنا منهم من قد أنبت فقال: مسحت به دواء حتى نبت فالقول قوله مع يمينه، فإن أبى أن يحلف قتل. والرابعة: قال رب النخل: قد أحصيت مكيلة ما أخذت وهو كذا وقد أخطأ الخارص أو أصابته جائحة صدق، فإن اتهمه أحلفه، فإن نكل حكم عليه

بالنكول تخريجًا. والخامسة: لو طلب أن يعطي سهم المقاتلة [12/ 175 ب] وذكر أنه محتلم وحلف أعطي، وإن أبى أن يحلف حكم عليه بالنكول ولم يعط السهم قلته تخريجًا. قال أصحابنا: قصد ابن أبي أحمد بهذا أن يحكم في هذه المسائل عند النكول من غير رد اليمين وهذا قصد صحيح ولم يرد أنه يحكم بالنكول لأن الحكم هنا بالسبب الظاهر غير النكول كما إذا قذف امرأته فطالبناه باللعان فنكل عنه حددناه بالقذف لا بالنكول فكذلك هنا، وقال بعض أصحابنا في مسألة الزكاة: إن كانت دعواه لا تخالف الظاهر فاليمين مستحبة قولاً واحدًا فإن لم يحلف لا يلزمه شيء وإن كانت دعواه تخالف الظاهر فهل اليمين مستحبة أو واجبة فيه قولان: فإن قلنا: مستحبة لا يلزمه شيء عند النكول فلا سؤال وعند التسليم القدر ما ذكرنا وكذلك مسألة الجزية هل نستحب اليمين أم تجب وجهان وفي مسألة الإنبات اليمين واجب وجهًا واحدًا وعند النكول حكم ببلوغه بالظاهر لا بالنكول. فرع آخر ذكر الإصطخري في أدب القضاء مسائل لا يمكن رد اليمين فيها مثل أن يموت رجل ولا وارث له فتكون تركته للمسلمين يأخذها الإمام فإذا وجد الإمام في دفتر حسابه دينًا له على رجل يعرف فإنه يستحضره ويعرفه ما عليه في دفتر حسابه، فإن أقر به لزمه، وإن أنكره كان القول قوله مع يمينه فإن حلف برئ، وإن نكل لا يمكن فيها رد اليمين لأن الإمام نائب [12/ 176 أ] عن المسلمين فلا تصح يمينه والمسلمون غير محصورين فلا يمكن إحلافهم وكيفية العمل فيه قال الإصطخري: فيه وجهان: أحدهما: أنه يحكم عليه بنكوله لتعذر اليمين فكان موضع الضرورة، والثاني: أن يحبس حتى يحلف أو يقر لأن الحكم بالنكول لا يجوز ورد اليمين لا يمكن فوجب حبسه حتى يقر أو يحلف وهذا هو المذهب. والثانية أن يموت رجل وقد أوصى إلى رجل فادعى الوصي أن الميت كان قد أوصى لقوم بشيء فإن شهد به لا تقبل شهادته لأنه يثبت بشهادته التصرف فيه لنفسه ويكون القول قول الورثة مع اليمين فإن حلفوا على العلم سقط الدعوى، وإن نكلوا فإن كان الموصى له معينًا ردت اليمين عليه وإن كان غير معين وإنما كانوا بأوصاف مثل الفقراء والمساكين فلا يمكن رد اليمين عليهم وفيه وجهان على ما ذكرنا. والثالثة أن يدعي أبو الطفل أو وصيه مالاً للطفل على رجل فأنكر المدعى عليه ولم يكن هناك بنية فالقول قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف برئ، وإن نكل فالحاكم يقف اليمين إلى أن يبلغ الصبي ويذكر في السجل أنه ادعى للطفل مالاً وأنكر المدعى عليه فنكل عن اليمين فوقف اليمين إلى أن يبلغ على ما جري الرسم في مثله، وكذلك إذا أقام شاهدًا واحدًا وقف حتى يبلغ فيحلف مع شاهده ويستحق هذا كله في حقوق الآدميين، فأما حقوق الله تعالى مثل حد الزنا [12/ 176 ب] والشرب لا تسمع الدعوى على ما ذكرنا، ولا يجب على المدعى عليه أن يجيب عن دعواه إلا أن يتعلق بحق آدمي وهو في المسألة التي سبقت إذا قال للمقذوف

أحلف أنك ما زنيت فيحلف لتعلقه بحق القاذف خلافًا لأبي حنيفة رحمه الله، فإن حلف أقيم الحد على القاذف، وإن نكل رد اليمين على القاذف، فإن حلف سقط عنه حد القذف، ولم يجب على المقذوف حد الزنا بيمينه وكذلك إذا ادعى عليه أنه سرق ماله فإن أبرأه من المال أو وهبه وأقبضه منه ثم ادعى القطع لم تسمع دعواه، وإن أدعى المال سمعت دعواه ويعرض اليمين عليه فإن حلف سقطت دعواه وإن نكل عن اليمين ردت اليمين على المدعي، فإن حلف استحق المال ولا يقطع لأن حق الله تعالى لا يثبت بالنكول ورد اليمين وقال ابن أبي أحمد لا يمين في حد الزنا ولا شرب الخمر إلا في خصلة واحدة وهي أن يقر بما يوجب الحد ويدعي الشبهة، فإن الشافعي قال في كتاب اختلاف العراقيين، فإذا أصاب الرجل أمة وقال ظننتها تحل لي أحلف ما وطئتها إلا وهو يراها حلالاً ثم درئ عنه ويلزم المهر ولا أقبل هذا منه إلا أن يكون ممن يمكن أن يجهل، فإما من أهل الفقه فلا. قال الشافعي رضي الله عنه: في كل شتم وضرب التعزير يحلف على ذلك إذا أنكر فيحلف [12/ 177 أ] ما شتمه هذا الشتم ولا ضره هذا الضرب الذي يدعيه. فرع آخر قال ابن أبي احمد إذا ادعى على الشاهد ما يجرحه، فإن أقر به الشاهد لم تنكر شهادته، وإن نكر لم يحلف عليه لأنا إن حلفناه صار خصمًا فيؤدي ذلك إلى أن يصير جميع الشهود خصومًا. فرع آخر لو ادعى على الوكيل أن الموكل عزله فإن أقر به لم يلزمه خصومته، وإن أنكر لم يستحلف لأني لو حلفته لأدعى عزله بعد اليمين ورام استحلافه ثانيًا فلا يتوصل إلى حكم الحاكم بالوكيل أبدًا قلته تخريجًا. فرع آخر لو أقر الأب أن ابنه الصغير الذي في حجره صار بالغًا رشيدًا خرج من خصومة من رافعه إلى القاضي عن ابنه، وإن رام المدعى عليه استحلاف الأب على ذلك والأب منكر لم يحلف، وكذلك من ادعى عليه أنه بالغ فأقر والحال مشتبه قبل، وإن أنكر قال الشافعي رضي الله عنه: القول قوله يعني لا يمين عليه لأنه لو حلف حكم بصغره وإبطال يمينه. فرع آخر إذا أقر الوكيل للمدعى عليه بما وكله في خصومته فيه قال ابن سريج: خرج من الخصومة بإقراره؛ قال ابن أبي أحمد تخريجًا عن ذلك فإن لم يقر الوكيل بذلك فقال المدعى عليه: إنه يعلم أنه لي فحلفه على ذلك لم يحلف لأن الشافعي رضي الله عنه قال: ليس على الوصي يمين إذا لم يكن وارثًا [12/ 177 ب] فيجب أن يكون الوكيل مثله.

فرع آخر لو ادعى على رجل شيئًا بعينه فأقر أنه لابنه الصغير لم يحلف وكان خصمًا عن ابنه الصغير ذكره أصحابنا. فرع آخر لو ادعى على رجل شفعة في عقار في يده فقال: هو لابني الصغير في حجري وما اشتريته لم يحلف، ولو قال اشتريته لولدي الصغير كان إقرارًا الشفعة ويحكم بها لك. والله أعلم.

كتاب القسامة

كتاب القسامة مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "أخبرنا مالك عن أبي ليلى بن عبد الله بن عبد الرحمن عن سهل بن أبي حثمة أنه أخبره رجال من كبراء قومه أن عبد الله ومحيصة خرجا إلى خيبر فتفرقا في حوائجهما فأخبر محيصة أن عبد الله قتل وطرح في قفير أو عين فأتى يهود فقال: أنتم قتلتموه قالوا: ما قتلناه فقدم على قومه فأخبرهم فأقبل هو وأخوه حويصة وعبد الرحمن بن سهل أخو المقتول إلى رسول الله صل الله عليه وسلم فذهب محيصة يتكلم فقال عليه السلام: "كبر كبر "يريد السن فتكلم حويصة ثم محيصة فقال عليه السلام: "إما أن يروا صاحبكم وإما أن يؤذنوا بحرب، فكتب عليه السلام إليهم في ذلك فكتبوا إنا والله ما قتلناه فقال لحويصة ومحيصة وعبد الرحمن: "أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم "قالوا: لا، قال: فتحلف يهود قالوا: ليسوا بمسلمين فوداه رسول الله صل الله عليه وسلم من عنده فبعث إليهم مائة ناقة قال سهل: لقد ركضتني منها ناقة حمراء. قال الشافعي رحمه الله: فإن قيل فقد قال للولي وغيره تحلفون وتستحقون وأنت لا تحلف إلا الأولياء قيل يكون قد قال ذلك لأخي المقتول الوارث ويجوز أن يقول تحلفون لواحد والدليل على ذلك حكم الله عز وجل وحكم رسوله عليه الصلاة والسلام أن اليمين لا تكون إلا فيما يدفع بها المرء عن نفسه أو يأخذ بها مع شاهده ولا يجوز لحالف يمين يأخذ بها غيره ". قال في الحاوي: أما القسامة فهي مشتقة من القسم وهو اليمين سميت قسامة لتكرار الأيمان فيها، واختلف فيها هل هي اسم للأيمان أو للحالفين بها؟ فقال: بعضهم هي اسم للأيمان، لأنها مصدر من أقسم يقسم قسامة. وقال آخرون: هي اسم للحالفين بها لتعلقها بهم وتعديها إليهم، والقسامة مختصة بدعوى الدم ما عداها من سائر الدعاوى وأول من قضى بالقسامة على ما حكاه ابن قتيبة في المعارف الوليد بن المغيره في الجاهلية فأقرها رسول الله صل الله عليه وسلم في الإسلام فإن تجردت دعوى الدم عن لوث. كان القول فيها قول المدعى عليه، على ما سيأتي، وإن اقترن بالدعوى لوث واللوث، أن يقترن بالدعوى ما يدل على صدق المدعي، على ما

سنصفه فيكون القول قول المدعي إذا كانت في نفس فيحلف خمسين يمينًا ويحكم له بعد أيمانه بما أدعى من القتل فإن نكل المدعي ردت الأيمان على المدعى عليه، فيحلف خمسين يمينًا ويبرأ. وبه قال مالك وأحمد بن حنبل. وقال أبو حنيفة: لا اعتبار باللوث ولا يحكم بقول المدعي ويكون القول قول المدعى عليه فإن كان واحدًا حلف خمسين يمينًا وإن كانوا أهل قرية أحلف من خيارها خمسون رجلاً خمسين يمينًا فإذا حلفوا وجبت الدية بعد أيمانهم قال أبو حنيفة: فإن كان القتيل موجودًا غرم الدية بأني القرية في الموجود والمفقود وإن كان قتيلهم مفقودًا يغرمها سكان القرية. وقال: أبو يوسف يغرمها سكان القرية في الموجود والمفقود وهكذا لو وجد القتيل في مسجد أو جامع حلف خمسون رجلاً من خيار أهله ووجبت الدية بعد أيمانهم على باقي المسجد إن كان القتيل موجودًا وعلى المصلين فيه إن كان مفقودًا في قول أبي حنيفة. وعلى قول أبي يوسف تكون على أهل المسجد في الموجود والمفقود فإن نكلوا عن الأيمان حبسوا حتى يحلفوا واستدلوا على إحلاف المدعى عليه دون المدعي برواية ابن عباس أن النبي صل الله عليه وسلم قال: "لو أعطي الناس بدعاويهم لأدعى قوم دماء قوم وأموالهم لكن البينة على المدعي واليمين على من أنكر ". وهذا نص. وروى زياد بن أبي مريم أن رجلاً جاء إلى النبي صل الله عليه وسلم فقال: إن أخي قتل بين قريتين فقال: يحلف منهم خمسون رجلاً قال: ما لي من أخي غير هذا قال: بلى ولك مائة من الإبل. وهذا نص. وروى محمد بن إسحاق عن محمد بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن عبد الله القرظي أن اليهود قتلوا عبد الله فأتت الأنصار إلى النبي صل الله عليه وسلم فأخبروه بذلك فكتب إلى اليهود أن احلفوا خمسين يمينًا ثم اعتقلوه فإنه وجد قتيلاً بين أظهركم فألزمهم اليمين والدية معًا. وروي أن رجلاً وجد قتيلاً بين حيين فاعتبره عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأقرب الحيين واحلفهم خمسين يمينًا وقضى عليهم بالدية فقالوا: ما وقت أموالنا أيماننا ولا أيماننا أموالنا فقال عمر: حصنتم بأموالكم دمائكم وهذه قضية منتشرة لم يظهر لعمر فيها مخالف فكانت إجماعًا. ومن القياس أن يمين المدعي قوله فلم يوجب الحكم له كالدعوى ولأنها دعوى فلم يحكم فيها بيمين المدعي كسائر الدعاوى، ولأن كل دعوى لم يحكم فيها بيمين المدعي عند عدم اللوث، لم يحكم فيها بيمين المدعي مع وجوب اللوث كالأطراف.

ودليلنا: الحديث الذي رواه الشافعي في صدر الباب أن النبي صل الله عليه وسلم قال للأنصار حين أدعوا قتل صاحبهم على اليهود تحلفون وتستحقون دم صاحبكم قالوا: لا، قال: فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا قالوا: ليسوا بمسلمين فوداه من عنده وقد رواه عباد عن حجاج عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: خرج حويصة ومحيصة ابنا مسعود وعبد الرحمن وعبد الله ابنا سهل إلى خيبر يمتارون فتفرقوا لحاجتهم فمروا بعبد الله بن سهل قتيلاً فرجعوا إلى النبي صل الله عليه وسلم فأخبروه. فقال لهم النبي صل الله عليه وسلم: تحلفون خمسين يمينًا قسامة تستحقون به قتيلكم قالوا: نحلف على أمر غبنا عنه قال: فيحلف اليهود خمسين يمينًا فيبرؤون، فقالوا: نقبل أيمان قوم كفار فأتى رسول الله صل الله عليه وسلم بمال من مال الصدقة فوداه من عنده فكان في هذا الحديث دليل من وجهين: أحدهما: أن النبي صل الله عليه وسلم قال: "تحلفون وتستحقون دم صاحبكم ". فبدأ بهم، وجعل الدم مستحقًا بأيمانهم وأبو حنيفة يبدأ بغيرهم ويجعل الدم مستحقًا بأيمان غيرهم. الثاني: قوله فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا فنقل الأيمان عنهم إلى غيرهم وجعلها مبرئة لهم وأبو حنيفة لا ينقل الأيمان ولا يبرئ بها من الدم، فاعترضوا على حديث سهل بن أبي حثمة من ثلاثة أوجه: أحدها: أن سهل بن ابي حثمة كان طفلاً لا يضبط ما يرويه. والجواب عنه: أنه قد كان ضابطًا لحاله، وقد روى أبو بكر النيسابوري في زياداته عن إبراهيم الحبري أنه كان لسهل حين مات رسول الله صل الله عليه وسلم ثمان سنين وقد عمل التابعون بما رواه. والثاني: أن سفيان بن عيينة روى عن سهل بن أبي حثمة أن النبي صل الله عليه وسلم بدأ في القسامة بأيمان اليهود والجواب عنه: أنها رواية تفرد بها سفيان وشك فيها هل بدأ بأيمان الأنصار أو اليهود. وقد قال أبو داود وهم سفيان في هذا الحديث. والثالث: أن بشير بن يسار روى عن سهل بن أبي حثمة أن النبي صل الله عليه وسلم قال للأنصار: أتحلفون وتستحقون دم صاحبكم؟ قال: محمد بن الحسن قال: تلك لهم على وجه الإنكار عليهم ما قال تعالى: {أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50]. والجواب عنه: أنه لو كان على وجه الإنكار لما قال: وتستحقون دم صاحبكم فيصير بالاستحقاق وبما قال بعده فتبرئكم يهود بخمسين يمينًا خارجًا عن الإنكار وإنما أدخل الألف ليخرج عن صيغة الأمر لأن قوله: تحلفون شبيه بالأمر المحتوم فأدخل عليه الألف للاستفهام ليصير تفريقًا للحكم واستخبارًا عن الحال. ومن الدليل عليه ما رواه مسلم بن خالد عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة أن رسول الله صل الله عليه وسلم قال: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر إلا في القسامة ". ورواه مسلم عن ابن جريج عن عمرو بن

شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صل الله عليه وسلم وهذا نص لأنه لما جعل اليمين على المنكر واستثنى منها القسامة دل على أنها على دون المنكر. فاعترضوا على هذا الاستدلال من وجهين: أحدهما: أن قوله: "واليمين على من أنكر "يريد به اختصاصها بالمنكر دون غيره وقوله: "إلا في القسامة "يريد به وجوبها على المنكر وعلى غيره. والجواب عنه: أن هذا التأويل لا يصح لأن الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات فلما كان قوله: واليمين على من أنكر إثباتًا ليمينه وجب أن يكون قوله إلا في القسامة نفيًا ليمينه. والثاني: أن قوله: "واليمين على من أنكر "يريد به أنه يبرأ بيمينه إلا في القسامة أنه لا يبرا بيمينه فيكون الاستثناء نفيًا من الإثبات. والجواب عنه: أن هذا التأويل أبعد من الأول، لأن الاستثناء إلى ما تضمنه اللفظ من اليمين المذكورة دون البراءة التي لم تذكر فلم يجز أن يعدل به عن المذكور إلى غير مذكور. والدليل على القياس أن إيمان المدعى عليهم لا يحكم لهم بموجبها، لأنهم لا يرمون عند المستحلف إذا حلفوا واليمين تستحق إما فيما يأخذ بها الحالف لنفسه ما ادعى وإما ليدفع بها عن نفسه ما أنكر فتقول كل يمين لا يحكم للحالف بموجبها لم يجز الاستحلاف بها قياسًا على يمين المدعي في غير الدماء وعلى يمين المدعى عليه بعد اعترافه بالحق فإن قيل: هذا منتقض بإيمان المتبايعين إذا تحالفا في الثمن يستحلفان بها وإن لم يحكم بموجبها قيل قد يحكم بموجبها إذا حلف أحداهما ولا يحكم بموجبها إذا حلفا لتعارضهما كما يحكم بالبينة إذا انفردت ولا يحكم بها إذا تعارضت، فإن قيل: فأنتم لا تحكمون بموجب الأيمان في القسامة لأن موجبها القوم وانتم لا توجبونه قيل: موجبها ثبوت القتل وقد أثبتناه ولنا في القود قول نذكره، ومن الدليل أنها أيمان تكررت في الدعوى شرعًا فوجب أن يبدأ فيها بالمدعي كاللعان فإن أنكروا أن يكون اللعان يمينًا دللنا بقول النبي صل الله عليه وسلم: "لولا الأيمان لكان لي ولها شأن ". فأما الجواب عن قوله صل الله عليه وسلم: "واليمين على من أنكر "من وجهين: أحدهما: قوله: "إلا في القسامة ". والثاني: أن حديث القسامة أخص منه فوجب أن يقضي بالخاص على العام. وأما الجواب عن حديث زياد بن أبي مريم فمن وجهين: أحدهما: انه مجهول الإسناد ولا يعرفه أصحاب الحديث. والثاني: حمله على دعوى إن لم تقترن بلوث. وأما الجواب عن حديث القرظي فمن وجهين:

أحدهما: ضعف إسناده وصحة إسنادنا وانفراده وكثرة رواتنا. والثاني: أن أخبارنا أزيد نقلًا وأشرح حالًا والزيادة من النقصان والشرح أصح من الإجمال. وأما الجواب عن قضية عمر فمن وجهين. أحدهما أن عبد الله بن الزبير حالفه فيها فقتل في القسامة ولم يقتل فيها عمر فتنافت قضاياهما فسقط الإجماع. والثاني: أنها قضية في عين يمكن حملها على أن المدعي ادعى قتل العمد ليستحق القود، فاعترفوا له بقتل الخطأ فأحلفهم على العمد، وأوجب عليهم بدية الخطأ بالاعتراف. وأما الجواب: عن قياسهم على مجرد الدعوى فهو أنه لا يجوز أن يعتبر يمين المدعى بدعواه- كما لا يجوز أن يعتبر يمين المنكر بإنكاره للفرق فيما بين اليمين ومجرد القول. أما الجواب عم قياسهم على سائر الدعاوي فهو إجماعنا على اختصاص القسامة بالدماء دون سائر الدعاوي. وأما قياسهم على الأطراف فلأن القسامة عندهم ى تدخلها وإن دخلت في النفس وكذلك عندنا لأن حرمة النفس أغلظ ولذلك تغلغلت بالنفس دون الأطراف، والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه" "فإذا كان مثل السبب الذي قضي فيه عليه الصلاة والسلام بالقسامة حكمت بها وجعلت الدية فيها على المدعى عليهم فإن قيل وما السبب الذي حكم فيه النبي صلى الله عليه وسلم؟ قيل: كانت خبير دار يهود محضة لا يخالطهم غيرهم وكانت العداوة بين الأنصار وبينهم ظاهرة وخرج عبد الله بعد العصر فوجد قتيلصا قبل الليل فيكاد يغلب على من سمع هذا أنه لم يقتله إلا بعض اليهود فإذا كان دار قوم محضة أو قبيلة وكانوا أعداء للمقتول فيهم وفي كتاب الربيع أعداء للمقتول أو قبيلته ووجد القتيل فيهم فأدعى أولياؤه قتله فلهم القسامة". قال الحاوي: قد ذكرنا أن الحكم بالقسامة في إحلاف المدعى يكون مع اللوث وينتفي من عدمه- واللوث- ما شهد بصدق المدعي ودل صحة الدعوى من الأسباب المقترنة بها ولا يتخالج نفس شك فيها. وذلك يكون من جهات شتى قد ذكر الشافعي رضي الله عنه بعضها لتكون دليلًا على نظائرها فمنها: مثل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتيل الأنصار بين اليهود لأن خيبر كانت

دار يهود محضة وكانت العداوة بين الأنصار بينهم ظاهرة بالذب عن الإسلام ونصرة الرسول صلى الله عليه وسلم وفارق أصحابه فيها بعد العصر، ووجد قتيلًا قبل الليل، فتغلب في النفس أما ما قتله غير اليهود فيكون لوثًا يحكم فيه بقول المدعي. وقال" مالك لا يكون اللوث المحكوم فيه بالقسامة إلا من أحد الوجهين: أحدهما: أن يشهد به من لا تكمل به الشهادة. وهذا موافق عليه. والثاني: وهو الذي تفرد به أن يقول المقتول قبل فراقه للدنيا. دمي عند فلان فيكون هذا لوثًا دون ما عداهما. احتجاجًا لهذا بأن الله تعالى حكم في قصة القتيل من بني إسرائيل بمثله في البقرة من وقوله تعالى: (فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى) (البقرة: 73) فضرب بها فحيا. وقال: قتلني فلان فقتله موسى عليه السلام بهـ قال: ولأن المقتول مع فراق الدنيا أصدق ما يكون قولًا وأكثر ما يكون تحرجًا فلا تتوجه إليه تهمة، وهكذا لا يكون لوثًا عندنا؛ لأن اللوث ما اقترن بالدعوى من غير جهة المدعي كالذي قضى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتيل الأنصار، ولأنه لو قبل قوله إذا مات لقبل إذا اندمل جرحه وعاش ولو قبل في الدم للقبل في المال، ولأنه ربما قاله لعداوة في نفسه بحيث أن لا يعيش عدوه بغد موته أو لفقر قريته فأحب أن يستغنوا بالدية من بعده فأنا قصة البقرة في بني إسرائيل فتلك قصة أحيا الله بها القتيل معجزة لموسى، ولو كان مثلها لجعل لوثًا ولكنه مستحيل وأما انتفاء التهمة عنه فباطل بدعوى الحال ولأن مالكًا يورث المبتوتة في مرض الموت لتهمة الزوج فيلحق به التهمة في حال وينفيها عنه في حال، فتعارضا قولاه فبطلا. فصل: فإذا ثبت أن قول القتيل بلوث وأن ما كان في مثل قصة الأنصار لوث فالمعتبر في مثلها شرطان: أحدهما: أن تكون القرية التي وجد القتيل فيها مختصة بأهلها لا يشكركم فيها غيرهم. كاختصاص اليهود بخبير، وفي حكم القرية محلة من بلد في جانب منه لا يشترك أهلها فيها غيرهم. أو حي من أحياء العرب لا يشكرهم في الحي غيرهم فأن اختلط بأهل القرية أو المحلة أو الحي غيرهم من مسافر أو مقيم لم يكن لوثًا مع أهلها. والثاني: أن يكون بين أهل القرية وبين القتيل عداوة ظاهرة، أما في دين أو نسب أو تره تبعث على الانتقام بالقتل. فإذا لم يكن بينهم عداوة لم يكن لوثًا فإذا استكمل هذان الشرطان للانفراد عن غيرهم، وظهور العداوة بينهم صار هذا لوثًا وهو نص السنة وما عداه قياسًا عليه، والله أعلم.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وكذلك يدخل نفر بيتًا" قال في الحاوي: لما ذكر الشافعي اللوث الذي جاءت به السنة ذكر بعده ما في معناه قياسًا عليه فمن ذلك أن تدخل جماعة بيتًا أو دارًا أو بستانًا محظوراً يتفردون فيه. إما في منافرة أو في موانسة ثم يفترون عن قتل فيهم فيكون ذلك لوثًا سواء كان بينه وبينهم عداوة. أو لم يكن بخلاف القرية لأن ما انفردوا فيه من الدار أو البستان ممنوع من غيرهم. إلا بإذنهم وليست القرية ممنوعة من مار وطارق فاعتبر في القرية ظهور العداوة لانتفاء الاحتمال ولم يعتبر في الدار ظهور العداوة لعدم الاحتمال. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "أو صحراء وحدهم". قال في الحاوي: وهذا نوع ثالث من اللوث، وهو أن يوجد قتيل في صحراء الشافعي: وليس إلى جنبه عين ولا أثر إلا رجل واحد مغتصب بدمه في مقامه ومعنى قوله: وليس إلى جنبه عين يريد عين إنسان أو عين حيوان بقتل الإنسان ومعنى قوله: "ولا أثر في الصحراء لهارب" يعني من إنسان أو حيوان قاتل ويكون هذا الحاضر إما وافقًا عليه وإما موليًا لم يبعد عنه وعليه أثار قتله من اختصابه بدمه أو اختصاب سيفه قيصير به لوثًا فيه إن استكملت أربعة شروط. أحدهما: أن تكون الصحراء خالية من عين إنسان أو سبع. والثاني: أن لا يكون في الصحراء أثر لهارب. الثالث: أن يكون القتيل طريًا. والرابع: أن يكون على الحاضر آثارًا قتله فيصير باجتماعها لوثًا، فإن أخل شرط منها فكان هناك أثر لهارب لم يكن لوثًا لجواز أن يكون القتل من الهارب. وإن لم يكن القتيل طريًا لم يكن لوثًا لبعده عن شواهد الحال وجواز تغيرها وإن لم يكن على الحاضر آثار قتله لم يكن لوثًا لظهور الاحتمال. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "لو صفين في حرب". قال الحاوي: وهذا نوع رابع من اللوث، أن يوجد القتيل بين صفى جرب بهذا على ضربين:

أحدهما: أن يكون قتله قبل التحام الحرب واختلاط الصفوف فينظر في مصرعه فله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يناله سلاح أصحابه ولا ينال سلاح أضداده فيكون اللوث مع أصحابه به دون أضداده. والثانية: أن يناله سلاح أضداده ولا يناله سلاح أصحابه فيكون اللوث مع أضداد. والثالثة: أم يناله سلاح أصحابه وسلاح أضداده ففيه لأصحابنا وجهان: أحدهما: وهو قول البغداديين، أن يكون لوثًا مع أضداده لاختصاصهم بعدواته دون أصحابه المختصين بنصرته. الثاني: وهو قول البصريين أن يكون لوثًا مع الفريقين من أصحابه وأضداده، لأن عداوة أضداده عامة وقد يكون في أصحابه من عداوة خاصة كالمحكي من قتل مروان بن الحكم لطلحة بن عبيد الله في وقعة الجمل. قيل: إنه رماه بسهم فقتله وكان من أصحابه، ولأنه ربما أراد قتل غيره فأخطأ إليه فصار قتله من الفريقين محتملًا. والثاني: أن يكون قتله بعد التحام الحرب واختلاط الصفوف فهذا على ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكون أصحابه منهزمين وأضداده طالبين لوثًا مع أضداده دون أصحابه لأن المنهزم يخالف والطالب منتقم. والثاني: أن يكون أصحابه طالبين وأضداده منهزمين فيكون لوثًا مع أصحابه دون أضداد لما ذكرناه. والثالث: أن يتماثلوا في الطلب ولا يخلو أحدهما إلى الهرب فيكون على الوجهين المذكورين. أحدهما: وهو قول البغداديين يكون لوثًا مع أضداده دون أصحابه لاختصاصهم بالعداوة العامة. والثاني: وهو قول البصريين إنه يكون لوثًا في الفريقين جميعًا من أصحابه وأضداده لاحتمال الخطأ أو عداوة خاصة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "أو ازدحام جماعة فلا يفترقون إلا وقتيل من بينهم أو في ناحية ليس إلى جنبه عين ولا أثر إلا رجل واحد مخضب بدمه في مقامه ذلك".

قال [في] الحاوي: وهذا نوع خامس من اللوث في ازدحام جماعة على بئر ماء. أو في دخول باب، أو لالتقاط فيتفرقون عن قتيل منهم، فيكون لوثًا في الجماعة. لإحاطة العلم بأن قتله لم يخرج عنهم، سواء اتفقوا في القوة والضعف، أو اختلفوا. وهكذا ضغطهم الخوف إلى حائط ثم فارقوه عن قتيل منهم كان لوثًا معهم، فأما إذا هربوا من نار أو سبع فوجد أحدهم صريعًا نظر فإن كان طريق هربهم واسعًا فظاهر صرعته أنها من عثرته فلا يكون ذلك لوثًا. وإن كان الطريق ضيقًا، فظاهر الصرعة أنها من صدمتهم فيكون ذلك لوثًا. مسالة: قال الشافعي رضي الله عنه: "أو أتى ببينة متفرقة من المسلمين من نواح لم يجتمعوا فيها يثبت كل واحد منهم على الانفراد على رجل أنه قتله فتتواطأ شهادتهم ولم يسمع بعضهم شهادة بعض فإن لم يكونوا ممن لم يعدلوا". قال في الحاوي: وهذا نوع سادس من اللوث وهو لوث بالقول، وما تقدم لوث بالفعل، وذلك: أن تأتي جماعة متفرقون من نواحي مختلفة. يزيدون عدد التواطؤ ولا يبلغون حد الاستفاضة وتقتصر أوصافهم من شروط العدالة، فيشهدون أو يخيرون ولا يسمع بعضهم بعضًا: أن فلانًا قتل فلانًا ولا يختلفون في موضع القتل ولا في صفته، فلا يخلو من أحد أمرين: أحدهما: إما أن يكونوا ممن تقبل أخبارهم في الدين كالنساء والعبيد. فهذا يكون لوثًا صدقهم في النفس والعمل على قولهم في الشرع. والثاني: أن يكونوا ممن لا تقبل أخبارهم في الدين كالصبيان، والكفار، والفساق. ففي كونه لوث وجهان: أحدهما: أن يكون لوثًا لوقوع صدقهم في النفس. والثاني: لا يكون لوثًا لأنه لا يجهل على قولهم في الشرع. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "أو يشهد عدل على رجل أنه قتله لأن كل سبب من هذا يغلب على عقل الحاكم أنه كما أدعى وليه". قال الحاوي: وهذا نوع سابع من اللوث. وهو وجود العدالة ونقصان العدد كما كان ما تقدمه، وجود العدد الزائد مع نقصان العدالة، وهو أن يشهد بالقتل عدل واحد فيحكم بيمين المدعي مع شهادته فإن كانت الدعوى في خطأ محض، أو عمد خطأ، فذلك موجب للمال، والمال يحكم فيه بشاهد ويمين فيحلف فيه المدعي يمينًا واحدة،

ويكون الشاهد مع اليمين بنية عادلة، ولا يكون لوثًا. إذا كانت الدعوى في قتل عمد فالشاهد الواحد لوث، فيحلف معه المدعي خمسين يمينًا، ويحكم له بأيمانه لا بالشهادة، ولو شهد بالقتل ولم يشهد بعمد، ولا خطأ ففي جواز القسامة وجهان: أحدهما: لا قسامة معه: للجهل بموجبها في قتل عمد وخطأ. والثاني: يحكم فيه بالقسامة، لأنه لا ينفك القتل من عمد أو خطأ، ولا تمتنع القسامة في واحد منهما ويحكم له بعد القسامة بأخفها حكمًا، وهو الخطأ لكن تكون الدية في ماله لا على عاقلته لجواز أن تكون عمدًا يستحق في ماله. فصل: ولو شهد بالقتل من عدول النساء امرأة واحدة، لم تكن بنية إن حلف ولا لوثًا لنقضها عن رتبة الشاهد الواحد. لو شهد به من عدولهم امرأتان لم تكونا بنية إن حلف معها في الخطأ فتكون لوثًا كالرجل الواحد، لكن يحلف في العمد، والخطأ خمسين يمينًا ليحكم له بأيمانه لكونهما لوثًا. فصل: ولو شهد شاهدان: أن أحد هذين الرجلين قتل هذا القتيل، لم تكن هذه بنية بالقتل، لعدم التعين فيها على القاتل، وكانت لوثًا يوجب القسامة، للولي أن يقسم على أيهما شاء، وليس له أن يقسم عليهما، لأن الشهادة في شهاداتهما بينة ولا لوثًا ولا قسامة فيه. والفرق بينهما: أن لوث القسامة ما تعين فيه المقتول وجهل فيه القاتل، لأن مستحق القسامة معين، ولا يكون لوث القسامة ما تعين فيه القاتل وجهل فيه المقتول لأن مستحق القسامة فيه غير معين، فصحت القسامة في المسألة الأولى لتعيين مستحقها، وبطلت في الثانية للجهل بمستحقيها، وهكذا الحكم لو شهد فيها شاهد واحد كان لوثًا في الأولى دون الثانية، لأن الشاهد الواحد لوث في القسامة كالشاهدين، ويحتمل وجهًا آخر أنه لا يكون لوثًا مع الشاهد الواحد، وإن كان لوثًا مع الشاهدين، لأن الشاهد الواحد، قد جمع بين ضعيفين، نقصان العدو وعدم التعيين، وانفراد الشاهدان بأحد الضعيفين فقوى اللوث معهما وضعف مع الواحد فجازت القسامة مع قوة اللوث، ولم تجز مع ضعفه، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وللولي أن يقسم على الواحد والجماعة من أمكن

أن يكون في جملتهم". قال الحاوي: إذا كان اللوث في جماعة لم تخل دعوى القتل من أن يعم بها جميعهم أو يخص بها أحدهم. فإن خص الولي أحدهم بالقتل، جاز له أن يقسم عليه، لأنه لما جاز له أن يقسم عليه مع الجماعة لدخوله في جملة اللوث، جاز أن يقسم عليه وحده دون الجماعة لأنهم أحدهم. وإن عم الولي في الدعوى وأدعى القتل على جميعهم فلهم حالتان: إحداهما: أن يكون عددًا يجوز أن يشتركوا في قتل، فيجوز للولي أن يقسم على جميعهم. والثانية: أن زيدوا على عدد الاشتراك ويبلغوا عددًا لا يصح منهم الاشتراك في قتل النفس كمن زاد على عدد المائة وبلغ ألفًا فما زاد كأهل البصرة وبغداد فلا يجوز أن يقسم على جميعهم، لاستحالة اشتراكهم في القتل. وقيل: للولي عين الدعوى عند عموم اللوث على عدد منهم يصح اشتراكهم في القتل فحينئذ يقسم عليهم. فصل فإذا تقرر ما وصفناه وأقسم الولي مع اللوث على واحد، أو جماعة لم يخل حال الولي من أن يكون واحدًا، أو جماعة، فإن كان واحدًا حلف خمسين يمينًا في العمد والخطأ، رجلًا كان أو امرأة، وإن كانوا جماعة ففيما يقسمون به قولان: أحدهما: يقسم كل واحد منهم خمسين يمينًا لأن كل واحد منهم حكم نفسه. والثاني: أنه يحلف جميعهم خمسين يمينًا تقسط بينهم على قدر مواريثهم بجبر الكسر، فإن كان ابنين حلف كل ابن خمسة وعشرين يمينًا وإن كان ابنًا وبنتًا حلف الابن أربعة وثلاثين وحلفت البنت سبعة عشر يمينًا، لأن اليمين لما تتبعض جبر كسره. فصل: فإذا حلفوا لم يخل القتل من أن يكون موجب للقود أو غير موجب له فإذا كان غير موجب للقود فهم على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون خطأ محضًا فتكون الدية بعد أيمان الأولياء مخففة على عواقل القتلة، فإن كان واحدًا انفردت عاقلته بالعقل، وإن كانوا جماعة، قسمت على أعداد رؤوسهم وتحملت عاقلة كل واحد منهم سهمه من الدية. والثاني: أن يكون القتل عمد الخطأ، فتكون الدية بعد أيمان الأولياء مغلظة على عواقل القتلاء على ما بيننا. والثالث: أن يكون عمدًا محضًا سقط القود فيه لكمال القاتل ونقص المقتول، كالمسلم مع الكافر، والحر مع العبد والوالد مع الولد، وتكن الدية بعد أيمان الأولياء

مغلظة في مال القاتل حالة، لأن سقوط القود فيه لا يخرجه من حكم العبد في الدية. فصل وإن كان القتل موجبًا للقود فهل يستحق القود بالقسامة، ويشاط بها الدم أم لا؟ على قولين: أحدهما: وبه قال في القديم: وهو مذهب مالك، وأحمد بن حنبل، وبه قال عبد الله الزبير وحكم به في أيامه، أن القود بها ثابت ودليلة حديث يحي بن سعد عن بشير بن يسار، عن سهل بن أبي حثمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأنصار: يحلف خمسون منكم على رجل منهم فيدفع برمته يعني للقود. وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن النبي صلى الله عليه وسلم قتل بالقسامة رجلًا بمن بني نضر بن مالك، ولأن ما ثبت به القتال تعلقت عليه أحكام كالبينة. والثاني: وهو قوله في الجديد: وبه قال عمرو بن الخطاب رضي الله عنه وهو مذهب أبي حنيفة أن لا قود في القسامة وتجب بها الدية ودليله ما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى يهود خبير في قصة الأنصار، إما أن تدوا صاحبكم أو تؤذوا بحرب"، فدل على وجوب الدية، دون القود فإن قيل: فقد كنب إليهم قبل القسامة وقبل وجوب القود إنما كتب بذلك بيانًا للحكم المستحق بالقسامة وإلا فمعلوم أن الدية لا تجب قبل القسامة كما لم يجب القود، ولأن أيمان المدعي هي غلبة ظن فصار شبهة في القود، والقود يسقط بالشبهة ولأن الحكم بالقسامة للاحتياط في حق الدماء فكان مقتضى هذا المعنى وجوب الدية وسقط القود. فإذا تقرر توجيه القولين فإن قيل بالأول في إشاطة الدم ووجوب القود فإن كانت القسامة في الدعوى على واحد قتل قودًا، وإن كانت على جماعة فقد اختلف القائلون بهذا القول في عدد من يقتل، فالظاهر من مذهب الشافعي على هذا القول أنه تقتل الجماعة وإن كثروا إذا أمكن أن يشتركوا لأن القسامة في استحقاق القود تجري مجرى البنية. وقال مالك: لا أقتل به أكثر من اثنين وحكى أبو ثور عن الشافعي في القديم. وحكي الربيع بن سليمان قولًا لنفسه: أنه لا يقتل به أكثر من واحد، وبه قال أبو العباس بن سريج حقنًا للدماء، ولضعف القسامة عن البينة. وقال أبو العباس: وأجعل للولي بعد أيمانه الخيار في قتل أي الجماعات شاء فإذا قتل أحدهم أخذ من الباقي أقساطهم من الدية. وإن قيل بالقول الثاني: وهو الجديد أن القود ساقط في الواحد والجماعة فالدية المستحقة بالقسامة تكون مغلظة، حالة في مال المدعى عليه، إن تفرد بها واحد غرم جميعا وإن كانوا جماعة تسقطت على أعدادهم بالسوية، والله أعلم.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وسواء كان به جرح أو غيره لأنه قد يقتل بما لا أثر له" قال في الحاوي: وهو كما قال للولي إنه يقسم في القتل سواء كان به أثر جرح أو لم يكن وقال أبو حنيفة لا يقسم أن يكون به أثر جرح. فإن لم يكن به أثر جرح وخرج الدم من أذنه أقسم، وأن خرج من أنفه لم يقسم لأن عدم الأثر يحتمل أن يكون من موت ومن قتل وخروج الدم من الأنف يحتمل أن يكون من رعاف أو خنق فضعفت الدعوى وسقطت القسامة وهذا فاسد لأمرين: أحدهما: أن الأغلب من الموت أن يكون بأسباب حادثة من مرض أو حادث، وموت الفجاءة فإذا لم يعرف مرض صار الأغلب منه أنه بحادث القتل فلم يحمل على نادرة الفجاءة. والثاني: أن القتل قد يكون تارة بالجرح والأثر، ويكون تارة بالخنق والإمساك للنفس وبعصر الاثنين من غير أثر وإذا كان بهما وجب أن تستوي القسامة فيهما، والله أعلم. مسألة (2): قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن أنكر المدعى عليه أن يكون فيهم لم يسمع الولي إلا بنية أو إقرار أنه كان فيهم" قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا وجد لوث القتل في جماعة فادعى أولياؤه القتل على رجل وذكروا أنه من جملة الجماعة وأنكر المدعى عليه أن يكون في الجماعة، فالقول قوله مع يمينه أنه لم يكن فيهم ولا قسامة للأولياء إذا حلف إلا أن تقوم بينة عادلة تشهد بأنه كان فيهم أو يشهد على إقراره أنه كان فيهم فيجوز حينئذ للأولياء أن يقسموا، لأن ظهور اللوث فيهم لا يدل على أنه كان فيهم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا أنظر إلى دعوى الميت". قال الحاوي: وهذا ردًا على مالك حيث جعل قول القتيل دية عند فلان لوثًا وليس بلوث الشافعي لما قدمناه من الدليل. فأثبت مالك اللوث فيما نفياه ونفى اللوث عما أثبتناه، وحكم بالقسامة ولم يحكم باللوث الذي قضى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم

بالقسامة فلم ينفذ من مخالفة قضائه مع اعترافه بصحة نقله، وهذا وهم لا يجوز. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولورثه القتيل أن يقسموا وإن كانوا غيبًا عن موضع القتيل لأنه يمكن أن يعلموا ذلك باعتراف القاتل أو ببينة لا يعلمهم الحاكم من أهل الصدق عندهم وغير ذلك من وجوه ما يعلم له الغائب". قال الحاوي: يجوز لأولياء المقتول أن يقسموا وإن لم يشهدوا القتل إذا علموه من جهة عرفوها بالصدق. وقال أبو حنيفة: لا يقسموا إذا غابوا عنه لأنهم على غير يقين منه. ودليلنا: أن النبي صلى الله عليه وسلم عرض الإيمان في قصة الأنصاري على عبد الرحمن بن سهل وكان بالمدينة وقتل أخوه عبد الله بن سهيل بخبير، ولأن الإنسان قد يقسم الأموال على ما علمه يقينًا وعلى ما عرفه بغلبة الظن أن يجد في حساب نفسه بخطه أو في حساب أبيه أن على فلان كذا فيجوز أن يحلف على استحقاقه، وإن كان بغلبة ظن لا بيقين وكذلك في الدماء ولأن حكم الشهادة أغلظ، ثم كان للشهود أن يشهدوا تارة بما علموا قطعًا مما شهدوه من العقود وسمعوه من الإقرار. وكان لهم تارة أن يشهدوا بغلبة الظن في الأنساب والموت والأملاك المطلقة بخبر الاستفاضة فلما كانت الشهادة تنقسم إلى يقين وغالب ظن كذلك الأيمان تنقسم وغالب ظن، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وينبغي أن يقول اتقوا الله ولا تحلفوا إلا بعد الاستثبات". قال الحاوي: إنما أجرنا للحاكم أن يعظ الأولياء عند أيمانهم ويحذرهم مأثم اليمين الكاذبة، ويتلو عليهم قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا ...) آل عمران: 77) الآية. ويأمرهم بالاستثبات والأناة قبل الإقدام عليها، لأمرين: أحدهما: اعتبارًا بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في اللعان حين وعظ الزوجين في الخامسة فكانت الأيمان في الدماء بمثابتها وأغلظ. والثاني: انه قد يستحق بأيمانهم ما لا يمكن استدراكه من القود فقدم الاستظهار بالوعظ والتحذير لأنه يوجب قود يدرأ بالشبهة، وإن كان في قتل خطأ وعظوا وحذروا مآثم أيمانهم الكاذبة.

فأما الأيمان في الأموال المحضة: ففي الوعظ عند الإيمان فيها وجهان: أحدهما: يعظ الحالف فيها كالدماء. والثاني: لا يعظ فيها لتغليظ الدماء على غيرها. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وتقبل أيمانكم متى حلفوا مسلمين كانوا على مشركين أو مشركين على مسلمين لأن كل ولي دمه وارث ديته". قال في الحاوي: تقبل أيمان المسلمين على المشركين، وأيمان المشركين على المسلمين في القسامة وغيرها من الحقوق، وقال مالك: أقبلها في سائر الحقوق، ولا أقبلها في القسامة من المشركين على المسلمين، وأقبلها من المسلمين على المشركين. وبناه على أصله في أن القسامة توجب القود، فلما لم يستحق المشترك قبلت أيمانهم في القسامة كالمسلمين، ولأن سقوط القود في حق المشرك لا يوجب سقوط الدية فصار فيها كالمسلم. مسألة: قال الشافعي: رضي الله عنه: "ولسيد العبد القسامة في عبده على الأحرار والعبيد". قال الحاوي: قد قضي الكلام في قتل العبد هل تحمله العاقلة؟ أم لا؟ على قولين: فأما إذا اقترن بقتله لوث فقد أجاز الشافعي هاهنا للسيد القسامة فيه فاختلف أصحابنا فيه فحمله كثير منهم على قولين كالعقل فإن تحمله العاقلة أقسم سيده، وإن قيل: لا تحمله العاقلة لم يقسم لأنه يجري على هذا القول مجرى الأموال التي لا قسامة فيها وذهب أبو العباس بن سريج والمحققون من أصحابنا أن لسيدة أن يقسم على القولين معًا لأن القسامة في النفوس لحفظ حرمتها كما حفظت حرمتها بالقصاص وغلظت بالكفارة وهما معتبران في العبد كاعتبارهما في الحر كذلك في القسامة يجوز أن يكون فيهما كالحر وخالف العقل لأنه موضوع للنصرة والمحاباة التي يقصر العبد عنها ويختص الحر بها فافترق معنى القسامة والعقل فلذلك أقسم في العبد وإن لم يعقل عنه. وهكذا لو قتل المدبر والمكاتب وأم الولد يجوز للسيد القسامة فيهم لأنهم قتلوا عبيدًا. فصل: فأما القسامة على العبد إذا كان قاتلًا فجائزة لأنه قاتل كالحر وإن كان مقتولًا

بخلاف الحر. فلو ظهر منه اللوث في قتل سيده جاز لورثته أن يقسموا وإن انتقل إلى ملكهم بالميراث ليستفيدوا بالقسامة أن يقتلوه على قوله في القديم وأن يخرج بها من الرهن إن كان مرهونًا وأن تبطل فيها الوصية إن كان موصى به. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ويقسم المكاتب في عبده لأنه ماله فإن لم يقسم حتى عجز كان للسيد أن يقسم". قال الحاوي: وهذا صحيح، لأن المكاتب يملك التصرف فيما بيده، فإن قيل إن العبد يملك علة قوله في القديم كان تصرفه تصرف مالك وإن قيل لا يملك على قوله في الجديد كان تصرفه تصرف مستحق فجاز له على القولين معًا أن يقسم في قتل عبده لأنه أحق به على سيده. لاستحقاق المكاتب له دون سيده فصار كسائر الأموال التي بيده، فإن أقسم المكاتب ملك قيمة عبده ليستعين بها في كتابته، وإن لم يقسم حتى مات أو عجز صار عبده وجميع أمواله لسيده فيقسم سيده بعد عجزه في كتابه، لأنه قد صار أحمق به من مكاتبه، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه" "ولو قتل عبد لأم ولد فلم يقسم سيدها حتى مات وأوصى لها بثمن العبد لم يقسم وأقسم ورثته وكان لها ثمن العبد وإن لم يقسم الورثة لم يكن لهم ولا لها شيء إلا أيمان المدعى عليهم". قال في الحاوي: وصورتها: أن يدفع السيد إلى أم ولده عبدًا فيقتل في يدها قتل لوث فللسيد إليها حالتان: أحدهما: أن يدفعه إليها للخدمة. والثاني: أن يدفعه إليها للتمليك، فإن أخذها إياه. ولم يملكها، فالسيد هو الذي يقسم دونها، كما يقسم في سائر عبيده فلو وصى لها بثمنه قبل قسامته فلها قيمته، وإن كان قبل أن يستقر ملكه عليها صحت هذه الوصية قبل استقرار الملك كما تصح وصية بثمن نخله ونتاج ماشيته ولا تمتنع وصيته لأن ولده، وإن لم تصح وصيته لعبده، لأن الوصية تملك بعد موته وأم الولد بعد موته حرة وعبده مملوك فإن مات السيد قبل القسامة أقسم الورثة دونها فإن أقسموا ملكت أم الولد قيمة الوصية إذا خرجت من الثلث فإن عجز الثلث عنها كانت الزيادة موقوفة على إجازة الورثة. وإن امتنع الورثة من القسامة وأجابت أم الولد إليها ففي استحقاقها للقسامة قولان: أحدهما: تستحقها ولها القسامة لأن لها بالوصية فصارت مستحقة في حقها.

والثاني: وهو الأصح المنصوص عليه هاهنا لا قسامة لها لأمرين: أحدهما: أن الأيمان على غيرها فصارت فيها نائبة عنهم النيابة في الأيمان لا تصح لأن المقصود بها البينة التي لا تدخلها النيابة. والثاني: أنها تملك بالوصية ما استقر ملك الموصى عليها والموصي لا يملك إلا ما هو المقسم عليه أو من قام مقامه من قرابته وأصل هذين القولين اختلاف قوليه في المفلس إذا نكحل عن اليمين في دين له وأجاب غرماؤه إلى اليمين. فإن كان السيد قد ملك أم ولده العبد حين دفعه إليها كان حكمها فيه حكم العبيد إذا ملكوا، هل يملكوه بالتمليك أم لا؟ على قولين: أحدهما: وهو قوله في القديم تملك أم الولد وغيرها من العبيد إذا ملكوا. والثاني: وبه قال في الجديد: إنها لا تملك ولا غيرها من العبيد فإن ملكوا: فإن قلنا بهذا القول إنها لا تملكه وإن ملكت كان حكم العبد إذا قتل كحكمه فيما مضى يكون السيد هو المقسم في قتله دونها، وإن قلنا بالأول إنها تملك إذا ملكت فهل تستحق للقسامة أم لا؟ على وجهين: أحدهما: إنها هي المقسمة دون السيد لاختصاصها بملكه فعلى هذا تصير مالكه للقيمة بالتمليك الأول. والثاني: إن السيد هو المقسم دونها ولأن ملكها غير مستقر، لما يستحقه السيد من استرجاعه إذا شاء. فعلى هذا إذا أقسم السيد لم تملك أم الولد القيمة إلا بتمليك مستجد، لأنه ملك قد استفادة السيد بأيمانه وهكذا حكم سائر العبيد إذا ملكوا وإنما تفارقهم أم الولد في شيء واحد وهو أن السيد إذا مات عن عبده وقد ملكه مالًا كان لوارثه انتزاعه من يده لبقائه على رقه وإذا مات عن أم ولده وقد ملكها مالًا لم يكن لوارثه انتزاعه منها بعتقها وفي حكمها لو أعتق العبد بعد التمليك لم يسترجعه منه وإن كان له استرجاعه ولو باعه لبقائه على الرق إذا بيع واستقرار ملكه بالحرية إذا أعتق، وهذا كله على قوله في القديم إنهم يملكون إذا ملكوا، فأما على الجديد فلا يملكون بحال مع بقاء الرق. فرع: إذا ادعى رجل قتلًا على رجل فإنه يؤخذ بصفة القتل فلا يخلو من أربعة أحوال: أحدها: أن يدعي العمد المحض. والثاني: أن يدعي شبه العمد. والثالث: أن يدعي الخطأ. والرابع: أن يدعي القتل ولا يذكر عمدًا ولا خطأ لأنه لا يعرف حاله فإن قال هو عمد يؤخذ بصفته فلا يخلو من أربعة أحوال:

أحدها: أن يصفه بما لا يضمن فلا يقسم. والثاني: أن يصفه العمد المحض فيقسم عليها المنكر. والثالث: أن يصفه بشبه العمد فله أن يقسم على الصفة بأن يقول ضربه بعصا فمات، قال: يقسم وعندي أنه يحتمل. والرابع: أن يصفه بالخطأ المحض ففيه طريقان ومنهم من قال على قولين ومنهم من قال على اختلاف حالين وإذا ادعى شبه العمد فإنه يصفه، فلا يخلو من أربعة أحوال: أحدها: أن يصفه بما لا يضمن فلا يقسم. والثاني: أنه يصفه بشبه العمد فيقسم. والثالث: أن يصفه بالخطأ المحض فيقسم على الدعوى وعندي أنه لا يقسم. والرابع: يصفه بالخطأ المحض فيقسم على الصفة وإذا ادعى محضًا فهل يؤخذ بالصفة أم لا؟ على وجهين: فإذا قلنا: يؤخذ بالصفة فإن وصفة بما لا يضمن، سقط. وإن وصف بالخطأ المحض يقسم، وإن وصفه بشبه العمد يقسم على الدعوى دون الصفة وإن وصفه بالعمد المحض، فإن لم يرجع عن الدعوى أقسم على الدعوى وإن رجع عن الدعوى إلى الصفقة فلا يقسم وإن جعل صفة القتل ففيه وجهان: أحدهما: لا يحلف للجهل بموجبها. والثاني: هو قول يذكر عن أبي إسحاق المروزي أنه يقسم لأن الجهل بصفة القتل ليس جهلًا بموجبه فإذا أقسم بحبس المجني عليه حتى يبين فإن تطاول زمانه أحلف أنه ما قتله عمدًا ولزم الدية من الخطأ من ماله مؤجله وفي تغليظها بالعمد وجهان. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو جرح فمات أبطلت القسامة لان ماله فيء ولو كان رجع إلى الإسلام كانت فيه القسامة للوارث". قال الحاوي: ولو كان رجع إلى الإسلام كانت فيه القسامة للوارث، إذا ارتد المجروح ومعه لوث ثم مات على ردته فلا قسامة لوارثه لأمرين: أحدهما: أن ماله قد صار فيئًا لا يورث عنه فلم يجز أن يقسم من لا يرث. والثاني: أن سراية الحرج في الردة لا توجب ضمان النفس وما دون النفس لا قسامة فيه: فأما إذا عاد الإسلام بعد ردته فالحكم في الدية والقود قد ذكرناه وهو أنه لم يكن للجرح سراية في الردة فالدية كاملة وفي سقوط القود قولان وإن كان له سراية في الردة القود وفي كمال الدية قولان: أحدهما: تجب فيه الدية كاملة.

والثاني: نصفها. وماله موروث لأنه مسلم عند الموت ولهم أن يقسموا إن لم يكن في الردة سراية وفي مقاسمتهم إذا سرت في الردة وجهان" أحدهما: لهم القسامة وإن ملكوا بها بعض الدية لأنها دية نفس وإن لم تكتمل. والثاني: أنه لا قسامة لهم لذهاب الملوث بالسراية في الردة والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو جرح وهو عبد فعتق ثم مات حرًا وحيت فيه القسامة لورثته الأحرار ولسيده المعتق بقدر ما يملك في جراحه". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا قطعت يد العبد مع لوث ثم اعتق ومات من الجنابة حرًا ففيه دية حر وللسيد أقل الأمرين من نصف قيمته عبدًا لأن في اليد نصف القيمة أو جميع ديته حرًا لأنها قد سرت إلى نفسه بعد حريته. فإن كانت الدية أقل من الأمرين استحقها السيد وحده وكان هو المقسم دون الورثة، وإن كانت نصف القيمة أقل الأمرين استحقها السيد وكان باقي الدية لورثة العبد فيشترك السيد والورثة في القسامة، لاشتراكهم في الدية ولا تجزئ قسامة أحدهما دون الآخر، لأن أحد لا يملك بيمين غيره شيئًا فإن كان السيد هو المقسم، لم يحكم له بحقه من الدية، إلا بعد خمسين يمينًا. فإن قيل: فكيف يقسم وهو يأخذ دية طرف ولا قسامة في الأطراف، قيل قد صار الطرف بالسراية نفسًا فصار مشاركًا في دية النفس، وإن تقدر حقه بأرش الطرف فذلك جاز أن يقسم فإن أجاب الوارث إلى القسامة ففي قدر ما يقسم به من الأيمان قولان: أحدهما: خمسون يمينًا. والثاني: يقسم بقدر حقه من الدية فإن كان له نصفها خلف خمسة وعشرين يمينًا وإن كان لها ثلثها حلف سبعة عشرة يمينًا. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا تجب القسامة في دون النفس". قال في الحاوي: وهذا صحيح وإنما لم تعجب فيما دون النفس قسامة كان فيما دون النفس دية كاملة كاللسان والذكر أو كان دونها لأمرين" أحدهما: لتغليظ حرمة النفس علة ما دونها ولذلك تغلظت بالكفارة فتغلظت بالقسامة. والثاني: أن القسامة وجبت للورثة لقصورهم عن معرفة القاتل وتعذر البينة عليهم

فحكم (لهم) بالقسامة مع اللوث احتياطًا للدماء وفيما من دون النفس يعرف المجني عليه من جنى عليه ويقدر على إقامة البينة عليه فلم يحكم له بالقسامة لاستغنائه في الغالب عنها. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو لم يقسم حتى ارتد فأقسم وقفت الدية فإن رجع أخذها وإن قتل كانت فيئًا". قال في الحاوي: وهذا صحيح. وإذا ارتد الولي في القسامة لم تخل ردته من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن تكون ردته قبل موت القتيل فليس له أن يقسم ولا له إن أسلم بعد موته أن يقسم، لأن ردته بعد موته تمنعه من الميراث ولا يصير وارثًا بإسلامه بعد الموت، ولا تصح القسامة إلا من وارث فإن لم يكن للمقتول وارثًا فلا قسامة ويصير دمه هدرًا. وإن كان له وارث غيره قام مقامه وأقسم. والثاني: أن يرتد بعد موته القتل وبعد قسامته فقد وجبت الدية بقسامته وتكون موقوفة على ما يكون من حال ردته فإن عاد إلى الإسلام دفعت إليه وإن مات على ردته كانت الدية مع جميع ماله فيئًا في بيت المال. والثالث: أن تكون ردته بعد موت القتيل وقبل قسامته فيمنعه الحاكم من القسامة في زمانه ردته لأن أيمان القسامة موضعه للزجر، وهو مع ظهور الردة غير منزجر ويكون الأمر موقوفًا على عقبي ردته فإن أسلم منها أقسم وقضى له بدية. وإن مات مرتدًا سقطت القسامة وصار الدم هدرًا إن لم يكن للقتيل وراث؛ لأن ماله يصير لبيت المال إرثًا لكافة المسلمين وليس فيهم من يتعين في القسامة، ولا يمكن أن يقسم جميعهم ولا يجوز للإمام أن يقسم عنهم فلذلك صار الدم هدرًا. فلو أقسم في زمان واستوفى الحاكم عليه أيمان قسامته صحت القسامة إذا قيل إن ملك المرتد باق عليه، وإن قيل إن ملكه قد زال عنه بالردة ففي صحة قسامته وجهان: أحدهما: لا تصح منه القسامة لأنه لا يملك بها الدية. والثاني: تصح منه القسامة، لأن المرتد لا يمنع من اكتساب المال وهذا من اكتسابه وإن زال ملكه عن أملاكه، فعلى هذا إن قيل بصحة قسامته كانت الدية موقوفة إلى ما ينتهي إليه الحال، فإن أسلم ملكها وإن قتل بالردة كانت فيئًا وإن قيل ببطلان قسامته وقف أمره: فإن أسلم استأنف القسم، وإن قتل بالردة صار الدم هدرًا، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "والإيمان في الدماء مخالفة لها في الحقوق وهي

في جميع الحقوق يمين يمين وفي الدماء خمسون يمينًا. وقال في كتاب العمد ولو ادعى أنه قتل خطأ فالدية عليه في ثلاث سنين بعد أن يحلف ما قتله إلا خطأ فإن نكل حلف المدعى لقتله عمدًا وكان له القود. قال المزني: هذا القياس على أقاويله في الطلاق، والعتاق وغيرهما في النكول ورد اليمين". قال في الحاوي: الدعاوي ضربان في دم وغير دم، فأما الدعاوي في غير الدماء فلا تغلظ بغير الزمان والمكان فلا يبدأ فيها بيمين المدعى ولا تكرر فيها الأيمان ولا يستحق فيها إلا يمين واحدة سواء كان مع الدعوى لوث أو لم يكن، لقصور ما سوى الدماء عن تغليظ الدماء. وأما الدعاوي في الدماء، فضربان: في نفس، وطرف، فأما في النفوس فضربان: أحدهما: أن يقترن بالدعوى لوث فتغلظ غي حكمين: أحدهما: تبدئة المدعي وتقديمه على المدعى عليه وهذا يستوفي فيه حكم كل ممن كلمت له دينه أو نقصت. والثاني: تغليظ الأيمان بخمسين يمينًا وهذا معتبر بحال المقتول فإن كملت فيه الدية بان يكون رجلًا حرًا مسلمًا كمل فيه تغيظ الإيمان بخمسين يمينًا، وإن لم تكمل الدية، بأن كان امرأة وجبت فيها نصف الدية، وكان ذميًا وجب فيه ثلث الدية، ففيه وجهان: أحدهما: تسقط الأيمان على كمال الدية فتغلظ في قتل المرأة بخمسة وعشرين يمينًا، وفي قتل الذمي بسبعة عشر يمينًا ليقع الفرق في التغليظ بين حكم القليل والكثير اعتبارًا بالدية. والثاني: وهو أصح أنها تغلظ في كل قتيل بخمسين يمينًا من قلت ديته وكثرت حتى في دية الجنين، لأنه لما استوي التغليظ بالكفارة في قتل جميعهم كذلك في الغليظ بأيمان القسامة فإذا تقرر أن المدعى يحلف خمسين يمينًا لم يخل أن يكون واحدًا أو جماعة فإن كان واحد حلف جميعها ووالي بينهما ولم يفرقها، لأنها في الموالاة أغلظ وأزجر فإن حلف أكثرها ونكل عن أقلها ولو بيمين واجدة ولم يستحق بما تقدم من أيمانه شيئًا من الدية لتعلق الحكم بجميعها، وإن كانوا جماعة ففي أيمانهم قولان: أحدهما: يحلف كل واحد منهم خمسين يمينًا يستوي فيها من قل سهمه الدية وكثر، لأن تكرار الأيمان موضوع للتغليظ والزجر، وليس يزجر الواحد منهم إلا بأيمان نفسه، فوجب أن يستوفي حقه، فعلى هذا إن أقسموا جميعًا، قضى لهم بجميع الدية واقتسموا على قدر مواريثهم، فإن حلف بعضهم ونكل البعض قضى للحالف بحقه من الدية دون الناكل. والثاني: وهو الأصح أن الأيمان مقسومة بينهم على قدر مواريثهم بجبر الكسر، فإن كانوا زوجه وابنًا وبنتًا وحلفت الزوجة سبعة أيمان والابن ثلاثين يمينًا والبنت خمس عشرة يمينًا ثم على قياسه لأن التغليظ بعدد الأيمان يختص بالدعوى وهم فيها مشتركون فوجب

أن يكونوا في تغليظ أيمانها مشتركين. فعلى هذا إن حلفوا قضى لهم بجميع الدية، وإن حلف بعضهم ونكل بعضهم لم يحكم للحالف بحقه من الدية إلا بعد استكمال خمسين يمينًا، فإن طلب طالب الناكل لم يستحق شيئًا بيمين غيره وإن استوفى الحاكم جميع الأيمان، حتى يحلف عدد أيمانه التي تلزمه بقدر حقه. فإن نكل جميعًا عن الأيمان، ردت على المدعى عليه، فإن كان واحدًا حلف خمسين يمينًا، لأن الأيمان لما غلظت في جنبة المدعى عليه، فأن كان واحدًا حلف خمسين يمينًا، لأن الأيمان لما غلظت في جنبة المدعي، وجب أن تغلظ في نقلها إلى المدعى عليه، لتتكافأ الجنبتان في الغليظ، فإن المدعى عليهم جماعة ففي إيمانهم قولان: أحدهما: وهو الناصح هاهنا أن كل واحد منهم يحلف خمسين يمينًا والأصح المدعين أن تسقط بينهم، لأن كل واحد من المدعى عليهم كالمنفرد في وجوب القود والتزام الكفارة، فكان كالتفرد في عدد الأيمان، وخالف المدعين لأن الواحد من الجماعة لا يساوي المنفرد فيها فافترق. والثاني: أن الأيمان مقسطة بينهم على أعدادهم يجبر الكسر يستوي فيه الرجل والمرأة بخلاف أيمان المدعين، لأن المدعين يتفاضلون في ميراث الدية فيفاضلوا في الأيمان والمدعى عليهم يستوون في التزام الدية فيساووا في الأيمان، والله أعلم. فصل: فإن حلفوا برئوا من القتل فلم يلزمهم قود ولا دية. وقال أبو حنيفة: إذا حلفوا غرموا الديةـ احتجاجًا برواية زياد بن أبي مريم أن جده أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخي قتل بين قريتين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يحلف خمسون رجلًا، فقال: ما لي من أخي غير هذا قال: نعم ولم مائة من الإبل فجمع له بين الأيمان والدية. ولما روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أحلفهم خمسين يمينًا ما قتلناه، ولا عرفناه قاتله وأغرمهم الدية. قال: ولأن حكم القسامة مخالف لأثر الدعوى، فصارت الأيمان في القسامة موضوعه للإيجاب وغيرها من الدعاوي موضوعه للإبراء والإسقاط. ودليلنا قول النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار فيبرئكم يهود بخمسين يمينًا فاقتضى أن يبرؤوا بأيمانهم، ولأن اليمين توجب تحقيق ما حلف عليه وإثبات حكمه، فلما كانت يمينه موضوعه لنفي القتل، وجب أن ينتفي عنه حكم القتل كما كانت يمينه في سائر الدعوى موضوعه لنفي الدعوى فسقط عنه حكمها وفي هذا انفصال عن الاستدلال وقد تقدم الجواب عن الخبر والأثر. فصل: وإن نكل المدعى عن الإيمان أغرموا الدية ولم يحسبوا. وقال أبو حنيفة:

(يحبسون) حتى يخلفوا ثم يغرمون استدلالًا بأن الأيمان في القسامة هي نفس الحق فوجب أن يحسبوا عليه كما يحسبون على سائر الحقوق وهذا خطأ من وجهين: أحدهما: أن الأيمان في الشرح موضوعه للتغليظ والزجر، حتى لا يقدم على كذب في دعوى ولا إنكار، فإذا امتنع منها فقد انزجر بها فلم يجز أن يحبس عليها ليكره على أيمان ربما اعتقد كذبه فيها، فيصير محمولًا على الكذب والحنث. والثاني: أن نكوله في غير القسامة لما لم يوجب حبسه لنفس الأحبار عن الأيمان، فنكوله في القسامة أولى لأن الأيمان أكثر والتغليظ فيها أشد وقوله: "إن الأيمان هي نفس الحق" فليس صحيح لأن الأيمان لقطع الخصومة وإسقاط الدعاوي ولو كانت نفس الحق لما جاز أن يقبل منهم الدية إذا اعترفوا وحكمهم في الاعتراف أغلظ من الجحود. فصل: والثاني: أن لا يكون مع الدعوى لوث فتسقط لعدم اللوث البداية بيمين المدعي لضعف سببه القول المدعى عليه مع يمينه، وفي تغليظها بالعدد قولان: أحدهما: وهو قول أبي حنيفة واختار المزني أنها لا تغلظ بالعدد ويستحق فيها بيمين واحد يخلف بها المدعى على إنكاره؛ لأنه لما سقط لعدم اللوث تغليظ القسامة في الابتداء بيمين المدعى سقط تغليظها بعدد الأيمان جمعًا بينها وبين سائر الدعاوي في الأمرين. والثاني: أنها تغلظ بالعدد فيحلف خمسين يمينًا، تغليظًا لحرمة النفس، كما تغلظ بالكفارة وإن لم يحكم فيها بالقسامة، فعلى هذا إن كان المدعى عليه واحدًا حلف خمسين يمينًا، وإن كانوا جماعة فعلى ما قدمناه من القولين: أحدهما: أن يحلف كل واحد منهم خمسين يمينًا. والثاني: أن الخمسين مسقطة بينهم على عدد الرؤوس. فإن كانوا خمسة حلف كل واحد منهم عشرة أيمان، وإن كانوا عشرة حلف كل واحد منهم خمسة أيمان، فإن حلفوا برئوا وإن نكلوا ردت الأيمان على المدعى وهل تغلظ بالعدد إذا ردت عليه؟ على قولين: كالمدعى عليه: أحدهما: لا تغلظ ويحلف يمينًا واحدة. ويستحق دم صاحبه في العهد والخطأ. والثاني: تغلظ بالعدد فيحلف خمسين يمينًا فإن كان واحدًا حلف جميعها وإن كانوا جماعة فعلى قولين: أحدهما: يحلف كل واحد منهم خمسين ميتًا. والثاني: أنها تسقط بينهم على قدر مواريثهم يجبر الكسر. فإذا حلفوا لهم بدم صاحبهم، واستحقوا القود في العمد قولًا واحدًا لأن أيمانهم بعد نكول المدعى عليه تجري مجري إقراره، في أحد القولين ومجرى البينة في القول الثاني.

والقود مستحق بالإقرار ومستحق فإن عن الأيمان عند ردها عليه برئ المدعى عليه بإنكاره المتقدم. فصل: وإن كانت دعوى الدم فيما دون النفس لم يعتبر فيها اللوث لما قدمناه، من تغليظ النفس على ما دونها، فسقط الابتداء فيها بيمين المدعى فيكون القول فيها قول المدعى عليه مع يمينه وتغليظها بالعدد مبني على تغليظها في دعوى النفس عند عدم اللوث فإن قيل: لا تغلظ بالعدد في النفس إذا عدم اللوث فأولى ألا تغلظ بالعدد فيما دون النفس؛ لأنه حرمة النفس أغلظ وإن قيل بتغليظها في النفس عند عدم اللوث ففي تغليظها بالعدد فيما دون النفس قولان: أحدهما: لا تغلظ بالعدد وإن غلظت به في النفس لاختصاص النفس بعظم الحرمة ووجوب الكفارة. فعلى هذا يحلف المدعى عليه يمينًا واحدة سواء كانت الدعوى فيما تكمل فيه الدية كاليدين أو فيما يجب فيه بعضها كالموضحة. والثاني: أنه تغلظ فيما دون النفس بالعدد، كما تغلظ في النفس، لأنه لما استوي حكم النفس وما دونها في وجوب القود وتحمل العقل تغليظًا لحكم الدماء استويا في التغليظ بعدد الأيمان- فعلى هذا لا يخلو حال الدعوى فيما دون النفس من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن تكمل فيها الدية من غير زيادة ولا نقصان كقطع اليدين أو الرجلين أوجب الذكر أو قطع اللسان فتغلظ الأيمان فيه بخمسين يمينًا لأنه لما ساوى النفس في الدية ساواها في عدد الأيمان فعلى هذا إن كان المدعى عليه واحدًا حلف خمسين يمينًا وإن كانوا جماعة فعلى قولين: أحدهما: يحلف كل واحد منهم خمسين يمينًا. والثاني: إنها مقسطة بينهم على أعدادهم. فإن كانوا خمسة خلف كل واحد منهم عشرة أيمان، فيصير فيما يحلف به كل واحد منهم ثلاثة أقاويل: أحدها: خمسون يمينًا. والثاني: عشرة أيمان. والثالث: يمين واحدة فصل والقسم الثاني: أن يستحق بالعدوى بعض الدية كإحدى اليدين أو كالموضحة ففيما تغلظ من العدد قولان: أحدهما: تغلظ بخمسين يمينًا فيما قل من الدية وكثر اعتبارًا بحرمة الدم. والثاني: تقسط الأيمان على الدية وتغلظ فيما دونها بقسطها من كمال الدية، فإن

(أوجبت) نصف الدية، كإحدى اليدين غلظت بخمسة وعشرين يمينًا، وإن أوجبت ثلث الدية كالجائفة غلظت بسبعة عشرة يمينًا. وإن أوجبت عشر الدية كالإصبع غلظت بخمسة أيمان. وإن أوجبت نصف عشرها كالموضحة غلظت بثلاثة أيمان: فعلى هذا إن كان المدعى عليه واحد حلف هذه الأيمان على اختلاف الأقاويل فيها وإن كانوا جماعة فعلى قولين: أحدهما: يحلف كل واحد منهم جميع هذه الأيمان المختلف في عددها. والثاني: يقسط عدد الأيمان بينهم على أعداد رؤوسهم فيجيء فيما يحلف به كل واحد منهم إذا كانوا خمسة وكانت الدعوى في قطع أحد اليدين خمسة أقاويل: أحدها: يحلف خمسين يمينًا. والثاني: يحفل خمسة وعشرين يمينًا. والثالث: عشرة أيمان. والرابع: خمسة أيمان. والخامس: يمينًا واحدة، فإن نكلوا عن الأيمان ردت على المدعي وكان حكمه في تغليظ الأيمان بالعدد مثل حكمهم على ما رتبناه من الأقاويل وشرحناه من التفصيل، والله أعلم. فصل: والثالث: أن يستحق بالدعوى أكثر من الدية مثل قطع اليدين مع الرجلين، أو جدع الأنف مع اللسان، فتشتمل الدعوى على ديتين فإن قيل: إن الأيمان لا تغلظ بالعدد في الدية وما دونها لم تغلظ بالعدد فيما زاد عليها، واقتصر فيها على يمين واحدة وإن اشتملت على ديتين. وإن قيل إن الأيمان تغلظ بالعدد في الدية وما دونها. فأولى أن تغلظ بالعدد فيما زاد عليها، وهل تكون الزيادة على الدية موجبة لزيادة العدد في الأيمان أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا توجبها لأن الخمسين غاية العدد في التغليظ فلم يحتج التغليظ إلى تغليظ. والثاني: أن الخمسين تغليظ مقدر في دية النفس فصار غاية فيها فلم يصير غاية فيما زاد عليها. فعلى هذا أوجبت الدعوى ديتين تغلظت الأيمان بمائة يمين، وإن أوجبت دية ونصف تغلظت بخمسة وسبعين يمينًا، وإن أوجبت دية وثلث تغلظت بسبعة وستين يمينًا. وعلى هذا القياس، ثم إن كانت على واحد حلف بجميعها، وإن كانت على جماعة فعلى ما قدمناه من القولين: أحدهما: يحلف كل واحد منهم جميعها.

والثاني: تقسط بينهم على أعدادهم، فيجيء فيما يحلف كل واحد منهم إذا كانوا خمسة والدعوى فيما يوجب ديتين خمسة أقاويل: أحدها: مائة يمين. والثاني: خمسون يمينًا. والثالث: عشرون يمينًا. والرابع: عشرة أيمان. والخامس: يمينًا واحدًا. فإن نكلوا عن الأيمان وردت على المدعي كان حكمه في تغليظ الأيمان بالعدد مثل حكمهم، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وسواءٌ في النكول المحجور عليه وغير المحجور عليه ويلزمه منها في ماله ما يلزم غير المحجور والجناية خلاف البيع والشراء فإن قال قائلٌ: كيف يحلفون على ما لا يعلمون قيل فأنتم تقولون لو أن ابن عشرين سنة رئي بالمشرق اشترى عبدًا ابن مائة سنةٍ رئي بالمغرب فباعه من ساعته فأصاب به المشتري عيبًا أن البائع يحلف على البت لقد باعه إياه وما به هذا العيب ولا علم له به الذي قلنا قد يصح علمه بما وصفنا". قال في الحاوي: أما الحجر فضربان: أحدهما: يكون لارتفاع القلم كالجنون والصغر فيمتنع من سماع الدعوى منه وعليه لأنه لا حكم لقوله مال ولا بدن. والثاني: أن يكون مع ثبوت القلم عليه بالبلوغ والعقل وقد ثبت الحجر فيه بأحد خمسة أسباب: السفه والفلس والمرض والرق والردة. وهذه المسألة مقصورة على الحجر بالسفه لأن ما عداه له مواضع قد مضى بعضها ويأتي باقيها وإذا كان كذلك لم يخل حال المحجور عليه بالسفه من أن يكون مدعيًا، أو مدعي عليه فإن كان مدعيًا، سمعت دعواه، وكان فيها الرشيد، وإن توجهت عليه يمين إما ابتداء في القسامة أو انتهاء في الرد بعد النكول حلف فيها، وحكم له بموجبها كالرشيد، لأن في ذلك حفظ لماله والحجز يمنعه من إتلافه، وإن كان مدعي عليه سمعت الدعوى عليه لأنه قد ينكرها فيستحلف عليها أو تشهد بها بينة فيكون لها حكم وإذا كان كذلك لم تخل الدعوى عليه من أن تكون في دم أو مال. فإن كانت في دم لم تخل من أن تكون موجبة للقسامة، أو غير موجبة لها، فإن أوجبت القسامة لوجود اللوث في قتل نفس، فللمدعي أن يقسم على المحجور عليه، كما يقسم على الرشيد ويقضي عليه بموجب

أيمانه إذا حلف، فإن نكل عن الأيمان ردت على المحجور عليه، فإن حلف برئ، وإن نكل قضي عليه بالدعوى وكان فيما يجب عليه بنكوله كالرشيد، وإن كانت دعوى الدم غير موجبة للقسامة فهي على ضربين: أحدهما: أن تكون في عمد يوجب القود فتسمع الدعوى عليه، فإن أقر بها صح إقراره كما يصح إقرار العبد بها لانتفاء التهمة عنه فإن عفا عن القود وجبت الدية في ماله وأخذت منه مع بقاء حجره، وإن نكل عن اليمين ردت على المدعي وحكم له بدعواه إذا حلف وخير بين القود والدية. والثاني: أن تكون خطأ يوجب المال دون القود فتسمع الدعوى عليه فإن أقر بها ففي صحة إقراره قولان: أحدهما: وهو الأصح أنه لا يصح كالمال. والثاني: أنه يصح لتغليظ حرمة الدماء والنفوس، كالعمد فإن أبطل إقراره بها لم يلزمه ولا عاقلته وإن صح إقراره بها لزمته الدية في ماله دون عاقلته إلا أن يصدقوه عليها فيتحملونها عنه. وإن أنكر الدعوى، أحلف عليها فإن حلف برئ وإن نكل عن اليمين فإن قلنا إن إقراره يصح ردت اليمين على المدعي وحكم له إذا نكل، وهل تجب الدية على عاقلته أم لا؟ على قولين: بناء على اختلاف قوليه في يمين المدعي بعد نكول المدعي عليه هل تقوم مقام البينة أو مقام الإقرار فإن قيل إنها تقوم مقام البينة أو مقام الإقرار فإن قيل إنها تقوم مقام البينة تحملت العاقلة الدية كما نتحملها بالبينة وإن قيل إنها تقوم مقام الإقرار لم تتحملها العاقلة كما لا تتحملها بإقراره وإن قلنا إن إقرار السفيه بها باطل ففي رد اليمين على المدعي بعد نكول السفيه عنها قولان: أحدهما: ترد عليه إذا قيل إن يمينه كالبينة. والثاني: لا ترد إذا قيل إن يمينه كالإقرار. فصل: وإن كانت الدعوى في مال محض سمعت عليه فإن أنكرها حلف وبرئ وإن نكل عنها كان في رد اليمين على المدعي ما قدمناه من القولين فإن أقر بها لم يلزمه إقراره قولًا واحدًا، لما تضمنه من استهلاك ماله الذي هو متهوم فيه فلا يلزمه في ظاهر الحكم. وهل يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى أم لا؟ معتبرًا بالمال فإن كان عن إتلاف، واستهلاك، إما لنفسٍ أو مال، لزمه فيما بينه وبين الله تعالى وإن لم يلزمه في ظاهر الحكم ما كان حجره باقيًا فإذا فك حجره غرمه، وإن كان عن معاملة ومراضاة لم يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى. كما يلزمه في ظاهر الحكم ولا يلزمه غرمه بعد فك حجره وهو معنى قول الشافعي والجناية خلاف البيع والشراء.

باب ما ينبغي للحاكم أن يعلمه من الذي له القسامة وكيف يقسم

كما يلزمه في ظاهر الحكم ولا يلزمه غرمه بعد فك حجره وهو معنى قول الشافعي والجناية خلاف البيع والشراء. والفرق بينهما: أن ديون المراضاة كانت باختيار صاحبها فصار هو المستهلك لها بإعطائه إياها وديون الجنايات والاستهلاك عن المراضاة فلم يكن من صاحبها ما يوجب سقوط غرمها فافترقا من هذين الوجهين فيما بينه وبين الله تعالى وفي الرجوع به بعد فك الحجر، فعلى هذا إن استحق الغرم في استهلاك مال عمل غرمه عند فك حجره لأن غرم الأموال المستهلكة معجل وإن استحق في دية خطأ تأجيلها ففي ابتداء الأجل وجهان: أحدهما: من وقت الإقرار لوجوبها به. والثاني: من وقت فك حجره لأنه بفك الحجر صار من أهل غرمها والله تعالى أعلم. باب ما ينبغي للحاكم أن يعلمه من الذي له القسامة وكيف يقسم مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وينبغي أن يقول له من قتل صاحبك؟ فإن قال فلان قال وحده فإن قال نعم قال عمدًا أو خطأ فإن قال عمدًا سأله وما العمد؟ فإن وصف ما في مثله القصاص أحلف على ذلك وإن وصف من العمد ما لا يجب فيه القصاص لم يحلفه عليه والعمد في ماله والخطأ على عاقلته في ثلاث سنين فإن قال قتله فلان ونفر معه لم يحلفه حتى يُسمى النفر أو عددهم إن لم يعرفهم". قال في الحاوي: وهذا كما قال إنما يسمع الحاكم الدعوى للحكم بها وليس يسمعها ليعلم قول المدعي فيها والحكم لا يجوز إلا بمعلوم مقدر لمعين على معين فكذلك لا تسمع الدعوى إلا هكذا ليصح له الحكم فيها، فإذا ادعى رجل عند الحاكم قتل أب له أو أخ سأله الحاكم عن قتله لتتوجه الدعوى على معين سؤاله عنها فإذا قال قتله وحده أو مع غيره، لأن حكم الانفراد في القتل مخالف لحكم الاشتراك فيه. وله الحالتان: أحداهما: أن يفرده بالقتل. والثانية: أن يجعله فيه شريكًا لغيره، فإن أفرده بالقتل فقال: قتله وحده سأله عن القتل هل كان عمدًا أو خطأ؟ لأن حكم العمد مخالف لحكم الخطأ. وله حالتان: أحداهما: أن يدعي العمد. والثانية: أن يدعي الخطأ، فإن قال قتله عمدًا سأله عن العمد، لأنه قد يتصور قتل

العمد فيما ليس بعمد لاختلاف الفقهاء فيما يوجب القود من العمد وله حالتان: إحداهما: أن يصفه بما يكون عمدًا. والثانية: أن يصفه بما لا يكون عمدًا فإن وصفه بما يكون عمدًا فقد كملت حينئذٍ الدعوى وجاز للحاكم سؤال المدعي عليه عنها وكمالها بهذه الشروط الأربعة تعين المدعي عليه، ثم ذكر الانفراد والاشتراك، ثم ذكر العمد أو الخطأ، ثم صفته بما يكون عمدًا أو خطأ. فإذا سأل المدعي عليه وهو منفرد في قتل عمد فله حالتان: إحداهما: أن يقر بالقتل. والثانية: أن ينكر، فإن أقر بالقتل وجب عليه القود سواء كان مع الدعوى لوث أو لم يكن. فإن عفا الولي عن القود وجبت له الدية المغلظة حالة في مال القائل. وإن أنكر القتل فللدعوي حالتان. إحداهما: أن يقترن بها لوث فيحكم للمدعي فيها بالقسامة في التبدية بالمدعي وإحلافه خمسين يمينًا، فإذا أقسم بها فهل يشاط بها الدم ويقتص بها من المدعي عليه أم لا؟ على قولين مضيا القديم منها يشاط بها الدم فورًا والجديد منهما: أنه لا قود وتجب الدية المغلظة حالة في مال المدعي عليه. والثانية: أن لا يكون مع الدعوى لوث فلا قسامة فيها ويكون القول قول المدعي عليه مع يمنيه وهل تغلظ بالعدد؟ على ما قدمناه من القولين. فإن حلف برئ من القود والدية، وإن نكل ردت اليمين على المدعي، وهل تغلظ بالعدد؟ على ما مضى من القولين. فإن حلف حكم له بالقود إن شاء وإن عفا فالدية وإن نكل فلا شيء له من قود ولا دية وبرئ المدعي عليه من الدعوى إلا أن تكون بينة. فصل: وإذ قد مضت الدعوى على المنفرد فالحالة الثانية أن تكون الدعوى عليه مع جماعة شاركوه فيه فيقول: قتله هذا مع جماعة فيسأل عن عددهم لاختلاف الحكم بقلة الشركاء وكثرتهم ولا يلزم التعين عليهم بأسمائهم، وإن كان تعينهم مع ذكر عددهم أوكد وأحوط. وله حالتان: إحداهما: أن يذكر عددهم. والثانية: أن لا يذكر العدد: فإن ذكر عددهم، فقال هذا واثنان معه سأل هل شاركاه عمدًا أو خطأ لأن شركة الخاطئ تسقط القود عن العامد. ولفه في الجواب ثلاثة أحوال: أحدها: أن يقول: شاركاه عمدًا. والثاني: أن يقول: شاركاه خطأ. والثالث: أن لا يعلم صفة شوكتهما له هل كانت عمدًا أو خطأ. فإن وصف الشركة

بالعمد، سئل لحاضر المدعي عليه، فإن أقر وجب عليه القود. وإن أنكر ولا لوث حلف وبرئ وإن كان لوثي أحلف المدعي خمسين يمينًا، وإن كان على واحد من ثلاثة لأن الحق في القسامة لا يثبت إلا بها، وهل يحكم له بالقود أم لا؟ على قولين وإن وصف الشركة بالخطأ، لم يحكم له بالقود إذا أقسم قولًا واحدًا، وكذلك إذا لم يعلم صفة الشركة هل كانت عمدًا أو خطأ؟ لجواز أن تكون خطأ فلا يحكم بالقود مع الشك، وحكم له بثلث الدية المغلظة حالة في مال الجاني لأنها مستحقة عن عمد على كل واحد من ثلاثة وإن حضر ثانٍ بعد القسامة على الأول لم يكن الحكم بها على الأول حكمًا على الثاني وسأل الثاني عنها فإن أقر فكان عامدًا اقتص منه وإن كان خاطئ وجب ثلث الدية عليه دون عاقلته، لأن العاقلة لا تتحمل اعتراف الجاني. وإن أنكر الثاني: نظر فيه هل كان مشاركًا في اللوث أو غير مشارك فيه، فإن كان غير مشارك في اللوث لأن الأول كان في دار المقتول والثاني لم يكن فيها لم يحكم بالقسامة في الثاني وإن حكم بها في الأول لكل واحد منهما حكم نفسه فيبدأ بيمين المدعي في الأول ويمين المدعي عليه في الثاني وإن كان مشاركًا في اللوث لوجوده مع الأول في دار المقتول أقسم المدعي على الثاني وفي عدد ما يقسم به على الثاني وجهان: أحدهما: خمسون يمينًا كالأول. والثاني: خمسة وعشرون يمينًا واختاره أبو إسحاق المروزي لأن حصته من الخمسين لو حضر مع الأول خمسة وعشرون يمينًا فإن وصف قتله بالعمد ففي وجوب القود عليه بعد القسامة قولان: وإن وصفه بالخطأ فقسطه من الدية على عاقلته لوجوبها بالقسامة. وإن جهل المدعي صفة قتله، ففي جواز القسامة عليه وجهان: أحدهما: لا تجوز القسامة عليه للجهل بموجبها، لأن دية العمد عليه ودية الخطأ على عاقلته. والثاني: وهو محكي عن أبي إسحاق المروزي تجوز القسامة عليه لأن الجهل بصفة القتل لا يكون جهلًا بأصل القتل. فإذا أقسم الولي المدعي حبس الثاني حتى يبين صفة القتل هل كانت عمدًا أو خطأ فإن تطاول حبسه ولم يبين أحلف ما قتله عمدًا ولزم دية الخطأ في ماله مؤجلة وفي تغليظ هذه اليمين عليه بالعدد وجهان فإن حضر الثالث بعد الثاني كان كحضور الثاني بعد الأول فيكون حكمه على ما ذكرنا في الثاني إلا في شيء واحد وهو أنه إذا أقسم الولي المدعي وقلنا: تقسم الأيمان بالحصة حلف الثالث سبعة عشر يمينًا هي ثلثها بعد جبر كسرها لأنه أحد ثلاثة لو اجتمعوا لكانت حصته من الخمسين ثلثها هذا حكمه إذا ذكر المدعي عدد الشركاء في القتل. فأما إذا لم يذكر عددهم، لم تخل دعواه من أن تكون في قتل عمد أو خطأ فإن

كانت في خطأ، لم تكن له القسامة لأنه جاهل بقدر ما يستحقه منها، لأنه إن شارك واحدًا استحق عليه نصف الدية، وإن كانوا عشرة استحق عليه عشرها، وإن كان عمدًا يوجب القود فإن قلنا: إنه لا قود في القسامة على قوله في الجديد، فلا قسامة لأن موجبها الدية وقدر استحقاقه منها مجهول كالخطأ. وإن قلنا بوجوب القود في القسامة على قوله في القديم ففي جواز القسامة وجهان: أحدهما: تجوز ويقسم بها المدعي لأن القود استحق على الواحد إذا انفرد كاستحقاقه عليه في مشاركة العدد. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي وأبي علي بن أبي هريرة لا يجوز أن يقسم لأنه قد يعفو عن القود إلى الدية فلا يعلم قدر استحقاقه منها والحكم يجب أن يكون قاضيًا بما يفضل به التنازع. فصل: وإذ قد مضت الدعوى في قتل العمد فالحالة الثانية في الدعوى في قتل الخطأ، فينبغي للحاكم أن يسأل المدعي عن الخطأ هل كان محضًا أو شبه العمد لاختلافهما في التغليظ والتخفيف، فإن قال شبه العمد، سأله عن صفته كما يسأله عن صفة العمد المحض، لأنه قد يشتبه عليه محض الخطأ بالعمد وشبه العمد، ثم يعمل على صفته دون دعواه. فإن كان ما وصفه شبه العمد، غلظت فيه الدية بعد القسامة، وإن كان ما وصفه خطأ محضًا خففت فيه الدية بعد القسامة، فلم يمنع مخالفة صفته لدعواه من جواز القسامة ولا يختلف قول الشافعي وأصحابه فيه لأن الوجوب في الدية في الحالين على العاقلة وإنما اختلفوا في زيادتها في دعواه بالتغليظ ونقصانها في صفتها بالتخفيف فصار في الصفة كالمبدئ في بعض الدعوى. ولا يمنع ذلك من جواز القسامة، وإن كان قد ادعى قتل خطأ محض فقد اختلف أصحابنا هل يلزم الحاكم أن يسأل عن صفة الخطأ أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا يلزمه السؤال عن صفة الخطأ لأن الخطأ أقل أحوال القتل وإنما يلزم أن يسل عن العمد وعن شبه العمد لجواز أن يكون خطأ محضًا ولم يلزم ذلك في الخطأ المحض. والثاني: وهو أصح يلزم الحاكم أن يسأله عن صفة الخطأ لأنه قد يجوز أن يشتبه عليه القتل المضمون بما ليس بمضمون. ولأنه قد يسقط في بئر حفرها المدعي عليه في ملكه فلا يكون ضامنًا لقتله، فإذا سأله عن صفته لم يخل ما وصفه من أربعة أحوال: أحدها: أن يكون خطأ مضمونًا، فتوافق صفته دعواه، فيحكم له بالقسامة. والثاني: أن يصفه بما لا يكون قتلًا مضمونًا، فلا قسامة له، والمدعي عليه برئ

من الدعوى. والثالث: أن يصفه بما يكون عمد الخطأ فيقسم على دعواه في الخطأ المحض دون عمد الخطأ لأن الدعوى أقل من الصفة فصار كالمبتدئ بها من زيادة الصفة. والرابع: أن يصفه بما يكون عمدًا محضًا. فالصفة من الدعوى في أربعة أحكام: أحدها: استحقاق القود في العمد وسقوطه في الخطأ. والثاني: تغليظ الدية في العمد وتخفيفها في الخطأ. والثالث: تعجيلها في العمد وتأجيلها في الخطأ. والرابع: استحقاقها على الجاني في العمد وعلى العاقلة في الخطأ فإن لم تكن له عاقلة تتحمل عنه دية الخطأ نظر فإن كان الجاني هو المحتمل لدية الخطأ أقسم على الدعوى دون الصفة ويحكم له بدية الخطأ دون العمد. فإن كانت له عاقلة تتحمل عنه دية الخطأ. نظر فإن رجع عن الدعوى إلى الصفة، لم يكن له أن يقسم على الدعوى ولا على الصفة، لأن المطالبة في الدعوى متوجهة إلى العاقلة وفي الصفة متوجهة إلى الجاني فصار في الدعوى أبرأ للجاني وفي صفة أبرأ للعاقلة فلم يكن له أن يقسم على واحد منهما وإن لم يرجع عن الدعوى إلى الصفة أقسم على الدعوى دون الصفة وحكم له بدية الخطأ دون العمد. فصل: وإذ قد مضى صفة العمد بما يكون عمدًا فالحالة الثانية أن يصفه بما لا يكون عمدًا، وله في صفة العمد بما ليس يعمد ثلاثة أحوال: أحدها: أن يصفه بما لا يكون عمدًا ولا خطأ من القتل الذي لا يضمن بقود ولا دية: كمن دخل دار رجل فتعثر بحجر، أو سقط في بئر أو سقط عليه جدار فالصفة قد برأت من الدعوى وسقطت القسامة فيها وبرأ المدعي عليه منها. والثانية: أن يصفه بعمد الخطأ كرجل ضرب رجلًا بعصا يجوز أن تقتل ويجوز أن لا تقتل فهو عمد الخطأ لأنه عامد في الفعل خاطئ في النفس. فله أن يقسم على الصفة دون الدعوى، ويحكم له بعمد الخطأ دون العمد المحض ولا يكون ما في الصفة من مخالفة الدعوى مانعًا من القسامة، لأن الاختلاف بين الدعوى والصفة لاشتباه الحكم دون الفعل. والثالثة: أن يصفه بالخطأ المحض فقد بطل حكم الدعوى بالصفة وسقطت القسامة في العمد، واختلف في سقوطها في الخطأ فنقل المزني أنه لا يقسم ونقل الربيع أن يقسم، فاختلف أصحابنا في اختلاف هذين النقلين على وجهين: أحدهما: وهو طريقة البغداديين أن اختلافهما محمول على اختلاف قولين:

باب عدد الأيمان

أحدهما: وهو ما نقله الربيع أنه يقسم وهو اختيار أبي إسحاق المروزي، لأن صفته أقل من دعواه فجاز أن يقسم على الأخف بضد دعوى الأغلظ. والثاني: وهو ما نقله المزني أنه لا يقسم وهو اختيار أبي علي بن أبي هريرة، لأن دية العمد في ماله ودية الخطأ على عاقلته، فكان في الدعوى أبرأ للعاقلة وفي الصفة أبرأ للجاني فسقطت القسامة عليهما. والثاني: وهو طريقة البصريين أنه ليس اختلاف النقل على اختلاف قولين وإنما هو على اختلاف حالين فنقل المزني أنه لا يقسم محمول على أنه أقسام على الدعوى، ولم يرجع عنها إلى الصفة فلا يقسم على الدعوى لإبطالها بالصفة ونقل الربيع أنه يقسم محمول على أنه رجع عن الدعوى إلى الصفة فيقسم على الصفة لرجوعه بها عن الدعوى التي هي أغلظ من الصفة، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو أحلفه قبل أن يسأله عن هذا ولم يقل له عمدًا ولا خطأ أعاد عليه الأيمان". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا عجل الحاكم فأحلف المدعي عليه قبل سؤال المدعي عن شرط الدعوى في قتل العمد والخطأ في الجماعة والانفراد فقد أخطأ في استحلافه، لأمرين: أحدهما: أن الدعوى لم تكمل. والثاني: أنه لا يقدر على الحكم بما أحلف عليه للجهالة به، فتكون اليمين فيها ملغاة لا يحكم بها، سواء كانت اليمين من جهة المدعي في القسامة أو من جهة المدعي عليه في غير القسامة. لأن اليمين قبل استقرار الدعوى جارية مجرى اليمين قبل الدعوى، وهي قبل الدعوى غير معتد بها، لأن ركانة بن عبد العزيز قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: طلقت امرأتي البتة، والله ما أردت بها إلا واحدة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم والله ما أردت بها إلا واحدة؟ فقال ركانة: والله ما أردت بها إلا واحدة فأعاد عليه اليمين ولم يعتد بيمينه قبل الاستحلاف فكذلك في جميع الدعاوي، وإذا كان كذلك فعلى الحاكم أن يعود إلى سؤال المدعي عن صفة القتل وما قدمناه من شروط الدعوى فإذا استكمل شروطها أعاد الاستحلاف عليها معلق ما يحكم باليمين الثانية دون الأولى وبالله التوفيق. باب عدد الأيمان مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "يحلف وارث القتيل على قدر مواريثهم ذكرًا كان أو

أنثى زوجًا أو زوجةً". قال في الحاوي: أما تغليظ الأيمان في القسامة بالعدد لضعف السبب الموجب لها وهو اللوث فقويت الدعوى لضعف سببها بتغليظ الأيمان فيها. وأما تقدير الأيمان فيها بخمسين يمينًا فلسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الواردة بها، وقوله للأنصار: "تحلفون خمسين يمينًا وتستحقون دم صاحبكم! قالوا: لا. قال: فيبرئكم يهود بخمسين يمينًا". وإذا تغلظت بهذا العدد لم يقسم بها من أهل المقتول إلا الورثة منهم، لأن اليمين موضوعة لاستحقاق الدية فلم يحلف بها إلا مستحقها، وهم الورثة، وورثة الدية، هم ورثة الأموال من العصبات وذوي الفروض من الرجال، والنساء، والأزواج، والزوجات، وقد خلف بعض الفقهاء في ورثة الدية خلافًا ذكرناه في كتاب الفرائض. ولا فرق عند الشافعي وأكثر الفقهاء، بين ميراث الدية وميراث المال وإن كل من ورث المال ورثة الدية والقود وإذا كان كذلك لم يخل حال الوارث من أن يكون واحدًا، أو عددًا، فإن كان واحدًا، حلف خمسين يمينًا وإن كانوا عددًا ففيما يقسم به كل واحد منهم قولان ذكرناهما من قبل. أحدهما: يقسم كل واحد خمسين يمينًا، لأن العدد في القسامة كاليمين الواحدة في غير القسامة فلما تساووا في غير القسامة وجب أن يتساووا في القسامة، فعلى هذا يحلف كل واحد من ذكورهم وإناثهم، ومن قل سهمه وكثر خمسين يمينًا. والثاني: وهو الأصح - إن الأيمان تقسط بينهم على قدر مواريثم بجبر كسرها ليحلف جميعهم خمسين يمينًا، لأن أيمانهم في القسامة حجة لهم، كالبينة فجاز أن يشتركوا فيها، كاشتراكهم في البينة، فعلى هذا إن لم تكن فرائض الورثة عائلة قسمت على فرائضهم، فإن كانوا بنين وبنتًا، حلف كل واحد من الابنين عشرين يمينًا، وحلفت البنت عشرة أيمان، وعلى قياس هذا فيما اختلف فرائضهم فيه فإن كانت فريضة مواريثهم عائلة كزوج، وأم، وأختين لأب وأم، وأختين لأم - فللزوج النصف، وللأم السدس - والأختين من الأب والأم الثلثان، ولأختين من الأم الثلث، أصلها من ستة وتعول بثلثيها إلى عشرة. فقد اختلف أصحابنا في قسمة أيمان القسامة بينهم على أصل الفريضة أو على عولها على وجهين: أحدهما: أن تقسم بينهم على أصل الفريضة من ستة أسهم فيحلف الزوج نصف الخمسين - وهو خمسة وعشرون يمينًا لأن فرضه النصف، وتحلف الأم سدس الخمسين وهو تسعة أيمان بعد جبر الكسر، لأن فرضها السدس، وتحلف كل واحدة من الأختين للأب والأم ثلث الخمسين، وهو سبعة عشر يمينًا بعد جبر الكسر لأن فرضها الثلث وتحلف كل واحدة من الأختين لأم، سدس الخمسين وهو تسعة أيمان بعد جبر الكسر

لأن فرضها السدس. والثاني: وهو الأصح أنها تقسم على أصل الفريضة وعولها من عشرة أسهم، فيحلف الزوج وسهمه ثلاثة أسهم من عشرة ثلاثة أعشار والخمسين وهو خمسة عشر يمينًا. وتحلف الأم ولها سهم من عشرة عشر الخمسين وهو خمسة أيمان، وتحلف كل واحدة من الأختين للأب والأم ولها سهمان من عشرة عشري الخمسين وهو عشرة أيمان، وتحلف كل واحدة من الأختين للأم ولها سهم من عشرة عشر الخمسين وهو خمسة أيمان، ثم على هذا القياس. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن ترك ابنين كبيرًا وصغيرًا أو غائبًا وحاضرًا أكذب وأراد الآخر اليمين قيل له لا تستوجب شيئًا من الدية إلا بخمسين يمينًا فإن شئت فاحلف خمسين يمينًا وخذ من الدية مورتك وإن امتنعت فدع حتى يحضر معك وارث تقبل يمينه فيحلفان خمسين يمينًا فإن ترك ثلاثة بنين حلف كل واحد منهم سبع عشرة يمينًا يجبر عليهم كسر اليمين فإن ترك أكثر من خمسين ابنًا حلف كل واحدٍ منهم يمينًا يجبر الكسر من الأيمان". قال في الحاوي: وهذه مسألة وما يليها تتفرع على القول الذي يقسم فيه أيمان القسامة على قدر المواريث، فإذا خلف المقتول ابنين، أحدهما صغير والآخر كبير، أو أحدهما حاضر والآخر غائب، أو أحدهما مدع قتل أبيه والآخر مكذب له، فإن للكبير أن يقسم قبل بلوغ الصغير، وللحاضر أن يقسم قبل قدوم الغائب - فأما المكذب فهل تقسط قسامته بتكذيب أخيه أم لا؟ على قولين: نذكرهما في الباب الآتي فإن أراد البالغ الحاضر أن يقسم، أو المكذب في أحد القولين، قيل له: لا يحكم لك بحقك من الدية إلا أن تستوفي في أيمان القسامة كلها. وإن كان يلزمك في الاجتماع بعضها، لأن عدد الأيمان حجة لك في قبول دعواك، كالبينة فلم يجز أن يحكم بها إلا بعد استيفائها كما لا يحكم بالبينة، إلا بعد كمالها، فإذا حلف خمسين يمينًا حكم له بحقه من الدية، فإذا بلغ الصغير، أو قدم الغائب لم يحكم له بحقه من الدية حتى يحلف على دمه، فإن قيل: فالأيمان في القسامة حجة كالبينة فهلا كان وجودها من بعضهم حجة لجميعهم كالبينة؟ قيل: الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن النيابة في إقامة البينة تصح وفي الأيمان لا تصح. الثاني: أن البينة حجة عامة والأيمان حجة خاصة، فلهذين الفرقين لم يثبت حقه

فيها بأيمان أخيه، وإن ثبت حقه ببينته. فإن أراد أن يحلف حلف خمسة وعشرين يمينًا، لأنه واحد من اثنين فصارا بعد أيمان الأخ كالمجتمعين، فلو كان معهما ثالث غائب، حلف إذا حضر سبعة عشر يمينًا، لأنه واحد من ثلاثة، فإن كان معهم رابع، حلف إذا حضر ثلاثة عشر يمينًا، لأنه واحد من أربعة مثال هذا الشفعة إذا استحقها أربعة وحضر أحدهم كان له أخذ جميعها ولم ينفرد بحقه منها، لأنه قد يجوز أن يعفو عنها شركاؤها فصار فيها كالمنفرد بها، فإذا قدم الثاني أخذ النصف لأنه واحد من اثنين - فإذا قدم الثاني أخذ الثلث، لأنه واحد من ثلاثة، فإذا قدم الرابع، أخذ الربع لأنه واحد من أربعة. قال الشافعي: "فإن ترك أكثر من خمسين ابنًا حلف كل واحد منهم يمينًا يجبر عليه كسر اليمين"، وهذا صحيح، لأن اليمين لا تتبعض، فلذلك جبرنا كسرها، كما يجبر كسر الطلاق، والإقرار، الله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ومن مات من الورثة قبل أن يقسم قام ورثته مقامه بقدر مواريثهم". قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا مات واحد من مستحقي القسامة مثل أن يموت واحد من اثنين، ويخلف بعد موته ابنين فله قبل موته ثلاثة أحوال: أحدها: أن يموت بعد قسامته فقد ملك حقه من الدية بأيمانه، فينقل ذلك إلى ورثته من غير قسامة فإن قيل: إذا لم تجعلوا لبعض الورثة أن يملك حقه من الدية بيمين غيره فلم جعلتم لأولاد هذا الميت أن يملكوا ذلك بأيمان أبيهم؟ قيل لأنهم ملكوه عن أبيهم فجاز أن ينتقل إليهم بأيمانه، وليس يملك الأخ عن أخيه، فلم يجز أن يملك بأيمان أخيه. والثانية: أن يموت بعد نكوله عن الأيمان، فليس لورثته أن يقسموا لأن حقه في الأيمان قد سقط بنكوله عنها، فصار مستهلكًا لها في حقوق ورثته. وإذا سقط حقهم من القسامة كان لهم إحلاف المدعي عليه بأيمان القسامة، لأن نكول المدعي عن أيمان القسامة يوجب نقلها إلى المدعي عليه في حق المدعي، فوجب أن تنتقل عنه بموته إلى ورثته وإن سقطت حقوقهم من أيمان قسامته. والثالثة: أن يموت قبل الأيمان من غير نكول عنها، فينقل الحق فيها إلى ورثته، لقيامهم مقامه في حقه بعد موته، فعلى هذا إذا مات وحصته من أيمان القسامة خمسة وعشرون يمينًا لأنه واحد من اثنين وقد مات عن ابنين، وجب أن يقسم أيمانه بينهما، فيقسم كل واحد منهما نصفها ثلاثة عشر يمينًا، بعد جبر كسرها ثم على هذا القياس، إن

باب ما يسقط القسامة من الاختلاف أو لا يسقطها

مات وارث المقتول وترك وارثًا. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو لم يتم القسامة حتى مات ابتدأ وارثه القسامة". قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا حلف الوارث بعض أيمان قسامته فلم يكملها حتى مات؟ لم يجز لوارثه أن يبني عليها، واستأنف أيمان القسامة بعد موته، ولم يكن لما تقدم من الأيمان تأثير، لأن الباقي منها وإن قل يمنع من استحقاق الدية حتى يستوفي فلو بني الوارث عليها، لصار الموروث نائبًا فيها، وذك ذكرنا أنه لها نيابة في الأيمان، ولكن لو أقام الوارث قبل موته من البينة شاهدًا واحدًا جاز لوارثه أن يبني على بينته، فيقم شاهدًا آخر، وتكمل البينة، لما ذكرنا من الفرق بين الأيمان والبينة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو غلب على عقله ثم أفاق بني لأنه حلف لجميعها". قال في الحاوي: الأولى في أيمان القسامة أن توالي ولا تفرق، لأنها موضوعة للزجر والتغليظ، وهي في الموالاة أغلظ وأزجر، فإن فرقت كده تفريقها، وأجزأت سواء طال التفريق أو قصر، وسواء قل التفريق أو كثر لأنه قد صار حالفًا بجميعها، فعلى هذا لو جن أو أغمي عليه في تضاعيف أيمانه أمسك عن الأيمان في زمان جنونه وإغمائه، لأنه لا حكم لقوله، فلم يتعلق بيمينه حكم، فإذا أفاق من جنونه أو إغمائه بني على ما تقدم من أيمانه قبل الجنون والإغماء، لما ذكرنا من أن تفرقة الأيمان لها تمنع من إجزائها ولا يبطل ما تقدم منها لحدوف الجنون وإن بطلت به العقود الجائزة من الشرك والوكلات لأن الأيمان لا يتوجه إليها فسخ وإن توجه إلى العقود فسخ، والله أعلم. باب ما يسقط القسامة من الاختلاف أو لا يسقطها مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو ادعى أحد الابنين على رجلٍ من أهل هذه المحلة أنه قتل أباه وحده وقال الآخر وهو عدل ما قتله بأنه كان في الوقت الذي قتل فيه ببلدٍ لا يمكن أن يصل إليه في ذلك الوقت ففيها قولان: أحدهما أن للمدعي أن يقسم خمسين يمينًا ويستحق نصف الدية، والثاني: أن ليس له أن يقسم على رجلٍ يبرئه وارثه قال المزني: قياس قوله أن من أثبت السبب الذي به القسامة حلف ولم يمنعه من

ذلك إنكار الآخر كما لو أقام أحدهما شاهدًا لأبيهما بدينٍ وأنكر الآخر ما ادعاه أخوه وأكذبه أن للمدعي مع الشاهد اليمين ويستحق كذلك للمدعي مع السبب القسامة ويستحق فالسبب والشاهد بمعنى واحدٍ في قوله لأنه يوجب مع كل واحدٍ اليمين والاستحقاق إلا أن في الدم خمسين يمينًا في غيره يمينٌ". قال في الحاوي: وصورتها: في قتيل وجد في قبيلة عن لوث ظهر في قتله فادعى أحد بينة قتله على رجل من أهل القبيلة فله ذلك، لأن وجود اللوث فيها يجوز دعوى قتله على جميعهم، إذا أمكن اشتراكهم فيه وعلى أحدهم فإذا خص بالدعوى أحدهم سمعت، وكان اللوث متوجهًا إليه، إذا خص بالدعوى وحده ثم إن أخاه المشارك له في دم أبيه أكذبه في دعواه، وقال ما قتل هذا أبانا، ولا حضر قتله، وكان غائبًا وقت قتله في بلد آخر، فيكون هذا تكذيبًا، سواء كان المكذب عدلًا أو غير عدل. وإنما شرط الشافعي رحمه الله فيه العدالة ليصح أن يشهد مع غيره يمينه المدعي عليه فيبرأ من الدعوى ولم يجعل عدالته شرطًا في صحة التكذيب، فأما إن لم يقل وكان في بلد آخر فقد اختلف أصحابنا هل يكون ذلك تكذيبًا صحيحًا أم لا؟ على وجهين: أحدهما: وهو ظاهر قول أبي إسحاق المروزي يكون تكذيبًا صحيحًا، وإنما ذكره الشافعي تأكيدًا في التكذيب ولم يجعله شرطًا فيه. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه شرط في التكذيب لا يصح إلا به، فإن لم يقل وكان غائبًا، ولم يكن تكذيبًا صحيحًا، لأنه نفى ما أثبته أخوه، والنفي لا يعارض الإثبات. فإذا أصبح التكذيب على ما ذكرنا، فهل يكون التكذيب مبطلًا للوث ومانعًا من القسامة أم لا؟ على قولين: أحدهما: اختيار المزني أنه لا يبطل اللوث من القسامة، لأن ما استحقه أحدهما بيمينه لا يبطل بتكذيب الآخر كالحكم بيمينه مع الشاهد. والثاني: وهو اختيار أبي إسحاق المروزي أنه يبطل اللوث ويمنع القسامة، لأن اللوث سبب ضعيف يقتضي غلبة الظن، فإذا تعارض فيه التكذيب أوهاه، وإذا أوها بطل وخالف اليمين مع الشاهد، لأنها نص، واللوث استدلال، يجوز أن يبطل بالتكذيب ولا يبطل به النص. فصل: فإذا تقرر توجيه القولين: فإن قيل بالأول إن اللوث لا يبطل، جاز للمدعي أن يقسم خمسين يمينًا قولًا واحدًا، ويأخذ الدية، لأنه لا يستحق غيره ولم يكن للأخ المكذب أن يقسم، فإن ادعى قتله على آخر، أقسم عليه ويأخذ منه نصف الدية، لأن التكذيب إذا لم يبطل اللوث في حق أحدهما لم يبطله في حقهما. وإن قيل: بالقول الثاني

إن اللوث قد بطل، سقطت القسامة وانتقلت الأيمان إلى المدعي عليه وفي قدر ما يحلف به قولان كالدعوى في غير لوث، فإذا حلف برئ وإن نكل ردت اليمين على المدعي، فإذا حلف فلا قود له، وإن كان القتل عمدًا فله نصف الدية، في تكذيب أخيه أبرأ منه، ولو ادعى المكذب قتله على آخر، منع من القسامة لأن التكذيب إذا أبطل اللوث في حق أحدهما أبطله في حقهما. فصل: ويتفرق على ما قدمناه من حكم التكذيب: أن يدعي أحد الابنين مع اللوث قتله على واحد بعينه، ويدعي الآخر قتله عليه وعلي آخر معه فيكون الأخ الثاني مكذبًا للأخ الأول في نصف دعواه على القاتل الثاني ويصير الأخ الأول مكذبًا للأخ الثاني في جميع دعواه على القاتل الأول وعلى القاتل الثاني فإن قيل: إن اللوث لا يبطل بالتكذيب أقسم الأخ الأول على القاتل الأول دون الثاني واستحق عليه نصف الدية، وأقسم الأخ الثاني على القاتل الأول وعلى القاتل الثاني واستحق على كل واحد منهما ربع الدية. وإن قيل: إن اللوث يبطل بالتكاذب، أقسم الأخ الأول على القاتل الأول، وأخذ منه ربع الدية؛ لأنه مكذب في نصف الدعوى ومصدق في نصفها وأقسم الأخ الثاني على القاتل الأول وأخذ منه ربع الدية، ولم يكن لهذا الأخ الثاني أن يقسم على القاتل الثاني؛ لأنه مكذب في جميع الدعوى عليه، وما بطلت فيه القسامة ردت فيه اليمين على المدعي عليه، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولكن لو قال أحدهما قتل أبي عبد الله بن خالد ورجل لا أعرفه وقال الآخر قتل أبي زيد بن عامرٍ ورجلٌ لا أعرفه فهذا خلافٌ لما مضى لأنه قد يجوز أن يكون الذي جهله أحدهما هو الذي عرفه الآخر فلا يسقط حق واحدٍ منهما في القسامة". قال في الحاوي: وهذا كما قال: إذا اتفق الأخوان في دعوى القتل على اثنين، فقال: أحدهما قتله عبد الله بن خالد ورجل آخر لا أعرفه، وقال الآخر قتله زيد بن عامر ورجل آخر لا أعرفه، فليس في هذه الدعوى تكاذب، ولا يبطل اللوث بهذا الاختلاف ولا يمنع من القسامة، لأن من عرف عبد الله بن خالد، قد يجوز أن لا يعرف زيد بن عامر ولا من عرف زيد بن عامر قد يجوز أن لا يعرف عبد الله بن خالد فلم يكن في جهل كل واحد منهما بمن عرفه الآخر تكذيب للآخر، فيجوز أن يقسم كل واحد منهما على من عرفه، ويأخذ منه ربع الدية، لأن ما على كل واحد من القاتلين مستحق للأخوين، فكان

ما نكل واحد من الأخوين على كل واحد من القاتلين ربع الدية، ويحلف كل واحد من الأخوين خمسين يمينًا قولًا واحدًا، لأنهما قد افترقا في الدعوى، فلم يجتمعا على الأيمان والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو قال الأول قد عرفت زيدًا وليس بالذي قتل مع عبد الله وقال الآخر قد عرفت عبد الله وليس بالذي قتل مع زيدٍ ففيها قولان أحدهما أن يكون لكل واحدٍ القسامة على الذي ادعى عليه ويأخذ حصته مع الدية، والقول الثاني أنه ليس لواحدٍ منهما أن يقسم حتى تجتمع دعواهما على واحدٍ. قال المزني: قد قطع بالقول الأول في الباب الذي قبل هذا وهو أقيس على أصله لأن الشريكين عنده في الدم يحلفان مع السبب كالشريكين عنده في المال يحلفان مع الشاهد فإذا أكذب أحد الشريكين صاحبه في الحق حلف صاحبه مع الشاهد واستحق وكذلك إذا أكذب أحد الشريكين صاحبه في الدم حلف صاحبه مع السبب واستحق". قال في الحاوي: وهذا القول منهما تكاذب، لأن كل واحد منهما قد نفى ما أثبته الآخر وإذا كان كذلك لم يخل حال هذا التكاذب من أن يكون قبل القسامة أو بعدها، فإن كان قبل القسامة، ففي إبطال اللوث به قولان: على ما مضى، وإن كان بعد القسامة والحكم بالدية لم يقدح في اللوث ولم ينقض به ما تقدم الحكم، ويعكس هذا، لو قال كل واحد منهما قد عرفت الآخر وهو الذي قد عرفه أخي لجهلي به من قبل ومعرفتي له من بعد صار ذلك اتفاقًا منهما على القاتلين، لأنه قد تعرف من جهل فجاز لهما أن يشتركا في القسامة عليها ويأخذا من كل واحد منهما نص الدية بينهما. مسالة: قال الشافعي رحمه الله: "ومتى قامت البينة بما يمنع إمكان السبب أو بإقرارٍ وقد أخذت الدية بالقسامة ردت الدية". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا أقسم الولي مع ظهور اللوث على رجل بعينه وقضى عليه بالدية بعد القسامة ثم ظهر بعدها ما يمنع من الحكم بها فهو على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون من شهود عدول فيشهد شاهدان أن هذا المدعي عليه القتل كان في وقت القتل غائبًا في بلد آخر، أو كان محبوسًا لا يصل إلى قتله، أو صريعًا من مرض لا ينهض مع إلى حركة أو يشهدان أن القتيل الموجود في محلته نقل إليها بعد القتل من محلة إلى محلة أخرى، فهذا كله مبطل للوث وموجب لنقض الحكم بالقسامة.

وهكذا: لو شهدا أن المنفرد بالقتل كان رجلًا آخرًا، بطلت القسامة ولم يحكم بالقتل على الثاني لشهادتهما قبل الدعوى عليه، فإن أعادا الشهادة بعد الدعوى لم تسمع لأن المدعي مكذب لهما بدعواه على الأول، وإذ بطلت القسامة بهذه الشهادة انقسمت في إبطال الدعوى ثلاثة أقسام: أحدها: ما يبطل به الدعوى كما بطلت به القسامة وهو الشهادة بأنه كان غائبًا، أو محبوسًا، لاستحالتها مع صحة الشهادة. والثاني: ما لا يبطل به الدعوى، وإن بطلت به القسامة، وهو الشهادة بأنه نقل من محلة إلى أخرى، لاحتمال أن يقتله في غير محلته. والثالث: ما يبطل به نصف الدعوى وإن بطل به جميع القسامة، وهو الشهادة بأن المنفرد بقتله رجل آخر، لأن إثبات القتل على الثاني بالشهادة مانع من أن يكون الأول منفردًا بقتله، ولا يمنع من أن يكون شريكًا فيه لأنه يجوز أن يكون جرحه من قبل الثاني، فلم يره الشهود، فلم يمتنع أن يكون شريكًا، وإن امتنع أن يكون منفردًا لذلك بطل نصف الدعوى، ولم يبطل نصفها، فهذا حكم الشهادة في إبطال اللوث وإبطال الدعوى والله أعلم. فصل: والثاني: أن يخبر بإبطال اللوث بالأسباب المتقدمة من لا يقبل شهادته، فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون أخبار آخاد يحتمل التواطئ، فلا تبطل بها القسامة والحكم فيها على نفوذه لأنه لما لم يثبت بهذا الخبر ابتداء اللوث، لم يبطل ما ثبت من اللوث. والثاني: أن تكون أخبارًا منتشرة ينتفي عنها حد التواطئ ولا تبلغ حد الاستفاضة، فيبطل بها اللوث، وينقضي الحكم بالقسامة، لأنه لما ثبت بها ابتداء اللوث جاز أن يبطل بها ما تقدم من اللوث، ولم تبطل بها الدعوى في جميع الأسباب بخلاف الشهادة، لأن الشهادة توجب الحكم في الابتداء فجاز أن يبطل بها الدعوى، وهذا الخبر لا يوجب الحكم في الابتداء فلم تبطل به الدعوى، وصارت الدعوى متجردة عن لوث فكان القول فيهما قول المدعي عليه مع يمينه، وفي أيمانه قولان: على ما مضى: أحدهما: خمسين يمينًا. والثاني: يمينًا واحدة، فإن حلف برئ وإن نكل ردت على المدعي، ولا يجزئه ما تقدم من أيمانه في القسامة لتقدمها على استحقاقها، فإما إن أقر رجل أنه هو القاتل دون هذا المدعي عليه لم تبطل به القسامة، لأنه ليس بشاهد، ولا يحكم عليه بالقتل لأنه أقر لغير مطالب، وفي سماع الدعوى عليه قولان: أحدهما: لا تسمع الدعوى عليه لإكذابهما بالدعوى على الأول، لكن يصير تجديد

الدعوى عليه مبطلًا للقسامة مع الأول. والثاني: تسمع الدعوى على الثاني، لأن الدعوى في القسامة على الأول كانت بغلبة الظن، وإقرار الثاني يقين، فلم يسقط حكم اليقين بغلبة الظن، ولو أقر بالقتل وقامت البينة أنه كان وقت القتل غائبًا لم تسمع البينة، لأنه أكذبها بإقراره والله أعلم. فصل: والثالث: أن يقر المدعي بعد قسامته بما يمنع منها وهو على ثلاثة أقسام: أحدها: ما يبطل به قسامته ودعواه وهو أن يقر بأنه كذب في دعواه، أو يقول قتل أبي غيره، أو يقر أنه كان غائبًا عند القتل في بلد آخر، كان محبوسًا، فيكون هذا وما أشبهه مبطلًا لقسامته ودعواه، فإن عاد فادعى قتل أبيه على غيره لم تسمع دعواه لتكذيبها بالدعوى الأولى. والثاني: ما يبطل قسامته ولا يبطل دعواه - وهو أن يقر بأن المقتول نقل إلى محلته بعد القتل، فتبطل به قسامته لاعترافه ببطلان اللوث، ولا تبطل به الدعوى لاحتمال أن يكون قد قتله في غير محلته، فتصير الدعوى متجردة عن لوث، فيكون القول فيها قول المدعى عليه مع يمينه، فإن حلف برئ، وإن نكل ردت اليمين على المدعي واستأنف اليمين ولم يجزه بما تقدم من أيمان القسامة. والثالث: ما يرجع فيه إلى إرادته، لاحتماله ويعمل فيه على بيانه، وهو أن يقر بأن ما أخذه بالقسامة ظلم أو حرام وهذا محتمل أن يريد به أن الحكم بالقسامة على رأي أهل العراق، ويحتمل أن يريد به أن الحكم بالدية القود ظلم على مذهب مالك حين أوجب القود بالقسامة ويحتمل أن يريد به أن دعوى اللوث كاذبة، ويحتمل أن يريد به أن دعوى القتل دعوى كاذبة، فلهذه الاحتمالات المتعارضة ما وجب أن يرجع إلى إرادته ويعمل فيه على بيانه وينقسم بيانه ثلاثة أقسام: أحدهما: ما لا تبطل به القسامة ولا الدعوى، وهو أن يريد أن الحكم بها ظلم على رأي أبي حنيفة، أو يقصد على مذهب مالك، فلا تبطل قسامته، ولا يسترد ما أخذه، لأن نفوذ الحكم يكون باجتهاد الحاكم لا باجتهاد المدعي لكن فيما بينه وبين الله تعالى أنه لا تحل له الدية، إذا اعتقد أنه لا يستحقها وإن لم تسترجع منه. والثاني: ما تبطل به القسامة وتبطل به الدعوى، وهو أن يقر بالكذب فيها أو أن المدعي عليه كان غائبًا عن بلد القتيل، أو يدعي أن المنفرد بقتل أبيه غيره فتبطل قسامته ودعواه في هذا كله، ويصير المدعي عليه بريئًًا من الدعوى، وعليه رد ما أخذ منه بالقسامة، ولا تسمع دعواه على غيره لإكذابها بالدعوى الأولى، فتصير باطلة في عموم الناس كلهم ولا تسمع بينة فيه ويصير دم أبيه هدرًا. والثالث: ما تبطل به القسامة ولا تبطل به الدعوى، وهو أن يقر أن قتيله قتل في

باب كيف يمين مدعي الدم والمدعي عليه

غير (محلة) هذا المدعي عليه فتبطل القسامة لبطلان اللوث فيها بإقراره ولا تبطل الدعوى لاحتمال أن يكون قد قتله في غير محلته، والقول فيما بينه بإرادته مما لا تبطل به القسامة، أو لا تبطل به الدعوى قوله مع يمينه وهي يمين واحدة، لأنها ليست في دم وإنما هي في شأن كلام محتمل والله أعلم. باب كيف يمين مدعي الدم والمدعي عليه مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا وجبت لرجلٍ قسامةٌ حلف بالله الذي لا إله إلا هو عالم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور لقد قتل فلانٌ فلانًا منفردًا بقتله ما شاركه في قتله غيره وإن ادعى على آخر معه حلف لقتل فلانٍ وآخر معه فلانًا منفردًا بقتله ما شاركهما فيه غيرهما". قال في الحاوي: وهذا صحيح، وإذا كان من شرط الدعوى أن تكون مفسرة، ينتفي عنها الاحتمال وجب أن يكون اليمين عليها مطابقة لها في استيفاء شروطها ونفي الاحتمال. وذلك بخمسة أشياء وهي شروط في كمال يمينه ووجوب الحكم بها، ذكر المزني منها أربعة وأغفل الخامس، وقد ذكره الشافعي، في كتاب الأم. أحدها: صفة اليمين. والثاني: تعيين القاتل. والثالث: تعيين المقتول. والرابع: ذكر الانفراد بقتل، أو الاشتراك فيه. والخامس: وهو الذي أغفله المزني صفة القتل من عمد وخطأ. فأما اليمين فلا تصح إلا بأحد ثلاثة أشياء: إما بالله تعالى أو باسم من أسمائه وإما بصفة من صفات ذاته، ولا تصح بصفات أفعاله لأنها مخلوقة، وصفات ذاته قديمة، واليمين بالمخلوقات لا تصح، وإن كانت معظمة فيمينه بالله تعالى أن يقول والله أو بالله، أو تالله فيضم إليه حرف القسم به وهو أحد ثلاثة حروف الواو - والباء - والتاء - ودخول حرف القسم عليه يقتضي أن يكون إعرابه مجرورًا فيقول: والله بالكسر فإن جعله مرفوعًا فقال: والله بالضم، أو جعله منصوبًا فقال: والله بالفتح. قال الشافعي في كتاب "الأم": أجزأه لأنه لحن لا يزيل المعنى ولم يفرق، وفرق بعض أصحابه بين من كان من أهل العربية والإعراب في كلامه وبين من لم يكن منهم فجعلها ممن ليس من أهل العربية يمينًا، لأنهم لا يفرقون بين اللحن والإعراب،

ويتكلمون بهما على السواء. ولم يجعلها فيمن كان من أهل العربية يمينًا لأنهم يفرقون بين اللحن والإعراب، ولا يتلفظون بالكلمة إلا على موضعها في اللغة، فلا يجعلون ما خرج عن إعراب القسم قسمًا. فأما إن حذف حرف القسم من ذكر الله لم يكن على الظاهر من مذهب الشافعي يمينًا في عموم الناس كلهم سواء ذكر الاسم مرفوعًا أو مجرورًا أو منصوبًا وعلى قول من فرق بين أهل العربية وغيرهم من أصحابه فجعلها بالنصب في أهل العربية يمينًا لأنهم إذا حذفوا حرف الجر نصبوا فصار النصب عوضًا من حرف القسم فصارت فيهم يمينًا دون غيرهم فأما غير ذلك من أسماء الله تعالى فينقسم قسمين: أحدهما: ما كان على اختصاصه بأسماء الله التي لا يشاركه المخلوقون فيها كالرحمن فيمينه به كيمينه بالله. والثاني: ما كان مشتركًا بين الله تعالى وعباده كالرحيم: فلا يصح يمينه بانفراده حتى يضاف إلى صفة لا يشاركه المخلوقون فيها. وأما يمينه بصفات ذاته فكقوله وقدرة الله وعظمة الله وعزة الله فيكون يمينًا لأنها قديمة مع قدمه فأما صفات أفعاله فكقوله: وخلق الله، ورزق الله فلا يكون يمينًا لحدوثها فصار كيمينه بالمخلوقات التي لا يلزم القسم بها فإذا صح ما يقسم به من ذكر الله وأسمائه المختصة به وصفات ذاته دون صفات أفعاله، فالأولى بالحاكم أن يضم إلى اسمه في اليمين من صفاته ما يكون أغلظ لليمين وأرهب للحالف. وقد ذكره الشافعي رحمه الله تعالى فقال: يحلف بالله الذي لا إله إلا هو، وهو أولى من قول لا إله غيره لأن في الأول إثبات لإلهيته ونفيًا لإلهية غيره. والثاني: مقصور على نفي إلهية غيره ثم أكد بعد ذلك بقوله، الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور وهذه صفة تختص بالله تعالى دون غيره، فإن ذكر الحالف ذلك في اليمين التي أحلف بها كان تأكيدًا لها وإن اقتصر في اليمين على اسمه فأحلفه: والله ولم يذكر من صفات التأكيد شيئًا، أجزأت اليمين، لأن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر في إحلاف ركانة بن عبد يزيد على اسم الله ولم يغلظها بالصفات، والله أعلم. فصل: وأما الشرط الثاني: وهو تعيين القاتل، فلأن الحق متعلق به والحكم متوجه عليه، فإن كان حاضرًا، بالاسم والإشارة فقال: بالله لقد قتل فلان ابن فلان هذا الحاضر ويشير إليه بيده فلانًا، فإن اقتصر على الإشارة دون الاسم مع الإشارة تأكيد وإن اقتصر على الاسم دون الإشارة أجزأ ذلك في الغائب إذا رفع نسبه بما يتميز به عن جميع الناس كلهم، لأنه لا يقدر على تعيين الغائب إلا بالاسم، وفي إجزائه في الحاضر وجهان محتملان:

أحدهما: يجوز أن يقتصر فيه على الاسم دون الإشارة. والثاني: لا يجزئه الاقتصار على الاسم حتى يضم إليه الإشارة لأن الإشارة أنفى للاحتمال وأبلغ من الأسماء التي تنتقل ويقع فيها الاشتراك، وإن جاز الاقتصار عليها مع الغيبة وترك الإشارة مع إمكانها يحدث من الشبهة المحتملة ما لا تحدث مع الغيبة. فصل: وأما الشرط الثالث: وهو تعيين المقتول، فلأن الدعوى فيه واستحقاق المطالبة عنه فإن كان باقيًا حاضرًا عين بالاسم والإشارة، فيقول: والله لقد قتل فلان هذا الحاضر، فلان ابن فلان هذا المقتول فإن اقتصر على تعيين المقتول بالإشارة دون الاسم أجزأ وإن اقتصر على تعيينه بالاسم دون الإشارة كان على ما قدمناه من الوجهين المحتملين. وإن كان المقتول غير موجود، جاز أن يقتصر على تعيينه بالاسم وحده لكن عليه مع هذا أن يرفع في نسبه ما لا يرفع فيه مع الإشارة حتى يستوفي نسبه وصفته وصناعته ما يتميز به ويمنع من مشاركة غيره. فصل: وأما الشرط الرابع: وهو ذكر انفراده بقتله أو مشاركة غيره فلأن قتل المنفرد مخالف لقتل المشارك في الدية، وإن كان مساويًا له في القود وإن قال: قتله وحده حلف بالله لقد قتله وحده منفردًا بقتله ما شاركه في قتله غيره واختلف أصحابنا في قول ما شاركه فيه غيره بعد قوله منفردًا بقتله هل هو تأكيد أو شرط واجب؟ على وجهين: أحدهما: أنه تأكيد فإن تركه في اليمين أجزأ، لأن انفراده به يمنع من مشاركة غيره فيه. والثاني: أنه شرط واجب لأنه قد ينفرد بقتله ويكون من غيره إكراه يلزمه به حكم القتل. فيصير منفردًا في الفعل ومشاركًا في الحكم، فلم يكف منه أن يقول منفردًا بقتله حتى يقول: ما شاركه فيه غيره لينفي بذلك أن يتعلق حكم القتل على مكره غير قاتل، وإن ادعى أنه شاركه غيره في القتل ذكر عدد الشركاء، فإن قال قتله هذا آخر فإن حضر الآخر أقسم عليهما وقال: والله لقد قتله فلان هذان منفردين بقتله وشركهما في قتله غيرهما وإن غاب الآخر عين الحاضر وجاز أن يسمى الغائب ولا يسميه، وأقسم عليه، فقال: لقد قتله هذا آخر معه منفردين بقتله. فصل: وأما الشرط الخامس: وهو صفة القتل من عمد أو خطأ، فلما بين العمد والخطأ من اختلاف الديتين وحكم القود، فإن كان عمد قال: لقد قتله عمدًا، وإن كان خطأ،

قال: لقد قتله خطأ فيذكر الخطأ كما يذكر العمد إن كان أضعفهما حكمًا لأن دية العمد في ماله ودية الخطأ على عاقلته، فوجب أن يذكر كل واحد منهما، لاختلاف محلهما ولا يلزمه أن يصف في يمينه العمد ولا الخطأ، إذا كان وصفهما في الدعوى لأن يمين الحالف على مذهب الشافعي محمول على نية المستحلف دون الحالف فصارت متوجهة إلى الصفة التي أحلفه الحاكم عليها. فإن قيل: فإذا كان محمولًا في صفة القتل على ما تضمنته الدعوى اعتبارًا بينة الحاكم المستحلف، فهلًا كان فيما عداها من الشروط المذكورة في هذه، اليمين لا يلزم ذكرها ويحمل على نية المستحلف قيل: لأن صفة القتل مراد لزوال الاشتباه وما عداها مراد الاستحقاق بها والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن ادعى الجاني أنه برأ من الجراح زاد وما برأ من جراحة فلانٍ حتى مات منها". قال في الحاوي: وصورتها في مجروح مات مع لوث في جراحته، فأراد الولي أن يقسم، فذكر المدعي عليه أن المجروح مات من غير الجراحة التي كانت به فينظر، فإن مات عقيب الجراحة، فالظاهر أنه مات منها فلا يؤثر ما ذكره المدعي عليه، فإن لم يبرأ حتى زمان موته بعد الجراحة فهذا على ثلاثة أضرب: أحدها: أن تكون الجراحة قد اندملت فيسقط حكم القسامة فيها لاستقرار حكمها بالاندمال وبطلت سرايتها إلى النفس وليس فيما دون النفس قسامة. والثاني: أن يكون دمها جاريًا لم تندمل فهذا محتمل أن يكون الموت ومحتمل أن يكون من غيرها فيزيد الحالف من أيمان قسامته أنه مات من جراحته فإن أقسم على اثنين قال: في يمينه، وأنه ما مات من غير جراحتها ولم يقل: أنه مات من جرحهما لأنه قد يجوز أن يموت من جرح أحدهما وإن أجرى الشرع حكم القتل عليهما. والثالث: أن يختلفا في الاندمال فيدعيه الجاني وينكره المدعي فلو كان في غير القسامة لكان القول في قول الجاني فأما في القسامة، ففيه وجهان: أحدهما: وهو الظاهر من قول أبي إسحاق المروزي أن القول قول الجاني مع يمينه، كما يكون القول قوله في غير القسامة حتي يقيم المدعي البينة ببقاء الجرح سائل الدم غير مندمل ثم يقسم. والثاني: وهو الظاهر من قول أبي علي بن أبي هريرة أن القول فيه قول المدعي بخلافه في غير القسامة، لأنه لما خالفت القسامة غيرها في قبول قول المدعي في القتل

خالفته في قبول قوله به في سراية الجراح فيقسم على ذلك ويزيد في يمينه أنه مات من جراحته، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا حلف المُدعي عليه حلف كذلك ما قتل فُلانًا ولا أعان على قتله ولا ناله من فعله ولا بسبب فعله شيءٌ جرحه ولا وصل إلى شيءٍ من بدنه لأنه قد يرمي فيُصيب شيئًا فيطير الذي أصابه فيقتله ولا أحدث شيئًا مات منه فلانٌ لأنه قد يحفر البئر ويضع الحجر فيموت منه". قال في الحاوي: ذكر الشافعي رضي الله عنه بعد يمين المدعي في القسامة يمين المدعي في القسامة يمين المدعي عليه في القسامة وغير فذكر في يمينه ستة شروط: أحدها: ما قتل فلان لأنه أصل الدعوى ويشتمل قوله ما قتل على التوجيه بالذبح وعلى سراية الجرح فلم يحتج إلى الجمع بينهما ولو جمع كان أحوط. والثاني: أن يقول ولا أعان على قتله يريد بذلك الشركة في القتل والإكراه عليه - وقال ابن أبي هريرة إنما أرادبه الممسك في القتل هو قاتل على مذهب مالك، وإن لم يكن قاتلًا على مذهب الشافعي فذكره في يمينه احتياطًا فيكون هذا الشرط على قول ابن أبي هريرة مستحب وعلى قوله غيره واجبًا. والثالث: أن يقول: ولا ناله من فعله واختلف أصحابنا في مراده لهذا على وجهين: أحدهما: وهو قول البصريين - أن المراد به سراية الجرح. والثاني: وهو قول البغداديين أن المراد به وصول السهم عن القوس وهو على كلا الوجهين شرط واجب وتكون في قتل العمد. والرابع: أن يقول ولا ناله بسبب فعله شيء- اختلف أصحابنا في مراده بهذا على وجهين: أحدهما: وهو قول البصريين - أن المراد به سقي السم، فعلى هذا يكون شرطًا رابعًا في قتل العمد. والثاني: وهو قول البغداديين - أن المراد به أن يرمي حائطًا بسهم أو حجر فيعود السهم أو الحجر على رجل فيقتله، فعلى هذا يكون شرطًا في قتل الخطأ دون العمد. والخامس: أن يقول ولا وصل إليه شيء من بدنه وقد فسر الشافعي ما معناه: أن يرمي حجرًا فيصيب حجرًا فينقطع الثاني فيقع على ذلك فيقتله وهذا شرط في الخطأ دون العمد.

السادس: أن يقول ولا أحدث شيئًا مات منه وقد فسره الشافعي بحفر البئر ووضع الحجر في غيره ملكه فيلزمه ضمان من مات منه وهذا شرط في قتل الخطأ دون العمد، فتكون هذه الشروط الستة، يلزم منها في قتل العمد ما اختص به وفي قتل الخطأ ما اختص به وهي غاية الشروط التي يحتاط بها في الأيمان، فإن قيل يجب أن تكون يمين المدعي عليه إذا أنكر موافقة لدعوى المدعي إذا فسر فلم يحتج في يمين إنكاره إلى زيادة على ما ذكره المدعي في تفسيره وإنما يحتاج إلى ذلك في الدعوى المطلقة دون المفسرة وهو لا يرى سماعها إلا مفسرة فاختلف أصحابنا في الجواب عن هذا على ثلاثة أوجه: أحدها: أن هذا من قوله دليل على جواز السماع للدعوى مطلقة غير مفسرة وجعلوا ذلك قولًا ثانيًا للشافعي فخرجوا سماع الدعوى مطلقة في الدم على قولين بعد اتفاقهم أنها لا تسمع في القسامة إلا مفسرة لاحتياج المدعي إلى الحلف عليها وإنما أخرجوه فيما عدا القسامة ولو فسرت الدعوى لما تجاوز المدعي بيمينه ما تضمنته الدعوى. والثاني: أن الشافعي شرط ذلك في الدعوى المفسرة في الدماء خاصة، لأن دعوى الدم حق المقتول فإن انتقل إلى دليل استظهر الزائد على ما ادعاه وليه. وهو لا يرى سماعها مطلقة وشرط في اليمين الزيادة على ما تضمنته الدعوى على ما ادعاه وليه. والثالث: أنه شرط ذلك في حق طفل أو غائب إذا ادعى له القتل ولي أو وكيل فيلزم الحاكم أن يستظهر في اليمين له على ما ادعاه وليه أو وكيله، ولو كانت الدعوى لحاضر جائز الأمر لم يستظهر له الحاكم بذلك بالبينة إذا قامت بدين على طفل أو غائب. واستظهر الحاكم بإحلاف صاحب الدين أنه ما قبضه ولا شيئًا منه، ولو قامت على حاصر جائز الأمر لم يحلف صاحب الدين على ذلك إلى أن يدعيه الحاضر. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو لم يزده السلطان على حلفه بالله أجزأه لأن الله تعالى جعل بين المتلاعنين الأيمان بالله". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن تغليظ اليمين بما يضاف إلي اسم الله تعالى من صفاته التي ينفرد بها وتعظم في النفوس التلفظ بها مأمور به، ومندوب إليه لأمرين: أحدهما: لتباين ما قد ألفه الإنسان من أيمانه بالله في أثناء كلامه فيكون أزجر وأردع. والثاني: لينتقي بها تأويل ذوي الشبهات، فإن حذفها الحاكم واقتصر على إحلافه بالله أجزأه وحذفها في أهل الديانة أيسر من حذفها في ذوي الشبهات وإن كان جواز حذفها في الفريقين على سواء لقول الله تعالى: {فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ} [المائدة: 106]، وقوله:

باب دعوى الدم في الموضع الذي فيه قسامة

{فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} [النور:6] وأحلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن مسعود في قتله لأبي جهل بالله أنك قتلته وأحلف ركانة في طلاق امرأته وبالله التوفيق. باب دعوى الدم في الموضع الذي فيه قسامة مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا وجد قتيلٌ في محلة قومٍ يُخالطهم غيرهم أو في صحراء أو مسجدٍ أو سوقٍ فلا قسامة". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن وجود القتيل في محلة لا يوجب القسامة على أهلها أو بعضهم إلا بشرطين: أحدهما: أن تكن مختصة بأهلها مثل خيبر لا يختلط بهم غيرهم ولا يشركهم فيها سواهم، فيجوز أن يقسم على من ادعى عليه قتله منهم سواء قلوا أو كثروا إذا أمكن أن يشتركوا في قتل الواحد، فإن لم يكن أن يشتركوا فيه منع من القسامة على جميعهم. وقيل له: خص بالدعوى من شئت منهم، ثم أقسم، فأما إن كانت المحلة مشتركة بين أهلها وغيرهم تطرقها المارة وتدخلها السابلة فلا قسامة فيها على أحد من أهلها ولا من غير أهلها. فلو كانت قرية يدخلها غير أهلها عند ورود القوافل ولا يدخلها غيرهم إذا انقطعت القوافل عنهم جازت القسامة عليهم عند انقطاع القوافل، ولم تجب القسامة مع ورود القوافل فهذا شرط. والثاني: ظهور العداوة بين القتيل وأهل المحلة أو القرية أو ظهور العداوة بين أهل القتيل وأهل القرية، فتجوز القسامة مع ظهور العداوة، ولا تجوز مع ارتفاع العداوة فإن اصطلحوا بعد العداوة ثم وجد القتيل فيهم نظر حال الصلح فإن تظاهروا بالحسنى بعد الصلح فلا قسامة وإن لم يتظاهروا بالصلح أقسمن كالشاهد إذا صالح عدوه ثم شهد عليه قبلت شهادته بعد الصلح إذا رأى ما بينهما حسنًا ولا تقبل إن لم ير ما بينهما حسنًا. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن ادعى وليه على أهل المحلة لم يحلف إلا من أثبتوه وإن كانوا ألفًا فيحلفون يمينًا يمينًا لأنهم يزيدون على خمسين فإن لم يبق منهم إلا واحدٌ حلف خمسين يمينًا وبرئ فإن نكلوا حلف ولاة الدم خمسين يمينًا واستحقوا الدية في أموالهم إن كان عمدًا وعلى عواقلهم في ثلاث سنين إن كان خطأً قال فوي ديات العمد على قدر حصصهم".

قال في الحاوي: قد مضى الكلام في شروط القسامة: فأما دعوى الدماء في غير القسامة فمعتبرة بشرطين: أحدهما: أن تكون على معين، فإن لم يعين القاتل وادعى قتله على قوم من أهل المحلة لم يسمع. والثاني: أن تعين على عدد يمكن اشتراكهم في القتل فإن عين على عدد لا يمكن اشتراكهم لم يسمع فإذا عينها على من يمكن اشتراكهم فيه حلفوا وبرئوا. وقال أبو حنيفة لا اعتبار بهذه الشروط، ويجوز أن يدعي قتله على غير معينين وعلى من لا يمكن اشتراكهم فيه فإذا ادعى قتله على قوم من أهل محلة أو قرية اختار منهم خمسين رجلًا وأحلفهم، فإذا حلفوا أوجب الدية على عواقلهم، فخالف أصول الشرع في خمسة أحكام: أحدها: سماع الدعوى على غير معين. والثاني: سماعها على من لا يصح منهم الاشتراك فيه. والثالث: أن جعل للمدعي اختيار خمسين ممن شاء منهم، وإن علم أنهم غير قتلة. والرابع: إحلافهم وإن علم صدقهم. والخامس: إلزامهم الدية بعد أيمانهم وكفى بمخالفة الأصول فيها دفعًا لقوله. وقد ذكرنا من الدليل على فساد كل أصل منها ما أقنع. فصل: فإذا ثبت ما ذكرنا وسمعت الدعوى على ما وصفنا، وكانت على جماعة ففي قدر ما يلزمهم من الأيمان ثلاثة أقاويل ذكرناها: أحدها: يحلف كل واحد منهم خمسين يمينًا ولو كانوا ألفًا. والثاني: يحلف جميعهم خمسين يمينًا تقسط على أعدادهم. والثالث: يحلف كل واحد منهم يمينًا واحدة ولو كان واحدًا وقد مضى توجيه هذه الأقاويل فإن قيل: فإذا جعل الشافعي إمكان اشتراكهم في القتل شرط سماع الدعوى عليهم، فكيف قال: يحلفون ولو كانوا ألفًا لا يصح اشتراك الألف في قتل الواحدة، قيل: لأن العدد الذي يمكن اشتراكه في القتل يختلف حسب اختلاف القتل، فإن كان ذبحًا أو قطعًا أو بضرب العتق لم يمكن أن يشترط فيه ألف ولا مائة ولا خمسون. وإن كان بجراح أمكن أن يشترك فيه مائة ومائتان وإن كان بالعصا أمكن أن يشترك فيه ألف فيضربه كل واحد منهم عصا، وكذلك لو رموه بالبذق أمكن أن يشترك فيه ألف فيرميه كل واحد منهم ببذقة فإن حمل كلام الشافعي على هذا كان ممكنًا وإن حمل على غيره كان مبالغة.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "والمحجور عليه وغيره سواءٌ لأن إقراره بالجناية يلزمه في ماله والجناية خلاف الشراء والبيع". قال في الحاوي: يريد المحجور عليه بالسفه وقد تقدم الكلام فيه والحكم فيه يشتمل على أربعة فصول: أحدهما: في الدعوى تسمع منه الدعوى في القتل كما تسمع من الرشيد لأن الحجر عليه موضوع لحفظ ماله ودعواه لما له سواء ادعى قتل عمد أو خطأ في قسامة وغير قسامة. والثاني: سماع الدعوى عليه فيسمعها في العمد وفي سماعها في الخطأ قولان: والثالث: إقراره بالقتل فإن كان بعمد صح إقراره فيه ووجبت الدية في ماله إن عفا عن القود فيه كان بخطأ محض ففي صحة إقراره به قولان على ما مضى. والرابع: إحلافه فتصبح أيمانه سواء حلف مدعيًا في القسامة، أو حلف منكر في غير القسامة، لما يتعلق بقوله من الأحكام بخلاف الصبي والمجنون. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وكذلك العبد إلا في إقراره بجنايةٍ لا قصاص فيها فإنه لا يُباع فيها لأن ذلك في مال غيره فمتى عتق لزمه. قال المزني: فكما لم يضر سيده إقراره بما يُوجب المال فكذلك لا يضر عاقلة الحر قوله بما يُوجب عليهم المال". قال في الحاوي: إذا كانت دعوى القتل على عبد، فهو على ضربين: أحدهما: أن تكون في عمد يوجب القود. والثاني: أن تكون في خطأ يوجب المال، فإن كانت في عمد يوجب القود، فهي مسموعة على العمد دون سيده، لأن إقرار العبد بها على نفسه مقبول، لارتفاع التهمة عنه وإقرار السيد على عبده غير مقبول. فإن اعترف العبد بها اقتص منه، فإن عفي عن القصاص بيع في جنايته، إلا أن يفديه سيده. وإن كانت دعوى القتل في خطأ يوجب المال، فيجوز سماعها على العبد وعلى سيده، أما العبد فلتعلقها إن أقر بذمته وأدائه لها بعد عتقه، وأما السيد فلأنها إن أقر مستحقه في رقبة عبده، وإذا كان كذلك، فإن سمعت على العبد، فأنكرها حلف وبرئ، وجاز أن يستأنف الدعوى على سيده بعد إنكار عبده ويمينه، فإن اعترف بها تعلقت برقبة عبده وإن أنكرها حلف برئ. وإن أقر بعدها تعلقت بذمته دون رقبته إلا أن يصدقه السيد عليها فتتعلق برقبته، إلا أن يفديه السيد منها ولو قدمت الدعوى على السيد. فإن اعترف

تعلقت برقبة عبده، إلا أن يفديه السيد منها. وسواء كان العبد فيها مقرًا أو منكرًا، وإن أنكرها السيد حلف وبرئ وجاز أن يستأنف الدعوى على العبد فإن أنكرها حلف وبرئ وإن اعترف بها تعلقت بذمته، يؤديها بعد عتقه ويساره فلو أنكرها العبد ونكل عن اليمين فيها فردت على المدعي وحلف ثبتت له الجناية بيمينه بعد النكول. وهل تتعلق برقبته أو بذمته؟ على قولين مبنين على اختلاف قوليه في يمين المدعي بعد نكول المدعي عليه هل تقوم مقام البينة أو مقام الإقرار؟ فإن قيل أنها تقوم مقام البينة تعلقت برقبته وإن قيل إنها تقوم مقام الإقرار تعلقت بذمته. فأما المزني فإنه قال: كما لا يضر سيده إقراره بما يوجب المال فكذلك لا يضر عاقلة الحر قوله هذا صحيح لأن العاقلة لا تتحمل الجاني كما لا يلزم السيد إقرار عبده، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ومن كان منهم سكران لم يحلف حتى يصحو. قال المزني: هذا يدل على إبطال السكران الذي لا يعقل ولا يُميز". قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا توجهت اليمين على سكران لم يحلف في حال سكره حتى يصحو، لأمرين: أحدهما: أنه ربما اشتبه عليه بالسكر ما لا يستحقه. والثاني: أن اليمين موضوعة للزجر، والسكران يقدم في سكره على ما يمتنع منه عند إفاقته. واختلف أصحابنا في هذا الامتناع من استحلافه هل هو مستحب أو واجب؟ على وجهين: أحدهما: أنه مستحب فإن أحلف في حال سكره أجزأ، لأننا نجري عليه في السكر أحكام المفيق. والثاني: أنه واجب وأن الاستحلاف في حال سكره لم يجزه، لما قدمناه من وضع اليمين للزجر وسكره يصد عن الانزجار. وأما المزني فإنه جعل منع الشافعي من استحلافه في السكر دليلًا على أن طلاق السكران لا يقع، فلم يلزمه حكم الشافعي بوقوع الطلاق وصحة ظهاره وثبوت ردته، ومنع من إحلافه واستتابته من ردته حتى يفيق، فاختلف أصحابنا في ذلك على وجهين: أحدهما: أنه يجري عليه في جميعها أحكام الصاحي فيما له وفيما عليه مما ضره أو نفعه، وهو الظاهر قول أبي إسحاق المروزي، ويحمل منعه من إحلافه واستتابته على

باب كفارة القتل

الاستحباب دون الوجوب، وأنه إن حلف وتاب صحت أيمانه وتوبته كالمفيق فعلى هذا لا دليل للمزني فيه. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة أنه يجري عليه أحكام الصاحي فيما عليه مما يضره ولا يجري عليه أحكام الصاحي فيما له مما ينفعه، لأن السكر معصية توجب التغليظ فاختص بلزوم أغلظ الحكمين وسقوط أخفهما فعلى هذا لا دليل للمزني فيه لأن وقوع الطلاق تغليظ وصحة الأيمان تخفيف، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وقد قيل لا يبرأ المدعي عليهم إلا بخمسين يمينًا كل واحدٍ منهم ولا يُحتسب لهم يمينٌ غيره وهكذا الدعوى فيما دون النفس وقيل يلزمه من الأيمان على قدر الدية في اليد خمسٌ وعشرون وفي الموضحة ثلاثة أيمانٍ. قال المزني رحمه الله: وقد قال في أول بابٍ من القسامة: ولا تجب القسامة في دون النفس وهذا عندي أولى بقول العلماء". قال في الحاوي: قد مضى تغليظ الأيمان في القسامة فأما تغليظها في غير القسامة من الدماء، فيه ثلاثة أقاويل: أحدهما: تغليظ في النفس وفيما دون النفس وإن لم يحكم فيها بالقسامة تغليظًا لحكم الدماء وفي كيفية تغليظها ما قدمناه من الأقاويل. والثاني: لا تغليظ في النفس ولا فيما دون النفس إذا سقطت القسامة اعتبارًا بسائر الدعاوي، والمستحق فيما يمين واحدة. والثالث: أنها مغلظة في النفس ولا تغلظ فيما دون النفس لاختصاص النفس بتغليظ الكفارة وسقوطها فيما دون النفس. فأما المزني فإنه لما رأى الشافعي قال في أول الكتاب: لا قسامة فيما دون النفس وقال هاهنا: تغليظ الأيمان فيما دون النفس وهم وظن أن قوله اختلف في القسامة فيما دون النفس، وهذا ذلل ذميم فيه، لأن قوله لم يختلف أنه لا قسامة فيما دون النفس وإنما اختلف قوله في تغليظ الأيمان فيما دون النفس وهما مسألتان لم يختلف قوله في إحداهما واختلف في الأخرى، والله أعلم. باب كفارة القتل مسألة: قال الشافعي رحمه الله: قال الله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأًً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92].

قال في الحاوي: هذه الآية هي الأصل في وجوب الدية في قتل الخطأ للمقتول ووجوب الكفارة فيه على القاتل، وجملة القتل تنقسم أربعة أقسام: واجب، مباح، ومحظور يأثم به، ومحظور لا يأثم به. فأما الواجب: فالقتل بالردة والزنى والحرابة ولا يتعلق به وجوب دية ولا كفارة. وأما المباح فالقصاص، ودفع الطالب لنفس أو مال وهو في حكم الواجب في سقوط الدين والكفارة. وأما المحظور الذي يأثم به، فهو قتل العمد بغير حق ويتعلق به أربعة أحكام القصاص مع التكافؤ والدية عند العفو، والكفارة عن القتل، والوعيد في المأثم. وأما المحظور الذي لا يأثم به: فهو قتل الخطأ ويتعلق به حكمان الدية والكفارة وقد تضمنتهما الآية ويسقط عنه القصاص والمأثم فيصير موافقًا للعمد في حكمين، ومخالفًا له في حكمين وإذا كانت أقسام القتل على ما ذكرنا فالكفارة فيه واجبة عن كل قتل لمضمون في كل قتيل مضمون على كل قاتل ضامن. فصل: فأما القتل المضمون فعمد وخطأ - فالعمد يأتي في خلاف نذكره والخطأ متفق على وجوب الكفارة فيه بنص الكتاب وإجماع الأمة وسواء كان قتل الخطأ بمباشرة أو بسبب، والمباشرة: أن يرمي هدفًا فيصيب إنسانًا فيقتله، والسبب: أن يحفر بئرًا في أرض لا يملكها فيقع فيها إنسان فيموت أو يضع حجرًا في طريق سائر فيعثر به إنسان فيموت أو يرش ماء في الطريق فيزلق به فيموت إلى امتثال ذلك مما قدمنا ذكره في ضمان النفس التالفة فيجب فيه الدية والكفارة. وقال أبو حنيفة: تجب في قتل المباشرة الدية مع الكفارة وتجب في قتل السبب الدية دون الكفارة استدلالًا بأن كل من ضمن نفسًا من غير مباشرة لم تجب عليه الكفارة كالعاقلة، ولأن كل ما لم يجب في جنسه قود لم يجب في جنيه كفارة كالإمساك. ودليلنا: هو أنه قتل يضمن بالدية فوجب أن يضمن بالكفارة، كالمباشرة. فإن منعوا أن يكون مقتولًا، احتج عليهم بوجوب الدية، لأنه لا يجوز أن يلزم دية النفس ولا يكون متلفًا للنفس إذا لا يلزم دية إلا في قتل عن مقتول ولأنها كفارة تلزم بمباشرة القتل فوجب أن تلزم بسبب القتل كجزاء الصيد ولأن الكفارة أوكد من الدية فلما وجبت الدية كان أولى أن تجب الكفارة، وأما قياسهم على العاقلة فالجواب عنه أن العاقلة تلتزم الدية تحملًا ونيابة والكفارة لا يدخلها التحمل ولا النيابة ولذلك تحملت العاقلة دية الخطأ ولم تتحمل كفارته - وإن لزمته وأما قياسهم على الإمساك فالمعنى فيه أن الإمساك لما لم يوجب ضمان الدية لم يوجب ضمان الكفارة ولما أوجب السبب ضمان الدية أوجب ضمان الكفارة.

فصل: فأما المقتول المضمون: فكل ما ضمنت نفسه بالقصاص من صغير وكبير، وذكر وأنثي، ومسلم وكافر، وحر وعبد، وجبت الكفارة بقتله وقال مالك: لا تجب الكفارة إلا بقتل الحر المسلم ولا تجب بقتل عبد ولا كافر، وقال أبو حنيفة: تجب بقتل العبد ولا تجب بقتل الكافر احتجاجا بقول الله تعالي: {ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] فجعل الإيمان شرطا في وجوب الكفارة، فلم تجب مع الشرط، ولأن الكفارة مختصة بأغلظ الحرمات ولذلك وجبت في النفس دون الأطراف المسلم أغلظ من نفس الكافر فكانت أولي بسقوط الكفارة. ودليلنا: قوله تعالي: {وإن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 92 فأوجب الله تعالي الدية مع الكفارة في قتل المعاهد كما أوجبها في قتل المؤمن فكان أول الآية في المسلم وآخرها في الكافر، ولأنها نفس مضمونة بالدية فوجب أن تضمن بالكفارة كالمسلم وما ادعاه من ضعف حرمته فراجع عليه في التسوية بينه وبين المسلم في وجوب القصاص ثم يقال: قد اثبت الذمة له حرمة فلا يسوى بينه وبين من عدمها في سقوط الكفارة كما لم يسو بينهما في سقوط الدية. فصل: وأما القاتل الضامن: فكل قاتل ضمن نفس مقتول فعليه الكفارة سواء كان صغيرا أو كبيرا عاقلا أو مجنونا مسلما أو كافرا حرا أو عبدا، وقال أبو حنيفة: لا كفارة علي الصبي والمجنون احتجاجا بقول النبي صلي الله عليه وسلم: ((رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتي يحتلم، وعن المجنون حتي يفيق، وعن النائم حتي ينتبه)) ولأنها عبادة شرعية لا يدخلها التحمل قلم تجب علي الصبي والمجنون كالصلاة والصيام، ولأنها كفارة فلم تجب علي الصبي والمجنون قياسا علي كفارة الظهار والإيمان. ولأنه حكم يتعلق بالقاتل لا يتحمله غير القاتل، فلم يجب علي الصبي والمجنون كالقصاص. ودليلنا قوله تعالي: {ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فكان علي عمومه والصبي والمجنون وإن لم يتوجه إليهما الخطاب مواجهة كقوله تعالي: {وأَقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكَاةَ} [المزمل: 20] توجه إليهم خطاب الالتزام والكفارة خطاب التزام فتوجه إلي الصبي والمجنون كالدية ولأنه قاتل ضامن فوجب أن تلزمه الكفارة كالبالغ العاقل ولأنه حق مال يجب بالقتل فوجب أن يستوى فيه الصغير والكبير والعاقل والمجنون كالدية، ولأن الكفارة أوكد من الدية، لأنها تجب علي قاتل نفسه وعلي السيد في قتل عبده، وإن لم تجب عليهما الدية فلما وجبت الدية علي الصبي والمجنون كان أولي أن تجب عليهما الكفارة: فأما الجواب عن قوله ((رفع القلم عن ثلاث)) فهو أن رفع

القلم عنهم لا يمنع من وجوب حكم القتل في أموالهم كما لم يمنع من وجوب الدية، وكما لا يمنع النائم إذا انقلب علي إنسان فقتله من وجوب الدية مع الكفارة. وأما قياسهم علي الصلاة والصيام فمنتقض بوجوب الغرم وجزاء الصيد ثم المعني في الصلاة والصيام أنهما عبادتان علي البدن والكفارة حق في المال فافترقا كما افترق القصاص والدية وأما قياسهم علي كفارة الأيمان مع انتفاضه بجزاء الصيد فالمعني فيه أنه لما لم تصح مهما الأيمان لم يلزمهما كفارتهما ولما صح منهم القتل لزمتهما كفارته. وأما قياسهم علي القصاص، فالمعني في القصاص أنه حق علي بدن فسقط عنهما كالحدود والكفارة، حق في مال فلم تسقط عنهما كذكاة الفطر وجزاء الصيد، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((وقال تعالي: {فَإن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] يعني في قوم في دار حرب خاصة ولم يجعل له قودا ولا دية إذا قتله وهو لا يعرفه مسلما وذلك أن يغير أو يقتله في سرية أو يلقاه منفردا بهيئة المشركين وفي دارهم أو نحو ذلك)). قال في الحاوى: وهذا صحيح، ذكر الله تعالي في هذه الآية أحكام القتل في ثلاثة أوجب فيهم ديتين وثلاث كفارات: أحدهما: وهو المقدم فيها قتل المؤمن في دار الإسلام فأوجب فيه الدية والكفارة بقوله تعالي: {ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ودِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ إلاَّ أَن يَصَّدَّقُوا} [النساء: 92] وقد استوفيناه. والثاني: قتل المؤمن في دار فأوجب فيه الكفارة ولم يوجب فيه الدية بقوله تعالي: {فَإن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] ومعناه فإن كان من قوم من أعدائكم مؤمن قتلتموه بينهم فتحرير رقبة تلزمكم في قتله. ولا يخلو حال قتله فيهم من أربعة أقسام: أحدهما: أن يعلم قاتله أنه مسلم وتعمد قتله فعليه القود. وقال أبو حنيفة: لا قود عليه لقوم النبي صلي الله عليه وسلم: ((منعت دار الإسلام ما فيها وأباحت دار الشرك ما فيها)) ولأنه مقتول في دار الحرب فلم يستحق فيه قود كأهل الحرب. ودليلنا قول النبي صلي الله عليه وسلم: ((إن الله حرم من المسلم ماله ودمه وأن لا يظن به إلا خيرا)) ولأنه عامد لقتل مسلم محقون الدم فوجب أن يلزمه القود كما لو قتله في دار الإسلام.

والجواب عن الخبر والقياس أن دار الشرك لم تبح دمه وأباحت دم المشرك. فصل: والقسم الثاني: أن لا يعلم قاتله أنه مسلم، ولا يعمد قتله ولكن يرمي إلي دار الحرب سهما مرسلا فيقع عليه فيقتله فهو المراد بالآية، وفي قتله الكفارة. واختلفوا في وجوب الدية: فذهب الشافعي إلي أنه لا تجب فيه الدية، فقال مالك: تجب فيه الدية. وقال أبو حنيفة: إن كان في دار الإسلام أو هاجر إليها وجبت فيه الدية وإن لم يسلم فيها ولا هاجر إليها، لم تجب فيه الدية، لثبوت حرمة الدار علي المهاجر وعدمها في غير المهاجر واستدلا في الجملة بقوله تعالي: {ودِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] فكان علي عمومه ولأنه مقتول مسلم فوجب أن يكون مضمونا بالدية كالمقتول في دار الأسلام. ودليلنا: قوله تعالي: {وإن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فكان الدليل فيها من وجهين: أحدهما: اقتصاره علي الكفارة ولو وجبت فيه الدية لذكرها. والثاني: أنه غاير بين قتله في دار الإسلام ودار الشرك، ولو تساويا لأطلق ولم يغاير بينهما، ولأنها دار إباحة لم يعمد فيها قتل مسلم، فوجب أن لا يضمن بالقتل دية كما لو قتل غير مسلم، ولأن من لم يضمن ديته إذا لم يهاجر لم يضمن، وإن هاجر، كالمشرك وعموم الآية مخصص بما تعقبها وقياسه معارض لقياسنا، ولأن دار الإسلام حاظرة ودار المشرك مبيحة. فصل: والقسم الثالث: أن يعمد قتله ولا يعلم أنه مسلم فلا قود فيه وفيه الدية وقال أبو حنيفة: لا دية فيه، إن لم يهاجر. ودليلنا: أن اليمان أبا حذيفة بن اليمان قتله المسلمون ولم يعلموا بإسلامه فقضي رسول الله صلي الله عليه وسلم بديته فقال حذيفة يغفر الله لهم. فإنهم لم يعملوا، ولأن جهل القاتل بأحوال المقتول لا يوجب سقوط ضمانه عن القاتل كالصبي والمجنون. فصل: والقسم الرابع أنه يعلم أنه مسلم ولا يعمد قتله ويرمي أهل الدار بسهم فاعترض المسلم السهم حتى أصابه فقتله، فلا قود وفيه الكفارة وفي وجوب الدية قولان: أحدهما: لا دية فيه استدلالا، واعتبارا بالقسم الثاني. والثاني: فيه الدية استدلالا بحيث اليمان. واعتبارا بالقسم الثالث. والله أعلم.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: {وإن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 92]. قال في الحاوي: وهذا هو الثالث مما بينه الله تعالي في هذه الآية وجمع في قتله بين الدية والكفارة وهو الكافر ذو الميثاق بذمة أو عهد او قتل في دار الإسلام ففيه الدية والكفارة بقوله تعالي: {وإن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فجمع في قتله بين الدية والكفارة كما جمع في قتل المسلم في دار الإسلام بين الدية والكفارة. وقدم في قتل المسلم الكفارة علي الدية وفي قتل الكافر الدية علي الكفارة لأن المسلم يري تقديم حق الله علي حق نفسه والكافر يري تقديم حق نفسه علي حق الله تعالي، وقال ابن أبي هريرة: بل خالف بينهما، ولم يجعلها علي نسق واحد، لأن لم لا يلحق بهما، ما بينهم من قتل المؤمن في دار الحرب في قوله {وإن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلَى أَهْلِهِ وتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فيضم إليه الدية إلحاقا بأحد الطرفين فأزال هذا الاحتمال بأحد اللفظين. وسواء كان صاحب هذا الميثاق من الكفار من أهل الذمة، أو من أصحاب العهد، وسواء كان من أهل الكتاب، أو من غير أهل الكتاب في وجوب الدية والكفارة إذا قتل في دار الإسلام. فأما إذا قتل في دار الحرب، فحكمه حكم المسلم إذا قتل فيها في ضمانه بالكفارة والدية إلا أن يعمد قتله غالطا بميثاقه الذي هو مقيم علي التزامه فتجب فيه الدية مع الكفارة، والكفارة الواجبة في قتل الكافر، كالكفارة الواجبة في قتل المسلم في أيمان الرقبة وسلامتها من العيوب المضرة، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((وإذا وجبت عليه كفارة القتل في الخطأ وفي قتل المؤمن في دار الحرب كانت الكفارة في العمد أولي. قال المزني رحمه الله: واحتج بأن الكفارة في قتل الصيد فهي الإحرام والحرم عمدا أو خطأ إلا في المأثم فكذلك كفارة القتل أو خطأ سواء إلا في المأثم)). قال في الحاوي: وهذا كما قال، الكفارة تجب في قتل العمد والخطأ. وأوجبها أبو حنيفة ومالك في قتل الخطأ وأسقطاها في قتل العمد سواء وجب في القود أو لم يجب استدلالا بقوله تعالي: {ومَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} [النساء: 92] فجعل الخطأ شرطا في وجوب الكفارة، فوجبت أن ينتقي عن العمد لعدم

الشرط، وبما (روي) عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: ((العمد قود)) فجعل موجب العمد استحقاق القود، فدل علي أنه لا يجب في غير القود، ولأنه سبب يوجب القتل فلم يوجب الكفارة كالزني والردة، ولأنه قتل عمد فلم تجب فيه الكفارة، كالقصاص ولأن القصاص عقوبة علي بدن، والكفارة حق في مال فلم يجتمعا في القتل الواحد كالقصاص مع الدية. ودليلنا ما رواه واثلة بن الأسقع قال: أتينا رسول الله صلي الله عيله وسلم في صاحب لنا استوجب النار بقتل، فقال: ((اعتقوا عنه رقبة يعتق الله بكل عضو منها عضوا منه من النار)) وهو لا يستوجب النار إلا في العمد. فإن قيل: فقد أمر بها غير القاتل فدل علي أنها غير واجبة علي القاتل قلنا الخطاب وإن توجه إلي السائل فالمراد به القاتل لأنه أوجبها بالقتل، وروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: يا رسول الله إني وأدت في الجاهلية. فقال أعتق عن كل موؤودة رقبة وذلك أن العرب في الجاهلية كانت تحفر تحت الحامل إذا ضربها الطلق حفيرة يسقط فيها ولدها إذا وضعته، فإذا كان ذكرا أخرجوه منها وإن كان أنثي تركت في حفرتها وطمر التراب حتى تموت، وهذا قتل عمد، وقد أوجبت به الكفارة. ومن القياس: أنه قتل آدمي مضمون فوجب أن تستحق فيه الكفارة كالخطأ ولأن كل كفارة وجبت بقتل الخطأ وجبت بقتل العمد كجزاء الصيد، ولأن الكفارة إذا وجبت علي الخاطئ مع عدم المأثم كان وجوبها علي العامد مع المأثم حق كما قال تعالي: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] فلم أوجب القضاء علي المفطر معذورا بمرض أو سفر كان وجبه علي من فطر عمدا بغير عذر أحق ولقول النبي صلي الله عيله وسلم: ((من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها)). وقد روي عن النبي صلي الله عيله وسلم أنه قال: القتل كفارة. والثاني: وهو الصحيح أن الكفارة علي وجوبها لا تسقط بالقود لأنها حق الله تعالي فلم تسقط بتأدية حق الآدمي كما لم تسقط بأداء الدية. فصل: فأما إذا اشتركت الجماعة في قتل عمدا أو خطأ فإنهم يشتركون في الدية، فلا يلزمهم إلا دية واحدة، ولا يشتركون في الكفارة ويلزم كل واحد منهم كفارة كاملة فإن قيل فهلا اشتركوا في الكفارة كما اشتركوا في الدية كما ذهب إليه عثمان البتي وحكاه بعض أصحابكم عن الشافعي. قيل: الحاكي له عن الشافعي غالطا، ولم يعرف في شيء من كتبه ولا نقله عنه أحد

باب لا يرث القاتل

من أصحابه ونصوصه في جميع كتبه بخلافه. والفرق بين الدية والكفارة من وجهين: أحدهما: أن الدية تتبعض فجاز أن يشتركوا فيها، والكفارة لا تتبعض، فلم يصح اشتراكهم فيها. والثاني: أن الدية بدل من النفس، وهي واحدة فلم يلزم فيها إلا دية واحدة، والكفارة لتكفير القتل وكل واحد منهم قاتل فلزم كل واحد منهم كفارة وهذان الوجهان دليل علي عثمان. فصل: فإذا ثبت وجود الكفارة علي كل قاتل بغير حق من عمد أو خطأ في كل مقتول من مسلم أو كافر، أو عبد فقد رضي الله تعالي فيها علي العتق والصيام. فقال: {وتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [النساء: 92] فقدم عتق الرقبة، وشرط فيها الإيمان فلا يجزئ إلا عتق رقبة مؤمنة سواء كان المقتول مؤمنا أو كافرا، لأنه شرط إيمانها في عتقها عن قتل الكفار فكان إيمانها في عتقها عن قتل المؤمن أولي. فإن لم يجد الرقبة فاضلة عن كفايته علي الأبد سقط عنه التكفير بالعتق، وكفر بصيام شهرين متتابعين وهو نص القرآن فإن عجز عن الصيام ففيه قولان: أحدهما: يعدل إلي الإطعام فيطعم ستين مسكينا، لأن الله تعالي نص عليه من كفارة الظهار وأطلق ذكره في كفارة القتل، فوجب أن يحمل إطلاقه في كفارة القتل علي تقيده في كفارة الظهار، لأن المطلق محمول علي المقيد من جنسه. والثاني: أنه لا إطعام فيها وتكون الكفارة بأحد الأمرين باقية في ذمته إلي أن يقدر عليها، لأن الإبدال في الكفارات موقوفة علي النص دون القياس، ولا يجوز حمل مطلقها علي المقيد إلا في الوصف دون الأصل، كما حمل إطلاق اليد في التيمم علي تقيدها بالمرافق في الوضوء لأنه حمل مطلق علي مقيد في وصف، ولم يحمل إغفال ذكر الرأس والرجلين في التيمم علي ما قيد من ذكرهما في الوضوء، لأنه حمل مطلق علي مقيد في أصل. كذلك في الكفارة حملنا إطلاق العتق في كفارة الظهار علي تقيده بالإيمان من كفارة القتل، لأنه حمل مطلق علي مقيد في وصف، ولم يحمل إغفال الإطعام في كفارة القتل علي ذكره الظهار لأنه حمل مطلق علي مقيد في أصل، والله أعلم بالصواب. باب لا يرث القاتل مسألة: قال الشافعي رحمه الله: ((قال أبو حنيفة لا يرث قاتل خطأ ولا عمدا إلا أن

يكون مجنونا أو صبيا فلا يحرم الميراث لأن القلم عنهما مرفوع وقال أهل المدينة لا يرث قاتل عمد ولا يرث قاتل خطأ من الدية ويرث من سائر ماله, قال محمد بن الحسن هل رأيتم وارثا يرث بعض مال رجل دون بعض إما أن يرث الكل أو لا يرث شيئا قال الشافعي رحمه الله يدخل علي محمد بن الحسن أنه يسوي بين المجنون والصبي وبين البالغ الخاطئ في قتل الخطأ ويجعل علي عواقلهم الدية ويرفع عنهم المأثم فكيف ورث بعضهم دون بعض وهم سواء في المعني قال: ويدخل علي أصحابنا ما دخل علي محمد بن الحسن وليس في الفرق بين قاتل خطأ لا يرث وقاتل عمد خبر يلزم ولو كان ثابتا كانت فيه أشبه. قال المزني رحمه الله: المعني تأويله إذا لم يثبت فرق أنهما سواء في أنهما لا يرثان وقد قطع بهذا المعني في كتاب قتال أهل البغي فقال: إذا قتل العادل الباغي أو الباغي العادل لا يتوارثان لأنهما قاتلان قال وهذا أشبه بمعني الحديث)). قال في الحاوي: وهذا قد مضي قد كتاب الفرائض وذكرنا اختلاف الفقهاء في ميراث القاتل فذهب الشافعي رضي الله عنه أنه لا يرث قاتل عمد ولا خطأ سواء جري عليه القلم بالبلوغ والعقل أو رفع عنه القلم بالصغر والجنون. وقال أبو حنيفة: لا يرث قاتل عمد ولا خطأ إن جري عليه القلم ويرث إن رفع عنه القلم وقال مالك: لا يرث قاتل العمد وإن رفع عنه القلم ويرث الخطأ من المال دون الدية وإن جري عليه القلم, فرد محمد بن الحسن علي مالك هذا القول وقال: هل رأيتم وارثا يرث بعض مال رجل دون بعض؟ إما أن يرث الكل أو لا يرث شيئا, هذا رد صحيح من محمد بن الحسن علي مالك حيث ورث الخاطئ من المال دون الدية, وكلاهما مال للمقتول يقضي منهما ديونه وتنفذ منهما وصاياه فإن انتفت التهمة عن الخاطئ ورث الكل وإن تحققت التهمة منع الكل, ولم يجز تبعيض المال في ميراث فيرث بعض ويمنع بعض كما أن المبتوتة بالطلاق في المرض لما لحق الزوج التهمة في منعها من ثلث ماله لأنه الثلث غير متهوم في منها منه, لأن له أن يمنع منه كل وارث فلم يلحق الزوج تهمة في منعها وقد كان يقتضي علي قياس قوله أن يورثها ثلث ماله ولا يورثها من الثلث لاختصاص التهمة بالثلثين دون الثلث وقد اجتمعت الأمة علي إبطال هذا التبيض, وكانوا في توريثها علي قولين: فمن ورثها منهم ورثها جميع المال, وإن كان غير متهوم في بعضه ومن لم يورثها منعها جميع المال وإن الشافعي رد علي محمد بن الحسن فيما ذهب إليه أبو حنيفة من توريث مع دفع عنه القلم دون من جري عليه القلم لأن الصبي والمجنون قد شاركا الخاطئ في وجوب الدية, وشاركهما الخاطئ, في ارتفاع المأثم فصاروا جميعا سواء في الحكم والعلة, فهلا صاروا سواء في الميراث في أن يرثوا أو لا يرثوا؟ وكيف فرق بينهم في الميراث وقد تساووا في سببه وهذا التكافؤ في الاعتراض

باب الشهادة علي الجناية

دليل (على) فساد المذهبين ويصح ما ذهب إليه الشافعي من منع كل قاتل من الميراث لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: القاتل لا يرث, وقال ليس لقاتل شيء. فصل: فإذا تقرر أن لا ميراث لكل قاتل تعليق عليه حكم القتل في ضمان دية أو كفارة لأنه قاتل بحق, فهو علي ضربين: أحدهما: أن يكون مخيرا فيه, وإن كان محقا كالمقتضي منه قودا فلا ميراث له لتوجه التهمه إليه في عدوله عن العفو إلي القصاص رغبة في الميراث فوجب أن يمتنع منه. والثاني: أن يجب عليه قتله ولا يكون مخيرا كالحاكم إذا قتل في زنا أو في قصاص استوفاه لخصم فهذا علي ضربين: أحدهما: أن يقتلهم بالبينة فلا يرث لأنه متهوم في تزكية الشهود فمنعته التهمة في الميراث. والثاني: أن يقتلهم بإقرارهم ففي ميراثه لهم وجهان لأصحابنا: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج يرثهم لانتقاد التهمة عنه في إقرارهم. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة والأكثرين والظاهر من مذهب الشافعي أنه لا يرث لإطلاق اسم القتل عليه وإن انتفت التهمة عنه كالصبي والمجنون, والله أعلم بالصواب. باب الشهادة علي الجناية مسألة: قال الشافعي رحمه الله: ((ولا يقبل في القتل وجراح العمد والحدود سوي الزني إلا عدلان)). قال في الحاوي: أما الشهادة فتنقسم علي أقسام: موضوع استيفائها كتاب الشهادات ونحن نذكر في هذا الموضع ما اختص به من الشهادة في الجنايات. والجنايات ضربان: عمد يوجب القصاص, وخطأ يوجب المال, فأما العمد الموجب للقصاص فلا تثبت البينة فيه إلا بشاهدين ولا يثبت بشاهد وامرأتان, كالحدود وسواء كان في نفس وفيما دون النفس. وقال الحسن البصري: لا يقبل في النفس إلا أربعة شهود: كالزني لأنها إماتة نفس, ويقبل فيما دونها شاهدان كالحدود وقال مالك: يقبل فيما قل من الجراح شاهد

وامرأتان ولا يقبل فيما كثر إلا شاهدان لخفة القليل وتغليظ الكثير وكلا القولين خطأ, والدليل عليهما أن الله تعالي نص في كتابه علي ثلاث شهادات خالف بين أحكامها وجعلها أصولا لما أغفله ليكون المغفل فرعا ملحقا بأصله فيها فنص علي أربعة شهود في الزني ونص علي شاهدين في الطلاق والرجعة ونص علي شاهد وامرأتين في الأموال وأغفل الشهادة في الجنايات فصارت فرعا لأحدها فلم يجز أن تحمل علي الزني لأنه لما لم تحمل عليه فيما دون النفس, لم تحمل عليه في النفس, لوجوب تساويهما كما استوي حكم الزني في ما أوجب الرحم وما أوجب الجلد فبطل به قول الحسن ولم يجز أن يحمل علي الأموال لأنه لما لم يحمل عليها فيما كثر لم تحمل عليها فيما قل, لاستواء حكم الأموال فيما قل وكثر فبطل هذا قول مالك فلم يبق إلا الأصل الثالث وهو الشاهد في الطلاق والرجعة فيما كثر وقل, والله أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: ((ويقبل شاهد وامرأتان ويبين وشاهد فيما لا قصاص فيه مثل الجائفة وجناية من لا قود عليه من معتوه وصبي ومسلم علي كافر وحر علي عبد وأب علي ابن لأن ذلك مال)). قال في الحاوي: وهذا صحيح كل جناية سقط القصاص فيها وأوجبت الدية قبل فيها شاهد وامرأتان, وشاهد ويمين, كالأموال لأن كل ذلك مال والذي لا قصاص فيه من الجنايات علي ثلاثة أضرب: أحدها: الخطأ المحض ممن كان وعلي من كان. والثاني: عمد الخطأ, لأنه في حكم الخطأ إلا في تقسيط الدية فيه وتخفيفها. والثالث: العمد الذي يسقط فيه القصاص وهو ثلاثة أضرب: أحدهما: ما سقط لمعني في الجاني, كجناية الصبي والمجنون, وجناية الأب علي الابن. والثاني: ما سقط لمعني في المجني عليه كجناية المسلم علي كافر, وجناية الحر علي عبد. والثالث: ما سقط لمعني في الجناية كالجائفة فيقبل في جميع هذا كله شاهد وامرأتان وشاهد يمين وسواء كانت في نفس أو طرف أو جرح, فإن صارت الجائفة نفسا لم يقبل فيها شاهدان, لأنها صارت موجبة للقصاص في النفس. فصل: فإذا كانت الجناية عمدا فقال ولي القصاص: لست أقتص فاسمعوا مني شاهدا

وامرأتين, ولم يقبل, لأن قوله: لسن أقتص موعد بالعفو وليس بعفو وإن قال: قد عفوت عن القصاص فاسمعوا شاهدا وامرأتين, فالصحيح أنه يقبل منه شاهد وامرأتان وشاهد ويمين, لأنه لو قام شاهدين بعد عفوة, قبل الشهادة لم يحكم له بالقصاص. وقال: بعض أصحابنا وهو مذهب أبي علي بن أبي هريرة لا أقبل منه وإن صرح بالعفو إلا شاهدين لأمرين: أحدهما: أن ما أوجب القصاص نوع لا يقبل فيه أقل من شاهدين. والثاني: أنه عفو منه قبل استحقاقه للقصاص وكلا التعليلين خطأ, لأن العفو يخرجه من نوعه القصاص, فبطل التعليل الأول, والعفو قبل البينة عفو بعد استحقاق القصاص, لأنه يستحق بالجناية لا بالبينة فبطل التعليل الثاني. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((فإن كان الجرح هاشمة أو مأمومة لم أقبل أقل من شاهدين لأن الذي شج إن أراد أن آخذ له القصاص من موضحة فعلت لأنها موضحة وزيادة)). قال في الحاوي: أما دون الموضحة من شجاج الرأس فيقبل فيه عمدا كان أو خطأ شاهد وامرأتان, وشاهد ويمين, لأنه لا قصاص في عمده وأما الموضحة فلا يقبل فيها إذا كانت عمدا إلا شاهدان, لأنها موجبة للقصاص فإن قيل: إذا أقام في عمدها شاهدا وامرأتين, أو شاهدا ويمينا, هلا حكمتم له بالدية وأسقطتم القود؟ كالسرقة إذا شهد بها شاهدان حكم فيها بالقطع والغرم وإن شهد بها شاهد وامرأتان أسقط القطع وحكم الغرم, [قيل لا] لفرق منع من الجمع بينهما وهو أن الغرم والقطع في السرقة حقان يجمع بينهما الاختلاف مستحقها وليس أحدهما بدلا من الآخر, فجاز أن يفرد كل واحد منهما بحكمه والقصاص والأرش في الموضحة حق وجب بسبب واحد لمستحق واحد أحدهما بدلا من الآخر فشاركه في حكمه, فلم يجز أن يثبت أحدهما مع انتفاء الآخر فافترقا. وأما ما فوق الموضحة في الهامشة والمنقلة والمأمومة فقد جمعت هذه الشجاج بين فيه قصاص وهو الإيضاح وبين ما ليس فيه قصاص, وهو الهشم والتنقيل ففيها للشافعي قولان: أحدهما: وهو المنصوص عليه في هذا الموضع, لأنه لا يقبل فيها إذا كانت عمدا إلا شاهدان, لأن فيها إيضاحا يستحق فيه القصاص لمن طلب. والثاني: قاله في كتاب الشاهد واليمين أنه يقبل فيها شاهد وامرأتان وشاهد ويمين, لأنه لما قبل ذلك فيه إذا انفرد عن الإيضاح لم يمتنع قوله فيه إذا اقترن بالإيضاح وصار

الإيضاح ملحقًا به في سقوط القصاص لمشاركته له. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه:"ولو شهد أنه ضربه بسيٍف وقفتهما فإن قالا فأنهر دمه ومات مكانه قلبتهما وجعلته قاتلًا وإن قالا لا ندري أنهر دمه أم لا بل رأيناه سائلًا لم أجعله جارحًا حتى يقولا أوضحه هذه الموضحة بعينها". قال في الحاوي: فقد مضى الكلام في الشهود, فأما صفة الشهادة: فيجب أن تكون مفسرة لا احتمال فيها, لقول الله تعالى: {إلاَّ مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف 86] فإذا قال الشاهدان: رأيناه قد طلبه بسيبف وغابا عنا ثم رأيناه قتيلًا, أو جريًحا, لم تقبل هذه الشهادة لجواز أن تكون قد قتله أو جرحه غيره وهكذا لو قالا: قد رأيناه وقد ضربه بسيف ثم غابا ووجدناه قتيلًا أو جريحًا لم تقبل لجواز ما ذكرنا من قتل غيره أو جراحة غيره فإن قالا رأيناه وقد ضربه بسيف فأنهر دمه ومات مكانه قبلت هذه الشهادة, لأن ظاهر موته أنه من إنهار دمه فإن ادعى الجارح أنه مات من غير جراحته لم تقبل منه مع الشهادة عليه بموته نظر في موته فإن بعد زمان لا يجوز أن يندمل فيه الجراحة حكم على الجارح بالقتل لأن ظاهر موته قبل اندمال الجراحة أنه منها فإن ادعى الجارح أنه مات من غيرها فهو محتمل وإن كان بخلاف الظاهر فيحلف الولي أنه مات من الجراحة, وإن كان موته بعدها بزمان يجوز أن تندمل فيه الجراحة حكم عليه بالجراحة, ولم يحكم بالقتل حتى يقيم وليه البينة أنه لم يزل ضمنًا مريضًا حتى مات فيحكم عليه حينئٍذ بالقتل. فإن ادعى موته من غيره أحلف وليه لقد مات من جراحته ولكن لو شهد الشاهدان أنه ضربه بسيفه ولم يشهد أنه أنهر دمه لم يكن جارحًا, لأنه ليس كل مضروب بسيف ينجرح به وهكذا لو قالا: ضربني بسيفه فسال دمه لم تقبل شهادتهما لجواز أن يسيل من فتح عرق أو رعاف ولا قالا: ضربني بسيفه فسال دمه لم تقبل شهادتهما لجواز أن يسيل من فتح عرق أو رعاف ولا قالا: ضربه بسيفه فأسال دمه, قبلت شهادتهما, لأنها أضافا سيلان الدم إليه بخلاف ما تقدم فإن شهدا أنه أوضحه في رأسه, فإن عينا الموضحة حكم فيها بالقصاص أو الدية, وإن لم يعيناها نظر فإن لم يكن في رأسه غير موضحة واحدة, كانت هي المشهودة بها, وإن لم يعين حكم فيها بالقصاص, لأن الدية تجب في كل موضحة على كل موضع من الرأس فلم يفتقر إلي التعيين والقصاص لا يجب إلا بعد تعيين الموضع من الرأس وقدرها في الطول والعرض. وهكذا لو شهد أنه قطع إحدى يديه, ولم يعيناها فإن كانت إحدى يديه باقية وجب القصاص في الدامية أو الدية وإن لم يعين, لأنها صارت ببقاء الأخرى معينة في الدامية وإن كان مقطع اليدين لم يحكم له

بالقصاص, لأنه لا يدري مستحقة في يمنى أو يسرى وحكم له بالدية لاستوائها في اليمنى واليسرى ثم على هذا القياس فيما سواه والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه:"ولو شهدا على رجلين أنهما قتلاه وشهدا لآخران على الشاهدين الأولين أنهما قتلاه وكانت شهادتهما في مقاٍم واحٍد فإن صدقهما ولي الدم معًا أبطلت الشهادة وإن صدق اللذين شهدا أولا قبلت شهادتهما وجعلت الآخرين دافعين بشهادتهما وإن صدق اللذين شهدا أخرا أبطلت شهادتهما لأنهما يدفعان بشهادتهما ما شهد به عليهما". قال في الحاوي: وهذه المسألة مصورة في سماع الشهادة على القتل قبل دعوى الولي, وقد اختلف أصحابنا في كيفية سماعها قبل الدعوى على ثلاثة أوجه: أحدها: أنها تسمع قبل الدعوى, إذا كان الولي طفلًا, أو غائبًا, ولا يجوز سماعها إذا كان بالغًا, حاضرًا. والثاني: أنها تسمع قبل الدعوى, إذا لم يعرف الولي شهوده ولا تسمع إذا عرفهم بعد الدعوى. والثالث: وهو قول أبي إسحاق المروزي وأبي علي بن أبي هريرة والجمهور أنها تسمع قبل الدعوى في الدماء خاصة, ولا تسمع في غير الدماء, إلا بعد الدعوى والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: لتغليظ الدماء على غيرها من الحقوق. والثاني: أنها من حقوق المقتول يقضي منها ديونه, وتنفذ منها وصاياه فجاز للحاكم أن ينوب عنه في سماع الشهادة قبل دعوى أوليائه ويجيء على هذا التعليل أن يسمعها في ديون الميت, ولا يسمعها في ديون الحي, وعلى التعليل الأول لا يسمعها في ديون حي, ولا ميت وعلى هذا الترتيب يتأول, اختلاف الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"خير الشهداء من شهد قبل أن يستشهد",إنها محمولة على ما يشهد فيه قبل سماع الدعوى. وما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"شر الشهداء من شهد قبل أن يستشهد" محمول على ما لا يشهد فيه إلا بعد سماع الدعوى. فصل: فإذا تقرر ما ذكرنا فصورة مسألتنا في شاهدين شهدا على رجلين أنهما قتلا زيدًا, وشهد الرجلان المشهود عليهما أن الشاهدين الأولين هما اللذان قتلا زيدًا, فللولي حالتان:

أحدهما: أن تصح منه الدعوى. والثاني: أن لا تصح منه, فإن صحت منه الدعوى لبلوغه وعقله, سأله الحاكم عما يدعيعه من القتل على من يعينه من الأربعة وهو في ذلك على ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يدعيه على الآخرين الذين شهد عليهما الأولان فتكون شهادة الأولين عليهما ماضية ويحكم للولي على الآخرين بالقتل لسلامة الأولين عند شهادتهما وتهمة الآخرين في الشهادة بالرفع عن أنفسهما وهل يلزم الحاكم أن يستعيد الشهادة بعد الدعوى أم لا؟ على وجهين: أحدهما: لا يستعيدها, ويحكم بما تقدم من شهادتهما, لأنه لا يستعيد بها زيادة علم. والثاني: يلزمه استعادتهما, ولا يجوز له أن يحكم بما تقدم منها لأنه لا يجوز أن يكون الحكم سابقًا للدعوى. والقسم الثاني: أن يدعو الولي قتله على الأولين دون الآخرين, فشهادتهما على الأولين باطلة, لأنهما قد صارا عدوين لهما, ومتهمين في شهادتهما. والقسم الثالث: أن يدعه قتله على جماعتهم فتبطل الشهادتان لإكذابه لهما, وإقراره بفسقهما, وإن كان الولي ممن لا تصح منه الدعوى لصغره, أو جنونه, فقد اختلف أصحابنا هل يقضي الحاكم بموجب الشهادة أو يوقفها على بلوغ الولي وعقله؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي يقضي بموجب الشهادة ويقضي على الآخرين بالقتل بشهادة الأولين. والثاني: أنه يقف الشهادة, ولا يبت الحكم فيها حتى يبلغ, ويفيق المجنون, ثم يرجع إليه ويعمل على ما بينه وادعاه من الأقسام الثلاثة, لتردد الشهادة بين إيجاب وإسقاطه فلم يحكم بأحدهما مع احتمالهما فأما إذا اتفقت شهادة بعض ولم يتقدم إحداهما على الأخرى فكلتا الشهادتين باطلة لا يحكم بواحدة منهما ولا يرجع فيهما إلي دعوى الولي, لتعارض الشهادتين في التدافع بهما, والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه:"ولو شهدا أحدهما على إقراره أنه قتله عمدًا والآخر على إقراره ولم يقل خطأ ولا عمدًا جعلته قاتلًا والقول قوله فإن قال عمدًا فعليه القصاص وإن قال خطأ أحلف ما قتله عمدًا وكانت الدية في ماله في مضى ثلاث سنين".

قال في الحاوي: وصورتها في شاهدين شهدا على إقرار رجل بالقتل, فقال أحدهما: أقر عندي أنه قتل عمدًا, وشهد الآخر: أقر عندي أنه قتله ولم يقل عمدًا, وشهد الآخر: أقر عندي ولم يقل عمدًا ولا خطأ فقد تمت الشهادة على إقراره بالقتل ولم تتم الشهادة على إقراره بصفة القتل, فيسأل المقر عن صفة القتل, فإنه لا يخلو فيها من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يقول قتله عمدًا فيقتص منه بإقراره الآنف لا بالشهادة المتقدمة فإن عفا عنه إلي الدية, كانت حالة مغلظة في ماله. والثانية: أن يقول: قتلته خطأ فلا يحكم عليه بالقود لأنه لم يتم الشهادة بالعمد, ولكن يكون هذا لوثًا في قتل العمد لأنه إذا ثبت اللوث بشهادة واحد فأولى أن يثبت بشاهدين فإن أقسم حكم له بالقود على قوله في القديم, وبالدية المغلظة حالة على قوله في الجديد, وإن لم يقسم, أحلف المقر بالله أنه ما قتله عمدًا ولزمته دية والخطأ مخففة يؤديها من ماله, في ثلاث سنين, ولا تحملها عنه العاقلة, لأنها دية اعتراف. والثالثة: أن يمسك عن البيان, فيصير كالناكل فترد اليمين على الولي فإن حلف حكم له بالقود بيمينه لا بالشهادة، وإن نكل حكم له بدية الخطأ دون العمد بالشهادة. فصل: ولو كانت الشهادة على فعل القتل، فشهد أحدهما أنه قتله عمدًا وشهد الآخر أنه قتله خطأ، سئل كل واحد منهما عن صفة القتل الذي شاهده، فإن اتفقا عليها واختلفا في الحكم عندهما لم تكن في هذه الشهادة تعارض ووجب على الحاكم أن يعتبر بما شهدا به من صفة القتل، فإن كان عمدًا حكم فيه القود، وإن كان خطأ حكم فيه بدية الخطأ على العاقلة وإن اختلفا في صفة القتل فهو تعارض لا يحكم فيه بعمد ولا خطأ على ما سنذكره من بعد، وبالله التوفيق. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو قال أحدهما قتله غدوًة وقال الآخر عشيًة أو قال أحدهما بسيف والآخر بعصًا فكل واحٍد منهما مكذب لصاحبه فمثل هذا يوجب القسامة". قال في الحاوي: إذا تعارض الشاهدان فأثبت كل واحد منهما ما نفاه الآخر فلذلك ضربان: أحدهما: أن تكون شهادتهما على فعل القتل. والثاني: أن تكون على الإقرار بالقتل، فإن كانت على فعل القتل فقال أحدهما: قتله غدوة أو في يوم السبت وقال الآخر: قتله عشية أو في يوم الأحد، أو قال أحدهما:

قتله بسيف، وقال الآخر: بعضا. أو قال أحدهما: قتله بالبصرة، وقال الآخر بالكوفة، فهما وإن اتفقا على الشهادة بالقتل فقد تعارضا في صفته فصارا متكاذبين، لأنه قتله غدوة، غير قتله عشية، وقتله بسيف غير قتله بعصا، فلم يحكم بشهادتهما ولا بشهادة واحد منهما مع يمين المدعي في عمد ولا خطأ. وقال ابن أبي ليلى أعذر الشاهدين وأحكم بفسقهما لاجتماعهما على كذب مستحيل. وعند الشافعي وأبي حنيفة: لا تعزير عليهما ولا تفسيق لأحد أمرين: أحدهما: لجواز الاشتباه عليهما، فيخرجان بالشبهة عن الفسق، والكذب. والثاني: أن كذب أحدهما لا يمنع صدق الآخر، وقد اشتبه الصادق من الكاذب فإذا ثبت أن شهادتهما مردودة، فقد نقب المزني هاهنا، "ومثل هذا يوجب القسامة"، ونقل الربيع في كتاب الأم فمثل هذا لا يوجب القسامة، فاختلف أصحابنا في اختلاف هذين النقلين على ثلاثة أوجه: أحدها: وهو قول أبي إسحاق المروزي أن الصحيح ما نقله المزني هاهنا، أنه يوجب القسامة ويكون الربيع ساهيًا في زيادة لا؛ لأنهما قد اتفقا على الشهادة بالقتل. والثاني: وهو قول أبي الطيب بن سلمة أن الصحيح، ما نقله الربيع أنه لا يوجب القسامة ويكون المزني ساهيًا في حذف لا لأن تكاذبهما يسقط شهادتهما. والثالث: أن كلا النقلين صحيح وأنه على قولين مثل تكاذب الوليين: أحدهما: يوجب القسامة. والثاني: لا يوجبها. فصل: وأما الضرب الثاني: وهو أن تكون شهادتهما على إقراره بالقتل فيقول: أحدهما: أقر عندي أنه قتله غدوة. ويقول الآخر: أنه قتله عشية أو يقول أحدهما: أقر عندي أنه قتله بسيف، ويقول الآخر: أقر عندي أنه قتله بعصا، أو يقول أحدهما: أقر عندي أنه قتله بالبصرة، ويقول الآخر: أقر عندي أنه قتله بالكوفة، فهذه شهادة صحيحة على إقراره بالقتل لا تعارض فيها وإنما التعارض من المقر بالقتل في صفة القتل فلم يؤثر ذلك في شهادة على إقراره بالقتل فإن كان كل واحد من الفعلين عمدًا يوجب القود أقدناه، وإن كان كل واحد منهما خطأ لا وجب القود سقط عنه القود، ولزمته دية الخطأ مؤجلة في ماله، وإن كان أحدهما عمدًا موجبًا للقود والآخر على إقراره بقتل الخطأ، فيكون على ما مضى في الرجوع إلي قوله، فإن أقر بالعمد أقدناه، وإن أقر بالخطأ أخلفناه، وإن امتنع من البيان جعلناه ناكلًا، وأحلفنا ولي الدم على ما ادعاه من العمد فإن نكل حكمنا له بدية الخطأ في ماله دون عاقلته.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو شهد أحدهما أنه قتله والآخر أنه أقر بقتله لم تجز شهادتهما لأن الإقرار مخالٌف للفعل". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا أقام ولي الدم شاهدان، شهد أحدهما على فعل القتل، فقال: رأيته قتله، وشهد الآخر على الإقرار بالقتل، قال: أقر عندي أنه قتله لم تتعارض شهادتهما، لأنها غير متنافية ولم تتم الشهادة منهما، لأنها غير متماثلة، لأن فعل القتل، غير الإقرار بالقتل، ولم تكن تكمل الشهادة على الفعل ولا على الإقرار، فلم يجز أن يحكم عليه بواحد منها، لكن يكون هذا لوثًا يوجب القسامة قولًا واحدًا، لأن كل واحدة من الشهادتين مقوبة للأخرى غير منافية لها، وإذا كان كذلك لم يخل حال القتل من أن يكون عمدًا أو خطأ، فإن كان خطأ لم يحتج فيه إلي القسامة، لأنه قد تتم البينة فيه بشاهد ويمين فيقال لولي الدم أحلف مع أي الشاهدين شئت يمينًا واحدة تكمل بها ببينتك ويقضي لك فيها بدية الخطأ. وينظر فإن حلف مع الشاهد على فعل القتل كانت الدية على عاقلته وإن حلف مع الشاهد على إقراره بالقتل كانت الدية في ماله وإن كان عمدًا فعلى ضربين: أحدهما: أن يكون غير موجب للقود كقتل الأب لابنه والمسلم لكافر فهو مختص بوجوب الدية ويصير كالخطأ في أن لا يحكم فيه القسامة لوجود البينة مع يمين الولي مع أي الشاهدين يمينًا واحدة ويحكم له بدية العمد في ماله، سواء حلف مع شاهد الفعل أو مع شاهد الإقرار. والثاني: من العمد أن يكون موجبًا للقود فيجب الحكم فيه بالقسامة دون الشهادة لأن الشهادة تصير لوثًا فيحلف الولي أيمان القسامة خمسين يمينًا ويحكم له بالقود على قوله في القديم وبدية العمد حالة على قوله في الجديد والله تعالى أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو شهد أنه ضربه ملففًا فقطعه باثنين ولم يبينا انه كان حيًأ لم أجعله قاتلًا وأحلفته ما ضربه حيًا". قال في الحاوي: أما شهادة الشاهدان بالقتل فغير مفتقرة إلي ثبات الحياة عند القتل، لأن القتل هو إماتة الحياة فدلت على وجود الحياة عند القتل فأما إذا شهد أنه قطع ملفوفًا في ثوب باثنين فهذه شهادة محتملة لأنه قد يجوز أن يكون عند القطع حيًا، ويجوز أن يكون ميتًا، فيسأل الشاهدان لأجل هذا الاحتمال عن حال الملفوف، ولهما فيه ثلاثة أحوال:

أحدها: أن يشهدا بحياته عند قطعه، أو بمشاهده وحركته أو بختلاجه بعد قطعه، فهذا كله شهادة بالحياة، لأنه لا يختلج بعد القطع إلا حي. فأما الشهادة بسيلان دمه عند قطعه فلا تكون شهادة بحياته وإن كان دم الميت جامدًا، لأن جمود دمه بعد فتور حرارته، وقد يحتمل أن يكون قد مات لوقته قبل فتور حرارته وجمود دمه فلذلك لم تثبت فيه الحياة. والثانية: أن يشهدا موته عند قطعه، فيصير شاهدين بنفي الحياة، وإثبات الموت فلا تسمع شهادة غيرهما بحياته، وينتفي عنه حكم القتل، ويعزر أدبًا على قطع ميت لانتهاك حرمته. والثالثة: أن يجهلا حاله عند قطعه، فلا يشهدا بحياته ولا موته، فإن تصادق المدعي والدعي عليه على حياة أو موت عمل على تصادقهما، وإن تنازعا فقال المدعي كان حيًا، وقال المدعى عليه: كان ميتًا كلف كل واحد منهما إقامة البينة على ما ادعاه، فإن أقام المدعي بينة بحياته عند قطعه حكم بها، وأجرى على المدعى عليه حكم القتل، وإن أقام المدعى عليه بينة بموته عند قطعة حكم بها وبرئ المدعى عليه من القتل. وإن أقام المدعي بينة بالحياة، وأقام المدعى عليه بينة الموت ففيه وجهان: أحدهما: يحكم ببينة الموت، لأنها أزيد علمًا. والثاني: أنهما متعارضان؛ لأن واحدة منهما تقطع بإثبات ما نفته الأخرى ولم يكن في إحداهما مع القطع بالشهادة زيادة علم، فأما إن أقام على الدعوى وعدما البينة، ففيه قولان: أحدهما: وهو الذي نقله المزني هاهنا ونص عليه الشافعي في أكثر كتبه وبه قال أبو حنيفة إن القول قول الجاني مع يمينه إنه كان ميتًا عند قطعه وهو بريء من قتله إلي حلف لأن الأصل براءة ذمته فصار كما لو ادعى الولي أنه مات من سراية جراحته وادعى أنه مات من غير جراحته، كان القول قول الجاني دون الولي اعتبارًا ببراءة ذمته. والثاني: وتفرد الربيع بنقله. وقال بعد رواية الأول وفيه قول آخر: أن القول قول الولي مع يمينه أنه كان حيًا عند قطعه ويؤخذ القاطع بحكم قطعه لأنه الأصل بقاء الحياة حتى يعلم زوالها عند القطع، واليقين، والشك إذا تعارضا سقط حكم الشك باليقين، كما لو تيقن الحدث وشك في الطهارة، أو تيقن الطهارة وشك في الحدث والفرق بين دعوى الموت ودعوى السراية أن الولي مستأنف لدعوى السراية فلم يقبل قوله فيها، والجانب هاهنا مستأنف لدعوى الموت، فلم يقبل قوله فيها، والله أعلم بالصواب. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو شهد أحد الورثة أن أحدهم عفا القود والمال

فلا سبيل (إلى) القود وإن لم تجز شهادته وأحلف المشهود عليه ما عفا المال ويأخذ حصته من الدية وإن كان ممن تجوز شهادته حلف القاتل مع شهادته لقد عفا عنه القصاص والمال وبرئ من حصته من الدية". قال في الحاوي: وصورتها من قتل عمد ترك ابنين شهدا أحدهما على أخيه بالعفو فلا تخلو شهادته عليه، من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يشهد عليه بعفوه عن القود وحده، فيسقط القود بهذه الشهادة في حق الشاهد والمشهود عليه بحكم الإقرار، لا بحكم الشهادة، ويستوفي فيها من تجوز شهادته ومن لا تجوز، لأن الشاهد على أخيه بالعفو مقر لسقوط القود في حق نفسه، لأنه القود لا يتبعض، وعوف أحد الأولياء عنه موجب لسقوطه في حقوق جميعهم، وإذا سقط في حق الشاهد، سقط في حق المشهود عليه، ولا يمين على القاتل في إثبات العفو ولا على المشهود عليه في نفيه لسقوط القود بمجرد الإقرار وقضى لهما بدية العمد على سواه. والقسم الثاني: أن يشهد عليه بعفوه عن الدية دون القود فينظر حال الشاهد، فإن كان ممن لا تجوز شهادته بجرحه رد قوله، ولم يحكم به في شهادة ولا إقرار؛ لأن المجروح لا يشهد والإقرار لا يؤثر، وكان المشهود عليه على حقه من القود والدية. وإن كان الشاهد ممن تجوز شهادته لعدالته لم تؤثر بشهادته في القود، لأنه ما شهد بالعفو عنه، وكان أخوه على حقه منه وهل تكون شهادته مؤثر في العفو عن الدية أم لا؟ على وجهين مخرجين من اختلاف قوليه في قتل العمد والذي يجب به على قولين: أحدهما: أنه موجب لأحد أمرين من القود، أو الدية، فعلى هذا تؤثر شهادة الأخ في العفو عن الدية، إذا حلف معه القاتل لقد عفا عن الدية لأن الإبراء من الدية قبل استحقاقها، ويكون الأخ المشهود عليه مخيرًا بين القود والعفو عنه لا اختيار الدية. والقسم الثالث: أن يشهد عليه بعفوه عن القود والدية معًا، فالقود قد سقط بكل حال، سواء كان الشاهد ممن تجوز شهادته أو لا تجوز لما بيناه من قبل، فأما الدية فهي معتبرة بحال الشاهد، فإن كان ممن لا تجوز شهادته كانت شهادته مردودة، وحلف المشهود عليه ما عفا عن الدية ولا يحتاج أن يذكر في يمينه وما عفا عن القود، ولا يختلف أصحابنا فيه، لأن يمينه موضوعة لإثبات ما يستحقه وهو يستحق الدية دون القود، وإن كان الشاهد ممن تجوز شهادته أبرأت شهادته قولًا واحدًا، إذا حلف معها القاتل على العفو، وكانت بينة تامة في الإبراء. وفي صفة يمين القاتل هاهنا مع شاهده وجهان: أحدهما: ذكره الشافعي رضي الله عنه في كتاب الأم، وقاله أبو إسحاق المروزي

يحلف لقد عفا عن الدية ولا يذكر أنه عفا عن القود، لسقوط القود بإقرار الأخ دون شهادته، وكما يحلف الأخ إذا ردت شهادة أخيه أنه ما عفا عن الدية ولا يذكر القود. والثاني: ذكره الشافعي في هذا الموضع وقاله أبو علي بن أبي هريرة أنه يحلف القاتل مع شاهده لقد عفا عن القود والدية، لأن هذه يمين تقوم مقام شاهد فكانت على لفظ الشهادة وخالفت يمين الأخ، لاختصاصها بإثبات المستحق، والله اعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو شهد وارٌث أنه جرحه عمدًا أو خطًأ لم أقبل لأن الجرح قد يكون نفسًا فيستوجب بشهادته الدية". قال في الحاوي: وهذا صحيح، لأن كل شاهٍد جر بشهادته إلي نفسه نفعًا أو دف بها ضررًا، كانت شهادته مردودة، فإذا شهد وارقا المجروح وهما أخواه، أو عماه على رجل أنه جرحه لم تخل حال الشهادة من أحد أمرين: أحدهما: إما أن يكون بعد اندمال الجرح، فشهادتهما مقبولة، لأنهما لا يجدان بها نفعًا ولا يدفعان بها ضررًا، سواء أوجبت القصاص أو الدية. والثاني: أن تكون الشهادة قبل اندمال الجرح فهي مردودة فلا تقبل لأمرين: أحدهما: أنها قد تسري إلي نفسه فيموت منها ويصيرا المستحقين لها، فيصيرا شاهدين لأنفسهما. والثاني: أن المجروح مع بقاء الجراح متهم. ولورثة المريض الاعتراض عليه في مال ومنعه من التصرف فيما زاد على ثلثه كاعتراضهم عليه بعد موته ولا تجوز شهادتهم له بعد الموت، كذلك في المرض، فعلى هذا إن كان الجرح مام يسري مثله إلي النفس جازت شهادتهما لع على التعليل الأول، ولم تجز شهادتهما له لى التعليل الثاني، وكذلك لو شهد له وارثاه في مرضه بدين له في قبول شهادتهما له وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي لا تقبل شهادتهما في الدين كما لا تقبل في الجرح، وهو مقتضي التعليل الثاني. والثاني: وهو قول أبي الطيب بن سلمة أنها تقبل في الدين وإن لم تقبل في الجراح والفرق بينهما أن الدين يملكه الموروث ثم ثنتقل عنه إلي الوارث والدية يملكها الوارث عن الجاني فصار في الجناية شاهدًا لنفسه فردت شهادته وفي الدين شاهدًا لغيره فأمضيت شهادته وهذا مقتضى التعليل الأول، والله أعلم.

فصل: فإذا تقرر أنه لا تقبل شهادتهما له قبل اندمال الجرح الساري، لم يخل حال الجرح من أن يسري إلي النفس أو يندمل، فإن سرى إلي النفس استقر الحكم في رد شهادتهما، وإن اندمل لم يحكم بالشهادة المتقدمة، وفي الحكم بها إن استأنفاها بعد الاندمال وجهان: أحدهما: تقبل شهادتهما في المستأنف لزوال ما منع من ردها: والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي لا تقبل شهادتهما للحكم بردها في شهادة الأول كالفاسق إذا ردت شهادته لم تقبل إذا ادعاها بعد عدالته، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن شهد له من يحجبه قبلته فإن لم أحكم حتى صار وارثًا طرحته ولو كنت حكمت ثم مات من يحجبه ورثته لأنها مضت في حين لا يجر بها إلي نفسه". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا ردت شهادة الوارثين في الجراح اعتبرت بكونهما وارثين عند تنفيذ الحكم بشهادتهما لأنهما بحال التهمة الموجبة للرد، وإذا كان كذلك واختلف حالهما قبل الشهادة وبعدها فلهما حالتان: أحداهما: أن يكونا غير وارثين عند الشهادة ثم يموت من يحجبهما فيصيرا وارثين بعد الشهادة، وقبل الحكم بها، فبشهادتهما مردودة لحدوث ما يمنع من قبولها عند الحكم بها فصار كما لو شهد عدلان، فلم يحكم بشهادتهما حتى فسقا ردت شهادتهما في العدالة، لحدوث الفسق عند الحكم بها. والثاني: يصيرا وارثين بعد الحكم بهشادتهما فهي ماضية لا تنقضي بحدوث ما تجدد بعد نفوذ الحكم بها، كما لو حكم بشهادة العدلين ثم فسقا لم ينقص الحكم بحدوث فسقهما، والله أعلم. فصل: والثانية أن يكونا وارثين عند الشهادة ويحدث من يحجبهما فيصيرا غير وارثين بعدها، فلا يكون الحكم بما تقدم من شهادتهما لاقتران التهمة فإن استأنفهما بعد أن صارا غير وارثين ففي جواز قبولها على ما مضى من الوجهين في إعادة شهادتهما بعد اندمال الجرح، والله أعلم.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو شهد من عاقلته بالجرح لم أقبل وإن كان فقيرًا لأنه قد يكون له ماٌل في وقت العقل فيكون دافعًا عن نفسه بشهادته ما يلزمه. قال المزني رحمه الله: وأجازه في موضع آخر إذا كان من عاقلته في قرب النسب من يحمل العقل حتى لا يخلص إليه الغرم إلا بعد موت الذي هو أقرب". قال في الحاوي: وصورتها في شاهدين شهدا على رجل بالقتل، وشهد شاهدان من عاقلة القاتل بجرحهما، فالقتل المشهود به ضربان: عمد، وخطأ، فإن كان عمدًا قبلت شهادة العاقلة بجرح الشاهدين على القتل، لأن القتل العمد لا يتوجه على العاقلة منه حكم فلم يهتموا في الشهادة بالجرح، لأنهم لا يدفعون بها ضررًا ولا يجرون بها نفعًا، وإن كان القتل خطأ فعلى ضربين: أحدهما: أن تكون الشهادة على إقراره به فتقبل شهادة العاقلة في جرح الشهود لأن العاقلة لا تحمل الاعتراف فلم يتهموا في شهادة الجرح. والثاني: أن تكون الشهادة على فعل القتل فلا تقبل شهادة العاقلة في الجرح لأن دية الخطأ تجب عليهم، فإذا شهدوا بجرح شاهدي الأصل، دفعوا بها تحمل الدية عن أنفسهم، فصار كشهادة القاتل بجرحهم في قتل العمد وهي مردودة لدفعة بها عن نفسه، كذلك شهادة العاقلة في قتل الخطأ. فصل: فإذا ثبت رد شهادتهم بالجرح فهم ضربان: أحدهما: أن يكونوا عند الشهادة بوصف من يتحمل الدية لوجود شرطين: قرب النسب، ووجود الغنى فهؤلاء هم المردود شهادتهم بالجرح. والثاني: أن يكونوا عند الشهادة بوصف من لا يتحمل الدية وهم صنفان: أحدهما: من لا يتحملها لفقر. والثاني: من لا يتحملها لبعد نسبه ووجود من هو أقرب نسبًا، فإن كان ممن لا يتحملها لفقره. قال الشافعي: لم تقبل شهادته بالجرح وإن كان ممن لا يتحملها لبعد نسبه ووجود من هو أقرب منه، قال الشافعي: قبلت شهادته بالجرح فاختلف أصحابنا في اختلاف نصه فيها على وجهين: أحدهما: وهو قول المزني وطائفة من متقدمي أصحابنا أن حملوا ذلك فيها على اختلاف قولين:

أحدهما: أنه لا تقبل شهادة من لا يتحملها لقرب نسبه وتقبل شهادة من لا يتحملها لبعد نسبه على ما نص عليه في بعد النسب، لأنهما جميعًا عند شهادتهما بوصف من لا يتحمل العقل فلم يتوجه إليهما عند الشهادة بالجرح تهمة يجدان بها نفعًا، أو يدفعان بها ضررًا. والثاني: أنه لا تقبل شهادة من لا يتحملها لبعد نسبه ولفقره ولا شهادة من لا يتحملها لبعد نسبه، لأنهما قد يجوز أن يصيرا عند الحول ممن يتحملها لاستغناء الفقير وموت من هو أقرب من ذي النسب البعيد فيصيرا دافعين عن أنفسهما تحمل العقل بشهادتهما فهذا أحد الوجهين: والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي، وأبي علي بن أبي هريرة وكثير من متأخري أصحابنا أنه ليس ذلك على اختلاف قولين والجواب على ظاهره في الموضعين فلا تقبل شهادة من لا يتحملها لفقره، وتقبل شهادة من لا يتحملها لبعد نسبه على ظاهر نصه، والفرق بينهما أن الفقير معدود من العاقلة في الحال، لقرب نسبه وإن جاز أن لا يتحمل العقل عند الحول لبقاء فقره والبعيد النسب غير معدود من العاقلة في الحال، وإن جاز أن يتحمل العقل عند الحول، بموت من هو أقرب فافترق معناهما فكذلك ما اقترفنا في الشهادة وجمع المزني بين معناهما ولذلك ما جمع بينهما في الشهادة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وتجوز الوكالة في تثبيت البينة على القتل عمدًا أو خطأ فإذا كان القود لم يدفع إليه حتى يحضر الولي أو يوكله بقتله فيكون له قتله". قال في الحاوي: قد مضت هذه المسألة في كتاب الوكالة، وأعادها المزني في أول كتاب الجنايات، ثم تكررها في هذا الموضع من كتاب القسامة، ونحن نشير إليها مع تقدم استيفائها الوكالة ضربان: أحدهما: في تثبيت القصاص فتصح في قول الجمهور، ولأنها وكالة في إثبات حق ومنع منها أبو سيف، لأنه حد يدرأ بالشبهة فإذا ثبت القصاص لم يكن للوكيل أن يستوفيه في قول الجمهور لقصور تصرفه على ما تضمنته الوكالة في تثبيت القصاص دون استيفائه وجوز له ابن أبي ليلى الاستيفاء لمطلق الوكالة كما يجوز له بمطلقها في المبيع قبض الثمن، وقد ذكرنا الفرق بينهما فإن اقتص الوكيل وجب عليه القود. والثاني: أن يكون له استيفاء فظاهر ما نص عليه في هذا الموضع جواز الوكالة وظاهر ما نص عليه في كتاب الوكالة بطلانها فاختلف أصحابنا فمنهم من خربه على اختلاف قولين، وقد شرحنا كلا الطريقتين، فإن قيل بأن الوكالة في الاستفتاء لا

تصح منع الوكيل من القصاص فقد أساء ولا ضمان عليه، لأنه مأذون له في فساد عقده، وإن قيل بجواز الوكالة في الاستيفاء، فإن عقدت الوكالة بعد ثبوت القصاص صحت وإن عقدت قبل ثبوت القصاص ففي صحتها وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي: لا تصح الوكالة لعقدها قبل ثبوت الاستحقاق. والثاني: تصح الوكالة لأن القصاص مستحق بالقتل فصارت الوكالة معقودة بعد الاستحقاق وهكذا لو جمع له في عقد الوكالة بين تثبيت القصاص، وبين استيفائه، صحت الوكالة في إثباته، وفي صحتها في استيفائه وجهان: فإذا صحت الوكالة في الاستيفاء فهل يلزم إحضار المولى حيث يعلم الوكيل أو الحاكم بطلبه وعفوه؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي المروزي، يلزم حضوره إلي حيث لا يخفى على الوكيل أو الحاكم حاله في بقائه على الطلب أو حدوث العفو، لأنه قود يفوت استدراكه، والظاهر من أحوال أهل الدين الذين وصفهم الله تعالى بالرأفة والرحمة أن يعفو بعد ظهور القدرة. والثاني: لا يلزم أن يقرب كما لم يلزم أن يحضر، لأن ظاهر حاله بقاؤه على استيفاء ما وكل فيه ولا يمنع من ذلك فوات استدراكه كما لم يمنع من التوكيل في عقد النكاح، وفي الطلاق الثلاث، مع فوات استدراكه، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا أمر السلطان بقتل رجٍل أو قطعه اقتص من السلطان لأنه هكذا يفعل ويعزر المأمور". قال في الحاوي: وقد مضت هذه المسألة في أول كتاب الجنايات وهو أن يأمر السلطان رجلًا بقتل رجل مظلمًا فقتله المأمور لم يخل حاله من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يعتقد أن السلطان محق في قتله، وأنه لا يرى قتل أحد ظلمًا فعلى السلطان الآمر القود، دون المأمور القاتل، لأن المأمور كالآلة لالتزامه طاعة سلطانه، والسلطان هو القتل لنفوذ أمره، ولا تعزير على المأمور، لأنه أطاع فيما ظاهره حق. والثاني: أن يكون القتل مختلفًا في استحقاقه، كقتل مسلم بالكافر، والحر بالعبد، فيعقد السلطان الآمر وجوبه، لما أداه اجتهاده إليه، ويعتقد المأمور سقوطه لما يعتقده من مذهبه، فلا قصاص على واحد منهما لكن يعزر المأمور لإقدامه على قتل يعتقد حظره، وإن سقط القود باجتهاده كالآمر.

باب الحكم في الساحر إذا قتل بسحره

والثالث: أن يكون القتل محظورًا ودم المقتول محقونًا والمأمور عالم بظلمه إن قتل، فهذا على ضربين: أحدهما: أن لا يكون من الآمر إكراه للمأمور، فالقود واجب على المأمور دون الآمر لمباشرته لقتل مظلوم باختياره ويعزر الآمر تعزير مثله لأمره بقتل هو مأمور يمنعه. والثاني: أن يكون من الآمر إكراه للمأمور صار به الآمر قاهرًا والمأمور مقهورًا فالقود على الآمر القاهر واجب، ولا تمنع ولايته من استحقاق القود عليه، بخلاف ما ذهب إليه بعض من يدعي العلم من إعفاء الولاة من القصاص، لئلا يستوي الشريف والمشروف، والوالي والمعزول، وقد أعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم القصاص من نفسه وكذلك خلفاؤه الراشدون من بعده، ولأن أولى الناس بإعطاء الحق من نفسه من يتولى أخذ الحقوق لغيره لقول الله تعالى: {أَتَامُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} [البقرة 44] ويكون القهر من هذا الآمر فسقًا وهل ينعزل به عن إمامته أم لا؟ على وجهين: أحدهما: ينعزل، لأن العدالة شرطًا في عقد إمامته. والثاني: لا ينعزل به حتى يعزله أهل العقد والحل، إن أقام على حاله ولم يتب عند استتابته، لأن ولايته انعقدت بهم فلم ينعزل عنها إلا بهم، فأما المأمور المقهور ففي وجوب القود عليه، قولان: أحدهما: يجب عليه القود، لأن لا يستحق إحياء نفسه بقتل غيره. والثاني: لا قود عليه، واختلف أصحابنا في علته، فذهب البغداديون إلي أن العلة في سقوط القود عنه أن الإكراه شبهة يدرأ بها الحدود، فعلى هذا يسقط القود عنه وتجب الدية عليه ويلزمه نصفها، لأنه أحد قاتلين، لأن الشبهة تدرأ بها الحدود ولا تدفع بها الحقوق، وذهب البصريون إلي أن العلة في سقوط القود عنه، أن الإكراه إلجاء وضرورة، ينقل حكم الفعل عن المباشرة إلي الآمر فعلى هذا لا قود عليه ولا دية، والله أعلم بالصواب. باب الحكم في الساحر إذا قتل بسحره أصل ما جاء في السحر قول الله تعالى: {واتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ ومَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ومَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ ومَارُوتَ} [البقرة: 102] الآية. ونحن ذكر ما قاله المفسرون فيها وما احتمله تأويل معانيها ليكون حكم السحر محولًا عليها. أما قوله تعالى: {واتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} [البقرة: 102] فيه وجهان: أحدها: ما تدعي. والثاني: ما تقرأ وفيها تتلوه وجهان: أحدهما: السحر. والثاني: الكذب على سليمان وفي الشياطين هاهنا وجهان:

أحدهما: أنهم شياطين الجن وهو المطلق من هذا الاسم. والثاني: أنهم شياطين الإنس المتمردون في الضلال، ومنه قول جرير: أيام يدعونني الشيطان من غزلي ... وكن يهونني إذا كنت شيطانا وفي قوله تعالى على ملك سليمان وجهان: أحدهما: يعني في ملك سليمان لما كان حيًا وتكون على بمعنى في. والثاني: على كرسي سليمان، بعد وفاته، لأنه كان من آلات ملكه ويكون على مستعملًا على حقيقته وفي قوله: {ومَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة 102] وجهان: أحدهما: يعني وما سحر سليمان ولكن الشياطين سحروا فعبر عن السحر بالكفر، لأنه يؤول إليه. والثاني: أنه مستعمل على حقيقة الكفر، لأن سليمان لم يكفر ولكن الشياطين كفروا. فإن قيل: إن المراد به السحر، ففيه وجهان: أحدهما: أن الشياطين كانوا يسترقون السمع ويستخرجون السحر فأطلع الله سليمان عليه فأخذه منهم دفنه تحت كرسيه فلما مات سليمان دلوا عليه الإنس ونسبوه إليه. وإن قيل: إنه محمول على حقيقة الكفر، ففيما أريد قوله: {ومَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ} [البقرة: 102] وجهان: أحدهما: ما كفر بالسحر. والثاني: ما كفر بما حكاه عن الله تعالى من تسخير الرياح والشياطين له، وفي المراد بقوله تعالى: {ولَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 102] وجهان: أحدهما: كفروا بما استخرجوه من السحر. والثاني: كفروا بما نسبوه إلة سليمان من السحر ثم قال" {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] وفيه وجهان: أحدهما: معناه أعلموهم ولم يعلموهم فيكون من الإعلام لا من التعليم وقد جاء في كلامهم تعلم بمعنى أعلم، كما قال الشاعر: تعلم أن بعد الغي رشدا ... وإن لذلك الغي انقشاعا والثاني: أنه التعليم المستعمل على حقيقته، وفي تعليمهم للناس السحر وجهان: أحدهما: أنهم ألقوه في قلوبهم فتعلموه. والثاني: أنهم دلوهم على إخراجه من تحت الكرسي فتعلموه، وفي قوله: {ومَا أُنزِلَ عَلَى المَلَكَيْنِ} [البقرة: 102] وجهان: أحدهما: أنهما ملكان من ملائكة السماء قوله من قرأ بالفتح.

والثاني: أنهما ملكان من ملوك الأرض قاله من قرأ بالكسر في ما هاهنا وجهان: أحدهما: أنها بمعنى الذي، وتقديره الذي أنزل على الملكين. والثاني: أنهما بمعنى النفي، وتقديره ولم ينزل على الملكين، ببابل وفيه وجهان: أحدهما: أنها أرض الكوفة وسوادها سميت بذلك حين تبلبلت الألسن بها. والثاني: أنها من نصيبين إلي رأي العين، وهاروت وماروت فيهما وجهان: أحدهما: أنهما اسمان للملكين. والثاني: أنهما اسمان لشخصين غير الملكين وفيهما وجهان: أحدهما: أنهما من الملائكة اسم أحدهما هاروت، والآخر ماروت. قاله من زعم أن الملكين المذكورين من قبلهما من ملوك الأرض. والثاني: أنهما من ناس الأرض، اسم أحدهما هاروت والآخر ماروت من أهل الجبل، قاله من زعم أن الملكين المذكورين هما من ملائكة السماء، فإن قيل إنهما من الملائكة، ففي سبب هبوطهما وجهان: أحدهما: اختيار الملائكة لأنهم عجبوا من عصاة الأرض فأهبط منهم هاروت وماروت في صورة الإنس فأقدما على المعاصي وتعليم النصيحة وهذا يستبعد في الملائكة المعصومين من المعاصي لكن قاله كثر من المفسدين فذكرته. والثاني: أن الله تعالى أهبطهما لينهيا الناس عن السحر، وإن قيل: إنهما من ناس الأرض ففيهما وجهان-أنهما كانا مؤمنين، وقيل كانا نبيين من أنبياء الله تعالى ولذلك نهيا عن الكفر. والثاني: أنهما كانا كافرين ولذلك علما السحر، ثم قال: {ومَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} [البقرة: 102] فيه وجهان: أحدهما: أنه على وجه النفي. وتقديره: لا يعلمان أحد السحر فيقولان-إنما نحن فتنة فعلى هذا يكون راجعًا إلي من انتفت عنه المعصية من الملكين أو من هاروت وماروت. والثاني: أنه إثبات لتعليم السحر على شرط أن يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فعلى هذا فيه وجهان: أحدهما: أنه راجع إلي من أضيفت إليه المعصية من الملكين ومن هاروت وماروت ويكون تأويل قوله على هذا الوجه {إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} [البقرة: 102] أي شيء عجيب مستظرف الحسن كما يقال للمرأة الحسناء فتنة وهذا تأويل قوله فلا تكفر بما جئناك به وتطرحه بل صدق به وأعمل عليه. والثاني: أنه راجع إلي من انتفت منه المعصية من الملكين أو من هاروت وماروت فعلى هذا هل لملائكة الله وأوليائه تعليم الناس السحر أم لا؟ فيه وجهان:

أحدهما: لهم تعليم الناس السحر لينهوا عنه بعد علمهم به لأنهم إذا جهلوا لم يقدروا على الاجتناب منه كالذي لا يعرف الكفر لا يمكنه الامتناع منه. والثاني: ليس لهم تعليم السحر ولا إظهاره للناس لما في تعليمه من الإغراء بفعله، وقد كان السحر فاشيًا تعلموه من الشياطين فاختص الملكان بالنهي عنه ويكون تأويل قوله على كلا الوجهين إنما نحن فتنة أي اختبار وابتلاء وفي قوله: فلا تكفر وجهان: أحدهما: فلا تكفر بالسحر. والثاني: فلا تكفر بتكذيبك لنهي الله عن السحر ثم قال: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا} [البقرة: 102] فيه وجهان: أحدهما: من هاروت وماروت. والثاني: من السحر والكفرة {مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المَرْءِ وزَوْجِهِ} [البقرة: 102] فيه وجهان: أحدهما: يفرقون بنيهما بالسحر الذي تعلمون. والثاني: يفرقون بينهما بالكفر لأن اختلاف الدين بالإيمان والكفر مفرق بين الزوجين كالردة ثم قال تعالى: {ومَا هُم بِضَارِّينَ بِهِ} [البقرة: 102] من يعني بالسحر {مِنْ أَحَدٍ إلاَّ بِإذْنِ اللَّهِ} [البقرة: 102] فيه وجهان: أحدهما: بأمر الله. والثاني: بعلم الله ثم قال: {ويَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ ولا يَنفَعُهُمْ} [البقرة: 102] يعني يضرهم في الآخرة ولا ينفعهم في الدنيا ثم قال: {ولَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ} [البقرة: 102] يعني السحر بما يبذله للساحر {مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ} [البقرة: 102] فيه وجهان: أحدهما: من نصيب. والثاني: من دين. فصل: فإذا تقرر ما ذكرنا من تفسير الآية التي هي أصل يستنبط منه أحكام السحر فقد اختلف أهل العربية في معنى السحر في اللغة على وجهين: أحدهما: أنها إخفاء الخداع وتدليش الأباطيل ومنه قول امرئ القيس: أرانا موضعين لأمر غيب ... ونسخر بالطعام وبالشراب أي نخدع. والثاني: قاله ابن مسعود كنا نسمي السحر في الجاهلية العضة والعضة شهادة البهت وتمويه الكذب، وأنشد الخليل: أعوذ بربي من النفاثات ... ومن عضة العاضة المعضة والكلام في السحر يشتمل على ثلاثة فصول:

أحدهما: في حقيقة السحر. والثاني: في تأثير السحر. والثالث: في حكم السحر. فأما الفصل الأول: في حقيقة السحر، فقد اختلف الناس فيها، فالذي عليه الفقهاء والشافعي وأبو حنيفة ومالك وكثير من المتكلمين أنه له حقيقة وتأثيرًا وذهب معتزلة المتكلمين والمغربي من أهل الظاهر، وأبو جعفر الاستراباذي من أصحاب الشافعي، إلي أن لا حقيقة للسحر ولا تأثير وإنما هو تخييل وتمويه كالشعبذة لا تحدث في المسحور إلا التوهم وللاستشعار استدلالًا بقوله تعالى: في قصة فرعون وموسى {فإذَا حِبَالُهُمْ وعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى} [طه: 66 - 67] فأخبر أنه تخييل لا حقيقة له، وذلك أنهم جعلوا فيما مثلوه بالحيات من الحبال والعصي زئبقًا واستقبلوا بها مطلع الشمس فلما حمى بها ساح وسرى فسرت تلك الحبال كالحيات السارية ومعلوم من هذا أنه تخييل باطل، ولأنه لو كان للسحر حقيقة لخرق العاجات، وبطل به المعجزات وزالت دلائل النبوات ولما وقع الفرق بين النبي والساحر، وبين الحق والباطل وفي هذا دفع الأصول الشرائع وإبطال الحقائق وما أدى إلي هذا فهو مدفوع عقلًا وشرعًا، والدليل على أن السحر حقيقة وتأثيرًا ما قدمناه من الآية على ما بيناه من التفسير مع اختلاف مع تضمنها من التأويل ولو لم تكن له حقيقة لأبان فساده ولذكر بطلانه، ولما كان للنهي عنه موقعًا وفي هذا ردًا لما نطق به التنزيل فكان مدفوعًا، ويدل عليه قوله تعالى: {ومِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي العُقَدِ} [الفلق: 4]. والنفاثات السواحر، في قول الجميع ينفش في عقد الخيط للسحر. روى الحسن عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر ومن سحر فقد أشرك ومن تعلق شيئًا وكل إلي فلو لم يكن للسحر تأثير لما أمر بالاستعاذة من شره ولكان السحر كغيره. ويدل عليه ما روى أبو صالح عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم اشتكى شكوى شديدة فبينما هو كالنائم واليقظان إذا ملكان أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه فقال أحدهما: ما شكواه فقال: مطبوب أي مسحور والطب السحر قال: ومن طبه قال: لبيد بن أعصم اليهودي، وطرحه في بئر ذروان تحت صخرة فيها. فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عمار بن ياسر فاستخرج منها وترًا فيه إحدى عشرة عقدة'فأمر بحل العقد فكان كما حل عقدة وجد راحة حتى حلت العقد كلها فكأنما نشط من عقال. فنزلت عليه المعوذتان وهما إحدى عشر آية بعدد العقد، وأمر أن يتعوذ بهما وقد روي هذا الخبر من طرق شتى تختلف ألفاظه وتتفق معانيه ورواه الشافعي عن سفيان بن عيينة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث أيامًا يخيل إليه أنه يأتي النساء ولا يأتيهن فاستيقظ ذات ليلة وقال: يا عائشة قد أفتاني ربي فيما استفتيته فيه

أتاني رجلان في المنام وذكرت مثله حديث ابن عباس على اختلاف في الألفاظ. وإذا أثر في رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فعل، وأثر فيه حين نشط لما عصمه الله تعالى من بين خلقه كان أولى أن يؤثر في غيره فإن قيل: رسول الله صلى الله عليه وسلم معصوم من السحر لما في استمراره من خلل العقل وقد أنكر الله تعالى على من قال في رسوله: {وقَالَ الظَّالِمُونَ إن تَتَّبِعُونَ إلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا} [الفرقان: 8] قبل عصمة الرسول مختصة بعقله ودينه وهو في المرض كغيره من الناس وقد سم يهود ذراعًا مشوية وقدمت إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكل منها ومرض في آخر عمره فكان يقول: ما زالت أكلت خيبر تعادني فهذا أوان قطعت أبهري فكان في ذلك كغيره، ولما أجرى الشيطان على لسانه حين قرأ في سورة النجم: {أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ والْعُزَّى (19) ومَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النجم 19 - 20] تلك الغرانيق العلي وإن شفاعتهم لترتجي أزل الله تعالى ذلك عنه وعصمه منه، ويدل عليه ما روى نافع عن ابن عمر قال: أرسلني عمر بن الخطاب إلي خيبر لأقسم ثمارها بينهم وبين المسلمين فسحروني فتكوعت بيدي فأجلاهم عمر عن الحجاز، فلولا أن للسحر حقيقة وتأثرًا لما أجمع عليه الصحابة وانتشر في الكافة، لما أجلاهم عمر من ديارهم ولراجعته الصحابة فيهم كما راجعوه في غيره من الأمور العظيمة المحتملة. وقد روى بجالة قال: كتب عمر أن اقتلوا كل ساحر وساحرة فقلنا: ثلاث سواحر ويدل عليه أن الله تعالى جعل معجزة موسى في العصا لكثرة السحر في زمانه ومعجزة عيسى بإحياء الموتى لكثرة الطب في زمانه ومعجزة محمد صلى الله عليه وسلم القرآن لكثرة الفصحاء في زمانه. فلو لم يكن للسحر حقيقة، كما للطب والفصاحة حقيقة، لضعف معجزة موسى في علوه على السحرة لأنه دفع ما لا تأثير له وليس لدفع ما لا تأثير له تأثير، وإنما التأثير في دفع ماله تأثير كما كان لإحياء الموتى تأثير على الطب ولفصاحة القرآن على فصاحة الكلام تأثير. فأما الجواب عن استدلالهم بالآية، فهو أن حقيقة السحر آثاره وإن لم تكن لأفعال السحر حقيقة وقد أثر سحرهم في موسى ما أوجسه من الخوف في نفسه. وأما الجواب عن استدلالهم بما فيه خرق العادات وإبطال المعجزات، فهو خرق العادات في غير السحرة وليس بخرق العادات في السحرة كما أن الشعبذة خرق العادات في غير المتشعبذة وليس بخرق العادات في المتشعبذة وليس فيه إبطال المعجزات، لأن الشعبذة في خرق العادات كالسحر وليس فيها إبطال المعجزات، فكذلك السحر، لأن خرق العادات بالمعجزات مخالف لخرقها بالسحر والشعبذة، لأن أفعال المعجزات حقيقة وأفعال السحرة مستحيلة لأن موسى لما فلق البحر ظهرت أرضه حتى سار فيه موسى وقومه على اليابس، ولما ألقى السحرة حبالهم حتى ظنها الناظر حيات ظهر استحالتها وعادت إلي حالها، والله ولي العصمة. وأما الفصل الثاني وهو تأثير السحر.

فقد ذهب قوم ممن ضعفت في العلم مخابرهم، وقلت فيه معرفتهم إلي أن الساحر قد يقلب بسحره الأعيان، ويحدث به الأجسام، ويجعل الإنسان حمارًا بحسب ما هو عليه من قوة السحر وضعفه، وهذا واضح الاستحالة من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه لو ثبت على هذا لصار خالقًا وهو مخلوق ورازقًا وهو مرزوق وربًا وهو مربوب، وشارك الله تعالى في قدرته وعارضه في حكمته. والثاني: أنه لو قرر على هذا في غيره لقدر عليه في نفسه فيردها إلي الشباب بعد الهرم، وإلي الوجود بعد العدم يدفع الموت عن نفسه فصار من المخلدين وباين جميع المخلوقين. والثالث: أنه يؤدي إلي إبطال جميع الحقائق، وأن لا يقع فرق بين الحق والباطل ولجاز أن تكون جميع الأجسام مما قيلت السحرة أعيانها، فيكون الحمار إنسانًا والإنسان حمارًا فإذا وضحت استحالة هذا القول بما ذكرنا، فالذي يؤثره السحر عند الشافعي وجماعة الفقهاء أن يوسوس ويمرض وربما قتل، لأن السحر تخييل، كما قال الله تعالى: {يُخَيَّلُ إلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} [طه 66] والتخييل بدوا الوسوسة بدو المرض والمرض بدو التلف، فإذا قوي التخييل حدث عنه الوسوسة، وإذا قويت الوسوسة، حدث عنها المرض، وإذا قوي المرض حدث عنه التلف، فيكون أول مبادئه التخييل ثم الوسوسة ثم التلف وهو غايته فهذه آثار السحر. وأما الفصل الثالث، وهو أحكام السحر فيشتمل على قسمين: أحدهما: حكم السحر. والثاني: حكم تعلم السحر، فأما القسم الأول في حكم الساحر فقد اختلف فيه الفقهاء، فذهب أبو حنيفة ومالك إلي أنه كافر يجب قتله ولم يقطعا بكفره ومذهب الشافعي أنه لا يكفر بالسحر ولا يجب به قتله ويسأل عنه، فإن اعترف معه، بما يوجب كفره وإباحة دمه كان كافرًا بمعتقده لا بسحرة وكذلك لو اعتقد إبانة السحر صار كافرًا باعتقاد إباحته لا بفعل فيقتل حينئٍذ بما انضم إلي السحر لا بالسحر بعد أن تعرض عليه التوبة فلا يتوب. واحتج من أوجب به القتل برواية الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: حد الساحر ضربة بالسيف يعني به القتل، وبرواية عمرو بن دينار عن بجالة قال: كتب عمر بن الخطاب: أن اقتلوا كل ساخر فقتلنا ثلاث سواحر ولم يكن من الصحابة خلاف فثبت أنه إجماع وبما روي أن جارية لحفصة سحرت حفصة فبعثت بها إلي عبد الرحمن بن زيد فقتلها ولأن الساحر يضاهي بسحره أفعال الخالق ومثل هذا يوجب القتل. ودليلنا قول النبي صلى الله عليه وسلم أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم، إلا بحقها فكان على عمومه في كل من قالها من ساحر وغير ساحر، ولأن لبيد بن أعصم اليهودي حليف بني زريق قد سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم

يقتله وهو تحت قدرته، وقد كان على عهده كثير من السحرة فما قتل واحدًا منهم ولو وجب قتلهم ما أضاع حدود الله تعالى فيهم. وروي أن عائشة رضي الله عنها مرضت فسأل بعض بني أخيها طبيبًا من الزط عن مرضها فقال: هذه امرأة سحرتها أمتها فسألت عائشة أمتها وكانت مدبرة لها فاعترفت بالسحر وقالت: سألتك العتق فلم تعتقيني فباعتها عائشة واشترت بثمنها أمة أعتقتها، ولو كان قتلها مستحقًا ما استجارت بيعها واستهلاك ثمنها على مشتريها، وكانت الصحابة تنكر عليها بيعها، ولأن السحر تخييل كالشعبذة، وهي لا توجب الكفر والقتل فكذلك السحر. فأما الجواب عن الخبر، فرواه الحسن وهو مرسل، وضربة بالسيف، قد لا يكون قتلًا فلم يكن صريحًا فيه: وأما حديث عمر فراوية بجالة لم يلق عمر فكان أيضًا مرسلًا ولو صح لكان مذهبًا له، وأما حفصة فقد أنكر عثمان بن عفان رضي الله عنه عليها قتلها ولو كان مستحقًا لم ينكره، وأما قولهم إنه مضاه لأفعال الخالق عليه وفيه، لأن غاية سحره أن يؤذي وليس كل مؤٍذ ومضر مضاهيًا لأفعال خالقه كالضارب والقاتل. فصل: وأما القسم الثاني: وهو حكم تعلم السحر: وتعلمه محرم محظور؛ لأنه تعلمه داع إلي فعله والعمر به وما دعا إلي المحظور كان محظورًا وقد روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ليس منا من سحر له وليس منا من تكهن له وليس منا من تطير أو تطير له: فإن تعلمه لم يكفر به. وقال أبو حنيفة: يكفر بتعلمه لقول الله تعالى: {ولَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [البقرة: 102] وهذا مذهب، يفسد من وجهين: أحدهما: أن الإيمان والكفر مختص بالاعتقاد وتعلم السحر ليس باعتقاد فلم يطلق عليه الكفر. والثاني: أن تعلم الكفر أغلط من تعلم السحر وهو لا يكفر بتعلم الكفر فأولى أن لا يكفر بتعلم السحر، فأما الدية فهي واردة في معلم السحر دون متعلمه وفوق ما بين المعلم والمتعلم لأن المعلم مثبت والمتعلم متخير كما وقع الفرق بين معلم الكفر ومتعلمه وعلى أن الشياطين كانوا كفرة بغير السحر، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا سحر رجلًا فمات سئل عن سحره فإن قال أنا أعمل هذا لأقتل فأخطئ القتل وأصيب وقد مات من عملي ففيه الدية وإن قال مرض منه ولم يمت أقسم أولياؤه لمات من ذلك العمل وكانت الدية وإن قال عملي يقتل

المعمول به وقد عمدت قتله به قتل به قودًا". قال في الحاوي: وأنا السحر فهو ما يخفى فعله من الساحر ويخفى فعله من المسحور فلا يمكن أن يوصف في الدعوى على الساحر ولا تقوم به بينة في المسحور، فإذا ادعى رجل على ساحر أنه سحر وليًا له، فقتله بسحره، لم يستوصف عن السحر لخفائه عليه ولا يكلف البينة لامتناعها فإذا امتنعا رجع إلي سؤال الساحر على سحر أو لم يسحر، فإن أنكر أن يكون ساحرًا أو اعترف بالسرح وأنكر أن يكون قد سحره فالقول قوله مع يمينه ولا شيء عليه وإن اعترف أنه سحره سئل عن سحره، لأن آثار السحر مختلفة وليس يمكن العمل فيها إلا على قول الساحر ولا يخلو حال بيانه من أربعة أقسام: أحدها: أن يقول: عمدت سحره وسحري يقتل في الأغلب وإن جاز أن لا يثتل فهذا قاتل عمد محض وعليه القود. وقال أبو حنيفة: لا قود عليه بناء على أصله في أن قود إلا بالمحدد، ودليلنا أنه قتله بما قتل مثله في الأغلب، فوجب أن يستحق في عمده القود كالمحدد. والثاني: أن يقول: سحري لا يقتل في الأغلب وإن جاز أن يقتل وقد مات من سحري، فهذا قاتل عمد شبه الخطأ عليه الدية مغلظة دون القود. وقال أبو حنيفة: لا دية عليه احتجاجًا بأن القتل إنما يضمن بالمباشرة أو بالأسباب الحادثة عن المباشرة وليس في السحر واحد منها فلم توجب ضمان النفس كالشتم والبهت. ودليلنا: هو أن القتل حدث عن سبب قاتل فجاز أن يتعلق به ضمان النفس كالسم وحفر بئر ولأنه ليس يمتنع أن ينفصل من الساحر ما يتصل بالمسحور، كما ينفصل من المتثاوب ما يتصل بالمقابل له فيثاوب وكما ينفصل من نظر الذي يعين ما استحسن فيتصل بالمعين والمستحسن. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: العين حق كما أنا حق وفي هذا الدليل انفصال. والثالث: أن يقول: سحري يمرض ولا يقتل وقد أمرضه سحري ومات بغيره فهذا يعتبر فيه حال المسحور فإذا لم يزل ضمنًا مريضًا من وقت السحر إلي وقت الموت فالظاهر منه حدوث موته من مرض سحره، فيكون القول قول ولي المسحور مع يمينه، وإن كان قد انقطع عنه المرض وصار داخلًا خارجًا فالظاهر من موته أنه بسبب حادث غير سحره، فيحلف الساحر: لقد مات من غير سحره كالجراحة إذا حدث بعدها موت المجروح، واختلف الولي والجارح فإن لم يندمل الجرح، وكان على ألمه، فالقول قول الولي مع يمينه، وإن اندمل وزال الألم فالقول قوم الجارح مع يمينه. والرابع: أن يقول سحري قد يمرض ولا يمرض وما أمرضه سحري فالقول قوله مع يمينه ولا شيء عليه ويعزر أدبًا وزجرًا ويستتاب، فإن لم يتب عزر إذا سحر ولا يعزر بعد امتناعه من التوبة إذا لم يسحر، وبالله التوفيق.

كتاب الشهادات الثاني

كتاب الشهادات الثاني باب من تجوز شهادته ومن لا تجوز ومن يشهد بعد رد شهادته. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ليس من الناس أحد نعلمه إلا أن يكون قليلًا يمحض الطاعة والمروءة حتى لا يخلطهما بمعصيٍة ولا يمحض المعصية وترك المروءة حتى لا يخلطهما شيئًا من الطاعة والمروءة فإذا كان الأغلب على الرجل الأظهر من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته وإذا كان الأغلب الأظهر من أمره المعصية وخلاف المروءة ردت شهادته". قال في الحاوي: وإنما فصل المزني الشهادات كتابين، أولًا وثانيًا، لأن الأول متصل بالحكم، فأضافه إلي أدب القاضي. والثاني: في صفة الشاهد في القبول والرد أفرده عن الأول. والمقبول الشهادة، وهو العدل، والمردود الشهادة هو الفاسق فأما قبول شهادة من العدل، فلقوله تعالى {وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: 2]. وقوله: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ} [البقرة: 282] والرضا متوجه إلي العدل منتصف عن الفاسق. وأما التوقف عن شهادة الفاسق فلقوله تعالى: {إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] والنبأ: الخبر. وكل شهادة خبر وإن لم يكن كل خبر شهادة. ولقوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18]. فالمنع من المساواة إذا أوجب قبول العدل أوجب رد الفاسق وقيل إن هاتين الآيتين في الفاسق نزلتا في الوليد بن عقبة بن أبي معيط. وسبب نزول الآية الأولى فيه، أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذه إلي قبيلة مصدقًا فأخذ من صدقتها، وكان بينه وبين القوم إحن، فتوجه إليهم وعاد فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم منعوه الصدقة ولم يمنعوه، فهو بغزوهم حتى أنزل الله تعالى فيه {إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] فكفى عنهم وعلى بحالهم. وأما الآية الثانية فبسبب نزلها: أنه استطال على علي بن أبي طالب عليه السلام

ذات يوم وقال: أنا أثبت منك جنانًا، أفصح منك لسانًا، وأهد منك سنانًا فنزل فيه {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لاَّ يَسْتَوُونَ} يعني بالمؤمن علي ابن أبي طالب وبالفاسق الوليد بن عقبة {يَسْتَوُونَ} يعني في أحكام الدنيا ومنازل الآخرة. وأما اسم العدل فهو العديل، لأنه معادل لما جازاه والمعادلة المساواة، وهو في الشرع حقيقة فيما كان مرضي الدين والمروءة لاعتداله. وأما اسم الفاسق فهو في اللغة: مأخوذ من الخروج عن الشيء يقال: فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها، فسمي الغراب فاسقًا لخروجه من مألفه وسميت الفأرة قويسقة لخروجها من جحرها. وهو في الشرع حقيقة فمن كان مسخوط الدين والطريقة لخروجه عن الاعتدال. فصل: فإذا تقرر فرق ما بين العدل والفاسق، وجب العدول إلي صفة العدل وإلي صفة الفاسق، ليكون من وجدت فيه العدالة مقبولًا، ومن وجد فيه الفسق مردودًا. فالعدل في الشهادة من تكاملت فيه ثلاثة خصال: إحداهن: أن يكون من أهلها، وذلك بثلاثة أمور: أن يكون مكلفًا، حرًا، مسلمًا. وليس عدم التكليف والحرية موجبًا لفسقه وإن كان وجودهما شرطًا في عدالته. والثانية: كمال دينه، وذلك بثلاثة أمور: أن يكون محافظًا على طاعة الله تعالى في أوامره مجانبًا لكبائر المعاصي غير مصر على صغائرها. والكبائر: ما وجبت فيها الحدود وتوجه إليها الوعيد. والصغائر: ما قيل فيها الإثم. قال الله تعالى: {إن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31]. وقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ والْفَوَاحِشَ إلاَّ اللَّمَمَ} [النجم: 32]. وفي هذه الكبائر لأهل التأويل أربعة أقاويل: أحدها: ما زجر عنه بالحد. والثاني: ما لا يكفر إلا بالتوبة. والثالث: ما رواه شرحبيل عن ابن مسعود قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكبائر. فقال: "أن تدعو لله ندًا وهو خلقك وأن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك، وأن تزاني بحليلة جارك".

والرابع: ما روى سعيد بن جبير أن رجلًا سأل ابن عباس: كم الكبائر؟ أسبع هي؟ قال: هي إلي سبعمائة أقرب منها إلي سبع، لا كبيرة مع استغفار ولا صغيرة مع إصرار. فكان يرى كبائر الإثم ما لم يستغفر الله عنه إلا بالتوبة. وأما الفواحش ففيها قولان: أحدهما: أنها الزنا. والثاني: أنها جميع المعاصي. وأما اللم ففيه أربعة أقاويل: أحدها: أن يعزم على المعصية ثم يرجع عنها قد روى عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس أني النبي صلى الله عليه وسلم قالك"إن تغفر اللهم تغفر جمًا وأي عبد لك إلا ألمًا". والثاني: أن يلم بالمعصية يفعلها ثم يتوب عنها، قاله الحسن ومجاهد. والثالث: أن اللمم ما لم يجب عليه حد في الدنيا، ولم يستحق عليه في الآخرة عقاب. قاله مجاهد. والرابع: أن اللمم ما دون الوطء من القبلة والغمزة، والنظرة والمضاجعة. قاله ابن مسعود. وروى طاوس عن ابن عباس قال: ما رأيت أشبه باللمم من قول أبي هريرة رضي الله عنه: عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كتب الله على كل نفس حظها من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العينين النظر، واللسان النطق، هي النفس تمني وتشتهي والفرج يصدق ذلك أو يكذبه". والثالثة: ظهور المروءة. وهي على ثلاثة أضرب: ضرب يكون شرطًا في العدالة. وضرب لا يكون شرطًا فيها. وضرب مختلف فيه. وأما ما يكون شرطًا فيها فهو: مجانبة ما سخف من الكلام المؤذي أو المضحك وترك ما قبح من الضحك الذي يلهو به. أو يستقبح لمعرفته أو أدائه، فمجانبة ذلك من المروءة التي هي شرط في العدالة وارتكابها مفض إلي الفسق. ولذلك نتف اللحية من السفه الذي ترد به الشهادة، وكذلك خضاب اللحية من السفه التي ترد به الشهادة، لما فيها من تغيير خلق الله تعالى. فأما ما لا يكون شرطًا فيها فهو الإفضال بالمال والطعام والمساعدة بالنفس والجاه، فهذا من المروءة وليش بشرط في العدالة. فأما المختلف فيه فضربان: عادات، وصنائع. فأما العادات فهو أن يقتدي فيها بأهل الصيانة دون أهل البذلة، في ملبسه ومأكله وتصرفه.

فلا يتعرى عن ثيابه في بلد يلبس فيه أهل الصيانة ثيابهم. ولا ينزع سراويله في بلد يلبس في أهل الصيانة سراويلهم، ولا كشف رأسه في بلد يغطي فيه أهل الصيانة فيه رؤوسهم. وإن كان في بلد لا يجافي في أهل الصيانة ذلك فيه، كان عفوًا، كالحجاز والبحر الذي يقتصر أهله فيه على لبس المئزر. وأما المأكل فلا يأكل على قوارع الطرق ولا في مشبه، ولا يخرج عن العرف في مضغه، ولا يعاني بكثرة أكله. وأما التصرف فلا يباشر ابتياع مأكوله ومشروبه وحمله بنفسه في بلد يتجافاه أهل الصيانة إلي نظائر هذا مما فيه بذلة وترك تصون. وفي اعتبار هذا الضرب من المروءة في شروط العدالة أربعة أوجه: أحدها: أنه غير معتبر فيها لإباحته. قد باع رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى فيمن يزيد واشترى سراويل بأربعة دراهم. وقال: "يا وزان زن وأرجح". وقال الروي: فأخذته لأحمله. فقال: "دعه فصاحب المتاع أحق بحمله". وقيل لعائشة: ما كان يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم في منزله إذا خلا؟ قالت: كان يخصف النعل ويرقع الدلو. وكان أبو بكر رضي الله عنه يسلك الطريق في خلافته وهو متخلل بعباءة ربطها بشوكة. وكان عمر رضي الله عنه يلبس المرقعة، ويهنأ بعيره بيده ويقوده. وقد اشترى علي رضي الله عنه قميصًا وأتى تجارًا فوضع كمه وقال: اقطع ما فضل عن الأصابع، فقطعه بفأس فقيل له: لو كففته؟ قال: دعه يتسلل مع الزمان. وعمل بالأجر في حائط وأجر نفسه من يهودية ليسقي كل دابة بتمرة. وما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وجاز، لا يجوز أن يكون قادحًا في العدالة، لأن المروءة مشتقة من المرء وهو الإنسان فصارت الإشارة بها إلي الإنسانية، فانتفت العدالة عن من لا إنسانية فيه، ولأن المروءة من دواعي الحياة. والثاني: أن هذا الضرب من المروءة شرط معتبر في العدالة، ولأن المروءة مشتقة من المروءة وهو الإنسان، فصارت الإشارة بها للإنسانية، فانتفت العدالة عن من لا إنسانية فيه، ولأن حفظ المروءة من دواعي الحياء. وإن كان لا يفسق به، لأن العدالة في الشهادة للفضيلة المختصة بها، وهي تالية لفضيلة النبوة. قال الله تعالى: {فَكَيْفَ إذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا} [النساء 41].

وقال الله تعالى: {وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} [البقرة 143]. وقال الله تعالى: {والَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) والَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ} [المعارج 33 - 35]. وما كان بهذه المنزلة من الفضيلة امتنع أن يكون مسترسلًا في البذلة، وليس ما فعله عن الصدر الأول بذلة، لأنه لم يخرج من عرف أهله في الزهادة والانحراف عن الدنيا إلي الآخرة. وقد روى أبو مسعود البدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن مما أدرك الناس من كلام النبوة إذا لم تستح فاصنع ما شئت". ولأن إقدامه على البذلة والعدول عن الصيانة دليل على اطراح الصيانة والتحفظ في حق نفسه فكان أولى أن يقل تحفظه في حق غيره. والثالث: أنه إن كان قد نشأ عليها من صغره لم تقدح في عدالته وإن استحدثها في كبيرة قدحت في عدالته؛ لأنه يصير بالمنشأ مطبوعًا بها وبالاستحداث مختارًا لها. والرابع: إن اختصت بالدين قدحت في عدالته كالبول قائمًا وفي الماء الراكد، وكشف العورة إذا خلا، وإن يتحدث بمساوئ الناس، وإن اختصت بالدنيا لم تقدح في عدالته. كالأكل في الطريق وكشف الرأس "بين الناس"والمشي حافيًا، لأن مروءة الدين مشروعة ومروءة الدنيا مستحسنة. فصل: وأما الصنائع فضربان: مسترذل وغير مسترذل. فأما غير المسترذل كالزراعة والصناعة، فغير قادح في العدالة، لأنها مما لا يستغني الناس عن الاكتساب بصنائعهم ومتاجرهم وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وإن من الذنوب ما لا يكفر صوم ولا صلاة ويكفره عرق الجبين في طلب الحرفة". وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله". فإن قيل: فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أكذب الناس الصباغون والصواغون"قيل: هذا موقوف على أبي هريرة وليس بمسند، لأنه سمع قومًا يرجفون بشيء فقال: كذبة قالها الصباغون والصواغون.

وإن ثبت مسندًا فقد اختلف أهل العلم في تأويله. فقال بعضهم: لأنهم يعدون ويخلفون. وإخلافه الوعد كاذب. وقال آخرون: لأن الصباغين يسمون الألوان بما أشبهها فيقولون: هذا لون الشقائق ولون الشفق ولون النارنج. والصواغون يسمون الأشكال بما يماثلها، فيقولون: هذا زرع وهذا شجر، وتسمية الشيء بغير اسمه كذب. وقال آخرون: يريدون بالصباغين الذي يصبغون الكلام فيغيرون الصدق بالكذب، لأن الصبغ تغيير اللون بغيره. ويريد بالصواغين الذين يصوغون الكلام ومنهم الشعراء. لأنهم يكذبون في التشبيه والتشيب. فإن كانوا على التأويل الأول ردت به شهادتهم، لأن مخالفة الوعد كذب. وإن كانوا على التأويل الثاني، لم ترد به الشهادة، لأنه مخالفة الاسم استعارة، وإن كانوا على التأويل الثالث، ردت الشهادة في الصباغين ولم ترد في الصواغين إذا سلموا من الكذب. وأما المسترذل من الصنائع فضربان: أحدهما: ما كان مسترذلًا في الدين كالمباشرين للأنجاس من الكناسين والزبالين، والحجامين، أو المشاهدين للعورات كالقيم والمزين. والثاني: ما كان مسترذلًا في الدنيا كالنسيج والحياكة، وما يدنس برائحته كالقصاب والسماك. فإن لم يحافظ هؤلاء على إزالة الأنجاس من أيديهم وثيابهم في أوقات صلواتهم وقصروا في حقوق الله تعالى عليهم، كان ذلك جرحًا في عدالتهم وقدحًا في ديانتهم. وإن حافظوا على إزالة النجاسة، والقيام بحقوق العدالة، ففي قدح في عدالتهم ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه يقدح فيها، لأن الرضا بها في الاسترذال قدج. والثاني: أنه لا يقدح في العدالة لأنه لا يجد الناس منها بدًا. ولأنها مستباحة شرعًا. والثالث: أنه يقدح في العدالة منها ما استرذل في الدين. ولا يقدج فيها ما استرذل في الدنيا، لا سيما الحياكة لكثرة الخير في أهلها. فصل: فإذا تقرر ما ذكرنا من شروط العدالة، وأنها فعل الطاعات واجتناب المعاصي، ولزوم المروءة على التفصيل الذي ذكرنا. فقد قال الشافعي: "ليس أحد من الناس نعلمه إلا أن يكون قليلًا بمحض الطاعة والمروءة. حتى لا يخلطهما بمعصية ولا بمحض المعصية وترك المروءة حتى لا يخلطهما

بشيء من الطاعة والمروءة". وهذا صحيح لأن في غرائز أنفسهم دواعي الطاعات ودواعي المعاصي فلم يتمحض وجود أحدهما مع اجتماع سببهما وقد قال الشاعر: من لك بالمحض وليس محض ... يحيق بعض ويطيب بعض ولأن أفضل الناس الأنبياء وقد قال الله تعالى: {وعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه: 121]. وقال الله تعالى: {وظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ} [ص: 24] وقال: {ولَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف: 24] وقال تعالى في يونس: {لاَّ إلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما منا معاشر الأنبياء إلا من عصى الله أو هم بمعصية إلا أخي يحي بن زكريا". وقيل: إنه اختبر يحيى في كوز ماء رآه مملوءًا وفرغ وهو لا يعلم. وقيل له: ما في الموز فقال: كان فيه ماء، ولم يقل فيه ماء فيكون كذبًا فتحفظ حتى سلم. ولأن أعصى خلق الله إبليس وقد كانت منه طاعة في قوله تعالى: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المُخْلَصِينَ} [ص 82 - 83]. وإذا لم يسلم أحد من الطاعة والمعصية، لم يجز أن تكون العدالة مقصورة على خلوص الطاعات. ولا الفسق مقصورًا على خلوص المعاصي لامتناع خلوص كل واحد منهما. ولا اعتبار بالممتنع فوجب أن يعتبر الأغلب من أحوال الإنسان. فإن كان الأغلب عليه الطاعة والمروءة، حكم بعدالته وقبول شهادته، وإن عصى ببعض الصغائر، وإن كان الأغلب عليه المعصية وترك المروءة، حكم بفسقه ورد شهادته وإن أطاع في بعض أحواله. قال الله تعالى: {فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ (102) ومَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} [المؤمنون: 102 - 103]. وقال الله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إثْمٌ كَبِيرٌ ومَنَافِعُ لِلنَّاسِ وإثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219]. فغلب حكم الأغلب كما غلب في الإباحة والحظر حكم الأغلب وفي استعمال الماء إذا اختلط بمائع. وفي نكاح النساء إذا اختلطت بأخت إن كانت في عدد محصور، حرمن عليه حتى تتعين له من ليست بأخت فتحل، وإن كانت في جم غفير حللن له حتى تتعين له من هي أخت فتحرم.

فوجب أن يكون حكم الأغلب أصلًا معتبرًا في العدالة والفسق. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا يقبل الشاهد حتى يثبت عنده بخبٍر منه أو بينٍة أنه حر". قال في الحاوي: وقد تقرر بما ذكرنا أن العدالة في الشهادة معتبرة بثلاثة أشياء: بدينه، ومروءته، وان يكون من أهلها. فأما اعتبارها بدينة، فيكون بثلاثة أشياء: أحدهما: أن يواظب على فعل الطاعات في العبادات والمعاملات. والثاني: أن يجتنب كبائر الإثم والمعاصي من الزنا واللواط والقتل والغصب والسرقة وشرب الخمر. والثالث: أن لا يصر على صغائر المعاصي، وإصراره عليها الإكثار منها وقلة الانقباض عنها. وهذا معتبر فيه باطنًا وظاهرًا، وثبوته عند الحاكم قد يكون من وجهين: أحدهما: أن يعلمه من حاله، فيجوز أن يعمل فيه بعلمه سواء قيل للحاكم أن يحكم بعلمه أم لا؛ لأنها صفة إخبار تتقدم على الحكم. والثاني: أن يجهل حاله فتثبت عدالته بالبينة العادلة على ما وصفنا في أدب القاضي. من أهلي المعرفة الباطنة به. ولا يجوز أن يحكم بعدالته بقوله: إنني عدل، ويجوز أن يحكم فسقه بقوله: إني فاسق، لأنه متهوم في التعديل وغير متهوم في الجرح، لأن العدالة توجب له حقًا والفسق يوجب عليه حقًا. فصل: وأما المروءة فقد ذكرنا ما يعتبر فيها من المروءة في العدالة وما لا يعتبر وليس لما لا يعتبر منها تأثير. وأما المعتبر منها، فهو ظاهر في أفعال العدل، فإن عرفه الحاكم عمل فيها بمعرفته. وإن خفيت عليه سأل عنها. وهل تثبت عنده بخبر أو شهادة؟ على وجهين: أحدهما: لا تثبت عنده إلا بشهادة، كالعدالة في الدين، ولا تثبت إلا بشاهدي عدل قد جرياه على قديم الوقت وحديثه. والثاني: أنها خبر تثبت بقول من يوثق به وإن كان واحدًا، لأن العدالة في الدين باعثة عليها، فقوي الخبر بها فأقنع.

وأما كونه من أهل العدالة في الدين فتكون بأربعة أشياء: ببلوغه، وعقله، وإسلامه، وحريته. فأما البلوغ، فإن لم يشتبه حاله فيه لكونه رجلًا مشتدًا فهو مقطوع به وإن اشتبهت حاله فيه، لكونه رجلًا، أمرد، فحكم بحكم الحاكم ببلوغه يكون من أحد أربعة أوجه: أحدها: أن يظهر عليه شواهد البلوغ بالإثبات، إذا جعل الإثبات في المسلم بلوغًا. والثاني: أن يعرف الحاكم سنه فيحكم ببلوغه إذا استكمل سن البلوغ. والثالث: أن يشهد ببلوغه شاهدا عدل فيحكم ببلوغه إذا استكمل سن البلوغ فتكون شهادة لا خبرًا. والرابع: أن يقول الغلام: قد بلغت فيحكم ببلوغه فتكون شهادة بقوله، لأنه قد يبلغ بالاحتلام الذي لا يعلم إلا من جهته، لأنه قد تتغلظ أحكامه بتوجه التكليف إليه فكان غير متهم فيه. وأما العقل فيعلم مشاهدة بظهور نتائجه، ولا يحتاج إلى بينة إن خفي لإمكان اختباره مع الاشتباه. حكي أن امرأة حضرت عند شريح في محاكمة، فقيل له: إنها مجنونة، فقال لها مختبرًا: أي رجليك أطول؟ فمدتها لتقدرهما، فصرفها وحكم بعقلها. فصل: فأما الإسلام فيعلم بأربعة أوجه: أحدها: أن يعلم إسلام أحد أبويه أو كليهما قبل بلوغه فيحكم بإسلامه. والثاني: أن يتلفظ بالشهادتين فيحكم بإسلامه. والثالث: أن يرى مصليًا في مساجدنا على قديم الوقت وحديثه فيحكم بإسلامه بظاهر الحال لا بالصلاة لأننا لا نحكم بإسلام الكافر إذا صلى. والرابع: أن يقول إنني مسلم فيحكم بإسلامه. وهل يحتاج إلى اختباره بالشهادتين مع الجهل بحاله أم لا؟ على وجهين: أحدهما: يختبر بهما لأنه أحوط. والثاني: لا يلزم اختياره بعد إقراره لجريان أحكام الإسلام عليه إن أنكر فإن علم الحاكم إسلامه من أحد هذه الوجوه حكم به، وإن جهله وقامت البينة بإسلامه حكم به ولم يسأل الشهود عن سبب إسلامه. فأما إذا شوهد في دار الإسلام على قديم الوقت وحديثه، حكم بإسلامه في الظاهر. ما لم يعلم كفره، لأن ميتًا لو وجد في دار الإسلام، مجهول الحال، وجب غسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه في مقابر المسلمين اعتبارًا بظاهر الدار.

وهل يكون الحكم بإسلامه في الظاهر موجبًا للحكم بإسلامه في الباطن؟ على وجهين: أحدهما: يحكم بإسلامه في الباطن تبعًا، فيرث ويورث من غير استكشاف عن إسلامه اكتفاء بظاهرة. والثاني: لا يحكم بإسلامه في الباطن وإن حكم به في الظاهر لأنه لو أقر بالكفر قبل منه وأجرى عليه حكمه، ولو حكم بإسلامه في الباطن لم يقبل إقراره بالكفر. وأجرى عليه حكم الردة، وهذا أظهر الوجهين. وإن حكم بإسلامه في الظاهر والباطن لم يسأل عن إسلامه إن شهد وسأل عن عدالته، وإن حكم به في الظاهر دون الباطن سأل عن إسلامه ثم عن عدالته. والله أعلم. فصل: فأما الحرية وهي مسألة الكتاب: فقد ذكرنا أنها شرط في قبول الشهادة، وليست شرطًا في صحة العدالة، لأن قوله مقبول في الفتيا والأخبار وإن لم يقبل في الشهادة. وحريته تعلم من وجهين متفق عليهما وثالث مختلف فيه: أحدهما: أن تلده حرة فيكون حر الأصل. والثاني: أن يعتقه مالك فيصير حرًا بعد الرق. والثالث: المختلف فيه: أن يقول: أنا حر، ففي ثبوت حريته بقوله وجهان: أحدهما: وهو الظاهر من قول الشافعي رضي الله عنه، في هذا الموضع: لا تقبل شهادته حتى يثبت عنده بخبر منه أو بينة أنه حر، فكان ظاهر كلامه أن خبره في حريته مقبول، لأنه لما كان قوله في إسلامه مقبولًا، لأن الظاهر من الدار إسلام أهلها، كان قوله في حريته مقبولًا؛ لأن الظاهر من دار الإسلام حرية أهلها. والثاني: أن قوله في حريته غير مقبول، وإن كان قوله في إسلامه مقبولًا. وهذا أظهر الوجهين. والفرق بين الإسلام والحرية، أنه يملك الإسلام إذا كان كافرًا فملك الإقرار به. ولم يملك الحرية إذا كان عبدًا فلم يملك الإقرار بها. ويكون معنى قول الشافعي رضي الله عنه، إلا بخبر منه: يعني من الحاكم؛ لأن يجوز للحاكم أن يعمل بعلمه في أسباب الجرح والتعديل على القولين معًا. وكان بعض أصحابه يحمل الجميع على القولين في الجرح والتعديل، هل الحكم يعمل فيهما بعلمه أم لا؟ على قولين: والفرق بينهما أولى لما ذكرناه من المعنى. فأما قول الشافعي: ولا يقبل الشاهد حتى يثبت عنده بخبر منه أو بينة تشهد أنه حر، فقد اختلف أصحابنا في مراده بنفي القبول على وجهين:

أحدهما: لا تسمع الشهادة حتى يعلم حرية الشاهد وإسلامه فيسمعها ثم يسأل عن عدالته بظهور الحرية والإسلام، وخفاء العدالة. والثاني: لا يحكم بها حتى يعلم حريته وإسلامه ويجوز أن يسمعها قبل العلم بحريته وإسلامه كالعدالة والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا تجوز شهادة جاٍر إلى نفسه ولا دافع عنها". قال في الحاوي: وهذا صحيح، لأن من شروط قبول الشهادة أن يخلو من التهم لقوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] والتهمة ريبة. وروى القاسم بن محمد عن ابن عمر أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي الإحنة" فالخصم المنازع والظنين: المتهم. وذي الإحنة: العدو فمن المتهومين في الشهادة وإن كانوا عدولًا، من يجر بشهادته إلى نفسه نفعًا، أو يدفع عنها ضررًا، فلا تقبل شهادته. فمن جر النفع، أن يشهد السيد لعبده، أو مكاتبه، لأنه مالك لمال عبده، ومستحق أخذ المال من مكاتبه لجواز عوده إلى رقه. ومنها أن يشهد الوكيل لموكله فيما هو وكيل فيه، لجواز تصرفه فيه إذا ثبت، فكان نفعًا. وفي جواز شهادته له في غير ما هو وكيل فيه وجهان: أحدهما: يجوز، لعدم تصرفه فيه. والثاني: لا يجوز، لأنه قد صار بالنيابة عن ذي الحق متهومًا ومنها شهادة الولي للمولى عليه، لأنه قد قام مقامه في النيابة عنه. ومنها شهادة الوصي للموصي بعد موته أو لأبيه على ما شهد به، وتجوز شهادته له قبل موته لعدم ولايته. ومنها شهادة "الموصى له بحق" للموصي "بعد موته" إذا كان له تعلق بحق وصيته. ويجوز شهادته له قبل موته لعدم ولايته، فإن شهد له بما لا حق له فيه قبلت شهادته وجهًا واحدًا، بخلاف الوكيل في أحد الوجهين لأن الوكيل قد يجوز أن يتقرب بشهادته إلى موكله. والموصى له لا يتقرب بها إلى الموصي بعد موته، فصار الوكيل متهومًا والموصى له غير متهوم. ومنها أن يكون للشاهد على المشهود له دين، فيشهد له بدين على غيره فللمشهود له

حالتان: موسر، ومعسر. فإن كان موسرًا قبلت شهادته له، لأنه لا يجر بها نفعًا لوصوله إلى دينه من يساره. وإن كان معسرًا فله حالتان: إحداهما: أن يحكم بفلسه، فلا تقبل شهادته له. لأن ما شهد به من الدين صائر إليه، فصار نفعًا يترحم به. والثانية: أن لا يحكم بفلسه، ففي قبول شهادته له وجهان: أحدهما: وهو الأظهر أنها لا تقبل، لأنه يستحق بها مطالبة المعسر بدينه كالمحكوم بفلسه. والثاني: قاله أبو حامد الإسفراييني: تقبل شهادته له وإن لم تقبل إذا حكم بفلسه. وفرقا بين المعسر والمحكوم بفلسه بأنه قد حكم له بمال التفليس ولم يحكم له بمال المعسر، وهذا الفرق لا يمنع من تساويهما في غيره، وهو وصوله إلى حقه بعد تعذره. ومنها شهادة الشريك لشريكه فيما هو يشركه فيه، لأنه يصير شاهدًا لنفسه، فإن شهد له بما ليس بشريك، جاز بخلاف الوكيل؛ لأن للوكيل نيابة وليس للشريك نيابة. ولهذا نظائر تجري على حكمها. فصل: فأما دفعه بشهادته ضررًا، فهي الشهادة بضد ما ذكرنا في ضده فمنها شهادة السيد بجرح من شهد على عبده أو مكاتبه، لأنه يدفع به نقصًا في حقه. وكذلك شهادة الوكيل بجرح شهود شهدوا على موكله. ومنها شهادة الوصي بالإبراء من دين كان على الموصي، لأنه يدفع بها المطالبة عن نفسه. ومنها أن يشهد الموصى له بعزل مشارك له في الوصية؛ لأنه يدفع بها مزاحمته في الوصية. ومنها أن يشهد غرماء المفلس بالإبراء من دين كان على المفلس؛ لأنهم يدفعون بها مزاحمة صاحب الدين لهم. ومنها أن تشهد القافلة بجرح شهود شهدوا بالقتل الخطأ، لأنهم يدفعون بها تحمل الدية عن أنفسهم، إلى نظائر هذا، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا على خصٍم لأن الخصومة موضع عداوةٍ".

قال في الحاوي: وأما شهادة العدو على عدوه فمردودة لا تقبل. وأجازها أبو حنيفة احتجاجًا بقوله تعالى: {واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ} [البقرة: 282] فكان على عمومه، ولأن الدين والعدالة يمنعان من الشهادة بالزور. ولأن العداوة إن كانت في الدين لم تمنع من قبول الشهادة، كما تقبل شهادة المسلم على الكافر مع ظهور العداوة، وإن كانت في الدنيا فهي أسهل من عداوة الدين فكانت أولى أن تقبل. ودليلنا: قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا} [البقرة: 282 [. والعداوة من أقوى الريب. وروى أبو داود في سننه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "لا تقبل شهادة خائن ولا خائنة ولا زاٍن ولا زانية، ولا ذي غمر على أخيه". والغمر: العداوة، وهذا نص. ولأنها شهادة تقترن بتهمة؛ فلم تقبل كشهادة الوالد للولد. وأما الجواب عن عموم الآية فمن وجهين: أحدهما: تخصيصها بأدلتنا. والثاني: حملها على التحمل دون الأداء. فأما الجواب عن قولهم إن الدين والعدالة يمنعان من الشهادة بالزور وهو أن هذا المعنى لما لم يبعث على قبول شهادة الوالد للولد لم يوجب قبول شهادة العدو على عدوه. وأما الجواب عن قولهم: إن العداوة في الدنيا أسهل: فهو أن العداوة في الدين يبعث على العمل بموجبه فزالت التهمة فيه. والعداوة في الدنيا أغلظ للعدول بها عن أحكام الدين. وإذا كان ذلك لم تقبل الشهادة المقذوف على القاذف ولا المغصوب منه على الغاصب ولا المسروق منه على السارق وولي المقتول على القاتل والزوج على امرأته إذا زنت في فراشه، إلى نظائر هذا. وإذا منعت العداوة من الشهادة على العدو، لم تمنع من الشهادة له، لأنه متهوم في الشهادة عليه وغير متهوم في الشهادة له؛ لأن ما بعث على العداوة لا يكون جرحًا تسقط به الشهادة. فصل: وأما شهادة الخصم على خصمه فترد فيما هو خصم فيه لرواية القاسم بن محمد عن

ابن عمر أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "لا تقبل شهادة خصم ولا ظنين ولا ذي الإحنة". ولأن الخصومة تؤول إلى العداوة، والعداوة تمنع من قبول الشهادة، ويجوز أن يشهد لخصمه وإن لم يشهد عليه. فلو شهد عليه ولا خصومة بينهما ثم قذف المشهود فلو عليه الشاهد فصار بالقذف خصمًا قبل الحكم بشهادته. لم ترد وجاز الحكم بها مع حدوث الخصومة على العداوة بخلاف حدوث الفسق قبل الحكم بالشهود، ولأن حدوث الخصومة والعداوة ليس بجرح يوجب رد الشهادة، ولو منع حدوث ذلك من الحكم بها لما صحت شهادة على أحد، لأنه يقدر على إسقاطها بحدوث نزاع وخصومة وما أدى إلى هذا بطل اعتباره. فصل: وتقبل شهادة الصديق لصديقه، وإن كان ملاطفًا، والملاطف، والمهادي، وبه قال أبو حنيفة وأكثر الفقهاء. وقال مالك: لا تقبل شهادة الصديق الملاطف لصديقه، وتقبل شهادة غير الملاطف، لتوجه التهمة إليه بأن يشهد له بمال يصير إليه بالملاطفة بعضه فصار جارًا بها نفعًا. ودليلنا: هو أن المودة مأمور بها، والهدية مندوب إليها. فلم يجز أن يكون ورود الشرع بها موجبًا لرد الشهادة، وبهذا المعنى فارق العدو لورود الشرع بالنهي عن العداوة. ولأن ذوي الأنساب من الإخوة والأعمام قد يجوز أن ينتقل إليهم بالميراث فاشهدوا به وسائر أمواله، ثم لا يمنع ذلك من قبول الشهادة. والصديق الملاطف لا يستحق الميراث فكان أولى أن يكون مقبول الشهادة. ولا وجه لما ذكر من جواز عوده إلى الصديق بالهدية، لأنه قد يجوز أن يهاديه ولا يهاديه، ويجوز أن يموت قبل مهاداته ويجوز إذا هاداه أن يعدل إلى غيره من أمواله فلم يكن لتعليل المنع بهذا الوجه والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا لولد بنيه ولا لولد بناته وإن سفلوا ولا لآبائه وأمهاته وإن يعدوا". قال في الحاوي: وهذا صحيح، لا تقبل شهادة الوالد لمولديه به، وإن سفلوا، ولا شهادة الولد لوالديه وإن بعدوا. وهذا قول مالك وأبي حنيفة وجمهور الفقهاء. وقال أبو إبراهيم المزني وداود بن علي: شهادة الوالد لولده والولد لوالده جائزة.

وبه قال عمر بن الخطاب وعمر بن عبد العزيز احتجاجًا بقوله تعالى: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ والأَقْرَبِينَ} [النساء: 135] ولا يؤمر بالقسط في هذه الشهادة إلا وهي مقبولة ولأن علي بن أبي طالب كرم الله وجهه حاكم يهوديًا إلى شريح في درع ادعاه في يده فأنكرها. فشهد له ابنه الحسن عليه السلام فرد شهادته. وقال: يا أمير المؤمنين، كيف أقبل شهادة ابنك لك؟ فقال علي عليه السلام في أي كتاب وجدت هذا؟ أو في أي سنة. وعزله ونفاه إلى قرية يقال لها بالصفا، نيفًا وعشرين يومًا، ثم أعاده إلى القضاء، ولأن الدين والعدالة يحجزان عن الشهادة بالزور والكذب. ودليلنا قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا} [البقرة: 282] والريبة متوجهة إلى شهادة بعضهم بعضًا لما جبلوا عليه من الميل والمحبة. ولذلك قال النبي صلي الله عليه وسلم: "الولد محزنة مجبنة مبخلة مجهلة". وروي عنه صلي الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها: "يا عائشة فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها" فدل على أن الولد بعض أبيه. وقد قيل في تأويل قوله تعالى: {وجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف: 15] أي ولدًا فصارت الشهادة له كالشهادة لنفسه. وروي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال لأبي معشر الدرامي: "أنت ومالك لأبيك" فصارت الشهادة بمال أبيه كالشهادة بمال نفسه. وذكر الشافعي حديثًا رواه عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "لا تقبل شهادة خائن ولا خائنة ولا محدود حدًا ولا ذي غمر على أخيه ولا مجرب في شهادة زور ولا ظنين في قرابة ولا ولاء ولا شهادة القانع لأهل البيت" ووصل بذلك "ولا شهادة الولد لوالده ولا الوالد لولده" ثم قال وهذا لا يثبته أهل النقل، فإن ثبت هذا فهو نص، وإن لم يثبت ففي قوله: "ولا ظنين في قرابة" دليل على الوالد والولد. وروي عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: "إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده من كسبه" وهو لا يجوز أن يشهد لكسبه. ولأن ورود النص بالمنع من شهادة الظنين وهو المتهم يوجب المنع من شهادة الوالد للولد لأنه متهم. فأما الجواب عن الآية فمن وجهين:

أحدهما: أنها دالة على الشهادة عليهم لا لهم. والثاني: أنه لما قرنها لنفسه في قوله: {شُهَدَاءَ لِلَّهِ ولَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ} [النساء: 135] دل على خروجها مخرج الزجر، أن يخبر على نفسه، أو ولده بغير الحق. ولا يمنع الدين والعدالة من رد الشهادة، كشهادة السيد لعبده ومكاتبه. وأما إنكار علي عليه السلام على شريح، فلأن شريحًا وهم في الدعوى؛ لأن عليًا عليه السلام ادعى الدرع للمسلمين في بيت المال، ولذلك استشهد بابنه الحسن، ولم يدعها لنفسه، وإنما كان في الدعوى نائبًا عن كافة المسلمين كالوكيل، فوهم شريح وظن أن الدعوى لنفسه. ولذلك أنكر علي عليه السلام وعزله، لأنه لم يثبت في الفحص عن حقيقة الحال، فيعلم بها جواز الشهادة، فصارت دليلًا على المنع من شهادة الولد لوالده. فصل: وأما شهادة الوالد على ولده فمقبولة على العموم في جميع الحقوق، لأنه ولايتهم في الشهادة عليه. وإن كان متهمًا في الشهادة له. وأما شهادة الولد على والده فتقبل في كل ما يجوز أن يستحقه الولد على والده من جميع الحقوق وفي قبولها فيما لا يجوز أن يستحقه الولد على والده من حد قذف أو قصاص فيه قولان: أحدهما: لا تقبل، لأنه لما لم يقتل بقتله لم يقتل بقوله: كالعبد في الشهادة على الحر. والثاني: وهو الأصح تقبل شهادته عليه كما تقبل في غيره كالحر تقبل شهادته على العبد وإن لم يقتل بالعبد. وأما الولد من الرضاع والوالد من الرضاع فشهادة بعضهم لبعض عليه فمقبولة له بخلاف النسب، لاختصاص الرضاع بتحريم النكاح، وبفارق النسب فيما عداه من أحكامه من التوارث ووجوب النفقة والعتق بالملك، وليس تحريم النكاح بمانع من قبول الشهادة. وأما ما عدا عموم الآباء والأبناء من المناسبين كالإخوة والأخوات وبنيهما، والأعمام والعمات وبنيهما والأخوال والخالات وبنيهما، فتقبل شهادة بعضهم البعض، وهو قول أبي حنيفة وجمهور الفقهاء. وقال الأوزاعي: لا أقبلها من ذي محرم كالوالد والولد. وقال مالك: أقبلها في كل حق إلا في النسب لأنه منهم باجتذابه والتكثر. وكلا المذهبين فاسد، لأن عمر وابن الزبير أجازاه وليس لهما مخالف فصار إجماعًا، لأنه نسب لا يوجب العتق والنفقة فلا يمنع من قبول الشهادة كغير المحرم من ذوي الأنساب. وأما شهادة المعتق لمعتقه من أعلى وأسفل فمقبولة في قول الجمهور.

ومنع شريح من قبولها كالولادة، وهذا خطا، وقد أنكره علي عليه السلام عليه لأن الولاء لا يمنع من وجوب النفقة، وهذا أبعد من ذوي الأنساب البعيدة لتعديهم عليه في الميراث، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا من يعرف بكثرة الغلط أو الغفلة". قال في الحاوي: أما الضبط والتيقظ، فهما شرطان في قبول الشهادة، ليقع السكون إلى صحتها، فإن حدث من الشاهد سهو أو غلط، فإن كان فيما يشهد به، ردت شهادته وإن كان سهوه وغلطه في غير تلك الشهادة نظر: فإن كان الأغلب عليه السهو والغلط ردت شهادته، وإن لم يكن ذلك جرحًا في عدالته، لأن النفس غير ساكنة إليه إلى شهادته لحملها في الأغلب على السهو والغلط. وإن كان الغالب عليه التيقظ والضبط، قبلت شهادته وإن غلط في بعض أخباره وسها، لأن ما من أحد يخلو من سهو أو غلط. وهذا رسول الله صلي الله عليه وسلم قد سها وقال: "إنما أسهو لأسن" وإذا كان لا يخلو ضابط من غلط ولا غافل من ضبط وجب أن يكون المعتبر الأغلب، كما يعتبر في الطاعات والمعاصي أغلبها فيكون العدل والفسق معتبرًا بما يغلب من طاعة أو معصية، وكذلك الضبط والغفلة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو كنت لا أجيز شهادة الرجل لامرأته لأنه يرثها ما أجزت لأخيه إذا كان يرثه". قال في الحاوي: اختلف الفقهاء في شهادة كل واحد من الزوجين لصاحبه. فذهب الشافعي رحمه الله إلى جوازها وقبول شهادة الزوج لزوجته. وقبول الزوجة لزوجها. وقال النخعي وابن أبي ليلى لا تقبل شهادة الزوجة لزوجها، لأنه إذا أيسر وجب لها عليه نفقة الموسرين، وتقبل شهادة الزوج لزوجته، لأنه لا يجز بها نفعًا. وقال أبو حنيفة: لا تقبل شهادة كل واحد منهما لصاحبه ويشبه أن يكون قول مالك، على قياس قوله في الصديق الملاطف، احتجاجًا بقوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21 [. وذلك من موجبات الارتياب والتهمة.

وقالوا: ولأنه سبب لا يحجب من الإرث، فوجب أن يمنع من الشهادة كالأبوة والبنوة. قالوا: ولأن الميراث يستحق بنسب وسبب فلما كان في الأنساب ما يمنع من قبول الشهادة، وجب أن يكون في الأنساب ما يمنع من قبول الشهادة. وتحريره: أنه أحد نوعي ما يورث به فوجب أن يكون منه ما ترد به الشهادة كالنسب. قالوا: ولأن اجتماعهما في المقام والظعن وامتزاجهما في الضيق والسعة، واختصاصهما بالميل والمحبة، وقد جمع من أسباب الارتياب المانعة من قبول الشهادة، فوجب أن ترد به الشهادة. ودليلنا عموم قوله تعالى: {واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ} [البقرة: 282] فوجب أن يكون على عمومه. وروى مجالد عن الشعبي عن سويد بن غفلة أن يهوديًا كان يسوق امرأة على حمار فنسخها فرمى بها، فوقع عليها، فشهد عليه زوجها وأخوها عند عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقبل شهادتهما، وقتله وصلبه. وقال سويد بن غفلة: إنه لأول مصلوب صلب بالشام. وليس لعمر مخالف في الصحابة مع انتشار القصة فثبت أنه إجماع لا مخالف له ولأن بينهما صلة لا توجب العتق فلم يمنع من قبول الشهادة، فآباء الزوجين وأبنائهما ولأنه عقد على منفعة فلم يوجب رد الشهادة كالإجارة، ولأنه عقد معاوضة فلم يمنع من قبول الشهادة كالبيع. فأما الجواب عن قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] فهو أن المودة لا توجب رد الشهادة كالآخرين وعلى أنه قد يحدث بينما تباغض وعداوة تزيد على الأجانب، فلو جاز أن يكون هذا المعنى علة أن المنع لفرق بين المتحابين والمتباغضين، ولا فرق بينهما فبطل التعليل. فأما الجواب عن تعليلهم بعدم الحجب عن الميراث، قياسًا على الآباء والأبناء فليس عدم الحجب عن الميراث علة في رد الشهادة، لأننا نرد شهادة من لا يرث من الأجداد والجدات، وغنما العلة، البعضية الموجبة للعتق التي تجري على العموم فيمن ترد شهادته بالنسب، فصار هو علة الحكم وهو معدوم في الزوجية فزال عنها حكمه. وأما الجواب عن قياسهم على النسب، بأنه أحد نوعي الميراث، فهو فاسد بالولاء. ثم ليس الميراث علة لما ذكرنا من أن في الوالدين من لا يرث وشهادته مردودة، والإخوة والأخوات والعصبات يرثن وشهادتهم مقبولة. وأما الجواب عن استدلالهم باجتماع أسباب التهمة في رد الشهادة فهو أن انفراد كل واحد من هذه الأسباب لما لم توجب التهمة في رد الشهادة، لم يضر اجتماعهما

موجبًا للتهمة في رد الشهادة، لأن الاجتماع في المقام والظعن لا يوجب رد الشهادة كالأصحاب؛ لأن الاجتماع في المودة والرحمة لا توجبها كالأصدقاء، والامتزاج في الضيق والسعة لا توجبها كالخلع. وأما ابن أبي ليلى فيقال له: ينتفع الزوج بيسار زوجته في وجوب نفقة ابنه عليها إذا أعسر بها ولا يوجب بذلك رد شهادته لها، كذلك انتفاعها بيساره فيما يجب لها من نفقة الموسرين لا يوجب رد شهادتها له والله أعلم مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا أرد شهادة الرجل من أهل الأهواء إذا كان لا يرى أن يشهد لموافقه بتصديقه، وقبول يمينه، وشهادة من يرى كذبه شركًا بالله ومعصية تجب بها النار أولى أن تطيب النفس بقبولها من شهادة من يخفف المأثم فيها، وكل من تأول حراما عندنا فيه حد أو لا حد فيه، لم نرد بذلك شهادته، ألا ترى أن ممن حمل عنه الدين وجعل علما في البلدان منهم من يستحل المتعة والدينار بالدينارين نقدا، وهذا عندنا وغيرنا حرام، وأن منهم من استحل سفك الدماء، ولا شيء أعظم منه بعد الشرك، ومنهم من تأول، فاستحل كل مسكر غير الخمر، وعاب على من حرمه، ولا نعلم أحدا من سلف هذه الأمة يقتدى به، ولا من التابعين بعدهم رد شهادة أحد بتأويل وإن خطأه وضلله. قال في الحاوي: وهذا فصل قد اختلط كلام أصحابنا فيه ممن تفرد بالفقه دون أصوله، فوجب أن تقرر قاعدته ليعلم بها قول المختلفين، وما يوجبه اختلافهم فيه من تعديل وتفسيق وتكفير. فنقول: من تدين بمعتقد من جميع الناس - صنفان: صنف ينطلق عليهم اسم الإسلام. وصنف لا ينطلق عليهم اسمه. فأما من لا ينطلق عليهم اسم الإسلام، فهو من كذب الرسول {صلى الله عليه وسلم} ولم يتبعه. فخرج بالتكذيب وبترك الإتباع من ملته، فهؤلاء كلهم ينطلق عليهم اسم الكفر، وسواء من رجع منهم إلى ملة كاليهود، والنصارى أو لم يرجع إلى ملة كعبدة الأوثان وما عظم من شمس ونار، وجميعهم في التكفير في رد الشهادة سواء. وإن فرق أبو حنيفة بين أهل الملل وغيرهم، فأجاز شهادة أهل الملل بعضهم لبعض ورد شهادة غيرهم. وأما من ينطلق عليهم اسم الإسلام، فهو من صدق الرسول {صلى الله عليه وسلم} واتبعه، فصار بتصديقه على النبوة من جملة أمته وبصلاته إلى القبلة داخلًا في ملته، فخرجوا بانطلاق

اسم الإسلام عليهم أن يجري عليهم أحكام من لم يجر عليه اسم الإسلام من الكفار، فهذا أصل. ثم ينقسم من ينطلق اسم الإسلام عليه ثلاثة أقسام: موافق، ومتبع، ومخالف. وأما الموافق: فهو من اعتقد الحق وعمل به، فكان باعتقاد الحق متدينا وبالعمل به مؤديا، فهذا مجمع على عدالته في معتقده وقوله، مقبول القول في خبره وشهادته. فصل: فأما المتبع: فهو من عمل بالحق ولم يخالف في المعتقد، كالمقلد من العامة للعلماء، فإن كان التقليد في الفروع، فهو فرضه، وهو عدل في معتقده وعمله. وإن كان تقليده في أصول التوحيد، فمن جوز تقليده فيها جعله عدلا في معتقده وعمله، ومن منع التقليد فيها، جعله مقصرا في معتقده ومؤديا في عمله، وعدالته معتبرةً بسكون نفسه ونفورها، فإن كان ساكن النفس إلى صحة التقليد لم يخرج عن العدالة، وإن كان نافر النفس منه، خرج من العدالة. فصل: وأما المخالف، فعلى ضربين: أحدهما: أن يخالف في العمل. والثاني: في المعتقد. فأما المخالف في العمل حكم شهادته، فهو أن يعتقد ما لا يعمل به، فإن كان في مباح، فهو على عدالته، وإن كان في واجب، فسق به وخرج عن عدالته، لأنه تعمد المعصية بترك ما اعتقد وجوبه، ويكون كالعمل بما اعتقد تحريمه. وأما المخالف في المعتقد حكم شهادته، فمختلف الحكم بخلافه فيما انعقد عليه الدين، والدين منعقد على فروع وأصول. فالأصول، ما اختص بالتوحيد والنبوة، والفروع ما اختص بالتكليف والتعبد، وللأصول فروع، وللفروع أصول. فأما أصول الأصول، فما اختص بإثبات التوحيد وإثبات النبوةً. وفروعه ما اختص بالصفات وأعلام النبوة. وأصول الفروع ما علم قطعا من دين الرسول {صلى الله عليه وسلم}، وفروعه ما عرف بغير مقطوع، فأما المخالف في أصول التوحيد والنبوة لا تقبل شهادته، فمقطوع بكفره، ويخرج من انطلاق اسم الإسلام عليه، وإن تظاهر به، فلا تثبت له عدالة، ولا تصح له ولاية، ولا تقبل له شهادة. وأما المخالف في فروع الأصول من الصفات وأعلام النبوة فهل تقبل شهادته، فإن رده خبر مقطوع بصدقه من قرآن أو سنة وأثر، كان مخالفه كافرا، لا تثبت له عدالة، ولا تصح له ولايةً، ولا تقبل له شهادةً، كذلك ما ردته العقول واستحال جوازه فيها وما لم يرده خبر مقطوع

بصدقه، ولا عقل يستحيل به - نظر، فإن اتفق أهل الحق على تكفيره به، سقطت عدالته، ولم تصح ولايته، ولم تقبل شهادته، وإن اختلف أهل الحق في تكفيره به، فهو على العدالة وصحة الولايةً وقبول الشهادة فهذا أصل مقرر في الأصول يغني عن ضرب مثل وتعيين مذهب. فصل: وأما الفروع: فأصولها كالأصول، فما علم قطعًا من دين الرسول {صلى الله عليه وسلم} بإجماع الخاصةً والعامةً عليه، كوجوب الصلاة وأعدادها، واستقبال الكعبة بها. ووجوب الزكاة بعد حولها، وفرض الصيام والحج وزمانهما، وتحريم الزنى والربا والقتل والسرقة. فإن جحد وجوب أحدها، أو اعتقد في الصلاة نقصانا منها، أو زيادة عليها، أو غير الصيام والحج عن زمانهما من تقديم أو تأخير، أو زاد في القرآن أو نقص منه بعد انعقاد الإجماع عليه، فهو كافر. لأنه جحد بهذا الخلاف ما هو مقطوع به من دين الرسول {صلى الله عليه وسلم}، فصار كالجاحد لصدق الرسول {صلى الله عليه وسلم}، فلا تثبت له عدالة ولا تصح له ولايةً، ولا تقبل له شهادةً. فصل: وأما الفروع التي ليست بأصول فالخلاف فيها على ضربين: أحدهما: في الأداء. والثاني: في الأحكام. فأما الخلاف في الأداء المنتحلة، فهو على ثلاثة أضرب: أحدها: ما اعتقد به تكفير مخالفه واستباحة ماله ودمه، كمن يرى من الخوارج بموالاتهم لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما تكفير جميع الأمة، وكالغلاة يرون بمعتقدهم في علي بن أبي طالب عليه السلام، تكفير جميع الأمة. يرى الفريقان بهذا المعتقد أن دار الإسلام دار إباحة في قتل رجالها وسبي ذراريها، وغنيمة أموالها، فيحكم بكفر من هذا اعتقاده من الفريقين لأمرين: أحدهما: لتكفيرهم السواد الأعظم المفضي إلى تعطيل الإسلام ودروسه، وقد قال {صلى الله عليه وسلم}: "تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، منها واحدة ناجية، قيل: وما هي؟ قال: السواد الأعظم". والثاني: استباحتهم لدار حرم الشرع نفوس أهلها وأموالهم، وقد قال {صلى الله عليه وسلم}: "منعت دار الإسلام وما فيها وأباحت دار الشرك وما فيها". وقال يوم النحر كلامًا شهده الجم الغفير: "ألا إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم

حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في سفركم هذا في بلدكم هذا". فكانوا أبعد الناس من العدالة وأولاهم برد الشهادة. الثاني: من يعتقد تكفير مخالفه ولا يرى استباحة دمه، فينظر فإن تعرض بعرض برأيه لتكفير الصدر الأول من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، حكم بكفره، لرده على الله تعالى في قوله: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:]. ورده على رسوله في قوله: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم"وقوله {صلى الله عليه وسلم}: "خير الناس قرني ثم الذين يلونهم"، فتسقط عدالتهم وترد شهادتهم بكفرهم. وإن لم يتعرضوا لتكفير الصدر الأول، واعتقدوا فيهم الإيمان، وتفردوا بتكفير أهل عصرهم، فهم أهل ضلال يحكم بفسقهم دون كفرهم، فتسقط عدالتهم وترد شهادتهم بالفسق دون الكفر. الثالث: أن يبتدع رأيًا ولا يعتقد به تكفير مخالفه، فهو على ضربين: أحدهما: أن يرتكب فيه الهوى ولا يتمسك فيه بتأويل: فهو ضال يحكم بفسقه ورد شهادته، قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَاوَى} [النازعات: 40 - 41]. وسنة عمر - رضي الله عنه - في صبيغ، وكان من أهل المدينة يطوف بها، ويسأل عن الشبهات، ويميل إلى المخالفة، فأمر به وضرب بالجريد، وشهر بالمدينة، ونفي عنها. وقال الشافعي - رحمه الله - في بعض أهل الأهواء: سنتي فيه سنة عمر في صبيغ، ولأن من ارتكب الهوى ولم يتبع الدليل، فقد ضل وأضل، إذ لا يفرق بين حق وباطل، ولا بين صحيح وفاسد، ولأن الهوى أسرع إلى الباطل من الحق، لخفة الباطل وثقل الحق. الثاني: أن يتمسك فيما ابتدعه بتأويل حكم شهادته فهو على ضربين: أحدهما: أن يخالف به الإجماع من أحد الوجهين: إما أن يدفع ما اعتقده الإجماع، وإما أن يدفع بمعتقده الإجماع. فإن دفع بمعتقده الإجماع، فلا يخلو أن يكون إجماع الصحابة أو إجماع غيرهم. فإن خالف به إجماع الصحابة فهل تقبل شهادته، ضل به، وحكم بفسقه ورد شهادته لقول النبي {صلى الله عليه وسلم}: "لا تجتمع أمتي على ضلالة". وقال {صلى الله عليه وسلم}: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، عضوًا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار".

وإن خالف به إجماع غير الصحابة حكم شهادته، فإن كان ممن يقول إن الإجماع هو إجماع الصحابة دون غيرهم، ويعتقد استحالة إجماع غيرهم لتباعد أعصارهم كان على عدالته وقبول شهادته. وإن كان ممن يقول بإجماع كل عصر فسق بمخالفة الإجماع، وردت شهادته الثاني: وأن لا يخالف بمعتقده الإجماع فيمن تقبل شهادته، فهو على ضربين: أحدهما: أن تفضي به المخالفة إلى القدح في بعض الصحابة، فهو على ضربين: سب وجرح. فإن كان القدح سبًا، فسق به، وعزر من أجله. وروي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنه قال: "من سب نبيًا، فقد كفر، ومن سب صحابيا فقد فسق". وليس من عاصر الرسول {صلى الله عليه وسلم} وشاهده كان من الصحابةً، وإنما يشتمل اسم الصحابةً على من اجتمع فيه شرطان: أحدهما: أن يتخصص بالرسول {صلى الله عليه وسلم}. والثاني: أن يتخصص به الرسول {صلى الله عليه وسلم}. فأما اختصاصه بالرسول، فيكون من أمرين: أحدهما: مكاثرته في حضره وسفره. والثاني: متابعته في الدين والدنيا. وليس من قدم عليه من الوفود، ولا من غزا معه من الأعراب من الصحابة لعدم هذين الشرطين فيهم. وأما اختصاص الرسول به، فيكون به بأمرين: أحدهما: أن يثق بسرائرهم. والثاني: أن يقضي بأوامره ونواهيه إليهم. ولذلك لم يكن المنافقون من الصحابة لعدم هذين الأمرين فيهم، فصار الصحابي من تكامل فيه ما ذكرناه، ومن أخل بها خرج منهم. وإن كان القدح في الصحابة جرحا ينسب بعضهم إلى فسق وضلال نظر: فإن كان من أحد العشرة الذين شهد لهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالجنة، صار باعتقاده لفسقه فاسقًا مردود الشهادةً. وإن لم يكن من العشرة نظر: فإن كان من أهل بيعة الرضوان، صار بتفسيق أحدهم فاسقًا؛ لأن الله تعالى أخبر بالرضا عنهم. وإن لم يكن من أهل بيعة الرضوان نظر؛ فإن كان قبل تنازع الصحابة رضي الله عنهم في قتال الجمل وصفين، صار بتفسيقه للصحابة فاسقًا، مردود الشهادة. وإن كان قد دخل في تنازع أهل الجمل وصفين، فقد اختلف أهل العلم من أصحابنا وغيرهم في تنازعهم

هل نقلهم عن الحكم المتقدم فيهم أم لا؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول أكثرهم، أنهم على استدامة حكم الرسول فيهم من القطع بعدالتهم في الظاهر والباطن. ولا يكشف عن سرائرهم في رواية خبر ولا في ثبوت شهادة، استدامة لحكم الصحبة فيهم، ومن فسق أحدهم كان بتفسيقه فاسقًا، لأنهم في التنازع متأولون. والثاني: أنهم صاروا بعد التنازع كغيرهم من أهل الأعصار عدولًا في الظاهر دون الباطن، وزال عنهم القطع بعدالتهم في الظاهر والباطن، فلا تقبل شهادة أحدهم إلا بعد الكشف عن عدالة باطنه. ومن فسق أحدهم لم يفسق بتفسيقه، وكان على عدالته في قبول شهادته، لأنهم انتقلوا بالتنازع عن الألفة إلى التقاطع، وقد قال {صلى الله عليه وسلم}: "لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانًا". وقد أحدث التنازع فيهم ما نهاهم عنه. الثاني: أن لا تفضي به المخالفة إلى القدح في الصحابة في قبول الشهادة، فهو على ضربين: أحدهما: أن تفضي به المخالفة إلى البغي على إمامه بمشاقته وخلع طاعته بشبهة تأول بها فساد إمامته، فله حالتان: إحداهما: أن يكف عن القتال، فيكون على عدالته وقبول شهادته. والثانية: أن يقاتل أهل العدل، فله في قتاله حالتان: إحداهما: أن يبتدئ بقتال أهل العدل، فيفسق بما ابتدأه من قتالهم، فترد شهادته لتعديه بالقتال مع خطئه في الاعتقاد. والثانية: أن يبدأ أهل العدل بالقتال، فيدفع عن نفسه قتالهم، فله في قتاله حالتان: إحداهما: أن يدعى إلى الطاعة ليكف عنه، فيمتنع منها، فيفسق بقتاله، لأنه قد كان يجد منه بدا بإظهار الطاعة. الثانية: أن يبدأ بالقتال من غير استدعاء إلى الطاعة، فلا يفسق بقتاله لأنه دافع بها عن نفسه، فتقبل شهادته، وقد أمضى علي بن أبي طالب، عليه السلام عنه أحكام من بغى عليه في قتال الجمل وصفين. والثاني: أن لا تفضي به المخالفة إلى البغي في مشاقة أهل العدل في قبول الشهادة فهو على ضربين: أحدهما: أن تفضي به المخالفة إلى منابذة مخالفيه بالتحزب والتعصب في قبول الشهادة، فله حالتان: إحداهما: أن يبدأ بها ليستطيل على مخالفيه، فيكون ذلك فسقًا ترد به شهادته، لأنه قد جمع بين اعتقاد الخطأ وأفعال السفهاء، فيفسق بفسقه لا بمعتقده. والثانية: أن يستدفع بها منابذة خصومه، فإن وجد إلى دفعهم بغير المنابذة سبيلًا، صار بالمنابذةً سفيها مردود الشهادة، وإن لم يجد إلى دفعهم بغيرها سبيلًا، فله حالتان:

إحداهما: أن لا يستضر باحتمالها والصبر عليها، فيكون بفعلها سفيها ترد شبهاته. والثانية: أن يستضر بها، فيكون في دفعها بالمقابلة على عدالته وقبول شهادته، ولأن دفع الضرر عذر مستباح لقوله النبي {صلى الله عليه وسلم}: "لا ضرر ولا ضرار". الثاني: أن لا تفضي به المخالفة إلى المنابذة فهل تقبل شهادته، فهو على ضربين: أحدهما: أن يعتقد بتصديق موافقيه في دعاويهم، ويشهد لهم بها على خصومهم كالخطابية. يعتقدون أن من كان على رأيهم لم يكذب، فيصدقوه على ما ادعاه، وشهدوا له على خصمه إن أنكر، فمنهم من يستظهر بإحلافه قبل الشهادة له، ومنهم من لا يستظهر، ويشهد له بمجرد قوله، وهي في الحالتين شهادة زور، تسقط بها عدالته، وترد بها شهادته، لأنه شهد بما لم يعلم، والله تعالى يقول: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] الثاني: أن لا يعتقد بتصديق موافقيه على مخالفيه، ويتحفظ في الشهادةً لهم وعليهم شهادة المخالف، حتى يعلمها من الوجه الذي يجوز أن يشهد بها، فهم أسلم أهل الأهواء طريقا، وهم صنفان: صنف يرون تغليظ المعاصي، فيجعلها بعضهم شركًا، ويجعلها أهل الوعيد خلودًا. وصنف يرون تخفيف المعاصي في إرجائها وتفويضها. وكلا الصنفين في العدالة وقبول الشهادة سواء. وقال الشافعي رضي الله عنه: وشهادة من يرى كذبه شركًا بالله، ومعصية تجب بها النار - أولى أن تطيب النفس بقبولها من شهادة من يخفف المأثم، ولم يرد أنها أولى من شهادة أهل الحق فيها، يعني أن شهادة من يغلظ المعاصي من هذين الصنفين - أولى أن تطيب النفس بها من شهادة من يخففها. فصار هذا التفصيل مفضيًا إلى قبول شهادة أهل الأهواء والبدع لستة شروط: أحدها: أن يكون ما انتحلوه بتأويل سائغ. والثاني: أن لا يدفعه إجماع منعقد. والثالث: أن لا يفضي إلى القدح في الصحابة. والرابع: أن لا يقاتل عليه ولا ينابذ فيه. والخامس: أن لا يرى تصديق موافقة على مخالفه. والسادس: أن تكون أفعالهم مرضيةً، وتحفظهم في الشهادة ظاهر، فهذا حكم ما تعلق بالآراء والنحل فصل: وأما الاختلاف في أحكام الفروع من الشاهد فعلى ثلاثة أضرب: أحدها: ما ضل به.

والثاني: ما أخطأ فيه. والثالث: ما ساغ له. وأما الأول: وهو ما ضل به، فهو أن يخالف فيه إجماع الخاصة دون العامة كالإجماع على أن لا ميراث لقاتل، ولا وصية لوارث، وأن لا تنكح المرأةً على عمتها ولا على خالتها، فالمخالف فيه ضال يحكم بفسقه ورد شهادته. وأما الثاني: وهو ما أخطأ فيه: فهو ما شذ الخلاف فيه وعدل المتأخرون عنه، كاستباحة المتعة، وبيع الدينار بالدينارين نقدًا، ومسح الرجلين في الوضوء، وقطع يد السارق من المنكب، فهذا خلاف شذ قائله، وظهر فيه خطئه، ولأنه يتردد بين منسوخ كالمتعة، وبين ما توالى فيه النقل الصحيح كالربا في النقد والنساء. وبين ما ضعف فيه التأويل وظهر عليه الدليل كمسح الرجلين وقطع السارق من المنكب، فحكم بخطئه لظهور الدليل على فساده، ولم يبلغ به حد الضلال للشبهة المعترضة في احتماله، فيكون المخالف فيه على عدالته وقبوله شهادته. وأما الثالث: وهو ما ساغ الخلاف فيه على عدالته وقبول شهادته، فهو مسائل الاجتهاد في العبادات، والمعاملات، والمناكح الذي لم يرد فيه حد، وكان للاختلاف فيه وجه محتمل، فلا يتباين فيه المختلفون، ولا يتنابذ فيه المتنازعون، ولكل واحد من أقاويلهم وجه، فمن قال: إن كل مجتهد مصيب جعل جميع أقاويلهم حقًا، ولم يجعل قول واحد منهم خطأ. ومن قال: إن الحق في واحد منهم، فكل واحد منهم جاز أن يكون محقًا، وإن لم يكن في جميع أقاويلهم محقًا. وهو أسهل الاختلاف في الدين وجميعهم على العدالة وقبول الشهادة. فهذا تفصيل مذهب الشافعي رضي الله عنه في عدالة المختلفين في الأصول والفروع، أنه لم يقبل شهادة جميعهم، ولا رد شهادة جميعهم، حتى فصلناه على ما اقتضاه مذهبه، وأوجبته أصوله. فأوضحنا بها من كان مقبول الشهادة ومردودها، وخالفه فيها أبو حنيفة ومالك. فأما أبو حنيفة، فخفف الأمر فيها، وأجاز شهادة كل من أطلق اسم الإسلام عليه، واعتبر العدالةً بالأفعال دون الاعتقاد. وأما مالك فشدد الأمر فيها فرد شهادة جميعهم واقتصر بالعدالة على أهل الحق، وكل واحد من قوليهما مدفوع بما أوضحنا من دلائل القبول والرد. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "واللاعب بالشطرنج والحمام بغير قمار، وإن كرهنا

ذلك أخف حالًا. قال المزني: رحمه الله فكيف يحد من شرب قليلًا من نبيذ شديد ويجيز شهادته". قال في الحاوي: وهذه المسألة تشتمل على فصلين: أحدهما: في لعب الشطرنج. والثاني: في اللعب بالحمام. فأما اللعب بالشطرنج فالكلام فيه يشتمل على فصلين: أحدهما: في إباحتها وحظرها. والثاني: في عدالة اللاعب بها وجرحه. فأما إباحتها وحظرها فقد اختلف الفقهاء على ثلاثة مذاهب: أحدهما: وهو مذهب مالك، أنها حرام. والثاني: وهو مذهب أبي حنيفة، أنها مكروهة كراهة تغليظ يوجب المنع، وإن لم يبلغ مبلغ التحريم والثالث: وهو مذهب الشافعي رضي الله عنه: أنها ليست محرمةً كما قال مالك رضي الله عنه، ولا بمغلظةً الكراهة، كما قال أبو حنيفة، ثم قال: وإن كرهنا ذلك، وأراد به كراهة تنزيه. واختلف أصحابه فيما تعود كراهته إليه على وجهين: أحدهما: تعود كراهته إليها لأنه ضرب من اللعب. والثاني: تعود كراهته إلى ما يحدث عنها من الخلاعة. واستدل من حظرها وحرمها بما رواه الحسن البصري: "أن النبي {صلى الله عليه وسلم} نهى عن اللعب بالشطرنج حكمه". وبما روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنه قال: "كل اللعب حرام إلا لعب الرجل بقوسه، ولعبه بفرسه، ولعبه مع زوجته"فعم تحريم اللعب إلا ما استثناه". فكان الشطرنج داخلًا في عموم التحريم وخارجًا من استثناء الإباحة. وبما روي عن علي، عليه السلام مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء: 52] وألقى فيها كفا من تراب فدل تشبيهه لها بالأصنام على تحريمها كالأصنام. وسئل مالك عنها، فقال: أحق هي؟ قيل: لا، قال: فما بعد الحق إلا الضلالة فأنى تصرفون.

واستدل من أباحها وحللها: بانتشارها بين الصحابة والتابعين إقرارًا عليها، وعملًا بها، فروى الخطيب مولى سليمان بن يسار قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يمر بنا ونحن نلعب بالشطرنج، فيسلم علينا ولا ينهانا. وروى الضحاك بن مزاحم قال: رأيت الحسن بن علي، عليه السلام مر بقوم يلعبون بالشطرنج فقال: ادفع ذا ودع ذا. وروى أبو راشد قال: رأيت أبا هريرة يدعو غلامًا، فيلاعبه بالشطرنج. وروى عبد الله بن عباس: أنه كان يجيز الشطرنج ويلعب بها. وروى عبد الله بن الزبير أنه كان يلعب بالشطرنج. فهؤلاء خمسةً من الصحابة أقروا عليها ولعبوا بها. وأما التابعون: فروي عن سعيد بن المسيب أنه كان يلعب بها. وروى الشافعي عن سعيد بن جبير أنه كان يلعب بها استدبارًا. قال المزني: فقلت للشافعي: فكيف كان يلعب بها استدبارا؟ فقال: كان يوليها ظهره ويقول للغلام: بماذا دفع؟ فيقول: بكذا. فيقول: ائت بكذا. وروى الزهري عن علي بن الحسين أنه كان يلاعب أهله بالشطرنج. وروى أبو لؤلؤة قال: رأيت الشعبي يلعب بالشطرنج مع الغرماء. وروى راشد بن كريب قال: رأيت عكرمة مولى ابن عباس أقيم قائما في لعب الشطرنج. وروي أن محمد بن سيرين كان يلعب بالشطرنج وقال: هي لب الرجال. وإذا اشتهر هذا عمن ذكرنا من الصحابة والتابعين وقد عمل به معهم من لا يحصى عددهم من علماء الأمصار وفضلائهم، من حذفنا ذكرهم إيجازًا، خرج من حكم الحظر، وكان بالإجماع أشبه. وليس إنكار علي، عليه السلام لها لأجل حظرها. وقيل: لأنهم سمعوا الأذان وهم متشاغلون عنها. وقيل: لأنهم كانوا يستخفون في الكلام عليها. وما رواه الحسن مرسل وليس بصحيح، ولا يمنع أن يكون قياسًا على ما استثناه الرسول من اللعب: لأن فيها تنبيهًا على مكائد الحرب ووجوه الحزم وتدبير الجيوش. وما بعث على هذا، إن لم يكن ندبًا مستحبًا فأحرى أن لا يكون حظرًا محرمًا. فصل: وأما عن عدالة اللاعب بها الشطرنج، فعند مالك وأبي حنيفة أن عدالته ساقطة وشهادته مردودة على أي وجه لعب بها. وإن اختلفا في موجب ردها، فردها مالك لحظرها، وردها أبو حنيفة لتغليظ كراهتها وعند الشافعي أن عدالته وجرحه معتبر بصفة لعبه بها، فإن خرج بها إلى خلاعة أهلها أو قامر عليها أو تشاغل عن الصلاة بها خرج عن العدالة بما فعله من أحد هذه الثلاثةً، فردت

شهادته بها لا بنفس اللعب، وأما الخلاعة فهو أن يستخف عليها بلغو الكلام، وأن يلعب بها على الطريق، وأن ينقطع إليها ليله ونهاره حتى يلهو بها عما سواها. وأما القمار حكم لاعبه من حيث قبول شهادته فهو ما يأخذه من العوض عليها إن غلب، أو يدفعه من العوض عنها إن غلب لتحريم الله تعالى القمار نصا بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:]. والميسر هو القمار، والقمار ما لم يحل أن يكون كل واحد منهما آخذًا أو معطيًا، فيأخذ إن كان غالبا، ويعطي إن كان مغلوبًا. فأما إن عدلا عنه إلى حكم السبق والرمي الخروج من القمار، بأن ينفرد أحد المتلاعبين بإخراج العوض دون صاحبه ليؤخذ منهإن كان مغلوبًا وليسترجعه إن كان غالبًا، ويكون الآخر آخذًا إن كان غالبًا وغير معط إن كان مغلوبا، فقد اختلف أصحابنا في جوازه في الشطرنج مع اتفاقهم على جوازه في السبق والرمي بناء على اختلاف قولهم في قوله: {صلى الله عليه وسلم} "لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل". هل هو أصل بذاته أو استثناء من جملة محظور على وجهين: أحدهما: أنه أصل في نفسه يجوز القياس عليه، فعلى هذا يجوز مثله في الشطرنج قياسًا على السبق والرمي، لجواز القياس على أصل النص، ولا يكون إخراج هذا العوض في الشطرنج محظورًا، فلا يكون به مجروحا. والثاني: أن السبق والرمي مستثنى من جملة محظورةً، فعلى هذا لا يجوز مثله في الشطرنج، لأن القياس يكون على الأصل دون الاستثناء، ويكون إخراج هذا العوض في الشطرنج محظورًا ويصير بإخراجه مجروحا. وأما تشاغله بها عن الصلاةً، فهو أن يدخل عليه وقتها، فينقطع بها عن الصلاة حتى يفوت، فإن ذكرها وعلم بفوات الوقت. فقد فسق، ولو كان في دفعة واحدةً، وإن نسي الصلاة ولم يعلم بدخول الوقت حتى فات، فإن كان في دفعة واحدةً، لم يفسق به. وإن تكرر منه ذلك وكثر فسق به ولو تكرر منه لكثرة الفكر حتى تكرر منه نسيان الصلاة في وقتها حتى فات، لم يفسق. والفرق بينهما: أنه لا يقدر على دفع الفكر عن نفسه إذا طرأ، فلم يفسق إذا كثر به نسيان الصلاةً، ولعب الشطرنج من فعله واختياره، فيفسق إذا كثر به نسيان الصلاة. وأما إذا تجرد لعب الشطرنج عما يفسق به من هذه الأحوال الثلاثة، واستروح به في أوقات خلواته، مستخفيًا به عن المحتشمين، فكان لعبه به على أحد وجهين: إما (ليشفى)

به هما ويستحدث به راحةً، وإما ليرتاض به في تدبيره وجزالة رأيه وصحة حزمه، فهو على عدالته وقبول شهادته. وهل يكون عفوًا أو مباحًا. على ما قدمنا من الوجهين في معنى كراهة الشافعي رضي الله عنه لها. هل كان عائدًا إليها أو إلى ما يحدث فيها؟ فإن قيل: إنه عائد إليها كان اللعب بها معفوًا عنه. وإن قيل: إنه عائد إلى ما يحدث عنها، كان اللعب بها مباحًا. وهو على الوجهين غير مانع من قبول الشهادة. وأما الثاني في اللعب بالحمام: فمذهب مالك ترد به الشهادة من غير تفصيل وعلى مذهب الشافعي ينقسم على ثلاثة أضرب: أحدها: ما ترد به شهادته، وهو ما يخرج به إلى السفاهة، إما بالبذلة في أفعاله، وإما بالخنا في كلامه، والسفاهة خروج عن العدالة، ترد بها الشهادة، وقد روي أن النبي {صلى الله عليه وسلم} رأى رجلًا يسعى بحمامة، فقال: " شيطان يتبع شيطانة ". والثاني: ما لا ترد به الشهادة، وهو ما كان به محفوظ المروءة لاتخاذها إما للاستفراخ، وإما لحمل الكتب إلى البلاد، وإما للأنسة بأصواتها، فيكون على عدالته وقبول شهادته. وروى عبادة بن الصامت أن رجلًا شكا إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الوحدة، فقال: " اتخذ زوجا من حمام ". ولأنها تسمد كما تسمد المواشي. والثالث: ما اختلف في رد الشهادة به. وهو أن يتخذه للمسابقة به، وفيه وجهان، بناء على ما قدمناه من اختلاف الوجهين في قوله: "لا سبق إلا في خف أو حافر أو نصل". فإن جعل في أحد الوجهين أصلًا، قيس عليه إباحة السبق بالحمام، فلم يخرج به من العدالة ولم ترد به الشهادة. وإن جعل في الوجه الثاني استثناء من جملةً محظور لم يقس عليه السبق بالحمام، فخرج به من العدالة وردت به الشهادة.

فإن اقترن به بعوض كان حرامًا، وإن تجرد عن العوض كان سفهًا. وأما قول الشافعي: واللاعب بالشطرنج والحمام أخف حالًا. ولم يذكر ما صار به أخف حالًا منه. فقد ذكره الشافعي في الأم، وحذفه المزني اختصارًا. فقال: أخف حالًا من الاختلاف في فروع الدين. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ومن شرب عصير العنب الذي عتق حتى سكر، وهو يعرفها خمرًا، ردت شهادته، لأن تحريمها نص ". قال في الحاوي: وأما الخمر مما يتخذ، فهو عصير العنب إذا أسكر ولم تمسه نار، ولم يخالطه ماء، ولا يكون خمرًا إن مسته نار أو خالطه ماء. وشربه محرم بنص القرآن، وهو قوله تعالى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة:]. فدلت الآية على تحريمه من وجهين: أحدهما: قوله رجس من عمل الشيطان والرجس المضاف إلى الشيطان يكون رجسًا بإضافته إلى الشيطان تغليظًا. وفي "الرجس" معناه أربعة تأويلات: أحدها: سخط. والثاني: شر. والثالث: إثم. والرابع: حرام. وقوله من {مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ} أي: مما يدعو إليه الشيطان ويأمر به. والثاني: قوله {فَاجْتَنِبُوهُ}، وما ورد الأمر باجتنابه حرم الإقدام عليه وفيما أراد بقوله "فاجتنبوه " تأويلان محتملان: أحدهما: الرجس أن تفعلوه. والثاني: الشيطان أن تطيعوه. وقال الله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الأعراف:]. فيه تأويلان أحدهما: أنها الزنى خاصةً، وما ظهر منها المناكح الفاسدةً، وما بطن السفاح الصريح. والثاني: أن "الفواحش" جميع المعاصي، ما ظهر منها "أفعال الجوارح وما بطن" اعتقاد القلوب. وفي الإثم والبغي معناهما تأويلان: أحدهما: أن " الإثم " الخيانة في الأمور، والبغي التعدي على النفوس.

والثاني: وهو أشهر: أن الإثم الخمر، والبغي السكر، وشاهده قول الشاعر: شربت الإثم حتى ضل عقلي كذاك الإثم يذهب بالعقول واختلف بأي هاتين الآيتين حرمت الخمر. فالذي عليه الجمهور أنها حرمت بالآية الأولى للتصريح باسم الخمر. وقال قوم: بل حرمت بالآية الثانية، لأنها آخر آية نزلت فيه. وروي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} قال: "شارب الخمر كعابد وثن" فجعله مقرونا بالشرك لتغليظ تحريمه. فإن شرب الخمر مستحلًا كفر به. وإن قيل: فقد استباح قدامة بن مظعون شرب الخمر بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوا وَّآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوا وَّآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوا} [المائدة: 93]. وقد قال: قد أيقنا وآمنًا، فلا جناح علينا فيما شربنا، فلم ينكره أحد من الصحابة قيل: قد أنكروا عليه ما تأوله وأبطلوه، فرجع عنه، وانعقد الإجماع على فساد شبهته، وصار من المحرمات بالنصوص المقطوع بها. وإن شرب الخمر غير مستحل لها حكم شهادته، كان فاسقًا مردود الشهادة قليلًا شرب منها أو كثيرًا، سكر منها أو لم يسكر، لقول النبي {صلى الله عليه وسلم}: "حرمت الخمرة لعينها والسكر من كل شراب" في رواية العراقيين والمسكر من كل شراب: في رواية الحجازيين. ولا فرق بين أن يشربها صرفاً أو ممزوجةً. وشذ قوم بأن قالوا: إذا مزجها بما غلب عليها، لم تحرم، لقوله {صلى الله عليه وسلم}: " حرمت الخمرة لعينها ". وهذا تأويل فاسد، لأن العين موجودةً في الممزوج بها، لكن لو مزجت بالماء قبل أن تشتد ثم صارت بعد المزج مسكرًا، كانت في حكم النبيذ دون الخمر، وكذلك لو غليت بالنار بعد إسكارها كانت خمرًا، لو غليت بالنار قبل إسكارها ثم أسكرت بعد غليها، كانت نبيذا ولم تكن خمرًا فصل: وأما بيع الخمر فحرام، وبائعها فاسق، والعقد عليها باطل، وثمنها محرم. روى ابن عمر أن النبي {صلى الله عليه وسلم} قال: "لعن الله الخمر ولعن بائعها"، ولأن بيعها من أكل المال بالباطل.

والله تعالى يقول: {وَلاَ تَاكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188]. وأما اتخاذ الخمر وإمساكها فمعتبر بمقصوده، فإن قصد به أن ينقلب ويصير خلا جاز. ولم يفسق به لأنها تحل بالانقلاب. وإن قصد ادخارها على حالها، كان محظورًا، يفسق به، لأن إمساكها داع إلى شربها. وما دعا إلى الحرام محظور والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ومن شرب سواها من المنصف أو الخليطين، فهو آثم ولا ترد شهادته إلا أن يسكر لأنه عند جميعهم حرام ". قال في الحاوي: قد ذكرنا أن كل شراب أسكر فهو حرام، كالخمر عندنا في تحريم ما أسكر منه وما لم يسكر، وجعل مخالفنا تحريمه مقصورًا على السكر، فأحل قليله إذا لم يسكر، وحرم فيه الكثير إذا أسكر، وقد تقدم الكلام عليه. فجميع الأنبذة المسكرة عندنا محرمةً من أي الأنواع كانت، من زبيب، أو تمر، أو رطب، أو بسر، أو عسل مطبوخة ونية. وحرم أبو حنيفة نيها وأباح مطبوخها. فإذا شرب نبيذا مسكرًا حكم شهادته، فإن شرب منه ما أسكر، فقد شرب حرامًا في الجميع، وصار به فاسقًا مردود الشهادة، وإن شرب منه ما لم يسكره فإن عاقر عليه أو تكلم بالخنا والهجر ردت شهادته. وقال محمد بن الحسن: لو عاقر على الماء كان حرامًا. وإن لم يعاقر وشرب منه ما لم يسكر، فله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يعتقد تحريمه إما باجتهاد أو تقليد فيفسق بشربه ويحد ولا تقبل شهادته، لإقدامه على ما يعتقده معصية، فصار بإقدامه عاصيًا والثانية: أن يعتقد إباحته، إما باجتهاد أو تقليد، فمذهب الشافعي يكون على عدالته، ويحد ولا ترد شهادته. وقال مالك: قد فسق، فيحد وترد شهادته. وقال المزني: لا ترد شهادته ولا يحد. ومنها جميعًا من اجتماع الحد وقبول الشهادة، فجعل مالك وجوب الحد مسقطا للشهادة، وجعل المزني قبول الشهادة مسقطًا للحد، وفرق الشافعي بينهما، فأوجب الحد ولم يرد الشهادةً، لأن الحد من حكم الشرب للردع عنه، ورد الشهادة بالفسق، بالتفسيق في حكم المعصية، والمعصيةً في تأويل ما اختلف أهل العلم فيه مرتفعةً، فلم يمتنع اجتماع

الحد وقبول الشهادة كالقاذف إذا تاب قبل الحد تقبل شهادته. والثالثة: إن شرب غير معتقد الإباحةً ولا حظر، مع علمه باختلاف أهل العلم في إباحتها وحظرها، ففي فسقه ورد شهادته بعد وجوب الحد عليه وجهان لأصحابنا: أحدهما: وهو مذهب البصريين أنه فاسق مردود الشهادة، لأن ترك الاسترشاد في الشبهات تهاون في الدين فصار فسقًا. والثاني: وهو مذهب البغداديين أنه على عدالته وقبول شهادته، لأن اعتقاد الإباحة أغلظ من الشرب، لأن من اعتقد إباحة الخمر كفر، ومنشربها ولم يعتقد إباحتها لم يكفر، فلما لم يفسق من اعتقد إباحة النبيذ وشربه، فأولى أن لا يفسق من شربه ولا يعتقد إباحته. فصل: وأما ما لا يسكر من الأنبذة والأشربة كالفقاع والقارص، فمباح لا ترد به الشهادة. وحكي عن جعفر بن محمد وطائفة من الشيعة وربما عزي إلى أبي حنيفة أن شرب الفقاع والقارص حرام. لما روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنه قال: "كل مخمر خمر". وروي أن عليًا عليه السلام مر على بائع فقاع، فقال: من خمار ما أوقحك. وهذا تأويل انعقد الإجماع على خلافه ووردت السنة برده. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كنا ننبذ لرسول الله {صلى الله عليه وسلم} على غذائه، فيشربه على عشائه، ونبذ له على عشائه، فيشربه على غذائه". وقال عمر رضي الله عنه: إنا لنأكل من هذه الأطعمة الغليظةً، ونشرب عليها من هذه الأنبذة الشديدةً، فنقطعها في أجوافنا. يعني قبل أن يسكر. ولأن علة التحريم السكر، فما لم يسكر لم يحرم كسائر الأشربة. والاستدلال بالخبر محمول عليه. ولو كان الفقاع حرامًا عند علي عليه السلام لأظهر من الإنكار والمنع، ما يجب بإظهار المنكر، ولما اقتصر على هذا القول مع الإقرار عليه. وأما ما ذكره من المنصف والخليطان، فقد اختلف في صفتها على قولين: أحدهما: أن المنصف ما طبخ حتى ذهب نصفه، والخليطان خليط البسر بالرطب. والثاني: أن المنصف ما ينصف من تمر وزبيب، والخليطان خليط البسر بالرطب، وإن كان هذا مسكرًا فهو حرام، وإن لم يسكر، ففي كراهته وجهان:

أحدهما: لا يكره كما لا تكره سائر الأشربة التي لا تسكر. والثاني: أنه يكره وإن لم يكره غيرها. لورود الشرع بالنهي عنها. والفرق بينهما وبين غيرها من وجهين: أحدهما: إسراع الإدراك إليها قبل غيرها. والثاني: إسكارها مع بقاء حلاوتها، وإسكار غيرها مع حدوث مرارتها. ولا ترد شهادة شاربها كرهت أم لم تكره. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وأكره اللعب بالنرد للخبر". قال في الحاوي: اختلف أهل العلم في النرد، فحرمها مالك، وفسق اللاعب بها حكم شهادته، وأحلها الحسن البصري، ولم يفسق اللاعب بها إذا حافظ على عبادته ومروءته. ولا يختلف مذهب الشافعي أن النرد أغلظ في المنع من الشطرنج، وصرح فيها بالكراهةً، واختلف أصحابه، هل هي كراهة تحريم أم كراهة تنزيه؟ فذهب بعضهم إلى أنها كراهة تنزيه وتغليظ، ترد به الشهادة وإن لم تحرم. وذهب أكثرهم وهو الصحيح إلى أنها كراهة تحريم توجب فسق اللاعب بها ورد شهادته. وروى مالك بن أنس، عن موسى بن ميسرة، عن سعيد بن أبي هند، عن أبي موسى، أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال: " من لعب بالنرد فقد عصى الله ورسوله ". وروي عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} قال: "من لعب بالنردشير، فكأنما يغمس يده في لحم الخنزير ودمه". وروي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنه قال: " لا يقلب كعابها أحد ينتظر ما يأتي به إلا عصى الله ورسوله ". فصار فرق ما بين النرد والشطرنج في الحكم، أن الشطرنج لا يحرم، وفي كراهته وجهان والنرد مكروهةً وفي تحريمها وجهان، والشطرنج لا ترد به الشهادة إذا خلصت وترد بالنرد وإن خلص. والفرق بينهما في المعنى: أن الشطرنج فائدته موضوعةً لصحة الفكر وصواب التدبير ونظام السياسة، فهي صادرة إن ظهر فيها عن حذقة.

والنرد موضوعةً إلى ما يأتي به من كعابها وفصوصها، فهو كالأزلام. وقيل: إنها موضوعة على البروج الاثني عشر. والكواكب السبعة، لأن بيوتها اثنا عشر كالبروج ويقطعها من جانبي الفص سبعةً، كالكواكب السبعة. فعدل بها عن حكم الشرع إلى تدبير الكواكب والبروج. وهكذا اللعب بالأربعة عشر، المفوضة إلى الكعاب، وما ضاهاها، في حكم النرد في التحريم. وأما اللعب بالخاتم حكمه وهل تقبل شهادة لاعبه فهو حدسي لا ترد به الشهادة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن كان يديم الغناء ويغشاه المغنون معلنا، فهذا سفه ترد به شهادته، وإن كان ذلك يقل لم ترد". قال الماوردي: والكلام في هذه المسألة يشتمل على فصلين: أحدهما: في الغناء. والثاني: في أصوات الملاهي. وأما الغناء: فمن الصوت ممدود، ومن المال مقصور، كالهواء وهو من الجو ممدود، ومن هوى النفس مقصور. كتب إلي أخي من البصرة وقد اشتد شوقه للقائي ببغداد شعرًا قال فيه: طيب الهواء ببغداد يشوقني قدمًا إليها وإن عاقت مقادير فكيف صبري عنها الآن إذ جمعت طيب الهواءين ممدود ومقصور اختلف أهل العلم في إباحة الغناء وحظره، فأباحه أكثر أهل الحجاز وحظره أكثر أهل العراق. وكرهه الشافعي وأبو حنيفة ومالك في أصح ما نقل عنهم، فلم يبيحوه على الإطلاق ولم يحظروه على الإطلاق، فتوسطوا فيه بالكراهة بين الحظر والإباحة. واستدل من أباحه، بما روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم}، أنه مر بجارية لحسان بن ثابت تغني وهي تقول: هل علي ويحكما إن لهوت من حرج فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}: "لا حرج إن شاء الله" وروى الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت: كانت عندي جاريتان

تغنيان فدخل أبو بكر، فقال: أمزمور الشيطان في بيت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}: "دعهما فإنها أيام عيد". وقال عمر رضي الله عنه: "الغناء زاد المسافر". وكان لعثمان جاريتان تغنيان في الليل فإذا جاء وقت السحر قال: أمسكا فهذا وقت الاستغفار وقام إلى صلاته. ولأنه لم يزل أهل الحجاز يترخصون فيه ويكثرون منه، وهم في عصر الصحابة وجلة الفقهاء، فلا ينكرونه عليهم ولا يمنعونهم منه إلا في إحدى حالتين: إما في الانقطاع إليه، أو الإكثار منه، كالذي حكي أن عبد الله بن جعفر كان منقطعًا إليه، ومكثرًا منه، حتى بدد فيه أمواله، فبلغ ذلك معاوية، فقال لعمرو بن العاص: قم بنا إليه، فقد غلب هواه على شرفه ومروءته، فلما استأذنا عليه وعنده جواريه، يغنين فأمرهن بالسكوت، وأذن لهما في الدخول، فلما استقر بهما الجلوس، قال معاوية: يا عبد الله، مرهن يرجعن إلى ما كن عليه، فرجعن يغنين، فطرب معاوية حتى حرك رجليه على السرير، فقال عمرو: إن من جئت تلحاه أحسن حالًا منك، فقال معاوية: إليك عني يا عمرو، فإن الكريم طروب. وأما أن يكون في الغناء ما يكره كالذي روي عن سفيان بن عيينة، وقد عاد ابن جامع إلى مكة بأموال جمة حملها من العراق، فقال لأصحابه: علام لعطاء ابن جامع هذه الأموال؟ فقالوا: على الغناء، قال: "ابن جامع ماذا يقول فيه"؟ قالوا: يقول: أطوف بالبيت في من يطوف وأرفع من مئزري المسبل قال: هي السنة، ثم ماذا يقول؟ قالوا: وأسجد بالليل حتى الصباح وأتلو من المحكم المنزل قال: أحسن وأصلح، ثم ماذا؟ قالوا: عسى فارج الهم عن يوسف يسخر لي ربة المحمل قال: أفسد الخبيث ما أصلح لا سخر الله له. واستدل من حظره بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ} [الفرقان: 72]. وفيه أربعة تأويلات: أحدها: الغناء، قاله مجاهد. والثاني: أعياد أهل الذمة، قاله ابن سيرين. والثالث: الكذب، قاله ابن جريج. والرابع: الشرك، قاله الضحاك رحمه الله.

وقال تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا} [الفرقان: 72]. وفيه ثلاث تأويلات: أحدها: إذا ذكروا الفروج والنكاح كنوا عنها. والثاني: إذا مروا بالمعاصي أنكروها، قاله الحسن. والثالث: إذا مروا بأهل المشركين أنكروه، قاله عبد الرحمن بن زيد. وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ} [لقمان: 6] الآية، وفي لهو الكلام أربعة تأويلات: أحدها: أنه الغناء، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وعكرمة، وسعيد بن جبير، وقتادة. والثاني: أنه شراء المغنيات. وروى القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي أمامة، عن النبي {صلى الله عليه وسلم}، قال: "لا يحل بيع المغنيات، ولا شراؤهن ولا التجارات فيهن وأثمانهن حرام وفيهن أنزل الله تعالى ومن الناس من يشتري لهو الحديث". والثالث: أنه شراء الطبل والمزمار، قاله عبد الكريم. والرابع: أنه ما ألهى عن الله تعالى، قاله الحسن. وفي قوله تعالى: {لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [لقمان: 6]. تأويلان: أحدهما: ليمنع من قراءة القرآن، قاله ابن عباس. والثاني: ليصد عن سبيل الله. حكاه الطبري. وفي قوله {بِغَيْرِ عِلْمٍ}: تأويلان. أحدهما: بغير حجة. والثاني: بغير رواية. وفي قوله تعالى: {وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} تأويلان: أحدهما: تكذيبًا. : استهزاء بها. ومن السنة ما رواه ابن مسعود، عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنه قال: "الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل". وروي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه قال: "الغناء نهيق الشيطان". وقال {صلى الله عليه وسلم}: "أنهاكم عن صوتين فاجرين الغناء والنياحة. وقال بعض السلف: الغناء رقيةً الزنا.

وإذا تقابل بما ذكرنا، دلائل الحظر والإباحةً، يخرج منها حكم الكراهة. فلم يحكم بإباحته، لما قابله من دلائل الحظر والإباحة، ولم نحكم بحظره لما قابله من دلائل الإباحة فصار يتردده بينهما مكروها غير مباح ولا محظور. وروي أن رجلًا سأل ابن عباس عن الغناء: أحلال هو؟ قال: لا، قال: أحرام هو؟ قال: لا، يريد أنه مكروه لتوسطه بين الحلال والحرام. والله أعلم. فصل: وأما الملاهي فعلى ثلاثة أضرب: حرام، ومكروه، وحلال. فأما الحرام من الملاهي: فالعود، والطنبور، والمعزفة، والطبل، والمزمار، وما ألهى بصوت مطرب إذا انفرد. وروى عبد الله بن عمر، أن النبي {صلى الله عليه وسلم}، قال: "إن الله حرم على أمتي الخمر، والميسر، والمزر، والكوبة، والمزامير، والقنين". فالميسر: القمار، والمزر: نبيذ الذرة، والكوبةً: الطبل، والقنين: البربط، ولأنها تلهي عن ذكر الله تعالى وعن الصلاة كالشراب. وكان بعض أصحابنا يخص العود من بينها ولا يحرمه، لأنه موضوع على حركات نفسانية تنفي الهم، وتقوي الهمة وتزيد في النشاط. وهذا لا وجه له، لأنه أكثر الملاهي طربًا، وأشغلها عن ذكر الله تعالى وعن الصلاةً، وإن تميز به الأماثل عن الأراذل. وأما المكروه من الملاهي: فما زاد به الغناء طربًا، ولم يكن بانفراده مطربًا، كالفسح، والقضيب، فيكره مع الغناء لزيادة إطرابه، ولا يكره إذا انفرد لعدم إطرابه. وأما المباح من الملاهي: فما خرج عن آلة الإطراب، إما إلى إنذار كالبوق، وطبل الحرب. أو لمجمع وإعلان كالدف في النكاح، كما قال صلوات الله عليه وسلامه: " أعلنوا هذا النكاح واضربوا عليه بالدف". واختلف أصحابنا هل ضرب الدف على النكاح عام في كل البلدان والأزمان؟ فعم بعضهم لإطلاقه، وخص بعضهم في البلدان التي لا يتناكر أهلها في المناكح، كالقرى والبوادي، ويكره في غيرها، في مثل زماننا، لأنه قد عدل به إلى السخف والسفاهة. فأما الشبابة: فهي في الأمصار مكروهةً، لأنها مستعملةً فيها للسخف والسفاهة، وهي في الأسفار والرعاة مباحةً، لأنها تحث على السير وتجمع البهائم إذا سرحت. فصل: فإذا تقرر أحكام الأغاني والملاهي، فإن قيل بتحريمها فهي من الصغائر دون

الكبائر، يفتقر إلى الاستغفار، ولا ترد بها الشهادةً إلا مع الإصرار. وإن قيل بكراهتها، فهي من الخلاعة لا يفتقر إلى الاستغفار ولا ترد بها الشهادةً إلا مع الإصرار، وإن كان كذلك فالكلام فيها يشتمل على ثلاثة فصول: أحدها: فيمن باشرها بنفسه. والثاني: فيمن يستعملها للهوه. والثالث: فيمن يغشى أهلها. فأما المباشر لها بنفسه فله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يصير منسوبا إليها ومسمى بها، يقال إنه مغني يأخذ على غنائه أجرًا، يدعوه الناس إلى دورهم أو يغشونه لذلك في داره، فهذا سفيه مردود الشهادة المغني، لأنه قد تعرض لأخبث المكاسب ونسب إلى أقبح الأسماء. والثانية: أن يغني لنفسه إذا خلا في داره باليسير استرواحًا فهذا مقبول الشهادةً، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا خلا في داره يترنم بالبيت والبيتين: واستؤذن عليه ذات يوم لعبد الرحمن بن عوف وهو يترنم فقال: أسمعتني يا عبد الرحمن؟ فقال: نعم. قال: إنا إذا خلونا في منازلنا نقول كما يقول الناس. وروي عن أبي الدرداء، وكان من زهاد الصحابةً، أنه قال: إني لأجم قلبي بشيء من الباطل لأستعين به على الحق. فإن قرن يسير غنائه بشيء من الملاهي مما حظرناه، نظر. فإن خرج صوته عن داره حتى يسمع منها، كان سفها ترد به الشهادةً. وإن خافت به ولم يسمع، كان عفوًا إذا قل ولا ترد به الشهادةً. والثالثة: أن يغني إذا اجتمع مع إخوته ليستروحوا بصوته وليس بمنقطع عليه. ولا يأخذ عليه أجرًا، نظر: فإن كان مشهورًا به، يدعوه الناس لأجله، كان سفها ترد به الشهادة، وإن لم يشتهر به، ولا دعا الناس لأجله، نظر. فإن كان متظاهرًا به معلنا له، ردت شهادته، وإن كان مستترًا به، لم ترد شهادته والله أعلم. فصل: وأما مستمع الغناء. فله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يصير منقطعًا إليه، يدفع عليه حذرًا ويتبع فيه أهل الخدور، فهذا سفيه مردود الشهادة. والثانية: أن يقل استماعه، ويسمعه أحيانا في خلوته استرواحا به، فهو على عدالته وقبول شهادته، إذا لم يقصد الاستماع غناء امرأةً غير ذات محرم.

وروي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنه قال: " روحوا القلوب تعي الذكر ". والثالثة: أن يتوسط بين المكثر والمقل نظر. فإن اشتهر به وانقطع به عن أشغاله، صار سفيها مردود الشهادة، وإن لم يشتهر به ولا قطعه عن أشغاله، فهو على عدالته وقبول شهادته. فصل: وأما مقتني المغنيين والمغنيات، من الغلمان والجواري حكم شهادته، فله ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون جليسا لهم، ومقصودًا لأجلهم، فهذا سفيه مردود الشهادة وحاله في الجواري أغلظ من حاله في الغلمان. قال الشافعي: "لأنه قد جمع سفها ودناءة". والثانية: أن يقتني ذلك لنفسه ليستمع غناءهم إذا خلا، مقبلصا مستترًا، غير مكاثر ولا مجاهر. فهو على عدالته وقبول شهادته. والثالثة: أن يدعو من يشاركه في سماعهم فينظر: فإن كان يدعوهم من أجل السماع، ردت شهادته. وإن دعاهم لغير الغناء، نظر. فإن كثر حتى اشتهر، ردت شهادته، وإن قل ولم يشتهر، فإن كان الغناء من غلام، لم ترد شهادته، وإن كان الغناء من جاريةً نظر، فإن كانت حرةً ردت شهادته وشهادة مستمعها إذا اعتمد المستمع سماعها، وإن لم يعتمد لم ترد شهادته وإن كانت أمة، فسماعها أخف من سماع الحرةً، لنقصها في العورة، وأغلظ من سماع الغلام لزيادتها في العورةً، فيحتمل أن يغلب نقصها عن الحرة وإجرائها مجرى الغلام، فلا ترد بها الشهادة، ويحتمل أن يغلب زيادتها على الغلام وإجرائها مجرى الحرةً، فترد بها الشهادة والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فأما الاستماع للحداء ونشيد الأعراب فلا بأس به قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} للشريد: "أمعك من شعر أمية شيء؟ " قال: نعم، قال: "هيه" فأنشده بيتًا فقال "هيه" حتى بلغت مائة بيت وسمع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} الحداء والرجز وقال لابن رواحة "حرك بالقوم"، فاندفع يرجز قال المزني رحمه الله: سمعت الشافعي يقول: كان سعيد بن جبير يلعب بالشطرنج استدبارًا، فقلت له: كيف يلعب بها استدبارًا، قال: يوليها ظهره ثم يقول: "بأي شيء وقع"، فيقول: بكذا فيقول: أوقع عليه بكذا ". قال في الحاوي: وهذا صحيح. لا بأس بالحداء ونشيد الأعراب، والشعر، والرجز، وهو مباح لا كراهةً فيه.

وروى ابن مسعود قال: كان مع رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ليلة نام بالوادي حاديان. وروى أنس بن مالك، عن عائشة رضي الله عنها قالت: كنا في سفر رسول الله {صلى الله عليه وسلم}، وكان عبد الله بن رواحة جيد الحداء، فكان مع الرجال، وكان أنجشة مع النساء، فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} لعبد الله بن رواحة: " حرك بالقوم "، فاندفع يرتجز، وتبعه أنجشة، فأعنقت الإبل في السير، فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} "رويدك يا أنجشة رفقًا بالقوارير" يعني النساء. وروى الشافعي عن سفيان بن عيينة عن إبراهيم بن ميسرة عن عمرو بن الشريد عن أبيه قال: أردفني رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ثم قال: "أمعك من شعر أمية بن أبي الصلت شيء؟ قلت: نعم. قال: فأنشدته بيتا فقال: هيه. فأنشدته بيتا آخر. فقال: هيه. فأنشدته إلى أن بلغ مائة بيت". وهيه: موضوعةً في الكلام للحث والاستزادة، وإنما استحسن شعر أمية لأن أكثره عبر وأمثال، وأذكار بالبعث والنشور، ووعد ووعيد بالجنة والنار النبي صلى الله عليه وسلم. وروي أنه {صلى الله عليه وسلم} قال فيه: "إن كاد ليسلم". وروي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنه لقي في سفر ركبا من بني تميم معهم حاد، فأمرهم أن يحدوا، فقالوا: إن حادينا حدا ونام من آخر الليل، ثم قالوا: يا رسول الله، إنا أول العرب حداء بالإبل، قال: وكيف ذلك؟ قال: إن العرب كانت تغير بعضها على بعض، فأغار رجل منا على إبل فاستاقها فتبددت، فضرب غلامه على يده، فكان الغلام كلما ضربه صاح وايداه! وايداه! والإبل تجتمع لحسن صوته، وهو يقول: هكذا أفعل. والنبي {صلى الله عليه وسلم} يضحك، فقال: وممن أنتم؟ قالوا: من مضر، فقال: "ونحن من مضر وكيف كنتم أول العرب حداء؟ ". فدل هذا الخبر على إنشاد الرجز وإباحة الحداء، وجواز الضحك عند التعجب ولأن الحداء غير مقصود به اللهو كالغناء، وإنما يقصد به حث المطي وإعناق السير، فلم تتوجه إليه كراهيةً. ولأن الحداء الحسن الرجز، فيباح بالصوت الشجي، فيخفف كلال السفر، ويحدث نشاط النفس، فلم يكن له في الكراهةً وجه، وسواء فيه الحادي والمستمع، وهكذا التغني بالركانية مباح، لأنه ضرب من الحداء، يعدل فيه عن ألحان الغناء. وروي أن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} لما هاجر إلى المدينةً، استقبله الأنصار وخرج إليه الفتيان بالدفوف وهم ينشدون: طلع البدر علينا ... من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا ما دعا لله داعٍ ومر رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ببعض أزقة المدينة، فسمع جواري لبني النجار ينشدون: نحن جوار لبني النجار يا حبذا محمد من جار فقال: "يا حبذا أنتن". مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا كان هكذا كان تحسين الصوت بذكر الله والقرآن أولى محبوبًا قال الشافعي رحمه الله: وقد روي عن رسول الله {صلى الله عليه وسلم} أنه قال: " ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن، وسمع النبي {صلى الله عليه وسلم} عبد الله بن قيس يقرأ، فقال " لقد أوتي هذا من مزامير آل داود " قال الشافعي رحمه الله: لا بأس بالقراءةً بالألحان، وتحسين الصوت بأي وجه ما كان، وأحب ما يقرأ إلي حدرًا وتحزينًا. قال المزني رحمه الله: سمعت الشافعي يقول: لو كان معنى "يتغنى بالقرآن" على الاستغناء، لكان يتغانى وتحسين الصوت هو يتغنى، ولكنه يراد به تحسين الصوت. قال في الحاوي: أما تحسين الصوت بالقرآن حدرًا وتحزينًا فمستحب، لما رواه الشافعي رضي الله عنه عن النبي {صلى الله عليه وسلم} قال: "ما أذن الله لشيء كإذنه لنبي حسن الترنم بالقرآن" وروي: حسن الصوت بالقرآن زينة القرآن". ومعنى قوله "أذن الله" أي: ما استمع الله. ومنه قوله تعالى: {وأذنت لربها وحقت} [الانشقاق: 2]. أي: سمعت له وحق لها أن تسمع. وروى البراء بن عازب عن النبي {صلى الله عليه وسلم}، أنه قال: "حسنوا القرآن بأصواتكم". وروى الزهري عن عمرة عن عائشةً، أن النبي {صلى الله عليه وسلم} سمع قراءة أبي موسى فقال: " لقد أوتي هذا من مزامير آل داود ". وروي عن أبي موسى قال: قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}: "لو رأيتني وأنا أسمع قراءتك، فقلت: يا رسول الله لو علمت أنك تسمعني لحبرته تحبيرًا". وروي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنه قال: "من أراد أن يقرأ القرآن غضًا كما أنزل، فليقرأ بقراءةً

ابن أم عبد " يعني عبد الله بن مسعود، لحسن أدائه، وصحة ترتيله، وتحقيق ألفاظه. وكان أبي بن كعب ذا صوت حسن، وأداء صحيح فقال له النبي {صلى الله عليه وسلم}: "لقد أمرت أن أقرأ عليك، فقرأ عليه". واختلف أهل العلم في قراءته عليه. فقال بعضهم: ليستن به الناس بعده، فلا يستنكف شريف أن يقرأ على مشروف، ولا كبير على صغير. وقال آخرون: ليسمع الناس قراءته وأداءه، فيأخذون عنه. وقال آخرون: أراد به تفضيل أبي بذلك، ولأن في تحسين الصوت بالقرآن تحريك القلوب بالحزن والخشوع، وإنذار النفوس بالحزن والخضوع، فيكون أبعث على الطاعةً وأمنع من المعصيةً. وروي أن النبي {صلى الله عليه وسلم} قرأ ذات ليلة في تهجده سورة النساء حتى إذا بلغ إلى قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاء شَهِيداً} [النساء: 41]. فبكى حتى علا نحيبه، ولم يزل يرددها حتى تحزن صوته. ومر بعض أهل البطالةً، وقد هم بمعصية وقتل نفس بصالح المري وهو يقرأ {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا} [الفرقان: 23]. فانزجر بها وألقى السكين من يده وخر مغشيًا على وجهه، وتاب، وصار ناسكًا. فصل: فأما القراءةً بالألحان الموضوعة للأغاني، فقد اختلف الناس فيها، فرخصها قوم وأباحوها، لرواية أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي {صلى الله عليه وسلم}، قال: "ليس منا من لم يتغن بالقرآن". وشددها آخرون وحظروها، لخروجها عن الزجر والعظةً إلى اللهو والطرب. ولأنها خارجة عن عرف الرسول {صلى الله عليه وسلم} وصحابته رضوان الله عليهم، إلى ما استحدث من بعده. وقد قال {صلى الله عليه وسلم}: "كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار". وأما الشافعي، فإنه عدل عن هذين الإطلاقين في الحظر والإباحة باعتبار الألحان، فإذا أخرجت ألفاظ القرآن عن صيغته، بإدخال حركات فيه وإخراج حركات منه، يقصد بها وزن الكلام وانتظام اللحن، أو مد مقصور، أو قصر ممدود، أو مطط حتى خفي اللفظ، والتبس المعنى، فهذا محظور، يفسق به القارئ، ويأثم به المستمع؛ لأنه قد عدل به

عن نهجه إلى اعوجاجه، والله تعالى يقول: {قُرآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28]. وإن لم يخرجه اللحن عن صيغة لفظه وقراءته على ترتيله كان مباحًا، لأنه قد زاد بألحانه في تحسينه وميل النفس إلى سماعه. أما قوله: ليس منا من لم يتغن بالقرآن " ففيه تأويلان: أحدهما: معناه من لم يستغن بالقرآن، وهذا قول الأصمعي، ومال إليه الشافعي. وحكي زهير بن أبي هند، عن إياس بن معاوية المزني، أنه نظر إلى رجل يتغنى بالقرآن، فقال: يا هذا إن كنت لا بد متغنيًا فبالشعر، فقال الرجل: أليس النبي {صلى الله عليه وسلم} يقول: ليس منا من لم يتغن بالقرآن، فقال له إياس: إنما أراد النبي {صلى الله عليه وسلم}: "ليس منا من لم يستغن بالقرآن، ألم تسمع حديثه الآخر" من حفظ القرآن فظن أن أحدًا أغنى منه". أما سمعت قول الشاعر: غنينا بذكر الله عما نراه في يد المتمولينا والثاني: أنه محمول على غناء الصوت في تحسينه وتحزينه دون ألحانه. وهذا قول أبي عبيد، وأنكر على من حمله على الاستغناء، وقال: لو أراد هذا لقال: " من لم يتغانى بالقرآن ". مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه والعصبية المحضة أن يبغض الرجل لأنه من بني فلان فإذا أظهرها ودعا إليها وتألف عليها فمردود وقد جمع الله تبارك وتعالى المسلمين بالإسلام وهو أشرف أنسابهم فقال جل ثناؤه: "إنما المؤمنون إخوة" وقال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}: كونوا عباد الله إخوانًا فمن خالف أمر الله عز وجل وأمر رسوله {صلى الله عليه وسلم} ردت شهادته ". قال في الحاوي: وقد أمر الله تعالى المسلمين بالألفةً والتناصر، ونهاهم عن التقاطع والتدابر. وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71]. وقال النبي {صلى الله عليه وسلم} " أمتي كالبنيان يشد بعضه بعضًا " وقال فيما نهاهم عنه من التقاطع: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103]. وقال النبي {صلى الله عليه وسلم}: "لا تحاسدوا ولا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانًا، لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، والسابق أسبقهما إلى الجنة"

فكان هذا أصلًا في الدين، ليكونوا يدا على من خالفهم فيه، ولذلك قال النبي {صلى الله عليه وسلم}: "المسلمون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم، ويسعى بذمتهم أدناهم". ويشتمل الكلام في هذا الفصل على أربعة فصول: أحدها: في المحبة. والثاني: فيما يفضي إليه من المعصية. والثالث: في البغض. والرابع: فيما يفضي إليه من العداوة. فأما الفصل الأول: في المحبة. ونتحدث عن أسباب يكون بعضها مستحبًا وبعضها مباحًا وبعضها مكروها. فأما المستحب: فهو المحبةً في الدين، وظهور الخير، وما قرب من طاعة الله تعالى وباعد من معاصيه. قال الله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 110]. ولذلك آخى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بين أصحابه من المهاجرين والأنصار. فأما المباح: فهو المحبةً على النسب وعلى التجانس في علم أو أدب، وعلى ما أبيح من صناعةً أو مكسب، فهذا مباح تقوى به العدالةً ولا تضعف به، ولهذا النوع أراد الشافعي بقوله: وليس من العصبيةً أن يحب الرجل قومه". هذا رسول الله {صلى الله عليه وسلم} وهو أعد لخلق الله، وقد أحب قريشا لنسبه فيهم حتى خصهم بخلافته فقال: "الأئمة من قريش". وقال {صلى الله عليه وسلم} "قدموا قريشًا ولا تتقدموها، وتعلموا من قريش ولا تعالموها". وحمى لهم لما عادوا إلى المدينة من بدر ومعه من الأنصار سلامةً بن وقش وقد سأله بعض أهل المدينة عمن لقيهم من المشركين ببدر، فقال سلامةً: وهل لقينا إلا عجائز صلعًا، فبلغ ذلك رسول الله {صلى الله عليه وسلم} فقال: "أولئك الملأ من قريش" فنفى عنهم العار مع كفرهم ومحاربتهم له. وسمع شاعرًا من حمير ينشده: فإني امرؤ حميري حين تنسبني لا من ربيعةً آبائي ولا مضر فقال {صلى الله عليه وسلم}: "ذاك أهون لقدرك وأبعد لك من الله". وأما المكروه: فهو المحبةً على الموافقةً في المعاصي، فقال {صلى الله عليه وسلم}: "المرء مع من أحب" فصار محب العاصي كالعاصي. فأما المحبةً لاستحسان الصور، فإن كانت لهوى يفضي إلى ريبةً، كرهت وإن كانت

لاستحسان صنع الله تعالى وبديع خلقه، لم تكره وكانت بالمستحبةً أشبه. وأما الثاني في العصبيةً: فهي شدة الممايلةً لقوم على قوم، وهو على ضربين: أحدهما: أن تكون عصبيته لهم عامة في كل حق وباطل، وعلى كل محق ومبطل، فهذا فسق ترد به الشهادة. وقال الله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَامُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة: 67]. والثاني: أن تكون عصبيته لهم مقصورةً على أخذ الحق لهم، ودفع الظلم عنهم، فيكون بها على عدالته، وقبول شهادته، لقول الله تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. وروي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنه قال لرجل: "أعن أخاك ظالمًا أو مظلومًا، فقال الرجل: يا رسول الله: أعينه مظلومًا فكيف أعينه ظالمًا، فقال: ترده عن ظلمه". ثم تعتبر هذه العصبيةً، فإن كانت لمحبة القوم فهي مباحةً وإن كانت لنصرة الحق فهي مستحبة. وأما الفصل الثالث: في البغض في الشهادة: فهو على ثلاثة أضرب: مستحب، ومباح ومكروه. فأما المستحب: فهو بغضه لأهل المعاصي، فيكون بغضه لهم طاعة يؤجر عليها لاختصاصه بحق الله تعالى. وأما المباح: فهو بغضه لمن لوى حقه وتظاهر بعداوته، فيكون السبب الباعث عليه من أمور الدنيا مباحا، ولا يؤجر عليه ولا يؤثم به، وهو فيه على عدالته وقبول شهادته، ما لم يتجاوز البغض إلى غيره. وأما المكروه: فهو بغضه لمن خالفه في نسب، أو علم، أو صناعة، فيكون البغض لهذا السبب مكروهًا لما فيه من التقاطع. فإن ألب عليه وتعصب فيه كان جرحًا ترد به الشهادةً، وإن لم يتجاوز البغض إلى ما سواه كان على عدالته وقبول شهادته؛ لأنه قد حمى نفسه من نتائج البغض. فأما إن كان بغضه لغير سبب، فإن كان خاصا في واحد بعينه، لم ترد به شهادته، لأنه لا يملك قلبه، وإن كان عامًا لكل أحد، فقد روي عن النبي {صلى الله عليه وسلم} أنه قال "شر الناس من يبغض الناس ويبغضونه" فيكون ذلك جرحًا فيه، فترد به شهادته لخروجه عن المأمور به من الألفة، إلى المنهي عنه من التقاطع. وأما الفصل الرابع: في العداوة: والفرق بين البغض والعداوةً، أن البغض بالقلب، والعداوةً بالعمل، ومع كل عداوةً بغض وليس مع كل بغض عداوةً، فصارت العداوة أغلظ

من البغض، فهي على ثلاثة أضرب: مستحبة، ومباحة، ومكروهة. فأما المستحبة: فهي في الدين، لمن خرج عن طاعة الله أو تعرض لمعاصيه. وهذا غضب لله تعالى في حقوق أوامره ونواهيه، فخرج عن حكم العداوة إلى نصرة الدين، فكان أبلغ في عدالته، وأولى بقبول شهادته، لأن من غضب لله في معصية غيره، كان بدفع المعصيةً عن نفسه أولى. وأما المباحة: فهي في حق نفسه، إذا بدء بالعداوة، فقابل عليها بما لم يتجاوز فيه حكم الشرع، فهو مستوف لحقه منه، غير قادح في عدالته، لقوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ} [النحل: 126]. وشهادته مقبولةً على غيره، فأما قبولها على عدوه فمعتبرة بحاله بعد المقابلةً فإن سكن بعد نفوره، قبلت شهادته، وإن كان على نفوره، ردت. وأما المكروهةً: فهو أن يبتدئ بها من غير سبب بوجوبها، فيكون بها متجوزًا، فإن قرنها بفحش في قول أو فعل، صار بها مجروحًا في حق الكافة، لا تقبل شهادته لأحد ولا عليه، وإن تجردت عن فحش من قول أو فعل، فهو على عدالته مقبول الشهادةً، على غيره ومردود الشهادةً على عدوه، ومقبول الشهادة لعدوه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "والشعر حكمه كلام، فحسنه كحسن الكلام، وقبيحه كقبيحه، وفضله على الكلام أنه سائر وإذا كان الشاعر لا يعرف بشتم وأذاهم ولا يمتدح فيكثر الكذب المحض ولا يتشبب بامرأة بعينها ولا يشهرها بما يشينها فجائز الشهادة وإن كان على خلاف ذلك لم تجز". قال في الحاوي: واختلف الناس في شهادة الشاعر إذا صار بالشعر مشهورًا وإليه منسوبًا، فمنع قوم من قبولها، وجعلوا توفره على الشعر جرحًا، تمسكا بقوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} [الشعراء: 224 - 226] ولحديث أبي هريرة أن النبي {صلى الله عليه وسلم} قال: "لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحًا حتى يريه خير من أن يمتلئ شعرًا ". والذي عليه جمهور أهل العلم أن قرض الشعر وإنشاده إذا كان سليمًا ليس بجرح، وشهادة من انتسب إليه مقبولةً، على ما سنوضحه من شرح وتفصيل لرواية عبد الرحمن بن زياد، عن عبد الرحمن بن رافع، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم}:

"الشعر بمنزلة الكلام حسنه كحسن الكلام وقبيحة كقبيح الكلام". وروي عن عصمة بن عبد الله عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى اله عليه وسلم قال: " إن من الشعر حكمة وإن من البيان سحراً وإن أصدق بيت قالته العرب: ألا كل شيء ما خلا الله باطل ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قد وفد عليه الشعراء فأنشدوه ومدحوه وأثاب غلبيه ولم ينه عنه، فمنهم أعشى بني جرما وفد عليه وأنشده ما امتدحه به فقال: يا مالك الأرض وديان العرب إليك أشكو حقبة من الحقب إلى أن انتهى إلى شكوى امرأته: وهن شر غالب لمن غلب ومنهم كعب بن زهير وكان قد هدر رسول الله دمه، فورد إلى المدينة مستخفياً فقام إليه بعد صلاة الصبح ممتدحا فقال: بانت سعاد فقلبي اليوم متبول ... متيم إثرها لم يفد مكبول إلى أن انتهى إلى قوله: نبئت أن رسول الله أوعدني ... والعفو عند رسول الله مأمول فقام علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله هذا كعب بن زهير فاضرب عنقه، فقال: " لا دعه فإنه قد أسلم" وأعطاه بردة كانت عليه فابتاعها منه معاوية بن أبي سفيان بعشرة آلاف درهم، وهي التي مع الخلفاء إلى اليوم. وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم شعراء منهم حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحه، وكانوا ينشدون الشعر تارة ابتداء ويأمرهم به أخرى ليردوا على من هجاه، كما قال حسان بن ثابت: هجوت محمداً فأجبت عنه ... وعند الله في ذاك الجزاء أتهجوه ولست له بكفء ... فشركما لخيركما الفداء فإن أبي ووالده وعرضي ... لعرض محمد منكم بقاء واستنشد رسول الله صلى الله عليه وسلم الشريد من شعر أمية بن أبي الصلت وأنشده منه مائة بيت. وأخبر صلى الله عليه وسلم أنه شهد قس بن ساعده بعكاظ على جمل أشهب وهو يقول: أيها الناس من عاش، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت مالي أري الناس يذهبون فلا

يرجعون، أرضوا بالإقامة فأقاموا، أم تركوا هنالك فناموا. إن في السماء لخبراً وأن في السماء لخبراً وإن في الأرض لعبراً سقف مرفوع وسهال موضوع. وبحار بحور، وتخوم تخور ثم تغور، أقسم قس بالله قسماً: إن لله لدينا هو أرض من دين نحن عليه، ثم تكلم بأبيات شعر ما أدري ما هي أبو بكر رضي الله عنه: قد كنت شاهداً ذاك والأبيات عندي: فقال: أنشدني ها، فأنشدوه أبو بكر رضي الله عنه: في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر لما رأيت مواردا ... للموت ليس لها مصادر ورأيت قومي نحوها ... تمضي الأكابر والأصاغر لا يرجع الماضي إلى ... ولا من الباقين عابر أيقنت أني لامحا ... له حيث صار القوم صائرا وقد أنشد صلى الله عليه وسلم شعر طرفة: ستبدي لك لأيام ما كنت جاهلا ويأتيك من لم تزوده الأخبار فقال أبو بكر أنه قال: ويأتيك بالأخبار من لم تزود فقال صلى الله عليه وسلم: " مالي وللشعر ولي" يريد ما قاله فيه عز وجل: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ}. وقال صلى الله عليه وسلم: تفاءل بما ترجوه فلقلم فقال علي عليه السلام: بما ترجوه ألا تكونا فصار بما تممه علي شعراً منتظماً واستوقفته قتيلة بنت النضر بن الحارث عام الفتح بعد قتل أبيها صبراً فأنشدته: أمحمد ها أنت خير نجيبة من قومها والفحل فحل معرق النضر أقرب من قتلت قرابة وأحقهم إن كان عتقاً يعتق ما كان ضرك لو مننت وربما من الفتى وهو المغيظ المحنك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " لو سمعت شعرها ما قتلته". وقد كان كثير من الصحابة يقولون الشعر ويتمثلون بأشعار العرب فلم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد استشهد عبد الله بن عباس فيما سأله نافع بن الأزرق في معاني القرآن بأشعار العرب، ودل به على معانيه وقال: الشعر ديوان العرب فما أنكره أحد منهم من الصحابة والتابعين.

وسئل ابن عباس عن أول الناس إسلاماً فقال: أبو بكر أنا سمعت قول حسان بن ثابت. إذا تذكرت شجواً من أخي ثقة فاذكر أخاك أبا بكر بما فعلا خير البرية أتقاها وأعدلها ... إلا النبي وأوفاها بما حملا الثاني اثنان والمحمود مشهده ... وأول الناس منهم صدق الرسل وحبس عمر رضي الله عنه الخطيئة الشاعر فأرسل إليه من الحبس شعراً يقول فيه ماذا تقول لأفراخ بذي مزح ... حمر الحواصل لا ماء ولا شجر ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ... فأغفر عليك سلام الله يا عمر أنت الإمام الذي من بعد صاحبه ألقت عليك مقاليد النهي البشر ما يؤثروك بها إذ قدموك لها ... لكن لأنفسهم كانت بك الأثر فلما وصل إليه هذا الشعر أطلقه وقال: إن الشعر ليستنزل الكريم. فإذا كان الشعر في الصحابة بهذه المثابة وكان الشعراء منهم بهذه المنزلة لم يجز أن يكون جرحاً في قائله ولا منشده لأنهم لا يأتون منكراً ولا يقرون عليه. وقد مر الزبير بن العوام في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بحسان بن ثابت وهو ينشد شعره أحداثاً من الأنصار وهم معرضون عنه، فقال: أتعرضون عنه وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل عليه إذا أنشده فنهض حسان وقبل يد الزبير. وقيل لسعيد بن المسيب: إن قوماً يكرهون إنشاد الشعر في المسجد فقال: هؤلاء ينسكون نسكاً أعجمياً. وروى أبو بكر بن سيف في مختصر المزني عنه، وقال: سألته أيجوز للرجل أن يتزوج المرأة ويصدقها شعرا؟ فقال: إن كان كقول الشاعر: يود المرء أن يعطي مناه ويأبى الله إلا ما أرادا يقول المرء فائدتي ومالي ... وتقوى الله أفضل ما أفادا جاز فدل ما وصفنا وإن مع الإطالة بيسير إن يشاء الشعر وإنشاده مباح وإنشاد الشعر ما كان من قوله وإنشاده ما كان من قول غيره. فأما قوله تعالى: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} فقد قال أهل التأويل: يريد بالشعراء إذا قالوا كذبوا وإذا غضبوا سبوا. وفي قوله تعالى: {يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ} أربعة تأويلات: أحدها: الشياطين قاله مجاهدا والثاني: المشركون، قاله عبد الرحمن بن زيد والثالث: السفهاء قاله الضحاك.

والرابع: الرواة قاله ابن عباس. وفي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} ثلاث تأويلات: وفي قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ} ثلاث تأويلات: أحدها: في كل فن من الكلام يأخذون. قال ابن عباس. والثاني: في كل لغو يخوضون قاله فطرب. والثالث: أن يمدح قوماً بباطل ويذم قوماً بباطل. قال قتادة: {وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ} يعني من كذب في مدح أو هجاء. فلما نزل هذه الآية حضر عبد الله بن رواحه وكعب بن مالك وحسان بن ثابت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكوا وقالوا: هلكنا يا رسول الله فأنزل الله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فقرأها عليهم وقال: هم أنتم {وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً} فيها وجهان: أحدهما: في شعرهم والثاني: في كلامهم. {وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} أي ردوا على المشركين ما هجوا به المسلمين فدلت الآية على أن المذموم من الشعر ما فيه من هجوا: والهجوا في الكلام مذموم فكيف في الشعر، ولأن الشعر يحفظه فينشر ويبقى على الإعصار والدهور. وأما قوله صلى الله عليه سلم: " لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً حتى يريه خير من أن يمتلئ شعراً" ففيه وجهان: أحدهما: ما كان من الشعر كذبا وفحشاً وهجاء والثاني: أن ينقطع إليه ويتشاغل عن القرآن وعلوم الدين. فصل فإذا تقرر أن الشعر في حكم الكلام لا يخرجه نظمه عن إباحته وحظره فهو على ثلاثة أضرب مستحي ومباح ومحظور. فأما المستحب فنوعان: أحدهما: ما حذر من الآخرة أنشده فيه بعض أهل العلم لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه: فلو كنا إذا متنا تركنا لكان الموت راحة كل حي ولكنا إذا متنا بعثنا ونسأل بعده عن كل شي وأنشد للحسين بن علي رضي الله عنهما: الموت خير من ركوب العار والعار خير من دخول النار

والله ما هذا وهذا جاري والثاني: ما حث على مكارم الأخلاق كالمحكي عن مالك بن أنس أنه مر بباب قوم فسمع رجلا ينشد: أنت أختي وحرمة جاري وحقيق علي حفظ الجوار إن للجار إن نصيب لنا ... حافظاً للنصيب في الإسرار ما أبالي أن كان بالباب سترة مسبل، أو يبقى بغير ستار فدق الباب وقال: علموا فتيانكم مثل هذا الشعر. فهذان النوعان مستحبان وهما أحفظ للعدالة وأبعث على قبول الشهادة. وأما المباح: فما سلم من فحش أو كذب وهو نوعان: أحدهما: ما جلب نفعا والثاني: ما لم يعد بضرر. فلا تقدح في الشهادة ولا يمنع من قبول الشهادة. وأما المحظور فنوعان: كذب وفحش. وهما جرح في قائله، فأما في منشده فإن حكاه إنكاراً لم يكن جرحاً وإن حكاه اختيارً كان جرحاً. فإن تشيب في شعره ووصف امرأة فإن لم يعينها لم يقدح في عدالته وإن عينها قدح في عدالته. فأما المكتسب بالشعر، فإن كان يقتضي إذا مدح ويذم إذا منع، فهو قدح في عدالته فترد شهادته وإن كان لا يقتضي إذا مدح ولا يذم إذا منع وتقبل ما وصله إليه عفواً فهو على عدالته وقبول شهادته. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " ويجوز شهادة ولد الزنا في الزنا" قال في الحاوي: وهذا صحيح لأن الأنساب ليست من شروط العدالة فتقبل شهادة ولد الزنا إذا كان عدلاً في الزنا وغير الزنا. وقال مالك رضي الله عنه: لا أقبل شهادته في الزنا وأقبلها في غير الزنا وقال غيره من فقهاء المدينة: لا أقبل شهادته بحال. استدلالاً بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ولد الزنا شر الثلاثة" وبما روي عن

النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا يدخل الجنة ولد زانية" وإذا كان ن شراً من الزنا ومدفوعا من الجنة كان من أهل الكبائر فلم تقبل شهادته وهذا قول فاسد، لأن الله تعالى لا يؤاخذ أحداً بذ 1 نب غيره وهو تعالى يقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} فلم يجز أن يؤاخذ ولد الزنا بذنب أبويه، لأنه ظلم والله تعالى منزه عن الظلم، وهو تعالى يقول: {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} ولأن عار النسب ربما منعه من ارتكاب العار، لئلا يصير جامعا بين عاري فصار مزجوراً بمعرة نسبه عن معرة كذبه فلم يمنع من قبول الشهادة مع ظهور عدالته. وأما الخبر الأول وهو " ولد الزنا شر الثلاثة" فهو من مناقير الأخبار وما رواه إلا مضعف غير مقبول الحديث، نص القرآن يمنع منه ولو سلمت الرواية لكان لاستعماله وجوهاً: أحدها: أنه شرا الثلاثة نسباً والثاني: شر الثلاثة إذا كان زانياً والثالث: إنه كان واحداً من ثلاثة فأشير إليه أنه شرهم فكان ذلك للزنا تعريفاً لا تعليلاً والرابع: ما ذكر أن أبا عزة العجمي كان يهجوا رسوا الله صلى الله عليه وسلم ويقدح فيه بالعظائم فذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم ما يقوله وقيل له: إنه ولد زنيه. فقال عليه السلام: " ولد الزنا شر الثلاثة" يعني به أبا عزة. وأما الخبر الثاني: فهو أوهي من الأول وأضعف وأبعد أن يكون له في الاحتمال وجه، لأنه لا يجوز أن يحبط طاعته معصية غيره. والكفر أعظم من الزنا ولا يحبط عمل المؤمن بكفر أبويه، فكان أولى أن لا يحبط عمله بزنا والديه والله أعلم. مسألة قال الشافعي رضيا الله عنه: " والمحدود فيما حد فيه" قال في الحاوي: وهذا أراد به مالكاً فإنه يقول: من حد في معصية لم تقبل شهادته فيما حد فيه وقبلت في غيره، فلا تقبل شهادة المحدود في الزنا إذا شهد بالزنا ولا المحدود في الخمر إذا شهد في الخمر ولا المقطوع في السرقة إذا شهد بالسرقة. استدلالاً بأنها استرابة يقتضي الدفع عن الشهادة لقوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا}. وبقول عمر رضي الله عنه في عهده لأبي موسى الأشعري: المسلمون عدول بعضهم

على بعض إلا مجلودا في حد أو مجرماً عليه شهادة زور أو ظنيناً في ولاء أو نسب وتعلقاً بما روي عن عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال: ود السارق أن يكون الناس سارقا وود الزاني أن يكون الناس زناة، وإنما كان كذلك لينفي المعرة عن نفسه بمشاركة غيره. وهذا قول فاسد. وشهادته إذا تاب مقبولة بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}. وقد وافق مالك على أن شهادة القاذف إذا تاب بعد حده، أن شهادته مقبولة في القذف وغيره وكذلك حكم من حد في غيره. وتحرير هذا الاستدلال قياساً أن من قبلت شهادته في غير ما حد فيه، قبلت فيما حد فيه كالقاذف. وليس للتعليل بالارتياب وجه، لأنه لو صح لهم ولم يخض. ولا دليل فيما روي عن عمر وعثمان، لتوجهه إلى ما قبل التوبة، فلم يحمل على ما بعدها والله أعلم. مسألة قال الشافعي رضيا الله عنه: " والقروي على البدوي والبدوي على القروي إذا كانوا عدولاً" قال في الحاوي: إذا كان البدوي عدلا قبلت شهادته على القروي كما تقبل شهادة القروي على البدوي. وقال مالك: أقبل شهادة القروي على البدوي ولا أقبل شهادة البدوي على القروي إلا في الجراح. استدلالاً برواية عطاء بن يسار عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا أقبل شهادة البدوي على صاحب قرية" ولأن ما خرج عن العرف ريبة في الشهادة بقوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا}. والعرف جار بأن البدوي يشهد للقروي ولم يجر العرف بإشهاد القروي للبدوي فصار بخروجه عن العرف متهما. ودليلنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل شهادة الأعرابي في هلال رمضان وصام، وأمر الناس بالصيام. ولأن اختلاف الأوطان لا تؤثر في قبول الشهادة كأهل الأمصار والقرى.

ولأن الشهادة في الجراح أغلظ منها في الأموال فلما قبلت شهادة البدوي على القروي في الجراح كان أولى أن تقبل في غير الجراح. وتحريره قياساً أن من قبلت شهادته في الجراح قبلت في غير الجراح كالقروي. ولأن أهل البادية أسلم فطرة وأقل حياء، فكان الصدق فيهم أغلب فاقتضى أن يكونوا بقبول الشهادة أجدر. وأما الجواب عن الخبر فرواية علي بن مسهر، وهو ضعيف وإن صح فهو محمول على أحد وجهين: وإما على الجهل بعدالته إخفاء أحوال أهل البادية، وإما علي بدوي بعينه علم جرحه. وأما الجواب عن اعتبار العرف في الإشهاد فهو فاسد بأهل الأمصار والقرى فإن العرف جار بأن أهل القرى يشهدون أهل الأمصار ولا يشهد أهل الأمصار أهل القرى وهذا العرف غير معتبر وكذلك في البادية والحاضرة والله أعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا شهد صبي أو عبد أو نصراني بشهادة فلا يسمعها واستماعه لها تكلف وإن بلغ الصبي وأعتق العبد وأسلم النصراني ثم شهدوا بها بعينها قبلتها فأما البالغ المسلم أرد شهادته في الشيء ثم يحسن حاله فيشهد بها فلا أقبلها لأنا حكمنا بإبطالنا وجرحه فيه لأنه من الشرط أن لا يختبر عمله" قال في الحاوي: وهذا المسألة تشتمل على فصلين: مشتبهين في الصورة مختلفين في الحكم. فأحدهما: أن يشهد صبي قبل بلوغه، أو عبد قبل عتقه أو نصراني قبل إسلامه بشهادة فيردهم الحاكم فيها ثم يبلغ الصبي ويعتق العبد ويسلم النصراني، فيشهدوا بتلك الشهادة التي ردوا عند ذلك الحاكم أو عند غيره قبلت بعد تقدم الرد. وقال مالك: لا أقبلها بعد ردها. والفصل الثاني: ترد شهادة الفاسق ويشهد بها بعد زوال الفسق. أن يشهد بالغ حر مسلم بشهادة فيردها الحاكم بالفسق، ثم تحسن حاله ويصير عدلاً فيشهد بتلك عند ذلك الحاكم أو عند غيره ردت ولم تقبل: وقال أبو ثور وأبو إبراهيم المزني: تقبل ولا ترد. فسوى مالك بين الفصلين في الرد وسوى أبو ثور والمزني بينهما في القبول. ومذهب الشافعي أنها تقبل إذا ردت بالصغر والرق والكفر ولا تقبل إذا ردت بالفسق

لوقوع الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن حدوث البلوغ والعتق والإسلام يقين وحدوث العدالة مظنون، والثاني: أن الصغر والرق والكفر ظاهر يمنع من سماع الشهادة فصارت مردودة بغير حكم. والفسق باطنا فصار ردها فيه بحكم ولو فرق على هذا الفرق بين ردها بالفسق الظاهر فتقبل، وبين ردها بالفسق الباطن، فلا تقبل لكان وجهاً لأن الفسق الظاهر لا يحتاج إلى اجتهاد فصارا مردوداً بغير حكم كالكفر والرق والصغر والفسق الباطن يفتقر إلى اجتهاد مردوداً بالحكم وما نفذ فيه الحكم باجتهاد لم يجز أن ينقض باجتهاد. فصل ولو دعي العبد أو الكافر إلى تحمل الشهادة لم يلزمها تحملها، ولو دعيا إلى أداء شهادة قد تحملاها، لم يلزمهما أداؤها، لأن التحمل يراد به الأداء والأداء غير مقبول فلم يلزما. ولو دعي الفاسق إلى تحمل الشهادة فإن كان فسقه ظاهراً لم يلزمه تحملها. وإن كان فسقه باطناً لزمه تحملها وهكذا، لو دعي إلى أداء ما قد تحمله من الشهادة ولم يلزمه أداؤه إن كان ظاهر الفسق. ولزمه أداؤها أن كان باطن الفسق لأن رد شهادته بالفسق الظاهر متفق عليه. وبالفسق الباطن مختلف فيه. وإذا رد الحاكم شهادة رجل بفسق، ثم دعي ليشهد بها عند غيره لم يلزمه الإجابة لأن ردها بالحكم قد أبطلها، ولو توقف الحاكم عن قبولها للكشف عن عدالته حتى مات أو عزل ثم دعي ليشهد بها عند غيره، ولزمته الإجابة لأنها لم ترد فلم تبطل. فصل وإذا دعي المتحمل للشهادة، إلى أدائها عند الحاكم وهو ممن يصح منه الأداء فامتنع وقال: إني أخاف أن لا يقبل الحاكم شهادتي. لم يكن ذلك عذراً في امتناعه ولزمه الأداء وللحاكم اجتهاده في القبول أو الرد. ولو امتنع عن الأداء وقال: ليس للحاكم عندي مستحقاً للحكم، إما لفسق أو جهل، لزمه الأداء وليس للشاهد اجتهاد في صحة التقليد وفساده. وقال أحمد بن حنبل: لا يلزمه أداء الشهادة إذا اعتقد فساد تقليده بفسق أو جهل، وإنما تلزمه الشهادة عند من يرتضي من الحكام كما يلزم الحاكم قبول شهادة من يرتضي من الشهود. وحكي أن أحمد لزمته الشهادة فدعي إلى أدائها عند بعض الحكام فامتنع. وقال: إن القاضي ليس برضي فقال الداعي: يتلف على مالي. فقال أحمد: ما أتلف عليك مالك، الذي ولى هذا القاضي أتلف عليك مالك.

وليس لهذا القول وجه، لأن المقصود بالشهادة وصول ذي الحق إلى حقه فلم يفترق في وصوله إليه حقه بين صحة التقليد وفساده فإن دعي الشاهد إلى أداء شهادة عند أمير أو ذي يد، فإن كان ممن يجوز له إلزام الحقوق والإجبار عليها، لزم أداء الشهادة عنده، وإن كان ممن لا يجوز له ذلك ولا يصح منه، لم يلزمه أداؤها عنده والله اعلم. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو ترك الميت ابنين فشهد أحدهما على أبيه بدين فإن كان عدلاً حلف المدعي وأخذ الذين من الاثنين وإن لم يكن عدلاً أخذ من يدي الشاهد بقدر ما كان يأخذه منه لو جازت شهادته لأن موجوداً في شهادته أن له في يديه حقا وفي يدي الجاحد حقا فأعطيته من المقر ولم أعطه من المنكر" قال في الحاوي: وصورتها في رجل ادعى ديناً على ميت وورثه ابنان له فصدقه أحدهما وكذبه الآخر، فالمصدق مقر والمكذب منكر وللمقر حالتان: إحداهما: أن يكون عدلا، فيجوز أن يشهد للمدعي بدينه في حق أخيه المنكر مع شاهد آخر أو مع يمين المدعي، ولا يكون الإقرار شهادة حتى يستأنفها بلفظ الشهادة، لأن لفظ الإقرار لا يكون شهادة، وشهادته تكون على أبيه دون أخيه لوجوب الدين على الأب ومنع الحسن بن زياد اللؤلؤي من قبول شهادته لما يتوجه إليه من التهمة في استدراك إقراره. ومذهب الشافعي وأبي حنيفة وجمهور الفقهاء: أن شهادته مقبولة، لأنها موافقة لإقراره فانتفت التهمة عنه، فلم تمنع من الشهادة على أبيه وإن منع من الشهادة له. فإذا صحت الشهادة استحق صاحب الدين جمع دينه من أصل التركة نصفه يستحقه بالإقرار في حق المصدق ونصفه يستحقه بالشهادة في حق المنكر. والثانية: أن يكون المقر غير عدل أو يكون عدلاً لم تكمل به الشهادة لعدم غيره، أو لأن الحاكم لا يرى الحكم باليمين والشاهد أو يراه فلا يحلف معه المدعي فالحكم في هذه الأحوال الثلاثة على سواء ومذهب الشافعي المنصوص عليه في جميع كتبه، وهو قول أهل الحجاز أنه يأخذ من المقر من الدين بقدر حقه، وهو النصف ويحلف المنكر على النصف الآخر ويبرأ، ويمينه على العلم دون البت ويقول: والله لا أعلم أن له على أبي ما ادعاه أو شيئاً منه وقال أبو حنيفة وأكثر أهل العراق: يلزم المقر جميع الدين وكان أبو عبيد بن حرث وأبوة جعفر الاستراباذي وهما من (متأخري) أصحاب

الشافعي: يخرجان هذا قولاً ثانياً للشافعي. فخالفهما من أصحاب الشافعي أكثرهم ووافقهما أقلهم، وجعلوه تخريجاً من مقتضى نص وليس بتخريج من نص وهو أن الشافعي يقول: إذا حلف أحد الابنين في القسامة فاستحق بأيمانه نصف الدية وكان على المقتول دين، قضى جميعه من حصة الابن الحالف، كذلك في هذه المسألة، فخرجوها لأجل ذلك على قولين: واختلف من أنكر تخريج هذا القول في ما قاله في القسامة على وجهين: أحدهما: أنه محمول على أن الذي استحقه أحد الابنين بأيمانه، كان جميع التركة، فأخذ جميع الدين منه، ولو ترك الميت غيره ما لزمه من الدين إلا نصفه. والثاني: أنه محمول على أن أخاه معترف بالدين، فاستحق باعترافهما جميع الدين، وعجل قضاؤه من الذمة لتأخير غيره ليرجع على أخيه بقدر حقه، ولو كان الأخ منكراً لم يؤخذ من المقر إلا قدر حقه. واستدل أبو حنيفة ومن وافقه على وجوب الدين كله على المقر بقوله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} فجعل للوارث ما فضل عن الدين والوصية، فوجب أن لا يرث إلا بعد قضاء جمعيه؛ لأن صاحب الدين مقدم وليس بمشارك. ولأن ما يأخذه المنكر من التركة كالمغصوب في حق الدين، وغصب بعض التركة موجب لقضاء الدين من باقيها، فلزم أخذ جميعه منه. والدليل على أن على المقر منهما نصف الدين دون جميعه، هو أن الدين مستحق في جميع التركة غير معين في بعضها، وليس مع المقر إلا نصفها، فلم يلزمه من الدين إلا نصفه كالمقرين. ولو أنه لو لزم المقر جميع الدين، لم تقبل شهادته على أخيه، لأنه يدفع بها عن نفسه تحمل جميع الدين وفي موافقة أبي حنيفة على قبول شهادته، وإن خالفه الحسن بن زياد اللؤلؤي في قبولها، دليل على أن لا يلزمه في الدين إلا قدر حقه لتسلم شهادته عن جر نفع ودفع ضرر. ولأن أحد الابنين لو ادعى ديناً لأبيه على منكر، فرد اليمين عليه وحلف، لم يستحق من الدين إلا نصفه، وكذلك إذا أقر بدين على أبيه لم يلزمه إلا نصفه، لأن ما للأب من الدين في مقابلة ما عليه من الدين. والأصح من إطلاقها عندي، أن ينظر في التركة. فإن لم يقتسم لها الابنان حتى أقر أحدهما بالدين، قضى جميعه منها، فكان محسوباً من حق المقر دون المنكر. وإن اقتسم الابنان التركة. ثم أقر أحدهما بالدين، لم يلزمه منه إلا نصفه؛ لأن المقر معترف باستحقاق جميع الدين في جميع التركة. فصار قبل القسمة مقراً بجمعه وبعد أخذ النصف بالقسمة مقراً بنصفه والله أعلم.

فصل فإذا تقررت هذه الجملة، وقيل: إنه لا يلزم المقر من الدين إلا بقدر حصته وهو النصف، فلا خصومة بين الأخوين في الدين. ويكون صاحب الدين مخاصماً للمنكر في بقية دينه. فإن قيل: إنه يلزم المقر جميع الدين، لم يؤخذ بدفع جميعه إلا بعد إحلاف أخيه لصاحب الدين، فإذا حلف أخذ من المقر حينئذ جميع الدين، وصار المقر خصماً لأخيه المنكر ليستأنف الدعوى عليه، ويحلف عليها إن استدام اإنكار، ولا تسقط عنه اليمين في حق أخيه باليمين التي حلفها لصاحب الدين، لاختلاف مستحقيها، كما لو أدى أحد الأخوين ديناً على منكر وأحلفه عليه لم يسقط حق الأخ الآخر من إحلافه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وكذلك لو شهد أن أباه أوصى له بثلث ماله". قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا كانت الدعوى في وصية اعترف بها أحد الابنين، وأنكرها الآخر. فهي على ضربين: أحدهما: أن تكون غير معينة كالوصية بالثلث، فلا يلزم المقر بها إلا قدر حصته وهو نصف الثلث، بوفاق أبي حنيفة وجميع أصحابنا بخلاف الدين المختلف فيه، لوقوع الفرق بينهما، فإن جميع الدين مستحق فيما يوجد من قليلا لتركة وكثيرها. والوصية بثلث التركة لا يستحق إلا من جميعها. والثاني: أن تكون الوصية معينة في ثلثي شيء من التركة، كالوصية بدار اعترف بها أحدهما، وأنكرها الآخر: فلا تخلو الدار من ثلاثة أحوال: أحدهما: أن تكون باقية في التركة لم يقتسماها، فلا يلزم المقر إلا نصفها على المذهبين، لأنه لا يملك منها إلا النصف، وعلى المنكر اليمين، فإذا حلف، حسب على المقر قيمة النصف من حصته. فلو أقر أحدهما أن أباه وصى بجميع هذه الدار لزيد، وأقر الآخر أنه وصى بجميعها لعمرو، كان نصف الدار لزيد فمن حصته من صدقة ولا يمين عليه لعمرو. ونصف الدار لعمرو، وهو حصة من صدقة، ولا يمين عليه لزيد؛ لأنه لو تصادق الأخوان على الوصيتين لكانت الدار بين زيد وعمرو نصفين، وقد صارت بينهما كذلك فلم يكن التكذيب مضراً، وانتقلت المنازعة بين زيد وعمرو، لأن كل واحد منهما يدعي أنه أحق بجميعها من صاحبه، فيتحالفان عليها وتقر بعد أيمانهما بينهما، فإن حلف أحدهما ونكل الآخر، فضي بجميعها للحالف دون الناكل.

باب الشهادة على الشهادة

والثانية: أن تكون الدار قد حصلت في سهم المقر بعد القسمة، فيلزمه تسليم جميعها، لأنه معترف بهما للموصى له، ويصير خصماً لأخيه في نصفها، وليس بين الموصى له، والمنكر مخاصمة، لوصوله إلى حقه من المقر. والثالثة: أن تكون الدار قد حصلت في سهم المنكر، فلا شيء على المقر بها لأنه لا يملكها، ولا مطالبة عليه بها ولا بقيمتها، فإذا حلف المنكر برئ من المطالبة وحصلت له الدار وبطلت الوصية بها. فإذا كان المقر عدلاً فشهد على أخيه بالوصية بالدار سمعت شهادته وحك بها على أخيه مع شاهد آخر أو معين الموصى له، وانتزعت الدار من يده بالوصية، ولم يرجع على أخيه ببدلها من تركة أبيه وإن اعترف له بذلك، لأنه بالإنكار جاحد لاستحقاق غيره والله أعلم بالصواب. باب الشهادة على الشهادة مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وتجوز الشهادة على الشهادة بكتاب القاضي في كل حق للآدميين مالاً أو حدا أو قصاصاً وفي كل حد لله قولان أحدهما أنه تجوز، والآخر لا تجوز من قبل درء الحدود بالشبهات ". قال في الحاوي: أما الشهادة على الشهادة فجائزة مع الاتفاق على جوازها لأمرين: أحدهما: أن الشهادة وثيقة مستدامة وقد يطرأ على الشاهد من احتدام المنية، والعجز عن الشهادة لغيبة أو مرض ما تدعو الضرورة فيه إلى الإرشاد على شهادته ليستديم بها الوثيقة ولا يقوى به الحق. والثاني: أن الشهادة خبر وإن لم يكن كل خبر شهادة، فلما جاز نقل الخبر لاستدامة العلم به، جاز نقل الشهادة لاستدامة التوثيق بها. فإذا ثبت جوازها، فالكلام فيها يشتمل على أربعة فصول: أحدهما: في وجوب الشهادة على الشهادة. وهو معتبر بحال شاهد الأصل إذا دعاه صاحب الحق أن يشهد على شهادته، وله حالتان: أحدهما: أن يجيب إليها، فيكون بالإجابة محسناً، سواء قدر على الأداء أو عجز عنه. والثانية: أن يمتنع عنها، فله حالتان:

إحداهما: أن يكون قادراً على أدائها عند الحاكم، فلا تلزمه الشهادة على شهادته، لأن تحمل الشهادة موجب لأدائها عند الحاكم، وليس بموجب الإشهاد عليها، فلم تلزمه غير المقصود بتحملها. والثالثة: أن يعجز عن أدائها عند الحاكم إما لمرض، أو زمانة، أو لسفر ونقلة. فقد اختلف في وجوب الإشهاد على شهادته. فذهب بعض فقهاء العراق إلى وجوب إشهاده على شهادته كما يجب عليه أداؤها عند الحكام، لما فيه من حفظ الحق على صاحبه في الحالين. ومذهب الشافعي، يجب عليه أداء شهادته ولا يجب عليه الإشهاد على شهادته لثلاث معان: أحدها: أن المقصود بتحمل الشهادة أداؤها دون الإشهاد عليها، فلم يلزمه في التحمل غير المقصود به. والثاني: الإشهاد عليها لا يسقط فرض أدائها فلم يلزمه بالتحمل فرضان. والثالث: أن المقر، لما لم يلزمه الإشهاد على إقراره لم يلزم الشاهد الإشهاد على شهادته. والذي رواه أولى المذهبين عندي أن يعتبر الحق المشهود فيه، فإن كان مما ينتقل إلى الأعيان كالوقف المؤبد الذي ينتقل إلى بطن بعد بطن، لزمه الإشهاد على شهادته لأن البطن الموجود يصل إلى حقه بالأداء، فلم يلزمه غيره. والبطن المفقود قد لا يصل إلى حقه إلا بالإشهاد على شهادته، فلزمه الإشهاد عليها في حقه. وكذلك الإجارة المعقودة إلى مدة قد لا يعيش الشهود إلى انقضائها في الأغلب، فهي بمثابة المنتقل في وجوب الإشهاد على شهادته. وكذلك الديون المؤجلة بالأجل البعيد. فأما في الحقوق المعجلة، أو في البياعات المقبوضة الناجزة، فلا يلزمه فيها الأداء عند التنازع، لأن التوثيق بها غير مستدام وأما إذا ابتدأ الشاهد بالإشهاد على شهادته من غير طلب جاز، وكان بها متطوعاً؛ لأنها استظهار في التوقيق لصاحب الحق كالمحتمل للخبر إذا ابتدأ بروايته من غير طلب جاز وكان بها متطوعاً. ولا يسقط عن الشاهد فرض الأداء بهذا الإشهاد إذا حدث التنازع من إمكان الشهادة، فإن انقطع التنازع، سقط عنه فرض الأداء والإشهاد معاً. والفصل الثاني: ما تجوز فيه الشهادة على الشهادة. وهو معتبر بالحق الشهود فيه وهو ضربان: أحدهما: ما كان من حقوق الآدميين. والثاني: ما كان من حقوق الله تعالى.

فأما حقوق الآدميين فتجوز فيها الإشهاد على الشهادة، سواء كان مما لا يثبت بشاهدين كالنكاح، والطلاق، والعتق، والنسب، والقصاص، والقذف، أو كان يثبت بشاهدين كالنكاح، والطلاق، والعتق، والنسب، والقصاص، والقذف، أو كان يثبت بشاهد وامرأتين كالأموال، أو كان يثبت بالنساء منفردات كالولادة وعيوب النساء. وقال أبو حنيفة: لا تجوز الشهادة على الشهادة فيما يسقط بالشبهة كحد القذف والقصاص، ويجوز فيما عداه من حقوق الآدميين المحضة. وبه قال بعض أصحاب الشافعي استدلالاً بأن ما سقط بالشبهة كان محمولاً على التخفيف، والشهادة على الشهادة تغليظ فتنافيا. وهذا فساد، لأن حقوق الآدميين موضوعة على التغليظ وفيما عدا الأموال التي يجوز أن يستباح بالإباحة، فلما صحت الشهادة على الشهادة في الأموال التي هي أخف، كان جوازها في المغلظ أحق. وأما حقوق الله تعالى المحضة، كحد الزنى وشرب الخمر والقطع في السرقة، ففي جواز الشهادة فيها على الشهادة قولان منصوصان: أحدهما: تجوز الشهادة فيها على الشهادة، وتثبت بشهود الفرع كثبوتها بشهود الأصل، اعتباراً بحقوق الآدميين؛ لأن حقوق الله تعالى التي لا تسقط بالعفو أحق بالاستيفاء مما يجوز أن يسقط بالعفو. والثاني: وبه قال أبو حنيفة أنه لا تجوز فيها الشهادة، ولا تثبت إلا بشهود الأصل دون شهود الفرع، لأنها موضوعة على سترها وكتمانها ودرئها بالشبهات لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ادرؤوا الحدود بالشبهات ما استطعتم". وقوله عليه السلام: "من أتى من هذه القاذورات شيئاً فليستتر بستر الله" فكانت لأجل ذلك منافية لتأكيدها بالشهادة على الشهادة. وكذلك القول في كتاب القاضي إلى القاضي، كالقول في الشهادة على الشهادة. تجوز في حقوق الآدميين، وفي جوازها في حقوق الله تعالى قولان. والفصل الثالث: في صفة الإشهاد على الشهادة. وهو معتبر بما تحمله شاهد الأصل. وله في صحة تحمله حالتان: إحداهما: أن يشاهد السبب الموجب للحق من حضوره عقد بيع أو إجازة أو نكاح يسمع فيه البذل والقبول، أو مشاهدته لقتل أو إتلاف مال، أو سماعه للفظ القذف، فيصح تحمله من غير إقرار ولا استرعاء. ويجوز أن يشهد به، ويشهد على نفسه بمثل ما تحمله. والثانية: أن يشهد على الإقرار بالحق، فهو على ضريين: أحدهما: أن يسمع إقرار المقر عند الحاكم وهو يقول: "الفلان علي كذا درهم". فيصح تحمل الشاهد لهذا الإقرار من غير أن يسترعيه المقر للشهادة، ويقول: "أشهد علي بهذا"؛ لأن العرف في الإقرار عند الحكام أن لا يكون إلا بالحقوق الواجبة فاستغنى بالعرف عن الاسترعاء.

والثاني: أن لا يسمع إقراره عند غير الحاكم. إما عند الشاهد أو عند غير الشاهد، فقد اختلف أصحابنا في صفة التحمل للشهادة، بهذا الإقرار، هل يفتقر إلى استرعاء المقر؟ والاسترعاء أن يقول: أشهد على أن لفلان علي كذا فيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي إسحاق المروزي وطائفة، أن التحمل للشهادة لا يصح إلا بالاسترعاء بها، فإن سمع الشاهد الإقرار من غير استرعاء لم يصح تحمله، ولم يجز أن يشهد به، لاحتمال أن يرد بذلك: علي ألف درهم أقرضك إياها، أو أهبها لك، فلا يلزمه ما أقر به، فلذلك لم يصح التحمل. والثاني: وهو الظاهر من مذهب الشافعي أن تحمل الإقرار صحيح وإن تجرد عن الاسترعاء، والشهادة به جائزة لتعلق الحكم بالظاهر دون السرائر. ويجوز على هذا الوجه إذا اختبأ الشاهد حتى سمع إقرار المقر: أن لزيد علي ألفاً والمقر غير عالم بحضور الشاهد وسماعه، أن يحتمل هذه الشهادة ويشهد بها على المقر، إلا أن يكون في المقر غفلة تتم بها الحيلة عليه والخداع، فلا يصح تحمل الشهادة من المختبئ حتى يراه المقر أو يعلم به. وسوى أبو حنيفة بين ذي الغفلة وغيره في صحة تحمل المختبئ. والفرق بينهما أولى لتمام الحيلة على الغافل وانتفائها عن الضابط فهذان الوجهان في وجوب الاسترعاء. والأصح عندي من إطلاق هذين الوجهين أن يعتبر حال الإقرار، إن اقتران به قول أو أمارة تدل على الوجوب استغنى تحمله على الاسترعاء، والقول مثل أن يقول: " له علي ألف درهم بحق واجب". والأمارة أن يحضر المقر عند الشاهد ليشهد على نفسه فيعلم شاهد الحال أنه إقرار بواجب. وإن تجرد الإقرار عما يدل على الوجوب من قول أو أمارة، افتقر إلى الاسترعاء ولم يصح تحمل الشهادة على إطلاقه. فإن أراد الشاهد أن يشهد بهذا الإقرار عند الحاكم، لزمه أن يذكر في شهادته صفة الإقرار، فإن كان بالاسترعاء قال في شهادته: أشهد أنه أقر عندي وأشهدني على نفسه، فإن لم يقل: أشهد، وقال: أقر عندي، وأشهدني على نفسه كان إخباراً ولم تكن شهادة. فلم يجز للحاكم أن يحكم بها حتى يقول: أشهد أنه أقر عندي وأشهدني على نفسه؛ لأن الحكم يكون بالشهادة دون الخبر. وإن كان الشاهد قد حضر المقر وأقر عنده من غير استرعاء قال في شهادته: "أشهد إنه أقر عندي بكذا"، ولا يقول: "وأشهدني على نفسه"، ليجتهد الحاكم رأيه في صحة هذا التحمل وفساده. وإن كان الشاهد قد سمع إقرار المقر من غير حضور عنده قال في شهادته: "أشهد

إني سمعته يقر بكذا " ولا يقول: أقر "عندي" ليكون الحاكم هو المجتهد دون الشاهد. فإن أراد الشاهد أن يجتهد رأيه في صحة هذا التحمل وفساده نظر: فإن أراد الشاهد أن يجتهد رأيه في صحة الإقرار وفساده لم يجز، وكان الحاكم أحق بهذا الاجتهاد. وإن أراد أن يجتهد رأيه في لزوم الأداء وسقوطه عنه ففيه وجهان: أحدهما: يجوز لاختصاصه بوجوب الأداء. والثاني: لا يجوز، لأن في الإقرار حقاً لغيره. فصل فإذا تقرر ما وصفنا من شاهد الأصل في صحة تحمله الشهادة، انتقل الكلام إلى شاهد الفرع في صحة تحمله وصحة أدائه. فأما تحمله فمعتبر في شاهد الأصل وله فيتحمل شاهد الفرع عنه ثلاثة أحوال: إحداها: أن يذكر شاهد الأصل السبب الموجب للحق بلفظ الشهادة، فيقول: أشهد أن لفلان على فلان ألفاً من ثمن أو غصب أو صداق، فإذا سمعه شاهد الفرع صح تحمله للشهادة عنه وإن لم يسترعه إياها، وفيه لبعض أصحابنا البصريين وجه آخر أنه لا يصح تحمله إلا بالاسترعاء لما فيه من الاحتمال بالوعد، وليس بصحيح؛ لأن ذكر السبب تعيين من الاحتمال. والثانية: أن يشهد شاهد الأصل بالشهادة عند الحاكم، فإن سمعه شاهد الفرع صح تحمله لها وإن لم يسترعه إياها، لأن الحاكم ملزم، فلم تكن الشهادة عنده إلا بما لزم والثالثة: أن يقول شاهد الأصل: أشهد أن لفلان على فلان ألفاً: فإذا سمعه شاهد الفرع لم يصح تحمله إلا بالاسترعاء وجهاً واحداً، وإن كان في المقر على وجهين: والفرق بين المقر والشاهد من وجهين: أحدهما: أن الحق في الشاهد لازم لغير الشاهد، فوجب أن يغلظ حكمه بالاسترعاء ليتحقق صحة الإلزام بنفس الاحتمال. والحق في الإقرار لازم للمقر لا يتعداه فيتحقق حكمه في صحة الإلزام، لأنه لو كان فيه احتمال لما استظهر به لنفسه. والثاني: أن الإقرار خبر وشروط الشهادة أغلط من شروط الخبر لصحة إخبار من لا يصح شهادته من العبيد والنساء، ولذلك اعتبر الاسترعاء في الشهادة وإن لم يعتبر في الإقرار، ولذلك قبل ورجوع الشاهد ولم يقبل رجوع المقر. وإذا كان الاسترعاء معتبراً في الشهادة معتبراً في الشهادة، فالاسترعاء أن يقول شاهد الأصل لشاهد الفرع: "أشهد أن لفلان على فلان ألفاً فأشهد على شهادتي وعن شهادتي".

فأما قوله: " فأشهد على شهادتي" استرعاء لا يصح التحمل إلا به. "فلو قال فأشهد أنت بها" لم يكن استرعاء حتى يقول: " فأشهد على شهادتي نص عليه الشافعي. وأما قوله: " وعن شهادتي" فهو إذن له في النيابة عنه في الأداء واختلف أصحابنا هل هو شرط في صحة التحمل ومعتبر في جواز الأداء أم لا؟ على وجهين: أحدهما: أنه شرط معتبر في صحة التحمل والأداء لأن شاهد الفرع نائب عن شاهد الأصل في الأداء فاعتبر فيه الإذن بالنيابة كالوكيل والوصي، وهذا قول البصريين. والثاني: يصح التحمل والأداء مع تركه لأن الشهادة على شهادته ليست من حقوقه فلم يعتبر إذنه، وهذا قول البغداديين. فصل وأما صحة الأداء فمعتبرة بشاهد الأصل وصحة أدائه معتبرة بخمسة شروط: أحدها: أن يصح تحمله على الشروط المعتبرة فيه فإذا أخل بشرط منها لم يصح أداؤه والثاني: أن يكون مقيماً على شهادته غير راجع عنها، فإن رجع عنها قبل الأداء لم يصح أداؤه، ولو رجع بعد الأداء وقبل الحكم بطل الأداء ولو رجع بعد الحكم بالأداء لم يبطل الحكم برجوعه. والثالث: أن يكون شاهد الأصل غير قادر على أداء الشهادة إما لغيبة أزمانه أو موت، فإن كان قادرا على أداء الشهادة لم يكن لشاهد الفرع أن يؤديها عنه، لأن الأصل أقوى من الفرع وإذا وجدت القوة في الشهادة لم يجز إسقاطها وخالفت الوكالة في جوازها عن الحاضر لأن الحاضر قد يضعف عن استيفاء حجته كالغائب وخالفت الخبر في جواز قبولها من المخبر مع وجود المخبر عنه لأن الخبر يلزم المخبر والمستخبر والشهادة تلزم المشهود عليه دون الشاهد. فلو شهد شاهد الفرع لغيبة شاهد الأصل أو مرضه ثم قدم شاهد الأصل من سفره أو صح مت مرضه نظر: فإن كان بعد نفوذ الحكم بشهادة الفرع لم تسمع شهادة الأصل. وإن كان بعد نفوذ الحكم بها سمعت شهادة الأصل ولم ينفذ الحكم بشهادة الفرع فإما الغيبة التي تجوز معها شهادة الفرع، فقد اعتبرها أبو حنيفة بمدة القصر وهي مسافة ثلاثة أيام عنده وأعتبرها أبو يوسف بأن يكون أذا رجع إليها في أول النهار لم يقدر على العود منها قبل الليل إلى وطنه.

وعلى الظاهر من مذهب الشافعي رضي الله عنه أنها معتبرة بلحاق المشقة في عوده، لأن دخول المشقة على الشاهد يسقط عنه فرض الأداء. الرابع: أن يسمى شاهد الأصل في أدائه بما يعرف به فإن أغفل ذكره لم يصح أداؤه لأنه فرعه وقد يكون الأصل غير مرضي فتكون الشهادة مردودة وإن كان الفرع مرضياً فقبولها معتبر بعدالة الأصل والفرع، وإن قال شاهد الفرع: " أشهدني شاهد على رضي" لم تقبل شهادته حتى يسميه لأن تزكية الشهود إلى الحاكم دون غيره. والخامس: أن يؤدي الشهادة على الصفة التي تحملها، فإن كان قد تحمل عن شاهد الأصل لذكره لسبب وجوب الحق من بيع أو قرض، ذكره في أدائه عنه. فقال: " أشهد أن فلان ابن فلان الشاهد أشهدن على شهادته وعن شهادته أن فلان ابن فلان أقر عنده وأشهد على نفسه أن عله لفلان ابن فلان ألف درهم" فتصح الشهادة بهذا الأداء فإن قال: " أشهدني على شهادته" ولم يقل: " وعن شهادته" ففي صحة أدائه وجهان تعليلاً بما قدمناه. وهذا أصح ما قيل في أداء الشهادة على الشهادة. فإن قال شاهد الفرع: أشهد عن فلان ابن فلان الشاهد جاز. ولو قال: " أشهد عليه" لم يجز لأن الحق على المقر لا على الشاهد. والفصل الرابع: من يصح أن يكون مؤديا للشهادة على الشهادة. مذهب الشافعي أنهم الرجال دون النشاء سواء كانت شهادة الأصل مما تقبل فيها النساء أو لا تقبل وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: تقبل شهادة النساء في الفروع إذا قبلت شهادتهن في الأصل، لأن حكم الفرع يعتبر بالأصل. وهذا فاسد، لأن المقصود بشهادة الفرع إثبات شهادة الأصل والمقصود بشهادة الأصل إثبات الحق، فصارت صفة الحق معتبرة في شهادة الأصل وصفته غير معتبرة في شهادة الفرع، وإذا سقط اعتبار الحق سقطت شهادة النساء. فإن كانت شهادة الأصل مما يحكم فيه بالشاهد واليمين، فيحملها في الفرع شاهد واحد وأراد صاحب الحق أن يحلف مع الشاهد الواحد، كما كان له أن يحلف مع الشاهد الواحد في الأصل لم يجز، لأن شهادة الأصل لا تثبت بشاهد ويمين وإن جاز أن يقنت الحق بشاهد ويمين. فإن شهد شاهدان في الفرع عن شاهد واحد في الأصل، وأراد صاحب الحق أن يحلف معها جاز، لأنه قد ثبت بهما شهادة الواحد فجاز أن يحلف معه، لأنه له أن يحلف مع الشاهد الواحد، لأن يمينه لإثبات وليست لإثبات الشهادة، والله أعلم.

مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا سمع الرجلان الرجل يقول أشهد أن لفلان على فلان ألف درهم ولم يقل لهما أشهدا على شهادتي فليس لهما أن يشهدا بها ولا للحاكم أن يقبلها لأنه يسترعيها إياها وقد يمكن أن يقول له على فلان ألف درهم وعده بها وإذا استرعاها إياها لم يفعل إلا وهي عنده واجبة" قال في الحاوي: هذا مما قد مضى فيه الفصول الأربعة لأن الشهادة على الشهادة تكون من أحد ثلاثة أوجه أحدها: أن يذكر شاهد الأصل في شهادته السبب الموجب للحق أن لفلان على فلان ألف درهم من ثمن بيع أو أجرة أرض أو قرض فيصبح أن يتحمله شاهد الأصل من غير استرعاء، وفيه لبعض البصريين وجه آخر أنه لا يصح التحمل إلا بالاسترعاء. والثاني: أن يشهد الأصل عند الحاكم بالحق فإذا سمعه شاهد الفرع صح تحمله وإن لم يسترعه. والثالث: أن يشهد شاهد الأصل عند شاهدي الفرع، أو سماعهما من غير قصد الشهادة يقولان: " نشهد أن لفلان على فلان ألف درهم" ولم يذكرا سبب وجوبها لم يصح تحمل شاهدي الفرع إلا بالاسترعاء، لأنه يحتمل أن تكون عليه ألف درهم وعده بها، فإذا استرعاهما إياها لم يفعل إلا وهي واجبة. وهذا صحيح، لأن الاسترعاء وثيقة، والوثائق تستهل في الواجبات، فصار الاحتمال بالاسترعاء منتفياً. فأما تحمل الإقرار ففي اعتبار الاسترعاء ما قدمناه من الوجهين: أحدهما: يعتبر فيه كما يعتبر في تحمل الشهادة على الشهادة لما فيها من الاحتمال. والثاني: لا يعتبر الاسترعاء في الإقرار وإن كان معتبرا في الشهادة لأن الإقرار أوكد من الشهادة ولذلك لو رجع المقر لم يقبل رجوعه ولو رجع الشاهد قبل رجوعه فصل فإذا كان الاسترعاء في الإقرار معتبرا فقال الشاهد للمقر: " أشهد عليك بذلك"؟ فقال: نعم كان هذا استرعاء صحيحاً ولو قال: أشهد فقد اختلف أصحابنا في صحة الاسترعاء بذلك على ثلاثة أوجه: أحدهما: أن قوله" أشهد" استرعاء صحيح كقوله: "نعم" بل هو أكد لما فيه من لفظ الأمر. والثاني: أن لا يكون قوله " أشهد" استرعاء لما فيه من الاحتمال أن يشهد بها على

غيره، أو يشهد على بعضها. والثالث: أن قال له " أشهد" لم يكن استرعاء ولو قال: أشهد على كان استرعاء لنفي الاحتمال بقوله"علي" ولو قال له أشهد علي بذلك كان استرعاء صحيحاً على الوجوه الثلاثة لانتفاء وجوه الاحتمال. وهذا أبلغ في التأكيد من قوله نعم. وإن قيل: إن الاسترعاء في الإقرار ليس بمعتبر، فقال الشاهد للمقر أشهد عليك بذلك؟ فقال: لا، ففي بطلان الشهادة به وجهان: أحدهما: قد بطلت بقوله: لا والثاني: لا تبطل، لأن الرجوع عن الإقرار غير مقبول مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وأحب للقاضي أن لا يقبل هذا منه وإن كان على الصحة حتى يسأله من أين هي؟ فإن قال بإقرار منه أو بيع حضرته أو سلف أجازه ولو لم يس؟ أله رأيته جائزاً" قال في الحاوي: وهذا صحيح، ينبغي للشاهد إذا شهد عند الحاكم بحق على رجل أن يستوفي والشهادة بذكر السبب الموجب للحق، وحتى لا يحوج الحاكم أن يسأل عن سبب وجوبه فيقول: " أشهد أنه أقر عندي أو حضرت عقد بيع وجب به، فإن أغفل الشاهد ذكر السبب فقال: أشهد إن له عليه ألف درهم ينبغي للحاكم أن يقول له: " من أين شهد عليه؟ ولا يقول: كيف شهدت عليه، لأن قوله: كيف شهدت عليه؟ قدح، وقوله: من أين شهدت عليه؟ استخبار وللحاكم أن يستخبر الشاهد ولي له أن يبتدئ بالقدح فيه. فإذا سأله الحاكم: من أين شهدت عليه؟ فينبغي للشاهد أن يبين له، وهل شهد على إقراره بالحق، أو عن حضور السبب الموجب للحق ليزول به الاحتمال عن شهادته. فإن سأله الحاكم وأجابه الشاهد، فقد قام كل واحد منهما بما عليه ولزم الحكم بالشهادة إذا صحت. وإن سأله فلم يحبه الشاهد فقد قام الحاكم بما عليه من السؤال وقصر الشاهد فيما إليه من الجواب، فينظر الحاكم في حال الشاهد، فإن كانت فيه غفلة لم يحكم بشهادته لاحتمالها مع الغفلة وإن كان ضابطاً متيقظاً حكم بشهادته لانتفاء الاحتمال بالضبط والتيقظ. وإن لم يسأله الحاكم، فالحاكم هو المقصر وحكمه إن حكم بالشهادة نافذ لأن سؤاله استظهار وتحمل الشهادة على ظاهر الصحة إلى أن يثبت ما ينافيها، والله أعلم

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " وإن شهدا على شهادة رجل ولم يعدلاه قبلهما وسأل عنه فإن عدل قضى به" قال في الحاوي: وهو كما قال: إذا شهد شاهد الفرع عند الحاكم على الشهادة شاهد الأصل لم يخل حالهما من أربعة أقسام: أحدهما: أن يسمياه ويعدلاه فيحكم بشهادتهما عليه بما تحملاه عنه وبتعديلهما له. وقال مالك: لا أحكم بشهادتهما في تعديله لأنهما متهمان فيه لما يتضمنهما من إمضاء الحكم بشهادتهما حتى يشهد غيرهما بعدالته، فإن لم يشهد غيرهما كان الحكم بشهادتهما مردوداً. وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن عدالتهما تنفي عنها هذه التهمة. والثاني: أنه لو كانت هذه التهمة في إمضاء شهادتهما عنه يوجب رد شهادتهما بعدالته ولوجب لأجلها رد جميع شهادتهما. لأن الشاهد إنما يشهد لإمضاء الحكم بشهادته وهذا مدفوع بالإجماع فكان ذلك مدفوعاً بالحجاج. والقسم الثاني: أن لا يسمياه ولا يعدلاه. فلا يصح هذا الأداء ولا يحكم بهذه الشهادة لأن الحكم بها معتبر بعدالة شهود الفرع وشهود الأصل ولا يعرف عدالة من لم يسم. ويجوز على قياس قول أبي حنيفة في قبول الخبر المرسل أن تقبل هذه الشهادة فإن التزم جرى على القياس وإن خالف فيه ناقض. ونحن نجري على القياس في ردهما. والقسم الثالث: أن يسمياه ولا يعدلاه. فيسمع الحاكم شهادتهما ويكشف عن عدالة شاهد الأصل من غيرهما. وحكي عن عبيد الله بن عباس العنبري وسفيان الثوري وأبي يوسف أن الحاكم لا يسمع هذه الشهادة حتى يعدل شهود الفرع شاهد الأصل، فإن عدالة غيرهما لم يحكم بشهادتهما. وهو مذهب مالك: لأن ترك تزكية شاهدي الفرع لشاهد الأصل ريبة: والشهادة مع الاسترابة مردودة. وهذا فاسد من وجهين:

أحدهما: أن التزكية لا يعين فيها المزكي وقد عينوها. والثاني: أن الشهادة كالخبر ولما كان ناقل الخبر عن رواية يجوز تزكيته من غير ناقله، كذلك الشهادة يجوز فيها تزكية شاهدي الأصل من غير شهود الفرع. والقسم الرابع: أن يعدلاه ولا يسمياه. فلا يحكم بشهادتهما حتى يسمياه. وحكي عن محمد بن جرير الطبري أنه قال: يجوز الحكم بها إذا زكى شاهد الأصل ولم يسميه لأن العدالة هي المعتبرة دون الاسم. وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه قد يجوز أن يكون عدلاً عندهما فاسقاً عند غيرهما، فصار مجهول الحال بإعفاء تسميته والثاني: أن للحاكم أن يطرد جرح الشهود، ولا يمكنه أطراد جرح من لم يسم والله اعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو شهد رجلان على شهادة رجلين فقد رأيت كثيراً من الحكام والمفتين يجيزونه، قال المزني: وخرجه على قولين وقطع في موضع آخر بأنه لا تجوز شهادتهما إلا على واحد ممن شهد عليه وأمره بطلب شاهدين على الشاهد الآخر قال المزني: رحمه الله ومن قطع بشيء كان أولى به من حكايته له" قال في الحاوي: وأصل هذه المسألة أن العدد معتبر في شهود الفرع لاعتباره في شهود الأصل، لأن الشهادة لا تخلو من اعتبار العدد فيها، أصلاً كانت أو فرعاً فإذا كانت شهادة الأصل معتبرة بشاهدين فلشهادة الفرع ثلاثة أحوال: أحدها: أن يشهد في الفرع شاهدان على شهادة أحد شاهدي الأصل ويشهد آخران على الشاهد الآخر فيصير شهود الفرع أربعة يتحمل عن كل واحد من الاثنين اثنان فهذا متفق جوازه، وهو أولى ما استعمل فيه. والثانية: أن يشهد في الفرع واحد على شهادة أحدهما أو يشهد آخر على شهادة الآخر فهذا غير مجزئ لا يختلف فيه مذهبنا. وهو قول جمهور الفقهاء. وحكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري وابن أبي ليلى، وابن شبرمة وأحمد وإسحاق جوازه استدلالا بأن أصل الحق لما ثبت بشاهدين جاز أن ينوب عن كل واحد واحد فتصير نيابتها بشاهدين وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنه مفض إلى أن يصير العدد معتبراً في الأصل دون الفرع، وحكم الفرع

أغلظ من حكم الأصل. والثاني: أن شهادة الفرع موجبة لثبوت شهادة الأصل ولا تثبت بالواحد شهادة الواحد. والثالثة: أن يشهد في الفرع شاهدان على أحد شاهدي الأصل ثم يشهدان معاً على الشاهد الآخر فيتحمل شاهد الفرع عن كل واحد من شاهدي الأصل ففيه قولان: أحدهما: يجوز، وهو قول مالك وأبي حنيفة وأكثر فقهاء الحجاز والعراق. والثاني: لا يجوز وهذا اختيار المزني وهذا القولان محمولان على أصل وهو أن ثبوت الحق، هل يكون بشهود الأصل أو بشهود الفرع؟ وفيه قولان: أحدهما: إنه يثبت بشهود الأصل، ويتحمله عنهم شهود الفرع، لأنه يعتبر شرط الشهادة إذا كان مما يعاين في شهود الأصل دون شهود الفرع ويتحمله عنهم شهود الفرع، فعلى هذا يصح أن يشهد شاهدا الفرع عن كل واحد من شهود الأصل. والثاني: أن الحق يثبت بشهود الفرع، وهم يتحملون الشهادة عن شهود الأصل لجواز شهادتهم بعد موت شهود الأصل فعلى هذا إذا تحمل الشاهد الفرع عن أحد شاهدي الأصل لم يكن لهما أن يتحملا عن الشاهد الآخر. ووهم أبو حامد الإسفراييني فعكسه، وجعل ثبوت الحق بشهود الأصل مانعاً من أن يشهد شاهد الفرع على كل واحد من شاهدي الأصل، وجعل ثبوته بشهود الأصل تجوز أن يشهد كل واحد من شاهدي الفرع على كل واحد من شاهدي الأصل. وهذا عكس الصواب، لأن الحق إذا ثبت بشهود الأصل فهو تحمل بحق كل واحد، ويجوز ثبوته بشاهدين فإذا بشهود الفرع فهو تحمل للشهادة بشاهدين فلم يجز أن يتحملاها عنهما، لأنهما يصيران فيها كأحد الشاهدين وهذا دليل على الوهم وفرق ما بينهما في الحكم. ثم الدليل على توجيه القولين في غير المسألة أنه إن قيل: يجوز لشاهدي الفرع أن يشهدا عن كل واحد من شاهدي الأصل فدليله من وجهين: أحدهما: أنها شهادة على شخصين فجاز أن يجتمعا عليها في حق واحد، كما جاز أن يجتمعا عليها في حقين. والثاني: أن اجتماعهما عليها في الحق الواحد أوكد من اجتماعها عليها في حقين، لأنه في الحق الواحد موافق وفي الحقين غير موافق. وإن قيل: إنه لا يجوز لشاهدي الفرع إذا شهدا على أحد الشاهدين أن يشهدا على الآخر حتى يشهد عليه غيرهما، فدليله من وجهين: أحدهما: أنهما قد قاما في التحمل عن أحدهما مقام شاهد واحد وذلك الحق فإذا شهد فيه على الشاهد الآخر صارا كالشاهد إذا شهد بذلك الحق مرتين ولا تتم

الشهادة بهذا كذلك بالشاهدين. والثاني: أنه لما لم يقبل من شاهد الأصل حتى يشهد معه غيره ولم يقبل من شاهدي الفرع حتى يشهد معهما غيرهما. فصل فإذا تقرر توجيه القولين، انتقل الكلام إلى اعتبار العدد في شهود الفرع، وهو معتبر بالعدد في شهود الأصل، والعدد المعتبر في الشهادة غلى أربعة أضرب: أحدها: أن يكون مما لا يثبت إلا بشاهدين. كالنكاح والطلاق والقصاص والعتق والنسب. ففي العدد المعتبر في شهود الفرع قولان: أحدهما: شاهدان يتحملان على كل واحد من شاهدي الأصل، إذا جعل ثبوت الحق بشهادة الأصل والثاني: أربعة يشهد على كل واحد من شاهدي الأصل اثنان إذا جعل ثبوت الحق بشهود كالفرع والثاني: أن يكون مما يثبت بشاهد وامرأتين كالأموال. ففي العدد المعتبر في شهود الفرع قولان: أحدهما: شاهدان يتحملان عن كل واحد من الرجل والمرأتين إذا جعل ثبوت الحق بشهود الأصل. والثاني: ستة يتحملون كل اثنين منهم عن واحد من الثلاثة، إذا جعل ثبوت الحق بشهود الفرع. والثالث: أن يكون مما لا يثبت إلا بأربعة كالشهادة على الزنا فإن قيل: إن الشهادة على الشهادة في حقوق الله تعالى لا تجوز لم يجز تحمل الشهادة فيها. وإن قيل بجوازها في حقوق الله تعالى كجوازها في حقوق الآدميين كان عدد الشهود معتبراً بأصلين في كل واحد من الأصلين قولان: أحد الأصلين: في شاهدي الفرع إذا شهدا على كل واحد من شهود الأصل هل يجوز أن يشهدا على غير منهم؟ وفيه قولان: والثاني: أن الإقرار بالزنا هل يثبت بشاهدين أولا يثبت إلا بأربعة كالشهادة على فعل الزنا؟ وفيه قولان لأن تحمل الشهادة كالإقرار فصار باجتماع هذين الأصلين في عدد شهود الفرع أربعة أقاويل: أحدهما: اثنان يتحملان عن كل واحد من الأربعة: إذا جعل شاهدي الفرع أن يتحملا عن كل واحد من شهود الأصل، وجعل ثبوت الإقرار بالزنا بشاهدين. والثاني: أن شهود الفرع فيه أربعة أقاويل إذا قيل: إن الإقرار بالزنا لا يثبت إلا بأربعة وجعل لشهود الفرع أن يتحملوا عن كل واحد من شهود الأصل.

باب الشهادة على الحدود وجرح الشهود

والثالث: أن شهود الفرع فيه ثمانية، إذا قيل: إنه لا يحتمل شهود الفرع إلا عن واحد من شهود الأصل وقيل: إن الإقرار بالزنا يثبت بشاهدين والرابع: أن شهود الفرع فيه ستة عشرة إذا منع شهود الفرع من أن يشهدوا إلا عن واحد، وقيل: إن الإقرار بالزنا لا يثبت إلا بأربعة ليشهد كل أربعة عن كل واحد من الأربعة. والضرب الرابع: ما يكون ثبوته بأربع نسوة كالولادة والاستهلال والرضاع وعيوب النساء الباطنة ففي عدد الشهود في الفرع قولان: أحدهما: اثنان يتحملان عن كل واحد من النسوة أربع. والثاني: ثمانية يتحمل كل اثنين منهم عن واحدة من النساء الأربعة والله اعلم بالصواب. باب الشهادة على الحدود وجرح الشهود مسألة: قال الشافعي رحمه الله: " وإذا شهدوا على رجل بالزنا سألهم الإمام أزنى بامرأة؟ لأنهم قد يعدون الزنا وقوعاً على بهيمة ولعلهم يعدون الاستمناء زنا فلا يجد حتى يثبتوا رؤية الزنا وتغيب الفرج في الفرج. قال المزني رحمه الله وقد أجاز في كتاب الحدود أن إتيان البهيمة كالزنا يحد فيه، قال: ولو شهد أربعة: اثنان منهم أنه زنى بها في بيت واثنان منهم في بيت غيره فلا حد عليهما ومن حد الشهود إذا لم يتمنوا أربعة حدهم قال المزني رحمه الله في غير موضوع بحدهم" قال الحاوي: وهذا صحيح لأن حد الزنا مغلظ على سائر الحدود لثلاثة أمور: أحدهما: أنه يفضي إلى إتلاف النفوس. والثاني: أنه يدخل به تعدي المعرة الفاضحة. والثالث: أنه يفسد به النسب اللاحق. ولذلك وجب الحد على القاذف به صيانة للأعراض وحفظاً للأنساب وتغليظه من وجهين: أحدهما: في عدد الشهود وهم أربعة خص بهم الزنا من جميع الحدود لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَاتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً}. ولا يوجب الحد بأقل من أربعة عدول لا امرأة فيهم. والثاني: تغليظه بالكشف عن حال الشهادة حتى تنتقي عنها الاحتمال من كل وجه

ويشمل هذا الكشف عن ثلاثة فصول: أحدها: عن حال الزنا. والثاني: عن صفته. والثالث: عن مكانه. فأما الفصل الأول في السؤال عن حال الزنا. فيسأل الحاكم شهود الزنا: عن الزنا؟ لأن استدعاء الشهود بالإنزال المحظور قد يكون من أربعة أحوال: أحدهما: الزنا بامرأة وهو صريح الزنا اسماً وحكماً فإذا قالوا: " زنى بامرأة" لم يسمع الحاكم هذا منه، حتى يقولوا من المرأة لأنها ربما كانت زوجته أو أمته كان وطؤها حلالاً وإن كانت ذات شبهة كان وطؤها مشتبها يسقط فيه الحد ولزم بيانها ليعلم أن وطأها زنا. وبيانها يكون من أحد الوجهين. أحدهما: إما أن تعين بالتسمية لها، أو بالإشارة إليها، فيصيروا شاهدين عليها بالزنا وإما أن يطلقوا ويقولوا: زنا بأجنبية منه، غير مسماة ولا معينة فتصبح الشهادة عليه دونها، ولا يلزم في الشهادة أن يقولوا: وطئها بغير شبهة لأنها معتقدة غير مشاهدة، لاختصاصها بمعتقد الواطئ فإن أعادها قبلت إذا أمكنت ولا يكون الشهود معها قذفه. وهكذا لو شهدوا على أمرآة بالزنا لم تقبل شهادتهم حتى يذكروا الزاني بها من أحد الوجهين: إما التسمية أو بالإضارة فيصيروا شاهدين عليهما بالزنا وإما أن يطلقوا فيقولوا: زنى بها أجنبي منها، فيصيروا شاهدين عليها دونه والثانية: اللواط. فيقولوا: تلوط بغلام فعند أبي حنيفة لا حد فيه: وعندنا أن الحد فيه واجب وفيه قولان: أحدهما: أنه كحد الزنا، وهو جلد مائة إن يكون بكرين والرجم إن كانا ثيبين. والثاني: أن يقتل الفاعل والمفعول به سواء كانا بكرين أو ثيبين. والتلوط بالمرأة كالتلوط بالغلام، ويكون في أحد القولين موجباً لحد الزنا وفي القول الثاني موجباً للقتل. والثالثة: إتيان البهيمة وفيه ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه موجب للقتل لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " اقتلوا البهيمة ومن أتاها" والثاني: أنه موجب لحد الزنا وهو اختيار المزني.

والثالث: أنه موجب للتعزيز وهو اختيار أبي العباس بن سريج وأبي سعيد الاصطخري. فإن قيل: إنه موجب للقتل أو لحد الزنا لم يثبت بأقل من أربعة. وإن قيل: إنه موجب للتعزيز ففيه وجهان: أحدهما: أنه يثبت بشاهدين لأنه لما خرج عن حكم الزنا نقص عن شهود الزنا. والثاني: لا يثبت بأقل من أربعة لأن اختلاف الحد في الجنس لا يوجب اختلاف العدد في الشهادة كما أن الزنا العبد موجب لنص الحد وزنا البكر موجب للجلد وزنا الثيب موجب للرجم ولا يختلف عدد الشهود لاختلاف الحدود. فإن قيل: إنه موجب للقتل، فتلت البهيمة التي أتاها لآمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وقتلهما وقتلها ليس حداً عليهما لسقوط التكليف عنها. واختلف في معنى الأمر بقتلها. وقيل: لئلا تأتي بخلق مشوه وقيل: لئلا تذكر بمشاهدتهما فعل من أتاها. فإذا قتلت البهيمة وكانت لغير من أتاها ففي وجوب غرم قيمتها لمالكها وجهان: أحدهما: لا غرم له لوجوب قتلها بالشرع. والثاني: له قيمتها لاستهلاكها عليه بعدوان. فعلى هذا في ملتزم قيمتها وجهان: أحدهما: على من أتاها. والثاني: في بيت المال. فلو كانت هذه البهيمة مأكولة فقد اختلف في إباحة أكلها على وجهين: أحدهما: أنها مستباحة الأكل، فعلى هذا تذبح وتؤكل ولا تغرم ويكون ذبحها واجباً والثاني: لا تؤكل وتقتل، وفي وجوب غرمها وجهان: وإن قيل: إن إتيان البهيمة موجب لحد الزنا، ولم تقتل البهيمة ووجب في القذف بها الحد. وإن قيل: إنه موجب للتعزير لم يجب القذف بها حد وعزر القاذف كما يعزر الفاعل. وقال أبو العباس بن سريج: يحد القاذف وإن عزر الفاعل. وهذا فاسد لأن حد القذف بالفعل أخف من حد الفعل فلما لم يجز الفعل حد، فأولى أن لا يجب في القذف به. والرابعة: الاستمناء بالكف، وهو حرام.

وذهب بعض (فقهاء) البصرة إلى إباحته في السفر دون الحضر لأنه يمنع من الفجور، ويبعث على غض الطرف. وهذا فاسدا لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7)}. فصار المستمني منسوباً إلى العدوان ولأن النكاح مندوب إليه لأجل التناسل والتكاثر قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تناكحوا تكاثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة حتى بالسقط". وقال عمر رضي الله عنه: لولا الاستيلاد لما تزوجت. والاستمناء بعيد عن النكاح ويمنع من التناسل فكان محظوراً لكنه من صغائر المعاصي، فينهي عنه الفاعل وإن عاد بعد النهي عزر، ولا يعتبر فيه شهود الزنا ويقبل فيه شاهدين وإن استحق فيه التعزير بعد النهي ولا يجب في القذف به حد ولا تعزير إن لم يعزر الفاعل. وأما الفصل الثاني: في صفة الزنا. فلا يقتنع من الشهود أن يشهدوا بالزنا حتى يصفوه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " العينان تزينان وزناهما النظر واليدان تزينان وزناهما البطش والرجلان تزنيان وزناهما المشي ويصدق ذلك ويكذبه الفرج" ولأن النبي صلى الله عليه وسلم استثبت ماعزاً إقراره بالزنا فقال: " لعلك قبلت لعلك لمست" قال: فعلت، بصريح اللفظ دون كنايته. فإذا لزم ذلك في المقر كان في الشاهد أحق. فإذا شهد أربعة على رجل بالزنا سألهم الحاكم: كيف زنى؟ ولم يحده قبل صفة الزنا. ولأن عمر رضي الله عنه سأل من شهد على المغيرة بالزنا: كيف زنى؟ فقال أبو بكرة مع شبل بن معبد ونافع: رأينا ذكره يدخل في فرجها كدخول المردود في المكحلة. وعرض زياد، وهو الرابع فقال: رأيت بطنه على بطنها، ورأيت أرجلاً مختلفة ونفساً يعلو واستاً تنبو فقال عمرة رأيت ذكره في فرجها؟ فقال لا، فقال عمر: الحمد لله قم يا أخي أجلد هؤلاء الثلاثة. فجلدهم حد القذف فلم يجلد المغيرة، لأن الشهادة عليه لم تكمل ولم يجلد زياداً للقذف أنه عرض لم يصرح به.

فإذا كان كذلك، اعتبر ما وصفه الشهود. فإن كان صرحوا بدخول ذكره في فرجها كملت بهم الشهادة وحد الشهود عليه حد الزنا، وسلم الشهود من حد القذف. وإن لم يصرحوا جميعا بدخول ذكره في فرجها فلا حد على المشهود عليه، فأما الشهود فإن قالوا في أول شهادة، أنه زنى ووصفوا ما ليس بزنا واحداً واحداً. لأنهم قد صرحوا بالقذف ولم يشهدوا بالزنا، وإن لم يقولوا في أول شهادة أنه زنى وشهدوا عليه بما ليس بزنا، لم يجدوا قولاً واحداً إن وصف ثلاثة منهم الزنا، ووصف الرابع ما ليس بزنا، لم يجد الشهود عليه لأن البينة بالزنا لم تكمل، في حد الثلاثة اللذين وصفوا الزنا قولان: أحدهما: يحدون لأن عمر رضي الله عنه حدهم لأنهم صاروا قذفه. والثاني: لا يحدون، لأنهم قصدوا الشهادة بالزنا ولم يقصدوا المعرة بالقذف. فإن قيل بوجوب الحد عليهم لم تقبل شهادتهم حتى يتوبوا وقبل خبرهم قبل التوبة، لأن أبا بكر حين قال له عمر: تب أقبل شهادتك، فامتنع وقال: والله لقد زنى المغيرة فهم بجلده مرة ثانية، فقال له عليه السلام: إنك إن جلدته رجمت صاحبك، يعني أنك إن جعلت هذا غير الأول، فقد كملت به الشهادة فارجم المغيرة وإن كان هو الأول فقد جلدته. وكان أبو بكر بعد ذلك يقبل خبره ولا تقبل شهادته. وأما الرابع الذي وصف ما ليس بزنا فينظر في شهادته، فإن قال: إنه زنا، ثم وصف ما ليس بالزنا حد قولاً واحداً. وإن لم يقل زنا، ووصف ما ليس بالزنا فلا حد عليه قولاً واحداً وأما الفصل الثالث: في ذكر الشهود مكان الزنا. فهو شرط في الشهادة على الزنا على ما ذكره أصحابنا وإن لم يكن شرطاً في الإقرار بالزنا، فيجب على الحاكم أن يسألهم عنه، لأنهم قد يقذفون على زناة في مكان واحد فيجب عليه الحد وقد يختلفون في المكان فلا يجب عليه الحد، فلذلك وجب سؤالهم عن مكان الزنا فإذا اتفقوا عليه حد الشهود عليه وإن اختلفوا فاختلافهم على ضربين: أحدهما: أن يكون اختلافهم ب في بيتين فيقول بعضهم: زنى في هذا البيت ويقول آخرون: زنى في البيت الآخر فلا حد عل المشهود عليه وفي حد الشهود قولان والثاني: أن يختلفوا في زاوية البيت فيقول بعضهم: زنى بها في هذه الزاوية من هذا البيت ويقول آخرون: زنى بها في الزاوية الأخرى من هذا البيت. فعند أبي حنيفة يجب عليهما الحد استحساناً لا قياساً، لأنهما قد يتعاركان فينتقلان بالزحف من زاوية إلى أخرى.

ولا حد عليه على مذهب الشافعي لعدم الاتفاق على المكان كالبيتين، ولا وجه لهذا، لأن الحدود تدرأ بالشبهات ولا يحد بها. وعلى قياس سؤالهم عن مكان الزنا، يجب سؤالهم عن زمان الزنا، لأن اختلاف الزمان كاختلاف المكان في وجوب الحد إن اتفق وسقوطه إن اختلف. وليس إطلاق هذا القول عندي صحيحًا، والواجب أن ينظر فإن صرح بعض الشهود بذكر المكان والزمان، وجب سؤال الباقين عنه، وإن لم يصرح بعضهم به لم يسألوا عنه، لأنه لو وجب سؤالهم عن المكان والزمان إذا لم يذكروه، لوجب سؤالهم عن ثيابه وثيابها، وعن لون المزني بها من سواد أو بياض، وعن سنها من صغيرة أو كبيرة وعن قدها من طول أو قصر، لأن اختلافهم فيه موجب لاختلاف الشهادة، قيتناها إلى ما لا يحصى، وهذا غير معتبر في السؤال، وكذلك في الزمان والمكان، إلا أن يبتدئ بعض الشهود بذكره، فيسأل الباقون عنه ليعلم ما هم عليه من موافقة واختلاف. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولو مات الشهود قبل أن يعدلوا ثم عدلوا أقيم الحد". قال في الحاوي: وهو كما قال: إذا مات الشهود قبل ثبوت عدالتهم ثم عدلوا بعد موتهم حكم بشهادتهم في الحد وغيره. وقال أبو حنيفة رحمه الله: أحكم بشهادتهم في غير الحد ولا أحكم بها في الحد. لأن من مذهبه أن أول من يبدأ بإقامة الحد الشهود. ومذهبنا أن شهود الحد كغيرهم، فإن الحد كغيره من الحقوق، ولا يكون موت الشهود قبل التعديل مانعًا من الحكم بشهادتهم بعد التعديل لأن العدالة توجب الأداء وليس موتهم مسقطًا لها فسقًا طرأ ولو وجب سقوط شهادتهم لوجب سقوطهما في غير الحد فأما حدوث الفسق بعد الشهادة وقبل الحكم فموجب لسقوط الشهادة في الحد وغيره، لن الناس يتظاهرون بفعل الطاعات وينسون فعل المعاصي، فإذا ظهرت دل ظهورها على تقدم كمونها. وأما حدوث الخرس والعمى بعد الشهادة وقبل الحكم بها فغير مانع من الحكم بها، لأن العلم بحدوثه وعدم تقدمه مقطوع به. ومنع أبو حنيفة من إمضاء الحكم بشهادة من حدث به العمى، ولم يمنع من إمضائه من حدث به الخرس، وقد تقدم الكلام معه فيه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ويطرد المشهود عليه وجرج من يشهد عليه".

قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا شهد الشهود وقد عرف الحاكم عد التهم على رجل بحق من حد أو غير حد، وقدح المشهود عليه في عدالتهم مكنه الحاكم من إقامة البينة بجرحهم، لأن المشهود عليه من الاهتمام بقصد الكشف عن جرحهم ما يقصر زمان الحاكم عن التشاغل به، فإن أقام البينة بجرحهم أسقط الحكم بشهادتهم، وإن عجز الحاكم عن التشاغل به، فإن أقام البينة بجرحهم أسقط الحكم بشهادتهم، وإن عجز عنها أمضى الحاكم بما عليه، ولا يضيق عليه الزمان في طلب الجرح فيتعذر عليه، ولا يوسع له الزمان فيؤخر الحكم، وتكون مدة إمهاله ثلاثة أيام، لأنها أكثر القليل وأقل الكثير. فأما قول الشافعي رضي الله عنه: ويطرد المشهود عليه جرحهم ففيه تأويلان: أحدهما: معناه يمكنه من جرحهم، ولا يمنعه منه. والثاني: معناه يوسع له الزمان ولا يضيقه عليه. فأما إن أمسك المشهود عليه في طلب يمكنه من جرحهم، فإن كان فيما لا يدرأ بالشبهة من حقوق الآدميين، أمسك الحاكم عن إطراد جرحهم، وإن كان في حد الله تعالى يسقط بالشبهة نظرة. فإن توجه الحد على من لا يعرف جواز إطراده، ولم يشعر به ولم يذكره له. وإن توجه إلى من لا يعرفه، أعلمه ما يستحقه من إطراد الجرح، فغن شرع فيه مكنه منه، وإن أمسك عنه أقام عليه الحد، لأنه حق له وليس بحق عليه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولا أقبل الجرح من الجارح إلا بتفسير ما يجرح به للاختلاف في الأهواء وتكفير بعضهم بعضًا ويجرحون بالتأويل". قال في الحاوي: وهو كذلك في دعوى المشهود عليه جرح الشهود، لم تقبل دعواه على الإطلاق حتى يفسرها بما يكون جرحًا يفسق به، لاختلاف الناس في الجرح والتعديل، كما قال: هذا وارث. لم يقبل منه حتى يذكر ما صار به وارثًا لاختلاف الناس في المواريث. فإذا قال: هذا الشاهد فاسق أو غير مرضي، أو ليس بمقبول الشهادة. قيل له: فسر ما صار به فاسقًا غير مقبول الشهادة. فإن فسرها بما لا يكون فسقًا، ردت دعواه وحكم بالشهادة عليه، وإن فسرها بما يكون فسقًا، كلف بإقامة البينة بالفسق الذي ادعاه، ليكون الفسق مفسًرا في الدعوى والشهادة فإن فسرها المدعي بنوع من الفسق، وفسرها المشهود بنوع آخر، حكم بالفسق مع اختلاف في الدعوى والشهادة، لأن المقصود ثبوت الفسق، فلم يؤثر فيه اختلاف

أنوعه إذا فسق بكل واحد منهما، وقد يعلم الشهود ما لا يعلمه المدعي. فأما الشهادة بالتعديل فلا تحتاج إلى تفسير، وإن كان التفسيق محتاجًا إلى تفسير، لما قدمناه على الصحيح من المذهب، للفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن العدالة موافقة أصل فاستغنى عن تفسير، والتفسيق مخالف للظاهر فاحتاج غلى تفسير. والثاني: أن العدالة أصل، والفسق حادث، والحادث يحتاج إلى تفسير. والمعدوم لا يحتاج إلى تفسير. كمن قال: هذا الماء طاهر، لم يستفسر عن طهارته، ولو قال: هو نجس، لتفسر عن نجاسته، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو ادعى على رجٍل من أهل الجهالة بحد لم أر بأسًا أن يعرض له بأن يقول لعله لم يسرق". قال في الحاوي: الحقوق ضربان: أحدهما: ما كان من حقوق الآدميين، فلا يجوز للحاكم أن يعرض للمقر بالإنكار، ولا يعرض للشهود بالتوقف، سواء كان الحق في مال أو حد، لأن حقوق الآدميين موضوعة على الحفظ والاحتياط، ولأن المقر بما لو أنكرها لم يقبل إنكاره. والثاني: ما كان من حقوق الله تعالى المحضة، كالحد في الزنا والقطع في السرقة. والجلد في الخمر، فلا يخلو حال المدعى عليه من أمرين: أحدهما: أن يكون عالمًا بوجوب الحد عليه إن أقر فيمسك الحاكم عن التعريض له بالإنكار، حتى يبتدئ فيقر أو ينكر، لأن التعريض لا يزيده إلا علمًا بوجوب الحد إن أقر وسقوطه إن أنكر. والثاني: أن يكون من أهل الجهالة بوجوب الحد، إما لأنه أسلم قريبًا، أو لأنه من أهل بادية نائية من جفاة الأعراب فيجوز للحاكم أن يعرض للمدعي عليه بالإنكار من غير تصريح، فإن كان في الزنا قال له: لعلك قبلت، أو لمست كما عرض النبي صلي الله عليه وسلم لماعز حين أقر بالزنا فقال: لعلك قبلت لعلك لمست". وغن كان في حد السرقة قال: لعلك سرقت من غير حرز. فإن عرض له بأن قال: لعلك لم تسرق، وكانت الدعوى من صاحب المال، لم يجز أن يعرض له بهذا، لأن في تعريضه به إسقاطًا لحقه، وإن كانت من غير صاحب المال، جاز أن يعرض له به. وروي أن النبي صلي الله عليه وسلم أتى بسارق فقال له: "أسرقت أم لا". وإن كان في شرب الخمر

قال: لعلك لم تشرب، أو قال: لعلك لم تعلم أنه مسكر أو لعلك أكرهت على شرب المسكر. وإنما جاز التعريض للمقر بما يتنبه به على الإنكار، لأنه مندوب إلى الستر على نفسه فيما ارتكبه، وأنه يستغفر ربه لقوله صلي الله عليه وسلم: "من أتى من هذه القاذورات شيئًا فليستتر بستر الله فإنه من يبدلنا صفحته نقم عليه حد الله". ولا يجوز للحاكم أن يصرح له بالإنكار فيقول له: قل ما زنيت، ولا سرقت، ولا شربت، أو يقول له: أنكر ولا تقر، لحظر التصريح في إسقاط الحدود، لأنه قد يلقنه الكذب، ويأمره به. فأما تعريض الحاكم للشهود بالتوقف عن الشهادة فقد اختلف أصحابنا في جوازه على وجهين: أحدهما: لا يجوز لأنه يقدح في شهادتهم. والثاني: يجوز لأن النبي صلي الله عليه وسلم قال: "هلا سترته بثوبك يا هزال". وقال عمر لزياد حين حضر لشهادته على المغيرة بالزنا: أيهما يا سلع العقاب أرجو أن يفضح الله على يدك أحدًا من أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم فنبه على تعريضه فلم يصرح في شهادته بدخول الذكر في الفرج، فلم تكمل به الشهادة في الزنا. وهذا التعريض بالإنكار جائز مباح، وليس بواجب، ولا استحباب، وهو حسب رأي الحاكم واجتهاده. وقد قال الشافعي رضي الله عنه: لم أر بأسًا به، لأن النبي صلي الله عليه وسلم عرض لماعز ولم يعرض للغامدية، وقال: "اغد يا أنيس غلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها" فعرض في الأقل ولم يعرض في الأكثر. فإن نبه بالتعريض على الإنكار فأنكر، فإن لم يتقدمه إقرار، قبل إنكاره في جميع الحدود ولم يستخلف على الإنكار، فإن تقدم منه الإقرار قبل الإنكار سقط حد الزنا، ولم يسقط عنه غرم المال المسروق، وفي سقوط قطع اليد وحد الخمر قولان، يسقط في أصحهما، ولا يسقط في الآخر. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو شهدا بأنه سرق من هذا البيت كبشًا لفلاٍن فقال أحدهما غدوةً وقال الآخر عشيةً أو قال أحدهما الكبش أبيض وقال الآخر أسود لم يقطع حتى يجتمعا ويحلف مع شاهده أيهما شاء".

قال في الحاوي: اختلفت الرواية في صورة الشهادة، فرواها بعض أصحابنا أنهما شهدا أنه سرق منه كيسًا، إشارة إلى كيس الدراهم والدنانير. ورواها أكثرهم أنهما شهدا أنه سرق منه كبشًا، إشارة إلى كبش الغنم. وهذه الرواية أصح لأمرين: أحدهما: أن كيس الدراهم والدنانير شهادة بمجهول، وكبش الغنم شهادة بمعلوم. والثاني: أن الشافعي قال في الأم: ولو قال أحدهما: إنه أقرن، وقال الآخر أنه أجم، وقال أحدهما إنه كبش، وقال الآخرة نعجة وهذا من أوصاف الغنم. فإذا شهد الشاهدان بسرقة الكبش، فقال أحدهما: سرقة غدوة، وقال الآخر: سرقه عشية، أو قال أحدهما: هو أبيض، وقال الآخر: هو أسود، لم تتفق شهادتهما على سرقة واحدة، لأن السرقة غدوة غير السرقة عشية، والمسروق الأبيض غير المسروق الأسود. وحكي عن أبي حنيفة: أن الشهادة بالبياض والسواد غير مختلفة، لأنه يجوز أن يكون أحد جانبي الكبش أبيض وجانبه الآخر أسود، فيرى كل واحد منهما ما إلى جانبه فيصفه به. وهذا ليس بصحيح لأمرين: أحدهما: أن كل واحد منهما يشهد بصفة جميعه، وهذا التأويل ينافيها. والثاني: أنه تأويل شهادة محتملة بما بعد تأويلها، والشهادة لا يحكم بها إلا مع انتفاء التأويل عنها. فثبت أن شهادتهما غير متفقة على سرقة واحدة، فلم تكمل بهما بينة توجب غرمًا ولا قطعًا. فصل: فإذا تقرر ما وصفنا من اختلاف هذه الشهادة، فاختلافهما على أربعة أقسام: أحدهما: أن تكمل كل واحدة من الشهادتين مع عدم التعارض فيهما، وهو على ضربين: أحدهما: أن تكمل كل واحدة من الشهادتين مع عدم التعارض فيهما، وهو على ضربين: أحدهما: أن يختلف المسروق مع الإطلاق. والثاني: أن يختلف الزمان مع الاتفاق. فأما اختلاف المسروق مع إطلاق، فهو أن يشهد شاهدان أنه سرق منه كبشًا أبيض، ويشهد شاهدان آخران أنه سرق منه كبشًا أسود، فيحكم له بالشهادتين أنه سرق منه كبشين أحدهما أبيض بالشهادة الأولى، والثاني أسود بشهادة الآخرين، وليس فيهما تعارض. وأما اختلاف الزمان مع الاتفاق، وهو أن يشهد شاهدان آخران أنه سرق منه في آخر النهار كبشًا أبيض، فيحكم له بالشهادتين أنه سرق منه كبشين أبيضين، لأن السرقة في

أول النهار غير السرقة في آخر النهار فلم تكن فيهما تعارض. وأما القسم الثاني: أن تكمل كل واحدة من الشهادتين مع وجود التعارض فيهما وهو على ضربين: أحدهما: أن تكون السرقة واحدة في زمانين. والثاني: أن يكون الزمان واحدًا في السرقتين. وأما السرقة الواحدة في زمانين فهو أن يشهد شاهدان أنه سرق منه كبشًا أبيض في أول النهار، ويشهد شاهدان آخران أنه سرق منه ذلك الكبش الأبيض في النهار، فهما شهادتان متعارضتان، لأن المسروق في أول النهار غير المسروق في آخره، والمسروق في آخره غير المسروق في أوله، فأوجب هذا التعارض إسقاط الشهادتين ولم تثبت السرقة بواحدة منهما. وأما الزمان الواحد في سرقتين، فهو أن يشهد شاهدان أنه سرق منه مع طلوع الشمس كبشًا أبيض، ويشهد شاهدان آخران أنه سرق منه مع طلوع الشمس كبشًا أسود، فهما شهادتان متعارضتان، لأن الأبيض غير الأسود، فصارت الشهادتان مع اتفاق الزمان متعارضتين فسقطتا، ولم يحكم واحدة منهما. والقسم الثالث: أن تنقضي كل واحدة من الشهادتين مع عدم التعارض فيهما، وهو على ضربين: أحدهما: أن تكون السرقة مطلقة في زمانين. والثاني: أن يكون الزمان مطلقًا في سرقتين. وأما السرقة المطلقة في زمانين فهو أن يشهد شاهد واحد أنه سرق منه كبشًا في أول النهار، ويشهد شاهد آخر أنه سرق منه كبشًا في آخر النهار. فلم تكمل بهما الشهادة لاختلاف الزمانين، ولا تعارضت لإمكان السرقتين"، ويقال للمسروق منه لك أن تحلف مع كل واحدة من الشاهدين ويحكم لك بسرقة كبشين، إن كنت مدعيًا لهما، ولا قطع على السارق، لأن القطع حد لا يجب بالشاهد واليمين وإن وجب به الغرم. والقسم الرابع: أن تنقضي كل واحدة من الشهادتين مع وجود التعارض فيهما. وهو على ضربين: أحدهما: أن تكون السرقة معينة في زمانين. والثاني: أن يكون الزمان معينًا في سرقتين. فأما السرقة المعينة في زمانين، فهو أن يشهد شاهد واحد أنه سرق منه كبشًا أبيض في أول النهار، ويشهد شاهد آخر أنه سرق هذا الكبش الأبيض في آخر النهار. وأما الزمان المعين في سرقتين فهو أن يشهد شاهد واحد أنه سرق منه مع طلوع الشمس كبشًا أسود ويشهد شاهد آخر أنه سرق منه في ذلك الزمان بعينه مع طلوع الشمس كبشًا أبيض. فقد اختلفت شهادة الشاهدين في كلا الضربين، وقد اختلف أصحابنا في هذا الاختلاف

هل يكون تعارضًا يوجب سقوط الشهادتين أم لا؟ على وجهين: أحدهما: وهو الأظهر عندي، أنه يكون تعارضًا فيما يوجب سقوطهما، كما يتعارض كمال الشهادتين، فعلى هذا ليس للمسروق منه أن يحلف مع كل واحد من الشاهدين لسقوط شهادتهما بالتعارض. والثاني: وهو قول أبي حامد الإسفراييني بأنه لا تعارض فيهما، لأن التعارض يكون في البينة الكاملة دون الناقصة، لأن الكاملة حجة بذاتها والناقصة حجة مع غيرها، فترجحت ذات اليمين. فعلى هذا إن كان الاختلاف في السرقة المعينة في زمانين، حلف مع أيهما شاؤوا استحق كبشًا واحدًا، وإن كان الاختلاف في الزمان المعين في سرقتين كان له أن يحلف مع كل واحد منهما ويستحق كبشين. فصل: وإذا شهد له شاهد أنه سرق منه كبشًا، وشهد له ثان أنه سرق منه كبشين، وشهد له ثالث أنه سرق منه ثلاث كباشي، كملت له البينة بسرقة كبشين أحدهما بشهادة الأول والثاني لاتفاقهما عليه، والثاني: بشهادة الثاني، والثلث لاتفاقهما عليه ويفرد الثالث بسرقة كبش ثالث، فإن حلف معه، استحق الكبش الثالث، ووجب قطع السارق لكمال البينة بسرقة الكبشين. فصل: ولو شهد له شاهدان بالقذف واختلفا في صفته، فقال أحدهما: قذفه عدوة، وقال الآخر قذفه عشية، أو قال أحدهما: قذفه بالبصرة، وقال الآخر: قذفه بالكوفة لم تكمل بهما شهادة القذد، لأنهما قذفان لم يشهد بواحد منهما شاهدان، وليس للمقذوف أن يحلف مع واحد منهما، لأن القذف حد لا يثبت بالشاهد واليمين. ولو قال أحدهما: قذفه بالعربية، وقال الآخر: قذفه بالفارسية، فإن كانت الشهادة على سماع القذف، فهي شهادة على قذفين لم تكمل البينة بواحدة منهما، وإن كانت الشهادة على إقرار القاذف، أنه أقر عند أحدهما أنه قذفه بالعربية، وأقر عند الآخر أنه قذفه بالفارسية، فتذكر أبو السعيد الإصطخري فيه وجهين: أحدهما: أنهما قذفان لا تتم الشهادة بواحد منهما كما قال أحدهما: اقر عندي أنه قذفهما بالبصرة، وقال الآخر: أنه أقر عندي أنه قذفهما بالكوفة. والثاني: أن الشهادة كاملة مع اختلاف اللفظين وإن لم تكمل مع اختلاف البلدين واختلاف الزمانين. ولا أجد لهذا الوجه في الفرق بينهما وجهًا. ولو كانت الشهادة في المثل، فشهد أحدهما أنه قتله بالبصرة، وشهد الآخر أنه قتله

بالكوفة، فإن كان قتل عمدًا فالشهادة مطروحة، وإن كان قتل خطأ ففي تعارضهما وجهان. أحدهما: يتعارضان ويسقطان. والثاني: يخلف مع أيهما شاء. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو شهد اثنان أنه سرق ثوب كذا وقيمته ربع دينار وشهد آخران أنه سرق ذلك الثوب بعينه وأن قيمته أقل من ربع دينار فلا قطع وهذا من أقوى ما تدرأ به الحدود وتأخذه بأقل القيمتين في الغرم". قال في الحاوي: وهاتان بينتان اتفقنا على سرقة ثوب بعينه واختلفتا في قيمته، فشهد اثنان أن قيمته ربع دينار تقطع فيه اليد، ويشهد اثنان أن قيمته سدس دينار لا تقطع فيه اليد، فلا تعارض في الشهادتين وإن اختلفت فيه البينتان، ولاختلافهما وجه محتمل لا يوجب ردهما به. فاختلف الفقهاء في اختلافهما، هل يوجب العمل بأكثرهما أو بأقلهما في الغرم والقطع؟ مذهب الشافعي أنه يؤخذ بأقلهما في الغرم وسقوط القطع، استعمالًا للبينة الشاهدة أن قيمته سدسي دينار، فيسقط عنه القطع ولا يغرم الزيادة على السدسي. وقال أبو حنيفة: آخذ بالبينة الزائدة في الغرم ووجوب القطع. وأحسب أن مالكًا يأخذ بالبينة الزائدة في الغرم، والناقصة في سقوط الحد. واستدل من عمل بالبينة الزائدة بأمرين: أحدهما: أنه لما عمل في الأخبار المختلفة بالزيادة دون النقصان وجب أن يكون مثله في البنيان، لأن الشهادة خبر. والثاني: أن النقصان داخل في الزيادة فلم ينافيها فوجب العمل بها كما لو شهد شاهدان على إقراره بألف وشهد شاهدان على إقراره بألفين دون الألف بألف لدخول الألف في الألفين، ودليلنا شيئان: أحدهما: أن النقصان متفق عليه، والزيادة مختلف فيها، لأن من قومه بالربع أثبتهما ومن قومه بالسدس نفاها، فكان العمل بالزيادة في الأخبار لأن من روى الناقص لم ينف الزيادة. لأن بلالًا لما روى أن النبي صلي الله عليه وسلم دخل البيت. وروى أسامة أنه دخل البيت وصلي عمل بالزيادة في صلاته وبعد دخوله لأن بلالًا لم يقل دخل البيت ولم يصل، فكذلك في الشهادة بالنقصان دون الزيادة، وعمل في الأخبار بالزيادة دون النقصان. والثاني: أن النقصان يقين، والزيادة شك: وقد أثبتت في إحدى الشهادتين وبقيت

في الأخرى فوجب العمل باليقين دون الشك، لأن الأصل براءة الذمة، فخالف الشهادة بألف والشهادة بألفين، لأن من أثبت الألف لم ينف الألفين. فصل: إذا اختلف شاهدان في قيمة الثوب المسروق، فشهد أحدهما أن قيمته ربع دينار وشهد الآخر أن قيمته سدس دينار، فقد اتفقا على السدس وتمت الشهادة به. واختلفا في الزيادة عليه، فأثبتها أحدهما ونفاها الآخر، فاختلف أصحابنا فيها على وجهين: أحدهما: أنه يسقط فيها قول من أثبتها بقول من نفاها، ويمنع صاحب السرقة أن يحلف مع الشاهد بها ويستحقها، كما لو أثبتها شاهدان ونفاها شاهدان. والثاني: أنه لا يسقط قول من أثبتها بقول من نفاها بخلاف إثباتها بشاهدين ونفيها بشاهدين، ويجوز لصاحب السرقة أن يحلف مع الشاهد بها ويستحقها، ولا يقطع السارق بها خلاف الشاهدين، لأن الشاهدين حجة كاملة فتعارض فيها قول المثبت والنافي، والشاهد الواحد ليس حجة إلا مع اليمين، فإذا انضمت إلى أحدهما كملت الحجة ونقصت عنها الأخرى، فحكم بالحجة على ما ليس بحجة. فصل: وإذا كان هذا الاختلاف في ثمن مبيع، فشهد شاهدان أنه باعه هذا العبد بألف، وشهد شاهدان آخران أنه باعه ذلك العبد في ذلك الزمان بألفين تعارضت الشهادتان وردتا. ولو شهد أحد الشاهدين أنه باعه هذا العبد بألف وشهد الآخر أنه باعه إياه في ذلك الزمان بألفين، ففي تعارضهما وجهان على ما مضى: أحدهما: قد تعارضتا وسقطتا. والثاني: لا تعارض فيهما، وللمدعي أن يحلف مع الشاهد بالألفين. ولو شهد شاهدان أنه باعه عبدًا تركيًا بألف، وشهد آخران أنه باعه عبدًا روميًا بألفين، فلا تعارض في الشهادتين فيحكم له ببيع التركي بألف وبيع الرومي بألفين. ولو اختلف شاهدان، فشهد أحدهما أنه باعه عبدًا تركيًا بألف وشهد الآخر أنه باعه عبدًا روميًا بألفين، فلا تعارض فيهما وله أن يحلف مع كل واحد منهما ويحكم له بعد اليمين بيع التركي بألف والرومي بألفين. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا لم يحكم بشهادة من شهد عنده حتى يحدث

منه ترد به شهادته ردها". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا شهد عدلان بحق ثم فسقا قبل الحكم بشهادتهما ردت الشهادة ولم يحكم بها، وهذا هو قول جمهور الفقهاء. وحكي عن أبي ثور والمزني أنهما قالا: يحكم بشهادتهما ولا ترد اعتبارًا بحال الأداء. وهذا خطأ لقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ} [الحجرات: 6 [. فاقتضى الظاهر أن تعتبر العدالة عند الأداء وعند الحاكم. ولأن عدالة الباطن مظنونة، فإذا ظهر الفسق دفع ما ظن بباطنه من العدالة، ودل على تقدمه وقت الشهادة، ولاسيما ويتحفظ الإنسان بعد شهادته أكثر من تحفظه قبلها. ولأن من لطف الله تعالى بعباده أن لا يهتكهم بأول الذنب، ولذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه، إن الله أكرم من أن يهتك عبده بأول خطيئة، فإذا أظهرها دلت على تقدمها عليه. ولأن ظهورها يوجب الاسترابة بما تقدمها وظهور الريبة في الشهادة يمنع من قبولها. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن حكم بها وهو عدل ثم تغيرت حاله بعد الحكم لم نرده لأني إنما أنظر يوم يقطع الحاكم بشهادته". قال في الحاوي: وحدوث فسقهما بعد نفوذ الحكم بشهادتهما على ضربين: أحدهما: أن يحدث الفسق بعد استيفاء الحق، فلا يجوز نقض الحكم بشهادتهما سواء كان في حقوق الله تعالى أو الآدميين، وبخلاف حدوث الفسق قبل الحكم، لوقوع الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن الشك والاحتمال موجود في الحالين، فلما لم يجز أن يثبت الحكم بالشك، لم يجز أن ينقض حكمه بالشك والاحتمال، فيكون المعنى الذي منع من الحكم بشهادتهما المانع من نقض الحكم النافذ بشهادتهما. والثاني: أن تخبر الحال قبل نفوذ الحكم مخالف لتغيرها بعد نفوذ الحكم، لأن الحاكم إذا اجتهد رأيه في الحكم فأداه اجتهاده إلى حكم ثم بان أن الحق في غيره، نقضه قبل نفوذ حكمه، فأوجب هذا الفرق في تغير الاجتهاد قبل نفوذ الحكم وبعده. وقوع الفرق في الفسق بحدوثه قبل نفوذ الحكم وبعده. فهذا حكم أحد الضربين في حدوث الفسق بعد استيفاء الحق أنه معمول على عموم

باب الرجوع عن الشهادة

إمضائه في جميع الحقوق. والثاني: أن يحدث الفسق بعد نفوذ الحكم وقبل استيفاء الحق، فهذا علي ثلاثة أضرب: أحدهما: أن يكون الحق مالا أو في معني المال، فيجب استيفاؤه بعد الفسق لنفوذ الحكم قبل الفسق تعليلا بالمعنيين المتقدمين. والثاني: أن يكون الحق حدا وجب لله خاصة، كحد الزنا وجلد الخمر وقطع السرقة، مما يدرأ بالشبهة، فيسقط بحدوث الفسق ولا يستوفي لأن حدوثه شبهة. والثالث: أن يكون حدا قد وجب لآدمي كالقصاص وجد القذف ففي سقوطه بحدوث الفسق قبل استيفائه وجهان: أحدهما: يسقط لكونه حدا يدرأ بالشبهة. والثاني: لا يسقط لأنه من حقوق الآدميين كالأموال. فصل: وإذا بان للحاكم بعد حكمه أن فسق الشاهدين حدث قبل شهادتهما، نقض حكمه كما لو بان له مخالفه النص، واسترجع ما استوفاه بحكم إن أمكن، وإن كان قصاصا لا يمكن استرجاعه ضمن الحاكم بالدية والكفارة، وفي محلة الدية قولان: أحدهما: علي عاقلته، فعلي هذا تكون الكفارة في ماله. والثاني: في بيت المال، فعلي هذا ففي الكفارة وجهان: أحدهما: في بيت المال. والثاني: في مال. وقد مضي هذا في تعزير الإمام إذا أفضي إلي التلف. باب الرجوع عن الشهادة مسألة: قال الشافعي رحمه الله: ((الرجوع عن الشهادة ضربان فإن كانت علي رجل بشيء يتلف من بدنه أو ينال بقطع أو قصاص فأخذ منه ذلك ثم رجعوا فقالوا عمدناه بذلك فهي كالجناية فيها القصاص واحتج في ذلك بعلي وما لم يكن من ذلك فيه القصاص أعدموه وعزروا دون الحد وإن قالوا لم نعلم أن هذا يجب عليه عذروا وأخذ منهم العقل ولو قالوا أخطأنا كان عليهم الأرش)). قال في الحاوي: وجملته أنه لا يخلو رجوع الشهود في الشهادة بعد أدائها من ثلاثة أحوال:

أحدهما: أن يرجعوا قبل نفوذ الحكم بها. والثاني: أن يرجعوا بعد الحكم قبل الاستيفاء. والثالث: أن يرجعوا بعد الاستيفاء. فأما الحالة الأولي: وهو أن يرجعوا قبل الحكم بشهادتهم، فلا يجوز الحكم بها بعد رجوعهم، سواء كانت الشهادة في حد الله تعالي، أو مال لآدمي، وهو قول جمهور الفقهاء إلا أبا ثور فإنه تفرد بإمضاء الحكم بعد رجوعهم. وبناه علي مذهبه في إمضاء الحكم بعد حدوث فسقهم، وهذا خطأ في المذهب والبناء. وأما خطؤه في المذهب، فهو أنه لا يخلو حالهم في الشهادة والرجوع من أحد أمرين: إما أن يكونوا صادقين في الشهادة كاذبين في الرجوع، أو كاذبين في الشهادة صادقين في الرجوع فوجب ردها لأمرين: أحدهما: الجهالة بصدق شهادتهم، فصار كالجهالة بعدالتهم. والثاني: أنهم لم ينكفوا من الكذب في أحد قوليهم. وأما خطؤه في البناء: فهو أن الفاسق مقيم علي شهادته ويجوز أن يكون فيها صادقا. والراجع مقر أنه لم يكن في الشهادة صادقا، فافترقا. فإذا ثبت أنه لا يحكم بشهادتهم، نظر في الشهادة بعد رجوعهم عنها. فإنهم فيها علي ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يعمدوها، فيكون قدحا في عدالتهم وموجبا لفسقهم، ويعزروا، لأنهم عمدوا الشهادة بالزور. والثاني: أن لا يتعمدوها، ولكن سهوا فيها، فيكون ذلك قدحا في ضبطهم لا في عدالتهم، فوجب التوقف في شهادتهم إلا فيما تحققوه وأحاطوا به علما. والثالث: أن لا يكون ذلك بعمد لا يسهو ولكن بشبهة اعترضتهم يجوز مثلها علي أهل التيقظ والعدالة فهم علي عدالتهم وضبطهم، لا يقدح ذلك في واحد منهم فتقبل شهادتهم في غير ما رجعوا عنه، فإن التمس المشهود علي صحة رجوعهم لم يكن له إحلافهم، لأن حقه علي غيرهم، ولو ادعي المشهود له أن الشهود قد رجعوا وأنكروا الرجوع، لم يكن له إحلافهم، لأنه لا خصومة بينه وبينهم. وهكذا لو ادعي عليهم علموا أني برئت مما شهدوا به، وقد شهدوا مع علمهم أنه برئ منه وطلب يمينهم لم يحلفوا عليه. ولو أحضر المشهود عليه بينه تشهد علي المشهود برجوعهم، قبلت، وحكم عليهم بالرجوع، وبطلت شهادتهم علي المشهود عليه، ولا ضمان عليهم للمشهود له. وقال الحسن باق علي المشهود عليه.

وأما الحالة الثانية: وهو أن يرجعوا بعد نفوذ الحكم بشهادتهم وقبل استيفاء الحق، فلا يخلو أن يكون ما شهدوا به من أن يكون مالا أو غير مالا، فإن كان مالا، لم ينقض حكمه به وأمضاه، وهذا قول جمهور الفقهاء. وحكي عن عبيد الله بن الحسن العنبري أنه قال: ينقضي الحكم برجوعهم لإبطال هذه الشهادة بالرجوع. وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أن الحكم إذا نفذ بالاجتهاد، لم ينقض بالاحتمال والاجتهاد تغليب صدقهم في الشهادة والاحتمال جواز كذبهم في الرجوع. والثاني: أن في شهادتهم إثبات حق يجري مجري الإقرار، وفي رجوعهم نفي ذلك الحق الجاري مجري الإنكار فلما يبطل الحكم بالإقرار لحدوث الإنكار لم يبطل الحكم بالشهادة لحدوث الرجوع. وإن كان ما شهدوا به ليس بمال، فعلي ضربين: أحدهما: أن يكون مما لا يبطل بالشبهة كالنكاح والطلاق، فهو كالمال في نفوذ الحكم به. فلا يبطل برجوع الشهود. والثاني: أن يكون مما يسقط بالشبهة كالحدود، وهو علي ضربين: أحدهما: أن يكون من حقوق الله تعالي المحضة كالزنا وجلد الخمر وقطع السرقة فيسقط برجوع الشهود كما يسقط برجوع المقر، لأن رجوع المشهود شبهة تدرأ بمثلها الحدود. والثاني: أن يكون من حقوق الآدميين المحضة كالقصاص. وحد القذف فعلي ضربين: أحدهما: أن يكون مما إذا سقط بالشبهة رجع إلي الدية التي لا تسقط بالشبهة، فليسقط برجوع الشهود، القصاص، ولا تسقط الدية. والثاني أن يكون مما إذا سقط بالشبهة لم يرجع إلي بدل، كحد القذف، ففي سقوطه برجوع شهوده وجهان: أحدهما: تسقط بالرجوع، لأنها شبهة تدرأ بمثلها الحدود. والثاني: تسقط بالرجوع لأنه من حقوق الآدميين المغلظة. وأما الحالة الثالثة: وهو أن يرجع الشهود بعد نفوذ الحكم واستيفاء الحق، فالحكم علي نفاذه لا ينقض برجوع شهوده، بعد استيفاء الحق، وهو قول جمهور الفقهاء. وحكي عن سعيد بن المسيب، والأوزاعي أن الحكم ينقض برجوعهم، لأنهم بالرجوع غير شهود. وهذا فاسد من وجهين. أحدهما: أن الرجوع مخالف للشهادة فلا يخلو أحدهما من الكذب، فصار كل

واحد من الشهادة وبالرجوع محتملا للصدق والكذب، وقد اقترن بالشهادة حكم واستيفاء فلم يجز نقضها برجوع محتمل. والثاني: أن الشهادة إلزام والرجوع إقرار بدليل أنه وارد بغير لفظ الشهادة والإقرار لازم في حق المقر دون غيره، فلم يجز أن ينقض به الحكم، لأنه يصير إقراره إلزاما لغيره. وهو موجب أن يعود عليه لا علي غيره. فإذا ثبت أنه لا ينقض به الحكم بعد استيفاء الحق، انتقل الكلام إلي ما يلزم الشهود برجوعهم، وهو مختلف الحق المستوفي، وينقسم إلي ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكون إتلافا يختص بالأبدان. والثاني: أن يكون إتلافا يختص بالأحكام. والثالث: أن يكون إتلافا يختص بالأموال. فأما القسم الأول: فيما اختص بالأبدان. فهل قتل نفس أو قطع طرف بشهادتهم علي رجل أنه قتل فقتل، أو قطع فقطع ثم رجعوا علي شهادتهم بعد أن قتل أن قتل أو قطع فقد اختلف الفقهاء فيما يلزمهم برجوعهم إذا عمدوا: فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن عليهم القود، وهذا قول ابن شبرمة وأحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة: إن عليهم الدية دون القود وقال مالك، لا قود عليهم ولا دية. واستدل أصحاب أبي حنيفة علي سقوط القود بأن الشهادة سبب أفضي إلي القتل موجب أن يتعلق به الحكم الغرم دون القود، كحفر البئر ووضع الحجر. واستدل أصحاب مالك علي سقوط الدية بأن الشهادة سبب اقترن به مباشرة الحاكم، فلما سقطت الدية عن الحاكم بالمباشرة كان أولي أن تسقط عن الشهود بالسبب، لأن السبب سقط بالمباشرة. والدليل علي وجوب القود: اجتماع الصحابة في قصتين مشهورتين عن إمامين منهم لم يختلف عليهما أحد منهم. إحداهما: عن أبي بكر رضي الله عنه أن شاهدين شهدا عنده بالقتل وقيل بالقطع فاقتص به، ثم رجع الشاهدان وقالا: أخطأنا الأول، وهذا هو القاتل أو القاطع. فقال: لو علمت أنكم تعمدتما لأقلكما. والثانية: وهي أثبت رواها الشافعي عن سفيان عن مطرف عن الشعبي أن رجلين شهدا عند علي عليه السلام علي رجل أنه سرق فقطعه، ثم أتياه بعد برجل آخر وقالا: أخطأنا في الأول وهذا هو السارق، فأبطل شهادتهما علي الآخر ثم ضمنهما دية الأول، وقال لو علمت أنكما تعمدتما لقطعتكما. وقال أحمد بن حنبل عن مطرف، عن الشعبي عن علي عليه السلام غير مرفوع أن رجلين شهدا عن علي رضي الله عنه بخبر مرفوع.

وقد رواه مع سفيان أسباط عن مطرف هذا وليس لهذين الإمامين مخالف في الصحابة فثبت بهما الإجماع. ويدل علي من الاعتبار، أن كل إتلاف ضمن بالمباشرة ضمن بالشهادة كالأموال، ولأن الشهادة إلجاء، فوجب أن يضمن به النفوس بالقود كالإكراه. فأما الجواب عن استدلال أبي حنيفة بأن الشهادة سبب يسقط به القود كحفر البئر، ففاسد بالإكراه، ثم حفر البئر لم يقصد به القتل فسقط به القود، والشهادة مقصود بهما القتل. وأما الجواب عن استدلال مالك بالحاكم، فهو أن الحاكم لزمه الحكم بالشهادة فلم يضمن، والشاهد متبرع بالشهادة فضمن بها. فصل: فإذا تقرر أن الشهود بالقتل، لم يخل حالهم في الشهادة به إذا تغيرت من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يشكو فيهما بعد استيفاء الحق بهما، أو يقولوا: لعلنا أخطأنا فيها فهذا قدح في الضبط لا يتغير به حكم الشهادة بعد نفوذ الحكم بها، ولا ضمان عليهم به، لأن الضمان لا يجب بالشك. والثاني: أن يرجعوا جميعا عنها، فيسألهم الحاكم عن شهادتهم هل تعمدوها أو أخطأوا فيها؟ لاختلاف حكم العمد والخطأ في القتل، ولهم في الجواب عنه ثمانية أحوال: أحدهما: أن يقولوا: عمدنا كلنا ليقتل بشهادتنا، فالقود علي جميعهم واجب لأنهم قتلة عمد. والثانية: أن يقولوا: عمدنا كلنا وما علمنا أن الحاكم يقتله بشهادتنا، فهم أهل جهالة بمثله، فهذا منهم قتل عمد شبه الخطأ، ولا قود عليهم، ويؤخذ الدية منهم مغلظة لما فيه من العمد، ومؤجلة لما فيه من الخطأ. والثالثة: أن يقولوا: أخطأنا كلنا، فعليهم دية الخطأ مخففة ومؤجلة، ويؤخذون بها دون عواقلهم، لوجوبها باعترافهم، والعاقلة لا تتحمل عنهم ما وجب باعترافهم إن لم يصدقوهم، فإن صدقوهم تحملوها عنهم. والرابعة: أن يتفقوا علي أنه عمد بعضهم وأخطأ بعضهم، فلا قود علي العامد لمشاركته الخاطئ، وعلي العامد قسطه من الدية مغلظة حاله، وعلي الخاطئ قسطه من الدية مخففة مؤجلة. والخامسة: أن يختلفوا فيقول بعضهم عمدنا كلنا، ويقول بعضهم: أخطأنا كلنا، فعلي من أقر بعمد جميعهم القود، وعلي من أقر بخطأ جميعهم قسطه من الدية مخففة ومؤجلة.

والسادسة: أن يختلفوا، فيقول اثنان منهم: عمدنا وأخطأ هذان الآخران، ويقول الآخران: بل عمدنا وأخطأ هذان الأولان: ففي وجوب القود عليهم قولان: أحدهما: عليهم القود جميعا، لأن كل واحد منهم قد اعترف بالقتل بالعمد في حقه، وأضاف الخطأ إلي من قد اعترف بعمده، فصاروا كالمعترفين جميعا بالعمد. والثاني: وهو أصح، لا قود علي واحد منهم، لأن كل واحد منهم مقر بمشاركته للخاطئ، فلم يلزمه إقرار الخاطئ بعمده، ولأن أحدا لا يؤخذ بإقرار غيره، ويكون علي كل واحد منهم قسطه من دية العمد مغلظة حالة. والسابعة: أن يقول اثنان منهم: عمدنا كلنا، ويقول الآخران: عمدنا وأخطأ الأولان، فعلي المقر بعمد جميعهم القود، وفيما علي المقر بعمده وخطأ وغيره قولان: أحدهما: القود. والثاني: قسطه من دية العمد مغلظة حالة. والثامنة: أن يقول أحدهم: عمدت وما أدري ما فعل أصحابي سألنا أصحابه، فإن قالوا: عمدنا. وجب القود علي الكل، وإن قالوا: أخطأنا، سقوط القود عن الكل. فهذا حكمهم إذا رجعوا جميعا. والقسم الثالث: أن يقيم بعضهم عن شهادته، ويرجع بعضهم عن شهادته فهذا علي ضربين: أحدهما: أن لا يزيد الشهود علي عدد البينة. كاثنين شهدا علي رجل بالقتل فقتل، ثم رجع أحدهما أو أربعة شهدوا علي رجل بالزنا فرجم ثم رجع أحدهما، فلا ضمان علي المقيم علي شهادته، والراجع عنها ضامن يسأل عن حاله، فإن قال: أخطأت ضمن قسطه من الدية، فإن كان واحدا من اثنين في قتل ضمن نصف الدية. وإن كان واحدا من أربعة في الزني ضمن ربع الدية. وإن قال: عمدت، سئل عن من لم يرجع من شركائه في الشهادة، فإن قال الخطأ فعليه قسطه من الدية، وإن قال: عمدوا فعليه القود. والثاني: أن يزيد الشهود علي عدد البينة، كثلاثة شهدوا علي رجل بالقتل فقتل، أو خمسة شهدوا علي رجل بالزني فرجم، فهذا علي ضربين: أحدهما: أن يرجع من زاد علي عدد البينة، لرجوع الثالث في الشهادة القتل. والخامس في شهادة الزنا، فلا قود عليه لوجوب القتل، والرجم بشهادة الباقين، ولا يجوز أن يستحق القود في قتل قد وجب، وأما الدية ففيها وجهان: أحدهما: لا شيء عليه منها تعليلا بهذا المعني. والثاني: عليه فسقط من الدية، لأنه مقر بعد، وأن يوجب الضمان، فإن كان واحدًا

من ثلاثة في القتل ضمن ثلث الدية، وإن كان واحدا من خمسة في الزني ضمن خمس الدية، ويكون ذلك مغلظا حالا إن عمد، ومخففا مؤجلا إن أخطأ. والثاني: أن يرجع في الشهادة من ينقص به عدد الباقين عن البينة. كثلاث شهودا علي رجل بالقتل فرجع منهم اثنان، أو خمسة شهدوا علي رجل بالزني فرجع منهم اثنان، فما هنا يجب القود علي الراجعين إن عمدوا وأقروا بعمد من لم يرجع ولا شيء علي من لم يرجع لأن القتل لم يجب إلا بشهادة جميعهم وإن أخطأ الراجعان ضمنا الدية، وفي قدر ما يضمنان منها وجهان: أحدهما: يضمن الاثنان من الثلاثة في القتل ثلثا الدية، لأنهما اثنان من ثلاثة ويضمن الاثنان من الخمسة في الزنا خمسا الدية، لأنهما اثنان من خمسة اعتبارا بأعدادهم. والثاني: يضمن الاثنان من الثلاثة في القتل نصف الدية، لبقاء الواحد الذي هو نصف البينة، ويضمن الاثنان من الخمسة في الزنا ربع الدية لبقاء الثلاثة الذين هم ثلاثة أرباع البينة، اعتبارا بعدد البينة. فصل: وإذا شهد أربعة علي رجل بالزني ولم يثبت حصانته، فشهد بها اثنان ثم رجل شحود الحصانة ففيه لأصحابنا وجهان: أحدهما: لا ضمان عليهم، لأنهم لم يشهدوا بالفعل الموجب للرجم. والثاني: عليهم الضمان لأنه رجم بما شهدوا عليه من الإحصان، وفي قدر ما يضمنه شاهدا الحصانة وجهان: أحدهما: أنه نصف الدية، لأنهم رجم بنوعين، الإحصان والزنا فتقسطت الدية عليهما. والثاني: عليهما ثلث الدية، لأنه رجم بشهادة ستة فتقسطت الدية علي عددهم. ولو رجع شهود الزنا، فإن أخطأوا وجبت عليهم الدية دون القود، وفي قدر ما يلزمهم منها وجهان: أحدهما: جميع الدية إذا قيل: إن شهود الحصانة لا يضمنون. والثاني: ثلث الدية إذا قيل إن شهود الحصانة يضمنون نصف الدية. ولو عمد شهود الزني كان وجوب القود عليهم معتبرا بعلمهم بحصانته، فإن علموا بما عند شهادتهم وجب عليهم القود، لأنهم شهدوا بما تعمدوا به لقتل وإن جهلوا حصانته لم يجب عليهم القود لأنهم لم يتعمدوا قتله. ولو رجع واحد من شهود الزني وواحد من شاهدي الحصانة إذا قيل: إن شهود الحصانة لا يضمنون.

والثاني: أن (على) شاهد الزني سدس الدية، وعلي شاهد الحصانة سدس الدية. إذا قيل بضمان شهدوا الحصانة علي العدد. والثالث: إذا قيل بضمان شهود الحصانة علي العدد. والثالث: علي شاهد الزني ثمن الدية وعلي شاهد الحصانة ربع الدية، إذا قبل بضمان شهود الحصانة علي النوع. وأما القود فلا يجب علي شاهد الحصانة، ووجوبه علي شاهد الزني معتبر بما ذكرناه من وجوبه عليه إن علم بحصانته، وسقوطه غن جهلها. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: ((ولو كان هذا في طلاق ثلاث أغرمتهم للزوج صداق مثلها دخل بها أو لم يدخل بها لأنهم حرموها عليه فلم يكن لها قيمة إلا مهر مثلها ولا ألتفت إلي ما أعطاها. قال المزني رحمه الله: ينبغي أن يكون هذا غلطا من غير الشافعي ومعني قوله المعروف أن يطرح عنهم ذلك بنصف مهر مثلها إذا لم يكن دخل بها)). قال في الحاوي: قد مضي الكلام في رجوع الشهود عما اختص بالأبدان من الأقسام الثلاثة وهذه المسألة هي القسم الثاني في رجوعهم عما اختص بالأحكام وهو شيئان: الطلاق والعتق. فأما الطلاق: فهو أن يشهدوا علي رجل بطلاق الثلاث، فيفرق الحاكم بينهما ثم يرجع الشهود، فهي ممنوعة من الزوج بعد نفوذ الحكم بطلاقها وعلي شهود مهر مثلها للزوج. وقال مالك وأبو حنيفة: لا ضمان علي الشهود. استدلالا: بأنه ليس لخروج البضع عن ملك الزوج قيمة، ولو كان مقوما بمهر المثل في ملكه، لوجب إذا طلق زوجته في مرض موتها، وأن يكون مهر مثلها محسوبا من ثلثه، كما لو أعتق عبده في مرضه، ولوجب إذا طلقها وقد أحاط دينه بتركته أن لا يقع طلاقه، كما لم ينفذ عتقه وهذا مدفوع فدل علي أنه لا قيمة له في خروجه من ملكه كما لا قيمة له فيما استهلكه عليه من غير ذي قيمة. والدليل علي وجوب ضمانه، أن عقد النكاح بعد الدخول أقوي وقبله أضعف، لارتفاع العقد بالردة قبل الدخول، ووقوفه علي انقضاء العدة بعد الدخول، ووافقونا علي تضمين الشهود إذا شهدوا بالطلاق قبل الدخول، فكان أولي أن يضمنوا إذا شهدوا بعد الدخول.

وتحرير هذا الاستدلال قياسا، لأنها شهادة بطلاق فرق بين الزوجين فاقتضي أن يكون الرجوع عنها موجبا للضمان كالشهادة قبل الدخول. فإن قيل: فالمال قبل الدخول معرض للسقوط بردتها، وبالفسخ إذا كان من قبلها، وهو بعد الدخول مستقر لا يسقط بحال، فإن شهدوا بالطلاق قبل الدخول فقد أثبتوا به صفة المعرض للسقوط وضمنوا، وإذا شهدوا به بعد الدخول لم يكن معه معرضا للسقوط فلم يضمنوا. قيل: عكس هذا أولي، لأن الصداق واجب بالعقد، فإذا شهدوا بالطلاق قبل الدخول فقد أسقطوا بها نصف الصداق، وإذا شهدوا به بعد الدخول لم يسقطوا به شيئا من الصداق، فكان ضمانهم بعد الدخول أقوي من ضمانهم قبله. فإن قيل: فهو بعد الدخول فقد استوفي حقه من الاستمتاع، فلم يضمنوا وقبل الدخول لم يستوفه فضمنوا. قيل: حقه في الاستمتاع باق ببقاء النكاح، وقد أبطلوه بشهادتهم في الخالتين فضمنوه فيها. ودليل ثان: أن الإحالة بين الزوج وبضع امرأته إذا لم يفتقر إلي خلو العقد من مهر، فهو موجب لضمان المهر، كما لم أرضعت زوجته الكبيرة زوجته الصغيرة ضمنت الكبيرة مهر الصغيرة. وقد وافقوا علي ذلك إذا قصدت الكبيرة تحريم الصغيرة. فإن قيل: فبقتل الكبيرة قد حرمت عليه نفسها، ولا يلزمها مهرها. قيل: لأنه لو لزمها مهرها، لأفضي إلي خلو العقد من مهرها، ولا يفضي هذا إلي خلو عقد الصغيرة من مهرها، فلذلك ضمنت الكبيرة مهر الصغيرة، ولم تضمن مهر نفسها. فإن قيل بعد هذا: لو قتلها لضمنت ديتها ولا تضمن مهرها. قيل: ضمان المنافع تسقط بضمان أعيانها، فأوجب ضمان ديتها سقوط مهرها. ودليل ثالث: أنه لما كان لدخول البضع في مالك الزوج قيمة وجب أن يكون لخروجه عن ملكه قيمة اعتبارا بسائر الأموال فإن منعوا أن يكون لخروجه عن ملكه قيمة بما ذكروه دللنا عليه بجواز الخلع علي البضع، فإن تملك بع العوض، ولا يجوز أن يملك العوض في مقابلة ما ليس له عوض. ثم نجيب عما استدلوا به من أنه لا قيمة لخروجه عن ملكه. وأما قولهم: أنه طلقها في مرضه لم يكن من ثلاثة، ولو كانت مالا لكانت من ثلثه لعتقه، فهو أننا نعتبر ما كان منتقلا إلي ورثته بعد موته، والزوجة لا تنتقل إليهم بعد الموت. فلذلك لم تعتبر من الثلث، وإن كان بعضها ملكا له كأم الولد أو أعتقها في مرضه لم تكن من ثلثه وإن كانت ملكا، لأنها لا تنتقل بعد الموت إلي ورثته، وهكذا لو طلقها

في مرضه فقد أحاط دينه بتركته بهد طلاقه وإن لم ينفذ عتقه، لأنها لا تنتقل إلي القدماء كعتق أم الولد، خالف عتق العبد القن الذي يصرف في ديونه لو لم يعتق. فصل: وإذا قد ذكرنا دلائل من أثبت الغرم فنفاه، فالذي أراه أولي من إطلاق هذين المذهبين أن الشهادة بهذا الطلاق الكاذب يوجب تحريمها في الظاهر دون الباطن. ويجوز لهما الاجتماع بعدها فيما بينهما وبين الله تعالي. علي أصل مذهبنا في أن الحكم الحاكم في الظاهر لا يحيل الأمور عما هي عليه في الباطن، وإن خالفنا أبو حنيفة. فاقتضي من مذهبنا أن ينظر في حال الزوج، فإن وصل إلي الاستمتاع بزوجته بمساعدتها علي ما أباحها الله تعالي في الباطن، فلا رجوع للزوج بمهرها علي الشهود إذا رجعوا، لئلا يجمع بين الاستباحة والرجوع بالمهر. وإن لم يصل إلي الاستمتاع بها، لامتناعها عليه تمسكا بظاهر التحريم، رجع علي الشهود بمهرها لتفويتهم علي بعضها. ويتفرع علي هذا أن يشهد شاهدان علي رجل بقذف امرأته بالزنا فيلا عن الحاكم بينهما، ثم يرجع الشاهدان، واللعان في الظاهر علي نفاذه في وقوع الفرقة وتحريم الأبد، فأما نفوذه في الباطن فمعتبر بحال الزوج، فإن حد القذف حين لاعن باختياره، فلا رجوع له علي الشهود لوقوع الفرقة بلعانة. وإن خاف من حد القذف، لم تقع الفرقة في الباطن، ولا رجوع له علي الشهود إن أمكنته من نفسها، ويرجع عليهم إن منعته، والله أعلم. فصل: فإذا ثبت وجوب الغرم علي الشهود إذا رجعوا في الطلاق، فهو علي ضربين: أحدهما: أن يكون الطلاق ثلاثا. والثاني: دون الثلاث. فإن كان ما شهدوا به من الطلاق فعلي ضربين: أحدهما: أن يكون بعد الدخول: فعليهم ضمان جميع المهر يقسط بينهم علي أعدادهم، فإن شهد به اثنان، كان علي واحد منهما نصفه، وإن شهد به ثلاثة، كان علي كل واحد منهم ثلثه. والثاني: أن تكون شهادتهم بالطلاق قبل الدخول، فقد اختلفت الرواية عن الشافعي في قدر ما يلزم الشهود. فروي عنه المزني: أن عليهم ضمان جميع المهر. وروي عنه الربيع: أن عليهم ضمان نصفه، واختاره المزني. فاختلف أصحابنا في اختلاف ما نقلاه، فخرجه أكثرهم علي قولين:

أحدهما: عليهم نصف المهر، وهو مذهب أبي حنيفة لأمرين: أحدهما: لأنه قدر ما التزم. والثاني: أنه قد رجع على الزوجة بنصفه، فلو رجع على الشهود بجميعه لصار إليه مهر ونصف، وهو لا يستحق أكثر من المهر فعلى هذا عليهم نصف مهر المثل لأنه قيمة المتلف. قال أبو حنيفة: نصف المهر المسمى اعتباراً بما غرم. والثاني: يلزمهم جميع مهر المثل لأمرين: أحدهما: أنهم قد أحالوا بينه وبين ما ملكه من جميع البضع، فوجب أن يرجع عليهم بجميع مهرها كما يرجع به لو دخل بها. والثاني: أنه لما رجع بجميع المهر إذا استمتع بها، كان أولى أن يرجع بجميعه غذا لم يستمتع بها. فعلى هذا، إن كان الصداق قد ساقه إليها لم يرجع عليها بنصفه، لأنه لا يدعيه. وإن لم يسقه إليها لم يلزمه إلا نصفه، وإن اعترف لها بجميعه لأجل منعه منها. وامتنع بعض أصحابنا من تخريج الرجوع على قولين، وحملوا ما رواه من أوجب جميع المهر على الزوج إذا ساق جميع المهر إليها، لأنه خرج عن يده جميع المهر فرجع عليهم بجميع المهر. وهذه الطريقة عندي أولى عندي من تخريج القولين، لأن ما أمكن حمله على الاتفاق كان أولى من حمله على الاختلاف. فصل: وإن كان ما شهدوا به من الطلاق أقل من الثلاث فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون قبل الدخول، فيوجب الضمان على الشهود إذا رجعوا كما يوجبه طلاق الثلاث، لأنها تبين بالواحدة كما تبين بالثلاث. والثاني: أن يكون بعد الدخول، فهو على ضربين: أحدهما: أن لا تبين بالواحدة لأنه لم يتقدم منه طلاق فلا شيء على الشهود إذا رجعوا، لأن الزواج يقدر على استباحتها بالرجعة. والثاني: أن تبين بالواحد التي شهدوا بها وهو على ضربين: أحدهما: أن يكون ذلك في خلع تبين فيه بالواحدة ورجع الشهود عنه فعلى ضربين: أحدهما: أن تكون الشهادة على الزوجة لإنكارها عقد الخلع، فقد ألزموها العوض، ولا يكون الطلاق بدلاً منه في حقها، فلها الرجوع عليهم بما أغرموها. والثاني: أن تكون الشهادة على الزوج لإنكارها عقد الخلع، فقد كانوا ألزموه بالطلاق بما أوجبوه له من العوض، وهو مستحق له، وإن لم يدعه، لحقه في بضعها،

فإذا لم يصل إليه، كان له الوصول إلى بدله، وإذا كان كذلك نظر. فإن كان العوض بقدر مهر المثل لم يرجع على الشهود بشيء لوصوله إلى المهر من جهة الزوجة. وإن كان العرض أقل من مهر المثل، ويرجع على الشهود بالباقي من مهر المثل ليستكمله من الشهود والزوجة. ومثله أن يشهدوا بشفعته في مبيع وينتزع من مشتريه بثمنه ثم يرجع الشهود عما شهدوا به من ملك الشفيع، فإن كان الثمن مثل قيمة المالك لم يضمنوا، وإن كان أقل من قيمته ضمنوا فاضل القيمة. وهكذا لو شهدوا على رجل أنه باع فانتزع منه ما شهدوا به من الثمن ثم رجعوا إن كان الثمن مثل قيمته لا يضمنوا، وإن كان أقل من القيمة ضمنوا فاضل القيمة. ولو شهدوا بهبة ثم رجعوا. فإن قيل بوجوب المكافأة لم يضمنوا، وإن قيل بسقوطها ضمنوا. والثاني: أن تبين الواحدة، لأن الزوج قد طلقها قبل الشهادة طلقتين فصارت بائنة بالثالثة، فقد أحال الشهود بها بينه وبين بضعها، فلزمهم الغرم بحكم الإحالة وقد قدر ما يلزمهم وجهان: أحدهما: جميع المهر، لأنهم منعوه منها من جميع البضع. والثاني: يلزمهم ثلث المهر، لأنه ممنوع من بعضهم بثلاث طلقات اختص الشهود بواحدة منها، فكان ثلث المنع منهم فوجب ثلث المهر، فعلى هذا لو كان الزوج قد طلقها واحدة، وشهدوا بطلقتين رجع عليهم بثلثي المهر. فهذا حكم شهادتهم بالطلاق إذا رجعوا عنه. فصل: وأما شهادتهم بالعتق إذا رجعوا عنها في عبد كان قناً، فعليهم غرم قيمته بوفاق أبي حنيفة، وإن خالف في الطلاق. ويعتبر قيمته عند نفوذ الحكم بشهادتهم، لا وقت رجوعهم، لأنه بالحكم صار مستهلكاً بالرجوع. فإن شهدوا عليه بعتق مدبر ثم رجعوا عنه لزمهم غرم قيمته أيضاً، لأنه قد كان على الرق وجواز البيع، فإن شهدوا عليه بعتق أم الولد رجع عليهم بقيمتها وإن منع من بيعها كما يرجع بالقيمة على قاتلها. وإن شهدوا عليه بكتابة عبده، لم يغرموا عند الرجوع، وينظر ما يكون من مال المكاتب: فإن عجزوا عاد إلى الرق فلا غرم على الشهود بعوده إلى الرق الذي كان عليه قبل الشهادة. وإن ادعى عتق نظر في ما أداه من كتابته، فإن كان بقدر قيمته، ففي وجوب

غرمها على الشهود وجهان: أحدهما: لا غرم عليهم، لأن السيد قد وصل إلى القيمة من مكاتبه فصار كوصوله إلى المهر من خلع زوجته. والثاني: يرجع عليهم بغرم قيمته وإن وصل غليها من مكاتبه، لأن أداها من اكتتابه التي قد كان يملكها بغير كتابة، وبهذا خالف ما أدته المرأة في الخلع، لأن المؤدي، لا يملكه الزوج إلا بالخلع. وإن كان ما أداه المكاتب فيعتق به أقل من قيمته، رجع السيد على الشهود بالباقي من قيمته، وفي رجوعه عليهم بما أداه المكاتب وجهان تعليلاً بما قدمناه فيها. فإن شهدوا بإبراء مكاتبة ما مال كتابته فحكم عليه بعتقه، ثم رجع الشهود غرموا له أقل الأمرين من قيمته أو مال كتابته، لأن القيمة إذا كانت أقل، فليس بأغلظ من العبد القن، فلا يلزمه أكثر منها، وإن كان مال الكتابة أقل، فليس له على المكاتب أكثر منه فلم يرجع بالزيادة والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "وإن كان في دار فأخرجت من يديه إلى غيره غرروا على شهادة الزور ولم يعاقبوا على الخطأ ولم أغرمهم من قبل أني جعلتهم عدولاً بالأول فأمضينا بهم الحكم ولم يكونوا عدولاً بالآخر فترد الدار ولم يفيؤوا شيئاً لا يؤخذ ولم يأخذوا شيئاً لأنفسهم فأنتزعه منهم وهم كمبتدئين شهادة لا تقبل منهم فلا أغرمهم ما أقروه في أيدي غيرهم ". قال في الحاوي: وهذه المسألة هي القسم الثالث في رجوعهم عما اختص بالأموال، وهو ضربان: عين ودين. فأما العين فكالدار والدابة إذا كان في يد رجل يتصرف فيها تصرف المالكين الحائزين، فشهد الشهود بها لغيره فانتزعها الحاكم من يده بشهادتهم وسلمها إلى المشهود له، ثم رجع الشهود، لم يجز أن ينتزعها من المشهود له النفوذ الحكم بها. والحكم لا ينقضي برجوعهم. فأما وجوب غرمها على الشهود، فالذي نص عليه الشافعي فيها وذكره هنا في غيره من الكتب لا رجع على الشهود بغرمها. وقال فيمن اقر بدار في يده أنه غصبها من زيد ثم قال: لا بل غصبتها من عمرو: إنها تكون لزيد لتقدم الإقرار بها له، وهل يجب قيمتها لعمرو أم لا؟ على قولين: وكذا قال في عبد أعتقه من هو في يده ثم أقر بغصبه من عمرو، هل يغرم

قيمته لعمرو أم لا؟ على القولين. ورجوع الشهود كرجوع المقر بالغصب فاختلف أصحابنا في الجمع بينهما على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج وطائفة: أنهما سيان، وفي غرم الشهود إذا رجعوا قولان: أحدهما: عليهم غرم قيمة العين، وهو المخرج، وبه قال أبو حنيفة لاستهلاكهما على مالكها حكماً، فصار كاستهلاكها عليه، فعلى هذا في قيمتها وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج عليهم قيمتها يوم الحكم بشهادتهم. والوجه الثاني: عليهم أكثر قيمتها من اليوم الحكم بشهادتهم إلى وقت رجوعهم فهذا حكم القول الأول. والقول الثاني: وهو المنصوص عليه: لا غرم عليهم، لأن الأعيان تضمن بواحد من أمرين: إما بإتلاف أو بيد، ولم يكن من الشهود إتلاف العين لبقائها، ولا يد لعدم تصرفهم فيها، فسقط غرمها عنهم. والوجه الثاني: من مذهب أصحابنا: وهو قول أكثرهم، أنه لا غرم على الشهود قولاً واحداً. وإن كان في غرم المقر بالغصب قولان لوقوع الفرق بينهما بأن للغاصب يداً صار بها ضامناً، وليس للشهود يد يضمنون بها فافترق حكمها. فصل: فأما الذين إذا شهدوا به على رجل أن عليه لزيد ألف درهم من قرض أو غصب فألزمه الحاكم دفعها إليه بشهادتهم فدفعها، ثم رجعوا عن شهادتهم، وللدين المقبوض حالتان: أحداهما: أن يكون قد استهلكه المشهود له، فعلى الشهود غرمه لتلف العين بالاستهلاك، ولا يجوز للشهود أن يرجعوا به على المشهود له إذا غرموا، ولا تسمع دعواهم عليه لما سبق من اعترافهم له بالحق. والثانية: أن يكون الدين المقبوض باقياً في يد المشهود له، فقد اختلف أصحابنا هل يكون في حكم الدين أم في حكم العين؟ على وجهين: أحدهما: أن يكون في حكم العين لبقاء عينه، ولا يرجع على الشهود بغرمه على الصحيح من المذهب. والثاني: أن يكون في حكم المستهلك من الدين لتعلقه بالذمة فيرجع على الشهود بغرمه. فصل: وإذا ثبت الرجوع على الشهود بغرم الدين، لم يخل رجوعهم من أن يكون

من جميعهم أو بعضهم. فإن رجعوا جميعاً وكانوا شاهدين كان على كل واحد منهما نصف الدين، وإن كانوا شاهداً وامرأتين، كان على الرجع نصف الدين، لأنه نصف البينة، وكان على كل واحدة من المرأتين ربع الدين لأنها ربع البينة. ولو كان المشهود ثلاثة رجال، كان على كل واحدٍ منهم ثلث الدين، لأنه ثلث البينة ولو كانوا عشرة كل على كل واحد منهم عشر الدين، لأنه عشر البينة. ولو كانوا رجلاً وعشر نسوة، كان على الرجل سدس الدين وعلى كل واحدة من النسوة نصف السدس الدين، وبه قال أبو حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: على الرجل نصف الدين، لأنه نصف البينة وعلى كل واحدة من النساء نصف عشر، لأنها نصف عشر البينة وبه قال أبو العباس بن سريج. وهذا خطأ، لأن كل امرأتين تقومان مقام الرجل، فصار النساء العشر كخمسة رجال، فإذا اقترن بهم رجل صاروا معه كستة رجال، يلزم كل واحد منهم سدس الدين، فاقتضى أن يلزم الرجل السدس الدين ويلزم كل امرأتين بسدسه، فتختص كل واحد بنصفه. وإن رجع بعض الشهود دون جميعهم، فعلى ثلاثة أضرب: أحدهما: أن لا يزيدوا على عدد البينة، ويكونوا رجلين فيرجع أحدهما، فعليه نصف الدين، لأنه نصف البينة، وإن كانوا رجلاً وامرأتين ولو رجعت واحدة من المرأتين، فعليها ربع الدين، لأنها ربع البينة. والثاني: أن لا يزيدوا على عدد البينة، ويرجع من زاد عليها كأربعة رجال يرجع منهم اثنان، ففي الرجوع على الراجعين وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج: لا رجوع عليهما لكمال البينة بغيرهما. والثاني: وهو قول المزني حكاه عنه أصحابه: يرجع عليهما، لأن الحق لم يتعين بشهادة غيرهما فلزمهما نصف الدين، لأنهما نصف البينة. فلو شهدت مع الأربعة امرأة واحدة ثم رجعت المرأة من الرجلين فلا شيء على المرأة لأنها إذا انفردت لم يدخل في جملة البينة. والثالث: أن يزيدوا على عدد البينة ويرجع الزائد على البينة وبعض البينة كالثلاثة إذا رجع منهم اثنان وجب الرجوع عليهما وفي قدره وجهان: أحدهما: يرجع عليهما بنصف الدين، لأنه قد بقي نصف البينة وهذا على الوجه الذي يسقط الرجوع عليهم إذا بقي بعدهم عدد البينة، وهو قول أبي عباس بن سريج. والثاني: أن يرجع عليهما بثلثي الدين، لأنهما ثلثا البينة، وهذا على الوجه الذي يوجب الرجوع عليهم إذا بقي بعدهم عدد البينة، وهو قول أبي إبراهيم المزني.

فلو كانوا رجلين وامرأتين فرجع منهم رجل وامرأة، ففي قدر الرجوع عليهم وجهان: أحدهما: يرجع عليهما بربع الدين، لأنه قد بقي بالرجل والمرأة ثلاثة أرباع البينة، ويتحمل الرجل من الرجع ثلثيه وهو سدس الدين وتتحمل المرأة ثلثه وهو السدس من الدين، وهو قياس ابن سريج. والثاني: أن يرجع عليها بنصف الدين، لأنها نصف البينة، فيتحمل الرجل ثلثي النصف وهو ثلث الدين، وتتحمل المرأة ثلثه، وهو سدس الدين، وهو قياس قول المزني. فصل: وإذا ادعى رجل على رجل مالاً يشهد له شاهد بمائة درهم، وشهد له شاهدتان بمائتي درهم، وشهد له شاهد ثالث بثلاثمائة درهم، وشهد له رابع بأربعمائة درهم، فقد قامت البينة على المشهود عليه بثلاثمائة درهم، لأن المائة الرابع شهد بها شاهد واحد فلم تثبت، فإن رجع الشهود الأربعة بعد الغرم، رجع المشهود عليه بما غرمه وهو ثلاثمائة، ويختلف قدر ما يرجع به على كل واحد منهم باختلاف ما شهدوا به فالمائة الأولى قد شهد بها الأربعة، فيكون على كل واحد منهم ربعها وهو خمس وعشرون درهماً، والمائة الثانية قد شهد بها ثلاثة سوى الأول، فيكون لكل واحد منهم ثلثه ثلاثة وثلاثون درهماً وثلث درهم، والمائة الثالثة قد شهد بها اثنان سوى الأول والثاني، فيكون على كل واحد منها نصفها، خمسون درهماً، فيصير الجميع ثلاثمائة درهم. على الأول منها خمسة وعشرون درهماً، وعلى الثاني منها ثمانية وخمسون درهماً وثلث، وعلى الثالثة مائة وثمانية وثلث وعلى الرابع مائة وثمانية وثلث. فصل: وإذا شهد ثلاثة على رجل بثلاثين درهماً ثم رجعٍ أحدهم عن عشرة دراهم، ورجع ثان عن عشرين درهماً، ورجع الثالث عن ثلاثين درهماً، فللمشهود عليه إذا غرم الثلاثين أن يرجع منها بعشرين، لأن العشرة الثانية قد بقي منها بعد الراجع شاهدان، فتكون العشرة الأولى عليهم أثلاثاً، لأنه قد رجع عنها الثلاثة فيلزم كل واحد منهم ثلاثة دراهم وثلث درهم. والعشرة الثانية قد رجع عنها اثنان، فهي عليهما نصفان، على كل واحد منهما خمسة دراهم، يصير الجميع عشرين درهماً، منها على الراجع عن العشرة ثلاثة دراهم وثلث، وعلى الراجع من العشرين ثمانية دراهم وثلث، وعلى الراجع عن الثلاثين ثمانية دراهم وثلث. فأما العشرة الرابعة فلا رجوع عنها بشيء على أصح الوجهين: وعلى الوجه الثاني: يرجع على الراجع عنها بثلثها وهي ثلاثة دراهم وثلث. والعشرة الثانية: تثبت بثلاثة ورجع عليها اثنان، فعلى أحد الوجهين يلزمهما نصفها لأنه

باب علم الحاكم بحال من قضى بشهادته

بقي شاهد واحد، وعلى الوجه الثاني: ثلثاها، فأما جميعها فلا. فصل: فإذا ثبت الرجوع على الشهود بغرم الدين الذي رجعوا عنه على ما وصفنا من التقرير والتفريج، فلا فرق في الرجوع بين عمدهم وخطئهم بخلاف الدماء، لأن ضمان الأموال يستوي فيه العمد والخطأ والدماء يفترق فيها حكم العمد، والخطأ، ويفسقون فيها بالعمد دون الخطأ ويعزرون في عمد الأموال وعمد الدماء إذا لم يجب فيها القود فإن وجب فيها القود فأقيدوا في نفس أو طرف، سقط التعزير لدخوله على القود فإن عدل ولي الدم فيه عن القود إلى الدية ففي تعزير الشهود وجهان: أحدهما: لا تعزير عليهما، لأن الدية تدل على القود الذي يسقط به التعزير. والثاني: يعزرون، لأن التعزير ثابت يختص بالأبدان. باب علم الحاكم بحال من قضى بشهادته مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "وإذا علم القاضي أنه قضى بشهادة عبدين أو مشركين أو غير عدلين من جرحٍ بين أو أحدهما رد الحكم على نفسه ورده عليه غيره ". قال في الحاوي: قد مضي القول في أن شهادة العبد والكافر غير مقبولة بما قدمناه من الدليل، فإذا ثبت حكم الحاكم بشهادة شاهدين في حد أو قصاص، أو عتق، أو طلاق، أو ملك، أو مال، ثم بان له بعد نفوذ حكمه بهما، أنهما عبدان أو أحدهما أو كافران أو أحدهما بعد والآخر كافر، فإن الحكم بشهادتهما مردود، لأنه حكم بشهادة من لا يجوز له الحكم بها فصار كحكمه بها مع علمه وجرى مجرى من حكم بالاجتهاد ثم بان له مخالفة النص، كان حكمه مردوداً قبل الحكم وبعده. فإن قيل: فقد اختلف في شهادة العبد، فأجازها سريج والنخعي، وداود وأجاز أبو حنيفة شهادة الكافرين موضع، واختلاف فيها دليل على جواز الاجتهاد فيها، ولا يجوز أن ينقضي بالاجتهاد حكماً نفذ بالاجتهاد. قيل: قد اختلف فيما ردت به شهادة العبد على ثلاثة مذاهب: أحدهما: بظاهر نص لم يدفعه دليل، فصار كالدليل، وهو قوله تعالى: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وليس العبد ممن يرضى. فعلى هذا يكون الحكم بشهادته مخالفاً للنص فكان مردوداً. والثاني: أنها مردودة بقياس على الشواهد غير محتمل، انعقد عليه إجماع

المتأخرين بعد شذوذ الخلاف من المتقدمين، فصار مردوداً بإجماع انعقد على قياس جلي. والثالث: انها ردت باجتهاد ظاهر الشواهد فلم يجز أن ينقض باجتهاد خفي الشواهد، لأن الأقوى أمضى من الأضعف، وإنما يتعارضان إذا تساويا في القوة والضعف، على أن الاجتهاد لم يكن في الحكم بشهادته، وإنما حكم بها، لأنه لم يعلم انه عبدتم علم بعبوديته قطعاً فوجب أن يقضي بعلمه على ما اشتبه وأشكل. فثبت أن الحكم بشهادة العبد والكافر مردود، وقد وافق عليه أبو حنيفة، ومالك، وجمهور الفقهاء. فصل: فإذا ثبت أن الحكم بها مردود، فقد أختلف أصحابنا، هل يقع باطلاً لا يفتقر إلى الحكم بنقضه، أو يكون موقوفاً على وجوب الحكم بنقضه؟ بحسب اختلافهم في المانع من الحكم به. فمن جعل دليل رده نصاً أو إجماعاً، جعله باطلاً لا يفتقر إلى الحكم بنقضه، لكن على الحاكم أن يظهر بطلانه لما قدمه من ظهور نفوذه. ومن جعل ردة قوة الاجتهاد في شواهده، جعله موقوفاً على وجوب الحكم لا ينقضه لأن غيره شواهده معلومة بالاجتهاد فصار موقوفاً على الحكم بنقضه وهذا هو الظاهر من مذهب الشافعي رضي الله عنه لأن قال من بعد: ورد شهادة العبد إنما هو بتأويل. وليس بتحريف السجل نقضاً للحكم حتى ينقضه بالحكم قولاً، ووجب عليه أن يسجل بالنقض كما أسجل بالحكم ليكون السجل الثاني مبطلاً للسجل الأول، كما صار الحكم الثاني ناقصاً للحكم الأول، فإذا لم يكن قد أسجل الحكم لم يلزمه الإسجال بالنقض، وإن كان الإسجال به أولى. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "بل القاضي بشهادة الفاسق أبين خطأ منه بشهادة العبد وذلك أن الله جل ثناؤه قال: {وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: 2] وقال: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} [البقرة: 282] وليس الفاسق بواحدٍ من هذين فمن قضى بشهادته فقد خالف حكم الله ورد شهادة العبد إنما هو تأويل وقال في موضع آخر إن طلب الخصم الجرحة أجله بالمصر وما قاربه فإن لم يجئ بها أنفذ الحكم عليه ثم إن جرحهم بعد لم يرد عنه الحكم. قال المزني: قياس قوله الأول أن يقبل الشهود العدول

أنهما فاسقان كما يقبل أنهما عبدان ومشركان ويرد الحكم ". قال في الحاوي: أعلم أنه لا خلاف في شهادة الفاسق بالنص، فإذا حكم شهادة شاهدين ثم بأن له فسقهما، فإن كان الفاسق طارئاً أمضى الحكم بشهادتهما فهو على صحته ونفاذه. وإن كان الفاسق متقدماً قبل إمضاء الحكم بشهادتهما، فمذهب الشافعي المنصوص عليه في جميع كتبه، أن الحكم بشهادتهما مردود وأن الفسق أسوأ حالاً من الرق، لأن خبر العبد مقبول وخبر الفاسق مردود. ونقل المزني في هذا الموضوع عن الشافعي: أن الحاكم إذا أطرد المشهود عليه جرح الشهود مدة إطراده، فلم يأت بالجرح، فأمضى الحكم عليه بشهادتهما، ثم أتى بعد إمضاء الحكم ببينة الجرح ثم كان حكمه عليه ماضياً، وظاهر هذا أنه قول بأن الحكم لا ينقضي بشهادة الفاسق. واختلف أصحابنا في صحة تخريجه: فمذهب المزني وأبو العباس سريج تخريجه قولاً ثانياً، وجعلوا نقض الحكم بشهادة الفاسق على قولين: أحدهما: ينقضه، وهو النص: والثاني: لا ينقضه، وهو المخرج وبه قال أبو حنيفة. وذهب أبو إسحاق المروزي وجمهور أصحاب الشافعي إلى المنع من تخريجه قولاً ثانياً وأنه لا يجب على مذهب الشافعي إلا ما نص عليه وصرح به من نقض الحكم بشهادته قولاً واحداً. فأجابوا عما نقله المزني، فيمن أطرده الحاكم بجرح شهوده فأحضره بينة الجرح بعد انقضاء زمانه ونفوذ حكمه بجوابين: أحدهما: أنه لم ينقضه، لأن الخصم أقام بينة بفسق الشهود مطلقاً، ولم يشهدوا بفسق الشهود قبل الحكم، فلم ينقضه لجواز حدوثه بعد نفوذ الحكم بها حتى يعينوا أنه كان فاسقاً قبل الشهادة أو بعدها وقبل نفوذ الحكم بها فينقضها. والثاني: أنه محمول على أن الخصم عجز عن بينة الجرح عند اطراده فحكم عليه، ثم عاد يسأل الحاكم إطراده ثانية، ولا يجوز أن يطرده الجرح بعد إبطال الإطراد، لأن الإطراد يوجب نقض الحكم عليه، والحكم قد نفذ، فلا يجوز ان يعاد إلى الوقف على الإطراد. فإن بان للحاكم الفسق من غير إطراد الخصم، بأن قامت عنده البينة بأنه شرب خمراً أو قذف محصناً قبل شهادته، نقض الحكم بها، فبان أن مذهب الشافعي رحمه الله نقض الحكم بشهادة الفاسق من غير أن يختلف قوله فيه كما ينقضه بشهادة العبد والكافر. وقال أبو حنيفة: لا ينقض الحكم بشهادة الفاسق، وإن نقضه بشهادة العبد والكافر استدلالاً بأن الرق والكفر مقطوع بهما والفسق مجتهد فيه، فجاز نقض بالمقطوع به كما

ينقضي بمخالفة النص، ولم يجز أن ينقضي بمجتهد فيه، لأن الحكم إذا نفذ بالاجتهاد لم ينقض بالاجتهاد. والدليل على نقص الحكم بفسقه كما ينقض برقه شيئان: أحدهما: أن اشتراط العدالة نص، واشتراط الحرية اجتهاد، فإن نقض الحكم بمخالفة المشروط بالنص لاجتهاد، كان أولى أن ينقض لمخالفة المشروط بالنص. والثاني: أن العبد مقبول الخبر، والفاسق مردود الخبر، والشهادة كالخبر، فلما نقص الحكم بشهادة من يقبل خبره، كان أولى أن ينقض بشهادة من يرد خبره. وأما الجواب عن قوله: إن الرق مقطوع به والفسق مجتهد فيه، فهو أنهما إذا صار معلومين، صار الرد بالفسق مقطوعاً به، والرد بالرق مجتهداً فيه فكان العكس أحق. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا أنفذ القاضي بشهادتهما قطعاً ثم بان له ذلك لم يكن عليهما شيء لأنهما صادقان في الظاهر وكان عليه أن لا يقبل منهما فهذا خطأ نحمله عاقلته ". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا وجب نقض الحكم برد الشهادة غما لفسق أو لرق أو كفر، فسواء. ولا يخلو الحكم من أن يفضي إلى استهلاك أو لا يفضي. فإن لم يفض إلى استهلاك لم يتعلق بنقضه ضمان، وكان نقضه معتبراً بالحكم فإن كان عقد نكاح عقد بشهادتين فبان عبدين، أو كافرين، أو فاسقين افتقر إلى حكم الحاكم بنقضه، لأن مالكاً يجيز عقد النكاح بغير شهود إذا أعلن. وإن كان في إتيان نكاح اختلف فيه الزوجان، فإن بان فسق الشاهدين حكم بنقضه ولم ينقض بظهور فسقهما إلا أن يحكم به لخلاف أبي حنيفة فيه وفرق بين الزوجين فيه بعد يمين الزوجة المنكرة. وإن بان كفر الشاهدين أظهر نقض الحكم ولم يفتقر نقضه إلى حكم لوقوفه منتقضاً لرد شهادتهما بالنص المجتمع عليه. وإن كان رق الشاهدين، فهل يفتقر نقضه إلى الحكم به أم لا؟ على وجهين مبينين على الاختلاف في شهادته هل ردت بظاهر نص، أو إجماع عن ظاهر اجتهاد ظاهر أو على ما قدمنا. وهكذا في كل حكم نفذ بشهادتهم يكون الحكم بنقضه معتبراً بأحوال شهوده في اختلافهم في الوجوه الثلاثة في الرق والكفر والفسق فيحتاج إلى الحكم بنقضه في الفسق، ولا يحتاج إلى الحكم بنقضه في الكفر، وفي احتياجه إلى الحكم لنفسه بنقضه في الرق وجهان.

وإن كانت الشهادة بنقضه في طلاق فرق بين الزوجين، وقع ما أوقعه من الطلاق وجمع بين الزوجين بعد يمين الزوج المنكر. وإن كانت الشهادة في عتق أنفذ بها حرية العبد، حكم برقة وبقائه على ملك سيده ويملك اكتتابه بعد يمين السيد في إنكار عتقه. وإن كانت الشهادة على نقل ملك من دار أو عقار، حكم بإعادته على المشهود عليه مع أجرة مثله بعد يمينه على إنكاره، فإن طلب إعادة الدار إلي يده ليحلف بعد ردها عليه، وجب على الحاكم أن يرفع عنها يد المشهود له، لبطلان بينته ولا يأمر بردها على المشهود عليه، لأن أمره بالرد حكم له بالاستحقاق ولا يمينه منهما، لأنه منعه حكم عليه بإبطال الاستحقاق، ويخلى بينه وبينهما من غير حكم بات، وهذا بخلاف الطلاق والعتق الذي لا يجوز التمكين منهما إلا بعد اليمين لما فيها من حقوق الله تعالى. وإن كانت الشهادة في دين حكم بقضائه، فإن كان ماله بعد قضائه باقيًا في يد المشهود له، فأخذ برد مثله، فإن أعسر به أقرضه الحاكم عليه من بيت المال ليكون دينًا عليه في ذمته يؤديه إذا أيسر به ويدفعه إلي المشهود عليه بدلًا من المأخوذ منه. فصل: فأما إذا كان الحكم مفضيًا إلي الاستهلاك والإتلاف، كالقصاص في نفس أو طرف، فهو موجب لضمان الدية دون القود، لأنه خرج عن حكم العمد إلي الخطأ والحكم به ثم الشهود والحاكم والمشهود له، فأما الشهود فلا ضمان عليهم لظهور رقهم، فلا يمنع وجود ذلك فيهم من أن يكونوا صادقين في شهادتهم، وخالف حال المشهود إذا رجعوا لاعترافهم بكذبهم، فلذلك ضمنوا بالرجوع، ولم يضمنوا بالفسق والرق، وأما المشهود له فلا ضمان عليه، لأنه يمنع الفسق شهوده من استحقاقه لما شهدوا به. وإذا سقط الضمان عن هؤلاء، وجب الضمان على الحاكم. وقال أبو حنيفة: إن الضمان على المزكين للشهود عند الحاكم دون الحاكم، لأنهم ألجاؤه إلي الحكم بهذه الشهادة. وهذا فاسد، لأن المزكين شهدوا بالعدالة دون القتل، فلم يجز أن يضمنوا ما الم يشهدوا به من القتل ووجب الضمان على من حكم بالقتل، لأنه قد تعين منه في فعله. وإذا كان كذلك وجب ضمان الدية على الحاكم، سواء تقدم بالقصاص إلي ولي الدم أو إلي غيره. وقال أبو سعيد الإصطخري: إن تقدم به الحاكم إلي ولي الدم كان ضمان الدية على الولي، وإن تقدم به إلي غيره كان الضمان على الحاكم. وهذا خطأ من وجهين: أحدهما: أنه عن أمره في الحالين. والثاني: أنه لما لم يضمنه مباشرة إذا كان ولي الدم مع عدم استحقاقه، فأولى أن

باب الشهادة في الوصية

لا يضمنه وليه مع جواز استحقاقه. فإذا تقرر ضمان الدية على الحاكم لم يضمنهما في ماله، وفي محل ضمانها وجهان: أحدهما: على عاقلته، لأنها دية خطأ به وتكون كفارة القتل في ماله. والثاني: يضمنها في بيت مال المسلمين لنيابته عنهم، وفي الكفارة على هذا وجهان: أحدهما: في بيت المال كالدية. والثاني: في ماله، لأن الكفارة مختصة بالمكفر، والله أعلم بالصواب. باب الشهادة في الوصية مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولو شهد أجبنيان لعبِد أن فلانًا المتوفى أعتقه وهو الثلث في وصيته وشهد وارثان لعبد غيره أنه أعتقه وهو الثلث في الاثنين فسواٌء ويعتق من كل واحٍد منهما نصفه. قال المزني قياس قوله أن يقرع بينهما وقد قاله في غير هذا الباب". قال في الحاوي: واختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة هل هي في العتق الناجز في المرضى، أو الوصية بالعتق بعد الموت؟ وكلام الشافعي يحتمل كلا الأمرين، لأنه قال: لو شهد أجنبيان أن أعتقه وهو الثلث في وصيته، ويشهد وارثان لعبد غيره أنه اعتقد وهو الثلث في وصيته، فلهم في مراد الشافعي تأويلان تختلف أحكامها باختلاف المراد بها: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج، وأبي إسحاق المروزي، وأبي علي بن أبي هريرة أنها مقصورة في الوصية بالعتق بعد الموت. فيشهد أجنبيان أن المتوفى وصى بعتق عبده سالم بعد الموت وهو ثلث. ويشهد وارثان أنه وصى بعتق عبده غانم وهو الثلث، فعبر عن العتق بالوصية، لأنها وصية بالعتق. فتقبل شهادة الوارثين كما تقبل شهادة الأجنبيين، لأنهما لا يجران بهما نفعًا ولا يدفعان بها ضررًا، فصار بالشهادتين موجبًا بعتق عبدين قيمة كل واحد منهما ثلث التركة، وسواء كانت الوصية بعتقهما في الصحة أو في المرض أو أحدهما في الصحة والآخر في المرض، لاستواء الوصايا في الصحة والمرض والمتقدم والمتأخر وإذا كان كذلك فهو على ضربين: أحدهما: أن تكون في الوصية بعتقها دليل على تبعيض العتق كأنه قال: أعتقوا

سالمًا إن احتمله الثلث، وإلا فأعتقوا منه قدر ما احتمله، وأعتقوا غانمًا إن احتملوا الثلث، وإلا فأعتقوا منه قدر ما يخرج منه، فإذا كانت قيمة كل واحد منهما سواء صار كأنه قد وصى بعتق النصف من كل واحد منهما، فما هنا يعتق من كل واحد منهما نصفه ولا يقرع بينهما لأن من أوصى بعتق النصف من كل واحد من عبدين عتق من كل واحد منهما نصفه ولم يكمل العتق في أحدهما بالقرعة كذلك ها هنا. فإن أراد المزني القرعة بينهما في هذا الموضع كان خطأ منه لما بيناه، والجواب عنه متفق عليه. والثاني: أن تكون الوصية بعتقها مطلقة، ليس فيها ما يدل على تبعيض العتق في كل واحد منهما فيكون كالموصى بعتقهما معًا، والثلث لا يحتملها لأنه لا فرق في الوصية بعتقهما بين الجمع والتفريق، فوجب أن يقرع بينهما ليكمل العتق في أحدهما كما أقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين ستة أعبد أعتقوا في المرض فأعتق منهم اثنين وأرق أربعة، لأنه لا يجوز أن يعتقا معًا مع زيادتهما على الثلث الذي منع الشرع منه إلا بإجازة الورثة، ولا يجوز أن يقصد عتق أحدهما من غير قرعة لأنه لا مزية لأحدهما على الآخر، ولا يجوز تبعيض العتق فيهما، لأن المقصود من العتق تكميل المنافع بالحرية، ولذلك إذا أعتق شركًا له في عبد، قوم عليه باقية لتكميل منافعه بعتق جميعه. فلم تبق امتناع هذه الوجوه إلا دخول القرعة بينهما، لتكميل العتق فيمن قرع منهما. فإن استوت قيمة العبدين وكان قيمة كل واحد منهما ثلث التركة فأيهما قرع عتق جميعه ورق الآخر، وإن اختلفت قيمة العبدين فكانت قيمة ثلث التركة وقيمة الآخر سدسها، فإن قرع من قيمته الثلث عتق جميعه ورق من قيمته السدس عتق جميعه ونصف الآخر ورق باقية. وإن أراد المزني الإقراع بينهما في هذا الموضع فقد أصاب في الجواب، وأخطأ في العبارة، لأنه مذهب الشافعي وليس بمقيس على مذهب، فكان الأصح في عبارته أن يقول: هذا مقتضى قوله، ولا يقول: هذا قياس قوله: "وإن كان الخطأ في العبارة مع الصواب في المعنى مغفورًا"، فإنما أراد الشافعي بقوله: [عتق] من كل واحد منهما نصفه، يعني في الحكم، ويكمل في أحدهما بالقرعة، تعويلًا على ما أبانه من مذهب في غير هذا الموضع. وهذا الجواب متفق عليه إذا ثبتت عدالة الوارثين وعدالة الأجنبيين، فإن ثبتت عدالة الوارثين وفسق الأجنبيين بطلت الوصية بعتق من شهد بها الأجنبيان، ورق جميعه. وصحت بعتق من شهد بها الوارثان وعتق جميعه. وإن ثبتت عدالة الأجنبيين وفسق الوارثين، بطلت الوصية بعتق من شهد له الوارثان ورق جميعه، وصحت بعتق من شهد له أجنبيان وعتق جميعه ولا يلزمها بالإقرار بعد رد الشهادة أن يعتق من شهدا له بالوصية، لأنه لا ينفذ العتق بالوصية حتى يعتق بعد الوصية، وليس يلزم أن يعتق بالوصية إلا من احتمله الثلث، وقد استوعب الثلث يعتق من شهد له الأجنبيان فبطلت في غيره وإن أقر بها الوارثان.

فصل: والثاني من تأويل أصحابنا: أن المسألة مصورة في عتق ناجز في حياة المعتق. فشهد أجنبيان أنه أعتق عبده سالمًا وهو الثلث، ويشهد وارثان أنه أعتق عبده غانمًا، وهو الثلث، وقولهم: وفيه أي في المرض الذي يكون العتق فيه معتبرًا بالثلث كالوصية، فعبر عن المرض بالوصية، لأنه العتق لو كان في الصحة لأوجبت الشهادتان عتق العبدين، وإن زادا على الثلث، لأن عطايا الصحة لا تعتبر بالثلث فإذا كان كذلك فالشهادتان على ثلاثة أضرب: أحدها: أن يدل على ما تقدم عتق أحدهما على الآخر فيتحدد بها عتق المتقدم ورق المتأخر إذا تساويا في تقويم كل واحد منهما بالثلث ولا يقرع بينهما لتحري العتق المتقدم المزيل للإشكال، فامتنعت فيه القرعة المستعملة مع الإشكال فإن أراد المزني للإقراع بينهما في هذا الموضع فقد أخطأ لما بيناه. والثاني: أن تدل الشهادتان على وقوع عتقهما في حالة واحدة، وهذا يكون في تعليق عتقهما بصفة واحدة، كقوله: إذا أهل رمضان فسالم حر، وإذا أهل رمضان فغانم حر فإن أهل رمضان عتقا واستوي في عتقهما حكم الجمع والتفريق. فيجب الإقراع بينهما لامتناع عتقهما معًا، وأعتق منهما من قرع ورق الآخر. وإن أراد المزني بالقرعة بينهما في هذا الموضع فقد أصاب في الحكم وإن أخطأ في العبارة، والجواب في هذين الضربين متفق عليه. والثالث: أن تدل الشهادتان على تقدم عتق أحدهما على الآخر ولا يكون فيها بيان المتقدم والمتأخر، ففيه قولان: أحدهما: يقرع بينهما ويعتق من قرع منهما. نص عليه الشافعي في كتاب "الأم". ويكون المزني في هذا القول مصيبًا في اعتراضه، وإنما استعملت القرعة بينهما، لامتناع الجميع بينهما وعدم المزية في أحدهما، فكان تكميل الحرية في أحدهما أولى من تبعيضها فيهما. والثاني: وهو المنصوص عليه في هذا الموضع، أن يعتق من كل واحد منهما نصفه، ولا يقرع بينهما، لأنه ربما عتق بالقرعة مستحق الرق لتأخره ورق بها مستحق العتق لتقدمه فإذا عتق نصفهما، عتق نصف المتقدم وعتقه مستحق، ورق نصف المتأخر ورقه مستحق، فصارت أقرب إلي الاستحقاق من الإقراع. ويكون المزني على هذا القول مخطئًا في اعتراضه. فصل: ويتفرع عن هذين القولين: إذا اختلفت قيمة العبدية فكانت قيمة أحدهما الثلث وقيمة الآخر السدس، فإن قيل بالقول الأول أنه يقرع بينهما، نظر في القارع من هذين،

فإن كان صاحب الثلث عتق جميعه ورق جميع الآخر، وإن كان القارع منها صاحب السدس عتق جميعه، ونصف الآخر ورق باقية. وإن قيل بالثاني: أنه يعتق النصف من كل واحد منهما إذا تساويا عتق من كل واحد من هذين ثلثاه، لأن ثلثي الثلث وثلثي السدي، ثلث جميع المال، ويصح من ثمانية عشر سهمًا هي مخرج "ثلثي السدس" ثلثا ثلثها أربعة، وثلثا سدسهما سهمان، وهي مع الأربعة ستة، وهي ثلث جميع المال المشتمل على ثمانية عشر سهمًا. فصل: فإذا تقرر ما ذكرنا من جواز الشهادة بالعتق الناجز عن الإضراب الثلاثة فهو إذا ثبتت عدالة الأجنبيين وعدالة الوارثين. فإن ثبتت عدالة الوارثين وفسق الأجنبيين بطل عتق من شهد له الأجنبيان ورق جميعه، ونفذ عتق من شهد له الوارثان وتحرر جميعه. وإن ثبتت عدالة الأجنبيين وفسق الوارثين عتق جميع من شهد له الأجنبيان، فبطلت شهادة الوارثين وصارا بعد رد الشهادة مقرين وإقراراهما بالعتق الناجز مخالف لإقرارهما بالوصية بالعتق؛ لأن الإقرار بالعتق الناجز موجب لزوال الملك، والإقرار بالوصية بالعتق غير موجب لزوال الملك فلذلك لم يلزمها في الوصية بالعتق غير ما أجوبته الشهادة لدخوله في ميراثهما بعد إقرارهما ولزمها في العتق الناجز غير ما أوجبته الشهادة لإقرارهما بخروجه عن ميراثهما بعد إقرارهما وإذا كان كذلك لم يخل خالهما بعد أن صار برد الشهادة مقرين من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يصدقا الأجنبيين على شهادتهما، فيلزمهما بعد استيعاب الثلث بشهادة الأجنبيين ما كان يلزم في التركة لو أمضيت شهادتهما مع الأجنبيين ويختلف ذلك باختلاف الأضرب الثلاثة: فإن كان في الضرب الأول: أن تدل الشهادتان على تقدم عتق أحدهما على الآخر وتعيين المتقدم على المتأخر ينظر: فإن كان عتق المتأخر بشهادة الأجنبييين، عتق في التركة بشهادتهما وعتق المتقدم عن الوارثين بإقرارهما. وإن كان عتق المتقدم بشهادة الأجنبيي، عتق في التركة بشهادتهما ولم يعتق المتأخر على الوارثين مع إقرارهما، لأنه يرق ولو قبلت شهادتهما، لأن المستحق في الشهادتين عتق المتقدم دون المتأخر. وإذا كان ذلك في الضرب الثاني أن تدل الشهادتان على وقوع عتقهما معًا في حالة واحدة يقرع بينهما عتق في التركة من شهد بعتقه الأجنبيان، ولو يعتق على الوارثين من شهدا بعتقه، لأن شهادتهما لو قبلت لأوجبت الإقراع بين العبدين، ولو أقرع بينهما جاز

أن تقع القرعة على من شهد له الأجنبيان ويرق من شهد له الوارثان، فترددت حاله مع صحة الشهادتين بين الرق والعتق، فلم يلزم أن يتعين فيه العتق مع الرق. وإذا كان ذلك في الضرب الثالث: أن تدل الشهادتان على تقدم أحدهما على الآخر ويشكل المتقدم والمتأخر، وهو مبني على ما ذكرنا فيهما من القولين: فإن قيل: إنه يقرع بينهما مع صحة الشهادتين، لم يعتق على الوارثين من شهدا بعتقه وعتق في التركة من شهد الأجنبيان بعتقه، لأن دخول القرعة بينهما مع صحة الشهادتين لا توجب تعيين العتق في شهادة الوارثين. وإن قيل بالقول الثاني: إنه يعتق من كل واحد منهما نصفه مع صحة الشهادتين عتق في التركة جميع من شهد له الأجنبيان، وعتق على الوارثين نصف من شهدا له لأنه قد كان يعتق ونصفه مع صحة شهادتهما فوجب أن يعتق مع ردها بإقرارهما. والثانية: أن يقدح الوارثان في شهادة الأجنبيين بتكذيبهما، فيعتق جميع العبدين أحدهما بشهادة الأجنبيين والآخر بإقرار الوارثين في الأضرب الثلاثة، لأن الوارثين مقران أنه لم يعتق غير من شهدا بعتقه، فألزمناهما عتقه بإقرارهما، وقد شهد الأجنبيان بعتق غيره فأعتقناه بشهادتهما. والثالثة: أن يختلف الوارثان في تصديق الأجنبيين فيصدقهما أحد الوارثين ويكذبهما الآخر، فيلزم المصدق ما كان يلزمه مع أخيه لو صدق، ويلزم المكذب ما كان يلزمه مع أخيه لو كذب. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو شهد الوارثان أنه رجع عن عتق الأول أعتق الآخر أجزت شهادتهما وإنما أرد شهادتهما فيما جرا إلي أنفسهما فإذا لم يجرا فلا فأما الولاء فلا يملك ملك الأموال وقد لا يصير في أيديهما بالولاء شيٌء ولو أبطلتهما بأنهما يرثان الولاء إن مات لا وارث له غيرهما أبطلتها لذوي أرحامهما". قال في الحاوي: وهذه المسألة مصورة في الوصية بالعتق وفيها دليل على أن المراد بالأولى الوصية بالعتق. ولا يمنع ذلك أن يذكر حكم العتق الناجز والموصى به جميعًا. والزيادة في هذه المسألة أن يشهد أجنبيان أنه أوصى بعتق عبده سالمًا قيمته الثلث، ويشهد وارثان أنه رجع عن الوصية بعتق سالم وأوصى بعتق غانم ردت شهادتهما وإن كان عدلين، ولا ترد فيه شهادة الأجنبيين للحوق التهمة بالوارثين لعوده إلي ميراثهما. فأما إذا شهدا أنه رجع عن الوصية بعتق سالم أوصى بعتق غانم وهي في القيمة

سواء قبلت شهادتهما في الرجوع عن الوصية بعتق سالم وفي الوصية بعتق غانم. وزعم بعض العراقيين أنها تقبل في الوصية بعتق غانم ولا تقبل في الرجوع عن عتق سالم لأمرين: أحدهما: أنها لما ردت في الرجوع لو انفردت ردت فيه إذا اقترنت بغيره. والثاني: لدخول التهمة عليه من وجهين: أحدهما: أن يكون سالم أكثر كسبًا فيمتلكاه. والثاني: أن يكون غانم لا وارث له غيرهما فيرثاه، وهذا فاسد من وجهين: أحدهما: أنهما لو شهدا بالوصية ولم يشهدا بالرجوع صحت شهادتهما وتعين العتق بالقرعة في أحدهما، فجاز أن يتعين فيه بشهادتهما. والثاني: أن الواجب بالوصية إخراج الثلث من العتق، وشهادتهما بالرجوع لا يمنع منه، لأن تعيينه في أحدهما ينفي التهمة عنهما من وجهين: أحدهما: أن المعتبر هو القيمة وقد التزماها. والثاني: أن ما ظن بهما من طلب الكسب والميراث ليس بموجود في الحال وقد يكون من بعد وقد لا يكون. فلم يجز أن يعتبر به التهمة في الحال، وقال الشافعي: "لو أبطلت شهادتهما لذلك لأبطلتها لذوي أرحامهما". فصل: ويتفرع على هذا أن يشهد أجنبيان بعتق سالم وغانم وقيمة كل واحد منهما الثلث، ويشهد وارثان أنه رجع عن عتق سالم إلي عتق غانم، قبلت شهادتهما، لأن الواجب بالشهادة عتق أحدهما، فلما جاز تعيينه بالقرعة، جاز تعيينه بشهادة الورثة لانتفاء التهمة، وعتق غانم ورق سالم بغير قرعة، كما جاز أن يكون كذلك بالقرعة. ويتفرع على كل هذا، إذا شهد أجنبيان أنه أوصى بعتق سالم وهو الثلث، وشهد وارثان أنه رجع عن عتق سالم وأوصى بعتق غانم وهو الثلث، وشهد أجنبيان أنه رجع عن عتق أحدهما وأوصى بعتق نافع بطلت الوصية بعتق سالم بشهادة الوارثين، ولم تبطل في غانم بشهادة الأجنبيين، لأنهما أطلقا الرجوع ولم يعيناه في غانم وثبت بهما الوصية بعتق نافع، وقد ثبتت بشهادة الوارثين الوصية بعتق غانم وإبطال الوصية بعتق سالم، فيرق سالم، ويقرع بين غانم ونافع ويعتق منهما من قرع ويرق الآخر. فإن شهد الوارثان برجوعه عن عتق نافع، جاز وتعينت الوصية بعتق غانم. ولو شهد أجنبيان أنه أوصى بعتق سالم، وشهد وارثان أنه أوصى بعتق غانم، وشهد أجنبيان أنه رجع عن عتق أحدهما، لم يكن للشهادة بالرجوع تأثير، لأنه لو لم يرجع أقرع بينهما، والرجوع إذا لم يعين يقتضي الإقراع، فبطل تأثير الشهادة بالرجوع.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو شهد أجنبيين أنه أعتق عبدًا هو الثلث وصيًة وشهد وارثان أنه رجع فيه وأعتق عبدًا هو السدس عتق الأول بغير قرعٍة للجر إلي أنفسهما وأبطلت حقهما من الآخر بالإقرار". قال في الحاوي: قد مضى الكلام في قبول شهادة الورثة بالرجوع في الوصية إذا لم يتهما، وردها إذا اتهموا، وصورة مسألتنا هذه أن يشهد أجنبيان أنه أوصى بعتق سالم وقيمته الثلث، ويشهد وارثان أنه رجوع عن الوصية بعتق سالم وأعتق غانمًا وقيمته السدس، فقد صارا بشهادتهما متهمين، لأنهما جرا بها بسدس التركة إلي أنفسهما، فتوجهت التهمة إليهما في نصف الرجوع وهو السدس. وللشافعي في تبعيض الشهادة إذا ردت بالتهمة في بعض المشهود فيه، هل يوجب ردها في باقية؟ قولان: فاختلف أصحابنا في تخريج هذين القولين في هذا الموضع. فذهب أبو العباس بن سريج وجمهور البغداديين إلي أن تبعيض الشهادة في هذه المسألة على قولين: أحدهما: أنها ترد في الجميع ولا تبعيض على ما رضي عليه الشافعي في هذا الموضع، فعلى هذا تبطل شهادة الوارثين في كل الرجوع، ويعتق في التركة سالم بشهادة الأجنبيين وهو الثلث، ويعتق غانم على الوارثين بإقرارهما. والثاني: يبعض الشهادة ها هنا كما بعضها الشافعي رضي الله عنه في القذف على أحد القولين، فعلى هذا ترد شهادة الوارثين بالرجوع في نصف سالم"وتقبل في الرجوع بنصفه" ويعتق نصفه بالوصية بشهادة الأجنبيين، ويرق نصفه بشهادة الوارثين، ويعتق جميع غانم بشهادة الوارثين وقد استوعب ثلث التركة بالشهادتين. وذهب جمهور البصريين من أصحابنا إلي منع من تبعيض الشهادة في هذا الموضع، وإن كان تبعيضها في الشهادة بالقذف على قولين، وجعلوا الفرق بينهما معتبرًا بأن التهمة إذا توجهت إلي صفة الشاهد ردت، ولم يجز تبعيضها كالعدواة، وإذا توجهت إلي صفة المشهود فيه جاز تبعيضها على أحد القولين، والتهمة ها هنا في صفة الشاهد دون المشهود فيه، فردت جميعها ولم يبعض. ويتفرع على هذا، إذا شهد أجنبيان أنه أوصى بعتق عبد قيمة نصف التركة، وقبلت شهادة الوارثين في الرجوع عن الأول وفي عتق الثاني في الثلث وتنتفي عنهما التهمة في الرجوع بالزيادة لأنها مردودة الشرع، فقبلت شهادتهما في الرجوع بالكل.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو لم يقولا أنه رجع في الأول أقرعت بينهما حتى يستوطن الثلث وهو قول أكثر المفتين إن شهادة الأجنبيين والورثة سواءٌ ما لم يجر إلي أنفسهما". قال في الحاوي: وقد مضى الكلام في أن شهادة الورثة بالعتق والوصية مقبولة كالأجانب إذا لم يجروا بهما نفعًا، فإذا شهد الأجانب بعتق عبد قيمته الثلث، وشهد الورثة بعتق عبد قيمته السدس، ولم يقولوا: إنه رجع عن عتق صاحب الثلث، فالشهادتان ثابتتان بعتق عبدين يستوعبان نصف التركة، فيعتبر في تجرير العبد حال الشهادتين، فإنهما على أربعة أضرب: أحدهما: أن تكون شهادة الأجنبيين لصاحب الثلث بعتق بات في الحياة وشهادة الورثة لصاحب السدس بالوصية بعتقه بعد الوفاة فيستوعب الثلث بالعتق البات في صاحب الثلث، وتبطل الوصية بعتق صاحب السدس لتقدم الناجز في الحياة على الوصية بعد الوفاة. والثاني: أن يكون شهادة الأجنبيين لصاحب الثلث بالوصية بعتقه بعد الوفاة، وشهادة الوارثين لصاحب السدس بعتقه بات في الحياة فيعتق [جميع] صاحب السدس، ويعتق من صاحب الثلث نصفه استكمالًا للثلث، ويرق باقية وهو النصف. والثالث: أن يكون الشهادتان بالوصية بعتق العبدين بعد الوفاة، فيستوي فيهما من تقدمت فيه الوصية ومن تأخرت، وتقرع بينهما ليستوطن الثلث من قرع منهما، فإن قرع صاحب الثلث عتق جميعه ورق جميع الآخر، وإن قرع صاحب السدس، عتق جميعه وبعض صاحب الثلث استكمالًا للثلث، ورق باقية وهو نصفه. والرابع: أن تكون الشهادتان بالعتق البات في الحياة، فهو على ثلاثة أضرب: أحدهما: أن تدل الشهادتان على وقوع عتقهما في حالة واحدة فيقرع بينهما فيتحرر بالقرعة ليستكمل الثلث بعتق القارع ورق المقروع على ما بيناه. والثاني: أن تدل الشهادتان على عتق أحدهما قبل الآخر، ويعلم بها المتقدم من المتأخر فيستوطن الثلث بالأول، فإن كان الأول صاحب الثلث عتق جميعه ورق صاحب السدس، وإن كان الأول هو صاحب السدس، عتق جميعه ونصف صاحب الثلث، استكمالًا للثلث ويرق نصفه الباقي. والثالث: أن تدل الشهادتان على تقدم أحدهما على الآخر، ولا تدل على المتقدم من المتأخر، فقد ذكرنا فيها قولين: أحدهما: يقرع بينهما ليستوظف الثلث بعتق القارع ورق المقروع على ما بيناه. والثاني: أنه يعتق من كل واحد منهما يقدر ما احتمله الثلث بغير قرعة. فيعتق من

صاحب الثلث ثلاثة أرباعها، ويعتق من صاحب السدس ربعة. وبيانه: أن تنزلها تنزيلين: أحدهما: أن يكون الأول صاحب الثلث فيعتق حمعيه ويرق صاحب السدس كله. والثاني: أنه يكون الأول صاحب السدس فيعتق جميعه ونصف صاحب الثلث، فيتحرر في التنزيلين أنه عتق نصف صاحب الثلث يقينًا. وتعارض التنزيلان في صاحب السدس ونصف صاحب الثلث وهما في القيمة متساويان فاقتضى أن يكون السدس الباقي من الثلث بينهما نصفين، فيعتق من صاحب الثلث نصفه يعتق من كل واحد منهما بقدر ما احتمله الثلث بغير قرعة. فيعتق من صاحب الثلث نصفه ومن صاحب السدس نصفه، فيصير النصف من صاحب الثلث ثلاثة أرباعه، ومن صاحب السدس نصفه. ومثاله: أن يكون صاحب الثلث قيمته عشرة دنانير، وقيمة صاحب السدس خمسة دنانير، وقد خلف المعتق سواهما خمسة عشر دينارًا، فتصير التركة مع قيمتها ثلاثين دينارًا، ثلثها عشرة دنانير، فيعتق من صاحب الثلث ثلاثة أرباعه سبعة دنانير ونصف ويعتق من صاحب السدس نصفه بدينارين ونصف، فتصير قيمة المعتق منهما عشرة دنانير هي الثلث، ويبقى للورقة ربع صاحب الثلث بدينارين ونصف صاحب السدس بدينارين ونصف يضافان إلي خمسة عشرة دينارًا يصير عشرين دينارًا هي مثلًا ما خرج بالعتق. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو شهد رجلان لرجٍل بالثلث وآخران لآخر بالثلث وشهد آخران أنه رجع عن أحدهما فالثلث بينهما نصفان". قال في الحاوي: وهذا صحيح، إذا شهد شاهدان أنه أوصى بثلث ماله لزيد، وشهد آخران أنه أوصى بثلث ماله لعمرو، صحت الشهادتان بثلث المال لزيد وعمرو نصفين فإن أجاز الورثة الوصية بما زاد على الثلث أمضيت الوصيتان بثلثي المال لزيد وعمرو فإن امتنعوا عن إجازة ما زاد على الثلث جعل الثلث بين زيد وعمرو نصفين، ولم يقرع بينهما وإن قرع بين العبدين لوقوع الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن الشرع أثبت دخول القرعة في العتق دون التمليك. والثاني: أن المقصود بالعتق كمال أحكام المعتق ولا يكمل تبعيض العتق فيه، فأقرع لكمال أحكامه، والمقصود بالوصية نفع الموصى له، وهو ينتفع بتبعيض الوصية، فلم يقرع مع وجود المنفعة. فلو شهد وارثان أو أجنبيان أنه رجع عن الوصية بالثلث لزيد إلي الوصية بالثلث لعمرو، قلبت شهادتهما وصار الثلث كله لعمرو.

فإن شهد شاهدان بعد ذلك أنه رجع عن الوصية بالثلث لعمرو وصى بالثلث لبكر، صار الثلث كله بكر، وبطلت في حق زيد وعمرو، سواء كانت الشهادة من ورثة أو أجانب. ولو شهد شاهدان لزيد بالثلث وشهد آخران لعمرو بالثلث، وشهد آخران، برجوعه عن إحدى الوصيتين من غير تعيين، وهي مسألة الكتاب، لم تكن للشهادة بالرجوع تأثير، وبطل حكمهما. وجعل الثلث بين زيد وعمرو. فصل: ولو شهد أجنبيان أنه أوصى بعتق سالم وهو الثلث، وشهد وارثان أنه أوصى بثلث ماله لزيد لم يجز أن يقرع بينهما عند امتناع من إجازتها، لأن القرعة لا تدخل في المال، وإن دخلت في العتق، فوجب إذا اجتمعا أن يغلب ما لا تدخله القرعة، لأن دخولها رخصة، فإذا امتنعت القرعة في اجتماعها، ففيها قولان: أحدهما: أن يشرك بينهما في الثلث فيعتق نصف العبد ويدفع إلي زيد السدس. والثاني: أن يغلب العتق على الوصية فيعتق جميع العبد وترد جميع الوصية، لأن للعتق مزية بالسراية إلي غير الملك فقدم على الوصايا. فلو شهد وارثان أنه رجع عن الوصية بالعتق، قبلت شهادتهما في رد العتق. وأمضيت الوصية بالثلث، ولو شهدا بالرجوع في الثلث، قبلت شهادتهما وأمضيت الوصية بالعتق لانتفاء التهمة عنهما في الشهادة بهذا الرجوع. فصل: وإذا شهد شاهدان أنه دبر عبده سالمًا وهو الثلث، وشهد شاهدان أنه أوصى بعتق عبده غانمًا وهو الثلث ففيه قولان: أحدهما: أنهما سواء ويقرع بينهما ويعتق من قرع منهما. والثاني: أن التدبير مقدم على الوصية بالعتق، لوقوع العتق في بالموت، فيعتق المدبر، ويرق الموصي بعتقه. ولو شهد شاهدان أنه دبر عبده سالمًا وهو ثلث، وشهد آخران أنه أوصى بعتق عبده غانمًا وهو الثلث، وشهد آخران أنه أوصى بثلثه لزيد ففيه ثلاثة أقوال: أحدهما: أنه يقدم التدبير فيستوظف به الثلث، ويرق الموصي بعتقه وتبطل الوصية بثلثه. والثاني: أنه يشرك بين المدبر والموصي بعتقه ويقرع بينهما ويعتق من قرع منهما، وتبطل الوصية بثلثه. والثالث: أنه يشرك بين الجميع في الثلث فيدفع ثلث الثلث إلي الموصى له ويقرع

بين المدبر والموصي بعتقه في ثلثي الثلث، فإذا أقرع أحدهما عتق ثلثاه ورق ثلثه وجميع الآخر. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وقال في الشهادات في العتق والحدود إملاء وإذا شهدا أن سيده أعتقه فلم يعدلا فسال العبد أن يحال بينه وبين سيده وأجٌر ووقفت إجازته فإن تم عقته أخذها وإن رق أخذها السيد". قال في الحاوي: وصورتها في عبد ادعى على سيده أنه أعتقه وأنكر السيد عتقه، فأقام العبد بعتقه شاهدان مجهولي العدالة، فسأل العبد أن يحال بينه وبين سيده حتى تظهر العدالة ليحم بعتقه، أجيب إلي الإحالة بين العبد وبين السيد حتى تظهر العدالة لأمرين: أحدهما: أنه قد قام بما عليه من الشهادة، وبقي ما على الحاكم من كشف العدالة. والثاني: أن الظاهر من الشهادة صحتها، ولا يؤمن على العبد أن يباع، ولا على الأمة أن توطأ. فإذا أحيل بينهما لزم الحاكم أن يستظهر للسيد بأمرين كما استظهر للعبد بالمنع: أحدهما: أن يضعه على يد أمين نيابة عن يد السيد. والثاني: أن يؤجره بأجرة ينفق عليه منها، ويوقف باقيها على عدالة الشاهدين فإن ثبتت عدالتهما حكم بعتقه ورد عليه باقي أجرته، وإن ثبت فسقهما حكم برقة وإعادته إلي سيده مع بقية أجرته، وإن لم يثبت لهما عدالة ولا فسق كان باقيًا على الوقف ما بقي حال الشاهدين على الشهادة والجهالة. ولو كانت هذه الدعوى في غير العتق من دين مدعي، وأقام مدعيه شاهدين مجهولي العدالة والجرح، فوقفت شهادتهما على الكشف، وسأل المدعي حبس خصمه على الكشف على العدالة أجيب إليها اعتبارًا بعدالة الظاهر، ولم يحكم عليه بها حتى تثبت عدالة الباطن، ولو يكن لحبسه غاية إلا أن تثبت العدالة ليستوفي منه الحق أو يثبت الفسق ويطلق. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو شهد له شاهٌد وادعى شاهدًا قريبًا فالقول فيها واحٌد من قولين: أحدهما ما وصفت في الوقف، والثاني لا يمنع منه سيده ويحلف له". قال في الحاوي: وصورتها: أن يقيم المدعي للعتق شاهدًا على عتقه، ويسأل أن

يحال بينه وبين سيده على إقامة الشاهد الآخر، ففي إجابته إلي ذلك قولان منصوصان: أحدهما: يجاب إلي ذلك، لأن بقية العدد كبينة العدالة. والثاني: لا يجاب إليه لأنه قد أتى في كمال العدد بما عليه، وبقي ما على الحاكم من ظهور العدالة، ولم يأت في نقصان العدد بما عليه فلم يحكم له بما سأل. فإن قيل: بأنه لا يجاب ولا فرق بين أن يكون الشاهد الذي أقامه معروف العدالة أو مجهولها، ويحلف السيد على إنكار العتق فيكون العبد في يده على الرق. وإن قيل: بأنه يجاب في الإحالة بينه وبين سيده لم يخل حال الشاهد من أن يكون معروف العدالة أو مجهولها، فإن كان معروف العدالة، حيل بينه وبين سيده إلي مدة ثلاثة أيام، فإن أقام الشاهد الآخر حكم له بالعتق، وإن لم يقمه أحلف السيد على إنكار العتق، وأعيد العبد إلي يده على الرق، وإن كان الشاهد الذي أقامه مجهول العدالة فقد اختلف أصحابنا على هذا القول في جواز الإحالة بينه وبين سيده على وجهين: أحدهما: يحال بينهما كما لو كان الشاهد عدلًا اعتبارًا بعدالة ظاهره. والثاني: أن لا يحال، لأن الباقي من العدالة والعدد أكثر من الماضي فيسقط باعتبار الأقل. فصل: ولو كانت الدعوى في حق أيتام فأقام مدعيه شاهدًا واحدًا وسأل حبس خصمه على إقامة شاهد آخر، فإن كان الحق مما لا يثبت إلا بشاهدين كالقصاص والنكاح، ففي جواز حبسه على إقامة الشاهد الآخر قولان كما ذكرنا في دعوى العتق. أحدهما: لا يحبس به. والثاني: يحبس إلي مدة ثلاث أيام ثم يطلق إن لم يقم الآخر. وإن كان الحق مما يثبت بالشاهد واليمين فقد اختلف أصحابنا في حبس الخصم فيه بالشاهد الواحد: فذهب بعضهم إلي جوازه قولًا واحدًا، لأن له أن يحلف معه ويستحق، وذهب آخرون منهم إلي أنه على قولين أيضًا كغيره، لأنه لو أراد اليمين لعجله، والله أعلم بالصواب. فصل: ولو شهد شاهدان أنه أوصى بثلث ماله لزيد، وشهد شاهد واحد أنه أوصى بثلث ماله لعمرو، وليحلف معه عمرو، فالشاهد واليمين بينة في الوصية بالمال، فإذا قابلت شاهدين ففي مزاحمتهما له قولان: أحدهما: يزاحمهما، لأنه بينة في إثبات الوصية كالشاهدين، ويكون الثلث بين عمرو وزيد نصفين.

والثاني: أن الشاهد واليمين لا يزاحم الشاهدين لكمال الشاهدين وقصور الشاهد واليمين. ولو شهد شاهد عمرو أنه رجع عن الوصية لزيد، وأوصى بثلثه لعمرو وحلف معه عمرو، صح الرجوع والوصية لعمرو بالشاهد واليمين قولًا واحدًا، لأنه ليس في الشاهد واليمين ها هنا مزاحمة للشاهدين، وإنما هي بينة برجوع لم يتضمنه شهادة الشاهدين. وهاتان المسألتان نص عليهما الشافعي في كتاب الأم. والله أعلم. فصل: وإذا قال: إن قتلت فعبدي حر وشهد شاهدان أنه قتل وشهد آخران أنه مات ففيه قولان: أحدهما: أنه يحكم بشهادة القتل وتسقط شهادة الموت. لأنهما أزيد علمًا فيستحق القود ويعتق العبد. والثاني: قد تعارضت البينتان فيما شهد لأنه لا استحالة أن يموت مقتول أو يقتل ميت، فلا يستحق القود ولا يعتق العبد لأجل الاستحالة فلو قال لعبده: إن مت في رمضان فسالم حر، وإن مت في شوال فغانم حر ثم شهد شاهدان أنه مات في رمضان وشهد آخران أنه مات في شوال ففيه قولان: أحدهما: قد تعارضت الشهادتان بتنافيهما ويعلم في العتق على تصديق الورثة. والثاني: يحكم بقول من شهد بموته في رمضان، لأنه أزيد علمًا، ويعتق العبد الأول، فإن صدق الورثة الثاني عتق عليهم بموته، ولو قال: إن مت في مرضي هذا فعبدي سالم حر، وإن مت في غيره فعبدي غانم حر فشهد شاهدان أنه مات في مرضه ذلك، وشهد آخران أنه مات في غيره، ففيه قولان: أحدهما: قد تعارضت البينتان وسقطتا، وعتق أحدهما لم يتعين فيرجع إلي بيان الورثة في ذلك، فإن أثبتوا عتق أحدهما عمل في ذلك على بيانهم وحكم برق الآخر، وله إحلافهم، وإن عدم بيان الورثة أقرع بينهما وعتق القارع ورق المقروع. والثاني: لا تعارض بين البينتين، ويحكم بأسبق الشهادتين، ويعتق أول العبدين.

كتاب الدعوى والبينات

كتاب الدعوى والبينات مسألة قال الشافعي رحمه الله: "أخبرنا مسلم بنا خالد عن ابن جريج عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "البينة على المدعي"قال الشافعي: أحسبه قال ولا أثبته قال: "واليمين على المدعى عليه". ابن حجاج عن ابن جريج قال: "أخبرني ابن أبي مليكة أن امرأتين كانتا في بيت تخرزان ليس معهما فيه غيرهما فخرجت إحداهما وقد طعنت في كفها بإشفى حتى خرج من ظهر كفها، تقول: طعنتها صاحبتها، وتنكر الأخرى قال: فأرسلت إلي ابن عباس فيهما، فأخبرته الخبر، فقال: لا تعط شيئًا إلا ببينة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو يعطى الناس بدعاويهم لادعى رجال أموال رجال ودماءهم لكن اليمين على المدعى عليه" فكمل بالجمع بين الروايتين قول النبي صلى الله عليه وسلم"البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" مع ما قدم من التعليل. روى الشافعي عن مسلم بنا خالد عن ابن جريج عن عطاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "البينة على من ادعى واليمين على من أنكر إلا في القسامة". وروى الشافعي عن مالك عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أبي سلمة عن أمها أم سلمة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنما أنا بشر وإنكم لتختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى على ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار". وقيل: إن أوى دعوى كانت في الأرض دعوى قابيل بن آدم على أخيه هابيل، إنه أحق بنكاح توأمته منه، فتنازعا إلي آدم فأمرهما بما قصه الله تعالى بقوله: {واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أحدهما ولَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ} [المائدة: 27]. فأفضى تنازعهما إلي القتل فقتل قابيل هابيل فكان أول قتيل في إلي نفسه، والدعوى تشتمل على أربعة أشياء: مدع، ومدعى عليه، ومدعى به، ومدعى عنده.

فأما المدعي: فهو الطالب من غيره شيئًا في يده، أو في ذمته، وأما المدعى عليه فهو المطلوب منه شيئًا في يده، أو في ذمته. وفرق ما بين الطالب والمطلوب منه، إن الطالب إذا تارك ترك والمطلوب إذا تارك لم يترك. وأما المدعى به فهو ما تنازع فيه الطالب والمطلوب. وأما المدعى عنده فهو من نفذ حكمه من قاٍض أو أمير. فصل: والعدوى على ستة أضرب: صحيحة، وفاسدة، ومجملة، وناقصة، وزائدة، وكاذبة. فأما الدعوى الصحيحة فضربان: دعوى استحقاق، ودعوى اعتراض. فأما دعوى الاستحقاق فضربان: أحدهما: أن تتوجه إلي عين في اليد. والثاني: إلي مال في الذمة. فأما توجه الدعوى إلي عين في اليد فضربان: منقول، وغير منقول فأما المنقول فضربان: حاضر، وغائب. فإن كانت العين المنقولة حاضرة في مجلس الحكم، كعبد أو ثوب، أغنت الإشارة عن صفتها، وعن ذكر قيمتها، فإن كانت الدعوى في غصب صحت الدعوى، إذا قال: غصبني هذا البعد، أو هذا الثوب وإن كانت الدعوى في وديعة فقال: أودعته هذا، وإن كانت الدعوى في ابتياع منه، فإن كان المقصود بها دعوى العقد، كان في صحة الدعوى ذكر قدر الثمن، وإن كان المقصود بها انتزاعه من يده كان في صحة الدعوى أن يذكر أنه ابتاعه منه، ودفع إليه ثمنه. وقد منعه ولا يلزمه أن يذكر قدر الثمن. وإن كانت العين المنقولة غائبة، فإن كانت من ذوات الأمثال كالحنطة، اقتصر في تعيينها على ذكر الصفة، ثم صار الحكم فيها كالعين الحاضرة، وإن كانت من غير ذوات الأمثال كالحنطة، اقتصر في تعيينها على ذكر الصفة، ثم صار الحكم فيها كالعين الحاضرة، وإن كانت من غير ذوات الأمثال، كالجواهر لزمه في تعيينها ذكر الجنس، والنوع، وما يضبط به من صفاتها فإن كانت وديعة لم يلزمه ذكر قيمتها، لأن الوديعة أمانة غير مضمونة، وإن كانت عارية أو غصبًا لزمه في التعيين ذكر قيمتها، لضمان العارية والغصب بالقيمة، وإن كانت مبيعة لزمه في التعيين ذكر ثمنها لضمان ما لم يقبض من المبيع بالثمن دون القيمة. وأما غير المنقول كدار، أو ضيعة فتعيينها في الدعوى يكون بذكر الناحية، والحدود الأربعة: لتمييز بذلك من غيرها، ولا يغني ذكر الناحية عن ذكر الحدود، ولا ذكر الحدود عن ذكر الناحية، ولا أن يقتصر على بعض الحدود حتى يستوفي جميعها فتصير بذكر الناحية والحدود الأربعة متميزة عن غيرها إلا أن تكون الدار مشهورة باسمها متميزة به عن غيرها، كدار الندوة بمكة و"دار الخيزران"فيغني ذكر اسمها عن ذكر حدودها، وإذا

ذكرت الناحية والحدود الأربعة، صح دعواها وإن جاز أن يشاركها غيرها في حدودها، كما إذا ذكر الرجل باسمه، واسم أبيه وجده، وقبيلته، وصناعته، صح، وتميز في الدعوى والشهادة، وإن جاز إن يشاركه غير في الاسم، والنسب؛ لأنه غاية الممكن ولأن المشاركة نادرة، ثم صحة دعواها بعد تحديدها معتبرة بشرطين: أن يذكر أنها ملكه. والثاني: أن يذكر أنها في يد المدعى عليه بغير حق. وهو إذا ذكر ذلك بالخيار بين أن يعين السبب الذي صارت به في يده بغير حق، وبين أن يطلقه. فصل: وإن كانت الدعوى بمال في الذمة، فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون من ذوي الأمثال كالدراهم، والدنانير، أو الحنطة والشعير مما يصح أن يثبت في الذمة ثمنًا، أو يضمن في العبد بمثله، فيلزمه في الدعوى أن يذكر الجنس والنوع، والصفة، والقدر، بما يصير به عند الخاصة والعامة معلومًا، وهو بالخيار في أن يذكر سبب الاستحقاق، أو لا يذكر فتكون صحة الدعوى معتبرة بثلاثة شروط: أحدهما: أن يقول لي عليه كذا ويصفه. والشرط الثاني: أن يقول وهو حال، لأن المؤجل لا يستحق المطالبة به قبل حلوله، فلم تصج دعواه، فإن كان بعضه حالًا، وبعضه مؤجلًا صح دعوى جميعه لاستحقاق المطالبة ببعضه ويكون المؤجل تبعًا فلو كان المؤجل في عقد قصد بدعواه تصحيح العقد، كالسلك المؤجل، صحت دعواه، لأن المقصود به مستحق في الحال. والشرط الثالث: أن يقول: وقد منعني، أو أخره عني قال: وقد أنكرت صح، لأن المنكر مانع. ثم اختلف أصحابنا بعد ذكر هذه الشروط الثلاثة: هل يعتبر في صحة الدعوى أن يقول: وأنا أسأل القاضي، أن يلزمه الخروج إلي من حق على وجهين: أحدهما: يعتبر في صحة الدعوى، لأن المقصود بالتحاكم إليه، وإلا كان خبرًا. والثاني: لا يعتبر، لأن شاهد الحال يدل عليه، فاعتبر. والضرب الثاني: أن يكون ما في الذمة غير ذي مثل، فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون الشرع مانعًا من ثبوته في الذمة، كاللؤلؤ، والجوهر، فلا تصح دعوى عينه، لأنها لا يصح ثبوتها في الذمة إلا أن يقصد بالدعوى ثبوت عوضها، لأنها مغصوبة، فتصح دعواها بذكر قيمتها، أو تكون عن سلم فاسد، فتكون الدعوى برد ثمنها، ويكون ذكرها إخبارًا عن السبب الموجب لعوضها. والضرب الثاني: أن يصح في الشرع ثبوته في الذمة، وذلك من وجهين: أحدهما: من السلم أن يكون معقودًا على ثياب، فيلزمه في صحة دعواها شرطان: أحدهما: أن يصفها بأوصافها المستحقة في عقد السلم.

والثاني: أن يذكر أنها من عقد سلم، يذكر فيه الشروط المعتبرة في صحة السلم. ثم يذكر بعدها ما يوجبه مقصود الدعوى فإن لم يذكر أنه عن سلم، لم تصح دعوى أعيانها، لأنها قد تكون مغصوبة توجب غرم قيمتها، فيلزمه مع ذكر الصفة أن يذكر القيمة. والوجه الثاني: الإبل المستحقة في الدية والغرة المستحقة في الجنين، فلا يلزمه صفتها في دعواه، لأن أوصافها مستحقة بالشرع، وصحة الدعوى فيها معتبرة بثلاثة شروط: أحدها: أن يذكر أنها عن جناية يصفها بعمد، أو خطأ لاختلاف صفاتها بالعمد، والخطأ، وهي مستحقة على الجاني في العمد، وفي الخطأ مستحقة على العاقلة. والثاني: أن يذكر أنها على حر، لأن الإبل لا تستحق في الجناية على العبد، وأن المجهضة لجنينها حرة، لأن الغرة لا تستحق في جنين الأمة. والثالث: أن يذكر ما وصفنا فيه الجناية من نفس، أو طرف، أو جراح تقدرت ديته بالشرع، كالموضحة، والجائفة، فتكون المطالبة بالدعوى عفوًا عن القصاص، فإن كانت الجناية فيما لا تتقدر ديته بالشرع، كانت دعواه مقصورة على وصف الجناية على عبد استحق فيها القيمة فيذكر قدر قيمته ليعلم بهادية نفسه وأطرافه. وإن كانت في جنين أمة، ذكر في الدعوى قدر قيمتها، لأن في جنين الأمة عشر قيمتها، ثم تستوفي شروط المقصود بالدعوى فهذا حكم دعوى الاستحقاق. فصل: فأمل دعوى الاعتراض فضربان: أحدهما: أن يتوجه إلي ما فيه يده. والثاني: إلي ما يتعلق بذمته. فأما توجه الدعوى إلي ما في يده، فلا تكون إلا بعد معارضته، فإن كانت المعارضة بما لا يستضر به المدعي لم تصح الدعوى منه. وإن كانت بما يستضر به المدعي إما بمد اليد إلي ملكه، وإما بمنعه من التصرف فيه وإما بملازمته عليه، أو بقطعه عن أشغاله صحة دعواة بخمسة شروط: أحدهما: أن يصف الملك بما يصير به متعينًا منقول وغير منقول على ما قدمناه. والثاني: أنه له وفي ملكه، لأن ما لا يملكه، أو لم يستتبه مالكه فيه لا يمنع من المعارضة فيه. والثالث: أن يذكر المعارض له بالإشارة إليه، إن كان غائبًا. والرابع: أن يذكر المعارضة له بالإشارة إليه، إن كان حاضرًا، أو باسمه ونسبه

لافتراقهما في الحكم. والخامس: أن يذكر أنه عارضه بغير حق لأنه ربما استحق المعارضة برهن، أو إجارة حتى لا يتقي في دعواه ما يحتاج الحاكم أن يسأله عنه ليعذر بسؤاله إلي المدعى عليه. وأما توجه الدعوى إلي ما يتعلق بذمته، لأنه قد طولب بما لا يستحق عليه فإن لم يلحقه بالمطالبة ضرر، لم تصح الدعوى، وإن لحقه بها ضرر، إما في نفسه بالملازمة، أو في جاهه بالإشاعة، وإما في ماله بالمعارضة صحت منه الدعوى ليستدفع بها الضرر وصحتها معتبرة بثلاثة شروط: أحدها: أن يذكر ما طولب به، إما مفسرًا، أو مجملًا، لأن المقصود بالدعوى ما سواه. والثاني: أن يذكر أنه غير مستحق عليه، لأن المطالبة بالحق لا ترد. والثالث: أن يذكر ما استضر به، لأن المقصود الدعوى ليكون الكف عنه متوجهًا إليه، فإن اقترن بهذه الشروط ما يكمل به جميع الدعاوى، سأل الحاكم المدعى عليه، وله في الجواب، عن دعوى هذه المعاوضة، ثلاثة أحوال: أحدها: أن يعترف بجميع ما تضمنها فيمنعه الحاكم من معارضته. والحالة الثانية: أن ينكر المعارضة فيخلى سبيله، فلا يميل عليه لأن لا يتعلق بالمعارضة استحقاق غرم. والحال الثالثة: أن يذكر أنه يعارضه فيه بحق يصفه، فيصير مدعيًا بعد أن كان مدعى عليه، ويصير المدعي مدعى عليه، بعد أن كان مدعيًا. فهذا الكلام في صحة الدعوى، وإن تضمنت ضروبًا أغفلناها اقتصارًا وتعويلًا بها على اعتبار ما بيناه. فصل: وأما الدعوى الفاسدة فعلى ثلاثة أضرب: أحدها: ما عاد فساده إلي المدعي. والثاني: ما عاد فساده إلي الشيء المدعى. والثالث: ما عاد فساده إلي سبب الدعوى. فأما الضرب الأول: في عود فساده إلي المدعي، فكمسلم ادعى نكاح مجوسية أو حر واجد الطول ادعى نكاح أمة، فهذه الدعوى فاسدة، لأن المسلم لا يجوز له أن ينكح مجوسية، والواجد الطول لا يجوز له أن ينكح أمة، فبطلت دعواه لامتناع مقصودها في حقه، فلم يكن للحاكم أن يسمعها منه. وأما الضرب الثاني: فيما عاد فساده إلي الشيء المدعى، فعلى ثلاثة أضرب: أحدها: أن يدعي ما لا تقر عليه يد كالخمر، ولحم الخنزير، والسباع الضاربة والحشرات المؤذية، فدعواه فاسدة، لوجوب رفع اليد عنها في حقوق المسلمين، فلم

يكن للحاكم، أن يسمعها من كافة الناس. والضرب الثاني: أن يدعي ما تقر عليه اليد، ولا تصح المعارضة عنه كجلود الميتة والسراجين، والسماد، والنجس، والكلاب المعلمة، تقر عليها اليد للانتفاع بجلود الميتة، إذا دبغت وبالسماد، والسراجين في الزروع، والشجر، والكلاب في الصيد، والمواشي، واختلف في اليد عليها، إذا كانت الجلود من أموات حيوان، والسراجين من أرواث بهائمه، هل تكون يد ملك أو يد انتفاع؟ على ثلاثة أوجه: أحدها: أنها يد انتفاع لا يد ملك لخروجها عن معارضة الأملاك. والوجه الثاني: أنها يد ملك لأنه أحق بها كسائر الأموال. والوجه الثالث: أن ما كان منها ملكًا يعتاض عنه، ويصير في الثاني يعتاض عنه كجلود الميتة كانت اليد عليها يد ملك اعتبارًا بالطرفين وما خرج عن أملاك المعاوضة في طرفيه كالكلاب، والأنجاس، كانت اليد عليها يد انتفاع لا يد ملك فإذا توجهت الدعوى إلي شيء من هذا، لم يخل من أن يكون باقيًا أو تالفًا. فإن كان تالفًا كانت الدعوى فيه باطلة، لأنه لا يستحق بتلفها مثل ولا قيمة، وإن كانت باقية لم يخل أن يدعيها بمعاوضة، أو غير معاوضة. فإن ادعاها بمعاوضة أنه ابتاعها، كانت الدعوى فاسدة، لأنها لا تملك بالابتياع إلا أن يكون قد دفع ثمنها، فتكون دعواه متوجهة إلي الثمن إن طلبه، ويكون ذكر ابتياعها إخبارًا عن السبب الموجب لاسترجاع الثمن به، وإن ادعاها بغير معاوضة فقد تصح دعواها في أحد ثلاثة أوجه: أحدها: أن تغصب منه، فتصح دعوى غصبها. والثاني: أن يوصي بها، فتصح دعوى الوصية بها. والثالث: أن توهب له، فتصح دعوى هبتها. فإن أطلق الدعوى ولم يفسرها، لما تصح به أو تفسد، فقد اختلف فيما يكون من الحاكم فيها على وجهين: أحدهما: يستفسر ليعمل على تفسيره في صحتها، وفسادها، لأنه مندوب لفصل ما اشتبه. والوجه الثاني: أن يمسكه متوقفًا عنهما، ولا يستفسره إياها، ليكون هو المبتدئ بتفسيرها، لأن استيفاء دعواه حق له، يقف على خياره. والضرب الثالث: ما تقر عليه اليد ملكًا، ولا يجوز أن ينتقل من مالك إلي مالك كالوقف وأمهات الأولاد، والدعوى فيه على المالك فاسدة، لا يجوز أن يسمعها الحاكم على مالك لاستحالة انتقاله عن ملكه إلي ملك غيره إلا أن يدعي ابتياعه لاسترجاع الثمن، فتكون الدعوى متوجهة إلي الثمن ويكون ذكر ابتياعه إخبارًا عن السبب. ويجوز أن يدعي الوقف وأم الولد على غاصبها، وإن لم يدعيا على مالكهما.

وأما الضرب الثالث: في الأصل وهو ما عاد فساده إلي سبب الدعوى وهو على ضربين: عقد ومقتضى عقد. فأما العقد كالبيع، وإذا ادعى ما ابتاعه وهو على ثلاثة أضرب: صحيح ومتفق على فساده، ومختلف فيه: فإذا كان البيع صحيحًا، صحت الدعوى فيه، إذا استوفي شروطها على ما سنذكره وإن كان البيع متفقًا على فساده كبيع الحمل في البطن، وبيع الثمرة قبل أن تخلق، فالدعوى فيه باطلة لا يسمعها إن طلب تسليم المبيع، ويسمعها إن طلب موجبها من رد الثمن. وإن كان المبيع مختلفًا فيه كبيع العين الغائبة، يسمعها ليحكم فيها بما يؤدي إليه اجتهاده، من صحة البيع، وتسليم المبيع، أو يحكم بفساده ورد الثمن. وكذلك الحكم في عقود الإجارات، والمناكح والرهون. وأنا نقص العهد فكالشفعة، وهي على ثلاثة أضرب: مستحقة، وباطلة ومختلفة فيها. فأما المستحقة، فشفعة الخلطة تصح دعواها بعد استيفاء شروطها وأما الباطلة فالشفعة فيما ينقل من متاع، أو حيوان فلا يسمع الحاكم ممن منه الدعوى فإن جهل المدعي حكمها أخبره بسقوط حقه فيها. وأما المختلف فيها فشفعة الجار، فإن كان الحاكم ممن يرى وجوبها سمع الدعوى فيها، وحكم بها لمدعيها، وإن كان ممن لا يرى وجوبها لم يسمع الدعوى فيها بخلاف البيع المختلف فيه، لأن في البيع عقدًا يفتقر إلي الحاكم بإبطاله فلذلك سمع فيه الدعوى ليحكم بإبطاله ورد ما تقابضاه، وليس هذا في الشفعة، لأنها مجرد دعوى، يبطل بردها، والإعراض عنها، فلذلك ما افترقا. فصل: وأما الدعوى المجملة فكقوله: لي عليه شيء، فالشيء مجهول لانطلاقه على كل موجود من حق وباطل، وصحيح وفاسد، فلا يسمع دعوى المجمل والمجهول وإن سمع الإقرار، بالمجمل والمجهول. والفرق بين الدعوى والإقرار من وجهين: أحدهما: أن المدعي لا يجوز أن يدعي ما أشكل عليه. والثاني: أن مدعي المجهول مقصر في حق نفسه، فلم تسمع منه، والمقر مقصر حق غيره، فأضر به، ولا يلزم الحاكم أن يستفسره عما ادعاه من مجمل، أو مجهول، حتى يكون هو المبتدئ بتفسيره بخلاق ما ذكرنا من الوجهين من استقرار المقصود بالدعوى، لأن تلك معلومة سئل فيها عن مقصوده، وهذه مجهولة أخفاها لقصده، فإن قال له فسر ما أجهلت لم يجز، لأنه تلقين وإن قاله له إن فسرت ما أجملت جاز لأنه استفهام، والحاكم لا يجوز أن يلق ويجوز أن يستفهم.

فصل: وأما الدعوى الناقصة فعلى ضربين: نقصان صفة، ونقصان شرط. فأما نقصان الصفة فكقوله: لي عليه ألف درهم، لا يصفها، فيجب عليه أن يسأل عنها، ولا يحملها على الغالب من نقد البلد فإن إطلاقها في البيع محمولًا على الغالب، لجواز أن تكون في الدعوى من غيرها، فإن كانت من ثمن جميع سأله عنها أيضًا، لجواز أن يعقد بغيرها. وأما نقصان الشرط فكدعوى عقد نكاح، لا يذكر فيها الولي، أو الشهود فلا يسأله الحاكم عن نقصان الشرط، ويتوقف عن السماع، حتى يكون المبتدئ بذكره، أو لا يذكره فيطرحها. والفرق بين أن يسأله عن نقصان الصفة، ولا يسأله عن نقصان الشرط: أن نقصان الصفة لا يتردد ذكره بين صحة وفساد، فجاز أن يسأله عنه ونقصان الشرط يتردد ذكره بين الصحة والفساد، فلم يجز أن يسأله عنه. فصل: وأما الدعوى الزائدة فعلى ثلاثة أضرب: أحدها: أن تكون الزيادة هدرًا غير مؤثرة كقوله: ابتعت منه هذا العبد في بلد كذا، أو في سوق كذا، فلا يؤثر في الدعوى ويطرح للحاكم سماعها. والضرب الثاني: أن تكون الزيادة تأكيدًا كقوله: ابتعت هذا العبد على أني إن وجدت به عيبًا رددته، أو على أن عليه أني استحق دركه، فلا يمنع الحاكم من سماعها، وإن لم تحتج الدعوى إليها بما أوجبه الشرع من رد العيب، ودرك المستحق لأن التأكيد مستعمل في العقود فجرت الدعوى فيه على المعهود. والضرب الثالث: أن تكون الزيادة منافية لموجب الدعوى كقوله: ابتعت هذا العبد بألف إن استقالني أقلته، وإن ردها على فسخته فهذه الزيادة في الدعوى معتبرة بمخرجه منه، فإن خرجت مخرج الوعد بعد صحة العقد، لم تمنع من صحة الدعوى وكان ذكرها حكاية حال تقف على خياره، وإن خرجت مخرج الشرط في العقد، أبطل بها الدعوى فإن قصد بها تملك المبيع لم يسمعها وإن قصد بها استرجاع الثمن سمعها. فصل: وأما الدعوى الكاذبة فهي المستحيلة، كمن ادعى وهو بمكة أنه نكح بالأمس فلانة بالبصرة. أو ادعى أنه ورث هذا العبد من أبيه وقد ولد بعد موت أبيه. أو ادعى أن فلانًا جرحه هذه الجراحة في يومه، وفلان غائب إلي نظائر هذا من الدعاوى الممتنعة فتكون كاذبة، يقطع بكذب مدعيها، لا يسمعها الحاكم، وإن صدقه الخصم عليها لاستحالتها، وتزول بها عدالة المدعي للعلم بكذبه، وبالله التوفيق.

فصل: فإذا صح ما ذكرنا من مقدمات هذا الباب، فالدعوى الصحيح ممنوعة من كل جائز الأمر فيما يدعيه، على كل جائز الأمر فيما يدعي عليه سواء عرف بينهما معاملة، أو لم يعرف، ويعديه الحاكم إذا استعداه وإن جل قدر المدعى عليه وتصون. وقال مالك: لا يعد به على أهل الصيانة، فلا يستحضره الحاكم، إلا أن يعلم أن بينهما معاملة، لئلا يستبذل أهل الصيانات، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم"، وهذا ليس بصحيح لقول الله تعالى: {يَا دَاوُودُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ ولا تَتَّبِعِ الهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} [ص: 26] فأمره بالتسوية وترك الميل. وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في عهده إلي أبي موسى: آسى بين الناس في وجهك، وعدلك، مجلسك، حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك، وقد احتكم علي بن أبي طالب عليه السلام ويهودي إلي شريح في حال خلافته فلم يمتنع أن يساوي في المحاكمة بين اليهودي وبين نفسه؛ ولأن خمول المدعي لا يمنع أن يكون ذا حق، وصيانة المدعى عليه، لا يمنع أن يكون عليه حق. ولأن المعاملة لا تدل على بقاء الحق، وعدمها ل يمنع من حدوث الحق، فلم يكن لاعتبارها من الدعاوى وجه. والذي يجوز أن يستعمله الحاكم في تحاكم أهل الصيانة أن يميزهم عن مجالس العامة، ويفرد لمحاكمتهم مجالسًا خالصًا يصانون به، عن بذله العامة، يجمع فيه بينهم، وبين خصومهم، فلا ترد فيه الدعوى ولا تبتذل فيه الصيانة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا ادعى الرجل الشيء في يدي الرجل فالظاهر أنه لمن هو في يديه مع يمينه، لأنه أقوى سببًا فإن استوي سببهما فهما فيه سواٌء فإن أقام الذي ليس في يديه البينة قيل لصاحب اليد البينة التي لا تجر إلي أنفسها بشهادتها أقوى من كينونة الشيء في يديك وقد يكون في يديك ما لا تملكه فهو لفضل قوة سببه على سببك، فإن أقام الآخر بينًة قيل قد استويتما في الدعوى والبينة والذي الشيء في يديه أقوى سببًا فهو له لفضل قوة سببه وهذا معتدٌل على أصل القياس والسنة على ما قلنا في رجلين تداعيا دابًة وأقام كل واحٍد منهما البينة أنها دابته نتجها فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هو في يديه قال: وسواٌء التداعي والبينة في النتاج وغيره". قالي في الحاوي: وأصل هذا أن مجرد الدعاوى في المطالبات لا يحكم في فصلها بحجة تقترن بها، فحجة المدعي البينة على إثبات ما دعاه، وحجة المدعى عليه اليمين على نفي ما أنكره لقول النبي صلى الله عليه وسلم"البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه".

وروى الأعمش عن شقيق بن وائل عن الأشعث قال: كان بيني وبين يهودي أرض فجحدني عليها، فقدمته إلي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألك بينة؟ فقلت: لا. فقال لليهودي. احلف. قلت إذن يحلف فيذهب بمالي، فنزل قوله تعالى: {إنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً} [آل عمران: 77] الآية، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا الخبر حجة كل واحدة منهما. وروى سماك عن علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه أن رجلًا من حضرموت أتى النبي صلى الله عليه وسلم ومعه رجل من كندة، فقال: يا رسول الله، إن هذا غلبني على أرض كانت لأبي فقال الكندي: أرضي، وفي يدي أزرعها، لا حق له فيها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم للحضرمي: ألك بينة؟ قال: لا. فقال: لك يمينه. فقال الحضرمي: إنه فاجر لا يبالي على ما حلف إنه لا يتورع من شيء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم"ليس لك منه إلا ذاك" فدل على ما ذكرناه. ويدل عليه من طريق المعنى أن البينة أقوى من اليمين، لزوال التهمة عن البينة وتوجهها إلي اليمين. وجنبة المدعى عليه أقوى من جنبة المدعي، لأن الدعوة إن توجهت إلي ما في يده فالظاهر أنه على ملكه، وإن توجهت إلي دين في ذمته، فالأصل براءة ذمته، فجعلت أقوى الحجتين وهي البينة في أضعف الجنبتين وهي المدعي، وجعلت أضعف الحجتين وهي اليمين في أقوى الجنبتين وهي المدعى عليه، لتكون قوة الحجة جبرانًا، لضعف الجنبة وفي الجنبة جبرانًا لضعف الحجة فتعادلا في الضعف والقوة. فصل: وإذا تعين المدعي، وتحررت الدعوى، سأل الحاكم المدعى عليه، عن الدعوى، ولم يسأل المدعي عن البينة، لأنه قد يقر المدعى عليه، فلا يحوج إلي البينة، فإن أقر لزمه إقراره، وأخذه بموجبه، وقد فصل الحكم بينهما. وإن أنكر سأل الحاكم المدعي: ألك بينة؟ فإن ذكرها أمره بإحضارها، فإذا أحضرت سمع الحاكم منها وحكم على المدعى عليه، بها، وقدمها على يمين المدعى عليه لأمرين: أحدهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم البينة على اليمين. والثاني: أن البينة أقوى من اليمين من وجهين: أحدهما: أن التهمة منتفية عن البينة، لأنها لا تجر إلي نفسها نفعًا، ولا تدفع ضررًا، والتهمة متوجهة إلي يمين الحالف، لأنه يدفع بها عن نفسه ضررًا، ويجربها إلي نفسه نفعًا.

والثاني: أن البينة تشهد بتصريح الملك، وتوجيه، واليمين تدل عليه ولا توجيه، وإن عدم المدعي البينة سأل الحاكم المدعى عليه الحلف، ولم يقل له احلف؛ لأن سؤاله استفهام. وأمره تلقين، وإن حلف فصل الحكم بينهما بيمينه، وسقطت الدعوى فإن نكل عن اليمين لم يجبر عليها، وترد يمينه على المدعي، بعد استقرار نكوله، ولا يقضى عليه بالنكول، من غير إحلاف المدعي، وقال أبو حنيفة: يقضي عليه بالنكول، من غير إحلاف المدعي، وقد تقدم الكلام معه، وإن امتنع المدعى عليه من اليمين لقيم البينة بدلًا من يمينه نظر في الدعوى. فإن كانت بدين في الأمة لم تسمع منه البينة؛ لأنه نفي الدين بإنكاره والبينة لا تسمع على النفي وقيل له: لا براءة لك من الدعوى إلا بيمينك. فإن كانت الدعوى بعين في يده ففي سماع بينته بدلًا من يمينه وجهان: أحدهما: لا تسمع بينته، لأنه لا حاجة به إليها، ويستغنى بيمينه عنها. والثاني: تسمع ببينته عليها وترتفع الدعوى بها، وتكون بينته أوكد من يمينه لأن البينة قد جمعت إثباتًا ونفيًا، فصح سماعها منه في الأعيان لما تضمنها من الإثبات، ولم يسمعها فيما تعلق بالذمة لأنها تتضمن النفي دون الإثبات. وقال أبو حنيفة: اليمين مستحقة على المدعى عليه فلا تنقل إلي المدعي، والبينة مستحقة على المدعي، فلا تنقل إلي المدعى عليه، فلذلك فضي عليه بنكوله، ولم تسمع منه البينة، ولم يختلف عليه المدعي وسيأتي الكلام معه. فصل: فإن أقام المدعي بينة، وأقام صاحب اليد بينة، سمعت بينته وقضى ببينته على بينة المدعي، لفضل يده في جميع الأعيان سواء كان الملك مطلقًا، أو مذكورًا لسبب وسواء فيما ذكر سببه مما يتكرر كصناعة الأواني وما ينتج من الخز مرة بعد أخرى، لو كان مما لا يتكرر سببه كالنتاج، وثياب القطن والكتان، وبه قال مالك من أهل المدينة وقال به من أهل العراق شريح، والنخعي والحكم بن عيينة. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن كان التنازع في ملك مطلق، أو مما يتكرر سببه لم تسمع بينة صاحب اليد، وقضى بينة المدعي، وإن كان مما لا يتكرر سمعت بينة صاحب اليد في الأحول كلها، وسموا المدعى خارجًا، وصاحب اليد داخلًا، فقال: تسمع بينة الخارج، ولا تسمع بينة الداخل، واستدلوا على ذلك بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" بحذف الألف واللام الموجب لاستغراق الجنس، فاقتضى أن لا تنتقل البينة إلي المدعى عليه، ولا تنتقل اليمين إلي المدعي. ولأن اليمين موجبة للملك فلم يستفد صاحب اليد بالبينة ما لا يستفيد بيده وبينة المدعي يحكم بها مع يد المدعى عليه، فوجب أن يحكم بها مع بينته، لأن بينته لم تعد إلا ما أفادته يده، ثم اليد أقوى من البينة، لأن اليد تدل على الملك شاهدة والبينة تدل

على الملك استدلالًا فافترقا ولأنه لما لم تسمع بينة الداخل في الدين لم تسمع في العين لاستوائهما في حق الخارج في القبول، فوجب أن يستويا في حق الداخل في الرد. قالوا: ولأنه لما لم تسمع بينة الداخل إذا لم يقم الخارج البينة مع قوة الداخل، وضعف الخارج كان أولى أن لا تسمع بينة الداخل إذا أقام الخارج البينة مع ضعف الداخل، وقوة الخارج لأن من لم تسمع بينته مع قوته، كان أولى أن لا تسمع مع ضعفه. ودليلنا رواية جابر أن رجلين اختصما إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم في دابة، أو بعير، وأقام كل واحد منهما البينة أنها له بنتجها فقضى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي هي في يده فدل على قبول بينة الداخل، فإن قيل فبينة الداخل في النتاج مقبولة. قيل: وجه الدليل أنه قضى بينة الداخل تعليلًا باليد، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البينة على المدعي" وقد صار كل واحد منهما مدعيًا للعين، وإن لم يصر مدعيًا للدين، فوجب بهذا الخبر، أن تسمع بينة كل واحد منهما. ولأن جنبة الخارج أضعف من جنبة الداخل، فلما سمعت لليد مع الضعف كان سماعها مع القوة أولى. وتحرير قياسًا، أنها بينة تسمع مع ضعف الجنبة، فكان أولى أن تسمع مع قوة الجنبة كسماعها من المدعي، إذا كانت له يد متقدمة ولأنهما إذا تنازعا ملكًا، لا يد لواحد منهما، سمعت بينة كل واحد منهما، فإذا انفر أحدهما باليد، لم يمنع من سماع بينته، لأنها إن لم تفده قوة لم تقده ضعفًا، وتحرير أن تساويهما في ادعاء الملك، يوجب تساويهما من سماع البينة، كما لو لم يكن لأحدهما عليه يد، أو كان لكل واحد منهما يدل عليه. ولأن بينته الخارج قد رفعت يد الداخل، فصار كالخارج، فوجب أن تسمع بينته كسماعها من الخارج. وتحرير قياسًا أن كل من حكم عليه إذا عدم البينة، وجب أن يحكم له إذا وجد السنة كالخارج، ولأن اليد فعل زائد في القوة فلم يجز أن يمنع من سماع البينة. كما لو شهد لأحدهما شاهدان، وشهد للآخر عشرة. ولأن كل حجة صح دفعها بالقدح فيها، صح دفعها بالمعارضة لها كالخبرين وعمدة القياس على أبي حنيفة أنه لما سمعت بينة الداخل فيما لا يتكرر من النتاج، وثوب القطن سمعت بينة في ما يتكرر من أواني الذهب والفضة، وثوب الخبز. وتحريره قياسًا من وجهين: أحدهما: أن كل من سمعت بينته فيما لا يتكرر من الأعيان سمعت بينته فيما يتكرر منها كالخارج. والثاني: أن كل يمين صح سماع البينة عليها من الداخل، كالنتاج، والأعيان التي لا تتكرر فاعترض أصحاب أبي حنيفة على هذا، بما اختلف فيه متقدموهم، ومتأخروهم، فأما المتقدمون منهم فعارضوا في الفرق بينهما بأن البينة في النتاج وما لا يتكرر سببه، تفيد ما لا تفيده يده، لأن اليد تدل على الملك دون السبب والبينة تدل على الملك والسبب فلذلك سمعت بينته مع يده والبينة في الملك

المطلق، لا تفيد إلا ما أفادته يده، فلذلك لم تسمع بينته مع يده، وعنه جوابان: أحدهما: أن عكس هذا بأن ما كان التعارض فيه ممكنًا، أولى بالقبول مما كان التعارض فيه كذبًا. والثاني: أنهما متكاذبتان في الملك، وإن أمكن صدقها في السبب التكرر فلئن جاز أن يكون التكاذب في السبب موجبًا لتغليظ الصدق باليد جاز أن يكون التكاذب في الملك موجبًا لتغليب الصدق باليد، فلم ينقلوا في كل الفرقين من فساد موضوعها. فأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه"فمن وجهين: أحدهما: ما قدمناه في الاستدلال به عليهم، بأنه قد صار كل واحد منهما مدعيًا. والثاني: أنه لا يمتنع أنه يحمل قوله: "البينة على المدعي" أنها تسمع من المدعى عليه على المدعي، واليمين على المدعى عليه أنها تسمع على المدعي، لأن قوله على مقتضى ظاهره، أن يكون متوجهًا إلي من سمعت منه البينة، وسمعت عليه اليمين، فيكون الخبر محمولًا على تأويلين مستعملين، ثم أكثر ما فيه أن يكون عامًا في جنس الأيمان والبينات، والعموم يجوز تخصيص بعضه فيخص هذا بأدلتنا. وأما الجواب عن قولهم إن اليد موجبة للملك، فلم يستفد صاحبها بالبينة، ما لم يستفد بيده فمن وجهين: أحدهما: أن اليد تدل على الملك، ولا توجبه؛ لأن اليد قد تكون لغصب، أو أمانة، أو إجازة فلم توجب الملك دون غيره، وإن كانت في الظاهر محمولة عليه مع اليمين، والبينة موجبة للملك بغير يمين. فصار مستفيدًا بالبينة، ما لا يستفيده بيده من وجهين: أحدهما: أن اليد تدل على الملك، ولا توجبه، لأن اليد قد تكون لغصب أو أمانة، أو إجازة فلم توجب الملك دون غيره، وإن كانت في الظاهر محمولة عليه مع اليمين، والبينة موجبة للملك بغير يمين، فصار مستفيدًا بالبينة، ما لا يستفيده بيده من وجهين: أحدهما: أنها أوجبت الملك واليد لا توجبه. والثاني: أنها أسقطت اليمين، واليد لا تسقطها. والجواب الثاني: ما قدمناه أن بينة المدعى عليه في الدين لم تسمع بينته في اليمين فمن وجهين: أحدهما: ما قدمناه من أن البينة في الدين، في جهة المدعي تكون على الإثبات، ومن جهة المدعى عليه تكون على النفي، والبينة، تسمع على الإثبات، ولا تسمع على النفي، وهي على الأيمان موجبة للإثبات في الجهتين فسمعت منهما. والجواب الثاني: أنها تسمع البينة في الدين من جهة المدعى عليه، إذا شهدت

بالقضاء، فصارت مسموعة من الجهتين، وأما الجواب عن قولهم إنه لما لم تسمع البينة، مع عدم بينة الخارج، كان أولى أن لا تسمع مع وجود بينة الخارج، فهو أن لأصحابنا في سماعها وجهين ذكرناهما: أحدهما: تسمع ويسقط الاستدلال. والثاني: لا تسمع. والفرق بينهما أنه لا تسمع بينة، مع عدم بينة الخارج لأنه مستغٍن عنها بيمينه. فصل: فإذا ثبت أن البينة مسموعة من المدعي، الذي هو الخارج، ومن المدعى عليه، الذي هو الداخل، فبينة المدعي مسموعة على التقييد، والإطلاق، فتقييدها أن تشهد له بالملك المضاف إلي سببه، وإطلاقها أن تشهد له بالملك على الإطلاق من غير إضافة إلي سببه. وأما بينة المدعى عليه، فإن شهدت بالملك المقيد المضاف إلي سببه سمعت، وإن شهدت له بالملك المطلق من غير إضافة إلي سببه، ففي سماعها منه قولان: أحدهما: وهو قوله في القديم لا تسمع منه لجواز أن تشهد له بالملك لأجل اليد التي قد زال حكمها بينة المدعي. والثاني: وهو قوله في الجديد تسمع منه لأن الظاهر من الشهود إذا أطلقوا أنهم لا يشهدون له بالملك عن يد، قد علموا زوالها ببينة المدعي، إلا وقد علموا غيرها من الأسباب الموجبة للملك، فحملت شهادتهم على ظاهر الصحة، فإذا سمعت بينة المدعي وسمعت بينة المدعى عليه، على ما وصفنا فقد تعارضت البينتان فوجب أن يحكم للمدعى عليه دون المدعي، وفي وجوب استحلافه على الحكم له بالملك قولان، مبنيان على اختلاف قول الشافعي فيما يوجبه تعارض البينتين فأحد قوليه إنهما يسقطان بالتعارض، وتقر يد المدعى عليه، فيحكم له بيده مع يمينه. والقول الثاني: أن بينة المدعى عليه قد ترجحت بيده، فأسقطت بينة المدعي ببينته، فحكم له بالبينة من غير يمين ترجيحًا باليد ولم يحكم له باليد. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وسواء أقام أحدهما شاهدًا وامرأتين والآخر عشرًة إن كان بعضهم أرجح من بعٍض". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا أقام كل واحد من المتداعيين بينة على ما تنازعاه من العين، ولو يمكن لواحد منهما يد، وترجحت بينة أحدهما على بينة الآخر، بكثرة

العدد، وكانت بينة أحدهما شاهدين، وبينة الآخر عشرة، أو ترجحت بزيادة العدالة، فكانت بينة أحدهما أظهر زهدًا، وأوفر تحرجًا فهما من التعارض سواء، ولا يغلب الحكم بالبينة الزائدة في العدد والعدالة، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه. وقال مالك: المرجحة بزيادة العدد، وقوة العدالة أولى، والحكم بها أحق. حكاه الشافعي في القديم، فخرجه بعض أصحابه قولًا ثانيًا، ونفاه أكثرهم عنه. وحكي عن الأوزاعي أنه قال: اقسم الشيء المشهود فيه على عدد البينتين، فإذا كانت إحداهما شاهدين والأخرى أربعة قسمت فيه أثلاثًا، فجعلت لصاحب الشاهدين سهمًا، ولصاحب الأربعة سهمين. فأما مالك فاستبدل بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عليكم بالجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الجماعة أبعد" ولأن النفس إلي زيادة العدد أسكن، وبقوة العدالة أوثق ولذلك رجحت بها أخبار الرسول إذا تعارضت، فوجب أن ترجح بها الشهادات إذا تعارضت. وأما الأوزاعي، فاستدل له بأن المشهود فيه مستحق بقولهم، فاقتضى أن يكون مقسطًا على عددهم. والدليل على التسوية بينهم أن الله تعالى نص على عدد الشهادة بقوله: {واسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ} [البقرة: 282] وبقوله تعالى {وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: 2]، فمنع النص من الاجتهاد في الزيادة والنقصان. ولأن لما جاز الاقتصار على الشاهدين مع وجود من هو أكثر، وعلى قبول العدل مع من هو أعدل، دل على أن لا تأثير لزيادة العدد، وزيادة العدالة، ولأن ما تقدر بالشرع لم يختلف حكمه بالزيادة والنقصان كدية الحر، وما تقدر بالاجتهاد، اختلف حكمه بالزيادة، والنقصان لقيمة العبد، وبهما فرقنا في الأخبار المتعارضة بين زيادة لعدد، ونقصانه، لعدم النص من عدده وسوينا في الشهادات المتعارضة بين الزيادة والنقصان لورود النص في عدده وفيما ذكرناه انفصال عما استدلوا به. وقول الأوزاعي أوهي، لأنه لو ثبت الحق بشهادة عشرة، ثم ثبت قضاؤه بشاهدين قضى بهما على شهادة العشر ولم يقسط القضاء على العدد كذلك في إثبات الحق، وهو حجة، على مالك أيضًا. فصل: فإذا ثبت أنه لا ترجح الشهادة بزيادة العدد وزيادة العدالة كذلك لا ترجح بأن يكون مع أحدهما شاهدان، والأخرى شاهد وامرأتان؛ لأن كل واحدة من الشاهدين بينة كاملة، فإذا تعارض شاهدان وشاهد ويمين ففيهما قولان: أحدهما: أنهما سواء لأن الحق يثبت بكل واحدة منهما.

والثاني: وهو أصح أن الشاهدين يقوم على الشاهد، واليمين، لأمرين: أحدهما: أن التهمة متوجهة إلي اليمين، وغير متوجهة في الشهادة. والثاني: أن الحكم بالشاهدين متفق عليه، وبالشاهد واليمين مختلف فيه. وسنذكر حكم التعارض من بعد. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن أراد الذي قامت عليه البينة أن يحلف صاحبه مع بينته لم يكن ذلك له إلا أن يدعي أنه أخرجه إلي ملكه فهذه دعوى أخرى فعليه اليمين". قال في الحاوي: أن يشهد شاهدان على رجل، بدين في ذمته، أو بملك في يده فيسأل المشهود عليه إحلاف المشهود له، أن ما شهد به شاهداه حق له، لم يجز إحلافه، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك وأكثر الفقهاء، وحكي عن شريح والنخعي، والشعبي، وابن أبي ليلى: أنهم جوزوا إحلاف المدعي مع بينته استعمالًا لما أمكن في الاستظهار في الأحكام. وهذا خطأ لرواية ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه"، فلم يجعل في جنبة المدعي غير البينة، فلم يجز إحلافه معها، وقال صلى الله عليه وسلم للمدعى: "شاهدالك أو يمينه"، ولأن في إحلافه مع شهادة شهوده قدحًا في شهادتهم وطعنًا في عدالتهم وما أفضى إلي القدح في شهادة صحت وعدالة ثبتت ممنوع منه كما يمنع من إحلافه أن ما حكم به الحاكم حق لإفضائه إلي القدح في حكمه، ولا يجوز الاستظهار بما يمنع منه الشرع، ولم يرد به. فإن قيل: فقد جوز الشافعي في الرهن، إذا أقام البينة على إقرار الراهن بإقباضه ثم سأله الراهن إحلاف المرتهن على قبضه أنه يحلف عليه. قيل: إن سأل إحلافه على أن ما أقر بإقباضه، كان صحيحًا نظر فإن كان إقراره بأن وكيله أقبضه أحلف عليه، لجواز أن يكذبه الوكيل في القبض، وليس فيه قدح في الشهادة على إقراره، وإن كان هو الذي أقبضه إياه، ففي جواز إحلافه على قبضه منه وجهان: أحدهما: لا يجوز لما فيه من الرجوع عن إقراره. والثاني: يجوز لأنه قد عرف الإقرار بالتقابض قبل الإقباض فصار الإقباض بالعرف محتملًا. فصل: فأما إذا سأل المشهود عليه، إحلاف المشهود له، أنه ما قبض الدين أو لم يبعه

العين، أجيب إلى إحلافه لأنها دعوى مستأنفة أنه ابتاع العين، وقضاه الدين، وليس فيها تكذيب للشهود، فجاز إحلافه عليها. وهكذا لو شهد الشهود بدين على غائب، أو ميت، جاز إحلاف المشهود له، أنه ما برئ إليه من الدين ولا من شيء فيه، لأن الغائب والميت لو كانا حاضرين لجاز أن يدعيا قضاء الدين، أو الإبراء منه، فلزم لأجل الاحتياط أن يحلف المشهود له على مثل ما لو ادعاه الحاضر أحلف له، فإن قضى الدين من مال ناجز أحلف عند الشروع في قضائه، ثم قضى بعد يمينه. وإن كان نقضا من بيع عقار، أحلف قبل بيعه ثم بيع وقضي من ثمنه، ولم يجز أن يباع قبل يمينه، لأنه قد يجوز أن ينكل عن اليمين، فيفوت استدراك المبيع، فأما إحلاف الشهود على صدقهم فيما شهدوا به، فلا يجوز وهو قول جميع أهل العلم. وحكي عن الهادي العلوي أنه باليمين كأن يحلف الشهود إذا ارتاب بهم، ثم يحكم بشهادتهم، وهذا قول خرق به الإجماع، وخالف به الأمة، لقول الله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]. فأمر بالحكم بها، ولم يوجب اليمين معها. ولأنهم إذا كانوا صادقين، وجب الحكم بشهادتهم، من غير يمين، وإن كانوا كاذبين لم يجز الحكم بها مع اليمين. ولأنه لو جاز إحلاف الشهود مع الارتياب لجاز إحلاف الحكام، ثم إحلاف الأئمة، ثم إحلاف الأنبياء أن ما أدوه عن الله تعالى حق، وما أفضى إلى هذا كان مطرحًا. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو ادعى أنه نكح امرأةً لم أقبل دعواه حتى يقول نكحتها بولي وشاهدي عدل ورضاها فإن حلفت برئت، وإن نكلت حلف وقضي له أنها زوجة له". قال في الحاوي: وأصل هذا أن الدعوى المجهولةً لا يجوز للحاكم أن يسمعها، ويسأل الخصم عنها إلا في الوصايا لجواز الوصيةً بالمجهول، فأما غير الوصايا التي تمنع الجهالةً منها، فلا يصح ادعاؤه مجهولًا حتى يستوفي المدعي ما يمنع من جهالة الدعوى، لأن سماع الدعوى يكون للسؤال عنها، والحكم بها، ولا يجوز للحاكم أن يحكم بمجهول، فلم يجز أن يسمع الدعوى بمجهول، فإذا كان هذا أصلًا، وكانت الدعوى معلومةً، تعلق الكلام بالكشف عن سببها، وللمدعى عليه ثلاثة أقسام: قسم لا يجب الكشف عن سببه. وقسم يجب الكشف عن سببه. وقسم مختلف في وجوب الكشف عن سببه.

فأما الذي لا يجب الكشف عن سببه، فالأملاك المدعاةً من عين، أو دين، فالعين أن يدعي دارًا أو ثوبًا أو عبدًا معلومًا بصفةً أو تعيين، والدين أن يقول عليه ألف درهم بصفتها فلا يلزم أن يسأله عن سبب ملكه، لما ادعاه، ولو سأله لم يجب على المدعي ذكر سببه. وإنما لم يجب الكشف عن سبب الملك، لأن أسباب الملك تكون من جهات شتى بكثرة عددها، لأنه قد يملك بالميراث، والابتياع، وبالهبة، والقيمةً، وبالوصيةً، وبغير ذلك من الوجوه كالإجباء، وحدوث النتاج، والثمار، فسقط الكشف عن سببها لكثرتها واختلافها. وأما القسم الذي يجب الكشف عن سببه، فدعوى القذف والقتل، فإن ادعى قتلًا قيل أعمد أم خطأ؟ فإن قال: عمد سئل عن صفة العمد، وإن ادعى قذفا سئل عن لفظ القذف، لأن القتل يختلف حكم عمده، وخطئه، وقد يدعى من العمد ما لا يكون عمدًا، ولما في العمد من اختلاف أسبابه، وأحكامه وفي الحكم به قبل السؤال فوات ما لا يمكن استدراكه، والقذف قد تختلف ألفاظه وأحكامه فافتقر ذلك إلى كشف السبب، وصفته ليزول عن الاحتمال وصار كالشاهد إذا شهد بفسق مجروح، أو نجاسة ماء لم يحكم بنجاسته حتى يذكر سبب ما صار به المجروح، فاسقًا، والماء نجسًا، للاختلاف في التفسيق والتنجيس. فصل: وأما القسم المختلف في وجوب الكشف عن سببه، فهو أن تتوجه الدعوى إلى عقد يتردد بين الصحةً والفساد، فهو على ضربين: أحدهما: أن يكون مما يغلظ حكمه في الشرع، كالنكاح المغلظ بالولي والشاهدين، فالحاكم مندوب عند الشافعي أن يسأل مدعي النكاح عن صفته، فيقول نكحتها بولي، وشاهدي عدل، ورضاها، فاختلف أصحابه فيما خص به النكاح من صفة العقد، هل هو محمول على الوجوب أو على الاستحباب على ثلاثة أوجه: أحدها: أنه محمول على الاستحباب دون الوجوب سواء ادعى العقد فقال: تزوجت بهذه المرأة، أو ادعى النكاح فقال هذه زوجتي، وتصح الدعوى، وإن لم يصف العقد، وهذا قول أبي العباس بن سريج وبه قال أبو حنيفة ومالك لأمرين: أحدهما: أنه لما لم يلزم في دعوى البيع صفة العقد، وإن اعتبرت فيه شروط اختلف فيها لم يلزم صفةً النكاح لأجل شروطه، واختلاف الناس فيها. والثاني: أنه قد يعتبر في صحة النكاح وجود شرائط كالولي، والشاهدين، ورضا المنكوحة، وعدم شروط كعدم العدةً، والردةً، والإحرام، فلما لم يعتبر في دعوى النكاح، الشروط المعدومة لم تعتبر الشروط الموجودة.

والثاني: وهو ظاهر مذهبه، وعليه قول الأكثرين من أصحابه أنه محمول على الوجوب، وأن الشروط المعتبر وجودها في صحة النكاح، شرط في صحة دعواه، سواء توجهت الدعوى إلى العقد أو إلى الزوجيةً، واختلف على هذا في سبب اختصاصه في الدعوى بصفة العقد، فقال أبو علي بن أبي هريرة: لأن النبي {صلى الله عليه وسلم} خصه من سائر العقود بأن قال: "لا نكاح إلا بولي وشاهدين"، ولولا هذا التخصيص لكان كغيره، وعلل أبو إسحاق المروزي بأن الفروج موضوعة على الحظر، والتغليظ فلم يجز استباحتها بدعوى محتملةً، حتى ينفي عنها الاحتمال به لصفة. وعلل أبو حامد المروزي بأن في استباحة الزوج إتلافًا لا يستدرك ومأثمًا لا يرتفع بالإباحةً، فأشبه دعوى القتل، وخالف ما سواه من عقود الأملاك. وعلل آخرون بأن الإطلاق في عقود النكاح أكثر، وما يطلق على اسم النكاح من فاسد العقود أقل، وفرقوا بين شروط الوجود، وشروط العدم وأن الشروط المعدومة أصل في العدم، فحملت على ظاهر العدم وليس لشروط الوجود أصل في الوجود، فلم يحمل على ظاهر الوجود. والثالث: إن كانت الدعوى، في عقد النكاح، فقال تزوجت هذه المرأةً، كانت شروط العقد معتبرةً في صحة الدعوى وإن اقتصرت الدعوى على النكاح الأول، دون العقد، فقال هذه زوجتي، لم يعتبر شروطا للعقد في صحة الدعوى، لأن الاستدامة أخف حكما من الابتداء، لأن الشهادة على عقد البيع، والنكاح بالخبر الشائع لا تصح، حتى يشاهد المتعاقدين، ويسمع لفظهما بالعقد والشهادة على الأملاك، والزوجية بالخبر الشائع تصح، فلذلك تغلظت دعوى العقد وتخففت دعوى الزوجية. فصل: فإذا صحت دعوى النكاح على ما وصفنا فهي على ضربين: أحدهما: أن تتوجه الدعوى من الزوج على الزوجة من ضروب دعوى النكاح، فتؤخذ بالجواب عنها، ولها في الجواب حالتان: إقرار وإنكار فإن أقرت بالزوجة، حكم بإقرارها، وأنها زوجة لمدعي نكاحها وسواء كانا في حضر أو سفر. وحكي عن مالك أنه يحكم بذلك في السفر، ولا يحكم به في الحضر إلا ببينةً، أو يرى دخوله عليها، وخروجه من عندها، لإمكان ذلك في الحضر وتعذره في السفر إلا أن يكونا في غربة فيقبل. وقد ذكره الشافعي في القديم، فمن أصحابه من خرجه قولا له في القديم، ومنهم من نسبه إلى حكايته له عن مالك وأن مذهبه في القديم، والجديد، وقول فقهاء العراق أن

تصادقهما على النكاح يوجب الحكم بصحته في الحضر والسفر، وفي الغربة والوطن، لأنه من لوازم العقود لهما، فحكم فيه بالصحة لتصادقها كسائر العقود. ولأن التصادق على العقد أثبت من البينةً. ولأن العقد يسبق التصرف فلم يعتبر في الإقرار به وإن أنكرته الزوجة أحلفت. وقال أبو حنيفة: لا يمين عليهما وقد مضى الكلام معه في وجوب الأيمان في جميع الدعاوى. فإن حلفت فلا نكاح بينهما، ما لم يكن لهبينة بالعقد عليها وبينته شاهدان عدلان لا غير، إما على حضور العقد وإما على إقرارها به، وأخذت بالاجتماع معه جبرًا. وإن نكلت عن اليمين مع عدمه للبينةً، ردت عليه اليمين، وحكم له بنكاحها، إذا حلف وإن نكل عن يمين الرد انقطعت الدعوى، وزال حكمها. فصل: والضرب الثاني: أن تكون دعوى النكاح، متوجهة من الزوجة على الزوج من ضروب دعوى النكاح، فإن اقترن بدعواها، طلب حق يتعلق بها من مهر، أو نفقة سمعت دعواها عليه، وهل يعتبر في صحةً دعواها، ذكر شروط العقد على ما ذكرناه من الأوجه الثلاثة، وأخذ الزوج بالجواب عن دعواها، وإن لم يقترن بدعواها، طلب حق يتعلق ففي وجوب أخذ الزوج بجواب دعواها وجهان: أحدهما: لا يسأل عن الجواب، ولا يؤخذ به، لأنه إذا لم يتعلق بالدعوى، طلب حق صار إقرارا له بالعقد، ولا جواب على المقر له. والثاني: وهو أظهر أنه يؤخذ بالجواب عنه، لأنه قد يتعلق بهذه الدعوى ما يحدث بعدها، من ثبوت نسب واستحقاق ميراث، فإذا صحت دعواها على ما بينا وأخذ الزوج بجوابه عنها، فله حالتان: إقرار وإنكار. فإن أقر حكم بثبوت النكاح بينهما بتصادقهما في الحضر والسفر، على ما قدمناه، وإن خالف فيه مالك، فإن أنكرها ولها بينة، سمعت، وحكم لها بالنكاح. وإن عدمت البينةً، أحلف لها على إنكاره، فإن حلف فلا نكاح بينهما، وجاز لها أن تنكح غيره، وإن أقرت بنكاحه، لأن نكاحها قد زال بيمينه، ولا يجوز أن لا تكون زوجةً له، وتحرم على غيره. وإن نكل عن اليمين ردت عليها، فإذا حلف بعد نكوله حكم لها عليه بالزوجية، وحل له إصابتها، والاستمتاع بها، وإن أنكر العقد، لأنه قد حكم بينهما بالزوجية فكان الحكم لكل واحد منهما قطعه. ولا يجوز أن يحكم عليه بالنكاح، ويحكم عليه بتحريم الاستمتاع، وليس جحود النكاح طلاقًا، تحرم به عليه، لأنه لو كان طلاقًا لارتفع به النكاح، وإذا كان النكاح بعده ثابتًا، امتنع أن يكون طلاقًا فامتنع أن يحرم عليه الاستمتاع.

فصل: فأما دعوى غير النكاح من سائر العقود كالبيع، والإجارةً، والرهن، فإن لم يعتبر شروط العقد في دعوى النكاح، فأولى أن لا تعتبر في دعوى غيره من العقود، لأنها إذا لم تعتبر في الأغلظ، كان أولى أن لا تعتبر في الأخف، وإن اعتبرت في النكاح فقد اختلف أصحابنا في اعتبارها في دعوى غيره من البيع والإجارة على ثلاثة أوجه: أحدها: يعتبر في دعواها شروط العقد، سواء استبيح بها، ذات فرج أم لا، لأنها قد توجد فيها الصحة، والفساد كالنكاح، فيقول في دعوى العبد ابتعت هذا العبد بألف درهم بعد رؤيته وافترقنا عن تراض منه. والثاني: يجوز إطلاق الدعوى، ولا تعتبر فيها شروط العقد وسواء استبيح بها ذات فرج أم لا بخلاف النكاح، لوقوع الفرق بينهما في التغليظ باعتبار الولي والشاهدين في النكاح، وسقوط اعتباره في البيع. والثالث: إن استبيح بالبيع ذات فرج كابتياع الأمةً، اعتبر في دعوى ابتياعها شروط العقد، كالنكاح، وإن لم يستبح به ذات فرج كابتياع البهائم، والأمتعةً، لم يعتبر في دعوى ابتياعها شروط العقد، لتخفيف حكمها بأنها تملك بالإباحة، ويشبه أن يكون لهذا الموجه وجه. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "والأيمان في الدماء مخالفة لغيرها لا يبرأ منه إلا بخمسين يمينا وسواء النفس والجرح في هذا نقتله ونقصه منه بنكوله ويمين صاحبه (قال المزني:) رحمه الله: قطع في الإملاء بأن لا قسامة بدعوى ميت، ولكن يحلف المدعى عليه ويبرأ، فإن أبى حلف الأولياء واستحقوا دمه، وإن أبوا بطل حقهم وقال في كتاب اختلاف الحديث من ادعى دما ولا دلالة للحاكم على دعواه كدلالة التي قضى بها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بالقسامة أحلف المدعى عليه كما يحلف فيما سوى الدم قال المزني: رحمه الله: وهذا به أشبه، ودليل آخر حكم النبي {صلى الله عليه وسلم} في القسامة بتبدأة المدعي لا غيره، وحكم فيما سوى ذلك بتبدأةً يمين المدعى عليه لا غيره، فإذا حكم الشافعي فيما وصفت بتبدأة المدعى عليه، ارتفع عدد أيمان القسامة". قال في الحاوي: قد مضت هذه المسألة في كتاب القسامةً، وذكرنا أن دعوى الدماء، تخالف دعوى الأموال، من وجهين: أحدهما: بالتبدأةً بيمين المدعي مع اللوث، وبأعداد الأيمان خمسين يمينًا. وإذا اختصت الدماء بهذين الحكمين لم تخل دعواهما من أن تكون في نفس أو طرف، فإن

كانت في نفس لم يخل أن يكون معها لوث، أم لا. فإن كان معهما لوث تعلق عليهما الحكمان في التبدئةً بيمين المدعي وبإحلافه خمسين يمينًا، فإن كان الولي واحدًا، أحلف خمسين يمينا واستحق الدم، وفيما يستحقه به قولان: أحدهما: القود قاله في القديم. والثاني: الدية قاله في الجديد. وإن كان ولي الدم جماعةً كيف تكون أيمانهم؟ ففي أيمانهم قولان: أحدهما: أنه يحلف كل واحد منهم خمسين يمينًا، يستوي فيه من قل سهمه وكثر. والثاني: أن الخمسين يقسط بينهم، على قدر ميراثه، فيحلف كل واحد منهم بقدر قسطه من مواريثه، بجبر الكسر، فإن كانوا ابنًا وبنتًا حلف الابن أربعةً وثلاثين يمينًا، وحلفت البنت سبع عشرةً يمينًا. وإن لم يكن مع الدعوى لوث، سقطت التبدئة بيمين المدعي وأحلف المدعى عليه كما يبتدئ بإحلافه في دعوى الأموال، ولكن هل تغلظ الدعوى بعدد الأيمان أم لا؟ على قولين أحدهما: لا يغلظ بالعدد، ويحلف المدعى عليه يمينًا واحدةً، لأنه لما سقط فيها حكم التبدئةً سقط فيها حكم العدد كالأموال. والثاني: تغلظ فيها الأيمان بالعدد، وإن سقط التغليظ بالتبدئةً، لتغليظ حكم الدماء، بوجوب القود، والكفارةً فعلى هذا إن كان المدعى عليه واحدًا، حلف خمسين يمينًا، وإن كانوا جماعة فعلى قولين: أحدهما: يحلف كل واحد منهم خمسين يمينًا. والثاني: يقسط الخمسون بينهم على عددهم إلا أن يكونوا ورثة ميت، فتقسط بينهم على مواريثهم، فإن حلف برئ، وإن نكل ردت اليمين على المدعى، وفي تغليظ يمينه بالعدد قولان: أحدهما: لا يغلظ ويحلف يمينا واحدة، يستحق بها القود في العمد قولًا واحدًا، وإن لم يستحقه مع اللوث على أحد القولين، لأن يمين الرد في النكول تقوم مقام الإقرار، في أحد القولين ومقام البينة في القول الآخر، والقود يستحق بكل واحد من إقرار المدعى عليه، وبينة المدعي. والثاني: يحلف المدعي خمسين يمينًا، ثم يحكم له بالقود إن حلفها فإن كانوا جماعة فعلى قولين: أحدهما: يحلف كل واحد منهم خمسين يمينا. والثاني: أنها تقسط بينهم على قدر مواريثهم بجبر الكسر. فصل: فأما إن كانت دعوى الدم في الأطراف فتسقط فيها التبدئةً، بيمين المدعي، سواء كان

معها لوث، أو لم يكن لسقوط تغليظها، بسقوط الكفارةً فيها، فأما تغليظه بعدد الأيمان، فإن لم تغلظ بالعدد في النفوس عند عدم اللوث، فأولى أن لا تغلظ بالعدد في الأطراف وإن غلظت بالعدد في النفوس ففي تغليظ الأيمان بالعدد في الأطراف قولان: أحدهما: لا تغلظ، ويحلف المدعى عليه يمينا واحدةً، ويبرأ من الدعوى، فإن نكل عنها ردت اليمين على المدعي، وحلف يمينا واحدةً، واستحق بها القود. والثاني: أن تغلظ الأيمان بالعدد وفي كيفية تغليظها قولان: أحدهما: تغلظ في دعوى كل طرف خمسين يمينًا، سواء قلت ديته أو كثرت. والثاني: أنها تسقط على دية الطرف من جملة ديةً النفس، فإن كان الطرف موجبًا لجميع الدية كاللسان والذكر حلف خمسين يمينًا وإن كان فيه نصف كإحدى اليدين حلف خمسة وعشرين يمينًا، وإذا كان فيه ثلث الدية كالمأمومةً، والجائفةً، حلف سبع عشرة يمينًا وإن كان فيه عشر الديةً، كالأصبع حلف خمسة أيمان، وإن كان فيه نصف العشر كالموضحة حلف ثلاثة أيمان فإن كان المدعى عليه واحدًا حلفها، وإن كانوا جماعة فعلى قولين: أحدهما: أن يحلف كل واحد منهم جميع هذا العدد المذكور. والثاني: أنه يقسط هذا العدد بينهم على قدر مواريثهم بجبر الكسر، فإن نكلوا عن اليمين، ردت على المدعي وكانت عدد أيمانه مثل عدد أيمانهم على الأقاويل. فصل: فأما المزني فإنه اختار أن يكون عدد الأيمان معتبرًا بالتبدئةً فإن حكم بتبدئة المدعي لوجود اللوث، غلظت الأيمان بالعدد وإن سقطت التبدئةً بيمين المدعي سقطت عدد الأيمان، ثم ذكر المزني في كلامه مسألة حكاها عن الشافعي في الإملاء، فقال: "ولا قسامة، بدعوى ميت" يريد به أن المقتول إذا قال قبل موته، قتلني فلان، فلا قسامة لوارثه، يعني أنه لا يبدأ بيمينه ولا يجعل ذلك لوثًا له، ردا على مالك حيث جعله لوثًا وقد مضى الكلام فيه. فأما عدد الأيمان فيه، فيكون على القولين في عددها، مع عدم اللوث، فلم يكن للمزني في إيرادها دليل على ما اختاره، من سقوط العدد. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: " والدعوى في الكفالة بالنفس والنكول ورد اليمين كهي في المال، إلا أن الكفالة بالنفس ضعيفةً". قال في الحاوي: وهذه المسألة في كفالة النفوس، قد مضت في كتاب الضمان

مستوفاةً، وأعادها المزني هاهنا لأمرين: أحدهما: بصحة الدعوى بصحتها، وفساد دعواها بفسادها. والثاني: لوجوب اليمين في إنكارها إذا صحت، والذي نص عليه الشافعي في كتاب الضمان، أن كفالة النفوس صحيحة وهو قول جمهور الفقهاء، لقول الله تعالى في قصة يوسف، عليه السلام: قال {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللَّهِ لَتَاتُنَّنِي بِهِ} [يوسف: 66]. يعني كفيلًا بنفسه، ولأنه قد عمل بها الصدر الأول، ولأن فيها رفقا بالناس، وتعاونا على الصيانةً. ثم قال الشافعي هاهنا: "إلا أن الكفالة في النفس ضعيفةً". فاختلف أصحابنا في مراده بضعفها، فقال بعضهم: أراد به بطلانها. فخرجوا هذا قولًا ثانيًا، في إبطالها لأنه لم يكفل بمال في الذمةً، ولا بعين مضمونةً، يجب غرم قيمتها. وقال آخرون منهم: لم يرد بالضعف إبطالها، وإنما أراد ضعفها في قياس الأصول، وإن صحت بالآثار والعمل المتفق عليه. فأما إذا كانت الكفالة بالنفس في حقوق الله تعالى: فإن منع منها في حقوق الآدميين على التخريج الذي ذهب إليه بعض أصحابنا كانت في حقوق الله تعالى أمنع لإدرائها بالشبهات. وإن أجيزت في حقوق الآدميين على الظاهر المشهود، من المذهب ففي جوازها في حقوق الله تعالى قولان: أحدها: لا تجوز تعليلًا بما ذكرنا. والثاني: تجوز لقول النبي {صلى الله عليه وسلم}: "قدر الله أحق أن يقضى". فصل: فإذا توجهت دعوى الكفالة على رجل، خوصم فيها إلى الحاكم فإن كان يرى إبطال الكفالة بالنفس، لم تسمع الدعوى فيها، ولم تجب اليمين في إنكارها، وإن كان يرى جوازها سمع الدعوى فيها وأوجب اليمين على منكرها، وقال أبو حنيفة: لا يمين على منكرها، وإن صحت، وبناه على أصله في إسقاط اليمين على المنكر، في خمسةً عشر موضعًا يطول شرحها، وقد مضى الكلام في نظائرها. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو أقام بينة أنه أكراه بيتا من داره شهرًا بعشرةً وأقام المكتري البينة أنه اكترى منه الدار كلها ذلك الشهر بعشرة فالشهادة باطلة ويتحالفان ويترادان فإن كان سكن فعليه كراء مثلها". قال في الحاوي: اعلم أن اختلاف المتكاريين في عقد الإجارةً كاختلاف المتبايعين في عقد البيع، فيكون اختلافهما تارةً في الأجرةً كاختلافهما في الثمن، ويختلفان تارة في

قدر المدةً، كاختلافهما في قدر المبيع، ويختلفان في صفة المكري كاختلافهما في صفة المبيع، فيحكم بالبينة، ويتحالفان عند عدمها، لأن الإجارة صنف من البيوع، فتساويا في التحالف. فإذا تقرر هذا فصورة المسألة: أن يختلف المتكاريان فيقول المكري أكريتك بيتًا من هذه الدار شهر رمضان بعشرة. ويقول المكتري: بل اكتريت منك جميع هذه الدار شهر رمضان بعشرةً فإن عدما البينة تحالفا، وبدأ الحاكم بإحلاف المكري، كما يبدأ بإحلاف البائع. فإن حلف أحدهما فنكل الآخر، قضى للحالف منهما على الناكل. وإن حلفا معا فقد تساويا، ولم يترجح أحدهما على الآخر، فوجب أن يبطل العقد بينهما، وفيما يبطل به العقد وجهان: أحدهما: يبطل بنفس التحالف كما يرتفع نكاح المتلاعنين بنفس اللعان، حتى يحكم الحاكم بإبطاله، لأن التحالف لتصحيح العقد دون إبطاله، فوجب أن يبطل بالحكم لأجل التعارض. فعلى هذا لا يجوز للحاكم أن يحكم بإبطاله إلا بعد أن يعرض على كل واحد منهما إمضاء ما حلف عليه صاحبه. فيقول للمكتري: قد حلف المكري على ما ادعى، فتمضيه؟ فإذا قال: لا. قال للمكري: قد حلف المكتري على ما ادعى فتمضيه؟ فإذا قال: لا، حكم بالفسخ بينهما. ولو تراضيا على ما ادعاه أحدهما أمضاه على ذلك، وإذا امتنعا من الإمضاء، وحكم بينهما بالفسخ ففي انفساخ العقد بينهما وجهان: أحدهما: ينفسخ في الظاهر والباطن كما لو فسخه بتحالفهما. والثاني: ينفسخ في الظاهر دون الباطن، لأن حكم الحاكم لا يحيل الشيء عما هو عليه. وينظر في التحالف، فإن كان قبل مضي شيء من المدة استرجع المكتري أجرته، واسترجع المكري داره، وإن كان بعد مضي المدة، أو بعضها لزم المكتري أجرة مثل سكناه، لاستهلاكه لمنفعتها عن عقد قد حكم بفساده. فصل: وإن كان لهما عند التحالف بينة فعلى ضربين: أحدهما: أن تحضر البينة قبل التحالف، فتسمع ويمنع حضورها من التحالف، لأن البينة أولى من اليمين. والثاني: أن تحضر البينة بعد التحالف، فيكون سماعها محمولًا على ما أوجبه التحالف من فسخ العقد. فإن قيل: إنه قد انفسخ به العقد ظاهرًا وباطنًا لم تسمع البينة. وإن قيل إنه قد انفسخ به العقد في الظاهر دون الباطن سمعت، لأن تصادقهما أقوى من سماع البينة منهما، وتصادقهما غير معمول به إذا قيل بفسخ العقد في الظاهر والباطن، ومعمول به إذا قيل

بفسخ العقد في الظاهر، دون الباطن، كذلك البينةً، فإذا سمعت البينة على ما ذكرنا لم يخل أن تكون لأحدهما أولهما: فإن كانت لأحدهما سمعت، وحكم بها لمقيمها سواء شهدت للمكري، أو للمكتري. فإن أقام كل واحد منهما بينة شهدت له بما ادعى لم يخل حالهما من ثلاثة أضرب: أحدها: أن تكون إحدى البينتين أسبق تاريخا من الأخرى، فإن شهدت إحداهما بأنهما تعاقدا مع طلوع الشمس، وشهدت الأخرى أنهما تعاقدا مع زوالها من ذلك اليوم، فالعقد هو السابق منهما، لأن الثاني بعد صحة الأول باطل. والثاني: أن تشهد البينتان بالعقد في وقت واحد، فقد اختلف قول الشافعي في تعارض البينتين في الأموال على ثلاثة أقاويل: أحدها: إسقاط البينتين، وبه قال مالك لأمرين: أحدهما: لتكاذبهما في الشهادة، فسقطت بالتكاذب. والثاني: أن البينةً ما بان بها الحكم، فإذا لم يكن بها بيان ردت، لأنه لا بيان فيها لأحدهما بعينه. والقول الثاني: أنه يقرع بين البينتين، ويحكم بمن قرع منهما، وهو محكي عن علي، وابن الزبير رضي الله عنهما لأمرين: أحدهما: ما رواه سعيد بن المسيب، أن رجلين اختصما إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} في شيء وأقام كل واحد منهما شهودا، فأسهم رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بينهما "وقال اللهم أنت تقضي بينهما". والثاني: أن اشتباه الحقوق المتساويةً، يوجب تمييزها بالقرعة، كدخولها في القسمة في السفر بإحدى نسائه، وفي عتق عبيده، إذا استوعبوا التركة. والقول الثالث: أن يقسم الملك بينهما بالبينتين، وهو محكي عن ابن عباس، وبه قال سفيان الثوري، وأبو حنيفةً، وأصحابه لأمرين: أحدهما: ما رواه سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن جده أبي موسى الأشعري، أن رجلين تداعيا عند رسول الله {صلى الله عليه وسلم} بعيرا، أو دابة، وشهد لكل واحد منهما شاهدان، فجعله بينهما نصفين. والثاني: أن البينة أقوى من اليد، وقد ثبت أنهما إذا تساويا في اليد جعل بينهما، فوجب إذا تساويا في البينة، أن يكون أولى، بأن يجعل بينهما، فهذه ثلاثة أقاويل اتفق أصحابنا على تخريجها في تعارض البينتين في الأموال، واختلفوا في تخريج قول رابع

وهو: وقفهما على البيان، فخرجه البغداديون قولًا رابعا للشافعي، وامتنع البصريون من تخريجه قولًا رابعًا، لأن وقف البينة على البيان يوجب الحكم بالبيان دون البينةً، وإنما يوقف المال على البيان دون البينةً، وهذا أشبه، فإذا تقررت هذه الأقاويل في تعارض البينتين لم يخرج في تعارضهما في عقد الإجارة إلا قولين: أحدهما: إسقاطهما ويتحالف المتداعيان. والثاني: الإقراع بين البينتين، والحكم بشهادة من قرع منهما وفي إحلاف من قرعت بينته قولان، من اختلاف قولي الشافعي في القرعة هل دخلت ترجيحًا للدعوى أو للبينة؟ فأحد قوليه أنها دخلت ترجيحًا للبينةً، فعلى هذا لا يمين على من قرعت بينته، لأن الحكم بالبينةً ولا يمين مع البينة. والثاني: أنها دخلت ترجيحًا للدعوى، فيجب إحلاف المدعي. فعلى هذا يكون فيما ثبت به الحكم وجهان: أحدهما: باليمين مع البينة، وتكون يمينه بالله أنه ما شهدته بينته حق، وقد نص عليه الشافعي. والثاني: أن الحكم يثبت بيمينه ترجيحًا بالبينةً، وتكون يمينه بالله، لقد اكتريت منه الدار بكذا. ولا يجيء فيه تخريج القول الثالث، أنه يقسم بينهما بالبينتين، لأن قسمة العقد لا تصح، ولا يجيء فيه تخريج القول الرابع إن صح تخريجه، أنه يكون موقوفا على البيان لتعذره في الدعوى والبينة، فوجب أن يفصل الحكم بينهما بالتحالف. والثالث: أن تكون البينتان مطلقتين ليس فيهما تاريخ يدل على اجتماعهما أو تقدم إحداهما، فقد حكي عن أبي العباس بن سريج، أنه يحكم بأزيد البينتين، فإن كان الاختلاف في الأجرة حكم بأكثرهما قدرًا. وإن كان في الكراء حكم بأكثرهما قدرًا. كما لو شهدت بينة بألف، وبينة بألفين، حكم بالألفين، والذي نص عليه الشافعي: أن البينتين متعارضتان تتساوى فيها الزيادة والنقصان، لأن عقد الكراء بعشرة يمنع منعقده بعشرين، وكراء البيت بعشرة يمنع من كراء الدار بعشرين، فيكون تعارضهما محمولًا على القولين، يسقطان من أحدهما ويقرع بينهما في الثاني. فصل: وإذا تنازع المكري، والمكتري، في شيء من آلة الدار، وادعاه كل واحد منهما ملكًا، لنفسه انقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما يكون القول فيه قول المكري، وهو كل ما كان متصلا بالدار من آلاتها، كالأبواب، والدهليزات، والرفوف المتصلة، والسلاليم المسمرةً، فالقول في ملكها قول المكري، مع يمينه لاتصالها بالدار التي هو مالكها. والثاني: ما يكون القول فيه قول المكتري مع يمينه، وهو قماش الدار وفرشها من البسط،

والحصر، والصناديق، لأنه من آلة السكنى والمكتري أحق بالسكنى. والثالث: ما يتحالفان عليه، وهو ما كان من آلة الدار منفصلًا عن الدار كالرفوف، والسلاليم المنفصلة، وإغلاق الأبواب، وأطباق التنانير فالعرف فيها متقابل، واليد فيه مشتركة، فيجعل بينهما بعد تحالفهما. ولو كانت منشأةً بين نهر وضيعةً، فادعاها صاحب الماء وقال: هي الجامعة لماء نهري، وقال صاحب الضيعة: هي المانعة للماء عن ضيعتي، فهما فيها متساويان، فيتحالفان عليها، وتجعل بعد الأيمان بينهما والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو ادعى دارا في يدي رجل فقال: ليست بملك لي وهي لفلان فإن كان حاضرًا صيرتها له وجعلته خصما عن نفسه وإن كان غائبا كتب إقراره وقيل للمدعي أقم البينة فإن أقامها قضى بها على الذي هي في يديه ويجعل في القضية أن المقر له بها على حجته قال المزني - رحمه الله -: قد قطع بالقضاء على غائب وهو أولى بقوله". قال في الحاوي: وصورتها في دار في يدي رجل، يتصرف فيها فادعاها عليه رجل، وقال: هي لي فقال صاحب اليد: ليست هذه الدار لي، وهي لغيري فله حالتان: إحداهما: أن يذكر اسم من جعلها له. والثاني: أن لا يذكره، فإن لم يذكر اسم من جعلها له، لم يكن ذلك جوابًا. وقيل له: قد توجه عليك جواب عدلت عنه، فإن أقمت على هذا، جعلت ناكلًا وأحلف المدعي، وحكم له بانتزاع الدار من يدك، فإن عاد فادعاها لنفسه بعد إنكاره، ففي قبول قوله وجهان حكاهما ابن سريج: أحدهما: لا يقبل قوله بعد إنكاره؟ لأنه قد اعترف بها لغيره ويجعل كالناكل، ويحلف مدعيها، ويحكم بها له. والثاني: يقبل قوله فيها، لأنه لم يتعين فيها من جعلها له، فصار إقراره كعدمه، فيحلف عليها أنها له، ويحكم له بالدار لأجل يده، إلا أن يكون لمدعيها بينة، فتسمع منه، ويحكم بها له. وإن سمى صاحب اليد من جعل الدار له، وقال: هي لفلان، لم يخل أن يكون حاضرًا، أو غائبًا. فإن كان حاضرًا لم يخل حاله أن يقبل الإقرار أو ينكره، فإن قبل الإقرار، صارت اليد له، وانتقلت الخصومة إليه وتوجهت عليه الدعوى، فإن أنكر مدعيها، حلف له وكان أحق بالدار بيمينه ويده، إلا أن يقيم مدعيها بينةً، فيحكم بها له ببينته؟ لأنها أولى من يد

ويمين. فإن أقام صاحب اليد البينة صار أحق بها ببينته، ويده من بينة بغير يد. ف إن طلب مدعيها إحلاف صاحب اليد عليها، بعد أن حكم بها للمقر له، ففي إجابته إلى إحلاف صاحب اليد قولان مبنيان على اختلاف القولين فيمن أقر بدار في يده لزيد، ثم أقر بها لعمرو، وكان زيد أحق بها من عمرو بالإقرار الأول، وهل يؤخذ المقر بغرم قيمتها لعمرو بالإقرار الثاني؟ على قولين: أحدهما: يؤخذ بغرم قيمتها لعمرو، لأنه قد استهلكها عليه بإقراره لزيد، فعلى هذا إيجاب المدعي إلى إحلاف صاحب اليد، لأنه لو أقر له لزمه الغرم. والثاني: لا غرم عليه، لبقاء الدار وتوجه المطالبة بها. فعلى هذا لا يحلف صاحب اليد ولا يستحق عليه بالنكول غرم. فصل: فإن لم يقبل من جعلت له الدار إقرار صاحب اليد وأنكرها، لم يخل حال صاحب اليد من أن يكون مقيمًا على إقراره، أو راجعا عنه. فإن أقام على إقراره بها لمن أنكرها، ولم يقبلها طولب مدعيها ببينته، فإن أقامها، حكم له بالدار، وإن عدمها ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج: أن الحاكم ينصب لها أمينا يحفظها على مالكها، حفظ اللقطة، حتى تقوم البينة بها، إما لمدعيها، أو لغيره، فيحكم بها له، ولا تدفع، إلى المدعي بيمينه، لأن يمينه هي يمين رد بعد النكول، ولم يحكم بنكول من توجهت عليه اليمين، فإن طلب المدعي إحلاف صاحب اليد، ففي إجابته إلى إحلافه ما قدمناه من القولين. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه لا وجه لإيقافهما على من لا يدعيها، والواجب أن يحلف المدعي عليها، وتدفع إليه الدار بعد يمينه فإن حضر مدع لها بعد تسليمها إلى الأول بيمينه، ونازعه فيها فهل يكون منازعًا فيها لذي يد، أو لغير ذي يد؟ على وجهين: أحدهما: يكون منازعًا لذي يد لتقدم الحكم بها له، فصارت يدا فيكون القول فيها إن أنكر قوله مع يمينه. والثاني: يكون منازعًا لغير ذي يد، لأنها دفعت إليه بيمين من غير يد، فيحلفان عليها، وتكون بينهما كالمتداعيين لما ليس في أيديهما وإن رجع صاحب اليد عن إقراره حين رد عليه وادعاها لنفسه، أو أقر بها لغيره، ففي قبوله من ثلاثة أوجه: أحدها: لا يقبل منه، سواء ادعاها لنفسه، أو أقر بها لغيره، لأن إقراره الأول قد

أكذب الثاني، فعلى هذا يكون الحكم كما لو أقام على إقراره الأول. والثاني: يقبل منه سواء ادعاها لنفسه، أو أقر بها لغيره، لأنه لم يتعلق بإقراره حق لمعين، فعلى هذا إن ادعاها لنفسه، كان هو الخصم فيها وإن أقر بها لغيره، انتقلت الخصومةً إليه، وكانت المنازعة مع ذي يد لأنه أقر له ذو يد. والثالث: يقبل إقراره بها لغيره، ولا يقبل منه دعواها لنفسه لأنه متهوم في ادعائها لنفسه، وغير متهوم في الإقرار بها لغيره. فصل: وإن كان صاحب اليد قد أقر بها في الابتداء لغائب، لم يخل حال المدعي من أن تكون له بينة أو لا بينةً له، فإن لم تكن له بينة كان الحكم موقوفًا على قدوم الغائب، والدار مقرةً في يد صاحب اليد، فإن طلب المدعي إحلاف صاحب اليد، ففي إجابته إلى إحلافه ما قدمناه من القولين. فإن قيل: لا يمين عليه، انقطعت الخصومة بينهما، وكانت موقوفة على قدوم الغائب. وإن قيل: بوجوب اليمين عليه، ففي كيفية يمينه وجهان: أحدهما: يحلف أن الدار للغائب فلان، لتكون يمينه موافقة لإقراره. والثاني: يحلف أنه لا حق لهذا المدعي فيها لتكون يمينه معارضة فإن حلف برئ من مطالبة الداعي، وإن نكل أحلف المدعي، وحكم له بقيمة الدار. فإن قدم الغائب المقر له، كان له منازعته في الدار، وإن صار إلى قيمتها، فإن أفضى النزاع إلى الحكم بالدار للغائب، استقر ملك المدعي على القيمة وإن أفضى إلى الحكم بالدار للمدعي أخذ برد القيمة على صاحب اليد، لئلا يجمع بين ملك الدار وقيمتها. وإن كان لمدعي الدار بينة، عند الإقرار بها للغائب سمعت بينته، وقضي له بالدار. واختلف أصحابنا هل يكون ذلك قضاء على الغائب المقر له، أو قضاء على صاحب اليد له؟ على وجهين: أحدهما: أنه قضاء على الغائب المقر له، فعلى هذا لا يحكم للمدعي بالبينة، حتى يحلف معها لأن القضاء على الغائب يوجب إحلاف المدعي مع بينته، لجواز أن يدعي الغائب انتقالها إليه ببيع أو هبة، فيحلف بالله أن ما شهدت به شهود الحق وأنها لباقية على ملكه، ويكون حلفه لصدق شهوده تبعا لحلفه ببقائها على ملكه، ولولا ذاك لما حلف بصدق الشهود، لأنه لا يلزمه إحلافه على صدقهم ولم يختلف قول الشافعي في جواز القضاء على الغائب، وإن وهم المزني في كلامه أن قوله قد اختلف فيه، وهو وهم منه. والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي أنه قضاء على صاحب اليد الحاضر، دون الغائب، وهو الظاهر من كلام الشافعي، لأنه قال: قضى له على الذي هي في يديه، وإنما كان قضاء على الحاضر، لأن الدعوى توجهت إليه، فتوجه القضاء عليه.

فعلى هذا يحكم بالدار للمدعي ببينته دون يمينه، ونسب المروزي المزني إلى الغلط في هذا الموضع من وجهين: أحدهما: أنه جعل ذلك قضاء على الغائب، وهو قضاء على الحاضر. والثاني: أنه وهم في تخريج القضاء على الغائب على قولين، ولعمري أنه وهم فيما أوهم من القولين، وهو فيما رآه من القضاء على الغائب محتمل، فإذا قدم الغائب، بعد الحكم بالدار للمدعي واعترف بها ونازع فيها وجرى عليه حكم منازع ذي يد، لأنها انتزعت من يد منسوبة إليه، واختار الشافعي للحاكم، إذا حكم لمدعي ببينته أن يكتب في قضائه للمدعي صفة الحال، وأنه حكم ببينته، وأنه جعل الغائب فيها على حجته. فصل: فإن أراد صاحب اليد، حين انتزعت الدار من يده ببينة المدعي، أن يقيم بينة الغائب بملكه للدار لم يخل حاله في إقامتها من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون ثابت الوكالة عن الغائب، فيسمع منه البينة للغائب بالملك، لأنه وكيله فيها، ويحكم للغائب، لأن له مع البينة يدا ليست للمدعي. والثاني: أن لا يكون وكيلًا للغائب ولا يتعلق له بالدار حق على الغائب من إجارة، ولا رهن، فلا تسمع منه البينة للغائب، لأنه لا حق له في إقامتها، وقد يجوز أن يكون الغائب منكرًا لها، ويكون الحكم فيها ببينة المدعي، حتى يقدم الغائب، فيدعي كمن شهدوا في تركة بقسم ومال مفلس يباع عليه أن عبدًا من جملته ملك لغائب لم يدعه، لم تسمع الشهادة، وقسم بين ورثة الميت وغرماء المفلس، وإن أراد إقامة البينة، بملك الغائب لاستيفاء حقه منها بالإجارة أو بالرهن فقد اختلف أصحابنا في جواز سماع البينة منه على وجهين: أحدهما: تسمع منه البينة فيها لتعلق حقه بها، ويقضى بملكها للغائب، ويقضى عليه لصاحب اليد بالإجارة، والرهن، ويكون القضاء بها لغير مدع، تبعا للقضاء لحق الحاضر عليه. والثاني: صدر هذا الكتاب آليا بواسطة الموسوعة الشاملة وهو قول أبي إسحاق المروزي لا تسمع بينة الحاضر وإن ادعى الإجارة والرهن، لأنهما تبع لملك الأصل، فلم تصح فيه الإجارة، ولا الرهن، إلا بعد ثبوت ملك الغائب، وملك الغائب لا يثبت بالبينة إلا بعد مطالبته. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو أقام رجل بينة أن هذه الدار كانت في يديه

أمس، لم أقبل قد يكون في يديه ما ليس له، إلا أن يقيم بينة أنه أخذها منه". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا كان في يد رجل دار فادعيت عليه وأقام مدعيها البينة أنها كانت في يده أمس، كالذي نقله المزني والربيع، أنه لا حجة للمدعي في هذه البينة بأن الدار كانت بيده بالأمس، ويكون القول قول صاحب اليد مع يمينه. ونقل أبو يعقوب البويطي أن بينة المدعي مسموعةً، ويقضى له بالدار، فاختلف أصحابنا في تخريجه، فكان أبو العباس بن سريج يخرج سماعها على قولين: أحدهما: ما رواه المزني والربيع أن هذه البينة لا تسمع ولا يحكم بها للمدعي، وتكون الدار مقرة في يد صاحب اليد في وقت الدعوى لأمرين: أحدهما: أن اليد غير موجبة للملك، وإنما يستدل بظاهرها على الملك، وإن جاز أن تكون بغير ملك، لدخولها بغصب، أو إجارةً، فإذا زالت بيد طارئةً، صارت الثابتةً أولى من الزائلةً لجواز انتقالها بملك طارئ من ابتياع، أو هبةً فبطل بزوالها ما أوجبه ظاهرها. والثاني: أن البينة تسمع فيما تصح فيه الدعوى، ولو قال المدعي كانت هذه الدار في يدي بالأمس، لم تسمع هذه الدعوى فوجب إذا أقام البينة بذلك أن لا يسمع، لأن البينة يجب أن تكون مطابقةً للدعوى في القبول والرد. والثاني: وهو ما نقله "البويطي" أن بينة المدعي مسموعةً ويحكم بها على اليد الطارئة، لتقدمها، إلا أن يقيم صاحب اليد بينة أنها انتقلت إليه بحق من هبة أو بيع، لأن اليد دالة على الملك، فجرت مجراه، وقد ثبت أن المدعي لو أقام بينة على أن الدار كانت له بالأمس حكم له بها، كذلك إذا أقام بينة أنها كانت في يده بالأمس، وذهب أبو إسحاق المروزي وجمهور أصحابنا إلى إبطال ما نقله البويطي، ونسبوه إلى مذهب لنفسه، وليس بقول الشافعي لأن كتب الشافعي تدل نصوصها على خلافه، وكذلك ما نقله عنه سائر أصحابه تعليلًا، بما قدمناه، وفرقوا بين أن يقيم البينةً، أنه كان مالكا لها بالأمس، فيحكم بها، وبين أن يقيم بينةً بأنها كانت في يده بالأمس، ولا يحكم بها، لأن ثبوت الملك يوجب دوامه إلا بحدوث سبب يوجب انتقاله وثبوت اليد لا توجب دوامها، لأنها قد تكون بإجارةً ترتفع بانقضاء مدتها، فافترقا في القبول، لافتراقهما في الموجب. وإذا وجب بما ذكرنا أن تكون البينة باليد المتقدمةً، غير مسموعةً مع ما حدث من اليد الطارئةً، فإنما لا تسمع إذا كانت مقصورةً على تقدم اليد فإن شهدت مع تقدم اليد بالسبب الذي انتقلت به إلى اليد الطارئةً من غصب، أو وديعةً، أو عاريةً وجب سماعها والحكم بها، وهو معنى قول الشافعي، لا إلا أن يقيم بينة أنه أخذها منه،. يعني بما لا يوجب زوال الملك، إما بمباح من وديعةً، أو عاريةً، أو بمحظور من غصب وتغلب، لأنه قد بان بالبينة، أن اليد الطارئة غير موجبة للملك فثبت بها حكم اليد المقدمةً.

مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو أقام بينة أنه غصبه إياها وأقام آخر البينة أنه أقر له بها فهي للمغصوب ولا يجوز إقراره فيما غصب". قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا كانت دار في يد رجل فتداعاها رجلان، فقال أحدهما: هذه الدار لي غصبني عليها صاحب اليد، وأقام على ذلك بينة. وقال الآخر: " هذه الدار لي، أقر لي بها صاحب اليد، وأقام على ذلك بينة: حكم بالدار للمغصوب فيه، دون المقر له، لأنه قد صار صاحب اليد بالبينة غاصبًا، وإقرار الغاصب مردود. وكذلك لو ادعاها الآخر أنه ابتاعها منه، كان بيع الغاصب، مردودًا فإن قيل: فيجب على الغاصب غرم قيمتها لمن أقر له بها على أحد القولين كمن أقر بدار لزيد، ثم أقر بها لعمرو، وغرم لعمرو قيمتها في أحد القولين قيل: لا غرم عليه هاهنا، قولًا واحدًا. والفرق بين الموضعين، أن استهلاك الدار على المقر له في هذا الموضع، كان بالبينةً فلا يلزم المقر غرم ما استهلكه غيره. وفي مسألة الإقرار كان المقر قد استهلكها على الثاني بإقراره الأول، فلزمه غرم ما استهلك. فصل: وإذا كانت الدار في يدي رجل، فتداعاها رجلان قال أحدهما: هذه الدار لي أودعتك إياها، وأقام على ذلك بينة. وقال الآخر: هذه الدار لي، أجرتك إياها وأقام على ذلك بينة. فصارا متداعيين لملكها، وإن اختلفا في حكم يد صاحب اليد، فتعارضت البينتان بالملك لتنافي شهادتهما فخرج في تعارضهما ثلاثة أقاويل: أحدها: إسقاط البينتين، والرجوع إلى قول صاحب اليد. والثاني: الإقراع بين البينتين، والحكم بمن قرع منهما فإن قرعت بينة مدعي الوديعةً، انتزعت من صاحب اليد ولا شيء عليه. وإن قرعت بينة مدعي الإجارة، فإن كانت المدة باقية، أقرت في يد صاحب اليد إلى انقضاء مدتها، وأخذ بأجرتها، فإن انقضت مدتها انتزعت من يده، وأخذ بالأجرةً. والثالث: استعمال البينتين، وجعل الدار بين المتنازعين نصفين، نصفها لمدعي الوديعة، ينتزعه من صاحب اليد ونصفها لمدعي الإجارة يقره على صاحب اليد، إلى انقضاء المدة ويرجع عليه بنصف الأجرة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا ادعى عليه شيئًا كان في يدي الميت حلف

باب الدعوى في الميراث

على علمه وقال في كتاب ابن أبي ليلى: وإذا اشتراه حلف على البت". قال في الحاوي: قد مضت هذه المسألة في مواضع، وذكرنا أن اليمين إذا توجهت على الإنسان في فعل نفسه، كانت على القطع والبت، سواء كانت على إثبات أو نفي. والإثبات أن يحلف والله إن هذا العبد لي إما بالشاهد واليمين، وإما بالرد بعد النكول. وأما النفي فإن حلف والله إنه لا حق لك في هذا العبد فإن أحلفه الحاكم، على العلم في الإثبات، فقال: والله إني أعلم أن هذا العبد لي وأعلم أن هذا العبد ليس هو بملك لك. فقد أكدها، لأن إثبات العلم زيادة تأكيد، وإن أحلفه على العلم في النفي فقال: والله لا أعلم أن لك علي شيئًا ولا أعلم أن هذا العبد لك، لم تصح اليمين، لأنه على يقين وإحاطة فيما اختص بنفسه من إثبات، ونفي، فلم تصح يمينه في النفي، إلا بالقطع والبت، كما لا تصح يمينه في الإثبات، إلا بالقطع. فأما إذا حلف في توجه الدعوى على غيره، كالوارث إذا ادعى على ميته دعوى، فأنكرها، فيمينه يمين نفي على فعل الغير، فيحلف على العلم دون القطع، لأنه لا طريق له إلى اليقين والإحاطةً فيقول: والله لا أعلم أن لك علي شيئًا مما ادعيته، فإن أحلفه الحاكم على القطع والبت، فقال: والله ما لك علي شيء مما ادعيته، كان تجاوزا من الحاكم، وقد وقعت اليمين موقعها، لأنها أغلظ من اليمين المستحقة عليه، وهي تؤول به إلى العلم. ولو ادعى شيئا لميته، وتوجهت اليمين عليه، حلف على القطع والبت، كما لو ادعاها في حق نفسه، لأنه لا يصح أن يدعيه إلا بعد إحاطة علمه به، فاستوى يمين الإثبات في فعله، وفعل غيره، واختلفت يمين النفي في فعله، وفعل غيره. وبالله التوفيق. باب الدعوى في الميراث مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو هلك نصراني وله ابنان: مسلم ونصراني فشهد مسلمان للمسلم أن أباه مات مسلمًا وللنصراني مسلمان أن أباه مات نصرانيًا صلى عليه فمن أبطل البينة التي لا تكون إلا بأن يكذب بعضهم بعضًا جعل الميراث للنصراني ومن رأى الإقراع أقرع فمن خرجت قرعته كان الميراث له ومن رأى أن يقسم إذا تكافأت بينتاهما جعله بينهما، وإنما صلى عليه بالإشكال كما يصلى عليه لو اختلط بمسلمين موتى قال المزني: أشبه بالحق عندي أنه إن كان أصل دينه النصرانية فاللذان شهدا بالإسلام أولى لأنهما علما إيمانا حدث خفي على الآخرين وإن لم يدر ما أصل دينه والميراث في أيديهما فبينهما نصفان وقد قال الشافعي: لو رمى أحدهما طائرا ثم رماه

الثاني فلم يدر أبلغ به الأول أن يكون ممتنعًا أو غير ممتنع، جعلناه بينهما نصفين. قال المزني: وهذا وذاك عندي في القياس سواء". قال في الحاوي: وتفصيل هذه المسألة في اختلاف الاثنين في دين الأب، أنها على ضربين: أحدهما: أن يعرف دين الأب. والثاني: أن لا يعرف، فإن عرف دين الأب أنه نصراني، فترك ابنين مسلمًا ونصرانيًا، وادعى المسلم أن أباه مات مسلمًا فهو أحق بميراثه، وشهد له بذلك شاهدان عدلان. وادعى النصراني أن أباه مات نصرانيًا، وهو أحق بميراثه، وشهد له بذلك شاهدان عدلان، فقد اختلفت الشهادتان واختلافهما إذا أمكن فيه القضاء فلم يتعارضا، فإذا علم فيه التكاذب تعارضتا، ولا يخلو حال هاتين الشهادتين من أربعة أقسام: أحدها: أن تكون مطلقتين. والثاني: أن تكونا مقيدتين. والثالث: أن تكون الشهادة بالإسلام مطلقةً، وبالنصرانية مقيدةً. والرابع: أن تكون الشهادة بالإسلام مقيدة، وبالنصرانية مطلقةً. فأما القسم الأول: وهو أن تكون الشهادتان مطلقتين، فهو أن يقول شهود المسلم: إن أباه مسلم، ويقول شهود النصراني إن أباه نصراني، فالتصادق في هذا الاختلاف ممكن، لأنه قد يكون نصرانيًا، فيسلم، ويكون مسلمًا، فيتنصر، فتكون كل واحدة من الشهادتين صادقة، فإذا كان كذلك فلا تعارض فيها وحكم بشهادة الإسلام، لأنها أزيد علمًا، لأن نصرانيته أصل، وإسلامه حادث، فصار كالشهادة بجرح والتعديل يحكم بالجرح على التعديل، ويجعل المسلم وارثا دون النصراني. فصل: وأما القسم الثاني: فهو أن تكون الشهادتان مقيدتين، فهو أن يقول شهود المسلم، إن أباه مات على دين الإسلام قائلا بالشهادتين عند خروج روحه. ويقول شهود النصراني إن أباه مات على دين النصرانيةً، قائلًا بالتثليث عند خروج روحه. فهذا تعارض في شهادتهما، لتكاذبهما باستحالة أن يموت مسلمًا نصرانيًا وللشافعي في تعارض الشهادتين في الأموال ثلاثة أقاويل ذكرها في هذا الموضع: أحدها: إسقاط البينتين بالتعارض، لتكاذبهما، فيكون الميراث للنصراني دون المسلم استصحابًا لأصل دينه في النصرانية بعد أن يحلف المسلم بالله أن أباه لم يسلم. والثاني: الإقراع بين البينتين، والحكم بالقارعة منها لأن في القرعة تمييزًا لما اشتبه، وهل يحتاج من قرعت بينته إلى يمين في استحقاق الميراث؟ على قولين من اختلاف

قوليه في القرعة هل ترجح بها الدعوى أو البينةً، فإن قرعت بينة المسلم كان هو الوارث وإن قرعت بينة النصراني كان هو الوارث. والثالث: استعمال البينتين وجعل التركة بينهما نصفين، فاختلف أصحابنا في صحة تخريج هذا القول في الميراث كتخريجه في الأموال على وجهين: أحدهما: وهو قول المزني، وطائفة معه أن تخريجه في هذا الموضع صحيح استشهادًا بذكر الشافعي له، واحتجاجا من قوله "بأن رجلين لو رميا طائرًا، فسقط ميتًا، ولم يعلم أيهما أثبته برميه أنه بينهما نصفين، وإن كان إثباته من أحدهما، كذلك الميراث". والثاني: وهو قول أبي إسحاق المروزي، وطائفةً معه أن تخريجه لا يصح في هذا الموضع، لاستحالة أن يشترك مسلم ونصراني في ميراث ميت، لأنه إن مات نصرانيًا ورثه النصراني دون المسلم، وإن مات مسلما ورثه المسلم دون النصراني، فإذا قسم بينهما علمنا قطعًا أن أحدهما قد أعطي ما لا يستحقه، ومنع الآخر مما يستحقه وإن لم يتعين وليس كالمال الذي يصح اشتراكهما في سببه، فيشتركان في تملكه. وكذلك الطائر إذا رمياه، جاز أن يكون تكامل إثباته برميهما، فصح فيه اشتراكهما، وجعل ما نص عليه الشافعي هاهنا في أحد الأقاويل من قسمة بينهما أنه حكاه عن مذهب من يراه، وهو مذهب من قال من أهل العراق بتوريث الغرقى بعضهم من بعض، ولم يحكه عن نفسه، لأنه لا يرى ذلك في الغرقى وقد تكلم على ضعفه ووهائه، فقال: لو قسمت كنت لم أقض لواحد منهما بدعواه، ولا ببينته وكنت على يقين خطأ، ينقص من هو له عن كمال حقه، وإعطاء الآخر ما ليس له. فصل: وأما القسم الثالث: وهو أن تكون الشهادة بالإسلام مطلقةً، وبالنصرانية مقيدةً، وهو أن يقول شهود المسلم أن أباه مسلم، ويقول شهود النصراني، إن أباه مات على دين النصرانيةً، قائلا بالتثليث عند خروج روحه، فلا تعارض في الشهادتين لأنه قد يسلم، ثم يرتد بعد إسلامه إلى النصرانية، فتصح الشهادتان، ويحكم بارتداده بعد الإسلام، فلا يرثه واحد من ابنيه ويكون ماله فيئا لبيت المال، لأن المرتد لا يرثه مسلم ولا نصراني. فصل: وأما القسم الرابع: أن تكون الشهادة بالإسلام مقيدةً، وبالنصرانيةً مطلقةً فيقول شهود المسلم إن أباه مات على دين الإسلام قائلًا بالشهادتين عند خروج روحه، ويقول شهود النصراني إن أباه نصراني فلا تعارض في شهادتهما على ما ذكر في مسألة الكتاب إن شهد شهود المسلم أن أباه مات مسلمًا، وشهد شهود النصراني أن أباه مات نصرانيًا، فقد اختلف أصحابنا هل تحمل هذه الشهادة على التقييد، أو على الإطلاق؟ على وجهين: أحدهما: أنها محمولة على التقييد، لأن كل واحدةً منهما شهدت بدينه عند

الموت، فعلى هذا تكون الشهادتان متعارضتين، فتكون محمولة على الأقاويل المذكورة في القسم الثاني. فعلى هذا لا تعارض في الشهادتين ويكون الميراث للمسلم على ما ذكرناه في القسم الأول، تعليلًا بما قدمناه. فصل: وأما الضرب الثاني: في التفصيل، وهو أن يكون الأب مجهول الدين، فيشهد شاهدان بإسلامه، ويشهد شاهدان بنصرانيته، فيستوي مع الجهل بدينه إطلاق الشهادتين، وتقييدهما في التعارض، وإن كانتا في التقييد متكاذبتين، ويجوز أن يكونا في الإطلاق صادقتين، لكن الجهل بدينه، يمنع من الحكم بإحداهما مع التصادق، فجرى عليهما حكم المعارضة في التكاذب، فيحمل على الأقاويل في تعارض البينتين: أحدهما: إسقاط البينتين ويردان إلى دعوى بغير بينةً. والثاني: الإقراع بينهما، والحكم بالقارعةً منهما وفي إحلاف من قرعت بينته قولان: والثالث: المختلف في تخريجه استعمال البينتين، وقسم الميراث بينهما بالبينة نصفين. فعلى قول المزني، ومن تابعه، يقسم بينهما بالبينتين إرثا، ويفصل بها الحكم بينهما. وعلى قول أبي إسحاق المروزي لا يصح استعمالها، ليقين الخطأ في الجمع بينهما، ويسقطان عند استحالة الحكم بهما، وإذا سقطت البينتان، ودين الميت مجهول، ففي التركة ثلاثة أوجه: أحدها: وهو قول المزني أنها تقسم بينهما ملكا بالتحالف دون البينة لتكافئهما. والثاني: وهو قول أبي علي بن خيران، أنها تقسم بينهما بدءا، وتقر معهما أمانة يمنعان من التصرف فيها، حتى يبين مستحقها منها أو يصطلحا عليها كالميت عن زوجتين، إحداهما مطلقة قد أشكلت. والثالث: ويشبه أن يكون قول أبي إسحاق المروزي أنها تقر من كانت في يده قبل التنازع، والتحالف، فإن كانت في أيديهما أو في يد أحدهما، أو في يد أجنبي، أقرت على حالها كما كانت إقرار يد وأمانةً، من غير قسمة. ووهم أبو حامد الإسفراييني فأقرها في يده ملكا. فصل: فأما حكم الميت المختلف في ديانته أو مجهول الدين، فمذهب الشافعي أنه يصلى عليه، ويدفن في مقابر المسلمين على الأحوال كلها ما لم يحكم بردته، لأن أمره مشتبه، فجرى مجرى جماعةً ماتوا، وفيهم كافر قد أشكل، فلم يتعين هل يصلى عليه؟ فإنه يصلى على جميعهم، ويدفنوا في مقابر المسلمين، وقال أبو

حنيفة: لا يصلى عليه على الأحوال كلها إلا بعد العلم بإسلامه، وليس هذا بصحيح لما استشهد بأنه من الجماعة الموتى، إذا علم أن فيهم كافرا قد أشكل، فإن الصلاةً على جميعهم وفاق، لأن الإسلام يستظهر له، ولا يستظهر عليه. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولو كانت دار في يدي رجل والمسألة على حالها فادعاها كل واحد من هذين المدعيين أنه ورثها من أبيه فمن أبطل البينة تركها في يدي صاحبها ومن رأى الإقراع أقرع بينهما أو يجعلها بينهما معا ويدخل عليه شناعةً وأجاب بهذا الجواب فيما يمكن فيه البينتان أن تكونا صادقتين في مواضع، قال المزني رحمه الله: وسمعته يقول في مثل هذا لو قسمته بينهما كنت لم أقض لواحد منهما بدعواه ولا ببينته وكنت على يقين خطأ بنقص من هو له عن كمال حقه أو بإعطاء الآخر ما ليس له، قال المزني: وقد أبطل الشافعي القرعةً في امرأتين، مطلقةً، وزوجةً، وأوقف الميراث حتى يصطلحا، وأبطل في ابني أمته اللذين أقر أن أحدهما ابنه القرعة في النسب والميراث، فلا يشبه قوله في مثل هذا القرعة وقد قطع في كتاب الدعوى على كتاب أبي حنيفة في امرأة أقامت البينة أنه أصدقها هذه وقبضتها وأقام رجل البينة أنه اشتراها منه ونقده الثمن وقبضها قال: أبطل البينتين لا يجوز إلا هذا أو القرعة (قال المزني) رحمه الله: هذا لفظه وقد بينا أن القرعة لا تشبه قوله في الأموال قال المزني رحمه الله: وقد قال الحكم في الثوب لا ينسج إلا مرة والثوب الخز ينسج مرتين سواء". قال في الحاوي: اختلف أصحابنا في صورة هذه المسألة، فذهب بعضهم إلى أنها المسألة الأولى أعادها لغرض زاده فيها، لأنه قال: " ولو كانت دار والمسألة بحالها، فادعاها كل واحد من هذين"، فإذا تداعى الابنان المسلم والنصراني، في ميراث دار عن أبيهما، والدار في يدي رجل غير أبيهما، وأقام كل واحد منهما البينةً أن هذه الدار ورثها عن أبيه لموافقته على دينه، فلا يخلو حال هاتين البينتين من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يحكم بإحداهما لأحدهما فتنتزع بها الدار من يد صاحب اليد، وتدفع إلى مستحق ميراث الأب، لقيام البينة بملكها للأب. والثاني: أن يحكم بها، ويجعل الميراث يليها على ما ذكرنا من التفصيل المختلف فيه، فتنتزع بها الدار من صاحب اليد، وتدفع إلى الابنين بالإرث. والثالث: أن تسقط البينتان، ولا يحكم بواحدة منهما، فتكون الدار مقرة في يد صاحب اليد ملكًا. فإن قيل: فهلا انتزعت من يده، وأزيلت عن ملكه، لاجتماع البينتين على أنها للميت دونه قيل: لأنه لما لم يكن فيهما بيان لمستحقها من أحد الابنين، سقط

الحكم بهما في الدار، كما سقط الحكم بهما لأحد الابنين، وصارا كشاهدين شهدًا على دار في يدي رجل، أنها لأحد هذين الرجلين وجب إقرارها في يده، وإن شهدت البينة عليه بعدم ملكه، لأن الشهادة لم تعين مستحقها، فبطلت كذلك في مسألتنا. فصل: وذهب آخرون من أصحابنا إلى أنها مصورةً في مسألة مستأنفةً، أن تكون الدار في يدي رجل، فيدعيها اثنان ليسا بأخوين، فيقول كل واحد منهما، هذه الدار لأبي ورثتها منه، وينكره الآخر ويدعيها لأبيه، ورثها عنه، ويقيم كل واحد منهما بينة على ما ادعاه فقد تعارضت البينتان، وتكاذبا لاستحالة أن تكون كل الدار لكل واحد من أبويهما، فتكون على ثلاثة أقاويل كتعارض البينتين في الأموال: أحدها: وترجع إلى صاحب اليد فإن صدق أحدهما دفعها إليه وفي وجوب اليمين عليه، للمكذب قولان: أحدهما: لا يمين عليه، إذا قيل: إنه لو أقر لم يغرم. والثاني: عليه اليمين إذا قيل: إنه لو أقر غرم، وإن صدقها دفع الدار إليهما، وهل يحلف لكل واحد منهما على قولين، وإن كذبهما وادعاها لنفسه، حلف لهما، وأقرت الدار على ملكه، ولا يكون قيام البينةً بملكها لكل واحد من الأبوين موجبا لزوال ملكه ورفع يده، لما ذكرنا من اشتباه مستحقها. والثاني: في الأصل الإقراع بين البينتين، والحكم بها لمن قرع منهما، وفي إحلافه مع القرعة، قولان، ولا تنتزع الدار إلا بعد القرعة، لأن بالقرعةً تمتاز البينةً المستحقةً فإن جعلت اليمين بعد القرعة شرطًا في الاستحقاق لم تنتزع إلا بعد يمينه، وإن لم تجعل شرطا انتزعت بغير يمين. والثالث: استعمال البينتين، وقسم الدار بينهما نصفين، وهذا متفق على تخريجه في هذا الموضع، وإن اختلف في تخريجه في المسألة المتقدمةً، لأنه لا يستحيل أن تكون الدار مشتركةً بين أبويهما، فجاز أن تقسم بينهما كسائر الأموال التي يجوز فيها الاشتراك، ولا يستحيل بخلاف الميراث المستحق عن شخص يستحيل أن يموت مسلمًا كافرا. فصل: وأما المزني فإن كلامه يشتمل على ثلاثة فصول: أحدها: بيان ما هو الأصح على مذهب الشافعي في تعارض البينتين، وأن الذي يقتضيه كلامه إسقاطهما، والعمل بما يوجبه مجرد الدعوى واليد، لأنه قد أبطل القسمة بقوله، أن استعمالهما في القسمة منع ليقين الخطأ في إعطاء أحدها أقل من حقه، وإعطاء الآخر ما ليس بحقه ولأصحابنا عن هذا جوابان: أحدهما: أنه شفع مع القطع بتكاذب البينتين وليس بشفع في جواز تصادقهما،

فتبطل القسمة في التكاذب ولا تبطل مع جواز التصادق. والثاني: أنه شفع في الباطن، لامتناعه وليس بشفع في الظاهر لأننا نبطل السبب المتضاد، ونحكم بالبينة في المال، وقد قال النبي {صلى الله عليه وسلم}: "إنما أحكم بالظاهر ويتولى الله السرائر". فمن ثم أبطل المزني الإقراع بينهما لأن الشافعي قال فيمن مات عن زوجة مطلقةً، قد اشتبهت أنه لا قرعة بينهما، فكذلك بأن مثله في إبطال القرعة في البينتين، ولأصحابنا عن هذا جوابان: أحدهما: أنه أبطل القرعة في الزوجتين والولدين، لأنه قد رجع في الزوجتين إلى بيان الورثة، وفي الولدين إلى بيان اتفاقه ولا يؤخذ بمثل ذلك في البينتين. والثاني: أن دخول القرعة في الزوجتين والولدين تكون في أصل الدعوى التي لم يرد بها شرع، وفي البينتين فيما ورد بمثله الشرع. والفصل الثاني: أن اختار المزني لنفسه استعمال البينتين وقسم الملك بينهما نصفين، لتكافئهما وأن لا بيان يرجع إليه بعدهما فيما أمكن من صدقهما، أو قطع فيه بتكاذبهما، واستشهد بأن الشافعي قال في المتنازعين لثوب أقام كل واحد منهما البينة أنه له نسجه في ملكه إن سوى بين ما لا ينتج إلا مرة، كالقطن والكتان، الذي يقطع فيه بتكاذب البينتين، وبين ما يجوز أن ينسج مرتين كالخز، والديباج، الذي يمكن فيه التصادق، ولأصحابنا عن هذا جوابان: أحدهما: أنه لا حجة أن يحتج لمذهبه بمذهب غيره، وإنما يحتج لمذهبه بأمارات الأدلة. والثاني: أن قصد الشافعي في هذه المسألة من سماع الداخل فيما يتكرر نتجه، ولا يتكرر ردا على أبي حنيفة، في فرقه بينهما بسماع البينة فيما يتكرر نسجه وردها فيما لا يتكرر. والفصل الثالث: أن أورد عن الشافعي مسألة فيمن مات عن دار ادعت زوجته أنه أصدقها، وادعى أجنبي أنه ابتاعها، وأن الشافعي قال: "ليس إلا إسقاط البينتين، أو القرعة" وقد أبطل القرعة، فثبت إسقاط البينتين وإسقاط القرعة، فدل على وجوب القسم ولأصحابنا عن هذا جوابان: أحدهما: أن المزني يبني هذا على أصل لم يخالف فيه، وهو أن الشافعي إذا نص على قولين ثم عمل بأحدهما، أنه يكون إبطالا للأخر. وإنما يكون ترجيحًا له على الآخر. والثاني: أن هذه المسألة محمولة على أهل مذهبه في نظائرها، وهو أن ينظر في البينتين، فإن تقدمت إحداهما على الأخرى حكم بالمتقدمة على المتأخرةً، سواء كانت بينة الصداق، أو بينة الابتياع، لفساد الثاني بعد الأول، وإن أشكل كانت على الأقاويل الثلاثة في إسقاطها في أحدهما والإقراع بينهما في الثاني، واستعمالها في الثالث، وجعل

نصف الدار صداقًا، ونصفها ابتياعًا، فلم يسلم له دليل ولا صح له استشهاد. والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "ولو كانت دار في يدي أخوين مسلمين، فأقرا أن أباهما هلك وتركها ميراثا، فقال أحدهما كنت مسلمًا وكان أبي مسلمًا، وقال الآخر أسلمت قبل موت أبي، فهي للذي اجتمعا على إسلامه، والآخر مقر بالكفر مدع الإسلام". قال في الحاوي: وصورتها في رجل مات مسلمًا، وترك ابنين أحدهما متفق على إسلامه قبل موت أبيه، واختلفا في إسلام الآخر، فقال الآخر: أسلمت أنا قبل موت أبي، فالتركةً بيننا. وقال المسلم: بل أسلمت أنت بعد موت أبي، فالتركة دونك، والبينة معدومةً، فلا يقبل قول من ادعى تقدم إسلامه إذا أنكره أخوه لأننا على يقين من حدوث إسلامه، وفي شك من تقدمه، فكان القول فيه قول أخيه، الذي أنكر تقدم إسلامه، لأنه يستصحب فيه استدامة أصل متحقق، بعد أن يحلف الآخر لجواز أن يكون الأخ صادقا في دعواه، ويمينه على العلم دون القطع بالله أنه لا يعلم أن أخاه أسلم قبل موت أبيه لأنها يمين نفي على فعل غيره. وهكذا لو مات حر وترك ابنين، أحدهما متفق على حريته قبل موت أبيه، والآخر مختلف فيه، فادعى تقدم عتقه قبل موت أبيه، ليكونا شريكين في ميراثه، وادعى الحر أن أخاه أعتق بعد موت الأب، فهو أحق بجميع الميراث، كان القول مع عدم البينة، قول الحر مع يمينه، بالله أنه لا يعلم أن أخاه أعتق قبل موت أبيه، وهو أحق بجميع الميراث بعد يمينه، لأنه يستصحب أصل رق معلوم، لم يدع تقدم هذا إذا كان موت الأب متفقا على موته، والاختلاف في وقت إسلام الابن، أو عتقه، فأما إذا اتفقا على وقت إسلام الابن، أو عتقه، والخلاف في وقت موت الأب. فقال الابن أسلمت أنا، أو أعتقت في شهر رمضان، ومات أبي في شوال فنحن شريكان في ملكه. وقال الآخر: صدقت أنك أسلمت في شهر رمضان، ولكن مات أبونا في شعبان. فالقول قول الأخ الذي ادعى حدوث موت الأب في شوال، دون من ادعى تقدم موت الأب في شعبان. ويكونان شريكين في الميراث لأنه استصحب استدامة أصل معلوم، هو بقاء الحياة حتى يعلم تقدم الموت. فإن قيل: فقد خالفت هذا الأصل في الجناية على الملفوف إذا ادعى وليه أنه كان حيا وقت الجنايةً وادعى الجاني أنه كان ميتا، جعلتم القول قول الجاني في أحد القولين، وأسقطتم قول وليه، في استصحاب أصل الحياة؟ قيل: بينهما في أحد القولين فرق وإن سويا بينهما في القول الثاني: أنه قد تقابل في الحياة على الملفوف أصلان:

أحدهما: استصحاب حياة الملفوف. والثاني: استصحاب براءة ذمة الجاني، فجاز أن يغلب في أحد القولين براءة ذمة الجاني، وجاز أن يغلب في القول الثاني بقاء حياة المجني عليه، فلذلك كانت على قولين. وليس في دعوى موت الأب، إلا استصحاب أصل واحد هو استدامة حياته ولا يقابله أصل يعارضه، فلذلك كان على قول واحد في استصحاب الحياة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو قالت امرأةً الميت وهي مسلمة زوجي مسلم وقال ولده وهم كفار بل كافر وقال أخو الزوج وهو مسلم بل مسلم، فإن لم يعرف، فالميراث موقوف حتى يعرف إسلامه من كفره ببينة تقوم عليه". قال في الحاوي: وصورتها في ميت مجهول الدين، ترك زوجة وأخا مسلمين، وابنا كافرًا، فادعت الزوجة، والأخ أنه مات مسلمًا فالميراث لهما، وادعى الابن أنه مات كافرا فالميراث له. فإن عدمت البينة، كان ميراثه موقوفًا، حتى يتبين أمره، فيعمل على البيان، أو يتصادقوا عليه، فيعمل على التصادق، أو يصطلحوا عليه، فيجاز الصلح، فإن وجدت البينة فإن تفرد بها أحد الفريقين من مدعي إسلامه، أو كفره، عمل عليها، فإن شهدت بإسلامه، كان ميراثه لزوجته، وأخيه المسلمين، وإن شهدت بكفره كان ميراثه لابنه الكافر، وإن تعارضت فيه بينتان شهدت إحداهما بكفره، وشهدت الأخرى، بإسلامه، كان على ما قدمناه من اعتبار الشهادتين، وهي تنقسم على ثلاثة أقسام: أحدها: أن تتقيد الشهادتان على مضادة يتكاذبان فيها. والثاني: أن تتقيد على تصادق لا تكاذب فيه. والثالث: أن يكونا مطلقين. فأما الأول: إذا كانتا مقيدتين على مضادة يكونان فيها متكاذبين، بأن تشهد إحداهما، أنه مات على كلمةً الإسلام، وتشهد الأخرى أنه مات على كلمة الكفر، فهو على قولين وثالث مختلف فيه: أحدها: إسقاطهما ويكون الأمر موقوفًا على بيان، أو إصلاح. والثاني: الإقراع بينهما، والحكم لمن قرع منهما. والثالث المختلف فيه: استعمالهما. فمن أصحابنا من بناه على الاختلاف المتقدم من الوجهين، والذي عليه الجمهور، أنه لا يصح تخريج هذا القول هاهنا وجهًا واحدًا، وإن جاز تخريجه في الوجهين، لأن الابنين فيما تقدم شريكان والأخ والابن هاهنا

متدافعان، فصح الاشتراك هناك وبطل هاهنا. وأما الثاني: وهو أن تتقيد الشهادتان، بغير مضادة يتكاذبان فيها فعلى ضربين: أحدهما: أن تشهد إحداهما، أنه كان كافرا في رجب، وتشهد الأخرى أنه كان مسلمًا في شعبان، فيحكم بالشهادة على إسلامه لحدوثه بعد كفره ويكون ميراثه لزوجته، وأخيه المسلمين. والثاني: أن تشهد إحداهما أنه كان مسلمًا في رجب، وتشهد الأخرى أنه كان كافرًا في شعبان، فيحكم بالشهادة على كفره بعد إسلامه، فيحكم بردته، ولا يرثه أحد الفريقين من ورثته، ويكون ميراثه لبيت المال. وأما الثالث: أن تكون الشهادتان مطلقتين بأن تشهد إحداهما أنه كان مسلمًا وتشهد الأخرى أنه كان كافرًا من غير تقييد لوقت إسلامه، ووقت كفره، فقد تعارضتا، ويكون على ما قدمناه من الأقاويل في القسم الأول، لأنه لأحدهما على الآخر إذ ليس له في أحد الدينين أصل يترجح به. فصل: وإذا هلك مجهول الدين وترك أبوين كافرين، وابنين مسلمين، فادعى أبواه أنه مات كافرًا، وادعى الابنان أنه مات مسلمًا ولا بينة لأحدهما، ففيه وجهان حكاهما ابن سريج: أحدهما: أن القول فيه قول الأبوين الكافرين مع أيمانهما لأن كفره قبل بلوغه معلوم بكفرهما، فلم يقبل دعوى الابنين في حدوث إسلامه، لأن الأصل استصحاب كفره. والثاني: يكون ميراثه موقوفًا لتساوي الحالين بعد بلوغه في إسلامه، وكفره، لأن ما قبل بلوغه هو فيه تبع لا يتحقق إلا بعد بلوغه، لو كان أبواه مسلمين، وابناه كافرين. فإن لم يعلم للأبوين قبل الإسلام، فيجوز أن يولد قبل إسلامهما فيجري عليه حكم الكفر قبل البلوغ، ويجوز أن يولد بعد إسلامهما فيكون مسلما قبل البلوغ فهما على ضربين: أحدهما: أن يكون النزاع في زمان ولادته، فيدعي والداه أنه ولد بعد إسلامهما، ويدعي ابناه أنه ولد قبل إسلامهما، فالقول فيه قول الأبوين مع أيمانهما في إسلامه، لأننا على يقين من حدوث ولادتهم، وفي شك من تقدمها. وإن كان النزاع في إسلام الأبوين، فيدعي أبواه أنهما أسلما قبل ولادته، ويدعي ابناه أنهما أسلما بعد ولادته، فالقول قول الابنين في إسلام الأبوين بعد الولادة مع أيمانهما لأننا على يقين من حدوث إسلامهما وفي شك من تقدمه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو أقام رجل بينة أن أباه هلك وترك هذه الدار

ميراثا له ولأخيه أخرجتها من يدي من هي في يديه وأعطيته منها نصيبه وأخرجت نصيب الغائب وأكري له حتى يحضر". قال في الحاوي: وصورتها في رجل ادعى دارًا في يد رجل أنها لأبيه مات عنها وورثها هو وأخوه، وأقام على ذلك بينة كاملةً، وكمالها أن يشهد له بثلاثة أشياء: أحدها: أن يشهد بالدار لأبيه. والثاني: أن يشهد بموت أبيه، وأنه ورثه هو وأخوه. والثالث: أن لا وارث له غيرهما على ما سنصف، فتكمل البينة إذا شهدت بهذه الثلاثة، وبكمالها يوجب انتزاع الدار ممن هي في يده، ويدفع إلى الحاضر حقه منهما وهو النصف وتوقف حصة الغائب، وهي النصف على قدومه، واعترافه وتؤخر حصته حفظا لمنافعها عليه، ولا تقر حصة الغائب في يدي من كانت في يديه، وهو قول أبي يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: تقر حصته في يدي من كانت في يده، ولا تنتزع منه، لأن البينة لا تسمع بملك إلا بعد صحة الدعوى، والدعوى لا تسمع إلا من مالك، أو وكيل فيه، ولم يدع حصة الغائب مالك ولا وكيل فلم تسمع البينة له، وليس كون الحاضر شريكا له في الميراث بموجب لسماع البينة في حقهما، كالشريكين الأجنبيين، إذا أقام أحدهما البينة بدار في شركتها انتزع بها حق الحاضر، وأقر حق الغائب في يدي من كانت في يديه، كذلك يجب أن يكون في شركة الميراث. ودليلنا: هو أن هذه الدعوى هي للميت، سمعت من وارثه، لقيامه مقامه فيها بعد موته بدليل أنه لو كان على أبيه دين قضى منها فوجب انتزاعها في حق الميت، وإعطاء الحاضر حصته منها، ووقف الباقي على الغائب، وخالف الشريكين الأجنبيين من وجهين: أحدهما: أن الشريك مالك بنفسه لا عن غيره، فكانت الدعوى في حقه موقوفة عليه، والابن مدع لها عن أبيه الذي لا تصح منه الدعوى، إلا بعد موته، فجاز أن يستوفي بها جميع حقه. والثاني: أن حق كل واحد من الأخوين، مرتبط بحق الآخر لا يتميز أحدهما بشيء، دون صاحبه، لذلك كان ما تلف من الشركة تالفًا منها، وما بقي شركةً بينهما، وحق الشريكين كالمتميز مع الخلطةً، يجوز أن يتلف لأحدهما ما يسلم للآخر، فافترق بهذين حكم الأخوين، وحكم الشريكين، وإذا كان كذلك، وقدم الآخر الغائب ذكر له الحاكم، ما حكم له بميراثه من نصف الدار، فإن ادعاها سلم إليه نصفها وإن أنكرها وقال: لا حق لي فيها، رد النصف على من في يده، ولم يؤثر إنكاره في حق أخيه، لأنه قد ملك بينة عادلةً. فصل: فأما إذا ما ادعاه الابن، وأقام عليه البينة دينا في الذمة سلم إليه حقه منه، وهو

النصف، وفي قبض حصة الغائب من الغريم وجهان: أحدهما: يقبض ويوضع على يد أمين كما تقبض الأعيان من الدار، وما لا يثبت في الذمة من ثياب وحيوان. والثاني: لا يقبض الدين، وإن وجب قبض الأعيان ويستبقى في ذمة الغريم بخلاف المعين، لأن قبضه للغائب معتبر بالأحوط، واستبقاؤه في ذمة مضمونة أولى من قبضه بتركه أمانة إلا أن يكون الدين على غير ملي، فيقبض وجهًا واحدًا. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "فإن لم يعرف عددهم وقف ماله وتلوم به ويسأل عن البلدان التي وطنها هل له فيها ولد؟ فإذا بلغ الغاية التي لو كان له فيها ولد لعرفه وادعى الابن أن لا وارث له غيره أعطاه المال بالضمين وحكي أنه لم يقض له إلا أنه لم يجد له وارثا غيره فإذا جاء وارث غيره أخذ الضمناء بحقه". قال في الحاوي: وقد مضى الكلام في البينة الكاملة إذا أقامها الابن الحاضر ووجوب الحكم بها للحاضر والغائب، فأما البينة الناقصة فعلى ضربين: أحدهما: أن تشهد بالدار للميت، ولا تشهد للحاضر بالبنوة، فلا يتعلق بهذه الشهادة حق للحاضر، ولا للغائب، وتكون الدار مقرة في يدي من هي في يده، لأن دعواها لم تسمع من مستحق لها فلم يكن لبينته تأثير، حتى يقيم البينة على ثبوت نسبه. فإذا أقامها وثبت نسبه بها، استغنى عن إعادة الدعوى والبينة، وإن كانا قبل ثبوت النسب، لأن ما قدمه من الدعوى قد تضمنت الدار والنسب على وجه صح به سماعها ولو شهدت بينته الأولى بالدار والنسب، حكم له بها كذلك، إذا شهدت الأولى بالدار، وشهدت الثانية بالنسب حكم بهما. ولو استأنف الدعوى، وأعاد البينة كان أولى. والثاني: أن تشهد البينة بالدار للميت، وتشهد للحاضر بالبنوةً، ولا تشهد أن لا وارث له غيره، فقد قامت البينة بهما وكان مالكا لنصيب مجهول من الدار، لا يعلم قدره. وله حالتان: إحداهما: أن يقدر على إقامة بينة بأن لا وارث له غيره. الثانية: أن يعجز. فإن قدر على إقامتها، وشهدت بينة عادلة، بأن لا وارث غيره نظر في البينة، فإن كانت من أهل المعرفةً الباطنةً بالميت، على قديم الوقت وحدوثه في حضره وسفره سمعت، وحكم له بالميراث، ولم يطالب بضمين، لأنه قد أقام بينةً إن لم يعمل بموجبها، أعملت. وإن كانت من أهل المعرفة الظاهرةً دون الباطنةً لم تصح شهادتهم، بأن لا وارث غيره،

لأنه قد يجوز أن يكون له في الباطن ولد، لا يعلمون به فلم يصلوا بمعروف الظاهر إلى معرفة ما قد يكون في الباطن، فلم يحكم به وصار كمن لم يقم بينة بأن لا وارث له غيره. وإذا لم يقمها منع من حقه في الدار للجهل بمقداره، ولزم الحاكم أن يستكشف عن حال الميت في البلاد التي وطئها، ويكاتب حكامها بالمسألة عن حاله، هل خلف فيها ولدا أو وارثا ويلزم به فإنه لا يخفى حال وارث له في مثله، فإن حضرته بينة جاز أن يسمعها الحاكم من غير دعوى، وعلى غير خصم، لأنها بينة على ما قد لزم من الكشف فكانت في حق نفسه لتقييد ما قد حكم به، والبينة تكون من أهل المعرفة الباطنة به أنهم لا يعلمون له وارثًا غيره، قبلوا وكانت شهادتهم محمولةً على العلم، دون القطع، ودفع إليه الميراث بعد تمام الشهادة، من غير ضمين. وإن لم يظهر للحاكم بينة، وبلغ زمان الإياس من الظفر بها، وأن يظهر ما لم يظهر دفع إليه المال، إن لم يقر بغيره، فإن أقر بأخ له غائب أعطاه نصف الدار والتركة، وكان نصفها موقوفًا على قدوم الغائب. فأما مطالبة الحاضر بإقامة ضمين فيها، دفع إليه احتياطًا، لظهور شريك قد يكون له في الميراث حق، فقد قال الشافعي في هذا الموضوع ما يدل على وجوب الضمين وقال في كتاب الإقرار: ما يدل على استحبابه، فاختلف أصحابه فيه على أربعة مذاهب: أحدها: أن خرجوا اختلاف نصه في الموضعين على اختلاف قولين: أحدهما: يجب ليكون نفوذ الحكم على الأحوط. والثاني: يستحب، فلا تجب لأنها وثيقة لغير مطالب. والوجه الثاني: إن كان هذا الوارث ممن لا يسقط بغيره كالابن لم يجب عليه إقامة ضمين، وإن كان ممن يسقط بغيره كالأخ، وجب عليه إقامة ضمين. والوجه الثالث: إن كان أمينًا لم يجب عليه إقامة ضمين، وإن كان غير أمين وجب عليه. فإن قيل: لم قلتم تقسمون مال المفلس بين غرمائه بعد إشاعة أمره من غير ضمين مع جواز ظهور غريم قيل: لوقوع الفرق بينهما، بأن حقوق الغرماء متحققةً وحق هذا الوارث غير متحقق، فإذا دفع الحاكم المال إليه على ما وصفنا كتب قصته، وذكر فيها أن دفع المال إليه بعد الكشف الظاهر من غير حكم قاطع بأمر الاستحقاق ليكون إن ظهر له شريك في الميراث غير مدفوع بنفوذ الحكم عليه بإبطال حقه منه، ليكن من المطالبة وإقامة البينة. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو كان مكان الابن أو معه زوجةً ولا يعلمونه

فارقها أعطيتها ربع الثمن لأن ميراثها للأكثر والأقل الثمن وربع الثمن وميراث الابن غير محدود". قال في الحاوي: اعلم أنه لا يخلو مدعي الميراث، إذا أقام البينة بسبب ميراثه، وعدم البينة، بأن لا وارث له غيره من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون ممن لا يسقط بحال، كالابن، فيوقف أمره في الحال على الكشف ولا يدفع إليه من التركة شيء، لأنه ليس له قدر متيقن، فإن لم يبن بعد كشف الحاكم وارث غيره، دفع إليه الميراث على ما قدمناه من حال الضمين. والثاني: أن يكون ممن يجوز أن يرث في حال كالأخ، فيوقف أمره على الكشف، فإن لم يبن للحاكم بعد طول الكشف وارث سواه، ولم يقم البينة بأنه لا وارث له سواه، فقد اختلف أصحابنا هل يجري مجرى الابن في دفع الميراث إليه؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول جمهورهم: أنه يدفع إليه كالابن، لأن لم يعلم وارث غيره. والثاني: وهو قول ابن سريج أنه يكون موقوفاً على الأبد، حتى تقوم البينة بأن لا وارث له غير بخلاف الابن، لوقوع الفرق بينهما بأن الابن وارث في الأحوال كلها بيقين، والأخ مشكوك فيه، هل هو وارث، فلم يجز أن يرث إلا بيقين، وهكذا حكم ابن الابن لجواز سقوطه بالابن. والثالث: أن يكون ممن لا يسقط بحال، وله فرض مقدر كالأبوين، والزوجين فيدفع إليه أقل فرضه، لأنه يستحقه بيقين ويوقف أكثره على الكشف فإن كان أباً دفع إليه السدس معولاً. وإن كانت أماً فكذلك يدفع السدس معولاً. وإن كان زوجاً، دفع إليه الربع معولاً، وإن كانت زوجة دفع إليها ربع الثمن معولاً، لجواز أن تكون واحدة من أربع فإن لم يظهر بعد طول الكشف من يحجب هؤلاء عن أعلى الفرضين صار كالابن يدفع إليه باقي فرضه الأعلى بضمين على ما ذكرناه من الوجوه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا ماتت زوجته وابنه منها فقال أخوها مات ابنها ثم ماتت فلي ميراثي مع زوجها وقال زوجها بل ماتت فأحرز أنا وابني المال ثم مات ابني فالمال لي فالقول قول الأخ لأنه وارث لأخيه وعلى الذي يدعي أنه محجوب البينة وعلى الأخ فيما يدعي أن أخته وريث ابنها البينة". قال في الحاوي: وصورتها في امرأة ذات زوج، وابن، وأخ، ماتت وابنها، واختلف زوجها، وأخوها فقال الأخ: مات ابنها قبلها فكان ميراثه بينك وبينها، ثم ماتت

باب الدعوى في وقت قبل وقت

بعده، فكان ميراثها بيني وبينك، فلك ميراث زوج هو النصف، ولي معك ميراث أخ، هو النصف وقال الزوج: بل ماتت الزوجة قبل ابنها، فورثتها مع ابنها دونك ثم مات الابن، فورثته دونك، فإن كان لواحد منهما بينة بما أدعاه، حكم بها، وإن عدمت البينة، كان تنازعهما من تقدم الموت، وتأخره معتبراً بالغرقى، والهدمي، فيقطع التوارث بين الميتين، ويجعل تركة كل واحد منهما للحي من ورثته، فيجعل تركة الابن لأبيه، كأنه لا أم له، ويجعل تركة الأم بين زوجها وأخيها، كأنه لا ابن لها، فيعطى زوجها النصف والنصف الباقي للأخ. فإن قيل: فالزوج يدعي من تركتها مع الابن الربع، فلم أعط النصف وهو لا يدعي؟ قيل: هو وإن ادعى الربع بميراثه عنها، فقد ادعى باقية بميراثه عن أبيه مع اختلاف السببين، فصار بإعطاء النصف مدفوعاً عن استحقاق الكل، فصار معطى بعض ما ادعى ولم يعط أكثر منه. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو أقام البينة أنه ورث هذه الأمة من أبيه وأقامت امرأة البينة أن أباه أصدقها إياها فهي للمرأة كما يبيعها ولم يعلم شهود الميراث". قال في الحاوي: وصورتها في أمة تنازعها ابن ميت، وزوجته، فقال الابن: هذه الأمة لي ورثتها معك عن أبي، وقالت الزوجة: هذه الأمة لي ملكتها عن أبيك بصداقي. فإن عدمت البينة، فالقول قول الابن مع يمينه لأنها على أصل ملك الأب وموروثه عنه، ودعوى الزوجة لها صداقاً غير مقبولة، كما لو ادعتها ابتياعاً. وإن أقام كل واحد منهما بينة على ما ادعاه. فشهدت بينة الابن أن أباه خلفها ميراثاً، وشهدت بينة الزوجة أنه جعلها لها صداقاً، حكم للزوجة دون الابن، لأن بينتها أعملت زيادة لم تعلمها بينة الابن فكان الحكم بالزيادة أولى، كما لو ادعت بالابتياع كانت بينة الابتياع أولى من بينة الورثة. ولأن الميت لو كان حياً فقامت عليه البينة في أمة يملكها أنه باعها، أو أصدقها قضى بها عليه، وإن أنكرها، والله أعلم. باب الدعوى في وقت قبل وقت مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا كان العبد في يد رجل فأقام رجل بينة أنه منذ سنين وأقام الذي هو في يديه البينة أنه له منذ سنة فهو للذي هو في يديه ولم أنظر إلى قديم الملك وحديثه. قال المزني: أشبه بقوله أن يجعل الملك للأقدام أولى كما جعل

ملك النتاج أولى وقد يمكن أن يكون صاحب النتاج قد أخرجه من ملكه كما أمكن أن يكون صاحب الملك الأقدم أخرجه من ملكه". قال في الحاوي: وصورتها من رجلين تداعياً عيناً منقولة، كعبد، أو دابة، أو غير منقولة كدار أو عقار. وأقام البينة أنها له منذ سنة. وأقام الآخر البينة أنها له منذ شهر، أو أطلق الشهادة بالملك في الحال أو في مدة هي أقصر، فلا يخلو حال الملك المتنازع فيه من ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون في يد غيرهما. والثاني: أن يكون في يدي أحدهما والثالث: أن يكون في أيديهما. فأما القسم الأول: إذا كان الملك في يدي غيرهما ولأحدهما بينة بقديم لملك منذ سنة، والآخر بينة لحديث الملك منذ شهر، ففيهما قولان: أحدهما: وهو اختيار أبي العباس بن سريج: أنهما سواء، لا يترجح من شهدت بقديم على الأخرى لأمرين: أحدهما: أنهما تنازعا ملكها في الحال، فلم تؤثر بينة ما شهدت بما قبلها، لأنه غير متنازع فيه. والثاني: وهو أظهر، وبه قال أبو حنيفة، واختاره المزني أن الشهادة بقديم الملك أرجح، والحكم بها أولى لأمرين: أحدهما: أنهما قد تعارضتا في أقل المدتين، وأثبتت المتقدمة ملكاً لم يعارض فيه فوجب وقف المتعارض، وأمضى ما ليس فيه تعارض. والثاني: أن ثبوت ملك المتقدم يمنع أن يملكه المتأخر إلا عنه، ولم تتضمنه الشهادة، فلم يحكم بها، فإذا تقرر توجيه القولين. فإن قيل بتساويهما على القول الأول، صارتا متعارضتين فيكون فيهما ثلاثة أقاويل: أحدها: إسقاطها والرجوع إلى صاحب اليد. والثاني: الإقراع بينهما، والحكم لمن قرع منهما. والثالث: استعمالها، وقسم الشيء بينهما، وهذا القول يجيء في هذا الموضع لمكان الاشتراك. فإن قيل بترجيح البينة بقديم الملك على البينة بحديثه، وجعل الحكم فيها أولى، ثبت لصاحبها الملك من المدة المتقدمة، وحكم له بما حدث عن الملك من نتاج، ونماء وغلة في تلك المدة، وإلى وقته، ثم يبني على هذين القولين ما جعله المزني أصلاً، وهو

أن تنازعا دابة، فيقيم أحدهما البينة أنها له نتجها في ملكه ويقيم الآخر البينة أنها له، ولا يقولون نتجها في ملكه. حكي المزني عن الشافعي رضي الله عنه أنه جعلها لمن أقام البينة، أنه نتجها في ملكه، وجعله شاهداً على الحكم بقديم الملك دون حديثه، فاختلف أصحابنا في النتاج، هل يترجح بالبينة قولاً واحداً، أو يكون على قولين كالشهادة بقديم الملك؟ وذهب ابن سريج وابن خيران إلى التسوية بينهما وأنهما على قولين: أحدهما: أنهما سواء في التعارض. والثاني: أنه يترجح البينة بقديم البينة بقديم الملك، وبالنتاج على البينة الخالية منهما. وحكي أبو علي بن خيران عن أبي العباس بن سريج أن الشهادة بالنتاج ليست من منصوصات الشافعي، وإنما أوردها من تلقاء نفسه. وذهب جمهور أصحابنا إلى صحة نقله، وأن بينة النتاج عند الشافعي أقوى من البينة بقديم الملك على قولين، ولئن لم يكن النتاج مسطوراً، فقد نقله عنه سماعاً، وفرقوا بين النتاج وقديم الملك في القوة، بأن الشهادة بالنتاج على ملكه تنفي أن يتقدم عليهما ملك لغيره، فصار النتاج بهذا الفرق أقوى من قديم الملك، فلذلك رجحت البينة بالنتاج قولاً واحداً، وكان ترجيحها بقديم الملك على قولين. وهكذا لو تنازعا ثوباً، وأقام أحدهما البينة على أنه له نسجه في ملكه، وأقام الآخر البينة على أنه له، ولم يقولوا نسجه في ملكه. كان كالبينة كالنتاج على ما قدمناه من الشرح. فأما إذا شهدت بينة أحدهما بسبب الملك من الابتياع، أو ميراث وشهدت الأخرى بالملك من غير ذكر سببه، فيكون الترجيح بذكر السبب كالترجيح بقديم الملك فيكون على قولين: أحدهما: أن النسج ملحق بالنتاج وذكر السبب ملحق بقديم الملك. فصل: وأما القسم الثاني: إذا كان الملك في يدي أحدهما وشهدت بينة أحدهما أنه له منذ سنة، وشهدت بينة الآخر أنه له منذ شهر، فإن كانت البينة بقديم الملك لصاحب اليد، حكم له بالملك. لا يختلف فيه مذهب الشافعي، وجميع أصحابه، لأنه قد ترجح باليد، وبقديم الملك، وإن كانت البينة بقديم الملك الخارج، دون صاحب إليه ترجح أحدهما باليد وترجح الآخر بقديم الملك، فالذي نص عليه الشافعي هاهنا أنها تكون لصاحب اليد ترجيحاً بيده على قديم الملك، وتابعه جمهور أصحابه على هذا القول، وبه قال أبو حنيفة، فإنه حكم ببينة صاحب اليد في هذا الموضع وإن كان يرى أن بينة الخارج أولى من بينة صاحب اليد، لأنه يمنع من بينة الداخل، إذا لم تفذ إلا ما أفادت اليد.

فأما إذا أفادت زيادة على ما أفادته اليد، فإن يقدمها على بينة الخارج، وقد أفادت هذه البينة زيادة على ما أفادته يده، فلذلك قدمها على بينة الخارج وعلى قول أبي يوسف، ومحمد، تكون بينة الخارج أولى في الأحوال كلها. وذهب أبو إسحاق المروزي، ومن تابعه من أصحاب الشافعي إلى أن الترجيح بقديم الملك أولى من الترجيح باليد، فيكون على قولين أحدهما يحكم بقديم الملك إذا رجحت به البينة، والثاني يحكم لصاحب اليد إذا لم تترجح به البينة، واحتج في ترجيح قديم الملك على الترجيح باليد، بأنه لو شهدت بينة مدع أن هذه الدار كانت له بالأمس حكم له بملك الدار في اليوم استدامة لملكه، ولو شهدت له أنها كانت في يده بالأمس لم يحكم له باليد في اليوم، ولم يوجب استدامة يده. وهذا خطأ من قائله، لأن البينة تزاد لإثبات اليد، فإذا ترجحت إحداهما باليد، وافقت موجبها، وخالفت موجب الأصل، فكذلك ترجحت البينة بها، وهذا المعنى موجود في قديم الملك وحديثه. فأما ما استشهد به من قديم اليد، وقديم الملك فهما سواء لا يحكم فيهما باستدامة اليد، ولا باستدامة الملك حتى يشهدوا أنه كان مالكاً لها بالأمس، وإلى وقته، لأن النزاع في ملكها، فالوقت دون ما تقدم فصارت الشهادة بالمتقدم، من غير التنازع، فلم يحكم بها، لأنه قد يملك ما يزول عنه ملكه في اليوم، فإن كان أبو إسحاق المروزي يرى الحكم بها في اليوم مذهباً لنفسه، خولف فيه تعليلاً بما ذكرنا. فإن قيل: فإذا رجحتم البينة، فهلا رجحتم بزيادة العدد؟ قيل: لأن زيادة العدد لم تفد زيادة على ما أفادته زيادة البينة، واليد أفادت من زيادة التصرف ما لم تفد البينة، فلذلك ترجحت البينة باليد، ولم تترجح بزيادة العدد. فصل: وأما القسم الثالث: إذا كان الملك في أيديهما، وكان داراً فأقام كل واحد منهما بأنه جمع الدار له، فهذا على ضربين: أحدهما: أن تتكافأ البينتان، ولا تشهد أحدهما بقديم الملك فقد أقام كل واحد منهما بينته بملك جميع الدار التي نصفها بيده، ونصفها بيد الآخر، فصار له فيما بيده بينة داخل وفيما في يده صاحبه بينة خارج، فتعارضت البينتان في الدخول والخروج. فإن قيل: إن تعارضهما موجب لسقوطهما حلف كل واحد منهما لصاحبه، وأقرت الدار في أيديهما ملكاً باليد والتحالف. وإن قيل: إن تعارضهما موجب لاستعمالهما وقسم الملك بينهما، فلا يمين عليهما، وتجعل الدار بينهما ملكاً بالبينة. والثاني: أن تشهد بينة أحدهما بقديم الملك وتشهد بينة الآخر بحديث الملك، فإن لم تجعل الشهادة بقديم الملك ترجيحاً للبينة على أحد القولين، فالجواب على ما مضى

باب الدعوى على كتاب أبي حنيفة

من تكافؤ البينتين فيجعل الدار بينهما نصفين، باليد واليمين في أحد القولين، وبالبينة من غير يمين في القول الثاني، وإن ترجحت الشهادة بقديم الملك على القول الثاني خلص لصاحبها النصف الذي في يده، وتقابل في النصف الآخر، ترجيح بينة بقديم الملك، وترجيح بينة الآخر باليد، فعلى قول أبي إسحاق المروزي يحكم به لمن ترجحت بينة بقديم الملك، فتصير جميع الدار له لأنه يجعل الترجيح بتقديم الملك أقوى من الترجيح باليد وعلى الظاهر من مذهب لشافعي، وما عليه جمهور أصحابه يحكم بالنصف الآخر لصاحب اليد، لأنه يجعل الترجيح باليد أقوى من الترجيح بقديم الملك فتصير الدار بينهما نصفين بغير إيمان قولاً واحداً لأنه محكوم بينهما في النصفين بترجيح البينتين من غير إسقاط لهما ولا قسمة باستعمالها والله أعلم. باب الدعوى على كتاب أبي حنيفة مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "وإذا قام أحدهما البينة أنه اشترى هذه الدار منه بمائة درهم ونقده الثمن وأقام الآخر بينة أنه اشتراها منه بمائتي درهم ونقده الثمن بلا وقت فكل واحد منهما بالخيار إن شاء أخذ نصفها بنصف الثمن الذي سمى شهوده ويرجع بالنصف وإن شاء ردها. وقال في موضع آخر: إن القول قول البائع في البيع. قال المزني: هذا أشبه بالحق عندي لأن البينتين قد تكافأتا وللمقر له بالدار ليس لصاحبه كما يدعيانها جميعاً ببينة وهي في يد أحدهما فتكون لمن هي في يديه لقوة سببه عنده على سبب صاحبه. قال المزني رحمه الله وقد قال لو أقام كل واحد منهما البينة على دابة أنه نتجها أبطلتهما وقبلت قول الذي هي في يديه". قال في الحاوي: جمع المزني في هذا الباب بين ثلاث مسائل نقلها عن الشافعي: فالأولى: بائع ومشتريان. والثانية: بائعان ومشتريان. والثالثة: مشتر وبائعان. فأما الأولى: هي مسألتنا فصورتها في رجلين تداعيا ابتياع دار من رجل واحد فقال أحدهما: اشتريتها منه بمائة درهم، ونقدته الثمن، وأقام على ذلك بينة. وقال الآخر: إنما اشتريتها منه بمائتي درهم، وأقام على ذلك بينة فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون في البينة بيان على تقدم أحد العقدين على الآخر. والثاني: أن لا يكون فيها بيان، فإن بان بهما تقديم أحد العقدين على الآخر، بأن تشهد بينة أحدهما، أنه ابتاعها منه في رجب وتشهد بينة الآخر أنه ابتاعها منه في شعبان،

وتشهد بينة أحدهما أنه ابتاعها منه، في يوم السبت وتشهد بينة الآخر أنه ابتاعها منه في يوم الأحد، فهما في تقارب هذين الزمانين وتباعده سواء، فيحكم بصحة العقد الأول، وإبطال الثاني، لأنه قد زال بالأول ملك البائع، فصار في الثاني بائعاً لغير ملك فيرجع الثاني على البائع بالثمن. لقيام البينة بقبضه له ويكون الأول أحق بالدار ولا يدل ذلك على ملكه في الدار، لأنه قد يجوز أن يكون البائع غير مالك حتى يقول الشهود أنه باعها، وهو مالكها، أو يقولوا إنها لهذا المشتري بابتياعها من هذا البائع، فتدل له الشهادة أحد الأمرين على ملك المشتري وصحة عقده وإن لم يكن في البينتين بيان على تقدم أحد العقدين، وذلك يكون في أحد ثلاثة أوجه إما أن لا يكون في واحد منهما تاريخ، أو تؤرخ أحدهما دون الأخرى، أو تؤرخ كل واحدة منهما إلى وقت واحد، لا يتقدم إحداهما على الأخرى، فيكون بيان التقدم معدوماً على الوجوه الثلاثة وإذا كان كذلك لم تخل حال الدار من أربعة أحوال: إحداها: أن تكون في يد البائع. والثانية: أن تكون في يد أحد المشتريين. والثالث: أن تكون في أيديهما. والرابع: أن تكون في يد أجنبي. فصل: فأما الحالة الأولى: وهو أن تكون في يد البائع: فقد اختلف أصحابنا في تصديق البائع، لإحدى البنتين هل يوجب ترجيحها على الأخرى؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي إبراهيم المزني وأبي العباسبن سريج، أن تصديق البائع لإحداهما مقبول، تترجح به بينته، لأنه أصل ذو يد فعلى هذا يرجع إلى بيانه في أي العقدين تقدم ولا يرجع إلى بيانه أيهما باع، لأنه قد ثبت عليه البيعان بالبينة، فيرجع إليه بالتقدم منهما، فإذا بين أحدهما التقدم كان البيع له، ولا يمين على الآخر، لأنه لو رجع عن قوله لم يقبل، وليس يغرم للآخر القيمة، وإنما يرد عليه الثمن، فلذلك لم تلزمه اليمين، وإن أنكر أن يكون عنده بيان، أحلف وكان لكل واحد منهما أن يحلفه يميناً تخصه، لأنه لو بين بعد إنكاره قبل منه فلذلك لزمته اليمين. فإن جمع بين المشتريين في البيان، لم يكن فيه بيان، لأنه بيانه في التقدم، ويستحيل أن يكون على واحد منهما متقدماً على الآخر في حاله. وقال أبو حامد الإسفراييني، تكون الدار بينهما بتصديقه لهما. فإن قال ذلك وهو يرى أن بيان البائع مقصور على المتقدم بالعقد فقد وهم لاستحالة اجتماعهما في التقدم، وإن قاله، لأنه يرى أنه يرجع إلى بيان البائع لأيهما باع فهو ارتكاب مذهب لا يقتضيه المذهب لما بيناه.

والثاني: وهو قول أبي علي بن خيران، وعامة أصحابنا أن تصديق البائع لأجل يده، غير مقبول، في ترجيح بينة أحدهما، لاتفاق البينتين على زوال ملكه فبطل بها حكم يده، وإنما يرجع إلى يد يجوز أن تكون مالكه، وليس للبائع يد ملك. فعلى هذا يجري على البينتين حكم المتعارضتين في الظاهر، وإن جاز أن لا يتعارضا في الباطن بأن يتقدم أحد العقدين على الآخر فيكون في تعارضهما ثلاثة أقاويل: أحدهما: إسقاطها فيرجع إلى قول البائع لا ترجيحاً للبينة لأنهما قد أسقطتا، ولكن لأنها دعوى عليه في ابتياع منه، فإن كذبهما حلف لكل واحد مهما، وغرم له ما شهدت به بينته من الثمن الذي دفعه، والدار باقية على حكم ملكه، وإن صدق أحدهما، وكذب الآخر، كانت الدار مبيعة على المصدق، دون المكذب فإن طلب المكذب إحلاف البائع، نظر فإن كان قد سبق بالدعوى على المصدق كان له إحلاف البائع، لأنه قد استحق اليمين بإنكاره قبل دعوى المصدق، فلم يسقط حقه منها بتصديقه لغيره، وإن كانت دعواه بعد تصديق الآخر، فلا يمين عليه إلا على تخريج يذكره، لأنها دعوى في خلال لا ينفذ فيها إقراره ويرجع عليه بالثمن الذي شهدت به ببينته، فلو عاد البائع فصدق الثاني بعد تصديق الأول، كان البيع للأول، لتقدم إقراره، ونظر في قيمة الدار، فإن كانت بقدر الثمن الذي شهدت به بينة الثاني، لم يغرم للثاني إلا الثمن، وأن كانت قيمتها أكثر من الثمن ففي وجوب غرم زيادة القيمة بعد رد الثمن قولان: أحدهما: لا يغرمها. والثاني: يغرمها. ومن هاهنا يجيء تخريج قول أبي علي للبائع أن يحلف للمكذب لأنه إذا غرم مع الإقرار حلف مع الإنكار، ولو صدق البائع لهما جميعاً، جعلت الدار بينهما، ويكون نصفها مبيعاً على كل واحد منهما بنصف الثمن الذي شهدت به بينة، إن اتفقوا على قدره. وإن عدلوا إلى غيره، فكل واحد من المشتريين يأخذ نصف الدار بنصف الثمن الذي أقر به البائع. إن صدق المشتريان على قدره، وإن كذباه، حلفاه عليه، وأبطل البيع، ولا يعتبر الثمن الذي شهدت به البينة إلا في دفعه دون عقد البيع، لأنه قد أسقط قبولهما في البيع، فسقط حكم الثمن الذي شهدا به وإن قبلت شهادتهما في دفعه، لأن تعارضهما في البيع لا في دفع الثمن فهو أحلم القول الأول في إسقاط البينتين بالتعارض. والثاني: الإقراع بين البينتين فأيتهما قرعت حكم بها وكان البيع لمن شهدت له، وفي إحلافه مع القرعة قولان: أحدهما: يحلف إن قيل: إن القرعة مرجحة لدعواه. والثاني: لا يمين إن قيل إن القرعة مرجحة لبينته، وللمقروع أن يرجع على البائع بالثمن الذي شهدت به بينته. والثالث: استعمال البينتين، وقسم الدار بهما بين المشتريين ليكون نصفها مبيعاً من

كل واحد منهما، وهو لتفريق الصفقة عليه بالخيار في إمضاء البيع في نصف الدار بنصف الثمن أو فسخه، لأنه ابتاع جميع الدار فجعل له نصفها ولهما في الخيار ثلاثة أحوال: إحداهما: أن يختار الإمضاء فيكونا شريكين. والثانية: أن يختار الفسخ، فيصح فسخ من تقدم منهما، ويتوفر سهمه بالفسخ على المتأخر، فيسقط خياره في الفسخ، لأن البيع قد تكامل له في جميع الدار. والثالثة: أن يمضي أحدهما، ويفسخ الآخر، فقد زال ملك الفاسخ، ونظر فإنه فسخ قبل رضا الآخر بالنصف يغرم سهمه على التراضي وأخذ جميه الدار بجميع ثمن بينته، وإن فسخ بعد رضا الراضي لم يعد سهم الفاسخ على الراضي، لاستقرار الحكم في ابتياعه النصف. فصل: وأما الحالة الثالثة: وهو أن تكون الدار في يدي أحد المشتريين، فقد اختلف أصحابنا هل تترجح بينته بيده أم لا؟ على وجهين مبنيين على اختلاف الوجهين في الترجيح بيد البائع، إذا صدق أحدهما بترجيح يد أحد المشتريين، إذا قيل: إنها ترجح بين البائع إذا صدقه فيحكم له ببينته، ويده ويرجح الآخر بالثمن الذي شهدت به بينته، ويجوز أن يكون خصماً لصاحب اليد في الدار ويحلفه إذا أنكره، وإن صدقه سلم الدار إليه بإقراره بالثمن الذي شهدت به بينته إن كان مثل الثمن في ابتياع حقه، وإن كان أقل لم يكن له أن يرجع بالباقي، لأنه مقراً أنه لا يستحقه على الثاني، وإن كان أكثر لم يكن له أن يأخذ الزيادة، لأنه مقر أنه لا يستحق أكثر من الثمن الذي دفع، ويكون درك للثاني على الأول، دون البائع، ولا يكون على البائع درك الأول، ولا الثاني لأن الثاني ملكها عن الأول، والأول قد أقر أنه لا يملكها عن البائع فلذلك سلم البائع من دركها. والثاني: أنه لا تترجح البينة بيد البائع إذا صدق أحدهما. فعلى هذا يسقط حكم يده، وتتعارض البينتان في حقهما فتكون على الأقاويل الثلاثة: أحدهما: يسقطان ويرجع إلى البائع في إقراره، وإنكاره على ما مضى. والثاني: يقرع بينهما، ويحكم لمن قرع منهما على ما مضى. والثالث: يقسم بينهما باستعمالهما على ما مضى. وذكر الربيع قولاً رابعاً: أن تعارض البينتين، يوجب إبطال الصفقتين فيكون كل واحد من البيعين باطلاً كالمتداعيين نكاح امرأة يقيم كل واحد منهما البينة على أنه تزوجها، يبطل النكاحان بتعارضهما، فأنكر أصحابنا هذا القول ونسبوه إلى الربيع تخريجاً لنفسه، ومنعوا من اعتباره بالنكاح، لوقوع الفرق بينهما، بأن نكاح المرأة لا يجوز أن يكون بين زوجين، وشراء الدار يجوز أن يكون بين مشتريين، فبطل النكاحان، لامتناع الشركة، ولم يبطل البيعان مع جواز الشركة.

فصل: وأما الحالة الثالثة: وهو أن تكون الدار في يدي المشتريين فقد ساويا في اليد والبينة، ولم يتراجح أحدهما على الآخر في يد ولا بينة. فإن لم يترجح يد أحدهما لم يترجح أيديهما وصارت بينتاهما متعارضتين فيكون تعارضهما محمولاً على الأقاويل الثلاثة في إسقاطها والإقراع بينهما، أو استعمالها، وإن رجحتا يد أحدهما رجحتا أيديهما، وصار لكل واحد منهما بينة، داخل في النصف الذي في يده، وبينة خارج في النصف الذي بيد صاحبه، فيجعل ابتياع الدار بينهما نصفين، وهل يحلف لصاحبه أم لا؟ على قولين ويرجع كل واحد منهما على البائع بنصف الثمن، وكان خيار كل واحد منهما على ما ذكرناه. فصل: وأما الحالة الرابعة: وهو أن تكون الدار في يد أجنبي، فلا تخلو يده من أربعة أحوال: إحداها: أن يكون نيابة عن البائع، فيكون على ما قدمناه في يد البائع. والثاني: أن يكون نيابة عن أحد المشتريين، فيكون على ما قدمناه في يد أحدهما. والثالث: أن يكون نيابة عنهما، فيكون على ما قدمناه في أيديهما. والحالة الرابعة: أن يكون لنفسه غير ثابت فيها من غيره فلا تتوجه الدعوى عليه في البيع، لأنه منسوب إلى غيره، ولا توجب بينة واحد منهما انتزاع الدار من يده، لأن بيع غيره للدار لا يجعله مالكاً لها وصاحب اليد أحق بالدار من بائعها، ولا تتوجه عليه مطالبة البائع بها، لأن قيام البينة عليه بالبيع يمنع من أن يكون له فيها حق، وسقط أن يكون للبائع عليه يمين ولا تتوجه إليه مطالبة واحد من المشتريين بها، لأنه يدعي ملكها، عن البائع، وليس للبائع المطالبة بها فكان أولى أن لا يطالب بها النائب عنه، فتسقط المطالبة عن صاحب اليد، لأجل البينة، ولا يمين عليه لواحد منهم، ويرجع كل واحد من المشتريين على البائع بالثمن الذي شهدت به بينته، فإذا حكم بإبطال البيعين، وأخذ البائع برد الثمنين جاز له أن يستأنف الدعوى وهذا كله إذا لم يكن في البينة الشاهدة بالبيع شهادة للبائع، يملك المبيع، فأما إذا شهدت له بملك ما باع، فإن عارضه مت صاحب اليد ببينته، كانت بينة صاحب اليد أولى، لأنها بينة داخل قد تلتها بينة خارج وإن لم تكن لصاحب اليد بينة رفعت يده، وثبت أن البائع باع ملكه، وإن كانت الشهادة يملكه في إحدى البينتين حكم بالبيع، دون الملك ورجع بالثمن وبطل حكم التعارض فيهما. وإن شهدت بينة كل واحد منهما بالملك والبيع، ثبت حكم التعارض فيهما، وكان على الأقاويل الثلاثة، وقد أطلنا هذه المسألة باستيفائها، لأنها من الأصول في الدعاوى.

مسألة: قال الشافعي رحمه الله: " ولو أقام بينة أنه اشترى هذا الثوب من فلان وهو ملكه بثمن مسمى ونقده الآخر البينة أنه اشتراه من فلان وهو يملكه بثمن مسمى ونقده فإنه يحكم به للذي هو في سديه لفضل كينونته. قال المزني: وهذا يدل على ما قلت من قوله" قال في الحاوي: وهذه المسألة الثانية التي يجتمع فيها بائعان، ومشتريان وصورتها أن يتنازع رجلان في ثوب يدعي أحدهما أنه اشتراه من زيد وهو مالكه بثمن سماه ونقد إياه، ويقيم على ذلك بينة بالملك والبيع ويدعي الآخر أنه اشتراه من عمرو، وهو مالكه بثمن سماه، ونقده إياه، ويقيم على ذلك بينة بالملك والبيع فلا يخلو الثوب من خمسة أحوال: أحدها: أن يكون في يد المبايعين. والثاني: أن يكون في أيديهما. والثالث: أن يكون في يد أحد المشتريين. والرابع: أن يكون في أيديهما. والخامس: أن يكون في يد أجنبي. فأما الحالة الأولى: وهو أن يكون الثوب في يد أحد المبايعين فبينته أرجح وجهاً واحداً، لأنها بينة داخل تندفع بها بينة خارج فيصح بيعه، ويؤخذ بتسليم الثوب إلى مشتريه منه ويبطل بيع الآخر، ويؤخذ برد الثمن على مشتريه منه، ولا يمين للبائع الآخر ولا للمشتري على من ترجحت بينته من البائع والمشتري، لأن الحكم ثبت لهما بالبينة ترجيحاً باليد ولا يمين مع البينة. فصل وأما الحالة الثانية: وهو أن يكون الثوب في يد البائعين فلا تخاصم بين المشتريين، فقيل: إنه لابد لواحد منهما على ما يدعيه، وخصمه فيه هو البائع عليه، ليسلم إليه ما باعه وللبائع حينئذ حالتان: إحداهما: أن يتنازعا كل واحد منهما، أنه مالك لجمعيه وبينة كل واحد من المشتريين في البيع، هي بينة لكل واحد من البائعين في الملك ولكل واحد منهما بينة داخل في النصف الذي بيده، وبينة خارج في النصف الذي في يد صاحبه، فيحكم لكل واحد منهما بنصفه ويده، لأنه قد عارضته فيه بينة خارج وهل يجب لكل واحد منهما أحلاف صاحبه، أم لا؟ على قولين: من تعارض البين هل يسقطان، أو يستعملان؟

فإن قيل: بإسقاطهما فعلى كل واحد منهما أن يحلف لصاحبه أنه لا حق له فيما بيده، ولا يحلف أنه مالك لما بيده، لأنه يحلف على إنكاره وليس يحلف على إثباته. وإن قيل: باستعمال البينتين فلا يمين على واحد منهما لصاحبه، لأن من حكم له بالبينة لم يحلف معها، ثم يصير كل واحد من البائعين مالكاً لنصفه وبائعاً لجميعه فيكون كل واحد من المشترين بالخيار بين إمضاء البيع في نصفه والرجوع بنصف ثمنه، وبين فسخ البيع في جميع، والرجوع بجميع ثمنه على ما بيناه. والثانية: أن يتصادق البائعان على أن كل واحد منهما مالك لنصفه، فينقطع التخاصم بينهما بالتصادق وفي انقطاع خصومة المشتريين بانقطاعها بين البائعين وجهان: أحدهما: قد انقطعت الخصومة بتصادقهما، وصار كل واحد منهما مالكاً لنصفه وبائعاً لجميعه فلزمه تسليم مالك ودرك ما لم يملك. والثاني: أن الخصومة باقية لكل واحد من المشتريين لأنه يدعي ملك جميع الثوب، وقد صار إلى نصفه مع بقائه في حق غيره، ويكون مخاصماً فيه لمن بيده النصف الآخر فإن كان قد تسلم مشتريه كان كل واحد منهما خصماً لصاحبه فيه فيتحالفان عليه، ولا تستعمل بيناهما فيه، لأنهما لا تفيدهما أكثر من قسم بينهما. فإن حلفا أو نكلا كان بينهما، وانقطع تخاصمهما وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر حكم بجميعه للحالف ولم يلزم لبائعه عليه إلا نصف ثمنه، وإن صار مالكاً لجميعه أن البائع مقراً أنه لا يملك إلا نصفه، فإن لم يكن مشتريه قد ساق الثمن إليه، لم يطالبه البائع إلا بنصفه، وإن كان قد ساق جميع الثمن لم يكن له استرجاع شيء منه، لأنه مقر باستحقاقه عليه، وليس للمشتري الناكل رجوعه يدركه على بائعه لأنه مستحق في يده بنك وله، ولو حلف لكان مقراً في يده ولو لم يتسلم المشتري، وكان باقياً من يد البائعين وقفت الخصومة بين المشتريين، وكان لكل واحد مطالبة مبايعه فتسلم ما ابتاعه منه، وهو لا يقدر إلا على تسليم نصفه الذي في يده فإذا قبض كل واحد منهما نصفه، تخاصم فيه المشتريان، وكان حكمهما في التخاصم على ما ذكرناه. فصل وأما الحالة الثالثة: وهو أن يكون الثوب في يد أحد المشتريين، ترجحت بينه بيده وجهاً واحداً بخلاف يده لو كان البائع عليها واحداً في أحد الوجهين، لأنهما في الشراء مع اثنين يجعل يده بيد بائعه الذي لم ينقل ملكه إلا إليه فصارت يد كيد أحد البائعين، فحكم له بالجميع لأن بينته بالجميع بينه داخل وبينة الآخر في الجميع بينة خارج، ولزمه جميع الثمن ورجع الآخر على صاحبه بجميع الثمن وليس له مخاصمة صاحبه في الشراء، لأنه قد استقر ابتياعه لجميع الثوب، لحكم لت، وينقطع التنازع بين البائعين، كانقطاعه بين المشتريين لنفوذ الحكم بالبينة واليد البائع، والمشتري منه على البائع الآخر والمشتري منه.

فصل وأما في الحالة الرابعة: وهو أن يكون الثوب في يد المشتريين، فقد تكافئا في البينة واليد، لأن لكل واحد منهما بينة داخل في نصفه، بينة خارج من نصفه، فيحكم به بينهما نصفين وتكون الخصومة فيه بين المشتريين، ولا خصومة في الحال بينهما، وبين البائعين، لأن لكل واحد منهما أحلاف صاحبه قولاً واحداً لأنه لو صدقه عليه، لزمه تسليم ما بيده وفي كيفية يمينه قولان من اختلاف قوليه في تعارض البينتين، فإن قيل: باستعمالهما كانت يمين كل واحد منهما على النفي دون الإثبات، فيحلف بأنه لا حق له فيما بيدي، ولا يحلف إني مالك لما بيدي، لأنه قد ملكه بالبينة، فلا يمين مع البينة. وإن قيل: إن تعارضهما موجب لإسقاطهما كانت يمين كل واحد منهما على الإثبات دون النفي، فيحلف بالله لقد تملكه بالابتياع من فلان، لأنه لم يملك بالبينة، فصار مالكاً بالثمن، فإن حلفا كان الثوب بينهما ملكاً وإن نكلا كان الثوب بينهما يداً فلا رجوع لواحد منهما بالدرك على مبايعة سواء حلفا أو نكلا، لأنه كل واحد منهما في ادعاء جميعه ملكاً بالابتياع مصدق لمبايعة على ملكه. وإن حلف أحدهما ونكل الآخر حكم بالجميع للحالف دون الناكل، ولزمه ثمن جميعه لمبايعة، لاعترافهما باستحقاقه، ولا رجوع للناكل يدركه على مبايعة بشيء من ثمنه، لأنه مقر أنه لملكه. فإن أحال المشتريان بالتحالف على البائعين ليكونا خصمين فيه، كان جوازه على قولين، من اختلاف قوليه في تعارض البينتين، فإن قيل: بإسقاطهما، تحالف عليه البائعان وكان كل واحد من المشتريين خصماً لمبايعه فيه. وإن قيل باستعمالها لم يتحالف عليه البائعان لبت الحكم بينهما بالبينة، ولا رجوع لواحد منهما بالدرك على مبايعه إن تداعياه، ولهما الرجوع يدركه، إن لم يتداعياه، لأنهما في تداعيه مصدقان للبائعين، وإن لم يتداعياه غير مصدقين، وإن لم يجعل لهما الرجوع بالدرك، فلا خيار لهما في فسخ البيع، وإن جعل لهما الدرك كان لهما الخيار في فسخ البيع وكانا فيه بين ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يفسخا فيرجع كل واحد منهما بدرك جميعه والثاني: أن يقيما فيرجع كل واحد منهما يدرك نصفه. والثالث: أن يفسخ أحدهما، ويقيم الآخر فيرجع المقيم بدرك النصف فيرجع الفاسخ بدرك الجميع، ولا تتوفر حصة الفاسخ على التراضي لأن حصة الفاسخ تعود إلى مبايعه، ولا يعود إلى مبايع الراضي فصار فيه بخلاف البائع الواحد، الذي لا يعود خصمه الفاسخ، إلى مبايع الراضي، فيتوفي من حصته على الراضي. فصل وأما الحال الخامسة: وهو أن يكون الثوب في يد أجنبي فعلى ضربين:

أحدهما: أن تنسب يده إلى أحد الأربعة، فيكون حكمه كحكمه لو كان في يد من نسبه إليه، وهل لكل واحد من الباقين أن يحلفه إن أكذبه على أن يده نائبة عمن نسبه إليه، أم لا؟ على قولين: من اختلاف قوليه في وجوب الغرم عليه إن صدق غيره. فإن قيل: بوجوب الغرم مع الإقرار أحلف مع الإنكار، وإن قيل: لا غرم عليه لم يحلف. والثاني: أن يدعيه لنفسه ملكاً فدعواه مردودة بكل واحد من البينتين، و؟ لأن إحداهما تشهد به لزيد والأخرى تشهد به لعمرو، وكل واحدة منهما تشهد بأن لا حق فيه لصاحب اليد، ولا ينتزع من يده قبل بت الحكم بين المتنازعين، ليتعين بالحكم مستحق انتزاعه منه، فصارت يده ضامنة له في جنبه مستحقة وقد تعارضت البينتان فيه ملكا في حق البائعين ومبيعاً في حق المشتريين، وتساوت البينتان في حق الجنبتين لأنها بينتا خارج فتحمل على الأقاويل الثلاثة: أحدها: إسقاط البينتين، ويكون كل واحد من البائعين خصما للآخر في ملكه، وكل واحد من المشتريين خصماً لمبايعة في ابتياعه، فيتحالف البائعان على ملكه فإن حلفا حكم لهما ملكاً وإن نكلا جعل بينهما يداً. وإن حلف أحدهما ونكل الآخر فهل ترد يمين نكوله على مدعي ابتياعه؟ على قولين، من اختلاف قوليه في غرماء المفلس إذا أجابوا إلى يمين يستحق بها مال نكل عنها المفلس: أحدهما: ترد اليمين على المشتري إذا قيل: إنها ترد على الغرماء لأنه قد أثبت كل واحد منهما بيمينه حقاً لنفسه. والثاني: لا ترد اليمين على المشتري إذا قيل: إنها لا ترد على الغرماء لأنه لا حق لهما فيما يحلفان عليه، إلا بعد استحقاق خصمهما له، ولا يصح لأحد أن يملك مالاً بيمين غيره، وإذا كان كذلك لم يخل الثوب من أن يحكم به البائعين، أو لأحدهما فإن حكم به لهما صار كل واحد من المشتريين مدعياً على مبايعه ابتياع جميعه، ودفع ثمنه، فأن صدقه مبايعه على دعواه صح البيع في النصف الذي صار إليه وبطل في نصفه الذي صار في ملك غيره، ومشتريه بالخيار في إمضائه بنصف الثمن، واسترجاع نصفه الباقي أو فسخه في جميعه، واسترجاع ثمنه وإن أكذبه مبايعه في ابتياعه، حلف له، ولا بيع بينهما بعد يمينه، وهل يستحق عليه الرجوع بثمنه الذي شهدت بينه ببيعه ودفع ثمنه أم لا؟ على قولين من اختلاف قوليه في الشهادة إذا ردت في بعض ما شهدت به هل يوجب ردها في باقيه؟ أحدهما: لا يرد ويحكم له على البائع برد الثمن. والثاني: يرد، ويكون القول قول البائع في إنكاره مع يمينه وإن حكم بالثوب لأحد المبايعين بطل من لم يحكم له، وهو يرد الثمن بالبينة إن أنكر أم لا؟ على القولين وتوجهت الدعوى على من حكم به بالثوب لمشتريه منه فإن صدقه عليه، صح البيع في

جميعه ولا خيار لمشتريه وإن أنكره حلف، ولا بيع بينهما وهل يلزمه رد الثمن بالبينة أم لا على القولين؟ فهذا ما يتفرغ على هذه الدعوى على هذا القول الموجب لإسقاط البيتين. والثاني: أنه لا يوجب سقوطهما بالتعارض ويميز بينهما بالقرعة فآيتهما قرعت، حكم بها لمن شهدت له بملك البائع وبيعه على المشتري، وفي أحلافه مع القرعة قولان وردت البينة المقروعة في ملك الآخر وبيعه ولم ترد فيما شهدت به من دفع الثمن قولاً واحداً لأنه لم يكن ردها إسقاطاً وإنما كان ترجيحا. والثالث: استعمال البينتين بقسم الثوب بهما بين المشتريين نصفين، ولكل واحد منهما الخيار في إمضاء البيع في نصفه بنصف ثمنه واسترجاع باقيه، أو فسخ البيع فيه، واسترجاع جميع ثمنه، لأن البينة مستعملة فيما شهدت به، وإنما أمضت في النصف لازدحام الحقين كالعول في الفرائض. فصل وإذا تنازعا ثوباً في يد؟ أحدهما منه ذراع، وفي يد الآخر منه عشرة أذرع كانا في اليد سواء، ولا يترجح من بيده أكثره، على من بيده أقله، لأنه لو تفرد أحدهما باليد لم يقع الفرق بين أن يكون بيده أكثره أو أقله. ولو تنازعا داراً وأحدهما في صحنهما والآخر في دهليزها كانا في اليد سواء، وقال أبو حنيفة: الجالس في الصحن أحق باليد من الجالس في الدهليز. وليس بصحيح لأنه لو تفرد بالجلوس في الدهليز كانت يده عليها كما لو كان في صحنها، وهكذا لو كان أحدهما على سطحهما، والآخر في سفلها كانا عندنا في اليد سواء، ولا فرق أن يكون على سطح ستره حاجزة أو لا تكون أو على السطح ممر حاجز من السفل أو لا تكون. ولو تنازعا متاعاً في ظرف ويد أحدهما على الظرف ويد الآخر على المتاع، اختص كل واحد منهما باليد على ما في يده، ولا تكون اليد على الظرف مشاركة لليد على المتاع ولا اليد التي على المتاع مشاركة لليد على الظرف لانفصال أحدهما عن الآخر ولجواز أن يكون المتاع الواحد والظرف لآخر. ولو تنازعا عبداً ويد أحدهما على ثوبه ويد الآخر على ثوبه كانت اليد على العبد يداً على الثوب والعبد لأن يد العبد على الثوب أوقى، فصارت اليد على العبد أقوى، ولا يكون لصاحب اليد على الثوب يد على العبد ولا على الثوب، لأن للعبد على الثوب يدا وتصرفاً، ولممسك الثوب في يد غير تصرف، ولو تنازعا دابة أحدهما راكبها والآخر قائدها ففيه لأصحابنا وجهان: أحدهما: تكون لراكبها دون قائدها لأنه مع اليد المشتركة مختص بالتصرف.

والثاني: هما مشتركان في اليد عليها، لأن قودها تصرف كالركوب فاستويا. ولو تنازعا سفينة أحدهما برباطها والآخر ممسك بخشبها كانت اليد لممسك الخشب دون ممسك الرباط لأن الخشب من السفينة والرباط ليس منها، ولو كان أحدهما راكبها والآخر ممسكها كانت اليد للراكب دون الممسك لأن الراكب تصرفاً ليس للمسك. ولو تنازعا دابة في إسطبل أحدهما، وأكذبهما عليها فإن كان في الإسطبل دواب لغير مالكه استويا في اليد عليها، لأن التصرف في الإسطبل قد صار مشتركاً وإن لم يكن في الإسطبل دواب غير دواب صاحبه كانت اليد لصاحب الإسطبل خاصة لتفرده بالتصرف، والله أعلم مسألة قال الشافعي رحمه الله: " ولو كان الثوب في يدي رجل وأقام كل واحد منهما البينة أنه ثوبه باعه من الذي هو في يديه بألف درهم فإنه يقضي بين المدعيين نصفين ويقضي لكل واحد منهما عليه بنصف الثمن قال المزني رحمه الله: ينبغي أن يقضي لكل واحد منهما بجميع الثمن لأنه قد يشتريه من أحدهما ويقبضه ثم يملكه الآخر ويشتريه منه ويقبضه فيكون عليه ثمنان وقد قال أيضا: لو شهد كل واحد على إقرار المشتري أنه اشتراه أو أقر بالشراء قضى عليه بالثمنين. قال المزني سواء إذا شهدوا أنه اشترى أو أقر بالشراء" قال في الحاوي: وهذه هي المسألة الثالثة التي يجتمع فيها مشتر وبائعان وصورتها في رجل بيده ثوب تنازعه رجلان، فقال له كل واحد منهما هذا ثوبي بعته عليك بألف درهم، وسلمته إليك ولي عليك ثمنه، وأقام كل واحد منهما بينة بما ادعاه، فلا تخلو بينتاهما من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون تاريخهما مختلفاً فتشهد بينة أحدهما أنه باعه عليه في رجب، وتشهد بينة الآخر أنه باعه عليه في شعبان، فلا تعارض في البينتين، لإمكان حملهما على الصحة، وهو أن يشتريه من أحدهما في رجب ويبيعه على الآخر ثم يعود فيشتريه منه فيصير مشترياً من كل من البائعين في وقتين بثمنين، وإذا صح ذلك لزمه الثمنان من غير تكذب ولا تعارض كما لو ادعت امرأة على زوجها أنه نكحها في يوم الخميس على صداق ألف، ثم نكحها في يوم الجمعة على صداق ألفين وأقامت عليه البينة بكل واحد من النكاح، يحكم عليه بالصداقين ولا تتعارض فيه البينتان لأنه قد يتزوجها في يوم الخميس ويحالفهما فيه بعد دخوله بها ثم يتزوجها في يوم الجمعة فيصح العقدان ويلزمه الصداقان.

كذلك في مسألتنا: يصح فيه البيعان، ويلزمه الثمنان لإمكان الصحة وامتناع التنافي، وإذا أمكن حمل البينتين على الصحة لم يجز أن يحملا على التنافي والتضاد. الثانية: أن يكون تاريخ البينتين واحداً فشهد بينة أحدهما أنه باع عليه ثوبه هذا بألف، مع زوال الشمس من يوم السبت، وتشهد بينة الآخر أنه باع عليه ثوبه هذا بألف في ذلك الزمان بعينه، مع زوال الشمس من يوم السبت، فقد تكذيب البينتان فتعارضت لاستحالة أن يكون كل الثوب ملكاً لكل واحد من البائعين في وقت واحد، وبيعة كل واحد منهما عليه في وقت واحد، فكان تعارضهما مع الكاذب محمولاً على الأقاويل الثلاثة في تعارض البينتين: أحدهما: إسقاطهما بالتعارض ولا يتعين به حرج أحدهما بالكاذب ثم رجع بعد إسقاطهما إلى قول صاحب اليد، فإن كذبهما حلف لهما، وبرئ من مطالبتهما وإن صدقها حكم عليه لكل واحد بثمنه فيلزمه لهما ثمنان لإمكان ابتياعه من كل واحد منهما، وإن صدق أحدهما وكذب الآخر لزمه ثمنه للمصدق وحلف المكذب وبرئ بيمينه وإن نكل عنها ردت على المكذب وحكم له عليه بالثمن إذا حلف فيصير ملتزماً لثمنه في حق الأول بإقراره، وملتزماً بثمنه في حق الثاني بيمينه. والثاني: الإقراع بين البينتين والحكم لمن قرع منهما، ويبطل حكم المقروعة بالقارعة، وفي أحلاف من قرعت بينته، قولان: يحلف في أحدهما إن جعلت القرعة مرجحة للدعوى، ولا يحلف في القول الآخر إن جعلت مرجحة للبينة. والثالث: استعمال البينتين، وقسم الثوب المبيع بينهما نصفين، فيصير كل واحد منهما بائعاً لنصفه بنصف الثمن فيكون الثمن بينهما كما جعل الثوب بينهما، ولا خيار لمشتريه أن الصفقة لم تتبع عليه، وإنما تبعت في حق بائعه فإن طلب كل واحد من البائعين أخلاف المشتري بعد استعمال البينتين كان له أحلافه لأنه لو صدقه لزمه دفع الباقي من ثمنه. والثالثة: أن تكون البينتان مطلقتين أو إحداهما، فيتحمل أن يحمل إطلاقها على التعارض ويحتمل أن يحمل على الإمكان فاختلف أصحابنا فيما يحمل عليه هذا الإطلاق على وجهين: أحدهما: وهو قول الأكثرين: أنه يحمل على الإمكان ويقضي على المشتري، بالثمنين لجواز أن يكون إطلاقهما في وقتين. وإذا أمكن استعمال البينتين على الصحة، لم يجز أن يحملا على التعارض. والثاني: أنه يحمل إطلاقهما على التعارض في وقت واحد لأن الأصل براءة ذمة المشتري فلا يضمن بأمر محتمل، وإذا حكم بتعارضهما على هذا الوجه كان على الأقاويل الثلاثة: أحدهما: إسقاطها.

والثاني: الإقراع بينهما. والثالث: استعمالهما. فصل فصلا المزني فأنه تكلم على فصلين: أحدهما: إيجاب الثمنين فإن أراد به مع اختلاف الوقتين فهو صحيح مسلم، وإن أراد به مع اجتماع العقدين في وقت واحد فهو باطل مردود لامتناعه وإن أراد به مع الإطلاق فهو أصح الوجهين وإن قورع فيه. والثاني: فهو أنه جعل الشهادة عليه بمشاهدة العقدين كالشهادة على إقراره بالعقدين ولو قامت البينتان على إقراره بالعقدين، لزمه الثمنان سواء أقر بهما في وقت، أو وقتين كذلك الشهادة عليه بمشاهدة العقدين تقتضي أن تكون موجبة لالتزام الثمنين سواء كانتا في وقت أو وقتين وهذا الجمع بينهما في الوقت الواحد فاسد، لأنه يصح أن يقر في الوقت الواحد بعقدين، ولا يصح أن يباشر في وقت واحد فعل عقدين، فصح الإقرار بهما في الوقت الواحد بعقدين، ولا يصح أن يباشر في الوقت الواحد فعل عقدين، فصح الإقرار بهما في الوقت الواحد لإمكانه وبطل العقد عليه في الوقت الواحد لامتناعه. وقد يجوز أن يكون في الإقرار تعارض في موضع وهو أن تنفق الشهادتان على أنه أقر مرة واحدة لواحد ثم اختلفا فيمن أقر لبه، فشهدت إحداهما أن إقراره كان لزيد وشهدت الأخرى أن إقراره كان لعمرو، فتتعارض الشهادتان في الإقرار كما تعارضت في العقد فيحمل تعارضهما على الأقاويل الثلاثة في الموضعين. مسألة قال الشافعي رحمه الله: " ولو أقام رجل بينة أنه اشترى منه هذا العبد الذي في يديه بألف درهم وأقام العبد البينة أنه سيده الذي هو في يديه أعتقه ولم يوقت الشهود فإني أبطل البينتين لأنهما تضادتا وأحلفه ما باعه وأحلفه ما أعتقه. قال المزني: قد أبطل البينتين فيما يمكن أن تكون فيه صادقتين فالقياس عندي أن العبد في يدي نفسه بالحرية كمشتر قبض من البائع فهو أحق لقوة السبب كما إذا أقاما بينة والشيء في يدي أحدهما كان أولى به لقوة السبب وهذا أشبه بقوله" قال في الحاوي: وصورتها في عبد في ملك سيده ادعاه أنه ابتاعه بألف درهم دفعها إليه، وأقام به بينة وادعى العبد أن سيده اعتقه في ملكه، وأقام به بينة فهذا على ضربين: أحدهما: أن يكون في البينتين تاريخ يدل على تقدم إحداهما على الأخرى فيحكم بشهادة المتقدمة دون المتأخرة، فإن تقدم البيع على العتق حكم به بيعا وأبطل أن

يكون معتقاً لأنه أعتقه بعد زوال ملكه عنه بالبيع، وإن تقدم العتق على البيع، حكم بعتقه وبطل بيعه أنه باعه بعد زوال ملكه عنه، بالعتق، وأخذ يرد الثمن على مشتريه لقيام البينة بعتقه. والثاني: أن لا يكون في البينتين بيان يدل على تقدم إحداهما على الأخرى إما لإطلاقهما وإما لتاريخ إحداهما، وإطلاق الأخرى وإما لاجتماعهما في التاريخ على وقت واحد فتضاد اجتماعهما فيه، فتصير البينتان في هذه الأحوال الثلاثة متعارضين وهي في اجتماع التاريخ متكاذبتين، وفي إطلاقه غير متكاذبتين. والحكم في تعارضهما، سواء إذا لم يكن فيهما بيان، وإذا كانت على هذا التعارض فالعبد حالتان: إحداهما: أن يكون في يد سيده. والثانية: أن يكون في يد مدعي الشراء فإن كان في يد سيده فقد اختلف أصحابنا هل يكون تقديمه لإحدى البينتين مرجحاً أم لا؟ على وجهين: أحدهما: وهو قول أبي العباس بن سريج، تترجح البينة بتصديقه لأنه ذو يد مالكه. فعلى هذا إن صدق بينة المشتري على ابتياعه، حكم به مبيعاً وسقطت بينة عنقه، ولا يمين للعبد على سيده، لأنه لو اعترف له بالعتق بعد بيعه لم يغرم، فلم يلزمه أن يحلف وإن صدق بينة العبد على عتقه، حكم بعتقه، وسقطت بينة بيعه وهل لمشتريه أن يرجع بثمنه ببينته، بعد ردها في بيعه؟ على قولين: أحدهما: يرجع بثمنه إذا قيل: إن ردها في البعض لا يوجب ردها في الكل فعلى هذا لا يمين للمشتري على البائع في إنكاره لبيعه، لأنه لو اعترف بعد العتق لم يلزمه إلا رد الثمن وقد رد. والقول الثاني: أنه لا يرجع بثمنه بالبينة إذا قيل: إن رد البينة في البعض موجب لردها في الكل فعلى هذا يستحق المشتري أخلاف البائع على إنكاره، لأنه لو اعترف له بعد العتق لزمه رد الثمن لأن اليمين تستحق في الإنكار إذا وجب العوض بالإقرار ويسقط في الإنكار إن سقط الغرم بالإقرار. والوجه الثاني: وهو قول أبي علي بن خيران، وجمهور أصحابنا أنه لا تترجح واحدة من البينتين بتصديق البائع لأن كل واحدة منهما تشهد بزوال ملكه ورفع يده. فعلى هذا يتحقق تعارض البينتين وقال المزني: لا تعارض فيها، ويحكم ببينة العتق، لأن العبد في يد نفسه، فصارت يمينه بينة داخل، وبينة المشتري بينة خارج، فقضى ببينة الداخل على بينة الخارج. وهذا ليس بصحيح، لأن العبد لا يصح أن تكون له يد على نفسه لأن اليد عليه فامتنع أن تكون اليد ألا تراه لو ادعاه على سيده أنه أعتقه، وأنكره السيد لم يقبل قوله على السيد ولو كان في يد نفسه، قبل قوله عليه أو لا ترى لو تنازع ابتياعه رجلان،

فصدق أحدهما لم يؤثر تصديقه ولو كانت له يد على نفسه لكان تصديقه مؤثرا وأما الحر فقد اختلف أصحابنا هل تكون له على نفسه يد أم لا؟ على وجهين أحدهما: تكون له يد على نفسه إذ ليس عليه يد لغيره. أو لا ترى أن من ادعى لقيطاً عبداً فاعترف له بالرق كان عبداً له، ولو أنكره كان حراً، ولم يكن عبداً، ولو لم يكن في يد نفسه لما أثر إقراره، وإنكاره، وهذا قول أبي إسحاق المروري. والثاني: وهو قول الأكثرين من أصحابنا أنه لا يد للحر على نفسه أن اليد تستقر على الأموال ولا حكم لها فيما ليس بمال، فلم يكن له على نفسه يد، كما لم تكن لغيره عليه يد وليس يقبل قول اللقيط لأن له يداً على نفسه، ولكن لنفوذ إقراره على نفسه فلم يصح ما قالوه. فصل فإذا صح أن لا يد للعبد على نفسه صح فيه تعارض البينتين وفي تعارضهما ثلاثة أقاويل: أحدها: إسقاطهما ويرجع إلى السيد في تكذيبهما أو تصديق أحدهما فإن كذبهما حلف لكل واحد منهما، وكان العبد موقوفاً على ملكه، ولا يلزمه رد الثمن البينة، لأنها قد أسقطت في كل ما شهدت به، وإن صدق العبد دون المشتري، عتق العبد وحلف المشتري لأنه لو صدقه بعد تصديق العبد، غرم له الثمن، وإن صدق المشتري ملك العبد بالشراء، لم يحلف العبد لأنه لو صدقه بعد تصديق المشتري لم يلزمه غرم. والثاني: الإقراع بين البينتين والقرعة في هذا الموضع قوية، لأنها يتميز بها حرية ورق فعلى هذا إن قرعت بينة المشتري حكم له ابتياعه وفي أخلافه مع قرعته قولان. إن قرعت بينة العبد حكم بعتقه، ولزمه رد الثمن على المشتري، لأن البينة لم تسقط وإنما ترجح غيرها فوقفت. والثالث: استعمال البينتين. فاختلف أصحابنا في صحة تخريجه في هذا الموضع على وجهين: أحدهما: لا يصح تخريجه، لأن سارية العتق تسقط حكم القسمة. والثاني: يصح تخريجه في هذا الموضع، لأن استعمالهما لا يسقط بما يحدث عن القسمة بهما، فعلى هذا يجعل نصفه مبيعاً على المشتري بنصف الثمن، ويكون فيه لأجل تفريق الصفقة بالخيار بين إمضاء البيع فيه بنصف ثمنه، واسترجاع نصفه الباقي، وبين فسخه، واسترجاع جميع ثمنه، فإن فسخ، حكم بعتقه على سيده، لأنه قد عاد إلى ملكه،

وقد شهدت عليه البينة بعتقه. وإنما جعل نصفه مبيعاً لمزاحمة المشتري ببينته، فإذا زالت مزاحمته بفسخه زال سبب التبعيض فعتق الجميع وإن أقام على البيع في نصفه، ولم يفسخ اعتبر حال البائع فإن كان معسراً بقيمة نصفه لم يسر العتق إلى نصفه المبيع، وكان على رقه لمشتريه وإن كان موسراً بقيمته ففي سارية عتقه ووجوب تقويمه عليه وجهان: أحدهما: يقوم عليه ويسري العتق إلى جميعه، لأنه لو عاد إليه بالفسخ عتق عليه. والثاني: أن لا يقوم عليه، ولا يسري العتق إليه لأنه منكر لعتقه وإنما أخذ جبرا بعتق ملكه فلم يسر إلى غير ملكه وصار في عود النصف المبيع بالفسخ كمن ورث أباه، لم يعتق عليه، لأنة ملكه بغير اختياره في عوده إليه بالفسخ لم يستقر عليه لغيره مالك فعتق عليه الجميع من غير تبعيض. فصل فأما إذا تعارضت البينتان وكان العبد في يد المشترية ففي ترجيح بينته بيده وجهان: أحدهما: يرجح بيده لأن بينته بينة داخل، وبينة العبد بينة خارج، فوجب أن يقضي بينته المشتري في ابتياع جميعه، وتبطل بينة العتق وليس للعبد أخلاف سيده، لأنه لا غرم عليه لو أقر له. والثاني: ترجح بينته بيده، لأنه قد أضاف ملكه إلى سببه فزال بذكر السبب حكم اليد، ويتفرع على هذين الوجهين إذا تنازع رجلان في ابتياع عبد من رجل، وأقام أحدهما البينة أنه ابتاعه منه، وقبضه، وأقام الآخر لبينة أنه ابتاعه منه، ولم يقولوا: إنه قبضه، فإن رجحت البينة باليد رجحت بالقبض وإن لم تنجح باليد ولم وقبل القبض متردد بين سلامة المبيع، فيبرم أو تلف فيبطل فكان ترجيحه بالقبض دليلاً على ترجيحه باليد. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " ولا أقبل البينة أن هذه الجارية بنت أمته حتى يقولوا ولدتها في ملكه". قال في الحاوي: وصورتها في رجل ادعى جارية في يد غيره أنها بنت أمته وأقام البينة على أنها بنت أمته، لم يقض له بملكها لأنه قد يجوز أن تلدها الأم قبل أن تملك الأم، وهكذا لو ادعى ثمرة وأقام البينة أنها ثمرة نخلته، لم يقض له بملك الثمرة لجواز أن يكون ملك النخلة بعد حدوث الثمرة وهكذا لو ادعى صوفاً وأقام البينة أنه من صوف غنمه لم يقض له بالصوف لجواز أن يملك الغنم بعد جزا الصوف، فصارت البينة غير

مثبتة فلذلك لم يقض بها فإن شهدوا أنها أمته ولدتها في ملكه، وفي الثمرة أنها ثمرة نخلته أثمرتها في ملكه وفي الصوف أنه من غنمه، جز في ملكه قضى له بملك الجارية والثمرة والصوف لأن من ملك أصلا ً ملك ما حدث عنه من النماء. ألا ترى أن المنصوب منه يستحق نماء ملكه مع استرجاع أصله، صارت الشهادة بهذا الشهادة بالملك، وسببه فكان أوكد من الشهادة بمجرد الملك. فإذا قيل: فهذه شهادة بملك متقدم، وليست شهادة بملك في الحال، فصار كشهادتهم أن هذه الجارية كان مالكاً لها في السنة الماضية، فلا يوجب ذلك أن يحكم له بملكها فكذلك في الولادة. قيل: قد نص الشافعي أن الشهادة تقديم الملك لا توجب الملك في الحال والشهادة تقديم الولادة والنتاج يوجب الملك في الحال فاختلف أصحابه في اختلاف النصين مع تشابه الأمرين فكان البويطي، وابن سريج، يحملانه على اختلاف قولين: أحدهما: يحكم بالملك في الشهادة بقديم الملك والشهادة بالولد والنتاج على ما نص عليه في النتاج، استصحاباً لثبوته. والثاني: أنه لا يحكم له بالملك في الشهادة بقديم الملك والشهادة بالولد، والنتاج على ما نص عليه في الشهادة بقديم الملك لأن الملك المتقدم قد يزول بأسباب فلم يوجب ثبوت المالك في الحال. وكان أبو إسحاق المروري وأبو علي بن أبي هريرة وأكثر المتأخرين يمنعون من تخريج ذلك على قولين، ويحملون جواب الشافعي على ظاهرة في الموضوعين فيحكمون له بملك الولد والنتاج إذا شهدوا له بحدوث الولادة والنتاج في ملكه ولا يحكمون له بملكها، إذا شهدوا له بقديم ملكه وفرقوا بينهما من وجهين: أحدهما: أنهم شهدوا في الولادة والنتاج بأنه نماء ملكه، ونماء ملكه لا يجوز أن يكون لغيره كما لو شهدوا له بغضب ماشية نتجت ونخل أثمرت ملك به النتاج، والثمرة وليس كذلك شهادتهم بقديم الملك لتنقل أحواله من مالك إلى مالك. والثاني: أن النتاج لما لم يتقدمه فيه مالك صار في تملكه أصلاً وقديم الملك، لما تقدمه فيه مالك صار في تملكه فرعاً وحكم الأصل أقوى من حكم الفرع فإذا قيل: فليس يمتنع أن يحدث الولد لغير مالك الأم كالموصي إذا وصى بأمته لزيد وتحملها لعمرو، فإنه تلده في ملكه، وليس يملكه. قيل: هذا نادر أخرجته الوصية عن حكم أصله فصار كالاستثناء الذي لا يمنع جوازه من استعمال أصله على العموم قبل وروده. فصل وإذا شهدوا أن هذه الجارية بنت أمته، ولدتها بعد ملكه، ولم يقولوا (ولدتها) في

ملكه، لم يحكم به بملك الجارية، لأنه قد يجوز أن يكون باعها فولدت بعد ثم عاد فابتاعها، أو يكون قد باعها فولدت عند مشتريها، ثم أفلس بها فارتجاعها البائع دون ولدها، فلذلك لم تقم البينة بملكها، ولو شهدوا أنها بنت أمته، أخذها هذا من يده كانت شهادة له باليد، دون الملك فيحكم له برد الجارية عليه يداً لا ملكاً. ولو شهدوا أنها بنت أمته، وكانت أمس في يده فمذهب الشافعي المشهور من قوله: أنه لا يحكم له باليد إذا شهدوا له بيد متقدمة، وإن حكم له بالملك إذا شهدوا له بملك متقدم على أحد القولين وكان البويطي وابن سريج، يجمعان بين الشهادة بقديم اليد، وقديم الملك وفي الحكم بهما على أحد القولين وقد ذكرنا من فرق أصحابنا بين قديم اليد وقديم الملك ما يمنع من الجمع بينهما. وفرع ابن سريج على الجمع بين قديم اليد، وقديم الملك في الحكم بهما على أحد القولين، أن يتنازعا الجارية فيقر صاحب اليد أنها كانت في يد مدعيها أمس. قال ابن سريج: إن قيل بأن قيام البينة بأنها كانت بيده أمس يوجب الحكم له باليد فإقرار صاحب اليد أولى بالحكم. وإن قيل: إن قيام البينة لا يوجب الحكم له باليد ففي لإقرار صاحب اليد به وجهان: أحدهما: أن إقراره لا يوجب الحكم به كما ملا يجب بالبينة لاستوائهما في ثبوت الحكم بهما. والثاني: أننا نحكم على صاحب اليد بإقراره وإن لم يحكم عليه بالبينة وتنقل اليد إلى المدعي بالإقرار وإن لم تنقل إليه بالبينة، لتقدم الإقرار على البينة المكذبة له فأما إن أقر صاحب اليد أن المدعي كان مالكاً لها بالأمس حكم له بالملك قولاً واحداً وإن كان الحكم بالبينة على قولين لقوة الإقرار على البينة ويكون الإقرار بالملك أقوى من الإقرار باليد. فصل وإذا تنازع رجلان في يد كل واحد منهما جارية فادعى كل واحد منهما الجارية، التي في يد صاحبه، أنها بنت الجارية التي في يده ولدت على ملكه ويقيم على كل واحد منهما البينة على ما يدعيه وهذا يكون مع اشتباه الأسنان، وأن كل واحدة منهما يحتمل أن تكون أماً ويحتمل أن تكون بنتاً فتصير الشهادتان متعارضتان في الولادة دون الملك، لأنه يستحيل أن تكون كل واحدة منهما بنت الأخرى فصارتا في الولادة متعارضتين ولم يتعارضا في الملك، لأن بينة زيد شهدت له بملك الجارية التي في يد عمرو وبينة عمرو شهدت له بملك الجارية التي في يد زيد فلم يكن فيها تعارض في الملك وإن تعارضتا في الولادة فيحكم لكل واحد منهما ببينته وتسلم الجارية التي في يد زيد إلى عمرو والجارية التي في يد عمرو إلى زيد ولا يكون تعارضهما في الولادة

موجباً لتعارضهما في الملك وكان التعارض في الولادة أقوى، ولا يحمل على رد البينة في الكل، إذا ردت في البعض، لأن الولادة هاهنا لم يؤثر في الحكم فكان وجودها كعدمها ولو كانت المسألة بحالها فادعى كل واحد منهما على صاحبه، فقال: أما مالك الجارية التي في يدي والجارية التي في يدك وهي بنت الجارية التي هي في يدي، وأقام على ذلك بينة صارت الشهادتان متعارضتين في الولادة والملك جميعاً لأنه يستحيل أن تكون كل واحدة منهما بنت الأخرى، فتعارضت في الولادة ويستحيل أن تكون الجاريتان معاً ملكاً لكل واحد منهما، فتعارضت في الملك فتكون على الأقاويل الثلاثة في تعارض البينتين، فإن زال الاشتباه في سن الجارتين بان من يحق أن تكون بنت الأخرى لصغر سنها، وكب ر الأخرى، تعين بها كذب إحدى البينتين في الولادة، فردت شهادتهما في الملك وحكم بشهادة الأخرى في الولادة والملك، وزال به حكم التعارض. فصل وإذا تنازعا شاه مذبوحة وكان في يد أحدهما رأسها وجلدها وسقطها، وفي يد الآخر مسلوخ ها وادعى كل واحد منهما أن جميعها له، وأقام على ذلك بينة حكم لكل واحد منهما بملك ما في يده لأن له لما في يده بينة داخل، وفيما بيد صاحبه بينة خارج، فقضى ببينة الداخل على بينة الخارج. وحكم أبو حنيفة لكل واحد منهما بما في يد صاحبه، لأنه يقضي ببينة الخارج على بينة الداخل، ولو كان كل واحد منهما يدعي تلك الشاه وأنها نتجت في ملكه، وأقام بها بينة وأمضى أبو حنيفة على أنه يحكم لكل واحد منهما بملك ما في يده لأنه موافق على القضاء ببينة الداخل في النتاج في غيره فيقضي ببينة الخارج في غير النتاج. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " ولو شهدوا أن هذا الغزل من قطن فلان جهلته لفلان" قال في الحاوي: وهذا صحيح إذا شهدوا أن هذا الغزل من قطن زيد، كانت شهادة بملك زيد للغزل لأن عين القطن وإن غيرته الصنعة بخلاف شهادتهم أن هذه الجارية بنت أمته لأنها غير أمته. وهكذا لو شهدوا أن هذا الثوب من غزل زيد كانت شهادة له بملك الثوب لأنه القطن بعينه وإن تغير الغزل والنساجة. وجعلها أبو حنيفة شهادة القطن دون الثوب والغزل وبني ذلك على أصله أن

الغاصب إذا عمل في المغصوب بما يغير عن حاله كان أحق به من مالكه وغرم له بدل أصله وقد مضى الكلام معه في الغصب وأن مالكه أحق به من غاصبه. فعلى هذا إذا كانت قيمة الثوب منسوجاً أكثر من قيمته غزلاً وقطناً وهو الأغلب لم يرجع صاحب اليد بزيادته على المالك. وإن كان أقل وهو نادر، رجع المالك بنقصانه على صاحب اليد من أكثر قيمته قطناً أو غزلاً وهكذا القول في نظائر هذا إذا شهدوا هذا الدقيق من حنطة زيد، وهذه الدنانير من ذهبه وهذه الدراهم من فضته وهذه النخلة من نواته، وهذا الزرع من بذره، وكانت له شهادة بملك ذلك، سواء كان بعمل صاحب اليد، أو بغير عمله وعند أبي حنيفة: إن تغير بعمل صاحب اليد ملكه. فعلى هذا يقول: إن نبتت النواة نخلة بنفسها ونبت البذر في الأرض بنفسه كان لمالكه وإن كان بعمل صاحب اليد كان له ويقول في رجل غصب دجاجة فباضت بيضتين حضنت الدجاجة إحداهما حتى صارت فرخاً وحضن الغاصب الأخرى، إما تحت الدجاجة أو تحت غيرها حتى صارت فروجاً كان الفروج الأول لمالك الدجاجة، والفروج الثاني للغاصب. وجميع ذلك كله عندنا لمالك أصله على ما بيناه. ولكن لو شهدوا أن هذا الزرع من ضيعته لم يكن ذلك شهادة له بملك الزرع، لأنه قد يجوز أن يكون زرع أرضه لغيره وهذا مما اتفقنا نحن وأبو حنيفة عليه. فإن قيل: أفتكون هذه شهادة له باليد على الزرع نظر، فإن لم يقولوا زرع فيها وهي على ملكه لم تكن شهادة له باليد لجواز زرعه فيها وحصاده قبل ملكه، ويده وإن قالوا: زرع وحصد في ملكه، كانت شهادة له بيد متقدمة فيكون عند البويطي وابن سريج، على قولين كالشهادة بالملك القديم يوجب ثبوت يده في الحال، وأحلافه على الزرع أنه ملكه. والثاني: لا يوجب ثبوت يده ولا يحلف على ملكه. والذي عليه أصحابنا أنه لا يحكم له باليد قولاً واحدا لما بيناه ولا يحلف عليه ويكون القول فيه قول صاحب اليد في الحال مع يمينه فإن أقام صاحب الأرض بأداء خراجه أو بدفع عشرة إلى المستحق لقبض خراجه وعشرة لم يملكه لأنه قد ينوب في أدائه عن مالكه. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا كان في يديه صبي صغير يقول: هو عبدي فهو

كالثوب إذا كان لا يتكلم" قال في الحاوي: وجملته أنه لا يخلو حال هذا الموجود إذا دعاه الواجد عبداً من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يكون بالغاً عاقلاً فتعتبر حالة فإن أنكر الرق، وقال: أنا حر فالقول قوله مع يمينه ولا تقبل دعوى واجدة في ادعائه، لأن الأصل الحرية والرق طارئ فكان الظاهر معه فلو عاد بعد إنكاره للرق، فأقر لواجده بالرق لم يقبل إقراره كان على الحرية حتى يقيم مدعيه بينه برقه، لأن من أقر بالحرية لم يقبل إقراره بالرق وإن كان هذا أقر بالرق حين أخذه الواجد، وأنكر أن يكون مملوكاً لهذا الواجد المدعي لرقه، فلا اعتبار بإنكاره لأن العبد لا يد له على نفسه، ويقر على يد مدعيه لأنه ليس له منازع فيه ويجبر العبد على المقام معه، فإن حضر من ادعاه، ونازعه فيه كان للأول يد، وليس للثاني يد، فيكون القول فيه قول الأول. مع يمينه لثبوت يده قبل منازعته إلا أن يقيم الثاني بينة، فيحكم أنه عبد للثاني، لأن البينة أولى من اليد فإن أقام الأول بينه كان أحق به من الثاني، لأن الأول بينة داخل وللثاني بينة خارج. ولو تنازعه في الحال رجلان ولم يكن لأحدهما عليه يد، وأقام كل واحد منهما بينة بأنه عبده فصدق العبد أحدهما لم تترجح بينته بتصديقه، وتعارضت فيه البينتان فيكون على الأقاويل الثلاثة. ولو تنازعه رجلان، ولا بينة لأحدهما فصدق أحدهما في رقه وكذب الآخر، وأنه مملوك له دون الآخر كان عبداً للمصدق منهما دون المكذب. وقال أبو حنيفة: يكون عبداً لهما يشترك فيه المصدق، والمكذب، لأنه قد صار باعترافه لأحدهما مملوكاً ولا اعتبار باعتراف المملوك وإنكاره وهذا ليس بصحيح لأنه حر في الظاهر، وإنما صار مملوكاً باعترافه، فاقتضى أن يكون مملوكاً لمن اعترف به. ولو كان معترفاً بالرق قبل اعترافه لأحدهما، ثم صدق أحدهما وكذب الآخر كان بينهما. والثانية: أن يكون المدعي رقه صغيراً غير مميز، فيحكم برقه لمدعيه يدا، لأنه لا منازع له فيه، وليس ببالغ فيعرب عن نفيه فإن بلغ هذا الهبد، وأنكر الرق وادعى الحرية لم تقبل دعواه إلا ببينة تشهد له بالحرية، فإن طلب أحلاف سيده أحلف له ولو كان هذا صغيراً فاستخدمه الواجد، ولم يدع في الحال رقه حتى بلغ ثم ادعى رقه بعد بلوغه ففيه وجهان: أحدهما: وهو قول أبي حامد الإسفراييني، يحكم له برقه بغير بينة لأن يده عليه، فقبل قوله فيما بيده. والثاني: أن دعواه إذا تأخرت عن الصغير، صارت مستأنفة عليه بعد الكبر، ودعواه بعد الكبر لا تقبل، إلا ببينة وهذا أظهر الوجهين عندي.

والثالثة: أن يكون هذا المدعي رقه مراهقاً مميزاً، وليس ببالغ ففي ثبوت رقه بمجرد الدعوى وجهان: أحداهما: يحكم له برقه عبداً له، ولا يؤثر فيه إنكاره قبل بلوغه، ولا بعد بلوغه إلا بينة تشهد بحريته لأن حكم ما قبل البلوغ في ارتفاع العلم سواء. والثاني: أن الحكم برقه موقوف على إقراره، وإنكاره فإذا اعترف له بالرق حكم له بعبوديته، وإن أنكر الرق حكم له بالحرية، ولا يحلف على إنكاره إلا بهد بلوغه، ولا يمتنع أن يكن لقوله قبل البلوغ حكم، وإن لم يجر عليه قلم، كما يخبر قبل البلوغ بين أبويه، ويصح منه فعل الصلاة وإن لم تلزمه، ويسمع خبره في المراسلات والمعاملات، ويشبه أن يكون هذان الوجهان من اختلافهم في صحة إسلامه بعد مراهقته، وقبل بلوغه وكرم الشافعي هاهنا في قوله: " إذا كان لا يتكلم" دليل على أنه إذا كان يتكلم بالمراهقة والتمييز أن يعتبر إقراره وإنكاره، وقد تأوله من قال بالوجه الأول أن معناه إذا كان ممن لا حكم لكلامه. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " فإن أقام رجل بينة أنه ابنه جعلته ابنه وهو في يدي الذي هو في يديه" قال في الحاوي: يعني الصغير إذا دعاه رجل عبداً وحكم له برقه بمجرد دعواه، ثم ادعاه رجل آخر ولداً وأقام بينة بأنه ولده صار ابنا له ولم يزل عنه رق الأول، لأنه لا يمتنع أن يكون زيد عبدا لعمرو، لأنه يجوز أن يكون وقد ولد له من أمه تزوجها، فيكون له ابناً وهو مملوك لسيد الأم فلم يتنافى لحوق نسبه، وثبوت رقه، إلا أن يشهد بينة المدعي لنسبه، وأنه ولد له من حرة تزوجها، أو من أمة ملكها فيكون الولد حراً لأنه لا يجوز أن يولد الحر من الحرة إلا حراً ومن أمته إلا حراً لو كان مدعي أبوته لم يقم البينة يا فصدقه الولد عليها فالصحيح من المذهب أنه يثبت نسبه بتصديقه وإن كان على رقه لمدعي عبوديته لأنه حق للسيد في نسب العبد فنفذ فيه إقرار العبد. وفيه وجه آخر: أنه لا يثبت النسب بتصديقه لما فيه من الضرر العائد على سيده، بأن يصير بعد عتقه موروثاً بالنسب دون الولاء وفيه ضرر على السيد في أبطال ميراثه بالولاء. مسألة قال الشافعي رضي الله عنه: " وإذا كانت الدار في يدي رجل لا يدعيها فأقام رجل البينة أن نصفها له وآخر البينة أن جميعها له فلصاحب الجميع النصف وأبطل

دعواهما في النصف وأقرع بينهما قال المزني: فإذا أبطل دعواهما فلا حق لهما ولا قرعة وقد مضى ما هو أولى به في هذا المعنى" قال في الحاوي: وجملته أن مقيم البينة بجميعها إذا تورع فيها بإقامة البينة في نصفها، فقد سلم له نصفها لأنه لا تنازع فيه ولا تعارض، وإنما تتعارض بينتاهما في النصف الآخر، فيكون تعارضهما فيه على الأقاويل الثلاثة. أحدها: إسقاطها فيه، ويخلص لصاحب الكل النصف ولا يحمل على القولين إذا ردت الشهادة في البعض، أن ترد في الكل، لأن مقيم البينة بالنصف قد سلم لصاحب الكل النصف، فخرج من النزاع ولم يفتقر إلى البينة فعلى هذا لا يخلو صاحب اليد من أحد أمرين: أما أن يدعيها ملكاً أو لا يدعيها. فإن ادعاها ملكا زال ملكه عن نصفها المحكوم به لمدعي الكل وفي رفه يده عن النصف الآخر الذي تعارضت فيه البينة حتى سقطت وجهان: أحدهما: تقر في يده، ولا تنتزع لسقوط البينتين بالتعارض، ويصير فيه خصماً للمتنازعين. والثاني: أن تنتزع من يده، لاتفاق البينتين على عدم ملكه، وليس تعارضهما من حقه وإنما تعارضهما في حق المتنازعين وهي غير متعارضة في حق صاحب اليد، وإن لم يدعها ملكاً رفعت يده، لتنازع غيره في ملكها لتوقف على المتنازعين فيه، فيتحالفان على النصف الذي وقع فيه التعارض عند إسقاط البينتين فيه، فإن حلفا جعل بينهما وصار المدعي الكل ثلاثة أرباعها ولمدعي النصف ربعها. وإن نكلا حكم لصاحب الكل بالنصف وكان النصف الباقي موقوفاً وإن حلف أحدهما، ونكل الآخر، قضى به للحالف منهما دون الناكل فإن كان الحالف صاحب الكل، قضى له بجميع الدار، وإن كان صاحب النصف كانت الدار بينهما. والقول الثاني: يقرع بينهما مع التعارض، فإن قرعت بينة صاحب الكل سلم إليه جميع الدار، وفي أحلافه قولان، وإن قرعت بينة صاحب النصف جعلت الدار بينهما نصفين، وفي أحلافه وقولان ويدفع عنها صاحب اليد، سواء ادعاها ملكاً أو لم يدعها. والقول الثالث: استعمال البينتين وقسم النصف بينهما نصفين، فيصير لصاحب الكل ثلاثة أرباعها ولصاحب النصف ربعها وصاحب اليد مدفوع بها. فصل وأما المزني فأنه لما قال الشافعي: "أبطل دعواهما في النصف، وأقرع بينهما" اعترض عليه فقال: كيف يقرع بينهما فيما قد أبطل فيه دعواهما وهذا الاعتراض فاسد، ولأصحابنا عنه جوابان:

أحدهما: أنه أبطل دعواهما في النصف الحاصل لمدعي الكل لأنه قد خلص له من غير تنازع فيه، وأقرع بينهما في النصف الآخر ولم تبطل دعواهما فيه. والثاني: أنه أبطل دعواهما إذا سقط بينتهما، ويقرع بينهما إن لم يسقطها، ويكون معنى الكلام، أبطل دعواهما وأقرع بينهما، لاختلاف قوله في تعارضهما. فصل وإذا كانت الدار في يدي رجل فادعاها طالب، وأقام البينة على أنها ملك أجرها من صاحب اليد، أو أودعها، وأقام صاحب ليد بينة أنها ملكه حكمنا ببينة الخارج المدعي على بينة الداخل صاحب اليد، لأن بينة الخارج لما شهدت له، بأنه أجره إياها أو أودعها صارت اليد له، فصار الداخل خارجاً، والخارج داخلاً، ولو تداعباها رجلان، وهي في يد ثالث، فأقام أحدهما البينة أنها له أجره إياها، وأقام الآخر أنها له أودعه إياها صارت اليد لهما بما شهد لأحدهما أنه مؤجر وللآخر أنه مودع، فصار لكل واحد منهما بينة داخل في النصف المضاف إلى يده، وبينة خارج في النصف المضاف، إلى يد صاحبه وقد تعارضت فيه البينتان فإذا أسقطتا صارت الدار بينهما يداً إن حلفا ونكلا وإن أقرع بينهما، جعلت لمن قرع منهما، وإن استعملنا في القسمة قسمت بينهما ملكاً. فصل فإذا كانت الدار في يد يدعيها ملكاً فنازعه فيها رجلان وأقام أحدهما البينة أنها ملكه منذ سنة وأقام الآخر البينة على هذا الأول أنه ابتاعها منه منذ خمس سنين فلا تمنع بينة الأول أنها له منذ سنة أن تكون له ملكاً قبل ذلك بخمس سنين، فلذلك سمعت بينة الثاني على الأول ووجب بها انتزاعها من صاحب اليد، ثم ينظر في بينة المدعي الثاني أنه ابتاعها، من المدعي الأول فإن شهدت بأنه باعها وكان مالكاً لها، حكم بها للثاني ملكاً، فإن شهدت أنه باعها وكانت في يده، حكم بها للثاني ابتياعها فجرى عليه حكم الملك لأن الظاهر من اليد أنها لمالك، فتسلم الدار في هاتين الحالتين إلى المدعي الثاني وترفع يد المدعي الأول. ووافق أبو حنيفة عليهما، وإن شهدت بينة الثاني، أنه ابتاعها من الأول ولم يشهدوا أنها كانت ملكاً للأول ولا في يده، قال أبو حنيفة: لا تنتزع من الأول، ولا تسلم إلى الثاني لأن البيع متردد، بين أن يكون قد باع ما في ملكه، أو ما في يده فيصح وبين أن يبيع ما ليس في ملكه ولا يده فيبطل. فلم يجز أن يحكم بصحة البيع، ورفع يد الأول بمجرد متردد بين الصحة والفساد، وعند الشافعي أنه يد الأول وترفع وتسلم الدار إلى الثاني ابتياعاً من الأول لآن البيع في حقه صحيح أنه ملك، ولا يقضي بها ملكه الثاني، وإن قضى به بابتياعها من الأول فكان له فيها يد إن نوزع فيها، ترجح بيد لا بدفع بينة المنازع.

فصل وإذا تنازعا داراً في يد غيرهما، وأقام أحدهما البينة أن الدار كانت له منذ سنة، وأقام الآخر البينة أن الدار كانت في يده منذ سنة، فإن لم تجعل الشهادة بقديم الملك موجبة لملك وتقديم اليد موجبة لليد لم يحكم لواحد منهما ورجع إلى صاحب اليد في تصديقها أو تكذيبها، وإن جعلت الشهادة بهما موجبة للملك واليد في الحال حكم بالدار لمن أقام الشهادة بقديم الملك، دون من أقامها بقديم اليد، وكذا لو أقامها بيد في الحال، لأن الملك أقوى من اليد فلذلك حكم به على صاحب اليد. مسألة قال الشافعي رضيا الله عنه: " وإذا كانت الدار في يدي ثلاثة فادعى أحدهم النصف والآخر الثلث وآخر السدس وجحد بعضهم بعضا فهي لهم على ما في أيديهم ثلثا ثلثاً" قال في الحاوي: وصورتها في دار في أيدي ثلاثة تداعوا فادعى أحدهم نصفها ملكاً وباقيها يد بإجارة من مالك غائب أو عارية أو وديعة، وأنه لا ملك فيها لهذين ولا يد حق، وادعى الثاني ثلثها ملكاً وباقيها يداً بإجارة أو عارية أو وديعة لغائب،، وأنه لا لملك فيها لهذين ولا يد لحق. وادعى الثالث سدسها ملكاً وباقيها يداً بإجارة أو عارية أو وديعة لغائب وأنه لا حق فيها لهذين، ولا يد بحق وأنها كانت متأولة على هذه الصورة بما أشار إليه الشافعي من قوله: " وجحد بعضهم بعضا" لأن كل واحد منهم لو لم يدع الباقي يداً لما كان بينهم تجاحد ولكانوا متفقين على ما ادعوه ملكاً ولكان لصاحب النصف النصف، وإن كان أكثر مما بيده لأنه ليس في هذين الحاضرين من يدعيه ملكاً ولصاحب السدس السدس، وإن كان أقل مما في يده لأنه ليس يدعي ما زاد عليه ملكاً ولكان لصاحب الثلث الثلث وهو قدر ما في يده وليس يدعي ما زاد عليه ملكاً. وإذا كان في المسألة بعدما ذكروه من أملاكهم فيما تجاحد، ولم يتصور إلا على ما ذكرناه وأن كل واحد منهم ادعى ما ادعاه ملكاً وادعى باقيها يداً وهم في أملاكهم متفقون، وفي أيديهم متجاحدون، وقد تساوت أيديهم وإن اختلف أملاكهم فيها فتفرقت أيديهم أثلاثاً على ما أوجبه تساويهم، فينقض صاحب النصف عما زاد على الثلث، لأنه يدعيه ملكاً وهو في يد غيره فلم تقبل دعواه، ويزاد صاحب السدس باستكمال الثلث، لأن له فيه لا يداً يدعيه مالكاً لغائب، فأقرت يده عليه للغائب لأنه منازع فيه بغير بينة ولا يد، وصاحي الثلث لم يزد على ما ادعاه ملكاً ولم ينقض، لأن له في الثلث يداً، فلم

ينقص وليس له فيما زاد عليه يد فلم يزد، فإن أراد كل واحد من الثلاثة إحلاف صاحبيه، فيما ادعاه من استحقاق اليد في الجميع، نظرت دعوى يده فإن لم يتعلق له بها حق بحصة لأنه ادعاها إجارة، كان له إحلافها عليها، وإن ادعاها بعضهم وديعة وادعاها بعضهم إجارة، كان لمدعي الإجارة إحلافهما على العالم دون البت، لأنها يمين على نفي فعل الغير، ولم يكن لمدعي الوديعة إحلافهما. فصل: وإذا تنازعا دارًا في أيديهما، وادعى كل واحد منهما ملك جميعها، وعدما البينة، وتحالفا عليها، وحلف كل واحد منهما أنه مالك لنصفها، ولا يحلف أنه مالك لجميعهما، وإن كان مدعيًا، لجميعها، لأننا نحكم عليه بيمينه على ما في يده، ولا نحكم عليه بيمينه على ما في يد منازعه، فكانت يمينه مقصورة على النصف، وإن كان مدعيًا للكل، لأنه لا يجوز أن تتضمن يمينه ما لا يحكم له به، وذكر في كتاب الصلح وجهًا آخر أنه يحلف على الجميع اعتبارًا بالدعوى. مسألة: قال الشافعي رحمه الله: "فإذا كانت في يدي اثنين فأقام أحدهما بينة على الثلث والآخر على الكل جعلت للأول الثلث لأنه أقل مما في يديه وما بقي للآخر". قال في الحاوي: وهذا صحيح، لأن اليد تترجح بها بينة صاحبها، وترفع بينة منازعها، فإذا كانت الدار في يدي رجلين تنازعاها، فأقام أحدهما البينة على أن له ثلثها، وأقام الآخر البينة على أن له جميعها، قضى لصاحب الثلث بثلثها، لأن له في اليد بينة ويدًا، وله في السدس الزائد على الثلث يد، قابلتها بينة فرفعت بها وقضى لصاحب الكل بالباقي، وهو الثلث، لأن له بنصفها بينة ويدًا، وله بالسدس الزائد على النصف بينة بلا يد، قابلتها يد بلا بينة، فقضى له ببينة على يد منازعة، فصار له ثلثاها، وللأول ثلثها وسقط تعارض البينتين في الثلث باليد. فصل: وإذا كانت دار في يد أربعة تقارعوها، فادعى أحدهم جميعها، وادعى الثاني ثلثيها، وادعى الثالث نصفها، وادعى الرابع ثلثها، فإن لم يكن لهم بينة، جعلت الدار بينهم أرباعًا باليد والتحالف، وإن كانت لهم بينة بما ادعوه، جعلت بينهم أرباعًا بالبينة واليد من غير تحالف، لأن كل واحد منهم قد أقام بينة داخل فيما بيده وبينة خارج فيما بيد غيره، فحكم له ببينة الداخل دون الخارج، فصار الحكم فيها مع وجود البينة وعدمها

سواء في القدر وإنما يختلفان في التحالف، ولو كانت بحالها في الدعوى، والدار في يد خامس، ليس لواحد منهم عليها يد، وأقام كل واحد منهم البينة على ما ادعاه، خالص لمدعي الكل الثلث الزائد على الثلثين، لأنه قد أقام عليه بينة لم تعارضها بينة غيره وتعارضت البينات في الثلثين الباقيين، فكان على الأقاويل الثلاثة في تعارض البينتين: أحدها: إسقاطهما بالتعارض، والرجوع إلى صاحب اليد، فإن ادعاها لنفسه حكم بها له بعد يمينه، وفي قدر ما يحكم له فيها قولان: أحدهما: يحكم له أو بثلثيهما، إذ قيل: إن البينة إذا ردت في بعض الشهادة لم ترد في باقيها، لأن البينة بالكل قد ردت في الثلثين فلم ترد في الثلث الباقي. والثاني: يحكم له بجميع الدار، إذا قيل: إن البينة إذا ردت في بعض الشهادة، ردت في جميعها، لأن البينة بالكل لما ردت في الثلثين ردت في الكل، وإن لم يدعها صاحب اليد وأقر بها لبعضهم، أو لجميعهم حملوا فيه على إقراره وفي إحلافه لهم قولان: والقول الثاني: أن تعارض البينات يوجب القرعة دون الإسقاط، قيل هذا لا يعارض في الثلث الخالص لصاحب الكل، وترتيب القرعة في الثلثين ثلاث مراتب: فالرتبة الأولى: أن تقرع في السدس الذي بين الثلث، والنصف بين ثلثه مدعي الكل، ومدعي الثلثين، ومدعي النصف، لأن بينة صاحب الثلث لم تعارضهم فيه، وتعارضت فيه بينة الثلاثة فمن قرع منهم حكم به له. والرتبة الثالثة: الإقراع في الثلث الباقي بين الأربعة، لأن بينات جميعهم قد تعارضت ويحكم به لمن قرع منهم. والقول الثالث: أن تعارض البينات، يوجب استعمالها بالقسمة دون القرعة، فعلى هذا يقسم الثلثين بعد الثلث الخالص لصاحب الكل بين الأربعة الذين تعارضت فيهم البينة على ستة وثلاثين سهمًا، هي مضروب ثلاثة في ستة في اثنين، وترتبت القسمة فيه ثلاث مراتب، كما ترتبت القرعة فيه ثلاث مراتب: فالرتبة الأولى: قسمة السدس الذي بين النصف والثلثين وهو ستة من ستة وثلاثين، تقسم بين صاحب الكل، وصاحب الثلثين، لأنه قد تعاوضت فيه بينتاهما، ولم تتعارض فيه بينة غيرهما، فيكون لكل واحد منهما نصفه ثلاث أسهم، وقد صار إلى صاحب الكل بالثلث اثنا عشر سهمًا، فإذا انضم إليها هذه الثلاثة، صار له في الحالتين خمسة عشر سهمًا، ولصاحب الثلاثين ثلاثة أسهم، ثم يقسم السدس الذي بين الثلث والنصف أثلاثًا بين صاحب الكل، وصاحب الثلثين، وصاحب النصف، لأنه قد تعارضت فيه بيناتهم،

ولم يتعارض فيه بينة صاحب الثلث، فيكون لكل واحد من الثلاثة سهمان من الستة فإذا ضمها صاحب الكل إلى ما حصل له في الحالتين، وهو خمسة عشر سهمًا، صار له سبعة عشر سهمًا، وإذا ضمها صاحب الثلثين إلى ما حصل له في الحالة الواحدة، وهو ثلاثة أسهم صار له خمسة أسهم، ولم يحصل لصاحب النصف إلا هذين السهمين. والرتبة الثانية: قسم الثلث الباقي، وهو اثنا عشر سهمًا بين الأربعة كلهم، لأنه قد اجتمع فيه تعارض بيناتهم كلهم، فيكون لكل واحد منهم ثلاثة أسهم، فإذا ضمها صاحب الكل إلى ما صار له، وهو سبعة عشر سهمًا، صار له عشرون سهمًا، وإذا ضمها صاحب الثلثين إلى ما صار له، وهو خمسة أسهم صار له ثمانية أسهم. وإذا ضمها صاحب النصف إلى ما صار له، وهو سهمان صار له خمسة أسهم، وينفرد صاحب الثلث بثلاثة أسهم ليس له غيرها، فإذا جمعت سهامهم، وهي عشرون سهمًا لصاحب الكل، وثمانية أسهم لصاحب الثلثين، وخمسة أسهم لصاحب النصف وثلاثة أسهم لصاحب الثلث استوعبت ستة وثلاثين، وقسمت عليها الدار بينهم. فصل: وإذا تنازع وعمرو دارًا في يد زيد فأقام عمرو البينة، أن الدار له انتزعت منه الدار، وسلمت إلى عمرو، فإن عاد زيد بعد انتزاع الدار من يده، فأقام البينة أن الدار ملكه، حكم له بالدار، وأعيدت إليه وإن لم يكن له في الحال يد، لأن زوال يده بينة خارج عرف سبب زوالها، وصارت له بينة مع يده، وهي بينة داخل فقضى بها على بينة الخارج. ولو كانت المسألة بحالها، فأقام زيد البينة والدار في يده، بأنه مالكها، وأقام عمرو البنية أنه ابتاعها من زيد، حكم بها لعمرو، لأن بينته قد أثبتت لزيد ملكًا، زال عنه إلى عمرو بابتياعها، فكانت أزيد بيانًا، وأثبت حكمًا، فلو أقام زيد البينة والدار في يده، أنه مالكها، وأقام عمرو البينة أن حاكمًا حكم له على زيد بملكها، كشف عن حكم الحاكم بملكها لعمرو، فإن بان أنه حكم بها له، لأن زيدًا لم يكن له في تلك الحال بينة نزعها من يده بالبينة، وجب أن ينقض حكم الحاكم بها لعمرو، لأن زيدًا قد أقام بها بينة مع يده، وإن بان أنه حكم بها لعمرو على زيد العدالة بينة عمرو وجرح بينة زيد نظر، فإن أعاد زيد تلك البينة بعد أن ظهر عدالتها حكم بها عمرو دون زيد، لأن البينة إذا ردت بالجرح في شهادة لم تسمع منها تلك الشهادة بعد التعديل، وكان حكم الحاكم بها لعمرو ماضيًا، وإن قام زيد بينة غير تلك المردودة، حكم بالدار لزيد، ونقض حكم الحاكم بها لعمرو، وإن بان أن الحاكم حكم بها لعمرو على زيد مع بينة كل واحد منهما لأنه كان ممن يرى أن يحكم بينة الخارج على بينة الداخل، كرأي أهل العراق ففي نقض حكم الحاكم بها لعمرو وجهان: أحدهما: لا ينقض، لنفوذ باجتهاده فلم ينقض، وتقر الدار في يد عمرو.

باب في القافة ودعوى الولد

والثاني: ينقض حكم بينة الخارج على بينة الداخل، ويحكم بها لزيد، لأن هذا الاختلاف وإن لم يكن فيه نص فالقياس فيه جلي، والاجتهاد فيه قوي، فنقض بأقوى الاجتهادين أضعفهما، وإنما لا ينقض الاجتهاد مع التكافؤ، واحتمال الترجيح، وإن بان أن الحاكم حكم بها لعمرو على زيد ببينته، ولم تسمع بينة زيد، نظر في الحاكم، فإن كان يرى أن لا يحكم ببينة الداخل مع بينة الخارج، ففي نقض حكمه ما قدمناه من الوجهين كما لو سمعها ولم يحكم بها. وإن كان يرى أن بينة الداخل أولى بالحكم، فلم يسمعها، بعد سماع بينة الخارج، نقض حكمه لعمرو كم بها لزيد، وإن لم يبن بعد الكشف السبب الذي أوجب الحكم بها لعمرو، دون زيد مع ثبوت يد زيد وبينته، ففي نفوذ الحكم بها لعمرو وجهان: أحدهما: أن الحكم بها نافذ ممضي ولا ينقض إلا أن يعلم ما يوجب نقضه على ما شرحناه في أحد الأسباب الموجبة لنقضه، لأن الظاهر من حكم الحاكم نفوذه على الصحة، حتى يعلم فساده. والثاني: ينقض حكم الحاكم بها لعمرو تغليبًا ليد زيد، وبينته، حتى يعلم أن حكم الحاكم نفذ على وجه الصحة دون الفساد لاحتمال تردده بين الأمرين وهذا قول محمد بن الحسن، ولأن كان له وجه فهو ضعيف، والله أعلم. باب في القافة ودعوى الولد مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "أخبرنا سفيان عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف السرور في وجهه فقال: "ألم ترى أن مجزرًا المدلجي نظر إلى أسامة وزيدٍ عليهما قطيفةٌ قد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما قال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض" قال الشافعي فلو لم يكن في القافة إلا هذا انبغى أن يكون فيه دلالةٌ أنه علمٌ ولم لم يكن علمًا لقال له لا تقل هذا لأنك إن أصبت في شيءٍ لم آمن عليك أن تخطئ في غريه وفي خطئك قذف محصنةٍ أو نفي نسبٍ وما أقره إلا أنه رضيه ورآه علمًا ولا يسر إلا بالحق صلى الله عليه وسلم ودعا عمرو رحمه الله قائفًا في رجلين ادعيا ولدًا فقال: لقد اشتركا فيه فقال عمر للغلام وال أيهما شئت وشك أنس في ابنٍ له فدعا له القافة قال الشافعي رحمه الله وأخبرني عددٌ من أهل العلم من المدينة ومكة أنهم أدركوا الحكام يفتون بقول القافة. قال الشافعي رحمه الله ولم يجز الله جل ثناؤه نسب أحدٍ قط إلا إلى أبٍ واحدٍ ولا رسوله عليه السلام". قال في الحاوي: وهذا صحيح القيافة يحكم بها في إلحاق الأنساب، إذا اشتبهت

بالاشتراك في الوطء الموجب للحوق النسب، فإذا اشترك الرجلان في وطء امرأة يظنا كل واحد منهما زوجته، أو أمته، أو يتزوجها كل واحد منهما تزويجًا فاسدًا يطؤها فيه، أو كان نكاح أحدهما صحيحًا يطؤها فيه ووطئها الآخر بشبهة، أو يكونان شريكين في أمة فيشتركان في وطئها، ثم يأتي بولد بعد وطئها لمدة لا تنقص عن أقل الحمل، وهي ستة أشهر، ولا تزيد على أكثره، وهي أربع سنين فيمكن أن يكون من كل واحد منهما، فلا يجوز أن يلحق بهما ولا يجوز أن يخلق من مائهما، فيحكم بالقافة في إلحاقه بأحدهما: وكذلك لو اشترك عدد كثير في وطئها، حكم بالقافة في إلحاقه بأحدهم، وسواء اجتمعوا على ادعائه، والتنازع فيه أو تفرد به بعضهم في استوائه في إلحاقه بأحدهم، وهو في الصحابة قول علي بن أبي طالب عليه السلام في القافة، إذا وجدوا، ويقرع بينهم، إذا فقدوا حكم عمر رضي الله عنه بالقافة في إحدى الروايتين عنه، وبه قال أنس بن مالك، وبه قال من التابعين عطاء، ومن الفقهاء مالك، والأوزاعي، وأحمد بن حنبل. وقال أبو حنيفة: وأصحابه لا يحكم بالقافة، ويجوز أن يخلق الولد من ماء رجلين وأكثر، وألحقه بجميعهم، ولو كانوا مائة. وإذا تنازع امرأتان ولدًا ألحقته بهما كالرجلين. وقال أبو يوسف: ألحقته بالواحد إجماعًا، وبالاثنين أثرًا وبالثلاثة قياسًا ولا ألحقه بالرابع، فتحرر الخلاف مع أبي حنيفة في ثلاثة أشياء: أحدهما: في إلحاقه بالقافة منع منها أبو حنيفة وجوزناه. والثاني: في إلحاقه بأبوين جوزه أبو حنيفة وأبطلناه. والثالث: في خلقه من ماءين فأكثر، صححه أبو حنيفة، وافسدناه، واستدل أصحاب أبي حنيفة على إبطال قول القافة، وأن لا يكون للشبه تأثير في لحوق الأنساب بقول الله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وهذه صفة القائف، وبقوله تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8] ولو تركبت عن الاشتباه زالت عن مشتبه، وبقول تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ} [المائدة: 50]. والقيافة من أحكام الجاهلية، وقد أنكرت بعد الإسلام، وعدت من الباطل، حتى قال جرير في شعره: وطال خياري غربة البين والنوى وأحدوثه من كاشح يتقوف أي يقول: الباطل. وما روي أن رجلًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن امرأتي ولدت غلامًا أسود وأنا أنكره. فقال: هل لك من إبل؟ فقال: نعم. قال: ما ألوانها؟ قال: حمر. قال: فهل فيها من أورق؟ قال: نعم. قال: فيمن أين هذا؟ قال: لعل عرقًا نزعه. قال: وهذا لعل عرقًا

نزعه"، فأبطل الاعتبار بالشبه الذي يعتبره القائف، وبما روي أن العجلاني لما قذف من شريك ابن السحماء بزوجته وهي حامل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "إن جاءت به على نعت كذا، فلا أره إلا وقد صدق عليها، وإن جاءت به على نعت كذا، فلا أراه إلا وقد كذب عليه"، فجاءت به على النعت المكروه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن أمره لبين لولا ما حكم الله لولا الأيمان، لكان لي ولها شأن". فدل على أن حكم الله يمنع من اعتبار الشبه. د قالوا: ولو كانت القيافة علمًا لهم في الناس، ولم يختص بقوم ولأمكن أن يتعاطاه كل من أراد كسائر العلوم فلما لم يعلم ولم يمكن أن يتعلم بطل أن يكون علمًا يتعلق به حكم، ولأنه لما لم يعمل بالقيافة في إلحاق البهائم كان أولى أن لا يعمل بها في إلحاق الأنساب، واستدلوا على جواز إلحاق الولد بآبائه لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر". فلما لم يمتنع الاشتراك في الفراش لم يمتنع الاشتراك في الإلحاق، وبما روي عن قضية عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (اختصما في رجلين إليه وقد وطئا امرأة في طهر واحد، فأتت بولد فدعا بالقائف وسأله فقال: قد أخذ الشبه منهما يا أمير المؤمنين، فضربه عمر بالدرة، حتى أضجعه ثم حكم بأنه ابنهما يرثهما، ويرثانه، وهو للباقي منهما، فلم يظهر له في الحكم بهما فخالف مع اشتهار القضية، فصار كالإجماع. قالوا: ولأنهما قد اشتركا في السبب الموجب لثبوت النسب، فوجب أن يكون لاحقًا بهما كأبوين. قالوا: لأن أسباب التوارث لا يمتنع الاشتراك فيها كالولاء، واستدلوا على جواز خلقه من ماء رجل بأنه لما خلق الولد من ماء الرجل الواحد، إذا امتزج بماء المرأة في الرحم كان أولى أن يخلق من ماء الجماعة، إذا امتزج ماؤهم بمائها، لأنه بالاجتماع أقوى وبالانفراد أضعف، والقوة أشبه بعلوق الولد من الضعف. قالوا: ولأنه إذا حاز أن يخلق من اجتماع ماء الرجل الواحد من إنزال بعد إنزال، جاز أن يخلق من اجتماع ماء الجماعة من وطئ بعد وطئ، لأن اجتماع المياه من الجماعة كاجتماعهما من الواحد. فصل: والدليل على اعتبار الشبه في الأنساب، إذا اشتبهت، والعمل فيها بالقيافة، ما روي الشافعي في صدر الباب عن سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضوان الله عليها، قالت: "دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم أعرف السرور في وجهه". وروى ابن جريج عن الزهري: تبرق سرائر وجهه، فقال ألم ترى أن مجززًا المدلجي نظر إلى أسامة وزيد، عليهما قطيفة، فقد غطيا رؤوسهما وبدت أقدامهما،

فقال: إن هذه الأقدام بعضها من بعض. ففيه دليلان: أحدهما: أن المشركين كانوا يطعنون في نسب أسامة بن زيد حارثة، لأن زيدًا كان قصيرًا عريض الأكتاف أخنس أبيض اللون، وكان أسامة مديد القامة أقنى أسود اللون، وكان زيد حب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره القدح فيه وفي أسامة، فلما جمع مجززًا المدلجي بينهما في النسب، بقوله: "هذه أقدام بعضها من بعض" سر رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوال القدح فيهما، ممن كان يطعن في نسبهما فلو لم تكن القيافة حقًا، لما سر بها؛ لأنه لا يسر ببطال ولرد ذلك عليه، وإن أصاب، لأن لا يأمن من الخطأ في غيره. والثاني: أن الشرع مأخوذ عن الرسول صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله، وإقراره، فكان إقراره لمجزز على حكمه شرعًا من الرسول صلى الله عليه وسلم في جواز العمل به. يدل عليه ما روي: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج ذات يوم إلى الأبطح فرأى بعض قافة الأعراب، فقال: ما أشبه القدم بقدم إبراهيم التي في الحجر، فألحقه بالجد الأبعد، وأقره على اقتفاء الأثر ولم ينكر، فثبت اعتبار الشبه بالقافة شرعًا، ويدل على اشتهاره في الإسلام، أنه لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر رضي الله عنه إلى غار ثور مختفيًا فيه من قريش، أخذت قريش قائفًا يتبع به أقدام بني إبراهيم فيتبعها حتى انتهى إلى الغار ثم انقطع الأثر فقال: إلى هاهنا انقطع أثر بني إبراهيم، فلم يكن من الرسول صلى الله عليه وسلم فيه إنكار فثبت أنه شرع ويدل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قد اعتبر الشبه في ولد العجلاني، فقال: "إن جاءت به على نعت كذا فلا أراه إلا وقد صدق عليها، وإن جاءت به على نعت كذا فلا أراه إلا وقد كذب عليها" فجاءت به على النعت المكروه. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا الأيمان" وروي: "القرآن لكان لي ولها شأن" يعني في إلحاق الولد بالفراش، ونفيه عن العاهر، ولولا أن الشبه مع جواز الاشتراك حكم، لأمسك عنه كيلا يقول باطلًا فيتبع فيه وقد نزه الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم عن قول الباطل كما نزهه عن فعله. ويدل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا غلب ماء الرجل كان الشبه للأعمام، وإذا غلب ماء المرأة كان الشبه للأخوال". فدل على أن للشبه تأثيرًا فيما أشبه. فقد كان بعض أصحابنا يستدل عليه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله". فجعل للفراسة حكمًا، ويدل عليه من طريق الإجماع اشتهاره في الصحابة، رضي الله عنهم أنهم فعلوه، وأقروا عليه، ولم ينكروه، حتى روي أن أنس بن مالك شك في ابن له، فأراه القافة، ولو كان هذا منكرًا لما جاز منهم إقرارهم على منكر، فصار كالإجماع، وقد جرى في أشعارهم ما يدل على اعتبار القيافة عندهم، واشتهار صحتها بينهم، حتى قال شاعرهم:

قد زعموا أن لا أحب مطرقا كلا ورب البيت حبًا مسرفا يعرفه من قاف أو تقوفا بالقدمين، واليدين، والقفا وطرف عينيه إذا تشوفا ويدل عليه من طريق المعنى، هو أن الحادثة في الشرع، إذا تجاذبها أصلان حاظر ومبيح، لم ترد إليها، وردت إلى أقواهما شبهًا بها، كذلك في اشتباه الأنساب. والدليل على إبطال إلحاق الولد يأتي في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى} [الحجرات: 13]، وهذا خطاب لجميعهم فدل على انتفاء خلق أحدهما من ذكرين وأنثى، وقال تعالى:؟ {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ} [الإنسان: 2] فمنع أن يكون مخلوقًا من نطفتين، ويدل عليه أن ليس في سالف الأمم، وحديثها، ولا جاهلية ولا إسلام، أن نسبوا أحدًا في أعصارهم، إلى أبوين، وفي إلحاقه باثنين خرق العادات، وفي خرقها إبطال المعجزات، وما أفضى إلى إبطالها، بطل في نفسه، ولم يبطلها. والقياس، هو أنهما شخصان، لا يصح اجتماعهما على وطء واحد فلم يجز أن يلحق الولد بهما كالحر مع العبد، والمسلم مع الكافر فإن أبا حنيفة يمتنع من إلحاقه بهما، وإن اشتركا في الوطء فيلحقه بالحر دون العبد، والمسلم دون الكافر، والدليل على إبطال خلقه من ماءين مع ما قدمناه من نص الكتاب شيئان: أحدهما: ما أجمع عليه أمم الطب في خلق الإنسان، أن علوق الولد يكون حين يمتزج ماء الرجل بماء المرأة، ثم تنطق الرحم عليهما بعد ذلك الامتزاج فينعقد علوقه لوقته، ولا يصل إليه ماء آخر، من ذلك الواطئ ولا من غيره، وقد نبه الله تعالى على قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7)} [الطارق: 5 - 7] يعني أصلاب الرجال، وترائب النساء، والترائب الصدور فاستحال، بهذا خلق الولد من ماءين من ذكر أومن ذكرين. والثاني: أنه لما استحال في شاهد العرف أن تنبت السنبلة من حبتين، وتنبت النخلة من نواتين، دل على استحالة خلق الولد من ماءين. فإن قيل: لما لم يستحل خلق الولد من ماء ذكر، وأنثى، لم يستحل أن يخلق من ماء ذكرين وأنثى. قيل: قد جوزتم ما يستحيل إمكانه في العقول، والعيان من إلحاق الولد، بأمين فكيف اعتبرتم إنكار إلحاقه بأبوين؟ وتعليلكم بالإمكان في الأبوين يبطل إلحاقكم له بأمين، وكلا الأمرين عندنا مستحيل في الأبوين، والأمين، ثم نقول ما استحال عقلًا وشرعًا في لحوق الأنساب. لم يثبت به نسب كابن عشرين إذا ادعى أبوه ابن عشرين سنة لم يلحق لاستحالته، كذلك ادعاء امرأتين ولدًا لم يلحق بهما لاستحالته. فصل: فأما الجواب عن قوله تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] فهو

عائد عليهم في إلحاقه بالجماعة، فلم يكن لهم دليل. وأما الجواب عن قوله تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8] فهو: أنه يراد به فيما شاء من شبه أعمامه، وأخواله، وأما الجواب عن قوله تعالى: {أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} [المائدة: 50]، فهو: أنه ما ورد به الشرع، لا ينسب إلى حكم الجاهلية، وإن وافقه. وأما الجواب عن قوله صلى الله عليه وسلم: "لعل عرقًا نزعه" فهو أنه دال على اعتبار الشبه، لأنه علل بنزوع العرق الأول. وأما الجواب عن حديث العجلاني، فهو ما جعلناه دليلًا منه. وأما الجواب عن اختصاص قوم به، وتعذر معاطاته، وتعلمه: فهو أنه ليس يمتنع، أن يكون في العلوم، ما يستفاد بالطبع دون التعلم كقول الشاعر: إن لم يستفده الإنسان طبعًا تعذر أن يقول بتعلم واكتساب ولا يمتنع أن تكون صناعة الشعر علمًا، كذلك القيافة. وأما الجواب عن قوله: "الولد للفراش": فهو أن الفراش عند أبي حنيفة الزوجة، وعندنا من يجوز أن يلحق ولدها، ولا يجوز أن تكون المرأة ذات زوجين، فلم يجز عندهم أن تكون لاثنين، وعندنا لا يجوز أن يلحق ولدها إلا بواحد فلم يكن فراشًا إلا لواحد. وأما الجواب عن استدلالهم بامتناع القيافة في البهائم. فهو أن المقصود بإلحاق البهائم الملك، واليد أقوى فاستغنى به عن القيافة، والمقصود في الآدميين النسب، واليد لا تأثير لا فاحتيج فيه إلى القيافة. وأما الجواب عن قصة عمر رضي الله عنه في إلحاق الولد باثنين، فهو: أن الرواية اختلفت في هذه القصة فروى الشافعي في كتاب "الأم" عن ابن عياض عن هشام عن أبيه عن يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب أن رجلين تداعيا ولدًا فدعا عمر رضي الله عنه القافة فقالوا: قد اشتركا فيه. فقال عمر: وإلى أيهما يثبت؟ ويروي أنه دعا عجائز من قريش، فقلن: إن الأول وطئها، فعلقت منه، ثم حاضت فاستجشف الولد ثم وطئها الثاني، فانتعش بمائه، فأخذ شبهًا منهما، فقال عمر: الله أكبر" وألحق الولد بالأقرب، وإذا تعارضت فيها الروايات المختلفة، سقط تعلقهم بها وكانت دليلًا لنا لاجتماعهم فيها على استعمال القافة، واستخبارهم عن إلحاق الولد. وأما الجواب عن قياسهم على إلحاقه بأبويه مع انتفاضه بدعوى المسلم والكافر فهو أن الأب والأم هما مشتركان في وطء واحد، فلحق الولد بهما والرجلان لا يشتركان في وطء واحد، فلم يلحق الولد بهما. وأما الجواب عن استدلالهم بالولاء تعليلًا بالتوارث بها، فليست الأنساب معتبرة بالتوارث لثبوت الأنساب مع عدم التوارث بالرق، واختلاف الدين، ثم المعنى في الولاء حدوثه عن مالك، لا يمتنع يفه الاشتراك، وحدوث النسب عن وطء واحد، يمتنع فيه الاشتراك.

وأما الجواب عن استدلالهم، بأنه لما لحق بذكر وأنثى، لحق بذكرين وأنثى، فقد تقدم بما ذكرناه من امتناعه أن يخلق من ماءٍ بعد ماء، من واحد، أو اثنين. فصل: وإذا كان أحد الواطئين زوجًا وطئها في نكاح صحيح، والآخر أجنبيًا، وطئها بشبهة كانا في استلحاق الولد سواء، ويلحقه القافة بأشبههما به، وقال مالك يلحق بالزوج من غير قافة لقوته بالنكاح، وتميزه بالاستباحة. ودليلنا: هو أن كل واحد منهما ولو انفرد، لكان الولد لاحقًا به فوجب إذا اجتمعا أن يستويا في استلحاقه لاستوائهما في السبب الموجب للحوقه. وليس اختصاص بالاستباحة موجبًا، لاختصاصه بلحوق الولد كمن باع أمه بعد وطئها، ووطئها المشتري قبل استبرائه، وجاءت بولد يمكن لحوقه، بهما استويا في استلحاقه القافة بمشبهه. وإن كان وطء البائع مباحًا ووطء المشتري محظورًا. فصل: فإذا تقرر وجوب الحكم بالقيافة في الأنساب، إذا اشتبهت بعد الاشتراك في أسباب لحوقهما، فالكلام فيهما يشتمل على أربعة فصول: أحدها: صفة القائف. والثاني: صفة القيافة. والثالث: الموجب لها. والرابع: نفوذ الحكم بها. فأما الفصل الأول: في صفة القائف، فيشمل على أربعة شروط، يصح أن يكون بها قائفًا. وهو: أن يكون رجلًا حرًا، عدلًا، عالمًا، لأنه متردد الحال بين حكم، وشهادة، فاعتبرت فيه هذه الشروط الأربعة، فإن كان امرأة أو عبدًا أو فاسقًا أو غير عالم لم يجز أن يكون قائفًا، وعلمه ضربان: أحدهما: علمه بالقيافة. والثاني: علمه بالفقه. فأما علمه بالقيافة، فهو المقصود منه، فلابد أن يكون معتبرًا فيه ومختبرًا عليه، واختياره فيه أن يجرب في غير المتنازعين، بأن يضم ولده معروف النسب، إلى جماعة ليس له فيهم أب، ويقال له: من أبوه منهم؟ ولا يقال ألحقه بأبيه منهم، لأنه أب، وقيل له: ألحقه بأبيه منهم، لأن له فيهم أبًا، فإن ألحقه بأبيه منهم، عرف أنه عالم بالقيافة.

وإن أخطأ في الأول فألحقه بواحد منهم، أو أخطأ في الثاني فألحقه بغير أبيه منهم، علم عالم بالقيافة، ولا يقنع، إذا أصاب مرة أن يجرب في ثانية، وثالثة، لأنه قد يجوز أن يصيب في الأولة، اتفاقًا وفي الثانية، ظنًا وفي الثالثة يقينًا، فإذا وثق بعلمه عمل على قوله، ولا يلزم أن يختبر ثانية بعد المعرفة بعلمه. وأما علم الفقه فإن نزل به منزلة المخير لم يفتقر إلى علم الفقه وإن نزل منزلة الحاكم على ما سنذكرهن من الفرق بين حالتيه، اعتبر فيه من علم الفقه، ما اختص بلحوق الأنساب ولم يعتبر فيه العلم يجمع الفقه، لأن اعتباره في القافة متعذرًا. ولا يلزم أن يكون أصحابنا، فقال: لا يصح أن يكون إلا من بني مدلج، لاختصاصهم بعلم القيافة، طبعًا في خلقهم، وهذا لا وجه له لأن مقصود القيافة قد يجوز أن يعدم في بني مدلج، ويوجد في غير بني مدلج، وإن كان الأغلب وجوده في بني مدلج. وأما الفصل الثاني في صفة القيافة، فالمعتبر فيها التشابه من أربعة أوجه: أحدها: تخطيط الأعضاء وأشكال الصورة. والثاني: في الألوان والشعور. والثالث: في الحركات والأفعال. والرابع: في الكلام، والصوت، والحدة، والأناة، ولئن جاز أن تختلف هذه الأربعة في الآباء والأبناء في الظاهر الجلي، فلابد أن يكون يبنهما، في الباطن تشابه خفي، ولئن لم يكن في جميعها لغلبه التشابه بالأمهات، فلابد أن يكون في بعضها لأن المولود من أبيض، وأسود، لا يكون أبيض محضًا، ولا أسود محضًا، فيكون فيه من البياض، ما يقارب الأبيض، ومن السواد ما يقارب بالسواد. وإذا كان كذلك لم يخل حال الولد مع المتنازعين فيه من ثلاثة أقسام: أحدهما: أن يكون فيه شبه من أحدهما، وليس فيه شبه من الآخر، فيلحق بمن فيه شبهه، وينفي عمن ليس فيه شبهة، وسواء كان الشبه بينهما من جميع الوجوه، أو من بعضها ظاهرًا كان أو خفيًا. والثاني: أن لا يكون فيه شبه من كل واحد، منهما فلا يكون في القيافة بيان، ولا يجوز ان ينفي عنها، لأن نسبه موقوف عليهما، فيعدل إلى الوقف على الانتساب، على ما سنذكره. والثالث: أن يكون فيه شبه من كل واحد منهما، فهذا على خمسة أضرب: أحدهما: أن يتماثل الشبهان، ولا يترجح أحدهما على الآخر بشيء، فلا يكون في القيافة بيان، ويعدل إلى غيرها. والثاني: أن يتماثل الشبه بينما في العدد، ويختلفا في الظهور، والخفاء، يكون فيه

من كل واحد منهما شبهان، وهو في أحدهما ظاهر، وفي الآخر خفي، فيلحق بمن ظهر منه الشبه دون من خفي فيه. والثالث: أن يتماثلا في الظهور، والخفاء، ويختلفان في العدد، فيكون الشبه في أحدهما من ثلاثة أوجه، وفي الآخر من وجهين، فيلحق بمن زاد عدد الشبه فيه دون من قل. والرابع: أن يكون الشبه في أحدهما أكثر عددًا، أو أظهر شبهًا، وهو في الآخر أقل، وأخفى، فيلحق بمن كثر فيه عدد الشبه، وظهر دون من قل، فيه وخفي، وهو أقوى من الضربين المتقدمين. والخامس: أن يكون أحدهما في الشبه أكثر عددًا، وأخفى شبهًا، والآخر أقل عددًا وأظهر شبهًا، فيكون الشبه في أحدهما من ثلاثة أوجه خفية، وفي الآخر وجهين ظاهرين، ففي وجهان: أحدهما: يرجع كثرة العدد على ظهور الشبه، فيلحق بمن فيه الشبه من ثلاثة أوجه، تغليبًا لزيادة التشابه. والثاني: يرجح ظهور الشبه على كثرة العدد، فيلحق بمن فيه الشبه من وجهين ظاهرين، تغليبًا لقوة التشابه، فهذا أصل في اعتبار التشابه في القيافة، وقد يختلف فطن القافة فمنهم من تكون فطنته من أعداد التشابه أقوى، ومنهم من تكون فطنته في قوة التشابه أقوى، فيعتمد كل واحد منهم على ما في قوة فطنته، تغليبًا لقوة حسه، فإن كان القائف عازمًا بأحكام هذه الأقسام، جاز أن يكون فيها مخبرًا، وحاكمًا، وإن لم يكن عارفًا بأحكامها كان فيها مخيرًا، ولم يكن فيها حاكمًا، ليحكم بها من الحكام من يعلمها، ويجتهد رأيه فيها. وأما الفصل الثالث: في الموجب لاستعمال القافة، فالتنازع في الولد على ضربين: أحدهما: أن يكون من لقيط لا يعرف للمتنازعين فيه فراش، فلا يخلو حال الولد من أن يكون صغيرًا، أو كبيرًا، فإن كان كبيرًا بالغًا عاقلًا توجهت الدعوى عليه، وكان الجواب مأخوذًا منه، فإن صدق أحدهما، وكذب الآخر، لحق بالمصدق، ولا يمين عليه للمكذب، لأنه لو رجع عن إقراره لم يقبل، ولم يغرم، وإن كذبهما حلف لهما، ولم يلحق بواحد منهما، لأنه لو أقر قبل التكذيب قبل إقراره، وإن قال: أنا ابن واحد منكما ولست أعرفه بعينه، رجع إلى القافة في إلحاقة، بأحدهما فإن عدموا أخذ الولد جدًا بالانتساب إلى أحدهما غيبًا، فإن سلمه أحد المتنازعين إلى الآخر، فإن كان قبل القافة والانتساب، جاز وصار ولدًا لمن أسلم إليه، وإن كان بعد الحكم بنسبه، إما بعد القافة أو بعد الانتساب لم يجز. وإن كان الولد صغيرًا غير مميز، أو كان بالغًا مجنونًا، استعمل فيه القافة، ولم

يعتبر فيه إقرار ولا فراشن فإن ألحقه القافة بأحدهما لحق به وإن عدموا أو شكل عليهم، وقف إلى زمان الانتساب فإنه سلمه أحدهما إلى الآخر، كان على ما قدمناه من جوازه قبل إلحاقه، وبطلانه بعد إلحاقه. والثاني: أن يكون الولد عن فراش وقع فيه التنازع، فاستعمال القيافة فيه معتبر بثلاثة شروط: أحدهما: أن يكون الفراش مشتركًا بين المتنازعين فيه، فإن تفرد به أحدهما، كان ولدًا لصاحب الفراش من غير قيافة، وإن كان شبهه بغير صاحب الفراش أقوى. فلو أن زوجًا شك في ولده من زوجته، فإن أراد أن يستعمل فيه القافة لم يجز لأن القافة لا تنفي ما لحق بالفراش. والثاني: أن يكون اشتراكهما في الفراش موجبًا للحوق الولد بكل واحد منهما، لو انفرد، فإن كان لا يلحق بكل واحد منهما لو انفرد، لأنهما زانيان بطلت دعواهما فيه، ولم يلحق واحد منها وإن كان يلحق بأحدهما دون الآخر، لأن أحدهما زان، والآخر ليس بزان، بطل تنازعهما، ولم تستعمل القافة فيه، وكان لاحقًا بصاحب الفراش، دون الزاني لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الولد للفراش وللعاهر الحجر". والثالث: أن يثبت فراش كل واحد منهما وثبوته، معتبر بحال المتنازعين، فإن كان أحدهما زوجًا، والآخر ذا شبهة، ثبت فراش ذي الشبهة بتصديق الزوج، ولم يعتبر فيه تصديق الموطوءة، لأن الفراش للزوج، وإن لم يكن فيهما زوج اعتبر فيه تصديق الموطوءة، لكل واحد منهما، إن كانت خالية من زوج، وإن كانت ذات زوج، اعتبر فيه تصديق، دونها، لأنه أملك بالفراش فيها، وصار الزوج داخلًا معها في التنازع، لأن له فراشًا ثالثًا، ولا يعتبر تصديق كل واحد منهما لصاحبه، لأن ثبوت النسب حق له وعليه. فلو أنكرتها الموطوءة أو زوجها لم يثبته لواحد منهما الفراش، وعلى منكرها اليمين. ولو ادعت الموطوءة أو زوجها عليها الفراش، وأنكراه فالقول قولهما مع إيمانهما، ولا فراش على واحد منهما. فإذا ثبت فراشهما، بما ذكرنا من التصادق فيه أو قامت به بينة مع التجاحد على الوجه الذي تقوم به البينة في مثله، تكاملت شروط الاشتراك في لحوقه النسب وصار الفراش حقًا لهما، وحقًا عليهما، فلا يقف على مطالبتهما ولا يجوز لواحد منهما أن يسلم لصاحبه، لما فيه من الخف عليه، ويستوي فيه حكم الوالد صغيرًا وكبيرًا ويستعمل

القافة في إلحاقه بأحدهما، إذا طولب بها. والذي يستحق المطالبة بها من كان قوله في الفراش معتبرًا، والولد إذا كان بالغًا فإن لم يطلب الحاكم بها جاز له في حق الصغير أن يستعمل القيافة إذا علم بالحال من غير طلب نيابة عن الصغير، ولم يكن له أن يستعملها في حق الكبير، لأنه أخص بطلب حقوقه. وأما الفصل الرابع: في ثبوت الحكم بلحوق النسب بقول القافة فهو معتبر باستلحاق النسب، واستلحاقه على ضربين: أحدهما: أن يكون لاشتراكهما في فراش. والثاني: إذا تداعيا لقيطًا. فإن كان لاشتراكهما في فراش، لم يصح إلحاقه بالقافة، لا يحكم الحاكم، لأن الفراش قد أوجب لهما حقًا، وأوجب عليهما حقًا في إلحاقه بأحدهما، ونفيه عن الآخر، وألحق لهما على الولد، وألحق عليهما للولد ولذلك وجب إلحاقه بأحدهما، وإن يتنازعا فيه، ولم يجز أن يسلمه أحدهما إلى الآخر فكان أغلظ من اللعان الذي لا يصح إلا بحكم حاكم فكان هذا أولى أن يصح إلا بحكم حاكم، لأن اللعان يختص بالنفي دون الإثبات، والقيافة بين النفي والإثبات. وإذا كان استحقاق الولد في ادعاء لقيط لم يعرف لهما فيه فراش مشترك، فهو حق لهما وليس بحق عليهما في الظاهر، لأنهما لو لم يتنازعا فيه، لم يعترض لهما، ولو سلمه أحدهما إلى الآخر صح وانتفى عمن سلمه، ولحق من سلم إليه فلم يفتقر استلحاقه إلى حكم، وجاز أن ينفرد باستعمال القافة فيه إن اختارا، وجاز أن يتحاكما فيه إلى حاكم، إن اختلفا فإن تنازعا فيه إلى حاكم وفق اختيار القائف على الحاكم، دونهما وإن لم يتنازعا فيه إلى الحاكم، وفق اختيار القائف عليهما فإذا اتفقا على اختبار قائف كان فيه بالخيار في تحكيمه، أو استخباره، على ما سنذكره في شرح التحكيم، والاستخبار. فإن استخبره، فأخبر كان موقوفًا على إمضائهما والتزامهما. وإن حكماه فحكم كان في لزوم حكمه لهما قولان، وإن اختلفا في اختيار القائف، إذا حلفا بعد الاتفاق عليه في تحكيمه، أو استخباره لم يعمل على اختيار واحد منهما، وتنازعا فيه إلى الحاكم لم يحكم بينهما، وإذا كان الحاكم هو الناظر بينهما في لحوق النسب، إما في الفراش المشترك حتمًا واجبًا، وإما في اللقيط المدعي، إما بالتراضي والاختيار، وإما أن يطلبه أحدهما دون الآخر، فيؤخذ الممتنع جيدًا بالحكم، وإنما يجوز للمتنازعين في اللقيط أن يتفردا بالقيافة إذا اتفقا على التراضي في تفردهما به، دون الحاكم.

فإذا أراد الحاكم الحكم بينهما، اختار من القافة أوثقهم وأغلبهم، واجتهد رأيه في تحكيم القائف، أو استخباره فإن اجتهاده إلى تحكيمه، كان ذلك استخلافا له في الحكم بينهما فيراعي في استنابته شروط التقليد، واختبر في العلم بشروط الإلحاق، فإن قضى بها، أعلمه بها. فأما المختص منها بفطنته فقوة حسه، فهو مركوز في طبعه، ويجوز أن يقتصر على قائف واحد، لأنه حكم، فجاز من القائف الواحد، فإن جمع فيه بين قائفين احتياطًا كان أوجد، كما جمع في شقاق الزوجين بين الحكمين. ولا ينفذ الحكم في لحوقه بواحد منهما، حتى يجتمعان عليه، فإذا ألحقه القائف الواحد إذا أفرد أو القائفان إذا جمع بينهما بأحد المتنازعين فيه، ونفاه عن الآخر لحقه، وانتفى عن الآخر، ولو ألحقه بأحدهما، ولم ينفه عن الآخر، لم يلحق به، لجواز أن يرى اشتراكهما فيه، ولو نفاه عن أحدهما ولم يلحقه بالآخر، انتفى ممن نفاه عنه، وصار الآخر منفردًا بالدعوى، فلحق به، لانفراد بالفراش، لا بالقائف. ولو تنازع في دعواه ثلاثة فألحقه بأحدهم، ونفاه عن الآخرين، أمضى حكمه في إلحاقه ونفيه، ولو نفاه عن أحدهم، خرج من الدعوى، وصارت بين الآخرين، ولو نفاه من اثنين، خرجا من الدعوى، وصار لاحقًا بالباقي، لانفراده بالدعوى، لا بقول القائف، فإن لحق بأحدهم لألحاق القائف به، ونفيه عن غيره استقر حكمه في ثبوت نسبه، ولزم الحاكم تنفيذ حكمه، وإن نفاه القائف عن أحدهما استقر حكمه بالنفي، ولم يستقر حكمه باللحوق، حتى يحكم له بالحاكم باللحوق، بحكم الانفراد بالدعوى، فإن رجع القائف بعد حكمه بذكر الغلط فيه، لم يقبل رجوعه، لأن نفوذ الحكم بالاجتهاد يمنع من نقضه باجتهاد. وإن رأي الحكم اجتهاده إلى استخبار القائف دون تحكيمه، أنكر القائف مخبرًا، والحاكم هو المتفرد بالحكم، وجاز لزومه أن يجمع بين قائفين، ولم يجزن أن يقتصر على واحد منهما، وإن كان خبر الواحد مقبولًا، لأن الحاكم لا يجوز أن بخير الواحد، وإنما يجوز أن يحكم بشهادة اثنين، كما لا يحكم في التقويم إلا بقبل مقومين، فإذا أراد القائفان بعد اجتهادهما، أن يذكر للحاكم، ما صح عندهما من لحوق الولد بأحدهما ففيه وجهان: أحدهما: يكون خبرًا يؤدى بلفظ الإخبار، ولا تكون شهادة تؤدى بلفظ الشهادة لأن الشهادة تختص بفعل مشاهد وقول مسموع وليس في القافة، واحد منهما فكان خبرًا، ولم يكن شهادة فعلى هذا يجب على الحاكم، أن يسألهما عن سبب علمهما، لا يجتهد رأيه فيهما إن ذكرا اشتراكهما في الشبه، ولا يجب عليه سؤالهما إن كان مختصًا بأحدهما، دون الآخر، لأن عليه في الاشتراك أن يجتهد رأيه في الترجيح، فلزمه السؤال، وليس

عليه في اختصاص أحدهما بالترجيح بالشبه، اجتهاده في الترجيح، فلم يلزمه السؤال، ولكن عليه أن يسألهما في الشبه اشتراك، حتى يسألهما عن سببه ويجتهد رأيه فيه، أو ليس فيه اشتراك؟ حتى لا يسألهما عنه، ولا يجتهد رأيه فيه، ويقتنع منهما أن يقولا هذا ولد هذا دون هذا. والثاني: أن تكون شهادة تؤدي بلفظ الشهادة وإن لم تكن عن مشاهدة، لأن الحال يشهد، والحكم مختص بالشهادة دون الخبز. فعلى هذا لا يجب على الحاكم أن يسألهما عن سبب علمهما، لأن الشاهد لا يسأل عن سبب علمه بما شهد لكن إذا كان الشبه مختصًا بأحدهما، جاز للقائفين أن يشهد بأنه ولد هذا دون هذا، وإن كان الشبه مشتركًا يحتاجا إلى اجتهاد في ترجيح ففيهما يشهدان به وجهان: أحدهما: يشهدان بما أدى إليه اجتهادهما من لحوق نسبه بأحدهما. والثاني: يشهدان بالشبه الموجب للحوق النسب بأحدهما ليجتهد الحاكم رأيه دونها، وهذان الوجهان من اختلاف أصحابنا، هل يسوغ للشهود أن يجتهدوا فيما يؤدوه إذا كان الاجتهاد فيه سماع. فإذا أدى القائفان إلى الحاكم ما عندهما من لحوق النسب بأحدهما خبرًا على أحد الوجهين، أو شهادة على الوجه الآخر لزم الحكم بقولهما في إلحاق النسب بمن ألحق، ونفيه عمن نفوه، وهو قبل حكم الحاكم، غير لاحق بواحد منهما، فإن رجع القائفان في قولهما، وألحقوه بمن نفوه عن لخطأ اعترفا به روعي رجوعهما، فإن كان بعد الحاكم بقولهما، لم ينقص حكمه وأمضاه على ما حكم به، وإن كان قبل حكمه بقولهما لم يكن نسبه للأول، ولا للثاني. أما الأول: فلبطلان الشهادة، بالرجوع عنها. وأما الثاني: فلتعارض القولين فيه. فإن أشكل على القائفين ولحوق نسبه، وبان ذلك لغيرهما عمل عليه، وإن أشكل على غيرهما عدم النسب من جهة القافة، ووجب أن يوقف النسب للشك، حتى ينتسب الولد بطبعه إلى أحدهما لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من شأن الرحم إذا تماست تعاطفت". وله في زمان انتسابه قولان: أحدهما: وهو القديم إلى استكمال سبع، وهي الحال التي يخير فيها بين أبويه. والثاني: وهو الجديد الصحيح إلى بلوغه، لأنه لا يمكن بقوله في لوازم الحقوق قبل البلوغ، وإن قيل في الاختيار لأحد أبويه، لأنه ليس من الحقوق، فإذا انتسب إلى أحدهما لحق به، ولا يعتبر فيه تصديق الأب، فلو رجع وانتسب إلى الآخر لم يقبل رجوعه بعد لحوقه بالأول.

ولو وجدت القافة بعد انتسابه إلى أحدهما، لم يلحق به الاستقرار لحوقه بالانتساب إلى الأول. وما مات الولد قبل انتسابه إلى أحدهما، قامت ورثته، مقامه في الانتساب، إلى أحدهما، ولو مات المتنازعان والولد باق جمع بينه وبين عصبتهما، وكان له بعد الاجتماع معهم أن ينتسب إلى أحدهما، فإن مات أحدهما وبقي الآخر نظر، فإن كان التنازع في فراش مشترك انتسب إلى من اختار من الحي، أو الميت، وإن كان التنازع في لقيط ففيه وجهان: أحدهما: يكون كالفراش في انتسابه إلى أحدهما. والثاني: أنه يلحق بالباقي، لانقطاع دعوى الميت. وقد روي زيد بن أرقم أن علي بن أبي طالب عليه السلام حين قلده رسول الله صلى الله عليه وسلم قضاء اليمن اختصم فيه ثلاثة من ولد امرأةٍ، وقعوا عليها في طهر واحد، تنازعوا فيه، فأقرع بينهم، وألحقه بمن قرع منهم، وأخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم "فضحك حتى بدت نواجذه، فقيل: إنه أقرع بينهم لإشكالهم على القافلة. وقيل: إنما ضحك رسول الله صلى الله عليه سولم من القرعة: لأنه لا مدخل لها في لحوق النسب، لوجود ما هو أقوى، وهو انتساب الولد. فصل: وإذا طلب القائف على قيافته أجرًا، ولم يجد بها متطوعًا جاز أن يعطي عليها رزقًا من بيت المال، لأن له عملًا يقطع به عن مكسبه، كما يعطي القاسم والحاسب ويستحقه سواء ألحقه بواحد منهما، أو أشكل عليه، فلم يلحقه، فإن تعذر رزقه من بيت المال، كانت أجرته على المتنازعين فيه، فإن ألحقه بأحدهما استحقها، وفيمن يجب عليه وجهان: أحدهما: أنها تجب على من ألحق به الولد دون نفي عنه، لأنه مستأجر للحوق دون النفي. والثاني: يجب عليهما، لأن العمل مشترك في حقهما، وهو في حق من نفي عنه كهو في حق من ألحق به. وإن لم يلحق بواحد منهما، فإن كان لإشكاله عليه، لم يستحق الأجرة، لأنه لم يوجد منه العمل، وإن كان لتكافؤ الاشتباه، ففي الأجرة وجهان: أحدهما: يستحقها إذا قيل: إنه لو أخذ منهما، كان تغليبًا بوجود العمل منه.

والثاني: لا يستحقها إذا قيل: إنه لو ألحقه بأحدهما: اختص بالتزام الآخر، تعليلًا بالإلحاق. فصل: وإذا وجد وادعاه من يجوز أن يولد مثله لمثله لحقه به، فإن ادعاه بعده آخر ففيه وجهان: أحدهما: أن دعواه مردودة للحوق نسبه بالسابق، إلا أن يقيم بينة أنه ولد على فراشه. والثاني: وهو الظاهر في مذهب الشافعي أن دعوى الناس مسموعة ويرى القافة، فإن نفوه عن الثاني، كان على لحوقه بالأول، وإن ألحقوه بالثاني أري مع الأول، فإن نفوه عن لحق بالثالث، وإن ألحقوه به لم يأت بالقافة بيان، لأنهم قد ألحقوه بهما ووقف الولد إلى حدهم، فصاحب اليد كالسابق بالدعوى، فيكون على الوجهين: أحدهما: يلحق به إلا أن تلحقه القافة بغيره. والثاني: أن في الدعوى بغيره لا يلحق بواحد منهم إلا أن تلحقه القافة، أو يعترف له الباقي بنسبه، أو يبلغ حدّ الانتساب فينتسب إليه، فإن مات الولد مع بقاء الانتساب، فقبل الانتساب وقف من ماله ميراثًا حتى يصطلح المدعون عليه، وإن مات المدعون أو بعضهم ففيه وجهان: أحدهما: وهو الظاهر من مذهب الشافعي، أنه يوقف من قال كل واحد منهم ميراث أب، كما يوقف من ماله إذا مات ميراث أب، حتى ينتسب بعد بلوغه حد الانتساب، فيستحق ميراث من انتسب إليه ويرد ما وقف من الباقين على ورثتهم. والثاني: لا يوقف له من أموالهم شيء، ويدفع مال كل واحد إلى ورثته، والله أعلم. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "ولو ادعى حرٌ وعبدٌ مسلمان وذمي مولودًا وجد لقيطًا فلا فرق بين واحدٍ منهم كالتداعي فيما سواه فيراه القافة فإن ألحقوه بواحدٍ فهو ابنه وإن ألحقوه بأكثر لم يكن ابن واحدٍ منهم يبلغ فينتسب إلى أيهم شاء فيكون ابنه وينقطع عنه دعوى غيره". قال في الحاوي: وهذا صحيح يستوي إذا ادعى الولد، الحر والعبد المسلم،

والكافر لقيطًا أو من فراش مشترك، وليس بمشترك. وقال أبو حنيفة الإمام رحمه الله: إذا تنازع حر وعبد ألحقته بالحر دون العبد. وإن تنازع مسلم وكافر، ألحقته بالمسلم دون الكافر، ولو تنازع حر كافر وعبد مسلم، ألحقته بالحر الكافر، دون العبد المسلم، ليكون الولد ملحقًا بأكملها حكمًا. استدلالًا بأن الغالب من دار الإسلام الحرية، والإسلام، فصارت كاليد لمن واقعها، فترجح بها. ولأنهما لو تنازعا حضانته كان الحر المسلم أحق بهما من العبد الكافر، كذلك حكم النسب ودليلنا هو أنهما قد اشتركا في سبب الدعوى، فوجب أن يشتركا في حكمها، كالمسلمين الحرين. ولأنه لو انفرد بالدعوى عبدًا أو كافرًا كان فيها كالمسلم، ولا يدفع عنها بحكم الدار، كذلك إذا اجتمع مع الحر، أو المسلم، كالمال، وفيه انفصال. فأما الحضانة ففيها ولاية، لو انفرد بها كفار وعبد لم يستحقها وليس كالنسب الذي يلحق بالعبد والكافر. فصل: فإذا ثبت استواؤهما في الدعوى، فإن ألحق بالمسلم، لحق به نسبًا، ودينًا، فإن ألحق بالكافر، لحق به نسبًا، وفي إلحاقه به دينًا وجهان: أحدهما: يلحق به في دينه اعتبارًا بالولادة. والثاني: لا يلحق بدينه تغليبًا لحكم الدار، فأجري عليه حكم الإسلام، حتى يبلغ فيعرب عن نفسه، فإن أقر بالإسلام استقر حكم الإسلام، وإن ادعى الكفر أرهب ثم أقر على الكفر، فإن قيل بالوجه الأول أنه يجري على الكفر أقر في يده، وإن قيل الثاني، أنه يجري على حكم الإسلام لم يقر في يده، لئلا يلفته الكفر، فيدعيه بعد بلوغه. فصل: وإذا تنازع والده، وولده في ولد ادعياه كل واحد منهما، عن التقاط أو اشتراك في الفراش فيهما فيه سواء، ولا يغلب دعوى الوالد على الولد. وقال أبو حنيفة رضي الله عنه: إن كان الولد من أمة، اشتركا في إصابتها، فإن كانت الأمة للأب، أو مشتركة بين الأبن والأب، فالولد يلحق بالأب، وإن كانت للابن فالولد يلحق بالأب والابن، وهذا حكم لا يوجبه دليل، ولا يقتضيه تعليل، لأن الأبوة والبنوة لا تختلف فيها أحكام الدعاوي، كالأموال. ولأنه لم يختلف في ادعاء الولد حكم الأم، والجد، فلم يختلف فيه حكم الأب والابن.

فصل: وإذا تنازع في الولد امرأتان، وقيل: إن دعواهما مسموعة على اختلاف المذهب فيه، استعمل القافة فيها، إذا عدمت البينة على ولادته، وكانتا في منازعته، كالرجلين، وكذلك لو كانت إحداهما مسلمة، والأخرى كافرة، كانتا سواء، في ادعائه. أو كانت إحداهما حرة، والأخرى أمة، تساويا فيه، وجاز للأمة أن تختص بالدعوى، دون السيد لاختصاصها بحق النسب، وتفرد السيد بحق الملك فإن ألحقت القافة الولد بالأم، لم يثبت عليه لسيدها عتق تعليلًا بأمرين: أحدهما: يجوز أن يكون قد أولدها حر بشبهة. والثاني: لأن إلحاق القافة طريقة الاجتهاد، دون علم، ولو قامت البينة على ولادته له ففي دخوله في ملك السيد وجهان من اختلاف التعليلين: أحدهما: لا يدخل في ملكه، لجواز أن يكون من حر بشبهة. والثاني: يدخل في ملكه، لأنه لحق بها عن علم، لا عن اجتهاد، وحكم الولد حكم أمه، ويجيء على مذهب أبي حنيفة أن يكون الولد للحرة دون الأمة والمسلمة دون الكافرة. فصل: فإذا أشكل على القافة حكم الولد في تنازع، وقف على إثبات الولد إلى أحدهما، كما يوقف على إثباته إلى الآخر، أو إلى أحد الرجلين، لأن الطبع يحرك الإنسان، ويجذبه فلو أن ولدًا تنازع رجلان فيه، وادعى كل واحد، منها أنه أخوه من أبيه، فإن كان أبواه باقين لم تسمع دعواهما، وكان أبواهما أخف بالدعوى منها، وإن كانا ميتين، فإن ورثها معهما غيرهما لم تسمع دعواهما، باجتماع جميع الورثة، فإن أنكرها أحدهم بطلت الدعوى، وإن تفرد كل واحد منهما بميراث أمه، سمعت دعواهما، وجاز أن تستعمل القافة معهما عند عدم الشبه، فإن الشبه ينتقل من الآباء إلى الأبناء، حتى يشترك به الإخوة فإذا ألحقته القافة بإخوة أحدهما، حكم بينهما بالأخوة كما يحكم بالنبوة، لأن عبد بن زمعة ادعى أخًا من أمه، وأبيه، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم دعواه، وألحقه به أخًا بفراش أبيه، فقال: هو لك يا عبد بن زمعة أخًا، الولد للفراش، وللعاهر الحجر، حين نازعه فيه سعد بن أبي وقاص عن أخيه، لأنه عاهر بأمه في الجاهلية. وهكذا لو مات المتنازعان في الولد، أو أحدهما قبل حكم القافة جمع بين الولد وبين من ناسب المتنازعين، من الذكور والإناث كالبنين، والبنات، والإخوة والأخوات، والأعمام والعمات، ولا يختص بالذكور دون الإناث، لوجود الشبه في الذكور والإناث وألحقه القافة بمن كان أشبه أقاربه فيه، ونفوه عمن لم يكن شبه أقاربه فيه سواء كان الشبه

باب جواب الشافعي محمد بن الحسن في الولد

في أقرب مناسبيه، أو أبعدهم، لأن عرق النسب ينزع إلى الأقارب والأباعد على إيجاد الشبه، ومن الآخر في الأبعدين، ألحق بمن كان شبه في الأقربين، دون من كان شبهه في الأبعدين، لأن الشبه في الأقرب أقوى من الشبه في الأبعد. باب جواب الشافعي محمد بن الحسن في الولد يدعيه عدة رجال مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "قلت لمحمد بن الحسن زعمت أن أبا يوسف قال إن ادعاه اثنان فهو بينهما بالأثر فإن ادعاه ثلاثةٌ فهو ابنهم بالقياس وإن ادعاه أربعةٌ لم يكن ابن واحدٍ منهم قال هذا خطأٌ من قوله قلت فإذا زعمن أنهم يشتركون في نسبه ولو كانوا مائةً كما يشتركون في المال لو مات أحد الشركاء في المال أيملك الحي إلا ما كان يملكه قبل موت صاحبه؟ قال: لا قلت فقد زعمت إن مات واحدٌ منهم ورثه ميراث ابن تام وانقطعت أبوته فإن مات ورثه كل واحدٍ منهم سهمًا من مائة سهمٍ من ميراث أبٍ فهل رأيت أبًا قط إلى مدةٍ؟ قلت: أو رأيت إذا قطعت أبوته من الميت أيتزوج بناته وهن اليوم أجنبياتٌ وهن بالأمس له أخواتٌ؟ قال إنه لا يدخل هذا قلت وأكثر قال: كيف كان يلزمنا أن نورثه؟ قلت نورثه في قولك من أحدهم سهمًا من مائة سهمٍ من ميراث ابن كما نورث كل واحدٍ منهم سهمًا من مائة سهمٍ من ميراث أبٍ قال المزني رحمه الله: ليس هذا بلازمٍ لهم في قولهم لأن جميع كل أبٍ أبو بعض الابن وليس بعض الابن ابنًا لبعض الأب دون جميعه كما لو ملكوا عبدًا كان جميع كل سيدٍ منهم مالكًا لبعض العبد وليس بعض العبد ملكًا لبعض السيد دون جميعه فتفهم ذلك تجده إن شاء الله". قال في الحاوي: وهذه مناظرة جرت بين الشافعي ومحمد بن الحسن رحمهما الله لم يثبتها الربيع في كتابه إلى محمد بن الحسن وحكي عن الشافعي رحمه الله أنه قال: قلت لبعض الناس وصرح بهما الشافعي في الإملاء، فقال: قلت لمحمد بن الحسن فنقلها المزني عليه في الإملاء ولم يختلف عليه أبو حنيفة رضي الله عنه وأصحابه في المنع من استعمال القافة، واختلفوا ولم يختلف عليه أبو حنيفة رضي الله عنه وأصحابه في المنع من استعمال القافة، واختلفوا بعد اتفاقهم على المنع من استعمال القافة فيمن يلحق به الولد من الآباء المتنازعين فيه، فألحقه محمد بن الحسن من استعمال القافة فيمن يلحق به الولد من الآباء المتنازعين فيه، فألحقه محمد بن الحسن رحمه الله باثنين، ولم يلحقه بأكثر إتباعًا لما حكي من الأثر عن عمر رضي الله عنه في إلحاقه باثنين. وألحقه أبو يوسف رحمه الله بثلاثة، ولم يلحقه بأكثر منهم، فاللاحق بالثاني أثرًا، واللاحق بالثالث قياسًا، ومنع من إلحاقه أبو حنيفة رضي الله عنه بكل من ادعاه وإن كانوا

مائة قياسًا على الأثر في الثاني، فناظر الشافعي رحمه الله محمد بن الحسن رحمه الله على قول أبي يوسف رحمه الله وعلى قول أبي حنيفة، وإن لم يكن قائلًا في العدد بقولهما فلأنه مرافق لهما في ترك القيافة، وإلحاقه بالاثنين، وإذا بطل قولهما في إلحاقه بأكثر من اثنين بطل قوله في إلحاقه بالاثنين. ولأن استعمال القافة بالشبه، والأثر، والعرف. فابتدأ الشافعي بمناظرته على القياس في الرابع، كالثلث فلم يجعل الثالث قياسًا ولم يجعل الرابع قياسًا. وإن امتنع في الرابع، وامتنع في الثالث فبطل فيه استعمال القياس، ولم يبق فيه إلا الأثر المروي عن عمر رضي الله عنه في الثاني، فقد اختلفت الرواية فيه عن عمر فروى عنه عروة بن الزبير، وسليمان بن يسار، أنه قال للولد: انتسب إلى أيهما شئت. وروي عن الحسن البصري، أنه قضى لما يرثانه ويرثهما، وهو للباقي منهما فلم تكن لإحدى الروايتين بأولى من الأخرى، فتعارضا، وأوجب التعارض سقوطهما. فصل: ثم عدل الشافعي في مناظرته على قول أبي حنيفة رحمه الله أنهم يشتركون في نسبه، ولو كانوا مائة كما يشتركون في المال، فأبطل الشافعي رحمه الله هذا القول من أربعة أوجه: أحدهما: أنه قال لو مات أحد الشركاء في المال، لم يملك الحي إلا ما كان يملك قبل موت صاحبه. قال: لا. فقال الشافعي: "زعمت إن مات واحد منهم ورثه ميراث أبي تامر، وانقطعت أبوته" فأبطل الشافعي بهذا قياسهم على المال، لأن موت أحد الشركاء فيه لا يوجب انتقال حقه إليهم، وعندهم إن أمرت أحد الآباء يوجب انتقال أبوته إليهم، فبطل الجمع بينهما قياسًا. والثاني: إن قال زعمت أن لو مات بحل واحد ورثه ميراث أن تام وانقطعت أبوته، فإن مات ورثه كل واحد منهم سهمًا من مائة سهم من ميراث أب، فهل رأيت أبًا قط إلى مدة؟ فأبطل الشافعي رحمه الله بهذا إلحاق نسبه بالجماعة، لأنهم يقولون إنه إذا مات أحدهم انقطع نسبه منه فصار أبًا في حياته وغير أب بعد موته، فجعلوا نسبه مقدرًا بمدة حياته، ولم تر أبًا قط إلى مدة. والثالث: أن قال رأيت إذا انقطعت أبوته عن الميت، أيتزوج بناته، وهن اليوم أجنبيات، وكن له بالأمس أخوات، فأبطل الشافعي عليهم بهذا ما قالوه من انقطاع أبوته بالموت، فقال بنات الميت منهم ما حكمهم مع الولد أيحلف له أم لا؟ فقد كن له بالأمس أخوات فإن قال: يحللن بطل أن يكن بالأمس أخوات محرمات ويصرن في اليوم

أجنبيات محللات، وإن قال يحرمن، بطل أن لا يكون له، ولهن أب جامع بين نسبه، ونسبهن، ويصرن أجنبيات محرمات. والرابع: مما قالوه في التوارث بينهم، أنه إن مات جعلوا ميراث بين جميعهم، وأعطوا كل واحد منهم ميراث بعض أب، وإن مات أحدهم أعطوه جميع ميراث أب تام، فجعلوا كل واحد منهم بعض أب ولم يجعلوا كل واحد منهم بعض ابن. قال محمد رحمه الله للشافعي: كيف يلزمنا أن نورثه، فقال الشافعي يلزمك أن تورثهم في قولك: أن نورثه من كل واحد منهم سهمًا من مائة سهم من ميراث ابن، كما نورث كل واحد منهم سهمًا من مائة سهم من ميراث أب، فاعترض المزني على الشافعي رحمه الله في هذا الجواب فقال: "ليس هذا بلازم لهم في قوله؟ لأن جميع كل أب أبو بعض الابن وليس بعض الابن ابنًا لبعض الأب دون جميعه". ثم استشهد عليه فقال: "كما لو ملكوا عبدًا، كان جميع كل سيد منهم مالكًا لبعض العبد، وليس بعض العبد ملكًا لبعض السيد، دون جميعه فشذ بعض أصحابنا فساعد المزني على اعتراضه، ومنع فيما ألزمهم الشافعي على قولهم أن يكون لازمًا لهم، تعليلًا بما ذكره المزني، وذهب جمهور أصحابنا إلى صحة إلزام الشافعي لهم، وأبطل اعتراض المزني على الشافعي من وجهين: أحدهما: أن أبا حنيفة رحمه الله يقول ما يبطل اعتراض المزني، لأن عنده أن كل واحد من الآباء أب لكل الولد، وكل الولد ابن لكل واحد من الآباء، فبطل ما استشهد به المزني من اشتراك السادة في العبد الواحد. والثاني: أنه إذا كان بعض الولد ابنًا لكل واحد من الآباء، وجب إذا مات أحد الآباء، أن لا يرثه من بعض البنين ما يكون مستحقًا بجميع البنوة، فصح ما قال الشافعي وفسد ما اعترض به المزني رحمه الله وإذا بطل إلحاق الولد بآباء ثبت استعمال القافة، لأن الناس فيه على قولين: فوجب فساد أحدهما صحة الآخر، وقد استشهد من علم القافة في إلحاق الأنساب، ما يزيل الارتياب به، فقد حكي أن رجلًا شك في ابن له، فسار به إلى ديار بني مدلج ومع الأب أخ له، وهما على راحلتين، والولد ماشي، فأعيا، واقبل صبي منهم فقال له الأب: اردف هذا الغلام بنا، فنظر إليه وإليهما ثم قال: أردفه بأبيه، أو بعمه؟ فقال: بأبيه، فاردفه به، فعاد من فوره وزال ما كان في نفسه، وكالذي رواه عبد الله بن وهب عن أبي لهيعة عن يزيد بن أبي حنيفة عن محمد بن شهاب عن أنس بن مالك قال: "لما ولدت مارية القبطية إبراهيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم كان في نفسه منه شيء بعث إليه جبريل فقال: السلام عليك يا أبا إبراهيم، فسلم، وذهب ما كان في نفسه. وكان الشافعي فراسة، فحكي أبو ثور قال: كنت بحضرة الشافعي رحمه الله، إذ جاء رجل

باب دعوى الأعاجم ولادة الشرك والطفل

فجلس بين يديه، فنظر إليه مليًا، وقال له: ألك أخ؟ قال: نعم ولكنه غائب في البحر منذ سنين، فقال له: لعله هذا الجائي فقام إليه، فإذا هو أخوه قد قدم من ساعته. وحكي أبو ثور قال: كنت عند الشافعي، فجاء رجل فقال: ما صناعة هذا؟ فقال: لا أعرف. ولكن إما أن يكون خياطًا، أو نجارًا، فسألنا الرجل عن صناعته، فقال: كنت خياطًا فصرت نجارًا. وقال المصنف: كنت ذات يوم، وأنا جالس بجامع البصرة، ورجل يتكلم فجمعني أصحابي حضوره، فلما سمعت كلامه، قلت له ولدت بأذربيجان، ونشأت بالكوفة، قال: نعم. فعجب مني من حضر والقيافة، والفراسة، غريزة في الطباع يعاني فيها المجبول عليها، ويعجز فيها المصروف عنها، وبالله التوفيه. باب دعوى الأعاجم ولادة الشرك والطفل يسلم أحد أبويه مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا ادعى الأعاجم ولادة بالشرك فإن جاؤونا مسلمين لا ولاء في واحدٍ منهم قبلنا دعواهم كما قبلنا من أهل الجاهلية". قال في الحاوي: وأصل هذا الباب أن حفظ الأنساب ينقسم إلى ثلاثة أقسام: قسم يجب حفظه وتعيينه، وقسم يجب حفظه ولا يجب تعيينه، وقسم لا يجب حفظه ولا تعيينه. فأما القسم الأول: الذي يجب حفظه وتعيينه فهي الانتساب التي يستحق بها التوارث، لقربهما وضبط عددها، فحفظها بين المتناسبين فيها واجب لهم، وعليهم على تفضيل النسب وتعيين الدرج، لأنها توجب من حقوق التوارث لهم عليهم وولاية النكاح بما لا يوصل إلى معرفة مستحقة، إلا منه فلزمهم حفظه وتعدده. وأما القسم الثاني: وهو الذي يجب حفظه، ولا يجب تعيينه فهي الأنساب المتباعدة عن التوارث، وتختص بأحكام تأبى من عددها، وهم ذوو رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وبني عبد المطلب، لاختصاصهم ذي القربى، وتحريم الصدقات المفروضات عليهم، فعليهم أن يعرفوا أنهم من بني هاشم، ومن بني المطلب على اختلاف في البطون المتميزة، ليكونوا مشهورين في عشائرهم، وإن لم يتعين لهم اتصال أنسابهم، ليعرفهم ولاة الغني في حقهم. من سهم ذي القربى، ويعرفهم ولاة الصدقات في منعم منها. وأما القسم الثالث: الذي لا يجب حفظه، ولا تعيينه فهي الأنساب المتباعدة عن

التوارث، ولا تختص بحكم يأبي به من عداها كسائر الأمم، وهل يلزمه إن كان عربيًا أن يعرف أنه من العرب؟ على قولين من اختلاف القولين في تمييز العرب من العجم في حكم الاسترقاق، فإن ميزوا فيه عن غيرهم لم يلزمه أن يعرف أنه منهم كما لا يلزم إذا كان من غير العرب أن يعرف أنه من أي الأمم، وأي أجناس العالم. فصل: فإذا تقررت هذه الجملة فمسألة الكتاب مقصورة على الأنساب التي يجب حفظها، وتعيينها، الاستحقاق التوارث، فإذا كانوا أحرارًا لا وراء عليهم، انقسموا ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكونوا مسلمين من ولادة الإسلام. والثاني: أن يكونوا مسلمين من ولادة الشرك. والثالث: أن يكونوا مشركين. فإن كانوا مسلمين من ولادة الإسلام، وهو القسم الأول فعلينا في أنسابهم حقان: أحدهما: حفظ أنسابهم. والثاني: أن تعرف فرش ولادتهم، لوجوب حرمتهم نطفًا، ومولودين، فإذا ادعوا اتصال قواعد أنسابهم، ولم يختلفوا فيها، لزم اعتبارها بفرش ولادتهم، فإن خالفت ما تعارفوا عليه حملوا في أنسابهم على ما أوجبه على فرش ولادتهم، وأبطل تصادقهم على ما خالفهما، وإن لم يوجد في فرش ولادتهم ما يخالفها، فحملوا فيها على تصادقهم، وحفظت عليهم الأنساب التي تصادقوا عليها، ويستوي فيها المتلاصقة كالآباء مع الأبناء، والأنساب المنفصلة كالإخوة، والأعمام، إذا لم يكن بينهم من الفرش ما يخالفهم فإن رجعوا بعد التصادق فتكاذبوا، كان التكاذب مردودًا بالتصادق، لأن الإنكار يعلو الإقرار مردود، إلا أن يقدم بينة بخلاف ما تصادقوا عليه، فيحكم بها. وأما القسم الثاني: وهم المسلمون من ولادة الشرك، فعلينا حفظ أنسابهم، بعد الولادة لحرمتهم بالإسلام، وليس علينا أن نعتبرها بفرش ولادتهم، بسقوط نطفهم بالشرك، فحملوا في الأنساب على تصادقهم، وتحفظ عليهم بعد التصادق بوجوب حرمتهم موجودين وسقوطها نطفًا. وأما القسم الثالث: وهم المشركون، فلا يلزمنا حفظ أنسابه نطفًا، ولا مولودين، لسقوط حرمتهم في الحالين، فإذا تصادقوا في أنسابهم لم يعترض فيها عليهم، وكانوا فيها محمولين على تصادقهم وإن تكاذبوا فيها، بطل ما تقدم من تصادقهم، ولم يكن أحد الأمرين فيهم ألزم من الآخر، فإن تحاكموا فيها إلينا، حكمنا بينهم بما يكونون عليه بعد التحاكم من التصادق، أو التكاذب.

فصل: وإذا ثبت ما قررناه من أصول الأقسام في هذين القسمين عمومًا وخصوصًا، وحضر منهم من لا رق عليه، ولا وراء، فادعى نسب لقيط لا رق عليه، ولا ولاء نظر في دعواه. فإن ادعاه ولدًا سمعت دعواه إذا مكنت، ولحق به ولدًا وناسب جميع من ناسبه مدعيه، من آبائه وأبنائه، وإخوانه، وأعمامه، سواء صدقوه عليه أو خالفوه، فإن كان مسلمًا أجري على اللقيط حكم الإسلام ووجب حفظ نسبه في حقه، وإن لم يجب في حق المدعي، وإن كان كافرًا فوجهان: أحدهما: يجري عليه حكم الإسلام، ويمنع منه قبل البلوغ، لئلا يلقنه الكفر. والثاني: يجري على حكم الكفر، ولم يجب حفظ نسبه، لا في حقه ولا في حق المدعي، ولم يمنع منه ما كان في دار الإسلام فإذا أراد أن يخرج به إلى دار الحرب، منع منه قبل بلوغه لجواز أن يصف الإسلام، إذا بلغ ولم يمنع من إخراجه بعد بلوغه إذا أجبر على الكفر. وإن ادعاه أخًا، ولم يدعيه ولدًا، ردت دعواه إن كان أبوه باقيًا، وكان الأب أحق بالدعوى منه، وسمعت إن كان ميتًا، ولم يكن لأبيه وارث سواه، ولا يسمع إن ورثه غيره، حتى يتفقوا عليه، ثم إذا سمعت على هذا التفصيل، وألحق به أخًا، صار مناسبًا لجميع من ناسبه ممن علا وسفل من عصبات، وذوي أرحام وأجري عليه في الإسلام، والكفر ما ذكرناه. ولو ادعى نسب بالغ مجهول النسب، لم يثبت عليه رق، ولا وراء كانت دعواه على تصديقه، فإن أنكر وعدم البينة لم يلحقه نسبه، وإن صدقه لحق به نسبه بالدعوى، والتصديق ولهما أربعة أحوال: أحدها: أن يكونوا مسلمين فحفظ نسبهما واجب في الجهتين. والثانية: أن يكونا كافرين، فحفظ نسبهما غير واجب في الجهتين إلا أن يكونا في الدعوى قد تنازعا إلى حاكم حكم بينهما بلحوق النسب، فيجب حفظه لتنفيذ الحكم، وإن لم يجب في حق النسب. والثالثة: أن يكون مدعيه مسلمًا، وهو يقر بالكفر، فإن كان مولودًا على الإسلام امتنع أن يكون ولده كافرًا، وقيل: الآن أنت بتصديقك يقل له على الأبوة مسلم، وادعاؤك الكفر يجري عليه حكم الردة، فإن أسلمت وإلا قتلت، وإن كان الأب من ولادة الشرك، وأسلم بعد البلوغ، فاحتمل أن يكون مولودًا له قبل إسلامه، أقر الولد على كفره، ووجب حفظ نسبه في حق أبيه، دون حقه والرابعة: أن يكون مدعيه كافرًا، وهو مسلم وليس يمتنع أن يكون للمسلم أب

كافر، ولذلك جاز أن يلحق نسبه بكافر ويجري على كل واحد منهما حكم دينه، ووجب حفظ نسبه في حقه، وإن لم يجب في حق الأب. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإن كانا مسبيين عليهم رقٌ أو اعتقوا فثبت عليهم ولءٌ لم يقبل إلا ببينةٍ على ولادةٍ معروفةٍ قبل السبي وهكذا أهل حصنٍ ومن يُحمل إلينا منهم". قال في الحاوي: وصورة هذه المسألة في مسبي من بلاد الشرك استرقه مسلم وأعتقه فصار له عليه الولاء، ثم قدم من بلاد الشرك من ادعى نسبه، فإن اقترن بدعواه بينة عادلة من المسلمين تشهد له بما ادعاه من النسب على الوجه الجائز في الإسلام، حكم بها وثبت النسب بينهما سواء كان مدعيه يدعي نسبًا، أعلى كالأبوة، والأخوة، أو نسبًا أسفل كالبنوة. وإن عدم مدعيه البينة لم يخل حال المدعي ومن عليه رق، أو ولاء من أربعة أحوال: أحدها: من أن يصدقاه على النسب فيثبت بينهما في الأعلى من الأبوة، والأسفل من البنوة. والثانية: أن ينكراه، أو يكذباه، فلا نسب وليس له إحلاف واحد منهما، أما العتق، فلأن إقراره لا ينفذ مع إنكار عتقه، وأما معتقه فيلزم الدعوى على غيره. والثالثة: أن ينكره المعتق، ويصدقه معتقه، فلا نسب له، وله إحلاف المعتق بعد تصديق معتقه، لأنه لو أقوله بالنسب ثبت. والرابعة: أن يصدقه المعتق، ويكذبه معتقه، فلا يخلو مدعي النسب من أحد أمرين: إما أن يدعي نسبًا أعلى، أو نسبًا أسفل، فإن ادعى نسبًا أعلى كالأبوة والإخوة لم يثبت النسب بينهما مع التصديق، الأثر وتعليل. أما الأثر: فأثر أن أحدهما ما وري الشعبي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كتب إلى شريح أن لا تورث حميلًا إلا ببينة. والثاني: ما رواه حبيب بن أبي ثابت أن عثمان بن عفان رضي الله عنه جمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم واستشارهم في ميراث الحميل، فأجمعوا أن لا يورث حميل إلا ببينة. فصار هذا الأثر الثاني إجماعًا.

وأما التعليل: فلأن معتقه لما استحق بولائه عليه أن يرثه، وكان لحوق النسب يرفعه من الميراث، لتقدم الميراث بالنسب على الميراث بالولاء، لم يكن لهما بطل حق بصفة من ميراث الميتين، بإقرار مظنون محتمل. فإن قيل: أفليس لو كان له أخ يرثه؟ فأقر بابن يحجب أخاه عن الميراث، ثبت نسبه بإقراره، فما الفرق؟ قيل: الفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أن الميراث بالولاء نتيجة ملك تفرد به بصفة لا يشاركه فيه فلم يقبل في دفعه إقرار عن مشارك فيه والميراث بالنسب مشترك فجاز أن يثبت بإقرار الشركين فيه فهذا حكم النسب الأعلى. فأما دعوى النسب الأسفل، وهو أن يدعي الحميل أن هذا المعتق ابنه، فيصدقه على البنوة ويكذبه معتقه، ففي ثبوت نسبه وجهان: وقال ابن أبي هريرة قولين: أحدهما: لا يثبت نسبه مع تكذيب معتقه، كالنسب الأعلى. والثاني: يثبت نسبه، وإن كذبه معتقه، لانتفاء الضرر عنه لإدخال ولده في ولاء معتقه، الذي لا يدخل يه أهل النسب الأعلى، فلذلك لا يثبت الإقرار بالنسب الأسفل، وإن لم يثبت بالنسب الأعلى، وسمي حميلًا، لأنه يحمل بنسب مجهول. فأما قول الشافعي: "فكذا أهل حصن ومن يحمل إلينا منهم". فإنما أراد به الرد على طائفة، قالوا: إن الحميل إذا كان من بلد كبير لم تقبل دعواه، لتمكنه من إقامة البينة، وإن كان من أهل حصن أو دير فثبت وهما عند الشافعي سواء، لإطلاق الأثر وعموم التعليل. مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا أسلم أحد أبوي الطفل أو لمعتوه كان مسلمًا لأن الله عز وجل أعلى الإسلام على الأديان والأعلى أولى أن يكون الحكم له مع أنه روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه معنى قولنا ويروي عن الحسن وغيره". قال في الحاوي: وهذا صحيح، فإن اجتمع إسلام الأبوين، كان إسلامًا لصغار أولادهما معهما يكون للبالغين العقلاء وهذا إجماع فأما إذا أسلم أحد الأبوين، فذهب الشافعي وأبو حنيفة رضي الله عنهما وأكثر الفقهاء إلى أن إسلام كل واحد منهما يكون إسلامًا لهم سواء كان المسلم منهما أبًا، أو أمًا. وقال عطاء: يكونون مسلمين بإسلام الأم دون الأب، لأنه من الأم قطعًا ومن الأب ظنًا.

وقال مالك: يكون مسلمًا بإسلام الأب دون الأم، لرجوعه في النسب إلى أبيه احتجاجًا بقوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23]. والمراد بالآية الملة، فدل على إلحاقه بملة الأب دون الأم. ولقوله تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس: 6] فدل على إضافة الأولاد إلى الآباء، دون الأمهات. ودليلنا قول الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] وهم ذرية لكل واحد من الأبوين، فوجب أن يتبعوا لكل واحد من الأبوين. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أولاد المسلمين معهم في الجنة، وهم مع كل واجدٍ منهم". فدل على إسلامهم ولأن الإسلام حق، والكفر باطل، وإتباع الحق أولى من إتباع الباطل، لأن تعارض البينتين يوجب تغليب أقواهما وأعلاهما، والإسلام أقوى، وأعلى من الكفر، فوجب أن يغلب الإسلام على حكم الكفر لقوله تبارك وتعالى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا} [التوبة: 40] ولقول النبي صلى الله عليه وسلم "الإسلام يعلو، ولا يعلي". وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: أي ابن أمة أسلم فديته دية المسلمين وليس يعرف له مخالف. ويدل عليه أن مسلمًا لو تزوج كافرة كان الولد مسلمًا، كذلك إذا أسلم بعد أن تزوجها وفيه انفصال عن دليله. فأما الجواب عن قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] فإنه قال على وجه الذم لهم، فدل على أن الحق لهم في عدو لهم عنه. وأما لجواب عن قوله تعالى: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ} [يس: 6] فهم أن الإنذار متوجه إلى الآباء والأمهات وإن عبر عنه تغليبًا لحكم التذكير. فصل: وأما إذا أسلم الجد، أو الجدة فعنه ثلاثة أجوبة: أحدهما: أنه يكون إسلامًا لهم مع بقاء الأبوين، وعدمهما، لأنهما محجوبان، بمن دونهما للعصبية التي بينهما كالأبوين. والثاني: لا يكون إسلامًا لهم مع بقاء الأبوين، وعدمهما لأنهما محجوبان بمن دونهما.

باب متاع البيت يختلف فيه الزوجان

والثالث: أن يكون إسلامًا لهم مع عدم الأبوين، ولا يكون إسلامًا لهم مع وجود الأبوين، لأنهم بحكم الأقرب أخص منهم بحكم الأبعد، إذا كان باقيًا والموجودين دون المفقود إذا كان ميتًا. باب متاع البيت يختلف فيه الزوجان مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وإذا اختلف الزوجان في متاع البيت يسكنانه قبل أن يتفرقا أو بعد ما تفرقا كان البيت لهما أو لأحدهما أو يموتان أو أحدهما فيختلف في ذلك ورثتهما فمن بينةً على شيءٍ فهو له وإن لم يقم بينةٍ فالقياس الذي لا يُعزر أحدٌ عندي بالغفلة عنه على الإجماع أن هذا المتاع بأيدهما جميعًا فهو بينهما نصفين وقد يملك الرجل متاع المرأة وتملك المرأة متاع الرجل ولو استعملت الظنون عليهما لحكمت في عطارٍ ودباغٍ يتنازعان عطرًا ودباغًا في أيديهما بأن أجعل للعطار العطر وللدباغ الدباغ لحكمت فيها بتنازع فيه معسرٌ وموسرٌ من لؤلوٍ بأن أجعله وللموسر ولا يجوز الحكم بالظنون". قال في الحاوي: إذا كان الزوجان في دار يسكناها، إما ملكًا لهما، أو لأحدهما، أو لغيرهما، فاختلف في متاعها الذي يفها من آلة، وبسط وفرش، ودراهم، ودنانير، وادعاه كل واحد منهما لنفسه، أو ماتا فاختلف فيه ورثتها، أو مات أحدهما، فاختلف فيه الباقي وورثة الميت، أو كان ذلك من في أخ، أو أخت، وكانا يسكنان دارًا، اختلفا في متاعها، فكل ذلك سواء. فإن كان لأحدهما بينة بملك ما ادعاه، حكم بها، وإن عدما البينة مع اختلافهما فيه، فهما مشتركان في اليد حكمًا، ويد كل واحد منهما على نصفه، فيتحالفان عليه ويجعل بينهما بعد أيمانهما نصفين، ويشتركان فيما يختص بالدجال، كالعمائم والطيالسة، والأقبية والسلاح. وفيما يختص بالنساء كالحلي، والمقانع، ومصبغات الثياب، وقمص النساء. وفيا يصلح للرجال، والنساء، من البسط، والفرش، والآلة، ولا يختص الرجال بآلة الرجال، ولا النساء بآلة النساء، ويستوي فيها يد المشاهدة ويد الحكم. ويد المشاهدة أن يكون مقبوضًا في أيديهما، ويد الحكم أن يكون ملكهما. وقال سفيان الثوري: يجعل ما يختص بالرجال للرجال، وما يختص بالنساء للنساء، في يد المشاهدة ويد الحكم.

وقال أبو حنيفة: إن كانت أيديهما يد مشاهدة كانت بينهما، وإن كان يد الحكم، كان ما يختص بالرجال للزوج، وما يختص بالنساء للزوجة، وما يصح لكل واحد منهما يكون للزوج دون الزوجة، فإن ماتا قام ورثتهما مقامهما. وإن مات أحدهما، وبقي الآخر كان القول في جميعه قول الباقي منهما، فصار مخالفًا لنا في خمسة أشياء: أحدهما: في يد المشاهدة، ويد الحكم، وفرق بينهما وهما عندنا سواء. والثاني: فيما يختص بالرجال جعله للزوج، وهو عندنا بينهما. والثالث: ما يختص بالنساء جعله للزوجة، وهو عندنا بينهما. والرابع: فيما يصلح لهما جعله للزوج، وهو عندنا بينهما. والخامس: في موت أحدهما جعله للباقي منهما، وهو عندنا بينهما. وقال أبو يوسف: القول قول المرأة، فيما جرت العادة، أو يكون جهازًا لمثلها، وقول الزوج فيما جرت العادة أن يكون له. وقال زفر بما ذهبنا إليه، وهو في الصحابة قول ابن مسعود رضي الله عنه، واستدل أبو حنيفة ومن وافقه في تفصيل المتاع وتمييزه على الفرق في المشاهدة بين يد المشاهدة ويد الحكم، أن يد كل واحد منهما في المشاهدة على نصفه، وفي الحكم على جميعه، بدليل أن مدعيًا لو ادعاه في يد المشاهدة لم يكن له أن يدعي جميعه إلا عليها ولم يجز أن يختص أحدهما بالدعوى دون الآخر، ولو ادعاه في يد الحكم جاز له أن يدعي جميعه على كل واحد منهما، فدل على أن يد المشاهدة، يد على نصفه، ويد الحكم يدل على جميعه، فافترقا فلذلك ما افترقا فيه، إذا تنازعا، واستداما على التفصيل في يد الحكم، فإن منع منه في يد المشاهدة، فإن يد الحكم أقوى من يد المشاهدة، وفي استيلائهما في الحكم، على جميعه واختصاصه في المشاهدة على نصفه، فلما وقع الترجيح في يد المشاهدة بين ركاب الدابة، وقائدها في جعل الدابة لراكبها دون قائدها، اعتبارًا بالعرف، كان الترجيح في يد الحكم، باعتبار العرف أولى. وربما حرروا قياسًا، وقالوا: كل يد ثبت بها الاستحقاق، جاز أن يقع فيها الترجيح قياسًا على يد المشاهدة، واستدلوا على الأثاث، وآلته، مختص بالزوج دونها فإن السابق إلى اقتنائه، والمنفرد بابتياعه، فصار فيه أرجح، فاختص به دونها واستدلوا على أن الحي بأن الحادثة إذا حاذاها أصلان ألحقت بأقواهما شبهًا بها، كالأحكام الشرعية. ودليلنا عليهم في الجميع حديث عبد الله بن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" وكل واحد منهما مع اشتراكهما في اليد مدعٍ ومدعى عليه.

ولأن أثر مروي عن ابن مسعود ولم يظهر له في الصحابة مخالف، فصار كالإجماع. ولأن الاشتراك في اليد يمنع من الترجيح بالعرف، قياسًا على يد المشاهدة. ولأن ما لم يترجح به يد المشاهدة لم يترجح به يد الحكم، كتنازع الدباغ، والعطار في عطره، ودباغته. ولأن ما يسقط فيه اعتبارًا العرف في اليد المفردة، سقط فيه اعتباره في اليد المشتركة، كالغني، والفقير، في اللؤلؤ، والجوهر، ولو كان العرف مع اشتراك اليد معتبرً، لأوجب تنازع الغني، والفقير، في اللؤلؤ والجوهر أن تجعل للغني دون الفقير، وفي أمثال ذلك من آلات الصناع، وهم لا يقولونه فكذلك في أثاث البيت، وهذا إلزام لا يتحقق عنه انفصال، ويد المشاهدة، تدفع جميع ما استدلوا به. فأما الجواب عما قالوه أن يد الحاكم توجب استيلاء كل واحد منهما على جميعه، استشهادًا بما ذكروه، فهي أنها دعوى نخالفهم فيها، وليس لكل واحد منهما في يد الحكم، أن يدعيه إلا عليها، ولا يدعيه على أحدهما، وإنما يختص كل واحد منهما بدعوى نصفه، كاليد المشاهدة فبطل احتجاجهم به، ثم لما صارت يد كل واحد منهما على جميعه أن يكون موجبًا لتفرد أحدهما ببعضه، وعكسه في يد المشاهدة أشبه، لتفرده باليد على البعض. وأما الجواب على إما استدلوا به من راكب الدابة، وقائدها، فهو أن أصحابنا قد اختلفوا فيه على وجهين: أحدهما: أنهما فيه سواء، فسقط الاستدلال. والثاني: أن الراكب أحق بها من القائد، لأن للراكب مع اليد تصرفًا، ليس للقائد كلابس الثوب، وممسكه يكون اللابس أحق به من الممسك. وأما الجواب عما استدلوا به من الأثاث، من سبوق يد الرجل عليه فهو أنها دعوى مدفوعة لجواز أن تسبق يد المرأة عليه بصنعة أو ابتياع من صانع، ولأن المرأة قد ترث متاع الرجل، والرجل قد يرث متاع النساء، وإن كان في ميراث متاع الرجال، ومتاع النساء، فلا يكون لأحدهما عليه يد سابقة، ولا ينفرد أحدهما بمتاع جهة دون صاحبه. وأما الجواب عند استدلالهم بترجيح الأحكام الشرعية، فهو أن تعارض الأصول في الأحكام يوجب تغليب الأشبه، لاعتبار الشبه فيه إذا انفرد، ولما كانت الأملاك لا يعتبر فيها شبه العرف في اليد المنفردة لم يعتبر في اليد المشتركة، كما لا يعتبر في يد المشاهدة.

باب أخذ الرجل حقه ممن يمنعه أباه

فصل: إذا ثبت ما ذكرناه في تساوي الزوجين في متاع البيت، تحالفًا عليه عند عدم البينة، وحلف كل واحد منهما على نصفه، لأنه يحلف على ما في يده، ولا يحلف على ما في يد صاحبه. وقال أبو حنيفة: يخلف كل واحد منهما على جميعه، لأن عنده أن يد كل واحد منهما على جمعه، وهذا فاسد، لأن اليد ما اختصت بالشيء، ومن الممتنع أن يختص لكل واحد منهما بكل المتاع. فإن قيل: ليس يمتنع هذا كما لم يمتنع في الرهن، إذا أوجبت أن يكون لكل واحد من المرتهن، والمستأجر يد على جميعه. قيل: يدهما في الرهن مختلفة، لأن المرتهن مستوثق بالرقبة، والمستأجر مستوثق بالمنفعة، ويدهما في متاع البيت متفقة، فامتنع في متاع البيت وإن لم يمتنع في الرهن. وإذا وجب بما ذكرناه أن يحلف كل واحد منهما على نصفه، لا على جميعه فلها ثلاثة أحوال: أحدهما: أن يحلفا، فيجعل بينهما ملكًا. والثانية: أن ينكلا فيجعل بينهما يدًا. والثالثة: أن يحلف أحدهما وينكل الآخر، فيحكم للحالف بالنصف، ويكون النصف الذي في يد الناكر ترد اليمين في على الحالف فإن حلف اليمين الثانية في الرد، حكم له بالجميع، نصفه بيمينه على ما في يده، ونصف بيمين الرد بعد نكول صاحبه، وإن امتنع في يمين الرد لم يحكم له، إلا في النصف الذي حلف بيمين اليد وكان النصف الذي في يد الناكل مقرًا عليه، والله أعلم بالصواب. باب أخذ الرجل حقه ممن يمنعه أباه مسألة: قال الشافعي رضي الله عنه: "وكانت هندٌ زوجةً لأبي سفيان وكانت القيم على ولدها لصغيرهم بأمر زوجها فأذن لها رسول الله صلى الله عليه وسلم لما شكت إليه أن تأخذ من ماله ما يكفيها وولدها بالمعروف فمثلها الرجل يكون له الحق على الرجل فيمنعه إياه فله أن يأخذ من ماله حيث وجده بوزنه أو كيله فإن لم يكن له مثلٌ كانت قيمته دنانير أو دراهم فإن لم يجد له مالًا باع عرضه واستوفى من ثمنه حقه فإن قيل فقد روي عن

رسول الله صلى الله عليه وسلم "أد إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" قيل إنه ليس بثابتٍ ولو كان ثابتًا لم تكن الخيانة ما أذن بأخذه صلى الله عليه وسلم وإنما الخيانة أن آخذ له درهمًا بعد استيفائه درهمي فأخونه بدرهمٍ كما خانتي في درهمي فليس لي أن أخونه بأخذ ما ليس لي وإن خانني". قال في الحاوي: أن يكون على مقر ومليء يقدر على أخذه منه حتى طالبه به، فلا يجوز لصاحب الدين أن يأخذه من مال الغريم بغير إذنه، وإن أخذه كان آثمًا، وعليه رده، وإن كان جنس دينه، لأن لمن عليه الدين أن يقضيه من أي أمواله شاء، ولا يتعين في بعضه، ويجري على ما أخذه حكم الغاصب، على أن يرد ما أخذه، وله أن يطالب بما وجب له، ولا يكون قصاصًا، لأن القصاص يختص بما في الذمم، دون الأعيان. والثاني: أن لا يقدر صاحب الدين على قبض دينه، فهو ضربان: أحدهما: أن يقدر على أخذه منه بالمحاكمة. والثاني: أن يعجز عنه. فإن عجز عن أخذه منه بالمحاكمة، وذلك من أحد وجهين: إما لامتناع الغريم بالقوة، وإما لجحوده مع عدم البينة، فيجوز لصاحب الدين أن يأخذ من مال غريمه قدر دينه سرًا، بغير علمه، فإن قدر عليه من جنس حقه، لم يتجاوز إلى غيره. وإن لم يقدر عليه من جنسه، جاز أن يعدل إلى غير جنسه، سواء كان من جنس الأثمان ومن غير جنسها، وإن قدر صاحب الدين على أخذه بالمحاكمة، وعجز عنه بغير المحاكمة، وذلك لأحد وجهين إما لمطله مع الإقرار، أو الإنكار مع وجود البينة فهو على ضربين: أحدهما: أن يقدر على أخذ دينه سرًا من جنسه، فيجوز أخذه منه بغير علمه لأنه إحواجه إلى المحاكمة عدوان من الغريم. والثاني: أن لا يقدر على أخذه، إلا من غير جنسه ففي جوز أخذه سرًا بغير علمه وجهان: أحدهما: يجوز تعليلًا بما ذكرناه من عدوان الغريم، وهو قول من زعم أن لصاحب الدين، أن ينفرد ببيعه من غير حاكم. والثاني: ليس له أخذه إلا بالمحاكمة لقدرته عليه بما يزول عنه الهم، وهو قول من زعم أن صاحب الدين لا يجوز له بيعه، إلا بالحاكم فهذا شرح مذهبنا. وقال أبو حنيفة: إن قدر على أخذ دينه إذا لم يصل إليه من غريمه، أن يأخذ من جنسه، جاز له أن يأخذ شيئًا من ماله، وكذلك لو كان دينه دراهم فوجد دنانير، أو دنانير فوجد دراهم، لأنها من جنس الأثمان، وإن تنوعت، وإن لم يقدر عليه إلا من غير جنسه في الأمتعة والعروض لم يكن له أخذه، احتجاجًا بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أد

الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك". وبقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفسه منه" ولأنه مال لا يجوز لأحد أن يتملكه، فلم يجز أن يأخذه قياسًا على ما في يد الغريم من رهون، وودائع. ولأنه إذا أخذه من غير جنس حقه لم يحل أن يأخذه لأنه إما أن يملكه أن يبيعه، فلم يجز أن يتملكه لأنه من غير جنس حقه، ولم يجز أن يبيعه، لأنه لا ولاية له على بيعه. فبطل أن يكون له حق في أخذه. ودليلنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لصاحب الحق يد ومقال" فكانت اليد على العموم. وروي الشافعي عن عياض عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن هند امرأة أبي سفيان قالت: إن أبا سفيان رجل شحيح، وأنه لا يعطيني ما يكفيني، وولدي إلا ما أخذت منه سرًا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف". ولأن من الحقوق المختلفة ما يتعذر وجود جنسها في ماله، فدل على جواز أخذه من غير جنسه ومن جنسه، ولأن من جاز له أخذ دينه من جنسه جاز له أخذه مع تعذر الجنس أن يأخذ من غير جنسه قياسًا على أخذ الدراهم بالدنانير، بالدراهم، ولأن من جاز أن يقضي منه دينه، جاز أن يتوصل مستحقه إلى أخذه، إذا امتنع بحسب الممكن قياسًا على المحاكمة. فإن قيل: فالحاكم يجبر على البيع ولا يبيع عليه. قيل: عندنا يبيع عليه في دينه، إذا امتنع من بيعه سواء، كان ماله عروضًا أو عقارًا. وحكي عن أبي حنيفة: أنه منع من بيع العقار من الديون، وهو عندنا مبيع عليه، في الحالين جبرًا، لأن جميع الديون تقضي من جميع الأموال كدين الميت. وأما الجواب عن قولهم: "لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه" فهو أن حمله على أن لا يدفع صاحب الدين من دينه، وهو مظلوم، أولى من حمله على من عليه الدين، وهو ظالم.

وأما الجواب عن قوله: "أد الأمانة لمن ائتمنك ولا تخن من خانك". وهو أن الأمانة هي الوديعة، تؤدي إلى مالكها، وليس مال الغريم وديعة، يكون أمانة وقوله: "ولا تخن من خانك" فليس مستوفي حقه خائنًا، فلو يتوجه إليه الخطاب. فإن قيل: فما معنى الخبر: قيل يحمل معناه مع ضعفه، عند أصحاب الحديث، على أحد وجهين إما على الأعراض، إذا هتكت والحقوق إذا بطلت وإما على الودائع، إذا جحدت ثم أديت. وأما قياسه على ما في يده من رهون وودائع، فتلك لا يملكها فلم يجز أن تؤخذ في دينه، وهذا ماله فجاز أن يؤخذ من دينه. وأما الجواب عن استدلالهم بالتقسيم في أخذه ملكًا، أو مبيعًا فإنه ينقسم يؤخذ في أخذ الدراهم عن الدنانير والدنانير عن الدراهم، ولا يمنع جوازه، فكذلك في غيره على أن لنا في البيع ما سنذكره. فصل: فإذا ثبت أن له أخذه من جنسه، ومن غير جنسه. قيل له: إن قدرت عليه من جنس حقك، لم يكن لك أن تعدل إلى غير جنسك. وكنت في أخذه من غير جنسه متعديًا فإن كان حقك دراهم لم يكن لك أن تأخذه إلا دراهم، وإن كان حقك دنانير، لم يكن لك أن تأخذه إلا دنانير، وكذلك إن كان حقك برًا، أو شعيرًا أخذت جنس حقك من البر، والشعير. وله أن يبيع بوزنه، وكيله ويصير بأخذه في ضمانه، وعلى ملكه وإن تعذر عليه جنس حقه وعدل إلى غير جنسه، فإذا أخذه ففي حكم يده وجهان أحدها أنها يد أمانة، لا توجب الضمان، حتى تباع فيستوفي حقه منه كالرهن، فعلى هذا لو تلق في يده قبل بيعه، كان حقه باقيًا، وجاز أن يعود إلى مال الغريم ثانية، فيأخذ منه بقدر دينه. والثاني: أن يده ضامنة لما أخذه قبل بيعه، وبعده بخلاف الرهن، لأن الرهن عن مراضاة، وهذا عن إجبار. فعلى هذا إن تلق في يده كانت قيمته قصاصًا عن دينه إذا تجانسا على الصحيح من المذهب. وإذا كان ما أخذه باقيًا، لم يكن له أن يستبقيه في يده رهنًا، لأن الرهن عقد لا يتم إلا عن مراضاة تبذل، وقبول فإن استبقاه مع القدرة على بيعه، وأخذ حقه من ثمنه، ضمنه

وجهًا واحدًا ولا يجوز أن يملكه من غير بدعة، فإذا أراد بيعه في حقه، فلأصحابنا فيه وجهان: أحدهما: وهو يقول أكثرهم، يجوز أن يقول بيعه بنفسه، لتعذر بيع الحاكم له، إذا تعذرت البينة. والثاني: وهو قول أبي علي بن أبي هريرة لا يجوز أن يتولى بيعه بنفسه، لامتناع أن ينفرد بيع ملك غيره في حق نفسه، كالرهن، ويتوصل إلى بيع الحاكم له، بأن يأتمن عليه رجلًا، ويحضره إلى الحاكم، ويدعي عليه أن له دينًا على غريم وقد أؤتمن هذا على ما في يده أن يبيعه في ديني، وأسأل إلزامه بيع ذلك، وإلزامه قضاء ديني من ثمنه ويعترف الحاضر بما ادعاه من الدين وائتمانه على ما في يده، ليباع في دينه، فيأمر الحاكم ببيعه ولا يلزمه أن يسأله الحاكم مع يده واعترافه عن جملة الدين، وله ملك العين، فيضع البيع بإذنه، ويصل صاحب الدين إلى حقه من ثمنه، وقد حكي عن أبي علي بن أبي هريرة غير هذا، وأنه يتوصل إليه بأن يدعي الدين على المدفوع ذلك إليه، ويوافقه على إقراره، وأن ما بيده ملكه، حتى يأمره الحاكم ببيعه، وهذا كذب صراح والأول محال محتمل، وذكر صريح الكذب حرام وكذا التحليل الموضوع يتنزه عنه أهل الورع والتحرج فدعت الضرورة إلى استعمال الوجه الأول. تم الكتاب

§1/1